تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير

الرازي، فخر الدين

الجزء الأول

الجزء الأول بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَنَا لِأَدَاءِ أَفْضَلِ الطَّاعَاتِ، وَوَفَّقَنَا عَلَى كَيْفِيَّةِ اكْتِسَابِ أَكْمَلِ السَّعَادَاتِ، وَهَدَانَا إِلَى قَوْلِنَا: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ كُلِّ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نَشْرَعُ فِي أَدَاءِ كُلِّ الْخَيْرَاتِ وَالْمَأْمُورَاتِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي له ما في السموات رَبِّ الْعالَمِينَ بِحَسَبِ كُلِّ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَلَى أَصْحَابِ الْحَاجَاتِ وَأَرْبَابِ الضَّرُورَاتِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فِي إِيصَالِ الْأَبْرَارِ إِلَى الدَّرَجَاتِ، وَإِدْخَالِ الْفُجَّارِ فِي الدَّرَكَاتِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ في القيام أداء جُمْلَةِ التَّكْلِيفَاتِ، اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بِحَسَبِ كُلِّ أَنْوَاعِ الْهِدَايَاتِ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ الْحَالَاتِ وَالْمَقَامَاتِ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ مِنْ أَهْلِ الْجَهَالَاتِ وَالضَّلَالَاتِ. وَالصَّلَاةُ عَلَى مُحَمَّدٍ الْمُؤَيَّدِ بِأَفْضَلِ الْمُعْجِزَاتِ وَالْآيَاتِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ بِحَسَبِ تَعَاقُبِ الْآيَاتِ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا. أَمَّا بَعْدُ: فَهَذَا كِتَابٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى شَرْحِ بَعْضِ ما رزقنا الله تعالى من علوم سورة الْفَاتِحَةِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِإِتْمَامِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا فِي الدَّارَيْنِ أَهْلًا لِإِكْرَامِهِ وَإِنْعَامِهِ، إِنَّهُ خَيْرُ مُوَفِّقٍ وَمُعِينٍ، وَبِإِسْعَافِ الطَّالِبِينَ قَمِينٌ، وهذا الكتاب مرتب على مقدمة وكتب. سورة الفاتحة [سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7) مقدمة وففيها فُصُولٌ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى عُلُومِ هذه السورة على سبيل الإجمال علوم الفاتحة اعْلَمْ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى لِسَانِي فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ الْكَرِيمَةَ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْ فَوَائِدِهَا وَنَفَائِسِهَا عَشَرَةُ آلَافِ مَسْأَلَةٍ، فَاسْتَبْعَدَ هَذَا بَعْضُ الْحُسَّادِ، وَقَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْغَيِّ وَالْعِنَادِ، وَحَمَلُوا ذَلِكَ عَلَى مَا أَلِفُوهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ مِنَ التَّعَلُّقَاتِ الْفَارِغَةِ عَنِ الْمَعَانِي، وَالْكَلِمَاتِ الْخَالِيَةِ عَنْ تَحْقِيقِ الْمَعَاقِدِ وَالْمَبَانِي، فَلَمَّا شَرَعْتُ فِي تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ، قَدَّمْتُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ لِتَصِيرَ كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَمْرٌ مُمْكِنُ الْحُصُولِ، قَرِيبُ الْوُصُولِ، فَنَقُولُ وبالله التوفيق:

تفسير الاستعاذة

تفسير الاستعاذة إِنَّ قَوْلَنَا: (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الِاسْتِعَاذَةُ بِاللَّهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ وَالْمَحْظُورَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَنْهِيَّاتِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ بَابِ/ الِاعْتِقَادَاتِ، أَوْ مِنْ بَابِ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، أَمَّا الِاعْتِقَادَاتُ فَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً: كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاثْنَتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ مَوْصُوفُونَ بِالْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ، وَالْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ، ثُمَّ إِنَّ ضَلَالَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ أُولَئِكَ الْفِرَقِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِمَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ هُوَ حَاصِلٌ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِصِفَاتِهِ، وَبِأَحْكَامِهِ، وَبِأَفْعَالِهِ، وَبِأَسْمَائِهِ، وَبِمَسَائِلِ الْجَبْرِ، والقدر، والتعديل، والتجويز، وَالثَّوَابِ، وَالْمَعَادِ، وَالْوَعْدِ، وَالْوَعِيدِ، وَالْأَسْمَاءِ، وَالْأَحْكَامِ، وَالْإِمَامَةِ، فإذا وزعنا عدد الْفِرَقَ الضَّالَّةَ- وَهُوَ الِاثْنَتَانِ وَالسَّبْعُونَ- عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْكَثِيرَةِ بَلَغَ الْعَدَدُ الْحَاصِلُ مَبْلَغًا عَظِيمًا، وَكُلُّ ذَلِكَ أَنْوَاعُ الضَّلَالَاتِ الْحَاصِلَةِ فِي فِرَقِ الْأُمَّةِ، وَأَيْضًا فَمِنَ الْمَشْهُورِ أَنَّ فِرَقَ الضَّلَالَاتِ مِنَ الْخَارِجِينَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَقْرُبُونَ مِنْ سَبْعِمِائَةٍ، فَإِذَا ضُمَّتْ أَنْوَاعُ ضَلَالَاتِهِمْ إِلَى أَنْوَاعِ الضَّلَالَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي فِرَقِ الْأُمَّةِ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِلَهِيَّاتِ، وَالْمُتَعَلِّقَةِ بِأَحْكَامِ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ بَلَغَ الْمَجْمُوعُ مَبْلَغًا عَظِيمًا فِي الْعَدَدِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَنَا (أَعُوذُ بِاللَّهِ) يَتَنَاوَلُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ جَمِيعِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ، وَالِاسْتِعَاذَةُ مِنَ الشَّيْءِ لَا تُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمُسْتَعَاذِ مِنْهُ، وَإِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ كَوْنِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بَاطِلًا وَقَبِيحًا، فَظَهَرَ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَنَّ قَوْلَنَا: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأُلُوفِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْحَقِيقِيَّةِ الْيَقِينِيَّةِ، وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْبَاطِلَةُ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ إِمَّا فِي الْقُرْآنِ، أَوْ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ، أَوْ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ، أَوْ فِي إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، أَوْ فِي الْقِيَاسَاتِ الصَّحِيحَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْمَنْهِيَّاتِ تَزِيدُ عَلَى الْأُلُوفِ، وَقَوْلُنَا (أَعُوذُ بِاللَّهِ) مُتَنَاوِلٌ لِجَمِيعِهَا وَجُمْلَتِهَا، فَثَبَتَ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَنَّ قَوْلَنَا (أَعُوذُ بِاللَّهِ) مُشْتَمِلٌ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ مَسْأَلَةٍ أَوْ أَزْيَدَ أَوْ أَقَلَّ مِنَ المسائل المهمة المعتبرة.

تفسير البسملة

سورة الفاتحة تفسير البسملة : وَأَمَّا قَوْلُهُ جَلَّ جَلَالُهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فَفِيهِ نَوْعَانِ مِنَ الْبَحْثِ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَلْفًا وَوَاحِدًا مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبَحْثَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ مَسْأَلَةٌ شَرِيفَةٌ عَالِيَةٌ، وَأَيْضًا فَالْعِلْمُ بِالِاسْمِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا كَانَ مَسْبُوقًا بِالْعِلْمِ بِالْمُسَمَّى، وَفِي الْبَحْثِ عَنْ ثُبُوتِ تِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ، وَعَنِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى ثُبُوتِهَا، وَعَنْ أَجْوِبَةِ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تُذْكَرُ فِي نَفْيِهَا مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ، وَمَجْمُوعُهَا يَزِيدُ عَلَى الْأُلُوفِ، النَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ مَبَاحِثِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ بِسْمِ اللَّهِ بَاءُ الْإِلْصَاقِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ، وَالتَّقْدِيرُ: بِاسْمِ اللَّهِ أَشْرَعُ فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَصِيرُ مُلَخَّصًا مَعْلُومًا إِلَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ عَلَى أَقْسَامِ الطَّاعَاتِ، وَهِيَ الْعَقَائِدُ الْحَقَّةُ وَالْأَعْمَالُ الصَّافِيَةُ مَعَ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَمَعَ الْأَجْوِبَةِ عَنِ الشُّبُهَاتِ، وَهَذَا الْمَجْمُوعُ رُبَّمَا زَادَ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ مَسْأَلَةٍ. وَمِنَ اللَّطَائِفِ أَنَّ قَوْلَهُ (أَعُوذُ بِاللَّهِ) إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ مَا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ، وَقَوْلَهُ بِسْمِ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَنْبَغِي مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعَمَلِيَّاتِ، فَقَوْلُهُ بِسْمِ اللَّهِ لَا يَصِيرُ/ مَعْلُومًا إِلَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ عَلَى جَمِيعِ الْعَقَائِدِ الْحَقَّةِ، وَالْأَعْمَالِ الصَّافِيَةِ، وَهَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الَّذِي يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ العقل الصحيح، والحق الصريح. نعم الله تعالى التي لا تحصى : أَمَّا قَوْلُهُ جَلَّ جَلَالُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْحَمْدَ إِنَّمَا يَكُونُ حَمْدًا عَلَى النِّعْمَةِ، وَالْحَمْدُ عَلَى النِّعْمَةِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ تِلْكَ النِّعْمَةِ، لَكِنَّ أَقْسَامَ نِعَمِ اللَّهِ خَارِجَةٌ عَنِ التَّحْدِيدِ وَالْإِحْصَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: 34] وَلْنَتَكَلَّمْ فِي مِثَالٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْعَاقِلَ يَجِبُ أَنْ يَعْتَبِرَ ذَاتَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُؤَلَّفٌ مِنْ نَفْسٍ وَبَدَنٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَدْوَنَ الْجُزْءَيْنِ وَأَقَلَّهُمَا فَضِيلَةً وَمَنْفَعَةً هُوَ الْبَدَنُ، ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ التَّشْرِيحِ وَجَدُوا قَرِيبًا مِنْ خَمْسَةِ آلَافِ نَوْعٍ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ الَّتِي دَبَّرَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِحِكْمَتِهِ فِي تَخْلِيقِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ إِنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي «كُتُبِ التَّشْرِيحِ» عَرَفَ أَنَّ نِسْبَةَ هَذَا الْقَدْرِ الْمَعْلُومِ الْمَذْكُورِ إِلَى مَا لَمْ يَعْلَمْ وَمَا لَمْ يُذْكَرْ كَالْقَطْرَةِ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ مَعْرِفَةَ أَقْسَامِ حِكْمَةِ الرَّحْمَنِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ تَشْتَمِلُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ مَسْأَلَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، ثُمَّ إِذَا ضُمَّتْ إِلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ آثَارُ حِكَمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَخْلِيقِ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَأَطْبَاقِ السموات، وَأَجْرَامِ النَّيِّرَاتِ مِنَ الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ، وَتَخْصِيصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِقَدْرٍ مَخْصُوصٍ وَلَوْنٍ مَخْصُوصٍ وَغَيْرِ مَخْصُوصٍ، ثُمَّ يُضَمُّ إِلَيْهَا آثَارُ حِكَمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَخْلِيقِ الْأُمَّهَاتِ

أنواع العالم وإمكان وجود عوالم أخرى

وَالْمُوَلَّدَاتِ مِنَ الْجَمَادَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَأَصْنَافِ أَقْسَامِهَا وَأَحْوَالِهَا- عُلِمَ أَنَّ هَذَا الْمَجْمُوعَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَلْفِ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَهَا مَخْلُوقٌ لِمَنْفَعَةِ الْإِنْسَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الْجَاثِيَةِ: 13] وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ جَلَالُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَلْفِ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ، أو أكثر أو أقل. أنواع العالم وإمكان وجود عوالم أخرى : وَأَمَّا قَوْلُهُ جَلَّ جَلَالُهُ: رَبِّ الْعالَمِينَ فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: رَبِّ مُضَافٌ وَقَوْلَهُ: الْعالَمِينَ مُضَافٌ إِلَيْهِ، وَإِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى الشَّيْءِ تَمْتَنِعُ مَعْرِفَتُهَا إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمُتَضَايِفَيْنِ، فَمِنَ الْمُحَالِ حُصُولُ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ تَعَالَى رَبًّا لِلْعَالَمِينَ إِلَّا بعد معرفة رب والعالمين، ثُمَّ إِنَّ الْعَالَمِينَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْمُتَحَيِّزَاتُ، وَالْمُفَارِقَاتُ، وَالصِّفَاتُ. أَمَّا الْمُتَحَيِّزَاتُ فَهِيَ إِمَّا بسائط أو مركبات، أو الْبَسَائِطُ فَهِيَ الْأَفْلَاكُ وَالْكَوَاكِبُ وَالْأُمَّهَاتُ، وَأَمَّا الْمُرَكَّبَاتُ فَهِيَ الْمَوَالِيدُ الثَّلَاثَةُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا جِسْمَ إِلَّا هَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ حَصَلَ خَارِجَ الْعَالَمِ خَلَاءٌ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، فَهُوَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ أَلْفَ أَلْفَ عَالَمٍ خَارِجَ الْعَالَمِ، / بِحَيْثُ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْعَوَالِمِ أَعْظَمَ وَأَجْسَمَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ، وَيَحْصُلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِثْلَ مَا حَصَلَ فِي هَذَا الْعَالَمِ من العرش والكرسي والسموات وَالْأَرَضِينَ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَدَلَائِلُ الْفَلَاسِفَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْعَالَمَ وَاحِدٌ دَلَائِلُ ضَعِيفَةٌ رَكِيكَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ وَاهِيَةٍ، قَالَ أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيِّ: - يَا أَيُّهَا النَّاسُ كَمْ لِلَّهِ مِنْ فَلَكٍ ... تَجْرِي النُّجُومُ بِهِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ مَاضِينَا وَغَابِرُنَا ... فَمَا لَنَا فِي نَوَاحِي غَيْرِهِ خَطَرُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَحْثَ عَنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لِلْمُتَحَيِّزَاتِ مُشْتَمِلٌ عَلَى أُلُوفِ أُلُوفٍ مِنَ الْمَسَائِلِ، بَلِ الْإِنْسَانُ لَوْ تَرَكَ الْكُلَّ وَأَرَادَ أَنْ يُحِيطَ عِلْمُهُ بِعَجَائِبِ الْمَعَادِنِ الْمُتَوَلِّدَةِ فِي أَرْحَامِ الْجِبَالِ مِنَ الْفِلِزَّاتِ وَالْأَحْجَارِ الصَّافِيَةِ وَأَنْوَاعِ الْكَبَارِيتِ وَالزَّرَانِيخِ وَالْأَمْلَاحِ، وَأَنْ يَعْرِفَ عَجَائِبَ أَحْوَالِ النَّبَاتِ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَزْهَارِ وَالْأَنْوَارِ وَالثِّمَارِ، وَعَجَائِبَ أَقْسَامِ الْحَيَوَانَاتِ مِنَ الْبَهَائِمِ وَالْوُحُوشِ وَالطُّيُورِ وَالْحَشَرَاتِ- لَنَفِدَ عُمُرُهُ فِي أَقَلِّ الْقَلِيلِ مِنْ هَذِهِ الْمَطَالِبِ، وَلَا يَنْتَهِي إِلَى غَوْرِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [لُقْمَانَ: 27] وَهِيَ بِأَسْرِهَا وَأَجْمَعِهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ قوله رَبِّ الْعالَمِينَ. رحمة الله تعالى بعباده لا تنحصر أنواعها : وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فَاعْلَمْ أَنَّ الرَّحْمَةَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّخْلِيصِ مِنْ أَنْوَاعِ الْآفَاتِ، وَعَنْ إِيصَالِ الْخَيْرَاتِ إِلَى أَصْحَابِ الْحَاجَاتِ، أَمَّا التَّخْلِيصُ عَنْ أَقْسَامِ الْآفَاتِ فَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْآفَاتِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَقِفَ عَلَى قَلِيلٍ مِنْهَا فَلْيُطَالِعْ «كُتُبَ الطِّبِّ» حَتَّى يَقِفَ عَقْلُهُ عَلَى أَقْسَامِ الْأَسْقَامِ الَّتِي يُمْكِنُ تَوَلُّدُهَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَجْزَاءِ، ثُمَّ يَتَأَمَّلْ فِي أَنَّهُ تَعَالَى كَيْفَ هَدَى عُقُولَ

أحوال الآخرة وتقسيمها إلى عقلية وسمعية

الْخَلْقِ إِلَى مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ مِنَ الْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، فَإِنَّهُ إِذَا خَاضَ فِي هَذَا الْبَابِ وَجَدَهُ بَحْرًا لَا سَاحِلَ لَهُ. وَقَدْ حَكَى جَالِينُوسُ أَنَّهُ لَمَّا صَنَّفَ كِتَابَهُ فِي مَنَافِعِ أَعْضَاءِ الْعَيْنِ قَالَ: بَخِلْتُ عَلَى النَّاسِ بِذِكْرِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَخْلِيقِ الْعَصَبَيْنِ الْمُجَوَّفَيْنِ مُلْتَقِيَيْنِ عَلَى مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ يَا جَالِينُوسُ، إِنَّ إِلَهَكَ يَقُولُ: لِمَ بَخِلْتَ عَلَى عِبَادِي بِذِكْرِ حِكْمَتِي؟ قَالَ: فَانْتَبَهْتُ فَصَنَّفْتُ فِيهِ كِتَابًا، وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ طِحَالِي قَدْ غَلُظَ فَعَالَجْتُهُ بِكُلِّ مَا عَرَفْتُ فَلَمْ يَنْفَعْ، فَرَأَيْتُ فِي الْهَيْكَلِ كَأَنَّ مَلَكًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَأَمَرَنِي بِفَصْدِ الْعِرْقِ الَّذِي بَيْنَ الْخِنْصِرِ وَالْبِنْصِرِ، وَأَكْثَرُ عَلَامَاتِ الطِّبِّ فِي أَوَائِلِهَا تَنْتَهِي إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ التَّنْبِيهَاتِ/ وَالْإِلْهَامَاتِ، فَإِذَا وَقَفَ الْإِنْسَانُ عَلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ عَرَفَ أَنَّ أَقْسَامَ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ خارجة عن الضبط والإحصاء. أحوال الآخرة وتقسيمها إلى عقلية وسمعية : وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَالْمُسَافِرِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَسُنُوهُ كَالْفَرَاسِخِ، وَشُهُورُهُ كَالْأَمْيَالِ، وَأَنْفَاسُهُ كَالْخُطُوَاتِ، وَمَقْصِدُهُ الْوُصُولُ إِلَى عَالَمِ أُخْرَاهُ، لِأَنَّ هُنَاكَ يَحْصُلُ الْفَوْزُ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، فَإِذَا شَاهَدَ فِي الطَّرِيقِ أَنْوَاعَ هذه العجائب في ملكوت الأرض والسموات فَلْيَنْظُرْ أَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ عَجَائِبُ حَالِ عَالَمِ الْآخِرَةِ فِي الْغِبْطَةِ وَالْبَهْجَةِ وَالسَّعَادَةِ، إِذَا عَرَفْتَ هذه فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِشَارَةٌ إِلَى مَسَائِلِ الْمَعَادِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَهِيَ قِسْمَانِ: بَعْضُهَا عَقْلِيَّةٌ مَحْضَةٌ، وَبَعْضُهَا سَمْعِيَّةٌ: أَمَّا الْعَقْلِيَّةُ الْمَحْضَةُ فَكَقَوْلِنَا: هَذَا الْعَالَمُ يُمْكِنُ تَخْرِيبُهُ وَإِعْدَامُهُ، ثُمَّ يُمْكِنُ إِعَادَتُهُ مَرَّةً أُخْرَى، وَإِنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ بَعْدَ مَوْتِهِ تُمْكِنُ إِعَادَتُهُ، وَهَذَا الْبَابُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْبَحْثِ عَنْ حَقِيقَةِ جَوْهَرِ النَّفْسِ، وَكَيْفِيَّةِ أَحْوَالِهَا وَصِفَاتِهَا، وَكَيْفِيَّةِ بَقَائِهَا بَعْدَ الْبَدَنِ، وَكَيْفِيَّةِ سَعَادَتِهَا وَشَقَاوَتِهَا، وَبَيَانِ قُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى إِعَادَتِهَا، وَهَذِهِ الْمَبَاحِثُ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِمَا يَقْرُبُ مِنْ خَمْسِمِائَةِ مَسْأَلَةٍ مِنَ الْمَبَاحِثِ الدَّقِيقَةِ الْعَقْلِيَّةِ. وَأَمَّا السَّمْعِيَّاتُ فَهِيَ عَلَى ثلاثة أقسام: أحدها: الأحوال التي توجد عند قِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَتِلْكَ الْعَلَامَاتُ مِنْهَا صَغِيرَةٌ، وَمِنْهَا كَبِيرَةٌ وَهِيَ الْعَلَامَاتُ الْعَشْرَةُ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا وَنَذْكُرُ أَحْوَالَهَا. وَثَانِيهَا: الْأَحْوَالُ الَّتِي تُوجَدُ عِنْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ كَيْفِيَّةُ النَّفْخِ فِي الصُّورِ، وَمَوْتِ الخلائق، وتخريب السموات وَالْكَوَاكِبِ، وَمَوْتِ الرُّوحَانِيِّينَ وَالْجِسْمَانِيِّينَ. وَثَالِثُهَا: الْأَحْوَالُ الَّتِي تُوجَدُ بَعْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ وَشَرْحِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ يَدْخُلُ فِيهَا كَيْفِيَّةُ وُقُوفِ الْخَلْقِ، وَكَيْفِيَّةُ الْأَحْوَالِ الَّتِي يُشَاهِدُونَهَا، وَكَيْفِيَّةُ حُضُورِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَكَيْفِيَّةُ الْحِسَابِ، وَكَيْفِيَّةُ وَزْنِ الْأَعْمَالِ، وَذَهَابِ فَرِيقٍ إِلَى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٍ إِلَى النَّارِ، وَكَيْفِيَّةُ صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَصِفَةِ أَهْلِ النَّارِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ شَرْحُ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ بَعْدَ وُصُولِهِمْ إِلَيْهَا، وَشَرْحُ الْكَلِمَاتِ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا وَالْأَعْمَالِ الَّتِي يُبَاشِرُونَهَا، وَلَعَلَّ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ يَبْلُغُ الْأُلُوفَ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَهِيَ بِأَسْرِهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى

سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لِلْآمِرِ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ بِالدَّلِيلِ أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ إِلَهًا وَاحِدًا. قَادِرًا عَلَى مَقْدُورَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، عَالِمًا بِمَعْلُومَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، غَنِيًّا عَنْ كُلِّ الْحَاجَاتِ، فَإِنَّهُ أَمَرَ عِبَادَهُ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ بَعْضِهَا، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْخَلَائِقِ طَاعَتُهُ وَالِانْقِيَادُ لِتَكَالِيفِهِ- فَإِنَّهُ/ لَا يُمْكِنُ الْقِيَامُ بِلَوَازِمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ثُمَّ إِنَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْمَقَامِ الْمَذْكُورِ لَا بُدَّ مِنْ تَفْصِيلِ أَقْسَامِ تِلْكَ التَّكَالِيفِ، وَبَيَانِ أَنْوَاعِ تِلْكَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَجَمِيعُ مَا صُنِّفَ فِي الدِّينِ مَنْ «كُتُبِ الْفِقْهِ» يَدْخُلُ فِيهِ تَكَالِيفُ اللَّهِ، ثُمَّ كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ تَكَالِيفُ اللَّهِ تَعَالَى بِحَسَبِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ فَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ تَكَالِيفُ اللَّهِ تَعَالَى بِحَسَبِ الشَّرَائِعِ الَّتِي قَدْ كَانَ أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَيْضًا يَدْخُلُ فِيهِ الشَّرَائِعُ الَّتِي كَلَّفَ اللَّهُ بِهَا مَلَائِكَتَهُ فِي السموات مُنْذُ خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ وَأَمَرَهُمْ بِالِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ، وَأَيْضًا «فَكُتُبُ الْفِقْهِ» مُشْتَمِلَةٌ عَلَى شَرْحِ التَّكَالِيفِ الْمُتَوَجِّهَةِ فِي أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، أَمَّا أَقْسَامُ التَّكَالِيفِ الْمَوْجُودَةِ فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ فَهِيَ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ وَأَجَلُّ، وَهِيَ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا «كُتُبُ الْأَخْلَاقِ» ، و «كتب السِّيَاسَاتِ» ، بِحَسَبِ الْمِلَلِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْأُمَمِ الْمُتَبَايِنَةِ، وَإِذَا اعْتَبَرَ الْإِنْسَانُ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ وَعَلِمَ أَنَّهَا بِأَسْرِهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ عَلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّ الْمَسَائِلَ الَّتِي اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْهَا كَالْبَحْرِ الْمُحِيطِ الَّذِي لَا تَصِلُ الْعُقُولُ وَالْأَفْكَارُ إِلَّا إِلَى الْقَلِيلِ مِنْهَا. أَمَّا قَوْلُهُ جَلَّ جَلَالُهُ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ الْهِدَايَةِ، وَلِتَحْصِيلِ الْهِدَايَةِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: طَلَبُ الْمَعْرِفَةِ بِالدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ، وَالثَّانِي: بِتَصْفِيَةِ الْبَاطِنِ وَالرِّيَاضَةِ، أَمَّا طُرُقُ الِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّهَا غير متناهية لأنها لَا ذَرَّةَ مِنْ ذَرَّاتِ الْعَالَمِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ إِلَّا وَتِلْكَ الذَّرَّةُ شَاهِدَةٌ بِكَمَالِ إِلَهِيَّتِهِ، وَبِعِزَّةِ عِزَّتِهِ، وَبِجَلَالِ صَمَدِيَّتِهِ، كَمَا قِيلَ: - وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ أَجْسَامَ الْعَالَمِ مُتَسَاوِيَةٌ فِي مَاهِيَّةِ الْجِسْمِيَّةِ، وَمُخْتَلِفَةٌ فِي الصِّفَاتِ، وَهِيَ الْأَلْوَانُ وَالْأَمْكِنَةُ وَالْأَحْوَالُ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ اخْتِصَاصُ كُلِّ جِسْمٍ بِصِفَتِهِ الْمُعَيَّنَةِ لِأَجْلِ الْجِسْمِيَّةِ أَوْ لَوَازِمِ الْجِسْمِيَّةِ، وَإِلَّا لَزِمَ حُصُولُ الِاسْتِوَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وَتَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ، وَذَلِكَ الْمُخَصِّصُ إِنْ كَانَ جِسْمًا عَادَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِسْمًا فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمَوْجُودُ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا، بَلْ كَانَ تَأْثِيرُهُ بِالْفَيْضِ وَالطَّبْعِ عَادَ الْإِلْزَامُ فِي وُجُوبِ الِاسْتِوَاءِ، وَإِنْ كَانَ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ كُلَّ واحد من ذرات السموات وَالْأَرْضِ شَاهِدٌ صَادِقٌ، وَمُخْبِرٌ نَاطِقٌ، بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ، وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْوَالِدُ ضِيَاءُ الدِّينِ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ جَوْهَرٍ فَرْدٍ أَنْوَاعًا غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ جَوْهَرٍ فَرْدٍ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ فِي أَحْيَازٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ عَلَى الْبَدَلِ، وَيُمْكِنُ أَيْضًا اتِّصَافُهُ بِصِفَاتٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ/ عَلَى الْبَدَلِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْمُقَدَّرَةِ فَإِنَّهُ بِتَقْدِيرِ الْوُقُوعِ يَدُلُّ عَلَى الِافْتِقَارِ إِلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْمَبَاحِثِ غَيْرُ مُتَنَاهٍ. وَأَمَّا تَحْصِيلُ الْهِدَايَةِ بِطَرِيقِ الرِّيَاضَةِ وَالتَّصْفِيَةِ فَذَلِكَ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السَّائِرِينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَنْهَجٌ خاص، ومشرب معين، كما قال: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها [البقرة: 148] وَلَا وُقُوفَ لِلْعُقُولِ عَلَى تِلْكَ الْأَسْرَارِ، وَلَا خَبَرَ عِنْدَ الْأَفْهَامِ مِنْ مَبَادِئِ مَيَادِينِ تِلْكَ الْأَنْوَارِ، وَالْعَارِفُونَ الْمُحَقِّقُونَ لَحَظُوا فِيهَا مَبَاحِثَ عَمِيقَةً، وَأَسْرَارًا دَقِيقَةً، قَلَّمَا تَرْقَى إِلَيْهَا أَفْهَامُ الْأَكْثَرِينَ.

الفصل الثاني في تقرير مشرع آخر يدل على أنه يمكن استنباط المسائل الكثيرة من الألفاظ القليلة

وَأَمَّا قَوْلُهُ جَلَّ جَلَالُهُ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فَمَا أَجَلَّ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ، وَأَعْظَمَ مَرَاتِبِ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ! وَمَنْ وَقَفَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْبَيَانَاتِ أَمْكَنَهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى مَبَادِئِ هَذِهِ الْحَالَاتِ، فَقَدْ ظَهَرَ بِالْبَيَانِ الَّذِي سَبَقَ أَنْ هَذِهِ السُّورَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَبَاحِثَ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَأَسْرَارٍ لَا غَايَةَ لَهَا، وَأَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ السُّورَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ مَسْأَلَةٍ، كَلَامٌ خَرَجَ عَلَى مَا يَلِيقُ بِأَفْهَامِ السَّامِعِينَ. الْفَصْلُ الثَّانِي فِي تَقْرِيرِ مَشْرَعٍ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِنْبَاطُ الْمَسَائِلِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْقَلِيلَةِ وَلْنَتَكَلَّمْ فِي قَوْلِنَا: أَعُوذُ بِاللَّهِ فَنَقُولُ: أَعُوذُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ، وَالْفِعْلُ الْمُضَارِعُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِعْلِ، وَأَمَّا الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ «بِاللَّهِ» فَهِيَ بَاءُ الْإِلْصَاقِ، وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ حُرُوفِ الْجَرِّ، وَحُرُوفُ الْجَرِّ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُرُوفِ. وَأَمَّا قَوْلُنَا «اللَّهُ» فَهُوَ اسْمٌ مُعَيَّنٌ: إِمَّا مِنْ أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ، أَوْ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ، وَالِاسْمُ الْعَلَمُ وَالِاسْمُ الْمُشْتَقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ مُطْلَقِ الِاسْمِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ، أَنَّ مَعْرِفَةَ النَّوْعِ مُمْتَنِعٌ حُصُولُهَا إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ الْجِنْسَ جُزْءٌ مِنْ مَاهِيَّةِ النَّوْعِ، وَالْعِلْمُ بِالْبَسِيطِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعِلْمِ بِالْمُرَكَّبِ لَا مَحَالَةَ، فَقَوْلُنَا: أَعُوذُ بِاللَّهِ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِهِ كَمَا يَنْبَغِي إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَالْحَرْفِ أَوَّلًا، وَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ ذِكْرِ حُدُودِهَا وَخَوَاصِّهَا، ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْسِيمِ الِاسْمِ إِلَى الِاسْمِ الْعَلَمِ، وَإِلَى الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ، وَإِلَى اسْمِ الْجِنْسِ، وَتَعْرِيفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِحَدِّهِ وَرَسْمِهِ وَخَوَاصِّهِ، ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ يَجِبُ الْكَلَامُ فِي أَنَّ لَفْظَةَ اللَّهِ اسْمٌ عَلَمٌ، أَوِ اسْمٌ مُشْتَقٌّ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ مَاذَا؟ وَيُذْكَرُ فِيهِ الْوُجُوهُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي قِيلَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَأَيْضًا يَجِبُ الْبَحْثُ/ عَنْ حَقِيقَةِ الْفِعْلِ الْمُطْلَقِ، ثُمَّ يُذْكَرُ بَعْدَهُ أَقْسَامُ الْفِعْلِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ، وَيُذْكَرُ حَدُّهُ وَخَوَاصُّهُ وَأَقْسَامُهُ، ثُمَّ يُذْكَرُ بَعْدَهُ الْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِقَوْلِنَا «أَعُوذُ» عَلَى التَّخْصِيصِ، وَأَيْضًا يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ حَقِيقَةِ الْحَرْفِ الْمُطْلَقِ، ثُمَّ يُذْكَرُ بَعْدَهُ حَرْفُ الْجَرِّ وَحَدُّهُ وَخَوَاصُّهُ وَأَحْكَامُهُ ثُمَّ يُذْكَرُ بَعْدَهُ بَاءُ الْإِلْصَاقِ وَحَدُّهُ وَخَوَاصُّهُ، وَعِنْدَ الْوُقُوفِ عَلَى تَمَامِ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ يَحْصُلُ الْوُقُوفُ عَلَى تَمَامِ الْمَبَاحِثِ اللَّفْظِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِقَوْلِهِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَبَاحِثَ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَى مَعَاقِدِهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. ثُمَّ نَقُولُ: وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: مِنَ الْمَرَاتِبِ أَنْ نَقُولَ: الِاسْمُ وَالْفِعْلُ وَالْحَرْفُ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ دَاخِلَةٌ تَحْتَ جِنْسِ الْكَلِمَةِ، فَيَجِبُ الْبَحْثُ أَيْضًا عَنْ مَاهِيَّةِ الْكَلِمَةِ وَحَدِّهَا وَخَوَاصِّهَا، وَأَيْضًا فَهَهُنَا أَلْفَاظٌ أُخْرَى شَبِيهَةٌ بِالْكَلِمَةِ، وَهِيَ: الْكَلَامُ، وَالْقَوْلُ، وَاللَّفْظُ، وَاللُّغَةُ، وَالْعِبَارَةُ، فَيَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، ثُمَّ يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ كَوْنِهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ، أَوْ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَبَايِنَةِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ أَلْفَاظًا مُتَبَايِنَةً فَإِنَّهُ يَجِبُ ذِكْرُ تِلْكَ الْفُرُوقِ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالتَّحْصِيلِ. ثُمَّ نَقُولُ: وَالْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: مِنَ الْبَحْثِ أَنْ نَقُولَ: لَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ إِنَّمَا تَحْصُلُ مِنَ الْأَصْوَاتِ

وَالْحُرُوفِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ حَقِيقَةِ الصَّوْتِ، وَعَنْ أَسْبَابِ وُجُودِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ حُدُوثَ الصَّوْتِ فِي الْحَيَوَانِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ خُرُوجِ النَّفَسِ مِنَ الصَّدْرِ، فَعِنْدَهَا يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ حَقِيقَةِ النَّفَسِ، وَأَنَّهُ مَا الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِ الْإِنْسَانِ مُتَنَفِّسًا عَلَى سَبِيلِ الضَّرُورَةِ وَأَنَّ هَذَا الصَّوْتَ يَحْصُلُ بِسَبَبِ اسْتِدْخَالِ النَّفَسِ أَوْ بِسَبَبِ إِخْرَاجِهِ، وَعِنْدَ هَذَا تَحْتَاجُ هَذِهِ الْمَبَاحِثُ إِلَى مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الْقَلْبِ وَالرِّئَةِ، وَمَعْرِفَةِ الْحِجَابِ الَّذِي هُوَ الْمَبْدَأُ الْأَوَّلُ لِحَرَكَةِ الصَّوْتِ وَمَعْرِفَةِ سَائِرِ الْعَضَلَاتِ الْمُحَرِّكَةِ لِلْبَطْنِ وَالْحَنْجَرَةِ وَاللِّسَانِ وَالشَّفَتَيْنِ، وَأَمَّا الْحَرْفُ فَيَجِبُ الْبَحْثُ أَنَّهُ هَلْ هُوَ نَفْسُ الصَّوْتِ، أَوْ هَيْئَةٌ مَوْجُودَةٌ فِي الصَّوْتِ مُغَايِرَةٌ لَهُ؟ وَأَيْضًا لَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ إِنَّمَا تَتَوَلَّدُ عِنْدَ تَقْطِيعِ الصَّوْتِ، وَهِيَ مَخَارِجُ مَخْصُوصَةٌ فِي الْحَلْقِ وَاللِّسَانِ وَالْأَسْنَانِ وَالشَّفَتَيْنِ، فَيَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ تِلْكَ الْمَحَابِسِ، وَيَجِبُ أَيْضًا الْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ الْعَضَلَاتِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا تَتَمَكَّنُ الْحَيَوَانَاتُ مِنْ إِدْخَالِ الْأَنْوَاعِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْجِنْسِ فِي الْوُجُودِ وَهَذِهِ الْمَبَاحِثُ لَا تَتِمُّ دَلَالَتُهَا إِلَّا عِنْدَ الْوُقُوفِ عَلَى عِلْمِ التَّشْرِيحِ. ثُمَّ نَقُولُ: وَالْمَرْتَبَةُ السَّادِسَةُ: مِنَ الْبَحْثِ هِيَ أَنَّ الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ كَيْفِيَّاتٌ مَحْسُوسَةٌ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ، وَأَمَّا الْأَلْوَانُ وَالْأَضْوَاءُ فَهِيَ كَيْفِيَّاتٌ مَحْسُوسَةٌ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ، وَالطُّعُومُ كَيْفِيَّاتٌ مَحْسُوسَةٌ بِحَاسَّةِ الذَّوْقِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْكَيْفِيَّاتِ الْمَحْسُوسَةِ، فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْكَيْفِيَّاتُ/ أَنْوَاعٌ دَاخِلَةٌ تَحْتَ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهِيَ مُتَبَايِنَةٌ بِتَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا مُشَارَكَةَ بَيْنَهَا إِلَّا بِاللَّوَازِمِ الْخَارِجِيَّةِ أَمْ لَا؟. ثُمَّ نَقُولُ: وَالْمَرْتَبَةُ السَّابِعَةُ: مِنَ الْبَحْثِ أَنَّ الْكَيْفِيَّاتِ الْمَحْسُوسَةَ نَوْعٌ وَاحِدٌ مِنْ أَنْوَاعِ جِنْسِ الْكَيْفِ فِي الْمَشْهُورِ، فَيَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ تَعْرِيفِ مَقُولَةِ الْكَيْفِ، ثُمَّ يَجِبُ الْبَحْثُ أَنَّ وُقُوعَهُ عَلَى مَا تَحْتَهُ هَلْ هُوَ قَوْلُ الْجِنْسِ عَلَى الْأَنْوَاعِ أَمْ لَا؟. ثُمَّ نَقُولُ: وَالْمَرْتَبَةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّ مَقُولَةَ الْكَيْفِ، وَمَقُولَةَ الْكَمِّ، وَمَقُولَةَ النِّسْبَةِ عَرَضٌ، فَيَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ مَقُولَةِ الْعَرَضِ وَأَقْسَامِهِ، وَعَنْ أَحْكَامِهِ وَلَوَازِمِهِ وَتَوَابِعِهِ. ثُمَّ نقول: والمرتبة التاسعة: أن العرض والجواهر يشتركان في الدخول تحت الممكن وَالْوَاجِبُ مُشْتَرِكَانِ فِي الدُّخُولِ تَحْتَ الْمَوْجُودِ، فَيَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ لَوَاحِقِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَهِيَ كَيْفِيَّةُ وقوع الموجود على الواجب وَالْمُمْكِنِ أَنَّهُ هَلْ هُوَ قَوْلُ الْجِنْسِ عَلَى أَنْوَاعِهِ أَوْ هُوَ قَوْلُ اللَّوَازِمِ عَلَى مَوْصُوفَاتِهَا وَسَائِرُ الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذَا الْبَابِ. ثُمَّ نَقُولُ: وَالْمَرْتَبَةُ الْعَاشِرَةُ: أَنْ نَقُولَ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْلُومَ وَالْمَذْكُورَ وَالْمُخْبَرَ عَنْهُ يَدْخُلُ فِيهَا الْمَوْجُودُ وَالْمَعْدُومُ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُ أَمْرٍ أَعَمَّ مِنَ الْمَوْجُودِ؟ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ الْمَظْنُونُ أَعَمُّ مِنَ الْمَعْلُومِ، وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّ أَعَمَّ الِاعْتِبَارَاتِ هُوَ الْمَعْلُومُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْلُومَ مُقَابِلُهُ غَيْرُ الْمَعْلُومِ، لَكِنَّ الشَّيْءَ مَا لَمْ تُعْلَمْ حَقِيقَتُهُ امْتَنَعَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ مُقَابِلًا لِغَيْرِهِ، فَلَمَّا حَكَمْنَا عَلَى غَيْرِ الْمَعْلُومِ بِكَوْنِهِ مُقَابِلًا لِلْمَعْلُومِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْمَعْلُومِ مَعْلُومًا، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُقَابِلُ لِلْمَعْلُومِ مَعْلُومًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنِ اعْتَبَرَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْعَشَرَةَ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْمَوْجُودَاتِ فَقَدِ انْفَتَحَتْ عَلَيْهِ أَبْوَابُ مَبَاحِثَ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَلَا يُحِيطُ عَقْلُهُ بِأَقَلِّ الْقَلِيلِ مِنْهَا، فَظَهَرَ بِهَذَا كَيْفِيَّةُ الِاسْتِنْبَاطِ لِلْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْأَلْفَاظِ القليلة

الفصل الثالث في تقرير مشرع آخر لتصحيح ما ذكرناه من استنباط المسائل الكثيرة من هذه السورة

الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي تَقْرِيرِ مَشْرَعٍ آخَرَ لِتَصْحِيحِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنِ اسْتِنْبَاطِ الْمَسَائِلِ الْكَثِيرَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ اعْلَمْ أَنَّا إِذَا ذَكَرْنَا مَسْأَلَةً وَاحِدَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ وَدَلَّلْنَا عَلَى صِحَّتِهَا بِوُجُوهٍ عَشَرَةٍ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ وَالدَّلَائِلِ مَسْأَلَةٌ بِنَفْسِهَا، ثُمَّ إِذَا حَكَيْنَا فِيهَا مَثَلًا شُبُهَاتٍ خَمْسَةً فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَيْضًا مَسْأَلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا، ثُمَّ إِذَا أَجَبْنَا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِجَوَابَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَتِلْكَ الْأَجْوِبَةُ/ الثَّلَاثَةُ أَيْضًا مَسَائِلُ ثَلَاثَةٌ، وَإِذَا قُلْنَا مَثَلًا: الْأَلْفَاظُ الْوَارِدَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ جَاءَتْ عَلَى سِتِّينَ وَجْهًا، وَفَصَّلْنَا تِلْكَ الْوُجُوهَ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْحَقِيقَةِ سِتُّونَ مَسْأَلَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا مَعْنَى لَهَا إِلَّا مَوْضِعَ السُّؤَالِ وَالتَّقْرِيرِ، فَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ كَذَلِكَ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَسْأَلَةً عَلَى حِدَةٍ، وَإِذَا وَقَفْتَ عَلَى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ فَنَقُولُ: إِنَّا لَوِ اعْتَبَرْنَا الْمَبَاحِثَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالِاسْمِ وَالْفِعْلِ، ثُمَّ نَنْزِلُ مِنْهَا إِلَى الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِتَقْسِيمِ الْأَفْعَالِ بِالْمَعْلُومِ وَالْمَذْكُورِ، وَالْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ، وَالْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ، وَالْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ، وَالْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَقُولَةِ الْكَيْفِ وَكَيْفِيَّةِ انْقِسَامِهِ إِلَى الْكَيْفِيَّةِ الْمَحْسُوسَةِ وَغَيْرِ الْمَحْسُوسَةِ، وَالْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالصَّوْتِ وَكَيْفِيَّةِ حُدُوثِهِ وَكَيْفِيَّةِ الْعَضَلَاتِ الْمُحْدِثَةِ لِلْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ- عَظُمَ الْخَطْبُ، وَاتَّسَعَ الْبَابُ، وَلَكِنَّا نَبْدَأُ فِي هَذَا الْكِتَابِ بِالْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْكَلِمَةِ وَالْكَلَامِ وَالْقَوْلِ وَاللَّفْظِ وَالْعِبَارَةِ، ثُمَّ نَنْزِلُ مِنْهَا إِلَى الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَالْحَرْفِ، ثُمَّ نَنْزِلُ مِنْهَا إِلَى الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِتَقْسِيمَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ وَالْحُرُوفِ حَتَّى نَنْتَهِيَ إِلَى الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي قَوْلِهِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَنَرْجُو مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الْعَمِيمِ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِلْوُصُولِ إِلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ الْكَرِيمِ. الْكِتَابُ الْأَوَّلُ فِي الْعُلُومِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ قَوْلِهِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ اعْلَمْ أَنَّ الْعُلُومَ الْمُسْتَنْبَطَةَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللُّغَةِ وَالْإِعْرَابِ وَالثَّانِي: الْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِعِلْمِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فِي الْمَبَاحِثِ الْأَدَبِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَفِيهِ أَبْوَابٌ. الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْكَلِمَةِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا، وَفِيهِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ أَكْمَلَ الطُّرُقِ فِي تَعْرِيفِ مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ هُوَ طَرِيقَةُ الِاشْتِقَاقِ، ثُمَّ إِنَّ الِاشْتِقَاقَ عَلَى نَوْعَيْنِ: الِاشْتِقَاقُ الْأَصْغَرُ، وَالِاشْتِقَاقُ الْأَكْبَرُ، أَمَّا الِاشْتِقَاقُ الْأَصْغَرُ فَمِثْلُ اشْتِقَاقِ صِيغَةِ الْمَاضِي

وَالْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْمَصْدَرِ، وَمِثْلُ اشْتِقَاقِ اسْمِ الْفَاعِلِ واسم المفعول وغير هما مِنْهُ، وَأَمَّا الِاشْتِقَاقُ الْأَكْبَرُ فَهُوَ أَنَّ الْكَلِمَةَ إِذَا كَانَتْ مُرَكَّبَةً مِنَ الْحُرُوفِ كَانَتْ قَابِلَةً/ لِلِانْقِلَابَاتِ لَا مَحَالَةَ، فَنَقُولُ: أَوَّلُ مَرَاتِبِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ مُرَكَّبَةً مِنْ حَرْفَيْنِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَا تَقْبَلُ إِلَّا نَوْعَيْنِ مِنَ التَّقْلِيبِ، كَقَوْلِنَا: «مَنْ» وَقَلْبُهُ «نَمْ» وَبَعْدَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ مُرَكَّبَةً مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ كَقَوْلِنَا: «حَمْدٌ» وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تَقْبَلُ سِتَّةَ أَنْوَاعٍ مِنَ التَّقْلِيبَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ الثَّلَاثَةِ ابتداء لتلك الكلمة، وعلى كل واحد من التَّقْدِيرَاتِ الثَّلَاثِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ وُقُوعُ الْحَرْفَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ لَكِنَّ ضَرْبَ الثَّلَاثَةِ فِي اثْنَيْنِ بِسِتَّةٍ فَهَذِهِ التَّقْلِيبَاتُ الْوَاقِعَةُ فِي الْكَلِمَاتِ الثُّلَاثِيَّاتِ يُمْكِنُ وُقُوعُهَا عَلَى سِتَّةِ أَوْجُهٍ، ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ رُبَاعِيَّةً كَقَوْلِنَا: «عَقْرَبٌ، وَثَعْلَبٌ» وَهِيَ تَقْبَلُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَجْهًا مِنَ التَّقْلِيبَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ الْأَرْبَعَةِ ابْتِدَاءً لِتِلْكَ الْكَلِمَةِ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ التَّقْدِيرَاتِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ وُقُوعُ الْحُرُوفِ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ عَلَى سِتَّةِ أَنْوَاعٍ مِنَ التَّقْلِيبَاتِ، وَضَرْبُ أَرْبَعَةٍ فِي سِتَّةٍ يُفِيدُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَجْهًا، ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ خُمَاسِيَّةً كَقَوْلِنَا: «سَفَرْجَلٌ» وَهِيَ تَقْبَلُ مِائَةً وَعِشْرِينَ نَوْعًا مِنَ التَّقْلِيبَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ الْخَمْسَةِ ابْتِدَاءً لِتِلْكَ الْكَلِمَةِ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ وُقُوعُ الْحُرُوفِ الْأَرْبَعَةِ الْبَاقِيَةِ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ وَجْهًا عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَضَرْبُ خَمْسَةٍ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَالضَّابِطُ فِي الْبَابِ أَنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ التَّقَالِيبَ الْمُمْكِنَةَ فِي الْعَدَدِ الْأَقَلِّ ثُمَّ أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ عَدَدَ التَّقَالِيبِ الْمُمْكِنَةِ فِي الْعَدَدِ الَّذِي فَوْقَهُ فَاضْرِبِ الْعَدَدَ الْفَوْقَانِيَّ فِي الْعَدَدِ الْحَاصِلِ مِنَ التَّقَالِيبِ الْمُمْكِنَةِ فِي الْعَدَدِ الْفَوْقَانِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ اعْتِبَارَ حَالِ الِاشْتِقَاقِ الْأَصْغَرِ سَهْلٌ مُعْتَادٌ مَأْلُوفٌ، أَمَّا الِاشْتِقَاقُ الْأَكْبَرُ فَرِعَايَتُهُ صَعْبَةٌ، وَكَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ رِعَايَتُهُ إِلَّا فِي الْكَلِمَاتِ الثُّلَاثِيَّةِ لِأَنَّ تَقَالِيبَهَا لَا تَزِيدُ عَلَى السِّتَّةِ، أَمَّا الرُّبَاعِيَّاتُ وَالْخُمَاسِيَّاتُ فَإِنَّهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَأَكْثَرُ تِلْكَ التَّرْكِيبَاتِ تَكُونُ مُهْمَلَةً فَلَا يُمْكِنُ رِعَايَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِاشْتِقَاقِ فِيهَا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ. وَأَيْضًا الْكَلِمَاتُ الثُّلَاثِيَّةُ قَلَّمَا يُوجَدُ فِيهَا مَا يَكُونُ جَمِيعُ تَقَالِيبِهَا الْمُمْكِنَةِ مُعْتَبَرَةً. بَلْ يَكُونُ فِي الْأَكْثَرِ بَعْضُهَا مُسْتَعْمَلًا وَبَعْضُهَا مُهْمَلًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْقَدْرَ الْمُمْكِنَ مِنْهُ هُوَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى فِي تَحْقِيقِ الْكَلَامِ فِي الْمَبَاحِثِ اللُّغَوِيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْكَلِمَةِ: اعْلَمْ أَنَّ تَرْكِيبَ الْكَافِ وَاللَّامِ وَالْمِيمِ بِحَسَبِ تَقَالِيبِهَا الْمُمْكِنَةِ السِّتَّةِ تُفِيدُ القوة والشدة، خمسة منها معتبرة، وواحدة ضَائِعٌ، فَالْأَوَّلُ: «ك ل م» فَمِنْهُ الْكَلَامُ، لِأَنَّهُ يَقْرَعُ السَّمْعَ وَيُؤَثِّرُ فِيهِ، وَأَيْضًا يُؤَثِّرُ فِي الذِّهْنِ بِوَاسِطَةِ إِفَادَةِ الْمَعْنَى، وَمِنْهُ/ الْكَلْمُ لِلْجَرْحِ، وَفِيهِ شِدَّةٌ، وَالْكُلَامُ مَا غَلُظَ مِنَ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ لِشِدَّتِهِ، الثَّانِي: «ك م ل» لِأَنَّ الْكَامِلَ أَقْوَى مِنَ النَّاقِصِ، وَالثَّالِثُ: «ل ك م» وَمَعْنَى الشِّدَّةِ فِي اللَّكْمِ ظَاهِرٌ، وَالرَّابِعُ: «م ك ل» وَمِنْهُ «بِئْرٌ مَكُولٌ» إِذَا قَلَّ مَاؤُهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ وُرُودُهَا مَكْرُوهًا فَيَحْصُلُ نَوْعُ شِدَّةٍ عِنْدَ وُرُودِهَا، الْخَامِسُ: «م ل ك» يُقَالُ «مَلَكْتَ الْعَجِينَ» إِذَا أَمْعَنْتَ عَجْنَهُ فَاشْتَدَّ وَقَوِيَ، وَمِنْهُ «مَلَكَ الْإِنْسَانُ» لِأَنَّهُ نَوْعُ قُدْرَةٍ، وَ «أُمْلِكَتِ الْجَارِيَةُ» لِأَنَّ بَعْلَهَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَفْظُ الْكَلِمَةِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي اللَّفْظَةِ الْوَاحِدَةِ وَيُرَادُ بِهَا الْكَلَامُ الْكَثِيرُ الَّذِي قَدِ ارْتَبَطَ بَعْضُهُ

بِبَعْضٍ كَتَسْمِيَتِهِمُ الْقَصِيدَةَ بِأَسْرِهَا «كَلِمَةً» ، وَمِنْهَا يُقَالُ: «كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ» ، وَيُقَالُ: «الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ» ، وَلَمَّا كَانَ الْمَجَازُ أَوْلَى مِنَ الِاشْتِرَاكِ عَلِمْنَا أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْكَلِمَةِ عَلَى الْمُرَكَّبِ مَجَازٌ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَكَّبَ إِنَّمَا يَتَرَكَّبُ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ، فَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْكَلِمَةِ عَلَى الْكَلَامِ الْمُرَكَّبِ يَكُونُ إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ الْكَثِيرَ إِذَا ارْتَبَطَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ حَصَلَتْ لَهُ وِحْدَةٌ فَصَارَ شَبِيهًا بِالْمُفْرَدِ فِي تِلْكَ الْوُجُوهِ، وَالْمُشَابَهَةُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ حُسْنِ الْمَجَازِ، فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْكَلِمَةِ عَلَى الْكَلَامِ الطَّوِيلِ لِهَذَا السَّبَبِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَفْظُ الْكَلِمَةِ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ لِمَفْهُومَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُقَالُ لِعِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ، إِمَّا لِأَنَّهُ حَدَثَ بِقَوْلِهِ: «كُنْ» أَوْ لِأَنَّهُ حَدَثَ فِي زَمَانٍ قَلِيلٍ كَمَا تَحْدُثُ الْكَلِمَةُ كَذَلِكَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى أَفْعَالَهُ كَلِمَاتٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي: [الكهف: 109] وَالسَّبَبُ فِيهِ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي الْقَوْلِ: هَذَا التَّرْكِيبُ بِحَسَبِ تَقَالِيبِهِ السِّتَّةِ يَدُلُّ عَلَى الْحَرَكَةِ وَالْخِفَّةِ، فالأول: «ق ول» فَمِنْهُ الْقَوْلُ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ سَهْلٌ عَلَى اللسان، الثاني: «ق ل و» وَمِنْهُ الْقِلْوُ وَهُوَ حِمَارُ الْوَحْشِ، وَذَلِكَ لِخِفَّتَهِ فِي الْحَرَكَةِ وَمِنْهُ «قَلَوْتُ الْبُرَّ وَالسَّوِيقَ» فَهُمَا مَقْلُوَّانِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا قُلِيَ جَفَّ وَخَفَّ فَكَانَ أَسْرَعَ إِلَى الْحَرَكَةِ، وَمِنْهُ الْقَلَوْلَى، وَهُوَ الخفيف الطائش، والثالث: «وق ل» الْوَقِلُ الْوَعِلُ، وَذَلِكَ لِحَرَكَتِهِ، وَيُقَالُ «تَوَقَّلَ في الجبل» إذا صعد فيه، والرابع: «ول ق» يُقَالُ: وَلَقَ يَلِقُ إِذَا أَسْرَعَ، وَقُرِئَ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ [النور: 15] أي: تخفون وتسرعون، والخامس: «ل وق» كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «لَا آكُلُ الطَّعَامَ إِلَّا مَا لُوِّقَ لِي» أَيْ: أُعْمِلَتِ الْيَدُ فِي تَحْرِيكِهِ وَتَلْيِينِهِ حَتَّى يَصْلُحَ، وَمِنْهُ اللُّوقَةُ وَهِيَ الزُّبْدَةُ قِيلَ لَهَا ذَلِكَ لِخِفَّتِهَا وَإِسْرَاعِ حَرَكَتِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِهَا مَسْكَةُ الْجُبْنِ وَالْمَصْلِ، وَالسَّادِسُ: «ل ق و» وَمِنْهُ اللَّقْوَةُ وَهِيَ الْعُقَابُ، قِيلَ لَهَا ذَلِكَ لِخِفَّتِهَا وَسُرْعَةِ طَيَرَانِهَا، وَمِنْهُ اللَّقْوَةُ فِي الْوَجْهِ لِأَنَّ الْوَجْهَ اضْطَرَبَ شَكْلُهُ فَكَأَنَّهُ خِفَّةٌ فِيهِ وَطَيْشٌ، وَاللِّقْوَةُ النَّاقَةُ السَّرِيعَةُ اللِّقَاحِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ ابْنُ جِنِّي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: اللُّغَةُ فُعْلَةٌ مِنْ لَغَوْتُ أي: تلكمت، وَأَصْلُهَا لُغْوَةٌ كَكُرَةٍ وَقُلَةٍ فَإِنَّ لَامَاتِهَا كُلَّهَا وَاوَاتٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ كَرَوْتُ بِالْكُرَةِ وَقَلَوْتُ بِالْقُلَةِ، وقيل فيه لغى يلغى إذا هذا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً: [الْفُرْقَانِ: 72] قُلْتُ: إِنَّ ابْنَ جِنِّي قَدِ اعْتَبَرَ الِاشْتِقَاقَ الأكبر في الكلمة والقول ولم يعتبره هاهنا، وَهُوَ حَاصِلٌ فِيهِ، فَالْأَوَّلُ: «ل غ و» وَمِنْهُ اللُّغَةُ وَمِنْهُ أَيْضًا الْكَلَامُ اللَّغْوُ، وَالْعَمَلُ اللغو، والثاني: «ل وغ» وَيُبْحَثُ عَنْهُ، وَالثَّالِثُ: «غ ل و» وَمِنْهُ يُقَالُ: لِفُلَانٍ غُلُوٌّ فِي كَذَا، وَمِنْهُ الْغَلْوَةُ، والرابع: «غ ول» ومنه قوله تعالى: لا فِيها غَوْلٌ: [الصافات: 47] والخامس: «وغ ل» وَمِنْهُ يُقَالُ: فُلَانٌ أَوْغَلَ فِي كَذَا والسادس: «ول غ» وَمِنْهُ يُقَالُ: وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْكُلِّ هُوَ الْإِمْعَانُ فِي الشَّيْءِ وَالْخَوْضُ التَّامُّ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي اللَّفْظِ: وَأَقُولُ: أَظُنُّ أَنَّ إِطْلَاقَ اللَّفْظِ عَلَى هَذِهِ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ عَلَى سبيل المجاز، وذلك لأنها إنما تحدث عنه إِخْرَاجِ النَّفَسِ مِنْ دَاخِلِ الصَّدْرِ إِلَى الْخَارِجِ فَالْإِنْسَانُ عِنْدَ إِخْرَاجِ النَّفَسِ مِنْ دَاخِلِ الصَّدْرِ إِلَى الْخَارِجِ يَحْبِسُهُ فِي الْمَحَابِسِ الْمُعَيَّنَةِ، ثُمَّ يُزِيلُ ذَلِكَ الْحَبْسَ، فَتَتَوَلَّدُ تِلْكَ الْحُرُوفُ فِي آخِرِ زَمَانِ حَبْسِ النَّفَسِ وَأَوَّلِ زَمَانِ إِطْلَاقِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ اللَّفْظَ هُوَ: الرَّمْيُ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ فِي هَذِهِ الْأَصْوَاتِ

وَالْحُرُوفِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَرْمِي ذَلِكَ النَّفَسَ مِنْ دَاخِلِ الصَّدْرِ إِلَى خَارِجِهِ وَيَلْفِظُهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِخْرَاجُ، وَاللَّفْظُ سَبَبٌ لِحُدُوثِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، فَأُطْلِقَ اسْمُ اللَّفْظِ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ لِهَذَا السَّبَبِ، وَالثَّانِي: أَنَّ تَوَلُّدَ الْحُرُوفِ لَمَّا كَانَ بِسَبَبِ لَفْظِ ذَلِكَ الْهَوَاءِ مِنَ الدَّاخِلِ إِلَى الْخَارِجِ صَارَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَلْفِظُ تِلْكَ الْحُرُوفَ وَيَرْمِيهَا مِنَ الدَّاخِلِ إِلَى الْخَارِجِ، وَالْمُشَابَهَةُ إِحْدَى أَسْبَابِ الْمَجَازِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ، الْعِبَارَةُ: وَتَرْكِيبُهَا مِنْ «ع ب ر» وَهِيَ فِي تَقَالِيبِهَا السِّتَّةِ تُفِيدُ الْعُبُورَ وَالِانْتِقَالَ، فَالْأَوَّلُ: «ع ب ر» وَمِنْهُ الْعِبَارَةُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا إِلَّا إِذَا انْتَقَلَ مِنْ حَرْفٍ إِلَى حَرْفٍ آخَرَ، وَأَيْضًا كَأَنَّهُ بِسَبَبِ تِلْكَ الْعِبَارَةِ يَنْتَقِلُ الْمَعْنَى مِنْ ذِهْنِ نَفْسِهِ إِلَى ذِهْنِ السَّامِعِ، وَمِنْهُ الْعَبْرَةُ لِأَنَّ تِلْكَ الدَّمْعَةَ تَنْتَقِلُ مِنْ دَاخِلِ الْعَيْنِ إِلَى الْخَارِجِ، وَمِنْهُ الْعِبَرُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْتَقِلُ فِيهَا مِنَ الشَّاهِدِ إِلَى الْغَائِبِ. وَمِنْهُ الْمَعْبَرُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْتَقِلُ بِوَاسِطَتِهِ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيِ الْبَحْرِ إِلَى الثَّانِي، وَمِنْهُ التَّعْبِيرُ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِمَّا يَرَاهُ فِي النَّوْمِ إِلَى الْمَعَانِي الْغَائِبَةِ، وَالثَّانِي: «ع ر ب» وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ الْعَرَبِ بِالْعَرَبِ لِكَثْرَةِ انْتِقَالَاتِهِمْ بِسَبَبِ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ/ وَمِنْهُ «فُلَانٌ أَعْرَبَ فِي كَلَامِهِ» لِأَنَّ اللَّفْظَ قَبْلَ الْإِعْرَابِ يَكُونُ مَجْهُولًا فَإِذَا دَخَلَهُ الْإِعْرَابُ انْتَقَلَ إِلَى الْمَعْرِفَةِ وَالْبَيَانِ، وَالثَّالِثُ: «ب ر ع» وَمِنْهُ «فُلَانٌ بَرَعَ فِي كَذَا» إِذَا تَكَامَلَ وَتَزَايَدَ، الرَّابِعُ: «ب ع ر» وَمِنْهُ الْبَعْرُ لِكَوْنِهِ مُنْتَقِلًا مِنَ الدَّاخِلِ إِلَى الْخَارِجِ، الْخَامِسُ: «ر ع ب» وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْخَوْفِ رُعْبٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْتَقِلُ عِنْدَ حُدُوثِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ أُخْرَى، وَالسَّادِسُ: «ر ب ع» وَمِنْهُ الرَّبُعُ لِأَنَّ النَّاسَ ينتقلون منها وإليها. الفرق بين الكلمة والكلام: المسألة العاشرة: [الفرق بين الكلمة والكلام] قال أكثر النحويون: الْكَلِمَةُ غَيْرُ الْكَلَامِ، فَالْكَلِمَةُ هِيَ اللَّفْظَةُ الْمُفْرَدَةُ، وَالْكَلَامُ هُوَ الْجُمْلَةُ الْمُفِيدَةُ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَنَاوَلُ الْمُفْرَدَ وَالْمُرَكَّبَ، وَابْنُ جِنِّي وَافَقَ النَّحْوِيِّينَ وَاسْتَبْعَدَ قَوْلَ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَمَا رَأَيْتُ فِي كَلَامِهِ حُجَّةً قَوِيَّةً فِي الْفَرْقِ سِوَى أَنَّهُ نَقَلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ كَلَامًا مُشْعِرًا بِأَنَّ لَفَظَ الْكَلَامِ مُخْتَصٌّ بِالْجُمْلَةِ الْمُفِيدَةِ، وَذَكَرَ كَلِمَاتٍ أُخْرَى إِلَّا أَنَّهَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، أَمَّا الْأُصُولِيُّونَ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِوُجُوهٍ، الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعُقَلَاءَ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ مَا يُضَادُّ الْخَرَسَ وَالسُّكُوتَ، وَالتَّكَلُّمُ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ يُضَادُّ الْخَرَسَ وَالسُّكُوتَ، فَكَانَ كَلَامًا، الثَّانِي: أَنَّ اشْتِقَاقَ الْكَلِمَةِ مِنَ الْكَلْمِ، وَهُوَ الْجَرْحُ وَالتَّأْثِيرُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ سَمِعَ كَلِمَةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ يَفْهَمُ مَعْنَاهَا، فَهَهُنَا قَدْ حَصَلَ مَعْنَى التَّأْثِيرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا، وَالثَّالِثُ: يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنْ فُلَانًا تَكَلَّمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا: إِنَّهُ مَا تَكَلَّمَ إِلَّا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ كَلَامٌ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ تَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، الرَّابِعُ: إِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ تَكَلَّمَ فُلَانٌ بِكَلَامٍ غَيْرِ تَامٍّ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْإِفَادَةِ التامة غير معتبر في اسم الكلام. مسألة فقهية في الطلاق: المسألة الحادية عشرة [مسألة فقهية في الطلاق] : تَفَرَّعَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ، وَهِيَ أُولَى مَسَائِلِ أَيْمَانِ «الْجَامِعِ الْكَبِيرِ» لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهِيَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا: إِنْ كَلَّمْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالُوا: إن ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ طُلِّقَتْ طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَهَلْ تَنْعَقِدُ هَذِهِ الثَّانِيَةُ طَلْقَةً؟

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: تَنْعَقِدُ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَنْعَقِدُ، وَحُجَّةُ زُفَرَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ إِنْ كَلَّمْتُكِ فَعِنْدَ هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْكَلَامِ حَصَلَ الشَّرْطُ، لِأَنَّ اسْمَ الْكَلَامِ اسْمٌ لِكُلِّ مَا أَفَادَ شَيْئًا، سَوَاءٌ أَفَادَ فَائِدَةً تَامَّةً أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَإِذَا حَصَلَ الشَّرْطُ حَصَلَ الْجَزَاءُ، وَطُلِّقَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ إِنَّ كَلَّمْتُكِ، فَوَقَعَ تَمَامُ قَوْلِهِ: «أَنْتِ طَالِقٌ» خَارِجَ تَمَامِ مَلْكِ النِّكَاحِ، وَغَيْرَ مُضَافٍ إِلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّرْطَ- وَهُوَ قَوْلُهُ إِنْ كَلَّمْتُكِ- غَيْرُ تَامٍّ، وَالْكَلَامُ اسْمٌ لِلْجُمْلَةِ التَّامَّةِ، فَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ/ إِلَّا عِنْدَ تَمَامِ قَوْلِهِ إِنْ كَلَّمْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ اسْمَ الْكَلَامِ يَتَنَاوَلُ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ كان القول قول زفر، وإن قلنا إنه لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْجُمْلَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمِمَّا يُقَوِّي قَوْلَ زُفَرَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ «إِنْ كَلَّمْتُكِ» وَسَكَتَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْدَهُ قَوْلَهُ: «فَأَنْتِ طَالِقٌ» طلقت، لولا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ كَلَامٌ وَإِلَّا لَمَا طُلِّقَتْ، وَمِمَّا يُقَوِّي قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: «كُلَّمَا كَلَّمْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ» ثُمَّ ذَكَرَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَكَلِمَةُ «كُلَّمَا» تُوجِبُ التَّكْرَارَ فَلَوْ كَانَ التَّكَلُّمُ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ كَلَامًا لَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَقَاتُ الثَّلَاثُ عِنْدَ قَوْلِهِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ: «كُلَّمَا كَلَّمْتُكِ» وَسَكَتَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْدَهُ قَوْلَهُ: «فَأَنْتِ طَالِقٌ» لِأَنَّ هَذَا الْمَجْمُوعَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذِكْرِ الْكَلِمَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُوجِبُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَأَقُولُ: لَعَلَّ زُفَرَ يَلْتَزِمُ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: مَحَلُّ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِمَا إِذَا قَالَ: «إِنْ كَلَّمْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ» أَمَّا لَوْ قَالَ: «إِنْ تَكَلَّمْتُ بِكَلِمَةٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ» أَوْ قَالَ: «إِنْ نَطَقْتُ» أَوْ قَالَ: «إِنْ تَلَفَّظْتُ بِلَفْظَةٍ» أَوْ قَالَ: «إِنْ قُلْتُ قَوْلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ» وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَوْلَ زُفَرَ قَوْلًا وَاحِدًا، والله أعلم. هل يطلق الكلام على المهمل: المسألة الثالثة عشرة [هل يطلق الكلام على المهمل] : لَفْظُ الْكَلِمَةِ وَالْكَلَامِ هَلْ يَتَنَاوَلُ الْمُهْمَلَ أَمْ لَا؟ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَتَنَاوَلُهُ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ الْكَلَامُ مِنْهُ مُهْمَلٌ وَمِنْهُ مُسْتَعْمَلٌ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ غَيْرِ مَفْهُومٍ، وَلِأَنَّ الْمُهْمَلَ يُؤَثِّرُ فِي السَّمْعِ فَيَكُونُ مَعْنَى التَّأْثِيرِ وَالْكَلَامِ حَاصِلًا فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلَامُ مُخْتَصَّانِ بِالْمُفِيدِ، إِذْ لَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ هَذَا الْقَيْدُ لَزِمَ تَجْوِيزُ تَسْمِيَةِ أصوات الطيور بالكلمة والكلام. هل الأصوات الطبيعية تسمى كلاما: المسألة الرابعة عشرة [هل الأصوات الطبيعية تسمى كلاما] : إِذَا حَصَلَتْ أَصْوَاتٌ مُتَرَكِّبَةٌ تَرْكِيبًا يَدُلُّ عَلَى الْمَعَانِي إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ التَّرْكِيبَ كَانَ تَرْكِيبًا طَبِيعِيًّا لَا وَضْعِيًّا فَهَلْ يُسَمَّى مِثْلُ تِلْكَ الْأَصْوَاتِ كَلِمَةً وَكَلَامًا؟ مِثْلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَ الرَّاحَةِ أَوِ الْوَجَعِ قَدْ يَقُولُ أَخْ، وَعِنْدَ السُّعَالِ قَدْ يَقُولُ أَحْ أَحْ، فَهَذِهِ أَصْوَاتٌ مُرَكَّبَةٌ، وَحُرُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى مَعَانٍ مَخْصُوصَةٍ، لَكِنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى مَدْلُولَاتِهَا بِالطَّبْعِ لَا بِالْوَضْعِ، فَهَلْ تُسَمَّى أَمْثَالُهَا كَلِمَاتٍ؟ وَكَذَلِكَ صَوْتُ الْقَطَا يُشْبِهُ كَأَنَّهُ يَقُولُ قَطَا، وَصَوْتُ اللَّقْلَقِ يُشْبِهُ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَقْ لَقْ، فَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَصْوَاتِ هَلْ تُسَمَّى كَلِمَاتٍ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَمَا رَأَيْتُ فِي الْجَانِبَيْنِ حُجَّةً مُعْتَبَرَةً، وَفَائِدَةُ هَذَا الْبَحْثِ تَظْهَرُ فِيمَا إِذَا قَالَ: إِنْ سَمِعْتُ كَلِمَةً فَعَبْدِي حُرٌّ، فَهَلْ يَتَرَتَّبُ الْحِنْثُ وَالْبِرُّ عَلَى سَمَاعِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَمْ لَا؟. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَالَ ابْنُ جِنِّي: لَفْظُ الْقَوْلِ يَقَعُ عَلَى الْكَلَامِ التَّامِّ، وَعَلَى الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، على

سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ، أَمَّا لَفْظُ الْكَلَامِ فَمُخْتَصٌّ بِالْجُمْلَةِ التَّامَّةِ، وَلَفْظُ الْكَلِمَةِ مُخْتَصٌّ بِالْمُفْرَدِ وَحَاصِلُ كَلَامِهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ أَنَّا إِذَا بَيَّنَّا أَنَّ تَرْكِيبَ الْقَوْلِ يَدُلُّ عَلَى الْخِفَّةِ وَالسُّهُولَةِ وَجَبَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ، أَمَّا تَرْكِيبُ الْكَلَامِ فَيُفِيدُ التَّأْثِيرَ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنَ الْجُمْلَةِ التَّامَّةِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا يُشْكِلُ بِلَفْظِ الْكَلِمَةِ، وَمِمَّا يُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: - قُلْتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافْ سَمَّى نُطْقَهَا بِمُجَرَّدِ الْقَافِ قَوْلًا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَالَ أَيْضًا إِنَّ لَفْظَ الْقَوْلِ يَصِحُّ جَعْلُهُ مَجَازًا عَنِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْآرَاءِ، كَقَوْلِكَ: فُلَانٌ يَقُولُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَذْهَبُ إِلَى قَوْلِ مَالِكٍ، أَيْ: يَعْتَقِدُ مَا كَانَا يَرَيَانِهِ وَيَقُولَانِ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ سَأَلْتَ رَجُلًا عَنْ صِحَّةِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: لَا تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ، فَتَقُولُ: هَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَا تَقُولُ هَذَا كَلَامُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّعَسُّفِ، وَذَكَرَ أَنَّ السَّبَبَ فِي حُسْنِ هَذَا الْمَجَازِ أَنَّ الِاعْتِقَادَ لَا يُفْهَمُ إِلَّا بِغَيْرِهِ، فَلَمَّا حَصَلَتِ الْمُشَابَهَةُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا جَرَمَ حَصَلَ سبب جعله مجازا عنه. يستعمل القول في غير النطق: المسألة السابعة عشرة [يستعمل القول في غير النطق] : لَفْظُ قَالَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ النُّطْقِ، قَالَ أَبُو النَّجْمِ: - قَالَتْ لَهُ الطَّيْرُ تَقَدَّمْ رَاشِدَا ... إِنَّكَ لَا تَرْجِعُ إِلَّا حَامِدَا وَقَالَ آخَرُ: - وَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعًا وَطَاعَةً ... وَحَدَّرَتَا كَالدُّرِّ لَمَّا يُثْقَبِ وَقَالَ: - امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ: قَطْنِي ... مَهْلًا رُوَيْدًا قَدْ مَلَأْتُ بَطْنِي وَيُقَالُ فِي الْمَثَلِ: قَالَ الْجِدَارُ لِلْوَتَدِ لِمَ تَشُقُّنِي، قَالَ: سَلْ مَنْ يَدُقُّنِي، فَإِنَّ الَّذِي وَرَايِي مَا خَلَّانِي وَرَأْيِي، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ: [النَّحْلِ: 40] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ: [فُصِّلَتْ: 11] . الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: الَّذِينَ يُنْكِرُونَ كَلَامَ النَّفْسِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ وَالْقَوْلَ اسْمٌ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَالْكَلِمَاتِ، أَمَّا مُثْبِتُو كَلَامِ النَّفْسِ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى النَّفْسَانِيَّ يُسَمَّى بِالْكَلَامِ وَبِالْقَوْلِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ وَالْأَثَرِ وَالشِّعْرِ: أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ: [الْمُنَافِقُونَ: 1] وَظَاهِرٌ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا كَاذِبِينَ فِي اللَّفْظِ لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا أَنَّ مُحَمَّدًا/ رَسُولُ اللَّهِ وَكَانُوا صَادِقِينَ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ كَانُوا كاذبين في كلام آخر سوى اللفظ وما هو إلا كلام النفس، ولقائل أن يقول: لا نسلم أنهم ما كَانُوا كَاذِبِينَ فِي الْقَوْلِ اللِّسَانِيِّ، قَوْلُهُ: «أَخْبَرُوا أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ بَلْ أَخْبَرُوا عَنْ كَوْنِهِمْ شَاهِدِينَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ: [المنافقون: 1] وَالشَّهَادَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْعِلْمِ، وَهُمْ مَا كَانُوا عَالِمِينَ بِهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ، فِيمَا أَخْبَرُوا عَنْهُ بِالْقَوْلِ اللِّسَانِيِّ، وَأَمَّا الْأَثَرُ فَمَا نُقِلَ

أَنَّ عُمَرَ قَالَ يَوْمَ السَّقِيفَةِ: كُنْتُ قَدْ زَوَّرْتُ فِي نَفْسِي كَلَامًا فَسَبَقَنِي إِلَيْهِ أَبُو بكر، وأما الشاعر فَقَوْلُ الْأَخْطَلِ: - إِنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا وأما اللذين أَنْكَرُوا كَوْنَ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ يُسَمَّى بِالْكَلَامِ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يَنْطِقْ وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِالْحُرُوفِ يُقَالُ إِنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ، وَأَيْضًا الْحِنْثُ وَالْبِرُّ يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: اسْمُ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمَعْنَى النَّفْسَانِيِّ وَبَيْنَ اللَّفْظِ اللِّسَانِيِّ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: هَذِهِ الْكَلِمَاتُ وَالْعِبَارَاتُ قَدْ تُسَمَّى أَحَادِيثَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطور: 34] وَالسَّبَبُ فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ إِنَّمَا تَتَرَكَّبُ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُتَعَاقِبَةِ الْمُتَوَالِيَةِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ يَحْدُثُ عَقِيبَ صَاحِبِهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ سُمِّيَتْ بِالْحَدِيثِ وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَنَّ سَمَاعَهَا يُحْدِثُ فِي الْقُلُوبِ الْعُلُومَ وَالْمَعَانِيَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة العشرون: هاهنا أَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ، فَأَحَدُهَا: الْكَلِمَةُ، وَثَانِيهَا: الْكَلَامُ، وَثَالِثُهَا: الْقَوْلُ، وَرَابِعُهَا: اللَّفْظُ، وَخَامِسُهَا: الْعِبَارَةُ، وَسَادِسُهَا: الْحَدِيثُ، وَقَدْ شَرَحْنَاهَا بِأَسْرِهَا، وَسَابِعُهَا: النُّطْقُ وَيَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ كَيْفِيَّةِ اشْتِقَاقِهِ، وَأَنَّهُ هَلْ هُوَ مُرَادِفٌ لِبَعْضِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ أَوْ مُبَايِنٌ لَهَا، وَبِتَقْدِيرِ حُصُولِ الْمُبَايَنَةِ فَمَا الْفَرْقُ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي حَدِّ الْكَلِمَةِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي أَوَّلِ «الْمُفَصَّلِ» : الْكَلِمَةُ هِيَ اللَّفْظَةُ الدَّالَّةُ عَلَى مَعْنًى مُفْرَدٍ بِالْوَضْعِ. وَهَذَا التَّعْرِيفُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ صِيغَةَ الْمَاضِي كَلِمَةٌ مَعَ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى مُفْرَدٍ بِالْوَضْعِ، فَهَذَا التَّعْرِيفُ غَلَطٌ، لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَمْرَيْنِ: حَدَثٌ وَزَمَانٌ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، كَقَوْلِنَا: مَهْ، وَصَهْ، وَسَبَبُ الْغَلَطِ أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ جَعْلُ الْمُفْرَدِ صِفَةً لِلَّفْظِ، فَغَلِطَ وَجَعَلَهُ صِفَةً للمعنى. اللفظ مهمل ومستعمل وأقسامه: المسألة الثانية والعشرون [اللفظ مهمل ومستعمل وأقسامه] : اللَّفْظُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُهْمَلًا، وَهُوَ مَعْلُومٌ، أَوْ مُسْتَعْمَلًا وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَدُلَّ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَعَانِي أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا/ هُوَ اللَّفْظُ الْمُفْرَدُ كَقَوْلِنَا فَرَسٌ وَجَمَلٌ، وَثَانِيهَا: أَنْ لَا يَدُلَّ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا حِينَ هُوَ جُزْؤُهُ أَمَّا بِاعْتِبَارٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لِأَجْزَائِهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَعَانِي، كَقَوْلِنَا: «عَبْدُ اللَّهِ» فَإِنَّا إِذَا اعْتَبَرْنَا هَذَا الْمَجْمُوعَ اسْمَ عَلَمٍ لَمْ يَحْصُلْ لِشَيْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ دَلَالَةٌ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا، أَمَّا إِذَا جَعَلْنَاهُ مُضَافًا وَمُضَافًا إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جُزْأَيْهِ دَلَالَةٌ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَهَذَا الْقِسْمُ نُسَمِّيهِ بِالْمُرَكَّبِ، وَثَالِثُهَا: أَنْ يَحْصُلَ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْ جُزْأَيْهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَدْلُولٍ آخَرَ عَلَى جَمِيعِ الِاعْتِبَارَاتِ، وَهُوَ كَقَوْلِنَا: «الْعَالَمُ حَادِثٌ، وَالسَّمَاءُ كرة، وزيد منطلق» وهذا نسميه بالمؤلف. المسموع المقيد وأقسامه: المسألة الثالثة والعشرون [المسموع المقيد وأقسامه] : الْمَسْمُوعُ الْمُفِيدُ يَنْقَسِمُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُؤَلَّفًا وَالْمَعْنَى مُؤَلَّفًا كَقَوْلِنَا: «الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ، وَغُلَامُ زَيْدٍ» وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَسْمُوعُ مُفْرَدًا وَالْمَعْنَى مُفْرَدًا، وَهُوَ كَقَوْلِنَا: «الْوَحْدَةُ» وَ «النُّقْطَةُ» بَلْ قَوْلُنَا: «اللَّهُ» سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُفْرَدًا وَالْمَعْنَى مؤلفا وهو كقولك:

«إنسان» فإن للفظ مُفْرَدٌ وَالْمَعْنَى مَاهِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُرَكَّبًا وَالْمَعْنَى مُفْرَدًا، وَهُوَ مُحَالٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: الْكَلِمَةُ هِيَ اللَّفْظَةُ الْمُفْرَدَةُ الدَّالَّةُ بِالِاصْطِلَاحِ عَلَى مَعْنًى، وَهَذَا التَّعْرِيفُ مُرَكَّبٌ مِنْ قُيُودٍ أَرْبَعَةٍ: فَالْقَيْدُ الْأَوَّلُ كَوْنُهُ لَفْظًا، وَالثَّانِي كَوْنُهُ مُفْرَدًا، وَقَدْ عَرَفْتَهُمَا، وَالثَّالِثُ كَوْنُهُ دَالًّا وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنِ الْمُهْمَلَاتِ، وَالرَّابِعُ كَوْنُهُ دَالًّا بِالِاصْطِلَاحِ وَسَنُقِيمُ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ وَضْعِيَّةٌ لَا ذَاتِيَّةٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قِيلَ: الْكَلِمَةُ صَوْتٌ مُفْرَدٌ دَالٌّ عَلَى مَعْنًى بِالْوَضْعِ: قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِينَا فِي كِتَابِ «الْأَوْسَطِ» : وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الصَّوْتَ مَادَّةٌ وَاللَّفْظَ جِنْسٌ، وَذِكْرُ الْجِنْسِ أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ الْمَادَّةِ، وَلَهُ كَلِمَاتٌ دَقِيقَةٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَادَّةِ وَالْجِنْسِ، وَمَعَ دِقَّتِهَا فَهِيَ ضَعِيفَةٌ قَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ ضَعْفِهَا فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَأَقُولُ: السَّبَبُ عِنْدِي فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذِكْرُ الصَّوْتِ أَنَّ الصَّوْتَ يَنْقَسِمُ إِلَى صَوْتِ الْحَيَوَانِ وَإِلَى غَيْرِهِ، وَصَوْتُ الْإِنْسَانِ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَحْدُثُ مَنْ حَلْقِهِ وَإِلَى غَيْرِهِ، وَالصَّوْتُ الْحَادِثُ مِنَ الْحَلْقِ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَكُونُ حُدُوثُهُ مَخْصُوصًا بِأَحْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ مِثْلَ هَذِهِ الْحُرُوفِ، وَإِلَى مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ مِثْلَ الْأَصْوَاتِ الْحَادِثَةِ عِنْدَ الْأَوْجَاعِ وَالرَّاحَاتِ وَالسُّعَالِ وَغَيْرِهَا، فَالصَّوْتُ جِنْسٌ بَعِيدٌ، وَاللَّفْظُ جِنْسٌ قَرِيبٌ، وَإِيرَادُ الْجِنْسِ الْقَرِيبِ أَوْلَى مِنَ الْجِنْسِ الْبَعِيدِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الشَّرْطُ فِي كَوْنِ الْكَلِمَةِ مُفِيدَةً أَنْ تَكُونَ مُرَكَّبَةً مِنْ حَرْفَيْنِ فَصَاعِدًا، فَنَقَضُوهُ بِقَوْلِهِمْ: «ق» و «ع» وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ فِي التَّقْدِيرِ/ فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُقَالَ: «قِي» و «عِي» بِدَلِيلِ أَنَّ عِنْدَ التَّثْنِيَةِ يُقَالُ: «قِيَا» و «عِيَا» وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ بِأَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ، أَمَّا الْوَاقِعُ فَحَرْفٌ وَاحِدٌ، وَأَيْضًا نَقَضُوهُ بِلَامِ التَّعْرِيفِ وَبِنُونِ التَّنْوِينِ وَبِالْإِضَافَةِ فَإِنَّهَا بِأَسْرِهَا حُرُوفٌ مُفِيدَةٌ، وَالْحَرْفُ نَوْعٌ دَاخِلٌ تَحْتَ جِنْسِ الْكَلِمَةِ، وَمَتَى صَدَقَ النَّوْعُ فَقَدْ صَدَقَ الْجِنْسُ، فَهَذِهِ الْحُرُوفُ كَلِمَاتٌ مَعَ أَنَّهَا غَيْرُ مُرَكَّبَةٍ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مَنْطُوقٍ بِهِ أَفَادَ شَيْئًا بِالْوَضْعِ فَهُوَ كَلِمَةٌ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْمُرَكَّبُ، وَبِقَوْلِنَا: مَنْطُوقٌ به، يقع الاحتراز عن الخط والإشارة. دلالة اللفظ على معناه غير ذاتية الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: دَلَالَةُ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَدْلُولَاتِهَا لَيْسَتْ ذَاتِيَّةً حَقِيقِيَّةً، خِلَافًا لِعَبَّادٍ لَنَا أَنَّهَا تَتَغَيَّرُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَالذَّاتِيَّاتُ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ، حُجَّةُ عَبَّادٍ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَحْصُلْ مُنَاسَبَاتٌ مَخْصُوصَةٌ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الْمُعَيَّنَةِ وَالْمَعَانِي الْمُعَيَّنَةِ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِمُسَمَّاهُ تَرْجِيحًا لِلْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَجَوَابُنَا أَنَّهُ يَنْتَقِضُ بِاخْتِصَاصِ حُدُوثِ الْعَالَمِ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُرَجَّحْ، وَيُشْكِلُ أَيْضًا بِاخْتِصَاصِ كُلِّ إِنْسَانٍ بَاسِمِ عَلَمِهِ الْمُعَيَّنِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: وَقَدْ يَتَّفِقُ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ كَوْنُهُ مُنَاسِبًا لِمَعْنَاهُ مِثْلَ تَسْمِيَتِهِمُ الْقَطَا بِهَذَا الِاسْمِ، لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُشْبِهُ صَوْتَهُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي اللَّقْلَقِ، وَأَيْضًا وَضَعُوا لَفْظَ «الْخَضْمِ» لِأَكْلِ الرُّطَبِ نَحْوِ الْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ، وَلَفْظَ «الْقَضْمِ» لِأَكْلِ الْيَابِسِ نَحْوِ قَضَمَتِ الدَّابَّةُ شَعِيرَهَا، لِأَنَّ حَرْفَ الْخَاءِ يُشْبِهُ صَوْتَ أَكْلِ الشَّيْءِ الرَّطْبِ وَحَرْفَ الْقَافِ يُشْبِهُ صَوْتَ أَكْلِ الشَّيْءِ الْيَابِسِ، وَلِهَذَا الْبَابِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ ذَكَرَهَا ابْنُ جِنِّي فِي «الخصائص» .

اللغة إلهام المسألة الثلاثون [اللغة إلهام] : لَا يُمْكِنُنَا الْقَطْعُ بِأَنَّ دَلَالَةَ الْأَلْفَاظِ تَوْقِيفِيَّةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهِ، وَاحْتَجَّ فِيهِ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ: أَمَّا الْعَقْلُ فَهُوَ أَنَّ وَضْعَ الْأَلْفَاظِ الْمَخْصُوصَةِ لِلْمَعَانِي الْمَخْصُوصَةِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالْقَوْلِ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ بِوَضْعٍ آخَرَ مِنْ جَانِبِهِمْ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَضْعٍ مَسْبُوقًا بِوَضْعٍ آخَرَ لَا إِلَى نِهَايَةٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، فَوَجَبَ الِانْتِهَاءُ إِلَى مَا حَصَلَ بِتَوْقِيفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا النَّقْلُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَةِ: 31] وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَضْعُ الْأَلْفَاظِ لِلْمَعَانِي يَحْصُلُ بِالْإِشَارَةِ؟ وَعَنِ الثَّانِي لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ التَّعْلِيمِ الْإِلْهَامَ؟ وَأَيْضًا لَعَلَّ هَذِهِ اللُّغَاتِ وَضَعَهَا أَقْوَامٌ كَانُوا قَبْلَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَلَّمَهَا لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: لَا يُمْكِنُ الْقَطْعُ بِأَنَّهَا حَصَلَتْ بِالِاصْطِلَاحِ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْعِلْمَ بِالصِّفَةِ إِذَا كَانَ ضَرُورِيًّا كَانَ الْعِلْمُ بِالْمَوْصُوفِ أَيْضًا ضَرُورِيًّا، فَلَوْ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعِلْمَ فِي قَلْبِ الْعَاقِلِ بِأَنَّهُ وُضِعَ هَذَا اللَّفْظُ لِهَذَا الْمَعْنَى لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ ضَرُورِيًّا وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا فِي الْقَلْبِ بِأَنَّ وَاضِعًا وَضَعَ هَذَا اللَّفْظَ لِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُقَ الْعِلْمَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْوَاضِعَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى؟ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَزُولُ الْإِشْكَالُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: لَمَّا ضَعُفَتْ هَذِهِ الدَّلَائِلُ جَوَّزْنَا أَنْ تَكُونَ كُلُّ اللُّغَاتِ تَوْقِيفِيَّةً وَأَنْ تَكُونَ كُلُّهَا اصْطِلَاحِيَّةً، وَأَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا تَوْقِيفِيًّا وَبَعْضُهَا اصْطِلَاحِيًّا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ: اللَّفْظُ الْمُفْرَدُ لَا يُفِيدُ أَلْبَتَّةَ مُسَمَّاهُ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُ تِلْكَ اللَّفْظَةِ مَوْضُوعَةً لِذَلِكَ الْمَعْنَى لَمْ يُفِدْ شَيْئًا، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِهَا مَوْضُوعَةً لِذَلِكَ الْمَعْنَى عِلْمٌ بِنِسْبَةٍ مَخْصُوصَةٍ بَيْنَ ذَلِكَ اللَّفْظِ وَذَلِكَ الْمَعْنَى، وَالْعِلْمُ بِالنِّسْبَةِ الْمَخْصُوصَةِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مَسْبُوقٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ الْمَعْنَى مُسْتَفَادًا مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ لَزِمَ الدَّوْرُ. وَهُوَ مُحَالٌ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إِذَا اسْتَقَرَّ فِي الْخَيَالِ مُقَارَنَةٌ بَيْنَ اللَّفْظِ الْمُعَيَّنِ وَالْمَعْنَى الْمُعَيَّنِ فَعِنْدَ حُصُولِ الشُّعُورِ بِاللَّفْظِ يَنْتَقِلُ الْخَيَالُ إِلَى الْمَعْنَى، وَحِينَئِذٍ يَنْدَفِعُ الدَّوْرُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: وَالْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ فِي الْمُفْرَدِ غَيْرُ حَاصِلٍ فِي الْمُرَكَّبِ، لِأَنَّ إِفَادَةَ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ لِمَعَانِيهَا إِفَادَةٌ وَضْعِيَّةٌ، أَمَّا التَّرْكِيبَاتُ فَعَقْلِيَّةٌ، فَلَا جَرَمَ عِنْدَ سَمَاعِ تِلْكَ الْمُفْرَدَاتِ يَعْتَبِرُ الْعَقْلُ تَرْكِيبَاتِهَا ثُمَّ يَتَوَصَّلُ بِتِلْكَ التَّرْكِيبَاتِ الْعَقْلِيَّةِ إِلَى الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْمُرَكَّبَاتِ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ. اللفظ يدل على المعنى الذهني لا الخارجي المسألة الخامسة والثلاثون [اللفظ يدل على المعنى الذهني لا الخارجي] : لِلْأَلْفَاظِ دَلَالَاتٌ عَلَى مَا فِي الْأَذْهَانِ لَا عَلَى مَا فِي الْأَعْيَانِ وَلِهَذَا السَّبَبِ يُقَالُ: الْأَلْفَاظُ تَدُلُّ عَلَى الْمَعَانِي، لِأَنَّ الْمَعَانِيَ هِيَ الَّتِي عَنَاهَا الْعَانِي، وَهِيَ أُمُورٌ ذِهْنِيَّةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّا إِذَا رَأَيْنَا جِسْمًا مِنَ الْبُعْدِ وَظَنَنَّاهُ صَخْرَةً قُلْنَا إِنَّهُ صَخْرَةٌ، فَإِذَا قَرُبْنَا مِنْهُ وَشَاهَدْنَا حَرَكَتَهُ وَظَنَنَّاهُ طَيْرًا قُلْنَا إِنَّهُ طَيْرٌ، فَإِذَا ازْدَادَ الْقُرْبُ عَلِمْنَا أَنَّهُ إِنْسَانٌ فَقُلْنَا إِنَّهُ إِنْسَانٌ، فَاخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ عِنْدَ اخْتِلَافِ التَّصَوُّرَاتِ الذِّهْنِيَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَدْلُولَ الْأَلْفَاظِ هُوَ الصُّوَرُ الذهنية لا الأعيان الخارجة، الثَّانِي أَنَّ اللَّفْظَ لَوْ دَلَّ عَلَى الْمَوْجُودِ الْخَارِجِيِّ لَكَانَ إِذَا قَالَ إِنْسَانٌ الْعَالَمُ قَدِيمٌ وَقَالَ آخَرُ الْعَالَمُ حَادِثٌ لَزِمَ كَوْنُ الْعَالَمِ قديما حادثا

مَعًا، وَهُوَ مُحَالٌ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى الْمَعَانِي الذِّهْنِيَّةِ كَانَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ دَالَّيْنِ عَلَى حُصُولِ هَذَيْنِ/ الْحُكْمَيْنِ مِنْ هَذَيْنِ الْإِنْسَانَيْنِ، وَذَلِكَ لَا يَتَنَاقَضُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْمَاهِيَّاتِ مُسَمَّيَاتٍ بِالْأَلْفَاظِ، لِأَنَّ الْمَاهِيَّاتِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ لَا يَكُونُ مَشْعُورًا بِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَمَا لَا يَكُونُ مَشْعُورًا بِهِ امْتَنَعَ وَضْعُ الِاسْمِ بِإِزَائِهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: كُلُّ مَعْنًى كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ أَهَمَّ، كَانَ وَضْعُ اللَّفْظِ بِإِزَائِهِ أَوْلَى، مِثْلُ صِيَغِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى التَّعْبِيرِ عَنْهَا مَاسَّةٌ فَيَكُونُ الدَّاعِي إِلَى ذَلِكَ الْوَضْعِ كَامِلًا، وَالْمَانِعُ زَائِلًا، وَإِذَا كَانَ الدَّاعِي قَوِيًّا وَالْمَانِعُ زَائِلًا، كَانَ الْفِعْلُ بِهِ وَاجِبَ الْحُصُولِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ: الْمَعْنَى الَّذِي يَكُونُ خَفِيًّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ مُسَمًّى بِاللَّفْظِ الْمَشْهُورِ، مِثَالُهُ لَفْظَةُ الْحَرَكَةِ لَفْظَةٌ مَشْهُورَةٌ وَكَوْنُ الْجِسْمِ مُنْتَقِلًا مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، أَمَّا الَّذِي يَقُولُ بِهِ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ- وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يُوجِبُ ذَلِكَ الِانْتِقَالَ- فَهُوَ أَمْرٌ خَفِيٌّ لَا يَتَصَوَّرُهُ إِلَّا الْخَوَاصُّ مِنَ النَّاسِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: الْحَرَكَةُ اسْمٌ لِنَفْسِ هَذَا الِانْتِقَالِ لَا لِلْمَعْنَى الَّذِي يُوجِبُ الِانْتِقَالَ وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ اسْمًا لِنَفْسِ الْعَالِمِيَّةِ، وَالْقُدْرَةُ اسْمًا لِلْقَادِرِيَّةِ، لَا لِلْمَعْنَى الْمُوجِبِ للعالمية والقادرية. المعنى اسم للصورة الذهنية المسألة التاسعة والثلاثون [المعنى اسم للصورة الذهنية] فِي الْمَعْنَى: الْمَعْنَى اسْمٌ لِلصُّورَةِ الذِّهْنِيَّةِ لَا لِلْمَوْجُودَاتِ الْخَارِجِيَّةِ لِأَنَّ الْمَعْنَى عِبَارَةٌ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي عَنَاهُ الْعَانِي وَقَصَدَهُ الْقَاصِدُ، وَذَاكَ بِالذَّاتِ هُوَ الْأُمُورُ الذِّهْنِيَّةُ، وَبِالْعَرَضِ الْأَشْيَاءُ الْخَارِجِيَّةُ، فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ الْقَائِلَ أَرَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ هَذَا الْمَعْنَى، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ قَصَدَ بِذِكْرِ ذَلِكَ اللَّفْظِ تَعْرِيفَ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُتَصَوَّرِ. الْمَسْأَلَةُ الْأَرْبَعُونَ: قَدْ يُقَالُ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَعْرِيفُهَا بِالْأَلْفَاظِ، مِثْلُ أَنَّا نُدْرِكُ بِالضَّرُورَةِ تَفْرِقَةً بَيْنَ الْحَلَاوَةِ الْمُدْرَكَةِ مِنَ النَّبَاتِ وَالْحَلَاوَةِ الْمُدْرَكَةِ مِنَ الطَّبَرْزَذِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى تَعْرِيفِ هَذِهِ التَّفْرِقَةِ بِحَسَبِ اللَّفْظِ، وَأَيْضًا رُبَّمَا اتَّفَقَ حُصُولُ أَحْوَالٍ فِي نَفْسِ بَعْضِ النَّاسِ وَلَا يُمْكِنُهُ تَعْرِيفُ تِلْكَ الْحَالَةِ بِحَسَبِ التَّعْرِيفَاتِ اللَّفْظِيَّةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ مَا بِهِ يَمْتَازُ حَلَاوَةُ النَّبَاتِ مِنْ حَلَاوَةِ الطَّبَرْزَذُ مَا وَضَعُوا لَهُ فِي اللُّغَةِ لَفْظَةً مُعَيَّنَةً، بَلْ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهَا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْإِضَافَةِ، مِثْلَ أَنْ يُقَالَ حَلَاوَةُ النَّبَاتِ وَحَلَاوَةُ الطَّبَرْزَذِ، فَلَمَّا لَمْ تُوضَعْ لِتِلْكَ التَّفْرِقَةِ لَفْظَةٌ مَخْصُوصَةٌ لَا جَرَمَ لَا يُمْكِنُ تَعْرِيفُهَا بِاللَّفْظِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ وَضَعُوا لَهَا لَفْظَةً لَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ تَعْرِيفُهَا بِاللَّفْظِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ، / وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَدْرَكَ مِنْ نَفْسِهِ حَالَةً مَخْصُوصَةً وَسَائِرُ النَّاسِ مَا أَدْرَكُوا تِلْكَ الْحَالَةَ الْمَخْصُوصَةَ اسْتَحَالَ لِهَذَا الْمُدْرِكِ وَضْعُ لَفْظٍ لِتَعْرِيفِهِ، لِأَنَّ السَّامِعَ مَا لَمْ يَعْرِفِ الْمُسَمَّى أَوَّلًا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَفْهَمَ كَوْنَ هَذَا اللَّفْظِ مَوْضُوعًا لَهُ، فَلَمَّا لَمْ يَحْصُلْ تَصَوُّرُ تِلْكَ الْمَعَانِي عِنْدَ السَّامِعِينَ امْتَنَعَ مِنْهُمْ أَنْ يَتَصَوَّرُوا كَوْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَوْضُوعَةً لَهَا، فَلَا جَرَمَ امْتَنَعَ تَعْرِيفُهَا، أَمَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ جَمَاعَةً تَصَوَّرُوا تِلْكَ الْمَعَانِيَ ثُمَّ وَضَعُوا لَهَا أَلْفَاظًا مَخْصُوصَةً فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ كَانَ

يُمْكِنُ تَعْرِيفُ تِلْكَ الْأَحْوَالِ بِالْبَيَانَاتِ اللَّفْظِيَّةِ- فَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ يُتَصَوَّرَ مَعْنَى مَا يُقَالُ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَعَانِي لَا يُمْكِنُ تَعْرِيفُهَا بِالْأَلْفَاظِ. الحكمة في وضع الألفاظ للمعاني المسألة الحادية والأربعون [الحكمة في وضع الألفاظ للمعاني] : فِي الْحِكْمَةِ فِي وَضْعِ الْأَلْفَاظِ لِلْمَعَانِي: وَهِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ بِحَيْثُ لَا يَسْتَقِلُّ بِتَحْصِيلِ جَمِيعِ مُهِمَّاتِهِ فَاحْتَاجَ إِلَى أَنْ يُعَرِّفَ غَيْرَهُ مَا فِي ضَمِيرِهِ لِيُمْكِنُهُ التَّوَسُّلُ بِهِ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالْغَيْرِ، وَلَا بُدَّ لِذَلِكَ التَّعْرِيفِ مِنْ طَرِيقٍ، وَالطُّرُقُ كَثِيرَةٌ مِثْلُ الْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةِ وَالتَّصْفِيقِ بِالْيَدِ وَالْحَرَكَةِ بِسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، إِلَّا أَنْ أَسْهَلَهَا وَأَحْسَنَهَا هُوَ تَعْرِيفُ مَا فِي الْقُلُوبِ وَالضَّمَائِرِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا أَنَّ النَّفَسَ عِنْدَ الْإِخْرَاجِ سَبَبٌ لِحُدُوثِ الصَّوْتِ، وَالْأَصْوَاتُ عِنْدَ تَقْطِيعَاتِهَا أَسْبَابٌ لِحُدُوثِ الْحُرُوفِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ وَمَعُونَةٍ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَالثَّانِي أَنَّ هَذِهِ الْأَصْوَاتَ كَمَا تُوجَدُ تَفْنَى عَقِيبَهُ فِي الْحَالِ، فَعِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ تَحْصُلُ وَعِنْدَ زَوَالِ الْحَاجَةِ تَفْنَى وَتَنْقَضِي، وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأَصْوَاتَ بِحَسَبِ التَّقْطِيعَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي مَخَارِجِ الْحُرُوفِ تَتَوَلَّدُ مِنْهَا الْحُرُوفُ الْكَثِيرَةُ، وَتِلْكَ الْحُرُوفُ الْكَثِيرَةُ بِحَسَبِ تَرْكِيبَاتِهَا الْكَثِيرَةِ يَتَوَلَّدُ مِنْهَا كَلِمَاتٌ تَكَادُ أَنْ تَصِيرَ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، فَإِذَا جَعَلْنَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَعَانِي وَاحِدًا مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ تَوَزَّعَتِ الْأَلْفَاظُ عَلَى الْمَعَانِي مِنْ غَيْرِ الْتِبَاسٍ وَاشْتِبَاهٍ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْإِشَارَةِ وَالتَّصْفِيقِ، فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ قَضَتِ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ، بِأَنَّ أَحْسَنَ التَّعْرِيفَاتِ لِمَا في القلوب هو الألفاظ. لذاته معرفة الحق المسألة الثانية والأربعون [لذاته معرفة الحق] : كَمَالُ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ، وَالْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَجَوْهَرُ النَّفْسِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ عَارٍ عَنْ هَذَيْنِ الْكَمَالَيْنِ، وَلَا يُمْكِنُهَا اكْتِسَابُ هَذِهِ الْكَمَالَاتِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ هَذَا الْبَدَنِ، فَصَارَ تَخْلِيقُ هَذَا الْبَدَنِ مَطْلُوبًا لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ، ثُمَّ إِنَّ مَصَالِحَ هَذَا الْبَدَنِ مَا كَانَتْ تَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَ الْقَلْبُ يَنْبُوعًا لِلْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْحَرَارَةُ قَوِيَّةً احْتَاجَتْ إِلَى التَّرْوِيحِ لِأَجْلِ التَّعْدِيلِ، فَدَبَّرَ الْخَالِقُ الرَّحِيمُ الْحَكِيمُ هَذَا الْمَقْصُودَ بِأَنْ جَعَلَ لِلْقَلْبِ قُوَّةَ انْبِسَاطٍ بِهَا يَجْذِبُ الْهَوَاءَ الْبَارِدَ مِنْ خَارِجِ الْبَدَنِ إِلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ إِذَا بَقِيَ ذَلِكَ الْهَوَاءُ فِي الْقَلْبِ لَحْظَةً/ تَسَخَّنَ وَاحْتَدَّ وَقَوِيَتْ حَرَارَتُهُ، فَاحْتَاجَ الْقَلْبُ إِلَى دَفْعِهِ مَرَّةً أُخْرَى، وَذَلِكَ هُوَ الِانْقِبَاضُ فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا انْقَبَضَ انْعَصَرَ مَا فِيهِ مِنَ الْهَوَاءِ وَخَرَجَ إِلَى الْخَارِجِ، فَهَذَا هُوَ الْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ الْحَيَوَانِ مُتَنَفِّسًا، وَالْمَقْصُودُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ هُوَ تَكْمِيلُ جَوْهَرِ النَّفْسِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، فَوَقَعَ تَخْلِيقُ الْبَدَنِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْمَطْلُوبِيَّةِ، وَوَقَعَ تَخْلِيقُ الْقَلْبِ وَجَعْلُهُ مَنْبَعًا لِلْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ، وَوَقَعَ إِقْدَارُ الْقَلْبِ عَلَى الِانْبِسَاطِ الْمُوجِبِ لِانْجِذَابِ الْهَوَاءِ الطَّيِّبِ مِنَ الْخَارِجِ لِأَجْلِ التَّرْوِيحِ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ، وَوَقَعَ إِقْدَارُ الْقَلْبِ عَلَى الِانْقِبَاضِ الْمُوجِبِ لِخُرُوجِ ذَلِكَ الْهَوَاءِ الْمُحْتَرِقِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْخَامِسَةِ، وَوَقَعَ صَرْفُ ذَلِكَ الْهَوَاءِ الْخَارِجِ عِنْدَ انْقِبَاضِ الْقَلْبِ إِلَى مَادَّةِ الصَّوْتِ فِي الْمَرْتَبَةِ السَّادِسَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُقَدِّرَ الْحَكِيمَ وَالْمُدَبِّرَ الرَّحِيمَ جَعَلَ هَذَا الْأَمْرَ الْمَطْلُوبَ عَلَى سَبِيلِ الْغَرَضِ الْوَاقِعِ فِي الْمَرْتَبَةِ السَّابِعَةِ مَادَّةً لِلصَّوْتِ، وَخَلَقَ مَحَابِسَ وَمَقَاطِعَ لِلصَّوْتِ فِي الْحَلْقِ وَاللِّسَانِ وَالْأَسْنَانِ وَالشَّفَتَيْنِ، وَحِينَئِذٍ يَحْدُثُ بِذَلِكَ السَّبَبِ هَذِهِ الْحُرُوفُ الْمُخْتَلِفَةُ، وَيَحْدُثُ مِنْ تَرْكِيبَاتِهَا الْكَلِمَاتُ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا، ثُمَّ أَوْدَعَ فِي هَذَا النُّطْقِ وَالْكَلَامِ حِكَمًا عَالِيَةً وَأَسْرَارًا بَاهِرَةً عَجَزَتْ عقول الأولين

وَالْآخِرِينَ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِقَطْرَةٍ مِنْ بَحْرِهَا وَشُعْلَةٍ مِنْ شَمْسِهَا، فَسُبْحَانَ الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ بِالْحِكْمَةِ الْبَاهِرَةِ والقدرة الغير متناهية. الكلام اللساني المسألة الثالثة والأربعون [الكلام اللساني] : ظَهَرَ بِمَا قُلْنَاهُ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْكَلَامِ اللِّسَانِيِّ إِلَّا الِاصْطِلَاحُ مِنَ النَّاسِ عَلَى جَعْلِ هَذِهِ الْأَصْوَاتِ الْمُقَطَّعَةِ وَالْحُرُوفِ الْمُرَكَّبَةِ مُعَرِّفَاتٍ لِمَا فِي الضَّمَائِرِ، وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ تَوَاضَعُوا عَلَى جَعْلِ أَشْيَاءَ غَيْرِهَا مُعَرِّفَاتٍ لِمَا فِي الضَّمَائِرِ لَكَانَتْ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ كَلَامًا أَيْضًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ صِفَةً حَقِيقِيَّةً مِثْلَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، بَلْ أَمْرًا وَضْعِيًّا اصْطِلَاحِيًّا، وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْبَابِ: أَنَّ الْكَلَامَ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلٍ مَخْصُوصٍ يَفْعَلُهُ الْحَيُّ الْقَادِرُ لِأَجْلِ أَنْ يُعَرِّفَ غَيْرَهُ مَا فِي ضَمِيرِهِ مِنَ الْإِرَادَاتِ وَالِاعْتِقَادَاتِ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِ الْإِنْسَانِ مُتَكَلِّمًا بِهَذِهِ الْحُرُوفِ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ فَاعِلًا لَهَا لِهَذَا الْغَرَضِ الْمَخْصُوصِ، وَأَمَّا الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالنَّفْسِ فَهِيَ صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ كَالْعُلُومِ وَالْقُدَرِ وَالْإِرَادَاتِ. الكلام النفسي والذهني: المسألة الرابعة والأربعون [الكلام النفسي والذهني] : لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ دَلَائِلُ عَلَى مَا فِي الضَّمَائِرِ وَالْقُلُوبِ، وَالْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ هُوَ الْإِرَادَاتُ وَالِاعْتِقَادَاتُ أَوْ نَوْعٌ آخَرُ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: صِيغَةُ «افْعَلْ» لَفْظَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِإِرَادَةِ الْفِعْلِ، وَصِيغَةُ الْخَبَرِ لَفْظَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِتَعْرِيفِ أَنَّ ذَلِكَ القائل يعتقد أن الأمر لفلاني كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الطَّلَبُ النَّفْسَانِيُّ مُغَايِرٌ لِلْإِرَادَةِ، وَالْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِلِاعْتِقَادِ، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الطَّلَبَ النَّفْسَانِيَّ مُغَايِرٌ لِلْإِرَادَةِ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى/ أَمَرَ الْكَافِرَ بِالْإِيمَانِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَمْ يُرِدْ مِنْهُ الْإِيمَانَ، وَلَوْ أَرَادَهُ لَوَقَعَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ أَنَّ قُدْرَةَ الْكَافِرِ إِنْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْكُفْرِ كَانَ خَالِقُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ مُرِيدًا لِلْكُفْرِ، لِأَنَّ مُرِيدَ الْعِلَّةِ مُرِيدٌ لِلْمَعْلُولِ، وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِلْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ امْتَنَعَ رُجْحَانُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إِلَّا بِمُرَجِّحٍ، وَذَلِكَ الْمُرَجَّحُ إِنْ كَانَ مِنَ العبد عاد التقسيم الأول فيه، وَإِنْ كَانَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِيَةِ مُوجِبًا لِلْكُفْرِ، وَمُرِيدُ الْعِلَّةِ مُرِيدٌ لِلْمَعْلُولِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مُرِيدُ الْكُفْرِ مِنَ الْكَافِرِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَنَّ الْكَافِرَ يَكْفُرُ وَحُصُولُ هَذَا الْعِلْمِ ضِدٌّ لِحُصُولِ الْإِيمَانِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ مُحَالٌ، وَالْعَالِمُ بِكَوْنِ الشَّيْءِ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ لَا يَكُونُ مُرِيدًا لَهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْكَافِرَ بِالْإِيمَانِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ مِنْهُ الْإِيمَانَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِعْلَ شَيْءٍ آخَرَ سِوَى الْإِرَادَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْحُكْمَ الذِّهْنِيَّ مُغَايِرٌ لِلِاعْتِقَادِ وَالْعِلْمِ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: الْعَالَمُ قَدِيمٌ فَمَدْلُولُ هَذَا اللَّفْظِ هُوَ حُكْمُ هَذَا الْقَائِلِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ، وَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ بِلِسَانِهِ هَذَا مَعَ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَالَمَ لَيْسَ بِقَدِيمٍ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْحُكْمَ الذِّهْنِيَّ حَاصِلٌ، وَالِاعْتِقَادَ غَيْرُ حاصل، فالحكم الذهني مغاير للاعتقاد. مدلولات الألفاظ المسألة الخامسة والأربعون [مدلولات الألفاظ] : مَدْلُولَاتُ الْأَلْفَاظِ قَدْ تَكُونُ أَشْيَاءَ مُغَايِرَةً لِلْأَلْفَاظِ: كَلَفْظَةِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَقَدْ تَكُونُ مَدْلُولَاتُهَا أَيْضًا أَلْفَاظًا كَقَوْلِنَا: اسْمٌ، وَفِعْلٌ، وَحَرْفٌ، وَعَامٌّ، وَخَاصٌّ، وَمُجْمَلٌ، وَمُبَيَّنٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ أَسْمَاءٌ وَمُسَمَّيَاتُهَا أيضا ألفاظ.

طرق معرفة اللغة المسألة السادسة والأربعون [طرق معرفة اللغة] : طَرِيقُ مَعْرِفَةِ اللُّغَاتِ إِمَّا الْعَقْلُ وَحْدَهُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِمَّا النَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ أَوِ الْآحَادُ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَإِمَّا مَا يَتَرَكَّبُ عَنْهُمَا: كَمَا إِذَا قِيلَ: ثَبَتَ بِالنَّقْلِ جَوَازُ إِدْخَالِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى صِيغَةِ مَنْ، وَثَبَتَ بِالنَّقْلِ أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ فِيهِ، فَيَلْزَمُ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا بِحُكْمِ الْعَقْلِ كَوْنُ تِلْكَ الصِّيغَةِ مَوْضُوعَةً لِلْعُمُومِ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ تَعْوِيلُ الْأَكْثَرِينَ فِي إِثْبَاتِ أَكْثَرِ اللُّغَاتِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ قُلْنَا إِنَّ وَاضِعَ تَيْنِكِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَرِفًا بِهَذِهِ الْمُلَازَمَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّنَاقُضُ، لَكِنَّ الْوَاضِعَ لِلُّغَاتِ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَجَبَ تَنْزِيهُهُ عَنِ الْمُنَاقَضَةِ، أَمَّا لَوْ كَانَ هُوَ النَّاسَ لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ وَلَمَّا كَانَ هَذَا الأصل مشكوكا كان ذلك الدليل مثله. من اللغة ما بلغنا بالتواتر المسألة السابعة والأربعون [من اللغة ما بلغنا بالتواتر] : اللُّغَاتُ الْمَنْقُولَةُ إِلَيْنَا بَعْضُهَا مَنْقُولٌ بِالتَّوَاتُرِ، وَبَعْضُهَا مَنْقُولٌ بِالْآحَادِ، وَطَعَنَ بَعْضُهُمْ فِي كَوْنِهَا مُتَوَاتِرَةً فَقَالَ: أَشْهَرُ الْأَلْفَاظِ هُوَ قَوْلُنَا «اللَّهُ» ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهَا فَقِيلَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ عَرَبِيَّةً بَلْ هِيَ عِبْرِيَّةٌ، وَقِيلَ: إِنَّهَا اسْمٌ عَلَمٌ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مِنَ الْأَسْمَاءِ/ الْمُشْتَقَّةِ، وَذَكَرُوا فِي اشْتِقَاقِهَا وُجُوهًا عَشَرَةً، وَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ مَوْقُوفًا إِلَى الْآنِ وَأَيْضًا فَلَفْظَةُ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِمَا اخْتِلَافًا شَدِيدًا، وَكَذَا صِيَغُ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، مَعَ أَنَّهَا أَشَدُّ الْأَلْفَاظِ شُهْرَةً، وَإِذَا كَانَ الْحَالُ كَذَلِكَ فِي الْأَظْهَرِ الْأَقْوَى فَمَا ظَنُّكَ بِمَا سِوَاهَا؟ وَالْحَقُّ أَنَّ وُرُودَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي أُصُولِ هَذِهِ الْمَوَارِدِ مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ، فَأَمَّا مَاهِيَّاتُهَا وَاعْتِبَارَاتُهَا فَهِيَ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا، وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي حُصُولِ التَّوَاتُرِ فِي الْأَصْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: مِنْهُمْ مَنْ سَلَّمَ حُصُولَ التَّوَاتُرِ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، إِلَّا أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ حَالَ الْأَدْوَارِ الْمَاضِيَةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَلَعَلَّ النَّقْلَ يَنْتَهِي فِي بَعْضِ الْأَدْوَارِ الْمَاضِيَةِ إِلَى الْآحَادِ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ وَقَعَ ذَلِكَ لَاشْتَهَرَ وَبَلَغَ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ إِنْ صَحَّتْ فَإِنَّمَا تَصِحُّ فِي الْوَقَائِعِ الْعَظِيمَةِ. وَأَمَّا التَّصَرُّفَاتُ فِي الْأَلْفَاظِ فَهِيَ وَقَائِعُ حَقِيرَةٌ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ حَاصِلٌ بِأَنَّ لَفْظَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْجِدَارِ وَالدَّارِ كَانَ حَالُهَا وَحَالُ أَشْبَاهِهَا فِي الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ كَحَالِهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: لَا شَكَّ أَنَّ أَكْثَرَ اللُّغَاتِ مَنْقُولٌ بِالْآحَادِ، وَرِوَايَةُ الْوَاحِدِ إِنَّمَا تُفِيدُ الظَّنَّ عِنْدَ اعْتِبَارِ أَحْوَالِ الرُّوَاةِ وَتَصَفُّحِ أَحْوَالِهِمْ بِالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ شَرَطُوا هَذِهِ الشَّرَائِطَ فِي رُوَاةِ الْأَحَادِيثِ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوهَا فِي رُوَاةِ اللُّغَاتِ، مَعَ أَنَّ اللُّغَاتِ تَجْرِي مَجْرَى الْأُصُولِ لِلْأَحَادِيثِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا السُّؤَالَ أَنَّ الْأُدَبَاءَ طَعَنَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ بِالتَّجْهِيلِ تَارَةً وَبِالتَّفْسِيقِ أُخْرَى، وَالْعَدَاوَةُ الْحَاصِلَةُ بَيْنَ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ مَشْهُورَةٌ، وَنِسْبَةُ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ أَكْثَرَ الْأُدَبَاءِ إِلَى مَا لَا يَنْبَغِي مَشْهُورَةٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَتْ رِوَايَاتُهُمْ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَسْقُطُ أَكْثَرُ اللُّغَاتِ عَنْ دَرَجَاتِ الْقَبُولِ، وَالْحَقُّ أَنَّ أَكْثَرَ اللُّغَاتِ قَرِيبٌ مِنَ التَّوَاتُرِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَسْقُطُ هَذَا الطَّعْنُ. دلالة الألفاظ على معانيها ظنية: الْمَسْأَلَةُ الْخَمْسُونَ [دَلَالَةُ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَعَانِيهَا ظَنِّيَّةٌ] : دَلَالَةُ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَعَانِيهَا ظَنِّيَّةٌ لِأَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى نَقْلِ اللُّغَاتِ، وَنَقْلِ الْإِعْرَابَاتِ

الباب الثاني في المباحث المستنبطة من الصوت والحروف وأحكامها، وفيه مسائل

وَالتَّصْرِيفَاتِ، مَعَ أَنَّ أَوَّلَ أَحْوَالِ تِلْكَ النَّاقِلِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا آحَادًا وَرِوَايَةُ الْآحَادِ لَا تُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، وَأَيْضًا فَتِلْكَ الدَّلَائِلُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى عَدَمِ الِاشْتِرَاكِ، وَعَدَمِ الْمَجَازِ، وَعَدَمِ النَّقْلِ، وَعَدَمِ الْإِجْمَالِ، وَعَدَمِ التَّخْصِيصِ، وَعَدَمِ الْمُعَارِضِ الْعَقْلِيِّ، فَإِنَّ بِتَقْدِيرِ حُصُولِهِ يَجِبُ صَرْفُ اللَّفْظِ إِلَى الْمَجَازِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اعْتِقَادَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ ظَنٌّ مَحْضٌ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الظَّنِّ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ ظَنًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَابُ الثَّانِي فِي الْمَبَاحِثِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنَ الصَّوْتِ وَالْحُرُوفِ وَأَحْكَامُهَا، وَفِيهِ مَسَائِلُ كيفية حدوث الصوت: المسألة الأولى [كيفية حدوث الصوت] : ذَكَرَ الرَّئِيسُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِينَا فِي تَعْرِيفِ الصَّوْتِ أَنَّهُ كَيْفِيَّةٌ تَحْدُثُ مِنْ تَمَوُّجِ الْهَوَاءِ الْمُنْضَغِطِ بَيْنَ قَارِعٍ وَمَقْرُوعٍ، وَأَقُولُ: إِنَّ مَاهِيَّةَ الصَّوْتِ مُدْرَكَةٌ بِحِسِّ السَّمْعِ وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ أَظْهَرَ مِنَ الْمَحْسُوسِ حَتَّى يَعْرِفَ الْمَحْسُوسَ بِهِ، بَلْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى سَبَبِ حدوثه، لا إلى تعريف ماهيته. الصوت ليس بجسم: المسألة الثانية [الصوت ليس بجسم] : يُقَالُ إِنَّ النَّظَّامَ الْمُتَكَلِّمَ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ الصَّوْتَ جِسْمٌ، وَأَبْطَلُوهُ بِوُجُوهٍ: مِنْهَا أَنَّ الْأَجْسَامَ مُشْتَرِكَةٌ فِي الْجِسْمِيَّةِ وَغَيْرُ مُشْتَرِكَةٍ فِي الصَّوْتِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْأَجْسَامَ مُبْصَرَةٌ وَمَلْمُوسَةٌ أَوَّلًا وَثَانِيًا وَلَيْسَ الصَّوْتُ كَذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنَّ الْجِسْمَ بَاقٍ وَالصَّوْتُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَقُولُ: النَّظَّامُ كَانَ مِنْ أَذْكِيَاءِ النَّاسِ وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُ أَنَّ الصَّوْتَ نَفْسُ الْجِسْمِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا ذَهَبَ إِلَى أَنَّ سَبَبَ حُدُوثِ الصَّوْتِ تَمَوُّجُ الْهَوَاءِ ظَنَّ الْجُهَّالُ بِهِ أَنَّهُ يَقُولُ إِنَّهُ عَيْنُ ذَلِكَ الْهَوَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الصَّوْتُ اصْطِكَاكُ الْأَجْسَامِ الصَّلْبَةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الِاصْطِكَاكَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُمَاسَّةِ وَهِيَ مُبْصَرَةٌ، وَالصَّوْتُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَقِيلَ: الصَّوْتُ نَفْسُ الْقَرْعِ أَوِ الْقَلْعِ، وَقِيلَ إِنَّهُ تَمَوُّجُ الْحَرَكَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ مُبْصَرَةٌ، وَالصَّوْتُ غَيْرُ مُبْصَرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قِيلَ سَبَبُهُ الْقَرِيبُ تَمَوُّجُ الْهَوَاءِ، وَلَا نَعْنِي بِالتَّمَوُّجِ حَرَكَةً انْتِقَالِيَّةً مِنْ مَبْدَأٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ إِلَى مُنْتَهًى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، بَلْ حَالَةٌ شَبِيهَةٌ بِتَمَوُّجِ الْهَوَاءِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ يَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا لِصَدْمٍ بَعْدَ صَدْمٍ وَسُكُونٍ بَعْدَ سُكُونٍ، وَأَمَّا سَبَبُ التَّمَوُّجِ فَإِمْسَاسٌ عَنِيفٌ، وَهُوَ الْقَرْعُ، أَوْ تَفْرِيقٌ عَنِيفٌ، وَهُوَ الْقَلْعُ، وَيُرْجَعُ فِي تَحْقِيقِ هَذَا إِلَى «كُتُبِنَا العقلية» . حد الحرف: المسألة الخامسة [حد الحرف] : قَالَ الشَّيْخُ الرَّئِيسُ فِي حَدِّ الْحَرْفِ: إِنَّهُ هَيْئَةٌ عَارِضَةٌ لِلصَّوْتِ يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ صَوْتٍ آخَرَ مِثْلِهِ فِي الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ تَمَيُّزًا فِي المسموع.

حروف المد واللين: المسألة السادسة [حروف المد واللين] : الْحُرُوفُ إِمَّا مُصَوَّتَةٌ، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى فِي النَّحْوِ حُرُوفَ الْمَدِّ وَاللِّينِ، وَلَا يُمْكِنُ الِابْتِدَاءُ بِهَا أَوْ صَامِتَةٌ وَهِيَ مَا عَدَاهَا، أَمَّا الْمُصَوَّتَةُ فَلَا شَكَّ أَنَّهَا مِنَ الْهَيْئَاتِ الْعَارِضَةِ لِلصَّوْتِ، وَأَمَّا الصَّوَامِتُ فَمِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ تَمْدِيدُهُ كَالْبَاءِ وَالتَّاءِ وَالدَّالِ وَالطَّاءِ، وَهِيَ لَا تُوجَدُ/ إِلَّا فِي «الْآنِ» الَّذِي هُوَ آخِرُ زَمَانِ حَبْسِ النَّفَسِ وَأَوَّلُ زَمَانِ إِرْسَالِهِ، وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّوْتِ كَالنُّقْطَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَطِّ وَالْآنَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّمَانِ، وَهَذِهِ الْحُرُوفُ لَيْسَتْ بِأَصْوَاتٍ وَلَا عَوَارِضِ أَصْوَاتٍ، وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ تَحْدُثُ فِي مَبْدَأِ حُدُوثِ الْأَصْوَاتِ، وَتَسْمِيَتُهَا بِالْحُرُوفِ حَسَنَةٌ لِأَنَّ الْحَرْفَ هُوَ الطَّرَفُ، وَهَذِهِ الْحُرُوفُ أَطْرَافُ الْأَصْوَاتِ وَمَبَادِيهَا، وَمِنَ الصَّوَامِتِ مَا يُمْكِنُ تَمْدِيدُهَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، ثُمَّ هَذِهِ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهَا مَا الظَّنُّ الْغَالِبُ أَنَّهَا آنِيَّةُ الْوُجُودِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَتْ زَمَانِيَّةً بِحَسَبِ الْحِسِّ، مِثْلُ الْحَاءِ وَالْخَاءِ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَنَّ هَذِهِ جَاءَتْ آنِيَّةً مُتَوَالِيَةً كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا آتي الْوُجُودِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَكِنَّ الْحِسَّ لَا يَشْعُرُ بِامْتِيَازِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فَيَظُنُّهَا حَرْفًا وَاحِدًا زَمَانِيًّا، وَمِنْهَا مَا الظَّنُّ الْغَالِبُ كَوْنُهَا زَمَانِيَّةً فِي الْحَقِيقَةِ كَالسِّينِ وَالشِّينِ، فَإِنَّهَا هَيْئَاتٌ عَارِضَةٌ لِلصَّوْتِ مُسْتَمِرَّةٌ بِاسْتِمْرَارِهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الْحَرْفُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ إِمَّا سَاكِنًا أَوْ مُتَحَرِّكًا، وَلَا نُرِيدُ بِهِ حُلُولَ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ فِيهِ، لِأَنَّهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُوجَدُ عَقِيبَ الصَّامِتِ بِصَوْتٍ مَخْصُوصٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْحَرَكَاتُ أَبْعَاضُ الْمُصَوَّتَاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْمُصَوَّتَاتِ قَابِلَةٌ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَلَا طَرَفَ فِي جَانِبِ النُّقْصَانِ إِلَّا هَذِهِ الْحَرَكَاتُ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ إِذَا مُدَّتْ حَدَثَتِ الْمُصَوَّتَاتُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: الصَّامِتُ سَابِقٌ على المصوت المقصور الَّذِي يُسَمَّى بِالْحَرَكَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ التَّكَلُّمَ بِهَذِهِ الْحَرَكَاتِ مَوْقُوفٌ عَلَى التَّكَلُّمِ بِالصَّامِتِ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْحَرَكَاتُ سَابِقَةً عَلَى هَذِهِ الصَّوَامِتِ لَزِمَ الدور، وهو محال. الكلام حادث لا قديم: المسألة العاشرة [الكلام حادث لا قديم] : الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ مُتَرَكِّبٌ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ كَوْنُهُ قَدِيمًا لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَلِمَةَ لَا تَكُونُ كَلِمَةً إِلَّا إِذَا كَانَتْ حُرُوفُهَا مُتَوَالِيَةً فَالسَّابِقُ الْمُنْقَضِي مُحْدَثٌ، لِأَنَّ مَا ثَبَتَ عَدَمُهُ امْتَنَعَ قِدَمُهُ، وَالْآتِي الْحَادِثُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَوَّلِ لَا شَكَّ أَنَّهُ حَادِثٌ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْحُرُوفَ الَّتِي مِنْهَا تَأَلَّفَتِ الْكَلِمَةُ إِنْ حَصَلَتْ دَفْعَةً وَاحِدَةً لَمْ تَحْصُلِ الْكَلِمَةُ، لِأَنَّ الْكَلِمَةَ الثُّلَاثِيَّةَ يُمْكِنُ وُقُوعُهَا عَلَى التَّقَالِيبِ السِّتَّةِ فَلَوْ حَصَلَتِ الْحُرُوفُ مَعًا لَمْ يَكُنْ وُقُوعُهَا عَلَى بَعْضِ تِلْكَ الْوُجُوهِ أَوْلَى مِنْ وُقُوعِهَا عَلَى سَائِرِهَا، وَلَوْ حَصَلَتْ عَلَى التَّعَاقُبِ كَانَتْ حَادِثَةً، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْحُرُوفِ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ: أَمَّا الْعَقْلُ فَهُوَ أَنَّ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ مَاهِيَّةً مَخْصُوصَةً بِاعْتِبَارِهَا تَمْتَازُ عَمَّا سِوَاهَا، وَالْمَاهِيَّاتُ لَا تَقْبَلُ/ الزَّوَالَ وَلَا الْعَدَمَ، فَكَانَتْ قَدِيمَةً، وَأَمَّا النَّقْلُ فَهُوَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ قَدِيمٌ، وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ إِلَّا هَذِهِ الْحُرُوفَ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِقِدَمِ هَذِهِ الْحُرُوفِ، أَمَّا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ قَدِيمٌ فَلِأَنَّ الْكَلَامَ صِفَةُ كَمَالٍ وَعَدَمُهُ صِفَةُ نَقْصٍ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَلَامُ اللَّهِ قَدِيمًا لَزِمَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى كَانَ فِي الْأَزَلِ نَاقِصًا ثُمَّ صَارَ فِيمَا لَا يَزَالُ كَامِلًا، وَذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ

إِلَّا هَذِهِ الْحُرُوفَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 6] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَسْمُوعَ لَيْسَ إِلَّا هَذِهِ الْحُرُوفَ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ كَلَامُ اللَّهِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ من حلف على سماع كلام اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ بِسَمَاعِ هَذِهِ الْحُرُوفِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ نُقِلَ بِالتَّوَاتُرِ إِلَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْمَسْمُوعَ الْمَتْلُوَّ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ» فَمُنْكِرُهُ مُنْكِرٌ لِمَا عُرِفَ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيَلْزَمُهُ الْكُفْرُ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِمَاهِيَّةٍ دُونَ مَاهِيَّةٍ، فَيَلْزَمُكُمْ قِدَمُ الْكُلِّ، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ خَفِيٌّ فِي مُقَابَلَةِ الْبَدِيهِيَّاتِ فَيَكُونُ بَاطِلًا. وصف كلام الله تعالى بالقدم: المسألة الحادية عشرة [وصف كلام الله تعالى بالقدم] : إِذَا قُلْنَا لِهَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُتَوَالِيَةِ وَالْأَصْوَاتِ الْمُتَعَاقِبَةِ إِنَّهَا كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهَا أَلْفَاظٌ دَالَّةٌ عَلَى الصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَطْلَقَ اسْمَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْحِنْثِ وَالْبِرِّ فَذَلِكَ لِأَنَّ مَبْنَى الْإِيمَانِ عَلَى الْعُرْفِ، وَإِذَا قُلْنَا: كَلَامُ اللَّهِ قَدِيمٌ، لَمْ نَعْنِ بِهِ إِلَّا تِلْكَ الصِّفَةَ الْقَدِيمَةَ الَّتِي هِيَ مَدْلُولُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَالْعِبَارَاتِ. وَإِذَا قُلْنَا: كَلَامُ اللَّهِ مُعْجِزَةٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنَيْنَا بِهِ هَذِهِ الْحُرُوفَ وَهَذِهِ الْأَصْوَاتَ الَّتِي هِيَ حَادِثَةٌ، فَإِنَّ الْقَدِيمَ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَكَيْفَ يَكُونُ مُعْجِزَةً لَهُ؟ وَإِذَا قُلْنَا: كَلَامُ اللَّهِ سُوَرٌ وَآيَاتٌ، عَنَيْنَا بِهِ هَذِهِ الْحُرُوفَ، وَإِذَا قُلْنَا: كَلَامُ اللَّهِ فَصِيحٌ، عَنَيْنَا بِهِ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ، وَإِذَا شَرَعْنَا فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَنَيْنَا بِهِ أَيْضًا هَذِهِ الألفاظ. الأصوات التي نقرأ بها ليس كلام الله: المسألة الثانية عشرة [الأصوات التي نقرأ بها ليس كلام الله] : زَعَمَتِ الْحَشْوِيَّةُ أَنَّ هَذِهِ الْأَصْوَاتَ الَّتِي نَسْمَعُهَا مِنْ هَذَا الْإِنْسَانِ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالْبَدِيهَةِ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ الَّتِي نَسْمَعُهَا مِنْ هَذَا الْإِنْسَانِ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِلِسَانِهِ وَأَصْوَاتِهِ، فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهَا عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَزِمَنَا الْقَوْلُ بِأَنَّ الصِّفَةَ الْوَاحِدَةَ بِعَيْنِهَا قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَالَّةٌ فِي بَدَنِ هَذَا الْإِنْسَانِ، وَهَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ، وَأَيْضًا فَهَذَا عَيْنُ مَا يَقُولُهُ النَّصَارَى مِنْ أَنَّ أُقْنُومَ الْكَلِمَةِ حَلَّتْ فِي ناسوت صريح، وزعموا أنها حَالَّةٌ فِي نَاسُوتِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهِيَ صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَغَيْرُ زَائِلَةٍ عَنْهُ، وَهَذَا عَيْنُ مَا يَقُولُهُ الْحَشْوِيَّةِ مِنْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى حَالٌّ فِي لِسَانِ هَذَا الْإِنْسَانِ/ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ زَائِلٍ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، إِلَّا أَنَّ النَّصَارَى قَالُوا بِهَذَا الْقَوْلِ فِي حَقِّ عِيسَى وَحْدَهُ، وَهَؤُلَاءِ الْحَمْقَى قَالُوا بِهَذَا الْقَوْلِ الْخَبِيثِ فِي حَقِّ كُلِّ النَّاسِ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَالَتِ الْكَرَّامِيَّةُ: الْكَلَامُ اسْمٌ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْقَوْلِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى النُّطْقِ يُقَالُ إِنَّهُ مُتَكَلِّمٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَالِ مُشْتَغِلًا بِالْقَوْلِ، وَأَيْضًا فَضِدُّ الْكَلَامِ هُوَ الْخَرَسُ، لَكِنَّ الْخَرَسَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَجْزِ عَنِ الْقَوْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ عِبَارَةً عَنِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقَوْلِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمٌ، بِمَعْنَى أَنَّ قُدْرَتَهُ عَلَى الْقَوْلِ قَدِيمَةٌ، أَمَّا الْقَوْلُ فَإِنَّهُ حَادِثٌ، هَذَا تفصيل قولهم وقد أبطلناه. خلاف الحشوية والأشعرية في صفة القرآن: المسألة الرابعة عشرة [خلاف الحشوية والأشعرية في صفة القرآن] : قَالَتِ الْحَشْوِيَّةُ لِلْأَشْعَرِيَّةِ: إِنْ كَانَ مُرَادُكُمْ مِنْ قَوْلِكُمْ: «إِنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ» هُوَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ دَالٌّ عَلَى صِفَةٍ قَدِيمَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِجَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كِتَابٍ صُنِّفَ فِي الدُّنْيَا

الباب الثالث في المباحث المتعلقة بالاسم والفعل والحرف، وفيه مسائل

قَدِيمًا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ لَهُ مَدْلُولٌ وَمَفْهُومٌ، وَكَلَامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا كَانَ عَامَّ التَّعَلُّقِ بِجَمِيعِ الْمُتَعَلِّقَاتِ كَانَ خَبَرًا عَنْ مَدْلُولَاتِ ذَلِكَ الْكِتَابِ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَبَيْنَ سَائِرِ كُتُبِ الْفُحْشِ وَالْهَجْوِ فِي كَوْنِهِ قَدِيمًا بِهَذَا التَّفْسِيرِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ قَدِيمًا وَجْهًا آخَرَ سِوَى ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نَلْتَزِمُ كَوْنَ كَلَامِهِ تَعَالَى مُتَعَلِّقًا بِجَمِيعِ الْمُخْبَرَاتِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَسْقُطُ هَذَا السُّؤَالُ. وَاعْلَمْ أَنَّا لَا نَقُولُ: إِنَّ كَلَامَهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ الْمُخْبَرَاتِ لِكَوْنِهَا كَذِبًا، وَالْكَذِبُ فِي كَلَامِ اللَّهِ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ أَنْ أَقْوَامًا أَخْبَرُوا عَنْ تِلْكَ الْأَكَاذِيبِ وَالْفُحْشِيَّاتِ فَهَذَا لَا يَكُونُ كَذِبًا، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْهُ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ النَّقَائِصِ، وَالْإِخْبَارُ عَنْ هَذِهِ الْفُحْشِيَّاتِ وَالسَّخَفِيَّاتِ يَجْرِي مَجْرَى النَّقْصِ، وَهُوَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَبَاحِثَ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ وَتَشْرِيحِ الْعَضَلَاتِ الْفَاعِلَاتِ لِلْحُرُوفِ وَذِكْرِ الْإِشْكَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي قِدَمِ الْقُرْآنِ أُمُورٌ صَعْبَةٌ دَقِيقَةٌ، فَالْأَوْلَى الِاكْتِفَاءُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَالْحَرْفِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ تَقْسِيمَ الْكَلِمَةِ إِلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ يُمْكِنُ إِيرَادُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَلِمَةَ إِمَّا أَنْ يَصِحَّ الْإِخْبَارُ عَنْهَا وَبِهَا، وَهِيَ الِاسْمُ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَصِحَّ الْإِخْبَارُ عَنْهَا، لَكِنْ يَصِحُّ الْإِخْبَارُ بِهَا، وَهِيَ الْفِعْلُ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَصِحَّ الْإِخْبَارُ عَنْهَا وَلَا بِهَا، وَهُوَ/ الْحَرْفُ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْحَرْفَ وَالْفِعْلَ لَا يَصِحُّ الْإِخْبَارُ عَنْهُمَا، وَعَلَى أَنَّ الِاسْمَ يَصِحُّ الأخبار عنه، فلنذكر البحثين في مسألتين. الكلمة اسم وفعل وحرف: المسألة الثانية [الكلمة اسم وفعل وحرف] : اتَّفَقَ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ وَالْحَرْفَ لَا يَصِحُّ الْإِخْبَارُ عَنْهُمَا، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: ضَرَبَ قَتَلَ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ المثال الواحد لا يكفي في إثبات الحكم الْعَامِّ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: جِدَارٌ سَمَاءٌ، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ لَا يَصِحُّ الْإِخْبَارُ عَنْهُ وَبِهِ، لِأَجْلِ أَنَّ الْمِثَالَ الْوَاحِدَ لَا يَكْفِي فِي إِثْبَاتِ الحكم العام، فكذا هاهنا، ثُمَّ قِيلَ، الَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْفِعْلِ وَالْحَرْفِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّا إِذَا أَخْبَرَنَا عَنْ «ضَرَبَ يَضْرِبُ اضْرِبْ» بِأَنَّهَا أَفْعَالٌ فَالْمُخْبَرُ عَنْهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمًا أَوْ فِعْلًا أَوْ حَرْفًا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ هَذَا الْخَبَرُ كَذِبًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَانَ الْفِعْلُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِعْلٌ مُخْبَرًا عَنْهُ، فَإِنْ قَالُوا: المخبر عنه بهذا الخبر هُوَ هَذِهِ الصِّيَغُ، وَهِيَ أَسْمَاءٌ قُلْنَا: هَذَا السُّؤَالُ رَكِيكٌ، لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ فِعْلٌ اسْمًا، فَرَجَعَ حَاصِلُ هَذَا السُّؤَالِ إِلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنَ الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْإِشْكَالِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ، الثَّانِي: إِذَا أَخْبَرْنَا عَنِ الْفِعْلِ وَالْحَرْفِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِاسْمٍ فَالتَّقْدِيرُ عَيْنُ مَا تَقَدَّمَ، الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَنَا: «الْفِعْلُ لَا يُخْبَرُ عَنْهُ» إِخْبَارٌ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يُخْبَرُ عَنْهُ، وَذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ، فَإِنْ قَالُوا: الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يُخْبَرُ عَنْهُ هُوَ هَذَا اللَّفْظُ، فَنَقُولُ: قَدْ أَجَبْنَا عَلَى هَذَا السُّؤَالِ، فَإِنَّا نَقُولُ: الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يُخْبَرُ عَنْهُ إِنْ كَانَ اسْمًا فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ كُلَّ اسْمٍ مُخْبَرٌ عَنْهُ، وَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ أَنْ يُخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ اسْمٌ، وَإِنْ كَانَ فِعْلًا فَقَدْ صَارَ الْفِعْلُ مُخْبَرًا عَنْهُ. الرَّابِعُ: الْفِعْلُ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِعْلٌ وَالْحَرْفُ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَرْفٌ مَاهِيَّةٌ مَعْلُومَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ عَمَّا عَدَاهَا، وَكُلُّ مَا كَانَ

كَذَلِكَ صَحَّ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِكَوْنِهِ مُمْتَازًا عَنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا أَخْبَرْنَا عَنِ الْفِعْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِعْلٌ بِأَنَّهُ مَاهِيَّةٌ مُمْتَازَةٌ عَنِ الِاسْمِ فَقَدْ أَخْبَرْنَا عَنْهُ بِهَذَا الِامْتِيَازِ، الْخَامِسُ: الْفِعْلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنِ الصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَخْصُوصِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَخْصُوصِ الَّذِي هُوَ مَدْلُولٌ لِهَذِهِ الصِّيغَةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَقَدْ أَخْبَرْنَا عَنْهُ بِكَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَقَدْ أَخْبَرْنَا عَنْهُ بِكَوْنِهِ مَدْلُولًا لِتِلْكَ الصِّيغَةِ، فَهَذِهِ سُؤَالَاتٌ صَعْبَةٌ فِي هَذَا الْمَقَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: طَعَنَ قَوْمٌ فِي قَوْلِهِمُ: «الِاسْمُ مَا يَصِحُّ الْإِخْبَارُ عَنْهُ» بِأَنْ قَالُوا: لَفْظَةُ «أَيْنَ وَكَيْفَ وَإِذَا» أَسْمَاءٌ مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِخْبَارُ عَنْهَا، وَأَجَابَ عَبْدُ الْقَاهِرِ النَّحْوِيُّ عَنْهُ بِأَنَّا إِذَا قُلْنَا: «الِاسْمُ مَا جَازَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ» أَرَدْنَا بِهِ مَا جَازَ الْإِخْبَارُ عَنْ مَعْنَاهُ، وَيَصِحُّ الْإِخْبَارُ عَنْ مَعْنَى/ إِذَا لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: آتِيكَ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ، كَانَ الْمَعْنَى آتِيكَ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَالْوَقْتُ يَصِحُّ الْإِخْبَارُ عَنْهُ، بِدَلِيلِ أَنَّكَ تَقُولُ: طَابَ الوقت، وأقول هذا الْعُذْرُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ «إِذَا» لَيْسَ مَعْنَاهُ الْوَقْتَ فَقَطْ، بَلْ مَعْنَاهُ الْوَقْتُ حَالَ مَا تَجْعَلُهُ ظَرْفًا لِشَيْءٍ آخَرَ، وَالْوَقْتُ حَالَ مَا جُعِلَ ظَرْفًا لِحَادِثٍ آخَرَ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ أَلْبَتَّةَ، فَإِنْ قَالُوا لَمَّا كَانَ أَحَدُ أَجْزَاءِ مَاهِيَّتِهِ اسْمًا وَجَبَ كَوْنُهُ اسْمًا، فَنَقُولُ: هَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ إِنْ كَفَى هَذَا الْقَدْرُ فِي كَوْنِهِ اسْمًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ اسْمًا، لِأَنَّ الْفِعْلَ أَحَدُ أَجْزَاءِ مَاهِيَّتِهِ الْمَصْدَرُ، وَهُوَ اسْمٌ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا بَاطِلًا فَكَذَا مَا قَالُوهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَقْرِيرِ النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ تَقْسِيمِ الْكَلِمَةِ أَنْ تَقُولَ: الْكَلِمَةُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا مُسْتَقِلًّا بِالْمَعْلُومِيَّةِ أَوْ لَا يَكُونَ، وَالثَّانِي: هُوَ الْحَرْفُ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِمَّا أَنْ يَدُلَّ ذَلِكَ اللَّفْظُ عَلَى الزَّمَانِ الْمُعَيِّنِ لِمَعْنَاهُ، وَهُوَ الْفِعْلُ، أَوْ لَا يَدُلَّ وَهُوَ الِاسْمُ، وَفِي هَذَا الْقِسْمِ سُؤَالَاتٌ نَذْكُرُهَا في حد الاسم والفعل. تعريف الاسم: المسألة الخامسة [تعريف الاسم] : فِي تَعْرِيفِ الِاسْمِ: النَّاسُ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا، التَّعْرِيفُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ الْإِخْبَارُ عَنْ مَعْنَاهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ صِحَّةَ الْإِخْبَارِ عَنْ مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ حُكْمٌ يَحْصُلُ لَهُ بَعْدَ تَمَامِ مَاهِيَّتِهِ فَيَكُونُ هَذَا التَّعْرِيفُ مِنْ بَابِ الرُّسُومِ لَا مِنْ بَابِ الْحُدُودِ، وَالْإِشْكَالُ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفِعْلَ وَالْحَرْفَ يَصِحُّ الْإِخْبَارُ عَنْهُمَا، وَالثَّانِي: أَنَّ «إِذَا وَكَيْفَ وَأَيْنَ» لَا يَصِحُّ الْإِخْبَارُ عَنْهَا وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ. التَّعْرِيفُ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يَأْتِيَ فَاعِلًا أَوْ مَفْعُولًا أَوْ مُضَافًا، وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ الْإِخْبَارُ عَنْهُ. والتعريف الثَّالِثُ: أَنَّ الِاسْمَ كَلِمَةٌ تَسْتَحِقُّ الْإِعْرَابَ فِي أَوَّلِ الْوَضْعِ، وَهَذَا أَيْضًا رَسْمٌ، لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِعْرَابِ حَالَةٌ طَارِئَةٌ عَلَى الِاسْمِ بَعْدَ تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، وَقَوْلُنَا فِي أَوَّلِ الْوَضْعِ احْتِرَازٌ عَنْ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمَبْنِيَّاتُ، فَإِنَّهَا لَا تَقْبَلُ الْإِعْرَابَ بِسَبَبِ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحُرُوفِ، وَلَوْلَا هَذِهِ الْمُنَاسَبَةُ لَقَبِلَتِ الْإِعْرَابَ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُضَارِعَ مُعْرَبٌ لَكِنْ لَا لِذَاتِهِ بَلْ بِسَبَبِ كَوْنِهِ مُشَابِهًا لِلِاسْمِ، وَهَذَا التَّعْرِيفُ أَيْضًا ضَعِيفٌ. التَّعْرِيفُ الرَّابِعُ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْمُفَصَّلِ» : الِاسْمُ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى فِي نَفْسِهِ دَلَالَةً مُجَرَّدَةً عَنِ الِاقْتِرَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ مُخْتَلٌّ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَالَ فِي تَعْرِيفِ الْكَلِمَةِ أَنَّهَا اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مَعْنًى مُفْرَدٍ بِالْوَضْعِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِيمَا كَتَبَ مِنْ حَوَاشِي «الْمُفَصَّلِ» أَنَّهُ إِنَّمَا وَجَبَ/ ذِكْرُ اللَّفْظِ لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا: «الْكَلِمَةُ هِيَ

الدَّالَّةُ عَلَى الْمَعْنَى» لَانْتَقَضَ بِالْعَقْدِ وَالْخَطِّ وَالْإِشَارَةِ كَذَلِكَ، مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ أَسْمَاءً. وَالثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: «فِي نَفْسِهِ» إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الدَّالِّ، أَوْ إِلَى الْمَدْلُولِ، أَوْ إِلَى شَيْءٍ ثَالِثٍ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الدَّالِّ صَارَ التَّقْدِيرُ الِاسْمُ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى حَصَلَ فِي الِاسْمِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى الِاسْمُ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى هُوَ مَدْلُولُهُ، وَهَذَا عَبَثٌ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ فَيَنْتَقِضُ بِالْحَرْفِ وَالْفِعْلِ، فَإِنَّهُ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى مَدْلُولِهِ، وَإِنْ عَادَ إِلَى الْمَدْلُولِ صَارَ التَّقْدِيرُ الِاسْمُ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى حَاصِلٍ فِي نَفْسِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ الشَّيْءِ حَاصِلًا فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ، فَإِنْ قَالُوا مَعْنَى كَوْنِهِ حَاصِلًا فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ لَيْسَ حَاصِلًا فِي غَيْرِهِ، فَنَقُولُ: فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَنْتَقِضُ الْحَدُّ بِأَسْمَاءِ الصِّفَاتِ وَالنَّسَبِ، فَإِنَّ تِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ حَاصِلَةٌ فِي غَيْرِهَا. التَّعْرِيفُ الْخَامِسُ: أَنْ يُقَالَ: الِاسْمُ كَلِمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى مَعْنًى مُسْتَقِلٍّ بِالْمَعْلُومِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا الْكَلِمَةَ لِيَخْرُجَ الْخَطُّ وَالْعَقْدُ وَالْإِشَارَةُ فَإِنْ قَالُوا: لِمَ لَمْ يَقُولُوا لَفْظَةٌ دَالَّةٌ عَلَى كَذَا وَكَذَا؟ قُلْنَا: لِأَنَّا جَعَلْنَا اللَّفْظَ جِنْسًا لِلْكَلِمَةِ، وَالْكَلِمَةُ جِنْسٌ لِلِاسْمِ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْحَدِّ هُوَ الْجِنْسُ الْقَرِيبُ لَا الْبَعِيدُ، وَأَمَّا شَرْطُ الِاسْتِقْلَالِ بِالْمَعْلُومِيَّةِ فَقِيلَ: إِنَّهُ بَاطِلٌ طَرْدًا وَعَكْسًا، أَمَّا الطَّرْدُ فَمِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: إِنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَعْلُومًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا بِالْمَعْلُومِيَّةِ لِأَنَّ الشَّيْءَ مَا لَمْ تُتَصَوَّرْ مَاهِيَّتُهُ امْتَنَعَ أَنْ يُتَصَوَّرَ مَعَ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ تَصَوُّرُهُ فِي نَفْسِهِ مُتَقَدِّمًا عَلَى تَصَوُّرِهِ مَعَ غَيْرِهِ كَانَ مُسْتَقِلًّا بِالْمَعْلُومِيَّةِ، الثَّانِي: أَنَّ مَفْهُومَ الْحَرْفِ يَسْتَقِلُّ بِأَنْ يُعْلَمَ كَوْنُهُ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِالْمَعْلُومِيَّةِ، وَذَلِكَ اسْتِقْلَالٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ النَّحْوِيِّينَ اتَّفَقُوا عَلَى أن «الباء» تفيد الإلصاق، و «من» تُفِيدُ التَّبْعِيضَ، فَمَعْنَى الْإِلْصَاقِ إِنْ كَانَ مُسْتَقِلًّا بِالْمَعْلُومِيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَفْهُومُ مِنَ الْبَاءِ مُسْتَقِلًّا بِالْمَعْلُومِيَّةِ فَيَصِيرُ الْحَرْفُ اسْمًا،، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِالْمَعْلُومِيَّةِ كَانَ الْمَفْهُومُ مِنَ الْإِلْصَاقِ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِالْمَعْلُومِيَّةِ، فَيَصِيرُ الِاسْمُ حَرْفًا، وَأَمَّا الْعَكْسُ فَهُوَ أَنَّ قَوْلَنَا: «كَمْ وَكَيْفَ وَمَتَى وَإِذَا» وَمَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ وَالشَّرْطِيَّةُ كُلُّهَا أَسَامٍ مَعَ أن مفهوماتها غير مستقلة، وكذلك الموصولات. الثالث: إِنَّ قَوْلَنَا: «مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى زَمَانِ ذَلِكَ الْمَعْنَى» يُشْكِلُ بِلَفْظِ الزَّمَانِ وَبِالْغَدِ وَبِالْيَوْمِ وَبِالِاصْطِبَاحِ وَبِالِاغْتِبَاقِ، وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: أَنَّا نُدْرِكُ تَفْرِقَةً بَيْنَ قَوْلِنَا الْإِلْصَاقُ وَبَيْنَ حَرْفِ الْبَاءِ فِي قَوْلِنَا: «كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ» فَنُرِيدُ بِالِاسْتِقْلَالِ هَذَا الْقَدْرَ. فَأَمَّا لَفْظُ الزَّمَانِ وَالْيَوْمِ وَالْغَدِ فَجَوَابُهُ أَنَّ مُسَمَّى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ نَفْسُ الزَّمَانِ، وَلَا دَلَالَةَ مِنْهَا عَلَى زَمَانٍ آخَرَ لِمُسَمَّاهُ. وَأَمَّا الِاصْطِبَاحُ وَالِاغْتِبَاقُ فَجُزْؤُهُ الزَّمَانُ، وَالْفِعْلُ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى زَمَانٍ خَارِجٍ عَنِ/ الْمُسَمَّى، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَوْلُهُمْ: اغْتَبَقَ يَغْتَبِقُ، فَأَدْخَلُوا الْمَاضِيَ وَالْمُسْتَقْبَلَ عَلَى الِاصْطِبَاحِ وَالِاغْتِبَاقِ. علامات الاسم: المسألة السادسة [علامات الاسم] : عَلَامَاتُ الِاسْمِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لَفْظِيَّةً أَوْ مَعْنَوِيَّةً، فَاللَّفْظِيَّةُ إِمَّا أَنْ تَحْصُلَ فِي أَوَّلِ الِاسْمِ، وَهُوَ حَرْفُ تَعْرِيفٍ، أَوْ حَرْفُ جَرٍّ، أَوْ فِي حَشْوِهِ كَيَاءِ التَّصْغِيرِ، وَحَرْفِ التَّكْسِيرِ، أَوْ فِي آخِرِهِ كَحَرْفَيِ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ. وَأَمَّا الْمَعْنَوِيَّةُ فَهِيَ كَوْنُهُ مَوْصُوفًا، وَصِفَةً، وَفَاعِلًا، وَمَفْعُولًا، وَمُضَافًا إِلَيْهِ، وَمُخْبَرًا عَنْهُ، وَمُسْتَحِقًّا لِلْإِعْرَابِ بِأَصْلِ الوضع. تعريفات الفعل: المسألة السابعة [تعريفات الفعل] : ذَكَرُوا لِلْفِعْلِ تَعْرِيفَاتٍ: التَّعْرِيفُ الْأَوَّلُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ إِنَّهَا أَمْثِلَةٌ أُخِذَتْ مِنْ لَفْظِ أَحْدَاثِ

الْأَسْمَاءِ، وَيَنْتَقِضُ بِلَفْظِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ. التَّعْرِيفُ الثَّانِي: أَنَّهُ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَى شَيْءٍ وَلَا يُسْتَنَدُ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَيَنْتَقِضُ بِإِذَا وَكَيْفَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ يَجِبُ إِسْنَادُهَا إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَيَمْتَنِعُ اسْتِنَادُ شَيْءٍ آخَرَ إِلَيْهَا. التَّعْرِيفُ الثَّالِثُ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْفِعْلُ مَا دَلَّ عَلَى اقْتِرَانِ حَدَثٍ بِزَمَانٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: «كَلِمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى اقْتِرَانِ حَدَثٍ بِزَمَانٍ» وَإِنَّمَا يَجِبُ ذِكْرُ الْكَلِمَةِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أنا لو لم نقل بذلك لا لَانْتَقَضَ بِقَوْلِنَا اقْتِرَانُ حَدَثٍ بِزَمَانٍ فَإِنَّ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ دَالٌّ عَلَى اقْتِرَانِ حَدَثٍ بِزَمَانٍ مَعَ أَنَّ هَذَا الْمَجْمُوعَ لَيْسَ بِفِعْلٍ، أَمَّا إِذَا قَيَّدْنَاهُ بِالْكَلِمَةِ انْدَفَعَ هَذَا السُّؤَالُ، لِأَنَّ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَيْسَ كَلِمَةً وَاحِدَةً. وَثَانِيهَا: أنا لو لم نذكر ذلك لا لَانْتَقَضَ بِالْخَطِّ وَالْعَقْدِ وَالْإِشَارَةِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْكَلِمَةَ لَمَّا كَانَتْ كَالْجِنْسِ الْقَرِيبِ لِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَالْجِنْسُ الْقَرِيبُ وَاجِبُ الذِّكْرِ فِي الْحَدِّ. الْوَجْهُ الثَّانِي مَا نَذْكُرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. التَّعْرِيفُ الرَّابِعُ: الْفِعْلُ كَلِمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى ثُبُوتِ الْمَصْدَرِ لِشَيْءٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا كَلِمَةٌ لِأَنَّهَا هِيَ الْجِنْسُ الْقَرِيبُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا دَالَّةٌ عَلَى ثُبُوتِ الْمَصْدَرِ وَلَمْ نَقُلْ دَالَّةٌ عَلَى ثُبُوتِ شَيْءٍ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ قَدْ يَكُونُ أَمْرًا ثَابِتًا كَقَوْلِنَا ضَرَبَ وَقَتَلَ وَقَدْ يَكُونُ عَدَمِيًّا مِثْلَ فَنِيَ وَعَدِمَ فَإِنَّ مَصْدَرَهُمَا الْفَنَاءُ وَالْعَدَمُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِشَيْءٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ لِأَنَّا سَنُقِيمُ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ مُعْتَبَرٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ احْتِرَازًا عَنِ الْأَسْمَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْقُيُودِ مُبَاحَثَاتٍ: الْقَيْدُ الْأَوَّلُ: هُوَ قَوْلُنَا: «يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْمَصْدَرِ لِشَيْءٍ» فِيهِ إِشْكَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّا إِذَا قُلْنَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَالَمَ فَقَوْلُنَا خَلَقَ إِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْخَلْقِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْ لَا يَدُلَّ، فَإِنْ لَمْ يَدُلَّ بَطَلَ ذَلِكَ الْقَيْدُ، وَإِنْ دَلَّ فَذَلِكَ الْخَلْقُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِلْمَخْلُوقِ، وَهُوَ إِنْ كَانَ مُحْدَثًا افْتَقَرَ إِلَى خَلْقٍ آخَرَ وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا لَزِمَ قِدَمُ الْمَخْلُوقِ. وَالثَّانِي: / أَنَّا إِذَا قُلْنَا وُجِدَ الشَّيْءُ فَهَلْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى حُصُولِ الْوُجُودِ لِشَيْءٍ أَوْ لَمْ يَدُلَّ؟ فَإِنْ لَمْ يَدُلَّ بَطَلَ هَذَا الْقَيْدُ، وَإِنْ دَلَّ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْوُجُودُ حَاصِلًا لِشَيْءٍ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ مَا لَا حُصُولَ لَهُ فِي نَفْسِهِ امْتَنَعَ حُصُولُ غَيْرِهِ لَهُ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حُصُولُ الْوُجُودِ لَهُ مَسْبُوقًا بِحُصُولٍ آخَرَ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَالثَّالِثُ: إِذَا قُلْنَا عَدِمَ الشَّيْءُ وَفَنِيَ فَهَذَا يَقْتَضِي حُصُولَ الْعَدَمِ وَحُصُولَ الْفَنَاءِ لِتِلْكَ الْمَاهِيَّةِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّ الْعَدَمَ وَالْفَنَاءَ نَفْيٌ مَحْضٌ فَكَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُهُمَا لِغَيْرِهِمَا وَالرَّابِعُ: أَنَّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْوُجُودُ زَائِدًا عَلَى الْمَاهِيَّةِ فَإِنَّهُ يُصَدِّقُ قَوْلَنَا: «أَنَّهُ حَصَلَ الْوُجُودُ لِهَذِهِ الْمَاهِيَّةِ» فَيَلْزَمُ حُصُولُ وُجُودٍ آخَرَ لِذَلِكَ الْوُجُودِ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْوُجُودُ نَفْسَ الْمَاهِيَّةِ فَإِنَّ قَوْلَنَا: حَدَثَ الشَّيْءُ وَحَصَلَ فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي حُصُولَ وُجُودٍ لِذَلِكَ الشَّيْءِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْوُجُودُ زَائِدًا عَلَى الْمَاهِيَّةِ، وَنَحْنُ الْآنَ إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْوُجُودَ نَفْسُ الْمَاهِيَّةِ. وَأَمَّا الْقَيْدُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُنَا: «فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ» فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ أَحَدُهَا: أَنَّا إِذَا قُلْنَا: «وُجِدَ الزَّمَانُ» أَوْ قُلْنَا: «فَنِيَ الزَّمَانُ» فَهَذَا يَقْتَضِي حُصُولَ الزَّمَانِ فِي زَمَانٍ آخَرَ، وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، فَإِنْ قَالُوا: يَكْفِي فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِّ كَوْنُ الزَّمَانِ وَاقِعًا فِي زَمَانٍ آخَرَ بِحَسَبِ الْوَهْمِ الْكَاذِبِ، قُلْنَا: النَّاسُ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَنَا حَدَثَ الزَّمَانُ وَحَصَلَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَعْدُومًا كَلَامٌ حَقٌّ لَيْسَ فِيهِ بَاطِلٌ وَلَا كَذِبٌ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُمْ لَزِمَ كَوْنُهُ بَاطِلًا وَكَذِبًا، وَثَانِيهَا: أَنَّا إِذَا قُلْنَا: كَانَ الْعَالَمُ مَعْدُومًا فِي الْأَزَلِ، فَقَوْلُنَا: كَانَ فِعْلٌ فَلَوْ أَشْعَرَ ذَلِكَ بِحُصُولِ الزَّمَانِ لَزِمَ حُصُولُ الزَّمَانِ فِي الْأَزَلِ، وَهُوَ مُحَالٌ، فَإِنْ قَالُوا: ذَلِكَ الزَّمَانُ مُقَدَّرٌ لَا مُحَقَّقٌ، قُلْنَا التَّقْدِيرُ الذِّهْنِيُّ إِنْ طَابَقَ الْخَارِجَ عاد

السُّؤَالُ، وَإِنْ لَمْ يُطَابِقْ كَانَ كَذِبًا، وَلَزِمَ فَسَادُ الْحَدِّ، وَثَالِثُهَا: أَنَّا إِذَا قُلْنَا: كَانَ اللَّهُ مَوْجُودًا فِي الْأَزَلِ، فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ اللَّهِ زَمَانِيًّا، وَهُوَ مُحَالٌ، وَرَابِعُهَا أَنَّهُ يَنْتَقِضُ بِالْأَفْعَالِ النَّاقِصَةِ، فَإِنَّ كَانَ النَّاقِصَةَ إِمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَى وُقُوعِ حَدَثٍ فِي زَمَانٍ أَوْ لَا تَدُلَّ: فَإِنْ دَلَّتْ كَانَ تَامًّا لَا نَاقِصًا، لِأَنَّهُ مَتَى دَلَّ اللَّفْظُ عَلَى حُصُولِ حَدَثٍ فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ كَانَ هَذَا كَلَامًا تَامًّا لَا نَاقِصًا، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ فِعْلًا، وَخَامِسُهَا أَنَّهُ يَبْطُلُ بِأَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَلْفَاظٍ دَالَّةٍ عَلَى الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ، وَالدَّالُّ عَلَى الدَّالِّ عَلَى الشَّيْءِ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ فَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ دَالَّةٌ عَلَى الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ، وَسَادِسُهَا أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ يَتَنَاوَلُ إِمَّا الْحَالَ وَإِمَّا الِاسْتِقْبَالَ وَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَاضِيَ أَلْبَتَّةَ، فَهُوَ دَالٌّ عَلَى الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ، وَالْجَوَابُ أَمَّا السُّؤَالَاتُ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى قَوْلِنَا: «الْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْمَصْدَرِ لِشَيْءٍ» والثلاثة المذكورة على قولنا/ «الفعل يدل على الزَّمَانُ» فَجَوَابُهَا أَنَّ اللُّغَوِيَّ يَكْفِي فِي عِلْمِهِ تَصَوُّرُ الْمَفْهُومِ، سَوَاءٌ كَانَ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: «يُشْكِلُ هَذَا الْحَدُّ بِالْأَفْعَالِ النَّاقِصَةِ» قُلْنَا: الَّذِي أَقُولُ بِهِ وَأَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّ لَفْظَةَ كَانَ تَامَّةٌ مُطْلَقًا، إِلَّا أَنَّ الِاسْمَ الذي يسند إِلَيْهِ لَفْظُ كَانَ قَدْ يَكُونُ مَاهِيَّةً مُفْرَدَةً مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا مِثْلَ قَوْلِنَا: كَانَ الشَّيْءُ، بِمَعْنَى حَدَثَ وَحَصَلَ، وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْمَاهِيَّةُ عِبَارَةً عَنْ مَوْصُوفِيَّةِ شَيْءٍ لِشَيْءٍ آخَرَ مِثْلَ قَوْلِنَا: كَانَ زَيْدٌ مُنْطَلِقًا، فَإِنَّ مَعْنَاهُ حُدُوثُ مَوْصُوفِيَّةِ زيد بالانطلاق فلفظ كان هاهنا مَعْنَاهُ أَيْضًا الْحُدُوثُ وَالْوُقُوعُ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْمَاهِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ مِنْ بَابِ النَّسَبِ، وَالنِّسْبَةُ يَمْتَنِعُ ذِكْرُهَا إِلَّا بَعْدَ ذِكْرِ الْمُنْتَسِبِينَ، لَا جرم وجب ذكرهما هاهنا، فَكَمَا أَنَّ قَوْلَنَا: كَانَ زَيْدٌ، مَعْنَاهُ أَنَّهُ حَصَلَ وَوُجِدَ، فَكَذَا قَوْلُنَا: كَانَ زَيْدٌ مُنْطَلِقًا، مَعْنَاهُ أَنَّهُ حَصَلَتْ مَوْصُوفِيَّةُ زَيْدٍ بِالِانْطِلَاقِ، وَهَذَا بحث عميق عجيب دَقِيقٌ غَفَلَ الْأَوَّلُونَ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: «خَامِسًا: يَبْطُلُ مَا ذَكَرْتُمْ بِأَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ» قُلْنَا الْمُعْتَبَرُ فِي كَوْنِ اللَّفْظِ فِعْلًا دَلَالَتُهُ عَلَى الزَّمَانِ ابْتِدَاءً لَا بِوَاسِطَةٍ، وَقَوْلُهُ: «سَادِسًا: اسْمُ الْفَاعِلِ مُخْتَصٌّ بِالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ» قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمَاضِي لَمْ يَعْمَلْ عَمَلَ الْفِعْلِ، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْحَالِ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْفِعْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْكَلِمَةُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا مُسْتَقِلًّا بِالْمَعْلُومِيَّةِ، أَوْ لَا يَكُونَ، وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْحَرْفُ، فَامْتِيَازُ الْحَرْفِ عَنِ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ بِقَيْدٍ عَدَمِيٍّ، ثُمَّ نَقُولُ: وَالْمُسْتَقِلُّ بِالْمَعْلُومِيَّةِ إِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ لِذَلِكَ الْمُسَمَّى، أَوْ لَا يَدُلَّ، وَالَّذِي لَا يَدُلُّ هُوَ الِاسْمُ، فَامْتَازَ الِاسْمُ عَنِ الْفِعْلِ بِقَيْدٍ عَدَمِيٍّ، وَأَمَّا الْفِعْلُ فَإِنَّ مَاهِيَّتَهُ متركبة من القيود الوجودية. هل يدل الفعل على الفاعل المبهم المسألة التاسعة [هل يدل الفعل على الفاعل المبهم] : إِذَا قُلْنَا: ضَرَبَ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى صُدُورِ الضَّرْبِ عَنْ شَيْءٍ مَا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ غَيْرُ مَذْكُورٍ عَلَى التَّعْيِينِ، بِحَسَبِ هَذَا اللَّفْظِ، فَإِنْ قَالُوا: هَذَا مُحَالٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ صِيغَةُ الْفِعْلِ وَحْدَهَا مُحْتَمِلَةً لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، الثَّانِي أَنَّهَا لَوْ دَلَّتْ عَلَى اسْتِنَادِ الضَّرْبِ إِلَى شَيْءٍ مُبْهَمٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَجَبَ أَنْ يَمْتَنِعَ إِسْنَادُهُ إِلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّنَاقُضُ، وَلَوْ دَلَّتْ عَلَى اسْتِنَادِ الضَّرْبِ إِلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِنَا ضَرَبَ مَا وُضِعَ لِاسْتِنَادِ الضَّرْبِ إِلَى زَيْدٍ بِعَيْنِهِ أَوْ عَمْرٍو بِعَيْنِهِ، وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ بِجَوَابٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ ضَرَبَ صِيغَةٌ غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِإِسْنَادِ الضَّرْبِ إِلَى شَيْءٍ مُبْهَمٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ وُضِعَتْ لِإِسْنَادِهِ إِلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ يَذْكُرُهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ فَقَبْلَ أَنْ يَذْكُرَهُ الْقَائِلُ لَا يَكُونُ الْكَلَامُ تَامًّا وَلَا مُحْتَمِلًا لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ.

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالُوا الْحَرْفُ مَا جَاءَ لِمَعْنًى في غيره، وهذه لَفْظٌ مُبْهَمٌ، لِأَنَّهُمْ إِنْ أَرَادُوا مَعْنَى الْحَرْفِ أَنَّ الْحَرْفَ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى يَكُونُ المعنى حاصلا في غيره وحاصلا فِي غَيْرِهِ لَزِمَهُمْ أَنْ تَكُونَ أَسْمَاءُ الْأَعْرَاضِ وَالصِّفَاتِ كُلُّهَا حُرُوفًا، وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ الَّذِي دَلَّ عَلَى مَعْنًى يَكُونُ مَدْلُولُ ذَلِكَ اللَّفْظِ غَيْرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَهَذَا ظَاهِرُ الْفَسَادِ، وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ مَعْنًى ثَالِثًا فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: التَّرْكِيبَاتُ الْمُمْكِنَةُ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ سِتَّةٌ: الِاسْمُ مَعَ الِاسْمِ، وَهُوَ الْجُمْلَةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، وَالِاسْمُ مَعَ الْفِعْلِ، وَهُوَ الْجُمْلَةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ وَهَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ مُفِيدَتَانِ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا الثَّالِثُ- وَهُوَ الِاسْمُ مَعَ الْحَرْفِ- فَقِيلَ: إِنَّهُ يُفِيدُ فِي صُورَتَيْنِ. الصُّورَةُ الْأُولَى: قَوْلُكَ: «يَا زَيْدُ» فَقِيلَ: ذَلِكَ إِنَّمَا أَفَادَ لِأَنَّ قَوْلَنَا يَا زَيْدُ فِي تَقْدِيرِ أُنَادِي وَاحْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ لَفْظَ يَا تَدْخُلُهُ الْإِمَالَةُ وَدُخُولُ الْإِمَالَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الِاسْمِ أَوِ الْفِعْلِ، وَالثَّانِي أَنَّ لَامَ الْجَرِّ تَتَعَلَّقُ بِهَا فَيُقَالُ: «يَا لِزَيْدٍ» فَإِنَّ هَذِهِ اللَّامَ لَامُ الِاسْتِغَاثَةِ وَهِيَ حَرْفُ جَرٍّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُنَا يَا قَائِمَةً مَقَامَ الْفِعْلِ وَإِلَّا لَمَا جَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا حَرْفُ الْجَرِّ، لِأَنَّ الْحَرْفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْحَرْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ يَا بِمَعْنَى أُنَادِي وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ قَوْلَهُ أُنَادِي إِخْبَارٌ عَنِ النِّدَاءِ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ مُغَايِرٌ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُنَا أُنَادِي زَيْدًا مُغَايِرًا لِقَوْلِنَا يَا زَيْدُ، الثَّانِي أَنَّ قَوْلَنَا أُنَادِي زَيْدًا كَلَامٌ مُحْتَمِلٌ لِلتَّصْدِيقِ والتكذيب وقولنا يا زيد لا يحتملهما، الثَّالِثُ أَنَّ قَوْلَنَا يَا زَيْدُ لَيْسَ خِطَابًا إِلَّا مَعَ الْمُنَادَى، وَقَوْلَنَا أُنَادِي زَيْدًا غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْمُنَادَى. الرَّابِعُ أَنَّ قَوْلَنَا يَا زَيْدُ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ النِّدَاءِ فِي الْحَالِ، وَقَوْلَنَا أُنَادِي زَيْدًا لَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْحَالِ، الْخَامِسُ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ أُنَادِي زَيْدًا قَائِمًا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ يَا زَيْدُ قَائِمًا، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ الْخَمْسَةُ عَلَى حُصُولِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُنَا: «زَيْدٌ فِي الدَّارِ» فَقَوْلُنَا زَيْدٌ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُنَا فِي إِلَّا أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ قَدْ يَكُونُ فِي الدَّارِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ، فَأُضِيفَتْ هَذِهِ الظَّرْفِيَّةُ إِلَى الدَّارِ لِتَتَمَيَّزَ هَذِهِ الظَّرْفِيَّةُ عَنْ سَائِرِ أَنْوَاعِهَا، فَإِنْ قَالُوا: هَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا أَفَادَ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ زَيْدٌ اسْتَقَرَّ فِي الدَّارِ وَزَيْدٌ مُسْتَقِرٌّ فِي الدَّارِ، فَنَقُولُ: هَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ قَوْلَنَا اسْتَقَرَّ مَعْنَاهُ حَصَلَ فِي الِاسْتِقْرَارِ فَكَانَ قَوْلُنَا فِيهِ يُفِيدُ حُصُولًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ حَصَلَ فِيهِ حُصُولُ ذَلِكَ الِاسْتِقْرَارِ وَذَلِكَ يفضي إلى التسلسل وهو محال، ثبت أَنَّ قَوْلَنَا زَيْدٌ فِي الدَّارِ كَلَامٌ تَامٌّ وَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيقُهُ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ مُضْمَرٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الْجُمْلَةُ الْمُرَكَّبَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُرَكَّبَةً تَرْكِيبًا أَوَّلِيًّا أَوْ ثَانَوِيًّا، أَمَّا الْمُرَكَّبَةُ تَرْكِيبًا أَوَّلِيًّا فَهِيَ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ أَوِ الْفِعْلِيَّةُ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ أَقْدَمُ فِي الرُّتْبَةِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ لِأَنَّ الِاسْمَ بَسِيطٌ وَالْفِعْلَ مُرَكَّبٌ، وَالْبَسِيطُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُرَكَّبِ، فَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَقْدَمَ مِنَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: بَلِ الْفِعْلِيَّةُ أَقْدَمُ، لِأَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ أَصِيلٍ فِي أَنْ يُسْنَدَ إِلَى غَيْرِهِ، فَكَانَتِ الْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ أَقْدَمَ مِنَ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وَأَمَّا الْمُرَكَّبَةُ تَرْكِيبًا ثَانَوِيًّا فَهِيَ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ كَقَوْلِكَ: «إِنْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالنَّهَارُ مَوْجُودٌ» لِأَنَّ قَوْلَكَ: «الشَّمْسُ طَالِعَةٌ» جُمْلَةٌ وَقَوْلَكَ: «النَّهَارُ مَوْجُودٌ» جُمْلَةٌ أُخْرَى، ثُمَّ أَدْخَلْتَ حَرْفَ الشَّرْطِ فِي إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ، وَحَرْفَ الْجَزَاءِ فِي الجملة الأخرى، فحصل من مجموعهما جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

الباب الرابع في تقسيمات الاسم إلى أنواعه، وهي من وجوه

الْبَابُ الرَّابِعُ فِي تَقْسِيمَاتِ الِاسْمِ إِلَى أَنْوَاعِهِ، وهي من وجوه أنواع الاسم التقسيم الأول [أنواع الاسم] إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْسُ تَصَوُّرِ مَعْنَاهُ مَانِعًا مِنَ الشَّرِكَةِ، أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُظْهَرًا، وَهُوَ الْعَلَمُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُضْمَرًا، وَهُوَ مَعْلُومٌ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنَ الشَّرِكَةِ فَالْمَفْهُومُ مِنْهُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَاهِيَّةً مُعَيَّنَةً، وَهُوَ أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَفْهُومُهُ أَنَّهُ شَيْءٌ مَا مَوْصُوفٌ بِالصِّفَةِ الْفُلَانِيَّةِ، وَهُوَ الْمُشْتَقُّ، كقولنا أسود، فإن مفهومه أنه شيء ماله سَوَادٌ. فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الِاسْمَ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: أَسْمَاءُ الْأَعْلَامِ، وَأَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ، والأسماء المشتقة، فلنذكر أحكام هذه الأقسام. أحكام الأعلام النَّوْعُ الْأَوَّلُ: أَحْكَامُ الْأَعْلَامِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ: الْحُكْمُ الْأَوَّلُ قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: اسْمُ الْعَلَمِ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً أَصْلًا، وَأَقُولُ: حَقٌّ أَنَّ الْعَلَمَ لَا يُفِيدُ صِفَةً فِي الْمُسَمَّى. وَأَمَّا لَيْسَ بِحَقٍّ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ شَيْئًا، وَكَيْفَ وَهُوَ يُفِيدُ تَعْرِيفَ تِلْكَ الذَّاتِ الْمَخْصُوصَةِ؟ الْحُكْمُ الثَّانِي اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَجْنَاسَ لَهَا أَعْلَامٌ، فَقَوْلُنَا: «أَسَدٌ» اسْمُ جِنْسٍ لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَقَوْلُنَا: «أُسَامَةُ» اسْمُ عَلَمٍ لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا: «ثَعْلَبٌ» اسْمُ جِنْسٍ لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَقَوْلُنَا: «ثُعَالَةُ» اسْمُ عَلَمٍ لَهَا وَأَقُولُ: الْفَرْقُ بَيْنَ اسْمِ الْجِنْسِ وَبَيْنَ عَلَمِ الْجِنْسِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اسْمَ الْعَلَمِ هُوَ الَّذِي يُفِيدُ الشَّخْصَ الْمُعَيَّنَ مِنْ حيث إنه ذلك الْمُعَيَّنُ، فَإِذَا سَمَّيْنَا أَشْخَاصًا كَثِيرِينَ بَاسْمِ زَيْدٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّ قَوْلَنَا: «زَيْدٌ» مَوْضُوعٌ لِإِفَادَةِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ تِلْكَ الْأَشْخَاصِ، بَلْ لِأَجْلِ أَنَّ لَفْظَ زَيْدٍ وُضِعَ لِتَعْرِيفِ هَذِهِ الذات من حيث أنها هذه، ولتعريف تِلْكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تِلْكَ عَلَى/ سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا قَالَ الْوَاضِعُ: وَضَعْتُ لَفْظَ أُسَامَةَ لِإِفَادَةِ ذَاتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَشْخَاصِ الْأَسَدِ بِعَيْنِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ، كَانَ ذَلِكَ عَلَمَ الْجِنْسِ، وَإِذَا قَالَ: وَضَعْتُ لَفْظَ الْأَسَدِ لِإِفَادَةِ الْمَاهِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْخَاصِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ، كَانَ هَذَا اسْمَ الْجِنْسِ، فَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ اسْمِ الْجِنْسِ وَبَيْنَ عَلَمِ الْجِنْسِ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ وَجَدُوا أُسَامَةَ اسْمًا غَيْرَ مُنْصَرِفٍ وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مَا لَمْ يَحْصُلْ فِي الِاسْمِ شَيْئَانِ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الصَّرْفِ، ثُمَّ وَجَدُوا فِي هَذَا اللَّفْظِ التَّأْنِيثَ، وَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا آخَرَ سِوَى الْعَلَمِيَّةِ، فَاعْتَقَدُوا كَوْنَهُ عَلَمًا لِهَذَا المعنى. الحكمة الداعية إلى وضع الأعلام: الحكم الثالث [الحكمة الداعية إلى وضع الأعلام] : اعْلَمْ أَنَّ الْحِكْمَةَ الدَّاعِيَةَ إِلَى وَضْعِ الْأَعْلَامِ أنه ربما اختص نوع بحكم واحتج إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِذَلِكَ الْحُكْمِ الْخَاصِّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ الْإِخْبَارَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْصِيصِ غَيْرُ مُمْكِنٍ إِلَّا بَعْدَ ذِكْرِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ عَلَى سبيل الخصوص، فاحتج إِلَى وَضْعِ الْأَعْلَامِ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ. الْحُكْمُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْحَاجَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ تَثْبُتُ لِأَشْخَاصِ النَّاسِ فَوْقَ ثُبُوتِهَا لِسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ،

لَا جَرَمَ كَانَ وَضْعُ الْأَعْلَامِ لِلْأَشْخَاصِ الْإِنْسَانِيَّةِ أكثر من وضعها لسائر الذوات. العلم اسم ولقب وكنية: الحكم الخامس [العلم اسم ولقب وكنية] : فِي تَقْسِيمَاتِ الْأَعْلَامِ، وَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: اعلم إِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمًا كَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، أَوْ لَقَبًا كَإِسْرَائِيلَ، أَوْ كُنْيَةً كَأَبِي لَهَبٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ: الْحُكْمُ الْأَوَّلُ: الشَّيْءُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ الِاسْمُ فَقَطْ، أَوِ اللَّقَبُ فَقَطْ، أَوِ الْكُنْيَةُ فَقَطْ، أَوِ الِاسْمُ مَعَ اللَّقَبِ، أَوِ الِاسْمُ مَعَ الْكُنْيَةِ، أَوِ اللَّقَبُ مَعَ الْكُنْيَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ سِيبَوَيْهِ أَفْرَدَ أَمْثِلَةَ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ تَرْكِيبِ الْكُنْيَةِ وَالِاسْمِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: الَّذِي لَهُ الِاسْمُ وَالْكُنْيَةُ كَالضَّبُعِ، فَإِنَّ اسْمَهَا حَضَاجِرُ، وَكُنْيَتَهَا أَمُّ عَامِرٍ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِلْأَسَدِ أُسَامَةُ وأبو الحارث، وللثعلب ثعالة وأبو الحصين، وَلِلْعَقْرَبِ شَبْوَةُ وَأُمُّ عِرْيَطٍ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الِاسْمُ دُونَ الْكُنْيَةِ كَقَوْلِنَا قُثَمُ لِذَكَرِ الضَّبُعِ، وَلَا كُنْيَةَ لَهُ. وَثَالِثُهَا: الَّذِي حَصَلَتْ لَهُ الْكُنْيَةُ وَلَا اسْمَ لَهُ، كَقَوْلِنَا لِلْحَيَوَانِ الْمُعَيَّنِ أَبُو بَرَاقِشَ. الْحُكْمُ الثَّالِثُ: الْكُنْيَةُ قَدْ تَكُونُ بِالْإِضَافَاتِ إِلَى الْآبَاءِ، وَإِلَى الْأُمَّهَاتِ، وَإِلَى الْبَنِينَ، وَإِلَى الْبَنَاتِ، فَالْكُنَى بِالْآبَاءِ كَمَا يُقَالُ لِلذِّئْبِ أَبُو جَعْدَةَ لِلْأَبْيَضِ، وَأَبُو الْجَوْنِ، وَأَمَّا الْأُمَّهَاتُ فَكَمَا يُقَالُ لِلدَّاهِيَةِ أُمُّ حَبَوْكَرَى، وَلِلْخَمْرِ أُمُّ لَيْلَى، وَأَمَّا الْبَنُونَ فَكَمَا يُقَالُ لِلْغُرَابِ ابْنُ دَأْيَةَ، وَلِلرَّجُلِ الَّذِي يَكُونُ حَالُهُ مُنْكَشِفًا ابْنُ جَلَا، وَأَمَّا الْبَنَاتُ فَكَمَا يُقَالُ لِلصَّدَى ابْنَةُ الْجَبَلِ، وَلِلْحَصَاةِ بِنْتُ الْأَرْضِ. الْحُكْمُ الرَّابِعُ: الْإِضَافَةُ فِي الْكُنْيَةِ قَدْ تَكُونُ مَجْهُولَةَ النَّسَبِ نَحْوَ ابْنِ عُرْسٍ وَحِمَارِ قَبَّانَ وَقَدْ تَكُونُ مَعْلُومَةَ النَّسَبِ نَحْوَ ابْنِ لَبُونٍ وَبِنْتِ لَبُونٍ وَابْنِ مَخَاضٍ وَبِنْتِ مَخَاضٍ، لِأَنَّ النَّاقَةَ/ إِذَا وَلَدَتْ وَلَدًا ثُمَّ حُمِلَ عَلَيْهَا بَعْدَ وِلَادَتِهَا فَإِنَّهَا لَا تَصِيرُ مَخَاضًا إِلَّا بَعْدَ سَنَةٍ، وَالْمَخَاضُ الْحَامِلُ الْمُقْرِبُ، فَوَلَدُهَا إِنْ كَانَ ذَكَرًا فَهُوَ ابْنُ مَخَاضٍ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَهِيَ بِنْتُ مَخَاضٍ، ثُمَّ إِذَا وَلَدَتْ وَصَارَ لَهَا لَبَنٌ صَارَتْ لَبَوْنًا فَأُضِيفَ الْوَلَدُ إِلَيْهَا بِإِضَافَةٍ مَعْلُومَةٍ. الْحُكْمُ الْخَامِسُ: إِذَا اجْتَمَعَ الِاسْمُ وَاللَّقَبُ: فَالِاسْمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُضَافًا أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُضَافًا أُضِيفَ الِاسْمُ إِلَى اللَّقَبِ يُقَالُ هَذَا سَعِيدُ كُرْزٍ وَقَيْسُ بَطَّةَ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَجْمُوعُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْوَاحِدِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الِاسْمُ مُضَافًا فَهُمْ يُفْرِدُونَ اللَّقَبَ فيقولون هذا عبد الله بطة. السر في وضع الكنية: الحكم السادس [السر في وضع الكنية] : الْمُقْتَضِي لِحُصُولِ الْكُنْيَةِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: الْإِخْبَارُ عَنْ نَفْسِ الْأَمْرِ كَقَوْلِنَا أَبُو طَالِبٍ، فَإِنَّهُ كُنِّيَ بابنه طالب، وثانيها: التفاؤل والرجا كَقَوْلِهِمْ أَبُو عَمْرٍو لِمَنْ يَرْجُو وَلَدًا يَطُولُ عُمُرُهُ، وَأَبُو الْفَضْلِ لِمَنْ يَرْجُو وَلَدًا جَامِعًا لِلْفَضَائِلِ: وَثَالِثُهَا: الْإِيمَاءُ إِلَى الضِّدِّ كَأَبِي يَحْيَى لِلْمَوْتِ، وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ إِنْسَانًا مَشْهُورًا وَلَهُ أَبٌ مَشْهُورٌ فَيَتَقَارَضَانِ الْكُنْيَةَ فَإِنَّ يُوسُفَ كُنْيَتُهُ أَبُو يَعْقُوبَ وَيَعْقُوبَ كُنْيَتُهُ أَبُو يُوسُفَ، وَخَامِسُهَا: اشْتِهَارُ الرَّجُلِ بِخَصْلَةٍ فَيُكَنَّى بِهَا إِمَّا بِسَبَبِ اتِّصَافِهِ بِهَا أَوِ انْتِسَابِهِ إِلَيْهَا بِوَجْهٍ قريب أو بعيد. التقسيم الثاني للأعلام: التَّقْسِيمُ الثَّانِي لِلْأَعْلَامِ: الْعَلَمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا كَزَيْدٍ، أَوْ مُرَكَّبًا مِنْ كَلِمَتَيْنِ لَا عَلَاقَةَ بَيْنَهُمَا كَبَعْلَبَكَّ، أَوْ بَيْنَهُمَا عَلَاقَةٌ وَهِيَ: إِمَّا عَلَاقَةُ الْإِضَافَةِ كَعَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي زَيْدٍ، أَوْ عَلَاقَةُ الْإِسْنَادِ وَهِيَ إِمَّا جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ أَوْ فِعْلِيَّةٌ، وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْبَابِ أَنَّكَ إِذَا جَعَلْتَ جُمْلَةً اسْمَ عَلَمٍ لَمْ تُغَيِّرْهَا أَلْبَتَّةَ، بَلْ تَتْرُكُهَا بِحَالِهَا مِثْلَ تَأَبَّطَ شَرًّا وبرق نحره. التقسيم الثالث للأعلام: التَّقْسِيمُ الثَّالِثُ: الْعَلَمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا أَوْ مُرْتَجَلًا، أَمَّا الْمَنْقُولُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا عَنْ لَفْظٍ مُفِيدٍ أَوْ

غَيْرِ مُفِيدٍ، وَالْمَنْقُولُ مِنَ الْمُفِيدِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا عَنِ الِاسْمِ، أَوِ الْفِعْلِ أَوِ الْحَرْفِ، أَوْ مَا يَتَرَكَّبُ مِنْهَا، أَمَّا الْمَنْقُولُ عَنِ الِاسْمِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنِ اسْمِ عَيْنٍ: كَأَسَدٍ وَثَوْرٍ، أَوْ عَنِ اسْمِ مَعْنًى: كَفَضْلٍ وَنَصْرٍ، أَوْ صِفَةٍ حَقِيقِيَّةٍ: كَالْحُسْنِ، أَوْ عَنْ صِفَةٍ إِضَافِيَّةٍ كَالْمَذْكُورِ وَالْمَرْدُودِ، وَالْمَنْقُولُ عَنِ الْفِعْلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا عَنْ صِيغَةِ الْمَاضِي كَشَمَرَ، أَوْ عَنْ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ كَيَحْيَى، أَوْ عَنِ الْأَمْرِ كَاطْرُقَا، وَالْمَنْقُولُ عَنِ الْحَرْفِ كَرَجُلٍ سَمَّيْتَهُ بِصِيغَةٍ مِنْ صِيَغِ الْحُرُوفِ، وَأَمَّا الْمَنْقُولُ عَنِ الْمُرَكَّبِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَإِنْ كَانَ الْمُرَكَّبُ مُفِيدًا فَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي التَّقْسِيمِ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُفِيدٍ فَهُوَ يُفِيدُ، وَأَمَّا الْمَنْقُولُ عَنْ صَوْتٍ فَهُوَ مِثْلُ تَسْمِيَةِ بَعْضِ الْعَلَوِيَّةِ بِطَبَاطَبَا، وَأَمَّا الْمُرْتَجَلُ فَقَدْ يَكُونُ قِيَاسًا مِثْلُ عِمْرَانَ وَحَمْدَانَ فَإِنَّهُمَا مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ مِثْلُ سَرْحَانَ وَنَدْمَانَ، وَقَدْ يَكُونُ شَاذًّا قَلَّمَا يُوجَدُ لَهُ نَظِيرٌ مِثْلُ مُحَبَّبٍ وَمَوْهِبٍ. التقسيم الرابع للأعلام: التَّقْسِيمُ الرَّابِعُ: الْأَعْلَامُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلذَّوَاتِ أَوِ الْمَعَانِي، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَلَمُ عَلَمَ الشَّخْصِ، أَوْ عَلَمَ الْجِنْسِ، فَهَهُنَا أَقْسَامٌ أَرْبَعَةٌ، وَقَبْلَ الْخَوْضِ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ فَيَجِبُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ وَضْعَ الْأَعْلَامِ لِلذَّوَاتِ أَكْثَرُ مِنْ وَضْعِهَا لِلْمَعَانِي، لِأَنَّ أَشْخَاصَ الذَّوَاتِ هِيَ الَّتِي يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ بِالْإِخْبَارِ عَنْ أَحْوَالِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ، أَمَّا أَشْخَاصُ الصِّفَاتِ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ. وَلْنَرْجِعْ إِلَى أَحْكَامِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْعَلَمُ لِلذَّوَاتِ وَالشَّرْطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مَأْلُوفًا لِلْوَاضِعِ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَأْلُوفَاتِ الْإِنْسَانُ، لِأَنَّ مُسْتَعْمِلَ أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ هُوَ الْإِنْسَانُ، وَإِلْفُ الشَّيْءِ بِنَوْعِهِ أَتَمُّ مِنْ إِلْفِهِ بِغَيْرِ نَوْعِهِ، وَبَعْدَ الْإِنْسَانِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي يَكْثُرُ احْتِيَاجُ الْإِنْسَانِ إِلَيْهَا وَتَكْثُرُ مُشَاهَدَتُهُ لَهَا، ولهذا السبب وضعوا أعوج ولا حقا علمين لفرسين، وشذ قما وَعَلِيًّا لِفَحْلَيْنِ، وَضَمْرَانَ لِكَلْبٍ، وَكَسَابِ لِكَلْبَةٍ، وَأَمَّا الْأَشْيَاءُ الَّتِي لَا يَأْلَفُهَا الْإِنْسَانُ فَقَلَّمَا يَضَعُونَ الْأَعْلَامَ لِأَشْخَاصِهَا، أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَهُوَ عَلَمُ الْجِنْسِ لِلذَّوَاتِ، وَهُوَ مِثْلُ أُسَامَةَ لِلْأَسَدِ، وَثُعَالَةَ لِلثَّعْلَبِ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَهُوَ وَضْعُ الْأَعْلَامِ لِلْأَفْرَادِ الْمُعَيَّنَةِ مِنَ الصِّفَاتِ، وَهُوَ مَفْقُودٌ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: فَهُوَ عَلَمُ الْجِنْسِ لِلْمَعَانِي، وَالضَّابِطُ فِيهِ أَنَّا إِذَا رَأَيْنَا حُصُولَ سَبَبٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَسْبَابِ التِّسْعَةِ الْمَانِعَةِ مِنَ الصَّرْفِ ثُمَّ مَنَعُوهُ الصَّرْفَ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ عَلَمًا لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الصَّرْفِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ اجْتِمَاعِ سَبَبَيْنِ، وَذَكَرَ ابْنُ جِنِّي أَمْثِلَةً لِهَذَا الْبَابِ، وَهِيَ تَسْمِيَتُهُمُ التَّسْبِيحَ بِسُبْحَانَ، وَالْغُدُوَّ بِكَيْسَانَ، لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُنْصَرِفَيْنِ، فَالسَّبَبُ الْوَاحِدُ- وَهُوَ الْأَلِفُ وَالنُّونُ- حَاصِلٌ. وَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الْعَلَمِيَّةِ لِيَتِمَّ السَّبَبَانِ. التَّقْسِيمُ الخامس للأعلام: التَّقْسِيمُ الْخَامِسُ لِلْأَعْلَامِ: اعْلَمْ أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ قَدْ يَنْقَلِبُ اسْمَ عَلَمٍ. كَمَا إِذَا كَانَ الْمَفْهُومُ مِنَ اللَّفْظِ أَمْرًا كُلِّيًّا صَالِحًا لِأَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ كَثِيرُونَ: ثُمَّ إِنَّهُ فِي الْعُرْفِ يَخْتَصُّ بِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ، مِثْلَ «النَّجْمِ» فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِكُلِّ نَجْمٍ، ثُمَّ اخْتَصَّ فِي الْعُرْفِ بِالثُّرَيَّا، وَكَذَلِكَ «السِّمَاكُ» اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الِارْتِفَاعِ ثُمَّ اخْتَصَّ بِكَوْكَبٍ مُعَيَّنٍ.

الباب الخامس في أحكام أسماء الأجناس والأسماء المشتقة، وهي كثيرة

الْبَابُ الْخَامِسُ فِي أَحْكَامِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ وَالْأَسْمَاءِ المشتقة، وهي كثيرة أحكام اسم الجنس: أَمَّا أَحْكَامُ أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ فَهِيَ أُمُورٌ: الْحُكْمُ الْأَوَّلُ: الْمَاهِيَّةُ قَدْ تَكُونُ مُرَكَّبَةً، وَقَدْ تَكُونُ بَسِيطَةً، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ أَنَّ الْمُرَكَّبَ قَبْلَ الْبَسِيطِ فِي الْجِنْسِ، وَأَنَّ/ الْبَسِيطَ قَبْلَ الْمُرَكَّبِ فِي الْفَصْلِ، وَثَبَتَ بِحَسَبِ الِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ قُوَّةَ الْجِنْسِ سَابِقَةٌ عَلَى قُوَّةِ الْفَصْلِ فِي الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَسْمَاءُ الْمَاهِيَّاتِ الْمُرَكَّبَةِ سَابِقَةً عَلَى أَسْمَاءِ الْمَاهِيَّاتِ الْبَسِيطَةِ. الْحُكْمُ الثاني في اسم الجنس: الْحُكْمُ الثَّانِي: أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ سَابِقَةٌ بِالرُّتْبَةِ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ، لِأَنَّ الِاسْمَ الْمُشْتَقَّ مُتَفَرِّعٌ عَلَى الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ، فَلَوْ كَانَ اسْمُهُ أَيْضًا مُشْتَقًّا لَزِمَ إِمَّا التَّسَلْسُلُ أَوِ الدَّوْرُ، وَهُمَا مُحَالَانِ، فَيَجِبُ الِانْتِهَاءُ فِي الِاشْتِقَاقَاتِ إِلَى أَسْمَاءٍ مَوْضُوعَةٍ جَامِدَةٍ، فَالْمَوْضُوعُ غَنِيٌّ عَنِ الْمُشْتَقِّ وَالْمُشْتَقُّ مُحْتَاجٌ إِلَى الْمَوْضُوعِ، فَوَجَبَ كَوْنُ الْمَوْضُوعِ سَابِقًا بِالرُّتْبَةِ عَلَى الْمُشْتَقِّ، وَيَظْهَرُ بِهَذَا أَنَّ هَذَا الَّذِي يَعْتَادُهُ اللُّغَوِيُّونَ وَالنَّحْوِيُّونَ مِنَ السَّعْيِ الْبَلِيغِ فِي أَنْ يَجْعَلُوا كُلَّ لَفْظٍ مُشْتَقًّا مِنْ شَيْءٍ آخَرَ سَعْيٌ بَاطِلٌ وَعَمَلٌ ضَائِعٌ. الْحُكْمُ الثالث في اسم الجنس: الْحُكْمُ الثَّالِثُ: الْمَوْجُودُ إِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ، وَالْمُمْكِنُ إِمَّا مُتَحَيِّزٌ أَوْ حَالٌّ فِي الْمُتَحَيِّزِ، أَوْ لَا مُتَحَيِّزٌ وَلَا حَالٌّ فِي الْمُتَحَيِّزِ أَمَّا هَذَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَالشُّعُورُ بِهِ قَلِيلٌ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الشُّعُورُ بِالْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، ثُمَّ إِنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْمُتَحَيِّزَاتِ مُتَسَاوِيَةٌ فِي تَمَامِ ذَوَاتِهَا، وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهَا إِنَّمَا يَقَعُ بِسَبَبِ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِهَا، فَالْأَسْمَاءُ الْوَاقِعَةُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَجْسَامِ يَكُونُ الْمُسَمَّى بِهَا مَجْمُوعَ الذَّاتِ مَعَ الصِّفَاتِ الْمَخْصُوصَةِ الْقَائِمَةِ بِهَا، هذا هو الحكم في الأكثر الأغلب. أحكام الأسماء المشتقة : وَأَمَّا أَحْكَامُ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ فَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْحُكْمُ الْأَوَّلُ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ أَنْ تَكُونَ الذَّاتُ مَوْصُوفَةً بِالْمُشْتَقِّ مِنْهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَعْلُومَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعِلْمِ، مَعَ أَنَّ الْعِلْمَ غَيْرُ قَائِمٍ بِالْمَعْلُومِ. وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَذْكُورِ وَالْمَرْئِيِّ وَالْمَسْمُوعِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي اللَّائِقِ وَالرَّامِي. الْحُكْمُ الثَّانِي: شَرْطُ صِدْقِ الْمُشْتَقِّ حُصُولُ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ فِي الْحَالِ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ كَانَ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَافِرٍ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَقَاءَ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ شَرْطٌ فِي صِدْقِ الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ. الْحُكْمُ الثَّالِثُ: الْمُشْتَقُّ مِنْهُ إِنْ كَانَ مَاهِيَّةً مُرَكَّبَةً لَا يُمْكِنُ حُصُولُ أَجْزَائِهَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ، مِثْلُ الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ وَالصَّلَاةِ، فَإِنَّ الِاسْمَ الْمُشْتَقَّ إِنَّمَا يَصْدُقُ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ حُصُولِ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ. الْحُكْمُ الرَّابِعُ: المفهوم من الضارب أنه شيء ماله ضَرْبٌ، فَأَمَّا إِنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ جِسْمٌ أَوْ غَيْرُهُ فَذَلِكَ خَارِجٌ عَنِ الْمَفْهُومِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ.

الباب السادس في تقسيم الاسم إلى المعرب والمبني، وذكر الأحكام المفرعة على هذين القسمين، وفيه مسائل

الْبَابُ السَّادِسُ فِي تَقْسِيمِ الِاسْمِ إِلَى الْمُعْرَبِ وَالْمَبْنِيِّ، وَذِكْرِ الْأَحْكَامِ الْمُفَرَّعَةِ عَلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي لَفْظِ الْإِعْرَابِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ قَوْلِهِمْ: «أَعْرَبَ عَنْ نَفْسِهِ» إِذَا بَيَّنَ مَا فِي ضَمِيرِهِ، فَإِنَّ الْإِعْرَابَ إِيضَاحُ الْمَعْنَى، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَعْرَبَ مَنْقُولًا مِنْ قَوْلِهِمْ: «عَرِبَتْ مَعِدَةُ الرَّجُلِ» إِذَا فَسَدَتْ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِعْرَابِ إِزَالَةَ الْفَسَادِ وَرَفْعَ الْإِبْهَامِ، مِثْلَ أَعْجَمْتُ الْكِتَابَ بِمَعْنَى أَزَلْتُ عُجْمَتَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا وُضِعَ لَفْظُ الْمَاهِيَّةِ وَكَانَتْ تِلْكَ الْمَاهِيَّةُ مَوْرِدًا لِأَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَوْرِدًا لِأَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ لِتَكُونَ الْأَحْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ اللَّفْظِيَّةُ دَالَّةً عَلَى الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، كَمَا أَنَّ جَوْهَرَ اللَّفْظِ لَمَّا كَانَ دَالًّا عَلَى أَصْلِ الْمَاهِيَّةِ كَانَ اخْتِلَافُ أَحْوَالِهِ دَالًّا عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَتِلْكَ الْأَحْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ اللَّفْظِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ هِيَ الْإِعْرَابُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَفْعَالُ وَالْحُرُوفُ أَحْوَالٌ عَارِضَةٌ لِلْمَاهِيَّاتِ، وَالْعَوَارِضُ لَا تَعْرِضُ لَهَا عَوَارِضُ أُخْرَى، هَذَا هُوَ الْحُكْمُ الْأَكْثَرِيُّ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَعْرِضُ لَهَا الْأَحْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ هِيَ الذَّوَاتُ، وَالْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَيْهَا هِيَ الْأَسْمَاءُ، فَالْمُسْتَحِقُّ لِلْإِعْرَابِ بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ هُوَ الْأَسْمَاءُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا اخْتَصَّ الْإِعْرَابُ بِالْحَرْفِ الْأَخِيرِ مِنَ الْكَلِمَةِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَحْوَالَ الْعَارِضَةَ لِلذَّاتِ لَا تُوجَدُ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ الذَّاتِ، وَاللَّفْظُ لَا يُوجَدُ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْحَرْفِ الْأَخِيرِ مِنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعَلَامَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْكَلِمَةِ. الثَّانِي: أَنَّ اخْتِلَافَ حَالِ الْحَرْفِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مِنَ الْكَلِمَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اخْتِلَافِ أَوْزَانِ الْكَلِمَةِ، فَلَمْ يَبْقَ لِقَبُولِ الْأَحْوَالِ الْإِعْرَابِيَّةِ إِلَّا الْحَرْفُ الْأَخِيرُ مِنَ الْكَلِمَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْإِعْرَابُ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي أواخر الكلمات بدليل أنها موجودة في المبينات وَالْإِعْرَابُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيهَا بَلِ الْإِعْرَابُ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِحْقَاقِهَا لِهَذِهِ الْحَرَكَاتِ بِسَبَبِ الْعَوَامِلِ الْمَحْسُوسَةِ، وَذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ مَعْقُولٌ لَا مَحْسُوسٌ، وَالْإِعْرَابُ حَاجَةٌ مَعْقُولَةٌ لَا مَحْسُوسَةٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إِذَا قُلْنَا فِي الْحَرْفِ: أَنَّهُ مُتَحَرِّكٌ أَوْ سَاكِنٌ، فَهُوَ مَجَازٌ، لِأَنَّ الْحَرَكَةَ/ وَالسُّكُونَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، وَالْحَرْفُ لَيْسَ بِجِسْمٍ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْ حَرَكَةِ الْحَرْفِ صَوْتٌ مَخْصُوصٌ يُوجَدُ عَقِيبَ التَّلَفُّظِ بِالْحَرْفِ، وَالسُّكُونُ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ يُوجَدَ الْحَرْفُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْقِبَهُ ذَلِكَ الصَّوْتُ الْمَخْصُوصُ الْمُسَمَّى بِالْحَرَكَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الْحَرَكَاتُ إِمَّا صَرِيحَةٌ أَوْ مُخْتَلَسَةٌ، وَالصَّرِيحَةُ إِمَّا مُفْرَدَةٌ أَوْ غَيْرُ مُفْرَدَةٍ فَالْمُفْرَدَةُ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ: الْفَتْحَةُ، وَالْكَسْرَةُ، وَالضَّمَّةُ، وَغَيْرُ الْمُفْرَدَةِ مَا كَانَ بَيْنَ بَيْنَ، وَهِيَ سِتَّةٌ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ قِسْمَانِ، فَلِلْفَتْحَةِ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الكسرة أو ما بينها وبين الضمة، وللكسرة مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الضَّمَّةِ أَوْ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفَتْحَةِ، وَالضَّمَّةِ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، فَالْمَجْمُوعُ تِسْعَةٌ. وَهِيَ إِمَّا مُشْبَعَةٌ أَوْ غَيْرُ مُشْبَعَةٍ، فَهِيَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَالتَّاسِعَةَ عَشْرَةَ الْمُخْتَلَسَةُ،

وَهِيَ مَا تَكُونُ حَرَكَةً وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ فِي الْحِسِّ لَهَا مَبْدَأٌ، وَتُسَمَّى الْحَرَكَةَ الْمَجْهُولَةَ، وَبِهَا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 54] مُخْتَلَسَةَ الْحَرَكَةِ مِنْ بَارِئِكُمْ وَغَيْرَ ظَاهِرَةٍ بِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: لَمَّا كَانَ الْمَرْجِعُ بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَى أَصْوَاتٍ مَخْصُوصَةٍ لَمْ يَجِبِ الْقَطْعُ بِانْحِصَارِ الْحَرَكَاتِ فِي الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، قَالَ ابْنُ جِنِّي اسْمُ الْمِفْتَاحِ بِالْفَارِسِيَّةِ- وهو كليد- لَا يُعْرَفُ أَنَّ أَوَّلَهُ مُتَحَرِّكٌ أَوْ سَاكِنٌ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو عَلِيٍّ قَالَ: دَخَلْتُ بَلْدَةً فَسَمِعْتُ أَهْلَهَا يَنْطِقُونَ بِفَتْحَةٍ غَرِيبَةٍ لَمْ أَسْمَعْهَا قَبْلُ، فَتَعَجَّبْتُ مِنْهَا وَأَقَمْتُ هُنَاكَ أَيَّامًا فَتَكَلَّمْتُ أَيْضًا بِهَا، فَلَمَّا فَارَقْتُ تِلْكَ الْبَلْدَةَ نَسِيتُهَا. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: الْحَرَكَةُ الْإِعْرَابِيَّةُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنِ الْحَرْفِ تَأَخُّرًا بِالزَّمَانِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُرُوفَ الصُّلْبَةَ كَالْبَاءِ وَالتَّاءِ وَالدَّالِ وَأَمْثَالِهَا إِنَّمَا تَحْدُثُ فِي آخِرِ زَمَانِ حَبْسِ النَّفَسِ وَأَوَّلِ إِرْسَالِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ فَاصِلَ مَا بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ غَيْرُ مُنْقَسِمٍ، وَالْحَرَكَةُ صَوْتٌ يَحْدُثُ عِنْدَ إِرْسَالِ النَّفَسِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ الْآنَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى ذَلِكَ الزَّمَانِ فَالْحَرْفُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْحَرَكَةِ. الثَّانِي: أَنَّ الْحُرُوفَ الصُّلْبَةَ لَا تَقْبَلُ التَّمْدِيدَ، وَالْحَرَكَةُ قَابِلَةٌ لِلتَّمْدِيدِ، فَالْحَرْفُ وَالْحَرَكَةُ لَا يُوجَدَانِ مَعًا لَكِنَّ الْحَرَكَةَ لَا تَتَقَدَّمُ عَلَى الْحَرْفِ، فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ الْحَرْفُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْحَرَكَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: الْحَرَكَاتُ أَبْعَاضٌ مِنْ حُرُوفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ، الْأَوَّلُ: أَنَّ حُرُوفَ الْمَدِّ وَاللِّينِ قَابِلَةٌ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهُ طَرَفَانِ، وَلَا طَرَفَ لَهَا فِي النُّقْصَانِ إِلَّا هَذِهِ الْحَرَكَاتُ، الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ إِذَا مَدَدْنَاهَا ظَهَرَتْ حُرُوفُ الْمَدِّ وَاللِّينِ فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ لَيْسَتْ إِلَّا أَوَائِلَ تِلْكَ الْحُرُوفِ، الثَّالِثُ: لَوْ لَمْ تَكُنِ الْحَرَكَاتُ أَبْعَاضًا لِهَذِهِ الْحُرُوفِ لَمَا جَازَ الِاكْتِفَاءُ بِهَا لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُخَالِفَةً لَهَا لَمْ تَسُدَّ مَسَدَّهَا فَلَمْ/ يَصِحَّ الِاكْتِفَاءُ بِهَا مِنْهَا بِدَلِيلِ اسْتِقْرَاءِ الْقُرْآنِ وَالنَّثْرِ وَالنَّظْمِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَبْ أَنَّ إِبْدَالَ الشَّيْءِ مِنْ مُخَالِفِهِ الْقَرِيبِ مِنْهُ جَائِزٌ إِلَّا أَنَّ إِبْدَالَ الشَّيْءِ مِنْ بَعْضِهِ أَوْلَى، فوجب حمل الكلام عليه. الابتداء بالساكن: المسألة الحادية عشرة [الابتداء بالساكن] : الِابْتِدَاءُ بِالْحَرْفِ السَّاكِنِ مُحَالٌ عِنْدَ قَوْمٍ، وَجَائِزٌ عِنْدَ آخَرِينَ، لِأَنَّ الْحَرَكَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الصَّوْتِ الَّذِي يَحْصُلُ التَّلَفُّظُ بِهِ بَعْدَ التَّلَفُّظِ بِالْحَرْفِ، وَتَوْقِيفُ الشَّيْءِ عَلَى مَا يَحْصُلُ بَعْدَهُ مُحَالٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَثْقَلُ الْحَرَكَاتِ الضَّمَّةُ، لِأَنَّهَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِضَمِّ الشَّفَتَيْنِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِعَمَلِ الْعَضَلَتَيْنِ الصُّلْبَتَيْنِ الْوَاصِلَتَيْنِ إِلَى طَرَفَيِ الشَّفَةِ، وَأَمَّا الْكَسْرَةُ فَإِنَّهُ يَكْفِي فِي تَحْصِيلِهَا الْعَضَلَةُ الْوَاحِدَةُ الْجَارِيَةُ، ثُمَّ الْفَتْحَةُ يَكْفِي فِيهَا عَمَلٌ ضَعِيفٌ لِتِلْكَ الْعَضَلَةِ، وَكَمَا دَلَّتْ هَذِهِ الْمَعَالِمُ التَّشْرِيحِيَّةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَالتَّجْرِبَةُ تُظْهِرُهُ أَيْضًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَالَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ أَمْزِجَةِ الْبُلْدَانِ، فَإِنَّ أَهْلَ أَذْرَبِيجَانَ يَغْلِبُ عَلَى جَمِيعِ أَلْفَاظِهِمْ إِشْمَامُ الضَّمَّةِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْبِلَادِ يَغْلِبُ عَلَى لُغَاتِهِمْ إِشْمَامُ الْكَسْرَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: الْحَرَكَاتُ الثَّلَاثَةُ مَعَ السُّكُونِ إِنْ كَانَتْ إِعْرَابِيَّةً سُمِّيَتْ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ أَوِ الْخَفْضِ وَالْجَزْمِ، وَإِنْ كَانَتْ بِنَائِيَةً سُمِّيَتْ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ وَالْكَسْرِ وَالْوَقْفِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: ذَهَبَ قُطْرُبٌ إِلَى أَنَّ الْحَرَكَاتِ الْبِنَائِيَّةَ مِثْلُ الْإِعْرَابِيَّةِ، وَالْبَاقُونَ خَالَفُوهُ، وَهَذَا الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّمَاثُلِ إِنْ كَانَ هُوَ التَّمَاثُلَ فِي الْمَاهِيَّةِ فَالْحِسُّ يَشْهَدُ بِأَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ

الْمُرَادُ حُصُولَ التَّمَاثُلِ فِي كَوْنِهَا مُسْتَحَقَّةً بِحَسَبِ الْعَوَامِلِ الْمُخْتَلِفَةِ فَالْعَقْلُ يَشْهَدُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالضَّمَّةِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ضَمِّ شَفَتَيْهِ أَوَّلًا ثُمَّ رَفْعُهُمَا ثَانِيًا، وَمَنْ أَرَادَ التَّلَفُّظَ بِالْفَتْحَةِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَتْحِ الْفَمِ بِحَيْثُ تَنْتَصِبُ الشَّفَةُ الْعُلْيَا عِنْدَ ذَلِكَ الْفَتْحِ، وَمَنْ أَرَادَ التَّلَفُّظَ بِالْكَسْرَةِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَتْحِ الْفَمِ فَتْحًا قَوِيًّا وَالْفَتْحُ الْقَوِيُّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِانْجِرَارِ اللَّحْيِ الْأَسْفَلِ وَانْخِفَاضِهِ، فَلَا جَرَمَ يُسَمَّى ذَلِكَ جَرًّا وَخَفْضًا وَكَسْرًا لِأَنَّ انْجِرَارَ الْقُوَى يُوجِبُ الْكَسْرَ، وَأَمَّا الْجَزْمُ فَهُوَ الْقَطْعُ. وَأَمَّا إِنَّهُ لِمَ سُمِّيَ وَقْفًا وَسُكُونًا فَعِلَّتُهُ ظَاهِرَةٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: مِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْفَتْحَ وَالضَّمَّ وَالْكَسْرَ وَالْوَقْفَ أَسْمَاءٌ لِلْأَحْوَالِ الْبِنَائِيَّةِ، كَمَا أَنَّ الْأَرْبَعَةَ الثَّانِيَةَ أَسْمَاءٌ لِلْأَحْوَالِ الْإِعْرَابِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْبَعَةَ الْأُوَلَ: أَسْمَاءُ تِلْكَ الْأَحْوَالِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِنَائِيَةً أَوْ إِعْرَابِيَّةً، وَجَعَلَ الْأَرْبَعَةَ الثَّانِيَةَ أَسْمَاءٌ لِلْأَحْوَالِ الْإِعْرَابِيَّةِ، فَتَكُونُ الْأَرْبَعَةُ الْأُولَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَرْبَعَةِ الثَّانِيَةِ كَالْجِنْسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النوع. المسألة السابعة عشر: أَنْ سِيبَوَيْهِ يُسَمِّيهَا بِالْمَجَارِي، وَيَقُولُ: هِيَ ثَمَانِيَةٌ وَفِيهِ سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: لِمَ سَمَّى الْحَرَكَاتِ بِالْمَجَارِي فَإِنَّ الْحَرَكَةَ نَفْسَهَا الْجَرْيُ، وَالْمَجْرَى مَوْضِعُ الْجَرْيِ، فَالْحَرَكَةُ لَا تَكُونُ مَجْرًى؟ وَجَوَابُهُ أَنَّا بَيَّنَّا أن الذي يسمى هاهنا بِالْحَرَكَةِ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِحَرَكَةٍ إِنَّمَا هُوَ صَوْتٌ يُتَلَفَّظُ بِهِ بَعْدَ التَّلَفُّظِ بِالْحَرْفِ الْأَوَّلِ، فَالْمُتَكَلِّمُ لَمَّا انْتَقَلَ مِنَ الْحَرْفِ الصَّامِتِ إِلَى هَذَا الْحَرْفِ فَهَذَا الْحَرْفُ الْمُصَوَّتُ إِنَّمَا حَدَثَ لِجَرَيَانِ نَفَسِهِ وَامْتِدَادِهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ صَحَّتْ تَسْمِيَتُهُ بِالْمَجْرَى. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَالَ الْمَازِنِيُّ: غَلِطَ سِيبَوَيْهِ فِي تَسْمِيَتِهِ الْحَرَكَاتِ الْبِنَائِيَّةِ بِالْمَجَارِي لِأَنَّ الْجَرْيَ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَا يُوجَدُ تَارَةً وَيُعْدَمُ تَارَةً. وَالْمَبْنِيُّ لَا يَزُولُ عَنْ حَالِهِ، فَلَمْ يَجُزْ تَسْمِيَتُهُ بِالْمَجَارِي، بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: الْمَجَارِي أَرْبَعَةٌ وَهِيَ الْأَحْوَالُ الْإِعْرَابِيَّةُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَبْنِيَّاتِ قَدْ تُحَرَّكُ عِنْدَ الدَّرْجِ، وَلَا تُحَرَّكُ عِنْدَ الْوَقْفِ، فَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْأَحْوَالُ لَازِمَةً لَهَا مُطْلَقًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: الْإِعْرَابُ اخْتِلَافُ آخِرِ الْكَلِمَةِ بِاخْتِلَافِ الْعَوَامِلِ: بِحَرَكَةٍ أَوْ حَرْفٍ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا، أَمَّا الِاخْتِلَافُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَوْصُوفِيَّةِ آخِرِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ بِحَرَكَةٍ أَوْ سُكُونٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِغَيْرِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْمَوْصُوفِيَّةَ حَالَةٌ مَعْقُولَةٌ لَا مَحْسُوسَةٌ فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ النَّحْوِيُّ: الْإِعْرَابُ حَالَةٌ مَعْقُولَةٌ لَا مَحْسُوسَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: «بِاخْتِلَافِ الْعَوَامِلِ» فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي تَلْزَمُهُ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ أَبَدًا هُوَ الْمَبْنِيُّ، وَأَمَّا الَّذِي يَخْتَلِفُ آخِرُهُ فَقِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ مَعْنَاهُ قَابِلًا لِلْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ كَقَوْلِكَ: «أَخَذْتُ الْمَالَ مِنْ زَيْدٍ» فَتَكُونُ «مِنْ» سَاكِنَةً، ثُمَّ تَقُولُ: «أَخَذْتُ الْمَالَ مِنَ الرَّجُلِ» فَتَفْتَحُ النُّونَ، ثُمَّ تَقُولُ «أَخَذْتُ الْمَالَ مِنِ ابْنِكَ» فَتَكُونُ مَكْسُورَةً فَهَهُنَا اخْتَلَفَ آخِرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِإِعْرَابٍ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَلِمَةِ «مِنْ» لَا يَقْبَلُ الْأَحْوَالَ الْمُخْتَلِفَةَ فِي الْمَعْنَى، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي يَخْتَلِفُ آخِرُ الْكَلِمَةِ عِنْدَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ مَعْنَاهَا- فَذَلِكَ هُوَ الْإِعْرَابُ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: أَقْسَامُ الْإِعْرَابِ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: الْإِعْرَابُ بِالْحَرَكَةِ، وَهِيَ فِي أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: الِاسْمُ الَّذِي لَا يَكُونُ آخِرُهُ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الْعِلَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ أَوَّلُهُ أَوْ وَسَطُهُ مُعْتَلًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ، نَحْوَ رَجُلٍ، وَوَعْدٍ، وَثَوْبٍ، وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْكَلِمَةِ وَاوًا أَوْ يَاءً وَيَكُونُ مَا قَبْلَهُ سَاكِنًا، فَهَذَا كَالصَّحِيحِ فِي تَعَاقُبِ الْحَرَكَاتِ عَلَيْهِ، تَقُولُ: هَذَا ظَبْيٌ وَغَزْوٌ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْمُدْغَمُ فِيهِمَا كَقَوْلِكَ: كُرْسِيٌّ وَعَدُوٌّ لِأَنَّ الْمُدْغَمَ يَكُونُ

سَاكِنًا فَسُكُونُ الْيَاءِ مِنْ كُرْسِيٍّ وَالْوَاوِ مِنْ عَدُوٍّ كَسُكُونِ الْبَاءِ مِنْ ظَبْيٍ وَالزَّايِ مِنْ غَزْوٍ، وَثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ الْحَرَكَةُ/ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى الْحَرْفِ الْأَخِيرِ مِنَ الْكَلِمَةِ كَسْرَةً وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْحَرْفُ الْأَخِيرُ يَاءً، وَإِذَا كَانَ آخِرُ الْكَلِمَةِ يَاءً قَبْلَهَا كَسْرَةٌ كَانَ فِي الرَّفْعِ وَالْجَرِّ عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ السُّكُونُ، وَأَمَّا فِي النَّصْبِ فَإِنَّ الْيَاءَ تُحَرَّكُ بِالْفَتْحَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ [الْأَحْقَافِ: 31] الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْإِعْرَابِ: مَا يَكُونُ بِالْحَرْفِ، وَهُوَ فِي أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: فِي الْأَسْمَاءِ السِّتَّةِ مُضَافَةً، وَذَلِكَ جَاءَنِي أَبُوهُ وَأَخُوهُ وَحَمُوهُ وَهَنُوهُ وَفُوهُ وَذُو مَالٍ، وَرَأَيْتُ أَبَاهُ وَمَرَرْتُ بِأَبِيهِ، وَكَذَا فِي الْبَوَاقِي، وَثَانِيهَا: «كِلَا» مُضَافًا إِلَى مُضْمَرٍ، تَقُولُ: جَاءَنِي كِلَاهُمَا وَمَرَرْتُ بِكِلَيْهِمَا وَرَأَيْتُ كِلَيْهِمَا، وَثَالِثُهَا: التَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ، تَقُولُ: جَاءَنِي مُسْلِمَانِ وَمُسْلِمُونَ وَرَأَيْتُ مُسْلِمَيْنِ وَمُسْلِمِينَ وَمَرَرْتُ بِمُسْلِمَيْنِ وَمُسْلِمِينَ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْإِعْرَابُ التَّقْدِيرِيُّ، وَهُوَ فِي الْكَلِمَةِ الَّتِي يَكُونُ آخِرُهَا أَلِفًا وَتَكُونُ الْحَرَكَةُ الَّتِي قَبْلَهَا فَتْحَةً، فَإِعْرَابُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ تَقُولُ: هَذِهِ رَحًا وَرَأَيْتُ رحا ومررت برحا. أصول الإعراب: المسألة العشرون [أصول الإعراب] : أَصْلُ الْإِعْرَابِ أَنْ يَكُونَ بِالْحَرَكَةِ، لِأَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِعْرَابِ أَنْ يَجْعَلَ الْأَحْوَالَ الْعَارِضَةَ لِلَّفْظِ دَلَائِلَ عَلَى الْأَحْوَالِ الْعَارِضَةِ لِلْمَعْنَى، وَالْعَارِضُ لِلْحَرْفِ هُوَ الْحَرَكَةُ لَا الْحَرْفُ الثَّانِي، وَأَمَّا الصُّوَرُ الَّتِي جَاءَ إِعْرَابُهَا بِالْحُرُوفِ فَذَلِكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ مِنْ جِنْسِ تلك الحركات. أنواع الاسم المعرب: المسألة الحادية والعشرون [أنواع الاسم المعرب] : الِاسْمُ الْمُعْرَبُ، وَيُقَالُ لَهُ الْمُتَمَكِّنُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَسْتَوْفِي حَرَكَاتِ الْإِعْرَابِ وَالتَّنْوِينِ، وَهُوَ الْمُنْصَرِفُ وَالْأَمْكَنُ، وَالثَّانِي: مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ بَلْ يُحْذَفُ عَنْهُ الْجَرُّ وَالتَّنْوِينُ وَيُحَرَّكُ بِالْفَتْحِ فِي مَوْضِعِ الْجَرِّ إِلَّا إِذَا أُضِيفَ أَوْ دَخَلَهُ لَامُ التَّعْرِيفِ، وَيُسَمَّى غَيْرَ الْمُنْصَرِفِ، وَالْأَسْبَابُ الْمَانِعَةُ مِنَ الصَّرْفِ تِسْعَةٌ فَمَتَى حَصَلَ فِي الِاسْمِ اثْنَانِ مِنْهَا أَوْ تَكَرَّرَ سَبَبٌ وَاحِدٌ فِيهِ امْتَنَعَ مِنَ الصَّرْفِ، وَهِيَ: الْعَلَمِيَّةُ، وَالتَّأْنِيثُ اللَّازِمُ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَوَزْنُ الْفِعْلِ الْخَاصُّ بِهِ أَوِ الْغَالِبُ عَلَيْهِ، وَالْوَصْفِيَّةُ، وَالْعَدْلُ، وَالْجَمْعُ الَّذِي لَيْسَ عَلَى زِنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالتَّرْكِيبُ، وَالْعُجْمَةُ فِي الْأَعْلَامِ خاصة، والألف والنون المضارعتان لألفي التأنيث. سبب منع الصرف: المسألة الثانية والعشرون [سبب منع الصرف] : إِنَّمَا صَارَ اجْتِمَاعُ اثْنَيْنِ مِنْ هَذِهِ التِّسْعَةِ مَانِعًا مِنَ الصَّرْفِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا فَرْعٌ، وَالْفِعْلُ فَرْعٌ عَنِ الِاسْمِ، فَإِذَا حَصَلَ فِي الِاسْمِ سَبَبَانِ مِنْ هَذِهِ التِّسْعَةِ صَارَ ذَلِكَ الِاسْمُ شَبِيهًا بِالْفِعْلِ فِي الْفَرْعِيَّةِ، وَتِلْكَ الْمُشَابَهَةُ تَقْتَضِي مَنْعَ الصَّرْفِ، فَهَذِهِ مُقَدِّمَاتٌ أَرْبَعٌ: - الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: فِي بَيَانِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ التِّسْعَةِ فَرْعٌ، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْعَلَمِيَّةَ فَرْعٌ فَلِأَنَّ وَضْعَ الِاسْمِ لِلشَّيْءِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ مَعْلُومًا، وَالشَّيْءُ فِي الْأَصْلِ لَا يَكُونُ مَعْلُومًا ثُمَّ يَصِيرُ مَعْلُومًا وَأَمَّا أَنَّ التَّأْنِيثَ فَرْعٌ فَبَيَانُهُ تَارَةً بِحَسَبِ اللَّفْظِ وَأُخْرَى بِحَسَبِ الْمَعْنَى: أَمَّا بِحَسَبِ اللَّفْظِ فَلِأَنَّ كُلَّ لَفْظَةٍ وُضِعَتْ لِمَاهِيَّةٍ فَإِنَّهَا تَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ مِنْ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ بِلَا زِيَادَةٍ وَعَلَى الْأُنْثَى بِزِيَادَةِ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ، وَأَمَّا بِحَسَبِ الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الذَّكَرَ أَكْمَلُ مِنَ الْأُنْثَى، وَالْكَامِلُ مَقْصُودٌ بِالذَّاتِ، وَالنَّاقِصُ مَقْصُودٌ بِالْعَرَضِ، وَأَمَّا أَنَّ الْوَزْنَ الْخَاصَّ بِالْفِعْلِ أَوِ الْغَالِبَ عَلَيْهِ

فَرْعٌ فَلِأَنَّ وَزْنَ الْفِعْلِ فَرْعٌ لِلْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ فَرْعٌ لِلِاسْمِ، وَفَرْعُ الْفَرْعِ فَرْعٌ، وَأَمَّا أَنَّ الْوَصْفَ فَرْعٌ فَلِأَنَّ الْوَصْفَ فَرْعٌ عَنِ الْمَوْصُوفِ، وَأَمَّا أَنَّ الْعَدْلَ فَرْعٌ فَلِأَنَّ الْعُدُولَ عَنِ الشَّيْءِ إِلَى غَيْرِهِ مَسْبُوقٌ بِوُجُودِ ذَلِكَ الْأَصْلِ وَفَرْعٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا أَنَّ الْجَمْعَ الَّذِي لَيْسَ عَلَى زِنَتِهِ وَاحِدٌ فَرْعٌ فَلِأَنَّ ذَلِكَ الْوَزْنَ فَرْعٌ عَلَى وُجُودِ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِيهِ، وَالْجَمْعُ فَرْعٌ عَلَى الْوَاحِدِ لِأَنَّ الْكَثْرَةَ فَرْعٌ عَلَى الْوَحْدَةِ، وَفَرْعُ الْفَرْعِ فَرْعٌ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَظْهَرُ أَنَّ التَّرْكِيبَ فَرْعٌ، وَأَمَّا أَنَّ الْمُعْجَمَةَ فَرْعٌ فَلِأَنَّ تَكَلُّمَ كُلِّ طَائِفَةٍ بِلُغَةِ أَنْفُسِهِمْ أَصْلٌ وَبِلُغَةِ غَيْرِهِمْ فَرْعٌ، وَأَمَّا أَنَّ الْأَلِفَ وَالنُّونَ فِي سَكْرَانَ وَأَمْثَالِهِ يُفِيدَانِ الْفَرْعِيَّةَ فَلِأَنَّ الْأَلِفَ وَالنُّونَ زَائِدَانِ عَلَى جَوْهَرِ الْكَلِمَةِ، وَالزَّائِدُ فَرْعٌ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ التِّسْعَةَ تُوجِبُ الْفَرْعِيَّةَ. الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: فِي بَيَانِ أَنَّ الْفِعْلَ فَرْعٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْفِعْلَ عِبَارَةٌ عَنِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى وُقُوعِ الْمَصْدَرِ فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ فَرْعًا عَلَى الْمَصْدَرِ. الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ ثَبَتَ أَنَّ الِاسْمَ الْمَوْصُوفَ بِأَمْرَيْنِ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ التِّسْعَةِ يَكُونُ مُشَابِهًا لِلْفِعْلِ فِي الْفَرْعِيَّةِ وَمُخَالِفًا لَهُ فِي كَوْنِهِ اسْمًا فِي ذَاتِهِ، وَالْأَصْلُ فِي الْفِعْلِ عَدَمُ الْإِعْرَابِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ فِي مِثْلِ هَذَا الِاسْمِ أَثَرَانِ بِحَسَبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الِاعْتِبَارَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَطَرِيقُهُ أَنْ يَبْقَى إِعْرَابُهَا مِنْ أَكْثَرِ الْوُجُوهِ، وَيُمْنَعُ مِنْ إِعْرَابِهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، لِيَتَوَفَّرَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الِاعْتِبَارَيْنِ مَا يَلِيقُ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: إِنَّمَا ظَهَرَ هَذَا الْأَثَرُ فِي مَنْعِ التَّنْوِينِ وَالْجَرِّ لِأَجْلِ أَنَّ التَّنْوِينَ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ حال الِاسْمِ، فَإِذَا ضَعُفَ الِاسْمُ بِحَسَبِ حُصُولِ هَذِهِ الْفَرْعِيَّةِ أُزِيلَ عَنْهُ مَا دَلَّ عَلَى كَمَالِ حَالِهِ، وَأَمَّا الْجَرُّ فَلِأَنَّ الْفِعْلَ يَحْصُلُ فِيهِ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ، وَأَمَّا الْجَرُّ فَغَيْرُ حَاصِلٍ فِيهِ فَلَمَّا صَارَتِ الْأَسْمَاءُ مُشَابِهَةً لِلْفِعْلِ لَا جَرَمَ سُلِبَ عَنْهَا الْجَرُّ الَّذِي هُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْأَسْمَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: هَذِهِ الْأَسْمَاءُ بَعْدَ أَنْ سُلِبَ عَنْهَا الْجَرُّ إِمَّا أَنْ تُتْرَكَ سَاكِنَةً فِي/ حَالِ الْجَرِّ أَوْ تُحَرَّكَ، وَالتَّحْرِيكُ أَوْلَى، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ هَذِهِ الْحَرَكَةِ عَرَضِيٌّ لَا ذَاتِيٌّ، ثُمَّ النَّصْبُ أَوَّلُ الْحَرَكَاتِ لِأَنَّا رَأَيْنَا أَنَّ النَّصْبَ حُمِلَ عَلَى الْجَرِّ فِي التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ السَّالِمِ، فَلَزِمَ هُنَا حَمْلُ الْجَرِّ عَلَى النَّصْبِ تَحْقِيقًا لِلْمُعَارَضَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا دَخَلَ عَلَى مَا لَا يَنْصَرِفُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ أَوْ أُضِيفَ انْصَرَفَ كَقَوْلِهِ: مَرَرْتُ بِالْأَحْمَرِ، وَالْمَسَاجِدِ، وَعُمَرِكُمْ، ثُمَّ قِيلَ: السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْفِعْلَ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَالْإِضَافَةُ فَعِنْدَ دُخُولِهِمَا عَلَى الِاسْمِ خَرَجَ الِاسْمُ عَنْ مُشَابَهَةِ الْفِعْلِ، قَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ: هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ إِنَّمَا شَابَهَتِ الْأَفْعَالَ لِمَا حَصَلَ فِيهَا مِنَ الْوَصْفِيَّةِ وَوَزْنِ الْفِعْلِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي بَاقِيَةٌ عِنْدَ دُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ وَالْإِضَافَةِ فِيهَا فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ زَالَتِ الْمُشَابَهَةُ وَأَيْضًا فَحُرُوفُ الْجَرِّ وَالْفَاعِلِيَّةِ وَالْمَفْعُولِيَّةِ مِنْ خَوَاصِّ الْأَسْمَاءِ ثُمَّ إِنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ مَعَ أَنَّهَا تَبْقَى غَيْرَ مُنْصَرِفَةٍ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْإِضَافَةَ وَلَامَ التَّعْرِيفِ مِنْ خَوَاصِّ الْأَسْمَاءِ فَإِذَا حَصَلَتَا فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فَهِيَ وَإِنْ ضَعُفَتْ فِي الِاسْمِيَّةِ بِسَبَبِ كَوْنِهَا مُشَابِهَةً لِلْفِعْلِ إِلَّا أَنَّهَا قَوِيَتْ بِسَبَبِ حُصُولِ خَوَاصِّ الْأَسْمَاءِ فِيهَا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَصْلُ الِاسْمِيَّةِ يَقْتَضِي قَبُولَ الْإِعْرَابِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، إِلَّا أَنَّ الْمُشَابَهَةَ لِلْفِعْلِ صَارَتْ مُعَارِضَةً لِلْمُقْتَضَى، فَإِذَا صَارَ هَذَا الْمُعَارِضُ مُعَارَضًا بِشَيْءٍ آخَرَ ضَعُفَ الْمَعَارِضُ، فَعَادَ الْمُقْتَضَى عَامِلًا عَمَلَهُ، وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي فَجَوَابُهُ: أَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ وَالْإِضَافَةِ أَقْوَى مِنَ الْفَاعِلِيَّةِ وَالْمَفْعُولِيَّةِ لِأَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ وَالْإِضَافَةِ يُضَادَّانِ التَّنْوِينَ، وَالضِّدَّانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الْقُوَّةِ فَلَمَّا كَانَ التَّنْوِينُ دَلِيلًا على

كَمَالِ الْقُوَّةِ فَكَذَلِكَ الْإِضَافَةُ وَحَرْفُ التَّعْرِيفِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: لَوْ سَمَّيْتَ رَجُلًا بِأَحْمَرَ لَمْ تَصْرِفْهُ، بِالِاتِّفَاقِ، لِاجْتِمَاعِ الْعَلَمِيَّةِ وَوَزْنِ الْفِعْلِ، أَمَّا إِذَا نَكَّرْتَهُ فَقَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا أَصْرِفُهُ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَصْرِفُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ فِي تَقْرِيرِ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ عَلَى مَا يُحْكَى أَنَّ الْمَازِنِيَّ قَالَ: قُلْتُ لِلْأَخْفَشِ: كَيْفَ قُلْتَ مَرَرْتُ بِنِسْوَةٍ أَرْبَعٍ فَصَرَفْتَ مَعَ وُجُودِ الصِّفَةِ وَوَزْنِ الْفِعْلِ؟ قَالَ: لِأَنَّ أَصْلَهُ الِاسْمِيَّةُ فَقُلْتُ: فَكَذَا لَا تَصْرِفُ أَحْمَرَ اسْمَ رَجُلٍ إِذَا نَكَّرْتَهُ لِأَنَّ أَصْلَهُ الْوَصْفِيَّةُ، قَالَ الْمَازِنِيُّ: فَلَمْ يَأْتِ الْأَخْفَشُ بِمُقْنِعٍ، وَأَقُولُ: كَلَامُ الْمَازِنِيِّ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الصَّرْفَ ثَبَتَ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ فِي قَوْلِهِ: «مَرَرْتُ بِنِسْوَةٍ أَرْبَعٍ» لِأَنَّهُ يَكْفِي عَوْدُ الشَّيْءِ إِلَى حُكْمِ الْأَصْلِ أَدْنَى سَبَبٍ، بِخِلَافِ الْمَنْعِ مِنَ الصَّرْفِ، فَإِنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فَلَا يَكْفِي فِيهِ إِلَّا السَّبَبُ الْقَوِيُّ، وَأَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهَ أَنَّهُ حَصَلَ فِيهِ وَزْنُ الْفِعْلِ وَالْوَصْفِيَّةُ الْأَصْلِيَّةُ فَوَجَبَ كَوْنُهُ غَيْرَ/ مُنْصَرِفٍ، أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَهِيَ إِنَّمَا تَتِمُّ بِتَقْرِيرِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ: ثُبُوتُ وَزْنِ الْفِعْلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَالثَّانِي: الْوَصْفِيَّةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَلَمَ إِذَا نُكِّرَ صَارَ مَعْنَاهُ الشَّيْءَ الَّذِي يُسَمَّى بِذَلِكَ الِاسْمِ. فَإِذَا قِيلَ: «رُبَّ زَيْدٍ رَأَيْتُهُ» كَانَ مَعْنَاهُ رُبَّ شَخْصٍ مُسَمًّى بَاسْمِ زَيْدٍ رَأَيْتُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَوْنَ الشَّخْصِ مُسَمًّى بِذَلِكَ الِاسْمِ صِفَةٌ لَا ذَاتٌ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْوَصْفِيَّةَ أَصْلِيَّةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ لَفْظَ الْأَحْمَرِ حِينَ كَانَ وَصْفًا مَعْنَاهُ الِاتِّصَافُ بِالْحُمْرَةِ، فَإِذَا جُعِلَ عَلَمًا ثُمَّ نُكِّرَ كَانَ مَعْنَاهُ كَوْنَهُ مُسَمًّى بِهَذَا الِاسْمِ، وَكَوْنُهُ كَذَلِكَ صِفَةٌ إِضَافِيَّةٌ عَارِضَةٌ لَهُ، فَالْمَفْهُومَانِ اشْتَرَكَا فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صِفَةً إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ يُفِيدُ صِفَةً حَقِيقِيَّةً وَالثَّانِي يُفِيدُ صِفَةً إِضَافِيَّةً، وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا كَوْنُهُ صِفَةً، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أن حَصَلَ فِيهِ وَزْنُ الْفِعْلِ وَالْوَصْفِيَّةُ الْأَصْلِيَّةُ فَوَجَبَ كَوْنُهُ غَيْرَ مُنْصَرِفٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: يُشْكِلُ مَا ذَكَرْتُمْ بِالْعَلَمِ الَّذِي مَا كَانَ وَصْفًا فَإِنَّهُ عِنْدَ التَّنْكِيرِ يَنْصَرِفُ مَعَ أَنَّهُ عِنْدَ التَّنْكِيرِ يُفِيدُ الْوَصْفِيَّةَ بِالْبَيَانِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ. قُلْنَا إِنَّهُ وَإِنْ صَارَ عِنْدَ التَّنْكِيرِ وَصْفًا إِلَّا أَنَّ وَصْفِيَّتَهُ لَيْسَتْ أَصْلِيَّةً لِأَنَّهَا مَا كَانَتْ صِفَةً قَبْلَ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَحْمَرِ فَإِنَّهُ كَانَ صِفَةً قَبْلَ ذَلِكَ، وَالشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْحَالِ صِفَةً مَعَ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ صِفَةً كَانَ أَقْوَى فِي الْوَصْفِيَّةِ مِمَّا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ. وَاحْتَجَّ الْأَخْفَشُ بِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلصَّرْفِ قَائِمٌ وَهُوَ الِاسْمِيَّةُ، وَالْعَارِضُ الْمَوْجُودُ لَا يَصِحُّ مُعَارِضًا، لِأَنَّهُ عَلَمٌ مُنَكَّرٌ وَالْعَلَمُ الْمُنَكَّرُ مَوْصُوفٌ بِوَصْفِ كَوْنِهِ مُنَكَّرًا، وَالْمَوْصُوفُ بَاقٍ عِنْدِ وُجُودِ الصِّفَةِ، فَالْعَلَمِيَّةُ قَائِمَةٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالْعَلَمِيَّةُ تُنَافِي الْوَصْفِيَّةَ، فَقَدْ زَالَتِ الْوَصْفِيَّةُ فَلَمْ يَبْقَ سِوَى وَزْنِ الْفِعْلِ وَالسَّبَبُ الْوَاحِدُ لَا يَمْنَعُ مِنَ الصَّرْفِ، وَالْجَوَابُ: أَنَّا بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ الْعَلَمَ إِذَا جُعِلَ مُنَكَّرًا صَارَ وَصْفًا فِي الْحَقِيقَةِ فَسَقَطَ هَذَا الْكَلَامُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: السَّبَبُ الْوَاحِدُ لَا يَمْنَعُ الصَّرْفَ، خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ، حُجَّةُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلصَّرْفِ قَائِمٌ، وَهُوَ الِاسْمِيَّةُ، وَالسَّبَبَانِ أَقْوَى مِنَ الْوَاحِدِ فَعِنْدَ حُصُولِ السَّبَبِ الْوَاحِدِ وَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ. وَحَجَّةُ الْكُوفِيِّينَ قَوْلُهُمُ الْمُقَدَّمُ، وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا: - وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي مَجْمَعِ وَجَوَابُهُ أَنَّ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ فِي هَذَا الْبَيْتِ: يَفُوقَانِ شَيْخِي فِي مَجْمَعِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: مَا لَا يَنْصَرِفُ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْجَرِّ مَفْتُوحًا/ وَاعْتَرَضُوا عَلَيْهِ بِأَنَّ الْفَتْحَ مِنْ بَابِ الْبِنَاءِ، وَمَا لَا يَنْصَرِفُ غَيْرُ مَبْنِيٍّ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْفَتْحَ اسْمٌ لِذَاتِ الْحَرَكَةِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ أَنَّهَا إِعْرَابِيَّةٌ أَوْ بِنَائِيَةٌ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: إِعْرَابُ الْأَسْمَاءِ ثَلَاثَةٌ: الرَّفْعُ، وَالنَّصْبُ، وَالْجَرُّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَامَةٌ عَلَى مَعْنًى، فَالرَّفْعُ عَلَمُ الْفَاعِلِيَّةِ، وَالنَّصْبُ عَلَمُ الْمَفْعُولِيَّةِ، وَالْجَرُّ عَلَمُ الْإِضَافَةِ وَأَمَّا التوابع فإنها في حركاتها مساوية للمتبوعات. سر ارتفاع الفاعل وانتصاب المفعول: المسألة الثلاثون [سر ارتفاع الفاعل وانتصاب المفعول] : السَّبَبُ فِي كَوْنِ الْفَاعِلِ مَرْفُوعًا وَالْمَفْعُولِ مَنْصُوبًا وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ مَجْرُورًا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفَاعِلَ وَاحِدٌ، وَالْمَفْعُولَ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ، لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَإِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَإِلَى ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ يَتَعَدَّى أَيْضًا إِلَى الْمَفْعُولِ لَهُ، وَإِلَى الظَّرْفَيْنِ، وَإِلَى الْمَصْدَرِ وَالْحَالِ، فَلَمَّا كَثُرَتِ الْمَفَاعِيلُ اخْتِيرَ لَهَا أَخَفُّ الْحَرَكَاتِ وَهُوَ النَّصْبُ، وَلَمَّا قَلَّ الْفَاعِلُ اخْتِيرَ لَهُ أَثْقَلُ الْحَرَكَاتِ وَهُوَ الرَّفْعُ، حَتَّى تَقَعَ الزِّيَادَةُ فِي الْعَدَدِ مُقَابِلَةً لِلزِّيَادَةِ فِي الْمِقْدَارِ فَيَحْصُلُ الِاعْتِدَالُ. الثَّانِي: أَنَّ مَرَاتِبَ الْمَوْجُودَاتِ ثَلَاثَةٌ: مُؤَثِّرٌ لَا يَتَأَثَّرُ وَهُوَ الْأَقْوَى، وَهُوَ دَرَجَةُ الْفَاعِلِ وَمُتَأَثِّرٌ لَا يُؤَثِّرُ وَهُوَ الْأَضْعَفُ، وَهُوَ دَرَجَةُ الْمَفْعُولِ، وَثَالِثٌ يُؤَثِّرُ بِاعْتِبَارٍ وَيَتَأَثَّرُ بِاعْتِبَارٍ وَهُوَ الْمُتَوَسِّطُ، وَهُوَ دَرَجَةُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالْحَرَكَاتُ أَيْضًا ثَلَاثَةٌ: أَقْوَاهَا الضَّمَّةُ وَأَضْعَفُهَا الْفَتْحَةُ وَأَوْسَطُهَا الْكَسْرَةُ، فَأَلْحَقُوا كُلَّ نَوْعٍ بِشَبِيهِهِ، فَجَعَلُوا الرَّفْعَ الَّذِي هُوَ أَقْوَى الْحَرَكَاتِ لِلْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى الْأَقْسَامِ، وَالْفَتْحَ الَّذِي هُوَ أَضْعَفُ الْحَرَكَاتِ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ أَضْعَفُ الْأَقْسَامِ وَالْجَرَّ الَّذِي هُوَ الْمُتَوَسِّطُ لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ الَّذِي هُوَ الْمُتَوَسِّطُ مِنَ الْأَقْسَامِ. الثَّالِثُ: الْفَاعِلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْعُولِ: لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الْفَاعِلِ، وَقَدْ يَسْتَغْنِي عَنِ الْمَفْعُولِ، فَالتَّلَفُّظُ بِالْفَاعِلِ يُوجَدُ وَالنَّفَسُ قَوِيَّةٌ، فَلَا جَرَمَ أَعْطَوْهُ أَثْقَلَ الْحَرَكَاتِ عِنْدَ قُوَّةِ النَّفَسِ، وَجَعَلُوا أَخَفَّ الْحَرَكَاتِ لِمَا يُتَلَفَّظُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. أنواع المرفوعات وأصلها: المسألة الحادية والثلاثون [أنواع المرفوعات وأصلها] : الْمَرْفُوعَاتُ سَبْعَةٌ: الْفَاعِلُ، وَالْمُبْتَدَأُ، وَخَبَرُهُ، وَاسْمُ كَانَ، وَاسْمُ مَا وَلَا الْمُشَبَّهَتَيْنِ بِلَيْسَ، وَخَبَرُ إِنَّ، وَخَبَرُ لَا النَّافِيَةِ لِلْجِنْسِ، ثُمَّ قَالَ الْخَلِيلُ الْأَصْلُ فِي الرَّفْعِ الْفَاعِلُ، وَالْبَوَاقِي مُشَبَّهَةٌ بِهِ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: الْأَصْلُ هُوَ الْمُبْتَدَأُ، وَالْبَوَاقِي مُشَبَّهَةٌ بِهِ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ بِنَفْسِهِ، وَاحْتَجَّ الْخَلِيلُ بِأَنَّ جَعْلَ الرَّفْعِ إِعْرَابًا لِلْفَاعِلِ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ إِعْرَابًا لِلْمُبْتَدَأِ، وَالْأَوْلَوِيَّةُ تَقْتَضِي الْأَوَّلِيَّةَ: بَيَانُ الْأَوَّلِ: أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: «ضَرَبَ زَيْدْ بَكْرْ» بِإِسْكَانِ الْمُهْمَلَتَيْنِ لَمْ يُعَرَفْ أَنَّ الضَّارِبَ مَنْ هُوَ وَالْمَضْرُوبَ مَنْ هُوَ أَمَّا إِذَا قُلْتَ: «زَيْدْ/ قَائِمْ» بِإِسْكَانِهِمَا عَرَفْتَ مِنْ نَفْسِ اللَّفْظَتَيْنِ أَنَّ الْمُبْتَدَأَ أَيُّهُمَا وَالْخَبَرَ أَيُّهُمَا، فَثَبَتَ أَنَّ افْتِقَارَ الْفَاعِلِ إِلَى الْإِعْرَابِ أَشَدُّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ هُوَ. وَبَيَانُ الثَّانِي أَنَّ الرَّفْعِيَّةَ حَالَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، فَلَا يَكُونُ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى خُصُوصِ كَوْنِهِ مُبْتَدَأً وَلَا عَلَى خُصُوصِ كَوْنِهِ خَبَرًا، أَمَّا لَا شَكَّ أَنَّهُ فِي الْفَاعِلِ يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ كَوْنِهِ فَاعِلًا، فَثَبَتَ أَنَّ الرَّفْعَ حَقُّ الْفَاعِلِ، إِلَّا أَنَّ الْمُبْتَدَأَ لَمَّا أَشْبَهَ الْفَاعِلَ فِي كَوْنِهِ مُسْنَدًا إِلَيْهِ

جُعِلَ مَرْفُوعًا رِعَايَةً لِحَقِّ هَذِهِ الْمُشَابَهَةِ، وَحُجَّةُ سِيبَوَيْهِ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْجُمَلِ الْفِعْلِيَّةِ، فَإِعْرَابُ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى إِعْرَابِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْفِعْلَ أَصْلٌ فِي الْإِسْنَادِ إِلَى الْغَيْرِ فَكَانَتِ الْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ مُقَدَّمَةً. وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ هذا الكلام دليلا للخليل. أنواع المفاعيل: المسألة الثانية والثلاثون [أنواع المفاعيل] : الْمَفَاعِيلُ خَمْسَةٌ، لِأَنَّ الْفَاعِلَ لَا بُدَّ لَهُ مَنْ فِعْلٍ وَهُوَ الْمَصْدَرُ، وَلَا بُدَّ لِذَلِكَ الْفِعْلِ مِنْ زَمَانٍ، وَلِذَلِكَ الْفَاعِلِ مَنْ عَرَضٍ، ثُمَّ قَدْ يَقَعُ ذَلِكَ الْفِعْلُ فِي شَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ الْمَفْعُولُ بِهِ، وَفِي مَكَانٍ، وَمَعَ شَيْءٍ آخَرَ، فَهَذَا ضَبْطُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَفَاعِيلِ. وَفِيهِ مَبَاحِثُ عَقْلِيَّةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَصْدَرَ قَدْ يَكُونُ هُوَ نَفْسَ الْمَفْعُولِ بِهِ كَقَوْلِنَا: «خَلَقَ اللَّهُ الْعَالَمَ» فَإِنَّ خَلْقَ الْعَالَمِ لَوْ كَانَ مُغَايِرًا لِلْعَالَمِ لَكَانَ ذَلِكَ الْمُغَايِرُ لَهُ إِنْ كَانَ قَدِيمًا لَزِمَ مِنْ قِدَمَهِ قِدَمُ الْعَالَمِ وَذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَهُ مَخْلُوقًا وَإِنْ كَانَ حَادِثًا افْتَقَرَ خَلْقُهُ إِلَى خَلْقٍ آخَرَ وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَثَانِيهَا: أَنَّ فِعْلَ اللَّهِ يَسْتَغْنِي عَنِ الزَّمَانِ، لِأَنَّهُ لَوِ افْتَقَرَ إِلَى زَمَانٍ وَجَبَ أَنْ يَفْتَقِرَ حُدُوثُ ذَلِكَ الزَّمَانِ إِلَى زَمَانٍ آخَرَ وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ فِعْلَ اللَّهِ يَسْتَغْنِي عَنِ الْعَرَضِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَرَضَ إِنْ كَانَ قَدِيمًا لَزِمَ قِدَمُ الْفِعْلِ وَإِنْ كَانَ حادثا لزم التسلسل، وهو محال. عامل النصب في المفاعيل: المسألة الثالثة والثلاثون [عامل النصب في المفاعيل] : اخْتَلَفُوا فِي الْعَامِلِ فِي نَصْبِ الْمَفْعُولِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ- أَنَّ الْفِعْلَ وَحْدَهُ يَقْتَضِي رَفْعَ الْفَاعِلِ وَنَصْبَ الْمَفْعُولِ: وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ- أَنَّ مَجْمُوعَ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ يَقْتَضِي نَصْبَ الْمَفْعُولِ، وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ هِشَامِ بْنِ مُعَاوِيَةَ مِنَ الْكُوفِيِّينَ- أَنَّ الْعَامِلَ هُوَ الْفَاعِلُ فَقَطْ، وَالرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ خَلَفٍ الْأَحْمَرِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ- أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْفَاعِلِ معنى الْفَاعِلِيَّةُ، وَفِي الْمَفْعُولِ مَعْنَى الْمَفْعُولِيَّةِ. حُجَّةُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْعَامِلَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْمَعْمُولِ، وَأَحَدُ الِاسْمَيْنِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْآخَرِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ فِيهِ عَمَلٌ أَلْبَتَّةَ، وَإِذَا سَقَطَ لَمْ يَبْقَ الْعَمَلُ إِلَّا لِلْفِعْلِ. حُجَّةُ الْمُخَالِفِ أَنَّ الْعَامِلَ الْوَاحِدَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ أَثَرَانِ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ/ إِلَّا أَثَرٌ وَاحِدٌ. قُلْنَا: ذَاكَ فِي الْمُوجَبَاتِ، أَمَّا فِي الْمُعَرَّفَاتِ فَمَمْنُوعٌ. وَاحْتَجَّ خَلَفٌ بِأَنَّ الْفَاعِلِيَّةَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْفَاعِلِ، وَالْمَفْعُولِيَّةَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْمَفْعُولِ، وَلَفْظُ الْفِعْلِ مُبَايِنٌ لَهُمَا، وَتَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِمَا يَكُونُ حَاصِلًا فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ أَوْلَى مِنْ تَعْلِيلِهِ بِمَا يَكُونُ مُبَايِنًا لَهُ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِوَجْهٍ آخَرَ: وَهُوَ أَنَّ الْفِعْلَ أَمْرٌ ظَاهِرٌ، وَصِفَةُ الْفَاعِلِيَّةِ وَالْمَفْعُولِيَّةِ أَمْرٌ خَفِيٌّ، وَتَعْلِيلُ الْحُكْمِ الظَّاهِرِ بِالْمَعْنَى الظَّاهِرِ أَوْلَى مِنْ تَعْلِيلِهِ بِالصِّفَةِ الْخَفِيَّةِ وَاللَّهُ أعلم.

الباب السابع في إعراب الفعل

الباب السابع في إعراب الفعل إِعْرَابِ الْفِعْلِ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: (أَعُوذُ) يَقْتَضِي إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى الْفَاعِلِ، فَوَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَبْحَثَ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِذَا قُلْنَا فِي النَّحْوِ فِعْلٌ وَفَاعِلٌ، فَلَا نُرِيدُ بِهِ مَا يَذْكُرُهُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ لِأَنَّا نَقُولُ: «مَاتَ زَيْدٌ» وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْ، وَنَقُولُ مِنْ طَرِيقِ النَّحْوِ: مَاتَ فِعْلٌ، وَزَيْدٌ فَاعِلُهُ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْفِعْلَ لَفْظَةٌ مُفْرَدَةٌ دَالَّةٌ عَلَى حُصُولِ الْمَصْدَرِ لِشَيْءٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فِي زَمَانٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَإِذَا صَرَّحْنَا بِذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي حَصَلَ الْمَصْدَرُ لَهُ فَذَاكَ هُوَ الْفَاعِلُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَنَا حَصَلَ الْمَصْدَرُ لَهُ أَعَمُّ مِنْ قولنا حصل بإيجاده واختياره كقولنا قام، أولا بِاخْتِيَارِهِ كَقَوْلِنَا مَاتَ، فَإِنْ قَالُوا: الْفِعْلُ كَمَا يَحْصُلُ فِي الْفَاعِلِ فَقَدْ يَحْصُلُ فِي الْمَفْعُولِ، قُلْنَا: إِنَّ صِيغَةَ الْفِعْلِ مِنْ حَيْثُ هِيَ تَقْتَضِي حُصُولَ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ لِشَيْءٍ مَا هُوَ الْفَاعِلُ، وَلَا تَقْتَضِي حُصُولَهُ لِلْمَفْعُولِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الأفعال اللازمة غنية عن المفعول. وجوب تقديم الفعل: المسألة الثانية [وجوب تقديم الفعل] : الْفِعْلُ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْفَاعِلِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ- إِثْبَاتًا كَانَ أَوْ نَفْيًا يَقْتَضِي أَمْرًا مَا يَكُونُ هُوَ مُسْنَدًا إِلَيْهِ، فَحُصُولُ مَاهِيَّةِ الْفِعْلِ فِي الذِّهْنِ يَسْتَلْزِمُ حُصُولَ شَيْءٍ يُسْنِدُ الذِّهْنُ ذَلِكَ الْفِعْلَ إِلَيْهِ، وَالْمُنْتَقَلُ إِلَيْهِ مُتَأَخِّرٌ بِالرُّتْبَةِ عَنِ الْمُنْتَقَلِ عَنْهُ، فَلَمَّا وَجَبَ كَوْنُ الْفِعْلِ مُقَدَّمًا عَلَى الْفَاعِلِ فِي الذِّهْنِ وَجَبَ تَقَدُّمُهُ عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ، فَإِنْ قَالُوا: لَا نَجِدُ فِي الْعَقْلِ فَرْقًا بَيْنَ قَوْلِنَا: «ضَرَبَ زَيْدٌ» وَبَيْنَ قَوْلِنَا: «زَيْدٌ ضَرَبَ» قُلْنَا: الْفَرْقُ ظَاهِرٌ، لِأَنَّا إِذَا قُلْنَا زَيْدٌ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ وُقُوفِ الذِّهْنِ عَلَى مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ أَنْ يَحْكُمَ بِإِسْنَادِ مَعْنًى آخَرَ إِلَيْهِ، أَمَّا إِذَا فَهِمْنَا مَعْنَى لَفْظِ ضَرَبَ لَزِمَ مِنْهُ حُكْمُ الذِّهْنِ بِإِسْنَادِ هَذَا الْمَفْهُومِ إِلَى شَيْءٍ مَا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا قُلْنَا: «ضَرَبَ زَيْدٌ» / فَقَدْ حَكَمَ الذِّهْنُ بِإِسْنَادِ مَفْهُومِ ضَرَبَ إِلَى شَيْءٍ، ثُمَّ يَحْكُمُ الذِّهْنُ بِأَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ هُوَ زَيْدٌ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَحِينَئِذٍ قَدْ أَخْبَرَ عَنْ زَيْدٍ بِأَنَّهُ هُوَ ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي أَسْنَدَ الذِّهْنُ مَفْهُومَ ضَرَبَ إِلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ قَوْلُنَا: زَيْدٌ مُخْبَرًا عَنْهُ وَقَوْلُنَا ضَرَبَ جُمْلَةً مِنْ فِعْلٍ وَفَاعِلٍ وَقَعَتْ خَبَرًا عن ذلك المبتدأ. ارتباط الفعل بالفاعل: المسألة الثالثة [ارتباط الفعل بالفاعل] : قَالُوا: الْفَاعِلُ كَالْجُزْءِ مِنَ الْفِعْلِ، وَالْمَفْعُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَفِي تَقْرِيرِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَالُوا ضَرَبْتُ فَأَسْكَنُوا لَامَ الْفِعْلِ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ أَرْبَعُ مُتَحَرِّكَاتٍ، وَهُمْ يَحْتَرِزُونَ عَنْ تَوَالِيهَا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا بَقَرَةٌ فَإِنَّمَا احْتَمَلُوا ذَلِكَ فِيهَا لِأَنَّ التَّاءَ زَائِدَةٌ، وَاحْتَمَلُوا ذَلِكَ فِي الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِمْ ضَرَبَكَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْفَاعِلَ جُزْءٌ مِنَ الْفِعْلِ، وَأَنَّ الْمَفْعُولَ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ، الثَّانِي: أَنَّكَ تَقُولُ: الزَّيْدَانِ قَامَا أَظْهَرْتَ الضَّمِيرَ لِلْفَاعِلِ، وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ زَيْدٌ ضرب وجب أن يكون الفعل مسند إِلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ طَرْدًا لِلْبَابِ، وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْوَجْهُ الْعَقْلِيُّ- أَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِكَ ضَرَبَ هُوَ أَنَّهُ حَصَلَ الضَّرْبُ لِشَيْءٍ مَا فِي زَمَانٍ مَضَى، فَذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي حَصَلَ لَهُ الضَّرْبُ جُزْءٌ مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِكَ ضَرَبَ، فَثَبَتَ أَنَّ الفاعل جزء من الفعل.

الإضمار قبل الذكر: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْإِضْمَارُ قَبْلَ الذِّكْرِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحُدُهَا: أَنْ يَحْصُلَ صُورَةً وَمَعْنًى، كَقَوْلِكَ ضَرَبَ غُلَامُهُ زَيْدًا وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّكَ رَفَعْتَ غُلَامَهُ بِضَرَبَ فَكَانَ وَاقِعًا مَوْقِعَهُ وَالشَّيْءُ إِذَا وَقَعَ مَوْقِعَهُ لَمْ تَجُزْ إِزَالَتُهُ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْهَاءُ فِي قَوْلِكَ غُلَامُهُ ضَمِيرًا قَبْلَ الذِّكْرِ، وَأَمَّا قَوْلُ النَّابِغَةِ: - جَزَى رَبُّهُ عَنِّي عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ ... جَزَاءَ الْكِلَابِ الْعَاوِيَاتِ وَقَدْ فَعَلْ فَجَوَابُهُ: أَنَّ الْهَاءَ عَائِدَةٌ إِلَى مَذْكُورٍ مُتَقَدِّمٍ، وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: وَأَنَا أُجِيزُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ رَبُّهُ عَائِدَةً عَلَى عَدِيٍّ خِلَافًا لِلْجَمَاعَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا غَيْرَ مُلَخَّصٍ، وَأَقُولُ: الْأَوْلَى فِي تَقْرِيرِهِ أَنْ يُقَالَ: الْفِعْلُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِعْلٌ كَانَ غَنِيًّا عَنِ الْمَفْعُولِ لَكِنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الْمَفْعُولِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ الْمُؤَثِّرُ، وَالْمَفْعُولَ هُوَ الْقَابِلُ، وَالْفِعْلُ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِمَا وَلَا تَقَدُّمَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْفَاعِلَ مُؤَثِّرٌ، وَالْمُؤَثِّرُ أَشْرَفُ مِنَ الْقَابِلِ، فَالْفَاعِلُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْمُؤَثِّرِ وَإِلَى الْقَابِلِ مَعًا وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَكَمَا جَازَ تَقْدِيمُ الْفَاعِلِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَجَبَ أَيْضًا جَوَازُ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفَاعِلِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْمَفْعُولُ عَلَى الْفَاعِلِ فِي الصُّورَةِ لَا فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ كَقَوْلِكَ ضَرَبَ غُلَامَهُ زَيْدٌ: فَغُلَامُهُ مَفْعُولٌ، وَزَيْدٌ فَاعِلٌ، وَمَرْتَبَةُ، الْمَفْعُولِ بَعْدَ مَرْتَبَةِ الْفَاعِلِ، إِلَّا أَنَّهُ وَإِنْ تَقَدَّمَ فِي اللَّفْظِ لَكِنَّهُ مُتَأَخِّرٌ فِي الْمَعْنَى. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَقَعَ فِي الْمَعْنَى لَا فِي الصُّورَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ [الْبَقَرَةِ: 124] فَهَهُنَا الْإِضْمَارُ قَبْلَ الذِّكْرِ غَيْرُ حَاصِلٍ فِي الصُّورَةِ، لَكِنَّهُ حَاصِلٌ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْفَاعِلَ مُقَدَّمٌ فِي الْمَعْنَى، وَمَتَى صَرَّحَ بِتَقْدِيمِهِ لَزِمَ الْإِضْمَارُ قَبْلَ الذكر. إظهار الفاعل وإضماره: المسألة الخامسة [إظهار الفاعل وإضماره] : الْفَاعِلُ قَدْ يَكُونُ مُظْهَرًا كَقَوْلِكَ ضَرَبَ زَيْدٌ، وَقَدْ يَكُونُ مُضْمَرًا بَارِزًا كَقَوْلِكَ ضَرَبْتُ وَضَرَبْنَا، وَمُضْمَرًا مُسْتَكِنًّا كَقَوْلِكَ زَيْدٌ ضَرَبَ، فَتَنْوِي فِي ضَرَبَ فَاعِلًا وَتَجْعَلُ الْجُمْلَةَ خَبَرًا عَنْ زَيْدٍ، وَمِنْ إِضْمَارِ الْفَاعِلِ قَوْلُكَ إِذَا كَانَ غَدًا فَأْتِنِي، أَيْ: إِذَا كَانَ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ غدا. قد يحذف الفعل: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْفِعْلُ قَدْ يَكُونُ مُضْمَرًا، يُقَالُ: مَنْ فَعَلَ؟ فَتَقُولُ: زَيْدٌ، وَالتَّقْدِيرُ فَعَلَ زَيْدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 6] والتقدير وإن استجارك أحد من المشركين. التنازع في العمل: المسألة السابعة [التنازع في العمل] : إِذَا جَاءَ فِعْلَانِ مَعْطُوفًا أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَجَاءَ بَعْدَهُمَا اسْمٌ صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لَهُمَا فَهَذَا عَلَى قِسْمَيْنِ، لِأَنَّ الْفِعْلَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَقْتَضِيَا عَمَلَيْنِ مُتَشَابِهَيْنِ، أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ

الِاسْمُ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُمَا وَاحِدًا، أَوْ أَكْثَرَ فَهَذِهِ أَقْسَامٌ أَرْبَعَةٌ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُذْكَرَ فِعْلَانِ يَقْتَضِيَانِ عَمَلًا وَاحِدًا، وَيَكُونُ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُمَا اسْمًا وَاحِدًا، كَقَوْلِكَ: قَامَ وَقَعَدَ زَيْدٌ، فَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا عَامِلَانِ فِي زَيْدٍ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الواحد بعلتين، والأقرب راجح بسبب القرب، فوجب إحالة الحكم عليه، وأجاب الفراء بأن تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ مُمْتَنِعٌ فِي الْمُؤَثِّرَاتِ، أَمَّا فِي الْمُعَرِّفَاتِ فَجَائِزٌ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُعَرِّفَ يُوجِبُ الْمَعْرِفَةَ، فَيَعُودُ الْأَمْرُ إِلَى اجْتِمَاعِ الْمُؤَثِّرَيْنِ فِي الْأَثَرِ الْوَاحِدِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: إِذَا كَانَ الِاسْمُ غَيْرَ مُفْرَدٍ، وَهُوَ كَقَوْلِكَ، قَامَ وَقَعَدَ أَخَوَاكَ، فَهَهُنَا إِمَّا أَنْ تَرْفَعَهُ بِالْفِعْلِ الْأَوَّلِ، أَوْ بِالْفِعْلِ الثَّانِي، فَإِنْ رَفَعْتَهُ بِالْأَوَّلِ قُلْتَ: قَامَ وَقَعَدَا أَخَوَاكَ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ قَامَ أَخَوَاكَ وَقَعَدَا، أَمَّا إِذَا أَعْمَلْتَ الثَّانِيَ جَعَلْتَ فِي الْفِعْلِ الْأَوَّلِ ضَمِيرَ الْفَاعِلِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ لا يخلوا مِنْ فَاعِلٍ مُضْمَرٍ أَوْ مُظْهَرٍ، تَقُولُ: قَامَا وَقَعَدَ أَخَوَاكَ، وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ إِعْمَالُ الثَّانِي أَوْلَى، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ إِعْمَالُ الْأَوَّلِ أَوْلَى، حُجَّةُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ إِعْمَالَهُمَا مَعًا مُمْتَنِعٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ/ إِعْمَالِ أَحَدِهِمَا، وَالْقُرْبُ مُرَجِّحٌ، فَإِعْمَالُ الْأَقْرَبِ أَوْلَى، وحجة الكوفيين أنا إِذَا أَعْمَلْنَا الْأَقْرَبَ وَجَبَ إِسْنَادُ الْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمِ إِلَى الضَّمِيرِ، وَيَلْزَمُ حُصُولُ الْإِضْمَارِ قَبْلَ الذِّكْرِ، وَذَلِكَ أَوْلَى بِوُجُوبِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا إِذَا اقْتَضَى الْفِعْلَانِ تَأْثِيرَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ، وَكَانَ الِاسْمُ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُمَا مُفْرَدًا، فَيَقُولُ الْبَصْرِيُّونَ إِنَّ إِعْمَالَ الْأَقْرَبِ أَوْلَى، خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ، حُجَّةُ الْبَصْرِيِّينَ وُجُوهٌ، الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً [الكهف: 96] فحصل هاهنا فِعْلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْتَضِي مَفْعُولًا: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّاصِبُ لِقَوْلِهِ قِطْرًا هُوَ قَوْلُهُ آتُونِي أَوْ أُفْرِغْ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَإِلَّا صَارَ التَّقْدِيرُ آتُونِي قِطْرًا، وَحِينَئِذٍ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ أُفْرِغْهُ عَلَيْهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ علمنا أن الناصب لقوله قِطْرًا هُوَ قَوْلُهُ أُفْرِغْ، الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الْحَاقَّةِ: 19] فَلَوْ كَانَ الْعَامِلُ هُوَ الْأَبْعَدَ لَقِيلَ هَاؤُمُ اقْرَءُوهُ، وَأَجَابَ الْكُوفِيُّونَ عَنْ هَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ بِأَنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى جَوَازِ إِعْمَالِ الْأَقْرَبِ، وَذَلِكَ لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّا نُجَوِّزُ إِعْمَالَ الْأَبْعَدِ، وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونَهُ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: لِلْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ يُقَالُ: مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ، فَالْفِعْلُ رَافِعٌ، وَالْحَرْفُ جَارٌّ، ثُمَّ يُرَجَّحُ الْجَارُّ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَقْرَبُ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ إِهْمَالَهُمَا وَإِعْمَالَهُمَا لَا يَجُوزُ، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّرْجِيحِ، وَالْقُرْبُ مُرَجَّحٌ، فَإِعْمَالُ الْأَقْرَبِ أَوْلَى. وَاحْتَجَّ الْكُوفِيُّونَ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْمَ الْمَذْكُورَ بَعْدَ الْفِعْلَيْنِ إِذَا كَانَ مُثَنًّى أَوْ مَجْمُوعًا فَإِعْمَالُ الثَّانِي يُوجِبُ فِي الْأَوَّلِ الإِضمار قَبْلَ الذِّكْرِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِإِعْمَالِ الْأَوَّلِ هُنَاكَ، فَإِذَا كَانَ الِاسْمُ مُفْرَدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ طَرْدًا لِلْبَابِ. الثَّانِي: أَنَّ الْفِعْلَ الْأَوَّلَ وَجَدَ مَعْمُولًا خَالِيًا عَنِ الْعَائِقِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَفْعُولٍ، وَالْفِعْلُ الثَّانِي وَجَدَ الْمَعْمُولَ بَعْدَ أَنْ عَمِلَ الْأَوَّلُ فِيهِ، وَعَمَلُ الْأَوَّلِ فِيهِ عَائِقٌ عَنْ عَمَلِ الثَّانِي فِيهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِعْمَالَ الْخَالِي عَنِ الْعَائِقِ أَوْلَى مِنْ إِعْمَالِ الْعَامِلِ الْمَقْرُونِ بِالْعَائِقِ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: إِذَا كَانَ الِاسْمُ الْمَذْكُورُ بَعْدَ الْفِعْلَيْنِ مُثَنًّى أَوْ مَجْمُوعًا فَإِنْ أَعْمَلْتَ الْفِعْلَ الثَّانِيَ قُلْتَ ضَرَبْتُ وَضَرَبَنِي الزَّيْدَانِ وَضَرَبْتُ وَضَرَبَنِي الزَّيْدُونَ، وَإِنْ أَعْمَلْتَ الْأَوَّلَ قُلْتَ ضَرَبْتُ وَضَرَبَانِي الزَّيْدَيْنِ وَضَرَبْتُ وَضَرَبُونِي الزَّيْدِينَ.

القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في المباحث النقلية والعقلية، وفيه أبواب: -.

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: - فَلَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ ... كَفَانِي وَلَمْ أَطْلُبْ قليل مِنَ الْمَالِ وَلَكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ ... وَقَدْ يُدْرِكُ الْمَجْدَ الْمُؤَثَّلَ أَمْثَالِي فَقَوْلُهُ كَفَانِي وَلَمْ أَطْلُبْ لَيْسَا مُتَوَجِّهَيْنِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ كَفَانِي مُوَجَّهٌ إِلَى قَلِيلٍ مِنَ الْمَالِ، وَقَوْلُهُ وَلَمْ أَطْلُبْ غَيْرُ مُوَجَّهٍ إِلَى قَلِيلٍ مِنَ الْمَالِ، وَإِلَّا لَصَارَ التَّقْدِيرُ فَلَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ لَمْ أَطْلُبْ قَلِيلًا مِنَ الْمَالِ، وَكَلِمَةُ لَوْ تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ مَا سَعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ طَلَبَ قَلِيلًا مِنَ الْمَالِ، وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَعْنَى وَلَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ كَفَانِي قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ وَلَمْ أَطْلُبِ الْمُلْكَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْفِعْلَانِ غَيْرُ مُوَجَّهَيْنِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَلْنَكْتَفِ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ قَبْلَ الْخَوْضِ فِي التَّفْسِيرِ. الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى تَفْسِيرِ (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) فِي الْمَبَاحِثِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَفِيهِ أَبْوَابٌ: -. الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ قَوْلِنَا: (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرجيم) وقت قراءة الاستعاذة: المسألة الأولى [وقت قراءة الاستعاذة] : اتَّفَقَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ وَقْتَ قِرَاءَةِ الِاسْتِعَاذَةِ قَبْلَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَعَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ بَعْدَهَا، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: الرَّجُلُ إِذَا قَرَأَ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ بِتَمَامِهَا وَقَالَ: (آمِينَ) فَبَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَالْأَوَّلُونَ احْتَجُّوا بِمَا رَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ. وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النَّحْلِ: 98] دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ شَرْطٌ، وَذِكْرُ الِاسْتِعَاذَةِ جَزَاءٌ، وَالْجَزَاءُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الشَّرْطِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الِاسْتِعَاذَةُ مُتَأَخِّرَةً عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ قَالُوا: وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْعَقْلِ، لِأَنَّ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَقَدِ اسْتَوْجَبَ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ، فَلَوْ دَخَلَهُ الْعُجْبُ فِي أَدَاءِ تِلْكَ الطَّاعَةِ سَقَطَ ذَلِكَ الثَّوَابُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ» وَذَكَرَ مِنْهَا إِعْجَابَ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِأَنْ يَسْتَعِيذَ مِنَ الشَّيْطَانِ، لِئَلَّا يَحْمِلَهُ الشَّيْطَانُ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى عَمَلٍ يُحْبِطُ ثَوَابَ تِلْكَ الطَّاعَةِ. قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل: 98] أَيْ إِذَا أَرَدْتَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فَاسْتَعِذْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَةِ: 6]

وَالْمَعْنَى/ إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: تَرْكُ الظَّاهِرِ فِي مَوْضِعِ الدَّلِيلِ لَا يُوجِبُ تَرْكَهُ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ لِغَيْرِ دَلِيلٍ. أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَقَالُوا: لَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ [النَّحْلِ: 98] يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِذَا أَرَدْتَ، وَإِذَا ثَبَتَ الِاحْتِمَالُ وَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ الْخَبَرِ الَّذِي رُوِّينَاهُ، وَمِمَّا يُقَوِّي ذَلِكَ مِنَ الْمُنَاسَبَاتِ الْعَقْلِيَّةِ، أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الِاسْتِعَاذَةِ نَفْيُ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ [الْحَجِّ: 52] وَإِنَّمَا أَمَرَ تَعَالَى بِتَقْدِيمِ الاستعاذة قبل القراءة لهذا السبب. وأقول: هاهنا قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنْ يَقْرَأَ الِاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ بِمُقْتَضَى الْخَبَرِ، وَبَعْدَهَا بِمُقْتَضَى الْقُرْآنِ، جَمْعًا بين الدليلين بقدر الإمكان. حكم الاستعاذة: المسألة الثانية [حكم الاستعاذة] : قَالَ عَطَاءٌ: الِاسْتِعَاذَةُ وَاجِبَةٌ لِكُلِّ قِرَاءَةٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِذَا تَعَوَّذَ الرَّجُلُ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمُرِهِ فَقَدْ كَفَى فِي إِسْقَاطِ الْوُجُوبِ وَقَالَ الْبَاقُونَ: إِنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ. حُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعَلِّمِ الْأَعْرَابِيَّ الِاسْتِعَاذَةَ فِي جُمْلَةِ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنْ ذَلِكَ الْخَبَرَ غَيْرُ مُشْتَمِلٍ عَلَى بَيَانِ جُمْلَةِ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِ الِاسْتِعَاذَةِ فِيهِ عَدَمُ وُجُوبِهَا. وَاحْتَجَّ عَطَاءٌ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِعَاذَةِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاظَبَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ واجبا لقوله تعالى: وَاتَّبِعُوهُ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَاسْتَعِذْ أَمْرٌ، وَهُوَ لِلْوُجُوبِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَجِبُ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ عِنْدَ كُلِّ الْقِرَاءَاتِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَذِكْرُ الْحُكْمِ عَقِيبَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ يَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ، وَالْحُكْمُ يَتَكَرَّرُ لِأَجْلِ تَكَرُّرِ الْعِلَّةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ لِدَفْعِ الشَّرِّ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98] مُشْعِرٌ بِذَلِكَ، وَدَفْعُ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَاجِبٌ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الِاسْتِعَاذَةُ وَاجِبَةً. الرَّابِعُ: أَنَّ طَرِيقَةَ الِاحْتِيَاطِ تُوجِبُ الِاسْتِعَاذَةَ، فَهَذَا مَا لَخَّصْنَاهُ في هذه المسألة. التعوذ في الصلاة: المسألة الثالثة [التعوذ في الصلاة] : التَّعَوُّذُ مُسْتَحَبٌّ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَتَعَوَّذُ فِي/ الْمَكْتُوبَةِ وَيَتَعَوَّذُ فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، لَنَا الْآيَةُ الَّتِي تَلَوْنَاهَا، وَالْخَبَرُ الَّذِي رُوِّينَاهُ، وَكِلَاهُمَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ الْوُجُوبُ فَلَا أَقَلَّ مِنَ النَّدْبِ. هل يسر بالتعوذ أو يجهر: المسألة الرابعة [هل يسر بالتعوذ أو يجهر] : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي «الْأُمِّ» : رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ لَمَّا قَرَأَ أَسَرَّ بِالتَّعَوُّذِ

وعن أبي هريرة أنه جهر به، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ جَهَرَ بِهِ جَازَ، وَإِنْ أَسَرَّ بِهِ أَيْضًا جَازَ وَقَالَ فِي «الْإِمْلَاءِ» : وَيُجْهَرُ بِالتَّعَوُّذِ، فَإِنْ أَسَرَّ لَمْ يَضُرَّ، بَيَّنَ أَنَّ الْجَهْرَ عِنْدَهُ أَوْلَى، وَأَقُولُ: الِاسْتِعَاذَةُ إِنَّمَا تُقْرَأُ بَعْدَ الِافْتِتَاحِ وَقَبْلَ الْفَاتِحَةِ، فَإِنْ أَلْحَقْنَاهَا بِمَا قَبْلَهَا لَزِمَ الْإِسْرَارُ، وَإِنْ أَلْحَقْنَاهَا بِالْفَاتِحَةِ لَزِمَ الْجَهْرُ، إِلَّا أَنَّ الْمُشَابَهَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الِافْتِتَاحِ أَتَمُّ، لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَافِلَةً عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَلِأَنَّ الْجَهْرَ كَيْفِيَّةٌ وُجُودِيَّةٌ وَالْإِخْفَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ، وَالْأَصْلُ هُوَ العدم. هل يتعوذ في كل ركعة: المسألة الخامسة [هل يتعوذ في كل ركعة] : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي «الْأُمِّ» : قِيلَ إِنَّهُ يَتَعَوَّذُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي أَقُولُهُ أَنَّهُ لَا يَتَعَوَّذُ إِلَّا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَأَقُولُ: لَهُ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْعَدَمُ، وَمَا لِأَجْلِهِ أُمِرْنَا بِذِكْرِ الِاسْتِعَاذَةِ هُوَ قَوْلُهُ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النَّحْلِ: 98] وَكَلِمَةُ إِذَا لَا تُفِيدُ الْعُمُومَ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ يَدُلُّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يتكرر الحكم بتكرر العلة، والله أعلم. صيغ الاستعاذة: المسألة السادسة [صيغ الاستعاذة] : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النَّحْلِ: 98] وَقَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الدخان: 6] وَفِي سُورَةٍ ثَالِثَةٍ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الْأَعْرَافِ: 200] فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَاجِبٌ أَنْ يَقُولَ، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالُوا: لِأَنَّ هَذَا النَّظْمَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، وَمُوَافِقٌ أَيْضًا لِظَاهِرِ الْخَبَرِ الَّذِي رُوِّينَاهُ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ جَمْعًا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، لِأَنَّ هَذَا أَيْضًا جَمْعٌ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، وَرَوَى البيهقي في «كتاب السنن» بإسناده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ كَبَّرَ ثَلَاثًا وَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ: الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ: أَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ثُمَّ قَالَ: قُلْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [الْعَلَقِ: 1] . وَبِالْجُمْلَةِ فَالِاسْتِعَاذَةُ تُطَهِّرُ الْقَلْبَ عَنْ كُلِّ مَا يَكُونُ مَانِعًا مِنَ الِاسْتِغْرَاقِ فِي اللَّهِ، وَالتَّسْمِيَةُ تُوَجِّهُ الْقَلْبَ إلى هيبة جلال الله والله الهادي. هل التعوذ للقراءة أو للصلاة: المسألة السابعة [هل التعوذ للقراءة أو للصلاة] : التَّعَوُّذُ فِي الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْقِرَاءَةِ أَمْ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ؟ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ لِأَجْلِ الْقِرَاءَةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَرْعَانِ: الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُؤْتَمَّ هَلْ يَتَعَوَّذُ خَلْفَ الْإِمَامِ أَمْ لَا؟ عِنْدَهُمَا لَا يَتَعَوَّذُ، لِأَنَّهُ لَا يَقْرَأُ، وَعِنْدَهُ يَتَعَوَّذُ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ عَلَّقَ الِاسْتِعَاذَةَ عَلَى الْقِرَاءَةِ، وَلَا قِرَاءَةَ عَلَى المقتدي، فلا يتعوذ، ووجه قول

أَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّعَوُّذَ لَوْ كَانَ لِلْقِرَاءَةِ لَكَانَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْقِرَاءَةِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ كُرِّرَ بِتَكَرُّرِ الصَّلَاةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لِلصَّلَاةِ لَا لِلْقِرَاءَةِ، الْفَرْعُ الثَّانِي: إِذَا افْتَتَحَ صَلَاةَ الْعِيدِ فَقَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ هَلْ يَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ ثُمَّ يُكَبِّرُ أَمْ لَا؟ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ يُكَبِّرُ التَّكْبِيرَاتِ ثُمَّ يَتَعَوَّذُ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُقَدِّمُ التَّعَوُّذَ عَلَى التَّكْبِيرَاتِ. وَبَقِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْفَاتِحَةِ أَشْيَاءُ نذكرها هاهنا: السنة في القراءة: المسألة الثامنة [السنة في القراءة] : السُّنَّةُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى التَّرْتِيلِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 4] وَالتَّرْتِيلُ هُوَ أَنْ يَذْكُرَ الْحُرُوفَ وَالْكَلِمَاتِ مُبَيَّنَةً ظَاهِرَةً، وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَتِ الْقِرَاءَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَهِمَ مِنْ نَفْسِهِ مَعَانِيَ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ، وَأَفْهَمَ غَيْرَهُ تِلْكَ الْمَعَانِيَ، وَإِذَا قَرَأَهَا بِالسُّرْعَةِ لَمْ يَفْهَمْ وَلَمْ يُفْهِمْ، فَكَانَ التَّرْتِيلُ أَوْلَى، فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا» قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ: جَاءَ فِي الْأَثَرِ أَنَّ عَدَدَ آيِ الْقُرْآنِ عَلَى عَدَدِ دَرَجِ الْجَنَّةِ، يُقَالُ لِلْقَارِئِ: اقْرَأْ وَارْقَ فِي الدَّرَجِ عَلَى عَدَدِ مَا كُنْتَ تَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَمَنِ اسْتَوْفَى قِرَاءَةَ جَمِيعِ آيِ الْقُرْآنِ اسْتَوْلَى عَلَى أَقْصَى الْجَنَّةِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ جهرا فَالسُّنَّةُ أَنْ يُجِيدَ فِي الْقِرَاءَةِ، رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» . الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ اشْتِبَاهَ الضَّادِ بِالظَّاءِ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُشَابَهَةَ حَاصِلَةٌ بَيْنَهُمَا جِدًّا وَالتَّمْيِيزُ عَسِرٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ التَّكْلِيفُ بِالْفَرْقِ، بَيَانُ الْمُشَابَهَةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمَا مِنَ الْحُرُوفِ الْمَجْهُورَةِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا مِنَ الْحُرُوفِ الرَّخْوَةِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا مِنَ الْحُرُوفِ الْمُطْبَقَةِ، وَالرَّابِعُ: أَنَّ الظَّاءَ وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهُ مِنْ بَيْنِ طَرَفِ/ اللِّسَانِ وَأَطْرَافِ الثَّنَايَا الْعُلْيَا وَمَخْرَجُ الضَّادِ مِنْ أَوَّلِ حَافَةِ اللِّسَانِ وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْأَضْرَاسِ إِلَّا أَنَّهُ حَصَلَ فِي الضَّادِ انْبِسَاطٌ لِأَجْلِ رَخَاوَتِهَا وَبِهَذَا السَّبَبِ يَقْرُبُ مَخْرَجُهُ مِنْ مَخْرَجِ الظَّاءِ، وَالْخَامِسُ: أَنَّ النُّطْقَ بِحَرْفِ الضَّادِ مَخْصُوصٌ بِالْعَرَبِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَنَا أَفْصَحُ مَنْ نَطَقَ بِالضَّادِ» فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُشَابَهَةَ بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ شَدِيدَةٌ وَأَنَّ التَّمْيِيزَ عَسِرٌ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَوْ كَانَ هَذَا الْفَرْقُ مُعْتَبَرًا لَوَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي أَزْمِنَةِ الصَّحَابَةِ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ دُخُولِ الْعَجَمِ فِي الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ وُقُوعُ السُّؤَالِ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَلْبَتَّةَ عَلِمْنَا أَنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ لَيْسَ فِي مَحَلِّ التَّكْلِيفِ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ اللَّامَ الْمُغَلَّظَةَ هَلْ هِيَ مِنَ اللُّغَاتِ الْفَصِيحَةِ أَمْ لَا؟ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَثْبُتَ كَوْنُهَا مِنَ اللُّغَاتِ الْفَصِيحَةِ لَكِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَغْلِيظُهَا حَالَ كَوْنِهَا مَكْسُورَةً لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنَ الْكَسْرَةِ إِلَى التَّلَفُّظِ بِاللَّامِ الْمُغَلَّظَةِ ثَقِيلٌ عَلَى اللسان، فوجب نفيه عن هذه اللغة. لا تجوز الصلاة بالشاذة: المسألة الثانية عشرة [لا تجوز الصلاة بالشاذة] : اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الصَّلَاةِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالْوُجُوهِ الشَّاذَّةِ مِثْلَ قَوْلِهِمُ «الْحَمْدِ لِلَّهِ» بِكَسْرِ الدَّالِ مِنَ الْحَمْدِ أَوْ بِضَمِّ اللَّامِ مِنْ لِلَّهِ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ يَنْفِي جَوَازَ الْقِرَاءَةِ بِهَا مُطْلَقًا، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنَ الْقُرْآنِ لَوَجَبَ بُلُوغُهَا فِي الشُّهْرَةِ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، إِلَّا أَنَّا عَدَلْنَا

الباب الثاني في المباحث العقلية المستنبطة من قولنا: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)

عَنْ هَذَا الدَّلِيلِ فِي جَوَازِ الْقِرَاءَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ تَبْقَى قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى أَصْلِ الْمَنْعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: اتَّفَقَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةَ مَنْقُولَةٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَفِيهِ إِشْكَالٌ: وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ: هَذِهِ الْقِرَاءَاتُ الْمَشْهُورَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَنْقُولَةً بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ أَوْ لَا تَكُونُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَحِينَئِذٍ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ خَيَّرَ الْمُكَلَّفِينَ بَيْنَ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ وَسَوَّى بَيْنَهَا فِي الْجَوَازِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ تَرْجِيحُ بَعْضِهَا عَلَى الْبَعْضِ وَاقِعًا عَلَى خِلَافِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالتَّوَاتُرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الذَّاهِبُونَ إِلَى تَرْجِيحِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ مُسْتَوْجِبِينَ لِلتَّفْسِيقِ إِنْ لَمْ يَلْزَمْهُمُ التَّكْفِيرُ، لَكِنَّا نَرَى أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقُرَّاءِ يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَيَحْمِلُ النَّاسَ عَلَيْهَا وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ غَيْرِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ فِي حَقِّهِمْ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ مَا ثَبَتَتْ بِالتَّوَاتُرِ بَلْ بِطَرِيقِ الْآحَادِ فَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ الْقُرْآنُ عَنْ كَوْنِهِ مُفِيدًا لِلْجَزْمِ وَالْقَطْعِ وَالْيَقِينِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ فَيَقُولَ: بَعْضُهَا مُتَوَاتِرٌ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْأُمَّةِ فِيهِ، وَتَجْوِيزُ الْقِرَاءَةِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَبَعْضُهَا مِنْ بَابِ الْآحَادِ وَكَوْنُ بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ مِنْ بَابِ الْآحَادِ لَا يَقْتَضِي خُرُوجَ الْقُرْآنِ بِكُلِّيَّتِهِ عَنْ كَوْنِهِ قَطْعِيًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَابُ الثَّانِي فِي الْمَبَاحِثِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ قَوْلِنَا: (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ يَتَعَلَّقُ بِأَرْكَانٍ خَمْسَةٍ: الِاسْتِعَاذَةُ، وَالْمُسْتَعِيذُ، وَالْمُسْتَعَاذُ بِهِ، وَالْمُسْتَعَاذُ مِنْهُ، وَالشَّيْءُ الَّذِي لِأَجْلِهِ تَحْصُلُ الِاسْتِعَاذَةُ. الرُّكْنُ الأول: في الاستعاذة، وفيه مسائل: - تفسير الاستعاذة: المسألة الأولى [تفسير الاستعاذة] : فِي تَفْسِيرِ قَوْلِنَا: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» بِحَسَبِ اللُّغَةِ فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: «أَعُوذُ» مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَوْذِ، وَلَهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: الِالْتِجَاءُ وَالِاسْتِجَارَةُ، وَالثَّانِي: الِالْتِصَاقُ يُقَالُ: «أَطْيَبُ اللَّحْمِ عَوَذُهُ» وَهُوَ مَا الْتَصَقَ مِنْهُ بِالْعَظْمِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَعْنَى قَوْلِهِ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَيْ: أَلْتَجِئُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِصْمَتِهِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مَعْنَاهُ أَلْتَصِقُ نَفْسِي بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ. وَأَمَّا الشَّيْطَانُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الشَّطَنِ، وَهُوَ الْبُعْدُ، يُقَالُ: شَطَنَ دَارُكَ أَيْ بَعُدَ، فَلَا جَرَمَ سُمِّيَ كُلُّ مُتَمَرِّدٍ مِنْ جِنٍّ وَإِنْسٍ وَدَابَّةٍ شَيْطَانًا لِبُعْدِهِ مِنَ الرَّشَادِ وَالسَّدَادِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الْأَنْعَامِ: 112] فَجَعَلَ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينَ، وَرَكِبَ عُمَرُ بِرْذَوْنًا فَطَفِقَ يَتَبَخْتَرُ بِهِ فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ فَلَا يَزْدَادُ إِلَّا تَبَخْتُرًا فَنَزَلَ عَنْهُ وَقَالَ: مَا حَمَلْتُمُونِي إِلَّا عَلَى شَيْطَانٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الشَّيْطَانَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ شَاطَ يَشِيطُ إِذَا بَطَلَ، وَلَمَّا كَانَ كُلُّ مُتَمَرِّدٍ كَالْبَاطِلِ فِي نَفْسِهِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ مُبْطِلًا لِوُجُوهِ مَصَالِحِ نَفْسِهِ سُمِّيَ شَيْطَانًا.

وَأَمَّا الرَّجِيمُ فَمَعْنَاهُ الْمَرْجُومُ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. كَقَوْلِهِمْ: كَفٌّ خَضِيبٌ أَيْ مَخْضُوبٌ وَرَجُلٌ لَعِينٌ، أَيْ مَلْعُونٌ، ثُمَّ فِي كَوْنِهِ مَرْجُومًا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَوْنَهُ مَرْجُومًا كَوْنُهُ مَلْعُونًا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الْحِجْرِ: 34] وَاللَّعْنُ يُسَمَّى رَجْمًا، وَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ وَالِدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ [مَرْيَمَ: 46] قِيلَ عَنَى بِهِ الرَّجْمَ بِالْقَوْلِ، وَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ نُوحٍ أنهم قَالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشُّعَرَاءِ: 116] وَفِي سُورَةِ يس لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ [يس: 18] وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا وُصِفَ بِكَوْنِهِ مَرْجُومًا لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِرَمْيِ الشَّيَاطِينِ بِالشُّهُبِ وَالثَّوَاقِبِ طردا لهم من السموات، ثُمَّ وَصَفَ بِذَلِكَ كُلَّ شِرِّيرٍ مُتَمَرِّدٍ. وَأَمَّا قوله: «إن الله هو السميع العليم» فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الِاسْتِعَاذَةِ الِاحْتِرَازُ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَسَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَسْوَسَةَ كَأَنَّهَا حُرُوفٌ خَفِيَّةٌ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ، وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا أَحَدٌ، فَكَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: يَا مَنْ هُوَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الَّتِي يَسْمَعُ بِهَا كُلَّ مَسْمُوعٍ، وَيَعْلَمُ كُلَّ سِرٍّ خَفِيٍّ أَنْتَ تَسْمَعُ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ وَتَعْلَمُ غَرَضَهُ فِيهَا، وَأَنْتَ الْقَادِرُ عَلَى دَفْعِهَا عَنِّي، فَادْفَعْهَا عَنِّي بِفَضْلِكَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ ذِكْرُ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ أَوْلَى بِهَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ سَائِرِ الْأَذْكَارِ،: الثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا تَعَيَّنَ هَذَا الذِّكْرُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ اقْتِدَاءً بِلَفْظِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الْأَعْرَافِ: 200] وَقَالَ فِي حم السَّجْدَةِ: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فُصِّلَتْ: 36] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْبَحْثِ الْعَقْلِيِّ عَنْ مَاهِيَّةِ الِاسْتِعَاذَةِ: اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِعِلْمٍ وَحَالٍ وَعَمَلٍ، أَمَّا الْعِلْمُ فَهُوَ كَوْنُ الْعَبْدِ عَالِمًا بِكَوْنِهِ عَاجِزًا عَنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَعَنْ دَفْعِ جَمِيعِ الْمَضَارِّ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِيجَادِ جَمِيعِ الْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَعَلَى دَفْعِ جَمِيعِ الْمَضَارِّ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ قُدْرَةً لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ سِوَاهُ عَلَى دَفْعِهَا عَنْهُ. فَإِذَا حَصَلَ هَذَا الْعِلْمُ فِي الْقَلْبِ تَوَلَّدَ عَنْ هَذَا الْعِلْمِ حُصُولُ حَالَةٍ فِي الْقَلْبِ، وَهِيَ انْكِسَارٌ وَتَوَاضُعٌ وَيُعَبَّرُ عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ بِالتَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْخُضُوعِ لَهُ، ثُمَّ إِنَّ حُصُولَ تِلْكَ الْحَالَةِ فِي الْقَلْبِ يُوجِبُ حُصُولَ صِفَةٍ أُخْرَى فِي الْقَلْبِ وَصِفَةٍ فِي اللِّسَانِ، أَمَّا الصِّفَةُ الْحَاصِلَةُ فِي الْقَلْبِ فَهِيَ أَنْ يَصِيرَ الْعَبْدُ مُرِيدًا لِأَنْ يصونه الله تَعَالَى عَنِ الْآفَاتِ وَيَخُصَّهُ بِإِفَاضَةِ الْخَيْرَاتِ وَالْحَسَنَاتِ وَأَمَّا الصِّفَةُ الَّتِي فِي اللِّسَانِ فَهِيَ أَنْ يَصِيرَ الْعَبْدُ طَالِبًا لِهَذَا الْمَعْنَى بِلِسَانِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ الطَّلَبُ هُوَ الِاسْتِعَاذَةُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ» إِذَا عَرَفْتَ مَا ذَكَرْنَا يَظْهَرُ لَكَ أَنَّ الرُّكْنَ الْأَعْظَمَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ هو علمه بالله، وعلمه بنفسه، أما عِلْمُهُ بِاللَّهِ فَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ كَوْنَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَجَازَ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ عَالِمًا بِهِ وَلَا بِأَحْوَالِهِ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ الِاسْتِعَاذَةُ بِهِ عَبَثًا، وَلَا بُدَّ وأن يَعْلَمَ كَوْنَهُ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ وَإِلَّا فَرُبَّمَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ تَحْصِيلِ مُرَادِ الْبُعْدِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ أَيْضًا كَوْنَهُ جَوَادًا مُطْلَقًا، إِذْ لَوْ كَانَ الْبُخْلُ عَلَيْهِ جَائِزًا لَمَا كَانَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ فَائِدَةٌ، وَلَا بُدَّ أَيْضًا وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنْ يُعِينَهُ عَلَى مَقَاصِدِهِ، إِذْ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ اللَّهِ يُعِينُهُ عَلَى مَقَاصِدِهِ لَمْ تَكُنِ الرَّغْبَةُ قَوِيَّةً فِي الِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ الْمُطْلَقِ وَأَعْنِي بِالتَّوْحِيدِ الْمُطْلَقِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مُدَبِّرَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَيْضًا أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِأَفْعَالِ نَفْسِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ مُسْتَقِلًّا بِأَفْعَالِ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ فِي الِاسْتِعَاذَةِ بِالْغَيْرِ فَائِدَةٌ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَبْدَ مَا لَمْ يَعْرِفْ عِزَّةَ الرُّبُوبِيَّةِ وَذِلَّةَ الْعُبُودِيَّةِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ: / (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ

الرَّجِيمِ) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: لَا حَاجَةَ فِي هَذَا الذِّكْرِ إِلَى الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ، بَلِ الْإِنْسَانُ إِذَا جَوَّزَ كَوْنَ الْأَمْرِ كَذَلِكَ حَسُنَ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَابَ أَبَاهُ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مَرْيَمَ: 42] فَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ الْإِلَهُ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ كَانَ سُؤَالُهُ سُؤَالًا لِمَنْ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ، وَكَانَ دَاخِلًا تَحْتَ مَا جَعَلَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَيْبًا عَلَى أَبِيهِ، وَأَمَّا عِلْمُ الْعَبْدِ بِحَالِ نَفْسِهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَعْلَمَ عَجْزَهُ وَقُصُورَهُ عَنْ رِعَايَةِ مَصَالِحِ نَفْسِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَيْضًا أَنَّهُ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَعْلَمَ تِلْكَ الْمَصَالِحَ بِحَسَبِ الْكَيْفِيَّةِ وَالْكَمِّيَّةِ لَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُهَا عِنْدَ عَدَمِهَا وَلَا إِبْقَاؤُهَا عِنْدَ وُجُودِهَا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ إِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْعُلُومُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ وَصَارَ مُشَاهِدًا لَهَا مُتَيَقِّنًا فيها وجب أن يحصل في قلب تلك الجالة الْمُسَمَّاةُ بِالِانْكِسَارِ وَالْخُضُوعِ، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ فِي قَلْبِهِ الطَّلَبُ، وَفِي لِسَانِهِ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ الطَّلَبِ، وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْإِنْسَانِ عَاجِزًا عَنْ تَحْصِيلِ مَصَالِحِ نَفْسِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنَّ الصَّادِرَ عَنِ الْإِنْسَانِ إِمَّا الْعَمَلُ وَإِمَّا الْعِلْمُ، وَهُوَ فِي كِلَا الْبَابَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ فِي غَايَةِ الْعَجْزِ، أَمَّا الْعِلْمُ فَمَا أَشَدَّ الْحَاجَةَ فِي تَحْصِيلِهِ إِلَى الِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ، وَفِي الِاحْتِرَازِ عَنْ حُصُولِ ضِدِّهِ إِلَى الِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: - الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّا كَمْ رَأَيْنَا مِنَ الْأَكْيَاسِ الْمُحَقِّقِينَ بَقُوا فِي شُبْهَةٍ وَاحِدَةٍ طُولَ عُمُرِهِمْ، وَلَمْ يَعْرِفُوا الْجَوَابَ عَنْهَا، بَلْ أَصَرُّوا عَلَيْهَا وَظَنُّوهَا عِلْمًا يَقِينِيًّا وَبُرْهَانًا جَلِيًّا، ثُمَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ أَعْمَارِهِمْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مَنْ تَنَبَّهَ لِوَجْهِ الْغَلَطِ فِيهَا وَأَظْهَرَ لِلنَّاسِ وَجْهَ فَسَادِهَا، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ جَازَ عَلَى الْكُلِّ مِثْلُهُ، وَلَوْلَا هَذَا السَّبَبُ لَمَا وَقَعَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ اخْتِلَافٌ فِي الْأَدْيَانِ وَالْمَذَاهِبِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَوْلَا إِعَانَةُ اللَّهِ وَفَضْلُهُ وَإِرْشَادُهُ وَإِلَّا فَمَنْ ذَا الَّذِي يَتَخَلَّصُ بِسَفِينَةِ فِكْرِهِ مِنْ أَمْوَاجِ الضَّلَالَاتِ وَدَيَاجِي الظُّلُمَاتِ؟. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ إِنَّمَا يَقْصِدُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الدِّينُ الْحَقُّ وَالِاعْتِقَادُ الصَّحِيحُ، وَإِنَّ أَحَدًا لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ بِالْجَهْلِ وَالْكُفْرِ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِحَسَبِ سَعْيِهِ وَإِرَادَتِهِ لَوَجَبَ كَوْنُ الْكُلِّ مُحِقِّينَ صَادِقِينَ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ نَجِدُ الْمُحِقِّينَ فِي جَنْبِ الْمُبْطِلِينَ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَسْوَدَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا خَلَاصَ مِنْ ظُلُمَاتِ الضَّلَالَاتِ إِلَّا بِإِعَانَةِ إِلَهِ الأرض والسموات. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْقَضِيَّةَ الَّتِي تَوَقَّفَ الْإِنْسَانُ فِي صِحَّتِهَا وَفَسَادِهَا فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْجَزْمِ بِهَا إِلَّا إِذَا دَخَلَ فِيمَا بَيْنَهُمَا الْحَدُّ الْأَوْسَطُ فَنَقُولُ: ذَلِكَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ إِنْ كَانَ حَاضِرًا فِي عَقْلِهِ كَانَ الْقِيَاسُ مُنْعَقِدًا وَالنَّتِيجَةُ لَازِمَةً. فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ الْعَقْلُ مُتَوَقِّفًا فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ بَلْ يَكُونُ جَازِمًا بِهَا، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ مُتَوَقِّفًا فِيهَا، هَذَا خُلْفٌ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ الْحَدَّ الْأَوْسَطَ غَيْرُ حَاضِرٍ فِي عَقْلِهِ فَهَلْ يُمْكِنُهُ طَلَبُهُ؟ أَوْ لَا يُمْكِنُهُ طَلَبُهُ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ فَكَيْفَ يَطْلُبُهُ؟ لِأَنَّ طَلَبَ الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ إِنَّمَا يُمْكِنُ بَعْدَ الشُّعُورِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ فَالْعِلْمُ بِهِ حَاضِرٌ فِي ذِهْنِهِ فَكَيْفَ يَطْلُبُ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ؟ وَأَمَّا إِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ طَلَبُهُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ تَحْصِيلِ الطَّرِيقِ الَّذِي يَتَخَلَّصُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ التَّوَقُّفِ وَيَخْرُجُ مِنْ ظُلْمَةِ تِلْكَ الْحَيْرَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْعَبْدِ فِي غَايَةِ الْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ [الْمُؤْمِنُونَ: 97] فَهَذِهِ الِاسْتِعَاذَةُ مُطْلَقَةٌ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِحَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ، فَهَذَا بَيَانُ كَمَالِ عَجْزِ الْعَبْدِ عَنْ تَحْصِيلِ الْعَقَائِدِ وَالْعُلُومِ، وَأَمَّا عَجْزُ الْعَبْدِ عَنِ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَجُرُّ بِهَا النَّفْعَ إِلَى نَفْسِهِ وَيَدْفَعُ بِهَا الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ فَهَذَا أَيْضًا كَذَلِكَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَدِ انْكَشَفَ لِأَرْبَابِ الْبَصَائِرِ أَنَّ هَذَا الْبَدَنَ يُشْبِهُ الْجَحِيمَ وَانْكَشَفَ

لَهُمْ أَنَّهُ جَلَسَ عَلَى بَابِ هَذَا الْجَحِيمِ تِسْعَةَ عَشَرَ نَوْعًا مِنَ الزَّبَانِيَةِ، وَهِيَ الْحَوَاسُّ الْخَمْسُ الظَّاهِرَةُ وَالْحَوَاسُّ الْخَمْسُ الْبَاطِنَةُ، وَالشَّهْوَةُ، وَالْغَضَبُ، وَالْقُوَى الطَّبِيعِيَّةُ السَّبْعُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ التِّسْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ وَاحِدٌ بِحَسَبِ الْجِنْسِ، إِلَّا أَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَعْدَادٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا بِحَسَبِ الشَّخْصِ وَالْعَدَدِ، وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِالْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ، فَإِنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تَقْوَى الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ عَلَى إِدْرَاكِهَا أُمُورٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَيَحْصُلُ مِنْ إِبْصَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَثَرٌ خَاصٌّ فِي الْقَلْبِ، وَذَلِكَ الْأَثَرُ يَجُرُّ الْقَلْبَ مِنْ أَوْجِ عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ إِلَى حَضِيضِ عَالَمِ الْجِسْمَانِيَّاتِ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ مَعَ كَثْرَةِ هَذِهِ الْعَوَائِقِ وَالْعَلَائِقِ أَنَّهُ لَا خَلَاصَ لِلْقَلْبِ مِنْ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِغَاثَتِهِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِجِهَاتِ نُقْصَانَاتِ الْعَبْدِ وَلَا نِهَايَةَ لِكَمَالِ رَحْمَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ ثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بِاللَّهِ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ فَلِهَذَا السَّبَبِ يَجِبُ عَلَيْنَا فِي أَوَّلِ كُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وَمَبْدَأِ كُلِّ لَفْظَةٍ وَلَحْظَةٍ أَنْ نَقُولَ (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) . الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ اللَّذَّاتِ الْحَاصِلَةَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْعَاجِلَةِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: اللَّذَّاتُ الْحِسِّيَّةُ. وَالثَّانِي: اللَّذَّاتُ الْخَيَالِيَّةُ. وَهِيَ لَذَّةُ الرِّيَاسَةِ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ الإنسان إذا لم يمكن يُمَارِسَ تَحْصِيلَ تِلْكَ اللَّذَّاتِ وَلَمْ يُزَاوِلْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شُعُورٌ بِهَا، وَإِذَا كَانَ عَدِيمَ الشُّعُورِ/ بِهَا كَانَ قَلِيلَ الرَّغْبَةِ فِيهَا، ثُمَّ إِذَا مَارَسَهَا وَوَقَفَ عَلَيْهَا الْتَذَّ بِهَا، وَإِذَا حَصَلَ الِالْتِذَاذُ بِهَا قَوِيَتْ رَغْبَتُهُ فِيهَا، وَكُلَّمَا اجْتَهَدَ الْإِنْسَانُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَقَامٍ آخَرَ فِي تَحْصِيلِ اللَّذَّاتِ وَالطَّيِّبَاتِ وَصَلَ فِي شِدَّةِ الرَّغْبَةِ وَقُوَّةِ الْحِرْصِ إِلَى مَقَامٍ آخَرَ أَعْلَى مِمَّا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ كُلَّمَا كَانَ أَكْثَرَ فَوْزًا بِالْمَطَالِبِ كَانَ أَعْظَمَ حِرْصًا وَأَشَدَّ رَغْبَةً فِي تَحْصِيلِ الزَّائِدِ عَلَيْهَا، وَإِذَا كَانَ لَا نِهَايَةَ لِمَرَاتِبِ الْكَمَالَاتِ فَكَذَلِكَ لَا نِهَايَةَ لِدَرَجَاتِ الْحِرْصِ، وَكَمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُ الْكَمَالَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا فَكَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِزَالَةُ أَلَمِ الشَّوْقِ وَالْحِرْصِ عَنِ الْقَلْبِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا مَرَضٌ لَا قُدْرَةَ لِلْعَبْدِ عَلَى عِلَاجِهِ، وَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى الرَّحِيمِ الْكَرِيمِ النَّاصِرِ لِعِبَادِهِ فَيُقَالُ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) . الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: فِي تَقْرِيرِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَقَوْلُهُ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [الْبَقَرَةِ: 45] وَقَوْلُ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الْأَعْرَافِ: 128] وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: «وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، لَأَقْطَعَنَّ أَمَلَ كُلِّ مُؤَمِّلٍ غَيْرِي بِالْيَأْسِ، وَلَأُلْبِسَنَّهُ ثَوْبَ الْمَذَلَّةِ عِنْدَ النَّاسِ، وَلَأُخَيِّبَنَّهُ مِنْ قُرْبِي، وَلَأُبْعِدَنَّهُ مِنْ وَصْلِي، وَلَأَجْعَلَنَّهُ مُتَفَكِّرًا حَيْرَانَ يُؤَمِّلُ غَيْرِي فِي الشَّدَائِدِ وَالشَّدَائِدُ بِيَدِي، وَأَنَا الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَيَرْجُو غَيْرِي وَيَطْرُقُ بِالْفِكْرِ أَبْوَابَ غَيْرِي وَبِيَدِي مَفَاتِيحُ الْأَبْوَابِ وَهِيَ مُغْلَقَةٌ وَبَابِي مَفْتُوحٌ لِمَنْ دعاني» . مذهب الجبرية في الاستعاذة: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ كَيْفَ تَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْجَبْرِ وَمَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: قَوْلُهُ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالْجَبْرِ مِنْ وُجُوهٍ: - الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) اعْتِرَافٌ بِكَوْنِ الْعَبْدِ فَاعِلًا لِتِلْكَ الِاسْتِعَاذَةِ، وَلَوْ كَانَ خَالِقُ الْأَعْمَالِ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى لَامْتَنَعَ كَوْنُ الْعَبْدِ فَاعِلًا لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، وَأَيْضًا فَإِذَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي الْعَبْدِ امْتَنَعَ دَفْعُهُ، وَإِذَا لَمْ يَخْلُقْهُ اللَّهُ فِيهِ امْتَنَعَ تَحْصِيلُهُ. فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) اعْتِرَافٌ بِكَوْنِ الْعَبْدِ مُوجِدًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ إِنَّمَا تَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ تَعَالَى خَالِقًا لِلْأُمُورِ الَّتِي مِنْهَا يُسْتَعَاذُ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْفَاعِلُ لَهَا هُوَ اللَّهَ تَعَالَى امْتَنَعَ أَنْ يُسْتَعَاذَ بِاللَّهِ مِنْهَا لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ كَأَنَّ الْعَبْدَ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ مِنَ اللَّهِ فِي عَيْنِ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بِاللَّهِ مِنَ الْمَعَاصِي، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ رَاضٍ بِهَا، وَلَوْ كَانَتِ الْمَعَاصِي تَحْصُلُ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَضَائِهِ وَحُكْمِهِ وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ كَوْنُهُ رَاضِيًا بِهَا، لِمَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ/ أَنَّ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَاجِبٌ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ إِنَّمَا تُعْقَلُ وَتَحْسُنُ لَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْوَسْوَسَةُ فِعْلًا لِلشَّيْطَانِ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ فِعْلًا لِلَّهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلشَّيْطَانِ فِي وُجُودِهَا أَثَرٌ الْبَتَّةَ فَكَيْفَ يُسْتَعَاذُ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يُسْتَعَاذَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مِنْ شَرِّ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ لَا شَرَّ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِ. الْخَامِسُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ يَقُولُ إِذَا كُنْتُ مَا فَعَلْتُ شَيْئًا أَصْلًا وَأَنْتَ يَا إِلَهَ الْخَلْقِ عَلِمْتَ صُدُورَ الْوَسْوَسَةِ عَنِّي وَلَا قُدْرَةَ لِي عَلَى مُخَالَفَةِ قُدْرَتِكَ وَحَكَمْتَ بِهَا عَلَيَّ وَلَا قُدْرَةَ لِي عَلَى مُخَالَفَةِ حُكْمِكَ ثُمَّ قُلْتَ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَةِ: 286] وَقُلْتَ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: 185] وَقُلْتَ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَجِّ: 78] فَمَعَ هَذِهِ الْأَعْذَارِ الظَّاهِرَةِ وَالْأَسْبَابِ الْقَوِيَّةِ كَيْفَ يَجُوزُ فِي حِكْمَتِكَ وَرَحْمَتِكَ أَنْ تَذُمَّنِي وَتَلْعَنَنِي؟. السَّادِسُ: جَعَلْتَنِي مَرْجُومًا مَلْعُونًا بِسَبَبِ جُرْمٍ صَدَرَ مِنِّي أَوْ لَا بِسَبَبِ جُرْمٍ صَدَرَ مِنِّي؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ بَطَلَ الْجَبْرُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهَذَا مَحْضُ الظُّلْمِ، وَأَنْتَ قُلْتَ: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ [غَافِرٍ: 31] فَكَيْفَ يَلِيقُ هَذَا بِكَ؟. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذِهِ الْإِشْكَالَاتُ إِنَّمَا تَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالْجَبْرِ، وَأَنَا لَا أَقُولُ بِالْجَبْرِ، وَلَا بِالْقَدَرِ، بَلْ أَقُولُ: الْحَقُّ حَالَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَهُوَ الْكَسْبُ. فَنَقُولُ: هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ أَثَرٌ فِي الْفِعْلِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ تَمَامُ الْقَوْلِ بِالِاعْتِزَالِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ الْجَبْرُ الْمَحْضُ، وَالسُّؤَالَاتُ الْمَذْكُورَةُ وَارِدَةٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُ الْوَاسِطَةِ. قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَمَّا الْإِشْكَالَاتُ الَّتِي أَلْزَمْتُمُوهَا عَلَيْنَا فَهِيَ بِأَسْرِهَا وَارِدَةٌ عَلَيْكُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: - الْأَوَّلُ: أَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُعِينَةً لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، أَوْ كَانَتْ صَالِحَةً لِلطَّرَفَيْنِ مَعًا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْجَبْرُ لَازِمٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَرُجْحَانُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إِمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى الْمُرَجِّحِ، أَوْ لَا يَتَوَقَّفَ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَفَاعِلُ ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ إِنْ كَانَ هُوَ الْعَبْدَ عَادَ التَّقْسِيمُ الْأَوَّلُ فيه، وإن كان هو الله تعالى فعند ما يَفْعَلُ ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ يَصِيرُ الْفِعْلُ وَاجِبَ الْوُقُوعِ، وعند ما لَا يَفْعَلُهُ يَصِيرُ الْفِعْلُ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُكُمْ كُلُّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ، وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ رُجْحَانَ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مُرَجِّحٍ فَهَذَا بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَبَطَلَ الِاسْتِدْلَالُ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ عَلَى وُجُودِ الْمُرَجِّحِ، وَالثَّانِي: أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ ذَلِكَ الرُّجْحَانُ وَاقِعًا عَلَى سَبِيلِ الِاتِّفَاقِ، وَلَا يَكُونُ صَادِرًا عَنِ الْعَبْدِ، وَإِذَا

كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ عَادَ الْجَبْرُ الْمَحْضُ، فَثَبَتَ بِهَذَا الْبَيَانِ أَنَّ كُلَّ مَا أَوْرَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا فَهُوَ وَارِدٌ عَلَيْكُمْ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي السُّؤَالِ: أَنَّكُمْ سَلَّمْتُمْ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَوُقُوعُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ عِلْمِهِ يَقْتَضِي انْقِلَابَ عِلْمِهِ جَهْلًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَالْمُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَكَانَ كُلُّ مَا أَوْرَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا فِي الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ لَازِمًا عَلَيْكُمْ فِي الْعِلْمِ لزوما لا جواب عنه. الاستعاذة تبطل قول القدرية: ثُمَّ قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ قَوْلُهُ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالْقَدَرِ مِنْ وُجُوهٍ: - الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ قَوْلِكَ: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ أَنْ يَمْنَعَ اللَّهُ الشَّيْطَانَ مِنْ عَمَلِ الْوَسْوَسَةِ مَنْعًا بِالنَّهْيِ وَالتَّحْذِيرِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْجَبْرِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ فَعَلَهُ، وَلَمَّا فَعَلَهُ كَانَ طَلَبُهُ مِنَ اللَّهِ مُحَالًا، لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ يُنَافِي كَوْنَ الشَّيَاطِينِ مُكَلَّفِينَ، وَقَدْ ثَبَتَ كَوْنُهُمْ مُكَلَّفِينَ، أَجَابَتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَنْهُ فَقَالُوا: الْمَطْلُوبُ بِالِاسْتِعَاذَةِ فِعْلُ الْأَلْطَافِ الَّتِي تَدْعُو الْمُكَلَّفَ إِلَى فِعْلِ الْحَسَنِ وَتَرْكِ الْقَبِيحِ، لَا يُقَالُ: فَتِلْكَ الْأَلْطَافُ فِعْلُ اللَّهِ بِأَسْرِهَا فَمَا الْفَائِدَةُ فِي الطَّلَبِ، لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ مِنَ الْأَلْطَافِ مَا لَا يَحْسُنُ فِعْلُهُ إِلَّا عِنْدَ هَذَا الدُّعَاءِ، فَلَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْ هَذَا الدُّعَاءُ لَمْ يَحْسُنْ فِعْلُهُ. أَجَابَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ فِعْلَ تِلْكَ الْأَلْطَافِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَثَرٌ فِي تَرْجِيحِ جَانِبِ الْفِعْلِ عَلَى جَانِبِ التَّرْكِ، أَوْ لَا أَثَرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَعِنْدَ حُصُولِ التَّرْجِيحِ يَصِيرُ الْفِعْلُ وَاجِبَ الْوُقُوعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ رُجْحَانِ جَانِبِ الْوُجُودِ لَوْ حَصَلَ الْعَدَمُ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَحْصُلَ عِنْدَ رُجْحَانِ جَانِبِ الْوُجُودِ رُجْحَانُ جَانِبِ الْعَدَمِ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ الرُّجْحَانِ يَحْصُلُ الْوُجُوبُ. وَذَلِكَ يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالِاعْتِزَالِ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِحَسَبِ فِعْلِ تِلْكَ الْأَلْطَافِ رُجْحَانُ طَرَفِ الْوُجُودِ لَمْ يَكُنْ لِفِعْلِهَا الْبَتَّةَ أَثَرٌ، فَيَكُونُ فِعْلُهَا عَبَثًا مَحْضًا. وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِصَلَاحِ حَالِ الْعَبْدِ، أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ هُوَ الْأَوَّلَ فَالشَّيْطَانُ إِمَّا أَنْ يُتَوَقَّعَ مِنْهُ إِفْسَادُ الْعَبْدِ، أَوْ لَا يُتَوَقَّعَ، فَإِنْ تُوُقِّعَ مِنْهُ إِفْسَادُ الْعَبْدِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُرِيدٌ إِصْلَاحَ حَالِ الْعَبْدِ فَلِمَ خَلَقَهُ وَلِمَ سَلَّطَهُ عَلَى الْعَبْدِ؟ وَأَمَّا إِنْ كَانَ لَا يُتَوَقَّعُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِفْسَادُ الْعَبْدِ فَأَيُّ حَاجَةٍ لِلْعَبْدِ إِلَى الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ؟ وَأَمَّا/ إِذَا قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُرِيدُ مَا هُوَ صَلَاحُ حَالِ الْعَبْدِ فَالِاسْتِعَاذَةُ بِاللَّهِ كَيْفَ تُفِيدُ الِاعْتِصَامَ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَجْبُورًا عَلَى فِعْلِ الشَّرِّ، أَوْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى فِعْلِ الشَّرِّ وَالْخَيْرِ مَعًا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ أَجْبَرَهُ اللَّهُ عَلَى الشَّرِّ، وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاحَ وَالْخَيْرَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي- وَهُوَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى فِعْلِ الشَّرِّ وَالْخَيْرِ- فَهُنَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَرَجَّحَ فِعْلُ الْخَيْرِ عَلَى فِعْلِ الشَّرِّ إِلَّا بِمُرَجِّحٍ، وَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ يَكُونُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي الِاسْتِعَاذَةِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: هَبْ أَنَّ الْبَشَرَ إِنَّمَا وَقَعُوا فِي الْمَعَاصِي بِسَبَبِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، فَالشَّيْطَانُ كَيْفَ وَقَعَ فِي الْمَعَاصِي؟ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ وَقَعَ فِيهَا بِوَسْوَسَةِ شَيْطَانٍ آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ قُلْنَا وَقَعَ الشَّيْطَانُ فِي الْمَعَاصِي لَا لِأَجْلِ شَيْطَانٍ آخَرَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الْبَشَرِ؟ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ

تَعَالَى سَلَّطَ الشَّيْطَانَ عَلَى الْبَشَرِ وَلَمْ يُسَلِّطْ عَلَى الشَّيْطَانِ شَيْطَانًا آخَرَ فَهَذَا حَيْفٌ عَلَى الْبَشَرِ، وَتَخْصِيصٌ لَهُ بِمَزِيدِ الثِّقَلِ وَالْإِضْرَارِ وَذَلِكَ ينافي كون الإله رحيما ناصر لِعِبَادِهِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْفِعْلَ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ إِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ فَهُوَ وَاجِبُ الْوُقُوعِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْلُومِ الْوُقُوعِ كَانَ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِقَوْلِهِ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) إِلَّا أَنْ يَنْكَشِفَ لِلْعَبْدِ أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ وَبِاللَّهِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِيهِ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِعَفْوِكَ مِنْ غَضَبِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك» . المستعاذ به: الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمُسْتَعَاذُ بِهِ: وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: (أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ) أَمَّا قَوْلُهُ أَعُوذُ بِاللَّهِ فَبَيَانُهُ إِنَّمَا يَتِمُّ بِالْبَحْثِ عَنْ لَفْظَةِ اللَّهِ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ بِسْمِ اللَّهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: (أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ) فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ: 40] وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ «كُنْ» نَفَاذُ قُدْرَتِهِ فِي الْمُمْكِنَاتِ، وَسَرَيَانُ مَشِيئَتِهِ فِي الْكَائِنَاتِ، بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ عَائِقٌ وَمَانِعٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا تَحْسُنُ الِاسْتِعَاذَةُ بِاللَّهِ إِلَّا لِكَوْنِهِ مَوْصُوفًا بِتِلْكَ الْقُدْرَةِ الْقَاهِرَةِ وَالْمَشِيئَةِ النَّافِذَةِ، وَأَيْضًا فَالْجُسْمَانِيَّاتُ لَا يَكُونُ حُدُوثُهَا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْحَرَكَةِ، وَالْخُرُوجِ/ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ يَسِيرًا يَسِيرًا، وَأَمَّا الرُّوحَانِيَّاتُ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ تَكَوُّنُهَا وَخُرُوجُهَا إِلَى الْفِعْلِ دَفْعَةً، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ حُدُوثُهَا شَبِيهًا بِحُدُوثِ الْحَرْفِ الَّذِي لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي الْآنِ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ، فَلِهَذِهِ الْمُشَابَهَةِ سُمِّيَتْ نَفَاذُ قُدْرَتِهِ بِالْكَلِمَةِ، وَأَيْضًا ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْمَعْقُولَاتِ أَنَّ عَالَمَ الْأَرْوَاحِ مُسْتَوْلٍ عَلَى عَالَمِ الْأَجْسَامِ، وَإِنَّمَا هِيَ الْمُدَبِّرَاتُ لِأُمُورِ هَذَا الْعَالَمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [النَّازِعَاتِ: 5] فَقَوْلُهُ: (أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ) اسْتِعَاذَةٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ بِالْأَرْوَاحِ الْعَالِيَةِ الْمُقَدَّسَةِ الطَّاهِرَةِ الطَّيِّبَةِ فِي دَفْعِ شُرُورِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ الظَّلْمَانِيَّةِ الْكَدِرَةِ، فَالْمُرَادُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ تِلْكَ الْأَرْوَاحُ الْعَالِيَةُ الطَّاهِرَةُ. ثُمَّ هاهنا دَقِيقَةٌ، وَهِيَ أَنَّ قَوْلَهُ: (أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ) إِنَّمَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ إِذَا كَانَ قَدْ بَقِيَ فِي نَظَرِهِ الْتِفَاتٌ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَأَمَّا إِذَا تَغَلْغَلَ فِي بَحْرِ التَّوْحِيدِ، وَتَوَغَّلَ فِي قَعْرِ الْحَقَائِقِ وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يَرَى فِي الْوُجُودِ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى، لَمْ يَسْتَعِذْ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَمْ يَلْتَجِئْ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، وَلَمْ يُعَوِّلْ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، فَلَا جَرَمَ يَقُولُ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) وَ (أَعُوذُ مِنَ اللَّهِ بِاللَّهِ) كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ» وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَكُونُ الْعَبْدُ مُشْتَغِلًا أَيْضًا بِغَيْرِ اللَّهِ لِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ لِطَلَبٍ أَوْ لِهَرَبٍ، وَذَلِكَ اشْتِغَالٌ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا تَرَقَّى الْعَبْدُ عَنْ هَذَا الْمَقَامِ وَفَنِيَ عَنْ نَفْسِهِ وَفَنِيَ أَيْضًا عَنْ فَنَائِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَهَهُنَا يَتَرَقَّى عَنْ مَقَامِ قَوْلِهِ أَعُوذُ بِاللَّهِ وَيَصِيرُ مُسْتَغْرِقًا فِي نُورِ قَوْلِهِ: (بِسْمِ اللَّهِ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ» تَرَقَّى عَنْ هَذَا الْمَقَامِ فقال: «أنت كما أثنيت على نفسك» . المستعيذ: الرُّكْنُ الثَّالِثُ: مِنْ أَرْكَانِ هَذَا الْبَابِ: الْمُسْتَعِيذُ: وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ (أَعُوذُ بِاللَّهِ) أَمْرٌ مِنْهُ لِعِبَادِهِ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ،

وَهَذَا غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ، فَهُوَ أَمْرٌ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى ذَلِكَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعِيذًا بِاللَّهِ، فَالْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ [هُودٍ: 47] فَعِنْدَ هذا أعطاه الله خلعتين، والسلام والبركات، وهو قوله تعالى: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ [هُودٍ: 48] وَالثَّانِي: حَكَى عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا رَاوَدَتْهُ قَالَ: مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ [يُوسُفَ: 23] فَأَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى خُلْعَتَيْنِ صَرْفَ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ حَيْثُ قَالَ: لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ [يوسف: 24] والثالث: قيل له: فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ [يُوسُفَ: 78] فَقَالَ: مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ [يُوسُفَ: 79] فَأَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً، [يُوسُفَ: 100] الرَّابِعُ: حَكَى اللَّهُ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ قَوْمَهُ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ/ قَالَ قَوْمُهُ: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [الْبَقَرَةِ: 67] فَأَعْطَاهُ اللَّهُ خُلْعَتَيْنِ إِزَالَةَ التُّهْمَةِ وَإِحْيَاءَ الْقَتِيلِ فَقَالَ: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ ، [الْبَقَرَةِ: 73] الْخَامِسُ: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا خَوَّفُوهُ بِالْقَتْلِ قَالَ: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ [الدُّخَانِ: 20] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ [غَافِرٍ: 27] فَأَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مُرَادَهُ فَأَفْنَى عَدُوَّهُمْ وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ، وَالسَّادِسُ: أَنَّ أُمَّ مَرْيَمَ قَالَتْ: وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ: [آلِ عِمْرَانَ: 36] فَوَجَدَتِ الْخُلْعَةَ وَالْقَبُولَ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً [آلِ عِمْرَانَ: 37] وَالسَّابِعُ: أَنَّ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ لَمَّا رَأَتْ جِبْرِيلَ فِي صُورَةِ بَشَرٍ يَقْصِدُهَا فِي الْخَلْوَةِ قَالَتْ: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا [مَرْيَمَ: 18] فَوَجَدَتْ نِعْمَتَيْنِ وَلَدًا مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَتَنْزِيهَ اللَّهِ إِيَّاهَا بِلِسَانِ ذَلِكَ الْوَلَدِ عَنِ السُّوءِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مَرْيَمَ: 30] الثَّامِنُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَقَالَ: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 97، 98] وَقَالَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق: 1] وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [النَّاسِ: 1] وَالتَّاسِعُ: قَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الْأَعْرَافِ: 199، 200] وَقَالَ فِي حم السَّجْدَةِ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فُصِّلَتْ: 34] إِلَى أَنْ قَالَ: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فُصِّلَتْ: 36] فَهَذِهِ الْآيَاتُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَانُوا أَبَدًا فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَكَثِيرَةٌ: الْخَبَرُ الْأَوَّلُ: عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَغْرَقَا فِيهِ: فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَاهَا لَذَهَبَ عَنْهُمَا ذَلِكَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» وَأَقُولُ هَذَا الْمَعْنَى مُقَرَّرٌ فِي الْعَقْلِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْلَمُ أَنَّ عِلْمَهُ بِمَصَالِحِ هَذَا الْعَالَمِ وَمَفَاسِدِهِ قَلِيلٌ جِدًّا، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُمْكِنْهُ أَنْ يَعْرِفَ ذَلِكَ الْقَلِيلَ بِمَدَدِ الْعَقْلِ، وَعِنْدَ الْغَضَبِ يَزُولُ الْعَقْلُ، فَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ وَيَقُولُهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْقَانُونِ الْجَيِّدِ، فَإِذَا اسْتَحْضَرَ فِي عَقْلِهِ هَذَا صَارَ هَذَا الْمَعْنَى مَانِعًا لَهُ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى تِلْكَ الْأَفْعَالِ وَتِلْكَ الْأَقْوَالِ، وَحَامِلًا لَهُ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي تَحْصِيلِ الْخَيْرَاتِ وَدَفْعِ الْآفَاتِ، فَلَا جَرَمَ يَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرُ عَالِمٍ قَطْعًا بِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ جَانِبِهِ وَلَا مِنْ جانب بخصمه، فَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ يَقُولُ: أُفَوِّضُ هَذِهِ

الْوَاقِعَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا كَانَ الْحَقُّ مِنْ جَانِبِي فَاللَّهُ يَسْتَوْفِيهِ مِنْ خَصْمِي، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مِنْ جَانِبِ خَصْمِي فَالْأَوْلَى أَنْ لَا أَظْلِمَهُ» / وَعِنْدَ هَذَا يُفَوِّضُ تِلْكَ الْحُكُومَةَ إِلَى اللَّهِ وَيَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَغْضَبُ إِذَا أَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ بِفَرْطِ قُوَّةٍ وَشِدَّةٍ بِوَاسِطَتِهَا يَقْوَى عَلَى قَهْرِ الْخَصْمِ، فَإِذَا اسْتَحْضَرَ فِي عَقْلِهِ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ أَقْوَى وَأَقْدَرُ مِنِّي ثَمَّ إِنِّي عَصَيْتُهُ مَرَّاتٍ وَكَرَّاتٍ وَأَنَّهُ بِفَضْلِهِ تَجَاوَزَ عَنِّي فَالْأَوْلَى لِي أَنْ أَتَجَاوَزَ عَنْ هَذَا الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَحْضَرَ فِي عَقْلِهِ هَذَا الْمَعْنَى تَرَكَ الْخُصُومَةَ وَالْمُنَازَعَةَ وَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الْأَعْرَافِ: 201] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا تَذَكَّرَ هَذِهِ الْأَسْرَارَ وَالْمَعَانِيَ أَبْصَرَ طَرِيقَ الرُّشْدِ فَتَرَكَ النِّزَاعَ وَالدِّفَاعَ وَرَضِيَ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. والخبر الثاني: وروى مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَقَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ، وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يُمْسِيَ، فَإِنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَاتَ شَهِيدًا، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي كَانَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ» . قُلْتُ: وَتَقْرِيرُهُ مِنْ جَانِبِ الْعَقْلِ أَنَّ قَوْلَهُ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) مُشَاهَدَةٌ لِكَمَالِ عَجْزِ النَّفْسِ وَغَايَةِ قُصُورِهَا، وَالْآيَاتِ الثَّلَاثَ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ مُشَاهَدَةٌ لِكَمَالِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَكَمَالُ الْحَالِ فِي مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ. الْخَبَرُ الثَّالِثُ: رَوَى أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال: «من اسْتَعَاذَ فِي الْيَوْمِ عَشْرَ مَرَّاتٍ وَكَّلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَلَكًا يَذُودُ عَنْهُ الشَّيْطَانَ» . قُلْتُ: وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) وَعَرَفَ مَعْنَاهُ عَرَفَ مِنْهُ نُقْصَانَ قُدْرَتِهِ وَنُقْصَانَ عِلْمِهِ، وَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى مَا تَأْمُرُهُ بِهِ النَّفْسُ، وَلَمْ يُقْدِمْ عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي تَدْعُوهُ نَفْسُهُ إِلَيْهَا، وَالشَّيْطَانُ الْأَكْبَرُ هُوَ النَّفْسُ، فَثَبَتَ أَنَّ قِرَاءَةَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ تَذُودُ الشَّيْطَانَ عَنِ الْإِنْسَانِ. وَالْخَبَرُ الرَّابِعُ: عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ» . قُلْتُ: وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَشْخَاصِ الرُّوحَانِيَّةِ فَوْقَ كثرة الأشخاص الجسمانية، وأن السموات مَمْلُوءَةٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ الطَّاهِرَةِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَطَّتِ السَّمَاءُ، وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ قَدَمٍ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ قَاعِدٌ» وَكَذَلِكَ الْأَثِيرُ وَالْهَوَاءُ مَمْلُوءَةٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ، وَبَعْضُهَا طَاهِرَةٌ مُشْرِقَةٌ خَيِّرَةٌ، وَبَعْضُهَا كَدِرَةٌ مُؤْذِيَةٌ/ شِرِّيرَةٌ، فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: (أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ) فَقَدِ اسْتَعَاذَ بِتِلْكَ الْأَرْوَاحِ الطَّاهِرَةِ مِنْ شَرِّ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ، وَأَيْضًا كَلِمَاتُ اللَّهِ هِيَ قَوْلُهُ: «كُنْ» وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ النَّافِذَةِ وَمَنِ اسْتَعَاذَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ. وَالْخَبَرُ الْخَامِسُ: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا فَزِعَ أَحَدُكُمْ مِنَ النَّوْمِ فَلْيَقُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ شَرِّ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّ» وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُعَلِّمُهَا مَنْ بَلَغَ مِنْ عَبِيدِهِ، وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ كَتَبَهَا فِي صَكٍّ ثُمَّ عَلَّقَهَا في عنقه.

وَالْخَبَرُ السَّادِسُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَيَقُولُ: «أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ» وَيَقُولُ: «كَانَ أَبِي إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ» . الْخَبَرُ السَّابِعُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُعَظِّمُ أَمْرَ الِاسْتِعَاذَةِ حَتَّى أَنَّهُ لَمَّا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَدَخَلَ بِهَا فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: عُذْتِ بِمُعَاذٍ فَالْحَقِي بِأَهْلِكِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّجُلَ الْمُسْتَبْصِرَ بِنُورِ اللَّهِ لَا الْتِفَاتَ لَهُ إِلَى الْقَائِلِ، وَإِنَّمَا الْتِفَاتُهُ إِلَى الْقَوْلِ، فَلَمَّا ذَكَرَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ كَلِمَةَ أَعُوذُ بِاللَّهِ بَقِيَ قَلْبُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْتَغِلًا بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى أَنَّهَا قَالَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةَ عَنْ قَصْدٍ أَمْ لَا. وَالْخَبَرُ الثَّامِنُ: رَوَى الْحَسَنُ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَضْرِبُ مَمْلُوكًا لَهُ فَجَعَلَ الْمَمْلُوكُ يَقُولُ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) إِذْ جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ فَقَالَ: أَعُوذُ بِرَسُولِ اللَّهِ، فَأَمْسَكَ عَنْهُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: عَائِذُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُمْسَكَ عَنْهُ، فَقَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّهُ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تَقُلْهَا لَدَافَعَ وَجْهُكَ سَفْعَ النَّارِ. وَالْخَبَرُ التَّاسِعُ: قَالَ سُوَيْدٌ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَلَا أُحِبُّ أَنْ أَتْرُكَ ذَلِكَ مَا بَقِيتُ. وَالْخَبَرُ الْعَاشِرُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِعَفْوِكَ مِنْ غَضَبِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ» . المستعاذ منه: الرُّكْنُ الرَّابِعُ: مِنْ أَرْكَانِ هَذَا الْبَابِ الْكَلَامُ، فِي الْمُسْتَعَاذِ مِنْهُ وَهُوَ الشَّيْطَانُ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِعَاذَةِ دَفْعُ شَرِّ الشَّيْطَانِ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَّ الشيطان إما أن يكون بالوسوسة أو بغيرهما، / كَمَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ [الْبَقَرَةِ: 275] وَفِي هَذَا الْبَابِ مَسَائِلُ غَامِضَةٌ دَقِيقَةٌ مِنَ العقليات، ومن علوم المكاشفات. الاختلاف في وجود الجن: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُجُودِ الْجِنِّ والشياطين فمن الناس من أنكر الجن والشيطان، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَوَّلًا مِنَ الْبَحْثِ عَنْ مَاهِيَّةِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ فَنَقُولُ: أَطْبَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ عِبَارَةً عَنْ أَشْخَاصٍ جُسْمَانِيَّةٍ كَثِيفَةٍ تَجِيءُ وَتَذْهَبُ مِثْلَ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ، بَلِ الْقَوْلُ الْمُحَصَّلُ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا أَجْسَامٌ هَوَائِيَّةٌ قَادِرَةٌ عَلَى التَّشَكُّلِ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَهَا عُقُولٌ وَأَفْهَامٌ وَقُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالٍ صَعْبَةٍ شَاقَّةٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ أَثْبَتُوا أَنَّهَا مَوْجُودَاتٌ غَيْرُ مُتَحَيِّزَةٍ وَلَا حَالَّةٍ فِي الْمُتَحَيِّزِ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا مَوْجُودَاتٌ مُجَرَّدَةٌ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ، ثُمَّ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتُ قَدْ تَكُونُ عَالِيَةً مُقَدَّسَةً عَنْ تَدْبِيرِ الْأَجْسَامِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 19] وَيَلِيهَا مَرْتَبَةُ الْأَرْوَاحِ

الْمُتَعَلِّقَةِ بِتَدْبِيرِ الْأَجْسَامِ، وَأَشْرَفُهَا حَمَلَةُ الْعَرْشِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الْحَاقَّةِ: 17] وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَافُّونَ حَوْلَ الْعَرْشِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزُّمَرِ: 75] وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: مَلَائِكَةُ الْكُرْسِيِّ، والمرتبة الرابعة: ملائكة السموات طَبَقَةً طَبَقَةً، وَالْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: مَلَائِكَةُ كُرَةِ الْأَثِيرِ، وَالْمَرْتَبَةُ السَّادِسَةُ: مَلَائِكَةُ كُرَةِ الْهَوَاءِ الَّذِي هُوَ فِي طَبْعِ النَّسِيمِ، وَالْمَرْتَبَةُ السَّابِعَةُ: مَلَائِكَةُ كُرَةِ الزَّمْهَرِيرِ، وَالْمَرْتَبَةُ الثَّامِنَةُ: مَرْتَبَةُ الْأَرْوَاحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبِحَارِ، وَالْمَرْتَبَةُ التَّاسِعَةُ: مَرْتَبَةُ الْأَرْوَاحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْجِبَالِ، وَالْمَرْتَبَةُ الْعَاشِرَةُ: مَرْتَبَةُ الْأَرْوَاحِ السُّفْلِيَّةِ الْمُتَصَرِّفَةِ فِي هَذِهِ الْأَجْسَامِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ فَهَذِهِ الْأَرْوَاحُ قَدْ تَكُونُ مُشْرِقَةً إِلَهِيَّةً خَيِّرَةً سَعِيدَةً، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالصَّالِحِينَ مِنَ الْجِنِّ، وَقَدْ تَكُونُ كَدِرَةً سُفْلِيَّةً شِرِّيرَةً شَقِيَّةً، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالشَّيَاطِينِ. وَاحْتَجَّ الْمُنْكِرُونَ لِوُجُودِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ بِوُجُوهٍ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جِسْمًا كَثِيفًا أَوْ لَطِيفًا، وَالْقِسْمَانِ بطلان فَيَبْطُلُ الْقَوْلُ بِوُجُودِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا كَثِيفًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَرَاهُ كُلُّ مَنْ كَانَ سَلِيمَ الْحِسِّ، إِذْ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِنَا أَجْسَامٌ كَثِيفَةٌ وَنَحْنُ لَا نَرَاهَا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِنَا جِبَالٌ عَالِيَةٌ وَشُمُوسٌ مُضِيئَةٌ وَرُعُودٌ وَبُرُوقٌ مَعَ أَنَّا لَا نُشَاهِدُ شَيْئًا مِنْهَا، وَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ كَانَ خَارِجًا عَنِ الْعَقْلِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ لَا يَجُوزُ كَوْنُهَا أَجْسَامًا لَطِيفَةً وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ تَتَمَزَّقَ أَوْ تَتَفَرَّقَ عِنْدَ هُبُوبِ الرِّيَاحِ الْعَاصِفَةِ الْقَوِيَّةِ، وَأَيْضًا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا/ قُوَّةٌ وَقُدْرَةٌ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، وَمُثْبِتُو الْجِنِّ يَنْسُبُونَ إِلَيْهَا الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ، وَلَمَّا بَطَلَ الْقِسْمَانِ ثَبَتَ فَسَادُ الْقَوْلِ بِالْجِنِّ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَشْخَاصَ الْمُسَمَّاةَ بِالْجِنِّ إِذَا كَانُوا حَاضِرِينَ فِي هَذَا الْعَالَمِ مُخَالِطِينَ لِلْبَشَرِ فالظاهر الغالب أن يحصل لَهُمْ بِسَبَبِ طُولِ الْمُخَالَطَةِ وَالْمُصَاحَبَةِ إِمَّا صَدَاقَةٌ وَإِمَّا عَدَاوَةٌ، فَإِنْ حَصَلَتِ الصَّدَاقَةُ وَجَبَ ظُهُورُ الْمَنَافِعِ بِسَبَبِ تِلْكَ الصَّدَاقَةِ، وَإِنْ حَصَلَتِ الْعَدَاوَةُ وَجَبَ ظُهُورُ الْمَضَارِّ بِسَبَبِ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ، إِلَّا أَنَّا لَا نَرَى أَثَرًا لَا مِنْ تِلْكَ الصَّدَاقَةِ وَلَا مِنْ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُمَارِسُونَ صَنْعَةَ التَّعْزِيمِ إِذَا تَابُوا مِنَ الْأَكَاذِيبِ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ قَطُّ مَا شَاهَدُوا أَثَرًا مِنْ هَذَا الْجِنِّ، وَذَلِكَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَسَمِعْتُ وَاحِدًا مِمَّنْ تَابَ عن تِلْكَ الصَّنْعَةِ قَالَ إِنِّي وَاظَبْتُ عَلَى الْعَزِيمَةِ الْفُلَانِيَّةِ كَذَا مِنَ الْأَيَّامِ وَمَا تَرَكْتُ دَقِيقَةً مِنَ الدَّقَائِقِ إِلَّا أَتَيْتُ بِهَا ثُمَّ إِنِّي مَا شَاهَدْتُ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْمَذْكُورَةِ أَثَرًا وَلَا خَبَرًا. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَشْيَاءِ إِمَّا الْحِسُّ، وَإِمَّا الْخَبَرُ، وَإِمَّا الدَّلِيلُ: أَمَّا الْحِسُّ فَلَمْ يَدُلَّ عَلَى وُجُودِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّ وَجُودَهَا إِمَّا بِالصُّورَةِ أَوِ الصَّوْتِ فَإِذَا كُنَّا لَا نَرَى صُورَةً وَلَا سَمِعْنَا صَوْتًا فَكَيْفَ يُمْكِنُنَا أَنْ نَدَّعِيَ الْإِحْسَاسَ بِهَا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّا أَبْصَرْنَاهَا أَوْ سَمِعْنَا أَصْوَاتَهَا فَهُمْ طَائِفَتَانِ: الْمَجَانِينُ الَّذِينَ يَتَخَيَّلُونَ أَشْيَاءَ بسبب خلل أمزجتهم فيظنون أنهم رأوها، وَالْكَذَّابُونَ الْمُخَرِّفُونَ، وَأَمَّا إِثْبَاتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِوَاسِطَةِ إِخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ فَبَاطِلٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَوْ ثَبَتَتْ لَبَطَلَتْ نُبُوَّةُ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ كُلَّ مَا تَأْتِي بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ إِنَّمَا حَصَلَ بِإِعَانَةِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، وَكُلُّ فَرْعٍ أَدَّى إِلَى إِبْطَالِ الْأَصْلِ كَانَ بَاطِلًا، مِثَالُهُ إِذَا جَوَّزْنَا نُفُوذَ الْجِنِّ فِي بَوَاطِنِ الْإِنْسَانِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ حَنِينَ الْجِذْعِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ الشَّيْطَانَ نَفَذَ فِي ذَلِكَ الْجِذْعِ ثُمَّ أَظْهَرَ الْحَنِينَ وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ النَّاقَةَ إِنَّمَا تَكَلَّمَتْ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ

لِأَنَّ الشَّيْطَانَ دَخَلَ فِي بَطْنِهَا وَتَكَلَّمَ، وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الشَّجَرَةَ إِنَّمَا انْقَلَعَتْ مِنْ أَصْلِهَا لِأَنَّ الشَّيْطَانَ اقْتَلَعَهَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِإِثْبَاتِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ يُوجِبُ الْقَوْلَ بِبُطْلَانِ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَأَمَّا إِثْبَاتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِوَاسِطَةِ الدَّلِيلِ وَالنَّظَرِ فَهُوَ مُتَعَذِّرٌ، لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ دَلِيلًا عَقْلِيًّا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَنَا إِلَى الْعِلْمِ بِوُجُودِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِوُجُودِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَاطِلًا، فَهَذِهِ جُمْلَةُ شُبَهِ مُنْكِرِي الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأُولَى: بِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ الشُّبْهَةَ الَّتِي ذَكَرْتُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ كَوْنُ الْجِنِّ جِسْمًا، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ جوهر مجرد عن الجسمية/ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأُولَى بِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ الشُّبْهَةَ الَّتِي ذَكَرْتُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ كَوْنُ الْجِنِّ جِسْمًا فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِرَقٌ: الْأُولَى الَّذِينَ قَالُوا: النُّفُوسُ النَّاطِقَةُ الْبَشَرِيَّةُ الْمُفَارِقَةُ لِلْأَبْدَانِ قَدْ تَكُونُ خَيِّرَةً، وَقَدْ تَكُونُ شِرِّيرَةً، فَإِنْ كَانَتْ خَيِّرَةً فَهِيَ الْمَلَائِكَةُ الْأَرْضِيَّةُ، وَإِنْ كَانَتْ شِرِّيرَةً فَهِيَ الشَّيَاطِينُ الْأَرْضِيَّةُ، ثُمَّ إِذَا حَدَثَ بَدَنٌ شَدِيدُ الْمُشَابَهَةِ بِبَدَنِ تِلْكَ النُّفُوسِ الْمُفَارِقَةِ وَتَعَلَّقَ بِذَلِكَ الْبَدَنِ نَفْسٌ شَدِيدَةُ الْمُشَابَهَةِ لِتِلْكَ النَّفْسِ الْمُفَارِقَةِ فَحِينَئِذٍ يَحْدُثُ لِتِلْكَ النَّفْسِ الْمُفَارِقَةِ ضَرْبُ تَعَلُّقٍ بِهَذَا الْبَدَنِ الْحَادِثِ، وَتَصِيرُ تِلْكَ النَّفْسُ الْمُفَارِقَةُ مُعَاوِنَةً لِهَذِهِ النَّفْسِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذَا الْبَدَنِ عَلَى الأعمال اللائقة بها، فإن كانت النفسان من النفوس الطاهرة المشرقة الْخَيِّرَةِ كَانَتْ تِلْكَ الْمُعَاوَنَةُ وَالْمُعَاضَدَةُ إِلْهَامًا، وَإِنْ كَانَتَا مِنَ النُّفُوسِ الْخَبِيثَةِ الشِّرِّيرَةِ كَانَتْ تِلْكَ الْمُعَاوَنَةُ وَالْمُنَاصَرَةُ وَسْوَسَةً، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي الْإِلْهَامِ وَالْوَسْوَسَةِ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ. الْفَرِيقُ الثَّانِي: الَّذِينَ قَالُوا: الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ جَوَاهِرُ مُجَرَّدَةٌ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَعَلَائِقِهَا، وَجِنْسُهَا مُخَالِفٌ لِجِنْسِ النُّفُوسِ النَّاطِقَةِ الْبَشَرِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْجِنْسَ يَنْدَرِجُ فِيهِ أَنْوَاعٌ أَيْضًا، فَإِنْ كَانَتْ طَاهِرَةً نُورَانِيَّةً فَهِيَ الْمَلَائِكَةُ الْأَرْضِيَّةُ، وَهُمُ الْمُسَمَّوْنَ بِصَالِحِي الْجِنِّ، وَإِنْ كَانَتْ خَبِيثَةً شِرِّيرَةً فَهِيَ الشَّيَاطِينُ الْمُؤْذِيَةُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْجِنْسِيَّةُ عِلَّةُ الضَّمِّ، فَالنُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ الطَّاهِرَةُ النُّورَانِيَّةُ تَنْضَمُّ إِلَيْهَا تِلْكَ الْأَرْوَاحُ الطَّاهِرَةُ النُّورَانِيَّةُ وَتُعِينُهَا عَلَى أَعْمَالِهَا الَّتِي هِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَالنُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ الْخَبِيثَةُ الْكَدِرَةُ تَنْضَمُّ إِلَيْهَا تِلْكَ الْأَرْوَاحُ الْخَبِيثَةُ الشِّرِّيرَةُ وَتُعِينُهَا عَلَى أَعْمَالِهَا الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ الشَّرِّ وَالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. الْفَرِيقُ الثَّالِثُ، وَهُمُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ وُجُودَ الْأَرْوَاحِ السُّفْلِيَّةِ، وَلَكِنَّهُمْ أَثْبَتُوا وُجُودَ الْأَرْوَاحِ الْمُجَرَّدَةِ الْفَلَكِيَّةِ، وَزَعَمُوا أَنَّ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ أَرْوَاحٌ عَالِيَةٌ قَاهِرَةٌ قَوِيَّةٌ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ بِجَوَاهِرِهَا وَمَاهِيَّاتِهَا، فَكَمَا أَنَّ لِكُلِّ رُوحٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ بَدَنًا مُعَيَّنًا فَكَذَلِكَ لِكُلِّ رُوحٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْفَلَكِيَّةِ بَدَنٌ مُعَيَّنٌ، وَهُوَ ذَلِكَ الْفَلَكُ الْمُعَيَّنُ، وَكَمَا أَنَّ الرُّوحَ الْبَشَرِيَّةَ تَتَعَلَّقُ أَوَّلًا بِالْقَلْبِ ثُمَّ بِوَاسِطَتِهِ يَتَعَدَّى أَثَرُ ذَلِكَ الرُّوحِ إِلَى كُلِّ الْبَدَنِ، فَكَذَلِكَ الرُّوحُ الْفَلَكِيُّ يَتَعَلَّقُ أَوَّلًا بِالْكَوَاكِبِ ثُمَّ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ التَّعَلُّقِ يَتَعَدَّى أَثَرُ ذَلِكَ الرُّوحِ إِلَى كُلِّيَّةِ ذَلِكَ الْفَلَكِ وَإِلَى كُلِّيَّةِ الْعَالَمِ، وَكَمَا أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ فِي الْقَلْبِ وَالدِّمَاغِ أَرْوَاحٌ لَطِيفَةٌ وَتِلْكَ الْأَرْوَاحُ تَتَأَدَّى فِي الشَّرَايِينِ وَالْأَعْصَابِ إِلَى أَجْزَاءِ الْبَدَنِ وَيَصِلُ بِهَذَا الطَّرِيقِ قُوَّةُ الْحَيَاةِ وَالْحِسُّ وَالْحَرَكَةُ إِلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَعْضَاءِ، فَكَذَلِكَ يَنْبَعِثُ مِنْ جِرْمِ الْكَوَاكِبِ خُطُوطٌ شُعَاعِيَّةٌ تَتَّصِلُ بِجَوَانِبِ الْعَالَمِ وَتَتَأَدَّى قُوَّةُ تِلْكَ الْكَوَاكِبِ بِوَاسِطَةِ تِلْكَ الْخُطُوطِ الشُّعَاعِيَّةِ إِلَى أَجْزَاءِ هَذَا الْعَالَمِ/ وَكَمَا أَنَّ بِوَاسِطَةِ الْأَرْوَاحِ الْفَائِضَةِ مِنَ الْقَلْبِ وَالدِّمَاغِ إِلَى أَجْزَاءِ الْبَدَنِ يَحْصُلُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْبَدَنِ قُوًى مُخْتَلِفَةٌ وَهِيَ الْغَاذِيَةُ وَالنَّامِيَةُ وَالْمُوَلِّدَةُ وَالْحَسَّاسَةُ- فَتَكُونُ هَذِهِ الْقُوَى كَالنَّتَائِجِ وَالْأَوْلَادِ

لِجَوْهَرِ النَّفْسِ الْمُدَبِّرَةِ لِكُلِّيَّةِ الْبَدَنِ، فَكَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْخُطُوطِ الشُّعَاعِيَّةِ الْمُنْبَثَّةِ مِنَ الْكَوَاكِبِ الْوَاصِلَةِ إِلَى أَجْزَاءِ هَذَا الْعَالَمِ تَحْدُثُ فِي تِلْكَ الْأَجْزَاءِ نُفُوسٌ مَخْصُوصَةٌ مِثْلُ نَفْسِ زَيْدٍ وَنَفْسِ عَمْرٍو، وَهَذِهِ النُّفُوسُ كَالْأَوْلَادِ لِتِلْكَ النُّفُوسِ الْفَلَكِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَتِ النُّفُوسُ الْفَلَكِيَّةُ مُخْتَلِفَةً فِي جَوَاهِرِهَا وَمَاهِيَّاتِهَا، فَكَذَلِكَ النُّفُوسُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنْ نَفْسِ فَلَكِ زُحَلَ مَثَلًا طَائِفَةٌ، وَالنُّفُوسُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنْ نَفْسِ فَلَكِ الْمُشْتَرِي طَائِفَةٌ أُخْرَى، فَتَكُونُ النُّفُوسُ الْمُنْتَسِبَةُ إِلَى رُوحِ زُحَلَ مُتَجَانِسَةً مُتَشَارِكَةً، وَيَحْصُلُ بَيْنَهَا مَحَبَّةٌ وَمَوَدَّةٌ، وَتَكُونُ النُّفُوسُ الْمُنْتَسِبَةُ إِلَى رُوحِ زُحَلَ مُخَالِفَةً بِالطَّبْعِ وَالْمَاهِيَّةِ لِلنُّفُوسِ الْمُنْتَسِبَةِ إِلَى رُوحِ الْمُشْتَرِي، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالُوا: إِنَّ العلة تكون أقوى من المعلول، فكل طَائِفَةٍ مِنَ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ طَبِيعَةٌ خَاصَّةٌ، وَهِيَ تَكُونُ مَعْلُولَةً لِرُوحٍ مِنْ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ الْفَلَكِيَّةِ وَتِلْكَ الطَّبِيعَةُ تَكُونُ فِي الرُّوحِ الْفَلَكِيِّ أَقْوَى وَأَعْلَى بِكَثِيرٍ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ، وَتِلْكَ الْأَرْوَاحُ الْفَلَكِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الطَّائِفَةِ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ كَالْأَبِ الْمُشْفِقِ وَالسُّلْطَانِ الرَّحِيمِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ تِلْكَ الْأَرْوَاحُ الْفَلَكِيَّةُ تُعِينُ أَوْلَادَهَا عَلَى مَصَالِحِهَا وَتَهْدِيهَا تَارَةً فِي النَّوْمِ عَلَى سبيل الرؤيا، وأخرى في اليقظة في سَبِيلِ الْإِلْهَامِ، ثُمَّ إِذَا اتَّفَقَ لِبَعْضِ هَذِهِ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ قُوَّةٌ قَوِيَّةٌ مِنْ جِنْسِ تِلْكَ الْخَاصِّيَّةِ وَقَوِيَ اتِّصَالُهُ بِالرُّوحِ الْفَلَكِيِّ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ وَمَعْدِنُهُ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ أَفْعَالٌ عَجِيبَةٌ وَأَعْمَالٌ خَارِقَةٌ لِلْعَادَاتِ، فَهَذَا تَفْصِيلُ مَذَاهِبِ مَنْ يُثْبِتُ الْجِنَّ وَالشَّيَاطِينَ، وَيَزْعُمُ أَنَّهَا مَوْجُودَاتٌ لَيْسَتْ أَجْسَامًا وَلَا جُسْمَانِيَّةً. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْفَلَاسِفَةِ طَعَنُوا فِي هَذَا الْمَذْهَبِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْمُجَرَّدَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ إِدْرَاكُ الْجُزْئِيَّاتِ، وَالْمُجَرَّدَاتِ يَمْتَنِعُ كَوْنُهَا فَاعِلَةً لِلْأَفْعَالِ الْجُزْئِيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُمْكِنُنَا أَنْ نَحْكُمَ عَلَى هَذَا الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ بِأَنَّهُ إِنْسَانٌ وَلَيْسَ بِفَرَسٍ، وَالْقَاضِي عَلَى الشَّيْئَيْنِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَحْضُرَهُ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِمَا، فَهَهُنَا شَيْءٌ وَاحِدٌ هُوَ مُدْرِكٌ لِلْكُلِّيِّ، وَهُوَ النَّفْسُ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُدْرِكُ لِلْجُزْئِيِّ هُوَ النَّفْسُ. الثَّانِي: هَبْ أَنَّ النَّفْسَ الْمُجَرَّدَةَ لَا تَقْوَى عَلَى إِدْرَاكِ الْجُزْئِيَّاتِ ابْتِدَاءً، لَكِنْ لَا نِزَاعَ أَنَّهُ يُمْكِنُهَا أَنْ تُدْرِكَ الْجُزْئِيَّاتِ بِوَاسِطَةِ الْآلَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ تِلْكَ الْجَوَاهِرَ الْمُجَرَّدَةَ الْمُسَمَّاةَ بِالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ لَهَا آلَاتٌ جُسْمَانِيَّةٌ مِنْ كُرَةِ الْأَثِيرِ أَوْ مِنْ كُرَةِ الزَّمْهَرِيرِ، ثُمَّ إِنَّهَا بِوَاسِطَةِ تِلْكَ الْآلَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ تَقْوَى عَلَى إِدْرَاكِ الْجُزْئِيَّاتِ وَعَلَى التَّصَرُّفِ فِي هَذِهِ الْأَبْدَانِ، فَهَذَا تمام الكلام في شرح هذه المذاهب. وَأَمَّا الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْجِنَّ أَجْسَامٌ هَوَائِيَّةٌ أَوْ نَارِيَّةٌ فَقَالُوا: الْأَجْسَامُ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْحَجْمِيَّةِ وَالْمِقْدَارِ، وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ أَعْرَاضٌ، فَالْأَجْسَامُ مُتَسَاوِيَةٌ فِي قَبُولِ هَذِهِ الْأَعْرَاضِ، وَالْأَشْيَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ بِالْمَاهِيَّةِ لَا يَمْتَنِعُ اشْتِرَاكُهَا فِي بَعْضِ اللَّوَازِمِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْأَجْسَامُ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ ذَوَاتِهَا الْمَخْصُوصَةِ وَمَاهِيَّاتِهَا الْمُعَيَّنَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَرِكَةً فِي قَبُولِ الْحَجْمِيَّةِ وَالْمِقْدَارِ؟ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَحَدُ أَنْوَاعِ الْأَجْسَامِ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ نَفَّاذَةٌ حَيَّةٌ لِذَوَاتِهَا عَاقِلَةٌ لِذَوَاتِهَا، قَادِرَةٌ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ لِذَوَاتِهَا، وَهِيَ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلتَّفَرُّقِ وَالتَّمَزُّقِ؟ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَتِلْكَ الْأَجْسَامُ تَكُونُ قَادِرَةً عَلَى تَشْكِيلِ أَنْفُسِهَا بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، ثُمَّ إِنَّ الرِّيَاحَ الْعَاصِفَةَ لَا تُمَزِّقُهَا، وَالْأَجْسَامَ الْكَثِيفَةَ لَا تُفَرِّقُهَا، أَلَيْسَ أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ قَالُوا: إِنَّ النَّارَ الَّتِي تَنْفَصِلُ عَنِ الصَّوَاعِقِ تَنْفُذُ فِي اللَّحْظَةِ اللَّطِيفَةِ فِي بَوَاطِنَ الْأَحْجَارِ وَالْحَدِيدِ، وَتَخْرُجُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ؟ فَلِمَ لَا يُعْقَلُ مِثْلُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَإِنَّ الْجِنَّ تَكُونُ قَادِرَةً عَلَى النُّفُوذِ فِي بَوَاطِنِ النَّاسِ وَعَلَى التَّصَرُّفِ فيها، وأنها

تَبْقَى حَيَّةً فَعَّالَةً مَصُونَةً عَنِ الْفَسَادِ إِلَى الْأَجَلِ الْمُعَيَّنِ وَالْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، فَكُلُّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ احْتِمَالَاتٌ ظَاهِرَةٌ، وَالدَّلِيلُ لَمْ يَقُمْ عَلَى إِبْطَالِهَا، فَلَمْ يَجُزِ الْمَصِيرُ إِلَى الْقَوْلِ بِإِبْطَالِهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ حُصُولُ تِلْكَ الصَّدَاقَةِ وَالْعَدَاوَةِ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ لَا يَعْرِفُ إِلَّا حَالَ نَفْسِهِ، أَمَّا حَالُ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُهَا، فَبَقِيَ هَذَا الْأَمْرُ فِي حَيِّزِ الِاحْتِمَالِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الثَّالِثَةِ: فَهُوَ أَنَّا نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَوْلَ بِوُجُودِ الْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ يُوجِبُ الطَّعْنَ فِي نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَسَيَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنِ الْأَجْوِبَةِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَذَا آخِرُ الْكَلَامِ فِي الْجَوَابِ عَنِ الشبهات. دليل وجود الجن من القرآن: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالْأَخْبَارَ يَدُلَّانِ عَلَى وُجُودِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ: أَمَّا الْقُرْآنُ فَآيَاتٌ: الْآيَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الْأَحْقَافِ: 29، 30] وَهَذَا نَصٌّ عَلَى وُجُودِهِمْ وَعَلَى أَنَّهُمْ سَمِعُوا الْقُرْآنَ، وَعَلَى أَنَّهُمْ أنذروا قومهم، والآية الثانية قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ، [الْبَقَرَةِ: 102] وَالْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا [سَبَأٍ: 13] وَقَالَ تَعَالَى: وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ [ص: 37، 38] وَقَالَ تَعَالَى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ- إِلَى قَوْلِهِ/ تَعَالَى: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ [سبأ: 12] والآية الرابعة قوله تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرَّحْمَنِ: 33] وَالْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ [الصَّافَّاتِ: 6، 7] وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَكَثِيرَةٌ: - الْخَبَرُ الْأَوَّلُ: رَوَى مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» ، عَنْ صَيْفِيِّ بْنِ أَفْلَحَ، عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، فَجَلَسْتُ أَنْتَظِرُهُ حَتَّى يَقْضِيَ صَلَاتَهُ، قَالَ: فَسَمِعْتُ تَحْرِيكًا تَحْتَ سَرِيرِهِ فِي بَيْتِهِ، فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ، فَقُمْتُ لِأَقْتُلَهَا، فَأَشَارَ أَبُو سَعِيدٍ أَنِ اجْلِسْ، فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنْ صِلَاتِهِ أَشَارَ إِلَى بَيْتٍ فِي الدَّارِ فَقَالَ: تَرَى هَذَا الْبَيْتَ؟ فَقُلْتُ نَعَمْ، فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ فِيهِ فَتًى حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَرَأَى امْرَأَتَهُ وَاقِفَةً بَيْنَ النَّاسِ، فَأَدْرَكَتْهُ غَيْرَةٌ فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ لِيَطْعَنَهَا بِسَبَبِ الْغَيْرَةِ فَقَالَتْ: لَا تَعْجَلْ حَتَّى تَدْخُلَ وَتَنْظُرَ مَا فِي بَيْتِكَ، فَدَخَلَ فَإِذَا هُوَ بِحَيَّةٍ مُطَوِّقَةٍ عَلَى فِرَاشِهِ فَرَكَزَ فِيهَا رُمْحَهُ فَاضْطَرَبَتِ الْحَيَّةُ فِي رَأْسِ الرُّمْحِ وَخَرَّ الْفَتَى مَيِّتًا، فَمَا نَدْرِي أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا: الْفَتَى أَمِ الْحَيَّةُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَمَنْ بَدَا لَكُمْ مِنْهُمْ فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ. الْخَبَرُ الثَّانِي: رَوَى مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ يَطْلُبُهُ بِشُعْلَةٍ مِنْ نَارٍ كُلَّمَا الْتَفَتَ رَآهُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ إِذَا قُلْتَهُنَّ طفئت شعلته

وَخَرَّ لِفِيهِ، قُلْ: أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَبِكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ، مِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ مَا نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ، وَشَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ طَوَارِقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ. وَالْخَبَرُ الثَّالِثُ: رَوَى مَالِكٌ أيضا في «الموطأ» أن كعب الأخبار كَانَ يَقُولُ: أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَيْسَ شَيْءٌ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ، وَبِأَسْمَائِهِ كُلِّهَا مَا قَدْ عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ. وَالْخَبَرُ الرَّابِعُ: رَوَى أَيْضًا مَالِكٌ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرَوَّعُ فِي مَنَامِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنْ يَحْضُرُونِ. وَالْخَبَرُ الْخَامِسُ: مَا اشْتَهَرَ وَبَلَغَ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ مِنْ خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ وَقِرَاءَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَدَعْوَتِهِ إِيَّاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَالْخَبَرُ السَّادِسُ: رَوَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي «الْهِدَايَةِ» أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ دَعَا رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ مَوْضِعَ الشَّيْطَانِ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَأَرَاهُ ذَلِكَ فَإِذَا رَأْسُهُ مِثْلُ رَأْسِ الْحَيَّةِ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى قَلْبِهِ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى خَنَسَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ وَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى حَبَّةِ قَلْبِهِ. وَالْخَبَرُ السَّابِعُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ» وَقَالَ: «مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَلَهُ شَيْطَانٌ» قِيلَ: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ» وَالْأَحَادِيثُ فِي ذلك كثيرة، والقدر الذي ذكرناه كاف. خلق الجن من النار: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي بَيَانِ أَنَّ الْجِنَّ مَخْلُوقٌ مِنَ النَّارِ: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ [الْحِجْرِ: 27] وَقَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الْأَعْرَافِ: 12] وَاعْلَمْ أَنَّ حُصُولَ الْحَيَاةِ فِي النَّارِ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَطِبَّاءَ قَالُوا: الْمُتَعَلِّقُ الْأَوَّلُ لِلنَّفْسِ هُوَ الْقَلْبُ وَالرُّوحُ، وَهُمَا فِي غَايَةِ السُّخُونَةِ، وَقَالَ جَالِينُوسُ: إِنِّي بَقَرْتُ مَرَّةً بَطْنَ قِرْدٍ فَأَدْخَلْتُ يَدِي فِي بَطْنِهِ، وَأَدْخَلْتُ أُصْبُعِي فِي قَلْبِهِ فَوَجَدْتُهُ فِي غَايَةِ السُّخُونَةِ بَلْ تَزِيدُ، وَنَقُولُ: أَطْبَقَ الْأَطِبَّاءُ عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِسَبَبِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ كُرَةَ النار تكون مملوءة من الروحانيات. سبب تسمية الجن جنا: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرُوا قَوْلَيْنِ فِي أَنَّهُمْ لِمَ سُمُّوا بِالْجِنِّ، الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ الْجِنِّ مَأْخُوذٌ مِنَ الِاسْتِتَارِ، وَمِنْهُ الْجَنَّةُ لِاسْتِتَارِ أَرْضِهَا بِالْأَشْجَارِ، وَمِنْهُ الْجُنَّةُ لِكَوْنِهَا سَاتِرَةً لِلْإِنْسَانِ، وَمِنْهُ الْجِنُّ لِاسْتِتَارِهِمْ عَنِ الْعُيُونِ، وَمِنْهُ الْمَجْنُونُ لِاسْتِتَارِ عَقْلِهِ، وَمِنْهُ الْجَنِينُ لِاسْتِتَارِهِ فِي الْبَطْنِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً [المجادلة: 16، المنافقون: 2] أي وقاية وسترا، واعلم أن هَذَا الْقَوْلِ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْمَلَائِكَةُ مِنَ الجن

لِاسْتِتَارِهِمْ عَنِ الْعُيُونِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ بِسَبَبِ الْعُرْفِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ سُمُّوا بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ خُزَّانَ الْجَنَّةِ وَالْقَوْلُ الأول أقوى. طوائف المكلفين: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ طَوَائِفَ الْمُكَلَّفِينَ أَرْبَعَةٌ: الْمَلَائِكَةُ، وَالْإِنْسُ، وَالْجِنُّ، وَالشَّيَاطِينُ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ فَقِيلَ: الشَّيَاطِينُ جِنْسٌ وَالْجِنُّ جِنْسٌ آخَرُ، كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ جِنْسٌ وَالْفَرَسَ جِنْسٌ آخَرُ، وَقِيلَ: الْجِنُّ مِنْهُمْ أَخْيَارٌ وَمِنْهُمْ أَشْرَارٌ وَالشَّيَاطِينُ اسم لأشرار الجن. تسلط الجن على الإنس: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْمَشْهُورُ أَنَّ الْجِنَّ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى النُّفُوذِ فِي بَوَاطِنِ الْبَشَرِ، وَأَنْكَرَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ ذَلِكَ، أَمَّا الْمُثْبِتُونَ فَقَدِ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْجِنُّ عِبَارَةً عَنْ مَوْجُودٍ/ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جُسْمَانِيٍّ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَعْنَى كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى النُّفُوذِ فِي بَاطِنِهِ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي بَاطِنِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، وَإِنْ كَانَ عِبَارَةً عَنْ حَيَوَانٍ هَوَائِيٍّ لَطِيفٍ نَفَّاذٍ كَمَا وَصَفْنَاهُ كَانَ نَفَاذُهُ فِي بَاطِنِ بَنِي آدَمَ أَيْضًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ قياسا على النفس وغيره. الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ. [الْبَقَرَةِ: 275] الثَّالِثُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ» . أَمَّا الْمُنْكِرُونَ فَقَدِ احْتَجُّوا بِأُمُورٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إِبْرَاهِيمَ: 22] صَرَّحَ بِأَنَّهُ مَا كَانَ لَهُ عَلَى الْبَشَرِ سُلْطَانٌ إِلَّا مِنَ الْوَجْهِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ إِلْقَاءُ الْوَسْوَسَةِ وَالدَّعْوَةُ إِلَى الْبَاطِلِ. الثَّانِي: لَا شَكَّ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْعُلَمَاءَ الْمُحَقِّقِينَ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى لَعْنِ الشَّيْطَانِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعَدَاوَةُ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَهُمْ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْعَدَاوَةِ، فَلَوْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى النُّفُوذِ فِي بَوَاطِنِ الْبَشَرِ وَعَلَى إِيصَالِ الْبَلَاءِ وَالشَّرِّ إِلَيْهِمْ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَضَرُّرُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَشَدَّ مِنْ تَضَرُّرِ كُلِّ أَحَدٍ، وَلَمَّا لم يكن كذلك علمنا أنه باطل. صفة الملائكة: الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ وَلَا يَنْكِحُونَ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، وَأَمَّا الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ فَإِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الرَّوْثِ وَالْعَظْمِ: «إِنَّهُ زَادُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ» وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ يَتَوَالَدُونَ قَالَ تَعَالَى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي [الكهف: 50] . وسوسة الشيطان: الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ الْوَسْوَسَةِ بِنَاءً عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْآثَارِ: ذَكَرُوا أَنَّهُ يَغُوصُ فِي بَاطِنِ الْإِنْسَانِ، وَيَضَعُ رَأْسَهُ عَلَى حَبَّةِ قَلْبِهِ، وَيُلْقِي إِلَيْهِ الْوَسْوَسَةَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، أَلَا فَضَيِّقُوا مَجَارِيَهُ بِالْجُوعِ» وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَوْلَا أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَحُومُونَ عَلَى قُلُوبِ بَنِي آدم لنظروا إلى ملكوت السموات» . وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَذِهِ الْأَخْبَارُ لَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهَا، لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ حَمْلُهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ

بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ نُفُوذَ الشَّيَاطِينِ فِي بَوَاطِنِ النَّاسِ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ إِمَّا اتِّسَاعُ تِلْكَ الْمَجَارِي أَوْ تَدَاخُلُ تِلْكَ الْأَجْسَامِ. الثَّانِي: مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَدَاوَةَ الشَّدِيدَةَ حَاصِلَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الدِّينِ، فَلَوْ قَدَرَ عَلَى هَذَا النُّفُوذِ فَلِمَ لَا يَخُصُّهُمْ بِمَزِيدِ الضَّرَرِ؟ الثَّالِثُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ مَخْلُوقٌ مِنَ النَّارِ، فَلَوْ دَخَلَ فِي دَاخِلِ الْبَدَنِ لَصَارَ كَأَنَّهُ نَفَّذَ النَّارَ فِي دَاخِلِ الْبَدَنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ/ لَا يُحَسُّ بِذَلِكَ. الرَّابِعُ: أَنَّ الشَّيَاطِينَ يُحِبُّونَ الْمَعَاصِيَ وَأَنْوَاعَ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ، ثُمَّ إِنَّا نَتَضَرَّعُ بِأَعْظَمِ الْوُجُوهِ إِلَيْهِمْ لِيُظْهِرُوا أَنْوَاعَ الْفِسْقِ فَلَا نَجِدُ مِنْهُ أَثَرًا وَلَا فَائِدَةً، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا نَرَى لَا مِنْ عَدَاوَتِهِمْ ضَرَرًا وَلَا مِنْ صَدَاقَتِهِمْ نَفْعًا. وَأَجَابَ مُثْبِتُو الشَّيَاطِينِ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا نُفُوسٌ مُجَرَّدَةٌ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ كَالضَّوْءِ وَالْهَوَاءِ فَالسُّؤَالُ أَيْضًا زَائِلٌ، وَعَنِ الثَّانِي: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يَمْنَعُونَهُمْ عَنْ إِيذَاءِ عُلَمَاءِ الْبَشَرِ، وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أن يقول الله تعالى لنار إبراهيم يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الْأَنْبِيَاءِ: 69] فَلِمَ لا يجوز مثله هاهنا، وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّ الشَّيَاطِينَ مُخْتَارُونَ، وَلَعَلَّهُمْ يَفْعَلُونَ بعض القبائح دون بعض. تحقيق الكلام في الوسوسة: الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فِي تَحْقِيقِ الْكَلَامِ فِي الْوَسْوَسَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرَهُ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ «الْإِحْيَاءِ» ، قَالَ: الْقَلْبُ مِثْلُ قُبَّةٍ لَهَا أَبْوَابٌ تَنْصَبُّ إِلَيْهَا الْأَحْوَالُ مِنْ كُلِّ بَابٍ، أَوْ مِثْلُ هَدَفٍ تُرْمَى إِلَيْهِ السِّهَامُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، أَوْ مِثْلُ مِرْآةٍ مَنْصُوبَةٍ تَجْتَازُ عَلَيْهَا الْأَشْخَاصُ، فَتَتَرَاءَى فِيهَا صُورَةٌ بَعْدَ صُورَةٍ، أَوْ مِثْلُ حَوْضٍ تَنْصَبُّ إِلَيْهِ مِيَاهٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنْ أَنْهَارٍ مَفْتُوحَةٍ وَاعْلَمْ أَنَّ مَدَاخِلَ هَذِهِ الْآثَارِ الْمُتَجَدِّدَةِ فِي الْقَلْبِ سَاعَةً فَسَاعَةً إِمَّا مِنَ الظَّاهِرِ كَالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، وَإِمَّا مِنَ الْبَوَاطِنِ كَالْخَيَالِ وَالشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَالْأَخْلَاقِ الْمُرَكَّبَةِ فِي مِزَاجِ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَدْرَكَ بِالْحَوَاسِّ شَيْئًا حَصَلَ مِنْهُ أَثَرٌ فِي الْقَلْبِ، وَكَذَا إِذَا هَاجَتِ الشَّهْوَةُ أَوِ الْغَضَبُ حَصَلَ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ آثَارٌ فِي الْقَلْبِ، وَأَمَّا إِذَا مُنِعَ الْإِنْسَانُ عَنِ الْإِدْرَاكَاتِ الظَّاهِرَةِ فَالْخَيَالَاتُ الْحَاصِلَةُ فِي النَّفْسِ تَبْقَى، وَيَنْتَقِلُ الْخَيَالُ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، وَبِحَسَبِ انْتِقَالِ الْخَيَالِ يَنْتَقِلُ الْقَلْبُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، فَالْقَلْبُ دَائِمًا فِي التَّغَيُّرِ وَالتَّأَثُّرِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَأَخَصُّ الْآثَارِ الْحَاصِلَةِ فِي الْقَلْبِ هِيَ الْخَوَاطِرُ، وَأَعْنِي بِالْخَوَاطِرِ مَا يَعْرِضُ فِيهِ مِنَ الْأَفْكَارِ وَالْأَذْكَارِ، وَأَعْنِي بِهَا إِدْرَاكَاتٍ وَعُلُومًا إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّجَدُّدِ وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّذَكُّرِ، وَإِنَّمَا تُسَمَّى خَوَاطِرَ مِنْ حَيْثُ أَنَّهَا تَخْطُرُ بِالْخَيَالِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْقَلْبُ غَافِلًا عَنْهَا، فَالْخَوَاطِرُ هِيَ الْمُحَرِّكَاتُ لِلْإِرَادَاتِ، وَالْإِرَادَاتُ مُحَرِّكَةٌ لِلْأَعْضَاءِ، ثُمَّ هَذِهِ الْخَوَاطِرُ الْمُحَرِّكَةُ لِهَذِهِ الْإِرَادَاتِ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَدْعُو إِلَى الشَّرِّ أَعْنِي إِلَى مَا يَضُرُّ فِي الْعَاقِبَةِ- وَإِلَى مَا يَنْفَعُ- أَعْنِي مَا يَنْفَعُ فِي الْعَاقِبَةِ- فَهُمَا خَاطِرَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَافْتَقَرَا إِلَى اسْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَالْخَاطِرُ الْمَحْمُودُ يُسَمَّى إِلْهَامًا، وَالْمَذْمُومُ يُسَمَّى وِسْوَاسًا، ثُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْخَوَاطِرَ أَحْوَالٌ حَادِثَةٌ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ سَبَبٍ، وَالتَّسَلْسُلُ مُحَالٌ، فَلَا بُدَّ مِنِ انْتِهَاءِ الْكُلِّ إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ، وَهَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الشَّيْخِ الْغَزَالِيِّ بعد حذف التطويلات منه. تحقيق كلام الغزالي: الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فِي تَحْقِيقِ الْكَلَامِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ دَارَ حَوْلَ الْمَقْصُودِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَزِيدِ التَّنْقِيحِ، فَنَقُولُ: لَا بُدَّ قَبْلَ الْخَوْضِ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ تَقْدِيمِ مُقَدِّمَاتٍ. المقدمة الأولى: لا شك أن هاهنا مَطْلُوبًا وَمَهْرُوبًا. وَكُلُّ مَطْلُوبٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ،

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَطْلُوبٍ مَطْلُوبًا لِغَيْرِهِ. وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ مَهْرُوبٍ مَهْرُوبًا عَنْهُ لِغَيْرِهِ: وَإِلَّا لَزِمَ إِمَّا الدَّوْرُ وَإِمَّا التَّسَلْسُلُ، وَهُمَا مُحَالَانِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِوُجُودِ شَيْءٍ يَكُونُ مَطْلُوبًا لِذَاتِهِ، وَبِوُجُودِ شَيْءٍ يَكُونُ مَهْرُوبًا عَنْهُ لِذَاتِهِ. الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالذَّاتِ هُوَ اللَّذَّةُ وَالسُّرُورُ، وَالْمَطْلُوبَ بِالتَّبَعِ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إِلَيْهِمَا، وَالْمَهْرُوبَ عَنْهُ بِالذَّاتِ هُوَ الْأَلَمُ وَالْحُزْنُ، وَالْمَهْرُوبَ عَنْهُ بِالتَّبَعِ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إِلَيْهِمَا. الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّ اللَّذِيذَ عِنْدَ كُلِّ قُوَّةٍ مِنَ الْقُوَى النَّفْسَانِيَّةِ شَيْءٌ آخَرُ، فَاللَّذِيذُ عِنْدَ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ شَيْءٌ، وَاللَّذِيذُ عِنْدَ الْقُوَّةِ السَّامِعَةِ شَيْءٌ آخَرُ، وَاللَّذِيذُ عِنْدَ الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ شَيْءٌ ثَالِثٌ، وَاللَّذِيذُ عِنْدَ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ شَيْءٌ رَابِعٌ، وَاللَّذِيذُ عِنْدَ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ شَيْءٌ خَامِسٌ. المقدمة الرابعة: إن الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ إِذَا أَدْرَكَتْ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ لَزِمَ مِنْ حُصُولِ ذَلِكَ الْإِدْرَاكِ الْبَصَرِيِّ وُقُوفُ الذِّهْنِ عَلَى مَاهِيَّةِ ذَلِكَ الْمَرْئِيِّ، وَعِنْدَ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ لَذِيذًا أَوْ مُؤْلِمًا أو خَالِيًا عَنْهُمَا، فَإِنْ حَصَلَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ لَذِيذًا تَرَتَّبَ عَلَى حُصُولِ هَذَا الْعِلْمِ أَوِ الِاعْتِقَادِ حُصُولُ الْمَيْلِ إِلَى تَحْصِيلِهِ، وَإِنْ حَصَلَ الْعِلْمُ بكونه مؤلما ترتب على هَذَا الْعِلْمِ أَوِ الِاعْتِقَادِ حُصُولُ الْمَيْلِ إِلَى الْبُعْدِ عَنْهُ وَالْفِرَارِ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلِ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مُؤْلِمًا وَلَا بِكَوْنِهِ لَذِيذًا لَمْ يَحْصُلْ فِي الْقَلْبِ لَا رَغْبَةٌ إِلَى الْفِرَارِ عَنْهُ وَلَا رَغْبَةٌ إِلَى تَحْصِيلِهِ. الْمُقَدِّمَةُ الْخَامِسَةُ: إِنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ لَذِيذًا إِنَّمَا يُوجِبُ حُصُولَ الْمَيْلِ وَالرَّغْبَةِ فِي تَحْصِيلِهِ إِذَا حَصَلَ ذَلِكَ الْعِلْمُ خَالِيًا عَنِ الْمُعَارِضِ وَالْمُعَاوِقِ، فَأَمَّا إِذَا حَصَلَ هَذَا الْمُعَارِضُ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ الِاقْتِضَاءُ، مِثَالُهُ إِذَا رَأَيْنَا طَعَامًا لَذِيذًا فَعَلِمْنَا بِكَوْنِهِ لَذِيذًا، إِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى تَنَاوُلِهِ إِذَا لَمْ نَعْتَقِدْ أَنَّهُ حَصَلَ فِيهِ ضَرَرٌ زَائِدٌ، أَمَّا إِذَا اعْتَقَدْنَا أَنَّهُ حَصَلَ فِيهِ ضَرَرٌ زَائِدٌ فَعِنْدَ هَذَا يَعْتَبِرُ الْعَقْلُ كَيْفِيَّةَ الْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْجِيحِ، فَأَيُّهُمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ أَرْجَحُ عَمِلَ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ الرُّجْحَانِ، وَمِثَالٌ آخَرُ لِهَذَا الْمَعْنَى: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقْتُلُ نَفْسَهُ وَقَدْ يُلْقِي نَفْسَهُ مِنَ السَّطْحِ الْعَالِي، إِلَّا أَنَّهُ إِنَّمَا يُقْدِمُ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ بِسَبَبِ تَحَمُّلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ الْمُؤْلِمِ/ يتخلص عن مؤلم آخر أَعْظَمَ مِنْهُ، أَوْ يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى تَحْصِيلِ مَنْفَعَةٍ أَعْلَى حَالًا مِنْهَا، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اعْتِقَادَ كَوْنِهِ لَذِيذًا أَوْ مُؤْلِمًا إِنَّمَا يُوجِبُ الرَّغْبَةَ وَالنَّفْرَةَ إِذَا خَلَا ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ عَنِ الْمُعَارِضِ. الْمُقَدِّمَةُ السَّادِسَةُ: فِي بَيَانِ أَنَّ التقرير الذي بيناه يدل عَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ الْحَيَوَانِيَّةَ لَهَا مَرَاتِبُ مُرَتَّبَةٌ تَرْتِيبًا ذَاتِيًّا لُزُومِيًّا عَقْلِيًّا، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مَصْدَرُهَا الْقَرِيبُ هُوَ الْقُوَى الْمَوْجُودَةُ فِي الْعَضَلَاتِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْقُوَى صَالِحَةٌ لِلْفِعْلِ وَلِلتَّرْكِ، فَامْتَنَعَ صَيْرُورَتُهَا مَصْدَرًا لِلْفِعْلِ بَدَلًا عَنِ التَّرْكِ، وَلِلتَّرْكِ بَدَلًا عَنِ الْفِعْلِ، إِلَّا بِضَمِيمَةٍ تَنْضَمُّ إِلَيْهَا، وَهِيَ الْإِرَادَاتُ ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْإِرَادَاتِ إِنَّمَا تُوجَدُ وَتَحْدُثُ لِأَجْلِ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا لَذِيذَةً أَوْ مُؤْلِمَةً، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْعُلُومَ إِنْ حَصَلَتْ بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ عَادَ الْبَحْثُ الْأَوَّلُ فِيهِ، وَلَزِمَ إِمَّا الدَّوْرُ وَإِمَّا التَّسَلْسُلُ وَهُمَا مُحَالَانِ، وَإِمَّا الِانْتِهَاءُ إِلَى عُلُومٍ وَإِدْرَاكَاتٍ وَتَصَوُّرَاتٍ تحصل في جواهر النَّفْسِ مِنَ الْأَسْبَابِ الْخَارِجَةِ، وَهِيَ إِمَّا الِاتِّصَالَاتُ الْفَلَكِيَّةُ عَلَى مَذْهَبِ قَوْمٍ أَوِ السَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ تِلْكَ الِاعْتِقَادَاتِ أَوِ الْعُلُومَ فِي الْقَلْبِ، فَهَذَا تَلْخِيصُ الْكَلَامِ فِي أَنَّ الْفِعْلَ كَيْفَ يَصْدُرُ عَنِ الْحَيَوَانِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ نُفَاةَ الشَّيْطَانِ وَنُفَاةَ الْوَسْوَسَةِ قَالُوا: ثَبَتَ أَنَّ الْمَصْدَرَ الْقَرِيبَ لِلْأَفْعَالِ الْحَيَوَانِيَّةِ هُوَ

هَذِهِ الْقُوَى الْمَذْكُورَةُ فِي الْعَضَلَاتِ وَالْأَوْتَارِ، فَثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الْقُوَى لَا تَصِيرُ مَصَادِرَ لِلْفِعْلِ وَالتَّرْكِ إِلَّا عِنْدَ انْضِمَامِ الْمَيْلِ وَالْإِرَادَةِ إِلَيْهَا، وَثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الْإِرَادَةَ مِنْ لَوَازِمِ حُصُولِ الشُّعُورِ بِكَوْنِ ذَلِكَ الشَّيْءِ لَذِيذًا أَوْ مُؤْلِمًا، وَثَبَتَ أَنَّ حُصُولَ ذَلِكَ الشُّعُورِ لَا بُدَّ وأن يكون يخلق اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً أَوْ بِوَاسِطَةِ مَرَاتِبِ شَأْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي اسْتِلْزَامِ مَا بَعْدَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ، وَثَبَتَ أَنَّ تَرَتُّبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ عَلَى مَا قبله أم لَازِمٌ لُزُومًا ذَاتِيًّا وَاجِبًا، فَإِنَّهُ إِذَا أَحَسَّ بِالشَّيْءِ وَعَرَفَ كَوْنَهُ مُلَائِمًا مَالَ طَبْعُهُ إِلَيْهِ، وَإِذَا مَالَ طَبْعُهُ إِلَيْهِ تَحَرَّكَتِ الْقُوَّةُ إِلَى الطَّلَبِ، فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْمَرَاتِبُ حَصَلَ الْفِعْلُ لَا مَحَالَةَ، فَلَوْ قَدَّرْنَا شَيْطَانًا مِنَ الْخَارِجِ وَفَرَضْنَا أَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ وَسْوَسَةٌ كَانَتْ تِلْكَ الْوَسْوَسَةُ عَدِيمَةَ الْأَثَرِ، لِأَنَّهُ إِذَا حَصَلَتْ تِلْكَ الْمَرَاتِبُ الْمَذْكُورَةُ حَصَلَ الْفِعْلُ سَوَاءٌ حَصَلَ هَذَا الشَّيْطَانُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مَجْمُوعُ تِلْكَ الْمَرَاتِبِ امْتَنَعَ حُصُولُ الْفِعْلِ سَوَاءٌ حَصَلَ هَذَا الشَّيْطَانُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْقَوْلَ بِوُجُودِ الشَّيْطَانِ وَبِوُجُودِ الْوَسْوَسَةِ قَوْلٌ بَاطِلٌ، بَلِ الْحَقُّ أَنْ نَقُولَ: إِنِ اتَّفَقَ حُصُولُ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ فِي الطَّرَفِ النَّافِعِ سَمَّيْنَاهَا بِالْإِلْهَامِ، وَإِنِ اتَّفَقَ حُصُولُهَا فِي الطَّرَفِ الضَّارِّ سَمَّيْنَاهَا بِالْوَسْوَسَةِ، هَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ الْإِشْكَالِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ غَافِلًا عَنِ الشَّيْءِ فَإِذَا ذَكَّرَهُ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ الشَّيْءَ تَذَكَّرَهُ، ثُمَّ عِنْدَ التَّذَكُّرِ يَتَرَتَّبُ الْمَيْلُ عَلَيْهِ، وَيَتَرَتَّبُ الْفِعْلُ عَلَى حُصُولِ ذَلِكَ الْمَيْلِ، فَالَّذِي أَتَى بِهِ الشَّيْطَانُ الْخَارِجِيُّ لَيْسَ إِلَّا ذَلِكَ التَّذَكُّرَ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ إِبْلِيسَ أَنَّهُ قَالَ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إِبْرَاهِيمَ: 22] إِلَّا أَنَّهُ بَقِيَ لِقَائِلٍ أن يقول: فالإنسان إنما قدم عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِتَذْكِيرِ الشَّيْطَانِ، فَالشَّيْطَانُ إِنْ كَانَ إِقْدَامُهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِتَذْكِيرِ شَيْطَانٍ آخَرَ لَزِمَ تَسَلْسُلُ الشَّيَاطِينِ، وَإِنْ كَانَ عَمَلُ ذَلِكَ الشَّيْطَانِ ليس لأجل شيطان آخر ثبت أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْطَانَ الْأَوَّلَ إِنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ لِحُصُولِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ فِي قَلْبِهِ، وَلَا بُدَّ لِذَلِكَ الِاعْتِقَادِ الْحَادِثِ مِنْ سَبَبٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَهَذَا غَايَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَحْثِ الدَّقِيقِ الْعَمِيقِ، وَصَارَ حَاصِلُ الْكَلَامِ مَا قَالَهُ سَيِّدُ الرُّسُلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ: «أعوذ بك منك» والله أعلم. الخواطر والاختلاف فيها: المسألة الحادية عشرة: [الخواطر والاختلاف فيها] اعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الْخَلْوَةِ وَتَوَاتَرَتِ الْخَوَاطِرُ فِي قَلْبِهِ فَرُبَّمَا صَارَ بِحَيْثُ كأنه يسمع في دخل قَلْبِهِ وَدِمَاغِهِ أَصْوَاتًا خَفِيَّةً وَحُرُوفًا خَفِيَّةً، فَكَأَنَّ مُتَكَلِّمًا يَتَكَلَّمُ مَعَهُ، وَمُخَاطِبًا يُخَاطِبُهُ، فَهَذَا أَمْرٌ وِجْدَانِيٌّ يَجِدُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تِلْكَ الْخَوَاطِرِ فَقَالَتِ الْفَلَاسِفَةُ إِنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ حُرُوفًا وَلَا أَصْوَاتًا، وَإِنَّمَا هِيَ تَخَيُّلَاتُ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، وَتَخَيُّلُ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنْ حُضُورِ رَسْمِهِ وَمِثَالِهِ فِي الْخَيَالِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّا إِذَا تَخَيَّلْنَا صُوَرَ الْجِبَالِ وَالْبِحَارِ وَالْأَشْخَاصِ، فَأَعْيَانُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الْعَقْلِ وَالْقَلْبِ، بَلِ الْمَوْجُودُ فِي الْعَقْلِ وَالْقَلْبِ صُوَرُهَا وَأَمْثِلَتُهَا وَرُسُومُهَا، وَهِيَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الصُّورَةِ الْمُرْتَسِمَةِ فِي الْمِرْآةِ، فَإِنَّا إِذَا أَحْسَسْنَا فِي الْمِرْآةِ صُورَةَ الْفَلَكِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّهُ حَضَرَتْ ذَوَاتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الْمِرْآةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ، وَإِنَّمَا الْحَاصِلُ فِي الْمِرْآةِ رُسُومُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَمْثِلَتُهَا وَصُوَرُهَا، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فِي تَخَيُّلِ الْمُبْصَرَاتِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْحَالَ فِي تَخَيُّلِ الْحُرُوفِ وَالْكَلِمَاتِ الْمَسْمُوعَةِ كَذَلِكَ، فَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفَلَاسِفَةِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الَّذِي سَمَّيْتَهُ بِتَخَيُّلِ الْحُرُوفِ وَالْكَلِمَاتِ هَلْ هُوَ مُسَاوٍ

لِلْحَرْفِ وَالْكَلِمَةِ فِي الْمَاهِيَّةِ أَوْ لَا؟ فَإِنْ حَصَلَتِ الْمُسَاوَاةُ فَقَدْ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى أَنَّ الْحَاصِلَ فِي الْخَيَالِ حَقَائِقُ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، وَإِلَى أَنَّ الْحَاصِلَ فِي الْخَيَالِ عِنْدَ تَخَيُّلِ الْبَحْرِ وَالسَّمَاءِ حَقِيقَةُ الْبَحْرِ وَالسَّمَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ هُوَ الثَّانِيَ- وَهُوَ أَنَّ الْحَاصِلَ فِي الْخَيَالِ شَيْءٌ آخَرُ مُخَالِفٌ لِلْمُبْصَرَاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ-/ فَحِينَئِذٍ يَعُودُ السُّؤَالُ وَهُوَ: أَنَّا كَيْفَ نَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا صُوَرَ هَذِهِ الْمَرْئِيَّاتِ، وَكَيْفَ نَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَالْعِبَارَاتِ وِجْدَانًا لَا نَشُكُّ أَنَّهَا حروف متوالية على العقل وألفاظ متعاقبة عل الذِّهْنِ، فَهَذَا مُنْتَهَى الْكَلَامِ فِي كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ، أَمَّا الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُمْ سَلَّمُوا أَنَّ هَذِهِ الْخَوَاطِرَ الْمُتَوَالِيَةَ الْمُتَعَاقِبَةَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ حَقِيقَةً. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ قَالُوا: فَاعِلُ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ إِمَّا ذَلِكَ الْإِنْسَانُ أَوْ إِنْسَانٌ آخَرُ، وَإِمَّا شَيْءٌ آخَرُ رُوحَانِيٌّ مُبَايِنٌ يُمْكِنُهُ إِلْقَاءُ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ إِلَى هَذَا الْإِنْسَانِ، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ الْمُتَكَلِّمَ هُوَ الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ أَوِ الْمَلَكُ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: خَالِقُ تِلْكَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى: أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ- وَهُوَ أَنَّ فَاعِلَ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ هُوَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ- فَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الَّذِي يَحْصُلُ بِاخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى تَرْكِهِ، فَلَوْ كَانَ حُصُولُ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ لَكَانَ الْإِنْسَانُ إِذَا أَرَادَ دَفْعَهَا أَوْ تَرْكَهَا لَقَدَرَ عَلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا، فَإِنَّهُ سَوَاءٌ حَاوَلَ فِعْلَهَا أَوْ حَاوَلَ تَرْكَهَا فَتِلْكَ الْخَوَاطِرُ تَتَوَارَدُ عَلَى طَبْعِهِ وَتَتَعَاقَبُ عَلَى ذِهْنِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي- وَهُوَ أَنَّهَا حَصَلَتْ بِفِعْلِ إِنْسَانٍ آخَرَ- فَهُوَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَانِ الْقِسْمَانِ بَقِيَ الثَّالِثُ- وَهِيَ أَنَّهَا مِنْ فِعْلِ الْجِنِّ أَوِ الْمَلَكِ أَوْ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى. أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ الْقَبَائِحَ فَاللَّائِقُ بِمَذْهَبِهِمْ أَنْ يَقُولُوا إِنَّ هَذِهِ الْخَوَاطِرَ الْخَبِيثَةَ لَيْسَتْ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَبَقِيَ أَنَّهَا مِنْ أَحَادِيثِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ لَا يُقْبَحُ مِنَ اللَّهِ شَيْءٌ فَلَيْسَ فِي مَذْهَبِهِمْ مَانِعٌ يَمْنَعُهُمْ مِنْ إِسْنَادِ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الثَّنَوِيَّةَ يَقُولُونَ: لِلْعَالَمِ إِلَهَانِ: أَحَدُهُمَا: خَيْرٌ وَعَسْكَرُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَالثَّانِي: شِرِّيرٌ وَعَسْكَرُهُ الشَّيَاطِينُ، وَهُمَا يَتَنَازَعَانِ أَبَدًا كُلَّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْعَالَمِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَعَلُّقٌ بِهِ، وَالْخَوَاطِرُ الدَّاعِيَةُ إِلَى أَعْمَالِ الْخَيْرِ إِنَّمَا حَصَلَتْ مِنْ عَسَاكِرِ اللَّهِ، وَالْخَوَاطِرُ الدَّاعِيَةُ إِلَى أَعْمَالِ الشَّرِّ إِنَّمَا حَصَلَتْ مِنْ عَسَاكِرِ الشَّيْطَانِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِإِثْبَاتِ الْإِلَهَيْنِ قَوْلٌ بَاطِلٌ فَاسِدٌ، عَلَى مَا ثَبَتَ فَسَادُهُ بِالدَّلَائِلِ، فَهَذَا مُنْتَهَى الْقَوْلِ فِي هَذَا الْبَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: مِنَ النَّاسِ مَنْ أَثْبَتَ لِهَذِهِ الشَّيَاطِينِ قُدْرَةً عَلَى الْإِحْيَاءِ، وَعَلَى الْإِمَاتَةِ وَعَلَى خَلْقِ الْأَجْسَامِ، وَعَلَى تَغْيِيرِ الْأَشْخَاصِ عَنْ صُورَتِهَا الْأَصْلِيَّةِ وَخِلْقَتِهَا الْأَوَّلِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ. أَمَّا أَصْحَابُنَا فَقَدْ أَقَامُوا الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ وَالْإِحْدَاثِ لَيْسَتْ إِلَّا لِلَّهِ، فَبَطَلَتْ هَذِهِ الْمَذَاهِبُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ سَلَّمُوا أَنَّ الْإِنْسَانَ قَادِرٌ عَلَى إِيجَادِ بَعْضِ الْحَوَادِثِ، فَلَا جَرَمَ صَارُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الشَّيَاطِينَ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى خَلْقِ الْأَجْسَامِ وَالْحَيَاةِ، وَدَلِيلُهُمْ أَنْ قَالُوا الشَّيْطَانُ جِسْمٌ، وَكُلُّ جِسْمٍ فَإِنَّهُ قَادِرٌ بِالْقُدْرَةِ، والقدرة لا تصلح لإيجاد الأجسام، فهذه المقدمات ثَلَاثٌ: الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: أَنَّ الشَّيْطَانَ جِسْمٌ، وَقَدْ بَنَوْا هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا مُتَحَيِّزٌ وَإِمَّا حَالٌّ فِي الْمُتَحَيِّزِ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ شبهة

فَضْلًا عَنْ حُجَّةٍ. وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: - وَهِيَ قَوْلُهُمُ الْجِسْمُ إِنَّمَا يَكُونُ قَادِرًا بِالْقُدْرَةِ- فَقَدْ بَنَوْا هَذَا عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ مِمَّا تَسْتَلْزِمُ مُمَاثَلَةً، فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْهَا قَادِرًا لِذَاتِهِ لَكَانَ الْكُلُّ قَادِرًا لِذَاتِهِ، وَبِنَاءُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ عَلَى تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ، وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ: - وَهِيَ قَوْلُهُمْ هَذِهِ الْقُدْرَةُ الَّتِي لَنَا لَا تَصْلُحُ لِخَلْقِ الْأَجْسَامِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصْلُحَ الْقُدْرَةُ الْحَادِثَةُ لِخَلْقِ الْأَجْسَامِ- وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ لِمَ لَا يَجُوزُ حُصُولُ قُدْرَةٍ مُخَالِفَةٍ لِهَذِهِ الْقُدْرَةِ الْحَاصِلَةِ لَنَا وَتَكُونُ تِلْكَ الْقُدْرَةُ صَالِحَةٌ لِخَلْقِ الْأَجْسَامِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ وُجُودِ الشَّيْءِ فِي الْحَالِ امْتِنَاعُ وُجُودِهِ، فَهَذَا إِتْمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. هل يعلم الجن الغيب: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْجِنَّ هَلْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ؟ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَنَّهُمْ بَقُوا فِي قَيْدِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِي حَبْسِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مُدَّةً وَهُمْ مَا كَانُوا يَعْلَمُونَ مَوْتَهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ فِيهِمْ مَنْ يَصْعَدُ إِلَى السموات أَوْ يَقْرُبُ مِنْهَا وَيُخْبِرُ بِبَعْضِ الْغُيُوبِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَهُمْ طُرُقٌ أُخْرَى فِي مَعْرِفَةِ الْغُيُوبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ فَتْحَ الْبَابِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظُّنُونَ وَالْحُسْبَانَاتِ والعالم بحقائقها هو الله تعالى. أسباب الاستعاذة وأنواعها: الرُّكْنُ الْخَامِسُ: مِنْ أَرْكَانِ مَبَاحِثِ الِاسْتِعَاذَةِ. الْمَطَالِبُ الَّتِي لِأَجْلِهَا يُسْتَعَاذُ. اعْلَمْ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَاجَاتِ الْعَبْدِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، فَلَا خَيْرَ مِنَ الْخَيْرَاتِ إِلَّا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى تَحْصِيلِهِ، وَلَا شَرَّ مِنَ الشُّرُورِ إِلَّا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى دَفْعِهِ وَإِبْطَالِهِ، فَقَوْلُهُ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) يَتَنَاوَلُ دَفْعَ جَمِيعِ الشُّرُورِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْجُسْمَانِيَّةِ، وَكُلُّهَا أُمُورٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَنَحْنُ نُنَبِّهُ عَلَى مَعَاقِدِهَا فَنَقُولُ: الشُّرُورُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ الْحَاصِلَةِ فِي الْقُلُوبِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ بَابِ الْأَعْمَالِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْأَبْدَانِ، أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَقْسَامَ الْمَعْلُومَاتِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْتَقَدَ اعْتِقَادًا صَوَابًا صَحِيحًا وَيُمْكِنُ أَنْ يُعْتَقَدَ اعْتِقَادًا فَاسِدًا خَطَأً، وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَذَاهِبُ فِرَقِ الضَّلَالِ فِي الْعَالَمِ، وَهِيَ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِرْقَةً مِنْ هَذِهِ الأمة، وسبعمائة وأكثر خَارِجٌ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَقَوْلُهُ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) يَتَنَاوَلُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا. وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ فَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهَا مَا يُفِيدُ الْمَضَارَّ الدِّينِيَّةَ، وَمِنْهَا مَا يُفِيدُ الْمَضَارَّ الدُّنْيَوِيَّةَ، فَأَمَّا الْمَضَارُّ الدِّينِيَّةُ فَكُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِي جَمِيعِ أَقْسَامِ التَّكَالِيفِ، وَضَبْطُهَا كَالْمُعْتَذِرِ، وَقَوْلُهُ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) يَتَنَاوَلُ كُلَّهَا، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَضَارِّ الدُّنْيَوِيَّةِ فَهُوَ جَمِيعُ الْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ وَالْحَرْقِ وَالْغَرَقِ وَالْفَقْرِ وَالزَّمَانَةِ وَالْعَمَى، وَأَنْوَاعُهَا تَقْرُبُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، فَقَوْلُهُ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) يَتَنَاوَلُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) يتناول ثلاثة أقسام، وكل واحد منهما يَجْرِي مَجْرَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ أَوَّلُهَا: الْجَهْلُ، وَلَمَّا كَانَتْ أَقْسَامُ الْمَعْلُومَاتِ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ كانت أنواع الجهالات غير متناهية، فالعبد يستعذ بِاللَّهِ مِنْهَا، وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَذَاهِبُ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَأَهْلِ الْبِدْعَةِ عَلَى كَثْرَتِهَا، وَثَانِيهَا: الْفِسْقُ، وَلَمَّا كَانَتْ أَنْوَاعُ

الباب الثالث في اللطائف المستنبطة من قولنا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

التَّكَالِيفِ كَثِيرَةً جِدًّا وَكُتُبُ الْأَحْلَامِ مُحْتَوِيَةً عَلَيْهَا كَانَ قَوْلُهُ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) مُتَنَاوِلًا لِكُلِّهَا، وَثَالِثُهَا: الْمَكْرُوهَاتُ وَالْآفَاتُ وَالْمَخَافَاتُ، وَلَمَّا كَانَتْ أَقْسَامُهَا وَأَنْوَاعُهَا غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ كَانَ قَوْلُهُ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) مُتَنَاوِلًا لِكُلِّهَا، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُحِيطَ بِهَا فَلْيُطَالِعْ «كُتُبَ الطِّبِّ» حَتَّى يَعْرِفَ فِي ذَلِكَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ أَنْوَاعًا مِنَ الْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ، وَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) فَإِنَّهُ يَسْتَحْضِرُ فِي ذِهْنِهِ هَذِهِ الْأَجْنَاسَ الثَّلَاثَةَ وَتَقْسِيمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ إِلَى أَنْوَاعِهَا وَأَنْوَاعِ أَنْوَاعِهَا، وَيُبَالِغُ فِي ذَلِكَ التَّقْسِيمِ وَالتَّفْصِيلِ. ثُمَّ إِذَا اسْتَحْضَرَ تِلْكَ الْأَنْوَاعَ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا وَلَا عَدَّ لَهَا فِي خَيَالِهِ ثُمَّ عَرَفَ أَنَّ قُدْرَةَ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ لَا تَفِي بِدَفْعِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ عَلَى كَثْرَتِهَا فَحِينَئِذٍ يَحْمِلُهُ طَبْعُهُ وَعَقْلُهُ عَلَى أَنْ يَلْتَجِئَ إِلَى الْقَادِرِ عَلَى دَفْعِ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ الْمَقْدُورَاتِ فَيَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ مِنْ جَمِيعِ أَقْسَامِ الْآفَاتِ وَالْمَخَافَاتِ) وَلْنَقْتَصِرْ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْمَبَاحِثِ فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ الْهَادِي. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي اللَّطَائِفِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ قَوْلِنَا أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ النُّكْتَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) عُرُوجٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى الْخَالِقِ، وَمِنَ الْمُمْكِنِ إِلَى الْوَاجِبِ: وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الْمُتَعَيِّنُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، لِأَنَّ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ/ إِلَّا بِأَنْ يُسْتَدَلَّ بِاحْتِيَاجِ الْخَلْقِ عَلَى وُجُودِ الْحَقِّ الْغَنِيِّ الْقَادِرِ، فَقَوْلُهُ: (أَعُوذُ) إِشَارَةٌ إِلَى الْحَاجَةِ التَّامَّةِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا الِاحْتِيَاجُ لَمَا كَانَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ فَائِدَةٌ، وَقَوْلُهُ: (بِاللَّهِ) إِشَارَةٌ إِلَى الْغِنَى التَّامِّ لِلْحَقِّ، فَقَوْلُ الْعَبْدِ (أَعُوذُ) إِقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ بِالْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ، وَقَوْلُهُ: (بِاللَّهِ) إِقْرَارٌ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِأَنَّ الْحَقَّ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِ كُلِّ الْخَيْرَاتِ وَدَفْعِ كُلِّ الْآفَاتِ، وَالثَّانِي: أَنَّ غَيْرَهُ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا دَافِعَ لِلْحَاجَاتِ إِلَّا هُوَ، وَلَا مُعْطِيَ لِلْخَيْرَاتِ إِلَّا هُوَ، فَعِنْدَ مُشَاهَدَةِ هَذِهِ الْحَالَةِ يَفِرُّ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ سِوَى الْحَقِّ فَيُشَاهِدُ فِي هَذَا الْفِرَارِ سِرَّ قَوْلِهِ: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذَّارِيَاتِ: 50] وَهَذِهِ الْحَالَةُ تَحْصُلُ عِنْدَ قَوْلِهِ: (أَعُوذُ) ثُمَّ إِذَا وَصَلَ إِلَى غَيْبَةِ الْحَقِّ وَصَارَ غَرِيقًا فِي نُورِ جَلَالِ الْحَقِّ شَاهَدَ قَوْلَهُ: قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [الأنعام: 91] فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) . النُّكْتَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) اعْتِرَافٌ بِعَجْزِ النَّفْسِ وَبِقُدْرَةِ الرَّبِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا وَسِيلَةَ إِلَى الْقُرْبِ مِنْ حَضْرَةِ اللَّهِ إِلَّا بِالْعَجْزِ وَالِانْكِسَارِ، ثُمَّ مِنَ الْكَلِمَاتِ النَّبَوِيَّةِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ» وَالْمَعْنَى مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالضَّعْفِ وَالْقُصُورِ عَرَفَ رَبَّهُ بِأَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ مَقْدُورٍ، وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْجَهْلِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْفَضْلِ وَالْعَدْلِ، وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِاخْتِلَالِ الْحَالِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْكَمَالِ وَالْجَلَالِ. النُّكْتَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الطَّاعَاتِ لَا يَتَيَسَّرُ إِلَّا بَعْدَ الْفِرَارِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَذَلِكَ هُوَ الِاسْتِعَاذَةُ بِاللَّهِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَةِ، فَإِنْ كَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّاعَةِ يُوجِبُ تَقْدِيمَ الِاسْتِعَاذَةِ عَلَيْهَا افْتَقَرَتِ الِاسْتِعَاذَةُ إِلَى تَقْدِيمِ اسْتِعَاذَةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ كَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّاعَةِ لَا يُحْوِجُ إِلَى تَقْدِيمِ الِاسْتِعَاذَةِ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ فِي الِاسْتِعَاذَةِ فَائِدَةٌ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّاعَةِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَقْدِيمِ الِاسْتِعَاذَةِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ

يُوجِبُ الْإِتْيَانَ بِمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِكَ، إِلَّا أَنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْحَالَةَ فَقَدْ شَاهَدْتَ عَجْزَكَ وَاعْتَرَفْتَ بِقُصُورِكَ فَأَنَا أُعِينُكَ عَلَى الطَّاعَةِ وَأُعَلِّمُكَ كَيْفِيَّةَ الْخَوْضِ فِيهَا فَقُلْ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) . النُّكْتَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ سِرَّ الِاسْتِعَاذَةِ هُوَ الِالْتِجَاءُ إِلَى قَادِرٍ يَدْفَعُ الْآفَاتِ عَنْكَ، ثُمَّ إِنَّ أَجَلَّ الْأُمُورِ الَّتِي يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَسْوَسَتَهُ فِيهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَنَوَى بِهِ عِبَادَةَ الرَّحْمَنِ وَتَفَكَّرَ فِي وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَآيَاتِهِ وَبَيِّنَاتِهِ ازْدَادَتْ رَغْبَتُهُ فِي الطَّاعَاتِ وَرَهْبَتُهُ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ صَارَتْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مِنْ أَعْظَمِ الطَّاعَاتِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ سَعْيُ الشَّيْطَانِ فِي الصَّدِّ عَنْهُ أَبْلَغَ، وَكَانَ احْتِيَاجُ الْعَبْدِ إِلَى مَنْ يَصُونُهُ عَنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ أَشَدَّ، فَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ اخْتُصَّتْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالِاسْتِعَاذَةِ. النُّكْتَةُ الْخَامِسَةُ: الشَّيْطَانُ عَدُوُّ الْإِنْسَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فَاطِرٍ: 6] وَالرَّحْمَنُ مَوْلَى الْإِنْسَانِ وَخَالِقُهُ وَمُصْلِحُ مُهِمَّاتِهِ ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَ شُرُوعِهِ فِي الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ خَافَ الْعَدُوَّ فَاجْتَهَدَ فِي أَنْ يَتَحَرَّى مَرْضَاةَ مَالِكِهِ لِيُخَلِّصَهُ مِنْ زَحْمَةِ ذَلِكَ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا وَصَلَ الْحَضْرَةَ وَشَاهَدَ أَنْوَاعَ الْبَهْجَةِ وَالْكَرَامَةِ نَسِيَ الْعَدُوَّ وَأَقْبَلَ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى خِدْمَةِ الْحَبِيبِ، فَالْمَقَامُ الْأَوَّلُ: هُوَ الْفِرَارُ وَهُوَ قَوْلُهُ: (أَعُوذُ بالله من الشيطان الرجيم) والمقام الثاني: وهو الِاسْتِقْرَارُ فِي حَضْرَةِ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ فَهُوَ قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) . النُّكْتَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ تَعَالَى: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الْوَاقِعَةِ: 79] فَالْقَلْبُ لَمَّا تَعَلَّقَ بِغَيْرِ اللَّهِ وَاللِّسَانُ لَمَّا جَرَى بِذِكْرِ غَيْرِ اللَّهِ حَصَلَ فِيهِ نَوْعٌ مِنَ اللَّوْثِ، فَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِعْمَالِ الطَّهُورِ، فَلَمَّا قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ حَصَلَ الطُّهُورُ، فَعِنْدَ ذلك يستعد للصلاة الحقيقة وَهِيَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ. النُّكْتَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ أَرْبَابُ الْإِشَارَاتِ: لَكَ عَدُوَّانِ أَحَدُهُمَا ظَاهِرٌ وَالْآخَرُ بَاطِنٌ، وَأَنْتَ مَأْمُورٌ بِمُحَارَبَتِهِمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْعَدُوِّ الظَّاهِرِ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [التَّوْبَةِ: 29] وَقَالَ فِي الْعَدُوِّ الْبَاطِنِ: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فَاطِرٍ: 6] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِذَا حَارَبْتَ عَدُوَّكَ الظَّاهِرَ كَانَ مَدَدُكَ الْمَلَكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 125] وَإِذَا حَارَبْتَ عَدُوَّكَ الْبَاطِنَ كَانَ مَدَدُكَ الْمَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: 42] وَأَيْضًا فَمُحَارَبَةُ الْعَدُوِّ الْبَاطِنِ أَوْلَى مِنْ مُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الْعَدُوَّ الظَّاهِرَ إِنْ وَجَدَ فُرْصَةً فَفِي مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَالْعَدُوَّ الْبَاطِنَ إِنْ وَجَدَ فُرْصَةً فَفِي الدِّينِ وَالْيَقِينِ، وَأَيْضًا فَالْعَدُوُّ الظَّاهِرُ إِنْ غَلَبَنَا كُنَّا مَأْجُورِينَ، وَالْعَدُوُّ الْبَاطِنُ إِنْ غَلَبَنَا كُنَّا مَفْتُونِينَ، وَأَيْضًا فَمَنْ قَتَلَهُ الْعَدُوُّ الظَّاهِرُ كَانَ شَهِيدًا، وَمَنْ قَتَلَهُ الْعَدُوُّ الْبَاطِنُ كَانَ طَرِيدًا، فَكَانَ الِاحْتِرَازُ عَنْ شَرِّ الْعَدُوِّ الْبَاطِنِ أَوْلَى، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) . النُّكْتَةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ أَشْرَفُ الْبِقَاعِ، فَلَا تَجِدُ دِيَارًا طَيِّبَةً وَلَا بَسَاتِينَ عَامِرَةً وَلَا رِيَاضًا نَاضِرَةً إِلَّا وَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ أَشْرَفُ مِنْهَا، بَلْ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ كَالْمِرْآةِ فِي الصَّفَاءِ، بَلْ فَوْقَ الْمِرْآةِ، لِأَنَّ الْمِرْآةَ إِنْ عَرَضَ عَلَيْهَا حِجَابٌ لَمْ يُرَ فيها شيء وقلب المؤمن لا يحجبه السموات السَّبْعُ وَالْكُرْسِيُّ وَالْعَرْشُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فَاطِرٍ: 10] بَلِ الْقَلْبُ مَعَ جَمِيعِ هَذِهِ الْحُجُبِ يُطَالِعُ جَلَالَ الرُّبُوبِيَّةِ وَيُحِيطُ عِلْمًا بِالصِّفَاتِ الصَّمَدِيَّةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَلْبَ أَشْرَفُ الْبِقَاعِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهُ صَارَ مَكَانَ عَبْدٍ صَالِحٍ مَيِّتٍ، فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ/ سَرِيرًا لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ

وَعَرْشًا لِإِلَهِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ أَشْرَفَ الْبِقَاعِ، الثَّانِي: كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا عَبْدِي قَلْبُكَ بُسْتَانِي وَجَنَّتِي بُسْتَانُكَ فَلَمَّا لَمْ تَبْخَلْ عَلَيَّ بِبُسْتَانِكَ بَلْ أَنْزَلْتَ مَعْرِفَتِي فِيهِ فَكَيْفَ أَبْخَلُ بِبُسْتَانِي عَلَيْكَ وَكَيْفَ أَمْنَعُكَ مِنْهُ؟ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى كَيْفِيَّةَ نُزُولِ الْعَبْدِ فِي بُسْتَانِ الْجَنَّةِ فَقَالَ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَرِ: 55] وَلَمْ يَقُلْ عِنْدَ الْمَلِيكِ فَقَطْ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَكُونُ مَلِيكًا مُقْتَدِرًا وَعَبِيدِي يَكُونُونَ مُلُوكًا، إِلَّا أَنَّهُمْ يَكُونُونَ تَحْتَ قُدْرَتِي، إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: يَا عَبْدِي، إِنِّي جَعَلْتُ جَنَّتِي لَكَ، وَأَنْتَ جَعَلْتَ جَنَّتَكَ لِي، لَكِنَّكَ مَا أَنْصَفْتَنِي، فَهَلْ رَأَيْتَ جَنَّتِي الْآنَ وَهَلْ دَخَلْتَهَا؟ فَيَقُولُ الْعَبْدُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ تَعَالَى: وَهَلْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ؟ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: نَعَمْ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّكَ بَعْدَ مَا دَخَلْتَ جَنَّتِي، وَلَكِنْ لَمَّا قَرُبَ دُخُولُكَ أَخْرَجْتُ الشَّيْطَانَ مِنْ جَنَّتِي لِأَجْلِ نُزُولِكَ، وَقُلْتُ لَهُ اخْرُجْ منها مذؤما مَدْحُورًا، فَأَخْرَجْتُ عَدُوَّكَ قَبْلَ نُزُولِكَ، وَأَمَّا أَنْتَ فَبَعْدَ نُزُولِي فِي بُسْتَانِكَ سَبْعِينَ سَنَةً كَيْفَ يَلِيقُ بِكَ أَنْ لَا تُخْرِجَ عَدُوِّي وَلَا تَطْرُدَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُجِيبُ الْعَبْدُ وَيَقُولُ: إِلَهِي أَنْتَ قَادِرٌ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ جَنَّتِكَ وَأَمَّا أَنَا فَعَاجِزٌ ضَعِيفٌ وَلَا أَقْدِرُ عَلَى إِخْرَاجِهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: الْعَاجِزُ إِذَا دَخَلَ فِي حِمَايَةِ الْمَلِكِ الْقَاهِرِ صَارَ قَوِيًّا فَادْخُلْ فِي حِمَايَتِي حَتَّى تَقْدِرَ عَلَى إِخْرَاجِ الْعَدُوِّ مِنْ جَنَّةِ قَلْبِكَ، فَقُلْ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) . فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ بُسْتَانَ اللَّهِ فَلِمَاذَا لَا يَخْرُجُ الشَّيْطَانُ مِنْهُ؟ (قُلْنَا) قَالَ أَهْلُ الْإِشَارَةِ: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِلْعَبْدِ: أَنْتَ الَّذِي أَنْزَلْتَ سُلْطَانَ الْمَعْرِفَةِ فِي حُجْرَةِ قَلْبِكَ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُنْزِلَ سُلْطَانًا فِي حُجْرَةِ نَفْسِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْنُسَ تِلْكَ الْحُجْرَةَ وَأَنْ يُنَظِّفَهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَى السُّلْطَانِ تِلْكَ الْأَعْمَالُ، فَنَظِّفْ أَنْتَ حُجْرَةَ قَلْبِكَ مِنْ لَوْثِ الْوَسْوَسَةِ فَقُلْ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) . النُّكْتَةُ التَّاسِعَةُ: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ يَا عَبْدِي، مَا أَنْصَفْتَنِي أَتَدْرِي لِأَيِّ شَيْءٍ تَكَدَّرَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ الشَّيْطَانِ، إِنَّهُ كَانَ يَعْبُدُنِي مِثْلَ عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَكَانَ فِي الظَّاهِرِ مُقِرًّا بِإِلَهِيَّتِي وَإِنَّمَا تَكَدَّرَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ لِأَنِّي أَمَرْتُهُ بِالسُّجُودِ لِأَبِيكَ آدَمَ فَامْتَنَعَ، فَلَمَّا تَكَبَّرَ نَفَيْتُهُ عَنْ خِدْمَتِي، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَا عَادَى أَبَاكَ، إِنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ خِدْمَتِي، ثُمَّ إِنَّهُ يُعَادِيكَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً وَأَنْتَ تُحِبُّهُ، وَهُوَ يُخَالِفُكَ فِي كُلِّ الْخَيْرَاتِ وَأَنْتَ تُوَافِقُهُ فِي كُلِّ الْمُرَادَاتِ، فَاتْرُكْ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ الْمَذْمُومَةَ وَأَظْهِرْ عَدَاوَتَهُ فَقُلْ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) . النُّكْتَةُ الْعَاشِرَةُ: أَمَّا إِنْ نَظَرْتَ إِلَى قِصَّةِ أَبِيكَ فَإِنَّهُ أَقْسَمَ بِأَنَّهُ لَهُ مِنَ النَّاصِحِينَ، ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةُ ذَلِكَ الْأَمْرِ أَنَّهُ سَعَى فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا فِي حَقِّكَ فَإِنَّهُ أَقْسَمَ بِأَنَّهُ يُضِلُّكَ وَيُغْوِيكَ فَقَالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82، 83] فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ مُعَامَلَتَهُ مَعَ مَنْ أَقْسَمَ أَنَّهُ نَاصِحُهُ فَكَيْفَ تَكُونُ مُعَامَلَتُهُ مَعَ مَنْ أَقْسَمَ أَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيُغْوِيهِ. النُّكْتَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إِنَّمَا قَالَ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمًا آخَرَ، بَلْ ذَكَرَ قَوْلَهُ (اللَّهَ) لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ أَبْلَغُ فِي كَوْنِهِ زَاجِرًا عَنِ الْمَعَاصِي مِنْ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ لِأَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلِيمًا حَكِيمًا فَقَوْلُهُ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) جَارٍ مَجْرَى أَنْ يَقُولَ أَعُوذُ بِالْقَادِرِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ هِيَ النِّهَايَةُ فِي الزَّجْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّارِقَ يَعْلَمُ قُدْرَةَ السُّلْطَانِ وَقَدْ يَسْرِقُ مَالَهُ، لِأَنَّ السَّارِقَ عَالِمٌ بِأَنَّ ذَلِكَ السُّلْطَانَ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ، فَالْقُدْرَةُ وَحْدَهَا غَيْرُ كَافِيَةٍ فِي الزَّجْرِ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَهَا مِنَ الْعِلْمِ، وَأَيْضًا فَالْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ لَا يَكْفِيَانِ فِي حُصُولِ الزَّجْرِ، لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ لَمْ يَكُنْ حضوره مانعا

مِنْهُ، أَمَّا إِذَا حَصَلَتِ الْقُدْرَةُ وَحَصَلَ الْعِلْمُ وَحَصَلَتِ الْحِكْمَةُ الْمَانِعَةُ مِنَ الْقَبَائِحِ فَهَهُنَا يَحْصُلُ الزَّجْرُ الْكَامِلُ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ (أَعُوذُ بِاللَّهِ) فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَعُوذُ بِالْقَادِرِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الَّذِي لَا يَرْضَى بِشَيْءٍ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ فَلَا جَرَمَ يَحْصُلُ الزَّجْرُ التَّامُّ. النُّكْتَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: لَمَّا قَالَ الْعَبْدُ (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِأَنْ يُجَاوِرَ الشَّيْطَانَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ عَاصٍ، وَعِصْيَانُهُ لَا يَضُرُّ هَذَا الْمُسْلِمَ فِي الْحَقِيقَةِ، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ لَا يَرْضَى بِجِوَارِ الْعَاصِي فَبِأَنْ لَا يَرْضَى بِجِوَارِ عَيْنِ الْمَعْصِيَةِ أَوْلَى. النُّكْتَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: الشَّيْطَانُ اسْمٌ، وَالرَّجِيمُ صِفَةٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الِاسْمِ بَلْ ذَكَرَ الصِّفَةَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إِنَّ هَذَا الشَّيْطَانَ بَقِيَ فِي الْخِدْمَةِ أُلُوفًا مِنَ السِّنِينَ فَهَلْ سَمِعْتَ أَنَّهُ ضَرَّنَا أَوْ فَعَلَ مَا يَسُوءُنَا؟ ثُمَّ إِنَّا مَعَ ذَلِكَ رَجَمْنَاهُ حَتَّى طَرَدْنَاهُ، وَأَمَّا أَنْتَ فَلَوْ جَلَسَ هَذَا الشَّيْطَانُ مَعَكَ لَحْظَةً وَاحِدَةً لَأَلْقَاكَ فِي النَّارِ الْخَالِدَةِ فَكَيْفَ لَا تَشْتَغِلُ بِطَرْدِهِ وَلَعْنِهِ فَقُلْ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) . النُّكْتَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: «أَعُوذُ بِالْمَلَائِكَةِ» مَعَ أَنَّ أَدْوَنَ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَكْفِي فِي دَفْعِ الشَّيْطَانِ؟ فَمَا السَّبَبُ فِي أَنَّ جَعْلَ ذِكْرِ هَذَا الْكَلْبِ فِي مُقَابَلَةِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى؟ وَجَوَابُهُ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: عَبْدِي إِنَّهُ يَرَاكَ وَأَنْتَ لَا تَرَاهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ [الْأَعْرَافِ: 27] وإنما نفذ كيده فيكم لِأَنَّهُ يَرَاكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَرَوْنَهُ، / فَتَمَسَّكُوا بِمَنْ يَرَى الشَّيْطَانَ وَلَا يَرَاهُ الشَّيْطَانُ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقُولُوا: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. النُّكْتَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أُدْخِلَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الشَّيْطَانِ لِيَكُونَ تَعْرِيفًا لِلْجِنْسِ، لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ كَثِيرَةٌ مَرْئِيَّةٌ وَغَيْرُ مَرْئِيَّةٍ، بَلِ الْمَرْئِيُّ رُبَّمَا كَانَ أَشَدَّ، حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُذَكِّرِينَ أَنَّهُ قَالَ فِي مَجْلِسِهِ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ فَإِنَّهُ يَأْتِيهِ سَبْعُونَ شَيْطَانًا فَيَتَعَلَّقُونَ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَقَلْبِهِ وَيَمْنَعُونَهُ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا سَمِعَ بَعْضُ الْقَوْمِ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِّي أُقَاتِلُ هَؤُلَاءِ السَّبْعِينَ، وَخَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ وَأَتَى الْمَنْزِلَ وَمَلَأَ ذَيْلَهُ مِنَ الْحِنْطَةِ وَأَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ وَيَتَصَدَّقَ بِهِ فَوَثَبَتْ زَوْجَتُهُ وَجَعَلَتْ تُنَازِعُهُ وَتُحَارِبُهُ حَتَّى أَخْرَجَتْ ذَلِكَ مِنْ ذَيْلِهِ، فَرَجَعَ الرَّجُلُ خَائِبًا إِلَى الْمَسْجِدِ فَقَالَ الْمُذَكِّرُ: مَاذَا عَمِلْتَ؟ فَقَالَ: هَزَمْتُ السَّبْعِينَ فَجَاءَتْ أُمُّهُمْ فَهَزَمَتْنِي، وَأَمَّا إِنْ جَعَلْنَا الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْعَهْدِ فَهُوَ أَيْضًا جَائِزٌ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَعَاصِي بِرِضَى هَذَا الشَّيْطَانِ، وَالرَّاضِي يَجْرِي مَجْرَى الْفَاعِلِ لَهُ، وَإِذَا اسْتَبْعَدْتَ ذَلِكَ فَاعْرِفْهُ بِالْمَسْأَلَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ قِرَاءَةٌ لِلْمُقْتَدِي مِنْ حَيْثُ رَضِيَ بِهَا وَسَكَتَ خَلْفَهُ. النُّكْتَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الشَّيْطَانُ مَأْخُوذٌ مِنْ «شَطَنَ» إِذَا بَعُدَ فَحُكِمَ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ بَعِيدًا، وَأَمَّا الْمُطِيعُ فَقَرِيبٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [الْعَلَقِ: 19] وَاللَّهُ قَرِيبٌ مِنْكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [الْبَقَرَةِ: 186] وَأَمَّا الرَّجِيمُ فَهُوَ الْمَرْجُومُ بِمَعْنَى كَوْنِهِ مَرْمِيًّا بِسَهْمِ اللَّعْنِ وَالشَّقَاوَةِ وَأَمَّا أَنْتَ فَمَوْصُولٌ بِحَبْلِ السَّعَادَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [الْفَتْحِ: 26] فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ الشَّيْطَانَ بَعِيدًا مَرْجُومًا، وَجَعَلَكَ قَرِيبًا مَوْصُولًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ الشَّيْطَانَ الَّذِي هُوَ بَعِيدٌ قَرِيبًا لأنه تعالى قال: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فَاطِرٍ: 43] فَاعْرِفْ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَكَ قَرِيبًا فَإِنَّهُ لَا يَطْرُدُكَ وَلَا يُبْعِدُكَ عَنْ فضله ورحمته.

الباب السابع في المسائل الملتحقة بقوله: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)

النُّكْتَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: إِنَّهُ لَا بُدَّ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ مِنَ التَّعَوُّذِ، وَأَمَّا سَائِرُ الطَّاعَاتِ فَإِنَّهُ لَا يُتَعَوَّذُ فِيهَا، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يُنَجَّسُ لِسَانُهُ بِالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَبْدَ بِالتَّعَوُّذِ لِيَصِيرَ لِسَانُهُ طَاهِرًا فَيَقْرَأُ بِلِسَانٍ طَاهِرٍ كَلَامًا أُنْزِلَ مِنْ رَبٍّ طَيِّبٍ طَاهِرٍ. النُّكْتَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّهُ شَيْطَانٌ رَجِيمٌ، وَأَنَا رَحْمَنٌ رَحِيمٌ، فَابْعُدْ عَنِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ لِتَصِلَ إِلَى الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. النُّكْتَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: الشَّيْطَانُ عَدُوُّكَ، وَأَنْتَ عَنْهُ غَافِلٌ غَائِبٌ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ يَراكُمْ/ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ [الْأَعْرَافِ: 27] . فَعَلَى هَذَا لَكَ عَدُوٌّ غَائِبٌ وَلَكَ حَبِيبٌ غَالِبٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ [يُوسُفَ: 21] فَإِذَا قَصَدَكَ الْعَدُوُّ الْغَائِبُ فَافْزَعْ إِلَى الْحَبِيبِ الْغَالِبِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى أعلم بمراده. الباب السابع فِي الْمَسَائِلِ الْمُلْتَحِقَةِ بِقَوْلِهِ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ» وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ: (بِاللَّهِ أَعُوذُ) فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَا يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَالثَّانِي: يُفِيدُهُ، فَلِمَ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي مَعَ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الثَّانِيَ أَكْمَلُ وَأَيْضًا جَاءَ قَوْلُهُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» وَجَاءَ قَوْلُهُ: «لِلَّهِ الْحَمْدُ» وَأَمَّا هُنَا فَقَدْ جَاءَ «أَعُوذُ بِاللَّهِ» وَمَا جَاءَ قَوْلُهُ «بِاللَّهِ أَعُوذُ» فَمَا الْفَرْقُ؟. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) لَفْظُهُ الْخَبَرُ وَمَعْنَاهُ الدُّعَاءُ، وَالتَّقْدِيرُ: اللَّهُمَّ أَعِذْنِي. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [آلِ عِمْرَانَ: 36] كَقَوْلِهِ: «أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ» أَيِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ إِخْبَارٌ عَنْ فِعْلِهِ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ إِنَّمَا الْفَائِدَةُ فِي أَنْ يُعِيذَهُ اللَّهُ، فَمَا السَّبَبُ فِي أَنَّهُ قَالَ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ» وَلَمْ يَقُلْ أَعِذْنِي؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ بَيْنَ الرَّبِّ وَبَيْنَ الْعَبْدِ عَهْدًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ [النَّحْلِ: 91] وَقَالَ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 40] فَكَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ أَنَا مَعَ لُؤْمِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَنَقْصِ الْبَشَرِيَّةِ وَفَّيْتُ بِعَهْدِ عُبُودِيَّتِي حَيْثُ قُلْتُ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ» فَأَنْتَ مَعَ نِهَايَةِ الْكَرَمِ وَغَايَةِ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ أَوْلَى بِأَنْ تَفِيَ بِعَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ فَتَقُولُ: إِنِّي أُعِيذُكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. الْمَسْأَلَةُ ج: أَعُوذُ فِعْلٌ مُضَارِعٌ، وَهُوَ يَصْلُحُ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، فَهَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا؟ وَالْحَقُّ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ مَجَازٌ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِهِ بِحَرْفِ السِّينِ وَسَوْفَ. (د) لِمَ وَقَعَ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَ الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَلَمْ يَقَعْ بَيْنَ الْحَاضِرِ وَالْمَاضِي؟. (هـ) كَيْفَ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الْمُضَارِعِ وَبَيْنَ الِاسْمِ. (و) كَيْفَ الْعَامِلُ فِيهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَعْمُولٌ فَمَا هُوَ. (ز) قَوْلُهُ: (أَعُوذُ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ مُسْتَعِيذٌ فِي الْحَالِ وَفِي كُلِّ الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ الْكَمَالُ، فَهَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةَ بَاقِيَةٌ في الجنة.

(ح) قَوْلُهُ: (أَعُوذُ) حِكَايَةٌ عَنِ النَّفْسِ، وَلَا بد من الأربعة المذكورة في قوله: (أتين) . / أَمَّا الْمَبَاحِثُ الْعَقْلِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ أَعُوذُ بِاللَّهِ فَهِيَ كَثِيرَةٌ (أ) الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: «بِاللَّهِ» بَاءُ الْإِلْصَاقِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: - الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْبَصْرِيُّونَ يُسَمُّونَهُ بَاءَ الْإِلْصَاقِ، وَالْكُوفِيُّونَ يُسَمُّونَهُ بَاءَ الْآلَةِ، وَيُسَمِّيهِ قَوْمٌ بَاءَ التَّضْمِينِ، وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ الْكَلَامِ أَنَّ هَذِهِ الْبَاءَ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ لَا مَحَالَةَ، وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِلْصَاقُ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِنَفْسِهِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الشَّيْءِ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ، هَذَا الْبَاءُ فَهُوَ باء الإلصاق لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْإِلْصَاقِ، وَبَاءُ الْآلَةِ لِكَوْنِهِ دَاخِلًا عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ آلَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِضْمَارِ فِعْلٍ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: «بِالْقَلَمِ» لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَلَامًا مُفِيدًا، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ تَقُولَ: «كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ» وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ مُتَعَلِّقٌ بِمُضْمَرٍ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: «بِاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ» وَمَعْنَاهُ أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ، فَحَذَفَ أحلف لدلالة الكلام عليه، فكذا هاهنا، وَيَقُولُ الرَّجُلُ لِمَنْ يَسْتَأْذِنُهُ فِي سَفَرِهِ: عَلَى اسْمِ اللَّهِ أَيْ سِرْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِضْمَارِ فَنَقُولُ: الْحَذْفُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَفْصَحُ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ الْمُضْمَرِ لَاخْتَصَّ قَوْلُهُ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ» بِذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ أَمَّا عِنْدَ الْحَذْفِ فَإِنَّهُ يَذْهَبُ الْوَهْمُ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَيَقَعُ فِي الْخَاطِرِ أَنَّ جَمِيعَ الْمُهِمَّاتِ، لَا تَتِمُّ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ، وَإِلَّا عِنْدَ الِابْتِدَاءِ بِاسْمِ اللَّهِ، وَنَظِيرُهُ أنه قال: «الله أكبر» ولم يقل أنه أَكْبَرُ مِنَ الشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ لِأَجْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِفَادَةِ الْعُمُومِ فَكَذَا هُنَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الْبَاءِ عَمَلٌ إِلَّا الْكَسْرُ فَكُسِرَتْ لِهَذَا السَّبَبِ، فَإِنْ قِيلَ: كَافُ التَّشْبِيهِ لَيْسَ لَهَا عَمَلٌ إِلَّا الْكَسْرُ ثُمَّ إِنَّهَا لَيْسَتْ مَكْسُورَةً بَلْ مَفْتُوحَةً، قُلْنَا: كَافُ التَّشْبِيهِ قَائِمٌ مَقَامَ الِاسْمِ، وَهُوَ فِي الْعَمَلِ ضَعِيفٌ، أَمَّا الْحَرْفُ فَلَا وُجُودَ لَهُ إِلَّا بِحَسَبِ هَذَا الْأَثَرِ، فَكَانَ فِيهِ كَلَامًا قَوِيًّا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْبَاءُ قَدْ تَكُونُ أَصْلِيَّةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَافِ: 9] وَقَدْ تَكُونُ زَائِدَةً وَهِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لِلْإِلْصَاقِ وَهِيَ كَقَوْلِهِ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) وَقَوْلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ وَثَانِيهَا: لِلتَّبْعِيضِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَثَالِثُهَا: لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فُصِّلَتْ: 46] وَرَابِعُهَا: لِلتَّعْدِيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 17] أَيْ أَذْهَبَ نُورَهُمْ، وَخَامِسُهَا: الْبَاءُ بِمَعْنَى فِي قَالَ: حَلَّ بِأَعْدَائِكَ مَا حَلَّ بِي أَيْ: حَلَّ فِي أَعْدَائِكَ، وَأَمَّا بَاءُ الْقَسَمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «بِاللَّهِ» فَهُوَ مِنْ جِنْسِ بَاءِ الْإِلْصَاقِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْبَاءُ فِي قوله: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [آل عمران: 6] زائدة والتقدير: وامسحوا رؤسكم، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّهَا تُفِيدُ التبعيض، حجة الشافي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ أَنَّ هَذِهِ الْبَاءَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لَغْوًا أَوْ مُفِيدًا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْحُكْمَ بِأَنَّ كَلَامَ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ لَغْوٌ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكَلَامِ إِظْهَارُ الْفَائِدَةِ فَحَمْلُهُ عَلَى اللَّغْوِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ يُفِيدُ فَائِدَةً زَائِدَةً، وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ تِلْكَ الْفَائِدَةَ هِيَ التَّبْعِيضُ، الثَّانِي: أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: «مَسَحْتُ بِيَدَيَّ

الْمِنْدِيلَ» وَبَيْنَ قَوْلِهِ: «مَسَحْتُ يَدَيَّ بِالْمِنْدِيلِ» يَكْفِي فِي صِحَّةِ صِدْقِهِ مَا إِذَا مَسَحَ يَدَهُ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمِنْدِيلِ. الثَّالِثُ: أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ اللُّغَةِ قَالَ: الْبَاءُ قَدْ تَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ، وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ، لَكِنَّ رِوَايَةَ الْإِثْبَاتِ رَاجِحَةٌ فَثَبَتَ أَنَّ الْبَاءَ تُفِيدُ التَّبْعِيضَ، وَمِقْدَارُ ذَلِكَ الْبَعْضِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فَوَجَبَ أَنْ تُفِيدَ أَيَّ مِقْدَارٍ يُسَمَّى بَعْضًا، فَوَجَبَ الِاكْتِفَاءُ بِمَسْحِ أَقَلِّ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَالْإِشْكَالُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ [النِّسَاءِ: 43] فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسْحُ أَقَلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَجْهِ وَالْيَدِ كَافِيًا فِي التَّيَمُّمِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْإِتْمَامِ، وَلَهُ أَنْ يُجِيبَ فَيَقُولَ: مُقْتَضَى هَذَا النَّصِّ الِاكْتِفَاءُ فِي التَّيَمُّمِ بِأَقَلِّ جُزْءٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ إِلَّا أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ لَيْسَتْ نَسْخًا فَأَوْجَبْنَا الْإِتْمَامَ لِسَائِرِ الدَّلَائِلِ، وَفِي مَسْحِ الرَّأْسِ لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِتْمَامِ فَاكْتَفَيْنَا بِالْقَدْرِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا النَّصِّ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فَرَّعَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى بَاءِ الْإِلْصَاقِ مَسَائِلَ: إِحْدَاهَا: قَالَ مُحَمَّدٌ فِي «الزِّيَادَاتِ» : إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَوْ قَالَ: لِمَشِيئَةِ اللَّهِ يَقَعُ، لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ التَّعْلِيلِ، وَكَذَلِكَ أَنْتِ طَالِقٌ بِإِرَادَةِ اللَّهِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَوْ قَالَ لِإِرَادَةِ اللَّهِ يَقَعُ، أَمَّا إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بِعِلْمِ اللَّهِ أَوْ لِعِلْمِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْفَرْقِ، وَثَانِيهَا: قَالَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ خَرَجْتِ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إِلَّا بِإِذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهَا تَحْتَاجُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ إِلَى إِذْنِهِ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ خَرَجْتِ إِلَّا أَنْ آذَنَ لَكِ فَأَذِنَ لَهَا مَرَّةً كَفَى، وَلَا بُدَّ مِنَ الْفَرْقِ، وَثَالِثُهَا: لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً وَقَعَتْ بِثُلُثِ الْأَلْفِ وَذَلِكَ أَنَّ الْبَاءَ هاهنا تَدُلُّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ فَيُوَزَّعُ الْبَدَلُ عَلَى الْمُبْدَلِ، فصار بإزاء من طَلْقَةٍ ثُلُثُ الْأَلْفِ، وَلَوْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ لَفْظَةَ «عَلَى» كَلِمَةُ شَرْطٍ وَلَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ وَعِنْدَ صاحبيه تقع واحدة بثلث الألف. قلت: وهاهنا مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَاءِ. (أ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الثَّمَنُ إِنَّمَا يَتَمَيَّزُ عَنِ الْمُثَمَّنِ بِدُخُولِ حَرْفِ الْبَاءِ عَلَيْهِ، فَإِذَا قَالَ: بِعْتُ كَذَا بِكَذَا، فَالَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ الْبَاءُ هُوَ الثَّمَنُ فَقَطْ، وَعَلَى هَذَا الْفَرْقِ بَنَى مَسْأَلَةَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا قَالَ: بِعْتُ هَذَا الْكِرْبَاسَ بِمَنٍّ مِنَ الْخَمْرِ صَحَّ الْبَيْعُ وَانْعَقَدَ فَاسِدًا، وَإِذَا قَالَ بِعْتُ هَذَا الْخَمْرَ بِهَذَا الْكِرْبَاسِ لَمْ يَصِحَّ، وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى: الْخَمْرَ ثَمَنٌ، وَفِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ: الْخَمْرَ مثمن، وجعل الخمر ثمنا جائز أَمَّا جَعْلُهُ مُثَمَّنًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. (ب) قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا قَالَ بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الثَّوْبَ بِهَذَا الدِّرْهَمِ تَعَيَّنَ ذَلِكَ الدِّرْهَمُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَتَعَيَّنُ. (ج) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التَّوْبَةِ: 111] فَجَعَلَ الْجَنَّةَ ثَمَنًا لِلنَّفْسِ وَالْمَالِ. وَمِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ مَسَائِلُ: (أ) الْبَاءُ تَدُلُّ عَلَى السَّبَبِيَّةِ قَالَ اللَّهُ تعالى: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ [الأنفال: 13] هاهنا الْبَاءُ دَلَّتْ عَلَى السَّبَبِيَّةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِدْخَالُ لَفْظِ الْبَاءِ عَلَى السَّبَبِ فَيُقَالُ ثَبَتَ هَذَا الْحُكْمُ بِهَذَا السبب.

(ب) إِذَا قُلْنَا الْبَاءُ تُفِيدُ السَّبَبِيَّةَ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ بَاءِ السَّبَبِيَّةِ وَبَيْنَ لَامِ السَّبَبِيَّةِ، لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ. (ج) الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ» لَا بُدَّ مِنَ الْبَحْثِ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّ هَذِهِ الْبَاءَ بِمَاذَا تَتَعَلَّقُ، وَكَذَلِكَ الْبَحْثُ عَنْ قَوْلِهِ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ [الْبَقَرَةِ: 30] فَإِنَّهُ يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ هَذِهِ الْبَاءِ. (د) قِيلَ: كُلُّ الْعُلُومِ مُنْدَرِجٌ فِي الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ، وَعُلُومُهَا فِي الْقُرْآنِ، وَعُلُومُ الْقُرْآنِ فِي الْفَاتِحَةِ، وَعُلُومُ الْفَاتِحَةِ فِي (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَعُلُومُهَا فِي الْبَاءِ مِنْ بِسْمِ اللَّهِ (قُلْتُ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ كُلِّ الْعُلُومِ وُصُولُ الْعَبْدِ إِلَى الرَّبِّ، وَهَذَا الْبَاءُ بَاءُ الْإِلْصَاقِ فَهُوَ يُلْصِقُ الْعَبْدَ بِالرَّبِّ، فَهُوَ كَمَالُ الْمَقْصُودِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ مَبَاحِثِ هَذَا الْبَابِ، مَبَاحِثُ حُرُوفِ الْجَرِّ. فَإِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى نَوْعَيْنِ مِنْهَا: أَحَدُهُمَا: الْبَاءُ، وَثَانِيهُمَا: لَفْظُ «مِنْ» فَنَقُولُ: فِي لَفْظِ «مِنْ» مَبَاحِثُ: - (أ) أَنَّكَ تَقُولُ: «أَخَذْتُ الْمَالَ مِنِ ابْنِكَ» فَتَكْسِرُ النُّونَ ثُمَّ تَقُولُ: «أَخَذْتُ الْمَالَ مِنَ الرَّجُلِ» فَتَفْتَحُ النُّونَ، فَهَهُنَا اخْتَلَفَ آخِرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَحْوَالُ دَلَّتْ عَلَى اخْتِصَاصِ كُلِّ حَالَةٍ بِهَذِهِ الْحَرَكَةِ، فَهَهُنَا اخْتَلَفَ آخِرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ بِاخْتِلَافِ الْعَوَامِلِ، فَإِنَّهُ لَا/ مَعْنَى لِلْعَامِلِ إِلَّا الْأَمْرُ الدَّالُّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ، فَوَجَبَ كَوْنُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مُعْرَبَةً. (ب) كَلِمَةُ «مِنْ» وَرَدَتْ عَلَى وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالتَّبْعِيضِ، وَالتَّبْيِينِ، وَالزِّيَادَةِ. (ج) قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْأَصْلُ هُوَ ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ، وَالْبَوَاقِي مُفَرَّعَةٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْأَصْلُ هُوَ التَّبْعِيضُ، وَالْبَوَاقِي مُفَرَّعَةٌ عَلَيْهِ. (د) أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ كَوْنَهَا زَائِدَةً، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [نُوحٍ: 4] فَقَدْ بَيَّنُوا أَنَّهُ يُفِيدُ فَائِدَةً زَائِدَةً فَكَأَنَّهُ قَالَ يَغْفِرُ لَكُمْ بَعْضَ ذُنُوبِكُمْ، وَمَنْ غَفَرَ كُلَّ بَعْضٍ مِنْهُ فَقَدْ غَفَرَ كُلَّهُ. (هـ) الْفَرْقُ بَيْنَ مِنْ وَبَيْنَ عَنْ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الْأَعْرَافِ: 17] وَفِيهِ سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: لِمَ خَصَّ الْأَوَّلَيْنِ بِلَفْظِ مِنْ وَالثَّالِثَ وَالرَّابِعَ بِلَفْظِ عَنْ. الثَّانِي: لَمَّا ذَكَرَ الشَّيْطَانُ لَفْظَ مِنْ وَلَفْظَ عَنْ فَلِمَ جَاءَتِ الِاسْتِعَاذَةُ بِلَفْظِ مِنْ فَقَالَ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ) وَلَمْ يَقُلْ عَنِ الشَّيْطَانِ. النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ مَبَاحِثِ هَذَا الْبَابِ: - (أ) الشَّيْطَانُ مُبَالَغَةٌ فِي الشَّيْطَنَةِ، كَمَا أَنَّ الرَّحْمَنَ مُبَالَغَةٌ فِي الرَّحْمَةِ، وَالرَّجِيمُ فِي حَقِّ الشَّيْطَانِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَمَا أَنَّ الرَّحِيمَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تَقْتَضِي الْفِرَارَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِلَى الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَهَذَا يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا يَنْشَأُ عَنْهُ قَوْلُ الثَّنَوِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ وَإِبْلِيسَ أَخَوَانِ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْأَخُ الْكَرِيمُ الرَّحِيمُ الْفَاضِلُ، وَإِبْلِيسَ هُوَ الْأَخُ اللَّئِيمُ الْخَسِيسُ الْمُؤْذِي، فَالْعَاقِلُ يَفِرُّ مِنْ هَذَا الشِّرِّيرِ إِلَى ذَلِكَ الخير.

الكتاب الثاني في مباحث بسم الله الرحمن الرحيم وفيه أبواب

(ب) الْإِلَهُ هَلْ هُوَ رَحِيمٌ كَرِيمٌ؟ فَإِنْ كَانَ رَحِيمًا كَرِيمًا فَلِمَ خَلَقَ الشَّيْطَانَ الرَّجِيمَ وَسَلَّطَهُ عَلَى الْعِبَادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَحِيمًا كَرِيمًا فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي الرُّجُوعِ إِلَيْهِ وَالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ. (ج) الْمَلَائِكَةُ فِي السموات هَلْ يَقُولُونَ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) فَإِنْ ذَكَرُوهُ فَإِنَّمَا يَسْتَعِيذُونَ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِهِمْ لَا مِنْ شُرُورِ الشَّيْطَانِ. (د) أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ هَلْ يَقُولُونَ أَعُوذُ بِاللَّهِ. (هـ) الْأَنْبِيَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ لِمَ يَقُولُونَ (أَعُوذُ بِاللَّهِ) مَعَ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِمْ فِي قَوْلِهِ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82، 83] . (و) الشَّيْطَانُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِمْ إِلَّا فِي مُجَرَّدِ الدَّعْوَةِ حَيْثُ قَالَ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إِبْرَاهِيمَ: 22] وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَهُوَ الَّذِي/ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَلَاءِ فَكَانَتِ اسْتِعَاذَةُ الْإِنْسَانِ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ أَهَمَّ وَأَلْزَمَ مِنِ اسْتِعَاذَتِهِ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ فَلِمَ بَدَأَ بِالْجَانِبِ الْأَضْعَفِ وَتَرَكَ الْجَانِبَ الْأَهَمَّ؟. الْكِتَابُ الثَّانِي فِي مَبَاحِثِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَفِيهِ أَبْوَابٌ الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي مَسَائِلَ جَارِيَةٍ مجرى المقدمات وفيه مسائل متعلق باء البسملة: المسألة الأولى [متعلق باء البسملة] : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْبَاءَ مِنْ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) مُتَعَلِّقَةٌ بِمُضْمَرٍ، فَنَقُولُ: هَذَا الْمُضْمَرُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا، وَأَنْ يَكُونَ فِعْلًا، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا، وَأَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا، فَهَذِهِ أَقْسَامٌ أَرْبَعَةٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا وَكَانَ فِعْلًا فَكَقَوْلِكَ: أَبْدَأُ بِاسْمِ اللَّهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا وَكَانَ اسْمًا فَكَقَوْلِكَ: ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ بِاسْمِ اللَّهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مُتَأَخِّرًا وَكَانَ فِعْلًا فَكَقَوْلِكَ: بِاسْمِ اللَّهِ أَبْدَأُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مُتَأَخِّرًا وَكَانَ اسْمًا فكقولك: باسم الله ابتدائي ويجب البحث هاهنا عَنْ شَيْئَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّقْدِيمَ أَوْلَى أَمِ التَّأْخِيرَ؟ فَنَقُولُ كِلَاهُمَا وَارِدٌ فِي الْقُرْآنِ، أَمَّا التقديم فكقوله: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هود: 41] وَأَمَّا التَّأْخِيرُ فَكَقَوْلِهِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [الْعَلَقِ: 1] وَأَقُولُ: التَّقْدِيمُ عِنْدِي أَوْلَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأول: أنه تعالى قديم واجب الوجود لذاته، فيكون وجوده سابقا على وجود غَيْرِهِ، وَالسَّابِقُ بِالذَّاتِ يَسْتَحِقُّ السَّبْقَ، فِي الذِّكْرِ، الثَّانِي: قَالَ تَعَالَى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ [الْحَدِيدِ: 3] وَقَالَ: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، [الرُّومِ: 4] الثَّالِثُ: أَنَّ التَّقْدِيمَ فِي الذِّكْرِ أُدْخِلَ فِي التَّعْظِيمِ، الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ فَهَهُنَا الْفِعْلُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الِاسْمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ: (بِسْمِ اللَّهِ) كَذَلِكَ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ بِاسْمِ اللَّهِ أَبْتَدِئُ، الْخَامِسُ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ الْوَالِدَ ضِيَاءَ الدِّينِ عُمَرَ رَضِيَ

اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: حَضَرَ الشَّيْخُ أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي الْخَيْرِ الْمِيهَنِيُّ مَعَ الْأُسْتَاذِ أَبِي الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيِّ فَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْقُشَيْرِيُّ: الْمُحَقِّقُونَ قَالُوا مَا رَأَيْنَا شَيْئًا إِلَّا وَرَأَيْنَا اللَّهَ بَعْدَهُ، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي الْخَيْرِ: ذَاكَ مَقَامُ الْمُرِيدِينَ أَمَّا الْمُحَقِّقُونَ فَإِنَّهُمْ مَا رَأَوْا شَيْئًا إِلَّا وَكَانُوا قَدْ رَأَوُا اللَّهَ قَبْلَهُ، قُلْتُ: وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنَ الْمَخْلُوقِ إِلَى الْخَالِقِ إِشَارَةٌ إِلَى بُرْهَانِ الْآنِ، وَالنُّزُولُ مِنَ الْخَالِقِ إِلَى الْمَخْلُوقِ بُرْهَانُ اللِّمَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ بُرْهَانَ اللِّمَ أَشْرَفُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَنْ أَضْمَرَ الْفِعْلَ أَوَّلًا فَكَأَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ رُؤْيَةِ فِعْلِهِ إِلَى رُؤْيَةِ وُجُوبِ الِاسْتِعَانَةِ بِاسْمِ اللَّهِ/ وَمَنْ قَالَ: (بِاسْمِ اللَّهِ) ثُمَّ أَضْمَرَ الْفِعْلَ ثَانِيًا فَكَأَنَّهُ رَأَى وُجُوبَ الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ ثُمَّ نَزَلَ مِنْهُ إِلَى أَحْوَالِ نَفْسِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِضْمَارُ الْفِعْلِ أَوْلَى أَمْ إِضْمَارُ الِاسْمِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: نَسَقُ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُضْمَرَ هُوَ الْفِعْلُ، وَهُوَ الْأَمْرُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 4] وَالتَّقْدِيرُ قُولُوا إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ التَّقْدِيرُ قُولُوا بِسْمِ اللَّهِ، وَأَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: بَلْ إِضْمَارُ الِاسْمِ أَوْلَى، لِأَنَّا إِذَا قُلْنَا تَقْدِيرُ الْكَلَامِ بِسْمِ اللَّهِ ابْتِدَاءُ كُلِّ شَيْءٍ كَانَ هَذَا إِخْبَارًا عَنْ كَوْنِهِ مَبْدَأً فِي ذَاتِهِ لجميع الحوادث وخالفا لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، سَوَاءٌ قَالَهُ قَائِلٌ أَوْ لَمْ يَقُلْهُ، وَسَوَاءٌ ذَكَرَهُ ذَاكِرٌ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ أَوْلَى، وَتَمَامُ الكلام فيه يجيء في بيان أن الأولى أَنْ يُقَالَ قُولُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوِ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ كَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ سَوَاءٌ قَالَهُ قَائِلٌ أَوْ لَمْ يَقُلْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْجَرُّ يَحْصُلُ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِالْحَرْفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: «بِاسْمِ» وَالثَّانِي: بِالْإِضَافَةِ كَمَا فِي «اللَّهِ» مِنْ قَوْلِهِ: «بِاسْمِ اللَّهِ» وَأَمَّا الْجَرُّ الْحَاصِلُ فِي لَفْظِ «الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» فَإِنَّمَا حَصَلَ لِكَوْنِ الْوَصْفِ تَابِعًا لِلْمَوْصُوفِ فِي الْإِعْرَابِ، فَهَهُنَا أَبْحَاثٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ لِمَ اقْتَضَتِ الْجَرَّ؟ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْإِضَافَةَ لِمَ اقْتَضَتِ الْجَرَّ؟ وَثَالِثُهَا: أَنَّ اقْتِضَاءَ الْحَرْفِ أَقْوَى أَوِ اقْتِضَاءَ الْإِضَافَةِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْإِضَافَةَ عَلَى كَمْ قِسْمٍ تَقَعُ، قَالُوا إِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مُحَالٌ، فَبَقِيَ أَنْ تَقَعَ الْإِضَافَةُ بَيْنَ الْجُزْءِ وَالْكُلِّ، أَوْ بَيْنَ الشَّيْءِ وَالْخَارِجِ عَنْ ذَاتِ الشَّيْءِ الْمُنْفَصِلِ عَنْهُ، أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَنَحْوُ «بَابُ حَدِيدٍ، وَخَاتَمُ ذَهَبٍ» لِأَنَّ ذَلِكَ الْبَابَ بَعْضُ الْحَدِيدِ وَذَلِكَ الْخَاتَمَ بَعْضُ الذَّهَبِ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَكَقَوْلِكَ: «غُلَامُ زَيْدٍ» فَإِنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مُغَايِرٌ لِلْمُضَافِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَمَّا أَقْسَامُ النَّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ فَكَأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنِ الضَّبْطِ وَالتَّعْدِيدِ، فَإِنَّ أَنْوَاعَ النَّسَبِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: كَوْنُ الِاسْمِ اسْمًا لِلشَّيْءِ نِسْبَةً بَيْنَ اللَّفْظَةِ الْمَخْصُوصَةِ الَّتِي هِيَ الِاسْمُ وَبَيْنَ الذَّاتِ الْمَخْصُوصَةِ الَّتِي هِيَ الْمُسَمَّى، وَتِلْكَ النِّسْبَةُ مَعْنَاهَا أَنَّ النَّاسَ اصْطَلَحُوا عَلَى جَعْلِ تِلْكَ اللَّفْظَةِ الْمَخْصُوصَةِ مُعَرِّفَةً لِذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَخْصُوصِ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا مَتَى سَمِعْتُمْ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مِنَّا فَافْهَمُوا أَنَّا أَرَدْنَا بِهَا ذَلِكَ الْمَعْنَى الْفُلَانِيَّ، فَلَمَّا حَصَلَتْ هَذِهِ النِّسْبَةُ بَيْنَ الِاسْمِ وَبَيْنَ الْمُسَمَّى لَا جَرَمَ صَحَّتْ إِضَافَةُ الِاسْمِ إِلَى الْمُسَمَّى، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ إِضَافَةِ الِاسْمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: ذِكْرُ الِاسْمِ فِي قَوْلِهِ: «بِسْمِ اللَّهِ» صِلَةٌ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ بِاللَّهِ قَالَ، وَإِنَّمَا ذِكْرُ لَفْظَةِ الِاسْمِ: إِمَّا لِلتَّبَرُّكِ، وَإِمَّا لِيَكُونَ فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِسْمِ، وَأَقُولُ/ وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: «بسم الله» قوله: ابدءوا بسم اللَّهِ، وَكَلَامُ أَبِي عُبَيْدٍ ضَعِيفٌ، لِأَنَّا لَمَّا أُمِرْنَا بِالِابْتِدَاءِ فَهَذَا الْأَمْرُ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِنَا، وَذَلِكَ الْفِعْلُ هُوَ لَفْظُنَا وَقَوْلُنَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ابْدَأْ بِذِكْرِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ ابْدَأْ بِبِسْمِ اللَّهِ، وَأَيْضًا فَالْفَائِدَةُ فِيهِ أنه كما

الباب الثاني فيما يتعلق بهذه الكلمة من القراءة والكتابة

أَنَّ ذَاتَ اللَّهِ تَعَالَى أَشْرَفُ الذَّوَاتِ فَكَذَلِكَ ذِكْرُهُ أَشْرَفُ الْأَذْكَارِ، وَاسْمُهُ أَشْرَفُ الْأَسْمَاءِ، فَكَمَا أَنَّهُ فِي الْوُجُودِ سَابِقٌ عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُ سَابِقًا عَلَى كُلِّ الْأَذْكَارِ، وَأَنْ يَكُونَ اسْمُهُ سَابِقًا عَلَى كُلِّ الْأَسْمَاءِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَدْ حَصَلَ فِي لَفْظِ الِاسْمِ هَذِهِ الْفَوَائِدُ الْجَلِيلَةُ. الْبَابُ الثَّانِي فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنَ الْقِرَاءَةِ والكتابة أما المباحث المتعلقة بالقراءة فكثيرة: - الوقف على كلمات البسملة: المسألة الأولى [الوقف على كلمات البسملة] : أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ: «بِسْمِ» نَاقِصٌ قَبِيحٌ، وَعَلَى قَوْلِهِ: «بِسْمِ اللَّهِ» أَوْ عَلَى قَوْلِهِ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ» كَافٍ صَحِيحٌ، وَعَلَى قَوْلِهِ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» تَامٌّ وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَقْفَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقَعَ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ نَاقِصًا، أَوْ كَافِيًا أَوْ كَامِلًا، فَالْوَقْفُ عَلَى كُلِّ كَلَامٍ لَا يُفْهَمُ بِنَفْسِهِ نَاقِصٌ، وَالْوَقْفُ عَلَى كُلِّ كَلَامٍ مَفْهُومِ الْمَعَانِي إِلَّا أَنَّ مَا بَعْدَهُ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ يَكُونُ كَافِيًا، وَالْوَقْفُ عَلَى كُلِّ كَلَامٍ تَامٍّ وَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ مُنْقَطِعًا عَنْهُ يَكُونُ وَقْفًا تَامًّا. ثُمَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» كَلَامٌ تَامٌّ، إِلَّا أَنَّ قوله: «الرحمن الرحيم ملك» مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّهَا صِفَاتٌ، وَالصِّفَاتُ تَابِعَةٌ لِلْمَوْصُوفَاتِ، فَإِنْ جَازَ قَطْعُ الصِّفَةِ عَنِ الْمَوْصُوفِ وَجَعْلُهَا وَحْدَهَا آيَةً فَلِمَ لَمْ يَقُولُوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ آيَةٌ؟ ثُمَّ يَقُولُوا الرَّحِيمِ آيَةٌ ثَانِيَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فَكَيْفَ جَعَلُوا الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةً مُسْتَقِلَّةً، فَهَذَا الْإِشْكَالُ لَا بد من جوابه. حكم لام الجلالة: المسألة الثانية [حكم لام الجلالة] : أَطْبَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى تَرْكِ تَغْلِيظِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: «بِسْمِ اللَّهِ» وَفِي قَوْلِهِ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنَ الْكَسْرَةِ إِلَى اللَّامِ الْمُفَخَّمَةِ ثَقِيلٌ، لِأَنَّ الْكَسْرَةَ تُوجِبُ التَّسَفُّلَ، وَاللَّامَ الْمُفَخَّمَةَ حَرْفٌ مُسْتَعْلٍ، وَالِانْتِقَالَ مِنَ التَّسَفُّلِ إِلَى التَّصَعُّدِ ثَقِيلٌ، وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنُوا تَفْخِيمَ اللَّامِ وَتَغْلِيظَهَا مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي حَالِ كَوْنِهَا مَرْفُوعَةً أَوْ مَنْصُوبَةً كَقَوْلِهِ: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ [الشورى: 19] قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاصِ: 1] وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ [التَّوْبَةِ: 111] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالُوا الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّفْخِيمِ أَمْرَانِ: الأول: الفرق بينه وبين لفظ اللام/ فِي الذِّكْرِ، الثَّانِي: أَنَّ التَّفْخِيمَ مُشْعِرٌ بِالتَّعْظِيمِ، وَهَذَا اللَّفْظُ يَسْتَحِقُّ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّعْظِيمِ، الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّامَ الرَّقِيقَةَ إِنَّمَا تُذْكَرُ بِطَرْفِ اللِّسَانِ، وَأَمَّا هَذِهِ اللَّامُ الْمُغَلَّظَةُ فَإِنَّمَا تُذْكَرُ بِكُلِّ اللِّسَانِ فَكَانَ الْعَمَلُ فِيهِ أَكْثَرَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَدْخَلَ فِي الثَّوَابِ، وَأَيْضًا جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ يَا مُوسَى أَجِبْ رَبَّكَ بِكُلِّ قَلْبِكَ، فَهَهُنَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَذْكُرُ رَبَّهُ بِكُلِّ لِسَانِهِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَذْكُرُهُ بِكُلِّ قَلْبِهِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ هَذَا أَدْخَلَ فِي التَّعْظِيمِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: نِسْبَةُ اللَّامِ الرَّقِيقَةِ إِلَى اللَّامِ الْغَلِيظَةِ كَنِسْبَةِ الدَّالِ إِلَى الطاء، وكنسبة

السِّينِ إِلَى الصَّادِ، فَإِنَّ الدَّالَ تُذْكَرُ بِطَرْفِ اللِّسَانِ وَالطَّاءَ تُذْكَرُ بِكُلِّ اللِّسَانِ وَكَذَلِكَ السِّينُ تُذْكَرُ بِطَرْفِ اللِّسَانِ وَالصَّادُ تُذْكَرُ بِكُلِّ اللِّسَانِ، فَثَبَتَ أَنَّ نِسْبَةَ اللَّامِ الرَّقِيقَةِ إِلَى اللَّامِ الْغَلِيظَةِ كَنِسْبَةِ الدَّالِ إِلَى الطَّاءِ وَكَنِسْبَةِ السِّينِ إِلَى الصَّادِ، ثُمَّ أَنَّا رَأَيْنَا أَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا الدَّالُ حَرْفٌ وَالطَّاءُ حَرْفٌ آخَرُ، وَكَذَلِكَ السِّينُ حَرْفٌ وَالصَّادُ حَرْفٌ آخَرُ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَيْضًا أَنْ يَقُولُوا: اللَّامُ الرَّقِيقَةُ حَرْفٌ وَاللَّامُ الْغَلِيظَةُ حَرْفٌ آخَرُ، وَأَنَّهُمْ مَا فَعَلُوا ذَلِكَ ولا بد من الفرق. حكم الإدغام: المسألة الخامسة [حكم الإدغام] : تَشْدِيدُ اللَّامِ مِنْ قَوْلِكَ: «اللَّهِ» لِلْإِدْغَامِ فَإِنَّهُ حَصَلَ هُنَاكَ لَامَانِ الْأُولَى: لَامُ التَّعْرِيفِ وَهِيَ سَاكِنَةٌ وَالثَّانِيَةُ: لَامُ الْأَصْلِ وَهِيَ مُتَحَرِّكَةٌ، وَإِذَا الْتَقَى حَرْفَانِ مِثْلَانِ مِنَ الْحُرُوفِ كُلِّهَا وَكَانَ أَوَّلُ الْحَرْفَيْنِ سَاكِنًا وَالثَّانِي مُتَحَرِّكًا أُدْغِمَ السَّاكِنُ فِي الْمُتَحَرِّكِ ضَرُورَةً سَوَاءٌ كَانَا فِي كَلِمَتَيْنِ أو كلمة واحدة، وأما فِي الْكَلِمَتَيْنِ فَكَمَا فِي قَوْلِهِ: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ، [البقرة: 16] وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ، [النحل: 53] ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ [الرعد: 34] وَأَمَّا فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ فَكَمَا فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ وَالْوَاوَ وَالْيَاءَ إِنْ كَانَتْ سَاكِنَةً امْتَنَعَ اجْتِمَاعُ مِثْلَيْنِ، فَامْتَنَعَ الْإِدْغَامُ لِهَذَا السَّبَبِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً وَاجْتَمَعَ فِيهَا مِثْلَانِ كَانَ الْإِدْغَامُ جَائِزًا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لأرباب الإشارات والمجاهدات هاهنا دَقِيقَةٌ، وَهِيَ أَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ وَلَامَ الْأَصْلِ مِنْ لَفْظَةِ «اللَّهِ» اجْتَمَعَا فَأُدْغِمَ أَحَدُهُمَا فِي الثَّانِي، فَسَقَطَ لَامُ الْمَعْرِفَةِ وَبَقِيَ لَامُ لَفْظَةِ اللَّهِ، وَهَذَا كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إِذَا حصلت إلى حضرة المعروفة سَقَطَتِ الْمَعْرِفَةُ وَفَنِيَتْ وَبَطَلَتْ، وَبَقِيَ الْمَعْرُوفُ الْأَزَلِيُّ كَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. مد لام الجلالة: المسألة السابعة [مد لام الجلالة] : لَا يَجُوزُ حَذْفُ الْأَلِفِ مِنْ قَوْلِنَا: اللَّهِ فِي اللَّفْظِ، وَجَازَ ذَلِكَ فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ عِنْدَ الْوَقْفِ عَلَيْهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: - أَقْبَلَ سَيْلٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ... يَجُودُ جُودَ الْجَنَّةِ الْمُغِلَّةِ انْتَهَى، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْبَحْثِ مَسَائِلُ فِي الشَّرِيعَةِ: إِحْدَاهَا: أَنَّهُ عِنْدَ الْحَلِفِ لَوْ قَالَ بِلَّهِ فَهَلْ يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ أَمْ لَا قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ بِلَّهِ اسْمٌ لِلرُّطُوبَةِ فَلَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ، وَقَالَ آخَرُونَ يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ لِأَنَّهُ بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ جَائِزٌ، وَقَدْ نَوَى بِهِ الْحَلِفَ فَوَجَبَ أَنْ تَنْعَقِدَ وثانيها: لَوْ ذَكَرَهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ عِنْدَ الذَّبِيحَةِ هَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ أَمْ لَا، وَثَالِثُهَا: لَوْ ذَكَرَ قَوْلَهُ: «اللَّهُ» فِي قَوْلِهِ: «اللَّهُ أَكْبَرُ» هَلْ تَنْعَقِدُ الصَّلَاةُ بِهِ أَمْ لَا؟. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: لَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ اللَّهِ بِالْإِمَالَةِ إِلَّا قتيبة في بعض الروايات انتهى. حكم لام أل: المسألة التاسعة [حكم لام أل] : تَشْدِيدُ الرَّاءِ مِنْ قَوْلِهِ: «الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» لِأَجْلِ إِدْغَامِ لَامِ التَّعْرِيفِ فِي الرَّاءِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْقُرَّاءِ فِي لُزُومِ إِدْغَامِ لَامِ التَّعْرِيفِ فِي اللَّامِ، وَفِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ حَرْفًا سِوَاهُ وَهِيَ: الصَّادُ، وَالضَّادُ، وَالسِّينُ، وَالشِّينُ، وَالدَّالُ، وَالذَّالُ، وَالرَّاءُ، وَالزَّايُ، وَالطَّاءُ، وَالظَّاءُ، وَالتَّاءُ، وَالثَّاءُ، وَالنُّونُ، انْتَهَى. كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِجَوَازِ هَذَا الْإِدْغَامِ قُرْبُ الْمَخْرَجِ، فَإِنَّ اللَّامَ وَكُلَّ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمَذْكُورَةِ مَخْرَجُهَا مِنْ طَرْفِ اللِّسَانِ وَمَا يَقْرُبُ مِنْهُ، فَحَسُنَ الْإِدْغَامُ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْقُرَّاءِ فِي امْتِنَاعِ إِدْغَامِ لَامِ التَّعْرِيفِ فِيمَا عَدَا هَذِهِ الثَّلَاثَةَ عشر كقوله: الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ ... الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ [التوبة: 112] كُلُّهَا بِالْإِظْهَارِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزِ الْإِدْغَامُ فِيهَا لِبُعْدِ الْمَخْرَجِ، فَإِنَّهُ إِذَا بَعُدَ مَخْرَجُ الْحَرْفِ الْأَوَّلِ عَنْ مَخْرَجِ الْحَرْفِ الثَّانِي ثَقُلَ النُّطْقُ بِهِمَا دَفْعَةً فَوَجَبَ تَمْيِيزُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ، بِخِلَافِ الْحَرْفَيْنِ اللَّذَيْنِ يَقْرُبُ مَخْرَجَاهُمَا، لِأَنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَهُمَا مُشْكِلٌ صَعْبٌ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُمَالُ لَفْظُ «الرَّحْمَنِ» وَفِي جَوَازِ إِمَالَتِهِ قَوْلَانِ لِلنَّحْوِيِّينَ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ، وَلَعَلَّهُ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، وَعِلَّةُ جَوَازِهِ انْكِسَارُ النُّونِ بَعْدَ الْأَلِفِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ إِعْرَابَ «الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» هُوَ الْجَرُّ لِكَوْنِهِمَا صِفَتَيْنِ لِلْمَجْرُورِ الْأَوَّلِ إِلَّا أَنَّ الرَّفْعَ وَالنَّصْبَ جَائِزَانِ فِيهِمَا بِحَسَبِ النَّحْوِ، أَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى تَقْدِيرِ بِسْمِ اللَّهِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَأَمَّا النَّصْبُ فَعَلَى تَقْدِيرِ بِسْمِ الله أعين الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ. النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ مَبَاحِثِ هَذَا الباب ما يتعلق بالخط، وفيه مسائل: - ما يتعلق بالبسملة قراءة وكتابة: المسألة الأولى [ما يتعلق بالبسملة قراءة وكتابة] : طَوَّلُوا الْبَاءَ مِنْ «بِسْمِ اللَّهِ» وَمَا طَوَّلُوهَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَذَكَرُوا فِي الْفَرْقِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا حُذِفَتْ أَلِفُ الْوَصْلِ بَعْدَ الْبَاءِ طَوَّلُوا هَذِهِ الْبَاءَ لِيَدُلَّ طُولُهَا/ عَلَى الْأَلِفِ الْمَحْذُوفَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا كَتَبُوا اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [الْعَلَقِ: 1] بِالْأَلِفِ رَدُّوا الْبَاءَ إِلَى صِفَتِهَا الْأَصْلِيَّةِ، الثَّانِي: قَالَ الْقُتَيْبِيُّ، إِنَّمَا طَوَّلُوا الْبَاءَ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ لَا يَسْتَفْتِحُوا كِتَابَ اللَّهِ إِلَّا بِحَرْفٍ مُعَظَّمٍ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ لِكُتَّابِهِ طَوِّلُوا الْبَاءَ، وَأَظْهِرُوا السِّينَ. وَدَوِّرُوا الْمِيمَ تَعْظِيمًا لِكِتَابِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَهْلُ الْإِشَارَةِ وَالْبَاءُ حَرْفٌ مُنْخَفِضٌ فِي الصُّورَةِ فَلَمَّا اتَّصَلَ بِكُتُبِهِ لَفْظُ اللَّهِ ارْتَفَعَتْ وَاسْتَعْلَتْ، فَنَرْجُو أَنَّ الْقَلْبَ لَمَّا اتَّصَلَ بِخِدْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرْتَفِعَ حَالُهُ وَيَعْلُوَ شَأْنُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حَذَفُوا أَلِفَ «اسْمِ» مِنْ قَوْلِهِ: «بِسْمِ اللَّهِ» وَأَثْبَتُوهُ فِي قَوْلِهِ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) وَالْفَرْقُ من وجهين: الأول: أن كلمة «باسم اللَّهِ» مَذْكُورَةٌ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْأَفْعَالِ، فَلِأَجْلِ التَّخْفِيفِ حَذَفُوا الْأَلِفَ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَوَاضِعِ فَإِنَّ ذِكْرَهَا قَلِيلٌ. الثَّانِي: قَالَ الْخَلِيلُ: إِنَّمَا حُذِفَتِ الْأَلِفُ فِي قَوْلِهِ: «بِسْمِ اللَّهِ» لِأَنَّهَا إِنَّمَا دَخَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالسِّينِ السَّاكِنَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْبَاءُ عَلَى الِاسْمِ نَابَتْ عَنِ الْأَلِفِ فَسَقَطَتْ فِي الْخَطِّ، وَإِنَّمَا لَمْ تَسْقُطْ فِي قَوْلِهِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ لِأَنَّ الْبَاءَ لَا تَنُوبُ عَنِ الْأَلِفِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَمَا فِي (بِسْمِ اللَّهِ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُ حَذْفُ الْبَاءِ مِنِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ مَعَ بَقَاءِ الْمَعْنَى صَحِيحًا، فَإِنَّكَ لَوْ قُلْتَ اقْرَأِ اسْمَ رَبِّكَ صَحَّ الْمَعْنَى، أَمَّا لَوْ حَذَفْتَ الْبَاءَ مِنْ «بِسْمِ اللَّهِ» لَمْ يَصِحَّ الْمَعْنَى فَظَهَرَ الْفَرْقُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: كَتَبُوا لَفْظَةَ اللَّهِ بِلَامَيْنِ، وَكَتَبُوا لَفْظَةَ الَّذِي بِلَامٍ وَاحِدَةٍ، مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي اللَّفْظِ وَفِي كَثْرَةِ الدَّوَرَانِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، وَفِي لُزُومِ التَّعْرِيفِ، وَالْفَرْقُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَنَا: «اللَّهُ» اسْمٌ معرب متصرف

الباب الثالث من هذا الكتاب في مباحث الاسم،

تَصَرُّفَ الْأَسْمَاءِ، فَأَبْقَوْا كِتَابَتَهُ عَلَى الْأَصْلِ، أَمَّا قَوْلُنَا «الَّذِي» فَهُوَ مَبْنِيٌّ لِأَجْلِ أَنَّهُ نَاقِصٌ، لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا مَعَ صِلَتِهِ فَهُوَ كَبَعْضِ الْكَلِمَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَعْضَ الْكَلِمَةِ يَكُونُ مَبْنِيًّا، فَأَدْخَلُوا فِيهِ النُّقْصَانَ لِهَذَا السَّبَبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ كَتَبُوا قَوْلَهُمْ: «اللَّذَانِ» بِلَامَيْنِ، لِأَنَّ التَّثْنِيَةَ أَخْرَجَتْهُ عَنْ مُشَابَهَةِ الْحُرُوفِ، فَإِنَّ الْحَرْفَ لَا يُثَنَّى. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَنَا: «اللَّهُ» لَوْ كُتِبَ بِلَامٍ وَاحِدَةٍ لَالْتَبَسَ بِقَوْلِهِ إِلَهٌ، وَهَذَا الِالْتِبَاسُ غَيْرُ حَاصِلٍ فِي قَوْلِنَا الَّذِي. الثَّالِثُ: أَنَّ تَفْخِيمَ ذِكْرِ اللَّهِ فِي اللَّفْظِ وَاجِبٌ، فَكَذَا فِي الْخَطِّ، وَالْحَذْفُ يُنَافِي التَّفْخِيمَ وَأَمَّا قَوْلُنَا: «الَّذِي» فَلَا تَفْخِيمَ لَهُ فِي الْمَعْنَى فَتَرَكُوا أَيْضًا تَفْخِيمَهُ فِي الْخَطِّ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِنَّمَا حَذَفُوا الْأَلِفَ قَبْلَ الْهَاءِ مِنْ قَوْلِنَا: «اللَّهُ» فِي الْخَطِّ لِكَرَاهَتِهِمُ اجْتِمَاعَ الْحُرُوفِ الْمُتَشَابِهَةِ بِالصُّورَةِ عِنْدَ الْكِتَابَةِ، وَهُوَ مِثْلُ كَرَاهَتِهِمُ اجْتِمَاعَ الْحُرُوفِ الْمُتَمَاثِلَةِ فِي اللَّفْظِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالُوا: الْأَصْلُ فِي قَوْلِنَا: «اللَّهُ» الْإِلَهُ، وَهِيَ سِتَّةُ حُرُوفٍ، فَلَمَّا أَبْدَلُوهُ بِقَوْلِهِمُ: «اللَّهُ» بَقِيَتْ أَرْبَعَةُ أَحْرُفٍ فِي الْخَطِّ: هَمْزَةٌ، وَلَامَانِ، وَهَاءٌ، فَالْهَمْزَةُ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ وَاللَّامُ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ، وَالْهَاءُ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى حَالَةٍ عَجِيبَةٍ، فَإِنَّ أَقْصَى الْحَلْقِ مَبْدَأُ التَّلَفُّظِ بِالْحُرُوفِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَتَرَقَّى قليلا قَلِيلًا إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى طَرَفِ اللِّسَانِ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْهَاءِ الَّذِي هُوَ فِي دَاخِلِ الْحَلْقِ، وَمَحَلُّ الرُّوحِ، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ يَبْتَدِئُ مِنْ أَوَّلِ حَالَتِهِ الَّتِي هِيَ حَالَةُ النَّكِرَةِ والجهالة، ويترقى قليلا قَلِيلًا فِي مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ، حَتَّى إِذَا وَصَلَ إِلَى آخِرِ مَرَاتِبِ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ وَدَخَلَ فِي عَالَمِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْأَنْوَارِ أَخَذَ يَرْجِعُ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْفَنَاءِ فِي بَحْرِ التَّوْحِيدِ، فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قِيلَ: النِّهَايَةُ رُجُوعٌ إِلَى الْبِدَايَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إِنَّمَا جَازَ حَذْفُ الْأَلِفِ قَبْلَ النُّونِ مِنْ «الرَّحْمَنِ» فِي الْخَطِّ عَلَى سَبِيلِ التَّخْفِيفِ، وَلَوْ كُتِبَ بِالْأَلِفِ حَسُنَ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ الْيَاءِ مِنَ الرَّحِيمِ، لِأَنَّ حَذْفَ الْأَلِفِ مِنَ الرَّحْمَنِ لَا يُخِلُّ بِالْكَلِمَةِ وَلَا يَحْصُلُ فِيهَا الْتِبَاسٌ، بِخِلَافِ حَذْفِ الْيَاءِ مِنَ الرَّحِيمِ. الْبَابُ الثَّالِثُ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فِي مَبَاحِثِ الِاسْمِ، وَهِيَ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا: مَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الْمَبَاحِثِ النَّقْلِيَّةِ بِالِاسْمِ، وَالثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الْمَبَاحِثِ الْعَقْلِيَّةِ بِالِاسْمِ. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: وفيه مسائل: - لغات الاسم: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذَا اللَّفْظِ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: هَذَا اسْمُهُ وَسِمُهُ، قَالَ: بِاسْمِ الَّذِي فِي كُلِّ سُورَةٍ سِمُهُ. وَقِيلَ: فِيهِ لُغَتَانِ غَيْرُهُمَا سِمٌ وَسُمٌ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ تَارَةً إِسْمٌ بِكَسْرِ الْأَلِفِ وَأُخْرَى بِضَمِّهِ، فَإِذَا طَرَحُوا الْأَلِفَ قَالَ الَّذِينَ لُغَتُهُمْ كَسْرُ الْأَلِفِ سِمٌ، وَقَالَ الَّذِينَ لُغَتُهُمْ ضَمُّ الْأَلِفِ سُمٌ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: مَنْ جَعَلَ أَصْلَهُ مِنْ سَمَا يَسْمَى قَالَ إِسْمٌ وَسِمٌ، وَمَنْ جَعَلَ أَصْلَهُ مِنْ سَمَا يَسْمُو قَالَ أُسْمٌ وَسُمٌ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: سَمِعْتُ

الْعَرَبَ تَقُولُ إِسْمُهُ وَأُسْمُهُ وَسِمُهُ وَسُمُهُ وَسَمَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ تَصْغِيرَ الِاسْمِ سمي وجمعه أسماء وأسامي. اشتقاق الاسم: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي اشْتِقَاقِهِ قَوْلَانِ: قَالَ الْبَصْرِيُّونَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ سَمَا يَسْمُو إِذَا عَلَا وَظَهَرَ، فَاسْمُ الشَّيْءِ مَا عَلَاهُ حَتَّى ظَهَرَ ذَلِكَ الشَّيْءُ بِهِ، وَأَقُولُ: اللَّفْظُ مُعَرِّفٌ لِلْمَعْنَى، وَمُعَرِّفُ الشَّيْءِ مُتَقَدِّمٌ فِي الْمَعْلُومِيَّةِ عَلَى الْمُعَرَّفِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الِاسْمُ عَالِيًا عَلَى الْمَعْنَى وَمُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ وَسَمَ يَسِمُ سِمَةً، وَالسِّمَةُ الْعَلَامَةُ، فَالِاسْمُ كَالْعَلَامَةِ الْمُعَرِّفَةِ لِلْمُسَمَّى، حُجَّةُ الْبَصْرِيِّينَ لَوْ كَانَ اشْتِقَاقُ الِاسْمِ مِنَ السِّمَةِ لَكَانَ تَصْغِيرُهُ وُسَيْمًا وَجَمْعُهُ أَوْسَامًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الَّذِينَ قَالُوا اشْتِقَاقُهُ مِنَ السِّمَةِ قَالُوا أَصْلُهُ مِنْ وَسَمَ يَسِمُ، ثُمَّ حُذِفَ مِنْهُ الْوَاوُ، ثُمَّ زِيدَ فِيهِ أَلِفُ الْوَصْلِ عِوَضًا عَنِ الْمَحْذُوفِ كَالْعِدَةِ وَالصِّفَةِ وَالزِّنَةِ، أَصْلُهُ الْوَعْدُ وَالْوَصْفُ وَالْوَزْنُ، أُسْقِطَ مِنْهَا الْوَاوُ، وَزِيدَ فِيهَا الْهَاءُ، وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا اشْتِقَاقُهُ مِنَ السُّمُوِّ وَهُوَ الْعُلُوُّ، فَلَهُمْ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَصْلَ الِاسْمِ مِنْ سَمَا يَسْمُو وَسَمَا يَسْمَى، وَالْأَمْرُ فِيهِ اسْمُ: كَقَوْلِنَا ادْعُ مِنْ دَعَوْتَ، أَوِ اسْمِ مِثْلَ ارْمِ مِنْ رَمَيْتَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ جَعَلُوا هَذِهِ الصِّيغَةَ اسْمًا وَأَدْخَلُوا عَلَيْهَا وُجُوهَ الْإِعْرَابِ، وَأَخْرَجُوهَا عَنْ حَدِّ الْأَفْعَالِ، قَالُوا: وَهَذَا كَمَا سَمُّوا الْبَعِيرَ يَعْمَلًا، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هَذَا مِثْلُ الْآنَ فَإِنَّ أَصْلَهُ آنَ يَئِينُ إِذَا حَضَرَ، ثُمَّ أَدْخَلُوا الْأَلِفَ وَاللَّامَ عَلَى الْمَاضِي مِنْ فِعْلِهِ، وَتَرَكُوهُ مَفْتُوحًا، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَصْلُهُ سَمَوَ مِثْلَ حَمَوَ، وَإِنَّمَا حُذِفَتِ الْوَاوُ مِنْ آخِرِهِ اسْتِثْقَالًا لِتَعَاقُبِ الْحَرَكَاتِ عَلَيْهَا مَعَ كَثْرَةِ الدَّوَرَانِ، وَإِنَّمَا أَعْرَبُوا الْمِيمَ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِسَبَبِ حَذْفِ الْوَاوِ آخِرَ الْكَلِمَةِ فَنُقِلَ حَرَكَةُ الْوَاوِ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا سَكَّنُوا السِّينَ لِأَنَّهُ لَمَّا حُذِفَتِ الْوَاوُ بَقِيَ حَرْفَانِ أَحَدُهُمَا سَاكِنٌ وَالْآخَرُ مُتَحَرِّكٌ، فَلَمَّا حُرِّكَ السَّاكِنُ وَجَبَ تَسْكِينُ الْمُتَحَرِّكِ لِيَحْصُلَ الِاعْتِدَالُ، وَإِنَّمَا أُدْخِلَتِ الْهَمْزَةُ فِي أَوَّلِهِ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالسَّاكِنِ مُحَالٌ، فَاحْتَاجُوا إِلَى ذِكْرِ مَا يُبْتَدَأُ بِهِ، وَإِنَّمَا خُصَّتِ الْهَمْزَةُ بذلك لأنها من حروف الزيادة. مسائل الاسم العقلية: النوع الثاني: من مباحث هذه الْبَابِ، الْمَسَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ: - فَنَقُولُ: أَمَّا حَدُّ الِاسْمِ وَذِكْرُ أَقْسَامِهِ وَأَنْوَاعِهِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أول هذه الكتاب وبقي هاهنا مَسَائِلُ: - الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَتِ الْحَشَوِيَّةُ وَالْكَرَامِيَّةُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ: الِاسْمُ نَفْسُ الْمُسَمَّى وَغَيْرُ التَّسْمِيَةِ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الِاسْمُ غَيْرُ الْمُسَمَّى وَنَفْسُ التَّسْمِيَةِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى وَغَيْرُ التَّسْمِيَةِ. وَقَبْلَ الْخَوْضِ فِي ذِكْرِ الدَّلَائِلِ لَا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى مُقَدِّمَةٍ، وَهِيَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: «الِاسْمِ/ هَلْ هُوَ نَفْسُ الْمُسَمَّى أَمْ لَا» يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِبَيَانِ أَنَّ الِاسْمَ مَا هُوَ، وَأَنَّ الْمُسَمَّى مَا هُوَ، حَتَّى يُنْظَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَنَّ الِاسْمَ هَلْ هُوَ نَفْسُ الْمُسَمَّى أَمْ لَا، فَنَقُولُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالِاسْمِ هَذَا اللَّفْظَ الَّذِي هُوَ أَصْوَاتٌ مُقَطَّعَةٌ وَحُرُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ، وَبِالْمُسَمَّى تِلْكَ الذَّوَاتِ فِي أَنْفُسِهَا، وَتِلْكَ الْحَقَائِقَ بِأَعْيَانِهَا، فَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلٌ بِأَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى، وَالْخَوْضُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ عَبَثًا، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالِاسْمِ ذَاتَ الْمُسَمَّى، وَبِالْمُسَمَّى أَيْضًا تِلْكَ الذَّاتَ كَانَ قَوْلُنَا الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى مَعْنَاهُ أَنَّ ذَاتَ الشَّيْءِ عَيْنُ الشَّيْءِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ حَقًّا

إِلَّا أَنَّهُ مِنْ بَابِ إِيضَاحِ الْوَاضِحَاتِ وَهُوَ عَبَثٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْخَوْضَ فِي هَذَا الْبَحْثِ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ يَجْرِي مَجْرَى الْعَبَثِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّا اسْتَخْرَجْنَا لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ الِاسْمُ نَفْسُ الْمُسَمَّى تَأْوِيلًا لَطِيفًا دَقِيقًا، وَبَيَانُهُ أَنَّ الِاسْمَ اسْمٌ لِكُلِّ لَفْظٍ دَلَّ عَلَى مَعْنًى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى زَمَانٍ مُعَيَّنٍ، وَلَفْظُ الِاسْمِ كَذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الِاسْمِ اسْمًا لِنَفْسِهِ، فَيَكُونُ لَفْظُ الِاسْمِ مُسَمًّى بِلَفْظِ الِاسْمِ، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ الِاسْمُ نَفْسُ الْمُسَمَّى، إِلَّا أَنَّ فِيهِ إِشْكَالًا، وَهُوَ أَنَّ كَوْنَ الِاسْمِ اسْمًا لِلْمُسَمَّى مِنْ بَابِ الِاسْمِ الْمُضَافِ، وَأَحَدُ الْمُضَافَيْنِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِلْآخَرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي ذِكْرِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسَمَّى، وَفِيهِ وُجُوهٌ: - الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاسْمَ قَدْ يَكُونُ مَوْجُودًا مَعَ كَوْنِ الْمُسَمَّى مَعْدُومًا، فَإِنَّ قَوْلَنَا: «الْمَعْدُومُ مَنْفِيٌّ» مَعْنَاهُ سَلْبٌ لَا ثُبُوتَ لَهُ، وَالْأَلْفَاظُ مَوْجُودَةٌ مَعَ أَنَّ الْمُسَمَّى بِهَا عَدَمُ مَحْضٍ وَنَفْيُ صَرْفٍ، وَأَيْضًا قَدْ يَكُونُ الْمُسَمَّى مَوْجُودًا وَالِاسْمُ مَعْدُومًا مِثْلَ الْحَقَائِقِ الَّتِي مَا وَضَعُوا لَهَا أَسْمَاءً مُعَيَّنَةً، وَبِالْجُمْلَةِ فَثُبُوتُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَالَ عَدَمِ الْآخَرِ مَعْلُومٌ مُقَرَّرٌ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمُغَايَرَةَ. الثَّانِي: أَنَّ الْأَسْمَاءَ تَكُونُ كَثِيرَةً مَعَ كَوْنِ المسمى واحد كَالْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ، وَقَدْ يَكُونُ الِاسْمُ وَاحِدًا وَالْمُسَمَّيَاتُ كَثِيرَةً كَالْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَذَلِكَ أَيْضًا يُوجِبُ الْمُغَايَرَةَ. الثَّالِثُ: أَنَّ كَوْنَ الِاسْمِ اسْمًا لِلْمُسَمَّى وَكَوْنَ المسمى مسمى بِالِاسْمِ مِنْ بَابِ الْإِضَافَةِ كَالْمَالِكِيَّةِ وَالْمَمْلُوكِيَّةِ، وَأَحَدُ الْمُضَافَيْنِ مُغَايِرٌ لِلْآخَرِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: يُشْكِلُ هَذَا بِكَوْنِ الشَّيْءِ عَالِمًا بِنَفْسِهِ. الرَّابِعُ: الِاسْمُ أَصْوَاتٌ مُقَطَّعَةٌ وُضِعَتْ لِتَعْرِيفِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَتِلْكَ الْأَصْوَاتُ أَعْرَاضٌ غَيْرُ بَاقِيَةٍ، وَالْمُسَمَّى قَدْ يَكُونُ بَاقِيًا، بَلْ يَكُونُ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ. الْخَامِسُ: أَنَّا إِذَا تَلَفَّظْنَا بِالنَّارِ وَالثَّلْجِ فَهَذَانِ اللَّفْظَانِ مَوْجُودَانِ فِي أَلْسِنَتِنَا، فَلَوْ كَانَ الِاسْمُ نَفْسَ الْمُسَمَّى لَزِمَ أَنْ يَحْصُلَ فِي أَلْسِنَتِنَا النَّارُ وَالثَّلْجُ، وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا» فَهَهُنَا الْأَسْمَاءُ كَثِيرَةٌ وَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ، وَهُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. السَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: بِسْمِ اللَّهِ وَقَوْلَهُ: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ [الرَّحْمَنِ: 78] فَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ يَقْتَضِي إِضَافَةُ الِاسْمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مُحَالٌ. الثَّامِنُ: أَنَّا نُدْرِكُ تَفْرِقَةً ضَرُورِيَّةً بَيْنَ قَوْلِنَا اسْمُ اللَّهِ، وَبَيْنَ قَوْلِنَا اسْمُ الِاسْمِ، وَبَيْنَ قَوْلِنَا اللَّهُ اللَّهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى. التَّاسِعُ: أَنَّا نَصِفُ الْأَسْمَاءَ بِكَوْنِهَا عَرَبِيَّةً وَفَارِسِيَّةً فَنَقُولُ: اللَّهُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ، وَخَدَايُ اسْمٌ فَارِسِيٌّ، وَأَمَّا ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى فَمُنَزَّهٌ عَنْ كَوْنِهِ كَذَلِكَ. الْعَاشِرُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الْأَعْرَافِ: 180] أَمَرَنَا بِأَنْ نَدْعُوَ اللَّهَ بأسمائه

فَالِاسْمُ آلَةُ الدُّعَاءِ، وَالْمَدْعُوُّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمُغَايَرَةُ بَيْنَ ذَاتِ الْمَدْعُوِّ وَبَيْنَ اللَّفْظِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الدُّعَاءُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالنَّصِّ، وَالْحُكْمِ، أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ [الرَّحْمَنِ: 78] وَالْمُتَبَارِكُ الْمُتَعَالِي هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا الصَّوْتُ وَلَا الْحَرْفُ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ: زَيْنَبُ طَالِقٌ، وَكَانَ زَيْنَبُ اسْمًا لِامْرَأَتِهِ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ، وَلَوْ كَانَ الِاسْمُ غَيْرَ الْمُسَمَّى لَكَانَ قَدْ أُوقِعَ الطَّلَاقُ عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنْ يُقَالَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَقِدَ كَوْنَهُ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنْ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْنَا تَنْزِيهُ الْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ لِتَعْرِيفِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ عَنِ الْعَبَثِ وَالرَّفَثِ وَسُوءِ الْأَدَبِ. وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَنَا زَيْنَبُ طَالِقٌ مَعْنَاهُ أَنَّ الذَّاتَ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِهَذَا اللَّفْظِ طَالِقٌ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: التَّسْمِيَةُ عِنْدَنَا غَيْرُ الِاسْمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْيِينِ اللَّفْظِ الْمُعَيَّنِ لِتَعْرِيفِ الذَّاتِ الْمُعَيَّنَةِ، وَذَلِكَ التَّعْيِينُ مَعْنَاهُ قَصْدُ الْوَاضِعِ وَإِرَادَتُهُ، وَأَمَّا الِاسْمُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تِلْكَ اللفظة المعينة. والفرق بينهما معلوم بالضرورة. الاسم أسبق من الفعل وضعا: المسألة الخامسة [الاسم أسبق من الفعل وضعا] : قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الدَّالَّةَ عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي تَسْتَتْبِعُ ذِكْرَ الْأَلْفَاظِ/ الدَّالَّةِ عَلَى ارْتِبَاطِ بَعْضِهَا بِالْبَعْضِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ الظَّاهِرِ وَضْعُ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ سَابِقٌ عَلَى وَضْعِ الْحُرُوفِ، فَأَمَّا الْأَفْعَالُ وَالْأَسْمَاءُ فَأَيُّهُمَا أَسْبَقُ؟ الْأَظْهَرُ أَنَّ وَضْعَ الْأَسْمَاءِ سَابِقٌ عَلَى وَضْعِ الْأَفْعَالِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: - الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاسْمَ لَفْظٌ دَالٌّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ، وَالْفِعْلَ لَفْظٌ دَالٌّ عَلَى حُصُولِ الْمَاهِيَّةِ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ، فَكَانَ الِاسْمُ مُفْرَدًا وَالْفِعْلُ مُرَكَّبًا، وَالْمُفْرَدُ سَابِقٌ عَلَى الْمُرَكَّبِ بِالذَّاتِ وَالرُّتْبَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ وَاللَّفْظِ. الثَّانِي: أَنَّ الْفِعْلَ يَمْتَنِعُ التَّلَفُّظُ بِهِ إِلَّا عِنْدَ الْإِسْنَادِ إِلَى الْفَاعِلِ، أَمَّا اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ الْفَاعِلِ فَقَدْ يَجُوزُ التَّلَفُّظُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْنَدَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ، فَعَلَى هَذَا الْفَاعِلُ غَنِيٌّ عَنِ الْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ مُحْتَاجٌ إِلَى الْفَاعِلِ، وَالْغَنِيُّ سَابِقٌ بِالرُّتْبَةِ عَلَى الْمُحْتَاجِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ. الثَّالِثُ: أَنَّ تَرْكِيبَ الِاسْمِ مَعَ الِاسْمِ مُفِيدٌ، وَهُوَ الْجُمْلَةُ الْمُرَكَّبَةُ مِنَ المبتدأ والخير، أَمَّا تَرْكِيبُ الْفِعْلِ مَعَ الْفِعْلِ فَلَا يُفِيدُ الْبَتَّةَ، بَلْ مَا لَمْ يَحْصُلْ فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمُ لَمْ يُفِدِ الْبَتَّةَ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الِاسْمَ مُتَقَدِّمٌ بِالرُّتْبَةِ عَلَى الْفِعْلِ، فَكَانَ الْأَظْهَرُ تَقَدُّمَهُ عليه بحسب الوضع. تقدم اسم الجنس على المشتق وضعا: المسألة السادسة [تقدم اسم الجنس على المشتق وضعا] : قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الِاسْمَ قَدْ يَكُونُ اسْمًا لِلْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، وَقَدْ يَكُونُ اسما مشتقا

وَهُوَ الِاسْمُ الدَّالُّ عَلَى كَوْنِ الشَّيْءِ مَوْصُوفًا بِالصِّفَةِ الْفُلَانِيَّةِ كَالْعَالِمِ وَالْقَادِرِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ أَسْمَاءَ الْمَاهِيَّاتِ سَابِقَةٌ بِالرُّتْبَةِ عَلَى الْمُشْتَقَّاتِ، لِأَنَّ الْمَاهِيَّاتِ مُفْرَدَاتٌ وَالْمُشْتَقَّاتِ مُرَكَّبَاتٌ وَالْمُفْرَدَ قَبْلَ الْمُرَكَّبِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ أَسْمَاءُ الصِّفَاتِ سَابِقَةً بِالرُّتْبَةِ عَلَى أَسْمَاءِ الذَّوَاتِ الْقَائِمَةِ بِأَنْفُسِهَا، لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ الذَّوَاتِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِهَا، وَالْمُعَرَّفُ مَعْلُومٌ قَبْلَ الْمُعَرِّفِ وَالسَّبْقُ فِي المعرفة يناسب السبق في الذكر. أقسام أسماء المسميات: الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي أَقْسَامِ الْأَسْمَاءِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الْمُسَمَّيَاتِ: اعْلَمْ أَنَّهَا تِسْعَةٌ، فَأَوَّلُهَا: الِاسْمُ الْوَاقِعُ عَلَى الذَّاتِ، وَثَانِيهَا: الِاسْمُ الْوَاقِعُ عَلَى الشَّيْءِ بِحَسَبِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ ذَاتِهِ كَمَا إِذَا قلنا لجدار إِنَّهُ جِسْمٌ وَجَوْهَرٌ، وَثَالِثُهَا: الِاسْمُ الْوَاقِعُ عَلَى الشَّيْءِ بِحَسَبِ صِفَةٍ حَقِيقِيَّةٍ قَائِمَةٍ بِذَاتِهِ كَقَوْلِنَا لِلشَّيْءِ إِنَّهُ أَسْوَدُ وَأَبْيَضُ وَحَارٌّ وَبَارِدٌ فَإِنَّ السواد والبياض والحرارة والبرودة صفات حقيقة قَائِمَةٌ بِالذَّاتِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْأَشْيَاءِ الْخَارِجِيَّةِ، وَرَابِعُهَا: الِاسْمُ الْوَاقِعُ عَلَى الشَّيْءِ بِحَسَبِ صِفَةٍ إِضَافِيَّةٍ فَقَطْ كَقَوْلِنَا لِلشَّيْءِ إِنَّهُ مَعْلُومٌ وَمَفْهُومٌ وَمَذْكُورٌ وَمَالِكٌ وَمَمْلُوكٌ، وَخَامِسُهَا: الِاسْمُ الْوَاقِعُ عَلَى الشَّيْءِ بِحَسَبِ حَالَةٍ سَلْبِيَّةٍ كَقَوْلِنَا إِنَّهُ أَعْمَى وَفَقِيرٌ وَقَوْلِنَا إِنَّهُ سَلِيمٌ عَنِ الْآفَاتِ خَالٍ/ عن المخافات، وَسَادِسُهَا: الِاسْمُ الْوَاقِعُ عَلَى الشَّيْءِ بِحَسَبِ صِفَةٍ حَقِيقِيَّةٍ مَعَ صِفَةٍ إِضَافِيَّةٍ كَقَوْلِنَا لِلشَّيْءِ إِنَّهُ عَالِمٌ وَقَادِرٌ فَإِنَّ الْعِلْمَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ وَلَهَا إِضَافَةٌ إِلَى الْمَعْلُومَاتِ وَالْقُدْرَةُ صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ وَلَهَا إِضَافَةٌ إِلَى الْمَقْدُورَاتِ، وَسَابِعُهَا: الِاسْمُ الْوَاقِعُ عَلَى الشَّيْءِ بِحَسَبِ صِفَةٍ حَقِيقِيَّةٍ مَعَ صِفَةٍ سَلْبِيَّةٍ كَالْمَفْهُومِ مِنْ مَجْمُوعِ قَوْلِنَا قَادِرٌ لَا يَعْجَزُ عَنْ شَيْءٍ وَعَالِمٌ لَا يَجْهَلُ شَيْئًا. وَثَامِنُهَا: الِاسْمُ الْوَاقِعُ عَلَى الشَّيْءِ بِحَسَبِ صِفَةٍ إِضَافِيَّةٍ مَعَ صِفَةٍ سَلْبِيَّةٍ مِثْلُ لَفْظِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ صِفَةٌ إِضَافِيَّةٌ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَسْبِقَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ صِفَةٌ سَلْبِيَّةٌ، وَمِثْلُ الْقَيُّومِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ كَوْنُهُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ فَقِيَامُهُ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ وَتَقْوِيمُهُ لِغَيْرِهِ احْتِيَاجُ غَيْرِهِ إِلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ: سَلْبٌ، وَالثَّانِي: إِضَافَةٌ، وَتَاسِعُهَا: الِاسْمُ الْوَاقِعُ عَلَى الشَّيْءِ بِحَسَبِ مَجْمُوعِ صِفَةٍ حقيقة وَإِضَافِيَّةٍ وَسَلْبِيَّةٍ، فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ فِي تَقْسِيمِ الْأَسْمَاءِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الِاسْمُ اسْمًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وتعالى أو لغيره من أقسام المحادثات فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ قِسْمٌ آخَرُ مِنْ أَقْسَامِ الْأَسْمَاءِ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فِي بَيَانِ أَنَّهُ هَلْ لِلَّهِ تَعَالَى بِحَسَبِ ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ اسْمٌ أَمْ لَا؟ اعْلَمْ أَنَّ الْخَوْضَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَسْبُوقٌ بِمُقَدِّمَاتٍ عَالِيَةٍ مِنَ الْمَبَاحِثِ الْإِلَهِيَّةِ. الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى مُخَالِفٌ لِخَلْقِهِ، لِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ لَا لِصِفَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ ذَاتَهُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ سَائِرِ الصِّفَاتِ إِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِخَلْقِهِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَتْ مُسَاوِيَةً لِسَائِرِ الذَّوَاتِ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ مُخَالَفَةُ ذَاتِهِ لِسَائِرِ الذَّوَاتِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِصِفَةٍ زَائِدَةٍ، فَاخْتِصَاصُ ذَاتِهِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا وَقَعَتِ الْمُخَالَفَةُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَمْرٍ الْبَتَّةَ فَحِينَئِذٍ لَزِمَ رُجْحَانُ الْجَائِزِ لَا لِمُرَجِّحٍ، وَإِنْ كَانَ لِأَمْرٍ آخَرَ لَزِمَ إِمَّا التَّسَلْسُلُ وَإِمَّا الدَّوْرُ وَهُمَا مُحَالَانِ، فَإِنْ قِيلَ، هِيَ قَوْلُنَا فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ خُصُوصِيَّةُ تِلْكَ الصِّفَةِ لِصِفَةٍ أُخْرَى وَيَلْزَمُ مِنْهُ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ. الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جَوْهَرٍ، لِأَنَّ سَلْبَ الْجِسْمِيَّةِ وَالْجَوْهَرِيَّةِ مَفْهُومٌ سلبي،

وَذَاتَهُ الْمَخْصُوصَةَ أَمْرٌ ثَابِتٌ، وَالْمُغَايَرَةَ بَيْنَ السَّلْبِ وَالثُّبُوتِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، وَأَيْضًا فَذَاتُهُ الْمَخْصُوصَةُ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ نَفْسِ الْقَادِرِيَّةِ وَالْعَالِمِيَّةِ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْقَادِرِيَّةِ وَالْعَالِمِيَّةِ مَفْهُومَاتٌ إِضَافِيَّةٌ، وَذَاتَهُ ذَاتٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْجُودِ الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ وَبَيْنَ الِاعْتِبَارَاتِ النِّسْبِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ: فِي بَيَانِ أَنَّا فِي هَذَا الْوَقْتِ لَا نَعْرِفُ ذَاتَهُ الْمَخْصُوصَةَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: - الْأَوَّلُ: أَنَّا إِذَا رَجَعْنَا إِلَى عُقُولِنَا وَأَفْهَامِنَا لَمْ نَجِدْ عِنْدَ عُقُولِنَا مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَحَدَ أُمُورٍ: / أَرْبَعَةٍ: إِمَّا الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ مَوْجُودًا، وَإِمَّا الْعِلْمَ بِدَوَامِ وَجُودِهِ، وَإِمَّا الْعِلْمَ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَهِيَ الِاعْتِبَارَاتُ السَّلْبِيَّةُ، وَإِمَّا الْعِلْمَ بِصِفَاتِ الْإِكْرَامِ وَهِيَ الِاعْتِبَارَاتُ الْإِضَافِيَّةُ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ ذَاتَهُ الْمَخْصُوصَةَ مُغَايِرَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ حَقِيقَتَهُ غَيْرُ وُجُودِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ حَقِيقَتُهُ أَيْضًا مُغَايِرَةً لِدَوَامِ وُجُودِهِ، وَثَبَتَ أَنَّ حَقِيقَتَهُ غَيْرُ سَلْبِيَّةٍ وَغَيْرُ إِضَافِيَّةٍ، وَإِذَا كَانَ لَا مَعْلُومَ عِنْدَ الْخَلْقِ إِلَّا أَحَدُ هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ وَثَبَتَ أَنَّهَا مُغَايِرَةٌ لِحَقِيقَتِهِ الْمَخْصُوصَةِ، ثَبَتَ أَنَّ حَقِيقَتَهُ الْمَخْصُوصَةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لِلْبَشَرِ. الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ التَّامَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّا لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَتَصَوَّرَ أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا مِنْ طُرُقِ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ: أَحَدُهَا: الْأَشْيَاءُ الَّتِي أَدْرَكْنَاهَا بِإِحْدَى هَذِهِ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، وَثَانِيهَا: الْأَحْوَالُ الَّتِي نُدْرِكُهَا مِنْ أَحْوَالِ أَبْدَانِنَا كَالْأَلَمِ وَاللَّذَّةِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْفَرَحِ وَالْغَمِّ، وَثَالِثُهَا: الْأَحْوَالُ الَّتِي نُدْرِكُهَا بِحَسَبِ عُقُولِنَا مِثْلُ عِلْمِنَا بِحَقِيقَةِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَالْوَحْدَةِ وَالْكَثْرَةِ وَالْوُجُوبِ وَالْإِمْكَانِ، وَرَابِعُهَا: الْأَحْوَالُ الَّتِي يُدْرِكُهَا الْعَقْلُ وَالْخَيَالُ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ هِيَ الَّتِي يُمْكِنُنَا أَنْ نَتَصَوَّرَهَا وَأَنْ نُدْرِكَهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَثَبَتَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُغَايِرَةٌ لِهَذِهِ الْأَقْسَامِ، ثَبَتَ أَنَّ حَقِيقَتَهُ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ لِلْخَلْقِ. الثَّالِثُ: أَنَّ حَقِيقَتَهُ الْمَخْصُوصَةَ عِلَّةٌ لِجَمِيعِ لَوَازِمِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ وَالْعِلْمُ بِالْعِلَّةِ عِلَّةٌ لِلْعِلْمِ بِالْمَعْلُولِ، وَلَوْ كَانَتْ حَقِيقَتُهُ الْمَخْصُوصَةُ مَعْلُومَةً لَكَانَتْ صِفَاتُهُ بِأَسْرِهَا مَعْلُومَةً بِالضَّرُورَةِ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فَذَاكَ مَعْدُومٌ، فَثَبَتَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْحَقِّ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ لِلْبَشَرِ. الْمُقَدِّمَةُ الرَّابِعَةُ: فِي بَيَانِ أَنَّهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْقُولَةً لِلْبَشَرِ فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَصِيرَ مَعْقُولَةً لَهُمْ. الْمُقَدِّمَةُ الْخَامِسَةُ: فِي بَيَانِ أَنَّ الْبَشَرَ وَإِنِ امْتَنَعَ فِي عُقُولِهِمْ إِدْرَاكُ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ الْمَخْصُوصَةِ فَهَلْ يُمْكِنُ ذَلِكَ الْعِرْفَانُ فِي حَقِّ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ فِي حَقِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ؟ الْإِنْصَافُ أَنَّ هَذِهِ الْمَبَاحِثَ صَعْبَةٌ، وَالْعَقْلَ كَالْعَاجِزِ الْقَاصِرِ فِي الْوَفَاءِ بِهَا كَمَا يَنْبَغِي، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُقُولُ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَعَارِفُهُمْ مُتَنَاهِيَةٌ، وَالْحَقُّ تَعَالَى غَيْرُ مُتَنَاهٍ، وَالْمُتَنَاهِي يَمْتَنِعُ وُصُولُهُ إِلَى غَيْرِ الْمُتَنَاهِي وَلِأَنَّ أَعْظَمَ الْأَشْيَاءِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَعْظَمَ الْعُلُومِ عِلْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَعْظَمَ الْأَشْيَاءِ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ إِلَّا بِأَعْظَمِ الْعُلُومِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَعْرِفُ اللَّهَ إِلَّا اللَّهُ. الْمُقَدِّمَةُ السَّادِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْأَشْيَاءِ عَلَى نَوْعَيْنِ: مَعْرِفَةٍ عَرَضِيَّةٍ، وَمَعْرِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ: أَمَّا الْمَعْرِفَةُ الْعَرَضِيَّةُ فَكَمَا إِذَا رَأَيْنَا بناء عَلِمْنَا بِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ بَانٍ، فَأَمَّا أَنَّ ذَلِكَ الْبَانِيَ كَيْفَ كَانَ فِي مَاهِيَّتِهِ، وَأَنَّ حَقِيقَتَهُ مِنْ أَيِّ أَنْوَاعِ الْمَاهِيَّاتِ، فَوُجُودُ الْبِنَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَأَمَّا/ الْمَعْرِفَةُ الذَّاتِيَّةُ فَكَمَا إِذَا عَرَفْنَا اللَّوْنَ الْمُعَيَّنَ بِبَصَرِنَا، وَعَرَفْنَا الْحَرَارَةَ بِلَمْسِنَا، وَعَرَفْنَا الصَّوْتَ بِسَمْعِنَا، فَإِنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِلْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ إِلَّا هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ الْمَلْمُوسَةُ، وَلَا حَقِيقَةَ لِلسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ إِلَّا هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ الْمَرْئِيَّةُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَنَّا إِذَا عَلِمْنَا احْتِيَاجَ الْمُحْدَثَاتِ إِلَى مُحْدِثٍ

وَخَالِقٍ فَقَدْ عَرَفْنَا اللَّهَ تَعَالَى مَعْرِفَةً عَرَضِيَّةً إِنَّمَا الَّذِي نَفَيْنَاهُ الْآنَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ الذَّاتِيَّةُ، فَلْتَكُنْ هَذِهِ الدَّقِيقَةُ مَعْلُومَةً حَتَّى لَا تَقَعَ فِي الْغَلَطِ. الْمُقَدِّمَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ إِدْرَاكَ الشَّيْءِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ- أَعْنِي ذَلِكَ النَّوْعَ الَّذِي سَمَّيْنَاهُ بِالْمَعْرِفَةِ الذَّاتِيَّةِ- يَقَعُ فِي الشَّاهِدِ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْعِلْمُ، وَالثَّانِي: الْإِبْصَارُ، فَإِنَّا إِذَا أَبْصَرْنَا السَّوَادَ ثُمَّ غَمَضْنَا الْعَيْنَ فَإِنَّا نَجِدُ تَفْرِقَةً بَدِيهِيَّةً بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْعِلْمَ غَيْرٌ، وَأَنَّ الْإِبْصَارَ غَيْرٌ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: بِتَقْدِيرِ أَنَّهُ يُقَالُ يُمْكِنُ حُصُولُ الْمَعْرِفَةِ الذَّاتِيَّةِ لِلْخَلْقِ فَهَلْ لِتِلْكَ الْمَعْرِفَةِ وَلِذَلِكَ الْإِدْرَاكِ طَرِيقٌ وَاحِدٌ فَقَطْ أَوْ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ عَلَى طَرِيقَيْنِ مِثْلِ مَا فِي الشَّاهِدِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِبْصَارِ؟ هَذَا أَيْضًا مِمَّا لَا سَبِيلَ لِلْعَقْلِ إِلَى الْقَضَاءِ بِهِ وَالْجَزْمِ فِيهِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَعْرِفَةُ، وَالثَّانِي: الْإِبْصَارُ فَهَلِ الْأَمْرُ هُنَاكَ مَقْصُورٌ عَلَى هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ أَوْ هُنَاكَ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ وَمَرَاتِبُ مُخْتَلِفَةٌ؟ كُلُّ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ مِمَّا لَا يَقْدِرُ الْعَقْلُ عَلَى الْجَزْمِ فِيهَا الْبَتَّةَ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فِي أَنَّهُ هَلْ لِلَّهِ تَعَالَى بِحَسَبِ ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ اسْمٌ أَمْ لَا؟ نُقِلَ عَنْ قُدَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ إِنْكَارُهُ، قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ وَضْعِ الِاسْمِ الْإِشَارَةُ بِذِكْرِهِ إِلَى الْمُسَمَّى فَلَوْ كَانَ لِلَّهِ بِحَسَبِ ذَاتِهِ اسْمٌ لَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ وَضْعِ ذَلِكَ الِاسْمِ ذِكْرَهُ مَعَ غَيْرِهِ لِتَعْرِيفِ ذَلِكَ الْمُسَمَّى، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ لَا يَعْرِفُ ذَاتَهُ الْمَخْصُوصَةَ الْبَتَّةَ لَمْ يَبْقَ فِي وَضْعِ الِاسْمِ لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ فَائِدَةٌ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الِاسْمِ مَفْقُودٌ، فَعِنْدَ هَذَا قَالُوا: إِنَّهُ لَيْسَ لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ اسْمٌ، بَلْ لَهُ لَوَازِمُ مَعْرِفَةٍ، وَتِلْكَ اللَّوَازِمُ هِيَ أَنَّهُ الْأَزَلِيُّ الَّذِي لَا يَزُولُ، وَأَنَّهُ الْوَاجِبُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ، وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُشْرِفَ بَعْضُ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ عِبَادِهِ بِأَنْ يَجْعَلَهُ عَارِفًا بِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ الْمَخْصُوصَةِ قَالُوا: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ لَا يَمْتَنِعُ وَضْعُ الِاسْمِ لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ الْمَخْصُوصَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ السَّابِقَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ وَضْعُ الِاسْمِ لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ الْمَخْصُوصَةِ مُمْكِنًا وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ ذَلِكَ الِاسْمَ أَعْظَمُ الْأَسْمَاءِ، وَذَلِكَ الذِّكْرَ أَشْرَفُ الْأَذْكَارِ، لِأَنَّ شَرَفَ الْعِلْمِ بِشَرَفِ الْمَعْلُومِ، وَشَرَفَ الذِّكْرِ بِشَرَفِ الْمَذْكُورِ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى أَشْرَفَ الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَذْكُورَاتِ/ كَانَ الْعِلْمُ بِهِ أَشْرَفَ الْعُلُومِ، وَكَانَ ذِكْرُ اللَّهِ أَشْرَفَ الْأَذْكَارِ، وَكَانَ ذَلِكَ الِاسْمُ أَشْرَفَ الْأَسْمَاءِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْكَلَامِ الْمَشْهُورِ الْوَاقِعِ فِي الْأَلْسِنَةِ، وَهُوَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، وَلَوِ اتَّفَقَ لِمَلَكٍ مُقَرَّبٍ أَوْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ الْوُقُوفُ عَلَى ذَلِكَ الِاسْمِ حَالَ مَا يَكُونُ قَدْ تَجَلَّى لَهُ مَعْنَاهُ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُطِيعَهُ جَمِيعُ عوالم الجسمانيات والروحانيات. اسم الله الأعظم: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ مَوْجُودٌ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وُجُوهٍ: - الْأَوَّلُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ ذَلِكَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ هُوَ قَوْلُنَا: ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرَّحْمَنِ: 27] وَوَرَدَ فِيهِ قوله عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلِظُّوا بِيَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» وَهَذَا عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْجَلَالَ إِشَارَةٌ إِلَى الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ، وَالْإِكْرَامَ إِشَارَةٌ إِلَى الصِّفَاتِ الْإِضَافِيَّةِ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ حَقِيقَتَهُ الْمَخْصُوصَةَ مُغَايِرَةٌ لِلسُّلُوبِ وَالْإِضَافَاتِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ أنه هو الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255] لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأُبَيِّ بْنِ

الباب الرابع في البحث عن الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية

كعب: ما أعظم آية في كتاب الله تَعَالَى؟ فَقَالَ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [الْبَقَرَةِ: 255] فَقَالَ: «لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ» وَعِنْدِي أَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَيَّ هُوَ الدَّرَّاكُ الْفَعَّالُ، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ كَثْرَةُ عَظَمَةٍ لِأَنَّهُ صِفَةٌ، وَأَمَّا الْقَيُّومُ فَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الْقِيَامِ، وَمَعْنَاهُ كَوْنُهُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ، فَكَوْنُهُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ مَفْهُومٌ سَلْبِيٌّ وَهُوَ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَكَوْنُهُ مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ صِفَةٌ إِضَافِيَّةٌ فَالْقَيُّومُ لَفْظٌ دَالٌّ عَلَى مَجْمُوعِ سَلْبٍ وَإِضَافَةٍ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عِبَارَةً عَنِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: أَسْمَاءُ اللَّهِ كُلُّهَا عَظِيمَةٌ مُقَدَّسَةٌ، وَلَا يَجُوزُ وَصْفُ الْوَاحِدِ مِنْهَا بِأَنَّهُ أَعْظَمُ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي وَصْفَ مَا عَدَاهُ بِالنُّقْصَانِ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَسْمَاءَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى الْأَقْسَامِ التِّسْعَةِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الِاسْمَ الدَّالَّ عَلَى الذَّاتِ الْمَخْصُوصَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَشْرَفَ الْأَسْمَاءِ وَأَعْظَمَهَا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بِالدَّلَائِلِ فَلَا سَبِيلَ فِيهِ إِلَى الْإِنْكَارِ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ هُوَ قَوْلُنَا: «اللَّهُ» وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ عِنْدِي لِأَنَّا سَنُقِيمُ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْمَ يَجْرِي مَجْرَى اسْمِ الْعَلَمِ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ دَالًّا عَلَى ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: أَمَّا الِاسْمُ الدَّالُّ عَلَى الْمُسَمَّى بِحَسَبِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ مَاهِيَّةِ الْمُسَمَّى فَهَذَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّ مَنْ كَانَتْ مَاهِيَّتُهُ مُرَكَّبَةً مِنَ الْأَجْزَاءِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ مُحَالٌ، لِأَنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى جُزْئِهِ، وَجُزْؤُهُ غَيْرُهُ فَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى غَيْرِهِ، وَكُلُّ مُحْتَاجٍ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مُمْكِنٌ، يَنْتِجُ أَنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، فَمَا لَا/ يَكُونُ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا، وَمَا لَا يَكُونُ مُرَكَّبًا امْتَنَعَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ اسْمٌ بِحَسَبِ جُزْءِ مَاهِيَّتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْمَ الدَّالَّ عَلَى الذَّاتِ هَلْ هُوَ حَاصِلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا، قَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِ، وَأَمَّا الِاسْمُ الدَّالُّ بِحَسَبِ جُزْءِ الْمَاهِيَّةِ فَقَدْ أَقَمْنَا الْبُرْهَانَ الْقَاطِعَ عَلَى امْتِنَاعِ حُصُولِهِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَبَقِيَتِ الْأَقْسَامُ السَّبْعَةُ فَنَقُولُ: أَمَّا الِاسْمُ الدَّالُّ عَلَى الشَّيْءِ بِحَسَبِ صِفَةٍ حَقِيقِيَّةٍ قَائِمَةٍ بِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ فَتِلْكَ الصِّفَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ هِيَ الْوُجُودَ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ كَيْفِيَّةً مِنْ كَيْفِيَّاتِ الْوُجُودِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ صِفَةً أُخْرَى مُغَايِرَةً لِلْوُجُودِ وَلِكَيْفِيَّاتِ ذَلِكَ الْوُجُودِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْمَسَائِلَ الْمُفَرَّعَةَ عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَاللَّهُ الْهَادِي. الْبَابُ الرَّابِعُ فِي الْبَحْثِ عَنِ الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى الصِّفَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا الْبَحْثَ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: الْأَسْمَاءُ الدَّالَّةُ عَلَى الْوُجُودِ وفيه مسائل: - تسمية الله بالشيء: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَطْبَقَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِاسْمِ الشَّيْءِ وَنُقِلَ عَنْ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، أَمَّا حُجَّةُ الْجُمْهُورِ فَوُجُوهٌ: - الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ [الْأَنْعَامِ: 19] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ

تَسْمِيَةُ اللَّهِ بِاسْمِ الشَّيْءِ، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْكَلَامُ مَقْصُورًا عَلَى قَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ لَكَانَ دَلِيلُكُمْ حَسَنًا، لَكِنْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلِ الْمَذْكُورُ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الْأَنْعَامِ: 19] وَهَذَا كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ، وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى مُسَمًّى بِاسْمِ الشَّيْءِ قُلْنَا: لَمَّا قَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً ثُمَّ قَالَ: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ جَارِيَةً مَجْرَى الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْمَقْصُودُ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 8] وَالْمُرَادُ بِوَجْهِهِ ذَاتُهُ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ ذَاتُهُ شَيْئًا لَمَا جَازَ اسْتِثْنَاؤُهُ عَنْ قَوْلِهِ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسَمًّى بِالشَّيْءِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي خَبَرِ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرَهُ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ يَقَعُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: رَوَى عَبْدُ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي سَمَّاهُ «بِالْفَارُوقِ» عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ شَيْءٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ الشَّيْءَ عِبَارَةٌ عَمَّا يَصِحُّ أَنْ يُعْلَمَ وَيُخْبَرَ عَنْهُ، وَذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى كَذَلِكَ، فَيَكُونُ شَيْئًا. وَاحْتَجَّ جَهْمٌ بِوُجُوهٍ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزُّمَرِ: 62] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الْمَائِدَةِ: 17] فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ شَيْءٍ مَخْلُوقًا وَمَقْدُورًا، وَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَلَا مَقْدُورٍ، يَنْتِجُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ بِشَيْءٍ. فَإِنْ قَالُوا إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَقَوْلَهُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك: 1] عَامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ، قُلْنَا الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّخْصِيصَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَالدَّلَائِلُ اللَّفْظِيَّةُ يَكْفِي فِي تَقْرِيرِهَا هَذَا الْقَدْرُ، الثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ فِي جَوَازِ التَّخْصِيصِ هُوَ أَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ يُقِيمُونَ الْأَكْثَرَ مَقَامَ الْكُلِّ، فَلِهَذَا السَّبَبِ جَوَّزُوا دُخُولَ التَّخْصِيصِ فِي الْعُمُومِيَّاتِ، إِلَّا أَنَّ إِجْرَاءَ الْأَكْثَرِ مَجْرَى الْكُلِّ إِنَّمَا يَجُوزُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَكُونُ الْخَارِجُ عَنِ الْحُكْمِ حَقِيرًا قَلِيلَ الْقَدْرِ فَيُجْعَلُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَيُحْكَمُ عَلَى الْبَاقِي بِحُكْمِ الْكُلِّ، فَثَبَتَ أَنَّ التَّخْصِيصَ إِنَّمَا يَجُوزُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي تَكُونُ حَقِيرَةً سَاقِطَةَ الدَّرَجَةِ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى مُسَمًّى بِالشَّيْءِ كَانَ أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ وَأَجَلُّهَا هُوَ اللَّهَ تَعَالَى، فَامْتَنَعَ أَنْ يَحْصُلَ فِيهِ جَوَازُ التَّخْصِيصِ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِأَنَّ ادِّعَاءَ هَذَا التَّخْصِيصِ مُحَالٌ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشُّورَى: 11] حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ مِثْلَ مِثْلِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِثْلٌ لِمِثْلِ نَفْسِهِ، وَثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مِثْلَ مِثْلِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ يَنْتِجُ أَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مُسَمًّى بِالشَّيْءِ، فَإِنْ قَالُوا إِنَّ الْكَافَ زَائِدَةٌ، قُلْنَا هَذَا الْكَلَامُ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَغْوٌ وَعَبَثٌ وَبَاطِلٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ هُوَ الْبَاطِلُ، وَمَتَى قُلْنَا إِنَّ هَذَا الْحَرْفَ لَيْسَ بِبَاطِلٍ صَارَتِ الْحُجَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَالْكَمَالِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: لَفْظُ الشَّيْءِ لَا يُفِيدُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ وَالْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، وَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ كَوْنُهَا كَذَلِكَ يَنْتِجُ أَنَّ لَفْظَ الشَّيْءِ لَيْسَ اسْمًا لِلَّهِ تَعَالَى: أَمَّا قَوْلُنَا إِنَّ اسْمَ الشَّيْءِ لَا يُفِيدُ الْمَدْحَ وَالْجَلَالَ فَظَاهِرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ لَفْظِ الشَّيْءِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الذَّرَّةِ الْحَقِيرَةِ وَبَيْنَ أَشْرَفِ الْأَشْيَاءِ، وَإِذَا كَانَ كذلك

كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْءِ حَاصِلًا فِي أَخَسِّ الْأَشْيَاءِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ لَا يُفِيدُ صِفَةَ الْمَدْحِ وَالْجَلَالِ، وَأَمَّا قَوْلُنَا: أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى صِفَةِ الْمَدْحِ وَالْجَلَالِ، فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ [الْأَعْرَافِ: 180] وَالِاسْتِدْلَالُ بالآية أن كون الْأَسْمَاءُ حَسَنَةً لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا كَوْنُهَا دَالَّةً عَلَى الصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ الرَّفِيعَةِ الْجَلِيلَةِ، فَإِذَا لَمْ يَدُلَّ الِاسْمُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَكُنِ/ الِاسْمُ حَسَنًا ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَنَا بِأَنْ نَدْعُوَهُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ [الْأَعْرَافِ: 180] وَهَذَا كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَنْ دَعَاهُ بِغَيْرِ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ الْحَسَنَةِ فَقَدْ أَلْحَدَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ، فَتَصِيرُ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً دَلَالَةً قَوِيَّةً عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ إِلَّا بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى الدَّالَّةِ عَلَى صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْمَدْحِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَاتَانِ الْمُقْدِّمَتَانِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ خَاطَبَ اللَّهَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ يَا شَيْءُ، وَكَيْفَ يُقَالُ ذَلِكَ وَهَذَا اللَّفْظُ فِي غَايَةِ الْحَقَارَةِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لِلْعَبْدِ خِطَابُ اللَّهِ بِهَذَا الِاسْمِ، بَلْ نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: يَا مُنْشِئَ الْأَشْيَاءِ، يَا مُنْشِئَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا الْبَحْثَ وَاقِعٌ فِي الْمَعْنَى، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، فَإِنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ وَذَاتٌ وَحَقِيقَةٌ، إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ إِطْلَاقُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَيْهِ، فَهَذَا نِزَاعٌ فِي مُجَرَّدِ اللَّفْظِ لَا فِي الْمَعْنَى، وَلَا يَجْرِي بِسَبَبِهِ تَكْفِيرٌ وَلَا تَفْسِيقٌ، فَلْيَكُنِ الْإِنْسَانُ عَالِمًا بِهَذِهِ الدَّقِيقَةِ حَتَّى لَا يَقَعَ فِي الغلط. إطلاق لفظ الموجود على الله: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي بَيَانِ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْمَوْجُودِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَحْثَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِمُقْدِّمَةٍ، وَهِيَ أَنَّ لَفْظَ الْوُجُودِ يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ على مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرَادَ بِالْوُجُودِ الْوِجْدَانُ وَالْإِدْرَاكُ وَالشُّعُورُ، وَمَتَى أُرِيدَ بِالْوُجُودِ الْوِجْدَانُ وَالْإِدْرَاكُ فَقَدْ أُرِيدَ بِالْمَوْجُودِ لَا مَحَالَةَ الْمُدْرَكُ وَالْمَشْعُورُ بِهِ، وَالثَّانِي: أَنْ يُرَادَ بِالْوُجُودِ الْحُصُولُ وَالتَّحَقُّقُ فِي نَفْسِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَرْقًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَوْنَهُ مَعْلُومَ الْحُصُولِ فِي الْأَعْيَانِ، يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِهِ حَاصِلًا فِي نَفْسِهِ، وَلَا يَنْعَكِسُ، لِأَنَّ كَوْنَهُ حَاصِلًا فِي نَفْسِهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِهِ مَعْلُومَ الْحُصُولِ فِي الْأَعْيَانِ: لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ كَوْنُهُ حَاصِلًا فِي نَفْسِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَعْلُومًا لِأَحَدٍ، بَقِيَ هاهنا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ لَفْظَ الْوُجُودِ هَلْ وُضِعَ أَوَّلًا لِلْإِدْرَاكِ وَالْوِجْدَانِ ثُمَّ نُقِلَ ثَانِيًا إِلَى حُصُولِ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ، أَوِ الْأَمْرُ فِيهِ بِالْعَكْسِ، أَوْ وُضِعَا مَعًا؟ فَنَقُولُ: هَذَا الْبَحْثُ لَفْظِيٌّ، وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ لَوْلَا شُعُورُ الْإِنْسَانِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ لَمَا عَرَفَ حُصُولَهُ فِي نَفْسِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَضْعُ اللَّفْظِ لِمَعْنَى الشُّعُورِ وَالْإِدْرَاكِ سَابِقًا عَلَى وَضْعِهِ لِحُصُولِ الشَّيْءِ نَفْسِهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: إِطْلَاقُ لَفْظِ الْمَوْجُودِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ مَعْلُومًا مَشْعُورًا بِهِ، وَالثَّانِي: كَوْنُهُ فِي نَفْسِهِ ثَابِتًا مُتَحَقِّقًا، أَمَّا بِحَسَبِ الْمَعْنَى/ الْأَوَّلِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَوَجَدُوا اللَّهَ [النساء: 64] ولفظ الوجود هاهنا بِمَعْنَى الْوِجْدَانِ وَالْعِرْفَانِ، وَأَمَّا بِالْمَعْنَى الثَّانِي فَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْقُرْآنِ.

فَإِنْ قَالُوا: لَمَّا حَصَلَ الْوُجُودُ بِمَعْنَى الْوِجْدَانِ لَزِمَ حُصُولُ الْوُجُودِ بِمَعْنَى الثُّبُوتِ وَالتَّحَقُّقِ إِذْ لَوْ كَانَ عَدَمًا مَحْضًا لَمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. فَنَقُولُ: هَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ الْوُجُودِ بِمَعْنَى الْوِجْدَانِ وَالْمَعْرِفَةِ حُصُولُ الْوُجُودِ بِمَعْنَى الثُّبُوتِ، لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمَعْدُومَ قَدْ يَكُونُ مَعْلُومًا، وَالثَّانِي: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْبَحْثَ لَيْسَ إِلَّا فِي اللَّفْظِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ الِاسْمِ بِحَسَبِ مَعْنَى حُصُولِ الِاسْمِ بِحَسَبِ مَعْنًى آخَرَ، ثُمَّ نَقُولُ: ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ إِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ. فَإِنْ قَالُوا: أَلَسْتُمْ قُلْتُمْ إِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ كَوْنُهَا دَالَّةً عَلَى الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، وَلَفْظُ الْمَوْجُودِ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ؟. قُلْنَا عَدَلْنَا عَنْ هَذَا الدَّلِيلِ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، وَأَيْضًا فَدَلَالَةُ لَفْظِ الْمَوْجُودِ عَلَى الْمَدْحِ أَكْثَرُ مِنْ دَلَالَةِ لَفْظِ الشَّيْءِ عَلَيْهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عِنْدَ قَوْمٍ يَقَعُ لَفْظُ الشَّيْءِ عَلَى الْمَعْدُومِ كَمَا يَقَعُ عَلَى الْمَوْجُودِ، أَمَّا الْمَوْجُودُ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَى الْمَعْدُومِ الْبَتَّةَ، فَكَانَ إِشْعَارُ هَذَا اللَّفْظِ بِالْمَدْحِ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الْمَوْجُودِ بِمَعْنَى الْمَعْلُومِ يُفِيدُ صِفَةَ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، لِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الدَّلَائِلِ عَلَى وُجُودِهِ وَإِلَاهِيَّتِهِ صَارَ كَأَنَّهُ مَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ مَوْجُودٌ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ وَاجِبٌ الْإِقْرَارُ بِهِ عِنْدَ كُلِّ عَقْلٍ، فَهَذَا اللَّفْظُ أَفَادَ الْمَدْحَ وَالثَّنَاءَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَفْظِ الشيء. معنى قولنا ذات الله: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الذَّاتِ: رَوَى عَبْدُ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ الْهَرَوِيُّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي سَمَّاهُ «بِالْفَارُوقِ» أَخْبَارًا تَدُلُّ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ: أَحَدُهَا: عَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ أَجْرًا الْوَزِيرُ الصَّالِحُ مِنْ أَمِيرٍ يُطِيعُهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ» ، وَثَانِيهَا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكْذِبْ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ» ، وَثَالِثُهَا: عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسُبُّوا عَلِيًّا فَإِنَّهُ كَانَ مَخْشُوشًا فِي ذَاتِ اللَّهِ» ، وَرَابِعُهَا: عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَنْ تُجَاهِدَ نَفْسَكَ وَهَوَاكَ فِي ذَاتِ اللَّهِ» وَخَامِسُهَا: عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِلشَّيْطَانَ مَصَايِدَ وَفُخُوخًا مِنْهَا الْبَطَرُ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، وَالْفَخْرُ بِعَطَاءِ اللَّهِ، وَالْكِبْرُ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى فِي غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ» . وَأَقُولُ: إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ حَصَلَ بِهِ أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ فَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ مُذَكَّرًا قِيلَ إِنَّهُ ذُو ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ مُؤَنَّثًا قِيلَ إِنَّهَا ذَاتُ ذَلِكَ الْأَمْرِ، فَهَذِهِ اللَّفْظَةُ وُضِعَتْ لِإِفَادَةِ هَذِهِ النِّسْبَةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى ثُبُوتِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ تُثْبَتَ هَذِهِ الصِّفَةُ لِصِفَةٍ الثانية، وَتِلْكَ الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ تُثْبَتُ لِصِفَةٍ ثَالِثَةٍ، وَهَكَذَا إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ قَائِمَةٍ بِنَفْسِهَا مُسْتَقِلَّةٍ بِمَاهِيَّتِهَا، وَحِينَئِذٍ يَصْدُقُ عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ أَنَّهَا ذَاتُ تِلْكَ الصِّفَاتِ، فَقَوْلُنَا: «إِنَّهَا ذَاتُ كَذَا وَكَذَا إِنَّمَا يَصْدُقُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ جَعَلُوا هَذِهِ اللَّفْظَةَ كَاللَّفْظَةِ الْمُفْرَدَةِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْحَقُّ تَعَالَى قَيُّومًا فِي ذَاتِهِ كَانَ إِطْلَاقُ اسْمِ الذَّاتِ عَلَيْهِ حَقًّا وَصِدْقًا، وَأَمَّا الْأَخْبَارُ الَّتِي رَوَيْنَاهَا عَنِ الْأَنْصَارِيِّ الْهَرَوِيِّ فَإِنَّ شَيْئًا مِنْهَا لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ الذَّاتِ فِيهَا حَقِيقَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَاهِيَّتَهُ،

وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْهُ طَلَبُ رِضْوَانِ اللَّهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ» أَيْ: فِي طَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّهِ، وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِي سائر الأخبار. إطلاق لفظ النفس على الله: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي لَفْظِ النَّفْسِ، وَهَذَا اللَّفْظُ وَارِدٌ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي، وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [الْمَائِدَةِ: 116] وَقَالَ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آلِ عِمْرَانَ: 28] وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ نَائِمَةً إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ فَقَدْتُهُ، فَطَلَبْتُهُ، فَوَقَعَتْ يَدَيَّ عَلَى قَدَمَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سُخْطِكَ، وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا مَعَ عَبْدِي حِينَ يَذْكُرُنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْ مَلَئِهِ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ جَاءَنِي يَمْشِي جِئْتُهُ أُهَرْوِلُ» وَالْخَبَرُ الثَّالِثُ: عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مَرْفُوعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي» وَالْخَبَرُ الرَّابِعُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ» . الْخَبَرُ الْخَامِسُ: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ/ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهَا هَذَا التَّسْبِيحَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ. الْخَبَرُ السَّادِسُ: رَوَى أَبُو ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ اللَّهِ سبحانه وتعالى أنه قال: «حرمة الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا» وَتَمَامُ الْخَبَرِ مَشْهُورٌ. الْخَبَرُ السَّابِعُ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الْأَنْعَامِ: 91] ثُمَّ أَخَذَ يُمَجِّدُ اللَّهُ نَفْسَهُ: أَنَّا الْجَبَّارُ، أَنَا الْمُتَكَبِّرُ، أَنَا الْعَزِيزُ أَنَا الْكَرِيمُ، فَرَجَفَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرُ حَتَّى خِفْنَا سُقُوطَهُ. الْخَبَرُ الثَّامِنُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: الْتَقَى آدَمُ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أَنْتَ الَّذِي أَشْقَيْتَ النَّاسَ فَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، قَالَ آدَمُ: أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ، وَاصْطَنَعَكَ لِنَفْسِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ، فَهَلْ وجدت كتبته عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» الْخَبَرُ التَّاسِعُ: عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا دِينٌ ارْتَضَيْتُهُ لِنَفْسِي، وَلَنْ يُصْلِحَهُ إِلَّا السَّخَاءُ وَحُسْنُ الْخُلُقِ، فَأَكْرِمُوهُ بِهِمَا» . الْخَبَرُ الْعَاشِرُ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ، فَلَا أُبَالِي فِي أَيِّ وَادٍ مِنَ الدُّنْيَا أُهْلِكُهُ، وَأَقْذِفُهُ فِي جَهَنَّمَ، وَمَا تَرَدَّدْتُ فِي نَفْسِي فِي قَضَاءِ شَيْءٍ قَضَيْتُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» . الْخَبَرُ الْحَادِيَ عَشَرَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ إِذَا أَصَابَهُ هَمٌّ أَوْ حُزْنٌ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مَنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ- أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَغَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحًا» . الْخَبَرُ الثَّانِيَ عَشَرَ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَنِي

رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَأَنْ أَكْسِرَ الْمَعَازِفَ وَالْأَصْنَامَ، وَأَقْسَمَ رَبِّي عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَشْرَبَ عَبْدٌ خَمْرًا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ إِلَّا سَقَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ» فَقَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا طينة الخبال؟ قال: «صديد أهل جهنم» . نفس الشيء ذاته وحقيقته: وَاعْلَمْ أَنَّ النَّفْسَ عِبَارَةٌ عَنْ ذَاتِ الشَّيْءِ، وَحَقِيقَتِهِ، وَهُوِيَّتِهِ، وَلَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الْجِسْمِ الْمُرَكَّبِ مِنَ الْأَجْزَاءِ، لِأَنَّ كُلَّ جِسْمٍ مُرَكَّبٌ، وَكُلَّ مُرَكَّبٍ مُمْكِنٌ، وَكُلَّ مُمْكِنٍ مُحْدَثٌ، وَذَلِكَ/ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ فَوَجَبَ حَمْلُ لَفْظِ النَّفْسِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي لَفْظِ الشَّخْصِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَتِهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا شَخْصَ أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذَلِكَ بَعَثَ الْمُرْسَلِينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَلَا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ» . وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الشَّخْصِ الْجِسْمَ الَّذِي لَهُ تَشَخُّصٌ وَحَجْمِيَّةٌ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ الذَّاتُ الْمَخْصُوصَةُ وَالْحَقِيقَةُ الْمُعَيَّنَةُ فِي نَفْسِهَا تعينا باعتباره يمتاز عن غيره. هل يقال لله «النور» : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ إِطْلَاقُ لَفْظِ النُّورِ عَلَى اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّورِ: 35] وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَرُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: نُقِلَ عَنْكَ أَنَّكَ تَقُولُ الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فِي ظُلْمَةٍ، ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ شَيْءٌ فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ أَخْطَأَ فَقَدْ ضَلَّ» فَلِذَلِكَ أَقُولُ: جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ هَذَا النُّورُ أَوْ مِنْ جِنْسِهِ قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النُّورَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جِسْمًا أَوْ كَيْفِيَّةً فِي جِسْمٍ، وَالْجِسْمُ مُحْدَثٌ فَكَيْفِيَّاتُهُ أَيْضًا مُحْدَثَةٌ، وَجَلَّ الْإِلَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا. الثَّانِي: أَنَّ النُّورَ تُضَادُّهُ الظُّلْمَةُ، وَالْإِلَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ ضِدٌّ. الثَّالِثُ: أَنَّ النُّورَ يَزُولُ وَيَحْصُلُ لَهُ أُفُولٌ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْأُفُولِ وَالزَّوَالِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ مَثَلُ نُورِهِ [النُّورِ: 35] فَأَضَافَ النُّورَ إِلَى نَفْسِهِ إِضَافَةَ الْمِلْكِ إِلَى مَالِكِهِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي ذَاتِهِ لَيْسَ بِنُورٍ، بَلْ هُوَ خَالِقُ النُّورِ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: فَمَا الْمُقْتَضِي لِحُسْنِ إِطْلَاقِ لَفْظِ النُّورِ عَلَيْهِ؟ فَنَقُولُ فِيهِ وجوه: الأول: قرأ بعضهم «لله نور السموات وَالْأَرْضِ» وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالشُّبْهَةُ زَائِلَةٌ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَوِّرُ الْأَنْوَارِ وَمُبْدِعُهَا وَخَالِقُهَا، فَلِهَذَا التَّأْوِيلِ حَسُنَ إِطْلَاقُ النُّورِ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ بِحِكْمَتِهِ حَصَلَتْ مَصَالِحُ الْعَالَمِ. وَانْتَظَمَتْ مُهِمَّاتُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ كَانَ نَاظِمًا لِلْمَصَالِحِ وَسَاعِيًا فِي الْخَيْرَاتِ فَقَدْ يُسَمَّى بِالنُّورِ، يُقَالُ: فُلَانٌ نُورُ هَذِهِ الْبَلَدِ، إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَفَضَّلَ عَلَى عِبَادِهِ بِالْإِيمَانِ وَالْهِدَايَةِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ مِنْ جِنْسِ الْأَنْوَارِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْأَخْبَارُ: أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: نُورٌ عَلى / نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ

لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَكَثِيرَةٌ: الْخَبَرُ الْأَوَّلُ: مَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» . الْخَبَرُ الثَّانِي: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ أَيُّ النَّاسِ أَكْيَسُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، وَأَحْسَنُهُمْ لَهُ اسْتِعْدَادًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لِذَلِكَ مِنْ عَلَامَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، فَإِذَا دَخَلَ النُّورُ فِي الْقَلْبِ انْفَسَحَ وَاتَّسَعَ لِلِاسْتِعْدَادِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ» . الْخَبَرُ الثَّالِثُ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: تَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزُّمَرِ: 22] فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَشْرَحُ اللَّهُ صَدْرَهُ؟ قَالَ: إِذَا دَخَلَ النُّورُ الْقَلْبَ انْشَرَحَ وَانْفَسَحَ، فَقُلْتُ: مَا عَلَامَةُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالتَّأَهُّبُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ. الْخَبَرُ الرَّابِعُ: عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي فِي طَرِيقٍ إِذْ لَقِيَهُ حَارِثَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟ قَالَ: أَصْبَحْتُ وَاللَّهِ مُؤْمِنًا حَقًّا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: انْظُرْ مَا تَقُولُ، فَإِنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟ فَقَالَ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، وَأَسْهَرْتُ لَيْلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَإِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَعَاوَوْنَ فِيهَا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: عَرَفْتَ فَالْزَمْ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ نَوَّرَ اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا» ثُمَّ قال: يا رسول الله، ادع الله لِي بِالشَّهَادَةِ، فَدَعَا لَهُ، فَنُودِيَ بَعْدَ ذَلِكَ: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي، فَكَانَ أَوَّلَ فَارِسٍ رَكِبَ، فَاسْتُشْهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. الْخَبَرُ الْخَامِسُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ سَمِعَ صَوْتًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْبَابَ مِنَ السَّمَاءِ قَدْ فُتِحَ، وَمَا فُتِحَ قَطُّ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ لَمْ يُؤْتَهُمَا أَحَدٌ مِنْ قَبْلِكَ: فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الْخَبَرُ السَّادِسُ: عَنْ يَعْلَى بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَمُرُّ الْمُؤْمِنُ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتُنَادِيهِ النَّارُ: «جُزْ عني يا مؤمن فقد أَطْفَأَ نُورُكَ لَهَبِي» . الْخَبَرُ السَّابِعُ: عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ بِكَ نُصْبِحُ، وَبِكَ نُمْسِي، وَبِكَ نَحْيَا وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ النُّشُورُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَفْضَلِ عِبَادِكَ عِنْدَكَ حَظًّا وَنَصِيبًا، فِي كُلِّ خَيْرٍ تقسمه اليوم: من نور تهدي به، أن رَحْمَةٍ تَنْشُرُهَا، أَوْ رِزْقٍ تَبْسُطُهُ، أَوْ ضُرٍّ تَكْشِفُهُ، أَوْ بَلَاءٍ تَدْفَعُهُ، أَوْ سُوءٍ تَرْفَعُهُ، أَوْ فِتْنَةٍ تَصْرِفُهَا» . الْخَبَرُ الثَّامِنُ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سئل عن أهل الجنة فقال: «أهل الجنة شعث رؤسهم، وَسِخَةٌ ثِيَابُهُمْ، لَوْ قُسِّمَ نُورُ أَحَدِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَسِعَهُمْ» . الْخَبَرُ التَّاسِعُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ كُلُّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ إِذَا اسْتَأْذَنُوا عَلَى الْأُمَرَاءِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ، وَإِذَا خَطَبُوا النِّسَاءَ لَمْ يُنْكَحُوا، وَإِذَا قَالُوا لَمْ يُنْصَتْ لِقَوْلِهِمْ، حاجة أحدهم

تَتَلَجْلَجُ فِي صَدْرِهِ، لَوْ قُسِّمَ نُورُهُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَسِعَهُمْ. الْخَبَرُ الْعَاشِرُ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: نُورِي هُدَايَ، وَ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» كَلِمَتِي، فَمَنْ قَالَهَا أَدْخَلْتُهُ حِصْنِي وَمَنْ أَدْخَلْتُهُ حِصْنِي فَقَدْ أَمِنَ. الخبر الحادي عشر: من هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، وَبِنُورِهِ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الْأَرْضُ وَأَضَاءَتْ بِهِ الظُّلُمَاتُ، مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَمِنْ تَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَمِنْ فَجْأَةِ نِقْمَتِكَ، وَمِنْ دَرَكِ الشَّقَاءِ وَشَرٍّ قَدْ سَبَقَ» . الْخَبَرُ الثَّانِيَ عَشَرَ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا» وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ. لفظ الصورة: الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي لَفْظِ الصُّورَةِ، وَفِيهِ أَخْبَارٌ: الْخَبَرُ الْأَوَّلُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُقَبِّحُوا الْوَجْهَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ» قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ» . الْخَبَرُ الثَّانِي: عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غُدْوَةٍ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا رَأَيْتُكَ أَسْفَرَ وَجْهُكَ مِثْلَ الْغَدَاةِ، قَالَ: «وَمَا أُبَالِي، وَقَدْ بَدَا لِي رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى يَا مُحَمَّدُ؟ قُلْتُ: أَنْتَ أَعْلَمُ أَيْ رَبِّي، فَوَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفِي فَوَجَدْتُ بَرْدَهَا فَعَلِمْتُ مَا في السموات وَالْأَرْضِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمَضْرُوبِ، يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الْمَضْرُوبِ، فَوَجَبَ الِاحْتِرَازُ عَنْ تَقْبِيحِ وَجْهِ ذَلِكَ الْمَضْرُوبِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي كَانَ فِي آخِرِ أَمْرِهِ، يَعْنِي أَنَّهُ مَا تَوَلَّدَ عَنْ نُطْفَةٍ وَدَمٍ وَمَا كَانَ جَنِينًا وَرَضِيعًا، بَلْ خَلَقَهُ اللَّهُ رَجُلًا كَامِلًا دَفْعَةً وَاحِدَةً الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الصُّورَةِ الصِّفَةُ يُقَالُ صُورَةُ هَذَا الْأَمْرِ كَذَا، أَيْ: صِفَتُهُ، فَقَوْلُهُ: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ» أَيْ: خَلَقَهُ عَلَى صِفَتِهِ فِي كَوْنِهِ خَلِيفَةً لَهُ فِي أَرْضِهِ مُتَصَرِّفًا فِي جَمِيعِ الْأَجْسَامِ الْأَرْضِيَّةِ، كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى نَافِذُ الْقُدْرَةِ فِي جميع العالم. إطلاق «الجوهر» على الله لا يجوز: المسألة الثامنة [إطلاق «الجوهر» على الله لا يجوز] : الْفَلَاسِفَةُ قَدْ يُطْلِقُونَ لَفْظَ «الْجَوْهَرِ» عَلَى ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ النَّصَارَى، وَالْمُتَكَلِّمُونَ يَمْتَنِعُونَ مِنْهُ، أَمَّا الْفَلَاسِفَةُ فَقَالُوا: الْمُرَادُ مِنَ الْجَوْهَرِ الذَّاتُ الْمُسْتَغْنِي عَنِ الْمَحَلِّ وَالْمَوْضُوعِ، وَاللَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا، فَالْجَوْهَرُ فَوْعَلٌ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْجَهْرِ، وَهُوَ الظُّهُورُ، فَسُمِّيَ الْجَوْهَرُ جَوْهَرًا لِكَوْنِهِ ظَاهِرًا بِسَبَبِ شَخْصِيَّتِهِ وَحَجْمِيَّتِهِ، فَكَوْنُهُ جَوْهَرًا عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ ظَاهِرَ الْوُجُودِ، وَأَمَّا حَجْمِيَّتُهُ فَلَيْسَتْ نَفْسَ الْجَوْهَرِ، بَلْ هِيَ سَبَبٌ لِكَوْنِهِ جَوْهَرًا وَهُوَ ظُهُورُ وُجُودِهِ، وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَظْهَرُ مِنْ كُلِّ ظَاهِرٍ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الدَّلَائِلِ عَلَى وُجُودِهِ، فَكَانَ أَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالْجَوْهَرِيَّةِ هُوَ هُوَ، وَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُونَ فَقَالُوا: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ فَوَجَبَ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ.

إطلاق الجسم لا يجوز: المسألة التاسعة [إطلاق الجسم لا يجوز] : أَطْلَقَ أَكْثَرُ الْكَرَامِيَّةِ لَفْظَ «الْجِسْمِ» عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا: لَا نُرِيدُ بِهِ كَوْنَهُ مُرَكَّبًا مُؤَلَّفًا مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَإِنَّمَا نُرِيدُ بِهِ كَوْنَهُ مَوْجُودًا قَائِمًا بِالنَّفْسِ غَنِيًّا عَنِ الْمَحَلِّ وَأَمَّا سَائِرُ الْفِرَقِ فَقَدْ أَطْبَقُوا عَلَى إِنْكَارِ هَذَا الِاسْمِ. وَلَنَا مَعَ الْكَرَامِيَّةِ مَقَامَانِ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِكَوْنِهِ جِسْمًا مَعْنًى غَيْرَ الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْعُمْقِ، وَكَيْفَ لَا نَقُولُ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى فَوْقَ الْعَرْشِ، وَلَا يَقُولُونَ إِنَّهُ فِي الصِّغَرِ مِثْلُ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ، وَالْجُزْءِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ، بَلْ يقولون: إنه/ أعظم من العرش، وكان مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ ذَاتُهُ مُمْتَدَّةً مِنْ أَحَدِ جَانِبَيِ الْعَرْشِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَكَانَ طَوِيلًا عَرِيضًا عَمِيقًا، فَكَانَ جِسْمًا بِمَعْنَى كَوْنِهِ طَوِيلًا عَرِيضًا عَمِيقًا، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُمْ إِنَّا أَرَدْنَا بِكَوْنِهِ جِسْمًا مَعْنًى غَيْرَ هَذَا الْمَعْنَى كَذِبٌ مَحْضٌ وَتَزْوِيرٌ صِرْفٌ. الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: لَفْظُ الْجِسْمِ لَفْظٌ يُوهِمُ مَعْنًى بَاطِلًا، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُرُودِهِ فَوَجَبَ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ، لَا سِيَّمَا وَالْمُتَكَلِّمُونَ قَالُوا: لَفْظُ الْجِسْمِ يُفِيدُ كَثْرَةَ الْأَجْزَاءِ بِحَسَبِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْعُمْقِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الجسم يفيد أصل هذا المعنى. إطلاق «الإنية» : الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ «الْإِنِّيَّةِ» عَلَى اللَّهِ تَعَالَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ تَسْتَعْمِلُهَا الْفَلَاسِفَةُ كَثِيرًا، وَشَرْحُهُ بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ أَنَّ لَفْظَةَ «إِنَّ» فِي لُغَةِ الْعَرَبِ تُفِيدُ التَّأْكِيدَ وَالْقُوَّةَ فِي الْوُجُودِ، وَلَمَّا كَانَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَكَانَ وَاجِبُ الْوُجُودِ أَكْمَلَ الْمَوْجُودَاتِ فِي تَأَكُّدِ الْوُجُودِ، وَفِي قُوَّةِ الْوُجُودِ، لَا جَرَمَ أَطْلَقَتِ الْفَلَاسِفَةُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ لفظ الإنية عليه. إطلاق «الماهية» : الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْمَاهِيَّةِ عَلَيْهِ: اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ «الْمَاهِيَّةِ» لَيْسَ لَفْظًا مُفْرَدًا بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ، بَلِ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ حَقِيقَةٍ مِنَ الْحَقَائِقِ فَإِنَّهُ يَقُولُ: مَا تِلْكَ الْحَقِيقَةُ وَمَا هِيَ؟ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَرِنَا الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ، فَلَمَّا كَثُرَ السُّؤَالُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ جَعَلُوا مَجْمُوعَ قَوْلِنَا مَا هِيَ كَاللَّفْظَةِ الْمُفْرَدَةِ، وَوَضَعُوا هَذِهِ اللَّفْظَةَ بِإِزَاءِ الْحَقِيقَةِ فَقَالُوا مَاهِيَّةُ الشَّيْءِ أَيْ حقيقته المخصوصة وذاته المخصوصة. إطلاق لفظ «الحق» : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ «الْحَقِّ» اعْلَمْ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ إِنْ أُطْلِقَ عَلَى ذَاتِ الشَّيْءِ كَانَ الْمُرَادُ كَوْنَهُ مَوْجُودًا وُجُودًا حَقِيقِيًّا فِي نَفْسِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَقَّ مُقَابِلٌ لِلْبَاطِلِ وَالْبَاطِلَ هُوَ الْمَعْدُومُ قَالَ لَبِيدٌ: - أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ فَلَمَّا كَانَ مُقَابِلُ الْحَقِّ هُوَ الْمَعْدُومَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ هُوَ الْمَوْجُودَ، وَأَمَّا إِنْ أُطْلِقَ لَفْظُ الْحَقِّ عَلَى الِاعْتِقَادِ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ صَوَابٌ مُطَابِقٌ لِلشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا الِاعْتِقَادُ بِالْحَقِّ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ صَوَابًا مُطَابِقًا كَانَ وَاجِبَ التَّقْرِيرِ وَالْإِبْقَاءِ، وَأَمَّا إِنْ أُطْلِقَ لَفْظُ الْحَقِّ عَلَى الْقَوْلِ وَالْخَبَرِ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ

الْإِخْبَارَ صِدْقٌ مُطَابِقٌ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ وَاجِبَ التَّقْرِيرِ وَالْإِبْقَاءِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِاسْمِ الْحَقِّ، أَمَّا بِحَسَبِ ذَاتِهِ فَلِأَنَّهُ هُوَ الْمَوْجُودُ الَّذِي يَمْتَنِعُ عَدَمُهُ وَزَوَالُهُ. وَأَمَّا بِحَسَبِ/ الِاعْتِقَادِ فَلِأَنَّ اعْتِقَادَ وُجُودِهِ وَوُجُوبِهِ هُوَ الاعتقاد الصواب المطابق الذي لا يتغير عن هَذِهِ الصِّفَةِ، وَأَمَّا بِحَسَبِ الْأَخْبَارِ وَالذِّكْرِ فَلِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ أَحَقُّ الْأَخْبَارِ بِكَوْنِهِ صِدْقًا وَاجِبَ التَّقْرِيرِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْحَقُّ بِحَسَبِ جَمِيعِ الِاعْتِبَارَاتِ وَالْمَفْهُومَاتِ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ الْهَادِي. الْقِسْمُ الثَّانِي: مِنْ هَذَا الْبَابِ الْأَسْمَاءُ الدَّالَّةُ عَلَى كَيْفِيَّةِ الْوُجُودِ: - اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِمُقَدِّمَاتٍ عَقْلِيَّةٍ. كونه تعالى «أزليا» : الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى أَزَلِيًّا أَبَدِيًّا لَا يُوجِبُ الْقَوْلَ بِوُجُودِ زَمَانٍ لَا آخِرَ لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ: كَوْنُ الشَّيْءِ دَائِمَ الْوُجُودِ فِي ذَاتِهِ إِمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى حُصُولِهِ فِي زَمَانٍ أَوْ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَيْهِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ تَعَالَى أَزَلِيًّا أَبَدِيًّا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْقَوْلِ بِوُجُودِ زَمَانٍ آخَرَ، وَأَمَّا إِنْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ فَنَقُولُ: ذَلِكَ الزَّمَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَزَلِيًّا أَوْ لا يكون فإن كان ذَلِكَ الزَّمَانُ أَزَلِيًّا فَالتَّقْدِيرُ هُوَ أَنَّ كَوْنَهُ أَزَلِيًّا لَا يَتَقَرَّرُ إِلَّا بِسَبَبِ زَمَانٍ آخَرَ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ افْتِقَارُ الزَّمَانِ إِلَى زَمَانٍ آخَرَ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا أَنَّ ذَلِكَ الزَّمَانَ لَيْسَ أَزَلِيًّا فَحِينَئِذٍ قَدْ كَانَ اللَّهُ أَزَلِيًّا مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّوَامَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى وُجُودِ زَمَانٍ آخَرَ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى أَزَلِيًّا لَا يُوجِبُ الِاعْتِرَافَ بِكَوْنِ الزَّمَانِ أزليا. كونه تعالى «باقيا» : الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا كَانَ أَزَلِيًّا كَانَ بَاقِيًا، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشيء باقيا كونه أزليا، ولفظ «الباقي» وورد فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرَّحْمَنِ: 27] وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88] وَالَّذِي لَا يَصِيرُ هَالِكًا يَكُونُ بَاقِيًا لَا مَحَالَةَ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ [الْحَدِيدِ: 3] فَجَعَلَهُ أَوَّلًا لِكُلِّ مَا سِوَاهُ، وَمَا كَانَ أَوَّلًا لِكُلِّ مَا سِوَاهُ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَوَّلٌ، إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ أَوَّلٌ لَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ أَوَّلًا لِأَوَّلِ نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ آخر لامتنع كونه آخرا لآخر نَفْسِهِ، فَلَمَّا كَانَ أَوَّلًا لِكُلِّ مَا سِوَاهُ وَكَانَ آخِرًا لِكُلِّ مَا سِوَاهُ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَوَّلٌ وَآخِرٌ، فَهَذَا اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى أَزَلِيًّا لَا أَوَّلَ لَهُ، أبديا لا آخِرَ لَهُ. الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ: لَوْ كَانَ صَانِعُ الْعَالَمِ مُحْدَثًا لَافْتَقَرَ إِلَى صَانِعٍ آخَرَ، وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَهُوَ مُحَالٌ فَهُوَ قَدِيمٌ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَدِيمٌ وَجَبَ أَنْ يَمْتَنِعَ زَوَالُهُ، لِأَنَّ مَا ثَبَتَ قِدَمُهُ امْتَنَعَ عَدَمُهُ. إِذَا ثَبَتَتْ هذه المقدمات فلنشرع في تفسير الأسماء: - اسمه تعالى «القديم» : الِاسْمُ الْأَوَّلُ: الْقَدِيمُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُفِيدُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ طُولَ الْمُدَّةِ، وَلَا يُفِيدُ نَفْيَ الْأَوَّلِيَّةِ يُقَالُ:

دَارٌ قَدِيمٌ إِذَا طَالَتْ مُدَّتُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: 39] وَقَالَ: إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [يوسف: 95] . اسمه تعالى الأزلي: الِاسْمُ الثَّانِي: الْأَزَلِيُّ، وَهَذَا اللَّفْظُ يُفِيدُ الِانْتِسَابَ إِلَى الْأَزَلِ، فَهَذَا يُوهِمُ أَنَّ الْأَزَلَ شَيْءٌ حَصَلَ ذَاتُ اللَّهِ فِيهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَتْ ذَاتُ اللَّهِ مُفْتَقِرَةً إِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ وَمُحْتَاجَةً إِلَيْهِ، وَهُوَ مُحَالٌ، بَلِ الْمُرَادُ وُجُودٌ لَا أَوَّلَ لَهُ ألبتة. عدم أوليته تعالى: الِاسْمُ الثَّالِثُ: قَوْلُنَا لَا أَوَّلَ لَهُ، وَهَذَا اللَّفْظُ صَرِيحٌ فِي الْمَقْصُودِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَنَا لَا أَوَّلَ لَهُ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ أَوْ عَدَمِيَّةٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ قَوْلَنَا لَا أَوَّلَ لَهُ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ الْعَدَمِ السَّابِقِ وَنَفْيُ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، فَقَوْلُنَا لَا أَوَّلَ لَهُ وَإِنْ كَانَ بِحَسَبِ اللَّفْظِ عَدَمًا إِلَّا أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ ثُبُوتٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ مَفْهُومٌ عَدَمِيٌّ، لِأَنَّهُ نُفِيَ لِكَوْنِ الشَّيْءِ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْعَدَمِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ، فَكَوْنُهُ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ كَيْفِيَّةٌ ثُبُوتِيَّةٌ، فَقَوْلُنَا لَا أَوَّلَ لَهُ سَلْبٌ لِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ الثُّبُوتِيَّةِ، فَكَانَ قَوْلُنَا لَا أَوَّلَ مَفْهُومًا عَدَمِيًّا، وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْهُ بِأَنَّ كَوْنَهُ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ لَوْ كَانَ كَيْفِيَّةً وُجُودِيَّةً زَائِدَةً عَلَى ذَاتِهِ لَكَانَتْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ الزَّائِدَةُ حَادِثَةً، فَكَانَتْ مَسْبُوقَةً بِالْعَدَمِ، فَكَانَ كَوْنُهَا كَذَلِكَ صِفَةً أُخْرَى، وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَهُوَ مُحَالٌ. اسمه تعالى الأبدي والسرمدي: الِاسْمُ الرَّابِعُ: الْأَبَدِيُّ، وَهُوَ يُفِيدُ الدَّوَامَ بِحَسَبِ الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ. الِاسْمُ الْخَامِسُ: السَّرْمَدِيُّ، وَاشْتِقَاقُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ مِنَ السَّرْدِ، وَهُوَ التَّوَالِي وَالتَّعَاقُبُ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ: «وَاحِدٌ فَرْدٌ وَثَلَاثَةٌ سَرْدٌ» أَيْ: مُتَعَاقِبَةٌ، وَلَمَّا كَانَ الزَّمَانُ إِنَّمَا يَبْقَى بِسَبَبِ تَعَاقُبِ أَجْزَائِهِ وَتَلَاحُقِ أَبْعَاضِهِ وَكَانَ ذَلِكَ التَّعَاقُبُ وَالتَّلَاحُقُ مُسَمًّى بِالسَّرْدِ أَدْخَلُوا عَلَيْهِ الْمِيمَ الزَّائِدَةَ لِيُفِيدَ الْمُبَالَغَةَ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْأَصْلُ فِي لَفْظِ السَّرْمَدِ أَنْ لَا يَقَعَ إِلَّا عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي تَحْدُثُ أَجْزَاؤُهُ بَعْضُهَا عَقِيبَ الْبَعْضِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالًا كَانَ إِطْلَاقُ لَفْظِ السَّرْمَدِيِّ عَلَيْهِ مَجَازًا، فَإِنْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أطلقناه وإلا فلا. المستمر: الِاسْمُ السَّادِسُ: الْمُسْتَمِرُّ، وَهَذَا بِنَاءُ الِاسْتِفْعَالِ، وَأَصْلُهُ الْمُرُورُ وَالذَّهَابُ، وَلَمَّا كَانَ بَقَاءُ الزَّمَانِ بِسَبَبِ مُرُورِ أَجْزَائِهِ بَعْضِهَا عَقِيبَ الْبَعْضِ لَا جَرَمَ أطلقوا المستمر، وإلا أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَصْدُقُ فِي حَقِّ الزَّمَانِ، أَمَّا فِي حَقِّ اللَّهِ فَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ بَاقٍ بِحَسَبِ ذَاتِهِ الْمُعَيَّنَةِ لَا بِحَسَبِ تَلَاحُقِ أَبْعَاضِهِ وَأَجْزَائِهِ. الِاسْمُ السَّابِعُ: الْمُمْتَدُّ وَسُمِّيَتِ الْمُدَّةُ مُدَّةً لِأَنَّهَا تَمْتَدُّ بِحَسَبِ تَلَاحُقِ أَجْزَائِهَا وَتَعَاقُبِ أَبْعَاضِهَا فَيَكُونُ قَوْلُنَا فِي الشَّيْءِ، إِنَّهُ امْتَدَّ وُجُودُهُ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الزَّمَانِ وَالزَّمَانِيَّاتِ، أَمَّا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَى الْمَجَازِ.

اسمه تعالى الباقي: الِاسْمُ الثَّامِنُ: لَفْظُ الْبَاقِي، قَالَ تَعَالَى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرَّحْمَنِ: 27] وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ أَزَلِيًّا كَانَ بَاقِيًا وَلَا يَنْعَكِسُ، فَقَدْ يَكُونُ بَاقِيًا وَلَا يَكُونُ أَزَلِيًّا وَلَا أَبَدِيًّا كَمَا فِي الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ الْبَاقِيَةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَفْظُ الْبَاقِي يُفِيدُ الدَّوَامَ، وَعَلَى هذا ألا يَصِحُّ وَصْفُ الْأَجْسَامِ بِالْبَاقِي، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِإِطْبَاقِ أَهْلِ الْعُرْفِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ أبقاك الله. الدائم: الِاسْمُ التَّاسِعُ: الدَّائِمُ، قَالَ تَعَالَى: أُكُلُها دائِمٌ [الرَّعْدِ: 35] وَلَمَّا كَانَ أَحَقُّ الْأَشْيَاءِ بِالدَّوَامِ هُوَ الله كان الدائم هو الله. واجب الوجود: الِاسْمُ الْعَاشِرُ: قَوْلُنَا: «وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ» وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَاهِيَّتَهُ وَحَقِيقَتَهُ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِوُجُودِهِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُمْتَنِعَ الْعَدَمِ وَالْفَنَاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا، وَلَا يَنْعَكِسُ، فَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ أَزَلِيَّةٍ أَبَدِيَّةٍ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ كَوْنُهُ أَزَلِيًّا أَبَدِيًّا بِسَبَبِ كَوْنِ عِلَّتِهِ كَذَلِكَ، فَهَذَا الشَّيْءُ يَكُونُ أَزَلِيًّا أَبَدِيًّا مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَقَوْلُهُمْ بِالْفَارِسِيَّةِ «خَدَايُ» مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ لِأَنَّ قَوْلَنَا: «خَدَايُ» كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ لَفْظَتَيْنِ فِي الْفَارِسِيَّةِ: إِحْدَاهُمَا: خَوَدَ، وَمَعْنَاهُ ذَاتُ الشَّيْءِ وَنَفْسُهُ وَحَقِيقَتُهُ وَالثَّانِيَةُ قَوْلُنَا: «آيُ» وَمَعْنَاهُ جَاءَ، فَقَوْلُنَا: «خَدَايُ» مَعْنَاهُ أَنَّهُ بِنَفْسِهِ جَاءَ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ بِنَفْسِهِ وَذَاتِهِ جَاءَ إِلَى الْوُجُودِ لَا بِغَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَيَصِيرُ تَفْسِيرُ قَوْلِهِمْ: «خَدَايُ» أَنَّهُ لِذَاتِهِ كان موجودا. الكائن: الِاسْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ: الْكَائِنُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ كَثِيرُ الْوُرُودِ فِي الْقُرْآنِ بِحَسَبِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً [الْكَهْفِ: 45] وَقَالَ إِنَّ اللَّهَ: كانَ عَلِيماً حَكِيماً [النِّسَاءِ: 24] وَأَمَّا وُرُودُ هَذَا اللَّفْظِ بِحَسَبِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ غَيْرُ وَارِدٍ فِي الْقُرْآنِ، لَكِنَّهُ وَارِدٌ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ، رُوِيَ فِي الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا كَائِنًا قَبْلَ كُلِّ كَوْنٍ، وَيَا حَاضِرًا مَعَ كُلِّ كَوْنٍ، وَيَا بَاقِيًا بَعْدَ انْقِضَاءِ كُلِّ كَوْنٍ» أَوْ لَفْظٌ يَقْرُبُ مَعْنَاهُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَيُنَاسِبُهُ من بعض الوجوه واعلم أن هاهنا بَحْثًا لَطِيفًا نَحْوِيًّا: وَذَلِكَ أَنَّ النَّحْوِيِّينَ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ لَفْظَ «كَانَ» عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِي يَكُونُ تَامًّا، وَهُوَ بِمَعْنَى حَدَثَ وَوُجِدَ وَحَصَلَ، قَالَ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آلِ عِمْرَانَ: 110] أَيْ حَدَثْتُمْ وَوُجِدْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ. وَالثَّانِي: الَّذِي يَكُونُ نَاقِصًا كَقَوْلِكَ «كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» ، فَإِنَّ لَفْظَ كَانَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَرْفُوعٍ وَمَنْصُوبٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَانَ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فِعْلٌ، إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: أَنَّهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِعْلٌ تَامٌّ، وَعَلَى الثَّانِي فِعْلٌ نَاقِصٌ، فَقُلْتُ لِلْقَوْمِ: لَوْ كَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِعْلًا لَكَانَ دَالًّا عَلَى حُصُولِ حَدَثٍ فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ/ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكُنَّا إِذَا أَسْنَدْنَاهُ إِلَى اسْمٍ وَاحِدٍ لَكَانَ حِينَئِذٍ قَدْ دَلَّ عَلَى حُصُولِ حَدَثٍ لِذَلِكَ الشَّيْءِ، وَحِينَئِذٍ يَتِمُّ الْكَلَامُ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ

الْمَنْصُوبِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ فِعْلًا تَامًّا. فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ النَّاقِصَةِ فعل يُوجِبُ كَوْنَهَا تَامَّةً غَيْرَ نَاقِصَةٍ، وَمَا أَفْضَى ثوبته إِلَى نَفْيِهِ كَانَ بَاطِلًا، فَكَانَ الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ نَاقِصَةٌ كَلَامًا بَاطِلًا، وَلَمَّا أَوْرَدْتُ هَذَا السُّؤَالَ عَلَيْهِمْ بَقِيَ الْأَذْكِيَاءُ مِنَ النَّحْوِيِّينَ وَالْفُضَلَاءُ مِنْهُمْ مُتَحَيِّرِينَ فِيهِ زَمَانًا طَوِيلًا، وَمَا أَفْلَحُوا فِي الْجَوَابِ، ثُمَّ لَمَّا تَأَمَّلْتُ فِيهِ وَجَدْتُ الْجَوَابَ الْحَقِيقِيَّ الَّذِي يُزِيلُ الشُّبْهَةَ، وَتَقْرِيرُهُ أَنْ نَقُولَ: لَفْظُ «كَانَ» لَا يُفِيدُ إِلَّا الْحُدُوثَ وَالْحُصُولَ وَالْوُجُودَ، إِلَّا أَنَّ هَذَا عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُ مَا يُفِيدُ حُدُوثَ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ، وَمِنْهُ مَا يُفِيدُ مَوْصُوفِيَّةَ شَيْءٍ بِشَيْءٍ آخَرَ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَإِنَّ لَفْظَ «كَانَ» يَتِمُّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ قَدْ حَدَثَ وَحَصَلَ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَإِنَّهُ لَا تَتِمُّ فَائِدَتُهُ إِلَّا بِذِكْرِ الِاسْمَيْنِ، فَإِنَّهُ إِذَا ذُكِرَ كَانَ مَعْنَاهُ حُصُولَ مَوْصُوفِيَّةِ زَيْدٍ بِالْعِلْمِ وَلَا يُمْكِنُ ذِكْرُ مَوْصُوفِيَّةِ هَذَا بِذَاكَ إِلَّا عِنْدَ ذِكْرِهِمَا جَمِيعًا، فَلَا جَرَمَ لَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ إِلَّا بِذِكْرِهِمَا، فَقَوْلُنَا: «كَانَ زَيْدٌ عَالِمًا» ، مَعْنَاهُ أَنَّهُ حَدَثَ وَحَصَلَ مَوْصُوفِيَّةُ زَيْدٍ بِالْعِلْمِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ لَفْظَ الْكَوْنِ يُفِيدُ الْحُصُولَ وَالْوُجُودَ فَقَطْ، إِلَّا أَنَّهُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ يَكْفِيهِ إِسْنَادُهُ إِلَى اسْمٍ وَاحِدٍ، وَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي: لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الِاسْمَيْنِ، وَهَذَا مِنَ اللَّطَائِفِ النَّفِيسَةِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْكَائِنِ وَالْمَوْجُودِ فَوَجَبَ جَوَازُ إِطْلَاقِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مِنْ أَقْسَامِ الصِّفَاتِ الحقيقية: -[المسألة الأولى] الصفة المغايرة للوجود مذهب نفاة الصفات: الصِّفَةُ الَّتِي تَكُونُ مُغَايِرَةً لِلْوُجُودِ وَلِكَيْفِيَّاتِ الْوُجُودِ. اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَحْثَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ هل يجوز قيام هذه الصفات ذات اللَّهِ تَعَالَى؟ فَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْفَلَاسِفَةُ يُنْكِرُونَهُ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً لِذَاتِهَا أَوْ مُمْكِنَةً لِذَاتِهَا، وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ، فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِالصِّفَاتِ، وَإِنَّمَا قلنا أنه يَمْتَنِعَ كَوْنُهَا وَاجِبَةً لِذَاتِهَا لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْحِكْمَةِ أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا وَاحِدًا. الثَّانِي: أَنَّ الْوَاجِبَ لِذَاتِهِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ غَنِيًّا عَمَّا سِوَاهُ، وَالصِّفَةُ هِيَ الَّتِي تَكُونُ مُفْتَقِرَةً إِلَى الْمَوْصُوفِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْوُجُوبِ الذَّاتِيِّ وَبَيْنَ كَوْنِهِ صِفَةً لِلْغَيْرِ مُحَالٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُمْكِنَ لِذَاتِهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ، وَسَبَبُهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ذَاتِ اللَّهِ، لِأَنَّ/ تِلْكَ الذَّاتَ لَمَّا امْتَنَعَ خُلُوُّهَا عَنْ تِلْكَ الصِّفَةِ، وَتِلْكَ الصِّفَةُ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى الْغَيْرِ لَزِمَ كَوْنُ تِلْكَ الذَّاتِ مُفْتَقِرَةً إِلَى الْغَيْرِ. وَمَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ لِذَاتِهِ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ ذَاتَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهَا قَابِلَةٌ لِتِلْكَ الصِّفَةِ فَلَوْ كَانَتْ مُؤَثِّرَةً فِيهَا لَزِمَ كَوْنُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَاعِلًا وَقَابِلًا مَعًا، وَهُوَ مُحَالٌ، لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا أَثَرٌ وَاحِدٌ، وَالْفِعْلُ وَالْقَبُولُ أَثَرَانِ مُخْتَلِفَانِ: الثَّانِي: أَنَّ الْأَثَرَ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، فَافْتِقَارُهُ إِلَيْهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ حُدُوثِهِ، أَوْ حَالَ حُدُوثِهِ، أَوْ حَالَ عَدَمِهِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ. وَإِلَّا لَكَانَ تَأْثِيرُ ذَلِكَ الْمُؤَثِّرِ فِي إِيجَادِهِ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ، وَهُوَ مُحَالٌ، فَبَقِيَ الْقِسْمَانِ الْأَخِيرَانِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلَّمَا كَانَ الشَّيْءُ أَثَرًا لِغَيْرِهِ كَانَ حَادِثًا، فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَكُونُ حَادِثًا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ أَثَرًا لِلْغَيْرِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالصِّفَاتِ بَاطِلٌ.

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ: قَالُوا: إِنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ قَدِيمَةً أَوْ حَادِثَةً وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْقِدَمَ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَلَوْ كَانَتِ الصِّفَاتُ قَدِيمَةً لَكَانَتِ الذَّاتُ مُسَاوِيَةً لِلصِّفَاتِ فِي الْقِدَمِ، وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخَالِفًا لِلْآخَرِ بِخُصُوصِيَّةِ مَاهِيَّتِهِ الْمُعَيَّنَةِ وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُخَالَفَةُ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْقَدِيمَةِ مُرَكَّبًا مِنْ جُزْأَيْنِ ثُمَّ نَقُولُ: وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ذَيْنِكَ الْجُزْأَيْنِ قَدِيمًا لِأَنَّ جُزْءَ مَاهِيَّةِ الْقَدِيمِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذَانِكَ الْجُزْآنِ يَتَشَارَكَانِ فِي الْقِدَمِ وَيَخْتَلِفَانِ بِالْخُصُوصِيَّةِ، فَيَلْزَمُ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَكَّبًا مِنْ جُزْأَيْنِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةُ الذَّاتِ وَحَقِيقَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ مُرَكَّبَةً مِنْ أَجْزَاءٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ يَمْتَنِعُ كَوْنُ تِلْكَ الصِّفَاتِ حَادِثَةً لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قِيَامَ الْحَوَادِثِ بِذَاتِ اللَّهِ مُحَالٌ، لِأَنَّ تِلْكَ الذَّاتَ إِنْ كَانَتْ كَافِيَةً فِي وُجُودِ تِلْكَ الصِّفَةِ أَوْ دَوَامِ عَدَمِهَا لَزِمَ دَوَامُ وُجُودِ تِلْكَ الصِّفَةِ أَوْ دَوَامُ عَدَمِهَا بِدَوَامِ تِلْكَ الذَّاتِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَافِيَةً فِيهِ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ تِلْكَ الذَّاتُ وَاجِبَةَ الِاتِّصَافِ بِوُجُودِ تِلْكَ الصِّفَةِ أَوْ عَدَمِهَا، وَذَلِكَ الْوُجُودُ وَالْعَدَمُ يَكُونَانِ مَوْقُوفَيْنِ عَلَى شَيْءٍ مُنْفَصِلٍ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَى الْغَيْرِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْغَيْرِ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْغَيْرِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، يَنْتِجُ أَنَّ الْوَاجِبَ لِذَاتِهِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَاتَهُ لَوْ كَانَتْ قَابِلَةً لِلْحَوَادِثِ لَكَانَتْ قَابِلِيَّةُ تِلْكَ الْحَوَادِثِ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ كَوْنُ تِلْكَ الْقَابِلِيَّةِ أَزَلِيَّةً لِأَجْلِ كَوْنِ تِلْكَ الذَّاتِ أَزَلِيَّةً، لَكِنْ يَمْتَنِعُ كَوْنُ قَابِلِيَّةِ الْحَوَادِثِ أَزَلِيَّةً، لِأَنَّ قَابِلِيَّةَ الْحَوَادِثِ مَشْرُوطٌ بِإِمْكَانِ وُجُودِ الْحَوَادِثِ، وَإِمْكَانُ وُجُودِ الْحَوَادِثِ فِي الْأَزَلِ مُحَالٌ، فَكَانَ وُجُودُ/ قَابِلِيَّتِهَا فِي الْأَزَلِ مُحَالًا. الثَّالِثُ: أَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ لَمَّا كَانَتْ حَادِثَةً الإله الموصوف بصفات الإلهية مَوْجُودًا قَبْلَ حُدُوثِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ هَذِهِ الصِّفَاتُ مُسْتَغْنًى عَنْهَا فِي ثُبُوتِ الْإِلَهِيَّةِ، فَوَجَبَ نَفْيُهَا، فَثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَادِثَةً أَوْ قَدِيمَةً، وَثَبَتَ فَسَادُهُمَا فَثَبَتَ امْتِنَاعُ وُجُودِ الصِّفَةِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ تَتِمُّ الْإِلَهِيَّةُ بِدُونِهَا أَوْ لَا تَتِمُّ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ وُجُودُهَا فَضْلًا زَائِدًا، فَوَجَبَ نَفْيُهَا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَانَ الْإِلَهُ مُفْتَقِرًا فِي تَحْصِيلِ صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَالْمُحْتَاجُ لَا يَكُونُ إِلَهًا. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: ذَاتُهُ تَعَالَى إِمَّا أَنْ تَكُونَ كَامِلَةً فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْمَدَائِحِ وَالْكَمَالَاتِ، وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَانَتْ تِلْكَ الذَّاتُ نَاقِصَةً فِي ذَاتِهَا مُسْتَكْمِلَةً بِغَيْرِهَا، وَهَذِهِ الذَّاتُ لَا يَلِيقُ بِهَا صِفَةُ الْإِلَهِيَّةِ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: لَمَّا كَانَ الْإِلَهُ هُوَ مَجْمُوعُ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْإِلَهُ مُجَزَّأً مُبَعَّضًا مُنْقَسِمًا، وَذَلِكَ بَعِيدٌ عَنِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ مُمْكِنٌ لَا وَاجِبٌ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَفَّرَ النَّصَارَى فِي التَّثْلِيثِ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا بِإِثْبَاتِ ذَوَاتٍ ثَلَاثَةٍ، أَوْ لِأَنَّهُمْ قَالُوا بِالذَّاتِ مَعَ الصِّفَاتِ، وَالْأَوَّلُ لَا يَقُولُهُ النَّصَارَى، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ كَفَّرَهُمْ بِسَبَبِ مَقَالَةٍ هُمْ لَا يَقُولُونَ بِهَا، فَبَقِيَ الثَّانِي، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِالصِّفَاتِ كُفْرًا. فَهَذِهِ الْوُجُوهُ يَتَمَسَّكُ بِهَا نُفَاةُ الصِّفَاتِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فعلى هذا التقدير يمتنع أن يحصل الله تَعَالَى اسْمٌ بِسَبَبِ قِيَامِ الصِّفَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بِهِ.

دلائل مثبتي الصفات: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي دَلَائِلِ مُثْبِتِي الْقَوْلِ بِالصِّفَاتِ: اعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا قَادِرًا حَيًّا، فَنَقُولُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ نَفْسَ تِلْكَ الذَّاتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّا نُدْرِكُ تَفْرِقَةً ضَرُورِيَّةً بَدِيهِيَّةً بَيْنَ قَوْلِنَا: ذَاتُ اللَّهِ ذَاتٌ، وَبَيْنَ قَوْلِنَا: ذَاتُ اللَّهِ عَالِمَةٌ قَادِرَةٌ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ عَالِمًا قَادِرًا لَيْسَ نَفْسَ تِلْكَ الذَّاتِ. الثَّانِي: أَنَّهُ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مَوْجُودًا مَعَ الذُّهُولِ عَنْ كَوْنِهِ قَادِرًا وَعَالِمًا، وَكَذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ كَوْنُهُ قَادِرًا مَعَ الذُّهُولِ عَنْ كَوْنِهِ عَالِمًا، وَبِالْعَكْسِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ عَالِمًا قَادِرًا لَيْسَ نَفْسَ تِلْكَ الذَّاتِ، الثَّالِثُ: أَنَّ كَوْنَهُ عَالِمًا عَامُّ التَّعَلُّقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَاجِبِ وَالْمُمْتَنِعِ وَالْمُمْكِنِ، وَكَوْنُهُ قَادِرًا لَيْسَ عَامَّ التَّعَلُّقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، بَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْجَائِزِ فَقَطْ، وَلَوْلَا/ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَبَيْنَ الْقُدْرَةِ وَإِلَّا لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، الرَّابِعُ: أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى قَادِرًا يُؤَثِّرُ فِي وُجُودِ الْمَقْدُورِ، وَكَوْنُهُ عَالِمًا لَا يُؤَثِّرُ، وَلَوْلَا الْمُغَايَرَةُ وَإِلَّا لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، الْخَامِسُ: أَنَّ قَوْلَنَا: مَوْجُودٌ، يُنَاقِضُهُ قَوْلُنَا: لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلَا يُنَاقِضُهُ قَوْلُنَا: لَيْسَ بِعَالِمٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ بِقَوْلِنَا: لَيْسَ بِمَوْجُودٍ مُغَايِرٌ لِلْمَنْفِيِّ بِقَوْلِنَا: لَيْسَ بِعَالِمٍ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي كَوْنِهِ قَادِرًا. فَهَذِهِ دَلَائِلُ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِقْرَارِ بِوُجُودِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى، إِلَّا أَنَّهُ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّفَاتُ صِفَاتٍ نِسْبِيَّةً وَإِضَافِيَّةً فَالْمَعْنَى مِنْ «كَوْنِهِ قَادِرًا» كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَصِحُّ مِنْهُ الْإِيجَادُ، وَتِلْكَ الصِّحَّةُ مُعَلَّلَةٌ بِذَاتِهِ، وَ «كَوْنُهُ عَالِمًا» مَعْنَاهُ الشُّعُورُ وَالْإِدْرَاكُ، وَذَلِكَ حَالَةٌ نِسْبِيَّةٌ إِضَافِيَّةٌ، وَتِلْكَ النِّسْبِيَّةُ الْحَاصِلَةُ مُعَلَّلَةٌ بِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ، وَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّا إِذَا قُلْنَا بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ فَنَقُولُ: الصِّفَةُ الْحَقِيقِيَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ صِفَةً يَلْزَمُهَا حُصُولُ النِّسْبَةِ وَالْإِضَافَةِ، وَهِيَ مِثْلُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، فَإِنَّ العلم صفة يلزمها كونها متعلقة بالمعلوم، وَالْقُدْرَةَ صِفَةٌ يَلْزَمُهَا صِحَّةُ تَعَلُّقِهَا بِإِيجَادِ الْمَقْدُورِ، فَهَذِهِ الصِّفَاتُ وَإِنْ كَانَتْ حَقِيقِيَّةً إِلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُهَا لَوَازِمُ مِنْ بَابِ النِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ. أَمَّا الصِّفَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الْعَارِيَةُ عَنِ النِّسْبَةِ وَالْإِضَافَةِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَيْسَتْ إِلَّا صِفَةَ الْحَيَاةِ فَلْنَبْحَثْ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ فَنَقُولُ: قَالَتِ الْفَلَاسِفَةُ: الحي هو الدارك الْفَعَّالُ، إِلَّا أَنَّ الدِّرَاكِيَّةَ صِفَةٌ نِسْبِيَّةٌ وَالْفَعَّالِيَّةَ أَيْضًا كَذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ لَا تَكُونُ الْحَيَاةُ صِفَةً مُغَايِرَةً لِلْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ إِنَّهَا صِفَةٌ بِاعْتِبَارِهَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا قَادِرًا، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ الذَّوَاتِ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الذَّاتِيَّةِ وَمُخْتَلِفَةٌ فِي هَذِهِ الصِّحَّةِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ تِلْكَ الذَّوَاتُ مُخْتَلِفَةً فِي قَبُولِ صِفَةِ الْحَيَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً لِأَجْلِ صِفَةٍ زَائِدَةٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ: قَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ ذَاتَ اللَّهِ تَعَالَى مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ الذَّوَاتِ لِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ، فَسَقَطَ هَذَا الدَّلِيلُ، وَأَيْضًا الذوات مختلفة في قبول صفة الحياة، فوجب أَنْ يَكُونَ صِحَّةُ قَبُولِ الْحَيَاةِ لِصِفَةٍ أُخْرَى، وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَلَا جَوَابَ عَنْهُ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ تِلْكَ الصِّحَّةَ مِنْ لَوَازِمِ الذَّاتِ الْمَخْصُوصَةِ فَاذْكُرُوا هَذَا الْكَلَامَ فِي صِحَّةِ الْعَالِمِيَّةِ، وَقَالَ قَوْمٌ ثَالِثٌ: مَعْنَى كَوْنِهِ حَيًّا أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقْدِرَ وَيَعْلَمَ، فَهَذَا عِبَارَةٌ عَنْ نَفْيِ الِامْتِنَاعِ، وَلَكِنَّ الِامْتِنَاعَ عَدَمٌ، فَنَفْيُهُ يَكُونُ عَدَمًا لِلْعَدَمِ، فَيَكُونُ ثُبُوتًا، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الثُّبُوتُ هُوَ تِلْكَ الذَّاتُ الْمَخْصُوصَةُ؟ فَإِنْ قَالُوا: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّا نَعْقِلُ تِلْكَ الذَّاتَ مَعَ الشَّكِّ فِي كَوْنِهَا حَيَّةً، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَوْنُهَا حَيَّةً

الباب الخامس في الأسماء الدالة على الصفات الإضافية

مُغَايِرًا/ لِتِلْكَ الذَّاتِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: قَدْ دَلَّلْنَا على أنا لَا نَعْقِلَ ذَاتَ اللَّهِ تَعَالَى تَعَقُّلًا ذَاتِيًّا، وَإِنَّمَا نَتَعَقَّلُ تِلْكَ الذَّاتَ تَعَقُّلًا عَرَضِيًّا، وَعِنْدَ هَذَا يَسْقُطُ هَذَا الدَّلِيلُ، فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ في هذا الباب. اسمه تعالى الحي: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَفْظُ الْحَيِّ وَارِدٌ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [الْبَقَرَةِ: 255] وَقَالَ: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه: 111] وَقَالَ: هُوَ الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غافر: 65] فإن قيل: الحي معناه الدارك الْفَعَّالُ أَوِ الَّذِي لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْلَمَ وَيَقْدِرَ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ عَظِيمٌ، فَمَا السَّبَبُ فِي أَنَّ ذِكْرَهُ اللَّهَ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ الْعَظِيمِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّمَدُّحَ لَمْ يَحْصُلْ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ حَيًّا، بَلْ بِمَجْمُوعِ كَوْنِهِ حَيًّا قَيُّومًا. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَيُّومَ هُوَ الْقَائِمُ بِإِصْلَاحِ حَالِ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْعِلْمِ التَّامِّ وَالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ، وَالْحَيُّ هُوَ الدَّرَّاكُ الْفَعَّالُ، فَقَوْلُهُ: «الْحَيُّ» يَعْنِي كَوْنَهُ دَرَّاكًا فَعَّالًا، وَقَوْلُهُ: «الْقَيُّومُ» يَعْنِي كَوْنَهُ دَرَّاكًا لِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ فَعَّالًا لِجَمِيعِ الْمُحْدَثَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ، فَحَصَلَ الْمَدْحُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الْبَابُ الْخَامِسُ في الأسماء الدالة على الصفات الإضافية الاسم الدال عَلَى الصِّفَاتِ الْإِضَافِيَّةِ: اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِمُقَدِّمَةٍ عَقْلِيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ التَّكْوِينَ هَلْ هُوَ نَفْسُ الْمُكَوِّنِ أَمْ لَا؟ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ: التَّكْوِينُ نَفْسُ الْمُكَوِّنِ، وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّهُ غَيْرُهُ، وَاحْتَجَّ النفاة بوجوده: - الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الصِّفَةَ الْمُسَمَّاةَ بِالتَّكْوِينِ إِمَّا أَنْ تُؤَثِّرَ عَلَى سَبِيلِ الصِّحَّةِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَتِلْكَ الصِّفَةُ هِيَ الْقُدْرَةُ لَا غَيْرَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَزِمَ كَوْنُهُ تَعَالَى مُوجِبًا بِالذَّاتِ لَا فَاعِلًا بِالِاخْتِيَارِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ الْمُسَمَّاةَ بِالتَّكْوِينِ إِنْ كَانَتْ قَدِيمَةً لَزِمَ مِنْ قِدَمِهَا قدم الْآثَارُ وَإِنْ كَانَتْ مُحْدَثَةً افْتَقَرَ تَكْوِينُهَا، إِلَى تَكْوِينٍ آخَرَ وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الصِّفَةَ الْمُسَمَّاةَ بِالْقُدْرَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا صَلَاحِيَةُ التَّأْثِيرِ عِنْدَ حُصُولِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ أَوْ لَيْسَ لَهَا هَذِهِ الصَّلَاحِيَةُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْقُدْرَةُ كَافِيَةً فِي خُرُوجِ الْأَثَرِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فلا حجة إِلَى إِثْبَاتِ صِفَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَحِينَئِذٍ الْقُدْرَةُ لَا تَكُونُ لَهَا صَلَاحِيَةُ التَّأْثِيرِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ الْقُدْرَةُ قُدْرَةً، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّنَاقُضَ. / وَاحْتَجَّ مُثْبِتُو قِدَمِ الصِّفَةِ بِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْفِعْلِ قَدْ يُوجِدُهُ وَقَدْ لَا يُوجِدُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ أَلْفِ شَمْسٍ وَقَمَرٍ عَلَى هَذِهِ السَّمَاءِ إِلَّا أَنَّهُ مَا أَوْجَدَهُ، وَصِحَّةُ هَذَا النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْقُولَ مِنْ كَوْنِهِ مُوجِدًا مُغَايِرٌ لِلْمَعْقُولِ مَنْ كَوْنِهِ قَادِرًا، ثُمَّ نَقُولُ: كَوْنُهُ مُوجِدًا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ دُخُولَ الْأَثَرِ فِي الْوُجُودِ أَوْ يَكُونَ أَمْرًا زَائِدًا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّا نُعَلِّلُ دُخُولَ هَذَا الْأَثَرِ فِي الْوُجُودِ بِكَوْنِ الْفَاعِلِ مُوجِدًا لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا

قِيلَ: لِمَ وُجِدَ الْعَالَمُ؟ قُلْنَا: لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَدَهُ، فَلَوْ كَانَ كَوْنُ الْمُوجَدِ مُوجَدًا لَهُ مَعْنَاهُ نَفْسُ هَذَا الْأَثَرِ لَكَانَ تَعْلِيلُ وُجُودِ الْأَثَرِ بِالْمُوجِدِيَّةِ يَقْتَضِي تَعْلِيلَ وُجُودِهِ نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ مُعَلَّلًا بِنَفْسِهِ لَامْتَنَعَ إِسْنَادُهُ إِلَى الْغَيْرِ، فَثَبَتَ أَنَّ تَعْلِيلَ الْمُوجِدِيَّةِ بِوُجُودِ الْأَثَرِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُوجِدِيَّةِ، وَمَا أَفْضَى ثُبُوتُهُ إِلَى نَفْيِهِ كَانَ بَاطِلًا، فَثَبَتَ أَنَّ تَعْلِيلَ الْمُوجِدِيَّةِ بِوُجُودِ الْأَثَرِ كَلَامٌ بَاطِلٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَوْنُ الْمُوجَدِ مُوجَدًا أَمْرًا مُغَايِرًا لِكَوْنِ الْفَاعِلِ قَادِرًا لِوُجُودِ الْأَثَرِ، فَثَبَتَ أَنَّ التَّكْوِينَ غَيْرُ الْمُكَوِّنِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فَنَقُولُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ التَّكْوِينَ نَفْسُ الْمُكَوِّنِ قَالُوا: مَعْنَى كَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقًا رَازِقًا مُحْيِيًا مُمِيتًا ضَارًّا نَافِعًا عِبَارَةٌ عَنْ نِسْبَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَإِضَافَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهِيَ تَأْثِيرُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حُصُولِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ التَّكْوِينَ غَيْرُ الْمُكَوِّنِ، فَقَالُوا مَعْنَى كَوْنِهِ خَالِقًا رَازِقًا لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الصِّفَةِ الْإِضَافِيَّةِ فَقَطْ، بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ صِفَةٍ حَقِيقِيَّةٍ مَوْصُوفَةٍ بِصِفَةٍ إِضَافِيَّةٍ. اعْلَمْ أَنَّ الصِّفَاتِ الْإِضَافِيَّةَ عَلَى أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: كَوْنُهُ مَعْلُومًا مَذْكُورًا مُسَبَّحًا مُمَجَّدًا، فَيُقَالُ: يَا أَيُّهَا الْمُسَبَّحُ بِكُلِّ لِسَانٍ، يَا أَيُّهَا الْمَمْدُوحُ عِنْدَ كُلِّ إِنْسَانٍ، يَا أَيُّهَا الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَوَانٍ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْإِضَافَاتِ غَيْرَ مُتَنَاهٍ كَانَتِ الْأَسْمَاءُ الْمُمْكِنَةُ لِلَّهِ بِحَسَبِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الصِّفَاتِ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ. وَثَانِيهَا: كَوْنُهُ تَعَالَى فَاعِلًا لِلْأَفْعَالِ صِفَةٌ إِضَافِيَّةٌ مَحْضَةٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَكْوِينَ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ بِصِفَةٍ زَائِدَةٍ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالْمُخْبَرُ عَنْهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ مُوجِدًا، أَوِ الْمَخْبَرُ عَنْهُ كَوْنُهُ مُوجِدًا لِلنَّوْعِ الْفُلَانِيِّ لِأَجْلِ الْحِكْمَةِ الْفُلَانِيَّةِ، أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: - وَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مُجَرَّدِ كَوْنِهِ مُوجِدًا- فَهَهُنَا أَلْفَاظٌ تَقْرُبُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُتَرَادِفَةً مِثْلَ: الْمُوجِدِ، وَالْمُحْدِثِ، وَالْمُكَوِّنِ، وَالْمُنْشِئِ، وَالْمُبْدِعِ، وَالْمُخْتَرِعِ، وَالصَّانِعِ، وَالْخَالِقِ، وَالْفَاطِرِ، وَالْبَارِئِ، فَهَذِهِ أَلْفَاظٌ عَشَرَةٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْفَرْقُ حَاصِلٌ: أَمَّا الِاسْمُ الْأَوَّلُ: - وَهُوَ الْمُوجِدُ- فَمَعْنَاهُ الْمُؤَثِّرُ فِي الْوُجُودِ، وَأَمَّا الْمُحْدِثُ فَمَعْنَاهُ الَّذِي جَعَلَهُ مَوْجُودًا/ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَعْدُومًا، وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْإِيجَادِ، وَأَمَّا الْمُكَوِّنُ فَيَقْرُبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادِفًا للموجود، وَأَمَّا الْمُنْشِئُ فَاشْتِقَاقُهُ مِنَ النُّشُوءِ وَالنَّمَاءِ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ قَلِيلًا قَلِيلًا عَلَى التَّدْرِيجِ، وَأَمَّا الْمُبْدِعُ فَهُوَ الَّذِي يَكُونُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَهُمَا كَنَوْعَيْنِ تَحْتَ جِنْسِ الْمُوجِدِ. وَالْمُخْتَرِعُ قَرِيبٌ مِنَ الْمُبْدِعِ، وَأَمَّا الصَّانِعُ فَيَقْرُبُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِمَنْ يَأْتِي بِالْفِعْلِ عَلَى سَبِيلِ التَّكَلُّفِ، وَأَمَّا الْخَالِقُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ، وَهُوَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى يَرْجِعُ إِلَى الْعِلْمِ، وَأَمَّا الْفَاطِرُ فَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْفَطْرِ وَهُوَ الشَّقُّ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ هُوَ الْإِحْدَاثَ دَفْعَةً، وَأَمَّا الْبَارِئُ فَهُوَ الَّذِي يُحْدِثُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُوَافِقِ لِلْمَصْلَحَةِ، يُقَالُ: بَرَى الْقَلَمَ إِذَا أَصْلَحَهُ وَجَعَلَهُ مُوَافِقًا لِغَرَضٍ مُعَيَّنٍ، فَهَذَا بَيَانُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهِ مُوجِدًا عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ، أَمَّا الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى إِيجَادِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَتَكَادُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، وَيَجِبُ أَنْ نَذْكُرَ فِي هَذَا الْبَابِ أَمْثِلَةً فَالْمِثَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا خَلَقَ النَّافِعَ سُمِّيَ نَافِعًا، وَإِذَا خَلَقَ الْمُؤْلِمَ سُمِّيَ ضَارًّا، وَالْمِثَالُ الثَّانِي: إِذَا خَلَقَ الْحَيَاةَ سُمِّيَ مُحْيِيًا، وَإِذَا خَلَقَ الْمَوْتَ سُمِّيَ مُمِيتًا، وَالْمِثَالُ الثَّالِثُ: إِذَا خَصَّهُمْ بِالْإِكْرَامِ سُمِّيَ بَرًّا لَطِيفًا، وَإِذَا خَصَّهُمْ بِالْقَهْرِ سُمِّيَ قَهَّارًا جَبَّارًا، وَالْمِثَالُ الرَّابِعُ: إِذَا قَلَّلَ الْعَطَاءَ سُمِّيَ قَابِضًا، وَإِذَا أَكْثَرَهُ سُمِّيَ بَاسِطًا، وَالْمِثَالُ الْخَامِسُ: إِنْ جَارَى ذَوِي الذُّنُوبِ بِالْعِقَابِ سُمِّيَ مُنْتَقِمًا وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ الْجَزَاءَ سُمِّيَ عَفُوًّا غَفُورًا رَحِيمًا رَحْمَانًا، الْمِثَالُ السَّادِسُ: إِنْ حَصَلَ الْمَنْعُ وَالْإِعْطَاءُ فِي الْأَمْوَالِ سُمِّيَ قَابِضًا بَاسِطًا، وَإِنْ حَصَلَا فِي الْجَاهِ وَالْحِشْمَةِ سُمِّيَ خَافِضًا رافعا.

الباب السادس في الأسماء الواقعة بحسب الصفات السلبية

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ أَقْسَامَ مَقْدُورَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَسَبِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَجْنَاسِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، فَلَا جَرَمَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ لِلَّهِ تَعَالَى أَسْمَاءٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ بِحَسَبِ هَذَا الِاعْتِبَارِ. وَإِذَا عرفت هذا فنقول: هاهنا دَقَائِقُ لَا بُدَّ مِنْهَا: فَالدَّقِيقَةُ الْأُولَى: أَنَّ مُقَابِلَ الشَّيْءِ تَارَةً يَكُونُ ضِدَّهُ وَتَارَةً يَكُونُ عَدَمَهُ، فَقَوْلُنَا: «الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ» وَقَوْلُنَا: «الْمُحْيِي الْمُمِيتُ» يَتَقَابَلَانِ تَقَابُلَ الضِّدَّيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُنَا: «الْقَابِضُ الْبَاسِطُ، الْخَافِضُ الرَّافِعُ» فَيَقْرُبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَقَابُلُهُمَا تَقَابُلَ الْعَدَمِ وَالْوُجُودِ، لِأَنَّ الْقَبْضَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ لَا يُعْطِيَهُ الْمَالَ الْكَثِيرَ، وَالْخَفْضَ عِبَارَةٌ أَنْ لَا يُعْطِيَهُ الْجَاهَ الْكَبِيرَ، أَمَّا الْإِعْزَازُ وَالْإِذْلَالُ فَهُمَا مُتَضَادَّانِ، لِأَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ لَا يُعِزَّهُ وَبَيْنَ أَنْ يُذِلَّهُ وَالدَّقِيقَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ قَدْ تَكُونُ الْأَلْفَاظُ تَقْرُبُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُتَرَادِفَةً وَلَكِنَّ التَّأَمُّلَ التَّامَّ يَدُلُّ عَلَى الفرق اللطيف، وله أمثلة: المثال الأول: الرءوف الرَّحِيمُ، يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْبَابِ إِلَّا أَنَّ الرءوف أَمْيَلُ إِلَى جَانِبِ إِيصَالِ النَّفْعِ، وَالرَّحِيمَ أَمْيَلُ إِلَى جَانِبِ دَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْمِثَالُ الثَّانِي: الْفَاتِحُ، وَالْفَتَّاحُ، وَالنَّافِعُ وَالنَّفَّاعُ، وَالْوَاهِبُ وَالْوَهَّابُ، فَالْفَاتِحُ يُشْعِرُ بِإِحْدَاثِ سَبَبِ الْخَيْرِ، / وَالْوَاهِبُ يُشْعِرُ بِإِيصَالِ ذَلِكَ الْخَيْرِ إِلَيْهِ، وَالنَّافِعُ يُشْعِرُ بِإِيصَالِ ذَلِكَ النَّفْعِ إِلَيْهِ بِقَصْدِ أَنْ يَنْتَفِعَ ذَلِكَ الشَّخْصُ بِهِ، وَإِذَا وَقَفْتَ عَلَى هَذَا الْقَانُونِ الْمُعْتَبَرِ فِي هَذَا الْبَابِ أَمْكَنَكَ الْوُقُوفُ عَلَى حَقَائِقِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْأَسْمَاءِ. الْبَابُ السَّادِسُ فِي الْأَسْمَاءِ الْوَاقِعَةِ بِحَسَبِ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ مَمْلُوءٌ مِنْهُ، وَطَرِيقُ الضَّبْطِ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: ذَلِكَ السَّلْبُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الذَّاتِ، أَوْ إِلَى الصِّفَاتِ، أَوْ إِلَى الْأَفْعَالِ، أَمَّا السُّلُوبُ الْعَائِدَةُ إِلَى الذَّاتِ فَهِيَ قَوْلُنَا إِنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ كَذَا وَلَا كَذَا، كَقَوْلِنَا: إِنَّهُ لَيْسَ جَوْهَرًا وَلَا جِسْمًا وَلَا فِي الْمَكَانِ وَلَا فِي الْحَيِّزِ وَلَا حَالًّا وَلَا مُحِلًّا، وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ ذَاتَهُ مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ لِعَيْنِ ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ، لَكِنَّ أَنْوَاعَ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ الْمُغَايِرَةِ لِذَاتِهِ غير متناهية، فلا جرم يحصل هاهنا سُلُوبٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ [مُحَمَّدٍ: 38] وَقَوْلُهُ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ [الْأَنْعَامِ: 133] لِأَنَّ كَوْنَهُ غَنِيًّا أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ السَّلْبِيَّةِ إِلَى شَيْءٍ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُهُ: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الصمد: 3] وَأَمَّا السُّلُوبُ الْعَائِدَةُ إِلَى الصِّفَاتِ فَكُلُّ صِفَةٍ تَكُونُ مِنْ صِفَاتِ النَّقَائِصِ فَإِنَّهُ يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهَا، فَمِنْهَا مَا يَكُونُ مِنْ بَابِ أَضْدَادِ الْعِلْمِ وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مِنْ بَابِ أَضْدَادِ الْقُدْرَةِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مِنْ بَابِ أَضْدَادِ الِاسْتِغْنَاءِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مِنْ بَابِ أَضْدَادِ الْوَحْدَةِ: وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مِنْ بَابِ أَضْدَادِ الْعِلْمِ فَأَقْسَامٌ، أَحَدُهَا: نَفْيُ النَّوْمِ، قَالَ تَعَالَى: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [الْبَقَرَةِ: 255] وَثَانِيهَا: نَفْيُ النِّسْيَانِ، قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مَرْيَمَ: 64] وَثَالِثُهَا: نَفْيُ الْجَهْلِ قَالَ تَعَالَى: لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سَبَأٍ: 3] وَرَابِعُهَا: أَنَّ عِلْمَهُ بِبَعْضِ الْمَعْلُومَاتِ لَا يَمْنَعُهُ عَنِ الْعِلْمِ بِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ، وَأَمَّا السُّلُوبُ الْعَائِدَةُ إِلَى صِفَةِ الْقُدْرَةِ فَأَقْسَامٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُنَزَّهٌ فِي أَفْعَالِهِ عَنِ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ قَالَ تَعَالَى: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ [ق: 38] وثانيها: أنه لَا يَحْتَاجَ فِي فِعْلِهِ إِلَى الْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ وَتَقَدُّمِ الْمَادَّةِ وَالْمُدَّةِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ

نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ: 40] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ فِي قُدْرَتِهِ بَيْنَ فِعْلِ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ، قَالَ تَعَالَى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النَّحْلِ: 77] وَرَابِعُهَا: نَفْيُ انْتِهَاءِ الْقُدْرَةِ وَحُصُولِ الْفَقْرِ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آلِ عِمْرَانَ: 181] وَأَمَّا السُّلُوبُ الْعَائِدَةُ إِلَى صِفَةِ الِاسْتِغْنَاءِ فَكَقَوْلِهِ: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الْأَنْعَامِ: 24] / وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ [الْمُؤْمِنُونَ: 88] وَأَمَّا السُّلُوبُ الْعَائِدَةُ إِلَى صِفَةِ الْوَحْدَةِ- وَهُوَ مِثْلُ نَفْيِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ- فَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْهُ، وَأَمَّا السُّلُوبُ الْعَائِدَةُ إِلَى الْأَفْعَالِ- وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا- فَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْهُ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَخْلُقُ الْبَاطِلَ، قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص: 27] وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمُؤْمِنِينَ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا [آلِ عِمْرَانَ: 191] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَا يَخْلُقُ اللَّعِبَ، قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ، مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدخان: 38- 39] وَثَالِثُهَا: لَا يَخْلُقُ الْعَبَثَ، قَالَ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [الْمُؤْمِنُونَ: 115، 116] وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِالْكُفْرِ، قَالَ تَعَالَى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [الزُّمَرِ: 7] وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الظُّلْمَ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ [غَافِرٍ: 31] وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَةِ: 205] وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ جُرْمٍ، قَالَ تَعَالَى: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ [النِّسَاءِ: 147] وَثَامِنُهَا: أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِطَاعَاتِ الْمُطِيعِينَ وَلَا يَتَضَرَّرُ بِمَعَاصِي الْمُذْنِبِينَ، قَالَ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: 7] وَتَاسِعُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ فِي أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، قَالَ تَعَالَى: لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: 23] وقال تعالى: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [البروج: 16] وَعَاشِرُهَا: أَنَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ، قَالَ تَعَالَى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق: 29] . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فَنَقُولُ: أَقْسَامُ السُّلُوبِ بِحَسَبِ الذَّاتِ وَبِحَسَبِ الصِّفَاتِ وَبِحَسَبِ الْأَفْعَالِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، فَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ أَيْضًا أَقْسَامٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فَلْنَذْكُرْ بَعْضَ الْأَسْمَاءِ الْمُنَاسِبَةِ لِهَذَا الْبَابِ: فَمِنْهَا الْقُدُّوسُ، وَالسَّلَامُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْقُدُّوسُ عِبَارَةً عَنْ كَوْنِ حَقِيقَةِ ذَاتِهِ مُخَالِفَةً لِلْمَاهِيَّاتِ الَّتِي هِيَ نَقَائِصُ فِي أَنْفُسِهَا، وَالسَّلَامُ عِبَارَةً عَنْ كَوْنِ تِلْكَ الذَّاتِ غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ بِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ، فَالْقُدُّوسُ سَلْبٌ عَائِدٌ إِلَى الذَّاتِ، وَالسَّلَامُ سَلْبٌ عَائِدٌ إِلَى الصِّفَاتِ، وَثَانِيهَا: الْعَزِيزُ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُوجَدُ لَهُ نَظِيرٌ، وَثَالِثُهَا: الْغَفَّارُ، وَهُوَ الَّذِي يُسْقِطُ الْعِقَابَ عَنِ الْمُذْنِبِينَ، وَرَابِعُهَا: الْحَلِيمُ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُعَاجِلُ بِالْعُقُوبَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ إِيصَالِ الرَّحْمَةِ، وَخَامِسُهَا: الْوَاحِدُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي حَقِيقَتِهِ المخصوصة، ولا يشاركه أحد في صفة الإلهية، ولا يشاركه أحد في خلق الأرواح والأجسام، وَلَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي نُظُمِ الْعَالَمِ وَتَدْبِيرِ أحوال العرش وسادسها: الْغَنِيُّ: وَمَعْنَاهُ كَوْنُهُ مُنَزَّهًا عَنِ الْحَاجَاتِ وَالضَّرُورَاتِ، وَسَابِعُهَا: الصَّبُورُ، وَالْفَرْقُ/ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَلِيمِ أَنَّ الصَّبُورَ هُوَ الَّذِي لَا يُعَاقِبُ الْمُسِيءَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَالْحَلِيمُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ إِيصَالِ نِعْمَتِهِ إِلَيْهِ، وَقِسْ عَلَيْهِ الْبَوَاقِيَ وَاللَّهُ الْهَادِي.

الباب السابع في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية، وفيه فصول:

الْبَابُ السَّابِعُ فِي الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى الصِّفَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ مَعَ الْإِضَافِيَّةِ، وَفِيهِ فُصُولٌ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ في الأسماء الحاصلة بسبب القدرة: الأسماء الدالة على صفة الْقُدْرَةِ: وَالْأَسْمَاءُ الدَّالَّةُ عَلَى صِفَةِ الْقُدْرَةِ كَثِيرَةٌ: الْأَوَّلُ: الْقَادِرُ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الْأَنْعَامِ: 65] وَقَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْقِيَامَةِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ، بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [الْقِيَامَةِ: 3، 4] وَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [الْقِيَامَةِ: 40] الثَّانِي: الْقَدِيرُ، قَالَ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الْمُلْكِ: 1] وَهَذَا اللَّفْظُ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ قَادِرًا، الثَّالِثُ: الْمُقْتَدِرُ، قَالَ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً [الْكَهْفِ: 45] وَقَالَ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَرِ: 55] الرَّابِعُ: عَبَّرَ عَنْ ذَاتِهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ قَالَ تَعَالَى: فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ، [الْمُرْسَلَاتِ: 23] وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ «الْمَلِكِ» يُفِيدُ الْقُدْرَةَ أَيْضًا بِشَرْطٍ خَاصٍّ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا اللَّفْظَ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ: فَالْأَوَّلُ: الْمَالِكُ، قَالَ الله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ الثَّانِي: الْمَلِكُ، قَالَ تَعَالَى: فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [طه: 114] وَقَالَ: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ [الْحَشْرِ: 23] وَقَالَ: مَلِكِ النَّاسِ وَاعْلَمْ أَنَّ وُرُودَ لَفْظِ الْمَلِكِ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرُ مِنْ وُرُودِ لَفْظِ الْمَالِكِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْمَلِكَ أَعْلَى شَأْنًا مِنَ الْمَالِكِ، الثَّالِثُ: مَالِكُ الْمُلْكِ، قَالَ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ [آلِ عِمْرَانَ: 26] الرَّابِعُ: «الْمَلِيكُ» قَالَ تَعَالَى: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَرِ: 55] الْخَامِسُ: لَفْظُ الْمُلْكِ، قَالَ تَعَالَى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الْفُرْقَانِ: 26] وقال تعالى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [البقرة: 107] وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْقُوَّةِ يَقْرُبُ مِنْ لَفْظِ الْقُدْرَةِ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ: الْأَوَّلُ: الْقَوِيُّ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الْحَجِّ: 40] الثَّانِي: ذُو الْقُوَّةِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58] . الفصل الثاني: الأسماء الحاصلة بسبب العلم: فِي الْأَسْمَاءِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ الْعِلْمِ، وَفِيهِ أَلْفَاظٌ: الْأَوَّلُ: الْعِلْمُ وَمَا يُشْتَقُّ مِنْهُ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: إِثْبَاتُ الْعِلْمِ لِلَّهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [الْبَقَرَةِ: 255] وَقَالَ تعالى: وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فصلت: 47] وَقَالَ تَعَالَى: قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [الطَّلَاقِ: 12] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لُقْمَانَ: 34] الِاسْمُ الثَّانِي: الْعَالِمُ، قَالَ تَعَالَى: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [الزمر: 46] الثَّالِثُ: الْعَلِيمُ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، الرَّابِعُ: الْعَلَّامُ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ

الفصل الثالث: الأسماء الحاصلة بصفة الكلام:

الْغُيُوبِ ، [الْمَائِدَةِ: 116] الْخَامِسُ: الْأَعْلَمُ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَامِ: 124] السَّادِسُ: صِيغَةُ الْمَاضِي، قَالَ تَعَالَى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 187] السَّابِعُ: صِيغَةُ الْمُسْتَقْبَلِ، قَالَ تَعَالَى: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [الْبَقَرَةِ: 197] وَقَالَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ [النَّحْلِ: 19] الثَّامِنُ: لَفْظُ عَلَّمَ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ، قَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَةِ: 31] وَقَالَ فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا [الْبَقَرَةِ: 32] وَقَالَ: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النِّسَاءِ: 113] وَقَالَ: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرَّحْمَنِ: 1، 2] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ مُعَلِّمٌ مَعَ كَثْرَةِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِأَنَّ لَفْظَ الْمُعَلِّمِ مُشْعِرٌ بِنَوْعِ نَقِيصَةٍ، التَّاسِعُ: لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْعَلَّامَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهَا وَإِنْ أَفَادَتِ الْمُبَالَغَةَ لَكِنَّهَا تُفِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْمُبَالَغَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِالْكَدِّ وَالْعَنَاءِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ. اللَّفْظُ الثَّانِي: مِنْ أَلْفَاظِ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ الْخَبَرِ وَالْخِبْرَةِ، وَهُوَ كَالْمُرَادِفِ لِلْعِلْمِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ فِي حَدِّ الْعِلْمِ: إِنَّهُ الْخَبَرُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَرَدَ لَفْظُ «الْخَبِيرِ» فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَدِّ العلم: إنه الخبر، إذا عرفت هذا فنقول: وَرَدَ لَفْظُ «الْخَبِيرِ» فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ أَيْضًا يَدُلُّ، عَلَى الْعِلْمِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الْأَلْفَاظِ: الشُّهُودُ وَالْمُشَاهَدَةُ، وَمِنْهُ «الشَّهِيدُ» فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، إِذَا فَسَّرْنَاهُ بِكَوْنِهِ مُشَاهِدًا لَهَا عَالِمًا بِهَا، أَمَّا إِذَا فَسَّرْنَاهُ بِالشَّهَادَةِ كَانَ مِنْ صِفَةِ الْكَلَامِ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: الْحِكْمَةُ، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ قَدْ يُرَادُ بِهَا الْعِلْمُ، وَقَدْ يُرَادُ بِهَا أَيْضًا تَرْكُ مَا لَا يَنْبَغِي وَفِعْلُ مَا يَنْبَغِي. النَّوْعُ الْخَامِسُ: اللَّطِيفُ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ بِالدَّقَائِقِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ إِيصَالُ الْمَنَافِعِ إِلَى الْعِبَادِ بطريق خفية عجيبة. الفصل الثالث: الأسماء الحاصلة بصفة الكلام: فِي الْأَسْمَاءِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ صِفَةِ الْكَلَامِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ: - اللَّفْظُ الْأَوَّلُ: الْكَلَامُ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَفْظُ الْكَلَامِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 6] الثَّانِي: صِيغَةُ الْمَاضِي مِنْ هَذَا اللَّفْظِ، قَالَ تَعَالَى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النِّسَاءِ: 164] وَقَالَ: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الْأَعْرَافِ: 143] الثَّالِثُ: صِيغَةُ الْمُسْتَقْبَلِ، قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً [الشُّورَى: 51] . اللَّفْظُ الثَّانِي: الْقَوْلُ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: صِيغَةُ الْمَاضِي، قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [الْبَقَرَةِ: 30] وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، الثَّانِي: صِيغَةُ الْمُسْتَقْبَلِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ [الْبَقَرَةِ: 68] الثَّالِثُ: الْقِيلُ وَالْقَوْلُ، قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النِّسَاءِ: 122] وَقَالَ تَعَالَى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: 29] .

الفصل الرابع: الإرادة وما بمعناها:

اللَّفْظُ الثَّالِثُ: الْأَمْرُ، قَالَ تَعَالَى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الرُّومِ: 4] وَقَالَ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الْأَعْرَافِ: 54] وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [الْبَقَرَةِ: 67] . اللَّفْظُ الرَّابِعُ: الْوَعْدُ، قَالَ تَعَالَى: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ [التَّوْبَةِ: 111] وَقَالَ تَعَالَى: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [يُونُسَ: 4] . اللَّفْظُ الْخَامِسُ: الْوَحْيُ، قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً [الشُّورَى: 51] وَقَالَ: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى [النَّجْمِ: 10] . اللَّفْظُ السَّادِسُ: كَوْنُهُ تَعَالَى شَاكِرًا لِعِبَادِهِ، قَالَ تَعَالَى: فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الْإِسْرَاءِ: 19] وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً [النساء: 147] . الفصل الرابع: الإرادة وما بمعناها: فِي الْإِرَادَةِ وَمَا يَقْرُبُ مِنْهَا: - فَاللَّفْظُ الْأَوَّلُ: الْإِرَادَةُ، قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: 185] . اللَّفْظُ الثَّانِي: الرِّضَا، قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزُّمَرِ: 7] وَقَالَ: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [الزُّمَرِ: 7] وَقَالَ: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الْفَتْحِ: 18] وَقَالَ فِي صِفَةِ السَّابِقِينَ/ الْأَوَّلِينَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة: 119] وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ مُوسَى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى [طه: 84] . اللَّفْظُ الثَّالِثُ: الْمَحَبَّةُ، قَالَ: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [الْمَائِدَةِ: 54] وَقَالَ: وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [الْبَقَرَةِ: 222] . اللَّفْظُ الرَّابِعُ: الْكَرَاهَةُ، قَالَ تَعَالَى: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً [الْإِسْرَاءِ: 38] وَقَالَ: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [التَّوْبَةِ: 46] قَالَتِ الْأَشْعَرِيَّةُ: الكراهة عبارة عن أن يُرِيدُ أَنْ لَا يَفْعَلَ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: بَلْ هِيَ صِفَةٌ أُخْرَى سِوَى الْإِرَادَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الفصل الخامس السمع والبصر ومشتقاتها: فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ: قَالَ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشُّورَى: 11] وَقَالَ تَعَالَى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الْإِسْرَاءِ: 1] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: 46] وَقَالَ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ [مَرْيَمَ: 42] وَقَالَ تَعَالَى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الأنعام: 103] .

الفصل السادس في الصفات الإضافية مع السلبية

فهذا جملة الكلام في الصفات الحقيقية مع الإضافية. الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي الصِّفَاتِ الْإِضَافِيَّةِ مَعَ السَّلْبِيَّةِ اعْلَمْ أَنَّ «الْأَوَّلَ» هُوَ الَّذِي يَكُونُ سَابِقًا عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَسْبِقُهُ غَيْرُهُ، فَكَوْنُهُ سَابِقًا عَلَى غَيْرِهِ إِضَافَةٌ، وَقَوْلُنَا إِنَّهُ لَا يَسْبِقُهُ غَيْرُهُ فَهُوَ سَلْبٌ، فَلَفْظُ «الْأَوَّلُ» يُفِيدُ حَالَةً مُتَرَكِّبَةً مِنْ إِضَافَةٍ وَسَلْبٍ، «وَالْآخِرُ» هُوَ الَّذِي يَبْقَى بَعْدَ غَيْرِهِ، وَلَا يَبْقَى بَعْدَهُ غَيْرُهُ، وَالْحَالُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، أَمَّا لَفْظُ «الظَّاهِرُ» فَهُوَ إِضَافَةٌ مَحْضَةٌ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ كَوْنُهُ ظَاهِرًا بِحَسَبِ الدَّلَائِلِ، وَأَمَّا لَفْظُ «الْبَاطِنُ» فَهُوَ سَلْبٌ مَحْضٌ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ كَوْنُهُ خَفِيًّا بِحَسَبِ الْمَاهِيَّةِ. وَمِنَ الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى مَجْمُوعِ إِضَافَةٍ وَسَلْبٍ «الْقَيُّومُ» لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ تَحْصُلُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ مُحْتَاجًا إِلَى شَيْءٍ سِوَاهُ الْبَتَّةَ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ فِي ذَاتِهِ وَفِي جُمْلَةِ صِفَاتِهِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ فِي ذَوَاتِهَا وَفِي جُمْلَةِ صِفَاتِهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَبْدَأً لِكُلِّ مَا سِوَاهُ، فَالْأَوَّلُ سَلْبٌ، وَالثَّانِي إِضَافَةٌ وَمَجْمُوعُهُمَا هُوَ الْقَيُّومُ. الْفَصْلُ السَّابِعُ فِي الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ: فَمِنْهَا قَوْلُنَا: «الْإِلَهُ» وَهَذَا الِاسْمُ يُفِيدُ الْكُلَّ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَوْجُودًا، وَعَلَى كَيْفِيَّاتِ ذَلِكَ الْوُجُودِ، أَعْنِي كَوْنَهُ أَزَلِيًّا أَبَدِيًّا وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَعَلَى الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَعَلَى الصِّفَاتِ الْإِضَافِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ هَلْ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى؟ أَمَّا كُفَّارُ قُرَيْشٍ فَكَانُوا يُطْلِقُونَهُ فِي حَقِّ الْأَصْنَامِ، وَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ؟ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَذْكَارِ: يَا إِلَهَ الْآلِهَةِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَأَمَّا قَوْلُنَا: «اللَّهُ» فَسَيَأْتِي بَيَانُ أَنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ لِلَّهِ تَعَالَى، فَهَلْ يَدُلُّ هَذَا الِاسْمُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ؟ فَنَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ أَسْمَاءَ الْأَعْلَامِ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْإِشَارَاتِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ بِحَيْثُ يَصِحُّ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ لَكَانَ هَذَا الِاسْمُ قَائِمًا مَقَامَ تِلْكَ الْإِشَارَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الذَّاتِ الْمَخْصُوصَةِ هَلْ تَتَنَاوَلُ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةَ بِتِلْكَ الذَّاتِ؟ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا تَتَنَاوَلُ الصِّفَاتِ كان قولنا: «الله» دليلًا على جملة الصِّفَاتِ، فَإِنْ قَالُوا: الْإِشَارَةُ لَا تَتَنَاوَلُ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَيْهَا لَفْظُ اللَّهِ قُلْنَا: الْإِشَارَةُ فِي حَقِّ اللَّهِ إِشَارَةٌ عَقْلِيَّةٌ مُنَزَّهَةٌ عَنِ الْعَلَائِقِ الْحِسِّيَّةِ، وَالْإِشَارَةُ الْعَقْلِيَّةُ قَدْ تَتَنَاوَلُ السُّلُوبَ.

الفصل الثامن في الأسماء التي اختلف العقلاء فيها أنها هل هي من أسماء الذات أو من أسماء الصفات

الْفَصْلُ الثَّامِنُ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي اخْتَلَفَ الْعُقَلَاءُ فِيهَا أَنَّهَا هَلْ هِيَ مِنْ أَسْمَاءِ الذَّاتِ أو من أسماء الصفات الأسماء المختلف في مرجعها: هَذَا الْبَحْثُ إِنَّمَا ظَهَرَ مِنَ الْمُنَازَعَةِ الْقَائِمَةِ بَيْنَ أَهْلِ التَّشْبِيهِ وَأَهْلِ التَّنْزِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ التَّشْبِيهِ يَقُولُونَ: الْمَوْجُودُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالًّا فِي الْمُتَحَيِّزِ أَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ مُتَحَيِّزًا وَلَا حَالًّا فِي الْمُتَحَيِّزِ- فَكَانَ خَارِجًا عَنِ الْقِسْمَيْنِ- فَذَاكَ مَحْضُ الْعَدَمِ، وَأَمَّا أَهْلُ التَّوْحِيدِ وَالتَّقْدِيسِ فَيَقُولُونَ: أَمَّا الْمُتَحَيِّزُ فَهُوَ مُنْقَسِمٌ، وَكُلُّ مُنْقَسِمٍ فَهُوَ مُحْتَاجٌ، فَكُلُّ مُتَحَيِّزٍ هُوَ مُحْتَاجٌ، فَمَا لَا يَكُونُ مُحْتَاجًا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا، وَأَمَّا الْحَالُّ فِي الْمُتَحَيِّزِ فَهُوَ أَوْلَى بِالِاحْتِيَاجِ، فَوَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا أَوْ حَالًّا فِي الْمُتَحَيِّزِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فنقول: هاهنا أَلْفَاظٌ ظَوَاهِرُهَا مُشْعِرَةٌ بِالْجِسْمِيَّةِ وَالْحُصُولِ فِي/ الْحَيِّزِ وَالْمَكَانِ: فَمِنْهَا «الْعَظِيمُ» وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ التَّشْبِيهِ قَالُوا: مَعْنَاهُ أَنَّ ذَاتَهُ أَعْظَمُ فِي الْحَجْمِيَّةِ وَالْمِقْدَارِ مِنَ الْعَرْشِ وَمِنْ كُلِّ مَا تَحْتَ الْعَرْشِ، وَمِنْهَا «الْكَبِيرُ» وَمَا يُشْتَقُّ مِنْهُ، وَهُوَ لَفْظُ «الْأَكْبَرِ» وَلَفْظُ «الْكِبْرِيَاءِ» وَلَفْظُ «الْمُتَكَبِّرِ» . وَاعْلَمْ أَنِّي مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنَ الْمُحَقِّقِينَ بَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا، إِلَّا أَنَّ الْفَرْقَ حَاصِلٌ فِي التَّحْقِيقِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ الْإِلَهِيَّةِ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظْمَةُ إِزَارِي، فَجَعَلَ الْكِبْرِيَاءَ قَائِمًا مَقَامَ الرِّدَاءِ، وَالْعَظْمَةَ قَائِمَةً مَقَامَ الْإِزَارِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرِّدَاءَ أَرْفَعُ دَرَجَةً مِنَ الْإِزَارِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ الْكِبْرِيَاءِ أَرْفَعُ حَالًا مِنْ صِفَةِ الْعَظَمَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّرِيعَةَ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْحَالَيْنِ، فَإِنَّ الْمُعْتَادَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَنْ يُقَالَ فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ «اللَّهُ أَكْبَرُ» وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ «اللَّهُ أَعْظَمُ» وَلَوْلَا التَّفَاوُتُ لَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ التَّفْرِقَةُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمُشْتَقَّةَ مِنَ الْكَبِيرِ مَذْكُورَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالْأَكْبَرِ وَالْمُتَكَبِّرِ بِخِلَافِ الْعَظِيمِ فَإِنَّ لَفْظَ الْمُتَعَظِّمِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي حَقِّ اللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقَامَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ اللَّفْظَتَيْنِ مَقَامَ الْأُخْرَى، فقال: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [الْبَقَرَةِ: 255] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سَبَأٍ: 23] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالْمَبَاحِثُ السَّابِقَةُ مُشْعِرَةٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْعَظِيمِ وَبَيْنَ الْكَبِيرِ، وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ مُشْعِرَتَانِ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، فَهَذِهِ الْعُقْدَةُ يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْهَا فَنَقُولُ وَمِنَ اللَّهِ الْإِرْشَادُ وَالتَّعْلِيمُ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْكَبِيرُ فِي ذَاتِهِ كَبِيرًا سَوَاءٌ اسْتَكْبَرَهُ غَيْرُهُ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ عَرَفَ هَذِهِ الصِّفَةَ أَحَدٌ أَوْ لَا، وَأَمَّا الْعَظَمَةُ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ بِحَيْثُ يَسْتَعْظِمُهُ غَيْرُهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الصِّفَةُ الْأُولَى ذَاتِيَّةً وَالثَّانِيَةُ عَرَضِيَّةً وَالذَّاتِيُّ أَعْلَى وَأَشْرَفُ مِنَ الْعَرَضِيِّ، فَهَذَا هُوَ الْمُمْكِنُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ. وَمِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْعِرَةِ بِالْجِسْمِيَّةِ وَالْجِهَةِ الْأَلْفَاظُ الْمُشْتَقَّةُ مِنَ «الْعُلُوِّ» فمنها قوله تعالى: الْعَلِيُّ وَمِنْهَا قَوْلُهُ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: 1] وَمِنْهَا الْمُتَعَالِي وَمِنْهَا اللَّفْظُ الْمَذْكُورُ عِنْدَ الْكُلِّ عَلَى سَبِيلِ الْإِطْبَاقِ وَهُوَ أَنَّهُمْ كُلَّمَا ذَكَرُوهُ أَرْدَفُوا ذَلِكَ الذِّكْرَ بِقَوْلِهِمْ: «تَعَالَى» لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [النَّحْلِ: 1] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ فِي الْجِهَةِ وَالْمَكَانِ قَالُوا: مَعْنَى عُلُوِّهِ وَتَعَالِيهِ

الفصل التاسع في الأسماء الحاصلة لله تعالى من باب الأسماء المضمرة

كَوْنُهُ مَوْجُودًا فِي جِهَةِ فَوْقُ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ جَالِسٌ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْعَرْشِ بِبُعْدٍ مُتَنَاهٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْعَرْشِ بِبُعْدٍ غَيْرِ مُتَنَاهٍ، وَكَيْفَ كَانَ فَإِنَّ الْمُشَبِّهَةَ حَمَلُوا لَفْظَ الْعَظِيمِ وَالْكَبِيرِ عَلَى الْجِسْمِيَّةِ وَالْمِقْدَارِ/ وَحَمَلُوا لَفْظَ الْعَلِيِّ عَلَى الْعُلُوِّ فِي الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ فَإِنَّهُمْ حَمَلُوا الْعَظِيمَ وَالْكَبِيرَ عَلَى وُجُوهٍ لَا تُفِيدُ الْجِسْمِيَّةَ وَالْمِقْدَارَ: فَأَحَدُهَا: أَنَّهُ عَظِيمٌ بِحَسَبِ مُدَّةِ الْوُجُودِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ، وَذَلِكَ هُوَ نِهَايَةُ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ فِي الْوُجُودِ وَالْبَقَاءِ وَالدَّوَامِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَظِيمٌ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَظِيمٌ فِي الرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ عَظِيمٌ فِي كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَأَمَّا الْعُلُوُّ فَأَهْلُ التَّنْزِيهِ يَحْمِلُونَ هَذَا اللَّفْظَ عَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنْ صِفَاتِ النَّقَائِصِ وَالْحَاجَاتِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلَفْظُ الْعَظِيمِ وَالْكَبِيرِ عِنْدَ الْمُشَبِّهَةِ مِنْ أَسْمَاءِ الذَّاتِ، وَعِنْدَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ مِنْ أَسْمَاءِ الصِّفَاتِ، وَأَمَّا لَفْظُ الْعَلِيِّ فَعِنْدَ الْكُلِّ مِنْ أَسْمَاءِ الصِّفَاتِ، إِلَّا أَنَّهُ عِنْدَ الْمُشَبِّهَةِ يُفِيدُ الْحُصُولَ فِي الْحَيِّزِ الَّذِي هُوَ الْعُلُوُّ الْأَعْلَى، وَعِنْدَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ يُفِيدُ كَوْنَهُ مُنَزَّهًا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِالْإِلَهِيَّةِ، فَهَذَا تَمَامُ الْبَحْثِ فِي هَذَا الْبَابِ. الْفَصْلُ التَّاسِعُ فِي الْأَسْمَاءِ الْحَاصِلَةِ لله تعالى من باب الأسماء المضمرة الْأَسْمَاءِ الْمُضْمَرَةِ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُضْمَرَةَ ثَلَاثَةٌ: أَنَا، وَأَنْتَ، وَهُوَ، وَأَعْرَفُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ قَوْلُنَا: «أَنَا» لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَفْظٌ يُشِيرُ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ إِلَى نَفْسِهِ، وَأَعْرَفُ الْمَعَارِفِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ نَفْسُهُ، وَأَوْسَطُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ قَوْلُنَا: «أَنْتَ» لِأَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِلْغَيْرِ بِشَرْطِ كَوْنِهِ حَاضِرًا، فَلِأَجْلِ كَوْنِهِ خِطَابًا لِلْغَيْرِ يَكُونُ دُونَ قَوْلِهِ أَنَا، وَلِأَجْلِ أَنَّ الشَّرْطَ فِيهِ كَوْنُ ذَلِكَ الْمُخَاطَبِ حَاضِرًا يَكُونُ أَعْلَى مِنْ قَوْلِهِ: «هُوَ» فَثَبَتَ أَنَّ أَعْلَى الْأَقْسَامِ هُوَ قَوْلُهُ: «أَنَا» وَأَوْسَطُهَا «أَنْتَ» وَأَدْنَاهَا «هُوَ» وَكَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَرَدَتْ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، أَمَّا لَفْظُ «أَنَا» فَقَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا [النَّحْلِ: 2] وَفِي سُورَةِ طه إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا [طه: 14] وَأَمَّا لَفْظُ أَنْتَ فَقَدَ جَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ [الْأَنْبِيَاءِ: 87] وَأَمَّا لَفْظُ هُوَ فَقَدْ جَاءَ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ أَوَّلُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ [الْبَقَرَةِ: 163] وَآخِرُهَا فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 9] وَأَمَّا وُرُودُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَقْرُونًا بِاسْمٍ آخَرَ سِوَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ قَالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ [يُونُسَ: 90] ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ تِلْكَ الْكَلِمَةَ مَا قُبِلَتْ مِنْهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلْنَذْكُرْ أَحْكَامَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ فَنَقُولُ: أَمَّا قَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ أَوْ مَنْ يَذْكُرُهُ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ عَنِ اللَّهِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْكَلِمَةَ تَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْإِلَهِيَّةِ لِذَلِكَ الْقَائِلِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْرِفَةَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَشْرُوطَةٌ بِمَعْرِفَةِ قَوْلِهِ: «أَنَا» وَتِلْكَ الْمَعْرِفَةُ عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لِأَنَّ عِلْمَ كُلِّ أَحَدٍ بِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ أَكْمَلُ مِنْ عِلْمِ غَيْرِهِ بِهِ، لَا سِيَّمَا فِي حَقِّ الْحَقِّ تَعَالَى، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا» لَمْ يَحْصُلِ الْعِلْمُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ

إِلَّا لِلْحَقِّ تَعَالَى، وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» فَهَذَا يَصِحُّ ذِكْرُهُ مِنَ الْعَبْدِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا لَا غَائِبًا، لَكِنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ إِنَّمَا اتَّفَقَ حُصُولُهَا لِيُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ غَيْبَتِهِ عَنْ جَمِيعِ حُظُوظِ النَّفْسِ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَصِرْ غَائِبًا عَنْ كُلِّ الْحُظُوظِ لَا يَصِلُ إِلَى مَقَامِ الْمُشَاهَدَةِ، وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ» فَهَذَا يَصِحُّ مِنَ الْغَائِبِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ دَرَجَاتِ الْحُضُورِ مُخْتَلِفَةٌ بِالْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، وَكَمَالِ التَّجَلِّي وَنُقْصَانِهِ، وَكُلُّ دَرَجَةٍ نَاقِصَةٍ مِنْ دَرَجَاتِ الْحُضُورِ فَهِيَ غَيْبَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدَّرَجَةِ الْكَامِلَةِ، وَلَمَّا كَانَتْ دَرَجَاتُ الْحُضُورِ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ كَانَتْ مَرَاتِبُ الْكَمَالَاتِ وَالنُّقْصَانَاتِ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، فَكَانَتْ دَرَجَاتُ الْحُضُورِ وَالْغَيْبَةِ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، فَكُلُّ مَنْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَاضِرٌ فَبِاعْتِبَارٍ آخَرَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَائِبٌ، وَبِالْعَكْسِ وَعَنْ هَذَا قَالَ الشَّاعِرُ: - أبا غَائِبًا حَاضِرًا فِي الْفُؤَادِ ... سَلَامٌ عَلَى الْغَائِبِ الْحَاضِرِ وَيُحْكَى أَنَّ الشِّبْلِيَّ لَمَّا قَرُبَتْ وَفَاتُهُ قَالَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ: - كُلُّ بَيْتٍ أَنْتَ حَاضِرُهُ ... غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى السَّرْجِ وَجْهُكَ الْمَأْمُولُ حُجَّتُنَا ... يَوْمَ تأتي الناس بالحجج أسرار من التصوف في لفظ «هو» : وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ «هُوَ» فِيهِ أَسْرَارٌ عَجِيبَةٌ وَأَحْوَالٌ عَالِيَةٌ، فَبَعْضُهَا يُمْكِنُ شَرْحُهُ وَتَقْرِيرُهُ وَبَيَانُهُ، وَبَعْضُهَا لَا يُمْكِنُ، قَالَ مُصَنِّفُ الْكِتَابِ: وَأَنَا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ كَتَبْتُ أَسْرَارًا لَطِيفَةً، إِلَّا أَنِّي كُلَّمَا أُقَابِلُ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الْمَكْتُوبَةَ بِمَا أَجِدُهُ فِي الْقَلْبِ مِنَ الْبَهْجَةِ وَالسَّعَادَةِ عِنْدَ ذِكْرِ كَلِمَةِ «هُوَ» أَجِدُ الْمَكْتُوبَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْمُشَاهَدَةِ حَقِيرًا، فَعِنْدَ هَذَا عَرَفْتُ أَنَّ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ تَأْثِيرًا عَجِيبًا فِي الْقَلْبِ لَا يَصِلُ الْبَيَانُ إِلَيْهِ، وَلَا يَنْتَهِي الشَّرْحُ إِلَيْهِ، فَلْنَكْتُبْ مَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ فَنَقُولُ: فِيهِ أَسْرَارٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ: «يَا هُوَ» فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: مَنْ/ أَنَا حَتَّى أَعْرِفَكَ، وَمَنْ أَنَا حَتَّى أَكُونَ مُخَاطِبًا لَكَ، وَمَا لِلتُّرَابِ وَرَبِّ الْأَرْبَابِ، وَأَيُّ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَ الْمُتَوَلِّدِ عَنِ النُّطْفَةِ وَالدَّمِ وَبَيْنَ الْمَوْصُوفِ بِالْأَزَلِيَّةِ وَالْقِدَمِ؟ فَأَنْتَ أَعْلَى مِنْ جَمِيعِ الْمُنَاسَبَاتِ وَأَنْتَ مُقَدَّسٌ عَنْ عَلَائِقِ الْعُقُولِ وَالْخَيَالَاتِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَاطَبَهُ الْعَبْدُ بِخِطَابِ الْغَائِبِينَ فَقَالَ: يَا هُوَ. وَالْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ كَمَا دَلَّ عَلَى إِقْرَارِ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ بِالدَّنَاءَةِ وَالْعَدَمِ فَفِيهِ أَيْضًا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مَحْضُ الْعَدَمِ، لِأَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: «يَا هُوَ» فَلَوْ حَصَلَ فِي الْوُجُودِ شَيْئَانِ لَكَانَ قَوْلُنَا: «هُوَ» صَالِحًا لَهُمَا جَمِيعًا، فَلَا يَتَعَيَّنُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِسَبَبِ قَوْلِهِ: «هُوَ» فَلَمَّا قَالَ: (يَا هُوَ) فَقَدْ حَكَمَ عَلَى كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ عَدَمٌ مَحْضٌ وَنَفْيٌ صِرْفٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88] وَهَذَانِ الْمَقَامَانِ فِي الْفَنَاءِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ مَقَامَانِ فِي غَايَةِ الْجَلَالِ، وَلَا يَحْصُلَانِ إِلَّا عِنْدَ مُوَاظَبَةِ الْعَبْدِ عَلَى أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ بِقَوْلِهِ: يَا هُوَ. وَالْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْعَبْدَ مَتَى ذَكَرَ اللَّهَ بِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرِقًا فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: «يَا رَحْمَنُ» فَحِينَئِذٍ يَتَذَكَّرُ رَحْمَتَهُ فَيَمِيلُ طَبْعُهُ إِلَى طَلَبِهَا فَيَكُونُ طَالِبًا لِلْحِصَّةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: (يَا كَرِيمُ، يَا مُحْسِنُ، يَا غَفَّارُ، يَا وَهَّابُ، يَا فَتَّاحُ) وَإِذَا قَالَ: (يَا مَلِكُ) فَحِينَئِذٍ يَتَذَكَّرُ مُلْكَهُ وَمَلَكُوتَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ أَقْسَامِ النِّعَمِ

فَيَمِيلُ طَبْعُهُ إِلَيْهِ فَيَطْلُبُ شَيْئًا مِنْهَا، وَقِسْ عَلَيْهِ سَائِرَ الْأَسْمَاءِ، أَمَّا إِذَا قَالَ: (يَا هُوَ) فَإِنَّهُ يَعْرِفُ أَنَّهُ هُوَ، وَهَذَا الذِّكْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ غَيْرِهِ الْبَتَّةَ، فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ فِي قَلْبِهِ نُورُ ذِكْرِهِ، وَلَا يَتَكَدَّرُ ذَلِكَ النُّورُ بِالظُّلْمَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ عَنْ ذِكْرِ غَيْرِ اللَّهِ، وَهُنَاكَ يَحْصُلُ فِي قَلْبِهِ النُّورُ التَّامُّ وَالْكَشْفُ الْكَامِلُ. وَالْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ جَمِيعَ الصِّفَاتِ الْمَعْلُومَةِ عِنْدَ الْخَلْقِ: إِمَّا صِفَاتُ الْجَلَالِ، وَإِمَّا صِفَاتُ الْإِكْرَامِ، أَمَّا صِفَاتُ الْجَلَالِ فَهِيَ قَوْلُنَا لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا بِجَوْهَرٍ وَلَا عَرَضٍ وَلَا فِي الْمَكَانِ وَلَا فِي الْمَحَلِّ، وَهَذَا فِيهِ دَقِيقَةٌ، لِأَنَّ مَنْ خَاطَبَ السُّلْطَانَ فَقَالَ: أَنْتَ لَسْتَ أَعْمَى وَلَسْتَ أَصَمَّ وَلَسْتَ كَذَا وَلَا كَذَا وَيَعُدُّ أَنْوَاعَ الْمَعَايِبِ وَالنُّقْصَانَاتِ فَإِنَّهُ يَسْتَوْجِبُ الزَّجْرَ وَالْحَجْرَ وَالتَّأْدِيبَ، وَيُقَالُ: إِنَّ مُخَاطَبَتَهُ بِنَفْيِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَنْهُ إِسَاءَةٌ فِي الْأَدَبِ، وَأَمَّا صِفَاتُ الْإِكْرَامِ فَهِيَ كَوْنُهُ خَالِقًا لِلْمَخْلُوقَاتِ مُرَتِّبًا لَهَا عَلَى النَّظْمِ الْأَكْمَلِ، وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ دَقِيقَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَا شَكَّ أَنَّ كَمَالَ الْخَالِقِ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ كَمَالِ الْمَخْلُوقِ بِمَرَاتِبَ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَإِذَا شَرَحْنَا نُعُوتَ كَمَالِ اللَّهِ وَصِفَاتِ جَلَالِهِ بِكَوْنِهِ خَالِقًا لِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ فَقَدْ جَعَلْنَا كَمَالَ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ كَالشَّرْحِ وَالْبَيَانِ لِكَمَالِ جَلَالِ الْخَالِقِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَعْرِيفَ الْكَامِلِ الْمُتَعَالِي بِطَرِيقٍ فِي غَايَةِ الْخِسَّةِ وَالدَّنَاءَةِ، / وَذَلِكَ سُوءُ أَدَبٍ، وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَخَذَ يَمْدَحُ السُّلْطَانَ الْقَاهِرَ بِأَنَّهُ أَعْطَى الْفَقِيرَ الْفُلَانِيَّ كِسْرَةَ خُبْزٍ أَوْ قَطْرَةَ مَاءٍ فَإِنَّهُ يَسْتَوْجِبُ الزَّجْرَ وَالْحَجْرَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نِسْبَةَ جَمِيعِ عَالَمِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى آخِرِ الْخَلَاءِ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ إِلَى مَا فِي خَزَائِنِ قُدْرَةِ اللَّهِ أَقَلُّ مِنْ نِسْبَةِ كِسْرَةِ الْخُبْزِ وَقَطْرَةِ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِ خَزَائِنِ الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ سُوءَ أَدَبٍ فَهَذَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ سُوءَ أَدَبٍ فَثَبَتَ أَنَّ مَدْحَ اللَّهِ وَثَنَاءَهُ بِالطَّرِيقَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِيهِ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتُ، إلا أن هاهنا سَبَبًا يُرَخِّصُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْمَدَائِحِ، وَهُوَ أَنَّ النَّفْسَ صَارَتْ مُسْتَغْرِقَةً فِي عَالَمِ الْحِسِّ وَالْخَيَالِ فَالْإِنْسَانُ إِذَا أَرَادَ جَذْبَهَا إِلَى عَتَبَةِ عَالَمِ الْقُدْسِ احْتَاجَ إِلَى أَنْ يُنَبِّهَهَا عَلَى كَمَالِ الْحَضْرَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى مَعْرِفَةِ كَمَالِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ إِلَّا بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ، أَعْنِي ذِكْرَ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَصِفَاتِ الْإِكْرَامِ فَيُوَاظِبُ عَلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ حَتَّى تُعْرِضَ النَّفْسُ عَنْ عَالَمِ الْحِسِّ وَتَأْلَفَ الْوُقُوفَ عَلَى عَتَبَةِ الْقُدْسِ فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَنَبَّهُ لِمَا فِي ذَيْنِكَ النَّوْعَيْنِ مِنَ الذِّكْرِ مِنَ الِاعْتِرَاضَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَتْرُكُ تِلْكَ الْأَذْكَارَ وَيَقُولُ: (يَا هُوَ) كَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: أَجَلُّ حَضْرَتِكَ أَنْ أَمْدَحَكَ وَأُثْنِيَ عَلَيْكَ بِسَلْبِ نَقَائِصِ الْمَخْلُوقَاتِ عَنْكَ أَوْ بِإِسْنَادِ كَمَالَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَيْكَ، فَإِنَّ كَمَالَكَ أَعْلَى وَجَلَالَكَ أَعْظَمُ، بَلْ لَا أَمْدَحُكَ وَلَا أُثْنِي عَلَيْكَ إِلَّا بِهُوِيَّتِكَ مِنْ حَيْثُ هِيَ، وَلَا أُخَاطِبُكَ أَيْضًا بِلَفْظَةِ (أَنْتَ) لِأَنَّ تِلْكَ اللَّفْظَةَ تُفِيدُ التِّيهَ وَالْكِبْرَ حَيْثُ تَقُولُ الرُّوحُ إِنِّي قَدْ بَلَغْتُ مَبْلَغًا صِرْتُ كَالْحَاضِرِ فِي حَضْرَةِ وَاجِبِ الْوُجُودِ، وَلَكِنِّي لَا أَزِيدُ عَلَى قَوْلِي (هُوَ) لِيَكُونَ إِقْرَارًا بِأَنَّهُ هُوَ الْمَمْدُوحُ لِذَاتِهِ بِذَاتِهِ، وَيَكُونَ إِقْرَارًا بِأَنَّ حَضْرَتَهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يُنَاسِبَهُ حُضُورُ الْمَخْلُوقَاتِ، فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ تُنَبِّهُ عَلَى هَذِهِ الْأَسْرَارِ فِي مَقَامَاتِ التَّجَلِّي وَالْمُكَاشَفَاتِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ هَذَا الذِّكْرُ أَشْرَفَ الْأَذْكَارِ لَكِنْ بِشَرْطِ التَّنْبِيهِ لِهَذِهِ الْأَسْرَارِ. الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: فِي هَذَا الذِّكْرِ: أَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى هَذَا الذِّكْرِ تُفِيدُ الشَّوْقَ إِلَى اللَّهِ، وَالشَّوْقُ إِلَى اللَّهِ أَلَذُّ الْمَقَامَاتِ وَأَكْثَرُهَا بَهْجَةً وَسَعَادَةً، إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى هَذَا الذِّكْرِ تُورِثُ الشَّوْقَ إِلَى اللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ كَلِمَةَ (هُوَ) ضَمِيرُ الْغَائِبِ فالعبد إِذَا ذَكَرَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَلِمَ أَنَّهُ غَائِبٌ عَنِ الْحَقِّ ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْغَيْبَةَ لَيْسَتْ بِسَبَبِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ بِسَبَبِ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِنُقْصَانَاتِ الْحُدُوثِ وَالْإِمْكَانِ، وَمَعْيُوبٌ بِعَيْبِ الْكَوْنِ فِي إِحَاطَةِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، فَإِذَا تَنَبَّهَ الْعَقْلُ لِهَذِهِ الدَّقِيقَةِ وَعَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ حَاصِلَةٌ فِي جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ وَالْمُحْدَثَاتِ فَعِنْدَ

هَذَا يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْمُحْدَثَاتِ وَالْإِبْدَاعِيَّاتِ غَائِبَةٌ عَنْ عَتَبَةِ عُلُوِّ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَعَرَفَ أَنَّ هَذِهِ الْغَيْبَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ الْمُفَارَقَةِ فِي النُّقْصَانِ وَالْكَمَالِ وَالْحَاجَةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ، فَعِنْدَ هَذَا يَعْتَقِدُ أَنَّ الْحَقَّ مَوْصُوفٌ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْكَمَالِ متعالية عن مشابهة هذه/ هذه الكمالات ومقدسة عن مناسبة هذه المحادثات، وَاعْتَقَدَ أَنَّ تَصَوُّرَهُ غَائِبٌ عَنِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَالذِّكْرِ، فَصَارَتْ تِلْكَ الْكَمَالَاتُ مَشْعُورًا بِهَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَالشُّعُورُ بِهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ يُشَوِّقُ إِلَى الشُّعُورِ بِدَرَجَاتِهَا وَمَرَاتِبِهَا، وَإِذَا كَانَ لَا نِهَايَةَ لِتِلْكَ الْمَرَاتِبِ وَالدَّرَجَاتِ فَكَذَلِكَ لَا نِهَايَةَ لِمَرَاتِبِ هَذَا الشَّوْقِ، وَكُلَّمَا كَانَ وَصُولُ الْعَبْدِ إِلَى مَرْتَبَةٍ أَعْلَى مِمَّا كَانَ، أَسْهَلَ كَانَ شَوْقُهُ إِلَى التَّرَقِّي عَنْ تِلْكَ الدَّرَجَةِ أَقْوَى وَأَكْمَلَ، فَثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ «هُوَ» يُفِيدُ الشَّوْقَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الشَّوْقَ إِلَى اللَّهِ أَعْظَمُ الْمَقَامَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّوْقَ يُفِيدُ حُصُولَ آلَامٍ وَلَذَّاتٍ مُتَوَالِيَةٍ مُتَعَاقِبَةٍ، لِأَنَّ بِقَدْرِ مَا يَصِلُ يَلْتَذُّ وَبِقَدْرِ مَا يَمْتَنِعُ وُصُولُهُ إِلَيْهِ يَتَأَلَّمُ، وَالشُّعُورُ بِاللَّذَّةِ حَالَ زَوَالِ الْأَلَمِ يُوجِبُ مَزِيدَ الِالْتِذَاذِ وَالِابْتِهَاجِ وَالسُّرُورِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَقَامَ الشَّوْقِ إِلَى اللَّهِ أَعْظَمُ الْمَقَامَاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى ذِكْرِ كَلِمَةِ «هُوَ» تُورِثُ الشَّوْقَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَثَبَتَ أَنَّ الشَّوْقَ إِلَى اللَّهِ أَعْظَمُ الْمَقَامَاتِ وَأَكْثَرُهَا بَهْجَةً وَسَعَادَةً فَيَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ: الْمُوَاظَبَةُ عَلَى ذِكْرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ تُفِيدُ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ وَأَسْنَى الدَّرَجَاتِ. الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: فِي شَرْحِ جَلَالَةِ هَذَا الذِّكْرِ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِذِكْرِ مُقَدِّمَتَيْنِ: الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْعِلْمَ عَلَى قِسْمَيْنِ: تَصَوُّرٍ، وَتَصْدِيقٍ، أَمَّا التَّصَوُّرُ فَهُوَ أَنْ تَحْصُلَ فِي النَّفْسِ صُورَةٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَحْكُمَ النَّفْسُ عَلَيْهَا بِحُكْمٍ الْبَتَّةَ لَا بِحُكْمٍ وُجُودِيٍّ وَلَا بِحُكْمٍ عَدَمِيٍّ، أَمَّا التَّصْدِيقُ فَهُوَ أَنْ يَحْصُلَ فِي النَّفْسِ صُورَةٌ مَخْصُوصَةٌ، ثُمَّ إِنَّ النَّفْسَ تَحْكُمُ عَلَيْهَا إِمَّا بِوُجُودِ شَيْءٍ أَوْ عَدَمِهِ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: التَّصَوُّرُ مَقَامُ التَّوْحِيدِ، وَأَمَّا التَّصْدِيقُ فَإِنَّهُ مَقَامُ التَّكْثِيرِ. الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ التَّصَوُّرَ عَلَى قِسْمَيْنِ: تَصَوُّرٍ يَتَمَكَّنُ الْعَقْلُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَتَصَوُّرٍ لَا يُمْكِنُهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ: أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ تَصَوُّرُ الْمَاهِيَّاتِ الْمُرَكَّبَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَصَوُّرُ الْمَاهِيَّاتِ الْمُرَكَّبَةِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ اسْتِحْضَارِ مَاهِيَّاتِ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْمُرَكَّبِ، وَهَذَا التَّصَرُّفُ عَمَلٌ وَفِكْرٌ، وَتَصَرُّفٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَهُوَ تَصَوُّرُ الْمَاهِيَّاتِ الْبَسِيطَةِ الْمُنَزَّهَةِ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ التَّرْكِيبَاتِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا يَتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى اسْتِحْضَارِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّصْدِيقَ يَجْرِي مَجْرَى التَّكْثِيرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّصَوُّرِ، وَأَنَّ التَّصَوُّرَ تَوْحِيدٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّصْدِيقِ وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ تَصَوُّرَ الْمَاهِيَّةِ الْبَسِيطَةِ هُوَ النِّهَايَةُ فِي التَّوْحِيدِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْكَثْرَةِ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُنَا فِي الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: «يَا هُوَ» هَذَا تَصَوُّرٌ مَحْضٌ خَالٍ عَنِ التَّصْدِيقِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا التَّصَوُّرَ تَصَوُّرٌ لِحَقِيقَةٍ مُنَزَّهَةٍ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ التَّرْكِيبِ وَالْكَثْرَةِ، فَكَانَ قَوْلُنَا: «يَا هُوَ» نِهَايَةً فِي التَّوْحِيدِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْكَثْرَةِ، وَهُوَ أَعْظَمُ الْمَقَامَاتِ. الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أَنَّ تَعْرِيفَ الشَّيْءِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِالْأَجْزَاءِ الدَّاخِلَةِ فِيهِ، أَوْ بِالْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عنه، أما القسم الأول- وهو تعريف بِنَفْسِهِ- فَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ الْمُعَرَّفَ سَابِقٌ عَلَى الْمُعَرِّفِ، فَتَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ يَقْتَضِي تَقَدُّمَ الْعِلْمِ بِهِ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: - وَهُوَ تَعْرِيفُهُ بِالْأُمُورِ الدَّاخِلَةِ فِيهِ- فَهَذَا فِي حَقِّ الْحَقِّ مُحَالٌ، لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَجْرِي فِي الْمَاهِيَّةِ الْمُرَكَّبَةِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْحَقِّ مُحَالٌ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: - وَهُوَ تَعْرِيفُهُ بِالْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْهُ- فَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ مُحَالٌ، لِأَنَّ أَحْوَالَ الْخَلْقِ لَا يُنَاسِبُ شَيْءٌ مِنْهَا شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الْقَدِيمِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى مُخَالِفٌ بِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ وَبِهُوِيَّتِهِ الْمُعَيَّنَةِ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ

أَنْ تَكُونَ أَحْوَالُ الْخَلْقِ كَاشِفَةً عَنْ مَاهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِيقَتِهِ الْمَخْصُوصَةِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدِ انْسَدَّتْ أَبْوَابُ التَّعْرِيفَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هُوِيَّتِهِ الْمَخْصُوصَةِ وَمَاهِيَّتِهِ الْمُعَيَّنَةِ، فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ أَنْ يُوَجِّهَ الْإِنْسَانُ حَدَقَةَ عَقْلِهِ وَرُوحِهِ إِلَى مَطْلَعِ نُورِ تِلْكَ الْهُوِيَّةِ عَلَى رَجَاءِ أَنَّهُ رُبَّمَا أَشْرَقَ ذَلِكَ النُّورُ حَالَ مَا كَانَتْ حَدَقَةُ عَقْلِهِ مُتَوَجِّهَةً إِلَيْهَا فَيَسْتَسْعِدُ بِمُطَالَعَةِ ذَلِكَ النُّورِ، فَقَوْلُ الذَّاكِرِ «يَا هُوَ» تَوْجِيهٌ لِحَدَقَةِ الْعَقْلِ وَالرُّوحِ إِلَى الْحَضْرَةِ الْقُدْسِيَّةِ عَلَى رَجَاءِ أَنَّهُ رُبَّمَا حَصَلَتْ لَهُ تِلْكَ السَّعَادَةُ. الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ الْمَهِيبِ وَالسُّلْطَانِ الْقَاهِرِ وَوَقَفَ بِعَقْلِهِ عَلَى كَمَالِ تِلْكَ الْمَهَابَةِ وَعَلَى جَلَالِ تِلْكَ السَّلْطَنَةِ فَقَدْ يَصِيرُ بِحَيْثُ تستولي عليه تلك المهابة وتلك السلطنة فَيَصِيرُ غَافِلًا عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ جَائِعًا فَيَنْسَى جُوعَهُ، وَرُبَّمَا كَانَ بِهِ أَلَمٌ شَدِيدٌ فَيَنْسَى ذَلِكَ الْأَلَمَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَرُبَّمَا رَأَى أَبَاهُ أَوِ ابْنَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَلَا يَعْرِفُهُمَا، وَكُلُّ ذَلِكَ لِأَنَّ اسْتِيلَاءَ تِلْكَ الْمَهَابَةِ عَلَيْهِ أَذْهَلَهُ عَنِ الشُّعُورِ بِغَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إِذَا قَالَ: «يَا هُوَ» وَتَجَلَّى لِعَقْلِهِ وَرُوحِهِ ذَرَّةٌ مِنْ نُورِ جَلَالِ تِلْكَ الْهُوِيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى قَلْبِهِ الدَّهْشَةُ وَعَلَى رُوحِهِ الْحَيْرَةُ، وَعَلَى فِكْرِهِ الْغَفْلَةُ، فَيَصِيرُ غَائِبًا عَنْ كُلِّ مَا سِوَى تِلْكَ الْهُوِيَّةِ، مَعْزُولًا عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى شَيْءٍ سِوَاهَا، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى مَعَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ بِعَقْلِهِ: «هُوَ» وَبِلِسَانِهِ «هُوَ» فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ «هُوَ» وَوَاظَبَ عَلَى هَذَا الذِّكْرِ فَهَذَا مِنْهُ تَشَبُّهٌ بِتِلْكَ الْحَالَةِ عَلَى رَجَاءِ أَنَّهُ رُبَّمَا وَصَلَ إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْكَرِيمَ أَنْ يُسْعِدَنَا بِهَا. الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: مِنْ فَوَائِدِ هَذَا الذِّكْرِ الْعَالِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ جَعَلَ هُمُومَهُ هَمًّا وَاحِدًا كَفَاهُ اللَّهُ هُمُومَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» فَكَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: هُمُومِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالْحَاجَاتُ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا الْمَوْصُوفُ بِقُدْرَةٍ/ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ، وَرَحْمَةٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ، وَحِكْمَةٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ، فَعَلَى هَذَا أَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ حَاجَاتِي وَلَا عَلَى تَحْصِيلِ مُهِمَّاتِي، بَلْ لَيْسَ الْقَادِرُ عَلَى دَفْعِ تِلْكَ الْحَاجَاتِ وَعَلَى تَحْصِيلِ تِلْكَ الْمُهِمَّاتِ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَأَنَا أَجْعَلُ هَمِّيَ مَشْغُولًا بِذِكْرِهِ فَقَطْ، وَلِسَانِي مَشْغُولًا بِذِكْرِهِ فَقَطْ فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَهُوَ بِرَحْمَتِهِ يَكْفِينِي مُهِمَّاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُمْكِنُهُ الِاشْتِغَالُ بِشَيْءٍ حَالَةَ الِاسْتِغْرَاقِ فِي الْعِلْمِ بِشَيْءٍ آخَرَ، فَإِذَا وَجَّهَ فِكْرَهُ إِلَى شَيْءٍ يَبْقَى مَعْزُولًا عَنْ غَيْرِهِ، فَكَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: كُلَّمَا اسْتَحْضَرْتُ فِي ذِهْنِي الْعِلْمَ بِشَيْءٍ فَاتَنِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْعِلْمُ بِغَيْرِهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا لَازِمًا فَالْأَوْلَى أَنْ أَجْعَلَ قَلْبِي وَفِكْرِي مَشْغُولًا بِمَعْرِفَةِ أَشْرَفِ الْمَعْلُومَاتِ، وَأَجْعَلَ لِسَانِي مَشْغُولًا بِذِكْرِ أَشْرَفِ الْمَذْكُورَاتِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أُوَاظِبُ عَلَى قَوْلِهِ: «يَا هُوَ» . الْفَائِدَةُ الْحَادِيَةُ عَشْرَةَ: أَنَّ الذِّكْرَ أَشْرَفُ الْمَقَامَاتِ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: «إِذَا ذَكَرَنِي عَبْدِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِذَا ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْ مَلَئِهِ» وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَفْضَلُ الْأَذْكَارِ ذِكْرُ اللَّهِ بِالثَّنَاءِ الْخَالِي عَنِ السُّؤَالِ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: الْعَبْدُ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ، وَالْفَقِيرُ الْمُحْتَاجُ إِذَا نَادَى مَخْدُومَهُ بِخِطَابٍ يُنَاسِبُ الطَّلَبَ وَالسُّؤَالَ كَانَ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى السُّؤَالِ، فَإِذَا قَالَ الْفَقِيرُ لِلْغَنِيِّ «يَا كَرِيمُ» كَانَ مَعْنَاهُ أَكْرِمْ وَإِذَا قَالَ لَهُ: «يَا نَفَّاعُ» كَانَ مَعْنَاهُ طَلَبَ النَّفْعِ، وَإِذَا قَالَ: «يَا رَحْمَنُ» كَانَ مَعْنَاهُ ارْحَمْ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَذْكَارُ جَارِيَةً مَجْرَى السُّؤَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الذِّكْرَ إِنَّمَا يَعْظُمُ شَرَفُهُ إِذَا كَانَ خَالِيًا عَنِ السُّؤَالِ وَالطَّلَبِ، أَمَّا إذا قال:

الباب الثامن في بقية المباحث عن أسماء الله تعالى، وفيه مسائل

«يَا هُوَ» كَانَ مَعْنَاهُ خَالِيًا عَنِ الْإِشْعَارِ بِالسُّؤَالِ وَالطَّلَبِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُنَا: «هُوَ» أَعْظَمَ الْأَذْكَارِ. وَلْنَخْتِمْ هَذَا الْفَصْلَ بِذِكْرٍ شَرِيفٍ رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ: يَا هُوَ، يَا مَنْ لَا هُوَ إِلَّا هُوَ، يَا مَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، يَا أَزَلُ، يَا أَبَدُ، يَا دَهْرُ، يَا دَيْهَارُ، يَا دَيْهُورُ، يَا مَنْ هُوَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ. وَمِنْ لَطَائِفِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الشَّيْخَ الْغَزَالِيَّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» تَوْحِيدُ الْعَوَامِّ، «وَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ» تَوْحِيدُ الْخَوَاصِّ، وَلَقَدِ اسْتَحْسَنْتُ هَذَا الْكَلَامَ وَقَرَّرْتُهُ بِالْقُرْآنِ وَالْبُرْهَانِ: أَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88] مَعْنَاهُ إِلَّا هُوَ، فَذَكَرَ قَوْلَهُ إِلَّا هُوَ بَعْدَ قَوْلِهِ لَا إِلَهَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ غَايَةَ التَّوْحِيدِ هِيَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ، وَأَمَّا الْبُرْهَانُ فَهُوَ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ تَأْثِيرَ/ الْفَاعِلِ لَيْسَ فِي تَحْقِيقِ الْمَاهِيَّةِ وَتَكْوِينِهَا، بَلْ لَا تَأْثِيرَ لَهُ إِلَّا فِي إِعْطَاءِ صِفَةِ الْوُجُودِ لَهَا، فَقُلْتُ: فَالْوُجُودُ أَيْضًا مَاهِيَّةٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْوُجُودُ وَاقِعًا بِتَأْثِيرِهِ، فَإِنِ الْتَزَمُوا ذَلِكَ وَقَالُوا الْوَاقِعُ بِتَأْثِيرِ الْفَاعِلِ مَوْصُوفِيَّةُ الْمَاهِيَّةِ بِالْوُجُودِ فَنَقُولُ: تِلْكَ الْمَوْصُوفِيَّةُ إِنْ لَمْ تَكُنْ مَفْهُومًا مُغَايِرًا لِلْمَاهِيَّةِ وَالْوُجُودِ امْتَنَعَ إِسْنَادُهَا إِلَى الْفَاعِلِ، وَإِنْ كَانَتْ مَفْهُومًا مُغَايِرًا فَذَلِكَ الْمَفْهُومُ الْمُغَايِرُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ مَاهِيَّةٌ، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْكَلَامُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْمَاهِيَّاتِ، يَنْفِي التَّأْثِيرَ وَالْمُؤَثِّرَ، وَيَنْفِي الصُّنْعَ وَالصَّانِعَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ يُؤَثِّرُ فِي الْمَاهِيَّاتِ، فَكُلُّ مَا بِالْغَيْرِ فَإِنَّهُ يَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِ الْغَيْرِ، فَلَوْلَا الْمُؤَثِّرُ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْمَاهِيَّةُ مَاهِيَّةً وَلَا حَقِيقَةً، فَبِقُدْرَتِهِ صَارَتِ الْمَاهِيَّاتُ مَاهِيَّاتٍ، وَصَارَتِ الْحَقَائِقُ حَقَائِقَ وَقَبْلَ تَأْثِيرِ قُدْرَتِهِ فَلَا مَاهِيَّةَ وَلَا وُجُودَ وَلَا حَقِيقَةَ وَلَا ثُبُوتَ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ صِدْقُ قَوْلِنَا: «لَا هُوَ إِلَّا هُوَ» أَيْ: لَا تَقَرُّرَ لِشَيْءٍ مِنَ الْمَاهِيَّاتِ وَلَا تَخَصُّصَ لِشَيْءٍ مِنَ الْحَقَائِقِ إِلَّا بِتَقْرِيرِهِ وَتَخْصِيصِهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ «لَا هُوَ إِلَّا هُوَ» وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَابُ الثَّامِنُ فِي بَقِيَّةِ الْمَبَاحِثِ عَنْ أَسْمَاءِ الله تعالى، وفيه مسائل هل أسماؤه تعالى توقيفية: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ أَمِ اصْطِلَاحِيَّةٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ شَيْءٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا إِذَا كَانَ وَارِدًا فِي الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: كُلُّ لَفْظٍ دَلَّ عَلَى مَعْنًى يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِلَّا فَلَا، وَقَالَ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: الِاسْمُ غَيْرٌ، وَالصِّفَةُ غَيْرٌ، فَاسْمِي مُحَمَّدٌ، وَاسْمُكَ أَبُو بَكْرٍ، فَهَذَا مِنْ بَابِ الْأَسْمَاءِ، وَأَمَّا الصِّفَاتُ فَمِثْلُ وَصْفِ هَذَا الْإِنْسَانِ بِكَوْنِهِ طَوِيلًا فَقِيهًا كَذَا وَكَذَا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْفَرْقَ فَيُقَالُ: أَمَّا إِطْلَاقُ الِاسْمِ عَلَى اللَّهِ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا عِنْدَ وُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ، وَأَمَّا الصِّفَاتُ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّوْقِيفِ. وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِأَنْ قَالُوا: إِنَّ الْعَالِمَ لَهُ أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ إِنَّا نَصِفُ اللَّهَ تَعَالَى بِكَوْنِهِ عَالِمًا وَلَا نَصِفُهُ بِكَوْنِهِ طَبِيبًا وَلَا فَقِيهًا، وَلَا نَصِفُهُ بِكَوْنِهِ مُتَيَقِّنًا وَلَا بِكَوْنِهِ مُتَبَيِّنًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّوْقِيفِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ فَقِيلَ: أَمَّا الطَّبِيبُ فَقَدْ وَرَدَ، نُقِلَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا مَرِضَ قِيلَ لَهُ: نُحْضِرُ الطَّبِيبَ؟ قَالَ: الطَّبِيبُ أَمْرَضَنِي، وَأَمَّا الْفَقِيهُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ فَهْمِ غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ كَلَامِهِ بَعْدَ دُخُولِ الشُّبْهَةِ فِيهِ. وَهَذَا الْقَيْدُ مُمْتَنِعُ الثُّبُوتِ فِي حَقِّ اللَّهِ

تَعَالَى، وَأَمَّا الْمُتَيَقِّنُ/ فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ يَقِنَ الْمَاءُ فِي الْحَوْضِ إِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ، فَالْيَقِينُ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي حَصَلَ بِسَبَبِ تَعَاقُبِ الْأَمَارَاتِ الْكَثِيرَةِ وَتَرَادُفِهَا حَتَّى بَلَغَ الْمَجْمُوعُ إِلَى إِفَادَةِ الْجَزْمِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ وَأَمَّا التَّبْيِينُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الظُّهُورِ بَعْدَ الْخَفَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّبْيِينَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَيْنُونَةِ وَالْإِبَانَةِ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُتَّصِلَيْنِ، فَإِذَا حَصَلَ فِي الْقَلْبِ اشْتِبَاهُ صُورَةٍ بِصُورَةٍ ثُمَّ انْفَصَلَتْ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى فَقَدْ حَصَلَتِ الْبَيْنُونَةُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ سُمِّيَ ذَلِكَ بَيَانًا وَتَبْيِينًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى التَّوْقِيفِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ مَذْكُورَةٌ بِالْفَارِسِيَّةِ وَبِالتُّرْكِيَّةِ وَبِالْهِنْدِيَّةِ، وَأَنَّ شَيْئًا مِنْهَا لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي الْأَخْبَارِ، مَعَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ إِطْلَاقِهَا. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الْأَعْرَافِ: 180] وَالِاسْمُ لَا يَحْسُنُ إِلَّا لِدَلَالَتِهِ عَلَى صِفَاتِ الْمَدْحِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ، فَكُلُّ اسْمٍ دَلَّ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي كَانَ اسْمًا حَسَنًا، فَوَجَبَ جَوَازُ إِطْلَاقِهِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى تَمَسُّكًا بِهَذِهِ الْآيَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْأَلْفَاظِ إِلَّا رِعَايَةُ الْمَعَانِي، فَإِذَا كَانَتِ الْمَعَانِي صَحِيحَةً كَانَ الْمَنْعُ مِنْ إِطْلَاقِ اللَّفْظَةِ الْمُعَيَّنَةِ عَبَثًا، وَأَمَّا الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فَحُجَّتُهُ أَنَّ وَضْعَ الِاسْمِ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ مِنَّا يُعَدُّ سُوءَ أَدَبٍ، فَفِي حَقِّ اللَّهِ أَوْلَى، أَمَّا ذِكْرُ الصِّفَاتِ بِالْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي حَقِّنَا مِنْ غَيْرِ مَنْعٍ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْبَارِئِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ أَلْفَاظٌ دَالَّةٌ عَلَى صِفَاتٍ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَحْنُ نَعُدُّ مِنْهَا صُوَرًا، فَأَحَدُهَا: الِاسْتِهْزَاءُ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 15] ثُمَّ إِنَّ الِاسْتِهْزَاءَ جَهْلٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا قَالُوا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [الْبَقَرَةِ: 67] وَثَانِيهَا: الْمَكْرُ، قَالَ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: 54] وَثَالِثُهَا: الْغَضَبُ قَالَ تَعَالَى: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الْفَتْحِ: 6] وَرَابِعُهَا: التَّعَجُّبُ، قَالَ تَعَالَى: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ [الصَّافَّاتِ: 12] فَمَنْ قَرَأَ عَجِبْتُ بِضَمِّ التَّاءِ كَانَ التَّعَجُّبُ مَنْسُوبًا إِلَى اللَّهِ، وَالتَّعَجُّبُ عِبَارَةٌ عَنْ حَالَةٍ تَعْرِضُ فِي الْقَلْبِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِسَبَبِ الشَّيْءِ، وَخَامِسُهَا: التَّكَبُّرُ، قَالَ تَعَالَى: الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الْحَشْرِ: 23] وَهُوَ صِفَةُ ذَمٍّ، وَسَادِسُهَا: الْحَيَاءُ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا [الْبَقَرَةِ: 26] وَالْحَيَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ تَغَيُّرٍ يَحْصُلُ فِي الْوَجْهِ وَالْقَلْبِ عِنْدَ فِعْلِ شَيْءٍ قَبِيحٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَانُونَ الصَّحِيحَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَنْ نَقُولَ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ أمور توجد معها في البداية، وآثار تَصْدُرُ عَنْهَا فِي النِّهَايَةِ، مِثَالُهُ أَنَّ الْغَضَبَ حَالَةٌ تَحْصُلُ فِي/ الْقَلْبِ عِنْدَ غَلَيَانِ دَمِ الْقَلْبِ وَسُخُونَةِ الْمِزَاجِ، وَالْأَثَرُ الْحَاصِلُ مِنْهَا فِي النِّهَايَةِ إِيصَالُ الضَّرَرِ إِلَى الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ، فَإِذَا سَمِعْتَ الْغَضَبَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَاحْمِلْهُ عَلَى نِهَايَاتِ الْأَعْرَاضِ لَا عَلَى بِدَايَاتِ الْأَعْرَاضِ، وقس الباقي عليه. بيان أن أسماء الله لا تحصى: المسألة الثالثة: [بيان أن أسماء الله لا تحصى] رَأَيْتُ فِي بَعْضِ «كُتُبِ التَّذْكِيرِ» أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَرْبَعَةَ آلَافِ اسْمٍ: أَلْفٌ مِنْهَا فِي الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ وَأَلْفٌ مِنْهَا فِي التَّوْرَاةِ، وَأَلْفٌ فِي الْإِنْجِيلِ، وَأَلْفٌ فِي الزَّبُورِ وَيُقَالُ: أَلْفٌ آخَرُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَلَمْ يَصِلْ ذَلِكَ الْأَلْفُ إِلَى عَالَمِ الْبَشَرِ، وَأَقُولُ: هَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ أَقْسَامَ صِفَاتِ اللَّهِ بِحَسَبِ السُّلُوبِ وَالْإِضَافَاتِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَنَبَّهْنَا عَلَى تَقْرِيرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَشَرَحْنَاهُ شَرْحًا بَلِيغًا، بَلْ نَقُولُ: كُلُّ

مَنْ كَانَ اطِّلَاعُهُ عَلَى آثَارِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَدْبِيرِ الْعَالَمِ الْأَعْلَى وَتَدْبِيرِ الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ أَكْثَرَ، كَانَ اطِّلَاعُهُ عَلَى أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَكْثَرَ، وَوُقُوفُهُ عَلَى الصِّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ أَكْثَرَ، فَمَنْ طَالَعَ تَشْرِيحَ بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَوَقَفَ فِيهِ عَلَى مَا يَقْرُبُ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ فِي تَخْلِيقِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ فَقَدْ حَصَلَ فِي عَقْلِهِ عَشَرَةُ آلَافِ نَوْعٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الدَّالَّةِ عَلَى الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ، ثُمَّ إِنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى الْعَدَدِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَقْسَامِ الرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ صَارَ ذَلِكَ مُنَبِّهًا لِلْعَقْلِ عَلَى أَنَّ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْهُ مِنْ أَقْسَامِ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ فِي تَخْلِيقِ هَذَا البدن أكثر مما عرفه، وذلك لَمَّا عَرَفَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ الدِّمَاغِيَّةَ مِنَ الْعَصَبِ سَبْعَةٌ، عَرَفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فَائِدَةً وَحِكْمَةً، ثُمَّ لَمَّا عَرَفَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ عَرَفَ بِالْجِبِلَّةِ الشَّدِيدَةِ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ. ثُمَّ إِنَّ الْعَقْلَ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ يَنْقَسِمُ إِلَى شَظَايَا دَقِيقَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الشَّظَايَا تَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ أُخَرَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ يَتَّصِلُ بِعُضْوٍ مُعَيَّنٍ اتِّصَالًا مُعَيَّنًا. وَيَكُونُ وُصُولُ ذَلِكَ الْقِسْمِ إِلَى ذَلِكَ الْعُضْوِ فِي مَمَرٍّ مُعَيَّنٍ، إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا كَثُرَتْ وَدَقَّتْ خَرَجَتْ عَنْ ضَبْطِ الْعَقْلِ، فَثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الْعَشَرَةَ آلَافٍ تُنَبِّهُ الْعَقْلَ عَلَى أَنَّ أَقْسَامَ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَخْلِيقِ هَذَا الْبَدَنِ خَارِجٌ عَنِ التَّعْدِيدِ وَالتَّحْدِيدِ وَالْإِحْصَاءِ وَالِاسْتِقْصَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: 34، النحل: 18] فَكُلُّ مَنْ وَقَفَ عَلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ فَقَدْ وَصَلَ إِلَى مَعْرِفَةِ اسْمٍ آخَرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ لَا نِهَايَةَ لِمَرَاتِبِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ فَكَذَلِكَ لَا نِهَايَةَ لِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَلِصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، وَذَكَرَ جَالِينُوسُ فِي «كِتَابِ مَنَافِعُ الْأَعْضَاءِ» أَنَّهُ لَمَّا صَنَّفَ ذَلِكَ الْكِتَابَ لَمْ يَكْتُبْ فِيهِ مَنَافِعَ مَجْمَعِ النُّورِ، قَالَ: وَإِنَّمَا تَرَكْتُ كِتَابَتَهَا ضِنَّةً بِهَا لِشَرَفِهَا، فَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ/ اللَّيَالِي كَأَنَّ مَلَكًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ: جَالِينُوسُ، إِنَّ إِلَهَكَ يَقُولُ: لِمَ أَخْفَيْتَ حِكْمَتِي عَنْ عِبَادِي قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَيْتُ صَنَّفْتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كِتَابًا مُفْرَدًا، وَبَالَغْتُ فِي شَرْحِهِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِأَسْمَاءِ الله الحسنى. حكم الأذكار التي في الرقى: المسألة الرابعة: [حكم الأذكار التي في الرقى] أَنَّا نَرَى فِي «كُتُبِ الطِّلَسْمَاتِ وَالْعَزَائِمِ» أَذْكَارًا غَيْرَ مَعْلُومَةٍ وَرُقًى غَيْرَ مَفْهُومَةٍ وَكَمَا أَنَّ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ فَقَدْ تَكُونُ الْكِتَابَةُ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ، وَأَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْكِتَابَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْأَلْفَاظِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَلْفَاظَ دَالَّةٌ عَلَى الصُّوَرِ الذِّهْنِيَّةِ فَتِلْكَ الرُّقَى إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَائِدَةٌ. وَإِنْ كَانَتْ دَالَّةً عَلَى شَيْءٍ فَدَلَالَتُهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى صِفَاتِ اللَّهِ وَنُعُوتِ كِبْرِيَائِهِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى شَيْءٍ آخَرَ: أَمَّا الثَّانِي فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ، لِأَنَّ ذِكْرَ غَيْرِ اللَّهِ لَا يُفِيدُ لَا التَّرْغِيبَ وَلَا التَّرْهِيبَ، فَبَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَصِفَاتِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، فَنَقُولُ: وَلَمَّا كَانَتْ أَقْسَامُ ذِكْرِ اللَّهِ مَضْبُوطَةً وَلَا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا كَانَ أَحْسَنُ أَحْوَالِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ، وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ الْحَاصِلُ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ فَقَلِيلُ الْأَثَرِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَذْكَارُ الْمَعْلُومَةُ أَدْخَلَ فِي التَّأْثِيرِ مِنْ قِرَاءَةِ تِلْكَ الْمَجْهُولَاتِ، لَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ نُفُوسَ أَكْثَرِ الْخَلْقِ نَاقِصَةٌ قَاصِرَةٌ، فَإِذَا قَرَءُوا هَذِهِ الْأَذْكَارَ الْمَعْلُومَةَ وَفَهِمُوا ظَوَاهِرَهَا وَلَيْسَتْ لَهُمْ نُفُوسٌ قَوِيَّةٌ مُشْرِقَةٌ إِلَهِيَّةٌ لَمْ يَقْوَ تَأَثُّرُهُمْ عَنِ الْإِلَهِيَّاتِ وَلَمْ تَتَجَرَّدْ نُفُوسُهُمْ عَنْ هَذِهِ الْجُسْمَانِيَّاتِ، فَلَا تَحْصُلُ لِنُفُوسِهِمْ قُوَّةٌ وَقُدْرَةٌ عَلَى التَّأْثِيرِ، أَمَّا إِذَا قَرَءُوا تِلْكَ الْأَلْفَاظَ الْمَجْهُولَةَ وَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْهَا شَيْئًا وَحَصَلَتْ عِنْدَهُمْ أَوْهَامٌ أَنَّهَا كَلِمَاتٌ عَالِيَةٌ اسْتَوْلَى الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ وَالرُّعْبُ عَلَى نُفُوسِهِمْ فَحَصَلَ لَهُمْ بِهَذَا السَّبَبِ نَوْعٌ مِنَ التَّجَرُّدِ عَنْ عَالَمِ الْجِسْمِ،

الباب التاسع في المباحث المتعلقة بقولنا: "الله"

وَتَوَجُّهٌ إِلَى عَالَمِ الْقُدْسِ، وَحَصَلَ بِهَذَا السَّبَبِ لِنُفُوسِهِمْ مَزِيدُ قُوَّةٍ وَقُدْرَةٍ عَلَى التَّأْثِيرِ، فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي قِرَاءَةِ هَذِهِ الرُّقَى الْمَجْهُولَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ بَيْنَ الْخَلْقِ وَبَيْنَ أَسْمَاءِ الله تعالى مناسبات عجيبة، والعامل لَا بُدَّ وَأَنْ يَعْتَبِرَ تِلْكَ الْمُنَاسَبَاتِ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِالذِّكْرِ، وَالْكَلَامُ فِي شَرْحِ هَذَا الْبَابِ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَةٍ عَقْلِيَّةٍ وَهِيَ أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ النُّفُوسَ النَّاطِقَةَ الْبَشَرِيَّةَ مُخْتَلِفَةٌ بِالْجَوْهَرِ وَالْمَاهِيَّةِ، فَبَعْضُهَا إِلَهِيَّةٌ مُشْرِقَةٌ حُرَّةٌ كَرِيمَةٌ، وَبَعْضُهَا سُفْلِيَّةٌ ظُلْمَانِيَّةٌ نَذْلَةٌ خَسِيسَةٌ، وَبَعْضُهَا رَحِيمَةٌ عَظِيمَةُ الرَّحْمَةِ، وَبَعْضُهَا قَاسِيَةٌ قَاهِرَةٌ، وَبَعْضُهَا قَلِيلَةُ الْحُبِّ لِهَذِهِ الْجُسْمَانِيَّاتِ قَلِيلَةُ الْمَيْلِ إِلَيْهَا، وَبَعْضُهَا مُحِبَّةٌ لِلرِّيَاسَةِ وَالِاسْتِعْلَاءِ، وَمَنِ اعْتَبَرَ أَحْوَالَ الْخَلْقِ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ ثُمَّ إِنَّا نَرَى هَذِهِ الْأَحْوَالَ لَازِمَةٌ لِجَوَاهِرِ النُّفُوسِ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ رَاعَى أَحْوَالَ نَفْسِهِ عَلِمَ أَنَّ لَهُ مَنْهَجًا مُعَيَّنًا وَطَرِيقًا مُبَيَّنًا فِي الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ/ وَالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَأَنَّ الرِّيَاضَةَ وَالْمُجَاهَدَةَ لَا تَقْلِبُ النُّفُوسَ عَنْ أَحْوَالِهَا الْأَصْلِيَّةِ وَمَنَاهِجِهَا الطَّبِيعِيَّةِ، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ الرِّيَاضَةِ فِي أَنْ تَضْعُفَ تِلْكَ الْأَخْلَاقُ وَلَا تَسْتَوْلِيَ عَلَى الْإِنْسَانِ، فَأَمَّا أَنْ يَنْقَلِبَ مِنْ صِفَةٍ أُخْرَى فَذَلِكَ مُحَالٌ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ» إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْجِنْسِيَّةُ عِلَّةُ الضَّمِّ، فَكُلُّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى دَالٌّ عَلَى مَعْنًى مُعَيَّنٍ، فَكُلُّ نَفْسٍ غَلَبَ عَلَيْهَا ذَلِكَ الْمَعْنَى كَانَتْ تِلْكَ النَّفْسُ شَدِيدَةَ الْمُنَاسَبَةِ لِذَلِكَ الِاسْمِ، فَإِذَا وَاظَبَ عَلَى ذِكْرِ ذَلِكَ الِاسْمِ انْتَفَعَ بِهِ سَرِيعًا، وَسَمِعْتُ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا النَّجِيبِ الْبَغْدَادِيَّ السُّهْرَوَرْدِيَّ كَانَ يَأْمُرُ الْمُرِيدَ بِالْأَرْبَعِينَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، ثُمَّ كَانَ يَقْرَأُ عَلَيْهِ الْأَسْمَاءَ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ وَكَانَ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ فَإِنْ رَآهُ عَدِيمَ التَّأَثُّرِ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا عَلَيْهِ قَالَ لَهُ اخْرُجْ إِلَى السُّوقِ وَاشْتَغِلْ بِمُهِمَّاتِ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ مَا خُلِقْتَ لِهَذَا الطَّرِيقِ، وَإِنْ رَآهُ مُتَأَثِّرًا عِنْدَ سَمَاعِ اسْمٍ خَاصٍّ مَزِيدَ التَّأَثُّرِ أَمَرَهُ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذَلِكَ الذِّكْرِ، وَأَقُولُ: هَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ النُّفُوسُ مُخْتَلِفَةً كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُنَاسِبًا لِحَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ، فَإِذَا اشْتَغَلَتْ تِلْكَ النَّفْسُ بِتِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي تُنَاسِبُهَا كَانَ خُرُوجُهَا مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ سَهْلًا هَيِّنًا يَسِيرًا، وَلْيَكُنْ هَذَا آخِرُ كَلَامِنَا فِي الْبَحْثِ عَنْ مُطْلَقِ الْأَسْمَاءِ، وَاللَّهُ الْهَادِي. الْبَابُ التَّاسِعُ فِي الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بقولنا: «الله» وفيه مسائل لفظ الجلالة علم لا مشتق: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ اسْمُ عَلَمٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمُشْتَقٍّ الْبَتَّةَ، وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ، وَقَوْلُ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ، وَحُجَجٌ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَفْظًا مُشْتَقًّا لَكَانَ مَعْنَاهُ مَعْنًى كُلِّيًّا لَا يَمْنَعُ نَفْسَ مَفْهُومِهِ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَقَّ لَا يُفِيدُ إِلَّا أَنَّهُ شَيْءٌ مَا مُبْهَمٌ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ وَهَذَا الْمَفْهُومُ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ بَيْنَ كَثِيرِينَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَوْ كَانَ مُشْتَقًّا لَمْ يَمْنَعْ وُقُوعَ الشَّرِكَةِ فِيهِ بَيْنَ كَثِيرِينَ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ قَوْلُنَا: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» تَوْحِيدًا حَقًّا مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ بَيْنَ كَثِيرِينَ، لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ لَفْظًا مُشْتَقًّا

كَانَ قَوْلُنَا: «اللَّهُ» غَيْرَ مَانِعٍ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَهُ أَشْخَاصٌ كَثِيرَةٌ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ قَوْلُنَا: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» مُوجِبًا لِلتَّوْحِيدِ الْمَحْضِ، وَحَيْثُ أَجْمَعَ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّ قَوْلَنَا: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» يُوجِبُ التَّوْحِيدَ الْمَحْضَ عَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَنَا: «اللَّهُ» اسْمُ عَلَمٍ مَوْضُوعٍ لِتِلْكَ الذَّاتِ الْمُعَيَّنَةِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَقَّةِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ ذَاتًا مُعَيَّنَةً ثُمَّ يَذْكُرَهُ بِالصِّفَاتِ فَإِنَّهُ يَذْكُرُ اسْمَهُ أَوَّلًا ثُمَّ يَذْكُرُ عَقِيبَ الِاسْمِ الصِّفَاتِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: زَيْدٌ الْفَقِيهُ النَّحْوِيُّ الْأُصُولِيُّ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى بِالصِّفَاتِ الْمُقَدَّسَةِ فَإِنَّهُ يَذْكُرُ أَوَّلًا لَفْظَةَ اللَّهُ ثُمَّ يَذْكُرُ عَقِيبَهُ صِفَاتِ الْمَدَائِحِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ الْعَالِمُ الْقَادِرُ الْحَكِيمُ، وَلَا يَعْكِسُونَ هَذَا فَلَا يَقُولُونَ: الْعَالِمُ الْقَادِرُ اللَّهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَنَا: «اللَّهُ» اسْمُ عَلَمٍ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ؟ [إِبْرَاهِيمَ: 1، 2] قُلْنَا: هَاهُنَا قِرَاءَتَانِ مِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ اللَّهُ بِالرَّفْعِ، وَحِينَئِذٍ يَزُولُ السُّؤَالُ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُ مُبْتَدَأً فَقَدْ أَخْرَجَهُ عَنْ جَعْلِهِ صِفَةً لِمَا قَبْلَهُ، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْجَرِّ فَهُوَ نَظِيرٌ لِقَوْلِنَا: هَذِهِ الدَّارُ مِلْكٌ لِلْفَاضِلِ الْعَالِمِ زَيْدٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ زَيْدٍ صِفَةً لِلْعَالِمِ الْفَاضِلِ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا قَالَ هَذِهِ الدَّارُ مِلْكٌ لِلْعَالِمِ الْفَاضِلِ بَقِيَ الِاشْتِبَاهُ فِي أَنَّهُ مَنْ ذَلِكَ الْعَالِمُ الْفَاضِلُ؟ فَقِيلَ عَقِيبَهُ زَيْدٌ، لِيَصِيرَ هَذَا مُزِيلًا لِذَلِكَ الِاشْتِبَاهِ، وَلَمَّا لَمْ يَلْزَمْ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ اسْمُ الْعَلَمِ صَارَ صِفَةً فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ تَعَالَى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مَرْيَمَ 65] وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الصِّفَةُ وَإِلَّا لَكَذَبَ قَوْلُهُ: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ اسْمَ الْعَلَمِ، فَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ اسْمَ عَلَمٍ قَالَ لَيْسَ ذَاكَ إِلَّا قَوْلُنَا اللَّهُ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَيْسَ اسْمَ عَلَمٍ بِوُجُوهٍ وَحُجَجٍ: - الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ [الْأَنْعَامِ: 3] وَقَوْلُهُ: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [البقرة: 255] فَإِنَّ قَوْلَهُ: «اللَّهُ» لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ عَلَمٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ زَيْدٌ فِي الْبَلَدِ، وَهُوَ بَكْرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ الْعَالِمُ الزَّاهِدُ فِي الْبَلَدِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يُعْتَرَضُ عَلَى قَوْلِ النَّحْوِيِّينَ: إِنَّ الضَّمِيرَ لَا يَقَعُ مَوْصُوفًا وَلَا صِفَةً، وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ صِفَةً امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ اسْمَ عَلَمٍ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ اسْمَ الْعَلَمِ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِشَارَةِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْإِشَارَةُ مُمْتَنِعَةً فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ اسْمُ الْعَلَمِ مُمْتَنِعًا فِي حَقِّهِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ اسْمَ الْعَلَمِ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ لِيَتَمَيَّزَ شَخْصٌ عَنْ شَخْصٍ آخَرَ يُشْبِهُهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَاهِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ اللَّهِ مُمْتَنِعًا كَانَ الْقَوْلُ بِإِثْبَاتِ الِاسْمِ الْعَلَمِ مُحَالًا فِي حَقِّهِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى أَنْ يُقَالَ: هَذَا زَيْدٌ الَّذِي/ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ؟ وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي أَنَّ الِاسْمَ الْعَلَمَ هُوَ الَّذِي وُضِعَ لِتَعْيِينِ الذَّاتِ الْمُعَيَّنَةِ، وَلَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْمُسَمَّى مُشَارًا إِلَيْهِ بِالْحِسِّ أَمْ لَا، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنِ الْحُجَّةِ الثَّالِثَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ ذَكَرُوا فِيهِ فُرُوعًا: - الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَعْبُودُ، سَوَاءٌ عُبِدَ بِحَقٍّ أَوْ بِبَاطِلٍ، ثُمَّ غَلَبَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عَلَى المعبود

بِالْحَقِّ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لَا يَكُونُ إِلَهًا فِي الْأَزَلِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُنْعِمُ بِجَمِيعِ النِّعَمِ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ، وَالْوَاجِبُ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ، وَالْمُمْكِنُ لَا يُوجَبُ إِلَّا بِالْمُرَجَّحِ، فَكُلُّ الْمُمْكِنَاتِ إِنَّمَا وُجِدَتْ بِإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ إِمَّا ابْتِدَاءً وَإِمَّا بِوَاسِطَةٍ، فَجَمِيعُ مَا حَصَلَ لِلْعَبْدِ مِنْ أَقْسَامِ النِّعَمِ لَمْ يَحْصُلْ إِلَّا مِنَ اللَّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ غَايَةَ الْإِنْعَامِ صَادِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَالْعِبَادَةُ غَايَةُ التَّعْظِيمِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ غَايَةَ التَّعْظِيمِ لَا يَلِيقُ إِلَّا لِمَنْ صَدَرَتْ عَنْهُ غَايَةُ الْإِنْعَامِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْعُبُودِيَّةِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. الْفَرْعُ الثَّانِي: أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يعبد الله لطلب الثواب وهو جهل وسحف، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ لِيَتَوَصَّلَ بِعِبَادَتِهِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ كَانَ الْمَعْبُودُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ ذَلِكَ الشَّيْءُ، فَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ لِطَلَبِ الثَّوَابِ كَانَ مَعْبُودُهُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الثَّوَابُ، وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى وَسِيلَةً إِلَى الْوُصُولِ إِلَى ذَلِكَ الْمَعْبُودِ، وَهَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أُصَلِّي لِطَلَبِ الثَّوَابِ أَوْ لِلْخَوْفِ مِنَ الْعِقَابِ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. الثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لِغَرَضٍ آخَرَ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ وَجَدَ ذَلِكَ الْغَرَضَ بِطَرِيقٍ آخَرَ لَتَرَكَ الْوَاسِطَةَ، فَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ لِلْأَجْرِ وَالثَّوَابِ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ وَجَدَ الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ بِطَرِيقٍ آخَرَ لَمْ يَعْبُدِ اللَّهَ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُحِبًّا لِلَّهِ وَلَمْ يَكُنْ رَاغِبًا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَهْلٌ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ لِغَرَضٍ أَعْلَى مِنَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنْ يَتَشَرَّفَ بِخِدْمَةِ الله، لأنه إذا شرع في فِي الصَّلَاةِ حَصَلَتِ النِّيَّةُ فِي الْقَلْبِ، وَتِلْكَ النِّيَّةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْعِلْمِ بِعِزَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَذِلَّةِ الْعُبُودِيَّةِ، وَحَصَلَ الذِّكْرُ فِي اللِّسَانِ، وَحَصَلَتِ الْخِدْمَةُ فِي الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ فَيَتَشَرَّفُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْعَبْدِ بِخِدْمَةِ اللَّهِ، فَمَقْصُودُ الْعَبْدِ حُصُولُ هَذَا الشَّرَفِ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ طَعَنَ فِي قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الْإِلَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَوْثَانَ عُبِدَتْ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ آلِهَةً. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى إِلَهُ الْجَمَادَاتِ وَالْبَهَائِمِ، مَعَ أَنَّ صُدُورَ الْعِبَادَةِ مِنْهَا مُحَالٌ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِلَهُ الْمَجَانِينِ وَالْأَطْفَالِ، مَعَ أَنَّهُ لَا تَصْدُرُ/ الْعِبَادَةُ عَنْهَا. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَعْبُودَ لَيْسَ لَهُ بِكَوْنِهِ مَعْبُودًا صِفَةٌ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَوْنِهِ مَعْبُودًا إِلَّا أَنَّهُ مَذْكُورٌ بِذِكْرِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ، وَمَعْلُومٌ بِعِلْمِهِ، وَمُرَادٌ خِدْمَتُهُ بِإِرَادَتِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا تَكُونُ الْإِلَهِيَّةُ صِفَةً لِلَّهِ تَعَالَى. الْخَامِسُ: يَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى مَا كَانَ إِلَهًا فِي الْأَزَلِ. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْإِلَهُ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الْمَعْبُودِ، بَلِ الْإِلَهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا، وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَكُونَ إِلَهًا لِلْجَمَادَاتِ وَالْبَهَائِمِ وَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينَ، وَأَنْ لَا يَكُونَ إِلَهًا فِي الْأَزَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى أَفْعَالٍ لَوْ فَعَلَهَا لَاسْتَحَقَّ الْعِبَادَةَ مِمَّنْ يَصِحُّ صُدُورُ الْعِبَادَةِ عَنْهُ، وَاعْلَمْ أَنَّا إِنْ فَسَّرْنَا الْإِلَهَ بِالتَّفْسِيرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَمْ يَكُنْ إِلَهًا فِي الْأَزَلِ، وَلَوْ فَسَّرْنَاهُ بِالتَّفْسِيرِ الثَّالِثِ كَانَ إِلَهًا فِي الْأَزَلِ. التَّفْسِيرُ الثَّانِي: الْإِلَهُ مُشْتَقٌّ مِنْ أَلَهْتُ إِلَى فُلَانٍ، أَيْ: سَكَنْتُ إِلَيْهِ، فَالْعُقُولُ لَا تَسْكُنُ إِلَّا إِلَى ذِكْرِهِ وَالْأَرْوَاحُ لَا تَعْرُجُ إِلَّا بِمَعْرِفَتِهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَمَالَ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ، وَمَا سِوَى الْحَقِّ فَهُوَ نَاقِصٌ لِذَاتِهِ، لِأَنَّ الْمُمْكِنَ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ مَعْدُومٌ، وَالْعَدَمُ أَصْلُ النُّقْصَانِ وَالنَّاقِصُ بِذَاتِهِ لَا يَكْمُلُ إِلَّا بِتَكْمِيلِ الْكَامِلِ بِذَاتِهِ، فَإِذَا كَانَ الْكَامِلُ مَحْبُوبًا لِذَاتِهِ وَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ كَامِلٌ لِذَاتِهِ وَجَبَ كَوْنُهُ مَحْبُوبًا لِذَاتِهِ. الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يَقِفُ عِنْدَ نَفْسِهِ، بَلْ يَبْقَى مُتَعَلِّقًا بِغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِوُجُودِ غَيْرِهِ، فَعَلَى هَذَا كُلُّ مُمْكِنٍ فَإِنَّهُ لَا يَقِفُ عِنْدَ نَفْسِهِ بَلْ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْوَاجِبِ لِذَاتِهِ لَمْ يُوجَدْ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ في الوجود

الْخَارِجِيِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي الْوُجُودِ الْعَقْلِيِّ، فَالْعُقُولُ مُتَرَقِّبَةٌ إِلَى عَتَبَةِ رَحْمَتِهِ وَالْخَوَاطِرُ مُتَمَسِّكَةٌ بِذَيْلِ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ، وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ عَلَيْهِمَا التَّعْوِيلُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْدِ: 28] . التَّفْسِيرُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَلَهِ، وَهُوَ ذَهَابُ الْعَقْلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَلْقَ قِسْمَانِ: وَاصِلُونَ إِلَى سَاحِلِ بَحْرِ مَعْرِفَتِهِ، وَمَحْرُومُونَ، فَالْمَحْرُومُونَ قَدْ بَقُوا فِي ظُلُمَاتِ الْحَيْرَةِ وَتِيهِ الْجَهَالَةِ فَكَأَنَّهُمْ فَقَدُوا عُقُولَهُمْ وَأَرْوَاحَهُمْ، وَأَمَّا الْوَاجِدُونَ فَقَدْ وَصَلُوا إِلَى عَرْصَةِ النُّورِ وَفُسْحَةِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْجَلَالِ، فَتَاهُوا فِي مَيَادِينِ الصَّمَدِيَّةِ، وَبَادُوا فِي عَرْصَةِ الْفَرْدَانِيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ وَالِهُونَ فِي مَعْرِفَتِهِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الْإِلَهُ الْحَقُّ لِلْخَلْقِ هُوَ هُوَ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ تَسَابَقَتْ فِي مَيَادِينِ التَّوْحِيدِ وَالتَّمْجِيدِ فَبَعْضُهَا تَخَلَّفَتْ وَبَعْضُهَا سَبَقَتْ فَالَّتِي تَخَلَّفَتْ بَقِيَتْ فِي ظُلُمَاتِ الْغُبَارِ وَالَّتِي سَبَقَتْ وَصَلَتْ إِلَى عَالَمِ الْأَنْوَارِ، فَالْأَوَّلُونَ بَادُوا فِي أَوْدِيَةِ الظُّلُمَاتِ، وَالْآخَرُونَ طَاشُوا فِي أَنْوَارِ عَالَمِ الْكَرَامَاتِ. التَّفْسِيرُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ لَاهَ إِذَا ارْتَفَعَ، وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُرْتَفِعُ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمُمْكِنَاتِ وَمُنَاسِبَةِ الْمُحْدَثَاتِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ لِذَاتِهِ لَيْسَ إِلَّا هُوَ، وَالْكَامِلَ لِذَاتِهِ لَيْسَ إِلَّا هُوَ، وَالْأَحَدُ الْحَقُّ فِي هُوِيَّتِهِ لَيْسَ إِلَّا هُوَ، وَالْمُوجِدُ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ لَيْسَ إِلَّا هُوَ، وَأَيْضًا فَهُوَ تَعَالَى مُرْتَفِعٌ عَنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ارْتِفَاعَهُ بِحَسَبِ الْمَكَانِ، لِأَنَّ كُلَّ ارْتِفَاعٍ حَصَلَ بِسَبَبِ الْمَكَانِ فَهُوَ لِلْمَكَانِ بِالذَّاتِ وَلِلْمُتَمَكِّنِ بِالْعَرْضِ، لِأَجْلِ حُصُولِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَمَا بِالذَّاتِ أَشْرَفُ مِمَّا بِالْغَيْرِ، فَلَوْ كَانَ هَذَا الِارْتِفَاعُ بِسَبَبِ الْمَكَانِ لَكَانَ ذَلِكَ الْمَكَانُ أَعْلَى وَأَشْرَفَ مِنْ ذَاتِ الرَّحْمَنِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا عَلِمْنَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ عُلُوُّهُ بِسَبَبِ الْمَكَانِ، وَأَشْرَفُ مِنْ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا حَصَلَ فِي عَالَمِ الْإِمْكَانِ. التَّفْسِيرُ الْخَامِسُ: مِنْ أَلِهَ فِي الشَّيْءِ إِذَا تَحَيَّرَ فِيهِ وَلَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ، فَالْعَبْدُ إِذَا تَفَكَّرَ فِيهِ تَحَيَّرَ، لِأَنَّ كُلَّ مَا يَتَخَيَّلُهُ الْإِنْسَانُ وَيَتَصَوَّرُهُ فَهُوَ بِخِلَافِهِ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْعَقْلُ وُجُودَهُ كَذَّبَتْهُ نَفْسُهُ، لِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُحْتَاجٌ، وَحُصُولُ الْمُحْتَاجِ بِدُونِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ مُحَالٌ، وَإِنْ أَشَارَ إِلَى شَيْءٍ يَضْبُطُهُ الْحِسُّ وَالْخَيَالُ وَقَالَ إِنَّهُ هُوَ كَذَّبَتْهُ نَفْسُهُ أَيْضًا، لِأَنَّ كُلَّ مَا يَضْبُطُهُ الْحِسُّ وَالْخَيَالُ فَأَمَارَاتُ الْحُدُوثِ ظَاهِرَةٌ فِيهِ، فَلَمْ يَبْقَ فِي يَدِ الْعَقْلِ إِلَّا أَنْ يُقِرَّ بِالْوُجُودِ وَالْكَمَالِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ عَنِ الإدراك، فههنا الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إِدْرَاكٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مَوْقِفٌ عَجِيبٌ تَتَحَيَّرُ الْعُقُولُ فِيهِ وَتَضْطَرِبُ الْأَلْبَابُ فِي حَوَاشِيهِ. التَّفْسِيرُ السَّادِسُ: مِنْ لَاهَ يَلُوهُ إِذَا احْتَجَبَ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مُحْتَجِبًا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بِكُنْهِ صَمَدِيَّتِهِ مُحْتَجِبٌ عَنِ الْعُقُولِ. الثَّانِي: أَنْ لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الشَّمْسَ كَانَتْ وَاقِفَةً فِي وَسَطِ الْفَلَكِ غَيْرَ مُتَحَرِّكَةٍ كَانَتِ الْأَنْوَارُ بَاقِيَةً عَلَى الْجُدْرَانِ غَيْرَ زَائِلَةٍ عَنْهَا، فَحِينَئِذٍ كَانَ يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَارَ الْوَاقِعَةَ عَلَى هَذِهِ الْجُدْرَانِ ذَاتِيَّةٌ لَهَا، إِلَّا لَمَّا شَاهَدْنَا أَنَّ الشَّمْسَ تَغِيبُ وَعِنْدَ غَيْبَتِهَا تَزُولُ هَذِهِ الْأَنْوَارُ عَنْ هَذِهِ الْجُدْرَانِ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَارَ فَائِضَةٌ عَنْ قُرْصِ الشَّمْسِ، فَكَذَا هَاهُنَا الْوُجُودُ الْوَاصِلُ إِلَى جَمِيعِ عَالَمِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ جَنَابِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَالنُّورِ الْوَاصِلِ مِنْ قُرْصِ الشَّمْسِ، فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ كَانَ يَصِحُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الطُّلُوعُ وَالْغُرُوبُ وَالْغَيْبَةُ وَالْحُضُورُ لَكَانَ عِنْدَ غُرُوبِهِ يَزُولُ ضَوْءُ الْوُجُودِ عَنِ الْمُمْكِنَاتِ، فَحِينَئِذٍ كَانَ يَظْهَرُ أَنَّ نُورَ الْوُجُودِ مِنْهُ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْغُرُوبُ وَالطُّلُوعُ عَلَيْهِ مُحَالًا لَا جَرَمَ خَطَرَ بِبَالِ بَعْضِ النَّاقِصِينَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَوْجُودَةٌ بِذَوَاتِهَا وَلِذَوَاتِهَا،

فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا سَبَبَ لِاحْتِجَابِ نُورِهِ إِلَّا كَمَالُ نُورِهِ، فَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: سُبْحَانَ مَنِ احْتَجَبَ عَنِ الْعُقُولِ بِشِدَّةِ ظُهُورِهِ، وَاخْتَفَى عَنْهَا بِكَمَالِ نُورِهِ/ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ حَقِيقَةَ الصَّمَدِيَّةِ مُحْتَجِبَةٌ عَنِ الْعُقُولِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: مَحْجُوبَةٌ لِأَنَّ الْمَحْجُوبَ مَقْهُورٌ، وَالْمَقْهُورُ يَلِيقُ بِالْعَبْدِ، أَمَّا الْحَقُّ فَقَاهِرٌ، وَصِفَةُ الِاحْتِجَابِ صِفَةُ الْقَهْرِ فَالْحَقُّ مُحْتَجِبٌ، وَالْخَلْقُ مَحْجُوبُونَ. التَّفْسِيرُ السَّابِعُ: اشْتِقَاقُهُ مِنْ أَلِهَ الْفَصِيلُ إِذَا وَلِعَ بِأُمِّهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعِبَادَ مُولَهُونَ مُولَعُونَ بِالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا وَقَعَ فِي بَلَاءٍ عَظِيمٍ وَآفَةٍ قَوِيَّةٍ فَهُنَالِكَ يَنْسَى كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى، فَيَقُولُ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، فَإِذَا تَخَلَّصَ عَنْ ذَلِكَ الْبَلَاءِ وَعَادَ إِلَى مَنَازِلِ الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ أَخَذَ يُضِيفُ ذَلِكَ الْخَلَاصَ إِلَى الْأَسْبَابِ الضَّعِيفَةِ وَالْأَحْوَالِ الْخَسِيسَةِ، وَهَذَا فِعْلٌ مُتَنَاقِضٌ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُخَلِّصُ عَنِ الْآفَاتِ وَالْمُوَصِّلُ إِلَى الْخَيْرَاتِ غَيْرَ اللَّهِ وَجَبَ الرُّجُوعُ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْبَلَاءِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ مُصْلِحُ الْمُهِمَّاتِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَقْتِ الْبَلَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، وَأَمَّا الْفَزَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَاتِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ عِنْدَ الرَّاحَاتِ فَلَا يَلِيقُ بِأَرْبَابِ الْهِدَايَاتِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَيْرَ وَالرَّاحَةَ مَطْلُوبٌ مِنَ اللَّهِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُحْسِنَ فِي الظَّاهِرِ إِمَّا اللَّهُ أَوْ غَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَذَلِكَ الْغَيْرُ لَا يُحْسِنُ إِلَّا إِذَا خَلَقَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ دَاعِيَةَ الْإِحْسَانِ، فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُحْسِنُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَالْمُحْسِنُ مَرْجُوعٌ إِلَيْهِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، وَالْخَلْقُ مَشْغُوفُونَ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ. شَكَا بَعْضُ الْمُرِيدِينَ مِنْ كَثْرَةِ الْوِسْوَاسِ، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ: كُنْتُ حَدَّادًا عَشْرَ سِنِينَ، وَقَصَّارًا عَشَرَةً أُخْرَى، وَبَوَّابًا عَشَرَةً ثَالِثَةً، فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَاكَ فَعَلْتَ ذَلِكَ، قَالَ: فَعَلْتُ وَلَكِنَّكُمْ مَا رَأَيْتُمْ، أَمَا عَرَفْتُمْ أَنَّ الْقَلْبَ كَالْحَدِيدِ؟ فَكُنْتُ كَالْحَدَّادِ أُلَيِّنُهُ بِنَارِ الْخَوْفِ عَشْرَ سِنِينَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ شَرَعْتُ فِي غَسْلِهِ عَنِ الْأَوْضَارِ وَالْأَقْذَارِ عَشْرَ سِنِينَ، ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ جَلَسْتُ عَلَى بَابِ حُجْرَةِ الْقَلْبِ عَشَرَةً أُخْرَى سَالًّا سَيْفَ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فَلَمْ أَزَلْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ حُبُّ غَيْرِ اللَّهِ، وَلَمْ أَزَلْ حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ حُبُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا خَلَتْ عَرْصَةُ الْقَلْبِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوِيَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ اللَّهِ سَقَطَتْ مِنْ بِحَارِ عَالَمِ الْجَلَالِ قَطْرَةٌ مِنَ النُّورِ فَغَرِقَ الْقَلْبُ فِي تِلْكَ الْقَطْرَةِ، وَفَنِيَ عَنِ الْكُلِّ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ إِلَّا مَحْضُ سِرِّ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» . التَّفْسِيرُ الثَّامِنُ: أَنَّ اشْتِقَاقَ لَفْظِ «الْإِلَهُ» مِنْ أَلِهَ الرَّجُلُ يَأْلَهُ إِذَا فَزِعَ مِنْ أَمْرٍ نَزَلَ بِهِ فَأَلَهَهُ أَيْ أَجَارَهُ، وَالْمُجِيرُ لِكُلِّ الْخَلَائِقِ مِنْ كُلِّ الْمَضَارِّ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ [الْمُؤْمِنُونَ: 88] وَلِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النَّحْلِ: 53] وَلِأَنَّهُ هُوَ الْمُطْعِمُ/ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الْأَنْعَامِ: 14] وَلِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِدُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النِّسَاءِ: 87] فَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى قَهَّارٌ لِلْعَدَمِ بِالْوُجُودِ وَالتَّحْصِيلِ، جَبَّارٌ لَهَا بِالْقُوَّةِ وَالْفِعْلِ وَالتَّكْمِيلِ، فَكَانَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ سِوَاهُ. وَهَاهُنَا لَطَائِفُ وَفَوَائِدُ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: عَادَةُ الْمَدْيُونِ أَنَّهُ إِذَا رَأَى صَاحِبَ الدَّيْنِ مِنَ الْبُعْدِ فَإِنَّهُ يَفِرُّ مِنْهُ، وَاللَّهُ الْكَرِيمُ يَقُولُ: عِبَادِي: أَنْتُمْ غُرَمَائِي بِكَثْرَةِ ذُنُوبِكُمْ، وَلَكِنْ لَا تَفِرُّوا مِنِّي، بَلْ أَقُولُ: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذَّارِيَاتِ: 50] فَإِنِّي أَنَا الَّذِي أَقْضِي دُيُونَكُمْ وَأَغْفِرُ ذُنُوبَكُمْ، وَأَيْضًا الْمُلُوكُ يُغْلِقُونَ أَبْوَابَهُمْ عَنِ الْفُقَرَاءِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، وَأَنَا أَفْعَلُ ضِدَّ ذَلِكَ.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَيَتَرَاحَمُونَ، وَأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَقُولُ: إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْهِيمِ، وَإِلَّا فَبِحَارُ الرَّحْمَةِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ فَكَيْفَ يُعْقَلُ تَحْدِيدُهَا بِحَدٍّ مُعَيَّنٍ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُذْنِبِينَ: هَلْ أَحْبَبْتُمْ لِقَائِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلِمَ؟ فَيَقُولُونَ: رَجَوْنَا عَفْوَكَ وَفَضْلَكَ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ لَكُمْ مَغْفِرَتِي. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْشُرُ عَلَى بَعْضِ عِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ هَلْ ظَلَمَكَ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: فَهَلْ كَانَ لَكَ عُذْرٌ فِي عَمَلِ هَذِهِ الذُّنُوبِ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَضَعُ ذَلِكَ الْعَبْدُ قَلْبَهُ عَلَى النَّارِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ لَكَ عِنْدِي حَسَنَةً وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ، ثُمَّ يُخْرِجُ بِطَاقَةً فِيهَا: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» فَيَقُولُ الْعَبْدُ: يَا رَبِّ، كَيْفَ تَقَعُ هَذِهِ الْبِطَاقَةُ فِي مُقَابَلَةِ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَتُوضَعُ الْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ وَالسِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ أُخْرَى، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ وَلَا يَثْقُلُ مَعَ ذِكْرِ اللَّهِ شَيْءٌ. الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: وَقَفَ صَبِيٌّ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ يُنَادَى عَلَيْهِ فِي مَنْ يَزِيدُ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ شَدِيدِ الْحَرِّ، فَبَصُرَتْ بِهِ امْرَأَةٌ فَعَدَتْ إِلَى الصَّبِيِّ وَأَخَذَتْهُ وَأَلْصَقَتْهُ إِلَى بَطْنِهَا، ثُمَّ أَلْقَتْ ظَهْرَهَا عَلَى الْبَطْحَاءِ وَأَجْلَسَتْهُ عَلَى بَطْنِهَا تَقِيهِ الْحَرَّ، وَقَالَتْ: ابْنِي، ابْنِي، فَبَكَى النَّاسُ وَتَرَكُوا مَا هُمْ فِيهِ فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: أَعَجِبْتُمْ مِنْ رَحْمَةِ/ هَذِهِ بِابْنِهَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْحَمُ بِكُمْ جَمِيعًا مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِابْنِهَا، فَتَفَرَّقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْفَرَحِ وَالْبِشَارَةِ. أصل لفظ الجلالة: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ اشْتِقَاقِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ، قَالَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ لَيْسَتْ عَرَبِيَّةً، بَلْ عِبْرَانِيَّةً أَوْ سُرْيَانِيَّةً، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِلَهًا رَحْمَانًا وَمُرْحِيَانًا، فَلَمَّا عُرِّبَ جُعِلَ «اللَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ» وَهَذَا بَعِيدٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْمُشَابَهَةِ الْحَاصِلَةِ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ الطَّعْنُ فِي كَوْنِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ عَرَبِيَّةً أَصْلِيَّةً، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: 25] وَقَالَ تَعَالَى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مَرْيَمَ: 65] وَأَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ لَفْظَةُ «اللَّهُ» وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَقَدْ سَلَّمُوا كَوْنَهَا لَفْظَةً عَرَبِيَّةً، أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ اسْمُ عَلَمٍ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَدْ تَخَلَّصُوا عَنْ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ، وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لِذَلِكَ فَلَهُمْ قَوْلَانِ: قَالَ الْكُوفِيُّونَ: أَصْلُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ إِلَاهُ، فَأُدْخِلَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عَلَيْهَا لِلتَّعْظِيمِ، فَصَارَ الْإِلَاهُ، فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ اسْتِثْقَالًا، لِكَثْرَةِ جَرَيَانِهَا عَلَى الْأَلْسِنَةِ، فَاجْتَمَعَ لَامَانِ، فَأُدْغِمَتِ الْأُولَى فَقَالُوا: «اللَّهُ» وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ أَصْلُهُ لَاهَ، فَأَلْحَقُوا بِهَا الْأَلِفَ وَاللَّامَ فَقِيلَ: «اللَّهُ» وَأَنْشَدُوا: - كَحَلْفَةٍ مِنْ أَبِي رَبَاحٍ ... يَسْمَعُهَا لَاهُهُ الْكِبَارُ فَأَخْرَجَهُ عَلَى الْأَصْلِ.

الباب العاشر في البحث المتعلق بقولنا الرحمن الرحيم

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْخَلِيلُ: أَطْبَقَ جَمِيعُ الْخَلْقِ عَلَى أَنَّ قَوْلَنَا: «اللَّهُ» مَخْصُوصٌ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا الْإِلَهُ مَخْصُوصٌ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا يُطْلِقُونَ اسْمَ الْإِلَهِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّمَا كَانُوا يَذْكُرُونَهُ بِالْإِضَافَةِ كَمَا يُقَالُ إِلَهُ كَذَا، أَوْ يُنْكِرُونَهُ فَيَقُولُونَ: إِلَهٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى خَبَرًا عَنْ قَوْمِ مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف: 138] . خواص لفظ الجلالة: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ مُخْتَصٌّ بِخَوَاصٍّ لَمْ تُوجَدْ فِي سَائِرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَيْهَا: فَالْخَاصَّةُ الْأُولَى: أَنَّكَ إِذَا حَذَفْتَ الْأَلِفَ مِنْ قَوْلِكَ: «اللَّهُ» بَقِيَ الباقي على صورة «الله» وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ سُبْحَانَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْفَتْحِ: 4] وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْمُنَافِقُونَ: 7] وَإِنْ حَذَفْتَ عَنْ هَذِهِ الْبَقِيَّةِ اللَّامَ الْأُولَى بَقِيَتِ الْبَقِيَّةُ عَلَى صُورَةِ «لَهُ» كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الزُّمَرِ: 63] وَقَوْلِهِ: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ [التَّغَابُنِ: 1] فَإِنْ حَذَفْتَ اللَّامَ الْبَاقِيَةَ كَانَتِ الْبَقِيَّةُ هِيَ قَوْلُنَا: «هُوَ» وَهُوَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاصِ: 1] وَقَوْلِهِ: هُوَ الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [غَافِرٍ: 65] وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ بِدَلِيلِ سُقُوطِهَا فِي التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ، فَإِنَّكَ تَقُولُ، هُمَا، هُمْ فَلَا تُبْقِي الْوَاوَ فِيهِمَا، فَهَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي لَفْظِ «اللَّهُ» غَيْرُ/ مَوْجُودَةٍ فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ، وَكَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ بِحَسَبِ اللَّفْظِ فَقَدْ حَصَلَتْ أَيْضًا بِحَسَبِ الْمَعْنَى، فَإِنَّكَ إِذَا دَعَوْتَ اللَّهَ بِالرَّحْمَنِ فَقَدْ وَصَفْتَهُ بِالرَّحْمَةِ، وَمَا وَصَفْتَهُ بِالْقَهْرِ، وَإِذَا دَعَوْتَهُ بِالْعَلِيمِ فَقَدْ وَصَفْتَهُ بِالْعِلْمِ، وَمَا وَصَفَتْهُ بِالْقُدْرَةِ، وَأَمَّا إِذَا قُلْتَ يَا اللَّهُ فَقَدْ وَصَفْتَهُ بِجَمِيعِ الصِّفَاتِ، لِأَنَّ الْإِلَهَ لَا يَكُونُ إِلَهًا إِلَّا إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِجَمِيعِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَنَا اللَّهُ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ الَّتِي لَمْ تَحْصُلْ لِسَائِرِ الْأَسْمَاءِ. الْخَاصِّيَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ وَهِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي بِسَبَبِهَا يَنْتَقِلُ الْكَافِرُ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهَا إِلَّا هَذَا الِاسْمُ، فَلَوْ أَنَّ الْكَافِرَ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الرَّحْمَنُ أَوْ إِلَّا الرَّحِيمُ، أَوْ إِلَّا الْمَلِكُ، أَوْ إِلَّا الْقُدُّوسُ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْكُفْرِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ، أَمَّا إِذَا قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الْكُفْرِ وَيَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ هَذَا الِاسْمِ بِهَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ الشَّرِيفَةِ، وَاللَّهُ الْهَادِي إِلَى الصَّوَابِ. الْبَابُ الْعَاشِرُ في البحث المتعلق بقولنا الرحمن الرحيم الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَشْيَاءَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: الَّذِي يَكُونُ نَافِعًا وَضَرُورِيًّا مَعًا، وَالَّذِي يَكُونُ نَافِعًا وَلَا يَكُونُ ضَرُورِيًّا، وَالَّذِي يَكُونُ ضَرُورِيًّا وَلَا يَكُونُ نَافِعًا، وَالَّذِي لَا يَكُونُ نَافِعًا وَلَا يَكُونُ ضَرُورِيًّا. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: - وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ نَافِعًا وَضَرُورِيًّا مَعًا- فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا فَقَطْ، وَهُوَ مِثْلُ النَّفَسِ- فَإِنَّهُ لَوِ انْقَطَعَ مِنْكَ لَحْظَةً وَاحِدَةً حَصَلَ الْمَوْتُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى،

فَإِنَّهَا إِنْ زَالَتْ عَنِ الْقَلْبِ لَحْظَةً وَاحِدَةً مَاتَ الْقَلْبُ، وَاسْتَوْجَبَ عَذَابَ الْأَبَدِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: - وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ نَافِعًا وَلَا يَكُونُ ضَرُورِيًّا- فَهُوَ كَالْمَالِ فِي الدُّنْيَا وَكَسَائِرِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ فِي الْآخِرَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ- وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ ضَرُورِيًّا وَلَا يَكُونُ نَافِعًا- فَكَالْمَضَارِّ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا: كَالْأَمْرَاضِ، وَالْمَوْتِ، وَالْفَقْرِ، وَالْهَرَمِ، وَلَا نَظِيرَ لِهَذَا الْقِسْمِ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ مَنَافِعَ الْآخِرَةِ لَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَضَارِّ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ- وَهُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ نَافِعًا وَلَا ضَرُورِيًّا- فَهُوَ كَالْفَقْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ النَّفَسَ فِي الدُّنْيَا نَافِعٌ وَضَرُورِيٌّ فَلَوِ انْقَطَعَ عَنِ الْإِنْسَانِ لَحْظَةً لَمَاتَ فِي الْحَالِ، وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ فَلَوْ زَالَتْ عَنِ الْقَلْبِ لَحْظَةً لَمَاتَ الْقَلْبُ لَا مَحَالَةَ، لَكِنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ أَسْهَلُ مِنَ الثَّانِي، لِأَنَّهُ لَا يَتَأَلَّمُ فِي الْمَوْتِ الْأَوَّلِ إِلَّا سَاعَةً وَاحِدَةً، وَأَمَّا الْمَوْتُ الثَّانِي فَإِنَّهُ يَبْقَى أَلَمُهُ أَبَدَ الْآبَادِ، وَكَمَا أَنَّ التَّنَفُّسَ لَهُ أَثَرَانِ: أَحَدُهُمَا: إِدْخَالُ النَّسِيمِ الطَّيِّبِ عَلَى الْقَلْبِ وَإِبْقَاءُ اعْتِدَالِهِ وَسَلَامَتِهِ، وَالثَّانِي: إِخْرَاجُ الْهَوَاءِ الْفَاسِدِ الْحَارِّ الْمُحْتَرِقِ عَنِ الْقَلْبِ، كَذَلِكَ الْفِكْرُ لَهُ أَثَرَانِ: أَحَدُهُمَا: إِيصَالُ نَسِيمِ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ إِلَى الْقَلْبِ وَإِبْقَاءُ اعْتِدَالِ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي: إِخْرَاجُ الْهَوَاءِ الْفَاسِدِ الْمُتَوَلِّدِ مِنَ الشُّبُهَاتِ عَنِ الْقَلْبِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِأَنْ يُعْرَفَ أَنَّ هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ مُتَنَاهِيَةٌ فِي مَقَادِيرِهَا مُنْتَهِيَةٌ بِالْآخِرَةِ إِلَى الْفَنَاءِ بَعْدَ وُجُودِهَا، فَمَنْ وَقَفَ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ بَقِيَ آمِنًا مِنَ الْآفَاتِ وَاصِلًا إِلَى الْخَيْرَاتِ وَالْمَسَرَّاتِ، وَكَمَالُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ يَنْكَشِفُ لِعَقْلِكَ بِأَنْ تَعْرِفَ أَنَّ كُلَّ مَا وَجَدْتَهُ وَوَصَلْتَ إِلَيْهِ فَهُوَ قَطْرَةٌ مِنْ بِحَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَذَرَّةٌ مِنْ أَنْوَارِ إِحْسَانِهِ، فَعِنْدَ هَذَا يَنْفَتِحُ عَلَى قَلْبِكَ مَعْرِفَةُ كَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى رَحْمَانًا رَحِيمًا. فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى التَّفْصِيلِ فَاعْلَمْ أَنَّكَ جَوْهَرٌ مُرَكَّبٌ مِنْ نَفْسٍ، وَبَدَنٍ وَرُوحٍ، وَجَسَدٍ. (أَمَّا نَفْسُكَ) فَلَا شَكَّ أَنَّهَا كَانَتْ جَاهِلَةً فِي مَبْدَأِ الْفِطْرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النمل: 78] ثُمَّ تَأَمَّلْ فِي مَرَاتِبِ الْقُوَى الْحَسَّاسَةِ وَالْمُحَرِّكَةِ وَالْمُدْرِكَةِ وَالْعَاقِلَةِ، وَتَأَمَّلْ فِي مَرَاتِبِ الْمَعْقُولَاتِ وَفِي جِهَاتِهَا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لَهَا الْبَتَّةَ، وَلَوْ أَنَّ الْعَاقِلَ أَخَذَ فِي اكْتِسَابِ الْعِلْمِ بِالْمَعْقُولَاتِ وَسَرَى فِيهَا سَرَيَانَ الْبَرْقِ الْخَاطِفِ وَالرِّيحِ الْعَاصِفِ وَبَقِيَ فِي ذَلِكَ السَّيْرِ أَبَدَ الْآبِدِينَ وَدَهْرَ الدَّاهِرِينَ لَكَانَ الْحَاصِلُ لَهُ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ قَدْرًا مُتَنَاهِيًا، وَلَكَانَتِ الْمَعْلُومَاتُ الَّتِي مَا عَرَفَهَا وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا أَيْضًا غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالْمُتَنَاهِي فِي جَنْبِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِي قَلِيلٌ فِي كَثِيرٍ، فَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ لَهُ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 85] حُقٌّ وَصِدْقٌ. (وَأَمَّا بَدَنُكَ) فَاعْلَمْ أَنَّهُ جَوْهَرٌ مُرَكَّبٌ مِنَ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ، فَتَأَمَّلْ كَيْفِيَّةَ تَرْكِيبِهَا وَتَشْرِيحِهَا، وَتَعَرَّفْ مَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَجْزَاءِ مِنَ الْمَنَافِعِ الْعَالِيَةِ وَالْآثَارِ الشَّرِيفَةِ/ وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ لَكَ صِدْقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: 34] وَحِينَئِذٍ يَنْجَلِي لَكَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ كَمَالِ رَحْمَتِهِ فِي خَلْقِكَ وَهِدَايَتِكَ، فَتَفْهَمُ شَيْئًا قَلِيلًا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ الرحمن الرحيم.

لا رحمن إلا الله. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ لِغَيْرِ اللَّهِ رَحْمَةٌ أَمْ لَا؟ قُلْنَا: الْحَقُّ أَنَّ الرَّحْمَةَ لَيْسَتْ إِلَّا لِلَّهِ، ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ رَحْمَةٌ إِلَّا أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ أَكْمَلُ مِنْ رَحْمَةِ غَيْرِهِ، وَهَاهُنَا مَقَامَانِ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا رَحْمَةَ إِلَّا لِلَّهِ، فَنَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْجُودَ هُوَ إِفَادَةُ مَا يَنْبَغِي لَا لِعِوَضٍ، فَكُلُّ أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ إِنَّمَا يُعْطِي لِيَأْخُذَ عِوَضًا، إِلَّا أَنَّ الْأَعْوَاضَ أَقْسَامٌ: مِنْهَا جُسْمَانِيَّةٌ مِثْلَ أَنْ يُعْطِيَ دِينَارًا لِيَأْخُذَ كِرْبَاسًا، وَمِنْهَا رُوحَانِيَّةٌ وَهِيَ أَقْسَامٌ: فَأَحَدُهَا: أَنَّهُ يُعْطِي الْمَالَ لِطَلَبِ الْخِدْمَةِ، وَثَانِيهَا: يُعْطِي الْمَالَ لِطَلَبِ الْإِعَانَةِ، وَثَالِثُهَا: يُعْطِي الْمَالَ لِطَلَبِ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ، وَرَابِعُهَا: يُعْطِي الْمَالَ لِطَلَبِ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ، وَخَامِسُهَا: يُعْطِي الْمَالَ لِيُزِيلَ حُبَّ الْمَالِ عَنِ الْقَلْبِ، وَسَادِسُهَا: يُعْطِي الْمَالَ لِدَفْعِ الرِّقَّةِ الْجِنْسِيَّةِ عَنْ قَلْبِهِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ أَعْوَاضٌ رُوحَانِيَّةٌ، وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ مَنْ أَعْطَى فَإِنَّمَا يُعْطِي لِيَفُوزَ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْعَطَاءِ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَمَالِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَاوَضَةٌ، وَلَا يَكُونُ جُودًا، وَلَا هِبَةً، وَلَا عَطِيَّةً، أَمَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِنَّهُ كَامِلٌ لِذَاتِهِ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُعْطِيَ لِيَسْتَفِيدَ بِهِ كَمَالًا، فَكَانَ الْجَوَادُ الْمُطْلَقُ وَالرَّاحِمُ الْمُطْلَقُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ سِوَى اللَّهِ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِإِيجَادِ وَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، فَكُلُّ رَحْمَةٍ تَصْدُرُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ فَهِيَ إِنَّمَا دَخَلَتْ فِي الْوُجُودِ بِإِيجَادِ اللَّهِ فَيَكُونُ الرَّحِيمُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ، فَيَمْتَنِعُ رُجْحَانُ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ دَاعِيَةٍ جَازِمَةٍ فِي الْقَلْبِ، فَعِنْدَ عَدَمِ حُصُولِ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ يَمْتَنِعُ صُدُورُ تِلْكَ الرَّحْمَةِ مِنْهُ، وَعِنْدَ حُصُولِهَا يَجِبُ صُدُورُ الرَّحْمَةِ مِنْهُ، فَيَكُونُ الرَّاحِمُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الَّذِي خَلَقَ تلك الداعية في ذلك لقلب، وَمَا ذَاكَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، فَيَكُونُ الرَّاحِمُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: هَبْ أَنَّ فُلَانًا يُعْطِي الْحِنْطَةَ، وَلَكِنْ مَا لَمْ تَحْصُلِ الْمَعِدَةُ الْهَاضِمَةُ لِلطَّعَامِ لَمْ يَحْصُلِ الِانْتِفَاعُ بِتِلْكَ الْحِنْطَةِ، وَهَبْ أَنَّهُ وَهَبَ الْبُسْتَانَ فَمَا لَمْ تَحْصُلِ الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ فِي الْعَيْنِ لَمْ يَحْصُلِ الِانْتِفَاعُ بِذَلِكَ الْبُسْتَانِ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ خَالِقَ تِلْكَ الْحِنْطَةِ وَذَلِكَ الْبُسْتَانِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمُمَكِّنُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِمَا هُوَ اللَّهُ، وَالْحَافِظُ لَهُ عَنْ أَنْوَاعِ الْآفَاتِ وَالْمَخَافَاتِ حَتَّى يَحْصُلَ الِانْتِفَاعُ بِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: الْمُنْعِمُ وَالرَّاحِمُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَقَامُ الثَّانِي: فِي بيان أن تقدير أَنْ تَحْصُلَ الرَّحْمَةُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ إِلَّا أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ أَكْمَلُ وَأَعْظَمُ. وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْعَامَ يُوجِبُ عُلُوَّ حَالِ الْمُنْعِمِ وَدَنَاءَةَ حَالِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُنْعِمِ، فَإِذَا حَصَلَ التَّوَاضُعُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَضْرَةِ اللَّهِ فَذَاكَ خَيْرٌ مِنْ حُصُولِ هَذِهِ الْحَالَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ الْخَلْقِ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِنِعْمَةٍ طَلَبَ عِنْدَهَا مِنْكَ عَمَلًا تَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى اسْتِحْقَاقِ نِعَمِ الْآخِرَةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُكَ بِأَنْ تَكْتَسِبَ لِنَفْسِكَ سَعَادَةَ الْأَبَدِ، وَأَمَّا غَيْرُ اللَّهِ فَإِنَّهُ إِذَا أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِنِعْمَةٍ أَمَرَكَ بِالِاشْتِغَالِ بِخِدْمَتِهِ وَالِانْصِرَافِ إِلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَالَةَ الْأُولَى أَفْضَلُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِ يَصِيرُ كَالْعَبْدِ لِلْمُنْعِمِ، وَعُبُودِيَّةَ اللَّهِ أَوْلَى مِنْ عُبُودِيَّةِ غير الله.

الباب الحادي عشر في بعض النكت المستخرجة من قولنا (بسم الله الرحمن الرحيم)

الرَّابِعُ: أَنَّ السُّلْطَانَ إِذَا أَنْعَمَ عَلَيْكَ فَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِتَفَاصِيلِ أَحْوَالِكَ، فَقَدْ يُنْعِمُ عَلَيْكَ حَالَ مَا تَكُونُ غَنِيًّا عَنْ إِنْعَامِهِ، وَقَدْ يَقْطَعُ عَنْكَ إِنْعَامَهُ حَالَ مَا تَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَى إِنْعَامِهِ، وَأَيْضًا فَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْإِنْعَامِ عَلَيْكَ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ وَبِجَمِيعِ الْمُرَادَاتِ، أَمَّا الْحَقُّ تَعَالَى فَإِنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ بِكَ حَاجَةٌ عَرَفَهَا، وَإِنْ طَلَبْتَ مِنْهُ شَيْئًا قَدَرَ عَلَى تَحْصِيلِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَفْضَلُ. الْخَامِسُ: الْإِنْعَامُ يُوجِبُ الْمِنَّةَ، وَقَبُولُ الْمِنَّةِ مِنَ الْحَقِّ أَفْضَلُ مِنْ قَبُولِهَا مِنَ الْخَلْقِ. فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَحْصُلَ رَحْمَنٌ آخَرُ فَرَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ وَأَعْلَى وَأَجَلُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَابُ الْحَادِيَ عَشَرَ فِي بَعْضِ النُّكَتِ الْمُسْتَخْرَجَةِ من قولنا (بسم الله الرحمن الرحيم) إشارات البسملة: النُّكْتَةُ الْأُولَى: مَرِضَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاشْتَدَّ وَجَعُ بَطْنِهِ، فَشَكَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَدَلَّهُ عَلَى عُشْبٍ فِي الْمَفَازَةِ، فَأَكَلَ مِنْهُ فَعُوفِيَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ عَاوَدَهُ ذَلِكَ الْمَرَضُ فِي وَقْتٍ آخَرَ فَأَكَلَ ذَلِكَ الْعُشْبَ فَازْدَادَ مَرَضُهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، أَكَلْتُهُ أَوَّلًا فَانْتَفَعْتُ بِهِ، وَأَكَلْتُهُ ثَانِيًا فَازْدَادَ مَرَضِي، فَقَالَ: لِأَنَّكَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى ذَهَبْتَ مِنِّي إِلَى الْكَلَأِ فَحَصَلَ فِيهِ الشِّفَاءُ، وَفِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ ذَهَبْتَ مِنْكَ إِلَى الْكَلَأِ فَازْدَادَ الْمَرَضُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا سُمٌّ قَاتِلٌ وَتِرْيَاقُهَا اسْمِي؟. / الثَّانِيَةُ: بَاتَتْ رَابِعَةُ لَيْلَةً فِي التَّهَجُّدِ وَالصَّلَاةِ، فَلَمَّا انْفَجَرَ الصُّبْحُ نَامَتْ، فَدَخَلَ السَّارِقُ دَارَهَا وَأَخَذَ ثِيَابَهَا، وَقَصَدَ الْبَابَ فَلَمْ يَهْتَدِ إِلَى الْبَابِ، فَوَضَعَهَا فَوَجَدَ الْبَابَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَنُودِيَ مِنْ زَاوِيَةِ الْبَيْتِ: ضَعِ الْقُمَاشَ وَاخْرُجْ فَإِنْ نَامَ الْحَبِيبُ فَالسُّلْطَانُ يَقْظَانُ. الثَّالِثَةُ: كَانَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ يَرْعَى غَنَمًا وَحَضَرَ فِي قَطِيعِ غَنَمِهِ الذِّئَابُ، وَهِيَ لَا تَضُرُّ أَغْنَامَهُ، فَمَرَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ وَنَادَاهُ: مَتَى اصْطَلَحَ الذِّئْبُ وَالْغَنَمُ؟ فَقَالَ الرَّاعِي: مِنْ حِينِ اصْطَلَحَ الرَّاعِي مَعَ اللَّهِ تَعَالَى. الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ (بِسْمِ اللَّهِ) مَعْنَاهُ أَبْدَأُ بِاسْمِ اللَّهِ، فَأَسْقَطَ مِنْهُ قَوْلَهُ: «أَبْدَأُ» تَخْفِيفًا، فَإِذَا قُلْتَ بِسْمِ اللَّهِ فَكَأَنَّكَ قَلْتَ أَبْدَأُ بِاسْمِ اللَّهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ مِنْ أَوَّلِ مَا شَرَعَ فِي الْعَمَلِ كَانَ مَدَارُ أَمْرِهِ عَلَى التَّسْهِيلِ وَالتَّخْفِيفِ وَالْمُسَامَحَةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ كَلِمَةٍ ذَكَرَهَا لَكَ جَعَلَهَا دَلِيلًا عَلَى الصَّفْحِ وَالْإِحْسَانِ. الْخَامِسَةُ: رُوِيَ أَنَّ فِرْعَوْنَ قَبْلَ أَنْ يَدَّعِيَ الْإِلَهِيَّةَ بَنَى قَصْرًا وَأَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ (بِسْمِ اللَّهِ) عَلَى بَابِهِ الْخَارِجِ، فَلَمَّا ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَدَعَاهُ فَلَمْ يَرَ بِهِ أَثَرَ الرُّشْدِ قَالَ: إِلَهِي كَمْ أَدْعُوهُ وَلَا أَرَى بِهِ خَيْرًا، فَقَالَ تَعَالَى: يَا مُوسَى، لَعَلَّكَ تُرِيدُ إِهْلَاكَهُ، أَنْتَ تَنْظُرُ إِلَى كُفْرِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى مَا كَتَبَهُ عَلَى بَابِهِ، وَالنُّكْتَةُ أَنَّ مَنْ كَتَبَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَلَى بَابِهِ الْخَارِجِ صَارَ آمِنًا مِنَ الْهَلَاكِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَالَّذِي كَتَبَهُ عَلَى سُوَيْدَاءِ قَلْبِهِ مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهِ إِلَى آخِرِهِ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ؟.

السَّادِسَةُ: سَمَّى نَفْسَهُ رَحْمَانًا رَحِيمًا فَكَيْفَ لَا يَرْحَمُ؟ رُوِيَ أَنَّ سَائِلًا وَقَفَ عَلَى بَابٍ رَفِيعٍ فَسَأَلَ شَيْئًا فَأُعْطِيَ قَلِيلًا، فَجَاءَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي بِفَأْسٍ وَأَخَذَ يُخَرِّبُ الْبَابَ فَقِيلَ لَهُ: وَلِمَ تَفْعَلُ؟ قَالَ: إِمَّا أَنْ يُجْعَلَ الْبَابُ لَائِقًا بِالْعَطِيَّةِ أَوِ الْعَطِيَّةُ لَائِقَةً بِالْبَابِ. إِلَهَنَا إِنَّ بِحَارَ الرَّحْمَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رَحْمَتِكَ أَقَلُّ مِنَ الذَّرَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرْشِ، فَكَمَا أَلْقَيْتَ فِي أَوَّلِ كِتَابِكَ عَلَى عِبَادِكَ صِفَةَ رَحْمَتِكَ فَلَا تَجْعَلْنَا مَحْرُومِينَ عَنْ رَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ. السَّابِعَةُ: «اللَّهُ» إِشَارَةٌ إِلَى الْقَهْرِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعُلُوِّ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ أَكْثَرُ وَأَكْمَلُ مِنْ قَهْرِهِ. الثَّامِنَةُ: كَثِيرًا مَا يَتَّفِقُ لِبَعْضِ عَبِيدِ الْمَلِكِ أَنَّهُمْ إِذَا اشْتَرَوْا شَيْئًا مِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَضَعُوا عَلَيْهَا سِمَةَ الْمَلِكِ لِئَلَّا يَطْمَعَ فِيهَا الْأَعْدَاءُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ لِطَاعَتِكَ عَدُوًّا وَهُوَ الشَّيْطَانُ فَإِذَا شَرَعْتَ فِي عَمَلٍ فَاجْعَلْ عَلَيْهِ سِمَتِي، وَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْعَدُوُّ فِيهَا. التَّاسِعَةُ: اجْعَلْ نَفْسَكَ قَرِينَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى لَا تَبْعُدَ عَنْهُ فِي الدَّارَيْنِ، رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ دَفَعَ خَاتَمَهُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: اكْتُبْ فِيهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَدَفَعَهُ إِلَى النَّقَّاشِ وَقَالَ: اكْتُبْ فِيهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَكَتَبَ النَّقَّاشُ فِيهِ ذَلِكَ، فَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِالْخَاتَمِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى النَّبِيُّ فِيهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا هَذِهِ الزَّوَائِدُ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَضِيتُ أَنْ أُفَرِّقَ اسْمَكَ عَنِ اسْمِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْبَاقِي فَمَا قُلْتُهُ، وَخَجِلَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَّا اسْمُ أَبِي بَكْرٍ فَكَتَبْتُهُ أَنَا لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ أَنْ يُفَرِّقَ اسْمَكَ عَنِ اسْمِ اللَّهِ فَمَا رَضِيَ اللَّهُ أَنْ يُفَرِّقَ اسْمَهُ عَنِ اسْمِكَ، وَالنُّكْتَةُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا لَمْ يَرْضَ بِتَفْرِيقِ اسْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَجَدَ هَذِهِ الْكَرَامَةَ فَكَيْفَ إِذَا لَمْ يُفَارِقِ الْمَرْءُ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى؟. الْعَاشِرَةُ: أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَكِبَ السَّفِينَةَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هُودٍ: 41] فَوَجَدَ النَّجَاةَ بِنِصْفِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، فَمَنْ وَاظَبَ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ طُولَ عُمْرِهِ كَيْفَ يَبْقَى مَحْرُومًا عَنِ النَّجَاةِ؟ وَأَيْضًا أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَالَ مَمْلَكَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النَّمْلِ: 30] فَالْمَرْجُوُّ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَالَهُ فَازَ بِمُلْكِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إِنْ قَالَ قَائِلٌ لِمَ قَدَّمَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْمَ نَفْسِهِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ بِلْقِيسَ لَمَّا وَجَدَتْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مَوْضُوعًا عَلَى وِسَادَتِهَا وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ إِلَيْهَا طَرِيقٌ وَرَأَتِ الْهُدْهُدَ وَاقِفًا عَلَى طَرَفِ الْجِدَارِ عَلِمَتْ أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنْ سُلَيْمَانَ، فَأَخَذَتِ الْكِتَابَ وَقَالَتْ: إِنَّهُ مِنْ سلميان، فَلَمَّا فَتَحَتِ الْكِتَابَ وَرَأَتْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَتْ: وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَوْلُهُ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ مِنْ كَلَامِ بِلْقِيسَ لَا كَلَامِ سُلَيْمَانَ: الثَّانِي: لَعَلَّ سُلَيْمَانَ كَتَبَ عَلَى عُنْوَانِ الْكِتَابِ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَفِي دَاخِلِ الْكِتَابِ ابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ فِي جَمِيعِ الْكُتُبُ، فَلَمَّا أَخَذَتْ بِلْقِيسُ ذَلِكَ الْكِتَابَ قَرَأَتْ مَا فِي عُنْوَانِهِ، فَقَالَتْ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ، فَلَمَّا فَتَحَتِ الْكِتَابَ قَرَأَتْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَتْ: وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: الثَّالِثُ: أَنَّ بِلْقِيسَ كَانَتْ كَافِرَةً فَخَافَ سُلَيْمَانُ أَنْ تَشْتُمَ اللَّهَ إِذَا نَظَرَتْ فِي الْكِتَابِ فَقَدَّمَ اسْمَ نَفْسِهِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، لِيَكُونَ الشَّتْمُ لَهُ لَا لِلَّهِ تَعَالَى.

الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الْبَاءُ مِنْ «بِسْمِ» مُشْتَقٌّ مِنَ الْبِرِّ فَهُوَ الْبَارُّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْوَاعِ الْكَرَامَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَجَلُّ بِرِّهِ وَكَرَامَتِهِ أَنْ يُكْرِمَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِرُؤْيَتِهِ. مَرِضَ لِبَعْضِهِمْ جَارٌ يَهُودِيٌّ قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ لِلْعِيَادَةِ وَقُلْتُ لَهُ: أَسْلِمْ، فَقَالَ: عَلَى مَاذَا؟ قُلْتُ: مِنْ خَوْفِ النَّارِ قَالَ: لَا أُبَالِي بِهَا، فَقُلْتُ: لِلْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ، فَقَالَ: لَا أُرِيدُهَا، قُلْتُ: فَمَاذَا تُرِيدُ؟ قَالَ: عَلَى أَنْ يُرِيَنِي وَجْهَهُ الْكَرِيمَ، قُلْتُ: أَسْلِمْ عَلَى أَنْ تَجِدَ هَذَا الْمَطْلُوبَ، فَقَالَ لِي: اكْتُبْ بِهَذَا خَطًّا، فَكَتَبْتُ لَهُ بِذَلِكَ خَطًّا فَأَسْلَمَ وَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ، فَصَلَّيْنَا عَلَيْهِ وَدَفَنَّاهُ، فَرَأَيْتُهُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّهُ يَتَبَخْتَرُ فَقُلْتُ لَهُ: يَا شَمْعُونُ، مَا فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ؟ قال: غفر لي، وقال لي: أسلمت شوقاً إِلَيَّ. وَأَمَّا السِّينُ فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِهِ السَّمِيعِ، يَسْمَعُ دُعَاءَ الْخَلْقِ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى مَا تَحْتَ الثَّرَى. رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ خَرَجَ مَعَ مُنَافِقٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الطَّائِفِ فَبَلَغَا خَرِبَةً فَقَالَ الْمُنَافِقُ نَدْخُلُ هَاهُنَا وَنَسْتَرِيحُ، فَدَخَلَا وَنَامَ زَيْدٌ فَأَوْثَقَ الْمُنَافِقُ زَيْدًا وَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَقَالَ زَيْدٌ: لِمَ تَقْتُلُنِي؟ قَالَ: لِأَنَّ مُحَمَّدًا يُحِبُّكَ وَأَنَا أُبْغِضُهُ، فَقَالَ زَيْدٌ: يَا رَحْمَنُ أَغِثْنِي، فَسَمِعَ الْمُنَافِقُ صَوْتًا يَقُولُ: وَيْحَكَ لَا تَقْتُلْهُ، فَخَرَجَ مِنَ الْخَرِبَةِ وَنَظَرَ فَلَمْ يَرَ أَحَدًا، فَرَجَعَ وَأَرَادَ قَتْلَهُ فَسَمِعَ صَائِحًا أَقْرَبَ مِنَ الْأَوَّلِ يَقُولُ: لَا تَقْتُلْهُ، فَنَظَرَ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا، فَرَجَعَ الثَّالِثَةَ وَأَرَادَ قَتْلَهُ فَسَمِعَ صَوْتًا قَرِيبًا يَقُولُ: لَا تَقْتُلْهُ، فَخَرَجَ فَرَأَى فَارِسًا مَعَهُ رُمْحٌ فَضَرَبَهُ الْفَارِسُ ضَرْبَةً فَقَتَلَهُ، وَدَخَلَ الْخَرِبَةَ وَحَلَّ وِثَاقَ زَيْدٍ، وَقَالَ لَهُ: أَمَا تَعْرِفُنِي؟ أَنَا جِبْرِيلُ حِينَ دَعَوْتَ كُنْتُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (أَدْرِكْ عَبْدِيَ) ، وَفِي الثَّانِيَةِ كُنْتُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَفِي الثَّالِثَةِ بَلَغْتُ إِلَى الْمُنَافِقِ. وَأَمَّا الْمِيمُ فَمَعْنَاهُ أَنَّ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى مَا تَحْتَ الثَّرَى مُلْكَهُ وَمِلْكَهُ. قَالَ السُّدِّيُّ: أَصَابَ النَّاسُ قَحْطٌ عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَوْ خَرَجْتَ بِالنَّاسِ إِلَى الِاسْتِسْقَاءِ، فَخَرَجُوا وَإِذَا بِنَمْلَةٍ قَائِمَةٍ عَلَى رِجْلَيْهَا بَاسِطَةٍ يَدَيْهَا وَهِيَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِكَ، وَلَا غِنَى لِي عَنْ فَضْلِكَ، قَالَ: فَصَبَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ، فَقَالَ لَهُمْ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ارْجِعُوا فَقَدِ اسْتُجِيبَ لَكُمْ بِدُعَاءِ غَيْرِكُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: «اللَّهُ» فَاعْلَمُوا أَيُّهَا النَّاسُ أَنِّي أَقُولُ طُولَ حَيَاتِي اللَّهُ، فَإِذَا مِتُّ أَقُولُ اللَّهُ، وَإِذَا سُئِلْتُ فِي الْقَبْرِ أَقُولُ اللَّهُ، وَإِذَا جِئْتُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَقُولُ اللَّهُ، وَإِذَا أَخَذْتُ الْكِتَابَ أَقُولُ اللَّهُ وَإِذَا وُزِنَتْ أَعْمَالِي أَقُولُ اللَّهُ، وَإِذَا جُزْتُ الصِّرَاطَ أَقُولُ اللَّهُ، وَإِذَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ أَقُولُ اللَّهُ، وَإِذَا رَأَيْتُ اللَّهَ قَلْتُ اللَّهُ. النُّكْتَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فَاطِرٍ: 32] فَقَالَ: أَنَا اللَّهُ لِلسَّابِقِينَ، الرَّحْمَنُ لِلْمُقْتَصِدِينَ، الرَّحِيمُ لِلظَّالِمِينَ، وَأَيْضًا اللَّهُ هُوَ مُعْطِي الْعَطَاءَ، وَالرَّحْمَنُ هُوَ الْمُتَجَاوِزُ عَنْ زَلَّاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَالرَّحِيمُ هُوَ الْمُتَجَاوِزُ عَنِ الْجَفَاءِ، وَمِنْ كَمَالِ رَحْمَتِهِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ أَعْلَمُ مِنْكَ مَا لَوْ عَلِمَهُ أَبَوَاكَ لَفَارَقَاكَ، وَلَوْ عَلِمَتْهُ الْمَرْأَةُ لَجَفَتْكَ، وَلَوْ عَلِمَتْهُ الْأَمَةُ لَأَقْدَمَتْ عَلَى الْفِرَارِ مِنْكَ، وَلَوْ عَلِمَهُ الْجَارُ لَسَعَى فِي تَخْرِيبِ الدَّارِ، وَأَنَا أَعْلَمُ كُلَّ ذلك وَأَسْتُرُهُ بِكَرَمِي لِتَعْلَمَ أَنِّي إِلَهٌ كَرِيمٌ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: اللَّهُ يُوجِبُ وِلَايَتَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَةِ: 256] وَالرَّحْمَنُ يُوجِبُ

مَحَبَّتَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا [مَرْيَمَ: 96] وَالرَّحِيمُ يُوجِبُ رَحْمَتَهُ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الْأَحْزَابِ: 43] . الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ رَفَعَ قِرْطَاسًا مِنَ الْأَرْضِ فِيهِ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» إِجْلَالًا لَهُ تَعَالَى كُتِبَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الصِّدِّيقِينَ، وَخُفِّفَ عَنْ وَالِدَيْهِ وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ، وَقِصَّةُ بِشْرٍ الْحَافِي فِي هَذَا الْبَابِ مَعْرُوفَةٌ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إِذَا تَوَضَّأْتَ فَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ، فَإِنَّ حَفَظَتْكَ لَا تَبْرَحُ أَنْ تَكْتُبَ لَكَ الْحَسَنَاتِ حَتَّى تَفْرَغَ، وَإِذَا غَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ، فَإِنَّ حفظتك يكتبون لَكَ الْحَسَنَاتُ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْهَا» . وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَتْرُ مَا بَيْنَ أَعْيُنِ الجن والعورات بَنِي آدَمَ إِذَا نَزَعُوا ثِيَابَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَالْإِشَارَةُ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا صَارَ هَذَا الِاسْمُ حِجَابًا بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَعْدَائِكَ مِنَ الْجِنِّ فِي الدُّنْيَا أَفَلَا يَصِيرُ حِجَابًا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الزَّبَانِيَةِ فِي الْعُقْبَى؟» . السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: كَتَبَ قَيْصَرُ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ بِي صُدَاعًا لَا يَسْكُنُ فَابْعَثْ لِي دَوَاءً، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عُمَرُ قَلَنْسُوَةً فَكَانَ إِذَا وَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ يَسْكُنُ صُدَاعُهُ، وَإِذَا رَفَعَهَا عَنْ رَأْسِهِ عَاوَدَهُ الصُّدَاعُ، فَعَجِبَ مِنْهُ فَفَتَّشَ الْقَلَنْسُوَةَ فَإِذَا فِيهَا كَاغِدٌ مَكْتُوبٌ فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ طُهُورًا لِتِلْكَ الْأَعْضَاءِ، وَمَنْ تَوَضَّأَ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ طُهُورًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ، فَإِذَا كَانَ الذِّكْرُ عَلَى الْوُضُوءِ طُهُورًا لِكُلِّ الْبَدَنِ فَذِكْرُهُ عَنْ صَمِيمِ الْقَلْبِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ طُهُورًا لِلْقَلْبِ عَنِ الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: طَلَبَ بَعْضُهُمْ آيَةً مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَقَالَ: إِنَّكَ تَدَّعِي الْإِسْلَامَ فَأَرِنَا آيَةً لِنُسْلِمَ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسُّمِّ الْقَاتِلِ، فَأُتِيَ بِطَاسٍ مِنَ السُّمِّ، فَأَخَذَهَا بِيَدِهِ وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَأَكَلَ الْكُلَّ وَقَامَ سَالِمًا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ الْمَجُوسُ هَذَا دِينُ حَقٍّ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: مَرَّ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى قَبْرٍ فَرَأَى مَلَائِكَةَ الْعَذَابِ يُعَذِّبُونَ مَيِّتًا، فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنْ حَاجَتِهِ مَرَّ عَلَى الْقَبْرِ فَرَأَى مَلَائِكَةَ الرَّحْمَةِ مَعَهُمْ أَطْبَاقٌ مِنْ نُورٍ، فَتَعَجَّبَ مِنْ ذَلِكَ، فَصَلَّى وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: يَا عِيسَى، كَانَ هَذَا الْعَبْدُ عَاصِيًا وَمُذْ مَاتَ كَانَ مَحْبُوسًا فِي عَذَابِي، وَكَانَ قَدْ تَرَكَ امْرَأَةً حُبْلَى فَوَلَدَتْ وَلَدًا وَرَبَّتْهُ حَتَّى كَبِرَ، فَسَلَّمَتْهُ إِلَى الْكُتَّابِ فَلَقَّنَهُ المعلم بسم الله الرحمن الرحيم، فاستحيت مِنْ عَبْدِي أَنْ أُعَذِّبَهُ بِنَارِي فِي بَطْنِ الْأَرْضِ وَوَلَدُهُ يَذْكُرُ اسْمِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. الْعِشْرُونَ: سُئِلَتْ عَمْرَةُ الْفَرْغَانِيَّةُ- وَكَانَتْ مِنْ كِبَارِ الْعَارِفَاتِ- مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ الْجُنُبَ وَالْحَائِضَ مَنْهِيَّانِ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ دُونَ التَّسْمِيَةِ فَقَالَتْ: لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ ذِكْرُ اسْمِ الْحَبِيبِ وَالْحَبِيبُ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذِكْرِ الْحَبِيبِ. الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قِيلَ فِي قَوْلِهِ: «الرَّحِيمِ» هُوَ تَعَالَى رَحِيمٌ بِهِمْ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ فِي الْقَبْرِ وَحَشَرَاتِهِ، وَالْقِيَامَةِ وَظُلُمَاتِهِ، وَالْمِيزَانِ وَدَرَجَاتِهِ، وَقِرَاءَةِ الْكِتَابِ وَفَزَعَاتِهِ، وَالصِّرَاطِ وَمَخَافَاتِهِ وَالنَّارِ وَدَرَكَاتِهِ.

الكتاب الثالث الكلام في سورة الفاتحة وفي ذكر أسماء هذه السورة،

الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: كَتَبَ عَارِفٌ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» وَأَوْصَى أَنْ تُجْعَلَ فِي كَفَنِهِ فَقِيلَ لَهُ: أَيُّ فَائِدَةٍ لَكَ فِيهِ فَقَالَ: أَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِلَهِي بَعَثْتَ كِتَابًا وَجَعَلْتَ عُنْوَانَهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَعَامِلْنِي بِعُنْوَانِ كِتَابِكَ. الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: قِيلَ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» تِسْعَةَ عَشَرَ حَرْفًا، وَفِيهِ فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الزَّبَانِيَةَ تِسْعَةَ عَشَرَ، فَاللَّهُ تَعَالَى يَدْفَعُ بَأْسَهُمْ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ التِّسْعَةَ عَشَرَ، الثَّانِيَةُ: خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ سَاعَةً، ثُمَّ فَرَضَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي خَمْسِ سَاعَاتٍ فَهَذِهِ الْحُرُوفُ التِّسْعَةَ عَشَرَ تَقَعُ كَفَّارَاتٍ لِلذُّنُوبِ الَّتِي تَقَعُ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ التِّسْعَةَ عَشَرَ. الرَّابِعَةَ وَالْعِشْرُونَ: لَمَّا كَانَتْ سُورَةُ التَّوْبَةِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ لَمْ يُكْتَبْ فِي أَوَّلِهَا/ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» وَأَيْضًا السُّنَّةُ أَنْ يُقَالَ عِنْدَ الذَّبْحِ «بِاسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ» وَلَا يُقَالُ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» لِأَنَّ وَقْتَ الْقِتَالِ وَالْقَتْلِ لَا يَلِيقُ بِهِ ذِكْرُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَلَمَّا وَفَّقَكَ لِذِكْرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً فِي الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَا خَلَقَكَ لِلْقَتْلِ وَالْعَذَابِ، وَإِنَّمَا خَلَقَكَ لِلرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، والله تعالى الهادي إلى الصواب. [الكتاب الثالث] الْكَلَامُ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَفِي ذِكْرِ أَسْمَاءِ هذه السورة، وفيه أبواب الباب الأول [أسماء الفاتحة وسببها] اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ لَهَا أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى: - أسماء الفاتحة وسببها: فَالْأَوَّلُ: «فَاتِحَةُ الْكِتَابِ» سُمِّيَتْ بِذَلِكَ الِاسْمِ لِأَنَّهُ يُفْتَتَحُ بِهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَالتَّعْلِيمِ، وَالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَقِيلَ سَمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْحَمْدَ فَاتِحَةُ كُلِّ كَلَامٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ، وَقِيلَ لِأَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ. وَالثَّانِي: «سُورَةُ الْحَمْدِ» وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ أَوَّلَهَا لَفْظُ الْحَمْدِ. وَالثَّالِثُ: «أُمُّ الْقُرْآنِ» وَالسَّبَبُ فِيهِ وُجُوهٌ: - الْأَوَّلُ: أَنَّ أُمَّ الشَّيْءِ أَصْلُهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ الْقُرْآنِ تَقْرِيرُ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ: الْإِلَهِيَّاتُ، وَالْمَعَادُ، وَالنُّبُوَّاتُ، وَإِثْبَاتُ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَقَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَدُلُّ عَلَى الْإِلَهِيَّاتِ، وَقَوْلُهُ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يَدُلُّ عَلَى الْمَعَادِ، وَقَوْلُهُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ وَعَلَى إِثْبَاتِ أَنَّ الْكُلَّ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَقَوْلُهُ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى إِثْبَاتِ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَعَلَى النُّبُوَّاتِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ هَذِهِ الْمَعَانِي بِالِاسْتِقْصَاءِ، فَلَمَّا كَانَ الْمَقْصِدُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْقُرْآنِ هَذِهِ الْمَطَالِبَ الْأَرْبَعَةَ وَكَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مُشْتَمِلَةً عَلَيْهَا لُقِّبَتْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ.

السَّبَبُ الثَّانِي: لِهَذَا الِاسْمِ: أَنَّ حَاصِلَ جَمِيعِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ يَرْجِعُ إِلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: إِمَّا الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ بِاللِّسَانِ، وَإِمَّا الِاشْتِغَالُ بِالْخِدْمَةِ وَالطَّاعَةِ، وَإِمَّا طَلَبُ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ، فَقَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ كُلُّهُ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اشْتِغَالٌ بِالْخِدْمَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ الِابْتِدَاءَ وَقَعَ بِقَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْعُبُودِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى اعْتِرَافِ الْعَبْدِ بِالْعَجْزِ وَالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فَهُوَ طَلَبٌ لِلْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ وَأَنْوَاعِ الْهِدَايَاتِ. السَّبَبُ الثَّالِثُ: لِتَسْمِيَةِ هَذِهِ السُّورَةِ بِأُمِّ الْكِتَابِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ الْعُلُومِ: إِمَّا مَعْرِفَةُ عِزَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ، أَوْ مَعْرِفَةُ ذِلَّةِ الْعُبُودِيَّةِ فَقَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الْمُسْتَوْلِي عَلَى كُلِّ أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ مِنْ قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ يَدُلُّ عَلَى ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَتِمُّ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَلَا مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ الْبَاطِنَةِ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهِدَايَتِهِ. السَّبَبُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْعُلُومَ الْبَشَرِيَّةَ إِمَّا عِلْمُ ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَهُوَ عِلْمُ الْأُصُولِ وَإِمَّا عِلْمُ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكَالِيفِهِ، وَهُوَ عِلْمُ الْفُرُوعِ، وَإِمَّا عِلْمُ تَصْفِيَةِ الْبَاطِنِ وَظُهُورِ الْأَنْوَارِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْمُكَاشَفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْقُرْآنِ بَيَانُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ الثَّلَاثَةِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ: فَقَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِ الْأُصُولِ: لِأَنَّ الدَّالَّ عَلَى وُجُودِهِ وُجُودُ مَخْلُوقَاتِهِ، فَقَوْلُهُ: رَبِّ الْعالَمِينَ يَجْرِي مَجْرَى الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ وَجُودِهِ إِلَّا بِكَوْنِهِ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ، وَقَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِشَارَةً إِلَى كَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ، وَلَا يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ إِلَّا إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، ثُمَّ وَصَفَهُ بِنِهَايَةِ الرَّحْمَةِ- وَهُوَ كَوْنُهُ رَحْمَانًا رَحِيمًا- ثُمَّ وَصَفَهُ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ- وَهُوَ قَوْلُهُ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ- حَيْثُ لَا يُهْمِلُ أَمْرَ الْمَظْلُومِينَ، بَلْ يَسْتَوْفِي حُقُوقَهُمْ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَعِنْدَ هَذَا تَمَّ الْكَلَامُ فِي مَعْرِفَةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَهُوَ عِلْمُ الْأُصُولِ، ثُمَّ شَرَعَ بَعْدَهُ فِي تَقْرِيرِ عِلْمِ الْفُرُوعِ، وَهُوَ الِاشْتِغَالُ بِالْخِدْمَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ثُمَّ مَزَجَهُ أَيْضًا بِعِلْمِ الْأُصُولِ مَرَّةً أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ أَدَاءَ وَظَائِفِ الْعُبُودِيَّةِ لَا يَكْمُلُ إِلَّا بِإِعَانَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، ثُمَّ شَرَعَ بَعْدَهُ فِي بَيَانِ دَرَجَاتِ الْمُكَاشَفَاتِ وَهِيَ عَلَى كَثْرَتِهَا مَحْصُورَةٌ فِي أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهَا: حُصُولُ هِدَايَةِ النُّورِ فِي الْقَلْبِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَثَانِيهَا: أَنْ يَتَجَلَّى لَهُ دَرَجَاتُ الْأَبْرَارِ الْمُطَهَّرِينَ مِنَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْجَلَايَا الْقُدْسِيَّةِ وَالْجَوَاذِبِ الْإِلَهِيَّةِ، حَتَّى تَصِيرَ تِلْكَ الْأَرْوَاحُ الْقُدْسِيَّةُ كَالْمَرَايَا الْمَجْلُوَّةِ فَيَنْعَكِسُ الشُّعَاعُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا إِلَى الْأُخْرَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: صِراطَ الَّذِينَ/ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وَثَالِثُهَا: أَنْ تَبْقَى مَصُونَةً مَعْصُومَةً عَنْ أَوْضَارِ الشَّهَوَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَعَنْ أَوْزَارِ الشُّبَهَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَا الضَّالِّينَ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى هَذِهِ الْأَسْرَارِ الْعَالِيَةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْمَطَالِبِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ سُمِّيَتْ بِأُمِّ الْكِتَابِ كَمَا أَنَّ الدِّمَاغَ يُسَمَّى أُمَّ الرَّأْسِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى جَمِيعِ الْحَوَاسِّ وَالْمَنَافِعِ. السَّبَبُ الْخَامِسُ: قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ حَبِيبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الْقَفَّالَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ دُرَيْدٍ يَقُولُ: الْأُمُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الرَّايَةُ الَّتِي يَنْصِبُهَا الْعَسْكَرُ، قَالَ قَيْسُ بْنُ الحطيم: -

نَصَبْنَا أُمَّنَا حَتَّى ابْذَعَرُّوا ... وَصَارُوا بَعْدَ أُلْفَتِهِمْ سُلَالَا فَسُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ لِأَنَّ مَفْزَعَ أَهْلِ الْإِيمَانِ إِلَى هَذِهِ السُّورَةِ كَمَا أَنَّ مَفْزَعَ الْعَسْكَرِ إِلَى الرَّايَةِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْأَرْضَ أُمًّا، لِأَنَّ مَعَادَ الْخَلْقِ إِلَيْهَا فِي حَيَاتِهِمْ وَمَمَاتِهِمْ، وَلِأَنَّهُ يُقَالُ: أَمَّ فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا قَصَدَهُ. الِاسْمُ الرَّابِعُ: مِنْ أَسْمَاءِ هَذِهِ السورة «السبع الثاني» قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الْحِجْرِ: 87] وَفِي سَبَبِ تَسْمِيَتِهَا بِالْمَثَانِي وُجُوهٌ: - الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مَثْنَى: نِصْفُهَا ثَنَاءُ الْعَبْدِ لِلرَّبِّ، وَنِصْفُهَا عَطَاءُ الرَّبِّ لِلْعَبْدِ. الثَّانِي: سُمِّيَتْ مَثَانِيَ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنَ الصَّلَاةِ. الثَّالِثُ: سُمِّيَتْ مَثَانِيَ لِأَنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ، وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُ هَذِهِ السُّورَةِ وَإِنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ. الرَّابِعُ: سُمِّيَتْ مَثَانِيَ لِأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ، كُلُّ آيَةٍ تَعْدِلُ قِرَاءَتُهَا قِرَاءَةَ سُبْعٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَمَنْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ أَعْطَاهُ اللَّهُ ثَوَابَ مَنْ قَرَأَ كُلَّ الْقُرْآنِ. الْخَامِسُ: آيَاتُهَا سَبْعٌ، وَأَبْوَابُ النِّيرَانِ سَبْعَةٌ، فَمَنْ فَتَحَ لِسَانَهُ بِقِرَاءَتِهَا غُلِّقَتْ عَنْهُ الْأَبْوَابُ السَّبْعَةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ، كُنْتُ أَخْشَى الْعَذَابَ عَلَى أُمَّتِكَ. فَلَمَّا نَزَلَتِ الْفَاتِحَةُ أَمِنْتُ، قَالَ: لِمَ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ، لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ، لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الْحِجْرِ: 43، 44] وَآيَاتُهَا سَبْعٌ فَمَنْ قَرَأَهَا صَارَتْ كُلُّ آيَةٍ طَبَقًا عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، فَتَمُرُّ أُمَّتُكَ عَلَيْهَا مِنْهَا سَالِمِينَ. السَّادِسُ: سُمِّيَتْ مَثَانِيَ لِأَنَّهَا تُقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ إِنَّهَا تُثَنَّى بِسُورَةٍ أُخْرَى. السَّابِعُ: سُمِّيَتْ مَثَانِيَ لِأَنَّهَا أُثْنِيَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَدَائِحُ لَهُ. الثَّامِنُ: سُمِّيَتْ مَثَانِيَ لِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا مَرَّتَيْنِ، وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ بَالَغْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي في سورة الحجر [الْحِجْرِ: 87] . الِاسْمُ الْخَامِسُ: الْوَافِيَةُ، كَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يُسَمِّيهَا بِهَذَا الِاسْمِ، قَالَ الثَّعْلَبِيُّ، وَتَفْسِيرُهَا أَنَّهَا لَا تَقْبَلُ التَّنْصِيفَ، أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَوْ قُرِئَ نِصْفُهَا فِي رَكْعَةٍ وَالنِّصْفُ الثَّانِي فِي رَكْعَةٍ أُخْرَى لَجَازَ، وَهَذَا التَّنْصِيفُ غَيْرُ جَائِزٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. الِاسْمُ السَّادِسُ: الْكَافِيَةُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَكْفِي عَنْ غَيْرِهَا، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَلَا يَكْفِي عنها، روى محمد بن الربيع عن عبادة بن الصامت قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمُّ الْقُرْآنِ عِوَضٌ عَنْ غَيْرِهَا، وَلَيْسَ غَيْرُهَا عِوَضًا عَنْهَا» . الِاسْمُ السَّابِعُ: الْأَسَاسُ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: - الْأَوَّلُ: أَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَهِيَ كالأساس.

الباب الثاني في فضائل هذه السورة، وفيه مسائل:

الثَّانِي: أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَشْرَفِ الْمَطَالِبِ كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْأَسَاسُ. الثَّالِثُ: أَنَّ أَشْرَفَ العبادات بعد الإيمان هو الصلاة، وهذا السُّورَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كُلِّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِهَا. الِاسْمُ الثَّامِنُ: الشِّفَاءُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ سُمٍّ، وَمَرَّ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بِرَجُلٍ مَصْرُوعٍ فَقَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ فِي أُذُنِهِ فَبَرِئَ فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ، وَهِيَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ. وَأَقُولُ: الْأَمْرَاضُ مِنْهَا رُوحَانِيَّةٌ، وَمِنْهَا جُسْمَانِيَّةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى الْكُفْرَ مَرَضًا فَقَالَ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الْبَقَرَةِ: 10] وَهَذِهِ السُّورَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالْمُكَاشَفَاتِ، فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الشِّفَاءِ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثَةِ. الِاسْمُ التَّاسِعُ: الصَّلَاةُ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَالْمُرَادُ هَذِهِ السُّورَةُ» . الِاسْمُ الْعَاشِرُ: السُّؤَالُ، رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَى عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ سُؤَالِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» ، وَقَدْ فَعَلَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشُّعَرَاءِ: 78] إِلَى أَنْ قَالَ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً/ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشُّعَرَاءِ: 83] فَفِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا وَقَعَتِ الْبَدَاءَةُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ قَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَى قَوْلِهِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ثُمَّ ذَكَرَ الْعُبُودِيَّةَ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ثُمَّ وَقَعَ الْخَتْمُ عَلَى طَلَبِ الْهِدَايَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَكْمَلَ الْمَطَالِبِ هُوَ الْهِدَايَةُ فِي الدِّينِ، وَهُوَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَنَّةَ الْمَعْرِفَةِ خَيْرٌ مِنْ جَنَّةِ النَّعِيمِ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْكَلَامَ هُنَا عَلَى قَوْلِهِ اهْدِنَا وَلَمْ يَقُلْ ارْزُقْنَا الْجَنَّةَ. الِاسْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ: سُورَةُ الشُّكْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ بِالْفَضْلِ وَالْكَرَمِ وَالْإِحْسَانِ. الِاسْمُ الثَّانِيَ عَشَرَ: سُورَةُ الدُّعَاءِ، لِاشْتِمَالِهَا عَلَى قَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَابُ الثَّانِي فِي فضائل هذه السورة، وفيه مسائل: كيفية نزولها: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي كَيْفِيَّةِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، رَوَى الثَّعْلَبِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ بِمَكَّةَ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ، ثُمَّ قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَرَوَى أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسَرَّ إِلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: «لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ خَالَطَنِي شَيْءٌ» ، فَقَالَتْ: وما

ذَاكَ؟ قَالَ: «إِنِّي إِذَا خَلَوْتُ سَمِعْتُ النِّدَاءَ باقرأ» ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَسَأَلَهُ عَنْ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: إِذَا أَتَاكَ النِّدَاءُ فَاثْبَتْ لَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ لَهُ: قُلْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: دَقَّ اللَّهُ فَاكَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، رَوَى الثَّعْلَبِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ أُنْزِلَتْ بِالْمَدِينَةِ قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: لِكُلِّ عَالِمٍ هَفْوَةٌ وَهَذِهِ هَفْوَةُ مُجَاهِدٍ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ عَلَى خِلَافِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ سُورَةَ الْحِجْرِ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي، [الحجر: 87] وَهِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى آتَاهُ هَذِهِ السُّورَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ، الثَّانِي: أَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً بِلَا فَاتِحَةِ الْكِتَابِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، هَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ مَرَّةً، وَبِالْمَدِينَةِ مَرَّةً أُخْرَى، فَهِيَ مَكِّيَّةٌ مَدَنِيَّةٌ، وَلِهَذَا السَّبَبِ سَمَّاهَا اللَّهُ بِالْمَثَانِي، لِأَنَّهُ ثَنَّى إِنْزَالَهَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي تَشْرِيفِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي بَيَانِ فَضْلِهَا، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ شِفَاءٌ مِنَ السُّمِّ، وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْقَوْمَ لَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ حَتْمًا مَقْضِيًّا فَيَقْرَأُ صَبِيٌّ مِنْ صِبْيَانِهِمْ فِي الْمَكْتَبِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فَيَسْمَعُهُ اللَّهُ تَعَالَى فَيَرْفَعُ عَنْهُمْ بِسَبَبِهِ الْعَذَابَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَعَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِائَةً وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ مِنَ السَّمَاءِ فَأَوْدَعَ عُلُومَ الْمِائَةِ فِي الْأَرْبَعَةِ، وَهِيَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالْفَرْقَانُ، ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْفُرْقَانِ، ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ الْفُرْقَانِ فِي الْمُفَصَّلِ، ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ الْمُفَصَّلِ فِي الْفَاتِحَةِ فَمَنْ عَلِمَ تَفْسِيرَ الْفَاتِحَةِ كَانَ كَمَنْ عَلِمَ تَفْسِيرَ جَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَمَنْ قَرَأَهَا فَكَأَنَّمَا قَرَأَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْفُرْقَانَ. قُلْتُ: وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ عِلْمُ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَمَامِ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ الثَّلَاثَةِ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَطَالِبُ الْعَالِيَةُ الشَّرِيفَةُ حَاصِلَةٌ فِيهَا لَا جَرَمَ كَانَتْ كَالْمُشْتَمِلَةِ عَلَى جَمِيعِ الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالُوا: هَذِهِ السُّورَةُ لَمْ يَحْصُلْ فِيهَا سَبْعَةٌ مِنَ الْحُرُوفِ، وَهِيَ الثَّاءُ، وَالْجِيمُ وَالْخَاءُ، وَالزَّايُ، وَالشِّينُ، وَالظَّاءُ، وَالْفَاءُ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ السَّبْعَةَ مُشْعِرَةٌ بِالْعَذَابِ فَالثَّاءُ تَدُلُّ عَلَى الْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، قَالَ تَعَالَى: لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً [الْفُرْقَانِ: 14] وَالْجِيمُ أَوَّلُ حُرُوفِ اسْمِ جَهَنَّمَ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ [الْحِجْرِ: 43] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الْأَعْرَافِ: 179] وَأَسْقَطَ الْخَاءَ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِالْخِزْيِ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التَّحْرِيمِ: 8] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ [النَّحْلِ: 27] وَأَسْقَطَ الزَّايَ وَالشِّينَ لِأَنَّهُمَا أَوَّلُ حُرُوفِ الزَّفِيرِ وَالشَّهِيقِ، قَالَ تَعَالَى: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هُودٍ: 106] وَأَيْضًا الزَّايُ تَدُلُّ عَلَى الزَّقُّومِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدُّخَانِ: 43] وَالشِّينُ تَدُلُّ عَلَى الشَّقَاوَةِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ [هُودٍ: 106] وَأَسْقَطَ الظَّاءَ لِقَوْلِهِ: انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ لَا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ [الْمُرْسَلَاتِ: 30، 31] وَأَيْضًا يَدُلُّ عَلَى لَظَى، قَالَ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها لَظى

الباب الثالث في الأسرار العقلية المستنبطة من هذه السورة،

نَزَّاعَةً لِلشَّوى [الْمَعَارِجِ: 15، 16] وَأَسْقَطَ الْفَاءَ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْفِرَاقِ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الرُّومِ: 14] وَأَيْضًا قَالَ: لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى [طه: 61] . فَإِنْ قَالُوا: لَا حَرْفَ مِنَ الْحُرُوفِ إِلَّا وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي شَيْءٍ يُوجِبُ نَوْعًا مِنَ الْعَذَابِ فَلَا يَبْقَى لِمَا ذَكَرْتُمْ فَائِدَةٌ، فَنَقُولُ: الْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ جَهَنَّمَ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الْحِجْرِ: 44] وَاللَّهُ تَعَالَى أَسْقَطَ سَبْعَةً مِنَ الْحُرُوفِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهِيَ أَوَائِلُ أَلْفَاظٍ دَالَّةٍ عَلَى الْعَذَابِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ قَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ وَآمَنَ بِهَا وَعَرَفَ حَقَائِقَهَا صَارَ آمِنًا مِنَ الدَّرَكَاتِ السَّبْعِ فِي جَهَنَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْأَسْرَارِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: أسرار الفاتحة: المسألة الأولى: [البحث عن السؤالين وهما ما الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أنه مستحق الحمد؟] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فكأن سائلًا يقول: الحمد لله مبني عَنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وُجُودُ الْإِلَهِ، وَالثَّانِي: كَوْنُهُ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ وما الدليل على أنه مستحق الحمد؟ وَلَمَّا تَوَّجَّهَ هَذَانِ السُّؤَالَانِ لَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَجْرِي مَجْرَى الْجَوَابِ عَنْ هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ، فَأَجَابَ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ: رَبِّ الْعالَمِينَ وَأَجَابَ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ أَمَّا تَقْرِيرُ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنْ عَلِمْنَا بِوُجُودِ الشَّيْءِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَرُورِيًّا أَوْ نَظَرِيًّا، لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ الْعِلْمُ بِوُجُودِ الْإِلَهِ ضَرُورِيٌّ، لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّا لَا نَعْرِفُ وُجُودَ الْإِلَهِ بِالضَّرُورَةِ فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ نَظَرِيًّا، وَالْعِلْمُ النَّظَرِيُّ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ إِلَّا بِالدَّلِيلِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ الْمَحْسُوسَ بِمَا فيه من السموات وَالْأَرَضِينَ وَالْجِبَالِ وَالْبِحَارِ وَالْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ مُحْتَاجٌ إِلَى مُدَبِّرٍ يُدَبِّرُهُ وَمَوْجُودٍ يُوجِدُهُ وَمُرَبٍّ يُرَبِّيهِ وَمُبْقٍ يُبْقِيهِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: رَبِّ الْعالَمِينَ إِشَارَةً إِلَى الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ. ثُمَّ فِيهِ لَطَائِفُ: اللَّطِيفَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْعَالَمِينَ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ فَقَوْلُهُ: رَبِّ الْعالَمِينَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ مُحْتَاجٌ فِي وُجُودِهِ إِلَى إِيجَادِهِ، وَفِي بَقَائِهِ إِلَى إِبْقَائِهِ، فَكَانَ هَذَا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ لَا يَتَجَزَّأُ وَكُلَّ جَوْهَرٍ فَرْدٌ وَكُلَّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْأَعْرَاضِ فَهُوَ بُرْهَانٌ بَاهِرٌ وَدَلِيلٌ قاطع على وجود الإله الحكيم القادر القديم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الْإِسْرَاءِ: 44] . اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ خَالِقِ الْعَالَمِينَ، بَلْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ النَّاسَ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ الْحَوَادِثَ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى الْمُوجِدِ وَالْمُحْدِثِ حَالَ حُدُوثِهَا، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا حَالَ بَقَائِهَا هَلْ تَبْقَى مُحْتَاجَةً إِلَى الْمُبْقِي أَمْ لَا؟ فَقَالَ قَوْمٌ: الشَّيْءُ حَالَ بَقَائِهِ يَسْتَغْنِي عَنِ السَّبَبِ، وَالْمُرَبِّي هُوَ الْقَائِمُ بِإِبْقَاءِ الشَّيْءِ وَإِصْلَاحِ حَالِهِ حَالَ بَقَائِهِ، فَقَوْلُهُ: رَبِّ الْعالَمِينَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْعَالَمِينَ مُفْتَقِرَةٌ إِلَيْهِ فِي حَالِ بَقَائِهَا، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ افْتِقَارَهَا إِلَى الْمُوجِدِ فِي حَالِ حُدُوثِهَا أَمْرٌ مُتَّفِقٌ عَلَيْهِ، أَمَّا افْتِقَارُهَا إِلَى الْمُبْقِي

وَالْمُرَبِّي حَالَ بَقَائِهَا هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ فَخَصَّهُ سُبْحَانَهُ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ لَا فِي حَالِ حُدُوثِهِ وَلَا فِي حَالِ بَقَائِهِ. اللَّطِيفَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُسَمَّاةٌ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَوَجَبَ كَوْنُهَا كَالْأَصْلِ وَالْمَعْدِنِ، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا كَالْجَدَاوِلِ الْمُتَشَعِّبَةِ مِنْهُ، فَقَوْلُهُ: رَبِّ الْعالَمِينَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ سِوَاهُ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى إِلَهِيَّتِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى افْتَتَحَ سُوَرًا أَرْبَعَةً بَعْدَ هَذِهِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَأَوَّلُهَا: سُورَةُ الْأَنْعَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: 1] وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذْكُورَ هَاهُنَا قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ قَوْلِهِ: رَبِّ الْعالَمِينَ لِأَنَّ لَفْظَ الْعَالَمِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا سِوَى الله، والسموات وَالْأَرْضُ وَالنُّورُ وَالظُّلْمَةُ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ مَا سِوَى اللَّهِ، فَالْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ كَأَنَّهُ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَأَيْضًا فَالْمَذْكُورُ فِي أول سورة الأنعام أنه خلق السموات وَالْأَرْضَ، وَالْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ كَوْنُهُ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ أَنَّ الْعَالَمَ مُحْتَاجٌ حَالَ بَقَائِهِ إِلَى إِبْقَاءِ اللَّهِ كَانَ الْقَوْلُ بِاحْتِيَاجِهِ حَالَ حُدُوثِهِ إِلَى الْمُحْدِثِ أَوْلَى، أَمَّا لَا يَلْزَمُ مِنَ احْتِيَاجِهِ إِلَى الْمُحْدِثِ حَالَ حُدُوثِهِ احْتِيَاجُهُ إِلَى الْمُبْقِي حَالَ بَقَائِهِ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ يَجْرِي مَجْرَى قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَثَانِيهَا: سُورَةُ الْكَهْفِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الكهف: 1] وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَرْبِيَةُ الْأَرْوَاحِ بِالْمَعَارِفِ، فَإِنَّ الْكِتَابَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى عَبْدِهِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ، فَكَانَ هَذَا إِشَارَةً إِلَى التَّرْبِيَةِ الرُّوحَانِيَّةِ فَقَطْ، وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ: رَبِّ الْعالَمِينَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّرْبِيَةِ الْعَامَّةِ فِي حَقِّ كُلِّ الْعَالَمِينَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ التَّرْبِيَةُ الرُّوحَانِيَّةُ لِلْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَالتَّرْبِيَةُ الْجُسْمَانِيَّةُ الْحَاصِلَةُ فِي السموات وَالْأَرَضِينَ، فَكَانَ/ الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ. وَثَالِثُهَا: سُورَةُ سَبَأٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [سَبَأٍ: 1] فَبَيَّنَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الأنعام أن السموات وَالْأَرْضَ لَهُ، وَبَيَّنَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ سَبَأٍ أن الأشياء الحاصلة في السموات وَالْأَرْضِ لَهُ، وَهَذَا أَيْضًا قِسْمٌ مِنَ الْأَقْسَامِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [فَاطِرٍ: 1] وَالْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ كَوْنُهُ خَالِقًا لَهَا، وَالْخَلْقُ هُوَ التَّقْدِيرُ، وَالْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ كَوْنُهُ فَاطِرًا لَهَا وَمُحْدِثًا لِذَوَاتِهَا، وَهَذَا غَيْرُ الْأَوَّلِ إِلَّا أَنَّهُ أَيْضًا قِسْمٌ مِنَ الْأَقْسَامِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ في سورة الأنعام كونه خالقاً للسموات وَالْأَرْضِ ذَكَرَ كَوْنَهُ جَاعِلًا لِلظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ، أَمَّا فِي سُورَةِ الْمَلَائِكَةِ فَلَمَّا ذَكَرَ كَوْنَهُ فَاطِرَ السموات وَالْأَرْضِ ذَكَرَ كَوْنَهُ جَاعِلًا الْمَلَائِكَةَ رُسُلًا، فَفِي سورة الأنعام ذكر بعد تخليق السموات وَالْأَرْضِ جَعْلَ الْأَنْوَارِ وَالظُّلُمَاتِ وَذَكَرَ فِي سُورَةِ الملائكة بعد كونه فاطر السموات وَالْأَرْضِ جَعْلَ الرُّوحَانِيَّاتِ، وَهَذِهِ أَسْرَارٌ عَجِيبَةٌ وَلَطَائِفُ عَالِيَةٌ إِلَّا أَنَّهَا بِأَسْرِهَا تَجْرِي مَجْرَى الْأَنْوَاعِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْبَحْرِ الْأَعْظَمِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فَهَذَا هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: رَبِّ الْعالَمِينَ يَجْرِي مَجْرَى ذِكْرِ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَدِيمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَمَا دَلَّتْ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ فَهِيَ أَيْضًا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ مُتَعَالِيًا

فِي ذَاتِهِ عَنِ الْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ الْعَالَمِينَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ وَمِنْ جُمْلَةِ مَا سِوَى اللَّهِ المكان والزمان، وفالمكان عِبَارَةٌ عَنِ الْفَضَاءِ وَالْحَيِّزِ وَالْفَرَاغِ الْمُمْتَدِّ، وَالزَّمَانُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُدَّةِ الَّتِي يَحْصُلُ بِسَبَبِهَا الْقَبْلِيَّةُ وَالْبَعْدِيَّةُ، فَقَوْلُهُ: رَبِّ الْعالَمِينَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ رَبًّا لِلْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَخَالِقًا لَهُمَا وَمُوجِدًا لَهُمَا، ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْخَالِقَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ سَابِقًا وُجُودُهُ عَلَى وُجُودِ الْمَخْلُوقِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَتْ ذَاتُهُ مَوْجُودَةً قَبْلَ حُصُولِ الْفَضَاءِ وَالْفَرَاغِ وَالْحَيِّزِ، مُتَعَالِيَةً عَنِ الْجِهَةِ وَالْحَيِّزِ، فَلَوْ حَصَلَتْ ذَاتُهُ بَعْدَ حُصُولِ الْفَضَاءِ فِي جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْفَضَاءِ لَانْقَلَبَتْ حَقِيقَةُ ذَاتِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَقَوْلُهُ: رَبِّ الْعالَمِينَ يَدُلُّ عَلَى تَنْزِيهِ ذَاتِهِ عَنِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ اللَّفْظَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَاتَهُ مُنَزَّهَةٌ عَنِ الْحُلُولِ فِي الْمَحَلِّ كَمَا تَقُولُ النَّصَارَى وَالْحُلُولِيَّةُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ كَانَ خَالِقًا لِكُلِّ مَا سِوَاهُ، وَالْخَالِقُ سَابِقٌ عَلَى الْمَخْلُوقِ، فَكَانَتْ ذَاتُهُ مَوْجُودَةً قَبْلَ كُلِّ مَحَلٍّ، فَكَانَتْ ذَاتُهُ غَنِيَّةً عَنْ كُلِّ مَحَلٍّ، فَبَعْدَ وُجُودِ الْمَحَلِّ امْتَنَعَ احْتِيَاجُهُ إِلَى الْمَحَلِّ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ لَيْسَ مُوجِبًا بِالذَّاتِ، بَلْ هُوَ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ بِالذَّاتِ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ وَالتَّعْظِيمَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا انْتَفَعَ بِسُخُونَةِ النَّارِ أَوْ بِبُرُودَةِ الْجَمْدِ فَإِنَّهُ لَا يَحْمَدُ النَّارَ وَلَا الْجَمْدَ لِمَا أَنَّ تَأْثِيرَ النَّارِ فِي التَّسْخِينِ وَتَأْثِيرَ الْجَمْدِ فِي التَّبْرِيدِ لَيْسَ بِالْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ بَلْ بِالطَّبْعِ، فَلَمَّا حَكَمَ بِكَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ ثَبَتَ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِالِاخْتِيَارِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا كَوْنَهُ فَاعِلًا مُخْتَارًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُوجِبًا لَدَامَتِ الْآثَارُ وَالْمَعْلُولَاتُ بِدَوَامِ الْمُؤَثِّرِ الْمُوجِبِ، وَلَامْتَنَعَ وقوع التغير فيها، وحيث شاهدنا حصول التغييرات عَلِمْنَا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِيهَا قَادِرٌ بِالِاخْتِيَارِ لَا مُوجِبَ بِالذَّاتِ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ ثَبَتَ كَوْنُهُ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَالَمَ مُطَابِقًا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ مُوَافِقًا لِمَنَافِعِهِمْ كَانَ الْإِحْكَامُ وَالْإِتْقَانُ ظَاهِرَيْنِ فِي الْعَالَمِ الْأَعْلَى وَالْعَالَمِ الْأَسْفَلِ، وَفَاعِلُ الْفِعْلِ الْمُحْكَمِ الْمُتْقَنِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الْحَيِّزِ وَالْمَكَانِ، وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الْحُلُولِ فِي الْمَحَلِّ، وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ فِي نِهَايَةِ الْقُدْرَةِ وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ فِي نِهَايَةِ الْعِلْمِ وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ فِي نِهَايَةِ الْحِكْمَةِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ: هَبْ أَنَّهُ ثَبَتَ الْقَوْلُ بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ؟ وَالْجَوَابُ هُوَ قَوْلُهُ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَخْلُو حَالُهُ فِي الدُّنْيَا عَنْ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي السَّلَامَةِ وَالسَّعَادَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَلَمِ وَالْفَقْرِ وَالْمَكَارِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي السَّلَامَةِ وَالْكَرَامَةِ فَأَسْبَابُ تِلْكَ السَّلَامَةِ وَتِلْكَ الْكَرَامَةِ لَمْ تَحْصُلْ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّهِ وَتَكْوِينِهِ وَإِيجَادِهِ، فَكَانَ رَحْمَانًا رَحِيمًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَكَارِهِ وَالْآفَاتِ، فَتِلْكَ الْمَكَارِهُ وَالْآفَاتُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْعِبَادِ، أَوْ مِنَ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْعِبَادِ فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَعَدَ بِأَنَّهُ يَنْتَصِفُ لِلْمَظْلُومِينَ من الظالمين فِي يَوْمِ الدِّينِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ اللَّهِ فَاللَّهُ تَعَالَى وَعَدَ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَالْفَضْلِ الْكَثِيرِ عَلَى كُلِّ مَا أَنْزَلَهُ بِعِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُخَافَاتِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَالثَّنَاءِ الَّذِي لَا غَايَةَ لَهُ فَظَهَرَ بِالْبَيَانِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ قَوْلَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ مُرَتَّبٌ تَرْتِيبًا لَا يُمْكِنُ فِي الْعَقْلِ وُجُودُ كَلَامٍ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ منه.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَمَّمَ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ أَرْدَفَهُ بِالْكَلَامِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ جَسَدٍ، وَمِنْ رُوحٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْجَسَدِ أَنْ يَكُونَ/ آلَةً لِلرُّوحِ فِي اكْتِسَابِ الْأَشْيَاءِ النَّافِعَةِ لِلرُّوحِ فَلَا جَرَمَ كَانَ أَفْضَلُ أَحْوَالِ الْجَسَدِ أَنْ يَكُونَ آتِيًا بِأَعْمَالٍ تُعِينُ الرُّوحَ عَلَى اكْتِسَابِ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ الْبَاقِيَةِ، وَتِلْكَ الْأَعْمَالُ هِيَ أَنْ يَكُونَ الْجَسَدُ آتِيًا بِأَعْمَالٍ تَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ الْمَعْبُودِ وَخِدْمَتِهِ، وَتِلْكَ الْأَعْمَالُ هِيَ الْعِبَادَةُ، فَأَحْسَنُ أَحْوَالِ الْعَبْدِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَنْ يَكُونَ مُوَاظِبًا عَلَى الْعِبَادَاتِ، وَهَذِهِ أَوَّلُ دَرَجَاتِ سَعَادَةِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ فَإِذَا وَاظَبَ عَلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ مُدَّةً فَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَنْوَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَهُوَ أَنَّهُ وَحْدَهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِالْإِتْيَانِ بهذه العبادات وَالطَّاعَاتِ بَلْ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ تَوْفِيقُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعَانَتُهُ وَعِصْمَتُهُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِشَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ، وَهَذَا الْمَقَامُ هُوَ الدَّرَجَةُ الْوُسْطَى فِي الْكَمَالَاتِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ثُمَّ إِذَا تَجَاوَزَ عَنْ هَذَا الْمَقَامِ لَاحَ لَهُ أَنَّ الْهِدَايَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ، وَأَنْوَارُ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّجَلِّي لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِهِدَايَةِ اللَّهِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وَفِيهِ لِطَائِفُ: - اللَّطِيفَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْمَنْهَجَ الْحَقَّ فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَفِي الْأَعْمَالِ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، أَمَّا فِي الِاعْتِقَادَاتِ فَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ تَوَغَّلَ فِي التَّنْزِيهِ وَقَعَ فِي التَّعْطِيلِ وَنَفْيِ الصِّفَاتِ، وَمَنْ تَوَغَّلَ فِي الْإِثْبَاتِ وَقَعَ فِي التَّشْبِيهِ وَإِثْبَاتِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْمَكَانِ، فَهُمَا طَرَفَانِ مُعْوَجَّانِ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الْإِقْرَارُ الْخَالِي عَنِ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ قَالَ فِعْلُ الْعَبْدِ كُلُّهُ مِنْهُ فَقَدْ وَقَعَ فِي الْقَدَرِ، وَمَنْ قَالَ لَا فِعْلَ لِلْعَبْدِ فَقَدْ وَقَعَ فِي الْجَبْرِ وَهُمَا طَرَفَانِ مُعْوَجَّانِ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ إِثْبَاتُ الْفِعْلِ لِلْعَبْدِ مَعَ الْإِقْرَارِ بِأَنَّ الْكُلَّ بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَأَمَّا فِي الْأَعْمَالِ فَنَقُولُ: مَنْ بَالَغَ فِي الْأَعْمَالِ الشَّهْوَانِيَّةِ وَقَعَ فِي الْفُجُورِ، وَمَنْ بَالَغَ فِي تَرْكِهَا وَقَعَ فِي الْجُمُودِ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْوَسَطُ، وَهُوَ الْعِفَّةُ، وَأَيْضًا مَنْ بَالَغَ فِي الْأَعْمَالِ الْغَضَبِيَّةِ وَقَعَ فِي التَّهَوُّرِ، وَمَنْ بَالَغَ فِي تَرْكِهَا وَقَعَ فِي الْجُبْنِ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْوَسَطُ، وَهُوَ الشَّجَاعَةُ. اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ ذَلِكَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَصَفَهُ بِصِفَتَيْنِ أُولَاهُمَا إِيجَابِيَّةٌ، وَالْأُخْرَى سَلْبِيَّةٌ أَمَّا الْإِيجَابِيَّةُ فَكَوْنُ ذَلِكَ الصِّرَاطِ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَأَمَّا السَّلْبِيَّةُ فَهِيَ أَنْ تَكُونَ بِخِلَافِ صِرَاطِ الَّذِينَ فَسَدَتْ قُوَاهُمُ الْعَمَلِيَّةُ بِارْتِكَابِ الشَّهَوَاتِ حَتَّى اسْتَوْجَبُوا غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَبِخِلَافِ صِرَاطِ الَّذِينَ فَسَدَتْ قُوَاهُمُ النَّظَرِيَّةُ حَتَّى ضَلُّوا عَنِ الْعَقَائِدِ الْحَقِّيَّةِ وَالْمَعَارِفِ الْيَقِينِيَّةِ. اللَّطِيفَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَمَّا قَالَ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهِ، بَلْ قَالَ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرِيدَ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى مَقَامَاتِ/ الْهِدَايَةِ وَالْمُكَاشَفَةِ إِلَّا إِذَا اقْتَدَى بِشَيْخٍ يَهْدِيهِ إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ وَيُجَنِّبُهُ عَنْ مَوَاقِعِ الْأَغَالِيطِ وَالْأَضَالِيلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّقْصَ غَالِبٌ عَلَى أَكْثَرِ الْخَلْقِ، وَعُقُولَهُمْ غَيْرُ وَافِيَةٍ بِإِدْرَاكِ الْحَقِّ وَتَمْيِيزِ الصَّوَابِ عَنِ الْغَلَطِ، فَلَا بُدَّ مِنْ كَامِلٍ يَقْتَدِي بِهِ النَّاقِصُ حَتَّى يَتَقَوَّى عَقْلُ ذَلِكَ النَّاقِصِ بِنُورِ عَقْلِ ذَلِكَ الْكَامِلِ، فَحِينَئِذٍ يَصِلُ إِلَى مَدَارِجِ السَّعَادَاتِ وَمَعَارِجِ الْكَمَالَاتِ. وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ وَافِيَةٌ بِبَيَانِ مَا يَجِبُ مَعْرِفَتُهُ مِنْ عَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَعَهْدِ الْعُبُودِيَّةِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 40] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَقْرِيرِ مُشَرِّعٍ آخَرَ مِنْ لَطَائِفِ هَذِهِ السُّورَةِ:

اعْلَمْ أَنَّ أَحْوَالَ هَذَا الْعَالَمِ مَمْزُوجَةٌ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي ظَاهِرَةٌ لَا شك فيها، إلا أنا نَقُولَ: الشَّرُّ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا إِلَّا أَنَّ الْخَيْرَ أَكْثَرُ، وَالْمَرَضُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا إِلَّا أَنَّ الصِّحَّةَ أَكْثَرُ مِنْهُ وَالْجُوعُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا إِلَّا أَنَّ الشِّبَعَ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكُلُّ عَاقِلٍ اعْتَبَرَ أَحْوَالَ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَجِدُهَا دَائِمًا فِي التَّغَيُّرَاتِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، ثُمَّ إِنَّهُ يَجِدُ الْغَالِبَ فِي تِلْكَ التَّغَيُّرَاتِ هُوَ السَّلَامَةُ وَالْكَرَامَةُ وَالرَّاحَةُ وَالْبَهْجَةُ، أَمَّا الْأَحْوَالُ الْمَكْرُوهَةُ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةٌ إِلَّا أَنَّهَا أَقَلُّ مِنْ أَحْوَالِ اللَّذَّةِ وَالْبَهْجَةِ وَالرَّاحَةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّ تِلْكَ التَّغَيُّرَاتِ لِأَجْلِ أَنَّهَا تَقْتَضِي حُدُوثَ أَمْرٍ بَعْدَ عَدَمِهِ تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ، وَلِأَجْلِ أَنَّ الْغَالِبَ فِيهَا الرَّاحَةُ وَالْخَيْرُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِلَهَ رَحِيمٌ مُحْسِنٌ كَرِيمٌ، أَمَّا دَلَالَةُ التَّغَيُّرَاتِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ فَلِأَنَّ الْفِطْرَةَ السَّلِيمَةَ تَشْهَدُ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ وُجِدَ بَعْدَ الْعَدَمِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّا إِذَا سَمِعْنَا أَنَّ بَيْتًا حَدَثَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنَّ صريح العقل شاهد بأنه لا بد له مِنْ فَاعِلٍ تَوَلَّى بِنَاءَ ذَلِكَ الْبَيْتِ، وَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا شَكَّكَنَا فِيهِ لَمْ نَتَشَكَّكْ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فَاعِلُ تِلْكَ الْأَحْوَالِ المتغيرة قادراً، إذا لَوْ كَانَ مُوجِبًا بِالذَّاتِ لَدَامَ الْأَثَرُ بِدَوَامِهِ، فَحُدُوثُ الْأَثَرِ بَعْدَ عَدَمِهِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ مُؤَثِّرٍ قَادِرٍ، وَأَمَّا دَلَالَةُ تِلْكَ التَّغَيُّرَاتِ عَلَى كَوْنِ الْمُؤَثِّرِ رَحِيمًا مُحْسِنًا، فَلِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْغَالِبَ فِي تِلْكَ التَّغَيُّرَاتِ هُوَ الرَّاحَةُ وَالْخَيْرُ وَالْبَهْجَةُ وَالسَّلَامَةُ، وَمَنْ كَانَ غَالِبُ أَفْعَالِهِ رَاحَةً وَخَيْرًا وَكَرَامَةً وَسَلَامَةً كَانَ رَحِيمًا مُحْسِنًا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ مَعْلُومَةً لِكُلِّ أَحَدٍ وَحَاضِرَةً فِي عَقْلِ كُلِّ أَحَدٍ عَاقِلٍ كَانَ مُوجِبُ حَمْدِ اللَّهِ وَثَنَائِهِ حَاضِرًا فِي عَقْلِ كُلِّ أَحَدٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ عَلَّمَهُمْ كَيْفِيَّةَ الْحَمْدِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَمَّا نَبَّهَ عَلَى هَذَا الْمَقَامِ نَبَّهَ عَلَى مَقَامٍ آخَرَ أَعْلَى وَأَعْظَمَ مِنَ الْأَوَّلِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَنْبَغِي أَنْ تَعْتَقِدَ أَنَّ الْإِلَهَ الَّذِي اشْتَغَلْتَ بِحَمْدِهِ هُوَ إِلَهُكَ فَقَطْ، بَلْ هُوَ إِلَهُ كُلِّ الْعَالَمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّكَ إِنَّمَا حَكَمْتَ بِافْتِقَارِ نَفْسِكَ إِلَى الْإِلَهِ لَمَّا حَصَلَ فِيكَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ وَالْحُدُوثِ وَالْإِمْكَانِ/ وَهَذِهِ الْمَعَانِي قَائِمَةٌ فِي كُلِّ الْعَالَمِينَ، فَإِنَّهَا مَحَلُّ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَأَنْوَاعِ التَّغَيُّرَاتِ، فَتَكُونُ عِلَّةُ احْتِيَاجِكَ إِلَى الْإِلَهِ الْمُدَبِّرِ قَائِمَةً فِيهَا، وَإِذَا حَصَلَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْعِلَّةِ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْمَعْلُولِ، فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ رَبًّا للعالمين، وإلهاً للسموات وَالْأَرَضِينَ، وَمُدَبِّرًا لِكُلِّ الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ، وَلَمَّا تَقَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى ظَهَرَ أَنَّ الْمَوْجُودَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ هَذِهِ الْعَوَالِمِ عَلَى عَظَمَتِهَا وَيَقْدِرُ على خلق العرش والكرسي والسموات وَالْكَوَاكِبِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِهْلَاكِهَا، وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ غَنِيًّا عَنْهَا، فَهَذَا الْقَادِرُ الْقَاهِرُ الْغَنِيُّ يَكُونُ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ، وَحِينَئِذٍ يَقَعُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ أَنِّي مَعَ نِهَايَةِ ذِلَّتِي وَحَقَارَتِي كَيْفَ يُمْكِنُنِي أَنْ أَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ، وَبِأَيِّ طَرِيقٍ أَتَوَسَّلُ إِلَيْهِ، فَعِنْدَ هَذَا ذَكَرَ اللَّهُ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعِلَاجِ الْمُوَافِقِ لِهَذَا الْمَرَضِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الضَّعِيفُ، أَنَا وَإِنْ كُنْتُ عَظِيمَ الْقُدْرَةِ وَالْهَيْبَةِ وَالْإِلَهِيَّةِ إِلَّا أَنِّي مَعَ ذَلِكَ عَظِيمُ الرَّحْمَةِ، فَأَنَا الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ وَأَنَا مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ، فَمَا دُمْتَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لَا أُخَلِّيكَ عَنْ أَقْسَامِ رَحْمَتِي وَأَنْوَاعِ نِعْمَتِي وَإِذَا مِتَّ فَأَنَا مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ، لَا أُضِيعُ عَمَلًا مِنْ أَعْمَالِكَ، فَإِنْ أَتَيْتَنِي بِالْخَيْرِ قَابَلْتُ الْخَيْرَ الْوَاحِدَ بِمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَإِنْ أَتَيْتَنِي بِالْمَعْصِيَةِ قَابَلْتُهَا بِالصَّفْحِ وَالْإِحْسَانِ وَالْمَغْفِرَةِ. ثُمَّ لَمَّا قَرَّرَ أَمْرَ الرُّبُوبِيَّةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَمَرَهُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: مَقَامُ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَثَانِيهَا: مَقَامُ الطَّرِيقَةِ، وَهُوَ أَنْ يُحَاوِلَ السَّفَرَ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ إِلَى عَالَمِ الْغَيْبِ، فَيَرَى عَالَمَ الشَّهَادَةِ كَالْمُسَخَّرِ لِعَالَمِ الْغَيْبِ، فَيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَتَيَسَّرُ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ إِلَّا بِمَدَدٍ

يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ يُشَاهِدُ عَالَمَ الشَّهَادَةِ مَعْزُولًا بِالْكُلِّيَّةِ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَحِينَئِذٍ يَقُولُ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ إِنَّ هَاهُنَا دَقِيقَةً، وَهِيَ أَنَّ الرُّوحَ الْوَاحِدَ يَكُونُ أَضْعَفَ قُوَّةً مِنَ الْأَرْوَاحِ الْكَثِيرَةِ الْمُجْتَمِعَةِ عَلَى تَحْصِيلِ مَطْلُوبٍ وَاحِدٍ، فَحِينَئِذٍ عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ رُوحَهُ وَحْدَهُ لَا يَكْفِي فِي طَلَبِ هَذَا الْمَقْصُودِ، فَعِنْدَ هَذَا أَدْخَلَ رُوحَهُ فِي زُمْرَةِ الْأَرْوَاحِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُطَهَّرَةِ الْمُتَوَجِّهَةِ إِلَى طَلَبِ الْمُكَاشَفَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْأَنْوَارِ الرَّبَّانِيَّةِ، حَتَّى إِذَا اتَّصَلَ بِهَا وَانْخَرَطَ فِي سِلْكِهَا صَارَ الطَّلَبُ أَقْوَى وَالِاسْتِعْدَادُ أَتَمَّ، فَحِينَئِذٍ يَفُوزُ فِي تِلْكَ الْجَمْعِيَّةِ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْفَوْزِ بِهِ حَالَ الْوَحْدَةِ، فَلِهَذَا قَالَ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الِاتِّصَالَ بِالْأَرْوَاحِ الْمُطَهَّرَةِ يُوجِبُ مَزِيدَ الْقُوَّةِ وَالِاسْتِعْدَادِ، بَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ/ الِاتِّصَالَ بِالْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ يُوجِبُ الْخَيْبَةَ وَالْخُسْرَانَ وَالْخِذْلَانَ وَالْحِرْمَانَ، فَلِهَذَا قَالَ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَهُمُ الْفُسَّاقُ وَلَا الضَّالِّينَ وَهُمُ الْكُفَّارُ. وَلَمَّا تَمَّتْ هَذِهِ الدَّرَجَاتُ الثَّلَاثُ وَكَمُلَتْ هَذِهِ الْمَقَامَاتُ الثَّلَاثَةُ- أَعْنِي الشَّرِيعَةَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَالطَّرِيقَةَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وَالْحَقِيقَةَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ- ثُمَّ لَمَّا حَصَلَ الِاسْتِسْعَادُ بِالِاتِّصَالِ بِأَرْبَابِ الصَّفَاءِ وَالِاسْتِكْمَالِ بِسَبَبِ الْمُبَاعَدَةِ عَنْ أَرْبَابِ الْجَفَاءِ وَالشَّقَاءِ، فَعِنْدَ هَذَا كَمُلَتِ الْمَعَارِجُ الْبَشَرِيَّةُ وَالْكَمَالَاتُ الْإِنْسَانِيَّةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَقْرِيرِ مُشَرِّعٍ آخَرَ مِنْ لَطَائِفِ هَذِهِ السُّورَةِ، اعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مُحْتَاجًا إِلَى جَرِّ الْخَيْرَاتِ وَاللَّذَّاتِ، وَدَفْعِ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُخَافَاتِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْعَالَمَ عَالَمُ الْأَسْبَابِ فَلَا يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُ الْخَيْرَاتِ وَاللَّذَّاتِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ أَسْبَابٍ مُعِينَةٍ، وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ الْآفَاتِ وَالْمُخَافَاتِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ أَسْبَابٍ مُعِينَةٍ، وَلَمَّا كَانَ جَلْبُ النَّفْعِ وَدَفْعُ الضَّرَرِ محبوباً بالذات، وكان استقراء أحوال هذا العالم يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُ الْخَيْرِ وَلَا دَفْعُ الشَّرِّ إِلَّا بِتِلْكَ الْأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ، ثُمَّ تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ أَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَى الْمَحْبُوبِ إِلَّا بِوَاسِطَتِهِ فَهُوَ مَحْبُوبٌ- صَارَ هَذَا الْمَعْنَى سَبَبًا لِوُقُوعِ الْحُبِّ الشَّدِيدِ لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إِلَى الْخَيْرَاتِ وَاللَّذَّاتِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ خِدْمَةِ الْأَمِيرِ وَالْوَزِيرِ وَالْأَعْوَانِ وَالْأَنْصَارِ بَقِيَ الْإِنْسَانُ مُتَعَلِّقَ الْقَلْبِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، شَدِيدَ الْحُبِّ لَهَا، عَظِيمَ الْمَيْلِ وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْحِكْمِيَّةِ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَفْعَالِ سَبَبٌ لِحُدُوثِ الْمَلَكَاتِ الرَّاسِخَةِ وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ حُبَّ التَّشَبُّهِ غَالِبٌ عَلَى طِبَاعِ الْخَلْقِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَكُلُّ مَنْ وَاظَبَ عَلَى صِنَاعَةٍ مِنَ الصَّنَائِعِ وَحِرْفَةٍ مِنَ الْحِرَفِ مُدَّةً مَدِيدَةً صَارَتْ تِلْكَ الْحِرْفَةُ وَالصِّنَاعَةُ مَلَكَةً رَاسِخَةً قَوِيَّةً وَكُلَّمَا كَانَتِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ كَانَتِ الْمَلَكَةُ أَقْوَى وَأَرْسَخَ. وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا جَالَسَ الْفُسَّاقَ مَالَ طَبْعُهُ إِلَى الْفِسْقِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ جُبِلَتْ عَلَى حُبِّ الْمُحَاكَاةِ وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ اسْتِقْرَاءَ حَالِ الدُّنْيَا يُوجِبُ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي بِهَا يُمْكِنُ التَّوَسُّلُ إِلَى جَرِّ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتْ مُوَاظَبَةُ الْإِنْسَانِ عَلَيْهَا أَكْثَرَ كَانَ اسْتِحْكَامُ هَذَا الْمَيْلِ وَالطَّلَبِ فِي قَلْبِهِ أَقْوَى وَأَثْبَتَ، وَأَيْضًا فَأَكْثَرُ أَهْلِ الدُّنْيَا مَوْصُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مُوَاظِبُونَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ. وَبَيَّنَّا أَنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ الْمُحَاكَاةِ وَذَلِكَ أَيْضًا يُوجِبُ اسْتِحْكَامَ هَذِهِ الْحَالَةِ. فَقَدْ ظَهَرَ بِالْبَيِّنَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَنَّ الْأَسْبَابَ/ الْمُوجِبَةَ لِحُبِّ الدُّنْيَا وَالْمُرَغِّبَةَ فِي التَّعَلُّقِ بِأَسْبَابِهَا كَثِيرَةٌ قَوِيَّةٌ شَدِيدَةٌ جِدًّا ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّهُ إِذَا اتَّفَقَ لِلْإِنْسَانِ هِدَايَةٌ إِلَهِيَّةٌ تَهْدِيهِ إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ وَقَعَ في

قَلْبِهِ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِي هَذِهِ الْأَسْبَابِ تَأَمُّلًا شَافِيًا وَافِيًا فَيَقُولُ: هَذَا الْأَمِيرُ الْمُسْتَوْلِي عَلَى هَذَا الْعَالَمِ اسْتَوْلَى عَلَى الدُّنْيَا بِفَرْطِ قُوَّتِهِ وَكَمَالِ حِكْمَتِهِ أَمْ لَا؟ الْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَمِيرَ رُبَّمَا كَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ عَجْزًا، وَأَقَلَّهُمْ عَقْلًا، فَعِنْدَ هَذَا، يَظْهَرُ لَهُ أَنَّ تِلْكَ الْإِمَارَةَ وَالرِّيَاسَةَ مَا حَصَلَتْ لَهُ بِقُوَّتِهِ، وَمَا هُيِّئَتْ لَهُ بِسَبَبِ حِكْمَتِهِ، وَإِنَّمَا حَصَلَتْ تِلْكَ الْإِمَارَةُ وَالرِّيَاسَةُ لِأَجْلِ قِسْمَةِ قَسَّامٍ وَقَضَاءِ حَكِيمٍ عَلَّامٍ لَا دَافِعَ لِحُكْمِهِ وَلَا مَرَدَّ لِقَضَائِهِ، ثُمَّ يَنْضَمُّ إِلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِاعْتِبَارِ أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنَ الِاعْتِبَارَاتِ تُعَاضِدُهَا وَتُقَوِّيهَا، فَعِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ الْمُكَاشَفَةِ يَنْقَطِعُ قَلْبُهُ عَنِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، وَيَنْتَقِلُ مِنْهَا إِلَى الرُّجُوعِ فِي كُلِّ الْمُهِمَّاتِ وَالْمَطْلُوبَاتِ إِلَى مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ وَمُفَتِّحِ الْأَبْوَابِ، ثُمَّ إِذَا تَوَالَتْ هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتُ وَتَوَاتَرَتْ هَذِهِ الْمُكَاشَفَاتُ صَارَ الْإِنْسَانُ بِحَيْثُ كَلَّمَا وَصَلَ إِلَيْهِ نَفْعٌ وَخَيْرٌ قَالَ هُوَ النَّافِعُ وَكُلَّمَا وَصَلَ إِلَيْهِ شَرٌّ وَمَكْرُوهٌ قَالَ: هُوَ الضَّارُّ، وَعِنْدَ هَذَا لَا يَحْمَدُ أَحَدًا عَلَى فِعْلٍ إِلَّا اللَّهَ، وَلَا يَتَوَجَّهُ قَلْبُهُ فِي طَلَبِ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، فَيَصِيرُ الْحَمْدُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَالثَّنَاءُ كُلُّهُ لِلَّهِ، فَعِنْدَ هَذَا يَقُولُ الْعَبْدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ الْمَذْكُورَ يَدُلُّ الْعَبْدَ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَ هَذَا الْعَالَمِ لَا تَنْتَظِمُ إِلَّا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ، ثُمَّ يَتَرَقَّى مِنَ الْعَالَمِ الصَّغِيرِ إِلَى الْعَالَمِ الْكَبِيرِ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا تَنْتَظِمُ حَالَةٌ مِنْ أَحْوَالِ الْعَالَمِ الْأَكْبَرِ إِلَّا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ، وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ: رَبِّ الْعالَمِينَ ثُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ يَتَأَمَّلُ فِي أَحْوَالِ الْعَالَمِ الْأَعْلَى فَيُشَاهِدُ أَنَّ أَحْوَالَ الْعَالَمِينَ مَنْظُومَةٌ عَلَى الْوَصْفِ الْأَتْقَنِ وَالتَّرْتِيبِ الْأَقْوَمِ وَالْكَمَالِ الْأَعْلَى وَالْمَنْهَجِ الْأَسْنَى فَيَرَى الذَّرَّاتِ نَاطِقَةً بِالْإِقْرَارِ بِكَمَالِ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ لِلْعَبْدِ أَنَّ جَمِيعَ مَصَالِحِهِ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا تَهَيَّأَتْ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، ثُمَّ يَبْقَى الْعَبْدُ مُتَعَلِّقَ الْقَلْبِ بِسَبَبِ أَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَأَنَّهُ يُقَالُ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ليس إلا الذي عرفته بأنه هو الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، فَحِينَئِذٍ يَنْشَرِحُ صَدْرُ الْعَبْدِ وَيَنْفَسِحُ قَلْبُهُ وَيَعْلَمُ أَنَّ الْمُتَكَفِّلَ بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ، وَحِينَئِذٍ يَنْقَطِعُ الْتِفَاتُهُ عَمَّا سِوَى اللَّهِ وَلَا يَبْقَى مُتَعَلِّقَ الْقَلْبِ بِغَيْرِ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ حِينَ كَانَ مُتَعَلِّقَ الْقَلْبِ بِالْأَمِيرِ وَالْوَزِيرِ كَانَ مَشْغُولًا بِخِدْمَتِهِمَا، وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ تِلْكَ الْخِدْمَةِ كَانَ يَسْتَعِينُ فِي تَحْصِيلِ الْمُهِمَّاتِ بِهِمَا وَكَانَ يُطْلَبُ الْخَيْرُ مِنْهُمَا، فَعِنْدَ زَوَالِ ذَلِكَ التَّعَلُّقِ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُشْتَغِلًا بِخِدْمَةِ الْأَمِيرِ وَالْوَزِيرِ فَلِأَنْ يَشْتَغِلَ بِخِدْمَةِ الْمَعْبُودِ كَانَ أَوْلَى، فَعِنْدَ هَذَا يَقُولُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَالْمَعْنَى إِنِّي كُنْتُ قبل هذا/ أعبد غيرك، وأما الآن فلا أعبد أحداً سواك، ولما كان يستعين في تحصيل المهمات بالأمير والوزير فلأن يستعين بالمعبود الحق في تحصيل المرادات كان أولى، فيقول: وإياك نستعين وَالْمَعْنَى: إِنِّي كُنْتُ قَبْلَ هَذَا أَسْتَعِينُ بِغَيْرِكَ وَأَمَّا الْآنَ فَلَا أَسْتَعِينُ بِأَحَدٍ سِوَاكَ، وَلَمَّا كَانَ يَطْلُبُ الْمَالَ وَالْجَاهَ اللَّذَيْنِ هُمَا عَلَى شَفَا حُفْرَةِ الِانْقِرَاضِ وَالِانْقِضَاءِ مِنَ الْأَمِيرِ وَالْوَزِيرِ فَلِأَنْ يَطْلُبَ الْهِدَايَةَ وَالْمَعْرِفَةَ مِنْ رَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَوْلَى، فَيَقُولُ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا فَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِينَ لَا يَعْبُدُونَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَلَا يَسْتَعِينُونَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا يَطْلُبُونَ الْأَغْرَاضَ وَالْمَقَاصِدَ إِلَّا مِنَ الله، والفرقة الثانية، الذين يخدمون الخلق ويستعينوا بِهِمْ وَيَطْلُبُونَ الْخَيْرَ مِنْهُمْ، فَلَا جَرَمَ الْعَبْدُ يَقُولُ: إِلَهِي اجْعَلْنِي فِي زُمْرَةِ الْفِرْقَةِ الْأُولَى، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْأَنْوَارِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالْجَلَايَا النُّورَانِيَّةِ، وَلَا تَجْعَلْنِي فِي زُمْرَةِ الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ وَهُمُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ وَالضَّالُّونَ، فَإِنَّ مُتَابَعَةَ هَذِهِ الْفِرْقَةِ لَا تُفِيدُ إِلَّا الْخَسَارَ وَالْهَلَاكَ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الباب الرابع في المسائل الفقهية المستنبطة من هذه السورة

الْبَابُ الرَّابِعُ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ هذه السورة فقه الفاتحة: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ، وَعَنِ الْأَصَمِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهَا لَا تَجِبُ. لَنَا أَنَّ كُلَّ دَلِيلٍ نَذْكُرُهُ فِي بَيَانِ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْقِرَاءَةِ واجب وتزيد هَاهُنَا وُجُوهًا: - الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الْإِسْرَاءِ: 78] وَالْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ الْقِرَاءَةُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَقِمْ قِرَاءَةَ الْفَجْرِ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ. الثَّانِي: عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَفِي الصَّلَاةِ قِرَاءَةٌ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ السَّائِلُ: وَجَبَتْ، فَأَقَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الرَّجُلَ عَلَى قَوْلِهِ وَجَبَتْ. الثَّالِثُ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَتَكُونُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ، وَهَذَانَ الْخَبَرَانِ نَقَلْتُهُمَا مِنْ «تَعْلِيقِ الشيخ أبي حامد الإسفرايني» . حُجَّةُ الْأَصَمِّ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، جَعَلَ الصَّلَاةَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَرْئِيَّةِ، وَالْقِرَاءَةُ لَيْسَتْ بِمَرْئِيَّةٍ، فَوَجَبَ كَوْنُهَا خَارِجَةً عَنِ الصَّلَاةِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الرُّؤْيَةَ إِذَا كَانَتْ مُتَعَدِّيَةً إِلَى مَفْعُولَيْنِ كَانَتْ بِمَعْنَى الْعِلْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا حَرْفًا وَاحِدًا وَهُوَ يُحْسِنُهَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا تَجِبُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ. لَنَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاظَبَ طُولَ عُمْرِهِ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا ذلك، لقوله تعالى: وَاتَّبِعُوهُ وَلِقَوْلِهِ: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النُّورِ: 63] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: 31] وَيَا لَلْعَجَبِ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَمَسَّكَ فِي وُجُوبِ مَسْحِ النَّاصِيَةِ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ وَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ وَخُفَّيْهِ، فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَسَحَ عَلَى النَّاصِيَةِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنَ الْمَسْحِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَهَاهُنَا نَقَلَ أَهْلُ الْعِلْمِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاظَبَ طُولَ عُمْرِهِ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ صِحَّةَ الصَّلَاةِ غَيْرُ مَوْقُوفَةٍ عَلَيْهَا، وَهَذَا مِنَ الْعَجَائِبِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قوله تعالى: أَقِيمُوا الصَّلاةَ: وَالصَّلَاةُ لَفْظَةٌ مُفْرَدَةٌ مُحَلَّاةٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهَا الْمَعْهُودَ السَّابِقَ، وَلَيْسَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مَعْهُودٌ سَابِقٌ مِنْ لَفْظِ الصَّلَاةِ إِلَّا الْأَعْمَالُ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي بِهَا: وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: «أَقِيمُوا الصَّلَاةَ» جَارِيًا مَجْرَى قَوْلِهِ: «أَقِيمُوا الصَّلَاةَ الَّتِي كَانَ يَأْتِي بِهَا

الرَّسُولُ، وَالَّتِي أَتَى بِهَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هِيَ الصَّلَاةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْفَاتِحَةِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَقِيمُوا الصَّلاةَ أَمْرًا بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ تَكَرَّرَتْ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَاظَبُوا عَلَى قِرَاءَتِهَا طُولَ عُمْرِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رُوِيَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما كانوا يستفتحون القراءة بالحمد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الراشدين من بَعْدِي» ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» ، وَالْعَجَبُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَمَسَّكَ فِي مَسْأَلَةِ/ طَلَاقِ الْفَارِّ بِأَثَرِ عُثْمَانَ مَعَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ كَانَا يُخَالِفَانِهِ وَنَصُّ الْقُرْآنِ أَيْضًا يُوجِبُ عَدَمَ الْإِرْثِ، فَلِمَ لَمْ يَتَمَسَّكْ بِعَمَلِ كُلِّ الصَّحَابَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِطْبَاقِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ مَعَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى وَفْقِ الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ وَالْمَعْقُولِ؟. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْأُمَّةَ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي أَنَّهُ هَلْ تَجِبُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ أَمْ لَا لَكِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِي الْعَمَلِ، فَإِنَّكَ لَا تَرَى أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إِلَّا وَيَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ فِي الصَّلَاةِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ مَنْ صَلَّى وَلَمْ يَقْرَأِ الْفَاتِحَةَ كَانَ تَارِكًا سَبِيلَ المؤمنين فيدخل تحت قوله: وَمَنْ ... يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً [النِّسَاءِ: 115] فَإِنْ قَالُوا إِنَّ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا يَجِبُ قِرَاءَتُهَا قَرَءُوهَا لَا عَلَى اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ، بَلْ عَلَى اعْتِقَادِ النَّدْبِيَّةِ فَلَمْ يَحْصُلِ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ قِرَاءَتِهَا، فَنَقُولُ: أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ غَيْرُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا إِطْبَاقَ الْكُلِّ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْقِرَاءَةِ، فَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِالْقِرَاءَةِ كَانَ تَارِكًا طَرِيقَةَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا الْعَمَلِ، فَدَخَلَ تَحْتَ الْوَعِيدِ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِينَا فِي الدَّلِيلِ، وَلَا حَاجَةَ بِنَا فِي تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ إِلَى ادِّعَاءِ الْإِجْمَاعِ فِي اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ» ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى كُلِّ صَلَاةٍ بِكَوْنِهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ نِصْفَيْنِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا التَّنْصِيفَ لَمْ يَحْصُلْ إِلَّا بِسَبَبِ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَنَقُولُ: الصَّلَاةُ لَا تَنْفَكُّ عَنْ هَذَا التَّنْصِيفِ، وَهَذَا التَّنْصِيفُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِسَبَبِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَلَازِمُ اللَّازِمِ لَازِمٌ، فَوَجَبَ كَوْنُ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ لَوَازِمِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا اللُّزُومُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا قُلْنَا قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، قَالُوا: حَرْفُ النَّفْيِ دَخَلَ عَلَى الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهِ إِلَى حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ صَرْفُهُ إِلَى الصِّحَّةِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إِلَى الْكَمَالِ، وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَالنَّفْيُ مَا دَخَلَ عَلَى الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا دَخَلَ عَلَى حُصُولِهَا لِلرَّجُلِ، وَحُصُولُهَا لِلرَّجُلِ عِبَارَةٌ عَنِ انْتِفَاعِهِ بها، وخروجه عن عهدة للتكليف بِسَبَبِهَا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ إِجْرَاءُ النَّفْيِ عَلَى ظَاهِرِهِ، الثَّانِي: مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ مَاهِيَّةِ الصَّلَاةِ فَعِنْدَ عَدَمِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ لَا تُوجَدُ مَاهِيَّةُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمَاهِيَّةَ يَمْتَنِعُ حُصُولُهَا حَالَ عَدَمِ بَعْضِ أَجْزَائِهَا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا/ فَقَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِدْخَالُ حَرْفِ

النَّفْيِ عَلَى مُسَمَّى الصَّلَاةِ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْفَاتِحَةَ لَيْسَتْ جُزْءًا مِنَ الصَّلَاةِ، وَهَذَا هُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى قَوْلِنَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ. الثَّالِثُ: هَبْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ، إِلَّا أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مَتَى تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ وَحَصَلَ لِلْحَقِيقَةِ مَجَازَانِ: أَحَدُهُمَا: أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ. وَالثَّانِي: أَبْعَدُ فَإِنَّهُ يَجِبُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَجَازِ الْأَقْرَبِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الْمَعْدُومِ وَبَيْنَ الْمَوْجُودِ الَّذِي لَا يَكُونُ صَحِيحًا أَتَمُّ مِنَ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ الْمَعْدُومِ وَبَيْنَ الْمَوْجُودِ الَّذِي يَكُونُ صَحِيحًا لَكِنَّهُ لَا يَكُونُ كَامِلًا، فَكَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ أَوْلَى. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ أَوْلَى لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَصْلَ إِبْقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَالثَّانِي: أَنَّ جَانِبَ الْحُرْمَةِ رَاجِحٌ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا أَحْوَطُ. الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ صَلَاةٍ لَمْ يُقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ، غَيْرُ تَمَامٍ، قَالُوا: الْخِدَاجُ هُوَ النُّقْصَانُ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ، قُلْنَا: بَلْ هَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِالصَّلَاةِ قَائِمٌ، وَالْأَصْلُ فِي الثَّابِتِ الْبَقَاءُ، خَالَفْنَا هَذَا الْأَصْلَ عِنْدَ الْإِتْيَانِ بِالصَّلَاةِ عَلَى صِفَةِ الْكَمَالِ، فَعِنْدَ الْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى سَبِيلِ النُّقْصَانِ وَجَبَ أَنْ لَا نَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَالَّذِي يُقَوِّي هَذَا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِحُّ الصَّوْمُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ إِلَّا أَنَّهُ لَوْ صَامَ يَوْمَ الْعِيدِ قَضَاءً عَنْ رَمَضَانَ لَمْ يَصِحَّ، قَالَ: لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ هُوَ الصَّوْمُ الْكَامِلُ، وَالصَّوْمُ فِي هَذَا الْيَوْمِ نَاقِصٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفِيدَ هَذَا الْقَضَاءُ الْخُرُوجَ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: فَلِمَ لَمْ يَقُلْ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي «تَعْلِيقِهِ» عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» . وَالْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: رَوَى رِفَاعَةُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَصَلَّى، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَذَكَرَ الْخَبَرَ إِلَى أَنْ قَالَ الرَّجُلُ: عَلِّمْنِي الصلاة يا رسول الله، فقال عيله الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا تَوَجَّهْتَ إِلَى الْقِبْلَةِ فَكَبِّرْ، وَاقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» ، وَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَأَيْضًا الرَّجُلُ قَالَ: عَلِّمْنِي الصَّلَاةَ، فَكُلُّ مَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ. الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِسُورَةٍ لَيْسَ فِي/ التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ مِثْلُهَا» ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «فَمَا تَقْرَءُونَ فِي صَلَاتِكُمْ؟» قَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ: «هِيَ هِيَ» ، وَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا قَالَ: مَا تَقْرَءُونَ فِي صَلَاتِكُمْ فَقَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي أَحَدٌ إِلَّا بِهَذِهِ السُّورَةِ، فَكَانَ هَذَا إِجْمَاعًا مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ. الْحُجَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [الْمُزَّمِّلِ: 20] وَجْهُ الدَّلِيلِ أن قوله «فاقرؤا» أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ قِرَاءَةَ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ وَاجِبَةٌ، فَنَقُولُ: الْمُرَادُ بِمَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْفَاتِحَةَ أَوْ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ، أَوِ الْمُرَادُ التخيير بين الفاتحة وبين غيرها والأول: يقتضي أَنْ تَكُونَ الْفَاتِحَةُ بِعَيْنِهَا وَاجِبَةً، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَالثَّانِي: يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ قِرَاءَةُ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةً عَلَيْنَا، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالثَّالِثُ: يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ مُخَيَّرًا بَيْنَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَبَيْنَ قِرَاءَةِ غَيْرِهَا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ أَوْلَى مِنْ قِرَاءَةِ غَيْرِهَا، وَسَلَّمَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ الصَّلَاةَ بِدُونِ قِرَاءَةِ

الْفَاتِحَةِ خِدَاجٌ نَاقِصٌ، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ النَّاقِصِ وَالْكَامِلِ لَا يَجُوزُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا سَمَّى قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ قِرَاءَةً لِمَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَحْفُوظَةٌ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ مُتَيَسِّرَةٌ لِلْكُلِّ، وَأَمَّا سَائِرُ السُّوَرِ فَقَدْ تَكُونُ مَحْفُوظَةً وَقَدْ لَا تَكُونُ، وَحِينَئِذٍ لَا تَكُونُ مُتَيَسِّرَةً لِلْكُلِّ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ كَانَ ثَابِتًا، وَالْأَصْلُ فِي الثَّابِتِ الْبَقَاءُ، خَالَفْنَا هَذَا الْأَصْلَ عِنْدَ الْإِتْيَانِ بِهَا لِلصَّلَاةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، لِأَنَّ الْأَخْبَارَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ السُّوَرِ، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مَعَ قِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ أَكْمَلُ مِنَ الصَّلَاةِ الْخَالِيَةِ عَنْ قِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَعِنْدَ عَدَمِ قِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ وَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ تُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنِ الْعُهْدَةِ بِالْيَقِينِ، فَكَانَتْ أَحْوَطُ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهَا لِلنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّهُ يُفِيدُ دَفْعَ ضَرَرِ الْخَوْفِ عَنِ النَّفْسِ، وَدَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ وَاجِبٌ، فَإِنْ قَالُوا: فَلَوِ اعْتَقَدْنَا الْوُجُوبَ لَاحْتُمِلَ كَوْنُنَا مُخْطِئِينَ فِيهِ، فَيَبْقَى الْخَوْفُ، قُلْتُ: اعْتِقَادُ الْوُجُوبِ يُورِثُ الْخَوْفَ الْمُحْتَمَلَ، وَاعْتِقَادُ عَدَمِ الْوُجُوبِ يُورِثُهُ أَيْضًا فَيَتَقَابَلُ هَذَانِ الضَّرَرَانِ، وَأَمَّا فِي الْعَمَلِ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ لَا تُوجِبُ الْخَوْفَ، أَمَّا تَرْكُهُ فَيُفِيدُ/ الْخَوْفَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَحْوَطَ هُوَ الْعَمَلُ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: لَوْ كَانَتِ الصَّلَاةُ بِغَيْرِ الْفَاتِحَةِ جَائِزَةً وَكَانَتِ الصَّلَاةُ بِالْفَاتِحَةِ جَائِزَةً لَمَا كَانَتِ الصَّلَاةُ بِالْفَاتِحَةِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ تُوجِبُ هُجْرَانَ سَائِرِ السُّوَرِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لَكِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ بِهَذِهِ السُّورَةِ أَوْلَى، فَثَبَتَ أَنَّ الصَّلَاةَ بِغَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ غَيْرُ جَائِزَةٍ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِبْدَالُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِغَيْرِهِمَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ إِبْدَالُ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ بِغَيْرِهَا، وَالْجَامِعُ رِعَايَةُ الِاحْتِيَاطِ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الْأَصْلُ بَقَاءُ التَّكْلِيفِ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الصَّلَاةَ بِدُونِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ تَقْتَضِي الْخُرُوجَ عَنِ الْعُهْدَةِ، إِمَّا أَنْ يُعْرَفَ بِالنَّصِّ أَوِ الْقِيَاسِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّ النَّصَّ الَّذِي يَتَمَسَّكُونَ بِهِ هُوَ قَوْلُهُ تعالى: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [الْمُزَّمِّلِ: 20] وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ دَلِيلُنَا، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّ التَّعَبُّدَاتِ غَالِبَةٌ عَلَى الصَّلَاةِ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ يَجِبُ تَرْكُ الْقِيَاسِ. الْحُجَّةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاظَبَ عَلَى الْقِرَاءَةِ طُولَ عُمْرِهِ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ قِرَاءَةُ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ ابْتِدَاعًا وَتَرْكًا لِلِاتِّبَاعِ وَذَلِكَ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا» ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا» . الْحُجَّةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: الصَّلَاةُ مَعَ الْفَاتِحَةِ وَبِدُونِ الْفَاتِحَةِ إِمَّا أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْفَضِيلَةِ أَوِ الصَّلَاةُ مَعَ الْفَاتِحَةِ أَفْضَلُ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاظَبَ عَلَى الصَّلَاةِ بِالْفَاتِحَةِ، فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، فَنَقُولُ: الصَّلَاةُ بِدُونِ الْفَاتِحَةِ تُوجِبُ فَوَاتَ الْفَضِيلَةِ الزَّائِدَةِ مِنْ غَيْرِ جَابِرٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَبِيحٌ فِي الْعُرْفِ فَيَكُونُ قَبِيحًا فِي الشَّرْعِ.

وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ أَمَّا الْقُرْآنُ فقوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20] وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَا رَوَى أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَخْرُجَ، وَأُنَادِيَ: لَا صَلَاةَ إِلَّا بِقِرَاءَةٍ، وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى قَوْلِنَا، وذلك لأن قوله: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ قِرَاءَةَ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ وَاجِبَةٌ فَنَقُولُ: الْمُرَادُ بِمَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْفَاتِحَةَ، أَوْ غير الفاتحة أو المراد التخيير بين الفاتحة وَبَيْنَ غَيْرِهَا، وَالْأَوَّلُ: يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْفَاتِحَةُ بِعَيْنِهَا وَاجِبَةً، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَالثَّانِي: يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قِرَاءَةُ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةً بِعَيْنِهَا، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ/ وَالثَّالِثُ: يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ مُخَيَّرًا بَيْنَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَبَيْنَ قِرَاءَةِ غَيْرِهَا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ أَوْلَى مِنْ قِرَاءَةِ غَيْرِهَا، وَسَلَّمَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ الصَّلَاةَ بِدُونِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ خِدَاجٌ نَاقِصٌ وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ النَّاقِصِ وَالْكَامِلِ لَا يَجُوزُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا سَمَّى قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ قِرَاءَةً لِمَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَحْفُوظَةٌ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَهِيَ مُتَيَسِّرَةٌ لِلْكُلِّ، وَأَمَّا سَائِرُ السُّوَرِ فَقَدْ تَكُونُ مَحْفُوظَةً وَقَدْ لَا تَكُونُ، وَحِينَئِذٍ لَا تَكُونُ مُتَيَسِّرَةً لِلْكُلِّ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَخْرُجَ وَأُنَادِيَ: لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَأَيْضًا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِقِرَاءَةٍ وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ هُوَ أَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَاتِحَةِ لَكَفَى؟ وَإِذَا ثَبَتَ التَّعَارُضُ فَالتَّرْجِيحُ مَعَنَا، لِأَنَّهُ أَحْوَطُ، وَلِأَنَّهُ أَفْضَلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمَّا كَانَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ لَا جَرَمَ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الْقِرَاءَةِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قَرَأَ آيَةً وَاحِدَةً كَفَتْ، مثل قوله: ألم، وحم والطور، ومدهامتان، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا بُدَّ مِنْ قِرَاءَةِ ثَلَاثِ آيَاتٍ قِصَارٍ أَوْ آيَةٍ وَاحِدَةٍ طَوِيلَةٍ مِثْلَ آيَةِ الدَّيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَتَجِبُ قِرَاءَتُهَا مَعَ الْفَاتِحَةِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا فِي سُورَةِ النَّمْلِ، وَلَا يَقْرَأُ لَا سِرًّا، وَلَا جَهْرًا إِلَّا فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَقْرَؤُهَا وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: يَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيُسِرُّ بِهَا، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهَا آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ أَمْ لَا، قَالَ يَعْلَى: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ عَنْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَالَ: مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ قُرْآنٌ، قَالَ: قُلْتُ: فَلِمَ تُسِرُّهُ؟ قَالَ: فَلَمْ يُجِبْنِي، وَقَالَ الْكَرْخِيُّ لَا أَعْرِفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِعَيْنِهَا لِمُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا، إِلَّا أَنَّ أَمْرَهُمْ بِإِخْفَائِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ السُّورَةِ، وَقَالَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: تَوَرَّعَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ عَنِ الْوُقُوعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ الْخَوْضَ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ لَيْسَتْ مِنْهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَالْأَوْلَى السُّكُوتُ عَنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِ مَسَائِلَ: إِحْدَاهَا: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ هَلْ هِيَ مَسْأَلَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ حَتَّى يَجُوزَ الِاسْتِدْلَالُ فِيهَا بِالظَّوَاهِرِ وَأَخْبَارِ الْآحَادِ، أَوْ لَيْسَتْ مِنَ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ بَلْ هِيَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ. وَثَانِيَتُهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنَّهَا مِنَ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ فَمَا الْحَقُّ فيها؟.

وَثَالِثَتُهَا: الْكَلَامُ فِي أَنَّهَا تُقْرَأُ بِالْإِعْلَانِ أَوْ بِالْإِسْرَارِ، فَلْنَتَكَلَّمْ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي تَقْرِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ، وَزَعَمَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ أَنَّهَا مِنَ الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ، قَالَ: وَالْخَطَأُ فِيهَا إِنْ لَمْ يَبْلُغْ إِلَى حَدِّ التَّكْفِيرِ فَلَا أَقَلَّ مِنَ التَّفْسِيقِ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَوْ كَانَتْ مِنَ الْقُرْآنِ لَكَانَ طَرِيقُ إِثْبَاتِهِ إِمَّا التَّوَاتُرُ أَوِ الْآحَادُ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ كَوْنُ التَّسْمِيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ لَحَصَلَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِأَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَامْتَنَعَ وُقُوعُ الْخِلَافِ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ. وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، فَلَوْ جَعَلْنَاهُ طَرِيقًا إِلَى إِثْبَاتِ الْقُرْآنِ لَخَرَجَ الْقُرْآنُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً يَقِينِيَّةً وَلَصَارَ ذَلِكَ ظَنِّيًّا، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ ادِّعَاءُ الرَّوَافِضِ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ دَخَلَهُ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ وَالتَّغْيِيرُ وَالتَّحْرِيفُ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ الْإِسْلَامَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْخَ الْغَزَالِيَّ عَارَضَ الْقَاضِيَ فَقَالَ: نَفْيُ كَوْنِ التَّسْمِيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ إِنْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ لَزِمَ أَنْ لَا يَبْقَى الْخِلَافُ، وَإِنْ ثَبَتَ بِالْآحَادِ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الْقُرْآنُ ظَنِّيًّا، ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ سُؤَالًا وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: «لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ عُدِمَ» فَلَا حَاجَةَ فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْعَدَمِ إِلَى النَّقْلِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْعَدَمُ، وَأَمَّا قَوْلُنَا: (إِنَّهُ قُرْآنٌ) فَهُوَ ثُبُوتٌ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ النَّقْلِ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: هَذَا وَإِنْ كَانَ عَدَمًا إِلَّا أَنَّ كَوْنَ التَّسْمِيَةِ مَكْتُوبَةً بِخَطِّ الْقُرْآنِ يُوهِمُ كَوْنَهَا مِنَ القرآن، فههنا لَا يُمْكِنُنَا الْحُكْمُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ التَّقْسِيمُ الْمَذْكُورُ مِنْ أَنَّ الطَّرِيقَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَوَاتُرًا أَوْ آحَادًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْقَاضِي لَازِمٌ عَلَيْهِ، فَهَذَا آخِرُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَالَّذِي عِنْدِي فِيهِ أَنَّ النَّقْلَ الْمُتَوَاتِرَ ثَابِتٌ بِأَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كَلَامٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِأَنَّهُ مُثْبَتٌ فِي الْمُصْحَفِ بِخَطِّ الْقُرْآنِ وَعِنْدَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِنَا إِنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ فَائِدَةٌ إِلَّا أَنَّهُ حَصَلَ فِيهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ هِيَ مِنْ خَوَاصِّ الْقُرْآنِ مِثْلَ أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ أَمْ لَا، وَهَلْ يَجُوزُ لِلْجُنُبِ قِرَاءَتُهَا أَمْ لَا وَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ مَسُّهَا أَمْ لَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ اجْتِهَادِيَّةٌ، فَلَمَّا رَجَعَ حَاصِلُ قَوْلِنَا إِنَّ التَّسْمِيَةَ هَلْ هِيَ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَى ثُبُوتِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَعَدَمِهَا، وَثَبَتَ أَنَّ ثُبُوتَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَعَدَمَهَا أُمُورٌ اجْتِهَادِيَّةٌ ظَهَرَ أَنَّ الْبَحْثَ اجْتِهَادِيٌّ لَا قَطْعِيٌّ، وَسَقَطَ تَهْوِيلُ الْقَاضِي. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي بَيَانِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ هَلْ هِيَ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَنَّهَا آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ، قَالَ قُرَّاءُ/ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَفُقَهَاءُ الْكُوفَةِ إِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَقَالَ قُرَّاءُ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ إِنَّهَا آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَالثَّوْرِيِّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: رَوَى الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فَعَدَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةً، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ آيَةً، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةً، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ آيَةً، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ آيَةً، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ آيَةً، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غير المغضوب عليهم ولا الظالمين آيَةً، وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ سَبْعُ آيَاتٍ أُولَاهُنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: رَوَى الثَّعْلَبِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِآيَةٍ لَمْ تَنْزِلْ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ غَيْرِي، فَقُلْتُ بَلَى، فَقَالَ: بِأَيِّ شَيْءٍ تَفْتَتِحُ الْقُرْآنَ إِذَا افْتَتَحْتَ الصَّلَاةَ؟ قُلْتُ: بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالَ: هِيَ هِيَ، فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ مِنَ الْقُرْآنِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: رَوَى الثَّعْلَبِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: كَيْفَ تَقُولُ إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: أَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: قُلْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَرَوَى أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَرَوَى أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا افْتَتَحَ السُّورَةَ فِي الصَّلَاةِ يَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ تَرَكَ قِرَاءَتَهَا فَقَدْ نَقَصَ. وَرَوَى أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الْحِجْرِ: 87] قَالَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، فَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: فَأَيْنَ السَّابِعَةُ؟ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا قَرَأْتُمْ أُمَّ الْقُرْآنِ فَلَا تَدَعُوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَإِنَّهَا إِحْدَى آيَاتِهَا. وَبِإِسْنَادِهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَجَّدَنِي/ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قَالَ اللَّهُ فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» . وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي، فَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَتَعَوَّذَ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَجُلُ، قَطَعْتَ عَلَى نَفْسِكَ الصَّلَاةَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنَ الْحَمْدِ، مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ تَرَكَ آيَةً مِنْهَا، وَمَنْ تَرَكَ آيَةً مِنْهَا فَقَدْ قَطَعَ صَلَاتَهُ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَمَنْ تَرَكَ آيَةً مِنْهَا فَقَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من تَرَكَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَدْ تَرَكَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ» . وَاعْلَمْ أَنِّي نَقَلْتُ جُمْلَةَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ تَفْسِيرِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: قِرَاءَةُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَاجِبَةٌ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ آيَةً مِنْهَا، بَيَانُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [الْعَلَقِ: 1] وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْبَاءُ صِلَةٌ زَائِدَةٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ حَرْفٍ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَائِدَةٌ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْحَرْفُ مُفِيدًا كَانَ التَّقْدِيرُ اقْرَأْ مُفْتَتِحًا بِاسْمِ رَبِّكَ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَلَمْ يَثْبُتْ هَذَا الْوُجُوبُ فِي غَيْرِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَوَجَبَ إِثْبَاتُهُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ صَوْنًا لِلنَّصِّ عَنِ التَّعْطِيلِ.

الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: التَّسْمِيَةُ مَكْتُوبَةٌ بِخَطِّ الْقُرْآنِ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَكْتُوبٍ بخط القرآن، ألا ترى أنهم يمنعوا مِنْ كِتَابَةِ أَسَامِي السُّوَرِ فِي الْمُصْحَفِ، وَمَنَعُوا مِنَ الْعَلَامَاتِ عَلَى الْأَعْشَارِ وَالْأَخْمَاسِ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ يَمْنَعُوا مِنْ أَنْ يَخْتَلِطَ بِالْقُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فَلَوْ لَمْ تَكُنِ التَّسْمِيَةُ مِنَ الْقُرْآنِ لَمَا كَتَبُوهَا بِخَطِّ الْقُرْآنِ، ولما أجمعوا على كتبها بخط القرآن، ولما أجمعوا على كتبها بِخَطِّ الْقُرْآنِ عَلِمْنَا أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ. الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ وَالتَّسْمِيَةُ مَوْجُودَةٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ، فَوَجَبَ جَعْلُهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا السَّبَبِ حَكَيْنَا أَنَّ يَعْلَى لَمَّا أَوْرَدَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بَقِيَ سَاكِتًا. وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيُّ أَنَّ التَّسْمِيَةَ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ آيَةً مِنْ سُورَةِ/ الْفَاتِحَةِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْ تَنْزِيلِهَا إِظْهَارُ الْفَصْلِ بَيْنَ السُّورِ، وَهَذَانَ الدَّلِيلَانِ لَا يُبْطِلَانِ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ. الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: أَطْبَقَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ سَبْعُ آيَاتٍ إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: قَوْلُهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَوْلُهُ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ آيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ لَيْسَ بِآيَةٍ مِنْهَا، لَكِنَّ قَوْلَهُ صراط الذين أنعمت عليهم آية، وقوله غير الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ آيَةٌ أُخْرَى وَسَنُبَيِّنُ فِي مَسْأَلَةٍ مُفْرَدَةٍ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ مَرْجُوحٌ ضَعِيفٌ، فَحِينَئِذٍ يَبْقَى أَنَّ الْآيَاتِ لَا تَكُونُ سَبْعًا إِلَّا إِذَا اعْتَقَدْنَا أَنَّ قَوْلَهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ مِنْهَا تَامَّةٌ. الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: أَنْ نَقُولَ: قِرَاءَةُ التَّسْمِيَةِ قَبْلَ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ آيَةً مِنْهَا بَيَانُ الْأَوَّلِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُسَلِّمُ أَنَّ قِرَاءَتَهَا أَفْضَلُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَهَا فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا قِرَاءَتُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوهُ وإذا ثبت وجوب قرأتها ثَبَتَ أَنَّهَا مِنَ السُّورَةِ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِاسْمِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ أَوْ أَجْذَمُ وَأَعْظَمُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ الصَّلَاةُ، فَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا بِدُونِ قِرَاءَةِ بِسْمِ اللَّهِ يُوجِبُ كَوْنَ هَذِهِ الصَّلَاةِ بَتْرَاءَ، وَلَفْظُ الْأَبْتَرِ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ النُّقْصَانِ وَالْخَلَلِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لِلْكَافِرِ الَّذِي كَانَ عَدُوًّا لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ، [الْكَوْثَرِ: 3] فَلَزِمَ أَنْ يُقَالَ: الصَّلَاةُ الْخَالِيَةُ عَنْ قِرَاءَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَكُونُ فِي غَايَةِ النُّقْصَانِ وَالْخَلَلِ وَكُلُّ مَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الخلل النقصان قَالَ بِفَسَادِ هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْفَاتِحَةِ وَأَنَّهُ يَجِبُ قِرَاءَتُهَا. الْحُجَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «ما أعظم آية في كتاب الله تعالى؟» فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ. وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ آيَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَيْسَتْ آيَةً تَامَّةً فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النمل: 30] بَلْ هَذَا بَعْضُ آيَةٍ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ آيَةً تَامَّةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ قَالَ إِنَّهُ آيَةٌ تَامَّةٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَدِمَ الْمَدِينَةِ فَصَلَّى بِالنَّاسِ صَلَاةً يَجْهَرُ فِيهَا فَقَرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ/ وَلَمْ يَقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ نَادَاهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ أَنَسِيتَ؟ أَيْنَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ

الرَّحِيمِ حِينَ اسْتَفْتَحْتَ الْقُرْآنَ؟ فَأَعَادَ مُعَاوِيَةُ الصَّلَاةَ وَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَمِنَ الْفَاتِحَةِ، وَعَلَى أَنَّ الْأَوْلَى الْجَهْرُ بِقِرَاءَتِهَا. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانُوا عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي أَعْمَالِ الْخَيْرِ يَبْتَدِئُونَ بِذِكْرِ بِسْمِ اللَّهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَى رَسُولِنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْوُجُوبُ فِي حَقِّ الرَّسُولِ ثَبَتَ أَيْضًا فِي حَقِّنَا، وَإِذَا ثَبَتَ الْوُجُوبُ فِي حَقِّنَا ثَبَتَ أَنَّهُ آيَةٌ مِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: فَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا أَنْ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَرَادَ رُكُوبَ السَّفِينَةِ قَالَ: ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هُودٍ: 41] وَأَنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا كَتَبَ إِلَى بِلْقِيسَ كَتَبَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَإِنْ قَالُوا: أَلَيْسَ أَنَّ قوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النَّمْلِ: 30] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُلَيْمَانَ قَدَّمَ اسْمَ نَفْسِهِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى؟ قُلْنَا: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّيْرَ أَتَى بِكِتَابِ سُلَيْمَانَ وَوَضَعَهُ عَلَى صَدْرِ بِلْقِيسَ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي بَيْتٍ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ لِكَثْرَةِ مَنْ أَحَاطَ بِذَلِكَ الْبَيْتِ مِنَ الْعَسَاكِرِ وَالْحَفَظَةِ، فَعَلِمَتْ بِلْقِيسُ أَنَّ ذَلِكَ الطَّيْرَ هُوَ الَّذِي أَتَى بِذَلِكَ الْكِتَابِ، وَكَانَتْ قَدْ سَمِعَتْ بَاسِمِ سُلَيْمَانَ، فَلَمَّا أَخَذَتِ الْكِتَابَ قَالَتْ هِيَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهَا: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ، فَلَمَّا فَتَحَتِ الْكِتَابَ رَأَتِ التَّسْمِيَةَ مَكْتُوبَةً فَقَالَتْ: وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. فَثَبَتَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كُلَّمَا شَرَعُوا فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ ابْتَدَءُوا بِذِكْرِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ هَذَا فِي حَقِّ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَى رَسُولِنَا ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَامِ: 90] وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الرَّسُولِ وَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوهُ وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ قِرَاءَتِهِ عَلَيْنَا ثَبَتَ أَنَّهُ آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ تَعَالَى مُتَقَدِّمٌ بِالْوُجُودِ عَلَى وُجُودِ سَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدِيمٌ وَخَالِقٌ وَغَيْرُهُ مُحْدَثٌ وَمَخْلُوقٌ، وَالْقَدِيمُ الْخَالِقُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَى الْمُحْدَثِ الْمَخْلُوقِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى سَابِقٌ عَلَى غَيْرِهِ وَجَبَ بِحُكْمِ الْمُنَاسَبَةِ الْعَقْلِيَّةِ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُ سَابِقًا عَلَى ذِكْرِ غَيْرِهِ، وَهَذَا السَّبْقُ فِي الذِّكْرِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا كَانَ قِرَاءَةُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَابِقَةً عَلَى سَائِرِ الْأَذْكَارِ وَالْقِرَاءَاتِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ هَذَا التَّقَدُّمِ حَسَنٌ فِي/ الْعُقُولِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي الشَّرْعِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْقِرَاءَةِ ثَبَتَ أَيْضًا أَنَّهَا آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ ثُمَّ إِنَّا نَرَاهُ مُكَرَّرًا بِخَطِّ الْقُرْآنِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا أَنَّا لَمَّا رَأَيْنَا قَوْلَهُ تَعَالَى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرَّحْمَنِ: 13] وقوله تعالى: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [الْمُرْسَلَاتِ: 15] مُكَرَّرًا فِي الْقُرْآنِ بِخَطٍّ وَاحِدٍ وَصُورَةٍ وَاحِدَةٍ، قُلْنَا: إِنَّ الْكُلَّ مِنَ الْقُرْآنِ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: رُوِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْتُبُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى رَسْمِ قُرَيْشٍ «بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ» حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هُودٍ: 41] فَكَتَبَ «بِسْمِ اللَّهِ» فَنَزَلَ قَوْلُهُ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الْإِسْرَاءِ: 110] فَكَتَبَ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ» فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النَّمْلِ: 30] كَتَبَ مِثْلَهَا، وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ أَجْزَاءَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ كُلِّهَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَمَجْمُوعُهَا

مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ إِنَّهُ ثَبَتَ فِي الْقُرْآنِ فَوَجَبَ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ، إِذْ لَوْ جَازَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْقُرْآنِ مَعَ هَذِهِ الْمُوجِبَاتِ الْكَثِيرَةِ وَمَعَ الشُّهْرَةِ لَجَازَ إِخْرَاجُ سَائِرِ الْآيَاتِ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الطَّعْنَ فِي الْقُرْآنِ. الْحُجَّةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يُنْزِلُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَكَانَ يَأْمُرُ بِكَتْبِهِ بِخَطِّ الْمُصْحَفِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ حَاصِلَ الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ مِنَ الْقُرْآنِ فَرَجَعَ إِلَى أَحْكَامٍ مَخْصُوصَةٍ مِثْلَ أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ قِرَاءَتُهُ، وَهَلْ يَجُوزُ لِلْجُنُبِ قِرَاءَتُهُ، وَلِلْمُحْدِثِ مَسُّهُ؟ فَنَقُولُ: ثُبُوتُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ أَحْوَطُ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلا مَا لَا يَرِيبُكَ. وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِأَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ: تَعَلَّقُوا بِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْخَبَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَذْكُرِ التَّسْمِيَةَ، وَلَوْ كَانَتْ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ لَذَكَرَهَا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: جَعَلْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الصَّلَاةِ الْفَاتِحَةُ، وَهَذَا التَّنْصِيفُ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا قُلْنَا إِنَّ التَّسْمِيَةَ/ لَيْسَتْ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ، لِأَنَّ الْفَاتِحَةَ سَبْعُ آيَاتٍ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا لِلَّهِ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَنِصْفٌ وَهِيَ مِنْ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَى قَوْلِهِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ- وَلِلْعَبْدِ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَنِصْفٌ- وَهِيَ مِنْ قَوْلِهِ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ- أَمَّا إِذَا جَعَلْنَا بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة حَصَلَ لِلَّهِ أَرْبَعُ آيَاتٍ وَنِصْفٌ، وَلِلْعَبْدِ آيَتَانِ وَنِصْفٌ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ التَّنْصِيفَ الْمَذْكُورَ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْتَتِحُ الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: لَوْ كَانَ قَوْلُهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةً مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: لَزِمَ التَّكْرَارُ فِي قَوْلِهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ الدَّلِيلِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْحُجَّةِ الْأُولَى مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّا نَقَلْنَا أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ عَدَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةً تَامَّةً مِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَلَمَّا تَعَارَضَتِ الرِّوَايَتَانِ فَالتَّرْجِيحُ مَعَنَا، لِأَنَّ رِوَايَةَ الْإِثْبَاتِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى رِوَايَةِ النَّفْيِ. الثَّانِي: رَوَى أَبُو دَاوُدَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنِ النَّخْعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَجَّدَنِي عَبْدِي وَهُوَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ فِي مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، يَعْنِي فِي الْقِسْمَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِذَا حَصَلَتْ ثَلَاثَةٌ قَبْلَهَا وَثَلَاثَةٌ بَعْدَهَا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ثَلَاثَةٌ قَبْلَهَا لَوْ كَانَتِ التَّسْمِيَةُ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ فَصَارَ هَذَا الْخَبَرُ حُجَّةً لَنَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ لَفْظَ النِّصْفِ كَمَا يَحْتَمِلُ النِّصْفَ فِي عَدَدِ الْآيَاتِ فَهُوَ أَيْضًا يَحْتَمِلُ النِّصْفَ فِي الْمَعْنَى، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْفَرَائِضُ نِصْفُ الْعِلْمِ، وَسَمَّاهُ بِالنِّصْفِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بَحْثٌ عَنْ أَحْوَالِ الْأَمْوَاتِ، وَالْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ قِسْمَانِ، وَقَالَ شُرَيْحٌ: أَصْبَحْتُ وَنِصْفُ النَّاسِ عَلِيَّ غَضْبَانُ، سَمَّاهُ نِصْفًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ بَعْضَهُمْ رَاضُونَ وَبَعْضَهُمْ سَاخِطُونَ، الرَّابِعُ: إِنَّ دَلَائِلَنَا فِي أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ صَرِيحَةٌ، وَهَذَا الخبر الذي تمكسوا بِهِ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانَ أَنَّ بِسْمِ

اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ هِيَ مِنَ الْفَاتِحَةِ أَمْ لَا، لَكِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ بَيَانُ شَيْءٍ آخَرَ، فَكَانَتْ دَلَائِلُنَا أَقْوَى وَأَظْهَرُ. الْخَامِسُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَنَا أَقْرَبُ إِلَى الِاحْتِيَاطِ. وَالْجَوَابُ عَنْ حُجَّتِهِمُ الثَّانِيَةِ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: لَعَلَّ عَائِشَةَ جَعَلَتِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ اسْمًا لِهَذِهِ السُّورَةِ، كَمَا يُقَالُ: قَرَأَ فُلَانٌ «الحمد لله الذي خلق السموات» وَالْمُرَادُ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ/ السُّورَةَ، فَكَذَا هَاهُنَا، وَتَمَامُ الْجَوَابِ عَنْ خَبَرِ أَنَسٍ سَيَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْحُجَّةِ الثَّالِثَةِ أَنَّ التَّكْرَارَ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَتَأْكِيدُ كَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى رَحْمَانًا رَحِيمًا مِنْ أَعْظَمِ الْمُهِمَّاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي بَيَانِ عَدَدِ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ، رَأَيْتُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الشَّاذَّةِ أَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ كَانَ يَقُولُ: هَذِهِ السُّورَةُ ثَمَانُ آيَاتٍ، فَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ الَّتِي أَطْبَقَ الْأَكْثَرُونَ عَلَيْهَا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ سَبْعُ آيَاتٍ، وَبِهِ فَسَّرُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الْحِجْرِ: 87] إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ قَالُوا إِنَّ قَوْلَهُ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ آيَةٌ تَامَّةٌ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ لَمَّا أَسْقَطَ التَّسْمِيَةَ مِنَ السُّورَةِ لَا جَرَمَ قَالَ قَوْلُهُ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية، وقوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ آيَةٌ أُخْرَى، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَوْلَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَقْطَعَ قَوْلِهِ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ لَا يُشَابِهُ مَقْطَعَ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَرِعَايَةُ التَّشَابُهِ في المقاطع لازم، لأنا وجدنا مقطاع الْقُرْآنِ عَلَى ضَرْبَيْنِ مُتَقَارِبَةً وَمُتَشَاكِلَةً فَالْمُتَقَارِبَةُ كَمَا فِي سُورَةِ «ق» وَالْمُتَشَاكِلَةُ كَمَا فِي سُورَةِ الْقَمَرِ، وَقَوْلُهُ: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ لَيْسَ مِنَ الْقِسْمَيْنِ، فَامْتَنَعَ جَعْلُهُ مِنَ الْمَقَاطِعِ. الثَّانِي: أَنَّا إِذَا جَعَلْنَا قَوْلَهُ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ابْتِدَاءَ آيَةٍ فَقَدْ جَعَلْنَا أَوَّلَ الْآيَةِ لَفْظَ غَيْرِ، وَهَذَا اللَّفْظُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَا قَبْلَهُ أَوِ اسْتِثْنَاءً عَمَّا قَبْلَهُ، وَالصِّفَةُ مَعَ الْمَوْصُوفِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ مَعَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَإِيقَاعُ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، أَمَّا إِذَا جَعَلْنَا قَوْلَهُ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ آيَةً وَاحِدَةً، كُنَّا قَدْ جَعَلْنَا الْمَوْصُوفَ مَعَ الصِّفَةِ وَالْمُسْتَثْنَى مَعَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَلَامًا وَاحِدًا وَآيَةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى الدَّلِيلِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُبْدَلَ مِنْهُ فِي حُكْمِ الْمَحْذُوفِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ اهْدِنَا صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ لَكِنَّ طَلَبَ الِاهْتِدَاءِ بِصِرَاطِ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُنْعَمُ عَلَيْهِ غَيْرَ مَغْضُوبٍ عَلَيْهِ، وَلَا ضَالًّا، فَإِنَّا لو أسقطنا هذا الشرط لم يجز إلا الِاهْتِدَاءُ بِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً [إِبْرَاهِيمَ: 28] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا صَارُوا مِنْ زُمْرَةِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَمِنْ زُمْرَةِ الضَّالِّينَ لَا جَرَمَ لَمْ يَجُزِ الِاهْتِدَاءُ بِهِمْ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَصْلُ قَوْلِهِ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ عَنْ قَوْلِهِ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بَلْ هَذَا الْمَجْمُوعُ كَلَامٌ وَاحِدٌ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ آيَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ قَالُوا: أَلَيْسَ أَنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ آيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَوْلَهُ/ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ ثَانِيَةٌ، وَمَعَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ بِنَفْسِهَا، بَلْ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا؟ قُلْنَا: الْفَرْقُ أَنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَلَامٌ تَامٌّ بِدُونِ قَوْلِهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ آيَةً تَامَّةً، وَلَا كَذَلِكَ هَذَا، لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ لَيْسَ كَلَامًا تَامًّا، بَلْ مَا لَمْ يُضَمَّ

إِلَيْهِ قَوْلُهُ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ أَوَائِلِ سَائِرِ السُّوَرِ أَمْ لَا: أَمَّا الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْأَصْحَابِ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ قُرْآنٌ مِنْ سَائِرِ السُّوَرِ، وَجَعَلُوا الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّهَا هَلْ هِيَ آيَةٌ تَامَّةٌ وَحْدَهَا مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ أَوْ هِيَ وَمَا بَعْدَهَا آيَةٌ، وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِنَّ الشَّافِعِيَّ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ قَبْلَهُ لَمْ يَقُلْ إِنَّ بِسْمِ اللَّهِ آيَةٌ مِنْ أَوَائِلِ سَائِرِ السُّوَرِ، وَدَلِيلُنَا أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ مَكْتُوبٌ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ بِخَطِّ الْقُرْآنِ فَوَجَبَ كَوْنُهُ قُرْآنًا، وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ: إِنَّهَا ثَلَاثُونَ آيَةً، وَفِي سُورَةِ الْكَوْثَرِ: إِنَّهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ حَاصِلٌ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ التَّسْمِيَةُ آيَةً مِنْ هَذِهِ السُّوَرِ، وَالْجَوَابُ أَنَّا إِذَا قُلْنَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَعَ مَا بَعْدَهُ آيَةٌ وَاحِدَةٌ فَهَذَا الْإِشْكَالُ زَائِلٌ، فَإِنْ قَالُوا: لَمَّا اعْتَرَفْتُمْ بِأَنَّهَا آيَةٌ تَامَّةٌ مِنْ أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ فَكَيْفَ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَقُولُوا إِنَّهَا بَعْضُ آيَةٍ مِنْ سَائِرِ السُّوَرِ؟ قُلْنَا: هَذَا غَيْرُ بَعِيدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ قوله الحمد لله رب العالمين آية تامة، ثُمَّ صَارَ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُسَ: 10] آيَةً وَاحِدَةً: فَكَذَا هَاهُنَا وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ سُورَةُ الْكَوْثَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ يَعْنِي مَا هُوَ خَاصِّيَّةُ هَذِهِ السُّورَةِ ثَلَاثُ آيَاتٍ، وَأَمَّا التَّسْمِيَةُ فَهِيَ كَالشَّيْءِ الْمُشْتَرَكِ فِيهِ بَيْنَ جَمِيعِ السُّورِ، فَسَقَطَ هَذَا السُّؤَالُ. الجهر بالبسملة في الصلاة: المسألة التاسعة [الجهر بالبسملة في الصلاة] : يُرْوَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: التَّسْمِيَةُ آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ إِلَّا أَنَّهُ يُسَرُّ بِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا آيَةٌ مِنْهَا وَيَجْهَرُ بِهَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَتْ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ إِلَّا أَنَّهَا يُسَرُّ بِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَلَا يُجْهَرُ بِهَا أَيْضًا، فَنَقُولُ: الْجَهْرُ بِهَا سُنَّةٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ وَحُجَجٌ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الِاسْتِقْرَاءُ دَلَّ عَلَى أَنَّ السُّورَةَ الْوَاحِدَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِتَمَامِهَا سِرِّيَّةً أَوْ جَهْرِيَّةً، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا سِرِّيًّا/ وَبَعْضُهَا جَهْرِيًّا فَهَذَا مَفْقُودٌ فِي جَمِيعِ السُّوَرِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ الْجَهْرُ بِالتَّسْمِيَةِ مَشْرُوعًا فِي الْقِرَاءَةِ الْجَهْرِيَّةِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا شَكَّ أَنَّهُ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ وَذِكْرٌ لَهُ بِالتَّعْظِيمِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِعْلَانُ بِهِ مَشْرُوعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [الْبَقَرَةِ: 200] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ مُفْتَخِرًا بِأَبِيهِ غَيْرَ مُسْتَنْكِفٍ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُعْلِنُ بِذِكْرِهِ وَيُبَالِغُ فِي إِظْهَارِهِ أَمَّا إِذَا أَخْفَى ذِكْرَهُ أَوْ أَسَرَّهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ مُسْتَنْكِفًا مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ الْمُفْتَخِرُ بِأَبِيهِ يُبَالِغُ فِي الْإِعْلَانِ وَالْإِظْهَارِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِعْلَانُ ذِكْرِ اللَّهِ أَوْلَى عَمَلًا بِقَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: هِيَ أَنَّ الْجَهْرَ بِذِكْرِ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُفْتَخِرًا بِذَلِكَ الذِّكْرِ غَيْرَ مبالٍ بِإِنْكَارِ مَنْ يُنْكِرُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مُسْتَحْسَنٌ فِي الْعَقْلِ، فَيَكُونُ فِي الشَّرْعِ كَذَلِكَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا الْكَلَامَ أَيْضًا أَنَّ الْإِخْفَاءَ وَالسِّرَّ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِمَا يَكُونُ فِيهِ عَيْبٌ وَنُقْصَانٌ فَيُخْفِيهِ الرَّجُلُ وَيُسِرُّهُ، لِئَلَّا يَنْكَشِفَ ذَلِكَ الْعَيْبُ. أَمَّا الَّذِي يُفِيدُ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْفَخْرِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْمَنْقَبَةِ فَكَيْفَ يليق بالعقل إخفائه؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا مَنْقَبَةَ لِلْعَبْدِ أَعْلَى وَأَكْمَلُ من كونه ذاكراً الله بِالتَّعْظِيمِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «طُوبَى لِمَنْ

مَاتَ وَلِسَانُهُ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: يَا مَنْ ذِكْرُهُ شَرَفٌ لِلذَّاكِرِينَ. وَمِثْلُ هَذَا كَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَسْعَى فِي إِخْفَائِهِ؟ وَلِهَذَا السَّبَبِ نُقِلَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مَذْهَبُهُ الْجَهْرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، وَأَقُولُ إِنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ قَوِيَّةٌ فِي نَفْسِي رَاسِخَةٌ فِي عَقْلِي لَا تَزُولُ الْبَتَّةَ بِسَبَبِ كَلِمَاتِ الْمُخَالِفِينَ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَصَلَّى بِهِمْ، وَلَمْ يَقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَلَمْ يُكَبِّرْ عِنْدَ الْخَفْضِ إِلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَلَمَّا سَلَّمَ نَادَاهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ. يَا مُعَاوِيَةُ، سَرَقْتَ مِنَّا الصَّلَاةَ، أَيْنَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ وَأَيْنَ التَّكْبِيرُ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؟ ثُمَّ إِنَّهُ أَعَادَ الصَّلَاةَ مَعَ التَّسْمِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ سُلْطَانًا عَظِيمَ الْقُوَّةِ شَدِيدَ الشَّوْكَةِ فَلَوْلَا أَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّسْمِيَةِ كَانَ كَالْأَمْرِ الْمُتَقَرِّرِ عِنْدَ كُلِّ الصَّحَابَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَإِلَّا لَمَا قَدَرُوا عَلَى إِظْهَارِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكَبِيرِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ فِي الصَّلَاةِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ إِنَّ الشَّيْخَ الْبَيْهَقِيَّ رَوَى الْجَهْرَ عَنْ/ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَمَّا أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَجْهَرُ بِالتَّسْمِيَةِ فَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ، وَمَنِ اقْتَدَى فِي دِينِهِ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَدِ اهْتَدَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اللَّهُمَّ أَدِرِ الْحَقَّ مَعَ عَلِيٍّ حَيْثُ دَارَ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِهِ، وَالتَّقْدِيرُ بِإِعَانَةِ اسْمِ اللَّهِ اشْرَعُوا فِي الطَّاعَاتِ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى هَذَا الْمُضْمَرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اسْتِمَاعَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ يُنَبِّهُ الْعَقْلَ عَلَى أَنَّهُ لَا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، وَيُنَبِّهُ الْعَقْلَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتِمُّ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ إِلَّا إِذَا وَقَعَ الِابْتِدَاءُ فِيهِ بِذِكْرِ اللَّهِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ حُصُولُ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي الْعُقُولِ، فَإِذَا كَانَ اسْتِمَاعُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ يُفِيدُ هَذِهِ الْخَيْرَاتِ الرَّفِيعَةَ وَالْبَرَكَاتِ الْعَالِيَةَ دَخَلَ هَذَا الْقَائِلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، [آل عمران: 110] لِأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ بِسَبَبِ إِظْهَارِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَمَرَ بِمَا هُوَ أَحْسَنُ أَنْوَاعِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ فِي كُلِّ الْخَيْرَاتِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ بِدْعَةٌ. واحتج المخالف بوجوه وحجج: الحجة الأولى: رَوَى الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَرَوَى مُسْلِمٌ هَذَا الْخَبَرَ فِي «صَحِيحِهِ» ، وَفِيهِ أَنَّهُمْ لَا يَذْكُرُونَ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» وَفِي رِوَايَةٍ رَابِعَةٍ «فَلَمْ يَجْهَرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» . الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعَنِي أَبِي وَأَنَا أَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَالْحَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَدْ صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، وَخَلْفَ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَابْتَدَءُوا القراءة بالحمد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَإِذَا صَلَّيْتَ فَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَقُولُ: إِنَّ أَنَسًا وَابْنَ الْمُغَفَّلِ خَصَّصَا عَدَمَ ذِكْرِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بِالْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَلَمْ يَذْكُرَا عَلِيًّا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى إِطْبَاقِ الْكُلِّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً، [الْأَعْرَافِ: 55] وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً [الْأَعْرَافِ: 205] وبسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ذِكْرُ اللَّهِ، فَوَجَبَ إِخْفَاؤُهُ، وَهَذِهِ الْحُجَّةُ اسْتَنْبَطَهَا الْفُقَهَاءُ/ وَاعْتِمَادُهُمْ عَلَى الْكَلَامَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ. وَالْجَوَابُ عَنْ خَبَرِ أَنَسٍ مِنْ وُجُوهٍ: الأول: قال الشيخ أبو حامد الإسفرايني: رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ فِي هَذَا الْبَابِ سِتُّ رِوَايَاتٍ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ رَوَوْا عَنْهُ ثَلَاثَ رِوَايَاتٍ: إِحْدَاهَا: قَوْلُهُ صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَثَانِيَتُهَا: قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ مَا كَانُوا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَثَالِثَتُهَا: قَوْلُهُ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الثَّلَاثُ تُقَوِّي قَوْلَ الْحَنَفِيَّةِ، وَثَلَاثٌ أُخْرَى تُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ: إِحْدَاهَا: مَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَنَسًا رَوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا تَرَكَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي الصَّلَاةِ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَهْرَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ كَالْأَمْرِ الْمُتَوَاتِرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ. وَثَانِيَتُهَا: رَوَى أَبُو قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يَجْهَرُونَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَثَالِثَتُهَا: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْجَهْرِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْإِسْرَارِ بِهِ فَقَالَ: لَا أَدْرِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَثَبَتَ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ أَنَسٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَدْ عَظُمَ فِيهَا الْخَبْطُ وَالِاضْطِرَابُ، فَبَقِيَتْ مُتَعَارِضَةً فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى سَائِرِ الدَّلَائِلِ، وَأَيْضًا فَفِيهَا تُهْمَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنْ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُبَالِغُ فِي الْجَهْرِ بِالتَّسْمِيَةِ، فَلَمَّا وَصَلَتِ الدَّوْلَةُ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ بَالَغُوا فِي الْمَنْعِ مِنَ الْجَهْرِ، سَعْيًا فِي إِبْطَالِ آثَارِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَعَلَّ أَنَسًا خَافَ مِنْهُمْ فَلِهَذَا السَّبَبِ اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُهُ فِيهِ، وَنَحْنُ وَإِنْ شَكَكْنَا فِي شَيْءٍ فَإِنَّا لَا نَشُكُّ أَنَّهُ مَهْمَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ قَوْلِ أَنَسٍ وَابْنِ الْمُغَفَّلِ وَبَيْنَ قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي بَقِيَ عَلَيْهِ طُولَ عُمْرِهِ فَإِنَّ الْأَخْذَ بِقَوْلِ عَلِيٍّ أَوْلَى، فَهَذَا جَوَابٌ قَاطِعٌ فِي الْمَسْأَلَةِ. ثُمَّ نَقُولُ: هَبْ أَنَّهُ حَصَلَ التَّعَارُضُ بَيْنَ دَلَائِلِكُمْ وَدَلَائِلِنَا، إِلَّا أَنَّ التَّرْجِيحَ مَعَنَا، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ رَاوِيَ أَخْبَارِكُمْ أَنَسٌ وَابْنُ الْمُغَفَّلِ، وَرَاوِي قَوْلِنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَهَؤُلَاءِ كَانُوا أَكْثَرَ عِلْمًا وَقُرْبًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَسٍ وَابْنِ الْمُغَفَّلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لَمْ يُقْبَلْ، وَلِهَذَا السَّبَبِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ خَبَرَ الْمُصَرَّاةِ مَعَ أَنَّهُ لَفْظُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُخَالِفُهُ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ صَرِيحَ الْعَقْلِ نَاطِقٌ بِأَنَّ إِظْهَارَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَوْلَى مِنْ إِخْفَائِهَا، فَلِأَيِّ سَبَبٍ رَجُحَ قَوْلُ أَنَسٍ وَقَوْلُ ابْنِ الْمُغَفَّلِ عَلَى هَذَا الْبَيَانِ الْجَلِيِّ الْبَدِيهِيِّ؟ وَالثَّالِثُ: أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ النَّبِيَّ/ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُقَدِّمُ الْأَكَابِرَ عَلَى الْأَصَاغِرِ، وَالْعُلَمَاءَ عَلَى غَيْرِ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَشْرَافَ عَلَى الْأَعْرَابِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ كَانُوا أَعْلَى حَالًا فِي الْعِلْمِ وَالشَّرَفِ وَعُلُوِّ الدَّرَجَةِ مِنْ أَنَسٍ وَابْنِ الْمُغَفَّلِ، وَالْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ كَانُوا يَقِفُونَ بِالْقُرْبِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أنس وابن المغفل يقفان بالعبد مِنْهُ، وَأَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يُبَالِغُ فِي الْجَهْرِ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها [الْإِسْرَاءِ: 110] وَأَيْضًا فَالْإِنْسَانُ أَوَّلُ مَا يَشْرَعُ فِي الْقِرَاءَةِ إِنَّمَا يَشْرَعُ فِيهَا بِصَوْتٍ ضَعِيفٍ ثُمَّ لَا يَزَالُ يَقْوَى صَوْتُهُ سَاعَةً فَسَاعَةً، فَهَذِهِ أَسْبَابٌ ظَاهِرَةٌ فِي أَنْ يَكُونَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعُوا الْجَهْرَ بِالتَّسْمِيَةِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِ أَنَسًا وَابْنَ الْمُغَفَّلِ مَا سَمِعَاهُ. الرَّابِعُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِ أَنَسٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنَّهُ كَانَ يقدم

هَذِهِ السُّورَةَ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ السُّورِ فَقَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَمَامُ هَذِهِ فَجَعَلَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ اسْمًا لِهَذِهِ السُّورَةِ. الْخَامِسُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ، مِنْ عَدَمِ الْجَهْرِ فِي حَدِيثِ ابْنِ الْمُغَفَّلِ عَدَمُ الْمُبَالَغَةِ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها [الْإِسْرَاءِ: 110] . السَّادِسُ: الْجَهْرُ كَيْفِيَّةٌ ثُبُوتِيَّةٌ، وَالْإِخْفَاءُ كَيْفِيَّةٌ عَدَمِيَّةٌ، وَالرِّوَايَةُ الْمُثْبِتَةُ أَوْلَى مِنَ النَّافِيَةِ. السَّابِعُ: أَنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ مُوَافِقَةٌ لَنَا، وَعَمَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَنَا، وَمَنِ اتَّخَذَ عَلِيًّا إِمَامًا لِدِينِهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى فِي دِينِهِ وَنَفْسِهِ. وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً [الْأَعْرَافِ: 205] فَالْجَوَابُ أَنَّا نَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى مُجَرَّدِ الذِّكْرِ، أَمَّا قَوْلُهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ قِرَاءَةُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْعِبَادَةِ وَالْخُضُوعِ، فَكَانَ الْجَهْرُ بِهِ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: في تفاريع التسمية وفيه فروع: - فروع أحكام التسمية: الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: قَالَتِ الشِّيعَةُ: السُّنَّةُ هِيَ الْجَهْرُ بِالتَّسْمِيَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ أَوِ السِّرِّيَّةِ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يُخَالِفُونَهُمْ فِيهِ. الْفَرْعُ الثَّانِي: الَّذِينَ قَالُوا التَّسْمِيَةُ لَيْسَتْ آيَةً مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ إِثْبَاتِهَا فِي الْمُصْحَفِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَهَؤُلَاءِ فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهَا كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ، وَهَذَا الْفَصْلُ قَدْ صَارَ الْآنَ مَعْلُومًا فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِثْبَاتِ التَّسْمِيَةِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ تُكْتَبْ لَجَازَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَجِبُ إِثْبَاتُهَا/ فِي الْمَصَاحِفِ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُهَا أَبَدًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَكِنَّهَا آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا، وَلَيْسَتْ آيَةً مِنَ السُّورَةِ، وَهَؤُلَاءِ أَيْضًا فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يُنْزِلُهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ عَلَى حِدَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا، بَلْ أَنْزَلَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَمَرَ بِإِثْبَاتِهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهَا، وَعَلَى أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ مَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعِدُّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةً فَاصِلَةً، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: قُلْتُ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: إِنَّ الْفَضْلَ الرَّقَاشِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهُ مَا أَجْرَأَ هَذَا الرَّجُلَ! سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَلِمَ أَنَّ تِلْكَ السُّورَةَ قَدْ خُتِمَتْ وَفُتِحَ غَيْرُهَا، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَرَكَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَدْ تَرَكَ مِائَةً وَثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةٍ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ التَّسْمِيَةَ آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَأَنَّ الْفَاتِحَةَ يَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ يُوجِبُونَ قِرَاءَةَ التَّسْمِيَةِ أَمَّا الَّذِينَ لَا يَقُولُونَ بِهِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَتْبَاعُهُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ جِنِّي وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَقْرَأُ التَّسْمِيَةَ سِرًّا، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَهَا فِي الْمَكْتُوبَةِ لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا، وَأَمَّا فِي النَّافِلَةِ فَإِنْ شَاءَ قَرَأَهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يَقْتَضِي وُجُوبَ قِرَاءَتِهَا فِي كُلِّ الرَّكَعَاتِ، أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ رَوَى يَعْلَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقْرَأُهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَبْلَ الْفَاتِحَةِ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْحَسَنُ بْنُ

زِيَادٍ ثَلَاثَتُهُمْ جَمِيعًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ قَالَ: إِذَا قَرَأَهَا فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْقِرَاءَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَهَا فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْهَا، قَالَ: وَإِنْ قَرَأَهَا مَعَ كُلِّ سُورَةٍ فَحَسَنٌ. الْفَرْعُ الْخَامِسُ: ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ التَّسْمِيَةَ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ فَإِنَّهُ لَا يُعِيدُهَا فِي أَوَائِلِ سَائِرِ السُّوَرِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَفْضَلَ إِعَادَتُهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر. الْفَرْعُ السَّادِسُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ قِرَاءَةُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. الْفَرْعُ السَّابِعُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ تَسْمِيَةَ اللَّهِ عَلَى الْوُضُوءِ مَنْدُوبَةٌ، وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى/ أَنَّهَا غَيْرُ واجبة لقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ» ، وَالتَّسْمِيَةُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ، وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إِنَّهَا وَاجِبَةٌ فَلَوْ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَقَالَ إِسْحَاقُ إِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ تَرَكَهَا سَاهِيًا جَازَ الْفَرْعُ الثَّامِنُ: مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ التَّذْكِيَةِ هَلْ يَحِلُّ أَكْلُهُ أَمْ لَا؟ الْمَسْأَلَةُ فِي غَايَةِ الشُّهْرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ [الْحَجِّ: 36] وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الْأَنْعَامِ: 121] . الْفَرْعُ التَّاسِعُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَشْرَعَ فِي عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ وَإِلَّا وَيَقُولُ «بِسْمِ اللَّهِ» فَإِذَا نَامَ قَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ» وَإِذَا قَامَ مِنْ مَقَامِهِ قَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ» وَإِذَا قَصَدَ الْعِبَادَةَ قَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ» وَإِذَا دَخَلَ الدَّارَ قَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ» أَوْ خَرَجَ مِنْهَا قَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ» وَإِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ أَخَذَ أَوْ أَعْطَى قَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ» وَيُسْتَحَبُّ لِلْقَابِلَةِ إِذَا أَخَذَتِ الْوَلَدَ مِنَ الْأُمِّ أَنْ تَقُولَ: «بِسْمِ اللَّهِ» وَهَذَا أَوَّلُ أَحْوَالِهِ مِنَ الدُّنْيَا وَإِذَا مَاتَ وَأُدْخِلَ الْقَبْرَ قِيلَ: «بِسْمِ اللَّهِ» وَهَذَا آخِرُ أَحْوَالِهِ مِنَ الدُّنْيَا وَإِذَا قَامَ مِنَ الْقَبْرِ قَالَ أَيْضًا: «بِسْمِ اللَّهِ» وَإِذَا حَضَرَ الْمَوْقِفَ قَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ» فَتَتَبَاعَدُ عَنْهُ النَّارُ بِبَرَكَةِ قَوْلِهِ: «بِسْمِ اللَّهِ» . ترجمة القرآن: المسألة الحادية عشرة: قال الشافعي: تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ لَا تَكْفِي فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ لَا فِي حَقِّ مَنْ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ وَلَا فِي حَقِّ مَنْ لَا يُحْسِنُهَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّهَا كَافِيَةٌ فِي حَقِّ الْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِنَّهَا كَافِيَةٌ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ وَغَيْرُ كَافِيَةٍ فِي حَقِّ الْقَادِرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعِيدٌ جِدًّا وَلِهَذَا السَّبَبِ فَإِنَّ الْفَقِيهَ أَبَا اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيَّ وَالْقَاضِيَ أَبَا زَيْدٍ الدَّبُوسِيَّ صَرَّحَا بِتَرْكِهِ. لَنَا حُجَجٌ وَوُجُوهٌ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا صَلَّى بِالْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ، وَوَاظَبَ عَلَيْهِ طُولَ عُمْرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يجب علينا مثله، لقوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ وَالْعَجَبُ أَنَّهُ احْتُجَّ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ مَرَّةً عَلَى كَوْنِهِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْوُضُوءِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى مُوَاظَبَتِهِ طُولَ عُمْرِهِ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ صَلُّوا بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السلام: «اقتدوا بالذين مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ

الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» . الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الرَّسُولَ وَجَمِيعَ الصَّحَابَةِ مَا قَرَءُوا فِي الصَّلَاةِ إِلَّا هَذَا الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ، / فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً» ، قِيلَ: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» . وَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ بِهَذَا الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَارِئُ بِالْفَارِسِيَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ أَهْلَ دِيَارِ الْإِسْلَامِ مُطْبِقُونَ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى، فَمَنْ عَدَلَ عَنْ هَذَا الطَّرِيقِ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النِّسَاءِ: 115] . الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ الرَّجُلَ أُمِرَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْفَارِسِيَّةِ لَمْ يَقْرَأِ الْقُرْآنَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ، إِنَّمَا قَوْلُنَا إِنَّهُ أُمِرَ بِقِرَاءَةِ القرآن لقوله تعالى: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [الْمُزَّمِّلِ: 20] وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْأَعْرَابِيِّ: «ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْكَلَامَ الْمُرَتَّبَ بِالْفَارِسِيَّةِ لَيْسَ بِقُرْآنٍ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: 192] إِلَى قَوْلِهِ: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. [الشُّعَرَاءِ: 195] الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ، [إِبْرَاهِيمَ: 4] الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا [فُصِّلَتْ: 44] وَكَلِمَةُ لَوْ تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا جَعَلَهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا، فَيَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كُلَّ مَا كَانَ أَعْجَمِيًّا فَهُوَ لَيْسَ بِقُرْآنٍ. الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الْإِسْرَاءِ: 88] فَهَذَا الْكَلَامُ الْمَنْظُومُ بِالْفَارِسِيَّةِ: إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ عَيْنُ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ أَوْ مِثْلُهُ، أَوْ لَا عَيْنُهُ وَلَا مِثْلُهُ، وَالْأَوَّلُ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ بِالضَّرُورَةِ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ، إِذْ لَوْ كَانَ هَذَا النَّظْمُ الْفَارِسِيُّ مِثْلًا لِذَلِكَ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ لَكَانَ الْآتِي بِهِ آتِيًا بِمِثْلِ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ تَكْذِيبَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي قوله: لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ الْمَنْظُومَ بِالْفَارِسِيَّةِ لَيْسَ عَيْنَ الْقُرْآنِ وَلَا مِثْلَهُ ثَبَتَ أَنَّ قَارِئَهُ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا لِلْقُرْآنِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ أَمَرَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى فِي الْعُهْدَةِ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: مَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَا تُجْزِي صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَنَقُولُ: هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الْمَنْظُومَةُ بِالْفَارِسِيَّةِ إِمَّا أَنْ يَقُولَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنَّهَا قُرْآنٌ أَوْ يَقُولَ إِنَّهَا لَيْسَتْ بِقُرْآنٍ، وَالْأَوَّلُ جَهْلٌ عَظِيمٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الْإِجْمَاعِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْعُقَلَاءِ لَا يَجُوزُ فِي عَقْلِهِ وَدِينِهِ أَنْ يَقُولَ إِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ دوستان در بهشت قُرْآنٌ. الثَّانِي: يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقَادِرُ عَلَى تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ/ آتِيًا بِقُرْآنٍ مِثْلَ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ. الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَحْفَظَ الْقُرْآنَ كَمَا يَحْسُنُ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَى آخِرِ هَذَا الذِّكْرِ» ، وَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّ الرَّجُلَ لَمَّا سَأَلَهُ عَمَّا يُجْزِئُهُ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ أَمَرَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالتَّسْبِيحِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يقول إنه يكفيه أن يقول دوستان در بهشت. الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: يُقَالُ إِنَّ أَوَّلَ الْإِنْجِيلِ هُوَ قَوْلُهُ بسم الاها رحمانا ومرحيانا وَهَذَا هُوَ عَيْنُ تَرْجَمَةِ بِسْمِ اللَّهِ

الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَلَوْ كَانَتْ تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ نَفْسَ الْقُرْآنِ لَقَالَتِ النَّصَارَى إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ إِنَّمَا أَخَذْتَهُ مِنْ عَيْنِ الْإِنْجِيلِ، وَلَمَّا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ هَذَا عَلِمْنَا أَنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ لَا تَكُونُ قُرْآنًا. الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّا إِذَا تَرْجَمْنَا قَوْلَهُ تَعَالَى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ [الكهف: 19] كان ترجمته بفرستيد يكى أز شما با نقره بشهر پس بنگرد كه كدام طعام بهترست پاره أز آن بياورد، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ النَّاسِ لَفْظًا وَمَعْنَى فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجُوزَ الصَّلَاةُ بِهِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ» ، وَإِذَا لَمْ تَنْعَقِدِ الصَّلَاةُ بِتَرْجَمَةِ هَذِهِ الْآيَةِ فَكَذَا بِتَرْجَمَةِ سَائِرِ الْآيَاتِ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْحُجَّةُ جَارِيَةٌ فِي تَرْجَمَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [الْقَلَمِ: 11] إِلَى قَوْلِهِ: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [القلم: 13] فإن ترجمتها لا تَكُونُ شَتْمًا مِنْ جِنْسِ كَلَامِ النَّاسِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها [الْبَقَرَةِ: 61] فَإِنَّ تَرْجَمَةَ هَذِهِ الْآيَةِ تَكُونُ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ النَّاسِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا قَرَأْنَا عَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِأَنَّهَا بِحَسَبِ تَرْكِيبِهَا الْمُعْجِزِ وَنَظْمِهَا الْبَدِيعِ تَمْتَازُ عَنْ كَلَامِ النَّاسِ وَالْعَجَبُ مِنَ الْخُصُومِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ لَوْ ذَكَرَ فِي آخِرِ التَّشَهُّدِ دُعَاءً يَكُونُ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ النَّاسِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ثُمَّ قَالُوا: تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِتَرْجَمَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعَ أَنَّ تَرْجَمَتَهَا عَيْنُ كَلَامِ النَّاسِ لَفْظًا وَمَعْنًى. الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كُلُّهَا شافٍ كافٍ، وَلَوْ كَانَتْ تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ بِحَسَبِ كُلِّ لُغَةٍ قُرْآنًا لَكَانَ قَدْ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، لِأَنَّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ قَدْ حَصَلَ بِحَسَبِ كُلِّ لُغَةٍ قُرْآنٌ عَلَى حِدَةٍ، وَحِينَئِذٍ لَا يَصِحُّ حَصْرُ حُرُوفِ الْقُرْآنِ فِي السَّبْعَةِ» . الْحُجَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِجَمِيعِ الْآيَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ فِي التَّوْرَاةِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مُطَابِقَةٌ لِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَمِنْ تَعْظِيمِ أَمْرِ/ الْآخِرَةِ وَتَقْبِيحِ الدُّنْيَا. فَعَلَى قَوْلِ الْخَصْمِ تَكُونُ الصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ بِقِرَاءَةِ الْإِنْجِيلِ وَالتَّوْرَاةِ، وَبِقِرَاءَةِ زَيْدٍ وَإِنْسَانٍ، وَلَوْ أَنَّهُ دَخَلَ الدُّنْيَا وَعَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ وَلَمْ يَقْرَأْ حَرْفًا مِنَ الْقُرْآنِ بَلْ كَانَ مُوَاظِبًا عَلَى قِرَاءَةِ زَيْدٍ وَإِنْسَانٍ فَإِنَّهُ يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى مُطِيعًا وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَلِيقُ بِدِينِ الْمُسْلِمِينَ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ لَا تَرْجَمَةَ لِلْفَاتِحَةِ إِلَّا نَقُولَ الثَّنَاءُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَرَحْمَانِ الْمُحْتَاجِينَ وَالْقَادِرِ عَلَى يَوْمِ الدِّينِ أَنْتَ الْمَعْبُودُ وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ اهْدِنَا إِلَى طَرِيقِ أَهْلِ الْعِرْفَانِ لَا إِلَى طَرِيقِ أَهْلِ الْخِذْلَانِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَرْجَمَةَ الْفَاتِحَةِ لَيْسَتْ إِلَّا هَذَا الْقَدْرَ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا خُطْبَةَ إِلَّا وَقَدْ حَصَلَ فِيهَا هَذَا الْقَدْرُ فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ الصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ بِقِرَاءَةِ جَمِيعِ الْخُطَبِ، وَلَمَّا كَانَ بَاطِلًا عَلِمْنَا فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَوْ كَانَ هَذَا جَائِزًا لَكَانَ قَدْ أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ فِي أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَيُصَلِّيَ بِهَا، وَلَكَانَ قَدْ أَذِنَ لِصُهَيْبٍ فِي أَنْ يَقْرَأَ بِالرُّومِيَّةِ، وَلِبِلَالٍ فِي أَنْ يَقْرَأَ بِالْحَبَشِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ مَشْرُوعًا لَاشْتَهَرَ جَوَازُهُ فِي الْخَلْقِ فَإِنَّهُ يُعَظَّمُ فِي أَسْمَاعِ أَرْبَابِ اللُّغَاتِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُزِيلُ عَنْهُمْ إِتْعَابَ النَّفْسِ فِي تَعَلُّمِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَيَحْصُلُ لِكُلِّ قَوْمٍ فَخْرٌ عَظِيمٌ فِي أَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ قُرْآنٌ بلغتهم الخاصة، ومعلوم أن تجويز يُفْضِي إِلَى انْدِرَاسِ الْقُرْآنِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ لَا يقوله مسلم.

الْحُجَّةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: لَوْ جَازَتِ الصَّلَاةُ بِالْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ لَمَا جَازَتْ بِالْقِرَاءَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَهَذَا جَائِزٌ وذاك غير جائز، وبيان الْمُلَازَمَةِ أَنَّ الْفَارِسِيَّ الَّذِي لَا يَفْهَمُ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ شَيْئًا لَمْ يَفْهَمْ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا الْبَتَّةَ، أَمَّا إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ بِالْفَارِسِيَّةِ فَهِمَ الْمَعْنَى وَأَحَاطَ بِالْمَقْصُودِ وَعَرَفَ مَا فِيهِ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَمِنَ التَّرْغِيبِ فِي الْآخِرَةِ وَالتَّنْفِيرِ عَنِ الدُّنْيَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَقْصَى مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ حُصُولُ هَذِهِ الْمَعَانِي، قَالَ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] وَقَالَ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [مُحَمَّدٍ: 24] فَثَبَتَ أَنَّ قِرَاءَةَ التَّرْجَمَةِ تُفِيدُ هَذِهِ الْفَوَائِدَ الْعَظِيمَةَ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ تَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ هَذِهِ الْفَوَائِدِ، فَلَوْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ بِالْفَارِسِيَّةِ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْقِرَاءَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ فِي الصِّحَّةِ ثُمَّ إِنَّ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ تُفِيدُ هَذِهِ الْفَوَائِدَ الْعَظِيمَةَ وَالْقِرَاءَةُ بِالْعَرَبِيَّةِ مَانِعَةٌ مِنْهَا لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ بِالْعَرَبِيَّةِ مُحَرَّمَةً، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ غَيْرُ جَائِزَةٍ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: الْمُقْتَضَى لِبَقَاءِ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ قَائِمٌ، وَالْفَارِقُ ظَاهِرٌ، أَمَّا الْمُقْتَضَى/ فَلِأَنَّ التَّكْلِيفَ كَانَ ثَابِتًا، وَالْأَصْلُ فِي الثَّابِتِ الْبَقَاءُ، وَأَمَّا الْفَارِقُ فَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَمَا أَنَّهُ يَطْلُبُ قِرَاءَةً لِمَعْنَاهُ كَذَلِكَ تُطْلَبُ قِرَاءَتُهُ لِأَجْلِ لَفْظِهِ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِعْجَازَ فِي فَصَاحَتِهِ، وَفَصَاحَتَهُ فِي لَفْظِهِ وَالثَّانِي: أَنَّ تَوْقِيفَ صِحَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى قِرَاءَةِ لَفْظِهِ يُوجِبُ حِفْظَ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ، وَكَثْرَةُ الْحِفْظِ مِنَ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ يُوجِبُ بَقَاءَهُ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ مَصُونًا عَنِ التَّحْرِيفِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ تَحْقِيقُ مَا وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحِجْرِ: 9] أَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الصَّلَاةِ عَلَى قِرَاءَةِ هَذَا النَّظْمِ الْعَرَبِيِّ فَإِنَّهُ يَخْتَلُّ هَذَا الْمَقْصُودُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُقْتَضَى قَائِمٌ وَالْفَارِقُ ظَاهِرٌ. وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِ بِأَنَّهُ أَمَرَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَقِرَاءَةُ التَّرْجَمَةِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُعَلِّمُ رَجُلًا الْقُرْآنَ فَقَالَ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدُّخَانِ: 43، 44] وَكَانَ الرَّجُلُ عَجَمِيًّا فَكَانَ يَقُولُ: طَعَامُ الْيَتِيمِ: فَقَالَ: قُلْ طَعَامُ الْفَاجِرِ، ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّهُ لَيْسَ الْخَطَأُ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يُقْرَأَ مَكَانَ الْعَلِيمِ الْحَكِيمُ بَلْ أَنْ يَضَعَ آيَةَ الرَّحْمَةِ مَكَانَ آيَةِ الْعَذَابِ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشُّعَرَاءِ: 196] فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الْأَعْلَى: 18، 19] ثُمَّ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ الْقُرْآنُ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ بِهَذَا اللَّفْظِ لَكِنْ كَانَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَالسُّرْيَانِيَّةِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ [الْأَنْعَامِ: 19] ثُمَّ إِنَّ الْعَجَمَ لَا يَفْهَمُونَ اللَّفْظَ الْعَرَبِيَّ إِلَّا إِذَا ذَكَرَ تِلْكَ الْمَعَانِي لَهُمْ بِلِسَانِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ قُرْآنًا، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْمَنْظُومَ بِالْفَارِسِيَّةِ قُرْآنٌ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ أَحْوَالَ هَؤُلَاءِ عَجِيبَةٌ جِدًّا، فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الْمُبَالَغَةُ فِي نُصْرَةِ هَذَا الْمَذْهَبِ كَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، ثُمَّ إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ لَا تَلْتَفِتُ إِلَى هذا، بل نقول: إِنَّ الْقَائِلَ بِهِ شَاكٌّ فِي دِينِهِ، وَالشَّاكُّ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا، فَإِنْ كَانَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ حُجَّةً فَلِمَ لَمْ يَقْبَلُوا قَوْلَهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فَلِمَ عُوِّلَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ وَلَعَمْرِي هَذِهِ الْمُنَاقَضَاتُ عَجِيبَةٌ، وَأَيْضًا فَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ حَذْفُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَحَذْفُ الْفَاتِحَةِ عَنِ الْقُرْآنِ وَيَجِبُ عَلَيْنَا إِحْسَانُ الظَّنِّ بِهِ، وَأَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ

[الشُّعَرَاءِ: 196] فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْقِصَصَ مَوْجُودَةٌ فِي زبر الأولين، وقوله تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ فَالْمَعْنَى لِأُنْذِرَكُمْ مَعْنَاهُ، وَهَذَا الْقَدْرُ الْقَلِيلُ مِنَ الْمَجَازِ يَجُوزُ تَحَمُّلُهُ لِأَجْلِ الدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ الْقَاطِعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْجَدِيدِ تَجِبُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمُقْتَدِي، سَوَاءٌ أَسَرَّ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ أَوْ جَهَرَ بِهَا، وَقَالَ فِي «الْقَدِيمِ» : تَجِبُ الْقِرَاءَةُ إِذَا أَسَرَّ الْإِمَامُ، وَلَا تَجِبُ إِذَا جَهَرَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَنَا وُجُوهٌ: - الحجة الأولى: قوله تعالى: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [الْمُزَّمِّلِ: 20] وَهَذَا الْأَمْرُ يَتَنَاوَلُ الْمُنْفَرِدَ وَالْمَأْمُومَ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ فيجب علينا ذلك لقوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كَوْنَهُ مَأْمُومًا يَمْنَعُ مِنْهُ إِلَّا أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّا بينا أن قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أَمْرٌ بِمَجْمُوعِ الْأَفْعَالِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهَا، وَمِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: أَقِيمُوا الصَّلاةَ يَدْخُلُ فِيهِ الْأَمْرُ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَقَدْ ثَبَتَ تَقْرِيرُ وَجْهِ الدَّلِيلِ. فَإِنْ قَالُوا: هَذَا الْخَبَرُ مَخْصُوصٌ بِحَالِ الِانْفِرَادِ لِأَنَّهُ رَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَلَمْ يُصَلِّ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَرَاءَ الْإِمَامِ، قُلْنَا: هَذَا الْحَدِيثُ طَعَنُوا فِيهِ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي عَلَّمَهُ أَعْمَالَ الصَّلَاةِ: «ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْمُنْفَرِدَ وَالْمَأْمُومَ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: رَوَى أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ» بِإِسْنَادِهِ عَنْ مَحْمُودِ بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قَرَأَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الصُّبْحِ فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «مَا لي أراكم تقرءون خَلْفَ إِمَامِكُمْ» ، قُلْنَا: إِي وَاللَّهِ، قَالَ: «لَا تَفْعَلُوا إِلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا» ، قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: رَوَى مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ غَيْرُ تَامٍّ، قَالَ: فَقُلْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إِنِّي أَكُونُ أَحْيَانًا خَلْفَ الْإِمَامِ، قَالَ: اقْرَأْ بِهَا يَا فَارِسِيُّ فِي نَفْسِكَ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْخَبَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: / أَنَّ صَلَاةَ المقتدى بدون القراءة مبرأة عَنِ الْخِدَاجِ عِنْدَ الْخَصْمِ، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ الثَّانِي: أَنَّ السَّائِلَ أَوْرَدَ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْإِمَامِ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ بِوُجُوبِ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَذَلِكَ يُؤَيِّدُ الْمَطْلُوبَ. الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ» ، بَيَّنَ أَنَّ التَّنْصِيفَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ الْقِرَاءَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ مِنْ لَوَازِمِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا التَّنْصِيفُ قَائِمٌ فِي صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ وَفِي صَلَاةِ الْمُقْتَدِي» .

الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي يَجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بوجهه الكريم فقال: هل تقرءون إِذَا جَهَرْتُ بِالْقِرَاءَةِ؟ فَقَالَ بَعْضُنَا إِنَّا لَنَصْنَعُ ذلك، فقال: وأنا أقول ما لي أنازع القرآن، لا تقرءوا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ إِذَا جَهَرْتُ بِقِرَاءَتِي إِلَّا أُمَّ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا. الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْكَثِيرَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ تُوجِبُ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ وَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِلْمُنْفَرِدِ وَالْمُقْتَدِي، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ الْإِمَامِ مُوجِبَةً لِلثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ قَالَ بِوُجُوبِ قِرَاءَتِهَا. الْحُجَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: وَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَأَمَّا عَدَمُ قِرَاءَتِهَا فَهُوَ عِنْدَنَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ أَحْوَطُ، فَكَانَتْ وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» . الْحُجَّةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إِذَا بَقِيَ الْمُقْتَدِي سَاكِتًا عَنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ بَقِيَ مُعَطَّلًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْقَارِئِ أَفْضَلَ مِنْهُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ أَفْضَلُ مِنَ السُّكُوتِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ثَبَتَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَوْ كَانَ الِاقْتِدَاءُ مَانِعًا مِنَ الْقِرَاءَةِ لَكَانَ الِاقْتِدَاءُ حَرَامًا، لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ، وَالْمَانِعُ مِنَ الْعِبَادَةِ الشَّرِيفَةِ مُحَرَّمٌ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ الِاقْتِدَاءُ حَرَامًا، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الِاقْتِدَاءَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْقِرَاءَةِ. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ/ وَأَنْصِتُوا [الْأَعْرَافِ: 204] وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِمْ، وَبَالَغْنَا، فَلْيُطَالَعْ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَقَدْ ذَكَرُوا أَخْبَارًا كَثِيرَةً وَالشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَيْهَقِيُّ بَيَّنَ ضَعْفَهَا، ثُمَّ نَقُولُ: هَبْ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ، وَلَكِنَّ الْأَخْبَارَ لَمَّا تَعَارَضَتْ وَكَثُرَتْ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّرْجِيحِ، وَهُوَ مَعَنَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَنَا يُوجِبُ الِاشْتِغَالَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الطَّاعَاتِ، وَقَوْلَهُمْ يُوجِبُ الْعُطْلَةَ وَالسُّكُوتَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَنَا أَوْلَى: الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَنَا أَحْوَطُ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَنَا يُوجِبُ شَغْلَ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ بِالطَّاعَاتِ وَالْأَذْكَارِ الْجَمِيلَةِ، وَقَوْلَهُمْ يُوجِبُ تَعْطِيلَ الْوَقْتِ عَنِ الطَّاعَةِ وَالذِّكْرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فَإِنْ تَرَكَهَا فِي رَكْعَةٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، قال الشيخ أبو حامد الإسفرايني: وَهَذَا الْقَوْلُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، قَالَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذَاهِبَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سِتَّةٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُ الْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ، وَهُوَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ أَصْلًا وَالثَّانِي: قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ جِنِّي أَنَّ الْقِرَاءَةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، فَإِذَا حَصَلَتْ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ بِحُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالثَّالِثُ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي

الركعتين الأولتين وَاجِبَةٌ، وَهُوَ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ قَرَأَ، وَإِنْ شَاءَ سَبَّحَ، وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ، وَذُكِرَ فِي كِتَابِ «الِاسْتِحْبَابِ» أَنَّ الْقِرَاءَةَ وَاجِبَةٌ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَالرَّابِعُ: نَقَلَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي كِتَابِ «الشَّامِلِ» عَنْ سُفْيَانَ أَنَّهُ قَالَ: تَجِبُ الْقِرَاءَةُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَتُكْرَهُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَالْخَامِسُ: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّ الْقِرَاءَةَ وَاجِبَةٌ فِي أَكْثَرِ الرَّكَعَاتِ، وَلَا تَجِبُ فِي جَمِيعِهَا، فَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كَفَتِ الْقِرَاءَةُ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، وَإِنْ كَانَتْ مَغْرِبًا كَفَتْ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ صُبْحًا وَجَبَتِ الْقِرَاءَةُ فِيهِمَا مَعًا وَالسَّادِسُ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ الرَّكَعَاتِ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ وُجُوهٌ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي كُلِّ الرَّكَعَاتِ فَيَجِبُ عَلَيْنَا مِثْلُهُ، لقوله تعالى: وَاتَّبِعُوهُ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ الَّذِي عَلَّمَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الصَّلَاةَ أَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ فَافْعَلْ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، فَإِنْ قَالُوا قَوْلَهُ: «فَافْعَلْ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ» رَاجِعٌ إِلَى الْأَفْعَالِ لَا إِلَى الْأَقْوَالِ، قُلْنَا/ الْقَوْلُ فِعْلُ اللِّسَانِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْأَفْعَالِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ فِي كِتَابِ «الشَّامِلِ» عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَقْرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَرِيضَةً كَانَتْ أَوْ نَافِلَةً. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: الْقِرَاءَةُ فِي الرَّكَعَاتِ أَحْوَطُ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهَا. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَالْأَصْلُ فِي الثَّابِتِ الْبَقَاءُ، حَكَمْنَا بِالْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ الرَّكَعَاتِ لِأَجْلِ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ أَكْمَلُ، فَعِنْدَ عَدَمِ الْقِرَاءَةِ فِي الْكُلِّ وَجَبَ أَنْ يَبْقَى فِي الْعُهْدَةِ. وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ فِي الْأَصْلِ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ فِي السَّفَرِ وَزِيدَتْ فِي الْحَضَرِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الرَّكْعَتَانِ الْأُولَيَانِ أَصْلٌ وَالْأُخْرَيَانِ تَبَعٌ، وَمَدَارُ الْأَمْرِ فِي التَّبَعِ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ لَا يُقْرَأُ السُّورَةَ الزَّائِدَةَ فِيهِمَا، وَلَا يُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهِمَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ دَلَائِلَنَا أَكْثَرُ وَأَقْوَى، وَمَذْهَبُنَا أَحْوَطُ، فَكَانَ أرجح. فروع على اشتراط الفاتحة في الصلاة: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ فَلَهُ فُرُوعٌ: الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ أَوْ تَرَكَ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِهَا عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، أَمَّا لَوْ تَرَكَهَا سَهْوًا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: صَلَّى بِنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَغْرِبَ فَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ فَلَمَّا انْقَضَتِ الصَّلَاةُ قِيلَ لَهُ: تَرَكْتَ الْقِرَاءَةَ، قَالَ: كَيْفَ كَانَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ؟ قَالُوا: حَسَنًا، قَالَ: فَلَا بَأْسَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَمَّا وَقَعَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا، وَرَجَعَ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ، وَقَالَ: تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْمَذْكُورَةَ عَامَّةٌ فِي الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْ قِصَّةِ عُمَرَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الشَّعْبِيَّ رَوَى أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعَادَ الصَّلَاةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَعَلَّهُ تَرَكَ الْجَهْرَ بِالْقِرَاءَةِ لَا نَفْسَ الْقِرَاءَةِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ هَذَا هُوَ الظَّنُّ بِعُمَرَ. الْفَرْعُ الثَّانِي: تَجِبُ الرِّعَايَةُ فِي تَرْتِيبِ الْقِرَاءَةِ، فَلَوْ قَرَأَ النِّصْفَ الْأَخِيرَ ثُمَّ النِّصْفَ الْأَوَّلَ يُحْسَبُ له لأول دون الأخير.

الباب الخامس في تفسير سورة الفاتحة، وفيه فصول

الْفَرْعُ الثَّالِثُ: الرَّجُلُ الَّذِي لَا يُحْسِنُ تَمَامَ الْفَاتِحَةِ إِمَّا أَنْ يَحْفَظَ بَعْضَهَا، وَإِمَّا أَنْ لَا يَحْفَظَ شَيْئًا مِنْهَا، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّهُ يَقْرَأُ تِلْكَ الْآيَةَ وَيَقْرَأُ مَعَهَا سِتَّ آيَاتٍ عَلَى الْوَجْهِ الْأَقْرَبِ وَأَمَّا الثَّانِي- وَهُوَ أَنْ لا يحفظ شيئاً من الفاتحة- فههنا إِنْ حَفِظَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ لَزِمَهُ قِرَاءَةُ ذلك المحفوظ، لقوله تعالى: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [الْمُزَّمِّلِ: 20] وَإِنْ لَمْ يحفظ شيئاً من/ القرآن فههنا يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالذِّكْرِ، وَهُوَ التَّكْبِيرُ وَالتَّحْمِيدُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ مَا رَوَى رِفَاعَةُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلْيَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، ثُمَّ يُكَبِّرْ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَلْيَقْرَأْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَلْيُكَبِّرْ، بَقِيَ هَاهُنَا قِسْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنْ لَا يَحْفَظَ الْفَاتِحَةَ وَلَا يَحْفَظَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا يَحْفَظَ أَيْضًا شَيْئًا مِنَ الْأَذْكَارِ الْعَرَبِيَّةِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَيِّ لِسَانٍ قَدَرَ عَلَيْهِ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: نُقِلَ فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُنْكِرُ كَوْنَ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَكَانَ يُنْكِرُ كَوْنَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ، لِأَنَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ النَّقْلَ الْمُتَوَاتِرَ كَانَ حَاصِلًا فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ بِكَوْنِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ مِنَ الْقُرْآنِ فَحِينَئِذٍ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَالِمًا بِذَلِكَ فَإِنْكَارُهُ يُوجِبُ الْكُفْرَ أَوْ نُقْصَانَ الْعَقْلِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ النَّقْلَ الْمُتَوَاتِرَ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا كَانَ حَاصِلًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ إِنَّ نَقْلَ الْقُرْآنِ لَيْسَ بِمُتَوَاتِرٍ فِي الْأَصْلِ وَذَلِكَ يُخْرِجُ الْقُرْآنَ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً يَقِينِيَّةً، وَالْأَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ نَقْلَ هَذَا الْمَذْهَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَقْلٌ كَاذِبٌ بَاطِلٌ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْخَلَاصُ عَنْ هَذِهِ الْعُقْدَةِ، وَهَاهُنَا آخِرُ الْكَلَامِ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُفَرَّعَةِ عَلَى سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَاللَّهُ الْهَادِي لِلصَّوَابِ. الْبَابُ الْخَامِسُ فِي تَفْسِيرِ سورة الفاتحة، وفيه فصول الفصل الأول: تفسير «الحمد لله» : فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: هَاهُنَا أَلْفَاظٌ ثَلَاثَةٌ: الْحَمْدُ، وَالْمَدْحُ وَالشُّكْرُ، فَنَقُولُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَمْدِ وَالْمَدْحِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَدْحَ قَدْ يَحْصُلُ لِلْحَيِّ وَلِغَيْرِ الْحَيِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ رَأَى لُؤْلُؤَةً فِي غَايَةِ الْحُسْنِ أَوْ يَاقُوتَةً فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فَإِنَّهُ قَدْ يَمْدَحُهَا، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَحْمَدَهَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَدْحَ أَعَمُّ مِنَ الْحَمْدِ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْفَرْقِ: أَنَّ الْمَدْحَ قَدْ يَكُونُ قَبْلَ الْإِحْسَانِ وَقَدْ يَكُونُ بَعْدَهُ، أَمَّا الْحَمْدُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْإِحْسَانِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْفَرْقِ: أَنَّ الْمَدْحَ قَدْ يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «احْثُوا التُّرَابَ فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ» أَمَّا الْحَمْدُ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ مُطْلَقًا، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ/ يَحْمَدِ النَّاسَ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ» الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَدْحَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَى كَوْنِهِ مُخْتَصًّا بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَضَائِلِ، وَأَمَّا الْحَمْدُ فَهُوَ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى كَوْنِهِ مُخْتَصًّا بِفَضِيلَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَهِيَ فَضِيلَةُ الْإِنْعَامِ وَالْإِحْسَانِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَدْحَ أَعَمُّ مِنَ الْحَمْدِ.

وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَمْدِ وَبَيْنَ الشُّكْرِ فَهُوَ أَنَّ الْحَمْدَ يَعُمُّ مَا إِذَا وَصَلَ ذَلِكَ الْإِنْعَامُ إِلَيْكَ أَوْ إِلَى غَيْرِكَ، وَأَمَّا الشُّكْرُ فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْإِنْعَامِ الْوَاصِلِ إِلَيْكَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَدْحَ حَاصِلٌ لِلْحَيِّ وَلِغَيْرِ الْحَيِّ، وَلِلْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ وَلِغَيْرِهِ فَلَوْ قَالَ الْمَدْحُ لِلَّهِ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى فَاعِلًا مُخْتَارًا، أَمَّا لَمَّا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُخْتَارًا، فَقَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ هَذَا الْقَائِلِ مُقِرًّا بِأَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ لَيْسَ مُوجِبًا بِالذَّاتِ كَمَا تَقُولُ الْفَلَاسِفَةُ بَلْ هُوَ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ الشُّكْرُ لِلَّهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ بِسَبَبِ كُلِّ إِنْعَامٍ صَدَرَ مِنْهُ وَوَصَلَ إِلَى غَيْرِهِ وَأَمَّا الشُّكْرُ لِلَّهِ فَهُوَ ثَنَاءٌ بِسَبَبِ إِنْعَامٍ وَصَلَ إِلَى ذَلِكَ الْقَائِلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَفْضَلُ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ كَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: سَوَاءٌ أَعْطَيْتَنِي أَوْ لَمْ تُعْطِنِي فَإِنْعَامُكَ وَاصِلٌ إِلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنْتَ مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ الْعَظِيمِ، وَقِيلَ الْحَمْدُ عَلَى مَا دَفَعَ اللَّهُ مِنَ الْبَلَاءِ، وَالشُّكْرُ عَلَى مَا أَعْطَى مِنَ النَّعْمَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: النِّعْمَةُ فِي الْإِعْطَاءِ أَكْثَرُ مِنَ النِّعْمَةِ فِي دَفْعِ الْبَلَاءِ فَلِمَاذَا تَرَكَ الْأَكْثَرَ وَذَكَرَ الْأَقَلَّ قُلْنَا في وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ أَنَا شَاكِرٌ لِأَدْنَى النِّعْمَتَيْنِ فَكَيْفَ لِأَعْلَاهُمَا الثَّانِي: الْمَنْعُ غَيْرُ مُتَنَاهٍ، وَالْإِعْطَاءُ مُتَنَاهٍ، فَكَانَ الِابْتِدَاءُ بِشُكْرِ دَفْعِ الْبَلَاءِ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ أَوْلَى الثَّالِثُ: أَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ أَهَمُّ مِنْ جَلْبِ النَّفْعِ، فَلِهَذَا قدمه. الحمد لله أبلغ من أحمد الله: الفائدة الثانية: [الحمد لله أبلغ من أحمد الله] أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ أَحْمَدُ اللَّهَ وَلَكِنْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ الثَّانِيَةُ أَوْلَى لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَحْمَدُ اللَّهَ أَفَادَ ذَلِكَ كَوْنَ ذَلِكَ الْقَائِلِ قَادِرًا عَلَى حَمْدِهِ أَمَّا لَمَّا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَقَدْ أَفَادَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مَحْمُودًا قَبْلَ حَمْدِ الْحَامِدِينَ وَقَبْلَ شُكْرِ الشَّاكِرِينَ، فَهَؤُلَاءِ سَوَاءٌ حَمِدُوا أَوْ لَمْ يَحْمَدُوا وَسَوَاءٌ شَكَرُوا أَوْ لَمْ يَشْكُرُوا فَهُوَ تَعَالَى مَحْمُودٌ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ بِحَمْدِهِ الْقَدِيمِ وَكَلَامِهِ الْقَدِيمِ وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَنَا الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ حُقٌّ لِلَّهِ وَمِلْكُهُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ أَيَادِيهِ وَأَنْوَاعِ آلَائِهِ عَلَى الْعِبَادِ، فَقَوْلُنَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ حَقٌّ يَسْتَحِقُّهُ لِذَاتِهِ وَلَوْ قَالَ أَحْمَدُ اللَّهَ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ لِذَاتِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى كَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ أَوْلَى مِنَ اللَّفْظِ الدَّالِّ على أن شخصاً واحد حَمِدَهُ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَحْمَدُ اللَّهَ لَكَانَ قَدْ حَمِدَ لَكِنْ لَا حَمْدًا يَلِيقُ بِهِ، وَأَمَّا إِذَا قَالَ الْحَمْدُ/ لِلَّهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَنَا حَتَّى أَحْمَدَهُ؟ لَكِنَّهُ مَحْمُودٌ بِجَمِيعِ حَمْدِ الْحَامِدِينَ، مِثَالُهُ مَا لَوْ سُئِلْتَ: هَلْ لِفُلَانٍ عَلَيْكَ نِعْمَةٌ؟ فَإِنْ قَلْتَ: نَعَمْ فَقَدْ حَمِدْتَهُ وَلَكِنْ حَمْدًا ضَعِيفًا، وَلَوْ قُلْتَ فِي الْجَوَابِ: بَلْ نِعَمُهُ عَلَى كُلِّ الْخَلَائِقِ، فَقَدْ حَمِدْتَهُ بِأَكْمَلِ الْمَحَامِدِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْحَمْدَ عِبَارَةٌ عَنْ صِفَةِ الْقَلْبِ وَهِيَ اعْتِقَادُ كَوْنِ ذَلِكَ الْمَحْمُودِ مُتَفَضِّلًا مُنْعِمًا مُسْتَحِقًّا لِلتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، فَإِذَا تَلَفَّظَ الْإِنْسَانُ بِقَوْلِهِ أَحْمَدُ اللَّهَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ قَلْبُهُ غَافِلًا عَنْ مَعْنَى التَّعْظِيمِ اللَّائِقِ بِجَلَالِ اللَّهِ كَانَ كَاذِبًا، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِكَوْنِهِ حَامِدًا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَمَّا إِذَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَوَاءٌ كَانَ غَافِلًا أَوْ مُسْتَحْضِرًا لِمَعْنَى التَّعْظِيمِ فَإِنَّهُ يَكُونُ صَادِقًا لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَمْدَ حَقٌّ لِلَّهِ وَمِلْكُهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ سَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ مُشْتَغِلًا بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْلَى من قوله أحمد الله، ونظيره فولنا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ التَّكْذِيبُ، بِخِلَافِ قَوْلِنَا أَشَهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ كَاذِبًا فِي قَوْلِهِ أَشَهْدُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي تَكْذِيبِ الْمُنَافِقِينَ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [الْمُنَافِقُونَ: 1] وَلِهَذَا السِّرِّ أُمِرَ فِي الْأَذَانِ بِقَوْلِهِ أَشْهَدُ ثُمَّ وَقَعَ الْخَتْمُ عَلَى قَوْلِهِ لَا إِلَهَ إلا الله.

معنى اللام في (الحمد لله) : الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا كَثِيرَةً: أَحَدُهَا: الِاخْتِصَاصُ اللَّائِقُ كَقَوْلِكَ الْجُلُّ لِلْفَرَسِ وَثَانِيهَا: الْمِلْكُ كَقَوْلِكَ الدَّارُ لِزَيْدٍ وَثَالِثُهَا: الْقُدْرَةُ وَالِاسْتِيلَاءُ كَقَوْلِكَ الْبَلَدُ لِلسُّلْطَانِ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِكَ الْحَمْدُ لِلَّهِ يَحْتَمِلُ هَذِهِ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ فَإِنْ حَمَلْتَهُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ اللَّائِقِ فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَلِيقُ الْحَمْدُ إِلَّا بِهِ لِغَايَةِ جَلَالِهِ وَكَثْرَةِ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَإِنْ حَمَلْتَهُ عَلَى الْمِلْكِ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ تَعَالَى مَالِكٌ لِلْكُلِّ فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ مِنْهُمْ كَوْنَهُمْ مُشْتَغِلِينَ بِحَمْدِهِ، وَإِنْ حَمَلْتَهُ عَلَى الِاسْتِيلَاءِ وَالْقُدْرَةِ فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ لِذَاتِهِ وَمَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ مُسْتَوْلٍ عَلَى الْمُمْكِنِ لِذَاتِهِ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ بِمَعْنَى أَنَّ الْحَمْدَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِهِ وَبِمَعْنَى أَنَّ الْحَمْدَ مِلْكُهُ وَمَلَكَهُ، وَبِمَعْنَى أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَوْلِي عَلَى الْكُلِّ وَالْمُسْتَعْلِي عَلَى الْكُلِّ. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ ثَمَانِيَةُ أَحْرُفٍ، وَأَبْوَابُ الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةٌ، فَمَنْ قَالَ هَذِهِ الثَّمَانِيَةَ عَنْ صَفَاءِ قَلْبِهِ اسْتَحَقَّ ثَمَانِيَةَ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ. الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: الْحَمْدُ لَفْظَةٌ مُفْرَدَةٌ دَخَلَ عَلَيْهَا حَرْفُ التَّعْرِيفِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَسْبُوقًا بِمَعْهُودٍ سَابِقٍ انْصَرَفَ إِلَيْهِ، وَإِلَّا يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ صَوْنًا لِلْكَلَامِ عَنِ الْإِجْمَالِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ إِلَّا أَنَّهُ يُفِيدُ الْمَاهِيَّةَ وَالْحَقِيقَةَ فَقَطْ، إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ فَنَقُولُ: قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ إِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَفَادَ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ حَمَدًا وَثَنَاءً فَهُوَ لِلَّهِ وَحَقُّهُ وَمِلْكُهُ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا سِوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ الْبَتَّةَ، وَإِنْ قُلْنَا/ بِالْقَوْلِ الثَّانِي: كَانَ معناه أن ماهية الحمد حق الله تَعَالَى وَمِلْكٌ لَهُ، وَذَلِكَ يَنْفِي كَوْنَ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَثَبَتَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ أَنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ يَنْفِي حُصُولَ الْحَمْدِ لِغَيْرِ اللَّهِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ الْمُنْعِمَ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ مِنَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ، وَالْأُسْتَاذُ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ مِنَ التِّلْمِيذِ وَالسُّلْطَانُ الْعَادِلُ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ مِنَ الرَّعِيَّةِ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ لَمْ يَحْمَدِ النَّاسَ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ. قُلْنَا: إِنَّ كُلَّ مَنْ أَنْعَمَ عَلَى غَيْرِهِ بِإِنْعَامٍ فَالْمُنْعِمُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ تِلْكَ الدَّاعِيَةَ فِي قَلْبِ ذَلِكَ الْمُنْعِمِ وَإِلَّا لَمْ يُقْدِمْ عَلَى ذَلِكَ الْإِنْعَامِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ تِلْكَ النِّعْمَةَ وَسَلَّطَ ذَلِكَ الْمُنْعِمَ عَلَيْهَا وَمَكَّنَ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِ مِنَ الِانْتِفَاعِ لَمَا حَصَلَ الِانْتِفَاعُ بِتِلْكَ النِّعْمَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُنْعِمَ فِي الْحَقِيقَةِ هو الله تعالى. الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ قَوْلَهَ الْحَمْدُ لِلَّهِ كَمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَحْمُودَ إِلَّا اللَّهُ، فَكَذَلِكَ الْعَقْلُ دَلَّ عَلَيْهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَخْلُقْ دَاعِيَةَ الْإِنْعَامِ فِي قَلْبِ الْمُنْعِمِ لَمْ يُنْعِمْ فَيَكُونُ الْمُنْعِمُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ تِلْكَ الدَّاعِيَةَ وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ أَنْعَمَ عَلَى الْغَيْرِ فَإِنَّهُ يَطْلُبُ بِذَلِكَ الْإِنْعَامِ عِوَضًا إما ثواباً أو ثناء أو تحصيل حَقٍّ أَوْ تَخْلِيصًا لِلنَّفْسِ مِنْ خُلُقِ الْبُخْلِ، وَطَالِبُ الْعِوَضِ لَا يَكُونُ مُنْعِمًا، فَلَا يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ فِي الْحَقِيقَةِ، أَمَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِنَّهُ كَامِلٌ لِذَاتِهِ، وَالْكَامِلُ لِذَاتِهِ لَا يَطْلُبُ الْكَمَالَ، لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، فَكَانَتْ عَطَايَاهُ جُودًا مَحْضًا وَإِحْسَانًا مَحْضًا، فَلَا جَرَمَ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَثَالِثُهَا: أَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ فَهِيَ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الْمُمْكِنَةِ الْوُجُودِ، وَكُلُّ مُمْكِنِ الْوُجُودِ فَإِنَّهُ وُجِدَ بِإِيجَادِ الْحَقِّ إِمَّا ابْتِدَاءً وَإِمَّا بِوَاسِطَةٍ، يَنْتُجُ أَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ فَهِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ

[النَّحْلِ: 53] وَالْحَمْدُ لَا مَعْنًى لَهُ إِلَّا الثَّنَاءُ عَلَى الْإِنْعَامِ فَلَمَّا كَانَ لَا إِنْعَامَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى وَرَابِعُهَا: النِّعْمَةُ لَا تَكُونُ كَامِلَةً إِلَّا عِنْدَ اجْتِمَاعِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مَنْفَعَةً، وَالِانْتِفَاعُ بِالشَّيْءِ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِهِ حَيًّا مُدْرِكًا، وَكَوْنُهُ حَيًّا مُدْرِكًا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِإِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تَكُونُ نِعْمَةً كَامِلَةً إِلَّا إِذَا كَانَتْ خَالِيَةً عَنْ شَوَائِبِ الضَّرَرِ وَالْغَمِّ، وَإِخْلَاءُ الْمَنَافِعِ عَنْ شَوَائِبِ الضَّرَرِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تَكُونُ نِعْمَةً كَامِلَةً إِلَّا إِذَا كَانَتْ آمِنَةً مِنْ خَوْفِ الِانْقِطَاعِ، وَهَذَا الْأَمْرُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالنِّعْمَةُ الْكَامِلَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ الْحَمْدَ الْكَامِلَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْبَرَاهِينِ صِحَّةُ قَوْلِهِ تَعَالَى الْحَمْدُ لِلَّهِ. الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْحَمْدَ عِبَارَةٌ عَنْ مَدْحِ الْغَيْرِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ مُنْعِمًا مُتَفَضِّلًا، وَمَا لَمْ يَحْصُلْ شُعُورُ الْإِنْسَانِ بِوُصُولِ النِّعْمَةِ إِلَيْهِ امْتَنَعَ تَكْلِيفُهُ بِالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَجَبَ كَوْنُ الْإِنْسَانِ عَاجِزًا عَنْ حَمْدِ اللَّهِ وَشُكْرِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: - الْأَوَّلُ: أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَى الْإِنْسَانِ كَثِيرَةٌ لَا يَقْوَى عَقْلُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ تعالى: إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: 34 النحل: 18] إذا امْتَنَعَ وُقُوفُ الْإِنْسَانِ عَلَيْهَا امْتَنَعَ اقْتِدَارُهُ عَلَى الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ اللَّائِقِ بِهَا. الثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَشُكْرِهِ إِذَا أَقْدَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَإِذَا خَلَقَ فِي قَلْبِهِ دَاعِيَةً إِلَى فِعْلِ ذَلِكَ الْحَمْدِ، وَالشُّكْرِ، وَإِذَا زَالَ عَنْهُ الْعَوَائِقُ وَالْحَوَائِلُ، فَكُلُّ ذَلِكَ إِنْعَامٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَلَى هَذَا لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِشُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِوَاسِطَةِ نِعَمٍ عَظِيمَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَتِلْكَ النِّعَمُ أَيْضًا تُوجِبُ الشُّكْرَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَالْعَبْدُ لَا يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِالشُّكْرِ وَالْحَمْدِ إِلَّا عِنْدَ الْإِتْيَانِ بِهِ مِرَارًا لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَكَانَ الْإِنْسَانُ يَمْتَنِعُ مِنْهُ الْإِتْيَانُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَبِشُكْرِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ، الثَّالِثُ: أَنَّ الْحَمْدَ وَالشُّكْرَ لَيْسَ مَعْنَاهُ مُجَرَّدَ قَوْلِ الْقَائِلِ بِلِسَانِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ مَعْنَاهُ عِلْمُ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِكَوْنِ الْمُنْعِمِ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ وَكُلُّ مَا خَطَرَ بِبَالِ الْإِنْسَانِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ فَكَمَالُ اللَّهِ وَجَلَالُهُ أَعْلَى وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الْمُتَخَيَّلِ وَالْمُتَصَوَّرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ كَوْنُ الْإِنْسَانِ آتِيًا بِحَمْدِ اللَّهِ وَشُكْرِهِ وَبِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِ يُقَابِلُ الْإِنْعَامَ الصَّادِرَ مِنَ الْمُنْعِمِ بِشُكْرِ نَفْسِهِ وَبِحَمْدِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ بِعِيدٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ كَثِيرَةٌ لَا حَدَّ لَهَا فَمُقَابَلَتُهَا بِهَذَا الِاعْتِقَادِ الْوَاحِدِ وَبِهَذِهِ اللَّفْظَةِ الْوَاحِدَةِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ حَمْدَهُ وَشُكْرَهُ يُسَاوِي نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ أَشْرَكَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْوَاسِطِيِّ الشُّكْرُ شِرْكٌ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ مُحْتَاجٌ إِلَى إِنْعَامِ اللَّهِ فِي ذَاتِهِ وَفِي صِفَاتِهِ وَفِي أَحْوَالِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ شُكْرِ الشَّاكِرِينَ وَحَمْدِ الْحَامِدِينَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ مُقَابَلَةُ نِعَمِ اللَّهِ بِهَذَا الشُّكْرِ وَبِهَذَا الْحَمْدِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْعَبْدَ عَاجِزٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِحَمْدِ اللَّهِ وَبِشُكْرِهِ فَلِهَذِهِ الدَّقِيقَةِ لَمْ يَقُلِ احْمَدُوا اللَّهَ، بَلْ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ احْمَدُوا اللَّهَ فَقَدْ كَلَّفَهُمْ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، أَمَّا لَمَّا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ كَمَالَ الْحَمْدِ حَقُّهُ وَمِلْكُهُ، سَوَاءٌ قَدَرَ الْخَلْقُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ أَوْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَنُقِلَ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَشْكُرُكَ وَشُكْرِي لَكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِإِنْعَامِكَ عَلَيَّ وَهُوَ أَنْ تُوَفِّقَنِي لِذَلِكَ الشُّكْرِ؟ فَقَالَ: يَا دَاوُدُ لَمَّا عَلِمْتَ عَجْزَكَ عَنْ شُكْرِي/ فَقَدْ شَكَرْتَنِي بِحَسَبِ قُدْرَتِكَ وطاقتك.

الفائدة الثامنة: [قول النبي ص في فضيلة التحميد] عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَنَّهُ قَالَ إِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ نِعْمَةً فَيَقُولُ الْعَبْدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي أَعْطَيْتُهُ مَا لَا قَدْرَ لَهُ فَأَعْطَانِي مَا لَا قِيمَةَ لَهُ» ، وَتَفْسِيرُهُ أَنَّ اللَّهَ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى الْعَبْدِ كَانَ ذَلِكَ الْإِنْعَامُ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الْمُعْتَادَةِ مِثْلَ أَنَّهُ كَانَ جَائِعًا فَأَطْعَمَهُ، أَوْ كَانَ عَطْشَانًا فَأَرْوَاهُ، أَوْ كَانَ عُرْيَانًا فَكَسَاهُ، أَمَّا إِذَا قَالَ الْعَبْدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ حَمْدٍ أَتَى بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْحَامِدِينَ فَهُوَ لِلَّهِ، وَكُلَّ حَمْدٍ لَمْ يَأْتِ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْحَامِدِينَ وَأَمْكَنَ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ دُخُولُهُ فِي الْوُجُودِ فَهُوَ لِلَّهِ، وَذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْمَحَامِدِ الَّتِي ذَكَرَهَا مَلَائِكَةُ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَسَاكِنُو أطباق السموات وَجَمِيعُ الْمَحَامِدِ الَّتِي ذَكَرَهَا جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ آدَمَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَجَمِيعُ الْمَحَامِدِ الَّتِي ذَكَرَهَا جَمِيعُ الْأَوْلِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَجَمِيعُ الْخَلْقِ وَجَمِيعُ الْمَحَامِدِ الَّتِي سَيَذْكُرُونَهَا إِلَى وَقْتِ قَوْلِهِمْ: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُسَ: 10] ثُمَّ جَمِيعُ هَذِهِ الْمَحَامِدِ مُتَنَاهِيَةٌ، وَأَمَّا الْمَحَامِدُ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا هِيَ الَّتِي سَيَأْتُونَ بِهَا أَبَدَ الْآبَادِ وَدَهْرَ الدَّاهِرِينَ، فَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِ الْعَبْدِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى: «انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي قَدْ أَعْطَيْتُهُ نِعْمَةً وَاحِدَةً لَا قَدْرَ لَهَا فَأَعْطَانِي مِنَ الشُّكْرِ مَا لَا حَدَّ لَهُ وَلَا نِهَايَةَ لَهُ» . أَقُولُ: هَاهُنَا دَقِيقَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا مُتَنَاهِيَةٌ، وَقَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدٌ غَيْرُ مُتَنَاهٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَيْرَ الْمُتَنَاهِي إِذَا سَقَطَ مِنْهُ الْمُتَنَاهِي بَقِيَ الْبَاقِي غَيْرَ مُتَنَاهٍ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: عَبْدِي، إِذَا قُلْتَ الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي مُقَابَلَةِ تِلْكَ النِّعْمَةِ فَالَّذِي بَقِيَ لَكَ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ طَاعَاتٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُقَابَلَتِهَا بِنِعْمَةٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ يَسْتَحِقُّ الْعَبْدُ الثَّوَابَ الْأَبَدِيَّ والخير السرمدي، فثبت أن قول العبد الحمد لِلَّهِ يُوجِبُ سَعَادَاتٍ لَا آخِرَ لَهَا وَخَيْرَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا. الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْوُجُودَ خَيْرٌ مِنَ الْعَدَمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ حَيٌّ فَإِنَّهُ يَكْرَهُ عَدَمَ نَفْسِهِ، وَلَوْلَا أَنَّ الْوُجُودَ خَيْرٌ مِنَ الْعَدَمِ وَإِلَّا لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ وُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ حَصَلَ بِإِيجَادِ اللَّهِ وَجُودِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْوُجُودَ نِعْمَةٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا مَوْجُودَ فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ وَالْعُلْوِيَّاتِ وَالسُّفْلِيَّاتِ إِلَّا وَلِلَّهِ عَلَيْهِ نِعْمَةٌ وَرَحْمَةٌ وَإِحْسَانٌ، وَالنِّعْمَةُ وَالرَّحْمَةُ وَالْإِحْسَانُ مُوجِبَةٌ لِلْحَمْدِ وَالشُّكْرِ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَلَيْسَ مُرَادُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى النِّعَمِ الْوَاصِلَةِ إِلَيَّ بَلِ الْمُرَادُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى النِّعَمِ الصَّادِرَةِ مِنْهُ وقد بينا أن إنعامه/ واصل إلى ما كل سِوَاهُ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ كَانَ مَعْنَاهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِنْعَامِهِ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ خَلَقَهُ وَعَلَى كُلِّ مُحْدَثٍ أَحْدَثَهُ مِنْ نُورٍ وَظُلْمَةٍ وَسُكُونٍ وَحَرَكَةٍ وَعَرْشٍ وَكُرْسِيٍّ وَجِنِّيٍّ وَإِنْسِيٍّ وَذَاتٍ وَصِفَةٍ وَجِسْمٍ وَعَرَضٍ إِلَى أَبَدِ الْآبَادِ وَدَهْرِ الدَّاهِرِينَ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهَا بِأَسْرِهَا حَقُّكَ وَمِلْكُكَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مَعَكَ فِيهَا شَرِكَةٌ وَمُنَازَعَةٌ. الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: التَّسْبِيحُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّحْمِيدِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فَمَا السَّبَبُ هَاهُنَا فِي وُقُوعِ الْبِدَايَةِ بِالتَّحْمِيدِ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّحْمِيدَ يَدُلُّ عَلَى التَّسْبِيحِ دَلَالَةَ التَّضَمُّنِ، فَإِنَّ التَّسْبِيحَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُبَرَّأٌ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ عَنِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ، وَالتَّحْمِيدُ يَدُلُّ مَعَ حُصُولِ تِلْكَ الصِّفَةِ عَلَى كَوْنِهِ مُحْسِنًا إِلَى الْخَلْقِ مُنْعِمًا عَلَيْهِمْ رَحِيمًا بِهِمْ، فَالتَّسْبِيحُ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ تَعَالَى تَامًّا وَالتَّحْمِيدُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى فَوْقَ التَّمَامِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ الِابْتِدَاءُ بِالتَّحْمِيدِ أَوْلَى، وَهَذَا الْوَجْهُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْقَوَانِينِ الْحِكَمِيَّةِ، وَأَمَّا الوجه اللائق

بِالْقَوَانِينِ الْأُصُولِيَّةِ فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَكُونُ مُحْسِنًا بِالْعِبَادِ إِلَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ لِيَعْلَمَ أَصْنَافَ حَاجَاتِ الْعِبَادِ، وَإِلَّا إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ لِيَقْدِرَ عَلَى تَحْصِيلِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَإِلَّا إِذَا كان غنياً عن كل الحاجات، إذا لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَكَانَ اشْتِغَالُهُ بِدَفْعِ الْحَاجَةِ عَنْ نَفْسِهِ يَمْنَعُهُ عَنْ دَفْعِ حَاجَةِ الْعَبْدِ فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ مُحْسِنًا لَا يَتِمُّ إلا بعد كونه منزهاً عن النقائض وَالْآفَاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِقَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْلَى مِنَ الِابْتِدَاءِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ. الْفَائِدَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْمَاضِي وَتَعَلُّقٌ بِالْمُسْتَقْبَلِ، أَمَّا تَعَلُّقُهُ بِالْمَاضِي فَهُوَ أَنَّهُ يَقَعُ شُكْرًا عَلَى النِّعَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَمَّا تَعَلُّقُهُ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَهُوَ أَنَّهُ يُوجِبُ تَجَدُّدَ النِّعَمِ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إِبْرَاهِيمَ: 7] وَالْعَقْلُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ النِّعَمَ السَّابِقَةَ تُوجِبُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْخِدْمَةِ، وَالْقِيَامِ بِالطَّاعَةِ، ثُمَّ إِذَا اشْتَغَلَ بِالشُّكْرِ انْفَتَحَتْ عَلَى الْعَقْلِ وَالْقَلْبِ أَبْوَابُ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَبْوَابُ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ الْحَمْدُ بِسَبَبِ تَعَلُّقِهِ بِالْمَاضِي يُغْلِقُ عَنْكَ أَبْوَابَ النِّيرَانِ، وَبِسَبَبِ تَعَلُّقِهِ بِالْمُسْتَقْبَلِ يَفْتَحُ لَكَ أَبْوَابَ الْجِنَانِ، فَتَأْثِيرُهُ فِي الْمَاضِي سَدَّ أَبْوَابَ الْحِجَابِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَأْثِيرُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَتَحَ أَبْوَابَ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا كان لا نهاية لدرجات جلال اللَّهِ فَكَذَلِكَ لَا نِهَايَةَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَارِجِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَلَا مِفْتَاحَ لَهَا إِلَّا قَوْلُنَا الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ سُمِّيَتْ سُورَةُ الْحَمْدِ بِسُورَةِ الْفَاتِحَةِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ كَلِمَةٌ شَرِيفَةٌ جَلِيلَةٌ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا فِي مَوْضِعِهَا وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلِ الْمَقْصُودُ مِنْهَا، قِيلَ لِلسَّرِيِّ السَّقَطِيِّ: كَيْفَ يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِالطَّاعَةِ؟ قَالَ: أَنَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَنْ قَوْلِي مَرَّةً وَاحِدَةً الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقِيلَ كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: وَقَعَ الْحَرِيقُ فِي بَغْدَادَ وَاحْتَرَقَتِ الدَّكَاكِينُ وَالدُّورُ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ دُكَّانِي لَمْ يَحْتَرِقْ فَقُلْتُ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَانَ مَعْنَاهُ أَنِّي فَرِحْتُ/ بِبَقَاءِ دُكَّانِي حَالَ احْتِرَاقِ دَكَاكِينِ النَّاسِ وَكَانَ حَقُّ الدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ أَنْ لَا أَفْرَحَ بِذَلِكَ فَأَنَا فِي الِاسْتِغْفَارِ مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً عَنْ قَوْلِي الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ جَلِيلَةَ الْقَدْرِ إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ رِعَايَةُ مَوْضِعِهَا، ثُمَّ إِنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ كَثِيرَةٌ، إِلَّا أَنَّهَا بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْأُولَى مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ: نِعَمُ الدُّنْيَا، وَنِعَمُ الدِّينِ، وَنِعَمُ الدِّينِ أَفْضَلُ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا لِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَقَوْلُنَا الْحَمْدُ لِلَّهِ كَلِمَةٌ جَلِيلَةٌ شَرِيفَةٌ فَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ إِجْلَالُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ أَنْ يَذْكُرَهَا فِي مُقَابَلَةِ نِعَمِ الدُّنْيَا، بَلْ يَجِبُ أَنْ لَا يَذْكُرَهَا إِلَّا عِنْدَ الْفَوْزِ بِنِعَمِ الدِّينِ، ثُمَّ نِعَمُ الدِّينِ قِسْمَانِ: أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ، وَأَعْمَالُ الْقُلُوبِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي أَشْرَفُ، ثُمَّ نِعَمُ الدُّنْيَا قِسْمَانِ: تَارَةً تُعْتَبَرُ تِلْكَ النِّعَمُ مِنْ حَيْثُ هِيَ نِعَمٌ، وَتَارَةً تُعْتَبَرُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا عَطِيَّةُ الْمُنْعِمِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي أَشْرَفُ، فَهَذِهِ مَقَامَاتٌ يَجِبُ اعْتِبَارُهَا حَتَّى يَكُونَ ذِكْرُ قَوْلِنَا الْحَمْدُ لِلَّهِ مُوَافِقًا لِمَوْضِعِهِ لَائِقًا بِسَبَبِهِ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: أَوَّلُ كَلِمَةٍ ذَكَرَهَا أَبُونَا آدَمُ هُوَ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَآخِرُ كَلِمَةٍ يَذْكُرُهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ هُوَ قَوْلُنَا الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ الرُّوحَ إِلَى سُرَّتِهِ عَطَسَ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُسَ: 10] فَفَاتِحَةُ الْعَالَمِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحَمْدِ وَخَاتِمَتُهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحَمْدِ، فَاجْتَهِدْ حَتَّى يَكُونَ أَوَّلُ أَعْمَالِكَ وَآخِرُهَا مَقْرُونًا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ عَالَمٌ صَغِيرٌ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَحْوَالُهُ مُوَافِقَةً لِأَحْوَالِ الْعَالَمِ الْكَبِيرِ. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ قُولُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَهَذَا عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّ

الْإِضْمَارَ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ لِيَصِحَّ الْكَلَامُ، وَهَذَا الْإِضْمَارُ يُوجِبُ فَسَادَ الْكَلَامِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ إِخْبَارٌ عَنْ كَوْنِ الْحَمْدِ حَقًّا لَهُ وَمِلْكًا لَهُ، وَهَذَا كَلَامٌ تَامٌّ فِي نَفْسِهِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِضْمَارِ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ بِحَسَبِ ذَاتِهِ وَبِحَسَبِ أَفْعَالِهِ سَوَاءٌ حَمِدُوهُ أَوْ لَمْ يَحْمَدُوهُ، لِأَنَّ مَا بِالذَّاتِ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِمَّا بِالْغَيْرِ. الثَّالِثُ: ذَكَرُوا مَسْأَلَةً فِي الْوَاقِعَاتِ وَهِيَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْوَالِدِ أَنْ يَقُولَ لِوَلَدِهِ اعْمَلْ كَذَا وَكَذَا، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَمْتَثِلَ أَمْرَهُ فَيَأْثَمَ، بَلْ يَقُولُ إِنَّ كَذَا وَكَذَا يَجِبُ أَنْ يُفْعَلَ، ثُمَّ إِذَا كَانَ الولد كريماً فإنه يجيبه وَيُطِيعُهُ، وَإِنْ كَانَ عَاقًّا لَمْ يُشَافِهْهُ بِالرَّدِّ، فَيَكُونُ إِثْمُهُ أَقَلَّ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَمْدُ لِلَّهِ فَمَنْ كَانَ مُطِيعًا حَمِدَهُ، ومن كان عاصياً كان إثمه أقل. الفائدة الخامسة عشرة: تمسك الْجَبْرِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ بِقَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ: أَمَّا الْجَبْرِيَّةُ فَقَدْ تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ فِعْلُهُ أَشْرَفَ وَأَكْمَلَ وَكَانَتِ النِّعْمَةُ الصَّادِرَةُ عَنْهُ أَعْلَى/ وَأَفْضَلَ كَانَ اسْتِحْقَاقُهُ لِلْحَمْدِ أَكْثَرَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَشْرَفَ الْمَخْلُوقَاتِ هُوَ الْإِيمَانُ، فَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ فِعْلًا لِلْعَبْدِ لَكَانَ اسْتِحْقَاقُ الْعَبْدِ لِلْحَمْدِ أَوْلَى وَأَجَلَّ مِنِ اسْتِحْقَاقِ اللَّهِ لَهُ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْإِيمَانَ حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّهِ لَا بِخَلْقِ الْعَبْدِ، الثَّانِي: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى قَوْلِهِمْ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِيمَانِ لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ فِعْلًا لِلْعَبْدِ وَمَا كَانَ فِعْلًا لِلَّهِ لَكَانَ قَوْلُهُمُ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِيمَانِ بَاطِلًا فَإِنَّ حَمْدَ الْفَاعِلِ عَلَى مَا لَا يكون فعلًا له باطن قَبِيحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا [آلِ عِمْرَانَ: 188] الثَّالِثُ: أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى أَنَّ كُلَّ الْحَمْدِ لِلَّهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِ اللَّهِ حَمْدٌ أَصْلًا وَإِنَّمَا يَكُونُ كُلُّ الْحَمْدِ لِلَّهِ لَوْ كَانَ كُلُّ النِّعَمِ مِنَ اللَّهِ وَالْإِيمَانُ أَفْضَلُ النِّعَمِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ مِنَ اللَّهِ، الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ مَدْحٌ مِنْهُ لِنَفْسِهِ وَمَدْحُ النَّفْسِ مُسْتَقْبَحٌ فِيمَا بَيْنَ الْخَلْقِ، فَلَمَّا بَدَأَ كِتَابَهُ بِمَدْحِ النَّفْسِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حَالَهُ بِخِلَافِ حَالِ الْخَلْقِ وَأَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ مَا يَقْبُحُ مِنَ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُقَدَّسٌ عَنْ أَنْ تُقَاسَ أَفْعَالُهُ عَلَى أَفْعَالِ الْخَلْقِ، فَقَدْ تَقْبُحُ أَشْيَاءُ مِنَ الْعِبَادِ وَلَا تَقْبُحُ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا يَهْدِمُ أُصُولَ الِاعْتِزَالِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَفْعَالَهُ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ تَكُونَ حَسَنَةً وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ لَهَا صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْحُسْنِ، وَإِلَّا كَانَتْ عَبَثًا، وَذَلِكَ فِي حَقِّهِ مُحَالٌ، وَالزَّائِدَةُ عَلَى الْحُسْنِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ بَابِ التَّفَضُّلِ: أَمَّا الْوَاجِبُ فَهُوَ مِثْلُ إِيصَالِ الثَّوَابِ وَالْعِوَضِ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ، وَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ مِنْ بَابِ التَّفَضُّلِ فَهُوَ مِثْلُ أَنَّهُ يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْسَانِ، فَنَقُولُ: هَذَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ تَعَالَى مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ، وَيُبْطِلُ صِحَّةَ قَوْلِنَا الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنْ نَقُولَ: أَمَّا أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ اسْتِحْقَاقَ الْحَمْدِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ دَيْنُ دِينَارٍ فَأَدَّاهُ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ، فَلَوْ وَجَبَ عَلَى اللَّهِ فِعْلٌ لَكَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مُخَلِّصًا لَهُ عَنِ الذَّمِّ وَلَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْحَمْدِ، وَأَمَّا فِعْلُ التَّفَضُّلِ فَعِنْدَ الْخَصْمِ أَنَّهُ يَسْتَفِيدُ بِذَلِكَ مَزِيدَ حَمْدٍ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفِعْلُ لَمَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا كان كذلك كانا نَاقِصًا لِذَاتِهِ مُسْتَكْمِلًا بِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ وَالْمَدْحِ. السَّادِسُ: قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَحْمُودٌ، فَنَقُولُ: اسْتِحْقَاقُهُ الْحَمْدَ وَالْمَدْحَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا ثَابِتًا لَهُ لِذَاتِهِ أَوْ لَيْسَ ثَابِتًا له لِذَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الْأَفْعَالِ مُوجِبًا لَهُ اسْتِحْقَاقَ الْمَدْحِ، لِأَنَّ مَا ثَبَتَ لِذَاتِهِ امْتَنَعَ ثُبُوتُهُ لِغَيْرِهِ، وَامْتَنَعَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الْأَفْعَالِ مُوجِبًا لَهُ اسْتِحْقَاقَ الذَّمِّ، لِأَنَّ مَا ثَبَتَ لِذَاتِهِ امْتَنَعَ ارْتِفَاعُهُ بِسَبَبِ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَقَرَّرْ فِي حَقِّهِ تَعَالَى وُجُوبُ شَيْءٍ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَعْوَاضِ

/ وَالثَّوَابِ، وَذَلِكَ يَهْدِمُ أُصُولَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: - وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اسْتِحْقَاقُ الْحَمْدِ لِلَّهِ لَيْسَ ثَابِتًا لَهُ لِذَاتِهِ- فَنَقُولُ: فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ نَاقِصًا لِذَاتِهِ مُسْتَكْمِلًا بِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى قَوْلِنَا لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْحَمْدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ هُوَ الَّذِي لَا قَبِيحَ فِي فِعْلِهِ، وَلَا جَوْرَ فِي أَقْضِيَتِهِ، وَلَا ظُلْمَ فِي أَحْكَامِهِ، وَعِنْدَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَذَلِكَ، فَكَانَ مُسْتَحِقًّا لِأَعْظَمِ الْمَحَامِدِ وَالْمَدَائِحِ، أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْجَبْرِيَّةِ لَا قَبِيحَ إِلَّا وَهُوَ فِعْلُهُ، وَلَا جَوْرَ إِلَّا وَهُوَ حُكْمُهُ، وَلَا عَبَثَ إِلَّا وَهُوَ صُنْعُهُ، لِأَنَّهُ يَخْلُقُ الْكُفْرَ فِي الْكَافِرِ ثُمَّ يُعَذِّبُهُ عَلَيْهِ، وَيُؤْلِمُ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَوِّضَهَا، فَكَيْفَ يُعْقَلُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ كَوْنُهُ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ؟ وَأَيْضًا فَذَلِكَ الْحَمْدُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِسَبَبِ الْإِلَهِيَّةِ إِمَّا أَنْ يَسْتَحِقَّهُ عَلَى الْعَبْدِ، أَوْ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَجَبَ كَوْنُ الْعَبْدِ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالْجَبْرِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمَدَ نَفْسَهُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، قَالُوا: فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْحَمْدِ لله لا يصح إلا على قولنا. شكر المنعم: الْفَائِدَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ وُجُوبَ الشُّكْرِ ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالسَّمْعِ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ ثَابِتٌ بِالسَّمْعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: 15] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النِّسَاءِ: 165] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ ثَابِتٌ قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرْعِ وَبَعْدَ مَجِيئِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ يَدُلُّ أَنَّ هَذَا الْحَمْدَ حَقُّهُ وَمِلْكُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الِاسْتِحْقَاقِ قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرْعِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2] وَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الوصف، فههنا أَثْبَتَ الْحَمْدَ لِنَفْسِهِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى رَبًّا لِلْعَالَمِينَ رَحْمَانًا رَحِيمًا بِهِمْ، مَالِكًا لِعَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ فِي الْقِيَامَةِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَمْدِ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِكَوْنِهِ تَعَالَى مُرَبِّيًا لَهُمْ رَحْمَانًا رَحِيمًا بِهِمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَمْدِ ثَابِتٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ مَجِيءِ النبي أو بعده. معنى الحمد: الْفَائِدَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَبْحَثَ عَنْ حَقِيقَةِ الْحَمْدِ وَمَاهِيَّتِهِ فَنَقُولُ: تَحْمِيدُ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ قَوْلِنَا الْحَمْدُ لِلَّهِ، لِأَنَّ قَوْلَنَا الْحَمْدُ لِلَّهِ إِخْبَارٌ عَنْ حُصُولِ الْحَمْدِ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ مُغَايِرٌ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَحْمِيدُ اللَّهِ مُغَايِرًا لِقَوْلِنَا الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَنَقُولُ: حَمْدُ الْمُنْعِمِ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ مُنْعِمًا. وَذَلِكَ الْفِعْلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ/ فِعْلُ الْقَلْبِ، أَوْ فِعْلُ اللِّسَانِ، أَوْ فِعْلُ الْجَوَارِحِ، أَمَّا فِعْلُ الْقَلْبِ فَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ كَوْنَهُ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْإِجْلَالِ، وَأَمَّا فِعْلُ اللِّسَانِ فَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ أَلْفَاظًا دَالَّةً عَلَى كَوْنِهِ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ. وَأَمَّا فِعْلُ الْجَوَارِحِ فَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِأَفْعَالٍ دَالَّةٍ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْمُنْعِمِ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْإِجْلَالِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْحَمْدِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ افْتَرَقُوا فِي هَذَا الْمَقَامِ فَرِيقَيْنِ: الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ عَبِيدَهُ بِأَنْ يَحْمَدُوهُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ التَّحْمِيدَ إِمَّا أَنْ يكون بناءً على إنعام وصل إليهم أولًا وَبِنَاءً عَلَيْهِ، فَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى طَلَبَ مِنْهُمْ عَلَى إِنْعَامِهِ جَزَاءً وَمُكَافَأَةً، وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي كَمَالِ الْكَرَمِ، فَإِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا أَنْعَمَ لَمْ يَطْلُبِ الْمُكَافَأَةَ، وَأَمَّا الثاني فهو

الفصل الثاني في تفسير قوله رب العالمين،

إِتْعَابٌ لِلْغَيْرِ ابْتِدَاءً، وَذَلِكَ يُوجِبُ الظُّلْمَ. الثَّانِي: قَالُوا الِاشْتِغَالُ بِهَذَا الْحَمْدِ مُتْعِبٌ لِلْحَامِدِ وَغَيْرُ نَافِعٍ لِلْمَحْمُودِ، لِأَنَّهُ كَامِلٌ لِذَاتِهِ، وَالْكَامِلُ لِذَاتِهِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَسْتَكْمِلَ بِغَيْرِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهَذَا التَّحْمِيدِ عَبَثٌ وَضَرَرٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَشْرُوعًا. الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى الْإِيجَابِ هُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَاسْتَحَقَّ الْعِقَابَ، فَإِيجَابُ حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَالَ لَوْ لَمْ تَشْتَغِلْ بِهَذَا الْحَمْدِ لَعَاقَبْتُكَ، وَهَذَا الْحَمْدُ لَا نَفْعَ لَهُ فِي حَقِّ اللَّهِ، فَكَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ لِأَحَدٍ، وَلَوْ تَرَكْتَهُ لَعَاقَبْتُكَ أَبَدَ الْآبَادِ، وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِالْحَكَمِ الْكَرِيمِ. الْفَرِيقُ الثَّانِي: قَالُوا الِاشْتِغَالُ بِحَمْدِ اللَّهِ سُوءُ أَدَبٍ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى مُقَابَلَةِ إِحْسَانِ اللَّهِ بِذَلِكَ الشُّكْرِ الْقَلِيلِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالشُّكْرِ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مَعَ اسْتِحْضَارِ تِلْكَ النِّعَمِ فِي الْقَلْبِ، وَاشْتِغَالَ الْقَلْبِ بِالنِّعَمِ يَمْنَعُهُ مِنَ الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ الْمُنْعِمِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ وِجْدَانِ النِّعْمَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَثْنَى عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْفَوْزِ بِتِلْكَ النِّعَمِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَقْصُودَهُ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ الْفَوْزُ بِتِلْكَ النِّعَمِ، وَهَذَا الرَّجُلُ فِي الْحَقِيقَةِ مَعْبُودُهُ وَمَطْلُوبُهُ إِنَّمَا هُوَ تِلْكَ النِّعْمَةُ وَحَظُّ النَّفْسِ، وَذَلِكَ مَقَامٌ نَازِلٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْفَصْلُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ رب العالمين، وفيه فوائد أقسام العالم وأنواع كل قسم: الفائدة الأولى: [أقسام العالم وأنواع كل قسم] اعْلَمْ أَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ، أَمَّا الْوَاجِبُ لِذَاتِهِ فَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَطْ، وَأَمَّا الْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ فَهُوَ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْعَالَمُ، / لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ قَالُوا: الْعَالَمُ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ، وَسَبَبُ تَسْمِيَةِ هَذَا الْقِسْمِ بِالْعَالَمِ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلِهَذَا السَّبَبِ سُمِّيَ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ بِأَنَّهُ عَالَمٌ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْمُتَحَيِّزِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُتَحَيِّزًا وَلَا صِفَةَ لِلْمُتَحَيِّزِ، فَهَذِهِ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْمُتَحَيِّزُ: وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلْقِسْمَةِ، أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ قَابِلًا لِلْقِسْمَةِ فَهُوَ الْجِسْمُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ، أَمَّا الْجِسْمُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَجْسَامِ الْعُلْوِيَّةِ أَوْ مِنَ الْأَجْسَامِ السُّفْلِيَّةِ، أَمَّا الْأَجْسَامُ الْعُلْوِيَّةُ فَهِيَ الْأَفْلَاكُ وَالْكَوَاكِبُ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ أَشْيَاءُ أُخَرُ سِوَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، مِثْلُ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَسِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ وَالْجَنَّةِ، وَأَمَّا الْأَجْسَامُ السُّفْلِيَّةُ فَهِيَ إِمَّا بَسِيطَةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ: أَمَّا الْبَسِيطَةُ فَهِيَ الْعَنَاصِرُ الْأَرْبَعَةُ: وَأَحَدُهَا: كُرَةُ الْأَرْضِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَفَاوِزِ وَالْجِبَالِ وَالْبِلَادِ الْمَعْمُورَةِ، وَثَانِيهَا: كُرَةُ الْمَاءِ وَهِيَ الْبَحْرُ الْمُحِيطُ وَهَذِهِ الْأَبْحُرُ الْكَبِيرَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي هَذَا الرُّبْعِ الْمَعْمُورِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَوْدِيَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُ عَدَدَهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَثَالِثُهَا: كُرَةُ الْهَوَاءِ، وَرَابِعُهَا: كُرَةُ النَّارِ. وَأَمَّا الْأَجْسَامُ الْمُرَكَّبَةُ فَهِيَ النَّبَاتُ، وَالْمَعَادِنُ، وَالْحَيَوَانُ، عَلَى كَثْرَةِ أَقْسَامِهَا وَتَبَايُنِ أَنْوَاعِهَا، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: - وَهُوَ الْمُمْكِنُ الَّذِي يَكُونُ صِفَةً لِلْمُتَحَيِّزَاتِ- فَهِيَ الْأَعْرَاضُ، وَالْمُتَكَلِّمُونَ ذَكَرُوا مَا يَقْرُبُ مِنْ أَرْبَعِينَ جِنْسًا مِنْ أَجْنَاسِ الْأَعْرَاضِ. أَمَّا الثَّالِثُ- وَهُوَ الْمُمْكِنُ الَّذِي لَا يَكُونُ مُتَحَيِّزًا وَلَا صِفَةً لِلْمُتَحَيِّزِ- فَهُوَ الْأَرْوَاحُ، وَهِيَ إِمَّا سُفْلِيَّةٌ، وَإِمَّا عُلْوِيَّةٌ: أَمَّا السُّفْلِيَّةُ فَهِيَ إِمَّا خَيِّرَةٌ، وَهُمْ صَالِحُو الْجِنِّ، وَإِمَّا شِرِّيرَةٌ خَبِيثَةٌ وَهِيَ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ. وَالْأَرْوَاحُ الْعُلْوِيَّةُ إِمَّا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَجْسَامِ وَهِيَ الْأَرْوَاحُ

الْفَلَكِيَّةُ، وَإِمَّا غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْأَجْسَامِ وَهِيَ الْأَرْوَاحُ الْمُطَهَّرَةُ الْمُقَدَّسَةُ، فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى تَقْسِيمِ مَوْجُودَاتِ الْعَالَمِ، وَلَوْ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَتَبَ أَلْفَ أَلْفِ مُجَلَّدٍ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ لَمَا وَصَلَ إِلَى أَقَلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ، ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، فَيَكُونُ مُحْتَاجًا فِي وُجُودِهِ إِلَى إِيجَادِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، وَأَيْضًا ثَبَتَ أَنَّ الْمُمْكِنَ حَالَ بَقَائِهِ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الْمُبْقِي، وَاللَّهُ تَعَالَى إِلَهُ الْعَالَمِينَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَهُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُبْقِيهَا حَالَ دَوَامِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا. وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ ظَهَرَ عِنْدَكَ شَيْءٌ قَلِيلٌ مِنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ إِحَاطَةٍ بِأَحْوَالِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ كَانَ أَكْثَرَ وُقُوفًا عَلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَبِّي عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرَبِّيَ شَيْئًا لِيَرْبَحَ عَلَيْهِ الْمُرَبِّي، وَالثَّانِي: أَنْ يُرَبِّيَهُ لِيَرْبَحَ الْمُرَبِّي، وَتَرْبِيَةُ كُلِّ الْخَلْقِ عَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُرَبُّونَ غَيْرَهُمْ لِيَرْبَحُوا عَلَيْهِ إِمَّا ثَوَابًا أَوْ ثَنَاءً، وَالْقِسْمُ الثَّانِي: هُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ، كَمَا قَالَ: خَلَقْتُكُمْ لِتَرْبَحُوا عَلَيَّ لَا لِأَرْبَحَ عَلَيْكُمْ فَهُوَ تَعَالَى يُرَبِّي وَيُحْسِنُ، وَهُوَ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمُرَبِّينَ وَبِخِلَافِ سَائِرِ الْمُحْسِنِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْبِيَتَهُ تَعَالَى مُخَالِفَةٌ لِتَرْبِيَةِ غَيْرِهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى يُرَبِّي عَبِيدَهُ لَا لِغَرَضِ نَفْسِهِ بَلْ لِغَرَضِهِمْ وَغَيْرُهُ يُرَبُّونَ لِغَرَضِ أَنْفُسِهِمْ لَا لِغَرَضِ غَيْرِهِمْ، الثَّانِي: أَنَّ غَيْرَهُ إِذَا رَبَّى فَبِقَدْرِ تِلْكَ التَّرْبِيَةِ يَظْهَرُ النُّقْصَانُ فِي خَزَائِنِهِ وَفِي مَالِهِ وَهُوَ تَعَالَى مُتَعَالٍ عَنِ النُّقْصَانِ وَالضَّرَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ. [الْحِجْرِ: 21] الثَّالِثُ: أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إِذَا أَلَحَّ الْفَقِيرُ عَلَيْهِ أَبْغَضَهُ وَحَرَمَهُ وَمَنَعَهُ، وَالْحَقُّ تَعَالَى بِخِلَافِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ. الرَّابِعُ: أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْمُحْسِنِينَ مَا لَمْ يُطْلَبْ مِنْهُ الْإِحْسَانُ لَمْ يُعْطِ، أَمَّا الْحَقُّ تَعَالَى فَأَنَّهُ يُعْطِي قَبْلَ السؤال، ألا تَرَى أَنَّهُ رَبَّاكَ حَالَ مَا كُنْتَ جَنِينًا فِي رَحِمِ الْأُمِّ، وَحَالَ مَا كُنْتَ جَاهِلًا غَيْرَ عَاقِلٍ، لَا تُحْسِنُ أَنْ تَسْأَلَ مِنْهُ وَوَقَاكَ وَأَحْسَنَ إِلَيْكَ مَعَ أَنَّكَ مَا سَأَلْتَهُ وَمَا كَانَ لَكَ عَقْلٌ وَلَا هِدَايَةٌ. الْخَامِسُ: أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْمُحْسِنِينَ يَنْقَطِعُ إِحْسَانُهُ إِمَّا بِسَبَبِ الْفَقْرِ أَوِ الْغَيْبَةِ أَوِ الْمَوْتِ، وَالْحَقُّ تَعَالَى لَا يَنْقَطِعُ إِحْسَانُهُ الْبَتَّةَ. السَّادِسُ: أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْمُحْسِنِينَ يَخْتَصُّ إِحْسَانُهُ بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ وَلَا يُمْكِنُهُ التَّعْمِيمُ أَمَّا الْحَقُّ تَعَالَى فَقَدْ وَصَلَ تَرْبِيَتُهُ وَإِحْسَانُهُ إِلَى الْكُلِّ كَمَا قَالَ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الْأَعْرَافِ: 156] فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى رَبُّ الْعَالَمِينَ وَمُحْسِنٌ إِلَى الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ نَفْسِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الَّذِي يُحْمَدُ وَيُمْدَحُ وَيُعَظَّمُ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لِأَحَدِ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ، إِمَّا لِكَوْنِهِ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ وَفِي صِفَاتِهِ مُنَزَّهًا عَنْ جَمِيعِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِحْسَانٌ إِلَيْكَ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُحْسِنًا إِلَيْكَ وَمُنْعِمًا عَلَيْكَ، وَإِمَّا لِأَنَّكَ تَرْجُو وَصُولَ إِحْسَانِهِ إِلَيْكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الزَّمَانِ، وَإِمَّا لِأَجْلِ أَنَّكَ تَكُونُ خَائِفًا مِنْ قَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَمَالِ سَطْوَتِهِ، فَهَذِهِ الْحَالَاتُ هِيَ الْجِهَاتُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّعْظِيمِ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ مِمَّنْ يُعَظِّمُونَ الْكَمَالَ الذَّاتِيَّ فَاحْمَدُونِي فَإِنِّي إِلَهُ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَإِنْ كُنْتُمْ مِمَّنْ تُعَظِّمُونَ الْإِحْسَانَ فَأَنَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ كُنْتُمْ تُعَظِّمُونَ لِلطَّمَعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَأَنَا الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَإِنْ كُنْتُمْ تُعَظِّمُونَ لِلْخَوْفِ فَأَنَا مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: وُجُوهُ تَرْبِيَةِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْهَا أَمْثِلَةً: الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: لَمَّا

وَقَعَتْ قَطْرَةُ النُّطْفَةِ مِنْ صُلْبِ الْأَبِ إِلَى رَحِمِ الْأُمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ أَنَّهَا صَارَتْ عَلَقَةً أَوَّلًا، ثُمَّ مُضْغَةً ثَانِيًا، ثُمَّ تَوَلَّدَتْ مِنْهَا أَعْضَاءٌ مُخْتَلِفَةٌ مِثْلَ الْعِظَامِ وَالْغَضَارِيفِ وَالرِّبَاطَاتِ وَالْأَوْتَارِ وَالْأَوْرِدَةِ وَالشَّرَايِينِ، ثُمَّ اتَّصَلَ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ، ثُمَّ حَصَلَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُوَى، فَحَصَلَتِ الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ فِي الْعَيْنِ، وَالسَّامِعَةُ فِي الْأُذُنِ، وَالنَّاطِقَةُ فِي اللِّسَانِ، فَسُبْحَانَ مَنْ أَسْمَعَ بِعَظْمٍ، وَبَصَّرَ بِشَحْمٍ، وَأَنْطَقَ بِلَحْمٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ كِتَابَ التَّشْرِيحِ لِبَدَنِ الْإِنْسَانِ مَشْهُورٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَرْبِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ الْمَثَّالُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَبَّةَ الْوَاحِدَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي الْأَرْضِ فَإِذَا وَصَلَتْ نَدَاوَةُ الْأَرْضِ إِلَيْهَا انْتَفَخَتْ وَلَا تَنْشَقُّ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْجَوَانِبِ إِلَّا مِنْ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلِهَا، مَعَ أَنَّ الِانْتِفَاخَ حَاصِلٌ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ: أَمَّا الشِّقُّ الْأَعْلَى فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْجُزْءُ الصَّاعِدُ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَأَمَّا الشِّقُّ الْأَسْفَلُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْجُزْءُ الْغَائِصُ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ عُرُوقُ الشَّجَرَةِ، فَأَمَّا الْجُزْءُ الصَّاعِدُ فَبَعْدَ صُعُودِهِ يَحْصُلُ لَهُ سَاقٌ، ثُمَّ يَنْفَصِلُ مِنْ ذَلِكَ السَّاقِ أَغْصَانٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ يَظْهَرُ عَلَى تِلْكَ الْأَغْصَانِ الْأَنْوَارُ أَوَّلًا، ثُمَّ الثِّمَارُ ثَانِيًا، وَيَحْصُلُ لِتِلْكَ الثِّمَارِ أَجْزَاءٌ مُخْتَلِفَةٌ بِالْكَثَافَةِ وَاللَّطَافَةِ وَهِيَ الْقُشُورُ ثُمَّ اللُّبُوبُ ثُمَّ الْأَدْهَانُ، وَأَمَّا الْجُزْءُ الْغَائِصُ مِنَ الشَّجَرَةِ فَإِنَّ تِلْكَ الْعُرُوقَ تَنْتَهِي إِلَى أَطْرَافِهَا، وَتِلْكَ الْأَطْرَافُ تَكُونُ فِي اللَّطَافَةِ كَأَنَّهَا مِيَاهٌ مُنْعَقِدَةٌ، وَمَعَ غَايَةِ لَطَافَتِهَا فَإِنَّهَا تَغُوصُ فِي الْأَرْضِ الصُّلْبَةِ الْخَشِنَةِ، وَأَوْدَعَ اللَّهُ فِيهَا قُوًى جَاذِبَةً تَجْذِبُ الْأَجْزَاءَ اللَّطِيفَةَ مِنَ الطِّينِ إِلَى نَفْسِهَا، وَالْحِكْمَةُ فِي كُلِّ هَذِهِ التَّدْبِيرَاتِ تَحْصِيلُ مَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إِلَيْهِ مِنَ الْغِذَاءِ وَالْأُدَامِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْأَدْوِيَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا [عَبَسَ: 25، 26] الْآيَاتِ. الْمِثَالُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ وَضَعَ الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ بِحَيْثُ صَارَتْ أَسْبَابًا لِحُصُولِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ، فَخَلَقَ اللَّيْلَ لِيَكُونَ سَبَبًا لِلرَّاحَةِ وَالسُّكُونِ وَخَلَقَ النَّهَارَ لِيَكُونَ سَبَبًا لِلْمَعَاشِ وَالْحَرَكَةِ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ، [يونس: 5] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الْأَنْعَامِ: 97] وَاقْرَأْ قَوْلَهُ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً، وَالْجِبالَ أَوْتاداً [النبأ: 5، 6]- إلى آخر الآية وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ فِي عَجَائِبِ أَحْوَالِ الْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَآثَارِ حِكْمَةِ الرَّحْمَنِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ قَضَى صَرِيحُ عَقْلِكَ بِأَنَّ أَسْبَابَ تَرْبِيَةِ اللَّهِ كَثِيرَةٌ، وَدَلَائِلَ رَحْمَتِهِ لَائِحَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ لَكَ قَطْرَةٌ مِنْ بِحَارِ أَسْرَارِ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: أَضَافَ الْحَمْدَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ تَعَالَى الْحَمْدُ لِلَّهِ، ثُمَّ أَضَافَ نَفْسَهُ إِلَى الْعَالَمِينَ/ وَالتَّقْدِيرُ: إِنِّي أُحِبُّ الْحَمْدَ فَنِسْبَتُهُ إِلَى نَفْسِي بكونه ملكاً لي ثُمَّ لَمَّا ذَكَرْتُ نَفْسِي عَرَفْتُ نَفْسِي بِكَوْنِي رَبًّا لِلْعَالَمِينَ، وَمَنْ عَرَفَ ذَاتًا بِصِفَةٍ فَإِنَّهُ يُحَاوِلُ ذِكْرَ أَحْسَنِ الصِّفَاتِ وَأَكْمَلِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ أَكْمَلُ الصِّفَاتِ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ أَكْمَلَ الْمَرَاتِبِ أَنْ يَكُونَ تَامًّا، وَفَوْقَ التَّمَامِ، فَقَوْلُنَا اللَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ فِي ذَاتِهِ وَبِذَاتِهِ وَهُوَ التَّمَامُ، وَقَوْلُهُ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَعْنَاهُ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ مَا سِوَاهُ فَائِضٌ عَنْ تَرْبِيَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَجُودِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا أَنَّهُ فَوْقَ التَّمَامِ. الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ يَمْلِكُ عِبَادًا غَيْرَكَ كَمَا قَالَ: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [الْمُدَّثِّرِ: 31] وَأَنْتَ لَيْسَ لَكَ رَبٌّ سِوَاهُ، ثُمَّ إِنَّهُ يُرَبِّيكَ كَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَبْدٌ سِوَاكَ وَأَنْتَ تَخْدُمُهُ كَأَنَّ لَكَ رَبًّا غَيْرَهُ، فَمَا أَحْسَنَ هَذِهِ التَّرْبِيَةَ أَلَيْسَ أَنَّهُ يَحْفَظُكَ فِي النَّهَارِ عَنِ الْآفَاتِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَبِاللَّيْلِ عَنِ الْمُخَافَاتِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُرَّاسَ يَحْرُسُونَ الْمَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ، فَهَلْ يَحْرُسُونَهُ عَنْ لَدْغِ الْحَشَرَاتِ وَهَلْ يَحْرُسُونَهُ عَنْ أَنْ تَنْزِلَ بِهِ الْبَلِيَّاتُ؟ أَمَّا

الفصل الثالث في تفسير قوله الرحمن الرحيم، وفيه فوائد:

الْحَقُّ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَحْرُسُهُ مِنَ الْآفَاتِ، وَيَصُونُهُ مِنَ الْمُخَافَاتِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ قَدْ زَجَّ أَوَّلَ اللَّيْلِ فِي أَنْوَاعِ الْمَحْظُورَاتِ وَأَقْسَامِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ، فَمَا أَكْبَرَ هَذِهِ التَّرْبِيَةَ وَمَا أَحْسَنَهَا، أَلَيْسَ مِنَ التَّرْبِيَةِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْآدَمِيُّ بُنْيَانُ الرَّبِّ، مَلْعُونٌ مَنْ هَدَمَ بُنْيَانَ الرَّبِّ» ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ [الْأَنْبِيَاءِ: 42] مَا ذَاكَ إِلَّا الْمَلِكُ الْجَبَّارُ، وَالْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، وَمُقَلِّبُ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ، وَالْمُطَّلِعُ عَلَى الضَّمَائِرِ وَالْأَسْرَارِ. الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: قَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ: إِنَّمَا يَكُونُ تَعَالَى رَبًّا لِلْعَالَمِينَ وَمُرَبِّيًا لَهُمْ لَوْ كَانَ مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ دَافِعًا لِلْمَضَارِّ عَنْهُمْ، أَمَّا إِذَا خَلَقَ الْكُفْرَ فِي الْكَافِرِ ثُمَّ يُعَذِّبُهُ عَلَيْهِ، وَيَأْمُرُ بِالْإِيمَانِ ثُمَّ يَمْنَعُهُ مِنْهُ، لَمْ يَكُنْ رَبًّا وَلَا مُرَبِّيًا، بَلْ كَانَ ضَارًّا وَمُؤْذِيًا، وَقَالَتِ الْجَبْرِيَّةُ: إِنَّمَا سَيَكُونُ رَبًّا وَمُرَبِّيًا لَوْ كَانَتِ النِّعْمَةُ صَادِرَةٌ مِنْهُ وَالْأَلْطَافُ فَائِضَةٌ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ أَعْظَمَ النِّعَمِ وَأَجَلَّهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُصُولُهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِيَكُونَ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ إِلَيْهِمْ مُحْسِنًا بِخَلْقِ الْإِيمَانِ فِيهِمْ. الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُنَا: «اللَّهُ» أَشْرَفُ مِنْ قَوْلِنَا: «رَبِّ» عَلَى مَا بَيَّنَّا ذَلِكَ بِالْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ فِي تَفْسِيرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّ الدَّاعِيَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ يَقُولُ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَالسَّبَبُ فِيهِ النُّكَتُ وَالْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ فِي تَفْسِيرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا نُعِيدُهَا. الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ الرَّحْمَنِ الرحيم، وفيه فوائد: تفسير (الرحمن الرحيم) : الْفَائِدَةُ الْأُولَى: الرَّحْمَنُ: هُوَ الْمُنْعِمُ بِمَا لَا يُتَصَوَّرُ صُدُورُ جِنْسِهِ مِنَ الْعِبَادِ، وَالرَّحِيمُ: هُوَ الْمُنْعِمُ بِمَا يُتَصَوَّرُ جِنْسُهُ مِنَ الْعِبَادِ، حُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ ضَيْفًا لِبَعْضِ الْقَوْمِ فَقَدَّمَ الْمَائِدَةَ، فَنَزَلَ غُرَابٌ وَسَلَبَ رَغِيفًا، فَاتَّبَعْتُهُ تَعَجُّبًا، فَنَزَلَ فِي بَعْضِ التِّلَالِ، وَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مُقَيَّدٍ مَشْدُودِ الْيَدَيْنِ فَأَلْقَى الْغُرَابُ ذَلِكَ الرَّغِيفَ عَلَى وَجْهِهِ. وَرُوِيَ عَنْ ذِي النُّونِ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ فِي الْبَيْتِ إِذْ وَقَعَتْ وَلْوَلَةٌ فِي قَلْبِي، وَصِرْتُ بِحَيْثُ مَا مَلَكْتُ نَفْسِيَ، فَخَرَجْتُ مِنَ الْبَيْتِ وَانْتَهَيْتُ إِلَى شَطِّ النِّيلِ، فَرَأَيْتُ عَقْرَبًا قَوِيًّا يَعْدُو فَتَبِعْتُهُ فَوَصَلَ إِلَى طَرَفِ النِّيلِ فَرَأَيْتُ ضُفْدَعًا وَاقِفًا عَلَى طَرَفٍ الْوَادِي، فَوَثَبَ الْعَقْرَبُ عَلَى ظَهْرِ الضُّفْدَعِ وَأَخَذَ الضُّفْدَعُ يَسْبَحُ وَيَذْهَبُ، فَرَكِبْتُ السَّفِينَةَ وَتَبِعْتُهُ فَوَصَلَ الضُّفْدَعُ إِلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ مِنَ النِّيلِ، وَنَزَلَ الْعَقْرَبُ مِنْ ظَهْرِهِ، وَأَخَذَ يَعْدُو فَتَبِعْتُهُ، فَرَأَيْتُ شَابًّا نَائِمًا تَحْتَ شَجَرَةٍ، وَرَأَيْتُ أَفْعَى يَقْصِدُهُ فَلَمَّا قَرُبَتِ الْأَفْعَى مِنْ ذَلِكَ الشَّابِّ وَصَلَ الْعَقْرَبُ إِلَى الْأَفْعَى فَوَثَبَ الْعَقْرَبُ عَلَى الْأَفْعَى فَلَدَغَهُ، وَالْأَفْعَى أَيْضًا لدغ العقرب، فماتا معاً، وسلم ذلك الْإِنْسَانُ مِنْهُمَا. وَيُحْكَى أَنَّ وَلَدَ الْغُرَابِ كَمَا يَخْرُجُ مِنْ قِشْرِ الْبَيْضَةِ يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ رِيشٍ فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قِطْعَةُ لَحْمٍ أَحْمَرَ، وَالْغُرَابُ يَفِرُّ مِنْهُ وَلَا يَقُومُ بِتَرْبِيَتِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْبَعُوضَ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ قِطْعَةَ لَحْمٍ مَيِّتٍ، فَإِذَا وَصَلَتِ الْبَعُوضُ إِلَيْهِ الْتَقَمَ تِلْكَ الْبَعُوضَ وَاغْتَذَى بِهَا، وَلَا يَزَالُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ إِلَى أَنْ يَقْوَى وَيَنْبُتُ رِيشُهُ وَيَخْفَى لَحْمُهُ تَحْتَ رِيشِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَعُودُ أُمُّهُ

إِلَيْهِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ جَاءَ فِي أَدْعِيَةِ الْعَرَبِ: يا رازق النَّعَّابِ فِي عُشِّهِ، فَظَهَرَ بِهَذِهِ الْأَمْثِلَةِ أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ عَامٌّ، وَإِحْسَانَهُ شَامِلٌ، وَرَحْمَتَهُ وَاسِعَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَوَادِثَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ رَحْمَةٌ مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، بَلْ يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ عَذَابًا وَنِقْمَةً، وَمِنْهُ مَا يُظَنُّ فِي الظَّاهِرِ أَنَّهُ عَذَابٌ وَنِقْمَةٌ، مَعَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ فَضْلًا وَإِحْسَانًا وَرَحْمَةً: أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَالْوَالِدُ إِذَا أَهْمَلَ وَلَدَهُ حَتَّى يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ وَلَا يُؤَدِّبُهُ وَلَا يَحْمِلُهُ عَلَى التَّعَلُّمِ، فَهَذَا فِي الظَّاهِرِ رَحْمَةٌ وَفِي الْبَاطِنِ نِقْمَةٌ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: كَالْوَالِدِ إِذَا حَبَسَ وَلَدَهُ فِي الْمَكْتَبِ وَحَمَلَهُ عَلَى التَّعَلُّمِ فَهَذَا فِي الظَّاهِرِ نِقْمَةٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ رَحْمَةٌ، وَكَذَلِكَ/ الْإِنْسَانُ إِذَا وَقَعَ فِي يَدِهِ الْآكِلَةُ فَإِذَا قُطِعَتْ تِلْكَ الْيَدُ فَهَذَا فِي الظَّاهِرِ عَذَابٌ، وَفِي الْبَاطِنِ رَاحَةٌ وَرَحْمَةٌ، فَالْأَبْلَهُ يَغْتَرُّ بِالظَّوَاهِرِ، وَالْعَاقِلُ يَنْظُرُ فِي السَّرَائِرِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَكُلُّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنْ مِحْنَةٍ وَبَلِيَّةٍ وَأَلَمٍ وَمَشَقَّةٍ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ عَذَابًا وَأَلَمًا فِي الظَّاهِرِ إِلَّا أَنَّهُ حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَتَحْقِيقُهُ مَا قِيلَ فِي الْحِكْمَةِ: إِنَّ تَرْكَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ لِأَجْلِ الشَّرِّ الْقَلِيلِ شَرٌّ كَثِيرٌ، فَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّكَالِيفِ تَطْهِيرُ الْأَرْوَاحِ عَنِ الْعَلَائِقِ الْجَسَدَانِيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [الْإِسْرَاءِ: 7] وَالْمَقْصُودُ مِنْ خَلْقِ النَّارِ صَرْفُ الْأَشْرَارِ إِلَى أَعْمَالِ الْأَبْرَارِ، وَجَذْبُهَا مِنْ دَارِ الْفِرَارِ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذَّارِيَاتِ: 50] وَأَقْرَبُ مِثَالٍ لِهَذَا الْبَابِ قِصَّةُ مُوسَى وَالْخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَإِنَّ مُوسَى كَانَ يبني الحكم على ظَوَاهِرِ الْأُمُورِ فَاسْتَنْكَرَ تَخْرِيقَ السَّفِينَةِ وَقَتْلَ الْغُلَامِ وَعِمَارَةَ الْجِدَارِ الْمَائِلِ، وَأَمَّا الْخَضِرُ فَإِنَّهُ كَانَ يَبْنِي أَحْكَامَهُ عَلَى الْحَقَائِقِ وَالْأَسْرَارِ فَقَالَ: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً، وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً، فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً، وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الْكَهْفِ: 79- 82] فَظَهَرَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ الْحَكِيمَ الْمُحَقِّقَ هُوَ الَّذِي يَبْنِي أَمْرَهُ عَلَى الْحَقَائِقِ لَا عَلَى الظَّاهِرِ، فَإِذَا رَأَيْتَ مَا يَكْرَهُهُ طَبْعُكَ وَيَنْفِرُ عَنْهُ عَقْلُكَ فَاعْلَمْ أَنَّ تَحْتَهُ أَسْرَارًا خَفِيَّةً وَحِكَمًا بَالِغَةً، وَأَنَّ حِكْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ اقْتَضَتْ ذَلِكَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ لَكَ أَثَرٌ مِنْ بِحَارِ أَسْرَارِ قَوْلِهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: الرَّحْمَنُ: اسْمٌ خَاصٌّ بِاللَّهِ، وَالرَّحِيمُ: يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا: الرَّحْمَنُ أَعْظَمُ: فَلِمَ ذَكَرَ الْأَدْنَى بَعْدَ ذِكْرِ الْأَعْلَى؟. وَالْجَوَابُ: لِأَنَّ الْكَبِيرَ الْعَظِيمَ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ الشَّيْءُ الْحَقِيرُ الْيَسِيرُ، حُكِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَهَبَ إِلَى بَعْضِ الْأَكَابِرِ فَقَالَ: جِئْتُكَ لِمُهِمٍّ يَسِيرٍ فَقَالَ: اطْلُبْ لِلْمُهِمِّ الْيَسِيرِ رَجُلًا يَسِيرًا، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَوِ اقْتَصَرْتَ عَلَى ذِكْرِ الرَّحْمَنِ لَاحْتَشَمْتَ عَنِّي وَلَتَعَذَّرَ عَلَيْكَ سُؤَالُ الْأُمُورِ الْيَسِيرَةِ، وَلَكِنْ كَمَا عَلِمْتَنِي رَحْمَانًا تَطْلُبُ مِنِّي الْأُمُورَ الْعَظِيمَةَ، فَأَنَا أَيْضًا رَحِيمٌ، فَاطْلُبْ مِنِّي شِرَاكَ نَعْلِكَ وَمِلْحَ قِدْرِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِمُوسَى: «يَا مُوسَى سَلْنِي عَنْ مِلْحِ قِدْرِكَ وَعَلَفِ شَاتِكَ» . الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ رَحْمَانًا رَحِيمًا، ثُمَّ إِنَّهُ أَعْطَى مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ رَحْمَةً وَاحِدَةً حَيْثُ قَالَ: وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا [مَرْيَمَ: 21] فَتِلْكَ الرَّحْمَةُ صَارَتْ سَبَبًا لِنَجَاتِهَا مِنْ تَوْبِيخِ/ الْكُفَّارِ

الْفُجَّارِ، ثُمَّ إِنَّا نَصِفُهُ كُلَّ يَوْمٍ أَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ مَرَّةً أَنَّهُ رَحْمَنٌ وَأَنَّهُ رَحِيمٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّلَوَاتِ سَبْعَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَيُقْرَأُ لَفْظُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً فِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَمَرَّةً فِي قَوْلَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: 1، 2] فَلَمَّا صَارَ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً سَبَبًا لِخَلَاصِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ عَنِ الْمَكْرُوهَاتِ أَفَلَا يَصِيرُ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ هَذِهِ الْمَرَّاتِ الْكَثِيرَةِ طُولَ الْعُمْرِ سَبَبًا لِنَجَاةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ النَّارِ وَالْعَارِ وَالدَّمَارِ؟. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى رَحْمَنٌ لِأَنَّهُ يَخْلُقُ مَا لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ، رَحِيمٌ لِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَى جِنْسِهِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: أَنَا رَحْمَنٌ لِأَنَّكَ تُسَلِّمُ إِلَيَّ نُطْفَةً مَذِرَةً فَأُسَلِّمُهَا إِلَيْكَ صُورَةً حَسَنَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غَافِرٍ: 64] وَأَنَا رَحِيمٌ لِأَنَّكَ تُسَلِّمُ إِلَيَّ طَاعَةً نَاقِصَةً فَأُسَلِّمُ إِلَيْكَ جَنَّةً خَالِصَةً. الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: [في حديث النبي] رُوِيَ أَنَّ فَتًى قَرُبَتْ وَفَاتُهُ وَاعْتُقِلَ لِسَانُهُ عَنْ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرُوهُ بِهِ، فَقَامَ وَدَخَلَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الشَّهَادَةَ وَهُوَ يَتَحَرَّكُ وَيَضْطَرِبُ وَلَا يَعْمَلُ لِسَانُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا كَانَ يُصَلِّي؟ أَمَا كَانَ يَصُومُ؟ أَمَا كَانَ يُزَكِّي؟» فَقَالُوا: بَلَى، فَقَالَ: «هَلْ عَقَّ وَالِدَيْهِ؟» فَقَالُوا: بَلَى، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «هَاتُوا بِأُمِّهِ» ، فَجَاءَتْ وَهِيَ عَجُوزٌ عَوْرَاءُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «هَلَّا عَفَوْتِ عَنْهُ» ، فَقَالَتْ: لَا أَعْفُو لِأَنَّهُ لَطَمَنِي فَفَقَأَ عَيْنِيَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «هَاتُوا بِالْحَطَبِ وَالنَّارِ» ، فَقَالَتْ: وَمَا تَصْنَعُ بِالنَّارِ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أُحْرِقُهُ بِالنَّارِ بَيْنَ يَدَيْكِ جَزَاءً لِمَا عَمِلَ بِكِ» ، فَقَالَتْ: عَفَوْتُ عَفَوْتُ، أَلِلنَّارِ حَمَلْتُهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ؟ أَلِلنَّارِ أَرْضَعْتُهُ سَنَتَيْنِ؟ فَأَيْنَ رَحْمَةُ الْأُمِّ؟ فَعِنْدَ ذَلِكَ انْطَلَقَ لِسَانُهُ، وَذَكَرَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالنُّكْتَةُ أَنَّهَا كَانَتْ رَحِيمَةً وَمَا كَانَتْ رَحْمَانَةً فَلِأَجْلِ ذَلِكَ الْقَدْرِ الْقَلِيلِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا جَوَّزَتِ الْإِحْرَاقَ بِالنَّارِ، فَالرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي لَمْ يَتَضَرَّرْ بِجِنَايَاتِ عَبِيدِهِ مَعَ عِنَايَتِهِ بِعِبَادِهِ كَيْفَ يَسْتَجِيزُ أَنْ يَحْرِقَ الْمُؤْمِنَ الَّذِي وَاظَبَ عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ سَبْعِينَ سَنَةً بِالنَّارِ. الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: لَقَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» ، فَظَهَرَ أَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: «أُمَّتِي، أُمَّتِي» ، فَهَذَا كَرَمٌ عَظِيمٌ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا حَصَلَ فِيهِ هَذَا الْكَرَمُ وَهَذَا الْإِحْسَانُ لِكَوْنِهِ رَحْمَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فإذا كان أثر الرحمة الواحدة بلغ هَذَا الْمَبْلَغُ فَكَيْفَ كَرَمُ مَنْ هُوَ رَحْمَنٌ رَحِيمٌ؟ وَأَيْضًا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ حِسَابَ أُمَّتِي عَلَى يَدَيَّ» ، ثُمَّ إِنَّهُ امْتَنَعَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ لِأَجْلِ أَنَّهُ كَانَ مَدْيُونًا بِدِرْهَمَيْنِ، وَأَخْرَجَ عَائِشَةَ/ عَنِ الْبَيْتِ بِسَبَبِ الْإِفْكِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ إِنَّ لَكَ رَحْمَةً وَاحِدَةً وَهِيَ قَوْلُهُ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 107] وَالرَّحْمَةُ الْوَاحِدَةُ لا تكفي في إصلاح عالم الْمَخْلُوقَاتِ، فَذَرْنِي وَعَبِيدِي وَاتْرُكْنِي وَأُمَّتَكَ فَإِنِّي أَنَا الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، فَرَحْمَتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَمَعْصِيَتُهُمْ مُتَنَاهِيَةٌ، وَالْمُتَنَاهِي فِي جَنْبِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِي يَصِيرُ فَانِيًا، فَلَا جَرَمَ مَعَاصِي جَمِيعِ الْخَلْقِ تَفْنَى فِي بِحَارِ رَحْمَتِي، لِأَنِّي أَنَا الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: قَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ: كَيْفَ يَكُونُ رَحْمَانًا رَحِيمًا مَنْ خَلَقَ الْخَلْقَ لِلنَّارِ وَلِعَذَابِ الْأَبَدِ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ رَحْمَانًا رَحِيمًا مَنْ يَخْلُقُ الْكُفْرَ فِي الْكَافِرِ وَيُعَذِّبُهُ عَلَيْهِ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ رَحْمَانًا رَحِيمًا مَنْ أَمَرَ بِالْإِيمَانِ ثُمَّ صَدَّ وَمَنَعَ عَنْهُ؟ وَقَالَتِ الْجَبْرِيَّةُ: أَعْظَمُ أَنْوَاعِ النِّعْمَةِ وَالرَّحْمَةِ هُوَ الْإِيمَانُ فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْإِيمَانُ مِنَ اللَّهِ بَلْ كَانَ مِنَ الْعَبْدِ لَكَانَ اسْمُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بِالْعَبْدِ أَوْلَى مِنْهُ بِاللَّهِ، وَاللَّهُ أعلم.

الفصل الرابع في تفسير قوله مالك يوم الدين، وفيه فوائد:

الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ مَالِكِ يَوْمِ الدين، وفيه فوائد: تفسير (مالك يوم الدين) : الْفَائِدَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، أَيْ: مَالِكِ يَوْمِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ، وَالْمُطِيعِ وَالْعَاصِي، وَالْمُوَافِقِ وَالْمُخَالِفِ، وَذَلِكَ لَا يَظْهَرُ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجَزَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النَّجْمِ: 31] وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] وَقَالَ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه: 15] وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ سَلَّطَ الظَّالِمَ عَلَى الْمَظْلُومِ ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَنْتَقِمُ مِنْهُ فَذَاكَ إِمَّا لِلْعَجْزِ أَوْ لِلْجَهْلِ أَوْ لِكَوْنِهِ رَاضِيًا بِذَلِكَ الظُّلْمِ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، فَوَجَبَ أَنَّ يَنْتَقِمَ لِلْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَلَمَّا لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الِانْتِقَامُ فِي دَارِ الدُّنْيَا وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ فِي دَارِ الْأُخْرَى بَعْدَ دَارِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4] وَبِقَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7] الآية رُوِيَ أَنَّهُ يُجَاءُ بِرَجُلٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْظُرُ فِي أَحْوَالِ نَفْسِهِ فَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ حَسَنَةً الْبَتَّةَ، فَيَأْتِيهِ النِّدَاءُ، يَا فُلَانُ ادْخُلِ الْجَنَّةَ بِعَمَلِكَ، فَيَقُولُ: إِلَهِي، مَاذَا عَمِلْتُ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَلَسْتَ لَمَّا كُنْتَ نَائِمًا تَقَلَّبْتَ مِنْ جَنْبٍ إِلَى جَنْبٍ لَيْلَةَ كَذَا فَقُلْتَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ «اللَّهُ» ثُمَّ غَلَبَكَ النَّوْمُ فِي الْحَالِ فَنَسِيتَ/ ذَلِكَ أَمَّا أَنَا فَلَا تَأْخُذُنِي سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ فَمَا نَسِيتُ ذَلِكَ، وَأَيْضًا يُؤْتَى بِرَجُلٍ وَتُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ فَتَخِفُّ حَسَنَاتُهُ فَتَأْتِيهِ بِطَاقَةٌ فَتُثَقِّلُ مِيزَانَهُ فَإِذَا فِيهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَلَا يَثْقُلُ مَعَ ذِكْرِ اللَّهِ غَيْرُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاجِبَاتِ عَلَى قِسْمَيْنِ: حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ: أَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَمَبْنَاهَا عَلَى الْمُسَامَحَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَهِيَ الَّتِي يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا. رُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَهُ عَلَى بَعْضِ الْمَجُوسِ مَالٌ فَذَهَبَ إِلَى دَارِهِ لِيُطَالِبَهُ بِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَابِ دَارِهِ وَقَعَ عَلَى نَعْلِهِ نَجَاسَةٌ، فَنَفَضَ نَعْلَهُ فَارْتَفَعَتِ النَّجَاسَةُ عَنْ نَعْلِهِ وَوَقَعَتْ عَلَى حَائِطِ دَارِ الْمَجُوسِيِّ فَتَحَيَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ: إِنْ تَرَكْتُهَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِقُبْحِ جِدَارِ هَذَا الْمَجُوسِيِّ، وَإِنْ حَكَكْتُهَا انْحَدَرَ التُّرَابُ مِنَ الْحَائِطِ، فَدَقَّ الْبَابَ فَخَرَجَتِ الْجَارِيَةُ فَقَالَ لَهَا: قُولِي لِمَوْلَاكِ إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ بِالْبَابِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَظَنَّ أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِالْمَالِ، فَأَخَذَ يَعْتَذِرُ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، هَاهُنَا مَا هُوَ أَوْلَى، وَذَكَرَ قِصَّةَ الْجِدَارِ، وَأَنَّهُ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى تَطْهِيرِهِ فَقَالَ الْمَجُوسِيُّ: فَأَنَا أَبْدَأُ بِتَطْهِيرِ نَفْسِي فَأَسْلَمَ فِي الْحَالِ، وَالنُّكْتَةُ فِيهِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمَّا احْتَرَزَ عَنْ ظُلْمِ الْمَجُوسِيِّ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ الْقَلِيلِ مِنَ الظُّلْمِ فَلِأَجْلِ تَرْكِهِ ذَلِكَ انْتَقَلَ الْمَجُوسِيُّ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، فَمَنِ احْتَرَزَ عَنِ الظُّلْمِ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ. حُجَّةُ مَنْ قَرَأَ مَالِكِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِيهِ حَرْفًا زَائِدًا فَكَانَتْ قِرَاءَتُهُ أَكْثَرَ ثَوَابًا. الثَّانِي: أَنَّهُ يَحْصُلُ فِي الْقِيَامَةِ مُلُوكٌ كَثِيرُونَ، أَمَّا الْمَالِكُ الْحَقُّ لِيَوْمِ الدِّينِ فَلَيْسَ إِلَّا اللَّهُ. الثَّالِثُ: الْمَالِكُ قَدْ يَكُونُ مَلِكًا وَقَدْ لَا يَكُونُ كَمَا أَنَّ الْمَلِكَ قَدْ يَكُونُ مَالِكًا وَقَدْ لَا يَكُونُ فَالْمِلْكِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ قَدْ تَنْفَكُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَنِ الْأُخْرَى إِلَّا أَنَّ

الْمَالِكِيَّةَ سَبَبٌ لِإِطْلَاقِ التَّصَرُّفِ، وَالْمِلْكِيَّةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَكَانَ الْمَالِكُ أَوْلَى. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَلِكَ مَلِكٌ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَالِكُ مَالِكٌ لِلْعَبِيدِ، وَالْعَبْدُ أَدْوَنُ حَالًا مِنَ الرَّعِيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَهْرُ فِي الْمَالِكِيَّةِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْمَلِكِيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ أَعْلَى حَالًا مِنَ الْمَلِكِ، الْخَامِسُ: أَنَّ الرَّعِيَّةَ يُمْكِنُهُمْ إِخْرَاجُ أَنْفُسِهِمْ عَنْ كَوْنِهِمْ رَعِيَّةً لِذَلِكَ الْمَلِكِ بِاخْتِيَارِ أَنْفُسِهِمْ، أَمَّا الْمَمْلُوكُ فَلَا يُمْكِنُهُ إِخْرَاجُ نَفْسِهِ عَنْ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا لِذَلِكَ الْمَالِكِ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَهْرَ فِي الْمَالِكِيَّةِ أَكْمَلُ مِنْهُ فِي الْمِلْكِيَّةِ. السَّادِسُ: أَنَّ الْمَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ رِعَايَةُ حَالِ الرَّعِيَّةِ، قال عليه الصلاة والسلام/ وكلكم رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الرَّعِيَّةِ خِدْمَةُ الْمَلِكِ. أَمَّا الْمَمْلُوكُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ خِدْمَةُ الْمَالِكِ وَأَنْ لَا يَسْتَقِلَّ بِأَمْرٍ إِلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْقَضَاءُ وَالْإِمَامَةُ وَالشَّهَادَةُ وَإِذَا نَوَى مَوْلَاهُ السَّفَرَ يَصِيرُ هُوَ مُسَافِرًا، وَإِنْ نَوَى مَوْلَاهُ الْإِقَامَةَ صَارَ هُوَ مُقِيمًا، فَعَلِمْنَا أَنَّ الِانْقِيَادَ وَالْخُضُوعَ فِي الْمَمْلُوكِيَّةِ أَتَمُّ مِنْهُ فِي كَوْنِهِ رَعِيَّةً، فَهَذِهِ هِيَ الْوُجُوهُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَالِكَ أَكْمَلُ مِنَ الْمَلِكِ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ إِنَّ الْمَلِكَ أَوْلَى مِنَ الْمَالِكِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ يَكُونُ مَالِكًا أَمَّا الْمَلِكُ لَا يَكُونُ إِلَّا أَعْظَمَ النَّاسِ وَأَعْلَاهُمْ فَكَانَ الْمَلِكُ أَشْرَفَ مِنَ الْمَالِكِ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ [النَّاسِ: 1، 2] لَفْظُ الْمَلِكِ فِيهِ مُتَعَيِّنٌ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَلِكَ أَعْلَى حَالًا مِنَ الْمَالِكِ وَإِلَّا لَمْ يَتَعَيَّنْ. الثَّالِثُ: الْمَلِكُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْصَرُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُدْرِكُ مِنَ الزَّمَانِ مَا تُذْكَرُ فِيهِ هَذِهِ الْكَلِمَةُ بِتَمَامِهَا، بِخِلَافِ الْمَالِكِ فَإِنَّهَا أَطْوَلُ، فَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَجِدَ مِنَ الزَّمَانِ مَا يُتِمُّ فِيهِ هَذِهِ الْكَلِمَةَ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَأَجَابَ الْكِسَائِيُّ بِأَنْ قَالَ: إِنِّي أَشْرَعُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَإِنْ لَمْ أَبْلُغْهَا فَقَدْ بَلَغْتُهَا حَيْثُ عَزَمْتُ عَلَيْهَا، نَظِيرُهُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ مَنْ نَوَى صَوْمَ الْغَدِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمِ فِي أَيَّامِ رَمَضَانَ لَا يُجْزِيهِ، لِأَنَّهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ مُشْتَغِلٌ بِصَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ، فَإِذَا نَوَى صَوْمَ الْغَدِ كَانَ ذَلِكَ تَطْوِيلًا لِلْأَمَلِ، أَمَّا إِذَا نَوَى بعد غروب الشمس فإنه يُجْزِيهِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ تَطْوِيلًا لِلْأَمَلِ إِلَّا أَنَّهُ خَرَجَ عَنِ الصَّوْمِ بِسَبَبِ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَيَقُولُ: إِنْ لَمْ أَبْلُغْ إِلَى الْيَوْمِ فَلَا أقل من أكون على عزم الصوم، كذا هاهنا يَشْرَعُ فِي ذِكْرِ قَوْلِهِ مَالِكِ فَإِنْ تَمَّمَهَا فَذَاكَ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِتْمَامِهَا كَانَ عَازِمًا عَلَى الْإِتْمَامِ وَهُوَ الْمُرَادُ. ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَى كَوْنِهِ مَلِكًا أَحْكَامٌ، وَعَلَى كَوْنِهِ مَالِكًا أَحْكَامٌ أُخَرُ. أَمَّا الْأَحْكَامُ الْمُتَفَرِّعَةُ عَلَى كَوْنِهِ مَلِكًا فَوُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ السِّيَاسَاتِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: سِيَاسَةُ الْمُلَّاكِ، وَسِيَاسَةُ الْمُلُوكِ، وَسِيَاسَةُ الْمَلَائِكَةِ، وَسِيَاسَةُ مَلِكِ الْمُلُوكِ: فَسِيَاسَةُ الْمُلُوكِ أَقْوَى مِنْ سِيَاسَةِ الْمُلَّاكِ، لِأَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ عَالَمٌ مِنَ الْمَالِكِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يُقَاوِمُونَ مَلِكًا وَاحِدًا، أَلَا تَرَى أَنَّ السَّيِّدَ لَا يَمْلِكُ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَمْلُوكِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَلِكَ يَمْلِكُ إِقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَى النَّاسِ، وَأَمَّا سِيَاسَةُ الْمَلَائِكَةِ فَهِيَ فَوْقَ سِيَاسَاتِ الْمُلُوكِ، لِأَنَّ عَالَمًا مِنْ أَكَابِرِ الْمُلُوكِ لَا يُمْكِنُهُمْ دَفْعُ سِيَاسَةِ مَلِكٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا سِيَاسَةُ مَلِكِ الْمُلُوكِ فَإِنَّهَا فَوْقَ سِيَاسَاتِ الْمَلَائِكَةِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النَّبَأِ: 38] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَةِ: 255] وَقَالَ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاءِ: 28] فَيَا أَيُّهَا الملوك لا تغتروا بما لكم مِنَ الْمَالِ وَالْمُلْكِ فَإِنَّكُمْ أُسَرَاءُ فِي قَبْضَةِ قُدْرَةِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وَيَا أَيُّهَا الرَّعِيَّةُ إِذَا كُنْتُمْ تَخَافُونَ سِيَاسَةَ الْمَلِكِ أَفَمَا تَخَافُونَ سِيَاسَةَ مَلِكِ الْمُلُوكِ الَّذِي هُوَ مَالِكُ يَوْمِ الدين.

الْحُكْمُ الثَّانِي: مِنْ أَحْكَامِ كَوْنِهِ تَعَالَى مَلِكًا أَنَّهُ مَلِكٌ لَا يُشْبِهُ سَائِرَ الْمُلُوكِ لِأَنَّهُمْ إِنْ تَصَدَّقُوا بِشَيْءٍ انْتَقَصَ مُلْكُهُمْ، وَقَلَّتْ خَزَائِنُهُمْ، أَمَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَمُلْكُهُ لَا يَنْتَقِصُ بِالْعَطَاءِ وَالْإِحْسَانِ، بَلْ يَزْدَادُ، بَيَانُهُ أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَعْطَاكَ وَلَدًا وَاحِدًا لَمْ يَتَوَجَّهْ حُكْمُهُ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْوَلَدِ الْوَاحِدِ، أَمَّا لَوْ أَعْطَاكَ عَشَرَةً مِنَ الْأَوْلَادِ كَانَ حُكْمُهُ وَتَكْلِيفُهُ لَازِمًا عَلَى الْكُلِّ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى كُلَّمَا كَانَ أَكْثَرَ عَطَاءً كَانَ أَوْسَعَ مُلْكًا. الْحُكْمُ الثَّالِثُ: مِنْ أَحْكَامِ كَوْنِهِ مَلِكًا كَمَالُ الرَّحْمَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ آيَاتٌ: إِحْدَاهَا: مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ كَوْنِهِ رَبًّا رَحْمَانًا رَحِيمًا وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ [الْحَشْرِ: 22، 23] ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ كَوْنَهُ قُدُّوسًا عَنِ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ كَوْنَهُ سَلَامًا، وَهُوَ الَّذِي سَلَّمَ عِبَادَهُ مِنْ ظُلْمِهِ وَجَوْرِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ كَوْنَهُ مُؤْمِنًا، وَهُوَ الَّذِي يُؤَمِّنُ عَبِيدَهُ عَنْ جَوْرِهِ وَظُلْمِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ مَلِكًا لَا يَتِمُّ إِلَّا مَعَ كَمَالِ الرَّحْمَةِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الْفُرْقَانِ: 26] لَمَّا أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ الْمُلْكَ أَرْدَفَهُ بِأَنْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ رَحْمَانًا، يَعْنِي إِنْ كَانَ ثُبُوتُ الْمُلْكِ لَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْقَهْرِ، فَكَوْنُهُ رَحْمَانًا يَدُلُّ عَلَى زَوَالِ الْخَوْفِ وَحُصُولِ الرَّحْمَةِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ [النَّاسِ: 1، 2] فَذَكَرَ أَوَّلًا كَوْنَهُ رَبًّا لِلنَّاسِ ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِكَوْنِهِ مَلِكًا لِلنَّاسِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُلْكَ لَا يَحْسُنُ وَلَا يَكْمُلُ إِلَّا مَعَ الْإِحْسَانِ وَالرَّحْمَةِ، فَيَا أَيُّهَا الْمُلُوكُ اسْمَعُوا هَذِهِ الْآيَاتِ وَارْحَمُوا هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينَ وَلَا تَطْلُبُوا مَرْتَبَةً زَائِدَةً فِي الْمُلْكِ عَلَى مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى. الْحُكْمُ الرَّابِعُ: لِلْمَلِكِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّعِيَّةِ طَاعَتُهُ فَإِنْ خَالَفُوهُ وَلَمْ يُطِيعُوهُ وَقَعَ الْهَرْجُ وَالْمَرَجُ فِي الْعَالَمِ وَحَصَلَ الِاضْطِرَابُ وَالتَّشْوِيشُ وَدَعَا ذَلِكَ إِلَى تَخْرِيبِ الْعَالَمِ وَفَنَاءِ الْخَلْقِ، فَلَمَّا شَاهَدْتُمْ أَنَّ مُخَالَفَةَ الْمَلِكِ الْمُجَازِي تُفْضِي آخِرَ الْأَمْرِ إِلَى تَخْرِيبِ الْعَالَمِ وَفَنَاءِ الْخَلْقِ فَانْظُرُوا إِلَى مُخَالَفَةِ مَلِكِ الْمُلُوكِ كَيْفَ يَكُونُ تَأْثِيرُهَا فِي زَوَالِ الْمَصَالِحِ وَحُصُولِ الْمَفَاسِدِ؟ وَتَمَامُ تَقْرِيرِهِ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْكُفْرَ سَبَبٌ لِخَرَابِ الْعَالَمِ، قَالَ تَعَالَى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً [مَرْيَمَ: 90، 91] وَبَيَّنَ أَنَّ طَاعَتَهُ سَبَبٌ لِلْمَصَالِحِ قَالَ تَعَالَى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى [طَهَ: 132] فَيَا أَيُّهَا الرَّعِيَّةُ كُونُوا مُطِيعِينَ لِمُلُوكِكُمْ، وَيَا أَيُّهَا الْمُلُوكُ كُونُوا مُطِيعِينَ لِمَلِكِ الْمُلُوكِ حَتَّى تَنْتَظِمَ مَصَالِحُ الْعَالَمِ. الْحُكْمُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ مَلِكًا لِيَوْمِ الدِّينِ أَظْهَرَ لِلْعَالَمِينَ كَمَالَ عَدْلِهِ فَقَالَ: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فُصِّلَتْ: 46] ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ الْعَدْلِ فَقَالَ: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [الْأَنْبِيَاءِ: 47] فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ كَوْنَهُ مَلِكًا حَقًّا لِيَوْمِ الدِّينِ إِنَّمَا يَظْهَرُ بِسَبَبِ الْعَدْلِ، فَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ الْمُجَازِي عَادِلًا كَانَ مَلِكًا حَقًّا وَإِلَّا كَانَ مَلِكًا بَاطِلًا فَإِنْ كَانَ مَلِكًا عَادِلًا حَقًّا حَصَلَ مِنْ بَرَكَةِ عَدْلِهِ الْخَيْرُ وَالرَّاحَةُ فِي الْعَالَمِ وَإِنْ كَانَ مَلِكًا ظَالِمًا ارْتَفَعَ الْخَيْرُ مِنَ الْعَالَمِ. يُرْوَى أَنَّ أَنُوشَرْوَانَ خَرَجَ إِلَى الصَّيْدِ يَوْمًا، وَأَوْغَلَ فِي الرَّكْضِ، وَانْقَطَعَ عَنْ عَسْكَرِهِ وَاسْتَوْلَى الْعَطَشُ عَلَيْهِ، وَوَصَلَ إِلَى بُسْتَانٍ، فَلَمَّا دَخَلَ ذَلِكَ الْبُسْتَانَ رَأَى أَشْجَارَ الرُّمَّانِ فَقَالَ لِصَبِيٍّ حَضَرَ فِي ذَلِكَ الْبُسْتَانِ: أَعْطِنِي رُمَّانَةً وَاحِدَةً، فَأَعْطَاهُ رُمَّانَةً فَشَقَّهَا وَأَخْرَجَ حَبَّهَا وَعَصَرَهَا فَخَرَجَ مِنْهُ مَاءٌ كَثِيرٌ فَشَرِبَهُ، وَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ الرُّمَّانُ فَعَزَمَ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ الْبُسْتَانَ مِنْ مَالِكِهِ ثُمَّ قَالَ لِذَلِكَ الصَّبِيِّ: أَعْطِنِي رُمَّانَةً أُخْرَى، فَأَعْطَاهُ فَعَصَرَهَا فَخَرَجَ مِنْهَا مَاءٌ قَلِيلٌ فَشَرِبَهُ فَوَجَدَهُ عَفْصًا مُؤْذِيًا، فَقَالَ: أَيُّهَا الصَّبِيُّ لِمَ صَارَ الرُّمَّانُ هَكَذَا؟ فَقَالَ الصَّبِيُّ: لَعَلَّ مَلِكَ الْبَلَدِ عزم

عَلَى الظُّلْمِ، فَلِأَجْلِ شُؤْمِ ظُلْمِهِ صَارَ الرُّمَّانُ هَكَذَا، فَتَابَ أَنُوشَرْوَانَ فِي قَلْبِهِ عَنْ ذَلِكَ الظُّلْمِ، وَقَالَ لِذَلِكَ الصَّبِيِّ: أَعْطِنِي رُمَّانَةً أُخْرَى، فَأَعْطَاهُ فَعَصَرَهَا فَوَجَدَهَا أَطْيَبَ مِنَ الرُّمَّانَةِ الْأُولَى، فَقَالَ لِلصَّبِيِّ: لِمَ بُدِّلَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ؟ فَقَالَ الصَّبِيُّ: لَعَلَّ مَلِكَ الْبَلَدِ تَابَ عَنْ ظُلْمِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ أَنُوشَرْوَانَ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ ذَلِكَ الصَّبِيِّ وَكَانَتْ مُطَابِقَةً لِأَحْوَالِ قَلْبِهِ تَابَ بِالْكُلِّيَّةِ عَنِ الظُّلْمِ، فَلَا جَرَمَ بَقِيَ اسْمُهُ مُخَلَّدًا فِي الدُّنْيَا بِالْعَدْلِ، حَتَّى إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وُلِدْتُ فِي زَمَنِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ» . أَمَّا الْأَحْكَامُ الْمُفَرَّعَةُ عَلَى كَوْنِهِ مَالِكًا فَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْحُكْمُ الْأَوَّلُ: قِرَاءَةُ الْمَالِكِ أَرْجَى مِنْ قِرَاءَةِ الْمَلِكِ، لِأَنَّ أَقْصَى مَا يُرْجَى مِنَ الْمَلِكِ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ وَأَنْ يَنْجُوَ الْإِنْسَانُ مِنْهُ رَأْسًا بِرَأْسٍ، أَمَّا الْمَالِكُ فَالْعَبْدُ يَطْلُبُ مِنْهُ الْكُسْوَةَ وَالطَّعَامَ وَالرَّحْمَةَ وَالتَّرْبِيَةَ فَكَأَنَّهُ تعالى يقول: أنا مالككم فعلي طعامكم وثيابكم وَثَوَابُكُمْ وَجَنَّتُكُمْ. الْحُكْمُ الثَّانِي: الْمَلِكُ وَإِنْ كَانَ أَغْنَى مِنَ الْمَالِكِ غَيْرَ أَنَّ الْمَلِكَ يَطْمَعُ فِيكَ وَالْمَالِكُ أَنْتَ تَطْمَعُ فِيهِ، وَلَيْسَتْ لَنَا طَاعَاتٌ وَلَا خَيْرَاتٌ فَلَا يُرِيدُ أَنْ يَطْلُبَ مِنَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْوَاعَ الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ، بَلْ يريد أن يطلب مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّفْحَ وَالْمَغْفِرَةَ وَإِعْطَاءَ الْجَنَّةِ بِمُجَرَّدِ الْفَضْلِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ الْكِسَائِيُّ: اقْرَأْ مَالِكِ/ يَوْمِ الدِّينِ لِأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ هِيَ الدَّالَّةُ عَلَى الْفَضْلِ الْكَثِيرِ وَالرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ. الْحُكْمُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ الْعَسْكَرُ لَمْ يَقْبَلْ إِلَّا مَنْ كَانَ قَوِيَّ الْبَدَنِ صَحِيحَ الْمِزَاجِ، أَمَّا مَنْ كَانَ مَرِيضًا فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ وَلَا يُعْطِيهِ شَيْئًا مِنَ الْوَاجِبِ، أَمَّا الْمَالِكُ إِذَا كَانَ لَهُ عَبْدٌ فَإِنْ مَرِضَ عَالَجَهُ وَإِنْ ضَعُفَ أَعَانَهُ وَإِنْ وَقَعَ فِي بَلَاءٍ خَلَّصَهُ، فَالْقِرَاءَةُ بِلَفْظِ الْمَالِكِ أَوْفَقُ لِلْمُذْنِبِينَ وَالْمَسَاكِينِ. الْحُكْمُ الرَّابِعُ: الْمَلِكُ لَهُ هَيْبَةٌ وَسِيَاسَةٌ، وَالْمَالِكُ لَهُ رَأْفَةٌ وَرَحْمَةٌ، وَاحْتِيَاجُنَا إِلَى الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ أَشَدُّ مِنِ احْتِيَاجِنَا إِلَى الْهَيْبَةِ وَالسِّيَاسَةِ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُلْكُ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ، فَكَوْنِهِ مالكاً وملكاً عبارة عن القدرة، هاهنا بَحْثٌ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَلِكًا لِلْمَوْجُودَاتِ أَوْ لِلْمَعْدُومَاتِ، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ، لِأَنَّ إِيجَادَ الْمَوْجُودَاتِ مُحَالٌ فَلَا قُدْرَةَ لِلَّهِ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ إِلَّا بِالْإِعْدَامِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ فَلَا مَالِكَ إِلَّا لِلْعَدَمِ، وَالثَّانِي: بَاطِلٌ أَيْضًا، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ قُدْرَتُهُ وَمُلْكُهُ عَلَى الْعَدَمِ وَيَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي الْمَوْجُودَاتِ مَالِكِيَّةٌ وَلَا مُلْكٌ وَهَذَا بَعِيدٌ. وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَالِكُ الْمَوْجُودَاتِ، وَمَلِكُهَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى نَقْلِهَا مِنَ الْوُجُودِ إِلَى الْعَدَمِ، أَوْ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى نَقْلِهَا مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ، وَهَذِهِ الْقُدْرَةُ لَيْسَتْ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَالْمَلِكُ الْحَقُّ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إِذَا عَرَفْتَ أَنَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ فَنَقُولُ: إِنَّهُ الْمَلِكُ لِيَوْمِ الدِّينِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى إِحْيَاءِ الْخَلْقِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ لَيْسَتْ إِلَّا لِلَّهِ، وَالْعِلْمُ بِتِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ مِنْ أَبْدَانِ النَّاسِ لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ، فَإِذَا كَانَ الْحَشْرُ وَالنَّشْرُ وَالْبَعْثُ وَالْقِيَامَةُ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِعِلْمٍ مُتَعَلِّقٍ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَقُدْرَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، ثَبَتَ أَنَّهُ لَا مَالِكَ لِيَوْمِ الدِّينِ إِلَّا اللَّهُ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْفَصْلِ مُتَعَلِّقٌ بِمَسْأَلَةِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمَالِكَ لَا يَكُونُ مَالِكًا لِلشَّيْءِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَمْلُوكُ مَوْجُودًا، وَالْقِيَامَةُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الْحَالِ، فَلَا يَكُونُ اللَّهُ مَالِكًا لِيَوْمِ الدِّينِ، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنَا قَاتِلُ زَيْدٍ، فَهَذَا إِقْرَارٌ، وَلَوْ قَالَ أَنَا قَاتِلٌ زَيْدًا بِالتَّنْوِينِ كَانَ تَهْدِيدًا وَوَعِيدًا. قُلْنَا: الْحَقُّ مَا ذَكَرْتُمْ، إِلَّا أَنَّ قِيَامَ الْقِيَامَةِ لَمَّا كَانَ أَمْرًا حَقًّا لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ فِي الْحِكْمَةِ جَعَلَ وُجُودَ

الفصل الخامس في تفسير قوله إياك نعبد وإياك نستعين

الْقِيَامَةِ كَالْأَمْرِ الْقَائِمِ فِي الْحَالِ الْحَاصِلِ فِي الْحَالِ، وَأَيْضًا مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ فَكَانَتِ الْقِيَامَةُ حَاصِلَةً فِي الْحَالِ فَزَالَ السُّؤَالُ. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ أَسْمَاءِ نَفْسِهِ خَمْسَةً: اللَّهُ، وَالرَّبُّ، وَالرَّحْمَنُ/ وَالرَّحِيمُ، وَالْمَالِكُ. وَالسَّبَبُ فِيهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: خَلَقْتُكَ أَوَّلًا فَأَنَا إِلَهٌ. ثُمَّ رَبَّيْتُكَ بِوُجُوهِ النِّعَمِ فَأَنَا رَبٌّ، ثُمَّ عَصَيْتَ فَسَتَرْتُ عَلَيْكَ فَأَنَا رَحْمَنٌ، ثُمَّ تُبْتَ فَغَفَرْتُ لَكَ فَأَنَا رَحِيمٌ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ إِيصَالِ الْجَزَاءِ إِلَيْكَ فَأَنَا مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ فِي التَّسْمِيَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَفِي السُّورَةِ مَرَّةً ثَانِيَةً فَالتَّكْرِيرُ فِيهِمَا حَاصِلٌ وَغَيْرُ حَاصِلٍ فِي الْأَسْمَاءِ الثَّلَاثَةِ فَمَا الْحِكْمَةُ؟. قُلْنَا: التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قِيلَ: اذْكُرْ أَنِّي إِلَهٌ وَرَبٌّ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَاذْكُرْ أَنِّي رَحْمَنٌ رَحِيمٌ مَرَّتَيْنِ لِتَعْلَمَ أَنَّ الْعِنَايَةَ بِالرَّحْمَةِ أَكْثَرُ مِنْهَا بِسَائِرِ الْأُمُورِ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ الرَّحْمَةَ الْمُضَاعَفَةَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَغْتَرُّوا بِذَلِكَ فَإِنِّي مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ [غَافِرٍ: 3] . الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ: إِنْ كَانَ خَالِقُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ هُوَ اللَّهَ امْتَنَعَ الْقَوْلُ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَزَاءِ، لِأَنَّ ثَوَابَ الرَّجُلِ عَلَى مَا لَمْ يَعْمَلْهُ عَبَثٌ، وَعِقَابَهُ عَلَى مَا لَمْ يَعْمَلْهُ ظُلْمٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَبْطُلُ كَوْنُهُ مَالِكًا لِيَوْمِ الدِّينِ، وَقَالَتِ الْجَبْرِيَّةُ: لَوْ لَمْ تَكُنْ أَعْمَالُ الْعِبَادِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَتَرْجِيحِهِ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهَا، وَلَمَّا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى كَوْنِهِ مَالِكًا لِلْعِبَادِ وَلِأَعْمَالِهِمْ، عَلِمْنَا أَنَّهُ خَالِقٌ لَهَا مُقَدِّرٌ لَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإياك نستعين وفيه فوائد معنى قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ: الفائدة الأولى: [معنى قوله: إياك نعبد وإياك نستعين] الْعِبَادَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْفِعْلِ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ لِغَرَضِ تَعْظِيمِ الْغَيْرِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ، أَيْ مُذَلَّلٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَكَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ مَعْنَاهُ لَا أَعْبُدُ أَحَدًا سِوَاكَ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْحَصْرِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعِبَادَةَ عِبَارَةٌ عَنْ نِهَايَةِ التَّعْظِيمِ، وَهِيَ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ صَدَرَ عَنْهُ غَايَةُ الْإِنْعَامِ، وَأَعْظَمُ وُجُوهِ الْإِنْعَامِ الْحَيَاةُ الَّتِي تُفِيدُ الْمُكْنَةَ مِنَ الِانْتِفَاعِ وَخَلْقُ الْمُنْتَفِعِ بِهِ، فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى- وَهِيَ الْحَيَاةُ الَّتِي تُفِيدُ الْمُكْنَةَ مِنَ الِانْتِفَاعِ- وَإِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مَرْيَمَ: 9] وَقَوْلِهِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [الْبَقَرَةِ: 28]- الآية وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ- وَهِيَ خَلْقُ الْمُنْتَفِعِ بِهِ- وَإِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلَمَّا كَانَتِ الْمَصَالِحُ الْحَاصِلَةُ فِي هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ إِنَّمَا/ تَنْتَظِمُ بِالْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةِ عَلَى سَبِيلِ إِجْرَاءِ الْعَادَةِ لَا جَرَمَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الْبَقَرَةِ: 29] فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ النِّعَمِ حَاصِلٌ بِإِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَنْ لَا تُحْسِنَ الْعِبَادَةَ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ يُفِيدُ الْحَصْرَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي دَلَائِلِ هَذَا الْحَصْرِ وَالتَّعْيِينِ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تعالى سمى نفسه هاهنا بِخَمْسَةِ أَسْمَاءٍ: اللَّهُ، وَالرَّبُّ، وَالرَّحْمَنُ،

وَالرَّحِيمُ، وَمَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ، وَلِلْعَبْدِ أَحْوَالٌ ثَلَاثَةٌ: الْمَاضِي وَالْحَاضِرُ وَالْمُسْتَقْبَلُ: أَمَّا الْمَاضِي فَقَدْ كَانَ مَعْدُومًا مَحْضًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم: 9] وَكَانَ مَيِّتًا فَأَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [الْبَقَرَةِ: 28] وَكَانَ جَاهِلًا فَعَلَّمَهُ اللَّهُ كَمَا قَالَ: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ [النَّحْلِ: 78] وَالْعَبْدُ إِنَّمَا انْتَقَلَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَمِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ وَمِنَ الْعَجْزِ إِلَى الْقُدْرَةِ وَمِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا، فَبِقُدْرَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ وَعِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ أَحْدَثَهُ وَنَقَلَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ فَهُوَ إِلَهٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَأَمَّا الْحَالُ الْحَاضِرَةُ لِلْعَبْدِ فَحَاجَتُهُ شَدِيدَةٌ لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ مَعْدُومًا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الرَّبِّ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا لما دخل في الوجود انفتحت عليه أبواب الحاجات وحصلت عند أَسْبَابُ الضَّرُورَاتِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا إِلَهٌ لِأَجْلِ أَنِّي أَخْرَجْتُكَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. أما بعد أن أصرت مَوْجُودًا فَقَدْ كَثُرَتْ حَاجَاتُكَ إِلَيَّ فَأَنَا رَبٌّ رَحْمَنٌ رَحِيمٌ، وَأَمَّا الْحَالُ الْمُسْتَقْبِلَةُ لِلْعَبْدِ فَهِيَ حَالُ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالصِّفَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِتِلْكَ الْحَالَةِ هِيَ قَوْلُهُ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، فَصَارَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ الْخَمْسُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَلِّقَةً بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ لِلْعَبْدِ فَظَهَرَ أَنَّ جَمِيعَ مَصَالِحِ الْعَبْدِ فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ لا يتم ولا يكمل إِلَّا بِاللَّهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ الْعَبْدُ بِعِبَادَةِ شَيْءٍ إِلَّا بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا جَرَمَ قَالَ الْعَبْدُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي دَلِيلِ هَذَا الْحَصْرِ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى وُجُوبِ كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَالِمًا مُحْسِنًا جَوَادًا كَرِيمًا حَلِيمًا، وَأَمَّا كَوْنُ غَيْرِهِ كَذَلِكَ فَمَشْكُوكٌ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ يُضَافُ إِلَى الطَّبْعِ وَالْفَلَكِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْعَقْلِ وَالنَّفْسِ إِلَّا وَيُحْتَمَلُ إِضَافَتُهُ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ صَارَ ذَلِكَ الِانْتِسَابُ مَشْكُوكًا فِيهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الْإِلَهِ تَعَالَى مَعْبُودًا لِلْخَلْقِ أَمْرٌ يَقِينِيٌّ، وَأَمَّا كَوْنُ غَيْرِهِ مَعْبُودًا لِلْخَلْقِ فَهُوَ أَمْرٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَالْأَخْذُ بِالْيَقِينِ أَوْلَى مِنَ الْأَخْذِ بِالشَّكِّ، فَوَجَبَ طَرْحُ الْمَشْكُوكِ وَالْأَخْذُ بِالْمَعْلُومِ وَعَلَى هَذَا لَا مَعْبُودَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ ذِلَّةٌ وَمَهَانَةٌ إِلَّا/ أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الْمَوْلَى أَشْرَفَ وَأَعْلَى كَانَتِ الْعُبُودِيَّةُ بِهِ أَهْنَأَ وَأَمْرَأَ، وَلَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَشْرَفَ الْمَوْجُودَاتِ وَأَعْلَاهَا فَكَانَتْ عُبُودِيَّتُهُ أَوْلَى مِنْ عُبُودِيَّةِ غَيْرِهِ، وَأَيْضًا قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَعْلَى مِنْ قُدْرَةِ غَيْرِهِ وَعِلْمُهُ أَكْمَلُ مِنْ عِلْمِ غَيْرِهِ وَجُودُهُ أَفْضَلُ مِنْ جُودِ غَيْرِهِ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ عُبُودِيَّتَهُ أَوْلَى مِنْ عُبُودِيَّةِ غَيْرِهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ يَكُونُ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ وَكُلَّ مَا كَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ كَانَ مُحْتَاجًا فَقِيرًا وَالْمُحْتَاجُ مَشْغُولٌ بِحَاجَةِ نَفْسِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِدَفْعِ الْحَاجَةِ عَنِ الْغَيْرِ، وَالشَّيْءُ مَا لَمْ يكن غنياً فِي ذَاتِهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِ الْحَاجَةِ عَنْ غَيْرِهِ وَالْغَنِيُّ لِذَاتِهِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَدَافِعُ الْحَاجَاتِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَمُسْتَحِقُّ الْعِبَادَاتِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: اسْتِحْقَاقُ الْعِبَادَةِ يَسْتَدْعِي قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ يُمْسِكَ سَمَاءً بِلَا عَلَاقَةٍ، وَأَرْضًا بِلَا دِعَامَةٍ، وَيُسَيِّرُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَيُسَكِّنُ الْقُطْبَيْنِ، وَيُخْرِجُ مِنَ السَّحَابِ تَارَةً النَّارَ وَهُوَ الْبَرْقُ، وَتَارَةً الْهَوَاءَ وَهِيَ الرِّيحُ، وَتَارَةً الْمَاءَ وَهُوَ الْمَطَرُ، وَأَمَّا فِي الْأَرْضِ فَتَارَةً يُخْرِجُ الْمَاءَ مِنَ الْحَجَرِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَتَارَةً يُخْرِجُ الْحَجَرَ مِنَ الْمَاءِ وَهُوَ الْجَمْدُ، ثُمَّ جَعَلَ فِي الْأَرْضِ أَجْسَامًا مُقِيمَةً لَا تُسَافِرُ وَهِيَ الْجِبَالُ، وَأَجْسَامًا مُسَافِرَةً لَا تُقِيمُ وَهِيَ الْأَنْهَارُ، وَخَسَفَ بِقَارُونَ فَجَعَلَ الْأَرْضَ فَوْقَهُ، وَرَفَعَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَجُعِلَ قَابَ قَوْسَيْنِ تَحْتَهُ، وَجَعَلَ الْمَاءَ نَارًا عَلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا، وَجَعَلَ النَّارَ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَرَفَعَ مُوسَى فَوْقَ الطُّورِ، وقال له: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه: 12] ورفع الطور على موسى

وقومه وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة: 63] وَغَرَّقَ الدُّنْيَا مِنَ التَّنُّورِ الْيَابِسَةِ لِقَوْلِهِ: وَفارَ التَّنُّورُ [هُودٍ: 40] وَجَعَلَ الْبَحْرَ يَبَسًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَمَنْ كَانَتْ قُدْرَتُهُ هَكَذَا كَيْفَ يُسَوَّى فِي الْعِبَادَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْجَمَادَاتِ أَوِ النَّبَاتِ أَوِ الْحَيَوَانِ أَوِ الْإِنْسَانِ أَوِ الْفَلَكِ أَوِ الْمَلِكِ، فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ النَّاقِصِ وَالْكَامِلِ وَالْخَسِيسِ وَالنَّفِيسِ تَدُلُّ عَلَى الْجَهْلِ وَالسَّفَهِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَعْبُودَ إِلَّا اللَّهُ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَوْلُهُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ الْمَحْضِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ طَوَائِفُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَنِ اتَّخَذَ شَرِيكًا لِلَّهِ فَذَلِكَ الشَّرِيكُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ، أَمَّا الَّذِينَ اتَّخَذُوا شَرِيكًا جُسْمَانِيًّا فَذَلِكَ الشَّرِيكُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَجْسَامِ السُّفْلِيَّةِ أَوْ مِنَ الْأَجْسَامِ الْعُلْوِيَّةِ، أَمَّا الَّذِينَ اتَّخَذُوا الشُّرَكَاءَ مِنَ الْأَجْسَامِ السُّفْلِيَّةِ فَذَلِكَ الْجِسْمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا أَوْ بَسِيطًا، أَمَّا الْمُرَكَّبُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَعَادِنِ أَوْ مِنَ النَّبَاتِ أَوْ مِنَ الْحَيَوَانِ أَوْ مِنَ الْإِنْسَانِ، أَمَّا الَّذِينَ اتَّخَذُوا الشُّرَكَاءَ مِنَ الْأَجْسَامِ الْمَعْدِنِيَّةِ فَهُمُ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْأَصْنَامَ إِمَّا مِنَ الْأَحْجَارِ أَوْ مِنَ الذَّهَبِ أَوْ مِنَ الْفِضَّةِ وَيَعْبُدُونَهَا، وَأَمَّا الَّذِينَ/ اتَّخَذُوا الشُّرَكَاءَ مِنَ الْأَجْسَامِ النَّبَاتِيَّةِ فَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا شَجَرَةً مُعَيَّنَةً مَعْبُودًا لِأَنْفُسِهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ اتَّخَذُوا الشُّرَكَاءَ مِنَ الْحَيَوَانِ فَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مَعْبُودًا لِأَنْفُسِهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ اتَّخَذُوا الشُّرَكَاءَ مِنَ النَّاسِ فَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَالْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ اتَّخَذُوا الشُّرَكَاءَ مِنَ الْأَجْسَامِ الْبَسِيطَةِ فَهُمُ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ النَّارَ وَهُمُ الْمَجُوسُ، وَأَمَّا الَّذِينَ اتَّخَذُوا الشُّرَكَاءَ مِنَ الْأَجْسَامِ الْعُلْوِيَّةِ فَهُمُ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَسَائِرَ الْكَوَاكِبِ وَيُضِيفُونَ السَّعَادَةَ وَالنُّحُوسَةَ إِلَيْهَا وَهُمُ الصَّابِئَةُ وَأَكْثَرُ الْمُنَجِّمِينَ، وَأَمَّا الَّذِينَ اتَّخَذُوا الشُّرَكَاءَ لِلَّهِ مِنْ غَيْرِ الْأَجْسَامِ فَهُمْ أَيْضًا طَوَائِفُ: الطَّائِفَةُ الْأُولَى: الَّذِينَ قَالُوا مُدَبِّرُ الْعَالَمِ هُوَ النُّورُ وَالظُّلْمَةُ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمَانَوِيَّةُ وَالثَّنَوِيَّةُ. وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: هُمُ الَّذِينَ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَرْوَاحِ الْفَلَكِيَّةِ وَلِكُلِّ إِقْلِيمٍ رُوحٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْفَلَكِيَّةِ يُدَبِّرُهُ وَلِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ هَذَا الْعَالَمِ رُوحٌ فَلَكِيٌّ يُدَبِّرُهُ وَيَتَّخِذُونَ لِتِلْكَ الْأَرْوَاحِ صُوَرًا وتماثيل ويعبدونها وهؤلاء هم عَبَدَةُ الْمَلَائِكَةِ، وَالطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِينَ قَالُوا لِلْعَالَمِ إلهان: أحدهما: خير، والآخر شرير، وَقَالُوا: مُدَبِّرُ هَذَا الْعَالَمِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِبْلِيسُ، وَهُمَا أَخَوَانِ، فَكُلُّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنَ الْخَيْرَاتِ فَهُوَ مِنَ اللَّهِ وَكُلُّ مَا فِيهِ مِنَ الشَّرِّ فَهُوَ مِنْ إِبْلِيسَ. إِذَا عرفت هذه التفاصيل فنقول: كل ما اتَّخَذَ لِلَّهِ شَرِيكًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى عِبَادَةِ ذَلِكَ الشَّرِيكِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، إِمَّا طَلَبًا لِنَفْعِهِ أَوْ هَرَبًا مِنْ ضَرَرِهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ أَصَرُّوا عَلَى التَّوْحِيدِ وَأَبْطَلُوا الْقَوْلَ بِالشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ وَلَمْ يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى غَيْرِ اللَّهِ فَكَانَ رَجَاؤُهُمْ مِنَ اللَّهِ وَخَوْفُهُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَغْبَتُهُمْ فِي اللَّهِ وَرَهْبَتُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَلَا جَرَمَ لَمْ يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وَلَمْ يَسْتَعِينُوا إِلَّا بِاللَّهِ، فَلِهَذَا قَالُوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، فَكَانَ قَوْلُهُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قَائِمًا مُقَامَ قَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الذِّكْرَ الْمَشْهُورَ هُوَ أَنْ تَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ قَوْلَنَا الْحَمْدُ لِلَّهِ يَدْخُلُ فِيهِ مَعْنَى قَوْلِنَا سبحان الله لأن قوله سبحانه اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَامِلًا تَامًّا فِي ذَاتِهِ، وَقَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُكَمِّلًا مُتَمِّمًا لِغَيْرِهِ، وَالشَّيْءُ لَا يَكُونُ مُكَمِّلًا مُتَمِّمًا لِغَيْرِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ تَامًّا كَامِلًا فِي ذَاتِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَنَا الْحَمْدُ لِلَّهِ دَخَلَ فِيهِ مَعْنَى قَوْلِنَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَلَمَّا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَأَثْبَتَ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْحَمْدِ ذَكَرَ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعِلَّةِ لِإِثْبَاتِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَمْدِ لِلَّهِ، فَوَصَفَهُ بِالصِّفَاتِ

الْخَمْسِ وَهِيَ الَّتِي لِأَجْلِهَا تَتِمُّ مَصَالِحُ الْعَبْدِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ، وَلَمَّا بَيَّنَ ذَلِكَ ثَبَتَ صِحَّةُ قَوْلِنَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ قَوْلَهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ قَائِمٌ مُقَامَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَهُ/ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَى وَأَجَلُّ وَأَكْبَرُ مِنْ أَنْ يَتِمَّ مَقْصُودٌ مِنَ الْمَقَاصِدِ وَغَرَضٌ مِنَ الْأَغْرَاضِ إِلَّا بِإِعَانَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، فَثَبَتَ أَنَّ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا مُنْطَبِقَةٌ عَلَى ذَلِكَ الذِّكْرِ، وَآيَاتُ هَذِهِ السُّورَةِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الشَّرْحِ وَالتَّفْصِيلِ لِلْمَرَاتِبِ الْخَمْسِ الْمَذْكُورَةِ فِي ذَلِكَ الذِّكْرِ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ، فَقَدَّمَ قَوْلَهُ إِيَّاكَ عَلَى قَوْلِهِ نَعْبُدُ وَلَمْ يَقُلْ نَعْبُدُكَ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَ نَفْسِهِ لِيَتَنَبَّهُ الْعَابِدُ عَلَى أَنَّ الْمَعْبُودَ هُوَ اللَّهُ الْحَقُّ، فَلَا يَتَكَاسَلُ فِي التَّعْظِيمِ وَلَا يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا، يُحْكَى أَنَّ وَاحِدًا مِنَ الْمُصَارِعِينَ الْأُسْتَاذِينَ صَارَعَ رُسْتَاقِيًّا جِلْفًا فَصَرَعَ الرُّسْتَاقِيُّ ذَلِكَ الْأُسْتَاذَ مِرَارًا فَقِيلَ لِلرُّسْتَاقِيِّ: إِنَّهُ فُلَانٌ الْأُسْتَاذُ، فَانْصَرَعَ فِي الْحَالِ مِنْهُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِاحْتِشَامِهِ مِنْهُ، فكذا هاهنا: عَرَّفَهُ ذَاتَهُ أَوَّلًا حَتَّى تَحْصُلَ الْعِبَادَةُ مَعَ الْحِشْمَةِ فَلَا تَمْتَزِجَ بِالْغَفْلَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ إِنْ ثَقُلَتْ عَلَيْكَ الطَّاعَاتُ وَصَعُبَتْ عَلَيْكَ الْعِبَادَاتُ مِنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَاذْكُرْ أَوَّلًا قَوْلَهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ لِتَذْكُرَنِي وَتَحْضُرَ فِي قَلْبِكَ مَعْرِفَتِي، فَإِذَا ذَكَرْتَ جَلَالِي وَعَظَمَتِي وَعِزَّتِي وَعَلِمْتَ أَنِّي مَوْلَاكَ وَأَنَّكَ عَبْدِي سَهَّلْتُ عَلَيْكَ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ، وَمِثَالُهُ أَنَّ مَنْ أَرَادَ حَمْلَ الْجِسْمِ الثَّقِيلِ تَنَاوَلَ قَبْلَ ذَلِكَ مَا يَزِيدُهُ قُوَّةً وَشِدَّةً، فَالْعَبْدُ لَمَّا أَرَادَ حَمْلَ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ الشَّدِيدَةِ تَنَاوَلَ أَوَّلًا مَعْجُونَ مَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ مِنْ بُسْتُوقَةِ قَوْلِهِ إِيَّاكَ حَتَّى يَقْوَى عَلَى حَمْلِ ثِقَلِ الْعُبُودِيَّةِ، وَمِثَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْعَاشِقَ الَّذِي يُضْرَبُ لِأَجْلِ مَعْشُوقِهِ فِي حَضْرَةِ مَعْشُوقِهِ يَسْهُلُ عَلَيْهِ ذلك الضرب، فكذا هاهنا: إِذَا شَاهَدَ جَمَالَ إِيَّاكَ سَهُلَ عَلَيْهِ تَحَمُّلُ ثِقَلِ الْعُبُودِيَّةِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الْأَعْرَافِ: 201] فَالنَّفْسُ إِذَا مَسَّهَا طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ مِنَ الْكَسَلِ وَالْغَفْلَةِ وَالْبِطَالَةِ تَذَكَّرُوا حَضْرَةَ جَلَالِ اللَّهِ مِنْ مَشْرِقِ قَوْلِهِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ فَيَصِيرُونَ مُبْصِرِينَ مُسْتَعِدِّينَ لِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ نَعْبُدُكَ فَبَدَأْتَ أَوَّلًا بِذِكْرِ عِبَادَةِ نَفْسِكَ وَلَمْ تَذْكُرْ أَنَّ تِلْكَ الْعِبَادَةَ لِمَنْ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ إِبْلِيسَ يَقُولُ هَذِهِ الْعِبَادَةُ لِلْأَصْنَامِ أَوْ لِلْأَجْسَامِ أَوْ لِلشَّمْسِ أَوِ الْقَمَرِ، أَمَّا إِذَا غَيَّرْتَ هَذَا التَّرْتِيبَ وَقُلْتَ أَوَّلًا إِيَّاكَ ثُمَّ قُلْتَ ثَانِيًا نَعْبُدُ كَانَ قَوْلُكَ أَوَّلًا إِيَّاكَ صَرِيحًا بِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَالْمَعْبُودَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَكَانَ هَذَا أَبْلَغَ فِي التَّوْحِيدِ وَأَبْعَدَ عَنِ احْتِمَالِ الشِّرْكِ. وَخَامِسُهَا: وَهُوَ أَنَّ الْقَدِيمَ الْوَاجِبَ لِذَاتِهِ مُتَقَدِّمٌ فِي الْوُجُودِ عَلَى الْمُحْدَثِ الْمُمْكِنِ لِذَاتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَى جَمِيعِ الْأَذْكَارِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ قَوْلَهُ إِيَّاكَ عَلَى قَوْلِهِ نَعْبُدُ لِيَكُونَ ذِكْرُ الْحَقِّ مُتَقَدِّمًا عَلَى ذِكْرِ الْخَلْقِ. وَسَادِسُهَا: قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: مَنْ كَانَ نَظَرُهُ فِي وَقْتِ النِّعْمَةِ إِلَى الْمُنْعِمِ لَا إِلَى/ النِّعْمَةِ كَانَ نَظَرُهُ فِي وَقْتِ الْبَلَاءِ إِلَى الْمُبْتَلِي لَا إِلَى الْبَلَاءِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ غَرِقًا فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَبَدًا فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ السِّعَادَاتِ، أَمَّا مَنْ كَانَ نَظَرُهُ فِي وَقْتِ النِّعْمَةِ إِلَى النِّعْمَةِ لَا إِلَى الْمُنْعِمِ كَانَ نَظَرُهُ فِي وَقْتِ الْبَلَاءِ إِلَى الْبَلَاءِ لَا إِلَى الْمُبْتَلِي فَكَانَ غَرِقًا فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ فِي الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَكَانَ أَبَدًا فِي الشَّقَاوَةِ، لِأَنَّ فِي وَقْتِ وِجْدَانِ النِّعْمَةَ يَكُونُ خَائِفًا مِنْ زَوَالِهَا فَكَانَ فِي الْعَذَابِ وَفِي وَقْتِ فَوَاتِ النِّعْمَةِ كَانَ مُبْتَلًى بِالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ فَكَانَ فِي مَحْضِ السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ، وَلِهَذَا التَّحْقِيقِ قَالَ لِأُمَّةِ مُوسَى: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ [البقرة: 40] ، وقال لأمة محمد عليه السلام: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] ، إذا عرفت

هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّمَا قَدَّمَ قَوْلَهُ إِيَّاكَ عَلَى قَوْلِهِ نَعْبُدُ لِيَكُونَ مُسْتَغْرِقًا فِي مُشَاهَدَةِ نُورِ جَلَالِ إِيَّاكَ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ فِي وَقْتِ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ مُسْتَقِرًّا فِي عَيْنِ الْفِرْدَوْسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا. وَسَابِعُهَا: لَوْ قِيلَ نَعْبُدُكَ لَمْ يُفِدْ نَفْيَ عِبَادَتِهِمْ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَيَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْمُشْرِكِينَ أَمَّا لما قال إياك نعبد أفاد أنهم يعبدونهم وَلَا يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ. وَثَامِنُهَا: أَنَّ هَذِهِ النُّونَ نُونُ الْعَظَمَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ مَتَّى كَنْتَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَلَا تَقُلْ نَحْنُ وَلَوْ كُنْتَ فِي أَلْفِ أَلْفٍ مِنَ الْعَبِيدِ، أَمَّا لَمَّا اشْتَغَلْتَ بِالصَّلَاةِ وَأَظْهَرْتَ الْعُبُودِيَّةَ لَنَا فَقُلْ نَعْبُدُ لِيَظْهَرَ لِلْكُلِّ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ عَبْدًا لَنَا كَانَ مَلِكَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَتَاسِعُهَا: لَوْ قَالَ إِيَّاكَ أَعْبُدُ لَكَانَ ذَلِكَ تَكَبُّرًا وَمَعْنَاهُ أَنِّي أَنَا الْعَابِدُ أَمَّا لَمَّا قَالَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ كَانَ مَعْنَاهُ أَنِّي وَاحِدٌ مِنْ عَبِيدِكَ، فَالْأَوَّلُ تَكَبُّرٌ، وَالثَّانِي تَوَاضُعٌ، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ، وَمَنْ تَكَبَّرَ وَضَعَهُ اللَّهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: جَمِيعُ مَا ذَكَرْتُمْ قَائِمٌ فِي قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ مَعَ أَنَّهُ قَدَّمَ فِيهِ ذِكْرَ الْحَمْدِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَلِغَيْرِ اللَّهِ فَإِذَا قُلْتَ لِلَّهِ فَقَدْ تَقَيَّدَ الْحَمْدُ بِأَنْ يَكُونَ لِلَّهِ أَمَّا لَوْ قَدَّمَ قَوْلَهُ «نَعْبُدُ» احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَذَلِكَ كُفْرٌ، وَالنُّكْتَةُ أَنَّ الْحَمْدَ لَمَّا جَازَ لِغَيْرِ اللَّهِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ كَمَا جَازَ لِلَّهِ، لَا جَرَمَ حسن تقدم الحمد أما هاهنا فَالْعِبَادَةُ لَمَّا لَمْ تَجُزْ لِغَيْرِ اللَّهِ لَا جَرَمَ قَدَّمَ قَوْلَهُ إِيَّاكَ عَلَى نَعْبُدُ، فَتَعَيَّنَ الصَّرْفُ لِلْعِبَادَةِ فَلَا يَبْقَى فِي الْكَلَامِ احْتِمَالُ أَنْ تَقَعَ الْعِبَادَةُ لِغَيْرِ اللَّهِ. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: النُّونُ فِي قَوْلِهِ نَعْبُدُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ نُونَ الْجَمْعِ أَوْ نُونَ التَّعْظِيمِ، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ، لِأَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ جَمْعًا، وَالثَّانِي: بَاطِلٌ لِأَنَّ عِنْدَ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ، فَاللَّائِقُ بِالْإِنْسَانِ أَنْ يَذْكُرَ نَفْسَهُ بِالْعَجْزِ وَالذِّلَّةِ لَا بِالْعَظَمَةِ وَالرِّفْعَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ يَدُلُّ عَلَى حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ: فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ النُّونِ نُونُ الْجَمْعِ وَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى بِالْإِنْسَانِ أَنْ يُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ بِالْجَمَاعَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فَائِدَةَ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ مَعْلُومَةٌ فِي مَوْضِعِهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ، ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ أَكَلَ الثُّومَ أَوِ الْبَصَلَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْضُرَ الْجَمَاعَةَ لِئَلَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ إِنْسَانٌ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هَذِهِ الطَّاعَةُ الَّتِي لَهَا هَذَا الثَّوَابُ الْعَظِيمُ لَا يَفِي ثَوَابُهَا بِأَنْ يَتَأَذَّى وَاحِدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِرَائِحَةِ الثُّومِ وَالْبَصَلِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الثَّوَابُ لَا يَفِي بِذَلِكَ فَكَيْفَ يَفِي بِإِيذَاءِ الْمُسْلِمِ وَكَيْفَ يَفِي بِالنَّمِيمَةِ وَالْغِيبَةِ وَالسِّعَايَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ يُصَلِّي بِالْجَمَاعَةِ فَيَقُولُ نَعْبُدُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ ذَلِكَ الْجَمْعُ، وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي وَحْدَهُ كَانَ الْمُرَادُ أَنِّي أَعْبُدُكَ وَالْمَلَائِكَةُ مَعِي فِي الْعِبَادَةِ. فَكَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ نَعْبُدُ هُوَ وَجَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِخْوَةٌ فَلَوْ قَالَ إِيَّاكَ أَعْبُدُ لَكَانَ قَدْ ذَكَرَ عِبَادَةَ نَفْسِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ عِبَادَةَ غَيْرِهِ، أَمَّا لَمَّا قَالَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ كَانَ قَدْ ذَكَرَ عِبَادَةَ نَفْسِهِ وَعِبَادَةَ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا فَكَأَنَّهُ سَعَى فِي إِصْلَاحِ مُهِمَّاتِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ قَضَى اللَّهُ مُهِمَّاتِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ قَضَى لِمُسْلِمٍ حَاجَةً قَضَى اللَّهُ لَهُ جَمِيعَ حاجاته» .

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِلْعَبْدِ لَمَّا أَثْنَيْتَ عَلَيْنَا بِقَوْلِكَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وَفَوَّضْتَ إِلَيْنَا جَمِيعَ مَحَامِدِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَقَدْ عَظُمَ قَدْرُكَ عِنْدَنَا وَتَمَكَّنَتْ مَنْزِلَتُكَ فِي حَضْرَتِنَا، فَلَا تَقْتَصِرُ عَلَى إِصْلَاحِ مُهِمَّاتِكَ وَحْدَكَ، وَلَكِنْ أَصْلِحْ حَوَائِجَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَقُلْ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: كَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: إِلَهِي مَا بَلَغَتْ عِبَادَتِي إِلَى حَيْثُ أَسْتَحِقُّ أَنْ أَذْكُرَهَا وَحْدَهَا، لِأَنَّهَا مَمْزُوجَةٌ بِجِهَاتِ التَّقْصِيرِ، وَلَكِنِّي أَخْلِطُهَا بِعِبَادَاتِ جَمِيعِ الْعَابِدِينَ، وَأَذْكُرُ الْكُلَّ بِعِبَارَةٍ وَاحِدَةٍ وأقول إياك نعبد. وهاهنا مَسْأَلَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا بَاعَ مِنْ غَيْرِهِ عَشَرَةً مِنَ الْعَبِيدِ فَالْمُشْتَرِي إِمَّا أَنْ يَقْبَلَ الْكُلَّ، أَوْ لَا يَقْبَلَ وَاحِدًا مِنْهَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فِي تِلْكَ الصَّفْقَةِ فَكَذَا هُنَا إِذَا قالت الْعَبْدُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ فَقَدْ عَرَضَ عَلَى حَضْرَةِ اللَّهِ جَمِيعَ عِبَادَاتِ الْعَابِدِينَ، فَلَا يَلِيقُ بِكَرَمِهِ أَنْ يُمَيِّزَ الْبَعْضَ عَنِ الْبَعْضِ وَيَقْبَلَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، فَإِمَّا أَنْ يَرُدَّ الْكُلَّ وَهُوَ غَيْرُ/ جَائِزٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ دَخَلَ فِيهِ عِبَادَاتُ الْمَلَائِكَةِ وَعِبَادَاتُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَإِمَّا أَنْ يَقْبَلَ الْكُلَّ، وَحِينَئِذٍ تَصِيرُ عِبَادَةُ هَذَا الْقَائِلِ مَقْبُولَةً بِبَرَكَةِ قَبُولِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ، وَالتَّقْدِيرُ كَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: إِلَهِي إِنْ لَمْ تَكُنْ عِبَادَتِي مَقْبُولَةً فَلَا تَرُدَّنِي لِأَنِّي لَسْتُ بِوَحِيدٍ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ بَلْ نَحْنُ كَثِيرُونَ فَإِنْ لَمْ أَسْتَحِقَّ الْإِجَابَةَ وَالْقَبُولَ فَأَتَشَفَّعُ إِلَيْكَ بِعِبَادَاتِ سَائِرِ الْمُتَعَبِّدِينَ فَأَجِبْنِي. الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ عَرَفَ فَوَائِدَ الْعِبَادَةِ طَابَ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِهَا، وَثَقُلَ عَلَيْهِ الِاشْتِغَالُ بِغَيْرِهَا، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَمَالَ مَحْبُوبٌ بِالذَّاتِ، وَأَكْمَلُ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ وَأَقْوَاهَا فِي كَوْنِهَا سَعَادَةً اشْتِغَالُهُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَنِيرُ قَلْبُهُ بِنُورِ الْإِلَهِيَّةِ، وَيَتَشَرَّفُ لِسَانُهُ بِشَرَفِ الذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ، وَتَتَجَمَّلُ أَعْضَاؤُهُ بِجَمَالِ خِدْمَةِ اللَّهِ، وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ أَشْرَفُ الْمَرَاتِبِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالدَّرَجَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ حُصُولُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَعْظَمَ السَّعَادَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي الْحَالِ، وَهِيَ مُوجِبَةٌ أَيْضًا لِأَكْمَلِ السَّعَادَاتِ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَمَنْ وَقَفَ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ زَالَ عَنْهُ ثِقَلُ الطَّاعَاتِ وَعَظُمَتْ حَلَاوَتُهَا فِي قَلْبِهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْعِبَادَةَ أَمَانَةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ [الْأَحْزَابِ: 72]- الآية وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النِّسَاءِ: 58] وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَحْبُوبَةٌ بِالذَّاتِ، وَلِأَنَّ أَدَاءَ الْأَمَانَةِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ سَبَبٌ لِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ مِنَ الْجَانِبِ الثَّانِي، قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: رَأَيْتُ أَعْرَابِيًّا أَتَى بَابَ الْمَسْجِدِ فَنَزَلَ عَنْ نَاقَتِهِ وَتَرَكَهَا وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَصَلَّى بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَدَعَا بِمَا شَاءَ، فَتَعَجَّبْنَا، فَلَمَّا خَرَجَ لَمْ يَجِدْ نَاقَتَهُ فَقَالَ: إِلَهِي أَدَّيْتُ أَمَانَتَكَ فَأَيْنَ أَمَانَتِي؟ قَالَ الرَّاوِي فَزِدْنَا تَعَجُّبًا، فَلَمْ يَمْكُثْ حَتَّى جَاءَ رَجُلٌ عَلَى نَاقَتِهِ وَقَدْ قُطِعَ يَدُهُ وَسَلَّمَ النَّاقَةَ إِلَيْهِ، وَالنُّكْتَةُ أَنَّهُ لَمَّا حَفِظَ أَمَانَةَ اللَّهِ حَفِظَ اللَّهُ أَمَانَتَهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: «يَا غُلَامُ احْفَظِ اللَّهَ فِي الْخَلَوَاتِ يَحْفَظْكَ فِي الْفَلَوَاتِ» . الثَّالِثُ: أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْعِبَادَةِ انْتِقَالٌ مِنْ عَالَمِ الْغُرُورِ إِلَى عَالَمِ السُّرُورِ، وَمِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْخَلْقِ إِلَى حَضْرَةِ الْحَقِّ، وَذَلِكَ يُوجِبُ كَمَالَ اللَّذَّةِ وَالْبَهْجَةِ: يُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حَيَّةً سَقَطَتْ مِنَ السَّقْفِ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهَا، وَوَقَعَتِ الْآكِلَةُ فِي بَعْضِ أَعْضَاءِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَاحْتَاجُوا إِلَى قَطْعِ ذَلِكَ الْعُضْوِ، فَلَمَّا شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ قَطَعُوا مِنْهُ ذَلِكَ الْعُضْوَ فَلَمْ يَشْعُرْ عُرْوَةَ بِذَلِكَ الْقَطْعِ، وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ حِينَ يَشْرَعُ فِي الصَّلَاةِ كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ صَدْرِهِ، أَزِيزًا كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ، وَمَنِ اسْتَبْعَدَ هَذَا فَلْيَقْرَأْ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [يُوسُفَ: 31] فَإِنَّ النِّسْوَةَ لَمَّا غَلَبَ عَلَى قُلُوبِهِنَّ جَمَالُ يوسف

عليه السلام وصلت تلك الغلبة إلى حَيْثُ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَمَا شَعَرْنَ بِذَلِكَ، فَإِذَا جَازَ هَذَا فِي حَقِّ الْبَشَرِ فَلَأَنْ يَجُوزَ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ عَظَمَةِ اللَّهِ عَلَى الْقَلْبِ أَوْلَى، وَلَأَنَّ مَنْ دَخَلَ عَلَى مَلِكٍ مَهِيبٍ فَرُبَّمَا مَرَّ بِهِ أَبَوَاهُ وَبَنُوهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَعْرِفُهُمْ لِأَجْلِ أَنَّ اسْتِيلَاءَ هَيْبَةِ ذَلِكَ الملك تَمْنَعُ الْقَلْبَ عَنِ الشُّعُورِ بِهِمْ، فَإِذَا جَازَ هَذَا فِي حَقِّ مَلِكٍ مَخْلُوقٍ مُجَازَى فَلَأَنْ يَجُوزَ فِي حَقِّ خَالِقِ الْعَالَمِ أَوْلَى. ثُمَّ قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: الْعِبَادَةُ لَهَا ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ: الدَّرَجَةُ الْأُولَى: أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ طَمَعًا فِي الثَّوَابِ أَوْ هَرَبًا مِنَ الْعِقَابِ، وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى بِالْعِبَادَةِ، وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ نَازِلَةٌ سَاقِطَةٌ جِدًّا، لِأَنَّ مَعْبُودَهُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ ذَلِكَ الثَّوَابُ، وَقَدْ جَعَلَ الْحَقَّ وَسِيلَةً إِلَى نَيْلِ الْمَطْلُوبِ، وَمَنْ جَعَلَ الْمَطْلُوبَ بِالذَّاتِ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الْخَلْقِ وَجَعَلَ الْحَقَّ وَسِيلَةً إِلَيْهِ فَهُوَ خَسِيسٌ جِدًّا. وَالدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لِأَجْلِ أَنْ يَتَشَرَّفَ بِعِبَادَتِهِ، أَوْ يَتَشَرَّفَ بِقَبُولِ تَكَالِيفِهِ، أَوْ يَتَشَرَّفَ بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ، وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى مِنَ الْأُولَى، إِلَّا أَنَّهَا أَيْضًا لَيْسَتْ كَامِلَةً، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ غَيْرُ اللَّهِ. وَالدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لِكَوْنِهِ إِلَهًا وَخَالِقًا، وَلِكَوْنِهِ عَبْدًا لَهُ، وَالْإِلَهِيَّةُ تُوجِبُ الْهَيْبَةَ وَالْعِزَّةَ، وَالْعُبُودِيَّةُ تُوجِبُ الْخُضُوعَ وَالذِّلَّةَ، وَهَذَا أَعْلَى الْمَقَامَاتِ وَأَشْرَفُ الدرجات، وهذا هُوَ الْمُسَمَّى بِالْعُبُودِيَّةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ الْمُصَلِّي فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ أُصَلِّي لِلَّهِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ أَصُلِّي لِثَوَابِ اللَّهِ، أَوْ لِلْهَرَبِ مِنْ عِقَابِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَةَ وَالْعُبُودِيَّةَ مَقَامٌ عَالٍ شَرِيفٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْحِجْرِ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحِجْرِ: 97- 99] وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ فَأَمَرَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِالْعِبَادَةِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ جَلَالَةِ أَمْرِ الْعِبَادَةِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: التَّسْبِيحُ: وَهُوَ قَوْلُه فَسَبِّحْ وَالتَّحْمِيدُ: وَهُوَ قَوْلُهُ بِحَمْدِ رَبِّكَ، وَالسُّجُودُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَالْعِبَادَةُ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ تُزِيلُ ضِيقَ الْقَلْبِ، وَتُفِيدُ انْشِرَاحَ الصَّدْرِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ الْعِبَادَةَ تُوجِبُ الرُّجُوعَ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ، وَذَلِكَ يُوجِبُ زَوَالَ ضِيقِ الْقَلْبِ. الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: فِي شَرَفِ الْعُبُودِيَّةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الْإِسْرَاءِ: 1] وَلَوْلَا أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ أَشْرَفُ الْمَقَامَاتِ، وَإِلَّا لَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي أَعْلَى مَقَامَاتِ الْمِعْرَاجِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْعُبُودِيَّةُ أَشْرَفُ مِنَ الرِّسَالَةِ، لِأَنَّ بِالْعُبُودِيَّةِ يَنْصَرِفُ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ، وَبِالرِّسَالَةِ يَنْصَرِفُ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْخَلْقِ، وَأَيْضًا بِسَبَبِ الْعُبُودِيَّةِ يَنْعَزِلُ عَنِ التَّصَرُّفَاتِ، وَبِسَبَبِ الرِّسَالَةِ يُقْبِلُ على التصرفات، واللائق بالعبد والانعزال عَنِ التَّصَرُّفَاتِ، وَأَيْضًا الْعَبْدُ يَتَكَفَّلُ الْمَوْلَى بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِهِ، وَالرَّسُولُ هُوَ الْمُتَكَفِّلُ بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِ الْأُمَّةِ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا. الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: فِي شَرَفِ الْعُبُودِيَّةِ: أَنَّ عِيسَى أَوَّلَ مَا نَطَقَ قَالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مَرْيَمَ: 30] وَصَارَ ذِكْرُهُ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ سَبَبًا لِطَهَارَةِ أُمِّهِ، وَلِبَرَاءَةِ وُجُودِهِ عَنِ الطَّعْنِ، وَصَارَ مِفْتَاحًا لِكُلِّ الْخَيْرَاتِ، وَدَافِعًا لِكُلِّ الآفات،

وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ أَوَّلُ كَلَامِ عِيسَى ذِكْرَ الْعُبُودِيَّةِ كَانَتْ عَاقِبَتُهُ الرِّفْعَةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَرافِعُكَ إِلَيَّ، [آلِ عِمْرَانَ: 55] وَالنُّكْتَةُ أَنَّ الَّذِي ادَّعَى الْعُبُودِيَّةَ بِالْقَوْلِ رُفِعَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالَّذِي يَدَّعِيهَا بِالْعَمَلِ سَبْعِينَ سَنَةً كَيْفَ يَبْقَى مَحْرُومًا عَنِ الْجَنَّةِ. الْآيَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طَهَ: 14] أَمَرَهُ بِعْدَ التَّوْحِيدِ بِالْعُبُودِيَّةِ، لِأَنَ التَّوْحِيدَ أَصْلٌ، وَالْعُبُودِيَّةَ فَرْعٌ، وَالتَّوْحِيدُ شَجَرَةٌ، وَالْعُبُودِيَّةُ ثَمَرَةٌ، وَلَا قِوَامَ لِأَحَدِهِمَا إِلَّا بِالْآخَرِ، فَهَذِهِ الْآيَاتُ دَالَّةٌ عَلَى شَرَفِ الْعُبُودِيَّةِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَظَاهِرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُحْدَثٌ مُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، فَلَوْلَا تَأْثِيرُ قُدْرَةِ الْحَقِّ فِيهِ لَبَقِيَ فِي ظُلْمَةِ الْعَدَمِ وَفِي فَنَاءِ الْفَنَاءِ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْوُجُودُ فَضْلًا عَنْ كَمَالَاتِ الْوُجُودِ، فَلَمَّا تَعَلَّقَتْ قُدْرَةُ الْحَقِّ بِهِ وَفَاضَتْ عَلَيْهِ آثَارُ جُودِهِ وَإِيجَادِهِ حَصَلَ لَهُ الْوُجُودُ وَكَمَالَاتُ الْوُجُودِ وَلَا مَعْنَى لِكَوْنِهِ مَقْدُورَ قُدْرَةِ الْحَقِّ وَلِكَوْنِهِ مُتَعَلَّقَ إِيجَادِ الْحَقِّ إِلَّا الْعُبُودِيَّةُ، فَكُلُّ شَرَفٍ وَكَمَالٍ وَبَهْجَةٍ وَفَضِيلَةٍ وَمَسَرَّةٍ وَمَنْقَبَةٍ حَصَلَتْ لِلْعَبْدِ فَإِنَّمَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ الْعُبُودِيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَ الْعُبُودِيَّةَ مِفْتَاحُ الْخَيْرَاتِ، وَعُنْوَانُ السَّعَادَاتِ، وَمَطْلَعُ الدَّرَجَاتِ، وَيَنْبُوعُ الْكَرَامَاتِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ الْعَبْدُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وَكَانَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَقُولُ: (كَفَى بِي فَخْرًا أَنْ أَكُونَ لَكَ عَبْدًا، وَكَفَى بِي شَرَفًا أَنْ تَكُونَ لِي رَبًّا، اللَّهُمَّ إِنِّي وَجَدْتُكَ إِلَهًا كَمَا أَرَدْتَ فَاجْعَلْنِي عَبْدًا كَمَا أَرَدْتَ) . الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقَامَاتِ مَحْصُورَةٌ فِي مَقَامَيْنِ: مَعْرِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَمَعْرِفَةُ الْعُبُودِيَّةِ وَعِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا يَحْصُلُ الْعَهْدُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 40] أَمَّا مَعْرِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ فَكَمَالُهَا مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فَكَوْنُ الْعَبْدِ/ مُنْتَقِلًا مِنَ الْعَدَمِ السَّابِقِ إِلَى الْوُجُودِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ إِلَهًا، وَحُصُولُ الْخَيْرَاتِ وَالسَّعَادَاتِ لِلْعَبْدِ حَالَ وُجُودِهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ رَبًّا رَحْمَانًا رَحِيمًا، وَأَحْوَالُ مَعَادِ الْعَبْدِ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ، وَعِنْدَ الْإِحَاطَةِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ حَصَلَتْ مَعْرِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ، وَبَعْدَهَا جَاءَتْ مَعْرِفَةُ الْعُبُودِيَّةِ، وَلَهَا مَبْدَأٌ وَكَمَالٌ، وَأَوَّلُ وَآخِرُ، أَمَّا مَبْدَؤُهَا وَأَوَّلُهَا فَهُوَ الِاشْتِغَالُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَهُوَ الْمُرَادُ، بِقَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَأَمَّا كَمَالُهَا فهو أن يعرف العبد أَنَّهُ لَا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْتَعِينُ بِاللَّهِ فِي تَحْصِيلِ كُلِّ الْمَطَالِبِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَلَمَّا تَمَّ الْوَفَاءُ بِعَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَبِعَهْدِ الْعُبُودِيَّةِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْفَائِدَةِ وَالثَّمَرَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وَهَذَا تَرْتِيبٌ شَرِيفٌ رَفِيعٌ عَالٍ يَمْتَنِعُ فِي الْعُقُولِ حُصُولُ تَرْتِيبٍ آخَرَ أَشْرَفَ مِنْهُ. الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ كُلُّهُ مَذْكُورٌ عَلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ، وَقَوْلُهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ انْتِقَالٌ مِنْ لَفْظِ الْغَيْبَةِ إِلَى لَفْظِ الْخِطَابِ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُصَلِّيَ كَانَ أَجْنَبِيًّا عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا جَرَمَ أَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِأَلْفَاظِ الْمُغَايَبَةِ إِلَى قَوْلِهِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ حَمِدْتَنِي وَأَقْرَرْتَ بِكَوْنِي إِلَهًا رَبًّا رَحْمَانًا رَحِيمًا مَالِكًا لِيَوْمِ الدِّينِ، فَنِعْمَ الْعَبْدُ أَنْتَ قَدْ رَفَعْنَا الْحِجَابَ وَأَبْدَلْنَا الْبُعْدَ بِالْقُرْبِ فَتَكَلَّمْ بِالْمُخَاطَبَةِ وَقُلْ إِيَّاكَ نَعْبُدُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ أَحْسَنَ السُّؤَالِ مَا وَقَعَ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَافَهَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَمَّا سَأَلُوا رَبَّهُمْ شَافَهُوهُ بِالسُّؤَالِ فَقَالُوا: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: 23] ، ورَبَّنَا اغْفِرْ لَنا [آل عمران: 147] ، ورَبِّ هَبْ لِي

الفصل السادس في قوله وإياك نستعين

[آل عمران: 38] ، ورَبِّ أَرِنِي [الْأَعْرَافِ: 143] وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الرَّدَّ مِنَ الْكَرِيمِ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَافَهَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ بَعِيدٌ وَأَيْضًا الْعِبَادَةُ خِدْمَةٌ، وَالْخِدْمَةُ فِي الْحُضُورِ أَوْلَى. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى قَوْلِهِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ثَنَاءً، وَالثَّنَاءُ فِي الْغَيْبَةِ أَوْلَى، وَمِنْ قَوْلِهِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ دُعَاءٌ، وَالدُّعَاءُ فِي الْحُضُورِ أَوْلَى. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: الْعَبْدُ لَمَّا شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ نَوَيْتُ أَنْ أُصَلِّيَ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ فَيَنْوِي حُصُولَ الْقُرْبَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ هَذِهِ النِّيَّةِ أَنْوَاعًا مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، فَاقْتَضَى كَرَمُ اللَّهِ إِجَابَتَهُ فِي تَحْصِيلِ تِلْكَ الْقُرْبَةِ، فَنَقَلَهُ مِنْ مَقَامِ الْغَيْبَةِ إِلَى مَقَامِ الْحُضُورِ، فَقَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. الْفَصْلُ السادس في قوله وإياك نستعين معنى قَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ: اعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّهُ لَا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ مِنَ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، أَمَّا الْعَقْلُ فَمِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَادِرَ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ عَلَى السَّوِيَّةِ، فَمَا لَمْ يَحْصُلِ الْمُرَجَّحُ لَمْ يَحْصُلِ الرُّجْحَانُ، وَذَلِكَ الْمُرَجَّحُ لَيْسَ مِنَ الْعَبْدِ، وَإِلَّا لَعَادَ فِي الطَّلَبِ، فَهُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْكِنُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْفِعْلِ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ. الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ يَطْلُبُونَ الدِّينَ الْحَقَّ وَالِاعْتِقَادَ الصِّدْقَ مَعَ اسْتِوَائِهِمْ فِي الْقُدْرَةِ وَالْعَقْلِ وَالْجِدِّ وَالطَّلَبِ، فَفَوْزُ الْبَعْضِ بِدَرْكِ الْحَقِّ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِعَانَةِ مُعِينٍ، وَمَا ذَاكَ الْمُعِينُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُعِينَ لَوْ كَانَ بَشَرًا أَوْ مَلَكًا لَعَادَ الطَّلَبُ فِيهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُطَالَبُ بِشَيْءٍ مُدَّةً مَدِيدَةً وَلَا يَأْتِي بِهِ، ثُمَّ فِي أَثْنَاءِ حَالٍ أَوْ وَقْتٍ يَأْتِي بِهِ وَيُقْدِمُ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَّفِقُ لَهُ تِلْكَ الْحَالَةُ إِلَّا إِذَا وَقَعَتْ دَاعِيَةٌ جَازِمَةٌ فِي قَلْبِهِ تَدْعُوهُ إِلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَإِلْقَاءُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ فِي الْقَلْبِ وَإِزَالَةُ الدَّوَاعِي الْمُعَارِضَةِ لَهَا لَيْسَتْ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا مَعْنَى لِلْإِعَانَةِ إِلَّا ذَلِكَ. وَأَمَّا النَّقْلُ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ: أُولَاهَا: قَوْلُهُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وَثَانِيتُهَا: قَوْلُهُ: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ [الْأَعْرَافِ: 128] وَقَدِ اضْطَرَبَتِ الْجَبْرِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَمَّا الْجَبْرِيَّةُ فَقَالُوا: لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُسْتَقِلًّا بِالْفِعْلِ لَمَا كَانَ لِلِاسْتِعَانَةِ عَلَى الْفِعْلِ فَائِدَةٌ، وَأَمَّا الْقَدَرِيَّةُ فَقَالُوا الِاسْتِعَانَةُ إِنَّمَا تَحْسُنُ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَصْلِ الْفِعْلِ، فَتَبْطُلُ الْإِعَانَةُ مِنَ الْغَيْرِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْفِعْلِ لَمْ تَكُنْ لِلِاسْتِعَانَةِ فَائِدَةٌ. وَعِنْدِي أَنَّ الْقُدْرَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْفِعْلِ إِلَّا مَعَ الدَّاعِيَةِ الْجَازِمَةِ، فَالْإِعَانَةُ الْمَطْلُوبَةُ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ الدَّاعِيَةِ الْجَازِمَةِ، وَإِزَالَةِ الدَّاعِيَةِ الصَّارِفَةِ وَلْنَذْكُرْ مَا فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنَ اللَّطَائِفِ وَالْفَوَائِدِ: - الْفَائِدَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الِاسْتِعَانَةُ عَلَى الْعَمَلِ إِنَّمَا تحسن قبل الشروع في العمل وهاهنا ذَكَرَ قَوْلَهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: كَأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَقُولُ: شَرَعْتُ فِي الْعِبَادَةِ فَأَسْتَعِينُ بِكَ فِي إِتْمَامِهَا، فَلَا تَمْنَعْنِي مِنْ إِتْمَامِهَا بِالْمَوْتِ وَلَا بِالْمَرَضِ وَلَا بِقَلْبِ الدَّوَاعِي وَتَغَيُّرِهَا. الثَّانِي: كَأَنَّ الْإِنْسَانَ يَقُولُ: يَا إِلَهِي إِنِّي أَتَيْتُ بِنَفْسِي إِلَّا أَنَّ لِي قَلْبًا يَفِرُّ مِنِّي، فَأَسْتَعِينُ بِكَ فِي

الفصل السابع في قوله اهدنا الصراط المستقيم، وفيه فوائد

إِحْضَارِهِ، وَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ إِحْضَارُ الْقَلْبِ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ. الثَّالِثُ: لَا أُرِيدُ فِي الْإِعَانَةِ غَيْرَكَ لَا جِبْرِيلَ وَلَا مِيكَائِيلَ، بَلْ أُرِيدُكَ وَحْدَكَ وَأَقْتَدِي فِي هَذَا الْمَذْهَبِ بِالْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ لَمَّا قَيَّدَ نُمْرُوذُ رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ وَرَمَاهُ فِي النَّارِ جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ مِنْ حَاجَةٍ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا، فَقَالَ: سَلْهُ، فَقَالَ: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي، بَلْ رُبَّمَا أَزِيدُ عَلَى الْخَلِيلِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قُيِّدَ رِجْلَاهُ وَيَدَاهُ لَا غَيْرَ، وَأَمَّا أَنَا فَقُيِّدَتْ رِجْلَيَّ فَلَا أَسِيرُ، وَيَدَيَّ فَلَا أُحَرِّكُهُمَا، وَعَيْنَيَّ فَلَا أَنْظُرُ بِهِمَا، وَأُذُنَيَّ فَلَا أَسْمَعُ بِهِمَا، وَلِسَانِي فَلَا أَتَكَلَّمُ بِهِ، وَكَانَ الْخَلِيلُ مُشْرِفًا عَلَى نَارِ نُمْرُوذَ وَأَنَا مُشْرِفٌ عَلَى نَارِ جَهَنَّمَ، فَكَمَا لَمْ يَرْضَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِغَيْرِكَ مُعِينًا فَكَذَلِكَ لَا أُرِيدُ مُعِينًا غَيْرَكَ، فَإِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نستعين، فكأنه تَعَالَى يَقُولُ: أَتَيْتَ بِفِعْلِ الْخَلِيلِ وَزِدْتَ عَلَيْهِ، فَنَحْنُ نَزِيدُ أَيْضًا فِي الْجَزَاءِ لِأَنَّا ثَمَّتَ قُلْنَا: يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الْأَنْبِيَاءِ: 69] وَأَمَّا أَنْتَ فَقَدْ نَجَّيْنَاكَ مِنَ النَّارِ، وَأَوْصَلْنَاكَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَزِدْنَاكَ سَمَاعَ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ، وَرُؤْيَةَ الْمَوْجُودِ القديم، وكما أنا قلنا لنار نمروذ يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ فَكَذَلِكَ تَقُولُ لَكَ نَارُ جَهَنَّمَ: جُزْ يَا مُؤْمِنُ قَدْ أَطْفَأَ نُورُكَ لَهَبِي. الرَّابِعُ: إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ: أَيْ: لَا أَسْتَعِينُ بِغَيْرِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ لَا يُمْكِنُهُ إِعَانَتِي إِلَّا إِذَا أَعَنْتَهُ عَلَى تِلْكَ الْإِعَانَةِ، فَإِذَا كَانَتْ إِعَانَةُ الْغَيْرِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِإِعَانَتِكَ فَلْنَقْطَعْ هَذِهِ الْوَاسِطَةَ وَلْنَقْتَصِرْ عَلَى إِعَانَتِكَ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ يَقْتَضِي حُصُولَ رُتْبَةٍ عَظِيمَةٍ لِلنَّفْسِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ يُورِثُ الْعُجْبَ فَأَرْدَفَ بِقَوْلِهِ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الرُّتْبَةَ الْحَاصِلَةَ بِسَبَبِ الْعِبَادَةِ مَا حَصَلَتْ مِنْ قُوَّةِ الْعَبْدِ، بَلْ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِإِعَانَةِ اللَّهِ فَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ قَوْلِهِ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إِزَالَةُ الْعُجْبِ وَإِفْنَاءُ تِلْكَ النَّخْوَةِ وَالْكِبْرِ. الْفَصْلُ السَّابِعُ فِي قوله اهدنا الصراط المستقيم، وفيه فوائد معنى قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْمُصَلِّي لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُهْتَدٍ، فَالْمُصَلِّي مُهْتَدٍ، فَإِذَا قَالَ: اهْدِنَا كَانَ جَارِيًا مَجْرَى أَنَّ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ الْهِدَايَةُ فَإِنَّهُ يَطْلُبُ الْهِدَايَةَ فَكَانَ هَذَا طَلَبًا لِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَإِنَّهُ مُحَالٌ، وَالْعُلَمَاءُ أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: - الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ صِرَاطُ الْأَوَّلِينَ فِي تَحَمُّلِ الْمَشَاقِ الْعَظِيمَةِ لِأَجْلِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى. يُحْكَى أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُضْرَبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ كَذَا مَرَّاتٍ بِحَيْثُ يُغْشَى عَلَيْهِ، وَكَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ: اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ رَسُولَنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا قَالَ ذَلِكَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهُوَ كَانَ يَقُولُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّاتٍ فَلَزِمَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَالْجَوَابُ لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ طَلَبَ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ كَذَا مَرَّةٍ كَانَ تَكَلُّمُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ أَكْثَرَ مِنْ تَكَلُّمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ بَيَّنُوا أَنَّ فِي كُلِّ خُلُقٍ مِنَ الْأَخْلَاقِ طَرَفَيْ تَفْرِيطٍ وإفراط، وهما

مَذْمُومَانِ، وَالْحَقُّ هُوَ الْوَسَطُ، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَةِ: 143] وَذَلِكَ الْوَسَطُ هُوَ الْعَدْلُ وَالصَّوَابُ، فَالْمُؤْمِنُ بَعْدَ أَنْ عَرَفَ اللَّهَ بِالدَّلِيلِ صَارَ مُؤْمِنًا مُهْتَدِيًا، أَمَّا بَعْدَ حُصُولِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْعَدْلِ الَّذِي هُوَ الْخَطُّ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ فِي الْأَعْمَالِ الشَّهْوَانِيَّةِ وَفِي الْأَعْمَالِ الْغَضَبِيَّةِ وَفِي كَيْفِيَّةِ إِنْفَاقِ الْمَالِ، فَالْمُؤْمِنُ يَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَهْدِيَهُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي هُوَ الْوَسَطُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ فِي كُلِّ الْأَخْلَاقِ وَفِي كُلِّ الْأَعْمَالِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا عَرَفَ اللَّهَ بِدَلِيلٍ وَاحِدٍ فَلَا مَوْجُودَ مِنْ أَقْسَامِ الْمُمْكِنَاتِ إِلَّا وَفِيهِ دَلَائِلُ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَجُودِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَرُبَّمَا صَحَّ دِينُ الْإِنْسَانِ بِالدَّلِيلِ الْوَاحِدِ وَبَقِيَ غَافِلًا عَنْ سَائِرِ الدَّلَائِلِ، فَقَوْلُهُ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ مَعْنَاهُ عَرِّفْنَا يَا إِلَهَنَا مَا فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ كَيْفِيَّةِ دَلَالَتِهِ عَلَى ذَاتِكَ وَصِفَاتِكَ وَقُدْرَتِكَ وَعِلْمِكَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الشُّورَى: 52، 53] وَقَالَ أَيْضًا لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الْأَنْعَامِ: 153] وَذَلِكَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُعْرِضًا عَمَّا سِوَى اللَّهِ مُقْبِلًا بِكُلِّيَّةِ قَلْبِهِ وَفِكْرِهِ وَذِكْرِهِ عَلَى اللَّهِ، فَقَوْلُهُ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ الْمُرَادُ أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْمَوْصُوفِ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، مِثَالُهُ أَنْ يَصِيرَ بِحَيْثُ لَوْ أُمِرَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ لَأَطَاعَ كَمَا فَعَلَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَوْ أُمِرَ بِأَنْ يَنْقَادَ لِيَذْبَحَهُ غَيْرُهُ لَأَطَاعَ كَمَا فَعَلَهُ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَوْ أُمِرَ بِأَنْ يَرْمِيَ نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ لَأَطَاعَ كَمَا فَعَلَهُ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَوْ أُمِرَ بِأَنْ يَتَّلْمَذَ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ/ بَعْدَ بُلُوغِهِ فِي الْمَنْصِبِ إِلَى أَعْلَى الْغَايَاتِ لَأَطَاعَ كَمَا فَعَلَهُ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَلَوْ أُمِرَ بِأَنْ يَصْبِرَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى الْقَتْلِ وَالتَّفْرِيقِ نِصْفَيْنِ لَأَطَاعَ كَمَا فَعَلَهُ يَحْيَى وَزَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ الِاقْتِدَاءُ بِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ فِي الصَّبْرِ عَلَى الشَّدَائِدِ وَالثَّبَاتِ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مَقَامٌ شَدِيدٌ هَائِلٌ، لِأَنَّ أَكْثَرَ الْخَلْقِ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا، فَإِنَّهُ لَا يَضِيقُ أَمْرٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِلَّا اتَّسَعَ، لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ صِرَاطَ الَّذِينَ ضَرَبُوا وَقَتَلُوا بَلْ قَالَ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فَلْتَكُنْ نِيَّتُكَ عِنْدَ قِرَاءَةِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ تَقُولَ: يَا إِلَهِي، إِنَّ وَالِدِي رَأَيْتُهُ ارْتَكَبَ الْكَبَائِرَ، كَمَا ارْتَكَبْتُهَا وَأَقْدَمَ عَلَى الْمَعَاصِي كَمَا أَقْدَمْتُ عَلَيْهَا، ثُمَّ رَأَيْتُهُ لَمَّا قَرُبَ مَوْتُهُ تَابَ وَأَنَابَ فَحَكَمْتَ لَهُ بِالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ فَهُوَ مِمَّنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بِأَنْ وَفَّقْتَهُ لِلتَّوْبَةِ، ثُمَّ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بِأَنْ قَبِلْتَ تَوْبَتَهُ. فَأَنَا أَقُولُ: اهْدِنَا إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ طَلَبًا لِمَرْتَبَةِ التَّائِبِينَ، فَإِذَا وَجَدْتَهَا فَاطْلُبِ الِاقْتِدَاءَ بِدَرَجَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَهَذَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: كَأَنَّ الْإِنْسَانَ يَقُولُ فِي الطَّرِيقِ: كَثْرَةُ الْأَحْبَابِ يَجُرُّونَنِي إِلَى طَرِيقٍ، وَالْأَعْدَاءُ إِلَى طَرِيقٍ ثَانٍ، وَالشَّيْطَانُ إِلَى طَرِيقٍ ثَالِثٍ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي التَّعْطِيلِ وَالتَّشْبِيهِ وَالْجَبْرِ وَالْقَدَرِ وَالْإِرْجَاءِ وَالْوَعِيدِ وَالرَّفْضِ وَالْخُرُوجِ، وَالْعَقْلُ ضَعِيفٌ، وَالْعُمْرُ قَصِيرٌ، وَالصِّنَاعَةُ طَوِيلَةٌ، وَالتَّجْرِبَةُ خَطِرَةٌ، وَالْقَضَاءُ عَسِيرٌ، وَقَدْ تَحَيَّرْتُ فِي الْكُلِّ فَاهْدِنِي إِلَى طَرِيقٍ أَخْرُجُ مِنْهُ إِلَى الْجَنَّةِ. وَالْمُسْتَقِيمُ: السَّوِيُّ الَّذِي لَا غِلَظَ فِيهِ.

يُحْكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، فَإِذَا أَعْرَابِيٌّ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ فَقَالَ: يَا شَيْخُ إِلَى أَيْنَ؟ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، قَالَ كَأَنَّكَ مَجْنُونٌ لَا أَرَى لَكَ مَرْكَبًا، وَلَا زَادًا، وَالسَّفَرُ طَوِيلٌ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ لِي مَرَاكِبَ كَثِيرَةً وَلَكِنَّكَ لَا تَرَاهَا، قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: إِذَا نَزَلَتْ عَلَيَّ بَلِيَّةٌ رَكِبْتُ مَرْكَبَ الصَّبْرِ، وَإِذَا نَزَلَ عَلَيَّ نِعْمَةٌ رَكِبْتُ مَرْكَبَ الشُّكْرِ وَإِذَا نَزَلَ بِيَ الْقَضَاءُ رَكِبْتُ مَرْكَبَ الرِّضَا، وَإِذَا دَعَتْنِي النَّفْسُ إِلَى شَيْءٍ عَلِمْتُ أَنَّ مَا بَقِيَ مِنَ الْعُمُرِ أَقَلُّ مِمَّا مَضَى فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: سِرْ بِإِذْنِ اللَّهِ فَأَنْتَ الرَّاكِبُ وَأَنَا الرَّاجِلُ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: الْإِسْلَامُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْقُرْآنُ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بَدَلٌ مِنَ الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ التَّقْدِيرُ اهْدِنَا صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَمَنْ تَقَدَّمَنَا مِنَ الْأُمَمِ/ مَا كَانَ لَهُمُ الْقُرْآنُ وَالْإِسْلَامُ، وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ اهْدِنَا صِرَاطَ الْمُحِقِّينَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا قَالَ الصِّرَاطَ وَلَمْ يَقُلِ السَّبِيلَ وَلَا الطَّرِيقَ وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ وَاحِدًا لِيَكُونَ لَفْظُ الصِّرَاطِ مُذَكِّرًا لِصِرَاطِ جَهَنَّمَ فَيَكُونُ الْإِنْسَانُ عَلَى مَزِيدِ خَوْفٍ وَخَشْيَةٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ اهْدِنَا: أَيْ ثَبِّتْنَا عَلَى الْهِدَايَةِ الَّتِي وَهَبْتَهَا مِنَّا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا [آلِ عِمْرَانَ: 8] أَيْ ثَبِّتْنَا عَلَى الْهِدَايَةِ فَكَمْ مِنْ عَالِمٍ وَقَعَتْ لَهُ شُبْهَةٌ ضَعِيفَةٌ فِي خَاطِرِهِ فَزَاغَ وَذَلَّ وَانْحَرَفَ عَنِ الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالْمَنْهَجِ الْمُسْتَقِيمِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ قَالَ اهْدِنَا وَلَمْ يَقُلْ اهْدِنِي؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الدُّعَاءَ كُلَّمَا كَانَ أَعَمَّ كَانَ إِلَى الْإِجَابَةِ أَقْرَبُ. كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يقول لتلامذته: إذ قَرَأْتُمْ فِي خُطْبَةِ السَّابِقِ «وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَعَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ» إِنْ نَوَيْتَنِي فِي قَوْلِكَ «رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ» فَحَسَنٌ، وَإِلَّا فَلَا حَرَجَ، وَلَكِنْ إِيَّاكَ وَأَنْ تَنْسَانِي فِي قَوْلِكَ «وَعَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ» لِأَنَّ قَوْلَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ تَخْصِيصٌ بِالدُّعَاءِ فَيَجُوزُ أَنْ لَا يُقْبَلَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَعَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْإِجَابَةَ، وَإِذَا أَجَابَ اللَّهُ الدُّعَاءَ فِي الْبَعْضِ فَهُوَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَرُدَّهُ فِي الْبَاقِي، وَلِهَذَا السَّبَبِ فَإِنَّ السُّنَّةَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ دُعَاءً أَنْ يُصَلِّيَ أَوَّلًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَدْعُو ثُمَّ يَخْتِمُ الْكَلَامَ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَانِيًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُجِيبُ الدَّاعِيَ فِي صَلَاتِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِذَا أُجِيبَ فِي طَرَفَيْ دُعَائِهِ امْتَنَعَ أَنْ يُرَدَّ فِي وَسَطِهِ. الثَّانِي: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ادْعُوا اللَّهَ بِأَلْسِنَةٍ مَا عَصَيْتُمُوهُ بِهَا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ لَنَا بِتِلْكَ الْأَلْسِنَةِ، قَالَ يَدْعُو بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ، لِأَنَّكَ مَا عَصَيْتَ بِلَسَانِهِ وَهُوَ مَا عَصَى بِلِسَانِكَ. وَالثَّالِثُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ، أَلَسْتَ قُلْتَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَمَا قُلْتَ أَحْمَدُ اللَّهَ فَذَكَرْتَ أَوَّلًا حَمْدَ جَمِيعِ الْحَامِدِينَ فَكَذَلِكَ فِي وَقْتِ الدُّعَاءِ أَشْرِكْهُمْ فَقُلِ اهْدِنَا. الرَّابِعُ: كَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَكَ يَقُولُ: الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ، فَلَمَّا أَرَدْتُ تَحْمِيدَكَ ذَكَرْتُ حَمْدَ الْجَمِيعِ فَقُلْتُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَمَّا ذَكَرْتُ الْعِبَادَةَ ذَكَرْتُ عِبَادَةَ الْجَمِيعِ فَقُلْتُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَمَّا ذَكَرْتُ الِاسْتِعَانَةَ ذَكَرْتُ اسْتِعَانَةَ الْجَمِيعِ فَقُلْتُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، فَلَا جَرَمَ لَمَّا طَلَبْتُ الْهِدَايَةَ طَلَبْتُهَا لِلْجَمِيعِ فَقُلْتُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَلَمَّا طَلَبْتُ الِاقْتِدَاءَ بِالصَّالِحِينَ طَلَبْتُ الِاقْتِدَاءَ بِالْجَمِيعِ فَقُلْتُ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وَلَمَّا طَلَبْتُ الْفِرَارَ مِنَ الْمَرْدُودِينَ فَرَرْتُ مِنَ الْكُلِّ فَقُلْتُ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، فَلَمَّا لَمْ أفارق

الفصل الثامن في تفسير قوله صراط الذين أنعمت عليهم، وفيه فوائد:

الْأَنْبِيَاءَ/ وَالصَّالِحِينَ فِي الدُّنْيَا فَأَرْجُو أَنْ لَا أُفَارِقَهُمْ فِي الْقِيَامَةِ، قَالَ تَعَالَى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ [النِّسَاءِ: 69] الآية. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْهَنْدَسَةِ قَالُوا الْخَطُّ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ أَقْصَرُ خَطٍّ يَصِلُ بَيْنَ نُقْطَتَيْنِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخَطَّ الْمُسْتَقِيمَ أَقْصَرُ مِنْ جَمِيعِ الْخُطُوطِ الْمُعْوَجَّةِ، فَكَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَقْرَبُ الْخُطُوطِ وَأَقْصَرُهَا، وَأَنَا عَاجِزٌ فَلَا يَلِيقُ بِضَعْفِي إِلَّا الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُسْتَقِيمَ وَاحِدٌ وَمَا عَدَاهُ مُعْوَجَّةٌ وَبَعْضُهَا يُشْبِهُ بَعْضًا فِي الِاعْوِجَاجِ فَيَشْتَبِهُ الطَّرِيقُ عَلَيَّ، أَمَّا الْمُسْتَقِيمُ فَلَا يُشَابِهُهُ غَيْرُهُ فَكَانَ أَبْعَدَ عَنِ الْخَوْفِ وَالْآفَاتِ وَأَقْرَبَ إِلَى الْأَمَانِ. الثَّالِثُ: الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ يُوصِلُ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَالْمُعْوَجُّ لَا يُوصِلُ إِلَيْهِ. وَالرَّابِعُ: الْمُسْتَقِيمُ لَا يَتَغَيَّرُ، وَالْمُعْوَجُّ يَتَغَيَّرُ، فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ سَأَلَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْفَصْلُ الثَّامِنُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ فوائد: معنى قوله (صراط الذين أنعمت عليهم) : الْفَائِدَةُ الْأُولَى: فِي حَدِّ النِّعْمَةِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، ومنهم من يقول: المنفعة الحسنة المفعولة على جِهَةِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْغَيْرِ، قَالُوا وَإِنَّمَا زِدْنَا هَذَا الْقَيْدَ لِأَنَّ النِّعْمَةَ يُسْتَحَقُّ بِهَا الشُّكْرُ، وَإِذَا كَانَتْ قَبِيحَةً لَا يُسْتَحَقُّ بِهَا الشُّكْرُ، وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، لِأَنَّهُ يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فِعْلُهُ مَحْظُورًا، لِأَنَّ جِهَةَ اسْتِحْقَاقِ الشُّكْرِ غَيْرُ جهة استحقاق الذَّنْبِ وَالْعِقَابِ، فَأَيُّ امْتِنَاعٍ فِي اجْتِمَاعِهِمَا؟ أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَاسِقَ يَسْتَحِقُّ بِإِنْعَامِهِ الشُّكْرَ، وَالذَّمَّ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الأمر هاهنا كذلك. ولنرجع إلى تفسير الخد الْمَذْكُورِ فَنَقُولُ: أَمَّا قَوْلُنَا «الْمَنْفَعَةُ» فَلِأَنَّ الْمَضَرَّةَ الْمَحْضَةَ لَا تَكُونُ نِعْمَةً، وَقَوْلُنَا «الْمَفْعُولَةُ عَلَى جِهَةِ الْإِحْسَانِ» لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَفْعًا حَقًّا وَقَصَدَ الْفَاعِلُ بِهِ نَفْعَ نَفْسِهِ لَا نَفْعَ الْمَفْعُولِ بِهِ لَا يَكُونُ نِعْمَةً، وَذَلِكَ كَمَنْ أَحْسَنَ إِلَى جَارِيَتِهِ لِيَرْبَحَ عَلَيْهَا. إِذَا عَرَفْتَ حَدَّ النِّعْمَةِ فَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ فُرُوعٌ: الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا يَصِلُ إِلَى الْخَلْقِ مِنَ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ فَهُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النَّحْلِ: 53] ثُمَّ إِنَّ النِّعْمَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: نِعْمَةٌ تَفَرَّدَ لله بِإِيجَادِهَا، نَحْوَ أَنْ خَلَقَ وَرَزَقَ. وَثَانِيهَا: نِعْمَةٌ وَصَلَتْ مِنْ جِهَةِ غَيْرِ اللَّهِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ فَهِيَ أَيْضًا إِنَّمَا وَصَلَتْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ/ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِتِلْكَ النِّعْمَةِ، وَالْخَالِقُ لِذَلِكَ الْمُنْعِمِ، وَالْخَالِقُ لِدَاعِيَةِ الْإِنْعَامِ بِتِلْكَ النِّعْمَةِ فِي قَلْبِ ذَلِكَ الْمُنْعِمِ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَجْرَى تِلْكَ النِّعْمَةَ عَلَى يَدِ ذَلِكَ الْعَبْدِ كَانَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَشْكُورًا، وَلَكِنَّ الْمَشْكُورَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَلِهَذَا قَالَ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لُقْمَانَ: 14] فَبَدَأَ بِنَفْسِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ إِنْعَامَ الْخَلْقِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِإِنْعَامِ اللَّهِ، وَثَالِثُهَا: نِعَمٌ وَصَلَتْ مِنَ اللَّهِ إِلَيْنَا بِسَبَبِ طَاعَتِنَا، وَهِيَ أَيْضًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفقنا للطاعات

وَأَعَانَنَا عَلَيْهَا وَهَدَانَا إِلَيْهَا وَأَزَاحَ الْأَعْذَارَ عَنَّا وَإِلَّا لَمَا وَصَلْنَا إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، فَظَهَرَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ جَمِيعَ النِّعَمِ فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الثَّانِي: أَنَّ أَوَّلَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى الْعَبِيدِ هُوَ أَنْ خَلَقَهُمْ أَحْيَاءً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ أَمَّا الْعَقْلُ فَهُوَ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ نِعْمَةً إِلَّا إِذَا كَانَ بِحَيْثُ يُمْكُنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَلَا يُمْكُنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الْحَيَاةِ، فَإِنَّ الْجَمَادَ وَالْمَيِّتَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ، فَثَبَتَ أَنَّ أَصْلَ جَمِيعِ النِّعَمِ هُوَ الْحَيَاةُ، وَأَمَّا النَّقْلُ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [الْبَقَرَةِ: 28] ثُمَّ قَالَ عَقِيبَهُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَةِ: 29] فَبَدَأَ بِذِكْرِ الْحَيَاةِ، وَثَنَّى بِذِكْرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُنْتَفَعُ بِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ جَمِيعِ النِّعَمِ هُوَ الْحَيَاةُ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ لِلَّهِ تَعَالَى نِعْمَةٌ عَلَى الْكَافِرِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْكَافِرِ نِعْمَةٌ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لِلَّهِ عَلَى الْكَافِرِ نِعْمَةٌ دِينِيَّةٌ، وَنِعْمَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ وَاحْتَجَّ الْأَصْحَابُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَالْمَعْقُولِ: أَمَّا الْقُرْآنُ فَآيَاتٌ. إِحْدَاهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلَّهِ عَلَى الْكَافِرِ نِعْمَةٌ لَكَانُوا دَاخِلِينَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ولو كان كذلك لَكَانَ قَوْلُهُ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ طَلَبًا لِصِرَاطِ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ نِعْمَةٌ عَلَى الْكُفَّارِ، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ الصِّرَاطَ يَدْفَعُ ذَلِكَ، قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فَكَانَ التَّقْدِيرُ اهْدِنَا صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ. وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آلِ عِمْرَانَ: 178] وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا فِي مُقَابَلَةِ عَذَابِ الْآخِرَةِ عَلَى الدَّوَامِ قَلِيلَةٌ كَالْقَطْرَةِ فِي الْبَحْرِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ نِعْمَةً، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ جَعَلَ السُّمَّ فِي الْحَلْوَاءِ لَمْ يَعُدِ النَّفْعُ الْحَاصِلُ مِنْهُ نِعْمَةٌ لِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ النَّفْعَ حَقِيرٌ في مقابلة ذلك الضرر الكثير، فكذا هاهنا. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ لِلَّهِ عَلَى الْكَافِرِ نِعَمًا كَثِيرَةً فَقَدِ احْتَجُّوا بِآيَاتٍ: إِحْدَاهَا: قَوْلُهُ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً [الْبَقَرَةِ: 21، 22] فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْكُلِّ طَاعَةُ اللَّهِ لِمَكَانِ هَذِهِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [الْبَقَرَةِ: 28] ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ وَشَرْحِ النِّعَمِ. وَثَالِثُهَا: قوله تعالى: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ. [الْبَقَرَةِ: 40] وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سَبَأٍ: 13] وَقَوْلُ إِبْلِيسَ: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الْأَعْرَافِ: 17] وَلَوْ لَمْ تَحْصُلِ النِّعَمُ لَمْ يَلْزَمِ الشُّكْرُ. وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى الشُّكْرِ مَحْذُورٌ، لِأَنَّ الشُّكْرَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ النِّعْمَةِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يَدُلُّ عَلَى إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِأَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: اهْدِنَا صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَنْ هُمْ فَقَالَ: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النساء: 69] ، الآية وَلَا شَكَّ أَنَّ رَأْسَ الصِّدِّيقِينَ وَرَئِيسَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكَانَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا أَنْ نَطْلُبَ الْهِدَايَةَ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَسَائِرُ الصِّدِّيقِينَ، وَلَوْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ ظَالِمًا لَمَا جَازَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه.

الفصل التاسع في قوله تعالى غير المغضوب عليهم ولا الضالين،

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ لِلَّهِ عَلَيْهِ نِعْمَةٌ، وَهَذِهِ النِّعْمَةُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا نِعْمَةَ الدُّنْيَا أَوْ نِعْمَةَ الدِّينِ، وَلَمَّا بَطَلَ الْأَوَّلُ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ نِعْمَةُ الدِّينِ، فَنَقُولُ: كُلُّ نِعْمَةٍ دِينِيَّةٍ سِوَى الْإِيمَانِ فَهِيَ مَشْرُوطَةٌ بِحُصُولِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا النِّعْمَةُ الَّتِي هِيَ الْإِيمَانُ فَيُمْكِنُ حُصُولُهَا خَالِيًا عَنْ سَائِرِ النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ هُوَ نِعْمَةُ الْإِيمَانِ، فَرَجَعَ حَاصِلُ الْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ طَلَبٌ لِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ: يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ: - الْحُكْمُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ نِعْمَةُ الْإِيمَانِ، وَلَفْظُ الْآيَةِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُنْعِمُ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ، ثَبَتَ أَنَّ خَالِقَ الْإِيمَانِ وَالْمُعْطِيَ لِلْإِيمَانِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلِأَنَّ الْإِيمَانَ أَعْظَمُ النِّعَمِ، فَلَوْ كَانَ فَاعِلُهُ هُوَ الْعَبْدَ لَكَانَ إِنْعَامُ الْعَبْدِ أَشْرَفَ وَأَعْلَى مِنْ إِنْعَامِ اللَّهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا حَسُنَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَذْكُرَ إِنْعَامَهُ فِي مَعْرِضِ التَّعْظِيمِ. الْحُكْمُ الثَّانِي: يَجِبُ أَنْ لَا يَبْقَى الْمُؤْمِنُ مُخَلَّدًا فِي النَّارِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مَذْكُورٌ فِي مَعْرِضِ التَّعْظِيمِ لِهَذَا الْإِنْعَامِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ فِي دَفْعِ الْعِقَابِ الْمُؤَبَّدِ لَكَانَ قَلِيلَ الْفَائِدَةِ فَمَا كَانَ يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي مَعْرِضِ التَّعْظِيمِ. الْحُكْمُ الثَّالِثُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ رِعَايَةُ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ فِي الدِّينِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِرْشَادُ وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِنْعَامًا، لِأَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ لَا يَكُونُ إِنْعَامًا، وَحَيْثُ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى إِنْعَامًا عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. الْحُكْمُ الرَّابِعُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِنْعَامِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقْدَرَ الْمُكَلَّفَ عَلَيْهِ وَأَرْشَدَهُ إِلَيْهِ وَأَزَاحَ أَعْذَارَهُ وَعِلَلَهُ عَنْهُ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ، فَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَ الْمُكَلَّفِينَ بِهَذَا الْإِنْعَامِ مَعَ أَنَّ هَذَا الْإِقْدَارَ وَإِزَاحَةَ الْعِلَلِ عَامٌّ فِي حَقِّ الْكُلِّ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِنْعَامِ لَيْسَ هُوَ الْإِقْدَارَ عَلَيْهِ وَإِزَاحَةَ الْمَوَانِعِ عَنْهُ. الْفَصْلُ التَّاسِعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضالين، وفيه فوائد معنى قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ- إلخ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ هُمُ الْيَهُودُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [الْمَائِدَةِ: 60] وَالضَّالِّينَ: هُمُ النَّصَارَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [الْمَائِدَةِ: 77] وَقِيلَ: هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مُنْكِرِي الصَّانِعِ وَالْمُشْرِكِينَ أَخْبَثُ دِينًا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَكَانَ الِاحْتِرَازُ عَنْ دِينِهِمْ أَوْلَى، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ عَلَى كُلِّ مَنْ أَخْطَأَ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ

وَهُمُ الْفُسَّاقُ، وَيُحْمَلُ الضَّالُّونَ عَلَى كُلِّ مَنْ أَخْطَأَ فِي الِاعْتِقَادِ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَالتَّقْيِيدُ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ هُمُ الْكُفَّارُ، وَالضَّالُّونَ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ فِي خَمْسِ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الْكُفَّارِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْبَقَرَةِ: 6] ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا [الْبَقَرَةِ: 8] فَكَذَا هاهنا بَدَأَ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الْكُفَّارِ وَهُوَ قَوْلُهُ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَا الضَّالِّينَ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا حَكَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِكَوْنِهِمْ ضَالِّينَ امْتَنَعَ كَوْنُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِلَّا لَزِمَ انْقِلَابُ خَبَرِ اللَّهِ الصِّدْقِ كَذِبًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَالْمُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ. الْفَائِدَةُ الثالثة: [عصمة الأنبياء والأولياء] قَوْلُهُ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَا أَقْدَمَ عَلَى عَمَلٍ يُخَالِفُ قَوْلَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلَا عَلَى اعْتِقَادِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ لَوْ صَدَرَ عَنْهُ ذَلِكَ لَكَانَ قَدْ ضَلَّ عَنِ الْحَقِّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يُونُسَ: 32] وَلَوْ كَانُوا ضَالِّينَ لَمَا جَازَ الِاقْتِدَاءُ بهم، ولا الاهتداء بِطَرِيقِهِمْ، وَلَكَانُوا خَارِجِينَ عَنْ قَوْلِهِ: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا عَلِمْنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عِصْمَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: الْغَضَبُ: تَغَيُّرٌ يَحْصُلُ عِنْدَ غَلَيَانِ دَمِ الْقَلْبِ لِشَهْوَةِ الِانْتِقَامِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا عَلَى اللَّهِ تعالى محال، لكن هاهنا قَاعِدَةٌ كُلِّيَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَعْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ- أَعْنِي الرَّحْمَةَ، وَالْفَرَحَ، وَالسُّرُورَ، وَالْغَضَبَ، وَالْحَيَاءَ، وَالْغَيْرَةَ، وَالْمَكْرَ وَالْخِدَاعَ، وَالتَّكَبُّرَ، وَالِاسْتِهْزَاءَ- لَهَا أَوَائِلُ، وَلَهَا غَايَاتٌ، وَمِثَالُهُ الْغَضَبُ فَإِنَّ أَوَّلَهُ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ، وَغَايَتَهُ إِرَادَةُ إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَى الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ، فَلَفْظُ الْغَضَبِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُحْمَلُ عَلَى أَوَّلِهِ الَّذِي هُوَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ، بَلْ عَلَى غَايَتِهِ الَّذِي هُوَ إرادة الاضرار، وأيضاً، والحياء لَهُ أَوَّلٌ وَهُوَ انْكِسَارٌ يَحْصُلُ فِي النَّفْسِ، وَلَهُ غَرَضٌ وَهُوَ تَرْكُ الْفِعْلِ، فَلَفْظُ الْحَيَاءِ فِي حَقِّ اللَّهِ يُحْمَلُ عَلَى تَرْكِ الْفِعْلِ لَا عَلَى انْكِسَارِ النَّفْسِ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ شَرِيفَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ. الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ فَاعِلِينَ لِلْقَبَائِحِ بِاخْتِيَارِهِمْ وَإِلَّا لَكَانَ الْغَضَبُ عَلَيْهِمْ ظُلْمًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَمَّا ذُكِرَ غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَأَتْبَعَهُ بِذِكْرِ كَوْنِهِمْ ضَالِّينَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عِلَّةٌ لِكَوْنِهِمْ ضَالِّينَ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ صِفَةُ اللَّهِ مُؤَثِّرَةً فِي صِفَةِ الْعَبْدِ، أَمَّا لَوْ قُلْنَا إِنَّ كَوْنَهُمْ ضَالِّينَ يُوجِبُ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ صِفَةُ الْعَبْدِ مُؤَثِّرَةً فِي صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ مُحَالٌ. الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أَوَّلُ السُّورَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحَمْدِ لِلَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالْمَدْحِ لَهُ، وَآخِرُهَا مُشْتَمِلٌ عَلَى الذَّمِّ لِلْمُعْرِضِينَ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ وَالْإِقْرَارِ بِطَاعَتِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَطْلَعَ الْخَيْرَاتِ وَعُنْوَانَ السَّعَادَاتِ هُوَ الْإِقْبَالُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمَطْلَعَ الْآفَاتِ وَرَأْسَ الْمَخَافَاتِ هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْبَعْدُ عَنْ طَاعَتِهِ وَالِاجْتِنَابُ عَنْ خِدْمَتِهِ. الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ ثَلَاثُ فِرَقٍ: أَهْلُ الطَّاعَةِ، وَإِلَيْهِمُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وَأَهْلُ الْمَعْصِيَةِ وَإِلَيْهِمُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وَأَهْلُ الْجَهْلِ فِي دِينِ اللَّهِ وَالْكُفْرِ وَإِلَيْهِمُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ وَلَا الضَّالِّينَ.

الكلام في تفسير مجموع هذه السورة، وفيه فصول

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَدَّمَ ذِكْرَ الْعُصَاةِ عَلَى ذِكْرِ الْكَفَرَةِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَحْتَرِزُ عَنِ الْكُفْرِ أَمَّا قَدْ لَا يَحْتَرِزُ عَنِ الْفِسْقِ فَكَانَ أَهَمَّ فَلِهَذَا السَّبَبِ قُدِّمَ. الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ إِنَّمَا تَوَلَّدَ عَنْ عِلْمِهِ بِصُدُورِ الْقَبِيحِ وَالْجِنَايَةِ عَنْهُ، فَهَذَا الْعِلْمُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ قَدِيمٌ، أَوْ مُحْدَثٌ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْعِلْمُ قَدِيمًا فَلِمَ خَلَقَهُ وَلِمَ أَخْرَجَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ مِنْ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ إِلَّا الْعَذَابَ الدَّائِمَ، وَلِأَنَّ مَنْ كَانَ غَضْبَانَ عَلَى الشَّيْءِ كَيْفَ يُعْقَلُ إِقَدَامُهُ عَلَى إِيجَادِهِ وَعَلَى تَكْوِينِهِ؟ وَأَمَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ حَادِثًا كَانَ الْبَارِي تَعَالَى مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَفْتَقِرَ إِحْدَاثُ ذَلِكَ الْعِلْمِ إِلَى سَبْقِ عِلْمٍ آخَرَ، وَيَتَسَلْسَلَ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَجَوَابُهُ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَغْضُوبًا عَلَيْهِ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي أَنْ ذَكَرَ عَقِيبَهُ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ؟ وَالْجَوَابُ: الْإِيمَانُ إِنَّمَا يَكْمُلُ بِالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَوْ وُزِنَ خَوْفُ الْمُؤْمِنِ وَرَجَاؤُهُ لَاعْتَدَلَا، فَقَوْلُهُ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يُوجِبُ الرَّجَاءَ الْكَامِلَ، وَقَوْلُهُ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ يُوجِبُ الْخَوْفَ الْكَامِلَ، وَحِينَئِذٍ يَقْوَى الْإِيمَانُ بِرُكْنَيْهِ وَطَرَفَيْهِ، وَيَنْتَهِي إِلَى حَدِّ الْكَمَالِ. الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ آخَرُ، مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْمَقْبُولِينَ طَائِفَةً وَاحِدَةً وَهُمُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَالْمَرْدُودِينَ فَرِيقَيْنِ: الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وَالضَّالِّينَ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الَّذِينَ كَمُلَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ هُمُ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ لِذَاتِهِ وَالْخَيْرِ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، فَإِنِ اخْتَلَّ قَيْدُ الْعَمَلِ فَهُمُ الْفَسَقَةُ وَهُمُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النِّسَاءِ: 93] وَإِنِ اخْتَلَّ قَيْدُ الْعِلْمِ فَهُمُ الضَّالُّونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يُونُسَ: 32] وَهَذَا آخِرُ كَلَامِنَا فِي تَفْسِيرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْقِسْمُ الثَّانِي الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ مَجْمُوعِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِيهِ فُصُولٌ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْأَسْرَارِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ اعْلَمْ أَنَّ عَالَمَ الدُّنْيَا عالم الكدورة، وعالم الآخرة عالم الصفاء، فَالْآخِرَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدُّنْيَا كَالْأَصْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَرْعِ، وَكَالْجِسْمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الظِّلِّ، فَكُلُّ مَا فِي الدُّنْيَا فَلَا بُدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَصْلٍ، وَإِلَّا كَانَ كَالسَّرَابِ الْبَاطِلِ وَالْخَيَالِ الْعَاطِلِ، وَكُلُّ مَا فِي الْآخِرَةِ فَلَا بُدَّ لَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ مِثَالٍ، وَإِلَّا لَكَانَ كَالشَّجَرَةِ بِلَا ثَمَرَةٍ وَمَدْلُولٍ بِلَا دَلِيلٍ، فَعَالَمُ الرُّوحَانِيَّاتِ عَالَمُ الْأَضْوَاءِ وَالْأَنْوَارِ وَالْبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ وَاللَّذَّةِ وَالْحُبُورِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الرُّوحَانِيَّاتِ

مُخْتَلِفَةٌ بِالْكَمَالِ وَالنُّقْصَانِ وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْهَا وَاحِدٌ هُوَ أَشْرَفُهَا وَأَعْلَاهَا وَأَكْمَلُهَا وَأَبْهَاهَا، وَيَكُونَ مَا سِوَاهُ فِي طَاعَتِهِ وَتَحْتَ أَمْرِهِ وَنْهِيهِ، كَمَا قَالَ: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التَّكْوِيرِ: 20، 21] وَأَيْضًا فَلَا بُدَّ فِي الدُّنْيَا مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ هُوَ أَشْرَفُ أَشْخَاصِ هَذَا الْعَالَمِ وَأَكْمَلُهَا وَأَعْلَاهَا وَأَبْهَاهَا، وَيَكُونُ كُلُّ مَا سِوَاهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ تَحْتَ طَاعَتِهِ وَأَمْرِهِ، فَالْمُطَاعُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُطَاعُ فِي عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ وَالْمُطَاعُ الثَّانِي هُوَ الْمُطَاعُ فِي عَالَمِ الْجُسْمَانِيَّاتِ، فَذَاكَ مُطَاعُ الْعَالَمِ الْأَعْلَى، وَهَذَا مُطَاعُ الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ عَالَمَ الْجُسْمَانِيَّاتِ كَالظِّلِّ لِعَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ وَكَالْأَثَرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمُطَاعَيْنِ مُلَاقَاةٌ وَمُقَارَنَةٌ وَمُجَانَسَةٌ، فَالْمُطَاعُ فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ هُوَ الْمَصْدَرُ، وَالْمُطَاعُ فِي عَالَمِ الْأَجْسَامِ هُوَ الْمَظْهَرُ وَالْمَصْدَرُ هُوَ الرَّسُولُ الْمَلَكِيُّ، وَالْمَظْهَرُ هُوَ الرَّسُولُ الْبَشَرِيُّ، وَبِهِمَا يَتِمُّ أَمْرُ السَّعَادَاتِ فِي الْآخِرَةِ وَفِي الدُّنْيَا. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: كَمَالُ حَالِ الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ إِنَّمَا تَتِمُّ بِأُمُورٍ سَبْعَةٍ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي خَاتِمَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ- الآية وَيَنْدَرِجُ فِي أَحْكَامِ الرُّسُلِ قَوْلُهُ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الْبَقَرَةِ: 285] فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ، وَهِيَ مَعْرِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَةِ الْعُبُودِيَّةِ/ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمَبْدَأُ، وَالثَّانِي: الْكَمَالُ. فَالْمَبْدَأُ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا [الْبَقَرَةِ: 285] لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا بُدَّ مِنْهُ لِمَنْ يُرِيدُ الذَّهَابَ إِلَى اللَّهِ، وَأَمَّا الْكَمَالُ فَهُوَ التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ وَالِالْتِجَاءُ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَيْهِ وهو قوله: غُفْرانَكَ رَبَّنا وَهُوَ قَطْعُ النَّظَرِ عَنِ الْأَعْمَالِ الْبَشَرِيَّةِ وَالطَّاعَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالِالْتِجَاءُ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَطَلَبُ الرَّحْمَةِ مِنْهُ وَطَلَبُ الْمَغْفِرَةِ، ثُمَّ إِذَا تَمَّتْ مَعْرِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ بِسَبَبِ مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ وَتَمَّتْ مَعْرِفَةُ الْعُبُودِيَّةِ بِسَبَبِ مَعْرِفَةِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا الذَّهَابُ إِلَى حَضْرَةِ الْمَلِكِ الْوَهَّابِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلذَّهَابِ إِلَى الْمَعَادِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ وَيَظْهَرُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَرَاتِبَ ثَلَاثَةٌ: الْمَبْدَأُ وَالْوَسَطُ، وَالْمَعَادُ، أَمَّا الْمَبْدَأُ فَإِنَّمَا يَكْمُلُ مَعْرِفَتُهُ بِمَعْرِفَةِ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ: وَهِيَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالْكُتُبِ، وَالرُّسُلِ، وَأَمَّا الْوَسَطُ فَإِنَّمَا يَكْمُلُ مَعْرِفَتُهُ بِمَعْرِفَةِ أَمْرَيْنِ: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» نَصِيبُ عَالَمِ الْأَجْسَادِ، و «غفرانك رَبَّنَا» نَصِيبُ عَالَمِ الْأَرْوَاحِ، وَأَمَّا النِّهَايَةُ فَهِيَ إِنَّمَا تَتِمُّ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285] فَابْتِدَاءُ الْأَمْرِ أَرْبَعَةٌ، وَفِي الْوَسَطِ صَارَ اثْنَيْنِ، وَفِي النِّهَايَةِ صَارَ وَاحِدًا. وَلَمَّا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمَرَاتِبُ السَّبْعُ فِي الْمَعْرِفَةِ تَفَرَّعَ عَنْهَا سَبْعُ مَرَاتِبَ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ: - فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [الْبَقَرَةِ: 286] وَضِدُّ النِّسْيَانِ هُوَ الذِّكْرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الْأَحْزَابِ: 41] وَقَوْلُهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ [الْكَهْفِ: 24] وَقَوْلُهُ: تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الْأَعْرَافِ: 201] وَقَوْلُهُ: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ [الإنسان: 25] وَهَذَا الذِّكْرُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا [الْبَقَرَةِ: 286] وَدَفْعُ الْإِصْرِ- وَالْإِصْرُ هُوَ الثِّقْلُ- يُوجِبُ الْحَمْدَ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ رَحْمَتِهِ، وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

الفصل الثاني في مداخل الشيطان:

ورابعها: قوله: وَاعْفُ عَنَّا لِأَنَّكَ أَنْتَ الْمَالِكُ لِلْقَضَاءِ وَالْحُكُومَةِ فِي يَوْمِ الدِّينِ، وَهُوَ قَوْلُهُ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. وَخَامِسُهَا: قوله تعالى: وَاغْفِرْ لَنا لِأَنَّا فِي الدُّنْيَا عَبَدْنَاكَ وَاسْتَعَنَّا بِكَ فِي كُلِّ الْمُهِمَّاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نستعين. وسادسها: قوله: وَارْحَمْنا لِأَنَّا طَلَبْنَا الْهِدَايَةَ مِنْكَ فِي قَوْلِنَا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ: أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [الْبَقَرَةِ: 286] وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. فَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ السَّبْعُ الْمَذْكُورَةُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ذَكَرَهَا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ عِنْدَ صُعُودِهِ إِلَى الْمِعْرَاجِ، فَلَمَّا نَزَلَ مِنَ الْمِعْرَاجِ فَاضَ أَثَرُ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَظْهَرِ فَوَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْهَا بِسُورَةِ الْفَاتِحَةِ، فَمَنْ قَرَأَهَا فِي صَلَاتِهِ صَعِدَتْ هَذِهِ الْأَنْوَارُ مِنَ الْمَظْهَرِ إِلَى الْمَصْدَرِ كَمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْأَنْوَارُ فِي عَهْدِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَظْهَرِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الصَّلَاةُ مِعْرَاجُ الْمُؤْمِنِ» . الْفَصْلُ الثَّانِي فِي مَدَاخِلِ الشيطان: مَدَاخِلِ الشَّيْطَانِ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَدَاخِلَ الَّتِي يَأْتِي الشَّيْطَانُ مِنْ قِبَلِهَا فِي الْأَصْلِ ثَلَاثَةٌ: الشَّهْوَةُ، وَالْغَضَبُ، وَالْهَوَى، فَالشَّهْوَةُ بَهِيمِيَّةٌ، وَالْغَضَبُ سَبُعِيَّةٌ، وَالْهَوَى شَيْطَانِيَّةٌ: فَالشَّهْوَةُ آفَةٌ لَكِنَّ الْغَضَبَ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَالْغَضَبُ آفَةٌ لَكِنَّ الْهَوَى أَعْظَمُ مِنْهُ، فَقَوْلُهُ تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ الْمُرَادُ آثَارُ الشَّهْوَةِ، وَقَوْلُهُ: وَالْمُنْكَرِ الْمُرَادُ مِنْهُ آثار الغضب، وقوله: والبغي [العنكبوت: 45] الْمُرَادُ مِنْهُ آثَارُ الْهَوْى فَبِالشَّهْوَةِ يَصِيرُ الْإِنْسَانُ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ، وَبِالْغَضَبِ يَصِيرُ ظَالِمًا لِغَيْرِهِ، وَبِالْهَوَى يَتَعَدَّى ظُلْمُهُ إِلَى حَضْرَةِ جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الظُّلْمُ ثَلَاثَةٌ: فَظُلْمٌ لَا يُغْفَرُ، وَظُلْمٌ لَا يُتْرَكُ وَظُلْمٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتْرُكَهُ. فَالظُّلْمُ الَّذِي لَا يُغْفَرُ هُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالظُّلْمُ الَّذِي لَا يُتْرَكُ هُوَ ظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَالظُّلْمُ الَّذِي عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتْرُكَهُ هُوَ ظُلْمُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ، فَمَنْشَأُ الظُّلْمِ الَّذِي لَا يُغْفَرُ هُوَ الْهَوَى. وَمَنْشَأُ الظُّلْمِ الَّذِي لَا يُتْرَكُ هُوَ الْغَضَبُ، وَمَنْشَأُ الظُّلْمِ الَّذِي عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتْرُكَهُ هُوَ الشَّهْوَةُ، ثُمَّ لَهَا نَتَائِجُ، فَالْحِرْصُ وَالْبُخْلُ نَتِيجَةُ الشَّهْوَةِ، وَالْعُجْبُ وَالْكِبْرُ نَتِيجَةُ الْغَضَبِ، وَالْكُفْرُ وَالْبِدْعَةُ نَتِيجَةُ الْهَوَى، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ السِّتَّةُ فِي بَنِي آدَمَ تَوَلَّدَ مِنْهَا سَابِعٌ- وَهُوَ الْحَسَدُ- وَهُوَ نِهَايَةُ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ. كَمَا أَنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ النِّهَايَةُ فِي الْأَشْخَاصِ الْمَذْمُومَةِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ خَتَمَ اللَّهُ مَجَامِعَ الشُّرُورِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِالْحَسَدِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ [الْفَلَقِ: 5] كَمَا خَتَمَ مَجَامِعَ الْخَبَائِثِ الشَّيْطَانِيَّةِ بِالْوَسْوَسَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [النَّاسِ: 5، 6] فَلَيْسَ فِي بَنِي آدَمَ أَشَرُّ مِنَ الْحَسَدِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّيَاطِينِ أَشَرُّ مِنَ الْوِسْوَاسِ، بَلْ قِيلَ: الْحَاسِدُ أَشَرُّ مِنْ إِبْلِيسَ، لِأَنَّ إِبْلِيسَ رُوِيَ أَنَّهُ أَتَى بَابَ فِرْعَوْنَ وَقَرَعَ الْبَابَ

فَقَالَ فِرْعَوْنُ/ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ إِبْلِيسُ: لَوْ كُنْتُ إِلَهًا لَمَا جَهِلْتَنِي، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ فِرْعَوْنُ: أَتَعْرِفُ فِي الْأَرْضِ شَرًّا مِنِّي وَمِنْكَ، قَالَ: نَعَمْ، الْحَاسِدُ، وَبِالْحَسَدِ وَقَعْتُ فِي هَذِهِ الْمِحْنَةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أُصُولُ الْأَخْلَاقِ الْقَبِيحَةِ هِيَ تِلْكَ الثَّلَاثَةُ، وَالْأَوْلَادُ وَالنَّتَائِجُ هِيَ هَذِهِ السَّبْعَةُ الْمَذْكُورَةُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى سُورَةَ الْفَاتِحَةِ وَهِيَ سَبْعُ آيَاتٍ لِحَسْمِ هَذِهِ الْآفَاتِ السَّبْعِ وَأَيْضًا أَصْلُ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ هُوَ التَّسْمِيَةُ، وَفِيهَا الْأَسْمَاءُ الثَّلَاثَةُ، وَهِيَ فِي مُقَابَلَةِ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ الْأَصْلِيَّةِ الْفَاسِدَةِ، فَالْأَسْمَاءُ الثَّلَاثَةُ الْأَصْلِيَّةُ فِي مُقَابَلَةِ الْأَخْلَاقِ الثَّلَاثَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالْآيَاتُ السَّبْعُ (الَّتِي هِيَ الْفَاتِحَةُ) فِي مُقَابَلَةِ الْأَخْلَاقِ السَّبْعَةِ، ثُمَّ إِنَّ جُمْلَةَ الْقُرْآنِ كَالنَّتَائِجِ وَالشُّعَبِ مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَكَذَا جَمِيعُ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ كَالنَّتَائِجِ وَالشُّعَبِ مِنْ تِلْكَ السَّبْعَةِ، فَلَا جَرَمَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ كَالْعِلَاجِ لِجَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ. أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْأُمَّهَاتِ الثَّلَاثَةَ فِي مُقَابَلَةِ الْأُمَّهَاتِ الثَّلَاثَةِ فَنَقُولُ: إِنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ وَعَرَفَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَبَاعَدَ عَنْهُ الشَّيْطَانُ وَالْهَوَى، لِأَنَّ الْهَوَى إِلَهٌ سِوَى اللَّهِ يُعْبَدُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الْجَاثِيَةِ: 23] وَقَالَ تَعَالَى لِمُوسَى: يَا مُوسَى، خَالِفْ هَوَاكَ فَإِنِّي مَا خَلَقْتُ خَلْقًا نَازَعَنِي فِي مُلْكِي إِلَّا الْهَوَى، وَمَنْ عَرَفَ أَنَّهُ رَحْمَنٌ لَا يَغْضَبُ، لِأَنَّ مَنْشَأَ الْغَضَبِ طَلَبُ الْوِلَايَةِ، وَالْوِلَايَةُ لِلرَّحْمَنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الفرقان: 26] ومن عرف أنه رحيم وجب أنه يَتَشَبَّهَ بِهِ فِي كَوْنِهِ رَحِيمًا وَإِذَا صَارَ رَحِيمًا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ، وَلَمْ يُلَطِّخْهَا بِالْأَفْعَالِ الْبَهِيمِيَّةِ. وَأَمَّا الْأَوْلَادُ السَّبْعَةُ فَهِيَ مُقَابِلَةُ الْآيَاتِ السَّبْعِ، وَقَبْلَ أَنْ نَخُوضَ فِي بَيَانِ تِلْكَ الْمُعَارَضَةِ نَذْكُرُ دَقِيقَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي التَّسْمِيَةِ فِي نَفْسِ السُّورَةِ، وَذَكَرَ مَعَهَا اسْمَيْنِ آخَرَيْنِ: وَهُمَا الرَّبُّ، وَالْمَالِكُ، فَالرُّبُّ قَرِيبٌ مِنَ الرَّحِيمِ، لِقَوْلِهِ: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] وَالْمَالِكُ قَرِيبٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ فَحَصَلَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الثَّلَاثَةُ: الرَّبُّ وَالْمَلِكُ، وَالْإِلَهُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَتَمَ اللَّهُ آخِرَ سُورَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا، وَالتَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ أَتَاكَ الشَّيْطَانُ مِنْ قِبَلِ الشَّهْوَةِ فَقُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ وَإِنْ أَتَاكَ مِنْ قِبَلِ الْغَضَبِ فَقُلْ: مَلِكِ النَّاسِ وَإِنْ أَتَاكَ مِنْ قِبَلِ الْهَوَى فَقُلْ: إِلهِ النَّاسِ [النَّاسِ: 1- 3] . وَلْنَرْجِعْ إِلَى بَيَانِ مُعَارَضَةِ تِلْكَ السَّبْعَةِ فَنَقُولُ: مَنْ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَقَدْ شَكَرَ اللَّهَ، وَاكْتَفَى بِالْحَاصِلِ، فَزَالَتْ شَهْوَتُهُ، وَمَنَ عَرَفَ أَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ زَالَ حِرْصُهُ فِيمَا لَمْ يَجِدْ، وَبُخْلُهُ فِيمَا وَجَدَ فَانْدَفَعَتْ عَنْهُ آفَةُ الشَّهْوَةِ وَلَذَّاتُهَا، وَمَنْ عَرَفَ أَنَّهُ مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ بَعْدَ أَنْ عَرَفَ أَنَّهُ الرحمن الرحيم زَالَ غَضَبُهُ، وَمَنْ قَالَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ زَالَ كِبْرُهُ بِالْأَوَّلِ وَعُجْبُهُ بِالثَّانِي، فَانْدَفَعَتْ/ عَنْهُ آفَةُ الْغَضَبِ بِوَلَدَيْهَا، فَإِذَا قَالَ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ انْدَفَعَ عَنْهُ شَيْطَانُ الْهَوَى، وَإِذَا قَالَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ زَالَ عَنْهُ كُفْرُهُ وَشُبْهَتُهُ، وَإِذَا قَالَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ انْدَفَعَتْ عَنْهُ بِدْعَتُهُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ السَّبْعَ دَافِعَةٌ لِتِلْكَ الْأَخْلَاقِ الْقَبِيحَةِ السبعة.

الفصل الثالث في تقرير أن سورة الفاتحة جامعة لكل ما يحتاج الإنسان إليه في معرفة المبدأ والوسط والمعاد

الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي تَقْرِيرِ أَنَّ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَيْهِ فِي معرفة المبدأ والوسط والمعاد جمع الفاتحة لكل ما يحتاج إليه: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْمُعْتَمِدَ فِي إِثْبَاتِ الصَّانِعِ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِخِلْقَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة: 258] ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء: 78] ، وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 26] ، وقال تعالى في أول سورة البقرة: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَةِ: 21] وَقَالَ فِي أَوَّلِ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ [الْعَلَقِ: 1، 2] فَهَذِهِ الْآيَاتُ السِّتُّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ تَعَالَى، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ فِي الْقُرْآنِ وَجَدْتَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ فِيهِ كَثِيرًا جِدًّا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ كَمَا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ هُوَ دَلِيلٌ فَكَذَلِكَ هُوَ نَفْسُهُ إِنْعَامٌ عَظِيمٌ، فَهَذِهِ الْحَالَةُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تُعَرِّفُ الْعَبْدَ وُجُودَ الْإِلَهِ دَلِيلٌ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهَا نَفْعٌ عَظِيمٌ وَصَلَ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْعَبْدِ إِنْعَامٌ، فَلَا جَرَمَ هُوَ دَلِيلٌ مِنْ وَجْهٍ، وَإِنْعَامٌ مِنْ وَجْهٍ، وَالْإِنْعَامُ مَتَى وَقَعَ بِقَصْدِ الْفَاعِلِ إِلَى إِيقَاعِهِ إِنْعَامًا كَانَ يَسْتَحِقُّ هُوَ الْحَمْدَ، وَحُدُوثُ بَدَنِ الْإِنْسَانِ أَيْضًا كَذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَوَلُّدَ الْأَعْضَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الطَّبَائِعِ وَالصُّوَرِ وَالْأَشْكَالِ مِنَ النُّطْفَةِ الْمُتَشَابِهَةِ الْأَجْزَاءِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا إِذَا قَصَدَ الْخَالِقُ إِيجَادَ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ عَلَى تِلْكَ الصُّوَرِ وَالطَّبَائِعِ، فَحُدُوثُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ صَانِعٍ عَالِمٍ بالمعلومات قادر على كل المقدورات قَصَدَ بِحُكْمِ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ خَلْقَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُطَابِقِ لِمَصَالِحِنَا الْمُوَافِقِ لِمَنَافِعِنَا، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ، فَقَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَعَلَى عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَرَحْمَتِهِ، وَكَمَالِ حِكْمَتِهِ وَعَلَى كَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ، فَكَانَ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ دَالًّا عَلَى جُمْلَةِ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَأَمَّا قَوْلُهُ: رَبِّ الْعالَمِينَ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِلَهَ وَاحِدٌ، وَأَنَّ كُلَّ الْعَالَمِينَ مُلْكُهُ وَمِلْكُهُ، / وَلَيْسَ فِي الْعَالَمِ إِلَهٌ سِوَاهُ، وَلَا مَعْبُودٌ غَيْرَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ الْوَاحِدَ الَّذِي لَا إِلَهَ سِوَاهُ مَوْصُوفٌ بِكَمَالِ الرَّحْمَةِ وَالْكَرَمِ وَالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ لَوَازِمِ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ يَحْصُلَ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ يَوْمٌ آخَرُ يَظْهَرُ فِيهِ تَمْيِيزُ الْمُحْسِنِ عَنِ الْمُسِيءِ، وَيَظْهَرُ فِيهِ الِانْتِصَافُ لِلْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْبَعْثُ وَالْحَشْرُ لَقَدَحَ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ رَحْمَانًا رَحِيمًا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ، وَقَوْلَهُ: رَبِّ الْعالَمِينَ يَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَقَوْلَهُ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَدُلُّ عَلَى رَحْمَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَوْلَهُ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِسَبَبِ خَلْقِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وإلى هاهنا تَمَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ- إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأُمُورِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا فِي تَقْرِيرِ الْعُبُودِيَّةِ، وَهِيَ مَحْصُورَةٌ

الفصل الرابع قسمة الله للصلاة بينه وبين عباده:

فِي نَوْعَيْنِ: الْأَعْمَالُ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْعَبْدُ، والآثار المتفرعة على تلك الأعمال: أما الْأَعْمَالِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْعَبْدُ فَلَهَا رُكْنَانِ: أَحَدُهُمَا: إِتْيَانُهُ بِالْعِبَادَةِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ. وَالثَّانِي: عِلْمُهُ بِأَنْ لَا يُمْكِنَهُ الْإِتْيَانُ بِهَا إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وهاهنا يَنْفَتِحُ الْبَحْرُ الْوَاسِعُ فِي الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَأَمَّا الْآثَارُ الْمُتَفَرِّعَةُ عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ فَهِيَ حُصُولُ الْهِدَايَةِ وَالِانْكِشَافِ وَالتَّجَلِّي، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الْعَالَمِ ثَلَاثُ طَوَائِفَ: الطَّائِفَةُ الْأُولَى: الْكَامِلُونَ الْمُحِقُّونَ الْمُخْلِصُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ لِذَاتِهِ، وَمَعْرِفَةِ الْخَيْرِ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَإِلَيْهِمُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: الَّذِينَ أَخَلُّوا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهُمُ الْفَسَقَةُ وَإِلَيْهِمُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ. وَالطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِينَ أَخَلُّوا بِالِاعْتِقَادَاتِ الصَّحِيحَةِ، وَهُمْ أَهْلُ البِّدَعِ وَالْكُفْرِ، وَإِلَيْهِمُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَلَا الضَّالِّينَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اسْتِكْمَالُ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِالْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُحَاوِلَ تَحْصِيلَهَا بِالْفِكْرِ وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَالثَّانِي: أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ مَحْصُولَاتُ الْمُتَقَدِّمِينَ فَتَسْتَكْمِلَ نَفْسُهُ، وَقَوْلُهُ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْقِسْمِ الثَّانِي، ثُمَّ فِي هَذَا الْقِسْمِ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ اقْتِدَاؤُهُ بِأَنْوَارِ عُقُولِ الطَّائِفَةِ الْمُحِقَّةِ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّائِبَةِ، وَتَبَرَّأَ مِنْ أَنْ يَكُونَ اقْتِدَاؤُهُ بِطَائِفَةِ الَّذِينَ أَخَلُّوا بِالْأَعْمَالِ الصَّحِيحَةِ، وَهُمُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ، أَوْ بِطَائِفَةِ الَّذِينَ أَخَلُّوا بِالْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ، وَهُمُ الضَّالُّونَ، وَهَذَا آخِرُ السُّورَةِ، وَعِنْدَ الْوُقُوفِ عَلَى مَا لَخَّصْنَاهُ يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ الْمَقَامَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي مَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ ومعرفة العبودية. الفصل الرابع قسمة الله للصلاة بينه وبين عباده: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَقُولُ اللَّهُ حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَقُولُ اللَّهُ عَظَّمَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يَقُولُ اللَّهُ مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ يَقُولُ اللَّهُ عَبَدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى تَوَكَّلَ عَلَيَّ عَبْدِي، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فَإِذَا قَالَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ يَقُولُ اللَّهُ هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَوَائِدُ هَذَا الْحَدِيثِ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَدَارَ الشَّرَائِعِ عَلَى رِعَايَةِ مَصَالِحِ الْخَلْقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: 7] وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهَمَّ الْمُهِمَّاتِ لِلْعَبْدِ أَنْ يَسْتَنِيرَ قَلْبُهُ بِمَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، ثُمَّ بِمَعْرِفَةِ الْعُبُودِيَّةِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا خُلِقَ لِرِعَايَةِ هَذَا الْعَهْدِ، كَمَا قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] وَقَالَ: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الْإِنْسَانِ: 2] وقال: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي

أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 40] وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَعَلَ النِّصْفَ الْأَوَّلَ مِنْهَا فِي مَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالنِّصْفَ الثَّانِيَ مِنْهَا فِي مَعْرِفَةِ الْعُبُودِيَّةِ، حَتَّى تَكُونَ هَذِهِ السُّورَةُ جَامِعَةً لِكُلِّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْوَفَاءِ بِذَلِكَ الْعَهْدِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: اللَّهُ تَعَالَى سَمَّى الْفَاتِحَةَ بِاسْمِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَحْكَامٍ: الْحُكْمُ الْأَوَّلُ: أَنَّ عِنْدَ عَدَمِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَجَبَ أَنْ لَا تَحْصُلَ الصَّلَاةُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، كَمَا يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الدَّلِيلُ بِدَلَائِلَ أُخْرَى: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاظَبَ عَلَى قِرَاءَتِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا ذَلِكَ لقوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» . وَثَانِيهَا: أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَاظَبُوا عَلَى قِرَاءَتِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» وَثَالِثُهَا: أَنَّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا لَا يُصَلُّونَ إِلَّا بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُتَابَعَتُهُمْ وَاجِبَةً فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى/ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ [النِّسَاءِ: 115] وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الكتاب» خامسها: قوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20] وقوله: فَاقْرَؤُا أَمْرٌ، وَظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ، فَكَانَتْ قِرَاءَةُ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ وَاجِبَةً، وَقِرَاءَةُ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةً عَمَلًا بِظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَسَادِسُهَا: أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ أَحْوَطُ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» وَسَابِعُهَا: أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاظَبَ عَلَى قِرَاءَتِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعُدُولُ عَنْهُ مُحَرَّمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النُّورِ: 63] وَثَامِنُهَا: أَنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ مِنْ قِرَاءَةِ غَيْرِهَا، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: التَّكْلِيفُ كَانَ مُتَوَجِّهًا عَلَى الْعَبْدِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، والأصل في الثابت البقاء حكمنا بالخروج عن هَذِهِ الْعُهْدَةِ عِنْدَ الْإِيتَاءِ بِالصَّلَاةِ مُؤَدَّاةً بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ بِقِرَاءَةِ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ بِالْعَمَلِ الْكَامِلِ الْخُرُوجُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِالْعَمَلِ النَّاقِصِ، فَعِنْدَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى قِرَاءَةِ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ وَجَبَ الْبَقَاءُ فِي الْعُهْدَةِ، وَتَاسِعُهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الصَّلَاةِ حُصُولُ ذِكْرِ الْقَلْبِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طَه: 14] وَهَذِهِ السُّورَةُ مَعَ كَوْنِهَا مُخْتَصَرَةً، جَامِعَةٌ لِمَقَامَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ حُصُولُ هَذِهِ الْمَعَارِفِ وَلِهَذَا السَّبَبِ جَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ مُعَادِلَةً لِكُلِّ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الْحِجْرِ: 87] فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقُومَ غَيْرُهَا مَقَامَهَا الْبَتَّةَ. وَعَاشِرُهَا: أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ الَّذِي رَوَيْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَ فُقْدَانِ الْفَاتِحَةِ لَا تَحْصُلُ الصَّلَاةُ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا قَالَ الْعَبْدُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «ذَكَرَنِي عَبْدِي» وَفِيهِ أَحْكَامٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 152] فَهَهُنَا لَمَّا أَقْدَمَ الْعَبْدُ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ لَا جَرَمَ ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي ملأ خير من ملائه. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَقَامَ الذِّكْرِ مَقَامٌ عَالٍ شَرِيفٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ، لِأَنَّهُ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِهِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِهِ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالذِّكْرِ فَقَالَ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ثم قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الْأَحْزَابِ: 41] ثُمَّ قَالَ: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 191] ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ

[الْأَعْرَافِ: 201] فَلَمْ يُبَالِغْ فِي تَقْرِيرِ شَيْءٍ مِنْ مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ مِثْلَ مَا بَالَغَ فِي تَقْرِيرِ مَقَامِ الذِّكْرِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: «ذَكَرَنِي عَبْدِي» يدل على أن قولنا: «الله» اسم علم لَذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ، إِذْ لَوْ كَانَ اسْمًا مُشْتَقًّا لَكَانَ مَفْهُومُهُ مَفْهُومًا كُلِّيًّا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا صَارَتْ ذَاتُهُ الْمَخْصُوصَةُ الْمُعَيَّنَةُ مَذْكُورَةً بِهَذَا اللَّفْظِ، فَظَاهِرٌ أَنَّ لَفْظَيِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَفْظَانِ كُلِّيَّانِ، / فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: «ذَكَرَنِي عَبْدِي» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَنَا اللَّهِ اسْمُ عَلَمٍ، أَمَّا قَوْلُهُ: «وَإِذَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى حَمِدَنِي عَبْدِي» فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَقَامَ الْحَمْدِ أَعْلَى مِنْ مَقَامِ الذِّكْرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ أَوَّلَ كَلَامٍ ذُكِرَ فِي أَوَّلِ خَلْقِ الْعَالَمِ هُوَ الْحَمْدُ، بِدَلِيلِ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [الْبَقَرَةِ: 30] وَآخِرُ كَلَامٍ يُذْكَرُ بَعْدَ فَنَاءِ الْعَالَمِ هُوَ الْحَمْدُ أَيْضًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُسَ: 10] وَالْعَقْلُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْفِكْرَ فِي ذَاتِ اللَّهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَفَكَّرُوا فِي الْخَلْقِ وَلَا تَفَكَّرُوا فِي الْخَالِقِ» وَلِأَنَّ الْفِكْرَ فِي الشَّيْءِ مَسْبُوقٌ بِسَبْقِ تَصَوُّرِهِ، وَتَصَوُّرُ كُنْهِ حَقِيقَةِ الْحَقِّ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَالْفِكْرُ فِيهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَعَلَى هَذَا الْفِكْرُ لَا يُمْكِنُ إِلَّا فِي أَفْعَالِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْخَيْرَ مَطْلُوبٌ بِالذَّاتِ، وَالشَّرَّ بِالْعَرَضِ فَكُلُّ مَنْ تَفَكَّرَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ وَمَصْنُوعَاتِهِ كَانَ وُقُوفُهُ عَلَى رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ أَكْثَرَ، فَلَا جَرَمَ كَانَ اشْتِغَالُهُ بِالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ أَكْثَرَ، فَلِهَذَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَعِنْدَ هَذَا يَقُولُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، فَشَهِدَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ بِوُقُوفِ الْعَبْدِ بِعَقْلِهِ وَفِكْرِهِ عَلَى وُجُودِ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ فِي تَرْتِيبِ الْعَالَمِ الْأَعْلَى وَالْعَالَمِ الْأَسْفَلِ، وَعَلَى أَنَّ لِسَانَهُ صَارَ مُوَافِقًا لِعَقْلِهِ وَمُطَابِقًا لَهُ، وَإِنْ غَرَقَ فِي بَحْرِ الْإِيمَانِ بِهِ وَالْإِقْرَارِ بِكَرَمِهِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَعَقْلِهِ وَبَيَانِهِ، فَمَا أَجَّلَ هَذِهِ الْحَالَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: «وَإِذَا قَالَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَقُولُ اللَّهُ عَظَّمَنِي عَبْدِي» فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ لَمَّا قَالَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَدْ ذَكَرَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ وَهُنَاكَ لَمْ يَقُلِ الله عظمني عبدي، وهاهنا لَمَّا قَالَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ عَظَّمَنِي عَبْدِي فَمَا الْفَرْقُ؟ وَجَوَابُهُ أَنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ دَلَّ عَلَى إِقْرَارِ الْعَبْدِ بِكَمَالِهِ فِي ذَاتِهِ، وَبِكَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ الْكَامِلَ فِي ذَاتِهِ الْمُكَمِّلَ لِغَيْرِهِ وَاحِدٌ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ، فَلَمَّا قَالَ بَعْدَهُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ الْكَامِلَ فِي ذَاتِهِ الْمُكَمِّلَ لِغَيْرِهِ الْمُنَزَّهَ عَنِ الشَّرِيكِ وَالنَّظِيرِ وَالْمِثْلِ وَالضِّدِّ وَالنِّدِّ فِي غَايَةِ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالْكَرَمِ مَعَ عِبَادِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ غَايَةَ مَا يَصِلُ الْعَقْلُ وَالْفَهْمُ وَالْوَهْمُ إِلَيْهِ مِنْ تَصَوُّرِ مَعْنَى الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ لَيْسَ إِلَّا هَذَا الْمَقَامَ، فلهذا السبب قال الله تعالى هاهنا: «عَظَّمَنِي عَبْدِي» . وَأَمَّا قَوْلُهُ: «وَإِذَا قَالَ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يَقُولُ اللَّهُ مَجَّدَنِي عَبْدِي» أَيْ: نَزَّهَنِي وَقَدَّسَنِي عَمَّا لَا يَنْبَغِي- فَتَقْرِيرُهُ أَنَّا نَرَى فِي دَارِ الدُّنْيَا كَوْنَ الظَّالِمِينَ مُتَسَلِّطِينَ عَلَى الْمَظْلُومِينَ، وَكَوْنَ الْأَقْوِيَاءِ مُسْتَوْلِينَ عَلَى الضُّعَفَاءِ، وَنَرَى الْعَالِمَ الزَّاهِدَ الْكَامِلَ فِي أَضْيَقِ الْعَيْشِ، وَنَرَى الْكَافِرَ الْفَاسِقَ فِي أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الرَّاحَةِ وَالْغِبْطَةِ، وَهَذَا الْعَمَلُ لَا يَلِيقُ بِرَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ وَأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، فَلَوْ لَمْ يَحْصُلِ الْمَعَادُ وَالْبَعْثُ وَالْحَشْرُ حَتَّى يَنْتَصِفَ اللَّهُ فِيهِ لِلْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَيُوصِلَ إِلَى أَهْلِ الطَّاعَةِ الثَّوَابَ، وَإِلَى أَهْلِ الْكُفْرِ الْعِقَابَ، لَكَانَ هَذَا الْإِهْمَالُ وَالْإِمْهَالُ ظُلْمًا مِنَ اللَّهِ عَلَى/ الْعِبَادِ، أَمَّا لَمَّا حَصَلَ يَوْمَ الْجَزَاءِ وَيَوْمَ الدِّينِ انْدَفَعَ وَهْمُ الظُّلْمِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النَّجْمِ: 31] وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَجَّدَنِي عَبْدِي، الَّذِي نَزَّهَنِي عَنِ الظُّلْمِ وَعَنْ شِيَمِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: «وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قَالَ اللَّهُ هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي» فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى سِرِّ مَسْأَلَةِ

الْجَبْرِ وَالْقَدْرِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ مَعْنَاهُ إِخْبَارُ الْعَبْدِ عَنْ إِقْدَامِهِ عَلَى عَمَلِ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ. ثُمَّ جَاءَ بَحْثُ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ: وَهُوَ أَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِالْإِتْيَانِ بِذَلِكَ الْعَمَلِ أَوْ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِهِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِلْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ كَذَلِكَ: فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ هُوَ الْأَوَّلَ امْتَنَعَ أَنْ تَصِيرَ تِلْكَ الْقُدْرَةُ مَصْدَرًا لِلْفِعْلِ دُونَ التَّرْكِ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ، وَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ إِنْ كَانَ مِنَ الْعَبْدِ عَادَ الْبَحْثُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْعَبْدِ فَهُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَخَلْقُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ الْخَالِصَةِ عَنِ الْمُعَارَضِ هُوَ الإعانة، وهو المراد من قوله إياك نَسْتَعِينُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا، أَيْ: لَا تَخْلُقْ فِي قُلُوبِنَا دَاعِيَةً تَدْعُونَا إِلَى الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، وَهَذِهِ الرَّحْمَةُ خَلْقُ الدَّاعِيَةِ الَّتِي تَدْعُونَا إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْعَقَائِدِ الْحَقَّةِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِعَانَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهَذَا الْقَوْلِ لَمْ يَفْهَمِ الْبَتَّةَ مَعْنَى قَوْلَهُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ صِحَّةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، أَمَّا الَّذِي مِنْهُ فَهُوَ خَلْقُ الدَّاعِيَةِ الْجَازِمَةِ، وَأَمَّا الَّذِي مِنَ الْعَبْدِ فَهُوَ أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ مَجْمُوعِ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِيَةِ يَصْدُرُ الْأَثَرُ عَنْهُ، وَهَذَا كَلَامٌ دَقِيقٌ لَا بُدَّ مِنَ التَّأَمُّلِ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: «وَإِذَا قَالَ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» وَتَقْرِيرُهُ أَنَّا نَرَى أهل العالم مُخْتَلِفِينَ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ الْإِلَهِيَّةِ، وَفِي جَمِيعِ مَسَائِلِ النُّبُوَّاتِ، وَفِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الْمَعَادِ، وَالشُّبُهَاتُ غَالِبَةٌ، وَالظُّلُمَاتُ مُسْتَوْلِيَةٌ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَى كُنْهِ الْحَقِّ إِلَّا الْقَلِيلُ الْقَلِيلُ مِنَ الْكَثِيرِ الْكَثِيرِ، وَقَدْ حَصَلَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ مَعَ اسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي الْعُقُولِ وَالْأَفْكَارِ وَالْبَحْثِ الْكَثِيرِ وَالتَّأَمُّلِ الشَّدِيدِ، فَلَوْلَا هِدَايَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعَانَتُهُ وَأَنَّهُ يُزَيِّنُ الْحَقَّ فِي عَيْنِ عَقْلِ الطَّالِبِ وَيُقَبِّحُ الْبَاطِلَ فِي عَيْنِهِ كَمَا قَالَ: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ [الْحُجُرَاتِ: 7] وَإِلَّا لَامْتَنَعَ وُصُولُ أَحَدٍ إِلَى الْحَقِّ، فَقَوْلُهُ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إِشَارَةٌ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْمُبْطِلَ لَا يَرْضَى بِالْبَاطِلِ، وَإِنَّمَا طَلَبَ الِاعْتِقَادَ الْحَقَّ وَالدِّينَ الْمَتِينَ وَالْقَوْلَ الصَّحِيحَ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِاخْتِيَارِهِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ أَحَدٌ فِي الْخَطَأِ، وَلَمَّا رَأَيْنَا الْأَكْثَرِينَ غَرِقُوا فِي بَحْرِ الضَّلَالَاتِ/ عَلِمْنَا أَنَّ الْوُصُولَ إِلَى الْحَقِّ لَيْسَ إِلَّا بِهِدَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِمَّا يُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ أَطْبَقُوا عَلَى ذَلِكَ، أَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَقَالُوا: سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [الْبَقَرَةِ: 32] وَقَالَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الْأَعْرَافِ: 23] وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الْأَنْعَامِ: 77] وَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يُوسُفَ: 101] وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه: 25]- الآية وَقَالَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آلِ عِمْرَانَ: 8] فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي لَطَائِفِ هَذَا الْخَبَرِ وَالَّذِي تَرَكْنَاهُ أَكْثَرُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ فَوَائِدِ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ آيَاتِ الْفَاتِحَةِ سَبْعٌ، وَالْأَعْمَالَ الْمَحْسُوسَةَ أَيْضًا فِي الصَّلَاةِ سَبْعَةٌ، وَهِيَ: الْقِيَامُ، وَالرُّكُوعُ، وَالِانْتِصَابُ، وَالسُّجُودُ الْأَوَّلُ، وَالِانْتِصَابُ فِيهِ، وَالسُّجُودُ الثَّانِي وَالْقَعْدَةُ، فَصَارَ عَدَدُ آيَاتِ الْفَاتِحَةِ مُسَاوِيًا لِعَدَدِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ، فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَعْمَالُ كَالشَّخْصِ، وَالْفَاتِحَةُ لَهَا كَالرُّوحِ، وَالْكَمَالُ إِنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ اتِّصَالِ الرُّوحِ بِالْجَسَدِ، فَقَوْلُهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بِإِزَاءِ الْقِيَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَاءَ فِي بِسْمِ

الفصل الخامس في أن الصلاة معراج العارفين

اللَّهِ لَمَّا اتَّصَلَ بِاسْمِ اللَّهِ بَقِيَ قَائِمًا مُرْتَفِعًا، وَأَيْضًا فَالتَّسْمِيَةُ لِبِدَايَةِ الْأُمُورِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ» وَقَالَ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الْأَعْلَى: 14، 15] وَأَيْضًا الْقِيَامُ لِبِدَايَةِ الْأَعْمَالِ، فَحَصَلَتِ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ التَّسْمِيَةِ وَبَيْنَ الْقِيَامِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ بِإِزَاءِ الرُّكُوعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي مَقَامِ التَّحْمِيدِ نَاظِرٌ إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى الْخَلْقِ، لأن التحميد عبارة عن الثناء عليه بِسَبَبِ الْإِنْعَامِ الصَّادِرِ مِنْهُ، وَالْعَبْدُ فِي هَذَا الْمَقَامِ نَاظِرٌ إِلَى الْمُنْعِمِ وَإِلَى النِّعْمَةِ، فَهُوَ حَالَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْإِعْرَاضِ وَبَيْنَ الِاسْتِغْرَاقِ، وَالرُّكُوعُ حَالَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْقِيَامِ وَبَيْنَ السُّجُودِ وَأَيْضًا، الْحَمْدُ يَدُلُّ عَلَى النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ، وَالنِّعَمُ الْكَثِيرَةُ مِمَّا تُثْقِلُ ظَهْرَهُ، فَيَنْحَنِي ظَهْرُهُ لِلرُّكُوعِ وَقَوْلُهُ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مُنَاسِبٌ لِلِانْتِصَابِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا تَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ فِي الرُّكُوعِ فَيَلِيقُ بِرَحْمَتِهِ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى الِانْتِصَابِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا قَالَ الْعَبْدُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ نَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ بِالرَّحْمَةِ» وَقَوْلُهُ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ مُنَاسِبٌ لِلسَّجْدَةِ الْأُولَى: لِأَنَّ قَوْلَكَ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْقَهْرِ وَالْجَلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْخَوْفَ الشَّدِيدَ، فَيَلِيقُ بِهِ الْإِتْيَانُ بِغَايَةِ الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ، وَهُوَ السَّجْدَةُ، وَقَوْلُهُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ مُنَاسِبٌ لِلْقَعْدَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ إِخْبَارٌ عَنِ السَّجْدَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَقَوْلُهُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اسْتِعَانَةٌ بِاللَّهِ فِي أَنْ يُوَفِّقَهُ لِلسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فَهُوَ سُؤَالٌ لِأَهَمِّ الْأَشْيَاءِ فَيَلِيقُ بِهِ السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى نِهَايَةِ الْخُضُوعِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ/ إِلَى آخِرِهِ فَهُوَ مُنَاسِبٌ لِلْقَعْدَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا أَتَى بِغَايَةِ التَّوَاضُعِ قَابَلَ اللَّهُ تَوَاضُعَهُ بِالْإِكْرَامِ، وَهُوَ أَنْ أَمَرَهُ بِالْقُعُودِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَذَلِكَ إِنْعَامٌ عَظِيمٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ، فَهُوَ شَدِيدُ الْمُنَاسَبَةِ لِقَوْلِهِ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وَأَيْضًا إِنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِأَنْ رَفَعَهُ إِلَى قَابَ قَوْسَيْنِ قَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: «التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ مِعْرَاجُ الْمُؤْمِنِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْمُؤْمِنُ فِي مِعْرَاجِهِ إِلَى غَايَةِ الْإِكْرَامِ- وَهِيَ أَنْ جَلَسَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ- وَجَبَ أَنْ يَقْرَأَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَهُوَ أَيْضًا يَقْرَأُ التَّحِيَّاتِ، وَيَصِيرُ هَذَا كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمِعْرَاجَ الَّذِي حَصَلَ لَهُ شُعْلَةٌ مِنْ شَمْسِ مِعْرَاجِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَطْرَةٌ مِنْ بَحْرِهِ وَهُوَ تَحْقِيقُ قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ [النساء: 69]- الآية. وَاعْلَمْ أَنَّ آيَاتِ الْفَاتِحَةِ وَهِيَ سَبْعٌ صَارَتْ كَالرُّوحِ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ السَّبْعَةِ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ السَّبْعَةُ صَارَتْ كَالرُّوحِ لِلْمَرَاتِبِ السَّبْعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 12] إِلَى قَوْلِهِ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 14] وَعِنْدَ هَذَا يَنْكَشِفُ أَنَّ مَرَاتِبَ الْأَجْسَادِ كَثِيرَةٌ، وَمَرَاتِبَ الْأَرْوَاحِ كَثِيرَةٌ، وَرُوحُ الْأَرْوَاحِ وَنُورُ الْأَنْوَارِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النَّجْمِ: 42] . الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي أَنَّ الصَّلَاةَ معراج العارفين الصَّلَاةَ مِعْرَاجُ الْعَارِفِينَ: اعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِعْرَاجَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَالْآخَرُ من

الْأَقْصَى إِلَى أَعَالِي مَلَكُوتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالظَّاهِرِ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِعَالَمِ الْأَرْوَاحِ فَلَهُ مِعْرَاجَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ إِلَى عَالَمِ الْغَيْبِ. وَالثَّانِي: مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ إِلَى عَالِمِ غَيْبِ الْغَيْبِ، وَهُمَا بِمَنْزِلَةِ قَابَ قَوْسَيْنِ مُتَلَاصِقَيْنِ، فَتَخَطَّاهُمَا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى [النَّجْمِ: 9] وَقَوْلُهُ: أَوْ أَدْنى إِشَارَةٌ إِلَى فَنَائِهِ فِي نَفْسِهِ، أَمَّا الِانْتِقَالُ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ إِلَى عَالَمِ الْغَيْبِ فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِسْمِ وَالْجُسْمَانِيَّاتِ فَهُوَ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّكَ تُشَاهِدُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِبَصَرِكَ، فَانْتِقَالُ الرُّوحِ مِنْ عَالَمِ الْأَجْسَادِ إِلَى عَالَمِ الْأَرْوَاحِ هُوَ السَّفَرُ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ إِلَى عَالَمِ الْغَيْبِ، وَأَمَّا عَالَمُ الْأَرْوَاحِ فَعَالَمٌ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ آخِرَ مَرَاتِبِ الْأَرْوَاحِ هُوَ الْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ، ثُمَّ تَتَرَقَّى فِي مَعَارِجِ الْكَمَالَاتِ/ وَمَصَاعِدِ السَّعَادَاتِ حَتَّى تَصِلَ إِلَى الْأَرْوَاحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِسَمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ تَصِيرُ أَعْلَى وَهِيَ أَرْوَاحُ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ وَهَكَذَا حَتَّى تَصِلَ إِلَى الْأَرْوَاحِ الَّذِينَ هُمْ سُكَّانُ دَرَجَاتِ الْكُرْسِيِّ، وَهِيَ أَيْضًا مُتَفَاوِتَةٌ فِي الِاسْتِعْلَاءِ، ثُمَّ تَصِيرُ أَعْلَى وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزُّمَرِ: 75] ثُمَّ تَصِيرُ أَعْلَى وَأَعْظَمَ وَهُمُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الْحَاقَّةِ: 17] وَفِي عَدَدِ الثَّمَانِيَةِ أَسْرَارٌ لَا يَجُوزُ ذكرها هاهنا ثُمَّ تَتَرَقَّى فَتَنْتَهِي إِلَى الْأَرْوَاحِ الْمُقَدَّسَةِ عَنِ التَّعَلُّقَاتِ بِالْأَجْسَامِ، وَهُمُ الَّذِينَ طَعَامُهُمْ ذِكْرُ اللَّهِ، وَشَرَابُهُمْ مَحَبَّةُ اللَّهِ، وَأُنْسُهُمْ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، وَلَذَّتُهُمْ فِي خِدْمَةِ اللَّهِ، وَإِلَيْهِمُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الْأَنْبِيَاءِ: 19] وَبِقَوْلِهِ: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 20] ثُمَّ لَهُمْ أَيْضًا دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ، وَمَرَاتِبُ مُتَبَاعِدَةٌ، وَالْعُقُولُ الْبَشَرِيَّةُ قَاصِرَةٌ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِأَحْوَالِهَا، وَالْوُقُوفِ عَلَى شَرْحِ صِفَاتِهَا، وَلَا يَزَالُ هَذَا التَّرَقِّي وَالتَّصَاعُدُ حَاصِلًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يُوسُفَ: 76] إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إِلَى نُورِ الْأَنْوَارِ، وَمُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ، وَمَبْدَأِ الْكُلِّ، وَيَنْبُوعِ الرَّحْمَةِ، وَمَبْدَأِ الْخَيْرِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَثَبَتَ أَنَّ عَالَمَ الْأَرْوَاحِ هُوَ عَالَمُ الْغَيْبِ، وَحَضْرَةُ جَلَالِ الرُّبُوبِيَّةِ هِيَ غَيْبُ الْغَيْبِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ لِلَّهِ سَبْعِينَ حِجَابًا مِنَ النُّورِ لَوْ كَشَفَهَا لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ مَا أَدْرَكَ الْبَصَرُ» وَتَقْدِيرُ عَدَدِ تِلْكَ الْحُجُبِ بِالسَّبْعِينَ مِمَّا لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِنُورِ النُّبُوَّةِ. فَقَدْ ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمِعْرَاجَ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: الْمِعْرَاجُ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ إِلَى عَالَمِ الْغَيْبِ، وَالثَّانِي: الْمِعْرَاجُ من عالم الغيب إلى عالم غيب الغيب، وَهَذِهِ كَلِمَاتٌ بُرْهَانِيَّةٌ يَقِينِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلْنَرْجِعْ إِلَى الْمَقْصُودِ فَنَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا وَصَلَ إِلَى الْمِعْرَاجِ وَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ قَالَ: يَا رَبَّ الْعِزَّةِ إِنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعُودَ إِلَى وَطَنِهِ احْتَاجَ إِلَى مَحْمُولَاتٍ يُتْحِفُ بِهَا أَصْحَابَهُ وَأَحْبَابَهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ تُحْفَةَ أُمَّتِكَ الصَّلَاةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا جَامِعَةٌ بَيْنَ الْمِعْرَاجِ الْجُسْمَانِيِّ، وَبَيْنَ الْمِعْرَاجِ الرُّوحَانِيِّ: أَمَّا الْجُسْمَانِيُّ فَبِالْأَفْعَالِ، وَأَمَّا الرُّوحَانِيُّ فَبِالْأَذْكَارِ، فَإِذَا أَرَدْتَ أَيُّهَا الْعَبْدُ الشُّرُوعَ فِي هَذَا الْمِعْرَاجِ فَتَطَهَّرْ أَوَّلًا، لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْقُدُسِ، فَلْيَكُنْ ثَوْبُكَ طَاهِرًا، وَبَدَنُكَ طَاهِرًا لِأَنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى، وَأَيْضًا فَعِنْدَكَ مَلِكٌ وَشَيْطَانٌ، فَانْظُرْ أَيُّهُمَا تُصَاحِبُ: وَدِينٌ وَدُنْيَا، فَانْظُرْ أَيُّهُمَا تُصَاحِبُ: وَعَقْلٌ وَهَوًى، فَانْظُرْ أَيُّهُمَا تُصَاحِبُ: وَخَيْرٌ وَشَرٌّ، وَصِدْقٌ وَكَذِبٌ، وَحَقٌّ وَبَاطِلٌ، وَحِلْمٌ وَطَيْشٌ، وَقَنَاعَةٌ وَحِرْصٌ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ الْأَخْلَاقِ الْمُتَضَادَّةِ وَالصِّفَاتِ الْمُتَنَافِيَةِ، فَانْظُرْ أَنَّكَ تُصَاحِبُ أَيَّ الطَّرَفَيْنِ وَتُوَافِقُ أَيَّ الْجَانِبَيْنِ/ فَإِنَّهُ إِذَا اسْتَحْكَمَتِ الْمُرَافَقَةُ تعذرت المفارقة،

أَلَا تَرَى أَنَّ الصِّدِّيقَ اخْتَارَ صُحْبَةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَزِمَهُ فِي الدُّنْيَا، وَفِي الْقَبْرِ، وَفِي الْقِيَامَةِ، وَفِي الْجَنَّةِ وَأَنَّ كَلْبًا صَحِبَ أَصْحَابَ الْكَهْفِ فَلَزِمَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَفِي الْآخِرَةِ، ولهذا السر قال تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التَّوْبَةِ: 119] ثُمَّ إِذَا تَطَهَّرْتَ فَارْفَعْ يَدَيْكَ، وَذَلِكَ الرَّفْعُ إِشَارَةٌ إِلَى تَوْدِيعِ عَالَمِ الدُّنْيَا وَعَالَمِ الْآخِرَةِ فَاقْطَعْ نَظَرَكَ عَنْهُمَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَوَجِّهْ قَلْبَكَ وَرُوحَكَ وَسِرَّكَ وَعَقْلَكَ وَفَهْمَكَ وَذِكْرَكَ وَفِكْرَكَ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ قُلْ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ الْمَوْجُودَاتِ، وَأَعْلَى وَأَعْظَمُ وَأَعَزُّ مِنْ كُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، بَلْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُقَاسَ إِلَيْهِ شَيْءٌ أَوْ يُقَالَ إِنَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قُلْ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَجَلَّى لَكَ نُورُ سُبُحَاتِ الْجَلَالِ، ثُمَّ تَرَقَّيْتَ مِنَ التَّسْبِيحِ إِلَى التَّحْمِيدِ ثُمَّ قُلْ: تَبَارَكَ اسْمُكَ، وَفِي هَذَا الْمَقَامِ انْكَشَفَ لَكَ نُورُ الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَبَارَكَ إِشَارَةٌ إِلَى الدَّوَامِ الْمُنَزَّهِ عَنِ الْإِفْنَاءِ وَالْإِعْدَامِ، وَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِمُطَالَعَةِ حَقِيقَةِ الْأَزَلِ فِي الْعَدَمِ، وَمُطَالَعَةِ حَقِيقَةِ الْأَبَدِ فِي الْبَقَاءِ، ثُمَّ قُلْ: وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ أَعْلَمُ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُ جَلَالِهِ وَنُعُوتُ كَمَالِهِ مَحْصُورَةً فِي الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ قُلْ: وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَسِمَاتِ الْكَمَالِ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، فَهُوَ الْكَامِلُ الَّذِي لَا كَامِلَ إِلَّا هُوَ، وَالْمُقَدَّسُ الَّذِي لَا مُقَدَّسَ إِلَّا هُوَ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا هُوَ إِلَّا هُوَ وَلَا إله إلا هو، والعقل هاهنا يَنْقَطِعُ، وَاللِّسَانُ يَعْتَقِلُ، وَالْفَهْمُ يَتَبَلَّدُ، وَالْخَيَالُ يَتَحَيَّرُ، وَالْعَقْلُ يَصِيرُ كَالزَّمَنِ، ثُمَّ عُدْ إِلَى نَفْسِكَ وحالك وقل: وجهت وجهي للذي فطر السموات وَالْأَرْضَ، فَقَوْلُكَ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ» مِعْرَاجُ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [الْبَقَرَةِ: 30] وَهُوَ أَيْضًا مِعْرَاجُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ مِعْرَاجَهُ مُفْتَتَحٌ بِقَوْلِهِ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ» وَأَمَّا قَوْلُكَ: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ» فَهُوَ مِعْرَاجُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَوْلُكَ: «إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ» فَهُوَ مِعْرَاجُ مُحَمَّدٍ الْحَبِيبِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِذَا قَرَأْتَ هَذَيْنِ الذِّكْرَيْنِ فَقَدْ جَمَعْتَ بَيْنَ مِعْرَاجِ أَكَابِرِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَبَيْنَ مِعْرَاجِ عُظَمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، ثُمَّ إِذَا فَرَغْتَ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ فَقُلْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، لِتَدْفَعَ ضَرَرَ الْعُجْبِ مِنْ نَفْسِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ، فَفِي هَذَا الْمَقَامِ انْفَتَحَ لَكَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ بَابُ الْمَعْرِفَةِ، وَالْبَابُ الثَّانِي: هُوَ بَابُ الذِّكْرِ وَهُوَ قَوْلُكَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَالْبَابُ الثَّالِثُ: بَابُ الشُّكْرِ، وَهُوَ قَوْلُكَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْبَابُ الرابع: باب الرَّجَاءُ، وَهُوَ قَوْلُكَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَالْبَابُ الْخَامِسُ: بَابُ الْخَوْفِ، وَهُوَ قَوْلُكَ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَالْبَابُ السَّادِسُ: بَابُ/ الْإِخْلَاصِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْعُبُودِيَّةِ وَمَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُكَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَالْبَابُ السَّابِعُ: بَابُ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ كَمَا قَالَ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النَّمْلِ: 62] وَقَالَ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: 60] وَهُوَ هاهنا قَوْلُكَ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَالْبَابُ الثَّامِنُ: بَابُ الِاقْتِدَاءِ بِالْأَرْوَاحِ الطَّيِّبَةِ الطَّاهِرَةِ وَالِاهْتِدَاءِ بِأَنْوَارِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُكَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ إِذَا قَرَأْتَ هَذِهِ السُّورَةَ. وَوَقَفْتَ عَلَى أَسْرَارِهَا انْفَتَحَتْ لَكَ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [ص: 50] فَجَنَّاتُ الْمَعَارِفِ الرَّبَّانِيَّةِ انْفَتَحَتْ أَبْوَابُهَا بِهَذِهِ الْمَقَالِيدِ الرُّوحَانِيَّةِ، فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا حَصَلَ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الْمِعْرَاجِ الرُّوحَانِيِّ. وَأَمَّا الْمِعْرَاجُ الْجُسْمَانِيُّ فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى أَنْ تَقُومَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ مِثْلَ قِيَامِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَهُوَ قَوْلُهُ

تَعَالَى: إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْكَهْفِ: 14] بَلْ قُمْ قِيَامَ أَهْلِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْمُطَفِّفِينَ: 6] ثُمَّ اقْرَأْ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، وَبَعْدَهُ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ، وَبَعْدَهُ الْفَاتِحَةَ، وَبَعْدَهَا مَا تَيَسَّرَ لَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَاجْتَهِدْ فِي أَنْ تَنْظُرَ مِنَ اللَّهِ إِلَى عِبَادَتِكَ حَتَّى تَسْتَحْقِرَهَا وَإِيَّاكَ أَنْ تَنْظُرَ مِنْ عِبَادَتِكَ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ صِرْتَ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَهَذَا سِرُّ قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّفْسَ الْآنَ جَارِيَةٌ مَجْرَى خَشَبَةٍ عَرَضْتَهَا عَلَى نَارٍ خَوْفَ الْجَلَالِ فَلَانَتْ، فَاجْعَلْهَا مَحْنِيَّةً بِالرُّكُوعِ فَقُلْ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ اتْرُكْهَا لِتَسْتَقِيمَ مَرَّةً أُخْرَى، فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبْغِضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى فَإِذَا عَادَتْ إِلَى اسْتِقَامَتِهَا فَانْحَدِرْ إِلَى الْأَرْضِ بِنِهَايَةِ التَّوَاضُعِ وَاذْكُرْ رَبَّكَ بِغَايَةِ الْعُلُوِّ، وَقُلْ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، فَإِذَا أَتَيْتَ بِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فَقَدْ حَصَلَ لَكَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الطَّاعَةِ: الرُّكُوعُ الْوَاحِدُ، وَالسُّجُودَانِ، وَبِهَا تَنْجُو مِنَ الْعَقَبَاتِ الثَّلَاثِ الْمُهْلِكَةِ، فَبِالرُّكُوعِ تَنْجُو عَنْ عَقَبَةِ الشَّهَوَاتِ، وَبِالسُّجُودِ الْأَوَّلِ تَنْجُو عَنْ عَقَبَةِ الْغَضَبِ الَّذِي هُوَ رَئِيسُ الْمُؤْذِيَاتِ، وَبِالسُّجُودِ الثَّانِي تَنْجُو عَنْ عَقَبَةِ الْهَوَى الَّذِي هُوَ الدَّاعِي إِلَى كُلِّ الْمُهْلِكَاتِ وَالْمُضِلَّاتِ، فَإِذَا تَجَاوَزْتَ هَذِهِ الْعَقَبَاتِ وَتَخَلَّصْتَ عَنْ هَذِهِ الدَّرَكَاتِ فَقَدْ وَصَلْتَ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَاتِ، وَمَلَكْتَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَانْتَهَيْتَ إِلَى عَتَبَةِ جَلَالِ مُدَبِّرِ الْأَرْضِ والسموات، فَقُلْ عِنْدَ ذَلِكَ التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، فَالتَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ بِاللِّسَانِ، وَالصَّلَوَاتُ بِالْأَرْكَانِ، وَالطِّيِّبَاتُ بِالْجَنَانِ وَقُوَّةِ الْإِيمَانِ، ثُمَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَصْعَدُ نُورُ رُوحِكَ وَيَنْزِلُ نُورُ رُوحِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ فَيَتَلَاقَى الرُّوحَانِ، وَيَحْصُلُ هُنَاكَ الرُّوحُ وَالرَّاحَةُ وَالرَّيْحَانُ، فَلَا بُدَّ لِرُوحِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ مَحْمَدَةٍ وَتَحِيَّةٍ، فَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ» ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ لَكَ فَهَذِهِ الْخَيْرَاتُ وَالْبَرَكَاتُ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ وَجَدْتَهَا؟ وَبِأَيِّ طَرِيقٍ وَصَلْتَ إِلَيْهَا؟ فَقُلْ بِقَوْلِي: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَقِيلَ لَكَ إِنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الَّذِي هَدَاكَ إِلَيْهِ، فَأَيُّ شَيْءٍ هَدِيَّتُكَ لَهُ؟ فَقُلْ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، فَقِيلَ لَكَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الَّذِي طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْكَ مِثْلَ هَذَا الرَّسُولِ فَقَالَ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْبَقَرَةِ: 129] فَمَا جَزَاؤُكَ لَهُ؟ فَقُلْ: كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فَيُقَالُ لَكَ: فَكُلُّ هَذِهِ الْخَيْرَاتِ مِنْ مُحَمَّدٍ أَوْ مِنْ إِبْرَاهِيمَ أَوْ مِنَ اللَّهِ؟ فَقُلْ: بَلْ مِنَ الْحَمِيدِ الْمَجِيدِ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. ثُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ بِهَذِهِ الْأَثْنِيَةِ وَالْمَدَائِحِ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَحَافِلِ الْمَلَائِكَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «إِذَا ذَكَرَنِي عَبْدِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْ مَلَئِهِ» فَإِذَا سَمِعَ الْمَلَائِكَةُ ذَلِكَ اشْتَاقُوا إِلَى هَذَا الْعَبْدِ فَقَالَ اللَّهُ: «إِنَّ ملائكة السموات اشْتَاقُوا إِلَى زِيَارَتِكَ وَأَحَبُّوا الْقُرْبَ مِنْكَ، وَقَدْ جاؤك فَابْدَأْ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ لِتَحْصُلَ لِكَ فِيهِ مَرْتَبَةُ السَّابِقِينَ، فَيَقُولُ الْعَبْدُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ إِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ الْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ بَابٍ فَيَقُولُونَ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 24] .

الفصل السادس في الكبرياء والعظمة

الفصل السادس في الكبرياء والعظمة الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ: أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ جَلَالَةً وَمَهَابَةً الْمَكَانُ وَالزَّمَانُ: أَمَّا الْمَكَانُ فَهُوَ الْفَضَاءُ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَالْخَلَاءُ الَّذِي لَا غَايَةَ لَهُ، وَأَمَّا الزَّمَانُ فَهُوَ الِامْتِدَادُ الْمُتَوَهَّمُ الْخَارِجُ مِنْ قَعْرِ ظُلُمَاتِ عَالَمِ الْأَزَلِ إِلَى ظُلُمَاتِ عَالَمِ الْأَبَدِ، كَأَنَّهُ نَهْرٌ خَرَجَ مِنْ قَعْرِ جَبَلِ الْأَزَلِ وَامْتَدَّ حَتَّى دَخَلَ فِي قَعْرِ جَبَلِ الْأَبَدِ فَلَا يُعْرَفُ لِانْفِجَارِهِ مَبْدَأٌ، وَلَا لِاسْتِقْرَارِهِ مَنْزِلٌ، فَالْأَوَّلُ وَالْآخِرُ صِفَةُ الزَّمَانِ، وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ صِفَةُ الْمَكَانِ، وَكَمَالُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَسِعَ الْمَكَانَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَوَسِعَ الزَّمَانَ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَإِذَا كَانَ مُدَبِّرُ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ هُوَ الْحَقَّ تَعَالَى كَانَ مُنَزَّهًا عَنِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُ عَرْشٌ، وَكُرْسِيٌّ، فَعَقَدَ الْمَكَانَ بِالْكُرْسِيِّ فَقَالَ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْبَقَرَةِ: 255] وَعَقَدَ الزَّمَانَ بِالْعَرْشِ فَقَالَ: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هُودٍ: 7] لِأَنَّ جَرْيَ الزَّمَانِ يُشْبِهُ جَرْيَ الْمَاءِ، فَلَا مَكَانَ وَرَاءَ الْكُرْسِيِّ، وَلَا زَمَانَ وَرَاءَ الْعَرْشِ، فَالْعُلُوُّ صِفَةُ الْكُرْسِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَالْعَظَمَةُ صِفَةُ الْعَرْشِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التَّوْبَةِ: 129] وَكَمَالُ الْعُلُوِّ والعظمة لله كما قال: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [الْبَقَرَةِ: 255] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلُوَّ وَالْعَظَمَةَ دَرَجَتَانِ مِنْ دَرَجَاتِ الْكَمَالِ، إِلَّا أَنَّ دَرَجَةَ الْعَظَمَةِ أَكْمَلُ وَأَقْوَى مِنْ دَرَجَةِ الْعُلُوِّ، وَفَوْقَهُمَا دَرَجَةُ الْكِبْرِيَاءُ قَالَ تَعَالَى: «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي» ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الرِّدَاءَ أَعْظَمُ مِنَ الْإِزَارِ، وَفَوْقَ جَمِيعِ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِالرُّتْبَةِ وَالشَّرَفِ صِفَةُ الْجَلَالِ، وَهِيَ تَقَدُّسُهُ فِي حَقِيقَتِهِ الْمَخْصُوصَةِ وَهَوِيَّتِهِ الْمُعَيَّنَةِ عَنْ مُنَاسَبَةِ شَيْءٍ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ، وَهُوَ لِتِلْكَ الْهَوِيَّةِ الْمَخْصُوصَةِ اسْتَحَقَّ صِفَةَ الْإِلَهِيَّةِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلِظُّوا بِيَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» ، وَقَالَ: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرَّحْمَنِ: 27] وَقَالَ: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرَّحْمَنِ: 78] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا قَصَدَ الصَّلَاةَ صَارَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قَالَ اللَّهُ فِي صِفَتِهِمْ: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52، الْكَهْفِ: 28] وَمَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ عَلَى السُّلْطَانِ الْعَظِيمِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُطَهِّرَ نَفْسَهُ مِنَ الْأَدْنَاسِ وَالْأَنْجَاسِ، وَلِهَذَا التَّطْهِيرِ مَرَاتِبُ: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: التَّطْهِيرُ مِنْ دَنَسِ الذُّنُوبِ بِالتَّوْبَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التَّحْرِيمِ: 8] وَمَنْ كَانَ فِي مَقَامِ الزُّهْدِ كَانَتْ طَهَارَتُهُ مِنَ الدُّنْيَا حَلَالِهَا وَحَرَامِهَا، وَمَنْ كَانَ فِي مَقَامِ الْإِخْلَاصِ كَانَتْ طَهَارَتُهُ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَعْمَالِهِ، وَمَنْ كَانَ فِي مَقَامِ الْمُحْسِنِينَ كَانَتْ طَهَارَتُهُ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى حَسَنَاتِهِ، وَمَنْ كَانَ فِي مَقَامِ الصِّدِّيقِينَ كَانَتْ طَهَارَتُهُ مِنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَقَامَاتُ كَثِيرَةٌ وَالدَّرَجَاتُ مُتَفَاوِتَةٌ كَأَنَّهَا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، كَمَا قَالَ تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الرُّومِ: 30] فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ فَقُمْ قَائِمًا وَاسْتَحْضِرْ فِي نَفْسِكَ جَمِيعَ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عَالَمِ الْأَجْسَامِ وَالْأَرْوَاحِ وَذَلِكَ بِأَنْ تَبْتَدِئَ مِنْ نَفْسِكَ وَتَسْتَحْضِرَ فِي عَقْلِكَ

جُمْلَةَ أَعْضَائِكَ الْبَسِيطَةِ وَالْمُرَكَّبَةِ وَجَمِيعَ قُوَاكَ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ، ثُمَّ اسْتَحْضِرْ فِي عَقْلِكَ جُمْلَةَ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ ضُمَّ إِلَيْهِ الْبِحَارَ وَالْجِبَالَ وَالتِّلَالَ وَالْمَفَاوِزَ وَجُمْلَةَ مَا فِيهَا مِنْ عَجَائِبِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَذَرَّاتِ الْهَبَاءِ، ثُمَّ تَرَقَّ مِنْهَا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا عَلَى عِظَمِهَا وَاتِّسَاعِهَا، ثُمَّ لَا تَزَالُ تَرَقَّى مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ حَتَّى تَصِلَ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَالرَّفْرَفِ وَاللَّوْحِ/ وَالْقَلَمِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْعَرْشِ الْعَظِيمِ، ثُمَّ انْتَقِلْ مِنْ عَالَمِ الْأَجْسَامِ إِلَى عَالَمِ الْأَرْوَاحِ وَاسْتَحْضِرْ فِي عَقْلِكَ جَمِيعَ الْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ السُّفْلِيَّةِ الْبَشَرِيَّةِ وَغَيْرِ الْبَشَرِيَّةِ، وَاسْتَحْضِرْ جَمِيعَ الْأَرْوَاحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْجِبَالِ وَالْبِحَارِ مِثْلَ مَا قَالَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ مَلِكِ الْجِبَالِ وَمَلِكِ الْبِحَارِ ثُمَّ اسْتَحْضِرْ مَلَائِكَةَ سَمَاءِ الدنيا وملائكة جميع السموات السَّبْعِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا في السموات مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ قَاعِدٌ» وَاسْتَحْضِرْ جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ الْحَافِّينَ حَوْلَ الْعَرْشِ وَجَمِيعَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ ثُمَّ انْتَقِلْ مِنْهَا إِلَى مَا هُوَ خَارِجُ هَذَا الْعَالَمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [الْمُدَّثِّرِ: 31] فَإِذَا اسْتَحْضَرْتَ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مِنَ الرُّوحَانِيَّاتِ وَالْجُسْمَانِيَّاتِ فَقُلْ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَتُرِيدُ بِقَوْلِكَ: «اللَّهُ» الذَّاتَ الَّتِي حَصَلَ بِإِيجَادِهَا وُجُودُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَحَصَلَتْ لَهَا كَمَالَاتُهَا فِي صِفَاتِهَا وَأَفْعَالِهَا، وَتُرِيدُ بِقَوْلِكَ أَكْبَرُ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَتِهَا وَمُشَاكَلَتِهَا، بَلْ هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَحْكُمَ الْعَقْلُ بِجَوَازِ مُقَايَسَتِهِ بِهَا وَمُنَاسَبَتِهِ إِلَيْهَا فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ اللَّهُ أَكْبَرُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذَا التَّكْبِيرِ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، فَتَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ لَا يَرَانِي وَمِنْ أَنْ لَا يَسْمَعَ كَلَامِي. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى اللَّهُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ عُقُولُ الْخَلْقِ وَأَوْهَامُهُمْ وَأَفْهَامُهُمْ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: التَّوْحِيدُ أَنْ لَا تَتَوَهَّمَهُ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى اللَّهُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يَقْدِرَ الْخَلْقُ عَلَى قَضَاءِ حَقِّ عُبُودِّيَتِهِ، فَطَاعَاتُهُمْ قَاصِرَةٌ عَنْ خِدْمَتِهِ، وثنائهم قَاصِرٌ عَنْ كِبْرِيَائِهِ، وَعُلُومُهُمْ قَاصِرَةٌ عَنْ كُنْهِ صَمَدِيَّتِهِ. وَاعْلَمْ أَيُّهَا الْعَبْدُ أَنَّكَ لَوْ بَلَغْتَ إِلَى أَنْ يُحِيطَ عَقْلُكَ بِجَمِيعِ عَجَائِبِ عَالَمِ الْأَجْسَامِ وَالْأَرْوَاحِ فَإِيَّاكَ أَنْ تُحَدِّثَكَ نَفْسُكَ بِأَنَّكَ بَلَغْتَ مَبَادِئَ مَيَادِينِ جَلَالِ اللَّهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَبْلُغَ الْغَوْرَ وَالْمُنْتَهَى وَنِعْمَ مَا قَالَ الشَّاعِرُ: - أَسَامِيًا لَمْ تَزِدْهُ مَعْرِفَةً ... وَإِنَّمَا لَذَّةٌ ذَكَرْنَاهَا وَمِنْ دَعَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَثَنَائِهِ عَلَى اللَّهِ: «لَا يَنَالُكَ غَوْصُ الْفِكْرِ، وَلَا يَنْتَهِي إِلَيْكَ نَظَرُ نَاظِرٍ، ارْتَفَعَتْ عَنْ صِفَةِ الْمَخْلُوقِينَ صِفَاتُ قُدْرَتِكَ، وَعَلَا عَنْ ذَلِكَ كِبْرِيَاءُ عَظَمَتِكَ وَإِذَا قُلْتَ اللَّهُ أَكْبَرُ فَاجْعَلْ عَيْنَ عَقْلِكَ فِي آفَاقِ جَلَالِ اللَّهِ وَقُلْ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، ثُمَّ قُلْ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ، ثُمَّ انْتَقِلْ مِنْهَا إِلَى عَالَمِ الْأَمْرِ وَالتَّكْلِيفِ وَاجْعَلْ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ مِرْآةً لَكَ تُبْصِرُ فِيهَا عَجَائِبَ عَالَمِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتُطَالِعُ فِيهَا أَنْوَارَ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَالْأَدْيَانَ/ السَّالِفَةَ وَالْمَذَاهِبَ الْمَاضِيَةَ، وَأَسْرَارَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَالشَّرَائِعِ النَّبَوِيَّةِ، وَتَصِلُ إِلَى الشَّرِيعَةِ، وَمِنْهَا إِلَى الطَّرِيقَةِ، وَمِنْهَا إِلَى الْحَقِيقَةِ، وَتُطَالِعُ دَرَجَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَدَرَكَاتِ الْمَلْعُونِينَ وَالْمَرْدُودِينَ وَالضَّالِّينَ، فَإِذَا قُلْتَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَأَبْصِرْ بِهِ الدُّنْيَا إِذْ بِاسْمِهِ قامت السموات وَالْأَرَضُونَ وَإِذَا قُلْتَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَبْصَرْتَ بِهِ الْآخِرَةَ إِذْ بِكَلِمَةِ الْحَمْدِ قَامَتِ الْآخِرَةُ كَمَا قَالَ: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُسَ: 10] وَإِذَا قُلْتَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَأَبْصِرْ بِهِ عَالَمَ الْجَمَالِ، وَهُوَ الرَّحْمَةُ وَالْفَضْلُ وَالْإِحْسَانُ، وَإِذَا قُلْتَ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فَأَبْصِرْ بِهِ عَالَمَ الْجَلَالِ وَمَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْأَهْوَالِ، وَإِذَا قُلْتَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ فَأَبْصِرْ بِهِ عَالَمَ الشَّرِيعَةِ، وَإِذَا قُلْتَ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فَأَبْصِرْ بِهِ الطَّرِيقَةَ، وَإِذَا قُلْتَ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ فَأَبْصِرْ بِهِ الْحَقِيقَةَ، وَإِذَا قُلْتَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فَأَبْصِرْ بِهِ دَرَجَاتِ أَرْبَابِ السَّعَادَاتِ وَأَصْحَابِ الْكَرَامَاتِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَإِذَا قُلْتَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ فَأَبْصِرْ بِهِ مَرَاتِبَ فُسَّاقِ أَهْلِ الْآفَاقِ، وَإِذَا قُلْتَ وَلَا الضَّالِّينَ فَأَبْصِرْ بِهِ دَرَكَاتِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالشِّقَاقِ وَالْخِزْيِ وَالنِّفَاقِ عَلَى كَثْرَةِ دَرَجَاتِهَا وَتَبَايُنِ أَطْرَافِهَا وَأَكْنَافِهَا. ثُمَّ إِذَا انْكَشَفَتْ لَكَ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الْعَالِيَةُ وَالْمَرَاتِبُ السَّامِيَّةُ فَلَا تَظُنَّنَّ أَنَّكَ بَلَغْتَ الْغَوْرَ وَالْغَايَةَ، بَلْ عُدْ إِلَى الْإِقْرَارِ لِلْحَقِّ بِالْكِبْرِيَاءِ، وَلِنَفْسِكَ بِالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ، وَقُلِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ انْزِلْ مِنْ صِفَةِ الْكِبْرِيَاءِ إِلَى صِفَةِ الْعَظَمَةِ، فَقُلْ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، وَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ ذَرَّةً مِنْ صِفَةِ الْعَظَمَةِ فَاعْرِفْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَظَمَةَ صِفَةُ الْعَرْشِ، وَلَا يَبْلُغُ مَخْلُوقٌ بِعَقْلِهِ كُنْهَ عَظَمَةِ الْعَرْشِ وَإِنْ بَقِيَ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ الْعَالَمِ، ثُمَّ اعْرِفْ أَنَّ عَظَمَةَ الْعَرْشِ فِي مُقَابَلَةِ عَظَمَةِ اللَّهِ كَالْقَطْرَةِ فِي الْبَحْرِ فَكَيْفَ يُمْكِنُكَ أَنْ تَصِلَ إِلَى كُنْهِ عَظَمَةِ اللَّهِ؟ ثم هاهنا سِرٌّ عَجِيبٌ وَهُوَ أَنَّهُ مَا جَاءَ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْظَمِ وَإِنَّمَا جَاءَ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، وَمَا جَاءَ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَالِي وَإِنَّمَا جَاءَ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، وَلِهَذَا التَّفَاوُتِ أَسْرَارٌ عَجِيبَةٌ لَا يَجُوزُ ذِكْرُهَا، فَإِذَا رَكَعْتَ وَقُلْتَ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ فَعُدْ إِلَى الْقِيَامِ ثَانِيًا، وَادْعُ لِمَنْ وَقَفَ مَوْقِفَكَ وَحَمِدَ حَمْدَكَ وَقُلْ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَإِنَّكَ إِذَا سَأَلْتَهَا لِغَيْرِكَ وَجَدْتَهَا لِنَفْسِكَ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَزَالُ اللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ» . قال قِيلَ: مَا السَّبَبُ فِي أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِي هَذَا الْمَقَامِ التَّكْبِيرُ؟. قُلْنَا: لِأَنَّ التَّكْبِيرَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْكِبْرِيَاءِ وَهُوَ مَقَامُ الْهَيْبَةِ وَالْخَوْفِ، وَهَذَا الْمَقَامُ مَقَامُ الشَّفَاعَةِ، وَهُمَا مُتَبَايِنَانِ. ثُمَّ إِذَا فَرَغْتَ مِنْ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ فَعُدْ إِلَى التَّكْبِيرِ وَانْحَدِرْ بِهِ إِلَى صِفَةِ الْعُلُوِّ وَقُلْ سُبْحَانَ رَبِّيَ/ الْأَعْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ السُّجُودَ أَكْثَرُ تَوَاضُعًا مِنَ الرُّكُوعِ، لَا جَرَمَ الذِّكْرُ الْمَذْكُورُ فِي السُّجُودِ هُوَ بِنَاءُ الْمُبَالَغَةِ- وَهُوَ الْأَعْلَى- وَالذِّكْرُ الْمَذْكُورُ فِي الرُّكُوعِ هُوَ لَفْظُ الْعَظِيمِ مِنْ غَيْرِ بِنَاءِ الْمُبَالَغَةِ، رُوِيَ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلَكًا تَحْتَ الْعَرْشِ اسْمُهُ حِزْقِيلُ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَيُّهَا الْمَلَكُ، طِرْ فَطَارَ مِقْدَارَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ ثَلَاثِينَ ثُمَّ ثَلَاثِينَ فَلَمْ يَبْلُغْ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيِ الْعَرْشِ إِلَى الثَّانِي، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ لَوْ طِرْتَ إِلَى نَفْخِ الصُّورِ لَمْ تَبْلُغِ الطَّرَفَ الثَّانِيَ مِنَ الْعَرْشِ، فَقَالَ الْمَلَكُ عِنْدَ ذَلِكَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْحِكْمَةُ فِي السَّجْدَتَيْنِ؟ قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ السَّجْدَةَ الْأُولَى لِلْأَزَلِ، وَالثَّانِيَةَ لِلْأَبَدِ، وَالِارْتِفَاعَ فِيمَا بَيْنَهُمَا إِشَارَةٌ إِلَى وُجُودِ الدُّنْيَا فِيمَا بَيْنَ الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّكَ تَعْرِفُ بِأَزَلِيَّتِهِ أَنَّهُ هُوَ الْأَوَّلُ لَا أَوَّلَ قَبْلَهُ فَتَسْجُدَ لَهُ، وَتَعْرِفَ بِأَبَدِيَّتِهِ أَنَّهُ الْآخِرُ لَا آخِرَ بَعْدَهُ فَتَسْجُدَ لَهُ ثَانِيًا. الثَّانِي: قِيلَ: اعْلَمْ بِالسَّجْدَةِ الْأُولَى فَنَاءَ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ، وَبِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فَنَاءَ عَالَمِ الْآخِرَةِ عِنْدَ ظُهُورِ نُورِ جَلَالِ اللَّهِ. الثَّالِثُ: السَّجْدَةُ الْأُولَى فَنَاءُ الْكُلِّ فِي نَفْسِهَا وَالسَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ بَقَاءُ الْكُلِّ بِإِبْقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. [الْقَصَصِ: 88] الرَّابِعُ: السَّجْدَةُ الْأُولَى تَدُلُّ عَلَى انْقِيَادِ عَالَمِ الشَّهَادَةِ لِقُدْرَةِ اللَّهِ، وَالسَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ تَدُلُّ عَلَى انْقِيَادِ

الفصل السابع في لطائف قوله الحمد لله، وفوائد الأسماء الخمسة المذكورة في هذه السورة

عَالَمِ الْأَرْوَاحِ لِلَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ. [الْأَعْرَافِ: 54] وَالْخَامِسُ: السَّجْدَةُ الْأُولَى سَجْدَةُ الشُّكْرِ بِمِقْدَارِ مَا أَعْطَانَا مِنْ مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَالسَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ سَجْدَةُ الْعَجْزِ وَالْخَوْفِ مِمَّا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ مِنْ أَدَاءِ حُقُوقِ جَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ يَفْهَمُونَ مِنَ الْعَظَمَةِ كِبَرَ الْجُثَّةِ، وَيَفْهَمُونَ مِنَ الْعُلُوِّ عُلُوَّ الْجِهَةِ، وَيَفْهَمُونَ مِنَ الْكِبَرِ طُولَ الْمُدَّةِ، وَجَلَّ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ عَنْ هَذِهِ الْأَوْهَامِ، فَهُوَ عَظِيمٌ لَا بِالْجُثَّةِ، عَالٍ لَا بِالْجِهَةِ، كَبِيرٌ لَا بِالْمُدَّةِ، وَكَيْفَ يُقَالُ ذَلِكَ وَهُوَ فَرْدٌ أَحَدٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ عَظِيمًا بِالْجُثَّةِ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَجْمِيَّةِ، وَكَيْفَ يَكُونُ عَالِيًا بِالْجِهَةِ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِهَةِ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ كَبِيرًا بِالْمُدَّةِ وَالْمُدَّةُ مُتَغَيِّرَةٌ مِنْ سَاعَةٍ إِلَى سَاعَةٍ فَهِيَ مُحْدَثَةٌ فَمُحْدَثُهَا مَوْجُودٌ قَبْلَهَا فَكَيْفَ يَكُونُ كَبِيرًا بِالْمُدَّةِ؟ فَهُوَ تَعَالَى عالٍ عَلَى الْمَكَانِ لَا بِالْمَكَانِ، وَسَابِقٌ عَلَى الزَّمَانِ لَا بِالزَّمَانِ، فَكِبْرِيَاؤُهُ كِبْرِيَاءُ عَظَمَةٍ، وَعَظَمَتُهُ عَظَمَةُ عُلُوٍّ، وَعُلُوُّهُ عُلُوُّ جَلَالٍ، فَهُوَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُشَابِهَ الْمَحْسُوسَاتِ، وَيُنَاسِبَ الْمُخَيَّلَاتِ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِمَّا يَتَوَهَّمُهُ الْمُتَوَهِّمُونَ، وَأَعْظَمُ مِمَّا يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ، وَأَعْلَى مِمَّا يُمِجِّدُهُ الْمُمَجِّدُونَ، فَإِذَا صَوَّرَ لَكَ حِسُّكَ مِثَالًا: فَقُلْ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَإِذَا عَيَّنَ خَيَالُكَ صُورَةً فَقُلْ: سُبْحَانَكَ اللَّهُ وَبِحَمْدِكَ، وَإِذَا زَلَقَ رِجْلُ طَلَبِكَ فِي مَهْوَاةِ التَّعْطِيلِ فَقُلْ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السموات وَالْأَرْضَ، وَإِذَا جَالَ رُوحُكَ فِي مَيَادِينِ الْعِزَّةِ وَالْجَلَالِ ثُمَّ تَرَقَّى إِلَى الصِّفَاتِ/ الْعُلَى وَالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَطَالَعَ مِنْ مَرْقُومَاتِ الْقَلَمِ عَلَى سَطْحِ اللَّوْحِ نَقْشًا وَسَكَنَ عِنْدَ سَمَاعِ تَسْبِيحَاتِ الْمُقَرَّبِينَ وَتَنْزِيهَاتِ الْمَلَائِكَةِ الرُّوحَانِيِّينَ إِلَى صُورَةٍ فَاقْرَأْ عِنْدَ كُلِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الصَّافَّاتِ: 180- 182] . الْفَصْلُ السَّابِعُ فِي لَطَائِفِ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَفَوَائِدُ الْأَسْمَاءِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ في هذه السورة لطائف الحمد لله: أَمَّا لَطَائِفُ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَأَرْبَعُ نُكَتٍ: النُّكْتَةُ الْأُولَى: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ رَبَّهُ وَقَالَ: يَا رَبِّ، مَا جَزَاءُ مَنْ حَمِدَكَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ؟ فَقَالَ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاتِحَةُ الشُّكْرِ وَخَاتِمَتُهُ، قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فَاتِحَةَ الشُّكْرِ جَعَلَهَا اللَّهُ فَاتِحَةَ كَلَامِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ خَاتِمَتَهُ جَعَلَهَا اللَّهُ خَاتِمَةَ كَلَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَالَ: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10] . رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ مِنْ نُورٍ مَكْنُونٍ مَخْزُونٍ مِنْ سَابِقِ عِلْمِهِ، فَجَعَلَ الْعِلْمَ نَفْسَهُ، وَالْفَهْمَ رُوحَهُ، وَالزُّهْدَ رَأْسَهُ، وَالْحَيَاءَ عَيْنَهُ، وَالْحِكْمَةَ لِسَانَهُ، وَالْخَيْرَ سَمْعَهُ، وَالرَّأْفَةَ قَلْبَهُ، وَالرَّحْمَةَ هَمَّهُ، وَالصَّبْرَ بَطْنَهُ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ تَكَلَّمْ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ نِدٌّ وَلَا ضِدٌّ وَلَا مِثْلٌ وَلَا عَدْلٌ، الَّذِي ذَلَّ كُلُّ شَيْءٍ لِعِزَّتِهِ فَقَالَ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا خَلَقْتُ خَلْقًا أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ وَأَيْضًا نُقِلَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا عَطَسَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَكَانَ أَوَّلُ كَلَامِهِ ذَلِكَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَوَّلُ مَرَاتِبِ الْمَخْلُوقَاتِ هُوَ الْعَقْلُ، وَآخِرُ مَرَاتِبِهَا آدَمُ، وَقَدْ نَقَلْنَا أَوَّلَ كَلَامِ الْعَقْلِ هُوَ قَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَأَوَّلُ كَلَامِ آدَمَ هُوَ قَوْلُهُ: الْحَمْدُ، فَثَبَتَ أَنَّ أَوَّلَ كَلَامٍ لِفَاتِحَةِ الْمُحْدَثَاتِ هُوَ هَذِهِ

الْكَلِمَةُ، وَأَوَّلَ كَلَامٍ لِخَاتِمَةِ الْمُحْدَثَاتِ هُوَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ، فَلَا جَرَمَ جَعَلَهَا اللَّهُ فَاتِحَةَ كِتَابِهِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَأَيْضًا ثَبَتَ أَنَّ أَوَّلَ كَلِمَاتِ اللَّهِ قَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَآخِرَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَبَيْنَ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ مُنَاسَبَةٌ، فَلَا جَرَمَ جَعَلَ قَوْلَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوَّلَ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ مُحَمَّدٍ رَسُولِهِ، وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَضَعَ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ كَلِمَةِ الْحَمْدِ اسْمَانِ: أَحْمَدُ وَمُحَمَّدٌ، وَعِنْدَ هَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَنَا فِي السَّمَاءِ أَحْمَدُ، وَفِي الْأَرْضِ مُحَمَّدٌ» فَأَهْلُ السَّمَاءِ فِي تَحْمِيدِ اللَّهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ أَحْمَدُهُمْ وَاللَّهُ تَعَالَى فِي تَحْمِيدِ أَهْلِ الْأَرْضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الْإِسْرَاءِ: 19] وَرَسُولُ اللَّهِ مُحَمَّدُهُمْ. وَالنُّكْتَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْحَمْدَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الْفَوْزِ بِالنِّعْمَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْحَمْدُ أَوَّلَ الْكَلِمَاتِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ النِّعْمَةُ وَالرَّحْمَةُ أَوَّلَ الْأَفْعَالِ وَالْأَحْكَامِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي. النُّكْتَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الرَّسُولَ اسْمُهُ أْحَمْدُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ أَحْمَدُ الْحَامِدِينَ أَيْ: أَكْثَرُهُمْ حَمْدًا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَكْثَرَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ كَثْرَةَ الْحَمْدِ بِحَسَبِ كَثْرَةِ النِّعْمَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ رَحْمَةُ اللَّهِ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي حَقِّ جَمِيعِ الْعَالَمِينَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 107] . النُّكْتَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْمُرْسِلَ لَهُ اسْمَانِ مُشْتَقَّانِ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَهُمَا الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَهُمَا يُفِيدَانِ الْمُبَالَغَةَ، وَالرَّسُولُ لَهُ أَيْضًا اسْمَانِ مُشْتَقَّانِ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَهُمَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ حُصُولَ الْحَمْدِ مَشْرُوطٌ بِحُصُولِ الرَّحْمَةِ، فَقَوْلُنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ جَارٍ مَجْرَى قَوْلِنَا مَرْحُومٌ وَأَرْحَمُ. وَجَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّسُولِ: الْحَمْدَ، وَالْحَامِدَ، والمحمود، فهذه خمسة أسماء لِلرُّسُولِ دَالَّةٌ عَلَى الرَّحْمَةِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الْحِجْرِ: 49] فقوله: نبىء إِشَارَةٌ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللُّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مَذْكُورٌ قَبْلَ الْعِبَادِ، وَالْيَاءُ فِي قَوْلِهِ: عِبَادِي ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْيَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَنِّي عَائِدٌ إِلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: أَنَا عائد إليه، وقول: الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، صِفَتَانِ لِلَّهِ فَهِيَ خَمْسَةُ أَلْفَاظٍ دَالَّةٌ عَلَى اللَّهِ الْكَرِيمِ الرَّحِيمِ، فَالْعَبْدُ يَمْشِي يوم القيامة وقدامه الرسول عليه الصلاة والسلام مَعَ خَمْسَةِ أَسْمَاءٍ تَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ، وَخَلْفَهُ خَمْسَةُ أَلْفَاظٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ، وَرَحْمَةُ الرَّسُولِ كَثِيرَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الْأَعْرَافِ: 156] فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَضِيعَ الْمُذْنِبُ مَعَ هَذِهِ الْبِحَارِ الزَّاخِرَةِ الْعَشَرَةِ الْمَمْلُوءَةِ مِنَ الرَّحْمَةِ؟. وَأَمَّا فَوَائِدُ الْأَسْمَاءِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَأَشْيَاءُ: النُّكْتَةُ الْأُولَى: أَنَّ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ فِيهَا عَشَرَةُ أَشْيَاءَ، منها خمسة من صفات الرُّبُوبِيَّةِ، وَهِيَ: اللَّهُ، وَالرَّبُّ، وَالرَّحْمَنُ، وَالرَّحِيمُ، وَالْمَالِكُ، وَخَمْسَةُ أَشْيَاءَ مِنْ صِفَاتِ الْعَبْدِ وَهِيَ: الْعُبُودِيَّةُ، وَالِاسْتِعَانَةُ، وَطَلَبُ الْهِدَايَةِ، وَطَلَبُ الِاسْتِقَامَةِ، وَطَلَبُ النِّعْمَةِ كَمَا قَالَ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فَانْطَبَقَتْ تِلْكَ الْأَسْمَاءُ الْخَمْسَةُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْخَمْسَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ لِأَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لِأَنَّكَ أَنْتَ الرَّبُّ، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ لِأَنَّكَ أَنْتَ الرَّحْمَنُ، وَارْزُقْنَا الِاسْتِقَامَةَ لِأَنَّكَ أَنْتَ الرَّحِيمُ، وَأَفِضْ عَلَيْنَا سِجَالَ نِعَمِكَ وَكَرَمِكَ لِأَنَّكَ مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ. النُّكْتَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِنْسَانُ مُرَكَّبٌ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: بَدَنِهِ، وَنَفْسِهِ الشَّيْطَانِيَّةِ، وَنَفْسِهِ الشَّهْوَانِيَّةِ، وَنَفْسِهِ الْغَضَبِيَّةِ، وَجَوْهَرِهِ الْمَلَكِيِّ الْعَقْلِيِّ، فَتَجَلَّى الْحَقُّ سُبْحَانَهُ بِأَسْمَائِهِ الْخَمْسَةِ لِهَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْخَمْسَةِ فَتَجَلَّى اسْمُ اللَّهِ

لِلرُّوحِ الْمَلَكِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْفَلَكِيَّةِ الْقُدْسِيَّةِ فَخَضَعَ وَأَطَاعَ كَمَا قَالَ: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْدِ: 28] وتجلى النفس الشَّيْطَانِيَّةِ بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ- وَهُوَ اسْمُ الرَّبِّ- فَتَرَكَ الْعِصْيَانَ وَانْقَادَ لِطَاعَةِ الدَّيَّانِ، وَتَجَلَّى لِلنَّفْسِ الْغَضَبِيَّةِ السَّبُعِيَّةِ بِاسْمِ الرَّحْمَنِ وَهَذَا الِاسْمُ مُرَكَّبٌ مِنَ الْقَهْرِ وَاللُّطْفِ كَمَا قَالَ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الْفُرْقَانِ: 26] فَتَرَكَ الْخُصُومَةَ وَتَجَلَّى لِلنَّفْسِ الشَّهْوَانِيَّةِ الْبَهِيمِيَّةِ بِاسْمِ الرَّحِيمِ وَهُوَ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْمُبَاحَاتِ وَالطِّيبَاتِ كَمَا قَالَ: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [الْمَائِدَةِ: 5] فَلَانَ وَتَرَكَ الْعِصْيَانَ، وَتَجَلَّى لِلْأَجْسَادِ وَالْأَبْدَانِ بِقَهْرِ قَوْلِهِ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فَإِنَّ الْبَدَنَ غَلِيظٌ كَثِيفٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَهْرٍ شَدِيدٍ، وَهُوَ الْقَهْرُ الْحَاصِلُ مِنْ خَوْفِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَمَّا تَجَلَّى الْحَقُّ سُبْحَانَهُ بِأَسْمَائِهِ الْخَمْسَةِ لِهَذِهِ الْمَرَاتِبِ انْغَلَقَتْ أَبْوَابُ النِّيرَانِ، وَانْفَتَحَتْ أَبْوَابُ الْجِنَانِ. ثُمَّ هَذِهِ الْمَرَاتِبُ ابْتَدَأَتْ بِالرُّجُوعِ كَمَا جَاءَتْ فَأَطَاعَتِ الْأَبْدَانُ وَقَالَتْ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَأَطَاعَتِ النُّفُوسُ الشَّهْوَانِيَّةُ فَقَالَتْ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ عَلَى تَرْكِ اللَّذَّاتِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَأَطَاعَتِ النُّفُوسُ الْغَضَبِيَّةِ فَقَالَتْ: اهْدِنَا وَأَرْشِدْنَا وَعَلَى دِينِكَ فَثَبِّتْنَا، وَأَطَاعَتِ النَّفْسُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَطَلَبَتْ مِنَ اللَّهِ الِاسْتِقَامَةَ وَالصَّوْنَ عَنِ الِانْحِرَافِ فَقَالَتْ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وَتَوَاضَعَتِ الْأَرْوَاحُ الْقُدْسِيَّةُ الْمَلَكِيَّةُ فَطَلَبَتْ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُوصِلَهَا بِالْأَرْوَاحِ الْقُدْسِيَّةِ الْعَالِيَةِ الْمُطَهَّرَةِ الْمُعَظَّمَةِ فَقَالَتْ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. النُّكْتَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، فَشَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَاصِلَةٌ مِنْ تَجَلِّي نُورِ اسْمِ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةُ مِنْ تجلي اسم الرَّبِّ، لِأَنَّ الرَّبَّ مُشْتَقٌ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَالْعَبْدُ يُرَبِّي إِيمَانَهُ بِمَدَدِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ مِنْ تَجَلِّي اسْمِ الرَّحْمَنِ، لِأَنَّ الرَّحْمَنَ مُبَالَغَةٌ فِي الرَّحْمَةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ لِأَجْلِ الرَّحْمَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَوُجُوبُ صَوْمِ رَمَضَانَ مِنْ تَجَلِّي اسْمِ الرَّحِيمِ، لِأَنَّ الصَّائِمَ إِذَا جَاعَ تَذَكَّرَ جَوْعَ الْفُقَرَاءِ فَيُعْطِيهِمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَأَيْضًا إِذَا جَاعَ حَصَلَ لَهُ فِطَامٌ عَنِ الِالْتِذَاذِ بِالْمَحْسُوسَاتِ فَعِنْدَ الْمَوْتِ يَسْهُلُ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهَا، وَوُجُوبُ الْحَجِّ مِنْ تَجَلِّي اسْمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، لِأَنَّ عِنْدَ الْحَجِّ يَجِبُ هِجْرَةُ الْوَطَنِ وَمُفَارَقَةُ الْأَهْلِ وَالْوَلَدُ، وَذَلِكَ يُشْبِهُ سَفَرَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَيْضًا الْحَاجُّ يَصِيرُ حَافِيًا حَاسِرًا عَارِيًا وَهُوَ يُشْبِهُ حَالَ أَهْلِ الْقِيَامَةِ وَبِالْجُمْلَةِ فَالنِّسْبَةُ بَيْنَ الْحَجِّ وَبَيْنَ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ، كَثِيرَةٌ جِدًّا. النُّكْتَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْوَاعُ الْقِبْلَةِ خَمْسَةٌ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَالْكَعْبَةُ، وَالْبَيْتُ الْمَعْمُورِ، وَالْعَرْشُ وَحَضْرَةُ جَلَالِ اللَّهِ: فَوَزِّعْ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الْخَمْسَةَ عَلَى الْأَنْوَاعِ الْخَمْسَةِ مِنَ الْقِبْلَةِ. النُّكْتَةُ الْخَامِسَةُ: الْحَوَاسُّ خَمْسٌ: أَدَّبَ الْبَصَرَ بِقَوْلِهِ: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الْحَشْرِ: 2] وَالسَّمْعَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: 18] والذوق بقوله: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً [الْمُؤْمِنُونَ: 51] وَالشَّمَّ بِقَوْلِهِ: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ [يُوسُفَ: 94] وَاللَّمْسَ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ [المعارج: 29، الْمُؤْمِنُونَ: 5] فَاسْتَعِنْ بِأَنْوَارِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْخَمْسَةِ عَلَى دَفْعِ مَضَارِّ هَذِهِ الْأَعْدَاءِ الْخَمْسَةِ. النُّكْتَةُ السَّادِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الشَّطْرَ الْأَوَّلَ: مِنَ الْفَاتِحَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْخَمْسَةِ فَتَفِيضُ الْأَنْوَارُ عَلَى الْأَسْرَارِ، وَالشَّطْرَ الثَّانِي: مِنْهَا مُشْتَمِلٌ عَلَى الصِّفَاتِ الْخَمْسَةِ لعبد فَتَصْعَدُ مِنْهَا أَسْرَارٌ إِلَى مَصَاعِدِ تِلْكَ الْأَنْوَارِ، وَبِسَبَبِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ يِحْصُلُ لِلْعَبْدِ مِعْرَاجٌ فِي صَلَاتِهِ: فَالْأَوَّلُ: هُوَ النُّزُولُ، وَالثَّانِي: هُوَ الصُّعُودُ، والحد

الفصل الثامن في السبب المقتضي لاشتمال بسم الله الرحمن الرحيم على الأسماء الثلاثة

الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ هُوَ الْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ قَوْلِهِ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ حَاجَةَ الْعَبْدِ إِمَّا فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَهُوَ قِسْمَانِ: إِمَّا دَفْعُ الضَّرَرِ، أَوْ جَلْبُ النَّفْعِ، وَإِمَّا فِي طَلَبِ الْآخِرَةِ، وَهُو أَيْضًا قِسْمَانِ: دَفْعُ الضَّرَرِ وَهُوَ الْهَرَبُ مِنَ النَّارِ، وَطَلَبُ الْخَيْرِ وَهُوَ طَلَبُ الْجَنَّةِ، فَالْمَجْمُوعُ أَرْبَعَةٌ، وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ- وَهُوَ الْأَشْرَفُ- طَلَبُ خِدْمَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ لِمَا هُوَ هُوَ لَا لِأَجْلِ رَغْبَةٍ وَلَا لِأَجْلِ رَهْبَةٍ، فَإِنْ شَاهَدْتَ نُورَ اسْمِ اللَّهِ لَمْ تَطْلُبْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا سِوَى اللَّهِ، وَإِنْ طَالَعْتَ نُورَ الرَّبِّ طَلَبْتَ مِنْهُ خَيْرَاتِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ طَالَعْتَ مِنْهُ نُورَ الرَّحْمَنِ طَلَبْتَ مِنْهُ خَيْرَاتِ هَذِهِ الدُّنْيَا، وَإِنْ طَالَعْتَ نُورَ الرَّحِيمِ طَلَبْتَ مِنْهُ أَنْ يَعْصِمَكَ عَنْ مَضَارِّ الْآخِرَةِ، وَإِنْ طَالَعْتَ نُورَ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ طَلَبْتَ مِنْهُ أَنْ يَصُونَكَ عَنْ آفَاتِ هَذِهِ الدُّنْيَا وَقَبَائِحِ الْأَعْمَالِ فِيهَا لِئَلَّا تَقَعَ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ. النُّكْتَةُ السَّابِعَةُ: يُمْكِنُ أَيْضًا تَنْزِيلُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْخَمْسَةِ عَلَى الْمَرَاتِبِ الْخَمْسِ الْمَذْكُورَةِ فِي الذِّكْرِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ- أَمَّا قَوْلُنَا سُبْحَانَ اللَّهِ فَهُوَ فَاتِحَةُ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الْإِسْرَاءِ: 1] وَأَمَّا قَوْلُنَا الْحَمْدُ لِلَّهِ فَهُوَ فَاتِحَةُ خَمْسِ سُوَرٍ، وَأَمَّا قَوْلُنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَهُوَ فَاتِحَةُ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: الم، اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آلِ عِمْرَانَ: 1، 2] وَأَمَّا قَوْلُنَا اللَّهُ أَكْبَرُ فَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ لَا بِالتَّصْرِيحِ فِي مَوْضِعَيْنِ مُضَافًا إِلَى الذِّكْرِ تَارَةً وَإِلَى الرِّضْوَانِ/ أُخْرَى فقال: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 72] وقال: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت: 45] وَأَمَّا قَوْلُنَا: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ فَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْقُرْآنِ صَرِيحًا، لِأَنَّهُ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ، وَالْكَنْزُ يَكُونُ مَخْفِيًّا وَلَا يَكُونُ ظَاهِرًا، فَالْأَسْمَاءُ الْخَمْسَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ مَبَادٍ لِهَذِهِ الْأَذْكَارِ الْخَمْسَةِ، فَقَوْلُنَا: اللَّهِ مَبْدَأٌ لِقَوْلِنَا سُبْحَانَ اللَّهِ، وَقَوْلُنَا: رَبِّ مَبْدَأٌ لِقَوْلِنَا الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَقَوْلُنَا الرَّحْمَنِ مَبْدَأٌ لِقَوْلِنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنَّ قَوْلَنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنَّمَا يَلِيقُ بِمَنْ يَحْصُلُ لَهُ كَمَالُ الْقُدْرَةِ وَكَمَالُ الرحمة، وذلك هو الرحمن، وقولنا: الرحمن مَبْدَأٌ لِقَوْلِنَا اللَّهُ أَكْبَرُ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ لَا يَرْحَمَ عِبَادَهُ الضُّعَفَاءَ، وَقَوْلُنَا: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ مَبْدَأٌ لِقَوْلِنَا لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، لِأَنَّ الْمَلِكَ وَالْمَالِكَ هُوَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَبِيدُهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا شَيْئًا عَلَى خِلَافِ إِرَادَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْفَصْلُ الثَّامِنُ فِي السَّبَبِ الْمُقْتَضِي لِاشْتِمَالِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَلَى الْأَسْمَاءِ الثلاثة السبب في اشتمال البسملة عَلَى الْأَسْمَاءِ الثَّلَاثَةِ: وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَا شَكَّ أَنَّهُ تَعَالَى يَتَجَلَّى لِعُقُولِ الْخَلْقِ، إِلَّا أَنَّ لِذَلِكَ التَّجَلِّي ثَلَاثَ مَرَاتِبَ: فَإِنَّهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يَتَجَلَّى بِأَفْعَالِهِ وَآيَاتِهِ، وَفِي وَسَطِ الْأَمْرِ يَتَجَلَّى بِصِفَاتِهِ، وَفِي آخِرِ الْأَمْرِ يَتَجَلَّى بِذَاتِهِ، قِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى يَتَجَلَّى لِعَامَّةِ عِبَادِهِ بأفعاله وآياته، قال: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ [الشُّورَى: 32] وَقَالَ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ [آلِ عِمْرَانَ: 190] ثُمَّ يَتَجَلَّى لِأَوْلِيَائِهِ بِصِفَاتِهِ، قَالَ:

الفصل التاسع في سبب اشتمال الفاتحة على الأسماء الخمسة

وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا [آلِ عِمْرَانَ: 191] وَيَتَجَلَّى لِأَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَرُؤَسَاءِ الْمَلَائِكَةِ بِذَاتِهِ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الْأَنْعَامِ: 91] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اسْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَقْوَى الْأَسْمَاءِ فِي تَجَلِّي ذَاتِهِ، لِأَنَّهُ أَظْهَرُ الْأَسْمَاءِ فِي اللَّفْظِ، وَأَبْعَدُهَا مَعْنًى عَنِ الْعُقُولِ، فَهُوَ ظَاهِرٌ بَاطِنٌ، يَعْسُرُ إِنْكَارُهُ. وَلَا تُدْرَكُ أَسْرَارُهُ، قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ الْحَلَّاجُ: - اسْمٌ مَعَ الْخَلْقِ قَدْ تَاهُوا بِهِ وَلَهًا ... لِيَعْلَمُوا مِنْهُ مَعْنًى مِنْ مَعَانِيهِ وَاللَّهِ مَا وَصَلُوا مِنْهُ إِلَى سَبَبٍ ... حَتَّى يَكُونَ الَّذِي أَبْدَاهُ مُبْدِيهِ وَقَالَ أَيْضًا: - يَا سِرَّ سِرٍّ يَدِقُّ حَتَّى ... يَخْفَى عَلَى وَهْمِ كُلِّ حَيِّ فَظَاهِرًا بَاطِنًا تجلى ... لكل شيء بكل شيء وَأَمَّا اسْمُهُ الرَّحْمَنُ فَهُوَ يُفِيدُ تَجَلِّي الْحَقِّ بِصِفَاتِهِ الْعَالِيَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الْإِسْرَاءِ: 110] وَأَمَّا اسْمُهُ الرَّحِيمُ فَهُوَ يُفِيدُ تَجَلِّي الْحَقِّ بِأَفْعَالِهِ وَآيَاتِهِ وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [غَافِرٍ: 7] . الْفَصْلُ التَّاسِعُ فِي سَبَبِ اشْتِمَالِ الْفَاتِحَةِ على الأسماء الخمسة سَبَبِ اشْتِمَالِ الْفَاتِحَةِ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْخَمْسَةِ: السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ مَرَاتِبَ أَحْوَالِ الْخَلْقِ خَمْسَةٌ: أَوَّلُهَا: الْخَلْقُ، وَثَانِيهَا: التَّرْبِيَةُ فِي مَصَالِحَ الدُّنْيَا، وَثَالِثُهَا: التَّرْبِيَةُ فِي تَعْرِيفِ الْمَبْدَأِ، وَرَابِعُهَا: التَّرْبِيَةُ فِي تَعْرِيفِ الْمَعَادِ، وَخَامِسُهَا: نَقْلُ الْأَرْوَاحِ مِنْ عَالَمِ الْأَجْسَادِ إِلَى دَارِ الْمَعَادِ، فَاسْمُ اللَّهِ مَنْبَعُ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ وَالْإِبْدَاعِ وَاسْمُ الرَّبِّ يَدُلُّ عَلَى التَّرْبِيَةِ بِوُجُوهِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَاسْمُ الرَّحْمَنِ يَدُلُّ عَلَى التَّرْبِيَةِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ، وَاسْمُ الرَّحِيمِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَعَادِ حَتَّى يَحْتَرِزَ عَمَّا لَا يَنْبَغِي وَيُقْدِمَ عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَاسْمُ الْمَلِكِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْقُلُهُمْ مِنْ دَارِ الدُّنْيَا إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ، ثُمَّ عِنْدَ وُصُولِ الْعَبْدِ إِلَى هَذِهِ الْمَقَامَاتِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ فَقَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّكَ إِذَا انْتَفَعْتَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْخَمْسَةِ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْخَمْسِ وَانْتَقَلْتَ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ صِرْتَ بِحَيْثُ تَرَى اللَّهَ، فَحِينَئِذٍ تَكَلَّمْ مَعَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاهَدَةِ لَا عَلَى سَبِيلِ المغايبة، ثم قل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ لِأَنَّكَ اللَّهُ الْخَالِقُ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لِأَنَّكَ الرَّبُّ الرَّازِقُ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ لِأَنَّكَ الرَّحْمَنُ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لِأَنَّكَ الرَّحِيمُ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ لِأَنَّكَ الْمَلِكُ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لِأَنَّكَ الْمَالِكُ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ مُنْتَقِلٌ مِنْ دَارِ الدُّنْيَا إِلَى دَارِ الْآخِرَةِ، وَمِنْ دَارِ الشُّرُورِ إِلَى دَارِ السُّرُورِ، فَقَالَ: لَا بُدَّ لِذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ زَادٍ وَاسْتِعْدَادٍ، وَذَلِكَ هُوَ الْعِبَادَةُ، فَلَا جَرَمَ قَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، ثُمَّ قَالَ الْعَبْدُ: الَّذِي اكْتَسَبْتُهُ بِقُوَّتِي وَقُدْرَتِي قَلِيلٌ لَا يَكْفِينِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الطويل فاستعان بربه فقال، ما معنى قَلِيلٌ، فَأَعْطِنِي مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِكَ مَا يَكْفِينِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الطَّوِيلِ فَقَالَ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، ثُمَّ لَمَّا حَصَلَ الزَّادُ لِيَوْمِ

الفصل العاشر في هذه السورة كلمتان مضافتان إلى اسم الله، واسمان مضافان إلى غير الله:

الْمَعَادِ قَالَ: هَذَا سَفَرٌ طَوِيلٌ شَاقٌّ وَالطُّرُقُ كَثِيرَةٌ وَالْخَلْقُ قَدْ تَاهُوا فِي هَذِهِ الْبَادِيَةِ فَلَا طَرِيقَ إِلَّا أَنْ أَطْلُبَ الطَّرِيقَ مِمَّنْ هُوَ بِإِرْشَادِ السَّالِكِينَ حَقِيقٌ فَقَالَ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا بُدَّ لِسَالِكِ الطَّرِيقِ مِنْ رَفِيقٍ وَمِنْ بَدْرَقَةٍ وَدَلِيلٍ فَقَالَ: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وَالَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ/ عَلَيْهِمْ هُمُ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ، فَالْأَنْبِيَاءُ هُمُ الْأَدِلَّاءُ، وَالصِّدِّيقُونَ هُمُ الْبَدْرَقَةُ، وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ هُمُ الرُّفَقَاءُ، ثُمَّ قَالَ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُجُبَ عَنِ اللَّهِ قِسْمَانِ: الْحُجُبُ النَّارِيَّةُ- وَهِيَ عَالَمُ الدُّنْيَا- ثُمَّ الْحُجُبُ النُّورِيَّةُ- وَهِيَ عَالَمُ الْأَرْوَاحِ- فَاعْتَصَمَ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَبْقَى مَشْغُولَ السِّرِّ لَا بِالْحُجُبِ النَّارِيَّةِ وَلَا بِالْحُجُبِ النُّورِيَّةِ. الْفَصْلُ الْعَاشِرُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ كَلِمَتَانِ مُضَافَتَانِ إِلَى اسْمِ اللَّهِ، وَاسْمَانِ مُضَافَانِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ: أَمَّا الْكَلِمَتَانِ الْمُضَافَتَانِ إِلَى اسْمِ اللَّهِ فَهُمَا قَوْلُهُ: بِسْمِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَقَوْلُهُ بِسْمِ اللَّهِ لِبِدَايَةِ الْأُمُورِ، وَقَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ لِخَوَاتِيمِ الْأُمُورِ، فَبِسْمِ اللَّهِ ذِكْرٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ شُكْرٌ، فَلَمَّا قَالَ بِسْمِ اللَّهِ اسْتَحَقَّ الرَّحْمَةَ، وَلَمَّا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ اسْتَحَقَّ رَحْمَةً أُخْرَى، فَبِقَوْلِهِ بِسْمِ اللَّهِ اسْتَحَقَّ الرَّحْمَةَ مِنِ اسْمِ الرَّحْمَنِ، وَبِقَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ اسْتَحَقَّ الرَّحْمَةَ مِنِ اسْمِ الرَّحِيمِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قِيلَ: يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَرَحِيمَ الْآخِرَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فَالرُّبُوبِيَّةُ لِبِدَايَةِ حَالِهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَافِ: 172] وَصِفَةُ الرَّحْمَنِ لِوَسَطِ حَالِهِمْ، وَصِفَةُ الْمَلِكِ لِنِهَايَةِ حَالِهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غَافِرٍ: 16] . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَهُوَ الْهَادِي إِلَى الرَّشَادِ. تَمَّ تَفْسِيرُ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ بِحَمْدِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ

الجزء الثاني

الجزء الثاني بسم الله الرحمن الرحيم سُورَةُ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا آيَةَ 281 فَنَزَلَتْ بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَآيَاتُهَا مِائَتَانِ وَسِتٌّ وَثَمَانُونَ [سورة البقرة (2) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تفسير الم حروف الهجاء: الم فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: - اعْلَمْ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الَّتِي يُتَهَجَّى بِهَا أَسْمَاءٌ مُسَمَّيَاتُهَا الْحُرُوفُ الْمَبْسُوطَةُ، لِأَنَّ الضَّادَ مَثَلًا لَفْظَةٌ مُفْرَدَةٌ دَالَّةٌ بِالتَّوَاطُؤِ عَلَى مَعْنًى مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْحَرْفُ الْأَوَّلُ مِنْ «ضَرَبَ» فَثَبَتَ أَنَّهَا أَسْمَاءٌ وَلِأَنَّهَا يُتَصَرَّفُ فِيهَا بِالْإِمَالَةِ وَالتَّفْخِيمِ وَالتَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ وَالْجَمْعِ وَالتَّصْغِيرِ وَالْوَصْفِ وَالْإِسْنَادِ وَالْإِضَافَةِ، فَكَانَتْ لَا مَحَالَةَ أَسْمَاءٌ. فَإِنْ قِيلَ قَدْ رَوَى أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَهُ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، لَكِنْ أَلْفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ» الْحَدِيثَ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ يُنَاقِضُ مَا ذَكَرْتُمْ قُلْنَا: سَمَّاهُ حَرْفًا مَجَازًا لِكَوْنِهِ اسْمًا لِلْحَرْفِ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ أَحَدِ المتلازمين على الآخر مجاز مشهور. معاني تسمية حروفها: فُرُوعٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ رَاعَوْا هَذِهِ التَّسْمِيَةَ لِمَعَانٍ لَطِيفَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْمُسَمَّيَاتِ لَمَّا كَانَتْ أَلْفَاظًا كَأَسَامِيهَا وَهِيَ حُرُوفٌ مُفْرَدَةٌ وَالْأَسَامِي تَرْتَقِي عَدَدَ حُرُوفِهَا إِلَى الثَّلَاثَةِ اتَّجَهَ لَهُمْ طَرِيقٌ إِلَى أَنْ يَدُلُّوا فِي الِاسْمِ عَلَى الْمُسَمَّى، فَجَعَلُوا الْمُسَمَّى صَدْرَ كُلِّ اسْمٍ مِنْهَا إِلَّا الْأَلِفَ فَإِنَّهُمُ اسْتَعَارُوا الْهَمْزَةَ مَكَانَ مُسَمَّاهَا لِأَنَّهُ لَا يكون إلا ساكناً. حكمها ما لم تلها العوامل: الثَّانِي: حُكْمُهَا مَا لَمْ تَلِهَا الْعَوَامِلُ أَنْ تَكُونَ سَاكِنَةَ الْأَعْجَازِ كَأَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ فَيُقَالُ أَلِفٌ لَامٌ مِيمٌ، كَمَا تَقُولُ وَاحِدٌ اثْنَانِ ثَلَاثَةٌ فَإِذَا وَلِيَتْهَا الْعَوَامِلُ أَدْرَكَهَا الْإِعْرَابُ كَقَوْلِكَ هَذِهِ أَلِفٌ وَكَتَبْتُ أَلِفًا وَنَظَرْتُ إِلَى أَلِفٍ، وَهَكَذَا كُلُّ اسْمٍ عَمَدْتَ إِلَى تَأْدِيَةِ مُسَمَّاهُ فَحَسْبُ، لِأَنَّ جَوْهَرَ اللَّفْظِ مَوْضُوعٌ لِجَوْهَرِ الْمَعْنَى، وَحَرَكَاتُ اللَّفْظِ دَالَّةٌ عَلَى أَحْوَالِ الْمَعْنَى، فَإِذَا أُرِيدَ إِفَادَةُ جَوْهَرِ الْمَعْنَى وَجَبَ إِخْلَاءُ اللَّفْظِ عَنِ الحركات.

/ كونها معربة: الثَّالِثُ: هَذِهِ الْأَسْمَاءُ مُعْرَبَةٌ وَإِنَّمَا سَكَنَتْ سُكُونَ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ حَيْثُ لَا يَمَسُّهَا إِعْرَابٌ لِفَقْدِ مُوجِبِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ سُكُونَهَا وَقْفٌ لَا بِنَاءٌ أَنَّهَا لَوْ بُنِيَتْ لَحُذِيَ بِهَا حَذْوَ كَيْفَ وَأَيْنَ وَهَؤُلَاءِ وَلَمْ يُقَلْ صَادْ قَافْ نون مجموع فيها بين الساكنين. معاني ألم: المسألة الثانية: معاني ألم لِلنَّاسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الم وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنَ الْفَوَاتِحِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا عِلْمٌ مَسْتُورٌ وَسِرٌّ مَحْجُوبٌ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لِلَّهِ فِي كُلِّ كِتَابٍ سِرٌّ وَسِرُّهُ فِي الْقُرْآنِ أَوَائِلُ السُّوَرِ، وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ لِكُلِّ كِتَابٍ صَفْوَةٌ وَصَفْوَةُ هَذَا الْكِتَابِ حُرُوفُ التَّهَجِّي. وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: الْعِلْمُ بِمَنْزِلَةِ الْبَحْرِ فَأُجْرِيَ مِنْهُ وادٍ ثُمَّ أُجْرِيَ مِنَ الْوَادِي نَهْرٌ ثُمَّ أُجْرِيَ مِنَ النَّهْرِ جَدْوَلٌ، ثُمَّ أُجْرِيَ مِنَ الْجَدْوَلِ سَاقِيَةٌ، فَلَوْ أُجْرِيَ إِلَى الْجَدْوَلِ ذَلِكَ الْوَادِي لَغَرَّقَهُ وَأَفْسَدَهُ، وَلَوْ سَالَ الْبَحْرُ إِلَى الْوَادِي لَأَفْسَدَهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها [الرَّعْدِ: 17] فَبُحُورُ الْعِلْمِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَعْطَى الرُّسُلَ مِنْهَا أَوْدِيَةً، ثُمَّ أَعْطَتِ الرُّسُلُ مِنْ أَوْدِيَتِهِمْ أَنْهَارًا إِلَى الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ أَعْطَتِ الْعُلَمَاءُ إِلَى الْعَامَّةِ جَدَاوِلَ صِغَارًا عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِمْ، ثُمَّ أَجْرَتِ الْعَامَّةُ سَوَاقِيَ إِلَى أَهَالِيهِمْ بِقَدْرِ طَاقَتِهِمْ. وَعَلَى هَذَا مَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ «لِلْعُلَمَاءِ سِرٌّ، وَلِلْخُلَفَاءِ سِرٌّ وَلِلْأَنْبِيَاءِ سِرٌّ، وَلِلْمَلَائِكَةِ سِرٌّ، وَلِلَّهِ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ كُلِّهِ سِرٌّ، فَلَوِ اطَّلَعَ الْجُهَّالُ عَلَى سِرِّ الْعُلَمَاءِ لَأَبَادُوهُمْ، وَلَوِ اطَّلَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى سِرِّ الْخُلَفَاءِ لَنَابَذُوهُمْ، وَلَوِ اطَّلَعَ الْخُلَفَاءُ عَلَى سِرِّ الْأَنْبِيَاءِ لَخَالَفُوهُمْ، وَلَوِ اطَّلَعَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى سِرِّ الْمَلَائِكَةِ لَاتَّهَمُوهُمْ، وَلَوِ اطَّلَعَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى سِرِّ اللَّهِ تَعَالَى لَطَاحُوا حَائِرِينَ، وَبَادُوا بَائِرِينَ وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعُقُولَ الضَّعِيفَةَ لَا تَحْتَمِلُ الْأَسْرَارَ الْقَوِيَّةَ، كَمَا لَا يَحْتَمِلُ نُورَ الشَّمْسِ أَبْصَارُ الْخَفَافِيشِ، فَلَمَّا زِيدَتِ الْأَنْبِيَاءُ فِي عُقُولِهِمْ قَدَرُوا عَلَى احْتِمَالِ أَسْرَارِ النُّبُوَّةِ، وَلَمَّا زِيدَتِ الْعُلَمَاءُ فِي عُقُولِهِمْ قَدَرُوا عَلَى احْتِمَالِ أَسْرَارِ مَا عَجَزَتِ الْعَامَّةُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ عُلَمَاءُ الْبَاطِنِ، وَهُمُ الْحُكَمَاءُ زِيدَ فِي عُقُولِهِمْ فَقَدَرُوا عَلَى احْتِمَالِ مَا عَجَزَتْ عَنْهُ عُلَمَاءُ الظَّاهِرِ. وَسُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ فَقَالَ: سِرُّ اللَّهِ فَلَا تَطْلُبُوهُ، وَرَوَى أَبُو ظَبْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: عَجَزَتِ الْعُلَمَاءُ عَنْ إِدْرَاكِهَا، وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: هُوَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنْكَرُوا هَذَا الْقَوْلَ، وَقَالُوا لَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَا يَكُونُ مَفْهُومًا لِلْخَلْقِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ وَالْمَعْقُولِ. حجج المتكلمين بالآيات: أَمَّا الْآيَاتُ فَأَرْبَعَةَ عَشَرَ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [مُحَمَّدٍ: 24] أَمَرَهُمْ بِالتَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مَفْهُومٍ فَكَيْفَ يَأْمُرُهُمْ بِالتَّدَبُّرِ فِيهِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاءِ: 82] فَكَيْفَ يَأْمُرُهُمْ بِالتَّدَبُّرِ فِيهِ لِمَعْرِفَةِ نَفْيِ التَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مَفْهُومٍ لِلْخَلْقِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاءِ: 192- 195] فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَفْهُومًا بَطَلَ كَوْنُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم

مُنْذِرًا بِهِ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ نَازِلٌ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَإِذَا/ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَفْهُومًا. ورابعها: قوله: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83] وَالِاسْتِنْبَاطُ مِنْهُ لَا يُمْكِنُ إِلَّا مَعَ الْإِحَاطَةِ بِمَعْنَاهُ وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النَّحْلِ: 89] وَقَوْلُهُ: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَامِ: 38] وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ: هُدىً لِلنَّاسِ [الْبَقَرَةِ: 185] ، هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: 2] وَغَيْرُ الْمَعْلُومِ لَا يَكُونُ هُدًى وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ [الْقَمَرِ: 5] وَقَوْلُهُ: وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يُونُسَ: 57] وَكُلُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا تَحْصُلُ فِي غَيْرِ الْمَعْلُومِ وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [الْمَائِدَةِ: 15] وَتَاسِعُهَا: قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: 51] وَكَيْفَ يَكُونُ الْكِتَابُ كَافِيًا وَكَيْفَ يَكُونُ ذِكْرَى مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مَفْهُومٍ؟ وَعَاشِرُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ بَلَاغًا، وَكَيْفَ يَقَعُ الْإِنْذَارُ بِهِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ؟ وَقَالَ فِي آخِرِ الآية وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [إِبْرَاهِيمَ: 52] وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعْلُومًا الْحَادِيَ عَشَرَ: قَوْلُهُ: قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [النِّسَاءِ: 174] فَكَيْفَ يَكُونُ بُرْهَانًا وَنُورًا مُبِينًا مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ؟ الثَّانِيَ عَشَرَ: قَوْلُهُ: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه: 123، 124] فَكَيْفَ يُمْكِنُ اتِّبَاعُهُ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ؟ الثَّالِثَ عَشَرَ: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الْإِسْرَاءِ: 9] فَكَيْفَ يَكُونُ هَادِيًا مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ؟ الرَّابِعَ عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: آمَنَ الرَّسُولُ- إِلَى قَوْلِهِ سَمِعْنا وَأَطَعْنا [الْبَقَرَةِ: 285] وَالطَّاعَةُ لَا تُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ الْفَهْمِ فَوَجَبَ كون القرآن مفهوماً. الاحتجاج بالأخبار: وَأَمَّا الْأَخْبَارُ: فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي» فَكَيْفَ يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ؟ وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بالهزل، من تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ خَاصَمَ بِهِ فَلَجَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مستقيم. الاحتجاج بالمعقول: أَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ وَرَدَ شَيْءٌ لَا سَبِيلَ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ لَكَانَتِ الْمُخَاطَبَةُ بِهِ تَجْرِي مَجْرَى مُخَاطَبَةِ الْعَرَبِيِّ بِاللُّغَةِ الزَّنْجِيَّةِ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ ذَاكَ فَكَذَا هَذَا وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكَلَامِ الْإِفْهَامُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَفْهُومًا لَكَانَتِ الْمُخَاطَبَةُ بِهِ عَبَثًا وَسَفَهًا، وَأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ التَّحَدِّيَ وَقَعَ بِالْقُرْآنِ وَمَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا لَا يَجُوزُ وُقُوعُ التَّحَدِّي بِهِ، فَهَذَا مَجْمُوعُ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَاحْتَجَّ مُخَالِفُوهُمْ بِالْآيَةِ، وَالْخَبَرِ، والمعقول. احتجاج مخالفي المتكلمين بالآيات: أَمَّا الْآيَةُ فَهُوَ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ

والوقف هاهنا وَاجِبٌ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آلِ عِمْرَانَ: 7] لَوْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهُ لَبَقِيَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ مُنْقَطِعًا عَنْهُ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ وَحْدَهُ لَا يُفِيدُ، لَا يُقَالُ إِنَّهُ حَالٌ، / لِأَنَّا نَقُولُ حِينَئِذٍ يَرْجِعُ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَائِلًا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَهَذَا كُفْرٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَوْ كَانُوا عَالِمِينَ بِتَأْوِيلِهِ لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِهِمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَجْهٌ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوهُ بِالدَّلَالَةِ لَمْ يَكُنِ الْإِيمَانُ بِهِ إِلَّا كَالْإِيمَانِ بِالْمُحْكَمِ، فَلَا يَكُونُ فِي الْإِيمَانِ بِهِ مَزِيدُ مَدْحٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّ تَأْوِيلَهَا لَوْ كَانَ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ لَمَا كَانَ طَلَبُ ذَلِكَ التَّأْوِيلِ ذَمًّا، لَكِنْ قَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذَمًّا حَيْثُ قَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران: 7] . احتجاجهم بالخبر: وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَدْ رَوَيْنَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَبَرًا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا، وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِنَّ مِنَ الْعِلْمِ كَهَيْئَةِ الْمَكْنُونِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا الْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ، فَإِذَا نَطَقُوا بِهِ أَنْكَرَهُ أَهْلُ الْغِرَّةِ بِاللَّهِ» وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ هَذِهِ الْفَوَاتِحَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ مَرْوِيٌّ عَنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَقًّا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» . احتجاجهم بالمعقول: وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْأَفْعَالَ الَّتِي كُلِّفْنَا بِهَا قِسْمَانِ. مِنْهَا مَا نَعْرِفُ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِيهَا عَلَى الْجُمْلَةِ بِعُقُولِنَا: كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَوَاضُعٌ مَحْضٌ وَتَضَرُّعٌ لِلْخَالِقِ، وَالزَّكَاةَ سَعْيٌ فِي دَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ، وَالصَّوْمَ سَعْيٌ فِي كَسْرِ الشَّهْوَةِ. وَمِنْهَا مَا لَا نَعْرِفُ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِيهِ: كَأَفْعَالِ الْحَجِّ فَإِنَّنَا لَا نَعْرِفُ بِعُقُولِنَا وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي رَمْيِ الْجَمَرَاتِ وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالرَّمَلِ، وَالِاضْطِبَاعِ، ثُمَّ اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهُ كَمَا يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَأْمُرَ عِبَادَهُ بِالنَّوْعِ الْأَوَّلِ فَكَذَا يَحْسُنُ الْأَمْرُ مِنْهُ بِالنَّوْعِ الثَّانِي، لِأَنَّ الطَّاعَةَ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ لَا تَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الِانْقِيَادِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمَأْمُورَ إِنَّمَا أَتَى بِهِ لَمَّا عَرَفَ بِعَقْلِهِ مِنْ وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ، أَمَّا الطَّاعَةُ فِي النَّوْعِ الثَّانِي فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الِانْقِيَادِ وَنِهَايَةِ التَّسْلِيمِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعْرِفْ فِيهِ وَجْهَ مَصْلَحَةٍ الْبَتَّةَ لَمْ يَكُنْ إِتْيَانُهُ بِهِ إِلَّا لِمَحْضِ الِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْأَقْوَالِ؟ وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَنَا اللَّهُ تَعَالَى تَارَةً أَنْ نَتَكَلَّمَ بِمَا نَقِفُ عَلَى مَعْنَاهُ، وَتَارَةً بِمَا لَا نَقِفُ عَلَى مَعْنَاهُ، وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ ظُهُورَ الِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ مِنَ الْمَأْمُورِ لِلْآمِرِ، بَلْ فِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى الْمَعْنَى وَأَحَاطَ بِهِ سَقَطَ وَقْعُهُ عَنِ الْقَلْبِ، وَإِذَا لَمْ يَقِفْ عَلَى الْمَقْصُودِ مَعَ قَطْعِهِ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِذَلِكَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ فَإِنَّهُ يَبْقَى قَلْبُهُ ملتفتاً إِلَيْهِ أَبَدًا، وَمُتَفَكِّرًا فِيهِ أَبَدًا، وَلُبَابُ التَّكْلِيفِ إِشْغَالُ السِّرِّ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّفَكُّرِ فِي كَلَامِهِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِي بَقَاءِ الْعَبْدِ مُلْتَفِتَ الذِّهْنِ مُشْتَغِلَ الْخَاطِرِ بِذَلِكَ أَبَدًا مَصْلَحَةً عَظِيمَةً لَهُ، فَيَتَعَبَّدُهُ بِذَلِكَ تَحْصِيلًا لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ، فَهَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الفريقين في هذا الباب. هل المراد من الفواتح معلوم: الْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْفَوَاتِحِ مَعْلُومٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَذَكَرُوا وُجُوهًا. الْأَوَّلُ: أَنَّهَا أَسْمَاءُ السُّوَرِ، وَهُوَ قول أكثر المتكلمين واختيار الخليل وسيبويه وقال الْقَفَّالُ: وَقَدْ سَمَّتِ الْعَرَبُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ

أَشْيَاءَ، فَسَمَّوْا بِلَامٍ وَالِدَ حَارِثَةَ بْنِ لَامٍ الطَّائِيِّ، وَكَقَوْلِهِمْ لِلنُّحَاسِ: صَادٌ، وَلِلنَّقْدِ عَيْنٌ، وَلِلسَّحَابِ غَيْنٌ، وَقَالُوا: جَبَلُ قَافٍ، وَسَمَّوُا الْحُوتَ نُونًا، الثاني: أنها أسماء لله تَعَالَى، رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «يَا كهيعص، يَا حم عسق» الثَّالِثُ: أَنَّهَا أَبْعَاضُ/ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قَوْلُهُ (الر، حم، ن) مَجْمُوعُهَا هُوَ اسْمُ الرَّحْمَنِ، وَلَكِنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى كَيْفِيَّةِ تَرْكِيبِهَا فِي الْبَوَاقِي، الرَّابِعُ: أَنَّهَا أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَالسُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ الْخَامِسُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا دَالٌّ عَلَى اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَةٍ مِنْ صفاته، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي (الم) : الْأَلِفُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَحَدٌ، أَوَّلٌ، آخِرٌ، أَزَلِيٌّ، أَبَدِيٌّ، وَاللَّامُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَطِيفٌ، وَالْمِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مَلِكٌ مَجِيدٌ مَنَّانٌ، وَقَالَ فِي: كهيعص إِنَّهُ ثَنَاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ، وَالْكَافُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَافِيًا، وَالْهَاءُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ هَادِيًا، وَالْعَيْنُ يَدُلُّ عَلَى الْعَالِمِ، وَالصَّادُ يَدُلُّ عَلَى الصَّادِقِ وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ حَمَلَ الْكَافَ عَلَى الْكَبِيرِ وَالْكَرِيمِ، وَالْيَاءَ عَلَى أَنَّهُ يُجِيرُ، وَالْعَيْنَ عَلَى الْعَزِيزِ وَالْعَدْلِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ خَصَّصَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ بَاسِمٍ مُعَيَّنٍ، وَفِي الثَّانِي لَيْسَ كَذَلِكَ، السَّادِسُ: بَعْضُهَا يَدُلُّ عَلَى أَسْمَاءِ الذَّاتِ، وَبَعْضُهَا عَلَى أَسْمَاءِ الصِّفَاتِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الم أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ، وَفِي المص أَنَا اللَّهُ أَفْصِلُ، وَفِي الر أَنَا اللَّهُ أَرَى، وَهَذَا رِوَايَةُ أَبِي صَالِحٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ. السَّابِعُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، فَالْأَلِفُ آلَاؤُهُ، وَاللَّامُ لُطْفُهُ، وَالْمِيمُ مَجْدُهُ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مَا مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا فِي ذِكْرِ آلَائِهِ وَنَعْمَائِهِ. الثَّامِنُ: بَعْضُهَا يَدُلُّ على أسماء لله تَعَالَى وَبَعْضُهَا يَدُلُّ عَلَى أَسْمَاءِ غَيْرِ اللَّهِ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْأَلِفُ مِنَ اللَّهِ، وَاللَّامُ مِنْ جِبْرِيلَ، وَالْمِيمُ مِنْ مُحَمَّدٍ، أَيْ أَنْزَلَ اللَّهُ الْكِتَابَ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، التَّاسِعُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ يَدُلُّ عَلَى فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ، فَالْأَلِفُ مَعْنَاهُ أَلِفَ اللَّهُ مُحَمَّدًا فَبَعَثَهُ نَبِيًّا، وَاللَّامُ أَيْ لَامَهُ الْجَاحِدُونَ، وَالْمِيمُ أَيْ مِيمَ الْكَافِرُونَ غِيظُوا وَكُبِتُوا بِظُهُورِ الْحَقِّ. وَقَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: الْأَلِفُ مَعْنَاهُ أَنَا، وَاللَّامُ مَعْنَاهُ لِي، وَالْمِيمُ مَعْنَاهُ مِنِّي، الْعَاشِرُ: مَا قَالَهُ الْمُبَرِّدُ وَاخْتَارَهُ جَمْعٌ عَظِيمٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَهَا احْتِجَاجًا عَلَى الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَحَدَّاهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ الْقُرْآنِ، أَوْ بِعَشْرِ سُوَرٍ، أَوْ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَجَزُوا عَنْهُ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ، وَأَنْتُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا، وَعَارِفُونَ بِقَوَانِينِ الْفَصَاحَةِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ تَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ، فَلَمَّا عَجَزْتُمْ عَنْهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا مِنَ الْبَشَرِ، الْحَادِيَ عَشَرَ: قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَهَا لِأَنَّ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: اسْمَعُوهَا مُقَطَّعَةً حَتَّى إِذَا وَرَدَتْ عَلَيْكُمْ مُؤَلَّفَةً كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُوهَا قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ الصِّبْيَانَ يَتَعَلَّمُونَ هَذِهِ الْحُرُوفَ أَوَّلًا مُفْرَدَةً ثُمَّ يَتَعَلَّمُونَ الْمُرَكَّبَاتِ، الثَّانِيَ عَشَرَ: قَوْلُ ابْنِ رَوْقٍ وَقُطْرُبٍ: إِنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا قَالُوا: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] وتواصلوا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَحَبَّ مِنْ صَلَاحِهِمْ وَنَفْعِهِمْ أَنْ يُورِدَ عَلَيْهِمْ مَا لَا يَعْرِفُونَهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِسْكَاتِهِمْ وَاسْتِمَاعِهِمْ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْحُرُوفَ فَكَانُوا إِذَا سَمِعُوهَا قَالُوا كَالْمُتَعَجِّبِينَ: اسْمَعُوا إِلَى مَا يَجِيءُ بِهِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِذَا أَصْغَوْا هَجَمَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاسْتِمَاعِهِمْ وَطَرِيقًا إِلَى انْتِفَاعِهِمْ، الثَّالِثَ عَشَرَ: قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ إِنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهَا فِي مُدَّةِ أَقْوَامٍ، وَآجَالِ/ آخَرِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَرَّ أَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَتْلُو سُورَةَ البقرة الم ذلِكَ الْكِتابُ، [البقرة: 1، 2] ثُمَّ أَتَى أَخُوهُ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ فَسَأَلُوهُ عَنْ الم وَقَالُوا: نَنْشُدُكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَحَقٌّ أَنَّهَا أَتَتْكَ مِنَ السَّمَاءِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ كَذَلِكَ نَزَلَتْ» ، فَقَالَ حيي إن

كُنْتَ صَادِقًا إِنِّي لَأَعْلَمُ أَجَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ السِّنِينَ، ثُمَّ قَالَ كَيْفَ نَدْخُلُ فِي دِينِ رَجُلٍ دَلَّتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ بِحِسَابِ الْجُمَلِ عَلَى أَنَّ مُنْتَهَى أَجَلِ أُمَّتِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ حُيَيٌّ فَهَلْ غَيْرُ هَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ المص، فَقَالَ حُيَيٌّ: هَذَا أَكْثَرُ مِنَ الْأَوَّلِ هَذَا مِائَةٌ وَإِحْدَى وَسِتُّونَ سَنَةً، فَهَلْ غَيْرُ هَذَا، قَالَ: نَعَمْ الر، فَقَالَ حُيَيٌّ هَذَا أَكْثَرُ مِنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، فَنَحْنُ نَشْهَدُ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا مَا مَلَكَتْ أُمَّتُكَ إِلَّا مِائَتَيْنِ وَإِحْدَى وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَهَلْ غَيْرُ هَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ المر، قَالَ حُيَيٌّ: فَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّا مِنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَا نَدْرِي بِأَيِّ أَقْوَالِكَ نَأْخُذُ. فَقَالَ أَبُو يَاسِرٍ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ عَلَى أَنَّ أَنْبِيَاءَنَا قَدْ أَخْبَرُونَا عَنْ مُلْكِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَمْ يُبَيِّنُوا أَنَّهَا كَمْ تَكُونُ، فَإِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فِيمَا يَقُولُ إِنِّي لَأُرَاهُ يُسْتَجْمَعُ لَهُ هَذَا كُلُّهُ فَقَامَ الْيَهُودُ، وَقَالُوا اشْتَبَهَ عَلَيْنَا أَمْرُكَ كُلُّهُ، فَلَا نَدْرِي أَبِالْقَلِيلِ نَأْخُذُ أَمْ بِالْكَثِيرِ؟ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ. [آلِ عِمْرَانَ: 7] الرَّابِعَ عَشَرَ: هَذِهِ الْحُرُوفُ تَدُلُّ عَلَى انْقِطَاعِ كَلَامٍ وَاسْتِئْنَافِ كَلَامٍ آخَرَ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ ثَعْلَبٍ: إِنَّ الْعَرَبَ إِذَا اسْتَأْنَفَتْ كَلَامًا فَمِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ غَيْرِ الْكَلَامِ الَّذِي يُرِيدُونَ اسْتِئْنَافَهُ، فَيَجْعَلُونَهُ تَنْبِيهًا لِلْمُخَاطَبِينَ عَلَى قَطْعِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَاسْتِئْنَافِ الْكَلَامِ الْجَدِيدِ. الْخَامِسَ عَشَرَ: رَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ ثَنَاءٌ أَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، السَّادِسَ عَشَرَ: قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقْسَمَ بِالْحُرُوفِ الْمُعْجَمَةِ لِشَرَفِهَا وَفَضْلِهَا وَلِأَنَّهَا مَبَانِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ بِالْأَلْسِنَةِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَمَبَانِي أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، وَأُصُولُ كَلَامِ الْأُمَمِ، بِهَا يَتَعَارَفُونَ وَيَذْكُرُونَ اللَّهَ وَيُوَحِّدُونَهُ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْبَعْضِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ، هُوَ الْكُلَّ، كَمَا تَقُولُ قَرَأْتُ الْحَمْدَ، وَتُرِيدُ السُّورَةَ بِالْكُلِّيَّةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أُقْسِمُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ إِنَّ هَذَا الْكِتَابَ هُوَ ذَلِكَ الْكِتَابُ الْمُثْبَتُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ التَّكَلُّمَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَادًا لِكُلِّ أَحَدٍ، إِلَّا أَنَّ كَوْنَهَا مُسَمَّاةً بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنِ اشْتَغَلَ بِالتَّعَلُّمِ وَالِاسْتِفَادَةِ، فَلَمَّا أَخْبَرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ سَبْقِ تَعَلُّمٍ وَاسْتِفَادَةٍ كَانَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَهَا لِيَكُونَ أَوَّلُ مَا يُسْمَعُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ مُعْجِزَةً دَالَّةً عَلَى صِدْقِهِ. الثَّامِنَ عَشَرَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ التِّبْرِيزِيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ تَقُولُ بِقِدَمِ الْقُرْآنِ فَذَكَرَ هَذِهِ الْحُرُوفَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ مُؤَلَّفٌ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ، فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ قَدِيمًا. التَّاسِعَ عَشَرَ: قَالَ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ «الم» أَنَّهُ أَلَمَّ بِكُمْ ذَلِكَ الْكِتَابُ. أَيْ نَزَلَ عَلَيْكُمْ، وَالْإِلْمَامُ الزِّيَارَةُ، وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى ذَلِكَ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلَ بِهِ نُزُولَ الزَّائِرِ الْعِشْرُونَ: الْأَلِفُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَهُوَ رِعَايَةُ الشَّرِيعَةِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ/ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فُصِّلَتْ: 30] وَاللَّامُ إِشَارَةٌ إِلَى الِانْحِنَاءِ الْحَاصِلِ عِنْدَ الْمُجَاهَدَاتِ، وَهُوَ رِعَايَةُ الطَّرِيقَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [الْعَنْكَبُوتِ: 69] وَالْمِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنْ يَصِيرَ الْعَبْدُ فِي مَقَامِ الْمَحَبَّةِ، كَالدَّائِرَةِ الَّتِي يَكُونُ نِهَايَتُهَا عَيْنَ بِدَايَتِهَا وَبِدَايَتُهَا عَيْنَ نِهَايَتِهَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْفَنَاءِ فِي اللَّهِ تَعَالَى بِالْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ مَقَامُ الْحَقِيقَةِ، قَالَ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الْأَنْعَامِ: 91] الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: الْأَلِفُ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ، وَاللَّامُ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ، وَهُوَ وَسَطُ الْمَخَارِجِ، وَالْمِيمُ مِنَ الشَّفَةِ، وَهُوَ آخِرُ الْمَخَارِجِ، فَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَوَّلَ ذِكْرِ الْعَبْدِ وَوَسَطَهُ وَآخِرَهُ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، عَلَى مَا قَالَ: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات: 50]

كون فواتح السور أسماءها: وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهَا أَسْمَاءُ السُّوَرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ مَفْهُومَةً، أَوْ تَكُونَ مَفْهُومَةً، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ التَّكَلُّمُ مَعَ الْعَرَبِيِّ بِلُغَةِ الزَّنْجِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْقُرْآنَ أَجْمَعَ بِأَنَّهُ هُدًى وَذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَهُ غَيْرَ مَعْلُومٍ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا جَعْلَهَا أَسْمَاءَ الْأَلْقَابِ، أَوْ أَسْمَاءَ الْمَعَانِي، وَالثَّانِي بَاطِلٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لِهَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ، فَيَمْتَنِعُ حَمْلُهَا عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى مَا لَا يَكُونُ حَاصِلًا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَلِأَنَّ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا وُجُوهًا مُخْتَلِفَةً، وَلَيْسَتْ دَلَالَةُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَى بَعْضِ مَا ذَكَرُوهُ أَوْلَى مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى الباقي فأما أن يعمل على الكل، وهو معتذر بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّمَا حَمَلَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ حَمَلَهَا عَلَى الْكُلِّ، أَوْ لَا يُحْمَلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَهُوَ الْبَاقِي، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ وجب الحكم بأنها من أسماء الألقاب. جعلها أسماء ألقاب أو معاني: فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْأَلْفَاظُ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، قَوْلُهُ: «لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ التَّكَلُّمُ مَعَ الْعَرَبِيِّ بِلُغَةِ الزَّنْجِ» قُلْنَا: وَلِمَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؟ وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِالْمِشْكَاةِ وَهُوَ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ، وَالسِّجِّيلُ وَالْإِسْتَبْرَقُ فَارِسِيَّانِ، قَوْلُهُ: «وَصْفُ الْقُرْآنِ أَجْمَعَ بِأَنَّهُ هُدًى وَبَيَانٌ» قُلْنَا: لَا نِزَاعَ فِي اشْتِمَالِ الْقُرْآنِ عَلَى الْمُجْمَلَاتِ وَالْمُتَشَابِهَاتِ، فَإِذَا لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ هُدًى وَبَيَانًا فَكَذَا هاهنا، سَلَّمْنَا أَنَّهَا مَفْهُومَةٌ، لَكِنَّ قَوْلَكَ: «إِنِّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَلْقَابِ أَوْ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَعَانِي» إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ ثَبَتَ كَوْنُهَا مَوْضُوعَةً لِإِفَادَةِ أَمْرٍ مَا وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهَا لِحِكْمَةٍ أُخْرَى، مِثْلَ مَا قَالَ قُطْرُبٌ مِنْ أَنَّهُمْ لَمَّا تَوَاضَعُوا فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى أَنْ لَا يَلْتَفِتُوا إِلَى الْقُرْآنِ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِأَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَذِهِ الْأَحْرُفِ فِي الِابْتِدَاءِ حَتَّى يَتَعَجَّبُوا عِنْدَ سماعها فيسكتوا، فحينئذ يهجم القرآن على أسمائهم، سَلَّمْنَا أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِأَمْرٍ مَا، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْمَعَانِي؟ قَوْلُهُ: «إِنَّهَا فِي اللُّغَةِ غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِشَيْءٍ الْبَتَّةَ» قُلْنَا لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهَا وَحْدَهَا غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِشَيْءٍ، وَلَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا مَعَ الْقَرِينَةِ الْمَخْصُوصَةِ تُفِيدُ مَعْنًى مُعَيَّنًا؟ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَتَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَلَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْحُرُوفَ دَلَّتْ قَرِينَةُ الْحَالِ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ تَعَالَى مِنْ ذِكْرِهَا أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ إِنَّمَا تَرَكَّبَ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الَّتِي أَنْتُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا، فَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْبَشَرِ لَوَجَبَ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ حَمْلَ هَذِهِ الْحُرُوفِ عَلَى حِسَابِ الْجُمَلِ عَادَةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ النَّاسِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ لَمَّا كَانَتْ أُصُولَ الْكَلَامِ كَانَتْ شَرِيفَةً عَزِيزَةً، فَاللَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِهَا كَمَا أَقْسَمَ بِسَائِرِ الْأَشْيَاءِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ الِاكْتِفَاءَ مِنَ الِاسْمِ الْوَاحِدِ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ حُرُوفِهِ عَادَةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْحُرُوفَ تَنْبِيهًا عَلَى أَسْمَائِهِ تَعَالَى. سَلَّمْنَا دَلِيلَكُمْ لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّا وَجَدْنَا السُّوَرَ الْكَثِيرَةَ اتفقت في الم وحم فَالِاشْتِبَاهُ حَاصِلٌ فِيهَا، وَالْمَقْصُودُ مِنِ اسْمِ الْعَلَمِ إزالة الاشتباه.

فَإِنْ قِيلَ: يَشْكُلُ هَذَا بِجَمَاعَةٍ كَثِيرِينَ يُسَمَّوْنَ بِمُحَمَّدٍ، فَإِنَّ الِاشْتِرَاكَ فِيهِ لَا يُنَافِي الْعَلَمِيَّةَ. قُلْنَا: قَوْلُنَا الم لَا يُفِيدُ مَعْنًى الْبَتَّةَ، فَلَوْ جَعَلْنَاهُ عَلَمًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ سِوَى التَّعْيِينِ وَإِزَالَةِ الِاشْتِبَاهِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْغَرَضُ امْتَنَعَ جَعْلُهُ عَلَمًا، بِخِلَافِ التَّسْمِيَةِ بِمُحَمَّدٍ، فَإِنَّ فِي التَّسْمِيَةِ بِهِ مَقَاصِدَ أُخْرَى سِوَى التَّعْيِينِ، وَهُوَ التَّبَرُّكُ بِهِ لِكَوْنِهِ اسْمًا لِلرَّسُولِ، وَلِكَوْنِهِ دَالًّا عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الشَّرَفِ، فَجَازَ أَنْ يَقْصِدَ التَّسْمِيَةَ بِهِ لِغَرِضٍ آخَرَ مِنْ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ سِوَى التَّعْيِينِ، بِخِلَافِ قَوْلِنَا: الم فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ سِوَى التَّعْيِينِ، فَإِذَا لَمْ يُفِدْ هَذِهِ الْفَائِدَةَ كَانَتِ التَّسْمِيَةُ بِهِ عَبَثًا مَحْضًا. وَثَانِيهَا: لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ أَسْمَاءً لِلسُّوَرِ لَوَجَبَ أَنْ يُعْلَمَ ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لَيْسَتْ عَلَى قَوَانِينِ أَسْمَاءِ الْعَرَبِ، وَالْأُمُورُ الْعَجِيبَةُ تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا لَا سِيَّمَا فِيمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِإِخْفَائِهِ رَغْبَةٌ أَوْ رَهْبَةٌ، وَلَوْ تَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا لَصَارَ ذَلِكَ مَعْلُومًا بِالتَّوَاتُرِ وَارْتَفَعَ الْخِلَافُ فِيهِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَسْمَاءِ السُّوَرِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَهُمْ مَا تَجَاوَزُوا مَا سَمَّوْا بِهِ مَجْمُوعَ اسْمَيْنِ نَحْوَ مَعْدِ يَكْرِبَ وَبَعْلَبَكَّ، وَلَمْ يُسَمِّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِمَجْمُوعِ ثَلَاثَةِ أَسْمَاءٍ وَأَرْبَعَةٍ وَخَمْسَةٍ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا أَسْمَاءُ السُّوَرِ خُرُوجٌ عَنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ أَسْمَاءَ هَذِهِ السُّوَرِ لَوَجَبَ اشْتِهَارُ هَذِهِ السُّوَرِ بِهَا لَا بِسَائِرِ الْأَسْمَاءِ، لَكِنَّهَا إِنَّمَا اشْتَهَرَتْ بِسَائِرِ الْأَسْمَاءِ، كَقَوْلِهِمْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَسُورَةُ آلِ عِمْرَانَ، وَخَامِسُهَا: هَذِهِ الْأَلْفَاظُ دَاخِلَةٌ فِي السُّورَةِ وَجُزْءٍ مِنْهَا، وَجُزْءُ الشَّيْءِ مُقَدَّمٌ عَلَى الشَّيْءِ بِالرُّتْبَةِ، وَاسْمُ الشَّيْءِ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الشَّيْءِ بِالرُّتْبَةِ، فَلَوْ جَعَلْنَاهَا اسْمًا لِلسُّورَةِ لَزِمَ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ مَعًا، وَهُوَ مُحَالٌ، فَإِنْ قِيلَ: مَجْمُوعُ قَوْلِنَا: «صَادٌ» اسْمٌ لِلْحَرْفِ الْأَوَّلِ مِنْهُ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَكَّبُ اسْمًا لِبَعْضِ مُفْرَدَاتِهِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَعْضُ مُفْرَدَاتِ ذَلِكَ الْمُرَكَّبِ اسْمًا لِذَلِكَ الْمُرَكَّبِ؟ قُلْنَا: الْفَرْقُ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْمُرَكَّبَ يَتَأَخَّرُ عَنِ الْمُفْرَدِ، وَالِاسْمُ يَتَأَخَّرُ عَنِ الْمُسَمَّى، فَلَوْ جَعَلْنَا الْمُرَكَّبَ اسْمًا لِلْمُفْرَدِ لَمْ يلزم إلا تأخر ذلك المركب عن ذَلِكَ الْمُفْرَدِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحِيلٌ، أَمَّا لَوْ جَعَلْنَا الْمُفْرَدَ اسْمًا لِلْمُرَكَّبِ لَزِمَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُفْرَدٌ كَوْنُهُ مُتَقَدِّمًا وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ اسْمٌ كَوْنُهُ مُتَأَخِّرًا، / وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَسَادِسُهَا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ لَا تَخْلُوَ سُورَةٌ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِنِ اسْمٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ غَيْرُ حَاصِلٍ. الْجَوَابُ: «قَوْلُهُ الْمِشْكَاةُ وَالسِّجِّيلُ لَيْسَتَا مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ» قُلْنَا: عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عَرَبِيٌّ، لَكِنَّهُ مُوَافِقٌ لِسَائِرِ اللُّغَاتِ، وَقَدْ يَتَّفِقُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي اللُّغَتَيْنِ: الثَّانِي: أَنَّ الْمُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَمْ يُوجَدْ أَوَّلًا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، فَلَمَّا عَرَفُوهُ عَرَفُوا مِنْهَا أَسْمَاءَهَا، فَتَكَلَّمُوا بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ، فَصَارَتْ تِلْكَ الْأَلْفَاظُ عَرَبِيَّةً أَيْضًا. قَوْلُهُ: «وُجِدَ أَنَّ الْمُجْمَلَ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ بَيَانًا» قُلْنَا: كُلُّ مُجْمَلٍ وُجِدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ وُجِدَ فِي الْعَقْلِ، أَوْ فِي الْكِتَابِ، أَوْ فِي السُّنَّةِ بَيَانُهُ، وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ، إِنَّمَا الْبَيَانُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: «لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إِسْكَاتَهُمْ عَنِ الشَّغَبِ؟» قُلْنَا: لَوْ جَازَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِهَذَا الْغَرَضِ فَلْيَجُزْ ذِكْرُ سَائِرِ الْهَذَيَانَاتِ لِمِثْلِ هَذَا الْغَرَضِ، وَهُوَ بِالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ. وَأَمَّا سَائِرُ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرُوهَا فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَنَا: «الم» غَيْرُ مَوْضُوعٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لِإِفَادَةِ تِلْكَ الْمَعَانِي، فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا فِيهِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَلِأَنَّهَا مُتَعَارِضَةٌ، فَلَيْسَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى بَعْضِهَا أَوْلَى

مِنَ الْبَعْضِ، وَلِأَنَّا لَوْ فَتَحْنَا هَذَا الْبَابَ لَانْفَتَحَتْ أَبْوَابُ تَأْوِيلَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ وَسَائِرِ الْهَذَيَانَاتِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ. أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى: فَهُوَ أَنْ لَا يَبْعُدَ أَنْ يَكُونَ فِي تَسْمِيَةِ السُّوَرِ الْكَثِيرَةِ بِاسْمٍ وَاحِدٍ- ثُمَّ يُمَيَّزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَنِ الْآخَرِ بِعَلَامَةٍ أُخْرَى- حِكْمَةٌ خَفِيَّةٌ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ تَسْمِيَةَ السُّورَةِ بِلَفْظَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَيْسَتْ مِنَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ، فَجَازَ أَنْ لَا يَبْلُغَ فِي الشُّهْرَةِ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ. وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ التَّسْمِيَةَ بِثَلَاثَةِ أَسْمَاءٍ خُرُوجٌ عَنْ كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا جُعِلَتِ اسْمًا وَاحِدًا عَلَى طَرِيقَةِ «حَضْرَمَوْتَ» فَأَمَّا غَيْرُ مَرَكَّبَةٍ بَلْ صُورَةُ نَثْرِ أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ فَذَاكَ جَائِزٌ، فَإِنَّ سِيبَوَيْهِ نَصَّ عَلَى جَوَازِ التَّسْمِيَةِ بِالْجُمْلَةِ، وَالْبَيْتِ مِنَ الشِّعْرِ، وَالتَّسْمِيَةِ بِطَائِفَةٍ مِنْ أَسْمَاءِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ. وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّهُ لَا يَبْعُدَ أَنْ يَصِيرَ اللَّقَبُ أَكْثَرَ شُهْرَةً من الاسم الأصلي فكذا هاهنا. وَعَنِ الْخَامِسِ: أَنَّ الِاسْمَ لَفْظٌ دَالٌّ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى زَمَانِهِ الْمُعَيَّنِ، وَلَفْظُ الِاسْمِ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ الِاسْمُ اسْمًا لِنَفْسِهِ، فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُزْءُ الشَّيْءِ اسْمًا لَهُ. وَعَنِ السَّادِسِ: أَنَّ وَضْعَ الِاسْمِ إِنَّمَا يَكُونُ بِحَسَبِ الْحِكْمَةِ، وَلَا يَبْعُدَ أَنْ تَقْتَضِيَ الْحِكْمَةُ/ وَضْعَ الِاسْمِ لِبَعْضِ السُّوَرِ دُونَ الْبَعْضِ. عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ الْحَقَّ: أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، فَهَذَا مُنْتَهَى الْكَلَامِ فِي نُصْرَةِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْدَ هَذَا الْمَذْهَبِ الَّذِي نَصَرْنَاهُ بِالْأَقْوَالِ الَّتِي حَكَيْنَاهَا قَوْلُ قُطْرُبٍ: مِنْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فُصِّلَتْ: 26] فَكَانَ إِذَا تَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَا فَهِمُوا مِنْهَا شَيْئًا، وَالْإِنْسَانُ حَرِيصٌ عَلَى مَا مُنِعَ، فَكَانُوا يُصْغُونَ إِلَى الْقُرْآنِ وَيَتَفَكَّرُونَ وَيَتَدَبَّرُونَ فِي مَقَاطِعِهِ وَمَطَالِعِهِ، رَجَاءَ أَنَّهُ رُبَّمَا جَاءَ كَلَامٌ يُفَسِّرُ ذَلِكَ الْمُبْهَمَ، وَيُوضِحُّ ذَلِكَ الْمُشْكِلَ. فَصَارَ ذَلِكَ وَسِيلَةً إِلَى أَنْ يَصِيرُوا مُسْتَمِعِينَ لِلْقُرْآنِ وَمُتَدَبِّرِينَ فِي مَطَالِعِهِ وَمَقَاطِعِهِ. وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا الْمَذْهَبَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ مَا جَاءَتْ إِلَّا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّ الْغَرَضَ مَا ذَكَرْنَا وَالثَّانِي: أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِنْزَالِ الْمُتَشَابِهَاتِ هِيَ أَنَّ الْمُعَلِّلَ لَمَّا عَلِمَ اشْتِمَالَ الْقُرْآنِ عَلَى الْمُتَشَابِهَاتِ فَإِنَّهُ يَتَأَمَّلُ الْقُرْآنَ وَيَجْتِهِدُ فِي التَّفَكُّرِ فِيهِ عَلَى رَجَاءِ أَنَّهُ رَبَّمَا وَجَدَ شَيْئًا يُقَوِّي قَوْلَهُ وَيَنْصُرُ مَذْهَبَهُ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوفِهِ عَلَى الْمُحْكَمَاتِ الْمُخَلِّصَةِ لَهُ عَنِ الضَّلَالَاتِ، فَإِذَا جَازَ إِنْزَالُ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي تُوهِمُ الضَّلَالَاتِ لِمِثْلِ هَذَا الْغَرَضِ فَلَأَنْ يَجُوزَ إِنْزَالُ هَذِهِ الْحُرُوفِ الَّتِي لَا تُوهِمُ شَيْئًا مِنَ الْخَطَأِ وَالضَّلَالِ لِمِثْلِ هَذَا الْغَرَضِ كَانَ أَوْلَى. أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: لَوْ جَازَ ذَلِكَ فَلْيَجُزْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالزَّنْجِيَّةِ مَعَ الْعَرَبِيِّ وَأَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْهَذَيَانِ لِهَذَا الْغَرَضِ، وَأَيْضًا فَهَذَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ هُدًى وَبَيَانًا، لَكِنَّا نَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا تَكَلَّمَ بِالزَّنْجِيَّةِ مَعَ الْعَرَبِيِّ- وَكَانَ ذَلِكَ مُتَضَمِّنًا لِمِثْلِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ- فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ جَائِزًا؟ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِعْلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَالدَّاعِي إِلَيْهِ قَدْ يَكُونُ هُوَ الْإِفَادَةَ، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَهَا، قَوْلُهُ: «إِنَّهُ يَكُونُ هَذَيَانًا» قُلْنَا: إِنْ عَنَيْتَ بِالْهَذَيَانِ الْفِعْلَ الْخَالِيَ عَنِ الْمَصْلَحَةِ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنْ عَنَيْتَ بِهِ الْأَلْفَاظَ الْخَالِيَةَ عَنِ الْإِفَادَةِ فَلِمَ قُلْتَ إِنَّ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي الْحِكْمَةِ إِذَا كَانَ فِيهَا وُجُوهٌ

[سورة البقرة (2) : آية 2]

أُخَرُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ سِوَى هَذَا الْوَجْهِ؟ وَأَمَّا وَصْفُ الْقُرْآنِ بِكَوْنِهِ هُدًى وَبَيَانًا فَذَلِكَ لَا يُنَافِي مَا قُلْنَاهُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مَا ذَكَرْنَاهُ كَانَ اسْتِمَاعُهَا مِنْ أَعْظَمِ وُجُوهِ البيان والهدى والله أعلم. القول بأنها أسماء السور: فُرُوعٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا أَسْمَاءُ السُّوَرِ: الْأَوَّلُ: هَذِهِ الْأَسْمَاءُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَتَأَتَّى فِيهِ الْإِعْرَابُ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمًا مُفْرَدًا «كَصَادْ، وَقَافْ، وَنُونْ» أَوْ أَسْمَاءً عِدَّةً مَجْمُوعُهَا عَلَى زِنَةِ مُفْرَدٍ كحم، وطس ويس، فَإِنِّهَا مُوَازِنَةٌ لِقَابِيلَ وَهَابِيلَ، وَأَمَّا طسم فَهُوَ وَإِنْ كان مركباً من ثلاثة أسماء فهو (كدر أبجرد) ، وَهُوَ مِنْ بَابِ مَا لَا يَنْصَرِفُ، لِاجْتِمَاعِ سَبَبَيْنِ فِيهَا وَهُمَا الْعَلَمِيَّةُ وَالتَّأْنِيثُ. وَالثَّانِي: مَا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْإِعْرَابُ، نَحْوَ كهيعص، والمر، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا الْمُفْرَدَةُ فَفِيهَا قِرَاءَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ صَادْ وَقَافْ وَنُونْ بِالْفَتْحِ، وَهَذِهِ الْحَرَكَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ النَّصْبَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ نَحْوَ: اذْكُرْ، وَإِنَّمَا لَمْ يَصْحَبْهُ التَّنْوِينُ لِامْتِنَاعِ الصَّرْفِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَأَجَازَ/ سِيبَوَيْهِ مِثْلَهُ فِي حم وطس ويس لَوْ قُرِئَ بِهِ، وَحَكَى السِّيرَافِيُّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَرَأَ «يس» بِفَتْحِ النُّونِ، وَأَنْ يَكُونَ الْفَتْحُ جَرًّا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَدِّرَهَا مَجْرُورَةً بِإِضْمَارِ الْبَاءِ الْقَسَمِيَّةِ، فَقَدْ جَاءَ عَنْهُمْ: «اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ» غَيْرَ أَنَّهَا فُتِحَتْ فِي مَوْضِعِ الْجَرِّ لِكَوْنِهَا غَيْرَ مَصْرُوفَةٍ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِمَا رُوِّينَا عَنْ بَعْضِهِمْ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقْسَمَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ» ، وثانيتها: قِرَاءَةُ بَعْضِهِمْ صَادْ بِالْكَسْرِ. وَسَبَبُهُ التَّحْرِيكُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي- وَهُوَ مَا لَا يَتَأَتَّى الْإِعْرَابُ فِيهِ- فَهُوَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْكِيًّا، وَمَعْنَاهُ أَنْ يُجَاءَ بِالْقَوْلِ بَعْدَ نَقْلِهِ عَلَى اسْتِبْقَاءِ صُورَتِهِ الْأُولَى كَقَوْلِكَ: «دَعْنِي مِنْ تَمْرَتَانِ» . الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْرَدَ فِي هَذِهِ الْفَوَاتِحِ نِصْفَ أَسَامِي حُرُوفِ الْمُعْجَمِ: أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَوَاءً، وَهِيَ: الْأَلِفُ، وَاللَّامُ، وَالْمِيمُ، وَالصَّادُ، وَالرَّاءُ، وَالْكَافُ، وَالْهَاءُ، وَالْيَاءُ، وَالْعَيْنُ وَالطَّاءُ، وَالسِّينُ، وَالْحَاءُ، وَالْقَافُ، وَالنُّونُ فِي تِسْعٍ وَعِشْرِينَ سُورَةً. الثَّالِثُ: هَذِهِ الْفَوَاتِحُ جَاءَتْ مُخْتَلِفَةَ الْأَعْدَادِ، فَوَرَدَتْ «ص ق ن» عَلَى حَرْفٍ، وَ «طه وطس ويس وحم» عَلَى حَرْفَيْنِ، وَ «الم والر وطسم» عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ، وَالمص وَالمر على أربعة أحرف، و «كهيعص وحم عسق» عَلَى خَمْسَةِ أَحْرُفٍ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ أَبْنِيَةَ كَلِمَاتِهِمْ عَلَى حَرْفٍ وَحَرْفَيْنِ إِلَى خَمْسَةِ أحرف فقط فكذا هاهنا. الرَّابِعُ: هَلْ لِهَذِهِ الْفَوَاتِحِ مَحَلٌّ مِنَ الْإِعْرَابِ أَمْ لَا؟ فَنَقُولُ: إِنْ جَعَلْنَاهَا أَسْمَاءً لِلسُّوَرِ فَنَعَمْ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ، أَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى الِابْتِدَاءِ، وَأَمَّا النَّصْبُ وَالْجَرُّ فَلِمَا مَرَّ مِنْ صِحَّةِ الْقَسَمِ بِهَا، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهَا أَسْمَاءً لِلسُّورِ لَمْ يَتَصَوَّرْ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَحَلٌّ عَلَى قَوْلِهِ، كَمَا لَا مَحَلَّ لِلْجُمَلِ المبتدأة وللمفردات المعدودة. الإشارة في «ذلك الكتاب» : [سورة البقرة (2) : آية 2] ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: المشار إليه هاهنا حَاضِرٌ، وَ «ذَلِكَ» اسْمٌ مُبْهَمٌ يُشَارُ بِهِ إِلَى الْبَعِيدِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ حَاضِرٌ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا قَالَهُ الْأَصَمُّ:

وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْكِتَابَ بَعْضَهُ بَعْدَ بَعْضٍ، فَنَزَلَ قَبْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ سُوَرٌ كَثِيرَةٌ، وَهِيَ كُلُّ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ مِمَّا فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى التَّوْحِيدِ وَفَسَادِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَإِثْبَاتِ الْمَعَادِ، فَقَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى تِلْكَ السُّوَرِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَدْ يُسَمَّى بَعْضُ الْقُرْآنِ قُرْآنًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ [الْأَعْرَافِ: 204] وَقَالَ حَاكِيًا عَنِ الْجِنِّ إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً [الْجِنِّ: 1] وَقَوْلُهُ: إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى [الْأَحْقَافِ: 30] وَهُمْ مَا سَمِعُوا إِلَّا الْبَعْضَ، وَهُو الَّذِي كَانَ قَدْ نَزَلَ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ رَسُولَهُ عِنْدَ مَبْعَثِهِ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِ كِتَابًا لَا يَمْحُوهُ الْمَاحِي، وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَ أُمَّتَهُ بِذَلِكَ وَرَوَتِ الْأُمَّةُ ذَلِكَ عَنْهُ، / وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 5] وَهَذَا فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ، وَهِيَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي ابْتِدَاءِ الْمَبْعَثِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةٌ، وَأَكْثَرُهَا احْتِجَاجٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَخْبَرَهُمْ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ يُرْسِلُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُنْزِلُ عَلَيْهِ كِتَابًا فَقَالَ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ أَيِ الْكِتَابُ الَّذِي أَخْبَرَ الْأَنْبِيَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُنْزِلُهُ عَلَى النَّبِيِّ الْمَبْعُوثِ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا [الزُّخْرُفِ: 4] وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَ أُمَّتَهُ بِذَلِكَ، فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لِيُعْلِمَ أَنَّ هَذَا الْمُنَزَّلَ هُوَ ذَلِكَ الْكِتَابُ الْمُثْبَتُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى «الم» بَعْدَ مَا سَبَقَ التَّكَلُّمُ بِهِ وَانْقَضَى، وَالْمُنْقَضِي فِي حُكْمِ الْمُتَبَاعَدِ، وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ مِنَ الْمُرْسِلِ إِلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ وَقَعَ فِي حَدِّ الْبُعْدِ، كَمَا تَقُولُ لِصَاحِبِكَ- وَقَدْ أَعْطَيْتَهُ شَيْئًا- احْتَفِظْ بِذَلِكَ. وَسَابِعُهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا اشْتَمَلَ عَلَى حِكَمٍ عَظِيمَةٍ وَعُلُومٍ كَثِيرَةٍ يَتَعَسَّرُ اطِّلَاعُ الْقُوَّةِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَيْهَا بِأَسْرِهَا- وَالْقُرْآنُ وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا نَظَرًا إِلَى صُورَتِهِ لَكِنَّهُ غَائِبٌ نَظَرًا إِلَى أَسْرَارِهِ وَحَقَائِقِهِ- فَجَازَ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ كَمَا يُشَارُ إِلَى البعيد الغائب. «ذلك» يشار بها للقريب والبعيد: الْمَقَامُ الثَّانِي: سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ حَاضِرٌ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ لَفْظَةَ «ذَلِكَ» لَا يُشَارُ بِهَا إِلَّا إِلَى الْبَعِيدِ، بَيَانُهُ أَنَّ ذَلِكَ، وَهَذَا حَرْفَا إِشَارَةٍ، وَأَصْلُهُمَا «ذَا» ، لِأَنَّهُ حَرْفٌ لِلْإِشَارَةِ، قَالَ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْبَقَرَةِ: 245] وَمَعْنَى «هَا» تَنْبِيهٌ، فَإِذَا قَرُبَ الشَّيْءُ أُشِيرَ إِلَيْهِ فَقِيلَ: هَذَا، أَيْ تَنَبَّهْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ لِمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ حَاضِرٌ لَكَ بِحَيْثُ تَرَاهُ، وَقَدْ تَدْخُلُ الْكَافُ عَلَى «ذَا» لِلْمُخَاطَبَةِ وَاللَّامُ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْإِشَارَةِ فَقِيلَ: «ذَلِكَ» فَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بَالِغٌ فِي التَّنْبِيهِ لِتَأَخُّرِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ عَنْهُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ ذَلِكَ لَا تُفِيدُ الْبُعْدَ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، بَلِ اخْتُصَّ فِي الْعُرْفِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى الْبَعِيدِ لِلْقَرِينَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، فَصَارَتْ كَالدَّابَّةِ، فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ فِي الْعُرْفِ بِالْفَرَسِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ مُتَنَاوِلَةً لِكُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فنقول: إنا نحمله هاهنا عَلَى مُقْتَضَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، لَا عَلَى مُقْتَضَى الْوَضْعِ الْعُرْفِيِّ، وَحِينَئِذٍ لَا يُفِيدُ الْبُعْدَ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْمُقَارَبَةِ يُقَامُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّفْظَيْنِ مَقَامَ الْآخَرِ قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ [ص: 45- 48] ثم قال: هذا ذِكْرُ [الأنبياء: 24] وَقَالَ: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ [ص: 52، 53] وَقَالَ: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق: 19] وَقَالَ: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [النَّازِعَاتِ: 25، 26] وَقَالَ: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 105] ثُمَّ قَالَ: إِنَّ

فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 106] وَقَالَ: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى [الْبَقَرَةِ: 73] أَيْ هَكَذَا يُحْيِي اللَّهُ الموتى، وقال: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه: 17] أَيْ مَا هَذِهِ الَّتِي بِيَمِينِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ ذَكَّرَ اسْمَ الْإِشَارَةِ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مُؤَنَّثٌ، وَهُوَ السُّورَةُ، / الْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ مُؤَنَّثٌ، لِأَنَّ الْمُؤَنَّثَ إِمَّا الْمُسَمَّى أَوِ الِاسْمُ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمُسَمَّى هُوَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ لَيْسَ بِمُؤَنَّثٍ، وَأَمَّا الِاسْمُ فَهُوَ (الم) وَهُوَ لَيْسَ بِمُؤَنَّثٍ، نَعَمْ ذَلِكَ الْمُسَمَّى لَهُ اسْمٌ آخَرُ- وَهُوَ السُّورَةُ- وَهُوَ مُؤَنَّثٌ، لَكِنَّ الْمَذْكُورَ السَّابِقَ هُوَ الِاسْمُ الَّذِي لَيْسَ بِمُؤَنَّثٍ وَهُوَ (الم) ، لَا الَّذِي هُوَ مؤنث وهو السورة. مدلول لفظ «كتاب» : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ أَسْمَاءَ الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ: أَحَدُهَا: الْكِتَابُ وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالْقِيَامِ وَالصِّيَامِ وَقِيلَ: فِعَالٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٌ كَاللِّبَاسِ بِمَعْنَى الْمَلْبُوسِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكِتَابِ الْقُرْآنُ قَالَ: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ [ص: 29] وَالْكِتَابُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الْفَرْضُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [الْبَقَرَةِ: 178] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَةِ: 183] إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً [النِّسَاءِ: 103] وَثَانِيهَا: الْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الصَّافَّاتِ: 157] أَيْ بُرْهَانِكُمْ. وَثَالِثُهَا: الْأَجَلُ وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الْحِجْرِ: 4] أَيْ أَجَلٌ. وَرَابِعُهَا: بِمَعْنَى مُكَاتَبَةِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النُّورِ: 33] وَهَذَا الْمَصْدَرُ فِعَالٌ بِمَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ كَالْجِدَالِ وَالْخِصَامِ وَالْقِتَالِ بِمَعْنَى الْمُجَادَلَةِ وَالْمُخَاصَمَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ، وَاشْتِقَاقُ الكتاب مِنْ كَتَبْتُ الشَّيْءَ إِذَا جَمَعْتَهُ، وَسُمِّيَتِ الْكَتِيبَةُ لِاجْتِمَاعِهَا، فَسُمِّيَ الْكِتَابُ كِتَابًا لِأَنَّهُ كَالْكَتِيبَةِ عَلَى عَسَاكِرِ الشُّبُهَاتِ، أَوْ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ جَمِيعُ الْعُلُومِ، أَوْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْزَمَ فِيهِ التكاليف على الخلق. اشتقاق لفظ «قرآن» : وَثَانِيهَا: الْقُرْآنُ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ [الْإِسْرَاءِ: 88] إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزُّخْرُفِ: 3] شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [الْبَقَرَةِ: 185] . إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الْإِسْرَاءِ: 9] وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالْقِرَاءَةَ وَاحِدٌ، كَالْخُسْرَانِ وَالْخَسَارَةِ وَاحِدٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [الْقِيَامَةِ: 18] أَيْ تِلَاوَتَهُ، أَيْ إِذَا تَلَوْنَاهُ عَلَيْكَ فَاتَّبِعْ تِلَاوَتَهُ: الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَرَأْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ إِذَا جَمَعْتَهُ، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: سُمِّيَ الْقُرْآنُ قُرْآنًا لِأَنَّ الْحُرُوفَ جُمِعَتْ فَصَارَتْ كَلِمَاتٍ، وَالْكَلِمَاتُ جُمِعَتْ فَصَارَتْ آيَاتٍ، وَالْآيَاتُ جُمِعَتْ فَصَارَتْ سُوَرًا، وَالسُّوَرُ جُمِعَتْ فَصَارَتْ قُرْآنًا، ثُمَّ جُمِعَ فِيهِ عُلُومُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ اشْتِقَاقَ لَفْظِ الْقُرْآنِ إِمَّا مِنَ التِّلَاوَةِ أَوْ مِنَ الجمعية. معنى الفرقان: وَثَالِثُهَا: الْفُرْقَانُ: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ [الْفُرْقَانِ: 1] . وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ

[الْبَقَرَةِ: 185] وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ، فَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ نُزُولَهُ كَانَ مُتَفَرِّقًا أَنْزَلَهُ فِي نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 106] وَنَزَلَتْ سَائِرُ الْكُتُبِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَوَجْهُ الْحِكْمَةِ فِيهِ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الْفُرْقَانِ: 32] وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ، وَالْمُحْكَمِ وَالْمُؤَوَّلِ، وَقِيلَ: الْفُرْقَانُ هُوَ النَّجَاةُ، وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَلْقَ فِي ظُلُمَاتِ الضَّلَالَاتِ فَبِالْقُرْآنِ وَجَدُوا النَّجَاةَ، / وَعَلَيْهِ حَمَلَ الْمُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة: 53] . معنى تسميته بالذكر: ورابعها: الذكر، والتذكرة، والذكرى، أما الذكر فقوله: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ [الْأَنْبِيَاءِ: 50] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الْحِجْرِ: 9] . وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزُّخْرُفِ: 44] وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ذِكْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذَكَّرَ بِهِ عِبَادَهُ فَعَرَّفَهُمْ تَكَالِيفَهُ وَأَوَامِرَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ ذِكْرٌ وَشَرَفٌ وَفَخْرٌ لِمَنْ آمَنَ بِهِ، وَأَنَّهُ شَرَفٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُمَّتِهِ، وَأَمَّا التَّذْكِرَةُ فَقَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [الْحَاقَّةِ: 48] وَأَمَّا الذِّكْرَى فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55] . تسميته تنزيلًا وحديثاً: وَخَامِسُهَا: التَّنْزِيلُ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشُّعَرَاءِ: 192- 193] . وَسَادِسُهَا: الْحَدِيثُ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً [الزُّمَرِ: 23] سَمَّاهُ حَدِيثًا، لِأَنَّ وُصُولَهُ إِلَيْكَ حَدِيثٌ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَهُ بِمَا يُتَحَدَّثُ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ خَاطَبَ بِهِ المكلفين. وسابعها: الموعظة يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [يُونُسَ: 57] وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَوْعِظَةٌ لِأَنَّ الْقَائِلَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْآخِذُ جِبْرِيلُ، وَالْمُسْتَمْلِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَيْفَ لَا تَقَعُ بِهِ الموعظة. تسميته بالحكم والحكمة: وَثَامِنُهَا: الْحُكْمُ، وَالْحِكْمَةُ، وَالْحَكِيمُ، وَالْمُحْكَمُ، أَمَّا الْحُكْمُ فَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا [الرَّعْدِ: 37] وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَقَوْلُهُ: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ [الْقَمَرِ: 5] وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الْأَحْزَابِ: 34] وَأَمَّا الْحَكِيمُ فَقَوْلُهُ: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: 1، 2] وَأَمَّا الْمُحْكَمُ فَقَوْلُهُ: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هود: 1] . معنى الحكمة: وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْحِكْمَةِ، فَقَالَ الْخَلِيلُ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِحْكَامِ وَالْإِلْزَامِ، وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ حِكْمَةِ اللِّجَامِ، لِأَنَّهَا تَضْبِطُ الدَّابَّةِ، وَالْحِكْمَةُ تَمْنَعُ مِنَ السَّفَهِ. وَتَاسِعُهَا: الشِّفَاءُ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء: 82] وقوله: وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شِفَاءٌ مِنَ الْأَمْرَاضِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ شِفَاءٌ مِنْ مَرَضِ الْكُفْرِ، لِأَنَّهُ تعالى

وَصَفَ الْكُفْرَ وَالشَّكَّ بِالْمَرَضِ، فَقَالَ: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الْبَقَرَةِ: 10] وَبِالْقُرْآنِ يَزُولُ كُلُّ شَكٍّ عَنِ القلب، فصح وصفه بأنه شفاء. كونه هدى وهادياً: وَعَاشِرُهَا: الْهُدَى، وَالْهَادِي: أَمَّا الْهُدَى فَلِقَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] . هُدىً لِلنَّاسِ [آل عمران: 4، الأنعام: 91] . وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يُونُسَ: 57] وَأَمَّا الْهَادِي إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الْإِسْرَاءِ: 9] وَقَالَتِ الْجِنُّ: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الْجِنِّ: 1، 2] . الْحَادِيَ عَشَرَ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّهُ الْقُرْآنُ، وَقَالَ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ. وَالثَّانِيَ عَشَرَ: الْحَبْلُ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً [آلِ عِمْرَانَ: 103] فِي التَّفْسِيرِ: إِنَّهُ الْقُرْآنُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ الْمُعْتَصِمَ بِهِ فِي أُمُورِ دِينِهِ يَتَخَلَّصُ بِهِ مِنْ عُقُوبَةِ الْآخِرَةِ وَنَكَالِ الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ الْمُتَمَسِّكَ بِالْحَبْلِ يَنْجُو مِنَ الْغَرَقِ وَالْمَهَالِكِ، وَمِنْ ذَلِكَ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِصْمَةً فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ/ عِصْمَةٌ لِمَنِ اعْتَصَمَ بِهِ» لِأَنَّهُ يَعْصِمُ النَّاسَ مِنَ الْمَعَاصِي. الثَّالِثَ عَشَرَ: الرَّحْمَةُ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الْإِسْرَاءِ: 88] وَأَيُّ رَحْمَةٍ فَوْقَ التَّخْلِيصِ مِنَ الْجَهَالَاتِ والضلالات. تسميته بالروح: الرَّابِعَ عَشَرَ: الرُّوحُ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشُّورَى: 52] . يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [النَّحْلِ: 2] وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِحَيَاةِ الْأَرْوَاحِ، وَسُمِّيَ جِبْرِيلُ بِالرُّوحِ فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا [مَرْيَمَ: 17] وَعِيسَى بِالرُّوحِ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النِّسَاءِ: 171] . الْخَامِسَ عَشَرَ: الْقَصَصُ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يُوسُفَ: 3] سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ [الْقَصَصِ: 11] أَيِ اتَّبِعِي أَثَرَهُ، أَوْ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَتَتَبَّعُ قصص المتقدمين، ومنه قوله تعلى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آلِ عِمْرَانَ: 62] . السَّادِسَ عَشَرَ: الْبَيَانُ، وَالتِّبْيَانُ، وَالْمُبِينُ: أَمَّا الْبَيَانُ فَقَوْلُهُ: هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ [آلِ عِمْرَانَ: 138] وَالتِّبْيَانُ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النَّحْلِ: 89] وَأَمَّا الْمُبِينُ فَقَوْلُهُ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ [يُوسُفَ: 1] . السَّابِعَ عَشَرَ: الْبَصَائِرُ هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ [الْأَعْرَافِ: 203] أَيْ هِيَ أَدِلَّةٌ يُبْصَرُ بِهَا الْحَقُّ تَشْبِيهًا بِالْبَصَرِ الَّذِي يَرَى طَرِيقَ الْخَلَاصِ. الثَّامِنَ عَشَرَ: الْفَصْلُ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ [الطَّارِقِ: 13، 14] وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقِيلَ مَعْنَاهُ الْقَضَاءُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْضِي بِهِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ قِيلَ لِأَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَهْدِي قَوْمًا إِلَى الْجَنَّةِ وَيَسُوقُ آخَرِينَ إِلَى النَّارِ، فَمَنْ جَعَلَهُ إِمَامَهُ فِي الدُّنْيَا قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَنْ جعله وراءه ساقه إلى النار.

تسميته بالنجوم: التَّاسِعَ عَشَرَ: النُّجُومُ فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الْوَاقِعَةِ: 75] وَالنَّجْمِ إِذا هَوى [النَّجْمِ: 1] لِأَنَّهُ نَزَلَ نَجْمًا نَجْمًا. الْعِشْرُونَ: الْمَثَانِي: مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزُّمَرِ: 23] قِيلَ لِأَنَّهُ ثني فيه القصص والأخبار. تسميه القرآن نعمة وبرهانا: الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: النِّعْمَةُ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضُّحَى: 11] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَعْنِي بِهِ الْقُرْآنَ. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: الْبُرْهَانُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ [النِّسَاءِ: 174] وَكَيْفَ لَا يَكُونُ بُرْهَانًا وَقَدْ عَجَزَتِ الْفُصَحَاءُ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: الْبَشِيرُ وَالنَّذِيرُ، وَبِهَذَا الِاسْمِ وَقَعَتِ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الرسل: مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [النساء: 165، الأنعام: 48] وَقَالَ فِي صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الْفَتْحِ: 8] وَقَالَ فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ فِي حم السَّجْدَةِ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ [فُصِّلَتْ: 4] يَعْنِي مُبَشِّرًا بِالْجَنَّةِ لِمَنْ أَطَاعَ وَبِالنَّارِ مُنْذِرًا لِمَنْ عَصَى، ومن هاهنا نَذْكُرُ الْأَسْمَاءَ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ القرآن. تسميته قيماً: الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْقَيِّمُ قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً [الْكَهْفِ: 2] وَالدِّينُ أَيْضًا قَيِّمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [التَّوْبَةِ: 36] وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْقَيُّومُ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255، آل عمران: 2] وَإِنَّمَا سُمِّيَ قَيِّمًا لِأَنَّهُ قَائِمٌ بِذَاتِهِ فِي الْبَيَانِ وَالْإِفَادَةِ. الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: الْمُهَيْمِنُ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَةِ: 48] وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَمِينِ، وَإِنَّمَا وُصِفَ بِهِ لِأَنَّهُ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْقُرْآنِ أَمِنَ الضَّرَرَ فِي/ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالرَّبُّ الْمُهَيْمِنُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الْمُهَيْمِنَ عَلَى النَّبِيِّ الْأَمِينِ لِأَجْلِ قَوْمٍ هُمْ أُمَنَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ كَمَا قَالَ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [الْبَقَرَةِ: 143] . السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: الْهَادِي إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الْإِسْرَاءِ: 9] وَقَالَ: يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الْجِنِّ: 2] وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْهَادِي لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الخبر «النور الهادي» . تسميته نوراً: السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: النُّورُ اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّورِ: 35] وَفِي الْقُرْآنِ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [الْأَعْرَافِ: 157] يَعْنِي الْقُرْآنَ وَسُمِّيَ الرَّسُولُ نُورًا قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة: 15] يعني محمد وسمي دينه نوراً يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [الصَّفِّ: 8] وَسُمِّيَ بَيَانُهُ نُورًا

أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزُّمَرِ: 22] وَسُمِّيَ التَّوْرَاةُ نُورًا إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَةِ: 44] وَسُمِّيَ الْإِنْجِيلُ نُورًا وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَةِ: 46] وَسَمَّى الْإِيمَانَ نُورًا يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ [الْحَدِيدِ: 12] . الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: الْحَقُّ: وَرَدَ فِي الْأَسْمَاءِ «الْبَاعِثُ الشَّهِيدُ الْحَقُّ» وَالْقُرْآنُ حَقٌّ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ [الْحَاقَّةِ: 51] فَسَمَّاهُ اللَّهُ حَقًّا، لِأَنَّهُ ضِدُّ الْبَاطِلِ فَيُزِيلُ الْبَاطِلَ كَمَا قَالَ: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الْأَنْبِيَاءِ: 18] أَيْ ذَاهِبٌ زَائِلٌ. التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْعَزِيزُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشُّعَرَاءِ: 9] وَفِي صِفَةِ الْقُرْآنِ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ [فُصِّلَتْ: 41] وَالنَّبِيُّ عَزِيزٌ لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ [التوبة: 128] وَالْأُمَّةُ عَزِيزَةٌ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [الْمُنَافِقُونَ: 8] فَرُبَّ عَزِيزٍ أَنْزَلَ كِتَابًا عَزِيزًا عَلَى نَبِيٍّ عَزِيزٍ لِأُمَّةٍ عَزِيزَةٍ، وَلِلْعَزِيزِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقَاهِرُ، وَالْقُرْآنُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَهَرَ الْأَعْدَاءَ وَامْتَنَعَ عَلَى مَنْ أَرَادَ مُعَارَضَتَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ لا يوجد مثله. تسمية القرآن بالكريم: الثَّلَاثُونَ: الْكَرِيمُ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ [الْوَاقِعَةِ: 77] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى سَبْعَةَ أَشْيَاءَ بِالْكَرِيمِ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الِانْفِطَارِ: 6] إِذْ لَا جَوَادَ أَجْوَدُ مِنْهُ، وَالْقُرْآنُ بِالْكَرِيمِ، لِأَنَّهُ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ كِتَابٍ مِنَ الْحِكَمِ وَالْعُلُومِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ، وَسَمَّى مُوسَى كَرِيمًا وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ [الدُّخَانِ: 17] وَسَمَّى ثَوَابَ الْأَعْمَالِ كَرِيمًا فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس: 11] وَسَمَّى عرشه كريماً اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النَّمْلِ: 26] لِأَنَّهُ مَنْزِلُ الرَّحْمَةِ، وَسَمَّى جِبْرِيلَ كَرِيمًا إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [التكوير: 19] وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ عَزِيزٌ، وَسَمَّى كِتَابَ سُلَيْمَانَ كَرِيمًا إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ [النَّمْلِ: 29] فَهُوَ كِتَابٌ كَرِيمٌ مِنْ رَبٍّ كَرِيمٍ نَزَلَ بِهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ عَلَى نَبِيٍّ كَرِيمٍ لِأَجْلِ أُمَّةٍ كَرِيمَةٍ، فَإِذَا تَمَسَّكُوا بِهِ نَالُوا ثَوَابًا كَرِيمًا. ومن أسمائه «العظيم» : الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: الْعَظِيمُ: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: 87] اعلم أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى نَفْسَهُ عَظِيمًا فَقَالَ: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [الْبَقَرَةِ: 255] وَعَرْشَهُ عَظِيمًا وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التَّوْبَةِ: 129] وَكِتَابَهُ عَظِيمًا وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الْحِجْرِ: 87] وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ عَظِيمًا لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْمُطَفِّفِينَ: 5، 6] وَالزَّلْزَلَةَ عَظِيمَةً إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الْحَجِّ: 1] وَخُلُقَ الرَّسُولِ عَظِيمًا وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [الْقَلَمِ: 4] وَالْعِلْمَ عَظِيمًا وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النِّسَاءِ: 113] وَكَيْدَ النِّسَاءِ عَظِيمًا إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف: 28] وسحر سحرة/ فرعون عظيماً وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الْأَعْرَافِ: 116] وَسَمَّى نَفْسَ الثَّوَابِ عَظِيمًا وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الْفَتْحِ: 29] وَسَمَّى عِقَابَ الْمُنَافِقِينَ عظيماً وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 7] . ومنها المبارك:

الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: الْمُبَارَكُ: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ [الْأَنْبِيَاءِ: 50] وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَشْيَاءَ، فَسَمَّى الْمَوْضِعَ الَّذِي كَلَّمَ فِيهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُبَارَكًا فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ [الْقَصَصِ: 30] وَسَمَّى شَجَرَةَ الزَّيْتُونِ مُبَارَكَةً يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ [التَّوْبَةِ: 35] لِكَثْرَةِ مَنَافِعِهَا، وَسَمَّى عِيسَى مُبَارَكًا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً [مَرْيَمَ: 31] وَسَمَّى الْمَطَرَ مُبَارَكًا وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً [ق: 9] لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَسَمَّى لَيْلَةَ الْقَدْرِ مُبَارَكَةً إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدُّخَانِ: 3] فَالْقُرْآنُ ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلَهُ مَلَكٌ مُبَارَكٌ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ على نبي مبارك لأمة مباركة. اتصال «ألم» بقوله «ذلك الكتاب» : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي بَيَانِ اتِّصَالِ قَوْلِهِ: الم بِقَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: إِنْ جَعَلْتَ الم اسْمًا لِلسُّورَةِ فَفِي التَّأْلِيفِ وُجُوهٌ: الأول: أن يكون الم مبتدأ وذلِكَ مبتدأ ثانياً والْكِتابُ خَبَرَهُ وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْكِتَابُ الْكَامِلُ، كَأَنَّ مَا عَدَاهُ مِنَ الْكُتُبِ فِي مِقَابَلَتِهِ نَاقِصٌ، وَإِنَّهُ الَّذِي يَسْتَأْهِلُ أَنْ يَكُونَ كِتَابًا كَمَا تَقُولُ: هُوَ الرَّجُلُ، أَيِ الْكَامِلُ فِي الرُّجُولِيَّةِ الْجَامِعُ لِمَا يَكُونُ فِي الرِّجَالِ مِنْ مُرْضِيَاتِ الْخِصَالِ، وَأَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ صِفَةً، وَمَعْنَاهُ هُوَ ذَلِكَ الْكِتَابُ الْمَوْعُودُ، وَأَنْ يَكُونَ الم خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هَذِهِ الم وَيَكُونَ ذلِكَ الْكِتابُ خَبَرًا ثَانِيًا أَوْ بَدَلًا عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ صِفَةٌ، وَمَعْنَاهُ هُوَ ذَلِكَ، وَأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الم جملة وذلِكَ الْكِتابُ جُمْلَةً أُخْرَى وَإِنْ جُعِلَتْ الم بِمَنْزِلَةِ الصَّوْتِ كَانَ ذلِكَ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ الْكِتابُ أَيْ ذَلِكَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ هُوَ الْكِتَابُ الْكَامِلُ، أَوِ الْكِتَابُ صِفَةٌ وَالْخَبَرُ مَا بَعْدَهُ أَوْ قُدِّرَ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ هُوَ يَعْنِي الْمُؤَلَّفَ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ ذَلِكَ الْكِتَابُ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ [السَّجْدَةِ: 2] وتأليف هذا ظاهر. تفسير قوله تعالى: لَا رَيْبَ فِيهِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا رَيْبَ فِيهِ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الرَّيْبُ قَرِيبٌ مِنَ الشَّكِّ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ، كَأَنَّهُ ظَنُّ سُوءٍ تَقُولُ رَابَنِي أَمْرُ فُلَانٍ إِذَا ظَنَنْتَ بِهِ سوء، وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يُسْتَعْمَلُ الرَّيْبُ فِي قَوْلِهِمْ: «رَيْبُ الدَّهْرِ» وَ «رَيْبُ الزَّمَانِ» أَيْ حَوَادِثُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطُّورِ: 30] وَيُسْتَعْمَلُ أَيْضًا فِي مَعْنَى مَا يَخْتَلِجُ فِي الْقَلْبِ مِنْ أَسْبَابِ الْغَيْظِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ ... وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجْمَعْنَا السُّيُوفَا قُلْنَا: هَذَانِ قَدْ يَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنَى الشَّكِّ، لِأَنَّ مَا يُخَافُ مِنْ رَيْبِ الْمَنُونِ مُحْتَمَلٌ، فَهُوَ كَالْمَشْكُوكِ/ فِيهِ، وَكَذَلِكَ مَا اخْتَلَجَ بِالْقَلْبِ فَهُوَ غَيْرُ مَتَيَقَّنٍ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا رَيْبَ فِيهِ الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْيُ كَوْنِهِ مَظِنَّةً لِلرَّيْبِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي صِحَّتِهِ، وَلَا فِي كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَا فِي كَوْنِهِ مُعْجِزًا. وَلَوْ قُلْتَ: الْمُرَادُ لَا رَيْبَ فِي كَوْنِهِ مُعْجِزًا عَلَى الْخُصُوصِ كَانَ أَقْرَبَ لِتَأْكِيدِ هَذَا التَّأْوِيلِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا

نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [البقرة: 23] وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: طَعَنَ بَعْضُ الْمُلْحِدَةِ فِيهِ فَقَالَ: إِنْ عَنَى أَنَّهُ لَا شَكَّ فِيهِ عِنْدَنَا فَنَحْنُ قَدْ نَشُكُّ فِيهِ، وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ لَا شَكَّ فِيهِ عِنْدَهُ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ. الْجَوَابُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ بَلَغَ فِي الْوُضُوحِ إِلَى حَيْثُ لَا يَنْبَغِي لِمُرْتَابٍ أَنْ يَرْتَابَ فِيهِ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْعَرَبَ مَعَ بُلُوغِهِمْ فِي الْفَصَاحَةِ إِلَى النِّهَايَةِ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَةِ أَقْصَرِ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ يَشْهَدُ بِأَنَّهُ بَلَغَتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ فِي الظُّهُورِ إِلَى حَيْثُ لَا يَجُوزُ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَرْتَابَ فِيهِ. السُّؤَالُ الثاني: لم قال هاهنا: لَا رَيْبَ فِيهِ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَا فِيها غَوْلٌ [الصَّافَّاتِ: 47] ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ فالأهم، وهاهنا الْأَهَمُّ نَفْيُ الرَّيْبِ بِالْكُلِّيَّةِ عَنِ الْكِتَابِ، وَلَوْ قُلْتَ: لَا فِيهِ رَيْبٌ لَأَوْهَمَ أَنَّ هُنَاكَ كتاباً آخر حصل الريب فيه لا ها هنا، كَمَا قَصَدَ فِي قَوْلِهِ: لَا فِيها غَوْلٌ تَفْضِيلَ خَمْرِ الْجَنَّةِ عَلَى خُمُورِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا لَا تَغْتَالُ الْعُقُولَ كَمَا تَغْتَالُهَا خَمْرَةُ الدُّنْيَا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مِنْ أَيْنَ يَدُلُّ قَوْلُهُ: لَا رَيْبَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ الرَّيْبِ بِالْكُلِّيَّةِ؟ الْجَوَابُ: قَرَأَ أَبُو الشَّعْثَاءِ لَا رَيْبَ فِيهِ بِالرَّفْعِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الْمَشْهُورَةَ تُوجِبُ ارْتِفَاعَ الرَّيْبِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا رَيْبَ نَفْيٌ لِمَاهِيَّةِ الرَّيْبِ وَنَفْيُ الْمَاهِيَّةِ يَقْتَضِي نَفْيَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ لَثَبَتَتِ الْمَاهِيَّةُ، وَذَلِكَ يُنَاقِضُ نَفْيَ الْمَاهِيَّةِ، وَلِهَذَا السِّرِّ كَانَ قَوْلُنَا: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» نَفْيًا لِجَمِيعِ الْآلِهَةِ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُنَا: «لَا رَيْبُ فِيهِ» بِالرَّفْعِ فَهُوَ نَقِيضٌ لِقَوْلِنَا: «رَيْبَ فِيهِ» وَهُوَ يُفِيدُ ثُبُوتَ فَرْدٍ وَاحِدٍ، فَذَلِكَ النَّفْيُ يُوجِبُ انْتِفَاءَ جَمِيعِ الْأَفْرَادِ لِيَتَحَقَّقَ التَّنَاقُضُ. الْوَقْفُ عَلَى «فِيهِ» : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَقْفُ عَلَى فِيهِ هُوَ الْمَشُهُورُ، وَعَنْ نَافِعٍ وَعَاصِمٍ أَنَّهُمَا وَقَفَا عَلَى لَا رَيْبَ وَلَا بُدَّ لِلْوَاقِفِ مِنْ أَنْ يَنْوِيَ خَبَرًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: قالُوا لَا ضَيْرَ [الشُّعَرَاءِ: 50] وَقَوْلُ الْعَرَبِ: لَا بَأْسَ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ فِي لِسَانِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالتَّقْدِيرُ: «لَا رَيْبَ فِيهِ فِيهِ هُدًى» . وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَوْلَى، لِأَنَّ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى يَكُونُ الْكِتَابُ نَفْسُهُ هُدًى، وَفِي الثَّانِيَةِ لَا يَكُونُ الْكِتَابُ نَفْسُهُ هُدًى بَلْ يَكُونُ فِيهِ هُدًى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ نُورٌ وَهُدًى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. حقيقة الهدى: قَوْلُهُ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَقِيقَةِ الْهُدَى: الْهُدَى عِبَارَةٌ عَنِ الدَّلَالَةِ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْهُدَى هُوَ الدَّلَالَةُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْبُغْيَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْهُدَى هُوَ الِاهْتِدَاءُ وَالْعِلْمُ. وَالَّذِي يَدُلُّ/ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَفَسَادِ الْقَوْلِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَوْنُ الدَّلَالَةِ مُوَصِّلَةً إِلَى الْبُغْيَةِ مُعْتَبَرًا فِي مُسَمَّى الْهُدَى لَامْتَنَعَ حُصُولُ الْهُدَى عِنْدَ عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ، لِأَنَّ كَوْنَ الدَّلَالَةِ مُوَصِّلَةً إِلَى الِاهْتِدَاءِ حَالَ عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ مُحَالٌ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فُصِّلَتْ: 17] أَثْبَتَ الْهُدَى مَعَ عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ أَنْ يُقَالَ: هَدَيْتُهُ فَلَمْ يَهْتَدِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا، وَاحْتَجَّ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهَا: وُقُوعُ الضَّلَالَةِ فِي مُقَابَلَةِ الْهُدَى، قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [الْبَقَرَةِ: 16] وَقَالَ: لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سَبَأٍ: 24] وَثَانِيهَا: يَقُولُ مَهْدِيٌّ فِي مَوْضِعِ المدح كمهتدي، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ

شَرْطِ الْهُدَى كَوْنُ الدَّلَالَةِ مُوَصِّلَةً إِلَى الْبُغْيَةِ لَمْ يَكُنِ الْوَصْفُ بِكَوْنِهِ مَهْدِيًّا مَدْحًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ هُدِيَ فَلَمْ يَهْتَدِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ اهْتَدَى مُطَاوِعُ هَدَى يُقَالُ: هَدَيْتُهُ فَاهْتَدَى، كَمَا يُقَالُ: كَسَرْتُهُ فَانْكَسَرَ، وَقَطَعْتُهُ فَانْقَطَعَ فَكَمَا أَنَّ الِانْكِسَارَ والانقطاع لا زمان لِلْكَسْرِ وَالْقَطْعِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاهْتِدَاءُ مِنْ لَوَازِمِ الْهُدَى. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْهُدَى وَبَيْنَ الِاهْتِدَاءِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، فَمُقَابِلُ الهدى هو الإضلال ومقابل الاهتداء هو الضلال، فَجَعْلُ الْهُدَى فِي مُقَابَلَةِ الضَّلَالِ مُمْتَنِعٌ، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُنْتَفِعَ بِالْهُدَى سُمِّيَ مَهْدِيًّا، وَغَيْرُ منتفع بِهِ لَا يُسَمَّى مَهْدِيًّا، وَلِأَنَّ الْوَسِيلَةَ إِذَا لَمْ تُفْضِ إِلَى الْمَقْصُودِ كَانَتْ نَازِلَةً مَنْزِلَةَ الْمَعْدُومِ. وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ الِائْتِمَارَ مُطَاوِعُ الْأَمْرِ يُقَالُ: أَمَرْتُهُ فَائْتَمَرَ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِهِ آمِرًا حُصُولُ الِائْتِمَارِ، فَكَذَا هَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ هُدًى أَنْ يَكُونَ مُفْضِيًا إِلَى الِاهْتِدَاءِ، عَلَى أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ: هَدَيْتُهُ فَلَمْ يَهْتَدِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ الْهُدَى هُوَ الْعِلْمُ خَاصَّةً أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ هُدًى وَلَا شَكَّ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِعِلْمٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْهُدَى هُوَ الدلالة لا الاهتداء والعلم. معنى المتقي: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُتَّقِي فِي اللُّغَةِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَوْلِهِمْ وَقَاهُ فَاتَّقَى، وَالْوِقَايَةُ فَرْطُ الصِّيَانَةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذكر المتقي هاهنا فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ، وَمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مُتَّقِيًا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، بَلْ بِأَنْ يَكُونَ مُتَّقِيًا فِيمَا يَتَّصِلُ بِالدِّينِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ آتِيًا بِالْعِبَادَاتِ مُحْتَرِزًا عَنِ الْمَحْظُورَاتِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَدْخُلُ اجْتِنَابُ الصَّغَائِرِ فِي التَّقْوَى؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَدْخُلُ كَمَا يَدْخُلُ الصَّغَائِرُ فِي الْوَعِيدِ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَدْخُلُ، وَلَا نِزَاعَ فِي وُجُوبِ التَّوْبَةِ عَنِ الْكُلِّ، إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَوَقَّ الصَّغَائِرَ هَلْ يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ؟ فَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ دَرَجَةَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ الْبَأْسُ» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُمُ الَّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنَ اللَّهِ الْعُقُوبَةَ فِي تَرْكِ مَا يَمِيلُ الْهَوَى إِلَيْهِ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ بِالتَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ مِنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّقْوَى هِيَ الْخَشْيَةُ، قَالَ في أول النساء: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النِّسَاءِ: 1] وَمِثْلُهُ فِي أَوَّلِ الْحَجِّ، وَفِي الشُّعَرَاءِ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ [هُودٍ: 106] يَعْنِي أَلَا تَخْشَوْنَ اللَّهَ، وَكَذَلِكَ قَالَ هُودٌ وَصَالِحٌ، وَلُوطٌ، وَشُعَيْبٌ لِقَوْمِهِمْ، وَفِي الْعَنْكَبُوتِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ [نُوحٍ: 3] يَعْنِي اخْشَوْهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آلِ عِمْرَانَ: 102] وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى [الْبَقَرَةِ: 197] وَاتَّقُوا يَوْماً/ لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [الْبَقَرَةِ: 48] وَاعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَةَ التَّقْوَى وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا إِلَّا أَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ، وَالْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ مِنْهَا الْإِيمَانُ تَارَةً، وَالتَّوْبَةُ أُخْرَى، وَالطَّاعَةُ ثَالِثَةً، وَتَرْكُ الْمَعْصِيَةِ رَابِعًا: وَالْإِخْلَاصُ خَامِسًا: أَمَّا الْإِيمَانُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [الْفَتْحِ: 26] أَيِ التَّوْحِيدَ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى [الْحُجُرَاتِ: 3] وَفِي الشُّعَرَاءِ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ [الشُّعَرَاءِ: 11] أَيْ أَلَا يُؤْمِنُونَ وَأَمَّا التَّوْبَةُ فَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا [الْأَعْرَافِ: 96] أَيْ تَابُوا، وَأَمَّا الطَّاعَةُ فَقَوْلُهُ فِي النَّحْلِ: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النَّحْلِ: 2] وَفِيهِ أَيْضًا: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ [النَّحْلِ: 52] وَفِي الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 52] وَأَمَّا تَرْكُ الْمَعْصِيَةِ فَقَوْلُهُ: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ [الْبَقَرَةِ: 189] أَيْ فَلَا تَعْصُوهُ، وَأَمَّا الْإِخْلَاصُ فَقَوْلُهُ فِي الْحَجِّ: فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الْحَجِّ: 32] أَيْ مِنْ إِخْلَاصِ الْقُلُوبِ، فَكَذَا قَوْلُهُ: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ

[الْبَقَرَةِ: 41] وَاعْلَمْ أَنَّ مَقَامَ التَّقْوَى مَقَامٌ شَرِيفٌ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النَّحْلِ: 128] وَقَالَ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 13] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ النَّاسِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَغْنَى النَّاسِ فَلْيَكُنْ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقَ مِمَّا فِي يَدِهِ» وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: التَّقْوَى تَرْكُ الْإِصْرَارِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَتَرْكُ الِاغْتِرَارِ بِالطَّاعَةِ. قَالَ الحسن: التقوى أن لا تختار عل اللَّهِ سِوَى اللَّهِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِيَدِ اللَّهِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: التَّقْوَى أَنْ لَا يَجِدَ الْخَلْقُ فِي لِسَانِكَ عَيْبًا. وَلَا الْمَلَائِكَةُ فِي أَفْعَالِكَ عَيْبًا وَلَا مَلِكُ العرش في سرك عيباً وقال الوافدي: التَّقْوَى أَنْ تُزَيِّنَ سِرَّكَ لِلْحَقِّ كَمَا زَيَّنْتَ ظَاهِرَكَ لِلْخَلْقِ، وَيُقَالُ: التَّقْوَى أَنْ لَا يَرَاكَ مَوْلَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ، وَيُقَالُ: الْمُتَّقِي مَنْ سَلَكَ سَبِيلَ الْمُصْطَفَى، وَنَبَذَ الدُّنْيَا وَرَاءَ الْقَفَا، وَكَلَّفَ نَفْسَهُ الْإِخْلَاصَ وَالْوَفَا، وَاجْتَنَبَ الْحَرَامَ وَالْجَفَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُتَّقِي فَضِيلَةٌ إِلَّا مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ كَفَاهُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ هُدًى لِلنَّاسِ فِي قَوْلِهِ: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ [البقرة: 185] ثم قال هاهنا فِي الْقُرْآنِ: إِنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَّقِينَ هُمْ كُلُّ النَّاسِ، فَمَنْ لَا يَكُونُ مُتَّقِيًا كَأَنَّهُ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي السُّؤَالَاتِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَوْنُ الشَّيْءِ هُدًى وَدَلِيلًا لَا يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، فَلِمَاذَا جَعَلَ الْقُرْآنَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ فَقَطْ؟ وأيضاً فالمتقي مهتدي، وَالْمُهْتَدِي لَا يَهْتَدِي ثَانِيًا وَالْقُرْآنُ لَا يَكُونُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ. الْجَوَابُ: الْقُرْآنُ كَمَا أَنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ وَدَلَالَةٌ لَهُمْ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَعَلَى دِينِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ، فَهُوَ أَيْضًا دَلَالَةٌ لِلْكَافِرِينَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْمُتَّقِينَ مَدْحًا لِيُبَيِّنَ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا وَانْتَفَعُوا بِهِ كَمَا قَالَ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النَّازِعَاتِ: 45] وَقَالَ: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [يس: 11] وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُنْذِرًا لِكُلِّ النَّاسِ، فَذَكَرَ هَؤُلَاءِ النَّاسَ لِأَجْلِ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِإِنْذَارِهِ. وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ الْهُدَى بِالدَّلَالَةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَقْصُودِ فَهَذَا السُّؤَالُ زَائِلٌ عَنْهُ، لِأَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُوَصِّلًا إِلَى الْمَقْصُودِ لَيْسَ إِلَّا فِي حَقِّ الْمُتَّقِينَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ وَصَفَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ بِأَنَّهُ هُدًى وَفِيهِ مُجْمَلٌ وَمُتَشَابِهٌ كَثِيرٌ، وَلَوْلَا دَلَالَةُ الْعَقْلِ لَمَا تَمَيَّزَ الْمُحْكَمُ عَنِ الْمُتَشَابِهِ، فَيَكُونُ الْهُدَى/ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الدَّلَالَةُ الْعَقْلِيَّةُ لَا الْقُرْآنُ، وَمِنْ هَذَا نُقِلَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولًا إِلَى الْخَوَارِجِ لَا تَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ خَصْمٌ ذُو وَجْهَيْنِ، وَلَوْ كَانَ هُدًى لَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ذَلِكَ فِيهِ، وَلِأَنَّا نَرَى جَمِيعَ فِرَقِ الْإِسْلَامِ يَحْتَجُّونَ بِهِ، وَنَرَى الْقُرْآنَ مَمْلُوءًا مِنْ آيَاتٍ بَعْضُهَا صَرِيحٌ فِي الْجَبْرِ وَبَعْضُهَا صَرِيحٌ فِي الْقَدَرِ، فَلَا يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا إلا بالتعسف الشديد، فيكف يَكُونُ هُدًى؟. الْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ الْمُتَشَابِهَ وَالْمُجْمَلَ لَمَّا لَمْ يَنْفَكَّ عَمَّا هُوَ الْمُرَادُ عَلَى التَّعْيِينِ- وَهُوَ إِمَّا دَلَالَةُ الْعَقْلِ أَوْ دَلَالَةُ السَّمْعِ- صَارَ كُلُّهُ هُدًى. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كُلُّ مَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ كَوْنِ الْقُرْآنِ حُجَّةً عَلَى صِحَّتِهِ لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ هُدًى فِيهِ، فَإِذَنِ اسْتَحَالَ كَوْنُ الْقُرْآنِ هُدًى فِي مَعْرِفَةِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَفِي مَعْرِفَةِ النُّبُوَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْمَطَالِبَ أَشْرَفُ الْمَطَالِبِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ هُدًى فِيهَا فَكَيْفَ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُدًى عَلَى الْإِطْلَاقِ؟. الْجَوَابُ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِهِ هُدًى أَنْ يَكُونَ هُدًى فِي كُلِّ شَيْءٍ، بَلْ يَكْفِي فِيهِ أَنْ يَكُونَ هُدًى فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ هُدًى فِي تَعْرِيفِ الشَّرَائِعِ، أَوْ يَكُونَ هُدًى فِي تَأْكِيدِ مَا فِي الْعُقُولِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ هُدًى مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ فِي اللَّفْظِ، مع

[سورة البقرة (2) : آية 3]

أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ هُدًى فِي إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَصِفَاتِهِ وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: الْهُدَى هُوَ الَّذِي بَلَغَ فِي الْبَيَانِ وَالْوُضُوحِ إِلَى حَيْثُ بَيَّنَ غَيْرَهُ، وَالْقُرْآنُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُفَسِّرِينَ مَا يَذْكُرُونَ آيَةً إِلَّا وَذَكَرُوا فِيهَا أَقْوَالًا كَثِيرَةً مُتَعَارِضَةً، وَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ مُبَيِّنًا فِي نَفْسِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُبَيِّنًا لِغَيْرِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ هُدًى؟ قُلْنَا: مَنْ تَكَلَّمَ فِي التَّفْسِيرِ بِحَيْثُ يُورِدُ الْأَقْوَالَ الْمُتَعَارِضَةَ، وَلَا يُرَجِّحُ وَاحِدًا مِنْهَا عَلَى الْبَاقِي يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ هُوَ هَذَا السُّؤَالُ، وَأَمَّا نَحْنُ فَقَدَ رَجَّحْنَا وَاحِدًا عَلَى الْبَوَاقِي بِالدَّلِيلِ فَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْنَا هَذَا السُّؤَالُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مَحَلُّ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الرَّفْعُ، لِأَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ خَبَرٌ مَعَ لَا رَيْبَ فِيهِ لِ ذلِكَ، أَوْ مُبْتَدَأٌ إِذَا جُعِلَ الظَّرْفُ الْمُتَقَدِّمُ خَبَرًا عَنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الْإِشَارَةُ، أَوِ الظَّرْفُ، وَالَّذِي هُوَ أَرْسَخُ عِرْقًا فِي الْبَلَاغَةِ أَنْ يَضْرِبَ عَنْ هَذَا الْمَجَالِ صَفْحًا، وَأَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: الم جُمْلَةٌ بِرَأْسِهَا، أَوْ طَائِفَةٌ من حروف المعجم مستقلة بنفسها، وذلِكَ الْكِتابُ جملة ثانية، ولا رَيْبَ فِيهِ ثالثة وهُدىً لِلْمُتَّقِينَ رَابِعَةٌ وَقَدْ أُصِيبَ بِتَرْتِيبِهَا مَفْصِلُ الْبَلَاغَةِ وَمُوجِبُ حُسْنِ النَّظْمِ، حَيْثُ جِيءَ بِهَا مُتَنَاسِقَةً هَكَذَا مِنْ غَيْرِ حَرْفِ نَسَقٍ، وَذَلِكَ لِمَجِيئِهَا مُتَآخِيَةً آخِذًا بَعْضُهَا بِعُنُقِ بَعْضٍ، وَالثَّانِيَةُ مُتَّحِدَةٌ بِالْأُولَى وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى الثَّالِثَةِ، وَالرَّابِعَةِ. بَيَانُهُ: أَنَّهُ نُبِّهَ أَوَّلًا عَلَى أَنَّهُ الْكَلَامُ الْمُتَحَدَّى بِهِ، ثُمَّ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ الْكِتَابُ الْمَنْعُوتُ بِغَايَةِ الْكَمَالِ/ فَكَانَ تَقْرِيرُ الْجِهَةِ التَّحَدِّي، ثُمَّ نَفَى عَنْهُ أَنْ يَتَشَبَّثَ بِهِ طَرَفٌ مِنَ الرَّيْبِ، فَكَانَ شَهَادَةً بِكَمَالِهِ ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، فَقَرَّرَ بِذَلِكَ كَوْنَهُ يَقِينًا لَا يَحُومُ الشَّكُّ حَوْلَهُ، ثُمَّ لَمْ يَخْلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعِ بَعْدَ أَنْ رُتِّبَتْ هَذَا التَّرْتِيبَ الْأَنِيقَ مِنْ نُكْتَةٍ، فَفِي الْأُولَى الْحَذْفُ وَالرَّمْزُ إِلَى الْغَرَضِ بِأَلْطَفِ وَجْهٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ مَا فِي التَّعْرِيفِ مِنَ الْفَخَامَةِ، وَفِي الثَّالِثَةِ مَا فِي تَقْدِيمِ الرَّيْبِ عَلَى الظَّرْفِ، وَفِي الرَّابِعَةِ الْحَذْفُ وَوَضْعُ الْمَصْدَرِ- الَّذِي هُوَ هُدًى- مَوْضِعَ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ هادٍ، وإيراده منكراً. [سورة البقرة (2) : آية 3] الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) اعْلَمْ أَنَّ فِيهِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ إِمَّا مَوْصُولٌ بِالْمُتَّقِينَ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ مَجْرُورَةٌ، أَوْ مَنْصُوبٌ أَوْ مَدْحٌ مَرْفُوعٌ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ، أَوْ هُمُ الَّذِينَ، وَإِمَّا مُنْقَطِعٌ عَنِ الْمُتَّقِينَ مرفوع على الابتداء مخبر عنه ب أُولئِكَ عَلى هُدىً فَإِذَا كَانَ مَوْصُولًا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْمُتَّقِينَ حَسَنًا غَيْرَ تَامٍّ، وَإِذَا كَانَ مُنْقَطِعًا كَانَ وَقْفًا تَامًّا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَالتَّفْسِيرِ لِكَوْنِهِمْ مُتَّقِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُتَّقِيَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ فَاعِلًا لِلْحَسَنَاتِ وَتَارِكًا لِلسَّيِّئَاتِ، أَمَّا الْفِعْلُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِعْلَ الْقَلْبِ- وَهُوَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ- وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِعْلَ الْجَوَارِحِ، وَأَسَاسُهُ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصَّدَقَةُ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بَدَنِيَّةً وَأَجَلُّهَا الصَّلَاةُ، أَوْ مَالِيَّةً، وَأَجَلُّهَا الزَّكَاةُ، وَلِهَذَا سَمَّى الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ، وَالزَّكَاةُ قَنْطَرَةُ الْإِسْلَامِ» وَأَمَّا التَّرْكُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ

الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [الْعَنْكَبُوتِ: 45] وَالْأَقْرَبُ أَنْ لَا تَكُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَفْسِيرًا لِكَوْنِهِمْ مُتَّقِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَمَالَ السَّعَادَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَرْكِ مَا لَا يَنْبَغِي وَفِعْلِ مَا يَنْبَغِي، فَالتَّرْكُ هُوَ التَّقْوَى، وَالْفِعْلُ إِمَّا فِعْلُ الْقَلْبِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ، أَوْ فِعْلُ الْجَوَارِحِ، وَهُوَ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ التَّقْوَى الَّذِي هُوَ التَّرْكُ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، لِأَنَّ الْقَلْبَ كَاللَّوْحِ الْقَابِلِ لِنُقُوشِ الْعَقَائِدِ الْحَقَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَاللَّوْحُ يَجِبُ تَطْهِيرُهُ أَوَّلًا عَنِ النُّقُوشِ الْفَاسِدَةِ، حَتَّى يُمْكِنَ إِثْبَاتُ النُّقُوشِ الْجَيِّدَةِ فِيهِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْأَخْلَاقِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ التَّقْوَى وَهُوَ تَرْكُ مَا لَا يَنْبَغِي، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ فِعْلَ مَا يَنْبَغِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْإِيمَانُ إِفْعَالٌ مِنَ الْأَمْنِ، ثُمَّ يُقَالُ آمَنَهُ إِذَا صَدَقَهُ، وَحَقِيقَتُهُ آمَنَهُ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالْمُخَالَفَةِ، وَأَمَّا تَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ فَلِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى «أُقِرُّ وَأَعْتَرِفُ» وَأَمَّا مَا حَكَى أَبُو زَيْدٍ: مَا آمَنْتُ أَنْ أَجِدَ صَحَابَةً أَيْ مَا وَثِقْتُ، فَحَقِيقَتُهُ صِرْتُ ذَا أَمْنٍ، أَيْ ذَا سُكُونٍ وَطُمَأْنِينَةٍ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ حَسَنٌ فِي يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أَيْ يَعْتَرِفُونَ بِهِ أَوْ يَثِقُونَ بِأَنَّهُ حَقٌّ. وَأَقُولُ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْقِبْلَةِ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَيَجْمَعُهُمْ فِرَقٌ أَرْبَعُ. الْفِرْقَةُ الْأُولَى: الَّذِينَ قَالُوا: الْإِيمَانُ اسْمٌ لِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ وَالْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ، وَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ وَالزَّيْدِيَّةُ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ، أَمَّا الْخَوَارِجُ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ يَتَنَاوَلُ الْمَعْرِفَةَ بِاللَّهِ وَبِكُلِّ مَا وَضَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ دَلِيلًا عَقْلِيًّا أَوْ نَقْلِيًّا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَتَنَاوَلُ طَاعَةَ اللَّهِ فِي جَمِيعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا. فَقَالُوا مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ هُوَ الْإِيمَانُ وَتَرْكُ كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ كُفْرٌ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ إِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ فَالْمُرَادُ بِهِ التَّصْدِيقُ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ فُلَانٌ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ التَّصْدِيقَ، إِذِ الْإِيمَانُ بِمَعْنَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ لَا يُمْكِنُ فِيهِ هَذِهِ التَّعْدِيَةُ، فَلَا يُقَالُ فُلَانٌ آمَنَ بِكَذَا إِذَا صَلَّى وَصَامَ، بَلْ يُقَالُ فُلَانٌ آمَنَ بِاللَّهِ كَمَا يُقَالُ صَامَ وَصَلَّى لِلَّهِ، فَالْإِيمَانُ الْمُعَدَّى بِالْبَاءِ يَجْرِي عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ، أَمَّا إِذَا ذُكِرَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُعَدًّى فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مَنْقُولٌ مِنَ الْمُسَمَّى اللُّغَوِيِّ- الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ- إِلَى مَعْنًى آخَرَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِ كُلِّ الطَّاعَاتِ سَوَاءٌ كَانَتْ وَاجِبَةً أَوْ مَنْدُوبَةً، أَوْ مِنْ بَابِ الْأَقْوَالِ أَوِ الْأَفْعَالِ أَوِ الِاعْتِقَادَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ وَاصِلِ بْنِ عَطَاءٍ وَأَبِي الْهُذَيْلِ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ فَقَطْ دُونَ النَّوَافِلِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنِ اجْتِنَابِ كُلِّ مَا جَاءَ فِيهِ الْوَعِيدُ، فَالْمُؤْمِنُ عِنْدَ اللَّهِ كُلُّ مَنِ اجْتَنَبَ كُلَّ الْكَبَائِرِ، وَالْمُؤْمِنُ عِنْدَنَا كُلُّ مَنِ اجْتَنَبَ كُلَّ مَا وَرَدَ فِيهِ الْوَعِيدُ، وَهُوَ قَوْلُ النَّظَّامِ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ: شَرْطُ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا عِنْدَنَا وَعِنْدَ اللَّهِ اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ كُلِّهَا. وَأَمَّا أَهْلُ الْحَدِيثِ فَذَكَرُوا وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إِيمَانٌ كَامِلٌ وَهُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كُلُّ طَاعَةٍ إِيمَانٌ عَلَى حِدَةٍ، وَهَذِهِ الطَّاعَاتُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا إِيمَانًا إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُرَتَّبَةً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْمَعْرِفَةُ. وَزَعَمُوا أَنَّ الْجُحُودَ وَإِنْكَارَ الْقَلْبِ كُفْرٌ، ثُمَّ كَلُّ مَعْصِيَةٍ بَعْدَهُ كُفْرٌ عَلَى حِدَةٍ، وَلَمْ يَجْعَلُوا شَيْئًا مِنَ الطَّاعَاتِ إِيمَانًا مَا لَمْ تُوجَدِ الْمَعْرِفَةُ وَالْإِقْرَارُ، وَلَا شَيْئًا مِنَ الْمَعَاصِي كُفْرًا مَا لَمْ يُوجَدِ الْجُحُودُ وَالْإِنْكَارُ، لِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ مَا هُوَ أَصْلُهُ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ. الثَّانِي: زَعَمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ اسْمٌ لِلطَّاعَاتِ كُلِّهَا وَهُوَ إِيمَانٌ وَاحِدٌ وَجَعَلُوا الْفَرَائِضَ وَالنَّوَافِلَ كُلَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْإِيمَانِ، وَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الْفَرَائِضِ فَقَدِ انْتَقَصَ إِيمَانُهُ، وَمَنْ تَرَكَ النَّوَافِلَ لَا يَنْتَقِصُ إِيمَانُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ اسْمٌ لِلْفَرَائِضِ دُونَ النَّوَافِلِ.

الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ: الَّذِينَ قَالُوا: الْإِيمَانُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ مَعًا، وَقَدِ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ عَلَى مَذَاهِبَ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِيمَانَ إِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَمَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعَيْنِ. أَحَدُهُمَا: اخْتَلَفُوا فِي حَقِيقَةِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا بِالِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ- سَوَاءٌ كَانَ اعْتِقَادًا تَقْلِيدِيًّا أَوْ كَانَ عِلْمًا صَادِرًا عَنِ الدَّلِيلِ- وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ بِأَنَّ الْمُقَلِّدَ مُسْلِمٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْعِلْمِ الصَّادِرِ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ. وَثَانِيهِمَا: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْعِلْمَ الْمُعْتَبَرَ فِي تَحَقُّقِ الْإِيمَانِ عِلْمٌ بِمَاذَا؟ قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: هُوَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ وَبِصِفَاتِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ ثُمَّ/ إِنَّهُ لَمَّا كَثُرَ اخْتِلَافُ الْخَلْقِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا جَرَمَ أَقْدَمَ كُلُّ طَائِفَةٍ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ عَدَاهَا مِنَ الطَّوَائِفِ. وَقَالَ أَهْلُ الْإِنْصَافِ: الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْعِلْمُ بِكُلِّ مَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِالْعِلْمِ أَوْ عَالِمًا لِذَاتِهِ وَبِكَوْنِهِ مَرْئِيًّا أَوْ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ مَعًا، وَهُوَ قَوْلُ بِشْرِ بْنِ عَتَّابٍ الْمَرِيسِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ الْكَلَامُ الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الصُّوفِيَّةِ: الْإِيمَانُ إِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَإِخْلَاصٌ بِالْقَلْبِ. الْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِينَ قَالُوا: الْإِيمَانُ عِبَارَةٌ عَنْ عَمَلِ الْقَلْبِ فَقَطْ، وَهَؤُلَاءِ قَدِ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ بِالْقَلْبِ، حَتَّى أَنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ بِقَلْبِهِ ثُمَّ جَحَدَ بِلِسَانِهِ وَمَاتَ قبل أن يقربه فَهُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ وَهُوَ قَوْلُ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ. أَمَّا مَعْرِفَةُ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي حَدِّ الْإِيمَانِ. وَحَكَى الْكَعْبِيُّ عَنْهُ: أَنَّ الْإِيمَانَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ مَعَ مَعْرِفَةِ كُلِّ مَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَهُوَ قَوْلُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ الْبَجَلِيِّ. الْفِرْقَةُ الرَّابِعَةُ: الَّذِينَ قَالُوا: الْإِيمَانُ هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ وَهُمْ فَرِيقَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ هُوَ الْإِيمَانُ فَقَطْ، لَكِنَّ شَرْطَ كَوْنِهِ إِيمَانًا حُصُولُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْقَلْبِ، فَالْمَعْرِفَةُ شَرْطٌ لِكَوْنِ الْإِقْرَارِ اللِّسَانِيِّ إِيمَانًا، لَا أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ، وَهُوَ قَوْلُ غَيْلَانَ بْنِ مُسْلِمٍ الدِّمَشْقِيِّ وَالْفَضْلِ الرَّقَاشِيِّ وَإِنْ كَانَ الْكَعْبِيُّ قَدْ أَنْكَرَ كَوْنَهُ قَوْلًا لِغَيْلَانَ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَرَّامِيَّةِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْمُنَافِقَ مُؤْمِنُ الظَّاهِرِ كَافِرُ السَّرِيرَةِ فَثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَحُكْمُ الْكَافِرِينَ فِي الْآخِرَةِ فَهَذَا مَجْمُوعُ أَقْوَالِ النَّاسِ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، وَالَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ بالقلب ونفتقر هاهنا إِلَى شَرْحِ مَاهِيَّةِ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ فَنَقُولُ: إِنَّ مَنْ قَالَ الْعَالَمُ مُحْدَثٌ فَلَيْسَ مَدْلُولُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ كَوْنَ الْعَالَمِ مَوْصُوفًا بِالْحُدُوثِ، بَلْ مَدْلُولُهَا حُكْمُ ذَلِكَ الْقَائِلِ بِكَوْنِ الْعَالَمِ حَادِثًا، وَالْحُكْمُ بِثُبُوتِ الْحُدُوثِ لِلْعَالَمِ مُغَايِرٌ لِثُبُوتِ الْحُدُوثِ لِلْعَالَمِ فَهَذَا الْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ بِالثُّبُوتِ أَوْ بِالِانْتِفَاءِ أَمْرٌ يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي كُلِّ لُغَةٍ بِلَفْظٍ خَاصٍّ، وَاخْتِلَافُ الصِّيَغِ وَالْعِبَارَاتِ مَعَ كَوْنِ الْحُكْمِ الذِّهْنِيِّ أَمْرًا وَاحِدًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الذِّهْنِيَّ أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِهَذِهِ الصِّيَغِ وَالْعِبَارَاتِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ دَالَّةٌ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ وَالدَّالُّ غَيْرُ الْمَدْلُولِ، ثُمَّ نَقُولُ هَذَا الْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ غَيْرُ الْعِلْمِ، لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِالشَّيْءِ قَدْ يَحْكُمُ بِهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الذِّهْنِيَّ مُغَايِرٌ لِلْعِلْمِ، فَالْمُرَادُ مِنَ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ هُوَ هَذَا الْحُكْمُ الذهني، بقي هاهنا بَحْثٌ لَفْظِيٌّ وَهُوَ أَنَّ الْمُسَمَّى بِالتَّصْدِيقِ فِي اللُّغَةِ هُوَ ذَلِكَ الْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ أَمِ الصِّيغَةُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ الذِّهْنِيِّ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: الْإِيمَانُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ بِكُلِّ مَا عُرِفَ بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ

الِاعْتِقَادِ فَنَفْتَقِرُ فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْمَذْهَبِ إِلَى إِثْبَاتِ قُيُودٍ أَرْبَعَةٍ. الْقَيْدُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِلتَّصْدِيقِ، فَلَوْ صَارَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ لِغَيْرِ التَّصْدِيقِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ مُتَكَلِّمًا بِغَيْرِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ يُنَافِي وَصْفَ الْقُرْآنِ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا. الثَّانِي: أَنَّ الْإِيمَانَ أَكْثَرُ الْأَلْفَاظِ دَوَرَانًا عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَوْ صَارَ مَنْقُولًا إِلَى غَيْرِ مُسَمَّاهُ الْأَصْلِيِّ لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْمُسَمَّى، وَلَاشْتَهَرَ وَبَلَغَ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ بَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْوَضْعِ. الثَّالِثُ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُعَدَّى بِحَرْفِ الْبَاءِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ اللُّغَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْمُعَدَّى كَذَلِكَ. الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كُلَّمَا ذَكَرَ الْإِيمَانَ فِي الْقُرْآنِ أَضَافَهُ إِلَى الْقَلْبِ قَالَ: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [الْبَقَرَةِ: 41] وَقَوْلُهُ: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النَّحْلِ: 106] كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [الْمُجَادَلَةِ: 22] وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 14] الْخَامِسُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَيْنَمَا ذَكَرَ الْإِيمَانَ قَرَنَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ بِهِ وَلَوْ كَانَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ دَاخِلًا فِي الْإِيمَانِ لَكَانَ ذَلِكَ تَكْرَارًا. السَّادِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَثِيرًا ذَكَرَ الْإِيمَانَ وَقَرَنَهُ بِالْمَعَاصِي، قَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الْأَنْعَامِ: 82] وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ [الْحُجُرَاتِ: 9] وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [الْبَقَرَةِ: 178] مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِصَاصَ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ الْمُتَعَمِّدِ ثم إنه خاطبه بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [الْبَقَرَةِ: 178] وَهَذِهِ الْأُخُوَّةُ لَيْسَتْ إِلَّا أُخُوَّةَ الْإِيمَانِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الْحُجُرَاتِ: 10] وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ [الْبَقَرَةِ: 178] وَهَذَا لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْمُؤْمِنِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا [الْأَنْفَالِ: 72] هَذَا أَبْقَى اسْمَ الْإِيمَانِ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مَعَ عِظَمِ الْوَعِيدِ فِي تَرْكِ الْهِجْرَةِ فِي قوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النَّحْلِ: 28] وَقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا [الْأَنْفَالِ: 72] وَمَعَ هَذَا جَعَلَهُمْ مؤمنين ويدل أيضاً عليه قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: 1] وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [الأنفال: 27] وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التَّحْرِيمِ: 8] وَالْأَمْرُ بِالتَّوْبَةِ لِمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ مُحَالٌ وَقَوْلُهُ: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ [النُّورِ: 31] لَا يُقَالُ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُؤْمِنٍ مُذْنِبًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَوْلُنَا: هَبْ أَنَّهُ خَصَّ فِيمَا عَدَا الْمُذْنِبَ فَبَقِيَ فِيهِمْ حُجَّةٌ. الْقَيْدُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ التَّصْدِيقِ اللِّسَانِيِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [الْبَقَرَةِ: 8] نَفَى كَوْنَهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ عِبَارَةً عَنِ التَّصْدِيقِ اللِّسَانِيِّ لَمَا صَحَّ هَذَا النَّفْيُ. الْقَيْدُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ مُطْلَقِ التَّصْدِيقِ لِأَنَّ مَنْ صَدَّقَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا. الْقَيْدُ الرَّابِعُ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ بِجَمِيعِ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ

يَحْكُمُ بِإِيمَانِ مَنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا لِذَاتِهِ أَوْ بِالْعِلْمِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْقَيْدُ وَأَمْثَالُهُ شَرْطًا مُعْتَبَرًا فِي تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ لَمَا جَازَ أَنْ يَحْكُمَ الرَّسُولُ بِإِيمَانِهِ قَبْلَ أَنْ يُجَرِّبَهُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَعْرِفُ ذَلِكَ أَمْ لَا. فَهَذَا هُوَ بَيَانُ الْقَوْلِ في تحقيق الإيمان، فإن قال قائل: ها هنا صُورَتَانِ: الصُّورَةُ الْأُولَى: مَنْ عَرَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ وَلَمَّا تَمَّ الْعِرْفَانُ مَاتَ وَلَمْ يَجِدْ مِنَ الزَّمَانِ وَالْوَقْتِ مَا يَتَلَفَّظُ فِيهِ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ. فَهَهُنَا إِنْ حَكَمْتُمْ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَقَدْ حَكَمْتُمْ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ اللِّسَانِيَّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَإِنْ حَكَمْتُمْ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤْمِنٍ فَهُوَ بَاطِلٌ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ» وَهَذَا قَلْبٌ طَافِحٌ بِالْإِيمَانِ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا؟ الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: مَنْ عَرَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِالدَّلِيلِ وَوَجَدَ مِنَ الْوَقْتِ مَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهَا فَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّهُ مُؤْمِنٌ فَهُوَ خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَإِنْ قلتم ليس يؤمن فَهُوَ بَاطِلٌ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ» وَلَا يَنْتَفِي الْإِيمَانُ مِنَ الْقَلْبِ بِالسُّكُوتِ عَنِ النُّطْقِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْغَزَالِيَّ مَنَعَ مِنْ هَذَا الْإِجْمَاعِ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَحَكَمَ بِكَوْنِهِمَا مُؤْمِنَيْنِ، وَأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنِ النُّطْقِ يَجْرِي مَجْرَى الْمَعَاصِي الَّتِي يُؤْتَى بِهَا مَعَ الْإِيمَانِ. الْمَسْأَلَةُ الرابعة: قيل: بِالْغَيْبِ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامِ اسْمِ الْفَاعِلِ، كَالصَّوْمِ بِمَعْنَى الصَّائِمِ، وَالزَّوْرِ بِمَعْنَى الزَّائِرِ، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ- أَنَّ قَوْلَهُ: بِالْغَيْبِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ حَالَ الْغَيْبِ كَمَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَالَ الْحُضُورِ، لَا كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يُوسُفَ: 52] وَيَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: نِعْمَ الصَّدِيقُ لَكَ فُلَانٌ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَدْحٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِكَوْنِ ظَاهِرِهِمْ مُوَافِقًا لِبَاطِنِهِمْ وَمُبَايَنَتِهِمْ لِحَالِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْغَيْبَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ غَائِبًا عَنِ الْحَاسَّةِ ثُمَّ هَذَا الْغَيْبُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَإِلَى مَا لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. فَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَدْحُ الْمُتَّقِينَ بِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ بِأَنْ يَتَفَكَّرُوا وَيَسْتَدِلُّوا فَيُؤْمِنُوا بِهِ، وَعَلَى هَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الْعِلْمُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِصِفَاتِهِ وَالْعِلْمُ بِالْآخِرَةِ وَالْعِلْمُ بِالنُّبُوَّةِ وَالْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ وَبِالشَّرَائِعِ فَإِنَّ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الْعُلُومِ بِالِاسْتِدْلَالِ مَشَقَّةً فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الثَّنَاءِ الْعَظِيمِ. وَاحْتَجَّ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى قَوْلِهِ بِأُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [الْبَقَرَةِ: 4] إِيمَانٌ بِالْأَشْيَاءِ الْغَائِبَةِ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ هُوَ الْإِيمَانُ بِالْأَشْيَاءِ الْغَائِبَةِ لَكَانَ الْمَعْطُوفُ نَفْسَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ: الثَّانِي: لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ يَلْزَمُ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ/ الْإِنْسَانَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَامِ: 59] أَمَّا لَوْ فَسَّرْنَا الْآيَةَ بِمَا قُلْنَا لَا يَلْزَمُ هَذَا الْمَحْذُورُ الثَّالِثُ: لَفْظُ الْغَيْبِ إِنَّمَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ عَلَى مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحُضُورُ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْغَيْبِ عَلَى ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، فَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ لَمَا دَخَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَلَا يَبْقَى فِيهِ إِلَّا الْإِيمَانُ بِالْآخِرَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الرُّكْنَ الْعَظِيمَ فِي الْإِيمَانِ هُوَ الْإِيمَانُ بِذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنًى يَقْتَضِي خُرُوجَ الْأَصْلِ أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ لَمْ يَلْزَمْنَا هَذَا الْمَحْذُورُ.

وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ قَوْلَهُ: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يَتَنَاوَلُ الْإِيمَانَ بِالْغَائِبَاتِ عَلَى الْإِجْمَالِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يَتَنَاوَلُ الْإِيمَانَ بِبَعْضِ الْغَائِبَاتِ فَكَانَ هَذَا مِنْ بَابِ عَطْفِ التَّفْصِيلِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَهُوَ جَائِزٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: 98] وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّا نُؤْمِنُ بِالْأَشْيَاءِ الْغَائِبَةِ عَنَّا، فَكَانَ ذَلِكَ التَّخْصِيصُ لَازِمًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. فَإِنْ قِيلَ أَفَتَقُولُونَ: الْعَبْدُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ أَمْ لَا؟ قُلْنَا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْغَيْبَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَإِلَى مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ أَمَّا الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَالِمُ بِهِ لَا غَيْرُهُ، وَأَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَقُولَ: نَعْلَمُ مِنَ الْغَيْبِ مَا لَنَا عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَيُفِيدُ الْكَلَامُ فَلَا يَلْتَبِسُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: الِاسْتِدْلَالُ بِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ أَحَدُ أَقْسَامِ الْأَدِلَّةِ. وَعَنِ الثَّالِثِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ لَفْظَ الْغَيْبَةِ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِيمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحُضُورُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ بَابِ إِلْحَاقِ الْغَائِبِ بِالشَّاهِدِ. وَيُرِيدُونَ بِالْغَائِبِ ذَاتَ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ بَعْضُ الشِّيعَةِ: الْمُرَادُ بِالْغَيْبِ الْمَهْدِيُّ الْمُنْتَظَرُ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النُّورِ: 55] وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي وَكُنْيَتُهُ كُنْيَتِي يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا وَقِسْطًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا» وَاعْلَمْ أَنَّ تَخْصِيصَ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ الدَّلِيلِ بَاطِلٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ إِقَامَتَهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَعْدِيلِ أَرْكَانِهَا وَحِفْظِهَا مِنْ أَنْ يَقَعَ خَلَلٌ فِي فَرَائِضِهَا وَسُنَنِهَا وَآدَابِهَا، مِنْ أَقَامَ الْعُودَ إِذَا قَوَّمَهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ [الْمَعَارِجِ: 34] وَقَالَ: الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ [الْمَعَارِجِ: 23] مِنْ قَامَتِ السُّوقُ إِذَا نَفَقَتْ، وَإِقَامَتُهَا نَفَاقُهَا، لِأَنَّهَا إِذَا حُوفِظَ عَلَيْهَا كَانَتْ كَالشَّيْءِ النَّافِقِ الَّذِي تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الرَّغَبَاتُ، وَإِذَا أُضِيعَتْ كَانَتْ كَالشَّيْءِ الْكَاسِدِ الَّذِي لَا يُرْغَبُ فِيهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ التَّجَرُّدِ لِأَدَائِهَا وَأَنْ لَا يَكُونَ فِي مُؤَدِّيهَا فُتُورٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَامَ/ بِالْأَمْرِ، وَقَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقِهَا، وَفِي ضِدِّهِ: قَعَدَ عَنِ الْأَمْرِ، وَتَقَاعَدَ عَنْهُ إِذَا تَقَاعَسَ وَتَثَبَّطَ. وَرَابِعُهَا: إِقَامَتُهَا عِبَارَةٌ عَنْ أَدَائِهَا، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ الْأَدَاءِ بِالْإِقَامَةِ لِأَنَّ الْقِيَامَ بَعْضُ أَرْكَانِهَا كَمَا عَبَّرَ عَنْهَا بِالْقُنُوتِ وَبِالرُّكُوعِ وَبِالسُّجُودِ، وَقَالُوا: سَبَّحَ إِذَا صَلَّى، لِوُجُودِ التَّسْبِيحِ فِيهَا، قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ [الصَّافَّاتِ: 143] وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَوْلَى حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَحْصُلُ مَعَهُ مِنَ الثَّنَاءِ الْعَظِيمِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا حَمَلْنَا الْإِقَامَةَ عَلَى إِدَامَةِ فِعْلِهَا مِنْ غَيْرِ خَلَلٍ فِي أَرْكَانِهَا وَشَرَائِطِهَا، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْقَيِّمَ بِأَرْزَاقِ الْجُنْدِ إِنَّمَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ قَيِّمًا إِذَا أَعْطَى الْحُقُوقَ مِنْ دُونِ بَخْسٍ وَنَقْصٍ، وَلِهَذَا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَائِمٌ وَقَيُّومٌ، لِأَنَّهُ يَجِبُ دَوَامُ وُجُودِهِ، وَلِأَنَّهُ يُدِيمُ إِدْرَارَ الرِّزْقِ عَلَى عِبَادِهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: ذَكَرُوا فِي لَفْظِ الصَّلَاةِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّهَا الدُّعَاءُ قَالَ الشَّاعِرُ: وَقَابَلَهَا الرِّيحُ في دنها ... وصلى على دنها وارتشم وَثَانِيهَا: قَالَ الْخَارْزَنْجِيُّ. اشْتِقَاقُهَا مِنَ الصَّلَى، وَهِيَ النَّارُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: صَلَيْتُ الْعَصَا إِذَا قَوَّمْتُهَا بالصلى،

فَالْمُصَلِّي كَأَنَّهُ يَسْعَى فِي تَعْدِيلِ بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ مِثْلَ مَنْ يُحَاوِلُ تَقْوِيمَ الْخَشَبَةِ بِعَرْضِهَا عَلَى النَّارِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الصَّلَاةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُلَازَمَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَصْلى نَارًا حامِيَةً [الْغَاشِيَةِ: 4] سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ [الْمَسَدِ: 3] وَسُمِّيَ الْفَرَسُ الثَّانِي مِنْ أَفْرَاسِ الْمُسَابَقَةِ مُصَلِّيًا. وَرَابِعُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الصَّلَاةُ فَعْلَةٌ مِنْ «صَلَّى» كَالزَّكَاةِ مِنْ «زَكَّى» وَكَتَبْتُهَا بِالْوَاوِ عَلَى لَفْظِ الْمُفَخَّمِ، وَحَقِيقَةُ صَلَّى حَرَّكَ الصَّلَوَيْنِ، لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَفْعَلُ ذلك في ركوعه وسجوده، وقيل الداعي مصلي تَشْبِيهًا لَهُ فِي تَخَشُّعِهِ بِالرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ، وَأَقُولُ هاهنا بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الِاشْتِقَاقَ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» يُفْضِي إِلَى طَعْنٍ عَظِيمٍ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ حُجَّةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ مِنْ أَشَدِّ الْأَلْفَاظِ شُهْرَةً وَأَكْثَرِهَا دَوَرَانًا عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ تَحْرِيكِ الصَّلَوَيْنِ مِنْ أَبْعَدِ الْأَشْيَاءِ اشْتِهَارًا فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ النَّقْلِ، وَلَوْ جَوَّزْنَا أَنْ يُقَالَ: مُسَمَّى الصَّلَاةِ فِي الْأَصْلِ مَا ذَكَرَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ خَفِيَ وَانْدَرَسَ حَتَّى صَارَ بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْآحَادُ لَكَانَ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ جَائِزًا، وَلَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَمَا قَطَعْنَا بِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَا تَتَبَادَرُ أَفْهَامُنَا إِلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي فِي زَمَانِنَا هَذَا، لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ مَوْضُوعَةً لِمَعَانٍ أُخَرَ، وَكَانَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا تِلْكَ الْمَعَانِيَ، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْمَعَانِيَ خَفِيَتْ فِي زَمَانِنَا وَانْدَرَسَتْ كَمَا وَقَعَ مِثْلُهُ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلِمْنَا أَنَّ الِاشْتِقَاقَ الَّذِي ذَكَرَهُ مَرْدُودٌ بَاطِلٌ. الثَّانِي: الصَّلَاةُ فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ أَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا مُفْتَتَحَةٌ بِالتَّحْرِيمِ، مُخْتَتَمَةٌ بِالتَّحْلِيلِ، وَهَذَا الِاسْمُ يَقَعُ عَلَى الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ. لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْفَرْضُ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ الَّذِي يَقِفُ الْفَلَاحُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَيَّنَ لِلْأَعْرَابِيِّ صِفَةَ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الرِّزْقُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الْحَظُّ قَالَ تَعَالَى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَةِ: 82] أَيْ حَظَّكُمْ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، وَالْحَظُّ هُوَ نَصِيبُ الرَّجُلِ وَمَا هُوَ خَاصٌّ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: الرِّزْقُ كُلُّ شَيْءٍ يُؤْكَلُ أَوْ يُسْتَعْمَلُ، وَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِأَنْ نُنْفِقَ مِمَّا رَزَقَنَا فَقَالَ: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ [الرعد: 22] فَلَوْ كَانَ الرِّزْقُ هُوَ الَّذِي يُؤْكَلُ لَمَا أَمْكَنَ إِنْفَاقُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: الرِّزْقُ هُوَ مَا يُمْلَكُ وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي وَلَدًا صَالِحًا أَوْ زَوْجَةً صَالِحَةً وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْوَلَدَ وَلَا الزَّوْجَةَ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي عَقْلًا أَعِيشُ بِهِ وَلَيْسَ الْعَقْلُ بِمَمْلُوكٍ، وَأَيْضًا الْبَهِيمَةُ يَكُونُ لَهَا رِزْقٌ وَلَا يَكُونُ لَهَا مِلْكٌ. وَأَمَّا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: الرِّزْقُ هُوَ تَمْكِينُ الْحَيَوَانِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ وَالْحَظْرُ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، فَإِذَا قُلْنَا: قَدْ رَزَقَنَا اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْوَالَ، فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ مَكَّنَنَا مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَإِذَا سَأَلْنَاهُ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَنَا مَالًا فَإِنَّا نَقْصِدُ بِذَلِكَ أَنْ يَجْعَلَنَا بِالْمَالِ أَخَصَّ، وَإِذَا سَأَلْنَاهُ أَنْ يَرْزُقَ الْبَهِيمَةَ فَإِنَّا نَقْصِدُ بِذَلِكَ أَنْ يَجْعَلَهَا بِهِ أَخَصَّ، وَإِنَّمَا تَكُونُ بِهِ أَخَصَّ إِذَا مَكَّنَهَا مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَمَّا فَسَّرُوا الرِّزْقَ بِذَلِكَ لَا جَرَمَ قَالُوا: الْحَرَامُ لَا يَكُونُ رِزْقًا. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْحَرَامُ قَدْ يَكُونُ رِزْقًا، فَحُجَّةُ الْأَصْحَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الرِّزْقَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَمَنِ انْتَفَعَ بِالْحَرَامِ فَذَلِكَ الْحَرَامُ صَارَ حَظًّا وَنَصِيبًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رزقاً له

الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هُودٍ: 6] وَقَدْ يَعِيشُ الرَّجُلُ طُولَ عُمُرِهِ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنَ السَّرِقَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ طُولَ عُمُرِهِ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ رِزْقِهِ شَيْئًا. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدِ احْتَجُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْنَى: أَمَّا الْكِتَابُ فَوُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ مَدَحَهُمْ عَلَى الْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَوْ كَانَ الْحَرَامُ رِزْقًا لَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقُّوا الْمَدْحَ إِذَا أَنْفَقُوا مِنَ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَثَانِيهَا: لَوْ كَانَ الْحَرَامُ رِزْقًا لَجَازَ أَنْ يُنْفِقَ الْغَاصِبُ مِنْهُ، لِقَوْلِهِ تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة: 254] وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْغَاصِبِ أنه يُنْفِقَ مِمَّا أَخَذَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَرَامَ لَا يَكُونُ رِزْقًا. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ [يُونُسَ: 59] فَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ حَرَّمَ رِزْقَ اللَّهِ فَهُوَ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحَرَامَ لَا يَكُونُ رِزْقًا، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي كِتَابِ «الْغَرَرِ» بِإِسْنَادِهِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ. كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ عَمْرُو بْنُ قُرَّةَ فَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيَّ الشِّقْوَةَ فَلَا أَرَانِي أُرْزَقُ إِلَّا مِنْ دُفِّي بِكَفِّي فَائْذَنْ لِي فِي الْغِنَاءِ مِنْ غَيْرِ فَاحِشَةٍ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا إِذْنَ لَكَ وَلَا كَرَامَةَ وَلَا نِعْمَةَ كَذَبْتَ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ لَقَدْ رَزَقَكَ اللَّهُ رِزْقًا طَيِّبًا فَاخْتَرْتَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ رِزْقِهِ مَكَانَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ مِنْ حَلَالِهِ أَمَا إِنَّكَ لَوْ قُلْتَ بَعْدَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ شَيْئًا ضَرَبْتُكَ ضَرْبًا وَجِيعًا» وَأَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ الْمُكَلَّفَ مِنَ الانتفاع بالحرام وأمر غيره بمنعه منه والانتفاع به، من مَنَعَ مِنْ أَخْذِ الشَّيْءِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ رَزَقَهُ إِيَّاهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ إِنَّ/ السُّلْطَانَ قَدْ رَزَقَ جُنْدَهُ مَالًا قَدْ مَنَعَهُمْ مِنْ أَخْذِهِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: إِنَّهُ رَزَقَهُمْ مَا مَكَّنَهُمْ مِنْ أَخْذِهِ وَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْهُ وَلَا أَمَرَ بِمَنْعِهِمْ مِنْهُ، أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْآيَاتِ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ مِنَ اللَّهِ، لَكِنَّهُ كَمَا يُقَالُ: يَا خَالِقَ الْمُحْدَثَاتِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ، وَلَا يُقَالُ: يَا خَالِقَ الْكِلَابِ وَالْخَنَازِيرِ، وَقَالَ: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الْإِنْسَانِ: 6] فَخَصَّ اسْمَ الْعِبَادِ بِالْمُتَّقِينَ، وَإِنْ كَانَ الْكُفَّارُ أَيْضًا مِنَ الْعِبَادِ، وَكَذَلِكَ هاهنا خَصَّ اسْمَ الرِّزْقِ بِالْحَلَالِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ وَإِنْ كَانَ الْحَرَامُ رِزْقًا أَيْضًا، وَأَجَابُوا عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْخَبَرِ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ لَنَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَاخْتَرْتَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ رِزْقِهِ» صَرِيحٌ فِي أَنَّ الرِّزْقَ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا وَأَجَابُوا عَنِ الْمَعْنَى بِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَحْضُ اللُّغَةِ وَهُوَ أَنَّ الْحَرَامَ هَلْ يُسَمَّى رِزْقًا أَمْ لَا؟ وَلَا مَجَالَ لِلدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ فِي الْأَلْفَاظِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: أَصْلُ الْإِنْفَاقِ إِخْرَاجُ الْمَالِ مِنَ الْيَدِ، وَمِنْهُ نَفَقَ الْمَبِيعُ نَفَاقًا إِذَا كَثُرَ الْمُشْتَرُونَ لَهُ، وَنَفَقَتِ الدَّابَّةُ إِذَا مَاتَتْ أَيْ خَرَجَ رُوحُهَا، وَنَافِقَاءُ الْفَأْرَةِ لِأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْهَا وَمِنْهُ النَّفَقُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ [الْأَنْعَامِ: 35] . الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فِي قَوْلِهِ: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فَوَائِدُ: أَحَدُهَا: أَدْخَلَ مِنَ التَّبْعِيضِيَّةَ صيانة لهم، وكفى عَنِ: الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَثَانِيهَا: قَدَّمَ مَفْعُولَ الْفِعْلِ دَلَالَةً عَلَى كَوْنِهِ أَهَمَّ، كَأَنَّهُ قَالَ وَيَخُصُّونَ بَعْضَ الْمَالِ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ. وَثَالِثُهَا: يَدْخُلُ فِي الْإِنْفَاقِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، الْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ، وَالْإِنْفَاقُ الْمَنْدُوبُ، وَالْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ أَقْسَامٌ: أَحَدُهَا: الزَّكَاةُ وَهِيَ قَوْلُهُ فِي آيَةِ الْكَنْزِ: وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 34] . وَثَانِيهَا: الْإِنْفَاقُ عَلَى النَّفْسِ وَعَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ. وَثَالِثُهَا: الْإِنْفَاقُ فِي الْجِهَادِ. وَأَمَّا الْإِنْفَاقُ الْمَنْدُوبُ فَهُوَ أَيْضًا إِنْفَاقٌ لِقَوْلِهِ: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ وَأَرَادَ بِهِ الصَّدَقَةَ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ:

[سورة البقرة (2) : آية 4]

فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [الْمُنَافِقُونَ: 10] فَكُلُّ هَذِهِ الْإِنْفَاقَاتِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْآيَةِ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ سبب لاستحقاق المدح. [سورة البقرة (2) : آية 4] وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) اعْلَمْ أَنَّ قوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3] عَامٌّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُؤْمِنًا بِمُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، أَوْ مَا كَانَ مُؤْمِنًا بِهِمَا، وَدَلَالَةُ اللَّفْظِ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مَا دَخَلَ فِيهِ التَّخْصِيصُ أَضْعَفُ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ الْخَاصِّ عَلَى ذَلِكَ الْبَعْضِ، لِأَنَّ الْعَامَّ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ وَالْخَاصَّ لَا يَحْتَمِلُهُ فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةً، وَقَدْ شَرَّفَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 2، 3] فَذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالرَّسُولِ: كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَمْثَالِهِ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ لِأَنَّ فِي هَذَا التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ مَزِيدَ تَشْرِيفٍ لَهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: 98] ثُمَّ تَخْصِيصُ/ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَمْثَالِهِ بِهَذَا التَّشْرِيفِ تَرْغِيبٌ لِأَمْثَالِهِ فِي الدِّينِ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي ذِكْرِ هَذَا الْخَاصِّ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِّ، ثُمَّ نَقُولُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا نِزَاعَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ إِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّصْدِيقُ، فَإِذَا قُلْنَا فُلَانٌ آمَنَ بِكَذَا، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ صَدَّقَ بِهِ وَلَا يَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّهُ صَامَ وَصَلَّى، فَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ ها هنا التَّصْدِيقُ بِالِاتِّفَاقِ لَكِنْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنَ المعرفة لأن الإيمان ها هنا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ وَالْمُصَدِّقُ مَعَ الشَّكِّ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فَهُوَ إِلَى الذَّمِّ أَقْرَبُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنْ إِنْزَالِ الْوَحْيِ وَكَوْنِ الْقُرْآنِ مُنْزَلًا، وَمُنَزَّلًا، وَمَنْزُولًا بِهِ، أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمِعَ فِي السَّمَاءِ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى فَنَزَلَ عَلَى الرَّسُولِ بِهِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: نَزَلَتْ رِسَالَةُ الْأَمِيرِ مِنَ الْقَصْرِ، وَالرِّسَالَةُ لَا تَنْزِلُ لَكِنَّ الْمُسْتَمِعَ يَسْمَعُ الرِّسَالَةَ من علو فينزل ويؤدي في سفل. وقوله الْأَمِيرِ لَا يُفَارِقُ ذَاتَهُ، وَلَكِنَّ السَّامِعَ يَسْمَعُ فَيَنْزِلُ وَيُؤَدِّي بِلَفْظِ نَفْسِهِ، وَيُقَالُ فُلَانٌ يَنْقُلُ الْكَلَامَ إِذَا سَمِعَ فِي مَوْضِعٍ وَأَدَّاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ سَمِعَ جِبْرِيلُ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَلَامُهُ لَيْسَ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ عِنْدَكُمْ؟ قُلْنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ سَمْعًا لِكَلَامِهِ ثُمَّ أَقْدَرَهُ عَلَى عِبَارَةٍ يُعَبِّرُ بِهَا عَنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَلَقَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كِتَابَةً بِهَذَا النَّظْمِ الْمَخْصُوصِ فَقَرَأَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَحَفِظَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ أَصْوَاتًا مُقَطَّعَةً بِهَذَا النَّظْمِ الْمَخْصُوصِ فِي جِسْمٍ مَخْصُوصٍ فَيَتَلَقَّفَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَخْلُقَ لَهُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِأَنَّهُ هُوَ الْعِبَارَةُ الْمُؤَدِّيَةُ لِمَعْنَى ذَلِكَ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ هَذَا الْإِيمَانُ وَاجِبٌ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَةِ: 5] فَثَبَتَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا الْإِيمَانُ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مُفْلِحًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ وَاجِبٌ وَجَبَ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُومَ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عِلْمًا وَعَمَلًا إِلَّا إِذَا عَلِمَهُ عَلَى سَبِيلِ التفصيل، ولأنه إِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ، إِلَّا أَنَّ تَحْصِيلَ هَذَا الْعِلْمِ وَاجِبٌ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ، فَإِنَّ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ بِالشَّرَائِعِ النَّازِلَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْعَامَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ فَالْمُرَادُ بِهِ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا

[سورة البقرة (2) : آية 5]

قَبْلَ مُحَمَّدٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا تَعَبَّدَنَا الْآنَ بِهِ حَتَّى يُلْزِمَنَا مَعْرِفَتَهُ عَلَى التَّفْصِيلِ، بَلْ إِنْ عَرَفْنَا شَيْئًا مِنْ تَفَاصِيلِهِ فَهُنَاكَ يَجِبُ عَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِتِلْكَ التَّفَاصِيلِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآخِرَةُ صِفَةُ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنِ الدُّنْيَا وَقِيلَ لِلدُّنْيَا دُنْيَا لِأَنَّهَا أَدْنَى مِنَ الْآخِرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْيَقِينُ هُوَ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ بَعْدَ أَنْ كَانَ صَاحِبُهُ شَاكًّا فِيهِ، فَلِذَلِكَ لَا يَقُولُ الْقَائِلُ: تَيَقَّنْتُ وُجُودَ نَفْسِي، وَتَيَقَّنْتُ أَنَّ السَّمَاءَ فَوْقِي لِمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِهِ غَيْرُ مُسْتَدْرَكٍ، وَيُقَالُ ذَلِكَ فِي الْعِلْمِ/ الْحَادِثِ بِالْأُمُورِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ ضَرُورِيًّا أَوِ اسْتِدْلَالِيًّا، فَيَقُولُ الْقَائِلُ: تَيَقَّنْتُ مَا أَرَدْتُهُ بِهَذَا الْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ مُرَادَهُ بِالِاضْطِرَارِ، وَيَقُولُ تَيَقَّنْتُ أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَهُ بِالِاكْتِسَابِ، وَلِذَلِكَ لَا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ الْأَشْيَاءَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَهُمْ عَلَى كَوْنِهِمْ مُتَيَقِّنِينَ بِالْآخِرَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْدَحُ الْمَرْءُ بِأَنْ يَتَيَقَّنَ وُجُودَ الْآخِرَةِ فَقَطْ، بَلْ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ إِلَّا إِذَا تَيَقَّنَ وُجُودَ الْآخِرَةِ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْحِسَابِ وَالسُّؤَالِ وَإِدْخَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ، وَالْكَافِرِينَ النَّارَ. رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «يَا عَجَبًا كُلَّ الْعَجَبِ مِنَ الشَّاكِّ فِي اللَّهِ وَهُوَ يَرَى خَلْقَهُ، وَعَجَبًا مِمَّنْ يَعْرِفُ النَّشْأَةَ الْأُولَى ثُمَّ يُنْكِرُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ، وَعَجَبًا مِمَّنْ يُنْكِرُ الْبَعْثَ وَالنُّشُورَ وَهُوَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ يَمُوتُ وَيَحْيَا - يَعْنِي النَّوْمَ وَالْيَقَظَةَ- وَعَجَبًا مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِالْجَنَّةِ وَمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ ثُمَّ يَسْعَى لِدَارِ الْغُرُورِ، وَعَجَبًا مِنَ الْمُتَكَبِّرِ الْفَخُورِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ أَوَّلَهُ نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة» . [سورة البقرة (2) : آية 5] أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْوِيَ الِابْتِدَاءَ ب الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3] وذلك لأنه لما قيل: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] فَخَصَّ الْمُتَّقِينَ بِأَنَّ الْكِتَابَ هُدًى لَهُمْ كَانَ لِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ فَيَقُولَ: مَا السَّبَبُ فِي اخْتِصَاصِ الْمُتَّقِينَ بِذَلِكَ؟ فَوَقَعَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ إِلَى قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ جَوَابًا عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: الَّذِي يَكُونُ مشتغلًا بِالْإِيمَانِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْفَوْزِ بِالْفَلَاحِ وَالنَّجَاةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِ. وَثَانِيهَا: أَنْ لَا يَنْوِيَ الِابْتِدَاءَ بِهِ بَلْ يَجْعَلَهُ تَابِعًا لِلْمُتَّقِينَ ثُمَّ يَقَعُ الِابْتِدَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ كَأَنَّهُ قِيلَ أَيُّ سَبَبٍ فِي أَنْ صَارَ الْمَوْصُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مُخْتَصِّينَ بِالْهُدَى؟ فَأُجِيبَ بأن أولئك الموصوفون غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ أَنْ يَفُوزُوا دُونَ النَّاسِ بِالْهُدَى عَاجِلًا وَبِالْفَلَاحِ آجِلًا. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُجْعَلَ الْمَوْصُولُ الْأَوَّلُ صِفَةَ الْمُتَّقِينَ وَيُرْفَعَ الثَّانِي عَلَى الِابْتِدَاءِ وأُولئِكَ خَبَرُهُ وَيَكُونُ الْمُرَادُ جَعْلَ اخْتِصَاصِهِمْ بِالْفَلَاحِ وَالْهُدَى تَعْرِيضًا بِأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِنُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ ظَانُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى الْهُدَى وَطَامِعُونَ أَنَّهُمْ يَنَالُونَ الْفَلَاحَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ فِي قَوْلِهِ: عَلى هُدىً بَيَانٌ لِتَمَكُّنِهِمْ مِنَ الْهُدَى وَاسْتِقْرَارِهِمْ عَلَيْهِ حَيْثُ

شُبِّهَتْ حَالُهُمْ بِحَالِ مَنِ اعْتَلَى الشَّيْءَ وَرَكِبَهُ وَنَظِيرُهُ «فُلَانٌ عَلَى الْحَقِّ، أَوْ عَلَى الْبَاطِلِ» وَقَدْ صَرَّحُوا بِهِ فِي قَوْلِهِمْ: «جَعَلَ الْغِوَايَةَ مَرْكَبًا، وَامْتَطَى الْجَهْلَ» وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي كَوْنِهِمْ عَلَى الْهُدَى تَمَسُّكُهُمْ بِمُوجِبِ الدَّلِيلِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُتَمَسِّكِ بِالدَّلِيلِ أَنْ يَدُومَ عَلَى ذَلِكَ ويحرسه/ عن المطاعن والشبه فكأنه تعالى مدحهم بِالْإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ أَوَّلًا، وَمَدَحَهُمْ بِالْإِقَامَةِ عَلَى ذَلِكَ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى حِرَاسَتِهِ عَنِ الشُّبَهِ ثَانِيًا، وَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُتَشَدِّدًا فِي الدِّينِ خَائِفًا وَجِلًا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ فِي عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ، وَيَتَأَمَّلَ حَالَهُ فِيهِمَا فَإِذَا حَرَسَ نَفْسَهُ عَنِ الْإِخْلَالِ كَانَ مَمْدُوحًا بِأَنَّهُ عَلَى هُدًى وَبَصِيرَةٍ، وَإِنَّمَا نَكَّرَ هُدىً لِيُفِيدَ ضَرْبًا مُبْهَمًا لَا يُبْلَغُ كُنْهُهُ وَلَا يُقَدَّرُ قَدْرُهُ كَمَا يُقَالُ لَوْ أَبْصَرْتَ فَلَانًا لَأَبْصَرْتَ رَجُلًا. قَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الْهُدَى مِنَ اللَّهِ كَثِيرٌ، وَلَا يُبْصِرُهُ إِلَّا بَصِيرٌ، وَلَا يَعْمَلُ بِهِ إِلَّا يَسِيرٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ نُجُومَ السَّمَاءِ يُبْصِرُهَا الْبُصَرَاءُ، وَلَا يَهْتَدِي بِهَا إِلَّا الْعُلَمَاءُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَكْرِيرِ أُولئِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَمَا ثَبَتَ لَهُمُ الِاخْتِصَاصُ بِالْهُدَى ثَبَتَ لَهُمُ الِاخْتِصَاصُ بِالْفَلَاحِ أَيْضًا، فَقَدْ تَمَيَّزُوا عَنْ غَيْرِهِمْ بِهَذَيْنِ الِاخْتِصَاصَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ جَاءَ مَعَ الْعَاطِفِ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الْأَعْرَافِ: 179] قُلْنَا: قَدِ اخْتَلَفَ الْخَبَرَانِ هُنَا فَلِذَلِكَ دَخَلَ الْعَاطِفُ بِخِلَافِ الْخَبَرَيْنِ ثَمَّتَ فَإِنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ لِأَنَّ التَّسْجِيلَ عَلَيْهِمْ بِالْغَفْلَةِ وَتَشْبِيهَهُمْ بِالْبَهَائِمِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَكَانَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مُقَرِّرَةً لِمَا فِي الْأُولَى فَهِيَ مِنَ الْعَطْفِ بِمَعْزِلٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هُمُ فَصْلٌ وَلَهُ فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْوَارِدَ بَعْدَهُ خَبَرٌ لَا صِفَةٌ وَثَانِيَتُهُمَا: حَصْرُ الْخَبَرِ فِي الْمُبْتَدَأِ، فَإِنَّكَ لَوْ قُلْتَ الْإِنْسَانُ ضَاحِكٌ فَهَذَا لَا يُفِيدُ أَنَّ الضَّاحِكِيَّةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي الْإِنْسَانِ، أَمَّا لَوْ قُلْتَ: الْإِنْسَانُ هُوَ الضَّاحِكُ فَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الضَّاحِكِيَّةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي الْإِنْسَانِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَعْنَى التَّعْرِيفِ فِي الْمُفْلِحُونَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُتَّقِينَ هُمُ النَّاسُ الَّذِينَ بَلَغَكَ أَنَّهُمْ يُفْلِحُونَ فِي الْآخِرَةِ كَمَا إِذَا بَلَغَكَ أَنَّ إِنْسَانًا قَدْ تَابَ مِنْ أَهْلِ بَلَدِكَ فَاسْتَخْبَرْتَ مَنْ هُوَ؟ فَقِيلَ زَيْدٌ التَّائِبُ، أَيْ هُوَ الَّذِي أُخْبِرْتَ بِتَوْبَتِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُمُ الَّذِينَ إِنْ حَصَلَتْ صِفَةُ الْمُفْلِحُونَ فَهُمْ هُمْ، كَمَا تَقُولُ لِصَاحِبِكَ: هَلْ عَرَفْتَ الْأَسَدَ وَمَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنْ فَرْطِ الْإِقْدَامِ؟ إِنَّ زَيْدًا هُوَ هُوَ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْمُفْلِحُ الظَّافِرُ بِالْمَطْلُوبِ كَأَنَّهُ الَّذِي انْفَتَحَتْ لَهُ وُجُوهُ الظَّفَرِ وَلَمْ تَسْتَغْلِقْ عَلَيْهِ، وَالْمُفْلِجُ بِالْجِيمِ مِثْلُهُ، وَالتَّرْكِيبُ دَالٌّ عَلَى مَعْنَى الشَّقِّ وَالْفَتْحِ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الزَّرَّاعُ فَلَّاحًا، وَمَشْقُوقُ الشَّفَةِ السُّفْلَى أَفْلَحَ، وَفِي الْمَثَلِ «الْحَدِيدُ بِالْحَدِيدِ يُفْلَحُ» وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَهُمْ بِالْقِيَامِ بِمَا يَلْزَمُهُمْ عِلْمًا وَعَمَلًا بَيَّنَ نَتِيجَةَ ذَلِكَ وَهُوَ الظَّفَرُ بِالْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ النَّعِيمُ الدَّائِمُ مِنْ غَيْرِ شَوْبٍ عَلَى وَجْهِ الْإِجْلَالِ وَالْإِعْظَامِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الثَّوَابُ الْمَطْلُوبُ لِلْعِبَادَاتِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: هَذِهِ الْآيَاتُ يَتَمَسَّكُ الْوَعِيدِيَّةُ بِهَا مِنْ وَجْهٍ، وَالْمُرْجِئَةُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. أَمَّا الْوَعِيدِيَّةُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يَقْتَضِي الْحَصْرَ، فَوَجَبَ فِيمَنْ أَخَلَّ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَنْ لَا يَكُونَ مُفْلِحًا، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ عَلَى وَعِيدِ تَارِكِ الصَّلَاةِ/ وَالزَّكَاةِ. الثَّانِي: أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْفَلَاحِ هِيَ فِعْلَ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَمَنْ أَخَلَّ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ عِلَّةُ الْفَلَاحِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْفَلَاحُ. أَمَّا الْمُرْجِئَةُ فَقَدِ احْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ حَكَمَ

[سورة البقرة (2) : آية 6]

بِالْفَلَاحِ عَلَى الْمَوْصُوفِينَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُفْلِحًا وَإِنْ زَنَى وَسَرَقَ وَشَرِبَ الْخَمْرَ، وَإِذَا ثَبَتَ فِي هَذِهِ الطَّائِفَةِ تَحَقُّقُ الْعَفْوِ ثَبَتَ فِي غَيْرِهِمْ ضَرُورَةً، إِذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الِاحْتِجَاجَيْنِ مَعَارَضٌ بِالْآخَرِ فَيَتَسَاقَطَانِ، ثُمَّ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ الْوَعِيدِيَّةِ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ الْكَامِلُونَ فِي الْفَلَاحِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ غَيْرَ كَامِلٍ فِي الْفَلَاحِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ، فَإِنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ كَامِلًا فِي الْفَلَاحِ وَهُوَ غَيْرُ جَازِمٍ بِالْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ، بَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَكُونَ خَائِفًا مِنْهُ، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ نَفْيَ السَّبَبِ الْوَاحِدِ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُسَبَّبِ، فَعِنْدَنَا مِنْ أَسْبَابِ الْفَلَاحِ عَفْوُ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ: أَنَّ وَصْفَهُمْ بِالتَّقْوَى يَكْفِي فِي نَيْلِ الثَّوَابِ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ اتِّقَاءَ الْمَعَاصِي، وَاتِّقَاءَ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 6] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ نَحْوِيَّةً، وَمَسَائِلَ أُصُولِيَّةً، وَنَحْنُ نَأْتِي عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ إِنَّ حَرْفٌ وَالْحَرْفُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْعَمَلِ، لَكِنَّ هَذَا الْحَرْفَ أَشْبَهَ الْفِعْلَ صُورَةً وَمَعْنًى، وَتِلْكَ الْمُشَابَهَةُ تَقْتَضِي كَوْنَهَا عَامِلَةً، وَفِيهِ مُقَدِّمَاتٌ: الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: فِي بَيَانِ الْمُشَابَهَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمُشَابَهَةَ حَاصِلَةٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، أَمَّا فِي اللَّفْظِ فَلِأَنَّهَا تَرَكَّبَتْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ وَانْفَتَحَ آخِرُهَا وَلَزِمَتِ الْأَسْمَاءَ كَالْأَفْعَالِ، وَيَدْخُلُهَا نُونُ الْوِقَايَةِ نَحْوَ إِنَّنِي وَكَأَنَّنِي، كَمَا يَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ نَحْوَ: أَعْطَانِي وَأَكْرَمَنِي، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّهَا تُفِيدُ حُصُولَ مَعْنًى فِي الِاسْمِ وَهُوَ تَأَكُّدُ مَوْصُوفِيَّتِهِ بِالْخَبَرِ، كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: قَامَ زَيْدٌ، فَقَوْلُكَ قَامَ أَفَادَ حُصُولَ مَعْنًى فِي الِاسْمِ الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا لَمَّا أَشْبَهَتِ الْأَفْعَالَ وَجَبَ أَنْ تُشْبِهَهَا فِي الْعَمَلِ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ بِنَاءً عَلَى الدَّوَرَانِ الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ: فِي أَنَّهَا لِمَ نَصَبَتِ الِاسْمَ وَرَفَعَتِ الْخَبَرَ؟ وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا لَمَّا صَارَتْ عَامِلَةً فَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ مَعًا، أَوْ تَنْصِبَهُمَا مَعًا، أَوْ تَرْفَعَ الْمُبْتَدَأَ وَتَنْصِبَ الْخَبَرَ وَبِالْعَكْسِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ كَانَا قَبْلَ دُخُولِ إِنَّ عَلَيْهِمَا مَرْفُوعَيْنِ، فَلَوْ بَقِيَا كَذَلِكَ بَعْدَ دُخُولِهَا عَلَيْهِمَا لَمَا ظَهَرَ لَهُ أَثَرٌ الْبَتَّةَ، وَلِأَنَّهَا أُعْطِيَتْ عَمَلَ الْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ لَا يرفع الاسمين فلا معنى للاشتراك والفزع لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنَ الْأَصْلِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ هَذَا أَيْضًا مُخَالِفٌ لِعَمَلِ الْفِعْلِ، / لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَنْصِبُ شَيْئًا مَعَ خُلُوِّهِ عَمَّا يَرْفَعُهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ يَكُونُ عَمَلُهُ فِي الْفَاعِلِ أَوَّلًا بِالرَّفْعِ ثُمَّ فِي الْمَفْعُولِ بِالنَّصْبِ، فَلَوْ جُعِلَ الحرف هاهنا كَذَلِكَ لَحَصَلَتِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ. وَلَمَّا بَطَلَتِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ تَعَيَّنَ الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّهَا تَنْصِبُ الِاسْمَ وَتَرْفَعُ الْخَبَرَ، وَهَذَا مِمَّا يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ دَخِيلَةٌ فِي الْعَمَلِ لَا أَصْلِيَّةٌ، لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمَنْصُوبِ عَلَى الْمَرْفُوعِ فِي بَابِ الْفِعْلِ عُدُولٌ عَنِ الْأَصْلِ فذلك يدل هاهنا عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ لِهَذِهِ الْحُرُوفِ لَيْسَ بِثَابِتٍ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ بَلْ بِطَرِيقٍ عَارِضٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْبَصْرِيُّونَ: هَذَا الْحَرْفُ يَنْصِبُ الِاسْمَ وَيَرْفَعُ الْخَبَرَ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي رَفْعِ الْخَبَرِ بَلْ هُوَ مُرْتَفِعٌ بِمَا كَانَ مُرْتَفِعًا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ. حُجَّةُ الْبَصْرِيِّينَ: أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ تُشْبِهُ الْفِعْلَ مُشَابَهَةً تَامَّةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَالْفِعْلُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، فَهَذِهِ الْحُرُوفُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ. وَحَجَّةُ الْكُوفِيِّينَ مِنْ

وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَى الْخَبَرِيَّةِ باقٍ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ وَهُوَ أَوْلَى بِاقْتِضَاءِ الرَّفْعِ فَتَكُونُ الْخَبَرِيَّةُ رَافِعَةً، وَإِذَا كَانَتِ الْخَبَرِيَّةُ رَافِعَةً اسْتَحَالَ ارتفاعه بهذه الحروف، فهذه مقدمات ثلاثة: أحدها: قَوْلُنَا: الْخَبَرِيَّةُ بَاقِيَةٌ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْخَبَرِيَّةِ كَوْنُ الْخَبَرِ مُسْنَدًا إِلَى الْمُبْتَدَأِ، وَبَعْدَ دُخُولِ حَرْفِ «إِنَّ» عَلَيْهِ فَذَاكَ الْإِسْنَادُ باقٍ. وثانيها: قولنا: الخبرية هاهنا مُقْتَضِيَةٌ لِلرَّفْعِ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَبَرِيَّةَ كَانَتْ قَبْلَ دُخُولِ «إِنَّ» مُقْتَضِيَةً لِلرَّفْعِ وَلَمْ يَكُنْ عَدَمُ الْحَرْفِ هُنَاكَ جُزْءًا مِنَ الْمُقْتَضَى لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جُزْءَ الْعِلَّةِ، فَبَعْدَ دُخُولِ هَذِهِ الْحُرُوفِ كَانَتِ الْخَبَرِيَّةُ مُقْتَضِيَةً لِلرَّفْعِ، لِأَنَّ الْمُقْتَضَى بِتَمَامِهِ لَوْ حَصَلَ وَلَمْ يُؤَثِّرْ لَكَانَ ذَلِكَ لِمَانِعٍ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُنَا: الْخَبَرِيَّةُ أَوْلَى بِالِاقْتِضَاءِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَوْنَهُ خَبَرًا وَصْفٌ حَقِيقِيٌّ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَذَلِكَ الْحَرْفُ أَجْنَبِيٌّ مُبَايِنٌ عَنْهُ وَكَمَا أَنَّهُ مُبَايِنٌ عَنْهُ فَغَيْرُ مُجَاوِرٍ لَهُ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَخَلَّلُهُمَا. الثَّانِي: أَنَّ الْخَبَرَ يُشَابِهُ الْفِعْلَ مُشَابَهَةً حَقِيقِيَّةً مَعْنَوِيَّةً وَهُوَ كَوْنُ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْنَدًا إِلَى الْغَيْرِ، أَمَّا الْحَرْفُ فَإِنَّهُ لَا يُشَابِهُ الْفِعْلَ فِي وَصْفٍ حَقِيقِيٍّ مَعْنَوِيٍّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِسْنَادٌ، فَكَانَتْ مُشَابَهَةُ الْخَبَرِ لِلْفِعْلِ أَقْوَى مِنْ مُشَابَهَةِ هَذَا الْحَرْفِ لِلْفِعْلِ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَتِ الْخَبَرِيَّةُ بِاقْتِضَاءِ الرَّفْعِ لِأَجْلِ مُشَابَهَةِ الْفِعْلِ أَوْلَى مِنَ الْحَرْفِ بِسَبَبِ مُشَابَهَتِهِ لِلْفِعْلِ وَرَابِعُهَا: لَمَّا كَانَتِ الْخَبَرِيَّةُ أَقْوَى فِي اقْتِضَاءِ الرَّفْعِ اسْتَحَالَ كَوْنُ هَذَا الْحَرْفِ رَافِعًا، لِأَنَّ الْخَبَرِيَّةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الْحَرْفِ أَوْلَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ الْحُكْمُ بالخبرية قبل حصول هذا الحرف، فيعد وُجُودِ هَذَا الْحَرْفِ لَوْ أُسْنِدَ هَذَا الْحُكْمُ إِلَيْهِ لَكَانَ ذَلِكَ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ، وَهُوَ مُحَالٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ سِيبَوَيْهِ وَافَقَ عَلَى أَنَّ الْحَرْفَ غَيْرُ أَصْلٍ فِي الْعَمَلِ فَيَكُونُ إِعْمَالُهُ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، وَمَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِإِعْمَالِهَا فِي الِاسْمِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْمِلَهَا فِي الخبر. المسألة الثالثة: [في إشكال الكندي المتفلسف في وجود الحشو في كلام العرب] رَوَى الْأَنْبَارِيُّ أَنَّ الْكِنْدِيَّ الْمُتَفَلْسِفَ رَكِبَ إِلَى الْمُبَرِّدِ وَقَالَ: إِنِّي أَجِدُ/ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَشْوًا، أَجِدُ الْعَرَبَ تَقُولُ: عَبْدُ اللَّهِ قَائِمٌ، ثُمَّ تَقُولُ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَائِمٌ، ثُمَّ تَقُولُ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ لَقَائِمٌ، فَقَالَ الْمُبَرِّدُ: بَلِ الْمَعَانِي مُخْتَلِفَةٌ لِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ، فَقَوْلُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ قَائِمٌ إِخْبَارٌ عَنْ قِيَامِهِ، وَقَوْلُهُمْ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَائِمٌ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالِ سَائِلٍ، وَقَوْلُهُمْ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ لَقَائِمٌ جَوَابٌ عَنْ إِنْكَارِ مُنْكِرٍ لِقِيَامِهِ، وَاحْتَجَّ عَبْدُ الْقَاهِرِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ بِأَنَّهَا إِنَّمَا تُذْكَرُ جَوَابًا لِسُؤَالِ السَّائِلِ بِأَنْ قَالَ إِنَّا رَأَيْنَاهُمْ قَدْ أَلْزَمُوهَا الْجُمْلَةَ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ إِذَا كَانَ جَوَابًا لِلْقَسَمِ نَحْوَ وَاللَّهِ إِنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ وَيَدُلُّ عليه من التنزيل قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ [الْكَهْفِ: 83] وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ [الْكَهْفِ: 13] وَقَوْلُهُ: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [الشُّعَرَاءِ: 216] وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْأَنْعَامِ: 56] وَقَوْلُهُ: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [الحجر: 89] وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُجِيبَ بِهِ الْكُفَّارَ فِي بَعْضِ مَا جَادَلُوا ونظروا فيه، وعليه قوله: أْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: 16] وقوله: وَقالَ مُوسى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْأَعْرَافِ: 104] وَفِي قِصَّةِ السَّحَرَةِ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ [الْأَعْرَافِ: 125] إِذْ مِنَ الظَّاهِرِ أَنَّهُ جَوَابُ فِرْعَوْنَ عَنْ قَوْلُهُ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [طه: 71 الشعراء: 49] وَقَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ وَإِذَا كَانَ الْخَبَرُ بِأَمْرٍ لَيْسَ لِلْمُخَاطَبِ ظَنٌّ فِي خِلَافِهِ لَمْ يُحْتَجْ هُنَاكَ إِلَى «إِنَّ» وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا إِذَا كَانَ السَّامِعُ ظَنَّ الْخِلَافَ، وَلِذَلِكَ تَرَاهَا تَزْدَادُ حُسْنًا

إِذَا كَانَ الْخَبَرُ بِأَمْرٍ يَبْعُدُ مِثْلُهُ كَقَوْلِ أبي نواس: عليك بِالْيَأْسِ مِنَ النَّاسِ ... إِنَّ غِنَى نَفْسِكَ فِي الْيَاسِ وَإِنَّمَا حَسُنَ مَوْقِعُهَا لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ النَّاسَ لَا يَحْمِلُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْيَأْسِ. وَأَمَّا جَعْلُهَا مَعَ اللَّامِ جَوَابًا لِلْمُنْكِرِ فِي قَوْلِكَ: «إِنَّ زَيْدًا لَقَائِمٌ» فَجَيِّدٌ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ مَعَ الْمُنْكَرِ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّأْكِيدِ أَشَدَّ، وَكَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْكَارُ مِنَ السَّامِعِ احْتَمَلَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَاضِرِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّهَا قَدْ تَجِيءُ إِذَا ظَنَّ الْمُتَكَلِّمُ فِي الَّذِي وَجَدَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مِثْلُ قَوْلِكَ: إِنَّهُ كَانَ مِنِّي إِلَيْهِ إِحْسَانٌ فَعَامَلَنِي بِالسُّوءِ، فَكَأَنَّكَ تَرُدُّ عَلَى نَفْسِكَ ظَنَّكَ الَّذِي ظَنَنْتَ وَتُبَيِّنُ الْخَطَأَ فِي الَّذِي تَوَهَّمْتَ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أُمِّ مَرْيَمَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آلِ عِمْرَانَ: 36] وَكَذَلِكَ قَوْلُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ [الشُّعَرَاءِ: 117] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ كَفَرُوا فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ صَعْبٌ عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ ذِكْرُ حَدِّ الْكُفْرِ، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا يُنْقَلُ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَيْهِ وَقَالَ بِهِ فَإِمَّا أَنْ يُعْرَفَ صِحَّةُ ذَلِكَ النَّقْلِ بِالضَّرُورَةِ أَوْ بِالِاسْتِدْلَالِ أَوْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي عُرِفَ بِالضَّرُورَةِ مَجِيءُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِ فَمَنْ صَدَّقَهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ فِي ذَلِكَ، فَإِمَّا بِأَنْ لَا يُصَدِّقَهُ فِي جَمِيعِهَا أَوْ بِأَنْ لَا يُصَدِّقَهُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، فَذَلِكَ هُوَ الْكَافِرُ، فَإِذَنِ الْكُفْرُ عَدَمُ تَصْدِيقِ/ الرَّسُولِ فِي شَيْءٍ مِمَّا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مَجِيئُهُ بِهِ، وَمِثَالُهُ مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَ الصَّانِعِ، أَوْ كَوْنَهُ عَالِمًا قَادِرًا مُخْتَارًا أَوْ كَوْنَهُ وَاحِدًا أَوْ كَوْنَهُ مُنَزَّهًا عَنِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ، أو أنكر محمد صلى الله عليه وسلم أن صِحَّةَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَوْ أَنْكَرَ الشَّرَائِعَ الَّتِي عَلِمْنَا بِالضَّرُورَةِ كَوْنَهَا مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَحُرْمَةِ الرِّبَا وَالْخَمْرِ، فَذَلِكَ يَكُونُ كَافِرًا، لِأَنَّهُ تَرَكَ تَصْدِيقَ الرَّسُولِ فِيمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أنه من دينه. فأما الذي يعرف بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ مِنْ دِينِهِ مِثْلُ كَوْنِهِ عَالِمًا بِالْعِلْمِ أَوْ لِذَاتِهِ وَأَنَّهُ مَرْئِيٌّ أَوْ غَيْرُ مَرْئِيٍّ، وَأَنَّهُ خَالِقٌ أَعْمَالَ الْعِبَادِ أَمْ لَا فَلَمْ يُنْقَلْ بِالتَّوَاتُرِ الْقَاطِعِ لِعُذْرِ مَجِيئِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ دُونَ الثَّانِي، بَلْ إِنَّمَا يُعْلَمُ صِحَّةُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَبُطْلَانُ الثَّانِي بِالِاسْتِدْلَالِ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَكُنْ إِنْكَارُهُ، وَلَا الْإِقْرَارُ بِهِ دَاخِلًا فِي مَاهِيَّةِ الْإِيمَانِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْكُفْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ جُزْءَ مَاهِيَّةِ الْإِيمَانِ لَكَانَ يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَحْكُمَ بِإِيمَانِ أَحَدٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ هَلْ يَعْرِفُ الْحَقَّ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَاشْتُهِرَ قَوْلُهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَلَنُقِلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاتُرِ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا وَقَّفَ الْإِيمَانَ عَلَيْهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ مَعْرِفَتُهَا مِنَ الْإِيمَانِ، وَلَا إِنْكَارُهَا مُوجِبًا لِلْكُفْرِ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ لَا يُكَفَّرُ أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا نُكَفِّرُ أَرْبَابَ التَّأْوِيلِ. وَأَمَّا الَّذِي لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِرِوَايَةِ الْآحَادِ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَوَقُّفُ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ عَلَيْهِ. فَهَذَا قَوْلُنَا فِي حَقِيقَةِ الْكُفْرِ. فَإِنْ قِيلَ يَبْطُلُ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ جِهَةِ الْعَكْسِ بِلُبْسِ الْغِيَارِ وَشَدِّ الزُّنَّارِ وَأَمْثَالِهِمَا فَإِنَّهُ كَفَرَ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ آخَرُ سِوَى تَرْكِ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مَجِيئُهُ بِهِ، قُلْنَا هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ كُفْرًا لِأَنَّ التَّصْدِيقَ وَعَدَمَهُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا اطِّلَاعَ لِلْخَلْقِ عَلَيْهِ، وَمِنْ عَادَةِ الشَّرْعِ أَنَّهُ لَا يَبْنِي الْحُكْمَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى نَفْسِ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الِاطِّلَاعِ، بَلْ يَجْعَلُ لَهَا مُعَرِّفَاتٍ وَعَلَامَاتٍ ظَاهِرَةً وَيَجْعَلُ تِلْكَ الْمَظَانَّ الظَّاهِرَةَ مَدَارًا لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَيْسَ الْغِيَارُ وَشَدُّ الزُّنَّارِ مِنْ هَذَا الْبَابِ،

فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَنْ يُصَدِّقُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ، فَحَيْثُ أَتَى بِهَا دَلَّ عَلَى عَدَمِ التَّصْدِيقِ فَلَا جَرَمَ الشَّرْعُ يُفَرِّعُ الْأَحْكَامَ عَلَيْهَا، لَا أَنَّهَا فِي أَنْفُسِهَا كُفْرٌ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْمُلَخَّصُ فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِخْبَارٌ عَنْ كُفْرِهِمْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَالْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي يَقْتَضِي كَوْنَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ مُتَقَدِّمًا عَلَى ذَلِكَ الْإِخْبَارِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: احْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ شَيْءٍ مَاضٍ مِثْلَ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحِجْرِ: 9] ، إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: 1] ، إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً [نُوحٍ: 1] عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُحْدَثٌ سَوَاءٌ كَانَ الْكَلَامُ هَذِهِ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتِ أَوْ كَانَ شَيْئًا آخَرَ. قَالُوا لِأَنَّ الْخَبَرَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ صِدْقًا إِلَّا إِذَا كَانَ مَسْبُوقًا بِالْخَبَرِ عَنْهُ، وَالْقَدِيمُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالْغَيْرِ فَهَذَا الْخَبَرُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا، أَجَابَ الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْكَلَامِ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ/ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ فِي الْأَزَلِ عَالِمًا بِأَنَّ الْعَالَمَ سَيُوجَدُ، فَلَمَّا أَوْجَدَهُ انْقَلَبَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ سَيُوجَدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عِلْمًا بِأَنَّهُ قَدْ حَدَثَ فِي الْمَاضِي وَلَمْ يَلْزَمْ حُدُوثُ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ كَانَ خَبَرًا بِأَنَّهُمْ سَيَكْفُرُونَ فَلَمَّا وُجِدَ كُفْرُهُمْ صَارَ ذَلِكَ الْخَبَرُ خَبَرًا عَنْ أَنَّهُمْ قَدْ كَفَرُوا وَلَمْ يَلْزَمْ حُدُوثُ خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ [الْفَتْحِ: 27] فَلَمَّا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْقَلِبَ ذَلِكَ الْخَبَرُ إِلَى أَنَّهُمْ قَدْ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَغَيَّرَ الْخَبَرُ الْأَوَّلُ، فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ فِي مَسْأَلَتِنَا مِثْلُهُ؟ أَجَابَ الْمُسْتَدِلُّ أَوَّلًا عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ فَقَالَ: عِنْدَ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَأَصْحَابِهِ الْعِلْمُ يَتَغَيَّرُ عِنْدَ تَغَيُّرِ الْمَعْلُومَاتِ، وَكَيْفَ لَا وَالْعِلْمُ بِأَنَّ الْعَالَمَ غَيْرُ مَوْجُودٍ وَأَنَّهُ سَيُوجَدُ لَوْ بَقِيَ حَالَ وُجُودِ الْعَالَمِ لَكَانَ ذَلِكَ جَهْلًا لَا عِلْمًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ تَغَيُّرُ ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَعَلَى هَذَا سَقَطَتْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامَهُ أَصْوَاتٌ مَخْصُوصَةٌ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ فِي الْوَقْتِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى دُخُولِ الْمَسْجِدِ لَا أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ بَعْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، فَنَظِيرُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا أَنْ يُقَالَ إِنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا تَكَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بَعْدَ صُدُورِ الْكُفْرِ عَنْهُمْ لَا قَبْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ مَتَى قِيلَ ذَلِكَ كَانَ اعْتِرَافًا بِأَنَّ تَكَلُّمَهُ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا فِي الْأَزَلِ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ، أَجَابَ الْقَائِلُونَ بِالْقِدَمِ بِأَنَّا لَوْ قُلْنَا إِنَّ الْعِلْمَ يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْمَعْلُومِ لَكُنَّا إِمَّا أَنْ نَقُولَ بِأَنَّ الْعَالَمَ سَيُوجَدُ كَانَ حَاصِلًا فِي الْأَزَلِ أَوْ مَا كَانَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا فِي الْأَزَلِ كَانَ ذَلِكَ تَصْرِيحًا بِالْجَهْلِ. وَذَلِكَ كُفْرٌ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ كَانَ حَاصِلًا فَزَوَالُهُ يَقْتَضِي زَوَالَ الْقَدِيمِ، وَذَلِكَ سَدُّ بَابِ إِثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا صِيغَةٌ لِلْجَمْعِ مَعَ لَامِ التَّعْرِيفِ وَهِيَ لِلِاسْتِغْرَاقِ بِظَاهِرِهِ ثُمَّ إِنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهَا هَذَا الظَّاهِرَ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكُفَّارِ أَسْلَمُوا فَعَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَتَكَلَّمُ بِالْعَامِّ وَيَكُونُ مُرَادُهُ الْخَاصَّ، إِمَّا لِأَجْلِ أَنَّ الْقَرِينَةَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ ذَلِكَ الْخُصُوصُ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَسُنَ ذَلِكَ لِعَدَمِ التَّلْبِيسِ وَظُهُورِ الْمَقْصُودِ، وَمِثَالُهُ مَا إِذَا كَانَ لِلْإِنْسَانِ فِي الْبَلَدِ جَمْعٌ مَخْصُوصٌ مِنَ الْأَعْدَاءِ، فَإِذَا قَالَ «إِنَّ النَّاسَ يُؤْذُونَنِي» فَهِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ مُرَادَهُ مِنَ النَّاسِ ذَلِكَ الْجَمْعُ عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِمَّا لِأَجْلِ أَنَّ التَّكَلُّمَ بِالْعَامِّ لِإِرَادَةِ الْخَاصِّ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْبَيَانُ مَقْرُونًا بِهِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَأْخِيرَ بَيَانِ

التَّخْصِيصِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِشَيْءٍ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ عَلَى الْقَطْعِ بِالِاسْتِغْرَاقِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا هُوَ الْخَاصُّ وَكَانَتِ الْقَرِينَةُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرَةً فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا جَرَمَ حَسُنَ ذَلِكَ، وَأَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: لَوْ وُجِدَتْ هَذِهِ الْقَرِينَةُ لَعَرَفْنَاهَا وَحَيْثُ لَمْ نَعْرِفْهَا عَلِمْنَا أَنَّهَا مَا وُجِدَتْ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِعَدَمِ الْوِجْدَانِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُودِ مِنْ أَضْعَفِ الْأَمَارَاتِ الْمُفِيدَةِ لِلظَّنِّ فَضْلًا عَنِ الْقَطْعِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ اسْتِدْلَالَ الْمُعْتَزِلَةِ بِعُمُومَاتِ الْوَعِيدِ عَلَى الْقَطْعِ بِالْوَعِيدِ فِي نِهَايَةِ الضَّعْفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَمِنَ الْمُعْتَزِلَةِ مَنِ/ احْتَالَ فِي دَفْعِ ذَلِكَ فَقَالَ إن قوله: إن الذين كفروا لا يؤمنون كَالنَّقِيضِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُؤْمِنُونَ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُؤْمِنُونَ لَا يَصْدُقُ إِلَّا إِذَا آمَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ فِي جَانِبِ الثُّبُوتِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ وَجَبَ أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ فِي جَانِبِ النَّفْيِ عَلَى الْعُمُومِ بَلْ يَكْفِي فِي صِدْقِهِ أَنْ لَا يَصْدُرَ الْإِيمَانُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ مَتَى لَمْ يُؤْمِنْ وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ الْجَمْعِ ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ الْجَمْعَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا يُؤْمِنُونَ يَكْفِي فِي إِجْرَائِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنْ لَا يُؤْمِنَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَكَيْفَ إِذَا لَمْ يُؤْمِنِ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا صِيغَةُ الْجَمْعِ وَقَوْلَهُ: لَا يُؤْمِنُونَ أَيْضًا صِيغَةُ جَمْعٍ وَالْجَمْعُ إِذَا قُوبِلَ بِالْجَمْعِ تَوَزَّعَ الْفَرْدُ عَلَى الْفَرْدِ فَمَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يُؤْمِنُ وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْكَلَامُ الْمَذْكُورُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي المراد هاهنا بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا فَقَالَ قَائِلُونَ: إِنَّهُمْ رُؤَسَاءُ الْيَهُودِ الْمُعَانِدُونَ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ يَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ قَوْمٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، كَأَبِي لَهَبٍ وَأَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَضْرَابِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ جَحَدُوا بَعْدَ الْبَيِّنَةِ، وَأَنْكَرُوا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ وَنَظِيرُهُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فُصِّلَتْ: 4، 5] وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَرِيصًا عَلَى أَنْ يُؤْمِنَ قَوْمُهُ جَمِيعًا حَيْثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الْكَهْفِ: 6] وَقَالَ: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يُونُسَ: 99] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ لِيَقْطَعَ طَمَعَهُ عَنْهُمْ وَلَا يَتَأَذَّى بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْيَأْسَ إِحْدَى الرَّاحَتَيْنِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : سَواءٌ اسْمٌ بِمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ وُصِفَ بِهِ كَمَا يوصف بالمصادر ومنه قَوْلُهُ تَعَالَى: تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 64] فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ [فُصِّلَتْ: 10] بِمَعْنَى مُسْتَوِيَةٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُسْتَوٍ عَلَيْهِمْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي ارْتِفَاعِ سَوَاءٌ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ارتفاعه على أنه خبر لأن وأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ بِهِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُسْتَوٍ عَلَيْهِمْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُهُ كَمَا تَقُولُ: إِنَّ زَيْدًا مُخْتَصِمٌ أَخُوهُ وَابْنُ عَمِّهِ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ فِي مَوْضِعِ الِابْتِدَاءِ وَسَوَاءٌ خَبَرُهُ مُقَدَّمًا بِمَعْنَى سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُهُ وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ لِإِنَّ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ الثَّانِيَ أَوْلَى، لِأَنَّ «سَوَاءٌ» اسْمٌ، وَتَنْزِيلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْفِعْلِ يَكُونُ تَرْكًا لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُرَادَ وَصْفُ الْإِنْذَارِ وَعَدَمُ الْإِنْذَارِ بِالِاسْتِوَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَوَاءٌ خَبَرًا فَيَكُونُ الْخَبَرُ مُقَدَّمًا. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أن

تَقْدِيمَ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ جَائِزٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ [الْجَاثِيَةِ: 21] وَرَوَى سِيبَوَيْهِ قَوْلَهُمْ: «تَمِيمِيٌّ أَنَا» / «وَمَشْنُوءٌ مَنْ يَشْنَؤُكَ» أَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُجَوِّزُونَهُ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْمُبْتَدَأُ ذَاتٌ، وَالْخَبَرُ صِفَةٌ، وَالذَّاتُ قَبْلَ الصِّفَةِ بِالِاسْتِحْقَاقِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهَا فِي اللَّفْظِ قِيَاسًا عَلَى تَوَابِعِ الْإِعْرَابِ وَالْجَامِعُ التَّبَعِيَّةُ الْمَعْنَوِيَّةُ. الثَّانِي: أَنَّ الْخَبَرَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَضَمَّنَ الضَّمِيرَ، فَلَوْ قُدِّمَ الْخَبَرُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لَوُجِدَ الضَّمِيرُ قَبْلَ الذِّكْرِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ هُوَ اللَّفْظُ الَّذِي أُشِيرَ بِهِ إِلَى أَمْرٍ مَعْلُومٍ، فَقَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ امْتَنَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، فَكَانَ الْإِضْمَارُ قَبْلَ الذِّكْرِ مُحَالًا، أَجَابَ الْبَصْرِيُّونَ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ تَقَدُّمُ الْمُبْتَدَأِ أَوْلَى، لَا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْإِضْمَارَ قَبْلَ الذِّكْرِ وَاقِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، كَقَوْلِهِمْ: «فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ» قَالَ تَعَالَى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى [طه: 67] وَقَالَ زُهَيْرٌ: مَنْ يَلْقَ يَوْمًا عَلَى عِلَّاتِهِ هَرِمًا ... يَلْقَ السَّمَاحَةَ مِنْهُ وَالنَّدَى خُلُقًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لَا يُخْبَرُ عَنْهُ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ: خَرَجَ ضَرَبَ لَمْ يَكُنْ آتِيًا بِكَلَامٍ مُنْتَظِمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَحَ فِيهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ فِعْلٌ وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ [يُوسُفَ: 35] فَاعِلُ «بَدَا» هُوَ «لَيَسْجُنُنَّهُ» وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ فِعْلٌ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِعْلًا، فَالْفِعْلُ قَدْ أُخْبِرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ فِعْلٌ فَإِنْ قِيلَ: الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ فِعْلٌ هُوَ تِلْكَ الْكَلِمَةُ، وَتِلْكَ الْكَلِمَةُ اسْمٌ قُلْنَا فَعَلَى هَذَا: الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ فِعْلٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلًا بَلِ اسْمًا كَانَ هَذَا الْخَبَرُ كَذِبًا، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ فِعْلٌ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمًا أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ هَذَا الْخَبَرُ كَذِبًا، لِأَنَّ الِاسْمَ لَا يَكُونُ فِعْلًا، وَإِنْ كَانَ فِعْلًا فَقَدْ صَارَ الْفِعْلُ مُخْبَرًا عَنْهُ وَثَالِثُهَا: أَنَّا إِذَا قُلْنَا: الْفِعْلُ لَا يُخْبَرُ عَنْهُ فَقَدْ أَخْبَرْنَا عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يُخْبَرُ عَنْهُ، وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ بِهَذَا الْخَبَرِ لَوْ كَانَ اسْمًا لَزِمَ أَنَّا قَدْ أَخْبَرْنَا عَنِ الِاسْمِ بِأَنَّهُ لَا يُخْبَرُ عَنْهُ، وَهَذَا خَطَأٌ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا صَارَ الْفِعْلُ مُخْبَرًا عَنْهُ ثُمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إِلَى تَرْكِ الظَّاهِرِ. أَمَّا جُمْهُورُ النَّحْوِيِّينَ فَقَدْ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِخْبَارُ عَنِ الْفِعْلِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ التَّقْدِيرُ: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُ إِنْذَارِكَ، فَإِنْ قِيلَ الْعُدُولُ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِفَائِدَةٍ زَائِدَةٍ إِمَّا فِي الْمَعْنَى أَوْ فِي اللَّفْظِ فَمَا تِلْكَ الْفَائِدَةُ هاهنا؟ قُلْنَا قَوْلُهُ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ مَعْنَاهُ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُ إِنْذَارِكَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا قَدْ بَلَغُوا فِي الْإِصْرَارِ وَاللَّجَاجِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ إِلَى حَالَةٍ مَا بَقِيَ فِيهِمُ الْبَتَّةَ رَجَاءُ الْقَبُولِ بِوَجْهٍ. وَقَبْلَ ذَلِكَ مَا كَانُوا كَذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُ إِنْذَارِكَ لَمَا أَفَادَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى إِنَّمَا حَصَلَ فِي هَذَا الْوَقْتِ دُونَ مَا قَبْلَهُ، وَلَمَّا قَالَ: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ أَفَادَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَكَانَ ذَلِكَ يُفِيدُ حُصُولَ الْيَأْسِ وَقَطْعَ الرَّجَاءِ مِنْهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : «الْهَمْزَةُ» وَ «أَمْ» مُجَرَّدَتَانِ لِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ وَقَدِ انْسَلَخَ عَنْهُمَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ رَأْسًا، قَالَ سِيبَوَيْهِ: جَرَى هَذَا عَلَى حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا جَرَى عَلَى حَرْفِ النِّدَاءِ كَقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ

اغْفِرْ لَنَا أَيَّتُهَا الْعِصَابَةُ، يَعْنِي أَنَّ هَذَا جَرَى عَلَى صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَلَا اسْتِفْهَامَ، كَمَا أَنَّ ذَلِكَ جَرَى عَلَى صُورَةِ النِّدَاءِ وَلَا نِدَاءَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قَوْلِهِ: أَأَنْذَرْتَهُمْ سِتُّ قِرَاءَاتٍ: إِمَّا بِهَمْزَتَيْنِ مُحَقَّقَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ، أَوْ لَا أَلِفَ بَيْنَهُمَا، أَوْ بِأَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ الْأُولَى قَوِيَّةً وَالثَّانِيَةُ بَيْنَ بَيْنَ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ، أَوْ لَا أَلِفَ بَيْنَهُمَا وَبِحَذْفِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ، وَبِحَذْفِهِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهِ عَلَى السَّاكِنِ قَبْلَهُ كَمَا قُرِئَ «قَدْ أَفْلَحَ» فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ يَقْلِبُ الثَّانِيَةَ أَلِفًا؟ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هُوَ لَاحِنٌ خَارِجٌ عَنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْإِنْذَارُ هُوَ التَّخْوِيفُ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ بِالزَّجْرِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْإِنْذَارُ دُونَ الْبِشَارَةِ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْإِنْذَارِ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ أَقْوَى مِنْ تَأْثِيرِ الْبِشَارَةِ، لِأَنَّ اشْتِغَالَ الْإِنْسَانِ بِدَفْعِ الضَّرَرِ أَشَدُّ مِنَ اشْتِغَالِهِ بِجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ مَوْضِعُ الْمُبَالَغَةِ وَكَانَ ذِكْرُ الْإِنْذَارِ أَوْلَى. أَمَّا قَوْلُهُ: لَا يُؤْمِنُونَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هَذِهِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً مُؤَكِّدَةً لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا أَوْ خَبَرًا «لِإِنَّ» وَالْجُمْلَةُ قَبْلَهَا اعْتِرَاضٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَهْلُ السُّنَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَكُلِّ مَا أشبهها [على تكليف ما لا يطاق] مِنْ قَوْلِهِ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [يس: 7] وَقَوْلِهِ: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً إِلَى قَوْلِهِ: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً [الْمُدَّثِّرِ: 11- 17] وَقَوْلِهِ: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [الْمَسَدِ: 1] عَلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ قَطُّ، فَلَوْ صَدَرَ مِنْهُ الْإِيمَانُ لَزِمَ انْقِلَابُ خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى الصِّدْقِ كَذِبًا، وَالْكَذِبُ عِنْدَ الْخَصْمِ قَبِيحٌ وَفِعْلُ الْقَبِيحِ يَسْتَلْزِمُ إِمَّا الْجَهْلَ وَإِمَّا الْحَاجَةَ، وَهُمَا مُحَالَانِ عَلَى اللَّهِ، وَالْمُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَصُدُورُ الْإِيمَانِ مِنْهُ مُحَالٌ فَالتَّكْلِيفُ بِهِ تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ، وَقَدْ يُذْكَرُ هَذَا فِي صُورَةِ الْعِلْمِ، هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ فَكَانَ صُدُورُ الْإِيمَانِ مِنْهُ يَسْتَلْزِمُ انْقِلَابَ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى جَهْلًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ وَمُسْتَلْزِمُ الْمُحَالِ مُحَالٌ. فَالْأَمْرُ وَاقِعٌ بِالْمُحَالِ. وَنَذْكُرُ هَذَا عَلَى وَجْهٍ ثَالِثٍ: وَهُوَ أَنَّ وُجُودَ الْإِيمَانِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُوجَدَ مَعَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ عِلْمًا لَوْ كَانَ مُطَابِقًا لِلْمَعْلُومِ، وَالْعِلْمُ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ إِنَّمَا يَكُونُ مُطَابِقًا لَوْ حَصَلَ عَدَمُ الْإِيمَانِ، فَلَوْ وُجِدَ الْإِيمَانُ مَعَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ لَزِمَ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْإِيمَانِ كَوْنُهُ مَوْجُودًا وَمَعْدُومًا مَعًا وَهُوَ مُحَالٌ، فَالْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ مَعَ وُجُودِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِعَدَمِ الْإِيمَانِ أَمْرٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، بَلْ أَمْرٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْعَدَمِ وَالْوُجُودِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ وَنَذْكُرُ هَذَا عَلَى وَجْهٍ رَابِعٍ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى كَلَّفَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْإِيمَانِ أَلْبَتَّةَ، وَالْإِيمَانُ يُعْتَبَرُ فِيهِ تَصْدِيقُ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ، وَمِمَّا أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ قَطُّ، فَقَدْ صَارُوا مُكَلَّفِينَ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ قَطُّ، وَهَذَا تَكْلِيفٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّفْيِ/ وَالْإِثْبَاتِ، وَنَذْكُرُ هَذَا عَلَى وَجْهٍ خَامِسٍ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى عَابَ الْكُفَّارَ عَلَى أَنَّهُمْ حَاوَلُوا فِعْلَ شَيْءٍ عَلَى خِلَافِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ [الْفَتْحِ: 15] فَثَبَتَ أَنَّ الْقَصْدَ إِلَى تَكْوِينِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عَدَمِ تَكْوِينِهِ قَصْدٌ لِتَبْدِيلِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ منهي عنه. ثم هاهنا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَلْبَتَّةَ فَمُحَاوَلَةُ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ تَكُونُ قَصْدًا إِلَى تَبْدِيلِ كَلَامِ اللَّهِ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَتَرْكُ مُحَاوَلَةِ الْإِيمَانِ يَكُونُ أَيْضًا مُخَالَفَةً لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ الذَّمُّ حَاصِلًا عَلَى التَّرْكِ وَالْفِعْلِ، فَهَذِهِ هِيَ الْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ،

وَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْهَادِمُ لِأُصُولِ الِاعْتِزَالِ. وَلَقَدْ كَانَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ مُعَوِّلِينَ عَلَيْهِ فِي دَفْعِ أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ وَهَدْمِ قَوَاعِدِهِمْ، وَلَقَدْ قَامُوا وَقَعَدُوا وَاحْتَالُوا عَلَى دَفْعِهِ فَمَا أَتَوْا بِشَيْءٍ مُقْنِعٍ، وَأَنَا أَذْكُرُ أَقْصَى مَا ذَكَرُوهُ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَقَامَانِ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَخَبَرُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ مَانِعًا مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْمَقَامُ الثَّانِي: بَيَانُ الْجَوَابِ الْعَقْلِيِّ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَقَالُوا: الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ مَمْلُوءٌ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ لِأَحَدٍ مِنَ الْإِيمَانِ قَالَ: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى [الْإِسْرَاءِ: 94] وَهُوَ إِنْكَارٌ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ رَجُلًا لَوْ حَبَسَ آخَرَ فِي بَيْتٍ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ عَنْهُ ثُمَّ يَقُولُ مَا مَنَعَكَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِي كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ مُسْتَقْبَحًا وَكَذَا قَوْلُهُ: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا [الْأَعْرَافِ: 12] وَقَوْلُهُ لِإِبْلِيسَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ [النِّسَاءِ: 39] وَقَوْلُ مُوسَى لِأَخِيهِ: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا [طه: 92] وَقَوْلُهُ: فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الِانْشِقَاقِ: 20] فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [الْمُدَّثِّرِ: 49] عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: 43] لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التَّحْرِيمِ: 1] قَالَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ فِي فَصْلٍ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ: كَيْفَ يَأْمُرُهُ بِالْإِيمَانِ وَقَدْ مَنَعَهُ عَنْهُ؟ وَيَنْهَاهُ عَنِ الْكُفْرِ وَقَدْ حَمَلَهُ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ يَصْرِفُهُ عَنِ الْإِيمَانِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَّى تُصْرَفُونَ؟ وَيَخْلُقُ فِيهِمُ الْإِفْكَ ثُمَّ يَقُولُ أَنَّى تُؤْفَكُونَ؟ وَأَنْشَأَ فِيهِمُ الْكُفْرَ ثم يقوم لِمَ تَكْفُرُونَ؟ وَخَلَقَ فِيهِمْ لَبْسَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ ثُمَّ يَقُولُ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ [آلِ عِمْرَانَ: 71] وَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ثُمَّ يَقُولُ: لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 99] وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ ثُمَّ قَالَ: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا وَذَهَبَ بِهِمْ عَنِ الرُّشْدِ ثُمَّ قَالَ: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [التَّكْوِيرِ: 26] وَأَضَلَّهُمْ عَنِ الدِّينِ حَتَّى أَعْرَضُوا ثُمَّ قَالَ : فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ. [الْمُدَّثِّرِ: 49] وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النِّسَاءِ: 165] وَقَالَ: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه: 134] فَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ مَا أَبْقَى لَهُمْ عُذْرًا إِلَّا وَقَدْ أَزَالَهُ عَنْهُمْ، فَلَوْ كَانَ عِلْمُهُ بِكُفْرِهِمْ وَخَبَرُهُ عَنْ كُفْرِهِمْ مَانِعًا لَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ لَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْذَارِ وَأَقْوَى الْوُجُوهِ الدَّافِعَةِ لِلْعِقَابِ عَنْهُمْ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ فِي سُورَةِ «حم السَّجْدَةِ» أَنَّهُمْ قَالُوا: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ ذَمًّا لَهُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ، فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ مَانِعًا لَكَانُوا صَادِقِينَ/ فِي ذَلِكَ فَلِمَ ذَمَّهُمْ عَلَيْهِ؟ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى آخِرِهِ ذَمًّا لَهُمْ وَزَجْرًا عَنِ الْكُفْرِ وَتَقْبِيحًا لِفِعْلِهِمْ، فَلَوْ كَانُوا مَمْنُوعِينَ عَنِ الْإِيمَانِ غَيْرَ قَادِرِينَ عَلَيْهِ لَمَا اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ الْبَتَّةَ، بَلْ كَانُوا مَعْذُورِينَ كَمَا يَكُونُ الْأَعْمَى مَعْذُورًا فِي أَنْ لَا يَمْشِيَ. وَخَامِسُهَا: الْقُرْآنُ إِنَّمَا أُنْزِلَ لِيَكُونَ حُجَّةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ عَلَيْهِمْ، لَا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ حُجَّةً عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ وَالْخَبَرُ مَانِعًا لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِذَا عَلِمْتَ الْكُفْرَ وَأُخْبِرْتَ عَنْهُ كَانَ تَرْكُ الْكُفْرِ مُحَالًا مِنَّا، فَلِمَ تَطْلُبُ الْمُحَالَ مِنَّا وَلَمْ تَأْمُرْنَا بِالْمُحَالِ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا جَوَابَ لِلَّهِ وَلَا لِرَسُولِهِ عَنْهُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ وَالْخَبَرَ يَمْنَعُ وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الْأَنْفَالِ: 40] وَلَوْ كَانَ مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ عَنِ الْإِيمَانِ كُلِّفَ بِهِ لَمَا كَانَ نِعْمَ الْمَوْلَى، بَلْ كَانَ بِئْسَ الْمَوْلَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ، قَالُوا: فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَيْسَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ مَانِعٌ أَلْبَتَّةَ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِعَدَمِ الْإِيمَانِ وَخَبَرَهُ عَنْ عَدَمِهِ لَا يَكُونُ مَانِعًا عَنِ الْإِيمَانِ. الْمَقَامُ الثَّانِي: قَالُوا إِنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُودِ الْإِيمَانِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ

كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى شَيْءٍ، لِأَنَّ الَّذِي عَلِمَ وُقُوعَهُ يَكُونُ وَاجِبَ الْوُقُوعِ، وَالَّذِي عَلِمَ عَدَمَ وُقُوعِهِ يَكُونُ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، وَالْوَاجِبُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ وَاجِبَ الْوُقُوعِ، لَا بِالْقُدْرَةِ فَسَوَاءٌ حَصَلَتِ الْقُدْرَةُ أَوْ لَمْ تَحْصُلْ كَانَ وَاجِبَ الْوُقُوعِ، وَالَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْقُدْرَةِ فِيهِ أَثَرٌ، وَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ فَلَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا، وَذَلِكَ كُفْرٌ بِالِاتِّفَاقِ فَثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِعَدَمِ الشَّيْءِ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِمْكَانِ وُجُودِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا عِلْمُهُ مُمْكِنًا وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عِلْمُهُ وَاجِبًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِ مُمْكِنُ الْوُجُودِ، فَلَوْ صَارَ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِسَبَبِ الْعِلْمِ كَانَ الْعِلْمُ مُؤَثِّرًا فِي الْمَعْلُومِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مُحَالٌ. وَثَالِثُهَا: لَوْ كَانَ الْخَبَرُ وَالْعِلْمُ مَانِعًا لَمَا كَانَ الْعَبْدُ قَادِرًا عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا، لِأَنَّ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى وُقُوعَهُ كَانَ وَاجِبَ الْوُقُوعِ، وَالْوَاجِبُ لَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ، وَالَّذِي عَلِمَ عَدَمَهُ كَانَ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، وَالْمُمْتَنِعُ لَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْعَبْدُ قَادِرًا عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا، فَكَانَتْ حَرَكَاتُهُ وَسَكَنَاتُهُ جَارِيَةً مَجْرَى حَرَكَاتِ الْجَمَادَاتِ، وَالْحَرَكَاتِ الِاضْطِرَارِيَّةِ لِلْحَيَوَانَاتِ، لَكِنَّا بِالْبَدِيهَةِ نَعْلَمُ فَسَادَ ذَلِكَ، فَإِنْ رَمَى إِنْسَانٌ إِنْسَانًا بِالْآجُرَّةِ حَتَّى شَجَّهُ فَإِنَّا نَذُمُّ الرَّامِيَ وَلَا نَذُمُّ الْآجُرَّةَ، وَنُدْرِكُ بِالْبَدِيهَةِ تَفْرِقَةً بَيْنَ مَا إِذَا سَقَطَتِ الْآجُرَّةُ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ مَا إِذَا لَكَمَهُ إِنْسَانٌ بِالِاخْتِيَارِ: وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْعُقَلَاءَ بِبَدَاءَةِ عُقُولِهِمْ يُدْرِكُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَدْحِ الْمُحْسِنِ وَذَمِّ الْمُسِيءِ، وَيَلْتَمِسُونَ وَيَأْمُرُونَ وَيُعَاتِبُونَ وَيَقُولُونَ لِمَ فَعَلْتَ وَلِمَ تَرَكْتَ؟ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ وَالْخَبَرَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ. وَرَابِعُهَا: لَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِالْعَدَمِ مَانِعًا لِلْوُجُودِ لَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْكَافِرِ بِالْإِيمَانِ أَمْرًا بِإِعْدَامِ عِلْمِهِ، وَكَمَا أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَأْمُرَ عِبَادَهُ بِأَنْ يُعْدِمُوهُ فَكَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ، بِأَنْ يُعْدِمُوا عِلْمَهُ، لِأَنَّ إِعْدَامَ ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالْأَمْرُ بِهِ سَفَهٌ وَعَبَثٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَدَمِ لَا يَكُونُ مَانِعًا مِنَ الْوُجُودِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْإِيمَانَ فِي نَفْسِهِ مِنْ قَبِيلِ الْمُمْكِنَاتِ الْجَائِزَاتِ/ نَظَرًا إِلَى ذَاتِهِ وَعَيْنِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمُمْكِنَاتِ الْجَائِزَاتِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ كَذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ جَهْلًا، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِذَا عَلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمُمْكِنَاتِ الْجَائِزَاتِ الَّتِي لَا يَمْتَنِعُ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا الْبَتَّةَ، فَلَوْ صَارَ بِسَبَبِ الْعِلْمِ وَاجِبًا لَزِمَ أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ كَوْنُهُ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ، وَكَوْنُهُ لَيْسَ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمُحَالِ سَفَهٌ وَعَبَثٌ، فَلَوْ جَازَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِهِ لَجَازَ وُرُودُهُ أَيْضًا بِكُلِّ أَنْوَاعِ السَّفَهِ، فَمَا كَانَ يَمْتَنِعُ وُرُودُهُ بِإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى يَدِ الْكَاذِبِينَ وَلَا إِنْزَالِ الْأَكَاذِيبِ وَالْأَبَاطِيلِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَبْقَى وُثُوقٌ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا بِصِحَّةِ الْقُرْآنِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ كَذِبًا وَسَفَهًا، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْعِلْمَ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ وَالْخَبَرَ عَنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِيمَانِ. وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ لَوْ جَازَ وُرُودُ الْأَمْرِ بِالْمُحَالِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَجَازَ وُرُودُ أَمْرِ الْأَعْمَى بِنَقْطِ الْمَصَاحِفِ. وَالْمُزْمِنِ بِالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ، وَأَنْ يُقَالَ لِمَنْ قُيِّدَ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَأُلْقِيَ مِنْ شَاهِقِ جَبَلٍ: لِمَ لَا تَطِيرُ إِلَى فَوْقٍ؟ وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْعُقُولِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَمْرُ بِالْمُحَالِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَدَمِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْوُجُودِ، وَثَامِنُهَا: لَوْ جَازَ وُرُودُ الْأَمْرِ بِذَلِكَ لَجَازَ بِعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى الْجَمَادَاتِ وَإِنْزَالُ الْكُتُبِ عَلَيْهَا، وَإِنْزَالُ الْمَلَائِكَةِ لِتَبْلِيغِ التَّكَالِيفِ إِلَيْهَا حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ سُخْرِيَةٌ وَتَلَاعُبٌ بِالدِّينِ. وَتَاسِعُهَا: أَنَّ الْعِلْمَ بِوُجُودِ الشَّيْءِ لَوِ اقْتَضَى وُجُوبَهُ لَأَغْنَى الْعِلْمُ عَنِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَادِرًا مُرِيدًا مُخْتَارًا، وَذَلِكَ قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ الْقَائِلِينَ بِالْمُوجِبِ. وَعَاشِرُهَا: الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ لَمْ يُوجَدْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَةِ: 286] وَقَالَ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَجِّ: 78] وَقَالَ: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ

[الْأَعْرَافِ: 157] وَأَيُّ حَرَجٍ وَمَشَقَّةٍ فَوْقَ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ الْمَقَامُ الثَّالِثُ: الْجَوَابُ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، لِلْمُعْتَزِلَةِ فِيهِ طَرِيقَانِ: الْأَوَّلُ: طَرِيقَةُ أَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، فَإِنَّا لَمَّا قُلْنَا: لَوْ وَقَعَ خِلَافُ مَعْلُومِ اللَّهِ تَعَالَى لَانْقَلَبَ عِلْمُهُ جَهْلًا قَالُوا خَطَأٌ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ يَنْقَلِبُ عِلْمُهُ جَهْلًا، وَخَطَأٌ أَيْضًا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَنْقَلِبُ، وَلَكِنْ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْقَوْلَيْنِ: وَالثَّانِي: طَرِيقَةُ الْكَعْبِيِّ وَاخْتِيَارُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّ الْعِلْمَ تَبَعُ الْمَعْلُومِ، فَإِذَا فَرَضْتَ الْوَاقِعَ مِنَ الْعَبْدِ مِنَ الْإِيمَانِ عَرَفْتَ أَنَّ الْحَاصِلَ فِي الْأَزَلِ لِلَّهِ تَعَالَى هُوَ الْعِلْمُ بِالْإِيمَانِ، وَمَتَى فَرَضْتَ الْوَاقِعَ مِنْهُ هو الكفر بدلًا على الْإِيمَانِ عَرَفْتَ أَنَّ الْحَاصِلَ فِي الْأَزَلِ هُوَ الْعِلْمُ بِالْكُفْرِ بَدَلًا عَنِ الْإِيمَانِ، فَهَذَا فَرْضُ عِلْمٍ بَدَلًا عَنْ عِلْمٍ آخَرَ، لَا أَنَّهُ تَغَيَّرَ الْعِلْمُ. فَهَذَانِ الْجَوَابَانِ هُمَا اللَّذَانِ عَلَيْهِمَا اعْتِمَادُ جُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَبْحَثَ صَارَ مَنْشَأً لِضَلَالَاتٍ عَظِيمَةٍ: فَمِنْهَا أَنَّ مُنْكِرِي التَّكَالِيفِ وَالنُّبُوَّاتِ قَالُوا: قَدْ سَمِعْنَا كَلَامَ أَهْلِ الْجَبْرِ فَوَجَدْنَاهُ قَوِيًّا قَاطِعًا، وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُعْتَزِلَةُ يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْخُرَافَةِ وَلَا يَلْتَفِتُ الْعَاقِلُ إِلَيْهِمَا، وَسَمِعْنَا كَلَامَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ مَعَ الْقَوْلِ بِالْجَبْرِ لَا يَجُوزُ التَّكْلِيفُ وَيُقَبَّحُ، وَالْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَهْلُ الْجَبْرِ ضَعِيفٌ جِدًّا فَصَارَ مَجْمُوعُ الْكَلَامَيْنِ كَلَامًا قَوِيًّا فِي نَفْيِ التَّكَالِيفِ، وَمَتَّى بَطَلَ ذَلِكَ بَطَلَ الْقَوْلُ بِالنُّبُوَّاتِ. وَمِنْهَا أَنَّ الطَّاعِنِينَ/ فِي الْقُرْآنِ قَالُوا: الَّذِي قَالَهُ الْمُعْتَزِلَةُ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أنه لا مانع مِنَ الْإِيمَانِ وَمِنَ الطَّاعَةِ فَقَدْ صَدَقُوا فِيهِ، وَالَّذِي قَالَهُ الْجَبْرِيَّةُ: مِنْ أَنَّ الْعِلْمَ بِعَدَمِ الإيمان مانع منه فَقَدْ صَدَقُوا فِيهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ وَرَدَ عَلَى ضِدِّ الْعَقْلِ وَعَلَى خِلَافِهِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَطَاعِنِ وَأَقْوَى الْقَوَادِحِ فِيهِ، ثُمَّ مَنْ سَلَّمَ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَسَّلَ بِهِ إِلَى الطَّعْنِ فِيهِ، وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الرَّافِضَةِ: إِنَّ هَذَا الَّذِي عِنْدَنَا لَيْسَ هُوَ الْقُرْآنَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ بَلْ غُيِّرَ وَبُدِّلَ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ اشْتِمَالُهُ عَلَى هَذِهِ الْمُنَاقَضَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْجَبْرِ وَأَهْلِ الْقَدَرِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْمُقَلِّدَةَ الطَّاعِنِينَ فِي النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ وَقَالُوا: لَوْ جَوَّزْنَا التَّمَسُّكَ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ لَزِمَ الْقَدْحُ فِي التَّكْلِيفِ وَالنُّبُوَّةِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ، فَإِنَّ كَلَامَ أَهْلِ الْجَبْرِ فِي نِهَايَةِ الْقُوَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْجَبْرِ، وَكَلَامَ أَهْلِ الْقَدَرِ فِي بَيَانِ أَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ الْجَبْرُ بَطَلَ التَّكْلِيفُ بِالْكُلِّيَّةِ فِي نِهَايَةِ الْقُوَّةِ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْ مَجْمُوعِ الْكَلَامَيْنِ أَعْظَمُ شُبْهَةٍ فِي الْقَدْحِ وَالتَّكْلِيفِ وَالنُّبُوَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الْعَقْلِيَّاتِ يُورِثُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ، وَعِنْدَ هَذَا قِيلَ مَنْ تَعَمَّقَ فِي الْكَلَامِ تَزَنْدَقَ. وَمِنْهَا أَنَّ هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ زَعَمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُقُوعِهَا وَجَوَّزَ الْبَدَاءَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَمَارَةِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُظْهِرَ خِلَافَ مَا ذَكَرَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ فِرَارًا مِنْ تِلْكَ الْإِشْكَالَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْلَةَ الْوُجُوهِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ كَلِمَاتٌ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْكَشْفِ عَنْ وَجْهِ الْجَوَابِ بَلْ هِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّشْنِيعَاتِ. فَأَمَّا الْجَوَابَانِ اللَّذَانِ عَلَيْهِمَا اعْتِمَادُ الْقَوْمِ فَفِي نِهَايَةِ الضَّعْفِ. أَمَّا قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هِشَامٍ وَالْقَاضِي: خَطَأٌ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ يَدُلُّ، وَخَطَأٌ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَدُلُّ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْحُكْمَ بِفَسَادِ الْقِسْمَيْنِ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا بِفَسَادِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَذَلِكَ لَا يَرْتَضِيهِ الْعَقْلُ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ أَحَدَهُمَا حَقٌّ لَكِنْ لَا أَعْرِفُ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ أَنَّهُ يَدُلُّ أَوْ لَا يَدُلُّ كَفَى فِي دَفْعِهِ تَقْرِيرُ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ، فَإِنَّا لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَدَمِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْعَدَمِ، فَلَوْ حَصَلَ الْوُجُودُ مَعَهُ لَكَانَ قَدِ اجْتَمَعَ الْعَدَمُ وَالْوُجُودُ مَعًا وَلَا يَتَمَكَّنُ الْعَقْلُ مِنْ تَقْرِيرِ كَلَامٍ أَوْضَحَ مِنْ هَذَا وَأَقَلِّ مُقَدِّمَاتٍ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْكَعْبِيِّ فَفِي نِهَايَةِ الضَّعْفِ، لِأَنَّا وَإِنْ كُنَّا لَا نَدْرِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ فِي الْأَزَلِ عَالِمًا بِوُجُودِ الْإِيمَانِ أَوْ بِعَدَمِهِ لَكُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْعِلْمَ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ كَانَ حَاصِلًا، وَهُوَ الْآنَ

أَيْضًا حَاضِرٌ، فَلَوْ حَصَلَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَحَدِ النَّقِيضَيْنِ ذَلِكَ النَّقِيضُ الْآخَرُ لَزِمَ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ، وَلَوْ قِيلَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ لَا يَبْقَى كَانَ ذَلِكَ اعْتِرَافًا بِانْقِلَابِ الْعِلْمِ جَهْلًا، وَهَذَا آخِرُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَحْثِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ الْمَعْنَوِيَّ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَبَقِيَ فِي هَذَا الْبَابِ أُمُورٌ أُخْرَى إِقْنَاعِيَّةٌ وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا وَهِيَ خَمْسَةٌ: أَحَدُهَا: رَوَى الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ تَارِيخِ بَغْدَادَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيِّ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عُثْمَانَ سَمِعْتُ وَاللَّهِ الْيَوْمَ بِالْكُفْرِ، فَقَالَ: لَا تُعَجِّلُ بِالْكُفْرِ، وَمَا سَمِعْتَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ هَاشِمًا الْأَوْقَصَ يَقُولُ: إِنَّ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [الْمَسَدِ: 1] وَقَوْلَهُ: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [الْمُدَّثِّرِ: 11] إِلَى قَوْلِهِ: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [الْمُدَّثِّرِ: 26] إِنَّ هَذَا/ لَيْسَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ [الزخرف: 1، 2] إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزُّخْرُفِ: 4] فَمَا الْكُفْرُ إِلَّا هَذَا يَا أَبَا عُثْمَانَ، فَسَكَتَ عَمْرٌو هُنَيْهَةً ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ وَاللَّهِ لَوْ كَانَ الْقَوْلُ كَمَا يَقُولُ مَا كَانَ عَلَى أَبِي لَهَبٍ مِنْ لَوْمٍ، وَلَا عَلَى الْوَلِيدِ مِنْ لَوْمٍ، فَلَمَّا سَمِعَ الرَّجُلُ ذَلِكَ قَالَ أَتَقُولُ يَا أَبَا عُثْمَانَ ذَلِكَ، هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي قَالَ مُعَاذٌ فَدَخَلَ بِالْإِسْلَامِ وَخَرَجَ بِالْكُفْرِ. وَحُكِيَ أَيْضًا أَنَّهُ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَقَرَأَ عِنْدَهُ: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [الْبُرُوجِ: 22] فَقَالَ لَهُ أَخْبِرْنِي عَنْ تَبَّتْ أَكَانَتْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ؟ فَقَالَ عَمْرٌو: لَيْسَ هَكَذَا كَانَتْ، بَلْ كَانَتْ: تَبَّتْ يَدَا مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِ مَا عَمِلَ أَبُو لَهَبٍ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ، هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تُقْرَأَ إِذَا قُمْنَا إِلَى الصَّلَاةِ: فَغَضِبَ عَمْرٌو وَقَالَ: إِنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَيْسَ بِشَيْطَانٍ، إِنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ. وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ تَدُلُّ عَلَى شَكِّ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فِي صِحَّةِ الْقُرْآنِ. وَثَانِيهَا: رَوَى الْقَاضِي فِي كِتَابِ طَبَقَاتِ الْمُعْتَزِلَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلًا قَامَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّ أَقْوَامًا يَزْنُونَ وَيَسْرِقُونَ وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَيَقُولُونَ كَانَ ذَلِكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ فَلَمْ نَجِدْ مِنْهُ بُدًّا، فَغَضِبَ ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، قَدْ كَانَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهَا فلم يحملهم على اللَّهِ عَلَى فِعْلِهَا. حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الخطاب أنه سمع رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَثَلُ عِلْمِ اللَّهِ فِيكُمْ كَمَثَلِ السَّمَاءِ الَّتِي أَظَلَّتْكُمْ، وَالْأَرْضِ الَّتِي أَقَلَّتْكُمْ، فَكَمَا لَا تَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَكَذَلِكَ لَا تَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَمَا لَا تَحْمِلُكُمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ عَلَى الذُّنُوبِ فَكَذَلِكَ لَا يَحْمِلُكُمْ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي يَرْوِيهَا الْجَبْرِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ كَثْرَةٌ، وَالْغَرَضُ مِنْ رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالرَّسُولِ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ وَفَاسِدٌ، أَمَّا الْمُتَنَاقِضُ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: «وَكَذَلِكَ لَا تَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ» صَرِيحٌ فِي الْجَبْرِ وَمَا قَبْلَهُ صَرِيحٌ فِي الْقَدَرِ فَهُوَ مُتَنَاقِضٌ، وَأَمَّا أَنَّهُ فَاسِدٌ، فَلِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْعِلْمَ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ وَوُجُودَ الْإِيمَانِ مُتَنَافِيَانِ، فَالتَّكْلِيفُ بِالْإِيمَانِ مَعَ وُجُودِ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ تَكْلِيفٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، أَمَّا السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ فَإِنَّهُمَا لَا يُنَافِيَانِ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ، فَظَهَرَ أَنَّ تَشْبِيهَ إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ بِالْأُخْرَى لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ جَاهِلٍ أَوْ مُتَجَاهِلٍ، وَجُلُّ مَنْصِبِ الرِّسَالَةِ عَنْهُ. وَثَالِثُهَا: الْحَدِيثَانِ الْمَشْهُورَانِ فِي هَذَا الْبَابِ: أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وهو الصادق المصدق: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وشقي أم سعيد، فو الله الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا» وَحَكَى

[سورة البقرة (2) : آية 7]

الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ/ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ يَقُولُ هَذَا لَكَذَّبْتُهُ، وَلَوْ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ يَقُولُ هَذَا مَا أَحْبَبْتُهُ، وَلَوْ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ هَذَا مَا قَبِلْتُهُ، وَلَوْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ هَذَا لَرَدَدْتُهُ، وَلَوْ سَمِعْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ هَذَا لَقُلْتُ لَيْسَ عَلَى هَذَا أَخَذْتَ مِيثَاقَنَا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي: فَهُوَ مُنَاظَرَةُ آدَمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَإِنَّ مُوسَى قَالَ لِآدَمَ: أَنْتَ الَّذِي أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ آدَمُ: أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ لِرِسَالَاتِهِ وَلِكَلَامِهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ فَهَلْ تَجِدُ اللَّهَ قَدَّرَهُ عَلَيَّ؟ قَالَ نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، وَالْمُعْتَزِلَةُ طَعَنُوا فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُوسَى قَدْ ذَمَّ آدَمَ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْجَهْلَ فِي حَقِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْوَلَدَ كَيْفَ يُشَافِهُ وَالِدَهُ بِالْقَوْلِ الْغَلِيظِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ: أَنْتَ الَّذِي أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَقَدْ عَلِمَ مُوسَى أَنَّ شَقَاءَ الْخَلْقِ وَإِخْرَاجَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِهَةِ آدَمَ، بَلِ اللَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْهَا، وَرَابِعُهَا: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ احْتَجَّ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ إِذْ لَوْ كَانَ حُجَّةً لَكَانَ لِفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ أَنْ يَحْتَجُّوا بِهَا، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ عَلِمْنَا فَسَادَ هَذِهِ الْحُجَّةِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَوَّبَ آدَمَ فِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِصَوَابٍ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَكَى ذَلِكَ عَنِ الْيَهُودِ لَا أَنَّهُ حَكَاهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَنْ نَفْسِهِ، وَالرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْحِكَايَةَ إِلَّا أَنَّ الرَّاوِيَ حِينَ دَخَلَ مَا سَمِعَ إِلَّا هَذَا الْكَلَامَ، فَظَنَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَهُ عَنْ نَفْسِهِ لَا عَنِ الْيَهُودِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قَالَ: فَحَجَّ آدَمَ مَنْصُوبًا أَيْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السلام غلبه وجعله محجوباً وَأَنَّ الَّذِي أَتَى بِهِ آدَمُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَلَا بِعُذْرٍ. وَثَالِثُهَا: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْمُنَاظَرَةِ الذَّمَّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلَا الِاعْتِذَارَ مِنْهُ بِعِلْمِ اللَّهِ بَلْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَهُ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى تِلْكَ الزَّلَّةِ حَتَّى خَرَجَ بِسَبَبِهَا مِنَ الْجَنَّةِ، فَقَالَ آدَمُ: إِنَّ خُرُوجِي مِنَ الْجَنَّةِ لَمْ يَكُنْ بِسَبَبِ تِلْكَ الزَّلَّةِ، بَلْ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ كَتَبَ عَلَيَّ أَنْ أَخْرُجَ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ وَأَكُونَ خَلِيفَةً فِيهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى كَانَ مَكْتُوبًا فِي التَّوْرَاةِ، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ حُجَّةُ آدَمَ قَوِيَّةً وَصَارَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ كَالْمَغْلُوبِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَوِيلٌ جِدًّا وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْهُ وَسَنَسْتَقْصِي الْقَوْلَ فِيهَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ إِنْ قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ، وفيما ذكرنا هاهنا كفاية. [سورة البقرة (2) : آية 7] خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالسَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَهُوَ الْخَتْمُ، وَالْكَلَامُ هاهنا يَقَعُ فِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْخَتْمُ وَالْكَتْمُ أَخَوَانِ، لِأَنَّ فِي الِاسْتِيثَاقِ مِنَ الشَّيْءِ بِضَرْبِ الْخَاتَمِ عَلَيْهِ كَتْمًا لَهُ وَتَغْطِيَةً، لِئَلَّا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ أَوْ يُطَّلَعُ عَلَيْهِ، وَالْغِشَاوَةُ الْغِطَاءُ فِعَالَةٌ مَنْ غَشَّاهُ إِذَا غَطَّاهُ، وَهَذَا الْبِنَاءُ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى الشَّيْءِ كَالْعِصَابَةِ وَالْعِمَامَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا الْخَتْمِ، أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ ظَاهِرٌ، ثُمَّ لَهُمْ قَوْلَانِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْخَتْمُ هُوَ خَلْقُ الْكُفْرِ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ خَلْقُ الدَّاعِيَةِ الَّتِي إِذَا انْضَمَّتْ إِلَى الْقُدْرَةِ صَارَ مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَهَا سَبَبًا مُوجِبًا لِوُقُوعِ الْكُفْرِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْقَادِرَ

عَلَى الْكُفْرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَرْكِهِ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَرْكِهِ كَانَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْكُفْرِ مُوجِبَةً لِلْكُفْرِ، فَخَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكُفْرِ يَقْتَضِي خَلْقَ الْكُفْرِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى التَّرْكِ كَانَتْ نِسْبَةُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ إِلَى فِعْلِ الْكُفْرِ وَإِلَى تَرْكِهِ عَلَى سَوَاءٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَيْرُورَتُهَا مَصْدَرًا لِلْفِعْلِ بَدَلًا عَنِ التَّرْكِ يَتَوَقَّفُ عَلَى انْضِمَامٍ مُرَجَّحٍ إِلَيْهَا أَوْ لَا يَتَوَقَّفُ، فَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ فَقَدْ وَقَعَ الْمُمْكِنُ لَا عَنْ مُرَجَّحٍ، وَتَجْوِيزُهُ يَقْتَضِي الْقَدْحَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْمُمْكِنِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي نَفْيَ الصَّانِعِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَأَمَّا إِنْ تَوَقَّفَ عَلَى الْمُرَجَّحِ فَذَلِكَ الْمُرَجَّحُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ أَوْ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ أَوْ لَا مِنْ فِعْلِ اللَّهِ وَلَا مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ، لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ لَا بِفِعْلِ اللَّهِ وَلَا بِفِعْلِ الْعَبْدِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ حُدُوثُ شَيْءٍ لَا لِمُؤَثِّرٍ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالصَّانِعِ. فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ مَصْدَرًا لِلْمَقْدُورِ الْمُعَيَّنِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيْهَا مُرَجَّحٌ هُوَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى. فَنَقُولُ: إِذَا انْضَمَّ ذَلِكَ الْمُرَجَّحُ إِلَى تِلْكَ الْقُدْرَةِ فَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ تَأْثِيرُ الْقُدْرَةِ فِي ذَلِكَ الْأَثَرِ وَاجِبًا أَوْ جَائِزًا أَوْ مُمْتَنِعًا، وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ، بَاطِلٌ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَائِزًا لَكَانَ يَصِحُّ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَحْصُلَ مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَ ذَلِكَ الْمُرَجَّحِ تَارَةً مَعَ ذَلِكَ الْأَثَرِ، وَأُخْرَى مُنْفَكًّا عَنْهُ، فَلْنَفْرِضْ وُقُوعَ ذَلِكَ، لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ جَائِزًا لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ، فَذَاكَ الْمَجْمُوعُ تَارَةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَثَرُ، وَأُخْرَى لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَثَرُ، فَاخْتِصَاصُ أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ، يَتَرَتَّبُ ذَلِكَ الْأَثَرُ عَلَيْهِ إِمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى انْضِمَامِ قَرِينَةٍ إِلَيْهِ، أَوْ لَا يَتَوَقَّفَ، فَإِنْ تَوَقَّفَ كَانَ الْمُؤَثِّرُ هُوَ ذَلِكَ الْمَجْمُوعُ مَعَ هَذِهِ الْقَرِينَةِ الزَّائِدَةِ، لَا ذَلِكَ الْمَجْمُوعُ، وَكُنَّا قَدْ فَرَضْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْمَجْمُوعَ هُوَ الْمُسْتَقِلُّ خَلْفَ هَذَا، وَأَيْضًا فَيَعُودُ التَّقْسِيمُ فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ الثَّانِي، فَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى قَيْدٍ آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ فَحِينَئِذٍ حَصَلَ ذَلِكَ الْمَجْمُوعُ تَارَةً بِحَيْثُ يَكُونُ مَصْدَرًا لِلْأَثَرِ، وَأُخْرَى بِحَيْثُ لَا يَكُونُ مَصْدَرًا لَهُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَمَيَّزْ أَحَدُ الْوَقْتَيْنِ عَنِ الْآخَرِ بِأَمْرٍ مَا أَلْبَتَّةَ، فَيَكُونُ هَذَا قَوْلًا بِتَرَجُّحِ الْمُمْكِنِ لَا عَنْ مُرَجَّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ. فَثَبَتَ أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ ذَلِكَ الْمُرَجِّحِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ صُدُورُ ذَلِكَ الْأَثَرِ جَائِزًا، وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا فَظَاهِرٌ، وَإِلَّا لَكَانَ مُرَجِّحُ الْوُجُودِ مُرَجِّحًا لِلْعَدَمِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِذَا بَطَلَ الْقِسْمَانِ ثَبَتَ أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ مُرَجِّحِ الْوُجُودِ يَكُونُ الْأَثَرُ وَاجِبَ الْوُجُودِ عَنِ/ الْمَجْمُوعِ الْحَاصِلِ مِنَ الْقُدْرَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمُرَجِّحِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ الْقَوْلُ بِالْجَبْرِ لَازِمًا: لِأَنَّ قَبْلَ حُصُولِ ذَلِكَ الْمُرَجِّحِ كَانَ صُدُورُ الْفِعْلِ مُمْتَنِعًا وَبَعْدَ حُصُولِهِ يَكُونُ وَاجِبًا، وَإِذْ عَرَفْتَ هَذَا كَانَ خَلْقُ الدَّاعِيَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْكُفْرِ فِي الْقَلْبِ خَتْمًا عَلَى الْقَلْبِ وَمَنْعًا لَهُ عَنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ذَكَرَ عَقِيبَهُ مَا يَجْرِي مَجْرَى السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمَعْلُولِ، وَالْعِلْمُ بِالْمَعْلُولِ لَا يَكْمُلُ إِلَّا إِذَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْعِلْمِ بِالْعِلَّةِ، فَهَذَا قَوْلُ مَنْ أَضَافَ جَمِيعَ الْمُحْدَثَاتِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِجْرَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْإِيمَانِ وَاحْتَجُّوا فِيهِ بِالْوُجُوهِ الَّتِي حَكَيْنَاهَا عَنْهُمْ في الآية الأولى وزادوا هاهنا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَذَّبَ الْكُفَّارَ الَّذِينَ قالوا إن على قلوبهم كنان وَغِطَاءً يَمْنَعُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ ... بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النِّسَاءِ: 155] وَقَالَ: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فُصِّلَتْ: 4، 5] وَهَذَا كُلُّهُ عَيْبٌ وَذَمٌّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا ادَّعَوْا أَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ عَنِ الْإِيمَانِ ثُمَّ قَالُوا: بَلْ لَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ الْخَتْمِ وَالْغِشَاوَةِ عَلَى أُمُورٍ أُخَرَ ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا أَعْرَضُوا وَتَرَكُوا الِاهْتِدَاءَ بِدَلَائِلِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى صَارَ ذَلِكَ كَالْإِلْفِ وَالطَّبِيعَةِ لَهُمْ أَشْبَهَ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ مَنَعَ عَنِ الشَّيْءِ وَصَدَّ عَنْهُ وَكَذَلِكَ هَذَا فِي عُيُونِهِمْ حَتَّى كَأَنَّهَا مَسْدُودَةٌ لَا تُبْصِرُ شَيْئًا وَكَأَنَّ بِآذَانِهِمْ وَقْرًا حَتَّى لَا يَخْلُصَ إِلَيْهَا الذِّكْرُ،

وَإِنَّمَا أُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ فِي تَمَكُّنِهَا وَقُوَّةِ ثَبَاتِهَا كَالشَّيْءِ الْخِلْقِيِّ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ [النِّسَاءِ: 155] كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: 14] فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ. [التَّوْبَةِ: 77] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَكْفِي فِي حُسْنِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، فَالشَّيْطَانُ هُوَ الْخَاتِمُ فِي الْحَقِيقَةِ أَوِ الْكَافِرُ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا كَانَ هُوَ الَّذِي أَقْدَرَهُ أَسْنَدَ إِلَيْهِ الْخَتْمَ كَمَا يُسْنَدُ الْفِعْلُ إِلَى السَّبَبِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنِ التَّدَبُّرِ وَلَمْ يُصْغُوا إِلَى الذِّكْرِ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ إِيرَادِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الدَّلَائِلَ أُضِيفُ مَا فَعَلُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ حُدُوثَهُ إِنَّمَا اتَّفَقَ عِنْدَ إِيرَادِهِ تَعَالَى دَلَائِلَهُ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَةِ: 125] أَيِ ازْدَادُوا بِهَا كُفْرًا إِلَى كُفْرِهِمْ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي الْكُفْرِ إِلَى حَيْثُ لَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إِلَى تَحْصِيلِ الْإِيمَانِ لَهُمْ إِلَّا بِالْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَبْطُلَ التَّكْلِيفُ فَعَبَّرَ عَنْ تَرْكِ الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ بِالْخَتْمِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ انْتَهَوْا فِي الْكُفْرِ إِلَى حَيْثُ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ إِلَّا بِالْقَسْرِ وَهِيَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى فِي وَصْفِ لَجَاجِهِمْ فِي الْغَيِّ. وَخَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حِكَايَةً لِمَا كَانَ الْكَفَرَةُ يَقُولُونَهُ تَهَكُّمًا بِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فُصِّلَتْ: 5] وَنَظِيرُهُ فِي الْحِكَايَةِ وَالتَّهَكُّمِ قَوْلُهُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةِ: 1] وَسَادِسُهَا: الْخَتْمُ عَلَى قُلُوبِ الْكُفَّارِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الشَّهَادَةُ مِنْهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وعلى قلوبهم بأنهم لَا تَعِي الذِّكْرَ وَلَا تَقْبَلُ الْحَقَّ، وَعَلَى أَسْمَاعِهِمْ بِأَنَّهَا لَا تُصْغِي إِلَى الْحَقِّ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ أُرِيدُ أَنْ تَخْتِمَ عَلَى/ مَا يَقُولُهُ فُلَانٌ، أَيْ تُصَدِّقُهُ وَتَشْهَدُ بِأَنَّهُ حَقٌّ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ قَدْ شَهِدَ بِذَلِكَ وَحَفِظَهُ عَلَيْهِمْ. وَسَابِعُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا جَاءَتْ فِي قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ مِنَ الْكُفَّارِ فَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ هَذَا الْخَتْمَ وَالطَّبْعَ فِي الدُّنْيَا عِقَابًا لَهُمْ فِي الْعَاجِلِ، كَمَا عَجَّلَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ عُقُوبَاتٍ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [الْبَقَرَةِ: 65] وَقَالَ: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [الْمَائِدَةِ: 26] وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْعُقُوبَاتِ الْمُعَجَّلَةِ لِمَا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ لِعِبَادِهِ وَالصَّلَاحِ لَهُمْ، فَيَكُونُ هَذَا مِثْلَ مَا فُعِلَ بِهَؤُلَاءِ مِنَ الْخَتْمِ وَالطَّبْعِ، إِلَّا أَنَّهُمْ إِذَا صَارُوا بِذَلِكَ إِلَى أَنْ لَا يَفْهَمُوا سَقَطَ عَنْهُمُ التَّكْلِيفُ كَسُقُوطِهِ عَمَّنْ مُسِخَ، وَقَدْ أَسْقَطَ اللَّهُ التَّكْلِيفَ عَمَّنْ يَعْقِلُ بَعْضَ الْعَقْلِ كَمَنْ قَارَبَ الْبُلُوغَ، وَلَسْنَا نُنْكِرُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْكَافِرِينَ مَانِعًا يَمْنَعُهُمْ عَنِ الْفَهْمِ وَالِاعْتِبَارِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ أَصْلَحُ لَهُمْ كَمَا قَدْ يَذْهَبُ بِعُقُولِهِمْ وَيُعْمِي أَبْصَارَهُمْ وَلَكِنْ لَا يَكُونُونَ فِي هَذَا الْحَالِ مُكَلَّفِينَ. وَثَامِنُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمُ الْخَتْمَ وَعَلَى أَبْصَارِهِمُ الْغِشَاوَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَائِلًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ كَالْبَلَادَةِ الَّتِي يَجِدُهَا الْإِنْسَانُ فِي قَلْبِهِ وَالْقَذَى فِي عَيْنَيْهِ وَالطَّنِينِ فِي أُذُنِهِ، فَيَفْعَلُ اللَّهُ كُلَّ ذَلِكَ بِهِمْ لِيُضَيِّقَ صُدُورَهُمْ وَيُورِثَهُمُ الْكَرْبَ وَالْغَمَّ فَيَكُونُ ذَلِكَ عُقُوبَةً مَانِعَةً مِنَ الْإِيمَانِ كَمَا قَدْ فَعَلَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَتَاهُوا ثُمَّ يَكُونُ هَذَا الْفِعْلُ فِي بَعْضِ الْكُفَّارِ وَيَكُونُ ذَلِكَ آيَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَلَالَةً لَهُ كَالرِّجْزِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ حَتَّى اسْتَغَاثُوا مِنْهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَصْلَحُ لِلْعِبَادِ. وَتَاسِعُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا الْخَتْمَ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُعْمِيهِمْ قَالَ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الْإِسْرَاءِ: 97] وَقَالَ: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً [طه: 102] وَقَالَ: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ [يس: 65] وَقَالَ: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لَا يَسْمَعُونَ

[الْأَنْبِيَاءِ: 100] . وَعَاشِرُهَا: مَا حَكَوْهُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ- وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ وَالْقَاضِي- أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ عَلَامَةٌ وَسِمَةٌ يَجْعَلُهَا فِي قَلْبِ الْكُفَّارِ وَسَمْعِهِمْ فَتَسْتَدِلُّ الْمَلَائِكَةُ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ كُفَّارٌ، وَعَلَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَبَدًا فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَامَةٌ تَعْرِفُ الْمَلَائِكَةُ بِهَا كَوْنَهُمْ مُؤْمِنِينَ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا قَالَ: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [الْمُجَادَلَةِ: 22] وَحِينَئِذٍ الْمَلَائِكَةُ يُحِبُّونَهُ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ، وَيَكُونُ لِقُلُوبِ الْكُفَّارِ عَلَامَةٌ تَعْرِفُ الْمَلَائِكَةُ بِهَا كَوْنَهُمْ مَلْعُونِينَ عِنْدَ اللَّهِ فَيُبْغِضُونَهُ وَيَلْعَنُونَهُ، وَالْفَائِدَةُ فِي تِلْكَ الْعَلَامَةِ إِمَّا مَصْلَحَةٌ عَائِدَةٌ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، لأنهم متى علموا بتلك العلامة كونه كفاراً مَلْعُونًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى صَارَ ذَلِكَ مُنَفِّرًا لَهُمْ عَنِ الْكُفْرِ أَوْ إِلَى الْمُكَلَّفِ، فَإِنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مَتَى آمَنَ فَقَدْ أَحَبَّهُ أهل السموات صَارَ ذَلِكَ مُرَغِّبًا لَهُ فِي الْإِيمَانِ وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مَتَى أَقْدَمَ عَلَى الْكُفْرِ عَرَفَ الْمَلَائِكَةُ مِنْهُ ذَلِكَ فَيُبْغِضُونَهُ وَيَلْعَنُونَهُ صَارَ ذَلِكَ زَاجِرًا لَهُ عَنِ الْكُفْرِ. قَالُوا: وَالْخَتْمُ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُمْنَعُ، لِأَنَّا نَتَمَكَّنُ بَعْدَ خَتْمِ الْكِتَابِ أَنْ نَفُكَّهُ وَنَقْرَأَهُ، وَلِأَنَّ الْخَتْمَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ/ أَنْ يُكْتَبَ عَلَى جَبِينِ الْكَافِرِ أَنَّهُ كَافِرٌ، فَإِذَا لَمْ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ فَكَذَا هَذَا الْكَافِرُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُزِيلَ تِلْكَ السِّمَةَ عَنْ قَلْبِهِ بِأَنْ يَأْتِيَ بِالْإِيمَانِ وَيَتْرُكَ الْكُفْرَ. قَالُوا: وَإِنَّمَا خَصَّ الْقَلْبَ وَالسَّمْعَ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ السَّمْعِيَّةَ لَا تُسْتَفَادُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ، وَالْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ لَا تُسْتَفَادُ إِلَّا مِنْ جَانِبِ الْقَلْبِ، وَلِهَذَا خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَتَحَمَّلُونَ الْغِشَاوَةَ فِي الْبَصَرِ أَيْضًا عَلَى مَعْنَى الْعَلَامَةِ؟ قُلْنَا لَا، لِأَنَّا إِنَّمَا حَمَلْنَا مَا تَقَدَّمَ عَلَى السِّمَةِ وَالْعَلَامَةِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ اللُّغَةِ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَلَا مَانِعَ مِنْهُ فَوَجَبَ إِثْبَاتُهُ. أَمَّا الْغِشَاوَةُ فَحَقِيقَتُهَا الْغِطَاءُ الْمَانِعُ مِنَ الإبصار ومعلوم من حال الكفار خلف ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ، وَهُوَ تَشْبِيهُ حَالِهِمْ بِحَالِ مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِبَصَرِهِ فِي بَابِ الْهِدَايَةِ. فَهَذَا مَجْمُوعُ أَقْوَالِ النَّاسِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَلْفَاظُ الْوَارِدَةُ فِي الْقُرْآنِ الْقَرِيبَةُ مِنْ مَعْنَى الْخَتْمِ هِيَ: الطَّبْعُ، وَالْكِنَانُ، وَالرَّيْنُ عَلَى الْقَلْبِ، وَالْوَقْرُ فِي الْآذَانِ، وَالْغِشَاوَةُ فِي الْبَصَرِ ثُمَّ الْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَرَدَتْ دَلَالَةٌ عَلَى حُصُولِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَالَ: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ [الْمُطَفِّفِينَ: 14] وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الْأَنْعَامِ: 25] وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ [التَّوْبَةِ: 87] بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النِّسَاءِ: 155] فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [فُصِّلَتْ: 4] لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا [يس: 70] إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ [النمل: 80] أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ [النَّحْلِ: 21] فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الْبَقَرَةِ: 10] وَالْقِسْمُ الثَّانِي: وَرَدَتْ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ الْبَتَّةَ وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا [الْإِسْرَاءِ: 94] فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الْكَهْفِ: 29] لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَةِ: 286] وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَجِّ: 78] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 28] لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ [آلِ عِمْرَانَ: 71] وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، وَصَارَ كُلُّ قِسْمٍ مِنْهُمَا مُتَمَسَّكًا لِطَائِفَةٍ، فَصَارَتِ الدَّلَائِلُ السَّمْعِيَّةُ لِكَوْنِهَا مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَاقِعَةً فِي حَيِّزِ التَّعَارُضِ. أَمَّا الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ فَهِيَ الَّتِي سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَسَائِلِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَأَكْثَرِهَا شَعَبًا وَأَشَدِّهَا شَغَبًا، وَيُحْكَى أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيَّ سُئِلَ عَنْ تَكْفِيرِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ لَا، لِأَنَّهُمْ نَزَّهُوهُ، فَسُئِلَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فَقَالَ لَا، لِأَنَّهُمْ عَظَّمُوهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مَا طَلَبَ إِلَّا إِثْبَاتَ جَلَالِ اللَّهِ وَعُلُوِّ كِبْرِيَائِهِ، إِلَّا أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَقَعَ نَظَرُهُمْ عَلَى الْعَظَمَةِ فَقَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُوجِدَ وَلَا مُوجِدَ سِوَاهُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ وَقَعَ نَظَرُهُمْ عَلَى الْحِكْمَةِ فَقَالُوا لَا يَلِيقُ

بجلال حضرته هذه القبائح، وأقول: هاهنا سِرٌّ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ إِثْبَاتَ الْإِلَهِ يُلْجِئُ إِلَى الْقَوْلِ بِالْجَبْرِ، لِأَنَّ الْفَاعِلِيَّةَ لَوْ لَمْ تَتَوَقَّفْ عَلَى الدَّاعِيَةِ لَزِمَ وُقُوعُ الْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَهُوَ نَفْيُ الصَّانِعِ، وَلَوْ تَوَقَّفَتْ لَزِمَ الْجَبْرُ. وَإِثْبَاتُ الرَّسُولِ يُلْجِئُ إِلَى الْقَوْلِ بالقدرة. بل هاهنا سِرٌّ آخَرُ هُوَ فَوْقَ الْكُلِّ، وَهُوَ أَنَّا لَمَّا رَجَعْنَا إِلَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ وَالْعَقْلِ الْأَوَّلِ وَجَدْنَا أَنَّ مَا اسْتَوَى الْوُجُودُ وَالْعَدَمُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي الْجَبْرَ، وَنَجِدُ أَيْضًا تَفْرِقَةً بَدِيهِيَّةً بَيْنَ الْحَرَكَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَالْحَرَكَاتِ الِاضْطِرَارِيَّةِ وَجَزْمًا بَدِيهِيًّا بِحُسْنِ الْمَدْحِ وَقُبْحِ الذَّمِّ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَكَأَنَّ/ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَقَعَتْ فِي حَيِّزِ التَّعَارُضِ بِحَسَبِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ، وَبِحَسَبِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ، وَبِحَسَبِ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى نَظَرًا إِلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَبِحَسَبِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ وَبِحَسَبِ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ، فَلِهَذِهِ الْمَآخِذِ الَّتِي شَرَحْنَاهَا وَالْأَسْرَارِ الَّتِي كَشَفْنَا عَنْ حَقَائِقِهَا صَعُبَتِ الْمَسْأَلَةُ وَغَمُضَتْ وَعَظُمَتْ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِلْحَقِّ وَأَنْ يَخْتِمَ عَاقِبَتَنَا بِالْخَيْرِ آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: اللَّفْظُ يحتمل أن تكون الأسماء دَاخِلَةً فِي حُكْمِ الْخَتْمِ، وَفِي حُكْمِ التَّغْشِيَةِ، إِلَّا أَنَّ الْأَوْلَى دُخُولُهَا فِي حُكْمِ الْخَتْمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً [الْجَاثِيَةِ: 23] وَلِوَقْفِهِمْ عَلَى سَمْعِهِمْ دُونَ قُلُوبِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْفَائِدَةُ فِي تَكْرِيرِ الْجَارِّ فِي قَوْلِهِ: وَعَلى سَمْعِهِمْ أَنَّهَا لَمَّا أُعِيدَتْ لِلْأَسْمَاعِ كَانَ أَدَلَّ عَلَى شِدَّةِ الْخَتْمِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إِنَّمَا جَمَعَ الْقُلُوبَ وَالْأَبْصَارَ وَوَحَّدَ السَّمْعَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَحَّدَ السَّمْعَ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَمْعًا وَاحِدًا، كَمَا يُقَالُ: أَتَانِي بِرَأْسِ الْكَبْشَيْنِ، يَعْنِي رَأْسَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَمَا وَحَّدَ الْبَطْنَ فِي قَوْلِهِ: «كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُو تَعِيشُوا» يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إِذَا أَمِنُوا اللَّبْسَ، فَإِذَا لَمْ يُؤْمَنْ كقولك. فرشهم وَثَوْبُهُمْ وَأَنْتَ تُرِيدُ الْجَمْعَ رَفَضُوهُ. الثَّانِي: أَنَّ السَّمْعَ مَصْدَرٌ فِي أَصْلِهِ، وَالْمَصَادِرُ لَا تُجْمَعُ يُقَالُ: رَجُلَانِ صَوْمٌ، وَرِجَالُ صَوْمٌ، فَرُوعِيَ الْأَصْلُ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ جَمْعُ الْأُذُنِ فِي قَوْلِهِ: وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فُصِّلَتْ: 5] الثَّالِثُ: أَنْ نُقَدِّرَ مُضَافًا مَحْذُوفًا أَيْ وَعَلَى حَوَاسِّ سَمْعِهِمْ. الرَّابِعُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُ وَحَّدَ لَفْظَ السَّمْعِ إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجَمْعُ أَيْضًا، قَالَ تَعَالَى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: 257] عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ [الْمَعَارِجِ: 37] قَالَ الرَّاعِي: بها جيف الحيدى فَأَمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ وَإِنَّمَا أَرَادَ جُلُودَهَا، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ (وَعَلَى أَسْمَاعِهِمْ) . الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: السَّمْعُ أَفْضَلُ مِنَ الْبَصَرِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيْثُ ذَكَرَهُمَا قَدَّمَ السَّمْعَ عَلَى الْبَصَرِ، وَالتَّقْدِيمُ دَلِيلٌ عَلَى التَّفْضِيلِ، وَلِأَنَّ السَّمْعَ شَرْطُ النُّبُوَّةِ بخلاف البصر، ولذلك ما بعث الله رَسُولًا أَصَمَّ، وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ كَانَ مُبْتَلًى بِالْعَمَى، وَلِأَنَّ بِالسَّمْعِ تَصِلُ نَتَائِجُ عُقُولِ الْبَعْضِ إِلَى الْبَعْضِ، فَالسَّمْعُ كَأَنَّهُ سَبَبٌ لِاسْتِكْمَالِ الْعَقْلِ بِالْمَعَارِفِ، وَالْبَصَرُ لَا يُوقِفُكَ إِلَّا عَلَى الْمَحْسُوسَاتِ، وَلِأَنَّ السَّمْعَ مُتَصَرِّفٌ فِي الْجِهَاتِ السِّتِّ بِخِلَافِ الْبَصَرِ، وَلِأَنَّ السَّمْعَ مَتَّى بَطَلَ بَطَلَ النُّطْقُ، وَالْبَصَرُ إِذَا بَطَلَ لَمْ يَبْطُلِ

النُّطْقُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّمَ الْبَصَرَ، لِأَنَّ آلَةَ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ أَشْرَفُ، وَلِأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ هُوَ النُّورُ، وَمُتَعَلِّقَ الْقُوَّةِ السَّامِعَةِ الرِّيحُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْعِلْمِ هُوَ الْقَلْبُ. وَاسْتَقْصَيْنَا بَيَانَهُ فِي قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: 193] فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: الْبَصَرُ نُورُ الْعَيْنِ وَهُوَ مَا يُبْصِرُ بِهِ الرَّائِي وَيُدْرِكُ الْمَرْئِيَّاتِ، كَمَا أَنَّ الْبَصِيرَةَ نُورُ الْقَلْبِ، وَهُوَ مَا يستبصر به ويتأمل، فكأنما جَوْهَرَانِ لَطِيفَانِ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا آلَتَيْنِ لِلْأَبْصَارِ وَالِاسْتِبْصَارِ، أَقُولُ: إِنَّ أَصْحَابَهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَرْضَوْنَ مِنْهُ بِهَذَا الْكَلَامِ: وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي الْإِبْصَارِ يَسْتَدْعِي أَبْحَاثًا غَامِضَةً لَا تَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قُرِئَ غِشاوَةٌ بِالْكَسْرِ وَالنَّصْبِ، وَغُشَاوَةٌ بِالضَّمِّ وَالرَّفْعِ، وَغَشَاوَةً بِالْفَتْحِ وَالنَّصْبِ، وَغِشْوَةٌ بِالْكَسْرِ وَالرَّفْعِ، وَغَشْوَةٌ بِالْفَتْحِ وَالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، وغشاوة بالعين غير المعجمة والرفع من الغشا، وَالْغِشَاوَةُ هِيَ الْغِطَاءُ، وَمِنْهُ الْغَاشِيَةُ، وَمِنْهُ غُشِيَ عَلَيْهِ إِذَا زَالَ عَقْلُهُ وَالْغَشَيَانُ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: الْعَذَابُ مِثْلُ النَّكَالِ بِنَاءً وَمَعْنًى، لِأَنَّكَ تَقُولُ أَعْذَبَ عَنِ الشَّيْءِ إِذَا أَمْسَكَ عَنْهُ، كَمَا تَقُولُ نَكَلَ عَنْهُ، ومنه العذاب، لِأَنَّهُ يَقْمَعُ الْعَطَشَ وَيَرْدَعُهُ بِخِلَافِ الْمِلْحُ فَإِنَّهُ يَزِيدُهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَسْمِيَتُهُمْ إِيَّاهُ نُقَاخًا، لِأَنَّهُ يَنْقَخُ الْعَطَشَ أَيْ يَكْسِرُهُ، وَفُرَاتًا لِأَنَّهُ يَرْفُتُهُ عَنِ الْقَلْبِ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ فَسُمِّيَ كُلُّ أَلَمٍ فَادِحٍ عَذَابًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَكَالًا أَيْ عِقَابًا يَرْتَدِعُ بِهِ الْجَانِي عَنِ الْمُعَاوَدَةِ، والفرق بين العظيم والكبير: أَنَّ الْعَظِيمَ نَقِيضُ الْحَقِيرِ، وَالْكَبِيرَ نَقِيضُ الصَّغِيرِ، فَكَأَنَّ الْعَظِيمَ فَوْقَ الْكَبِيرِ، كَمَا أَنَّ الْحَقِيرَ دُونَ الصَّغِيرِ، وَيُسْتَعْمَلَانِ فِي الْجُثَثِ وَالْأَحْدَاثِ جَمِيعًا، تَقُولُ: رَجُلٌ عَظِيمٌ وَكَبِيرٌ تُرِيدُ جُثَّتَهُ أَوْ خَطَرَهُ، وَمَعْنَى التَّنْكِيرِ أَنَّ عَلَى أَبْصَارِهِمْ نَوْعًا مِنَ الْأَغْطِيَةِ غَيْرَ مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ، وَهُوَ غِطَاءُ التَّعَامِي عَنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَلَهُمْ مِنْ بَيْنِ الْآلَامِ الْعِظَامِ نَوْعٌ عَظِيمٌ لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَعْذِيبُ الْكُفَّارِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَحْسُنُ وفسروا قوله: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ بِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ لَكِنَّ كَرَمَهُ يُوجِبُ عَلَيْهِ العفو، ولنذكر هاهنا دَلَائِلَ الْفَرِيقَيْنِ، أَمَّا الَّذِينَ لَا يُجَوِّزُونَ التَّعْذِيبَ فَقَدْ تَمَسَّكُوا بِأُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ التَّعْذِيبَ ضَرَرٌ خَالٍ عَنْ جِهَاتِ الْمَنْفَعَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا، أَمَّا أَنَّهُ ضَرَرٌ فَلَا شَكَّ، وَأَمَّا أَنَّهُ خَالٍ عَنْ جِهَاتِ الْمَنْفَعَةِ، فَلِأَنَّ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَعَالٍ عَنِ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ مِنَّا فِي الشَّاهِدِ، فَإِنَّ عَبْدَهُ إِذَا أَسَاءَ إِلَيْهِ أَدَّبَهُ، لِأَنَّهُ يَسْتَلِذُّ بِذَلِكَ التَّأْدِيبِ لِمَا كَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ حُبِّ الِانْتِقَامِ وَلِأَنَّهُ إِذَا أَدَّبَهُ فَإِنَّهُ يَنْزَجِرُ بَعْدَ ذَلِكَ عَمَّا يَضُرُّهُ. وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى الْمُعَذَّبِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ أَمَّا إِلَى الْمُعَذَّبِ فَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ الْإِضْرَارَ لَا يَكُونُ عَيْنَ الِانْتِفَاعِ وَأَمَّا إِلَى غَيْرِهِ فَمُحَالٌ، لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ مِنْ إِيصَالِ النَّفْعِ، فَإِيصَالُ الضَّرَرِ إِلَى شَخْصٍ لِغَرَضِ إِيصَالِ النَّفْعِ إِلَى شَخْصٍ آخَرَ تَرْجِيحٌ لِلْمَرْجُوحِ عَلَى الرَّاجِحِ، وَهُوَ بَاطِلٌ وَأَيْضًا فَلَا مَنْفَعَةَ يُرِيدُ اللَّهُ تَعَالَى إِيصَالَهَا إِلَى أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ الِاتِّصَالِ مِنْ غَيْرِ تَوْسِيطِ الْإِضْرَارِ بِالْغَيْرِ، / فَيَكُونُ تَوْسِيطُ ذَلِكَ الْإِضْرَارِ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ. فَثَبَتَ أَنَّ التَّعْذِيبَ ضَرَرٌ خالٍ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ الْمَنْفَعَةِ وَأَنَّهُ مَعْلُومُ الْقُبْحِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ، بَلْ قُبْحُهُ أَجْلَى فِي الْعُقُولِ مِنْ قُبْحِ الْكَذِبِ الَّذِي

لَا يَكُونُ ضَارًّا، وَالْجَهْلُ الَّذِي لَا يَكُونُ ضَارًّا، بَلْ مِنْ قُبْحِ الْكَذِبِ الضَّارِّ وَالْجَهْلِ الضَّارِّ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْكَذِبَ الضَّارَّ وَسِيلَةٌ إِلَى الضَّرَرِ وَقُبْحُ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إِلَى الضَّرَرِ، دون قبح نَفْسِ الضَّرَرِ، وَإِذَا ثَبَتَ قُبْحُهُ امْتَنَعَ صُدُورُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ حَكِيمٌ وَالْحَكِيمُ لَا يَفْعَلُ الْقَبِيحَ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُؤْمَنُ عَلَى مَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [البقرة: 6] إِذَا ثَبَتَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَتَى كُلِّفَ الْكَافِرُ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ إِلَّا الْعِصْيَانُ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْعِصْيَانُ سَبَبًا لِلْعِقَابِ لَكَانَ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ مُسْتَعْقِبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ، إِمَّا لِأَنَّهُ تَمَامُ الْعِلَّةِ، أَوْ لِأَنَّهُ شَطْرُ الْعِلَّةِ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَذَلِكَ التَّكْلِيفُ أَمْرٌ مَتَى حَصَلَ حَصَلَ عَقِيبَهُ لَا مَحَالَةَ الْعِقَابُ، وَمَا كَانَ مُسْتَعْقِبًا لِلضَّرَرِ الْخَالِي عَنِ النَّفْعِ كَانَ قَبِيحًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ قَبِيحًا، وَالْقَبِيحُ لَا يَفْعَلُهُ الحكيم، فلم يبق هاهنا إِلَّا أَحَدُ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُقَالَ لَمْ يُوجَدْ هَذَا التَّكْلِيفُ أَوْ إِنْ وُجِدَ لَكِنَّهُ لَا يَسْتَعْقِبُ الْعِقَابَ، وَكَيْفَ كَانَ فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِمَّا أَنْ يُقَالَ خَلَقَ الْخَلْقَ لِلْإِنْفَاعِ، أَوْ لِلْإِضْرَارِ، أَوْ لَا لِلْإِنْفَاعِ وَلَا لِلْإِضْرَارِ، فَإِنْ خَلَقَهُمْ لِلْإِنْفَاعِ وَجَبَ أَنْ لَا يُكَلِّفَهُمْ مَا يُؤَدِّي بِهِ إِلَى ضِدِّ مَقْصُودِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِكَوْنِهِ كَذَلِكَ، وَلَمَّا عَلِمَ إِقْدَامَهُمْ عَلَى الْعِصْيَانِ لَوْ كَلَّفَهُمْ كَانَ التَّكْلِيفُ فِعْلًا يُؤَدِّي بِهِمْ إِلَى الْعِقَابِ، فَإِذَا كَانَ قَاصِدًا لِإِنْفَاعِهِمْ وَجَبَ أَنْ لَا يُكَلِّفَهُمْ، وَحَيْثُ كَلَّفَهُمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِصْيَانَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ. خَلَقَهُمْ لَا لِلْإِنْفَاعِ وَلَا لِلْإِضْرَارِ، لِأَنَّ التَّرْكَ عَلَى الْعَدَمِ يَكْفِي فِي ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ عَبَثًا، وَلَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ: خَلَقَهُمْ لِلْإِضْرَارِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَكُونُ رَحِيمًا كَرِيمًا، وَقَدْ تَطَابَقَتِ الْعُقُولُ وَالشَّرَائِعُ عَلَى كَوْنِهِ رَحِيمًا كَرِيمًا، وَعَلَى أَنَّهُ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْعِقَابِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْخَالِقُ لِلدَّوَاعِي الَّتِي تُوجِبُ الْمَعَاصِيَ، فَيَكُونُ هُوَ الْمُلْجِئَ إليها فيقبح منه أن يعاقب عليها، إنما قلنا إنه هو الْخَالِقُ لِتِلْكَ الدَّوَاعِي، لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ صُدُورَ الْفِعْلِ عَنْ مَقْدِرَةٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى انْضِمَامِ الدَّاعِيَةِ الَّتِي يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا، وَبَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْجَبْرَ، وَتَعْذِيبُ الْمَجْبُورِ قَبِيحٌ فِي الْعُقُولِ، وَرُبَّمَا قَرَّرُوا هَذَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالُوا: إِذَا كَانَتِ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي الشَّرْعِيَّةُ قَدْ جَاءَتْ إِلَى شَخْصَيْنِ مِنَ النَّاسِ فَقَبِلَهَا أَحَدُهُمَا وَخَالَفَهَا الْآخَرُ فَأُثِيبَ أَحَدُهُمَا وَعُوقِبَ الْآخَرُ، فَإِذَا قيل لم قيل هَذَا وَخَالَفَ الْآخَرُ؟ فَيُقَالُ لِأَنَّ الْقَابِلَ أَحَبَّ الثَّوَابَ وَحَذِرَ الْعِقَابَ فَأَطَاعَ، وَالْآخَرُ لَمْ يُحِبَّ وَلَمْ يَحْذَرْ فَعَصَى، أَوْ أَنَّ هَذَا أَصْغَى إِلَى مَنْ وَعَظَهُ وَفَهِمَ عَنْهُ مَقَالَتَهُ فَأَطَاعَ، وَهَذَا لَمْ يُصْغِ وَلَمْ يَفْهَمْ فَعَصَى، فَيُقَالُ: وَلِمَ أَصْغَى هَذَا وَفَهِمَ وَلَمْ يُصْغِ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْهَمْ؟ فَنَقُولُ: لِأَنَّ هَذَا لَبِيبٌ حَازِمٌ فَطِنٌ، وَذَلِكَ أَخْرَقُ جَاهِلٌ غَبِيٌّ فَيُقَالُ وَلِمَ اخْتُصَّ هَذَا بِالْحَزْمِ وَالْفِطْنَةِ دُونَ ذَاكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفِطْنَةَ وَالْبَلَادَةَ مِنَ الْأَحْوَالِ الْغَرِيزِيَّةِ. فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْتَارُ الْغَبَاوَةَ وَالْخَرَقَ وَلَا يفعلهما في نفسه بنفسه؟ فَإِذَا تَنَاهَتِ/ التَّعْلِيلَاتُ إِلَى أُمُورٍ خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى اضْطِرَارًا عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأُمُورِ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ يُمْكِنُكَ أَنْ تُسَوِّيَ بَيْنَ الشَّخْصَيْنِ اللَّذَيْنِ أَطَاعَ أَحَدُهُمَا وَعَصَى الْآخَرُ فِي كُلِّ حَالٍ أَعْنِي فِي الْعَقْلِ وَالْجَهْلِ، وَالْفَطَانَةِ وَالْغَبَاوَةِ، وَالْحَزْمِ وَالْخَرَقِ، وَالْمُعَلِّمِينَ وَالْبَاعِثِينَ وَالزَّاجِرِينَ، وَلَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَقُولَ إِنَّهُمَا لَوِ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لَمَا اسْتَوَيَا فِي الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، فَإِذَنْ سَبَبُ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ مِنَ الْأَشْخَاصِ أُمُورٌ وَقَعَتْ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَضَائِهِ، وَعِنْدَ هَذَا يُقَالُ: أَيْنَ مِنَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ وَالْكَرَمِ أَنْ يُخْلَقَ الْعَاصِي عَلَى مَا خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَظَاظَةِ وَالْجَسَارَةِ، وَالْغَبَاوَةِ وَالْقَسَاوَةِ، وَالطَّيْشِ وَالْخَرَقِ، ثُمَّ يُعَاقِبُهُ عَلَيْهِ، وَهَلَّا خَلَقَهُ مِثْلَ مَا خَلَقَ الطَّائِعَ لَبِيبًا حَازِمًا عَارِفًا عَالِمًا، وَأَيْنَ مِنَ الْعَدْلِ أَنْ يُسَخِّنَ قَلْبَهُ وَيُقَوِّيَ غَضَبَهُ وَيُلْهِبَ دِمَاغَهُ وَيُكْثِرَ طَيْشَهُ وَلَا يَرْزُقَهُ مَا رَزَقَ غَيْرَهُ مِنْ مُؤَدِّبٍ أَدِيبٍ وَمُعَلِّمٍ عَالِمٍ وَوَاعِظٍ مُبَلِّغٍ، بَلْ يُقَيِّضُ لَهُ أَضْدَادَ هَؤُلَاءِ فِي أَفْعَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ فَيَتَعَلَّمُ مِنْهُمْ ثُمَّ يؤاخذه

بِمَا يُؤَاخِذُ بِهِ اللَّبِيبَ الْحَازِمَ، وَالْعَاقِلَ الْعَالِمَ، الْبَارِدَ الرَّأْسِ، الْمُعْتَدِلَ مِزَاجِ الْقَلْبِ، اللَّطِيفَ الرُّوحِ الَّذِي رَزَقَهُ مُرَبِّيًا شَفِيقًا، وَمُعَلِّمًا كَامِلًا؟ مَا هَذَا مِنَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ وَالْكَرَمِ وَالرَّأْفَةِ فِي شَيْءٍ! فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْعِقَابِ عَلَى خِلَافِ قَضَايَا الْعُقُولِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا كَلَّفَنَا النَّفْعَ لِعَوْدِهِ إِلَيْنَا، لِأَنَّهُ قَالَ: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: 7] فَإِذَا عَصَيْنَا فَقَدْ فَوَّتْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا تِلْكَ الْمَنَافِعَ، فَهَلْ يَحْسُنُ فِي الْعُقُولِ أَنْ يَأْخُذَ الْحَكِيمُ إِنْسَانًا وَيَقُولَ لَهُ إِنِّي أُعَذِّبُكَ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ، لِأَنَّكَ فَوَّتَّ عَلَى نَفْسِكَ بَعْضَ الْمَنَافِعِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ إِنْ تَحْصِيلَ النَّفْعِ مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى دَفْعِ الضَّرَرِ فَهَبْ أَنِّي فَوَّتُّ عَلَى نَفْسِي أَدْوَنَ الْمَطْلُوبَيْنِ أَفَتَفُوتُ عَلَيَّ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَعْظَمُهَا وَهَلْ يَحْسُنُ مِنَ السَّيِّدِ أَنْ يَأْخُذَ عَبْدَهُ وَيَقُولَ إِنَّكَ قَدَرْتَ عَلَى أَنْ تَكْتَسِبَ دِينَارًا لِنَفْسِكَ وَلِتَنْتَفِعَ بِهِ خَاصَّةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِي فِيهِ غَرَضٌ الْبَتَّةَ، فَلَمَّا لَمْ تَكْتَسِبْ ذَلِكَ الدِّينَارَ وَلَمْ تَنْتَفِعْ بِهِ آخُذُكَ وَأَقْطَعُ أَعْضَاءَكَ إِرْبًا إِرْبًا، لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا نِهَايَةُ السَّفَاهَةِ، فَكَيْفَ يليق بأحكم الحاكمين! ثم قالوا هب أن سَلَّمْنَا هَذَا الْعِقَابَ فَمِنْ أَيْنَ الْقَوْلُ بِالدَّوَامِ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَقْسَى النَّاسِ قَلْبًا وَأَشَدَّهُمْ غِلْظَةً وَفَظَاظَةً وَبُعْدًا عَنِ الْخَيْرِ إِذَا أَخَذَ مَنْ بَالَغَ فِي الْإِسَاءَةِ إِلَيْهِ وَعَذَّبَهُ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً فَإِنَّهُ يَشْبَعُ مِنْهُ وَيَمَلُّ، فَلَوْ بَقِيَ مُوَاظِبًا عَلَيْهِ لَامَهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَيُقَالُ هَبْ أَنَّهُ بَالَغَ هَذَا فِي إِضْرَارِكَ، وَلَكِنْ إِلَى مَتَى هَذَا التَّعْذِيبُ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتُلَهُ وَتُرِيحَهُ، وَإِمَّا أَنْ تُخَلِّصَهُ، فَإِذَا قَبُحَ هَذَا مِنَ الْإِنْسَانِ الَّذِي يَلْتَذُّ بِالِانْتِقَامِ فَالْغَنِيُّ عَنِ الْكُلِّ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ هَذَا الدَّوَامُ الَّذِي يُقَالُ! وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ نَهَى عِبَادَهُ عَنِ اسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ، فَقَالَ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً [الْإِسْرَاءِ: 33] وَقَالَ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] ثُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ هَبْ أَنَّهُ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى طُولَ عُمْرِهِ فَأَيْنَ عُمْرُهُ مِنَ الْأَبَدِ؟ فَيَكُونُ الْعِقَابُ الْمُؤَبَّدُ ظُلْمًا. وَسَابِعُهَا: أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ وَاظَبَ عَلَى الْكُفْرِ طُولَ عُمْرِهِ، فَإِذَا تَابَ ثُمَّ مَاتَ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَأَجَابَ دُعَاءَهُ وَقَبِلَ تَوْبَتَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الْكَرِيمَ الْعَظِيمَ مَا بَقِيَ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ عُقُولُ أُولَئِكَ الْمُعَذَّبِينَ مَا بَقِيَتْ فَلِمَ لَا يَتُوبُونَ عَنْ مَعَاصِيهِمْ؟ وَإِذَا تَابُوا فَلِمَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ تَوْبَتَهُمْ، وَلِمَ لَا يَسْمَعُ نِدَاءَهُمْ، / وَلِمَ يُخَيِّبُ رَجَاءَهُمْ؟ وَلِمَ كَانَ فِي الدُّنْيَا فِي الرَّحْمَةِ وَالْكَرَمِ إِلَى حَيْثُ قَالَ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: 60] أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النَّمْلِ: 62] وَفِي الْآخِرَةِ صَارَ بِحَيْثُ كُلَّمَا كَانَ تَضَرُّعُهُمْ إِلَيْهِ أَشَدَّ فَإِنَّهُ لَا يُخَاطِبُهُمْ إِلَّا بقوله: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 108] قَالُوا: فَهَذِهِ الْوُجُوهُ مِمَّا تُوجِبُ الْقَطْعَ بِعَدَمِ الْعِقَابِ. ثُمَّ قَالَ مَنْ آمَنَ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالْقُرْآنِ: الْعُذْرُ عَمَّا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالدَّلَائِلِ اللَّفْظِيَّةِ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ، وَالدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ تُفِيدُ الْيَقِينَ، وَالْمَظْنُونُ لَا يُعَارِضُ الْمَقْطُوعَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الدَّلَائِلَ اللَّفْظِيَّةَ لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ، لِأَنَّ الدَّلَائِلَ اللَّفْظِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أُصُولٍ كُلُّهَا ظَنِّيَّةٌ وَالْمَبْنِيُّ عَلَى الظَّنِّيِّ ظَنِّيٌّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أُصُولٍ ظَنِّيَّةٍ، لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى نَقْلِ اللُّغَاتِ وَنَقْلِ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ، وَرُوَاةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يُعْلَمُ بُلُوغُهُمْ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، فَكَانَتْ رِوَايَتُهُمْ مَظْنُونَةً، وَأَيْضًا فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى عَدَمِ الِاشْتِرَاكِ وَعَدَمِ الْمَجَازِ وَعَدَمِ التَّخْصِيصِ وَعَدَمِ الْإِضْمَارِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَعَدَمِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ أُمُورٌ ظَنِّيَّةٌ، وَأَيْضًا فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى عَدَمِ الْمُعَارِضِ الْعَقْلِيِّ، فَإِنَّهُ بِتَقْدِيرِ وُجُودِهِ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِصِدْقِهِمَا وَلَا بِكَذِبِهِمَا مَعًا، وَلَا يُمْكِنُ تَرْجِيحُ النَّقْلِ عَلَى الْعَقْلِ لِأَنَّ الْعَقْلَ أَصْلُ النَّقْلِ، وَالطَّعْنُ فِي الْعَقْلِ يُوجِبُ الطَّعْنَ فِي الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ مَعًا، لَكِنَّ عَدَمَ الْمُعَارِضِ الْعَقْلِيِّ مَظْنُونٌ، هَذَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ فَكَيْفَ وَقَدْ وَجَدْنَا هاهنا دَلَائِلَ عَقْلِيَّةً عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ، فَثَبَتَ أَنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ النَّقْلِيَّةِ ظَنِّيَّةٌ، وَأَمَّا أَنَّ الظَّنِّيَّ لَا يُعَارِضُ الْيَقِينِيَّ فَلَا شَكَّ فِيهِ. وَثَانِيهَا: وَهُوَ أَنَّ

[سورة البقرة (2) : آية 8]

التَّجَاوُزَ عَنِ الْوَعِيدِ مُسْتَحْسَنٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنِّي إِذَا أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي بَلِ الْإِصْرَارُ عَلَى تَحْقِيقِ الْوَعِيدِ كَأَنَّهُ يُعَدُّ لُؤْمًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَصْلُحَ مِنَ اللَّهِ تعالى، وهذا بناءً على حرف وهو أَهْلَ السُّنَّةِ جَوَّزُوا نَسْخَ الْفِعْلِ قَبْلَ مُدَّةِ الِامْتِثَالِ وَحَاصِلُ حُرُوفِهِمْ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ يُسَنُّ تَارَةً لِحِكْمَةٍ تَنْشَأُ مِنْ نَفْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَتَارَةً لِحِكْمَةٍ تَنْشَأُ مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ السَّيِّدَ قَدْ يَقُولُ لِعَبْدِهِ افْعَلِ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ غَدًا وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ فِي الْحَالِ أَنَّهُ سَيَنْهَاهُ عَنْهُ غَدًا، وَيَكُونُ مَقْصُودُهُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ أَنْ يُظْهِرَ الْعَبْدُ الِانْقِيَادَ لِسَيِّدِهِ فِي ذَلِكَ وَيُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلَى طَاعَتِهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا عَلِمَ اللَّهُ مِنَ الْعَبْدِ أَنَّهُ سَيَمُوتُ غَدًا فَإِنَّهُ يَحْسُنُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ يَقُولَ: صَلِّ غَدًا إِنْ عِشْتَ، وَلَا يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ تَحْصِيلَ الْمَأْمُورِ بِهِ، لِأَنَّهُ هاهنا مُحَالٌ بَلِ الْمَقْصُودُ حِكْمَةٌ تَنْشَأُ مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ فَقَطْ، وَهُوَ حُصُولُ الِانْقِيَادِ وَالطَّاعَةِ وَتَرْكُ التَّمَرُّدِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْخَبَرُ أَيْضًا كَذَلِكَ؟ فَتَارَةً يَكُونُ مَنْشَأُ الْحِكْمَةِ مِنَ الْأَخْبَارِ هُوَ الشَّيْءَ الْمُخْبَرَ عَنْهُ وَذَلِكَ فِي الْوَعْدِ، وَتَارَةً يَكُونُ مَنْشَأُ الْحِكْمَةِ هُوَ نَفْسَ الْخَبَرِ لَا الْمُخْبَرَ عَنْهُ كَمَا فِي الْوَعِيدِ، فَإِنَّ الْأَخْبَارَ عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ مِمَّا يُفِيدُ الزَّجْرَ عَنِ الْمَعَاصِي وَالْإِقْدَامَ عَلَى الطَّاعَاتِ، فَإِذَا حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ جَازَ أَنْ لَا يُوجَدَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ كَمَا فِي الْوَعِيدِ، وَعِنْدَ هَذَا قَالُوا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بِالثَّوَابِ حَقٌّ لَازِمٌ، وَأَمَّا تَوَعُّدُهُ بِالْعِقَابِ فَغَيْرُ لَازِمٍ، وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهِ صَلَاحُ الْمُكَلَّفِينَ مَعَ رَحْمَتِهِ الشَّامِلَةِ لَهُمْ، كَالْوَالِدِ يُهَدِّدُ وَلَدَهُ/ بِالْقَتْلِ وَالسَّمْلِ وَالْقَطْعِ وَالضَّرْبِ، فَإِنْ قَبِلَ الْوَلَدُ أَمْرَهُ فَقَدِ انْتَفَعَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَمَا فِي قَلْبِ الْوَالِدِ مِنَ الشَّفَقَةِ يَرُدُّهُ عَنْ قَتْلِهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ يَكُونُ ذَلِكَ كَذِبًا وَالْكَذِبُ قَبِيحٌ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ كَذِبٍ قَبِيحٌ بَلِ الْقَبِيحُ هُوَ الْكَذِبُ الضَّارُّ، فَأَمَّا الْكَذِبُ النَّافِعُ فَلَا، ثُمَّ إِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ كَذِبٌ، أَلَيْسَ أَنَّ جَمِيعَ عُمُومَاتِ الْقُرْآنِ مَخْصُوصَةٌ وَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ كَذِبًا، أَلَيْسَ أَنَّ كُلَّ الْمُتَشَابِهَاتِ مَصْرُوفَةٌ عَنْ ظَوَاهِرِهَا، وَلَا يُسَمَّى ذلك كذباً فكذا هاهنا. وَثَالِثُهَا: أَلَيْسَ أَنَّ آيَاتِ الْوَعِيدِ فِي حَقِّ الْعُصَاةِ مَشْرُوطَةٌ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الشَّرْطُ مَذْكُورًا فِي صَرِيحِ النَّصِّ، فَهِيَ أَيْضًا عِنْدَنَا مَشْرُوطَةٌ بِعَدَمِ الْعَفْوِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الشَّرْطُ مَذْكُورًا بِصَرِيحِ النَّصِّ صَرِيحًا، أَوْ نَقُولُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَاصِيَ يَسْتَحِقُّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ مِنَ الْعِقَابِ فَيُحْمَلُ الْإِخْبَارُ عَنِ الْوُقُوعِ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ اسْتِحْقَاقِ الْوُقُوعِ فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يُقَالُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَذْهَبِ. وَأَمَّا الَّذِينَ أَثْبَتُوا وُقُوعَ الْعَذَابِ، فَقَالُوا إِنَّهُ نُقِلَ إِلَيْنَا عَلَى سَبِيلِ التَّوَاتُرِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُقُوعُ الْعَذَابِ فَإِنْكَارُهُ يَكُونُ تَكْذِيبًا لِلرَّسُولِ وَأَمَّا الشُّبَهُ الَّتِي تَمَسَّكْتُمْ بِهَا فِي نَفْيِ الْعِقَابِ فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا نَقُولُ بِهِ والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 8] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) اعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي وَصْفِ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا: وَصَفَ اللَّهُ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فَبَدَأَ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ صَحَّتْ سَرَائِرُهُمْ وَسَلِمَتْ ضَمَائِرُهُمْ، ثُمَّ أَتْبَعَهُمْ بِالْكَافِرِينَ الَّذِينَ مِنْ صِفَتِهِمُ الْإِقَامَةُ عَلَى الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ، ثُمَّ وَصَفَ حَالَ مَنْ يَقُولُ بِلِسَانِهِ إِنَّهُ مُؤْمِنٌ وَضَمِيرُهُ يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي حَقِيقَةِ النِّفَاقِ لَا يَتَخَلَّصُ إِلَّا بِتَقْسِيمٍ نَذْكُرُهُ فَنَقُولُ: أَحْوَالُ الْقَلْبِ أَرْبَعَةٌ، وَهِيَ الِاعْتِقَادُ الْمُطَابِقُ الْمُسْتَفَادُ عَنِ الدَّلِيلِ وَهُوَ الْعِلْمُ، وَالِاعْتِقَادُ الْمُطَابِقُ الْمُسْتَفَادُ لَا عَنِ الدَّلِيلِ وَهُوَ اعْتِقَادُ الْمُقَلِّدِ، وَالِاعْتِقَادُ الغير الْمُطَابِقِ وَهُوَ الْجَهْلُ، وَخُلُوُّ الْقَلْبِ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ. فَهَذِهِ أَقْسَامٌ أَرْبَعَةٌ، وَأَمَّا أَحْوَالُ اللِّسَانِ فَثَلَاثَةٌ: الْإِقْرَارُ، وَالْإِنْكَارُ، وَالسُّكُوتُ. فَيَحْصُلُ مِنْ تَرْكِيبَاتِهَا اثْنَا عَشَرَ قِسْمًا. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا إِذَا حَصَلَ الْعِرْفَانُ الْقَلْبِيُّ فَهَهُنَا إِمَّا أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ أَوِ الْإِنْكَارُ بِاللِّسَانِ أَوِ السُّكُوتُ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا إِذَا حَصَلَ الْعِرْفَانُ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ فَهَذَا الْإِقْرَارُ إِنْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا فَصَاحِبُهُ مُؤْمِنٌ حَقًّا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ اضْطِرَارِيًّا وَهُوَ مَا إِذَا عَرَفَ بِقَلْبِهِ وَلَكِنَّهُ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَوْلَا الْخَوْفُ لَمَا أَقَرَّ، بَلْ أَنْكَرَ، فَهَذَا يَجِبُ أَنْ يُعَدَّ مُنَافِقًا، لِأَنَّهُ بِقَلْبِهِ مُنْكِرٌ مُكَذِّبٌ، فَإِذَا كَانَ بِاللِّسَانِ مُقِرًّا مُصَدِّقًا وَجَبَ أَنْ يُعَدَّ مُنَافِقًا لِأَنَّهُ بِقَلْبِهِ مُنْكِرٌ مُكَذِّبٌ بِوُجُوبِ الْإِقْرَارِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَحْصُلَ الْعِرْفَانُ الْقَلْبِيُّ وَالْإِنْكَارُ اللِّسَانِيُّ/ فَهَذَا الْإِنْكَارُ إِنْ كَانَ اضْطِرَارِيًّا كَانَ صَاحِبُهُ مُسْلِمًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النَّحْلِ: 106] وَإِنْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا كَانَ كَافِرًا مُعَانِدًا. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَحْصُلَ الْعِرْفَانُ الْقَلْبِيُّ وَيَكُونُ اللِّسَانُ خَالِيًا عَنِ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ، فَهَذَا السُّكُوتُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اضْطِرَارِيًّا أَوِ اخْتِيَارِيًّا، فَإِنْ كَانَ اضْطِرَارِيًّا فَذَلِكَ إِذَا خَافَ ذَكَرَهُ بِاللِّسَانِ فَهَذَا مُسْلِمٌ حَقًّا أَوْ كَمَا إِذَا عَرَفَ اللَّهَ بِدَلِيلِهِ ثُمَّ لَمَّا تَمَّمَ النَّظَرَ مَاتَ فَجْأَةً، فَهَذَا مُؤْمِنٌ قَطْعًا، لِأَنَّهُ أَتَى بِكُلِّ مَا كُلِّفَ بِهِ وَلَمْ يَجِدْ زَمَانَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ فَكَانَ مَعْذُورًا فِيهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا فَهُوَ كَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ بِدَلِيلِهِ ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْإِقْرَارِ، فَهَذَا مَحَلُّ الْبَحْثِ، وَمَيْلُ الْغَزَالِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ» وَهَذَا الرَّجُلُ قَلْبُهُ مَمْلُوءٌ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ فَكَيْفَ لَا يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ. النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَحْصُلَ فِي الْقَلْبِ الِاعْتِقَادُ التَّقْلِيدِيُّ، فَإِمَّا أَنْ يُوجَدَ مَعَهُ الْإِقْرَارُ، أَوِ الْإِنْكَارُ أَوِ السُّكُوتُ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُوجَدَ مَعَهُ الْإِقْرَارُ، ثُمَّ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ إِنْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا فَهَذَا هُوَ الْمَسْأَلَةُ الْمَشْهُورَةُ مِنْ أَنَّ الْمُقَلِّدَ هَلْ هُوَ مُؤْمِنٌ أَمْ لَا؟ وَإِنْ كَانَ اضْطِرَارِيًّا فَهَذَا يُفَرَّعُ عَلَى الصُّورَةِ الْأُولَى، فَإِنْ حَكَمْنَا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى بِالْكُفْرِ، فهاهنا لَا كَلَامَ، وَإِنْ حَكَمْنَا هُنَاكَ بِالْإِيمَانِ وَجَبَ أن يحكم هاهنا بِالنِّفَاقِ، لِأَنَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَوْ كَانَ القلب عرفاً لَكَانَ هَذَا الشَّخْصُ مُنَافِقًا، فَبِأَنْ يَكُونَ مُنَافِقًا عِنْدَ التَّقْلِيدِ كَانَ أَوْلَى. الْقِسْمُ الثَّانِي: الِاعْتِقَادُ التَّقْلِيدِيُّ مَعَ الْإِنْكَارِ اللِّسَانِيِّ، ثُمَّ هَذَا الْإِنْكَارُ إِنْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا فَلَا شَكَّ فِي الْكُفْرِ، وَإِنْ كَانَ اضْطِرَارِيًّا وَحَكَمْنَا بِإِيمَانِ الْمُقَلِّدِ وَجَبَ أَنْ نَحْكُمَ بِالْإِيمَانِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الِاعْتِقَادُ التَّقْلِيدِيُّ مَعَ السُّكُوتِ اضْطِرَارِيًّا كَانَ أَوِ اخْتِيَارِيًّا، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ إِذَا حَكَمْنَا بِإِيمَانِ الْمُقَلِّدِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْإِنْكَارُ الْقَلْبِيُّ فَإِمَّا أَنْ يُوجَدَ مَعَهُ الْإِقْرَارُ اللِّسَانِيُّ، أَوِ الْإِنْكَارُ اللِّسَانِيُّ، أَوِ السُّكُوتُ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُوجَدَ مَعَهُ الْإِقْرَارُ اللِّسَانِيُّ، فَذَلِكَ الْإِقْرَارُ إِنْ كَانَ اضْطِرَارِيًّا فَهُوَ الْمُنَافِقُ وَإِنْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا فَهُوَ مِثْلُ أَنْ يَعْتَقِدَ بِنَاءً عَلَى شُبْهَةٍ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ ثُمَّ بِالِاخْتِيَارِ أَقَرَّ بِاللِّسَانِ أَنَّ الْعَالَمَ مُحْدَثٌ، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ يَعْرِفَ بِالْقَلْبِ ثُمَّ يُنْكِرَ بِاللِّسَانِ وَهُوَ كُفْرُ الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْهَلَ بِالْقَلْبِ ثُمَّ يُقِرَّ بِاللِّسَانِ؟ فَهَذَا الْقِسْمُ أَيْضًا مِنَ النِّفَاقِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُوجَدَ الْإِنْكَارُ الْقَلْبِيُّ وَيُوجَدَ الْإِنْكَارُ اللِّسَانِيُّ فَهَذَا كَافِرٌ وَلَيْسَ بِمُنَافِقٍ، لِأَنَّهُ مَا أَظْهَرَ شَيْئًا بِخِلَافِ بَاطِنِهِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُوجَدَ الْإِنْكَارُ الْقَلْبِيُّ مَعَ السُّكُوتِ اللساني فهذا كافر وليس بمنافق لأنه ما أَظْهَرَ شَيْئًا. النَّوْعُ الرَّابِعُ: الْقَلْبُ الْخَالِي عَنْ جَمِيعِ الِاعْتِقَادَاتِ فَهَذَا إِمَّا أَنْ يُوجَدَ مَعَهُ الْإِقْرَارُ أَوِ الْإِنْكَارُ أَوِ السُّكُوتُ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إِذَا وُجِدَ الْإِقْرَارُ فَهَذَا

الْإِقْرَارُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارِيًّا أَوِ اضْطِرَارِيًّا، فَإِنْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْكُفْرُ، لَكِنَّهُ فَعَلَ مَا لَا يَجُوزُ حَيْثُ أَخْبَرَ عَمَّا لَا يَدْرِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ صَادِقٌ فِيهِ أَمْ لَا؟ وَإِنْ كَانَ لَا فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ فَفِيهِ نَظَرٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ اضْطِرَارِيًّا لَمْ يَكْفُرْ صَاحِبُهُ، لِأَنَّ تَوَقُّفَهُ إِذَا كَانَ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ وَكَانَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ تَرْكِ الْإِقْرَارِ لَمْ يَكُنْ/ عَمَلُهُ قَبِيحًا. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْقَلْبُ الْخَالِي مَعَ الْإِنْكَارِ بِاللِّسَانِ وَحُكْمُهُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ حُكْمِ الْقِسْمِ الْعَاشِرِ الْقِسْمُ الثالث: القلب الخالي مع اللساني الْخَالِي، فَهَذَا إِنْ كَانَ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ فَذَاكَ هُوَ الْوَاجِبُ، وَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ مُهْلَةِ النَّظَرِ وَجَبَ تَكْفِيرُهُ وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالنِّفَاقِ أَلْبَتَّةَ، فَهَذِهِ هِيَ الْأَقْسَامُ الْمُمْكِنَةُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ النِّفَاقَ مَا هُوَ، وَأَنَّهُ الَّذِي لَا يُطَابِقُ ظَاهِرُهُ بَاطِنَهُ سَوَاءٌ كَانَ فِي بَاطِنِهِ مَا يُضَادُّ مَا فِي ظَاهِرِهِ أَوْ كَانَ بَاطِنُهُ خَالِيًا عما يشعر به ظاهره، وإذا عَرَفْتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُنَافِقُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ كُفْرَ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ أَقْبَحُ أَمْ كُفْرَ الْمُنَافِقِ؟ قَالَ قَوْمٌ كُفْرُ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ أَقْبَحُ، لِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِالْقَلْبِ كَاذِبٌ بِاللِّسَانِ، وَالْمُنَافِقُ جَاهِلٌ بِالْقَلْبِ صَادِقٌ بِاللِّسَانِ. وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ الْمُنَافِقُ أَيْضًا كَاذِبٌ بِاللِّسَانِ، فَإِنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ كَوْنِهِ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 14] وَقَالَ: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [الْمُنَافِقُونَ: 1] ثُمَّ إِنَّ الْمُنَافِقَ اخْتُصَّ بِمَزِيدِ أُمُورٍ مُنْكَرَةٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَصَدَ التَّلْبِيسَ وَالْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ مَا قَصَدَ ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْكَافِرَ عَلَى طَبْعِ الرِّجَالِ، وَالْمُنَافِقَ عَلَى طَبْعِ الْخُنُوثَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْكَافِرَ مَا رَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْكَذِبِ بَلِ اسْتَنْكَفَ مِنْهُ وَلَمْ يَرْضَ إِلَّا بِالصِّدْقِ، وَالْمُنَافِقُ رَضِيَ بِذَلِكَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمُنَافِقَ ضَمَّ إِلَى كُفْرِهِ الِاسْتِهْزَاءَ بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، وَلِأَجْلِ غِلَظِ كُفْرِهِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاءِ: 145] . وَخَامِسُهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهُ تَعَالَى ابْتَدَأَ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَرْبَعِ آيَاتٍ، ثُمَّ ثَنَّى بِذِكْرِ الْكُفَّارِ فِي آيَتَيْنِ ثُمَّ ثَلَّثَ بِذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ فِي ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقَ أَعْظَمُ جُرْمًا. وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ كَثْرَةَ الِاقْتِصَاصِ بِخَبَرِهِمْ لَا تُوجِبُ كَوْنَ جُرْمِهِمْ أَعْظَمَ، فَإِنْ عُظِّمَ فَلِغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ ضَمُّهُمْ إِلَى الْكُفْرِ وُجُوهًا مِنَ الْمَعَاصِي كَالْمُخَادَعَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَطَلَبِ الْغَوَائِلِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ كَثْرَةَ الِاقْتِصَاصِ بِخَبَرِهِمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاهْتِمَامَ بِدَفْعِ شَرِّهِمْ أَشَدُّ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِدَفْعِ شَرِّ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَعْظَمُ جُرْمًا مِنَ الْكُفَّارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى وَأَقَرَّ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا، لِقَوْلِهِ: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ وَقَالَتِ الْكَرَّامِيَّةُ: إِنَّهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا الثَّانِي: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ كُلَّ الْمُكَلَّفِينَ عَارِفُونَ بِاللَّهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ عَارِفًا لَا يَكُونُ مُكَلَّفًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ لَوْ كَانُوا عَارِفِينَ بِاللَّهِ وَقَدْ أَقَرُّوا بِهِ لَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ إِقْرَارُهُمْ بِذَلِكَ إِيمَانًا، لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَقَرَّ بِهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ غَيْرَ الْعَارِفِ لَوْ كَانَ مَعْذُورًا لَمَا ذَمَّ اللَّهُ هَؤُلَاءِ عَلَى عَدَمِ الْعِرْفَانِ، فَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ يَكُونُ مَعْذُورًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرُوا فِي اشْتِقَاقِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ/ أَنَّهُ قَالَ: سُمِّيَ إِنْسَانًا لِأَنَّهُ عُهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ، وَقَالَ الشَّاعِرُ. سُمِّيتَ إِنْسَانًا لِأَنَّكَ نَاسِي.

وقال أبو الفتح البستي: يا أَكْثَرَ النَّاسِ إِحْسَانًا إِلَى النَّاسِ ... وَأَكْثَرَ النَّاسِ إِفْضَالًا عَلَى النَّاسِ نَسِيتُ عَهْدَكَ وَالنِّسْيَانُ مُغْتَفَرٌ ... فَاغْفِرْ فَأَوَّلُ نَاسٍ أَوَّلُ النَّاسِ وَثَانِيهَا: سُمِّيَ إِنْسَانًا لِاسْتِئْنَاسِهِ بِمِثْلِهِ. وَثَالِثُهَا: قَالُوا: الْإِنْسَانُ إِنَّمَا سُمِّيَ إِنْسَانًا لِظُهُورِهِمْ وَأَنَّهُمْ يُؤْنِسُونَ أَيْ يُبْصِرُونَ مِنْ قَوْلِهِ: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَارًا [الْقَصَصِ: 29] كَمَّا سُمِّيَ الْجِنُّ لِاجْتِنَانِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي كُلِّ لَفْظٍ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ شَيْءٍ آخَرَ وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إِلَى جَعْلِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ مُشْتَقًّا مِنْ شَيْءٍ آخَرَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُنَافِقِي أَهْلِ الْكِتَابِ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وجد ابن قَيْسٍ، كَانُوا إِذَا لَقُوا الْمُؤْمِنِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَالتَّصْدِيقَ وَيَقُولُونَ إِنَّا لَنَجِدُ فِي كِتَابِنَا نَعْتَهُ وَصِفَتَهُ وَلَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ إِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَفْظَةُ «مَنْ» لَفْظَةٌ صَالِحَةٌ لِلتَّثْنِيَةِ، وَالْجَمْعِ، وَالْوَاحِدِ. أَمَّا فِي الْوَاحِدِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الْأَنْعَامِ: 25] وَفِي الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ [يُونُسَ: 42] وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ مُوَحَّدُ اللَّفْظِ مَجْمُوعُ الْمَعْنَى، فَعِنْدَ التَّوْحِيدِ يُرْجَعُ إِلَى اللَّفْظِ. وَعِنْدَ الْجَمْعِ يُرْجَعُ إِلَى الْمَعْنَى، وَحَصَلَ الْأَمْرَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَقُولُ لَفْظُ الواحد وآمَنَّا لَفْظُ الْجَمْعِ وَبَقِيَ مِنْ مَبَاحِثِ الْآيَةِ أَسْئِلَةٌ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْمُنَافِقُونَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِنُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلِمَ كَذَّبَهُمْ فِي ادِّعَائِهِمُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ وَالْجَوَابُ: إِنْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى مُنَافِقِي الْمُشْرِكِينَ فَلَا إِشْكَالَ، لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ كَانُوا جَاهِلِينَ بِاللَّهِ وَمُنْكِرِينَ الْبَعْثَ وَالنُّشُورَ وَإِنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى مُنَافِقِي أَهْلِ الْكِتَابِ- وَهُمُ الْيَهُودُ- فَإِنَّمَا كَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ إِيمَانَ الْيَهُودِ بِاللَّهِ لَيْسَ بِإِيمَانٍ، لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَهُ جِسْمًا، وَقَالُوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ إِيمَانُهُمْ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ لَيْسَ بِإِيمَانٍ، فَلَمَّا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ كَانَ خُبْثُهُمْ فِيهِ مُضَاعَفًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِقُلُوبِهِمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الْبَاطِلِ، وَبِاللِّسَانِ يُوهِمُونَ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الْكَلَامِ إِنَّا آمَنَّا لِلَّهِ مِثْلَ إِيمَانِكُمْ، فَلِهَذَا كَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ طَابَقَ قَوْلُهُ: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ قَوْلَهُمْ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَالْأَوَّلُ فِي ذِكْرِ شَأْنِ الْفِعْلِ لَا الْفَاعِلِ، وَالثَّانِي فِي ذِكْرِ شَأْنِ الْفَاعِلِ لَا الْفِعْلِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَنْ قَالَ فُلَانٌ نَاظَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْفُلَانِيَّةِ، فَلَوْ قُلْتَ إِنَّهُ لَمْ يُنَاظِرْ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ كُنْتَ قَدْ كَذَّبْتَهُ، أَمَّا لَوْ قُلْتَ إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاظِرِينَ كُنْتَ قَدْ بَالَغْتَ فِي تَكْذِيبِهِ، يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، فَكَيْفَ يُظَنُّ به ذلك؟ فكذا هاهنا لما قالوا آنا بِاللَّهِ فَلَوْ قَالَ اللَّهُ مَا آمَنُوا كَانَ ذَلِكَ تَكْذِيبًا لَهُمْ أَمَّا لَمَّا قَالَ: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ كَانَ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي تَكْذِيبِهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها هُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَمَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْمُرَادُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ الْجَوَابُ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ/ الْوَقْتُ الَّذِي لَا حَدَّ لَهُ وَهُوَ الْأَبَدُ الدَّائِمُ، الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ لَهُ أَمَدٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الوقت المحدود من النشور إلى أن يدخل أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، لِأَنَّهُ آخِرُ الْأَوْقَاتِ الْمَحْدُودَةِ، وَمَا بَعْدَهُ فَلَا حَدَّ له.

[سورة البقرة (2) : الآيات 9 إلى 10]

[سورة البقرة (2) : الآيات 9 الى 10] يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) اعلم أن الله تعالى مِنْ قَبَائِحِ الْمُنَافِقِينَ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَوَّلًا: مَا الْمُخَادَعَةُ، ثُمَّ ثَانِيًا: مَا الْمُرَادُ، بِمُخَادَعَةِ اللَّهِ؟ وَثَالِثًا: أَنَّهُمْ لِمَاذَا كَانُوا يُخَادِعُونَ اللَّهَ؟ وَرَابِعًا: أَنَّهُ مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أنفسهم؟. [في بيان قوله تعالى يخادعون الله والذين آمنوا] [فيه مسائل] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْخَدِيعَةَ مَذْمُومَةٌ، وَالْمَذْمُومُ يَجِبُ أَنْ يُمَيَّزَ مِنْ غَيْرِهِ لِكَيْ لَا يُفْعَلَ، وَأَصْلُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ الْإِخْفَاءُ، وَسُمِّيَتِ الْخِزَانَةُ الْمِخْدَعَ، وَالْأَخْدَعَانِ عِرْقَانِ فِي الْعُنُقِ لِأَنَّهُمَا خَفِيَّانِ. وَقَالُوا: خَدَعَ الضَّبُّ خَدْعًا إِذَا تَوَارَى فِي جُحْرِهِ فَلَمْ يَظْهَرْ إِلَّا قَلِيلًا، وَطَرِيقٌ خَيْدَعٌ وَخَدَّاعٌ، إِذَا كَانَ مُخَالِفًا لِلْمَقْصِدِ بِحَيْثُ لَا يُفْطَنُ لَهُ، وَمِنْهُ الْمَخْدَعُ. وَأَمَّا حَدُّهَا فَهُوَ إِظْهَارُ مَا يُوهِمُ السَّلَامَةَ وَالسَّدَادَ، وَإِبْطَانُ مَا يَقْتَضِي الْإِضْرَارَ بِالْغَيْرِ وَالتَّخَلُّصَ مِنْهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النِّفَاقِ فِي الْكُفْرِ وَالرِّيَاءِ فِي الْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ الدِّينُ، لِأَنَّ الدِّينَ يُوجِبُ الِاسْتِقَامَةَ وَالْعُدُولَ عَنِ الْغُرُورِ وَالْإِسَاءَةِ، كَمَا يُوجِبُ الْمُخَالَصَةَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادَةِ، وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَصْفُهُمُ الْمُرَائِيَ بِأَنَّهُ مُدَلِّسٌ إِذَا أَظْهَرَ خِلَافَ مُرَادِهِ، وَمِنْهُ أُخِذَ التَّدْلِيسُ فِي الْحَدِيثِ، لِأَنَّ الرَّاوِيَ يُوهِمُ السَّمَاعَ مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ، وَإِذَا أَعْلَنَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ إِنَّهُ مُدَلِّسٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَنَّهُمْ كَيْفَ خَادَعُوا اللَّهَ تَعَالَى؟ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ مُخَادَعَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُمْتَنِعَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الضَّمَائِرَ وَالسَّرَائِرَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَادَعَ، لِأَنَّ الَّذِي فَعَلُوهُ لَوْ أَظْهَرُوا أَنَّ الْبَاطِنَ بِخِلَافِ الظَّاهِرِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ خِدَاعًا، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْبَوَاطِنُ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُخَادَعَ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ الرَّسُولَ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمْ فِي نِفَاقِهِمْ مُخَادَعَةَ اللَّهِ تَعَالَى، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ نَفْسَهُ وَأَرَادَ بِهِ رَسُولَهُ عَلَى عَادَتِهِ فِي تَفْخِيمِ وَتَعْظِيمِ شَأْنِهِ. قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْحِ: 10] وَقَالَ فِي عَكْسِهِ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الْأَنْفَالِ: 41] أَضَافَ السَّهْمَ الَّذِي يَأْخُذُهُ الرَّسُولُ إِلَى نَفْسِهِ فَالْمُنَافِقُونَ لَمَّا خَادَعُوا/ الرَّسُولَ قِيلَ إِنَّهُمْ خَادَعُوا اللَّهَ تَعَالَى. الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ صُورَةُ حَالِهِمْ مَعَ اللَّهِ حَيْثُ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَهُمْ كَافِرُونَ صُورَةُ مَنْ يُخَادِعُ، وَصُورَةُ صَنِيعِ اللَّهِ مَعَهُمْ حَيْثُ أَمَرَ بِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ عِنْدَهُ فِي عِدَادِ الْكَفَرَةِ صُورَةُ صَنِيعِ اللَّهِ مَعَهُمْ حَيْثُ امْتَثَلُوا أَمْرَ اللَّهِ فِيهِمْ فَأَجْرَوْا أَحْكَامَهُ عَلَيْهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَهِيَ فِي بَيَانِ الْغَرَضِ مِنْ ذَلِكَ الْخِدَاعِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ يُجْرُونَهُمْ فِي التَّعْظِيمِ وَالْإِكْرَامِ مَجْرَى سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَظْهَرُوا لَهُمُ الْإِيمَانَ وَإِنْ أَسَرُّوا خِلَافَهُ فَمَقْصُودُهُمْ مِنَ الْخِدَاعِ هَذَا. الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ إِفْشَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ أَسْرَارَهُ، وَإِفْشَاءَ الْمُؤْمِنِينَ أَسْرَارَهُمْ فَيَنْقُلُونَهَا إِلَى أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ دَفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَحْكَامَ الْكُفَّارِ مِثْلَ الْقَتْلِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» . الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَطْمَعُونَ فِي أَمْوَالِ الْغَنَائِمِ، فَإِنْ قِيلَ: فَاللَّهُ تَعَالَى كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُوحِيَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفِيَّةَ مَكْرِهِمْ وَخِدَاعِهِمْ، فَلِمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ هَتْكًا لِسِتْرِهِمْ؟ قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى اسْتِئْصَالِ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَبْقَاهُمْ وَقَوَّاهُمْ، إِمَّا لِأَنَّهُ يَفْعَلُ

ما يشاء ويحكم ما يريد أو الحكمة لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا هُوَ. فَإِنْ قِيلَ هَلْ لِلِاقْتِصَارِ بِخَادَعْتُ عَلَى وَاحِدٍ وَجْهٌ صَحِيحٌ؟ قُلْنَا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ: عَنَى بِهِ فَعَلْتُ إِلَّا أَنَّهُ أُخْرِجَ فِي زِنَةِ فَاعَلْتُ، لِأَنَّ الزِّنَةَ فِي أَصْلِهَا لِلْمُبَالَغَةِ وَالْفِعْلُ مَتَى غُولِبَ فِيهِ فَاعِلُهُ جَاءَ أَبْلَغَ وَأَحْكَمَ مِنْهُ إِذَا زَاوَلَهُ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ مُغَالِبٍ، لِزِيَادَةِ قُوَّةِ الدَّاعِي إِلَيْهِ، وَيُعَضِّدُهُ قِرَاءَةُ أَبِي حَيْوَةَ «يَخْدَعُونَ اللَّهَ» ثُمَّ قَالَ: يُخادِعُونَ بَيَانًا لِيَقُولُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا كَأَنَّهُ قِيلَ وَلِمَ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ كَاذِبِينَ. وَمَا نَفْعُهُمْ فِيهِ؟ فَقِيلَ يُخادِعُونَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عمر «وَمَا يُخَادِعُونَ» وَالْبَاقُونَ «يَخْدَعُونَ» وَحُجَّةُ الْأَوَّلِينَ: مُطَابَقَةُ اللَّفْظِ حَتَّى يَكُونَ مُطَابِقًا لِلَّفْظِ الْأَوَّلِ، وَحُجَّةُ الْبَاقِينَ أَنَّ الْمُخَادَعَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَلَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ الْوَاحِدُ مُخَادِعًا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى يُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَيُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُونَ فِي الْحَقِيقَةِ خَادِعِينَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ عَنِ الْحَسَنِ. وَالثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ أَنَّ وَبَالَ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَدْفَعُ ضَرَرَ خِدَاعِهِمْ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَصْرِفُهُ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ [النساء: 142] وقوله: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 14، 15] أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ [الْبَقَرَةِ: 13] وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً [النمل: 50] إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً [الطَّارِقِ: 15، 16] إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْمَائِدَةِ: 33] إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْأَحْزَابِ: 57] وَبَقِيَ فِي الْآيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ أَبْحَاثٌ. أَحَدُهَا: قُرِئَ «وَمَا يخادعون» مِنْ أَخْدَعَ وَ «يَخَدِّعُونَ» بِفَتْحِ الْيَاءِ بِمَعْنَى يَخْتَدِعُونَ «وَيُخْدَعُونَ» وَ «يُخَادَعُونَ» عَلَى لَفْظِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَثَانِيهَا: النَّفْسُ ذَاتُ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتُهُ، وَلَا تَخْتَصُّ بِالْأَجْسَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [الْمَائِدَةِ: 116] وَالْمُرَادُ بِمُخَادَعَتِهِمْ ذَوَاتِهِمْ أَنَّ الْخِدَاعَ/ لَا يَعْدُوهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الشُّعُورَ عِلْمُ الشَّيْءِ إِذَا حَصَلَ بِالْحِسِّ، وَمَشَاعِرُ الْإِنْسَانِ حَوَاسُّهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ لُحُوقَ ضَرَرِ ذَلِكَ بِهِمْ كَالْمَحْسُوسِ، لَكِنَّهُمْ لِتَمَادِيهِمْ فِي الْغَفْلَةِ كَالَّذِي لَا يَحُسُّ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَرَضَ صِفَةٌ تُوجِبُ وُقُوعَ الضَّرَرِ فِي الْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ عَنْ مَوْضِعِ تِلْكَ الصِّفَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْأَثَرُ الْخَاصُّ بِالْقَلْبِ إِنَّمَا هُوَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَتَهُ وَعُبُودِيَّتَهُ، فَإِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ مِنَ الصِّفَاتِ مَا صَارَ مَانِعًا مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ كَانَتْ تِلْكَ الصِّفَاتُ أَمْرَاضًا لِلْقَلْبِ. فَإِنْ قِيلَ: الزِّيَادَةُ مِنْ جِنْسِ الْمَزِيدِ عليه، فلو كان المراد من المرض هاهنا الْكُفْرَ وَالْجَهْلَ لَكَانَ قَوْلُهُ: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً مَحْمُولًا عَلَى الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى فَاعِلًا لِلْكُفْرِ وَالْجَهْلِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ فِعْلَ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا فِي غَايَةِ الْحِرْصِ عَلَى الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ، فَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى ذَلِكَ لَقَالُوا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا فَعَلَ اللَّهُ الْكُفْرَ فِينَا، فَكَيْفَ تَأْمُرُنَا بِالْإِيمَانِ؟ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ فَاعِلًا لِلْكُفْرِ لَجَازَ مِنْهُ إِظْهَارُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى يَدِ الْكَذَّابِ، فَكَانَ لَا يَبْقَى كَوْنُ الْقُرْآنِ حُجَّةً فَكَيْفَ نَتَشَاغَلُ بِمَعَانِيهِ وَتَفْسِيرِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ فَكَيْفَ يَذُمُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ خَلَقَهُ فِيهِمْ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ ذَلِكَ فِيهِمْ كَمَا خَلَقَ لَوْنَهُمْ وَطُولَهُمْ، فَأَيُّ ذَنْبٍ لَهُمْ حَتَّى يُعَذِّبَهُمْ؟ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَهُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: بِما كانُوا

يَكْذِبُونَ وَعَلَى هَذَا وَصَفَهُمْ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ، وَأَنَّهُمْ إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: يُحْمَلُ الْمَرَضُ عَلَى الْغَمِّ، لِأَنَّهُ يُقَالُ مَرِضَ قَلْبِي مِنْ أَمْرِ كَذَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ مَرِضَتْ قُلُوبُهُمْ لَمَّا رأوا ثبت أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِعْلَاءَ شَأْنِهِ يَوْمًا فَيَوْمًا. وَذَلِكَ كَانَ يُؤَثِّرُ فِي زوال رئاستهم، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِعَبْدِ الله بن أبي بن سَلُولَ عَلَى حِمَارٍ، فَقَالَ لَهُ نَحِّ حِمَارَكَ يَا مُحَمَّدُ فَقَدْ آذَتْنِي رِيحُهُ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْأَنْصَارِ اعْذِرْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَدْ كُنَّا عَزَمْنَا عَلَى أَنْ نُتَوِّجَهُ الرِّيَاسَةَ قَبْلَ أَنْ تَقْدَمَ عَلَيْنَا: فَهَؤُلَاءِ لَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْغَمُّ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فَقَالَ: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً أَيْ زَادَهُمُ اللَّهُ غَمًّا عَلَى غَمِّهِمْ بِمَا يَزِيدُ فِي إِعْلَاءِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمِ شَأْنِهِ. الثَّانِي: أَنَّ مَرَضَهُمْ وَكُفْرَهُمْ كَانَ يَزْدَادُ بِسَبَبِ ازْدِيَادِ التَّكَالِيفِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَةِ: 125] وَالسُّورَةُ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا ازْدَادُوا رِجْسًا عِنْدَ نُزُولِهَا لَمَّا كَفَرُوا بِهَا قِيلَ ذَلِكَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نُوحٍ: 5، 6] وَالدُّعَاءُ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَلَكِنَّهُمُ ازْدَادُوا فِرَارًا عِنْدَهُ، وَقَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [التَّوْبَةِ: 49] وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ لَمْ يَفْتِنْهُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَفْتَتِنُ عِنْدَ خُرُوجِهِ فَنُسِبَتِ الْفِتْنَةُ إِلَيْهِ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً [الْمَائِدَةِ: 64] وَقَالَ: فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [فَاطِرٍ: 42] وَقَوْلُكَ لِمَنْ وَعَظْتَهُ فَلَمْ يَتَّعِظْ وَتَمَادَى فِي فَسَادِهِ: مَا زَادَتْكَ مَوْعِظَتِي إِلَّا/ شَرًّا، وَمَا زَادَتْكَ إِلَّا فَسَادًا فَكَذَا هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ لَمَّا كَانُوا كَافِرِينَ ثُمَّ دَعَاهُمُ اللَّهُ إِلَى شَرَائِعِ دِينِهِ فَكَفَرُوا بِتِلْكَ الشَّرَائِعِ وَازْدَادُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ كُفْرًا لَا جَرَمَ أُضِيفَتْ زِيَادَةُ كُفْرِهِمْ إِلَى اللَّهِ. الثَّالِثُ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً الْمَنْعُ مِنْ زِيَادَةِ الْأَلْطَافِ، فَيَكُونُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمَنْعِ خَاذِلًا لَهُمْ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [الْمُنَافِقُونَ: 4] الرَّابِعُ: أَنَّ الْعَرَبَ تَصِفُ فُتُورَ الطَّرْفِ بِالْمَرَضِ، فَيَقُولُونَ: جَارِيَةٌ مريضة الطرف. قال جرير: إن الْعُيُونَ الَّتِي فِي طَرْفِهَا مَرَضٌ ... قَتَلْنَنَا ثُمَّ لم يحيين قتلانا فكذا المرض هاهنا إِنَّمَا هُوَ الْفُتُورُ فِي النِّيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ قَوِيَّةً عَلَى الْمُحَارَبَةِ وَالْمُنَازَعَةِ وَإِظْهَارِ الْخُصُومَةِ، ثُمَّ انْكَسَرَتْ شَوْكَتُهُمْ فَأَخَذُوا فِي النِّفَاقِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْخَوْفِ وَالِانْكِسَارِ، فَقَالَ تَعَالَى: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً أَيْ زَادَهُمْ ذَلِكَ الِانْكِسَارَ وَالْجُبْنَ وَالضَّعْفَ، وَلَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ [الْحَشْرِ: 2] الْخَامِسُ: أَنْ يُحْمَلَ الْمَرَضُ عَلَى أَلَمِ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا صَارَ مُبْتَلًى بِالْحَسَدِ وَالنِّفَاقِ وَمُشَاهَدَةِ الْمَكْرُوهِ، فَإِذَا دَامَ بِهِ ذَلِكَ فَرُبَّمَا صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِغَيْرِ مِزَاجِ الْقَلْبِ وَتَأَلُّمِهِ، وَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَمْلٌ لَهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَلِمَ فَهُوَ أَلِيمٌ، كَوَجِعَ فَهُوَ وَجِيعٌ، وَوُصِفَ الْعَذَابُ بِهِ فَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ: تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعٌ. وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِمْ: جَدَّ جِدُّهُ، وَالْأَلَمُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلْمُؤْلِمِ كَمَا أَنَّ الْجِدَّ لِلْجَادِّ، أَمَّا قَوْلُهُ: بِما كانُوا يَكْذِبُونَ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْكَذِبَ هُوَ الْخَبَرُ عَنْ شَيْءٍ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ وَالْجَاحِظُ لَا يُسَمِّيهِ كَذِبًا إِلَّا إِذَا عَلِمَ الْمُخْبِرُ كَوْنَ الْمُخْبِرِ عَنْهُ مُخَالِفًا لِلْخَبَرِ، وهذا الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ صَرِيحٌ

[سورة البقرة (2) : الآيات 11 إلى 12]

فِي أَنَّ كَذِبَهُمْ عِلَّةٌ لِلْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَذِبٍ حَرَامًا فَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَبَ ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ، فَالْمُرَادُ التَّعْرِيضُ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ صُورَتُهُ صُورَةَ الْكَذِبِ سُمِّيَ بِهِ. وَثَالِثُهَا: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قِرَاءَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: يَكْذِبُونَ وَالْمُرَادُ بِكَذِبِهِمْ قوله: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَالثَّانِيَةُ: «يُكَذِّبُونَ» مِنْ كَذَّبَهُ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ صَدَّقَهُ، وَمِنْ كَذَّبَ الَّذِي هُوَ مُبَالَغَةٌ فِي كَذَبَ، كَمَا بُولِغَ فِي صَدَقَ فَقِيلَ صَدَّقَ. [سورة البقرة (2) : الآيات 11 الى 12] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ قَبَائِحِ أَفْعَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَالْكَلَامُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: مَنِ الْقَائِلُ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ؟ وَثَانِيهَا: مَا الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ؟ وَثَالِثُهَا: مَنِ الْقَائِلُ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ؟ وَرَابِعُهَا: مَا الصَّلَاحُ؟. أَمَّا المسألة الأولى: [أي من القائل لا تفسدوا في الأرض] فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: ذَلِكَ الْقَائِلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ بِذَلِكَ مَنْ لَا يَخْتَصُّ بِالدِّينِ وَالنَّصِيحَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَقْرَبُ هُوَ أَنَّ الْقَائِلَ لَهُمْ ذَلِكَ مَنْ شَافَهَهُمْ بِذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلَغَهُ عَنْهُمُ النِّفَاقُ وَلَمْ يَقْطَعْ بِذَلِكَ فَنَصَحَهُمْ فَأَجَابُوا بِمَا يُحَقِّقُ إِيمَانَهُمْ وَأَنَّهُمْ فِي الصَّلَاحِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ بَعْضَ مَنْ كَانُوا يُلْقُونَ إِلَيْهِ الْفَسَادَ كَانَ لَا يَقْبَلُهُ مِنْهُمْ وَكَانَ يَنْقَلِبُ وَاعِظًا لَهُمْ قَائِلًا لَهُمْ: لَا تُفْسِدُوا فَإِنْ قِيلَ: أَفَمَا كَانُوا يُخْبِرُونَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، إِلَّا أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا إِذَا عُوتِبُوا عَادُوا إِلَى إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَالنَّدَمِ وَكَذَّبُوا النَّاقِلِينَ عَنْهُمْ وَحَلَفُوا بِاللَّهِ عَلَيْهِ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ [التَّوْبَةِ: 74] وَقَالَ: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ [التَّوْبَةِ: 96] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفَسَادُ خُرُوجُ الشَّيْءِ عَنْ كَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ، وَنَقِيضُهُ الصَّلَاحُ فَأَمَّا كَوْنُهُ فَسَادًا فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَمْرًا زَائِدًا، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِظْهَارُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ أَنَّ إِظْهَارَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا كَانَ إِفْسَادًا فِي الْأَرْضِ، لِأَنَّ الشَّرَائِعَ سُنَنٌ مَوْضُوعَةٌ بَيْنَ الْعِبَادِ، فَإِذَا تَمَسَّكَ الْخَلْقُ بِهَا زَالَ الْعُدْوَانُ وَلَزِمَ كُلُّ أَحَدٍ شَأْنَهُ، فَحُقِنَتِ الدِّمَاءُ وَسَكَنَتِ الْفِتَنُ، وَكَانَ فِيهِ صَلَاحُ الْأَرْضِ وَصَلَاحُ أَهْلِهَا، أَمَّا إِذَا تَرَكُوا التَّمَسُّكَ بِالشَّرَائِعِ وَأَقْدَمَ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى مَا يَهْوَاهُ لَزِمَ الْهَرَجُ وَالْمَرَجُ وَالِاضْطِرَابُ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [مُحَمَّدٍ: 22] نَبَّهَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا أَعْرَضُوا عَنِ الطَّاعَةِ لَمْ يَحْصُلُوا إِلَّا عَلَى الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ بِهِ، وَثَانِيهَا: أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ الْفَسَادُ هُوَ مُدَارَاةُ الْمُنَافِقِينَ لِلْكَافِرِينَ وَمُخَالَطَتُهُمْ مَعَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا مَالُوا إِلَى الْكُفْرِ مَعَ أَنَّهُمْ فِي الظَّاهِرِ مُؤْمِنُونَ أَوْهَمَ ذَلِكَ ضَعْفَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعْفَ أَنْصَارِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ يُجَرِّئُ الْكَفَرَةَ عَلَى إِظْهَارِ عَدَاوَةِ الرَّسُولِ وَنَصْبِ الْحَرْبِ لَهُ وَطَمَعِهِمْ فِي الْغَلَبَةِ، وَفِيهِ فَسَادٌ عَظِيمٌ فِي الْأَرْضِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الأصم:

[سورة البقرة (2) : آية 13]

كَانُوا يَدْعُونَ فِي السِّرِّ إِلَى تَكْذِيبِهِ، وَجَحْدِ الْإِسْلَامِ، وَإِلْقَاءِ الشُّبَهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَالْأَقْرَبُ فِي مُرَادِهِمْ أَنْ يَكُونَ نَقِيضًا لِمَا نُهُوا عَنْهُ، فَلَمَّا كَانَ الَّذِي نُهُوا عَنْهُ هُوَ الْإِفْسَادَ فِي الْأَرْضِ كَانَ قَوْلُهُمْ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ كَالْمُقَابِلِ لَهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا فِي دِينِهِمْ أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ، وَكَانَ سَعْيُهُمْ لِأَجْلِ تَقْوِيَةِ ذَلِكَ الدِّينِ، لَا جَرَمَ قَالُوا: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، لِأَنَّهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ مَا سَعَوْا إِلَّا لِتَطْهِيرِ وَجْهِ الْأَرْضِ عَنِ الْفَسَادِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّا إِذَا فَسَّرْنَا لَا تُفْسِدُوا بِمُدَارَاةِ الْمُنَافِقِينَ لِلْكُفَّارِ/ فَقَوْلُهُمْ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ يَعْنِي بِهِ أَنَّ هَذِهِ الْمُدَارَاةَ سَعْيٌ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ، وَلِذَلِكَ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً [النِّسَاءِ: 62] فَقَوْلُهُمْ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَيْ نَحْنُ نُصْلِحُ أُمُورَ أَنْفُسِنَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَجَبَ إِجْرَاءُ حُكْمِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ، وَتَجْوِيزُ خِلَافِهِ لَا يَطْعَنُ فِيهِ، وَتَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ مَقْبُولَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ فَخَارِجٌ عَلَى وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ مُفْسِدُونَ لِأَنَّ الْكُفْرَ فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ، إِذْ فِيهِ كُفْرَانُ نِعْمَةِ اللَّهِ، وَإِقْدَامُ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى مَا يَهْوَاهُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَعْتَقِدُ وُجُودَ الْإِلَهِ وَلَا يَرْجُو ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا تَهَارَجَ النَّاسُ، وَمِنْ هَذَا ثَبَتَ أَنَّ النِّفَاقَ فَسَادٌ، وَلِهَذَا قَالَ: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ على ما تقدم تقريره. [سورة البقرة (2) : آية 13] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ قَبَائِحِ أَفْعَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا نَهَاهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ أَمَرَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْإِيمَانِ، لِأَنَّ كَمَالَ حَالِ الْإِنْسَانِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: تَرْكُ مَا لَا يَنْبَغِي وَهُوَ قَوْلُهُ: آمِنُوا وهاهنا مسائل: المسألة الأولى: قوله: آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ أَيْ إِيمَانًا مَقْرُونًا بِالْإِخْلَاصِ بَعِيدًا عَنِ النِّفَاقِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِقْرَارِ إِيمَانٌ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ إِيمَانًا لَمَا تَحَقَّقَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ إِلَّا إِذَا حَصَلَ فِيهِ الْإِخْلَاصُ، فَكَانَ قَوْلُهُ: آمِنُوا كَافِيًا فِي تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ، وَكَانَ ذِكْرُ قَوْلِهِ: كَما آمَنَ النَّاسُ لَغْوًا، وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِيمَانَ الْحَقِيقِيَّ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يَقْتَرِنُ بِهِ الْإِخْلَاصُ، أَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِإِقْرَارِ الظَّاهِرِ فَلَا جَرَمَ افْتَقَرَ فِيهِ إِلَى تَأْكِيدِهِ بِقَوْلِهِ: كَما آمَنَ النَّاسُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اللَّامُ فِي النَّاسُ فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لِلْعَهْدِ أَيْ كَمَا آمَنَ رَسُولُ اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ، وَهُمْ نَاسٌ مَعْهُودُونَ، أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَشْيَاعُهُ. لِأَنَّهُمْ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ والثاني: أنها للجنس ثم ها هنا أَيْضًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ أَكْثَرُهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ كَانُوا، مِنْهُمْ وَكَانُوا قَلِيلِينَ، وَلَفْظُ الْعُمُومِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْأَكْثَرِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ/ النَّاسُ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ أَعْطَوُا الْإِنْسَانِيَّةَ حَقَّهَا لِأَنَّ فَضِيلَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ بِالْعَقْلِ الْمُرْشِدِ والفكر الهادي. المسألة الثالثة: القائل: آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ إِمَّا الرَّسُولُ، أَوِ الْمُؤْمِنُونَ، ثُمَّ كَانَ بَعْضُهُمْ يقول لبعض:

[سورة البقرة (2) : الآيات 14 إلى 15]

أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ سَفِيهُ بَنِي فُلَانٍ وَسَفِيهُ بَنِي فُلَانٍ، وَالرَّسُولُ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: السَّفَهُ الْخِفَّةُ يُقَالُ: سَفَّهَتِ الرِّيحُ الشَّيْءَ إِذَا حركته، قال ذو الرمة: جرين كَمَا اهْتَزَّتْ رِيَاحٌ تَسَفَّهَتْ ... أَعَالِيَهَا مَرُّ الرِّيَاحِ الرواسم وقال أبو تمام الطائي: سفيه الرُّمْحِ جَاهِلُهُ إِذَا مَا ... بَدَا فَضْلُ السَّفِيهِ عَلَى الْحَلِيمِ أَرَادَ بِهِ سَرِيعَ الطَّعْنِ بِالرُّمْحِ خَفِيفَهُ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِبَذِيءِ اللِّسَانِ سَفِيهٌ، لِأَنَّهُ خَفِيفٌ لَا رَزَانَةَ لَهُ وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً [النِّسَاءِ: 5] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «شَارِبُ الْخَمْرِ سَفِيهٌ» لِقِلَّةِ عَقْلِهِ وَإِنَّمَا سَمَّى الْمُنَافِقُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالسُّفَهَاءِ، لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْخَطَرِ وَالرِّيَاسَةِ، وَأَكْثَرُ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا فَقُرَاءَ، وَكَانَ عِنْدَ الْمُنَافِقِينَ أَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِلٌ، وَالْبَاطِلُ لَا يَقْبَلُهُ إِلَّا السَّفِيهُ، فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ نَسَبُوهُمْ إِلَى السَّفَاهَةِ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَلَبَ عَلَيْهِمْ هَذَا اللَّقَبَ- وَقَوْلُهُ الْحَقُّ- لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الدَّلِيلِ ثُمَّ نَسَبَ الْمُتَمَسِّكَ بِهِ إِلَى السَّفَاهَةِ فَهُوَ السَّفِيهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ فَهُوَ السَّفِيهُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَنْ عَادَى مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَدْ عَادَى اللَّهَ، وَذَلِكَ هُوَ السَّفِيهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِنَّمَا قَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ: لَا يَعْلَمُونَ وَفِيمَا قَبْلَهَا: لَا يَشْعُرُونَ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ نَظَرِيٌّ، وَأَمَّا أَنَّ النِّفَاقَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْبَغْيِ يُفْضِي إِلَى الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَضَرُورِيٌّ جَارٍ مَجْرَى الْمَحْسُوسِ. الثَّانِي: أَنَّهُ ذَكَرَ السَّفَهَ وَهُوَ جَهْلٌ، فَكَانَ ذِكْرُ العلم أحسن طباقاً له والله أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 14 الى 15] وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) هَذَا هُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ أَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، يُقَالُ: لَقِيتُهُ وَلَاقَيْتُهُ إِذَا اسْتَقْبَلْتَهُ قَرِيبًا مِنْهُ، وَقَرَأَ أَبُو حَنِيفَةَ: «وَإِذَا لَاقَوْا» أَمَّا قَوْلُهُ: قالُوا آمَنَّا فَالْمُرَادُ أَخْلَصْنَا بِالْقَلْبِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ كَانَ مَعْلُومًا مِنْهُمْ فَمَا كَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَى بَيَانِهِ، إِنَّمَا الْمَشْكُوكُ فِيهِ هُوَ الْإِخْلَاصُ بِالْقَلْبِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ ذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ «آمَنَّا» يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَقِيضِ مَا كَانُوا يُظْهِرُونَهُ لِشَيَاطِينِهِمْ، وَإِذَا كَانُوا يُظْهِرُونَ لَهُمُ التَّكْذِيبَ بِالْقَلْبِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ فِيمَا ذَكَرُوهُ لِلْمُؤْمِنِينَ التَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ فَقَالَ صاحب «الكشاف» : يقال خلوت بفلان وإليه، وإذا انْفَرَدْتَ مَعَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ «خَلَا» بِمَعْنَى مَضَى، وَمِنْهُ الْقُرُونُ الْخَالِيَةُ، وَمِنْ «خَلَوْتُ بِهِ» إِذَا سَخِرْتَ مِنْهُ، مِنْ قَوْلِكَ: «خَلَا فُلَانٌ بِعِرْضِ فُلَانٍ» أَيْ: يَعْبَثُ بِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ أَنْهَوُا السُّخْرِيَةَ بِالْمُؤْمِنِينَ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ وَحَدَّثُوهُمْ بِهَا كَمَا تَقُولُ: أَحْمَدُ إِلَيْكَ فُلَانًا وَأَذُمُّهُ إِلَيْكَ. وَأَمَّا شَيَاطِينُهُمْ فَهُمُ الَّذِينَ مَاثَلُوا الشَّيَاطِينَ فِي تَمَرُّدِهِمْ، أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّا مَعَكُمْ

فَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هَذَا الْقَائِلُ أَهَمَّ كُلَّ الْمُنَافِقِينَ أَوْ بَعْضَهُمْ. الْجَوَابُ: فِي هَذَا خِلَافٌ، لِأَنَّ مَنْ يَحْمِلُ الشَّيَاطِينَ عَلَى كِبَارِ الْمُنَافِقِينَ يَحْمِلُ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ صِغَارِهِمْ وَكَانُوا يَقُولُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ آمَنَّا وَإِذَا عَادُوا إِلَى أَكَابِرِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ، لِئَلَّا يَتَوَهَّمُوا فِيهِمُ الْمُبَايَنَةَ، وَمَنْ يَقُولُ فِي الشَّيَاطِينِ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْكُفَّارُ لَمْ يَمْنَعْ إِضَافَةَ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى كُلِّ الْمُنَافِقِينَ، وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِشَيَاطِينِهِمْ أَكَابِرُهُمْ، وَهُمْ إِمَّا الْكُفَّارُ وَإِمَّا أَكَابِرُ الْمُنَافِقِينَ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَقْدِرُونَ عَلَى الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَأَمَّا أَصَاغِرُهُمْ فَلَا. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ كَانَتْ مُخَاطَبَتُهُمُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، وشياطينهم بالجملة الاسمية محققة «بأن» الْجَوَابُ: لَيْسَ مَا خَاطَبُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ جَدِيرًا بِأَقْوَى الْكَلَامَيْنِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي ادِّعَاءِ حُدُوثِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ لَا فِي ادِّعَاءِ أَنَّهُمْ فِي الدَّرَجَةِ الْكَامِلَةِ مِنْهُ، إِمَّا لِأَنَّ أَنْفُسَهُمْ لَا تُسَاعِدُهُمْ عَلَى الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ الْقَوْلَ الصَّادِرَ عَنِ النِّفَاقِ وَالْكَرَاهَةِ قَلَّمَا يَحْصُلُ مَعَهُ الْمُبَالَغَةُ، وَإِمَّا لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ ادِّعَاءَ الْكَمَالِ فِي الْإِيمَانِ لَا يَرُوجُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا كَلَامُهُمْ مَعَ إِخْوَانِهِمْ فَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَهُ عَنِ الِاعْتِقَادِ وَعَلِمُوا أَنَّ الْمُسْتَمِعِينَ يَقْبَلُونَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَلَا جَرَمَ كَانَ التَّأْكِيدُ لَائِقًا بِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ فَفِيهِ سُؤَالَانِ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الِاسْتِهْزَاءُ؟ الْجَوَابُ: أَصْلُ الْبَابِ الْخِفَّةُ مِنَ الْهَزْءِ وَهُوَ الْعَدْوُ السَّرِيعِ، وَهَزَأَ يَهْزَأُ مَاتَ عَلَى مَكَانِهِ، وَنَاقَتُهُ تَهْزَأُ بِهِ أَيْ تُسْرِعُ، وَحَدُّهُ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إِظْهَارِ مُوَافَقَةٍ مَعَ إِبْطَانِ مَا يَجْرِي مَجْرَى السُّوءِ عَلَى طَرِيقِ السُّخْرِيَةِ، فَعَلَى هَذَا قولهم: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ يَعْنِي نُظْهِرُ لَهُمُ الْمُوَافَقَةَ عَلَى دِينِهِمْ لِنَأْمَنَ شَرَّهُمْ وَنَقِفَ عَلَى أَسْرَارِهِمْ، وَنَأْخُذَ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ وَغَنَائِمِهِمْ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بِقَوْلِهِ: إِنَّا مَعَكُمْ الْجَوَابُ: هُوَ تَوْكِيدٌ لَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا مَعَكُمْ مَعْنَاهُ الثَّبَاتُ عَلَى الكفر وقوله: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ رَدٌّ لِلْإِسْلَامِ، وَرَدُّ نَقِيضِ الشَّيْءِ تَأْكِيدٌ لِثَبَاتِهِ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، لِأَنَّ مَنْ حَقَّرَ الْإِسْلَامَ فَقَدْ عَظَّمَ الْكُفْرَ، أَوِ اسْتِئْنَافٌ، كَأَنَّهُمُ اعْتَرَضُوا عَلَيْهِ حِينَ قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ، فَقَالُوا إِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَكَيْفَ تُوَافِقُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ؟ فَقَالُوا: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ ذَلِكَ أَجَابَهُمْ بِأَشْيَاءَ. أَحَدُهَا: قوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وفيه أسئلة. الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَجُوزُ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَسْتَهْزِئُ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ التَّلْبِيسِ، وَهُوَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، وَلِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْجَهْلِ، لِقَوْلِهِ: قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [الْبَقَرَةِ: 67] وَالْجَهْلُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَالْجَوَابُ: ذَكَرُوا فِي التَّأْوِيلِ خَمْسَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ بِهِمْ جَزَاءٌ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ سَمَّاهُ بِالِاسْتِهْزَاءِ، لِأَنَّ جُزْءَ الشَّيْءِ يُسَمَّى بِاسْمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ قَالَ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 194] يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ [النِّسَاءِ: 142] وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: 54] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اللَّهُمَّ إِنَّ فُلَانًا هَجَانِي وَهُوَ يَعْلَمُ أَنِّي لَسْتُ بِشَاعِرٍ فَاهْجُهُ، اللَّهُمَّ وَالْعَنْهُ عَدَدَ مَا هَجَانِي» أَيِ اجْزِهِ جَزَاءَ هِجَائِهِ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تَكَلَّفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا» وَثَانِيهَا: أَنَّ ضَرَرَ اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَاجِعٌ عَلَيْهِمْ وَغَيْرُ ضَارٍّ بِالْمُؤْمِنِينَ، فَيَصِيرُ كَأَنَّ اللَّهَ اسْتَهْزَأَ بِهِمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مِنْ آثَارِ الِاسْتِهْزَاءِ حُصُولُ الْهَوَانِ وَالْحَقَارَةِ فَذَكَرَ الِاسْتِهْزَاءَ، وَالْمُرَادُ حُصُولُ الْهَوَانِ لَهُمْ تَعْبِيرًا بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبَّبِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ اسْتِهْزَاءَ اللَّهِ بِهِمْ أَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ مِنْ أَحْكَامِهِ فِي الدُّنْيَا مَا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ خِلَافُهَا فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا لِلنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ أَمْرًا مَعَ أَنَّ الْحَاصِلَ مِنْهُمْ فِي السِّرِّ خِلَافُهُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَظْهَرَ

لَهُمْ أَحْكَامَ الدُّنْيَا فَقَدْ أَظْهَرَ الْأَدِلَّةَ الْوَاضِحَةَ بِمَا يُعَامَلُونَ بِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ مِنْ سُوءِ الْمُنْقَلَبِ وَالْعِقَابِ الْعَظِيمِ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِمَا أَظْهَرُهُ فِي الدُّنْيَا. وَخَامِسُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُسْتَهْزِئِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَطْلَعَ الرَّسُولَ عَلَى أَسْرَارِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُبَالِغُونَ فِي إِخْفَائِهَا عَنْهُ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا دَخَلَ الْمُؤْمِنُونَ الْجَنَّةَ، وَالْكَافِرُونَ النَّارَ فَتَحَ اللَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ بَابًا عَلَى الْجَحِيمِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ مَسْكَنُ الْمُنَافِقِينَ، فَإِذَا رَأَى الْمُنَافِقُونَ الْبَابَ مَفْتُوحًا أَخَذُوا يَخْرُجُونَ مِنَ الْجَحِيمِ وَيَتَوَجَّهُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا وَصَلُوا إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَهُنَاكَ يُغْلَقُ دُونَهُمُ الْبَابُ، فَذَاكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ إِلَى قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: 29- 34] فَهَذَا هُوَ الِاسْتِهْزَاءُ بِهِمْ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ ابْتَدَأَ قَوْلَهُ: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَلَمْ يَعْطِفْ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ؟ الْجَوَابُ: هُوَ اسْتِئْنَافٌ فِي غَايَةِ الْجَزَالَةِ والخفامة. وَفِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَسْتَهْزِئُ بهم استهزاء العظيم الذي يصير استهزائهم فِي مُقَابَلَتِهِ كَالْعَدَمِ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الِاسْتِهْزَاءَ بِهِمُ انْتِقَامًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يُحْوِجُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَنْ يُعَارِضُوهُمْ بِاسْتِهْزَاءٍ مِثْلِهِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَلْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ مستهزىء بهم ليكون مطابقاً لقوله: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ الْجَوَابُ. لِأَنَّ «يَسْتَهْزِئُ» يُفِيدُ حُدُوثَ الِاسْتِهْزَاءِ وَتَجَدُّدَهُ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ، وَهَذَا كَانَتْ نِكَايَاتُ اللَّهِ فِيهِمْ: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ [التَّوْبَةِ: 126] وَأَيْضًا فَمَا كَانُوا يَخْلُونَ فِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهِمْ مِنْ تَهَتُّكِ أَسْتَارٍ وَتَكَشُّفِ أَسْرَارٍ وَاسْتِشْعَارِ حَذَرٍ مِنْ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمْ آيَةٌ يَحْذَرُ/ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ [التوبة: 64] الْجَوَابُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الْبَقَرَةِ: 15] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِنَّهُ مِنْ مَدَّ الْجَيْشَ وَأَمَدَّهُ إِذَا زَادَهُ وَأَلْحَقَ بِهِ مَا يُقَوِّيهِ وَيُكَثِّرُهُ، وَكَذَلِكَ مَدَّ الدَّوَاةَ وَأَمَدَّهَا زَادَهَا مَا يُصْلِحُهَا، وَمَدَدْتُ السِّرَاجَ وَالْأَرْضَ إِذَا أَصْلَحْتَهُمَا بِالزَّيْتِ وَالسَّمَادِ، وَمَدَّهُ الشَّيْطَانُ فِي الْغَيِّ، وَأَمَدَّهُ إِذَا وَاصَلَهُ بِالْوَسْوَاسِ، وَمَدَّ وَأَمَدَّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَدَّ يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ، وَأَمَدَّ فِي الْخَيْرِ قَالَ تَعَالَى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ [المؤمنين: 55] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مِنَ الْمَدِّ فِي الْعُمْرِ وَالْإِمْلَاءِ وَالْإِمْهَالِ وَهَذَا خَطَأٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قِرَاءَةَ ابْنِ كَثِيرٍ، وَابْنِ مُحَيْصِنٍ (وَنَمُدُّهُمْ) وَقِرَاءَةُ نَافِعٍ (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَدَدِ دُونَ الْمَدِّ. الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي بِمَعْنَى أَمْهَلَهُ إِنَّمَا هُوَ مَدَّ لَهُ، كَأَمْلَى لَهُ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ أَضَافَ ذَلِكَ الْغَيَّ إِلَى إِخْوَانِهِمْ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّهُمْ عَلَى هَذَا الطُّغْيَانِ فَلَوْ كَانَ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يَذُمُّهُمْ عَلَيْهِ. وَثَالِثُهَا: لَوْ كَانَ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى لَبَطَلَتِ النُّبُوَّةُ وَبَطَلَ الْقُرْآنُ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِتَفْسِيرِهِ عَبَثًا. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الطُّغْيَانَ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: «فِي طُغْيَانِهِمْ» وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ لَمَا أَضَافَهُ إِلَيْهِمْ، فَظَهَرَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَضَافَهُ إِلَيْهِمْ لِيُعْرَفَ أَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ خَالِقٍ لِذَلِكَ، وَمِصْدَاقُهُ أَنَّهُ حِينَ أَسْنَدَ الْمَدَّ إِلَى الشَّيَاطِينِ أَطْلَقَ الْغَيَّ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ [الْأَعْرَافِ: 202] إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: التَّأْوِيلُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ تَأْوِيلُ الْكَعْبِيِّ وَأَبِي مُسْلِمِ بْنِ يَحْيَى الْأَصْفَهَانِيِّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا مَنَحَهُمْ أَلْطَافَهُ الَّتِي يَمْنَحُهَا الْمُؤْمِنِينَ وَخَذَلَهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَيْهِ بَقِيَتْ قُلُوبُهُمْ مُظْلِمَةً بِتَزَايُدِ الظُّلْمَةِ فِيهَا وَتَزَايُدِ النور

[سورة البقرة (2) : آية 16]

فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ فَسَمَّى ذَلِكَ التَّزَايُدَ مَدَدًا وَأَسْنَدَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْ فِعْلِهِ بِهِمْ. وَثَانِيهَا: أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَنْعِ الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ كَمَا قِيلَ: إِنَّ السَّفِيهَ إِذَا لَمْ يُنْهَ فَهُوَ مَأْمُورٌ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُسْنَدَ فِعْلُ الشَّيْطَانِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ بِتَمْكِينِهِ وَإِقْدَارِهِ وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِغْوَاءِ عِبَادِهِ. وَرَابِعًا: مَا قَالَهُ الْجُبَّائِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ وَيَمُدُّهُمْ أَيْ يَمُدُّ عُمْرَهُمْ ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لِمَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ تَفْسِيرُ وَيَمُدُّهُمْ بِالْمَدِّ فِي الْعُمْرِ: الثَّانِي: هَبْ أَنَّهُ يَصِحُّ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ تَعَالَى يَمُدُّ عُمْرَهُمْ لِغَرَضِ أَنْ يَكُونُوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْإِشْكَالَ أَجَابَ الْقَاضِي عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى يَمُدُّ عُمْرَهُمْ لِغَرَضِ أَنْ يَكُونُوا فِي الطُّغْيَانِ، بَلِ الْمُرَادُ، أَنَّهُ تَعَالَى يُبْقِيهِمْ وَيَلْطُفُ بِهِمْ فِي الطَّاعَةِ فَيَأْبَوْنَ إِلَّا أَنْ يَعْمَهُوا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الطُّغْيَانَ هُوَ الْغُلُوُّ فِي الْكُفْرِ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْعُتُوِّ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ [الْحَاقَّةِ: 11] أَيْ جَاوَزَ قَدْرَهُ، وَقَالَ: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه: 24] أَيْ أَسْرَفَ وَتَجَاوَزَ الْحَدَّ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ فِي طِغْيَانِهِمْ بِالْكَسْرِ وَهُمَا لُغَتَانِ كَلُقْيَانٍ وَلِقْيَانٍ، وَالْعَمَهُ مِثْلُ الْعَمَى إِلَّا أَنَّ الْعَمَى عَامٌّ فِي الْبَصَرِ وَالرَّأْيِ وَالْعَمَهَ فِي الرَّأْيِ خَاصَّةً، وَهُوَ التَّرَدُّدُ وَالتَّحَيُّرُ لَا يَدْرِي أين يتوجه. [سورة البقرة (2) : آية 16] أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) وَاعْلَمْ أَنَّ اشْتِرَاءَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى اخْتِيَارُهَا عَلَيْهِ وَاسْتِبْدَالُهَا بِهِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَمَا كَانُوا عَلَى هُدًى قُلْنَا جُعِلُوا لِتَمَكُّنِهِمْ مِنْهُ كَأَنَّهُ فِي أَيْدِيهِمْ فَإِذَا تَرَكُوهُ وَمَالُوا إِلَى الضَّلَالَةِ فَقَدِ اسْتَبْدَلُوهَا بِهِ، وَالضَّلَالَةُ الْجَوْرُ وَالْخُرُوجُ عَنِ الْقَصْدِ وَفَقْدُ الِاهْتِدَاءِ، فَاسْتُعِيرَ لِلذَّهَابِ عَنِ الصَّوَابِ فِي الدِّينِ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مَا رَبِحُوا فِي تِجَارَتِهِمْ، وَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ أُسْنِدَ الْخُسْرَانُ إِلَى التِّجَارَةِ وَهُوَ لِأَصْحَابِهَا؟ الْجَوَابُ: هُوَ مِنَ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ أَنْ يُسْنَدَ الْفِعْلُ إِلَى شَيْءٍ يَتَلَبَّسُ بِالَّذِي هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَهُ كَمَا تَلَبَّسَتِ التِّجَارَةُ بِالْمُشْتَرِي. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَبْ أَنَّ شِرَاءَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى وَقَعَ مَجَازًا فِي مَعْنَى الِاسْتِبْدَالِ فَمَا مَعْنَى ذِكْرِ الرِّبْحِ وَالتِّجَارَةِ وَمَا كَانَ ثَمَّ مُبَايَعَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْجَوَابُ: هَذَا مِمَّا يُقَوِّي أَمْرَ الْمَجَازِ وَيُحَسِّنُهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَمَّا رَأَيْتُ النَّسْرَ عَزَّ ابْنَ دَأْيَةٍ ... وَعَشَّشَ فِي وَكْرَيْهِ جَاشَ لَهُ صَدْرِي لَمَّا شَبَّهَ الشَّيْبَ بِالنَّسْرِ، وَالشَّعْرَ الْفَاحِمَ بِالْغُرَابِ أَتْبَعَهُ بذكر التعشيش والوكر فكذا هاهنا لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الشِّرَاءَ أَتْبَعَهُ مَا يُشَاكِلُهُ وَيُوَاخِيهِ، تَمْثِيلًا لِخَسَارَتِهِمْ وَتَصْوِيرًا لِحَقِيقَتِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ فَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي تَطْلُبُهُ التُّجَّارُ فِي مُتَصَرَّفَاتِهِمْ أَمْرَانِ: سَلَامَةُ رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ أَضَاعُوا الْأَمْرَيْنِ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِهِمْ هُوَ الْعَقْلُ الْخَالِي عَنِ الْمَانِعِ، فَلَمَّا اعْتَقَدُوا هَذِهِ الضَّلَالَاتِ صَارَتْ تِلْكَ الْعَقَائِدُ الْفَاسِدَةُ الْكَسْبِيَّةُ مَانِعَةً مِنَ الِاشْتِغَالِ بِطَلَبِ الْعَقَائِدِ الْحَقَّةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: انْتَقَلُوا مِنَ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالَةِ، وَمِنَ الطَّاعَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، وَمِنَ الْجَمَاعَةِ إِلَى التَّفْرِقَةِ وَمِنَ الْأَمْنِ إِلَى الْخَوْفِ، وَمِنَ السُّنَّةِ إلى البدعة، والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 17] مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)

اعْلَمْ أَنَّا قَبْلَ الْخَوْضِ فِي تَفْسِيرِ أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآيَةِ نَتَكَلَّمُ فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ أَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي الْقُلُوبِ مَا لَا يُؤَثِّرُهُ وَصْفُ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْمَثَلِ تَشْبِيهُ الْخَفِيِّ بِالْجَلِيِّ، وَالْغَائِبِ بِالشَّاهِدِ، فَيَتَأَكَّدُ الْوُقُوفُ عَلَى مَاهِيَّتِهِ، وَيَصِيرُ الْحِسُّ مُطَابِقًا لِلْعَقْلِ وَذَلِكَ فِي نِهَايَةِ الْإِيضَاحِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّرْغِيبَ إِذَا وَقَعَ فِي الْإِيمَانِ مُجَرَّدًا عَنْ ضَرْبِ مَثَلٍ لَهُ/ لَمْ يَتَأَكَّدْ وُقُوعُهُ فِي الْقَلْبِ كَمَا يَتَأَكَّدُ وُقُوعُهُ إِذَا مُثِّلَ بِالنُّورِ، وَإِذَا زَهِدَ فِي الْكُفْرِ بِمُجَرَّدِ الذِّكْرِ لَمْ يَتَأَكَّدْ قُبْحُهُ فِي الْعُقُولِ كَمَا يَتَأَكَّدُ إِذَا مُثِّلَ بِالظُّلْمَةِ، وَإِذَا أَخْبَرَ بِضَعْفِ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ وَضَرَبَ مَثَلَهُ بِنَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي تَقْرِيرِ صُورَتِهِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِضَعْفِهِ مُجَرَّدًا، وَلِهَذَا أَكْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ وَفِي سَائِرِ كُتُبِهِ أَمْثَالَهُ، قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ [العنكبوت: 43، الحشر: 21] وَمِنْ سُوَرِ الْإِنْجِيلِ سُورَةُ الْأَمْثَالِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: - الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَثَلُ فِي أَصْلِ كَلَامِهِمْ بِمَعْنَى الْمِثْلِ وَهُوَ النَّظِيرُ، وَيُقَالُ مَثَلٌ وَمِثْلٌ وَمَثِيلٌ كَشَبَهٍ وَشِبْهٍ وَشَبِيهٍ، ثُمَّ قِيلَ لِلْقَوْلِ الثائر الممثل مضر به بِمَوْرِدِهِ: مَثَلٌ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا فِيهِ غَرَابَةٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَقِيقَةَ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ عَقَّبَهَا بِضَرْبِ مَثَلَيْنِ زِيَادَةً فِي الْكَشْفِ وَالْبَيَانِ. أَحَدُهُمَا: هَذَا الْمَثَلُ وَفِيهِ إِشْكَالَاتٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: مَا وَجْهُ التَّمْثِيلِ بِمَنْ أُعْطِيَ نُورًا ثُمَّ سُلِبَ ذَلِكَ النُّورُ مِنْهُ مَعَ أَنَّ الْمُنَافِقَ لَيْسَ لَهُ نُورٌ. وَثَانِيهَا: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَنِ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَأَضَاءَتْ قَلِيلًا فَقَدِ انْتَفَعَ بِهَا وَبِنُورِهَا ثُمَّ حُرِمَ، فَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَلَا انْتِفَاعَ لَهُمْ أَلْبَتَّةَ بِالْإِيمَانِ فَمَا وَجْهُ التَّمْثِيلِ؟ وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُسْتَوْقِدَ النَّارِ قَدِ اكْتَسَبَ لِنَفْسِهِ النُّورَ، وَاللَّهُ تَعَالَى ذَهَبَ بِنُورِهِ وَتَرَكَهُ فِي الظُّلُمَاتِ، وَالْمُنَافِقُ لَمْ يَكْتَسِبْ خَيْرًا وَمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْخَيْبَةِ وَالْحَيْرَةِ فَقَدْ أَتَى فِيهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، فَمَا وَجْهُ التَّشْبِيهِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا فِي كَيْفِيَّةِ التَّشْبِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: قَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ نَاسًا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ عِنْدَ وُصُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْمَدِينَةِ ثم إنهم نافقوا، والتشبيه هاهنا فِي نِهَايَةِ الصِّحَّةِ لِأَنَّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ أَوَّلًا اكْتَسَبُوا نُورًا ثُمَّ بِنِفَاقِهِمْ ثَانِيًا أَبْطَلُوا ذَلِكَ النُّورَ وَوَقَعُوا فِي حَيْرَةٍ عَظِيمَةٍ فَإِنَّهُ لَا حَيْرَةَ أَعْظَمُ مِنْ حَيْرَةِ الدِّينِ لِأَنَّ الْمُتَحَيِّرَ فِي طَرِيقِهِ لِأَجْلِ الظُّلْمَةِ لَا يَخْسَرُ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْمُتَحَيِّرُ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ يَخْسَرُ نَفْسَهُ فِي الْآخِرَةِ أَبَدَ الْآبِدِينَ. وَثَانِيهَا: إِنْ لَمْ يَصِحَّ مَا قَالَهُ السُّدِّيُّ بَلْ كَانُوا مُنَافِقِينَ أَبَدًا مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِمْ فَهَهُنَا تَأْوِيلٌ آخَرُ ذَكَرَهُ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ فَقَدْ ظَفِرُوا بِحَقْنِ دِمَائِهِمْ وَسَلَامَةِ أَمْوَالِهِمْ عَنِ الْغَنِيمَةِ وَأَوْلَادِهِمْ عَنِ السَّبْيِ وَظَفِرُوا بِغَنَائِمِ الْجِهَادِ وَسَائِرِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَعُدَّ ذَلِكَ نُورًا مِنْ أَنْوَارِ الْإِيمَانِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْعَذَابِ الدَّائِمِ قَلِيلًا قدرت شبههم بمستوقد النار الذي انتقع بِضَوْئِهَا قَلِيلًا ثُمَّ سُلِبَ ذَلِكَ فَدَامَتْ حَيْرَتُهُ وَحَسْرَتُهُ لِلظُّلْمَةِ الَّتِي جَاءَتْهُ فِي أَعْقَابِ النُّورِ، فَكَانَ يَسِيرُ انْتِفَاعُهُمْ فِي الدُّنْيَا يُشْبِهُ النُّورَ وَعَظِيمُ ضَرَرِهِمْ فِي الْآخِرَةِ يُشْبِهُ الظُّلْمَةَ. وَثَالِثُهَا: أَنْ نَقُولَ لَيْسَ وَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّ لِلْمُنَافِقِ نُورًا، بَلْ وَجْهُ التَّشْبِيهِ بِهَذَا الْمُسْتَوْقِدِ أَنَّهُ لَمَّا زَالَ النُّورُ عَنْهُ تَحَيَّرَ، وَالتَّحَيُّرُ فِيمَنْ كَانَ فِي نُورٍ ثُمَّ زَالَ عَنْهُ أَشَدُّ مِنْ تَحَيُّرِ سَالِكِ الطَّرِيقِ فِي ظُلْمَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ، لَكِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ النُّورَ فِي مُسْتَوْقِدِ النَّارِ لِكَيْ يَصِحَّ أَنْ يُوصَفَ بِهَذِهِ الظُّلْمَةِ الشَّدِيدَةِ، لَا أَنَّ وَجْهَ التَّشْبِيهِ مَجْمَعُ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الَّذِي أَظْهَرُوهُ يُوهِمُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ النُّورِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ، وَذَهَابُ النُّورِ هُوَ مَا يُظْهِرُهُ لِأَصْحَابِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا قَالَ إِنَّ الْمَثَلَ إِنَّمَا عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ فَالنَّارُ مَثَلٌ لِقَوْلِهِمْ: «آمَنَّا» وَذَهَابُهُ مَثَلٌ لِقَوْلِهِمْ لِلْكُفَّارِ: «إِنَّا مَعَكُمْ» فَإِنْ قِيلَ وَكَيْفَ صَارَ مَا يُظْهِرُهُ الْمُنَافِقُ مِنْ كَلِمَةِ الْإِيمَانِ مَثَلًا بِالنُّورِ وَهُوَ حِينَ تَكَلَّمَ

بِهَا أَضْمَرَ خِلَافَهَا؟ قُلْنَا إِنَّهُ لَوْ ضَمَّ إِلَى الْقَوْلِ اعْتِقَادًا لَهُ وَعَمَلًا بِهِ لَأَتَمَّ النُّورَ لِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَتِمَّ نُورُهُ، وَإِنَّمَا سَمَّى مُجَرَّدَ ذَلِكَ الْقَوْلِ نُورًا لِأَنَّهُ قَوْلٌ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ. وَخَامِسُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِيقَادُ النَّارِ عِبَارَةً عَنْ إِظْهَارِ الْمُنَافِقِ كَلِمَةَ الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا سَمَّاهُ نُورًا لِأَنَّهُ يَتَزَيَّنُ بِهِ ظَاهِرُهُ فِيهِمْ وَيَصِيرُ مَمْدُوحًا بِسَبَبِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُذْهِبُ ذَلِكَ النُّورَ بِهَتْكِ سِتْرِ الْمُنَافِقِ بِتَعْرِيفِ نَبِيِّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ فَيَظْهَرُ لَهُ اسْمُ النافق بَدَلَ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ مِنَ اسْمِ الْإِيمَانِ فَبَقِيَ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُ، إِذِ النُّورُ الَّذِي كَانَ لَهُ قَبْلُ قَدْ كَشَفَ اللَّهُ أَمْرَهُ فَزَالَ. وَسَادِسُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا وُصِفُوا بِأَنَّهُمُ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى عَقَّبَ ذَلِكَ بِهَذَا التَّمْثِيلِ لِيُمَثِّلَ هُدَاهُمُ الَّذِي بَاعُوهُ بِالنَّارِ الْمُضِيئَةِ مَا حَوْلَ الْمُسْتَوْقِدِ، وَالضَّلَالَةَ الَّتِي اشْتَرَوْهَا وَطُبِعَ بِهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ بِذَهَابِ اللَّهِ بِنُورِهِمْ وَتَرْكِهِ إِيَّاهُمْ فِي الظُّلُمَاتِ. وَسَابِعُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَوْقِدُ هاهنا مُسْتَوْقِدَ نَارٍ لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَالْغَرَضُ تَشْبِيهُ الْفِتْنَةِ الَّتِي حَاوَلَ الْمُنَافِقُونَ إِثَارَتَهَا بِهَذِهِ النَّارِ، فَإِنَّ الْفِتْنَةَ الَّتِي كَانُوا يُثِيرُونَهَا كَانَتْ قَلِيلَةَ الْبَقَاءِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [الْمَائِدَةِ: 64] وَثَامِنُهَا: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَانْتِظَارِهِمْ لِخُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِفْتَاحِهِمْ بِهِ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَلَمَّا خَرَجَ كَفَرُوا بِهِ فَكَانَ انْتِظَارُهُمْ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَإِيقَادِ النَّارِ، وَكُفْرُهُمْ بِهِ بَعْدَ ظُهُورِهِ كَزَوَالِ ذَلِكَ النُّورِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَأَمَّا تَشْبِيهُ الْإِيمَانِ بِالنُّورِ وَالْكُفْرِ بِالظُّلْمَةِ فَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَثِيرٌ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ النُّورَ قَدْ بَلَغَ النِّهَايَةَ فِي كَوْنِهِ هَادِيًا إِلَى الْمَحَجَّةِ وَإِلَى طَرِيقِ الْمَنْفَعَةِ وَإِزَالَةِ الْحَيْرَةِ وَهَذَا حَالُ الْإِيمَانِ فِي بَابِ الدِّينِ، فَشَبَّهَ مَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي إِزَالَةِ الْحَيْرَةِ وَوِجْدَانِ الْمَنْفَعَةِ فِي بَابِ الدِّينِ بِمَا هُوَ الْغَايَةُ فِي بَابِ الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَشْبِيهِ الْكُفْرِ بِالظُّلْمَةِ، لِأَنَّ الضَّالَّ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُحْتَاجِ إِلَى سُلُوكِهِ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ الْحِرْمَانِ وَالتَّحَيُّرِ أَعْظَمُ مِنَ الظُّلْمَةِ، وَلَا شَيْءَ كَذَلِكَ فِي بَابِ الدِّينِ أَعْظَمُ مِنَ الْكُفْرِ، فَشَبَّهَ تَعَالَى أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْكُلِّيُّ مِنْ هذه الآية، بقيت هاهنا أَسْئِلَةٌ وَأَجْوِبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالتَّعَلُّقِ بِالتَّفَاصِيلِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا يَقْتَضِي تَشْبِيهَ مَثَلِهِمْ بِمَثَلِ الْمُسْتَوْقِدِ، فَمَا مَثَلُ الْمُنَافِقِينَ وَمَثَلُ الْمُسْتَوْقِدِ حَتَّى شَبَّهَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ؟ وَالْجَوَابُ: اسْتُعِيرَ الْمَثَلُ لِلْقِصَّةِ أَوْ لِلصِّفَةِ إِذَا كَانَ لَهَا شَأْنٌ وَفِيهَا غَرَابَةٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ قِصَّتُهُمُ الْعَجِيبَةُ كَقِصَّةِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا، وَكَذَا قَوْلُهُ: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرَّعْدِ: 35] أَيْ فِيمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنَ الْعَجَائِبِ قِصَّةُ الْجَنَّةِ الْعَجِيبَةِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى [النَّحْلِ: 60] أَيِ الْوَصْفُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالَةِ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ [الْفَتْحِ: 29] أَيْ وَصْفُهُمْ وَشَأْنُهُمُ الْمُتَعَجَّبُ مِنْهُ وَلِمَا فِي الْمَثَلِ مِنْ مَعْنَى الْغَرَابَةِ قَالُوا: فُلَانٌ مَثَلُهُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَاشْتَقُّوا/ مِنْهُ صِفَةً لِلْعَجِيبِ الشَّأْنِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ مُثِّلَتِ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ وَضْعُ «الَّذِي» مَوْضِعَ «الَّذِينَ» كَقَوْلِهِ: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التَّوْبَةِ: 69] وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ «الَّذِي» لِكَوْنِهِ وَصْلَةً إِلَى وَصْفِ كُلِّ مَعْرِفَةٍ مُجْمَلَةٍ وَكَثْرَةِ وُقُوعِهِ فِي كَلَامِهِمْ، وَلِكَوْنِهِ مُسْتَطَالًا بِصِلَتِهِ فَهُوَ حَقِيقٌ بِالتَّخْفِيفِ، وَلِذَلِكَ أَعَلُّوهُ بِالْحَذْفِ فَحَذَفُوا يَاءَهُ ثُمَّ كَسَرْتَهُ ثُمَّ اقْتَصَرُوا فِيهِ عَلَى اللَّامِ وَحْدَهَا فِي أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ وَالْمَفْعُولِينَ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جِنْسَ الْمُسْتَوْقِدِينَ أَوْ أُرِيدَ الْجَمْعُ أَوِ الْفَوْجُ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا. وَثَالِثُهَا: وَهُوَ الْأَقْوَى: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَذَوَاتِهِمْ لَمْ يُشَبَّهُوا بِذَاتِ الْمُسْتَوْقِدِ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْهُ تَشْبِيهُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ وَإِنَّمَا شُبِّهَتْ قِصَّتُهُمْ بِقِصَّةِ الْمُسْتَوْقِدِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ [الْجُمُعَةِ: 5] وَقَوْلُهُ: يَنْظُرُونَ

[سورة البقرة (2) : آية 18]

إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [مُحَمَّدٍ: 20] وَرَابِعُهَا: الْمَعْنَى وَمَثَلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَقَوْلِهِ: يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غَافِرٍ: 67] أَيْ يُخْرِجُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْوُقُودُ؟ وَمَا النَّارُ؟ وَمَا الْإِضَاءَةُ؟ وَمَا النُّورُ؟ مَا الظُّلْمَةُ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا وُقُودُ النَّارِ فَهُوَ سُطُوعُهَا وَارْتِفَاعُ لَهَبِهَا، وَأَمَّا النَّارُ فَهُوَ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ مُضِيءٌ، حَارٌّ مُحْرِقٌ، وَاشْتِقَاقُهَا مِنْ نَارَ يَنُورُ إِذَا نَفَرَ، لِأَنَّ فِيهَا حَرَكَةً وَاضْطِرَابًا، وَالنُّورُ مُشْتَقٌّ مِنْهَا وَهُوَ ضَوْؤُهَا، وَالْمَنَارُ الْعَلَامَةُ، وَالْمَنَارَةُ هِيَ الشَّيْءُ الَّذِي يُؤَذَّنُ عَلَيْهِ. وَيُقَالُ أَيْضًا لِلشَّيْءِ الَّذِي يُوضَعُ السِّرَاجُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ النُّورَةُ لِأَنَّهَا تُطَهِّرُ الْبَدَنَ وَالْإِضَاءَةُ فَرْطُ الْإِنَارَةِ، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يُونُسَ: 5] وَ «أَضَاءَ» يَرِدُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا. تَقُولُ: أَضَاءَ الْقَمَرُ الظُّلْمَةَ، وَأَضَاءَ الْقَمَرُ بِمَعْنَى اسْتَضَاءَ قَالَ الشَّاعِرُ: - أَضَاءَتْ لَهُمْ أَحْسَابُهُمْ وَوُجُوهُهُمْ ... دُجَى اللَّيْلِ حَتَّى نَظَمَ الْجِزْعَ ثَاقِبُهُ وَأَمَّا مَا حَوْلَ الشَّيْءِ فَهُوَ الَّذِي يَتَّصِلُ بِهِ، تَقُولُ دَارَ حَوْلَهُ وَحَوَالَيْهِ، وَالْحَوْلُ السَّنَةُ لِأَنَّهَا تَحُولُ، وَحَالَ عَنِ الْعَهْدِ أَيْ تَغَيَّرَ، وَحَالَ لَوْنُهُ أَيْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَالْحَوَالَةُ انْقِلَابُ الْحَقِّ مِنْ شَخْصٍ إِلَى شَخْصٍ، وَالْمُحَاوَلَةُ طَلَبُ الْفِعْلِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ طَالِبًا لَهُ، وَالْحَوَلُ انْقِلَابُ الْعَيْنِ، وَالْحِوَلُ الِانْقِلَابُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا [الْكَهْفِ: 108] وَالظُّلْمَةُ عَدَمُ النُّورِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَسْتَنِيرَ، وَالظُّلْمَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ النُّقْصَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الْكَهْفِ: 33] أَيْ لَمْ تَنْقُصْ وَفِي الْمَثَلِ: مَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ، أَيْ فَمَا نَقَصَ حَقَّ الشَّبَهِ، وَالظُّلْمُ الثَّلْجُ لِأَنَّهُ يَنْتَقِصُ سَرِيعًا وَالظُّلْمُ مَاءُ السِّنِّ وَطَرَاوَتُهُ وَبَيَاضُهُ تَشْبِيهًا لَهُ بِالثَّلْجِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: أَضَاءَتْ مُتَعَدِّيَةٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: كِلَاهُمَا جَائِزٌ، يُقَالُ: أَضَاءَتِ النَّارُ بِنَفْسِهَا وَأَضَاءَتْ غَيْرَهَا وَكَذَلِكَ أَظْلَمَ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ وأظلم غيره أي صيره مظلماً، وهاهنا الْأَقْرَبُ أَنَّهَا مُتَعَدِّيَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُتَعَدِّيَةٍ مُسْتَنِدَةً إِلَى مَا حَوْلَهُ وَالتَّأْنِيثُ لِلْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ مَا حَوْلَ الْمُسْتَوْقِدِ أَمَاكِنُ وَأَشْيَاءُ، وَيُعَضِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ «ضَاءَ» السُّؤَالُ الْخَامِسُ: هَلَّا قِيلَ ذَهَبَ اللَّهُ بِضَوْئِهِمْ لِقَوْلِهِ: فَلَمَّا أَضاءَتْ؟ الْجَوَابُ: ذِكْرُ النُّورِ أَبْلَغُ لِأَنَّ الضَّوْءَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الزِّيَادَةِ، فَلَوْ قِيلَ ذَهَبَ اللَّهُ بِضَوْئِهِمْ لَأَوْهَمَ/ ذَهَابَ الْكَمَالِ وَبَقَاءَ مَا يُسَمَّى نُورًا وَالْغَرَضُ إِزَالَةُ النُّورِ عَنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ. أَلَا تَرَى كَيْفَ ذَكَرَ عَقِيبَهُ: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ وَالظُّلْمَةُ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ النُّورِ، وَكَيْفَ جَمَعَهَا، وَكَيْفَ نَكَّرَهَا وَكَيْفَ أَتْبَعَهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا ظُلْمَةٌ خَالِصَةٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا يُبْصِرُونَ السُّؤَالُ السَّادِسُ: لِمَ قَالَ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ أَذْهَبَ اللَّهُ نُورَهُمْ وَالْجَوَابُ: الْفَرْقُ بَيْنَ أَذْهَبَ وَذَهَبَ بِهِ أَنَّ مَعْنَى أَذْهَبَهُ أَزَالَهُ وَجَعَلَهُ ذَاهِبًا، وَيُقَالُ ذَهَبَ بِهِ إِذَا اسْتَصْحَبَهُ، وَمَعْنَى بِهِ مَعَهُ، وَذَهَبَ السُّلْطَانُ بِمَالِهِ أَخَذَهُ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ [يُوسُفَ: 15] إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ [الْمُؤْمِنُونَ: 91] وَالْمَعْنَى أَخَذَ اللَّهُ نُورَهُمْ وَأَمْسَكَهُ وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ [فَاطِرٍ: 2] فَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْإِذْهَابِ وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ «أَذْهَبَ اللَّهُ نُورَهُمْ» . السُّؤَالُ السَّابِعُ: مَا مَعْنَى (وَتَرَكَهُمْ) ؟ وَالْجَوَابُ: تَرَكَ إِذَا عُلِّقَ بِوَاحِدٍ فَهُوَ بِمَعْنَى طَرَحَ وَإِذَا عُلِّقَ بِشَيْئَيْنِ كَانَ بِمَعْنَى صَيَّرَ، فَيَجْرِي مَجْرَى أَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ أَصْلُهُ هُمْ فِي ظلمات ثم دخل ترك فنصبت الجزئين. السُّؤَالُ الثَّامِنُ: لِمَ حُذِفَ أَحَدُ الْمَفْعُولَيْنِ مِنْ لَا يُبْصِرُونَ؟ الْجَوَابُ: أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَتْرُوكِ الَّذِي لَا يُلْتَفَتُ إِلَى إِخْطَارِهِ بِالْبَالِ، لَا مِنْ قَبِيلِ الْمُقَدَّرِ الْمَنْوِيِّ، كَأَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ متعد أصلًا. [سورة البقرة (2) : آية 18] صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)

[سورة البقرة (2) : الآيات 19 إلى 20]

اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَعْلُومُ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ وَيَنْطِقُونَ وَيُبْصِرُونَ امْتَنَعَ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا تَشْبِيهُ حَالِهِمْ لِشِدَّةِ تَمَسُّكِهِمْ بِالْعِنَادِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَمَّا يَطْرُقُ سَمْعَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَا يُظْهِرُهُ الرَّسُولُ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالْآيَاتِ بِمَنْ هُوَ أَصَمُّ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا يَسْمَعُ، وَإِذَا لَمْ يَسْمَعْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْجَوَابِ، فَلِذَلِكَ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبْكَمِ، وَإِذَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْأَدِلَّةِ وَلَمْ يُبْصِرْ طَرِيقَ الرُّشْدِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْمَى، أَمَّا قَوْلُهُ: فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِالنِّفَاقِ الَّذِي لأجل تمسكهم به وصفهم الله تعالى بهذا الصِّفَاتِ فَصَارَ ذَلِكَ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُمْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى نِفَاقِهِمْ أَبَدًا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ لَا يَعُودُونَ إِلَى الْهُدَى بَعْدَ أَنْ بَاعُوهُ، وَعَنِ الضَّلَالَةِ بَعْدَ أَنِ اشْتَرَوْهَا. وَثَالِثُهَا: أَرَادَ أَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَحَيِّرِينَ الَّذِينَ بَقُوا خَامِدِينَ فِي مَكَانِهِمْ لَا يَبْرَحُونَ، وَلَا يَدْرُونَ أَيَتَقَدَّمُونَ أَمْ يَتَأَخَّرُونَ وَكَيْفَ يرجعون إلى حيث ابتدءوا منه. [سورة البقرة (2) : الآيات 19 الى 20] أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) / اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَثَلُ الثَّانِي لِلْمُنَافِقِينَ وَكَيْفِيَّةُ الْمُشَابَهَةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ السَّحَابُ الَّذِي فِيهِ الظُّلُمَاتُ وَالرَّعْدُ وَالْبَرْقُ وَاجْتَمَعَ مَعَ ظُلْمَةِ السَّحَابِ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَظُلْمَةُ الْمَطَرِ عِنْدَ وُرُودِ الصَّوَاعِقِ عَلَيْهِمْ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَأَنَّ الْبَرْقَ يَكَادُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ، فَإِذَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ، وَإِذَا ذَهَبَ بَقُوا فِي ظُلْمَةٍ عَظِيمَةٍ فَوَقَفُوا مُتَحَيِّرِينَ لِأَنَّ مَنْ أصحابه الْبَرْقُ فِي هَذِهِ الظُّلُمَاتِ الثَّلَاثِ ثُمَّ ذَهَبَ عَنْهُ تَشْتَدُّ حَيْرَتُهُ. وَتَعْظُمُ الظُّلْمَةُ فِي عَيْنِهِ، وَتَكُونُ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَزَلْ فِي الظُّلْمَةِ، فَشَبَّهَ الْمُنَافِقِينَ فِي حَيْرَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِالدِّينِ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ، إِذْ كَانُوا لَا يَرَوْنَ طَرِيقًا وَلَا يَهْتَدُونَ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَطَرَ وَإِنْ كَانَ نَافِعًا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا وُجِدَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الضَّارَّةِ صَارَ النَّفْعُ بِهِ زَائِلًا، فَكَذَا إِظْهَارُ الْإِيمَانِ نَافِعٌ لِلْمُنَافِقِ لَوْ وَافَقَهُ الْبَاطِنُ: فَإِذَا فُقِدَ مِنْهُ الْإِخْلَاصُ وَحَصَلَ مَعَهُ النِّفَاقُ صَارَ ضَرَرًا فِي الدِّينِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَنْ نَزَلَ بِهِ هَذِهِ الْأُمُورُ مَعَ الصَّوَاعِقِ ظَنَّ الْمَخْلَصَ مِنْهَا أَنْ يَجْعَلَ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنَيْهِ وَذَلِكَ لَا يُنَجِّيهِ مِمَّا يُرِيدُهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ هَلَاكٍ وَمَوْتٍ، فَلَمَّا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي الْعَادَاتِ شَبَّهَ تَعَالَى حَالَ الْمُنَافِقِينَ فِي ظَنِّهِمْ أَنَّ إِظْهَارَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا أَظْهَرُوهُ يَنْفَعُهُمْ، مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ بِمَا ذُكِرَ وَرَابِعُهَا: أَنَّ عَادَةَ الْمُنَافِقِينَ كَانَتْ هِيَ التَّأَخُّرَ عَنِ الْجِهَادِ فِرَارًا مِنَ الْمَوْتِ وَالْقَتْلِ، فَشَبَّهَ اللَّهُ حَالَهُمْ فِي ذَلِكَ بِحَالِ مَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ بِهِ وَأَرَادَ دَفْعَهَا يَجْعَلُ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَخَامِسُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَإِنْ تَخَلَّصُوا عَنِ الْمَوْتِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَإِنَّ الْمَوْتَ وَالْهَلَاكَ مِنْ وَرَائِهِمْ لَا مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهُ فَكَذَلِكَ حَالُ الْمُنَافِقِينَ فِي أَنَّ الَّذِي يَخُوضُونَ فِيهِ لَا يُخَلِّصُهُمْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ مَنْ هَذَا حَالُهُ فَقَدْ بَلَغَ النِّهَايَةَ فِي الْحَيْرَةِ لِاجْتِمَاعِ أَنْوَاعِ الظُّلُمَاتِ وَحُصُولِ أَنْوَاعِ الْمَخَافَةِ، وَحَصَلَ فِي الْمُنَافِقِينَ نِهَايَةُ الْحَيْرَةِ فِي بَابِ الدِّينِ وَنِهَايَةُ الْخَوْفِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ الْمُنَافِقَ يَتَصَوَّرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الْوُقُوفُ عَلَى بَاطِنِهِ لَقُتِلَ، فَلَا يَكَادُ الْوَجَلُ وَالْخَوْفُ يَزُولُ عَنْ قَلْبِهِ مَعَ النِّفَاقِ. وَسَابِعُهَا: الْمُرَادُ مِنَ الصَّيِّبِ هُوَ الْإِيمَانُ وَالْقُرْآنُ، وَالظُّلُمَاتُ وَالرَّعْدُ وَالْبَرْقُ هُوَ الْأَشْيَاءُ الشَّاقَّةُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَهِيَ التَّكَالِيفُ الشَّاقَّةُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَتَرْكِ الرِّيَاسَاتِ/ وَالْجِهَادِ مَعَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَتَرْكِ الْأَدْيَانِ الْقَدِيمَةِ،

وَالِانْقِيَادِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ شِدَّةِ اسْتِنْكَافِهِمْ عَنِ الِانْقِيَادِ لَهُ فَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُبَالِغُ فِي الِاحْتِرَازِ عَنِ الْمَطَرِ الصَّيِّبِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ نَفْعًا بِسَبَبِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُقَارِنَةِ، فَكَذَا الْمُنَافِقُونَ يَحْتَرِزُونَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُقَارِنَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَهِيَ عِصْمَةُ أَمْوَالِهِمْ وَدِمَائِهِمْ وَحُصُولُ الْغَنَائِمِ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ يَرْغَبُونَ فِي الدِّينِ: وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا أَيْ مَتَى لَمْ يَجِدُوا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْمَنَافِعِ فَحِينَئِذٍ يَكْرَهُونَ الْإِيمَانَ وَلَا يَرْغَبُونَ فِيهِ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ ظَاهِرَةٌ فِي التَّشْبِيهِ. وَبَقِيَ عَلَى الْآيَةِ أَسْئِلَةٌ وَأَجْوِبَةٌ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَيُّ التَّمْثِيلَيْنِ أَبْلَغُ؟ وَالْجَوَابُ: التَّمْثِيلُ الثَّانِي، لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى فَرْطِ الْحَيْرَةِ وَشِدَّةِ الْأَغَالِيظِ، وَلِذَلِكَ تَرَاهُمْ يَتَدَرَّجُونَ فِي نَحْوِ هَذَا مِنَ الْأَهْوَنِ إِلَى الْأَغْلَظِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ عُطِفَ أَحَدُ التَّمْثِيلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِحَرْفِ الشَّكِّ؟ الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: لِأَنَّ «أَوْ» فِي أَصْلِهَا تُسَاوِي شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا فِي الشَّكِّ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهَا فَاسْتُعِيرَتْ لِلتَّسَاوِي فِي غَيْرِ الشَّكِّ. كَقَوْلِكَ: جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ تُرِيدُ أَنَّهُمَا سِيَّانِ فِي اسْتِصْوَابِ أَنْ تُجَالِسَ أَيَّهُمَا شِئْتَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الْإِنْسَانِ: 24] أَيْ أَنَّ الْآثِمَ وَالْكَفُورَ مُتَسَاوِيَانِ فِي وُجُوبِ عِصْيَانِهِمَا، فَكَذَا قَوْلُهُ: أَوْ كَصَيِّبٍ مَعْنَاهُ أَنَّ كَيْفِيَّةَ الْمُنَافِقِينَ شَبِيهَةٌ بِكَيْفِيَّتَيْ هَاتَيْنِ الْقِصَّتَيْنِ، فَبِأَيَّتِهِمَا مَثَّلْتَهَا فَأَنْتَ مُصِيبٌ، وَإِنْ مَثَّلْتَهَا بِهِمَا جَمِيعًا فَكَذَلِكَ. وَثَانِيهَا: إِنَّمَا ذَكَرَ تَعَالَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ قِسْمَانِ بَعْضُهُمْ يُشْبِهُونَ أَصْحَابَ النَّارِ، وَبَعْضُهُمْ يُشْبِهُونَ أَصْحَابَ الْمَطَرِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَةِ: 135] وَقَوْلُهُ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ [الْأَعْرَافِ: 4] وَثَالِثُهَا: أَوْ بِمَعْنَى بَلْ قَالَ تَعَالَى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصَّافَّاتِ: 147] وَرَابِعُهَا: أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَأَنَّهُ قَالَ وَكَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ [النُّورِ: 61] وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّي فَاجِرٌ ... لِنَفْسِي تُقَاهَا أَوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا وَهَذِهِ الْوُجُوهُ مُطَّرِدَةٌ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [الْبَقَرَةِ: 74] السُّؤَالُ الثَّالِثُ: الْمُشَبَّهُ بِالصَّيِّبِ وَالظُّلُمَاتِ وَالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالصَّوَاعِقِ مَا هو؟ الجواب: لعلماء البيان هاهنا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا تَشْبِيهٌ مُفَرَّقٌ وَمَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ الْمَثَلُ مُرَكَّبًا مِنْ أُمُورٍ وَالْمُمَثَّلُ يَكُونُ أَيْضًا مُرَكَّبًا مِنْ أُمُورٍ وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَثَلِ شَبِيهًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُمَثَّلِ، فَهَهُنَا شَبَّهَ دِينَ الْإِسْلَامِ بِالصَّيِّبِ، لِأَنَّ الْقُلُوبَ تَحْيَا بِهِ حَيَاةَ الْأَرْضِ بِالْمَطَرِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ شُبُهَاتِ الْكُفَّارِ بِالظُّلُمَاتِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِالْبَرْقِ وَالرَّعْدِ، وَمَا يُصِيبُ الْكَفَرَةَ مِنَ الْفِتَنِ مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِالصَّوَاعِقِ، وَالْمَعْنَى أَوْ كَمَثَلِ ذَوِي صَيِّبٍ، وَالْمُرَادُ كَمَثَلِ قَوْمٍ أَخَذَتْهُمُ السَّمَاءُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ: وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَشْبِيهٌ مُرَكَّبٌ، وَهُوَ الَّذِي يُشَبَّهُ فِيهِ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى فِي أَمْرٍ/ مِنَ الْأُمُورِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ آحَادُ إحدى الجملتين شبيهة بآحاد الجملة الأخرى وهاهنا الْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ حَيْرَةِ الْمُنَافِقِينَ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ بِحَيْرَةِ مَنِ انْطَفَتْ نَارُهُ بَعْدَ إِيقَادِهَا، وَبِحَيْرَةِ مَنْ أَخَذَتْهُ السَّمَاءُ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ مَعَ رَعْدٍ وَبَرْقٍ، فَإِنْ قِيلَ الَّذِي كُنْتَ تُقَدِّرُهُ فِي التَّشْبِيهِ الْمُفَرَّقِ مِنْ حَذْفِ الْمُضَافِ وَهُوَ قَوْلُكَ: أَوْ كَمَثَلِ ذَوِي صَيِّبٍ هَلْ يُقَدَّرُ مِثْلُهُ فِي الْمُرَكَّبِ، قُلْنَا لَوْلَا طَلَبُ الرَّاجِعِ فِي قَوْلِهِ: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ لَمَا كَانَ بِنَا حَاجَةٌ إِلَى تَقْدِيرِهِ: السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا الصَّيِّبُ؟ الْجَوَابُ: أَنَّهُ الْمَطَرُ الَّذِي يُصَوَّبُ، أَيْ يَنْزِلُ مِنْ صَابَ يَصُوبُ إِذَا نَزَلَ وَمِنْهُ صَوَّبَ رَأْسَهُ إِذَا خَفَضَهُ وَقِيلَ إِنَّهُ مِنْ صَابَ يَصُوبُ إِذَا قَصَدَ، وَلَا يُقَالُ صَيِّبٌ

إِلَّا لِلْمَطَرِ الْجُودِ. كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ صَيِّبًا هَنِيئًا» أَيْ مَطَرًا جُودًا وَأَيْضًا يُقَالُ لِلسَّحَابِ صَيِّبٌ قَالَ الشَّمَّاخُ: وَأَسْحَمَ دَانٍ صَادِقِ الْوَعْدِ صَيِّبِ وَتَنْكِيرُ صَيِّبٍ لِأَنَّهُ أُرِيدَ نَوْعٌ مِنَ الْمَطَرِ شَدِيدٌ هَائِلٌ، كَمَا تَنَكَّرَتِ النَّارُ فِي التَّمْثِيلِ الْأَوَّلِ، وَقُرِئَ «أَوْ كَصَائِبٍ» وَصَيِّبٌ أَبْلَغُ: وَالسَّمَاءُ هَذِهِ الْمِظَلَّةُ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ مِنَ السَّمَاءِ. مَا الْفَائِدَةُ فِيهِ وَالصَّيِّبُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ السَّمَاءِ؟ الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَوْ قَالَ. أَوْ كَصَيِّبٍ فِيهِ ظُلُمَاتٌ. احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الصَّيِّبُ نَازِلًا مِنْ بَعْضِ جَوَانِبِ السَّمَاءِ دُونَ بَعْضٍ، أَمَّا لَمَّا قَالَ مِنَ السَّمَاءِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَامٌّ مُطْبِقٌ آخِذٌ بِآفَاقِ السَّمَاءِ فَكَمَا حَصَلَ فِي لَفْظِ الصَّيِّبِ مُبَالَغَاتٌ مِنْ جِهَةِ التَّرْكِيبِ وَالتَّنْكِيرِ أَيَّدَ ذَلِكَ بِأَنَّ جَعَلَهُ مُطْبِقًا، الثَّانِي: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمَطَرُ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنَ ارْتِفَاعِ أَبْخِرَةٍ رَطْبَةٍ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى الْهَوَاءِ فَتَنْعَقِدُ هُنَاكَ مِنْ شِدَّةِ بَرْدِ الْهَوَاءِ ثُمَّ تَنْزِلُ مَرَّةً أُخْرَى، فَذَاكَ هُوَ الْمَطَرُ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أبطل ذلك المذهب هاهنا بِأَنْ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الصَّيِّبَ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، كَذَا قَوْلُهُ: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً [الْفُرْقَانِ: 48] وَقَوْلُهُ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النُّورِ: 43] السُّؤَالُ السَّادِسُ: مَا الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ؟ الْجَوَابُ: الرَّعْدُ الصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ مِنَ السَّحَابِ كَأَنَّ أَجْرَامَ السَّحَابِ تَضْطَرِبُ وَتَنْتَقِضُ وَتَرْتَعِدُ إِذَا أَخَذَتْهَا الرِّيحُ فَصَوَّتَ عِنْدَ ذَلِكَ مِنَ الِارْتِعَادِ وَالْبَرْقُ الَّذِي يَلْمَعُ مِنَ السَّحَابِ مِنْ بَرَقَ الشَّيْءُ بَرِيقًا إِذَا لَمَعَ. السُّؤَالُ السَّابِعُ: الصَّيِّبُ هُوَ الْمَطَرُ وَالسَّحَابُ فَأَيُّهُمَا أُرِيدَ فَمَا ظُلُمَاتُهُ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا ظُلُمَاتُ السَّحَابِ فَإِذَا كَانَ أَسْحَمَ مُطْبِقًا فَظُلْمَتُهُ سُحْمَتُهُ وَتَطْبِيقُهُ مَضْمُومَةٌ إِلَيْهِمَا ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَأَمَّا ظُلْمَةُ الْمَطَرِ فَظُلْمَتُهُ تَكَاثُفُهُ وَانْسِجَامُهُ بِتَتَابُعِ الْقَطْرِ وَظُلْمَتُهُ إِظْلَالُ الْغَمَامَةِ مَعَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ. السُّؤَالُ الثَّامِنُ: كَيْفَ يَكُونُ الْمَطَرُ مَكَانًا لِلرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَإِنَّمَا مَكَانُهُمَا السَّحَابُ. الْجَوَابُ: لَمَّا كَانَ التَّعْلِيقُ بَيْنَ السَّحَابِ وَالْمَطَرِ شَدِيدًا جَازَ إِجْرَاءُ أَحَدِهِمَا مَجْرَى الْآخَرِ فِي الْأَحْكَامِ. السُّؤَالُ التَّاسِعُ: هَلَّا قِيلَ رُعُودٌ وَبُرُوقٌ كَمَا قِيلَ ظُلُمَاتٌ؟ الْجَوَابُ: الْفَرْقُ أَنَّهُ حَصَلَتْ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنَ الظُّلُمَاتِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ فَاحْتِيجَ إِلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ، أَمَّا الرَّعْدُ فَإِنَّهُ نَوْعٌ وَاحِدٌ، وَكَذَا الْبَرْقُ وَلَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ أَنْوَاعِ الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ فِي السَّحَابِ الْوَاحِدِ فَلَا جَرَمَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ لَفْظَ الْجَمْعِ. السُّؤَالُ الْعَاشِرُ: لِمَ جَاءَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مُنَكَّرَاتٍ. الْجَوَابُ: لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنْوَاعٌ مِنْهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ فِيهِ ظُلُمَاتٌ دَاجِيَةٌ وَرَعْدٌ قَاصِفٌ/ وَبَرْقٌ خَاطِفٌ. السُّؤَالُ الْحَادِي عَشَرَ: إِلَى مَاذَا يَرْجِعُ الضَّمِيرُ فِي «يَجْعَلُونَ» . الْجَوَابُ: إِلَى أَصْحَابِ الصَّيِّبِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَحْذُوفًا فِي اللَّفْظِ لَكِنَّهُ باقٍ فِي الْمَعْنَى وَلَا مَحَلَّ لِقَوْلِهِ يَجْعَلُونَ لِكَوْنِهِ مُسْتَأْنَفًا لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الرَّعْدَ وَالْبَرْقَ عَلَى مَا يُؤْذِنُ بِالشِّدَّةِ وَالْهَوْلِ فَكَأَنَّ قَائِلًا قَالَ فَكَيْفَ حَالُهُمْ مَعَ مِثْلِ ذَلِكَ الرَّعْدِ فَقِيلَ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ ثُمَّ قَالَ فَكَيْفَ حَالُهُمْ مَعَ مِثْلِ ذَلِكَ الْبَرْقِ فَقَالَ: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ [البقرة: 20] السُّؤَالُ الثَّانِي عَشَرَ: رُءُوسُ الْأَصَابِعِ هِيَ الَّتِي تُجْعَلُ فِي الْآذَانِ فَهَلَّا قِيلَ أَنَامِلُهُمْ؟ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأُصْبُعَ لَكِنَّ الْمُرَادَ بَعْضُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [الْمَائِدَةِ: 38] الْمُرَادُ بَعْضُهُمَا. السُّؤَالُ الثَّالِثَ عَشَرَ: مَا الصَّاعِقَةُ؟ الْجَوَابُ: إِنَّهَا قَصْفُ رَعْدٍ يَنْقَضُّ مِنْهَا شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ وَهِيَ نَارٌ لَطِيفَةٌ قَوِيَّةٌ لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ إِلَّا أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا أَنَّهَا مَعَ قُوَّتِهَا سَرِيعَةُ الْخُمُودِ. السُّؤَالُ الرَّابِعَ عَشَرَ: مَا إِحَاطَةُ اللَّهِ بِالْكَافِرِينَ. الْجَوَابُ: أَنَّهُ مَجَازٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَفُوتُونَهُ كَمَا لَا يَفُوتُ الْمُحَاطُ بِهِ الْمُحِيطَ بِهِ حَقِيقَةً ثُمَّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَالِمٌ بِهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [الطَّلَاقِ: 12] وَثَانِيهَا: قُدْرَتُهُ مُسْتَوْلِيَةٌ

عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ [الْبُرُوجِ: 20] وَثَالِثُهَا: يُهْلِكُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ [يُوسُفَ: 66] السُّؤَالُ الْخَامِسَ عَشَرَ: مَا الْخَطْفُ. الْجَوَابُ: إِنَّهُ الْأَخْذُ بِسُرْعَةٍ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ «يَخْطِفُ» بِكَسْرِ الطَّاءِ، وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «يَخْتَطِفُ» وَعَنِ الْحَسَنِ «يَخْطَفُ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْخَاءِ وَأَصْلُهُ يَخْتَطِفُ، وَعَنْهُ يَخْطِفُ بِكَسْرِهِمَا عَلَى إِتْبَاعِ الْيَاءِ الْخَاءَ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ: يَخْطِفُ مِنْ خَطَفَ وَعَنْ أُبَيٍّ يَتَخَطَّفُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: 67] أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [الْبَقَرَةِ: 20] فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ ثَالِثٌ كَأَنَّهُ جَوَابٌ لِمَنْ يَقُولُ كَيْفَ يَصْنَعُونَ فِي حَالَتَيْ ظُهُورِ الْبَرْقِ وَخَفَائِهِ، وَالْمَقْصُودُ تَمْثِيلُ شِدَّةِ الْأَمْرِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِشِدَّتِهِ عَلَى أَصْحَابِ الصَّيِّبِ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنْ غَايَةِ التَّحَيُّرِ وَالْجَهْلِ بِمَا يَأْتُونَ وَمَا يَذَرُوَنَ إِذَا صَادَفُوا مِنَ الْبَرْقِ خَفْقَةً مَعَ خَوْفِ أَنْ يَخْطَفَ أَبْصَارَهُمُ انْتَهَزُوا تِلْكَ الْخَفْقَةَ فُرْصَةً فَخَطَوْا خُطُوَاتٍ يَسِيرَةً، فَإِذَا خَفِيَ وَفَتَرَ لَمَعَانُهُ بَقُوا وَاقِفِينَ مُتَقَيِّدِينَ عَنِ الْحَرَكَةِ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَزَادَ فِي قَصْفِ الرَّعْدِ فَأَصَمَّهُمْ، وَفِي ضَوْءِ الْبَرْقِ فَأَعْمَاهُمْ. وَأَضَاءَ إِمَّا مُتَعَدٍّ بِمَعْنَى كُلَّمَا نَوَّرَ لَهُمْ مَسْلَكًا أَخَذُوهُ، فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وَإِمَّا غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِمَعْنَى كُلَّمَا لَمَعَ لَهُمْ مَشَوْا فِي مَطْرَحِ نُورِهِ، وَيُعَضِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ «كُلَّمَا ضَاءَ» فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ مَعَ الْإِضَاءَةِ كُلَّمَا، وَمَعَ الْإِظْلَامِ إِذَا: قلنا لأنهم حراص على إمكان المشيء، فَكُلَّمَا صَادَفُوا مِنْهُ فُرْصَةً انْتَهَزُوهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ التَّوَقُّفُ، وَالْأَقْرَبُ فِي أَظْلَمَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَمَعْنَى قَامُوا وَقَفُوا وَثَبَتُوا فِي مَكَانِهِمْ، وَمِنْهُ قَامَتِ السُّوقُ، وَقَامَ الْمَاءُ جَمَدَ، وَمَفْعُولُ شَاءَ مَحْذُوفٌ لِأَنَّ الْجَوَابَ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَالْمَعْنَى وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَذْهَبَ بسمعهم وأبصارهم لذهب بهما وهاهنا مَسْأَلَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ «لَوْ» تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَزَعَمَ أَنَّهَا لَا تُفِيدُ إِلَّا الرَّبْطَ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الْأَنْفَالِ: 23] فَلَوْ أَفَادَتْ كَلِمَةُ لَوِ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لَا انْتِفَاءَ غَيْرِهِ لَلَزِمَ التَّنَاقُضُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ/ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَا عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا وَمَا أَسْمَعَهُمْ وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ يُفِيدُ أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَسْمَعَهُمْ وَأَنَّهُمْ مَا تَوَلَّوْا وَلَكِنْ عَدَمُ التَّوَلِّي خَيْرٌ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا، وَمَا عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نِعْمَ الرَّجُلُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ» فَعَلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ يَلْزَمُ أَنَّهُ خَافَ اللَّهَ وَعَصَاهُ وَذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ، فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ كَلِمَةَ «لَوْ» لَا تُفِيدُ إِلَّا الرَّبْطَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مِنْهُمْ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ، قَالَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ الْقُدْرَةَ عَلَى الشَّيْءِ، وَالْمَوْجُودُ لَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ لِاسْتِحَالَةِ إِيجَادِ الْمَوْجُودِ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْقُدْرَةُ مَعْدُومٌ وَهُوَ شَيْءٌ فَالْمَعْدُومُ شَيْءٌ. وَالْجَوَابُ: لَوْ صَحَّ هَذَا الْكَلَامُ لَزِمَ أَنَّ مَا لَا يَقْدِرُ اللَّهُ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ شَيْئًا، فَالْمَوْجُودُ لَمَّا لَمْ يَقْدِرِ اللَّهُ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْئًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ جَهْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِشَيْءٍ، قَالَ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَقْدُورٌ لِلَّهِ وَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِمَقْدُورٍ لَهُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْئًا، وَاحْتَجَّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: 11] قَالَ لَوْ كَانَ هُوَ تَعَالَى شَيْئًا لَكَانَ تَعَالَى مِثْلَ نَفْسِهِ فَكَانَ يُكَذِّبُ قَوْلَهُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْئًا حَتَّى لَا تَتَنَاقَضَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ فِي الِاسْمِ، لِأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ

[سورة البقرة (2) : الآيات 21 إلى 22]

الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ. [الْأَنْعَامِ: 19] وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصُ: 88] وَالْمُسْتَثْنَى دَاخِلٌ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ مَقْدُورَ الْعَبْدِ مَقْدُورٌ لِلَّهِ تَعَالَى خِلَافًا لِأَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ، وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ مَقْدُورَ الْعَبْدِ شَيْءٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ مَقْدُورٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورُ الْعَبْدِ مَقْدُورًا لِلَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُحْدَثَ حَالَ حُدُوثِهِ مَقْدُورٌ لِلَّهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: الِاسْتِطَاعَةُ قَبْلَ الْفِعْلِ مُحَالٌ، فَالشَّيْءُ إِنَّمَا يَكُونُ مَقْدُورًا قَبْلَ حُدُوثِهِ، وَبَيَانُ اسْتِدْلَالِ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْمُحْدَثَ حَالَ وُجُودِهِ شَيْءٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ مَقْدُورٌ، وَهَذَا الدَّلِيلُ يَقْتَضِي كَوْنَ الْبَاقِي مَقْدُورًا تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فَبَقِيَ مَعْمُولًا بِهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، لِأَنَّهُ حَالَ الْبَقَاءِ مَقْدُورُهُ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِعْدَامِهِ، أَمَّا حَالَ الْحُدُوثِ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَقْدِرَ اللَّهُ عَلَى إِعْدَامِهِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَصِيرَ مَعْدُومًا فِي أَوَّلِ زَمَانِ وُجُودِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: تَخْصِيصُ الْعَامِّ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَيْضًا تَخْصِيصُ الْعَامِّ جَائِزٌ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 284] يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ خُصَّ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، فَإِنْ قِيلَ إِذَا كَانَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِلْكُلِّ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ صَادِقٍ فِي الْكُلِّ كَانَ هَذَا كَذِبًا، وَذَلِكَ يُوجِبُ الطَّعْنَ فِي الْقُرْآنِ، قُلْنَا: لَفْظُ الْكُلِّ كَمَا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَجْمُوعِ. فَقَدْ يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي الْأَكْثَرِ، / وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَجَازًا مَشْهُورًا فِي اللُّغَةِ لَمْ يَكُنِ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فيه كذباً والله أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 21 الى 22] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) [القول في إقامة الدلالة على التوحيد] الْقَوْلُ فِي إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ والمعاد أما التوحيد فقوله: اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَدَّمَ أَحْكَامَ الْفِرَقِ الثَّلَاثَةِ، أَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَفِيهِ فَوَائِدُ: أَحَدُهَا: أَنَّ فِيهِ مَزِيدَ هَزٍّ وَتَحْرِيكٍ مِنَ السَّامِعِ كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ حَاكِيًا عَنْ ثَالِثٍ: إِنَّ فُلَانًا مِنْ قِصَّتِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ، ثُمَّ تُخَاطِبُ ذَلِكَ الثَّالِثَ فَقُلْتَ: يَا فُلَانُ مِنْ حَقِّكَ أَنْ تَسْلُكَ الطَّرِيقَةَ الْحَمِيدَةَ فِي مَجَارِي أُمُورِكَ، فَهَذَا الِانْتِقَالُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ يُوجِبُ مَزِيدَ تَحْرِيكٍ لِذَلِكَ الثَّالِثِ. وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ: جَعَلْتُ الرَّسُولَ وَاسِطَةً بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَوَّلًا ثُمَّ الْآنَ أَزِيدُ فِي إِكْرَامِكَ وَتَقْرِيبِكَ، فَأُخَاطِبُكَ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، لِيَحْصُلَ لَكَ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى الْأَدِلَّةِ، شَرَفُ الْمُخَاطَبَةِ وَالْمُكَالَمَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ مُشْتَغِلًا بِالْعُبُودِيَّةِ فَإِنَّهُ

يَكُونُ أَبَدًا فِي التَّرَقِّي، بِدَلِيلِ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، انْتَقَلَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ كَانَتْ فِي حِكَايَةِ أَحْوَالِهِمْ، وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَاتُ فَإِنَّهَا أَمْرٌ وَتَكْلِيفٌ، فَفِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ رَاحَةٍ تُقَابِلُ هَذِهِ الْكُلْفَةَ، وَتِلْكَ الرَّاحَةُ هِيَ أَنْ يَرْفَعَ مَلِكُ الْمُلُوكِ الْوَاسِطَةَ مِنَ الْبَيْنِ وَيُخَاطِبَهُمْ بِذَاتِهِ، كَمَا أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أُلْزِمَ تَكْلِيفًا شَاقًّا فَلَوْ شَافَهَهُ الْمَوْلَى وَقَالَ: أُرِيدُ مِنْكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا فَإِنَّهُ يَصِيرُ ذَلِكَ الشَّاقُّ لَذِيذًا لِأَجْلِ ذَلِكَ الْخِطَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حُكِيَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ في القرآن: يا أَيُّهَا النَّاسُ فإنه مكي، وما كان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَبِالْمَدِينَةِ، قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ إِنْ كَانَ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى النَّقْلِ فَمُسَلَّمٌ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ فِيهِ حُصُولَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى الْكَثْرَةِ دُونَ مَكَّةَ/ فَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخَاطِبَ الْمُؤْمِنِينَ مَرَّةً بِصِفَتِهِمْ، وَمَرَّةً بِاسْمِ جِنْسِهِمْ، وَقَدْ يُؤْمَرُ مَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ بِالْعِبَادَةِ، كَمَا يُؤْمَرُ الْمُؤْمِنُ بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالِازْدِيَادِ مِنْهَا، فَالْخِطَابُ فِي الْجَمِيعِ مُمْكِنٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَلْفَاظَ فِي الْأَغْلَبِ عِبَارَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى أُمُورٍ هِيَ: إِمَّا الْأَلْفَاظُ أَوْ غَيْرُهَا، أَمَّا الْأَلْفَاظُ فَهِيَ: كَالِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَالْحَرْفِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الثَّلَاثَةَ يَدُلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ، هُوَ فِي نَفْسِهِ لَفْظٌ مَخْصُوصٌ، وَغَيْرُ الْأَلْفَاظِ: فَكَالْحَجَرِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَلَفْظُ النِّدَاءِ لَمْ يُجْعَلْ دَلِيلًا عَلَى شَيْءٍ آخَرَ، بَلْ هُوَ لَفْظٌ يَجْرِي مَجْرَى عَمَلٍ يَعْمَلُهُ عَامِلٌ لِأَجْلِ التَّنْبِيهِ. فَأَمَّا الَّذِينَ فَسَّرُوا قَوْلَنَا: «يَا زَيْدُ» بِأُنَادِي زَيْدًا، أَوْ أُخَاطِبُ زَيْدًا فَهُوَ خَطَأٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَنَا. أُنَادِي زَيْدًا، خَبَرٌ يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ، وَقَوْلُنَا يَا زَيْدُ، لَا يَحْتَمِلُهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَنَا يَا زَيْدُ، يَقْتَضِي صَيْرُورَةَ زَيْدٍ مُنَادًى فِي الْحَالِ، وَقَوْلُنَا أُنَادِي زَيْدًا، لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَنَا يَا زَيْدُ يَقْتَضِي صَيْرُورَةَ زَيْدٍ مُخَاطَبًا بِهَذَا الْخِطَابِ وَقَوْلُنَا أُنَادِي زَيْدًا لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنَّهُ يُخْبِرُ إِنْسَانًا آخَرَ بِأَنِّي أُنَادِي زَيْدًا. وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَنَا أُنَادِي زَيْدًا، إِخْبَارٌ عَنِ النِّدَاءِ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ النِّدَاءِ غَيْرُ النِّدَاءِ، وَالنِّدَاءُ هُوَ قَوْلُنَا: يَا زَيْدُ، فَإِذَنْ قَوْلُنَا: أُنَادِي زَيْدًا، غَيْرُ قَوْلِنَا يَا زَيْدُ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الوجوه فساد هذا القول. ثم هاهنا نُكْتَةٌ نَذْكُرُهَا وَهِيَ: أَنَّ أَقْوَى الْمَرَاتِبِ الِاسْمُ، وَأَضْعَفَهَا الْحَرْفُ، فَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّهُ لَا يَأْتَلِفُ الِاسْمُ بِالْحَرْفِ، وَكَذَا أَعْظَمُ الْمَوْجُودَاتِ هُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَضْعَفُهَا الْبَشَرُ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النِّسَاءِ: 28] فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: أَيُّ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [الْبَقَرَةِ: 30] فَقِيلَ قَدْ يَأْتَلِفُ الِاسْمُ مَعَ الْحَرْفِ فِي حَالِ النِّدَاءِ، فَكَذَا الْبَشَرُ يَصْلُحُ لِخِدْمَةِ الرَّبِّ حَالَ النِّدَاءِ وَالتَّضَرُّعِ رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: 23] وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] . المسألة الرابعة: «ياء» حَرْفٌ وُضِعَ فِي أَصْلِهِ لِنِدَاءِ الْبَعِيدِ وَإِنْ كَانَ لِنِدَاءِ الْقَرِيبِ لَكِنْ لِسَبَبِ أَمْرٍ مُهِمٍّ جِدًّا، وَأَمَّا نِدَاءُ الْقَرِيبِ فَلَهُ: أَيْ وَالْهَمْزَةُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي نِدَاءِ مَنْ سَهَا وَغَفَلَ وَإِنَ قَرُبَ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْبَعِيدِ. فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ يَقُولُ الدَّاعِي يَا رَبِّ يَا أَللَّهُ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ قُلْنَا هُوَ اسْتِبْعَادٌ لِنَفْسِهِ مِنْ مَظَانِّ الزُّلْفَى وَمَا يُقَرِّبُهُ إِلَى مَنَازِلِ الْمُقَرَّبِينَ هَضْمًا لِنَفْسِهِ وَإِقْرَارًا عَلَيْهَا بِالتَّنْقِيصِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْإِجَابَةَ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ: «أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِي» أَوْ لِأَجْلِ أَنَّ إِجَابَةَ الدُّعَاءِ مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ لِلدَّاعِي. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: «أَيْ» وَصْلَةٌ إِلَى نِدَاءِ مَا فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ كَمَا أَنَّ «ذُو» وَ «الَّذِي» وَصْلَتَانِ إِلَى الْوَصْفِ بِأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ وَوَصْفِ الْمَعَارِفِ بِالْجُمَلِ، وَهُوَ اسْمٌ مُبْهَمٌ يَفْتَقِرُ إِلَى مَا يُزِيلُ إِبْهَامَهُ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُرْدِفَهُ اسْمَ جِنْسٍ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ يَتَّصِفُ بِهِ حَتَّى يَحْصُلَ الْمَقْصُودُ بِالنِّدَاءِ فَالَّذِي يَعْمَلُ فِيهِ حَرْفُ النِّدَاءِ هُوَ أَيْ والاسم

التَّابِعُ لَهُ صِفَةٌ كَقَوْلِكَ يَا زَيْدُ الظَّرِيفَ إِلَّا أَنَّ أَيَا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ اسْتِقْلَالَ زَيْدٍ فَلَمْ يَنْفَكَّ عَنِ الصِّفَةِ وَمَوْصُوفِهَا وَأَمَّا كَلِمَةُ التَّنْبِيهِ الْمُقْحَمَةُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَمَوْصُوفِهَا فَفِيهَا فَائِدَتَانِ: الْأُولَى: مُعَاضَدَةُ حَرْفِ النِّدَاءِ بِتَأْكِيدِ مَعْنَاهُ. وَالثَّانِيَةُ: وُقُوعُهَا عِوَضًا/ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ أَيْ مِنَ الْإِضَافَةِ وَإِنَّمَا كَثُرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى النِّدَاءُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لِاسْتِقْلَالِهِ بِهَذِهِ التَّأْكِيدَاتِ وَالْمُبَالَغَاتِ فَإِنَّ كُلَّ مَا نَادَى اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عِبَادَهُ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَاقْتِصَاصِ أَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمِينَ بِأُمُورٍ عِظَامٍ، وَأَشْيَاءَ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَمِعِينَ أَنْ يَتَيَقَّظُوا لَهَا مَعَ أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنْهَا، فَلِهَذَا وَجَبَ أَنْ يُنَادَوْا بِالْأَبْلَغِ الآكد. المسألة السادسة: اعلم أن قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ كُلَّ النَّاسِ بِالْعِبَادَةِ فَلَوْ خَرَجَ الْبَعْضُ عَنْ هَذَا الْخِطَابِ لَكَانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لِلْعُمُومِ. وهاهنا أَبْحَاثٌ. الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ التَّعْرِيفِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَالْخِلَافُ فِيهِ مَعَ الْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي هَاشِمٍ، لَنَا أَنَّهُ يَصِحُّ تَأْكِيدُهُ بِمَا يُفِيدُ الْعُمُومَ كَقَوْلِهِ: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الْحِجْرِ: 15] وَلَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ فِي أَصْلِهِ لِلْعُمُومِ لَمَا كَانَ قَوْلُهُ: كُلُّهُمْ تَأْكِيدًا بَلْ بَيَانًا وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ عَنْهُ وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ فَوَجَبَ أَنْ يُفِيدَ الْعُمُومَ وَتَمَامُ تَقْرِيرِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. الْبَحْثُ الثاني: لما ثبت أن قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ النَّاسِ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ فَهَلْ يَتَنَاوَلُ الَّذِينَ سَيُوجَدُونَ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ لَا يتناولهم، لأن قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ: خِطَابُ مُشَافَهَةٍ وَخِطَابُ الْمُشَافَهَةِ مَعَ الْمَعْدُومِ لَا يَجُوزُ، وَأَيْضًا فَالَّذِينَ سَيُوجَدُونَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَمَا لَا يَكُونُ مَوْجُودًا لَا يَكُونُ إِنْسَانًا وَمَا لَا يَكُونُ إِنْسَانًا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: يا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنْ قِيلَ: فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْخِطَابَاتِ الَّذِينَ وُجِدُوا بَعْدَ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ قَطْعًا. قُلْنَا: لَوْ لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ مُنْفَصِلٌ لَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّا عَرَفْنَا بِالتَّوَاتُرِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ تِلْكَ الْخِطَابَاتِ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ مَنْ سَيُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ فَلِهَذِهِ الدَّلَالَةِ الْمُنْفَصِلَةِ حَكَمْنَا بالعموم. البحث الثالث: قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ أَمْرٌ لِلْكُلِّ بِالْعِبَادَةِ فَهَلْ يُفِيدُ أَمْرُ الْكُلِّ بِكُلِّ عِبَادَةٍ؟ الْحَقُّ لَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ اعْبُدُوا مَعْنَاهُ ادْخُلُوا هَذِهِ الْمَاهِيَّةَ فِي الْوُجُودِ، فَإِذَا أَتَوْا بِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ فِي الْوُجُودِ فَقَدْ أَدْخَلُوا الْمَاهِيَّةَ فِي الْوُجُودِ لِأَنَّ الْفَرْدَ مِنْ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَاهِيَّةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعِبَادَةِ مَعَ قَيْدِ كَوْنِهَا هَذِهِ وَمَتَى وُجِدَ الْمُرَكَّبَ فَقَدْ وُجِدَ قَيْدَاهُ، فَالْآتِي بِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعِبَادَةِ آتٍ بِالْعِبَادَةِ، وَالْآتِي بِالْعِبَادَةِ آتٍ بِتَمَامِ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: اعْبُدُوا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ خُرُوجُهُ عَنِ الْعُهْدَةِ فَإِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَجْعَلَهُ دَالًّا عَلَى الْعُمُومِ نَقُولُ: الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ كَوْنِهَا عِبَادَةً لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِعَلِيَّةِ الْوَصْفِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْوَصْفُ مناسباً للحكم، وهاهنا كَوْنُ الْعِبَادَةِ عِبَادَةً يُنَاسِبُ الْأَمْرَ بِهَا، لِمَا أَنَّ الْعِبَادَةَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِظْهَارِ الْخُضُوعِ لَهُ وَكُلُّ ذَلِكَ مُنَاسِبٌ فِي الْعُقُولِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ عِبَادَةً عِلَّةٌ لِلْأَمْرِ بِهَا وَجَبَ فِي كُلِّ عِبَادَةٍ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهَا، لِأَنَّهُ أَيْنَمَا حَصَلَتِ الْعِلَّةُ وَجَبَ حُصُولُ الْحُكْمِ لَا مَحَالَةَ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: لقائل أن يقول: قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا لَا يَتَنَاوَلُ الْكُفَّارَ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُمْكِنُ أَنْ/ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِالْإِيمَانِ، وَإِذَا امْتَنَعَ ذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِالْعِبَادَةِ، أَمَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِالْإِيمَانِ فَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا أَنْ يَتَنَاوَلَهُ حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ عَارِفٍ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ حَالَ كَوْنِهِ عَارِفًا بِاللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا إِنْ تَنَاوَلَهُ حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ عَارِفٍ بِاللَّهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْعِلْمَ

بِالصِّفَةِ مَعَ الْجَهْلِ بِالذَّاتِ مُحَالٌ فَلَوْ تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَكَانَ قَدْ تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ فِي حَالٍ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ أَنْ يَعْرِفَ كَوْنَهُ مَأْمُورًا بِذَلِكَ الْأَمْرِ، وَذَلِكَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَإِنْ تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرِفَةِ حَالَ كونه عارفاً بالله فذالك مُحَالٌ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ. فَثَبَتَ أَنَّ الْكَافِرَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِتَحْصِيلِ الْمَعْرِفَةِ، وَإِذَا اسْتَحَالَ ذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِالْعِبَادَةِ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِالْعِبَادَةِ قَبْلَ الْمَعْرِفَةِ وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّ عِبَادَةَ مَنْ لَا يَعْرِفُ مُمْتَنِعَةٌ أَوْ يُؤْمَرُ بِالْعِبَادَةِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ إِلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ مَوْقُوفًا عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرِفَةِ فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرِفَةِ مُمْتَنِعًا كَانَ الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ أَيْضًا مُمْتَنِعًا، وَأَيْضًا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخِطَابُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَأَمْرُهُمْ بِالْعِبَادَةِ يَكُونُ أَمْرًا بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَالْجَوَابُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ مَشْرُوطٌ بِحُصُولِ الْمَعْرِفَةِ، كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالزَّكَاةِ مَشْرُوطٌ بِحُصُولِ مِلْكِ النِّصَابِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمَعَارِفَ ضَرُورِيَّةٌ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَعَارِفَ لَيْسَتْ ضَرُورِيَّةً فَقَالَ: الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ حَاصِلٌ، وَالْعِبَادَةُ لَا تُمْكِنُ إِلَّا بِالْمَعْرِفَةِ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِمَا هُوَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِهِ، كَمَا أَنَّ الطَّهَارَةَ إِذَا لَمْ تَصِحَّ إِلَّا بِإِحْضَارِ الْمَاءِ كَانَ إِحْضَارُ الْمَاءِ وَاجِبًا، وَالدَّهْرِيُّ لَا يَصِحُّ مِنْهُ تَصْدِيقُ الرَّسُولِ إِلَّا بِتَقْدِيمِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَتْ، وَالْمُحْدِثُ لَا تَصِحُّ مِنْهُ الصَّلَاةُ إِلَّا بِتَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ فَوَجَبَتْ، وَالْمُودِعُ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّ الْوَدِيعَةِ إِلَّا بِالسَّعْيِ إِلَيْهَا، فَكَانَ السعي واجباً، فكذا هاهنا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ مُخَاطَبًا بِالْعِبَادَةِ وَشَرْطُ الْإِتْيَانِ بِهَا الْإِتْيَانُ بِالْإِيمَانِ أَوَّلًا ثُمَّ الْإِتْيَانُ بِالْعِبَادَةِ بَعْدَ ذَلِكَ. بَقِيَ لَهُمْ: الْأَمْرُ بِتَحْصِيلِ الْمَعْرِفَةِ مُحَالٌ، قُلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَقْصَاةٌ فِي الأصول والذي نقول هاهنا إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَإِنْ تَمَّ فِي كُلِّ مَا يَتَوَقَّفُ الْعِلْمُ يَكُونُ اللَّهُ آمِرًا عَلَى الْعِلْمِ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَجْرِي فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ. فَلِمَ لَا يَجُوزُ وُرُودُ الْأَمْرِ بِذَلِكَ؟ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أن يقال هذا الأمر يتناول الْمُؤْمِنِينَ؟ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ ذَلِكَ أَمْرًا بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ، قُلْنَا لَمَّا تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَنَحْمِلُهُ إِمَّا عَلَى الْأَمْرِ بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْعِبَادَةِ أَوْ عَلَى الْأَمْرِ بِالِازْدِيَادِ مِنْهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْعِبَادَةِ عِبَادَةٌ، فَصَحَّ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: «اعْبُدُوا» بِالزِّيَادَةِ فِي الْعِبَادَةِ. الْبَحْثُ الْخَامِسُ: قَالَ مُنْكِرُو التَّكْلِيفِ: لَا يَجُوزُ وُرُودُ الْأَمْرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّكْلِيفِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّكْلِيفَ إِمَّا أَنْ يَتَوَجَّهَ عَلَى الْعَبْدِ حَالَ اسْتِوَاءِ دَوَاعِيهِ إِلَى الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ أَوْ حَالَ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ فِي حَالِ الِاسْتِوَاءِ يَمْتَنِعُ حُصُولُ التَّرْجِيحِ لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ يُنَاقِضُ التَّرْجِيحَ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ وَالتَّكْلِيفُ بِالْفِعْلِ حَالَ اسْتِوَاءِ الدَّاعِيِينَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالرَّاجِحُ وَاجِبُ الْوُقُوعِ، لِأَنَّ الْمَرْجُوحَ حَالَ مَا كَانَ مُسَاوِيًا لِلرَّاجِحِ كَانَ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، وَإِلَّا فَقَدْ/ وَقَعَ الْمُمْكِنُ لَا عَنْ مُرَجِّحٍ، وَإِذَا كَانَ حَالُ الِاسْتِوَاءِ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ فَبِأَنْ يَصِيرَ حَالَ الْمَرْجُوحِيَّةِ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ أَوْلَى وَإِذَا كَانَ الْمَرْجُوحُ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ كَانَ الرَّاجِحُ وَاجِبَ الْوُقُوعِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا خُرُوجَ عَنِ النَّقِيضَيْنِ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالتَّكْلِيفُ إِنْ وَقَعَ بِالرَّاجِحِ كَانَ التَّكْلِيفُ تَكْلِيفًا بِإِيجَادِ مَا يَجِبُ وُقُوعُهُ، وَإِنْ وَقَعَ بِالْمَرْجُوحِ كَانَ التَّكْلِيفُ تَكْلِيفًا بِمَا يَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ، وَكِلَاهُمَا تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الَّذِي وَرَدَ بِهِ التَّكْلِيفُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ فِي الْأَزَلِ وُقُوعَهُ، أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ لَا هَذَا وَلَا ذَاكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ وَاجِبُ الْوُقُوعِ مُمْتَنِعَ الْعَدَمِ فَلَا فَائِدَةَ فِي وُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ، وَإِنْ عُلِمَ لَا وُقُوعُهُ كَانَ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ وَاجِبَ الْعَدَمِ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِإِيقَاعِهِ أَمْرًا بِإِيقَاعِ الْمُمْتَنِعِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ لَا هَذَا وَلَا ذَاكَ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا بِالْجَهْلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُحَالٌ، وَلِأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ الْمُطِيعُ عَنِ الْعَاصِي، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ فِي الطَّاعَةِ فَائِدَةٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ وُرُودَ الْأَمْرِ بِالتَّكَالِيفِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِفَائِدَةٍ أَوْ لَا لِفَائِدَةٍ، فَإِنْ كَانَ لِفَائِدَةٍ فَهِيَ إِمَّا عَائِدَةٌ إِلَى

الْمَعْبُودِ أَوْ إِلَى الْعَابِدِ أَمَّا إِلَى الْمَعْبُودِ فَمُحَالٌ لِأَنَّهُ كَامِلٌ لِذَاتِهِ، وَالْكَامِلُ لِذَاتِهِ لَا يَكُونُ كَامِلًا بِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْإِلَهَ الْعَالِيَ عَلَى الدَّهْرِ وَالزَّمَانِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِرُكُوعِ الْعَبْدِ وَسُجُودِهِ، وَأَمَّا إِلَى الْعَابِدِ فَمُحَالٌ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْفَوَائِدِ مَحْصُورَةٌ فِي حُصُولِ اللَّذَّةِ وَدَفْعِ الْأَلَمِ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِ كُلِّ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ هَذِهِ الْمَشَاقِّ فَيَكُونُ تَوَسُّطُهَا عَبَثًا، وَالْعَبَثُ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى الْحَكِيمِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُوجِدٍ لِأَفْعَالِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِتَفَاصِيلِهَا وَمَنْ لَا يَعْلَمُ تَفَاصِيلَ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ مُوجِدًا لَهُ وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ مُوجِدًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ فَإِنَّ أَمْرَهُ بِذَلِكَ الْفِعْلِ حَالَ مَا خَلَقَهُ فِيهِ فَقَدْ أَمَرَهُ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَإِنْ أَمَرَهُ بِهِ حَالَ مَا لَمْ يَخْلُقْهُ فِيهِ فَقَدْ أَمَرَهُ بِالْمُحَالِ وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّكْلِيفِ إِنَّمَا هُوَ تَطْهِيرُ الْقَلْبِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ ظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ فَلَوْ قَدَّرْنَا إِنْسَانًا مُشْتَغِلَ الْقَلْبِ دَائِمًا بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِحَيْثُ لَوِ اشْتَغَلَ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ لَصَارَ ذَلِكَ عَائِقًا لَهُ عَنِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ هَذِهِ التَّكَالِيفُ الظَّاهِرَةُ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ وَالْقِيَاسِيِّينَ قَالُوا إِذَا لَاحَ الْمَقْصُودُ وَالْحِكْمَةُ فِي التَّكَالِيفِ وَجَبَ اتِّبَاعُ الْأَحْكَامِ الْمَعْقُولَةِ لَا اتِّبَاعُ الظواهر. والجواب: عن الشبه الثلاثة الأول مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الشُّبَهِ أَوْجَبُوا بِمَا ذَكَرُوهُ اعْتِقَادَ عَدَمِ التَّكَالِيفِ فَهَذَا تَكْلِيفٌ يَنْفِي التَّكْلِيفَ وَأَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ. الثَّانِي: أَنَّ عِنْدَنَا يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كُلُّ شَيْءٍ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ أَوْ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ مَالِكٌ، وَالْمَالِكُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ. الْبَحْثُ السَّادِسُ: قَالُوا: الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ وَإِنْ كَانَ عَامًّا لِكُلِّ النَّاسِ لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَفْهَمُ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْغَافِلِ وَالنَّاسِي، وَفِي حَقِّ مَنْ لَا يَقْدِرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَةِ: 233] . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي حَقِّ الْعَبِيدِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ طَاعَةَ مَوَالِيهِمْ، وَاشْتِغَالُهُمْ بِطَاعَةِ الْمَوَالِي يَمْنَعُهُمْ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَةِ، وَالْأَمْرُ الدَّالُّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ الْمَوْلَى/ أَخَصُّ مِنَ الْأَمْرِ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ الْعِبَادَةِ وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ الْقَاضِي: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُودِ الْعِبَادَةِ مَا بَيَّنَهُ مِنْ خَلْقِهِ لَنَا وَالْإِنْعَامِ عَلَيْنَا. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا يَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَحِقُّ بِفِعْلِهِ الثَّوَابَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ خَلْقُهُ إِيَّانَا وَإِنْعَامُهُ عَلَيْنَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الْعِبَادَةِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ اشْتِغَالُنَا بِالْعِبَادَةِ أَدَاءً لِلْوَاجِبِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَسْتَحِقُّ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ شَيْئًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ الْعَبْدُ عَلَى الْعِبَادَةِ ثَوَابًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَمَّا قَوْلُهُ: رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَمَرَ بِعِبَادَةِ الرَّبِّ أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَهُوَ خَلْقُ الْمُكَلَّفِينَ وَخَلْقُ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَطَعَنَ قَوْمٌ مِنَ الْحَشْوِيَّةِ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَقَالُوا الِاشْتِغَالُ بِهَذَا الْعِلْمِ بِدْعَةٌ وَلَنَا في إثبات مذهبنا وجوه نقلية وعقلية وهاهنا ثَلَاثُ مَقَامَاتٍ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ فَضْلِ هَذَا الْعِلْمِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ شَرَفَ الْعِلْمِ بِشَرَفِ الْمَعْلُومِ فَمَهْمَا كَانَ الْمَعْلُومُ أَشْرَفَ كَانَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِهِ أَشْرَفَ فَلَمَّا كَانَ أَشْرَفَ الْمَعْلُومَاتِ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ أَشْرَفَ الْعُلُومِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعِلْمَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ دِينِيًّا أَوْ غَيْرَ دِينِيٍّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِلْمَ الدِّينِيَّ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِ الدِّينِيِّ، وَأَمَّا الْعِلْمُ الدِّينِيُّ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ عِلْمَ الْأُصُولِ، أَوْ مَا عَدَاهُ، أَمَّا مَا عَدَاهُ فَإِنَّهُ تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى عِلْمِ الْأُصُولِ، لِأَنَّ الْمُفَسِّرَ إِنَّمَا يَبْحَثُ عَنْ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ فَرْعٌ عَلَى وُجُودِ

الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ الْمُتَكَلِّمِ، وَأَمَّا الْمُحَدِّثُ فَإِنَّمَا يَبْحَثُ عَنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ فَرْعٌ عَلَى ثُبُوتِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْفَقِيهُ إِنَّمَا يَبْحَثُ عَنْ أَحْكَامِ اللَّهِ، وَذَلِكَ فَرْعٌ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى عِلْمِ الْأُصُولِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عِلْمَ الْأُصُولِ غَنِيٌّ عَنْهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ الْأُصُولِ أَشْرَفَ الْعُلُومِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ شَرَفَ الشَّيْءِ قَدْ يَظْهَرُ بِوَاسِطَةِ خَسَاسَةِ ضِدِّهِ، فَكُلَّمَا كَانَ ضِدُّهُ أَخَسَّ كَانَ هُوَ أَشْرَفَ وَضِدُّ عِلْمِ الْأُصُولِ هُوَ الْكُفْرُ وَالْبِدْعَةُ، وَهُمَا مِنْ أَخَسِّ الْأَشْيَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ الْأُصُولِ أَشْرَفَ الْأَشْيَاءِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ شَرَفَ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ بِشَرَفِ مَوْضُوعِهِ وَقَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ لِقُوَّةِ بَرَاهِينِهِ، وَعِلْمُ الْأُصُولِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْكُلِّ وَذَلِكَ لِأَنَّ عِلْمَ الْهَيْئَةِ أَشْرَفُ مِنْ عِلْمِ الطِّبِّ نَظَرًا إِلَى أَنَّ مَوْضُوعَ عِلْمِ الْهَيْئَةِ أَشْرَفُ مِنْ مَوْضُوعِ عِلْمِ الطِّبِّ، وَإِنْ كَانَ الطِّبُّ أَشْرَفَ مِنْهُ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الطِّبِّ أَكْثَرُ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الْهَيْئَةِ، وَعِلْمُ الْحِسَابِ أَشْرَفُ مِنْهُمَا نَظَرًا إِلَى أَنَّ بَرَاهِينَ عِلْمِ الْحِسَابِ أَقْوَى. أَمَّا عِلْمُ الْأُصُولِ فَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ مَعْرِفَةُ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَمَعْرِفَةُ أَقْسَامِ الْمَعْلُومَاتِ مِنَ الْمَعْدُومَاتِ وَالْمَوْجُودَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ أَشْرَفَ الْأُمُورِ، وَأَمَّا الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فَشَدِيدَةٌ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِمَّا فِي الدِّينِ أَوْ فِي الدُّنْيَا، أَمَّا فِي الدِّينِ فَشَدِيدَةٌ لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ اسْتَوْجَبَ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ وَالْتَحَقَ بِالْمَلَائِكَةِ، وَمَنْ جَهِلَهَا/ اسْتَوْجَبَ الْعِقَابَ الْعَظِيمَ وَالْتَحَقَ بِالشَّيَاطِينِ. وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلِأَنَّ مَصَالِحَ الْعَالَمِ إِنَّمَا تَنْتَظِمُ عِنْدَ الْإِيمَانِ بِالصَّانِعِ وَالْبَعْثِ وَالْحَشْرِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْإِيمَانُ لَوَقَعَ الْهَرَجُ وَالْمَرَجُ فِي الْعَالَمِ، وَأَمَّا قُوَّةُ الْبَرَاهِينِ فَبَرَاهِينُ هَذَا الْعِلْمِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُرَكَّبَةً مِنْ مُقَدِّمَاتٍ يَقِينِيَّةٍ تَرْكِيبًا يَقِينِيًّا وَهَذَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي الْقُوَّةِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ مُشْتَمِلٌ عَلَى جَمِيعِ جِهَاتِ الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَشْرَفَ الْعُلُومِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ النَّسْخُ وَلَا التَّغْيِيرُ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ وَالنَّوَاحِي بِخِلَافِ سَائِرِ الْعُلُومِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَشْرَفَ الْعُلُومِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى مَطَالِبِ هَذَا الْعِلْمِ وَبَرَاهِينِهَا أَشْرَفُ مِنَ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْمَطَالِبِ الْفِقْهِيَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَاءَ فِي فَضِيلَةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاصِ: 1] وآمَنَ الرَّسُولُ [البقرة: 285] وآية الكرسي ما لم يجيء مثله في فضيلة قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة: 222] وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ [الْبَقَرَةِ: 282] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ أَفْضَلُ. وَسَابِعُهَا: أَنَّ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَقَلُّ مِنْ سِتِّمِائَةِ آيَةٍ، وَأَمَّا الْبَوَاقِي فَفِي بَيَانِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالرَّدِّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَأَصْنَافِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا الْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي الْقَصَصِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا مَعْرِفَةُ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ عَلَى مَا قَالَ: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يُوسُفَ: 111] فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ أَفْضَلُ، وَنُشِيرُ إِلَى مَعَاقِدِ الدَّلَائِلِ: أَمَّا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ فَالْقُرْآنُ مملوء منه. أولها: ما ذكر هاهنا مِنَ الدَّلَائِلِ الْخَمْسَةِ وَهِيَ خَلْقُ الْمُكَلَّفِينَ وَخَلْقُ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَخَلْقُ السَّمَاءِ وَخَلْقُ الْأَرْضِ، وَخَلْقُ الثَّمَرَاتِ مِنَ الْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ عَجَائِبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الصِّفَاتِ. أَمَّا الْعِلْمُ فَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ [آلِ عِمْرَانَ: 5، 6] وَهَذَا هُوَ عَيْنُ دَلِيلِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّهُمْ يَسْتَدِلُّونَ بِأَحْكَامِ الْأَفْعَالِ وَإِتْقَانِهَا عَلَى عِلْمِ الصانع، وهاهنا اسْتَدَلَّ الصَّانِعُ سُبْحَانَهُ بِتَصْوِيرِ الصُّوَرِ فِي الْأَرْحَامِ عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِالْأَشْيَاءِ، وَقَالَ: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الْمُلْكِ: 14] وَهُوَ عَيْنُ تِلْكَ الدَّلَالَةِ وَقَالَ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَامِ: 59] وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى مُخْبِرٌ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ فَتَقَعُ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ الْخَبَرِ، فَلَوْلَا كَوْنُهُ

عَالِمًا بِالْمُغَيَّبَاتِ وَإِلَّا لَمَا وَقَعَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا صِفَةُ الْقُدْرَةِ فَكُلُّ مَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُدُوثِ الثِّمَارِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْحَيَوَانَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ مَعَ اسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ فَذَاكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ قَادِرًا مُخْتَارًا لَا مُوجَبًا بِالذَّاتِ، وَأَمَّا التَّنْزِيهُ فَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَلَا فِي مَكَانٍ قَوْلُهُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَإِنَّ الْمُرَكَّبَ مُفْتَقِرٌ إِلَى أَجْزَائِهِ وَالْمُحْتَاجَ مُحْدَثٌ، وَإِذَا كَانَ أَحَدًا وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونُ جِسْمًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ جِسْمًا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَكَانِ، وَأَمَّا التَّوْحِيدُ فَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا وَ [الْأَنْبِيَاءِ: 22] قَوْلُهُ: إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 42] وَقَوْلُهُ: وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 91] وَأَمَّا النُّبُوَّةُ فالذي يدل عليها قوله هاهنا: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَةِ: 23] وَأَمَّا الْمَعَادُ فَقَوْلُهُ: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس: 79] وَأَنْتَ لَوْ فَتَّشْتَ عِلْمَ/ الْكَلَامِ لَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلَّا تَقْرِيرَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ وَالذَّبَّ عَنْهَا وَدَفْعَ الْمَطَاعِنِ وَالشُّبُهَاتِ الْقَادِحَةِ فِيهَا، أَفَتَرَى أَنَّ عِلْمَ الْكَلَامِ يُذَمُّ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى هَذِهِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ أَوْ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى دَفْعِ الْمَطَاعِنِ وَالْقَوَادِحِ عَنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ مَا أَرَى أَنَّ عَاقِلًا مُسْلِمًا يَقُولُ ذَلِكَ ويرضى به. وثامنها: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى الِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ عَنِ الْمَلَائِكَةِ وَأَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ أَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَلِأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [الْبَقَرَةِ: 30] كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ خَلْقَ مِثْلِ هَذَا الشَّيْءِ قَبِيحٌ، وَالْحَكِيمُ لَا يَفْعَلُ الْقَبِيحَ، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَالْمُرَادُ إِنِّي لَمَّا كُنْتُ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ كُنْتُ قَدْ عَلِمْتُ فِي خَلْقِهِمْ وَتَكْوِينِهِمْ حِكْمَةً لَا تَعْلَمُونَهَا أَنْتُمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُنَاظَرَةُ، وَأَمَّا مُنَاظَرَةُ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ إِبْلِيسَ فَهِيَ أَيْضًا ظَاهِرَةٌ وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَأَوَّلُهُمْ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ تَعَالَى حُجَّتَهُ عَلَى فَضْلِهِ بِأَنْ أَظْهَرَ عِلْمَهُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَذَلِكَ مَحْضُ الِاسْتِدْلَالِ، وَأَمَّا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ حَكَى اللَّهُ تعالى عن الكفار قولهم: يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا [هُودٍ: 32] وَمَعْلُومٌ أَنَّ تِلْكَ الْمُجَادَلَةَ مَا كَانَتْ فِي تَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بَلْ كَانَتْ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، فَالْمُجَادَلَةُ فِي نُصْرَةِ الْحَقِّ فِي هَذَا الْعِلْمِ هِيَ حِرْفَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالِاسْتِقْصَاءُ فِي شَرْحِ أَحْوَالِهِ فِي هَذَا الْبَابِ يَطُولُ وَلَهُ مَقَامَاتٌ: أَحَدُهَا: مَعَ نَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الْأَنْعَامِ: 76] وَهَذَا هُوَ طَرِيقَةُ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِتَغَيُّرِهَا عَلَى حُدُوثِهَا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ [الْأَنْعَامِ: 83] وَثَانِيهَا: حَالُهُ مع أبيه وهو قوله: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مَرْيَمَ: 42] وَثَالِثُهَا: حَالُهُ مَعَ قَوْمِهِ تَارَةً بِالْقَوْلِ وَأُخْرَى بِالْفِعْلِ، أَمَّا بِالْقَوْلِ فَقَوْلُهُ: مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 52] وَأَمَّا بِالْفِعْلِ فَقَوْلُهُ: فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 58] . وَرَابِعُهَا: حَالُهُ مَعَ مَلِكِ زَمَانِهِ فِي قَوْلِهِ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [الْبَقَرَةِ: 258] إِلَى آخِرِهِ وَكُلُّ مَنْ سَلِمَتْ فِطْرَتُهُ عَلِمَ أَنَّ عِلْمَ الْكَلَامِ لَيْسَ إِلَّا تَقْرِيرَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ وَدَفْعَ الْأَسْئِلَةِ وَالْمُعَارَضَاتِ عَنْهَا، فَهَذَا كُلُّهُ بَحْثُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمَبْدَأِ، وَأَمَّا بَحْثُهُ فِي الْمَعَادِ فَقَالَ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [الْبَقَرَةِ: 26] إِلَى آخِرِهِ وَأَمَّا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَانْظُرْ إِلَى مُنَاظَرَتِهِ مَعَ فِرْعَوْنَ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، أَمَّا التَّوْحِيدُ فَاعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا يُعَوِّلُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ عَلَى دَلَائِلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى في سوطه طه: قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طَه: 49، 50] وَهَذَا هُوَ الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشُّعَرَاءِ: 78] وَقَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ

الْأَوَّلِينَ [الشُّعَرَاءِ: 26] وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَلَمَّا لَمْ يَكْتَفِ فِرْعَوْنُ بِذَلِكَ وَطَالَبَهُ بِشَيْءٍ آخَرَ قَالَ مُوسَى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الشُّعَرَاءِ: 28] وهذا هو الذي قال إبراهيم عليه السلام فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة: 258] فَهَذَا يُنَبِّهُكَ عَلَى أَنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ حِرْفَةُ هَؤُلَاءِ الْمَعْصُومِينَ وَأَنَّهُمْ كَمَا اسْتَفَادُوهَا مِنْ عُقُولِهِمْ فَقَدْ تَوَارَثُوهَا مِنْ أَسْلَافِهِمُ الطَّاهِرِينَ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مُوسَى عَلَى النُّبُوَّةِ/ بِالْمُعْجِزَةِ فَفِي قَوْلِهِ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ [الشعراء: 30] وَهَذَا هُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَاشْتِغَالُهُ بِالدَّلَائِلِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُحْتَاجَ فِيهِ إِلَى التَّطْوِيلِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ مَمْلُوءٌ مِنْهُ وَلَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُبْتَلًى بِجَمِيعِ فِرَقِ الْكُفَّارِ فَالْأَوَّلُ: الدَّهْرِيَّةُ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الْجَاثِيَةِ: 24] وَاللَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَ قَوْلَهُمْ بِأَنْوَاعِ الدَّلَائِلِ. وَالثَّانِي: الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَ قَوْلَهُمْ بِحُدُوثِ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ وَأَصْنَافِ الْحَيَوَانَاتِ مَعَ اشْتِرَاكِ الْكُلِّ فِي الطَّبَائِعِ وَتَأْثِيرَاتِ الْأَفْلَاكِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْقَادِرِ. وَالثَّالِثُ: الَّذِينَ أَثْبَتُوا شَرِيكًا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ الشَّرِيكُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عُلْوِيًّا أَوْ سُفْلِيًّا، أَمَّا الشَّرِيكُ الْعُلْوِيُّ فَمِثْلُ مَنْ جَعَلَ الْكَوَاكِبَ مُؤَثِّرَةً فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَهُ بِدَلِيلِ الْخَلِيلِ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ وَأَمَّا الشَّرِيكُ السُّفْلِيُّ فَالنَّصَارَى قَالُوا بِإِلَاهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ قَالُوا: بِإِلَاهِيَّةِ الْأَوْثَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَكْثَرَ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ. الرَّابِعُ: الَّذِينَ طَعَنُوا فِي النُّبُوَّةِ وَهُمْ فَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِينَ طَعَنُوا فِي أَصْلِ النُّبُوَّةِ وَهُمُ الَّذِينَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: 94] . وَالثَّانِي: الَّذِينَ سَلَّمُوا أَصْلَ النُّبُوَّةِ وَطَعَنُوا فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنَّ طَعْنَهُمْ مِنْ وُجُوهٍ تَارَةً بِالطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ فَأَجَابَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً [الْبَقَرَةِ: 26] وَتَارَةً بِالْتِمَاسِ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ كَقَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاءِ: 90] وَتَارَةً بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ نَجْمًا نَجْمًا وَذَلِكَ يُوجِبُ تَطَرُّقَ التُّهْمَةِ إِلَيْهِ فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الْفُرْقَانِ: 32] . الْخَامِسُ: الَّذِينَ نَازَعُوا فِي الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَوْرَدَ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ وَعَلَى إِبْطَالِ قَوْلِ الْمُنْكِرِينَ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الدَّلَائِلِ. السَّادِسُ: الَّذِينَ طَعَنُوا فِي التَّكْلِيفِ تَارَةً بِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَأَجَابَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: 7] وَتَارَةً بِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْجَبْرُ، وَأَنَّهُ يُنَافِي صِحَّةَ التَّكْلِيفِ، وَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِأَنَّهُ لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 23] وَإِنَّمَا اكْتَفَيْنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ بِهَذِهِ الْإِشَارَاتِ الْمُخْتَصَرَةِ لِأَنَّ الِاسْتِقْصَاءَ فِيهَا مَذْكُورٌ فِي جُمْلَةِ هَذَا الْكِتَابِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْحِرْفَةَ هِيَ حِرْفَةُ كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ عَلِمْنَا أَنَّ الطَّاعِنَ فِيهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا أَوْ جَاهِلًا. الْمَقَامُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ تَحْصِيلَ هَذَا الْعِلْمِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْقُولُ وَالْمَنْقُولُ. أَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ تَقْلِيدُ الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ الْبَاقِي، فَإِمَّا أَنْ يَجُوزَ تَقْلِيدُ الْكُلِّ فَيَلْزَمُنَا تَقْلِيدُ الْكُفَّارِ، وَإِمَّا أَنْ يُوجَبَ تَقْلِيدُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَصِيرَ الرَّجُلُ مُكَلَّفًا بِتَقْلِيدِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى أَنَّهُ لِمَ قَلَّدَ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَجُوزَ التَّقْلِيدُ أَصْلًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، فَإِذَا بَطَلَ التَّقْلِيدُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا هَذِهِ الطَّرِيقَةُ النَّظَرِيَّةُ. وَأَمَّا الْمَنْقُولُ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ أَمَّا الْآيَاتُ. فَأَحَدُهَا: قَوْلُهُ: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْلِ: 125] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ بِالْحِكْمَةِ أَيْ بِالْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ، فَكَانَتِ الدَّعْوَةُ/ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَأْمُورًا بِهَا، وَقَوْلُهُ: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُجَادَلَةَ فِي فُرُوعِ

الشَّرْعِ لِأَنَّ مَنْ أَنْكَرَ نُبُوَّتَهُ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْخَوْضِ مَعَهُ فِي تَفَارِيعِ الشَّرْعِ، وَمَنْ أَثْبَتَ نُبُوَّتَهُ فَإِنَّهُ لَا يُخَالِفُهُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الْجِدَالَ كَانَ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، فَكَانَ الْجِدَالُ فِيهِ مَأْمُورًا بِهِ ثُمَّ إِنَّا مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْلِهِ: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: 31] وَلِقَوْلِهِ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الْأَحْزَابِ: 21] فَوَجَبَ كَوْنُنَا مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ الْجِدَالِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْحَجِّ: 3، 8 لُقْمَانَ: 20] ذَمُّ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُجَادِلَ بِالْعِلْمِ لَا يَكُونُ مَذْمُومًا بَلْ يَكُونُ مَمْدُوحًا وَأَيْضًا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْ نُوحٍ فِي قوله: يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا [هُودٍ: 32] وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالنَّظَرِ فَقَالَ: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النِّسَاءِ: 82] ، أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الْغَاشِيَةِ: 17] ، سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فُصِّلَتْ: 53] ، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الرَّعْدِ: 41] ، قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [يُونُسَ: 101] ، أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ التَّفَكُّرَ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ فَقَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ [الزُّمَرِ: 21] ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [آلِ عِمْرَانَ: 13] ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى [طه: 54، 128] وأٌضاً ذَمَّ الْمُعْرِضِينَ فَقَالَ: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ [يُوسُفَ: 105] ، لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها [الْأَعْرَافِ: 179] وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ التَّقْلِيدَ، فَقَالَ حِكَايَةً عن الكفار إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزُّخْرُفِ: 23] وَقَالَ: بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا [لُقْمَانَ: 21] وَقَالَ: بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ [الشُّعَرَاءِ: 74] وَقَالَ: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها [الْفُرْقَانِ: 42] وَقَالَ عَنْ وَالِدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم: 46] وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالتَّفَكُّرِ وَذَمِّ التَّقْلِيدِ فَمَنْ دَعَا إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، كَانَ عَلَى وَفْقِ الْقُرْآنِ وَدِينِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَنْ دَعَا إِلَى التَّقْلِيدِ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْقُرْآنِ وَعَلَى وِفَاقِ دِينِ الْكُفَّارِ. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَفِيهَا كَثْرَةٌ، وَلْنَذْكُرْ مِنْهَا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ إِنَّ امْرَأَتِي وَضَعَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ فَقَالَ لَهُ هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ، فَقَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَمَا أَلْوَانُهَا قَالَ حُمْرٌ قَالَ: فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنَّى ذَلِكَ، قَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ نَزَعَهُ عِرْقٌ قَالَ: وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ» وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّمَسُّكُ بِالْإِلْزَامِ وَالْقِيَاسِ. وَثَانِيهَا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَذِّبَنِي، وَشَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْتُمَنِي. أَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ خَلْقِهِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ» فَانْظُرْ كَيْفَ احْتَجَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِعَادَةِ، وَفِي الْمَقَامِ الثَّانِي احْتَجَّ بِالْأَحَدِيَّةِ عَلَى نَفْيِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْوَالِدِيَّةِ وَالْمَوْلُودِيَّةِ. وَثَالِثُهَا: رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ/ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَكْرَهُ الْمَوْتَ فَذَاكَ كَرَاهَتُنَا لِقَاءَ اللَّهِ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:» لَا وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ فَأَحَبَّ اللَّهَ لِقَاءَهُ، وَالْكَافِرَ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ فَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ وَالْفِكْرَ فِي الدَّلَائِلِ مَأْمُورٌ بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْخَصْمِ مَقَامَاتٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ النَّظَرَ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ النَّظَرَ الْمُفِيدَ لِلْعِلْمِ غَيْرُ مَقْدُورٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الرَّسُولَ مَا أَمَرَ بِهِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ بِدْعَةٌ.

أما المقام الأول [أن النظر لا يفيد العلم] : فَاحْتَجَّ الْخَصْمُ عَلَيْهِ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّا إِذَا تَفَكَّرْنَا وَحَصَلَ لَنَا عَقِيبَ فِكْرِنَا اعْتِقَادٌ فَعَلِمْنَا بِكَوْنِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ عِلْمًا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَرُورِيًّا أَوْ نَظَرِيًّا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَأَمَّلَ فِي اعْتِقَادِهِ فِي كَوْنِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ عِلْمًا، وَفِي اعْتِقَادِهِ فِي أَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ، وَأَنَّ الشَّمْسَ مُضِيئَةٌ وَالنَّارَ مُحْرِقَةٌ وَجَدَ الْأَوَّلَ أَضْعَفَ مِنَ الثَّانِي، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَطَرُّقَ الضَّعْفِ إِلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ الْفِكْرِ الثَّانِي كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّا رَأَيْنَا عَالَمًا مِنَ النَّاسِ قَدْ تَفَكَّرُوا وَاجْتَهَدُوا وَحَصَلَ لَهُمْ عَقِيبَ فِكْرِهِمُ اعْتِقَادٌ، وَكَانُوا جَازِمِينَ بِأَنَّهُ عِلْمٌ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُمْ أَوْ لِغَيْرِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَهْلًا فَرَجَعُوا عَنْهُ وَتَرَكُوهُ وَإِذَا شَاهَدْنَا ذَلِكَ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِقَادُ الْحَاصِلُ ثَانِيًا كَذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِصِحَّةِ شَيْءٍ مِنَ الْعَقَائِدِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنَ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَطْلُوبَ إِنْ كَانَ مَشْعُورًا بِهِ اسْتَحَالَ طَلَبُهُ، لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَشْعُورٍ بِهِ كَانَ الذِّهْنُ غَافِلًا عَنْهُ، وَالْمَغْفُولُ عَنْهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَوَجَّهَ الطلب إليه. ورابعها: أن العلم يكون النَّظَرِ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَرُورِيًّا أَوْ نَظَرِيًّا فَإِنْ كَانَ ضَرُورِيًّا وَجَبَ اشْتِرَاكُ الْعُقَلَاءِ فِيهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ نَظَرِيًّا لَزِمَ إِثْبَاتُ جِنْسِ الشَّيْءِ بِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ النِّزَاعَ لَمَّا وَقَعَ فِي الْمَاهِيَّةِ كَانَ وَاقِعًا فِي ذَلِكَ الْفَرْدِ أَيْضًا فَيَلْزَمُ إِثْبَاتُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ من حيث إنه وسيلة إلى الْإِثْبَاتِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا قَبْلُ. وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَطْلُوبٌ يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مَعْلُومًا قَبْلُ، فَيَلْزَمُ اجْتِمَاعُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمُقَدَّمَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تُنْتِجُ بَلِ الْمُنْتِجُ مَجْمُوعُ الْمُقَدَّمَتَيْنِ، لَكِنَّ حُضُورَ الْمُقَدَّمَتَيْنِ دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي الذِّهْنِ مُحَالٌ لِأَنَّا جَرَّبْنَا أَنْفُسَنَا فَوَجَدْنَا أَنَّا مَتَى وَجَّهْنَا الْخَاطِرَ نَحْوَ مَعْلُومٍ اسْتَحَالَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تَوْجِيهُهُ نَحْوَ مَعْلُومٍ آخَرَ، وَرُبَّمَا سَلَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ النَّظَرَ فِي الْجُمْلَةِ يُفِيدُ الْعِلْمَ لَكِنَّهُ يَقُولُ النَّظَرُ في الإلاهيات لَا يُفِيدُ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِلَهِ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ وَإِذَا لَمْ تَكُنِ الْحَقِيقَةُ مُتَصَوَّرَةً اسْتَحَالَ التَّصْدِيقُ لَا بِثُبُوتِهِ وَلَا بثبوته صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ. بَيَانُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَعْلُومَ عِنْدَ الْبَشَرِ كَوْنُ وَاجِبِ الْوُجُودِ مُنَزَّهًا عَنِ الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ، وَكَوْنُهُ مَوْصُوفًا بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ. أَمَّا الْوُجُوبُ وَالتَّنْزِيهُ فَهُوَ قَيْدٌ سَلْبِيٌّ وَلَيْسَتْ حَقِيقَتُهُ نَفْسَ هَذَا السَّلْبِ. فَلَمْ يَكُنِ الْعِلْمُ بِهَذَا السَّلْبِ عِلْمًا بِحَقِيقَتِهِ، وَأَمَّا الْمَوْصُوفِيَّةُ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ انْتِسَابِ ذَاتِهِ إِلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ وَلَيْسَتْ ذَاتُهُ نَفْسَ هَذَا الِانْتِسَابِ فَالْعِلْمُ بِهَذَا الِانْتِسَابِ لَيْسَ/ عِلْمًا بِذَاتِهِ. بَيَانُ الثَّانِي: أَنَّ التَّصْدِيقَ مَوْقُوفٌ عَلَى التَّصَوُّرِ، فَإِذَا فُقِدَ التَّصَوُّرُ امْتَنَعَ التَّصْدِيقُ، وَلَا يُقَالُ ذَاتُهُ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُتَصَوَّرَةً بِحَسَبِ الْحَقِيقَةِ الْمَخْصُوصَةِ الَّتِي لَهُ لَكِنَّهَا مُتَصَوَّرَةٌ بِحَسَبِ لَوَازِمِهَا، أَعْنِي أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ شَيْءٌ مَا، يَلْزَمُهُ الْوُجُوبُ وَالتَّنْزِيهُ وَالدَّوَامُ فَيُحْكَمُ عَلَى هَذَا الْمُتَصَوَّرِ، قُلْنَا هَذِهِ الْأُمُورُ الْمَعْلُومَةُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا نَفْسُ الذَّاتِ وَهُوَ مُحَالٌ أَوْ أُمُورٌ خَارِجَةٌ عَنِ الذَّاتِ فَلَمَّا لَمْ نَعْلَمِ الذَّاتَ لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْلَمَ كَوْنَهَا مَوْصُوفَةً بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَإِنْ كَانَ التَّصَوُّرُ الَّذِي هُوَ شَرْطُ إِسْنَادِ هَذِهِ الصِّفَاتِ إِلَى ذَاتِهِ هُوَ أَيْضًا تَصَوُّرٌ بِحَسَبِ صِفَاتٍ أُخَرَ، فحينئذٍ يَكُونُ الْكَلَامُ فِيهِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ أَظْهَرَ الْأَشْيَاءِ عِنْدَنَا ذَاتُنَا وَحَقِيقَتُنَا الَّتِي إِلَيْهَا نُشِيرُ بِقَوْلِنَا أَنَا ثُمَّ الناس تحيروا في ماهية المشار إليه يقول أَنَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ هَذَا الْبِنْيَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ الْمِزَاجُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَعْضُ الْأَجْزَاءِ الدَّاخِلَةِ فِي هَذِهِ الْبِنْيَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ شَيْءٌ لَا دَاخِلَ هَذَا الْبَدَنِ وَلَا خَارِجَهُ، فَإِذَا كَانَ الْحَالُ فِي أَظْهَرِ الْأَشْيَاءِ كَذَلِكَ فَمَا ظَنُّكَ بِأَبْعَدِ الْأَشْيَاءِ مُنَاسَبَةً عَنَّا وَعَنْ أَحْوَالِنَا. أَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ النَّظَرَ الْمُفِيدَ لِلْعِلْمِ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَنَا فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ تحصيل

التَّصَوُّرَاتِ غَيْرُ مَقْدُورٍ فَالتَّصْدِيقَاتُ الْبَدِيهِيَّةُ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ فَجَمِيعُ التَّصْدِيقَاتِ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ التَّصَوُّرَاتِ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ لِأَنَّ طَالِبَ تَحْصِيلِهَا إِنْ كَانَ عَارِفًا بِهَا اسْتَحَالَ مِنْهُ طَلَبُهَا لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، فَإِنْ كَانَ غَافِلًا عَنْهَا اسْتَحَالَ كَوْنُهُ طَالِبًا لَهَا لِأَنَّ الْغَافِلَ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ طَالِبًا لَهُ. فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا مِنْ وَجْهٍ وَمَجْهُولًا مِنْ وَجْهٍ. قُلْنَا لِأَنَّ الْوَجْهَ الَّذِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَعْلُومٌ غَيْرُ الْوَجْهِ الَّذِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَإِلَّا فَقَدْ صَدَقَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَهُوَ مُحَالٌ وَحِينَئِذٍ نَقُولُ الْوَجْهُ الْمَعْلُومُ اسْتَحَالَ طَلَبُهُ لِاسْتِحَالَةِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَالْوَجْهُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ اسْتَحَالَ طَلَبُهُ لِأَنَّ الْمَغْفُولَ عَنْهُ لَا يَكُونُ مَطْلُوبًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ التَّصَوُّرَاتِ لَمَّا كَانَتْ غَيْرَ كَسْبِيَّةٍ اسْتَحَالَ كَوْنُ التَّصْدِيقَاتِ الْبَدِيهِيَّةِ كَسْبِيَّةً وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ حُضُورِ طَرَفَيِ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ فِي الذِّهْنِ مِنَ الْقَضِيَّةِ الْبَدِيهِيَّةِ إِمَّا أَنْ يَلْزَمَ مِنْ مُجَرَّدِ حُضُورِهِمَا جَزْمُ الذِّهْنِ بِإِسْنَادِ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ بِالنَّفْيِ أَوِ الْإِثْبَاتِ، أَوْ لَا يَلْزَمُ، فَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ لَمْ تَكُنِ الْقَضِيَّةُ بَدِيهِيَّةً بَلْ كَانَتْ مَشْكُوكَةً. وَإِنْ لَزِمَ كَانَ التَّصْدِيقُ وَاجِبَ الْحُصُولِ عِنْدَ حُضُورِ ذَيْنَكَ التَّصَوُّرَيْنِ وَمُمْتَنِعَ الْحُصُولِ عِنْدَ عَدَمِ حُضُورِهِمَا، وَمَا يَكُونُ وَاجِبَ الدَّوَرَانِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا مَعَ مَا لَا يَكُونُ مَقْدُورًا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا كَذَلِكَ فَثَبَتَ أَنَّ التَّصْدِيقَاتِ الْبَدِيهِيَّةَ غَيْرُ كَسْبِيَّةٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ هَذِهِ التَّصْدِيقَاتِ لَمَّا لَمْ تَكُنْ كَسْبِيَّةً لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنَ التَّصْدِيقَاتِ كَسْبِيًّا لِأَنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي لَا يَكُونُ بَدِيهِيًّا، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ نَظَرِيًّا فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبَ اللُّزُومِ عِنْدَ حُضُورِ تِلْكَ التَّصْدِيقَاتِ الْبَدِيهِيَّةِ أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبَ اللُّزُومِ مِنْهَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ صِدْقِ تِلْكَ الْمُقَدَّمَاتِ صِدْقُ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اسْتِدْلَالًا يَقِينِيًّا بَلْ إِمَّا ظَنًّا أَوِ اعْتِقَادًا/ تَقْلِيدِيًّا، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَكَانَتْ تِلْكَ النَّظَرِيَّاتُ وَاجِبَةَ الدَّوَرَانِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا مَعَ تِلْكَ الْقَضَايَا الضَّرُورِيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ النَّظَرِيَّاتِ مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ أَصْلًا. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى إِدْخَالِ الشَّيْءِ فِي الْوُجُودِ لَوْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُمَيَّزَ ذَلِكَ الْمَطْلُوبَ عَنْ غَيْرِهِ وَالْعِلْمُ إِنَّمَا يَتَمَيَّزُ عَنِ الْجَهْلِ بِكَوْنِهِ مُطَابِقًا لِلْمَعْلُومِ دُونَ الْجَهْلِ وَإِنَّمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ لَوْ عُلِمَ الْمَعْلُومُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَإِذَنْ لَا يُمْكِنُهُ إِيجَادُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ إِلَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ الشَّيْءِ لَكِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ لِاسْتِحَالَةِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْعَبْدُ مُتَمَكِّنًا مِنْ إِيجَادِ الْعَلَمِ وَلَا مِنْ طَلَبِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُوجِبَ لِلنَّظَرِ، إِمَّا ضَرُورَةُ الْعَقْلِ، أَوِ النَّظَرِ أَوِ السَّمْعِ. وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّ الضَّرُورِيَّ لَمْ يُشْتَرَطِ الْعَقْلُ فِيهِ، وَوُجُوبُ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ كَثِيرٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ يَسْتَقْبِحُونَهُ، وَيَقُولُونَ إِنَّهُ فِي الْأَكْثَرِ يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى الْجَهْلِ، فَوَجَبَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْعِلْمُ بِوُجُوبِهِ يَكُونُ نَظَرِيًّا، فَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُهُ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ النَّظَرِ قَبْلَ النَّظَرِ، فَتَكْلِيفُهُ بِذَلِكَ يَكُونُ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ، وَأَمَّا بَعْدَ النَّظَرِ فَلَا يُمْكِنُهُ النَّظَرُ، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَالثَّالِثُ: بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ قَبْلَ النَّظَرِ لَا يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ مَعْرِفَةِ وُجُوبِ النَّظَرِ، وَبَعْدَ النَّظَرِ لَا يُمْكِنُهُ إِيجَابُهُ أَيْضًا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، وَإِذَا بَطَلَتِ الْأَقْسَامُ ثَبَتَ نَفْيُ الْوُجُوبِ. الْمَقَامُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ بِتَقْدِيرِ كَوْنِ النَّظَرِ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ وَمَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ، لَكِنَّهُ يَقْبُحُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَأْمُرَ الْمُكَلَّفَ بِهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّظَرَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى الْجَهْلِ فَالْمُقْدِمُ عَلَيْهِ مُقْدِمٌ عَلَى أَمْرٍ يُفْضِي بِهِ غَالِبًا إِلَى الْجَهْلِ. وَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ يَكُونُ قَبِيحًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفِكْرُ قَبِيحًا، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ بِالْقَبِيحِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا مَعَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ وَضَعْفِ الْخَاطِرِ وَمَا يَعْتَرِيهِ مِنَ الشُّبَهَاتِ الْكَثِيرَةِ الْمُتَعَارِضَةِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى عَقْلِهِ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. فَلَمَّا رَأَيْنَا أَرْبَابَ الْمَذَاهِبِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَدَّعِي أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ، وَأَنَّ الْبَاطِلَ مَعَ خَصْمِهِ ثُمَّ إِذَا تَرَكُوا التَّعَصُّبَ وَاللَّجَاجَ وَأَنْصَفُوا، وَجَدُوا الْكَلِمَاتِ مُتَعَارِضَةً، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَجْزِ الْعَقْلِ عَنْ إِدْرَاكِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَدَارَ الدِّينِ لَوْ كان

عَلَى النَّظَرِ فِي حَقَائِقِ الدَّلَائِلِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ الْإِنْسَانُ عَلَى الْإِيمَانِ سَاعَةً وَاحِدَةً، لِأَنَّ صَاحِبَ النَّظَرِ إِذَا خَطَرَ بِبَالِهِ سُؤَالٌ عَلَى مُقَدَّمَةٍ مِنْ مُقَدَّمَاتِ دَلِيلِ الدِّينِ، فَقَدْ صَارَ بِسَبَبِ ذَلِكَ السُّؤَالِ شَاكًّا فِي تِلْكَ الْمُقَدَّمَةِ، وَإِذَا صَارَ بَعْضُ مُقَدَّمَاتِ الدَّلِيلِ مَشْكُوكًا فِيهِ. صَارَتِ النَّتِيجَةُ ظَنِّيَّةً. لِأَنَّ الْمَظْنُونَ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَخْرُجَ الْإِنْسَانُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ عَنِ الدِّينِ، بِسَبَبِ كُلِّ مَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ مِنَ الْأَسْئِلَةِ وَالْمَبَاحِثِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ اشْتُهِرَ فِي الْأَلْسِنَةِ أَنَّ مَنْ طَلَبَ الْمَالَ بِالْكِيمْيَاءِ أَفْلَسَ، وَمَنْ طَلَبَ الدِّينَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَتْحُ الْبَابِ فِيهِ: الْمَقَامُ الرَّابِعُ: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ قَبِيحٍ، وَلَكِنَّا نُقِيمُ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَا أَمَرَا بِذَلِكَ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْمَطَالِبَ لَا تَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِدَلَائِلِهَا عِلْمًا ضَرُورِيًّا غَنِيًّا عَنِ التَّعَلُّمِ وَالِاسْتِفَادَةِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، بَلْ يُحْتَاجُ فِي تَحْصِيلِهَا إِلَى/ التَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ وَالِاسْتِفَادَةِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَإِلَّا لَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ لِكُلِّ النَّاسِ وَهُوَ مُكَابَرَةٌ وَلِأَنَّا نُجَرِّبُ أَذْكَى النَّاسِ فِي هَذَا الْعِلْمِ فَلَا يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُهُ فِي السِّنِينَ الْمُتَطَاوِلَةِ بَعْدَ الِاسْتِعَانَةِ بِالْأُسْتَاذِ وَالتَّصَانِيفِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ ذَلِكَ الْعِلْمُ لِلْإِنْسَانِ، إِلَّا بَعْدَ الْمُمَارَسَةِ الشَّدِيدَةِ وَالْمُبَاحَثَةِ الْكَثِيرَةِ، فَلَوْ كَانَ الدِّينُ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ، لَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْكُمَ الرَّسُولُ بِصِحَّةِ إِسْلَامِ الرَّجُلِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَيُجَرِّبَهُ فِي مَعْرِفَةِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ. وَلَوْ فَعَلَ الرَّسُولُ ذَلِكَ لَاشْتُهِرَ وَلَمَّا لَمْ يُشْتَهَرْ بَلِ الْمَشْهُورُ الْمَنْقُولُ عَنْهُ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ كَانَ يَحْكُمُ بِإِسْلَامِ مَنْ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي صِحَّةِ الدِّينِ، فَإِنْ قِيلَ: مَعْرِفَةُ أُصُولِ الدَّلَائِلِ حَاصِلَةٌ لِأَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ، إِنَّمَا الْمُحْتَاجُ إِلَى التَّدْقِيقِ دَفْعُ الْأَسْئِلَةِ وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبُهَاتِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي صِحَّةِ أَصْلِ الدِّينِ، قُلْنَا هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ الْبَتَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلِيلَ إِذَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى مُقَدَّمَاتٍ عَشْرَةٍ فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ جَازِمًا بِصِحَّةِ تِلْكَ الْمُقَدَّمَاتِ كَانَ عَارِفًا بِالدَّلِيلِ مَعْرِفَةً لَا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، لأن الزيادة عل تِلْكَ الْعَشْرَةِ إِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي تَحَقُّقِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ بَطَلَ قَوْلُنَا إِنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ مركب من العشرة فقط، وإلا لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا لَمْ يَكُنِ الْعِلْمُ بِهِ عِلْمًا بِزِيَادَةِ شَيْءٍ فِي الدَّلِيلِ، بَلْ يَكُونُ عِلْمًا مُنْفَصِلًا. فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الدَّلِيلَ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَلَا يَقْبَلُ النُّقْصَانَ أَيْضًا، لِأَنَّ تِسْعَةً مِنْهَا لَوْ كَانَتْ يَقِينِيَّةً وَكَانَتِ الْمُقَدَّمَةُ الْعَاشِرَةُ ظَنِّيَّةً اسْتَحَالَ كَوْنُ الْمَطْلُوبِ يَقِينِيًّا لَأَنَّ الْمَبْنِيَّ عَلَى الظَّنِّيِّ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ ظَنِّيًّا فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الدَّلِيلَ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَبَطَلَ بِبُطْلَانِهِ ذَلِكَ السُّؤَالُ مِثَالُهُ إِذَا رَأَى الْإِنْسَانُ حُدُوثَ مَطَرٍ وَرَعْدٍ وَبَرْقٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْهَوَاءُ صَافِيًا قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ اللَّهَ بِدَلِيلِهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ عَارِفًا بِاللَّهِ إِذَا عَرَفَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ ذَلِكَ الْحَادِثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُؤَثِّرٍ ثُمَّ يَعْرِفُ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ فِيهِ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ الْمُقَدَّمَةُ الثَّانِيَةُ إِنَّمَا تَسْتَقِيمُ لَوْ عَرَفَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ إِسْنَادُ هَذَا الْحُدُوثِ إِلَى الْفَلَكِ وَالنُّجُومِ، وَالطَّبِيعَةِ وَالْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ. فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْرِفْ بُطْلَانَ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ لَكَانَ مُعْتَقِدًا لِهَذِهِ الْمُقَدَّمَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَتَكُونُ الْمُقَدَّمَةُ تَقْلِيدِيَّةً وَيَكُونُ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهَا تَقْلِيدًا لَا يَقِينًا فَثَبَتَ بِهَذَا فَسَادُ مَا قُلْتُمُوهُ. الْمَقَامُ الْخَامِسُ: أَنْ نَقُولَ الِاشْتِغَالُ بِعِلْمِ الْكَلَامِ بِدْعَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ وَالْإِجْمَاعُ وَقَوْلُ السَّلَفِ وَالْحُكْمُ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزُّخْرُفِ: 58] ذَمَّ الْجَدَلَ وَقَالَ أَيْضًا: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الْأَنْعَامِ: 68] قَالُوا: فَأَمَرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ عِنْدَ خَوْضِهِمْ فِي آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تَفَكَّرُوا فِي الْخَلْقِ وَلَا تَفَكَّرُوا فِي الْخَالِقِ» وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «عَلَيْكُمْ بِدِينِ الْعَجَائِزِ» وَقَوْلُهُ: «إِذَا ذُكِرَ الْقَدْرُ فَأَمْسِكُوا» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ أَنَّ هَذَا عِلْمٌ لَمْ

تَتَكَلَّمْ فِيهِ الصَّحَابَةُ فَيَكُونُ بِدْعَةً فَيَكُونُ حَرَامًا، أَمَّا أَنَّ الصَّحَابَةَ مَا تَكَلَّمُوا فِيهِ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ نَصَّبَ نَفْسَهُ لِلِاسْتِدْلَالِ فِي/ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، بَلْ كَانُوا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ إِنْكَارًا عَلَى مَنْ خَاضَ فِيهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّهُ بدعة وكل بدعة حرام بالاتفاق، أما الْأَثَرُ، قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: إِيَّاكُمْ وَالْبِدَعَ قِيلَ وَمَا الْبِدَعُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ أَهْلُ الْبِدَعِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ وَلَا يَسْكُتُونَ عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ. وَسُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الْكَلَامِ فَقَالَ اتَّبِعِ السُّنَّةَ وَدَعِ الْبِدْعَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَأَنْ يَبْتَلِيَ اللَّهُ الْعَبْدَ بِكُلِّ ذَنْبٍ سِوَى الشِّرْكِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ وَقَالَ: لَوْ أَوْصَى رَجُلٌ بِكُتُبِهِ الْعِلْمِيَّةِ لِآخَرَ وَكَانَ فِيهَا كُتُبُ الْكَلَامِ لَمْ تَدْخُلْ تِلْكَ الْكُتُبُ فِي الْوَصِيَّةِ وَأَمَّا الْحُكْمُ فَهُوَ أَنَّهُ لو أوصى للعلماء لا يدخل المتكلم فيه وَاللَّهُ أَعْلَمُ فَهَذَا مَجْمُوعُ كَلَامِ الطَّاعِنِينَ فِي النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَالْجَوَابُ: أَمَّا الشُّبَهُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي أَنَّ النَّظَرَ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ فَهِيَ فَاسِدَةٌ، لِأَنَّ الشُّبَهَ الَّتِي ذَكَرُوهَا لَيْسَتْ ضَرُورِيَّةً بَلْ نَظَرِيَّةٌ، فَهُمْ أَبْطَلُوا كُلَّ النَّظَرِ بِبَعْضِ أَنْوَاعِهِ وَهُوَ مُتَنَاقِضٌ، وَأَمَّا الشُّبَهُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي أَنَّ النَّظَرَ غَيْرُ مَقْدُورٍ فَهِيَ فَاسِدَةٌ، لِأَنَّهُمْ مُخْتَارُونَ فِي اسْتِخْرَاجِ تِلْكَ الشُّبَهِ فَيَبْطُلُ قَوْلُهُمْ إِنَّهَا لَيْسَتِ اخْتِيَارِيَّةً، وَأَمَّا الشُّبَهُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي أَنَّ التَّعَاوِيلَ عَلَى النَّظَرِ قَبِيحٌ فَهِيَ مُتَنَاقِضَةٌ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَكُونَ إِيرَادُهُمْ لِهَذِهِ الشُّبَهِ الَّتِي أَوْرَدُوهَا قَبِيحًا، وَأَمَّا الشُّبَهُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي أَنَّ الرَّسُولَ مَا أَمَرَ بِذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ بِأَسْرِهِمْ مَا جَاءُوا إِلَّا بِالْأَمْرِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا [الزُّخْرُفِ: 58] فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَدَلِ بِالْبَاطِلِ، تَوْفِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْلِ: 125] وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الْأَنْعَامِ: 68] فَجَوَابُهُ أَنَّ الْخَوْضَ لَيْسَ هُوَ النَّظَرُ، بَلِ الْخَوْضُ فِي الشَّيْءِ هُوَ اللَّجَاجُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَفَكَّرُوا في الخالق» فَذَاكَ إِنَّمَا أَمَرَ بِهِ لِيُسْتَفَادَ مِنْهُ مَعْرِفَةُ الْخَالِقِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَلَيْكُمْ بِدِينِ الْعَجَائِزِ» فَلَيْسَ الْمُرَادُ، إِلَّا تَفْوِيضَ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِاعْتِمَادَ فِي كُلِّ الْأُمُورِ عَلَى اللَّهِ عَلَى مَا قُلْنَا وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا ذُكِرَ الْقَدْرُ فَأَمْسِكُوا» فَضَعِيفٌ، لِأَنَّ النَّهْيَ الْجُزْئِيَّ لَا يُفِيدُ النَّهْيَ الْكُلِّيَّ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَنَقُولُ: إِنْ عَنَيْتُمْ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا أَلْفَاظَ الْمُتَكَلِّمِينَ فَمُسَلَّمٌ، لَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْقَدْحُ في الكلام، كما أنهم لم يستعلموا أَلْفَاظَ الْفُقَهَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْقَدْحُ فِي الْفِقْهِ الْبَتَّةَ، وَإِنْ عَنَيْتُمْ أَنَّهُمْ مَا عَرَفُوا اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ بِالدَّلِيلِ، فَبِئْسَ مَا قُلْتُمْ، وَأَمَّا تَشْدِيدُ السَّلَفِ عَلَى الْكَلَامِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَهْلِ الْبِدْعَةِ، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْوَصِيَّةِ فَهِيَ مُعَارَضَةٌ بِمَا أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِمَنْ كَانَ عَارِفًا بِذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْفَقِيهُ. وَلِأَنَّ مَبْنَى الْوَصَايَا عَلَى الْعُرْفِ فَهَذَا إِتْمَامُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا حَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ فَذَكَرْنَاهَا في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَأَمَّا الْخَلْقُ فَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّهُ التَّقْدِيرُ وَالتَّسْوِيَةُ، وَاحْتَجُّوا فِيهِ بِالْآيَةِ وَالشِّعْرِ وَالِاسْتِشْهَادِ، أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 14] أَيِ الْمُقَدِّرِينَ وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً [الْعَنْكَبُوتِ: 17] أَيْ/ تُقَدِّرُونَ كَذِبًا وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ [الْمَائِدَةِ: 110] أَيْ تُقَدِّرُ. وَأَمَّا الشِّعْرُ فَقَوْلُ زهير: ولأنت تفري ما خلقت ... وبعض الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي وَقَالَ آخَرُ: وَلَا يَئِطُّ بِأَيْدِي الْخَالِقِينَ وَلَا ... أَيْدِي الْخَوَالِقِ إِلَّا جَيِّدُ الْأَدَمِ

وَأَمَّا الِاسْتِشْهَادُ يُقَالُ خَلَقَ النَّعْلَ إِذَا قَدَّرَهَا وَسَوَّاهَا بِالْقِيَاسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي لَا يُصَدَّقُ بِهَا، أَحَادِيثُ الْخُلُقِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ [الشُّعَرَاءِ: 137] وَالْخَلَاقُ الْمِقْدَارُ مِنَ الْخَيْرِ، وَهُوَ خَلِيقٌ أَيْ جَدِيرٌ كَأَنَّهُ الَّذِي مِنْهُ الْخَلَاقُ، وَالصَّخْرَةُ الْخَلْقَاءُ الْمَلْسَاءُ لِأَنَّ فِي الْمَلَاسَةِ اسْتِوَاءً، وَفِي الْخُشُونَةِ اختلاف وَمِنْهُ «أَخْلَقَ الثَّوْبُ» لِأَنَّهُ إِذَا بَلِيَ صَارَ أَمْلَسَ وَاسْتَوَى نُتُوُّهُ وَاعْوِجَاجُهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْخَلْقَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ وَالِاسْتِوَاءِ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: الْخَلْقُ فِعْلٌ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ وَاللُّغَةُ لَا تَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بَلِ الْكِتَابُ نَطَقَ بِخِلَافِهِ فِي قَوْلِهِ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 14] ، وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [الْمَائِدَةِ: 110] لَكِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ يَفْعَلُ الْأَفْعَالَ لِعِلْمِهِ بِالْعَوَاقِبِ وَكَيْفِيَّةِ الْمَصْلَحَةِ وَلَا فِعْلَ لَهُ إِلَّا كَذَلِكَ لَا جَرَمَ اخْتُصَّ بِهَذَا الِاسْمِ وَقَالَ أُسْتَاذُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ إِطْلَاقُ اسْمِ خَالِقٍ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ وَالتَّسْوِيَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ وَالْحُسْبَانِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ مُحَالٌ، وَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: الْخَلْقُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيجَادِ وَالْإِنْشَاءِ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِ الْمُسْلِمِينَ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَوْ كَانَ الْخَلْقُ عِبَارَةً عَنِ التَّقْدِيرِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ وَالْأَمْرُ بِعِبَادَتِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ وَجُودِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ ضَرُورِيًّا بَلِ استدلالياً لا جرم أورد هاهنا مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّنَا بَيَّنَّا فِي «الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ» أَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى إِثْبَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِمَّا الْإِمْكَانُ، وَإِمَّا الْحُدُوثُ. وَإِمَّا مَجْمُوعُهُمَا، وَكُلُّ ذَلِكَ إِمَّا فِي الْجَوَاهِرِ أَوْ فِي الْأَعْرَاضِ، فَيَكُونُ مَجْمُوعُ الطُّرُقِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سِتَّةً لَا مَزِيدَ عَلَيْهَا. أَحَدُهَا: الِاسْتِدْلَالُ بِإِمْكَانِ الذَّوَاتِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ [مُحَمَّدٍ: 38] وَبِقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: 77] وَبِقَوْلِهِ: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النَّجْمِ: 42] وَقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [الْأَنْعَامِ: 91] ، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذَّارِيَاتِ: 50] ، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْدِ: 28] وَثَانِيهَا: الِاسْتِدْلَالُ بِإِمْكَانِ الصِّفَاتِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النحل: 3] وَبِقَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً عَلَى مَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ. وَثَالِثُهَا: الِاسْتِدْلَالُ بِحُدُوثِ الْأَجْسَامِ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الْأَنْعَامِ: 76] وَرَابِعُهَا: الِاسْتِدْلَالُ بِحُدُوثِ الْأَعْرَاضِ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَقْرَبُ الطُّرُقِ إِلَى أَفْهَامِ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ مَحْصُورٌ فِي أَمْرَيْنِ: دَلَائِلُ الْأَنْفُسِ، وَدَلَائِلُ الْآفَاقِ، «وَالْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ» فِي الْأَكْثَرِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ، وَاللَّهُ تَعَالَى جَمَعَ هاهنا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. أَمَّا دَلَائِلُ الْأَنْفُسِ، فَهِيَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ/ أَنَّهُ مَا كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ صَارَ الْآنَ مَوْجُودًا وَأَنَّ كُلَّ مَا وُجِدَ بَعْدَ الْعَدَمِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ وَذَلِكَ الْمُوجِدُ لَيْسَ هُوَ نَفْسُهُ وَلَا الْأَبَوَانِ وَلَا سَائِرُ النَّاسِ، لِأَنَّ عَجْزَ الْخَلْقِ عَنْ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُوجِدٍ يُخَالِفُ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ حَتَّى يَصِحَّ مِنْهُ إِيجَادُ هَذِهِ الْأَشْخَاصِ إِلَّا أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هاهنا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ طَبَائِعَ الْفُصُولِ وَالْأَفْلَاكِ وَالنُّجُومِ؟ وَلَمَّا كَانَ هَذَا السُّؤَالُ مُحْتَمَلًا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَقِيبَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى افْتِقَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْمُحْدِثِ وَالْمُوجِدِ وَهُوَ قَوْلُهُ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ دَلَائِلَ الْآفَاقِ وَيَنْدَرِجُ فِيهَا كُلُّ مَا يُوجَدُ مِنْ تَغْيِيرَاتِ أَحْوَالِ الْعَالَمِ مِنَ الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ وَاخْتِلَافِ الْفُصُولِ، وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ الْفَلَكِيَّةَ وَالْأَجْسَامَ الْعُنْصُرِيَّةَ مُشْتَرِكَةٌ فِي الْجِسْمِيَّةِ، فَاخْتِصَاصُ بَعْضِهَا بِبَعْضِ الصِّفَاتِ مِنَ الْمَقَادِيرِ وَالْأَشْكَالِ وَالْأَحْيَازِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلْجِسْمِيَّةِ وَلَا لِشَيْءٍ مِنْ لَوَازِمِهَا. وَإِلَّا وَجَبَ

اشْتِرَاكُ الْكُلِّ فِي تِلْكَ الصِّفَاتِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِأَمْرٍ مُنْفَصِلٍ، وَذَلِكَ الْأَمْرُ إِنْ كَانَ جِسْمًا عَادَ الْبَحْثُ فِي أَنَّهُ لِمَ اخْتُصَّ بِتِلْكَ الْمُؤَثِّرِيَّةِ مِنْ بَيْنِ تِلْكَ الْأَجْسَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِسْمًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوجَبًا أَوْ مُخْتَارًا. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنِ اخْتِصَاصُ بَعْضِ الْأَجْسَامِ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ افْتِقَارُ جَمِيعِ الْأَجْسَامِ إِلَى مُؤَثِّرٍ قَادِرٍ لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَلَا بِجُسْمَانِيٍّ، وَعِنْدَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِحُدُوثِ الْأَعْرَاضِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ لَا يَكْفِي إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِعَانَةِ بِإِمْكَانِ الْأَعْرَاضِ وَالصِّفَاتِ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا خَصَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْأَدِلَّةِ بِالْإِيرَادِ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ لَمَّا كَانَ أَقْرَبَ الطُّرُقِ إِلَى أَفْهَامِ الْخَلْقِ وَأَشَدَّهَا الْتِصَاقًا بِالْعُقُولِ، وَكَانَتِ الْأَدِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَبْعَدَهَا عَنِ الدِّقَّةِ وَأَقْرَبَهَا إِلَى الْأَفْهَامِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ مِنَ الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ لَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ ذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ مِنَ الدَّلَائِلِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُجَادَلَةَ، بَلِ الْغَرَضُ مِنْهَا تَحْصِيلُ الْعَقَائِدِ الْحَقَّةِ فِي الْقُلُوبِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الدَّلَائِلِ أَقْوَى مِنْ سَائِرِ الطُّرُقِ فِي هَذَا الْبَابِ، لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الدَّلَائِلِ كَمَا يفيد العلم بوجود الخالق فهو يذكر نعم الْخَالِقِ عَلَيْنَا، فَإِنَّ الْوُجُودَ وَالْحَيَاةَ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ عَلَيْنَا، وَتَذْكِيرُ النِّعَمِ مِمَّا يُوجِبُ الْمَحَبَّةَ وَتَرْكَ الْمُنَازَعَةِ وَحُصُولَ الِانْقِيَادِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ ذِكْرُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْأَدِلَّةِ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلسَّلَفِ طُرُقًا لَطِيفَةً فِي هَذَا الْبَابِ، أَحَدُهَا: يُرْوَى أَنَّ بَعْضَ الزَّنَادِقَةِ أَنْكَرَ الصَّانِعَ عِنْدَ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَقَالَ جَعْفَرٌ: هَلْ رَكِبْتَ الْبَحْرَ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ هَلْ رَأَيْتَ أَهْوَالَهُ؟ قَالَ بَلَى، هَاجَتْ يَوْمًا رِيَاحٌ هَائِلَةٌ فَكَسَّرَتِ السُّفُنَ وَغَرَّقَتِ الْمَلَّاحِينَ، فَتَعَلَّقْتُ أَنَا بِبَعْضِ أَلْوَاحِهَا ثُمَّ ذَهَبَ عَنِّي ذَلِكَ اللَّوْحُ فَإِذَا أَنَا مَدْفُوعٌ فِي تَلَاطُمِ الْأَمْوَاجِ حَتَّى دُفِعْتُ إِلَى السَّاحِلِ، فَقَالَ جَعْفَرٌ قَدْ كَانَ اعْتِمَادُكَ مِنْ قَبْلُ عَلَى السَّفِينَةِ وَالْمَلَّاحِ ثُمَّ عَلَى اللَّوْحِ حَتَّى تُنْجِيَكَ، فَلَمَّا ذَهَبَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ عَنْكَ هَلْ أَسْلَمْتَ/ نَفْسَكَ لِلْهَلَاكِ أَمْ كُنْتَ تَرْجُو السَّلَامَةَ بَعْدُ؟ قَالَ بَلْ رَجَوْتُ السَّلَامَةَ، قَالَ مِمَّنْ كُنْتَ تَرْجُوهَا فَسَكَتَ الرَّجُلُ فَقَالَ جَعْفَرٌ: إِنَّ الصَّانِعَ هُوَ الَّذِي كُنْتَ تَرْجُوهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهُوَ الَّذِي أَنْجَاكَ مِنَ الْغَرَقِ فَأَسْلَمَ الرَّجُلُ عَلَى يَدِهِ. وَثَانِيهَا: جَاءَ فِي «كِتَابِ دِيَانَاتِ الْعَرَبِ» أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «كَمْ لَكَ مِنْ إِلَهٍ» قَالَ عَشْرَةٌ، قَالَ فَمَنْ لِغَمِّكَ وَكَرْبِكَ وَدَفْعِ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ إِذَا نَزَلَ بِكَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ؟ قَالَ اللَّهُ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مالك مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ» ، وَثَالِثُهَا: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ سَيْفًا عَلَى الدَّهْرِيَّةِ، وَكَانُوا يَنْتَهِزُونَ الْفُرْصَةَ لِيَقْتُلُوهُ فَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا فِي مَسْجِدِهِ قَاعِدٌ إِذْ هَجَمَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ بِسُيُوفٍ مَسْلُولَةٍ وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ فَقَالَ لَهُمْ: أَجِيبُونِي عَنْ مَسْأَلَةٍ ثُمَّ افْعَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَالُوا لَهُ هَاتِ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ يَقُولُ لكم إني رأيت سفينة تَجْرِي مُسْتَوِيَةً لَيْسَ لَهَا مَلَّاحٌ يُجْرِيهَا وَلَا مُتَعَهِّدٌ يَدْفَعُهَا هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْعَقْلِ؟ قَالُوا: لَا، هَذَا شَيْءٌ لَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ إِذَا لَمْ يَجُزْ فِي الْعَقْلِ سَفِينَةٌ تَجْرِي فِي البحر مستوية من غير متعهد ولا مجري فَكَيْفَ يَجُوزُ قِيَامُ هَذِهِ الدُّنْيَا عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا وَتَغَيُّرِ أَعْمَالِهَا وَسِعَةِ أَطْرَافِهَا وَتَبَايُنِ أَكْنَافِهَا مِنْ غَيْرِ صَانِعٍ وَحَافِظٍ؟ فَبَكَوْا جَمِيعًا وَقَالُوا: صَدَقْتَ وَأَغْمَدُوا سُيُوفَهُمْ وَتَابُوا. وَرَابِعُهَا: سَأَلُوا الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ؟ فَقَالَ: وَرَقَةُ الْفِرْصَادِ طَعْمُهَا وَلَوْنُهَا وَرِيحُهَا وَطَبْعُهَا وَاحِدٌ عِنْدَكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَتَأْكُلُهَا دُودَةُ الْقَزِّ فَيَخْرُجُ مِنْهَا الْإِبْرَيسَمُ، وَالنَّحْلُ فَيَخْرُجُ مِنْهَا الْعَسَلُ. وَالشَّاةُ فَيَخْرُجُ مِنْهَا الْبَعْرُ، وَيَأْكُلُهَا الظِّبَاءُ فَيَنْعَقِدُ فِي نَوَافِجِهَا الْمِسْكُ فَمَنِ الَّذِي جَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَذَلِكَ مَعَ أَنَّ الطَّبْعَ وَاحِدٌ؟ فَاسْتَحْسَنُوا مِنْهُ ذَلِكَ وَأَسْلَمُوا عَلَى يَدِهِ وَكَانَ عَدَدُهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ. وَخَامِسُهَا: سُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّةً أُخْرَى فَتَمَسَّكَ بِأَنَّ الْوَالِدَ يُرِيدُ

الذَّكَرَ فَيَكُونُ أُنْثَى، وَبِالْعَكْسِ فَدَلَّ عَلَى الصَّانِعِ، وَسَادِسُهَا: تَمَسَّكَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَلْعَةٍ حَصِينَةٍ مَلْسَاءَ لَا فُرْجَةَ فِيهَا ظَاهِرُهَا كَالْفِضَّةِ الْمُذَابَةِ وَبَاطِنُهَا كَالذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ، ثُمَّ انْشَقَّتِ الْجُدْرَانُ وَخَرَجَ مِنَ الْقَلْعَةِ حَيَوَانٌ سُمَيْعٌ بَصِيرٌ فَلَا بُدَّ مِنَ الْفَاعِلِ، عَنَى بِالْقَلْعَةِ الْبَيْضَةَ وَبِالْحَيَوَانِ الْفَرْخَ، وَسَابِعُهَا: سَأَلَ هَارُونُ الرَّشِيدُ مَالِكًا عَنْ ذَلِكَ فَاسْتَدَلَّ بِاخْتِلَافِ الْأَصْوَاتِ وَتَرَدُّدِ النَّغَمَاتِ وَتَفَاوُتِ اللُّغَاتِ. وَثَامِنُهَا: سُئِلَ أَبُو نُوَاسِ عَنْهُ، فَقَالَ: تَأَمَّلْ فِي نَبَاتِ الْأَرْضِ وَانْظُرْ ... إِلَى آثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيكُ عُيُونٌ مِنْ لُجَيْنٍ شَاخِصَاتٍ ... وَأَزْهَارٌ كَمَا الذَّهَبُ السَّبِيكُ عَلَى قُضُبُ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٍ ... بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ وَتَاسِعُهَا: سُئِلَ أَعْرَابِيٌّ عَنِ الدَّلِيلِ فَقَالَ: الْبَعْرَةُ تَدُلُّ عَلَى الْبَعِيرِ. وَالرَّوْثُ عَلَى الْحَمِيرِ، وَآثَارُ الْأَقْدَامِ عَلَى الْمَسِيرِ، فَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ، وَأَرْضٌ ذَاتُ فِجَاجٍ. وَبِحَارٌ ذَاتُ أَمْوَاجٍ، أَمَا تَدُلُّ/ عَلَى الصَّانِعِ الْحَلِيمِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ؟ وَعَاشِرُهَا: قِيلَ لِطَبِيبٍ: بِمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ بِإِهْلِيلِجٍ مُجَفَّفٍ أُطْلِقُ، وَلُعَابٍ مُلَيِّنٍ أُمْسِكُ! وَقَالَ آخَرُ: عَرَفْتُهُ بِنَحْلَةٍ بِأَحَدِ طَرَفَيْهَا تَعْسِلُ، وَالْآخَرِ تَلْسَعُ! والعسل مقلوب اللسع. وحادي عشرها: حكم البديهية فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزُّخْرُفِ: 87] ، فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [غَافِرٍ: 87] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْقَاضِي: الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَكُمْ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُسْتَحَقُّ إِلَّا بِذَلِكَ، فَلَمَّا أَلْزَمَ عِبَادَهُ بِالْعِبَادَةِ بَيَّنَ ماله وَلِأَجْلِهِ تَلْزَمُ الْعِبَادَةُ. فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَخَلْقُ اللَّهِ مَنْ قَبْلَهُمْ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْعِبَادَةِ عَلَيْهِمْ، قُلْنَا الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: إِنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْتَ وَلَكِنَّ عِلْمَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُمْ كَعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ مَنْ قَبْلَهُمْ لِأَنَّ طَرِيقَةَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَاحِدَةٌ. الثَّانِي: أَنَّ مَنْ قَبْلَهُمْ كَالْأُصُولِ لَهُمْ، وَخَلْقُ الْأُصُولِ يَجْرِي مَجْرَى الْإِنْعَامِ عَلَى الْفُرُوعِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يُذَكِّرُهُمْ عَظِيمَ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَا تَظُنَّ أَنِّي إِنَّمَا أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ حِينَ وُجِدْتَ بَلْ كُنْتُ مُنْعِمًا عَلَيْكَ قَبْلَ أَنْ وُجِدْتَ بِأُلُوفِ سِنِينَ بِسَبَبِ أَنِّي كُنْتُ خَالِقًا لِأُصُولِكَ وَآبَائِكَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ لَعَلَّ لِلتَّرَجِّي وَالْإِشْفَاقِ، تَقُولُ لَعَلَّ زَيْدًا يُكْرِمُنِي وَقَالَ تَعَالَى: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طَهَ: 44] ، لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشُّورَى: 17] أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها [الشُّورَى: 18] وَالتَّرَجِّي وَالْإِشْفَاقُ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا عِنْدَ الْجَهْلِ بِالْعَاقِبَةِ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَى «لَعَلَّ» رَاجِعٌ إِلَى الْعِبَادِ لَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى أَيِ اذْهَبَا أَنْتُمَا عَلَى رَجَائِكُمَا وَطَمَعِكُمَا فِي إِيمَانِهِ، ثُمَّ اللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْمُلُوكِ وَالْعُظَمَاءِ أَنْ يَقْتَصِرُوا فِي مَوَاعِيدِهِمُ الَّتِي يُوَطِّنُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى إِنْجَازِهَا عَلَى أَنْ يَقُولُوا لَعَلَّ وَعَسَى وَنَحْوَهُمَا مِنَ الْكَلِمَاتِ، أَوْ لِلظَّفَرِ مِنْهُمْ بِالرَّمْزَةِ، أَوِ الِابْتِسَامَةِ أَوِ النَّظْرَةِ الْحُلْوَةِ فَإِذَا عُثِرَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ لِلطَّالِبِ شَكٌّ فِي الْفَوْزِ بِالْمَطْلُوبِ فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ وَرَدَ لَفْظُ لَعَلَّ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَثَالِثُهَا: مَا قِيلَ أَنَّ لَعَلَّ بِمَعْنَى كي، قال صاحب «الكشاف» : ولعل لَا يَكُونُ بِمَعْنَى كَيْ، وَلَكِنَّ كَلِمَةَ لَعَلَّ لِلْإِطْمَاعِ، وَالْكَرِيمُ الرَّحِيمُ إِذَا أَطْمَعَ فَعَلَى مَا يُطْمَعُ فِيهِ لَا مَحَالَةَ تَجْرِي أَطْمَاعُهُ مَجْرَى وَعْدِهِ الْمَحْتُومِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قِيلَ لَعَلَّ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى كَيْ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَ بِالْمُكَلَّفِينَ مَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ لَاقْتَضَى رَجَاءَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ، لِأَنَّهُ

تَعَالَى لَمَّا أَعْطَاهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَخَلَقَ لَهُمُ الْعُقُولَ الْهَادِيَةَ وَأَزَاحَ أَعْذَارَهُمْ، فَكُلُّ مَنْ فَعَلَ بِغَيْرِهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَرْجُو مِنْهُ حُصُولَ الْمَقْصُودِ، فَالْمُرَادُ مِنْ لَفْظَةِ لَعَلَّ فِعْلُ مَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ لَكَانَ مُوجِبًا لِلرَّجَاءِ. خَامِسُهَا: قَالَ الْقَفَّالُ: لَعَلَّ مَأْخُوذٌ مِنْ تَكَرُّرِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِمْ عَلَلًا بَعْدَ نَهَلٍ، وَاللَّامُ فِيهَا هِيَ لَامُ التَّأْكِيدِ كَاللَّامِ الَّتِي تَدْخُلُ فِي لَقَدْ، فَأَصْلُ لَعَلَّ عَلَّ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ عَلَّكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، أَيْ/ لَعَلَّكَ، فَإِذَا كَانَتْ حَقِيقَتُهُ التَّكْرِيرَ وَالتَّأْكِيدَ كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ: افْعَلْ كذا لعلك تظفر بحاجتك معنا. افْعَلْهُ فَإِنَّ فِعْلَكَ لَهُ يُؤَكِّدُ طَلَبَكَ لَهُ وَيُقَوِّيكَ عَلَيْهِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذَا كَانَتِ الْعِبَادَةُ تَقْوًى فَقَوْلُهُ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ جَارٍ مَجْرَى قَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَعْبُدُونَ. أَوِ اتَّقَوْا رَبَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِبَادَةَ نَفْسُ التَّقْوَى، بَلِ الْعِبَادَةُ فِعْلٌ يَحْصُلُ بِهِ التَّقْوَى، لِأَنَّ الِاتِّقَاءَ هُوَ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْمَضَارِّ، وَالْعِبَادَةُ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَنَفْسُ هَذَا الْفِعْلِ لَيْسَ هُوَ نَفْسُ الِاحْتِرَازِ عَنِ الْمَضَارِّ بَلْ يُوجِبُ الِاحْتِرَازَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: اعْبُدُوا رَبَّكُمْ لِتَحْتَرِزُوا بِهِ عَنْ عِقَابِهِ، وَإِذَا قِيلَ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ إِنَّهُ اتِّقَاءٌ فَذَلِكَ مَجَازٌ لِأَنَّ الِاتِّقَاءَ غَيْرُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الِاتِّقَاءُ، لَكِنْ لِاتِّصَالِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ أُجْرِيَ اسْمُهُ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ الْمُكَلَّفِينَ لِكَيْ يَتَّقُوا وَيُطِيعُوا عَلَى مَا قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِعِبَادَةِ الرَّبِّ الَّذِي خَلَقَهُمْ لِهَذَا الْغَرَضِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ لَائِقٌ بِأُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: خَلَقكُّمْ بِالْإِدْغَامِ وَقَرَأَ أَبُو السَّمَيْفَعِ: وَخَلَقَ مَنْ قَبْلَكُمْ وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَالَّذِينَ مَنْ قَبْلَكُمْ. قَالَ صاحب «الكشاف» : الوجه فيه أنه أفحم الْمَوْصُولَ الثَّانِيَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَصِلَتِهِ تَأْكِيدًا كَمَا أَقْحَمَ جَرِيرٌ فِي قَوْلِهِ: يَا تَيْمَ تَيْمَ عَدِيٍّ لَا أَبًا لَكُمُوا ... تَيْمًا الثَّانِيَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَفْظُ «الَّذِي» وَهُوَ مَوْصُولٌ مَعَ صِلَتِهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ وَصْفًا لِلَّذِي خَلَقَكُمْ أَوْ عَلَى الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَفِيهِ مَا فِي النَّصْبِ مِنَ الْمَدْحِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: «الَّذِي» كَلِمَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مُفْرَدٍ عِنْدَ مُحَاوَلَةِ تَعْرِيفِهِ بِقَضِيَّةٍ مَعْلُومَةٍ، كَقَوْلِكَ ذَهَبَ الرَّجُلُ الَّذِي أَبُوهُ مُنْطَلِقٌ، فَأَبُوهُ مُنْطَلِقٌ قَضِيَّةٌ مَعْلُومَةٌ، فَإِذَا حَاوَلْتَ تَعْرِيفَ الرَّجُلِ بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْمَعْلُومَةِ أَدْخَلْتَ عَلَيْهِ الَّذِي، وَهُوَ تَحْقِيقُ قَوْلِهِمْ. إِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لِوَصْفِ الْمَعَارِفِ بالجملة، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِوُجُودِ شَيْءٍ جَعَلَ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَذَلِكَ تَحْقِيقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: 25، الزمر: 38] . المسألة الثالثة: أن الله تعالى ذكر هاهنا خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الدَّلَائِلِ اثْنَيْنِ مِنَ الْأَنْفُسِ وَثَلَاثَةً مِنَ الْآفَاقِ، فَبَدَأَ أَوَّلًا: بِقَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ وَثَانِيًا: بِالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وثالثاً: بكون الأرض فراشاً، ورابعاً: يكون السَّمَاءِ بِنَاءً، وَخَامِسًا: بِالْأُمُورِ الْحَاصِلَةِ مِنْ مَجْمُوعِ السَّمَاءِ/ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَلِهَذَا التَّرْتِيبِ أَسْبَابٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّ أَقْرَبَ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْإِنْسَانِ نَفْسُهُ، وَعِلْمُ الْإِنْسَانِ بِأَحْوَالِ نَفْسِهِ أَظْهَرُ مِنْ عِلْمِهِ بِأَحْوَالِ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ الغرض من الاستدلال إفادة

العلم، فكل ما كَانَ أَظْهَرَ دَلَالَةً كَانَ أَقْوَى إِفَادَةً، وَكَانَ أَوْلَى بِالذِّكْرِ. فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ ذِكْرَ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ ثَنَّاهُ بِآبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ ثُمَّ ثَلَّثَ بِالْأَرْضِ، لِأَنَّ الْأَرْضَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنَ السَّمَاءِ وَالْإِنْسَانَ أَعْرَفُ بِحَالِ الْأَرْضِ مِنْهُ بِأَحْوَالِ السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ السَّمَاءِ عَلَى نُزُولِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ وَخُرُوجِ الثَّمَرَاتِ بِسَبَبِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَالْأَمْرِ الْمُتَوَلَّدِ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْأَثَرُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْمُؤَثِّرِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَخَّرَ اللَّهُ ذِكْرَهُ عَنْ ذِكْرِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ. الثَّانِي: هُوَ أَنَّ خَلْقَ الْمُكَلَّفِينَ أَحْيَاءَ قَادِرِينَ أَصْلٌ لِجَمِيعِ النِّعَمِ، وَأَمَّا خَلْقُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَالْمَاءِ فَذَاكَ إِنَّمَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِشَرْطِ حُصُولِ الْخَلْقِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالشَّهْوَةِ، فَلَا جَرَمَ قَدَّمَ ذِكْرَ الْأُصُولِ عَلَى الْفُرُوعِ. الثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ مِنْ دَلَائِلِ الصَّانِعِ فَهُوَ حَاصِلٌ فِي الْإِنْسَانِ، وَقَدْ حَصَلَ فِي الْإِنْسَانِ مِنَ الدَّلَائِلِ مَا لَمْ يَحْصُلْ فِيهِمَا؟ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ حَصَلَ فِيهِ الْحَيَاةُ وَالْقُدْرَةُ وَالشَّهْوَةُ وَالْعَقْلُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى. فَلَمَّا كَانَتْ وُجُوهُ الدَّلَائِلِ لَهُ هاهنا أَتَمَّ كَانَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ، وَاعْلَمْ أَنَّا كَمَا ذكرنا السبب في الترتيب فلنذكر فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْمَنَافِعِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر هاهنا أَنَّهُ جَعَلَ الْأَرْضَ فِرَاشًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً [النَّمْلِ: 61] وقوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً [الزُّخْرُفِ: 10] وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْأَرْضِ فِرَاشًا مَشْرُوطٌ بِأُمُورٍ: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: كَوْنُهَا سَاكِنَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً لَكَانَتْ حَرَكَتُهَا إِمَّا بِالِاسْتِقَامَةِ أَوْ بِالِاسْتِدَارَةِ، فَإِنْ كَانَتْ بِالِاسْتِقَامَةِ لَمَا كَانَتْ فِرَاشًا لَنَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ مَنْ طَفَرَ مِنْ مَوْضِعٍ عَالٍ كَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَصِلَ إِلَى الْأَرْضِ لِأَنَّ الْأَرْضَ هَاوِيَةٌ، وَذَلِكَ الْإِنْسَانُ هَاوٍ، وَالْأَرْضُ أَثْقَلُ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَالثَّقِيلَانِ إِذَا نَزَلَا كَانَ أَثْقَلُهُمَا أَسْرَعَهَمَا وَالْأَبْطَأُ لَا يَلْحَقُ الْأَسْرَعَ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَصِلَ الْإِنْسَانُ إِلَى الْأَرْضِ فَثَبَتَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ هَاوِيَةً لَمَا كَانَتْ فِرَاشًا، أَمَّا لَوْ كَانَتْ حَرَكَتُهَا بِالِاسْتِدَارَةِ لَمْ يَكْمُلِ انْتِفَاعُنَا بِهَا، لَأَنَّ حَرَكَةَ الْأَرْضِ مَثَلًا إِذَا كَانَتْ إِلَى الْمَشْرِقِ وَالْإِنْسَانُ يُرِيدُ أَنْ يَتَحَرَّكَ إِلَى جَانِبِ الْمَغْرِبِ وَلَا شَكَّ أَنَّ حَرَكَةَ الْأَرْضِ أَسْرَعُ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَبْقَى الْإِنْسَانُ عَلَى مَكَانِهِ وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إِلَى حَيْثُ يُرِيدُ، فَلَمَّا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْأَرْضَ غَيْرُ مُتَحَرِّكَةٍ لَا بِالِاسْتِدَارَةِ وَلَا بِالِاسْتِقَامَةِ فَهِيَ سَاكِنَةٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ ذَلِكَ السُّكُونِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَرْضَ لَا نِهَايَةَ لَهَا مِنْ جَانِبِ السُّفْلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَهْبِطٌ فَلَا تَنْزِلُ وَهَذَا فَاسِدٌ لِمَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ تَنَاهِي الْأَجْسَامِ. وَثَانِيهَا: الَّذِينَ سَلَّمُوا تناهي الأجسام قالوا الأرض ليست بكرة بَلْ هِيَ كَنِصْفِ كُرَةٍ وَحَدَبَتُهَا فَوْقُ وَسَطْحُهَا أَسْفَلُ وَذَلِكَ السَّطْحُ مَوْضُوعٌ عَلَى الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ، وَمِنْ شَأْنِ الثَّقِيلِ إِذَا انْبَسَطَ أَنْ يَنْدَغِمَ عَلَى الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ مِثْلَ/ الرَّصَاصَةِ فَإِنَّهَا إِذَا انْبَسَطَتْ طَفَتْ عَلَى الْمَاءِ، وَإِنْ جُمِعَتْ رَسَبَتْ وهذا باطل الوجهين: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْبَحْثَ عَنْ سَبَبِ وُقُوفِ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ كَالْبَحْثِ عَنْ سَبَبِ وُقُوفِ الْأَرْضِ. وَالثَّانِي: لِمَ صَارَ ذَلِكَ الْجَانِبُ مِنَ الْأَرْضِ مُنْبَسِطًا حَتَّى وَقَفَ عَلَى الْمَاءِ وَصَارَ هَذَا الْجَانِبُ مُتَحَدِّبًا؟. وَثَالِثُهَا: الَّذِينَ قَالُوا سَبَبُ سُكُونِ الْأَرْضِ جَذْبُ الْفَلَكِ لَهَا مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ فَلَمْ يَكُنِ انْجِذَابُهَا إِلَى بَعْضِ الْجَوَانِبِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ فَبَقِيَتْ فِي الْوَسَطِ وَهَذَا بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَصْغَرَ أَسْرَعُ انْجِذَابًا مِنَ الْأَكْبَرِ، فَمَا بَالُ الذَّرَّةِ لَا تَنْجَذِبُ إِلَى الْفَلَكِ. الثَّانِي: الْأَقْرَبُ أَوْلَى بِالِانْجِذَابِ فَالذَّرَّةُ الْمَقْذُوفَةُ إِلَى فَوْقٍ أَوْلَى بِالِانْجِذَابِ وَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا تَعُودَ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُ مَنْ جَعَلَ سَبَبَ سُكُونِهَا دَفْعَ الْفَلَكِ لَهَا مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ، كَمَا إِذَا جُعِلَ شَيْءٌ مِنَ التُّرَابِ فِي قِنِّينَةٍ ثُمَّ أُدِيرَتِ الْقِنِّينَةُ عَلَى قُطْبِهَا إِدَارَةً سَرِيعَةً، فَإِنَّهُ يَقِفُ التُّرَابُ فِي وَسَطِ الْقِنِّينَةِ لِتَسَاوِي الدَّفْعِ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ. وَهَذَا أَيْضًا

بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ خَمْسَةٍ. الْأَوَّلُ: الدَّفْعُ إِذَا بَلَغَ فِي الْقُوَّةِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَلِمَ لَا يُحِسُّ بِهِ الْوَاحِدُ مِنَّا؟ الثَّانِي: مَا بَالُ هَذَا الدَّفْعِ لَا يَجْعَلُ حَرَكَةَ السُّحُبِ وَالرِّيَاحِ إِلَى جِهَةٍ بِعَيْنِهَا. الثَّالِثُ: مَا بَالُهُ لَمْ يَجْعَلِ انْتِقَالَهَا إِلَى الْمَغْرِبِ أَسْهَلَ مِنَ انْتِقَالِهَا إِلَى الْمَشْرِقِ. الرَّابِعُ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الثَّقِيلُ كُلَّمَا كَانَ أَعْظَمَ أَنْ تَكُونَ حَرَكَتُهُ أَبْطَأَ، لِأَنَّ انْدِفَاعَ الْأَعْظَمِ مِنَ الدَّافِعِ الْقَاسِرِ، أَبْطَأُ مِنَ انْدِفَاعِ الْأَصْغَرِ. الْخَامِسُ: يَجِبُ أَنْ تَكُونَ حَرَكَةُ الثَّقِيلِ النَّازِلِ مِنَ الِابْتِدَاءِ أَسْرَعَ مِنْ حَرَكَتِهِ عِنْدَ الِانْتِهَاءِ، لِأَنَّهُ عِنْدَ الِابْتِدَاءِ، أَبْعَدُ مِنَ الْفَلَكِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْأَرْضَ بِالطَّبْعِ تَطْلُبُ وَسَطَ الْفَلَكِ، وَهُوَ قَوْلُ أَرِسْطَاطَالِيسَ وَجُمْهُورِ أَتْبَاعِهِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْجِسْمِيَّةِ، فَاخْتِصَاصُ الْبَعْضِ بِالصِّفَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا تَطْلُبُ تِلْكَ الْحَالَةَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ جَائِزًا، فَيَفْتَقِرُ فِيهِ إِلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ. وَسَادِسُهَا: قَالَ أَبُو هَاشِمٍ: النِّصْفُ الْأَسْفَلُ مِنَ الْأَرْضِ فِيهِ اعْتِمَادَاتٌ صَاعِدَةٌ، وَالنِّصْفُ الْأَعْلَى فِيهِ اعْتِمَادَاتٌ هَابِطَةٌ فَتَدَافَعَ الِاعْتِمَادَانِ فَلَزِمَ الْوُقُوفُ. وَالسُّؤَالُ عَلَيْهِ: أَنَّ اخْتِصَاصَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النِّصْفَيْنِ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ. فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ سُكُونَ الْأَرْضِ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ: انْظُرْ إِلَى الْأَرْضِ لِتَعْرِفَ أَنَّهَا مُسْتَقِرَّةٌ بِلَا عَلَّاقَةٍ فَوْقَهَا وَلَا دِعَامَةٍ تَحْتَهَا أَمَّا أَنَّهَا لَا عَلَّاقَةَ فَوْقَهَا فَمُشَاهَدٌ، عَلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُعَلَّقَةً بِعَلَّاقَةٍ لَاحْتَاجَتِ الْعَلَّاقَةُ إِلَى عَلَّاقَةٍ أُخْرَى لَا إِلَى نِهَايَةٍ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا دِعَامَةَ تَحْتَهَا فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُمْسِكٍ يُمْسِكُهَا بِقُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فَاطِرٍ: 41] . الشَّرْطُ الثَّانِي: فِي كَوْنِ الْأَرْضِ فِرَاشًا لَنَا أَنْ لَا تَكُونَ فِي غَايَةِ الصَّلَابَةِ كَالْحَجَرِ، فَإِنَّ النَّوْمَ وَالْمَشْيَ عَلَيْهِ مِمَّا يُؤْلِمُ الْبَدَنَ، وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَتِ الْأَرْضُ مِنَ الذَّهَبِ مَثَلًا لَتَعَذَّرَتِ الزِّرَاعَةُ عَلَيْهَا، وَلَا يُمْكِنُ اتِّخَاذُ الْأَبْنِيَةِ مِنْهُ لِتَعَذُّرِ حَفْرِهَا وَتَرْكِيبِهَا كَمَا يُرَادُ، وَأَنْ لَا تَكُونَ فِي غَايَةِ اللِّينِ، كَالْمَاءِ الَّذِي تَغُوصُ فِيهِ الرِّجْلُ: الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا تَكُونَ فِي غَايَةِ اللَّطَافَةِ وَالشَّفَافِيَّةِ فَإِنَّ الشَّفَّافَ لَا يَسْتَقِرُّ النُّورُ عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَتَسَخَّنُ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ، فَكَانَ يَبْرُدُ جِدًّا/ فَجَعَلَ اللَّهُ كَوْنَهُ أَغْبَرَ، لِيَسْتَقِرَّ النُّورُ عَلَيْهِ فَيَتَسَخَّنَ فَيَصْلُحَ أَنْ يَكُونَ فِرَاشًا لِلْحَيَوَانَاتِ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ بَارِزَةً مِنَ الْمَاءِ، لِأَنَّ طَبْعَ الْأَرْضِ أَنْ يَكُونَ غَائِصًا فِي الْمَاءِ فَكَانِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْبِحَارُ مُحِيطَةً بِالْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمَا كَانَتْ فِرَاشًا لَنَا، فَقَلَبَ اللَّهُ طَبِيعَةَ الْأَرْضِ وَأَخْرَجَ بَعْضَ جَوَانِبِهَا مِنَ الْمَاءِ كَالْجَزِيرَةِ الْبَارِزَةِ حَتَّى صَلُحَتْ لِأَنْ تَكُونُ فِرَاشًا لَنَا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الشَّرْطَ فِي كَوْنِ الْأَرْضِ فِرَاشًا أَنْ لَا تَكُونَ كُرَةً، وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ كُرَةً، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّ الْكُرَةَ إِذَا عَظُمَتْ جِدًّا كَانَتِ الْقِطْعَةُ مِنْهَا كَالسَّطْحِ فِي إِمْكَانِ الِاسْتِقْرَارِ عَلَيْهِ، وَالَّذِي يَزِيدُهُ تَقْرِيرًا أَنَّ الْجِبَالَ أَوْتَادُ الْأَرْضِ ثُمَّ يُمْكِنُ الِاسْتِقْرَارُ عَلَيْهَا، فَهَذَا أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي سَائِرِ مَنَافِعَ الْأَرْضِ وَصِفَاتِهَا. فَالْمَنْفَعَةُ الْأُولَى: الْأَشْيَاءُ الْمُتَوَلِّدَةُ فِيهَا مِنَ الْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْآثَارِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ لَا يَعْلَمُ تَفَاصِيلَهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَخَمَّرَ الرَّطْبُ بِهَا فَيَحْصُلُ التَّمَاسُكُ فِي أَبْدَانِ الْمُرَكَّبَاتِ. الثَّالِثَةُ: اخْتِلَافُ بِقَاعِ الْأَرْضِ، فَمِنْهَا أَرْضٌ رَخْوَةٌ، وَصُلْبَةٌ، وَرَمَلَةٌ، وَسَبِخَةٌ، وَحَرَّةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ [الرَّعْدِ: 4] وَقَالَ: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الْأَعْرَافِ: 58] الرَّابِعَةُ: اخْتِلَافُ أَلْوَانِهَا فَأَحْمَرُ، وَأَبْيَضُ، وَأَسْوَدُ، وَرَمَادِيُّ اللَّوْنِ، وَأَغْبَرُ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ [فَاطِرٍ: 27] .

الْخَامِسَةُ: انْصِدَاعُهَا بِالنَّبَاتِ، قَالَ تَعَالَى: وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ [الطَّارِقِ: 12] . السَّادِسَةُ: كَوْنُهَا خَازِنَةً لِلْمَاءِ الْمُنَزَّلِ مِنَ السَّمَاءِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 18] وَقَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ [الْمُلْكِ: 30] السَّابِعَةُ: الْعُيُونُ وَالْأَنْهَارُ الْعِظَامُ الَّتِي فِيهَا وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً [الرَّعْدِ: 3] . الثَّامِنَةُ: مَا فِيهَا مِنَ الْمَعَادِنِ وَالْفِلِزَّاتِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ [الْحِجْرِ: 19] ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدِ ذَلِكَ تَمَامَ الْبَيَانِ، فَقَالَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر: 21] . التَّاسِعَةُ: الْخَبْءُ الَّذِي تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ مِنَ الْحَبِّ وَالنَّوَى قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى [الْأَنْعَامِ: 95] وَقَالَ: يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النَّمْلِ: 25] ثُمَّ إِنَّ الْأَرْضَ لَهَا طَبْعُ الْكَرَمِ لِأَنَّكَ تَدْفَعُ إِلَيْهَا حَبَّةً وَاحِدَةً، وَهِيَ تَرُدُّهَا عَلَيْكَ سَبْعَمِائَةٍ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [الْبَقَرَةِ: 261] . الْعَاشِرَةُ: حَيَاتُهَا بَعْدَ مَوْتِهَا، قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً [السَّجْدَةِ: 27] وَقَالَ: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس: 33] الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: مَا عَلَيْهَا مِنَ الدَّوَابِّ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَلْوَانِ وَالصُّوَرِ وَالْخَلْقِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ [لقمان: 10] . والثانية عشر: مَا فِيهَا مِنَ النَّبَاتِ الْمُخْتَلِفِ أَلْوَانُهُ وَأَنْوَاعُهُ وَمَنَافِعُهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق: 7] فَاخْتِلَافُ أَلْوَانِهَا دَلَالَةٌ، وَاخْتِلَافُ طَعُومِهَا دَلَالَةٌ، وَاخْتِلَافُ رَوَائِحِهَا دَلَالَةٌ، فَمِنْهَا قُوتُ الْبَشَرِ، وَمِنْهَا قُوتُ الْبَهَائِمِ، كَمَا قَالَ: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ [طَهَ: 54] أَمَّا مَطْعُومُ الْبَشَرِ، فَمِنْهَا الطَّعَامُ، وَمِنْهَا الْإِدَامُ، وَمِنْهَا الدَّوَاءُ، وَمِنْهَا الْفَاكِهَةُ، وَمِنْهَا الْأَنْوَاعُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي الْحَلَاوَةِ وَالْحُمُوضَةِ. قَالَ تَعَالَى: وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ [فُصِّلَتْ: 10] وَأَيْضًا فَمِنْهَا كُسْوَةُ الْبَشَرِ، لِأَنَّ الْكُسْوَةَ إِمَّا نَبَاتِيَّةٌ، وَهِيَ الْقُطْنُ وَالْكَتَّانُ، وَإِمَّا حَيَوَانِيَّةٌ وَهِيَ الشَّعْرُ وَالصُّوفُ وَالْإِبْرَيْسَمُ وَالْجُلُودُ، وَهِيَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي بَثَّهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ، فَالْمَطْعُومُ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْمَلْبُوسُ مِنَ الْأَرْضِ. ثُمَّ قَالَ: وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَنَافِعَ كَثِيرَةٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الْأَرْضَ سَاتِرَةً لِقَبَائِحِكَ بَعْدَ مَمَاتِكَ، فَقَالَ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً [الْمُرْسَلَاتِ: 25، 26] . مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ [طه: 55] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَمَعَ هَذِهِ الْمَنَافِعَ الْعَظِيمَةَ لِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَقَالَ: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الْجَاثِيَةِ: 13] . الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: مَا فِيهَا مِنَ الْأَحْجَارِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَفِي صِغَارِهَا مَا يَصْلُحُ لِلزِّينَةِ فَتُجْعَلُ فُصُوصُهَا لِلْخَوَاتِمِ وَفِي كِبَارِهَا مَا يُتَّخَذُ لِلْأَبْنِيَةِ، فَانْظُرْ إِلَى الحجر الذي تستخرج النَّارُ مِنْهُ مَعَ كَثْرَتِهِ، وَانْظُرْ إِلَى الْيَاقُوتِ الْأَحْمَرِ مَعَ عِزَّتِهِ. ثُمَّ انْظُرْ إِلَى كَثْرَةِ النَّفْعِ بِذَلِكَ الْحَقِيرِ، وَقِلَّةِ النَّفْعِ بِهَذَا الشَّرِيفِ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: مَا أَوْدَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مِنَ الْمَعَادِنِ الشَّرِيفَةِ، كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، ثُمَّ تَأَمَّلْ فَإِنَّ الْبَشَرَ اسْتَخْرَجُوا الْحِرَفَ الدَّقِيقَةَ وَالصَّنَائِعَ الْجَلِيلَةَ وَاسْتَخْرَجُوا السَّمَكَةَ مِنْ قَعْرِ الْبَحْرِ، وَاسْتَنْزَلُوا الطَّيْرَ مِنْ أَوْجِ الْهَوَاءِ ثُمَّ عَجَزُوا عَنْ إِيجَادِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ في وجودهما إلا الثمينة، وَهَذِهِ الْفَائِدَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الْعِزَّةِ فَالْقَادِرُ عَلَى إِيجَادِهِمَا يُبْطِلُ هَذِهِ الْحِكْمَةَ، فَلِذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ دُونَهُمَا بَابًا مَسْدُودًا، إِظْهَارًا لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ وَإِبْقَاءً لِهَذِهِ النِّعْمَةِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ مَا لَا مَضَرَّةَ عَلَى الْخَلْقِ فِيهِ مَكَّنَهُمْ مِنْهُ فَصَارُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنَ اتِّخَاذِ الشَّبَهِ مِنَ النُّحَاسِ، وَالزُّجَاجِ مِنَ الرَّمْلِ، وَإِذَا تَأَمَّلَ الْعَاقِلُ فِي هَذِهِ اللَّطَائِفِ وَالْعَجَائِبِ

اضْطُرَّ فِي افْتِقَارِ هَذِهِ التَّدَابِيرِ إِلَى صَانِعٍ حَكِيمٍ مُقْتَدِرٍ عَلِيمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: كَثْرَةُ مَا يُوجَدُ عَلَى الْجِبَالِ وَالْأَرَاضِي مِنَ الْأَشْجَارِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلْبِنَاءِ، وَالسُّقُفِ، ثُمَّ الْحَطَبِ. وَمَا أَشَدَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ فِي الْخَبْزِ وَالطَّبْخِ قَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى دَلَائِلِ الْأَرْضِ وَمَنَافِعِهَا بِأَلْفَاظٍ لَا يَبْلُغُهَا الْبُلَغَاءُ وَيَعْجَزُ عَنْهَا الْفُصَحَاءُ فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الرَّعْدِ: 3] وَأَمَّا الْأَنْهَارُ فَمِنْهَا الْعَظِيمَةُ كَالنِّيلِ، وَسَيْحُونَ، وَجَيْحُونَ، وَالْفُرَاتِ، وَمِنْهَا الصِّغَارُ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ وَكُلُّهَا تَحْمِلُ مِيَاهًا عَذْبَةً لِلسَّقْيِ وَالزِّرَاعَةِ وَسَائِرِ الْفَوَائِدِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي أَنَّ السَّمَاءَ أَفْضَلُ أَمِ الْأَرْضَ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: السَّمَاءُ أَفْضَلُ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ السَّمَاءَ مُتَعَبَّدُ الْمَلَائِكَةِ، وَمَا فِيهَا بُقْعَةٌ عَصَى اللَّهَ فِيهَا أَحَدٌ. وَثَانِيهَا: لَمَّا أَتَى آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْجَنَّةِ بِتِلْكَ الْمَعْصِيَةِ قِيلَ لَهُ اهْبِطْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَسْكُنُ فِي جِوَارِي مَنْ عَصَانِي. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً [المؤمنون: 32] وَقَوْلُهُ: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الْفُرْقَانِ: 61] وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَرْضِ مِثْلَ ذَلِكَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ وَرَدَ ذِكْرُ السَّمَاءِ مُقَدَّمًا/ عَلَى الْأَرْضِ فِي الذِّكْرِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْأَرْضُ أَفْضَلُ لِوُجُوهٍ «أ» أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ بِقَاعًا مِنَ الْأَرْضِ بِالْبَرَكَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً [آلِ عِمْرَانَ: 96] «ب» فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ [الْقَصَصِ: 30] «ج» إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ [الْإِسْرَاءِ: 1] «د» وَصَفَ أَرْضَ الشَّامِ بِالْبَرَكَةِ فَقَالَ: مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الْأَعْرَافِ: 137] وَخَامِسُهَا: وَصَفَ جُمْلَةَ الْأَرْضِ بالبركة فقال: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ [فُصِّلَتْ: 9] إِلَى قَوْلِهِ: وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها [فُصِّلَتْ: 10] فَإِنْ قِيلَ: وَأَيُّ بَرَكَةٍ فِي الْفَلَوَاتِ الْخَالِيَةِ وَالْمَفَاوِزِ الْمُهْلِكَةِ؟ قُلْنَا إِنَّهَا مَسَاكِنُ لِلْوُحُوشِ وَمَرْعَاهَا، ثُمَّ إِنَّهَا مَسَاكِنُ لِلنَّاسِ إِذَا احْتَاجُوا إِلَيْهَا، فَلِهَذِهِ الْبَرَكَاتِ قَالَ تَعَالَى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ [الذَّارِيَاتِ: 20] وَهَذِهِ الْآيَاتُ وَإِنْ كَانَتْ حَاصِلَةً لِغَيْرِ الْمُوقِنِينَ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا إِلَّا الْمُوقِنُونَ جَعَلَهَا آيَاتٍ لِلْمُوقِنِينَ تَشْرِيفًا لَهُمْ كَمَا قَالَ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْأَنْبِيَاءَ الْمُكَرَّمِينَ مِنَ الْأَرْضِ عَلَى مَا قَالَ: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ [طه: 55] ولم يخلق من السموات شَيْئًا لِأَنَّهُ قَالَ: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً [الْأَنْبِيَاءِ: 32] . وَسَابِعُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْرَمَ نَبِيَّهُ بِهَا فَجَعَلَ الْأَرْضَ كُلَّهَا مَسَاجِدَ لَهُ وَجَعَلَ ترابها طهوراً. أما قوله: السَّماءَ بِناءً فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَمْرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي كِتَابِهِ فِي مَوَاضِعَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِكْثَارَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ ذِكْرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ شَأْنِهِمَا، وَعَلَى أَنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهِمَا أَسْرَارًا عَظِيمَةً، وَحِكَمًا بَالِغَةً لَا يَصِلُ إِلَيْهَا أَفْهَامُ الْخَلْقِ وَلَا عُقُولُهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي فَضَائِلِ السَّمَاءِ وَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَيَّنَهَا بِسَبْعَةِ أَشْيَاءَ بِالْمَصَابِيحِ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الْمُلْكِ: 5] وَبِالْقَمَرِ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نُوحٍ: 16] وَبِالشَّمْسِ وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً [نُوحٍ: 16] وَبِالْعَرْشِ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التَّوْبَةِ: 129] وَبِالْكُرْسِيِّ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْبَقَرَةِ: 255] وَبِاللَّوْحِ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [الْبُرُوجِ: 22] وَبِالْقَلَمِ ن وَالْقَلَمِ [الْقَلَمِ: 1] فَهَذِهِ سَبْعَةٌ: ثَلَاثَةٌ مِنْهَا ظَاهِرَةٌ، وَأَرْبَعَةٌ خَفِيَّةٌ: ثَبَتَتْ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ مِنَ الآيات والأخبار. الثاني: أنه تعالى سمى السموات بِأَسْمَاءَ تَدُلُّ عَلَى عِظَمِ شَأْنِهَا: سَمَاءً، وَسَقْفًا مَحْفُوظًا، وَسَبْعًا طِبَاقًا، وَسَبْعًا شِدَادًا. ثُمَّ ذَكَرَ عاقبة

أَمْرِهَا فَقَالَ: وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ [الْمُرْسَلَاتِ: 9] ، وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ [التَّكْوِيرِ: 11] ، يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ [الْأَنْبِيَاءِ: 104] ، يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ [الْمَعَارِجِ: 8] ، يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً [الطُّورِ: 9] ، فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرَّحْمَنِ: 37] وَذَكَرَ مَبْدَأَهَا فِي آيَتَيْنِ فَقَالَ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فُصِّلَتْ: 11] وَقَالَ: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الْأَنْبِيَاءِ: 30] فَهَذَا الِاسْتِقْصَاءُ الشَّدِيدُ فِي كَيْفِيَّةِ حُدُوثِهِمَا وَفَنَائِهِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَهُمَا لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ عَلَى مَا قَالَ: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص: 27] ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ السَّمَاءَ قِبْلَةَ الدُّعَاءِ: فَالْأَيْدِي تُرْفَعُ إِلَيْهَا، وَالْوُجُوهُ تَتَوَجَّهُ نَحْوَهَا، وَهِيَ مَنْزِلُ الْأَنْوَارِ وَمَحَلُّ الصَّفَاءِ وَالْأَضْوَاءِ وَالطَّهَارَةِ وَالْعِصْمَةِ عَنِ الْخَلَلِ وَالْفَسَادِ. الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُهُمُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُونَ عَلَى صِفَتَيْنِ، فَالسَّمَاوَاتُ مُؤَثِّرَةٌ غَيْرُ مُتَأَثِّرَةٍ. وَالْأَرْضُونَ مُتَأَثِّرَةٌ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ/ وَالْمُؤَثِّرُ أَشْرَفُ مِنَ الْقَابِلِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قُدِّمَ ذِكْرُ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ فِي الْأَكْثَرِ، وأيضاً ففي أكثر الأمر ذكر السموات بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَالْأَرْضِ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ، فَإِنَّهُ لَا بد من السموات الْكَثِيرَةِ لِيَحْصُلَ بِسَبَبِهَا الِاتِّصَالَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ لِلْكَوَاكِبِ وَتَغَيُّرُ مَطَارِحِ الشُّعَاعَاتِ، وَأَمَّا الْأَرْضُ فَقَابِلَةٌ فَكَانَتِ الْأَرْضُ الْوَاحِدَةُ كَافِيَةً. الْخَامِسُ: تَفَكَّرْ فِي لَوْنِ السَّمَاءِ وَمَا فِيهِ مِنْ صَوَابِ التَّدْبِيرِ، فَإِنَّ هَذَا اللَّوْنَ أَشَدُّ الْأَلْوَانِ مُوَافَقَةً لِلْبَصَرِ وَتَقْوِيَةً لَهُ، حَتَّى أَنَّ الْأَطِبَّاءَ يَأْمُرُونَ مَنْ أَصَابَهُ وَجَعُ الْعَيْنِ بِالنَّظَرِ إِلَى الزُّرْقَةِ، فَانْظُرْ كَيْفَ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَدِيمَ السَّمَاءِ مُلَوَّنًا بِهَذَا اللَّوْنِ الْأَزْرَقِ، لِتَنْتَفِعَ بِهِ الْأَبْصَارُ النَّاظِرَةُ إِلَيْهَا، فَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى جَعَلَ لَوْنَهَا أَنْفَعَ الْأَلْوَانِ، وَهُوَ الْمُسْتَنِيرُ وَشَكْلَهَا أَفْضَلَ الْأَشْكَالِ، وَهُوَ الْمُسْتَدِيرُ، وَلِهَذَا قَالَ: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ [ق: 6] يَعْنِي مَا فِيهَا مِنْ فُصُولٍ، وَلَوْ كَانَتْ سَقْفًا غَيْرَ مُحِيطٍ بِالْأَرْضِ لَكَانَتِ الْفُرُوجُ حَاصِلَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي بَيَانِ فَضَائِلِ السَّمَاءِ وَبَيَانِ فَضَائِلِ مَا فِيهَا، وَهِيَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ أَمَّا الشَّمْسُ فَتَفَكَّرْ فِي طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا، فَلَوْلَا ذَلِكَ لَبَطَلَ أَمْرُ الْعَالَمِ كُلِّهِ، فَكَيْفَ كَانَ النَّاسُ يَسْعَوْنَ فِي مَعَايِشِهِمْ، ثُمَّ الْمَنْفَعَةُ فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ ظَاهِرَةٌ، وَلَكِنْ تَأَمَّلِ النَّفْعَ فِي غُرُوبِهَا فَلَوْلَا غُرُوبُهَا لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ هُدُوٌّ وَلَا قَرَارٌ مَعَ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى الْهُدُوِّ وَالْقَرَارِ لِتَحْصِيلِ الرَّاحَةِ وَانْبِعَاثِ الْقُوَّةِ الْهَاضِمَةِ وَتَنْفِيذِ الْغِذَاءِ إِلَى الْأَعْضَاءِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً [يُونُسَ: 67] وَأَيْضًا فَلَوْلَا الْغُرُوبُ لَكَانَ الْحِرْصُ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعَمَلِ عَلَى مَا قَالَ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النَّبَأِ: 10، 11] وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْلَا الْغُرُوبُ لَكَانَتِ الْأَرْضُ تَحْمَى بِشُرُوقِ الشَّمْسِ عَلَيْهَا حَتَّى يَحْتَرِقَ كُلُّ مَا عَلَيْهَا مِنْ حَيَوَانٍ، وَيَهْلَكَ مَا عَلَيْهَا مِنْ نَبَاتٍ عَلَى مَا قَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً [الْفُرْقَانِ: 45] فَصَارَتِ الشَّمْسُ بِحِكْمَةِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَطْلُعُ فِي وَقْتٍ وَتَغِيبُ فِي وَقْتٍ، بِمَنْزِلَةِ سِرَاجٍ يُدْفَعُ لِأَهْلِ بَيْتٍ بِمِقْدَارِ حَاجَتِهِمْ ثُمَّ يُرْفَعُ عَنْهُمْ لِيَسْتَقِرُّوا وَيَسْتَرِيحُوا فَصَارَ النُّورُ وَالظُّلْمَةُ عَلَى تَضَادِّهِمَا مُتَعَاوِنَيْنِ مُتَظَاهِرَيْنِ عَلَى مَا فِيهِ صَلَاحُ الْعَالَمِ هَذَا كُلُّهُ فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا. أَمَّا ارْتِفَاعُ الشَّمْسِ وَانْحِطَاطُهَا فَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَبَبًا لِإِقَامَةِ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ فَفِي الشِّتَاءِ تَغُورُ الْحَرَارَةُ فِي الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ فَيَتَوَلَّدُ مِنْهُ مَوَادُّ الثِّمَارِ وَيَلْطُفُ الْهَوَاءُ وَيَكْثُرُ السَّحَابُ وَالْمَطَرُ، وَيَقْوَى أَبْدَانُ الْحَيَوَانَاتِ بِسَبَبِ احْتِقَانِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ فِي الْبَوَاطِنِ، وَفِي الرَّبِيعِ تَتَحَرَّكُ الطَّبَائِعُ وَتَظْهَرُ الْمَوَادُّ الْمُتَوَلِّدَةُ فِي الشِّتَاءِ فَيَطْلُعُ النَّبَاتُ وَيُنَوِّرُ الشَّجَرُ وَيَهِيجُ الْحَيَوَانُ لِلسِّفَادِ، وَفِي الصَّيْفِ يَحْتَدِمُ الْهَوَاءُ فَتَنْضُجُ

الثِّمَارُ، وَتَنْحَلُّ فُضُولُ الْأَبْدَانِ، وَيَجِفُّ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَيَتَهَيَّأُ لِلْبِنَاءِ وَالْعِمَارَاتِ، وَفِي الْخَرِيفِ يَظْهَرُ الْيُبْسُ وَالْبَرْدُ فَتَنْتَقِلُ الْأَبْدَانُ قَلِيلًا قَلِيلًا إِلَى الشِّتَاءِ، فَإِنَّهُ إِنْ وَقَعَ الِانْتِقَالُ دُفْعَةً وَاحِدَةً هَلَكَتِ الْأَبْدَانُ وَفَسَدَتْ، وَأَمَّا حَرَكَةُ الشَّمْسِ فَتَأَمَّلْ فِي مَنَافِعِهَا، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاقِفَةً فِي مَوْضِعٍ/ وَاحِدٍ لَاشْتَدَّتِ السُّخُونَةُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَاشْتَدَّ الْبَرْدُ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، لَكِنَّهَا تَطْلُعُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَتَقَعُ عَلَى مَا يُحَاذِيهَا مِنْ وَجْهِ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ لَا تَزَالُ تَدُورُ وَتَغْشَى جِهَةً بَعْدِ جِهَةٍ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الْغُرُوبِ فَتُشْرِقَ عَلَى الْجَوَانِبِ الشَّرْقِيَّةِ فَلَا يَبْقَى مَوْضِعٌ مَكْشُوفٌ إِلَّا وَيَأْخُذُ حَظًّا مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ، وَأَيْضًا كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لَوْ وَقَفَتْ فِي جَانِبِ الشَّرْقِ وَالْغَنِيُّ قَدْ رَفَعَ بِنَاءَهُ عَلَى كُوَّةِ الْفَقِيرِ، فَكَانَ لَا يَصِلُ النُّورُ إِلَى الْفَقِيرِ، لَكِنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إِنْ كَانَ الْغَنِيُّ مَنَعَهُ نُورَ الشَّمْسِ فَأَنَا أُدِيرُ الْفَلَكَ وَأُدِيرُهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَأْخُذَ الْفَقِيرُ نَصِيبَهُ. وَأَمَّا مَنَافِعُ مَيْلِهَا فِي حَرَكَتِهَا عَنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ، فَنَقُولُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْكَوَاكِبِ حَرَكَةٌ فِي الْمَيْلِ لَكَانَ التَّأْثِيرُ مَخْصُوصًا بِبُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانَ سَائِرُ الْجَوَانِبِ يَخْلُو عَنِ الْمَنَافِعِ الْحَاصِلَةِ مِنْهُ وَكَانَ الَّذِي يَقْرُبُ مِنْهُ مُتَشَابِهَ الْأَحْوَالِ، وَكَانَتِ الْقُوَّةُ هُنَاكَ لِكَيْفِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ حَارَّةً أَفْنَتِ الرُّطُوبَاتِ وَأَحَالَتْهَا كُلَّهَا إِلَى النَّارِيَّةِ وَلَمْ تَتَكَوَّنِ الْمُتَوَلِّدَاتُ فَيَكُونُ الْمَوْضِعُ الْمُحَاذِي لِمَمَرِّ الْكَوَاكِبِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ، وَخَطُّ مَا لَا يُحَاذِيهِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ أُخْرَى وَخَطٌّ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُمَا عَلَى كَيْفِيَّةٍ مُتَوَسِّطَةٍ فَيَكُونُ فِي مَوْضِعٍ شِتَاءٌ دَائِمٌ يَكُونُ فِيهِ الْهَوَاءُ وَالْعَجَاجَةُ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ صَيْفٌ دَائِمٌ يُوجِبُ الِاحْتِرَاقَ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ رَبِيعٌ أَوْ خَرِيفٌ لَا يَتِمُّ فِيهِ النُّضْجُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَوْدَاتٌ مُتَتَالِيَةٌ، وَكَانَتِ الْكَوَاكِبُ تَتَحَرَّكُ بَطِيئًا لَكَانَ الْمَيْلُ قَلِيلَ الْمَنْفَعَةِ وَكَانَ التَّأْثِيرُ شَدِيدَ الْإِفْرَاطِ، وَكَانَ يَعْرِضُ قَرِيبًا مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَيْلٌ، وَلَوْ كَانَتِ الْكَوَاكِبُ أَسْرَعَ حَرَكَةً مِنْ هَذِهِ لَمَا كَمُلَتِ الْمَنَافِعُ وَمَا تَمَّتْ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَيْلٌ يَحْفَظُ الْحَرَكَةَ فِي جِهَةٍ مُدَّةً، ثُمَّ تَنْتَقِلُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى بِمِقْدَارِ الْحَاجَةِ وَتَبْقَى فِي كُلِّ جِهَةٍ بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ تَمَّ بِذَلِكَ تَأْثِيرُهُ وَكَثُرَتْ مَنْفَعَتُهُ، فَسُبْحَانَ الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ بِالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالْقُدْرَةِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ. هَذَا أَمَّا الْقَمَرُ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِآيَةِ اللَّيْلِ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ طُلُوعَهُ وَغَيْبَتَهُ مَصْلَحَةً، وَجَعَلَ طُلُوعَهُ فِي وَقْتٍ مَصْلَحَةً، وَغُرُوبَهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ مَصْلَحَةً، أَمَّا غُرُوبُهُ فَفِيهِ نَفْعٌ لِمَنْ هَرَبَ مِنْ عَدُوِّهِ فَيَسْتُرُهُ اللَّيْلُ يُخْفِيهِ فَلَا يَلْحَقُهُ طَالِبٌ فَيَنْجُوَ، وَلَوْلَا الظَّلَامُ لَأَدْرَكَهُ الْعَدُوُّ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ الْمُتَنَبِّي: وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدِي مِنْ يَدٍ ... تُخْبِرُ أَنَّ الْمَانَوِيَّةَ تَكْذِبُ وَأَمَّا طُلُوعُهُ فَفِيهِ نَفْعٌ لِمَنْ ضَلَّ عَنْهُ شَيْءٌ أَخْفَاهُ الظَّلَامُ وَأَظْهَرَهُ الْقَمَرُ. وَمِنَ الْحِكَايَاتِ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا نَامَ عَنْ جَمَلِهِ لَيْلًا فَفَقَدَهُ، فَلَمَّا طَلَعَ الْقَمَرُ وَجَدَهُ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ صَوَّرَكَ وَنَوَّرَكَ، وَعَلَى الْبُرُوجِ دَوَّرَكَ، فَإِذَا شَاءَ نَوَّرَكَ، وَإِذَا شَاءَ كَوَّرَكَ، فَلَا أَعْلَمُ مَزِيدًا أَسْأَلُهُ لَكَ، وَلَئِنْ أَهْدَيْتَ إِلَيَّ سُرُورًا لَقَدْ أَهْدَى اللَّهُ إِلَيْكَ نُورًا، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: مَاذَا أَقُولُ وَقَوْلِي فِيكَ ذُو قِصَرٍ ... وَقَدْ كَفَيْتَنِي التَّفْصِيلَ وَالْجُمَلَا إِنْ قُلْتُ لَا زِلْتَ مَرْفُوعًا فَأَنْتَ كَذَا ... أَوْ قَلْتُ زَانَكَ رَبِّي فَهُوَ قَدْ فَعَلَا وَلَقَدْ كَانَ فِي الْعَرَبِ مَنْ يَذُمُّ الْقَمَرَ وَيَقُولُ: الْقَمَرُ يُقَرِّبُ الْأَجَلَ، وَيَفْضَحُ السَّارِقَ، / وَيُدْرِكُ الْهَارِبَ. وَيَهْتِكُ الْعَاشِقَ، وَيُبْلِي الْكَتَّانَ، وَيُهْرِمُ الشُّبَّانَ، وَيُنْسِي ذِكْرَ الْأَحْبَابِ، وَيُقَرِّبُ الدَّيْنَ، وَيُدْنِي الْحَيْنَ. وَكَانَ فِيهِمْ أَيْضًا مَنْ يُفَضِّلُ الْقَمَرَ عَلَى الشَّمْسِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَمَرَ مُذَكَّرٌ. وَالشَّمْسَ مُؤَنَّثٌ لَكِنَّ الْمُتَنَبِّيَ طَعَنَ فِيهِ بِقَوْلِهِ:

فَمَا التَّأْنِيثُ لِاسْمِ الشَّمْسِ عَيْبٌ ... وَلَا التَّذْكِيرُ فَخْرٌ لِلْهِلَالِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ قَالُوا: الْقَمَرَانِ، فَجَعَلُوا الشَّمْسَ تَابِعَةً لِلْقَمَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَ الشَّمْسَ عَلَى الْقَمَرِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَهَا عَلَى الْقَمَرِ فِي قَوْلِهِ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ [الرَّحْمَنِ: 5] ، وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها [الشَّمْسِ: 1، 2] إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ مَنْقُوضَةٌ بِقَوْلِهِ: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التَّغَابُنِ: 2] وَقَالَ: لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ [الْحَشْرِ: 20] وَقَالَ: خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الملك: 2] وقال: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشَّرْحِ: 6] وَقَالَ: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ [فَاطِرٍ: 32] الْآيَةَ. أَمَّا النُّجُومُ: فَفِيهَا مَنَافِعُ. الْمَنْفَعَةُ الْأُولَى: كَوْنُهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَالثَّانِيَةُ: مَعْرِفَةُ الْقِبْلَةِ بِهَا، وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَهْتَدِيَ بِهَا الْمُسَافِرُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الْأَنْعَامِ: 97] ثُمَّ النُّجُومُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: غَارِبَةٌ لَا تَطْلُعُ كَالْكَوَاكِبِ الْجَنُوبِيَّةِ، وَطَالِعَةٌ لَا تَغْرُبُ كَالشَّمَالِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا يَغْرُبُ تَارَةً وَيَطْلُعُ أُخْرَى، وَأَيْضًا مِنْهَا ثَوَابِتُ، وَمِنْهَا سَيَّارَاتٌ، وَمِنْهَا شَرْقِيَّةٌ، وَمِنْهَا غَرْبِيَّةٌ وَالْكَلَامُ فِيهَا طَوِيلٌ. أَمَّا الَّذِي تَدَّعِيهِ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَجْرَامِ وَالْأَبْعَادِ. فَدَعْ عَنْكَ بَحْرًا ضَلَّ فِيهِ السَّوَابِحُ قَالَ تَعَالَى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الْجِنِّ: 26، 27] وَقَالَ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 85] وَقَالَ: وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [هُودٍ: 31] وَقَالَ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ [الْكَهْفِ: 51] فَقَدْ عَجَزَ الْخَلْقُ عَنْ مَعْرِفَةِ ذَوَاتِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ فَكَيْفَ يَقْدِرُونَ عَلَى مَعْرِفَةِ أَبْعَدِ الْأَشْيَاءِ عَنْهُمْ، وَالْعَرَبُ مَعَ بُعْدِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ عَرَفُوا ذَلِكَ، قَالَ قَائِلُهُمْ: وَأَعْرِفُ مَا فِي الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ ... وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا في غد عمي وقال لبيد: فو الله مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ بِالْحَصَى ... وَلَا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعُ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي شَرْحِ كَوْنِ السَّمَاءِ بِنَاءً، قَالَ الْجَاحِظُ: إِذَا تَأَمَّلْتَ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَجَدْتَهُ كَالْبَيْتِ الْمُعَدِّ فِيهِ كُلُّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَالسَّمَاءُ مَرْفُوعَةٌ كَالسَّقْفِ، وَالْأَرْضُ مَمْدُودَةٌ كَالْبِسَاطِ، وَالنُّجُومُ مُنَوِّرَةٌ كَالْمَصَابِيحِ وَالْإِنْسَانُ كَمَالِكِ الْبَيْتِ الْمُتَصَرِّفِ فِيهِ، وَضُرُوبُ النَّبَاتِ مُهَيَّأَةٌ لِمَنَافِعِهِ وَضُرُوبُ الْحَيَوَانَاتِ مُصَرَّفَةٌ فِي مَصَالِحِهِ، فَهَذِهِ جُمْلَةٌ وَاضِحَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعَالَمَ مَخْلُوقٌ بِتَدْبِيرٍ كَامِلٍ وَتَقْدِيرٍ شَامِلٍ وَحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ وَقُدْرَةٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ وَكَانَتْ كَالصَّدَفِ وَالدُّرَّةِ الْمُودَعَةِ فِيهِ آدَمُ وَأَوْلَادُهُ، ثُمَّ عَلِمَ اللَّهُ أَصْنَافَ حَاجَاتِهِمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ يَا آدَمُ لَا أُحْوِجُكَ إِلَى شَيْءٍ غَيْرِ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ لَكَ كَالْأُمِّ فَقَالَ: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ/ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا [عَبَسَ: 25، 26] فَانْظُرْ يَا عَبْدِي أَنَّ أَعَزَّ الْأَشْيَاءِ عِنْدَكَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَلَوْ أَنِّي خَلَقْتُ الْأَرْضَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ هَلْ كَانَ يَحْصُلُ مِنْهَا هَذِهِ الْمَنَافِعُ، ثُمَّ إِنِّي جَعَلْتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مَعَ أَنَّهَا سِجْنٌ، فَكَيْفَ

الْحَالُ فِي الْجَنَّةِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَرْضَ أُمُّكَ بَلْ أَشْفَقُ مِنَ الْأُمِّ، لِأَنَّ الْأُمَّ تَسْقِيكَ لَوْنًا وَاحِدًا مِنَ اللَّبَنِ، وَالْأَرْضَ تُطْعِمُكَ كَذَا وَكَذَا لَوْنًا مِنَ الْأَطْعِمَةِ، ثُمَّ قَالَ: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ [طَهَ: 55] مَعْنَاهُ نَرُدُّكُمْ إِلَى هَذِهِ الْأُمِّ، وَهَذَا لَيْسَ بِوَعِيدٍ، لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يُوعَدُ بِأُمِّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَكَانَكَ مِنَ الْأُمِّ الَّتِي وَلَدَتْكَ أَضْيَقُ مِنْ مَكَانِكَ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ إِنَّكَ كُنْتَ فِي بَطْنِ الْأُمِّ تسعة أشهر فما مَسَّكَ جُوعٌ وَلَا عَطَشٌ، فَكَيْفَ إِذَا دَخَلْتَ بَطْنَ الْأُمِّ الْكُبْرَى، وَلَكِنَّ الشَّرْطَ أَنْ تَدْخُلَ بَطْنَ هَذِهِ الْأُمِّ الْكُبْرَى، كَمَا كُنْتَ فِي بَطْنِ الْأُمِّ الصُّغْرَى، لِأَنَّكَ حِينَ كُنْتَ فِي بَطْنِ الْأُمِّ الصُّغْرَى مَا كَانَتْ لَكَ زَلَّةٌ، فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ كَبِيرَةٌ، بَلْ كُنْتَ مُطِيعًا لِلَّهِ بِحَيْثُ دَعَاكَ مَرَّةً إِلَى الْخُرُوجِ إِلَى الدُّنْيَا فَخَرَجْتَ إِلَيْهَا بِالرَّأْسِ طَاعَةً مِنْكَ لِرَبِّكَ، وَالْيَوْمَ يَدْعُوكَ سَبْعِينَ مَرَّةً إِلَى الصَّلَاةِ فَلَا تُجِيبُهُ بِرِجْلِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ بَيَّنَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ شِبْهِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ وَالْإِخْرَاجِ بِهِ مِنْ بَطْنِهَا أَشْبَاهَ النَّسْلِ الْحَاصِلِ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَمِنْ أنواع الثمار رزقاً لبني آدم لِيَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي أَحْوَالِ مَا فَوْقَهُمْ وَمَا تَحْتَهُمْ، وَيَعْرِفُوا أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَكْوِينِهَا وَتَخْلِيقِهَا إِلَّا مَنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهَا فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، وذلك هو الصانع الحكيم سبحانه وتعالى. وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هَلْ تَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِهَذِهِ الثَّمَرَاتِ عَقِيبَ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَيْهَا بِمَجْرَى الْعَادَةِ، أَوْ تَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي الْمَاءِ طَبِيعَةً مُؤَثِّرَةً، وَفِي الْأَرْضِ طَبِيعَةً قَابِلَةً، فَإِذَا اجْتَمَعَا حَصَلَ الْأَثَرُ مِنْ تِلْكَ الْقُوَّةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى؟ وَالْجَوَابُ: لَا شَكَّ أَنَّ عَلَى كِلَّا الْقَوْلَيْنِ لَا بُدَّ مِنَ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَنَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ هَذِهِ الثِّمَارِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْوَسَائِطِ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ لَا مَعْنَى لَهَا إِلَّا جِسْمٌ قَامَ بِهِ طَعْمٌ وَلَوْنٌ وَرَائِحَةٌ وَرُطُوبَةٌ، وَالْجِسْمُ قَابِلٌ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ مَقْدُورَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً لِأَنَّ الْمُصَحِّحَ لِلْمَقْدُورِيَّةِ إِمَّا الْحُدُوثُ، أَوِ الْإِمْكَانُ، وَإِمَّا هُمَا وَعَلَى التَّقْدِيرَاتِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى خَلْقِ هَذِهِ الْأَعْرَاضِ فِي الْجِسْمِ ابْتِدَاءً بِدُونِ هَذِهِ الْوَسَائِطِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ مِنَ الدَّلَائِلِ النَّقْلِيَّةِ مَا وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَخْتَرِعُ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِلْمُثَابِينَ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْوَسَائِطِ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ قُدْرَتُهُ عَلَى خَلْقِهَا ابْتِدَاءً لَا تُنَافِي قُدْرَتَهُ عَلَيْهَا بِوَاسِطَةِ خَلْقِ هَذِهِ الْقُوَى الْمُؤَثِّرَةِ وَالْقَابِلَةِ فِي الْأَجْسَامِ، وَظَاهِرُ قَوْلِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ إِنْكَارُ ذَلِكَ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ هَذِهِ الثِّمَارِ بِدُونِ هَذِهِ الْوَسَائِطِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي خَلْقِهَا بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ؟ وَالْجَوَابُ: يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. ثُمَّ ذَكَرُوا مِنَ الْحَكَمِ الْمُفَصَّلَةِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَجْرَى الْعَادَةَ بِأَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى ترتيب وتدريج، لأن المكلفين إذا تحلوا الْمَشَقَّةَ فِي الْحَرْثِ وَالْغَرْسِ طَلَبًا/ لِلثَّمَرَاتِ وَكَدُّوا أَنْفُسَهُمْ فِي ذَلِكَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَمَّا احْتَاجُوا إِلَى تَحَمُّلِ هَذِهِ الْمَشَاقِّ لِطَلَبِ هَذِهِ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَلَأَنْ يَتَحَمَّلُوا مَشَاقَّ أَقَلَّ مِنَ الْمَشَاقِّ الدُّنْيَوِيَّةِ لِطَلَبِ الْمَنَافِعِ الْأُخْرَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنَ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَانَ أَوْلَى، وَصَارَ هَذَا كَمَا قُلْنَا أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الشِّفَاءِ مِنْ غَيْرِ تَنَاوُلِ الدَّوَاءِ لَكِنَّهُ أَجْرَى عَادَتَهُ بِتَوْقِيفِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إِذَا تَحَمَّلَ مَرَارَةَ الْأَدْوِيَةِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمَرَضِ، فَلَأَنْ يَتَحَمَّلَ مَشَاقَّ التَّكْلِيفِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْعِقَابِ كَانَ أَوْلَى وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ خَلَقَهَا دُفْعَةً مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْوَسَائِطِ لَحَصَلَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِإِسْنَادِهَا إِلَى الْقَادِرِ الْحَكِيمِ، وَذَلِكَ كَالْمُنَافِي لِلتَّكْلِيفِ وَالِابْتِلَاءِ أَمَّا لَوْ خَلَقَهَا بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ فَحِينَئِذٍ يَفْتَقِرُ الْمُكَلَّفُ فِي إِسْنَادِهَا إِلَى الْقَادِرِ إِلَى نَظَرٍ دَقِيقٍ، وَفِكْرٍ غَامِضٍ فَيَسْتَوْجِبُ الثَّوَابَ، وَلِهَذَا قِيلَ: لَوْلَا الْأَسْبَابُ لَمَا ارْتَابَ مُرْتَابٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ لِلْمَلَائِكَةِ وَلِأَهْلِ الِاسْتِبْصَارِ عِبَرٌ فِي ذَلِكَ وَأَفْكَارٌ صَائِبَةٌ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً يَقْتَضِي نُزُولَ الْمَطَرِ مِنَ السَّمَاءِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ

فَإِنَّ الْأَمْطَارَ إِنَّمَا تَتَوَلَّدُ مِنْ أَبْخِرَةٍ تَرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ وَتَتَصَاعَدُ إِلَى الطَّبَقَةِ الْبَارِدَةِ مِنَ الْهَوَاءِ فَتَجْتَمِعُ هُنَاكَ بِسَبَبِ الْبَرْدِ وَتَنْزِلُ بَعْدَ اجْتِمَاعِهَا وَذَلِكَ هُوَ الْمَطَرُ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ السَّمَاءَ إِنَّمَا سُمِّيَتْ سَمَاءً لِسُمُوِّهَا فَكُلُّ مَا سَمَاكَ فَهُوَ سَمَاءٌ فَإِذَا نَزَلَ مِنَ السَّحَابِ فَقَدْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُحَرِّكَ لِإِثَارَةِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الرَّطْبَةِ مِنْ عمق الأرض الأجزاء الرطبة أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ هُوَ الصِّدْقُ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ تَعَالَى يُنَزِّلُ الْمَطَرَ مِنَ السَّمَاءِ، فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَنْزِلُ مِنَ السَّحَابِ فَيَجِبُ أَنْ يُقَالَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى السَّحَابِ، وَمِنَ السَّحَابِ إِلَى الْأَرْضِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا مَعْنَى مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الثَّمَراتِ الْجَوَابُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّبْعِيضُ لِأَنَّ الْمُنَكَّرَيْنِ أَعْنِي مَاءً وَرِزْقًا يَكْتَنِفَانِهِ وَقَدْ قُصِدَ بِتَنْكِيرِهِمَا مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ بَعْضَ الْمَاءِ فَأَخْرَجْنَا بِهِ بَعْضَ الثَّمَرَاتِ لِيَكُونَ بَعْضَ رِزْقِكُمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِلْبَيَانِ كَقَوْلِكَ أَنْفَقْتُ مِنَ الدَّرَاهِمِ إِنْفَاقًا، فَإِنْ قِيلَ فَبِمَ انْتَصَبَ رِزْقًا؟ قُلْنَا إِنْ كَانَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ كَانَ انْتِصَابُهُ بِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ. وَإِنْ كَانَتْ مُبَيِّنَةً كَانَ مَفْعُولًا لأخرج. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: الثَّمَرُ الْمُخْرَجُ بِمَاءِ السَّمَاءِ كَثِيرٌ، فَلِمَ قِيلَ الثَّمَرَاتِ دُونَ الثَّمَرِ أَوِ الثِّمَارِ؟ الْجَوَابُ: تَنْبِيهًا عَلَى قِلَّةِ ثِمَارِ الدُّنْيَا وَإِشْعَارًا بِتَعْظِيمِ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَاللَّهِ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: بِمَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ: فَلا تَجْعَلُوا الْجَوَابُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْأَمْرِ، أَيِ اعْبُدُوا فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا فَإِنَّ أَصْلَ الْعِبَادَةِ وَأَسَاسَهَا التَّوْحِيدُ. وثانيها: بلعل، والمعنى خلقكم لكي تنقوا وَتَخَافُوا عِقَابَهُ فَلَا تُثْبِتُوا لَهُ نِدًّا فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ مُوجِبَاتِ الْعِقَابِ. وَثَالِثُهَا: بِقَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً أَيْ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ هَذِهِ الدَّلَائِلَ الْبَاهِرَةَ فَلَا تَتَّخِذُوا لَهُ شُرَكَاءَ السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا النِّدُّ؟ الْجَوَابُ: أَنَّهُ الْمِثْلُ الْمُنَازِعُ وَنَادَدْتُ الرَّجُلَ نَافَرْتُهُ مِنْ نَدَّ نُدُودًا إِذَا نَفَرَ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ النِّدَّيْنِ يُنَادُّ صَاحِبَهُ أَيْ يُنَافِرُهُ وَيُعَانِدُهُ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا إِنَّ الْأَصْنَامَ/ تُنَازِعُ اللَّهَ. قُلْنَا لَمَّا عَبَدُوهَا وَسَمَّوْهَا آلِهَةً أَشْبَهَتْ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا آلِهَةٌ قَادِرَةٌ عَلَى مُنَازَعَتِهِ فَقِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَكَمَا تَهَكَّمَ بِلَفْظِ النِّدِّ شَنَّعَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ جَعَلُوا أَنْدَادًا كَثِيرَةً لِمَنْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِدٌّ قَطُّ، وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْفَعِ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا مَعْنَى وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْجَوَابُ: مَعْنَاهُ إِنَّكُمْ لِكَمَالِ عُقُولِكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا يَصِحُّ جَعْلُهَا أَنْدَادًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا تَقُولُوا ذَلِكَ فَإِنَّ الْقَوْلَ الْقَبِيحَ مِمَّنْ علم قبحه يكون أقبح وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ أَحَدٌ يُثْبِتُ لِلَّهِ شَرِيكًا يُسَاوِيهِ فِي الْوُجُودِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ يُوجَدْ إِلَى الْآنِ لَكِنَّ الثَّنَوِيَّةَ يُثْبِتُونَ إِلَهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَلِيمٌ يَفْعَلُ الْخَيْرَ وَالثَّانِي: سَفِيهٌ يَفْعَلُ الشَّرَّ، وَأَمَّا اتِّخَاذُ مَعْبُودٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَفِي الذَّاهِبِينَ إِلَى ذَلِكَ كَثْرَةٌ، الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ: عَبْدَةُ الْكَوَاكِبِ وَهُمُ الصَّابِئَةُ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ، وَهَذِهِ الْكَوَاكِبُ هِيَ الْمُدَبِّرَاتُ لِهَذَا الْعَالَمِ، قَالُوا فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْبُدَ الْكَوَاكِبَ، وَالْكَوَاكِبُ تَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى. وَالْفَرِيقُ الثَّانِي: النَّصَارَى الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْفَرِيقُ الثَّالِثُ: عَبْدَةُ الْأَوْثَانِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا دِينَ أَقْدَمَ مِنْ دِينِ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَقْدَمَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ نُقِلَ إِلَيْنَا تَارِيخُهُمْ هُوَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ إِنَّمَا جَاءَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِهِ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نُوحٍ: 23] فَعَلِمْنَا أَنَّ

هَذِهِ الْمَقَالَةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى الْآنِ بَلْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعَالَمِ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ. وَالدِّينُ وَالْمَذْهَبُ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يُعْرَفُ فَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ لَكِنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ هَذَا الْحَجَرَ الْمَنْحُوتَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي خَلَقَنِي وَخَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ فَيَسْتَحِيلُ إِطْبَاقُ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ غَرَضٌ آخَرُ سِوَى ذَلِكَ وَالْعُلَمَاءُ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: مَا ذَكَرَهُ أَبُو مَعْشَرٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُنَجِّمُ الْبَلْخِيُّ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الصِّينِ وَالْهِنْدِ كَانُوا يَقُولُونَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جِسْمٌ وَذُو صُورَةٍ كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ الصُّوَرِ، وَهَكَذَا حَالُ الْمَلَائِكَةِ أَيْضًا فِي صُوَرِهِمُ الْحَسَنَةِ: وَأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ قَدِ احْتَجَبُوا عَنَّا بِالسَّمَاءِ وَأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَصُوغُوا تَمَاثِيلَ أَنِيقَةَ الْمَنْظَرِ حَسَنَةَ الرُّوَاءِ عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْتَقِدُونَهَا مِنْ صُوَرِ الْإِلَهِ وَالْمَلَائِكَةِ، فَيَعْكُفُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا قَاصِدِينَ طَلَبَ الزُّلْفَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ فَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرَهُ أَبُو مَعْشَرٍ فَالسَّبَبُ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ اعْتِقَادُ الشَّبَهِ. وَثَانِيهَا: مَا ذَكَرَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ رَأَوْا تَغَيُّرَاتِ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ مَرْبُوطَةً بِتَغَيُّرَاتِ أَحْوَالِ الْكَوَاكِبِ فَإِنَّ بِحَسَبِ قُرْبِ الشَّمْسِ وَبُعْدِهَا عَنْ سَمْتِ الرَّأْسِ تَحْدُثُ الْفُصُولُ الْمُخْتَلِفَةُ وَالْأَحْوَالُ الْمُتَبَايِنَةُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ رَصَدُوا أَحْوَالَ سَائِرِ الْكَوَاكِبِ فَاعْتَقَدُوا ارْتِبَاطَ السَّعَادَةِ وَالنُّحُوسَةِ فِي الدُّنْيَا بِكَيْفِيَّةِ وُقُوعِهَا فِي طَوَالِعِ النَّاسِ فَلَمَّا اعْتَقَدُوا ذَلِكَ بَالَغُوا فِي تَعْظِيمِهَا، فَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا أَشْيَاءٌ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا وَهِيَ الَّتِي خَلَقَتْ هَذِهِ الْعَوَالِمَ، وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلْإِلَهِ الْأَكْبَرِ لَكِنَّهَا خَالِقَةٌ لِهَذَا الْعَالَمِ، فَالْأَوَّلُونَ/ اعْتَقَدُوا أَنَّهَا هِيَ الْإِلَهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْفَرِيقُ الثَّانِي: أَنَّهَا هِيَ الْوَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْبَشَرِ، فَلَا جَرَمَ اشْتَغَلُوا بِعِبَادَتِهَا وَالْخُضُوعِ لَهَا، ثُمَّ لَمَّا رَأَوُا الْكَوَاكِبَ مُسْتَتِرَةً فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ عَنِ الْأَبْصَارِ اتَّخَذُوا لَهَا أَصْنَامًا وَأَقْبَلُوا عَلَى عِبَادَتِهَا قَاصِدِينَ بِتِلْكَ الْعِبَادَاتِ تِلْكَ الْأَجْرَامَ الْعَالِيَةَ، وَمُتَقَرِّبِينَ إِلَى أَشْبَاحِهَا الْغَائِبَةِ، ثُمَّ لَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ أَلْغَوْا ذِكْرَ الْكَوَاكِبِ وَتَجَرَّدُوا لِعِبَادَةِ تِلْكَ التَّمَاثِيلِ، فَهَؤُلَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ عَبَدَةُ الْكَوَاكِبِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَصْحَابَ الْأَحْكَامِ كَانُوا يُعَيِّنُونَ أَوْقَاتًا فِي السِّنِينَ الْمُتَطَاوِلَةِ نَحْوَ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ طَلْسَمًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي أَحْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ نَحْوَ السَّعَادَةِ وَالْخِصْبِ وَدَفْعِ الْآفَاتِ وَكَانُوا إِذَا اتَّخَذُوا ذَلِكَ الطَّلْسَمَ عَظَّمُوهُ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهِ فَلَمَّا بَالَغُوا فِي ذَلِكَ التَّعْظِيمِ صَارَ ذَلِكَ كَالْعِبَادَةِ وَلَمَّا طَالَتْ مُدَّةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ نَسَوْا مَبْدَأَ الْأَمْرِ وَاشْتَغَلُوا بِعِبَادَتِهَا عَلَى الْجَهَالَةِ بِأَصْلِ الْأَمْرِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ مَتَى مَاتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ كَبِيرٌ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ أَنَّهُ مُجَابُ الدَّعْوَةِ وَمَقْبُولُ الشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى اتَّخَذُوا صَنَمًا عَلَى صُورَتِهِ يَعْبُدُونَهُ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ يَكُونُ شَفِيعًا لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا أَخْبَرُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ فِي قَوْلِهِ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُسَ: 18] وَخَامِسُهَا: لَعَلَّهُمُ اتَّخَذُوهَا مَحَارِيبَ لِصَلَوَاتِهِمْ وَطَاعَاتِهِمْ وَيَسْجُدُونَ إِلَيْهَا لَا لَهَا كَمَا أَنَّا نَسْجُدُ إِلَى الْقِبْلَةِ لَا لِلْقِبْلَةِ وَلَمَّا اسْتَمَرَّتْ هَذِهِ الْحَالَةُ ظَنَّ الْجُهَّالُ مِنَ الْقَوْمِ أَنَّهُ يَجِبُ عِبَادَتُهَا. وَسَادِسُهَا: لَعَلَّهُمْ كَانُوا مِنَ الْمُجَسِّمَةِ فَاعْتَقَدُوا جَوَازَ حُلُولِ الرَّبِّ فِيهَا فَعَبَدُوهَا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، فَهَذِهِ هِيَ الْوُجُوهُ الَّتِي يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ عَلَيْهَا حَتَّى لَيَصِيرَ بِحَيْثُ يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا رَجَعَ حَاصِلُ مَذْهَبِ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ إِلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِ خَالِقِ الْعَالَمِ أَنْ لَا يَجُوزَ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ؟ الْجَوَابُ قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا نَبَّهَ عَلَى كون الأرض

وَالسَّمَاءِ مَخْلُوقَتَيْنِ بِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ يُشَارِكُونَ سَائِرَ الْأَجْسَامِ فِي الْجِسْمِيَّةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ اخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا اخْتَصَّ بِهِ مِنَ الْأَشْكَالِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَخْبَارِ بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وَبَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ الْمُخَصِّصَ لَوْ كَانَ جِسْمًا لَافْتَقَرَ هُوَ أَيْضًا إِلَى مُخَصِّصٍ آخَرَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ جِسْمًا، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِ الشَّبَهِ فَلَمَّا دَلَلْنَا بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ الْجِسْمِيَّةِ فَقَدْ بَطَلَ قَوْلُهُ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ هِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِهَذَا الْعَالَمِ فَلَمَّا أَقَمْنَا الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ كُلَّ جِسْمٍ يَفْتَقِرُ فِي اتِّصَافِهِ بِكُلِّ مَا اتَّصَفَ بِهِ إِلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ بَطَلَ كَوْنُهَا آلِهَةً، وَثَبَتَ أَنَّهَا عَبِيدٌ لَا أَرْبَابٌ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الطَّلْسَمَاتِ فَقَدْ بَطَلَ أَيْضًا لِأَنَّ تَأْثِيرَ الطَّلْسَمَاتِ إِنَّمَا يَكُونُ بِوَاسِطَةِ قُوَى الْكَوَاكِبِ، فَلَمَّا دَلَّلْنَا عَلَى حُدُوثِ الْكَوَاكِبِ ثَبَتَ قَوْلُنَا وَبَطَلَ قَوْلُهُمْ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ: فَلَيْسَ في العقل ما يوجه أَوْ يُحِيلُهُ، لَكِنَّ الشَّرْعَ لَمَّا مَنَعَ مِنْهُ وَجَبَ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ. وَأَمَّا الْقَوْلُ السَّادِسُ: فَهُوَ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى التَّشْبِيهِ فَثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ إِقَامَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى افْتِقَارِ/ الْعَالَمِ إِلَى الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ الْمُنَزَّهِ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ عَلَى كُلِّ التَّأْوِيلَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْيُونَانِيِّينَ كَانُوا قَبْلَ خُرُوجِ الْإِسْكَنْدَرِ عَمَدُوا إِلَى بِنَاءِ هَيَاكِلَ لَهُمْ مَعْرُوفَةٍ بِأَسْمَاءِ الْقُوَى الرُّوحَانِيَّةِ وَالْأَجْرَامِ النَّيِّرَةِ وَاتَّخَذُوهَا مَعْبُودًا لَهُمْ عَلَى حِدَةٍ، وَقَدْ كَانَ هَيْكَلُ الْعِلَّةِ الْأُولَى- وَهِيَ عِنْدُهُمُ الْأَمْرُ الْإِلَهِيُّ- وَهَيْكَلُ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ، وَهَيْكَلُ السِّيَاسَةِ الْمُطْلَقَةِ. وَهَيْكَلُ النَّفْسِ وَالصُّورَةِ مُدَوَّرَاتٍ كُلَّهَا، وَكَانَ هَيْكَلُ زُحَلَ مُسَدَّسًا. وَهَيْكَلُ الْمُشْتَرِي مُثَلَّثًا. وَهَيْكَلُ الْمِرِّيخِ مُسْتَطِيلًا، وَهَيْكَلُ الشَّمْسِ مُرَبَّعًا، وَكَانَ هَيْكَلُ الزُّهْرَةِ مُثَلَّثًا فِي جَوْفِهِ مُرَبَّعٌ وَهَيْكَلُ عُطَارِدَ مُثَلَّثًا فِي جَوْفِهِ مُسْتَطِيلٌ، وَهَيْكَلُ الْقَمَرِ مُثَمَّنًا فَزَعَمَ أَصْحَابُ التَّارِيخِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ لَمَّا سَادَ قَوْمَهُ وَتَرَأَّسَ عَلَى طَبَقَاتِهِمْ وَوَلِيَ أَمْرَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ اتَّفَقَتْ لَهُ سَفْرَةٌ إِلَى الْبَلْقَاءِ فَرَأَى قَوْمًا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ فَسَأَلَهُمْ عَنْهَا فَقَالُوا هَذِهِ أَرْبَابٌ نَسْتَنْصِرُ بِهَا فَنُنْصَرُ، وَنَسْتَسْقِي بِهَا فَنُسْقَى. فَالْتَمَسَ إِلَيْهِمْ أَنْ يُكْرِمُوهُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا فَأَعْطَوْهُ الصَّنَمَ الْمَعْرُوفَ بِهُبَلَ فَسَارَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ وَوَضَعَهُ فِي الْكَعْبَةِ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى تَعْظِيمِهِ، وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ مُلْكِ سَابُورَ ذِي الْأَكْتَافِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ بُيُوتِ الْأَصْنَامِ الْمَشْهُورَةِ «غَمْدَانَ» الَّذِي بناء الضَّحَّاكُ عَلَى اسْمِ الزُّهْرَةِ بِمَدِينَةِ صَنْعَاءَ وَخَرَّبَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَمِنْهَا «نُوبَهَارُ بَلْخَ» الَّذِي بَنَاهُ مُنُوشَهَرْ الْمَلِكُ عَلَى اسْمِ الْقَمَرِ ثُمَّ كَانَ لِقَبَائِلِ الْعَرَبِ أَوْثَانٌ مَعْرُوفَةٌ مِثْلَ «وُدٍّ» بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ لِكَلْبٍ وَ «سُوَاعٍ» لِبَنِي هُذَيْلٍ وَ «يَغُوثَ» لِبَنِي مَذْحِجٍ وَ «يَعُوقَ» لِهَمْدَانَ وَ «نَسْرٍ» بِأَرْضِ حِمْيَرٍ لِذِي الْكُلَاعِ وَ «اللَّاتِ» بِالطَّائِفِ لِثَقِيفٍ وَ «مَنَاةَ» بِيَثْرِبَ لِلْخَزْرَجِ وَ «الْعُزَّى» لِكِنَانَةَ بنواحي مكة و «أساف» و «نائلة» عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَكَانَ قُصَيٌّ جَدُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَتِهَا وَيَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: أَرَبًّا وَاحِدًا أَمْ أَلْفَ رَبٍّ ... أَدِينُ إِذَا تَقَسَّمَتِ الْأُمُورُ تَرَكْتُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى جَمِيعًا ... كذلك يفعل الرجل البصير

[سورة البقرة (2) : الآيات 23 إلى 24]

[سورة البقرة (2) : الآيات 23 الى 24] وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) الْكَلَامُ فِي النبوة / في الآية [23] مسائل: المسألة الأولى: [في فساد قول التعليمية والحشوية] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَقَامَ الدَّلَائِلَ الْقَاهِرَةَ عَلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَأَبْطَلَ الْقَوْلَ بِالشَّرِيكِ عَقَّبَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ التَّعْلِيمِيَّةِ الَّذِينَ جَعَلُوا مَعْرِفَةَ اللَّهِ مُسْتَفَادَةً مِنْ مَعْرِفَةِ الرَّسُولِ، وَقَوْلِ الْحَشَوِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تَحْصُلُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ إِلَّا مِنَ الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ، وَلَمَّا كَانَتْ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْنِيَّةً عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى كَوْنِهِ مُعْجِزًا. وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَهُ مُعْجِزًا يُمْكِنُ بَيَانُهُ مِنْ طريقين: الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِسَائِرِ كَلَامِ الْفُصَحَاءِ، أَوْ زَائِدًا عَلَى سَائِرِ كَلَامِ الْفُصَحَاءِ بِقَدْرٍ لَا يَنْقُضُ الْعَادَةَ أَوْ زَائِدًا عَلَيْهِ بِقَدْرٍ يَنْقُضُ، وَالْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ بَاطِلَانِ فَتَعَيَّنَ الثَّالِثُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُمَا بَاطِلَانِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْهُ إِمَّا مُجْتَمِعِينَ أَوْ مُنْفَرِدِينَ، فَإِنْ وَقَعَ التَّنَازُعُ وَحَصَلَ الْخَوْفُ مِنْ عَدَمِ الْقَبُولِ فَالشُّهُودُ وَالْحُكَّامِ يُزِيلُونَ الشُّبْهَةَ، وَذَلِكَ نِهَايَةٌ فِي الِاحْتِجَاجِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى قَوَانِينِ الْفَصَاحَةِ فِي الْغَايَةِ. وَكَانُوا فِي مَحَبَّةِ إِبْطَالِ أَمْرِهِ فِي الْغَايَةِ حَتَّى بَذَلُوا النُّفُوسَ وَالْأَمْوَالَ وَارْتَكَبُوا ضُرُوبَ الْمَهَالِكِ وَالْمِحَنِ، وَكَانُوا فِي الْحَمِيَّةِ وَالْأَنَفَةِ عَلَى حَدٍّ لَا يَقْبَلُونَ الْحَقَّ فَكَيْفَ الْبَاطِلُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْإِتْيَانَ بِمَا يَقْدَحُ فِي قَوْلِهِ وَالْمُعَارَضَةُ أَقْوَى الْقَوَادِحِ، فَلَمَّا لَمْ يَأْتُوا بِهَا عَلِمْنَا عَجْزَهُمْ عَنْهَا فَثَبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُمَاثِلُ قَوْلَهُمْ، وَأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَلَامِهِمْ لَيْسَ تَفَاوُتًا مُعْتَادًا فَهُوَ إِذَنْ تَفَاوُتٌ نَاقِضٌ لِلْعَادَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْجِزًا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ تَقْرِيرِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ فَظَهَرَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ كَمَا لَمْ يَكْتَفِ فِي مَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ بِالتَّقْلِيدِ فَكَذَا فِي مَعْرِفَةِ النُّبُوَّةِ لَمْ يَكْتَفِ بِالتَّقْلِيدِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ فِي الْقُرْآنِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ تَقْتَضِي نُقْصَانَ فَصَاحَتِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ فِي الْفَصَاحَةِ بَلَغَ النِّهَايَةَ الَّتِي لَا غَايَةَ لَهَا وَرَاءَهَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ مُعْجِزًا، أَحَدُهَا: أَنَّ فَصَاحَةَ الْعَرَبِ أَكْثَرُهَا فِي وَصْفِ مُشَاهَدَاتٍ مِثْلَ وَصْفِ بِعِيرٍ أَوْ فَرَسٍ أَوْ جَارِيَةٍ أَوْ مَلِكٍ أَوْ ضَرْبَةٍ أَوْ طَعْنَةٍ أَوْ وَصْفِ حَرْبٍ أَوْ وَصْفِ غَارَةٍ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ شَيْءٌ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا تَحْصُلَ فِيهِ الْأَلْفَاظُ الْفَصِيحَةُ الَّتِي اتَّفَقَتِ الْعَرَبُ عَلَيْهَا فِي كَلَامِهِمْ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى رَاعَى فِيهِ طَرِيقَةَ الصِّدْقِ وَتَنَزَّهَ عَنِ الْكَذِبِ فِي جَمِيعِهِ وَكُلُّ شَاعِرٍ تَرَكَ الْكَذِبَ وَالْتَزَمَ الصِّدْقَ نَزَلَ شِعْرُهُ وَلَمْ يَكُنْ جَيِّدًا أَلَا تَرَى أَنَّ لَبِيدَ بْنَ رَبِيعَةَ وَحَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ لَمَّا أَسْلَمَا نَزَلَ شِعْرُهُمَا. وَلَمْ يَكُنْ شِعْرُهُمَا الْإِسْلَامِيُّ فِي الْجَوْدَةِ كَشِعْرِهِمَا الْجَاهِلِيِّ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَعَ مَا تَنَزَّهَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمُجَازَفَةِ جَاءَ بِالْقُرْآنِ فَصِيحًا كَمَا تَرَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْكَلَامَ الْفَصِيحَ وَالشِّعْرَ الْفَصِيحَ إِنَّمَا يَتَّفِقُ فِي الْقَصِيدَةِ فِي الْبَيْتِ وَالْبَيْتَيْنِ وَالْبَاقِي لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ كُلَّهُ فَصِيحٌ بِحَيْثُ يَعْجَزُ الْخَلْقُ عَنْهُ كَمَا عَجَزُوا عَنْ جُمْلَتِهِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ شِعْرًا فَصِيحًا فِي وَصْفِ شَيْءٍ فَإِنَّهُ إِذَا كَرَّرَهُ لَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ الثَّانِي فِي وَصْفِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِهِ الْأَوَّلِ. وَفِي الْقُرْآنِ التَّكْرَارُ الْكَثِيرُ/ وَمَعَ ذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي نِهَايَةِ الفصاحة ولم يظهر التفاوت أصلًا. وخامساً: أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى إِيجَابِ الْعِبَادَاتِ وَتَحْرِيمِ

الْقَبَائِحِ وَالْحَثِّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَتَرْكِ الدُّنْيَا وَاخْتِيَارِ الْآخِرَةِ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ تُوجِبُ تَقْلِيلَ الْفَصَاحَةِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ شِعْرَ امْرِئِ الْقَيْسِ يَحْسُنُ عِنْدَ الطَّرَبِ وَذِكْرِ النِّسَاءِ وَصِفَةِ الْخَيْلِ. وَشِعْرَ النَّابِغَةِ عِنْدَ الْخَوْفِ، وَشِعْرَ الْأَعْشَى عِنْدَ الطَّلَبِ وَوَصْفِ الْخَمْرِ، وَشِعْرَ زُهَيْرٍ عِنْدَ الرَّغْبَةِ وَالرَّجَاءِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ شَاعِرٍ يَحْسُنُ كَلَامُهُ فِي فَنٍّ فَإِنَّهُ يَضْعُفُ كَلَامُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْفَنِّ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ جَاءَ فَصِيحًا فِي كُلِّ الْفُنُونِ عَلَى غَايَةِ الْفَصَاحَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ فِي التَّرْغِيبِ: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السَّجْدَةِ: 17] وَقَالَ تَعَالَى: وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزُّخْرُفِ: 71] وَقَالَ فِي التَّرْهِيبِ: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ الْآيَاتِ [الْإِسْرَاءِ: 68] وَقَالَ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ. أَمْ أَمِنْتُمْ [الملك: 16، 17] الآية وَقَالَ: وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [إِبْرَاهِيمَ: 15] إِلَى قَوْلِهِ: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ [إِبْرَاهِيمَ: 17] وَقَالَ فِي الزَّجْرِ مَا لَا يَبْلُغُهُ وَهْمُ البشر وهو قوله: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا [الْعَنْكَبُوتِ: 40] وَقَالَ فِي الْوَعْظِ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ [الشُّعَرَاءِ: 205] وَقَالَ فِي الْإِلَهِيَّاتِ: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ [الرعد: 8] إلى آخره. وَسَابِعُهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ أَصْلُ الْعُلُومِ كُلِّهَا فَعِلْمُ الْكَلَامِ كُلُّهُ فِي الْقُرْآنِ، وَعِلْمُ الْفِقْهِ كُلُّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَكَذَا عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَعِلْمُ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ، وَعِلْمُ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَأَخْبَارُ الْآخِرَةِ، وَاسْتِعْمَالُ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ «كِتَابِنَا فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» عَلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ بَلَغَ فِي جَمِيعِ وُجُوهِ الْفَصَاحَةِ إِلَى النِّهَايَةِ الْقُصْوَى، الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: الْقُرْآنُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ بَالِغًا فِي الْفَصَاحَةِ إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ثَبَتَ أَنَّهُ مُعْجِزٌ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَانَتِ الْمُعَارَضَةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مُمْكِنَةً فَعَدَمُ إِتْيَانِهِمْ بِالْمُعَارَضَةِ مَعَ كَوْنِ الْمُعَارَضَةِ مُمْكِنَةً وَمَعَ تَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ على الإتيان بها أمر خارق العادة فَكَانَ ذَلِكَ مُعْجِزًا فَثَبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَهَذَا الطَّرِيقُ عِنْدَنَا أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قَالَ: نَزَّلْنا عَلَى لَفْظِ التَّنْزِيلِ دُونَ الْإِنْزَالِ لِأَنَّ الْمُرَادَ النُّزُولُ عَلَى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ، وَذِكْرُ هَذَا اللَّفْظِ هُوَ اللَّائِقُ بِهَذَا الْمَكَانِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمُخَالِفًا لِمَا يَكُونُ مِنْ عِنْدِ النَّاسِ لَمْ يَنْزِلْ هَكَذَا نُجُومًا سُورَةً بَعْدَ سُورَةٍ عَلَى حَسَبِ النَّوَازِلِ وَوُقُوعِ الْحَوَادِثِ وَعَلَى سَنَنِ مَا نَرَى عَلَيْهِ أَهْلَ الْخَطَابَةِ وَالشِّعْرِ مِنْ وُجُودِ مَا يُوجَدُ مِنْهُمْ مُفَرَّقًا حِينًا فَحِينًا بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُتَجَدِّدَةِ وَالْحَاجَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فَإِنَّ الشَّاعِرَ لَا يُظْهِرُ دِيوَانَ شِعْرِهِ دُفْعَةً وَالْمُتَرَسِّلَ لَا يُظْهِرُ دِيوَانَ رَسَائِلِهِ وَخُطَبِهِ دُفْعَةً فَلَوْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَأَنْزَلَهُ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْعَادَةِ جُمْلَةً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفُرْقَانِ: 32] وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى ذكر هاهنا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ مَعَ مَا يُزِيلُ هَذِهِ الشُّبْهَةَ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ النَّازِلَ عَلَى هَذَا التَّدْرِيجِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِ الْبَشَرِ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ/ الْأَوَّلُ وَجَبَ إِتْيَانُهُمْ بِمِثْلِهِ أَوْ بِمَا يَقْرُبُ مِنْهُ عَلَى التَّدْرِيجِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي ثَبَتَ أَنَّهُ مَعَ نُزُولِهِ عَلَى التَّدْرِيجِ مُعْجِزٌ وَقُرِئَ «عَلَى عِبَادِنَا» يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: السُّورَةُ هِيَ طَائِفَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَوَاوُهَا إِنْ كَانَتْ أَصْلًا فَإِمَّا أَنْ تُسَمَّى بِسُورِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ حَائِطُهَا لِأَنَّهَا طَائِفَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ مَحْدُودَةٌ كَالْبَلَدِ الْمُسَوَّرِ أَوْ لِأَنَّهَا مُحْتَوِيَةٌ عَلَى فُنُونٍ مِنَ الْعِلْمِ كَاحْتِوَاءِ سُورِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَا فِيهَا، وَإِمَّا أَنْ تُسَمَّى بِالسُّورَةِ الَّتِي هِيَ الرُّتْبَةُ لِأَنَّ السُّورَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَنَازِلِ وَالْمَرَاتِبِ يَتَرَقَّى فِيهَا الْقَارِئُ وَهِيَ أَيْضًا فِي أَنْفُسِهَا طُوَالٌ وَأَوْسَاطٌ وَقِصَارٌ. أَوْ لِرِفْعَةِ شَأْنِهَا وَجَلَالَةِ مَحَلِّهَا فِي الدِّينِ، وَإِنْ جَعَلْتَ وَاوَهَا مُنْقَلِبَةً

عَنْ هَمْزَةٍ فَلِأَنَّهَا قِطْعَةٌ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَالسُّورَةِ الَّتِي هِيَ الْبَقِيَّةُ مِنَ الشَّيْءِ وَالْفَضْلَةُ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ فَمَا فَائِدَةُ تَقْطِيعِ الْقُرْآنِ سُوَرًا قُلْنَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا لِأَجْلِهِ بَوَّبَ الْمُصَنِّفُونَ كُتُبَهُمْ أَبْوَابًا وَفُصُولًا. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْجِنْسَ إِذَا حَصَلَ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ كَانَ إِفْرَادُ كُلِّ نَوْعٍ عَنْ صَاحِبِهِ أَحْسَنَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقَارِئَ إِذَا خَتَمَ سُورَةً أَوْ بَابًا مِنَ الْكِتَابِ ثُمَّ أَخَذَ فِي آخَرَ كَانَ أَنْشَطَ لَهُ وَأَثْبَتَ عَلَى التَّحْصِيلِ مِنْهُ لَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْكِتَابِ بِطُولِهِ، وَمِثْلُهُ الْمُسَافِرُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَطَعَ مِيلًا أَوْ طَوَى فَرْسَخًا نَفَّسَ ذَلِكَ عَنْهُ وَنَشَّطَهُ لِلسَّيْرِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْحَافِظَ إِذَا حَفِظَ السُّورَةَ اعْتَقَدَ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ طَائِفَةً مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا فَيُجِلُّ فِي نَفْسِهِ ذَلِكَ وَيَغْتَبِطُ بِهِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ بِسُورَةٍ تَامَّةٍ أَفْضَلَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ سُوَرًا هُوَ عَلَى حَدِّ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِخِلَافِ قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: إِنَّهُ نُظِمَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ فَلِذَلِكَ صَحَّ التَّحَدِّي مَرَّةً بِسُورَةٍ وَمَرَّةً بِكُلِّ الْقُرْآنِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّحَدِّيَ بِالْقُرْآنِ جَاءَ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى [الْقَصَصِ: 49] . وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الْإِسْرَاءِ: 88] . وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [هُودٍ: 13] وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَنَظِيرُ هَذَا كَمَنَ يَتَحَدَّى صَاحِبَهُ بِتَصْنِيفِهِ فَيَقُولُ ائْتِنِي بِمِثْلِهِ، ائْتِنِي بِنِصْفِهِ، ائْتِنِي بِرُبْعِهِ، ائْتِنِي بِمَسْأَلَةٍ مِنْهُ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي التَّحَدِّي وَإِزَالَةِ الْعُذْرِ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يَتَنَاوَلُ سُورَةَ الْكَوْثَرِ، وَسُورَةَ الْعَصْرِ وَسُورَةَ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ أَوْ بِمَا يَقْرُبُ مِنْهُ مُمْكِنٌ فَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ الْإِتْيَانَ بِأَمْثَالِ هَذِهِ السُّوَرِ خَارِجٌ عَنْ مَقْدُورِ الْبَشَرِ كَانَ ذَلِكَ مُكَابَرَةً وَالْإِقْدَامُ عَلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْمُكَابِرَاتِ مِمَّا يَطْرُقُ التُّهْمَةَ إِلَى الدِّينِ، قُلْنَا فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَرْنَا الطَّرِيقَ الثَّانِيَ، وَقُلْنَا إِنْ بَلَغَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي الْفَصَاحَةِ إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ امْتِنَاعُهُمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ مَعَ شِدَّةِ دَوَاعِيهِمْ إِلَى تَوْهِينِ أَمْرِهِ مُعْجِزًا. فَعَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ يَحْصُلُ الْمُعْجِزُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ مِثْلِهِ إِلَى مَاذَا يَعُودُ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى «مَا» فِي قَوْلِهِ: مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا أَيْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِمَّا هُوَ عَلَى صِفَتِهِ فِي الْفَصَاحَةِ وَحُسْنِ النَّظْمِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى «عَبْدِنَا» أَيْ فَأْتُوا مِمَّنْ هُوَ عَلَى حَالِهِ مِنْ كَوْنِهِ بَشَرًا أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأِ الْكُتُبَ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَوَّلُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَأَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ، وَيَدُلُّ عَلَى التَّرْجِيحِ لَهُ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ مُطَابِقٌ لِسَائِرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي بَابِ التَّحَدِّي لَا سِيَّمَا مَا ذَكَرَهُ فِي يُونُسَ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يُونُسَ: 38] . وَثَانِيهَا: أَنَّ الْبَحْثَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي الْمُنَزَّلِ لِأَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا فَوَجَبَ صَرْفُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى وَإِنِ ارْتَبْتُمْ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهَاتُوا شَيْئًا مِمَّا يُمَاثِلُهُ وَقَضِيَّةُ التَّرْتِيبِ لَوْ كَانَ الضَّمِيرُ مَرْدُودًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقال: وإن ارتبتم في أن محمد مُنَزَّلٌ عَلَيْهِ فَهَاتُوا قُرْآنًا مِنْ مِثْلِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الضَّمِيرَ لَوْ كَانَ عَائِدًا إِلَى الْقُرْآنِ لَاقْتَضَى كَوْنَهُمْ عَاجِزِينَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ سَوَاءً اجْتَمَعُوا أَوِ انْفَرَدُوا وَسَوَاءً كَانُوا أُمِّيِّينَ أَوْ كَانُوا عَالِمِينَ مُحَصِّلِينَ، أَمَّا لَوْ كَانَ عَائِدًا إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي إِلَّا كَوْنَ أَحَدِهِمْ مِنَ الْأُمِّيِّينَ عَاجِزِينَ عَنْهُ لِأَنَّهُ

لَا يَكُونُ مِثْلُ مُحَمَّدٍ إِلَّا الشَّخْصَ الْوَاحِدَ الْأُمِّيَّ فَأَمَّا لَوِ اجْتَمَعُوا وَكَانُوا قَارِئِينَ لَمْ يَكُونُوا مِثْلَ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ لَا تُمَاثِلُ الْوَاحِدَ، وَالْقَارِئُ لَا يَكُونُ مِثْلَ الْأُمِّيِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِعْجَازَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَقْوَى. وَرَابِعُهَا: أَنَّا لَوْ صَرَفْنَا الضَّمِيرَ إِلَى الْقُرْآنِ فَكَوْنُهُ مُعْجِزًا إِنَّمَا يَحْصُلُ لِكَمَالِ حَالِهِ فِي الْفَصَاحَةِ أَمَّا لَوْ صَرَفْنَاهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَوْنُهُ مُعْجِزًا إِنَّمَا يَكْمُلُ بِتَقْرِيرِ كَمَالِ حَالِهِ فِي كَوْنِهِ أُمِّيًّا بَعِيدًا عَنِ الْعِلْمِ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُعْجِزًا أَيْضًا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَقْرِيرِ نَوْعٍ مِنَ النُّقْصَانِ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى. وَخَامِسُهَا: أَنَّا لَوْ صَرَفْنَا الضَّمِيرَ إِلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لكان ذلك يوهم أن صدور مثله الْقُرْآنِ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَ مُحَمَّدٍ فِي كَوْنِهِ أُمِّيًّا مُمْكِنٌ. وَلَوْ صَرَفْنَاهُ إِلَى الْقُرْآنِ لدل ذلك على أن صدور مثل مِنَ الْأُمِّيِّ وَغَيْرِ الْأُمِّيِّ مُمْتَنِعٌ فَكَانَ هَذَا أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي الْمُرَادِ مِنَ الشُّهَدَاءِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مَنِ ادَّعَوْا فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ وَهِيَ الْأَوْثَانُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ مِنْ أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ لِمَا أَنَّهَا تَنْفَعُ وَتَضُرُّ فَقَدْ دُفِعْتُمْ فِي مُنَازَعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى فَاقَةٍ شَدِيدَةٍ وَحَاجَةٍ عَظِيمَةٍ فِي التَّخَلُّصِ عَنْهَا فَتَعَجَّلُوا الِاسْتِعَانَةَ بِهَا وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُبْطِلُونَ فِي ادِّعَاءِ كَوْنِهَا آلِهَةً وَأَنَّهَا تَنْفَعُ وَتَضُرُّ، فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ مُحَاجَّةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي إِبْطَالِ كَوْنِهَا آلِهَةً. وَالثَّانِي: فِي إِبْطَالِ مَا أَنْكَرُوهُ مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مِنْ قِبَلِهِ. الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَكَابِرُهُمْ أَوْ مَنْ يُوَافِقُهُمْ فِي إِنْكَارِ أَمْرِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَعْنَى وَادْعُوا أَكَابِرَكُمْ وَرُؤَسَاءَكُمْ لِيُعِينُوكُمْ عَلَى الْمُعَارَضَةِ وَلِيَحْكُمُوا لَكُمْ وَعَلَيْكُمْ فِيمَا يُمْكِنُ وَيَتَعَذَّرُ. فَإِنْ قِيلَ هَلْ يُمْكِنُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِمَا مَعًا وَبِتَقْدِيرِ التَّعَذُّرِ فَأَيُّهُمَا أَوْلَى؟ قُلْنَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَمُمْكِنٌ لِأَنَّ الشُّهَدَاءَ جَمْعُ شَهِيدٍ بِمَعْنَى الْحَاضِرِ أَوِ الْقَائِمِ بِالشَّهَادَةِ فَيُمْكِنُ جَعْلُهُ مَجَازًا عَنِ/ الْمُعِينِ وَالنَّاصِرِ، وَأَوْثَانُهُمْ وَأَكَابِرُهُمْ مُشْتَرِكَةٌ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِيهِمْ كَوْنَهُمْ أَنْصَارًا لَهُمْ وَأَعْوَانًا، وَإِذَا حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى هَذَا الْمَفْهُومِ الْمُشْتَرَكِ دَخَلَ الْكُلُّ فِيهِ وَأَمَّا الثَّانِي فَنَقُولُ: الْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْأَكَابِرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ الشُّهَدَاءِ لَا يُطْلَقُ ظَاهِرًا إِلَّا عَلَى مَنْ يَصِحُّ أَنْ يُشَاهِدَ وَيَشْهَدَ فَيَتَحَمَّلُ بِالْمُشَاهَدَةِ وَيُؤَدِّي الشَّهَادَةَ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا فِي حَقِّ رُؤَسَائِهِمْ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْأَوْثَانِ لَزِمَ الْمَجَازُ، فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الشُّهَدَاءِ عَلَى الْأَوْثَانِ أَوْ يُقَالُ: الْمُرَادُ وَادْعُوا مَنْ تَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ شهداؤكم، والإضمار خلاف الأصل، أما إذا حملناه عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ صَحَّ الْكَلَامُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَادْعُوا مَنْ يَشْهَدُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ لِاتِّفَاقِكُمْ عَلَى هَذَا الْإِنْكَارِ. فَإِنَّ الْمُتَّفِقِينَ عَلَى الْمَذْهَبِ يَشْهَدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لِمَكَانِ الْمُوَافَقَةِ فَصَحَّتِ الْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ شُهَدَاءَكُمْ، وَلِأَنَّهُ كَانَ فِي الْعَرَبِ أَكَابِرُ يَشْهَدُونَ عَلَى الْمُتَنَازِعِينَ فِي الْفَصَاحَةِ بِأَنَّ أَيَّهُمَا أَعْلَى دَرَجَةً مِنَ الْآخَرِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ حَمْلَ الْكَلَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: أَمَّا (دُونَ) فَهُوَ أَدْنَى مَكَانٍ مِنَ الشَّيْءِ وَمِنْهُ الشَّيْءُ الدُّونُ، وَهُوَ الْحَقِيرُ الدَّنِيُّ، وَدَوَّنَ الْكُتُبَ إِذَا جَمَعَهَا لِأَنَّ جَمْعَ الشَّيْءِ أَدْنَاهُ بَعْضَهُ مِنْ بَعْضٍ وَيُقَالُ: هَذَا دُونَ ذَاكَ إِذَا كَانَ أَحَطَّ مِنْهُ قَلِيلًا، وَدُونَكَ هَذَا، أَصْلُهُ خُذْهُ مِنْ دُونِكَ أَيْ مِنْ أَدْنَى مَكَانٍ مِنْكَ فَاخْتُصِرَ ثُمَّ اسْتُعِيرَ هَذَا اللَّفْظُ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْأَحْوَالِ، فَقِيلَ زَيْدٌ دُونَ عَمْرٍو فِي الشَّرَفِ وَالْعِلْمِ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ فَاسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مَا يُجَاوِزُ حَدًّا إِلَى حَدٍّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 28] أَيْ لَا يَتَجَاوَزُونَ وِلَايَةَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى وِلَايَةِ الْكَافِرِينَ فَإِنْ قِيلَ فَمَا مُتَعَلِّقُ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْنَا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُتَعَلِّقَهُ «شُهَدَاءَكُمْ» وَهَذَا فِيهِ احْتِمَالَانِ: الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى ادْعُوا الَّذِينَ اتَّخَذْتُمُوهُمْ آلِهَةً مَنْ دُونِ اللَّهِ وَزَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّكُمْ

عَلَى الْحَقِّ، وَفِي أَمْرِهِمْ أَنْ يَسْتَظْهِرُوا بِالْجَمَادِ الَّذِي لَا يَنْطِقُ فِي مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ بِفَصَاحَتِهِ غَايَةُ التَّهَكُّمِ بِهِمْ، وَالثَّانِي: ادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ مِنْ دُونِ أَوْلِيَائِهِ وَمِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَشْهَدُوا لَكُمْ أَنَّكُمْ أَتَيْتُمْ بِمِثْلِهِ، وَهَذَا مِنَ الْمُسَاهَلَةِ وَالْإِشْعَارِ بِأَنَّ شُهَدَاءَهُمْ وَهُمْ فُرْسَانُ الْفَصَاحَةِ تَأْبَى عَلَيْهِمُ الطَّبَائِعُ السَّلِيمَةُ أَنْ يَرْضَوْا لِأَنْفُسِهِمْ بِالشَّهَادَةِ الْكَاذِبَةِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ مُتَعَلِّقَهُ هُوَ الدُّعَاءُ، وَالْمَعْنَى ادْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُهَدَاءَكُمْ، يَعْنِي لَا تَسْتَشْهِدُوا بِاللَّهِ وَلَا تَقُولُوا اللَّهُ يَشْهَدُ أَنَّ مَا نَدَّعِيهِ حَقٌّ، كَمَا يَقُولُ الْعَاجِزُ عَنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ، وَادْعُوا الشُّهَدَاءَ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ شَهَادَتُهُمْ بَيِّنَةٌ تُصَحَّحُ بِهَا الدَّعَاوَى عِنْدَ الْحُكَّامِ، وَهَذَا تَعْجِيزٌ لَهُمْ وَبَيَانٌ لِانْقِطَاعِهِمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مُتَشَبَّثٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّا لَصَادِقُونَ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ الْقَاضِي هَذَا التَّحَدِّي يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالْجَبْرِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَعَذُّرِ مِثْلِهِ مِمَّنْ يَصِحُّ الْفِعْلُ مِنْهُ، فَمَنْ يَنْفِي كَوْنَ الْعَبْدِ فَاعِلًا لَمْ يُمْكِنْهُ إِثْبَاتُ التَّحَدِّي أَصْلًا وَفِي هَذَا إِبْطَالُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمُعْجِزِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ تَعَذُّرَهُ عَلَى قَوْلِهِمْ يَكُونُ لِفَقْدِ الْقُدْرَةِ/ الْمُوجِبَةِ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ مَا يَكُونُ مُعْجِزًا. وَمَا لَا يَكُونُ فَلَا يَصِحُّ مَعْنَى التَّحَدِّي عَلَى قَوْلِهِمْ وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَا يُضَافُ إِلَى الْعَبْدِ فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لَهُ فَتَحَدِّيهِ تَعَالَى لَهُمْ يَعُودُ فِي التَّحْقِيقِ إِلَى أَنَّهُ مُتَحَدٍّ لِنَفْسِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَثْبُتَ الْإِعْجَازُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمُعْجِزَ إِنَّمَا يَدُلُّ بِمَا فِيهِ مِنْ نَقْضِ الْعَادَةِ، فَإِذَا كَانَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْمُعْتَادَ أَيْضًا لَيْسَ بِفِعْلٍ لَمْ يَثْبُتْ هَذَا الْفَرْقُ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْمُعْجِزِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَجُّ بِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّهُ بِذَلِكَ تَصْدِيقًا لَهُ فِيمَا ادَّعَاهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي الْإِعْجَازِ. وَعَلَى قَوْلِهِمْ بِالْجَبْرِ لَا يَصِحُّ هَذَا الْفَرْقُ، لِأَنَّ الْمُعْتَادَ وَغَيْرَ الْمُعْتَادِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِ، وَالْجَوَابُ. أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ التَّحَدِّي إِمَّا أَنْ يَأْتِيَ الْخَصْمُ بِالْمُتَحَدَّى بِهِ قَصْدًا أَوْ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ اتِّفَاقًا، وَالثَّانِي بَاطِلٌ، لِأَنَّ الِاتِّفَاقِيَّاتِ لَا تَكُونُ فِي وُسْعِهِ، فَثَبَتَ الْأَوَّلُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ إِتْيَانَهُ بِالتَّحَدِّي مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ يَحْصُلَ فِي قَلْبِهِ قَصْدٌ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ الْقَصْدُ إِنْ كَانَ مِنْهُ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْجَبْرُ وَيَلْزَمُهُ كُلُّ مَا أَوْرَدَهُ عَلَيْنَا فَيَبْطُلُ كُلُّ مَا قَالَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْمُعْجِزِ مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّا نَعْلَمُ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا فِي غَايَةِ الْعَدَاوَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي غَايَةِ الْحِرْصِ عَلَى إِبْطَالِ أَمْرِهِ، لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْأَوْطَانِ وَالْعَشِيرَةِ وَبَذْلَ النُّفُوسِ وَالْمُهَجِ مِنْ أَقْوَى مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا انْضَافَ إِلَيْهِ مِثْلُ هَذَا التَّقْرِيعِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَلَوْ كَانَ فِي وُسْعِهِمْ وَإِمْكَانِهِمِ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ أَوْ بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْهُ لَأَتَوْا بِهِ، فَحَيْثُ مَا أَتَوْا بِهِ ظَهَرَ الْمُعْجِزُ. وَثَانِيهَا: وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَانَ مُتَّهَمًا عِنْدَهُمْ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالنُّبُوَّةِ فَقَدْ كَانَ مَعْلُومَ الْحَالِ فِي وُفُورِ الْعَقْلِ وَالْفَضْلِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْعَوَاقِبِ، فَلَوْ تَطَرَّقَتِ التُّهْمَةُ إِلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ النُّبُوَّةِ لَمَا اسْتَجَازَ أَنْ يَتَحَدَّاهُمْ وَيَبْلُغَ فِي التَّحَدِّي إِلَى نِهَايَتِهِ، بَلْ كَانَ يَكُونُ وَجِلًا خَائِفًا مِمَّا يَتَوَقَّعُهُ مِنْ فَضِيحَةٍ يَعُودُ وَبَالُهَا عَلَى جَمِيعِ أُمُورِهِ، حَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَوْلَا مَعْرِفَتُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنِ الْمُعَارَضَةِ لَمَا جَوَّزَ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى الْمُعَارَضَةِ بِأَبْلَغِ الطُّرُقِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَاطِعًا بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ لَمَا قَطَعَ فِي الْخَبَرِ بِأَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَاطِعًا بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ كَانَ يَجُوزُ خِلَافُهُ، وَبِتَقْدِيرِ وُقُوعِ خِلَافِهِ يَظْهَرُ كَذِبُهُ، فَالْمُبْطِلُ الْمُزَوِّرُ الْبَتَّةَ لَا يَقْطَعُ فِي الْكَلَامِ وَلَا يَجْزِمُ بِهِ، فَلَمَّا

جَزَمَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ قَاطِعًا فِي أَمْرِهِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ وُجِدَ مُخْبَرُ هَذَا الْخَبَرِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ لِأَنَّ مِنْ أَيَّامِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى عَصْرِنَا هَذَا لَمْ يَخْلُ وَقْتٌ مِنَ الْأَوْقَاتِ مِمَّنْ يُعَادِي الدِّينَ وَالْإِسْلَامَ وَتَشْتَدُّ دَوَاعِيهِ فِي الْوَقِيعَةِ فِيهِ. ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ هَذَا الْحِرْصِ الشَّدِيدِ لَمْ تُوجَدِ الْمُعَارَضَةُ قَطُّ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُعْجِزِ مِمَّا تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا هَذِهِ الْآيَةُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ/ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْجُهَّالِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ لَا يشتمل على الحجة والاستدلال، وهاهنا سُؤَالَاتٌ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: انْتِفَاءُ إِتْيَانِهِمْ بِالسُّورَةِ وَاجِبٌ، فَهَلَّا جِيءَ بِإِذَا الَّذِي لِلْوُجُوبِ دُونَ «إِنْ» الَّذِي لِلشَّكِّ الْجَوَابُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُسَاقَ الْقَوْلُ مَعَهُمْ عَلَى حَسَبِ حُسْبَانِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا بَعْدُ غَيْرَ جَازِمِينَ بِالْعَجْزِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ لِاتِّكَالِهِمْ عَلَى فَصَاحَتِهِمْ وَاقْتِدَارِهِمْ عَلَى الْكَلَامِ. الثَّانِي: أَنْ يَتَهَكَّمَ بِهِمْ كَمَا يَقُولُ الْمَوْصُوفُ بِالْقُوَّةِ الْوَاثِقُ مِنْ نَفْسِهِ بِالْغَلَبَةِ عَلَى مَنْ يُقَاوِمُهُ: إِنْ غَلَبْتُكَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَالِبُهُ تَهَكُّمًا بِهِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَمْ يَقُلْ فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِهِ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ هَذَا أَخْصَرُ مِنْ أَنْ يُقَالَ فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَلَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: وَلَنْ تَفْعَلُوا مَا مَحَلُّهَا؟ الْجَوَابُ لَا مَحَلَّ لَهَا لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا حَقِيقَةُ لَنْ فِي بَابِ النَّفْيِ؟ الْجَوَابُ: لَا وَلَنْ أُخْتَانَ فِي نَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ إِلَّا أَنَّ فِي «لَنْ» تَوْكِيدًا وَتَشْدِيدًا تَقُولُ لِصَاحِبِكَ: لَا أُقِيمُ غَدًا عِنْدَكَ، فَإِنْ أَنْكَرَ عَلَيْكَ قُلْتَ لَنْ أُقِيمَ غَدًا، ثُمَّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَصْلُهُ لَا أَنْ، وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ. وَثَانِيهَا: لَا، أُبْدِلَتْ أَلِفُهَا نُونًا، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَثَالِثُهَا: حَرْفُ نَصْبٍ لِتَأْكِيدِ نَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الْخَلِيلِ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: مَا مَعْنَى اشْتِرَاطِهِ فِي اتِّقَاءِ النَّارِ انْتِفَاءُ إِتْيَانِهِمْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ؟ الْجَوَابُ: إِذَا ظهر عجزهم عن المعارضة صح عندم صِدْقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ ثُمَّ لَزِمُوا الْعِنَادَ اسْتَوْجَبُوا الْعِقَابَ بِالنَّارِ، فَاتِّقَاءُ النَّارِ يُوجِبُ تَرْكَ الْعِنَادِ، فَأُقِيمَ الْمُؤَثِّرُ مَقَامَ الْأَثَرِ، وَجُعِلَ قَوْلُهُ: فَاتَّقُوا النَّارَ قَائِمًا مَقَامَ قَوْلِهِ فَاتْرُكُوا الْعِنَادَ، وَهَذَا هُوَ الْإِيجَازُ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَبْوَابِ الْبَلَاغَةِ وَفِيهِ تَهْوِيلٌ لِشَأْنِ الْعِنَادِ، لِإِنَابَةِ اتِّقَاءِ النَّارِ مَنَابَهُ مُتْبِعًا ذَلِكَ بِتَهْوِيلِ صِفَةِ النَّارِ. السُّؤَالُ السَّادِسُ: مَا الْوَقُودُ؟ الْجَوَابُ: هُوَ مَا يُوقَدُ بِهِ النَّارُ وَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَمَضْمُومٌ وَقَدْ جَاءَ فِيهِ الْفَتْحُ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَسَمِعْنَا مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ وَقَدْنَا النَّارَ وَقُودًا عَالِيًا، ثُمَّ قَالَ وَالْوَقُودُ أَكْثَرُ، وَالْوَقُودُ الْحَطَبُ وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِالضَّمِّ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ فَخَرُ قَوْمِهِ وَزَيْنُ بَلَدِهِ. السُّؤَالُ السَّابِعُ: صِلَةُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ تَكُونَ قَضِيَّةً مَعْلُومَةً فَكَيْفَ عَلِمَ أُولَئِكَ أَنَّ نَارَ الْآخِرَةِ تُوقَدُ بِالنَّاسِ وَالْحِجَارَةِ؟ الْجَوَابُ، لَا يَمْنَعُ أَنْ يَتَقَدَّمَ لَهُمْ بِذَلِكَ سَمَاعٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ سَمِعُوهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ سَمِعُوا مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ: نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [التحريم: 6] . السُّؤَالُ الثَّامِنُ: فَلِمَ جَاءَتِ النَّارُ الْمَوْصُوفَةُ بِهَذِهِ الجملة منكرة في سورة التحريم وهاهنا مُعَرَّفَةً؟ الْجَوَابُ: تِلْكَ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فَعَرَفُوا مِنْهَا نَارًا مَوْصُوفَةً بِهَذِهِ الصِّفَةِ ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ بِالْمَدِينَةِ مُسْتَنِدَةً إِلَى مَا عَرَفُوهُ أَوَّلًا. السُّؤَالُ التَّاسِعُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ الْجَوَابُ: أَنَّهَا نَارٌ مُمْتَازَةٌ مِنَ النِّيرَانِ بِأَنَّهَا لَا تَتَّقِدُ إِلَّا بِالنَّاسِ وَالْحِجَارَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قُوَّتِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ سَائِرَ النِّيرَانِ إِذَا أُرِيدَ إِحْرَاقُ النَّاسِ بِهَا أو إجماء الْحِجَارَةِ أُوقِدَتْ أَوَّلًا بِوَقُودٍ ثُمَّ طُرِحَ فِيهَا مَا يُرَادُ إِحْرَاقُهُ أَوْ إِحْمَاؤُهُ، وَتِلْكَ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ تُوقَدُ بِنَفْسِ مَا تَحْرِقُ. الثَّانِي: أَنَّهَا لِإِفْرَاطِ حَرِّهَا تَتَّقِدُ فِي الْحَجَرِ. السُّؤَالُ الْعَاشِرُ: لِمَ قُرِنَ النَّاسُ بِالْحِجَارَةِ وَجُعِلَتِ الْحِجَارَةُ مَعَهُمْ وَقُودًا؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّهُمْ قَرَنُوا بها

[سورة البقرة (2) : آية 25]

أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَيْثُ نَحَتُوهَا أَصْنَامًا وَجَعَلُوهَا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَعَبَدُوهَا مِنْ دُونِهِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاءِ: 98] وَهَذِهِ الْآيَةُ مُفَسِّرَةٌ لَهَا فَقَوْلُهُ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي مَعْنَى النَّاسِ وَالْحِجَارَةِ وَحَصَبُ جَهَنَّمَ فِي مَعْنَى وَقُودِهَا وَلَمَّا اعْتَقَدَ الْكُفَّارُ فِي حِجَارَتِهِمُ الْمَعْبُودَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنَّهَا الشُّفَعَاءُ وَالشُّهَدَاءُ الَّذِينَ يَسْتَشْفِعُونَ بِهِمْ وَيَسْتَدْفِعُونَ الْمَضَارَّ عَنْ أَنْفُسِهِمْ تمسكاً بهم، وجعلها اللَّهُ عَذَابَهُمْ فَقَرَنَهُمْ بِهَا مُحْمَاةً فِي نَارِ جَهَنَّمَ إِبْلَاغًا وَإِغْرَابًا فِي تَحَسُّرِهِمْ، وَنَحْوُهُ مَا يَفْعَلُهُ بِالْكَافِرِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا ذَهَبَهُمْ وَفِضَّتَهُمْ عُدَّةً وَذَخِيرَةً فَشَحُّوا بِهَا وَمَنَعُوهَا مِنَ الْحُقُوقِ حَيْثُ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ، وَقِيلَ هِيَ حِجَارَةُ الْكِبْرِيتِ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، بَلْ فِيهِ مَا يدل على فساده، وذلك لأن الغرض هاهنا تَعْظِيمُ صِفَةِ هَذِهِ النَّارِ وَالْإِيقَادُ بِحِجَارَةِ الْكِبْرِيتِ أَمْرٌ مُعْتَادٌ فَلَا يَدُلُّ الْإِيقَادُ بِهَا عَلَى قُوَّةِ النَّارِ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى سَائِرِ الْأَحْجَارِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عِظَمِ أَمْرِ النَّارِ فَإِنَّ سَائِرَ الْأَحْجَارِ تُطْفَأُ بِهَا النِّيرَانُ فَكَأَنَّهُ قَالَ تِلْكَ النِّيرَانُ بَلَغَتْ لِقُوَّتِهَا أَنْ تَتَعَلَّقَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهَا بِالْحِجَارَةِ الَّتِي هِيَ مُطْفِئَةٌ لِنِيرَانِ الدُّنْيَا، أَمَّا قَوْلُهُ: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ النَّارَ الْمَوْصُوفَةَ مُعَدَّةٌ لِلْكَافِرِينَ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ نِيرَانًا أُخْرَى غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ معدة لفساق أهل الصلاة. [سورة البقرة (2) : آية 25] وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25) الْكَلَامُ في المعاد اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا تَكَلَّمَ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ تَكَلَّمَ بَعْدَهُمَا فِي الْمَعَادِ وَبَيَّنَ عِقَابَ الْكَافِرِ وَثَوَابَ الْمُطِيعِ وَمِنْ عَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ إِذَا ذَكَرَ آيَةً فِي الْوَعِيدِ أن يعقبها بآية في الوعد وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي صِحَّةِ الدِّينِ وَالْبَحْثُ/ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِمَّا أَنْ يَقَعَ عَنْ إِمْكَانِهَا أَوْ عَنْ وُقُوعِهَا، أَمَّا الْإِمْكَانُ فَيَجُوزُ إِثْبَاتُهُ تَارَةً بِالْعَقْلِ، وَبِالنَّقْلِ أُخْرَى، وَأَمَّا الْوُقُوعُ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِالنَّقْلِ، وَأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي كِتَابِهِ وَبَيَّنَ الْحَقَّ فِيهِمَا مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ كَثِيرًا مَا حَكَى عَنِ الْمُنْكِرِينَ إِنْكَارَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّهُ وَاقِعٌ كَائِنٌ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الدَّلِيلِ فِيهِ، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ نُبُوَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ أَمْكَنَ إِثْبَاتُهُ بِالدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كذلك فجاز إثباته بالنقل، مثاله ما حكم هاهنا بِالنَّارِ لِلْكَفَّارِ، وَالْجَنَّةِ لِلْأَبْرَارِ، وَمَا أَقَامَ عَلَيْهِ دَلِيلًا بَلِ اكْتَفَى بِالدَّعْوَى، وَأَمَّا فِي إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ فَلَمْ يَكْتَفِ فِيهِ بِالدَّعْوَى بَلْ ذَكَرَ فِيهِ الدَّلِيلَ، وَسَبَبُ الْفَرْقِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَالَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [النَّحْلِ: 38] وَقَالَ فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ [التَّغَابُنِ: 7] . الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ إِمْكَانَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أُمُورٍ تُشْبِهُ الْحَشْرَ وَالنَّشْرَ، وَقَدْ قَرَّرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الطَّرِيقَةَ عَلَى وُجُوهٍ، فَأَجْمَعُهَا مَا جَاءَ فِي

سُورَةِ الْوَاقِعَةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِيهَا حِكَايَةً عن أصحاب الشمال أنهم كانوا يقولون: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الْوَاقِعَةِ: 47- 50] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى احْتَجَّ عَلَى إِمْكَانِهِ بِأُمُورٍ أَرْبَعَةٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ [الْوَاقِعَةِ: 58، 59] وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَنِيَّ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ فَضْلَةِ الْهَضْمِ الرَّابِعِ وَهُوَ كَالطَّلِّ الْمُنْبَثِّ فِي آفَاقِ أَطْرَافِ الْأَعْضَاءِ وَلِهَذَا تَشْتَرِكُ الأعضاء في الالتذاذ بالوقوع بِحُصُولِ الِانْحِلَالِ عَنْهَا كُلِّهَا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَلَّطَ قُوَّةَ الشَّهْوَةِ عَلَى الْبَقِيَّةِ حَتَّى أَنَّهَا تَجْمَعُ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ الطَّلِّيَّةَ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً جِدًّا، أَوَّلًا فِي أَطْرَافِ الْعَالَمِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى جَمَعَهَا فِي بَدَنِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ، ثُمَّ إِنَّهَا كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي أَطْرَافِ بَدَنِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ فَجَمَعَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي أَوْعِيَةِ الْمَنِيِّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَهَا مَاءً دَافِقًا إِلَى قَرَارِ الرَّحِمِ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَجْزَاءُ مُتَفَرِّقَةً فَجَمَعَهَا وَكَوَّنَ مِنْهَا ذَلِكَ الشَّخْصَ، فَإِذَا افْتَرَقَتْ بِالْمَوْتِ مَرَّةً أُخْرَى فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ جَمْعُهَا مَرَّةً أُخْرَى؟ فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذِهِ الْحُجَّةِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذكرها فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، مِنْهَا فِي سُورَةِ الحج: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ إلى قوله: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ثُمَّ قَالَ: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الْحَجِّ: 5- 7] وَقَالَ فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ بَعْدَ ذِكْرِ مَرَاتِبِ الْخِلْقَةِ: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 15، 16] وَقَالَ فِي سورة لا أقسم: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى [القيامة: 37، 38] وَقَالَ فِي سُورَةِ الطَّارِقِ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ [الطَّارِقِ: 5- 8] . وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ إِلَى قَوْلِهِ: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ [الْوَاقِعَةِ: 63- 67] وَجْهُ الاستدلال به أن الحب وأقسامه/ من مُطَوَّلٌ مَشْقُوقٌ وَغَيْرُ مَشْقُوقٍ، كَالْأُرْزِ وَالشَّعِيرِ، وَمُدَوَّرٌ وَمُثَلَّثٌ وَمُرَبَّعٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ أَشْكَالِهِ إِذَا وَقَعَ فِي الْأَرْضِ النَّدِيَّةِ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْمَاءُ وَالتُّرَابُ، فَالنَّظَرُ الْعَقْلِيُّ يَقْتَضِي أَنْ يَتَعَفَّنَ وَيَفْسُدَ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَكْفِي فِي حُصُولِ الْعُفُونَةِ، فَفِيهِمَا جَمِيعًا أَوْلَى، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَفْسُدُ بَلْ يَبْقَى مَحْفُوظًا، ثُمَّ إِذَا ازْدَادَتِ الرُّطُوبَةُ تَنْفَلِقُ الْحَبَّةُ فِلْقَتَيْنِ فَيَخْرُجُ مِنْهَا وَرَقَتَانِ، وَأَمَّا الْمُطَوَّلُ فَيَظْهَرُ فِي رَأْسِهِ ثُقْبٌ وَتَظْهَرُ الْوَرَقَةُ الطَّوِيلَةُ كَمَا فِي الزَّرْعِ، وَأَمَّا النَّوَى فَمَا فِيهِ مِنَ الصَّلَابَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي بِسَبَبِهَا يَعْجِزُ عَنْ فَلْقِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ إِذَا وَقَعَ فِي الْأَرْضِ النَّدِيَّةِ يَنْفَلِقُ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَنَوَاةُ التَّمْرِ تَنْفَلِقُ مِنْ نُقْرَةٍ عَلَى ظَهْرِهَا وَيَصِيرُ مَجْمُوعُ النَّوَاةِ مِنْ نِصْفَيْنِ يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ الْجُزْءُ الصَّاعِدُ، وَمِنَ الثَّانِي الْجُزْءُ الْهَابِطُ، أَمَّا الصَّاعِدُ فَيَصْعَدُ، وَأَمَّا الْهَابِطُ فَيَغُوصُ فِي أَعْمَاقِ الْأَرْضِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ النَّوَاةِ الصَّغِيرَةِ شَجَرَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: خَفِيفٌ صَاعِدٌ، وَالْأُخْرَى ثَقِيلٌ هَابِطٌ مَعَ اتِّحَادِ الْعُنْصُرِ وَاتِّحَادِ طَبْعِ النَّوَاةِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالتُّرْبَةِ أَفَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى قُدْرَةٍ كَامِلَةٍ وَحِكْمَةٍ شَامِلَةٍ فَهَذَا الْقَادِرُ كَيْفَ يَعْجَزُ عَنْ جَمْعِ الْأَجْزَاءِ وَتَرْكِيبِ الْأَعْضَاءِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْحَجِّ: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الْحَجِّ: 5] وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ؟ [الْوَاقِعَةِ: 68، 69] وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ الْمَاءَ جِسْمٌ ثَقِيلٌ بِالطَّبْعِ، وَإِصْعَادُ الثَّقِيلِ أَمْرٌ عَلَى خِلَافِ الطَّبْعِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَادِرٍ قَاهِرٍ يَقْهَرُ الطَّبْعَ وَيُبْطِلُ الْخَاصِّيَّةَ وَيُصْعِدُ مَا مِنْ شَأْنِهِ الْهُبُوطُ وَالنُّزُولُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ تِلْكَ الذَّرَّاتِ الْمَائِيَّةَ اجْتَمَعَتْ بَعْدَ تَفَرُّقِهَا. وَثَالِثُهَا: تَسْيِيرُهَا بِالرِّيَاحِ وَرَابِعُهَا: إِنْزَالُهَا فِي مَظَانِّ الْحَاجَةِ وَالْأَرْضِ الْجُرُزِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْحَشْرِ. أَمَّا صُعُودُ الثَّقِيلِ فَلِأَنَّهُ قَلْبُ

الطَّبِيعَةِ، فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظْهِرَ الْحَيَاةَ وَالرُّطُوبَةَ مِنْ حَسَاوَةِ التُّرَابِ وَالْمَاءِ؟ وَالثَّانِي: لَمَّا قَدَرَ عَلَى جَمْعِ تِلْكَ الذَّرَّاتِ الْمَائِيَّةِ بَعْدَ تَفَرُّقِهَا فَلِمَ لَا يَجُوزُ جَمْعُ الْأَجْزَاءِ التُّرَابِيَّةِ بَعْدَ تَفَرُّقِهَا؟ وَالثَّالِثُ: تَسْيِيرُ الرِّيَاحِ فَإِذَا قَدَرَ عَلَى تَحْرِيكِ الرِّيَاحِ الَّتِي تَضُمُّ بَعْضَ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْمُتَجَانِسَةِ إِلَى بَعْضٍ فلم لا يجوز هاهنا؟ وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْشَأَ السَّحَابَ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ فَهَهُنَا الْحَاجَةُ إِلَى إِنْشَاءِ الْمُكَلَّفِينَ مَرَّةً أُخْرَى لِيَصِلُوا إِلَى مَا اسْتَحَقُّوهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ أَوْلَى وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الدَّلَالَةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ فِي الْأَعْرَافِ لَمَّا ذَكَرَ دَلَالَةَ التوحيد: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي إِلَى قَوْلِهِ: قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الْأَعْرَافِ: 56] ثُمَّ ذَكَرَ دَلِيلَ الْحَشْرِ فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ إِلَى قَوْلِهِ: كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الْأَعْرَافِ: 57] وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ [الْوَاقِعَةِ: 71، 72] وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ النَّارَ صَاعِدَةٌ وَالشَّجَرَةَ هَابِطَةٌ، وَأَيْضًا النَّارُ لَطِيفَةٌ، وَالشَّجَرَةُ كَثِيفَةٌ. وَأَيْضًا النَّارُ نُورَانِيَّةٌ وَالشَّجَرَةُ ظَلْمَانِيَّةٌ، وَالنَّارُ حَارَّةٌ يَابِسَةٌ وَالشَّجَرَةُ بَارِدَةٌ رَطْبَةٌ، فَإِذَا أَمْسَكَ اللَّهُ تَعَالَى فِي دَاخِلِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ الْأَجْزَاءَ النُّورَانِيَّةَ النَّارِيَّةَ فَقَدْ جَمَعَ بِقُدْرَتِهِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَنَافِرَةِ، فَإِذَا لَمْ يَعْجِزْ عَنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَعْجِزُ عَنْ تَرْكِيبِ الْحَيَوَانَاتِ وَتَأْلِيفِهَا؟ وَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الدَّلَالَةَ فِي سُورَةِ يس فَقَالَ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا [يس: 80] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَمَرَ الْمَاءِ وَالنَّارِ وَذَكَرَ فِي النَّمْلِ أَمْرَ الْهَوَاءِ بِقَوْلِهِ: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ إلى قوله: أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [النَّمْلِ: 64] وَذَكَرَ الْأَرْضَ فِي الْحَجِّ فِي قَوْلِهِ: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً [الْحَجِّ: 5] فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْعَنَاصِرَ الْأَرْبَعَةَ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهَا شَاهِدَةٌ بِإِمْكَانِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى إِمْكَانِ الْحَشْرِ: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَمَّا كُنْتُ قَادِرًا عَلَى الْإِيجَادِ أَوَّلًا فَلَأَنْ أَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْإِعَادَةِ أَوْلَى. وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ تَقْرِيرُهَا فِي العقل ظاهر، وأنه تعالى ذكرها فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، مِنْهَا فِي الْبَقَرَةِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الْبَقَرَةِ: 28] ومنها قوله في سبحان الذي: وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُوا حِجارَةً إِلَى قَوْلِهِ: قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الْإِسْرَاءِ: 49- 51] وَمِنْهَا فِي الْعَنْكَبُوتِ: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الْعَنْكَبُوتِ: 19] وَمِنْهَا قوله في الروم: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى [الرُّومِ: 27] وَمِنْهَا فِي يس: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس: 79] ، النَّوْعُ الثالث: الاستدلال باقتداره على السموات عَلَى اقْتِدَارِهِ عَلَى الْحَشْرِ. وَذَلِكَ فِي آيَاتٍ مِنْهَا فِي سُورَةِ سُبْحَانَ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [الْإِسْرَاءِ: 99] وَقَالَ فِي يس: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس: 81] وَقَالَ فِي الْأَحْقَافِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف: 33] ومنها في سورة ق: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً إِلَى قَوْلِهِ: رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 11] ثُمَّ قَالَ: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15] النَّوْعُ الرَّابِعُ: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى وُقُوعِ الْحَشْرِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِثَابَةِ الْمُحْسِنِ وَتَعْذِيبِ الْعَاصِي وَتَمْيِيزِ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ بِآيَاتٍ، مِنْهَا فِي يُونُسَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ [يُونُسَ: 4] وَمِنْهَا فِي طَهَ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها

لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طَهَ: 15] وَمِنْهَا فِي ص: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ. أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 27، 28] النَّوْعُ الْخَامِسُ: الِاسْتِدْلَالُ بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى فِي الدُّنْيَا عَلَى صِحَّةِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ فَمِنْهَا خَلْقُهُ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ابْتِدَاءً وَمِنْهَا قِصَّةُ الْبَقَرَةِ وهي قوله: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى [الْبَقَرَةِ: 73] وَمِنْهَا قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [الْبَقَرَةِ: 26] وَمِنْهَا قَوْلُهُ: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها [الْبَقَرَةِ: 259] وَمِنْهَا قِصَّةُ يَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَإِنَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ عَلَى إِمْكَانِهِمَا بِعَيْنِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْحَشْرِ حَيْثُ قَالَ: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مَرْيَمَ: 9] وَمِنْهَا فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَلِذَلِكَ قَالَ: لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيها [الْكَهْفِ: 21] وَمِنْهَا قِصَّةُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ [الْأَنْبِيَاءِ: 84] يَدُلُّ عَلَى/ أَنَّهُ تَعَالَى أَحْيَاهُمْ بَعْدَ أَنْ مَاتُوا وَمِنْهَا مَا أَظْهَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ إِحْيَاءِ الموتى حيث قال: يُحْيِ الْمَوْتى [الْحَجِّ: 6] وَقَالَ: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي [الْمَائِدَةِ: 110] وَمِنْهَا قَوْلُهُ: أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً [مَرْيَمَ: 67] فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى أُصُولِ الدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ، وَسَيَأْتِي الِاسْتِقْصَاءُ فِي تَفْسِيرِ كُلِّ آيَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ عِنْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَصَّ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ مُنْكِرَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ كَافِرٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ [الْكَهْفِ: 35- 37] وَوَجْهُ إِلْزَامِ الْكُفْرِ أَنَّ دُخُولَ هَذَا الشَّيْءِ فِي الْوُجُودِ مُمْكِنُ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ مُمْتَنِعَ الْوُجُودِ لَمَا وُجِدَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَحَيْثُ وُجِدَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى عَلِمْنَا أَنَّهُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ فِي ذَاتِهِ، فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَدَلَّ ذَلِكَ إِمَّا عَلَى عَجْزِهِ حَيْثُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِيجَادِ مَا هُوَ جَائِزُ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى جَهْلِهِ حَيْثُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ تَمْيِيزُ أَجْزَاءِ بَدَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ عَنْ أَجْزَاءِ بَدَنِ الْمُكَلَّفِ الْآخَرِ، وَمَعَ الْقَوْلِ بِالْعَجْزِ وَالْجَهْلِ لَا يَصِحُّ إِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ فَكَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلْكُفْرِ قَطْعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَاتُ صَرِيحَةٌ فِي كَوْنِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مخلوقتين، أَمَّا النَّارُ فَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَتِهَا: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ فهذا صريحة فِي أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آلِ عمران: 133] ولأنه تعالى قال هاهنا: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ وُقُوعِ هَذَا الْمِلْكِ وَحُصُولِهِ وَحُصُولُ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ يَقْتَضِي حُصُولَ الْمَمْلُوكِ فِي الْحَالِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَجَامِعَ اللَّذَّاتِ إِمَّا الْمَسْكَنُ أَوِ الْمَطْعَمُ أَوِ الْمَنْكَحُ فَوَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَسْكَنَ بِقَوْلِهِ: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالْمَطْعَمَ بِقَوْلِهِ: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَالْمَنْكَحَ بِقَوْلِهِ: وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِذَا حَصَلَتْ وَقَارَنَهَا خَوْفُ الزَّوَالِ كَانَ التَّنَعُّمُ مُنَغَّصًا فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْخَوْفَ زَائِلٌ عَنْهُمْ فَقَالَ: وَهُمْ فِيها خالِدُونَ فَصَارَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى كَمَالِ التَّنَعُّمِ والسرر. وَلْنَتَكَلَّمِ الْآنَ فِي أَلْفَاظِ الْآيَةِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا فَفِيهِ سؤالات: الْأَوَّلُ: عَلَامَ عُطِفَ هَذَا الْأَمْرُ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ الَّذِي اعْتُمِدَ بِالْعَطْفِ هُوَ الْأَمْرُ حَتَّى يُطْلَبَ لَهُ مُشَاكِلٌ مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ يُعْطَفُ عَلَيْهِ. إِنَّمَا الْمُعْتَمَدُ بِالْعَطْفِ هُوَ جُمْلَةُ وَصْفِ ثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ فَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَصْفِ عِقَابِ الْكَافِرِينَ كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ يُعَاقَبُ بِالْقَيْدِ وَالضَّرْبِ، وَبَشِّرْ عَمْرًا بِالْعَفْوِ وَالْإِطْلَاقِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا كَمَا تَقُولُ يَا بَنِي تَمِيمٍ احْذَرُوا عُقُوبَةَ مَا جَنَيْتُمْ/ وَبَشِّرْ يَا فُلَانُ بَنِي أَسَدٍ بِإِحْسَانِي إِلَيْهِمْ. وَثَالِثُهَا: قَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَبَشِّرِ عَلَى لَفْظِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ عَطْفًا عَلَى أُعِدَّتْ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَنِ الْمَأْمُورُ بُقُولِهِ وَبَشِّرْ؟ وَالْجَوَابُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يَكُونَ كُلَّ أَحَدٍ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ إِلَى الْمَسَاجِدِ فِي الظُّلَمِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ القيامة» لم يأمر بذلك واحد بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا كُلُّ أَحَدٍ مَأْمُورٌ بِهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ وَأَجْزَلُ، لِأَنَّهُ يُؤْذِنُ بِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لِعَظَمَتِهِ وَفَخَامَتِهِ حَقِيقٌ بِأَنْ يُبَشِّرَ بِهِ كُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْبِشَارَةِ بِهِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْبِشَارَةُ؟ الْجَوَابُ: أَنَّهَا الْخَبَرُ الَّذِي يُظْهِرُ السُّرُورَ، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ إِذَا قَالَ لِعَبِيدِهِ: أَيُّكُمْ بَشَّرَنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ فَهُوَ حُرٌّ فَبَشَّرُوهُ فُرَادَى عُتِقَ أَوَّلُهُمْ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَفَادَ خَبَرُهُ السُّرُورَ وَلَوْ قَالَ مَكَانَ بَشَّرَنِي أَخْبَرَنِي عُتِقُوا جَمِيعًا لِأَنَّهُمْ جَمِيعًا أَخْبَرُوهُ، وَمِنْهُ الْبَشَرَةُ لِظَاهِرِ الْجِلْدِ، وَتَبَاشِيرُ الصُّبْحِ مَا ظَهَرَ مِنْ أَوَائِلِ ضَوْئِهِ، وَأَمَّا فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فَمِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الِاسْتِهْزَاءُ الزَّائِدُ فِي غَيْظِ الْمُسْتَهْزَأِ بِهِ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِعَدُوِّهِ أَبْشِرْ بِقَتْلِ ذُرِّيَّتِكَ وَنَهْبِ مَالِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: - الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْإِيمَانَ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَجَبَ التَّغَايُرُ وَإِلَّا لَزِمَ التَّكْرَارُ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ أَجْرَى هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا فَقَالَ: كُلُّ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ. فَإِذَا قِيلَ لَهُ مَا قَوْلُكَ فِيمَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ثُمَّ كَفَرَ قَالَ إِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ لِأَنَّ فِعْلَ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ الدَّائِمِ، وَفِعْلُ الْكُفْرِ اسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ الدَّائِمِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ، وَالْقَوْلُ أَيْضًا بِالتَّحَابُطِ مُحَالٌ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ هَذَا الْفَرْضُ الَّذِي فَرَضْتُمُوهُ مُمْتَنِعٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْقَوْلَ بِالتَّحَابُطِ مُحَالٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَيْنِ إِمَّا أَنْ يَتَضَادَّا أَوْ لَا يَتَضَادَّا فَإِنْ تَضَادَّا كَانَ طَرَيَانُ الطَّارِئِ مَشْرُوطًا بِزَوَالِ الْبَاقِي، فَلَوْ كَانَ زَوَالُ الْبَاقِي مُعَلَّلًا بِطَرَيَانِ الطَّارِئِ لَزِمَ الدَّوْرُ وَهُوَ مُحَالٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُنَافَاةَ حَاصِلَةٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَلَيْسَ زَوَالُ الْبَاقِي لِطَرَيَانِ الطَّارِئِ أَوْلَى مِنِ انْدِفَاعِ الطَّارِئِ بِقِيَامِ الْبَاقِي، فَإِمَّا أَنْ يُوجَدَا مَعًا وَهُوَ مُحَالٌ أَوْ يَتَدَافَعَا فَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ الْقَوْلُ بِالْمُحَابَطَةِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَيْنِ إِمَّا أَنْ يَتَسَاوَيَا أَوْ كَانَ الْمُقَدَّمُ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ، فَإِنْ تَعَادَلَا مِثْلَ أَنْ يُقَالَ كَانَ قَدْ حَصَلَ اسْتِحْقَاقُ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنَ الثَّوَابِ فَطَرَأَ اسْتِحْقَاقُ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنَ الْعِقَابِ فَنَقُولُ: اسْتِحْقَاقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِقَابِ مُسْتَقِلٌّ بِإِزَالَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ تَأْثِيرُ هَذَا الْجُزْءِ فِي إِزَالَةِ هَذَا الْجُزْءِ أَوْلَى مِنْ تَأْثِيرِهِ فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ الْجُزْءِ وَمِنْ تَأْثِيرِ جُزْءٍ آخَرَ فِي إِزَالَتِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ الطَّارِئَةِ مُؤَثِّرًا فِي إِزَالَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعِلَلِ مَعْلُولَاتٌ كَثِيرَةٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَعْلُولَاتِ عِلَلٌ كَثِيرَةٌ/ مُسْتَقِلَّةٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ، وَإِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ الطَّارِئَةِ بِوَاحِدٍ مِنَ الْبَاقِي مِنْ غَيْرِ مُخَصِّصٍ فَذَلِكَ مُحَالٌ لِامْتِنَاعِ تَرَجُّحِ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُقَدَّمُ أَكْثَرَ فَالطَّارِئُ لَا يُزِيلُ إِلَّا بَعْضَ أَجْزَاءِ الْبَاقِي، فَلَمْ

يَكُنْ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْبَاقِي أَنْ يَزُولَ بِهِ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ الْأَجْزَاءِ فَإِمَّا أَنْ يَزُولَ الْكُلُّ وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ الزَّائِلَ لَا يَزُولُ إِلَّا بِالنَّاقِصِ. أَوْ يَتَعَيَّنَ الْبَعْضُ لِلزَّوَالِ مِنْ غَيْرِ مُخَصِّصٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، أَوْ لَا يَزُولَ شَيْءٌ مِنْهَا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَأَيْضًا فَهَذَا الطَّارِئُ إِذَا أَزَالَ بَعْضَ أَجْزَاءِ الْبَاقِي فَإِمَّا أَنْ يَبْقَى الطَّارِئُ، أَوْ يَزُولَ. أَمَّا الْقَوْلُ بِبَقَاءِ الطَّارِئِ فَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِزَوَالِهِ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَأْثِيرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي إِزَالَةِ الْآخَرِ مَعًا أَوْ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُزِيلَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا حَالَ الْإِزَالَةِ، فَلَوْ وُجِدَ الزَّوَالَانِ مَعًا لَوُجِدَ الْمُزِيلَانِ مَعًا، فَيَلْزَمُ أَنْ يُوجَدَا حَالَ مَا عُدِمَا وَهُوَ مُحَالٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى التَّرْتِيبِ فَالْمَغْلُوبُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَنْقَلِبَ غَالِبًا، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُتَقَدِّمُ أَقَلَّ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ فِي زَوَالِهِ بَعْضَ أَجْزَاءِ الطَّارِئِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ صَالِحٌ لِلْإِزَالَةِ، وَاخْتِصَاصُ الْبَعْضِ بِذَلِكَ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ الْكُلُّ مُؤَثِّرًا فِي الْإِزَالَةِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَى الْمَعْلُولِ الْوَاحِدِ عِلَلٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَقَدْ ثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْعَقْلِيَّةِ فَسَادُ الْقَوْلِ بِالْإِحْبَاطِ، وَعِنْدَ هَذَا تَعَيَّنَ فِي الْجَوَابِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ الْمُوَافَاةَ، وَهُوَ أَنَّ شَرْطَ حُصُولِ الْإِيمَانِ أَنْ لَا يَمُوتَ عَلَى الْكُفْرِ فَلَوْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ عَلِمْنَا أَنَّ مَا أَتَى بِهِ أَوَّلًا كَانَ كُفْرًا وَهَذَا قَوْلٌ ظَاهِرُ السُّقُوطِ، الثَّانِي: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الطَّاعَةِ ثَوَابًا وَلَا عَلَى الْمَعْصِيَةِ عِقَابًا اسْتِحْقَاقًا عَقْلِيًّا وَاجِبًا، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَاخْتِيَارُنَا، وَبِهِ يَحْصُلُ الْخَلَاصُ مِنْ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّ الطَّاعَةَ تُوجِبُ الثَّوَابَ فَإِنَّ فِي حَالِ مَا بَشَّرَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لَهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْوُقُوعِ، وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ وَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْوُقُوعِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْبِيرُ بِالْوُقُوعِ عَنِ اسْتِحْقَاقِ الْوُقُوعِ مَجَازًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْجَنَّةُ: الْبُسْتَانُ مِنَ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ الْمُتَكَاثِفِ الْمُظَلِّلِ بِالْتِفَافِ أَغْصَانِهِ وَالتَّرْكِيبُ دَائِرٌ عَلَى مَعْنَى السِّتْرِ وَكَأَنَّهَا لِتَكَاثُفِهَا وَتَظْلِيلِهَا سُمِّيَتْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَرَّةُ مِنْ مَصْدَرِ جَنَّهَ إِذَا سَتَرَهُ كَأَنَّهَا سُتْرَةٌ وَاحِدَةٌ لِفَرْطِ الْتِفَافِهَا وَسُمِّيَتْ دَارُ الثَّوَابِ جَنَّةً لِمَا فِيهَا مِنَ الْجِنَانِ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ نُكِّرَتِ الْجَنَّاتُ وَعُرِّفَتِ الْأَنْهَارُ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْجَنَّةَ اسْمٌ لِدَارِ الثَّوَابِ كُلِّهَا وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جَنَّاتٍ كَثِيرَةٍ مُرَتَّبَةٍ مَرَاتِبَ عَلَى حَسَبِ اسْتِحْقَاقَاتِ الْعَامِلِينَ لِكُلِّ طَبَقَةٍ مِنْهُمْ جَنَّاتٌ مِنْ تِلْكَ الْجَنَّاتِ، وَأَمَّا تَعْرِيفُ الْأَنْهَارِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ كَمَا يُقَالُ لِفُلَانٍ بُسْتَانٌ فِيهِ الْمَاءُ الْجَارِي وَالتِّينُ وَالْعِنَبُ يُشِيرُ إِلَى الْأَجْنَاسِ الَّتِي فِي عِلْمِ الْمُخَاطَبِ، أَوْ يُشَارُ بِاللَّامِ إِلَى الْأَنْهَارِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ [مُحَمَّدٍ: 15] وَأَمَّا قَوْلُهُ: كُلَّما رُزِقُوا فَهَذَا لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ صِفَةً ثَانِيَةً لِجَنَّاتٍ. أَوْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً لِأَنَّهُ لَمَّا/ قِيلَ: إِنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ لَمْ يَخْلُ قَلْبُ السَّامِعِ أَنْ يَقَعَ فِيهِ أَنَّ ثِمَارَ تِلْكَ الْجَنَّاتِ أشباه ثمار الدنيا أم لا؟ وهاهنا سؤالات: السؤال الأول: ما وقع مِنْ ثَمَرَةٍ؟ الْجَوَابُ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: هُوَ كَقَوْلِكَ كُلَّمَا أَكَلْتُ مِنْ بُسْتَانِكَ مِنَ الرُّمَّانِ شَيْئًا حَمِدْتُكَ فَمَوْقِعُ مِنْ ثَمَرَةٍ مَوْقِعُ قَوْلِكَ من الرمان فمن الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ كِلْتَاهُمَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، لِأَنَّ الرِّزْقَ قَدِ ابْتَدَأَ مِنَ الْجَنَّاتِ وَالرِّزْقَ مِنَ الْجَنَّاتِ قَدِ ابْتَدَأَ مِنْ ثَمَرَةٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالثَّمَرَةِ التُّفَّاحَةَ الْوَاحِدَةَ أَوِ الرُّمَّانَةَ الْفَرْدَةَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ النَّوْعُ مِنْ أَنْوَاعِ الثِّمَارِ. الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ ثَمَرَةٍ بَيَانًا عَلَى مِنْهَاجِ قَوْلِكَ رَأَيْتُ مِنْكَ أَسَدًا تُرِيدُ أَنْتَ أَسَدٌ، وَعَلَى هَذَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالثَّمَرَةِ النَّوْعُ مِنَ الثَّمَرَةِ أَوِ الْحَبَّةُ الْوَاحِدَةُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَقُولُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا الْآنَ هُوَ الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ، الْجَوَابُ: لَمَّا اتَّحَدَ

فِي الْمَاهِيَّةِ وَإِنْ تَغَايَرَ بِالْعَدَدِ صَحَّ أَنْ يُقَالَ هَذَا هُوَ ذَاكَ أَيْ بِحَسَبِ الْمَاهِيَّةِ فَإِنَّ الْوَحْدَةَ النَّوْعِيَّةَ لَا تُنَافِيهَا الْكَثْرَةُ بِالشَّخْصِ وَلِذَلِكَ إِذَا اشْتَدَّتْ مُشَابَهَةُ الِابْنِ بِالْأَبِ قَالُوا إنه الأب. السؤال الثالث: [فَالْمُشَبَّهُ بِهِ أَهُوَ مِنْ أَرْزَاقِ الدُّنْيَا، أَمْ من أرزاق الجنة؟] الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ شَبَّهُوا رِزْقَهُمُ الَّذِي يَأْتِيهِمْ فِي الْجَنَّةِ بِرِزْقٍ آخَرَ جَاءَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَالْمُشَبَّهُ بِهِ أَهُوَ مِنْ أَرْزَاقِ الدُّنْيَا، أَمْ مِنْ أَرْزَاقِ الْجَنَّةِ؟ وَالْجَوَابُ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنْ أَرْزَاقِ الدُّنْيَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ بِالْمَأْلُوفِ آنَسُ وَإِلَى الْمَعْهُودِ أَمْيَلُ، فَإِذَا رَأَى مَا لَمْ يَأْلَفْهُ نَفَرَ عَنْهُ طَبْعُهُ ثُمَّ إِذَا ظَفَرَ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِ مَا سَلَفَ لَهُ بِهِ عَهْدٌ ثُمَّ وَجَدَهُ أَشْرَفَ مِمَّا أَلِفَهُ أَوَّلًا عَظُمَ ابتهاجه وفرحه به، فأهل الجنة إذ أَبْصَرُوا الرُّمَّانَةَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أَبْصَرُوهَا فِي الْآخِرَةِ وَوَجَدُوا رُمَّانَةَ الْجَنَّةِ أَطْيَبَ وَأَشْرَفَ مِنْ رُمَّانَةِ الدُّنْيَا كَانَ فَرَحُهُمْ بِهَا أَشَدَّ مِنْ فَرَحِهِمْ بِشَيْءٍ مِمَّا شَاهَدُوهُ فِي الدُّنْيَا، وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَرَّاتِ فَيَتَنَاوَلُ الْمَرَّةَ الْأُولَى فَلَهُمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى مِنْ أَرْزَاقِ الْجَنَّةِ شَيْءٌ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقُولُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ، وَلَا يَكُونُ قَبْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى شَيْءٌ مِنْ أَرْزَاقِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُشَبَّهَ ذَلِكَ بِهِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَرْزَاقِ الدُّنْيَا، الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ رِزْقُ الْجَنَّةِ أَيْضًا وَالْمُرَادُ تَشَابُهُ أَرْزَاقِهِمْ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا حَصَلَتِ الْمُشَابَهَةُ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ تَسَاوِي ثَوَابِهِمْ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ فِي الْقَدْرِ وَالدَّرَجَةِ حَتَّى لَا يَزِيدَ وَلَا يَنْقُصَ. الثَّانِي: الْمُرَادُ تَشَابُهُهَا فِي الْمَنْظَرِ فَيَكُونُ الثَّانِي كَأَنَّهُ الْأَوَّلُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ ثُمَّ هَؤُلَاءِ مُخْتَلِفُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الِاشْتِبَاهُ كَمَا يَقَعُ فِي الْمَنْظَرِ يَقَعُ فِي الْمَطْعَمِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا الْتَذَّ بِشَيْءٍ وَأُعْجِبَ بِهِ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ نَفْسُهُ إِلَّا بِمِثْلِهِ، فَإِذَا جَاءَ مَا يُشْبِهُ الْأَوَّلَ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ كَانَ ذَلِكَ نِهَايَةَ اللَّذَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ وَإِنْ حَصَلَ الِاشْتِبَاهُ فِي اللَّوْنِ لَكِنَّهَا تَكُونُ مُخْتَلِفَةً فِي الطَّعْمِ، قَالَ الْحَسَنُ يُؤْتَى أَحَدُهُمْ بِالصَّحْفَةِ فَيَأْكُلُ مِنْهَا ثُمَّ يُؤْتَى بِالْأُخْرَى فَيَقُولُ هَذَا الَّذِي أُتِينَا بِهِ مِنْ قَبْلُ، فَيَقُولُ الْمَلَكُ كُلْ فَاللَّوْنُ وَاحِدٌ وَالطَّعْمُ مُخْتَلِفٌ، وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ عَلَى لِسَانِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ أَنَّ كَمَالَ السَّعَادَةِ لَيْسَ إِلَّا فِي مَعْرِفَةِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى: وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِهِ وَمَعْرِفَةِ أَفْعَالِهِ مِنَ الملائكة الكروبية والملائكة الروحانية وطبقات لأرواح وعالم السموات وَبِالْجُمْلَةِ يَجِبُ أَنْ يَصِيرَ رُوحُ الْإِنْسَانِ/ كَالْمِرْآةِ الْمُحَاذِيَةِ لِعَالَمِ الْقُدُسِ ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْمَعَارِفَ تَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَحْصُلُ بِهَا كَمَالُ الِالْتِذَاذِ وَالِابْتِهَاجِ، لِمَا أَنَّ الْعَلَائِقَ الْبَدَنِيَّةَ تَعُوقُ عَنْ ظُهُورِ تِلْكَ السَّعَادَاتِ وَاللَّذَّاتِ، فَإِذَا زَالَ هَذَا الْعَائِقُ حَصَلَتِ السَّعَادَةُ الْعَظِيمَةُ وَالْغِبْطَةُ الْكُبْرَى، فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ سَعَادَةٍ رُوحَانِيَّةٍ يَجِدُهَا الْإِنْسَانُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ يَقُولُ هَذِهِ هِيَ الَّتِي كَانَتْ حَاصِلَةً لِي حِينَ كُنْتُ فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْكَمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةَ الْحَاصِلَةَ فِي الْآخِرَةِ هِيَ الَّتِي كَانَتْ حَاصِلَةً فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَنَّهَا فِي الدُّنْيَا مَا أَفَادَتِ اللَّذَّةَ وَالْبَهْجَةَ وَالسُّرُورَ وَفِي الْآخِرَةِ أَفَادَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِزَوَالِ الْعَائِقِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً ففيه سؤالان: السؤال الأول: ألا م يرجح الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَأُتُوا بِهِ؟ الْجَوَابُ: إِنْ قُلْنَا الْمُشَبَّهُ بِهِ هُوَ رِزْقُ الدُّنْيَا فَإِلَى الشَّيْءِ الْمَرْزُوقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يَعْنِي أُتُوا بِذَلِكَ النَّوْعِ مُتَشَابِهًا يُشْبِهُ الْحَاصِلُ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ مَا كَانَ حَاصِلًا مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ قُلْنَا الْمُشَبَّهُ بِهِ هُوَ رِزْقُ الْجَنَّةِ أَيْضًا، فَإِلَى الشَّيْءِ الْمَرْزُوقِ فِي الْجَنَّةِ، يَعْنِي أُتُوا بِذَلِكَ النَّوْعِ فِي الْجَنَّةِ بِحَيْثُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ادِّعَاءَ تَشَابُهِ الْأَرْزَاقِ فِي قَوْلِهِ: قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ تَعَالَى صَدَّقَهُمْ فِي تِلْكَ الدَّعْوَةِ بِقَوْلِهِ: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ فَالْمُرَادُ طَهَارَةُ أَبْدَانِهِنَّ مِنَ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ وَجَمِيعِ الْأَقْذَارِ وَطَهَارَةُ أَزْوَاجِهِنَّ مِنْ جَمِيعِ الْخِصَالِ الذَّمِيمَةِ، وَلَا سِيَّمَا مَا يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ، وَإِنَّمَا حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى الْكُلِّ لِاشْتِرَاكِ الْقِسْمَيْنِ فِي قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ، قَالَ أَهْلُ الْإِشَارَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّنَبُّهِ لِمَسَائِلَ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 26 إلى 27]

أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا حَاضَتْ فَاللَّهُ تَعَالَى مَنَعَكَ عَنْ مُبَاشَرَتِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ [الْبَقَرَةِ: 222] فَإِذَا مَنَعَكَ عَنْ مُقَارَبَتِهَا لِمَا عَلَيْهَا مِنَ النَّجَاسَةِ الَّتِي هِيَ مَعْذُورَةٌ فِيهَا فَإِذَا كَانَتِ الْأَزْوَاجُ اللَّوَاتِي فِي الْجَنَّةِ مُطَهَّرَاتٍ فَلَأَنْ يَمْنَعَكَ عَنْهُنَّ حَالَ كَوْنِكَ مُلَوَّثًا بِنَجَاسَاتِ الْمَعَاصِي مَعَ أَنَّكَ غَيْرُ مَعْذُورٍ فِيهَا كَانَ أَوْلَى. وَثَانِيهَا: أَنَّ مَنْ قَضَى شَهْوَتَهُ مِنَ الْحَلَالِ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ الدُّخُولَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، فَمَنْ قَضَى شَهْوَتَهُ مِنَ الْحَرَامِ كَيْفَ يُمَكَّنُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ الَّتِي لَا يَسْكُنُهَا إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ آدَمَ لَمَّا أَتَى بِالزَّلَّةِ أُخْرِجَ مِنْهَا. وَثَالِثُهَا: مَنْ كَانَ عَلَى ثَوْبِهِ ذَرَّةٌ مِنَ النَّجَاسَةِ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَمَنْ كَانَ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ نَجَاسَاتِ الْمَعَاصِي أعظم من الدنيا كيف تقبل صلاته وهاهنا سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: هَلَّا جَاءَتِ الصِّفَةُ مَجْمُوعَةً كَالْمَوْصُوفِ؟ الْجَوَابُ: هُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ يُقَالُ النِّسَاءُ فَعَلْنَ وَالنِّسَاءُ فَعَلَتْ. وَمِنْهُ بَيْتُ الْحَمَاسَةِ: وَإِذَا الْعَذَارَى بِالدُّخَانِ تَقَنَّعَتْ ... وَاسْتَعْمَلَتْ نَصْبَ الْقُدُورِ فَمَلَّتْ وَالْمَعْنَى وَجَمَاعَةُ أَزْوَاجٍ مُطَهَّرَةٍ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مُطَهَّرَاتٌ وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: مُطَّهِّرَةٌ يَعْنِي مُتَطَهِّرَةً. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلَّا قِيلَ طَاهِرَةٌ؟ الْجَوَابُ: فِي الْمُطَهَّرَةِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مُطَهِّرًا طَهَّرَهُنَّ وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ يُفِيدُ فَخَامَةَ أَمْرِ أَهْلِ الثَّوَابِ كَأَنَّهُ قِيلَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي زَيَّنَهُنَّ/ لِأَهْلِ الثَّوَابِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَهُمْ فِيها خالِدُونَ فَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْخُلْدَ هاهنا هُوَ الثَّبَاتُ اللَّازِمُ وَالْبَقَاءُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْآيَةِ وَالشِّعْرِ، أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 34] فَنَفَى الْخُلْدَ عَنِ الْبَشَرِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى بَعْضَهُمُ الْعُمُرَ الطَّوِيلَ، وَالْمَنْفِيُّ غَيْرُ الْمُثْبَتِ، فَالْخُلْدُ هُوَ الْبَقَاءُ الدَّائِمُ وَأَمَّا الشِّعْرُ فَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَهَلْ يَعِمَنُ إِلَّا سَعِيدٌ مُخَلَّدٌ ... قَلِيلُ هُمُومٍ مَا يَبِيتُ بِأَوْجَالِ وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْخُلْدُ هُوَ الثَّبَاتُ الطَّوِيلُ سَوَاءٌ دَامَ أَوْ لَمْ يَدُمْ وَاحْتَجُّوا فِيهِ بِالْآيَةِ وَالْعُرْفِ أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تعالى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَلَوْ كَانَ التَّأْبِيدُ دَاخِلًا فِي مَفْهُومِ الْخُلْدِ لَكَانَ ذَلِكَ تَكْرَارًا وَأَمَّا الْعُرْفُ فَيُقَالُ حَبَسَ فُلَانٌ فُلَانًا حَبْسًا مُخَلَّدًا وَلِأَنَّهُ يُكْتَبُ فِي صُكُوكِ الْأَوْقَافِ وَقَفَ فُلَانٌ وَقْفًا مُخَلَّدًا فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ هَلْ يَدُلُّ عَلَى دَوَامِ الثَّوَابِ أَمْ لَا؟ وَقَالَ آخَرُونَ الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى دَوَامِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ دَوَامُهُ لَجَوَّزُوا انْقِطَاعَهُ فَكَانَ خَوْفُ الِانْقِطَاعِ يُنَغِّصُ عَلَيْهِمْ تِلْكَ النِّعْمَةِ لَأَنَّ النِّعْمَةَ كُلَّمَا كَانَتْ أَعْظَمَ كَانَ خَوْفُ انْقِطَاعِهَا أَعْظَمَ وَقْعًا فِي الْقَلْبِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَنْفَكَّ أَهْلُ الثَّوَابِ الْبَتَّةَ مِنَ الْغَمِّ وَالْحَسْرَةِ والله تعالى أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 27] إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)

اعلم أنه بين بالدليل كون القرآن معجزاً أورد هاهنا شُبْهَةً أَوْرَدَهَا الْكُفَّارُ قَدْحًا فِي ذَلِكَ وَأَجَابَ عَنْهَا وَتَقْرِيرُ الشُّبْهَةِ أَنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ النَّحْلِ وَالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَالنَّمْلِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا يَلِيقُ ذِكْرُهَا بِكَلَامِ الْفُصَحَاءِ فَاشْتِمَالُ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا يَقْدَحُ فِي فَصَاحَتِهِ فَضْلًا عَنْ/ كَوْنِهِ مُعْجِزًا، فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِأَنَّ صِغَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَقْدَحُ فِي الْفَصَاحَةِ إِذَا كَانَ ذِكْرُهَا مُشْتَمِلًا عَلَى حِكَمٍ بَالِغَةٍ، فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى كَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا ثُمَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلُ: المسألة الأولى: [في طعن اليهود في مثال الله عز وجل ببيت العنكبوت] عن ابن عباس أنه لما نزل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ [الْحَجِّ: 73] فَطَعَنَ فِي أَصْنَامِهِمْ ثُمَّ شَبَّهَ عِبَادَتَهَا بِبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ قَالَتِ الْيَهُودُ أَيُّ قَدْرٍ لِلذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ حَتَّى يَضْرِبَ اللَّهُ الْمَثَلَ بِهِمَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ طَعَنُوا فِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ بِالنَّارِ وَالظُّلُمَاتِ وَالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ فِي قَوْلِهِ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [الْبَقَرَةِ: 17] وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الطَّعْنَ كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قال القفال: الكل محتمل هاهنا، أَمَّا الْيَهُودُ فَلِأَنَّهُ قِيلَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَهَذَا صِفَةُ الْيَهُودِ، لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالْوَفَاءِ وَبِالْعَهْدِ فِيمَا بَعْدُ إِنَّمَا هُوَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَقَدْ ذَكَرُوا فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ [الْمُدَّثِّرِ: 31] الْآيَةَ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَحْتَمِلُ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ فَقَدْ جُمِعَ الفريقان هاهنا: إذا ثبت هذا فنقول: احتمال الكل هاهنا قَائِمٌ لِأَنَّ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودَ كَانُوا مُتَوَافِقِينَ فِي إِيذَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ مَضَى مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ ذِكْرُ الْيَهُودِ، وَذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ، وَذِكْرُ الْمُشْرِكِينَ. وَكُلُّهُمْ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ قَالَ الْقَفَّالُ: وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ لِأَنَّ مَعْنَاهُ فِي نَفْسِهِ مُفِيدٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَيَاءَ تَغَيُّرٌ وَانْكِسَارٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ خَوْفِ مَا يُعَابُ بِهِ وَيُذَمُّ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْحَيَاةِ يُقَالُ حَيِيَ الرجل كما يقول نَسِيَ وَخَشِيَ وَشَظِيَ الْفَرَسُ إِذَا اعْتَلَّتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ. جَعَلَ الْحَيِيَّ لِمَا يَعْتَرِيهِ الِانْكِسَارُ وَالتَّغَيُّرُ مُنْكَسِرَ الْقُوَّةِ مُنَغَّصَ الْحَيَاةِ، كَمَا قَالُوا فُلَانٌ هَلَكَ حَيَاءً مِنْ كَذَا، وَمَاتَ حَيَاءً، وَرَأَيْتُ الْهَلَاكَ فِي وَجْهِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَيَاءِ، وَذَابَ حَيَاءً، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا اسْتَحَالَ الْحَيَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ تَغَيُّرٌ يَلْحَقُ الْبَدَنَ، وَذَلِكَ لَا يُعْقَلُ إِلَّا فِي حَقِّ الْجِسْمِ، وَلَكِنَّهُ وَارِدٌ فِي الْأَحَادِيثِ. رَوَى سَلْمَانُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الْعَبْدُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا حَتَّى يَضَعَ فِيهِمَا خَيْرًا» وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْقَانُونُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ ثَبَتَتْ لِلْعَبْدِ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْأَجْسَامِ فَإِذَا وُصِفَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى نِهَايَاتِ الْأَعْرَاضِ لَا عَلَى بِدَايَاتِ الْأَعْرَاضِ مِثَالُهُ أَنَّ الْحَيَاءَ حَالَةٌ تَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ لَكِنَّ لَهَا مَبْدَأً وَمُنْتَهًى، أَمَّا الْمَبْدَأُ فَهُوَ التَّغَيُّرُ الْجُسْمَانِيُّ الَّذِي يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ مِنْ خَوْفِ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْقَبِيحِ، وَأَمَّا النِّهَايَةُ فَهُوَ أَنْ يَتْرُكَ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ الْفِعْلَ، فَإِذَا وَرَدَ الْحَيَاءُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ ذَلِكَ الْخَوْفُ الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ الْحَيَاءِ وَمُقَدَّمَتُهُ، بَلْ تَرْكُ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مُنْتَهَاهُ وَغَايَتُهُ، وَكَذَلِكَ الْغَضَبُ لَهُ، عَلَامَةٌ وَمُقَدَّمَةٌ وَهِيَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ، وَشَهْوَةُ الِانْتِقَامِ وَلَهُ غَايَةٌ وَهُوَ إِنْزَالُ الْعِقَابِ بِالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ، فَإِذَا وَصَفْنَا اللَّهَ تَعَالَى/ بِالْغَضَبِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ الْمَبْدَأَ أَعْنِي شَهْوَةَ الِانْتِقَامِ وَغَلَيَانَ دَمِ الْقَلْبِ، بَلِ الْمُرَادُ تِلْكَ النِّهَايَةُ وَهُوَ إِنْزَالُ الْعِقَابِ، فَهَذَا هُوَ الْقَانُونُ الْكُلِّيُّ فِي هَذَا الْبَابِ. الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ هَذِهِ الْعِبَارَةُ فِي كَلَامِ الْكَفَرَةِ فَقَالُوا أَمَّا

يَسْتَحِي رَبُّ مُحَمَّدٍ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا بِالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ، فَجَاءَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى سَبِيلِ إِطْبَاقِ الْجَوَابِ عَلَى السُّؤَالِ، وَهَذَا فَنٌّ بَدِيعٌ مِنَ الْكَلَامِ، ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي مَا لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ إِثْبَاتًا فَيَجِبُ أَنْ لَا يُطْلَقَ عَلَى طَرِيقِ النَّفْيِ أَيْضًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ إِنَّهُ لَا يُوصَفُ بِهِ فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ لَا يَسْتَحِي وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَمُحَالٌ، لِأَنَّهُ يُوهِمُ نَفْيَ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ كِتَابِهِ فِي قَوْلِهِ: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [الْبَقَرَةِ: 255] وَقَوْلِهِ: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الْإِخْلَاصِ: 3] فَهُوَ بِصُورَةِ النَّفْيِ وَلَيْسَ بِنَفْيٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ [المؤمنون: 91] وكذلك قولك: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الْأَنْعَامِ: 14] وَلَيْسَ كُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُهُ جَائِزًا أَنْ يُطْلَقَ فِي الْمُخَاطَبَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ ذَلِكَ إِلَّا مَعَ بَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا شَكَّ فِي أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ مَنْفِيَّةٌ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَكَانَ الْإِخْبَارُ عَنِ انْتِفَائِهَا صِدْقًا فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ انْتِفَائِهَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا عَلَيْهِ فَنَقُولُ: هَذِهِ الدَّلَالَةُ مَمْنُوعَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَخْصِيصَ هَذَا النَّفْيِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ غَيْرِهِ بَلْ لَوْ قُرِنَ بِاللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الصِّحَّةِ أَيْضًا كَانَ ذَلِكَ أَحْسَنَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَكُونُ مُبَالَغَةً فِي الْبَيَانِ وَلَيْسَ إِذَا كَانَ غَيْرُهُ أَحْسَنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبِيحًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ضَرْبَ الْأَمْثَالِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُسْتَحْسَنَةِ فِي الْعُقُولِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: إِطْبَاقُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ عَلَى ذَلِكَ أَمَّا الْعَرَبُ فَذَلِكَ مَشْهُورٌ عِنْدَهُمْ وَقَدْ تَمَثَّلُوا بِأَحْقَرِ الْأَشْيَاءِ، فَقَالُوا فِي التَّمْثِيلِ بِالذَّرَّةِ: أَجْمَعُ مِنْ ذَرَّةٍ، وَأَضْبَطُ مِنْ ذَرَّةٍ، وَأَخْفَى مِنَ الذَّرَّةِ وَفِي التَّمْثِيلِ بِالذُّبَابِ: أَجْرَأُ مِنَ الذُّبَابِ، وَأَخْطَأُ مِنَ الذُّبَابِ، وَأَطْيَشُ مِنَ الذُّبَابِ، وَأَشْبَهُ مِنَ الذُّبَابِ بِالذُّبَابِ، وَأَلَحُّ مِنَ الذُّبَابِ. وَفِي التَّمْثِيلِ بِالْقُرَادِ، أَسْمَعُ مِنْ قُرَادٍ، وَأَصْغَرُ مِنْ قُرَادٍ. وَأَعْلَقُ مِنْ قُرَادٍ. وَأَغَمُّ مِنْ قُرَادٍ، وَأَدَبُّ مِنْ قُرَادٍ، وَقَالُوا فِي الْجَرَادِ: أَطْيَرُ مِنْ جَرَادَةٍ، وَأَحْطَمُ مِنْ جَرَادَةٍ، وَأَفْسَدُ مِنْ جَرَادَةٍ. وَأَصْفَى مِنْ لُعَابِ الْجَرَادِ، وَفِي الْفَرَاشَةِ: أَضْعَفُ مِنْ فَرَاشَةٍ، وَأَطْيَشَ مِنْ فَرَاشَةٍ، وَأَجْهَلُ مِنْ فَرَاشَةٍ، وَفِي الْبَعُوضَةِ. أَضْعَفُ مِنْ بَعُوضَةٍ، وَأَعَزُّ مِنْ مُخِّ الْبَعُوضَةِ، وَكَلَّفَنِي مُخَّ الْبَعُوضَةِ، فِي مِثْلِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ: وَأَمَّا الْعَجَمُ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ «كِتَابُ كَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ» وَأَمْثَالُهُ، وَفِي بَعْضِهَا: قَالَتِ الْبَعُوضَةُ، وَقَدْ وَقَعَتْ عَلَى نَخْلَةٍ عَالِيَةٍ وَأَرَادَتْ أَنْ تَطِيرَ عَنْهَا، يَا هَذِهِ اسْتَمْسِكِي فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَطِيرَ، فَقَالَتِ النَّخْلَةُ: وَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ بِوُقُوعِكِ فَكَيْفَ أَشْعُرُ بِطَيَرَانِكِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ ضَرَبَ الْأَمْثَالَ فِي إِنْجِيلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْأَشْيَاءِ الْمُسْتَحْقَرَةِ، قَالَ: مَثَلُ مَلَكُوتِ السَّمَاءِ كَمَثَلِ رَجُلٍ زَرَعَ فِي قَرْيَتِهِ حِنْطَةً جَيِّدَةً نَقِيَّةً، فَلَمَّا نَامَ النَّاسُ جَاءَ عَدُوُّهُ فَزَرَعَ الزُّوَانَ بَيْنَ الْحِنْطَةِ، فَلَمَّا نَبَتَ الزَّرْعُ وَأَثْمَرَ العشب غلب عليه الزوان، فقال عبيد الزراع، يَا سَيِّدَنَا أَلَيْسَ حِنْطَةً جَيِّدَةً نَقِيَّةً زَرَعْتَ فِي قَرْيَتِكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالُوا: فَمِنْ أَيْنَ هَذَا الزُّوَانُ؟ قَالَ: لَعَلَّكُمْ إِنْ ذَهَبْتُمْ أَنْ تَقْلَعُوا الزُّوَانَ فَتَقْلَعُوا مَعَهُ الْحِنْطَةَ فَدَعُوهُمَا يَتَرَبَّيَانِ/ جَمِيعًا حَتَّى الْحَصَادِ فَأَمَرَ الْحَصَّادِينَ أَنْ يَلْتَقِطُوا الزُّوَانَ مِنَ الْحِنْطَةِ وَأَنْ يَرْبُطُوهُ حُزَمًا ثُمَّ يَحْرِقُوهُ بِالنَّارِ وَيَجْمَعُوا الْحِنْطَةَ إِلَى الْخَزَائِنِ. وَأُفَسِّرُ لَكُمْ ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي زَرَعَ الْحِنْطَةَ الْجَيِّدَةَ هُوَ أَبُو الْبَشَرِ، وَالْقَرْيَةُ هِيَ الْعَالَمُ، وَالْحِنْطَةُ الجيدة النقية هو نحن أبناء الملكوت الذي يَعْمَلُونَ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْعَدُوُّ الَّذِي زَرَعَ الزُّوَانَ هُوَ إِبْلِيسُ، وَالزُّوَانُ هُوَ الْمَعَاصِي الَّتِي يَزْرَعُهَا إِبْلِيسُ وَأَصْحَابُهُ، وَالْحَصَّادُونَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ يَتْرُكُونَ الناس حتى تدنوا آجَالُهُمْ فَيَحْصُدُونَ أَهْلَ الْخَيْرِ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ، وَأَهْلَ الشَّرِّ إِلَى الْهَاوِيَةِ وَكَمَا أَنَّ الزُّوَانَ يُلْتَقَطُ وَيُحْرَقُ بِالنَّارِ كَذَلِكَ رُسُلُ اللَّهِ وَمَلَائِكَتُهُ يَلْتَقِطُونَ مِنْ مَلَكُوتِهِ الْمُتَكَاسِلِينَ، وَجَمِيعَ عُمَّالِ الْإِثْمِ فيلقونهم في أتون الهاوية فيكون هنا لك الْبُكَاءُ، وَصَرِيفُ الْأَسْنَانِ، وَيَكُونُ الْأَبْرَارُ هُنَالِكَ فِي ملكوت

رَبِّهِمْ، مَنْ كَانَتْ لَهُ أُذُنٌ تَسْمَعُ فَلْيَسْمَعْ، وَأَضْرِبُ لَكُمْ مَثَلًا آخَرَ يُشْبِهُ مَلَكُوتَ السَّمَاءِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَخَذَ حَبَّةً مِنْ خَرْدَلٍ وَهِيَ أَصْغَرُ الْحُبُوبِ وَزَرَعَهَا فِي قَرْيَتِهِ، فَلَمَّا نَبَتَتْ عَظُمَتْ حَتَّى صَارَتْ كَأَعْظَمِ شَجَرَةٍ مِنَ الْبُقُولِ وَجَاءَ طَيْرٌ مِنَ السَّمَاءِ فَعَشَّشَ فِي فُرُوعِهَا فَكَذَلِكَ الْهُدَى مَنْ دَعَا إِلَيْهِ ضَاعَفَ اللَّهُ أَجْرَهُ وَعَظَّمَهُ وَرَفَعَ ذِكْرَهُ، وَنَجَّى مَنِ اقْتَدَى بِهِ، وَقَالَ: لَا تَكُونُوا كَمُنْخُلٍ يَخْرُجُ مِنْهُ الدَّقِيقُ الطَّيِّبُ وَيُمْسِكُ النُّخَالَةَ، وَكَذَلِكَ أَنْتُمْ تَخْرُجُ الْحِكْمَةُ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ وَتُبْقُونَ الْغِلَّ فِي صُدُورِكُمْ، وَقَالَ: قُلُوبُكُمْ كَالْحَصَاةِ الَّتِي لَا تُنْضِجُهَا النَّارُ وَلَا يُلَيِّنُهَا الْمَاءُ وَلَا تَنْسِفُهَا الرِّيَاحُ، وَقَالَ لَا تَدَّخِرُوا ذَخَائِرَكُمْ حَيْثُ السُّوسُ وَالْأَرَضَةُ فتفسدها، ولا في البرية حيث السموم اللصوص فَتَحْرِقَهَا السُّمُومُ وَتَسْرِقَهَا اللُّصُوصُ وَلَكِنِ ادَّخِرُوا ذَخَائِرَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَقَالَ: نَحْفِرُ فَنَجِدُ دَوَابَّ عَلَيْهَا لباسها وهناك بِلِبَاسِهِنَّ وَأَرْزَاقِهِنَّ إِلَّا اللَّهُ؟ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، وَقَالَ: لَا تُثِيرُوا الزَّنَابِيرَ فَتَلْدَغَكُمْ وَلَا تُخَاطِبُوا السُّفَهَاءَ فَيَشْتُمُوكُمْ، فَظَهَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ضَرَبَ الْأَمْثَالَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْحَقِيرَةِ وَأَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ مِنْ طَبْعِ الْخَيَالِ الْمُحَاكَاةُ وَالتَّشَبُّهُ فَإِذَا ذُكِرَ الْمَعْنَى وَحْدَهُ أَدْرَكَهُ الْعَقْلُ وَلَكِنْ مَعَ مُنَازَعَةِ الْخَيَالِ، وَإِذَا ذُكِرَ مَعَهُ الشَّبَهُ أَدْرَكَهُ الْعَقْلُ مَعَ مُعَاوَنَةِ الْخَيَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الثَّانِيَ يَكُونُ أَكْمَلَ وَأَيْضًا فَنَحْنُ نَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَذْكُرُ مَعْنًى وَلَا يَلُوحُ لَهُ كَمَا يَنْبَغِي فَإِذَا ذَكَرَ الْمِثَالَ اتَّضَحَ وَصَارَ مُبَيَّنًا مَكْشُوفًا، وَإِنْ كَانَ التَّمْثِيلُ يُفِيدُ زِيَادَةَ الْبَيَانِ وَالْوُضُوحِ، وَجَبَ ذِكْرُهُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي لَا يُرَادُ مِنْهُ إِلَّا الْإِيضَاحُ وَالْبَيَانُ، أَمَّا قَوْلُهُمْ: ضَرْبُ الْأَمْثَالِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْحَقِيرَةِ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى، قُلْنَا هَذَا جَهْلٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَحُكْمُهُ فِي كُلِّ مَا خَلَقَ وَبَرَأَ عَامٌّ لِأَنَّهُ قَدْ أَحْكَمَ جَمِيعَهُ، وَلَيْسَ الصَّغِيرُ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنَ الْكَبِيرِ وَالْعَظِيمُ أَصْعَبَ مِنَ الصَّغِيرِ، وَإِذَا كَانَ الْكُلُّ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَكُنِ الْكَبِيرُ أَوْلَى أَنْ يَضْرِبَهُ مَثَلًا لِعِبَادِهِ مِنَ الصَّغِيرِ بَلِ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ مَا يَلِيقُ بِالْقِصَّةِ، فَإِذَا كَانَ الْأَلْيَقُ بِهَا الذُّبَابَ وَالْعَنْكَبُوتَ يَضْرِبُ الْمَثَلَ بِهِمَا لَا بِالْفِيلِ وَالْجَمَلِ، فَإِذَا أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يُقَبِّحَ عِبَادَتَهُمُ الْأَصْنَامَ وَعُدُولَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الرَّحْمَنِ صَلُحَ أَنْ يضرب المثل/ بالذباب، ليبين أن قدر مضرتها لا يندفع بهذه الأصنام، ويضرب المثل لبيت الْعَنْكَبُوتِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ عِبَادَتَهَا أَوْهَنُ وَأَضْعَفُ مِنْ ذلك وفي مثل ذلك كل ما كَانَ الْمَضْرُوبُ بِهِ الْمَثَلُ أَضْعَفَ كَانَ الْمَثَلُ أَقْوَى وَأَوْضَحَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْأَصَمُّ: «مَا» فِي قَوْلِهِ مَثَلًا مَا صِلَةٌ زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 159] وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ زِيَادَةٌ وَلَغْوٌ وَالْأَصَحُّ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْقُرْآنِ بِكَوْنِهِ هُدًى وَبَيَانًا وَكَوْنُهُ لَغْوًا يُنَافِي ذَلِكَ، وَفِي بَعُوضَةً قِرَاءَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: النَّصْبُ وَفِي لَفْظَةِ مَا عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ وَهِيَ الَّتِي إِذَا قُرِنَتْ بِاسْمٍ نَكِرَةٍ أَبْهَمَتْهُ إِبْهَامًا وَزَادَتْهُ شُيُوعًا وَبُعْدًا عَنِ الْخُصُوصِيَّةِ. بَيَانُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ أَعْطِنِي كِتَابًا أَنْظُرْ فِيهِ فَأَعْطَاهُ بَعْضَ الْكُتُبِ صَحَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ أَرَدْتُ كِتَابًا آخَرَ وَلَمْ أُرِدْ هَذَا وَلَوْ قَالَهُ مَعَ مَا لَمْ يَصِحَّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ أَعْطِنِي كِتَابًا أَيَّ كِتَابٍ كَانَ. الثَّانِي: أَنَّهَا نَكِرَةٌ قَامَ تَفْسِيرُهَا بِاسْمِ الْجِنْسِ مَقَامَ الصِّفَةِ، أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ فَفِيهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ صِلَتُهَا الْجُمْلَةُ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ هُوَ بَعُوضَةٌ فَحُذِفَ الْمُبْتَدَأُ كَمَا حُذِفَ فِي تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ [الْأَنْعَامِ: 154] . الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا كَأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ مَا بَعُوضَةٌ فَمَا فَوْقَهَا حَتَّى يَضْرِبَ الْمَثَلَ بِهِ، بَلْ لَهُ أَنْ يُمَثِّلَ بِمَا هُوَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ لَا يُبَالِي بِمَا وَهَبَ، مَا دِينَارٌ وَدِينَارَانِ، أَيْ يَهَبُ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : ضَرْبُ الْمَثَلِ اعْتِمَادُهُ وَتَكْوِينُهُ مِنْ ضَرْبِ اللَّبِنِ وَضَرْبِ الْخَاتَمِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: انْتَصَبَ بَعُوضَةً بِأَنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ لمثلًا أو مفعول ليضرب ومثلًا حَالٌ مِنَ النَّكِرَةِ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ أَوْ ثَانِي مفعولين ليضرب مُضَمَّنًا مَعْنَى يَجْعَلُ، وَهَذَا إِذَا كَانَتْ مَا صِلَةً أَوْ إِبْهَامِيَّةً، فَإِنْ كَانَتْ مُفَسَّرَةً بِبَعُوضَةٍ فَهِيَ تَابِعَةٌ لِمَا هِيَ تَفْسِيرٌ لَهُ، وَالْمُفَسِّرُ وَالْمُفَسَّرُ مَعًا لِمَجْمُوعِهِمَا عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ مَفْعُولٌ، ومثلًا حَالٌ مُقَدَّمَةٌ، وَأَمَّا رَفْعُهَا فَبِكَوْنِهَا خَبَرَ مُبْتَدَأٍ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَا مَوْصُولَةً أَوْ مَوْصُوفَةً أَوِ اسْتِفْهَامِيَّةً فَأَمْرُهَا ظَاهِرٌ، فَإِذَا كَانَتْ إِبْهَامِيَّةً فَهِيَ عَلَى الْجَوَابِ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ مَا هُوَ فَقِيلَ بَعُوضَةٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : اشْتِقَاقُ الْبَعُوضِ مِنَ الْبَعْضِ وَهُوَ الْقَطْعُ كَالْبَضْعِ وَالْعَضْبِ يُقَالُ بَعَضَهُ الْبَعُوضُ وَمِنْهُ بَعْضُ الشَّيْءِ لِأَنَّهُ قِطْعَةٌ مِنْهُ وَالْبَعُوضُ فِي أَصْلِهِ صِفَةٌ عَلَى فَعُولٍ كَالْقَطُوعِ فَغَلَبَتِ اسْمِيَّتُهُ، وَعَنْ بَعْضِهِمِ اشْتِقَاقُهُ مِنْ بَعْضِ الشَّيْءِ سُمِّيَ بِهِ لِقِلَّةِ جُرْمِهِ وَصِغَرِهِ وَلِأَنَّ بَعْضَ الشَّيْءِ قَلِيلٌ بِالْقِيَاسِ إِلَى كُلِّهِ، وَالْوَجْهُ الْقَوِيُّ هُوَ الْأَوَّلُ، قَالَ وَهُوَ مِنْ عَجَائِبِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ صَغِيرٌ جِدًّا وَخُرْطُومُهُ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مُجَوَّفٌ ثُمَّ ذَلِكَ الْخُرْطُومُ مَعَ فَرْطِ صِغَرِهِ وَكَوْنِهِ جَوْفًا يَغُوصُ فِي جِلْدِ الْفِيلِ وَالْجَامُوسِ عَلَى ثَخَانَتِهِ كَمَا يَضْرِبُ الرَّجُلُ إِصْبَعَهُ فِي الْخَبِيصِ، / وَذَلِكَ لِمَا رَكَّبَ اللَّهُ فِي رَأْسِ خُرْطُومِهِ مِنَ السُّمِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي قَوْلِهِ: فَما فَوْقَها وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا فِي الْجُثَّةِ كَالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَالْحِمَارِ وَالْكَلْبِ، فَإِنَّ الْقَوْمَ أَنْكَرُوا تَمْثِيلَ اللَّهِ تَعَالَى بِكُلِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَالثَّانِي: أَرَادَ بِمَا فَوْقَهَا فِي الصِّغَرِ أَيْ بِمَا هُوَ أَصْغَرُ مِنْهَا وَالْمُحَقِّقُونَ مَالُوا إِلَى هَذَا الْقَوْلِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ تَحْقِيرُ الْأَوْثَانِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَشَدَّ حَقَارَةً كَانَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْبَابِ أَكْمَلَ حُصُولًا. وَثَانِيهَا: أَنَّ الغرض هاهنا بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَمْتَنِعُ مِنَ التَّمْثِيلِ بِالشَّيْءِ الْحَقِيرِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ ثَانِيًا أَشَدَّ حَقَارَةً مِنَ الْأَوَّلِ يُقَالُ إِنَّ فُلَانًا يَتَحَمَّلُ الذُّلَّ فِي اكْتِسَابِ الدِّينَارِ، وَفِي اكْتِسَابِ مَا فَوْقَهُ، يَعْنِي فِي الْقِلَّةِ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الذُّلِّ فِي اكْتِسَابِ أَقَلَّ مِنَ الدِّينَارِ أَشَدُّ مِنْ تَحَمُّلِهِ فِي اكْتِسَابِ الدِّينَارِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا كَانَ أَصْغَرَ كَانَ الِاطِّلَاعُ عَلَى أَسْرَارِهِ أَصْعَبَ، فَإِذَا كَانَ فِي نِهَايَةِ الصِّغَرِ لَمْ يُحِطْ بِهِ إِلَّا عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ التَّمْثِيلُ بِهِ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ الْحِكْمَةِ مِنَ التَّمْثِيلِ بِالشَّيْءِ الْكَبِيرِ، وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: بِأَنَّ لَفْظَ «فَوْقَ» يَدُلُّ عَلَى الْعُلُوِّ، فَإِذَا قِيلَ هَذَا فَوْقَ ذَاكَ، فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْهُ وَيُرْوَى أَنَّ رَجُلًا مَدَحَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالرَّجُلُ مُتَّهَمٌ فِيهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا دُونَ مَا تَقُولُ وَفَوْقَ مَا فِي نَفْسِكَ، أَرَادَ بِهَذَا أَعْلَى مِمَّا فِي نَفْسِكَ. الثَّانِي: كَيْفَ يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِمَا دُونَ الْبَعُوضَةِ وَهِيَ النِّهَايَةُ فِي الصِّغَرِ؟ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ ثُبُوتُ صِفَةٍ فِيهِ أَقْوَى مِنْ ثُبُوتِهَا فِي شَيْءٍ آخَرَ كَانَ ذَلِكَ الْأَقْوَى فَوْقَ الْأَضْعَفِ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ يُقَالُ إِنَّ فُلَانًا فَوْقَ فُلَانٍ فِي اللُّؤْمِ وَالدَّنَاءَةِ. أَيْ هُوَ أَكْثَرُ لُؤْمًا وَدَنَاءَةً مِنْهُ، وَكَذَا إِذَا قِيلَ هَذَا فَوْقَ ذَلِكَ فِي الصِّغَرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ صِغَرًا مِنْهُ، وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي أَنَّ جَنَاحَ الْبَعُوضَةِ أَقَلُّ مِنْهَا وَقَدْ ضَرَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلًا لِلدُّنْيَا. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: «أَمَّا» حَرْفٌ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَلِذَلِكَ يُجَابُ بِالْفَاءِ وَهَذَا يُفِيدُ التَّأْكِيدُ تَقُولُ زَيْدٌ ذَاهِبٌ فَإِذَا قَصَدْتَ تَوْكِيدَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا مَحَالَةَ ذَاهِبٌ قُلْتَ أَمَّا زَيْدٌ فَذَاهِبٌ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِيرَادُ الْجُمْلَتَيْنِ مُصَدَّرَتَيْنِ بِهِ إِحْمَادٌ عَظِيمٌ لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَاعْتِدَادٌ بِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ الْحَقُّ وَذَمٌّ عَظِيمٌ لِلْكَافِرِينَ عَلَى مَا قَالُوهُ وَذَكَرُوهُ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: «الْحَقُّ» الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَسُوغُ إِنْكَارُهُ يُقَالُ حَقَّ الْأَمْرُ إِذَا ثَبَتَ وَوَجَبَ وَحَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ، وَثَوْبٌ مُحَقَّقٌ مُحْكَمُ النسج.

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: «مَاذَا» فِيهِ وَجْهَانِ أَنْ يَكُونَ ذَا اسْمًا مَوْصُولًا بِمَعْنَى الَّذِي فَيَكُونُ كَلِمَتَيْنِ وَأَنْ يَكُونَ ذَا مُرَكَّبَةً مَعَ مَا مَجْعُولَيْنِ اسْمًا وَاحِدًا فَيَكُونُ كَلِمَةً وَاحِدَةً فَهُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَرْفُوعُ الْمَحَلِّ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ ذَا مَعَ صِلَتِهِ، وَعَلَى الثَّانِي: مَنْصُوبُ الْمَحَلِّ فِي حُكْمِ مَا وَحْدَهُ كَمَا لَوْ قُلْتَ مَا أَرَادَ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الْإِرَادَةُ مَاهِيَّةٌ يَجِدُهَا الْعَاقِلُ مِنْ نَفْسِهِ وَيُدْرِكُ التَّفْرِقَةَ الْبَدِيهِيَّةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَلَمِهِ وَلَذَّتِهِ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ تَصَوُّرُ مَاهِيَّتِهَا مُحْتَاجًا إِلَى التَّعْرِيفِ، وَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ إِنَّهَا صِفَةٌ تَقْتَضِي رُجْحَانَ أَحَدِ طَرَفَيِ الْجَائِزِ عَلَى الْآخَرِ لَا فِي الْوُقُوعِ بَلْ فِي الْإِيقَاعِ، وَاحْتَرَزْنَا بِهَذَا الْقَيْدِ الْأَخِيرِ عَنِ الْقُدْرَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ تَعَالَى مُرِيدًا مَعَ اتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إِطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ النَّجَّارِيَّةُ إِنَّهُ مَعْنًى سَلْبِيٌّ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ غَيْرُ مَغْلُوبٍ وَلَا مُسْتَكْرَهٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ أَمْرٌ ثُبُوتِيٌّ وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فَقَالَ الْجَاحِظُ وَالْكَعْبِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ: مَعْنَاهُ عِلْمُهُ تعالى باشتماله الْفِعْلِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ أَوِ الْمَفْسَدَةِ، وَيُسَمُّونَ هَذَا الْعِلْمَ بِالدَّاعِي أَوِ الصَّارِفِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا وَأَبُو عَلِيٍّ وَأَبُو هَاشِمٍ وَأَتْبَاعُهُمَا إِنَّهُ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْعِلْمِ ثُمَّ الْقِسْمَةُ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ ذَاتِيَّةً وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلنَّجَّارِيَّةِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَعْنَوِيَّةً، وَذَلِكَ الْمَعْنَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ أَوْ مُحْدَثًا وَذَلِكَ الْمُحْدَثُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَائِمًا بِاللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُ الْكَرَّامِيَّةِ، أَوْ قَائِمًا بِجِسْمٍ آخَرَ وَهَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، أَوْ يَكُونَ مَوْجُودًا لَا فِي مَحَلٍّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَأَتْبَاعِهِمَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: الضَّمِيرُ فِي «أَنَّهُ الحق» للمثل أو لأن يَضْرِبَ، وَفِي قَوْلِهِمْ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا اسْتِحْقَارٌ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: يَا عَجَبًا لِابْنِ عَمْرٍو هَذَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: «مَثَلًا» نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ كَقَوْلِكَ لِمَنْ أجاب بجواب غث ماذا أراد بِهَذَا جَوَابًا؟ وَلِمَنْ حَمَلَ سِلَاحًا رَدِيئًا كَيْفَ تَنْتَفِعُ بِهَذَا سِلَاحًا؟ أَوْ عَلَى الْحَالِ كَقَوْلِهِ: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً [الْأَعْرَافِ: 73] . الْمَسْأَلَةُ الخامسة عشرة: [بحث في الهداية والإضلال وما المراد من إضلال الله وهداية الله تعالى] اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ كُفْرَهُمْ وَاسْتِحْقَارَهُمْ كَلَامَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَنُرِيدُ أن نتكلم هاهنا فِي الْهِدَايَةِ وَالْإِضْلَالِ لِيَكُونَ هَذَا الْمَوْضِعُ كَالْأَصْلِ الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ مَا يَجِيءُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْآيَاتِ فَنَتَكَلَّمُ أَوَّلًا فِي الْإِضْلَالِ فَنَقُولُ: إِنَّ الْهَمْزَةَ تَارَةً تَجِيءُ لِنَقْلِ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْمُتَعَدِّي كَقَوْلِكَ خَرَجَ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، فَإِذَا قُلْتَ أَخْرَجَ فَقَدْ جَعَلْتَهُ مُتَعَدِّيًا وَقَدْ تَجِيءُ لِنَقْلِ الْفِعْلِ مِنَ الْمُتَعَدِّي إِلَى غَيْرِ الْمُتَعَدِّي كَقَوْلِكَ كَبَبْتُهُ فَأَكَبَّ، وَقَدْ تَجِيءُ لِمُجَرَّدِ الْوُجْدَانِ. حُكِيَ عن عمرو بن معديكرب أنه قال لنبي سُلَيْمٍ: قَاتَلْنَاكُمْ فَمَا أَجَبْنَاكُمْ، وَهَاجَيْنَاكُمْ فَمَا أَفْحَمْنَاكُمْ، وَسَأَلْنَاكُمْ فَمَا أَبْخَلْنَاكُمْ. أَيْ فَمَا وَجَدْنَاكُمْ جُبَنَاءَ وَلَا مُفْحَمِينَ وَلَا بُخَلَاءَ. وَيُقَالُ أَتَيْتُ أَرْضَ فُلَانٍ فَأَعْمَرْتُهَا أَيْ وَجَدْتُهَا عَامِرَةً قَالَ الْمُخَبَّلُ: تَمَنَّى حُصَيْنٌ أَنْ يَسُودَ خُزَاعَةَ ... فَأَمْسَى حُصَيْنٌ قَدْ أَذَلَّ وَأَقْهَرَا أَيْ وُجِدَ ذَلِيلًا مَقْهُورًا، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْهَمْزَةُ لَا تُفِيدُ إِلَّا نَقْلَ الْفِعْلِ/ مِنْ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْمُتَعَدِّي فَأَمَّا قَوْلُهُ: كَبَبْتُهُ فَأَكَبَّ، فَلَعَلَّ الْمُرَادَ كَبَبْتُهُ فَأَكَبَّ نَفْسَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَيَكُونُ قَدْ ذُكِرَ الْفِعْلُ مَعَ حَذْفِ الْمَفْعُولَيْنِ وَهَذَا لَيْسَ بِعَزِيزٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ. قَاتَلْنَاكُمْ فَمَا أَجَبْنَاكُمْ، فَالْمُرَادُ مَا أَثَّرَ قِتَالُنَا فِي صَيْرُورَتِكُمْ جُبَنَاءَ. وَمَا أَثَّرَ هِجَاؤُنَا لَكُمْ فِي صَيْرُورَتِكُمْ مُفْحَمِينَ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْبَوَاقِي، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قُلْنَاهُ أَوْلَى دَفْعًا

لِلِاشْتِرَاكِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُنَا: أَضَلَّهُ اللَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ إِلَّا عَلَى وَجْهَيْنِ: أحدهما: أنه صيره ضالًا، والثاني: أنه وحده ضَالًّا أَمَّا التَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّهُ صَيَّرَهُ ضَالًّا فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تعالى صيره ضالًا عما ذا وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صَيَّرَهُ ضَالًّا عَنِ الدِّينِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ صَيَّرَهُ ضَالًّا عَنِ الْجَنَّةِ، أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى صَيَّرَهُ ضَالًّا عَنِ الدِّينِ فَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى الْإِضْلَالِ عَنِ الدِّينِ فِي اللُّغَةِ هُوَ الدُّعَاءُ إِلَى تَرْكِ الدِّينِ وَتَقْبِيحِهِ فِي عَيْنِهِ وَهَذَا هُوَ الْإِضْلَالُ الَّذِي أَضَافَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى إِبْلِيسَ فَقَالَ: إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ [الْقَصَصِ: 15] وَقَالَ: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ [النِّسَاءِ: 119] وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا [فصلت: 29] وقال: زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ [النَّمْلِ: 24، العنكبوت: 38] ، وقال الشيطان إِلَى قَوْلِهِ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إِبْرَاهِيمَ: 22] وَأَيْضًا أَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْإِضْلَالَ إِلَى فِرْعَوْنَ فَقَالَ: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [طَهَ: 79] وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِضْلَالَ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ تَعَالَى مَا دَعَا إِلَى الْكُفْرِ وَمَا رَغَّبَ فِيهِ بَلْ نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ وَتَوَعَّدَ بِالْعِقَابِ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ لِلْإِضْلَالِ فِي اللُّغَةِ لَيْسَ إِلَّا هَذَا وَهَذَا الْمَعْنَى مَنْفِيٌّ بِالْإِجْمَاعِ ثَبَتَ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِجْرَاءُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَعِنْدَ هَذَا افْتَقَرَ أَهْلُ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ إِلَى التَّأْوِيلِ أَمَّا أَهْلُ الْجَبْرِ فَقَدْ حَمَلُوهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الضَّلَالَ وَالْكُفْرَ فِيهِمْ وَصَدَّهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَرُبَّمَا قَالُوا هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، لِأَنَّ الْإِضْلَالَ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ الشَّيْءِ ضَالًّا كَمَا أَنَّ الْإِخْرَاجَ وَالْإِدْخَالَ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ الشَّيْءِ خَارِجًا وَدَاخِلًا، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذَا التَّأْوِيلُ غَيْرُ جَائِزٍ لَا بِحَسَبِ الْأَوْضَاعِ اللُّغَوِيَّةِ وَلَا بِحَسَبِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، أَمَّا الْأَوْضَاعُ اللُّغَوِيَّةُ فَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ مَنَعَ غَيْرَهُ مِنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ كَرْهًا وَجَبْرًا أَنَّهُ أَضَلَّهُ بَلْ يُقَالُ مَنَعَهُ مِنْهُ وَصَرَفَهُ عَنْهُ وَإِنَّمَا يَقُولُونَ إِنَّهُ أَضَلَّهُ عَنِ الطَّرِيقِ إِذَا لَبَّسَ عَلَيْهِ وَأَوْرَدَ مِنَ الشُّبْهَةِ مَا يُلَبِّسُ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ فَلَا يَهْتَدِي لَهُ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ إِبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ بِكَوْنِهِمَا مُضَلِّلَيْنِ، مَعَ أن فرعون وإبليس ما كان خَالِقَيْنِ لِلضَّلَالِ فِي قُلُوبِ الْمُسْتَجِيبِينَ لَهُمَا بِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا عِنْدُ الْجَبْرِيَّةِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِيجَادِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْقَدَرِيَّةِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِيجَادِ، فَلَمَّا حَصَلَ اسْمُ الْمُضِلِّ حَقِيقَةً مَعَ نَفْيِ الْخَالِقِيَّةِ بِالِاتِّفَاقِ، عَلِمْنَا أَنَّ اسْمَ الْمُضِلِّ غَيْرُ مَوْضُوعٍ فِي اللُّغَةِ لِخَالِقِ الضَّلَالِ: وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِضْلَالَ فِي مُقَابَلَةِ الْهِدَايَةِ فَكَمَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ هَدَيْتُهُ فَمَا اهْتَدَى وَجَبَ صِحَّةُ أَنْ يُقَالَ أَضْلَلْتُهُ فَمَا ضَلَّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ حَمْلُ الْإِضْلَالِ عَلَى خَلْقِ الضَّلَالِ، وَأَمَّا بِحَسَبِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ/ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ خَلَقَ الضَّلَالَ فِي الْعَبْدِ ثُمَّ كَلَّفَهُ بِالْإِيمَانِ لَكَانَ قَدْ كَلَّفَهُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَهُوَ سَفَهٌ وَظُلْمٌ، وَقَالَ تَعَالَى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فُصِّلَتْ: 46] وَقَالَ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَةِ: 286] وَقَالَ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَجِّ: 78] وَثَانِيهَا: لَوْ كَانَ تَعَالَى خَالِقًا لِلْجَهْلِ وَمُلَبِّسًا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ لَمَا كَانَ مُبَيِّنًا لِمَا كُلِّفَ الْعَبْدُ بِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُبَيِّنًا، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ خَلَقَ فِيهِمُ الضَّلَالَ وَصَدَّهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ لَمْ يَكُنْ لِإِنْزَالِ الْكُتُبِ عَلَيْهِمْ وَبِعْثَةِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ فَائِدَةٌ لِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَا يَكُونُ مُمْكِنَ الْحُصُولِ كَانَ السَّعْيُ فِي تَحْصِيلِهِ عَبَثًا وَسَفَهًا. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ عَلَى مُضَادَّةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ الْآيَاتِ نَحْوَ قَوْلِهِ: فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الِانْشِقَاقِ: 20] فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [الْمُدَّثِّرِ: 49] ، وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: 94] فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا مَانِعَ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ الْبَتَّةَ. وَإِنَّمَا امْتَنَعُوا لِأَجْلِ

إِنْكَارِهِمْ بِعْثَةَ الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ وَقَالَ: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ [الْكَهْفِ: 55] وَقَالَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [الْبَقَرَةِ: 28] وَقَالَ: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ وقال: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَضَلَّهُمْ عَنِ الدِّينِ وَصَرَفَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ لَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَاطِلَةً. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ إِبْلِيسَ وَحِزْبَهُ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُ فِي إِضْلَالِ النَّاسِ عَنِ الدِّينِ وَصَرْفِهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَأَمَرَ عِبَادَهُ وَرَسُولَهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ إلى قوله: مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ [المؤمنين: 97] ، فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98] فَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يُضِلُّ عِبَادَهُ عَنِ الدِّينِ كَمَا تُضِلُّ الشَّيَاطِينُ لَاسْتَحَقَّ مِنَ الْمَذَمَّةِ مِثْلَ مَا اسْتَحَقُّوهُ وَلَوَجَبَ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْهُ كَمَا وَجَبَ مِنْهُمْ، وَلَوَجَبَ أَنْ يَتَّخِذُوهُ عَدُوًّا مِنْ حَيْثُ أَضَلَّ أَكْثَرَ خَلْقِهِ كَمَا وَجَبَ اتِّخَاذُ إِبْلِيسَ عَدُوًّا لِأَجْلِ ذَلِكَ، قَالُوا بَلْ خِصِّيصِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ إِذْ تَضْلِيلُ إِبْلِيسَ سَوَاءٌ وَجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى حُصُولِ الضَّلَالِ بِخِلَافِ تَضْلِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الضَّلَالِ فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا تَنْزِيهُ إِبْلِيسَ عَنْ جَمِيعِ الْقَبَائِحِ وَإِحَالَتُهَا كُلِّهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ الذَّمُّ مُنْقَطِعًا بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ إِبْلِيسَ وَعَائِدًا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ قَوْلِ الظَّالِمِينَ. وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْإِضْلَالَ عَنِ الدِّينِ إِلَى غَيْرِهِ وَذَمَّهُمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [طَهَ: 79] ، وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [طَهَ: 85] ، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الْأَنْعَامِ: 116] ، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ [ص: 26] وَقَوْلُهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ إِبْلِيسَ: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ [النِّسَاءِ: 119] فَهَؤُلَاءِ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَضَلُّوا غَيْرَهُمْ عَنِ الدِّينِ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَضَلَّهُمْ أَوْ حَصَلَ الْإِضْلَالُ بِاللَّهِ وَبِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الشَّرِكَةِ فَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَضَلَّهُمْ عَنِ الدِّينِ دُونَ هَؤُلَاءِ فَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى قَدْ تَقَوَّلَ عَلَيْهِمْ إِذْ قَدْ رَمَاهُمْ بِدَأْبِهِ وَعَابَهُمْ بِمَا فِيهِ وَذَمَّهُمْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُوهُ، وَاللَّهُ متعالٍ عَنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُشَارِكًا لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَذُمَّهُمْ عَلَى فِعْلٍ هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ وَمُسَاوٍ لَهُمْ فِيهِ وَإِذَا فَسَدَ الْوَجْهَانِ صَحَّ أَنْ لَا يُضَافَ خَلْقُ الضَّلَالِ إِلَى اللَّهِ/ تَعَالَى. وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَكْثَرَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الضَّلَالِ مَنْسُوبًا إِلَى الْعُصَاةِ عَلَى مَا قال: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [البقرة: 26] . وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إِبْرَاهِيمَ: 27] ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ [الْمَائِدَةِ: 67] ، كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ [غافر: 34] ، كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ [غَافِرٍ: 28] فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالضَّلَالِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ تَعَالَى هُوَ مَا هُمْ فِيهِ كَانَ كَذَلِكَ إِثْبَاتًا لِلثَّابِتِ وَهَذَا مُحَالٌ. وَثَامِنُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى نَفَى إِلَهِيَّةَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ لَا يَهْدُونَ إِلَى الْحَقِّ قَالَ: أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى [يُونُسَ: 35] فَنَفَى رُبُوبِيَّةَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا لَا تَهْدِي وَأَوْجَبَ رُبُوبِيَّةَ نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَهْدِي فَلَوْ كَانَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُضِلُّ عَنِ الْحَقِّ لَكَانَ قَدْ سَاوَاهُمْ فِي الضَّلَالِ وَفِيمَا لِأَجْلِهِ نَهَى عَنِ اتِّبَاعِهِمْ، بَلْ كَانَ قَدْ أَرْبَى عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْأَوْثَانَ كَمَا أَنَّهَا لَا تَهْدِي فَهِيَ لَا تُضِلُّ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى مَعَ أَنَّهُ إِلَهٌ يَهْدِي فَهُوَ يُضِلُّ. وَتَاسِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يَذْكُرُ هَذَا الضَّلَالَ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ وَعُقُوبَةً عَلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا هُمْ عَلَيْهِ من الضلال كان ذلك عقوبة وتهديداً بأمرهم له ملابسون، وعليه مقبولون، وَبِهِ مُلْتَذُّونَ وَمُغْتَبِطُونَ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَتِ الْعُقُوبَةُ بِالزِّنَا عَلَى الزِّنَا وَبِشُرْبِ الْخَمْرِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَعَاشِرُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ [البقرة: 26، 27] صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَفْعَلُ

بِهِ هَذَا الْإِضْلَالَ بَعْدَ أَنْ صَارَ هُوَ مِنَ الْفَاسِقِينَ النَّاقِضِينَ لِعَهْدِ اللَّهِ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِضْلَالَ الَّذِي يَحْصُلُ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ فَاسِقًا وَنَاقِضًا لِلْعَهْدِ مُغَايِرٌ لِفِسْقِهِ وَنَقْضِهِ، وَحَادِي عَاشِرِهَا: أَنَّهُ تَعَالَى فَسَّرَ الإضلال المنسوب إليه في كتابه، إما بكوه ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا، أَوْ بِكَوْنِهِ عُقُوبَةً وَنَكَالًا، فَقَالَ فِي الِابْتِلَاءِ: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أَيِ امْتِحَانًا إِلَى أَنْ قَالَ: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ [الْمُدَّثِّرِ: 31] فَبَيَّنَ أَنَّ إِضْلَالَهُ لِلْعَبْدِ يَكُونُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ إِنْزَالِهِ آيَةً مُتَشَابِهَةً أَوْ فِعْلًا مُتَشَابِهًا لَا يُعْرَفُ حَقِيقَةُ الْغَرَضِ فِيهِ، وَالضَّالُّ بِهِ هُوَ الَّذِي لَا يَقِفُ عَلَى الْمَقْصُودِ وَلَا يَتَفَكَّرُ فِي وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهِ بَلْ يَتَمَسَّكُ بِالشُّبُهَاتِ فِي تَقْرِيرِ الْمُجْمَلِ الْبَاطِلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [آلِ عِمْرَانَ: 7] وَأَمَّا الْعُقُوبَةُ وَالنَّكَالُ فَكَقَوْلِهِ: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ [غَافِرٍ: 71] إِلَى أَنْ قَالَ: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ فَبَيَّنَ أَنَّ إِضْلَالَهُ لَا يَعْدُو أَحَدَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَإِذَا كَانَ الْإِضْلَالُ مُفَسَّرًا بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مُفَسَّرًا بِغَيْرِهِمَا دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْإِضْلَالِ عَلَى خَلْقِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَنَقُولُ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِضْلَالَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الدُّعَاءُ إِلَى الْبَاطِلِ وَالتَّرْغِيبُ فِيهِ وَالسَّعْيُ فِي إِخْفَاءِ مَقَابِحِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي ذَهَبَتِ الْجَبْرِيَّةُ إِلَيْهِ قَدْ أَبْطَلْنَاهُ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى وُجُوهٍ أُخَرَ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ. أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا ضَلَّ بِاخْتِيَارِهِ عِنْدَ حُصُولِ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ أَثَّرَ فِي إِضْلَالِهِ فَيُقَالُ لِذَلِكَ الشَّيْءِ إِنَّهُ أَضَلَّهُ قَالَ تَعَالَى فِي/ حَقِّ الْأَصْنَامِ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إِبْرَاهِيمَ: 36] أَيْ ضَلُّوا بِهِنَّ، وَقَالَ: وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً [نُوحٍ: 23، 24] أَيْ ضَلَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِهِمْ وَقَالَ: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً [الْمَائِدَةِ: 64] وَقَالَ: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نُوحٍ: 6] أَيْ لَمْ يَزْدَادُوا بِدُعَائِي لَهُمْ إِلَّا فِرَارًا وَقَالَ: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي [الْمُؤْمِنُونَ: 110] وَهُمْ لَمْ يُنْسُوهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ كَانُوا يُذَكِّرُونَهُمُ اللَّهَ وَيَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ اشْتِغَالُهُمْ بِالسُّخْرِيَةِ مِنْهُمْ سَبَبًا لِنِسْيَانِهِمْ أُضِيفَ الْإِنْسَاءُ إِلَيْهِمْ وَقَالَ فِي بَرَاءَةٍ: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَةِ: 124، 125] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ نُزُولَ السُّورَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الشَّرَائِعِ يُعَرِّفُ أَحْوَالَهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يَصْلُحُ عَلَيْهَا فَيَزْدَادُ بِهَا إِيمَانًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْسُدُ عَلَيْهَا فَيَزْدَادُ بِهَا كُفْرًا، فَإِذَنْ أُضِيفَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْإِيمَانِ وَالزِّيَادَةُ فِي الْكُفْرِ إِلَى السُّورَةِ، إِذْ كَانُوا إِنَّمَا صَلُحُوا عِنْدَ نُزُولِهَا وَفَسَدُوا كَذَلِكَ أَيْضًا، فَكَذَا أُضِيفَ الْهُدَى وَالْإِضْلَالُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذَا كَانَ إِحْدَاثُهُمَا عِنْدَ ضَرْبِهِ تَعَالَى الْأَمْثَالَ لَهُمْ وَقَالَ فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً [الْمُدَّثِّرِ: 31] فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ ذِكْرَهُ لِعِدَّةِ خَزَنَةِ النَّارِ امْتِحَانٌ مِنْهُ لِعِبَادِهِ لِيَتَمَيَّزَ الْمُخْلِصُ مِنَ الْمُرْتَابِ فَآلَتِ الْعَاقِبَةُ إِلَى أَنْ صَلُحَ عَلَيْهَا الْمُؤْمِنُونَ وَفَسَدَ الْكَافِرُونَ وَأَضَافَ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ وَضِدَّهَا إِلَى الْمُمْتَحَنِينَ فَقَالَ لِيَزْدَادَ وَلِيَقُولَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا، كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ [الْمُدَّثِّرِ: 31] فَأَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ إِضْلَالَهُمْ وَهُدَاهُمْ بَعْدَ أَنْ أَضَافَ إِلَيْهِمُ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْإِضْلَالَ مُفَسَّرٌ بِهَذَا الِامْتِحَانِ وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ أَيْضًا. أَمْرَضَنِي الْحُبُّ أَيْ مَرِضْتُ بِهِ: وَيُقَالُ قَدْ أَفْسَدَتْ فُلَانَةٌ فُلَانًا وَهِيَ لَمْ تَعْلَمْ بِهِ، وَقَالَ الشاعر:

دَعْ عَنْكَ لَوْمِي فَإِنَّ اللَّوْمَ إِغْرَاءُ أَيْ يُغْرِي الْمَلُومَ بِاللَّوْمِ، وَالْإِضْلَالُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْكَافِرِينَ ضَلُّوا بِسَبَبِ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الِامْتِحَانَاتِ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكُفَّارُ لَمَّا قَالُوا: مَا الْحَاجَةُ إِلَى الْأَمْثَالِ وَمَا الْفَائِدَةُ فِيهَا وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ هَذَا الِامْتِحَانُ حَسُنَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْإِضْلَالَ هُوَ التَّسْمِيَةُ بِالضَّلَالِ فَيُقَالُ أَضَلَّهُ أَيْ سَمَّاهُ ضَالًّا وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِهِ وَأَكْفَرَ فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا سَمَّاهُ كَافِرًا وَأَنْشَدُوا بَيْتَ الْكُمَيْتِ: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَكْفَرُونِي بِحُبِّكُمْ ... وَطَائِفَةٌ قَالُوا مُسِيءٌ وَمُذْنِبُ وَقَالَ طَرَفَةُ: وَمَا زَالَ شُرْبِي الرَّاحَ حَتَّى أَضَلَّنِي ... صَدِيقِي وَحَتَّى سَاءَنِي بَعْضُ ذَلِكَا أَرَادَ سَمَّانِي ضَالًّا وَهَذَا الْوَجْهُ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ قُطْرُبٌ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَنْ أَنْكَرَهُ وَقَالَ إِنَّمَا يُقَالُ ضَلَّلْتُهُ تَضْلِيلًا إِذَا سَمَّيْتُهُ ضَالًّا، وَكَذَلِكَ فَسَّقْتُهُ وَفَجَّرْتُهُ إِذَا سَمَّيْتُهُ فَاجِرًا فَاسِقًا، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَتَى صَيَّرَهُ فِي نَفْسِهِ ضَالًّا لَزِمَهُ أَنْ يَصِيرَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِالضَّلَالِ فَهَذَا الْحُكْمُ/ مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ التَّصْيِيرِ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ وَأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ أَيْضًا لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لِآخَرَ: فُلَانٌ ضَالٌّ جَازَ أَنْ يُقَالَ لَهُ لِمَ جَعَلْتَهُ ضَالًّا وَيَكُونُ الْمَعْنَى لِمَ سَمَّيْتَهُ بِذَلِكَ وَلِمَ حَكَمْتَ بِهِ عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَمَلُوا الْإِضْلَالَ عَلَى الْحُكْمِ وَالتَّسْمِيَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْإِضْلَالُ هُوَ التَّخْلِيَةُ وَتَرْكُ الْمَنْعِ بِالْقَهْرِ وَالْجَبْرِ، فَيُقَالُ أَضَلَّهُ إِذَا خَلَّاهُ وَضَلَالَهُ قَالُوا وَمِنْ مَجَازِهِ قَوْلُهُمْ: أَفْسَدَ فُلَانٌ ابْنَهُ وَأَهْلَكَهُ وَدَمَّرَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَتَعَهَّدْهُ بِالتَّأْدِيبِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْعَرْجِيِّ: أَضَاعُونِي وَأَيَّ فَتًى أَضَاعُوا ... لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وَسَدَادِ ثَغْرِ وَيُقَالُ لِمَنْ تَرَكَ سَيْفَهُ فِي الْأَرْضِ النَّدِيَّةِ حَتَّى فَسَدَ وَصَدِئَ: أَفْسَدْتَ سَيْفَكَ وَأَصْدَأْتَهُ. وَرَابِعُهَا: الضَّلَالُ وَالْإِضْلَالُ هُوَ الْعَذَابُ وَالتَّعْذِيبُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [الْقَمَرِ: 47، 48] فَوَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ضَلَالٍ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَذَابَهُمْ وَقَالَ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ [غَافِرٍ: 71- 74] فُسِّرَ ذَلِكَ الضَّلَالُ بِالْعَذَابِ. وَخَامِسُهَا: أَنْ يُحْمَلَ الْإِضْلَالُ عَلَى الْإِهْلَاكِ وَالْإِبْطَالِ كَقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّدٍ: 1] قِيلَ أَبْطَلَهَا وَأَهْلَكَهَا وَمِنْ مَجَازِهِ قَوْلُهُمْ: ضَلَّ الْمَاءُ فِي اللَّبَنِ إِذَا صَارَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ وَيُقَالُ أَضْلَلْتُهُ أَنَا إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ بِهِ فَأَهْلَكْتَهُ وَصَيَّرْتَهُ كَالْمَعْدُومِ وَمِنْهُ يُقَالُ أَضَلَّ الْقَوْمُ مَيِّتَهُمْ إِذَا وَارَوْهُ فِي قَبْرِهِ فَأَخْفَوْهُ حَتَّى صَارَ لَا يُرَى، قَالَ النَّابِغَةُ: وَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ... وَغُودِرَ بِالْجُولَانِ حَزْمٌ وَنَائِلُ وقال تعالى: وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السجدة: 10] أي أإذا انْدَفَنَّا فِيهَا فَخَفِيَتْ أَشْخَاصُنَا فَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى يُضِلُّ اللَّهُ إِنْسَانًا أَيْ يُهْلِكُهُ وَيُعْدِمُهُ فَتَجُوزُ إِضَافَةُ الْإِضْلَالِ إِلَيْهِ تَعَالَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْخَمْسَةُ إِذَا حَمَلْنَا الْإِضْلَالَ عَلَى الْإِضْلَالِ عَنِ الدِّينِ. وَسَادِسُهَا: أَنْ يُحْمَلَ

الْإِضْلَالُ عَلَى الْإِضْلَالِ عَنِ الْجَنَّةِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ تَأْوِيلًا بَلْ حَمْلًا لِلَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُضِلُّهُمْ وَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أنه عما ذا يُضِلُّهُمْ، فَنَحْنُ نَحْمِلُهَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُضِلُّهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ ثُمَّ حَمَلُوا كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ عَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْجُبَّائِيِّ قَالَ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ [الْحَجِّ: 4] أَيْ يُضِلُّهُ عَنِ الْجَنَّةِ وَثَوَابِهَا. هَذَا كُلُّهُ إِذَا حَمَلْنَا الْهَمْزَةَ فِي الْإِضْلَالِ عَلَى التَّعْدِيَةِ. وَسَابِعُهَا: أَنْ نَحْمِلَ الْهَمْزَةَ لَا عَلَى التَّعْدِيَةِ بَلْ عَلَى الْوُجْدَانِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيَانُهُ فَيُقَالُ أَضَلَّ فُلَانٌ بَعِيرَهُ أَيْ ضَلَّ عَنْهُ فَمَعْنَى إِضْلَالِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَجَدَهُمْ ضَالِّينَ. وَثَامِنُهَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً مِنْ تَمَامِ قَوْلِ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا الْمَثَلِ الَّذِي لَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْفَائِدَةِ فِيهِ ثُمَّ قَالُوا: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَذَكَرُوهُ عَلَى/ سَبِيلِ التَّهَكُّمِ فَهَذَا مِنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى جَوَابًا لَهُمْ: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ أَيْ مَا أَضَلَّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقَ. هَذَا مَجْمُوعُ كَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَالَتِ الْجَبْرِيَّةُ لَقَدْ سَمِعْنَا كَلَامَكُمْ وَاعْتَرَفْنَا لَكُمْ بِجَوْدَةِ الْإِيرَادِ وَحُسْنِ التَّرْتِيبِ وَقُوَّةِ الْكَلَامِ وَلَكِنْ مَاذَا نَعْمَلُ وَلَكُمْ أَعْدَاءٌ ثَلَاثَةٌ يُشَوِّشُونَ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الْوُجُوهَ الْحَسَنَةَ؟ وَالدَّلَائِلَ اللَّطِيفَةَ: أَحَدُهَا: مَسْأَلَةُ الدَّاعِي وَهِيَ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالْإِهْدَاءِ وَالْإِضْلَالِ لِمَ فَعَلَ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ؟ وَثَانِيهَا: مَسْأَلَةُ الْعِلْمِ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 7] وَمَا رَأَيْنَا لَكُمْ فِي دَفْعِ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ كَلَامًا مُحِيلًا قَوِيًّا وَنَحْنُ لَا شَكَّ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ مَعَ مَا مَعَكُمْ مِنَ الذَّكَاءِ الضَّعْفَ عَنْ تِلْكَ الْأَجْوِبَةِ الَّتِي تَكَلَّمُوا بِهَا فكما أنصفنا واعترافنا لَكُمْ بِحُسْنِ الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ فَأَنْصِفُوا أَيْضًا وَاعْتَرِفُوا بِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لَكُمْ عَنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّ التَّعَامِيَ وَالتَّغَافُلَ لَا يَلِيقُ بِالْعُقَلَاءِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَوْ كَانَ بِإِيجَادِهِ لَمَا حَصَلَ إِلَّا الَّذِي قَصَدَ إِيجَادَهُ لَكِنَّ أَحَدًا لَا يُرِيدُ إِلَّا تَحْصِيلَ الْعِلْمِ وَالِاهْتِدَاءِ، وَيَحْتَرِزُ كُلَّ الِاحْتِرَازِ عَنِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ فَكَيْفَ يَحْصُلُ الْجَهْلُ وَالْإِضْلَالُ لِلْعَبْدِ مَعَ أَنَّهُ مَا قَصَدَ إِلَّا تَحْصِيلَ الْعِلْمِ وَالِاهْتِدَاءِ؟ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ بِالْإِيمَانِ وَالْعِلْمُ بِالْجَهْلِ فَظَنَّ فِي الْجَهْلِ أَنَّهُ عِلْمٌ فَقَصَدَ إِيقَاعَهُ فَلِذَلِكَ حَصَلَ لَهُ الْجَهْلُ قُلْنَا ظَنُّهُ فِي الْجَهْلِ أَنَّهُ عِلْمٌ ظَنُّ خَطَأٍ فَإِنْ كَانَ اخْتَارَهُ أَوَّلًا فَقَدِ اخْتَارَ الْجَهْلَ وَالْخَطَأَ لِنَفْسِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِسَبَبِ ظَنٍّ آخَرَ مُتَقَدِّمٍ عَلَيْهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ كُلِّ ظَنٍّ ظَنٌّ لَا إِلَى نِهَايَةٍ وَهُوَ مُحَالٌ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ التَّصَوُّرَاتِ غَيْرُ كَسْبِيَّةٍ وَالتَّصْدِيقَاتِ الْبَدِيهِيَّةَ غَيْرُ كَسْبِيَّةٍ وَالتَّصْدِيقَاتِ بِأَسْرِهَا غَيْرُ كَسْبِيَّةٍ فَهَذِهِ مُقَدَّمَاتٌ ثَلَاثَةٌ. الْمُقَدَّمَةُ الْأُولَى: فِي بَيَانِ أَنَّ التَّصَوُّرَاتِ غَيْرُ كَسْبِيَّةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يُحَاوِلُ اكْتِسَابَهَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَصَوِّرًا لَهَا أَوْ لَا يَكُونَ مُتَصَوِّرًا لَهَا فَإِنْ كَانَ مُتَصَوِّرًا لَهَا اسْتَحَالَ أَنْ يَطْلُبَ تَحْصِيلَ تَصَوُّرِهَا لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَصَوِّرًا لَهَا كَانَ ذِهْنُهُ غَافِلًا عَنْهَا وَالْغَافِلُ عَنِ الشَّيْءِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ طَالِبَهُ. الْمُقَدَّمَةُ الثَّانِيَةُ: فِي بَيَانِ أَنَّ التَّصْدِيقَاتِ الْبَدِيهِيَّةَ غَيْرُ كَسْبِيَّةٍ لِأَنَّ حُصُولَ طَرَفَيِ التَّصْدِيقِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَافِيًا فِي جَزْمِ الذِّهْنِ بِذَلِكَ التَّصْدِيقِ أَوْ لَا يَكُونَ كَافِيًا فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ ذَلِكَ التَّصْدِيقُ دَائِرًا مَعَ ذَيْنَكِ التَّصَوُّرَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَكُنِ التَّصْدِيقُ بَدِيهِيًّا بَلْ مُتَوَقَّفًا فِيهِ. الْمُقَدَّمَةُ الثَّالِثَةُ: فِي بَيَانِ أَنَّ التَّصْدِيقَاتِ بِأَسْرِهَا غَيْرُ كَسْبِيَّةٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ النَّظَرِيَّاتِ إِنْ كَانَتْ وَاجِبَةَ اللُّزُومِ عَنْ تِلْكَ الْبَدِيهِيَّاتِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ كَانَتْ تِلْكَ النَّظَرِيَّاتُ أَيْضًا غَيْرَ مَقْدُورَةٍ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةَ اللُّزُومِ عَنْ

تِلْكَ الْبَدِيهِيَّاتِ لَمْ يُمْكِنِ الِاسْتِدْلَالُ بِتِلْكَ الْبَدِيهِيَّاتِ عَلَى تِلْكَ النَّظَرِيَّاتِ، فَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الِاعْتِقَادَاتُ الْحَاصِلَةُ فِي تِلْكَ النَّظَرِيَّاتِ عُلُومًا، بَلْ لَا تَكُونُ إِلَّا اعْتِقَادًا حَاصِلًا لِلْمُقَلِّدِ وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ، فَثَبَتَ أَنَّ كَلَامَكُمْ فِي عَدَمِ إِسْنَادِ الِاهْتِدَاءِ وَالضَّلَالِ إِلَى اللَّهِ/ تَعَالَى مُعَارَضٌ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ الَّتِي لَا جَوَابَ عَنْهَا. وَلْنَتَكَلَّمِ الْآنَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ أَمَّا التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ فَسَاقِطٌ لِأَنَّ إِنْزَالَ هَذِهِ الْمُتَشَابِهَاتِ هَلْ لَهَا أَثَرٌ فِي تَحْرِيكِ الدَّوَاعِي أَوْ لَيْسَ لَهَا أَثَرٌ فِي ذَلِكَ؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَجَبَ عَلَى قَوْلِكُمْ أَنْ يُقَبَّحَ لِوَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 7] عَلَى أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الرُّجْحَانُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ الْوُجُوبُ وَأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الِاسْتِوَاءِ وَبَيْنَ الْوُجُوبِ الْمَانِعِ مِنَ النَّقِيضِ وَاسِطَةٌ، فَإِذَا أَثَّرَ إِنْزَالُ هَذِهِ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي التَّرْجِيحِ وَثَبَتَ أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ التَّرْجِيحُ فَقَدْ حَصَلَ الْوُجُوبُ فَحِينَئِذٍ جَاءَ الْجَبْرُ وَبَطَلَ مَا قُلْتُمُوهُ. الثَّانِي: هَبْ أَنَّهُ لَا يَنْتَهِي إِلَى حَدِّ الْوُجُوبِ إِلَّا أَنَّ الْمُكَلَّفَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُزَاحَ الْعُذْرِ وَالْعِلَّةِ وَإِنْزَالُ هَذِهِ الْمُتَشَابِهَاتِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ لَهَا أَثَرًا فِي تَرْجِيحِ جَانِبِ الضَّلَالِ عَلَى جَانِبِ الِاهْتِدَاءِ كَالْعُذْرِ لِلْمُكَلَّفِ فِي عَدَمِ الْإِقْدَامِ عَلَى الطَّاعَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُقَبَّحَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ أَثَرٌ فِي إِقْدَامِهِمْ عَلَى تَرْجِيحِ جَانِبِ الضَّلَالِ على جانب بالاهتداء كَانَتْ نِسْبَةُ هَذِهِ الْمُتَشَابِهَاتِ إِلَى ضَلَالِهِمْ كَصَرِيرِ الْبَابِ وَنَعِيقِ الْغُرَابِ فَكَمَا أَنَّ ضَلَالَهُمْ لَا يُنْسَبُ إِلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَجْنَبِيَّةِ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يُنْسَبَ إِلَى هَذِهِ الْمُتَشَابِهَاتِ بِوَجْهٍ مَا، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ تَأْوِيلُهُمْ، أَمَّا التَّأْوِيلُ الثَّانِي وَهُوَ التَّسْمِيَةُ وَالْحُكْمُ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ لَكِنَّ الْإِشْكَالَ مَعَهُ بَاقٍ لِأَنَّهُ إِذَا سَمَّاهُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَحَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ فلو لم يأت المكلف به لا نقلب خَبَرُ اللَّهِ الصِّدْقُ كَذِبًا وَعِلْمُهُ جَهْلًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ وَالْمُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَكَانَ عَدَمُ إِتْيَانِ الْمُكَلَّفِ بِهِ مُحَالًا وَإِتْيَانُهُ بِهِ وَاجِبًا وَهَذَا عَيْنُ الْجَبْرِ الَّذِي تفرون منه وأنه ملاقيكم لا محالة، وهاهنا يَنْتَهِي الْبَحْثُ إِلَى الْجَوَابَيْنِ الْمَشْهُورَيْنِ لَهُمَا فِي هَذَا الْمَقَامِ وَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ بِبَدِيهَةِ عَقْلِهِ سُقُوطَ ذَلِكَ، وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ وَتَرْكُ الْمَنْعِ فَهَذَا إِنَّمَا يُسَمَّى إِضْلَالًا إِذَا كَانَ الْأَوْلَى وَالْأَحْسَنُ بِالْوَالِدِ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ ذلك فأما إذا كان الولد أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْوَلَدُ بِحَيْثُ لَوْ مَنَعَهُ وَالِدُهُ عَنْ ذَلِكَ لَوَقَعَ فِي مَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ مِنْ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ الْأُولَى لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ أَفْسَدَ وَلَدَهُ وأضله، وهاهنا الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ مَنَعَ الْمُكَلَّفَ جَبْرًا عَنْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ لَزِمَتْ مَفْسَدَةٌ أُخْرَى أَعْظَمُ مِنَ الْأُولَى، فَكَيْفَ يُقَالُ إِنَّهُ تَعَالَى أَفْسَدَ الْمُكَلَّفَ وَأَضَلَّهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَا مَنَعَهُ عَنِ الضَّلَالِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ مَنَعَهُ لَكَانَتْ تِلْكَ الْمَفْسَدَةُ أَعْظَمَ وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الرَّابِعُ فَقَدِ اعْتَرَضَ الْقَفَّالُ عَلَيْهِ فَقَالَ: لَا نُسَلِّمُ بِأَنَّ الضَّلَالَ جَاءَ بِمَعْنَى الْعَذَابِ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ [الْقَمَرِ: 47] فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِي ضَلَالٍ عَنِ الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا وَفِي سُعُرٍ: أَيْ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ فِي الْآخِرَةِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: يَوْمَ يُسْحَبُونَ مِنْ صِلَةِ سُعُرٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ إلى قوله: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ فَمَعْنَى قَوْلِهِ ضَلُّوا عَنَّا أَيْ بَطَلُوا فَلَمْ ينتفع بِهِمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي كُنَّا نَرْجُو شَفَاعَتَهُمْ فِيهِ ثُمَّ قَوْلُهُ: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ قَدْ يَكُونُ عَلَى مَعْنَى كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ أَيْ يُحْبِطُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُحْتَمَلُ كَذَلِكَ يَخْذُلُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا فَلَا يُوَفِّقُهُمْ لِقَبُولِ الْحَقِّ إِذْ أَلِفُوا الْبَاطِلَ وَأَعْرَضُوا عَنِ التَّدَبُّرِ، فَإِذَا خَذَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَتَوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَدْ بَطَلَتْ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي كَانُوا يَرْجُونَ الِانْتِفَاعَ بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا/ التَّأْوِيلُ الْخَامِسُ: وَهُوَ الْإِهْلَاكُ فَغَيْرُ لَائِقٍ بِهَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِ الْإِضْلَالِ عَلَى الْإِهْلَاكِ. وَأَمَّا التَّأْوِيلُ السَّادِسُ: وَهُوَ أَنَّهُ يُضِلُّهُ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ فَضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يُضِلُّ بِهِ أَيْ يُضِلُّ بِسَبَبِ اسْتِمَاعِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْإِضْلَالُ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ لَيْسَ بِسَبَبِ اسْتِمَاعِ هَذِهِ الْآيَاتِ بَلْ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْقَبَائِحِ فَكَيْفَ يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا التَّأْوِيلُ السَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: يُضِلَّهُ

أَيْ يَجِدُهُ ضَالًّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إِثْبَاتَ هَذِهِ اللُّغَةِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُ عَدَّى الْإِضْلَالَ بِحَرْفِ الْبَاءِ فَقَالَ: يُضِلُّ بِهِ وَالْإِضْلَالُ بِمَعْنَى الْوُجْدَانِ لَا يَكُونُ مُعَدًّى بِحَرْفِ الْبَاءِ. وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الثَّامِنُ: فَهُوَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُوجِبُ تَفْكِيكَ النَّظْمِ لِأَنَّهُ إِلَى قَوْلِهِ: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ ثُمَّ قَوْلُهُ: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَهُمَا بَلْ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَهُوَ الواو، ثم هب أنه هاهنا كَذَلِكَ لَكِنَّهُ فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ لَا شَكَّ أَنَّهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي الْإِضْلَالِ. أَمَّا الْهُدَى فَقَدْ جَاءَ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الدَّلَالَةُ وَالْبَيَانُ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا [السَّجْدَةِ: 26] وَقَالَ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ [الْبَقَرَةِ: 38] وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ الْهُدَى عِبَارَةً عَنِ الْبَيَانِ وَقَالَ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى [النَّجْمِ: 23] وَقَالَ: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الْإِنْسَانِ: 3] أَيْ سَوَاءٌ شَكَرَ أَوْ كَفَرَ فَالْهِدَايَةُ قَدْ جَاءَتْهُ فِي الْحَالَتَيْنِ وَقَالَ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فُصِّلَتْ: 17] وَقَالَ: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَامِ: 154] وَهَذَا لَا يُقَالُ لِلْمُؤْمِنِ وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ خُصُومِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ [ص: 22] أَيْ أَرْشِدْنَا وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ [مُحَمَّدٍ: 25] وَقَالَ: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ الزُّمَرِ: 56] إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزُّمَرِ: 57] إِلَى قَوْلِهِ: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ [الزُّمَرِ: 59] أَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ هَدَى الْكَافِرَ مِمَّا جَاءَهُ مِنَ الْآيَاتِ وَقَالَ: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ [الْأَنْعَامِ: 157] وَهَذِهِ مُخَاطَبَةٌ لِلْكَافِرِينَ. وَثَانِيهَا: قَالُوا فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشُّورَى: 52] أَيْ لَتَدْعُو وَقَوْلُهُ: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرَّعْدِ: 7] أَيْ دَاعٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى ضَلَالٍ أَوْ هُدًى. وَثَالِثُهَا: التَّوْفِيقُ مِنَ اللَّهِ بِالْأَلْطَافِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْإِيمَانِ يُؤْتِيهَا الْمُؤْمِنِينَ جَزَاءً عَلَى إِيمَانِهِمْ وَمَعُونَةً عَلَيْهِ وَعَلَى الِازْدِيَادِ مِنْ طَاعَتِهِ، فَهَذَا ثَوَابٌ لَهُمْ وَبِإِزَائِهِ ضِدُّهُ لِلْكَافِرِينَ وَهُوَ أَنْ يَسْلُبَهُمْ ذَلِكَ فَيَكُونُ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى مَا هَدَاهُمْ يَكُونُ قَدْ أَضَلَّهُمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [مُحَمَّدٍ: 17] ، وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً [مَرْيَمَ: 76] ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [آل عمران: 86] ، يُثَبِّتُ اللَّهُ/ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إِبْرَاهِيمَ: 27] ، كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 86] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَهْدِيهِمْ وَأَنَّهُمْ قَدْ جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ، فَهَذَا الْهُدَى غَيْرُ الْبَيَانِ لَا مَحَالَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التَّغَابُنِ: 11] أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [الْمُجَادَلَةِ: 22] . وَرَابِعُهَا: الْهُدَى إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً [النِّسَاءِ: 175] وَقَالَ: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْمَائِدَةِ: 15، 16] وَقَالَ: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ

سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ [مُحَمَّدٍ: 4- 6] وَالْهِدَايَةُ بَعْدَ الْقَتْلِ لَا تَكُونُ إِلَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ [يُونُسَ: 90] وَهَذَا تَأْوِيلُ الْجُبَّائِيِّ، وَخَامِسُهَا: الْهُدَى بِمَعْنَى التَّقْدِيمِ يُقَالُ هَدَى فُلَانٌ فُلَانًا أَيْ قَدَّمَهُ أَمَامَهُ، وَأَصْلُ هَدَى مِنْ هِدَايَةِ الطَّرِيقِ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ يَتَقَدَّمُ الْمَدْلُولَ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ أَقْبَلَتْ هَوَادِي الْخَيْلِ. أَيْ مُتَقَدِّمَاتُهَا وَيُقَالُ لِلْعُنُقِ هَادِي وَهَوَادِي الْخَيْلِ أَعْنَاقُهَا لِأَنَّهَا تَتَقَدَّمُهَا، وَسَادِسُهَا: يَهْدِي أَيْ يَحْكُمُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مُهْتَدٍ وَتَسْمِيَتُهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِ الْقَائِلِ هَدَاهُ جَعَلَهُ مُهْتَدِيًا، وَهَذَا اللَّفْظُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْحُكْمِ وَالتَّسْمِيَةِ قَالَ تَعَالَى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ [الْمَائِدَةِ: 103] أَيْ مَا حَكَمَ وَلَا شَرَعَ، وَقَالَ: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 73] مَعْنَاهُ أَنَّ الْهُدَى مَا حَكَمَ اللَّهُ بِأَنَّهُ هُدًى وَقَالَ: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ [الإسراء: 97] أَيْ مَنْ حَكَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْهُدَى فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُسَمَّى مُهْتَدِيًا فَهَذِهِ هِيَ الْوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُعْتَزِلَةُ: وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِيمَا تقدم في باب الإضلال. قالت الجبرية: وهاهنا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْهُدَى بِمَعْنَى خَلْقِ الْهِدَايَةِ وَالْعِلْمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [يُونُسَ: 25] قَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ حَمَلَ غَيْرَهُ عَلَى سُلُوكِ الطَّرِيقِ كَرْهًا وَجَبْرًا أَنَّهُ هَدَاهُ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا يُقَالُ رَدَّهُ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ وَحَمَلَهُ عَلَيْهِ وَجَرَّهُ إِلَيْهِ فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ هَدَاهُ إِلَيْهِ فَلَا، وَثَانِيهَا: لَوْ حَصَلَ ذَلِكَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَبَطَلَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْمَدْحُ وَالذَّمُّ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، فَإِنْ قِيلَ هَبْ أَنَّهُ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَنَّهُ كَسْبُ الْعَبْدِ قُلْنَا هَذَا الْكَسْبُ مَدْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ وُقُوعَ هَذِهِ الْحَرَكَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لَا يَكُونَ بِتَخْلِيقِهِ، فَإِنْ كَانَ بِتَخْلِيقِهِ، فَمَتَى خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَحَالَ مِنَ الْعَبْدِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْهُ، وَمَتَى لَمْ يَخْلُقْهُ اسْتَحَالَ مِنَ الْعَبْدِ الْإِتْيَانُ بِهِ، فَحِينَئِذٍ تَتَوَجَّهُ الْإِشْكَالَاتُ الْمَذْكُورَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ مِنَ الْعَبْدِ فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ بِالِاعْتِزَالِ، الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى وَكَسْبًا لِلْعَبْدِ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يَخْلُقُهُ أَوَّلًا ثُمَّ يَكْتَسِبُهُ الْعَبْدُ أَوْ يَكْتَسِبُهُ الْعَبْدُ أَوَّلًا ثُمَّ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى. أَوْ يَقَعُ الْأَمْرَانِ مَعًا، فَإِنْ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ الْعَبْدُ مَجْبُورًا عَلَى اكْتِسَابِهِ فَيَعُودُ الْإِلْزَامُ وَإِنِ اكْتَسَبَهُ الْعَبْدُ أَوَّلًا فَاللَّهُ مَجْبُورٌ عَلَى/ خَلْقِهِ، وَإِنْ وَقَعَا مَعًا وَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ هَذَا الْأَمْرُ إِلَّا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمَا لَكِنَّ هَذَا الِاتِّفَاقَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ هَذَا الِاتِّفَاقُ، وَأَيْضًا فَهَذَا الِاتِّفَاقُ وَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ إِلَّا بِاتِّفَاقٍ آخَرَ، لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِهِ وَفِعْلِهِ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ الِاتِّفَاقِ وَهُوَ مُحَالٌ هَذَا مَجْمُوعُ كَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ قَالَتِ الجبرية: إنا قد دللنا بدلائل الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الِاحْتِمَالَ، وَالتَّأْوِيلَ عَلَى أَنَّ خَالِقَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، إِمَّا بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَالْوُجُوهُ الَّتِي تَمَسَّكْتُمْ بِهَا وُجُوهٌ نَقْلِيَّةٌ قَابِلَةٌ لِلِاحْتِمَالِ وَالْقَاطِعُ لَا يُعَارِضُهُ الْمُحْتَمَلُ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لِمَ وُصِفَ الْمَهْدِيُّونَ بِالْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةُ صِفَتُهُمْ لِقَوْلِهِ: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سَبَأٍ: 13] وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [ص: 24] وَلِحَدِيثِ «النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لَا تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً» وَحَدِيثِ «النَّاسُ أخبر قلة» ، وَالْجَوَابُ: أَهْلُ الْهُدَى كَثِيرٌ فِي أَنْفُسِهِمْ وَحَيْثُ يُوصَفُونَ بِالْقِلَّةِ إِنَّمَا يُوصَفُونَ بِهَا بِالْقِيَاسِ إِلَى أَهْلِ الضَّلَالِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْمَهْدِيِّينَ كَثِيرٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ قَلُّوا فِي الصُّورَةِ فَسُمُّوا بِالْكَثِيرِ ذَهَابًا إِلَى الْحَقِيقَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْفَاسِقُ أَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ فَسَقَتِ الرَّطْبَةُ مِنْ قِشْرِهَا أَيْ خَرَجَتْ، فَكَأَنَّ الْفَاسِقَ هُوَ الْخَارِجُ عَنِ الطَّاعَةِ، وَتُسَمَّى الْفَأْرَةُ فُوَيْسِقَةٌ لِخُرُوجِهَا لِأَجْلِ الْمَضَرَّةِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْقِبْلَةِ فِي أَنَّهُ هَلْ

هُوَ مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ، فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، وَعِنْدَ الْخَوَارِجِ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ لَا مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ، وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ [الْحُجُرَاتِ: 11] وَقَالَ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ [التَّوْبَةِ: 17] وَقَالَ: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ [الْحُجُرَاتِ: 7] وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ طَوِيلَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَذَكَرُوا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْمِيثَاقِ حُجَجُهُ الْقَائِمَةُ عَلَى عِبَادِهِ الدَّالَّةُ لَهُمْ عَلَى صِحَّةِ تَوْحِيدِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِيثَاقًا وَعَهْدًا عَلَى التَّمَسُّكِ بِالتَّوْحِيدِ إِذَا كَانَ يَلْزَمُ بِهَذِهِ الْحُجَجِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّمَسُّكِ بِالتَّوْحِيدِ وَغَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ قَوْلُهُ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 40] ، وَثَانِيهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعْنِيَ بِهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [فَاطِرٍ: 42] فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا مَا حَلَفُوا عَلَيْهِ وَصَفَهُمْ بِنَقْضِ عَهْدِهِ وَمِيثَاقِهِ، والتأويل الأول يمكن فيه العموم فيه كُلِّ مَنْ ضَلَّ وَكَفَرَ، وَالثَّانِي: لَا يُمْكِنُ إِلَّا فِيمَنِ اخْتَصَّ بِهَذَا الْقَسَمِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ رُجْحَانُ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يُمْكِنُ إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى عُمُومِهَا، وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُ التَّخْصِيصُ، الثَّانِي: أَنَّ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَلْزَمُهُمُ الذَّمُّ لِأَنَّهُمْ نَقَضُوا عَهْدًا أَبْرَمَهُ اللَّهُ وَأَحْكَمَهُ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي كَرَّرَهَا عَلَيْهِمْ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ وَأَوْضَحَهَا وَأَزَالَ التَّلْبِيسَ عَنْهَا، وَلِمَا أَوْدَعَ فِي الْعُقُولِ مِنْ دَلَائِلِهَا وَبَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ مُؤَكِّدًا لَهَا: وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي/ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُمُ الذَّمُّ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ تَرَكُوا شَيْئًا هُمْ بِأَنْفُسِهِمُ الْتَزَمُوهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَرْتِيبَ الذَّمِّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَوْلَى، وَثَالِثُهَا: قَالَ الْقَفَّالُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِالْآيَةِ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَدْ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ بِتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَّنَ لَهُمْ أَمْرَهُ وَأَمْرَ أُمَّتِهِ فَنَقَضُوا ذَلِكَ وأعرضوا عنه وجحدوا نبوته. ورابعاً: قَالَ بَعْضُهُمْ، إِنَّهُ عَنَى بِهِ مِيثَاقًا أَخَذَهُ مِنَ النَّاسِ وَهُمْ عَلَى صُورَةِ الذَّرِّ وَأَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ كَذَلِكَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَافِ: 172] قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ هَذَا سَاقِطٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَحْتَجُّ عَلَى الْعِبَادِ بِعَهْدٍ وَمِيثَاقٍ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ كَمَا لَا يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا ذَهَبَ عِلْمُهُ عَنْ قَلْبِهِمْ بِالسَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَعِيبَهُمْ بِذَلِكَ؟ وَخَامِسُهَا: عَهْدُ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ ثَلَاثَةُ عُهُودٍ. الْعَهْدُ الْأَوَّلُ: الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى جَمِيعِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ [الْأَعْرَافِ: 172] وَعَهْدٌ خَصَّ بِهِ النَّبِيِّينَ أَنْ يُبَلِّغُوا الرِّسَالَةَ وَيُقِيمُوا الدِّينَ وَلَا يَتَفَرَّقُوا فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ [الْأَحْزَابِ: 7] وَعَهْدٌ خَصَّ بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آلِ عِمْرَانَ: 187] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الضَّمِيرُ فِي مِيثَاقِهِ لِلْعَهْدِ وَهُوَ مَا وَثَّقُوا بِهِ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ قَبُولِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى تَوْثِيقِهِ كَمَا أَنَّ الْمِيعَادَ وَالْمِيلَادَ بِمَعْنَى الْوَعْدِ وَالْوِلَادَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَعْدِ مَا وَثَّقَ بِهِ عَهْدَهُ مِنْ آيَاتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فَذَكَرُوا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَرَادَ بِهِ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ وَحُقُوقَ الْقَرَابَاتِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهَا وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [مُحَمَّدٍ: 22] وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ قَطَعُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقَرَابَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَكُونُ الْآيَةُ خَاصَّةً. وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُمْ أَنْ يَصِلُوا حبلهم بحبل

[سورة البقرة (2) : آية 28]

الْمُؤْمِنِينَ فَهُمُ انْقَطَعُوا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَاتَّصَلُوا بِالْكُفَّارِ فَذَاكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ نُهُوا عَنِ التَّنَازُعِ وَإِثَارَةِ الْفِتَنِ وَهُمْ كَانُوا مُشْتَغِلِينَ بِذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ: أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَالْأَظْهَرُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْفَسَادُ الَّذِي يَتَعَدَّى دُونَ مَا يَقِفُ عَلَيْهِمْ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الصَّدُّ عَنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّ تَمَامَ الصَّلَاحِ فِي الْأَرْضِ بِالطَّاعَةِ لِأَنَّ بِالْتِزَامِ الشَّرَائِعِ يَلْتَزِمُ الْإِنْسَانُ كُلَّ مَا لَزِمَهُ، وَيَتْرُكُ التَّعَدِّيَ إِلَى الْغَيْرِ، وَمِنْهُ زَوَالُ التَّظَالُمِ وَفِي زَوَالِهِ الْعَدْلُ الذي قامت به السموات وَالْأَرْضُ، قَالَ تَعَالَى فِيمَا حَكَى عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ [غَافِرٍ: 26] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ خَاسِرٌ فَقَالَ: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَفِي هَذَا الْخُسْرَانِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ خَسِرُوا نَعِيمَ الْجَنَّةِ لِأَنَّهُ لَا أَحَدَ إِلَّا وَلَهُ فِي الْجَنَّةِ أَهْلٌ وَمَنْزِلٌ، فَإِنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَجَدَهُ، وَإِنْ عَصَاهُ وَرِثَهُ الْمُؤْمِنُونَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 10- 11] وَقَالَ: إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الشُّورَى: 45] وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ خَسِرُوا حَسَنَاتِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا لِأَنَّهُمْ أَحْبَطُوهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَمْ يَصِلْ لَهُمْ مِنْهَا خَيْرٌ وَلَا ثَوَابٌ، وَالْآيَةُ فِي الْيَهُودِ وَلَهُمْ أَعْمَالٌ فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَفِي الْمُنَافِقِينَ وَهُمْ يَعْمَلُونَ فِي الظَّاهِرِ مَا يَعْمَلُهُ الْمُخْلِصُونَ فَحَبِطَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ إِنَّمَا أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَفُوتَهُمُ اللَّذَّاتُ الْعَاجِلَةُ، ثُمَّ إنها تفوتهم إما عند ما يَصِيرُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْذُونًا فِي الْجِهَادِ أَوْ عِنْدَ مَوْتِهِمْ، وَقَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّ الْخَاسِرَ اسْمٌ عَامٌّ يَقَعُ عَلَى كُلِّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَا يُجْزَى عَلَيْهِ فَيُقَالُ لَهُ خَاسِرٌ، كَالرَّجُلِ الَّذِي إِذَا تَعَنَّى وَتَصَرَّفَ فِي أَمْرٍ فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ عَلَى نَفْعٍ قِيلَ لَهُ خَابَ وَخَسِرَ لِأَنَّهُ كَمَنْ أَعْطَى شَيْئًا وَلَمْ يَأْخُذْ بِإِزَائِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، فَسَمَّى الْكُفَّارَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِمَعَاصِي اللَّهِ خَاسِرِينَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْعَصْرِ: 2، 3] وَقَالَ: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [الكهف: 103، 104] والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 28] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا تَكَلَّمَ فِي دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فَمِنْ هذه الموضع إلى قوله: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 40] فِي شَرْحِ النِّعَمِ الَّتِي عَمَّتْ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: أَوَّلُهَا: نِعْمَةُ الْإِحْيَاءِ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَإِنْ كَانَ بِصُورَةِ الِاسْتِخْبَارِ فَالْمُرَادُ بِهِ التَّبْكِيتُ وَالتَّعْنِيفُ، لِأَنَّ عِظَمَ النِّعْمَةِ يَقْتَضِي عِظَمَ مَعْصِيَةِ الْمُنْعِمِ، يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَالِدَ كُلَّمَا عَظُمَتْ نِعْمَتُهُ عَلَى الْوَلَدِ بِأَنْ رَبَّاهُ وَعَلَّمَهُ وَخَرَّجَهُ وَمَوَّلَهُ وَعَرَّضَهُ لِلْأُمُورِ الْحِسَانِ، كَانَتْ مَعْصِيَتُهُ لِأَبِيهِ أَعْظَمَ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِذَلِكَ عِظَمَ مَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، بِأَنْ ذَكَّرَهُمْ نِعَمَهُ الْعَظِيمَةَ عَلَيْهِمْ لِيَزْجُرَهُمْ بِذَلِكَ عَمَّا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الْتَمَسُّكِ بِالْكُفْرِ وَيَبْعَثَهُمْ عَلَى اكْتِسَابِ الْإِيمَانِ، فَذَكَرَ تَعَالَى مِنْ نِعَمِهِ مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي النِّعَمِ وَهُوَ الْإِحْيَاءُ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْكُلِّيُّ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ كَانَ الْعَطْفُ الْأَوَّلُ بِالْفَاءِ وَالْبَوَاقِي بِثُمَّ؟ قلنا لأن الإحياء الأول قد يعقب الْمَوْتُ بِغَيْرِ تَرَاخٍ، وَأَمَّا الْمَوْتُ فَقَدْ تَرَاخَى عَنِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِحْيَاءُ الثَّانِي كَذَلِكَ مُتَرَاخٍ

عن الموت إن أريد به النور تراخياً ظاهرا، وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ مِنْ قِبَلِ الْعِبَادِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ هُوَ الْخَالِقُ لِلْكُفْرِ فِيهِمْ لَمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ/ مُوَبِّخًا لَهُمْ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ كَيْفَ تَسْوَدُّونَ وَتَبْيَضُّونَ وَتَصِحُّونَ وَتَسْقَمُونَ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ أَجْمَعَ مِنْ خَلْقِهِ فِيهِمْ. وَثَانِيهَا: إِذَا كَانَ خَلَقَهُمْ أَوَّلًا لِلشَّقَاءِ وَالنَّارِ وَمَا أَرَادَ بِخَلْقِهِمْ إِلَّا الْكُفْرَ وَإِرَادَةَ الْوُقُوعِ فِي النَّارِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يقال مُوَبِّخًا لَهُمْ كَيْفَ تَكْفُرُونَ؟. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ كَيْفَ تعقل مِنَ الْحَكِيمِ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ حَالَ مَا يَخْلُقُ الْكُفْرَ فِيهِمْ وَيَقُولُ: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا [الْإِسْرَاءِ: 94] حَالَ مَا مَنَعَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَيَقُولُ: فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الِانْشِقَاقِ: 20] ، فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [الْمُدَّثِّرِ: 49] وَهُوَ يَخْلُقُ فِيهِمُ الْإِعْرَاضَ وَيَقُولُ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ... فَأَنَّى تُصْرَفُونَ وَيَخْلُقُ فِيهِمُ الْإِفْكَ وَالصَّرْفَ وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ بِأَنْ يُعَدَّ مِنَ السُّخْرِيَةِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُذْكَرَ فِي بَابِ إِلْزَامِ الْحُجَّةِ عَلَى الْعِبَادِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا قَالَ لِلْعَبِيدِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ فَهَلْ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ تَوْجِيهًا لِلْحُجَّةِ عَلَى الْعَبْدِ وَطَلَبًا لِلْجَوَابِ مِنْهُ أَوْ لَيْسَ كَذَلِكَ؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِطَلَبِ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِهِ فَائِدَةٌ فَكَانَ هَذَا الْخِطَابُ عَبَثًا، وَإِنْ ذَكَرَهُ لِتَوْجِيهِ الْحُجَّةِ عَلَى الْعَبْدِ، فَلِلْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ حَصَلَ فِي حَقِّي أُمُورٌ كَثِيرَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْكُفْرِ. فَالْأَوَّلُ: أَنَّكَ عَلِمْتَ بِالْكُفْرِ مِنِّي وَالْعِلْمُ بِالْكُفْرِ يُوجِبُ الْكُفْرَ. وَالثَّانِي: أَنَّكَ أَرَدْتَ الْكُفْرَ مِنِّي وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ مُوجِبَةٌ لَهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّكَ خَلَقْتَ الْكُفْرَ فِيَّ وَأَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى إِزَالَةِ فِعْلِكَ. وَالرَّابِعُ: أَنَّكَ خَلَقْتَ فِيَّ قُدْرَةً مُوجِبَةً لِلْكُفْرِ. فِيَّ إِرَادَةً مُوجِبَةً لِلْكُفْرِ. وَالسَّادِسُ: أَنَّكَ خَلَقْتَ فِيَّ قُدْرَةً مُوجِبَةً لِلْكُفْرِ. وَالْخَامِسُ أَنَّكَ خَلَقْتَ فِيَّ إِرَادَةً مُوجِبَةً لِلْكُفْرِ. وَالسَّادِسُ أَنَّكَ خَلَقْتَ مُوجِبَةً لِلْإِرَادَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْكُفْرِ ثُمَّ لَمَّا حَصَلَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ السِّتَّةُ فِي حُصُولِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ يُوقَفُ عَلَى حُصُولِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ السِّتَّةِ فِي طَرَفِ الْإِيمَانِ وَهِيَ بِأَسْرِهَا كَانَتْ مَفْقُودَةً، فَقَدْ حَصَلَ لِعَدَمِ الْإِيمَانِ اثْنَا عَشَرَ سَبَبًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُسْتَقِلٌّ بِالْمَنْعِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَمَعَ قِيَامِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الْكَثِيرَةِ كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُقَالَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ؟ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِرَسُولِهِ قُلْ لَهُمْ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ أَعْنِي نِعْمَةَ الْحَيَاةِ وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْجَبْرِ لَا نِعْمَةَ لَهُ تَعَالَى عَلَى الْكَافِرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ كُلَّ مَا فَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْكَافِرِ فَإِنَّمَا فَعَلَهُ لِيَسْتَدْرِجَهُ إِلَى الْكُفْرِ وَيَحْرِقَهُ بِالنَّارِ، فَأَيُّ نِعْمَةٍ تَكُونُ لِلَّهِ عَلَى الْعَبْدِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَدَّمَ إِلَى غَيْرِهِ صَحْفَةَ فَالُوذَجَ مَسْمُومٍ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ وَإِنْ كَانَ لَذِيذًا وَيُعَدُّ نِعْمَةً لَكِنْ لَمَّا كَانَ بَاطِنُهُ مُهْلِكًا فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَعُدُّهُ نِعْمَةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَذَابَ الدَّائِمَ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ فَلَا يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى نِعْمَةٌ عَلَى الْكَافِرِ، فَكَيْفَ يَأْمُرُ رَسُولَهُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِمَنْ أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ عِنْدَ الْبَحْثِ يَرْجِعُ حَاصِلُهَا إِلَى التَّمَسُّكِ بِطَرِيقَةِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَنَحْنُ أَيْضًا نُقَابِلُهَا بِالْكَلَامِ الْمُعْتَمَدِ فِي هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ، فَلَوْ وُجِدَ لَانْقَلَبَ عِلْمُهُ جَهْلًا وَهُوَ مُحَالٌ وَمُسْتَلْزَمُ الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَوُقُوعُهُ مُحَالٌ مَعَ أَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ وَأَيْضًا فَالْقُدْرَةُ عَلَى الْكُفْرِ إِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِلْإِيمَانِ امْتَنَعَ كَوْنُهَا مَصْدَرًا لِلْإِيمَانِ عَلَى التَّعْيِينِ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ، وَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ إِنْ كَانَ مِنَ الْعَبْدِ عَادَ السُّؤَالُ، إن/ كَانَ مِنَ اللَّهِ فَمَا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ مِنَ اللَّهِ امْتَنَعَ حُصُولُ الْكُفْرِ، وَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ وَجَبَ، وَعَلَى هَذَا كَيْفَ لَا يُعْقَلُ قَوْلُهُ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلِيَّ إِذَا طَوَّلَ كَلَامَهُ وَفَرَّعَ وُجُوهَهُ فِي الْمَدْحِ وَالذَّمِّ فَعَلَيْكَ بِمُقَابَلَتِهَا بِهَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ فإنهما يهدمان

جَمِيعَ كَلَامِهِ وَيُشَوِّشَانِ كُلَّ شُبَهَاتِهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً الْمُرَادُ بِهِ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَنُطَفًا، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ خَلْقِ آدَمَ مِنَ التُّرَابِ وَخُلِقَ سَائِرُ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ أَوْلَادِهِ إِلَّا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ النُّطَفِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الْمَيِّتِ عَلَى الْجَمَادِ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ لِأَنَّهُ شَبَّهَ الْمَوَاتَ بِالْمَيِّتِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ بِسَبِيلٍ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مَا يَحِلُّ بِهِ الْمَوْتُ وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِصِفَةِ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَيًّا فِي الْعَادَةِ فَيَكُونُ اللَّحْمِيَّةُ وَالرُّطُوبَةُ وَقَالَ الْأَوَّلُونَ هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ كَانُوا أَمْوَاتًا فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ ثُمَّ أَمَاتَهُمُ الْمَوْتَةَ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَهُمَا حَيَاتَانِ وَمَوْتَتَانِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: 2] وَالْمَوْتُ الْمُقَدَّمُ عَلَى الْحَيَاةِ هُوَ كَوْنُهُ مَوَاتًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ الْمَيِّتِ عَلَى الْمَوَاتِ ثَابِتٌ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَقْرَبُ، لِأَنَّهُ يُقَالُ فِي الْجَمَادِ إِنَّهُ مَوَاتٌ وَلَيْسَ بِمَيِّتٍ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ قَالَ الْقَفَّالُ: وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الْإِنْسَانِ: 1] فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْإِنْسَانَ كَانَ لَا شَيْءَ يُذْكَرُ فَجَعَلَهُ اللَّهُ حَيًّا وَجَعَلَهُ سَمِيعًا بَصِيرًا وَمَجَازُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ مَيِّتُ الذِّكْرِ. وَهَذَا أَمْرٌ مَيِّتٌ، وَهَذِهِ سِلْعَةٌ مَيِّتَةٌ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا طَالِبٌ وَلَا ذَاكِرٌ قَالَ الْمُخَبَّلُ السَّعْدِيُّ: وَأَحْيَيْتَ لِي ذِكْرِي وَمَا خَامِلًا ... وَلَكِنَّ بَعْضَ الذِّكْرِ أَنْبَهُ مِنْ بَعْضِ فَكَذَا مَعْنَى الْآيَةِ: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً أَيْ خَامِلِينَ وَلَا ذِكْرَ لَكُمْ لِأَنَّكُمْ لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا فَأَحْياكُمْ أَيْ فَجَعَلَكُمْ خَلْقًا سَمِيعًا بَصِيرًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى بُطْلَانِ عَذَابِ الْقَبْرِ، قَالُوا لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ يُحْيِيهِمْ مَرَّةً فِي الدُّنْيَا وَأُخْرَى فِي الْآخِرَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ حَيَاةَ الْقَبْرِ وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 15، 16] وَلَمْ يَذْكُرْ حَيَاةً فِيمَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، قَالُوا وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ [غَافِرٍ: 11] لِأَنَّهُ قَوْلُ الْكُفَّارِ، وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ أَثْبَتُوا حَيَاةَ الذَّرِّ فِي صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ اسْتَخْرَجَهُمْ وَقَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الْأَعْرَافِ: 172] وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ حَصَلَ حَيَاتَانِ وَمَوْتَتَانِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى إِثْبَاتِ حَيَاةٍ فِي الْقَبْرِ، فَالْجَوَابُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ الذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ لَا تَكُونَ حَاصِلَةً، وَأَيْضًا فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ حَيَاةَ الْقَبْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. لأن قوله في يحييكم ليس هو الحياة الدائمة وإلا لم صَحَّ أَنْ يَقُولَ: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لِأَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ تَقْتَضِي التَّرَاخِيَ، وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَاصِلٌ عَقِبَ الْحَيَاةِ/ الدَّائِمَةِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ فَلَوْ جَعَلْنَا الْآيَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ دَلِيلًا عَلَى حَيَاةِ الْقَبْرِ كَانَ قَرِيبًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ يَعْنِي بِهِ الْعَامَّةَ، وَأَمَّا بَعْضُ النَّاسِ فَقَدْ أَمَاتَهُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ نَحْوَ مَا حَكَى فِي قَوْلِهِ: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها [الْبَقَرَةِ: 259] إِلَى قَوْلِهِ: فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ وَكَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ [الْبَقَرَةِ: 243] وَكَقَوْلِهِ: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 55، 56] وَكَقَوْلِهِ: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى [الْبَقَرَةِ: 73] وَكَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيها [الْكَهْفِ: 21] وَكَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ أيوب

عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: 84] فإن الله تعالى رد عليه أهله بعد ما أَمَاتَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: تَمَسَّكَ الْمُجَسِّمَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فِي مَكَانٍ وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ إِلَى حُكْمِهِ يُرْجَعُونَ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَيَجْمَعُهُمْ فِي الْمَحْشَرِ وَذَلِكَ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا وُصِفَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى حَيْثُ لَا يَتَوَلَّى الْحُكْمَ غَيْرُهُ كَقَوْلِهِمْ رَجَعَ أَمْرُهُ إِلَى الْأَمِيرِ، أَيْ إِلَى حَيْثُ لَا يَحْكُمُ غَيْرُهُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَيَبْطُلُ بِهِ قَوْلُ أَهْلِ الطَّبَائِعِ مِنْ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْأَرْكَانِ وَالْمِزَاجَاتِ كَمَا حكى عن قوم في قوله: مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الْجَاثِيَةِ: 24] الثَّانِي: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الدَّالِّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَحْيَا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بَعْدَ مَوْتِهَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ ذَلِكَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّكْلِيفِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، الْخَامِسُ: أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ قَالَ: فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمَوْتِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ عَلَى هَذَا الْمَوْتِ. بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ أَمَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمَوْتِ، فَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وتعالى أنه بعد ما كَانَ نُطْفَةً فَإِنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُ وَصَوَّرَهُ أَحْسَنَ صُورَةٍ وَجَعَلَهُ بَشَرًا سَوِيًّا وَأَكْمَلَ عَقْلَهُ وَصَيَّرَهُ بَصِيرًا بِأَنْوَاعِ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ وَمَلَّكَهُ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ وَالدُّورَ وَالْقُصُورَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُزِيلُ كُلَّ ذَلِكَ عَنْهُ بِأَنْ يُمِيتَهُ وَيُصَيِّرَهُ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَلَا يَبْقَى مِنْهُ فِي الدُّنْيَا خَبَرٌ وَلَا أَثَرٌ وَيَبْقَى مُدَّةً طَوِيلَةً فِي اللُّحُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ [الْمُؤْمِنُونَ: 100] يُنَادَى فَلَا يُجِيبُ وَيُسْتَنْطَقُ فَلَا يَتَكَلَّمُ ثُمَّ لَا يَزُورُهُ الْأَقْرَبُونَ، بَلْ يَنْسَاهُ الْأَهْلُ وَالْبَنُونَ. كَمَا قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ: يَمُرُّ أَقَارِبِي بِحِذَاءِ قَبْرِي ... كَأَنَّ أَقَارِبِي لَمْ يَعْرِفُونِي وَقَالَ أَيْضًا: إِلَهِي كَأَنِّي بِنَفْسِي وَقَدْ أَضْجَعُوهَا فِي حُفْرَتِهَا، وَانْصَرَفَ الْمُشَيِّعُونَ عَنْ تَشْيِيعِهَا، وَبَكَى الْغَرِيبُ عَلَيْهَا لِغُرْبَتِهَا، وَنَادَاهَا مِنْ شَفِيرِ الْقَبْرِ ذُو مَوَدَّتِهَا، وَرَحِمَتْهَا الْأَعَادِي عِنْدَ جَزْعَتِهَا، / وَلَمْ يَخْفَ عَلَى النَّاظِرِينَ عَجْزُ حِيلَتِهَا، فَمَا رجائي إلا أن نقول: مَا تَقُولُ مَلَائِكَتِي انْظُرُوا إِلَى فَرِيدٍ قَدْ نَأَى عَنْهُ الْأَقْرَبُونَ، وَوَحِيدٍ قَدْ جَفَاهُ الْمُحِبُّونَ، أَصْبَحَ مِنِّي قَرِيبًا وَفِي اللَّحْدِ غَرِيبًا، وَكَانَ لِي فِي الدُّنْيَا دَاعِيًا وَمُجِيبًا، وَلِإِحْسَانِي إِلَيْهِ عِنْدَ وُصُولِهِ إِلَى هَذَا الْبَيْتِ رَاجِيًا، فَأَحْسِنْ إِلَيَّ هُنَاكَ يَا قَدِيمَ الْإِحْسَانِ، وَحَقِّقْ رَجَائِيَ فِيكَ يَا وَاسِعَ الْغُفْرَانِ. وَأَمَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ فلأن سُبْحَانَهُ يَأْمُرُ بِأَنْ يُنْفَخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ... ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزُّمَرِ: 68] وَقَالَ: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [الْمَعَارِجِ: 43] ثُمَّ يُعْرَضُونَ على الله كما قال: عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا [الْكَهْفِ: 48] فَيَقُومُونَ خَاشِعِينَ خَاضِعِينَ كَمَا قَالَ: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ [طَهَ: 108] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِلَهَنَا إِذَا قُمْنَا مِنْ ثَرَى الْأَجْدَاثِ مُغْبَرَّةٌ رُؤُوسُنَا. وَمِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ شَاحِبَةٌ وُجُوهُنَا، وَمِنْ هَوْلِ الْقِيَامَةِ مُطْرِقَةٌ رُؤُوسُنَا. وَجَائِعَةٌ لِطُولِ الْقِيَامَةِ بُطُونُنَا، وَبَادِيَةٌ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ سَوْآتُنَا، وَمُوقَرَةٌ مِنْ ثِقَلِ الْأَوْزَارِ ظُهُورُنَا، وَبَقِينَا مُتَحَيِّرِينَ فِي أُمُورِنَا نَادِمِينَ عَلَى ذُنُوبِنَا، فَلَا تُضْعِفِ الْمَصَائِبَ بِإِعْرَاضِكَ عَنَّا، وَوَسِّعْ رَحْمَتَكَ وَغُفْرَانَكَ لَنَا، يَا عظيم الرحمة يا واسع المغفرة.

[سورة البقرة (2) : آية 29]

[سورة البقرة (2) : آية 29] هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النِّعْمَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي عَمَّتِ الْمُكَلَّفِينَ بِأَسْرِهِمْ وَمَا أَحْسَنَ مَا رَعَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا التَّرْتِيبَ فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ حُصُولِ الْحَيَاةِ فَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ أَمْرَ الْحَيَاةِ أَوَّلًا ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَمَّا قَوْلُهُ: خَلَقَ فَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 21] وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَكُمْ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ بَعْدَ قَوْلِهِ خَلَقَ لِأَجْلِ انْتِفَاعِنَا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلِيُصْلِحَ أَبْدَانَنَا وَلِنَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَأَمَّا فِي الدِّينِ فَلِلِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَالِاعْتِبَارِ بِهَا وَجَمَعَ بِقَوْلِهِ: مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً جَمِيعَ الْمَنَافِعِ، فَمِنْهَا مَا يَتَّصِلُ بِالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ وَالْجِبَالِ وَمِنْهَا مَا يَتَّصِلُ بِضُرُوبِ الْحِرَفِ وَالْأُمُورِ الَّتِي اسْتَنْبَطَهَا الْعُقَلَاءُ وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إِنَّمَا خَلَقَهَا كَيْ يُنْتَفَعَ بِهَا كَمَا قَالَ: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الْجَاثِيَةِ: 13] فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وقد خلق لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا أَوْ يُقَالُ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى الْإِعَادَةِ وَقَدْ أَحْيَاكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ وَلِأَنَّهُ خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ/ جَمِيعًا فَكَيْفَ يَعْجَزُ عَنْ إِعَادَتِكُمْ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ تَفَاصِيلَ هَذِهِ الْمَنَافِعِ فِي سُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا قَالَ: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا [عَبَسَ: 25] وَقَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ [النَّحْلِ: 5] إِلَى آخره وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَفْعَلُ فِعْلًا لِغَرَضٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُسْتَكْمَلًا بِذَلِكَ الْغَرَضِ وَالْمُسْتَكْمَلُ بِغَيْرِهِ نَاقِصٌ بِذَاتِهِ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ فَإِنْ قِيلَ: فِعْلُهُ تَعَالَى مُعَلَّلٌ بِغَرَضٍ غَيْرِ عَائِدٍ إِلَيْهِ بَلْ إِلَى غَيْرِهِ، قُلْنَا: عَوْدُ ذَلِكَ الْغَرَضِ إِلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ هَلْ هُوَ أَوْلَى لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ عَوْدِ ذَلِكَ الْغَرَضِ إِلَيْهِ أَوْ لَيْسَ أَوْلَى؟ فَإِنْ كَانَ أَوْلَى فَهُوَ تَعَالَى قَدِ انْتَفَعَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ فَيَعُودُ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ تَحْصِيلُ ذَلِكَ الْغَرَضِ الْمَذْكُورِ لِذَلِكَ الْغَيْرِ غَرَضًا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِيهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ كَانَ عَاجِزًا عَنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْغَرَضِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَالْعَجْزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ لَكَانَ ذَلِكَ الْغَرَضُ إِنْ كَانَ قَدِيمًا لَزِمَ قِدَمُ الْفِعْلِ وَإِنْ كَانَ مُحْدَثًا كَانَ فِعْلُهُ لِذَلِكَ الْغَرَضِ لِغَرَضٍ آخَرَ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ يَفْعَلُ لِغَرَضٍ لَكَانَ ذَلِكَ الْغَرَضُ هُوَ رِعَايَةُ مَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِينَ وَلَوْ تَوَقَّفَتْ فَاعِلِيَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ لَمَا فَعَلَ مَا كَانَ مَفْسَدَةً فِي حَقِّهِمْ لَكِنَّهُ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ حَيْثُ كَلَّفَ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ ثُمَّ إِنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِي اللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] فَقَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا فَعَلَ مَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ لَكَانَ فِعْلُهُ لِذَلِكَ الشَّيْءِ لِأَجْلِ الْغَرَضِ لَا جَرَمَ أَطْلَقَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَفْظَ الْغَرَضِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمُشَابَهَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَهْلُ الْإِبَاحَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْكُلَّ لِلْكُلِّ فَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ اخْتِصَاصٌ بِشَيْءٍ أَصْلًا وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَابَلَ الْكُلَّ بِالْكُلِّ، فَيَقْتَضِي مُقَابَلَةَ الْفَرْدِ بِالْفَرْدِ، وَالتَّعْيِينُ يُسْتَفَادُ مِنْ دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَالْفُقَهَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قِيلَ إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ أَكْلِ الطِّينِ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ لَنَا مَا فِي الْأَرْضِ دُونَ نَفْسِ الْأَرْضِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ فِي جُمْلَةِ الْأَرْضِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي الْأَرْضِ فَيَكُونُ جَمْعًا لِلْمَوْضِعَيْنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعَادِنَ دَاخِلَةٌ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ عُرُوقُ الْأَرْضِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى بَعْضٍ لَهَا وَلِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْحَاجَةُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا لَكَانَ قَدْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِنَفْسِهِ أَيْضًا لَا لِغَيْرِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الِاسْتِوَاءُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الِانْتِصَابِ وَضِدُّهُ الِاعْوِجَاجُ وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، فَاللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنْ ذَلِكَ وَلِأَنَّ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ اسْتَوى يَقْتَضِي التَّرَاخِيَ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الِاسْتِوَاءِ الْعُلُوَّ/ بِالْمَكَانِ لَكَانَ ذَلِكَ الْعُلُوُّ حَاصِلًا أَوَّلًا وَلَوْ كَانَ حَاصِلًا أَوَّلًا لَمَا كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْ خَلْقِ مَا فِي الْأَرْضِ لَكِنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ اسْتَوى يَقْتَضِي التَّرَاخِيَ، وَلَمَّا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ التَّأْوِيلُ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ هُوَ الِاسْتِقَامَةُ يُقَالُ اسْتَوَى الْعُودُ إِذَا قَامَ وَاعْتَدَلَ ثُمَّ قِيلَ اسْتَوَى إِلَيْهِ كَالسَّهْمِ الْمُرْسَلِ إِذَا قَصَدَهُ قَصْدًا مُسْتَوِيًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ وَمِنْهُ اسْتُعِيرَ قَوْلُهُ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أَيْ خَلَقَ بَعْدَ الْأَرْضِ السَّمَاءَ وَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُمَا زَمَانًا وَلَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا آخَرَ بَعْدَ خَلْقِهِ الْأَرْضَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [في تَقْدِيرِ الْأَرْضِ فِي يَوْمَيْنِ وَتَقْدِيرِ الْأَقْوَاتِ فِي يومين آخرين] قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ مفسر بقوله: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ [فُصِّلَتْ: 9، 10] بِمَعْنَى تَقْدِيرِ الْأَرْضِ فِي يَوْمَيْنِ وَتَقْدِيرِ الْأَقْوَاتِ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ عِشْرُونَ يَوْمًا، وَإِلَى مَكَّةَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ هُوَ هَذَا الْقَدْرُ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ سِتَّةُ أَيَّامٍ عَلَى مَا قَالَ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [الْأَعْرَافِ: 54] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُ الْمُلْحِدَةِ هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ قبل خلق السماء وكذا قوله: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [فصلت: 9- 11] وَقَالَ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النَّازِعَاتِ: 27- 30] وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ خَلْقُ الْأَرْضَ بَعْدَ السَّمَاءِ وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ إِلَّا أَنَّهُ مَا دَحَاهَا حَتَّى خَلَقَ السَّمَاءَ لِأَنَّ التَّدْحِيَةَ هِيَ الْبَسْطُ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا أَمْرٌ مُشْكِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَرْضَ جِسْمٌ عَظِيمٌ فَامْتَنَعَ انْفِكَاكُ خَلْقِهَا عَنِ التَّدْحِيَةِ وَإِذَا كَانَتِ التَّدْحِيَةُ مُتَأَخِّرَةً عَنْ خَلْقِ السَّمَاءِ كَانَ خَلْقُهَا أَيْضًا لَا مَحَالَةَ مُتَأَخِّرًا عَنْ خَلْقِ السَّمَاءِ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ وَخَلْقَ كُلِّ مَا فِيهَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى خَلْقِ السَّمَاءِ لَكِنَّ خَلْقَ الْأَشْيَاءِ فِي الْأَرْضِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مَدْحُوَّةً فَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي تَقَدُّمَ كَوْنِهَا مَدْحُوَّةً قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ وَحِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ التَّنَاقُضُ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات: 30] يَقْتَضِي تَقْدِيمَ خَلْقِ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ تَسْوِيَةُ السَّمَاءِ مُقَدَّمَةً عَلَى خَلْقِ الْأَرْضِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ التَّنَاقُضُ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها

رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها [النازعات: 27، 28] يقتضي أن يكون خلق السماء وتسويتها مقدم عَلَى تَدْحِيَةِ الْأَرْضِ وَلَكِنَّ تَدْحِيَةَ الْأَرْضِ مُلَازِمَةٌ لِخَلْقِ ذَاتِ الْأَرْضِ فَإِنَّ ذَاتَ السَّمَاءِ وَتَسْوِيَتَهَا مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى ذَاتِ الْأَرْضِ وَحِينَئِذٍ يَعُودُ السُّؤَالُ، وَثَالِثُهَا: وَهُوَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَهُ: «ثُمَّ» ليس للترتيب هاهنا وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى جِهَةِ تَعْدِيدِ النِّعَمِ، مِثَالُهُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ: / أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتُكَ النِّعَمَ الْعَظِيمَةَ ثُمَّ رَفَعْتُ قَدْرَكَ ثُمَّ دَفَعْتُ الْخُصُومَ عَنْكَ، وَلَعَلَّ بَعْضَ مَا أَخَّرَهُ فِي الذِّكْرِ قد تقدم فكذا هاهنا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الضَّمِيرُ فِي فَسَوَّاهُنَّ ضمير مبهم، وسبع سموات تَفْسِيرٌ لَهُ كَقَوْلِهِ رَبَّهُ رَجُلًا وَفَائِدَتُهُ أَنَّ الْمُبْهَمَ إِذَا تَبَيَّنَ كَانَ أَفْخَمَ وَأَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَيَّنَ أَوَّلًا لِأَنَّهُ إِذَا أُبْهِمَ تَشَوَّفَتِ النُّفُوسُ إِلَى الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ وَفِي الْبَيَانِ بَعْدَ ذَلِكَ شِفَاءٌ لَهَا بَعْدَ التَّشَوُّفِ، وَقِيلَ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى السَّمَاءِ، وَالسَّمَاءُ فِي مَعْنَى الْجِنْسِ وَقِيلَ جَمْعُ سِمَاءَةٍ، وَالْوَجْهُ الْعَرَبِيُّ هُوَ الْأَوَّلُ وَمَعْنَى تَسْوِيَتِهِنَّ تَعْدِيلُ خَلْقِهِنَّ وَإِخْلَاؤُهُ مِنَ الْعِوَجِ وَالْفُطُورِ وَإِتْمَامُ خَلْقِهِنَّ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ القرآن هاهنا قد دل على وجود سبع سموات، وَقَالَ أَصْحَابُ الْهَيْئَةِ أَقْرَبُهَا إِلَيْنَا كُرَةُ الْقَمَرِ، وَفَوْقَهَا كُرَةُ عُطَارِدَ، ثُمَّ كُرَةُ الزُّهْرَةِ، ثُمَّ كُرَةُ الشَّمْسِ. ثُمَّ كُرَةُ الْمِرِّيخِ، ثُمَّ كُرَةُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ كُرَةُ زُحَلَ، قَالُوا وَلَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ إِلَّا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: السِّتْرُ وَذَلِكَ أَنَّ الْكَوْكَبَ الْأَسْفَلَ إِذَا مر بين أبصارنا وبين الكوكب الأعلى فإنهما يَصِيرَانِ كَكَوْكَبٍ وَاحِدٍ وَيَتَمَيَّزُ السَّاتِرُ عَنِ الْمَسْتُورِ بِكَوْنِهِ الْغَالِبَ كَحُمْرَةِ الْمِرِّيخِ وَصُفْرَةِ عُطَارِدَ، وَبَيَاضِ الزُّهْرَةِ، وَزُرْقَةِ الْمُشْتَرِي، وَكُدُورَةِ زُحَلَ كَمَا أَنَّ الْقُدَمَاءَ وَجَدُوا الْقَمَرَ يَكْسِفُ الْكَوَاكِبَ السِّتَّةَ. وَكَوْكَبَ عُطَارِدَ يَكْسِفُ الزُّهْرَةَ، وَالزُّهْرَةَ تَكْسِفُ الْمِرِّيخَ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الشَّمْسِ فَوْقَ الْقَمَرِ لِانْكِسَافِهَا بِهِ وَلَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا تَحْتَ سَائِرِ الْكَوَاكِبِ أَوْ فَوْقَهَا لِأَنَّهَا لَا تَنْكَسِفُ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِاضْمِحْلَالٍ سَائِرِ الْكَوَاكِبِ عِنْدَ طُلُوعِهَا فَعِنْدَ هَذَا ذَكَرُوا طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ رَأَى الزُّهْرَةَ كَشَامَةٍ فِي صَحِيفَةِ الشَّمْسِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ فِي وَجْهِ الشَّمْسِ شامة كما أن حَصَلَ فِي وَجْهِ الْقَمَرِ الْمَحْوُ، الثَّانِي: اخْتِلَافُ المنظر فإنه محسوس للقمر وعطارد والزهرة وغير مَحْسُوسٍ لِلْمِرِّيخِ وَالْمُشْتَرِي وَزُحَلَ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الشَّمْسِ فَإِنَّهُ قَلِيلٌ جِدًّا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الشَّمْسُ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ هَذَا مَا قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ إِلَّا أَنَّ أَبَا الرَّيْحَانِ قَالَ فِي «تلخيصه لفصول الفرغاني» : إن اختلاف المنظر لا يُحَسُّ إِلَّا فِي الْقَمَرِ فَبَطَلَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ وَبَقِيَ مَوْضِعُ الشَّمْسِ مَشْكُوكًا. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَرْصَادِ وَأَرْبَابَ الْهَيْئَةِ زَعَمُوا أَنَّ الْأَفْلَاكَ تِسْعَةٌ، فَالسَّبْعَةُ هِيَ هَذِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَالْفَلَكُ الثَّامِنُ هُوَ الَّذِي حَصَلَتْ هَذِهِ الْكَوَاكِبُ الثَّابِتَةُ فِيهِ، وَأَمَّا الْفَلَكُ التَّاسِعُ فَهُوَ الْفَلَكُ الْأَعْظَمُ وَهُوَ يتحرك في كل يوم وليلة دورة واجدة بِالتَّقْرِيبِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى إِثْبَاتِ الْفَلَكِ الثَّامِنِ بِأَنَّا وَجَدْنَا لِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ الثَّابِتَةِ حَرَكَاتٍ بَطِيئَةً وَثَبَتَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ لَا تَتَحَرَّكُ إِلَّا بِحَرَكَةِ فَلَكِهَا وَالْأَفْلَاكُ الْحَامِلَةُ لِهَذِهِ السَّيَّارَاتِ تَتَحَرَّكُ حَرَكَاتٍ سَرِيعَةً فَلَا بُدَّ مِنْ جِسْمٍ آخَرَ يَتَحَرَّكُ حَرَكَةً بَطِيئَةً وَيَكُونُ هُوَ الْحَامِلَ لِهَذِهِ الثَّوَابِتِ، وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ ضَعِيفَةٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْكَوَاكِبُ تَتَحَرَّكُ بِأَنْفُسِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مَرْكُوزَةً فِي جِسْمٍ آخَرَ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ لَا يَفْسُدُ إِلَّا بِإِفْسَادِ الْمُخْتَارِ/ وَدُونَهُ خَرْطُ الْقَتَادِ. وَثَانِيهَا: سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ مَرْكُوزَةٌ فِي مُمَثِّلَاتِ السَّيَّارَاتِ وَالسَّيَّارَاتِ مَرْكُوزَةٌ فِي حَوَامِلِهَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ الْفَلَكِ الثَّامِنِ. وَثَالِثُهَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَلَكُ تَحْتَ فَلَكِ الْقَمَرِ فَيَكُونُ تَحْتَ كُرَاتِ السَّيَّارَاتِ لَا فَوْقَهَا فَإِنْ قِيلَ إِنَّا نَرَى هَذِهِ السَّيَّارَاتِ تَكْسِفُ هَذِهِ الثَّوَابِتَ وَالْكَاسِفُ تَحْتَ

الْمَكْسُوفِ لَا مَحَالَةَ قُلْنَا هَذِهِ السَّيَّارَاتُ إِنَّمَا تَكْسِفُ الثَّوَابِتَ الْقَرِيبَةَ مِنَ الْمِنْطَقَةِ فَأَمَّا الثَّوَابِتُ الْقَرِيبَةُ مِنَ الْقُطْبَيْنِ فَلَا، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الثَّوَابِتُ الْقَرِيبَةُ مِنَ الْمِنْطَقَةِ مَرْكُوزَةٌ فِي الْفَلَكِ الثَّامِنِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ كُرَةِ زُحَلَ وَهَذِهِ الثَّوَابِتُ الْقَرِيبَةُ مِنَ الْقُطْبَيْنِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ انْكِسَافُهَا بِالسَّيَّارَاتِ مَرْكُوزَةٌ فِي كُرَةٍ أُخْرَى تَحْتَ كُرَةِ الْقَمَرِ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ لَا دَافِعَ لَهُ، ثُمَّ نَقُولُ هَبْ أَنَّكُمْ أَثْبَتُّمْ هَذِهِ الْأَفْلَاكَ التِّسْعَةَ فَمَا الَّذِي دَلَّكُمْ عَلَى نَفْيِ الْفَلَكِ الْعَاشِرِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الرَّصْدَ مَا دَلَّ إِلَّا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ إِلَّا أَنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَدْلُولِ، وَالَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ: إِنَّهُ مَا تَبَيَّنَ لِي إِلَى الْآنِ أَنَّ كُرَةَ الثَّوَابِتِ كُرَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ كُرَاتٌ مُنْطَوٍ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَأَقُولُ هَذَا الِاحْتِمَالُ وَاقِعٌ، لِأَنَّ الَّذِي يستدل به على وجدة كُرَةِ الثَّوَابِتِ لَيْسَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ حَرَكَاتِهَا مُتَشَابِهَةٌ وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَتْ مَرْكُوزَةً فِي كُرَةٍ وَاحِدَةٍ وَكِلْتَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ غَيْرُ يَقِينِيَّتَيْنِ. أَمَّا الْأُولَى: فَلِأَنَّ حَرَكَاتِهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحِسِّ وَاحِدَةً وَلَكِنْ لَعَلَّهَا لَا تَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدَةً، لِأَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ وَاحِدًا مِنْهَا يُتَمِّمُ الدَّوْرَةَ فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَالْآخَرُ يُتَمِّمُ الدَّوْرَةَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِنُقْصَانِ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِذَا وَزَّعَنَا ذَلِكَ النُّقْصَانَ عَلَى هَذِهِ السِّنِينَ كَانَ الَّذِي هُوَ حِصَّةُ السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ جُزْءٍ مِنْ وَاحِدٍ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِمَّا لَا يُحَسُّ بِهِ بَلِ الْعَشْرُ سِنِينَ وَالْمِائَةُ وَالْأَلْفُ مِمَّا لَا يُحَسُّ بِهِ الْبَتَّةَ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا سَقَطَ الْقَطْعُ الْبَتَّةَ عَنِ اسْتِوَاءِ حَرَكَاتِ الثَّوَابِتِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَلِأَنَّ اسْتِوَاءَ حَرَكَاتِ الثَّوَابِتِ فِي مَقَادِيرِ حَرَكَاتِهَا لَا يُوجِبُ كَوْنَهَا بِأَسْرِهَا مَرْكُوزَةً فِي كُرَةٍ وَاحِدَةٍ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهَا مَرْكُوزَةً فِي كُرَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَرِكَةً فِي مَقَادِيرِ حَرَكَاتِهَا وَهَذَا كَمَا يَقُولُونَ فِي مُمَثِّلَاتِ أَكْثَرِ الْكَوَاكِبِ فَإِنَّهَا في حركاتها مساوية لفلك الثوابت فكذا هاهنا. وَأَقُولُ إِنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ الَّذِي ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِفَلَكِ الثَّوَابِتِ فَلَعَلَّ الْجِرْمَ الْمُتَحَرِّكَ بِالْحَرَكَةِ الْيَوْمِيَّةِ لَيْسَ جِرْمًا وَاحِدًا بَلْ أَجْرَامًا كَثِيرَةً إِمَّا مُخْتَلِفَةَ الْحَرَكَاتِ لَكِنْ بِتَفَاوُتٍ قَلِيلٍ لَا تَفِي بِإِدْرَاكِهَا أَعْمَارُنَا وَأَرْصَادُنَا وَإِمَّا مُتَسَاوِيَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَكِنَّ تَسَاوِيَهَا لَا يُوجِبُ وِحْدَتَهَا، وَمِنْ أَصْحَابِ الْهَيْئَةِ مَنْ قَطَعَ بِإِثْبَاتِ أَفْلَاكٍ أُخَرَ غَيْرِ هَذِهِ التِّسْعَةِ فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَثْبَتَ كُرَةً فَوْقَ كُرَةِ الثَّوَابِتِ وَتَحْتَ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّاصِدِينَ لِلْمَيْلِ الْأَعْظَمِ وَجَدُوهُ مُخْتَلِفَ الْمِقْدَارِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ رَصْدُهُ أَقْدَمَ وَجَدَ مِقْدَارَ الْمَيْلِ أَعْظَمَ فَإِنَّ بَطْلَيْمُوسَ وَجَدَهُ «لَحَّ يَا» «1» ثُمَّ وُجِدَ فِي زَمَانِ الْمَأْمُونِ «كَحَّ لَهُ» ثُمَّ وُجِدَ بَعْدَ/ الْمَأْمُونِ قَدْ تَنَاقَصَ بِدَقِيقَةٍ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمَنْطِقَتَيْنِ أَنْ يَقِلَّ مَيْلُهُمَا تَارَةً وَيَكْثُرَ أُخْرَى وَهَذَا إِنَّمَا يُمْكِنُ إِذَا كَانَ بَيْنَ كُرَةِ الْكُلِّ وَكُرَةِ الثَّوَابِتِ كُرَةٌ أُخْرَى يَدُورُ قُطْبَاهَا حَوْلَ قُطْبَيِ كُرَةِ الْكُلِّ وَتَكُونُ كُرَةُ الثَّوَابِتِ يَدُورُ قطباها حول قطبي تلك الكرة فيعرض لقطبها تَارَةً أَنْ يَصِيرَ إِلَى جَانِبِ الشَّمَالِ مُنْخَفِضًا وَتَارَةً إِلَى جَانِبِ الْجَنُوبِ مُرْتَفِعًا فَيَلْزَمُ مِنْ ذلك أن ينطبق معدل النهار على منطقة الْبُرُوجِ، وَأَنْ يَنْفَصِلَ عَنْهُ تَارَةً أُخْرَى إِلَى الجنوب عند ما يَرْتَفِعُ قُطْبُ فَلَكِ الثَّوَابِتِ إِلَى الْجَنُوبِ، وَتَارَةً إِلَى الشَّمَالِ. كَمَا هُوَ الْآنَ. الثَّانِي: أَنَّ أَصْحَابَ الْأَرْصَادِ اضْطَرَبُوا اضْطِرَابًا شَدِيدًا فِي مِقْدَارِ سَيْرِ الشَّمْسِ عَلَى مَا هُوَ مَشْرُوحٌ فِي «كُتُبِ النُّجُومِ» حَتَّى إِنَّ بَطْلَيْمُوسَ حَكَى عَنْ أَبْرَخِيسَ أَنَّهُ كَانَ شَاكًّا فِي أَنَّ هَذِهِ الْعَوْدَةَ تَكُونُ فِي أَزْمِنَةٍ مُتَسَاوِيَةٍ أَوْ مُخْتَلِفَةٍ وَأَنَّهُ يَقُولُ فِي بَعْضِ أَقَاوِيلِهِ: إِنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ، وفي بعضها: إنها متساوية في إِنَّ النَّاسَ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ اخْتِلَافِهِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُ أَوْجَ الشَّمْسِ مُتَحَرِّكًا فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ الَّذِي يَلْحَقُ حَرَكَةَ الشَّمْسِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَخْتَلِفُ عِنْدَ نُقْطَةِ الاعتدال لاختلاف بعدها عن الأوج

_ (1) يريد بعبارة (لح با) أي عددها بالجمل يساوي 549 وبعبارة (كح له) أن عددها بالجمل 63 وهما زاويتا الميل. وذهب المحدثون من الجغرافيين إلى أنه 5، 27.

[سورة البقرة (2) : آية 30]

فَيَخْتَلِفُ زَمَانُ سَيْرِ الشَّمْسِ مِنْ أَجْلِهِ. الثَّانِي: قَوْلُ أَهْلِ الْهِنْدِ وَالصِّينِ وَبَابِلَ وَأَكْثَرِ قُدَمَاءِ الروم ومصر والشام: إن السبب فيه انتقال فَلَكِ الْبُرُوجِ وَارْتِفَاعُ قُطْبِهِ وَانْحِطَاطُهُ، وَحُكِيَ عَنْ أَبْرَخِيسَ أَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ هَذَا الرَّأْيَ وَذَكَرَ بَارِيَاءُ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ أَنَّ أَصْحَابَ الطَّلْسَمَاتِ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ وَأَنَّ نُقْطَةَ فَلَكِ الْبُرُوجِ تَتَقَدَّمُ عَنْ مَوْضِعِهَا وَتَتَأَخَّرُ ثَمَانِ دَرَجَاتٍ وَقَالُوا إِنَّ ابْتِدَاءَ الحركة من «كب» درجة من الحوت إلى أَوَّلِ الْحَمَلِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْخَبْطَ مِمَّا يُنَبِّهُكَ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْعُقُولِ الْبَشَرِيَّةِ إِلَى إِدْرَاكِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَنَّهُ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا عِلْمُ فَاطِرِهَا وَخَالِقِهَا فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ فِيهِ عَلَى الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فهل يدل التنصيص على سبع سموات عَلَى نَفْيِ الْعَدَدِ الزَّائِدِ؟ قُلْنَا الْحَقُّ أَنَّ تَخْصِيصَ الْعَدَدِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الزائد. المسألة السادسة: [في خلق الله تعالى الأرض والسماء متفرع على علمه واحاطته بجزئياتها وكلياتها] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يُمْكِنُ أَنْ يكون خالقاً للأرض وما فيها وللسموات وَمَا فِيهَا مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ إِلَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِهَا مُحِيطًا بِجُزْئِيَّاتِهَا وَكُلِّيَّاتِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ: أَحَدُهَا: فَسَادُ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ وَصِحَّةُ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ اسْتَدَلُّوا عَلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْجُزْئِيَّاتِ بِأَنْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَاعِلٌ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ وَكُلُّ فَاعِلٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فإن لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا فَعَلَهُ وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ بِعَيْنِهَا ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هذا الموضع لأنه ذكر خلق السموات وَالْأَرْضِ ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ كَوْنَهُ عَالِمًا، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي هَذَا المذهب وفي هذا المذهب وفي هذ الِاسْتِدْلَالِ مُطَابِقٌ لِلْقُرْآنِ. وَثَانِيهَا: فَسَادُ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْخَالِقَ لِلشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ وَالتَّحْدِيدِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ وَبِتَفَاصِيلِهِ لِأَنَّ خَالِقَهُ قَدْ خَصَّهُ بِقَدْرٍ دُونَ قَدْرٍ وَالتَّخْصِيصُ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِإِرَادَةٍ وَإِلَّا فَقَدْ حَصَلَ الرُّجْحَانُ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ وَالْإِرَادَةُ مَشْرُوطَةٌ بِالْعِلْمِ فَثَبَتَ أَنَّ خَالِقَ/ الشَّيْءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ. فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُوجِدًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ لَكَانَ عَالِمًا بِهَا وَبِتَفَاصِيلِهَا فِي الْعَدَدِ وَالْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ فَلَمَّا لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْعِلْمُ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُوجِدٍ نَفْسَهُ. وَثَالِثُهَا: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِذَا جَمَعْتَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ظَهَرَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِذَاتِهِ، وَالْجَوَابُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يُوسُفَ: 76] عَامٌّ وَقَوْلُهُ: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النِّسَاءِ: 166] خَاصٌّ وَالْخَاصُّ مقدم على العام. والله تعالى أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 30] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى كَيْفِيَّةِ خَلْقِهِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَى كَيْفِيَّةِ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ إِنْعَامًا عَامًّا عَلَى جَمِيعِ بَنِي آدَمَ فَيَكُونُ هَذَا هُوَ النِّعْمَةَ الثَّالِثَةَ مِنْ تِلْكَ النِّعَمِ الْعَامَّةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ثُمَّ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي إِذْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صِلَةٌ زَائِدَةٌ إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ يَعْتَادُونَ التَّكَلُّمَ بِهَا وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ. الثَّانِي: وَهُوَ الْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا مَعْنَى لَهُ وَهُوَ نُصِبَ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ، وَالْمَعْنَى اذْكُرْ لَهُمْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ فَأَضْمَرَ هَذَا الأمرين: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَشَفَ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ [الْأَحْقَافِ: 21] وَقَالَ: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ

[ص: 17] ، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ [يس: 13، 14] وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَوَاضِعُ الْمُصَرِّحَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السورة فلا جرم ترك ذلك هاهنا اكْتِفَاءً بِذَلِكَ الْمُصَرَّحِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ «إِذْ» بِقَالُوا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَلَكُ أَصْلُهُ مِنَ الرِّسَالَةِ، يُقَالُ أَلَكَنِي إِلَيْهِ أَيْ أَرْسَلَنِي إِلَيْهِ وَالْمَأْلُكَةُ وَالْأَلُوكَةُ الرِّسَالَةُ وَأَصْلُهُ الْهَمْزَةُ مِنْ «مَلْأَكَةٍ» حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا طَلَبًا لِلْخِفَّةِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْمَلَائِكُ جَمْعُ مَلْأَكٍ عَلَى الْأَصْلِ كالشمائل فِي جَمْعِ شَمْأَلٍ وَإِلْحَاقُ التَّاءِ لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْكَلَامُ فِي الْمَلَائِكَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى الْكَلَامِ فِي الْأَنْبِيَاءِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَ الْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ عَلَى ذِكْرِ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [المؤمنون: 285] وَلَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» الثَّانِي: أَنَّ الْمَلَكَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الرَّسُولِ فِي تَبْلِيغِ الْوَحْيِ وَالشَّرِيعَةِ فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الرَّسُولِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْكَلَامُ فِي النُّبُوَّاتِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَنَا إِلَى مَعْرِفَةِ وُجُودِ الْمَلَائِكَةِ بِالْعَقْلِ بَلْ بِالسَّمْعِ، فَكَانَ الْكَلَامُ فِي النُّبُوَّاتِ أَصْلًا لِلْكَلَامِ فِي الْمَلَائِكَةِ فَلَا جَرَمَ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْكَلَامِ فِي النُّبُوَّاتِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْمَلَكُ قَبْلَ النَّبِيِّ بِالشَّرَفِ وَالْعِلْيَةِ وَبَعْدَهُ فِي عُقُولِنَا وَأَذْهَانِنَا بِحَسَبِ وُصُولِنَا إِلَيْهَا بِأَفْكَارِنَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُقَلَاءِ فِي أَنَّ شَرَفَ الرُّتْبَةِ لِلْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ هُوَ وُجُودُ الْمَلَائِكَةِ فِيهِ كَمَا أَنَّ شَرَفَ الرُّتْبَةِ لِلْعَالَمِ السُّفْلِيِّ هُوَ وُجُودُ الْإِنْسَانِ فِيهِ إِلَّا أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي مَاهِيَّةِ الْمَلَائِكَةِ وَحَقِيقَتِهِمْ وَطَرِيقُ ضَبْطِ الْمَذَاهِبِ أَنْ يُقَالَ: الْمَلَائِكَةُ لا بد وأن تكون ذوات قَائِمَةً بِأَنْفُسِهَا ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الذَّوَاتِ إِمَّا أن تكون متحيزة أولا تَكُونَ، أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْمَلَائِكَةُ ذوات مُتَحَيِّزَةً فَهُنَا أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ هَوَائِيَّةٌ تَقْدِرُ عَلَى التَّشَكُّلِ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ مَسْكَنُهَا السموات، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ. وَثَانِيًا: قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَهُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ هِيَ الْحَقِيقَةُ فِي هَذِهِ الْكَوَاكِبِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْإِسْعَادِ وَالْإِنْحَاسِ فَإِنَّهَا بِزَعْمِهِمْ أَحْيَاءٌ نَاطِقَةٌ، وَأَنَّ الْمُسْعِدَاتِ مِنْهَا مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَالْمُنْحِسَاتِ مِنْهَا مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُ مُعْظَمِ الْمَجُوسِ وَالثَّنَوِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَصْلَيْنِ أَزَلِيَّيْنِ وَهُمَا النُّورُ وَالظُّلْمَةُ، وَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ جَوْهَرَانِ شَفَّافَانِ مُخْتَارَانِ قَادِرَانِ مُتَضَادَّا النَّفْسِ وَالصُّورَةِ مُخْتَلِفَا الْفِعْلِ وَالتَّدْبِيرِ، فَجَوْهَرُ النُّورِ فَاضِلٌ خَيِّرٌ نَقِيٌّ طَيِّبُ الرِّيحِ كَرِيمُ النَّفْسِ يَسُرُّ وَلَا يَضُرُّ، وَيَنْفَعُ وَلَا يَمْنَعُ، وَيُحْيِي وَلَا يُبْلِي وَجَوْهَرُ الظُّلْمَةِ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ جَوْهَرَ النُّورِ لَمْ يَزَلْ يُوَلِّدُ الْأَوْلِيَاءَ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّنَاكُحِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ تَوَلُّدِ الْحِكْمَةِ مِنَ الْحَكِيمِ وَالضَّوْءِ مِنَ الْمُضِيءِ. وَجَوْهَرُ الظُّلْمَةِ لَمْ يَزَلْ يُوَلِّدُ الْأَعْدَاءَ وَهُمُ الشَّيَاطِينُ عَلَى سَبِيلِ تَوَلُّدِ السَّفَهِ مِنَ السَّفِيهِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّنَاكُحِ فَهَذِهِ أَقْوَالُ مَنْ جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ أَشْيَاءَ مُتَحَيِّزَةً جُسْمَانِيَّةً. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ ذَوَاتٌ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا وَلَيْسَتْ بِمُتَحَيِّزَةٍ وَلَا بِأَجْسَامٍ فَهَهُنَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ طَوَائِفَ مِنَ النَّصَارَى وَهُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ فِي الْحَقِيقَةِ هِيَ الْأَنْفُسُ النَّاطِقَةُ الْمُفَارِقَةُ لِأَبْدَانِهَا عَلَى نَعْتِ الصَّفَاءِ وَالْخَيْرِيَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ النُّفُوسَ الْمُفَارِقَةَ إِنْ كَانَتْ صَافِيَةً خَالِصَةً فَهِيَ الْمَلَائِكَةُ، وَإِنْ كَانَتْ خَبِيثَةً كَدِرَةً فَهِيَ الشَّيَاطِينُ. وَثَانِيهِمَا: قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ: وَهِيَ أنها جواهر قائمة بأنفسها وليس بِمُتَحَيِّزَةٍ الْبَتَّةَ، وَأَنَّهَا بِالْمَاهِيَّةِ مُخَالِفَةٌ لِأَنْوَاعِ النُّفُوسِ النَّاطِقَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَأَنَّهَا أَكْمَلُ قُوَّةً مِنْهَا وَأَكْثَرُ عِلْمًا مِنْهَا، وَأَنَّهَا لِلنُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الشَّمْسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَضْوَاءِ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْجَوَاهِرَ عَلَى قِسْمَيْنِ، مِنْهَا مَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَجْرَامِ الْأَفْلَاكِ

وَالْكَوَاكِبِ/ كَنُفُوسِنَا النَّاطِقَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَبْدَانِنَا، وَمِنْهَا مَا هِيَ لَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ تَدْبِيرِ الْأَفْلَاكِ بَلْ هِيَ مُسْتَغْرِقَةٌ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمُشْتَغِلَةٌ بِطَاعَتِهِ، وَهَذَا الْقِسْمُ هُمُ الْمَلَائِكَةُ المقربون ونسبتهم إلى الملائكة الذين يدبرون السموات كَنِسْبَةِ أُولَئِكَ الْمُدَبِّرِينَ إِلَى نُفُوسِنَا النَّاطِقَةِ. فَهَذَانَ الْقِسْمَانِ قَدِ اتَّفَقَتِ الْفَلَاسِفَةُ عَلَى إِثْبَاتِهِمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ أَنْوَاعًا أُخَرَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ الْأَرْضِيَّةُ الْمُدَبِّرَةُ لِأَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، ثُمَّ إِنَّ الْمُدَبِّرَاتِ لِهَذَا الْعَالَمِ إِنْ كَانَتْ خَيِّرَةً فَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَإِنْ كَانَتْ شِرِّيرَةً فَهُمُ الشَّيَاطِينُ، فَهَذَا تَفْصِيلُ مَذَاهِبِ النَّاسِ فِي الْمَلَائِكَةِ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا مِنْ حَيْثُ الْعَقْلُ أَوْ لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِهَا إِلَّا بِالسَّمْعِ؟ أَمَّا الْفَلَاسِفَةُ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ فِي الْعَقْلِ دَلَائِلَ تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْمَلَائِكَةِ، وَلَنَا مَعَهُمْ فِي تِلْكَ الدَّلَائِلِ أَبْحَاثٌ دَقِيقَةٌ عَمِيقَةٌ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ ذَكَرَ فِي ذَلِكَ وُجُوهًا عَقْلِيَّةً إِقْنَاعِيَّةً وَلْنُشِرْ إِلَيْهَا. أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَلَكِ الْحَيِّ النَّاطِقِ الَّذِي لَا يَكُونُ مَيِّتًا، فَنَقُولُ الْقِسْمَةُ الْعَقْلِيَّةُ تَقْتَضِي وُجُودَ أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ فَإِنَّ الْحَيَّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَاطِقًا وَمَيِّتًا مَعًا وَهُوَ الْإِنْسَانُ، أَوْ يَكُونَ مَيِّتًا وَلَا يَكُونَ نَاطِقًا وَهُوَ الْبَهَائِمُ، أَوْ يَكُونَ نَاطِقًا وَلَا يَكُونَ مَيِّتًا وَهُوَ الْمَلَكُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَخَسَّ الْمَرَاتِبِ هُوَ الْمَيِّتُ غَيْرُ النَّاطِقِ، وَأَوْسَطُهَا النَّاطِقُ الْمَيِّتُ، وَأَشْرَفُهَا النَّاطِقُ الَّذِي لَيْسَ بِمَيِّتٍ، فَإِذَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ إِيجَادَ أَخَسِّ الْمَرَاتِبِ وَأَوْسَطِهَا، فَلِأَنْ تَقْتَضِيَ إِيجَادَ أَشْرَفِ الْمَرَاتِبِ وَأَعْلَاهَا كان ذلك أولى، وثانياً: أن الفطرة تشهد بأن عالم السموات أًرف مِنْ هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَتَشْهَدُ بِأَنَّ الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ وَالنُّطْقَ أَشْرَفُ مِنْ أَضْدَادِهَا وَمُقَابِلَتِهَا فَيَبْعُدُ فِي الْعَقْلِ أَنْ تَحْصُلَ الْحَيَاةُ وَالْعَقْلُ وَالنُّطْقُ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْكَدِرِ الظُّلُمَانِيِّ، وَلَا تَحْصُلُ الْبَتَّةَ فِي ذَلِكَ الْعَالَمِ الَّذِي هُوَ عَالَمُ الضَّوْءِ وَالنُّورِ وَالشَّرَفِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَصْحَابَ الْمُجَاهَدَاتِ أَثْبَتُوهَا مِنْ جِهَةِ الْمُشَاهَدَةِ وَالْمُكَاشَفَةِ، وَأَصْحَابَ الْحَاجَاتِ وَالضَّرُورَاتِ أَثْبَتُوهَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ مَا يُشَاهَدُ مِنْ عَجَائِبِ آثَارِهَا فِي الْهِدَايَةِ إِلَى الْمُعَالَجَاتِ النَّادِرَةِ الْغَرِيبَةِ وَتَرْكِيبِ الْمَعْجُونَاتِ وَاسْتِخْرَاجِ صَنْعَةِ التِّرْيَاقَاتِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَالُ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ إِقْنَاعِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ سَمِعَهَا وَلَمْ يُمَارِسْهَا، وَقَطْعِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ جَرَّبَهَا وَشَاهَدَهَا وَاطَّلَعَ عَلَى أَسْرَارِهَا، وَأَمَّا الدَّلَائِلُ النَّقْلِيَّةُ فَلَا نِزَاعَ الْبَتَّةَ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي إِثْبَاتِ الْمَلَائِكَةِ، بَلْ ذَلِكَ كَالْأَمْرِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ بَيْنَهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي شَرْحِ كَثْرَتِهِمْ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ قَدَمٍ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ رَاكِعٌ» وَرُوِيَ أَنَّ بَنِي آدَمَ عُشْرُ الْجِنِّ، وَالْجِنُّ وَبَنُو آدَمَ عُشْرُ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ عُشْرُ الطُّيُورِ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ عُشْرُ حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ عُشْرُ مَلَائِكَةِ الْأَرْضِ الْمُوَكَّلِينَ بِهَا، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ عُشْرُ مَلَائِكَةِ سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ عُشْرُ مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ إِلَى مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ثُمَّ الْكُلُّ فِي مُقَابَلَةِ مَلَائِكَةِ الْكُرْسِيِّ نَزْرٌ قَلِيلٌ، ثُمَّ كُلُّ هَؤُلَاءِ عُشْرُ مَلَائِكَةِ السُّرَادِقِ الْوَاحِدِ مِنْ سُرَادِقَاتِ/ الْعَرْشِ الَّتِي عَدَدُهَا سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ، طُولُ كُلِّ سُرَادِقٍ وَعَرْضُهُ وَسُمْكُهُ إِذَا قوبلت به السموات وَالْأَرَضُونَ وَمَا فِيهَا وَمَا بَيْنَهَا فَإِنَّهَا كُلَّهَا تَكُونُ شَيْئًا يَسِيرًا وَقَدْرًا صَغِيرًا، وَمَا مِنْ مِقْدَارِ مَوْضِعِ قَدَمٍ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ قَائِمٌ، لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ، ثُمَّ كُلُّ هَؤُلَاءِ فِي مُقَابَلَةِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَحُومُونَ حَوْلَ الْعَرْشِ كَالْقَطْرَةِ فِي الْبَحْرِ وَلَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ. ثُمَّ مَعَ هَؤُلَاءِ مَلَائِكَةُ اللَّوْحِ الَّذِينَ هُمْ أَشْيَاعُ إِسْرَافِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ جُنُودُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَهُمْ كُلُّهُمْ سَامِعُونَ مُطِيعُونَ لَا يَفْتُرُونَ مُشْتَغِلُونَ بِعِبَادَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. رِطَابُ الْأَلْسُنِ بِذِكْرِهِ وَتَعْظِيمِهِ يَتَسَابَقُونَ فِي ذَلِكَ مُذْ خَلَقَهُمْ، لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ

آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَلَا يَسْأَمُونَ، لَا يُحْصِي أَجْنَاسَهُمْ وَلَا مُدَّةَ أَعْمَارِهِمْ وَلَا كَيْفِيَّةَ عِبَادَتِهِمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا تَحْقِيقُ حَقِيقَةِ مَلَكُوتِهِ جَلَّ جَلَالُهُ عَلَى مَا قَالَ: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [الْمُدَّثِّرِ: 31] وَأَقُولُ رَأَيْتُ فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّذْكِيرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ عُرِجَ بِهِ رَأَى مَلَائِكَةً فِي مَوْضِعٍ بِمَنْزِلَةِ سُوقٍ بَعْضُهُمْ يَمْشِي تُجَاهَ بَعْضٍ فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّهُمْ إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُونَ. فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. لَا أَدْرِي إِلَّا أَنِّي أَرَاهُمْ مُذْ خُلِقْتُ وَلَا أَرَى وَاحِدًا مِنْهُمْ قَدْ رَأَيْتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ سَأَلُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ وَقِيلَ لَهُ مُذْ كَمْ خُلِقْتَ؟ فَقَالَ لَا أَدْرِي غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ كَوْكَبًا فِي كُلِّ أَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ سَنَةٍ فَخَلَقَ مِثْلَ ذَلِكَ الْكَوْكَبِ مُنْذُ خَلَقَنِي أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ مَرَّةٍ، فَسُبْحَانَهُ مِنْ إِلَهٍ مَا أَعْظَمَ قُدْرَتَهُ وَمَا أَجَلَّ كَمَالَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ أَصْنَافَهُمْ وَأَوْصَافَهُمْ، أَمَّا الْأَصْنَافُ. فَأَحَدُهَا: حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الْحَاقَّةِ: 17] ، وَثَانِيهَا: الْحَافُّونَ حَوْلَ الْعَرْشِ عَلَى مَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الزُّمَرِ: 75] وَثَالِثُهَا: أَكَابِرُ الْمَلَائِكَةِ فَمِنْهُمْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ [الْبَقَرَةِ: 98] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصَفَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأُمُورٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ صَاحِبُ الْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ قَالَ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: 193، 194] الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ قَبْلَ سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ فِي الْقُرْآنِ قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [الْبَقَرَةِ: 97] وَلِأَنَّ جِبْرِيلَ صَاحِبُ الْوَحْيِ وَالْعِلْمِ، وَمِيكَائِيلَ صَاحِبُ الْأَرْزَاقِ وَالْأَغْذِيَةِ، وَالْعِلْمُ الَّذِي هُوَ الْغِذَاءُ الرُّوحَانِيُّ أَشْرَفُ مِنَ الْغِذَاءِ الْجُسْمَانِيِّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَشْرَفَ مِنْ مِيكَائِيلَ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ ثَانِيَ نَفْسِهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ [التَّحْرِيمِ: 4] . الرَّابِعُ: سَمَّاهُ رُوحَ الْقُدُسِ قَالَ فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ [الْمَائِدَةِ: 110] الْخَامِسُ: يَنْصُرُ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيَقْهَرُ أَعْدَاءَهُ مَعَ أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَسُوِّمِينَ، السَّادِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَهُ بِصِفَاتٍ سِتٍّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التَّكْوِيرِ: 19- 20] فَرِسَالَتُهُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، فَجَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ أُمَّتُهُ وَكَرَمُهُ عَلَى رَبِّهِ أَنَّهُ جَعَلَهُ وَاسِطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَشْرَفِ عِبَادِهِ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَقُوَّتُهُ أَنَّهُ رَفَعَ مَدَائِنَ قَوْمِ لُوطٍ إِلَى السَّمَاءِ وَقَلَبَهَا، وَمَكَانَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ أَنَّهُ/ جَعَلَهُ ثَانِيَ نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَكَوْنُهُ مُطَاعًا أَنَّهُ إِمَامُ الْمَلَائِكَةِ وَمُقْتَدَاهُمْ، وَأَمَّا كَوْنُهُ أَمِينًا فَهُوَ قَوْلُهُ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشُّعَرَاءِ: 193] وَمِنْ جُمْلَةِ أَكَابِرِ الْمَلَائِكَةِ إِسْرَافِيلُ وَعِزْرَائِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَقَدْ ثَبَتَ وُجُودُهُمَا بِالْأَخْبَارِ وَثَبَتَ بِالْخَبَرِ أَنَّ عِزْرَائِيلَ هُوَ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السَّجْدَةِ: 11] وَأَمَّا قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا [الْأَنْعَامِ: 61] فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ مَلَائِكَةٍ مُوَكَّلِينَ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَلَكُ الْمَوْتِ رَئِيسَ جَمَاعَةٍ وُكِّلُوا عَلَى قَبْضِ الْأَرْوَاحِ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ [الْأَنْفَالِ: 50] . وَأَمَّا إِسْرَافِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ دَلَّتِ الْأَخْبَارُ عَلَى أَنَّهُ صَاحِبُ الصُّورِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزُّمَرِ: 68] . وَرَابِعُهَا: مَلَائِكَةُ الْجَنَّةِ قَالَ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْدِ: 23، 24] . وَخَامِسُهَا: مَلَائِكَةُ النَّارِ قَالَ تَعَالَى: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [الْمُدَّثِّرِ: 30] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً [الْمُدَّثِّرِ: 31] وَرَئِيسُهُمْ مَالِكٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ

تعالى: وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الزُّخْرُفِ: 77] وَأَسْمَاءُ جُمْلَتِهِمُ الزَّبَانِيَةُ قَالَ تَعَالَى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [الْعَلَقِ: 17، 18] وَسَادِسُهَا: الْمُوَكَّلُونَ بِبَنِي آدَمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق 17، 18] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرَّعْدِ: 11] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً [الْأَنْعَامِ: 61] . وَسَابِعُهَا: كَتَبَةُ الْأَعْمَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الِانْفِطَارِ: 10- 12] . وَثَامِنُهَا: الْمُوَكَّلُونَ بِأَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ وَهُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا [الصافات: 1] وبقوله: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً إِلَى قَوْلِهِ: فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً [الذَّارِيَاتِ: 1، 4] وَبِقَوْلِهِ: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً [النَّازِعَاتِ: 1] . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سِوَى الْحَفَظَةِ يَكْتُبُونَ مَا يَسْقُطُ مِنْ وَرَقِ الْأَشْجَارِ، فَإِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ حَرِجَةٌ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَلْيُنَادِ: أَعِينُوا عِبَادَ اللَّهِ يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ. وَأَمَّا أَوْصَافُ الْمَلَائِكَةِ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ رُسُلُ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فَاطِرٍ: 1] أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [الْحَجِّ: 75] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمَلَائِكَةِ هُمُ الرُّسُلُ فَقَطْ، وَجَوَابُهُ أَنَّ مِنْ لِلتَّبْيِينِ لَا لِلتَّبْعِيضِ. وَثَانِيهَا: قُرْبُهُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقُرْبُ هُوَ الْقُرْبُ بِالشَّرَفِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الْأَنْبِيَاءِ: 19] وَقَوْلِهِ: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 26] وَقَوْلِهِ: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 20] وَثَالِثُهَا: وَصْفُ طَاعَاتِهِمْ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [الصَّافَّاتِ: 166] وَاللَّهُ تَعَالَى مَا كَذَّبَهُمْ فِي ذَلِكَ فَثَبَتَ بِهَا مُوَاظَبَتُهُمْ عَلَى الْعِبَادَةِ. الثَّانِي: مُبَادَرَتُهُمْ إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعْظِيمًا لَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الْحِجْرِ: 30] . الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ شَيْئًا إِلَّا بِوَحْيِهِ وَأَمْرِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: / لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 27] . وَرَابِعُهَا: وَصْفُ قُدْرَتِهِمْ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ وَهُمْ ثَمَانِيَةٌ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ ثُمَّ إِنَّ الْكُرْسِيَّ الَّذِي هُوَ أَصْغَرُ من العرش أعظم من جملة السموات السَّبْعِ لِقَوْلِهِ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْبَقَرَةِ: 255] فَانْظُرْ إِلَى نِهَايَةِ قُدْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ. الثَّانِي: أَنَّ عُلُوَّ الْعَرْشِ شَيْءٌ لَا يُحِيطُ بِهِ الْوَهْمُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [الْمَعَارِجِ: 4] ثُمَّ إِنَّهُمْ لِشِدَّةِ قُدْرَتِهِمْ يَنْزِلُونَ مِنْهُ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزُّمَرِ: 68] فَصَاحِبُ الصُّورِ يَبْلُغُ فِي الْقُوَّةِ إِلَى حَيْثُ أَنَّ بِنَفْخَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُ يُصْعَقُ مَنْ في السموات وَالْأَرْضِ، وَبِالنَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ مِنْهُ يَعُودُونَ أَحْيَاءً. فَاعْرِفْ مِنْهُ عِظَمَ هَذِهِ الْقُوَّةِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلَغَ فِي قُوَّتِهِ إِلَى أَنْ قَلَعَ جِبَالَ آلِ لُوطٍ وَبِلَادَهُمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً. وَخَامِسُهَا: وَصْفُ خَوْفِهِمْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ مَعَ كَثْرَةِ عِبَادَاتِهِمْ وَعَدَمِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى الزَّلَّاتِ الْبَتَّةَ يَكُونُونَ خَائِفِينَ وَجِلِينَ حَتَّى كَأَنَّ عِبَادَتَهُمْ مَعَاصِي قَالَ تَعَالَى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النَّحْلِ: 50] وَقَالَ: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 28] . الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سَبَأٍ: 23] رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ سمعه أهل السموات مِثْلَ صَوْتِ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ فَفَزِعُوا فَإِذَا انْقَضَى الْوَحْيُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقُّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ،

الثَّالِثُ: رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَاحِيَةٍ وَمَعَهُ جِبْرِيلُ إِذِ انْشَقَّ أُفُقُ السَّمَاءِ فَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ يَتَضَاءَلُ وَيَدْخُلُ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ وَيَدْنُو مِنَ الْأَرْضِ فَإِذَا مَلَكٌ قَدْ مَثُلَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَأَشَارَ إِلَيَّ جِبْرِيلُ بِيَدِهِ أَنْ تَوَاضَعْ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لِي نَاصِحٌ فَقُلْتُ عَبْدًا نَبِيًّا فَعَرَجَ ذَلِكَ الْمَلَكُ إِلَى السَّمَاءِ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ قَدْ كُنْتُ أَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا فَرَأَيْتُ مِنْ حَالِكَ مَا شَغَلَنِي عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَمَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ فَقَالَ هَذَا إِسْرَافِيلُ خَلَقَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَافًّا قَدَمَيْهِ لَا يَرْفَعُ طَرْفَهُ وَبَيْنَ الرَّبِّ وَبَيْنَهُ سَبْعُونَ نُورًا مَا مِنْهَا نُورٌ يَدْنُو مِنْهُ إِلَّا احْتَرَقَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَإِذَا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ مِنَ الْأَرْضِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ اللَّوْحُ بِقُرْبِ جَبِينِهِ فَيَنْظُرُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ مِنْ عَمَلِي أَمَرَنِي بِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ عَمَلِ مِيكَائِيلَ أَمَرَهُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ عَمَلِ مَلَكِ الْمَوْتِ أَمَرَهُ بِهِ قُلْتُ يَا جِبْرِيلُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ قَالَ عَلَى الرِّيَاحِ وَالْجُنُودِ قُلْتُ عَلَى أَيِّ شَيْءِ مِيكَائِيلُ قَالَ عَلَى النَّبَاتِ. قُلْتُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ مَلَكُ الْمَوْتِ قَالَ عَلَى قَبْضِ الْأَنْفُسِ وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّهُ هَبَطَ إِلَّا لِقِيَامِ السَّاعَةِ وَمَا ذَاكَ الَّذِي رَأَيْتَ مِنِّي إِلَّا خَوْفًا مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ كَلَامٌ فِي وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ كَلَامِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ فِي بَعْضِ خطبه: ثم فتق ما بين السموات العلى فَمَلَأَهُنَّ أَطْوَارًا مِنْ مَلَائِكَةٍ فَمِنْهُمْ سُجُودٌ لَا يَرْكَعُونَ/ وَرُكُوعٌ لَا يَنْتَصِبُونَ وَصَافُّونَ لَا يَتَزَايَلُونَ وَمُسَبِّحُونَ لَا يَسْأَمُونَ لَا يَغْشَاهُمْ نَوْمُ الْعُيُونِ وَلَا سَهْوُ الْعُقُولِ وَلَا فَتْرَةُ الْأَبْدَانِ وَلَا غَفْلَةُ النِّسْيَانِ وَمِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْيِهِ وَأَلْسِنَةٌ إِلَى رُسُلِهِ وَمُخْتَلِفُونَ بِقَضَائِهِ وَأَمْرِهِ وَمِنْهُمُ الْحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ وَالسَّدَنَةُ لِأَبْوَابِ جِنَانِهِ وَمِنْهُمُ الثَّابِتَةُ فِي الْأَرَضِينَ السُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ وَالْمَارِقَةُ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ وَالْخَارِجَةُ مِنَ الْأَقْطَارِ أَرْكَانُهُمْ وَالْمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ الْعَرْشِ أَكْتَافُهُمْ نَاكِسَةً دُونَهُ أَبْصَارُهُمْ مُتَلَفِّعُونَ بِأَجْنِحَتِهِمْ مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ الْعِزَّةِ وَأَسْتَارُ الْقُدْرَةِ لَا يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّصْوِيرِ وَلَا يُجْرُونَ عَلَيْهِ صِفَاتِ الْمَصْنُوعِينَ وَلَا يَحُدُّونَهُ بِالْأَمَاكِنِ وَلَا يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالنَّظَائِرِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً كُلُّ الْمَلَائِكَةِ أَوْ بَعْضُهُمْ فَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ كَانُوا مُحَارِبِينَ مَعَ إِبْلِيسَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَسْكَنَ الْجِنَّ الْأَرْضَ فَأَفْسَدُوا فِيهَا وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بَعَثَ اللَّهُ إِبْلِيسَ فِي جُنْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَتَلَهُمْ إِبْلِيسُ بِعَسْكَرِهِ حَتَّى أَخْرَجُوهُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَأَلْحَقُوهُمْ بِجَزَائِرِ الْبَحْرِ فَقَالَ تَعَالَى لَهُمْ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ ذَلِكَ لِجَمَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَلَائِكَةِ يُفِيدُ الْعُمُومَ فَيَكُونُ التَّخْصِيصُ خِلَافَ الْأَصْلِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: جَاعِلٌ مِنْ جَعَلَ الَّذِي لَهُ مَفْعُولَانِ دَخَلَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَهُمَا قَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فَكَانَا مَفْعُولَيْنِ وَمَعْنَاهُ مُصَيِّرٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي فِي الْآيَةِ جَمِيعُ الْأَرْضِ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: دُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ مَكَّةَ وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ طَافَ بِهِ وَهُوَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى الظَّاهِرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْخَلِيفَةُ مَنْ يَخْلُفُ غَيْرَهُ وَيَقُومُ مَقَامَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ [يُونُسَ: 14] . وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ [الْأَعْرَافِ: 69] فَأَمَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَلِيفَةِ مَنْ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَوْلُهُ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها الْمُرَادُ ذُرِّيَّتُهُ لَا هُوَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَلَدُ آدَمَ، أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا الْمُرَادُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ تَعَالَى لِمَ سَمَّاهُ خَلِيفَةً وَذَكَرُوا فِيهِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: بِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَفَى الْجِنَّ مِنَ الْأَرْضِ وَأَسْكَنَ آدَمَ الْأَرْضَ كَانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلِيفَةً لِأُولَئِكَ الْجِنِّ الَّذِينَ تَقَدَّمُوهُ. يُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: إِنَّمَا سَمَّاهُ اللَّهُ خَلِيفَةً لِأَنَّهُ يَخْلُفُ اللَّهَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ خَلْقِهِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ وَهَذَا الرَّأْيُ مُتَأَكَّدٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص: 26] أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا الْمُرَادُ وَلَدُ آدَمَ فَقَالُوا: إِنَّمَا سَمَّاهُمْ خَلِيفَةً لِأَنَّهُمْ يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَهُوَ/ قَوْلُ الْحَسَنِ وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَالْخَلِيفَةُ اسْمٌ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ كَمَا يَصْلُحُ للذكر والأنثى وقرئ خليفة بِالْقَافِ. فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَائِدَةُ فِي أَنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً مَعَ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَشُورَةِ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُمْ إِذَا اطَّلَعُوا عَلَى ذَلِكَ السِّرِّ أَوْرَدُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ السُّؤَالَ فَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ تَقْتَضِي إِحَاطَتَهُمْ بِذَلِكَ الْجَوَابِ فَعَرَّفَهُمْ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ لِكَيْ يُورِدُوا ذَلِكَ السُّؤَالَ وَيَسْمَعُوا ذَلِكَ الْجَوَابَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّمَ عِبَادَهُ الْمُشَاوَرَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنْ عُلَمَاءِ الدِّينِ اتَّفَقُوا عَلَى عِصْمَةِ كُلِّ الْمَلَائِكَةِ عَنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ وَمِنَ الْحَشْوِيَّةِ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ وَلَنَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التَّحْرِيمِ: 6] إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمَلَائِكَةِ النَّارِ فَإِذَا أَرَدْنَا الدَّلَالَةَ الْعَامَّةَ تَمَسَّكْنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النَّحْلِ: 50] فَقَوْلُهُ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكَ الْمَنْهِيَّاتِ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنِ الشَّيْءِ مَأْمُورٌ بِتَرْكِهِ. فَإِنْ قِيلَ مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ يُفِيدُ الْعُمُومَ قُلْنَا لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ إِلَّا وَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 26- 27] فَهَذَا صَرِيحٌ فِي بَرَاءَتِهِمْ عَنِ الْمَعَاصِي وَكَوْنِهِمْ مُتَوَقِّفِينَ فِي كُلِّ الْأُمُورِ إِلَّا بِمُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالْوَحْيِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ طَعَنُوا فِي الْبَشَرِ بِالْمَعْصِيَةِ وَلَوْ كَانُوا مِنَ الْعُصَاةِ لَمَا حَسُنَ مِنْهُمْ ذَلِكَ الطَّعْنُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ صُدُورُ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ وَهَذَا يَقْتَضِي صُدُورَ الذَّنْبِ عَنْهُمْ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيهَا. هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ طَعَنُوا فِي بَنِي آدَمَ بِالْفَسَادِ وَالْقَتْلِ وَذَلِكَ غِيبَةٌ وَالْغِيبَةُ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ طَعَنُوا فِي بَنِي آدَمَ مَدَحُوا أَنْفُسَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ وَأَنَّهُمْ قَالُوا: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [الصَّافَّاتِ: 165، 166] وَهَذَا لِلْحَصْرِ فَكَأَنَّهُمْ نَفَوْا كَوْنَ غَيْرِهِمْ كَذَلِكَ وَهَذَا يُشْبِهُ الْعُجْبَ وَالْغِيبَةَ وَهُوَ مِنَ الذُّنُوبِ الْمُهْلِكَةِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. (ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ، وَذَكَرَ فِيهَا إِعْجَابَ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ) . وَقَالَ تَعَالَى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النَّجْمِ: 32] . وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا يُشْبِهُ الِاعْتِذَارَ فَلَوْلَا تَقَدُّمُ الذَّنْبِ وَإِلَّا لَمَا اشْتَغَلُوا بِالْعُذْرِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْبَقَرَةِ: 31] يَدُلُّ عَلَى أنهم

كَانُوا كَاذِبِينَ فِيمَا قَالُوهُ أَوَّلًا. وَسَادِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [الْبَقَرَةِ: 33] يَدُلُّ عَلَى/ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَا كَانُوا عَالِمِينَ بِذَلِكَ قَبْلَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا شَاكِّينَ فِي كَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، وَسَابِعُهَا: أَنَّ عِلْمَهُمْ يُفْسِدُونَ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ بِالْوَحْيِ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ أَوْ قَالُوهُ اسْتِنْبَاطًا وَالْأَوَّلُ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ إِذَا أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ إِلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ لِإِعَادَةِ ذَلِكَ الْكَلَامِ فَائِدَةٌ فَثَبَتَ أَنَّهُمْ قَالُوهُ عَنِ الِاسْتِنْبَاطِ وَالظَّنِّ وَالْقَدْحُ فِي الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ غَيْرُ جَائِزٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] وقال: إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [يونس: 36] وَثَامِنُهَا: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ كَانُوا جُنْدَ إِبْلِيسَ فِي مُحَارَبَةِ الْجِنِّ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ مُجِيبِينَ لَهُ سُبْحَانَهُ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ثُمَّ عَلِمُوا غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: ف قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا وَرُوِيَ عَنِ الْجِنِّ وَقَتَادَةَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخَذَ فِي خَلْقِ آدَمَ هَمَسَتِ الْمَلَائِكَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَقَالُوا لِيَخْلُقْ رَبُّنَا مَا شَاءَ أَنْ يَخْلُقَ فَلَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا إِلَّا كُنَّا أَعْظَمَ مِنْهُ وَأَكْرَمَ عَلَيْهِ فَلَمَّا خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفَضَّلَهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْبَقَرَةِ: 31] فِي أَنِّي لَا أَخْلُقُ خَلْقًا إِلَّا وَأَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْهُ فَفَزِعَ الْقَوْمُ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى التَّوْبَةِ وقالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا، أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ. الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكُوا بِقِصَّةِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَزَعَمُوا أَنَّهُمَا كَانَا مَلَكَيْنِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَأَنَّهُمَا لَمَّا نَظَرَا إِلَى مَا يَصْنَعُ أَهْلُ الْأَرْضِ مِنَ الْمَعَاصِي أَنْكَرَا ذَلِكَ وَأَكْبَرَاهُ وَدَعَوَا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمَا إِنِّي لَوِ ابْتَلَيْتُكُمَا بِمَا ابْتَلَيْتُ بِهِ بَنِي آدَمَ مِنَ الشَّهَوَاتِ لَعَصَيْتُمَانِي فَقَالَا يَا رَبِّ لَوِ ابْتَلَيْتَنَا لَمْ نَفْعَلْ فَجَرِّبْنَا فَأَهْبَطَهُمَا إِلَى الْأَرْضِ وَابْتَلَاهُمَا اللَّهُ بِشَهَوَاتِ بَنِي آدَمَ فَمَكَثَا فِي الْأَرْضِ وَأَمَرَ اللَّهُ الْكَوْكَبَ الْمُسَمَّى بِالزُّهَرَةِ وَالْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِهِ فهبطا إلى الأرض فجعل الزهرة في صورة امرأة صُورَةِ امْرَأَةٍ وَالْمَلَكُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ ثُمَّ إِنَّ الزُّهَرَةَ اتَّخَذَتْ مَنْزِلًا وَزَيَّنَتْ نَفْسَهَا وَدَعَتْهُمَا إلى نفسها ونصف الْمَلَكُ نَفْسَهُ فِي مَنْزِلِهَا فِي مِثَالِ صَنَمٍ فَأَقْبَلَا إِلَى مَنْزِلِهَا وَدَعَوَاهَا إِلَى الْفَاحِشَةِ فَأَبَتْ عَلَيْهِمَا إِلَّا أَنْ يَشْرَبَا خَمْرًا فَقَالَا لَا نَشْرَبُ الْخَمْرَ ثُمَّ غَلَبَتِ الشَّهْوَةُ عَلَيْهِمَا فَشَرِبَا ثُمَّ دَعَوَاهَا إِلَى ذَلِكَ فَقَالَتْ بَقِيَتْ خَصْلَةٌ لَسْتُ أُمْكِنُكُمَا مِنْ نَفْسِي حَتَّى تَفْعَلَاهَا قَالَا وما هي؟ قالت: تسجدان لهم الصَّنَمِ، فَقَالَا: لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ، ثُمَّ غَلَبَتِ الشَّهْوَةُ عَلَيْهِمَا فَقَالَا: نَفْعَلُ ثُمَّ نَسْتَغْفِرُ فَسَجَدَا لِلصَّنَمِ فَارْتَفَعَتِ الزُّهَرَةُ وَمَلَكُهَا إِلَى مَوْضِعِهِمَا مِنَ السَّمَاءِ فَعَرَفَا حِينَئِذٍ أَنَّهُ إِنَّمَا أَصَابَهُمَا ذَلِكَ بِسَبَبِ تَعْيِيرِ بَنِي آدَمَ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ الزُّهَرَةَ كَانَتْ فَاجِرَةً مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَإِنَّمَا وَاقَعَاهَا بَعْدَ أَنْ شَرِبَا الْخَمْرَ وَقَتَلَا النَّفْسَ وَسَجَدَا لِلصَّنَمِ وَعَلَّمَاهَا الِاسْمَ الْأَعْظَمَ الَّذِي كَانَا بِهِ يَعْرُجَانِ إِلَى السَّمَاءِ فَتَكَلَّمَتِ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ الِاسْمِ وَعَرَجَتْ إِلَى السَّمَاءِ فَمَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَصَيَّرَهَا هَذَا الْكَوْكَبَ الْمُسَمَّى بِالزُّهَرَةِ ثُمَّ إن الله تعالى عرفت هَارُوتَ وَمَارُوتَ قَبِيحَ مَا فِيهِ وَقَعَا ثُمَّ خَيَّرَهُمَا بَيْنَ عَذَابِ الْآخِرَةِ آجِلًا وَبَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا عَاجِلًا فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا فَجَعَلَهُمَا بِبَابِلَ مَنْكُوسَيْنِ فِي بِئْرٍ إِلَى/ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمَا يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ وَيَدْعُوَانِ إِلَيْهِ وَلَا يَرَاهُمَا أَحَدٌ إِلَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِتَعَلُّمِ السِّحْرِ خَاصَّةً وَتَعَلَّقُوا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [الْبَقَرَةِ: 102] الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ ثُمَّ إِنَّهُ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى وَكَفَرَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صُدُورِ الْمَعْصِيَةِ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ. الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً [الْمُدَّثِّرِ: 31] قَالُوا: فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُعَذَّبُونَ لِأَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ لَا يَكُونُونَ إِلَّا مِمَّنْ يُعَذَّبُ فِيهَا كَمَا قَالَ: أُولئِكَ أَصْحابُ

النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى أَنْ نَقُولَ: أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ إِنَّهُمُ اعْتَرَضُوا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ فَنَقُولُ إِنَّهُ لَيْسَ غَرَضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ تَنْبِيهُ اللَّهِ عَلَى شَيْءٍ كَانَ غَافِلًا عَنْهُ، فَإِنَّ مَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فِي اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَلَا الْإِنْكَارُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي فِعْلٍ فَعَلَهُ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ قَاطِعًا بِحِكْمَةِ غَيْرِهِ ثُمَّ رَأَى أَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ يَفْعَلُ فِعْلًا لَا يَقِفُ عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهِ فَيَقُولُ لَهُ أَتَفْعَلُ هَذَا! كَأَنَّهُ يَتَعَجَّبُ مِنْ كَمَالِ حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ، وَيَقُولُ إِعْطَاءُ هَذِهِ النِّعَمِ لِمَنْ يُفْسِدُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَهْتَدِي الْعُقُولُ فِيهَا إِلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ فَإِذَا كُنْتَ تَفْعَلُهَا وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَا تَفْعَلُهَا إِلَّا لِوَجْهٍ دَقِيقٍ وَسِرٍّ غَامِضٍ أَنْتَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ فَمَا أَعْظَمَ حِكْمَتَكَ وَأَجَلَّ عِلْمَكَ فَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها كَأَنَّهُ تَعَجُّبٌ مِنْ كَمَالِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِحَاطَةِ حِكْمَتِهِ بِمَا خَفِيَ عَلَى كُلِّ الْعُقَلَاءِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ إِيرَادَ الْإِشْكَالِ طَلَبًا لِلْجَوَابِ غَيْرُ مَحْذُورٍ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا إِلَهَنَا أَنْتَ الْحَكِيمُ الَّذِي لَا يَفْعَلُ السَّفَهَ الْبَتَّةَ وَنَحْنُ نَرَى فِي الْعُرْفِ أَنَّ تَمْكِينَ السَّفِيهِ مِنَ السَّفَهِ سَفَهٌ فَإِذَا خَلَقْتَ قَوْمًا يُفْسِدُونَ وَيَقْتُلُونَ وَأَنْتَ مَعَ عِلْمِكَ أَنَّ حَالَهُمْ كَذَلِكَ خَلَقْتَهُمْ وَمَكَّنْتَهُمْ وَمَا مَنَعْتَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَهَذَا يُوهِمُ السَّفَهَ وَأَنْتَ الْحَكِيمُ الْمُطْلَقُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَكَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَوْرَدُوا هَذَا السُّؤَالَ طَلَبًا لِلْجَوَابِ، وَهَذَا جَوَابُ الْمُعْتَزِلَةِ قَالُوا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ يُجَوِّزُوا صُدُورَ الْقَبِيحِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَانُوا عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْعَدْلِ قَالُوا وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا الْجَوَابَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَضَافُوا الْفَسَادَ وَسَفْكَ الدِّمَاءِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ لَا إِلَى الْخَالِقِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ تَنْزِيهُ ذَاتِهِ عَنْ صِفَةِ الْأَجْسَامِ وَالتَّقْدِيسَ تَنْزِيهُ أَفْعَالِهِ عَنْ صِفَةِ الذَّمِّ وَنَعْتِ السَّفَهِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الشُّرُورَ وَإِنْ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي تَرْكِيبِ هَذَا الْعَالِمِ السُّفْلِيِّ إِلَّا أَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ الْخَيْرَاتِ الْحَاصِلَةِ فِيهِ وَخَيْرَاتُهَا غَالِبَةٌ عَلَى شُرُورِهَا وَتَرْكُ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ لِأَجْلِ الشَّرِّ الْقَلِيلِ شَرٌّ كَثِيرٌ فَالْمَلَائِكَةُ ذَكَرُوا تِلْكَ الشُّرُورَ، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ يَعْنِي أَنَّ الْخَيْرَاتِ الْحَاصِلَةَ مِنْ أَجْلِ تَرَاكِيبِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ أَكْثَرُ مِنَ الشُّرُورِ الْحَاصِلَةِ فِيهَا وَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي إِيجَادَ مَا هَذَا شَأْنُهُ لَا تَرْكَهُ وَهَذَا جَوَابُ الْحُكَمَاءِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ سُؤَالَهُمْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي إِعْظَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمُخْلِصَ لِشِدَّةِ حُبِّهِ لِمَوْلَاهُ يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَبْدٌ يَعْصِيهِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها مَسْأَلَةٌ مِنْهُمْ/ أَنْ يَجْعَلَ الْأَرْضَ أَوْ بَعْضَهَا لَهُمْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ صَلَاحًا فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: يَا إِلَهَنَا اجْعَلِ الْأَرْضَ لَنَا لَا لَهُمْ كَمَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا [الْأَعْرَافِ: 155] وَالْمَعْنَى لَا تُهْلِكْنَا فَقَالَ تَعَالَى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنْ صَلَاحِكُمْ وَصَلَاحِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أجعلهم في الأرض فبين ذلك أَنَّهُ اخْتَارَ لَهُمُ السَّمَاءَ خَاصَّةً وَلِهَؤُلَاءِ الْأَرْضَ خَاصَّةً لِعِلْمِهِ بِصَلَاحِ ذَلِكَ فِي أَدْيَانِهِمْ لِيَرْضَى كل فريق بما اختاره الله له. وسادسها: أَنَّهُمْ طَلَبُوا الْحِكْمَةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا خَلَقَهُمْ مَعَ هَذَا الْفَسَادِ وَالْقَتْلِ، وَسَابِعُهَا: قَالَ الْقَفَّالُ يُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يَجْعَلُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا، أَيْ سَتَفْعَلُ ذَلِكَ فَهُوَ إِيجَابٌ خَرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِفْهَامِ قَالَ جَرِيرٌ: أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ أَيْ أَنْتُمْ كَذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ اسْتِفْهَامًا لَمْ يَكُنْ مَدْحًا، ثُمَّ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ إِنَّكَ تَفْعَلُ ذَلِكَ وَنَحْنُ مَعَ هَذَا نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لِمَا أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تَفْعَلُ إِلَّا الصَّوَابَ وَالْحِكْمَةَ فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ كَأَنَّهُ قَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ نِعْمَ مَا فَعَلْتُمْ حَيْثُ لَمْ تَجْعَلُوا ذَلِكَ قَادِحًا فِي حِكْمَتِي فَإِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تعلمون

فَأَنْتُمْ عَلِمْتُمْ ظَاهِرَهُمْ وَهُوَ الْفَسَادُ وَالْقَتْلُ وَمَا عَلِمْتُمْ بَاطِنَهُمْ وَأَنَا أَعْلَمُ ظَاهِرَهُمْ وَبَاطِنَهُمْ فَأَعْلَمُ مِنْ بَوَاطِنِهِمْ أَسْرَارًا خَفِيَّةً وَحِكَمًا بَالِغَةً تَقْتَضِي خَلْقَهُمْ وَإِيجَادَهُمْ. أَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا بَنِي آدَمَ بِمَا لَا يَنْبَغِي وَهُوَ الْغِيبَةُ، فَالْجَوَابُ أَنَّ مَحَلَّ الْإِشْكَالِ فِي خَلْقِ بَنِي آدَمَ إِقْدَامُهُمْ عَلَى الْفَسَادِ وَالْقَتْلِ، وَمَنْ أَرَادَ إِيرَادَ السُّؤَالِ وَجَبَ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِمَحَلِّ الْإِشْكَالِ لَا لِغَيْرِهِ فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرُوا مِنْ بَنِي آدَمَ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ وَمَا ذَكَرُوا مِنْهُمْ عِبَادَتَهُمْ وَتَوْحِيدَهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَحَلَّ الْإِشْكَالِ. أَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُمْ مَدَحُوا أَنْفُسَهُمْ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْعُجْبَ وَتَزْكِيَةَ النَّفْسِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَدْحَ النَّفْسِ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ مُطْلَقًا لِقَوْلِهِ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضُّحَى: 11] وَأَيْضًا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ لَيْسَ الْمُرَادُ مَدْحَ النَّفْسِ، بَلِ الْمُرَادُ بَيَانُ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ مَا أَوْرَدْنَاهُ لِنَقْدَحَ بِهِ فِي حِكْمَتِكَ يَا رَبِّ فَإِنَّا نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنَعْتَرِفُ لَكَ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْحِكْمَةِ فَكَأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّهُمْ مَا أَوْرَدُوا السُّؤَالَ لِلطَّعْنِ فِي الْحِكْمَةِ وَالْإِلَهِيَّةِ. بَلْ لِطَلَبِ وَجْهِ الْحِكْمَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، أَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُمْ: لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا يُشْبِهُ الِاعْتِذَارَ فَلَا بُدَّ مِنْ سَبْقِ الذَّنْبِ، قُلْنَا نَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَوْلَى لِلْمَلَائِكَةِ أَنْ لَا يُورِدُوا ذَلِكَ السُّؤَالَ، فَلَمَّا تَرَكُوا هَذَا الْأَوْلَى كَانَ ذَلِكَ الِاعْتِذَارُ اعْتِذَارًا مِنْ تَرْكِ الْأَوْلَى فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ [الْأَنْبِيَاءِ: 27] فَهَذَا السُّؤَالُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانُوا مَأْذُونِينَ فِي هَذَا السُّؤَالِ فَكَيْفَ اعْتَذَرُوا عَنْهُ؟ قُلْنَا الْعَامُّ قَدْ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ التَّخْصِيصُ. أَمَّا الْوَجْهُ الْخَامِسُ: وَهُوَ أَنَّ إِخْبَارَ الْمَلَائِكَةِ عَنِ الْفَسَادِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَصَلَ عَنِ الْوَحْيِ أَوْ قَالُوهُ اسْتِنْبَاطًا وَظَنًّا، قُلْنَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ ذَكَرُوا ذَلِكَ ظَنًّا ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيِّ أَنَّهُمْ قَاسُوهُ/ عَلَى حَالِ الْجِنِّ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأَرْضِ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ عَرَفُوا خِلْقَتَهُ وَعَرَفُوا أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَتَرَكَّبَ فِيهِ الشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ فَيَتَوَلَّدَ الْفَسَادُ عَنِ الشَّهْوَةِ وَسَفْكُ الدِّمَاءِ عَنِ الْغَضَبِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى الْيَقِينِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا رَبَّنَا وَمَا يَكُونُ ذَلِكَ الْخَلِيفَةُ؟ قَالَ يَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَتَحَاسَدُونَ وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا: رَبَّنَا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَدْ أَعْلَمَ الْمَلَائِكَةَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْأَرْضِ خَلْقٌ عَظِيمٌ أَفْسَدُوا فِيهَا وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ. وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى النَّارَ خَافَتِ الْمَلَائِكَةُ خَوْفًا شَدِيدًا فَقَالُوا: رَبَّنَا لِمَنْ خَلَقْتَ هَذِهِ النَّارَ؟ قَالَ لِمَنْ عَصَانِي مِنْ خَلْقِي وَلَمْ يَكُنِ لِلَّهِ يَوْمَئِذٍ خَلْقٌ إِلَّا الْمَلَائِكَةَ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ خَلْقٌ الْبَتَّةَ فَلَمَّا قَالَ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً عَرَفُوا أَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَظْهَرُ مِنْهُمْ. وَرَابِعُهَا: لَمَّا كَتَبَ الْقَلَمُ فِي اللَّوْحِ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَعَلَّهُمْ طَالَعُوا اللَّوْحَ فَعَرَفُوا ذَلِكَ. وَخَامِسُهَا: إِذَا كَانَ مَعْنَى الْخَلِيفَةِ مَنْ يَكُونُ نَائِبًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ، وَالِاحْتِجَاجُ إِلَى الْحَاكِمِ وَالْقَاضِي إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَالتَّظَالُمِ كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ وُجُودِ الْخَلِيفَةِ إِخْبَارًا عَنْ وُقُوعِ الْفَسَادِ وَالشَّرِّ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ كَانَ هَذَا الْإِخْبَارُ عَنْ مُجَرَّدِ الظَّنِّ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ قَدْحٌ فِي الْغَيْرِ بِمَا لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِيهِ، وَذَلِكَ يُنَافِي الْعِصْمَةَ وَالطَّهَارَةَ. أَمَّا الْوَجْهُ السَّادِسُ: هُوَ الْأَخْبَارُ الَّتِي ذَكَرُوهَا فَهِيَ مِنْ بَابِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَلَا تُعَارِضُ الدَّلَائِلَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. أَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ قِصَّةُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَالْجَوَابُ عَنْهَا أَنَّ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرُوهَا بَاطِلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي الْقِصَّةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لَهُمَا لَوِ ابْتَلَيْتُكُمَا بِمَا ابْتَلَيْتُ بِهِ بَنِي آدَمَ لَعَصَيْتُمَانِي فَقَالَا لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِنَا يَا رَبِّ لَمَا عَصَيْنَاكَ، وَهَذَا مِنْهُمْ تَكْذِيبٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَجْهِيلٌ لَهُ وَذَلِكَ مِنْ صَرِيحِ الْكُفْرِ، وَالْحَشْوِيَّةُ سَلَّمُوا أَنَّهُمَا كَانَا قَبْلَ الْهُبُوطِ إِلَى الْأَرْضِ مَعْصُومَيْنِ، وَثَانِيهَا: فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُمَا خُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ بَلْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُخَيَّرَا بَيْنَ التَّوْبَةِ وَبَيْنَ الْعَذَابِ وَاللَّهُ تَعَالَى خير بينهما من أشرك به طول عمره وَبَالَغَ فِي إِيذَاءِ أَنْبِيَائِهِ. وَثَالِثُهَا: فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُمَا يُعَلِّمَانِ السِّحْرَ حَالَ كَوْنِهِمَا مُعَذَّبَيْنِ وَيَدْعُوَانِ إِلَيْهِ وَهُمَا مُعَاقَبَانِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمَرْأَةَ الْفَاجِرَةَ كَيْفَ يُعْقَلُ أَنَّهَا لَمَّا فَجَرَتْ صَعِدَتْ إِلَى السَّمَاءِ وَجَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَوْكَبًا مُضِيئًا وَعَظَّمَ قَدْرَهُ بِحَيْثُ أَقْسَمَ بِهِ حَيْثُ قال: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ [التَّكْوِيرِ: 15] فَهَذِهِ الْقِصَّةُ قِصَّةٌ رَكِيكَةٌ يَشْهَدُ كُلُّ عَقْلٍ سَلِيمٍ بِنِهَايَةِ رَكَاكَتِهَا، وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي تَعْلِيمِ السِّحْرِ فَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ فِي مَوْضِعِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: فَسَنَتَكَلَّمُ فِي بَيَانِ أَنَّ إِبْلِيسَ مَا كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ قَوْلُهُ: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً [الْمُدَّثِّرِ: 31] فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ مُعَذَّبِينَ فِي النَّارِ وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة: 39] لَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى كَوْنِهِمْ مُعَذَّبِينَ بِالنَّارِ بِمُجَرَّدِ هَذِهِ الْآيَةِ بَلْ إِنَّمَا عُرِفَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ آخَرَ فَقَوْلُهُ: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً يُرِيدُ بِهِ خَزَنَةَ النَّارِ وَالْمُتَصَرِّفِينَ فِيهَا وَالْمُدَبِّرِينَ لِأَمْرِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ هَلْ هُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ جُمْهُورُ الْفَلَاسِفَةِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْجَبْرِ: إِنَّهُمْ خَيْرَاتٌ مَحْضٌ وَلَا قُدْرَةَ لَهُمُ الْبَتَّةَ عَلَى الشُّرُورِ وَالْفَسَادِ وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً أَوْ تَرْكَ الْأَوْلَى وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاءِ: 29] وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ مَزْجُورِينَ مَمْنُوعِينَ وَقَالَ أَيْضًا: لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الْأَعْرَافِ: 206] وَالْمَدْحُ بِتَرْكِ الِاسْتِكْبَارِ إِنَّمَا يَجُوزُ له كَانَ قَادِرًا عَلَى فِعْلِ الِاسْتِكْبَارِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى تَرْكِ الْخَيْرَاتِ لَمَا كَانُوا مَمْدُوحِينَ بِفِعْلِهَا لِأَنَّ الْمَلْجَأَ إِلَى الشَّيْءِ وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ مَمْدُوحًا بِفِعْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَلَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ فَقُلْتُ لَهُ أَلَيْسَ أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِوَضَ وَاجِبَانِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى كَوْنِهِ وَاجِبًا عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ لَلَزِمَ مِنْ تَرْكِهِ إِمَّا الْجَهْلُ وَإِمَّا الْحَاجَةُ وَهُمَا مُحَالَانِ وَالْمُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ التَّرْكُ مُحَالًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ التَّرْكُ مُحَالًا كَانَ الْفِعْلُ وَاجِبًا فَيَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى فَاعِلًا لِلثَّوَابِ وَالْعِوَضُ وَاجِبٌ وَتَرْكُهُ مُحَالٌ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى مَمْدُوحٌ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ امْتِنَاعَ التَّرْكِ لَا يَقْدَحُ فِي حُصُولِ الْمَدْحِ فَانْقَطَعَ وَمَا قَدَرَ عَلَى الْجَوَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْوَاوُ فِي وَنَحْنُ لِلْحَالِ كَمَا تَقُولُ أَتُحْسِنُ إِلَى فُلَانٍ وَأَنَا أَحَقُّ بِالْإِحْسَانِ وَالتَّسْبِيحُ تَبْعِيدُ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ السُّوءِ وَكَذَا التَّقْدِيسُ، مِنْ سَبَحَ فِي الْمَاءِ وَقَدَّسَ فِي الْأَرْضِ إِذَا ذَهَبَ فِيهَا وَأَبْعَدَ، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّبْعِيدَ إِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّبْعِيدُ عَنِ السُّوءِ فَهُوَ التَّسْبِيحُ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّبْعِيدُ عَنِ الْخَيْرَاتِ فَهُوَ اللَّعْنُ، فَنَقُولُ التَّبْعِيدُ عَنِ السُّوءِ يَدْخُلُ فِيهِ التَّبْعِيدُ عَنِ السُّوءِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، أَمَّا فِي الذَّاتِ فَأَنْ لَا تَكُونَ مَحَلًّا لِلْإِمْكَانِ فَإِنَّ مَنْعَ

السُّوءِ وَإِمْكَانَهُ هُوَ الْعَدَمُ وَنَفْيُ الْإِمْكَانِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْكَثْرَةِ، وَنَفْيُهَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْجِسْمِيَّةِ وَالْعَرَضِيَّةِ وَنَفْيَ الضِّدِّ وَالنِّدِّ، وَحُصُولَ الْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ وَالْوُجُوبَ الذَّاتِيَّ وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ فَأَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنِ الْجَهْلِ فَيَكُونَ مُحِيطًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ وَقَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ وَتَكُونَ صِفَاتُهُ مُنَزَّهَةً عَنِ التَّغْيِيرَاتِ، وَأَمَّا فِي الْأَفْعَالِ فَأَنْ لَا تَكُونَ أَفْعَالُهُ لِجَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ وَأَنْ لَا يَسْتَكْمِلَ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَلَا يَنْتَقِصَ بِعَدَمِ شَيْءٍ مِنْهَا فَيَكُونَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ كُلِّ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ مُسْتَوْلِيًا بِالْإِعْدَامِ وَالْإِيجَادِ عَلَى كُلِّ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ، وَقَالَ أَهْلُ التَّذْكِيرِ: التَّسْبِيحُ جَاءَ تَارَةً فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى/ التَّنْزِيهِ وَأُخْرَى بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَجَاءَ عَلَى وُجُوهٍ: «أ» أَنَا الْمُنَزَّهُ عَنِ النَّظِيرِ وَالشَّرِيكِ، هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ «ب» أنا المدبر للسموات والأرض سبحان رب السموات وَالْأَرْضِ «ج» أَنَا الْمُدَبِّرُ لِكُلِّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ «د» أَنَا الْمُنَزَّهُ عَنْ قَوْلِ الظَّالِمِينَ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (هـ) أَنَا الْمُسْتَغْنِي عَنِ الْكُلِّ سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ «و» أَنَا السُّلْطَانُ الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ سِوَائِي فَهُوَ تَحْتَ قَهْرِي وَتَسْخِيرِي فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ «ز» أَنَا الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ «ح» أَنَا الْمُنَزَّهُ عَنِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ سُبْحَانَهُ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ «ط» أَنَا الْمُنَزَّهُ عَنْ وَصْفِهِمْ وَقَوْلِهِمْ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ، عَمَّا يَقُولُونَ، عَمَّا يَصِفُونَ، أَمَّا التَّعَجُّبُ فَكَذَلِكَ «أ» أَنَا الَّذِي سَخَّرْتُ الْبَهَائِمَ الْقَوِيَّةَ لِلْبَشَرِ الضَّعِيفِ، سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا «ب» أَنَا الَّذِي خَلَقْتُ الْعَالَمَ وَكُنْتُ مُنَزَّهًا عَنِ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ، سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا «ج» أَنَا الَّذِي أَعْلَمُ لَا بِتَعْلِيمِ الْمُعَلِّمِينَ وَلَا بِإِرْشَادِ الْمُرْشِدِينَ، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا «د» أَنَا الَّذِي أُزِيلُ مَعْصِيَةَ سَبْعِينَ سَنَةً بِتَوْبَةِ سَاعَةٍ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، ثُمَّ يَقُولُ إِنْ أَرَدْتَ رِضْوَانَ اللَّهِ فَسَبِّحْ، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. وَإِنْ أَرَدْتَ الْفَرَجَ مِنَ الْبَلَاءِ فَسَبِّحْ لَا إِلَهَ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَإِنْ أَرَدْتَ رِضَا الْحَقِّ فَسَبِّحْ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى، وَإِنْ أَرَدْتَ الْخَلَاصَ مِنَ النَّارِ فَسَبِّحْ، سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، أَيُّهَا الْعَبْدُ وَاظِبْ عَلَى تَسْبِيحِي فَسُبْحَانَ اللَّهِ فَسَبِّحْ وَسَبِّحُوهُ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ تَسْبِيحِي فَالضَّرَرُ عَائِدٌ إِلَيْكَ، لِأَنَّ لِي مَنْ يُسَبِّحُنِي، وَمِنْهُمْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ [فُصِّلَتْ: 38] وَمِنْهُمُ الْمُقَرَّبُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا [سَبَأٍ: 41] وَمِنْهُمْ سَائِرُ الْمَلَائِكَةِ قالُوا سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا [الْفُرْقَانِ: 18] وَمِنْهُمُ الْأَنْبِيَاءُ كَمَا قَالَ ذُو النُّونِ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ [الْأَنْبِيَاءِ: 87] وَقَالَ مُوسَى: سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ [الْأَعْرَافِ: 143] وَالصَّحَابَةُ يُسَبِّحُونَ فِي قَوْلِهِ: سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [آلِ عِمْرَانَ: 191] وَالْكُلُّ يُسَبِّحُونَ وَمِنْهُمُ الْحَشَرَاتُ وَالدَّوَابُّ وَالذَّرَّاتُ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 44] وَكَذَا الْحَجَرُ وَالْمَدَرُ وَالرِّمَالُ وَالْجِبَالُ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالظُّلُمَاتُ وَالْأَنْوَارُ وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ وَالزَّمَانُ وَالْمَكَانُ وَالْعَنَاصِرُ وَالْأَرْكَانُ وَالْأَرْوَاحُ وَالْأَجْسَامُ عَلَى مَا قَالَ: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ [الْحَدِيدِ: 1] ثُمَّ يَقُولُ أَيُّهَا الْعَبْدُ: أَنَا الْغَنِيُّ عَنْ تَسْبِيحِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَيْسَتْ مِنَ الْأَحْيَاءِ فَلَا حَاجَةَ بِهَا إِلَى ثَوَابِ هَذَا التَّسْبِيحِ فَقَدْ صَارَ ثَوَابُ هَذِهِ التَّسْبِيحَاتِ ضَائِعًا وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِي وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [ص: 27] لَكِنِّي أُوصِلُ ثَوَابَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِلَيْكَ لِيَعْرِفَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ مَنِ اجْتَهَدَ فِي خِدْمَتِي أَجْعَلُ كُلَّ الْعَالَمِ فِي خِدْمَتِهِ. وَالنُّكْتَةُ الْأُخْرَى اذْكُرْنِي بِالْعُبُودِيَّةِ لِتَنْتَفِعَ بِهِ لَا أَنَا سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ [الصَّافَّاتِ: 180] فَإِنَّكَ إِذَا ذَكَرْتَنِي بِالتَّسْبِيحِ طَهَّرْتُكَ عَنِ الْمَعَاصِي وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْأَحْزَابِ: 42] أَقْرِضْنِي وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْحَدِيدِ: 18] وَإِنْ كُنْتُ أَنَا الْغَنِيُّ حَتَّى أَرُدَّ الْوَاحِدَ عَلَيْكَ عَشَرَةً مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ [البقرة: 245] كُنْ مُعِينًا لِي وَإِنْ كُنْتُ غَنِيًّا عَنْ إِعَانَتِكَ/ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ

وَالْأَرْضِ [الْفَتْحِ: 4] وَأَيْضًا فَلَا حَاجَةَ بِي إِلَى الْعَسْكَرِ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ [مُحَمَّدٍ: 4] لَكِنَّكَ إِذَا نَصَرْتَنِي نَصَرْتُكَ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [مُحَمَّدٍ: 7] كُنْ مُوَاظِبًا عَلَى ذِكْرِي وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [الْبَقَرَةِ: 203] وَلَا حَاجَةَ بِي إِلَى ذِكْرِكَ لِأَنَّ الْكُلَّ يَذْكُرُونِي وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: 25] لَكِنَّكَ إِذَا ذَكَرْتَنِي ذَكَرْتُكَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] اخدمني: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ لَا لِأَنِّي أَحْتَاجُ إِلَى خِدْمَتِكَ فَإِنِّي أَنَا الْمَلِكُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آلِ عِمْرَانَ: 189] . وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرَّعْدِ: 15] وَلَكِنِ انْصَرِفْ إِلَى خِدْمَتِي هَذِهِ الْأَيَّامَ الْقَلِيلَةَ لِتَنَالَ الرَّاحَاتِ الْكَثِيرَةَ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [الْأَنْعَامِ: 91] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: بِحَمْدِكَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِحَمْدِكَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. أَيْ نُسَبِّحُ لَكَ حَامِدِينَ لَكَ وَمُتَلَبِّسِينَ بِحَمْدِكَ، وَأَمَّا الْمَعْنَى ففيه وجهان: الأول: أنا إذا سبحانك فَنَحْمَدُكَ سُبْحَانَكَ يَعْنِي لَيْسَ تَسْبِيحُنَا تَسْبِيحًا مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ بَلْ تَسْتَحِقُّ بِحَمْدِكَ وَجَلَالِكَ هَذَا التَّسْبِيحَ الثَّانِي: أَنَّا نُسَبِّحُكَ بِحَمْدِكَ فَإِنَّهُ لَوْلَا إِنْعَامُكَ عَلَيْنَا بِالتَّوْفِيقِ لَمْ نَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَقْدِرُ أَنْ أَشْكُرَكَ وَأَنَا لَا أَصِلُ إلى شكر نعمتك إلا بنعمتك إِلَّا بِنِعْمَتِكَ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: «الْآنَ قَدْ شَكَرْتَنِي حَيْثُ عَرَفْتَ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنِّي» وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذَا التَّسْبِيحِ فَرُوِيَ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ دَخَلَ بِالْغَدَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِالْعَكْسِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي: أَيُّ الْكَلَامِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ مَا اصْطَفَاهُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فَمَرَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي وَأَنْتَ جَالِسٌ لَا تُصَلِّي فَقَالَ لَهُ امْضِ إِلَى عَمَلِكَ إِنْ كَانَ لَكَ عَمَلٌ، فَقَالَ مَا أَظُنُّ إِلَّا سَيَمُرُّ بِكَ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْكَ فَمَرَّ عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ يَا فُلَانُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ يُصَلِّي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَهَا فَوَثَبَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ، وَقَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِي ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَصَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ صِلَاتِهِ قَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَرَرْتُ آنِفًا عَلَى فُلَانٍ وَأَنْتَ تُصَلِّي وَهُوَ جَالِسٌ فَقُلْتُ لَهُ: نَبِيُّ اللَّهِ يُصَلِّي وَأَنْتَ جَالِسٌ فَقَالَ لِي مُرَّ إِلَى عَمَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَلَّا ضَرَبْتَ عُنُقَهُ، فَقَامَ عُمَرُ مُسْرِعًا لِيَلْحَقَهُ فَيَقْتُلَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عُمَرُ ارْجِعْ فَإِنَّ غَضَبَكَ عِزٌّ وَرِضَاكَ حُكْمٌ إِنَّ لِلَّهِ في السموات مَلَائِكَةً لَهُ غِنًى بِصَلَاتِهِمْ عَنْ صَلَاةِ فُلَانٍ، فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا صَلَاتُهُمْ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ سَأَلَكَ عُمَرُ عَنْ صَلَاةِ أَهْلِ السَّمَاءِ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: أَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُ بِأَنَّ أَهْلَ سَمَاءِ الدُّنْيَا سُجُودٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، وَأَهْلَ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ قِيَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذِي الْعِزَّةِ وَالْجَبَرُوتِ، وَأَهْلَ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ رُكُوعٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَقُولُونَ، سُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، فَهَذَا هُوَ تَسْبِيحُ الْمَلَائِكَةِ» . الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: نُسَبِّحُ أَيْ نُصَلِّي وَالتَّسْبِيحُ هُوَ الصَّلَاةُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: التَّقْدِيسُ التَّطْهِيرُ، وَمِنْهُ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: نُطَهِّرُكَ أَيْ نَصِفُكَ بِمَا يَلِيقُ بِكَ مِنَ الْعُلُوِّ وَالْعِزَّةِ، وَثَانِيهَا: قَوْلُ مُجَاهِدٍ نُطَهِّرُ أَنْفُسَنَا مِنْ ذُنُوبِنَا وَخَطَايَانَا ابْتِغَاءً لِمَرْضَاتِكَ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ نُطَهِّرُ أَفْعَالَنَا مِنْ ذُنُوبِنَا حَتَّى تَكُونَ خَالِصَةً لَكَ. وَرَابِعُهَا: نُطَهِّرُ قُلُوبَنَا عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِكَ حَتَّى تَصِيرَ مُسْتَغْرِقَةً فِي أَنْوَارِ مَعْرِفَتِكَ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى الْعَدْلِ مِنْ وُجُوهٍ: أحدها:

[سورة البقرة (2) : آية 31]

قَوْلُهُمْ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ أَضَافُوا هَذِهِ الْأَفْعَالَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَلَوْ كَانَتْ أَفْعَالًا لِلَّهِ تَعَالَى لَمَا حَسُنَ التَّمَدُّحُ بِذَلِكَ وَلَا فَضْلَ لِذَلِكَ عَلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ إِذْ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَثَانِيهَا: لَوْ كَانَ الْفَسَادُ وَالْقَتْلُ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى لَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ أَنْ يَقُولَ إِنِّي مَالِكٌ أَفْعَلُ مَا أَشَاءُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ يَقْتَضِي التَّبَرِّيَ مِنَ الْفَسَادِ وَالْقَتْلِ لَكِنَّ التَّبَرِّيَ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ مُحَالٌ. وَرَابِعُهَا: إِذَا كَانَ لَا فَاحِشَةَ وَلَا قُبْحَ وَلَا جَوْرَ وَلَا ظُلْمَ وَلَا فَسَادَ إِلَّا بِصُنْعِهِ وَخَلْقِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَكَيْفَ يَصِحُّ التَّنْزِيهُ وَالتَّقْدِيسُ؟ وَخَامِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ الْعَدْلِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَالِقًا لِلْكُفْرِ لَكَانَ خَلَقَهُمْ لِذَلِكَ الْكُفْرِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ نَعَمْ خَلَقَهُمْ ليفسدوا وليقتلوا. فلما لم يرضى بِهَذَا الْجَوَابِ سَقَطَ هَذَا الْمَذْهَبُ. وَسَادِسُهَا: لَوْ كَانَ الْفَسَادُ وَالْقَتْلُ، مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَكَانَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى أَلْوَانِهِمْ وَأَجْسَامِهِمْ وَكَمَا لَا يَصِحُّ التَّعَجُّبُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَكَذَا مِنَ الْفَسَادِ وَالْقَتْلِ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْمُعَارَضَةِ بِمَسْأَلَةِ الدَّاعِي وَالْعِلْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ كَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنِ السُّؤَالِ الَّذِي ذَكَرُوهُ قُلْنَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ السُّؤَالَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لِلتَّعَجُّبِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ جَوَابًا لَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَالَ تَعَالَى لَا تَتَعَجَّبُوا مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ يُفْسِدُ وَيَقْتُلُ فَإِنِّي أَعْلَمُ مَعَ هَذَا بِأَنَّ فِيهِمْ جَمْعًا مِنَ الصَّالِحِينَ وَالْمُتَّقِينَ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لِلْغَمِّ فَيَكُونُ الْجَوَابُ لَا تَغْتَمُّوا بِسَبَبِ وُجُودِ الْمُفْسِدِينَ فَإِنِّي أَعْلَمُ أَيْضًا أَنَّ فِيهِمْ جَمْعًا مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَمَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَيَّ لَأَبَرَّهُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ طَلَبُ الْحِكْمَةِ فَجَوَابُهُ أَنَّ مَصْلَحَتَكُمْ فِيهِ أَنْ تَعْرِفُوا وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِيهِ عَلَى الْإِجْمَالِ دُونَ التَّفْصِيلِ. بَلْ رُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ التَّفْصِيلُ مَفْسَدَةً لَكُمْ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ الْتِمَاسٌ لِأَنْ يَتْرُكَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَوَابُهُ إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ مَصْلَحَتَكُمْ أَنْ تَكُونُوا فِي السَّمَاءِ لَا فِي الْأَرْضِ، وَفِيهِ وَجْهٌ خَامِسٌ: وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ تَعَالَى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَهُوَ أَنَّ مَعَكُمْ إِبْلِيسَ وَأَنَّ فِي قَلْبِهِ حَسَدًا وَكِبْرًا وَنِفَاقًا. وَوَجْهٌ سَادِسٌ: وَهُوَ أَنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ فَإِنَّكُمْ لَمَّا وَصَفْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِهَذِهِ الْمَدَائِحِ فَقَدِ اسْتَعْظَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ فَكَأَنَّكُمْ أَنْتُمْ بِهَذَا الْكَلَامِ فِي تَسْبِيحِ أَنْفُسِكُمْ لَا فِي تَسْبِيحِي وَلَكِنِ اصْبِرُوا حَتَّى يَظْهَرَ الْبَشَرُ فَيَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: 44] وَبِقَوْلِهِ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي [الشُّعَرَاءِ: 82] وَبِقَوْلِهِ: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل: 19] . [سورة البقرة (2) : آية 31] وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) أَعْلَمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا سَأَلُوا عَنْ وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِي خَلْقِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ وَإِسْكَانِهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ وَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يَزِيدَهُمْ بَيَانًا وَأَنْ يُفَصِّلَ لَهُمْ ذَلِكَ الْمُجْمَلَ، فَبَيَّنَ تَعَالَى لَهُمْ مِنْ فَضْلِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ مَعْلُومًا لَهُمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَيْهِمْ لِيُظْهِرَ بِذَلِكَ كَمَالَ فَضْلِهِ وَقُصُورَهُمْ عَنْهُ فِي الْعِلْمِ فَيَتَأَكَّدَ ذَلِكَ الْجَوَابُ الْإِجْمَالِيُّ بِهَذَا الْجَوَابِ التفصيلي وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْأَشْعَرِيُّ وَالْجُبَّائِيُّ وَالْكَعْبِيُّ: اللُّغَاتُ كُلُّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ. بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خلق علماً

ضَرُورِيًّا بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ وَتِلْكَ الْمَعَانِي، وَبِأَنَّ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ مَوْضُوعَةٌ لِتِلْكَ الْمَعَانِي. وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها وَالْكَلَامُ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالًا وَجَوَابًا ذَكَرْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ: إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ لُغَةٍ اصْطِلَاحِيَّةٍ وَاحْتَجَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْوَضْعُ مَسْبُوقًا بِالِاصْطِلَاحِ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِأَنَّهُ تَعَالَى وَضَعَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لِهَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ لِلْعَاقِلِ أَوْ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ، لَا جَائِزٌ أَنْ يَحْصُلَ لِلْعَاقِلِ لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِأَنَّهُ تَعَالَى وَضَعَ ذَلِكَ اللَّفْظَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى لَصَارَتْ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى مَعْلُومَةً بِالضَّرُورَةِ مَعَ أَنَّ ذَاتَهُ مَعْلُومَةٌ بِالِاسْتِدْلَالِ وَذَلِكَ مُحَالٌ وَلَا جَائِزَ أَنْ يَحْصُلَ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ فِي الْعُقُولِ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِهَذِهِ اللُّغَاتِ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ الْعَجِيبَةِ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّوْقِيفِ فَاسِدٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ الْمَلَائِكَةَ وَذَلِكَ يُوجِبُ تَقَدُّمَ لُغَةٍ عَلَى ذَلِكَ التَّكَلُّمِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها يَقْتَضِي إِضَافَةَ التَّعْلِيمِ إِلَى الْأَسْمَاءِ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي فِي تِلْكَ الْأَسْمَاءِ أَنَّهَا كَانَتْ أَسْمَاءً قَبْلَ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ اللُّغَاتُ حَاصِلَةً قَبْلَ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا تَحَدَّى الْمَلَائِكَةَ بِعِلْمِ الْأَسْمَاءِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَعْلَمَ الْمَلَائِكَةُ كَوْنَهُ صَادِقًا فِي تَعْيِينِ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ لِتِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ، وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلِ الْعِلْمُ بِصِدْقِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وَضْعُ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ لِتِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ مُتَقَدِّمًا عَلَى ذَلِكَ التَّعْلِيمِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِخَلْقِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِأَنَّ وَاضِعًا وَضَعَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لِهَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ أَنَّ ذَلِكَ الْوَاضِعَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى أَوِ النَّاسُ؟ وَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ أَنْ تَصِيرَ الصِّفَةُ مَعْلُومَةً بِالضَّرُورَةِ حَالَ كَوْنِ الذَّاتِ مَعْلُومَةً بِالدَّلِيلِ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى/ مَا خَلَقَ هَذَا الْعِلْمَ فِي الْعَاقِلِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُ فِي غَيْرِ الْعَاقِلِ وَالتَّعْوِيلُ عَلَى الِاسْتِعْبَادِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُسْتَبْعَدٌ. وَعَنِ الثَّانِي: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ خَاطَبَ الْمَلَائِكَةَ بِطَرِيقٍ آخَرَ بِالْكِتَابَةِ وَغَيْرِهَا. وَعَنِ الثَّالِثِ: لَا شَكَّ أَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَضْعَ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ لِتِلْكَ الْمَعَانِي سَابِقَةٌ عَلَى التَّعْلِيمِ فَكَفَى ذَلِكَ فِي إِضَافَةِ التَّعْلِيمِ إِلَى الْأَسْمَاءِ، وَعَنِ الرَّابِعِ: مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ قَوْلُهُ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها أَيْ عَلَّمَهُ صِفَاتِ الْأَشْيَاءِ وَنُعُوتَهَا وَخَوَاصَّهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الِاسْمَ اشْتِقَاقُهُ إِمَّا مِنَ السِّمَةِ أَوْ مِنَ السُّمُوِّ، فَإِنْ كَانَ مِنَ السِّمَةِ كَانَ الِاسْمُ هُوَ الْعَلَامَةَ وَصِفَاتُ الْأَشْيَاءِ وَنُعُوتُهَا وَخَوَاصُّهَا دَالَّةٌ عَلَى مَاهِيَّاتِهَا، فصح أن يكون المراد من السماء: الصِّفَاتُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ السُّمُوِّ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ دَلِيلَ الشَّيْءِ كَالْمُرْتَفِعِ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالدَّلِيلِ حَاصِلٌ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ، فَكَانَ الدَّلِيلُ أَسْمَى فِي الْحَقِيقَةِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْمِ الصِّفَةُ، بَقِيَ أَنَّ أَهْلَ النَّحْوِ خَصَّصُوا لَفْظَ الِاسْمِ بِالْأَلْفَاظِ الْمَخْصُوصَةِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ عُرْفٌ حَادِثٌ لَا اعْتِبَارَ بِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ مُمْكِنٌ بِحَسْبَ اللُّغَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ لَا غَيْرُهُ، لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْفَضِيلَةَ فِي مَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ أَكْثَرُ مِنَ الْفَضِيلَةِ فِي مَعْرِفَةِ أَسْمَائِهَا، وَحَمْلُ الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ لِإِظْهَارِ الْفَضِيلَةِ عَلَى مَا يُوجِبُ مَزِيدَ الْفَضِيلَةِ، أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَثَانِيهَا: أَنَّ التَّحَدِّيَ إِنَّمَا يَجُوزُ وَيَحْسُنُ بِمَا يَتَمَكَّنُ السَّامِعُ مِنْ مِثْلِهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِاللُّغَةِ وَالْفَصَاحَةِ، يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ لَهُ غَيْرُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّحَدِّي: ائْتِ بِكَلَامٍ مِثْلِ كَلَامِي فِي الْفَصَاحَةِ، أَمَّا الْعَرَبِيُّ فَلَا يَحْسُنُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ لِلزَّنْجِيِّ فِي مَعْرِضِ التَّحَدِّي: تَكَلَّمْ بِلُغَتِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا طَرِيقَ لَهُ إِلَى مَعْرِفَةِ اللُّغَاتِ الْبَتَّةَ: بَلْ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالتَّعْلِيمِ، فَإِنْ حَصَلَ التَّعْلِيمُ، حَصَلَ الْعِلْمُ بِهِ

وَإِلَّا فَلَا، أَمَّا الْعِلْمُ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، فَالْعَقْلُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ تَحْصِيلِهِ فَصَحَّ وُقُوعُ التَّحَدِّي فِيهِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ أَسْمَاءُ كُلِّ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ أَجْنَاسِ الْمُحْدَثَاتِ مِنْ جَمِيعِ اللُّغَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا وَلَدُ آدَمَ الْيَوْمَ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ وَلَدُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَكَلَّمُونَ بِهَذِهِ اللُّغَاتِ فَلَمَّا مَاتَ آدَمُ وَتَفَرَّقَ وَلَدُهُ فِي نَوَاحِي الْعَالَمِ تَكَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِلُغَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ تِلْكَ اللُّغَاتِ، فَغَلَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ اللِّسَانُ، فَلَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ وَمَاتَ مِنْهُمْ قَرْنٌ بَعْدَ قَرْنٍ نَسُوا سَائِرَ اللُّغَاتِ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي تَغَيُّرِ الْأَلْسِنَةِ فِي وَلَدِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِضْمَارٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَعَلَّمَ آدَمَ أَسْمَاءَ الْمُسَمَّيَاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وعلم آدم مسميات الأسماء، قالوا لكان الْأَوَّلَ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ وَقَوْلُهُ تعالى: فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ أَنْبِئُونِي بِهَؤُلَاءِ وَأَنْبَأَهُمْ بِهِمْ، فَإِنْ قِيلَ: فَلَمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْوَاعَ جَمِيعِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَكَانَ فِي الْمُسَمَّيَاتِ مَا لَا يَكُونُ عَاقِلًا، فَلِمَ قَالَ عَرَضَهُمْ وَلَمْ يَقُلْ عَرَضَهَا؟ قُلْنَا لِأَنَّهُ لَمَّا/ كَانَ فِي جُمْلَتِهَا الْمَلَائِكَةُ وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَهُمُ الْعُقَلَاءُ، فَغُلِّبَ الْأَكْمَلُ، لِأَنَّهُ جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ بِتَغْلِيبِ الْكَامِلِ عَلَى النَّاقِصِ كُلَّمَا غَلَّبُوا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ تَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا اسْتَنْبَأَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ تَعَالَى بِعَجْزِهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّبْكِيتِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ عِلْمِهِ بِالْأَسْمَاءِ مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى حَوَّاءَ وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا إِلَى مَنْ تَوَجَّهَ التَّحَدِّي إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ وَإِنْ كَانُوا رُسُلًا فَقَدْ يَجُوزُ الْإِرْسَالُ إِلَى الرَّسُولِ كَبِعْثَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ حُصُولَ ذَلِكَ الْعِلْمِ لَهُ نَاقِضٌ لِلْعَادَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْجِزًا، وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ مُعْجِزًا ثَبَتَ كَوْنُهُ رَسُولًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ نَاقِضٌ لِلْعَادَةِ لأن حصول العلم باللغة لمن علمه الله تَعَالَى وَعَدَمَ حُصُولِهِ لِمَنْ لَمْ يُعَلِّمْهُ اللَّهُ لَيْسَ بِنَاقِضٍ لِلْعَادَةِ. وَأَيْضًا فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: الْمَلَائِكَةُ عَلِمُوا كَوْنَ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ مَوْضُوعَةً لِتِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ أَوْ مَا عَلِمُوا ذَلِكَ فَإِنْ عَلِمُوا ذَلِكَ فَقَدْ قَدَرُوا عَلَى أَنْ يَذْكُرُوا أَسْمَاءَ تِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ فَحِينَئِذٍ تَحْصُلُ الْمُعَارَضَةُ وَلَا تَظْهَرُ الْمَزِيَّةُ وَالْفَضِيلَةُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ فَكَيْفَ عَرَفُوا أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَصَابَ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ اسْمًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ دَفْعُ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: رُبَّمَا كَانَ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الْمَلَائِكَةِ لُغَةٌ مِنْ هَذِهِ اللُّغَاتِ. وَكَانَ كُلُّ صِنْفٍ جَاهِلًا بِلُغَةِ الصِّنْفِ الْآخَرِ ثُمَّ إِنَّ جَمِيعَ أَصْنَافِ الْمَلَائِكَةِ حَضَرُوا وَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَدَّ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ تِلْكَ اللُّغَاتِ بِأَسْرِهَا فَعَرَفَ كُلُّ صِنْفٍ إِصَابَتَهُ فِي تِلْكَ اللُّغَةِ خَاصَّةً فَعَرَفُوا بِهَذَا الطَّرِيقِ صِدْقَهُ إِلَّا أَنَّهُمْ بِأَسْرِهِمْ عَجَزُوا عَنْ مَعْرِفَةِ تِلْكَ اللُّغَاتِ بِأَسْرِهَا فَكَانَ ذَلِكَ مُعْجِزًا. الثَّانِي: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى عَرَّفَهُمْ قَبْلَ أَنْ سمعوا مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى صِدْقِ آدَمَ فَلَمَّا سَمِعُوا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ عَرَفُوا صِدْقَهُ فِيهَا فَعَرَفُوا كَوْنَهُ مُعْجِزًا، سَلَّمْنَا أَنَّهُ ظَهَرَ عَلَيْهِ فِعْلٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَاتِ أَوْ من باب الإرهاص وهما عندنا جائزاً وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَرْعًا عَلَى الْكَلَامِ فِيهِمَا وَاحْتَجَّ مَنْ قَطَعَ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ

نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، لَكَانَ قَدْ صَدَرَتِ الْمَعْصِيَةُ عَنْهُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ. وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَمَّا الْمُلَازَمَةُ فَلِأَنَّ صُدُورَ الزَّلَّةِ عَنْهُ كَانَ بَعْدَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَتِلْكَ الزَّلَّةُ مِنْ بَابِ الْكَبَائِرِ عَلَى مَا سَيَأْتِي شَرْحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْكَبِيرَةِ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الطَّرْدِ وَالتَّحْقِيرِ وَاللَّعْنِ وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ غَيْرُ جَائِزٍ فَيَجِبُ أَنْ يُقَالَ وَقَعَتْ تِلْكَ الْوَاقِعَةُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ. وَثَانِيهَا: لَوْ كَانَ رَسُولًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا إِلَى أَحَدٍ أَوْ لَا يَكُونُ فَإِنْ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى أَحَدٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْإِنْسِ أَوِ الْجِنِّ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ وَلَا يَجُوزُ جَعْلُ الأدون رسولًا إلى الأشرف لأن الرسول وَالْأُمَّةَ تَبَعٌ، وَجَعْلُ الْأَدْوَنِ مَتْبُوعَ الْأَشْرَفِ خِلَافُ الْأَصْلِ وَأَيْضًا فَالْمَرْءُ إِلَى قَبُولِ الْقَوْلِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ جِنْسِهِ أَمْكَنُ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الْأَنْعَامِ: 9] وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا إِلَى الْبَشَرِ، لِأَنَّهُ مَا كَانَ هُنَاكَ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ إِلَّا حَوَّاءَ، وَإِنَّ حَوَّاءَ إِنَّمَا عَرَفَتِ التَّكْلِيفَ لَا بِوَاسِطَةِ آدَمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ [الأعراف: 19] شَافَهَهُمَا بِهَذَا التَّكْلِيفِ وَمَا جَعَلَ آدَمَ وَاسِطَةً وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا إِلَى الْجِنِّ لِأَنَّهُ مَا كَانَ فِي السَّمَاءِ أَحَدٌ مِنَ الْجِنِّ وَلَا جَائِزَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا إِلَى أَحَدٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جَعْلِهِ رَسُولَا التَّبْلِيغُ فَحَيْثُ لَا مُبَلَّغَ لَمْ يَكُنْ فِي جَعْلِهِ رَسُولًا فَائِدَةٌ وَهَذَا الْوَجْهُ لَيْسَ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ [طَهَ: 122] فَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا اجْتَبَاهُ بَعْدَ الزَّلَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ قَبْلَ الزَّلَّةِ مَا كَانَ مُجْتَبًى، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْوَقْتَ مُجْتَبًى وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ رَسُولًا لِأَنَّ الرِّسَالَةَ وَالِاجْتِبَاءَ مُتَلَازِمَانِ لِأَنَّ الِاجْتِبَاءَ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا التَّخْصِيصُ بِأَنْوَاعِ التَّشْرِيفَاتِ وَكُلُّ مَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ رَسُولًا فَقَدْ خَصَّهُ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَامِ: 124] . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: مَعْنَاهُ أَعْلِمُونِي أَسْمَاءَ هَؤُلَاءِ إِنْ عَلِمْتُمْ أَنَّكُمْ تَكُونُونَ صَادِقِينَ فِي ذَلِكَ الْإِعْلَامِ. وَثَانِيهَا: مَعْنَاهُ أَخْبِرُونِي وَلَا تَقُولُوا إِلَّا حَقًّا وَصِدْقًا فَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهُ التَّوْكِيدَ لِمَا نَبَّهَهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْقُصُورِ وَالْعَجْزِ، لِأَنَّهُ مَتَى تَمَكَّنَ فِي أَنْفُسِهِمُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُمْ إِنْ أَخْبَرُوا لَمْ يَكُونُوا صَادِقِينَ وَلَا لَهُمْ إِلَيْهِ سَبِيلٌ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ مُتَعَذَّرٌ عَلَيْهِمْ. وَثَالِثُهَا: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي قَوْلِكُمْ أَنَّهُ لَا شَيْءَ مِمَّا يَتَعَبَّدُ به الخلق إلا وأنتم تصلحون وَتَقُومُونَ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَرَابِعُهَا: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي قَوْلِكُمْ أَنِّي لَمْ أَخْلُقْ خَلْقًا إِلَّا كُنْتُمْ أَعْلَمَ مِنْهُ فَأَخْبِرُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مَا أَظْهَرَ كَمَالَ حِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا بِأَنْ أَظْهَرَ عِلْمَهُ فَلَوْ كان في الإمكان وجود شيء من العلم أَشْرَفَ مِنَ الْعِلْمِ لَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ إِظْهَارُ فَضْلِهِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ. لَا بِالْعِلْمِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَنْقُولُ، أَمَّا الْكِتَابُ فَوُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْعِلْمَ بِالْحِكْمَةِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَظَّمَ أَمْرَ الْحِكْمَةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ الْعِلْمِ، بَيَانُ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى الْعِلْمَ بِالْحِكْمَةِ مَا يُرْوَى عَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّهُ قَالَ: تَفْسِيرُ الْحِكْمَةِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: مَوَاعِظُ الْقُرْآنِ قَالَ فِي الْبَقَرَةِ: وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ [الْبَقَرَةِ: 231] يَعْنِي مَوَاعِظَ الْقُرْآنِ وَفِي النِّسَاءِ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [النِّسَاءِ: 113] يَعْنِي الْمَوَاعِظَ وَمِثْلُهَا فِي آلِ عِمْرَانَ. وَثَانِيهَا: الْحِكْمَةُ بِمَعْنَى الْفَهْمِ وَالْعِلْمِ قَوْلُهُ تَعَالَى/ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مَرْيَمَ: 12] وَفِي لُقْمَانَ وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ [لُقْمَانَ: 12] يَعْنِي الْفَهْمَ وَالْعِلْمَ وَفِي الْأَنْعَامِ أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ [الأنعام: 89]

وَثَالِثُهَا: الْحِكْمَةُ بِمَعْنَى النُّبُوَّةِ فِي [النِّسَاءِ: 54] فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، يعني النبوة وفي [ص: 20] وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ يَعْنِي النُّبُوَّةَ وَفِي [الْبَقَرَةِ: 251] وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ، وَرَابِعُهَا: الْقُرْآنُ فِي النَّحْلِ ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [النَّحْلِ: 125] وَفِي الْبَقَرَةِ: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَةِ: 269] وَجَمِيعُ هَذِهِ الْوُجُوهِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ تَرْجِعُ إِلَى الْعِلْمِ ثُمَّ تَفَكَّرْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَعْطَى مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا الْقَلِيلَ قَالَ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 85] وَسَمَّى الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا قَلِيلًا قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ [النِّسَاءِ: 77] فَمَا سَمَّاهُ قَلِيلًا لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُدْرِكَ كَمِّيَّتَهُ فَمَا ظَنُّكَ بِمَا سَمَّاهُ كَثِيرًا. ثُمَّ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ عَلَى قِلَّةِ الدُّنْيَا وَكَثْرَةِ الْحِكْمَةِ أَنَّ الدُّنْيَا مُتَنَاهِي الْقَدْرِ مُتَنَاهِي الْعَدَدِ مُتَنَاهِي الْمُدَّةِ. وَالْعِلْمُ لَا نِهَايَةَ لِقَدْرِهِ، وَعَدَدِهِ وَمُدَّتِهِ وَلَا لِلسِّعَادَاتِ الْحَاصِلَةِ مِنْهُ، وَذَلِكَ يُنَبِّهُكَ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ. الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزُّمَرِ: 9] وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ سَبْعِ نَفَرٍ فِي كِتَابِهِ فَرَّقَ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ فَقَالَ: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ [الْمَائِدَةِ: 100] يَعْنِي الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ فَقَالَ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ [الأنعام: 50] وَفَرَّقَ بَيْنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ فَقَالَ: أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ [الرَّعْدِ: 16] وَفَرَّقَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَبَيْنَ الظِّلِّ وَالْحَرُورِ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ وَجَدْتَ كُلَّ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النِّسَاءِ: 59] وَالْمُرَادُ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ الْعُلَمَاءُ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ لِأَنَّ الْمُلُوكَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَةُ الْعُلَمَاءِ وَلَا يَنْعَكِسُ، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْعَالِمِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ قَالَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آلِ عِمْرَانَ: 18] ، وَقَالَ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى زَادَ فِي الْإِكْرَامِ فَجَعَلَهُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى فِي آيَتَيْنِ فَقَالَ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آلِ عِمْرَانَ: 7] وَقَالَ: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرَّعْدِ: 43] الرَّابِعُ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [الْمُجَادَلَةِ: 11] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الدَّرَجَاتِ لِأَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ. أَوَّلُهَا: لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ قَالَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الْأَنْفَالِ: 2] إِلَى قَوْلِهِ: لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الْأَنْفَالِ: 4] وَالثَّانِيَةُ: لِلْمُجَاهِدِينَ قَالَ: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ [النِّسَاءِ: 95] . وَالثَّالِثَةُ: لِلصَّالِحِينَ قَالَ: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى [طَهَ: 75] . الرَّابِعَةُ: لِلْعُلَمَاءِ. قَالَ: وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ فَضَّلَ أَهْلَ بَدْرٍ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِدَرَجَاتٍ وَفَضَّلَ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ بِدَرَجَاتٍ وَفَضَّلَ الصَّالِحِينَ عَلَى هَؤُلَاءِ بِدَرَجَاتٍ ثُمَّ فَضَّلَ الْعُلَمَاءَ عَلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ بِدَرَجَاتٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعُلَمَاءُ أَفْضَلَ النَّاسِ. الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: 28] فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْعُلَمَاءَ فِي كِتَابِهِ بِخَمْسِ مَنَاقِبَ، أَحَدُهَا: الْإِيمَانُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آلِ عِمْرَانَ: 7] وَثَانِيهَا: التَّوْحِيدُ والشهادة شَهِدَ اللَّهُ إلى قوله: وَأُولُوا الْعِلْمِ [آلِ عِمْرَانَ: 18] وَثَالِثُهَا: / الْبُكَاءُ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ [الْإِسْرَاءِ: 109] . وَرَابِعُهَا: الْخُشُوعُ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ [الْإِسْرَاءِ: 107] الْآيَةَ. وَخَامِسُهَا: الْخَشْيَةُ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ أَمَّا الْأَخْبَارُ فَوُجُوهٌ: أَحَدُهَا: رَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عُتَقَاءِ اللَّهِ مِنَ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى الْمُتَعَلِّمِينَ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ مُتَعَلِّمٍ يَخْتَلِفُ إِلَى بَابِ عَالِمٍ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ قَدَمٍ عِبَادَةَ سَنَةٍ وَبَنَى لَهُ بِكُلِّ قَدَمٍ مَدِينَةً فِي الْجَنَّةِ وَيَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَالْأَرْضُ تَسْتَغْفِرُ لَهُ وَيُمْسِي وَيُصْبِحُ مَغْفُورًا لَهُ وَشَهِدَتِ الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ عُتَقَاءُ

اللَّهِ مِنَ النَّارِ» وَثَانِيهَا: عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ فَيَكُونَ لِلَّهِ وَمَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِلَّهِ فَهُوَ كَالصَّائِمِ نَهَارَهُ وَكَالْقَائِمِ لَيْلَهُ وَإِنَّ بَابًا مِنَ الْعِلْمِ يَتَعَلَّمُهُ الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَبُو قُبَيْسٍ ذَهَبًا فَيُنْفِقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَثَالِثُهَا: عَنِ الْحَسَنِ مَرْفُوعًا «مَنْ جَاءَهُ الْمَوْتُ وَهُوَ يَطْلُبُ الْعِلْمَ لِيُحْيِيَ بِهِ الْإِسْلَامَ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ» وَرَابِعُهَا: أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ مَرْفُوعًا «يَبْعَثُ اللَّهُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يُمَيِّزُ الْعُلَمَاءَ فَيَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ إِنِّي لَمْ أَضَعْ نُورِي فِيكُمْ إِلَّا لِعِلْمِي بِكُمْ وَلَمْ أَضَعْ عِلْمِي فِيكُمْ لِأُعَذِّبَكُمْ انْطَلِقُوا فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» . وَخَامِسُهَا: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مُعَلِّمُ الْخَيْرِ إِذَا مَاتَ بَكَى عَلَيْهِ طَيْرُ السَّمَاءِ وَدَوَابُّ الْأَرْضِ وَحِيتَانُ الْبُحُورِ» . وَسَادِسُهَا: أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ صَلَّى خَلْفَ عَالِمٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَكَأَنَّمَا صَلَّى خَلْفَ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ» . وَسَابِعُهَا: ابْنُ عُمَرَ مَرْفُوعًا «فُضِّلَ الْعَالِمُ عَلَى الْعَابِدِ بِسَبْعِينَ دَرَجَةً بَيْنَ كُلِّ دَرَجَةٍ عَدْوُ الْفَرَسِ سَبْعِينَ عَامًا وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَضَعُ الْبِدْعَةَ لِلنَّاسِ فَيُبْصِرُهَا الْعَالِمُ فَيُزِيلُهَا وَالْعَابِدُ يُقْبِلُ عَلَى عِبَادَتِهِ لَا يَتَوَجَّهُ وَلَا يَتَعَرَّفُ لَهَا» . وَثَامِنُهَا: الْحَسَنُ مَرْفُوعًا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى خُلَفَائِي فَقِيلَ مَنْ خُلَفَاؤُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ الَّذِينَ يُحْيُونَ سُنَّتِي وَيُعَلِّمُونَهَا عِبَادَ اللَّهِ» وَتَاسِعُهَا: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ خَرَجَ يَطْلُبُ بَابًا مِنَ الْعِلْمِ لِيَرُدَّ بِهِ بَاطِلًا إِلَى حَقٍّ أَوْ ضَلَالًا إِلَى هُدًى كَانَ عَمَلُهُ كَعِبَادَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» ، وَعَاشِرُهَا: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعَلِيٍّ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوْ تَغْرُبُ» الْحَادِيَ عَشَرَ: ابْنُ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُحَدِّثَ بِهِ النَّاسَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ أَعْطَاهُ أَجْرَ سَبْعِينَ نَبِيًّا» . الثَّانِي عَشَرَ: عَامِرٌ الْجُهَنِيُّ مَرْفُوعًا «يُؤْتَى بِمِدَادِ طَالِبِ الْعِلْمِ وَدَمِ الشَّهِيدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُفَضَّلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ» وَفِي رِوَايَةٍ فَيُرَجَّحُ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ. الثَّالِثَ عَشَرَ: أبو وافد اللَّيْثِيُّ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ إِلَيْهَا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَإِنَّهُ رَجَعَ وَفَرَّ فَلَمَّا فَرَغَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ كَلَامِهِ قَالَ: أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَآوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَاسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَأَعْرَضَ عَنِ اللَّهِ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَمَّا الْآثَارُ فَمِنْ وُجُوهٍ «أ» الْعَالِمُ أَرْأَفُ بِالتِّلْمِيذِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ لِأَنَّ الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ نَارِ الدُّنْيَا وَآفَاتِهَا وَالْعُلَمَاءُ يَحْفَظُونَهُ مِنْ نَارِ الْآخِرَةِ وَشَدَائِدِهَا «ب» قِيلَ/ لِابْنِ مَسْعُودٍ بِمَ وَجَدْتَ هَذَا الْعِلْمَ: قَالَ بِلِسَانٍ سَئُولٍ، وَقَلْبٍ عَقُولٍ «ج» قَالَ بَعْضُهُمْ سَلْ مَسْأَلَةَ الْحَمْقَى، وَاحْفَظْ حِفْظَ الْأَكْيَاسِ «د» مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ تَعَلَّمِ الْعِلْمَ فَإِنْ كَانَ لَكَ مَالٌ كَانَ الْعِلْمُ لَكَ جَمَالًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ مَالٌ كَانَ الْعِلْمُ لَكَ مَالًا «هـ-» قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: لَا خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْعِلْمِ كَمَا لَا خَيْرَ فِي الْكَلَامِ عَنِ الْجَهْلِ «و» قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ عَالِمٌ بِاللَّهِ غَيْرُ عَالِمٍ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَعَالِمٌ بِأَمْرِ اللَّهِ غَيْرُ عَالِمٍ بِاللَّهِ، وَعَالِمٌ بِاللَّهِ وَبِأَمْرِ اللَّهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ عَبْدٌ قَدِ اسْتَوْلَتِ الْمَعْرِفَةُ الْإِلَهِيَّةُ عَلَى قَلْبِهِ فَصَارَ مُسْتَغْرِقًا بِمُشَاهَدَةِ نُورِ الْجَلَالِ وَصَفَحَاتِ الْكِبْرِيَاءِ فَلَا يَتَفَرَّغُ لِتَعَلُّمِ عِلْمِ الْأَحْكَامِ إِلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ. الثَّانِي: هُوَ الَّذِي يَكُونُ عَالِمًا بِأَمْرِ اللَّهِ وَغَيْرَ عَالِمٍ بِاللَّهِ وَهُوَ الَّذِي عَرَفَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَحَقَائِقَ الْأَحْكَامِ لَكِنَّهُ لَا يَعْرِفُ أَسْرَارَ جَلَالِ اللَّهِ. أَمَّا الْعَالِمُ بِاللَّهِ وَبِأَحْكَامِ اللَّهِ فَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الْحَدِّ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ عَالَمِ الْمَعْقُولَاتِ وَعَالَمِ الْمَحْسُوسَاتِ فَهُوَ تَارَةً مَعَ اللَّهِ بِالْحُبِّ لَهُ، وَتَارَةً مَعَ الْخَلْقِ بِالشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَإِذَا رَجَعَ مِنْ رَبِّهِ إِلَى الْخَلْقِ صَارَ مَعَهُمْ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ كَأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ وَإِذَا خَلَا بِرَبِّهِ مُشْتَغِلًا بِذِكْرِهِ وَخِدْمَتِهِ فَكَأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْخَلْقَ فَهَذَا سَبِيلُ الْمُرْسَلِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «سَائِلِ الْعُلَمَاءَ وَخَالِطِ الْحُكَمَاءَ وَجَالِسِ الْكُبَرَاءَ» فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: سَائِلِ الْعُلَمَاءَ أَيِ الْعُلَمَاءَ بِأَمْرِ اللَّهِ غَيْرَ الْعَالِمِينَ بِاللَّهِ فَأَمَرَ

بِمُسَاءَلَتِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى اللَّهِ اسْتِفْتَاءً مِنْهُمْ، وَأَمَّا الْحُكَمَاءُ فَهُمُ الْعَالِمُونَ بِاللَّهِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ أَوَامِرَ اللَّهِ فَأَمَرَ بِمُخَالَطَتِهِمْ وَأَمَّا الْكُبَرَاءُ فَهُمُ الْعَالِمُونَ بِاللَّهِ وَبِأَحْكَامِ اللَّهِ فَأَمَرَ بِمُجَالَسَتِهِمْ لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْمُجَالَسَةِ مَنَافِعَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ شَقِيقٌ الْبَلْخِيُّ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ أَمَّا الْعَالِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ فَلَهُ ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ، وَأَنْ يَكُونَ خَائِفًا مِنَ الخلق دون الرب، وأن يستحي من الناس في الظاهر ولا يستحي مِنَ اللَّهِ فِي السِّرِّ، وَأَمَّا الْعَالِمُ بِاللَّهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ ذَاكِرًا خَائِفًا مُسْتَحْيِيًا. أَمَّا الذِّكْرُ فَذِكْرُ الْقَلْبِ لَا ذِكْرُ اللِّسَانِ، وَأَمَّا الْخَوْفُ فَخَوْفُ الرِّيَاءِ لَا خَوْفُ الْمَعْصِيَةِ، وَأَمَّا الْحَيَاءُ فَحَيَاءُ مَا يَخْطُرُ عَلَى الْقَلْبِ لَا حَيَاءُ الظَّاهِرِ، وَأَمَّا الْعَالِمُ بِاللَّهِ وَبِأَمْرِ اللَّهِ فَلَهُ سِتَّةُ أَشْيَاءَ الثَّلَاثَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لِلْعَالِمِ بِاللَّهِ فَقَطْ مَعَ ثَلَاثَةٍ أُخْرَى كَوْنُهُ جَالِسًا عَلَى الْحَدِّ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ عَالَمِ الْغَيْبِ وَعَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَكَوْنُهُ مُعَلِّمًا لِلْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَكَوْنُهُ بِحَيْثُ يَحْتَاجُ الْفَرِيقَانِ الْأَوَّلَانِ إِلَيْهِ وَهُوَ يَسْتَغْنِي عَنْهُمَا، ثُمَّ قَالَ: مَثَلُ الْعَالِمِ بِاللَّهِ وَبِأَمْرِ اللَّهِ كَمَثَلِ الشَّمْسِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَمَثَلُ الْعَالِمِ بالله فقد كَمَثَلِ الْقَمَرِ يَكْمُلُ تَارَةً وَيَنْقُصُ تَارَةً أُخْرَى، وَمَثَلُ الْعَالِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ فَقَطْ كَمَثَلِ السِّرَاجِ يُحْرِقُ نَفْسَهُ وَيُضِيءُ لِغَيْرِهِ «ز» قَالَ فَتْحٌ الْمَوْصِلِيُّ: أَلَيْسَ الْمَرِيضُ إِذَا امْتَنَعَ عَنْهُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالدَّوَاءُ يَمُوتُ؟ فَكَذَا الْقَلْبُ إِذَا امْتَنَعَ عَنْهُ الْعِلْمُ وَالْفِكْرُ وَالْحِكْمَةُ يَمُوتُ «ح» قَالَ شَقِيقٌ الْبَلْخِيُّ: النَّاسُ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسِي عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: كَافِرٌ مَحْضٌ، وَمُنَافِقٌ مَحْضٌ، وَمُؤْمِنٌ مَحْضٌ، وَذَلِكَ لِأَنِّي أُفَسِّرُ الْقُرْآنَ فَأَقُولُ عَنِ اللَّهِ وَعَنِ الرَّسُولِ فَمَنْ لَا يُصَدِّقُنِي فَهُوَ كَافِرٌ مَحْضٌ، وَمَنْ ضَاقَ قَلْبُهُ مِنْهُ فَهُوَ مُنَافِقٌ مَحْضٌ، وَمِنْ نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ/ وَعَزَمَ عَلَى أَنْ لَا يُذْنِبَ كَانَ مُؤْمِنًا مَحْضًا. وَقَالَ أَيْضًا: ثَلَاثَةٌ مِنَ النَّوْمِ يُبْغِضُهَا اللَّهُ تَعَالَى. وَثَلَاثَةٌ مِنَ الضَّحِكِ: النَّوْمُ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَقَبْلَ صَلَاةِ الْعَتَمَةِ. وَالنَّوْمُ فِي الصَّلَاةِ، وَالنَّوْمُ عِنْدَ مَجْلِسِ الذِّكْرِ، وَالضَّحِكُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ، وَالضَّحِكُ فِي الْمَقَابِرِ، وَالضَّحِكُ فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ «ط» قَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً [الرعد: 17] السيل هاهنا الْعِلْمُ، شَبَّهَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمَاءِ لِخَمْسِ خِصَالٍ: أَحَدُهَا: كَمَا أَنَّ الْمَطَرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ كَذَلِكَ الْعِلْمُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ. وَالثَّانِي: كَمَا أَنَّ إِصْلَاحَ الْأَرْضِ بِالْمَطَرِ فَإِصْلَاحُ الْخَلْقِ بِالْعِلْمِ، الثَّالِثُ: كَمَا أَنَّ الزَّرْعَ وَالنَّبَاتَ لَا يَخْرُجُ بِغَيْرِ الْمَطَرِ كَذَلِكَ الْأَعْمَالُ وَالطَّاعَاتُ لَا تَخْرُجُ بِغَيْرِ الْعِلْمِ. وَالرَّابِعُ: كَمَا أَنَّ الْمَطَرَ فَرْعُ الرعد والبرق كذلك العلم فإنه فرغ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. الْخَامِسُ: كَمَا أَنَّ الْمَطَرَ نَافِعٌ وَضَارٌّ، كَذَلِكَ الْعِلْمُ نَافِعٌ وَضَارٌّ: نَافِعٌ لِمَنْ عَمِلَ بِهِ ضَارٌّ لِمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ «ي» كَمْ مِنْ مُذَكِّرٍ بِاللَّهِ نَاسٍ لِلَّهِ، وَكَمْ مِنْ مُخَوِّفٍ بِاللَّهِ، جَرِيءٌ عَلَى اللَّهِ، وَكَمْ مِنْ مُقَرِّبٍ إِلَى اللَّهِ بَعِيدٌ عَنِ اللَّهِ، وَكَمْ مِنْ دَاعٍ إِلَى اللَّهِ فَارٌّ مِنَ اللَّهِ، وَكَمْ مِنْ تَالٍ كِتَابَ اللَّهِ مُنْسَلِخٌ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ «يَا» الدُّنْيَا بُسْتَانٌ زُيِّنَتْ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ: عِلْمُ الْعُلَمَاءِ وَعَدْلُ الْأُمَرَاءِ وَعِبَادَةُ الْعُبَّادِ وَأَمَانَةُ التُّجَّارِ وَنَصِيحَةُ الْمُحْتَرِفِينَ. فَجَاءَ إِبْلِيسُ بِخَمْسَةِ أَعْلَامٍ فَأَقَامَهَا بِجَنْبِ هَذِهِ الْخَمْسِ جَاءَ بِالْحَسَدِ فَرَكَزَهُ فِي جَنْبِ الْعِلْمِ، وَجَاءَ بِالْجَوْرِ فَرَكَزَهُ بِجَنْبِ الْعَدْلِ، وَجَاءَ بِالرِّيَاءِ فَرَكَزَهُ بِجَنْبِ الْعِبَادَةِ، وَجَاءَ بِالْخِيَانَةِ فَرَكَزَهَا بِجَنْبِ الْأَمَانَةِ، وَجَاءَ بِالْغِشِّ فَرَكَزَهُ بِجَنْبِ النَّصِيحَةِ «يب» فُضِّلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَلَى التَّابِعِينَ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِشَيْءٍ حَتَّى عَمِلَهُ، وَالثَّانِي: لَمْ يَنْهَ أَحَدًا عَنْ شَيْءٍ حَتَّى انْتَهَى عَنْهُ، وَالثَّالِثُ: كُلُّ مَنْ طَلَبَ مِنْهُ شَيْئًا مِمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَبْخَلْ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَالِ. وَالرَّابِعُ: كَانَ يَسْتَغْنِي بِعِلْمِهِ عَنِ النَّاسِ، وَالْخَامِسُ: كَانَتْ سَرِيرَتُهُ وَعَلَانِيَتُهُ سَوَاءً. «يج» إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ عِلْمَكَ يَنْفَعُكَ أَمْ لَا فَاطْلُبْ مِنْ نَفْسِكَ خَمْسَ خِصَالٍ: حُبُّ الْفَقْرِ لِقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ، وَحُبُّ الطَّاعَةِ طَلَبًا لِلثَّوَابِ، وَحُبُّ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا طَلَبًا لِلْفَرَاغِ، وَحُبُّ الْحِكْمَةِ طَلَبًا لِصَلَاحِ الْقَلْبِ، وَحُبُّ الْخَلْوَةِ طَلَبًا لِمُنَاجَاةِ الرَّبِّ «يد» اطْلُبْ خَمْسَةً فِي خَمْسَةٍ، الْأَوَّلُ: اطْلُبِ الْعِزَّ فِي التَّوَاضُعِ لَا فِي الْمَالِ

وَالْعَشِيرَةِ. وَالثَّانِي: اطْلُبِ الْغِنَى فِي الْقَنَاعَةِ لَا فِي الْكَثْرَةِ، وَالثَّالِثُ: اطْلُبِ الْأَمْنَ فِي الْجَنَّةِ لَا فِي الدُّنْيَا. وَالرَّابِعُ: اطْلُبِ الرَّاحَةَ فِي الْقِلَّةِ لَا فِي الْكَثْرَةِ. وَالْخَامِسُ: اطْلُبْ مَنْفَعَةَ الْعِلْمِ فِي الْعَمَلِ لَا فِي كَثْرَةِ الرِّوَايَةِ «يه» قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ مَا جَاءَ فَسَادُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا مِنْ قِبَلِ الْخَوَاصِّ وَهُمْ خَمْسَةٌ: الْعُلَمَاءُ، وَالْغُزَاةُ، وَالزُّهَّادُ وَالتُّجَّارُ، وَالْوُلَاةُ. أَمَّا الْعُلَمَاءُ فَهُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَمَّا الزُّهَّادُ فَعِمَادُ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَأَمَّا الْغُزَاةُ فَجُنْدُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَأَمَّا التُّجَّارُ فَأُمَنَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَأَمَّا الْوُلَاةُ فَهُمُ الرُّعَاةُ فَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ لِلدِّينِ وَاضِعًا وَلِلْمَالِ رَافِعًا فَبِمَنْ يَقْتَدِي الْجَاهِلُ، وَإِذَا كَانَ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا رَاغِبًا فَبِمَنْ يَقْتَدِي التَّائِبُ، وَإِذَا كَانَ الْغَازِي طَامِعًا مُرَائِيًا فَكَيْفَ يَظْفَرُ بِالْعَدُوِّ. وَإِذَا كَانَ التَّاجِرُ خَائِنًا فَكَيْفَ تَحْصُلُ الْأَمَانَةُ، وَإِذَا كَانَ الرَّاعِي ذِئْبًا فَكَيْفَ تَحْصُلُ الرِّعَايَةُ «يو» قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْعِلْمُ أَفْضَلُ مِنَ/ الْمَالِ بِسَبْعَةِ أَوْجُهٍ: أَوَّلُهَا: الْعِلْمُ مِيرَاثُ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمَالُ مِيرَاثُ الْفَرَاعِنَةِ. الثَّانِي: الْعِلْمُ لَا يَنْقُصُ بِالنَّفَقَةِ وَالْمَالُ يَنْقُصُ، وَالثَّالِثُ: يَحْتَاجُ الْمَالُ إِلَى الْحَافِظِ وَالْعِلْمُ يَحْفَظُ صَاحِبَهُ. وَالرَّابِعُ: إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ يَبْقَى مَالُهُ وَالْعِلْمُ يَدْخُلُ مَعَ صَاحِبِهِ قَبْرَهُ. وَالْخَامِسُ: الْمَالُ يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْعِلْمُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، وَالسَّادِسُ: جَمِيعُ النَّاسِ يَحْتَاجُونَ إِلَى صَاحِبِ الْعِلْمِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى صَاحِبِ الْمَالِ. السَّابِعُ: الْعِلْمُ يُقَوِّي الرَّجُلَ عَلَى الْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ وَالْمَالُ يَمْنَعُهُ «يز» قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: إِنَّ مَنْ يَجْلِسُ عِنْدَ الْعَالِمِ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَحْفَظَ مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ شَيْئًا فَلَهُ سَبْعُ كَرَامَاتٍ: أَوَّلُهَا: يَنَالُ فَضْلَ الْمُتَعَلِّمِينَ. وَالثَّانِي: مَا دَامَ جَالِسًا عِنْدَهُ كَانَ مَحْبُوسًا عَنِ الذُّنُوبِ. وَالثَّالِثُ: إِذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ طَلَبًا لِلْعِلْمِ نَزَلَتِ الرَّحْمَةُ عَلَيْهِ. وَالرَّابِعُ: إِذَا جَلَسَ فِي حَلْقَةِ الْعِلْمِ فَإِذَا نَزَلَتِ الرَّحْمَةُ عَلَيْهِمْ حَصَلَ لَهُ مِنْهَا نَصِيبٌ. وَالْخَامِسُ: مَا دَامَ يَكُونُ فِي الِاسْتِمَاعِ، تُكْتَبُ لَهُ طَاعَةٌ. وَالسَّادِسُ: إِذَا اسْتَمَعَ وَلَمْ يَفْهَمْ ضَاقَ قَلْبُهُ لِحِرْمَانِهِ عَنْ إِدْرَاكِ الْعِلْمِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْغَمُّ وَسِيلَةً لَهُ إِلَى حَضْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ لِأَجْلِي» وَالسَّابِعُ: يَرَى إِعْزَازَ الْمُسْلِمِينَ لِلْعَالِمِ وَإِذْلَالَهُمْ لِلْفُسَّاقِ فَيُرَدُّ قَلْبُهُ عَنِ الْفِسْقِ وَيَمِيلُ طَبْعُهُ إِلَى الْعِلْمِ فَلِهَذَا أَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمُجَالَسَةِ الصَّالِحِينَ «يح» قِيلَ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَضِنُّ بِعِلْمِهِ وَلَا يُحِبُّ أَنْ يُوجَدَ عِنْدَ غَيْرِهِ فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ الْأَوَّلِ مِنَ النَّارِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَكُونُ فِي عِلْمِهِ بِمَنْزِلَةِ السُّلْطَانِ فَإِنْ رُدَّ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ حَقِّهِ غَضِبَ، فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ الثَّانِي مِنَ النَّارِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَجْعَلُ حَدِيثَهُ وَغَرَائِبَ عِلْمِهِ لِأَهْلِ الشَّرَفِ وَالْيَسَارِ وَلَا يَرَى الْفُقَرَاءَ لَهُ أَهْلًا، فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ الثَّالِثِ مِنَ النَّارِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ كَانَ مُعْجَبًا بِنَفْسِهِ إِنْ وَعَظَ عَنَّفَ وَإِنَّ وُعِظَ أَنِفَ فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ الرَّابِعِ مِنَ النَّارِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَنْصِبُ نَفْسَهُ لَلْفُتْيَا فَيُفْتِي خَطَأً فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ الْخَامِسِ مِنَ النَّارِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَتَعَلَّمُ كَلَامَ الْمُبْطِلِينَ فَيَمْزُجُهُ بِالدِّينِ فَهُوَ فِي الدَّرْكِ السَّادِسِ مِنَ النَّارِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَطْلُبُ الْعِلْمَ لِوُجُوهِ النَّاسِ فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ السَّابِعِ مِنَ النَّارِ «يط» قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: مَنْ جَلَسَ مَعَ ثَمَانِيَةِ أَصْنَافٍ مِنَ النَّاسِ زَادَهُ اللَّهُ ثَمَانِيَةَ أَشْيَاءَ. مَنْ جَلَسَ مَعَ الْأَغْنِيَاءِ زَادَهُ اللَّهُ حُبَّ الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةَ فِيهَا وَمَنْ جَلَسَ مَعَ الْفُقَرَاءِ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ الشُّكْرَ وَالرِّضَا بِقِسْمَةِ اللَّهِ، وَمَنْ جَلَسَ مَعَ السُّلْطَانِ زَادَهُ اللَّهُ الْقَسْوَةَ وَالْكِبْرَ، وَمَنْ جَلَسَ مَعَ النِّسَاءِ زَادَهُ اللَّهُ الْجَهْلَ وَالشَّهْوَةَ، وَمَنْ جَلَسَ مَعَ الصِّبْيَانِ ازْدَادَ مِنَ اللَّهْوِ وَالْمِزَاحِ، وَمَنْ جَلَسَ مَعَ الْفُسَّاقِ ازْدَادَ مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى الذُّنُوبِ وَتَسْوِيفِ التَّوْبَةِ، وَمَنْ جَلَسَ مَعَ الصَّالِحِينَ ازْدَادَ رَغْبَةً فِي الطَّاعَاتِ، وَمَنْ جَلَسَ مَعَ الْعُلَمَاءِ ازْدَادَ الْعِلْمَ وَالْوَرَعَ «يي» إِنَّ اللَّهَ عَلَّمَ سَبْعَةَ نَفَرٍ سَبْعَةَ أَشْيَاءَ «أ» عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها «ب» عَلَّمَ الْخَضِرَ الْفِرَاسَةَ وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الْكَهْفِ: 65] «ج» وَعَلَّمَ يُوسُفَ عِلْمَ التَّعْبِيرِ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ [يُوسُفَ: 101] «د» عَلَّمَ دَاوُدَ صَنْعَةَ الدِّرْعِ وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ

لَبُوسٍ لَكُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: 80] «هـ» عَلَّمَ سُلَيْمَانَ مَنْطِقَ الطير يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النَّمْلِ: 16] «و» عَلَّمَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِلْمَ التَّوْرَاةِ/ وَالْإِنْجِيلِ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [آلِ عِمْرَانَ: 48] «ز» وَعَلَّمَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّرْعَ وَالتَّوْحِيدَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النِّسَاءِ: 113] ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [الْبَقَرَةِ: 129] ، الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرَّحْمَنِ: 1] فَعِلْمُ آدَمَ كَانَ سَبَبًا لَهُ فِي حُصُولِ السَّجْدَةِ وَالتَّحِيَّةِ، وَعِلْمُ الْخَضِرِ كَانَ سَبَبًا لِأَنْ وَجَدَ تِلْمِيذًا مِثْلَ مُوسَى وَيُوشَعَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَعِلْمُ يُوسُفَ كَانَ سَبَبًا لِوِجْدَانِ الْأَهْلِ وَالْمَمْلَكَةِ، وَعِلْمُ دَاوُدَ كَانَ سَبَبًا لِوِجْدَانِ الرِّيَاسَةِ وَالدَّرَجَةِ، وَعِلْمُ سُلَيْمَانَ كَانَ سَبَبًا لِوِجْدَانِ بِلْقِيسَ وَالْغَلَبَةِ، وَعِلْمُ عِيسَى كَانَ سَبَبًا لِزَوَالِ التُّهْمَةِ عَنْ أُمِّهِ وَعِلْمُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ سَبَبًا لِوُجُودِ الشَّفَاعَةِ، ثُمَّ نَقُولُ مَنْ عَلِمَ أَسْمَاءَ الْمَخْلُوقَاتِ وَجَدَ التَّحِيَّةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَمَنْ عَلِمَ ذَاتَ الْخَالِقِ وَصِفَاتِهِ أَمَا يَجِدُ تَحِيَّةَ الْمَلَائِكَةِ؟ بَلْ يَجِدُ تَحِيَّةَ الرَّبِّ سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] وَالْخَضِرُ وجد بعلم الفراسة صحبة موسى، فيما أُمَّةَ الْحَبِيبِ بِعِلْمِ الْحَقِيقَةِ كَيْفَ لَا تَجِدُونَ صُحْبَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ [النِّسَاءِ: 69] وَيُوسُفُ بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا نَجَا مِنْ حَبْسِ الدُّنْيَا، فَمَنْ كَانَ عَالِمًا بِتَأْوِيلِ كِتَابِ اللَّهِ كَيْفَ لَا يَنْجُو مِنْ حَبْسِ الشَّهَوَاتِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [يُونُسَ: 25] وَأَيْضًا فَإِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ مِنَّةَ اللَّهِ عَلَى نَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ: وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ [يُوسُفَ: 101] . فَأَنْتَ يَا عَالِمُ أَمَا تَذْكُرُ مِنَّةَ اللَّهِ عَلَى نَفْسِكَ حَيْثُ عَلَّمَكَ تَفْسِيرَ كِتَابِهِ فَأَيُّ نِعْمَةٍ أَجَلُّ مِمَّا أَعْطَاكَ اللَّهُ حَيْثُ جَعَلَكَ مُفَسِّرًا لِكَلَامِهِ وَسَمِيًّا لِنَفْسِهِ وَوَارِثًا لِنَبِيِّهِ وَدَاعِيًا لِخَلْقِهِ وَوَاعِظًا لِعِبَادِهِ وَسِرَاجًا لِأَهْلِ بِلَادِهِ وَقَائِدًا لِلْخَلْقِ إِلَى جَنَّتِهِ وَثَوَابِهِ وَزَاجِرًا لَهُمْ عَنْ نَارِهِ وَعِقَابِهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: الْعُلَمَاءُ سَادَةٌ وَالْفُقَهَاءُ قَادَةٌ وَمُجَالَسَتُهُمْ زِيَادَةٌ «كا» الْمُؤْمِنُ لَا يَرْغَبُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ حَتَّى يَرَى سِتَّ خِصَالٍ مِنْ نَفْسِهِ. أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَأَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهَا إِلَّا بِالْعِلْمِ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ نَهَانِي عَنِ الْمَعَاصِي وَأَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى اجْتِنَابِهَا إِلَّا بِالْعِلْمِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيَّ شُكْرَ نِعَمِهِ وَلَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْعِلْمِ. وَالرَّابِعَةُ: أَمَرَنِي بِإِنْصَافِ الْخَلْقِ وَأَنَا لَا أَقْدِرُ أَنْ أُنْصِفَهُمْ إِلَّا بِالْعِلْمِ. وَالْخَامِسَةُ: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِالصَّبْرِ عَلَى بَلَائِهِ وَلَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَالسَّادِسَةُ: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِالْعَدَاوَةِ مَعَ الشَّيْطَانِ وَلَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا بِالْعِلْمِ «كب» طَرِيقُ الْجَنَّةِ فِي أَيْدِي أَرْبَعَةٍ: الْعَالِمِ وَالزَّاهِدِ وَالْعَابِدِ وَالْمُجَاهِدِ، فَالزَّاهِدُ إِذَا كَانَ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ يَرْزُقُهُ اللَّهُ الْأَمْنَ، وَالْعَابِدُ إِذَا كَانَ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ يَرْزُقُهُ اللَّهُ الْخَوْفَ، وَالْمُجَاهِدُ إِذَا كَانَ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ يَرْزُقُهُ اللَّهُ الثَّنَاءَ وَالْحَمْدَ، وَالْعَالِمُ إِذَا كَانَ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ يَرْزُقُهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ «كج» اطْلُبْ أَرْبَعَةً مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنَ الْمَوْضِعِ السَّلَامَةَ، وَمِنَ الصَّاحِبِ الْكَرَامَةَ، وَمِنَ الْمَالِ الْفَرَاغَةَ «1» ، وَمِنَ الْعِلْمِ الْمَنْفَعَةَ، فَإِذَا لَمْ تَجِدْ مِنَ الْمَوْضِعِ السَّلَامَةَ فَالسِّجْنُ خَيْرٌ مِنْهُ، وَإِذَا لَمْ تَجِدْ مِنْ صَاحِبِكَ الْكَرَامَةَ فَالْكَلْبُ خَيْرٌ مِنْهُ، وَإِذَا لَمْ تَجِدْ مِنْ مَالِكَ الْفَرَاغَةَ فَالْمَدَرُ خَيْرٌ مِنْهُ، وَإِذَا لَمْ تَجِدْ مِنَ الْعِلْمِ الْمَنْفَعَةَ فَالْمَوْتُ خَيْرٌ مِنْهُ «كد» لَا تَتِمُّ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ إِلَّا بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: لَا يَتِمُّ الدِّينُ إِلَّا بِالتَّقْوَى، وَلَا يَتِمُّ الْقَوْلُ إِلَّا بِالْفِعْلِ، وَلَا تَتِمُّ/ الْمُرُوءَةُ إِلَّا بِالتَّوَاضُعِ، وَلَا يَتِمُّ الْعِلْمُ إِلَّا بِالْعَمَلِ، فَالدِّينُ بِلَا تَقْوَى عَلَى الْخَطَرِ، وَالْقَوْلُ بِلَا فِعْلٍ كَالْهَدْرِ، وَالْمُرُوءَةُ بِلَا تَوَاضُعٍ كَشَجَرٍ بِلَا ثَمَرٍ، والعلم

_ (1) هذا في الأصول ولعله يريد بالفراغة أن الإنسان إذا أصاب من المال كفاية تفرغ إلى تحصيل العلم وأقبل على الطاعة. ولكني لم أسمع الفراغة. وذلك يجعلني أميل إلى أنها محرفة عن القناعة، وفي الحق أن المرء إذا لم يقنع ويكتف بما عنده من مال لم يقنعه شيء، وهذا معناه حديث «لو كان لابن آدم واد من ذهب لتمنى أن يكون له ثانٍ وثالث ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب» (عبد الله الصاوي) .

بِلَا عَمَلٍ كَغَيْثٍ بِلَا مَطَرٍ «كه» قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ: قِوَامُ الدُّنْيَا بِأَرْبَعَةٍ بِعَالِمٍ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ، وَجَاهِلٍ لَا يَسْتَنْكِفُ مِنْ تَعَلُّمِهِ، وَغَنِيٍّ لَا يَبْخَلُ بِمَالِهِ، وَفَقِيرٍ لَا يَبِيعُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ، فَإِذَا لَمْ يَعْمَلِ الْعَالِمُ بِعِلْمِهِ اسْتَنْكَفَ الْجَاهِلُ مِنْ تَعَلُّمِهِ وَإِذَا بَخِلَ الْغَنِيُّ بِمَعْرُوفِهِ بَاعَ الْفَقِيرُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ فَالْوَيْلُ لَهُمْ وَالثُّبُورُ سَبْعِينَ مَرَّةً «كو» قَالَ الْخَلِيلُ: الرِّجَالُ أَرْبَعَةٌ رَجُلٌ يَدْرِي وَيَدْرِي أَنَّهُ يَدْرِي فَهُوَ عَالِمٌ فَاتَّبِعُوهُ، وَرَجُلٌ يَدْرِي وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ يَدْرِي فَهُوَ نَائِمٌ فَأَيْقِظُوهُ، وَرَجُلٌ لَا يَدْرِي وَيَدْرِي أَنَّهُ لَا يَدْرِي فَهُوَ مُسْتَرْشِدٌ فَأَرْشِدُوهُ، وَرَجُلٌ لَا يَدْرِي وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ لَا يَدْرِي فَهُوَ شَيْطَانٌ فَاجْتَنِبُوهُ «كز» أَرْبَعَةٌ لَا يَنْبَغِي لِلشَّرِيفِ أَنْ يَأْنَفَ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ أَمِيرًا: قِيَامُهُ مِنْ مَجْلِسِهِ لِأَبِيهِ، وَخِدْمَتُهُ لِضَيْفِهِ، وَخِدْمَتُهُ لِلْعَالِمِ الَّذِي يَتَعَلَّمُ مِنْهُ، وَالسُّؤَالُ عَمًّا لَا يَعْلَمُ مِمَّنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ «كح» إِذَا اشْتَغَلَ الْعُلَمَاءُ بِجَمْعِ الْحَلَالِ صَارَ الْعَوَامُّ آكِلِينَ لِلشُّبُهَاتِ، وَإِذَا صَارَ الْعَالِمُ آكِلًا لِلشُّبَهَاتِ صَارَ الْعَامِّيُّ آكِلًا لِلْحَرَامِ، وَإِذَا صَارَ الْعَالِمُ آكِلًا لِلْحَرَامِ صَارَ الْعَامِّيُّ كَافِرًا يَعْنِي إِذَا اسْتَحَلُّوا. أَمَّا الْوُجُوهُ الْعَقْلِيَّةُ فَأُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأُمُورَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، قِسْمٌ يَرْضَاهُ الْعَقْلُ وَلَا تَرْضَاهُ الشَّهْوَةُ. وَقِسْمٌ تَرْضَاهُ الشَّهْوَةُ وَلَا يَرْضَاهُ الْعَقْلُ، وَقِسْمٌ يَرْضَاهُ الْعَقْلُ وَالشَّهْوَةُ مَعًا، وَقِسْمٌ لَا يَرْضَاهُ الْعَقْلُ وَلَا تَرْضَاهُ الشَّهْوَةُ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ الْأَمْرَاضُ وَالْمَكَارِهُ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ الْمَعَاصِي أَجْمَعُ، وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَهُوَ الْعِلْمُ، وَأَمَّا الرَّابِعُ: فَهُوَ الْجَهْلُ فَيَنْزِلُ الْعِلْمُ مِنَ الْجَهْلِ مَنْزِلَةَ الْجَنَّةِ مِنَ النَّارِ، فَكَمَا أَنَّ الْعَقْلَ وَالشَّهْوَةَ لَا يَرْضَيَانِ بِالنَّارِ فَكَذَلِكَ لَا يَرْضَيَانِ بِالْجَهْلِ وَكَمَا أَنَّهُمَا يَرْضَيَانِ بِالْجَنَّةِ فَكَذَا يَرْضَيَانِ بِالْعِلْمِ فَمَنْ رَضِيَ بِالْجَهْلِ فَقَدْ رَضِيَ بِنَارٍ حَاضِرَةٍ، وَمَنِ اشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ فَقَدْ خَاضَ فِي جَنَّةٍ حَاضِرَةٍ، فَكُلُّ مَنِ اخْتَارَ الْعِلْمَ يُقَالُ لَهُ تَعَوَّدْتَ الْمُقَامَ فِي الْجَنَّةِ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، وَمَنِ اكْتَفَى بِالْجَهْلِ يُقَالُ لَهُ تَعَوَّدْتَ النَّارَ فَادْخُلِ النَّارَ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ جَنَّةٌ وَالْجَهْلَ نَارٌ أَنَّ كَمَالَ اللَّذَّةِ فِي إِدْرَاكِ الْمَحْبُوبِ وَكَمَالَ الْأَلَمِ فِي الْبُعْدِ عَنِ الْمَحْبُوبِ، وَالْجِرَاحَةُ إِنَّمَا تُؤْلِمُ لِأَنَّهَا تُبْعِدُ جُزْءًا مِنَ الْبَدَنِ عَنْ جُزْءٍ مَحْبُوبٍ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ وَهُوَ الِاجْتِمَاعُ فَلَمَّا اقْتَضَتِ الْجِرَاحَةُ إِزَالَةَ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ فَقَدِ اقْتَضَتْ إِزَالَةَ الْمَحْبُوبِ وَبُعْدَهُ، فَلَا جَرَمَ كَانَ ذَلِكَ مُؤْلِمًا وَالْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ إِنَّمَا كَانَ أَشَدَّ إِيلَامًا مِنَ الْجُرْحِ لِأَنَّ الْجُرْحَ لَا يُفِيدُ إِلَّا تَبْعِيدَ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ عَنْ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ، أَمَّا النَّارُ فَإِنَّهَا تَغُوصُ فِي جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ فَاقْتَضَتْ تَبْعِيدَ جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، فَلَمَّا كَانَتِ التَّفْرِيقَاتُ فِي الْإِحْرَاقِ أَشَدَّ كَانَ الْأَلَمُ هُنَاكَ أَصْعَبَ، أَمَّا اللَّذَّةُ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ إِدْرَاكِ الْمَحْبُوبِ، فَلَذَّةُ الْأَكْلِ عِبَارَةٌ عن إدراك تلك الطعوم الموافقة لِلْبَدَنِ، وَكَذَلِكَ لَذَّةُ النَّظَرِ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِأَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ مُشْتَاقَةٌ إِلَى إِدْرَاكِ الْمَرْئِيَّاتِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ ذَلِكَ الْإِدْرَاكُ لَذَّةً لَهَا فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ اللَّذَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ إِدْرَاكِ الْمَحْبُوبِ، وَالْأَلَمَ عِبَارَةٌ عَنْ إِدْرَاكِ الْمَكْرُوهِ وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: / كُلَّمَا كَانَ الْإِدْرَاكُ أَغْوَصَ وَأَشَدَّ وَالْمُدْرِكُ أَشْرَفَ وَأَكْمَلَ، وَالْمُدْرَكُ أَنْقَى وَأَبْقَى. وَجَبَ أَنْ تَكُونَ اللَّذَّةُ أَشْرَفَ وَأَكْمَلَ. وَلَا شك أن محل الْعِلْمِ هُوَ الرُّوحُ وَهُوَ أَشْرَفُ مِنَ الْبَدَنِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِدْرَاكَ الْعَقْلِيَّ أَغَوْصَ وَأَشْرَفَ عَلَى مَا سَيَجِيءُ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّورِ: 35] وَأَمَّا الْمَعْلُومُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَشْرَفُ لِأَنَّهُ هُوَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَمِيعُ مَخْلُوقَاتِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَفْلَاكِ وَالْعَنَاصِرِ وَالْجَمَادَاتِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَجَمِيعُ أَحْكَامِهِ وَأَوَامِرِهِ وَتَكَالِيفِهِ وَأَيُّ مَعْلُومٍ أَشْرَفُ مِنْ ذَلِكَ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا كَمَالَ وَلَا لَذَّةَ فَوْقَ كَمَالِ الْعِلْمِ وَلَذَّاتِهِ وَلَا شَقَاوَةَ وَلَا نُقْصَانَ فَوْقَ شَقَاوَةِ الْجَهْلِ وَنُقْصَانِهِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا سُئِلَ الْوَاحِدُ مِنَّا عَنْ مَسْأَلَةٍ عِلْمِيَّةٍ فَإِنْ عَلِمَهَا وَقَدِرَ عَلَى الْجَوَابِ وَالصَّوَابِ فِيهَا فَرِحَ بِذَلِكَ وَابْتَهَجَ بِهِ، وَإِنْ جَهِلَهَا نَكَّسَ رَأْسَهُ حَيَاءً مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّذَّةَ الْحَاصِلَةَ بِالْعِلْمِ أَكْمَلُ اللَّذَّاتِ، وَالشَّقَاءَ الْحَاصِلَ بِالْجَهْلِ أَكْمَلُ أَنْوَاعِ الشَّقَاءِ، واعلم أن هاهنا وُجُوهًا أُخَرَ مِنَ النُّصُوصِ تَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ نَسِينَا إِيرَادَهَا قَبْلَ ذَلِكَ

فلا بأس أن نذكرها هاهنا. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [الْعَلَقِ: 1- 5] فَقِيلَ فِيهِ إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْآيَاتِ فَأَيُّ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَ قَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ فَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلَ حَالِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ كَوْنُهُ عَلَقَةً. مَعَ أَنَّهَا أَخَسُّ الْأَشْيَاءِ وَآخِرَ حَالِهِ وَهِيَ صَيْرُورَتُهُ عَالِمًا وَهُوَ أَجَلُّ الْمَرَاتِبِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ كُنْتَ أَنْتَ فِي أَوَّلِ حَالِكَ فِي تِلْكَ الدَّرَجَةِ الَّتِي هِيَ غَايَةُ الْخَسَاسَةِ فَصِرْتَ فِي آخِرِ حَالِكَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ الَّتِي هِيَ الْغَايَةُ فِي الشَّرَفِ. وَهَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ أَشْرَفَ الْمَرَاتِبِ إِذْ لَوْ كَانَ غَيْرُهُ أَشْرَفَ لَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْوَصْفَ بِالْأَكْرَمِيَّةِ لِأَنَّهُ أَعْطَى الْعِلْمَ فَلَوْلَا أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ وَإِلَّا لَمَا كَانَتْ إِفَادَتُهُ أَشْرَفَ مِنْ إِفَادَةِ غَيْرِهِ: الثَّالِثُ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا وُجُوهٌ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ. أَحَدُهَا: دَلَالَتُهَا عَلَى أُمَمٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَالْعُلَمَاءُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَبَيَانُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: 28] وَبَيَانُ أَنَّ أَهْلَ الْخَشْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الْبَيِّنَةِ: 8] إِلَى قَوْلِهِ تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَلَا أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ فَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ إِثْبَاتُ مُقَدِّمَتَيْ هَذِهِ/ الدَّلَالَةِ بِالْعَقْلِ، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْعَالِمَ بِاللَّهِ يَجِبُ أَنْ يَخْشَاهُ، فَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالشَّيْءِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ خَائِفًا مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ الْعِلْمَ بِالذَّاتِ لَا يَكْفِي فِي الْخَوْفِ، بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْعِلْمِ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ. مِنْهَا: الْعِلْمُ بِالْقُدْرَةِ، لِأَنَّ الْمَلِكَ عَالِمٌ بِاطِّلَاعِ رَعِيَّتِهِ عَلَى أَفْعَالِهِ الْقَبِيحَةِ، لَكِنَّهُ لَا يَخَافُهُمْ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِهَا. وَمِنْهَا: الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ عَالِمًا، لأن السارق من مال السلطان يعلم بقدرته، وَلَكِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِسَرِقَتِهِ فَلَا يَخَافُهُ. وَمِنْهَا الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ حَكِيمًا. فَإِنَّ الْمُسَخَّرَ عِنْدَ السُّلْطَانِ عَالِمٌ بِكَوْنِ السُّلْطَانِ قَادِرًا عَلَى مَنْعِهِ عَالِمًا بِقَبَائِحِ أَفْعَالِهِ، لَكِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ يَرْضَى بِمَا لَا يَنْبَغِي فَلَا يَحْصُلُ الْخَوْفُ، أَمَّا لَوْ عَلِمَ اطِّلَاعَ السُّلْطَانِ عَلَى قَبَائِحِ أَفْعَالِهِ وَعَلِمَ قُدْرَتَهُ عَلَى مَنْعِهِ وَعَلِمَ أنه حكيم لا يرضى بسفاهته، صَارَتْ هَذِهِ الْعُلُومُ الثَّلَاثَةُ مُوجِبَةً لِحُصُولِ الْخَوْفِ فِي قَلْبِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ خَوْفَ الْعَبْدِ مِنَ اللَّهِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا عَلِمَ بِكَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ، غَيْرَ رَاضٍ بِالْمُنْكَرَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْخَوْفَ مِنْ لَوَازِمِ الْعِلْمِ بِاللَّهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْخَوْفَ سَبَبُ الْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا سَنَحَ لِلْعَبْدِ لَذَّةٌ عَاجِلَةٌ وَكَانَتْ تِلْكَ اللَّذَّةُ عَلَى خِلَافِ أَمْرِ اللَّهِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ الشَّيْءِ يَكُونُ مُشْتَمِلًا عَلَى مَنْفَعَةٍ وَمَضَرَّةٍ، فَصَرِيحُ الْعَقْلِ حَاكِمٌ بِتَرْجِيحِ الْجَانِبِ الرَّاجِحِ عَلَى الْجَانِبِ الْمَرْجُوحِ، فَإِذَا عَلِمَ بِنُورِ الْإِيمَانِ أَنَّ اللَّذَّةَ الْعَاجِلَةَ حَقِيرَةٌ فِي مُقَابَلَةِ الْأَلَمِ الْآجِلِ، صَارَ ذَلِكَ الْإِيمَانُ سَبَبًا لِفِرَارِهِ عَنْ تِلْكَ اللَّذَّةِ الْعَاجِلَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْخَشْيَةُ، وَإِذَا صَارَ تَارِكًا لِلْمَحْظُورِ فَاعِلًا لِلْوَاجِبِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ، فَقَدْ ثَبَتَ بِالشَّوَاهِدِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ أَنَّ

الْعَالِمَ بِاللَّهِ خَائِفٌ وَالْخَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْجَنَّةِ أَهْلٌ إِلَّا الْعُلَمَاءَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَلِمَةَ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَشْيَةَ اللَّهِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا لِلْعُلَمَاءِ. وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [الْبَيِّنَةِ: 8] دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ لِأَهْلِ الْخَشْيَةِ وَكَوْنُهَا لِأَهْلِ الْخَشْيَةِ يُنَافِي كَوْنَهَا لِغَيْرِهِمْ، فَدَلَّ مَجْمُوعُ الْآيَتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْجَنَّةِ أَهْلٌ إِلَّا الْعُلَمَاءَ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِيهَا تَخْوِيفٌ شَدِيدٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْخَشْيَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ لَوَازِمِ الْعِلْمِ بِاللَّهِ، فَعِنْدَ عَدَمِ الْخَشْيَةِ يَلْزَمُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِاللَّهِ، وَهَذِهِ الدَّقِيقَةُ تُنَبِّهُكَ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُورِثُ الْخَشْيَةَ، وَأَنَّ أَنْوَاعَ الْمُجَادَلَاتِ وَإِنْ دَقَّتْ وَغَمُضَتْ إِذَا خَلَتْ عَنْ إِفَادَةِ الْخَشْيَةِ كَانَتْ مِنَ الْعِلْمِ الْمَذْمُومِ. وَثَالِثُهَا: قُرِئَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ برفعه الْأَوَّلِ وَنَصْبِ الثَّانِي، وَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ جَازَتِ الْخَشْيَةُ عَلَيْهِ، لَمَا خَشِيَ الْعُلَمَاءُ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَا يَجُوزُ وَبَيْنَ مَا لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا الْجَاهِلُ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ فَأَيُّ مُبَالَاةٍ بِهِ وَأَيُّ الْتِفَاتٍ إِلَيْهِ، فَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ نِهَايَةُ الْمَنْصِبِ لِلْعُلَمَاءِ وَالتَّعْظِيمِ. الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] . وَفِيهِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى نَفَاسَةِ الْعِلْمِ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ وَفَرْطِ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ، حَيْثُ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِالِازْدِيَادِ مِنْهُ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَوِ اكْتَفَى أَحَدٌ مِنَ الْعِلْمِ لَاكْتَفَى نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَقُلْ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الْكَهْفِ: 66] . الْخَامِسُ: كَانَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ مُلْكِ الدُّنْيَا مَا كَانَ حَتَّى إِنَّهُ قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص: 35] ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَفْتَخِرْ بِالْمَمْلَكَةِ وَافْتَخَرَ بالعلم حيث قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْلِ: 16] فَافْتَخَرَ بِكَوْنِهِ عَالِمًا بِمَنْطِقِ الطَّيْرِ فَإِذَا حَسُنَ مِنْ سُلَيْمَانَ أَنْ يَفْتَخِرَ بِذَلِكَ الْعِلْمِ فَلَأَنْ يَحْسُنَ بِالْمُؤْمِنِ أَنْ يَفْتَخِرَ بِمَعْرِفَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَانَ أَحْسَنَ وَلِأَنَّهُ قَدَّمَ ذَلِكَ على قوله: وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ كَمَالَ حَالِهِمْ قَدَّمَ الْعِلْمَ أَوَّلًا وَقَالَ: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ [الْأَنْبِيَاءِ: 78] إِلَى قَوْلِهِ: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً [الْأَنْبِيَاءِ: 79] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ. السَّادِسُ: قَالَ بَعْضُهُمْ الْهُدْهُدُ مَعَ أَنَّهُ فِي نِهَايَةِ الضَّعْفِ وَمَعَ أَنَّهُ كَانَ فِي مَوْقِفِ الْمُعَاتَبَةُ قَالَ لِسُلَيْمَانَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ [النَّمْلِ: 22] فَلَوْلَا أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ الْأَشْيَاءِ وَإِلَّا فَمِنْ أَيْنَ لِلْهُدْهُدِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي مَجْلِسِ سُلَيْمَانَ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ وَلِذَلِكَ يُرَى الرَّجُلُ السَّاقِطُ إِذَا تَعَلَّمَ الْعِلْمَ صَارَ نَافِذَ الْقَوْلِ عِنْدَ السَّلَاطِينِ وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِبَرَكَةِ الْعِلْمِ، السَّابِعُ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً» وَفِي التَّفْضِيلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّفَكُّرَ يُوصِلُكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْعِبَادَةَ تُوصِلُكَ إِلَى ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَالَّذِي يُوصِلُكَ إِلَى اللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا يُوصِلُكَ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّفَكُّرَ عَمَلُ الْقَلْبِ وَالطَّاعَةَ عَمَلُ الْجَوَارِحِ، وَالْقَلْبُ أَشْرَفُ مِنَ الْجَوَارِحِ فَكَانَ عَمَلُ الْقَلْبِ أَشْرَفَ مِنْ عَمَلِ الْجَوَارِحِ والذي يؤكد هذا الوجه قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] جَعَلَ الصَّلَاةَ وَسِيلَةً إِلَى ذِكْرِ الْقَلْبِ وَالْمَقْصُودُ أَشْرَفُ مِنَ الْوَسِيلَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ. الثَّامِنُ: قَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النِّسَاءِ: 113] فَسَمَّى الْعِلْمَ عَظِيمًا وَسَمَّى الْحِكْمَةَ خَيْرًا كَثِيرًا فَالْحِكْمَةُ هِيَ الْعِلْمُ وَقَالَ أَيْضًا: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرَّحْمَنِ: 1] فَجَعَلَ هَذِهِ النِّعْمَةَ مُقَدَّمَةً عَلَى جَمِيعِ النِّعَمِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ. التَّاسِعُ: أَنَّ سَائِرَ كُتُبِ اللَّهِ نَاطِقَةٌ بِفَضْلِ الْعِلْمِ. أَمَّا التَّوْرَاةُ فَقَالَ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ «عَظِّمِ الْحِكْمَةَ فَإِنِّي لَا أَجْعَلُ الْحِكْمَةَ فِي قَلْبِ عَبْدٍ إِلَّا وَأَرَدْتُ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ فَتَعَلَّمْهَا ثُمَّ اعْمَلْ بِهَا ثُمَّ ابْذُلْهَا كَيْ تَنَالَ بِهَا كَرَامَتِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَأَمَّا الزَّبُورُ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: «يَا دَاوُدُ قُلْ لِأَحْبَارِ بَنِي

إِسْرَائِيلَ وَرُهْبَانِهِمْ حَادِثُوا مِنَ النَّاسِ الْأَتْقِيَاءَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهِمْ تَقِيًّا فَحَادِثُوا الْعُلَمَاءَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا عَالِمًا فَحَادِثُوا الْعُقَلَاءَ فَإِنَّ التُّقَى والعلم والعقل ثلاث مرات بما جَعَلْتُ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فِي أَحَدٍ مِنْ خَلْقِي وَأَنَا أُرِيدُ إِهْلَاكَهُ» وَأَقُولُ إِنَّمَا قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى التُّقَى عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّ التُّقَى لَا يُوجَدُ بِدُونِ الْعِلْمِ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْخَشْيَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْعِلْمِ وَالْمَوْصُوفُ بِالْأَمْرَيْنِ أَشْرَفُ مِنَ الْمَوْصُوفِ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا السِّرُّ أَيْضًا قَدَّمَ الْعَالِمَ عَلَى الْعَاقِلِ لِأَنَّ الْعَالِمَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، أَمَّا الْعَاقِلُ فَقَدْ لَا يَكُونُ عَالِمًا فَالْعَقْلُ كَالْبَذْرِ وَالْعِلْمُ كَالشَّجَرَةِ وَالتَّقْوَى كَالثَّمَرِ. وَأَمَّا الْإِنْجِيلُ قَالَ اللَّهُ تعالى في السورة السابعة عشر مِنْهُ «وَيْلٌ لِمَنْ سَمِعَ بِالْعِلْمِ فَلَمْ يَطْلُبْهُ كَيْفَ يُحْشَرُ مَعَ الْجُهَّالِ إِلَى النَّارِ اطْلُبُوا الْعِلْمَ وَتَعَلَّمُوهُ فَإِنَّ الْعِلْمَ إِنْ لَمْ يُسْعِدْكُمْ لَمْ يُشْقِكُمْ/ وَإِنْ لَمْ يَرْفَعْكُمْ لَمْ يَضَعْكُمْ وَإِنْ لَمْ يُغْنِكُمْ لَمْ يُفْقِرْكُمْ وَإِنْ لَمْ يَنْفَعْكُمْ لَمْ يَضُرَّكُمْ وَلَا تَقُولُوا نَخَافُ أَنْ نَعْلَمَ فَلَا نَعْمَلُ وَلَكِنْ قُولُوا نَرْجُو أَنْ نَعْلَمَ فَنَعْمَلَ» وَالْعِلْمُ شَفِيعٌ لِصَاحِبِهِ وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا يُخْزِيَهُ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: «يَا مَعَاشِرَ الْعُلَمَاءِ مَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّكُمْ؟ يَقُولُونَ. ظَنُّنَا أَنْ يَرْحَمَنَا وَيَغْفِرَ لَنَا، فَيَقُولُ: فَإِنِّي قَدْ فَعَلْتُ، إِنِّي قَدِ اسْتَوْدَعْتُكُمْ حِكْمَتِي لَا لِشَرٍّ أَرَدْتُهُ بِكُمْ، بَلْ لِخَيْرٍ أَرَدْتُهُ بِكُمْ، فَادْخُلُوا فِي صَالِحِ عِبَادِي إِلَى جَنَّتِي بِرَحْمَتِي» وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَجَدْتُ فِي الْإِنْجِيلِ. أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قال لعيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: يَا عِيسَى عَظِّمِ الْعُلَمَاءَ وَاعْرِفْ فَضْلَهُمْ لِأَنِّي فَضَّلْتُهُمْ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِي إِلَّا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ كَفَضْلِ الشَّمْسِ عَلَى الْكَوَاكِبِ، وَكَفَضْلِ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا، وَكَفَضْلِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، أَمَّا الْأَخْبَارُ: «أ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْعُلَمَاءِ «إِنِّي لَمْ أَضَعْ عِلْمِي فِيكُمْ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُعَذِّبَكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكُمْ» «ب» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً بَلِيغَةً قَبْلَ وَفَاتِهِ وَهِيَ آخِرُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ: مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَتَوَاضَعَ فِي الْعِلْمِ وَعَلَّمَهَ عِبَادَ اللَّهِ يُرِيدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ. لَمْ يَكُنْ فِي الْجَنَّةِ أَفْضَلُ ثَوَابًا مِنْهُ وَلَا أَعْظَمُ مَنْزِلَةً، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْجَنَّةِ مَنْزِلَةٌ وَلَا دَرَجَةٌ رَفِيعَةٌ نَفِيسَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ فِيهَا أَوْفَرُ النَّصِيبِ وَأَشْرَفُ الْمَنَازِلِ» . «ج» ابْنُ عُمَرَ مَرْفُوعًا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفَّتْ مَنَابِرُ مِنْ ذَهَبٍ عَلَيْهَا قِبَابٌ مِنْ فِضَّةٍ مُنَضَّدَةٌ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ جِلَالُهَا السُّنْدُسُ وَالْإِسْتَبْرَقُ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادِي الرَّحْمَنِ: أَيْنَ مَنْ حَمَلَ إِلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عِلْمًا يُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ: اجْلِسُوا عَلَى هَذِهِ الْمَنَابِرِ فَلَا خَوْفَ عَلَيْكُمْ حَتَّى تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ. «د» عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عُلَمَاءُ حُكَمَاءُ كَأَنَّهُمْ مِنَ الْفِقْهِ أَنْبِيَاءُ، يَرْضَوْنَ مِنَ اللَّهِ بِالْيَسِيرِ مِنَ الرِّزْقِ، وَيَرْضَى اللَّهُ مِنْهُمْ بِالْيَسِيرِ مِنَ الْعَمَلِ، وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ «هـ» قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، حَرَّمَ اللَّهُ جَسَدَهُ عَلَى النَّارِ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ مَلَكَاهُ وَإِنْ مَاتَ فِي طَلَبِهِ مَاتَ شَهِيدًا، وَكَانَ قَبْرُهُ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَيُوَسَّعُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، وَيُنَوَّرُ عَلَى جِيرَانِهِ أَرْبَعِينَ قَبْرًا عَنْ يَمِينِهِ. وَأَرْبَعِينَ قَبْرًا عَنْ يَسَارِهِ، وَأَرْبَعِينَ عَنْ خَلْفِهِ، وَأَرْبَعِينَ أَمَامَهُ، وَنَوْمُ الْعَالِمِ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتُهُ تَسْبِيحٌ، وَنَفْسُهُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ قَطْرَةٍ نَزَلَتْ مِنْ عَيْنَيْهِ تُطْفِئُ بَحْرًا مِنْ جَهَنَّمَ فَمَنْ أَهَانَ الْعَالِمَ فقد أَهَانَ اللَّهَ أَهَانَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «و» قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَجْوَدِ الْأَجْوَادِ. قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَجْوَدُ الْأَجْوَادِ وَأَنَا أَجْوَدُ وَلَدِ آدَمَ، وَأَجْوَدُهُمْ مِنْ بَعْدِي رَجُلٌ عَالِمٌ يَنْشُرُ عِلْمَهُ فَيُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ وَرَجُلٌ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يُقْتَلَ» . «ز» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ/ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا والآخرة، والله تعالى في عون العبد، مادام الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إلى الجنة

وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي مَسْجِدٍ مِنْ مَسَاجِدِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ «ح» قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْعُلَمَاءُ ثُمَّ الشُّهَدَاءُ» . قَالَ الرَّاوِي: فَأَعْظَمُ مَرْتَبَةٍ هِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالشَّهَادَةِ «ط» مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ لِأَنَّهُ مَعَالِمُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَمَنَارُ سُبُلِ الْجَنَّةِ وَالْأَنِيسُ مِنَ الْوَحْشَةِ وَالصَّاحِبُ فِي الْوَحْدَةِ وَالْمُحَدِّثُ فِي الْخَلْوَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالسِّلَاحُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَالدِّينُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَامًا فَيَجْعَلُهُمْ فِي الْخَيْرِ قَادَةً هُدَاةً يُهْتَدَى بِهِمْ، وَأَئِمَّةً فِي الْخَيْرِ يُقْتَفَى بِآثَارِهِمْ وَيُقْتَدَى بِأَفْعَالِهِمْ، وَيُنْتَهَى إِلَى آرَائِهِمْ تَرْغَبُ الْمَلَائِكَةُ فِي خِلْقَتِهِمْ وَبِأَجْنِحَتِهَا تَمْسَحُهُمْ وَفِي صَلَاتِهَا تَسْتَغْفِرُ لَهُمْ حَتَّى كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ وَحِيتَانُ الْبَحْرِ وَهَوَامُّهُ وَسِبَاعُ الْبَرِّ وَأَنْعَامُهُ وَالسَّمَاءُ وَنُجُومُهَا. لِأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنَ الْعَمَى وَنُورُ الْأَبْصَارِ مِنَ الظُّلْمَةِ وَقُوَّةُ الْأَبْدَانِ مِنَ الضَّعْفِ يَبْلُغُ بِالْبَعِيدِ مَنَازِلَ الْأَحْرَارِ وَمَجَالِسَ الْمُلُوكِ والدرجات العلى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالتَّفَكُّرُ فِيهِ يُعْدَلُ بِالصِّيَامِ وَمُدَارَسَتُهُ بِالْقِيَامِ بِهِ يُطَاعُ اللَّهُ وَيُعْبَدُ وَبِهِ يُمَجَّدُ وَيُوَحَّدُ وَبِهِ تُوصَلُ الْأَرْحَامُ وَبِهِ يُعْرَفُ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ» «ي» أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ بِالْخَيْرِ» «يَا» قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إِذَا سَأَلْتُمُ الْحَوَائِجَ فَاسْأَلُوهَا النَّاسَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنِ النَّاسُ؟ قَالَ أَهْلُ الْقُرْآنِ قِيلَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ قِيلَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ الصِّبَاحُ الْوُجُوهِ» قَالَ الرَّاوِي وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْقُرْآنِ مَنْ يَحْفَظُ مَعَانِيَهُ «يب» قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ فَهُوَ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَخَلِيفَةُ كِتَابِهِ وَخَلِيفَةُ رَسُولِهِ وَالدُّنْيَا سُمُّ اللَّهِ الْقَتَّالُ لِعِبَادِهِ فَخُذُوا مِنْهَا بِقَدْرِ السُّمِّ فِي الْأَدْوِيَةِ لَعَلَّكُمْ تَنْجُونَ» قَالَ الرَّاوِي وَالْعُلَمَاءُ دَاخِلُونَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ هَذَا حَرَامٌ فَاجْتَنِبُوهُ وَهَذَا حَلَالٌ فَخُذُوهُ «يج» فِي الْخَبَرِ: الْعَالِمُ نَبِيٌّ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ «يد» قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «كُنْ عَالِمًا، أَوْ مُتَعَلِّمًا، أَوْ مُسْتَمِعًا، أَوْ مُحِبًّا، وَلَا تَكُنِ الْخَامِسَ فَتَهْلِكَ» قَالَ الرَّاوِي: وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَبَيْنَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «النَّاسُ رَجُلَانِ عَالِمٌ وَمُتَعَلِّمٌ وَسَائِرُ النَّاسِ هَمَجٌ لَا خَيْرَ فِيهِمْ» إِنَّ الْمُسْتَمِعَ وَالْمُحِبَّ بمنزلة المتعلم وما أحسن قوله بَعْضِ الْأَعْرَابِ لِوَلَدِهِ: كُنْ سَبُعًا خَالِسًا أَوْ ذِئْبًا خَانِسًا أَوْ كَلْبًا حَارِسًا، وَإِيَّاكَ وَأَنْ تَكُونَ إِنْسَانًا نَاقِصًا، «يه» قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنِ اتَّكَأَ عَلَى يَدِهِ عَالِمٌ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عِتْقَ رَقَبَةٍ وَمَنْ قَبَّلَ رَأْسَ عَالِمٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةً» «يو» قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ برواية أبي هريرة «بكت السموات/ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَمَنْ عَلَيْهِنَّ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَمَنْ عَلَيْهِنَّ لِعَزِيزٍ ذَلَّ وَغَنِيٍّ افْتَقَرَ وَعَالِمٍ يَلْعَبُ بِهِ الْجُهَّالُ» «يز» وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «حَمَلَةُ الْقُرْآنِ عُرَفَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالشُّهَدَاءُ قُوَّادُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالْأَنْبِيَاءُ سَادَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ «يح» وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْعُلَمَاءُ مَفَاتِيحُ الْجَنَّةِ وَخُلَفَاءُ الْأَنْبِيَاءِ» قَالَ الرَّاوِي الْإِنْسَانُ لَا يَكُونُ مِفْتَاحًا إِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ مِفْتَاحَ الْجِنَانِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ رَأَى فِي النَّوْمِ أَنَّ بِيَدِهِ مَفَاتِيحَ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ يُؤْتَى عِلْمًا فِي الدِّينِ. «يط» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ رَحْمَةٍ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ الْغَافِلِينَ وَالْبَالِغِينَ وَغَيْرِ الْبَالِغِينَ، فَتِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ رَحْمَةً لِلْعُلَمَاءِ وَطَالِبِي الْعِلْمِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَالرَّحْمَةُ الْوَاحِدَةُ لِسَائِرِ النَّاسِ» . «كَ» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قُلْتُ يَا جِبْرِيلُ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ لِأُمَّتِي؟ قَالَ: الْعِلْمُ، قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: النَّظَرُ إِلَى الْعَالِمِ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: زِيَارَةُ الْعَالِمِ، ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ كَسَبَ الْعِلْمَ لِلَّهِ وَأَرَادَ بِهِ صَلَاحَ نَفْسِهِ وَصَلَاحَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، فَأَنَا

كَفِيلُهُ بِالْجَنَّةِ» «كا» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «عَشَرَةٌ تُسْتَجَابُ لَهُمُ الدَّعْوَةُ الْعَالِمُ وَالْمُتَعَلِّمُ وَصَاحِبُ حُسْنِ الْخُلُقِ وَالْمَرِيضُ وَالْيَتِيمُ وَالْغَازِي وَالْحَاجُّ وَالنَّاصِحُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْوَلَدُ الْمُطِيعُ لِأَبَوَيْهِ وَالْمَرْأَةُ الْمُطِيعَةُ لِزَوْجِهَا» «كب» «سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا الْعِلْمُ؟ فَقَالَ: دَلِيلُ الْعَمَلِ قِيلَ: فَمَا الْعَقْلُ؟ قَالَ: قَائِدُ الْخَيْرِ، قِيلَ: فَمَا الْهَوَى؟ قَالَ: مَرْكَبُ الْمَعَاصِي، قِيلَ: فَمَا الْمَالُ؟ قَالَ: رِدَاءُ الْمُتَكَبِّرِينَ، قِيلَ: فَمَا الدُّنْيَا؟ قَالَ: سُوقُ الْآخِرَةِ» . «كج» أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُحَدِّثُ إِنْسَانًا فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ عُمُرِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي تُحَدِّثُهُ إِلَّا سَاعَةٌ، وَكَانَ هَذَا وَقْتَ الْعَصْرِ، فَأَخْبَرَهُ الرَّسُولُ بِذَلِكَ فَاضْطَرَبَ الرَّجُلُ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى أَوْفَقِ عَمَلٍ لِي فِي هَذِهِ السَّاعَةِ، قَالَ اشْتَغِلْ بِالتَّعَلُّمِ فَاشْتَغَلَ بِالتَّعَلُّمِ، وَقُبِضَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، قَالَ الرَّاوِي: فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ أَفْضَلَ مِنَ الْعِلْمِ، لَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. «كد» قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «النَّاسُ كُلُّهُمْ مَوْتَى إِلَّا الْعَالِمُونَ» وَالْخَبَرُ مَشْهُورٌ «كه» عَنْ أَنَسٍ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «سَبْعَةٌ لِلْعَبْدِ تَجْرِي بَعْدَ مَوْتِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا أَوْ أَجْرَى نَهْرًا أَوْ حَفَرَ بِئْرًا أَوْ بَنَى مَسْجِدًا أَوْ وَرِّثَ مُصْحَفًا أَوْ تَرَكَ وَلَدًا صَالِحًا يَدْعُو لَهُ بِالْخَيْرِ أَوْ صَدَقَةً تَجْرِي لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ» فَقَدَّمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ التَّعْلِيمَ عَلَى جَمِيعِ الِانْتِفَاعَاتِ لِأَنَّهُ رُوحَانِيٌّ وَالرُّوحَانِيُّ أَبْقَى مِنَ الْجُسْمَانِيَّاتِ «كو» قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تُجَالِسُوا الْعُلَمَاءَ إِلَّا إِذَا دَعَوْكُمْ مِنْ خَمْسٍ إِلَى خَمْسٍ: مِنَ الشَّكِّ إِلَى الْيَقِينِ وَمِنَ الْكِبَرِ إِلَى التَّوَاضُعِ وَمِنَ الْعَدَاوَةِ إِلَى النَّصِيحَةِ وَمِنَ الرِّيَاءِ إِلَى الْإِخْلَاصِ وَمِنَ الرَّغْبَةِ إِلَى الزُّهْدِ» «كز» أَوْصَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ يَا عَلِيُّ احْفَظِ التَّوْحِيدَ فَإِنَّهُ رَأْسُ مَالِي وَالْزَمِ الْعَمَلَ فَإِنَّهُ حِرْفَتِي، وَأَقِمِ الصَّلَاةَ فَإِنَّهَا قُرَّةُ عَيْنِي، وَاذْكُرِ الرَّبَّ فَإِنَّهُ بَصِيرَةُ فُؤَادِي، وَاسْتَعْمِلِ الْعِلْمَ فَإِنَّهُ مِيرَاثِي «كح» أَبُو كَبْشَةَ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ ضَرَبَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلَ الدُّنْيَا مَثَلَ أَرْبَعَةِ رَهْطٍ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَآتَاهُ مَالًا فَهُوَ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي مَالِهِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا فَيَقُولُ لَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى آتَانِي مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلَانٌ لَفَعَلْتُ فِيهِ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ فُلَانٌ فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا/ وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا فَهُوَ يَمْنَعُهُ مِنَ الْحَقِّ وَيُنْفِقُهُ في الباطل، ورجل لم يؤته اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا فَيَقُولُ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى آتَانِي مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلَانٌ لَفَعَلْتُ فِيهِ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ فُلَانٌ فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ. الْآثَارُ «أ» كُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ أَخَذَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِيَدِي فَأَخْرَجَنِي إِلَى الْجَبَّانَةِ فَلَمَّا أَصْحَرَ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ ثُمَّ قَالَ يَا كُمَيْلُ بْنَ زِيَادٍ إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا فَاحْفَظْ مَا أَقُولُ لَكَ: النَّاسُ ثَلَاثَةٌ عَالِمٌ رَبَّانِيٌّ وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ وَهَمَجٌ رِعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ، يَا كُمَيْلُ العلم خير من المال، والعلم يحسرك وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ وَالْمَالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو بِالْإِنْفَاقِ، وَصَنِيعُ الْمَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ، يَا كُمَيْلُ مَعْرِفَةُ الْعِلْمِ زَيْنٌ يُزَانُ بِهِ يَكْتَسِبُ بِهِ الْإِنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَجَمِيلَ الْأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ، وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ «ب» عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ وَعَلَيْهِ مِنَ الذُّنُوبِ مِثْلُ جَبَلِ تِهَامَةَ فَإِذَا سَمِعَ الْعِلْمَ وَخَافَ وَاسْتَرْجَعَ عَلَى ذُنُوبِهِ انْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ فَلَا تُفَارِقُوا مَجَالِسَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ تُرْبَةً عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَكْرَمَ مِنْ مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ «ج» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خُيَّرَ سُلَيْمَانُ بَيْنَ الْمُلْكِ وَالْمَالِ وَبَيْنَ الْعِلْمِ فَاخْتَارَ الْعِلْمَ فَأُعْطِيَ الْعِلْمَ وَالْمُلْكَ مَعًا «د» سُلَيْمَانُ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْهُدْهُدِ إِلَّا لِعِلْمِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ نَافِعِ بن الأرزق قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ كَيْفَ اخْتَارَ سُلَيْمَانُ الْهُدْهُدَ لِطَلَبِ الْمَاءِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِأَنَّ الْأَرْضَ كَالزُّجَاجَةِ يُرَى بَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا فَقَالَ نَافِعٌ فكيف

بِأَوْقَاتِ الْفَخِّ يُغَطَّى لَهُ بِأُصْبُعٍ مِنْ تُرَابٍ فَلَا يَرَاهُ بَلْ يَقَعُ فِيهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا جَاءَ الْقَدَرُ عَمِيَ الْبَصَرُ (هـ) قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ تُقَسَّمُ الْجَنَّةُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ جُزْءٍ تِسْعَةُ آلَافِ وَتِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ مِنْهَا لِلَّذِينِ عَقَلُوا عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ فَكَانَ هَذَا ثَوَابَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْعُقُولِ يَقْتَسِمُونَ الْمَنَازِلَ فِيهَا وَجُزْءٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الضُّعَفَاءِ الْفُقَرَاءِ الصَّالِحِينَ «و» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِوَلَدِهِ يَا بُنَيَّ عَلَيْكَ بِالْأَدَبِ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْمُرُوءَةِ وَأُنْسٌ فِي الْوَحْشَةِ وَصَاحِبٌ فِي الْغُرْبَةِ وَقَرِينٌ فِي الْحَضَرِ وَصَدْرٌ فِي الْمَجْلِسِ وَوَسِيلَةٌ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْوَسَائِلِ وَغِنًى عِنْدَ الْعَدَمِ وَرِفْعَةٌ لِلْخَسِيسِ وَكَمَالٌ لِلشَّرِيفِ وَجَلَالَةٌ لِلْمَلِكِ «ز» عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: صَرِيرُ قَلَمِ الْعُلَمَاءِ تَسْبِيحٌ وَكِتَابَةُ الْعِلْمِ وَالنَّظَرُ فِيهِ عِبَادَةٌ وَإِذَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ الْمِدَادِ ثَوْبَهُ فَكَأَنَّمَا أَصَابَهُ دَمُ الشُّهَدَاءِ وَإِذَا قَطَرَ مِنْهَا عَلَى الْأَرْضِ تَلَأْلَأَ نُورُهُ، وَإِذَا قَامَ مِنْ قَبْرِهِ نَظَرَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْجَمْعِ فَيُقَالُ هَذَا عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ أَكْرَمَهُ اللَّهُ وَحُشِرَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ «ح» فِي «كِتَابِ كَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ» : أَحَقُّ مَنْ لَا يُسْتَخَفُّ بِحُقُوقِهِمْ ثَلَاثَةٌ: الْعَالِمُ وَالسُّلْطَانُ وَالْإِخْوَانُ فَإِنَّ مَنِ اسْتَخَفَّ بِالْعَالِمِ أَهْلَكَ دِينَهُ وَمَنِ اسْتَخَفَّ بِالسُّلْطَانِ أَهْلَكَ دُنْيَاهُ وَمَنِ اسْتَخَفَّ بِالْإِخْوَانِ أَهْلَكَ مُرُوءَتَهُ «ط» قَالَ سُقْرَاطُ مِنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ أَنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَخْدِمَكَ فِيهِ أَحَدٌ كَمَا تَجِدُ مَنْ يَخْدِمُكَ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ بَلْ تَخْدِمُهُ بِنَفْسِكَ وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى سَلْبِهِ عَنْكَ «ي» قِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ لَا تَنْظُرْ فَأَغْمَضَ عَيْنَيْهِ، فَقِيلَ لَا تَسْمَعْ فَسَدَّ أُذُنَيْهِ، فَقِيلَ لَا تَتَكَلَّمْ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ، فَقِيلَ لَهُ لَا تَعْلَمْ فَقَالَ: لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ «يَا» إِذَا كَانَ السَّارِقُ عَالِمًا لَا تُقْطَعُ يَدُهُ لِأَنَّهُ يَقُولُ كَانَ الْمَالُ وَدِيعَةً لِي وَكَذَا/ الشَّارِبُ يَقُولُ حَسِبْتُهُ خَلَّا وَكَذَا الزَّانِي يَقُولُ تَزَوَّجْتُهَا فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ «يب» قَالَ بَعْضُهُمْ أَحْيُوا قُلُوبَ إِخْوَانِكُمْ بِبَصَائِرِ بَيَانِكُمْ كَمَا تُحْيُونَ الْمَوَاتَ بِالنَّبَاتِ وَالنَّوَاةِ، فَإِنَّ نَفْسًا تَبْعُدُ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ أَفْضَلُ مِنْ أَرْضٍ تَصْلُحُ لِلنَّبَاتِ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَفِي الْجَهْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَوْتٌ لِأَهْلِهِ ... وَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ الْقُبُورِ قُبُورُ وَإِنَّ امرأ لم يحيى بِالْعِلْمِ مَيِّتٌ ... وَلَيْسَ لَهُ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ وَأَمَّا النُّكَتُ فَمِنْ وُجُوهٍ: «أ» الْمَعْصِيَةُ عِنْدَ الْجَهْلِ لَا يُرْجَى زَوَالُهَا وَعِنْدَ الشَّهْوَةِ يُرْجَى زَوَالُهَا، انْظُرْ إِلَى زَلَّةِ آدَمَ فَإِنَّهُ بِعِلْمِهِ اسْتَغْفَرَ وَالشَّيْطَانُ غَوَى وَبَقِيَ فِي غَيِّهِ أَبَدًا لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِسَبَبِ الْجَهْلِ «ب» إِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا صَارَ مَلِكًا احْتَاجَ إلى زير فَسَأَلَ رَبَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ إِنَّ رَبَّكَ يَقُولُ لَا تَخْتَرْ إِلَّا فُلَانًا فَرَآهُ يُوسُفُ فِي أَسْوَأِ الْأَحْوَالِ فَقَالَ لِجِبْرِيلَ إِنَّهُ كَيْفَ يَصْلُحُ لِهَذَا الْعَمَلِ مَعَ سُوءِ حَالِهِ فَقَالَ جِبْرِيلُ إِنَّ رَبَّكَ عَيَّنَهُ لِذَلِكَ لأنه كان ذب عنك حيث قال: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يُوسُفَ: 27] وَالنُّكْتَةُ أَنَّ الَّذِي ذَبَّ عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَحَقَّ الشَّرِكَةَ فِي مَمْلَكَتِهِ فَمَنْ ذَبَّ عَنِ الدِّينِ الْقَوِيمِ بِالْبُرْهَانِ الْمُسْتَقِيمِ كَيْفَ لَا يَسْتَحِقُّ مِنَ اللَّهِ الْإِحْسَانَ وَالتَّحْسِينَ «ج» أَرَادَ وَاحِدٌ خِدْمَةَ مَلِكٍ فَقَالَ الْمَلِكُ اذْهَبْ وَتَعَلَّمْ حَتَّى تَصْلُحَ لِخِدْمَتِي فَلَمَّا شَرَعَ فِي التَّعَلُّمِ وَذَاقَ لَذَّةَ الْعِلْمِ بَعَثَ الْمَلِكُ إِلَيْهِ وَقَالَ اتْرُكِ التَّعَلُّمَ فَقَدْ صِرْتَ أَهْلًا لِخِدْمَتِي فَقَالَ كُنْتُ أَهْلًا لِخِدْمَتِكَ حِينَ لَمْ تَرَنِي أَهْلًا لِخِدْمَتِكَ وَحِينَ رَأَيْتَنِي أَهْلًا لِخِدْمَتِكَ رَأَيْتُ نَفْسِي أَهْلًا لِخِدْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ أَنِّي كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْبَابَ بَابُكَ لِجَهْلِي وَالْآنَ عَلِمْتُ أَنَّ الْبَابَ بَابُ الرَّبِّ «د» تَحْصِيلُ الْعِلْمِ إِنَّمَا يَصْعُبُ عَلَيْكَ لِفَرْطِ حُبِّكَ لِلدُّنْيَا لِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَاكَ سَوَادَ الْعَيْنِ وَسُوَيْدَاءَ الْقَلْبِ وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّوَادَ أَكْبَرُ مِنَ السُّوَيْدَاءِ فِي اللَّفْظِ لِأَنَّ السُّوَيْدَاءَ تَصْغِيرُ السَّوَادِ ثُمَّ إِذَا وَضَعْتَ عَلَى سَوَادِ عَيْنِكَ جُزْءًا مِنَ الدُّنْيَا لَا تَرَى شَيْئًا فَكَيْفَ إِذَا وَضَعْتَ عَلَى السُّوَيْدَاءِ كُلَّ الدُّنْيَا كَيْفَ تَرَى بِقَلْبِكَ شَيْئًا «هـ» قَالَ حَكِيمٌ: الْقَلْبُ ميت وحياته بالعالم وَالْعِلْمُ مَيِّتٌ وَحَيَاتُهُ

بِالطَّلَبِ وَالطَّلَبُ ضَعِيفٌ وَقُوَّتُهُ بِالْمُدَارَسَةِ فَإِذَا قَوِيَ بِالْمُدَارَسَةِ فَهُوَ مُحْتَجِبٌ وَإِظْهَارُهُ بِالْمُنَاظَرَةِ وَإِذَا ظَهَرَ بِالْمُنَاظَرَةِ فَهُوَ عَقِيمٌ وَنِتَاجُهُ بِالْعَمَلِ فَإِذَا زُوِّجَ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ تَوَالَدَ وَتَنَاسَلَ مُلْكًا أَبَدِيًّا لَا آخر له «و» [رئاسة النملة على غيرها في قصة سليمان لَمْ تَكُنْ إِلَّا بِسَبَبِ أَنَّهَا عَلِمَتْ مَسْأَلَةً واحدة] قالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النَّمْلِ: 18] إِلَى قَوْلِهِ: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ كانت رئاسة تِلْكَ النَّمْلَةِ عَلَى غَيْرِهَا لَمْ تَكُنْ إِلَّا بِسَبَبِ أَنَّهَا عَلِمَتْ مَسْأَلَةً وَاحِدَةً وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ كَأَنَّهَا قَالَتْ إِنَّ سُلَيْمَانَ مَعْصُومٌ وَالْمَعْصُومُ لَا يَجُوزُ مِنْهُ إِيذَاءُ الْبَرِيءِ عَنِ الْجُرْمِ وَلَكِنَّهُ لَوْ حَطَّمَكُمْ فَإِنَّمَا يَصْدُرُ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حَالَكُمْ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ إِشَارَةٌ إِلَى تَنْزِيهِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَتِلْكَ النَّمْلَةُ لَمَّا عَلِمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْوَاحِدَةَ اسْتَحَقَّتِ الرِّيَاسَةَ التَّامَّةَ فَمَنْ عَلِمَ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ كَيْفَ لَا يَسْتَوْجِبُ الرِّيَاسَةَ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ «ز» الْكَلْبُ إِذَا تَعَلَّمَ وَأَرْسَلَهُ الْمَالِكُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى صَارَ صَيْدُهُ النَّجِسُ طَاهِرًا وَالنُّكْتَةُ أَنَّ/ الْعِلْمَ هُنَاكَ انْضَمَّ إِلَى الْكَلْبِ فَصَارَ النَّجِسُ بِبَرَكَةِ الْعِلْمِ طَاهِرًا، فَهَهُنَا النَّفْسُ وَالرُّوحُ طَاهِرَتَانِ فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ إِلَّا أَنَّهُمَا تَلَوَّثَتَا بِأَقْذَارِ الْمَعْصِيَةِ ثُمَّ انْضَمَّ إِلَيْهِمَا الْعِلْمُ بِاللَّهِ وَبِصِفَاتِهِ فَنَرْجُو مِنْ عَمِيمِ لُطْفِهِ أَنْ يَقْلِبَ النَّجِسَ طاهراً هاهنا وَالْمَرْدُودَ مَقْبُولًا «ح» الْقَلْبُ رَئِيسُ الْأَعْضَاءِ ثُمَّ تِلْكَ الرِّيَاسَةُ لَيْسَتْ لِلْقُوَّةِ فَإِنَّ الْعَظْمَ أَقْوَى مِنْهُ وَلَا لِلْعِظَمِ فَإِنَّ الْفَخِذَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَلَا لِلْحِدَّةِ فَإِنَّ الظُّفْرَ أَحَدُّ مِنْهُ وَإِنَّمَا تِلْكَ الرِّيَاسَةُ بِسَبَبِ الْعِلْمِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ الصِّفَاتِ. أَمَّا الْحِكَايَاتُ: «أ» حُكِيَ أَنَّ هَارُونَ الرَّشِيدَ كَانَ مَعَهُ فُقَهَاءُ وَكَانَ فِيهِمْ أَبُو يُوسُفَ فَأُتِيَ بِرَجُلٍ فَادَّعَى عَلَيْهِ آخَرُ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ بَيْتِهِ مَالًا بِاللَّيْلِ فَأَقَرَّ الْآخِذُ بِذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ. فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، قَالُوا لِمَ؟ قَالَ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْأَخْذِ وَالْأَخْذُ لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالسَّرِقَةِ فَصَدَّقَهُ الْكُلُّ فِي قَوْلِهِ، ثُمَّ قَالُوا لِلْآخِذِ أَسَرَقْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَجْمَعُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ وَجَبَ الْقَطْعُ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا قَطْعَ لِأَنَّهُ وَإِنْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ لَكِنْ بَعْدَ مَا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِالْأَخْذِ فَإِذَا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِهَذَا الْإِقْرَارِ يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُسْمَعُ إِقْرَارُهُ فَتَعَجَّبَ الْكُلُّ مِنْ ذَلِكَ «ب» عَنِ الشَّعْبِيِّ كُنْتُ عِنْدَ الْحَجَّاجِ فَأُتِيَ بِيَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ فَقِيهِ خُرَاسَانَ مَعَ بَلْخٍ مُكَبَّلًا بِالْحَدِيدِ فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ أَنْتَ زَعَمْتَ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بَلَى فَقَالَ: الْحَجَّاجُ لَتَأْتِيَنِّي بِهَا وَاضِحَةً بَيِّنَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ لَأُقَطِّعَنَّكَ عُضْوًا عُضْوًا فَقَالَ آتِيكَ بِهَا وَاضِحَةً بَيِّنَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ يَا حَجَّاجُ قَالَ: فَتَعَجَّبْتُ مِنْ جُرْأَتِهِ بِقَوْلِهِ يَا حَجَّاجُ فَقَالَ لَهُ وَلَا تَأْتِنِي بِهَذِهِ الْآيَةِ نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 61] فَقَالَ: آتِيكَ بِهَا وَاضِحَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ [الْأَنْعَامِ: 84] إِلَى قَوْلِهِ: وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى فمن كان أبو عِيسَى وَقَدْ أُلْحِقَ بِذُرِّيَّةِ نُوحٍ؟ قَالَ: فَأَطْرَقَ مَلِيًّا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: كَأَنِّي لَمْ أَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ حُلُّوا وَثَاقَهُ وَأَعْطُوهُ مِنَ الْمَالِ كَذَا «ج» يُحْكَى أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ جَاءُوا إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ لِيُنَاظِرُوهُ فِي الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَيُبَكِّتُوهُ وَيُشَنِّعُوا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ: لَا يُمْكِنُنِي مُنَاظَرَةُ الْجَمِيعِ فَفَوِّضُوا أَمْرَ الْمُنَاظَرَةِ إِلَى أَعْلَمِكُمْ لِأُنَاظِرَهُ فَأَشَارُوا إِلَى وَاحِدٍ فَقَالَ: هَذَا أَعْلَمُكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: وَالْمُنَاظَرَةُ مَعَهُ كَالْمُنَاظَرَةِ مَعَكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: وَالْإِلْزَامُ عَلَيْهِ كَالْإِلْزَامِ عَلَيْكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: وَإِنْ نَاظَرْتُهُ وَأَلْزَمْتُهُ الْحُجَّةَ فَقَدْ لَزِمَتْكُمُ الْحُجَّةُ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: كَيْفَ؟ قَالُوا: لِأَنَّا رَضِينَا بِهِ إِمَامًا فَكَانَ قَوْلُهُ قَوْلًا لَنَا قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ فَنَحْنُ لَمَّا اخْتَرْنَا الْإِمَامَ فِي الصَّلَاةِ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ قِرَاءَةً لَنَا وَهُوَ يَنُوبُ عَنَّا فَأَقَرُّوا لَهُ بِالْإِلْزَامِ

«د» هجا الفرزدق واحد «1» فَقَالَ: لَقَدْ ضَاعَ شِعْرِي عَلَى بَابِكُمْ ... كَمَا ضَاعَ دُرٌّ عَلَى خَالِصَةْ وَكَانَتْ خَالِصَةُ مَعْشُوقَةَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَكَانَتْ ظَرِيفَةً صَاحِبَةَ أَدَبٍ وَكَانَتْ هَيْبَةُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ تَفُوقُ هَيْبَةَ الْمَرْوَانِيِّينَ فَلَمَّا بَلَغَهَا هَذَا الْبَيْتُ شَقَّ عَلَيْهَا فَدَخَلَتْ عَلَى سُلَيْمَانَ وَشَكَتِ/ الْفَرَزْدَقَ فَأَمَرَ سُلَيْمَانُ بِإِشْخَاصِ الْفَرَزْدَقِ عَلَى أَفْظَعِ الْوُجُوهِ مُكَبَّلًا مُقَيَّدًا فَلَمَّا حَضَرَ وَمَا كَانَ بِهِ مِنَ الرَّمَقِ إِلَّا مِقْدَارُ مَا يُقِيمُهُ عَلَى الرِّجْلِ مِنْ شِدَّةِ الْهَيْبَةِ فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: أَنْتَ الْقَائِلُ: لَقَدْ ضَاعَ شِعْرِي عَلَى بَابِكُمْ ... كَمَا ضَاعَ دُرٌّ عَلَى خَالِصَةْ فَقَالَ مَا قُلْتُهُ هَكَذَا وَإِنَّمَا غَيَّرَهُ عَلَيَّ مَنْ أَرَادَ بِي مَكْرُوهًا وَإِنَّمَا قُلْتُ: وَخَالِصَةُ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ تَسْمَعُ: لَقَدْ ضَاءَ شِعْرِي عَلَى بَابِكُمْ ... كَمَا ضَاءَ دُرٌّ عَلَى خَالِصَةْ فَسُرِّيَ عَنْ خَالِصَةَ فَلَمْ تَمْلِكْ نَفْسَهَا أَنْ خَرَجَتْ مِنَ السِّتْرِ فَأَلْقَتْ عَلَى الْفَرَزْدَقِ مَا كَانَ عَلَيْهَا مِنَ الْحُلِيِّ وَهِيَ زِيَادَةٌ عَلَى أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَتْبَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حَاجِبَهُ لَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى اشْتَرَى الْحُلِيَّ مِنَ الْفَرَزْدَقِ بِمِائَةِ أَلْفٍ وَرَدَّهُ عَلَى خَالِصَةَ «هـ» دَعَا الْمَنْصُورُ أَبَا حَنِيفَةَ يَوْمًا فَقَالَ الرَّبِيعُ وَهُوَ يُعَادِيهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ يُخَالِفُ جَدَّكَ حَيْثُ يَقُولُ: الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْفَصِلُ جَائِزٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُنْكِرُهُ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هَذَا الرَّبِيعُ يَقُولُ لَيْسَ لَكَ بَيْعَةٌ فِي رَقَبَةِ النَّاسِ فَقَالَ كَيْفَ؟ قَالَ إِنَّهُمْ يَعْقِدُونَ الْبَيْعَةَ لَكَ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمْ فَيَسْتَثْنُونَ فَتَبْطُلُ بَيْعَتُهُمْ فَضَحِكَ الْمَنْصُورُ وَقَالَ: إِيَّاكَ يَا رَبِيعُ وَأَبَا حَنِيفَةَ فَلَمَّا خَرَجَ فَقَالَ الرَّبِيعُ يَا أَبَا حَنِيفَةَ سَعَيْتَ فِي دَمِي فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ كُنْتَ الْبَادِيَ وَأَنَا الْمُدَافِعُ. وَيُحْكَى أَنَّ مُسْلِمًا قَتَلَ ذِمِّيًّا عَمْدًا فَحَكَمَ أَبُو يُوسُفَ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ بِهِ فَبَلَغَ زُبَيْدَةَ ذَلِكَ فَبَعَثَتْ إِلَى أَبِي يُوسُفَ فَقَالَتْ: إِيَّاكَ وَأَنْ تَقْتُلَ الْمُسْلِمَ وَكَانَتْ فِي عِنَايَةٍ عَظِيمَةٍ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمَّا حَضَرَ أَبُو يُوسُفَ وَحَضَرَ الْفُقَهَاءُ وَجِيءَ بِأَوْلِيَاءَ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْلِمِ فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ احْكُمْ بِقَتْلِهِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ مَذْهَبِي غَيْرَ أَنِّي لَسْتُ أَقْتُلُ الْمُسْلِمَ بِهِ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ أَنَّ الذِّمِّيَّ يَوْمَ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُ كَانَ مِمَّنْ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ فَبَطَلَ دَمُهُ «ز» دَخَلَ الْغَضْبَانُ عَلَى الْحَجَّاجِ بعد ما قَالَ لِعَدُوِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ تَغَدَّ بِالْحَجَّاجِ قَبْلَ أَنْ يَتَعَشَّى بِكَ فقال له ما جواب السلم عليك؟ فقال وعليك السلام ثم فإن الْحَجَّاجُ، وَقَالَ: قَاتَلَكَ اللَّهُ يَا غَضْبَانُ، أَخَذْتَ لِنَفْسِكَ أَمَانًا بِرَدِّي عَلَيْكَ أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا الْوَفَاءُ وَالْكَرَمُ، لَمَا شَرِبْتَ الْمَاءَ الْبَارِدَ بَعْدَ سَاعَتِكَ هَذِهِ. فَانْظُرْ إِلَى فَائِدَةِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَلِلَّهِ دَرُّ الْعِلْمِ وَمَنْ بِهِ تَرَدَّى، وَتَعْسًا لِلْجَهْلِ وَمَنْ فِي أَوْدِيَتِهِ تَرَدَّى «ح» بَلَغَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَمِنَّا سُوَيْدٌ وَالْبَطِينُ وَقَعْنَبُ ... وَمِنَّا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ شَبِيبُ فَأَمَرَ بِهِ فَأُدْخِلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَنْتَ الْقَائِلُ وَمَنَّا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ شَبِيبُ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ وَمِنَّا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ شَبِيبُ، بِنَصْبِ الرَّاءِ فَنَادَيْتُكَ وَاسْتَغَثْتُ بِكَ، فَسُرِّيَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ وَتَخَلَّصَ الرَّجُلُ مِنَ الْهَلَاكِ بِصَنْعَةٍ يَسِيرَةٍ عَمِلَهَا بِعِلْمِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ حَوَّلَ الضَّمَّةَ فَتْحَةً. «ط» قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: صَاحِبُ الدَّوْلَةِ لِسُلَيْمَانَ بن كثير: بلغني أنك

_ (1) الخبر يروى في كتب الأدب بصورة أخرى لأبي نواس يقوله في الرشيد وخالصة جاريته ويقال في هذا البيت أنه بيت قلعت عيناه فأبصر.

كُنْتَ فِي مَجْلِسٍ وَقَدْ جَرَى بَيْنَ يَدَيْكَ ذِكْرِي، فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ سَوِّدْ وَجْهَهُ وَاقْطَعْ عُنُقَهُ وَأَسْقِنِي مِنْ دَمِهِ، فَقَالَ: نَعَمْ قُلْتُهُ، وَلَكِنْ فِي كَرْمِ كَذَا لَمَّا نَظَرْتُ إِلَى الْحِصْرِمِ فَاسْتَحْسَنَ/ قَوْلَهُ، وَعَفَا عَنْهُ. «ي» قَالَ رَجُلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ: إِنِّي حَلَفْتُ لَا أُكَلِّمُ امْرَأَتِي حَتَّى تُكَلِّمَنِي وَحَلَفَتْ بِصَدَقَةِ مَا تَمْلِكُ أَنْ لَا تُكَلِّمَنِي أَوْ أُكَلِّمَهَا فَتَحَيَّرَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ فَقَالَ سُفْيَانُ مَنْ كَلَّمَ صَاحِبَهُ حَنِثَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: اذْهَبْ وَكَلِّمْهَا وَلَا حِنْثَ عَلَيْكُمَا. فَذَهَبَ إِلَى سُفْيَانَ وَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، فَذَهَبَ سُفْيَانُ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ مُغْضَبًا وَقَالَ: تُبِيحُ الْفُرُوجَ! فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ سُفْيَانُ: أَعِيدُوا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ السُّؤَالَ، فَأَعَادُوا وَأَعَادَ أَبُو حَنِيفَةَ الْفَتْوَى، فَقَالَ مِنْ أَيْنَ قُلْتَ؟ قَالَ: لَمَّا شَافَهَتْهُ بِالْيَمِينِ بعد ما حَلَفَ كَانَتْ مُكَلِّمَةً فَسَقَطَتْ يَمِينُهُ، وَإِنْ كَلَّمَهَا فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ قَدْ كَلَّمَهَا بَعْدَ الْيَمِينِ فَسَقَطَتِ الْيَمِينُ عَنْهُمَا. قَالَ سُفْيَانُ: إِنَّهُ لَيُكْشَفُ لَكَ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ شَيْءٍ كُلُّنَا عَنْهُ غَافِلٌ. «يا» دَخَلَ اللُّصُوصُ عَلَى رَجُلٍ فَأَخَذُوا مَتَاعَهُ وَاسْتَحْلَفُوهُ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثًا أَنْ لَا يُعْلِمَ أَحَدًا، فَأَصْبَحَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَرَى اللُّصُوصَ يَبِيعُونَ مَتَاعَهُ وَلَيْسَ يَقْدِرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ مِنْ أَجْلِ يَمِينِهِ، فَجَاءَ الرَّجُلُ يُشَاوِرُ أَبَا حَنِيفَةَ فَقَالَ: أَحْضِرْ لِي إِمَامَ مَسْجِدِكَ وَأَهْلَ مَحَلَّتِكَ فَأَحْضَرَهُمْ إِيَّاهُ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ. هَلْ تُحِبُّونَ أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ عَلَى هَذَا مَتَاعَهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَاجْمَعُوا كُلًّا مِنْهُمْ وَأَدْخِلُوهُمْ فِي دَارٍ ثُمَّ أَخْرِجُوهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَقُولُوا أَهَذَا لِصُّكَ؟ فَإِنْ كَانَ لَيْسَ بِلِصِّهِ قَالَ: لَا، وَإِنْ كَانَ لِصَّهُ فَلْيَسْكُتْ، وَإِذَا سَكَتَ فَاقْبِضُوا عَلَيْهِ، فَفَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَا سُرِقَ مِنْهُ «يب» كَانَ فِي جِوَارِ أَبِي حَنِيفَةَ فَتًى يَغْشَى مَجْلِسَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقَالَ يَوْمًا لِأَبِي حَنِيفَةَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ ابْنَةَ فُلَانٍ وَقَدْ خَطَبْتُهَا، إِلَّا أَنَّهُمْ قَدْ طَلَبُوا مِنِّي مِنَ الْمَهْرِ فَوْقَ طَاقَتِي، فَقَالَ: احْتَلْ وَاقْتَرِضْ وَادْخُلْ عَلَيْهَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُسَهِّلُ الْأَمْرَ عَلَيْكَ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْرَضَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ الْقَدْرَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: بَعْدَ الدُّخُولِ أَظْهِرْ أَنَّكَ تُرِيدُ الْخُرُوجَ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ إِلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ، وَأَنَّكَ تُسَافِرُ بِأَهْلِكَ مَعَكَ: فَأَظْهَرَ الرَّجُلُ ذَلِكَ. فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْمَرْأَةِ وَجَاءُوا إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ يَشْكُونَهُ وَيَسْتَفْتُونَهُ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ ذَلِكَ، فَقَالُوا: وَكَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى دَفْعِ ذَلِكَ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الطَّرِيقُ أَنْ تُرْضُوهُ بِأَنْ تَرُدُّوا عَلَيْهِ مَا أَخَذْتُمُوهُ مِنْهُ، فَأَجَابُوهُ إِلَيْهِ، فَذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ لِلزَّوْجِ، فَقَالَ الزَّوْجُ: فَأَنَا أُرِيدُ مِنْهُمْ شَيْئًا آخَرَ فَوْقَ ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ أَنْ تَرْضَى بِهَذَا الْقَدْرِ وَإِلَّا أَقَرَّتْ لِرَجُلٍ بَدَيْنٍ فَلَا تَمْلِكُ الْمُسَافَرَةَ بِهَا حَتَّى تَقْضِيَ مَا عَلَيْهَا مِنَ الدَّيْنِ فَقَالَ الرَّجُلُ اللَّهَ اللَّهَ لَا يَسْمَعُوا بِهَذَا فَلَا آخُذُ مِنْهُمْ شَيْئًا وَرَضِيَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ فَحَصَلَ بِبَرَكَةِ عِلْمِ أَبِي حَنِيفَةَ فَرَجُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ «يج» عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ، لِي ابْنٌ لَيْسَ بِمَحْمُودِ السِّيرَةِ أَشْتَرِي لَهُ الْجَارِيَةَ بِالْمَالِ الْعَظِيمِ فَيُعْتِقُهَا وَأُزَوِّجُهُ الْمَرْأَةَ بِالْمَالِ الْعَظِيمِ فَيُطَلِّقُهَا فَقَالَ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: اذْهَبْ بِهِ مَعَكَ إِلَى سُوقِ النَّخَّاسِينَ فَإِذَا وَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَى جَارِيَةٍ فَابْتَعْهَا لِنَفْسِكَ ثُمَّ زَوِّجْهَا إِيَّاهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا عَادَتْ إِلَيْكَ مَمْلُوكَةً وَإِنْ أَعْتَقَهَا لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ إياها، قال الليث: فو الله مَا أَعْجَبَنِي جَوَابُهُ كَمَا أَعْجَبَنِي سُرْعَةُ جَوَابِهِ «يد» سُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ لَيَقْرَبَنَّ امْرَأَتَهُ نَهَارًا فِي رَمَضَانَ فَلَمْ يَعْرِفْ أَحَدٌ وَجْهَ الْجَوَابِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُسَافِرُ مَعَ امْرَأَتِهِ فَيَطَؤُهَا نَهَارًا/ فِي رَمَضَانَ «1» «يه» جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْحَجَّاجِ فَقَالَ: سُرِقَتْ لِي أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَقَالَ الْحَجَّاجُ: مَنْ تَتَّهِمُ؟ فَقَالَ: لَا أَتَّهِمُ أَحَدًا قَالَ: لَعَلَّكَ أُتِيتَ مِنْ قِبَلِ أَهْلِكَ؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ امْرَأَتِي خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ قَالَ الْحَجَّاجُ لِعَطَّارِهِ اعْمَلْ لِي طِيبًا ذَكِيًّا لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فَعَمِلَ لَهُ الطِّيبَ ثُمَّ دَعَا الشَّيْخَ فَقَالَ: ادَّهِنْ مِنْ هَذِهِ الْقَارُورَةِ وَلَا تُدْهِنْ مِنْهَا غَيْرَكَ ثُمَّ قَالَ الْحَجَّاجُ لِحَرَسِهِ: اقْعُدُوا عَلَى أَبْوَابِ

_ (1) شرط الفقهاء في السفر المبيح للفطر أن لا يكون الفطر هو مقصود المسافر بسفره كما في هذه الحالة.

الْمَسَاجِدِ وَأَرَاهُمُ الطِّيبَ وَقَالَ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ رِيحُ هَذَا الطِّيبِ فَخُذُوهُ فَإِذَا رَجُلٌ لَهُ وَفْرَةٌ فَأَخَذُوهُ فَقَالَ الْحَجَّاجُ مِنْ أَيْنَ لَكَ هذا الذهن؟ قَالَ: اشْتَرَيْتُهُ قَالَ: اصْدُقْنِي وَإِلَّا قَتَلْتُكَ فَصَدَقَهُ فَدَعَا الشَّيْخَ وَقَالَ: هَذَا صَاحِبُ الْأَرْبَعَةِ آلَافٍ عَلَيْكَ بِامْرَأَتِكَ فَأَحْسِنْ أَدَبَهَا، ثُمَّ أَخَذَ الْأَرْبَعَةَ آلَافٍ مِنَ الرَّجُلِ، وَرَدَّهَا إِلَى صَاحِبِهَا «يو» قَالَ الرَّشِيدُ يَوْمًا لِأَبِي يُوسُفَ: عِنْدَ جَعْفَرِ بْنِ عِيسَى جَارِيَةٌ هِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ وَقَدْ عَرَفَ ذَلِكَ وَقَدْ حَلَفَ أَنْ لَا يَبِيعَ وَلَا يَهَبَ وَلَا يُعْتِقَ، وَهُوَ الْآنَ يَطْلُبُ حِلَّ يَمِينِهِ. فَقَالَ: يَهَبُ النِّصْفَ وَيَبِيعُ النِّصْفَ وَلَا يَحْنَثُ «يز» قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: كُنْتُ نَائِمًا ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَإِذَا أَنَا بِالْبَابِ يُدَقُّ وَيُقْرَعُ فَقُلْتُ: انْظُرُوا مَنْ ذَاكَ؟ فَقَالُوا: رَسُولُ الْخَلِيفَةِ يَدْعُوكَ فَخِفْتُ عَلَى رُوحِي فَقُمْتُ وَمَضَيْتُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ قَالَ: دَعَوْتُكَ فِي مَسْأَلَةٍ: إِنَّ أُمَّ مُحَمَّدٍ يَعْنِي زبية قُلْتُ لَهَا أَنَا الْإِمَامُ الْعَدْلُ، وَالْإِمَامُ الْعَدْلُ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَتْ لِي إِنَّكَ ظَالِمٌ عَاصٍ فَقَدْ شَهِدْتَ لِنَفْسِكَ بِالْجَنَّةِ فَكَفَرْتَ بِكَذِبِكَ عَلَى اللَّهِ وَحَرُمْتُ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا وَقَعْتَ فِي مَعْصِيَةٍ هَلْ تَخَافُ اللَّهَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَوْ بَعْدَهَا: فَقَالَ إِي وَاللَّهِ أَخَافُ خَوْفًا شَدِيدًا، فَقُلْتُ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّ لَكَ جَنَّتَيْنِ، لَا جَنَّةً وَاحِدَةً قَالَ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَنِ: 46] فلا أفني وَأَمَرَنِي بِالِانْصِرَافِ فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى دَارِي رَأَيْتُ الْبِدَرُ مُتَبَادِرَةٌ إِلَيَّ «يح» يُحْكَى أَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَتَاهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ رَسُولُ الرَّشِيدِ يَسْتَعْجِلُهُ، فَخَافَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَبِسَ إِزَارَهُ وَمَشَى خَائِفًا إِلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ سَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ الْجَوَابَ وَأَدْنَاهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ هَدَأَ رَوْعُهُ، قَالَ الرَّشِيدُ إِنَّ حُلِيًّا لَنَا فُقِدَ مِنَ الدَّارِ فَاتَّهَمْتُ فِيهِ جَارِيَةً مِنْ جَوَارِي الدَّارِ الْخَاصَّةِ، فَحَلَفْتُ لَتَصْدُقِينِي أَوْ لَأَقْتُلَنَّكِ وَقَدْ نَدِمْتُ فَاطْلُبْ لِي وَجْهًا، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: فَأْذَنْ لِي فِي الدُّخُولِ عَلَيْهَا فَأَذِنَ لَهُ فَرَأَى جَارِيَةً كَأَنَّهَا فِلْقَةُ قَمَرٍ، فَأَخْلَى الْمَجْلِسَ ثُمَّ قَالَ لَهَا: أَمَعَكِ الْحُلِيُّ؟ فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ، فَقَالَ: لَهَا احْفَظِي مَا أَقُولُ لَكِ وَلَا تَزِيدِي عَلَيْهِ وَلَا تَنْقُصِي عَنْهُ إِذَا دَعَاكِ الْخَلِيفَةُ وَقَالَ لَكِ أَسَرَقْتِ الْحُلِيَّ فَقُولِي نَعَمْ، فَإِذَا قَالَ لَكِ فَهَاتِهَا فَقُولِي مَا سَرَقْتُهَا، ثُمَّ خَرَجَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى مَجْلِسِ الرَّشِيدِ وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ الْجَارِيَةِ فَحَضَرَتْ، فَقَالَ لِلْخَلِيفَةِ: سَلْهَا عَنِ الْحُلِيِّ، فَقَالَ لَهَا الْخَلِيفَةُ: أَسَرَقْتِ الْحُلِيَّ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ لَهَا: فَهَاتِهَا، قَالَتْ: لَمْ أَسْرِقْهَا وَاللَّهِ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: قَدْ صَدَقَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْإِقْرَارِ أَوِ الْإِنْكَارِ وَخَرَجْتَ مِنَ الْيَمِينِ، فَسَكَنَ غَضَبُ الرَّشِيدِ وَأَمَرَ أَنْ يُحْمَلَ إِلَى دَارِ أَبِي يُوسُفَ مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالُوا: إِنَّ الْخُزَّانَ غُيَّبٌ فَلَوْ أَخَّرْنَا ذَلِكَ إِلَى الْغَدِ، فَقَالَ: إِنَّ الْقَاضِيَ أَعْتَقَنَا اللَّيْلَةَ/ فَلَا نُؤَخِّرُ صِلَتَهُ إِلَى الْغَدِ، فَأَمَرَ حَتَّى حُمِلَ عَشْرُ بِدَرٍ مَعَ أَبِي يُوسُفَ إِلَى مَنْزِلِهِ. «يط» قَالَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ لِلشَّافِعِيِّ: كَيْفَ تَدَّعِي انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ مَعَ أَنَّ أَهْلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ وُجُودِ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَكَانَتْ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ عِنْدَ الرَّشِيدِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هَلْ تَعْرِفُ إِجْمَاعَ النَّاسِ عَلَى خِلَافَةِ هَذَا الْجَالِسِ؟ فَأَقَرَّ بِهِ خَوْفًا وَانْقَطَعَ، «ك» أَعْرَابِيٌّ قَصَدَ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ حَاجَةً وَقَالَ: سَمِعْتُ جَدَّكَ يَقُولُ: إِذَا سَأَلْتُمْ حَاجَةً فَاسْأَلُوهَا مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةٍ: إِمَّا عَرَبِيٌّ شَرِيفٌ، أَوْ مَوْلًى كَرِيمٌ، أَوْ حَامِلُ الْقُرْآنِ، أَوْ صَاحِبُ وَجْهٍ صَبِيحٍ فَأَمَّا الْعَرَبُ فَشَرُفَتْ بِجَدِّكَ، وَأَمَّا الْكَرَمُ فَدَأْبِكُمْ وَسِيرَتِكُمْ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَفِي بُيُوتِكُمْ نَزَلَ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الصَّبِيحُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَنْظُرُوا إِلَيَّ فَانْظُرُوا إِلَى الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، فَقَالَ الحسين: ما حاجتك؟ فكتبها على الأرض، فَقَالَ الْحُسَيْنُ سَمِعْتُ أَبِي عَلِيًّا يَقُولُ قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ. وَسَمِعْتُ جَدِّي يَقُولُ: الْمَعْرُوفُ بِقَدْرِ الْمَعْرِفَةِ فَأَسْأَلُكَ عَنْ ثَلَاثِ مَسَائِلَ إِنْ أَحْسَنْتَ فِي جَوَابِ وَاحِدَةٍ فَلَكَ ثُلُثُ مَا عِنْدِي وَإِنْ أَجَبْتَ عَنِ اثْنَتَيْنِ فَلَكَ ثُلُثَا مَا عِنْدِي وَإِنْ أَجَبْتَ عَنِ الثَّلَاثِ فَلَكَ كُلُّ مَا عِنْدِي وَقَدْ حُمِلَ إِلَيَّ صُرَّةٌ مَخْتُومَةٌ مِنَ الْعِرَاقِ فَقَالَ: سَلْ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَقَالَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ.

قَالَ: فَمَا نَجَاةُ الْعَبْدِ مِنَ الْهَلَكَةِ قَالَ: الثِّقَةُ بِاللَّهِ، قَالَ: فَمَا يُزَيِّنُ الْمَرْءَ قَالَ: عِلْمٌ مَعَهُ حِلْمٌ قَالَ: فَإِنْ أَخْطَأَهُ ذَلِكَ قَالَ: فَمَالٌ مَعَهُ كَرَمٌ قَالَ: فَإِنْ أَخْطَأَهُ ذَلِكَ قَالَ: فَفَقْرٌ مَعَهُ صَبْرٌ قَالَ: فَإِنْ أَخْطَأَهُ ذَلِكَ قَالَ: فَصَاعِقَةٌ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ فَتُحْرِقُهُ فَضَحِكَ الْحُسَيْنُ وَرَمَى بِالصُّرَّةِ إِلَيْهِ. أَمَّا الشَّوَاهِدُ الْعَقْلِيَّةُ فِي فَضِيلَةِ الْعِلْمِ فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْعِلْمِ صِفَةَ شَرَفٍ وَكَمَالٍ وَكَوْنَ الْجَهْلِ صِفَةَ نُقْصَانٍ أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِلْعُقَلَاءِ بِالضَّرُورَةِ وَلِذَلِكَ لَوْ قِيلَ لِلرَّجُلِ الْعَالِمِ يَا جَاهِلُ فَإِنَّهُ يَتَأَذَّى بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ كَذِبَ ذَلِكَ وَلَوْ قِيلَ لِلرَّجُلِ الْجَاهِلِ يَا عَالِمُ فَإِنَّهُ يَفْرَحُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَكُلُّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ شَرِيفٌ لِذَاتِهِ وَمَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ وَالْجَهْلَ نُقْصَانٌ لِذَاتِهِ وَأَيْضًا فَالْعِلْمُ أَيْنَمَا وُجِدَ كَانَ صَاحِبُهُ مُحْتَرَمًا مُعَظَّمًا حَتَّى إِنَّ الْحَيَوَانَ إِذَا رَأَى الْإِنْسَانَ احْتَشَمَهُ بَعْضَ الِاحْتِشَامِ وَانْزَجَرَ بِهِ بَعْضَ الِانْزِجَارِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ أَقْوَى بِكَثِيرٍ مِنَ الْإِنْسَانِ وَكَذَلِكَ جَمَاعَةُ الرُّعَاةِ إِذَا رَأَوْا مِنْ جِنْسِهِمْ مَنْ كَانَ أَوْفَرَ عَقْلًا مِنْهُمْ وَأَغْزَرَ فَضْلًا فِيمَا هُمْ فِيهِ وَبِصَدَدِهِ انْقَادُوا لَهُ طَوْعًا فَالْعُلَمَاءُ إِذَا لَمْ يُعَانَدُوا كَانُوا رُؤَسَاءَ بِالطَّبْعِ عَلَى مَنْ كَانَ دُونَهُمْ فِي الْعِلْمِ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ كَانُوا يُعَانِدُونَ النبي صلى الله عليه وسلم فصدوه لِيَقْتُلُوهُ فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ وَقَعَ بَصَرُهُمْ عَلَيْهِ فَأَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْهُ رَوْعَةً وَهَيْبَةً فَهَابُوهُ وَانْقَادُوا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ: لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ ... كَانَتْ بَدَاهَتُهُ تُنْبِيكَ عَنْ خَبَرِ وَأَيْضًا فَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِنْسَانَ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْفَضِيلَةُ لِقُوَّتِهِ وَصَوْلَتِهِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ يُسَاوِيهِ فِيهَا أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ فَإِذَنْ تِلْكَ الْفَضِيلَةُ لَيْسَتْ إِلَّا لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمَزِيَّةِ/ النُّورَانِيَّةِ وَاللَّطِيفَةِ الرَّبَّانِيَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا صَارَ مُسْتَعِدًّا لِإِدْرَاكِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا وَالِاشْتِغَالِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ عَلَى مَا قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] وَأَيْضًا الْجَاهِلُ كَأَنَّهُ فِي ظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ لَا يَرَى شَيْئًا الْبَتَّةَ وَالْعَالِمُ كَأَنَّهُ يَطِيرُ فِي أَقْطَارِ الْمَلَكُوتِ وَيَسْبَحُ فِي بِحَارِ الْمَعْقُولَاتِ فَيُطَالِعُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ وَالْوَاجِبَ وَالْمُمْكِنَ وَالْمُحَالَ ثُمَّ يَعْرِفُ انْقِسَامَ الْمُمْكِنِ إِلَى الْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ وَالْجَوْهَرِ إِلَى الْبَسِيطِ وَالْمُرَكَّبِ وَيُبَالِغُ فِي تَقْسِيمِ كُلٍّ مِنْهَا إِلَى أَنْوَاعِهَا وَأَنْوَاعِ أَنْوَاعِهَا وَأَجْزَائِهَا وَأَجْزَاءِ أَجْزَائِهَا وَالْجُزْءِ الَّذِي بِهِ يُشَارِكُ غَيْرَهُ وَالْجُزْءِ الَّذِي بِهِ يَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهِ وَيَعْرِفُ أَثَرَ كُلِّ شَيْءٍ وَمُؤَثِّرَهُ وَمَعْلُولَهُ وَعِلَّتَهُ وَلَازِمَهُ وَمَلْزُومَهُ وَكُلِّيَّهُ وَجُزْئِيَّهُ وَوَاحِدَهُ وَكَثِيرَهُ حَتَّى يَصِيرَ عَقْلُهُ كَالنُّسْخَةِ الَّتِي أُثْبِتَ فِيهَا جَمِيعُ الْمَعْلُومَاتِ بِتَفَاصِيلِهَا وَأَقْسَامِهَا فَأَيُّ سَعَادَةٍ فَوْقَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ كَذَلِكَ تَصِيرُ النُّفُوسُ الْجَاهِلَةُ عَالِمَةً فَتَصِيرُ تِلْكَ النَّفْسُ كَالشَّمْسِ فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ وَسَبَبًا لِلْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ لِسَائِرِ النُّفُوسِ فَإِنَّهَا كَانَتْ كَامِلَةً ثُمَّ صَارَتْ مُكَمِّلَةً وَتَصِيرُ وَاسِطَةً بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [النَّحْلِ: 2] وَالْمُفَسِّرُونَ فَسَّرُوا هَذَا الرُّوحَ بِالْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ وَكَمَا أَنَّ الْبَدَنَ بِلَا رُوحٍ مَيِّتٌ فَاسِدٌ فَكَذَا الرُّوحُ بِلَا عِلْمٍ مَيِّتٌ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشُّورَى: 52] فَالْعِلْمُ رُوحُ الرُّوحِ وَنُورُ النُّورِ وَلُبُّ اللُّبِّ وَمِنْ خَوَاصِّ هَذِهِ السَّعَادَةِ أَنَّهَا تَكُونُ بَاقِيَةً آمِنَةً عَنِ الْفَنَاءِ وَالتَّغَيُّرِ، فَإِنَّ التَّصَوُّرَاتِ الْكُلِّيَّةَ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الزَّوَالُ وَالتَّغَيُّرُ وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ السَّعَادَةُ فِي نِهَايَةِ الْجَلَالَةِ فِي ذَاتِهَا ثُمَّ إِنَّهَا بَاقِيَةٌ أَبَدَ الْآبِدِينَ وَدَهْرَ الدَّاهِرِينَ كَانَتْ لَا مَحَالَةَ أَكْمَلَ السِّعَادَاتِ وَأَيْضًا فَالْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَا بُعِثُوا إِلَّا لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ قَالَ تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [النَّحْلِ: 125] إِلَى آخِرِهِ، وَقَالَ: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يُوسُفَ: 108] ثُمَّ خُذْ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ: إِنِّي جاعِلٌ

فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30] قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها قَالَ سُبْحَانَهُ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ فَأَجَابَهُمْ سُبْحَانَهُ بِكَوْنِهِ عَالِمًا فَلَمْ يَجْعَلْ سَائِرَ صِفَاتِ الْجَلَالِ مِنَ الْقُدْرَةِ. وَالْإِرَادَةِ، وَالسَّمْعِ، وَالْبَصَرِ، وَالْوُجُودِ، وَالْقِدَمِ، وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ جَوَابًا لَهُمْ وَمُوجِبًا لِسُكُوتِهِمْ وَإِنَّمَا جَعَلَ صِفَةَ الْعِلْمِ جَوَابًا لَهُمْ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْكَمَالِ وَإِنْ كَانَتْ بِأَسْرِهَا فِي نِهَايَةِ الشَّرَفِ إِلَّا أَنَّ صِفَةَ الْعِلْمِ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهَا ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أَظْهَرَ فَضْلَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْعِلْمِ وَذَلِكَ يَدُلُّ أَيْضًا على الْعِلْمَ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَظْهَرَ عِلْمَهُ جَعَلَهُ مَسْجُودَ الْمَلَائِكَةِ وَخَلِيفَةَ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْمَنْقَبَةَ إِنَّمَا اسْتَحَقَّهَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْعِلْمِ ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ افْتَخَرَتْ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ وَالِافْتِخَارُ بِهِمَا إِنَّمَا يَحْصُلُ لَوْ كَانَا مَقْرُونَيْنِ بِالْعِلْمِ فَإِنَّهُمَا إِنْ حَصَلَا بِدُونِ الْعِلْمِ كَانَ ذَلِكَ نِفَاقًا وَالنِّفَاقُ أَخَسُّ الْمَرَاتِبِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاءِ: 145] أَوْ تَقْلِيدًا وَالتَّقْلِيدُ مَذْمُومٌ فَثَبَتَ أَنَّ تَسْبِيحَهُمْ وَتَقْدِيسَهُمْ إِنَّمَا صَارَ مُوجِبًا لِلِافْتِخَارِ بِبَرَكَةِ الْعِلْمِ. ثم إن آدم عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّهُ أَخْطَأَ/ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَلِأَجْلِ هَذَا الْخَطَأِ الْقَلِيلِ وَقَعَ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ وَالشَّيْءُ كُلَّمَا كَانَ الْخَطَرُ فِيهِ أَكْثَرَ كَانَ أَشْرَفَ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ جَلَالَةِ الْعِلْمِ. ثُمَّ إِنَّهُ بِبَرَكَةِ جَلَالَةِ الْعِلْمِ لَمَّا تَابَ وَأَنَابَ وَتَرَكَ الْإِصْرَارَ وَالِاسْتِكْبَارَ وَجَدَ خُلْعَةَ الِاجْتِبَاءِ، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَيْفَ اشْتَغَلَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ بِطَلَبِ الْعِلْمِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً [الْأَنْعَامِ: 76] ثُمَّ انْتَقَلَ مِنَ الْكَوَاكِبِ إِلَى الْقَمَرِ وَمِنَ الْقَمَرِ إِلَى الشَّمْسِ وَلَمْ يَزَلْ يَنْتَقِلُ بِفِكْرِهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ إِلَى أَنْ وَصَلَ بِالدَّلِيلِ الزَّاهِرِ وَالْبُرْهَانِ الْبَاهِرِ إِلَى الْمَقْصُودِ وَأَعْرَضَ عَنِ الشِّرْكِ فَقَالَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَامِ: 79] فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ مَدَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَشْرَفِ الْمَدَائِحِ وَعَظَّمَهُ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ فَقَالَ تَارَةً: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْعَامِ : 75] وَقَالَ أُخْرَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ [الْأَنْعَامِ: 83] ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ اشْتَغَلَ بِمَعْرِفَةِ الْمَعَادِ فَقَالَ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [الْبَقَرَةِ: 260] ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِنَ التَّعَلُّمِ اشْتَغَلَ بِالتَّعْلِيمِ وَالْمُحَاجَّةِ تَارَةً مَعَ أَبِيهِ عَلَى مَا قَالَ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ [مَرْيَمَ: 42] وَتَارَةً مَعَ قَوْمِهِ فَقَالَ: مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 52] وَأُخْرَى مَعَ مَلِكِ زَمَانِهِ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ [الْبَقَرَةِ: 258] وَانْظُرْ إِلَى صَالِحٍ وَهُودٍ وَشُعَيْبٍ كَيْفَ كَانَ اشْتِغَالُهُمْ فِي أَوَائِلِ أُمُورِهِمْ وَأَوَاخِرِهَا بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ وَإِرْشَادِ الْخَلْقِ إِلَى النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي الدَّلَائِلِ وَكَذَلِكَ أَحْوَالُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ فِرْعَوْنِ وَجُنُودِهِ وَوُجُوهُ دَلَائِلِهِ مَعَهُ، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى حَالِ سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَقَالَ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى [الضُّحَى: 7- 8] فَقَدَّمَ الِامْتِنَانَ بِالْعِلْمِ عَلَى الِامْتِنَانِ بِالْمَالِ وَقَالَ أَيْضًا: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشُّورَى: 52] وَقَالَ: مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هُودٍ: 49] ثُمَّ إِنَّهُ أَوَّلُ مَا أَوْحَى إِلَيْهِ قَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [الْعَلَقِ: 1] ثُمَّ قَالَ: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النِّسَاءِ: 113] وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ أَبَدًا يَقُولُ: أَرِنَا الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ. فَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ لِلْإِنْسَانِ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ شَرَفُ الْعِلْمِ لَاسْتَحَالَ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ شَيْءٌ أَصْلًا وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْعِلْمَ فِي كِتَابِهِ بِالْأَسْمَاءِ الشَّرِيفَةِ. فَمِنْهَا: الْحَيَاةُ أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الْأَنْعَامِ: 122] . وَثَانِيهَا: الرُّوحُ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشُّورَى: 52] ، وَثَالِثُهَا: النُّورُ اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّورِ: 35]

وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ طَالُوتَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [الْبَقَرَةِ: 247] فَقَدَّمَ الْعِلْمَ عَلَى الْجِسْمِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ سَائِرِ النِّعَمِ سَعَادَةُ الْبَدَنِ، فَسَعَادَةُ الْبَدَنِ أَشْرَفُ مِنَ السَّعَادَةِ الْمَالِيَّةِ فَإِذَا كَانَتِ السَّعَادَةُ الْعِلْمِيَّةُ رَاجِحَةً عَلَى السَّعَادَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ فَأَوْلَى أَنْ تَكُونَ رَاجِحَةً عَلَى السَّعَادَةِ الْمَالِيَّةِ. وَقَالَ يُوسُفُ: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يُوسُفَ: 55] وَلَمْ يَقُلْ إِنِّي حَسِيبٌ نَسِيبٌ فَصِيحٌ مَلِيحٌ، وَأَيْضًا فَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ «الْمَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ» إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ، وَإِنْ قَاتَلَ قَاتَلَ بِجَنَانِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ: / لِسَانُ الْفَتَى نَصِفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ ... فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ عَذَابَ الْجَهْلِ عَلَى عَذَابِ النَّارِ فَقَالَ: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ [الْمُطَفِّفِينَ: 15، 16] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعُلُومُ مَطَالِعُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، قَلْبٍ مُتَفَكِّرٍ، وَلِسَانٍ مُعَبِّرٍ، وَبَيَانٍ مُصَوِّرٍ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «عَيْنُ الْعِلْمِ مِنَ الْعُلُوِّ، وَلَامُهُ مِنَ اللُّطْفِ، وَمِيمُهُ مِنَ الْمُرُوءَةِ» وَأَيْضًا قِيلَ الْعُلُومُ عَشْرَةٌ: عِلْمُ التَّوْحِيدِ لِلْأَدْيَانِ، وَعِلْمُ السِّرِّ لِرَدِّ الشَّيْطَانِ، وَعِلْمُ الْمُعَاشَرَةِ لِلْإِخْوَانِ، وَعِلْمُ الشَّرِيعَةِ لِلْأَرْكَانِ، وَعِلْمُ النُّجُومِ لِلْأَزْمَانِ، وَعِلْمُ الْمُبَارَزَةِ لِلْفُرْسَانِ، وَعِلْمُ السِّيَاسَةِ لِلسُّلْطَانِ، وَعِلْمُ الرُّؤْيَا لِلْبَيَانِ، وَعِلْمُ الْفِرَاسَةِ لِلْبُرْهَانِ، وَعِلْمُ الطِّبِّ لِلْأَبْدَانِ، وَعِلْمُ الْحَقِيقَةِ لِلرَّحْمَنِ، وَأَيْضًا قِيلَ ضَرْبُ الْمَثَلِ فِي الْعِلْمِ بِالْمَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً [البقرة: 22] وَالْمِيَاهُ أَرْبَعَةٌ: مَاءُ الْمَطَرِ، وَمَاءُ السَّيْلِ، وَمَاءُ الْقَنَاةِ، وَمَاءُ الْعَيْنِ فَكَذَا الْعُلُومُ أَرْبَعَةٌ عِلْمُ التَّوْحِيدِ كَمَاءِ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ تَحْرِيكُهُ لِئَلَّا يَتَكَدَّرَ، وَكَذَا لَا يَنْبَغِي طَلَبُ مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِئَلَّا يَحْصُلَ الْكُفْرُ. وَعِلْمُ الْفِقْهِ يَزْدَادُ بِالِاسْتِنْبَاطِ كَمَاءِ الْقَنَاةِ يَزْدَادُ بِالْحَفْرِ، وَعِلْمُ الزُّهْدِ كَمَاءِ الْمَطَرِ يَنْزِلُ صَافِيًا وَيَتَكَدَّرُ بِغُبَارِ الْهَوَاءِ كَذَلِكَ عِلْمُ الزُّهْدِ صَافٍ وَيَتَكَدَّرُ بِالطَّمَعِ وَعِلْمُ الْبِدَعِ كَمَاءِ السَّيْلِ يُمِيتُ الْأَحْيَاءَ وَيُهْلِكُ الْخَلْقَ فَكَذَا الْبِدَعُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي أَقْوَالِ النَّاسِ فِي حَدِّ الْعِلْمِ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ الْعِلْمُ مَا يُعْلَمُ بِهِ وَرُبَّمَا قَالَ مَا يَصِيرُ الذَّاتُ بِهِ عَالِمًا وَاعْتَرَضُوا عَلَيْهِ بِأَنَّ الْعَالِمَ وَالْمَعْلُومَ لَا يُعْرَفَانِ إِلَّا بِالْعِلْمِ فَتَعْرِيفُ الْعِلْمِ بِهِمَا دَوْرٌ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ عِلْمَ الإنسان بكونه عالماً بنفسه وبألمه ولذاته عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ وَالْعِلْمُ بِكَوْنِهِ عَالِمًا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عِلْمٌ بِأَصْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْمَاهِيَّةَ دَاخِلَةٌ فِي الْمَاهِيَّةِ الْمُقَيَّدَةِ فَكَانَ عِلْمُهُ بِكَوْنِ الْعِلْمِ عِلْمًا علم ضروري فَكَانَ الدَّوْرُ سَاقِطًا وَسَيَأْتِي مَزِيدُ تَقْرِيرِهِ إِذَا ذَكَرْنَا مَا نَخْتَارُهُ نَحْنُ فِي هَذَا الْبَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْعِلْمُ مَعْرِفَةُ الْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا قَالَ الْعِلْمُ هُوَ الْمَعْرِفَةُ وَالِاعْتِرَاضُ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْلَهُ مَعْرِفَةُ الْمَعْلُومِ تَعْرِيفُ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومِ فَيَعُودُ الدَّوْرُ أَيْضًا فَالْمَعْرِفَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا وَفْقَ الْمَعْلُومِ فَقَوْلُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَعْرِفَةِ يَكُونُ حَشْوًا، أَمَّا قَوْلُهُ الْعِلْمُ هُوَ الْمَعْرِفَةُ فَفِيهِ وُجُوهٌ مِنَ الْخَلَلِ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ نَفْسُ الْمَعْرِفَةِ فَتَعْرِيفُهُ بِهَا تَعْرِيفٌ لِلشَّيْءِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ عِبَارَةٌ عَنْ حُصُولِ الْعِلْمِ بَعْدَ الِالْتِبَاسِ وَلِهَذَا يُقَالُ مَا كُنْتُ أَعْرِفُ فُلَانًا وَالْآنَ فَقَدْ عَرَفْتُهُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَالِمٌ وَلَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَارِفٌ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ تَسْتَدْعِي سَبْقَ الْجَهْلِ وَهُوَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِنِيُّ: الْعِلْمُ تَبْيِينُ الْمَعْلُومِ وَرُبَّمَا قَالَ إِنَّهُ اسْتِبَانَةُ الْحَقَائِقِ وَرُبَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى التَّبْيِينِ فَقَالَ الْعِلْمُ هُوَ التَّبْيِينُ وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ أَمَّا قَوْلُ الْعِلْمِ هُوَ التَّبْيِينُ فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا تَبْدِيلُ لَفْظٍ بِلَفْظٍ أَخْفَى مِنْهُ وَلِأَنَّ التَّبْيِينَ وَالِاسْتِبَانَةَ يُشْعِرَانِ بِظُهُورِ الشَّيْءِ بَعْدَ الْخَفَاءِ وذلك

لَا يَطَّرِدُ فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تبيين المعلوم على ما هو به فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى كَلَامِ الْقَاضِي قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ: الْعِلْمُ مَا يَصِحُّ مِنَ الْمُتَّصِفِ بِهِ/ إِحْكَامُ الْفِعْلِ وَإِتْقَانُهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِوُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ وَامْتِنَاعِ الْمُمْتَنِعَاتِ لَا يُفِيدُ الْإِحْكَامَ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: الْعِلْمُ إِثْبَاتُ الْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ وَرُبَّمَا قِيلَ الْعِلْمُ تَصَوُّرُ الْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ وَالْوُجُوهُ السَّالِفَةُ مُتَوَجِّهَةٌ عَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الطَّرِيقُ إِلَى تَصَوُّرِ مَاهِيَّةِ الْعِلْمِ وَتَمَيُّزِهَا عَنْ غَيْرِهَا أَنْ نَقُولَ إِنَّا نَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا بِالضَّرُورَةِ كَوْنَنَا مُعْتَقِدِينَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، فَنَقُولُ اعْتِقَادُنَا فِي الشَّيْءِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَازِمًا أَوْ لَا يَكُونُ، فَإِنْ كَانَ جَازِمًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا أَوْ غَيْرَ مُطَابِقٍ فَإِنْ كَانَ مُطَابِقًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمُوجَبٍ هُوَ نَفْسُ طَرَفِي الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ وَهُوَ الْعِلْمُ الْبَدِيهِيُّ أَوْ لِمُوجَبٍ حَصَلَ مِنْ تَرْكِيبِ تِلْكَ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَهُوَ الْعِلْمُ النَّظَرِيُّ أَوْ لَا لِمُوجَبٍ وَهُوَ اعْتِقَادُ الْمُقَلِّدِ، وَأَمَّا الْجَزْمُ الَّذِي لَا يَكُونُ مُطَابِقًا فَهُوَ الْجَهْلُ وَالَّذِي لَا يَكُونُ جَازِمًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الطَّرَفَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ وَهُوَ الشَّكُّ أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَرْجَحَ مِنَ الْآخَرِ فَالرَّاجِحُ هُوَ الظَّنُّ وَالْمَرْجُوحُ هُوَ الْوَهْمُ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ مُخْتَلٌّ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا ادَّعَيْنَا أَنَّ عِلْمَنَا بِمَاهِيَّةِ الِاعْتِقَادِ عِلْمٌ بَدِيهِيٌّ وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا نَدَّعِي أَنَّ الْعِلْمَ بِمَاهِيَّةِ الْعِلْمِ بديهي. وثانيها: أَنَّ هَذَا تَعْرِيفُ الْعِلْمِ بِانْتِفَاءِ أَضْدَادِهِ وَلَيْسَتْ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْأَضْدَادِ أَقْوَى مِنْ مَعْرِفَةِ الْعِلْمِ حَتَّى يُجْعَلَ عَدَمُ النَّقِيضِ مُعَرِّفًا لِلنَّقِيضِ فَيَرْجِعَ حَاصِلُ الْأَمْرِ إِلَى تَعْرِيفِ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ أَوْ بِالْأَخْفَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْعِلْمَ قَدْ يَكُونُ تَصَوُّرًا وَقَدْ يَكُونُ تَصْدِيقًا وَالتَّصَوُّرُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الْجَزْمُ وَلَا التَّرَدُّدُ وَلَا الْقُوَّةُ وَلَا الضَّعْفُ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْعُلُومُ التَّصَوُّرِيَّةُ خَارِجَةً عَنْ هَذَا التَّعْرِيفِ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْعِلْمُ هُوَ الِاعْتِقَادُ الْمُقْتَضِي سُكُونَ النَّفْسِ وَرُبَّمَا قَالُوا الْعِلْمُ مَا يَقْتَضِي سُكُونَ النَّفْسِ قَالُوا: وَلَفْظُ السُّكُونِ وإن كان مجازاً هاهنا إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ لَمَّا كَانَ ظَاهِرًا لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُ قَادِحًا فِي الْمَقْصُودِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْحَابَ قَالُوا: الِاعْتِقَادُ جِنْسٌ مُخَالِفٌ لِلْعِلْمِ فَلَا يَجُوزُ جَعْلُ الْعِلْمِ مِنْهُ وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا لَا شَكَّ أَنَّ بَيْنَ الْعِلْمِ وَاعْتِقَادِ الْمُقَلِّدِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا فَنَحْنُ نَعْنِي بِالِاعْتِقَادِ ذَلِكَ الْقَدْرَ قَالَ الْأَصْحَابُ وَهَذَا التَّعْرِيفُ يَخْرُجُ عَنْهُ أَيْضًا عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ إِنَّهُ يَقْتَضِي سُكُونَ النَّفْسِ قَالَتِ الْفَلَاسِفَةُ الْعِلْمُ صُورَةٌ حَاصِلَةٌ فِي النَّفْسِ مُطَابِقَةٌ لِلْمَعْلُومِ وَفِي هَذَا التَّعْرِيفِ عُيُوبٌ: أَحَدُهَا: إِطْلَاقُ لَفْظِ الصُّورَةِ عَلَى الْعِلْمِ لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنَ الْمَجَازَاتِ فَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ تَلْخِيصِ الْحَقِيقَةِ وَالَّذِي يُقَالُ إِنَّهُ كَمَا يَحْصُلُ فِي الْمِرْآةِ صُورَةُ الْوَجْهِ فَكَذَلِكَ تَحْصُلُ صُورَةُ الْمَعْلُومِ فِي الذِّهْنِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّا إِذَا عَقَلْنَا الْجَبَلَ وَالْبَحْرَ فَإِنْ حَصَلَا فِي الذِّهْنِ فَفِي الذِّهْنِ جَبَلٌ وَبَحْرٌ وَهَذَا مُحَالٌ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلَا فِي الذِّهْنِ وَلَكِنَّ الْحَاصِلَ فِي الذِّهْنِ صُورَتَاهُمَا فَقَطْ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَعْلُومُ هُوَ الصُّورَةَ فَالشَّيْءُ الَّذِي تِلْكَ الصُّورَةُ صُورَتُهُ وَجَبَ أَنْ لَا يَصِيرَ مَعْلُومًا وَإِنْ قِيلَ حَصَلَتِ الصُّورَةُ وَمَحَلُّهَا فِي الذِّهْنِ فَحِينَئِذٍ يَعُودُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ يَحْصُلُ الْجَبَلُ وَالْبَحْرُ فِي الذِّهْنِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ مُطَابِقَةٌ لِلْمَعْلُومِ يَقْتَضِي الدَّوْرَ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ عِنْدَهُمُ الْمَعْلُومَاتِ قَدْ تَكُونُ مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ وَقَدْ لَا تَكُونُ وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا بِالْأُمُورِ الِاعْتِبَارِيَّةِ وَالصُّوَرِ الذِّهْنِيَّةِ وَالْمَعْقُولَاتُ الثَّانِيَةُ وَالْمُطَابِقَةُ فِي هَذَا الْقِسْمِ غَيْرُ مَعْقُولٍ. وَرَابِعُهَا: / أَنَّا قَدْ نَعْقِلُ الْمَعْدُومَ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الصُّورَةُ الْعَقْلِيَّةُ مُطَابِقَةٌ لِلْمَعْدُومِ لِأَنَّ الْمُطَابَقَةَ تَقْتَضِي كَوْنَ الْمُتَطَابِقَيْنِ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا وَالْمَعْدُومُ نَفْيٌ مَحْضٌ يَسْتَحِيلُ تَحَقُّقُ الْمُطَابَقَةِ فِيهِ وَلَقَدْ حَاوَلَ الْغَزَالِيُّ إِيضَاحَ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ فِي تَعْرِيفِ الْعِلْمِ فَقَالَ إِدْرَاكُ الْبَصِيرَةِ الْبَاطِنَةِ نَفْهَمُهُ بِالْمُقَايَسَةِ بِالْبَصَرِ الظَّاهِرِ وَلَا مَعْنَى لِلْبَصَرِ الظَّاهِرِ إلا انطباع صورة المرئي في القوة الباصرة كَمَا نَتَوَهَّمُ انْطِبَاعَ الصُّورَةِ فِي الْمِرْآةِ مَثَلًا فَكَمَا أَنَّ الْبَصَرَ يَأْخُذُ صُورَةَ الْمُبْصَرَاتِ أَيْ يَنْطَبِعُ فِيهِ مِثَالُهَا الْمُطَابِقُ لَهَا لَا عَيْنُهَا فَإِنَّ عَيْنَ النَّارِ لَا تَنْطَبِعُ فِي الْعَيْنِ بَلْ مِثَالٌ مُطَابِقٌ صُورَتَهَا

فَكَذَا الْعَقْلُ عَلَى مِثَالِ مِرْآةٍ يَنْطَبِعُ فِيهَا صورة الْمَعْقُولَاتِ وَأَعْنِي بِصُورَةِ الْمَعْقُولَاتِ حَقَائِقَهَا وَمَاهِيَّاتِهَا فَفِي الْمِرْآةِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ: الْحَدِيدُ وَصِقَالَتُهُ وَالصُّورَةُ الْمُنْطَبِعَةُ فِيهِ فَكَذَا جَوْهَرُ الْآدَمِيِّ كَالْحَدِيدِ وَعَقْلُهُ كَالصِّقَالَةِ وَالْمَعْلُومُ كَالصُّورَةِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ سَاقِطٌ جِدًّا أَمَّا قَوْلُهُ لَا مَعْنَى لِلْبَصَرِ الظَّاهِرِ إلا انطباع صورة المرئي في القوة الباصرة فَبَاطِلٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ ذَكَرَ فِي تَعْرِيفِ الْإِبْصَارِ الْمُبْصَرَ وَالْبَاصِرَ وَهُوَ دَوْرٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِبْصَارُ عِبَارَةً عَنْ نَفْسِ هَذَا الِانْطِبَاعِ لَمَا أَبْصَرْنَا إِلَّا بِمِقْدَارِ نُقْطَةِ النَّاظِرِ لِاسْتِحَالَةِ انْطِبَاعِ الْعَظِيمِ فِي الصَّغِيرِ فَإِنْ قِيلَ الصُّورَةُ الصَّغِيرَةُ الْمُنْطَبِعَةُ شَرْطٌ لِحُصُولِ إِبْصَارِ الشَّيْءِ الْعَظِيمِ فِي الْخَارِجِ قُلْنَا الشَّرْطُ مُغَايِرٌ لِلْمَشْرُوطِ فَالْإِبْصَارُ مُغَايِرٌ لِلصُّورَةِ الْمُنْطَبِعَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّا نَرَى الْمَرْئِيَّ حَيْثُ هُوَ، وَلَوْ كَانَ الْمَرْئِيُّ هُوَ الصُّورَةَ الْمُنْطَبِعَةَ لَمَا رَأَيْتَهُ فِي حَيِّزِهِ وَمَكَانِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَكَذَا الْعَقْلُ يَنْطَبِعُ فِيهِ صُوَرُ الْمَعْقُولَاتِ فَضَعِيفٌ لِأَنَّ الصُّورَةَ الْمُرْتَسِمَةَ مِنَ الْحَرَارَةِ فِي الْعَقْلِ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُسَاوِيَةً لِلْحَرَارَةِ فِي الْمَاهِيَّةِ أَوْ لَا تَكُونَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَزِمَ أَنْ يَصِيرَ الْعَقْلُ حَارًّا عِنْدَ تَصَوُّرِ الْحَرَارَةِ لِأَنَّ الْحَارَّ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا الْمَوْصُوفَ بِالْحَرَارَةِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ تَعَقُّلُ الْمَاهِيَّةِ إِلَّا عِبَارَةً عَنْ حُصُولِ شَيْءٍ فِي الذِّهْنِ مُخَالِفٍ لِلْحَرَارَةِ فِي الْمَاهِيَّةِ وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَهُ، وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرَ مِنِ انْطِبَاعِ الصُّوَرِ فِي الْمِرْآةِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى أَنَّ صُورَةَ الْمَرْئِيِّ لَا تَنْطَبِعُ فِي الْمِرْآةِ فَثَبَتَ أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي تَقْرِيرِ قَوْلِهِمْ لَا يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ وَلَا يُلَائِمُ أُصُولَهُمْ وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ التَّعْرِيفَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّاسُ بَاطِلَةٌ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَجْزَ عَنِ التَّعْرِيفِ قَدْ يَكُونُ لِخَفَاءِ الْمَطْلُوبِ جِدًّا وَقَدْ يَكُونُ لِبُلُوغِهِ فِي الْجَلَاءِ إِلَى حَيْثُ لَا يُوجَدُ شَيْءٌ أَعْرَفُ مِنْهُ لِيُجْعَلَ مُعَرِّفًا لَهُ، وَالْعَجْزُ عَنْ تَعْرِيفِ الْعِلْمِ لِهَذَا الْبَابِ وَالْحَقُّ أَنَّ مَاهِيَّةَ الْعِلْمِ مُتَصَوَّرَةٌ تَصَوُّرًا بَدِيهِيًّا جَلِيًّا، فَلَا حَاجَةَ فِي مَعْرِفَتِهِ إِلَى مُعَرِّفٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ يَعْلَمُ وُجُودَ نَفْسِهِ وَأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى السَّمَاءِ وَلَا فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ، وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِكَوْنِهِ عَالِمًا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عِلْمٌ بِاتِّصَافِ ذَاتِهِ بِهَذِهِ الْعُلُومِ وَالْعَالِمُ بِانْتِسَابِ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ عَالِمٌ لَا مَحَالَةَ بِكِلَا الطَّرَفَيْنِ، فَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِهَذِهِ الْمَنْسُوبِيَّةِ حَاصِلًا كَانَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِمَاهِيَّةِ الْعِلْمِ حَاصِلًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ تَعْرِيفُهُ مُمْتَنِعًا فَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ هاهنا وَسَائِرُ التَّدْقِيقَاتِ مَذْكُورَةٌ فِي «الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ» وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي الْبَحْثِ عَنْ أَلْفَاظٍ يُظَنُّ بِهَا أَنَّهَا مُرَادِفَةٌ لِلْعِلْمِ وَهِيَ ثَلَاثُونَ: أَحَدُهَا: / الْإِدْرَاكُ وَهُوَ اللِّقَاءُ وَالْوُصُولُ يُقَالُ أَدْرَكَ الْغُلَامُ وَأَدْرَكَتِ الثَّمَرَةُ قَالَ تَعَالَى: قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشُّعَرَاءِ: 61] فَالْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ إِذَا وَصَلَتْ إِلَى مَاهِيَّةِ الْمَعْقُولِ وَحَصَّلَتْهَا كَانَ ذَلِكَ إِدْرَاكًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَثَانِيهَا: الشُّعُورُ وَهُوَ إِدْرَاكٌ بِغَيْرِ اسْتِثْبَاتٍ وَهُوَ أَوَّلُ مَرَاتِبِ وُصُولِ الْمَعْلُومِ إِلَى الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ وَكَأَنَّهُ إِدْرَاكٌ مُتَزَلْزِلٌ وَلِهَذَا يُقَالُ فِي اللَّهِ تَعَالَى إِنَّهُ يَشْعُرُ بِكَذَا كَمَا يُقَالُ إِنَّهُ يَعْلَمُ كَذَا، وَثَالِثُهَا: التَّصَوُّرُ إِذَا حَصَلَ وُقُوفُ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ عَلَى الْمَعْنَى وَأَدْرَكَهُ بِتَمَامِهِ فَذَلِكَ هُوَ التَّصَوُّرُ، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّصَوُّرَ لَفْظٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الصُّورَةِ وَلَفْظُ الصُّورَةِ حَيْثُ وُضِعَ فَإِنَّمَا وُضِعَ لِلْهَيْئَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْجِسْمِ الْمُتَشَكِّلِ إِلَّا أَنَّ النَّاسَ لَمَّا تَخَيَّلُوا أَنَّ حَقَائِقَ الْمَعْلُومَاتِ تَصِيرُ حَالَةً فِي الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ كَمَا أَنَّ الشَّكْلَ وَالْهَيْئَةَ يَحُلَّانِ فِي الْمَادَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ أَطْلَقُوا لَفْظَ التَّصَوُّرِ عَلَيْهِ بِهَذَا التَّأْوِيلِ. وَرَابِعُهَا: الْحِفْظُ فَإِذَا حَصَلَتِ الصُّورَةُ فِي الْعَقْلِ وَتَأَكَّدَتْ وَاسْتَحْكَمَتْ وَصَارَتْ بِحَيْثُ لَوْ زَالَتْ لَتَمَكَّنَتِ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ مِنِ اسْتِرْجَاعِهَا وَاسْتِعَادَتِهَا سُمِّيَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ حِفْظًا وَلَمَّا كَانَ الْحِفْظُ مُشْعِرًا بِالتَّأَكُّدِ بَعْدَ الضَّعْفِ لَا جَرَمَ لَا يُسَمَّى عِلْمُ اللَّهِ حِفْظًا وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى الْحِفْظِ مَا يَجُوزُ زَوَالُهُ وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالًا

لَا جَرَمَ لَا يُسَمَّى ذَلِكَ حِفْظًا. وَخَامِسُهَا: التَّذَكُّرُ وَهُوَ أَنَّ الصُّورَةَ الْمَحْفُوظَةَ إِذَا زَالَتْ عَنِ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ فَإِذَا حَاوَلَ الذِّهْنُ اسْتِرْجَاعَهَا فَتِلْكَ الْمُحَاوَلَةُ هِيَ التَّذَكُّرُ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلتَّذَكُّرِ سِرًّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَنَّ التَّذَكُّرَ صَارَ عِبَارَةً عَنْ طَلَبِ رُجُوعِ تِلْكَ الصُّورَةِ الْمَمْحِيَّةِ الزَّائِلَةِ فَتِلْكَ الصُّورَةُ إِنْ كَانَتْ مَشْعُورًا بِهَا فَهِيَ حَاضِرَةٌ حَاصِلَةٌ وَالْحَاصِلُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ فَلَا يُمْكِنُ حِينَئِذٍ اسْتِرْجَاعُهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَشْعُورًا بِهَا كَانَ الذِّهْنُ غَافِلًا عَنْهَا وَإِذَا كَانَ غَافِلًا عَنْهَا اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا لِاسْتِرْجَاعِهَا لِأَنَّ طَلَبَ مَا لَا يَكُونُ مُتَصَوَّرًا مُحَالٌ فَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ التَّذَكُّرُ الْمُفَسَّرُ بِطَلَبِ الِاسْتِرْجَاعِ مُمْتَنِعًا مَعَ أَنَّا نَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنَّا قَدْ نَطْلُبُهَا وَنَسْتَرْجِعُهَا وَهَذِهِ الْأَسْرَارُ إِذَا تَوَغَّلَ الْعَاقِلُ فِيهَا وَتَأَمَّلَهَا عَرَفَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ كُنْهَهَا مَعَ أَنَّهَا مِنْ أَظْهَرِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ النَّاسِ فَكَيْفَ الْقَوْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ أَخْفَى الْأُمُورِ وَأَعْضَلُهَا عَلَى الْعُقُولِ وَالْأَذْهَانِ. وَسَادِسُهَا: الذِّكْرُ فَالصُّورَةُ الزَّائِلَةُ إِذَا حَاوَلَ اسْتِرْجَاعَهَا فَإِذَا عَادَتْ وَحَضَرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ الطَّلَبِ سُمِّيَ ذَلِكَ الْوِجْدَانُ ذِكْرًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْإِدْرَاكُ مَسْبُوقًا بِالزَّوَالِ لَمْ يُسَمَّ ذَلِكَ الْإِدْرَاكُ ذِكْرًا وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي لَسْتُ أَذْكُرُهُ ... وَكَيْفَ أَذْكُرُهُ إِذْ لَسْتُ أَنْسَاهُ فَجَعَلَ حُصُولَ النِّسْيَانِ شَرْطًا لِحُصُولِ الذِّكْرِ وَيُوصَفُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ ذِكْرٌ لِأَنَّهُ سَبَبُ حُصُولِ الْمَعْنَى فِي النَّفْسِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] وهاهنا دَقِيقَةٌ تَفْسِيرِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 52] فَهَذَا الْأَمْرُ هَلْ يَتَوَجَّهُ عَلَى الْعَبْدِ حَالَ حُصُولِ النِّسْيَانِ أَوْ بَعْدَ زَوَالِهِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ حَالَ النِّسْيَانِ غَافِلٌ عَنِ الْأَمْرِ وَكَيْفَ يُوَجَّهُ عَلَيْهِ التَّكْلِيفُ مَعَ النِّسْيَانِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ ذَاكِرٌ وَالذِّكْرُ حَاصِلٌ وَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ مُحَالٌ فَكَيْفَ كَلَّفَهُ بِهِ/ وَهُوَ أَيْضًا مُتَوَجَّهٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [مُحَمَّدٍ: 19] إِلَّا أَنَّ الْجَوَابَ فِي قَوْلِهِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ مَعْرِفَةٌ لِلتَّوْحِيدِ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّصْدِيقَاتِ فَلَا يَقْوَى فِيهِ ذَلِكَ الْإِشْكَالُ وَأَمَّا الذِّكْرُ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّصَوُّرَاتِ فَيَقْوَى فِيهِ ذَلِكَ الْإِشْكَالُ وَجَوَابُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَنَّا نَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنَّهُ يُمْكِنُنَا التَّذَكُّرُ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا كَانَ مَا ذَكَرْتُهُ تَشْكِيكًا فِي الضَّرُورِيَّاتِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ فَكَيْفَ يَتَذَكَّرُ فَنَقُولُ لَا نَعْرِفُ كَيْفَ يَتَذَكَّرُ لَكِنَّ عِلْمَكَ بِتَمَكُّنِكَ فِي عِلْمِكَ بِأَنَّ فِي الْجُمْلَةِ يَكْفِيكَ فِي الِاشْتِغَالِ بِالْمُجَاهِدَةِ وَعَجْزِكَ عَنْ إِدْرَاكِ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ يَكْفِيكَ مِنَ التَّذَكُّرِ ذاك ليس منك بل هاهنا سِرٌّ آخَرُ وَهُوَ أَنَّكَ لَمَّا عَجَزْتَ عَنْ إِدْرَاكِ مَاهِيَّةِ التَّذَكُّرِ وَالذِّكْرِ مَعَ أَنَّهُ صِفَتُكَ فَأَنَّى يُمْكِنُكَ الْوُقُوفُ عَلَى كُنْهِ الْمَذْكُورِ مَعَ أَنَّهُ أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ مُنَاسَبَةً مِنْكَ فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ أَظْهَرَ الْأَشْيَاءِ أَخْفَاهَا لِيَتَوَصَّلَ الْعَبْدُ بِهِ إِلَى كُنْهِ عَجْزِهِ وَنِهَايَةِ قُصُورِهِ فَحِينَئِذٍ يُطَالِعُ شَيْئًا مِنْ مَبَادِئِ مَقَادِيرِ أَسْرَارِ كَوْنِهِ ظَاهِرًا بَاطِنًا. وَسَابِعُهَا: الْمَعْرِفَةُ وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأَقْوَالُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمَعْرِفَةُ إِدْرَاكُ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْعِلْمُ إِدْرَاكُ الْكُلِّيَّاتِ وَآخَرُونَ قَالُوا الْمَعْرِفَةُ التَّصَوُّرُ وَالْعِلْمُ هُوَ التَّصْدِيقُ وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْعِرْفَانَ أَعْظَمَ دَرَجَةً مِنَ الْعِلْمِ قَالُوا لِأَنَّ تَصْدِيقَنَا بِاسْتِنَادِ هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ إِلَى مَوْجُودٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ فَأَمَّا تَصَوُّرُ حَقِيقَتِهِ فَأَمْرٌ فَوْقَ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَلِأَنَّ الشَّيْءَ مَا لَمْ يُعْرَفْ وُجُودُهُ فَلَا تُطْلَبُ مَاهِيَّتُهُ فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ كُلُّ عَارِفٍ عَالِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ عَالِمٍ عَارِفًا وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يُسَمَّى بِالْعَارِفِ إِلَّا إِذَا تَوَغَّلَ فِي مَيَادِينِ الْعِلْمِ وترقى من مطالعها إلى مقاطعها ومن مباديها إلى غايتها بِحَسْبِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَفِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ أَحَدًا مِنَ الْبَشَرِ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى لِأَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى كُنْهِ هُوِيَّتِهِ وَسِرِّ أُلُوهِيَّتِهِ مُحَالٌ. وَآخَرُونَ قَالُوا مَنْ أَدْرَكَ شَيْئًا وَانْحَفَظَ أَثَرُهُ فِي نَفْسِهِ ثُمَّ أَدْرَكَ ذَلِكَ الشَّيْءَ ثَانِيًا وَعَرَفَ أَنَّ هَذَا الْمُدْرَكَ الَّذِي أَدْرَكَهُ ثَانِيًا هو الذي

أَدْرَكَهُ أَوَّلًا فَهَذَا هُوَ الْمَعْرِفَةُ فَيُقَالُ: عَرَفْتُ هَذَا الرَّجُلَ وَهُوَ فُلَانٌ الَّذِي كُنْتُ رَأَيْتُهُ وَقْتَ كَذَا. ثُمَّ فِي النَّاسِ مَنْ يَقُولُ بِقِدَمِ الْأَرْوَاحِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِتَقَدُّمِهَا عَلَى الْأَبْدَانِ وَيَقُولُ إِنَّهَا هِيَ الذَّرُّ الْمُسْتَخْرَجُ مِنْ صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنَّهَا أَقَرَّتْ بِالْإِلَهِيَّةِ وَاعْتَرَفَتْ بِالرُّبُوبِيَّةِ إِلَّا أَنَّهَا لِظُلْمَةِ الْعَلَاقَةِ الْبَدَنِيَّةِ نَسِيَتْ مَوْلَاهَا فَإِذَا عَادَتْ إِلَى نَفْسِهَا مُتَخَلِّصَةً مِنْ ظُلْمَةِ الْبَدَنِ وَهَاوِيَةِ الْجِسْمِ عَرَفَتْ رَبَّهَا وَعَرَفَتْ أَنَّهَا كَانَتْ عَارِفَةً بِهِ فَلَا جَرَمَ سُمِّيَ هَذَا الْإِدْرَاكُ عِرْفَانًا. وَثَامِنُهَا: الْفَهْمُ وَهُوَ تُصَوُّرُ الشَّيْءِ مِنْ لَفْظِ الْمُخَاطَبِ وَالْإِفْهَامُ هُوَ اتِّصَالُ الْمَعْنَى بِاللَّفْظِ إِلَى فَهْمِ السَّامِعِ، وَتَاسِعُهَا: الْفِقْهُ وَهُوَ الْعِلْمُ بِغَرَضِ الْمُخَاطَبِ مِنْ خِطَابِهِ يُقَالُ فَقِهْتُ كَلَامَكَ أَيْ وَقَفْتُ عَلَى غَرَضِكَ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ ثُمَّ إِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ لَمَّا كَانُوا أَرْبَابَ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ فَمَا كَانُوا يَقِفُونَ عَلَى مَا فِي تَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ لَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى: لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا [الْكَهْفِ: 93] أَيْ لَا يَقِفُونَ عَلَى الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ وَالْغَرَضِ الْحَقِيقِيِّ. وَعَاشِرُهَا: الْعَقْلُ وَهُوَ الْعِلْمُ بِصِفَاتِ الْأَشْيَاءِ مِنْ حُسْنِهَا وَقُبْحِهَا وَكَمَالِهَا وَنُقْصَانِهَا فَإِنَّكَ مَتَى عَلِمْتَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَضَارِّ وَالْمَنَافِعِ صَارَ عِلْمُكَ بِمَا فِي/ الشَّيْءِ مِنَ النَّفْعِ دَاعِيًا لَكَ إِلَى الْفِعْلِ وَعِلْمُكَ بِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ دَاعِيًا لَكَ إِلَى التَّرْكِ فَصَارَ ذَلِكَ الْعِلْمُ مَانِعًا مِنَ الْفِعْلِ مَرَّةً وَمِنَ التَّرْكِ أُخْرَى فَيَجْرِي ذَلِكَ الْعِلْمُ مَجْرَى عِقَالِ النَّاقَةِ. وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ عَنِ الْعَقْلِ، قَالَ هُوَ الْعِلْمُ بِخَيْرِ الْخَيْرَيْنِ وَشَرِّ الشَّرَّيْنِ وَلَمَّا سُئِلَ عَنِ الْعَاقِلِ قَالَ الْعَاقِلُ مَنْ عَقَلَ عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، فَهَذَا هُوَ الْقَدْرُ اللَّائِقُ بِهَذَا الْمَكَانِ وَالِاسْتِقْصَاءُ فِيهِ يَجِيءُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْحَادِيَ عَشَرَ: الدراية وهي المعرفة الحاصلة بِضَرْبٍ مِنَ الْحِيَلِ وَهُوَ تَقْدِيمُ الْمُقَدِّمَاتِ وَاسْتِعْمَالُ الرواية وَأَصْلُهُ مِنْ دَرَيْتُ الصَّيْدَ وَالدُّرِّيَّةُ لِمَا يُتَعَلَّمُ عَلَيْهِ الطَّعْنُ وَالْمِدْرَى يُقَالُ لِمَا يُصْلَحُ بِهِ الشَّعْرُ وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِامْتِنَاعِ الْفِكْرِ وَالْحِيَلِ عَلَيْهِ تَعَالَى. الثَّانِيَ عَشَرَ: الْحِكْمَةُ: وَهِيَ اسْمٌ لِكُلِّ عِلْمٍ حَسَنٍ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ وَهُوَ بِالْعِلْمِ الْعَمَلِيِّ أَخَصُّ مِنْهُ بِالْعِلْمِ النَّظَرِيِّ وَفِي الْعَمَلِ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا مِنْهُ فِي الْعِلْمِ، وَمِنْهَا يُقَالُ أَحْكَمَ الْعَمَلَ إِحْكَامًا إِذَا أَتْقَنَهُ وَحَكَمَ بِكَذَا حُكْمًا وَالْحِكْمَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقُ مَا فِيهِ مَنْفَعَةُ الْعِبَادِ وَمَصْلَحَتُهُمْ فِي الْحَالِ وَفِي الْمَآلِ وَمِنَ الْعِبَادِ أَيْضًا كَذَلِكَ ثُمَّ قَدْ حُدَّتِ الْحِكْمَةُ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ فَقِيلَ هِيَ مَعْرِفَةُ الْأَشْيَاءِ بِحَقَائِقِهَا، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِدْرَاكَ الْجُزْئِيَّاتِ لَا كَمَالَ فِيهِ لِأَنَّهَا إِدْرَاكَاتٌ مُتَغَيِّرَةٌ. فَأَمَّا إِدْرَاكُ الْمَاهِيَّةِ، فَإِنَّهُ بَاقٍ مَصُونٌ عَنِ التَّغَيُّرِ وَالتَّبَدُّلِ وَقِيلَ هِيَ الْإِتْيَانُ بِالْفِعْلِ الَّذِي عَاقِبَتُهُ مَحْمُودَةٌ وَقِيلَ هِيَ الِاقْتِدَاءُ بِالْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي السِّيَاسَةِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْتَهِدَ بِأَنْ يُنَزِّهَ عِلْمَهُ عَنِ الْجَهْلِ وَفِعْلَهُ عَنِ الْجَوْرِ وَجُودَهُ عَنِ الْبُخْلِ وَحِلْمَهُ عَنِ السَّفَهِ. الثَّالِثَ عَشَرَ: عِلْمُ الْيَقِينِ وَعَيْنُ الْيَقِينِ وَحَقُّ الْيَقِينِ قَالُوا إِنَّ الْيَقِينَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّيْءَ كَذَا وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ كَوْنُ الْأَمْرِ بِخِلَافِ مُعْتَقَدِهِ إِذَا كَانَ لِذَلِكَ الِاعْتِقَادِ مُوجِبٌ هُوَ إِمَّا بَدِيهِيَّةُ الْفِطْرَةِ وَإِمَّا نَظَرُ الْعَقْلِ، الرَّابِعَ عَشَرَ: الذِّهْنُ وَهُوَ قُوَّةُ النَّفْسِ عَلَى اكْتِسَابِ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ حَاصِلَةٍ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الرُّوحَ خَالِيًا عَنْ تَحْقِيقِ الْأَشْيَاءِ وَعَنِ الْعِلْمِ بِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [النحل: 78] لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَهَا لِلطَّاعَةِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] وَالطَّاعَةُ مَشْرُوطَةٌ بِالْعِلْمِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالطَّاعَةِ لِغَرَضِ الْعِلْمِ وَالْعِلْمُ لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ النَّفْسُ مُتَمَكِّنَةً مِنْ تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ فَأَعْطَاهُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ مِنَ الْحَوَاسِّ مَا أَعَانَ عَلَى تَحْصِيلِ هَذَا الْغَرَضِ فَقَالَ فِي السَّمْعِ: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [الْبَلَدِ: 10] وَقَالَ فِي الْبَصَرِ: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فُصِّلَتْ: 53] وَقَالَ فِي الْفِكْرِ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذَّارِيَاتِ: 21] فَإِذَا تَطَابَقَتْ هَذِهِ

الْقُوَى صَارَ الرُّوحُ الْجَاهِلُ عَالِمًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرَّحْمَنِ: 1] فَالْحَاصِلُ أَنَّ اسْتِعْدَادَ النَّفْسِ لِتَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَعَارِفِ هُوَ الذِّهْنُ. الْخَامِسَ عَشَرَ: الْفِكْرُ وَهُوَ انْتِقَالُ الرُّوحِ مِنَ التَّصْدِيقَاتِ الْحَاضِرَةِ إِلَى التَّصْدِيقَاتِ الْمُسْتَحْضَرَةِ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ إِنَّ الْفِكْرَ يَجْرِي مَجْرَى التَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي اسْتِنْزَالِ الْعُلُومِ مِنْ عِنْدِهِ. السَّادِسَ عَشَرَ: الْحَدْسُ وَلَا/ شَكَ أَنَّ الْفِكْرَ لَا يَتِمُّ عَمَلُهُ إِلَّا بِوِجْدَانِ شَيْءٍ يَتَوَسَّطُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْمَجْهُولِ لِتَصِيرَ النِّسْبَةُ الْمَجْهُولَةُ مَعْلُومَةً فَإِنَّ النَّفْسَ حَالَ كَوْنِهَا جَاهِلَةً كَأَنَّهَا وَاقِفَةٌ فِي ظُلْمَةٍ وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ قَائِدٍ يَقُودُهَا وَسَائِقٍ يَسُوقُهَا وَذَلِكَ هُوَ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَلَهُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِسْبَةٌ خَاصَّةٌ فَيَتَوَلَّدُ مِنْ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِمَا مُقَدِّمَتَانِ فَكُلُّ مَجْهُولٍ لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِهِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ مُقَدِّمَتَيْنِ مَعْلُومَتَيْنِ وَالْمُقَدِّمَتَانِ هُمَا كَالشَّاهِدَيْنِ فَكَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الشَّرْعِ مِنْ شَاهِدَيْنِ فَكَذَا لَا بُدَّ فِي الْعَقْلِ مِنْ شَاهِدَيْنِ وَهُمَا الْمُقَدِّمَتَانِ اللَّتَانِ تُنْتِجَانِ الْمَطْلُوبَ فَاسْتِعْدَادُ النَّفْسِ لِوِجْدَانِ ذَلِكَ الْمُتَوَسِّطِ هُوَ الْحَدْسُ. السَّابِعَ عَشَرَ: الذَّكَاءُ وَهُوَ شِدَّةُ الْحَدْسِ وَكَمَالُهُ وَبُلُوغُهُ الْغَايَةَ الْقُصْوَى وَذَلِكَ لِأَنَّ الذَّكَاءَ هُوَ الْمُضَاءُ فِي الْأَمْرِ وَسُرْعَةُ الْقَطْعِ بِالْحَقِّ وَأَصْلُهُ مِنْ ذَكَتِ النَّارُ وَذَكَتِ الرِّيحُ وَشَاةٌ مُذَكَّاةٌ أَيْ مُدْرَكٌ قبحها بِحِدَّةِ السِّكِّينِ. الثَّامِنَ عَشَرَ: الْفِطْنَةُ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّنَبُّهِ لِشَيْءٍ قُصِدَ تَعْرِيضُهُ وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَكْثَرِ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحَاجِي وَالرُّمُوزِ. التَّاسِعَ عَشَرَ: الْخَاطِرُ وَهُوَ حَرَكَةُ النَّفْسِ نَحْوَ تَحْصِيلِ الدَّلِيلِ وَفِي الْحَقِيقَةِ ذَلِكَ الْمَعْلُومُ هُوَ الْخَاطِرُ بِالْبَالِ وَالْحَاضِرُ فِي النَّفْسِ وَلِذَلِكَ يُقَالُ: هَذَا خَطَرَ بِبَالِي إِلَّا أَنَّ النَّفْسَ لَمَّا كَانَتْ مَحَلًّا لِذَلِكَ الْمَعْنَى الْخَاطِرِ جُعِلَتْ خَاطِرًا إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْحَالِّ عَلَى الْمَحَلِّ. الْعِشْرُونَ: الْوَهْمُ وَهُوَ الِاعْتِقَادُ الْمَرْجُوحُ وَقَدْ يُقَالُ إِنَّهُ عِبَارَةٌ عن الحكم بأمور جزئية غير محسوسية لِأَشْخَاصٍ جُزْئِيَّةٍ جُسْمَانِيَّةٍ كَحُكْمِ السَّخْلَةِ بِصَدَاقَةِ الْأُمِّ وَعَدَاوَةِ الْمُؤْذِي. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: الظَّنُّ وَهُوَ الِاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ وَلَمَّا كَانَ قَبُولُ الِاعْتِقَادِ لِلْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ غَيْرَ مَضْبُوطٍ فَكَذَا مَرَاتِبُ الظَّنِّ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ فَلِهَذَا قِيلَ إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْجِيحِ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُعْتَقَدِ فِي الْقَلْبِ عَلَى الْآخَرِ مَعَ تَجْوِيزِ الطَّرَفِ الْآخَرِ ثُمَّ إِنَّ الظَّنَّ الْمُتَنَاهِيَ فِي الْقُوَّةِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْعِلْمِ فَلَا جَرَمَ قَدْ يُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْعِلْمِ اسْمُ الظَّنِّ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَةِ: 46] قَالُوا: إِنَّمَا أُطْلِقَ لَفْظُ الظَّنِّ على العلم هاهنا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ عِلْمَ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى عِلْمِهِ فِي الْآخِرَةِ كَالظَّنِّ فِي جَنْبِ الْعِلْمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ فِي الدُّنْيَا لَا يَكَادُ يَحْصُلُ إِلَّا لِلنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا [الْحُجُرَاتِ: 15] وَاعْلَمْ أَنَّ الظَّنَّ إِنْ كَانَ عَنْ أَمَارَةٍ قَوِيَّةٍ قُبِلَ وَمُدِحَ وَعَلَيْهِ مَدَارُ أَكْثَرِ أَحْوَالِ هَذَا الْعِلْمِ. وَإِنْ كَانَ عَنْ أَمَارَةٍ ضَعِيفَةٍ ذُمَّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [النَّجْمِ: 28] وَقَوْلِهِ: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الْحُجُرَاتِ: 12] الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: الْخَيَالُ. وَهُوَ عِبَارَةٌ مِنَ الصُّورَةِ الْبَاقِيَةِ عَنِ الْمَحْسُوسِ بَعْدَ غَيْبَتِهِ. وَمِنْهُ الطَّيْفُ الْوَارِدُ مِنْ صُورَةِ الْمَحْبُوبِ خَيَالًا وَالْخَيَالُ قَدْ يُقَالُ لِتِلْكَ الصُّورَةِ فِي الْمَنَامِ وَفِي الْيَقَظَةِ، وَالطَّيْفُ لَا يُقَالُ إِلَّا فِيمَا كَانَ فِي حَالِ النَّوْمِ. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: الْبَدِيهَةُ وَهِيَ الْمَعْرِفَةُ الْحَاصِلَةُ ابْتِدَاءً فِي النَّفْسِ لَا بِسَبَبِ الْفِكْرِ كَعِلْمِكَ بِأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْأَوَّلِيَّاتُ وَهِيَ الْبَدِيهِيَّاتُ بِعَيْنِهَا وَالسَّبَبُ فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَنَّ الذِّهْنَ يُلْحِقُ مَحْمُولَ الْقَضِيَّةِ بِمَوْضُوعِهَا أَوَّلًا لَا بِتَوَسُّطِ شَيْءٍ آخَرَ فَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ بِتَوَسُّطِ شَيْءٍ آخَرَ. فَذَاكَ الْمُتَوَسِّطُ هُوَ الْمَحْمُولُ أَوَّلًا/ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: الرَّوِيَّةُ، وَهِيَ مَا كَانَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بَعْدَ فِكْرٍ كَثِيرٍ، وَهِيَ مِنْ رَوَى، السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: الْكِيَاسَةُ. وَهِيَ تَمَكُّنُ النَّفْسِ مِنِ اسْتِنْبَاطِ مَا هُوَ أَنْفَعُ. وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ» . مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا خَيْرَ يَصِلُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ أَفْضَلُ

[سورة البقرة (2) : الآيات 32 إلى 33]

مِمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ. السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْخِبْرَةُ، وَهِيَ مَعْرِفَةٌ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا بِطَرِيقِ التَّجْرِبَةِ، يُقَالُ خَبِرْتُهُ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: وَجَدْتُ النَّاسَ أَخْبِرْ تَقْلَهُ. وَقِيلَ هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ خَبِرَةٌ. أَيْ غَزِيرَةُ اللَّبَنِ، فَكَانَ الْخَبَرُ هُوَ غَزَارَةَ الْمَعْرِفَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ نَاقَةٌ خَبِرَةٌ: هِيَ الْمُخْبَرُ عَنْهَا بِغَزَارَتِهَا. الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: الرَّأْيُ، وَهُوَ إِحَاطَةُ الْخَاطِرِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي يُرْجَى مِنْهَا إِنْتَاجُ الْمَطْلُوبِ، وَقَدْ يُقَالُ لِلْقَضِيَّةِ الْمُسْتَنْتَجَةِ مِنَ الرَّأْيِ رَأْيٌ، وَالرَّأْيُ لِلْفِكْرِ كَالْآلَةِ لِلصَّانِعِ، وَلِهَذَا قِيلَ: إِيَّاكَ وَالرَّأْيَ الْفَطِيرَ، وَقِيلَ: دَعِ الرَّأْيَ تُصِبْ. التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْفِرَاسَةُ وَهِيَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْحَقِّ الظَّاهِرِ عَلَى الْخُلُقِ الْبَاطِنِ، وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى صِدْقِ هَذَا الطَّرِيقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الْحِجْرِ: 75] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ [الْبَقَرَةِ: 273] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [مُحَمَّدٍ: 30] وَاشْتِقَاقُهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَسَ السَّبُعُ الشَّاةَ، فَكَأَنَّ الْفِرَاسَةَ اخْتِلَاسُ الْمَعَارِفِ، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ عَنْ خَاطِرِهِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ، وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ الْإِلْهَامِ بَلْ ضَرْبٌ مِنَ الْوَحْيِ، وَإِيَّاهُ عَنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «إِنَّ فِي أُمَّتِي لَمُحَدَّثِينَ وَإِنَّ عُمَرَ لَمِنْهُمْ» وَيُسَمَّى ذَلِكَ أَيْضًا النَّفْثَ فِي الرَّوْعِ، وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْفِرَاسَةِ مَا يَكُونُ بِصِنَاعَةٍ مُتَعَلَّمَةٍ وَهِيَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْأَشْكَالِ الظَّاهِرَةِ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْبَاطِنَةِ وَقَالَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ [هُودٍ: 17] إِنَّ الْبَيِّنَةَ هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى صَفَاءِ جَوْهَرِ الرُّوحِ وَالشَّاهِدُ هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْأَشْكَالِ عَلَى الْأَحْوَالِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها وَقَوْلُهُ: لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا وقوله: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ لَا يَقْتَضِي وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ مُعَلِّمٌ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ تَعَارُفٌ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ وَهُوَ مَنْ يَحْتَرِفُ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّلْقِينِ وَكَمَا لَا يُقَالُ لِلْمُدَرِّسِ مُعَلِّمٌ مُطْلَقًا حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِلْمُتَعَلِّمِينَ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُدَرِّسُ فَكَذَا لَا يُقَالُ لِلَّهِ إِنَّهُ مُعَلِّمٌ إِلَّا مَعَ التَّقْيِيدِ وَلَوْلَا هَذَا التَّعَارُفُ لَحَسُنَ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ بَلْ كَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يُسْتَعْمَلَ إِلَّا فِيهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمُعَلِّمَ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ الْعِلْمُ فِي غَيْرِهِ وَلَا قُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا اللَّهَ تعالى. [سورة البقرة (2) : الآيات 32 الى 33] قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) اعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَتَوْا بِالْمَعْصِيَةِ فِي قَوْلِهِمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها قَالُوا: إِنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا خَطَأَهُمْ فِي هَذَا السُّؤَالِ رَجَعُوا وَتَابُوا وَاعْتَذَرُوا عَنْ خَطَئِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا وَالَّذِينَ أَنْكَرُوا مَعْصِيَتَهُمْ ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ وَالتَّسْلِيمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا سُئِلُوا عَنْهُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّا لَا نَعْلَمُ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا فَإِذَا لَمْ تُعَلِّمْنَا ذَلِكَ فَكَيْفَ نَعْلَمُهُ، الثَّانِي: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَّمَا قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَهُمْ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّكَ أَعْلَمْتَنَا أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ فَقُلْنَا لَكَ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَأَمَّا هَذِهِ الْأَسْمَاءُ فإنك ما أعلمتنا كيفيتها فكيف نعلمها. وهاهنا مسائل:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا عَلَى أَنَّ الْمَعَارِفَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ إِمَّا بِالتَّعْلِيمِ وَإِمَّا بِنَصْبِ الدَّلَالَةِ وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّعْلِيمَ عِبَارَةٌ عَنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ فِي الْغَيْرِ كَالتَّسْوِيدِ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَحْصِيلِ السَّوَادِ فِي الْغَيْرِ لَا يُقَالُ التَّعْلِيمُ عِبَارَةٌ عَنْ إِفَادَةِ عَلَيْهِ الْعِلْمُ هُوَ وَضْعُ الدَّلِيلِ وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ الْمُؤَثِّرَ فِي وُجُودِ الْعِلْمِ لَيْسَ هُوَ ذَاتَ الدَّلِيلِ بَلِ النَّظَرُ فِي الدَّلِيلِ وَذَلِكَ النَّظَرُ فِعْلُ الْعَبْدِ فَلَمْ يَكُنْ حُصُولُ ذَلِكَ الْعِلْمِ بِتَعْلِيمِ اللَّهِ تعالى وأنه يناقص قَوْلَهُ: لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَهْلُ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُغَيَّبَاتِ إِلَّا بِتَعْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إِلَيْهَا بِعِلْمِ النُّجُومِ وَالْكِهَانَةِ وَالْعِرَافَةِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَامِ: 59] وَقَوْلُهُ: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الْجِنِّ: 26، 27] وَلِلْمُنَجِّمِ أَنْ يَقُولَ لِلْمُعْتَزِلِيِّ إِذَا فَسَّرْتَ التَّعْلِيمَ بِوَضْعِ الدَّلَائِلِ فَعِنْدِي حَرَكَاتُ النُّجُومِ دَلَائِلُ خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ فَإِذَا اسْتَدْلَلْتَ بِهَا عَلَى هَذِهِ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا بِتَعْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا عَجَزُوا عَنْ مَعْرِفَةِ الْغَيْبِ فَلَأَنْ يَعْجِزَ عَنْهُ أَحَدُنَا كَانَ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْعَلِيمُ مِنْ صِفَاتِ الْمُبَالَغَةِ التَّامَّةِ فِي الْعِلْمِ، وَالْمُبَالَغَةُ التَّامَّةُ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا عِنْدَ الْإِحَاطَةِ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَلَا جَرَمَ لَيْسَ الْعَلِيمُ الْمُطْلَقُ إِلَّا هُوَ، فَلِذَلِكَ قَالَ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْحَكِيمُ يُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِمَعْنَى الْعَلِيمِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ نَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى حَكِيمٌ فِي الْأَزَلِ. الْآخَرُ: أَنَّهُ الَّذِي يَكُونُ فَاعِلًا لِمَا لَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ. فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، فَلَا نَقُولُ إِنَّهُ حَكِيمٌ في الأزل والأقرب هاهنا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي وَإِلَّا لَزِمَ التَّكْرَارُ، فَكَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ: أَنْتَ الْعَالِمُ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ فَأَمْكَنَكَ تَعْلِيمُ آدَمَ، وَأَنْتَ الْحَكِيمُ فِي هَذَا الْفِعْلِ الْمُصِيبُ فِيهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ مُرَادَ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْحَكِيمِ، أَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَكَمَ بِجَعْلِ آدَمَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يُخْبِرَهُمْ عَنْ أَسْمَاءِ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْبَرَهُمْ بِهَا فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِهَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْغَيْبِ أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا بِأَحْوَالِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ حُدُوثِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ فِي أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ إِلَّا عِنْدَ وُقُوعِهَا، فَإِنْ قِيلَ الْإِيمَانُ هُوَ العلم، فقوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَكَيْفَ قال هاهنا: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْإِشْعَارُ بِأَنَّ عِلْمَ الْغَيْبِ لَيْسَ إِلَّا لِي وَأَنَّ كُلَّ مَنْ سِوَايَ فَهُمْ خَالُونَ عَنْ عِلْمِ الْغَيْبِ وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مَا رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَقَوْلَهُ: وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أَرَادَ بِهِ مَا أسر

إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكِبْرِ وَأَنْ لَا يَسْجُدَ: وَثَانِيهَا: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنَ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ وَالْأَسْرَارِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يُظَنُّ فِي الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِيهَا وَلَكِنِّي لِعِلْمِي بِالْأَسْرَارِ الْمُغَيَّبَةِ أَعْلَمُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي خَلْقِهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ آدَمَ رَأَتِ الْمَلَائِكَةُ خَلْقًا عَجِيبًا فَقَالُوا لِيَكُنْ مَا شَاءَ فَلَنْ يَخْلُقَ رَبُّنَا خَلْقًا إِلَّا كُنَّا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْهُ فَهَذَا الَّذِي كَتَمُوا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ سِرًّا أَسَرُّوهُ بَيْنَهُمْ فَأَبْدَاهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَأَسَرُّوهُ عَنْ غَيْرِهِمْ فَكَانَ فِي هَذَا الْفِعْلِ الْوَاحِدِ إِبْدَاءٌ وَكِتْمَانٌ. وَرَابِعُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْحُكَمَاءِ أَنَّ الْأَقْسَامَ خَمْسَةٌ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مَحْضًا أَوْ شَرًّا مَحْضًا أَوْ مُمْتَزِجًا وَعَلَى تَقْدِيرِ الِامْتِزَاجِ فإما أن يعتدل الأمران أَوْ يَكُونَ الْخَيْرُ غَالِبًا أَوْ يَكُونَ الشَّرُّ غَالِبًا أَمَّا الْخَيْرُ الْمَحْضُ فَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي إِيجَادَهُ وَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْخَيْرُ غَالِبًا فَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي إِيجَادَهُ لِأَنَّ تَرْكَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ لِأَجْلِ الشَّرِّ الْقَلِيلِ شَرٌّ كَثِيرٌ فَالْمَلَائِكَةُ ذَكَرُوا الْفَسَادَ وَالْقَتْلَ وَهُوَ شَرٌّ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَحْصُلُ مِنْهُمْ مِنَ الْخَيْرَاتِ فَقَوْلُهُ: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَأَعْرِفُ أَنَّ خَيْرَهُمْ غَالِبٌ عَلَى هَذِهِ الشُّرُورِ فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِيجَادَهُمْ وَتَكْوِينَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَوْفًا عَظِيمًا وَفَرَحًا عَظِيمًا أَمَّا الْخَوْفُ فَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِ الضَّمَائِرِ فَيَجِبُ أَنْ يَجْتَهِدَ الْمَرْءُ فِي تَصْفِيَةِ بَاطِنِهِ وَأَنْ لَا يَكُونَ/ بِحَيْثُ يَتْرُكُ الْمَعْصِيَةَ لِاطِّلَاعِ الْخَلَائِقِ عَلَيْهَا وَلَا يَتْرُكُهَا عِنْدَ اطِّلَاعِ الْخَالِقِ عَلَيْهَا وَالْأَخْبَارُ مُؤَكِّدَةٌ لِذَلِكَ. أَحَدُهَا: رَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «يُؤْتَى بِنَاسٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْهَا وَوَجَدُوا رَائِحَتَهَا وَنَظَرُوا إِلَى قُصُورِهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا نُودُوا أَنِ اصْرِفُوهُمْ عَنْهَا لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهَا فَيَرْجِعُونَ عَنْهَا بِحَسْرَةٍ مَا رَجَعَ أَحَدٌ بِمِثْلِهَا وَيَقُولُونَ يَا رَبَّنَا لَوْ أَدْخَلْتَنَا النَّارَ قَبْلَ أَنْ تُرِيَنَا مَا أَرَيْتَنَا مِنْ ثَوَابِكَ وَمَا أَعْدَدْتَ فِيهَا لِأَوْلِيَائِكَ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْنَا: فَنُودُوا ذَاكَ أَرَدْتُ لَكُمْ كُنْتُمْ إِذَا خَلَوْتُمْ بَارَزْتُمُونِي بِالْعَظَائِمِ وَإِذَا لَقِيتُمُ النَّاسَ لَقِيتُمُوهُمْ بِالْمَحَبَّةِ مُخْبِتِينَ تُرَاءُونَ النَّاسَ بِخِلَافِ مَا تُضْمِرُونَ عَلَيْهِ فِي قُلُوبِكُمْ هِبْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تَهَابُونِي أَجْلَلْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تُجِلُّونِي تَرَكْتُمُ الْمَعَاصِيَ لِلنَّاسِ وَلَمْ تَتْرُكُوهَا لِأَجْلِي كُنْتُ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ عَلَيْكُمْ فَالْيَوْمَ أُذِيقُكُمْ أَلِيمَ عَذَابِي مَعَ مَا حَرَمْتُكُمْ مِنَ النَّعِيمِ وَثَانِيهَا: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ لِحُمَيْدٍ الطَّوِيلِ: عِظْنِي فَقَالَ إِنْ كُنْتَ إِذَا عَصَيْتَ اللَّهَ خَالِيًا ظَنَنْتَ أَنَّهُ يَرَاكَ فَلَقَدِ اجْتَرَأْتَ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ كُنْتَ ظَنَنْتَ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ فَلَقَدْ كَفَرْتَ. وَثَالِثُهَا: قَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ: طَهِّرْ نَفْسَكَ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِذَا كُنْتَ عَامِلًا بِالْجَوَارِحِ فَاذْكُرْ نَظَرَ اللَّهِ إِلَيْكَ. وَإِذَا كُنْتَ قَائِلًا فَاذْكُرْ سَمْعَ اللَّهِ إِلَيْكَ، وَإِذَا كُنْتَ سَاكِتًا عَامِلًا بِالضَّمِيرِ فاذكر على اللَّهِ بِكَ إِذْ هُوَ يَقُولُ: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: 46] . وَرَابِعُهَا: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لِأَحَدٍ عَلَى أَسْرَارِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالْمَلَائِكَةُ وَقَعَ نَظَرُهُمْ عَلَى الْفَسَادِ وَالْقَتْلِ فَاسْتَحْقَرُوا الْبَشَرَ. وَوَقَعَ نَظَرُهُمْ عَلَى طَاعَةِ إِبْلِيسَ فَاسْتَعْظَمُوهُ، أما علام الغيوب فإنه كان عالماً بأنه وَإِنْ أَتَوْا بِالْفَسَادِ وَالْقَتْلِ لَكِنَّهُمْ سَيَأْتُونَ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: 23] وَأَنَّ إِبْلِيسَ وَإِنْ أَتَى بِالطَّاعَاتِ لَكِنَّهُ سَيَأْتِي بَعْدَهَا بِقَوْلِهِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، وَمِنْ شَأْنِ الْعَقْلِ أَنْ لَا يَعْتَمِدَ عَلَى مَا يَرَاهُ وَأَنْ يَكُونَ أَبَدًا فِي الْخَوْفِ وَالْوَجَلِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ معناه أن الَّذِي أَعْرِفُ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ وَالْوَاقِعَ وَالْمُتَوَقَّعَ وَأَعْلَمُ أَنَّهُ مَا تَرَوْنَهُ عَابِدًا مُطِيعًا سَيَكْفُرُ وَيَبْعُدُ عَنْ حَضْرَتِي، وَمَنْ تَرَوْنَهُ فَاسِقًا بَعِيدًا سَيَقْرُبُ مِنْ خِدْمَتِي، فَالْخَلْقُ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا عَنْ حِجَابِ الْجَهْلِ وَلَا يَتَيَسَّرُ لَهُمْ أَنْ يَخْرِقُوا أَسْتَارَ الْعَجْزِ فَإِنَّهُمْ لَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ حَقَّقَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ وَعَجْزِ الْمَلَائِكَةِ أَنْ أَظْهَرَ مِنَ البشر كمال العبودية ومن أشد ساكني السموات عبادة

[سورة البقرة (2) : آية 34]

كَمَالَ الْكُفْرِ لِئَلَّا يَغْتَرَّ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ وَيُفَوِّضُوا مَعْرِفَةَ الْأَشْيَاءِ إِلَى حِكْمَةِ الْخَالِقِ وَيُزِيلُوا الِاعْتِرَاضَ بالقلب واللسان عن مصنوعاته ومبدعاته. [سورة البقرة (2) : آية 34] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النِّعْمَةُ الرَّابِعَةُ مِنَ النِّعَمِ الْعَامَّةِ عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ أَبَانَا مَسْجُودَ الْمَلَائِكَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ تَخْصِيصَ آدَمَ بِالْخِلَافَةِ أَوَّلًا ثُمَّ تَخْصِيصَهُ بِالْعِلْمِ الْكَثِيرِ ثَانِيًا ثُمَّ بُلُوغَهُ فِي الْعِلْمِ إِلَى أَنْ صَارَتِ الْمَلَائِكَةُ عَاجِزِينَ عَنْ بُلُوغِ دَرَجَتِهِ فِي الْعِلْمِ وَذَكَرَ الْآنَ كَوْنَهُ مسجوداً للملائكة، وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ حَصَلَ قَبْلَ أَنْ يُسَوِّيَ اللَّهُ تَعَالَى خِلْقَةَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [ص: 71، 72] وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا صَارَ حَيًّا صَارَ مَسْجُودَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَقَعُوا لِلتَّعْقِيبِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ تَعْلِيمُ الْأَسْمَاءِ وَمُنَاظَرَتُهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فِي ذَلِكَ حَصَلَ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَسْجُودَ الْمَلَائِكَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السُّجُودَ لَيْسَ سُجُودَ عِبَادَةٍ لِأَنَّ سُجُودَ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ كُفْرٌ وَالْأَمْرُ لَا يَرِدُ بِالْكُفْرِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ ذَلِكَ السُّجُودَ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى وَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ كَالْقِبْلَةِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ طَعَنَ فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَا يُقَالُ صَلَّيْتُ لِلْقِبْلَةِ بَلْ يُقَالُ صَلَّيْتُ إِلَى الْقِبْلَةِ فَلَوْ كَانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قِبْلَةً لِذَلِكَ السُّجُودِ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ اسْجُدُوا إِلَى آدَمَ فَلَمَّا لَمْ يَرِدِ الْأَمْرُ هَكَذَا بَلْ قِيلَ اسْجُدُوا لِآدَمَ عَلِمْنَا أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ قِبْلَةً. الثَّانِي: أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أَيْ أَنَّ كَوْنَهُ مَسْجُودًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ حَالًا مِنَ السَّاجِدِ وَلَوْ كَانَ قِبْلَةً لَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ بِدَلِيلِ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ تَكُونَ الْكَعْبَةُ أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ صَلَّيْتُ إِلَى الْقِبْلَةِ جَازَ أَنْ يُقَالَ صَلَّيْتُ لِلْقِبْلَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالشِّعْرُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاءِ: 78] وَالصَّلَاةُ لِلَّهِ لَا لِلدُّلُوكِ. فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ صَلَّيْتُ لِلْقِبْلَةِ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِلْقِبْلَةِ، وَأَمَّا الشِّعْرُ فَقَوْلُ حَسَّانَ: مَا كُنْتُ أَعْرِفُ أَنَّ الْأَمْرَ مُنْصَرِفٌ ... عَنْ هَاشِمٍ ثُمَّ مِنْهَا عَنْ أَبِي حَسَنِ أَلَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لِقِبْلَتِكُمْ ... وَأَعْرَفَ النَّاسِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ فَقَوْلُهُ صَلَّى لِقِبْلَتِكُمْ نَصٌّ عَلَى الْمَقْصُودِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي أَنَّ إِبْلِيسَ شَكَا تَكْرِيمَهُ وَذَلِكَ التَّكْرِيمُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ حَصَلَ بِمُجَرَّدِ تِلْكَ الْمَسْجُودِيَّةِ بَلْ لَعَلَّهُ حَصَلَ بِذَلِكَ مَعَ أُمُورٍ أُخَرَ فَهَذَا مَا فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي فَهُوَ أَنَّ السَّجْدَةَ كَانَتْ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعْظِيمًا لَهُ وَتَحِيَّةً لَهُ كَالسَّلَامِ مِنْهُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَتِ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ تَفْعَلُ ذَلِكَ كَمَا يُحَيِّي الْمُسْلِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلَامِ وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً [يُوسُفَ: 100] كَانَتْ تَحِيَّةُ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ سُجُودَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: وَعَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ مُعَاذًا لَمَّا قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ مَا هَذَا قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ تَسْجُدُ لِعُظَمَائِهَا/ وَعُلَمَائِهَا وَرَأَيْتُ النَّصَارَى تسجد لقسسها

وَبِطَارِقَتِهَا قُلْتُ: مَا هَذَا قَالُوا: تَحِيَّةُ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَبُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ «1» وَعَنِ الثوري عن سماك بن هاني قَالَ: دَخَلَ الْجَاثَلِيقُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَأَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ لَهُ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ اسْجُدْ لِلَّهِ وَلَا تَسْجُدْ لِي. وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا لِعِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ السُّجُودَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ الِانْقِيَادُ وَالْخُضُوعُ قَالَ الشَّاعِرُ: تَرَى الْأَكَمَ فِيهَا سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ أَيْ تِلْكَ الْجِبَالُ الصِّغَارُ كَانَتْ مُذَلَّلَةً لِحَوَافِرِ الْخَيْلِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرَّحْمَنِ: 6] وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ شَرْحُ تَعْظِيمِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَجَعْلُهُ مُجَرَّدَ الْقِبْلَةِ لَا يُفِيدُ تَعْظِيمَ حَالِهِ وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ فَضَعِيفٌ أَيْضًا لِأَنَّ السُّجُودَ لَا شَكَّ أَنَّهُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ وَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّغْيِيرِ فَإِنْ قِيلَ السُّجُودُ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَةُ لِغَيْرِ اللَّهِ لَا تَجُوزُ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ عِبَادَةٌ، بَيَانُهُ أَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يَصِيرُ بِالْمُوَاضَعَةِ مُفِيدًا كَالْقَوْلِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ قِيَامَ أَحَدِنَا لِلْغَيْرِ يُفِيدُ مِنَ الْإِعْظَامِ ما يفيده القول وما ذاك إلا للعبادة وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ سُقُوطُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْأَرْضِ وَإِلْصَاقُهُ الْجَبِينَ بِهَا مُفِيدًا ضَرْبًا مِنَ التَّعْظِيمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِبَادَةً وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِذَلِكَ إِظْهَارًا لِرِفْعَتِهِ وَكَرَامَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ إِبْلِيسَ هَلْ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؟ قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: وَلَا سِيَّمَا الْمُعْتَزِلَةُ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [الْكَهْفِ: 50] وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ الْجِنَّ جِنْسٌ مُخَالِفٌ لِلْمَلَكِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْجِنَّ مَأْخُوذٌ مِنَ الِاجْتِنَانِ وَهُوَ السَّتْرُ وَلِهَذَا سُمِّيَ الْجَنِينُ جَنِينًا لِاجْتِنَانِهِ وَمِنْهُ الْجُنَّةُ لِكَوْنِهَا سَاتِرَةً وَالْجَنَّةُ لِكَوْنِهَا مُسْتَتِرَةً بِالْأَغْصَانِ وَمِنْهُ الْجُنُونُ لِاسْتِتَارِ الْعَقْلِ فِيهِ، وَلَمَّا ثَبَتَ هَذَا وَالْمَلَائِكَةُ مَسْتُورُونَ عَنِ الْعُيُونِ وَجَبَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْجِنِّ عَلَيْهِمْ بِحَسْبِ اللُّغَةِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يُفِيدُ الْمَقْصُودَ فَنَقُولُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سَبَأٍ: 40، 41] وَهَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْجِنِّ وَالْمَلَكِ. فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: كانَ مِنَ الْجِنِّ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَانَ مِنَ الْجَنَّةِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ أَيْ كان خازن الجنة سلمنا ذلك لكن لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مِنَ الْجِنِّ أَيْ صَارَ مِنَ الْجِنِّ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ أَيْ صَارَ مِنَ الْكَافِرِينَ سَلَّمْنَا أَنَّ مَا ذَكَرْتَ/ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ فَلِمَ قُلْتَ إِنَّ كَوْنَهُ مِنَ الْجِنِّ يُنَافِي كَوْنَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْآيَةِ مُعَارَضٌ بِآيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصَّافَّاتِ: 158] وَذَلِكَ لِأَنَّ قُرَيْشًا قَالَتْ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ فهذه الآية تدل على أن الملك يمسي جِنًّا؟ وَالْجَوَابُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: كانَ مِنَ الْجِنِّ أَنَّهُ كَانَ خَازِنَ الْجَنَّةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ يُشْعِرُ بِتَعْلِيلِ تَرْكِهِ لِلسُّجُودِ لِكَوْنِهِ جِنِّيًّا وَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُ تَرْكِ السُّجُودِ بِكَوْنِهِ خَازِنًا لِلْجَنَّةِ فَيُبْطِلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ

_ (1) ثبت أن معاذاً رضي الله عنه حين بعثه النبي إلى اليمن لم يرجع منها إلا بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

كانَ مِنَ الْجِنِّ أَيْ صَارَ مِنَ الْجِنِّ. قُلْنَا هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً قُلْنَا يُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ أَثْبَتَ ذَلِكَ النَّسَبَ فِي الْجِنِّ كَمَا أَثْبَتَهُ فِي الْمَلَائِكَةِ وَأَيْضًا فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَلَكَ يُسَمَّى جِنًّا بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ لَكِنَّ لَفْظَ الْجِنِّ بِحَسَبِ الْعُرْفِ اخْتَصَّ بِغَيْرِهِمْ كَمَا أَنَّ لَفْظَ الدَّابَّةِ وَإِنْ كَانَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ الْأَصْلِيَّةِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَدِبُّ لَكِنَّهُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ اخْتَصَّ بِبَعْضِ مَا يَدِبُّ فَتُحْمَلُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى اللُّغَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالْآيَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَلَى الْعُرْفِ الْحَادِثِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ إِبْلِيسَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ وَالْمَلَائِكَةُ لَا ذُرِّيَّةَ لَهُمْ، إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ إِبْلِيسَ لَهُ ذَرِّيَّةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَتِهِ: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي [الْكَهْفِ: 50] وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إِثْبَاتِ الذُّرِّيَّةِ لَهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا ذُرِّيَّةَ لَهُمْ لِأَنَّ الذُّرِّيَّةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْمَلَائِكَةُ لَا أُنْثَى فِيهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ [الزُّخْرُفِ: 19] أَنْكَرَ عَلَى مَنْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْأُنُوثَةِ فَإِذَا انْتَفَتِ الْأُنُوثَةُ انْتَفَى التَّوَالُدُ لَا مَحَالَةَ فَانْتَفَتِ الذُّرِّيَّةُ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعْصُومُونَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَإِبْلِيسُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ إِبْلِيسَ مَخْلُوقٌ مِنَ النَّارِ وَالْمَلَائِكَةُ لَيْسُوا كَذَلِكَ إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ إِبْلِيسَ مَخْلُوقٌ مِنَ النَّارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْلِيسَ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كانَ مِنَ الْجِنِّ وَالْجِنُّ مَخْلُوقُونَ مِنَ النَّارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ [الْحِجْرِ: 27] وَقَالَ: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرَّحْمَنِ: 14، 15] وَأَمَّا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَيْسُوا مَخْلُوقِينَ مِنَ النَّارِ بَلْ مِنَ النُّورِ، فَلِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، ولأن من المشهور الذي لا يَدْفَعُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ رُوحَانِيُّونَ، وَقِيلَ إِنَّمَا سُمُّوا بِذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنَ الرِّيحِ أَوِ الرَّوْحِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ رُسُلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فَاطِرٍ: 1] وَرُسُلُ اللَّهِ مَعْصُومُونَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَامِ: 124] فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ إِبْلِيسُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِكَوْنِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِأَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالِاسْتِثْنَاءُ يُفِيدُ إِخْرَاجَ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ أَوْ لَصَحَّ دُخُولُهُ وَذَلِكَ يُوجِبُ كون مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا يُقَالُ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزُّخْرُفِ: 26، 27] وَقَالَ تَعَالَى: لَا يَسْمَعُونَ فِيها/ لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الْوَاقِعَةِ: 25، 26] وَقَالَ تَعَالَى: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ [النِّسَاءِ: 29] وَقَالَ تَعَالَى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النِّسَاءِ: 92] وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُ كَانَ جِنِّيًّا وَاحِدًا بَيْنَ الْأُلُوفِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَغَلَبُوا عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: فَسَجَدُوا ثُمَّ اسْتُثْنِيَ هُوَ مِنْهُمُ اسْتِثْنَاءَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لِأَنَّا نَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَذَلِكَ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَالدَّلَائِلُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا فِي نَفْيِ كَوْنِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الِاعْتِمَادُ عَلَى الْعُمُومَاتِ، فَلَوْ جَعَلْنَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَزِمَ تَخْصِيصُ مَا عَوَّلْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعُمُومَاتِ، وَلَوْ قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لَزِمَنَا حَمْلُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومَاتِ أَكْثَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَمْلِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ فَكَانَ قَوْلُنَا أولى. وأيضاً فَالِاسْتِثْنَاءُ مُشْتَقٌّ مِنَ الثَّنْيِ وَالصَّرْفِ وَمَعْنَى الصَّرْفِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ حَيْثُ لَوْلَا الصَّرْفُ لَدَخَلَ وَالشَّيْءُ لَا يَدْخُلُ فِي غَيْرِ جِنْسِهِ فَيَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُ جِنِّيٌّ وَاحِدٌ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ فَنَقُولُ إِنَّمَا يَجُوزُ إِجْرَاءُ حكم الكثير على القليل إذا كان ذلك القليل ساقط العبرة غير ملتفت إليه وأما إِذَا كَانَ مُعْظَمُ

الْحَدِيثِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ ذَلِكَ الْوَاحِدِ لَمْ يَجُزْ إِجْرَاءُ حُكْمِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا لَوْ لَمْ يَكُنْ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمَا كَانَ قَوْلُهُ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ مُتَنَاوِلًا لَهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَنَاوِلًا لَهُ لَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ لِلسُّجُودِ إِبَاءً وَاسْتِكْبَارًا وَمَعْصِيَةً وَلَمَا اسْتَحَقَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ، وَحَيْثُ حَصَلَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْخِطَابَ يَتَنَاوَلُهُ وَلَا يَتَنَاوَلُهُ ذَلِكَ الْخِطَابُ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لَا يُقَالُ إِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا أَنَّهُ نَشَأَ مَعَهُمْ وَطَالَتْ مُخَالَطَتُهُ بِهِمْ وَالْتَصَقَ بِهِمْ، فَلَا جَرَمَ يَتَنَاوَلُهُ ذَلِكَ الْخِطَابُ وَأَيْضًا فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ بِلَفْظٍ آخَرَ مَا حَكَاهُ فِي الْقُرْآنِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ لِأَنَّا نَقُولُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُخَالَطَةَ لَا تُوجِبُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إِنَّ خِطَابَ الذُّكُورِ لَا يَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ وَبِالْعَكْسِ مَعَ شَدَّةِ الْمُخَالَطَةِ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ، وَأَيْضًا فَشِدَّةُ الْمُخَالَطَةِ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَ إِبْلِيسَ لَمَّا لَمْ تَمْنَعِ اقْتِصَارَ اللَّعْنِ عَلَى إِبْلِيسَ فَكَيْفَ تَمْنَعُ اقْتِصَارَ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَجَوَابُهُ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ فَلَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ عَقِيبَ قَوْلِهِ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ أَشْعَرَ هَذَا التَّعْقِيبُ بِأَنَّ هَذَا الْإِبَاءَ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ هَذَا الْأَمْرِ لَا بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ أَمْرٍ آخَرَ فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي الْجَانِبَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ. الْمَسْأَلَةُ الرابعة: [الكلام على أن آدم أفضل من الملائكة أو العكس] اعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِنَا يَحْتَجُّونَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ بِسُجُودِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَنَّ آدَمَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَرَأَيْنَا أن نذكر هاهنا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَنَقُولُ: قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ: الْأَنْبِيَاءُ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ بَلِ الْمَلَائِكَةُ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الشِّيعَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَّا وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيِّ مِنْ/ فُقَهَائِنَا وَنَحْنُ نَذْكُرُ مُحَصِّلَ الْكَلَامِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ: أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ فَقَدِ احْتَجُّوا بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الْأَنْبِيَاءِ: 19] إِلَى قَوْلِهِ: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْعِنْدِيَّةِ عِنْدِيَّةَ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بَلْ عِنْدِيَّةُ الْقُرْبِ وَالشَّرَفِ وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَارِدَةً فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْقُرْبَةِ وَالشَّرَفِ حَاصِلٌ لَهُمْ لَا لِغَيْرِهِمْ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ هَذِهِ الْعِنْدِيَّةَ فِي الْآخِرَةِ لِآحَادِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَرِ: 55] وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَاكِيًا عَنْهُ سُبْحَانَهُ: «أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ لِأَجْلِي» وَهَذَا أَكْثَرُ إِشْعَارًا بِالتَّعْظِيمِ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ وَمَا احْتَجُّوا بِهِ مِنَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْعَبْدِ أَدْخَلُ فِي التَّعْظِيمِ، مِنْ كَوْنِ الْعَبْدِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى احْتَجَّ بعد اسْتِكْبَارِهِمْ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ وَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَكْبِرُوا وَلَوْ كَانَ الْبَشَرُ أَفْضَلَ مِنْهُمْ لَمَا تَمَّ هَذَا الِاحْتِجَاجُ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُقَرِّرَ عَلَى رَعِيَّتِهِ وُجُوبَ طَاعَتِهِمْ لَهُ بقول: الْمُلُوكُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ طَاعَتِي، فَمَنْ هَؤُلَاءِ المساكين حتى يتمردوا عن طاعتي أو بالجملة فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْأَقْوَى عَلَى الْأَضْعَفِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَشَدُّ قُوَّةً وَقُدْرَةً مِنَ الْبَشَرِ، وَيَكْفِي فِي صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ هَذَا الْقَدْرُ مِنَ التَّفَاوُتِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ شِدَّةِ قُوَّتِهِمْ وَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى أَجْرَامِ السموات وَالْأَرْضِ وَأَمْنِهِمْ مِنَ الْهَرَمِ وَالْمَرَضِ وَطُولِ أَعْمَارِهِمْ، لَا يَتْرُكُونَ الْعُبُودِيَّةَ لَحْظَةً وَاحِدَةً، وَالْبَشَرُ مَعَ نِهَايَةِ ضَعْفِهِمْ وَوُقُوعِهِمْ فِي أَسْرَعِ

الْأَحْوَالِ فِي الْمَرَضِ وَالْهَرَمِ وَأَنْوَاعِ الْآفَاتِ، أَوْلَى أَنْ لَا يَتَمَرَّدُوا فَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ التَّفَاوُتِ كَافٍ فِي صِحَّةِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، وَلَا نِزَاعَ في حصول التفاوت في هذه الْمَعْنَى، إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ بِمَعْنَى كَثْرَةِ الثَّوَابِ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَلِكُ أَكْثَرَ ثَوَابًا مِنَ الْبَشَرِ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ؟ مَعَ أَنَّ الْمُتَبَادِرَ إِلَى الْفَهْمِ هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ قَالُوا: عِبَادَاتُ الْمَلَائِكَةِ أَشَقُّ مِنْ عِبَادَاتِ الْبَشَرِ، فَتَكُونُ أَكْثَرَ ثَوَابًا مِنْ عِبَادَاتِ الْبَشَرِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهَا أَشَقُّ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَيْلَهُمْ إِلَى التَّمَرُّدِ أَشَدُّ فَتَكُونُ طَاعَتُهُمْ أَشَقَّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ مَيْلَهُمْ إِلَى التَّمَرُّدِ أَشَدُّ، لِأَنَّ الْعَبْدَ السَّلِيمَ مِنَ الْآفَاتِ، الْمُسْتَغْنِيَ عَنْ طَلَبِ الْحَاجَاتِ، يَكُونُ أَمْيَلَ إِلَى النِّعَمِ وَالِالْتِذَاذِ مِنَ الْمَغْمُورِ فِي الْحَاجَاتِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ كَالْمُضْطَرِبِ فِي الرُّجُوعِ إِلَى عِبَادَةِ مَوْلَاهُ وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 65] ومعلوم أن الملائكة سكان السموات وَهِيَ جَنَّاتٌ وَبَسَاتِينُ وَمَوَاضِعُ التَّنَزُّهِ وَالرَّاحَةِ وَهُمْ آمِنُونَ مِنَ الْمَرَضِ وَالْفَقْرِ ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ اسْتِكْمَالِ أَسْبَابِ التَّنَعُّمِ لَهُمْ أَبَدًا مُذْ خُلِقُوا مُشْتَغِلُونَ بِالْعِبَادَةِ خَاشِعُونَ وَجِلُونَ مُشْفِقُونَ كَأَنَّهُمْ مَسْجُونُونَ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى نَعِيمِ الْجِنَانِ/ وَاللَّذَّاتِ بَلْ هُمْ مُقْبِلُونَ عَلَى الطَّاعَاتِ الشَّاقَّةِ مَوْصُوفُونَ بِالْخَوْفِ الشَّدِيدِ وَالْفَزَعِ الْعَظِيمِ وَكَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَبْقَى كَذَلِكَ يَوْمًا وَاحِدًا فَضْلًا عَنْ تِلْكَ الْأَعْصَارِ الْمُتَطَاوِلَةِ وَيُؤَكِّدُهُ قِصَّةُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ أَطْلَقَ لَهُ في جَمِيعَ مَوَاضِعِ الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ: وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما [الْبَقَرَةِ: 35] ثُمَّ مُنِعَ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ حَتَّى وَقَعَ فِي الشَّرِّ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَاعَتَهُمْ أَشَقُّ مِنْ طَاعَاتِ الْبَشَرِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ انْتِقَالَ الْمُكَلَّفِ مِنْ نَوْعِ عِبَادَةٍ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ كَالِانْتِقَالِ مِنْ بُسْتَانٍ إِلَى بُسْتَانٍ، أَمَّا الْإِقَامَةُ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهَا تُورِثُ الْمَشَقَّةَ وَالْمَلَالَةَ وَلِهَذَا السَّبَبِ جُعِلَتِ التَّصَانِيفُ مَقْسُومَةً بِالْأَبْوَابِ وَالْفُصُولِ، وَجُعِلَ كِتَابُ اللَّهِ مَقْسُومًا بِالسُّوَرِ وَالْأَحْزَابِ وَالْأَعْشَارِ وَالْأَخْمَاسِ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُوَاظِبٌ عَلَى عَمَلٍ وَاحِدٍ لَا يَعْدِلُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ عَلَى مَا قَالَ سُبْحَانَهُ: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 20] وَقَالَ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [الصَّافَّاتِ: 165، 166] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ عِبَادَتُهُمْ فِي نِهَايَةِ الْمَشَقَّةِ، إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ عِبَادَاتُهُمْ أَفْضَلَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحَمَزُهَا» أَيْ أَشَقُّهَا، وَقَوْلُهُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «إِنَّمَا أَجْرُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ» وَالْقِيَاسُ أَيْضًا يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعَبْدَ كُلَّمَا كَانَ تَحَمُّلُهُ الْمَشَاقَّ لِأَجْلِ رِضَا مَوْلَاهُ أَكْثَرَ كَانَ أَحَقَّ بِالتَّعْظِيمِ وَالتَّقْدِيمِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ: هَبْ أَنَّ مَشَقَّتَهُمْ أَكْثَرُ فَلِمَ قُلْتُمْ يَجِبُ أن يكون ثوابهم أكثر؟ وَذَلِكَ لِأَنَّا نَرَى بَعْضَ الصُّوفِيَّةِ فِي زَمَانِنَا هَذَا يَتَحَمَّلُونَ فِي طَرِيقِ الْمُجَاهَدَةِ مِنَ الْمَشَاقِّ وَالْمَتَاعِبِ مَا يَقْطَعُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَتَحَمَّلُ بَعْضَ ذَلِكَ ثُمَّ إِنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْهُ وَمِنْ أَمْثَالِهِ، بَلْ يُحْكَى عَنْ عُبَّادِ الْهِنْدِ وَزُهَّادِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ أَنَّهُمْ يَتَحَمَّلُونَ مِنَ الْمَتَاعِبِ فِي التَّوَاضُعِ لِلَّهِ تَعَالَى مَا لَمْ يُحْكَ مِثْلُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مَعَ أَنَّا نَقْطَعُ بِكُفْرِهِمْ، فَعَلِمْنَا أَنَّ كَثْرَةَ الْمَشَقَّةِ فِي الْعِبَادَةِ لَا تَقْتَضِي زِيَادَةَ الثَّوَابِ. وَتَحْقِيقُهُ هُوَ أَنَّ كَثْرَةَ الثَّوَابِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِنَاءً عَلَى الدَّوَاعِي وَالْقُصُودِ، فَلَعَلَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ يَأْتِي بِهِ مُكَلَّفَانِ عَلَى السَّوَاءِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ وَيَسْتَحِقُّ أَحَدُهُمَا بِهِ ثَوَابًا عَظِيمًا وَالْآخَرُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ إلا ثَوَابًا قَلِيلًا، لِمَا أَنَّ إِخْلَاصَ أَحَدِهِمَا أَشَدُّ وَأَكْثَرُ مِنْ إِخْلَاصِ الثَّانِي، فَإِذَنْ كَثْرَةُ الْعِبَادَاتِ وَمَشَقَّتُهَا لَا تَقْتَضِي التَّفَاوُتَ فِي الْفَضْلِ ثُمَّ نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عِبَادَاتِ الْمَلَائِكَةِ أَشَقُّ. أما قوله في الوجه الأول: السموات كَالْبَسَاتِينِ النَّزِهَةِ قُلْنَا مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْعِبَادَةِ فِي الْمَوَاضِعِ الطَّيِّبَةِ أَشَقُّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهَا فِي الْمَوَاضِعِ الرَّدِيئَةِ؟ أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قَدْ يهيأ له أسباب التنعيم فَامْتِنَاعُهُ عَنْهَا مَعَ

تَهْيِئَتِهَا لَهُ أَشَقُّ، وَلَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا أَنَّ أَسْبَابَ الْبَلَاءِ مُجْتَمِعَةٌ عَلَى الْبَشَرِ ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ اجْتِمَاعِهَا عَلَيْهِمْ يَرْضَوْنَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَلَا تُغَيُّرُهُمْ تِلْكَ الْمِحَنُ وَالْآفَاتُ عَنِ الْخُشُوعِ لَهُ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى عُبُودِيَّتِهِ، وَذَلِكَ أَدْخَلُ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْخَدَمَ وَالْعَبِيدَ تَطِيبُ قُلُوبُهُمْ بِالْخِدْمَةِ حَالَ مَا يَجِدُونَ مِنَ النِّعَمِ وَالرَّفَاهِيَةِ وَلَا يَصْبِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَالَ الْمَشَقَّةِ عَلَى الْخِدْمَةِ إِلَّا مَنْ كَانَ فِي نِهَايَةِ الْإِخْلَاصِ فَمَا ذَكَرُوهُ بِالْعَكْسِ أَوْلَى، أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْعِبَادَةِ شَاقٌّ، قُلْنَا: هَذَا مُعَارَضٌ بِوَجْهٍ آخَرَ/ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَادُوا نَوْعًا وَاحِدًا مِنَ الْعِبَادَةِ صَارُوا كَالْمَجْبُورِينَ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي لَا يَقْدِرُونَ عَلَى خِلَافِهِ عَلَى مَا قِيلَ: الْعَادَةُ طَبِيعَةٌ خَامِسَةٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ النَّوْعُ فِي نِهَايَةِ السُّهُولَةِ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْوِصَالِ فِي الصَّوْمِ وَقَالَ: «أَفْضَلُ الصَّوْمِ صَوْمُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ» وَهُوَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا وَيُفْطِرَ يَوْمًا. وَثَالِثُهَا: قَالُوا: عِبَادَاتُ الْمَلَائِكَةِ أَدْوَمُ فَكَانَتْ أَفْضَلَ بَيَانُ أَنَّهَا أَدْوَمُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 20] وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ أَعْمَارُهُمْ مُسَاوِيَةً لِأَعْمَارِ الْبَشَرِ لَكَانَتْ طَاعَاتُهُمْ أَدْوَمَ وَأَكْثَرَ فَكَيْفَ وَلَا نِسْبَةَ لَعُمْرِ كُلِّ الْبَشَرِ إِلَى عُمَرِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَابِ صِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ وَعَلَى هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالٌ: رُوِيَ فِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ قَالَ: قُلْتُ لِكَعْبٍ أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ ثُمَّ قَالَ: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فَاطِرٍ: 1] أَفَلَا تَكُونُ الرِّسَالَةُ مَانِعَةً لَهُمْ عَنْ هَذَا التَّسْبِيحِ؟ وَأَيْضًا قَالَ: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [الْبَقَرَةِ: 161] فَكَيْفَ يَكُونُونَ مُشْتَغِلِينَ بِاللَّعْنِ حَالَ اشْتِغَالِهِمْ بِالتَّسْبِيحِ؟ أَجَابَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ فَقَالَ: التَّسْبِيحُ لَهُمْ كَالتَّنَفُّسِ لَنَا فَكَمَا أَنَّ اشْتِغَالَنَا بالتنفس لا يمنعنا من الكلام فكذلك اشْتِغَالُهُمْ بِالتَّسْبِيحِ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ. وَأَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الِاشْتِغَالُ بِالتَّنَفُّسِ إِنَّمَا لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْكَلَامِ لِأَنَّ آلَةَ التَّنَفُّسِ غَيْرُ آلَةِ الْكَلَامِ أَمَّا اللَّعْنُ وَالتَّسْبِيحُ فَهُمَا مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ فَاجْتِمَاعُهُمَا فِي الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ مُحَالٌ. وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ: أَيُّ اسْتِبْعَادٍ فِي أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى لهم ألسنة كَثِيرَةً يُسَبِّحُونَ اللَّهَ تَعَالَى بِبَعْضِهَا وَيَلْعَنُونَ أَعْدَاءَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَعْضِ الْآخَرِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: اللَّعْنُ هُوَ الطَّرْدُ وَالتَّبْعِيدُ، وَالتَّسْبِيحُ هُوَ الْخَوْضُ فِي ثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا شَكَّ أَنَّ ثَنَاءَ اللَّهِ يَسْتَلْزِمُ تَبْعِيدَ مَنِ اعْتَقَدَ فِي اللَّهِ مَا لَا يَنْبَغِي فَكَانَ ذَلِكَ اللَّعْنُ مِنْ لوازمه. والجواب الثالث: قوله: لا يَفْتُرُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يَفْتُرُونَ عَنِ الْعَزْمِ عَلَى أَدَائِهِ فِي أَوْقَاتِهِ اللَّائِقَةِ بِهِ كَمَا يُقَالُ إِنَّ فُلَانًا مُوَاظِبٌ عَلَى الْجَمَاعَاتِ لَا يَفْتُرُ عَنْهَا لَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ أَبَدًا مُشْتَغِلٌ بِهَا بَلْ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مُوَاظِبٌ عَلَى الْعَزْمِ أَبَدًا عَلَى أَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا وَإِذَا ثبت أن عباداتهم أَدَوْمُ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَفْضَلَ. أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّ الْأَدْوَمَ أَشَقُّ فَيَكُونُ أَفْضَلَ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْحُجَّةِ الثَّانِيَةِ. وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «أَفْضَلُ الْعِبَادِ مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ» وَالْمَلَائِكَةُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَطْوَلُ الْعِبَادِ أَعْمَارًا وَأَحْسَنُهُمْ أَعْمَالًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ الْعِبَادِ وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «الشَّيْخُ فِي قَوْمِهِ كَالنَّبِيِّ فِي أُمَّتِهِ» وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا فِي الْبَشَرِ كَالنَّبِيِّ فِي الْأُمَّةِ وَذَلِكَ يُوجِبُ فَضْلَهُمْ عَلَى الْبَشَرِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَذَا لُقْمَانُ وَكَذَا الْخَضِرُ كَانُوا أَطْوَلَ عُمْرًا مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ وَقَدْ نَجِدُ فِي الْأُمَّةِ مَنْ هُوَ أَطْوَلُ عُمْرًا وَأَشَدُّ اجْتِهَادًا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مِنْهُ أَبْعَدُ فِي الدَّرَجَةِ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى مَا تَحْتَ الثَّرَى. وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ كَثْرَةَ الثَّوَابِ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الدَّوَاعِي وَالْقُصُودِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الطَّاعَةُ الْقَلِيلَةُ تَقَعُ مِنَ الْإِنْسَانِ عَلَى وَجْهٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا ثَوَابًا كَثِيرًا وَالطَّاعَاتِ الْكَثِيرَةَ تَقَعُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَحِقُّ بِهَا/ إِلَّا ثَوَابًا قَلِيلًا. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمْ أَسْبَقُ السَّابِقِينَ فِي كُلِّ الْعِبَادَاتِ، لَا خَصْلَةَ مِنْ خِصَالِ الدِّينِ إِلَّا وَهُمْ أَئِمَّةٌ مُقَدَّمُونَ فِيهَا بَلْ هُمُ الْمُنْشِئُونَ الْعَامِرُونَ لِطُرُقِ الدِّينِ وَالسَّبْقُ فِي العبادة

جِهَةُ تَفْضِيلٍ وَتَعْظِيمٍ. أَمَّا أَوَّلًا فَبِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَا ثَانِيًا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الْوَاقِعَةِ: 10، 11] وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فَهَذَا يَقْتَضِي أن يكون قد حصل الملائكة مِنَ الثَّوَابِ كُلُّ مَا حَصَلَ لِلْأَنْبِيَاءِ مَعَ زِيَادَةِ الثَّوَابِ الَّتِي اسْتَحَقُّوهَا بِأَفْعَالِهِمُ الَّتِي أَتَوْا بِهَا قَبْلَ خَلْقِ الْبَشَرِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْبَشَرِ وَأَوَّلُ مَنْ سَنَّ دَعْوَةَ الْكُفَّارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا بِالْإِجْمَاعِ بِطَلَ مَا ذَكَرُوهُ وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ كَثْرَةَ الثَّوَابِ تَكُونُ بِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى النِّيَّةِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نِيَّةُ الْمُتَأَخِّرِ أَصْفَى فَيَسْتَحِقُّ مِنَ الثَّوَابِ أَكْثَرَ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُتَقَدِّمُ، وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ رُسُلُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرَّسُولُ أَفْضَلُ مِنَ الْأُمَّةِ فَالْمَلَائِكَةُ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. أَمَّا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ رُسُلٌ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النَّجْمِ: 5] وَقَوْلُهُ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: 193، 194] وَأَمَّا أَنَّ الرَّسُولَ أَفْضَلُ مِنَ الْأُمَّةِ فَبِالْقِيَاسِ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مِنَ الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنْ أُمَمِهِمْ فكذا هاهنا. فَإِنْ قِيلَ: الْعُرْفُ أَنَّ السُّلْطَانَ إِذَا أَرْسَلَ وَاحِدًا إِلَى جَمْعٍ عَظِيمٍ لِيَكُونَ حَاكِمًا فِيهِمْ وَمُتَوَلِّيًا لِأُمُورِهِمْ فَذَلِكَ الرَّسُولُ يَكُونُ أَشْرَفَ مِنْ ذَلِكَ الْجَمْعِ، أَمَّا إِذَا أَرْسَلَ وَاحِدًا إِلَى وَاحِدٍ فَقَدْ لَا يَكُونُ الرَّسُولُ أَشْرَفَ مِنَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ كَمَا إِذَا أَرْسَلَ وَاحِدًا مِنْ عَبِيدِهِ إِلَى وَزِيرِهِ فِي مُهِمٍّ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَبْدُ أَشْرَفَ مِنَ الْوَزِيرِ. قُلْنَا، لَكِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَبْعُوثٌ إِلَى كَافَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ فَلَزِمَ عَلَى هَذَا الْقَانُونِ الَّذِي ذَكَرَهُ السَّائِلُ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلَ مِنْهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ يُمْكِنُ تَقْرِيرُهَا عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ رُسُلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فَاطِرٍ: 1] ثُمَّ لَا يَخْلُو الْحَالُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَلَكُ رَسُولًا إِلَى مَلَكٍ آخَرَ أَوْ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْبَشَرِ وعلى التقديرين فَالْمَلَكُ رَسُولٌ وَأُمَّتُهُ رُسُلٌ وَأَمَّا الرَّسُولُ الْبَشَرِيُّ فَهُوَ رَسُولٌ لَكِنَّ أُمَّتَهُ لَيْسُوا بِرُسُلٍ وَالرَّسُولُ الَّذِي كُلُّ أُمَّتِهِ رُسُلٌ أَفْضَلُ مِنَ الرَّسُولِ الَّذِي لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَثَبَتَ فَضْلُ الْمَلَكِ عَلَى الْبَشَرِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَلِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ رَسُولًا إِلَى لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ رَسُولًا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عسكره وكان أفضل منهم فكذا هاهنا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْمَلِكُ إِذَا أَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى بَعْضِ النَّوَاحِي قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ الرَّسُولَ حَاكِمًا عَلَيْهِمْ وَمُتَوَلِّيًا لِأُمُورِهِمْ وَمُتَصَرِّفًا فِي أَحْوَالِهِمْ وَقَدْ لَا يَكُونُ لِأَنَّهُ يَبْعَثُهُ إِلَيْهِمْ لِيُخْبِرَهُمْ عَنْ بَعْضِ الْأُمُورِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُهُ حَاكِمًا عَلَيْهِمْ وَمُتَوَلِّيًا لِأُمُورِهِمْ فَالرَّسُولُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ أَمَّا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ فَالْأَنْبِيَاءُ الْمَبْعُوثُونَ إِلَى أُمَمِهِمْ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَلَا جَرَمَ كَانُوا أَفْضَلَ مِنَ الْأُمَمِ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ بِعْثَةَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنَ/ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَلْزَمَ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَسَادِسُهَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَتْقَى مِنَ الْبَشَرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنَ الْبَشَرِ أَمَّا إِنَّهُمْ أَتْقَى فلأنهم مبرؤون عَنِ الزَّلَّاتِ وَعَنِ الْمَيْلِ إِلَيْهَا لِأَنَّ خَوْفَهُمْ دَائِمٌ وَإِشْفَاقَهُمْ دَائِمٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النَّحْلِ: 50] وَقَوْلِهِ: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 28] وَالْخَوْفُ وَالْإِشْفَاقُ يُنَافِيَانِ الْعَزْمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْبَشَرِ مَا خَلَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ نَوْعِ زَلَّةٍ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَا مِنَّا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا عَصَى أو هم بمعصية غير يحيى بن ذكريا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَثَبَتَ أَنَّ تَقْوَى الْمَلَائِكَةِ أَشَدُّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنَ الْبَشَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 13] فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ خِطَابٌ مَعَ الْآدَمِيِّينَ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَلَائِكَةَ وَأَيْضًا فَالتَّقْوَى مُشْتَقٌّ مِنَ الْوِقَايَةِ وَلَا شَهْوَةَ فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ فَيَسْتَحِيلُ

تَحَقُّقُ التَّقْوَى فِي حَقِّهِمْ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ تَرْتِيبَ الْكَرَامَةِ عَلَى التَّقْوَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَرَامَةَ مُعَلَّلَةٌ بِالتَّقْوَى فَحَيْثُ كَانَتِ التَّقْوَى أَكْثَرَ كَانَتِ الْكَرَامَةُ أَكْثَرَ. وَعَنِ الثَّانِي: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ الشَّهْوَةِ فِي حَقِّهِمْ لَكِنْ لَا شَهْوَةَ لَهُمْ إِلَى الْأَكْلِ وَالْمُبَاشَرَةِ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ شَهْوَةٍ مُعَيَّنَةٍ عَدَمُ مُطْلَقِ الشَّهْوَةِ بَلْ لَهُمْ شَهْوَةُ التَّقَدُّمِ وَالتَّرَفُّعِ وَلِهَذَا قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاءِ: 29] وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَتْقَى مِنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ زِيَادَةِ التَّقْوَى زِيَادَةُ الْفَضْلِ وَتَحْقِيقُهُ مَا قَدَّمْنَا أَنَّ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنْ يَكُونَ إِنْسَانٌ لَمْ تَصْدُرْ عَنْهُ الْمَعْصِيَةُ قَطُّ وَصَدَرَ عَنْهُ مِنَ الطَّاعَاتِ مَا اسْتَحَقَّ بِهِ مِائَةَ جُزْءٍ مِنَ الثَّوَابِ وَإِنْسَانٌ آخَرُ صَدَرَتْ عَنْهُ مَعْصِيَةٌ ثُمَّ أَتَى بِطَاعَةٍ اسْتَحَقَّ بِهَا أَلْفَ جُزْءٍ مِنَ الثَّوَابِ فَيُقَابَلُ مِائَةُ جُزْءٍ مِنَ الثَّوَابِ بِمِائَةِ جُزْءٍ مِنَ الْعِقَابِ فَيَبْقَى لَهُ تِسْعُمِائَةِ جُزْءٍ مِنَ الثَّوَابِ فَهَذَا الْإِنْسَانُ مَعَ صُدُورِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ الْإِنْسَانِ الَّذِي لَمْ تَصْدُرِ الْمَعْصِيَةُ عَنْهُ قَطُّ وَأَيْضًا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَقْوَى الْمَلَائِكَةِ أَشَدُّ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّقْوَى مُشْتَقٌّ مِنَ الْوِقَايَةِ وَالْمُقْتَضِي لِلْمَعْصِيَةِ فِي حَقِّ بَنِي آدَمَ أَكْثَرُ فَكَانَ تَقْوَى الْمُتَّقِينَ مِنْهُمْ أَكْثَرَ، قَوْلُهُ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَهُمْ شَهْوَةُ الرياسة قلنا: هذا لا يضرنا وذلك لِأَنَّ هَذِهِ الشَّهْوَةَ حَاصِلَةٌ لِلْبَشَرِ أَيْضًا وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُمْ أَنْوَاعٌ أُخَرُ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَهِيَ شَهْوَةُ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الشَّهَوَاتُ الصَّارِفَةُ عَنِ الطَّاعَاتِ أَكْثَرَ فِي بَنِي آدَمَ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ تَقْوَى الْمُتَّقِينَ مِنْهُمْ أشد. وسابعها: قوله تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النِّسَاءِ: 172] وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ قَوْلَهُ تعالى: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّأْكِيدِ لِلْأَوَّلِ وَمِثْلُ هَذَا التَّأْكِيدِ إِنَّمَا يَكُونُ بِذِكْرِ الْأَفْضَلِ يُقَالُ هَذِهِ الْخَشَبَةُ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهَا الْعَشَرَةُ وَلَا الْمِائَةُ وَلَا يُقَالُ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهَا الْعَشَرَةُ وَلَا الْوَاحِدُ وَيُقَالُ هَذَا الْعَالِمُ لَا يَسْتَنْكِفُ عَنْ خِدْمَتِهِ الْوَزِيرُ وَلَا الْمَلِكُ وَلَا يُقَالُ لَا يَسْتَنْكِفُ عَنْ خِدْمَتِهِ الْوَزِيرُ وَلَا الْبَوَّابُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ الْآيَةُ إن دَلَّتْ فَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى الْمَسِيحِ/ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ فَضْلُ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسِيحِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ والسلام وبالجملة فلو ثبت لهم أَنَّ الْمَسِيحَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ مَقْصُودُهُمْ حَاصِلًا فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُقِيمُوا الدَّلَالَةَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُمْ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا رَأَيْنَا أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَطَعَ بِفَضْلِ الْمَسِيحِ عَلَى مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ثُمَّ نَقُولُ قَوْلُهُ: «وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ» لَيْسَ فِيهِ إِلَّا وَاوُ الْعَطْفِ وَالْوَاوُ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسِيحَ لَا يَسْتَنْكِفُ وَالْمَلَائِكَةَ لَا يَسْتَنْكِفُونَ فَأَمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسِيحِ فَلَا، وَأَمَّا الْأَمْثِلَةُ الَّتِي ذَكَرُوهَا فَنَقُولُ الْمِثَالُ لَا يَكْفِي فِي إثبات الدعوى الكلية ثم إن ذلك الْمِثَالَ مُعَارَضٌ بِأَمْثِلَةٍ أُخْرَى وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا أَعَانَنِي عَلَى هَذَا الْأَمْرِ زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو فَهَذَا لَا يُفِيدُ كَوْنَ عَمْرٍو أَفْضَلَ مِنْ زَيْدٍ وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ [الْمَائِدَةِ: 2] وَلَمَّا اخْتَلَفَتِ الْأَمْثِلَةُ امْتَنَعَ التَّعْوِيلُ عَلَيْهَا ثُمَّ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ إِذَا قَالَ هَذِهِ الْخَشَبَةُ لَا يَقْدِرُ على حملها الواحد ولا العشرة فنحن نعلم بِعُقُولِنَا أَنَّ الْعَشَرَةَ أَقْوَى مِنَ الْوَاحِدِ فَلَا جَرَمَ عَرَفْنَا أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ ذِكْرِ الثَّانِي الْمُبَالَغَةُ فَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ إِنَّمَا عَرَفْنَاهَا بِهَذَا الطَّرِيقِ لَا مِنْ مُجَرَّدِ اللَّفْظِ فَهَهُنَا فِي الْآيَةِ إِنَّمَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْرِفَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قوله: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ بَيَانُ الْمُبَالِغَةِ لَوْ عَرَفْنَا قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسِيحِ وَحِينَئِذٍ تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثُبُوتِ الْمَطْلُوبِ قَبْلَ هَذَا الدَّلِيلِ وَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ الْمَطْلُوبِ

عَلَى دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يُفِيدُ التَّفَاوُتَ لَكِنَّهُ لَا يُفِيدُ التَّفَاوُتَ فِي كُلِّ الدَّرَجَاتِ بَلْ فِي بَعْضٍ دُونٍ آخَرَ بَيَانُهُ أَنَّهُ إِذَا قِيلَ هَذَا الْعَالِمُ لَا يَسْتَنْكِفُ عَنْ خِدْمَتِهِ الْقَاضِي وَلَا السُّلْطَانُ فَهَذَا لَا يُفِيدُ إِلَّا أَنَّ السُّلْطَانَ أَكْمَلُ مِنَ الْقَاضِي فِي بَعْضِ الْأُمُورِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ وَالْقُوَّةُ وَالِاسْتِيلَاءُ وَالسُّلْطَانُ وَلَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنَ الْقَاضِي فِي الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالْخُضُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ فِي الْقُدْرَةِ وَالْبَطْشِ فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَلَعَ مَدَائِنَ لُوطٍ وَالْبَشَرُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ فِي كَثْرَةِ الثَّوَابِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ مَزِيدِ الْخُضُوعِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَتَمَامُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أَنَّ الْفَضْلَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ كَثْرَةُ الثَّوَابِ وَكَثْرَةُ الثَّوَابِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالْعُبُودِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ نِهَايَةِ التَّوَاضُعِ وَالْخُضُوعِ وَكَوْنُ الْعَبْدِ مَوْصُوفًا بِنِهَايَةِ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يُنَاسِبُ الِاسْتِنْكَافَ عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ وَلَا يُلَائِمُهَا الْبَتَّةَ بَلْ يُنَاقِضُهَا وَيُنَافِيهَا وَإِذَا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ ظَاهِرًا جَلِيًّا كَانَ حَمْلُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ مُخْرِجًا لَهُ عَنِ الْفَائِدَةِ، أَمَّا اتِّصَافُ الشَّخْصِ بِالْقُدْرَةِ الشَّدِيدَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ الْعَظِيمِ فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِلتَّمَرُّدِ وَتَرْكِ الْعُبُودِيَّةِ فَالنَّصَارَى لَمَّا شَاهَدُوا مِنَ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءَ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ أَخْرَجُوهُ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ بِسَبَبِ هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْقُدْرَةِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ عِيسَى لَا يَسْتَنْكِفُ بِسَبَبِ هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْقُدْرَةِ عَنْ عُبُودِيَّتِي بَلْ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ الَّذِينَ هُمْ فَوْقَهُ فِي الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْبَطْشِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى عوالم السموات/ وَالْأَرَضِينَ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَنْتَظِمُ وَجْهُ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ فِي الشِّدَّةِ وَالْبَطْشِ لَكِنَّهَا لَا تَدُلُّ الْبَتَّةَ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ فِي كَثْرَةِ الثَّوَابِ أَوْ يُقَالُ إِنَّهُمْ إِنَّمَا ادَّعَوْا إِلَهِيَّتَهُ لِأَنَّهُ حَصَلَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ فَقِيلَ لَهُمِ الْمَلَكُ مَا حَصَلَ مِنْ أَبٍ وَلَا مِنْ أُمٍّ فَكَانُوا أَعْجَبَ مِنْ عِيسَى فِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَنْكِفُونَ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ وُقُوعُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْمَسِيحِ وَالْمَلَائِكَةِ فِي الْعُبُودِيَّةِ لَا فِي الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْبَطْشِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ مُقَرَّبِينَ وَالْقُرْبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ بَلْ بالدرجة والمنزلة فلما وصفهم هاهنا بِكَوْنِهِمْ مُقَرَّبِينَ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ وُقُوعُ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَسِيحِ فِي دَرَجَاتِ الْفَضْلِ لَا فِي الشِّدَّةِ وَالْبَطْشِ. قُلْنَا إِنْ كَانَ مَقْصُودُكَ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْمَلَائِكَةَ بِكَوْنِهِمْ مُقَرَّبِينَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَسِيحُ كَذَلِكَ فَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لا يدل على نفسه عَمَّا عَدَاهُ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ مُقَرَّبِينَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّفَاوُتُ وَاقِعًا فِي ذَلِكَ فَهَذَا بَاطِلٌ أَيْضًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَسِيحُ وَالْمُقَرَّبُونَ مَعَ اشْتِرَاكِهِمْ فِي صِفَةِ الْقُرْبِ فِي الطَّاعَةِ يَتَبَايَنُونَ بِأُمُورٍ أُخَرَ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بَيَانَ التَّفَاوُتِ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ. سُؤَالٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِ الْآيَةِ فَنُسَلِّمُ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ دُونَ مَجْمُوعِ الْمَلَائِكَةِ فِي الْفَضْلِ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ دُونَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْفَضْلِ. سُؤَالٌ آخَرُ: لَعَلَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْخِطَابَ مَعَ أَقْوَامٍ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ فَأَوْرَدَ الْكَلَامَ عَلَى حَسَبِ مُعْتَقَدِهِمْ كما في فقوله: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: 27] . وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى حكاية عن إبليس قوله: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ [الْأَعْرَافِ: 20] وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَقَرِّرًا عِنْدَ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ لَمْ يَقْدِرْ إِبْلِيسُ عَلَى أَنْ يَغُرَّهُمَا بِذَلِكَ وَلَا كَانَ آدَمُ وَحَوَّاءُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ يَغْتَرَّانِ بِذَلِكَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا قَوْلُ إِبْلِيسَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً، وَلَا يُقَالُ إِنَّ آدَمَ اعْتَقَدَ صِحَّةَ ذَلِكَ وَإِلَّا لَمَا اغْتَرَّ، وَاعْتِقَادُ آدَمَ حُجَّةٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: لَعَلَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْطَأَ فِي ذَلِكَ إِمَّا لِأَنَّ الزَّلَّةَ جَائِزَةٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَوْ لِأَنَّهُ مَا كَانَ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأَيْضًا هَبْ أَنَّهُ حُجَّةٌ لَكِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الزَّلَّةِ نَبِيًّا فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ فَضْلِ الْمَلَكِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَضْلُ الْمَلَكِ عَلَيْهِ

حَالَ مَا صَارَ نَبِيًّا، وَأَيْضًا هَبْ أَنَّ الآية تدل على أن الملك أفضل من الْبَشَرِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْمَرْغُوبَةِ فَلِمَ قُلْتَ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الْمَلَكِ عَلَى الْبَشَرِ فِي بَابِ الثَّوَابِ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ فِي بَابِ الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ، وَفِي بَابِ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، وَفِي بَابِ الصَّفَاءِ وَالنَّقَاءِ عَنِ الْكُدُورَاتِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ التَّرْكِيبَاتِ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ خُلِقُوا مِنَ الْأَنْوَارِ، وَآدَمُ مَخْلُوقٌ مِنَ التُّرَابِ فَلَعَلَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُمْ فِي كَثْرَةِ الثَّوَابِ إِلَّا أَنَّهُ رَغِبَ فِي أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُمْ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي عَدَدْنَاهَا فَكَانَ التَّغْرِيرُ حَاصِلًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِلَّا أَنْ تَنْقَلِبَا مَلَكَيْنِ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ اسْتِدْلَالُكُمْ وَيُحْتَمَلُ/ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْخَالِدِينَ دُونَكُمَا، هَذَا كَمَا يَقُولُ أَحَدُنَا لِغَيْرِهِ مَا نَهَيْتَ أَنْتَ عَنْ كَذَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ فُلَانًا وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ هُوَ فُلَانٌ دُونَكَ وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا أَنْ يَنْقَلِبَ فَيَصِيرَ فُلَانًا، وَلَمَّا كَانَ غَرَضُ إِبْلِيسَ إِيقَاعَ الشُّبْهَةِ بِهِمَا فَمِنْ أَوْكَدِ الشُّبْهَةِ إِيهَامُ أَنَّهُمَا لَمْ يُنْهَيَا وَإِنَّمَا الْمَنْهِيُّ غَيْرُهُمَا، وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنْ آدَمَ فَلِمَ قُلْتُ إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا أَفْضَلُ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمَلَكِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَفْضُولِ كَوْنُهُ أَفْضَلَ مِنَ الْأَفْضَلِ. وَتَاسِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الْأَنْعَامِ: 50] . وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ فِي كَثْرَةِ الْعُلُومِ وَشِدَّةِ الْقُدْرَةِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الِاحْتِمَالِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ طَالَبُوهُ بِالْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ نَحْوَ صُعُودِ السَّمَاءِ وَنَقْلِ الْجِبَالِ وَإِحْضَارِ الْأَمْوَالِ الْعَظِيمَةِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا إِلَّا بِالْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ وَالْقُدْرَةِ الشَّدِيدَةِ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ وَقَوْلَهُ: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ يَدُلُّ عَلَى اعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ ثُمَّ قَوْلُهُ: وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَكَمَا لَا أَدَّعِي الْقُدْرَةَ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ وَالْعِلْمَ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ فَكَذَلِكَ لَا أَدَّعِي قُدْرَةً مِثْلَ قُدْرَةِ الْمَلَكِ وَلَا عِلْمًا مِثْلَ عُلُومِهِمْ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الصُّورَةِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْغَرَضَ وَإِنَّمَا نَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ مَا لَهُمْ مِنَ الصِّفَاتِ وَهَذَا يَكْفِي فِي صِدْقِهِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مِثْلُ مَا لَهُمْ وَلَا تَكُونُ صِفَاتُهُ مُسَاوِيَةً لِصِفَاتِهِمْ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى وُقُوعِ التَّفَاوُتِ فِي كُلِّ الصِّفَاتِ فَإِنَّ عَدَمَ الِاسْتِوَاءِ فِي الْكُلِّ غَيْرٌ، وَحُصُولُ الِاخْتِلَافِ فِي الْكُلِّ غَيْرٌ. وَعَاشِرُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يُوسُفَ: 31] . فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وُقُوعَ التَّشْبِيهِ فِي الصُّورَةِ وَالْجَمَالِ. قُلْنَا: الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ وَاقِعًا فِي السِّيرَةِ لَا فِي الصُّورَةِ لِأَنَّهُ قَالَ: إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ فَشَبَّهَهُ بِالْمَلَكِ الْكَرِيمِ وَالْمَلَكُ إِنَّمَا يَكُونُ كَرِيمًا بِسِيرَتِهِ الْمُرْضِيَةِ لَا بِمُجَرَّدِ صُورَتِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُهُ بِالْمَلَكِ فِي نَفْيِ دَوَاعِي الْبَشَرِ مِنَ الشَّهْوَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى طَلَبِ الْمُشْتَهَى وَإِثْبَاتِ ضِدِّ ذَلِكَ وَهِيَ حَالَةُ الْمَلَكِ وَهِيَ غَضُّ البصر وقمع النفس عَنِ الْمَيْلِ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، عَلَى اخْتِصَاصِ الْمَلَائِكَةِ بِدَرَجَةٍ فَائِقَةٍ عَلَى دَرَجَاتِ الْبَشَرِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَ المرأة فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يوسف: 32] كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّ مُرَادَ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِنَّ: إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ تَعْظِيمُ حَالِ يُوسُفَ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ لَا فِي السِّيرَةِ، لِأَنَّ ظُهُورَ عُذْرِهَا فِي شِدَّةِ عِشْقِهَا، إِنَّمَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ فَرْطِ يُوسُفَ فِي الْجَمَالِ لَا بِسَبَبِ فَرْطِ زُهْدِهِ وَوَرَعِهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ شِدَّةَ عِشْقِهَا لَهُ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْمَلَكِ في الإعراض عن المشتهيات، فلم قلت يَجِبْ أَنْ يَكُونَ يُوسُفُ عَلَيْهِ/ السَّلَامُ أَقَلَّ ثواباً من الملائكة؟ وذلك لأنه

لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ عَدَمَ الْتِفَاتِ الْبَشَرِ إِلَى الْمَطَاعِمِ وَالْمَنَاكِحِ أَقَلُّ مِنْ عَدَمِ الْتِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ إِلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إن ذلك يوجب بالمزيد فِي الْفَضْلِ بِمَعْنَى كَثْرَةِ الثَّوَابِ؟ فَإِنْ تَمَسَّكُوا بِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَقَلَّ مَعْصِيَةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ، فَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. الْحُجَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 70] وَمَخْلُوقَاتُ اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا الْمُكَلَّفُونَ أَوْ مَنْ عَدَاهُمْ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ، أَمَّا الْمُكَلَّفُونَ فَهُمْ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ الْمَلَائِكَةُ وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِنْسَ أَفْضَلُ مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، فَلَوْ كَانَ أَفْضَلَ مِنَ الْمَلَكِ أَيْضًا لَزِمَ حينئذٍ أَنْ يَكُونَ الْبَشَرُ أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ الْمَخْلُوقَاتِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 70] فَائِدَةٌ: بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى جَمِيعِ مَنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا، وَلَمَّا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ حَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ تَمَسُّكٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، لِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ أَفْضَلَ مِنَ الْبَاقِي إِلَّا بِوَاسِطَةِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّ جِنْسَ الْمَلَائِكَةِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ بَنِي آدَمَ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ أَحَدِ الْمَجْمُوعَيْنِ أَفْضَلَ مِنَ الْمَجْمُوعِ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَجْمُوعِ الْأَوَّلِ أَفْضَلَ مِنَ الْمَجْمُوعِ الثَّانِي، فَإِنَّا إِذَا قَدَّرْنَا عَشَرَةً مِنَ الْعَبِيدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسَاوِي مِائَةَ دِينَارٍ، وَعَشَرَةً أُخْرَى حَصَلَ فِيهِمْ عَبْدٌ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِينَارٍ وَالتِّسْعَةُ الْبَاقِيَةُ يُسَاوِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِينَارًا. فَالْمَجْمُوعُ الْأَوَّلُ أَفْضَلُ مِنَ الْمَجْمُوعِ الثَّانِي، إِلَّا أَنَّهُ حَصَلَ فِي الْمَجْمُوعِ الثَّانِي وَاحِدٌ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْمَجْمُوعِ الأول، فكذا هاهنا وأيضاً فقوله: وَفَضَّلْناهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ، وَفَضَّلْنَاهُمْ فِي الْكَرَامَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْكَرَامَةِ حُسْنَ الصُّورَةِ وَمَزِيدَ الذَّكَاءِ وَالْقُدْرَةَ عَلَى الْأَعْمَالِ الْعَجِيبَةِ وَالْمُبَالَغَةَ فِي النَّظَافَةِ وَالطَّهَارَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَلَكَ أَزْيَدُ مِنَ الْبَشَرِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْمَلَكَ أَكْثَرُ ثَوَابًا مِنَ الْبَشَرِ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [لُقْمَانَ: 10] لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ عَمَدٌ غَيْرُ مَرْئِيٍّ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ [الْمُؤْمِنُونَ: 117] يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ إِلَهٌ آخَرُ لَهُ بُرْهَانٌ فَكَذَلِكَ هاهنا، الْحُجَّةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَا اسْتَغْفَرُوا لِأَحَدٍ إِلَّا بَدَءُوا بِالِاسْتِغْفَارِ لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ آدَمُ: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: 23] وَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً [نُوحٍ: 28] وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ [إبراهيم: 41] وَقَالَ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشُّعَرَاءِ: 83] وَقَالَ مُوسَى: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي [الْأَعْرَافِ: 151] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [مُحَمَّدٍ: 19] وَقَالَ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الْفَتْحِ: 2] أَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَغْفِرُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ طَلَبُوا الْمَغْفِرَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ من البشر يدل عليه تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ [غَافِرٍ: 7] وَقَالَ: وَيَسْتَغْفِرُونَ/ لِلَّذِينَ آمَنُوا لو كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ لَبَدَءُوا فِي ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْغَيْرِ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْوَجْهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمُ الزلة ألبتة وأن البشر قد صردت الزَّلَّاتُ عَنْهُمْ، لَكِنَّا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ التَّفَاوُتَ فِي ذَلِكَ لَا يُوجِبُ التَّفَاوُتَ فِي الْفَضِيلَةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّ اسْتِغْفَارَهُمْ لِلْبَشَرِ كَالْعُذْرِ عَمَّنْ طَعَنُوا فِيهِمْ بِقَوْلِهِمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30] الْحُجَّةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ:

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ [الِانْفِطَارِ: 10] وَهَذَا عَامٌّ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ فَدَخَلَ فِيهِ الْأَنْبِيَاءُ وَغَيْرُهُمْ وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ أَفْضَلَ مِنَ الْبَشَرِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمْ حَفَظَةً لِبَنِي آدَمَ وَالْحَافِظُ لِلْمُكَلَّفِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَبْعَدَ عَنِ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ مِنَ الْمَحْفُوظِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ أَبْعَدَ عَنِ الْمَعَاصِي وَأَقْرَبَ إِلَى الطَّاعَاتِ مِنَ الْبَشَرِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي مَزِيدَ الْفَضْلِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ كِتَابَتَهُمْ حُجَّةً لِلْبَشَرِ فِي الطَّاعَاتِ وَعَلَيْهِمْ فِي الْمَعَاصِي، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ قَوْلِ الْبَشَرِ وَلَوْ كَانَ الْبَشَرُ أَعْظَمَ حَالًا مِنْهُمْ لَكَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ أَمَّا قَوْلُهُ الْحَافِظُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ مِنَ الْمَحْفُوظِ فَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّ الْمَلِكَ قَدْ يُوَكِّلُ بَعْضَ عَبِيدِهِ عَلَى وَلَدِهِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْحَافِظُ أَشْرَفَ مِنَ الْمَحْفُوظِ هُنَاكَ، أَمَّا قَوْلُهُ: جَعَلَ شَهَادَتَهُمْ نَافِذَةً عَلَى الْبَشَرِ فَضَعِيفٌ، لِأَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَكُونُ أَدْوَنَ حَالًا مِنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النَّبَأِ: 38] وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ أَحْوَالِهِمُ الْمُبَالَغَةُ فِي شَرْحِ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَلَالِهِ وَلَوْ كَانَ فِي الْخَلْقِ طَائِفَةٌ أُخْرَى قِيَامُهُمْ وتضرعهم أقوى في الْإِنْبَاءِ عَنْ عَظَمَةِ اللَّهِ وَكِبْرِيَائِهِ مِنْ قِيَامِهِمْ لَكَانَ ذِكْرُهُمْ أَوْلَى فِي هَذَا الْمَقَامِ، ثُمَّ كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ عَظَمَةَ ذَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ بِذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ فَكَذَا بَيَّنَ عَظَمَتَهُ فِي الدُّنْيَا بِذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الزُّمَرِ: 75] وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَزْيَدُ حَالًا مِنَ الْبَشَرِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ هِيَ قُوَّتُهُمْ وَشِدَّتُهُمْ وَبَطْشُهُمْ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ إِنَّ السُّلْطَانَ لَمَّا جَلَسَ وَقَفَ حَوْلَ سَرِيرِهِ مُلُوكُ أَطْرَافِ الْعَالَمِ خَاضِعِينَ خَاشِعِينَ فَإِنَّ عَظَمَةَ السُّلْطَانِ إِنَّمَا تُشْرَحُ بِذَلِكَ ثُمَّ إِنْ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَكْرَمُ عِنْدَ السلطان من ولده فكذا هاهنا. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [الْبَقَرَةِ: 285] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ من الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ ثُمَّ بَدَأَ بِنَفْسِهِ وَثَنَّى بِالْمَلَائِكَةِ وَثَلَّثَ بِالْكُتُبِ وَرَبَّعَ بِالرُّسُلِ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آلِ عِمْرَانَ: 18] وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الْأَحْزَابِ: 56] وَالتَّقْدِيمُ فِي الذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى التَّقْدِيمِ فِي الدَّرَجَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ تَقْدِيمَ الْأَدْوَنِ عَلَى الْأَشْرَفِ فِي الذِّكْرِ قَبِيحٌ عُرْفًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا شَرْعًا، أَمَّا أَنَّهُ قَبِيحٌ عُرْفًا فَلِأَنَّ الشَّاعِرَ قَالَ: - / عُمَيْرَةَ وَدِّعْ إِنْ تَجَهَّزْتَ غَادِيًا ... كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَوْ قَدَّمْتَ السَّلَامَ لَأَجَزْتُكَ، وَلِأَنَّهُمْ لَمَّا كَتَبُوا كِتَابَ الصُّلْحِ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَقَعَ التَّنَازُعُ فِي تَقْدِيمِ الِاسْمِ وَكَذَا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيمَ فِي الذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى مَزِيدِ الشَّرَفِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ فِي الْعُرْفِ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الشَّرْعِ كَذَلِكَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فهو عند الله حَسَنٌ» فَثَبَتَ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الرُّسُلِ فِي الذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِهِمْ فِي الْفَضْلِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ إِنْ كَانَ عَلَى الْوَاوِ، فَالْوَاوُ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى التَّقْدِيمِ فِي الذِّكْرِ يَنْتَقِضُ بِتَقْدِيمِ سُورَةِ تَبَّتْ عَلَى سُورَةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ فَجَعَلَ صَلَوَاتِ الْمَلَائِكَةِ كَالتَّشْرِيفِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَلَائِكَةِ أَشْرَفَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولقائل أن يقول هذا ينتقض بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا

عَلَيْهِ فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ وَلَمْ يَلْزَمْ كَوْنُ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلَ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَذَا فِي الْمَلَائِكَةِ. الْحُجَّةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أَنْ نَتَكَلَّمَ فِي جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَقُولُ: إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلُ مِنْ مُحَمَّدٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التَّكْوِيرِ: 19- 22] وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِسِتٍّ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، أَحَدُهَا: كَوْنُهُ رَسُولًا لِلَّهِ. وَثَانِيهَا: كَوْنُهُ كَرِيمًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَثَالِثُهَا: كَوْنُهُ ذَا قُوَّةٍ عِنْدَ اللَّهِ، وَقُوَّتُهُ عِنْدَ اللَّهِ لَا تَكُونُ إِلَّا قُوَّتَهُ عَلَى الطَّاعَاتِ بِحَيْثُ لَا يَقْوَى عَلَيْهَا غَيْرُهُ. وَرَابِعُهَا: كَوْنُهُ مَكِينًا عِنْدَ اللَّهِ. وَخَامِسُهَا: كَوْنُهُ مطاعاً في عالم السموات. وسادسها: كونه أميناً في كل الطاعات مبرءاً عَنْ أَنْوَاعِ الْخِيَانَاتِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعْدَ أَنْ وَصَفَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَالِيَةِ وَصَفَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بقوله: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ مُسَاوِيًا لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صِفَاتِ الْفَضْلِ أَوْ مُقَارِنًا لَهُ لَكَانَ وَصْفُ مُحَمَّدٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ بَعْدَ وَصْفِ جِبْرِيلَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ نَقْصًا مِنْ مَنْصِبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَحْقِيرًا لِشَأْنِهِ وَإِبْطَالًا لِحَقِّهِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى اللَّهِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ إِلَّا مِقْدَارُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا نِسْبَةَ بَيْنَ جِبْرِيلَ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي الْفَضْلِ وَالدَّرَجَةِ. فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ صِفَةً لِمُحَمَّدٍ لَا لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. قُلْنَا لأن قوله: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ يُبْطِلُ ذَلِكَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّا تَوَافَقْنَا جَمِيعًا عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَائِلُ أُخْرَى سِوَى كَوْنِهِ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْفَضَائِلِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِذَنْ عَدَمُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى تِلْكَ الْفَضَائِلَ هاهنا لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهَا بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَضَائِلَ/ سِوَى الأمور المذكورة هاهنا فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِسَبَبِ تِلْكَ الْفَضَائِلِ الَّتِي هِيَ غير مذكورة هاهنا يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ سبحانه كما وصف جبريل عليه السلام هاهنا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ السِّتِّ وَصَفَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا بِصِفَاتٍ سِتٍّ «1» وَهِيَ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [الْأَحْزَابِ: 45، 46] فَالْوَصْفُ الْأَوَّلُ: كَوْنُهُ نَبِيًّا وَالثَّانِي: كَوْنُهُ رَسُولًا وَالثَّالِثُ: كَوْنُهُ شَاهِدًا وَالرَّابِعُ: كَوْنُهُ مُبَشِّرًا وَالْخَامِسُ: كَوْنُهُ نَذِيرًا وَالسَّادِسُ: كَوْنُهُ دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِذْنِهِ وَالسَّابِعُ: كَوْنُهُ سِرَاجًا وَالثَّامِنُ: كَوْنُهُ مُنِيرًا وَبِالْجُمْلَةِ فَإِفْرَادُ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ بِالْوَصْفِ لَا يَدُلُّ الْبَتَّةَ عَلَى انْتِفَاءِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ عَنِ الثَّانِي. الْحُجَّةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: الْمَلَكُ أَعْلَمُ مِنَ الْبَشَرِ وَالْأَعْلَمُ أَفْضَلُ فَالْمَلَكُ أَفْضَلُ إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْمَلَكَ أَعْلَمُ مِنَ الْبَشَرِ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُعَلِّمًا لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النَّجْمِ: 5] وَالْمُعَلِّمُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ مِنَ الْمُتَعَلِّمِ، وَأَيْضًا فَالْعُلُومُ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: الْعُلُومُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا بِالْعُقُولِ كَالْعِلْمِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، فَلَا يَجُوزُ وُقُوعُ التَّقْصِيرِ فِيهَا لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ التَّقْصِيرَ فِي ذَلِكَ جَهْلٌ وَهُوَ قَادِحٌ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الْعِلْمُ بِكَيْفِيَّةِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا فِيهَا مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْعِلْمُ بِأَحْوَالِ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وطباق السموات وَأَصْنَافِ الْمَلَائِكَةِ وَأَنْوَاعِ الْحَيَوَانَاتِ فِي الْمَغَاوِرِ وَالْجِبَالِ وَالْبِحَارِ فَلَا شَكَّ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْلَمُ بِهَا، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَطْوَلُ عُمْرًا وَأَكْثَرُ مُشَاهَدَةً لَهَا فَكَانَ عِلْمُهُ بِهَا أَكْثَرَ وَأَتَمَّ. وَثَانِيهَا: الْعُلُومُ الَّتِي لَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِالْوَحْيِ لَا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إِلَّا من جهة جبريل عليه السلام

_ (1) المناسب أن يقول بصفات ثمان أو (ست بل زاد عليها) لأن الصفات التي وصف بها الرسول عليه السلام ليست ستاً وإنما هي ثمان.

فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَضِيلَةٌ فِيهَا عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَمَّا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ كَانَ الْوَاسِطَةَ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ فَكَانَ عَالِمًا بِكُلِّ الشَّرَائِعِ الْمَاضِيَةِ وَالْحَاضِرَةِ، وَهُوَ أَيْضًا عَالِمٌ بِشَرَائِعِ الْمَلَائِكَةِ وَتَكَالِيفِهِمْ وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَكْثَرَ عِلْمًا مِنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزُّمَرِ: 9] . وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنَ الْبَشَرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمُ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكْثَرُ عِلْمًا مِنْهُمْ بدليل قوله تعالى: يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ [البقرة: 33] ثُمَّ إِنْ سَلَّمْنَا مَزِيدَ عِلْمِهِمْ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي كَثْرَةَ الثَّوَابِ، فَإِنَّا نَرَى الرَّجُلَ الْمُبْتَدِعَ مُحِيطًا بِكَثِيرٍ مِنْ دَقَائِقِ الْعِلْمِ وَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنَ الثَّوَابِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ ثَوَابُهُ أَكْثَرَ وَسَبَبُهُ مَا نَبَّهْنَا مِرَارًا عَلَيْهِ أَنَّ كَثْرَةَ الثَّوَابِ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِحَسَبِ الْإِخْلَاصِ فِي الْأَفْعَالِ وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّ إِخْلَاصَ الْمَلَائِكَةِ أَكْثَرُ. الْحُجَّةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاءِ: 29] فَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُمْ/ بَلَغُوا فِي التَّرَفُّعِ وَعُلُوِّ الدَّرَجَةِ إِلَى أَنَّهُمْ لَوْ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى لَمَا خَالَفُوهُ إِلَّا بِادِّعَاءِ الْإِلَهِيَّةِ لَا بِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ مُتَابَعَةِ الشَّهَوَاتِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ جَلَالِهِمْ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا نِزَاعَ فِي نِهَايَةِ جَلَالِهِمْ، أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ بَلَغُوا فِي التَّرَفُّعِ وَعُلُوِّ الدَّرَجَةِ إِلَى حَيْثُ لَوْ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى لَمَا خَالَفُوهُ إِلَّا فِي ادِّعَاءِ الْإِلَهِيَّةِ فَهَذَا مُسَلَّمٌ وَذَلِكَ لَأَنَّ علومهم كثيرة وقواهم شديدة وهم مبرؤون عَنْ شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَوْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ لَمْ يُخَالِفْ إِلَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْتُهُ لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَكْثَرُ ثَوَابًا مِنَ الْبَشَرِ فَإِنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ لَيْسَ إِلَّا ذَاكَ. الْحُجَّةُ الْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رِوَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: «وَإِذَا ذَكَرَنِي عَبْدِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ من ملائه» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَأَ الْأَعْلَى أَشْرَفُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا خَيْرٌ وَاحِدٌ وَأَيْضًا فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَلَأَ الْمَلَائِكَةِ أَفْضَلُ مِنْ مَلَأِ الْبَشَرِ وَمَلَأُ الْبَشَرِ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَوَامِّ لَا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمَلَكِ أَفْضَلَ مِنْ عَامَّةِ الْبَشَرِ كَوْنُهُمْ أَفْضَلَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، هَذَا آخِرُ الْكَلَامِ فِي الدَّلَائِلِ النَّقْلِيَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ السَّمَاوِيَّةَ الْمُسَمَّاةَ بِالْمَلَائِكَةِ أَفْضَلُ مِنَ الْأَرْوَاحِ النَّاطِقَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَاعْتَمَدُوا فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى وُجُوهٍ عَقْلِيَّةٍ نَحْنُ نَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَالُوا الْمَلَائِكَةُ ذَوَاتُهَا بَسِيطَةٌ مُبَرَّأَةٌ عَنِ الْكَثْرَةِ وَالْبَشَرُ مُرَكَّبٌ مِنَ النَّفْسِ وَالْبَدَنِ وَالنَّفْسُ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْقُوَى الْكَثِيرَةِ وَالْبَدَنُ مُرَكَّبٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ الْكَثِيرَةِ وَالْبَسِيطُ خَيْرٌ مِنَ الْمُرَكَّبِ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْعَدَمِ لِلْمُرَكَّبِ أَكْثَرُ مِنْهَا لِلْبَسِيطِ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ فَرْدَانِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ صِفَاتِ جَلَالِهِ وَنُعُوتِ كِبْرِيَائِهِ. الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَسِيطَ أَشْرَفُ مِنَ الْمُرَكَّبِ وَذَلِكَ لِأَنَّ جَانِبَ الرُّوحَانِيِّ أَمْرٌ وَاحِدٌ وَجَانِبَ الْجُسْمَانِيِّ أَمْرَانِ رُوحُهُ وَجِسْمُهُ فَهُوَ مِنْ حَيْثُ الرُّوحِ مِنْ عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ وَالْأَنْوَارِ وَمِنْ حَيْثُ الْجَسَدِ مِنْ عَالَمِ الْأَجْسَادِ فَهُوَ لِكَوْنِهِ مُسْتَجْمِعًا لِلرُّوحَانِيِّ وَالْجُسْمَانِيِّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ الرُّوحَانِيِّ الصِّرْفِ وَالْجُسْمَانِيِّ الصِّرْفِ وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي أَنْ جَعَلَ الْبَشَرَ الْأَوَّلَ مَسْجُودًا لِلْمَلَائِكَةِ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْمَلَكِيَّةَ مُجَرَّدَاتٌ مُفَارِقَةٌ عَنِ الْعَلَائِقِ الْجُسْمَانِيَّةِ فَكَأَنَّ اسْتِغْرَاقَهَا فِي مَقَامَاتِهَا النُّورَانِيَّةِ عَاقَهَا عَنْ تَدْبِيرِ هَذَا الْعَالَمِ الْجَسَدَانِيِّ أَمَّا النُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ النَّبَوِيَّةُ فَإِنَّهَا قَوِيَتْ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْعَالَمَيْنِ فَلَا دَوَامَ تَرَقِّيهَا فِي مَعَارِجِ الْمَعَارِفِ وَعَوَالِمِ الْقُدْسِ يَعُوقُهَا عَنْ تَدْبِيرِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَلَا الْتِفَاتُهَا إِلَى مَنَاظِمِ عَالَمِ الْأَجْسَامِ يَمْنَعُهَا عَنِ الِاسْتِكْمَالِ فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ فَكَانَتْ قُوَّتُهَا وَافِيَةً بِتَدْبِيرِ الْعَالَمَيْنِ مُحِيطَةً بِضَبْطِ الْجِنْسَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَشْرَفَ وَأَعْظَمَ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: الْجَوَاهِرُ الرُّوحَانِيَّةُ مُبَرَّأَةٌ عَنِ الشَّهْوَةِ الَّتِي هِيَ مَنْشَأُ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ مَقْرُونَةٌ بِهَا وَالْخَالِي عَنْ مَنْبَعِ الشَّرِّ أَشْرَفُ مِنَ الْمُبْتَلَى بِهِ.

الِاعْتِرَاضُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الْخِدْمَةِ مَعَ كَثْرَةِ الْمَوَانِعِ وَالْعَوَائِقِ أَدَلُّ عَلَى الْإِخْلَاصِ مِنَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ مِنَ الْعَوَائِقِ وَالْمَوَانِعِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَقَامَ الْبَشَرِ فِي الْمَحَبَّةِ أَعْلَى وَأَكْمَلُ وَأَيْضًا فَالرُّوحَانِيَّاتُ لَمَّا أَطَاعَتْ خَالِقَهَا لَمْ تَكُنْ طَاعَتُهَا مُوجِبَةً قَهْرَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ/ هُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ، أَمَّا الْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ لَمَّا أَطَاعَتْ خَالِقَهَا لَزِمَ مِنْ تِلْكَ الطَّاعَةِ قَهْرُ الْقُوَى الشَّهْوَانِيَّةِ وَالْغَضَبِيَّةِ وَهِيَ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ فَكَانَتْ طَاعَاتُهُمْ أَكْمَلَ وَأَيْضًا فَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ دَرَجَاتِ الرُّوحَانِيَّاتِ حِينَ قَالَتْ: لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا أَكْمَلُ مِنْ دَرَجَاتِهِمْ حِينَ قَالَتْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30] وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِسَبَبِ الِانْكِسَارِ الْحَاصِلِ مِنَ الزَّلَّةِ وَهَذَا فِي الْبَشَرِ أَكْمَلُ وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِكَايَةً عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى: «لَأَنِينُ الْمُذْنِبِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ زَجَلِ الْمُسَبِّحِينَ» الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: الرُّوحَانِيَّاتُ مُبَرَّأَةٌ عَنْ طَبِيعَةِ الْقُوَّةِ فَإِنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُمْكِنًا لَهَا بِحَسَبِ أَنْوَاعِهَا الَّتِي فِي أَشْخَاصِهَا فَقَدْ خَرَجَ إِلَى الْفِعْلِ وَالْأَنْبِيَاءُ لَيْسُوا كَذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِائَةَ مَرَّةٍ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ» مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشُّورَى: 52] وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا بِالْفِعْلِ التَّامِّ أَشْرَفُ مِمَّا بِالْقُوَّةِ. الِاعْتِرَاضُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا بِالْفِعْلِ التَّامِّ فَلَعَلَّهَا بِالْقُوَّةِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَلِهَذَا قِيلَ إِنَّ تَحْرِيكَاتِهَا لِلْأَفْلَاكِ لِأَجْلِ اسْتِخْرَاجِ التَّعَقُّلَاتِ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ وَهَذِهِ التَّحْرِيكَاتُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا كَالتَّحْرِيكَاتِ الْعَارِضَةِ لِلْأَرْوَاحِ الْحَامِلَةِ لِقُوَى الْفِكْرِ وَالتَّخَيُّلِ عِنْدَ مُحَاوَلَةِ اسْتِخْرَاجِ التَّعَقُّلَاتِ الَّتِي هِيَ بِالْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: الرُّوحَانِيَّاتُ أَبَدِيَّةُ الْوُجُودِ مُبَرَّأَةٌ عَنْ طَبِيعَةِ التَّغَيُّرِ وَالْقُوَّةُ وَالنُّفُوسُ النَّاطِقَةُ الْبَشَرِيَّةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. الِاعْتِرَاضُ: الْمُقَدِّمَتَانِ مَمْنُوعَتَانِ أَلَيْسَ أَنَّ الرُّوحَانِيَّاتِ مُمْكِنَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا وَاجِبَةُ الْوُجُودِ بِمَادَّتِهَا فَهِيَ مُحْدَثَةٌ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ حَادِثَةٌ، بَلْ هِيَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَزَلِيَّةٌ وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: هَذِهِ الْأَرْوَاحُ كَانَتْ سَرْمَدِيَّةً مَوْجُودَةً كَالْأَظْلَالِ تَحْتَ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ إِلَّا أَنَّ الْمُبْدِئَ الْأَوَّلَ أَمَرَهَا حَتَّى نَزَلَتْ إِلَى عَالَمِ الْأَجْسَامِ وَسَكَنَاتِ الْمَوَادِّ، فَلَمَّا تَعَلَّقَتْ بِهَذِهِ الْأَجْسَامِ عَشِقَتْهَا. وَاسْتَحْكَمَ إِلْفُهَا بِهَا فَبَعَثَ مِنْ تِلْكَ الْأَظْلَالِ أَكْمَلَهَا وَأَشْرَفَهَا إِلَى هَذَا الْعَالَمِ لِيَحْتَالَ فِي تَخْلِيصِ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ عَنْ تِلْكَ السَّكَنَاتِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ بَابِ الْحَمَامَةِ الْمُطَوَّقَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي «كِتَابِ كَلَيْلَةَ وَدِمْنَةَ» . الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: الرُّوحَانِيَّاتُ نُورَانِيَّةٌ عُلْوِيَّةٌ لَطِيفَةٌ، وَالْجُسْمَانِيَّاتُ ظُلْمَانِيَّةٌ سُفْلِيَّةٌ كَثِيفَةٌ وَبِدَائِيَّةُ الْعُقُولِ تَشْهَدُ بِأَنَّ النُّورَ أَشْرَفُ مِنَ الظُّلْمَةِ، وَالْعُلْوِيَّ خَيْرٌ مِنَ السُّفْلِيِّ، وَاللَّطِيفَ أَكْمَلُ مِنَ الْكَثِيفِ. الِاعْتِرَاضُ: هَذَا كُلُّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَادَّةِ وَعِنْدَنَا سَبَبُ الشَّرَفِ الِانْقِيَادُ لِأَمْرِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى مَا قَالَ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاءِ: 85] وَادِّعَاءُ الشَّرَفِ بِسَبَبِ شَرَفِ الْمَادَّةِ هُوَ حُجَّةُ اللَّعِينِ الْأَوَّلِ وَقَدْ قِيلَ لَهُ مَا قِيلَ، الحجة السادسة: الروحانيات السماوية فضلت الجسمانية بِقُوَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. أَمَّا الْعِلْمُ فَلِاتِّفَاقِ الْحُكَمَاءِ عَلَى إِحَاطَةِ الرُّوحَانِيَّاتِ السَّمَاوِيَّةِ بِالْمُغَيَّبَاتِ وَاطِّلَاعِهَا عَلَى مُسْتَقْبَلِ الْأُمُورِ، وَأَيْضًا فَعُلُومُهُمْ فِعْلِيَّةٌ فِطْرِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ دَائِمَةٌ. وَعُلُومُ الْبَشَرِ عَلَى الضِّدِّ فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَلِأَنَّهُمْ مُوَاظِبُونَ عَلَى الْخِدْمَةِ دَائِمًا يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ لَا يَلْحَقُهُمْ نَوْمُ الْعُيُونِ وَلَا سَهْوُ الْعُقُولِ وَلَا غَفْلَةُ الْأَبْدَانِ طَعَامُهُمُ التَّسْبِيحُ وَشَرَابُهُمُ التَّقْدِيسُ وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّهْلِيلُ وَتَنَفُّسُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَفَرْحَتُهُمْ بِخِدْمَةِ اللَّهِ مُتَجَرِّدُونَ مِنَ الْعَلَائِقِ الْبَدَنِيَّةِ/ غَيْرُ مَحْجُوبِينَ بِشَيْءٍ مِنَ الْقُوَى الشَّهْوَانِيَّةِ وَالْغَضَبِيَّةِ فَأَيْنَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ مِنَ الْآخَرِ: الِاعْتِرَاضُ: لَا نِزَاعَ فِي كُلِّ ما ذكرتموه إلا أن هاهنا دَقِيقَةً وَهِيَ أَنَّ الْمُوَاظِبَ عَلَى تَنَاوُلِ الْأَغْذِيَةِ اللَّطِيفَةِ لَا يَلْتَذُّ بِهَا كَمَا يَلْتَذُّ الْمُبْتَلَى بِالْجُوعِ أَيَّامًا كَثِيرَةً فَالْمَلَائِكَةُ بِسَبَبِ مُوَاظَبَتِهِمْ عَلَى تِلْكَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ لَا يَجِدُونَ مِنَ اللَّذَّةِ مِثْلَ مَا يَجِدُ الْبَشَرُ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ مَحْجُوبِينَ بِالْعَلَائِقِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالْحُجُبِ الظُّلْمَانِيَّةِ فَهَذِهِ الْمَزِيَّةُ مِنَ اللَّذَّةِ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهَا البشر

وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الأحزاب: 72] فإن إدراك الملايم بعد الابتلاء بالمنافي ألذ من إدراك الملايم عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ وَلِذَلِكَ قَالَتِ الْأَطِبَّاءُ: إِنَّ الْحَرَارَةَ فِي حُمَّى الدِّقِّ أَشَدُّ مِنْهَا فِي حُمَّى الْغِبِّ لَكِنَّ حَرَارَةَ الْحُمَّى فِي الدِّقِّ إِذَا دَامَتْ وَاسْتَقَرَّتْ بَطَلَ الشُّعُورُ بِهَا فَهَذِهِ الْحَالَةُ لَمْ تَحْصُلْ لِلْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ كَمَالَاتِهَا دَائِمَةٌ وَلَمْ تَحْصُلْ لِسَائِرِ الْأَجْسَامِ لِأَنَّهَا كَانَتْ خَالِيَةً عَنِ الْقُوَّةِ الْمُسْتَعِدَّةِ لِإِدْرَاكِ الْمُجَرَّدَاتِ فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِمَّنْ يَقْوَى عَلَى تَحَمُّلِ هَذِهِ الْأَمَانَةِ إِلَّا الْبَشَرُ. الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: الرُّوحَانِيَّاتُ لَهُمْ قُوَّةٌ عَلَى تَصْرِيفِ الْأَجْسَامِ وَتَقْلِيبِ الْأَجْرَامِ وَالْقُوَّةُ الَّتِي هِيَ لَهُمْ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْقُوَى الْمِزَاجِيَّةِ حَتَّى يَعْرِضَ لَهَا كَلَالٌ وَلُغُوبٌ، ثُمَّ إِنَّكَ تَرَى الْخَامَةَ اللَّطِيفَةَ مِنَ الزَّرْعِ فِي بَدْءِ نُمُوِّهَا تَفْتَقُ الْحَجَرَ وَتَشُقُّ الصَّخْرَ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِقُوَّةٍ نَبَاتِيَّةٍ فَاضَتْ عَلَيْهَا مِنْ جَوَاهِرِ الْقُوَى السَّمَاوِيَّةِ فَمَا ظَنُّكَ بِتِلْكَ الْقُوَى السَّمَاوِيَّةِ وَالرُّوحَانِيَّاتُ هِيَ الَّتِي تَتَصَرَّفُ فِي الْأَجْسَامِ السُّفْلِيَّةِ تَقْلِيبًا وَتَصْرِيفًا لَا يَسْتَثْقِلُونَ حَمْلَ الْأَثْقَالِ وَلَا يَسْتَصْعِبُونَ تَحْرِيكَ الْجِبَالَ فَالرِّيَاحُ تَهُبُّ بَتَحْرِيكَاتِهَا وَالسَّحَابُ تَعْرِضُ وَتَزُولُ بِتَصْرِيفِهَا وَكَذَا الزَّلَازِلُ تَقَعُ فِي الْجِبَالِ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا وَالشَّرَائِعُ نَاطِقَةٌ بِذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً [الذَّارِيَاتِ: 4] وَالْعُقُولُ أَيْضًا دَالَّةٌ عَلَيْهِ وَالْأَرْوَاحُ السُّفْلِيَّةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَأَيْنَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ مِنَ الْآخَرِ. وَالَّذِي يُقَالُ إِنَّ الشَّيَاطِينَ الَّتِي هِيَ الْأَرْوَاحُ الْخَبِيثَةُ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ مَمْنُوعٌ وَبِتَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّ قُدْرَةَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى ذَلِكَ أَشَدُّ وَأَكْمَلُ وَلِأَنَّ الْأَرْوَاحَ الطَّيِّبَةَ الْمَلَكِيَّةَ تَصْرِفُ قُوَاهَا إِلَى مَنَاظِمِ هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَمَصَالِحِهَا وَالْأَرْوَاحَ الْخَبِيثَةَ تَصْرِفُ قُوَاهَا إِلَى الشُّرُورِ فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ. الِاعْتِرَاضُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَّفِقَ فِي النُّفُوسِ النَّاطِقَةِ الْبَشَرِيَّةِ نَفْسٌ قَوِيَّةٌ كَامِلَةٌ مُسْتَعْلِيَةٌ عَلَى الْأَجْرَامِ الْعُنْصُرِيَّةِ بِالتَّقْلِيبِ وَالتَّصْرِيفِ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِ مِثْلِ هَذِهِ النَّفْسِ. الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: الرُّوحَانِيَّاتُ لَهَا اخْتِيَارَاتٌ فَائِضَةٌ مِنْ أَنْوَارِ جَلَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى الْخَيْرَاتِ مَقْصُورَةٌ عَلَى نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ لَا يَشُوبُهَا الْبَتَّةَ شَائِبَةُ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ بِخِلَافِ اخْتِيَارَاتِ الْبَشَرِ فَإِنَّهَا مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ جِهَتِي الْعُلُوِّ وَالسَّفَالَةِ وَطَرَفَيِ الْخَيْرِ وَمَيْلُهُمْ إِلَى الْخَيْرَاتِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِإِعَانَةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ وَيَهْدِيهِ. الِاعْتِرَاضُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَالْمَجْبُورِينَ عَلَى طَاعَاتِهِمْ وَالْأَنْبِيَاءَ مُتَرَدِّدُونَ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَالْمُخْتَارُ أَفْضَلُ مِنَ الْمَجْبُورِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ التَّرَدُّدَ مَا دَامَ يَبْقَى اسْتَحَالَ/ صُدُورُ الْفِعْلِ وَإِذَا حَصَلَ التَّرْجِيحُ الْتَحَقَ بِالْمُوجِبِ فَكَانَ لِلْأَنْبِيَاءِ خَيْرَاتٌ بِالْقُوَّةِ وَبِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ تَصِيرُ خَيْرَاتٍ بِالْفِعْلِ، أَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَهُمْ خَيْرَاتٌ بِالْفِعْلِ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ ذَاكَ الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: الرُّوحَانِيَّاتُ مُخْتَصَّةٌ بِالْهَيَاكِلِ وَهِيَ السَّيَّارَاتُ السَّبْعَةُ وَسَائِرُ الثَّوَابِتِ وَالْأَفْلَاكُ كَالْأَبْدَانِ وَالْكَوَاكِبُ كَالْقُلُوبِ وَالْمَلَائِكَةُ كَالْأَرْوَاحِ فَنِسْبَةُ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَرْوَاحِ كَنِسْبَةِ الْأَبْدَانِ إِلَى الْأَبْدَانِ ثُمَّ إِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اخْتِلَافَاتِ أَحْوَالِ الْأَفْلَاكِ مَبَادِئُ لِحُصُولِ الِاخْتِلَافَاتِ فِي أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ مِنْ حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ اتِّصَالَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنَ التَّسْدِيسِ وَالتَّثْلِيثِ وَالتَّرْبِيعِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُقَارَبَةِ وَكَذَا مَنَاطِقُ الْأَفْلَاكِ تَارَةً تَصِيرُ مُنْطَبِقَةً بَعْضُهَا عَلَى الْبَعْضِ وَذَلِكَ هُوَ الرَّتْقُ فَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ عِمَارَةُ الْعَالَمِ وَأُخْرَى يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا عَنِ الْبَعْضِ فَتَنْتَقِلُ الْعِمَارَةُ مِنْ جَانِبٍ هَذَا الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ مُسْتَوْلِيَةً عَلَى هَيَاكِلَ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ فَكَذَا أَرْوَاحُ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ لَا سِيَّمَا وَقَدْ دَلَّتِ الْمَبَاحِثُ الْحِكْمِيَّةُ وَالْعُلُومُ الْفَلْسَفِيَّةُ عَلَى أن أرواح هذا العالم معلومات لِأَرْوَاحِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَكِمَالَاتِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ مَعْلُولَاتٌ لِكِمَالَاتِ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ وَنِسْبَةُ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ إِلَى تِلْكَ الْأَرْوَاحِ كَالشُّعْلَةِ الصَّغِيرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُرْصِ الشَّمْسِ وَكَالْقَطْرَةِ الصَّغِيرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَحْرِ الْأَعْظَمِ فَهَذِهِ هِيَ الْآثَارُ وَهُنَاكَ الْمَبْدَأُ وَالْمَعَادُ فَكَيْفَ يَلِيقُ الْقَوْلُ بِادِّعَاءِ الْمُسَاوَاةِ فَضْلًا عَنِ الزِّيَادَةِ. الِاعْتِرَاضُ: كُلُّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُنَازَعٌ فِيهِ لَكِنْ بتقدير تسليمه

فَالْبَحْثُ بَاقٍ بَعْدُ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْوُصُولَ إِلَى اللَّذِيذِ بَعْدَ الْحِرْمَانِ أَلَذُّ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ فَهَذِهِ الْحَالَةُ غَيْرُ حَاصِلَةٍ إِلَّا لِلْبَشَرِ. الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: قَالُوا الرُّوحَانِيَّاتُ الْفَلَكِيَّةُ مَبَادِئُ لِرُوحَانِيَّاتِ هَذَا الْعَالَمِ وَمُعَادِلُهَا وَالْمَبْدَأُ أَشْرَفُ مِنْ ذِي الْمَبْدَأِ لِأَنَّ كُلَّ كَمَالٍ يَحْصُلُ لِذِي الْمَبْدَأِ فَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْمَبْدَأِ وَالْمُسْتَفِيدُ أَقَلُّ حَالًا مِنَ الْوَاجِبِ وَكَذَلِكَ الْمَعَادُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَشْرَفَ، فَعَالَمُ الرُّوحَانِيَّاتِ عَالِمُ الْكَمَالِ فَالْمَبْدَأُ مِنْهَا وَالْمَعَادُ إِلَيْهَا وَالْمَصْدَرُ عَنْهَا وَالْمَرْجِعُ إِلَيْهَا وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَرْوَاحَ إِنَّمَا نَزَلَتْ مِنْ عَالَمِهَا حَتَّى اتَّصَلَتْ بِالْأَبْدَانِ فَتَوَسَّخَتْ بِأَوْضَارِ الْأَجْسَامِ ثُمَّ تَطَهَّرَتْ عَنْهَا بِالْأَخْلَاقِ الزَّكِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الْمُرْضِيَةِ حَتَّى انْفَصَلَتْ عَنْهَا إِلَى عَالَمِهَا الْأَوَّلِ فَالنُّزُولُ هُوَ النَّشْأَةُ الْأُولَى وَالصُّعُودُ هُوَ النَّشْأَةُ الْأُخْرَى فَعُرِفَ أَنَّ الرُّوحَانِيَّاتِ أَشْرَفُ مِنَ الْأَشْخَاصِ الْبَشَرِيَّةِ. الِاعْتِرَاضُ: هَذِهِ الْكَلِمَاتُ بَنَيْتُمُوهَا عَلَى نَفْيِ الْمَعَادِ وَنَفْيِ حَشْرِ الْأَجْسَادِ وَدُونَهُمَا خَرْطُ الْقَتَادِ. الْحُجَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَلَيْسَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمُ اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ إِلَّا بَعْدَ الْوَحْيِ فَهَذَا اعْتِرَافٌ بِأَنَّ عُلُومَهُمْ مُسْتَفَادَةٌ مِنْهُمْ أَلَيْسَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ هُمُ الَّذِينَ يُعِينُونَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ كَمَا فِي قَلْعِ مَدَائِنِ قَوْمِ لُوطٍ وَفِي يَوْمِ بَدْرٍ وَهُمُ الَّذِينَ يَهْدُونَهُمْ إِلَى مَصَالِحِهِمْ كَمَا فِي قِصَّةِ نُوحٍ فِي نَجْرِ السَّفِينَةِ فَإِذَا اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَكُمْ أَنْ فَضَّلْتُمُوهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ مَعَ تَصْرِيحِهِمْ فَافْتِقَارُهُمْ إِلَيْهِمْ فِي كُلِّ الْأُمُورِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: التَّقْسِيمُ الْعَقْلِيُّ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَحْيَاءَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ خَيِّرَةً مَحْضَةً أَوْ شِرِّيرَةً مَحْضَةً أَوْ تَكُونَ خَيِّرَةً مِنْ وَجْهِ شِرِّيرَةً مِنْ/ وَجْهٍ فَالْخَيْرُ الْمَحْضُ هُوَ النَّوْعُ الْمَلَكِيُّ وَالشِّرِّيرُ الْمَحْضُ هُوَ النَّوْعُ الشَّيْطَانِيُّ وَالْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ هُوَ النَّوْعُ الْبَشَرِيُّ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ النَّاطِقُ الْمَائِتُ وَعَلَى جَانِبَيْهِ قِسْمَانِ آخَرَانِ: أَحَدُهُمَا: النَّاطِقُ الَّذِي لَا يَكُونُ مِائَتَا وَهُوَ الْمَلَكُ: وَالْآخَرُ الْمَائِتُ الَّذِي لَا يَكُونُ نَاطِقًا وَهُمُ الْبَهَائِمُ فَقِسْمَةُ الْعَقْلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَدْ دَلَّتْ عَلَى كَوْنِ الْبَشَرِ فِي الدَّرَجَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ مِنَ الْكَمَالِ وَالْمَلَكُ يَكُونُ فِي الطَّرَفِ الْأَقْصَى مِنَ الْكَمَالِ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْبَشَرَ أَفْضَلُ قَلْبٌ لِلْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَمُنَازَعَةٌ فِي تَرْتِيبِ الْوُجُودِ. الِاعْتِرَاضُ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْفَضْلِ هُوَ كَثْرَةُ الثَّوَابِ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْمَلَكَ أَكْثَرُ ثَوَابًا فَهَذَا مُحَصِّلُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الْوُجُوهِ الْعَقْلِيَّةِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِفَضْلِ الأنبياء على الملائكة بأمور: أحدهما: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَثَبَتَ أَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ كَالْقِبْلَةِ بَلْ كَانَتِ السَّجْدَةُ فِي الْحَقِيقَةِ لَهُ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ آدَمُ أَفْضَلَ مِنْهُمْ لِأَنَّ السُّجُودَ نِهَايَةُ التَّوَاضُعِ وَتَكْلِيفُ الْأَشْرَفِ بِنِهَايَةِ التَّوَاضُعِ لِلْأَدْوَنِ مُسْتَقْبَحٌ فِي الْعُقُولِ فَإِنَّهُ يَقْبُحُ أَنْ يُؤْمَرَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنْ يَخْدِمَ أَقَلَّ النَّاسِ بِضَاعَةً فِي الْفِقْهِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَفْضَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلِيفَةً لَهُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ خِلَافَةُ الولاية لقوله تعالى: يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص: 26] وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَعْلَى النَّاسِ مَنْصِبًا عِنْدَ الْمَلِكِ مَنْ كَانَ قَائِمًا مَقَامَهُ فِي الْوِلَايَةِ وَالتَّصَرُّفِ، وَكَانَ خَلِيفَةً لَهُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَشْرَفَ الْخَلَائِقِ وَهَذَا مُتَأَكِّدٌ بِقَوْلِهِ: وسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ [الحج: 65] ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا التَّعْمِيمَ بِقَوْلِهِ: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَةِ: 29] فَبَلَغَ آدَمُ فِي مَنْصِبِ الْخِلَافَةِ إِلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فَالدُّنْيَا خُلِقَتْ مُتْعَةً لِبَقَائِهِ وَالْآخِرَةُ مَمْلَكَةٌ لِجَزَائِهِ وَصَارَتِ الشَّيَاطِينُ مُلْعُونِينَ بِسَبَبِ التَّكَبُّرِ عَلَيْهِ وَالْجِنُّ رَعِيَّتُهُ وَالْمَلَائِكَةُ فِي طَاعَتِهِ وَسُجُودِهِ وَالتَّوَاضُعِ لَهُ ثُمَّ صَارَ بَعْضُهُمْ حَافِظِينَ لَهُ وَلِذُرِّيَّتِهِ وَبَعْضُهُمْ مُنْزِلِينَ لِرِزْقِهِ وَبَعْضُهُمْ مُسْتَغْفِرِينَ لِزَلَّاتِهِ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ مَعَ هَذِهِ الْمَنَاصِبِ الْعَالِيَةِ: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ [ق: 35] فَإِذَنْ لَا غَايَةَ لِهَذَا الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَعْلَمَ وَالْأَعْلَمُ أَفْضَلُ، أَمَّا إِنَّهُ أَعْلَمُ فَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا طَلَبَ مِنْهُمْ عِلْمَ الْأَسْمَاءِ: قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا

مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [الْبَقَرَةِ: 32] فعند ذلك قال الله تعالى: يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَالِمًا بِمَا لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِهِ وَأَمَّا أَنَّ الْأَعْلَمَ أَفْضَلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزُّمَرِ: 9] وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 33] وَالْعَالَمُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ لِأَنَّ اشْتِقَاقَ الْعَالَمِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعِلْمِ فَكُلُّ مَا كَانَ عَلَمًا عَلَى اللَّهِ وَدَالًّا عَلَيْهِ فَهُوَ عَالَمٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مُحْدَثٍ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَكُلُّ مُحْدَثٍ فَهُوَ عَالَمٌ فَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ منعاه أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اصْطَفَاهُمْ عَلَى كُلِّ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ/ فَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اصْطَفَى هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ. فَإِنْ قِيلَ: يَشْكُلُ هَذَا بقوله تعالى: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [الْبَقَرَةِ: 47] فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَذَا هاهنا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 42] وَلَمْ يَلْزَمْ كَوْنُهَا أفضل من فاطمة عليها السلام فكذا هاهنا قُلْنَا، الْإِشْكَالُ مَدْفُوعٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ خِطَابٌ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا أَسْلَافَ الْيَهُودِ وَحِينَ مَا كَانُوا مَوْجُودِينَ لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ مَوْجُودًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْعَالَمِينَ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يَكُونُ مِنَ الْعَالَمِينَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِنِ اصْطِفَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا حِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اصْطَفَى اللَّهُ تَعَالَى هَؤُلَاءِ عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ قد دخلها التخصيص لقيام الدلالة وهاهنا فَلَا دَلِيلَ يُوجِبُ تَرْكَ الظَّاهِرِ فَوَجَبَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْعُمُومِ. وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 107] وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَالَمِينَ فَكَانَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَحْمَةً لَهُمْ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ أَفْضَلَ مِنْهُمْ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ عِبَادَةَ الْبَشَرِ أَشَقُّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهَا أَشَقُّ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآدَمِيَّ لَهُ شَهْوَةٌ دَاعِيَةٌ إِلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْمَلَكُ لَيْسَتْ لَهُ هَذِهِ الشَّهْوَةُ وَالْفِعْلُ مَعَ الْمُعَارِضِ الْقَوِيِّ أَشَدُّ مِنْهُ بِدُونِ الْمُعَارِضِ فَإِنْ قِيلَ الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ شَهْوَةٌ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْمَعْصِيَةِ وَهِيَ شَهْوَةُ الرِّيَاسَةِ قُلْنَا هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ لَكِنَّ الْبَشَرَ لَهُمْ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الشَّهَوَاتِ مِثْلُ شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ وَالرِّيَاسَةِ وَالْمَلَكُ لَيْسَ لَهُ مِنْ تِلْكَ الشَّهَوَاتِ إِلَّا شَهْوَةً وَاحِدَةً وَهِيَ شَهْوَةُ الرِّيَاسَةِ وَالْمُبْتَلَى بِأَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الشَّهَوَاتِ تَكُونُ الطَّاعَةُ عَلَيْهِ أَشَقَّ مِنَ الْمُبْتَلَى بِشَهْوَةٍ وَاحِدَةٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَعْمَلُونَ إِلَّا بِالنَّصِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا [الْبَقَرَةِ: 32] وَقَالَ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 27] وَالْبَشَرُ لَهُمْ قُوَّةُ الِاسْتِنْبَاطِ وَالْقِيَاسِ قَالَ تعالى: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الْحَشْرِ: 2] وَقَالَ مُعَاذٌ اجْتَهَدْتُ بِرَأْيِي فَصَوَّبَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذَلِكَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَمَلَ بِالِاسْتِنْبَاطِ أَشَقُّ مِنَ الْعَمَلِ بِالنَّصِّ الثَّالِثُ: أَنَّ الشُّبُهَاتِ لِلْبَشَرِ أَكْثَرُ مِمَّا لِلْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الشُّبُهَاتِ الْقَوِيَّةِ كَوْنَ الْأَفْلَاكِ وَالْأَنْجُمِ السَّيَّارَةِ أَسْبَابًا لِحَوَادِثِ هَذَا الْعَالَمِ فَالْبَشَرُ احْتَاجُوا إِلَى دَفْعِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَالْمَلَائِكَةُ لَا يَحْتَاجُونَ لِأَنَّهُمْ سَاكِنُونَ فِي عَالَمِ السموات فَيُشَاهِدُونَ كَيْفِيَّةَ افْتِقَارِهَا إِلَى الْمُدَبِّرِ الصَّانِعِ، الرَّابِعُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى وَسْوَسَةِ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ مُسَلَّطٌ عَلَى الْبَشَرِ فِي الْوَسْوَسَةِ وَذَلِكَ تَفَاوُتٌ عَظِيمٌ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ طَاعَتَهُمْ أَشَقُّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ ثَوَابًا بِالنَّصِّ فقوله عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ أَحَمَزُهَا» أَيْ أَشَقُّهَا وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَلِأَنَّا نَعْلَمُ

أَنَّ الشَّيْخَ الَّذِي لَمْ يَبْقَ لَهُ مَيْلٌ إِلَى/ النِّسَاءِ إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الزِّنَا فَلَيْسَتْ فَضِيلَتُهُ كَفَضِيلَةِ مَنْ يَمْتَنِعُ عَنْهُنَّ مَعَ الْمَيْلِ الشديد والشوق العظيم فكذا هاهنا وَسَابِعُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ عُقُولًا بِلَا شَهْوَةٍ وَخَلَقَ الْبَهَائِمَ شَهَوَاتٍ بِلَا عَقْلٍ وَخَلَقَ الْآدَمِيَّ وَجَمَعَ فِيهِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَصَارَ الْآدَمِيُّ بِسَبَبِ الْعَقْلِ فَوْقَ الْبَهِيمَةِ بِدَرَجَاتٍ لَا حَدَّ لَهَا فَوَجَبَ أَنْ يَصِيرَ بِسَبَبِ الشَّهْوَةِ دُونَ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ وَجَدْنَا الْآدَمِيَّ إِذَا غَلَبَ هَوَاهُ عَقْلَهُ حَتَّى صَارَ يَعْمَلُ بِهَوَاهُ دُونَ عَقْلِهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ دُونَ الْبَهِيمَةِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الْأَعْرَافِ: 179] وَلِذَلِكَ صَارَ مَصِيرُهُمْ إِلَى النَّارِ دُونَ الْبَهَائِمِ فَيَجِبُ أَنْ يُقَالَ إِذَا غَلَبَ عَقْلُهُ هَوَاهُ حَتَّى صَارَ لَا يَعْمَلُ بِهَوَى نَفْسِهِ شَيْئًا بَلْ يَعْمَلُ بِهَوَى عَقْلِهِ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الْمَلَائِكَةِ اعْتِبَارًا لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ بِالْآخَرِ. وَثَامِنُهَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ حَفَظَةٌ وَبَنُو آدَمَ مَحْفُوظُونَ وَالْمَحْفُوظُ أَعَزُّ وَأَشْرَفُ مِنَ الْحَافِظِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَنُو آدَمَ أَكْرَمَ وَأَشْرَفَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَتَاسِعُهَا: مَا رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَذَ بِرِكَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَرْكَبَهُ عَلَى الْبُرَاقِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْهُ وَلَمَّا وَصَلَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى بَعْضِ الْمَقَامَاتِ تَخَلَّفَ عَنْهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: «لَوْ دَنَوْتُ أُنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتُ» وَعَاشِرُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام: «إن لي وزيرين في السماء وزيرين فِي الْأَرْضِ، أَمَّا اللَّذَانِ فِي السَّمَاءِ فَجِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَأَمَّا اللَّذَانِ فِي الْأَرْضِ فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَالْمَلِكِ وَجِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ كَانَا كَالْوَزِيرَيْنِ لَهُ وَالْمَلِكُ أَفْضَلُ مِنَ الوزير فلزم أن يكون محمداً أَفْضَلَ مِنَ الْمَلَكِ. هَذَا تَمَامُ الْقَوْلِ فِي دَلَائِلِ مَنْ فَضَّلَ الْبَشَرَ عَلَى الْمَلَكِ. أَجَابَ القائلون بتفضيل الملك [أما] عَنِ الْحُجَّةِ الْأُولَى: فَقَالُوا قَدْ سَبَقَ بَيَانُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنَ السُّجُودِ هُوَ التَّوَاضُعُ لَا وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَّمَ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ وَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ لَكِنَّهُ قَالَ السُّجُودُ لِلَّهِ وَآدَمُ قِبْلَةُ السُّجُودِ وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَا إِشْكَالَ أَمَّا إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ السُّجُودَ كَانَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ مِنَ الْأَشْرَفِ فِي حَقِّ الشَّرِيفِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ قَدْ تَقْتَضِي ذَلِكَ كَثِيرًا مِنْ حُبِّ الْأَشْرَفِ وَإِظْهَارِ النِّهَايَةِ فِي الِانْقِيَادِ وَالطَّاعَةِ فَإِنَّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُجْلِسَ أَقَلَّ عَبِيدِهِ فِي الصَّدْرِ وَأَنْ يَأْمُرَ الْأَكَابِرَ بِخِدْمَتِهِ وَيَكُونُ غَرَضُهُ مِنْ ذَلِكَ إِظْهَارَ كَوْنِهِمْ مُطِيعِينَ لَهُ فِي كُلِّ الْأُمُورِ مُنْقَادِينَ لَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الأمر هاهنا كَذَلِكَ وَأَيْضًا أَلَيْسَ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَأَنَّ أَفْعَالَهُ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ وَلِذَلِكَ قُلْنَا إِنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي خَلْقِ الْكُفْرِ فِي الْإِنْسَانِ ثُمَّ فِي تَعْذِيبِهِ عَلَيْهِ أَبَدَ الْآبَادِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ فِي أَنْ يَأْمُرَ الْأَعْلَى بِالسُّجُودِ لِلْأَدْنَى وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: فَجَوَابُهَا أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا جُعِلَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَشْرَفَ مِنْ كُلِّ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ أَشْرَفَ مِنْ مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ لَمْ يَجْعَلْ وَاحِدًا مِنْ مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ خَلِيفَةً لَهُ فِي الْأَرْضِ قُلْنَا لِوُجُوهٍ/ مِنْهَا أَنَّ الْبَشَرَ لَا يُطِيقُونَ رُؤْيَةَ الْمَلَائِكَةِ وَمِنْهَا أَنَّ الْجِنْسَ إِلَى الْجِنْسِ أَمْيَلُ وَمِنْهَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ فِي نِهَايَةِ الطَّهَارَةِ وَالْعِصْمَةِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الْأَنْعَامِ: 9] وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُمْ أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَالِمًا بِتِلْكَ اللُّغَاتِ وَهُمْ مَا عَلِمُوهَا لكن لعلهم كونوا عَالِمِينَ بِسَائِرِ الْأَشْيَاءِ مَعَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ عَالِمًا بِهَا وَالَّذِي يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّا تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ عَالِمًا بِهَذِهِ اللُّغَاتِ بِأَسْرِهَا وَأَيْضًا فَإِنَّ إِبْلِيسَ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ قُرْبَ الشَّجَرَةِ مِمَّا يُوجِبُ خُرُوجَ آدَمَ عَنِ الْجَنَّةِ وَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا ذَلِكَ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ كَوْنُ إِبْلِيسَ أَفْضَلَ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْهُدْهُدُ قَالَ لِسُلَيْمَانَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ الْهُدْهُدُ أَفْضَلَ مِنْ سُلَيْمَانَ سَلَّمْنَا أَنَّهُ

كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لَمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ طَاعَاتِهِمْ أَكْثَرُ إِخْلَاصًا مِنْ طَاعَةِ آدَمَ فَلَا جَرَمَ كَانَ ثَوَابُهُمْ أَكْثَرَ. أَمَّا الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: فَهِيَ أَقْوَى الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ. أَمَّا الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 107] فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً لَهُمْ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْهُمْ كَمَا في قوله: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الرُّومِ: 50] وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَحْمَةً لَهُمْ مِنْ وَجْهٍ وَهُمْ يَكُونُونَ رَحْمَةً لَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَأَمَّا الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: وَهِيَ أَنَّ عِبَادَةَ الْبَشَرِ أَشَقُّ فَهَذَا يَنْتَقِضُ بِمَا أَنَّا نَرَى الْوَاحِدَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ يَتَحَمَّلُ فِي طَرِيقِ الْمُجَاهَدَةِ مِنَ الْمَشَاقِّ وَالْمَتَاعِبِ مَا يَقْطَعُ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَتَحَمَّلْ مِثْلَهَا مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنَ الْكُلِّ وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ كَثْرَةَ الثَّوَابِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي النِّيَّةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ أَسْهَلَ إِلَّا أَنَّ إِخْلَاصَ الْآتِي بِهِ أَكْثَرُ فَكَانَ الثَّوَابُ عَلَيْهِ أكثر. وما الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: فَهِيَ جَمْعٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ مِنْ غَيْرِ جَامِعٍ. وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: وَهِيَ أَنَّ الْمَحْفُوظَ أَشْرَفُ مِنَ الْحَافِظِ فَهَذَا مَمْنُوعٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ قَدْ يَكُونُ الْحَافِظُ أَشْرَفَ مِنَ الْمَحْفُوظِ كَالْأَمِيرِ الْكَبِيرِ الْمُوَكَّلِ عَلَى الْمُتَّهَمِينَ مِنَ الْجُنْدِ. وَأَمَّا الْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ: فَهُمَا مِنْ بَابِ الْآحَادِ وَهُمَا مُعَارَضَانِ بِمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ شِدَّةِ تَوَاضُعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا آخِرُ الْمَسْأَلَةِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا اسْتَثْنَى إِبْلِيسَ مِنَ السَّاجِدِينَ فَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ كَانَ مَعْذُورًا فِي تَرْكِ السُّجُودِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ مَعَ الْقُدْرَةِ وَزَوَالِ الْعُذْرِ بِقَوْلِهِ أَبَى لِأَنَّ الْإِبَاءَ هُوَ الِامْتِنَاعُ مَعَ الِاخْتِيَارِ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ لَا يُقَالُ لَهُ إِنَّهُ أَبَى ثُمَّ قَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَلَا يَنْضَمُّ إِلَيْهِ الْكِبْرُ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِبَاءَ كَانَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِكْبَارِ بِقَوْلِهِ وَاسْتَكْبَرَ ثُمَّ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ الْإِبَاءُ وَالِاسْتِكْبَارُ مَعَ عَدَمِ الْكُفْرِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ كَفَرَ بِقَوْلِهِ: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قَالَ الْقَاضِي هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ أَهْلِ الْجَبْرِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْجُدْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى السُّجُودِ لِأَنَّ عِنْدَهُمُ الْقُدْرَةَ/ عَلَى الْفِعْلِ مُنْتَفِيَةٌ وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الشَّيْءِ يُقَالُ إِنَّهُ أَبَاهُ، وَثَانِيهَا: أَنَّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْفِعْلِ لَا يُقَالُ اسْتَكْبَرَ بِأَنْ لَمْ يَفْعَلْ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْفِعْلِ لَا يُقَالُ اسْتَكْبَرَ عَنِ الْفِعْلِ وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِالِاسْتِكْبَارِ إِذَا لَمْ يَفْعَلْ مَعَ كَوْنِهِ لَوْ أَرَادَ الْفِعْلَ لَأَمْكَنَهُ. وَثَالِثُهَا: قَالَ تَعَالَى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا بِأَنْ لَا يَفْعَلَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ اسْتِكْبَارَهُ وَامْتِنَاعَهُ خَلْقٌ مِنَ اللَّهِ فِيهِ فَهُوَ بِأَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مَذْمُومًا قَالَ وَمَنِ اعْتَقَدَ مَذْهَبًا يُقِيمُ الْعُذْرَ لِإِبْلِيسَ فَهُوَ خَاسِرُ الصَّفْقَةِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ هَذَا الْقَاضِيَ لَا يَزَالُ يُطْنِبُ فِي تَكْثِيرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَنَقُولُ لَهُ نَحْنُ أَيْضًا: صُدُورُ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَنْ إِبْلِيسَ عَنْ قَصْدٍ وَدَاعٍ أَوْ لَا عَنْ قَصْدٍ وَدَاعٍ؟ فَإِنْ كَانَ عَنْ قَصْدٍ وَدَاعٍ فَمِنْ أَيْنَ ذَلِكَ الْقَصْدُ؟ أَوَقَعَ لَا عَنْ فَاعِلٍ أَوْ عَنْ فَاعِلٍ هُوَ الْعَبْدُ أَوْ عَنْ فَاعِلٍ هُوَ اللَّهُ؟ فَإِنْ وَقَعَ لَا عَنْ فَاعِلٍ كَيْفَ يُثْبِتُ الصَّانِعُ وَإِنْ وَقَعَ عَنِ الْعَبْدِ فَوُقُوعِ ذَلِكَ الْقَصْدِ عَنْهُ إِنْ كَانَ عَنْ قَصْدٍ آخَرَ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَإِنْ كَانَ لَا عَنْ قَصْدٍ فَقَدْ وَقَعَ الْفِعْلُ لَا عَنْ قَصْدٍ وَسَنُبْطِلُهُ وَإِنْ وَقَعَ عَنْ فَاعِلٍ هُوَ اللَّهُ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُكَ كُلُّ مَا أَوْرَدْتَهُ عَلَيْنَا، أَمَّا إِنْ قُلْتَ وَقَعَ ذلك الفعل عنه لا عن قصد وادع فَقَدْ تَرَجَّحَ الْمُمْكِنُ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ وَهُوَ يَسُدُّ بَابَ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ وُقُوعُ ذَلِكَ الْفِعْلِ اتِّفَاقِيًّا وَالِاتِّفَاقِيُّ لَا يَكُونُ فِي وُسْعِهِ وَاخْتِيَارِهِ فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِهِ وَيُنْهَى عَنْهُ فَيَا أَيُّهَا الْقَاضِي مَا الْفَائِدَةُ فِي التَّمَسُّكِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَتَكْثِيرِ الْوُجُوهِ الَّتِي يَرْجِعُ حَاصِلُهَا إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مَعَ أن مثل هذا البرهان القاطع ويقلع خلفك، ويستأصل

عُرُوقَ كَلَامِكَ وَلَوْ أَجْمَعَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ عَلَى هَذَا الْبُرْهَانِ لَمَا تَخَلَّصُوا عَنْهُ إِلَّا بِالْتِزَامِ وُقُوعِ الْمُمْكِنِ لَا عَنْ مُرَجِّحٍ وَحِينَئِذٍ يَنْسَدُّ بَابُ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ أَوْ بِالْتِزَامِ أَنَّهُ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَهُوَ جَوَابُنَا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لِلْعُقَلَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِبْلِيسَ حِينَ اشْتِغَالِهِ بِالْعِبَادَةِ كَانَ مُنَافِقًا كَافِرًا وَفِي تَقْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: حَكَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الشَّهْرَسْتَانِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ الْمُسَمَّى «بِالْمِلَلِ وَالنِّحَلِ» عَنْ مَارِي شَارِحِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي التَّوْرَاةِ مُتَفَرِّقَةٌ عَلَى شَكْلِ مُنَاظَرَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ قَالَ إِبْلِيسُ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي أُسَلِّمُ أَنَّ لِي إِلَهًا هُوَ خَالِقِي، وَمُوجِدِي، وَهُوَ خَالِقُ الْخَلْقِ، لَكِنْ لِي عَلَى حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى أسئلة سبعة، الأولى: مَا الْحِكْمَةُ فِي الْخَلْقِ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَسْتَوْجِبُ عِنْدَ خَلْقِهِ الْآلَامَ؟ الثَّانِي: ثُمَّ مَا الْفَائِدَةُ فِي التَّكْلِيفِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَعُودُ مِنْهُ ضَرٌّ وَلَا نَفْعٌ وَكُلُّ مَا يَعُودُ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِهِ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ التَّكْلِيفِ؟ الثَّالِثُ: هَبْ أَنَّهُ كَلَّفَنِي بِمَعْرِفَتِهِ وَطَاعَتِهِ فَلِمَاذَا كَلَّفَنِي السُّجُودَ لِآدَمَ؟ الرَّابِعُ: ثُمَّ لَمَّا عَصَيْتُهُ فِي تَرْكِ السُّجُودِ لِآدَمَ فَلِمَ لَعَنَنِي وَأَوْجَبَ عِقَابِي مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ فِيهِ، وَلِي فِيهِ أَعْظَمُ الضَّرَرِ؟ الْخَامِسُ: ثُمَّ لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ فَلِمَ مَكَّنَنِي مِنَ الدُّخُولِ إِلَى الْجَنَّةِ وَوَسْوَسْتُ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ السَّادِسُ: ثُمَّ لَمَّا فَعَلْتُ ذَلِكَ/ فَلِمَ سَلَّطَنِي عَلَى أَوْلَادِهِ وَمَكَّنَنِي مِنْ إِغْوَائِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ؟ السَّابِعُ: ثُمَّ لَمَّا اسْتَمْهَلْتُهُ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ فِي ذَلِكَ، فَلِمَ أَمْهَلَنِي. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَالَمَ لَوْ كَانَ خَالِيًا عَنِ الشَّرِّ لَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا؟ قَالَ شَارِحُ الْأَنَاجِيلِ: فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مِنْ سُرَادِقَاتِ الْجَلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ: يَا إِبْلِيسُ إِنَّكَ مَا عَرَفْتَنِي، وَلَوْ عَرَفْتَنِي لَعَلِمْتَ أَنَّهُ لاعتراض عليَّ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِي فَإِنِّي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا لَا أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ مِنَ الْخَلَائِقِ وَحَكَمُوا بِتَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ لَمْ يَجِدُوا عَنْ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ مَخْلَصًا وَكَانَ الْكُلُّ لَازِمًا، أَمَا إِذَا أَجَبْنَا بِذَلِكَ الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى زَالَتِ الشُّبُهَاتُ وَانْدَفَعَتِ الِاعْتِرَاضَاتُ وَكَيْفَ لَا وَكَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ فِي ذَاتِهِ وَاجِبُ الْوُجُودِ فِي صِفَاتِهِ فَهُوَ مُسْتَغْنٍ فِي فَاعِلِيَّتِهِ عَنِ الْمُؤَثِّرَاتِ وَالْمُرَجِّحَاتِ إِذْ لَوِ افْتَقَرَ لَكَانَ فَقِيرًا لَا غَنِيًّا فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَقْطَعُ الْحَاجَاتِ وَمُنْتَهَى الرَّغَبَاتِ وَمِنْ عِنْدِهِ نَيْلُ الطَّلَبَاتِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَتَطَرَّقِ اللِّمِّيَّةُ إِلَى أَفْعَالِهِ وَلَمْ يَتَوَجَّهِ الِاعْتِرَاضُ عَلَى خَالِقِيَّتِهِ وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ: جَلَّ جَنَابُ الْجَلَالِ عَنْ أَنْ يُوزَنَ بِمِيزَانِ الِاعْتِزَالِ فَهَذَا الْقَائِلُ أَجْرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَقَالَ إِنَّهُ كَانَ كَافِرًا مُنَافِقًا مُنْذُ كَانَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا أَبَدًا قَوْلُ أَصْحَابِ الْمُوَافَاةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ الدَّائِمِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الثَّوَابِ الدَّائِمِ وَالْعِقَابِ الدَّائِمِ مُحَالٌ فَإِذَا صَدَرَ الْإِيمَانُ مِنَ الْمُكَلَّفِ فِي وَقْتٍ ثُمَّ صَدَرَ عَنْهُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ كُفْرٌ فَإِمَّا أَنْ يَبْقَى الِاسْتِحْقَاقَانِ مَعًا وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ أَوْ يَكُونَ الطَّارِئُ مُزِيلًا لِلسَّابِقِ وَهُوَ أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْإِحْبَاطِ بَاطِلٌ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا الْفَرْضَ مُحَالٌ وَشَرْطُ حُصُولِ الْإِيمَانِ أَنْ لَا يَصْدُرَ الْكُفْرُ عَنْهُ فِي وَقْتٍ قَطُّ فَإِذَا كَانَتِ الْخَاتِمَةُ عَلَى الْكُفْرِ عَلِمْنَا أَنَّ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ أَوَّلًا مَا كَانَ إِيمَانًا إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمَّا كَانَ خَتْمُ إِبْلِيسَ عَلَى الْكُفْرِ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا كَانَ مُؤْمِنًا قَطُّ، الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ كَانَ عَالِمًا فِي الْأَزَلِ بِأَنَّهُ سَيَكْفُرُ فَصِيغَةُ كَانَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْعِلْمِ لَا بِالْمَعْلُومِ، وَالْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَفَرَ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَبْلَ ذَلِكَ فَبَعْدَ مُضِيِّ كُفْرِهِ صَدَقَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنَ الْكَافِرِينَ وَمَتَى

صَدَقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَصْدُقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ جُزْءٌ مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِنَا كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَمَتَى صَدَقَ الْمُرَكَّبُ صَدَقَ الْمُفْرَدُ لَا مَحَالَةَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ مِنْ كَانَ صَارَ، أَيْ وصار من الكافرين، وهاهنا أَبْحَاثٌ، الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ هَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وُجِدَ قَبْلَهُ جَمْعٌ مِنَ الْكَافِرِينَ حَتَّى يَصْدُقَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مِنَ الْكَافِرِينَ، قَالَ قَوْمٌ إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، فَالْحُكْمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ بَعْضُ الْكَافِرِينَ يَقْتَضِي وُجُودَ قَوْمٍ آخَرِينَ مِنَ الْكَافِرِينَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ بَعْضًا لَهُمْ وَالَّذِي يُؤَكِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ خَلْقًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَقَالُوا لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ فَبَعَثَ/ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ وَكَانَ إِبْلِيسُ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَبَوْا» وَقَالَ آخَرُونَ هَذِهِ الْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ لَهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ صَارَ مِنَ الَّذِينَ وَافَقُوهُ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ وَذَكَرَ فِي مِثَالِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [التَّوْبَةِ: 67] فَأَضَافَ بَعْضَهُمْ إِلَى بَعْضٍ بِسَبَبِ الْمُوَافَقَةِ فِي الدين فكذا هاهنا لَمَّا كَانَ الْكُفْرُ ظَاهِرًا مِنْ أَهْلِ الْعَالَمِ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ صَحَّ قَوْلُهُ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا إِضَافَةٌ لِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ إِلَى تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ وَصِحَّةُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ لَا تَقْتَضِي وُجُودَ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْحَيَوَانَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوَّلًا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْحَيَوَانِ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمَوْجُودَةِ خَارِجَ الذِّهْنِ بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ وَوَاحِدٌ مِنْ آحَادِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ إِبْلِيسَ هَلْ كَانَ أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْصِيَةَ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَعِنْدَنَا، لَا تُوجِبُ الْكُفْرَ، أَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ خَرَجَ عَنِ الْإِيمَانِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْكُفْرِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْخَوَارِجِ فَكُلُّ مَعْصِيَةٍ كُفْرٌ، وَهُمْ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالُوا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَفَّرَ إِبْلِيسَ بِتِلْكَ الْمَعْصِيَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْصِيَةَ كُفْرٌ، الْجَوَابُ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ كَافِرٌ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ فَهَذَا السُّؤَالُ زَائِلٌ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا، فَنَقُولُ إِنَّهُ إِنَّمَا كَفَرَ لِاسْتِكْبَارِهِ وَاعْتِقَادِهِ كَوْنَهُ مُحِقًّا فِي ذَلِكَ التَّمَرُّدِ وَاسْتِدْلَالِهِ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ إِنَّ جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ مَأْمُورُونَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ الْمَلَائِكَةِ صِيغَةُ الْجَمْعِ وَهِيَ تُفِيدُ الْعُمُومَ لَا سِيَّمَا وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مَقْرُونَةً بِأَكْمَلِ وُجُوهِ التَّأْكِيدِ فِي قَوْلِهِ: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الْحِجْرِ: 30] . الثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَى إِبْلِيسَ مِنْهُمْ وَاسْتِثْنَاءُ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ عَدَا ذَلِكَ الشَّخْصَ كَانَ دَاخِلًا فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ الْمَأْمُورُونَ بِهَذَا السُّجُودِ هُمْ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ وَاسْتَعْظَمُوا أَنْ يَكُونَ أَكَابِرُ الْمَلَائِكَةِ مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ. وَأَمَّا الْحُكَمَاءُ فَإِنَّهُمْ يَحْمِلُونَ الْمَلَائِكَةَ عَلَى الْجَوَاهِرِ الرُّوحَانِيَّةِ وَقَالُوا يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ الْأَرْوَاحُ السَّمَاوِيَّةُ مُنْقَادَةً لِلنُّفُوسِ النَّاطِقَةِ إِنَّمَا الْمُرَادُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمَأْمُورِينَ بِالسُّجُودِ الْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةُ الْبَشَرِيَّةُ الْمُطِيعَةُ لِلنَّفْسِ النَّاطِقَةِ وَالْكَلَامُ فِي هذه المسألة مذكور في العقليات. تم الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث، وأوله قوله تعالى: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ

الجزء الثالث

الجزء الثالث [تتمة سورة البقرة] بسم الله الرحمن الرحيم [سورة البقرة (2) : آية 35] وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ اسْكُنْ أَمْرُ تَكْلِيفٍ أَوْ إِبَاحَةٍ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَلَى آدَمَ بِإِسْكَانِ الْجَنَّةِ كَمَا ابْتَلَى الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَلَّفَهُ بِأَنْ يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ يَأْكُلُ مِنْهَا حَيْثُ شَاءَ وَنَهَاهُ عَنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا فَمَا زَالَتْ بِهِ الْبَلَايَا حتى وقع فيم نُهِيَ عَنْهُ فَبَدَتْ سَوْأَتُهُ عِنْدَ ذَلِكَ وَأُهْبِطَ مِنَ الْجَنَّةِ وَأُسْكِنَ مَوْضِعًا يَحْصُلُ فِيهِ مَا يَكُونُ مُشْتَهًى لَهُ مَعَ أَنَّ مَنْعَهُ مِنْ تَنَاوُلِهِ مِنْ أَشَدِّ التَّكَالِيفِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ ذَلِكَ إِبَاحَةٌ لِأَنَّ الِاسْتِقْرَارَ فِي الْمَوَاضِعِ الطَّيِّبَةِ النَّزِهَةِ الَّتِي يَتَمَتَّعُ فِيهَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّعَبُّدِ كَمَا أَنَّ أَكْلَ الطَّيِّبَاتِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّعَبُّدِ وَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [الأعراف: 16] أَمْرًا وَتَكْلِيفًا بَلْ إِبَاحَةً، وَالْأَصَحُّ أَنَّ ذَلِكَ الْإِسْكَانَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا هُوَ إِبَاحَةٌ، وَعَلَى مَا هُوَ تَكْلِيفٌ، أَمَّا الْإِبَاحَةُ فَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مَأْذُونًا فِي الِانْتِفَاعِ بِجَمِيعِ نِعَمِ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا التَّكْلِيفُ فَهُوَ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ كَانَ حَاضِرًا وَهُوَ كَانَ مَمْنُوعًا عَنْ تَنَاوُلِهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِغَيْرِهِ أَسْكَنْتُكَ دَارِي لَا تَصِيرُ الدَّارُ مِلْكًا لَهُ، فَهَهُنَا لَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَبْتُ مِنْكَ الْجَنَّةَ بَلْ قَالَ أَسْكَنْتُكَ الْجَنَّةَ وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ خَلَقَهُ لِخِلَافَةِ الْأَرْضِ فَكَانَ إِسْكَانُ الْجَنَّةِ كَالتَّقْدِمَةِ عَلَى ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْكُلَّ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَأَبَى إِبْلِيسُ السُّجُودَ صَيَّرَهُ اللَّهُ مَلْعُونًا ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ بِأَنْ يَسْكُنَهَا مَعَ زَوْجَتِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي خُلِقَتْ زَوْجَتُهُ فِيهِ، فَذَكَرَ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخْرَجَ إِبْلِيسَ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَسْكَنَ آدَمَ الجنة فبقي فيها وجده وَمَا كَانَ مَعَهُ مَنْ يَسْتَأْنِسُ بِهِ فَأَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ النَّوْمَ ثُمَّ أَخَذَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ مِنْ شَقِّهِ الْأَيْسَرِ وَوَضَعَ مَكَانَهُ لَحْمًا وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْهُ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ وَجَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ امْرَأَةً قَاعِدَةً فَسَأَلَهَا مَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: امْرَأَةٌ. قَالَ: وَلِمَ خُلِقْتِ؟ قَالَتْ: لِتَسْكُنَ إليّ، فقالت الملائكة: / ما اسمها؟ قالوا: حواء، وَلِمَ سُمِّيَتْ حَوَّاءَ، قَالَ: لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ شَيْءٍ حَيٍّ، وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ جُنْدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَحَمَلُوا آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ كَمَا تُحْمَلُ الْمُلُوكُ وَلِبَاسُهُمَا النُّورُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِكْلِيلٌ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلٌ بِالْيَاقُوتِ وَاللُّؤْلُؤِ وَعَلَى آدَمَ مِنْطَقَةٌ مُكَلَّلَةٌ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ حَتَّى أُدْخِلَا الْجَنَّةَ. فَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ قَبْلَ إِدْخَالِ آدَمَ الْجَنَّةَ وَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا خُلِقَتْ فِي الْجَنَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَقِيقَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّوْجَةِ حَوَّاءُ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي سَائِرِ الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النِّسَاءِ: 1] وَفِي الْأَعْرَافِ: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها [الْأَعْرَافِ: 189] ، وَرَوَى

الْحَسَنُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعِ الرَّجُلِ فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تُقِيمَهَا كَسَرْتَهَا وَإِنْ تَرَكْتَهَا انْتَفَعْتَ بِهَا وَاسْتَقَامَتْ» . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْجَنَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هَلْ كَانَتْ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي السَّمَاءِ؟ وَبِتَقْدِيرِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي السَّمَاءِ فَهَلْ هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي هِيَ دَارُ الثَّوَابِ أَوْ جَنَّةُ الْخُلْدِ أَوْ جَنَّةٌ أُخْرَى؟ فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَلْخِيُّ وَأَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: هَذِهِ الْجَنَّةُ كَانَتْ فِي الْأَرْضِ، وَحَمَلَا الْإِهْبَاطَ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ بُقْعَةٍ إِلَى بُقْعَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْبِطُوا مِصْراً [الْبَقَرَةِ: 61] وَاحْتَجَّا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْجَنَّةَ لَوْ كَانَتْ هِيَ دَارَ الثَّوَابِ لَكَانَتْ جَنَّةَ الْخُلْدِ وَلَوْ كَانَ آدَمُ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ لَمَا لَحِقَهُ الْغُرُورُ مِنْ إِبْلِيسَ بِقَوْلِهِ: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى [طه: 120] ، وَلَمَا صَحَّ قَوْلُهُ: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ [الْأَعْرَافِ: 20] . وَثَانِيهَا: أَنَّ مَنْ دَخَلَ هَذِهِ الْجَنَّةَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ [الْحِجْرِ: 48] . وَثَالِثُهَا: أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا امْتَنَعَ عَنِ السُّجُودِ لُعِنَ فَمَا كَانَ يَقْدِرُ مَعَ غَضَبِ اللَّهِ عَلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي هِيَ دَارُ الثَّوَابِ لَا يَفْنَى نَعِيمُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها [الرَّعْدِ: 35] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها إِلَى أَنْ قَالَ: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هُودٍ: 108] أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ، فَهَذِهِ الْجَنَّةُ لَوْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي دَخَلَهَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَا فَنِيَتْ، لَكِنَّهَا تَفْنَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88] وَلَمَا خَرَجَ مِنْهَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَكِنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا وَانْقَطَعَتْ تِلْكَ الرَّاحَاتُ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي حِكْمَتِهِ تَعَالَى أَنْ يَبْتَدِئَ الْخَلْقَ فِي جَنَّةٍ يُخَلِّدُهُمْ فِيهَا وَلَا تَكْلِيفَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعْطِي جَزَاءَ الْعَامِلِينَ مَنْ لَيْسَ بِعَامِلٍ وَلِأَنَّهُ لَا يُهْمِلُ عِبَادَهُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَرْغِيبٍ وَتَرْهِيبٍ وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ، وَسَادِسُهَا: لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ نَقَلَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَلَوْ كَانَ تَعَالَى قَدْ نَقَلَهُ إِلَى السَّمَاءِ لَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى بِالذِّكْرِ لِأَنَّ نَقْلَهُ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْجَنَّةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ جَنَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ جَنَّةِ الْخُلْدِ «1» . الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْجُبَّائِيِّ: أَنَّ تِلْكَ الْجَنَّةَ كَانَتْ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالدَّلِيلُ/ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: اهْبِطُوا مِنْها [الْبَقَرَةِ: 38] ، ثُمَّ إِنَّ الْإِهْبَاطَ الْأَوَّلَ كَانَ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِلَى السَّمَاءِ الْأُولَى، وَالْإِهْبَاطَ الثَّانِيَ كَانَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا: أَنَّ هَذِهِ الْجَنَّةَ هِيَ دَارُ الثَّوَابِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي لَفْظِ الْجَنَّةِ لَا يُفِيدَانِ الْعُمُومَ لِأَنَّ سُكْنَى جَمِيعِ الْجِنَانِ مُحَالٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهَا إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ وَالْجَنَّةُ الَّتِي هِيَ الْمَعْهُودَةُ الْمَعْلُومَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ هِيَ دَارُ الثَّوَابِ، فَوَجَبَ صَرْفُ اللَّفْظِ إِلَيْهَا، وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْكُلَّ مُمْكِنٌ وَالْأَدِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ ضَعِيفَةٌ وَمُتَعَارِضَةٌ فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ وَتَرْكُ الْقَطْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: السُّكْنَى مِنَ السُّكُونِ لِأَنَّهَا نَوْعٌ مِنَ اللُّبْثِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَ «أَنْتَ» تَأْكِيدٌ لِلْمُسْتَكِنَّ فِي «اسْكُنْ» لِيَصِحَّ الْعَطْفُ عَلَيْهِ وَ «رَغَدًا» وَصْفٌ لِلْمَصْدَرِ أَيْ أَكْلًا رَغَدًا وَاسِعًا رَافِهًا وَ «حَيْثُ» لِلْمَكَانِ الْمُبْهَمِ أَيْ أَيَّ مَكَانٍ مِنَ الْجَنَّةِ شِئْتُمَا، فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ إِطْلَاقُ الْأَكْلِ مِنَ الْجَنَّةِ عَلَى وَجْهِ التَّوْسِعَةِ الْبَالِغَةِ حَيْثُ لَمْ يَحْظُرْ عَلَيْهِمَا بَعْضَ الْأَكْلِ وَلَا بَعْضَ الْمَوَاضِعِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُمَا عُذْرٌ فِي التَّنَاوُلِ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ بَيْنِ أشجارها الكثيرة.

_ (1) يلاحظ أن القول الأول هو قول أبي القاسم البلخي وأبي مسلم الأصفهاني المتقدم، لكن لم يعنون له المصنف رحمه الله تعالى.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى قال هاهنا: وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا وَقَالَ فِي الْأَعْرَافِ: فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما [الْأَعْرَافِ: 19] فَعَطَفَ كُلا عَلَى قَوْلِهِ: اسْكُنْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِالْوَاوِ وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِالْفَاءِ فَمَا الْحِكْمَةُ؟ وَالْجَوَابُ: كُلُّ فِعْلٍ عُطِفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَكَانَ الْفِعْلُ بِمَنْزِلَةِ الشرط، وذلك الشيء بمنزلة الجزء عُطِفَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِالْفَاءِ دُونَ الْوَاوِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً [الْبَقَرَةِ: 58] فَعَطَفَ كُلُوا عَلَى ادْخُلُوا بِالْفَاءِ لَمَّا كَانَ وُجُودُ الْأَكْلِ مِنْهَا مُتَعَلِّقًا بِدُخُولِهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ إِنْ أُدْخِلْتُمُوهَا أَكَلْتُمْ مِنْهَا، فَالدُّخُولُ مُوصِّلٌ إِلَى الْأَكْلِ، وَالْأَكْلُ مُتَعَلِّقٌ وُجُودُهُ بِوُجُودِهِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ [الْأَعْرَافِ: 161] ، فَعَطَفَ كُلُوا عَلَى قَوْلِهِ اسْكُنُوا بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ لِأَنَّ اسْكُنُوا مِنَ السُّكْنَى وَهِيَ الْمُقَامُ مَعَ طُولِ اللُّبْثِ وَالْأَكْلُ لَا يَخْتَصُّ وُجُودُهُ بِوُجُودِهِ لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ بُسْتَانًا قَدْ يَأْكُلُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مُجْتَازًا فَلَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقُ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ تَعَلَّقَ الْجَزَاءُ بِالشَّرْطِ وَجَبَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ اسْكُنْ يُقَالُ لِمَنْ دَخَلَ مَكَانًا فَيُرَادُ مِنْهُ الْزَمِ الْمَكَانَ الَّذِي دَخَلْتَهُ وَلَا تَنْتَقِلْ عَنْهُ، وَيُقَالُ أَيْضًا لِمَنْ لَمْ يَدْخُلْ اسْكُنْ هَذَا الْمَكَانَ يَعْنِي ادْخُلْهُ وَاسْكُنْ فِيهِ، فَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ هَذَا الْأَمْرُ إِنَّمَا وَرَدَ بَعْدَ أَنْ كَانَ آدَمُ فِي الْجَنَّةِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ اللُّبْثَ وَالِاسْتِقْرَارَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَكْلَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَلَا جَرَمَ وَرَدَ بِلَفْظِ الْوَاوِ. وَفِي سورة الأعراف هذا الأمر إنما ورد قيل: أن دخل الْجَنَّةَ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ دُخُولَ الْجَنَّةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَكْلَ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَلَا جَرَمَ وَرَدَ بِلَفْظِ الْفَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّهُ نَهْيٌ وَلَكِنْ فِيهِ بَحْثَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ أَوْ نَهْيُ تَنْزِيهٍ فيه خلاف، فقال قائلون: هذه الصيغة النهي/ التَّنْزِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ وَرَدَتْ تَارَةً فِي التَّنْزِيهِ وَأُخْرَى فِي التَّحْرِيمِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ فَلَا بُدَّ مِنْ جَعْلِ اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ حَقِيقَةً فِي تَرْجِيحِ جَانِبِ التَّرْكِ عَلَى جَانِبِ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْفِعْلِ أَوْ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِيهِ، لَكِنَّ الْإِطْلَاقَ فِيهِ كَانَ ثَابِتًا بِحُكْمِ الْأَصْلِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ، فَإِذَا ضَمَمْنَا مَدْلُولَ اللَّفْظِ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ صَارَ الْمَجْمُوعُ دَلِيلًا عَلَى التَّنْزِيهِ، قَالُوا: وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى بِهَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَرْجِعُ حَاصِلُ مَعْصِيَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى تَرْكِ الْأَوْلَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَذْهَبٍ كَانَ أَفْضَى إِلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَانَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هَذَا النَّهْيُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ كَقَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [الْبَقَرَةِ: 222] وَقَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الْأَنْعَامِ: 152] فَكَمَا أَنَّ هَذَا لِلتَّحْرِيمِ فَكَذَا الْأَوَّلُ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قَالَ: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: 35] مَعْنَاهُ إِنْ أَكَلْتُمَا مِنْهَا فَقَدْ ظَلَمْتُمَا أَنْفُسَكُمَا أَلَا تَرَاهُمَا لَمَّا أَكَلَا قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: 23] . وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا النَّهْيَ لَوْ كَانَ نَهْيَ تَنْزِيهٍ لَمَا اسْتَحَقَّ آدَمُ بِفِعْلِهِ الْإِخْرَاجَ مِنَ الْجَنَّةِ وَلَمَا وَجَبَتِ التَّوْبَةُ عَلَيْهِ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ نَقُولُ: إِنَّ النَّهْيَ وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ لِلتَّنْزِيهِ وَلَكِنَّهُ قَدْ يُحْمَلُ عَلَى التَّحْرِيمِ لِدَلَالَةٍ مُنْفَصِلَةٍ، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ أَيْ فَتَظْلِمَا أَنْفُسَكُمَا بِفِعْلِ مَا الْأَوْلَى بِكُمَا تَرْكُهُ لِأَنَّكُمَا إِذَا فَعَلْتُمَا ذَلِكَ أُخْرِجْتُمَا مِنَ الجنة التي لا تظمئان فِيهَا وَلَا تَجُوعَانِ وَلَا تَضْحَيَانِ وَلَا تَعْرَيَانِ إِلَى مَوْضِعٍ لَيْسَ لَكُمَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِخْرَاجَ مِنَ الْجَنَّةِ كَانَ لِهَذَا السَّبَبِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ قَائِلُونَ قَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ يُفِيدُ بِفَحْوَاهُ النَّهْيَ عَنِ الْأَكْلِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْقُرْبِ لَا يُفِيدُ النَّهْيَ عَنِ الْأَكْلِ إِذْ رُبَّمَا كَانَ الصَّلَاحُ فِي تَرْكِ قُرْبِهَا مَعَ أَنَّهُ لَوْ حُمِلَ إِلَيْهِ لَجَازَ لَهُ أَكْلُهُ، بَلْ هَذَا الظَّاهِرُ يَتَنَاوَلُ النَّهْيَ عَنِ الْقُرْبِ. وَأَمَّا النَّهْيُ عَنِ الْأَكْلِ فَإِنَّمَا عُرِفَ بِدَلَائِلَ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما [الْأَعْرَافِ: 22] وَلِأَنَّهُ صَدَّرَ الْكَلَامَ فِي بَابِ الْإِبَاحَةِ بِالْأَكْلِ فَقَالَ: وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما فَصَارَ ذَلِكَ كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى نَهَاهُمَا عَنْ أَكْلِ ثَمَرَةِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ لَكِنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ بِهَذَا الْقَوْلِ يَعُمُّ الْأَكْلَ وَسَائِرَ الِانْتِفَاعَاتِ وَلَوْ نَصَّ عَلَى الْأَكْلِ مَا كَانَ يَعُمُّ كُلَّ ذَلِكَ فَفِيهِ مَزِيدُ فَائِدَةٍ: الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الشَّجَرَةِ مَا هِيَ، فَرَوَى مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما أَنَّهَا الْبُرُّ وَالسُّنْبُلَةُ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشَّجَرَةِ فَقَالَ: هِيَ الشَّجَرَةُ الْمُبَارَكَةُ السُّنْبُلَةُ. وَرَوَى السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا الْكَرْمُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهَا التِّينُ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: كَانَتْ شَجَرَةً مَنْ أَكَلَ مِنْهَا أَحْدَثَ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ حَدَثٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الظَّاهِرِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْيِينِ فَلَا حَاجَةَ أَيْضًا إِلَى بَيَانِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يُعَرِّفَنَا عَيْنَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ وَمَا لَا يَكُونُ مَقْصُودًا فِي/ الْكَلَامِ، لَا يَجِبُ عَلَى الْحَكِيمِ أَنْ يُبَيِّنَهُ بَلْ رُبَّمَا كَانَ بَيَانُهُ عَبَثًا لِأَنَّ أَحَدَنَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ الْعُذْرَ لِغَيْرِهِ فِي التَّأَخُّرِ فَقَالَ: شُغِلْتُ بِضَرْبِ غِلْمَانِي لِإِسَاءَتِهِمُ الْأَدَبَ لَكَانَ هَذَا الْقَدْرُ أَحْسَنَ مِنْ أَنْ يَذْكُرَ عَيْنَ هَذَا الْغُلَامِ وَيَذْكُرَ اسْمَهُ وَصِفَتَهُ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ وَقَعَ هاهنا تَقْصِيرٌ فِي الْبَيَانِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمُ الْأَقْرَبُ فِي لَفْظِ الشَّجَرَةِ أَنْ يَتَنَاوَلَ مَا لَهُ سَاقٌ وَأَغْصَانٌ، وَقِيلَ لَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ [الصَّافَّاتِ: 146] مَعَ أَنَّهَا كَالزَّرْعِ وَالْبِطِّيخِ فَلَمْ يُخْرِجْهُ ذَهَابُهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَجَرًا، قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَأَحْسَبُ أَنَّ كُلَّ مَا تَفَرَّعَتْ لَهُ أَغْصَانٌ وَعِيدَانٌ فَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ شَجَرًا فِي وَقْتِ تَشَعُّبِهِ وَأَصْلُ هَذَا أَنَّهُ كُلُّ مَا شَجَرَ أَيْ أَخَذَ يُمْنَةً وَيُسْرَةً يُقَالُ: رأيت فلاناً في شَجَرَتُهُ الرِّمَاحُ. وَقَالَ تَعَالَى: حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النِّسَاءِ: 65] وَتَشَاجَرَ الرَّجُلَانِ فِي أَمْرِ كَذَا. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ هُوَ أَنَّكُمَا إِنْ أَكَلْتُمَا فَقَدْ ظَلَمْتُمَا أَنْفُسَكُمَا لِأَنَّ الْأَكْلَ مِنَ الشَّجَرَةِ ظُلْمُ الْغَيْرِ، وَقَدْ يَكُونُ ظَالِمًا بِأَنْ يَظْلِمَ نَفْسَهُ وَبِأَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ، فَظُلْمُ النفس أعم وأعظم. ثم اختلف الناس هاهنا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ الْحَشَوِيَّةِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى الْكَبِيرَةِ فَلَا جَرَمَ كان فعله ظلماً، الثاني: قوله الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى الصَّغِيرَةِ ثُمَّ لِهَؤُلَاءِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ وَهُوَ أَنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِأَنْ أَلْزَمَهَا مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْبَةِ وَالتَّلَافِي، وَثَانِيهِمَا: قَوْلُ أَبِي هَاشِمٍ وَهُوَ أَنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ مِنْ حَيْثُ أَحْبَطَ بَعْضَ ثَوَابِهِ الْحَاصِلِ فَصَارَ ذَلِكَ نَقْصًا فِيمَا قَدِ اسْتَحَقَّهُ، الثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُ صُدُورَ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُمْ مُطْلَقًا وَحَمَلَ هَذَا الظُّلْمَ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ مَا الْأَوْلَى لَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ. وَمِثَالُهُ إِنْسَانٌ طَلَبَ الْوِزَارَةَ ثُمَّ إِنَّهُ تَرَكَهَا وَاشْتَغَلَ بِالْحِيَاكَةِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ: يَا ظَالِمَ نَفْسِهِ لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَجُوزُ وَصْفُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ أَوْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِي أَنْفُسَهُمْ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَوْلَى أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيهَامِ الذم.

[سورة البقرة (2) : آية 36]

[سورة البقرة (2) : آية 36] فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها تَحْقِيقُهُ، فَأَصْدَرَ الشَّيْطَانُ زَلَّتَهُمَا عَنْهَا وَلَفْظَةُ «عَنْ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الْكَهْفِ: 82] قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ مِنَ الزَّلَلِ يَكُونُ الْإِنْسَانُ ثَابِتَ الْقَدَمِ عَلَى الشَّيْءِ، فَيَزِلُّ عَنْهُ وَيَصِيرُ مُتَحَوِّلًا عَنْ ذَلِكَ الموضع، ومن قرأ فأزالهما فَهُوَ مِنَ الزَّوَالِ عَنِ الْمَكَانِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ: يُقَالُ أَزَلْتُكَ عَنْ كَذَا/ حَتَّى زِلْتَ عَنْهُ وَأَزْلَلْتُكَ حَتَّى زَلَلْتَ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، أَيْ: حَوَّلْتُكَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ أَيِ اسْتَزَلَّهُمَا، فَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ زَلَّ فِي دِينِهِ إِذَا أَخْطَأَ وَأَزَلَّهُ غَيْرُهُ إِذَا سَبَّبَ لَهُ مَا يَزِلُّ مِنْ أَجْلِهِ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَضَبْطُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: الِاخْتِلَافُ فِي هَذَا الْبَابِ يَرْجِعُ إِلَى أَقْسَامٍ أَرْبَعَةٍ: أَحَدُهَا: مَا يَقَعُ فِي بَابِ الِاعْتِقَادِ، وَثَانِيهَا: مَا يَقَعُ فِي بَابِ التَّبْلِيغِ، وَثَالِثُهَا: مَا يَقَعُ فِي بَابِ الْأَحْكَامِ وَالْفُتْيَا، وَرَابِعُهَا: مَا يَقَعُ فِي أَفْعَالِهِمْ وَسِيرَتِهِمْ. أَمَّا اعْتِقَادُهُمُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ أَكْثَرَ الْأُمَّةِ. وَقَالَتِ الْفَضِيلِيَّةُ مِنَ الْخَوَارِجِ: إِنَّهُمْ قَدْ وَقَعَتْ مِنْهُمُ الذُّنُوبُ، وَالذَّنْبُ عِنْدَهُمْ كُفْرٌ وَشِرْكٌ، فَلَا جَرَمَ قَالُوا بِوُقُوعِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ، وَأَجَازَتِ الْإِمَامِيَّةُ عَلَيْهِمْ إِظْهَارَ الْكُفْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ. أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، فَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى كَوْنِهِمْ مَعْصُومِينَ عَنِ الْكَذِبِ وَالتَّحْرِيفِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، وَإِلَّا لَارْتَفَعَ الْوُثُوقُ بِالْأَدَاءِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ عَمْدًا كَمَا لَا يَجُوزُ أَيْضًا سَهْوًا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ سَهْوًا، قَالُوا: لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفُتْيَا فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ خَطَؤُهُمْ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَمُّدِ، وَأَمَّا عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ فَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ وَأَبَاهُ آخَرُونَ. وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ: وَهُوَ الَّذِي يَقَعُ فِي أَفْعَالِهِمْ، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ فِيهِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: قَوْلُ مَنْ جَوَّزَ عَلَيْهِمُ الْكَبَائِرَ عَلَى جِهَةِ الْعَمْدِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَشَوِيَّةِ. وَالثَّانِي: قَوْلُ مَنْ لَا يُجَوِّزُ عَلَيْهِمُ الْكَبَائِرَ لَكِنَّهُ يُجَوِّزُ عَلَيْهِمُ الصَّغَائِرَ عَلَى جِهَةِ الْعَمْدِ إِلَّا مَا يُنَفِّرُ كَالْكَذِبِ وَالتَّطْفِيفِ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتُوا بِصَغِيرَةٍ وَلَا بِكَبِيرَةٍ عَلَى جِهَةِ الْعَمْدِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ عَلَى جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُبَّائِيِّ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْهُمُ الذَّنْبُ إِلَّا عَلَى جِهَةِ السَّهْوِ وَالْخَطَأِ ولكنهم مأخوذون بِمَا يَقَعُ مِنْهُمْ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَوْضُوعًا عَنْ أُمَّتِهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ أَقْوَى وَدَلَائِلَهُمْ أَكْثَرُ، وَأَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ مِنَ التَّحَفُّظِ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْهُمُ الذَّنْبُ لَا الْكَبِيرَةُ وَلَا الصَّغِيرَةُ لَا عَلَى سَبِيلِ الْقَصْدِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْوِيلِ وَالْخَطَأِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الرَّافِضَةِ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وَقْتِ الْعِصْمَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مَنْ وَقْتِ مَوْلِدِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ الرَّافِضَةِ، وَثَانِيهَا: قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ وَقْتَ عِصْمَتِهِمْ وَقْتُ بُلُوغِهِمْ وَلَمْ يُجَوِّزُوا مِنْهُمُ ارْتِكَابَ الْكُفْرِ وَالْكَبِيرَةِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَقْتَ النُّبُوَّةِ، أَمَّا قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَجَائِزٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَقَوْلُ أَبِي الْهُذَيْلِ وَأَبِي عَلِيٍّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ/ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمُ الذَّنْبُ حَالَ النُّبُوَّةِ أَلْبَتَّةَ لَا الْكَبِيرَةُ وَلَا

الصَّغِيرَةُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: لَوْ صَدَرَ الذَّنْبُ عَنْهُمْ لَكَانُوا أَقَلَّ دَرَجَةً مِنْ عُصَاةِ الْأُمَّةِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ دَرَجَةَ الْأَنْبِيَاءِ كَانَتْ فِي غَايَةِ الْجَلَالِ وَالشَّرَفِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ صُدُورُ الذَّنْبِ عَنْهُ أَفْحَشَ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ، [الْأَحْزَابِ: 30] وَالْمُحْصَنُ يُرْجَمُ وَغَيْرُهُ يُحَدُّ، وَحَدُّ الْعَبْدِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ أَقَلَّ حَالًا مِنَ الْأُمَّةِ فَذَاكَ بِالْإِجْمَاعِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْفِسْقِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الْحُجُرَاتِ: 6] لَكِنَّهُ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ، وَإِلَّا كَانَ أَقَلَّ حَالًا مِنْ عُدُولِ الْأُمَّةِ، وَكَيْفَ لَا نَقُولُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ إِلَّا أَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ شَرَعَ هَذَا الْحُكْمَ وَذَاكَ، وَأَيْضًا فَهُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَاهِدٌ عَلَى الْكُلِّ لِقَوْلِهِ: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [الْبَقَرَةِ: 143] . وَثَالِثُهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْكَبِيرَةِ يَجِبُ زَجْرُهُ عَنْهَا، فَلَمْ يَكُنْ إِيذَاؤُهُ مُحَرَّمًا لَكِنَّهُ مُحَرَّمٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الْأَحْزَابِ: 57] . وَرَابِعُهَا: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أَتَى بِالْمَعْصِيَةِ لَوَجَبَ عَلَيْنَا الاقتداء به فيها لقوله تعالى: فَاتَّبِعُونِي [آل عمران: 31] فَيُفْضِي إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْحُرْمَةِ وَالْوُجُوبِ وَهُوَ محال، وإذا ثبت ذلك حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ أَيْضًا فِي سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّا نَعْلَمُ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ أَقْبَحَ مِنْ نَبِيٍّ رَفَعَ اللَّهَ دَرَجَتَهُ وَائْتَمَنَهُ عَلَى وَحْيِهِ وَجَعَلَهُ خَلِيفَةً فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ يَسْمَعُ رَبَّهُ يُنَادِيهِ: لَا تَفْعَلْ كَذَا فَيُقْدِمُ عَلَيْهِ تَرْجِيحًا لِلَذَّتِهِ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى نَهْيِ رَبِّهِ وَلَا مُنْزَجِرٍ بِوَعِيدِهِ. هَذَا مَعْلُومُ الْقُبْحِ بِالضَّرُورَةِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ لَوْ صَدَرَتِ الْمَعْصِيَةُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَكَانُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلْعَذَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها [الْجِنِّ: 23] وَلَا اسْتَحَقُّوا اللَّعْنَ لِقَوْلِهِ: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هُودٍ: 18] وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلَّعْنِ وَلَا لِلْعَذَابِ فَثَبَتَ أَنَّهُ مَا صَدَرَتِ الْمَعْصِيَةُ عَنْهُ. وَسَابِعُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَلَوْ لَمْ يُطِيعُوهُ لَدَخَلُوا تَحْتَ قَوْلِهِ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْبَقَرَةِ: 44] . وَقَالَ: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ [هُودٍ: 88] ، فَمَا لا يلق بِوَاحِدٍ مِنْ وُعَّاظِ الْأُمَّةِ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ [الْأَنْبِيَاءِ: 90] ، وَلَفْظُ الْخَيْرَاتِ لِلْعُمُومِ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ وَيَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُ مَا يَنْبَغِي وَتَرْكُ مَا لَا يَنْبَغِي، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا فَاعِلِينَ لِكُلِّ مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ وَتَارِكِينَ كُلَّ مَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ، وَذَلِكَ يُنَافِي صُدُورَ الذَّنْبِ عَنْهُمْ. وَتَاسِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ [ص: 47] ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ بِدَلِيلِ جَوَازِ الاستثناء فيقال: فلاناً مِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ إِلَّا فِي الْفِعْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ تَحْتَهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَخْيَارًا فِي كُلِّ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ يُنَافِي صُدُورَ الذَّنْبِ عَنْهُمْ. وَقَالَ: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الْحَجِّ: 75] ، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ/ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 33] . وَقَالَ فِي إِبْرَاهِيمَ: وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا [الْبَقَرَةِ: 130] . وَقَالَ فِي مُوسَى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي [الْأَعْرَافِ: 144] . وَقَالَ: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ [ص: 45- 47] . فَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى كَوْنِهِمْ مَوْصُوفِينَ بِالِاصْطِفَاءِ وَالْخَيْرِيَّةِ، وَذَلِكَ يُنَافِي صُدُورَ الذَّنْبِ عَنْهُمْ. عَاشِرُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ إِبْلِيسَ قَوْلَهُ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ

الْمُخْلَصِينَ [ص: 82- 83] ، فَاسْتَثْنَى مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يُغْوِيهِمُ الْمُخْلَصِينَ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص: 46] وَقَالَ فِي يُوسُفَ: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يُوسُفَ: 24] ، وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّ الْبَعْضِ ثَبَتَ وُجُوبُهَا فِي حَقِّ الْكُلِّ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. وَالْحَادِي عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سَبَأٍ: 20] ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ مَا اتَّبَعُوهُ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مَا صَدَرَ الذَّنْبُ عَنْهُمْ وَإِلَّا فَقَدْ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لَهُ، وَإِذَا ثَبَتَ فِي ذَلِكَ الْفَرِيقِ أَنَّهُمْ مَا أَذْنَبُوا فَذَلِكَ الْفَرِيقُ إِمَّا الْأَنْبِياءُ أَوْ غَيْرُهُمْ، فَإِنْ كَانُوا هُمُ الْأَنْبِيَاءَ فَقَدْ ثَبَتَ فِي النَّبِيِّ أَنَّهُ لَا يُذْنِبُ وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ فَلَوْ ثَبَتَ فِي الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُمْ أَذْنَبُوا لَكَانُوا أَقَلَّ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ الْفَرِيقِ، فَيَكُونُ غَيْرُ النَّبِيِّ أَفْضَلَ مِنَ النَّبِيِّ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ فَثَبَتَ أَنَّ الذَّنْبَ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ. الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّهُ تَعَالَى قَسَمَ الْخَلْقَ قِسْمَيْنِ فَقَالَ: أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ [الْمُجَادَلَةِ: 19] وَقَالَ فِي الصِّنْفِ الْآخَرِ، أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْمُجَادَلَةِ: 22] وَلَا شَكَّ أَنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَرْتَضِيهِ الشَّيْطَانُ، وَالَّذِي يَرْتَضِيهِ الشَّيْطَانُ هُوَ الْمَعْصِيَةُ، فَكُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى كَانَ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ، فَلَوْ صَدَرَتِ الْمَعْصِيَةُ مِنَ الرَّسُولِ لَصَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ وَلَصَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَلَصَدَقَ عَلَى زُهَّادِ الْأُمَّةِ أَنَّهُمْ مِنْ حِزْبِ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذَلِكَ الْوَاحِدُ مِنَ الْأُمَّةِ أَفْضَلَ بِكَثِيرٍ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ الرَّسُولِ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ. الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ الرَّسُولَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَكِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصْدُرَ الذَّنْبُ مِنَ الرَّسُولِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 33] ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ فَضْلِ الْمَلَكِ عَلَى الْبَشَرِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ لَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَصْدُرَ الذَّنْبُ عَنِ الرَّسُولِ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْمَلَائِكَةَ بِتَرْكِ الذَّنْبِ فَقَالَ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ [الْأَنْبِيَاءِ: 27] . وَقَالَ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التَّحْرِيمِ: 6] ، فَلَوْ صَدَرَتِ الْمَعْصِيَةُ عَنِ الرَّسُولِ لَامْتَنَعَ كَوْنُهُ أَفْضَلَ مِنَ الْمَلَكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] . الرَّابِعَ عَشَرَ: رُوِيَ أَنَّ خُزَيْمَةَ بْنَ ثَابِتٍ شَهِدَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ شَهِدْتَ لِي» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُصَدِّقُكَ عَلَى الْوَحْيِ النَّازِلِ عَلَيْكَ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ أَفَلَا أُصَدِّقُكَ فِي هَذَا الْقَدْرِ؟ فَصَدَّقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ وَسَمَّاهُ بِذِي الشَّهَادَتَيْنِ وَلَوْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ جَائِزَةً عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لَمَا جَازَتْ تِلْكَ الشَّهَادَةُ. الْخَامِسَ عَشَرَ: قَالَ فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [الْبَقَرَةِ: 124] وَالْإِمَامُ مَنْ يُؤْتَمُّ بِهِ فَأَوْجَبَ عَلَى كُلِّ النَّاسِ أَنْ يَأْتَمُّوا بِهِ فَلَوْ صَدَرَ الذَّنْبُ عَنْهُ لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْتَمُّوا بِهِ فِي ذَلِكَ الذَّنْبِ وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى التَّنَاقُضِ. السَّادِسَ عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: 124] وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْعَهْدِ إِمَّا عَهْدُ النُّبُوَّةِ أَوْ عَهْدُ الْإِمَامَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ عَهْدَ النُّبُوَّةِ وَجَبَ أَنْ لَا تَثْبُتَ النُّبُوَّةُ لِلظَّالِمِينَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ عَهْدَ الإمامة وجب أن لا نثبت الْإِمَامَةُ لِلظَّالِمِينَ وَإِذَا لَمْ تَثْبُتِ الْإِمَامَةُ لِلظَّالِمِينَ وَجَبَ أَنْ لَا تَثْبُتَ النُّبُوَّةُ لِلظَّالِمِينَ، لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ إِمَامًا يُؤْتَمُّ بِهِ وَيُقْتَدَى بِهِ. وَالْآيَةُ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ لَا يَكُونُ مذنباً، أما

الْمُخَالِفُ فَقَدْ تَمَسَّكَ فِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِآيَاتٍ وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى مَعَاقِدِهَا وَنُحِيلُ بِالِاسْتِقْصَاءِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي هَذَا التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى: أَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي بَابِ الِاعْتِقَادِ فَثَلَاثَةٌ، أَوَّلُهَا: تَمَسَّكُوا بِالطَّعْنِ فِي اعْتِقَادِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها [الْأَعْرَافِ: 189] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالُوا: لَا شَكَّ أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ هِيَ آدَمُ وَزَوْجَهَا الْمَخْلُوقَ مِنْهَا هِيَ حَوَّاءُ، فَهَذِهِ الْكِنَايَاتُ بِأَسْرِهَا عَائِدَةٌ إِلَيْهِمَا فَقَوْلُهُ: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الْأَعْرَافِ: 190] يَقْتَضِي صُدُورَ الشِّرْكِ عَنْهُمَا، وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ هِيَ آدَمُ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بَلْ نَقُولُ: الْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ وَهُمْ آلُ قُصَيٍّ وَالْمَعْنَى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسِ قُصَيٍّ وَجَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَةً عَرَبِيَّةً لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا آتَاهُمَا مَا طَلَبَا مِنَ الْوَلَدِ الصَّالِحِ سَمَّيَا أَوْلَادَهُمَا الْأَرْبَعَةَ بِعَبْدِ مَنَافٍ وَعَبْدِ الْعُزَّى وَعَبْدِ الدَّارِ وَعَبْدِ قُصَيٍّ، وَالضَّمِيرُ فِي يُشْرِكُونَ لَهُمَا وَلِأَعْقَابِهِمَا فَهَذَا الْجَوَابُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَثَانِيهَا: قَالُوا إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ قَالَ فِي الْكَوَاكِبِ هَذَا رَبِّي، [الْأَنْعَامِ: 77] ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَقَوْلُهُ: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَةِ: 260] ، وَالْجَوَابُ: أَمَّا قَوْلُهُ: هَذَا رَبِّي فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ، وَثَالِثُهَا: تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ [يُونُسَ: 94] ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي شَكٍّ مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقَلْبَ فِي دَارِ الدُّنْيَا لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْأَفْكَارِ الْمُسْتَعْقِبَةِ لِلشُّبَهَاتِ إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُزِيلُهَا بِالدَّلَائِلِ. أَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي بَابِ التَّبْلِيغِ فَثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ [الْأَعْلَى: 6، 8] فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ النِّسْيَانِ فِي الْوَحْيِ، الْجَوَابُ: لَيْسَ النَّهْيُ عَنِ النِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الذِّكْرِ، لِأَنَّ ذَاكَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْوُسْعِ بَلْ عَنِ النِّسْيَانِ بِمَعْنَى التَّرْكِ فَنَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الْحَجِّ: 52] ، / وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الْحَجِّ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ [الْجِنِّ: 26- 28] . قَالُوا: فَلَوْلَا الْخَوْفُ مِنْ وُقُوعِ التَّخْلِيطِ فِي تَبْلِيغِ الْوَحْيِ مِنْ جِهَةِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي الِاسْتِظْهَارِ بِالرَّصَدِ الْمُرْسَلِ مَعَهُمْ فَائِدَةٌ، وَالْجَوَابُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَائِدَةُ أَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ الرَّصْدُ الشَّيَاطِينَ عَنْ إِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ. أَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي الْفُتْيَا فَثَلَاثَةٌ، أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ [الْأَنْبِيَاءِ: 78] ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ فِي أُسَارَى بَدْرٍ حِينَ فَادَاهَمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الْأَنْفَالِ: 67] ، فَلَوْلَا أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي هَذِهِ الْحُكُومَةِ وَإِلَّا لَمَا عُوتِبَ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: 43] ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْكُلِّ: أَنَّا نَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى. أَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي الْأَفْعَالِ فَكَثِيرَةٌ، أَوَّلُهَا: قِصَّةُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، تَمَسَّكُوا بِهَا مِنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ عَاصِيًا وَالْعَاصِي لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ كَانَ عَاصِيًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: 121] وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْعَاصِيَ صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّصَّ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُعَاقَبًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الْجِنِّ: 23] فَلَا مَعْنَى لِصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ إِلَّا ذَلِكَ، الثَّانِي: أَنَّ الْعَاصِيَ اسْمُ ذَمٍّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ إِلَّا صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ، الْوَجْهُ الثَّانِي فِي التَّمَسُّكِ بِقِصَّةِ آدَمَ أَنَّهُ كَانَ غَاوِيًا لقوله تعالى فَغَوى وَالْغَيُّ ضِدُّ الرُّشْدِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [الْبَقَرَةِ: 256] ، فَجَعَلَ الْغَيَّ مُقَابِلًا لِلرُّشْدِ، الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَائِبٌ وَالتَّائِبُ مُذْنِبٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ تَائِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ [الْبَقَرَةِ: 37] وَقَالَ: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ [طه: 122] وَإِنَّمَا قُلْنَا: التَّائِبُ مُذْنِبٌ لِأَنَّ التَّائِبَ هُوَ النَّادِمُ عَلَى فِعْلِ الذَّنْبِ، وَالنَّادِمُ عَلَى فِعْلِ الذنب مخبر عن كونه فاعلًا للذنب، فَإِنْ كَذَبَ فِي ذَلِكَ الْإِخْبَارِ فَهُوَ مُذْنِبٌ بِالْكَذِبِ، وَإِنْ صَدَقَ فِيهِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ ارْتَكَبَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ [الْأَعْرَافِ: 22] ، وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ [الْأَعْرَافِ: 19] ، وَارْتِكَابُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَيْنُ الذَّنْبِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: سَمَّاهُ ظَالِمًا فِي قَوْلِهِ: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: 35] وَهُوَ سَمَّى نَفْسَهُ ظَالِمًا فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: 23] وَالظَّالِمُ مَلْعُونٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هُودٍ: 18] وَمَنِ اسْتَحَقَّ اللَّعْنَ كَانَ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَوْلَا مَغْفِرَةُ اللَّهِ إِيَّاهُ وَإِلَّا لَكَانَ خَاسِرًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الْأَعْرَافِ: 23] ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ. وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ أُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ بِسَبَبِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَإِزْلَالِهِ جَزَاءً عَلَى مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ، ثُمَّ قَالُوا: هَبْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ فَاعِلًا لِلْكَبِيرَةِ، لَكِنَّ مَجْمُوعَهَا لَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ قَاطِعًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الشَّيْءِ/ لَكِنَّ مَجْمُوعَ تِلْكَ الْوُجُوهِ يَكُونُ دَالًّا عَلَى الشَّيْءِ. وَالْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ عَنِ الْوُجُوهِ السَّبْعَةِ عِنْدَنَا أَنْ نَقُولَ: كَلَامُكُمْ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ أَتَيْتُمْ بِالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حَالَ النُّبُوَّةِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إن آدم عليه السلام حالما صَدَرَتْ عَنْهُ هَذِهِ الزَّلَّةُ مَا كَانَ نَبِيًّا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ صَارَ نَبِيًّا وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا الْمَقَامِ. وَأَمَّا الِاسْتِقْصَاءُ فِي الْجَوَابِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُفَصَّلَةِ فَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ من هذه الآيات. ولنذكر هاهنا كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الزَّلَّةِ لِيَظْهَرَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى من قوله: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ [البقرة: 36] فَنَقُولُ لِنَفْرِضْ أَنَّهُ صَدَرَ ذَلِكَ الْفِعْلُ عَنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ فَإِقْدَامُهُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالَ كَوْنِهِ نَاسِيًا أَوْ حَالَ كَوْنِهِ ذَاكِرًا، أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهُ فَعَلَهُ نَاسِيًا فَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] وَمَثَّلُوهُ بِالصَّائِمِ يَشْتَغِلُ بِأَمْرٍ يَسْتَغْرِقُهُ وَيَغْلِبُ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ سَاهِيًا عَنِ الصَّوْمِ وَيَأْكُلُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ السَّهْوِ [لَا] عَنْ قَصْدٍ، لَا يُقَالُ هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ، وَقَوْلَهُ: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الْأَعْرَافِ: 20- 21] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا نَسِيَ النَّهْيَ حَالَ الْإِقْدَامِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعَمَّدَ لِأَنَّهُ قَالَ لَمَّا أَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا خَرَجَ آدَمُ فَتَعَلَّقَتْ بِهِ شَجَرَةٌ مِنْ شَجَرِ الجنة، فحسسته فَنَادَاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَفِرَارًا مِنِّي، فَقَالَ: بَلْ حَيَاءً مِنْكَ، فَقَالَ لَهُ: أَمَا كَانَ فِيمَا مَنَحْتُكَ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْدُوحَةٌ عَمَّا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ وَلَكِنِّي وَعِزَّتِكَ مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ أَحَدًا يَحْلِفُ بِكَ كَاذِبًا، فَقَالَ: وَعِزَّتِي لَأُهْبِطَنَّكَ مِنْهَا ثُمَّ لَا تَنَالُ الْعَيْشَ إِلَّا كَدًّا. الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَاسِيًا لَمَا عُوتِبَ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْعَقْلِ فَلِأَنَّ النَّاسِيَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْفِعْلِ، فَلَا يَكُونُ مُكَلَّفًا

بِهِ لِقَوْلِهِ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَةِ: 286] وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ النَّقْلُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ» ، فَلَمَّا عُوتِبَ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيلِ النِّسْيَانِ. لِأَنَّا نَقُولُ: أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ قَبِلَا مِنْ إِبْلِيسَ ذَلِكَ الْكَلَامَ وَلَا صَدَّقَاهُ فِيهِ، لِأَنَّهُمَا لَوْ صَدَّقَاهُ لَكَانَتْ مَعْصِيَتُهُمَا فِي هَذَا التَّصْدِيقِ أَعْظَمَ مِنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ، لَأَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا قَالَ لَهُمَا: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ. فَقَدْ أَلْقَى إِلَيْهِمَا سُوءَ الظَّنِّ بِاللَّهِ وَدَعَاهُمَا إِلَى تَرْكِ التَّسْلِيمِ لِأَمْرِهِ وَالرِّضَا بِحُكْمِهِ وَإِلَى أَنْ يَعْتَقِدَا فِيهِ كَوْنَ إِبْلِيسَ نَاصِحًا لَهُمَا وَأَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى قَدْ غَشَّهُمَا وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَعْظَمُ مِنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمُعَاتَبَةُ فِي ذَلِكَ أَشَدَّ وَأَيْضًا كَانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَالِمًا بِتَمَرُّدِ إِبْلِيسَ عَنِ السُّجُودِ وَكَوْنِهِ مُبْغِضًا لَهُ وَحَاسِدًا لَهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ النِّعَمِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مِنَ الْعَاقِلِ أَنَّ يَقْبَلَ قَوْلَ عَدُوِّهِ مَعَ هَذِهِ الْقَرَائِنِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُمَا أَقْدَمَا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ عِنْدَ ذَلِكَ الْكَلَامِ أَوْ بَعْدَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ آدَمَ كَانَ عَالِمًا بِعَدَاوَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى [طه: 117] . وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ أَثَرٌ مَرْوِيٌّ بِالْآحَادِ، فَكَيْفَ يُعَارِضُ الْقُرْآنَ؟ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّ الْعِتَابَ إِنَّمَا حَصَلَ عَلَى تَرْكِ/ التَّحَفُّظِ مِنْ أَسْبَابِ النِّسْيَانِ، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ السَّهْوِ مَوْضُوعٌ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُؤَاخَذُوا بِهِ، وَلَيْسَ بِمَوْضُوعٍ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ لِعِظَمِ خَطَرِهِمْ ومثلوه بقوله تعالى: يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الْأَحْزَابِ: 32] ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الْأَحْزَابِ: 30] . وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَوْلِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ» . وَقَالَ أَيْضًا: «إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوَعَكُ الرَّجُلَانِ مِنْكُمْ» ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُؤَثِّرَ عِظَمُ حَالِهِمْ وَعُلُوُّ مَنْزِلَتِهِمْ فِي حُصُولِ شَرْطٍ فِي تَكْلِيفِهِمْ دُونَ تَكْلِيفِ غَيْرِهِمْ؟ قُلْنَا أَمَا سَمِعْتَ: «حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ» ، وَلَقَدْ كَانَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّشْدِيدَاتِ فِي التَّكْلِيفِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى غَيْرِهِ. فَهَذَا فِي تَقْرِيرِ أَنَّهُ صَدَرَ ذَلِكَ عَنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى جِهَةِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ. وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ حَوَّاءَ سَقَتْهُ الْخَمْرَ حَتَّى سَكِرَ ثُمَّ فِي أَثْنَاءِ السُّكْرِ فَعَلَ ذَلِكَ. قَالُوا: وَهَذَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي تَنَاوُلِ كُلِّ الْأَشْيَاءِ سِوَى تِلْكَ الشَّجَرَةِ، فَإِذَا حَمَلْنَا الشَّجَرَةَ عَلَى الْبُرِّ، كَانَ مَأْذُونًا فِي تَنَاوُلِ الْخَمْرِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ خَمْرَ الْجَنَّةِ لَا يُسْكِرُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ خَمْرِ الْجَنَّةِ: لَا فِيها غَوْلٌ [الصَّافَّاتِ: 47] . أَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَهُ عَامِدًا فَهَهُنَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أحدها: أَنَّ ذَلِكَ النَّهْيَ كَانَ نَهْيَ تَنْزِيهٍ لَا نَهْيَ تَحْرِيمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا القول وعلته. الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ عَمْدًا مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ ذَلِكَ كَبِيرَةً مَعَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ نبياً، وقد عرفت فساد هذا الْقَوْلُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَهُ عَمْدًا، لَكِنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْوَجَلِ وَالْفَزَعِ وَالْإِشْفَاقِ مَا صَيَّرَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الصَّغِيرَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا بَاطِلٌ بِالدَّلَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّ الْمُقْدِمَ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ أَوْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَمْدًا وَإِنْ فَعَلَهُ مَعَ الْخَوْفِ إِلَّا أَنَّهُ يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ عَاصِيًا مُسْتَحِقًّا لِلَّعْنِ وَالذَّمِّ وَالْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَلَا يَصِحُّ وَصْفُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِالنِّسْيَانِ فِي قَوْلِهِ: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] ، وَذَلِكَ يُنَافِي الْعَمْدِيَّةَ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْدَمَ عَلَى الْأَكْلِ بِسَبَبِ اجْتِهَادٍ أَخْطَأَ فِيهِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الذَّنْبِ كَبِيرَةً، بَيَانُ الِاجْتِهَادِ الْخَطَأِ أَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَلَفْظُ هذِهِ قَدْ يُشَارُ بِهِ إِلَى الشَّخْصِ، وَقَدْ يُشَارُ بِهِ إِلَى النَّوْعِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَذَ حَرِيرًا وَذَهَبًا بِيَدِهِ وَقَالَ: «هَذَانِ حِلٌّ لِإِنَاثِ أُمَّتِي حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِهِمْ» ، وَأَرَادَ بِهِ نَوْعَهُمَا، وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصلاة

والسلام توضأ مرة مَرَّةً وَقَالَ: «هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ» وَأَرَادَ نَوْعَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ [البقرة: 35] [الأعراف: 19] ظَنَّ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ الْمُعَيَّنَةَ، فَتَرَكَهَا وَتَنَاوَلَ مِنْ شَجَرَةٍ أُخْرَى مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ لِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كَلِمَةِ هذِهِ كَانَ النَّوْعَ لَا الشَّخْصَ وَالِاجْتِهَادُ فِي الْفُرُوعِ، إِذَا كَانَ خَطَأً لَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ وَاللَّعْنِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ صَغِيرَةً مَغْفُورَةً كَمَا فِي شَرْعِنَا، فَإِنْ قِيلَ: الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ كَلِمَةَ هَذَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الشَّيْءِ الْحَاضِرِ. وَالشَّيْءُ الْحَاضِرُ لَا يَكُونُ إِلَّا شَيْئًا مُعَيَّنًا، فَكَلِمَةُ هَذَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الشَّيْءِ/ الْمُعَيَّنِ فَأَمَّا أَنْ يُرَادَ بِهَا الْإِشَارَةُ إِلَى النَّوْعِ، فَذَاكَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَا تَجُوزُ الْإِشَارَةُ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ بَعْضَ الْمَلَائِكَةِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ، فَكَانَ مَا عَدَاهُ خَارِجًا عَنِ النَّهْيِ لَا مَحَالَةَ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُجْتَهِدُ مُكَلَّفٌ بِحَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا حَمَلَ لَفْظَ هَذَا عَلَى الْمُعَيَّنِ كَانَ قَدْ فَعَلَ الْوَاجِبَ وَلَا يَجُوزُ لَهُ حَمْلُهُ عَلَى النَّوْعِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُتَأَيَّدٌ بِأَمْرَيْنِ آخَرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ قوله: وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما [البقرة: 35] أَفَادَ الْإِذْنَ فِي تَنَاوُلِ كُلِّ مَا فِي الْجَنَّةِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَقْلَ يَقْتَضِي حِلَّ الِانْتِفَاعِ بِجَمِيعِ الْمَنَافِعِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَالدَّلِيلُ الْمُخَصِّصُ لَمْ يَدُلَّ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، فَثَبَتَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الِانْتِفَاعِ بِسَائِرِ الْأَشْجَارِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا امْتَنَعَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِسَبَبِ هَذَا عِتَابًا وَأَنْ يُحْكُمَ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ مُخْطِئًا فَثَبَتَ أَنَّ حَمْلَ الْقِصَّةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، يُوجِبُ أَنْ يُحْكُمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَانَ مُصِيبًا لَا مُخْطِئًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ فَسَادُ هَذَا التَّأْوِيلِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. هَبْ أَنَّ لَفْظَ هَذَا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الشَّخْصِ وَالنَّوْعِ، وَلَكِنْ هَلْ قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ النَّوْعُ دُونَ الشَّخْصِ أَوْ مَا فَعَلَ ذَلِكَ؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَصَّرَ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْبَيَانِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَدْ أَتَى بِالذَّنْبِ، وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ فِي مَعْرِفَتِهِ بَلْ عَرَفَهُ فَقَدْ عَرَفَ حِينَئِذٍ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ النَّوْعُ، فَإِقْدَامُهُ عَلَى التَّنَاوُلِ مِنْ شَجَرَةٍ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ يَكُونُ إِقْدَامًا عَلَى الذَّنْبِ قَصْدًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَا يَجُوزُ لَهُمُ الِاجْتِهَادُ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ إِقْدَامٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالظَّنِّ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَجُوزُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ، أَمَّا الْأَنْبِيَاءُ فَإِنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى تَحْصِيلِ الْيَقِينِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُمُ الِاجْتِهَادُ لِأَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالظَّنِّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِ الْيَقِينِ غَيْرُ جَائِزٍ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الِاجْتِهَادِ مَعْصِيَةٌ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ أَوِ الظَّنِّيَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْقَطْعِيَّاتِ كَانَ الْخَطَأُ فِيهَا كَبِيرًا وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْإِشْكَالُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الظَّنِّيَّاتِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْخَطَأُ فِيهَا أَصْلًا، وَإِنْ قُلْنَا الْمُصِيبُ فِيهَا وَاحِدٌ وَالْمُخْطِئُ فِيهَا مَعْذُورٌ بِالِاتِّفَاقِ فَكَيْفَ صَارَ هَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْخَطَأِ سَبَبًا لِأَنْ نُزِعَ عَنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبَاسُهُ وَأُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ وَأُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ؟ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ لَفْظَ هَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الشَّخْصِ لَكِنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى النَّوْعِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَانَ قَدْ قَرَنَ بِهِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ النَّوْعُ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَعَلَّهُ قَصَّرَ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الْحَالِ، أو يقال: إنه عرف ذلك لا دليل فِي وَقْتِ مَا نَهَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عَيْنِ الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ غَفَلَ عَنْهُ لِأَنَّ فِي الْخَبَرِ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَقِيَ فِي الْجَنَّةِ الدَّهْرَ الطَّوِيلَ ثُمَّ أُخْرِجَ. والجواب عن الثالث: أنه لا حاجة هاهنا إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ تَمَسَّكُوا بِالِاجْتِهَادِ، فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَصَّرَ فِي مَعْرِفَةِ تِلْكَ الدَّلَالَةِ أَوْ أَنَّهُ كَانَ قَدْ عَرَفَهَا/ لَكِنَّهُ

قَدْ نَسِيَهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] ، وَالْجَوَابُ عَنِ الرَّابِعِ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: كَانَتِ الدَّلَالَةُ قَطْعِيَّةً إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا نَسِيَهَا صَارَ النِّسْيَانُ عُذْرًا فِي أَنْ لَا يَصِيرَ الذَّنْبُ كَبِيرًا أَوْ يُقَالَ: كَانَتْ ظَنِّيَّةً إِلَّا أَنَّهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ التَّشْدِيدَاتِ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى خَطَأِ سَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ، وَكَمَا أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَخْصُوصٌ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ فِي بَابِ التَّشْدِيدَاتِ وَالتَّخْفِيفَاتِ بِمَا لَا يَثْبُتُ في حق الأمة، فكذا هاهنا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ وَنَهَاهُمَا مَعًا فَظَنَّ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحْدَهُ أَنْ يَقْرَبَ مِنَ الشَّجَرَةِ وَأَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَقْرَبا نَهْيٌ لَهُمَا عَلَى الْجَمْعِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ النَّهْيِ حَالَ الِاجْتِمَاعِ حُصُولُهُ حَالَ الِانْفِرَادِ، فَلَعَلَّ الْخَطَأَ فِي هَذَا الِاجْتِهَادِ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يُقَالُ فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ كَيْفَ تَمَكَّنَ إِبْلِيسُ مِنْ وَسْوَسَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ خَارِجَ الْجَنَّةِ وَآدَمَ كَانَ فِي الْجَنَّةِ، وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: قَوْلُ الْقُصَّاصِ وَهُوَ الَّذِي رَوَوْهُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ الْيَمَانِيِّ وَالسُّدِّيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ إِبْلِيسُ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ مَنَعَتْهُ الْخَزَنَةُ فَأَتَى الْحَيَّةَ وَهِيَ دَابَّةٌ لَهَا أَرْبَعُ قَوَائِمَ كَأَنَّهَا الْبُخْتِيَّةُ، وَهِيَ كَأَحْسَنِ الدَّوَابِّ بعد ما عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ فَمَا قَبِلَهُ وَاحِدٌ مِنْهَا فَابْتَلَعَتْهُ الْحَيَّةُ وَأَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ خُفْيَةً مِنَ الْخَزَنَةِ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْحَيَّةُ الْجَنَّةَ خَرَجَ إِبْلِيسُ مِنْ فَمِهَا وَاشْتَغَلَ بِالْوَسْوَسَةِ. فَلَا جَرَمَ لُعِنَتِ الْحَيَّةُ وَسَقَطَتْ قَوَائِمُهَا وَصَارَتْ تَمْشِي عَلَى بَطْنِهَا، وَجُعِلَ رِزْقُهَا فِي التُّرَابِ، وَصَارَتْ عَدُوًّا لِبَنِي آدَمَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا وَأَمْثَالَهُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ لِأَنَّ إِبْلِيسَ لَوْ قَدَرَ عَلَى الدُّخُولِ فِي فَمِ الْحَيَّةِ فَلِمَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ حَيَّةً ثُمَّ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ بِالْحَيَّةِ فَلِمَ عُوقِبَتِ الْحَيَّةُ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَاقِلَةٍ وَلَا مُكَلَّفَةٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّ إِبْلِيسَ دَخَلَ الْجَنَّةَ فِي صُورَةِ دَابَّةٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَقَلُّ فَسَادًا مِنَ الْأَوَّلِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ: إِنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَعَلَّهُمَا كَانَا يَخْرُجَانِ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ وَإِبْلِيسَ كان بقرب الباب ويوسوس إليهما، ورابعها: وهو قَوْلُ الْحَسَنِ: أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ فِي الْأَرْضِ وَأَوْصَلَ الْوَسْوَسَةَ إِلَيْهِمَا فِي الْجَنَّةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الْوَسْوَسَةَ كَلَامٌ خَفِيٌّ وَالْكَلَامُ الْخَفِيُّ لَا يُمْكِنُ إِيصَالُهُ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ، وَاخْتَلَفُوا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ إِبْلِيسَ هَلْ بَاشَرَ خِطَابَهُمَا أَوْ يُقَالُ إِنَّهُ أَوْصَلَ الْوَسْوَسَةَ إِلَيْهِمَا عَلَى لِسَانِ بَعْضِ أَتْبَاعِهِ. حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الْأَعْرَافِ: 21] ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُشَافَهَةَ، وَكَذَا قَوْلُهُ: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ [الْأَعْرَافِ: 22] . وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَانَا يَعْرِفَانِهِ وَيَعْرِفَانِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْحَسَدِ وَالْعَدَاوَةِ، فَيَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَقْبَلَا قَوْلَهُ وَأَنْ يَلْتَفِتَا إِلَيْهِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُبَاشِرُ للوسوسة من بعض أتباع إبليس. بقي هاهنا سُؤَالَانِ، السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: / أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَضَافَ هَذَا الْإِزْلَالَ إِلَى إِبْلِيسَ فَلِمَ عَاتَبَهُمَا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ؟ قُلْنَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَزَلَّهُمَا أَنَّهُمَا عِنْدَ وَسْوَسَتِهِ أَتَيَا بِذَلِكَ الْفِعْلِ فَأُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى إِبْلِيسَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نُوحٍ: 6] . فَقَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ إِبْلِيسَ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إِبْرَاهِيمَ: 22] ، هَذَا مَا قَالَهُ الْمُعْتَزِلَةُ. وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ مَا قَرَّرْنَاهُ مِرَارًا أَنَّ الْإِنْسَانَ قَادِرٌ عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَمَعَ التَّسَاوِي يَسْتَحِيلُ أَنْ يَصِيرَ مَصْدَرًا لِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ إِلَّا عِنْدَ انْضِمَامِ الدَّاعِي إِلَيْهِ، وَالدَّاعِي عِبَارَةٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ عَنْ عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ أو

اعْتِقَادٍ بِكَوْنِ الْفِعْلِ مُشْتَمِلًا عَلَى مَصْلَحَةٍ، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ الْعِلْمُ أَوِ الظَّنُّ بِسَبَبٍ مُنَبِّهٍ نَبَّهَ عَلَيْهِ كَانَ الْفِعْلُ مُضَافًا إِلَى ذَلِكَ لِمَا لِأَجْلِهِ صَارَ الْفَاعِلُ بِالْقُوَّةِ فَاعِلًا بِالْفِعْلِ، فلهذا المعنى انضاف الفعل هاهنا إِلَى الْوَسْوَسَةِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ إِنَّ زَلَّةَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَبْ أَنَّهَا كَانَتْ بِسَبَبِ وَسْوَسَةِ إِبْلِيسَ، فَمَعْصِيَةُ إِبْلِيسَ حصلت بوسوسة من! وَهَذَا يُنَبِّهُكَ عَلَى أَنَّهُ مَا لَمْ يَحْصُلِ الدَّاعِي لَا يَحْصُلُ الْفِعْلُ وَأَنَّ الدَّوَاعِيَ وَإِنْ تَرَتَّبَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَلَا بُدَّ مِنِ انْتِهَائِهَا إِلَى مَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى ابْتِدَاءً، وَهُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ [الْأَعْرَافِ: 155] . السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ كَانَتْ تِلْكَ الْوَسْوَسَةُ، الْجَوَابُ: أَنَّهَا هِيَ الَّتِي حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ [الْأَعْرَافِ: 20] ، فَلَمْ يَقْبَلَا ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا أَيِسَ مِنْ ذَلِكَ عَدَلَ إِلَى الْيَمِينِ عَلَى مَا قَالَ: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الْأَعْرَافِ: 21] ، فَلَمْ يُصَدِّقَاهُ أَيْضًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَدَلَ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ شَغَلَهُمَا بِاسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ الْمُبَاحَةِ حَتَّى صَارَا مُسْتَغْرِقَيْنِ فِيهِ فَحَصَلَ بِسَبَبِ اسْتِغْرَاقِهِمَا فِيهِ نِسْيَانُ النَّهْيِ فَعِنْدَ ذَلِكَ حَصَلَ مَا حَصَلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ كَيْفَ كَانَتْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْنَا اهْبِطُوا فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَنْ قَالَ إِنَّ جَنَّةَ آدَمَ كَانَتْ فِي السَّمَاءِ فَسَّرَ الْهُبُوطَ بِالنُّزُولِ مِنَ الْعُلُوِّ إِلَى السُّفْلِ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَرْضِ فَسَّرَهُ بِالتَّحَوُّلِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى غَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ: اهْبِطُوا مِصْراً [الْبَقَرَةِ: 61] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْخِطَابِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَانَا مُخَاطَبَيْنِ بِهِ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ إِبْلِيسَ دَاخِلٌ فِيهِ أَيْضًا قَالُوا لِأَنَّ إِبْلِيسَ قَدْ جَرَى ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها أَيْ فَأَزَلَّهُمَا وَقُلْنَا لَهُمُ اهْبِطُوا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَهَذَا تَعْرِيفٌ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنَّ إِبْلِيسَ عَدُوٌّ لَهُمَا وَلِذُرِّيَّتِهِمَا كَمَا عَرَّفَهُمَا ذَلِكَ قَبْلَ الأكل من الشجرة فقال: فَقُلْنا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى [طه: 117] ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا أَبَى مِنَ السُّجُودِ صَارَ كَافِرًا/ وأخرج من الجنة وقيل لَهُ: فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها [الْأَعْرَافِ: 13] ، وَقَالَ أَيْضًا: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [ص: 77، الْحِجْرِ: 34] ، وَإِنَّمَا أُهْبِطَ مِنْهَا لِأَجْلِ تَكَبُّرِهِ، فَزَلَّةُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا وَقَعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهُبُوطِ بِسَبَبِ الزَّلَّةِ، فَلَمَّا حَصَلَ هُبُوطُ إِبْلِيسَ قَبْلَ ذَلِكَ كَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ: اهْبِطُوا، مُتَنَاوِلًا لَهُ؟ قُلْنَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَهْبَطَهُ إِلَى الْأَرْضِ فَلَعَلَّهُ عَادَ إِلَى السَّمَاءِ مَرَّةً أُخْرَى لِأَجْلِ أَنْ يُوَسْوِسَ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ فَحِينَ كَانَ آدَمُ وَحَوَّاءُ فِي الْجَنَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمَا: اهْبِطا [طه: 123] ، فَلَمَّا خَرَجَا مِنَ الْجَنَّةِ وَاجْتَمَعَ إِبْلِيسُ مَعَهُمَا خَارِجَ الْجَنَّةِ أَمَرَ الْكُلَّ فَقَالَ: اهْبِطُوا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: اهْبِطُوا أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لَهُمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، بَلْ قَالَ ذَلِكَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حِدَةٍ فِي وَقْتٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَالْحَيَّةُ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ هَذَا الْإِجْمَاعَ فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ قَدْ يَحْصُلُ فِي غَيْرِهِمْ جَمْعٌ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النُّورِ: 41] ، وَقَالَ سُلَيْمَانُ لِلْهُدْهُدِ: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً [النَّمْلِ: 21] . الثَّالِثُ: الْمُرَادُ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَذُرِّيَّتُهُمَا لِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا أَصْلَ الْإِنْسِ جُعِلَا كَأَنَّهُمَا الْإِنْسُ كُلُّهُمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ

عَدُوٌّ ... اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً [البقرة: 36، 38] ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: 38، 39] . وَهَذَا حُكْمٌ يَعُمُّ النَّاسَ كُلَّهُمْ وَمَعْنَى: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنَ التَّعَادِي وَالتَّبَاغُضِ وَتَضْلِيلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الذُّرِّيَّةَ مَا كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَكَيْفَ يَتَنَاوَلُهُمُ الْخِطَابُ؟ أَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ عَلَى قَوْلِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ: اهْبِطُوا أَمْرٌ أَوْ إِبَاحَةٌ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ أَمْرٌ لِأَنَّ فِيهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً لِأَنَّ مُفَارَقَةَ مَا كَانَا فِيهِ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى مَوْضِعٍ لَا تَحْصُلُ الْمَعِيشَةُ فِيهِ إِلَّا بِالْمَشَقَّةِ وَالْكَدِّ مِنْ أَشَقِّ التَّكَالِيفِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بَطَلَ مَا يُظَنُّ أَنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ، لِأَنَّ التَّشْدِيدَ فِي التَّكْلِيفِ سَبَبٌ لِلثَّوَابِ، فَكَيْفَ يَكُونُ عِقَابًا مَعَ مَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ الْعَظِيمِ؟ فَإِنْ قِيلَ: أَلَسْتُمْ تَقُولُونَ فِي الْحُدُودِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْكَفَّارَاتِ إِنَّهَا عُقُوبَاتٌ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ بَابِ التَّكَالِيفِ، قُلْنَا: أَمَّا الْحُدُودُ فَهِيَ وَاقِعَةٌ بِالْمَحْدُودِ مِنْ فِعْلِ الْغَيْرِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِقَابًا إِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُصِرًّا، وَأَمَّا الْكَفَّارَاتُ فَإِنَّمَا يُقَالُ فِي بَعْضِهَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعُقُوبَاتِ لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ إِلَّا مَعَ الْمَأْثَمِ. فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ عُقُوبَةً مَعَ كَوْنِهَا تَعْرِيضَاتٍ لِلثَّوَابِ الْعَظِيمِ فَلَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، أَمْرٌ بِالْهُبُوطِ وَلَيْسَ أَمْرًا بِالْعَدَاوَةِ، لِأَنَّ عَدَاوَةَ إِبْلِيسَ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِسَبَبِ الْحَسَدِ وَالِاسْتِكْبَارِ عَنِ السُّجُودِ وَاخْتِدَاعَهُ إِيَّاهُمَا حَتَّى أَخْرَجَهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ وَعَدَاوَتَهُ لِذُرِّيَّتِهِمَا بِإِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ، فَأَمَّا عَدَاوَةُ آدَمَ لِإِبْلِيسَ/ فَإِنَّهَا مَأْمُورٌ بِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: 6] وقال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَافِ: 27] إِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ اهْبِطُوا مِنَ السَّمَاءِ وَأَنْتُمْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمُسْتَقَرُّ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [الْقِيَامَةِ: 12] ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَكَانِ الَّذِي يُسْتَقَرُّ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا [الْفُرْقَانِ: 24] ، وَقَالَ تَعَالَى: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ [الْأَنْعَامِ: 98] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْأَكْثَرُونَ حَمَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ [الْبَقَرَةِ: 36] [الْأَعْرَافِ: 24] ، عَلَى الْمَكَانِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مُسْتَقَرُّكُمْ حَالَتَيِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَرَوَى السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: الْمُسْتَقَرُّ هُوَ الْقَبْرُ، أَيْ قُبُورُكُمْ تَكُونُونَ فِيهَا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ الْمَتَاعَ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِحَالِ الْحَيَاةِ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَهُمْ بِذَلِكَ عِنْدَ الْإِهْبَاطِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي حَالَ الْحَيَاةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ، قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ [الْأَعْرَافِ: 24، 25] ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فِيها تَحْيَوْنَ، إِلَى آخِرِ الْكَلَامِ بَيَانًا لِقَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زِيَادَةً عَلَى الْأَوَّلِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْحِينِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلزَّمَانِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُمْتَدُّ مِنَ الزَّمَانِ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: مَا رَأَيْتُكَ مُنْذُ حِينٍ إِذَا بَعُدَتْ مُشَاهَدَتُهُ لَهُ وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ مَعَ قُرْبِ الْمُشَاهَدَةِ، فَلَمَّا كَانَتْ أَعْمَارُ النَّاسِ طَوِيلَةً وَآجَالُهُمْ عَنْ أَوَائِلِ حُدُوثِهِمْ مُتَبَاعِدَةً جَازَ أَنْ يَقُولَ: وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ.

[سورة البقرة (2) : آية 37]

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَحْذِيرًا عَظِيمًا عَنْ كُلِّ الْمَعَاصِي مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ تَصَوَّرَ مَا جَرَى عَلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِ عَلَى هَذِهِ الزَّلَّةِ الصَّغِيرَةِ، كَانَ عَلَى وَجَلٍ شَدِيدٍ مِنَ الْمَعَاصِي، قَالَ الشَّاعِرُ: يَا نَاظِرًا يَرْنُو بِعَيْنَيْ رَاقِدِ ... وَمُشَاهِدًا لِلْأَمْرِ غَيْرَ مُشَاهِدِ تَصِلُ الذُّنُوبَ إِلَى الذُّنُوبِ وَتَرْتَجِي ... دَرْكَ الْجِنَانِ وَنَيْلَ فَوْزِ الْعَابِدِ أَنْسِيتَ أَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ آدَمَا ... مِنْهَا إِلَى الدُّنْيَا بِذَنْبٍ وَاحِدِ وَعَنْ فَتْحٍ الْمَوْصِلِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَسَبَانَا إِبْلِيسُ إِلَى الدُّنْيَا، فَلَيْسَ لَنَا إِلَّا الْهَمُّ وَالْحُزْنُ حَتَّى نُرَدَّ إِلَى الدَّارِ الَّتِي أُخْرِجْنَا مِنْهَا، وَثَانِيهَا: التَّحْذِيرُ عَنِ الِاسْتِكْبَارِ وَالْحَسَدِ وَالْحِرْصِ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَبى وَاسْتَكْبَرَ [الْبَقَرَةِ: 34] ، قَالَ حَسَدَ عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ آدَمَ عَلَى مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْكَرَامَةِ فَقَالَ: أَنَا نَارِيٌّ وَهَذَا طِينِيٌّ ثُمَّ أَلْقَى الْحِرْصَ فِي قَلْبِ آدَمَ حَتَّى حَمَلَهُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ثُمَّ أَلْقَى الْحَسَدَ فِي قَلْبِ قَابِيلَ حَتَّى قَتَلَ هَابِيلَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ الْعَدَاوَةَ الشَّدِيدَةَ بَيْنَ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَإِبْلِيسَ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَظِيمٌ عَلَى وُجُوبِ الحذر. [سورة البقرة (2) : آية 37] فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَفَّالُ: أَصْلُ التَّلَقِّي هُوَ التَّعَرُّضُ لِلِقَاءٍ ثُمَّ يُوضَعُ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِقْبَالِ لِلشَّيْءِ الْجَائِي ثُمَّ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْقَبُولِ وَالْأَخْذِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النَّمْلِ: 6] ، أَيْ تُلَقَّنَهُ. وَيُقَالُ: تَلَقَّيْنَا الْحُجَّاجَ أَيِ اسْتَقْبَلْنَاهُمْ. وَيُقَالُ: تَلَقَّيْتُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ فُلَانٍ أَيْ أَخَذْتُهَا مِنْهُ. وَإِذَا كَانَ هَذَا أَصْلَ الْكَلِمَةِ وَكَانَ مَنْ تَلَقَّى رَجُلًا فَتَلَاقَيَا لَقِيَ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ فَأُضِيفَ الِاجْتِمَاعُ إِلَيْهِمَا مَعًا صَلُحَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْوَصْفِ بِذَلِكَ، فَيُقَالُ: كُلُّ مَا تَلَقَّيْتَهُ فَقَدْ تَلَقَّاكَ فَجَازَ أَنْ يُقَالَ: تَلَقَّى آدَمُ كَلِمَاتٍ أَيْ أَخَذَهَا وَوَعَاهَا وَاسْتَقْبَلَهَا بِالْقَبُولِ، وَجَازَ أَنْ يُقَالَ: تَلَّقَى كَلِمَاتٌ بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى جَاءَتْهُ عَنِ اللَّهِ كَلِمَاتٌ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: 124] وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ (الظَّالِمُونَ) . المسألة الثانية: اعلم أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَرَّفَهُ حَقِيقَةَ التَّوْبَةِ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَعْرِفَ مَاهِيَّةَ التَّوْبَةِ وَيَتَمَكَّنَ بِفِعْلِهَا مِنْ تَدَارُكِ الذُّنُوبِ وَيُمَيِّزَهَا عَنْ غَيْرِهَا فَضْلًا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بَلْ يجب حمله على أحد أمور. أَحَدُهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ الْوَاقِعَةِ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ صَارَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ ذَلِكَ مِنَ التَّائِبِينَ الْمُنِيبِينَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى عَرَّفَهُ وُجُوبَ التَّوْبَةِ وَكَوْنَهَا مَقْبُولَةً لَا مَحَالَةَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَنْ أَذْنَبَ ذَنَبًا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ثُمَّ نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ وَعَزَمَ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ فَإِنِّي أَتُوبُ عَلَيْهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ، أَيْ أَخَذَهَا وَقَبِلَهَا وَعَمِلَ بِهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَّرَهُ بِنِعَمِهِ الْعَظِيمَةِ عَلَيْهِ فَصَارَ ذَلِكَ مِنَ الدَّوَاعِي الْقَوِيَّةِ إِلَى التَّوْبَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّمَهُ كَلَامًا لَوْ حَصَلَتِ التَّوْبَةُ مَعَهُ لَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَمَالِ حَالِ التَّوْبَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ مَا هِيَ؟ فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ أَلَمْ تَخْلُقْنِي بِيَدِكَ بِلَا وَاسِطَةٍ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: يَا رَبِّ أَلَمْ تَنْفُخْ فِيَّ مِنْ رُوحِكَ؟ قَالَ: بَلَى.

قال: ألم تسكني جنتك؟ قَالَ: يَا رَبِّ أَلَمْ تَسْبِقْ رَحْمَتُكَ غَضَبَكَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: يَا رَبِّ إِنْ تُبْتُ وَأَصْلَحْتُ تَرُدُّنِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَالَ: بَلَى فَهُوَ قَوْلُهُ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ وَزَادَ السُّدِّيُّ فِيهِ: يَا رَبِّ هَلْ كُنْتَ كَتَبْتَ عَلَيَّ ذَنْبًا؟ قَالَ: نَعَمْ. وَثَانِيهَا: قَالَ النَّخَعِيُّ: أَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: مَا الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ. قَالَ: عَلَّمَ اللَّهُ آدَمَ وَحَوَّاءَ أَمْرَ الْحَجِّ فَحَجَّا وَهِيَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تُقَالُ فِي الْحَجِّ، فَلَمَّا فَرَغَا مِنَ الْحَجِّ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمَا بِأَنِّي قَبِلْتُ تَوْبَتَكُمَا. وَثَالِثُهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا هِيَ قَوْلُهُ: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الْأَعْرَافِ: 23] . وَرَابِعُهَا: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: إِنَّهَا قَوْلُهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ أَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ. لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ/ وَبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. وَخَامِسُهَا: قَالَتْ عَائِشَةُ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَتُوبَ عَلَى آدَمَ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَالْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ رَبْوَةٌ حَمْرَاءُ، فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ اسْتَقْبَلَ الْبَيْتَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سِرِّي وَعَلَانِيَتِي فَاقْبَلْ مَعْذِرَتِي وَتَعْلَمُ حَاجَتِي فَأَعْطِنِي سُؤْلِي وَتَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا يُبَاشِرُ قَلْبِي وَيَقِينًا صَادِقًا حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَنِي إِلَّا مَا كَتَبْتَ لِي وَأَرْضَى بِمَا قَسَمْتَ لِي. فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى آدَمَ: يَا آدَمُ قَدْ غَفَرْتُ لَكَ ذَنْبَكَ وَلَنْ يَأْتِيَنِي أَحَدٌ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ فَيَدْعُوَنِي بِهَذَا الدُّعَاءِ الَّذِي دَعَوْتَنِي بِهِ إِلَّا غَفَرْتُ ذَنْبَهُ وَكَشَفْتُ هُمُومَهُ وَغُمُومَهُ وَنَزَعْتُ الْفَقْرَ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْهِ وَجَاءَتْهُ الدُّنْيَا وَهُوَ لَا يُرِيدُهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: التَّوْبَةُ تَتَحَقَّقُ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ مُتَرَتِّبَةٍ، علم وحال وعمل، فالعلم أول والحال ثان وَالْعَمَلُ ثَالِثٌ، وَالْأَوَّلُ مُوجِبٌ لِلثَّانِي، وَالثَّانِي مُوجِبٌ لِلثَّالِثِ إِيجَابًا اقْتَضَتْهُ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، أَمَّا الْعِلْمُ فَهُوَ مَعْرِفَةُ مَا فِي الذَّنْبِ مِنَ الضَّرَرِ وَكَوْنِهِ حِجَابًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَحْمَةِ الرَّبِّ، فَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ مَعْرِفَةً مُحَقَّقَةً حَصَلَ مِنْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ تَأَلُّمُ الْقَلْبِ بِسَبَبِ فَوَاتِ الْمَحْبُوبِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ مَهْمَا شَعَرَ بِفَوَاتِ الْمَحْبُوبِ تَأَلَّمَ، فَإِذَا كَانَ فَوَاتُهُ يُفْعَلُ مِنْ جِهَتِهِ تَأَسَّفَ بِسَبَبِ فَوَاتِ الْمَحْبُوبِ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي كَانَ سَبَبًا لِذَلِكَ الْفَوَاتِ فَسُمِّيَ ذَلِكَ التَّأَسُّفُ نَدَمًا، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْأَلَمَ إِذَا تَأَكَّدَ حَصَلَتْ مِنْهُ إِرَادَةٌ جَازِمَةٌ وَلَهَا تَعَلُّقٌ بِالْحَالِ وَبِالْمُسْتَقْبَلِ وَبِالْمَاضِي، أَمَّا تَعَلُّقُهَا بِالْحَالِ فَبِتَرْكِ الذَّنْبِ الَّذِي كَانَ مُلَابِسًا لَهُ وَأَمَّا بِالْمُسْتَقْبَلِ فَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُفَوِّتِ لِلْمَحْبُوبِ إِلَى آخِرِ الْعُمْرِ. وَأَمَّا بِالْمَاضِي فَبِتَلَافِي مَا فَاتَ بِالْجَبْرِ وَالْقَضَاءِ إِنْ كَانَ قَابِلًا لِلْجَبْرِ، فَالْعِلْمُ هُوَ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَطْلَعُ هَذِهِ الْخَيْرَاتِ وَأَعْنِي بِهِ الْيَقِينَ التَّامَّ بِأَنَّ هَذِهِ الذُّنُوبَ سُمُومٌ مُهْلِكَةٌ، فَهَذَا الْيَقِينُ نُورٌ وَهَذَا النُّورُ يُوجِبُ نَارَ النَّدَمِ فَيَتَأَلَّمُ بِهِ الْقَلْبُ حَيْثُ أَبْصَرَ بِإِشْرَاقِ نُورِ الْإِيمَانِ أَنَّهُ صَارَ مَحْجُوبًا عَنْ مَحْبُوبِهِ كَمَنْ يُشْرِقُ عَلَيْهِ نُورُ الشَّمْسِ وَقَدْ كَانَ فِي ظُلْمَةٍ فَيَطْلُعُ النُّورُ عَلَيْهِ بِانْقِشَاعِ السَّحَابِ، فَرَأَى مَحْبُوبَهُ قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ فَتَشْتَعِلُ نِيرَانُ الْحُبِّ فِي قَلْبِهِ فَتَنْبَعِثُ مِنْ تِلْكَ النِّيرَانِ إِرَادَتُهُ لِلِانْتِهَاضِ لِلتَّدَارُكِ، فَالْعِلْمُ وَالنَّدَمُ وَالْقَصْدُ الْمُتَعَلِّقُ بِالتَّرْكِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَالتَّلَافِي لِلْمَاضِي ثَلَاثَةُ مَعَانٍ مُتَرَتِّبَةٌ فِي الْحُصُولِ [عَلَى التَّوْبَةِ] . وَيُطْلَقُ اسْمُ التَّوْبَةِ عَلَى مَجْمُوعِهَا وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ اسْمُ التَّوْبَةِ عَلَى مَعْنَى النَّدَمِ وَحْدَهُ وَيُجْعَلُ الْعِلْمُ السَّابِقُ كَالْمُقَدِّمَةِ وَالتَّرْكُ كَالثَّمَرَةِ وَالتَّابِعِ الْمُتَأَخِّرِ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» ، إِذْ لَا يَنْفَكُّ النَّدَمُ عَنْ عِلْمٍ أَوْجَبَهُ وَعَنْ عَزْمٍ يَتْبَعُهُ فَيَكُونُ النَّدَمُ مَحْفُوفًا بِطَرَفَيْهِ، أَعْنِي مُثْمِرَهُ وَثَمَرَتَهُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَخَّصَهُ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ فِي حَقِيقَةِ التوبة وهو

كَلَامٌ حَسَنٌ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَا بُدَّ فِي التَّوْبَةِ مِنْ تَرْكِ ذَلِكَ الذَّنْبِ وَمِنَ النَّدَمِ عَلَى مَا سَبَقَ وَمِنَ الْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى مِثْلِهِ وَمِنَ الْإِشْفَاقِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ، أَمَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّرْكِ فَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُتْرَكْ لَكَانَ فَاعِلًا لَهُ فَلَا يَكُونُ تَائِبًا، وَأَمَّا النَّدَمُ فَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْدَمْ لَكَانَ رَاضِيًا بِكَوْنِهِ فَاعِلًا لَهُ وَالرَّاضِي بِالشَّيْءِ قَدْ يَفْعَلُهُ وَالْفَاعِلُ للشيء لا يكون تائباً، وَأَمَّا الْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى مِثْلِهِ فَلِأَنَّ فِعْلَهُ مَعْصِيَةٌ وَالْعَزْمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ/ مَعْصِيَةٌ، وَأَمَّا الْإِشْفَاقُ فَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّوْبَةِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْقَطْعِ بِأَنَّهُ أَتَى بِالتَّوْبَةِ كَمَا لَزِمَهُ فَيَكُونُ خَائِفًا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزُّمَرِ: 9] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَوْ وُزِنَ خَوْفُ الْمُؤْمِنِ وَرَجَاؤُهُ لَاعْتَدَلَا» ، وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَبْيَنُ وَأَدْخَلُ فِي التَّحْقِيقِ، إِلَّا أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الْفِعْلِ الْفُلَانِيِّ ضَرَرًا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ صَدَرَ مِنْهُ يُوجِبُ تَأَلُّمَ الْقَلْبِ وَذَلِكَ التَّأَلُّمُ يُوجِبُ إِرَادَةَ التَّرْكِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَإِرَادَةَ تَلَافِي مَا حَصَلَ مِنْهُ فِي الْمَاضِي وَإِذَا كَانَ بَعْضُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُرَتَّبًا عَلَى الْبَعْضِ تَرَتُّبًا ضَرُورِيًّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَاخِلًا تَحْتَ قُدْرَتِهِ فَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الدَّاخِلَ فِي الْوُسْعِ لَيْسَ إِلَّا تَحْصِيلَ الْعِلْمِ، فَأَمَّا مَا عَدَاهُ فَلَيْسَ لِلِاخْتِيَارِ إِلَيْهِ سَبِيلٌ، لَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: تَحْصِيلُ الْعِلْمِ لَيْسَ أَيْضًا فِي الْوُسْعِ لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ بِبَعْضِ الْمَجْهُولَاتِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ مَعْلُومَاتٍ مُتَقَدِّمَةٍ عَلَى ذَلِكَ الْمَجْهُولِ، فَتِلْكَ الْعُلُومُ الْحَاضِرَةُ الْمُتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى اكْتِسَابِ ذَلِكَ الْمَجْهُولِ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُسْتَلْزِمَةً لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ الْمَجْهُولِ أَوْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَلْزِمَةً. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ تَرَتُّبُ الْمُتَوَسَّلِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُتَوَسَّلِ بِهِ ضَرُورِيًّا، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي الْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَكُنِ اسْتِنْتَاجُ الْمَطْلُوبِ الْمَجْهُولِ عَنْ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ الْحَاضِرَةِ لِأَنَّ الْمُقَدِّمَاتِ الْقَرِيبَةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ بِحَالٍ يَلْزَمُ مِنْ تَسْلِيمِهَا فِي الذِّهْنِ تَسْلِيمُ الْمَطْلُوبِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتُ مُنْتِجَةً لِتِلْكَ النَّتِيجَةِ. فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتُ وَإِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً فِي الذِّهْنِ إِلَّا أَنَّ كَيْفِيَّةَ التَّوَصُّلِ بِهَا إِلَى تِلْكَ النَّتِيجَةِ غَيْرُ حَاضِرَةٍ فِي الذِّهْنِ، فَلَا جَرَمَ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ الْعِلْمُ بِتِلْكَ النَّتِيجَةِ لَا مَحَالَةَ. قُلْنَا: الْعِلْمُ بِكَيْفِيَّةِ التَّوَصُّلِ بِهَا إِلَى تِلْكَ النَّتِيجَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْبَدِيهِيَّاتِ أَوْ مِنَ الْكَسْبِيَّاتِ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْبَدِيهِيَّاتِ لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْكَسْبِيَّاتِ كَانَ الْقَوْلُ فِي كَيْفِيَّةِ اكْتِسَابِهِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ، فَإِمَّا أَنْ يُفْضِيَ إِلَى التَّسَلْسُلِ وَهُوَ مُحَالٌ أَوْ يُفْضِيَ إِلَى أَنْ يَصِيرَ مِنْ لَوَازِمِهِ فَيَعُودَ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: سَأَلَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ نَفْسَهُ فَقَالَ: إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ صَغِيرَةً فَكَيْفَ تَلْزَمُ التَّوْبَةُ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّ أَبَا عَلِيٍّ قَالَ: إِنَّهَا تَلْزَمُهُ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ مَتَّى عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ عَصَى لَمْ يُحَدَّ «1» فِيمَا بَعْدُ وَهُوَ مُخْتَارٌ «2» وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَادِمًا أَوْ مُصِرًّا لَكِنَّ الْإِصْرَارَ قَبِيحٌ فَلَا تَتِمُّ مُفَارَقَتُهُ لِهَذَا الْقَبِيحِ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ، فَهِيَ إِذَنْ لَازِمَةٌ سَوَاءٌ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً وَسَوَاءٌ ذَكَرَهَا وَقَدْ تَابَ عَنْهَا مِنْ قَبْلُ أَوْ لَمْ يَتُبْ. أَمَّا أَبُو هَاشِمٍ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ أَنْ يَخْلُوَ الْعَاصِي مِنَ التَّوْبَةِ وَالْإِصْرَارِ وَيَقُولُ: لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ وَاجِبَةً عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لِهَذَا الْوَجْهِ بَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً لِإِحْدَى خِلَالٍ، فَإِمَّا أَنْ تَجِبَ لِأَنَّ بِالصَّغِيرَةِ قَدْ نَقَصَ ثَوَابُهُمْ فَيَعُودُ ذَلِكَ النُّقْصَانُ بِالتَّوْبَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّ التَّوْبَةَ نَازِلَةٌ مَنْزِلَةَ التَّرْكِ، فَإِذَا كَانَ التَّرْكُ وَاجِبًا عِنْدَ الْإِمْكَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُوبِ التوبة مع عدم الإمكان، وربما قال:

_ (1) هكذا في الأصل ولعل الصواب «لم يعد» . (2) معنى العبارة على ما في الأصل غير مفهوم ولعل الصواب «إلا هو مختار» .

تَجِبُ التَّوْبَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عَلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّ التَّوْبَةَ/ لَا يَجُوزُ أَنْ تَجِبَ لِعَوْدِ الثَّوَابِ الَّذِي هُوَ الْمَنَافِعُ فَقَطْ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ لِأَجْلِ جَلْبِ الْمَنَافِعِ كَمَا لَا تَجِبُ النَّوَافِلُ بَلِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَمَّا عَصَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى صَارَ أَحَدُ أَسْبَابِ عِصْمَتِهِمُ التَّشْدِيدَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْبَةِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ وَإِنْ كَانَتْ مَعَاصِيهِمْ صَغِيرَةً. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: أصل التوبة الرجوع كالأبوة. يُقَالُ: تَوَبَ كَمَا يُقَالُ أَوَبَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قابِلِ التَّوْبِ [غَافِرٍ: 3] فَقَوْلُهُمْ تَابَ يَتُوبُ تَوْبًا وَتَوْبَةً وَمَتَابًا فَهُوَ تَائِبٌ وَتَوَّابٌ كَقَوْلِهِمْ آب يؤوب أوباً وأوبة فهو آئب وَأَوَّابٌ، وَالتَّوْبَةُ لَفْظَةٌ يَشْتَرِكُ فِيهَا الرَّبُّ وَالْعَبْدُ، فَإِذَا وُصِفَ بِهَا الْعَبْدُ فَالْمَعْنَى رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ لِأَنَّ كُلَّ عَاصٍ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْهَارِبِ مِنْ رَبِّهِ فَإِذَا تَابَ فَقَدْ رَجَعَ عَنْ هَرَبِهِ إِلَى رَبِّهِ فَيُقَالُ: تَابَ إِلَى رَبِّهِ وَالرَّبُّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْمُعْرِضِ عَنْ عَبْدِهِ وَإِذَا وُصِفَ بِهَا الرَّبُّ تَعَالَى فَالْمَعْنَى أَنَّهُ رَجَعَ عَلَى عَبْدِهِ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الصِّلَةِ، فَقِيلَ فِي الْعَبْدِ: تَابَ إِلَى رَبِّهِ. وَفِي الرَّبِّ عَلَى عَبْدِهِ وَقَدْ يُفَارِقُ الرَّجُلُ خِدْمَةَ رَئِيسٍ فَيَقْطَعُ الرئيس معروفه عنه، ثُمَّ يُرَاجِعُ خِدْمَتَهُ، فَيُقَالُ: فُلَانٌ عَادَ إِلَى الْأَمِيرِ وَالْأَمِيرُ عَادَ عَلَيْهِ بِإِحْسَانِهِ وَمَعْرُوفِهِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَبُولُ التَّوْبَةِ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يُثِيبَ عَلَيْهَا الثَّوَابَ الْعَظِيمَ كَمَا أَنَّ قَبُولَ الطَّاعَةِ يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ ذُنُوبَهُ بِسَبَبِ التَّوْبَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الْمُرَادُ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّوَّابِ الْمُبَالَغَةُ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ وَاحِدًا مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا مَتَى جَنَى عَلَيْهِ إِنْسَانٌ ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ الِاعْتِذَارَ، ثُمَّ إِذَا عَادَ إِلَى الْجِنَايَةِ وَإِلَى الِاعْتِذَارِ مَرَّةً أُخْرَى فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُهُ لِأَنَّ طَبْعَهُ يَمْنَعُهُ مِنْ قَبُولِ الْعُذْرِ، أَمَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِنَّهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَقْبَلُ التَّوْبَةَ لَا لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى رِقَّةِ طَبْعٍ أَوْ جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ بَلْ إِنَّمَا يَقْبَلُهَا لِمَحْضِ الْإِحْسَانِ وَالتَّفَضُّلِ. فَلَوْ عَصَى الْمُكَلَّفُ كُلَّ سَاعَةٍ ثُمَّ تَابَ وَبَقِيَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْعُمْرَ الطَّوِيلَ لَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُ مَا قَدْ سَلَفَ وَيَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، فَصَارَ تَعَالَى مُسْتَحِقًّا لِلْمُبَالَغَةِ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ فَوُصِفَ بِأَنَّهُ تَعَالَى تَوَّابٌ. الثَّانِي: أَنَّ الَّذِينَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَكْثُرُ عَدَدُهُمْ فَإِذَا قَبِلَ تَوْبَةَ الْجَمِيعِ اسْتَحَقَّ الْمُبَالَغَةَ فِي ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ قَبُولُ التَّوْبَةِ مَعَ إِزَالَةِ الْعِقَابِ يَقْتَضِي حُصُولَ الثَّوَابِ وَكَانَ الثَّوَابُ مِنْ جِهَتِهِ نِعْمَةً وَرَحْمَةً وَصَفَ نَفْسَهُ مَعَ كَوْنِهِ تَوَّابًا بِأَنَّهُ رَحِيمٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: في هذه الآية فوائد: إحداها: أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُشْتَغِلًا بِالتَّوْبَةِ فِي كُلٍّ حِينٍ وَأَوَانٍ، لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ، أَمَّا الْأَحَادِيثُ (أ) رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الرَّجُلِ يُذْنِبُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ ثُمَّ يُذْنِبُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ ثُمَّ يُذْنِبُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: يَسْتَغْفِرُ أَبَدًا حَتَّى يَكُونَ الشَّيْطَانُ هُوَ الْخَاسِرَ فَيَقُولُ لَا طَاقَةَ لِي مَعَهُ، وَقَالَ عَلِيٌّ: كُلَّمَا قَدَرْتَ أَنْ تَطْرَحَهُ فِي وَرْطَةٍ وَتَتَخَلَّصَ مِنْهَا فَافْعَلْ. (ب) وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يُصِرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ/ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً. (ج) وعن ابن عمر قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ. (د) وَأَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاءِ: 214] «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحِ. (هـ) وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» .

وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَيْنَ شَيْءٌ يَغْشَى الْقَلْبَ فَيُغَطِّيهِ بَعْضَ التَّغْطِيَةِ وَهُوَ كَالْغَيْمِ الرَّقِيقِ الَّذِي يَعْرِضُ فِي الْجَوِّ فَلَا يَحْجُبُ عَنِ الشَّمْسِ وَلَكِنْ يَمْنَعُ كَمَالَ ضَوْئِهَا، ثُمَّ ذَكَرُوا لِهَذَا الْحَدِيثِ تَأْوِيلَاتٍ أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَعَ نَبِيَّهُ عَلَى مَا يَكُونُ فِي أُمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنَ الْخِلَافِ وَمَا يُصِيبُهُمْ فَكَانَ إِذَا ذَكَرَ ذَلِكَ وَجَدَ غَيْمًا فِي قَلْبِهِ فَاسْتَغْفَرَ لِأُمَّتِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَنْتَقِلُ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ أَرْفَعَ مِنَ الْأُولَى، فَكَانَ الِاسْتِغْفَارُ لِذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْغَيْمَ عِبَارَةٌ عَنِ السُّكْرِ الَّذِي كَانَ يَلْحَقُهُ فِي طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ حَتَّى يَصِيرَ فَانِيًا عَنْ نَفْسِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِذَا عَادَ إِلَى الصَّحْوِ كَانَ الِاسْتِغْفَارُ مِنْ ذَلِكَ الصَّحْوِ وَهُوَ تَأْوِيلُ أَرْبَابِ الْحَقِيقَةِ، وَرَابِعُهَا: وَهُوَ تَأْوِيلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّ الْقَلْبَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْخَطَرَاتِ وَالْخَوَاطِرِ وَالشَّهَوَاتِ وَأَنْوَاعِ الْمَيْلِ وَالْإِرَادَاتِ فَكَانَ يَسْتَعِينُ بِالرَّبِّ تَعَالَى فِي دَفْعِ تِلْكَ الْخَوَاطِرِ (و) أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التَّحْرِيمِ: 8] إِنَّهُ هُوَ الرَّجُلُ يَعْمَلُ الذَّنْبَ ثُمَّ يَتُوبُ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ وَلَا يَعُودَ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُوَ أَنْ يَهْجُرَ الذَّنْبَ وَيَعْزِمَ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ أَبَدًا. (ز) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاكِيًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: يَقُولُ لِمَلَائِكَتِهِ: «إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِالْحَسَنَةِ فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَإِذَا هَمَّ بِالسَّيِّئَةِ فَعَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا سَيِّئَةً وَاحِدَةً فَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (ح) رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمِعَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا كَرِيمَ الْعَفْوِ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: أَوَ تَدْرِي مَا كَرِيمُ الْعَفْوِ؟ فَقَالَ: لَا يَا جِبْرِيلُ. قَالَ: أَنْ يَعْفُوَ عَنِ السَّيِّئَةِ وَيَكْتُبَهَا حَسَنَةً. (ط) أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنِ اسْتَفْتَحَ أَوَّلَ نَهَارِهِ بِالْخَيْرِ وَخَتَمَهُ بِالْخَيْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ لَا تَكْتُبُوا عَلَى عَبْدِي مَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الذُّنُوبِ» . (ي) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كَانَ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لِلْقَاتِلِ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ الْمِائَةَ. ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا نَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ تَعَالَى فَاعْبُدْهُ مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى نِصْفَ الطَّرِيقِ فَأَتَاهُ الْمَوْتُ فَاخْتَصَمَتْ/ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. فَأَتَاهُمْ مَلَكُ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ وَتَوَسَّطَ بَيْنَهُمْ فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضِينَ فَإِلَى أَيِّهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ بِشِبْرٍ فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ (يَا) ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: بَلَغَنَا أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ: يَا رَبِّ إِنَّكَ خَلَقْتَ آدَمَ وَجَعَلْتَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ عَدَاوَةً فَسَلِّطْنِي عَلَيْهِ وَعَلَى وَلَدِهِ، فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (جَعَلْتُ صُدُورَهُمْ مَسَاكِنَ لَكَ) ، فَقَالَ: رَبِّ زِدْنِي، فَقَالَ: لَا يُولَدُ وَلَدٌ لِآدَمَ إِلَّا وُلِدَ لَكَ عَشْرَةٌ. قَالَ: رَبِّ زِدْنِي، قَالَ: تَجْرِي مِنْهُ مَجْرَى الدَّمِ. قَالَ: رَبِّ زِدْنِي. قَالَ: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ [الإسرا: 64] ، قَالَ: فَعِنْدَهَا شَكَا آدَمُ إِبْلِيسَ إِلَى رَبِّهِ تَعَالَى فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّكَ خَلَقْتَ إِبْلِيسَ وَجَعَلْتَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ عَدَاوَةً وَبَغْضَاءَ وَسَلَّطْتَهُ عَلَيَّ وَعَلَى ذُرِّيَّتِي وَأَنَا لَا أُطِيقُهُ إِلَّا بِكَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يُولَدُ لَكَ وَلَدٌ إِلَّا وَكَّلْتُ بِهِ مَلَكَيْنِ يَحْفَظَانِهِ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ. قَالَ: رَبِّ زِدْنِي. قَالَ: الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا. قَالَ: رَبِّ زِدْنِي. قَالَ: لَا أَحْجُبُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ وَلَدِكَ التَّوْبَةَ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» . (يب) أَبُو

مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَبِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (يج) عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ مِنْهُ بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِي، فَإِذَا حَدَّثَنِي أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ اسْتَحْلَفْتُهُ، فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيُحْسِنُ الطَّهُورَ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى إِلَّا غَفَرَ لَهُ» . ثُمَّ قَرَأَ: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 135] . (يد) أَبُو أُمَامَةَ قَالَ: بَيْنَا أَنَا قَاعِدٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ. قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ عَادَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى ثُمَّ خَرَجَ قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: فَكُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرَّجُلُ يَتْبَعُهُ وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَلَيْسَ حِينَ خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ تَوَضَّأْتَ فَأَحْسَنْتَ الْوُضُوءَ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ، قَالَ: وَشَهِدْتَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ حَدَّكَ أَوْ قَالَ ذَنْبَكَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (يه) عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَإِنِّي أَصَبْتُ مَاءً دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا فَهَا أَنَا ذَا فَاقْضِ فيَّ مَا شِئْتَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ سَتَرَكَ اللَّهُ لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ، فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، فَقَامَ الرَّجُلُ فَانْطَلَقَ فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هُودٍ: 114] . فَقَالَ وَاحِدٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا لَهُ خَاصَّةً، قَالَ: بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةً. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (يو) أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا فَقَالَ يَا رَبِّ إِنِّي أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْ لِي فَقَالَ رَبُّهُ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ فَغَفَرَ لَهُ، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا آخَرَ. فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنِّي أَذْنَبْتُ ذَنْبًا آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي، فَقَالَ رَبُّهُ: إِنَّ عَبْدِي عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ فَغَفَرَ لَهُ، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا آخَرَ فَقَالَ: يَا رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي، فَقَالَ رَبُّهُ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ» . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحِ. (يز) أَبُو بَكْرٍ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَمْ يُصِرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَلَوْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» . (يح) أَبُو أَيُّوبَ قَالَ: قَدْ كُنْتُ كَتَمْتُكُمْ شَيْئًا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَوْلَا أَنَّكُمْ تُذْنِبُونَ فَتَسْتَغْفِرُونَ لَخَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقًا يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (يط) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ عَلَيْهِ كِسَاءٌ وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ قَدِ الْتَفَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مَرَرْتُ بَغَيْضَةِ شَجَرٍ فَسَمِعْتُ فِيهَا أَصْوَاتَ فِرَاخِ طَائِرٍ فَأَخَذْتُهُنَّ فَوَضَعْتُهُنَّ فِي كِسَائِي فَجَاءَتْ أُمُّهُنَّ فَاسْتَدَارَتْ عَلَى رَأْسِي فَكَشَفْتُ لَهَا عَنْهُنَّ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِنَّ أُمُّهُنَّ فَلَفَفْتُهُنَّ جَمِيعًا فِي كِسَائِي فَهُنَّ مَعِي، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ضَعْهُنَّ عَنْكَ فَوَضَعْتُهُنَّ فَأَبَتْ أُمُّهُنَّ إِلَّا لُزُومَهُنَّ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَتَعْجَبُونَ لِرَحْمَةٍ أُمِّ الْأَفْرَاخِ بِفِرَاخِهَا، قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: والذي نفس محمد بيده أو قال فو الذي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَلَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ أُمِّ الْأَفْرَاخِ بِفِرَاخِهَا، ارْجِعْ بِهِنَّ حَتَّى تَضَعَهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُنَّ وَأُمُّهُنَّ مَعَهُنَّ فَرَجَعَ بِهِنَّ» . (ك) عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ مُحَرَّمًا بَيْنَكُمْ فَلَا تَظَالَمُوا. يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا الَّذِي أَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَلَا أُبَالِي فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ

[سورة البقرة (2) : آية 38]

وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى قَلْبِ أَتْقَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لَمْ يَزِدْ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كَانُوا عَلَى قَلْبِ أَفْجَرِ رَجُلٍ مِنْكُمْ لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمُ اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ مَا سَأَلَ لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْبَحْرُ أَنْ يُغْمَسَ فِيهِ الْمِخْيَطُ غَمْسَةً وَاحِدَةً، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أَحْفَظُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ) . قَالَ وَكَانَ أَبُو إِدْرِيسَ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ إِعْظَامًا لَهُ: وَأَمَّا الْآثَارُ فَسُئِلَ ذُو النُّونِ عَنِ التَّوْبَةِ فَقَالَ: إِنَّهَا اسْمٌ جَامِعٌ لِمَعَانٍ سِتَّةٍ. أَوَّلُهُنَّ: النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى، الثَّانِي: الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الذُّنُوبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. الثَّالِثُ: أَدَاءُ كُلِّ فَرِيضَةٍ ضَيَّعْتَهَا فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. الرَّابِعُ: أَدَاءُ الْمَظَالِمِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ. الْخَامِسُ: إِذَابَةُ كُلِّ لحم ودم نبت من الحرم. السَّادِسُ: إِذَاقَةُ الْبَدَنِ أَلَمَ الطَّاعَاتِ كَمَا ذَاقَ حَلَاوَةَ الْمَعْصِيَةِ. وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَارِسٍ يَقُولُ: يَا صَاحِبَ الذُّنُوبِ أَلَمْ يَأْنَ لَكَ أَنْ تَتُوبَ، يَا صَاحِبَ الذُّنُوبِ إِنَّ الذَّنْبَ فِي الدِّيوَانِ مَكْتُوبٌ، يَا صَاحِبَ الذُّنُوبِ أَنْتَ بِهَا فِي الْقَبْرِ مَكْرُوبٌ، يَا صَاحِبَ الذُّنُوبِ أَنْتَ غَدًا بِالذُّنُوبِ مَطْلُوبٌ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ فَوَائِدِ الْآيَةِ: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا لَمْ يَسْتَغْنِ عَنِ التَّوْبَةِ مَعَ عُلُوِّ شَأْنِهِ فَالْوَاحِدُ مِنَّا أَوْلَى بِذَلِكَ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْبُكَاءِ عَلَى زَلَّتِهِ تَنْبِيهٌ لَنَا أَيْضًا لِأَنَّا أَحَقُّ بِالْبُكَاءِ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ جُمِعَ بُكَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَى بُكَاءِ دَاوُدَ لَكَانَ بُكَاءُ دَاوُدَ أَكْثَرَ، وَلَوْ جُمِعَ بُكَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا وَبُكَاءُ دَاوُدَ إِلَى بُكَاءِ نُوحٍ لَكَانَ بُكَاءُ نُوحٍ أَكْثَرَ، وَلَوْ جُمِعَ بُكَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا وَبُكَاءُ دَاوُدَ وَبُكَاءُ نُوحٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إِلَى بُكَاءِ آدَمَ عَلَى خَطِيئَتِهِ لَكَانَ بُكَاءُ آدَمَ أَكْثَرَ» . الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إِنَّمَا اكْتَفَى اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِ تَوْبَةِ آدَمَ دُونَ تَوْبَةِ حَوَّاءَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَبَعًا لَهُ كَمَا طُوِيَ ذِكْرُ النِّسَاءِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لِذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَهَا فِي قَوْلِهِ: قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: 23] . [سورة البقرة (2) : آية 38] قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي فَائِدَةِ تَكْرِيرِ الْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْهُبُوطُ الْأَوَّلُ غَيْرُ الثَّانِي فَالْأَوَّلُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَالثَّانِي مِنْ سَمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى الْأَرْضِ وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ فِي الْهُبُوطِ الْأَوَّلِ: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ فَلَوْ كَانَ الِاسْتِقْرَارُ فِي الْأَرْضِ إِنَّمَا حَصَلَ بِالْهُبُوطِ الثَّانِي لكان ذلك قَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ [الْبَقَرَةِ: 36] عَقِيبَ الْهُبُوطِ الثَّانِي أَوْلَى. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ قَالَ فِي الْهُبُوطِ الثَّانِي: اهْبِطُوا مِنْها وَالضَّمِيرُ فِي (مِنْهَا) عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ الْهُبُوطِ الثَّانِي مِنَ الْجَنَّةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ التَّكْرِيرَ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ أَقْوَى مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ لَمَّا أَتَيَا بِالزَّلَّةِ أُمِرَا بِالْهُبُوطِ فَتَابَا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْهُبُوطِ لَمَّا كَانَ بِسَبَبِ الزَّلَّةِ فَبَعْدَ التَّوْبَةِ وَجَبَ أَنْ لَا يَبْقَى الْأَمْرُ بِالْهُبُوطِ فَأَعَادَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْرَ بِالْهُبُوطِ مَرَّةً ثَانِيَةً لِيَعْلَمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْهُبُوطِ مَا كَانَ جَزَاءً عَلَى ارْتِكَابِ الزَّلَّةِ حَتَّى يَزُولَ بِزَوَالِهَا بَلِ الْأَمْرُ بِالْهُبُوطِ بَاقٍ بَعْدِ التَّوْبَةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِهِ كَانَ تَحْقِيقًا لِلْوَعْدِ الْمُتَقَدَّمِ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَةِ: 30] فَإِنْ قِيلَ/ مَا جَوَابُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ؟ قُلْنَا: الشَّرْطُ الثَّانِي مَعَ جَوَابِهِ، كَقَوْلِكَ: إِنْ جِئْتَنِي فَإِنْ قَدَرْتُ أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُهْبِطَ بِالْهِنْدِ وَحَوَّاءَ بِجُدَّةَ وَإِبْلِيسَ بِمَوْضِعٍ مِنَ الْبَصْرَةِ عَلَى أَمْيَالٍ وَالْحَيَّةَ بِأَصْفَهَانَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي «الْهُدَى» وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: الْمُرَادُ مِنْهُ كُلُّ دَلَالَةٍ وَبَيَانٍ فَيَدْخُلُ فِيهِ دَلِيلُ الْعَقْلِ وَكُلُّ كَلَامٍ يَنْزِلُ عَلَى نَبِيٍّ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى عِظَمِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ أَهْبَطْتُّكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ فَقَدْ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ بِمَا يُؤَدِّيكُمْ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى الْجَنَّةِ مَعَ الدَّوَامِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ. قَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا أُهْبِطَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْأَرْضِ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ يَا آدَمُ أَرْبَعُ خِصَالٍ فِيهَا كُلُّ الْأَمْرِ لَكَ وَلِوَلَدِكَ. وَاحِدَةٌ لِي وَوَاحِدَةٌ لَكَ وَوَاحِدَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَوَاحِدَةٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاسِ، أَمَّا الَّتِي لِي فَتَعْبُدُنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، وَأَمَّا الَّتِي لَكَ فَإِذَا عَمِلْتَ نِلْتَ أُجْرَتَكَ، وَأَمَّا الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ فَعَلَيْكَ الدُّعَاءُ وَعَلَيَّ الْإِجَابَةُ، وَأَمَّا الَّتِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاسِ فَأَنْ تَصْحَبَهُمْ بِمَا تُحِبُّ أَنْ يَصْحَبُوكَ بِهِ. وَثَانِيهَا: مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْهُدَى الْأَنْبِيَاءُ وَهَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ كَانَ الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً غَيْرَ آدَمَ وَهُمْ ذُرِّيَّتُهُ وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا التَّأْوِيلُ يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْمُخَاطَبِينَ بِذُرِّيَّةِ آدَمَ وَتَخْصِيصَ الْهُدَى بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ دَلَّ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ بِحَقِّهِ عِلْمًا وَعَمَلًا بِالْإِقْدَامِ عَلَى مَا يَلْزَمُ وَالِاحْجَامِ عَمَّا يَحْرُمُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِلَى حَالٍ لَا خَوْفَ فِيهَا وَلَا حُزْنَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعَ اخْتِصَارِهَا تَجْمَعُ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْمَعَانِي لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً [البقرة: 38] [طه: 123] دَخَلَ فِيهِ الْإِنْعَامُ بِجَمِيعِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَزِيَادَاتِ الْبَيَانِ وَجَمِيعِ مَا لَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلا به من العقل ووجوه التمكن، وجميع قوله: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ [البقرة: 38] تَأَمُّلَ الْأَدِلَّةِ بِحَقِّهَا وَالنَّظَرَ فِيهَا وَاسْتِنْتَاجَ الْمَعَارِفِ مِنْهَا وَالْعَمَلَ بِهَا وَيَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّ التَّكَالِيفِ وَجَمَعَ قَوْلُهُ: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 38] جَمِيعَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ تَعَالَى لِأَوْلِيَائِهِ لِأَنَّ زَوَالَ الْخَوْفِ يَتَضَمَّنُ السَّلَامَةَ مِنْ جَمِيعِ الْآفَاتِ وَزَوَالَ الْحُزْنِ يَقْتَضِي الْوُصُولَ إِلَى كُلِّ اللَّذَّاتِ وَالْمُرَادَاتِ وَقَدَّمَ عَدَمَ الْخَوْفِ عَلَى عَدَمِ الْحُزْنِ لِأَنَّ زَوَالَ مَا لَا يَنْبَغِي مُقَدَّمٌ عَلَى طَلَبِ مَا يَنْبَغِي، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ الَّذِي أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَلْحَقُهُ خَوْفٌ فِي الْقَبْرِ وَلَا عِنْدَ الْبَعْثِ وَلَا عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْقِفِ وَلَا عِنْدَ تَطَايُرِ الْكُتُبِ وَلَا عِنْدَ نَصْبِ الْمَوَازِينِ وَلَا عِنْدَ الصِّرَاطِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 103] وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ أَهْوَالَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَصِلُ إِلَى الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ تَصِلُ أَيْضًا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [الْحَجِّ: 2] وَأَيْضًا فَإِذَا انْكَشَفَتْ تِلْكَ الْأَهْوَالُ وَصَارُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَرِضْوَانِ اللَّهِ صَارَ مَا تَقَدَّمَ كَأَنْ لم يمكن، بَلْ رُبَّمَا كَانَ زَائِدًا فِي الِالْتِذَاذِ بِمَا يَجِدُهُ مِنَ/ النَّعِيمِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ أَخَصُّ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أَمَامَهُمْ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَعْظَمَ فِي صَدْرِ الَّذِي يَمُوتُ مِمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَأَمَّنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ. ثُمَّ سَلَاهُمْ عَنِ الدُّنْيَا فَقَالَ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَقْتَضِي نَفْيَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ مُطْلَقًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا حَصَلَا فِي الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِينَ أَكْثَرَ مِنْ حُصُولِهِمَا لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خُصَّ الْبَلَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ الْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ» ، وَأَيْضًا فَالْمُؤْمِنُ لَا يُمْكِنُهُ الْقَطْعُ أَنَّهُ أَتَى بِالْعِبَادَاتِ كَمَا يَنْبَغِي فَخَوْفُ التَّقْصِيرِ حَاصِلٌ وَأَيْضًا فَخَوْفُ سُوءِ الْعَاقِبَةِ حَاصِلٌ، قُلْنَا

[سورة البقرة (2) : آية 39]

قَرَائِنُ الْكَلَامِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُهُمَا فِي الْآخِرَةِ لَا فِي الدُّنْيَا. وَلِذَلِكَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا حِينَ دَخَلُوا الْجَنَّةَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فَاطِرٍ: 43] أَيْ أَذْهَبَ عَنَّا مَا كُنَّا فِيهِ مِنَ الْخَوْفِ وَالْإِشْفَاقِ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَنْ تَفُوتَنَا كَرَامَةُ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي نِلْنَاهَا الْآنَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْهُدَى قَدْ يَثْبُتُ وَلَا اهْتِدَاءَ فَلِذَلِكَ قَالَ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ. وَثَانِيهَا: بُطْلَانُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَعَارِفَ ضَرُورِيَّةٌ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ بِاتِّبَاعِ الْهُدَى تُسْتَحَقُّ الْجَنَّةَ، وَرَابِعُهَا: إِبْطَالُ التَّقْلِيدِ لِأَنَّ المقلد لا يكون متبعاً للهدى. [سورة البقرة (2) : آية 39] وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لَمَّا وَعَدَ اللَّهُ مُتَّبِعَ الْهُدَى بِالْأَمْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْحُزْنِ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَنْ أَعَدَّ لَهُ الْعَذَابَ الدَّائِمَ فَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الْإِنْسِ أَوْ مِنَ الْجِنِّ فَهُمْ أَصْحَابُ الْعَذَابِ الدَّائِمِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْعَذَابَ هَلْ يَحْسُنُ أَمْ لَا وَبِتَقْدِيرِ حُسْنِهِ فَهَلْ يَحْسُنُ دَائِمًا أَمْ لَا؟ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 7] وهاهنا آخِرُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى جَمِيعِ بَنِي آدَمَ وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى التَّوْحِيدِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ هَذِهِ النِّعَمَ أُمُورٌ حَادِثَةٌ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُحْدِثٍ وَعَلَى النُّبُوَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ عَنْهَا مُوَافِقًا لِمَا كَانَ مَوْجُودًا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ وَلَا تَلْمَذَةٍ لِأَحَدٍ وَعَلَى الْمَعَادِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ابْتِدَاءً قَدَرَ عَلَى خَلْقِهَا إِعَادَةً وبالله التوفيق. الْقَوْلُ فِي النِّعَمِ الْخَاصَّةِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَقَامَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ أَوَّلًا ثُمَّ عَقَّبَهَا بِذِكْرِ الْإِنْعَامَاتِ الْعَامَّةِ لِكُلِّ الْبَشَرِ عَقَّبَهَا بِذِكْرِ الْإِنْعَامَاتِ الْخَاصَّةِ عَلَى أَسْلَافِ الْيَهُودِ كَسْرًا لِعِنَادِهِمْ وَلَجَاجِهِمْ بِتَذْكِيرِ النِّعَمِ السَّالِفَةِ وَاسْتِمَالَةً لِقُلُوبِهِمْ بِسَبَبِهَا وَتَنْبِيهًا عَلَى ما يدل على نوبة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَّرَهُمْ تِلْكَ النِّعَمَ أَوَّلًا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فقال: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: 40] وَفَرَّعَ عَلَى تَذْكِيرِهَا الْأَمْرَ بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 41] ثُمَّ عَقَّبَهَا بِذِكْرِ الْأُمُورِ الَّتِي تَمْنَعُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ، ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ تِلْكَ النِّعَمَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ ثَانِيًا بقوله مرة أخرى: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ تَنْبِيهًا عَلَى شِدَّةِ غَفْلَتِهِمْ، ثُمَّ أَرْدَفَ هَذَا التَّذْكِيرَ بِالتَّرْغِيبِ الْبَالِغِ بِقَوْلِهِ: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [البقرة: 47] مَقْرُونًا بِالتَّرْهِيبِ الْبَالِغِ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [الْبَقَرَةِ: 48] إِلَى آخَرِ الْآيَةِ. ثُمَّ شَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَعْدِيدِ تِلْكَ النِّعَمِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ وَمَنْ تَأَمَّلَ وَأَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّ هَذَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي حُسْنِ التَّرْتِيبِ لِمَنْ يُرِيدُ الدَّعْوَةَ وَتَحْصِيلَ الِاعْتِقَادِ فِي قَلْبِ الْمُسْتَمِعِ. وَإِذْ قَدْ حَقَّقْنَا هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَلْنَتَكَلَّمِ الْآنَ فِي التَّفْسِيرِ بِعَوْنِ الله.

[سورة البقرة (2) : آية 40]

[سورة البقرة (2) : آية 40] يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) اعْلَمْ أَنَّ فِيهِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ إِسْرَائِيلَ هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَيَقُولُونَ إِنَّ مَعْنَى إِسْرَائِيلَ عَبْدُ اللَّهِ لِأَنَّ «إِسْرَا» فِي لُغَتِهِمْ هُوَ الْعَبْدُ وَ «إِيلُ» هُوَ اللَّهُ وَكَذَلِكَ جِبْرِيلُ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَمِيكَائِيلُ عَبْدُ اللَّهِ. قَالَ الْقَفَّالُ: قِيلَ إِنْ «إِسْرَا» بِالْعِبْرَانِيَّةِ فِي مَعْنَى إنسان فكأنه قيل رجل الله فقوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ خِطَابٌ مَعَ جَمَاعَةِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَيَّامِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَدُّ النِّعْمَةِ أَنَّهَا الْمَنْفَعَةُ الْمَفْعُولَةُ عَلَى جِهَةِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْغَيْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الْغَيْرِ، قَالُوا: وَإِنَّمَا زِدْنَا هَذَا لِأَنَّ النِّعْمَةَ يُسْتَحَقُّ بِهَا الشُّكْرُ وَإِذَا كَانَتْ قَبِيحَةً لَمْ يستحق بها الشكر والحق أن هذا القيد غير معتبر لأنه/ يجوز أن يستحق الشكر بِالْإِحْسَانِ وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ مَحْظُورًا لِأَنَّ جِهَةَ اسْتِحْقَاقِ الشُّكْرِ غَيْرُ جِهَةِ اسْتِحْقَاقِ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ، فَأَيُّ امْتِنَاعٍ فِي اجْتِمَاعِهِمَا؟ أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَاسِقَ يَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ بِإِنْعَامِهِ وَالذَّمَّ بِمَعْصِيَتِهِ فَلِمَ لا يجوز هاهنا أن يكون الأمر كذلك؟ ولنرجع إلى تفسي الْحَدِّ فَنَقُولُ: أَمَّا قَوْلُنَا: الْمَنْفَعَةُ فَلِأَنَّ الْمَضَرَّةَ الْمَحْضَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نِعْمَةً، وَقَوْلُنَا: الْمَفْعُولَةُ عَلَى جِهَةِ الْإِحْسَانِ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَفْعًا وَقَصَدَ الْفَاعِلُ نَفْعَ نَفْسِهِ لَا نَفْعَ الْمَفْعُولِ بِهِ كَمَنْ أَحْسَنَ إِلَى جَارِيَتِهِ لِيَرْبَحَ عَلَيْهَا أَوْ أَرَادَ اسْتِدْرَاجَهُ إِلَى ضَرَرٍ وَاخْتِدَاعِهِ كَمَنْ أَطْعَمَ خَبِيصًا مَسْمُومًا لِيُهْلِكَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، نِعْمَةً فَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مَفْعُولَةً عَلَى قَصْدِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْغَيْرِ كَانَتْ نِعْمَةً. إِذَا عَرَفْتَ حَدَّ النِّعْمَةِ فَلْنُفَرِّعْ عَلَيْهِ فُرُوعًا: الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا يَصِلُ إِلَيْنَا آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنَ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ فَهُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النَّحْلِ: 53] ، ثُمَّ إِنَّ النِّعْمَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: نِعْمَةٌ تَفَرَّدَ اللَّهُ بِهَا نَحْوَ أَنْ خَلَقَ وَرَزَقَ، وَثَانِيهَا: نِعْمَةٌ وَصَلَتْ إِلَيْنَا مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ بِأَنْ خَلَقَهَا وَخَلَقَ الْمُنْعِمَ وَمَكَّنَهُ مِنَ الْإِنْعَامِ وَخَلَقَ فِيهِ قُدْرَةَ الْإِنْعَامِ وَدَاعِيَتَهُ وَوَفَّقَهُ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ إِلَيْهِ، فَهَذِهِ النِّعْمَةُ فِي الْحَقِيقَةِ أَيْضًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَجْرَاهَا عَلَى يَدِ عَبْدِهِ كَانَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَشْكُورًا، وَلَكِنَّ الْمَشْكُورَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ [لُقْمَانَ: 14] فَبَدَأَ بِنَفْسِهِ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ» . وَثَالِثُهَا: نِعْمَةٌ وَصَلَتْ إِلَيْنَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِوَاسِطَةِ طَاعَاتِنَا وَهِيَ أَيْضًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَفَّقَنَا عَلَى الطَّاعَاتِ وَأَعَانَنَا عَلَيْهَا وَهَدَانَا إِلَيْهَا وَأَزَاحَ الْأَعْذَارَ وَإِلَّا لَمَا وَصَلْنَا إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، فَظَهَرَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ جَمِيعَ النِّعَمِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ. الْفَرْعُ الثَّانِي: أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبِيدِهِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ عَدُّهَا وَحَصْرُهَا عَلَى مَا قَالَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [النَّحْلِ: 18] وَإِنَّمَا لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَا أُودِعَ فِينَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَاللَّذَّاتِ الَّتِي نَنْتَفِعُ بِهَا وَالْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ الَّتِي نَسْتَعْمِلُهَا فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَالَمِ مِمَّا يُلْتَذُّ بِهِ وَيُسْتَدَلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَمَا وُجِدَ فِي الْعَالَمِ مِمَّا يَحْصُلُ الِانْزِجَارُ بِرُؤْيَتِهِ عَنِ الْمَعَاصِي مِمَّا لَا يُحْصَى عَدَدُهُ وَكُلُّ ذَلِكَ مَنَافِعُ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ هِيَ اللَّذَّةُ أَوْ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إِلَى اللَّذَّةِ وَجَمِيعُ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَا يُلْتَذُّ بِهِ نِعْمَةٌ وَكُلُّ مَا يُلْتَذُّ بِهِ وَهُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى دَفْعِ الضَّرَرِ فَهُوَ كَذَلِكَ وَالَّذِي لَا يَكُونُ جَالِبًا لِلنَّفْعِ الْحَاضِرِ وَلَا دَافِعًا لِلضَّرَرِ الْحَاضِرِ فَهُوَ صَالِحٌ لِأَنْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الصَّانِعِ الْحَكِيمِ فَيَقَعُ ذَلِكَ وَسِيلَةً إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَهُمَا وَسِيلَتَانِ إِلَى اللَّذَّاتِ الْأَبَدِيَّةِ فَثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ مَخْلُوقَاتِهِ

سُبْحَانَهُ نِعَمٌ عَلَى الْعَبِيدِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْعُقُولُ قَاصِرَةً عَنْ تَعْدِيدِ مَا فِي أَقَلِّ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْحِكَمِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِكُلِّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْحِكَمِ، فَصَحَّ بِهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتِ النِّعَمُ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ وَمَا لَا يَتَنَاهَى لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِهِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَكَيْفَ أَمَرَ بِتَذَكُّرِهَا فِي قَوْلِهِ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ/ عَلَيْكُمْ وَالْجَوَابُ أَنَّهَا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ بِحَسَبِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَشْخَاصِ إِلَّا أَنَّهَا مُتَنَاهِيَةٌ بِحَسَبِ الْأَجْنَاسِ، وَذَلِكَ يَكْفِي فِي التَّذْكِيرِ الَّذِي يُفِيدُ الْعِلْمَ بِوُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَالطَّاعَةِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا عَلَى إِيصَالِ النِّعْمَةِ ثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِحَمْدِ الْحَامِدِينَ. وَلِهَذَا قَالَ فِي ذَمِّ الْأَصْنَامِ: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [الشُّعَرَاءِ: 72، 73] وَقَالَ تَعَالَى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ [الْفُرْقَانِ: 55] وَقَالَ: أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى [يُونُسَ: 35] . الْفَرْعُ الثَّالِثُ: أَنَّ أَوَّلَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى عَبِيدِهِ هُوَ أَنْ خَلَقَهُمْ أَحْيَاءً وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَةِ: 28، 29] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَصْلَ النِّعَمِ الْحَيَاةُ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوَّلَ مَا ذَكَرَ مِنَ النِّعَمِ فَإِنَّمَا ذَكَرَ الْحَيَاةَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَقِيبَهَا سَائِرَ النِّعَمِ وَأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَّرَ الْمُؤْمِنِينَ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حَيَاةِ الدُّنْيَا حَيَاةُ الْآخِرَةِ وَالثَّوَابُ. وَبَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ مَا خَلَقَ قِسْمَانِ مُنْتَفِعٌ وَمُنْتَفَعٌ بِهِ، هَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَمَا خَلَقَ الْمَنَافِعَ خَلَقَ الْمَضَارَّ وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا سَمَّى نَفْسَهُ «النَّافِعَ الضَّارَّ» وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْعَمَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ بِنِعْمَةِ الدُّنْيَا وَنِعْمَةِ الدِّينِ، وَسَوَّى بَيْنِ الْجَمِيعِ فِي النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، أَمَّا فِي النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ فَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ فِي الْمَقْدُورِ مِنَ الْأَلْطَافِ فَقَدْ فَعَلَ بِهِمْ وَالَّذِي لَمْ يَفْعَلْهُ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْقُدْرَةِ إِذْ لَوْ قَدَرَ عَلَى لُطْفٍ لَمْ يَفْعَلْهُ بِالْمُكَلَّفِ لَبَقِيَ عُذْرُ الْمُكَلَّفِ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَعَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ خَاصَّةً لِأَنَّ عِنْدَهُمْ يَجِبُ رِعَايَةُ الْأَصْلَحِ فِي الدُّنْيَا وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَجِبُ. وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: إن الله تعالى خلق الكافر للنار والعذاب الْآخِرَةِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ لِلَّهِ نِعْمَةٌ عَلَى الْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذِهِ النِّعَمُ الْقَلِيلَةُ فِي الدُّنْيَا لَمَّا كَانَتْ مُؤَدِّيَةً إِلَى الضَّرَرِ الدَّائِمِ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نِعْمَةً عَلَى الْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْ جَعَلَ السُّمَّ فِي الْحَلْوَى لَمْ يَعُدَّ النَّفْعَ الْحَاصِلَ مِنْ أَكْلِ الْحَلْوَى نِعْمَةً لَمَّا كَانَ ذَلِكَ سَبِيلًا إِلَى الضَّرَرِ الْعَظِيمِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آلِ عِمْرَانَ: 178] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يُنْعِمْ عَلَى الْكَافِرِ بِنِعْمَةِ الدِّينِ فَلَقَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِنِعْمَةِ الدُّنْيَا وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَصْوَبُ وَيَدُلُّ عليه وجوه. أحدها: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً [الْبَقَرَةِ: 21، 22] فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْكُلِّ طَاعَتُهُ لِمَكَانِ هَذِهِ النِّعَمِ وَهِيَ نِعْمَةُ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ. ثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً [البقرة: 28] إِلَى آخِرِهِ وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ وَشَرْحِ النِّعَمِ وَلَوْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ مِنَ النِّعَمِ لَمَا صَحَّ ذلك. وثالثها: قوله: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [الْبَقَرَةِ: 47] وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْعَمَ عَلَى الْكَافِرِ إِذِ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ هُمْ أَهْلُ الكتاب وكانوا من الكفار وكذا قوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ/ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ إلى قوله: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ وَقَوْلُهُ: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الْبَقَرَةِ: 53] . وَكُلُّ ذَلِكَ

عَدٌّ لِلنِّعَمِ عَلَى الْعَبِيدِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً [الْأَنْعَامِ: 6] . وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ [الْأَنْعَامِ: 63] إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ. وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [الْأَعْرَافِ: 10] وَقَالَ فِي قِصَّةِ إِبْلِيسَ: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الْأَعْرَافِ: 17] ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ نِعْمَةٌ لَمَا كَانَ لِهَذَا الْقَوْلِ فَائِدَةٌ. وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ [الْأَعْرَافِ: 74] الْآيَةَ، وَقَالَ حَاكِيًا عَنْ شُعَيْبٍ: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ [الْأَعْرَافِ: 86] وَقَالَ حَاكِيًا عَنْ مُوسَى: قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [الْأَعْرَافِ: 140] . وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ [الْأَنْفَالِ: 53] وَهَذَا صَرِيحٌ. وَتَاسِعُهَا: قَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ [يُونُسَ: 5] . وَعَاشِرُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ. الْحَادِي عَشَرَ: قَوْلُهُ: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها إِلَى قَوْلِهِ: فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يُونُسَ: 22- 23] . الثَّانِي عَشَرَ: قَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً [الْفُرْقَانِ: 47] . وَقَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً [يُونُسَ: 67] . الثَّالِثَ عَشَرَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ [إِبْرَاهِيمَ: 28- 29] . الرَّابِعَ عَشَرَ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ [إِبْرَاهِيمَ: 32] . الْخَامِسَ عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إِبْرَاهِيمَ: 34] وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إِثْبَاتِ النِّعْمَةِ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رَاجِعٌ إِلَى الْعِبَارَةِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَعْنِي الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَأَنْوَاعَ الرِّزْقِ وَالْمَنَافِعِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمَنَافِعِ إِذَا حَصَلَ عَقِيبَهَا تِلْكَ الْمَضَارُّ الْأَبَدِيَّةُ هَلْ يُطْلَقُ فِي الْعُرْفِ عَلَيْهَا اسْمُ النِّعْمَةِ أَمْ لَا؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ نِزَاعٌ فِي مُجَرَّدِ عِبَارَةٍ، وَأَمَّا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا لَا يَلْتَذُّ بِهِ الْمُكَلَّفُ فَهُوَ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَهُ لِيَنْتَفِعَ بِهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الصَّانِعِ وَعَلَى لُطْفِهِ وَإِحْسَانِهِ فَأُمُورٌ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فيبين تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا بَعَثَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَلِأَجْلِ الدَّعْوَةِ إِلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَالْإِيمَانِ بِتَوْحِيدِهِ وَعَدْلِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [النَّحْلِ: 2- 4] فَبَيَّنَ أَنَّ حُدُوثَ الْعَبْدِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ مَنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَهُوَ انْقِلَابُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، مِنْ كَوْنِهِ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ مِنْ أَخَسِّ أَحْوَالِهِ/ وَهُوَ كَوْنُهُ نُطْفَةً إِلَى أَشْرَفِ أَحْوَالِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ خَصِيمًا مُبِينًا، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وُجُوهَ إِنْعَامِهِ فَقَالَ: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ إِلَى قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النَّحْلِ: 5- 10] بَيَّنَ بِذَلِكَ الرَّدِّ عَلَى الدَّهْرِيَّةِ وَأَصْحَابِ الطَّبَائِعِ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْمَاءَ وَاحِدٌ وَالتُّرَابَ وَاحِدٌ وَمَعَ ذَلِكَ اخْتَلَفَتِ الْأَلْوَانُ وَالطُّعُومُ وَالرَّوَائِحُ، ثُمَّ قَالَ: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ [النَّحْلِ: 12] بَيَّنَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى الْمُنَجِّمِينَ وَأَصْحَابِ الْأَفْلَاكِ حَيْثُ اسْتُدِلَّ بِحَرَكَاتِهَا وَبِكَوْنِهَا مُسَخَّرَةً عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى حُدُوثِهَا فَأَثْبَتَ

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ مَخْلُوقٌ لِأَجْلِ الْمُكَلَّفِينَ لِأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ مِمَّا يُغَايِرُ ذَاتَ الْمُكَلَّفِ لَيْسَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَلْتَذَّ بِهِ الْمُكَلَّفُ وَيَسْتَرْوِحَ إِلَيْهِ فَيَحْصُلُ لَهُ بِهِ سُرُورٌ أَوْ يَتَحَمَّلُ عَنْهُ كُلْفَةً أَوْ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ اعْتِبَارٌ نَحْوَ الْأَجْسَامِ الْمُؤْذِيَةِ كَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ فَيَتَذَكَّرُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا أَنْوَاعَ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ فَيَحْتَرِزُ مِنْهَا وَيَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى الْمُنْعِمِ الْأَعْظَمِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ عَنْ هَذِهِ الْمَنَافِعِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَبَّهَ عَلَى عِظَمِ إِنْعَامِهِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ فَقَالَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [النَّحْلِ: 18] . وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ [النَّحْلِ: 112] فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ كَوْنَ النِّعْمَةِ وَاصِلَةً إِلَيْهِمْ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ كُفْرَانُهَا سَبَبًا لِلتَّبْدِيلِ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ قَارُونَ: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [الْقَصَصِ: 77] وَقَالَ: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً [لُقْمَانَ: 20] وَقَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ [الْوَاقِعَةِ: 58] وقال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [يس: 14] [الرَّحْمَنِ: 16] عَلَى سَبِيلِ التَّكْرِيرِ وَكُلُّ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَهُوَ مِنَ النِّعَمِ، إِمَّا فِي الدِّينِ أَوْ فِي الدُّنْيَا فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي النِّعَمِ الْمَخْصُوصَةِ يبني إِسْرَائِيلَ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: عَبِيدُ النِّعَمِ كَثِيرُونَ وَعَبِيدُ الْمُنْعِمِ قَلِيلُونَ، فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَّرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وَلَمَّا آلَ الْأَمْرُ إِلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَّرَهُمْ بِالْمُنْعِمِ فَقَالَ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 152] فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَضْلِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثِيرَةٌ (أ) اسْتَنْقَذَهُمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَأَبْدَلَهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِتَمْكِينِهِمْ فِي الْأَرْضِ وَتَخْلِيصِهِمْ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ كَمَا قَالَ: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ مَا كانُوا يَحْذَرُونَ [الْقَصَصِ: 5، 6] . (ب) جَعَلَهُمْ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَبِيدًا لِلْقِبْطِ فَأَهْلَكَ أَعْدَاءَهُمْ وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ كَمَا قَالَ: كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاءِ: 59] (ج) أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي مَا أَنْزَلَهَا عَلَى أُمَّةٍ سِوَاهُمْ كَمَا قَالَ: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [الْمَائِدَةِ: 20] . (د) رَوَى هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ نَجَّاهُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَظَلَّلَ عَلَيْهِمْ فِي التِّيهِ الْغَمَامَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى فِي التِّيهِ وَأَعْطَاهُمُ الْحَجَرَ الذي/ كان كرأس الرجل يسقيهم ما شاؤوا مِنَ الْمَاءِ مَتَى أَرَادُوا فَإِذَا اسْتَغْنَوْا عَنِ الْمَاءِ رَفَعُوهُ فَاحْتَبَسَ الْمَاءُ عَنْهُمْ وَأَعْطَاهُمْ عَمُودًا من النور ليضيء لهم بالليل وكانت رؤوسهم لَا تَتَشَعَّثُ وَثِيَابُهُمْ لَا تَبْلَى. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا ذَكَّرَهُمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ فِي جُمْلَةِ النِّعَمِ مَا يَشْهَدُ بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ كَثْرَةَ النِّعَمِ تُوجِبُ عِظَمَ الْمَعْصِيَةِ فَذَكَّرَهُمْ تِلْكَ النِّعَمَ لِكَيْ يَحْذَرُوا مُخَالَفَةَ مَا دُعُوا إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْقُرْآنِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ تَذْكِيرَ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ يُوجِبُ الْحَيَاءَ عَنْ إِظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ تَذْكِيرَ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ يُفِيدُ أَنَّ الْمُنْعِمَ خَصَّهُمْ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النَّاسِ بِهَا وَمَنْ خَصَّ أَحَدًا بِنِعَمٍ كَثِيرَةٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُزِيلُهَا عَنْهُمْ لِمَا قِيلَ: إِتْمَامُ الْمَعْرُوفِ خَيْرٌ مِنَ ابْتِدَائِهِ فَكَأَنَّ تَذْكِيرَ النِّعَمِ السَّالِفَةِ يُطْمِعُ فِي النِّعَمِ الْآتِيَةِ، وَذَلِكَ الطَّمَعُ مَانِعٌ مِنْ إِظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ وَالْمُخَاصَمَةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ النِّعَمُ مَا

كَانَتْ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ بَلْ كَانَتْ عَلَى آبَائِهِمْ فَكَيْفَ تَكُونُ نِعَمًا عَلَيْهِمْ وَسَبَبًا لِعِظَمِ مَعْصِيَتِهِمْ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: لَوْلَا هَذِهِ النِّعَمُ عَلَى آبَائِهِمْ لَمَا بَقُوا فَمَا كَانَ يَحْصُلُ هَذَا النَّسْلُ فَصَارَتِ النِّعَمُ عَلَى الْآبَاءِ كَأَنَّهَا نِعَمٌ عَلَى الْأَبْنَاءِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الِانْتِسَابَ إِلَى الْآبَاءِ وَقَدْ خَصَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِنِعَمِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ فِي حَقِّ الْأَوْلَادِ. وَثَالِثُهَا: الأولاد متى سمعوا أن الله خَصَّ آبَاءَهُمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ لِمَكَانِ طَاعَتِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْكُفْرِ وَالْجُحُودِ رَغِبَ الْوَلَدُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَجْبُولٌ عَلَى التَّشَبُّهِ بِالْأَبِ فِي أَفْعَالِ الْخَيْرِ فَيَصِيرُ هَذَا التَّذْكِيرُ دَاعِيًا إِلَى الِاشْتِغَالِ بِالْخَيْرَاتِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الشُّرُورِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَهْدَ يُضَافُ إِلَى الْمُعَاهِدِ وَالْمُعَاهَدِ جَمِيعًا وذكروا في هذا العهد قولين: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ جَمِيعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِبَعْضِ التَّكَالِيفِ دُونَ بَعْضٍ ثُمَّ فِيهِ رِوَايَاتٌ. إِحْدَاهَا: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ تَعْرِيفَهُ إِيَّاهُمْ نِعَمَهُ عَهْدًا لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ يَلْزَمُهُمُ الْقِيَامُ بِشُكْرِهَا كَمَا يَلْزَمُهُمُ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، وَقَوْلُهُ: أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أَرَادَ بِهِ الثَّوَابَ وَالْمَغْفِرَةَ. فَجَعَلَ الْوَعْدَ بِالثَّوَابِ شَبِيهًا بِالْعَهْدِ مِنْ حَيْثُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهِ. ثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً، وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الْمَائِدَةِ: 12] فَمَنْ وَفَّى لِلَّهِ بِعَهْدِهِ وَفَّى اللَّهُ لَهُ بِعَهْدِهِ، وَثَالِثُهَا: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ أَوْفُوا بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَنَهَيْتُكُمْ عَنْهُ مِنَ الْمَعَاصِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ، أَيْ أَرْضَى عَنْكُمْ وَأُدْخِلْكُمُ الْجَنَّةَ وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَحْقِيقُهُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ [التَّوْبَةِ: 111] . الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْعَهْدِ مَا أَثْبَتَهُ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ وَصْفِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ سَيَبْعَثُهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي/ إِسْرائِيلَ إِلَى قَوْلِهِ: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الْمَائِدَةِ: 12] وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الْأَعْرَافِ: 156- 157] وَأَمَّا عَهْدُ اللَّهِ مَعَهُمْ فَهُوَ أَنْ يُنْجِزَ لَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ مِنْ وَضْعِ مَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَقَالَ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ [آلِ عِمْرَانَ: 81] الْآيَةَ. وَقَالَ: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصَّفِّ: 6] . وَقَالَ ابْنُ عباس: إن الله تعالى كان عَهِدَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ أَنِّي بَاعِثٌ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ نَبِيًّا أُمِّيًّا فَمَنْ تَبِعَهُ وَصَدَّقَ بِالنُّورِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ- أَيْ بِالْقُرْآنِ- غَفَرْتُ لَهُ ذَنْبَهُ وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ وَجَعَلْتُ لَهُ أَجْرَيْنِ، أَجْرًا بِاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى وَجَاءَتْ بِهِ سَائِرُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَجْرًا بِاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَتَصْدِيقُ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ [الْقَصَصِ: 52] إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا [الْقَصَصِ: 54] وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى يَقُولُ تَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي قوله تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ

[الْحَدِيدِ: 28] وَتَصْدِيقُهُ أَيْضًا فِيمَا رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِعِيسَى ثُمَّ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَرَجُلٌ أَدَّبَ أَمَتَهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ، وَرَجُلٌ أَطَاعَ اللَّهَ وَأَطَاعَ سَيِّدَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ» بَقِيَ هاهنا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُمْ فَكَيْفَ يَجُوزُ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ جَحْدَهُ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ كَانَ حَاصِلًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِكُتُبِهِمْ لَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ فَجَازَ مِنْهُمْ كِتْمَانُهُ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ النَّصَّ كَانَ نَصًّا خَفِيًّا لَا جَلِيًّا فَجَازَ وُقُوعُ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ فِيهِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: الشَّخْصُ الْمُبَشَّرُ بِهِ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ وَقْتُ خُرُوجِهِ وَمَكَانُ خُرُوجِهِ وَسَائِرُ التَّفَاصِيلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ النَّصُّ نَصًّا جَلِيًّا وَارِدًا فِي كُتُبٍ مَنْقُولَةٍ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّوَاتُرِ فَكَانَ يَمْتَنِعُ قُدْرَتُهُمْ عَلَى الْكِتْمَانِ وَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ النَّصُّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ ذَلِكَ الْمُبَشَّرَ بِهِ سَيَجِيءُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْيَهُودِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الَّذِينَ حَمَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّأَمُّلِ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّمَا اخْتَارُوهُ لِقُوَّةِ هَذَا السُّؤَالِ، فَأَمَّا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصُرَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ فَإِنَّهُ يُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّ تَعْيِينَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ نَصًّا جَلِيًّا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ بَلْ كَانَ مَنْصُوصًا/ عَلَيْهِ نَصًّا خَفِيًّا فَلَا جَرَمَ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يُعْلَمَ ذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَلْنَذْكُرِ الْآنَ بَعْضَ مَا جَاءَ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْبِشَارَةِ بِمَقْدَمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْأَوَّلُ: جَاءَ فِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ مِنَ السِّفْرِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّوْرَاةِ أَنَّ هَاجَرَ لَمَّا غَضِبَتْ عَلَيْهَا سَارَّةُ تَرَاءَى لَهَا مَلَكٌ [مِنْ قِبَلِ] اللَّهِ فَقَالَ لَهَا يَا هَاجَرُ أَيْنَ تُرِيدِينَ وَمِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتِ؟ قَالَتْ: أَهْرُبُ مِنْ سَيِّدَتِي سَارَّةَ فَقَالَ لَهَا: ارْجِعِي إِلَى سَيِّدَتِكِ وَاخْفِضِي لَهَا فَإِنَّ اللَّهَ سَيُكْثِرُ زَرْعَكِ وَذُرِّيَّتَكِ وَسَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ إِسْمَاعِيلَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ سَمِعَ تَبَتُّلَكِ وَخُشُوعَكِ وَهُوَ يَكُونُ عَيْنَ النَّاسِ وَتَكُونُ يَدُهُ فَوْقَ الْجَمِيعِ وَيَدُ الْجَمِيعِ مَبْسُوطَةٌ إِلَيْهِ بِالْخُضُوعِ وَهُوَ يَشْكُرُ عَلَى رَغْمِ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْبِشَارَةِ وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يُبَشِّرَ الْمَلَكُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ بِالظُّلْمِ وَالْجَوْرِ وَبِأَمْرٍ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ وَوَلَدَهُ لَمْ يَكُونُوا مُتَصَرِّفِينَ فِي الْكُلِّ أَعْنِي فِي مُعْظَمِ الدُّنْيَا وَمُعْظَمِ الْأُمَمِ وَلَا كَانُوا مُخَالِطِينَ لِلْكُلِّ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِيلَاءِ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ مَحْصُورِينَ فِي الْبَادِيَةِ لَا يَتَجَاسَرُونَ عَلَى الدُّخُولِ فِي أَوَائِلِ الْعِرَاقِ وَأَوَائِلِ الشَّامِ إِلَّا عَلَى أَتَمِّ خَوْفٍ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ اسْتَوْلَوْا عَلَى الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ بِالْإِسْلَامِ وَمَازَجُوا الْأُمَمَ وَوَطِئُوا بِلَادَهُمْ وَمَازَجَتْهُمُ الْأُمَمُ وَحَجُّوا بَيْتَهُمْ وَدَخَلُوا بَادِيَتَهُمْ بِسَبَبِ مُجَاوَرَةِ الْكَعْبَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقًا لَكَانَتْ هَذِهِ الْمُخَالَطَةُ مِنْهُمْ لِلْأُمَمِ وَمِنَ الْأُمَمِ لَهُمْ مَعْصِيَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَخُرُوجًا عَنْ طَاعَتِهِ إِلَى طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَاللَّهُ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يُبَشِّرَ بِمَا هَذَا سَبِيلُهُ. وَالثَّانِي: جَاءَ فِي الْفَصْلِ الْحَادِي عَشَرَ مِنَ السِّفْرِ الْخَامِسِ: «إِنَّ الرَّبَّ إِلَهَكُمْ يُقِيمُ لَكُمْ نَبِيًّا مِثْلِي مِنْ بَيْنِكُمْ وَمِنْ إِخْوَانِكُمْ» ، وَفِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى: «إِنِّي مُقِيمٌ لَهُمْ نَبِيًّا مِثْلَكَ مِنْ بَيْنِ إِخْوَانِهِمْ وَأَيُّمَا رَجُلٍ لَمْ يَسْمَعْ كَلِمَاتِي الَّتِي يُؤَدِّيهَا عَنِّي ذَلِكَ الرَّجُلُ بِاسْمِي أَنَا أَنْتَقِمُ مِنْهُ» . وَهَذَا الْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ الَّذِي يُقِيمُهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا أَنَّ مَنْ قَالَ لِبَنِي هَاشِمٍ: إِنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ إِخْوَانِكُمْ إِمَامٌ، عَقَلَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ

بَنِي هَاشِمٍ، ثُمَّ إِنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ إِسْرَائِيلُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَخٌ إِلَّا الْعِيصَ وَلَمْ يَكُنْ لِلْعِيصِ وَلَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ سِوَى أَيُّوبَ وَإِنَّهُ كَانَ قَبْلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُبَشِّرًا بِهِ، وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَإِنَّهُ كَانَ أخاً لإسحاق وَالِدِ يَعْقُوبَ ثُمَّ إِنَّ كُلَّ نَبِيٍّ بُعِثَ بَعْدَ مُوسَى كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ مِنْهُمْ لَكِنَّهُ كَانَ مِنْ إِخْوَانِهِمْ لِأَنَّهُ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ الَّذِي هو أخو إسحاق عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: «مِنْ بَيْنِكُمْ» يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ مِنْ بَيْنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قُلْنَا: بَلْ قَدْ قَامَ مِنْ بَيْنِهِمْ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ظَهَرَ بِالْحِجَازِ فَبُعِثَ بِمَكَّةَ وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبِهَا تَكَامَلَ أَمْرُهُ. وَقَدْ كَانَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ بِلَادُ الْيَهُودِ كَخَيْبَرَ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ وَالنَّضِيرِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحِجَازَ يُقَارِبُ الشَّامَ وَجُمْهُورُ الْيَهُودِ كَانُوا إِذْ ذَاكَ بِالشَّامِ، فَإِذَا قَامَ مُحَمَّدٌ بِالْحِجَازِ فَقَدْ قَامَ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْ إِخْوَانِهِمْ فَقَدْ قَامَ مِنْ بَيْنِهِمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ مِنْهُمْ. وَالثَّالِثُ: قَالَ فِي الْفَصْلِ الْعِشْرِينَ مِنْ هَذَا السِّفْرِ: «إِنَّ/ الرَّبَّ تَعَالَى جَاءَ فِي طُورِ سَيْنَاءَ وَطَلَعَ لَنَا مِنْ سَاعِيرَ وَظَهَرَ مِنْ جِبَالِ فَارَانَ وَصَفَّ عَنْ يَمِينِهِ عُنْوَانَ الْقِدِّيسِينَ فَمَنَحَهُمُ الْعِزَّ وَحَبَّبَهُمْ إِلَى الشُّعُوبِ وَدَعَا لِجَمِيعِ قِدِّيسِيهِ بِالْبَرَكَةِ، وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ: أَنَّ جَبَلَ فَارَانَ هُوَ بِالْحِجَازِ لِأَنَّ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ فِي بَرِّيَّةِ فَارَانَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا سَكَنَ بِمَكَّةَ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُ: «فَمَنَحَهُمُ الْعِزَّ» لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ عَقِيبَ سُكْنَى إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُنَاكَ عِزٌّ وَلَا اجْتَمَعَ هُنَاكَ رَبَوَاتُ الْقِدِّيسِينَ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَتِ الْيَهُودُ: الْمُرَادُ أَنَّ النَّارَ لَمَّا ظَهَرَتْ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ ظَهَرَتْ مِنْ سَاعِيرَ نَارٌ أَيْضًا وَمِنْ جَبَلِ فَارَانَ أَيْضًا فَانْتَشَرَتْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ قُلْنَا هَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ خَلَقَ نَارًا فِي مَوْضِعٍ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ جَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ إِذَا تَابَعَ ذَلِكَ الْوَاقِعَةَ وَحْيٌ نَزَلَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَوْ عُقُوبَةٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَعِنْدَكُمْ أَنَّهُ لَمْ يَتْبَعْ ظُهُورَ النَّارِ وَحْيٌ وَلَا كَلَامٌ إِلَّا مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ فَمَا كَانَ يَنْبَغِي إِلَّا أَنْ يُقَالَ ظَهَرَ مِنْ سَاعِيرَ وَمِنْ جَبَلِ فَارَانَ فَلَا يَجُوزُ وُرُودُهُ كَمَا لَا يُقَالُ جَاءَ اللَّهُ مِنَ الْغَمَامِ إِذَا ظَهَرَ فِي الْغَمَامِ احْتِرَاقٌ وَنِيرَانٌ كَمَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ الرَّبِيعِ، وَأَيْضًا فَفِي كِتَابِ حَبْقُوقَ بَيَانُ مَا قُلْنَا وَهُوَ جَاءَ اللَّهُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ وَالْقُدْسِ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ، وَانْكَشَفَتِ السَّمَاءُ مِنْ بَهَاءِ مُحَمَّدٍ وَامْتَلَأَتِ الْأَرْضُ مِنْ حَمْدِهِ. يَكُونُ شُعَاعُ مَنْظَرِهِ مِثْلَ النُّورِ يَحْفَظُ بَلَدَهُ بِعِزِّهِ تَسِيرُ الْمَنَايَا أَمَامَهُ وَيَصْحَبُ سِبَاعُ الطَّيْرِ أَجْنَادَهُ قَامَ فَمَسَحَ الْأَرْضَ وَتَأَمَّلَ الْأُمَمَ وَبَحَثَ عَنْهَا فَتَضَعْضَعَتِ الْجِبَالُ الْقَدِيمَةُ وَاتَّضَعَتِ الرَّوَابِي وَالدَّهْرِيَّةُ، وَتَزَعْزَعَتْ سُتُورُ أَهْلِ مدين ركبت الْخُيُولَ، وَعَلَوْتَ مَرَاكِبَ الِانْقِيَادِ وَالْغَوْثِ وَسَتَنْزِعُ فِي قِسِيِّكَ إِغْرَاقًا وَنَزْعًا وَتَرْتَوِي السِّهَامُ بِأَمْرِكَ يَا مُحَمَّدُ ارْتِوَاءً وَتَخُورُ الْأَرْضُ بِالْأَنْهَارِ، وَلَقَدْ رَأَتْكَ الْجِبَالُ فَارْتَاعَتْ وَانْحَرَفَ عَنْكَ شُؤْبُوبُ السَّيْلِ وَنَفَرَتِ الْمَهَارِي نَفِيرًا وَرُعْبًا وَرَفَعَتْ أَيْدِيَهَا وَجَلًا وَفَرَقًا وَتَوَقَّفَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ عَنْ مَجْرَاهُمَا وَسَارَتِ الْعَسَاكِرُ فِي بَرْقِ سِهَامِكَ وَلَمَعَانِ بَيَانِكَ تُدَوِّخُ الْأَرْضَ غَضَبًا وَتَدُوسُ الْأُمَمَ زَجْرًا لِأَنَّكَ ظَهَرْتَ بِخَلَاصِ أُمَّتِكَ وَإِنْقَاذِ تُرَابِ آبَائِكَ» . هَكَذَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ رَزِينٍ الطَّبَرِيِّ. أَمَّا النَّصَارَى فَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْغَرَرِ قَدْ رَأَيْتُ فِي نُقُولِهِمْ: «وَظَهَرَ مِنْ جِبَالِ فَارَانَ لَقَدْ تَقَطَّعَتِ السَّمَاءُ مِنْ بَهَاءِ مُحَمَّدٍ الْمَحْمُودِ وَتَرْتَوِي السِّهَامُ بِأَمْرِكَ الْمَحْمُودِ لِأَنَّكَ ظَهَرْتَ بِخَلَاصِ أُمَّتِكَ وَإِنْقَاذِ مَسِيحِكَ» ، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي التَّوْرَاةِ: «ظَهَرَ الرَّبُّ مِنْ جِبَالِ فَارَانَ» لَيْسَ مَعْنَاهُ ظُهُورُ النَّارِ مِنْهُ بَلْ مَعْنَاهُ ظُهُورُ شَخْصٍ مَوْصُوفٍ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَمَا ذَاكَ إِلَّا رَسُولُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ قَالُوا الْمُرَادُ مَجِيءُ اللَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ: «وَإِنْقَاذِ مَسِيحِكَ» قُلْنَا لَا يَجُوزُ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَرْكَبُ الْخُيُولَ وَبِأَنَّ شُعَاعَ مَنْظَرِهِ مِثْلُ النُّورِ وَبِأَنَّهُ جَازَ الْمَشَاعِرَ الْقَدِيمَةَ، أَمَّا قَوْلُهُ: (وَإِنْقَاذِ مَسِيحِكِ) فَإِنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْقَذَ الْمَسِيحَ مِنْ كَذِبِ الْيَهُودِ

وَالنَّصَارَى. وَالرَّابِعُ: مَا جَاءَ فِي كِتَابِ أَشْعِيَاءَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ: «قُومِي فَأَزْهِرِي مِصْبَاحَكِ، يُرِيدُ مَكَّةَ، فَقَدْ دَنَا وَقْتُكِ وَكَرَامَةُ اللَّهِ تَعَالَى طَالِعَةٌ عَلَيْكِ فَقَدْ تَجَلَّلَ الْأَرْضَ الظَّلَامُ وَغَطَّى عَلَى الْأُمَمِ الضَّبَابُ وَالرَّبُّ يُشْرِقُ عَلَيْكِ إِشْرَاقًا وَيُظْهِرُ كَرَامَتَهُ/ عَلَيْكِ تَسِيرُ الْأُمَمُ إِلَى نُورِكِ وَالْمُلُوكُ إِلَى ضَوْءِ طُلُوعِكِ وَارْفَعِي بَصَرَكِ إِلَى مَا حَوْلَكِ وَتَأَمَّلِي فَإِنَّهُمْ مُسْتَجْمَعُونَ عِنْدَكِ وَيَحُجُّونَكِ وَيَأْتِيكِ وَلَدُكِ مِنْ بَلَدٍ بَعِيدٍ لِأَنَّكِ أُمُّ الْقُرَى فَأَوْلَادُ سَائِرِ الْبِلَادِ كَأَنَّهُمْ أَوْلَادُ مَكَّةَ وَتَتَزَيَّنُ ثِيَابُكِ عَلَى الْأَرَائِكِ وَالسُّرُرِ حِينَ تَرَيْنَ ذَلِكَ تُسَرِّينَ وَتَبْتَهِجِينَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يَمِيلُ إِلَيْكِ ذَخَائِرُ الْبَحْرِ وَيَحُجُّ إِلَيْكِ عَسَاكِرُ الْأُمَمِ وَيُسَاقُ إِلَيْكِ كِبَاشُ مَدْيَنَ وَيَأْتِيكِ أَهْلُ سَبَأٍ وَيَتَحَدَّثُونَ بِنِعَمِ اللَّهِ وَيُمَجِّدُونَهُ وَتَسِيرُ إِلَيْكِ أَغْنَامُ فَارَانَ وَيُرْفَعُ إِلَى مَذْبَحِي مَا يُرْضِينِي وَأُحْدِثُ حِينَئِذٍ لِبَيْتِ مَحْمَدَتِي حَمْدًا» . فَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ كُلَّهَا مَوْجُودَةٌ لِمَكَّةَ فَإِنَّهُ قَدْ حَجَّ إِلَيْهَا عَسَاكِرُ الْأُمَمِ وَمَالَ إِلَيْهَا ذَخَائِرُ الْبَحْرِ وَقَوْلُهُ: «وَأُحْدِثُ لِبَيْتِ مَحْمَدَتِي حَمْدًا» مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُلَبِّي قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَتَقُولُ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، ثُمَّ صَارَ فِي الْإِسْلَامِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، فَهَذَا هُوَ الْحَمْدُ الَّذِي جَدَّدَهُ اللَّهُ لِبَيْتِ مَحْمَدَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ: بِذَلِكَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَسَيَكُونُ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ. قُلْنَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الْحَكِيمُ: «قَدْ دَنَا وَقْتُكِ» مَعَ أَنَّهُ مَا دَنَا بَلِ الَّذِي دَنَا أَمْرٌ لَا يُوَافِقُ رِضَاهُ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُحَذِّرُ مِنْهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ كِتَابَ أَشْعِيَاءَ مَمْلُوءٌ مِنْ ذِكْرِ الْبَادِيَةِ وَصِفَتِهَا، وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ. وَالْخَامِسُ: رَوَى السَّمَّانُ فِي تَفْسِيرِهِ فِي السِّفْرِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «قَدْ أَجَبْتُ دُعَاكَ فِي إِسْمَاعِيلَ وَبَارَكْتُ عَلَيْهِ فَكَبَّرْتُهُ وَعَظَّمْتُهُ جِدًّا جِدًّا وَسَيَلِدُ اثْنَيْ عَشَرَ عَظِيمًا وَأَجْعَلُهُ لِأُمَّةٍ عَظِيمَةٍ» وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ مَنْ كَانَ لِأُمَّةٍ عَظِيمَةٍ غَيْرَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا دُعَاءُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِسْمَاعِيلَ فَكَانَ لِرَسُولِنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا فَرَغَا مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الْبَقَرَةِ: 129] وَلِهَذَا كَانَ يَقُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةُ عِيسَى» وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصَّفِّ: 6] فَإِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَمْدِ وَالِاسْمُ الْمُشْتَقُّ مِنَ الْحَمْدِ لَيْسَ إِلَّا لِنَبِيِّنَا فَإِنَّ اسْمَهُ مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَمَحْمُودٌ. قِيلَ إِنَّ صِفَتَهُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مَوْلِدَهُ بِمَكَّةَ وَمَسْكَنَهُ بِطِيبَةَ وَمُلْكَهُ بِالشَّامِ وَأُمَّتَهُ الْحَمَّادُونَ. وَالسَّادِسُ: قَالَ الْمَسِيحُ لِلْحَوَارِيِّينَ: «أَنَا أَذْهَبُ وَسَيَأْتِيكُمُ الْفَارْقَلِيطْ رَوُحُ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ إِنَّمَا يَقُولُ كَمَا يُقَالُ لَهُ» وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [الأنعام: 50] وَقَوْلُهُ: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [يُونُسَ: 15] أَمَّا «الْفَارْقَلِيطْ» فَفِي تَفْسِيرِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الشَّافِعُ الْمُشَفَّعُ وَهَذَا أَيْضًا صِفَتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، الثَّانِي: قَالَ بَعْضُ النَّصَارَى: الْفَارْقَلِيطْ هُوَ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَكَانَ فِي الْأَصْلِ فَارُوقٌ كَمَا يُقَالُ رَاوُوقٌ لِلَّذِي يُرَوَّقُ بِهِ وَأَمَّا «لِيطْ» فَهُوَ التَّحْقِيقُ فِي الْأَمْرِ كَمَا يُقَالُ شَيْبٌ أَشْيَبُ ذُو شَيْبٍ وَهَذَا أَيْضًا صِفَةُ شَرْعِنَا لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَالسَّابِعُ: قَالَ دَانْيَالُ لِبُخْتَنَصَّرَ حِينَ سَأَلَهُ عَنِ الرُّؤْيَا الَّتِي كَانَ رَآهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ قَصَّهَا عَلَيْهِ: رَأَيْتَ أَيُّهَا الْمَلِكُ مَنْظَرًا هَائِلًا رَأْسُهُ مِنَ الذَّهَبِ الْأَبْرِيزِ وَسَاعِدُهُ مِنَ الْفِضَّةِ وَبَطْنُهُ وَفَخِذَاهُ مِنْ نُحَاسٍ وَسَاقَاهُ مِنْ حَدِيدٍ وَبَعْضُهَا/ مِنْ خَزَفٍ وَرَأَيْتَ حَجَرًا يَقْطَعُ مِنْ غَيْرِ قَاطِعٍ وَصَكَّ رِجْلَ ذَلِكَ الصَّنَمَ وَدَقَّهَا دَقًّا شَدِيدًا فَتَفَتَّتَ الصَّنَمُ كُلُّهُ حَدِيدُهُ وَنُحَاسُهُ وَفِضَّتُهُ وَذَهَبُهُ وَصَارَتْ رُفَاتًا وَعَصَفَتْ بِهَا الرِّيَاحُ فَلَمْ يُوجَدْ لَهَا أَثَرٌ وَصَارَ ذَلِكَ الْحَجَرُ الَّذِي صَكَّ ذَلِكَ الرِّجْلَ مِنْ ذَلِكَ الصَّنَمِ جَبَلًا عَالِيًا امْتَلَأَتْ بِهِ الْأَرْضُ فَهَذَا رُؤْيَاكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ. وَأَمَّا تَفْسِيرُهَا فَأَنْتَ الرَّأْسُ الَّذِي رَأَيْتَهُ مِنَ الذَّهَبِ وَيَقُومُ بَعْدَكَ مَمْلَكَةٌ أُخْرَى دُونَكَ وَالْمَمْلَكَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي

تُشْبِهُ النُّحَاسَ تَنْبَسِطُ عَلَى الْأَرْضِ كُلِّهَا، وَالْمَمْلَكَةُ الرَّابِعَةُ تَكُونُ قُوَّتُهَا مِثْلَ الْحَدِيدِ، وَأَمَّا الرِّجْلُ الَّتِي كَانَ بَعْضُهَا مِنْ خَزَفٍ فَإِنَّ بَعْضَ الْمَمْلَكَةِ يَكُونُ عَزِيزًا وَبَعْضَهَا يَكُونُ ذَلِيلًا وَتَكُونُ كَلِمَةُ الْمُلْكِ مُتَفَرِّقَةً وَيُقِيمُ إِلَهُ السَّمَاءِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ مَمْلَكَةً أَبَدِيَّةً لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَزُولُ وَإِنَّهَا تُزِيلُ جَمِيعَ الْمَمَالِكِ وَسُلْطَانُهَا يُبْطِلُ جَمِيعَ السَّلَاطِينِ وَتَقُومُ هِيَ إِلَى الدَّهْرِ الدَّاهِرِ فَهَذَا تَفْسِيرُ الْحَجَرِ الَّذِي رَأَيْتَ أَنَّهُ يَقْطَعُ مِنْ جَبَلٍ بِلَا قَاطِعٍ حَتَّى دَقَّ الْحَدِيدَ وَالنُّحَاسَ وَالْخَزَفَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ. فَهَذِهِ هِيَ الْبِشَارَاتُ الْوَارِدَةُ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِمَبْعَثِ رَسُولِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: ذَلِكَ الْعَهْدُ هُوَ مَا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجِبُ عَلَيْهِ إِيصَالُ الثَّوَابِ إِلَى الْمُطِيعِ وَصَحَّ وَصْفُ ذَلِكَ الْوُجُوبِ بِالْعَهْدِ لِأَنَّهُ بِحَيْثُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ فَكَانَ ذَلِكَ أَوْكَدَ مِنَ الْعَهْدِ بِالْإِيجَابِ بِالنَّذْرِ وَالْيَمِينِ: وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ لَا يَجِبُ لِلْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ النِّعَمِ، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ دَلَّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ النِّعَمَ السَّالِفَةَ تُوجِبُ عَهْدَ الْعُبُودِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَدَاءُ الْعِبَادَاتِ أَدَاءً لِمَا وَجَبَ بِسَبَبِ النِّعَمِ السَّالِفَةِ وَأَدَاءُ الْوَاجِبِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوَاجِبٍ آخَرَ، فَثَبَتَ أَنَّ أَدَاءَ التَّكَالِيفِ لَا يُوجِبُ الثَّوَابَ فَبَطَلَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بَلِ التَّفْسِيرُ الْحَقُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ بِالثَّوَابِ وَكُلُّ مَا وَعَدَ بِهِ اسْتَحَالَ أَنْ لَا يُوجَدَ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ لَانْقَلَبَ خَبَرُهُ الصِّدْقُ كَذِبًا وَالْكَذِبُ عَلَيْهِ مُحَالٌ، وَالْمُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ فَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبَ الْوُقُوعِ فَكَانَ ذَلِكَ آكَدَ مِمَّا ثَبَتَ بِالْيَمِينِ وَالنَّذْرِ، الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ الْعَهْدُ هُوَ الْأَمْرُ وَالْعَبْدُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَرَى فِي ذَلِكَ عَلَى مُوَافَقَةِ اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ [النِّسَاءِ: 142] ، وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: 54] وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ فَاعْلَمْ أَنَّ الرَّهْبَةَ هِيَ الْخَوْفُ قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: الْخَوْفُ مِنْهُ تَعَالَى هُوَ الْخَوْفُ مِنْ عِقَابِهِ وَقَدْ يُقَالُ فِي الْمُكَلَّفِ إِنَّهُ خَائِفٌ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَعَ الْعِلْمِ وَالْآخَرُ مَعَ الظَّنِّ، أَمَّا الْعِلْمُ فَإِذَا كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ أَتَى بِكُلِّ مَا أُمِرَ بِهِ وَاحْتَرَزَ عَنْ كُلِّ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَإِنَّ خَوْفَهُ إِنَّمَا يَكُونُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ وَعَلَى هَذَا نَصِفُ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِالْخَوْفِ وَالرَّهْبَةِ. قَالَ تَعَالَى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النَّحْلِ: 50] وَأَمَّا الظَّنُّ فَإِذَا لَمْ يَقْطَعْ بِأَنَّهُ فَعَلَ الْمَأْمُورَاتِ وَاحْتَرَزَ عَنِ الْمَنْهِيَّاتِ فَحِينَئِذٍ يَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ خَوْفُهُ فِي الدُّنْيَا أَشَدَّ كَانَ أَمْنُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ وَبِالْعَكْسِ. رُوِيَ: «أَنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي إِنِّي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَلَا أَمْنَيْنِ مَنْ أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا خَوَّفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ/ الْقِيَامَةِ» وَقَالَ الْعَارِفُونَ: الْخَوْفُ خَوْفَانِ خَوْفُ الْعِقَابِ وَخَوْفُ الْجَلَالِ، وَالْأَوَّلُ: نَصِيبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَالثَّانِي: نَصِيبُ أَهْلِ الْقَلْبِ، وَالْأَوَّلُ: يَزُولُ، وَالثَّانِي: لَا يَزُولُ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ النِّعَمِ تُعَظِّمُ الْمَعْصِيَةَ، وَدَلَالَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ الْعَهْدُ يُعَظِّمُ الْمُخَالَفَةَ وَدَلَالَةً عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ كَمَا كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْعَرَبِ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَوْلُهُ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْءَ يَجِبُ أَنْ لَا يَخَافَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى، وَكَمَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي الْخَوْفِ فَكَذَا فِي الرَّجَاءِ وَالْأَمَلِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ إِذْ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُسْتَقِلًّا بِالْفِعْلِ لَوَجَبَ أَنْ يُخَافَ مِنْهُ كَمَا يُخَافُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ الْحَصْرُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ بَلْ كَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَرْهَبَ إِلَّا نَفْسَهُ، لِأَنَّ مَفَاتِيحَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بِيَدِهِ لَا بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخَافَ إِلَّا نَفْسَهُ وَأَنْ لَا يَخَافَ

[سورة البقرة (2) : آية 41]

اللَّهَ أَلْبَتَّةَ، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَأْتِيَ بِالطَّاعَاتِ لِلْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي صِحَّتِهَا والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 41] وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) اعْلَمْ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: وَآمِنُوا هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ كَأَنَّهُ قِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ: بِما أَنْزَلْتُ فَفِيهِ قَوْلَانِ، الْأَقْوَى أَنَّهُ الْقُرْآنُ وَعَلَيْهِ دَلِيلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ مُنَزَّلًا وَذَلِكَ هُوَ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [آلِ عِمْرَانَ: 3] . وَالثَّانِي: وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ مِنَ الْكُتُبِ وَذَلِكَ هو القرآن. وقال قتادة: المراد آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مِنْ كِتَابٍ وَرَسُولٍ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. أَمَّا قَوْلُهُ: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ فَفِيهِ تَفْسِيرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ مُوسَى وَعِيسَى حَقٌّ وَأَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ حَقٌّ وَأَنَّ التَّوْرَاةَ أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى وَالْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَكَانَ الْإِيمَانُ بِالْقُرْآنِ مُؤَكِّدًا لِلْإِيمَانِ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الْمُبَالَغَةَ فِي الْإِيمَانِ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَآمِنُوا بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِهِ يُؤَكِّدُ الْإِيمَانَ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَصَلَتِ الْبِشَارَةُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْقُرْآنِ فِي التوراة والإنجيل فكأن الإيمان بمحمد وبالقرآن تصديقاً للتوراة والإنجيل، وتكذيب محمد والقرآن تكذيباً لِلتَّوْرَاةِ/ وَالْإِنْجِيلِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَوْلَى لِأَنَّ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ لَا يَلْزَمُ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مُخْبِرًا عَنْ كَوْنِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ حَقًّا لَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِنُبُوَّتِهِ: أَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي يَلْزَمُ الْإِيمَانُ بِهِ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ إِذَا اشْتَمَلَا عَلَى كَوْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقًا فَالْإِيمَانُ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يُوجِبُ الْإِيمَانَ بِكَوْنِ مُحَمَّدٍ صَادِقًا لَا مَحَالَةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ لِيَكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ أَوْلَى. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ الثَّانِيَ يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ شَهَادَةَ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَا تَكُونُ إِلَّا حَقًّا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَ عَنْ كُتُبِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِذَلِكَ إِلَّا مِنْ قِبَلِ الْوَحْيِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ فَمَعْنَاهُ أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ بِهِ أَوْ أَوَّلَ فَرِيقٍ أَوْ فَوْجٍ كَافِرٍ بِهِ أَوْ وَلَا يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ. ثُمَّ فِيهِ سؤالان: الْأَوَّلُ: كَيْفَ جُعِلُوا أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ بِهِ وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ بِهِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ؟ والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا تعريض بِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِهِ وَبِصِفَتِهِ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا هُمُ الْمُبَشِّرُونَ بِزَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ فَلَمَّا بُعِثَ كَانَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْعَكْسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ. [الْبَقَرَةِ: 89] . وَثَانِيهَا: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَلَا تَكُونُوا مِثْلَ أَوَّلِ كَافِرٍ بِهِ يَعْنِي مَنْ أَشْرَكَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، أَيْ وَلَا تَكُونُوا وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَهُ مَذْكُورًا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِثْلَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ لَا كِتَابَ لَهُ. وَثَالِثُهَا: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِنْ كَانَتْ قُرَيْشٌ كَفَرُوا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَرَابِعُهَا: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ، يَعْنِي بِكِتَابِكُمْ يَقُولُ ذَلِكَ لِعُلَمَائِهِمْ: أَيْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ أَحَدٍ مِنْ أمتكم كذب كِتَابُكُمْ لِأَنَّ تَكْذِيبَكُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يوجب

تَكْذِيبَكُمْ بِكِتَابِكُمْ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ بَيَانُ تَغْلِيظِ كُفْرِهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا شَاهَدُوا الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى صِدْقِهِ عَرَفُوا الْبِشَارَاتِ الْوَارِدَةَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِمَقْدَمِهِ فَكَانَ كُفْرُهُمْ أَشَدَّ مِنْ كُفْرِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ إِلَّا نَوْعًا وَاحِدًا مِنَ الدَّلِيلِ وَالسَّابِقُ إِلَى الْكُفْرِ يَكُونُ أَعْظَمَ ذَنْبًا مِمَّنْ بَعْدَهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ سن سيئة سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا» فَلَمَّا كَانَ كَفْرُهُمْ عَظِيمًا وَكُفْرُ مَنْ كَانَ سَابِقًا فِي الْكُفْرِ عَظِيمًا فَقَدِ اشْتَرَكَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَصَحَّ إِطْلَاقُ اسْمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ. وَسَادِسُهَا: الْمَعْنَى وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ مَعَ الْمَعْرِفَةِ لِأَنَّ كُفْرَ قُرَيْشٍ كَانَ مَعَ الْجَهْلِ لَا مَعَ الْمَعْرِفَةِ. وَسَابِعُهَا: أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ مِنَ الْيَهُودِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَبِهَا قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ فَكَفَرُوا بِهِ ثُمَّ تَتَابَعَتْ سَائِرُ الْيَهُودِ عَلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَوَّلُ مَنْ كَفَرَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [الْبَقَرَةِ: 47، 122] أَيْ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ. وَثَامِنُهَا: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ عِنْدَ سَمَاعِكُمْ بِذِكْرِهِ بَلْ تَثَبَّتُوا فِيهِ وَرَاجِعُوا عُقُولَكُمْ فِيهِ، وَتَاسِعُهَا: أَنَّ لَفْظَ: «أَوَّلَ» صِلَةٌ وَالْمَعْنَى وَلَا تَكُونُوا كَافِرِينَ بِهِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، السُّؤَالُ/ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ لَهُمِ الْكُفْرُ إِذْ لَمْ يَكُونُوا أَوَّلًا، وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِكْرِ تِلْكَ الشَّيْءِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ فِي قَوْلِهِ: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ أَوَّلًا وَآخِرًا مَحْظُورٌ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [الرَّعْدِ: 2] لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ عَمَدٍ لَا يَرَوْنَهَا. وَقَوْلَهُ: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [النِّسَاءِ: 155] لَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ بِحَقٍّ. وَقَوْلُهُ: عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا لَا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ ذَلِكَ بالثمن الكثير، فكذا هاهنا، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ السِّيَاقَةِ اسْتِعْظَامُ وُقُوعِ الْجَحْدِ وَالْإِنْكَارِ مِمَّنْ قَرَأَ فِي الْكُتُبِ نَعْتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم صفته. وَرَابِعُهَا: قَالَ الْمُبَرِّدُ: هَذَا الْكَلَامُ خِطَابٌ لِقَوْمٍ خُوطِبُوا بِهِ قَبْلَ غَيْرِهِمْ فَقِيلَ لَهُمْ لَا تَكْفُرُوا بِمُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدَكُمُ الْكُفَّارُ فَلَا تَكُونُوا أَنْتُمْ أَوَّلَ الْكُفَّارِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَوَّلِيَّةَ مُوجِبَةٌ لِمَزِيدِ الْإِثْمِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِذَا سَبَقُوا إِلَى الْكُفْرِ فَإِمَّا أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ الْكُفْرِ أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ. فَإِنِ اقْتَدَى بِهِمْ غَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ الْكُفْرِ كَانَ لَهُمْ وِزْرُ ذَلِكَ الْكُفْرِ وَوِزْرُ كُلِّ مَنْ كَفَرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَدِ بِهِمْ غَيْرُهُمُ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا: السَّبْقُ إِلَى الْكُفْرِ، وَالثَّانِي: التَّفَرُّدُ بِهِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مَنْقَصَةٌ عَظِيمَةٌ، فَقَوْلُهُ: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا فَقَدْ بَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [الْبَقَرَةِ: 16] ، أَنَّ الِاشْتِرَاءَ يُوضَعُ مَوْضِعَ الِاسْتِبْدَالِ فَكَذَا الثَّمَنُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْبَدَلِ عَنِ الشَّيْءِ، وَالْعِوَضِ عَنْهُ، فَإِذَا اخْتِيرَ عَلَى ثَوَابِ اللَّهِ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا فَقَدْ جُعِلَ ذَلِكَ الشَّيْءُ ثَمَنًا عِنْدَ فَاعِلِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ رُؤَسَاءَ الْيَهُودِ مِثْلَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَأَمْثَالَهُمَا كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ فُقَرَاءِ الْيَهُودِ الْهَدَايَا وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ لَوِ اتَّبَعُوا مُحَمَّدًا لَانْقَطَعَتْ عَنْهُمْ تِلْكَ الْهَدَايَا، فَأَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْقَدْرُ الْمُحَقَّرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدِّينِ قَلِيلَةٌ جِدًّا فَنِسْبَتُهَا إِلَيْهِ نِسْبَةُ الْمُتَنَاهِي إِلَى غَيْرِ الْمُتَنَاهِي، ثُمَّ تِلْكَ الْهَدَايَا كَانَتْ فِي نِهَايَةِ الْقِلَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدُّنْيَا، فَالْقَلِيلُ جِدًّا مِنَ الْقَلِيلِ جِدًّا أَيُّ نِسْبَةٍ لَهُ إِلَى الْكَثِيرِ الَّذِي لَا يَتَنَاهَى؟ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّهْيَ صَحِيحٌ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِمْ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَكُنْ، بَلْ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ عُلَمَاءَهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الرُّشَا عَلَى كِتْمَانِ أَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَحْرِيفِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ التَّوْرَاةِ كَانَ الْكَلَامُ أَبْيَنَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ فَيَقْرُبُ مَعْنَاهُ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الرَّهْبَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَوْفِ، وَأَمَّا الِاتِّقَاءُ

[سورة البقرة (2) : آية 42]

فَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْجَزْمِ بِحُصُولِ مَا يُتَّقَى مِنْهُ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهَمْ بِالرَّهْبَةِ لِأَجْلِ أَنَّ جَوَازَ الْعِقَابِ قَائِمٌ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى لأن تعين العقاب قائم. [سورة البقرة (2) : آية 42] وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ أَمْرٌ بِتَرْكِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَقَوْلَهُ: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ أَمْرٌ بِتَرْكِ الْإِغْرَاءِ وَالْإِضْلَالِ، وَاعْلَمْ أَنَّ إِضْلَالَ الْغَيْرِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِطَرِيقَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ إِنْ كَانَ قَدْ سَمِعَ دَلَائِلَ الْحَقِّ فَإِضْلَالُهُ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِتَشْوِيشِ تِلْكَ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَا سَمِعَهَا فَإِضْلَالُهُ إِنَّمَا يُمْكِنُ بِإِخْفَاءِ تِلْكَ الدَّلَائِلِ عَنْهُ وَمَنْعِهِ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا. فَقَوْلُهُ: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ إِشَارَةٌ إِلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ تَشْوِيشُ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ إِشَارَةٌ إِلَى الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ مَنْعُهُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الدَّلَائِلِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ فِي الْبَاءِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: بِالْباطِلِ أَنَّهَا بَاءُ الِاسْتِعَانَةِ كَالَّتِي فِي قَوْلِكَ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ وَالْمَعْنَى وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِسَبَبِ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تُورِدُونَهَا عَلَى السَّامِعِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ عَلَيْكُمْ كَانَتْ نُصُوصًا خَفِيَّةً يُحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهَا إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا يُجَادِلُونَ فِيهَا وَيُشَوِّشُونَ وَجْهَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُتَأَمِّلِينَ فِيهَا بِسَبَبِ إِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ فَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [غَافِرٍ: 5] . أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ تَعْلَمُونَ مَا فِي إِضْلَالِ الْخَلْقِ مِنَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ الْعَائِدِ عَلَيْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّلْبِيسَ صَارَ صَارِفًا لِلْخَلْقِ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَدَاعِيًا لَهُمْ إِلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْبَاطِلِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ مَوْقِعَهُ عَظِيمٌ، وَهَذَا الْخِطَابُ وَإِنْ وَرَدَ فِيهِمْ، فَهُوَ تَنْبِيهٌ لِسَائِرِ الْخَلْقِ وَتَحْذِيرٌ مِنْ مِثْلِهِ فَصَارَ الْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فِي الصُّورَةِ لَكِنَّهُ عام في المعنى، ثم هاهنا بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ جَزْمٌ دَاخِلٌ تَحْتَ حُكْمِ النَّهْيِ بِمَعْنَى وَلَا تَكْتُمُوا أَوْ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ النَّهْيَ عَنِ اللَّبْسِ وَالْكِتْمَانِ وَإِنْ تَقَيَّدَ بِالْعِلْمِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِمَا حَالَ عَدَمِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ حَالُ الشَّيْءِ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ اللَّبْسَ وَالْكِتْمَانَ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ، وَمَا لَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ، بَلْ يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ التَّقْيِيدِ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ الضَّارِّ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ ضَارًّا أَفْحَشُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِكَوْنِهِ ضَارًّا، فَلَمَّا كَانُوا عَالِمِينَ بِمَا فِي التَّلْبِيسِ مِنَ الْمَفَاسِدِ كَانَ إِقْدَامُهُمْ عَلَيْهِ أَقْبَحَ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ بِالْحَقِّ يَجِبُ عَلَيْهِ إِظْهَارُهُ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ كتمانه والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 43] وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ أَوَّلًا ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَكِتْمَانِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ ثَانِيًا، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بَيَانَ مَا لَزِمَهُمْ مِنَ الشَّرَائِعِ وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرَائِعِ مَا كَانَ كَالْمُقَدَّمِ/ وَالْأَصْلُ فِيهَا وَهُوَ الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالزَّكَاةُ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ قَالُوا إِنَّمَا جَاءَ الْخِطَابُ فِي

قَوْلِهِ: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ بَعْدَ أَنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ لَهُمْ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ وَشَرَائِطَهَا فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ الَّتِي عَرَفْتُمُوهَا وَالْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ قَالُوا: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ أَنَّ الصَّلَاةَ مَا هِيَ وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ أَنْ يُوَطِّنَ السَّامِعُ نَفْسَهُ عَلَى الِامْتِثَالِ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مَا هُوَ كَمَا أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنْ يَحْسُنَ مِنَ السَّيِّدِ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ: إِنِّي آمُرُكَ غَدًا بِشَيْءٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَفْعَلَهُ وَيَكُونُ غَرَضُهُ مِنْهُ بِأَنْ يَعْزِمَ الْعَبْدُ فِي الْحَالِ عَلَى أَدَائِهِ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الصَّلَاةُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ قَالُوا: لِأَنَّهَا أَمْرٌ حَدَثَ فِي الشَّرْعِ فَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ الْمَوْضُوعُ قَدْ كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ الشَّرْعِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ التَّشْبِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ الدُّعَاءُ قَالَ الْأَعْشَى: عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاعْتَصِمِي ... عَيْنًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجِعَا وَقَالَ آخَرُ: وَقَابَلَهَا الريح في دنها ... وصلى على دنها وارتسم وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَصْلُ فِيهَا اللُّزُومُ قَالَ الشَّاعِرُ: لَمْ أَكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا عَلِمَ اللَّهُ ... وَإِنِّي بَحْرَهَا الْيَوْمَ صَالِي أَيْ مُلَازِمٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمُصَلِّي وَهُوَ الْفَرَسُ الَّذِي يَتْبَعُ غَيْرَهُ. وَالْأَقْرَبُ أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الدُّعَاءِ إِذْ لَا صَلَاةَ إِلَّا وَيَقَعُ فِيهَا الدُّعَاءُ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَقَدْ تَكُونُ صَلَاةً وَلَا يَحْصُلُ فِيهَا مُتَابَعَةُ الْغَيْرِ وَإِذَا حَصَلَ فِي وَجْهِ التَّشْبِيهِ مَا عَمَّ كُلَّ الصُّوَرِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ وَجْهُ التَّشْبِيهِ شَيْئًا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الصُّوَرِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا مِنَ الْمَجَازَاتِ الْمَشْهُورَةِ فِي اللُّغَةِ إِطْلَاقُ اسْمِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ وَلَمَّا كَانَتِ الصَّلَاةُ الشَّرْعِيَّةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى الدُّعَاءِ لَا جَرَمَ أُطْلِقَ اسْمُ الدُّعَاءِ عَلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ كَوْنِهَا اسْمًا شَرْعِيًّا هَذَا فَذَلِكَ حَقٌّ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادَ أَنَّ الشَّرْعَ ارْتَجَلَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ ابْتِدَاءً لِهَذَا الْمُسَمَّى فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِلَّا لَمَا كَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ عَرَبِيَّةً، وَذَلِكَ يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [يُوسُفَ: 2] أَمَّا الزَّكَاةُ فَهِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ النَّمَاءِ، يُقَالُ: زَكَا الزَّرْعُ إِذَا نَمَا، وَعَنِ التَّطْهِيرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً [الْكَهْفِ: 74] أَيْ طَاهِرَةً. وَقَالَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الْأَعْلَى: 14] أَيْ تَطَهَّرَ وَقَالَ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً [النُّورِ: 21] وَقَالَ: وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ [فَاطِرٍ: 18] أَيْ تَطَهَّرَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَلَعَلَّ إِخْرَاجَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا سُمِّيَ بِالزَّكَاةِ تَشْبِيهًا بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّ فِي إِخْرَاجِ ذَلِكَ الْقَدْرِ تَنْمِيَةً لِلْبَقِيَّةِ مِنْ حَيْثُ الْبَرَكَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ الْبَلَاءَ عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ بِسَبَبِ تَزْكِيَةِ/ تِلْكَ الْعَطِيَّةِ فَصَارَ ذَلِكَ الْإِعْطَاءُ نَمَاءً فِي الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ نُقْصَانًا فِي الصُّورَةِ، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ فِيهَا سِتَّ خِصَالٍ، ثَلَاثَةً فِي الدُّنْيَا وَثَلَاثَةً فِي الْآخِرَةِ، فَأَمَّا الَّتِي فِي الدُّنْيَا فَتَزِيدُ فِي الرِّزْقِ وَتُكْثِرُ الْمَالَ وَتُعَمِّرُ الدِّيَارَ، وَأَمَّا الَّتِي فِي الْآخِرَةِ فَتَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَتَصِيرُ ظِلًّا فَوْقَ الرأس وتكون ستراً من النَّارِ» . وَيَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى الزَّكَاةُ بِالْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تُطَهِّرُ مُخْرِجَ الزَّكَاةِ عَنْ كُلِّ الذُّنُوبِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التَّوْبَةِ: 103] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ خِطَابٌ مَعَ الْيَهُودِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ

[سورة البقرة (2) : آية 44]

مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة: 43] فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْيَهُودَ لَا رُكُوعَ فِي صَلَاتِهِمْ فَخَصَّ اللَّهُ الرُّكُوعَ بِالذِّكْرِ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِصَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ صَلُّوا مَعَ الْمُصَلِّينَ، وَعَلَى هَذَا يَزُولُ التكرار لأن في الأول أمر تعالى بإقامتها وَأَمَرَ فِي الثَّانِي بِفِعْلِهَا فِي الْجَمَاعَةِ، وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ بِالرُّكُوعِ هُوَ الْأَمْرَ بِالْخُضُوعِ لِأَنَّ الرُّكُوعَ وَالْخُضُوعَ فِي اللُّغَةِ سَوَاءٌ فَيَكُونُ نَهْيًا عَنِ الِاسْتِكْبَارِ الْمَذْمُومِ وَأَمْرًا بِالتَّذَلُّلِ كَمَا قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [الْمَائِدَةِ: 54] وَكَقَوْلِهِ تَأْدِيبًا لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاءِ: 215] وَكَمَدْحِهِ لَهُ بِقَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آلِ عِمْرَانَ: 159] وَهَكَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ [الْمَائِدَةِ: 55] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَمَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِالِانْقِيَادِ وَالْخُضُوعِ وَتَرْكِ التَّمَرُّدِ. وَحَكَى الْأَصَمُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالزَّكَاةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُوَ الْمُرَادُ بقوله تعالى: وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [المائدة: 62، 63] وبقوله: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا ... وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ [النِّسَاءِ: 161] فَأَظْهَرَ اللَّهُ تعالى في هذا الموضع ما كان مكتوباً لِيَحْذَرُوا أَنْ يَفْضَحَهُمْ فِي سَائِرِ أَسْرَارِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ فَيَصِيرُ هَذَا كَالْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم. [سورة البقرة (2) : آية 44] أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) اعْلَمْ أَنَّ الْهَمْزَةَ فِي أَتَأْمَرُونَ النَّاسَ بِالْبَرِّ لِلتَّقْرِيرِ مَعَ التَّقْرِيعِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ حَالِهِمْ، وَأَمَّا الْبِرُّ فَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِأَعْمَالِ الْخَيْرِ، وَمِنْهُ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَهُوَ طَاعَتُهُمَا، وَمِنْهُ عَمَلٌ مَبْرُورٌ، أَيْ قَدْ رَضِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الصِّدْقِ كَمَا يُقَالُ بَرَّ فِي يَمِينِهِ أَيْ صَدَقَ وَلَمْ يَحْنَثْ، وَيُقَالُ: صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى [الْبَقَرَةِ: 189] فَأَخْبَرَ أَنَّ الْبِرَّ جَامِعٌ لِلتَّقْوَى، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ/ وَتَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْإِيمَانِ وَالشَّرَائِعِ بِنَاءً عَلَى مَا خَصَّهُمْ بِهِ من النعم ورغبهم في ذلك بناء عَلَى مَأْخَذٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ التَّغَافُلَ عَنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ مَعَ حَثِّ النَّاسِ عَلَيْهَا مُسْتَقْبَحٌ فِي الْعُقُولِ، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ بِذَلِكَ إِمَّا النَّصِيحَةُ أَوِ الشَّفَقَةُ، وَلَيْسَ مِنَ الْعَقْلِ أَنْ يُشْفِقَ الْإِنْسَانُ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ أَنْ يَنْصَحَ غَيْرَهُ وَيُهْمِلَ نَفْسَهُ فَحَذَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ قَرَّعَهُمْ بِهَذَا الْكَلَامِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْبَرِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَهُمْ كَانُوا يَتْرُكُونَ الطَّاعَةَ وَيُقْدِمُونَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَثَانِيهَا: قَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَهُمْ كَانُوا يَتْرُكُونَهُمَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ إِذَا جَاءَهُمْ أَحَدٌ فِي الْخُفْيَةِ لِاسْتِعْلَامِ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: هُوَ صَادِقٌ فِيمَا يَقُولُ وَأَمْرُهُ حق فاتبعوه، وهم كانوا لا يتبعونه لطمعهم في الهدايا والصلاة الَّتِي كَانَتْ تَصِلُ إِلَيْهِمْ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا قَبْلَ مَبْعَثِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُونَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَنَّ رَسُولًا سَيَظْهَرُ مِنْكُمْ وَيَدْعُو إِلَى الحق وكانوا يرغبونهم باتباعه فلما بعث الله محمداً حسدوه وكفروا به، فبكتهم الله تعالى بسبب أنهم كانوا يَأْمُرُونَ بِاتِّبَاعِهِ قَبْلَ ظُهُورِهِ، فَلَمَّا ظَهَرَ تَرَكُوهُ وَأَعْرَضُوا عَنْ دِينِهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ، وخامسها: وهو قول الزجاج أنهم كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِبَذْلِ الصَّدَقَةِ، وَكَانُوا يَشِحُّونَ بِهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِقَسَاوَةِ الْقُلُوبِ وَأَكْلِ الرِّبَا وَالسُّحْتِ، وَسَادِسُهَا: لَعَلَّ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا يَأْمُرُونَ بِاتِّبَاعِ

مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظَّاهِرِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي قُلُوبِهِمْ مُنْكِرِينَ لَهُ فوبخهم الله تعالى عليه، وسابعاً: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَأْمُرُونَ غَيْرَهُمْ بِاتِّبَاعِ التَّوْرَاةِ ثُمَّ إِنَّهُمْ خَالَفُوهُ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَا آمَنُوا بِهِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ فَالنِّسْيَانُ عِبَارَةٌ عَنِ السَّهْوِ الْحَادِثِ بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ وَالنَّاسِي غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَمَنْ لَا يَكُونُ مُكَلَّفًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَذُمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ أَنَّكُمْ تَغْفُلُونَ عَنْ حَقِّ أَنْفُسِكُمْ وَتَعْدِلُونَ عَمَّا لَهَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ فَمَعْنَاهُ تَقْرَأُونَ التَّوْرَاةَ وَتَدْرُسُونَهَا وَتَعْلَمُونَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْحَثِّ عَلَى أَفْعَالِ الْبِرِّ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ أَفْعَالِ الْإِثْمِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَفَلا تَعْقِلُونَ فَهُوَ تَعَجُّبٌ لِلْعُقَلَاءِ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 67] وَسَبَبُ التَّعَجُّبِ وُجُوهٌ، الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ إِرْشَادُ الْغَيْرِ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ وَتَحْذِيرُهُ عَمَّا يوقعه في المفسدة، والإحسان إلى النفس أَوْلَى مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَى الْغَيْرِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِشَوَاهِدِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ فَمَنْ وَعَظَ وَلَمْ يَتَّعِظْ فَكَأَنَّهُ أَتَى بِفِعْلٍ مُتَنَاقِضٍ لَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ فَلِهَذَا قَالَ: أَفَلا تَعْقِلُونَ. الثَّانِي: أَنَّ مَنْ وَعَظَ النَّاسَ وَأَظْهَرَ عِلْمَهُ لِلْخَلْقِ ثُمَّ لَمْ يَتَّعِظْ صَارَ ذَلِكَ الْوَعْظُ سَبَبًا لِرَغْبَةِ النَّاسِ فِي الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ إِنَّهُ مَعَ هَذَا الْعِلْمِ لَوْلَا أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى أَنَّهُ لَا أَصْلَ لِهَذِهِ التَّخْوِيفَاتِ وَإِلَّا لَمَا أَقْدَمَ على المعصية فيصير هذا داعياً لهم إلى التهاون بالدين والجراءة على المعصية، فإذا كان غرض الواعظ الزجر عن الْمَعْصِيَةِ ثُمَّ أَتَى بِفِعْلٍ/ يُوجِبُ الْجَرَاءَةَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَكَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِأَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ، فَلِهَذَا قَالَ: أَفَلا تَعْقِلُونَ. الثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ وَعَظَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يجتهد في أن يصير وعظه نافذاً في القلوب. والإقدام على المعصية مما ينفر القلوب عن القبول، فمن وعظ كان غرضه أَنْ يَصِيرَ وَعْظُهُ مُؤَثِّرًا فِي الْقُلُوبِ، وَمَنْ عَصَى كَانَ غَرَضُهُ أَنْ لَا يَصِيرَ وَعْظُهُ مُؤَثِّرًا فِي الْقُلُوبِ. فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَنَاقِضٌ غَيْرُ لَائِقٍ بِالْعُقَلَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَصَمَ ظَهْرِي رَجُلَانِ: عَالِمٌ مُتَهَتِّكٌ وَجَاهِلٌ متنسك. وبقي هاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ لِلْعَاصِي أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَاحْتَجُّوا بِالْآيَةِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، وَقَالَ أَيْضًا: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفِّ: 2- 3] . وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ لِمَنْ يَزْنِي بِامْرَأَةٍ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهَا فِي أَثْنَاءِ الزِّنَا عَلَى كَشْفِهَا عَنْ وَجْهِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَنْكَرٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُكَلَّفَ مَأْمُورٌ بِشَيْئَيْنِ، أَحَدُهُمَا: تَرْكُ الْمَعْصِيَةِ. وَالثَّانِي: مَنْعُ الْغَيْرِ عَنْ فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ وَالْإِخْلَالُ بِأَحَدِ التَّكْلِيفَيْنِ لَا يَقْتَضِي الْإِخْلَالَ بِالْآخَرِ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ فَهُوَ نَهْيٌ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَالنَّهْيُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ النَّهْيَ عَنْ نِسْيَانِ النَّفْسِ مُطْلَقًا. وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ النَّهْيَ عَنْ تَرْغِيبِ النَّاسِ فِي الْبَرِّ حَالَ كَوْنِهِ نَاسِيًا لِلنَّفْسِ وَعِنْدَنَا الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ هُوَ الْأَوَّلُ لَا الثَّانِي، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ قَوْلُ هَذَا الْخَصْمِ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ الَّذِي ذَكَرُوهُ فَيَلْزَمُهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالُوا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ إِنَّمَا يَصِحُّ وَيَحْسُنُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنْهُمْ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَخْلُوقًا فِيهِمْ عَلَى سَبِيلِ الِاضْطِرَارِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحْسُنُ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلْأَسْوَدِ: لِمَ لَا تَبْيَضَّ؟ لَمَّا كَانَ السَّوَادُ مخلوقاً فيه.

[سورة البقرة (2) : آية 45]

وَالْجَوَابُ: أَنَّ قُدْرَتَهُ لَمَّا صَلَحَتْ لِلضِّدَّيْنِ فَإِنْ حَصَلَ أَحَدُ الضِّدَّيْنِ دُونَ الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ كَانَ ذَلِكَ مَحْضَ الِاتِّفَاقِ، وَالْأَمْرُ الِاتِّفَاقِيُّ لَا يمكن التوبيخ عليه. وإن حصل المرجح فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُرَجَّحُ مِنْهُ عَادَ الْبَحْثُ فِيهِ، وَإِنْ حَصَلَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَعِنْدَ حُصُولِهِ يَصِيرُ ذَلِكَ الطَّرَفُ رَاجِحًا وَالْآخَرُ مَرْجُوحًا وَالْمَرْجُوحُ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ لِأَنَّهُ حَالَ الِاسْتِوَاءِ لَمَّا كَانَ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ فَحَالُ الْمَرْجُوحِيَّةِ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ وَإِذَا امْتَنَعَ أَحَدُ النَّقِيضَيْنِ وَجَبَ الْآخَرُ وَحِينَئِذٍ يَعُودُ عَلَيْكُمْ كُلُّ مَا أَوْرَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا. ثُمَّ الْجَوَابُ الْحَقِيقِيُّ عَنِ الْكُلِّ: أنه لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء: 23] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (أ) عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَرَرْتُ لَيْلَةَ أسري بي على قوم تقرض شفاههم بِمَقَارِيضَ مِنَ النَّارِ فَقُلْتُ: يَا أَخِي يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبَرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ» . (ب) وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ فِي النَّارِ رَجُلًا يَتَأَذَّى أَهْلُ النَّارِ بِرِيحِهِ فَقِيلَ مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: عَالِمٌ لَا يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ» . (ج) وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَثَلُ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ كَالسِّرَاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ/ وَيَحْرِقُ نَفْسَهُ» . (د) وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: يَطَّلِعُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَى قَوْمٍ مِنَ النَّارِ فَيَقُولُونَ: لِمَ دَخَلْتُمُ النَّارَ وَنَحْنُ إِنَّمَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ بِفَضْلِ تَعْلِيمِكُمْ؟ فَقَالُوا: إِنَّا كُنَّا نَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَلَا نَفْعَلُهُ. كَمَا قِيلَ: مَنْ وَعَظَ بِقَوْلِهِ ضَاعَ كَلَامُهُ، وَمَنْ وَعَظَ بِفِعْلِهِ نَفَذَتْ سِهَامُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: [يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ ... هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السَّقَامِ وَذِي الضَّنَا ... كَيْمَا يَصِحُّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا ... فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ فَهُنَاكَ يُقْبَلُ إِنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى ... بِالرَّأْيِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ قِيلَ: عَمَلُ رَجُلٌ فِي أَلْفِ رَجُلٍ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِ أَلْفِ رَجُلٍ فِي رَجُلٍ، وَأَمَّا مَنْ وَعَظَ وَاتَّعَظَ فَمَحَلُّهُ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. رُوِيَ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ مَاتَ وَكَانَ وَاعِظًا زَاهِدًا فَرُؤِيَ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي وَأَوَّلُ مَا سَأَلَنِي مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ فَقَالَا: مَنْ رَبُّكَ؟ فَقُلْتُ: أَمَا تَسْتَحِيَانِ مِنْ شَيْخٍ دَعَا الناس إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَذَا وَكَذَا سَنَةً فَتَقُولَانِ له من ربك؟ وقيل للشبلي عن النَّزْعِ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَالَ: إِنَّ بَيْتًا أَنْتَ سَاكِنُهُ ... غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى السرج [سورة البقرة (2) : آية 45] وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ فَقَالَ قَوْمٌ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِالرَّسُولِ. قَالَ: لِأَنَّ مَنْ يُنْكِرُ الصَّلَاةَ أَصْلًا وَالصَّبْرَ عَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَكَادُ يُقَالُ لَهُ اسْتَعِنْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، فَلَا جَرَمَ وَجَبَ صَرْفُهُ إِلَى مَنْ صَدَّقَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ أَوَّلًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ يَقَعُ بَعْدَ ذَلِكَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِأَنَّ صَرْفَ الْخِطَابِ إِلَى غَيْرِهِمْ يُوجِبُ تَفْكِيكَ النَّظْمِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُؤْمَرُونَ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ مَعَ كَوْنِهِمْ مُنْكِرِينَ لَهُمَا؟ قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُمْ مُنْكِرِينَ لَهُمَا. وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى مَا يَجِبُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ حَسَنٌ وَأَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي هِيَ تَوَاضُعٌ لِلْخَالِقِ وَالِاشْتِغَالُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى يُسَلِّي عن محن الدنيا وآفاتها، إنما الاختلاف في

الْكَيْفِيَّةِ، فَإِنَّ صَلَاةَ الْيَهُودِ وَاقِعَةٌ عَلَى كَيْفِيَّةٍ وَصَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى كَيْفِيَّةٍ أُخْرَى. وَإِذَا كَانَ مُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ هُوَ الْمَاهِيَّةَ الَّتِي هِيَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ زَالَ الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ وَعَلَى هَذَا نَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَبِتَرْكِ الْإِضْلَالِ وَبِالْتِزَامِ الشَّرَائِعِ وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، وَكَانَ ذَلِكَ شَاقًّا عَلَيْهِمْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الرِّيَاسَاتِ/ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمَالِ وَالْجَاهِ لَا جَرَمَ عَالَجَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمَرَضَ فَقَالَ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي الصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وُجُوهًا، أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ قِيلَ وَاسْتَعِينُوا عَلَى تَرْكِ مَا تُحِبُّونَ مِنَ الدُّنْيَا وَالدُّخُولِ فِيمَا تَسْتَثْقِلُهُ طِبَاعُكُمْ مِنْ قَبُولِ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بالصبر أي يحبس النَّفْسِ عَنِ اللَّذَّاتِ، فَإِنَّكُمْ إِذَا كَلَّفْتُمْ أَنْفُسَكُمْ ذَلِكَ مُرِّنَتْ عَلَيْهِ وَخَفَّ عَلَيْهَا ثُمَّ إِذَا ضَمَمْتُمُ الصَّلَاةَ إِلَى ذَلِكَ تَمَّ الْأَمْرُ، لِأَنَّ الْمُشْتَغِلَ بِالصَّلَاةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُشْتَغِلًا بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَذِكْرِ جَلَالِهِ وَقَهْرِهِ وَذِكْرِ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، فَإِذَا تَذَكَّرَ رَحْمَتَهُ صَارَ مَائِلًا إِلَى طَاعَتِهِ وَإِذَا تَذَكَّرَ عِقَابَهُ تَرَكَ مَعْصِيَتَهُ فَيَسْهُلُ عِنْدَ ذَلِكَ اشْتِغَالُهُ بِالطَّاعَةِ وَتَرْكُهُ للمعصية، وثانيها: المراد من الصبر هاهنا هُوَ الصَّوْمُ لِأَنَّ الصَّائِمَ صَابِرٌ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَمَنْ حَبَسَ نَفْسَهُ عَنْ قَضَاءِ شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ زَالَتْ عَنْهُ كُدُورَاتُ حُبِّ الدُّنْيَا، فَإِذَا انْضَافَ إِلَيْهِ الصَّلَاةُ اسْتَنَارَ الْقَلْبُ بِأَنْوَارِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا قَدَّمَ الصَّوْمَ عَلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الصَّوْمِ فِي إِزَالَةِ مَا لَا يَنْبَغِي وَتَأْثِيرَ الصَّلَاةِ فِي حُصُولِ مَا يَنْبَغِي وَالنَّفْيُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ، وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ» . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [الْعَنْكَبُوتِ: 45] لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَمْنَعُ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالدُّنْيَا وَتُخَشِّعُ الْقَلْبَ وَيَحْصُلُ بِسَبَبِهَا تِلَاوَةُ الْكِتَابِ وَالْوُقُوفُ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْآدَابِ الْجَمِيلَةِ، وَذِكْرِ مَصِيرِ الْخَلْقِ إِلَى دَارِ الثَّوَابِ أَوْ دَارِ الْعِقَابِ رَغْبَةً فِي الْآخِرَةِ وَنُفْرَةً عَنِ الدُّنْيَا فَيَهُونُ عَلَى الْإِنْسَانِ حِينَئِذٍ تَرْكُ الرِّيَاسَةِ، وَمَقْطَعَةً عَنِ الْمَخْلُوقِينَ إِلَى قِبْلَةِ خِدْمَةِ الْخَالِقِ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الْبَقَرَةِ: 153] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّها فَفِي هَذَا الضَّمِيرِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الصَّلَاةِ أَيْ صَلَاةٌ ثَقِيلَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ. وَثَانِيهَا: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: وَاسْتَعِينُوا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى جَمِيعِ الْأُمُورِ الَّتِي أُمِرَ بِهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ وَنُهُوا عَنْهَا مِنْ قَوْلِهِ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة: 40، 47، 122] إِلَى قَوْلِهِ: وَاسْتَعِينُوا وَالْعَرَبُ قَدْ تُضْمِرُ الشَّيْءَ اخْتِصَارًا أَوْ تَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى الْإِيمَاءِ إِذَا وَثِقَتْ بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ فَيَقُولُ الْقَائِلُ: مَا عَلَيْهَا أَفْضَلُ مِنْ فُلَانٍ يَعْنِي الْأَرْضَ. وَيَقُولُونَ: مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَكْرَمُ مِنْ فُلَانٍ يَعْنُونَ الْمَدِينَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ [النَّحْلِ: 61] ، وَلَا ذِكْرَ لِلْأَرْضِ، أَمَّا قَوْلُهُ: لَكَبِيرَةٌ أَيْ لَشَاقَّةٌ ثَقِيلَةٌ عَلَى هَؤُلَاءِ سَهْلَةٌ عَلَى الْخَاشِعِينَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ثَوَابُهُمْ أَكْثَرَ وَثَوَابُ الْخَاشِعِ أَقَلَّ، وَذَلِكَ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ، قُلْنَا: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي يَلْحَقُهُمْ مِنَ التَّعَبِ أَكْثَرُ مِمَّا يَلْحَقُ الْخَاشِعَ وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ وَالْخَاشِعُ يَسْتَعْمِلُ عِنْدَ الصَّلَاةِ جَوَارِحَهُ وَقَلْبَهُ وَسَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، وَلَا يَغْفُلُ عَنْ تَدَبُّرِ مَا يَأْتِي بِهِ مِنَ الذكر والتذلل والخشوع، وإذ تَذَكَّرَ الْوَعِيدَ لَمْ يَخْلُ مِنْ حَسْرَةٍ وَغَمٍّ، وَإِذَا ذَكَرَ الْوَعْدَ فَكَمِثْلِ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِعْلَ الْخَاشِعِ فَالثِّقَلُ عَلَيْهِ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ أَعْظَمُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهَا ثَقِيلَةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَخْشَعْ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْتَقِدُ فِي فِعْلِهَا ثَوَابًا وَلَا فِي تَرْكِهَا عِقَابًا، فَيَصْعُبُ عَلَيْهِ فِعْلُهَا. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُلْحِدَ إِذَا لَمْ يَعْتَقِدْ فِي فِعْلِهَا مَنْفَعَةً ثَقُلَ عَلَيْهِ فِعْلُهَا، لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ يَثْقُلُ/ عَلَى الطَّبْعِ، أَمَّا الْمُوَحِّدُ فَلَمَّا اعْتَقَدَ فِي فِعْلِهَا أَعْظَمَ الْمَنَافِعِ وَفِي تَرْكِهَا أَعْظَمَ الْمَضَارِّ لَمْ يَثْقُلْ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِمَا يَعْتَقِدُ فِي فِعْلِهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْفَوْزِ الْعَظِيمِ

[سورة البقرة (2) : آية 46]

بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، أَلَا ترى إلى قوله: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ أَيْ يَتَوَقَّعُونَ نَيْلَ ثَوَابِهِ وَالْخَلَاصَ مِنْ عِقَابِهِ. مِثَالُهُ إِذَا قِيلَ لِلْمَرِيضِ: كُلْ هَذَا الشَّيْءَ الْمُرَّ فَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ لَهُ فِيهِ شِفَاءً سَهُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ فِيهِ صَعُبَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» . وَصَفَ الصَّلَاةَ بِذَلِكَ لِلْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لَا لِأَنَّهَا كَانَتْ لَا تَثْقُلُ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُصَلِّي حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، وَأَمَّا الْخُشُوعُ فَهُوَ التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ. [سورة البقرة (2) : آية 46] الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) أما قوله: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فللمفسرين فيه قولان: الْأَوَّلُ: أَنَّ الظَّنَّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ. قَالُوا: لِأَنَّ الظَّنَّ وَهُوَ الِاعْتِقَادُ الَّذِي يُقَارِنُهُ تَجْوِيزُ النَّقِيضِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ غَيْرَ جَازِمٍ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَذَلِكَ كُفْرٌ وَاللَّهُ تَعَالَى مَدَحَ عَلَى هَذَا الظَّنِّ وَالْمَدْحُ عَلَى الْكُفْرِ غَيْرُ جَائِزٍ، فوجب أن يكون المراد من الظن هاهنا الْعِلْمَ، وَسَبَبُ هَذَا الْمَجَازِ أَنَّ الْعِلْمَ وَالظَّنَّ يَشْتَرِكَانِ فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اعْتِقَادًا رَاجِحًا إِلَّا أَنَّ الْعِلْمَ رَاجِحٌ مَانِعٌ مِنَ النَّقِيضِ وَالظَّنَّ رَاجِحٌ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ النَّقِيضِ، فَلَمَّا اشْتَبَهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَحَّ إِطْلَاقُ اسْمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، قَالَ أَوْسُ بْنُ حجر: فأرسلته مُسْتَيْقِنَ الظَّنِّ أَنَّهُ ... مُخَالِطُ مَا بَيْنَ الشَّرَاسِيفِ خائف وَقَالَ تَعَالَى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [الْحَاقَّةِ: 20] وَقَالَ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: 4] ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ وَبَعْثًا عَلَى الظَّنِّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى الِاعْتِقَادِ الْمُجَوِّزِ لِلنَّقِيضِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بالظن هاهنا الْعِلْمُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ اللَّفْظُ عَلَى ظاهره وهو الظن الحقيقي، ثم هاهنا وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ تُجْعَلَ مُلَاقَاةُ الرَّبِّ مَجَازًا عَنِ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُلَاقَاةَ الرَّبِّ مُسَبَّبٌ عَنِ الْمَوْتِ فَأَطْلَقَ الْمُسَبِّبَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ السَّبَبُ، وَهَذَا مَجَازٌ مَشْهُورٌ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ مَاتَ إنه لقي ربه. إذا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ الْمَوْتَ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مُتَوَقِّعًا لِلْمَوْتِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُفَارِقُ قَلْبَهُ الْخُشُوعُ فَهُمْ يُبَادِرُونَ إِلَى التَّوْبَةِ، لِأَنَّ خَوْفَ الموت مما يقوي دواعي التوبة ولأنه مَعَ خُشُوعِهِ لَا بُدَّ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ أَنْ لَا يَأْمَنَ تَقْصِيرًا جَرَى مِنْهُ فَيُلْزِمَهُ التَّلَافِيَ، فَإِذَا كَانَ حَالُهُ مَا ذَكَرْنَا كان ذلك داعياً إِلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى التَّوْبَةِ، الثَّانِي: أَنْ تُفَسَّرَ مُلَاقَاةُ الرَّبِّ بِمُلَاقَاةِ ثَوَابِ الرَّبِّ وَذَلِكَ مَظْنُونٌ لَا مَعْلُومٌ فَإِنَّ الزَّاهِدَ الْعَابِدَ لَا يَقْطَعُ بِكَوْنِهِ مُلَاقِيًا لِثَوَابِ اللَّهِ بَلْ يَظُنُّ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الظَّنَّ مِمَّا يَحْمِلُهُ عَلَى كَمَالِ الخشوع. الثالث: المعنى الذين يظنون أنهم ملاقوا رَبِّهِمْ بِذُنُوبِهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْخَاشِعَ قَدْ يُسِيءُ ظَنَّهُ بِنَفْسِهِ وَبِأَعْمَالِهِ فَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى بِذُنُوبِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُسَارِعُ إِلَى التَّوْبَةِ وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمَدْحِ. بَقِيَ هُنَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْأَصْحَابِ بقوله: مُلاقُوا رَبِّهِمْ عَلَى جَوَازِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى/ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَفْظُ اللِّقَاءِ لَا يُفِيدُ الرُّؤْيَةَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْخَبَرُ وَالْعُرْفُ. أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ [التوبة: 77] وَالْمُنَافِقُ لَا يَرَى رَبَّهُ، وَقَالَ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [الْفُرْقَانِ: 68] وَقَالَ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ التَّهْدِيدِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ [الْبَقَرَةِ: 223] فَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ وَالْمُؤْمِنَ، وَالرُّؤْيَةُ لَا تَثْبُتُ لِلْكَافِرِ فَعَلِمْنَا أَنَّ اللِّقَاءَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الرُّؤْيَةِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:

[سورة البقرة (2) : آية 47]

«مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» وَلَيْسَ الْمُرَادُ رَأَى اللَّهَ تَعَالَى لِأَنَّ ذَلِكَ وَصْفُ أَهْلِ النَّارِ، وَأَمَّا الْعُرْفُ فَهُوَ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ فِيمَنْ مَاتَ: لَقِيَ اللَّهَ، وَلَا يَعْنُونَ أَنَّهُ رَأَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَيْضًا فَاللِّقَاءُ يُرَادُ بِهِ الْقُرْبُ مِمَّنْ يَلْقَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَزُولُ الْحِجَابُ بَيْنَهُمَا. وَلِذَلِكَ يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا حُجِبَ عَنِ الْأَمِيرِ: مَا لَقِيتُهُ بَعْدُ وَإِنْ كَانَ قَدْ رَآهُ، وَإِذَا أُذِنَ لَهُ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ يَقُولُ: لَقِيتُهُ، وَإِنْ كَانَ ضَرِيرًا، وَيُقَالُ: لَقِيَ فُلَانٌ جَهْدًا شَدِيدًا وَلَقِيتُ مِنْ فُلَانٍ الدَّاهِيَةَ. وَلَاقَى فُلَانٌ حِمَامَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللِّقَاءَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الرُّؤْيَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [الْقَمَرِ: 12] . وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْجِسْمِ وَلَا يَصِحُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْأَصْحَابُ: اللِّقَاءُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ وُصُولِ أَحَدِ الْجِسْمَيْنِ إِلَى الْآخَرِ بِحَيْثُ يُمَاسُّهُ بِمُسَطَّحَةٍ يُقَالُ: لَقِيَ هَذَا ذَاكَ إِذَا مَاسَّهُ وَاتَّصَلَ بِهِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمُلَاقَاةُ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ الْمُدْرِكَيْنِ سَبَبًا لِحُصُولِ الْإِدْرَاكِ فَحَيْثُ يَمْتَنِعُ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى الْمُمَاسَّةِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِدْرَاكِ لِأَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ مِنْ أَقْوَى وُجُوهِ الْمَجَازِ. فَثَبَتَ أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُهُ لَفْظَ اللِّقَاءِ عَلَى الْإِدْرَاكِ أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لِدَلِيلٍ يَخُصُّهُ فَوَجَبَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى الْإِدْرَاكِ فِي الْبَوَاقِي، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ زَالَتِ السُّؤَالَاتُ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ [التَّوْبَةِ: 77] وَالْمُنَافِقُ لَا يَرَى رَبَّهُ. قُلْنَا: فَلِأَجْلِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الْمُرَادُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَ حِسَابَهُ وَحُكْمَهُ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْإِضْمَارَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. فَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَمَّا اضْطُرِرْنَا إِلَيْهِ اعْتَبَرْنَاهُ، وَأَمَّا فِي قوله تعالى: أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ لَا ضَرُورَةَ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَلَا فِي إِضْمَارِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَلَا جَرَمَ وَجَبَ تَعْلِيقُ اللِّقَاءِ بِاللَّهِ تَعَالَى لَا بِحُكْمِ اللَّهِ، فَإِنِ اشْتَغَلُوا بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الرُّؤْيَةِ بَيَّنَّا ضَعْفَهَا وَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ التَّمَسُّكُ بِالظَّاهِرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تعالى الرجوع إلى حيث لا يَكُونُ لَهُمْ مَالِكٌ سِوَاهُ وَأَنْ لَا يَمْلِكَ لَهُمْ أَحَدٌ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا غَيْرَهُ، كَمَا كَانُوا كَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْخَلْقِ فَجَعَلَ مَصِيرَهُمْ إِلَى مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ أَوَّلًا رُجُوعًا إِلَى اللَّهِ مِنْ حَيْثُ كَانُوا فِي سَائِرِ أَيَّامِ حَيَاتِهِمْ قَدْ يَمْلِكُ غَيْرُهُ الْحُكْمَ عَلَيْهِمْ وَيَمْلِكُ أَنْ يَضُرَّهُمْ وَيَنْفَعَهُمْ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مَالِكًا لَهُمْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَرِيقَانِ مِنَ الْمُبْطِلِينَ. الْأَوَّلُ: الْمُجَسِّمَةُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الرُّجُوعُ إِلَى غَيْرِ الْجِسْمِ مُحَالٌ فَلَمَّا ثَبَتَ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ وَجَبَ كَوْنُ اللَّهِ جِسْمًا. الثَّانِي: التَّنَاسُخِيَّةُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الرُّجُوعُ إِلَى الشَّيْءِ مَسْبُوقٌ/ بِالْكَوْنِ عِنْدَهُ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى كَوْنِ الْأَرْوَاحِ قَدِيمَةً وَأَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ وَالْجَوَابُ عَنْهَا قد حصل بناء على ما تقدم. [سورة البقرة (2) : آية 47] يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَعَادَ هَذَا الْكَلَامَ مَرَّةً أُخْرَى تَوْكِيدًا لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَتَحْذِيرًا مِنْ تَرْكِ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَرَنَهُ بِالْوَعِيدِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا يَوْماً [الْبَقَرَةِ: 48، 123] كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ لَمْ تُطِيعُونِي لِأَجْلِ سَوَالِفِ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فَأَطِيعُونِي لِلْخَوْفِ مِنْ عِقَابِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ فَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ: أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: قَالَ قَوْمٌ: الْعَالَمُ عِبَارَةٌ عَنِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مِنَ النَّاسِ كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ عَالَمًا مِنَ النَّاسِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْكَثِيرُ لَا الْكُلُّ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ لَفْظَ الْعَالَمِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَلَمِ وَهُوَ الدَّلِيلُ، فَكُلُّ مَا كَانَ دَلِيلًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَ عَالَمًا، فَكَانَ مِنَ الْعَالَمِ، وَهَذَا تَحْقِيقُ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ: الْعَالَمُ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ، وَعَلَى هذا لا يمكن تخصيص لفظ العالم

ببعض المحدثات. وثانيها: الْمُرَادُ فَضَّلْتُكُمْ عَلَى عَالَمِي زَمَانِكُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّخْصَ الَّذِي سَيُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ الْآنَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الشَّخْصُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَالَمِينَ حَالَ عَدَمِهِ لِأَنَّ شَرْطَ الْعَالَمِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَالشَّيْءُ حَالَ عَدَمِهِ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا. فَالشَّيْءُ حَالَ عَدَمِهِ لَا يَكُونُ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَمَا كَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ مِنَ الْعَالَمِينَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَفْضَلَ الْعَالَمِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَوْنُهُمْ أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ أَيْضًا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [الْمَائِدَةِ: 20] . وَقَالَ: وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ [الدُّخَانِ: 32] وَأَرَادَ بِهِ عَالَمِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَإِنَّمَا كَانُوا أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ بِمَا أُعْطَوْا مِنَ الْمُلْكِ وَالرِّسَالَةِ وَالْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ عَامٌّ فِي الْعَالَمِينَ لَكِنَّهُ مُطْلَقٌ في الفضل والمطلق يكفي في صدقه صورة وَاحِدَةٌ. فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ فضلوا على العالمين في أمر ما وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مَنْ كُلِّ الْعَالَمِينَ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، بَلْ لَعَلَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ فَغَيْرُهُمْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهُمْ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ الْأَمْرَ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يصح الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 33] عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنَ الملائكة. بقي هاهنا أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَرَادَ به المؤمنين مِنْهُمْ لِأَنَّ عُصَاتَهُمْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ عَلَى/ مَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ [الْمَائِدَةِ: 60] وَقَالَ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ [الْمَائِدَةِ: 78] . الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ مَا خَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَنْبِيهٌ لِلْعَرَبِ لِأَنَّ الْفَضِيلَةَ بِالنَّبِيِّ قَدْ لَحِقَتْهُمْ، وَجَمِيعُ أَقَاصِيصِ الْأَنْبِيَاءِ تَنْبِيهٌ وَإِرْشَادٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزُّمَرِ: 18] ، وَقَالَ: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزُّمَرِ: 55] . وَقَالَ: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يُوسُفَ: 111] . وَلِذَلِكَ رَوَى قَتَادَةُ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ: قَدْ مَضَى وَاللَّهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَمَا يُغْنِي مَا تَسْمَعُونَ عَنْ غَيْرِكُمْ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ الْقَفَّالُ: «النِّعْمَةُ بِكَسْرِ النُّونِ الْمِنَّةُ وَمَا يُنْعِمُ بِهِ الرَّجُلُ عَلَى صَاحِبِهِ. قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ [الشُّعَرَاءِ: 22] وَأَمَّا النَّعْمَةُ بِفَتْحِ النُّونِ فَهُوَ مَا يُتَنَعَّمُ بِهِ فِي الْعَيْشِ، قَالَ تَعَالَى: وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ [الدُّخَانِ: 27] . الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِعَايَةَ الْأَصْلَحِ لَا تَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الدِّينِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ نِعَمِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، فَذَلِكَ التَّفْضِيلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يَجُزْ جَعْلُهُ مِنَّةً عَلَيْهِمْ لِأَنَّ مَنْ أَدَّى وَاجِبًا فَلَا مِنَّةَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّصَ الْبَعْضَ بِذَلِكَ دُونَ الْبَعْضِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِعَايَةَ الْأَصْلَحِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الدِّينِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا خَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ الْعَظِيمَةِ فِي الدُّنْيَا، فَهَذَا يُنَاسِبُ أَنْ يَخُصَّهُمْ أَيْضًا بِالنِّعَمِ الْعَظِيمَةِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قِيلَ: إِتْمَامُ الْمَعْرُوفِ خَيْرٌ مِنِ ابْتِدَائِهِ، فَلِمَ أَرْدَفَ ذَلِكَ التَّخْوِيفَ الشَّدِيدَ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا يَوْماً وَالْجَوَابُ: لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ مَعَ عِظَمِ النِّعْمَةِ تَكُونُ أَقْبَحَ وَأَفْحَشَ فَلِهَذَا حَذَّرَهُمْ عَنْهَا. الْبَحْثُ الْخَامِسُ: فِي بَيَانِ أَنَّ أَيَّ فِرَقِ الْعَالَمِ أَفْضَلُ يَعْنِي أَنَّ أَيَّهُمْ أَكْثَرُ اسْتِجْمَاعًا لِخِصَالِ الْخَيْرِ؟ اعْلَمْ أَنَّ

[سورة البقرة (2) : آية 48]

هَذَا مِمَّا وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ الشَّدِيدُ بَيْنَ سُكَّانِ النَّوَاحِي فَكُلُّ طَائِفَةٍ تَدَّعِي أَنَّهَا أَفْضَلُ وَأَكْثَرُ اسْتِجْمَاعًا لِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى مَعَاقِدِ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تعالى وعونه «1» . [سورة البقرة (2) : آية 48] وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) اعْلَمْ أَنَّ اتِّقَاءَ الْيَوْمِ اتِّقَاءٌ لِمَا يَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْعِقَابِ وَالشَّدَائِدِ لِأَنَّ نَفْسَ الْيَوْمِ لَا يُتَّقَى وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَرِدَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ جَمِيعًا. فَالْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَاهُ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْيَوْمَ/ بِأَشَدِّ الصِّفَاتِ وَأَعْظَمِهَا تَهْوِيلًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ إِذَا دُفِعَ أَحَدُهُمْ إِلَى كَرِيهَةٍ وَحَاوَلَتْ أَعْوَانُهُ دِفَاعَ ذَلِكَ عَنْهُ بَذَلَتْ مَا فِي نُفُوسِهَا الْأَبِيَّةِ مِنْ مُقْتَضَى الْحَمِيَّةِ فَذَبَّتْ عَنْهُ كَمَا يَذُبُّ الْوَالِدُ عَنْ وَلَدِهِ بِغَايَةِ قُوَّتِهِ، فَإِنْ رَأَى مَنْ لا طاقة له بمانعته عَادَ بِوُجُوهِ الضَّرَاعَةِ وَصُنُوفِ الشَّفَاعَةِ فَحَاوَلَ بِالْمُلَايَنَةِ مَا قَصَّرَ عَنْهُ بِالْمُخَاشَنَةِ، فَإِنْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُ الْحَالَتَانِ مِنَ الْخُشُونَةِ وَاللِّيَانِ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ إِلَّا فِدَاءُ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ. إِمَّا مَالٌ أَوْ غَيْرُهُ وَإِنْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ تَعَلَّلَ بِمَا يَرْجُوهُ مِنْ نَصْرِ الْأَخِلَّاءِ وَالْإِخْوَانِ فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يُغْنِي شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ عَنِ الْمُجْرِمِينَ فِي الْآخِرَةِ. بَقِيَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْفَائِدَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً هِيَ الْفَائِدَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ فَمَا الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّكْرَارِ؟ وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً أَنَّهُ لَا يَتَحَمَّلُ عَنْهُ غَيْرُهُ مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْجَزَاءِ، وَأَمَّا النُّصْرَةُ فَهِيَ أَنْ يُحَاوِلَ تَخْلِيصَهُ عَنْ حُكْمِ الْمُعَاقَبِ وَسَنَذْكُرُ فَرْقًا آخَرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَبُولَ الشَّفَاعَةِ عَلَى أَخْذِ الْفِدْيَةِ وَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ الْعِشْرِينَ وَالْمِائَةِ وَقَدَّمَ قَبُولَ الْفِدْيَةِ عَلَى ذِكْرِ الشَّفَاعَةِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ مَنْ كَانَ مَيْلُهُ إِلَى حُبِّ الْمَالِ أَشَدَّ مِنْ مَيْلِهِ إِلَى عُلُوِّ النَّفْسِ فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ التَّمَسُّكَ بِالشَّافِعِينَ عَلَى إِعْطَاءِ الْفِدْيَةِ وَمَنْ كَانَ بِالْعَكْسِ يُقَدِّمُ الْفِدْيَةَ عَلَى الشَّفَاعَةِ، فَفَائِدَةُ تَغْيِيرِ التَّرْتِيبِ، الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ: وَلْنَذْكُرِ الْآنَ تَفْسِيرَ الْأَلْفَاظِ: أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً فَقَالَ الْقَفَّالُ: الْأَصْلُ فِي جَزَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ قَضَى وَمِنْهُ الْحَدِيثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ يَسَارٍ: «تَجْزِيكَ وَلَا تَجْزِي أَحَدًا بَعْدَكَ» ، هَكَذَا يَرْوِيهِ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ: «تَجْزِيكَ» بِفَتْحِ التَّاءِ غَيْرَ مَهْمُوزٍ أَيْ تَقْضِي عَنْ أُضْحِيَّتِكَ وَتَنُوبُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا تَنُوبُ نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا تَحْمِلُ عَنْهَا شَيْئًا مِمَّا أَصَابَهَا، بَلْ يَفِرُّ الْمَرْءُ فِيهِ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَمَعْنَى هَذِهِ النِّيَابَةِ أَنَّ طَاعَةَ الْمُطِيعِ لَا تَقْضِي عَلَى الْعَاصِي مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ. وَقَدْ تَقَعُ هَذِهِ النِّيَابَةُ فِي الدُّنْيَا كَالرَّجُلِ يَقْضِي عَنْ قَرِيبِهِ وَصَدِيقِهِ دَيْنَهُ وَيَتَحَمَّلُ عَنْهُ، فَأَمَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ قَضَاءَ الْحُقُوقِ إِنَّمَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْحَسَنَاتِ. رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا كَانَ عِنْدَهُ لِأَخِيهِ مَظْلَمَةٌ فِي عِرْضٍ أَوْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ فَاسْتَحَلَّهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ وَلَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ أَخَذَ مِنْ حَسَنَاتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ حَمَلَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ» . قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: وَ (شَيْئًا) مَفْعُولٌ بِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ مَصْدَرٍ أَيْ قَلِيلًا مِنَ الْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً [مَرْيَمَ: 60] . وَمَنْ قَرَأَ: «لَا يُجْزِي» مِنْ أَجْزَأَ عَنْهُ إِذَا أَغْنَى عَنْهُ فَلَا يَكُونُ فِي قِرَاءَتِهِ إِلَّا بِمَعْنَى شَيْئًا من

_ (1) لم يذكر في الأصول التي بأيدينا في هذا الموضع شيء مما أشار إليه المصنف رحمه الله تعالى. (المصحح) .

الْإِجْزَاءِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَنْصُوبَةُ الْمَحَلِّ صِفَةٌ لِيَوْمًا. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيْنَ الْعَائِدُ مِنْهَا إِلَى الْمَوْصُوفِ؟ قُلْنَا: هُوَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ لَا تُجْزِي فِيهِ وَمَعْنَى التَّنْكِيرِ أَنَّ نَفْسًا مِنَ الْأَنْفُسِ لَا تُجْزِي عَنْ نَفْسِ غَيْرِهَا شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ الْإِقْنَاطُ الْكُلِّيُّ الْقَطَّاعُ لِلْمَطَامِعِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ فَالشَّفَاعَةُ/ أَنْ يَسْتَوْهِبَ أَحَدٌ لِأَحَدٍ شَيْئًا وَيَطْلُبَ لَهُ حَاجَةً وَأَصْلُهَا مِنَ الشَّفْعِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْوَتْرِ، كَأَنَّ صَاحِبَ الْحَاجَةِ كَانَ فَرْدًا فَصَارَ الشَّفِيعُ لَهُ شَفْعًا أَيْ صَارَا زَوْجًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَلا يُقْبَلُ مِنْها رَاجِعٌ إِلَى النَّفْسِ الثَّانِيَةِ الْعَاصِيَةِ وَهِيَ الَّتِي لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ، وَمَعْنَى لَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ أَنَّهَا إِنْ جَاءَتْ بِشَفَاعَةِ شَفِيعٍ لَا يُقْبَلُ مِنْهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى النَّفْسِ الْأُولَى، عَلَى أَنَّهَا لَوْ شَفَعَتْ لَهَا لَمْ تُقْبَلْ شَفَاعَتُهَا كَمَا لَا تُجْزِي عَنْهَا شَيْئًا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ أَيْ فِدْيَةٌ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنْ مُعَادَلَةِ الشَّيْءِ تَقُولُ: مَا أَعْدِلُ بِفُلَانٍ أَحَدًا، أَيْ لَا أَرَى لَهُ نَظِيرًا. قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام: 1] وَنَظِيرُهُ هَذِهِ الْآيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ [الْمَائِدَةِ: 36] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ [آلِ عِمْرَانَ: 91] وَقَالَ: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها [الْأَنْعَامِ: 70] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ فَاعْلَمْ أَنَّ التَّنَاصُرَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا بِالْمُخَالَطَةِ وَالْقَرَابَةِ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَيْسَ يَوْمَئِذٍ خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَأَنَّهُ لَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّمَا الْمَرْءُ يَفِرُّ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَقَرَابَتِهِ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَالنَّصْرُ يُرَادُ بِهِ الْمَعُونَةُ كَقَوْلِهِ: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» ، وَمِنْهُ مَعْنَى الْإِغَاثَةِ: تَقُولُ الْعَرَبُ: أَرْضٌ مَنْصُورَةٌ أَيْ مَمْطُورَةٌ، وَالْغَيْثُ يَنْصُرُ الْبِلَادَ إِذَا أَنْبَتَهَا فَكَأَنَّهُ أَغَاثَ أَهْلَهَا وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ [الْحَجِّ: 15] أَيْ أَنْ لَنْ يَرْزُقَهُ كَمَا يَرْزُقُ الْغَيْثَ الْبِلَادَ، وَيُسَمَّى الِانْتِقَامُ نُصْرَةً وَانْتِصَارًا، قَالَ تَعَالَى: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الْأَنْبِيَاءِ: 77] قَالُوا مَعْنَاهُ: فَانْتَقَمْنَا لَهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يَحْتَمِلُ هَذِهِ الْوُجُوهَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُغَاثُونَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ إِذَا عُذِّبُوا لَمْ يَجِدُوا مَنْ يَنْتَقِمُ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ، وَفِي الْجُمْلَةِ كَأَنَّ النَّصْرَ هُوَ دَفْعُ الشَّدَائِدِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا دَافِعَ هُنَاكَ مِنْ عَذَابِهِ، بَقِيَ فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ فِي الْآيَةِ أَعْظَمَ تَحْذِيرٍ عَنِ الْمَعَاصِي وَأَقْوَى تَرْغِيبٍ فِي تَلَافِي الْإِنْسَانِ مَا يَكُونُ مِنْهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ بِالتَّوْبَةِ لِأَنَّهُ إِذَا تَصَوَّرَ أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ اسْتِدْرَاكٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَلَا نُصْرَةٌ وَلَا فِدْيَةٌ عَلِمَ أَنَّهُ لَا خَلَاصَ لَهُ إِلَّا بِالطَّاعَةِ، فَإِذَا كَانَ لَا يَأْمَنُ كُلَّ سَاعَةٍ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي الْعِبَادَةِ، وَمَنْ فَوَّتَ التَّوْبَةَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَقِينَ لَهُ فِي الْبَقَاءِ صَارَ حَذِرًا خَائِفًا فِي كُلِّ حَالٍ، وَالْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَهِيَ فِي الْمَعْنَى مُخَاطَبَةٌ لِلْكُلِّ لِأَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي ذُكِرَ فِيهَا وَصْفٌ لِلْيَوْمِ وَذَلِكَ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ يَحْضُرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعْتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفَاعَةً فِي الْآخِرَةِ وَحُمِلَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الْإِسْرَاءِ: 79] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضُّحَى: 5] ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ هَذَا فِي أَنَّ شَفَاعَتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَنْ تَكُونُ أَتَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ/ لِلثَّوَابِ، أَمْ تَكُونُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ؟ فَذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّهَا لِلْمُسْتَحِقِّينَ لِلثَّوَابِ وَتَأْثِيرُ الشَّفَاعَةِ فِي أَنْ تَحْصُلَ زِيَادَةٌ مِنَ الْمَنَافِعِ عَلَى قَدْرِ مَا اسْتَحَقُّوهُ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: تَأْثِيرُهَا فِي إِسْقَاطِ الْعَذَابِ عَنِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ، إما بأن

يَشْفَعَ لَهُمْ فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ حَتَّى لَا يَدْخُلُوا النَّارَ وَإِنْ دَخَلُوا النَّارَ فَيَشْفَعُ لَهُمْ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا وَيَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلْكُفَّارِ، وَاسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى إِنْكَارِ الشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ بِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: هَذِهِ الْآيَةُ: قَالُوا إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلَوْ أَثَّرَتِ الشَّفَاعَةُ فِي إِسْقَاطِ الْعِقَابِ لَكَانَ قَدْ أَجْزَتْ نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا. الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَهَذِهِ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الشَّفَاعَةِ، وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ شَفِيعًا لِأَحَدٍ مِنَ الْعُصَاةِ لَكَانَ نَاصِرًا لَهُ وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْآيَةِ. لَا يُقَالُ الْكَلَامُ عَلَى الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ آبَاءَهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ فَأُيِّسُوا مِنْ ذَلِكَ، فَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِيهِمْ. الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي نَفْيَ الشَّفَاعَةِ مُطْلَقًا إِلَّا أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى تَطَرُّقِ التَّخْصِيصِ إِلَيْهِ فِي حَقِّ زِيَادَةِ الثَّوَابِ لِأَهْلِ الطَّاعَةِ، فَنَحْنُ أَيْضًا نَخُصُّهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي نَذْكُرُهَا، لِأَنَّا نُجِيبُ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ نَفْيَ الشَّفَاعَةِ فِي زِيَادَةِ الْمَنَافِعِ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَذَّرَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِأَنَّهُ لَا تَنْفَعُ فِيهِ شَفَاعَةٌ، وَلَيْسَ يَحْصُلُ التَّحْذِيرُ إِذَا رَجَعَ نَفْيُ الشَّفَاعَةِ إِلَى تَحْصِيلِ زِيَادَةِ النَّفْعِ لِأَنَّ عَدَمَ حُصُولِ زِيَادَةِ النَّفْعِ لَيْسَ فِيهِ خَطَرٌ وَلَا ضَرَرٌ يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ قَالَ: اتَّقُوا يَوْمًا لَا أَزِيدُ فِيهِ مَنَافِعَ الْمُسْتَحِقِّ لِلثَّوَابِ بِشَفَاعَةِ أَحَدٍ لَمْ يَحْصُلْ بِذَلِكَ زَجْرٌ عَنِ الْمَعَاصِي، وَلَوْ قَالَ: اتَّقُوا يَوْمًا لَا أُسْقِطُ فِيهِ عِقَابَ الْمُسْتَحِقِّ لِلْعِقَابِ بِشَفَاعَةِ شَفِيعٍ كَانَ ذَلِكَ زَجْرًا عَنِ الْمَعَاصِي، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ نَفْيُ تَأْثِيرِ الشَّفَاعَةِ فِي إِسْقَاطِ الْعِقَابِ لَا نَفْيُ تَأْثِيرِهَا فِي زِيَادَةِ الْمَنَافِعِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ [غَافِرٍ: 18] وَالظَّالِمُ هُوَ الْآتِي بِالظُّلْمِ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ وَغَيْرَهُ، لَا يُقَالُ إِنَّهُ تَعَالَى نَفَى أَنْ يَكُونَ لِلظَّالِمِينَ شَفِيعٌ يُطَاعُ وَلَمْ يَنْفِ شَفِيعًا يُجَابُ وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ شَفِيعٌ يُطَاعُ، لِأَنَّ الْمُطَاعَ يَكُونُ فَوْقَ الْمُطِيعِ، وَلَيْسَ فَوْقَهُ تَعَالَى أَحَدٌ يُطِيعُهُ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّا نَقُولُ: لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَا قُلْتُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَهُ تَعَالَى أَحَدٌ يُطِيعُهُ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ. أَمَّا مَنْ أَثْبَتَهُ سُبْحَانَهُ فَقَدِ اعْتَرَفَ أَنَّهُ لَا يُطِيعُ أَحَدًا، وَأَمَّا مَنْ نَفَاهُ فَمَعَ الْقَوْلِ بِالنَّفْيِ اسْتَحَالَ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ كَوْنَهُ مُطِيعًا لِغَيْرِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ حَمْلًا لَهَا عَلَى مَعْنًى لَا يُفِيدُ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى نَفَى شَفِيعًا يُطَاعُ، وَالشَّفِيعُ لَا يَكُونُ إِلَّا دُونَ الْمَشْفُوعِ إِلَيْهِ لِأَنَّ مَنْ فَوْقَهُ يَكُونُ آمِرًا لَهُ وَحَاكِمًا عَلَيْهِ وَمِثْلُهُ لَا يُسَمَّى شَفِيعًا فَأَفَادَ قَوْلُهُ: «شَفِيعٍ» كَوْنَهُ دُونَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يمكن حمل قوله: يُطاعُ عَلَى مَنْ فَوْقَهُ فَوَجَبَ حَمْلُهُ/ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ شَفِيعٌ يُجَابُ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [الْبَقَرَةِ: 254] ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي نَفْيَ الشَّفَاعَاتِ بِأَسْرِهَا. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [الْبَقَرَةِ: 270] وَلَوْ كَانَ الرَّسُولُ يَشْفَعُ لِلْفَاسِقِ مِنْ أُمَّتِهِ لَوُصِفُوا بِأَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ لِأَنَّهُ إِذَا تَخَلَّصَ بِسَبَبِ شَفَاعَةِ الرَّسُولِ عَنِ الْعَذَابِ فَقَدْ بَلَغَ الرَّسُولُ النِّهَايَةَ فِي نُصْرَتِهِ. وَخَامِسُهَا: قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاءِ: 28] أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ مَلَائِكَتِهِ أَنَّهُمْ لَا يَشْفَعُونَ لِأَحَدٍ إِلَّا أَنْ يَرْتَضِيَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالْفَاسِقُ لَيْسَ بِمُرْتَضًى عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا لَمْ تَشْفَعِ الْمَلَائِكَةُ لَهُ فَكَذَا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ.

وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [الْمُدَّثِّرِ: 48] وَلَوْ أَثَّرَتِ الشَّفَاعَةُ فِي إِسْقَاطِ الْعِقَابِ لَكَانَتِ الشَّفَاعَةُ قَدْ تَنْفَعُهُمْ وَذَلِكَ ضِدُّ الْآيَةِ. وَسَابِعُهَا: أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ نَرْغَبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ شَفَاعَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَقُولُونَ فِي جُمْلَةِ أَدْعِيَتِهِمْ: وَاجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ شَفَاعَتِهِ، فَلَوْ كَانَ الْمُسْتَحِقُّ لِلشَّفَاعَةِ هُوَ الَّذِي خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا مُصِرًّا عَلَى الْكَبَائِرِ لَكَانُوا قَدْ رَغِبُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ يَخْتِمَ لَهُمْ مُصِرِّينَ عَلَى الْكَبَائِرِ. لَا يُقَالُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ يَرْغَبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ يَجْعَلَهُمْ مِنْ أَهْلِ شَفَاعَتِهِ إِذَا خَرَجُوا مُصِرِّينَ لَا أَنَّهُمْ يَرْغَبُونَ فِي أَنْ يَخْتِمَ لَهُمْ مُصِرِّينَ كَمَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي دُعَائِهِمْ: اجْعَلْنَا مِنَ التَّوَّابِينَ وَلَيْسُوا يَرْغَبُونَ فِي أَنْ يُذْنِبُوا ثُمَّ يَتُوبُوا وَإِنَّمَا يَرْغَبُونَ فِي أَنْ يُوَفِّقَهُمْ لِلتَّوْبَةِ إِذَا كَانُوا مُذْنِبِينَ وَكِلْتَا الرَّغْبَتَيْنِ مَشْرُوطَةٌ بِشَرْطٍ وَهُوَ تَقَدُّمُ الْإِصْرَارِ وَتَقَدُّمُ الذَّنْبِ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَيْسَ يَجِبُ إِذَا شَرَطْنَا شَرْطًا فِي قَوْلِنَا: اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ التَّوَّابِينَ، أَنْ نَزِيدَ شَرْطًا فِي قَوْلِنَا اجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ الشَّفَاعَةِ. الثَّانِي: أَنَّ الْأُمَّةَ فِي كِلْتَا الرَّغْبَتَيْنِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يَسْأَلُونَ مِنْهُ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ مَا يُوصِلُهُمْ إِلَى الْمَرْغُوبِ فيه ففي قولهم: اجعلنا من التوابين، أن يَرْغَبُونَ فِي أَنْ يُوَفِّقَهُمْ لِلتَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَفِي الثَّانِي يَرْغَبُونَ فِي أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ ما يكونون عِنْدَهُ أَهْلًا لِشَفَاعَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَوْ لَمْ تَحْصُلْ أَهْلِيَّةُ الشَّفَاعَةِ إِلَّا بِالْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا مُصِرًّا عَلَى الْكَبَائِرِ لَكَانَ سُؤَالُ أَهْلِيَّةِ الشَّفَاعَةِ سُؤَالًا لِلْإِخْرَاجِ مِنَ الدُّنْيَا حَالَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْكَبَائِرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ بِالْإِجْمَاعِ. أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّ أَهْلِيَّةَ الشَّفَاعَةِ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ كَانَ سُؤَالُ أَهْلِيَّةِ الشَّفَاعَةِ حَسَنًا فَظَهَرَ الْفَرْقُ. وَثَامِنُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ [الِانْفِطَارِ: 14- 16] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ الْفُجَّارِ يَدْخُلُونَ النَّارَ وَأَنَّهُمْ لَا يَغِيبُونَ عَنْهَا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ لَا يَغِيبُونَ عَنْهَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفَاعَةِ أَثَرٌ لَا فِي الْعَفْوِ عَنِ الْعِقَابِ وَلَا فِي الْإِخْرَاجِ مِنَ النَّارِ بَعْدَ الْإِدْخَالِ فِيهَا. وَتَاسِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس: 3] فنفي الشَّفَاعَةِ عَمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ فِي شَفَاعَتِهِ وَكَذَا قَوْلُهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَةِ: 255] وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [سَبَأٍ: 38] وَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَأْذَنْ فِي الشَّفَاعَةِ فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ لِأَنَّ هَذَا الْإِذْنَ لَوْ عُرِفَ لَعُرِفَ إِمَّا بِالْعَقْلِ أَوْ بِالنَّقْلِ، أَمَّا الْعَقْلُ فَلَا مَجَالَ لَهُ فِيهِ، وَأَمَّا النَّقْلُ/ فَإِمَّا بِالتَّوَاتُرِ أَوْ بِالْآحَادِ، وَالْآحَادُ لَا مَجَالَ لَهُ فِيهِ لِأَنَّ رِوَايَةَ الْآحَادِ لَا تُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ وَالْمَسْأَلَةُ عِلْمِيَّةٌ وَالتَّمَسُّكُ فِي الْمَطَالِبِ الْعِلْمِيَّةِ بِالدَّلَائِلِ الظَّنِّيَّةِ غَيْرُ جَائِزٍ. وَأَمَّا بِالتَّوَاتُرِ فَبَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ ذَلِكَ لَعَرَفَهُ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا أَنْكَرُوا هَذِهِ الشَّفَاعَةَ. فَحَيْثُ أَطْبَقَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْإِذْنُ. وَعَاشِرُهَا: قوله تعالى: [في سورة غافر الذين يحملون العرش ... ] الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [غَافِرٍ: 7] وَلَوْ كَانَتِ الشَّفَاعَةُ حَاصِلَةً لِلْفَاسِقِ لَمْ يَكُنْ لِتَقْيِيدِهَا بِالتَّوْبَةِ وَمُتَابَعَةِ السَّبِيلِ مَعْنًى. الْحَادِيَ عَشَرَ: الْأَخْبَارُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا تُوجَدُ الشَّفَاعَةُ فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ. الْأَوَّلُ: مَا رَوَى الْعَلَاءُ بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَخَلَ الْمَقْبَرَةَ فَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ إِخْوَانَنَا: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا إِخْوَانَكَ. قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَكَ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ لِرَجُلٍ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ فِي خَيْلٍ دُهْمٍ فَهَلْ لَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ، أَلَا فَلَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا

يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ أُنَادِيهِمْ، أَلَا هَلُمَّ أَلَا هَلُمَّ فَيُقَالُ إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ فَسُحْقًا فَسُحْقًا» . وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْخَبَرِ عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ شَفِيعًا لَهُمْ لَمْ يَكُنْ يَقُولُ فَسُحْقًا فَسُحْقًا، لَأَنَّ الشَّفِيعَ لَا يَقُولُ ذَلِكَ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَفِيعًا لَهُمْ فِي الْخَلَاصِ مِنَ الْعِقَابِ الدَّائِمِ وَهُوَ يَمْنَعُهُمْ شَرْبَةَ مَاءٍ. الثَّانِي: رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابَاطٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: «يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ أُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ إِنَّهُ سَيَكُونُ أُمَرَاءُ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ وَلَنْ يَرِدَ عليَّ الْحَوْضَ وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وَسَيَرِدُ عليَّ الْحَوْضَ، يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ الصَّلَاةُ قُرْبَانٌ وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ» . وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ النَّبِيِّ وَلَا النَّبِيُّ مِنْهُ فَكَيْفَ يَشْفَعُ لَهُ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: «لَمْ يَرِدْ عليَّ الْحَوْضَ» دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ لِأَنَّهُ إِذَا مُنِعَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الرَّسُولِ حَتَّى لَا يَرِدَ عَلَيْهِ الْحَوْضَ فَبِأَنْ يَمْتَنِعَ الرَّسُولُ مِنْ خَلَاصِهِ مِنَ الْعِقَابِ أَوْلَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنَ السُّحْتِ» صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلشَّفَاعَةِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ. الثَّالِثُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ بَلَّغْتُكَ» . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْمَطْلُوبِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَمْلِكْ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا فَلَيْسَ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ نَصِيبٌ. الرَّابِعُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصِيمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كُنْتُ خَصِيمَهُ خَصَمْتُهُ، رَجُلٌ/ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُوفِهِ أُجْرَتَهُ» . وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا كَانَ خَصِيمًا لِهَؤُلَاءِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ شَفِيعًا لَهُمْ، فَهَذَا مَجْمُوعُ وُجُوهِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذَا الْبَابِ. أَمَّا أَصْحَابُنَا فَقَدْ تَمَسَّكُوا فِيهِ بِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: حِكَايَةً عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، [الْمَائِدَةِ: 118] وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ مِنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا كَانَتْ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ أَوْ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ الْمُطِيعِ أَوْ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ صَاحِبِ الصَّغِيرَةِ أَوِ الْمُسْلِمِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَوِ الْمُسْلِمِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ. وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَا يَلِيقُ بِالْكُفَّارِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُطِيعَ وَالْمُسْلِمَ صَاحِبَ الصَّغِيرَةِ وَالْمُسْلِمَ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يَجُوزُ بَعْدَ التَّوْبَةِ تَعْذِيبُهُ عَقْلًا عِنْدَ الْخَصْمِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ لَائِقًا بِهِمْ وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ وَإِذَا صَحَّ الْقَوْلُ بِهَذِهِ الشَّفَاعَةِ فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صَحَّ الْقَوْلُ بِهَا فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إِبْرَاهِيمَ: 36] فَقَوْلُهُ: وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْكَافِرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْمَغْفِرَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا حَمْلُهُ عَلَى صَاحِبِ الصَّغِيرَةِ وَلَا عَلَى صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِأَنَّ غُفْرَانَهُ لَهُمْ وَاجِبٌ عَقْلًا عِنْدَ الْخَصْمِ فَلَا حَاجَةَ لَهُ إِلَى الشَّفَاعَةِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا حَمْلُهُ عَلَى صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ. وَمِمَّا يُؤَكِّدُ دَلَالَةَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ شُعَبِ الْإِيمَانِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ: وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَوْلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ الْآيَةَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي وَبَكَى فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ

وَرَبُّكَ أَعْلَمُ فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ لَهُ إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً [مَرْيَمَ: 85- 87] ، فَنَقُولُ لَيْسَ فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْمُجْرِمِينَ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ لِغَيْرِهِمْ أَوْ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ شَفَاعَةَ غَيْرِهِمْ لَهُمْ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ كَمَا يَجُوزُ وَيَحْسُنُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْفَاعِلِ يَجُوزُ وَيَحْسُنُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْمَفْعُولِ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَوْلَى، لِأَنَّ حَمْلَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَجْرِي مَجْرَى إِيضَاحِ الْوَاضِحَاتِ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ يُسَاقُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ لِغَيْرِهِمْ، فَتَعَيَّنَ حَمْلُهَا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ، لِأَنَّهُ قَالَ عَقِيبَهُ: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ الْمُجْرِمِينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ غَيْرُهُمْ إِلَّا إِذَا كَانُوا اتَّخَذُوا عِنْدَ/ الرَّحْمَنِ عَهْدًا، فَكُلُّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا وَجَبَ دُخُولُهُ فِيهِ، وَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْإِسْلَامُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَهُ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: وَالْيَهُودِيُّ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ فَوَجَبَ دُخُولُهُ تَحْتَهُ لَكِنَّا نَقُولُ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّهِ لِضَرُورَةِ الْإِجْمَاعِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا بِهِ فِيمَا وَرَاءَهُ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاءِ: 28] وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُرْتَضًى عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ مَنْ كَانَ مُرْتَضًى عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الشَّفَاعَةِ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُرْتَضًى عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مُرْتَضًى عِنْدَ اللَّهِ بِحَسَبِ إِيمَانِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَكُلُّ مَنْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُرْتَضًى عِنْدَ اللَّهِ بِحَسَبِ هَذَا الْوَصْفِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُرْتَضًى عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمُرْتَضَى عِنْدَ اللَّهِ جُزْءٌ مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِنَا: مُرْتَضًى عِنْدَ اللَّهِ بِحَسَبِ إِيمَانِهِ، وَمَتَى صَدَقَ الْمُرَكَّبُ صَدَقَ الْمُفْرَدُ، فَثَبَتَ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُرْتَضًى عِنْدَ اللَّهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الشَّفَاعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى نَفْيُ الشَّفَاعَةِ إِلَّا لِمَنْ كَانَ مُرْتَضًى وَالِاسْتِثْنَاءُ عَنِ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَضَى أَهْلًا لِشَفَاعَتِهِمْ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ دَاخِلٌ فِي شَفَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ وَجَبَ دُخُولُهُ فِي شَفَاعَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. فَإِنْ قِيلَ: الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ بِمُرْتَضًى فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ أَهْلًا لِشَفَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِشَفَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ أَهْلًا لِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِمُرْتَضًى لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُرْتَضًى بِحَسَبِ فِسْقِهِ وَفُجُورِهِ وَمَنْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرْتَضًى بِحَسَبِ فِسْقِهِ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرْتَضًى بِعَيْنِ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الدَّلِيلِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرْتَضًى وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ أَهْلًا لِشَفَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ عَنِ الْكُلِّ إِلَّا فِي حَقِّ الْمُرْتَضَى، فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ غَيْرَ مُرْتَضًى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي النَّفْيِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَةِ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى مَحْمُولًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَاهُ اللَّهُ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى اللَّهُ مِنْهُ شَفَاعَتَهُ فَحِينَئِذٍ لَا تَدُلُّ الْآيَةُ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ارْتَضَى شَفَاعَةَ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ، وَهَذَا أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْمَنْطِقِيَّةِ أَنَّ الْمُهْمَلَتَيْنِ لَا يَتَنَاقَضَانِ، فَقَوْلُنَا: زَيْدٌ عَالِمٌ، زَيْدٌ لَيْسَ

بِعَالِمٍ لَا يَتَنَاقَضَانِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ يَكُونَ الْمُرَادُ زَيْدٌ عَالِمٌ بِالْفِقْهِ، زَيْدٌ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِالْكَلَامِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَكَذَا قَوْلُنَا صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ مُرْتَضًى صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ بِمُرْتَضًى، لَا يَتَنَاقَضَانِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مُرْتَضًى بِحَسَبِ دِينِهِ، لَيْسَ بِمُرْتَضًى بِحَسَبِ فِسْقِهِ، وَأَيْضًا فَمَتَى ثَبَتَ أَنَّهُ مُرْتَضًى بِحَسَبِ إِسْلَامِهِ ثَبَتَ مُسَمَّى كَوْنِهِ مُرْتَضًى، وَإِذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى هُوَ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ مُرْتَضًى، وَمُجَرَّدُ كَوْنِهِ/ مُرْتَضًى حَاصِلٌ عِنْدَ كَوْنِهِ مُرْتَضًى بِحَسَبِ إِيمَانِهِ وَجَبَ دُخُولُهُ تَحْتَ الِاسْتِثْنَاءِ وَخُرُوجُهُ عَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّفَاعَةِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَجَوَابُهُ أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَاهُ اللَّهُ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى اللَّهُ شَفَاعَتَهُ، لِأَنَّ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ تُفِيدُ الْآيَةُ التَّرْغِيبَ وَالتَّحْرِيضَ عَلَى طَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالِاحْتِرَازَ عَنْ مَعَاصِيهِ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي لَا تُفِيدُ الْآيَةُ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَفْسِيرَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا كَانَ أَكْثَرَ فَائِدَةٍ أَوْلَى. وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [الْمُدَّثِّرِ: 48] خَصَّهُمْ بِذَلِكَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْمُسْلِمِ بِخِلَافِهِ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [مُحَمَّدٍ: 19] دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ مُحَمَّدًا بِأَنْ يَسْتَغْفِرَ لِكُلِّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَةِ: 3] أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لَهُمْ. وَإِلَّا لَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَهُ بِالدُّعَاءِ لِيَرُدَّ دُعَاءَهُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ مَحْضَ التَّحْقِيرِ وَالْإِيذَاءِ وَهُوَ غَيْرُ لَائِقٍ بِاللَّهِ تَعَالَى وَلَا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مُحَمَّدًا بِالِاسْتِغْفَارِ لِكُلِّ الْعُصَاةِ فَقَدِ اسْتَجَابَ دُعَاءَهُ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ غَفَرَ لَهُمْ وَلَا مَعْنَى لِلشَّفَاعَةِ إِلَّا هَذَا، وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها [النِّسَاءِ: 86] فَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْكُلَّ بِأَنَّهُمْ إِذَا حَيَّاهُمْ أَحَدٌ بِتَحِيَّةٍ أَنْ يُقَابِلُوا تِلْكَ التَّحِيَّةَ بأحسن منها أو بأن يَرُدُّوهَا، ثُمَّ أَمَرَنَا بِتَحِيَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الْأَحْزَابِ: 56] الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ رَحْمَةٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا تَحِيَّةٌ، فَلَمَّا طَلَبْنَا مِنَ اللَّهِ الرَّحْمَةَ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَجَبَ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها، أَنْ يَفْعَلَ مُحَمَّدٌ مِثْلَهُ وَهُوَ أَنْ يَطْلُبَ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ الرَّحْمَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ، ثُمَّ تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَيْرُ مَرْدُودِ الدُّعَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْبَلَ اللَّهُ شَفَاعَتَهُ فِي الْكُلِّ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النِّسَاءِ: 64] وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ التَّوْبَةِ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ مَتَى اسْتَغْفَرَ لِلْعُصَاةِ وَالظَّالِمِينَ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَفَاعَةَ الرَّسُولِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَقْبُولَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَقْبُولَةً فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. وَتَاسِعُهَا: أَجْمَعْنَا عَلَى وُجُوبِ الشَّفَاعَةِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَأْثِيرُهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي زِيَادَةِ الْمَنَافِعِ أَوْ فِي إِسْقَاطِ الْمَضَارِّ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ وَإِلَّا لَكُنَّا شَافِعِينَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذَا طَلَبْنَا مِنَ الله تعالى أن يزيد في فضله عند ما نَقُولُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ تَعَيَّنَ الثَّانِي وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا لَا يُطْلَقُ عَلَيْنَا كَوْنُنَا شَافِعِينَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ/ الشَّفِيعَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَعْلَى رُتْبَةً مِنَ الْمَشْفُوعِ لَهُ، وَنَحْنُ وَإِنْ كُنَّا نَطْلُبُ الْخَيْرَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَكِنْ لَمَّا كُنَّا أَدْنَى رُتْبَةً مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَصِحَّ أَنْ نُوصَفَ بِكَوْنِنَا شَافِعِينَ لَهُ. الثَّانِي: قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: سُؤَالُ الْمَنَافِعِ لِلْغَيْرِ إِنَّمَا يَكُونُ شَفَاعَةً إِذَا كَانَ فِعْلُ تِلْكَ الْمَنَافِعِ لِأَجْلِ سُؤَالِهِ وَلَوْلَاهُ لَمْ تُفْعَلْ أَوْ كَانَ لِسُؤَالِهِ تَأْثِيرٌ فِي فِعْلِهَا، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ تُفْعَلُ سَوَاءٌ سَأَلَهَا أَوْ لَمْ يَسْأَلْهَا، وَكَانَ غَرَضُ

السَّائِلِ التَّقَرُّبَ بِذَلِكَ إِلَى الْمَسْئُولِ، وَإِنْ لَمْ يستحق المسؤول لَهُ بِذَلِكَ السُّؤَالِ مَنْفَعَةً زَائِدَةً فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ شَفَاعَةً لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ السُّلْطَانَ إِذَا عَزَمَ عَلَى أَنْ يَعْقِدَ لِابْنِهِ وِلَايَةً فَحَثَّهُ بَعْضُ أَوْلِيَائِهِ عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ سَوَاءٌ حَثَّهُ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَحُثَّهُ، وَقَصَدَ بِذَلِكَ التَّقَرُّبَ إِلَى السُّلْطَانِ لِيَحْصُلَ لَهُ بِذَلِكَ مَنْزِلَةٌ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ إِنَّهُ يَشْفَعُ لِابْنِ السُّلْطَانِ: وَهَذِهِ حَالَتُنَا فِي حَقِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا نَسْأَلُهُ لَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ نَكُونَ شَافِعِينَ، وَالْجَوَابُ عَلَى الْأَوَّلِ، لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الرُّتْبَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الشَّفَاعَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّفِيعَ إِنَّمَا سُمِّيَ شَفِيعًا مَأْخُوذًا مِنَ الشَّفْعِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الرُّتْبَةُ، فَسَقَطَ قَوْلُهُمْ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ يَسْقُطُ السُّؤَالُ الثَّانِي، وَأَيْضًا فَنَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: إِنَّا وَإِنْ كُنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُكْرِمُ رَسُولَهُ وَيُعَظِّمُهُ سَوَاءٌ سَأَلَتِ الْأُمَّةُ ذَلِكَ أَمْ لَمْ تَسْأَلْ، وَلَكِنَّا لَا نَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ فِي إِكْرَامِهِ بِسَبَبِ سُؤَالِ الْأُمَّةِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ لَوْلَا سُؤَالُ الْأُمَّةِ لَمَا حَصَلَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ وَإِذَا كَانَ هَذَا الِاحْتِمَالُ يَجُوزُ، وَجَبَ أَنْ يَبْقَى تَجْوِيزُ كَوْنِنَا شَافِعِينَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ بَطَلَ قَوْلُهُمْ. وَعَاشِرُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَوَجَبَ دُخُولُهُ فِي جُمْلَةِ مَنْ تَسْتَغْفِرُ الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ وَرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [غَافِرٍ: 7] ، إِلَّا أَنَّ هَذَا لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ ذَلِكَ الْعَامِّ لِمَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ إِذَا ذُكِرَ بَعْدَهُ بَعْضُ أَقْسَامِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ ذَلِكَ الْعَامِّ بِذَلِكَ الْخَاصِّ. الْحَادِيَ عَشَرَ: الْأَخْبَارُ الدَّالَّةُ عَلَى حُصُولِ الشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ، وَلْنَذْكُرْ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ، الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ وَرَدَ عَلَى مُضَادَّةِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ إِذَا وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْقُرْآنِ وَجَبَ رَدُّهُ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَفَاعَتَهُ لَيْسَتْ إِلَّا لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ شَفَاعَتَهُ مَنْصِبٌ عَظِيمٌ فَتَخْصِيصُهُ بِأَهْلِ الْكَبَائِرِ فَقَطْ يَقْتَضِي حِرْمَانَ أَهْلِ الثَّوَابِ عَنْهُ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ لَا أَقَلَّ مِنَ التَّسْوِيَةِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ الِاكْتِفَاءُ فِيهَا بِالظَّنِّ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ فَلَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِهَذَا الْخَبَرِ. ثُمَّ إِنْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ الخبر لكن فِيهِ احْتِمَالَاتٌ، أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِفْهَامَ بِمَعْنَى/ الْإِنْكَارِ يَعْنِي أَشَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: هذا رَبِّي أَيْ أَهَذَا رَبِّي، وَثَانِيهَا: أَنَّ لَفْظَ الْكَبِيرَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ لَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَلَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ بِالْمَعْصِيَةِ بَلْ كَمَا يَتَنَاوَلُ الْمَعْصِيَةَ يَتَنَاوَلُ الطَّاعَةَ. قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الصلاة: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ [البقرة: 45] ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ : لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَهْلَ الْمَعَاصِي الْكَبِيرَةِ بَلْ لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَهْلُ الطَّاعَاتِ الْكَبِيرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّ لَفْظَ الْكَبِيرَةِ يَتَنَاوَلُ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِيَ وَلَكِنَّ قَوْلَهُ أَهْلَ الْكَبَائِرِ صِيغَةُ جَمْعٍ مَقْرُونَةٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَيُفِيدُ الْعُمُومَ فوجب أن يدل الخبر على ثوبت الشَّفَاعَةِ لِكُلِّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ الطَّاعَاتِ الْكَبِيرَةِ أَوِ الْمَعَاصِي الْكَبِيرَةِ قُلْنَا: لَفْظُ الْكَبَائِرِ وَإِنْ كَانَ لِلْعُمُومِ إِلَّا أَنَّ لَفْظَ «أَهْلٍ» مُفْرَدٌ فَلَا يُفِيدُ الْعُمُومَ فَيَكْفِي فِي صِدْقِ الْخَبَرِ شَخْصٌ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَنَحْمِلُهُ عَلَى الشَّخْصِ الْآتِي بِكُلِّ الطَّاعَاتِ، فَإِنَّهُ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ حَمْلُهُ عَلَيْهِ. وَثَالِثُهَا: هَبْ أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُ أَهْلِ الْكَبَائِرِ عَلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي الْكَبِيرَةِ لَكِنَّ أَهْلَ الْمَعَاصِي الْكَبِيرَةِ أَعَمُّ مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَوْ قَبْلَ التَّوْبَةِ فَنَحْنُ نَحْمِلُ الْخَبَرَ عَلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَيَكُونُ تَأْثِيرُ الشَّفَاعَةِ فِي أَنْ يَتَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِمَا

انْحَبَطَ مِنْ ثَوَابِ طَاعَتِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى فِسْقِهِ سَلَّمْنَا دَلَالَةَ الْخَبَرِ عَلَى قَوْلِكُمْ لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «أَشَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» ذَكَرَهُ مَعَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «مَا ادَّخَرْتُ شَفَاعَتِي إِلَّا لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْصَافَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِهَذَا الْخَبَرِ وَحْدَهُ، وَلَكِنْ بِمَجْمُوعِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي بَابِ الشَّفَاعَةِ وَإِنَّ سَائِرَ الْأَخْبَارِ دَالَّةٌ عَلَى سُقُوطِ كُلِّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ. الثَّانِي: رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَنَّ الْحَدِيثَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ شَفَاعَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَالُ كُلَّ مَنْ مَاتَ مَنْ أُمَّتِهِ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا وَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ كَذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ تَنَالَهُ الشَّفَاعَةُ. وَالثَّالِثُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ فَنَهَشَ مِنْهَا نَهْشَةً ثُمَّ قَالَ: أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَلْ تَدْرُونَ لِمَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيُنْفِذُهُمُ الْبَصَرُ وَتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَلَا تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ؟ أَلَا تَرَوْنَ ما قد بلغكم ألا تذهبون إلا مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَبُوكُمْ آدَمُ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ مِثْلَهُ قَبْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ. نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى/ نُوحٍ. فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَإِنَّهُ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا عَلَى قَوْمِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ إِبْرَاهِيمُ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ، نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى، فَيَأْتُونَ مُوسَى وَيَقُولُونَ: يَا موسى أنت رسول الله، فضلك الله برسالاته وَبِكَلَامِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَإِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إلى عيسى بن مَرْيَمَ، فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غضباً لم يغضب قبله مثله ولم يَغْضَبْ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ ذَنْبًا، نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ. فَيَأْتُونِي فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَأَنْطَلِقُ وَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شاء أن يدعني ثم يقول لي: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ تُسْمَعْ وَسَلْ تعطه واشفع تشفع فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَقَعْتُ لَهُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ تسمع وسل تعطه واشفع تشفع، فأحمد ربي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ لَهُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا

شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يَقُولُ: يَا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ. ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ» ، وَأَكْثَرُ هَذَا الْخَبَرِ مُخَرَّجٌ بِلَفْظِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْخَبَرِ وَأَمْثَالِهِ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ أَخْبَارٌ طَوِيلَةٌ فَلَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا بِلَفْظِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّاوِيَ إِنَّمَا رَوَاهَا بِلَفْظِ نَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا حُجَّةً، وَثَانِيهَا: أَنَّهَا خَبَرٌ عَنْ وَاقِعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّهَا رُوِيَتْ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ مَعَ الزِّيَادَاتِ وَالنُّقْصَانَاتِ، وَذَلِكَ أَيْضًا مِمَّا يَطْرُقُ التُّهْمَةَ إِلَيْهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى التَّشْبِيهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ أَيْضًا يَطْرُقُ التُّهْمَةَ إِلَيْهَا. وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا وَرَدَتْ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ. وَذَلِكَ أَيْضًا يَطْرُقُ التُّهْمَةَ إِلَيْهَا. وَخَامِسُهَا: أَنَّهَا خَبَرٌ عَنْ وَاقِعَةٍ عَظِيمَةٍ تَتَوَافَرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا، فَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَوَجَبَ/ بُلُوغُهُ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ وَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَقَدْ تَطَرَّقَتِ التُّهْمَةُ إِلَيْهَا، وَسَادِسُهَا: أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ فِي الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ غَيْرُ جَائِزٍ. أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ هَذِهِ الْمَطَاعِنِ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَإِنْ كَانَ مَرْوِيًّا بِالْآحَادِ إِلَّا أَنَّهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا وَبَيْنَهَا قَدْرٌ مُشْتَرِكٌ وَاحِدٌ وَهُوَ خُرُوجُ أَهْلِ الْعِقَابِ مِنَ النَّارِ بِسَبَبِ الشَّفَاعَةِ فَيَصِيرُ هَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيًّا عَلَى سَبِيلِ التَّوَاتُرِ، فَيَكُونُ حُجَّةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْجَوَابُ عَلَى جَمِيعِ أَدِلَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ أَدِلَّتَهُمْ عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ تُفِيدُ نَفْيَ جَمِيعِ أَقْسَامِ الشَّفَاعَاتِ، وَأَدِلَّتُنَا عَلَى إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ تُفِيدُ إِثْبَاتَ شَفَاعَةٍ خَاصَّةٍ وَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ إِذَا تَعَارَضَا قُدِّمَ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ فَكَانَتْ دَلَائِلُنَا مُقَدَّمَةً عَلَى دَلَائِلِهِمْ، ثُمَّ إِنَّا نَخُصُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرُوهَا بِجَوَابٍ عَلَى حِدَةٍ: أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ فَهَبْ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ إِلَّا أَنَّ تَخْصِيصَ مِثْلِ هَذَا الْعَامِّ بِذَلِكَ السَّبَبِ الْمَخْصُوصِ يَكْفِي فِيهِ أَدْنَى دَلِيلٍ، فَإِذَا قَامَتِ الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُودِ الشَّفَاعَةِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى تَخْصِيصِهَا. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ [غَافِرٍ: 18] فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ نَقِيضٌ لِقَوْلِنَا: لِلظَّالِمِينَ حَمِيمٌ وَشَفِيعٌ، لَكِنَّ قَوْلَنَا لِلظَّالِمِينَ: حَمِيمٌ وَشَفِيعٌ مُوجَبَةٌ كُلِّيَّةٌ، وَنَقِيضُ الْمُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ سَالِبَةٌ جُزْئِيَّةٌ، وَالسَّالِبَةُ يَكْفِي فِي صِدْقِهَا تَحَقُّقُ ذَلِكَ السَّلْبِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَحَقُّقِ ذَلِكَ السَّلْبِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ، وَعَلَى هَذَا فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ لِأَنَّ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ لِبَعْضِ الظَّالِمِينَ حَمِيمٌ وَلَا شَفِيعٌ يُجَابُ وَهُمُ الْكُفَّارُ، فَأَمَّا أَنْ يُحْكَمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِسَلْبِ الْحَمِيمِ وَالشَّفِيعِ فَلَا. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [الْبَقَرَةِ: 254] فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [الْبَقَرَةِ: 270] فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ نَقِيضٌ لِقَوْلِنَا: لِلظَّالِمِينَ أَنْصَارٌ وَهَذِهِ مُوجَبَةٌ كُلِّيَّةٌ فَقَوْلُهُ: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ سَالِبَةٌ جُزْئِيَّةٌ فَيَكُونُ مَدْلُولُهُ سَلْبَ الْعُمُومِ وَسَلْبُ الْعُمُومِ لَا يُفِيدُ عُمُومَ السَّلْبِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الْخَامِسُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [الْمُدَّثِّرِ: 48] فَهَذَا وَارِدٌ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ وَهُوَ يَدُلُّ بِسَبَبِ التَّخْصِيصِ عَلَى ضِدِّ هَذَا الْحُكْمِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ.

[سورة البقرة (2) : آية 49]

وَأَمَّا الْوَجْهُ السَّادِسُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاءِ: 28] فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ السَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ عِنْدَنَا تَأْثِيرَ الشَّفَاعَةِ فِي جَلْبِ أَمْرٍ مَطْلُوبٍ وَأَعْنِي بِهِ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ جَلْبِ الْمَنَافِعِ الزَّائِدَةِ عَلَى قَدْرِ الِاسْتِحْقَاقِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ الْمُسْتَحَقَّةِ عَلَى الْمَعَاصِي، وَذَلِكَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ الْعَبْدِ عَاصِيًا فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّامِنُ: وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الِانْفِطَارِ: 14] فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَسْأَلَةِ الْوَعِيدِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ التَّاسِعُ: وَهُوَ قَوْلُهُ لَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى إِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الشَّفَاعَةِ لِأَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا مَمْنُوعٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا أَوْرَدْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى حُصُولِ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا [غَافِرٍ: 7] فَجَوَابُهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ خُصُوصَ آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَقْدَحُ فِي عُمُومِ أَوَّلِهَا. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَشْفَعُ لِبَعْضِ النَّاسِ وَلَا يُشَفَّعُ فِي بَعْضِ مَوَاطِنِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ لِأَحَدٍ أَلْبَتَّةَ مِنْ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، وَلَا أَنَّهُ يُمْتَنَعُ مِنَ الشَّفَاعَةِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاطِنِ. وَالَّذِي نُحَقِّقُهُ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الشَّافِعِينَ لَا يُشَفَّعُ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، فَلَعَلَّ الرَّسُولَ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَبَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَلَا يُشَفَّعُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَلَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، ثُمَّ يَصِيرُ مَأْذُونًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَفِي وَقْتٍ آخَرَ فِي الشَّفَاعَةِ فَيَشْفَعُ هُنَاكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَتِ الْفَلَاسِفَةُ فِي تَأْوِيلِ الشَّفَاعَةِ: إِنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ عَامُّ الْفَيْضِ تَامُّ الْجُودِ، فَحَيْثُ لَا يَحْصُلُ فَإِنَّمَا لَا يَحْصُلُ لِعَدَمِ كَوْنِ الْقَابِلِ مُسْتَعِدًّا، وَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ لَا يَكُونَ الشَّيْءُ مُسْتَعِدًّا لِقَبُولِ الْفَيْضِ عَنْ وَاجِبِ الْوُجُودِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَعِدًّا لِقَبُولِ ذَلِكَ الْفَيْضِ مِنْ شَيْءٍ قَبْلَهُ عَنْ وَاجِبِ الْوُجُودِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ كَالْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ وَاجِبِ الْوُجُودِ وَبَيْنَ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْأَوَّلِ، وَمِثَالُهُ فِي الْمَحْسُوسِ أَنَّ الشَّمْسَ لَا تُضِيءُ إِلَّا لِلْقَابِلِ الْمُقَابِلِ، وَسَقْفُ الْبَيْتِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُقَابِلًا لِجِرْمِ الشَّمْسِ لَا جَرَمَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ اسْتِعْدَادٌ لِقَبُولِ النُّورِ عَنِ الشَّمْسِ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا وُضِعَ طَسْتٌ مَمْلُوءٌ مِنَ الْمَاءِ الصَّافِي وَوَقَعَ عَلَيْهِ ضَوْءُ الشَّمْسِ انْعَكَسَ ذَلِكَ الضَّوْءُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ إِلَى السَّقْفِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَاءُ الصَّافِي مُتَوَسِّطًا فِي وُصُولِ النُّورِ مِنْ قُرْصِ الشَّمْسِ إِلَى السَّقْفِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُقَابِلٍ لِلشَّمْسِ، وَأَرْوَاحُ الْأَنْبِيَاءِ كَالْوَسَائِطِ بَيْنِ وَاجِبِ الْوُجُودِ وَبَيْنَ أَرْوَاحِ عَوَامِّ الْخَلْقِ فِي وُصُولِ فَيْضِ وَاجِبِ الْوُجُودِ إِلَى أَرْوَاحِ الْعَامَّةِ، فَهَذَا مَا قَالُوهُ فِي الشَّفَاعَةِ تَفْرِيعًا على أصولهم. [سورة البقرة (2) : آية 49] وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ نِعَمِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ إِجْمَالًا بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَقْسَامَ تِلْكَ النِّعَمِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي التَّذْكِيرِ وَأَعْظَمَ فِي الْحُجَّةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اذْكُرُوا نِعْمَتِي وَاذْكُرُوا إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ/ وَاذْكُرُوا إِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ وَهِيَ إِنْعَامَاتٌ، وَالْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْإِنْعَامُ الْأَوَّلُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ فقرىء أَيْضًا أَنْجَيْنَاكُمْ وَنَجَّيْتُكُمْ، قَالَ الْقَفَّالُ: أَصْلُ الْإِنْجَاءِ وَالتَّنْجِيَةِ التَّخْلِيصُ، وَأَنَّ بَيَانَ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ حتى لا

يَتَّصِلَا وَهُمَا لُغَتَانِ نَجَّى وَأَنْجَى وَنَجَا بِنَفْسِهِ، وَقَالُوا لِلْمَكَانِ الْعَالِي: نَجْوَةٌ لِأَنَّ مَنْ صَارَ إِلَيْهِ نَجَا، أَيْ تَخَلَّصَ وَلِأَنَّ الْمَوْضِعَ الْمُرْتَفِعَ بَائِنٌ عَمَّا انْحَطَّ عَنْهُ فَكَأَنَّهُ مُتَخَلِّصٌ مِنْهُ. قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: أَصْلُ آلٍ أَهْلٌ وَلِذَلِكَ يُصَغَّرُ بِأُهَيْلٍ فَأُبْدِلَتْ هَاؤُهُ أَلِفًا وَخُصَّ اسْتِعْمَالُهُ بِأُولِي الْخَطَرِ وَالشَّأْنِ، كَالْمُلُوكِ وَأَشْبَاهِهِمْ وَلَا يُقَالُ: آلُ الْحَجَّامِ وَالْإِسْكَافِ، قَالَ عِيسَى: الْأَهْلُ أَعَمُّ مِنَ الْآلِ، يُقَالُ: أَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَهْلُ الْبَلَدِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ وَلَا يُقَالُ: آلُ الْكُوفَةِ وَآلُ الْبَلَدِ وَآلُ الْعِلْمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: الْأَهْلُ هُمْ خَاصَّةُ الشَّيْءِ مِنْ جِهَةِ تَغْلِيبِهِ عَلَيْهِمْ، وَالْآلُ خَاصَّةُ الرَّجُلِ مِنْ جِهَةِ قَرَابَةٍ أَوْ صُحْبَةٍ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ سَمِعَ فَصِيحًا يَقُولُ: أَهْلُ مَكَّةَ آلُ اللَّهِ. أَمَّا فِرْعَوْنُ فَهُوَ عَلَمٌ لِمَنْ مَلَكَ مِصْرَ مِنَ الْعَمَالِقَةِ كَقَيْصَرَ وَهِرَقْلَ لِمَلِكِ الرُّومِ وَكِسْرَى لِمَلِكِ الْفُرْسِ وَتُبَّعٍ لِمَلِكِ الْيَمَنِ وَخَاقَانَ لِمَلِكِ التُّرْكِ، وَاخْتَلَفُوا فِي فِرْعَوْنَ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي اسْمِهِ فَحَكَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: مُصْعَبُ بْنُ رَيَّانَ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَقَ: هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبٍ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْفَرَاعِنَةِ أَحَدٌ أَشَدَّ غِلْظَةً وَلَا أَقْسَى قَلْبًا مِنْهُ، وَذَكَرَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ قَالُوا: إِنَّ اسْمَ فِرْعَوْنَ كَانَ قَابُوسَ وَكَانَ مِنَ الْقِبْطِ، الثَّانِي: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: إِنَّ فِرْعَوْنَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ فِرْعَوْنُ مُوسَى وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، إِذْ كَانَ بَيْنَ دُخُولِ يُوسُفَ مِصْرَ وَبَيْنَ أَنْ دَخَلَهَا مُوسَى أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَقَ: هُوَ غَيْرُ فِرْعَوْنَ يُوسُفَ وَأَنَّ فِرْعَوْنَ يُوسُفَ كَانَ اسْمُهُ الرَّيَّانَ بْنَ الْوَلِيدِ، أَمَّا آلُ فِرْعَوْنَ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ منه هاهنا مَنْ كَانَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَهُمُ الَّذِينَ عَزَمُوا عَلَى إِهْلَاكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيَكُونَ تَعَالَى مُنْجِيًا لَهُمْ مِنْهُمْ بِمَا تَفَضَّلَ بِهِ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تُوجِبُ بَقَاءَهُمْ وَهَلَاكَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَسُومُونَكُمْ فَهُوَ مَنْ سَامَهُ خَسْفًا إِذَا أَوْلَاهُ ظُلْمًا، قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: إِذَا مَا الْمَلِكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفًا ... أَبَيْنَا أَنْ نُقِرَّ الْخَسْفَ فِينَا وَأَصْلُهُ مِنْ سَامَ السِّلْعَةَ إِذَا طَلَبَهَا، كَأَنَّهُ بِمَعْنَى يَبْغُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُرِيدُونَهُ بِكُمْ، وَالسُّوءُ مَصْدَرُ سَاءَ بِمَعْنَى السَّيِّئِ، يُقَالُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ وَسُوءِ الْفِعْلِ يُرَادُ قُبْحُهُمَا، وَمَعْنَى سُوءِ الْعَذَابِ وَالْعَذَابُ كُلُّهُ سَيِّئٌ أَشَدُّهُ وَأَصْعَبُهُ كَأَنَّ قُبْحَهُ [زَادَ] بِالْإِضَافَةِ إِلَى سَاءَ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ مِنْ «سُوءِ الْعَذَابِ» فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّهُ جَعَلَهُمْ خَوَلًا وَخَدَمًا لَهُ وَصَنَّفَهُمْ فِي أَعْمَالِهِ أَصْنَافًا، فَصِنْفٌ كَانُوا يَبْنُونَ لَهُ، وَصِنْفٌ كَانُوا يَحْرُثُونَ لَهُ، وَصِنْفٌ كَانُوا يَزْرَعُونَ لَهُ، فَهُمْ كَانُوا فِي أَعْمَالِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَوْعٍ مِنْ أَعْمَالِهِ كَانَ يَأْمُرُ بِأَنْ يُوضَعَ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ يُؤَدِّيهَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ قَدْ جَعَلَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ الْقَذِرَةِ الصَّعْبَةِ مِثْلِ كَنْسِ الْمَبْرَزِ وَعَمَلِ الطِّينِ وَنَحْتِ الْجِبَالِ، وَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ قَالُوا لِمُوسَى: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا [الْأَعْرَافِ: 129] . وَقَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاءِ: 22] ، وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ/ تَحْتَ يَدِ الْغَيْرِ بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَمَا يَشَاءُ لَا سِيَّمَا إِذَا اسْتَعْمَلَهُ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ الصَّعْبَةِ الْقَذِرَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مِنْ أَشَدِّ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ هَذِهِ حَالَتُهُ رُبَّمَا تَمَنَّى الْمَوْتَ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى عَظِيمَ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ نَجَّاهُمْ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَتْبَعَ ذَلِكَ بِنِعْمَةٍ أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْهَا، فَقَالَ: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَمَعْنَاهُ يقتلون الذكورة من الأولاد دون الإناث. وهاهنا أَبْحَاثٌ. الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَبْحَ الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ مَضَرَّةٌ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ ذَبْحَ الْأَبْنَاءِ يَقْتَضِي فَنَاءَ الرِّجَالِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي انْقِطَاعَ النَّسْلِ، لِأَنَّ النِّسَاءَ إِذَا انْفَرَدْنَ فَلَا تَأْثِيرَ لهن ألبتة في ذلك، وذلك يفضي آخِرَ الْأَمْرِ إِلَى هَلَاكِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ هَلَاكَ الرِّجَالِ يَقْتَضِي فَسَادَ مَصَالِحِ النِّسَاءِ فِي أَمْرِ الْمَعِيشَةِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَتَتَمَنَّى

وَقَدِ انْقَطَعَ عَنْهَا تَعَهُّدُ الرِّجَالِ وَقِيَامُهُمْ بِأَمْرِهَا الْمَوْتَ، لِمَا قَدْ يَقَعُ إِلَيْهَا مِنْ نَكَدِ الْعَيْشِ بِالِانْفِرَادِ فَصَارَتْ هَذِهِ الْخَصْلَةُ عَظِيمَةً فِي الْمِحَنِ، وَالنَّجَاةُ مِنْهَا فِي الْعِظَمِ تَكُونُ بِحَسَبِهَا، وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَتْلَ الْوَلَدِ عَقِيبَ الْحَمْلِ الطَّوِيلِ وَتَحَمُّلِ الْكَدِّ وَالرَّجَاءِ الْقَوِيِّ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْمَوْلُودِ مِنْ أَعْظَمِ الْعَذَابِ، لِأَنَّ قَتْلَهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَشَدُّ مِنْ قَتْلِ مَنْ بَقِيَ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ مُسْتَمْتِعًا بِهِ مَسْرُورًا بِأَحْوَالِهِ، فَنِعْمَةُ اللَّهِ مِنَ التَّخْلِيصِ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ شِدَّةِ الْمِحْنَةِ فِيهِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْأَبْنَاءَ أَحَبُّ إِلَى الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْبَنَاتِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَسْتَثْقِلُونَ الْبَنَاتِ وَيَكْرَهُونَهُنَّ وَإِنْ كَثُرَ ذُكْرَانُهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ [النَّحْلِ: 58] الْآيَةَ، وَلِذَلِكَ نَهَى الْعَرَبَ عَنِ الْوَأْدِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاءِ: 31] وَإِنَّمَا كَانُوا يَئِدُونَ الْإِنَاثَ دُونَ الذُّكُورِ، وَخَامِسُهَا: أَنَّ بَقَاءَ النِّسْوَانِ بِدُونِ الذُّكْرَانِ يُوجِبُ صَيْرُورَتَهُنَّ مُسْتَفْرَشَاتِ الْأَعْدَاءِ وَذَلِكَ نِهَايَةُ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ يُذَبِّحُونَ بِلَا وَاوٍ وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ ذَكَرَهُ مَعَ الْوَاوِ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا جُعِلَ قَوْلُهُ: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ مُفَسَّرًا بِقَوْلِهِ: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى الْوَاوِ، وَأَمَّا إِذَا جُعِلَ قَوْلُهُ: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ مُفَسَّرًا بِسَائِرِ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ سِوَى الذَّبْحِ وَجُعِلَ الذَّبْحُ شَيْئًا آخَرَ سِوَى سُوءِ الْعَذَابِ، احْتِيجَ فِيهِ إِلَى الْوَاوِ، وَفِي الْمَوْضِعَيْنِ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ، إِلَّا أَنَّ الْفَائِدَةَ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ ذِكْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ تِلْكَ الْآيَةِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إِبْرَاهِيمَ: 5] وَالتَّذْكِيرُ بِأَيَّامِ اللَّهِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَعْدِيدِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ نَوْعًا مِنَ الْعَذَابِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ نَوْعًا آخَرَ لِيَكُونَ التَّخَلُّصُ مِنْهُمَا نَوْعَيْنِ مِنَ النِّعْمَةِ. فَلِهَذَا وَجَبَ ذِكْرُ الْعَطْفِ هُنَاكَ، وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَرِدِ الْأَمْرُ إِلَّا بِتَذْكِيرِ جِنْسِ النِّعْمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 40، 47، 122] فَسَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ هُوَ الذَّبْحَ أَوْ غَيْرَهُ كَانَ تَذْكِيرُ جِنْسِ النِّعْمَةِ حَاصِلًا فَظَهَرَ الْفَرْقُ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ الرِّجَالَ دُونَ الْأَطْفَالِ لِيَكُونَ/ فِي مُقَابَلَةِ النِّسَاءِ إِذِ النِّسَاءُ هُنَّ الْبَالِغَاتُ، وَكَذَا الْمُرَادُ مِنَ الْأَبْنَاءِ هُمُ الرِّجَالُ الْبَالِغُونَ، قَالُوا: إِنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَخَافُ مِنْهُمُ الْخُرُوجَ عَلَيْهِ وَالتَّجَمُّعَ لِإِفْسَادِ أَمْرِهِ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الْأَطْفَالُ دُونَ الْبَالِغِينَ، وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: حَمْلًا لِلَفْظِ الْأَبْنَاءِ عَلَى ظَاهِرِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَتَعَذَّرُ قَتْلُ جَمِيعِ الرِّجَالِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِمْ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ فِي الصَّنَائِعِ الشَّاقَّةِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِإِلْقَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي التَّابُوتِ حَالَ صِغَرِهِ مَعْنًى، أَمَّا قَوْلُهُ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الرِّجَالِ لِيَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ النِّسَاءِ فَفِيهِ جَوَابَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَبْنَاءَ لَمَّا قُتِلُوا حَالَ الطُّفُولِيَّةِ لَمْ يَصِيرُوا رِجَالًا، فَلَمْ يَجُزْ إِطْلَاقُ اسْمِ الرِّجَالِ عَلَيْهِمْ، أَمَّا الْبَنَاتُ لَمَّا لَمْ يُقْتَلْنَ بَلْ وَصَلْنَ إِلَى حَدِّ النِّسَاءِ جَازَ إِطْلَاقُ اسْمِ النِّسَاءِ عَلَيْهِنَّ. الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ، أَيْ يُفَتِّشُونَ حَيَاءَ الْمَرْأَةِ أَيْ فَرْجَهَا هَلْ بِهَا حَمْلٌ أَمْ لَا، وَأُبْطِلَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَا فِي بُطُونِهِنَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعُيُونِ ظَاهِرًا لَمْ يُعْلَمْ بِالتَّفْتِيشِ وَلَمْ يُوصَلْ إِلَى اسْتِخْرَاجِهِ بِالْيَدِ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: فِي سَبَبِ قَتْلِ الْأَبْنَاءِ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: قَوْلُ ابْنِ عباس رضي الله عنهما أنه وقع

[سورة البقرة (2) : آية 50]

إِلَى فِرْعَوْنَ وَطَبَقَتِهِ مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَجْعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا فَخَافُوا ذَلِكَ وَاتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى إِعْدَادِ رِجَالٍ مَعَهُمُ الشِّفَارُ يَطُوفُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَا يَجِدُونَ مَوْلُودًا ذَكَرًا إِلَّا ذَبَحُوهُ، فَلَمَّا رَأَوْا كِبَارَهُمْ يَمُوتُونَ وَصِغَارَهُمْ يُذَبَّحُونَ خَافُوا الْفَنَاءَ فَحِينَئِذٍ لَا يَجِدُونَ مَنْ يُبَاشِرُ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ، فَصَارُوا يَقْتُلُونَ عَامًا دُونَ عَامٍ. وَثَانِيهَا: قَوْلُ السُّدِّيِّ: إِنَّ فِرْعَوْنَ رَأَى نَارًا أَقْبَلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى اشْتَمَلَتْ عَلَى بُيُوتِ مِصْرَ فَأَحْرَقَتِ الْقِبْطَ وَتَرَكَتْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَدَعَا فِرْعَوْنُ الْكَهَنَةَ وَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَنْ يَكُونُ هَلَاكُ الْقِبْطِ عَلَى يَدِهِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُنَجِّمِينَ أَخْبَرُوا فِرْعَوْنَ بِذَلِكَ وَعَيَّنُوا لَهُ السَّنَةَ فَلِهَذَا كَانَ يَقْتُلُ أَبْنَاءَهُمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الَّذِي يُسْتَفَادُ مِنْ عِلْمِ التَّعْبِيرِ وَعِلْمِ النُّجُومِ لَا يَكُونُ أَمْرًا مُفَصَّلًا وَإِلَّا قَدَحَ ذَلِكَ فِي كَوْنِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ مُعْجِزًا بَلْ يَكُونُ أَمْرًا مُجْمَلًا وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْعَاقِلِ أَنْ لَا يُقْدِمُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ بِسَبَبِهِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ كَافِرًا بِاللَّهِ فَكَانَ بِأَنْ يَكُونَ كَافِرًا بِالرُّسُلِ أَوْلَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ بِسَبَبِ إِخْبَارِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهُ. قُلْنَا: لَعَلَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَارِفًا بِاللَّهِ وَبِصِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا كُفْرَ الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ شَاكًّا مُتَحَيِّرًا فِي دِينِهِ وَكَانَ يُجَوِّزُ صِدْقَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ احْتِيَاطًا. الْبَحْثُ الْخَامِسُ: اعْلَمْ أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي ذِكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُمْتَحَنُ بِهِ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ الْمُلُوكِ وَالظَّلَمَةِ صَارَ تَخْلِيصُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مِنْ هَذِهِ الْمِحَنِ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَايَنُوا هَلَاكَ مَنْ حَاوَلَ إِهْلَاكَهُمْ وَشَاهَدُوا ذُلَّ مَنْ بَالَغَ فِي إِذْلَالِهِمْ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ وَتَعْظِيمُ النِّعْمَةِ يُوجِبُ الِانْقِيَادَ وَالطَّاعَةَ، وَيَقْتَضِي نِهَايَةَ قُبْحِ الْمُخَالَفَةِ وَالْمُعَانَدَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ النِّعْمَةَ الْعَظِيمَةَ مُبَالَغَةً فِي إِلْزَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَقَطْعًا لِعُذْرِهِمْ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي نِهَايَةِ الذُّلِّ وَكَانَ خَصْمُهُمْ فِي نِهَايَةِ/ الْعِزِّ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا مُحِقِّينَ وَكَانَ خَصْمُهُمْ مُبْطِلًا لَا جَرَمَ زَالَ ذُلُّ الْمُحِقِّينَ وَبَطَلَ عِزُّ الْمُبْطِلِينَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا تَغْتَرُّوا بِفَقْرِ مُحَمَّدٍ وَقِلَّةِ أَنْصَارِهِ فِي الْحَالِ، فَإِنَّهُ مُحِقٌّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْقَلِبَ الْعِزُّ إِلَى جَانِبِهِ وَالذُّلُّ إِلَى جَانِبِ أَعْدَائِهِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُلْكَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَغْتَرَّ بِعِزِّ الدُّنْيَا بَلْ عَلَيْهِ السَّعْيُ فِي طَلَبِ عِزِّ الْآخِرَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ قَالَ الْقَفَّالُ: أَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ وَالِامْتِحَانُ قَالَ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الْأَنْبِيَاءِ: 35] وَقَالَ: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ [الْأَعْرَافِ: 168] . وَالْبَلْوَى وَاقِعَةٌ عَلَى النَّوْعَيْنِ، فَيُقَالُ لِلنِّعْمَةِ بَلَاءٌ وَلِلْمِحْنَةِ الشَّدِيدَةِ بَلَاءٌ وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُقَالَ فِي الْخَيْرِ إِبْلَاءٌ وَفِي الشَّرِّ بَلَاءٌ وَقَدْ يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ. قَالَ زُهَيْرٌ: جَزَى اللَّهُ بِالْإِحْسَانِ مَا فَعَلَا بِكُمْ ... وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو إذ عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْبَلَاءُ هَاهُنَا هُوَ الْمِحْنَةُ إِنْ أُشِيرَ بِلَفْظِ: «ذَلِكُمْ» إِلَى صُنْعِ فِرْعَوْنَ وَالنِّعْمَةُ إِنْ أُشِيرَ بِهِ إِلَى الْإِنْجَاءِ وَحَمْلُهُ عَلَى النِّعْمَةِ أَوْلَى لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي صَدَرَتْ مِنَ الرَّبِّ تَعَالَى، وَلِأَنَّ مَوْضِعَ الْحُجَّةِ عَلَى اليهود إنعام الله تعالى على أسلافهم. [سورة البقرة (2) : آية 50] وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)

هَذَا هُوَ النِّعْمَةُ الثَّانِيَةُ، وَقَوْلُهُ: فَرَقْنا أَيْ فَصَلْنَا بَيْنَ بَعْضِهِ وَبَعْضٍ حَتَّى صَارَتْ فِيهِ مسالك لكم وقرئ: فَرَقْنا بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنَى فَصَّلْنَا. يُقَالُ: فَرَّقَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّ الْمَسَالِكَ كَانَتِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَلَى عَدَدِ الْأَسْبَاطِ، فَإِنْ قُلْتَ: ما معنى: (بكم) ؟ قلنا: فيه وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْلُكُونَهُ وَيَتَفَرَّقُ الْمَاءُ عِنْدَ سُلُوكِهِمْ فَكَأَنَّمَا فَرَّقَ بِهِمْ كَمَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِمَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا، الثَّانِي: فَرَّقْنَاهُ بِسَبَبِكُمْ وَبِسَبَبِ إِنْجَائِكُمْ ثُمَّ هَاهُنَا أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: رُوِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ إِغْرَاقَ فِرْعَوْنَ وَالْقِبْطِ وَبَلَغَ بِهِمُ الْحَالُ فِي مَعْلُومِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَسْتَعِيرُوا حلي القبط، وذلك الغرضين. أَحَدُهُمَا: لِيَخْرُجُوا خَلْفَهُمْ لِأَجْلِ الْمَالِ، وَالثَّانِي: أَنْ تَبْقَى أَمْوَالُهُمْ فِي أَيْدِيهِمْ ثُمَّ نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْعَشِيِّ وَقَالَ لِمُوسَى: أَخْرِجْ قَوْمَكَ لَيْلًا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي [طه: 77] وَكَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفِ نَفْسٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا كُلُّ سِبْطٍ خَمْسُونَ أَلْفًا، فَلَمَّا خَرَجَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ بَلَغَ ذَلِكَ فِرْعَوْنَ، فَقَالَ: لَا تَتَّبِعُوهُمْ حَتَّى يَصِيحَ الديك. قال الراوي: فو الله مَا صَاحَ لَيْلَتَهُ دِيكٌ فَلَمَّا أَصْبَحُوا دَعَا فِرْعَوْنُ بِشَاةٍ فَذُبِحَتْ ثُمَّ قَالَ: لَا أَفْرَغُ مِنْ تَنَاوُلِ كَبِدِ هَذِهِ الشَّاةِ حَتَّى يَجْتَمِعَ إِلَيَّ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الْقِبْطِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: اجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَلْفُ أَلْفٍ/ وَمِائَتَا أَلْفِ نَفْسٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى فَرَسٍ حِصَانٍ فَتَبِعُوهُمْ نَهَارًا. وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ [الشُّعَرَاءِ: 60] أي بعد طلوع الشمس. فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشُّعَرَاءِ: 61] فَقَالَ مُوسَى: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشُّعَرَاءِ: 62] فَلَمَّا سَارَ بِهِمْ مُوسَى وَأَتَى الْبَحْرَ قَالَ لَهُ يُوشَعُ بْنُ نُونَ: أَيْنَ أَمَرَكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ مُوسَى: إِلَى أَمَامِكَ وَأَشَارَ إِلَى الْبَحْرِ فَأَقْحَمَ يُوشَعُ بْنُ نُونَ فَرَسَهُ فِي الْبَحْرِ فَكَانَ يَمْشِي فِي الْمَاءِ حَتَّى بَلَغَ الْغَمْرَ، فَسَبَحَ الْفَرَسُ وَهُوَ عَلَيْهِ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ لَهُ: يَا مُوسَى أَيْنَ أَمَرَكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ الْبَحْرَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كَذَبْتَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشُّعَرَاءِ: 67] ، فَانْشَقَّ الْبَحْرُ اثْنَيْ عَشَرَ جَبَلًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا طَرِيقٌ، فَقَالَ لَهُ: ادْخُلْ فَكَانَ فِيهِ وَحْلٌ فَهَبَّتِ الصَّبَا فَجَفَّ الْبَحْرُ، وَكُلُّ طَرِيقٍ فِيهِ حَتَّى صَارَ طَرِيقًا يَابِسًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً [طَهَ: 77] ، فَأَخَذَ كُلُّ سِبْطٍ مِنْهُمْ طَرِيقًا وَدَخَلُوا فِيهِ فَقَالُوا لِمُوسَى: إِنَّ بَعْضَنَا لَا يَرَى صَاحِبَهُ، فَضَرَبَ مُوسَى عَصَاهُ عَلَى الْبَحْرِ فَصَارَ بَيْنَ الطُّرُقِ مَنَافِذُ وَكُوًى فَرَأَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ أَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ، فَلَمَّا بَلَغَ شَاطِئَ الْبَحْرِ رَأَى إِبْلِيسَ وَاقِفًا فَنَهَاهُ عَنِ الدُّخُولِ فَهَمَّ بِأَنْ لَا يَدْخُلَ الْبَحْرَ فَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى حَجْرَةٍ فَتَقَدَّمَ فِرْعَوْنَ وَهُوَ كَانَ عَلَى فَحْلٍ فَتَبِعَهُ فَرَسُ فِرْعَوْنَ وَدَخْلَ الْبَحْرَ، فَلَمَّا دَخَلَ فِرْعَوْنُ الْبَحْرَ صَاحَ مِيكَائِيلُ بِهِمْ أَلْحِقُوا آخِرَكُمْ بِأَوَّلِكُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا الْبَحْرَ بِالْكُلِّيَّةِ أَمَرَ اللَّهُ الْمَاءَ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَقِيلَ كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَصَامَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ الْيَوْمَ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى. الْبَحْثُ الثَّانِي: اعلم أن هذه الْوَاقِعَةَ تَضَمَّنَتْ نِعَمًا كَثِيرَةً فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، أَمَّا نِعَمُ الدُّنْيَا فِي حَقِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا وَقَعُوا فِي ذَلِكَ الْمَضِيقِ الَّذِي مِنْ وَرَائِهِمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ وَقُدَّامِهِمُ الْبَحْرُ، فَإِنْ تَوَقَّفُوا أَدْرَكَهُمُ الْعَدُوُّ وَأَهْلَكَهُمْ بِأَشَدِّ الْعَذَابِ وَإِنْ سَارُوا غَرِقُوا فَلَا خَوْفَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ نَجَّاهُمْ بِفَلْقِ الْبَحْرِ فَلَا فَرَجَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُمْ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ وَالْمُعْجِزَةِ الْبَاهِرَةِ،

وَذَلِكَ سَبَبٌ لِظُهُورِ كَرَامَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ شَاهَدُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَهْلَكَ أَعْدَاءَهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَلَاصَ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْبَلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، فَكَيْفَ إِذَا حَصَلَ مَعَهُ ذَلِكَ الْإِكْرَامُ الْعَظِيمُ وَإِهْلَاكُ الْعَدُوِّ. وَرَابِعُهَا: أَنْ أَوْرَثَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَنِعَمَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ فَقَدْ خَلَّصَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَنَّهُ كَانَ خَائِفًا مِنْهُمْ، وَلَوْ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَّصَ مُوسَى وَقَوْمَهُ مِنْ تِلْكَ الْوَرْطَةِ وَمَا أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ لَكَانَ الْخَوْفُ بَاقِيًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رُبَّمَا اجْتَمَعُوا وَاحْتَالُوا بِحِيلَةٍ وَقَصَدُوا إِيذَاءَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْمِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَغْرَقَهُمْ فَقَدْ حَسَمَ مَادَّةَ الْخَوْفِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ وَقَعَ ذَلِكَ الْإِغْرَاقُ بِمَحْضَرٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَأَمَّا نِعَمُ الدِّينِ فِي حَقِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْمَ مُوسَى لَمَّا شَاهَدُوا تِلْكَ الْمُعْجِزَةَ الْبَاهِرَةَ زَالَتْ عَنْ قُلُوبِهِمُ الشُّكُوكُ وَالشُّبُهَاتُ، فَإِنَّ دَلَالَةَ مِثْلِ هَذَا الْمُعْجِزِ/ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ وَعَلَى صِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تُقَرِّبُ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى رَفَعَ عَنْهُمْ تَحَمُّلَ النَّظَرِ الدَّقِيقِ وَالِاسْتِدْلَالِ الشَّاقِّ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا عَايَنُوا ذَلِكَ صَارَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى تَصْدِيقِ مُوسَى وَالِانْقِيَادِ لَهُ وَصَارَ ذَلِكَ دَاعِيًا لِقَوْمِ فِرْعَوْنَ إِلَى تَرْكِ تَكْذِيبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْإِقْدَامِ عَلَى تَكْذِيبِ فِرْعَوْنَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّ الْأُمُورَ بِيَدِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا عِزَّ فِي الدُّنْيَا أَكْمَلُ مِمَّا كَانَ لِفِرْعَوْنَ وَلَا شِدَّةَ أَشَدُّ مِمَّا كَانَتْ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ جَعَلَ الْعَزِيزَ ذَلِيلًا وَالذَّلِيلَ عَزِيزًا، وَذَلِكَ يُوجِبُ انْقِطَاعَ الْقَلْبِ عَنْ عَلَائِقِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالَ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى خِدْمَةِ الْخَالِقِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، وَأَمَّا النِّعَمُ الْحَاصِلَةُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَكَثِيرَةٌ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَالْحُجَّةِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا مِنْ حَالِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَكْتُبْ وَلَمْ يُخَالِطْ أَهْلَ الْكِتَابِ فَإِذَا أَوْرَدَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَخْبَارِهِمُ الْمُفَصَّلَةِ مَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنَ الْكُتُبِ عَلِمُوا أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ الْوَحْيِ وَأَنَّهُ صَادِقٌ، فَصَارَ ذَلِكَ حُجَّةً لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْيَهُودِ وَحَجَّةً لَنَا فِي تَصْدِيقِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّا إِذَا تَصَوَّرْنَا مَا جَرَى لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ عَلِمْنَا أَنَّ مَنْ خَالَفَ اللَّهَ شَقِيَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ أَطَاعَهُ فَقَدْ سَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَصَارَ ذَلِكَ مُرَغِّبًا لَنَا فِي الطَّاعَةِ وَمُنَفِّرًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَمَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَنَّهُمْ خُصُّوا بِهَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْبَاهِرَةِ، فَقَدْ خَالَفُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أُمُورٍ حَتَّى قَالُوا: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الْأَعْرَافِ: 138] ، وَأَمَّا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَعَ أن معجزتهم هِيَ الْقُرْآنُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ مُعْجِزًا إِلَّا بِالدَّلَائِلِ الدَّقِيقَةِ انْقَادُوا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا خَالَفُوهُ فِي أَمْرٍ الْبَتَّةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ أُمَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَبَقِيَ عَلَى الْآيَةِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ فَلْقَ الْبَحْرِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْقَادِرِ وَفِي الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِ مُوسَى كَالْأَمْرِ الضَّرُورِيِّ، فَكَيْفَ يَجُوزُ فِعْلُهُ فِي زَمَانِ التَّكْلِيفِ؟ وَالْجَوَابُ: أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ أَجَابَ الْكَعْبِيُّ الْجَوَابَ الْكُلِّيَّ بِأَنَّ فِي الْمُكَلَّفِينَ مَنْ يَبْعُدُ عَنِ الْفِطْنَةِ وَالذَّكَاءِ وَيَخْتَصُّ بِالْبَلَادَةِ وَعَامَّةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا كَذَلِكَ، فَاحْتَاجُوا فِي التَّنْبِيهِ إِلَى مُعَايَنَةِ الْآيَاتِ الْعِظَامِ كَفَلْقِ الْبَحْرِ وَرَفْعِ الطُّورِ وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَرُّوا بِقَوْمٍ يعكفون على أصنام لهم فقالوا: يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ، وَأَمَّا الْعَرَبُ فَحَالُهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي نِهَايَةِ الْكَمَالِ فِي الْعُقُولِ، فَلَا جَرَمَ، اقْتَصَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَهُمْ عَلَى الدَّلَائِلِ الدَّقِيقَةِ والمعجزات اللطيفة.

[سورة البقرة (2) : الآيات 51 إلى 52]

السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا شَاهَدَ فَلْقَ الْبَحْرِ وَكَانَ عَاقِلًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ فِعْلِهِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ قَادِرٍ عَالَمٍ مُخَالِفٍ لِسَائِرِ الْقَادِرِينَ، فَكَيْفَ بَقِيَ عَلَى الْكُفْرِ مَعَ ذَلِكَ؟ فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّهُ كَانَ عَارِفًا بِرَبِّهِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا عَلَى سَبِيلِ الْعِنَادِ وَالْجُحُودِ. قُلْتُ: فَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ فَكَيْفَ اسْتَخَارَ تَوْرِيطَ نَفْسِهِ فِي الْمَهْلَكَةِ وَدُخُولِ الْبَحْرِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ كَالْمُضْطَرِّ/ إِلَى الْعِلْمِ بِوُجُودِ الصَّانِعِ وَصِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْجَوَابُ: حُبُّ الشَّيْءِ يُعْمِي وَيُصِمُّ فَحُبُّهُ الْجَاهَ وَالتَّلْبِيسَ حَمَلَهُ عَلَى اقْتِحَامِ تِلْكَ الْمَهْلَكَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّكُمْ تَرَوْنَ الْتِطَامَ أَمْوَاجِ الْبَحْرِ بِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلُوهُ أَنْ يُرِيَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى حَالَهُمْ فَسَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُمْ إِيَّاهُمْ فَلَفَظَهُمُ الْبَحْرُ أَلْفَ أَلْفِ وَمِائَتَيْ أَلْفِ نَفْسٍ وَفِرْعَوْنُ مَعَهُمْ، فَنَظَرُوا إِلَيْهِمْ طَافِينَ وَإِنَّ الْبَحْرَ لَمْ يَقْبَلْ وَاحِدًا مِنْهُمْ لِشُؤْمِ كُفْرِهِمْ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يُونُسَ: 92] أَيْ نُخْرِجُكَ مِنْ مَضِيقِ الْبَحْرِ إِلَى سَعَةِ الْفَضَاءِ لِيَرَاكَ النَّاسُ، وَتَكُونَ عِبْرَةً لَهُمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ وَأَنْتُمْ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ حيث توجهونهم وَتُقَابِلُونَهُمْ وَإِنْ كَانُوا لَا يَرَوْنَهُمْ بِأَبْصَارِهِمْ، قَالَ الْفَرَّاءُ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِكَ: لَقَدْ ضَرَبْتُكَ وَأَهْلُكَ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ فَمَا أَغَاثُوكَ تَقُولُ ذَلِكَ إِذَا قَرُبَ أَهْلُهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانُوا لَا يَرَوْنَهُ ومعناه راجع إلى العلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 51 الى 52] وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِنْعَامُ الثَّالِثُ. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ واعَدْنا فَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَإِذْ وَعَدْنَا مُوسَى بِغَيْرِ أَلِفٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي الْأَعْرَافِ وَطَهَ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ وَاعَدْنَا بِالْأَلِفِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ، فَأَمَّا بِغَيْرِ أَلِفٍ فَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْوَعْدَ كَانَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُوَاعَدَةُ مُفَاعَلَةٌ وَلَا بُدَّ مِنَ اثْنَيْنِ، وَأَمَّا بِالْأَلِفِ فَلَهُ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَعْدَ وَإِنْ كَانَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَقَبُولُهُ كَانَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَبُولُ الْوَعْدِ يُشْبِهُ الْوَعْدَ، لِأَنَّ الْقَابِلَ لِلْوَعْدِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقُولَ أَفْعَلُ ذَلِكَ، وَثَانِيهَا: قَالَ الْقَفَّالُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْآدَمِيُّ يَعِدُ اللَّهَ وَيَكُونَ مَعْنَاهُ يُعَاهِدُ اللَّهَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ أَمْرٌ جَرَى بَيْنَ اثْنَيْنِ فَجَازَ أَنْ يُقَالَ وَاعَدْنَا. وَرَابِعُهَا: وَهُوَ الْأَقْوَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُ الْوَحْيَ وَهُوَ وَعَدَ اللَّهَ الْمَجِيءَ لِلْمِيقَاتِ إِلَى الطُّورِ، أَمَّا مُوسَى فَفِيهِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: وَزْنُهُ فُعْلَى وَالْمِيمُ فِيهِ أَصْلِيَّةٌ أُخِذَتْ مِنْ مَاسَ يَمِيسُ إِذَا تَبَخْتَرَ فِي مِشْيَتِهِ وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَلِكَ. وَثَانِيهَا: وَزْنُهُ مُفْعِلٌ فَالْمِيمُ فِيهِ زَائِدَةٌ وَهُوَ مِنْ أَوْسَيْتُ الشَّجَرَةَ إِذَا أَخَذْتُ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْوَرَقِ وَكَأَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِصَلَعِهِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ فَمُو هُوَ الْمَاءُ بِلِسَانِهِمْ، وَسَى هُوَ الشَّجَرُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ أُمَّهُ جَعَلَتْهُ فِي التَّابُوتِ حِينَ خَافَتْ عَلَيْهِ مِنْ فِرْعَوْنَ فَأَلْقَتْهُ فِي الْبَحْرِ فَدَفَعَتْهُ أَمْوَاجُ الْبَحْرِ حَتَّى أَدْخَلَتْهُ بَيْنَ أَشْجَارٍ عِنْدَ بَيْتِ فِرْعَوْنَ، فَخَرَجَتْ جِوَارِي آسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ يَغْتَسِلْنَ فَوَجَدْنَ التَّابُوتَ فَأَخَذْنَهُ/ فَسُمِّيَ بِاسْمِ الْمَكَانِ الَّذِي أُصِيبَ فِيهِ وَهُوَ الْمَاءُ وَالشَّجَرُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَاسِدَانِ جَدًّا، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْقِبْطَ مَا كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ اسْمُ عَلَمٍ وَاسْمُ الْعَلَمِ لَا يُفِيدُ مَعْنًى فِي الذَّاتِ وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَمْرٌ مُعْتَادٌ بَيْنَ النَّاسِ، فَأَمَّا نَسَبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثَ بْنِ لَاوِي بن يعقوب بن اسحق بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَفِيهِ أَبْحَاثٌ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنْ خَرَجْنَا مِنَ الْبَحْرِ سَالِمِينَ أَتَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِكِتَابٍ بَيِّنٍ لَكُمْ فِيهِ مَا يَجِبُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَلَمَّا جَاوَزَ مُوسَى الْبَحْرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ قَالُوا: يَا مُوسَى ائْتِنَا بِذَلِكَ الْكِتَابِ الْمَوْعُودِ فَذَهَبَ إِلَى رَبِّهِ وَوَعَدَهُمْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الْأَعْرَافِ: 142] وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ هَارُونَ وَمَكَثَ عَلَى الطُّورِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَأَنْزَلَ اللَّهُ التَّوْرَاةَ عَلَيْهِ فِي الْأَلْوَاحِ، وَكَانَتِ الْأَلْوَاحُ مِنْ زَبَرْجَدٍ فَقَرَّبَهُ الرَّبُّ نَجِيًّا وَكَلَّمَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَأَسْمَعَهُ صَرِيرَ الْقَلَمِ، قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَبَلَغَنَا أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ حَدَثًا فِي الْأَرْبَعِينَ لَيْلَةً حَتَّى هَبَطَ مِنَ الطُّورِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: إِنَّمَا قَالَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً لِأَنَّ الشُّهُورَ تَبْدَأُ مِنَ اللَّيَالِي. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً مَعْنَاهُ وَاعَدْنَا مُوسَى انْقِضَاءَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً كَقَوْلِهِمْ: الْيَوْمُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا مُنْذُ خَرَجَ فُلَانٌ، أَيْ تَمَامُ الْأَرْبَعِينَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ حَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، كَمَا فِي قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] وَأَيْضًا فَلَيْسَ الْمُرَادُ انْقِضَاءَ أَيِّ أَرْبَعِينَ كَانَ، بَلْ أَرْبَعِينَ مُعَيَّنًا وَهُوَ الثَّلَاثُونَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَالْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ هَذِهِ الْأَرْبَعُونَ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ وَعَدَ قَبْلَ هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ أَنْ يَجِيءَ إِلَى الْجَبَلِ هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ حَتَّى تَنْزِلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ أُمِرَ بِأَنْ يَجِيءَ إِلَى الْجَبَلِ هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ وَوَعَدَ بِأَنَّهُ سَتَنْزِلُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ التَّوْرَاةُ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي هُوَ الْمُتَأَيِّدُ بِالْأَخْبَارِ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ هَاهُنَا: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً يُفِيدُ أَنَّ الْمُوَاعَدَةَ كَانَتْ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ، وَقَوْلُهُ فِي الْأَعْرَافِ وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ يُفِيدُ أَنَّ الْمُوَاعَدَةَ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى الثَّلَاثِينَ فَكَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا؟ أَجَابَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ وَعْدَهُ كَانَ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَعَدَهُ بِعَشْرٍ لَكِنَّهُ وَعَدَهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً جَمِيعًا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [الْبَقَرَةِ: 196] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: إِنَّمَا ذَكَرَ لَفْظَةَ (ثُمَّ) لِأَنَّهُ تعالى لما وَعَدَ مُوسَى حُضُورَ الْمِيقَاتِ لِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِ بِحَضْرَةِ السَّبْعِينَ وَأَظْهَرَ فِي ذَلِكَ دَرَجَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفَضِيلَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا لِلْحَاضِرِينَ عَلَى عُلُوِّ دَرَجَتِهِمْ وَتَعْرِيفًا لِلْغَائِبِينَ وَتَكْمِلَةً لِلدِّينِ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ فَلَمَّا أَتَوْا عَقِيبَ ذَلِكَ بِأَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ كَانَ ذَلِكَ فِي مَحَلِّ التَّعَجُّبِ فَهُوَ كَمَنْ يَقُولُ إِنَّنِي أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ وَفَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ إِنَّكَ تَقْصِدُنِي بِالسُّوءِ وَالْإِيذَاءِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَوَعَدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْزَالَ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِ قَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الْأَعْرَافِ: 142] ، فَلَمَّا ذَهَبَ مُوسَى إِلَى الطُّورِ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الثِّيَابُ وَالْحُلِيُّ الَّذِي اسْتَعَارُوهُ مِنَ الْقِبْطِ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ إِنَّ هَذِهِ

الثِّيَابَ وَالْحُلِيَّ لَا تَحِلُّ لَكُمْ فَأَحْرِقُوهَا فَجَمَعُوا نَارًا وَأَحْرَقُوهَا، وَكَانَ السَّامِرِيُّ فِي مَسِيرِهِ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْبَحْرِ نَظَرَ إِلَى حَافِرِ دَابَّةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ تَقَدَّمَ عَلَى فِرْعَوْنَ فِي دُخُولِ الْبَحْرِ فَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابِ حَافِرِ تِلْكَ الدَّابَّةِ، ثُمَّ إِنَّ السَّامِرِيَّ أَخَذَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَصَوَّرَ مِنْهُ عِجْلًا وَأَلْقَى ذَلِكَ التُّرَابَ فِيهِ فَخَرَجَ مِنْهُ صَوْتٌ كَأَنَّهُ الْخُوَارُ، فَقَالَ لِلْقَوْمِ: هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى [طَهَ: 88] ، فَاتَّخَذَهُ الْقَوْمُ إِلَهًا لِأَنْفُسِهِمْ فَهَذَا مَا فِي الرِّوَايَةِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْجَمْعُ الْعَظِيمُ مِنَ الْعُقَلَاءِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى مَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ كَذَلِكَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ بِبَدِيهَةِ عَقْلِهِ أَنَّ الصَّنَمَ الْمُتَّخَذَ مِنَ الذَّهَبِ الَّذِي لَا يَتَحَرَّكُ وَلَا يَحُسُّ وَلَا يَعْقِلُ يَسْتَحِيلُ أَنَّ يكون إله السموات والأرض، وهب أنه ظهر منه خُوَارٍ وَلَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً فِي قَلْبِ أَحَدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ فِي كَوْنِهِ إِلَهًا، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا قَدْ شَاهَدُوا قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ الَّتِي تَكُونُ قَرِيبَةً مِنْ حَدِّ الْإِلْجَاءِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصَّانِعِ وَصِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَمَعَ قُوَّةِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ وَبُلُوغِهَا إِلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ وَمَعَ أَنَّ صُدُورَ الْخُوَارِ مِنْ ذَلِكَ الْعِجْلِ الْمُتَّخَذِ مِنَ الذَّهَبِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَقْتَضِيَ شُبْهَةً فِي كَوْنِ ذَلِكَ الْجِسْمِ الْمُصَوِّتِ إِلَهًا. وَالْجَوَابُ: هَذِهِ الْوَاقِعَةُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهَا إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ السَّامِرِيَّ أَلْقَى إِلَى الْقَوْمِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا قَدَرَ عَلَى مَا أَتَى بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَّخِذُ طَلْسَمَاتٍ عَلَى قُوَى فَلَكِيَّةٍ وَكَانَ يَقْدِرُ بِوَاسِطَتِهَا عَلَى هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ، فَقَالَ السَّامِرِيُّ لِلْقَوْمِ: وَأَنَا أَتَّخِذُ لَكُمْ طَلْسَمًا مِثْلَ طَلْسَمِهِ وَرَوَّحَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِأَنْ جَعْلَهُ بِحَيْثُ خَرَجَ مِنْهُ صَوْتٌ عَجِيبٌ فَأَطْمَعَهُمْ فِي أَنْ يَصِيرُوا مِثْلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْإِتْيَانِ بِالْخَوَارِقِ، أَوْ لَعَلَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُجَسِّمَةً وَحُلُولِيَّةً فَجَوَّزُوا حُلُولَ الْإِلَهِ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ فَلِذَلِكَ وَقَعُوا فِي تِلْكَ الشُّبْهَةِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: هَذِهِ الْقِصَّةُ فِيهَا فَوَائِدُ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ الْأُمَمِ، لِأَنَّ أُولَئِكَ الْيَهُودَ مَعَ أَنَّهُمْ شَاهَدُوا تِلْكَ الْبَرَاهِينَ الْقَاهِرَةَ اغْتَرُّوا بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ الرَّكِيكَةِ جِدًّا، وَأَمَّا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ مُحْتَاجُونَ فِي مَعْرِفَةِ كَوْنِ الْقُرْآنِ/ مُعْجِزًا إِلَى الدَّلَائِلِ الدَّقِيقَةِ لَمْ يَغْتَرُّوا بِالشُّبَهَاتِ الْقَوِيَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكَ وَأَكْمَلُ عَقْلًا وَأَزْكَى خَاطِرًا مِنْهُمْ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَكَرَ هَذِهِ الْحِكَايَةَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّمْ عِلْمًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ استفادها من الوحي. وَثَالِثُهَا: فِيهِ تَحْذِيرٌ عَظِيمٌ مِنَ التَّقْلِيدِ وَالْجَهْلِ بِالدَّلَائِلِ فَإِنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ لَوْ أَنَّهُمْ عَرَفُوا اللَّهَ بِالدَّلِيلِ مَعْرِفَةً تَامَّةً لَمَا وَقَعُوا فِي شُبْهَةِ السَّامِرِيِّ. وَرَابِعُهَا: فِي تَسْلِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا كَانَ يُشَاهِدُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِالْخِلَافِ عَلَيْهِ وَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا صَبَرَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ النَّكِدَةِ فَإِنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ خَلَّصَهُمُ اللَّهُ مِنْ فرعون وأراهم المعجزات العجيبة من أول ظهر وموسى إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ اغْتَرُّوا بِتِلْكَ الشُّبْهَةِ الرَّكِيكَةِ، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ فَلَأَنْ يَصْبِرَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَذِيَّةِ قَوْمِهِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى. وَخَامِسُهَا: أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ مُجَادَلَةً مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَاوَةً لَهُ هُمُ الْيَهُودُ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا يَفْتَخِرُونَ بِأَسْلَافِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ أَسْلَافَهُمْ كَانُوا فِي الْبَلَادَةِ وَالْجَهَالَةِ وَالْعِنَادِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَكَيْفَ هَؤُلَاءِ الْأَخْلَافُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي تَفْسِيرِ الظُّلْمِ وَفِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الظُّلْمُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ النَّقْصُ، قَالَ

اللَّهُ تَعَالَى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الْكَهْفِ: 33] ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا تَرَكُوا عِبَادَةَ الْخَالِقِ الْمُحْيِي الْمُمِيتِ وَاشْتَغَلُوا بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ فَقَدْ صَارُوا نَاقِصِينِ فِي خَيْرَاتِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الظُّلْمَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنِ الضَّرَرِ الْخَالِي مِنْ نَفْعٍ يَزِيدُ عَلَيْهِ وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ أَعْظَمَ مِنْهُ وَالِاسْتِحْقَاقِ عَنِ الْغَيْرِ فِي عِلْمِهِ أَوْ ظَنِّهِ، فَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ فَاعِلُهُ ظَالِمًا ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا فَعَلَ مَا يُؤَدِّيهِ إِلَى الْعِقَابِ وَالنَّارِ قِيلَ: إِنَّهُ ظَالِمٌ نَفْسَهُ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ نَفْعًا وَلَذَّةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] ، وَقَالَ: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ [فَاطِرٍ: 32] وَلَمَّا كَانَتْ عِبَادَتُهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكًا وَكَانَ الشِّرْكُ مُؤَدِّيًا إِلَى النَّارِ سُمِّيَ ظُلْمًا. الْبَحْثُ الثَّانِي: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ لَيْسَتْ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّهُمْ عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعَالَى لَمَا اسْتَحَقَّ الذَّمَّ إِلَّا مَنْ فَعَلَهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَكَانُوا مُطِيعِينَ لِلَّهِ تَعَالَى بِفِعْلِهَا لَأَنَّ الطَّاعَةَ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِ الْمُرَادِ. وَثَالِثُهَا: لَوْ كَانَ الْعِصْيَانُ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى لَكَانَ الذَّمُّ بِسَبَبِهِ يَجْرِي مَجْرَى الذَّمِّ بِسَبَبِ كَوْنِهِ أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ وَطَوِيلًا وَقَصِيرًا، وَالْجَوَابُ: هَذَا تَمَسُّكٌ بِفِعْلِ الْمَدْحِ والذم وهو معارض بمسألتي الداعي والعلم ذَلِكَ مِرَارًا. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ ضَرَرَ الْكُفْرِ لَا يَعُودُ إِلَّا عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مَا اسْتَفَادُوا بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَلَالَ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنِ الِاسْتِكْمَالِ بِطَاعَةِ الْأَتْقِيَاءِ وَالِانْتِقَاصِ بِمَعْصِيَةِ الْأَشْقِيَاءِ. / أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْمُرَادُ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ بِسَبَبِ إِتْيَانِكُمْ بِالتَّوْبَةِ وَهِيَ قَتْلُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَمَا جَازَ عَدُّهُ فِي مَعْرِضِ الْإِنْعَامِ لِأَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ لَا يُعَدُّ مِنْ بَابِ الْإِنْعَامِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَعْدِيدُ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ. الثَّانِي: أَنَّ الْعَفْوَ اسْمٌ لِإِسْقَاطِ الْعِقَابِ الْمُسْتَحَقِّ فَأَمَّا إِسْقَاطُ مَا يَجِبُ إِسْقَاطُهُ فَذَاكَ لَا يُسَمَّى عَفْوًا أَلَا تَرَى أَنَّ الظَّالِمَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ لَهُ تَعْذِيبُ الْمَظْلُومِ، فَإِذَا تُرِكَ ذَلِكَ الْعَذَابُ لَا يُسَمَّى ذَلِكَ التَّرْكُ عَفْوًا فَكَذَا هَاهُنَا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ لَا شَكَّ فِي حُصُولِ التَّوْبَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 54] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَقْلًا، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَسْقَطَ عِقَابَ مَنْ يَجُوزُ عِقَابُهُ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَذَلِكَ أَيْضًا خِلَافُ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى عَفَا عَنْ كُفَّارِ قَوْمِ مُوسَى فَلَأَنْ يَعْفُوَ عَنْ فُسَّاقِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُمْ: خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناس كَانَ أَوْلَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ «لَعَلَّ» قَدْ تقدم في قوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153] [الأعراف: 171] [الْبَقَرَةِ: 21، 33] وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي حَقِيقَةِ الشُّكْرِ وَمَاهِيَّتِهِ فَطَوِيلٌ وَسَيَجِيءُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا عَفَا عَنْهُمْ وَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ لِكَيْ يَشْكُرُوا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ مِنْهُمْ إِلَّا الشُّكْرَ، وَالْجَوَابُ: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمُ الشُّكْرَ لَأَرَادَ ذَلِكَ إِمَّا بِشَرْطِ أَنْ يَحْصُلَ لِلشَّاكِرِ دَاعِيَةُ الشُّكْرِ أَوَّلًا بِهَذَا الشَّرْطِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ إِذْ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ بِهَذَا الشرط كَانَ هَذَا الشَّرْطُ مِنَ الْعَبْدِ لَزِمَ افْتِقَارُ الدَّاعِيَةِ إِلَى دَاعِيَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ كَانَ مِنَ اللَّهِ فَحَيْثُ خَلَقَ اللَّهُ الدَّاعِيَ حَصَلَ الشُّكْرُ لَا مَحَالَةَ وَحَيْثُ لَمْ يَخْلُقِ الدَّاعِيَ اسْتَحَالَ حُصُولُ الشُّكْرِ، وَذَلِكَ ضِدُّ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِنْ أَرَادَ حُصُولَ الشُّكْرِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الدَّاعِيَةِ فَقَدْ أَرَادَ مِنْهُ الْمُحَالَ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِدُونِ الدَّاعِي مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِشْكَالَ وَارِدٌ عليهم أيضاً والله أعلم.

[سورة البقرة (2) : آية 53]

[سورة البقرة (2) : آية 53] وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِنْعَامُ الرَّابِعُ وَالْمُرَادُ مِنَ الْفُرْقَانِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ التَّوْرَاةَ وَأَنْ يَكُونَ شَيْئًا دَاخِلًا فِي التَّوْرَاةِ وَأَنْ يَكُونَ شَيْئًا خَارِجًا عَنِ التَّوْرَاةِ فَهَذِهِ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ لَا مَزِيدَ عَلَيْهَا وَتَقْرِيرُ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّوْرَاةَ لَهَا صِفَتَانِ كَوْنُهَا كِتَابًا مُنَزَّلًا وَكَوْنُهَا فُرْقَانًا تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَهُوَ كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ الْغَيْثَ وَاللَّيْثَ تُرِيدُ الرَّجُلَ الْجَامِعَ بَيْنَ الْجُودِ وَالْجَرَاءَةِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً [الْأَنْبِيَاءِ: 48] وَأَمَّا تَقْرِيرُ الِاحْتِمَالِ الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْفُرْقَانِ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ بَيَانِ الدِّينِ لِأَنَّهُ إِذَا أَبَانَ ظَهَرَ الْحَقُّ مُتَمَيِّزًا مِنَ/ الْبَاطِلِ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْفُرْقَانِ بَعْضُ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَهُوَ بَيَانُ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ. وَأَمَّا تَقْرِيرُ الِاحْتِمَالِ الثَّالِثِ فَمِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْفُرْقَانِ مَا أوتي موسى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْيَدِ وَالْعَصَا وَسَائِرِ الْآيَاتِ وَسُمِّيَتْ بِالْفُرْقَانِ لِأَنَّهَا فَرَّقَتْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْفُرْقَانِ النَّصْرَ وَالْفَرَجَ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ، قَالَ تَعَالَى: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [الْأَنْفَالِ: 41] وَالْمُرَادُ النَّصْرُ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَبْلَ ظُهُورِ النَّصْرِ يَتَوَقَّعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ فِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسْتَوْلِيَ وَصَاحَبُهُ هُوَ الْمَقْهُورَ، فَإِذَا ظَهَرَ النَّصْرُ تَمَيَّزَ الرَّاجِحُ مِنَ الْمَرْجُوحِ وَانْفَرَقَ الطَّمَعُ الصَّادِقُ مِنَ الطَّمَعِ الْكَاذِبِ، وَثَالِثُهَا: قَالَ قُطْرُبٌ الْفُرْقَانُ هُوَ انْفِرَاقُ الْبَحْرِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَذَا قَدْ صَارَ مَذْكُورًا فِي قَوْلِهِ تعالى: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [البقرة: 50] وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْكِتَابِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُذْكَرُ إِلَّا عَقِيبَ الْهُدَى. قُلْتُ: الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِأَجْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَّنَ ذَلِكَ التَّخْصِيصَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْصِيصِ، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ فَرْقَ الْبَحْرِ كَانَ مِنَ الدَّلَائِلِ فَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّا لَمَّا آتَيْنَا مُوسَى فُرْقَانَ الْبَحْرِ اسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَصِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ هُوَ الْهِدَايَةُ وَأَيْضًا فَالْهُدَى قَدْ يُرَادُ بِهِ الْفَوْزُ وَالنَّجَاةُ كَمَا يُرَادُ بِهِ الدَّلَالَةُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ آتَاهُمُ الْكِتَابَ نِعْمَةً فِي الدِّينِ وَالْفُرْقَانَ الَّذِي حَصَلَ بِهِ خَلَاصُهُمْ مِنَ الْخَصْمِ نِعْمَةً عَاجِلَةً. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ غَلِطَ فَظَنَّ أَنَّ الْفُرْقَانَ هُوَ الْقُرْآنُ، وَأَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْفُرْقَانَ هُوَ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَكُلُّ دَلِيلٍ كَذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ هَذَا اللَّفْظِ بِالْقُرْآنِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْمَعْنَى: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يَعْنِي التَّوْرَاةَ وَآتَيْنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفُرْقَانَ لِكَيْ تَهْتَدُوا بِهِ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ. وَقَدْ مَالَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ عُلَمَاءِ النَّحْوِ الْفَرَّاءُ وَثَعْلَبٌ وَقُطْرُبٌ وَهَذَا تَعَسُّفٌ شَدِيدٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ الْبَتَّةَ إِلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ لَعَلَّ وَتَفْسِيرُ الِاهْتِدَاءِ، وَاسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ الِاهْتِدَاءَ مِنَ الْكُلِّ وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: أَرَادَ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ، وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى: يَخْلُقُ الِاهْتِدَاءَ، فِيمَنْ يَهْتَدِي وَالضَّلَالَ فِيمَنْ يَضِلُّ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي أَنْ يُنَزِّلَ الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ وَيَقُولَ: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاهْتِدَاءَ إِذَا كَانَ يَخْلُقُهُ، فَلَا تَأْثِيرَ لِإِنْزَالِ الْكُتُبِ فِيهِ لَوْ خُلِقَ الِاهْتِدَاءُ وَلَا كِتَابَ لَحَصَلَ الِاهْتِدَاءُ، وَلَوْ أَنْزَلَ بَدَلًا مِنَ الْكِتَابِ الْوَاحِدِ أَلْفَ كِتَابٍ وَلَمْ يُخْلَقِ الِاهْتِدَاءُ فِيهِمْ لَمَا حَصَلَ الِاهْتِدَاءُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَنْزَلْتُ الْكِتَابَ لِكَيْ تَهْتَدُوا؟ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا لا تحصى مع الجواب والله أعلم.

[سورة البقرة (2) : آية 54]

[سورة البقرة (2) : آية 54] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْإِنْعَامَ الْخَامِسَ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هَذِهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا مُنْقَطِعَةٌ عَمَّا تَقَدَّمَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا أَمْرٌ بِالْقَتْلِ والقتل لَا يَكُونُ نِعْمَةً وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَبَّهَهُمْ عَلَى عِظَمِ ذَنْبِهِمْ، ثُمَّ نَبَّهَهُمْ عَلَى مَا بِهِ يَتَخَلَّصُونَ عَنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ فِي الدِّينِ، وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ عَدَّدَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ الدُّنْيَوِيَّةَ فَبِأَنْ يُعَدِّدَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ النِّعْمَةَ الدِّينِيَّةَ أَوْلَى، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ وَهِيَ كَيْفِيَّةُ هَذِهِ التَّوْبَةِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ وَصْفُهَا إِلَّا بِمُقَدِّمَةِ ذِكْرِ الْمَعْصِيَةِ كان ذكرها أيضاً في تَمَامِ النِّعْمَةِ. فَصَارَ كُلُّ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مَعْدُودًا فِي نِعَمِ اللَّهِ فَجَازَ التَّذْكِيرُ بِهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْقَتْلِ رَفَعَ ذَلِكَ الْأَمْرَ عَنْهُمْ قَبْلَ فَنَائِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ فَكَانَ ذَلِكَ نِعْمَةً فِي حَقِّ أُولَئِكَ الْبَاقِينَ. وَفِي حَقِّ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْلَا أَنَّهُ رَفَعَ الْقَتْلَ عَنْ آبَائِهِمْ لَمَا وُجِدَ أُولَئِكَ الْأَبْنَاءُ فَحَسُنَ إِيرَادُهُ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ عَلَى الْحَاضِرِينَ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ تَوْبَةَ أُولَئِكَ مَا تَمَّتْ إِلَّا بِالْقَتْلِ مَعَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ: لَا حَاجَةَ بِكُمُ الْآنَ فِي التَّوْبَةِ إِلَى الْقَتْلِ بَلْ إِنْ رَجَعْتُمْ عَنْ كُفْرِكُمْ وَآمَنْتُمْ قَبِلَ اللَّهُ إِيمَانَكُمْ مِنْكُمْ فَكَانَ بَيَانُ التَّشْدِيدِ فِي تِلْكَ التَّوْبَةِ تَنْبِيهًا عَلَى الْإِنْعَامِ الْعَظِيمِ بِقَبُولِ مِثْلِ هَذِهِ التَّوْبَةِ السَّهْلَةِ الْهَيِّنَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ فِيهِ تَرْغِيبًا شَدِيدًا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فِي التَّوْبَةِ، فَإِنَّ أُمَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَغِبُوا فِي تِلْكَ التَّوْبَةِ مَعَ نِهَايَةِ مَشَقَّتِهَا عَلَى النَّفْسِ فَلَأَنْ يَرْغَبَ الْوَاحِدُ مِنَّا فِي التَّوْبَةِ الَّتِي هِيَ مُجَرَّدُ النَّدَمِ كَانَ أَوْلَى. وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَرْغِيبَ الْإِنْسَانِ فِيمَا هُوَ الْمَصْلَحَةُ الْمُهِمَّةُ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ أَيْ وَاذْكُرُوا إِذْ قَالَ موسى لقومه بعد ما رَجَعَ مِنَ الْمَوْعِدِ الَّذِي وَعَدَهُ رَبُّهُ فَرَآهُمْ قد اتخذوا العجل: يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الظُّلْمِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّكُمْ نَقَصْتُمْ أَنْفُسَكُمُ الثَّوَابَ الْوَاجِبَ بِالْإِقَامَةِ عَلَى عَهْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالثَّانِي: أَنَّ الظُّلْمَ هُوَ الْإِصْرَارُ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ وَلَا فِيهِ نَفْعٌ وَلَا دَفْعُ مَضَرَّةٍ لَا عِلْمًا وَلَا/ طِبًّا، فَلَمَّا عَبَدُوا الْعِجْلَ كَانُوا قَدْ أَضَرُّوا بِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى ضَرَرِ الْأَبَدِ مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] لَكِنَّ هَذَا الظُّلْمَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُقَيَّدَ لِئَلَّا يُوهِمَ إِطْلَاقُهُ أَنَّهُ ظُلْمُ الْغَيْرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الظُّلْمِ مَا يَتَعَدَّى، فَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَفِيهِ حَذْفٌ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَظْلِمُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَذَا الْقَدْرِ لِأَنَّهُمْ لَوِ اتَّخَذُوهُ وَلَمْ يَجْعَلُوهُ إِلَهًا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُمْ ظُلْمًا، فَالْمُرَادُ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ إِلَهًا، لَكِنْ لَمَّا دَلَّتْ مُقَدِّمَةُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ حَسُنَ الْحَذْفُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ يَقْتَضِي كَوْنَ التَّوْبَةِ مُفَسَّرَةً بِقَتْلِ النَّفْسِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ ثُمَّ يَدَيْهِ» ، يَقْتَضِي أَنَّ وَضْعَ الطهور مواضعه مفسر بِغَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ التَّوْبَةَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّدَمِ عَلَى الْفِعْلِ

الْقَبِيحِ الَّذِي مَضَى وَالْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَذَلِكَ مُغَايِرٌ لِقَتْلِ النَّفْسِ وَغَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لَهُ فَكَيْفَ يَجُوزُ تَفْسِيرُهُ بِهِ؟ وَالْجَوَابُ لَيْسَ الْمُرَادُ تَفْسِيرَ التَّوْبَةِ بِقَتْلِ النَّفْسِ بَلْ بَيَانَ أَنَّ تَوْبَتَهُمْ لَا تَتِمُّ ولا تحصل إلا تَحْصُلُ إِلَّا بِقَتْلِ النَّفْسِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ شَرْطَ تَوْبَتِهِمْ قَتْلُ النَّفْسِ كَمَا أَنَّ الْقَاتِلَ عَمْدًا لَا تَتِمُّ تَوْبَتُهُ إِلَّا بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ حَتَّى يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ أَوْ يَقْتُلُوهُ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ تَوْبَةَ الْمُرْتَدِّ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَتْلِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ شَرْطُ الشَّيْءِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ مَجَازًا كَمَا يُقَالُ لِلْغَاصِبِ إِذَا قَصَدَ التوبة أن توبتك ردماً غَصَبْتَ يَعْنِي أَنَّ تَوْبَتَكَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِهِ فَكَذَا هَاهُنَا. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ وَالتَّوْبَةُ لَا تكون إلا للبارئ، وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنِ الرِّيَاءِ فِي التَّوْبَةِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: لَوْ أَظْهَرْتُمُ التَّوْبَةَ لَا عَنِ الْقَلْبِ فَأَنْتُمْ مَا تُبْتُمْ إِلَى اللَّهِ الَّذِي هُوَ مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمِيرِكُمْ، وَإِنَّمَا تُبْتُمْ إِلَى النَّاسِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَإِنَّكُمْ إِذَا أَذْنَبْتُمْ إِلَى اللَّهِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ اخْتُصَّ هَذَا الْمَوْضِعُ بِذِكْرِ الْبَارِئِ؟ وَالْجَوَابُ: الْبَارِئُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ بَرِيئًا مِنَ التَّفَاوُتِ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الْمُلْكِ: 3] وَمُتَمَيِّزًا بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ بِالْأَشْكَالِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالصُّوَرِ الْمُتَبَايِنَةِ فَكَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْعِبَادَةِ مِنَ الْبَقَرِ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْغَبَاوَةِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَتُوبُوا وَالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا؟ الْجَوَابُ: أَنَّ الْفَاءَ الْأُولَى لِلسَّبَبِ لِأَنَّ الظُّلْمَ سَبَبُ التَّوْبَةِ وَالثَّانِيَةَ لِلتَّعْقِيبِ لِأَنَّ الْقَتْلَ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَتُوبُوا أَيْ فَأَتْبِعُوا التَّوْبَةَ الْقَتْلَ تَتِمَّةً لِتَوْبَتِكُمْ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَهُوَ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ مِنْ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ/ وَاحِدٍ نَفْسَهُ أَوِ الْمُرَادُ غَيْرُ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَمْرَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ التَّائِبِينَ بِقَتْلِ نَفْسِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمْ مَا قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَلَوْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ لَصَارُوا عُصَاةً بِتَرْكِ ذَلِكَ، الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ أَنَّ الْقَتْلَ هُوَ نَقْضُ الْبِنْيَةِ الَّتِي عِنْدَهَا يَجِبُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَمُوتَ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا إِنَّمَا سُمِّيَ قَتْلًا عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ. إِذَا عَرَفْتَ حَقِيقَةَ الْقَتْلِ فَنَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةَ إِنَّمَا تَحْسُنُ لِكَوْنِهَا مَصَالِحَ لِذَلِكَ الْمُكَلَّفِ وَلَا تَكُونُ مَصْلَحَةً إِلَّا فِي الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَلَيْسَ بَعْدَ الْقَتْلِ حَالُ تَكْلِيفٍ حَتَّى يَكُونَ الْقَتْلُ مَصْلَحَةً فِيهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْإِمَاتَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ فَيَحْسُنُ أَنْ يَفْعَلَهُ إِذَا كَانَ صَلَاحًا لِمُكَلَّفٍ آخَرَ وَيُعَوِّضُ ذَلِكَ الْمُكَلَّفَ بِالْعِوَضِ الْعَظِيمِ وَبِخِلَافِ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَجْرَحَ نَفْسَهُ أَوْ يَقْطَعَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ وَلَا يَحْصُلَ الْمَوْتُ عَقِبَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ الْفِعْلِ حَيًّا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفِعْلُ صَلَاحًا فِي الْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَتْلَ اسْمٌ لِلْفِعْلِ الْمُزْهِقِ لِلرُّوحِ فِي الْحَالِ بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْفِعْلِ الْمُؤَدِّي إِلَى الزُّهُوقِ إِمَّا فِي الْحَالِ أَوْ بَعْدَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَقْتُلُ إِنْسَانًا فَجَرَحَهُ جِرَاحَةً عَظِيمَةً وَبَقِيَ بَعْدَ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ حَيًّا لَحْظَةً وَاحِدَةً ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ وَتُسَمِّيهِ كُلُّ أَهْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ قَاتِلًا وَالْأَصْلُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْقَتْلِ اسْمُ الْفِعْلِ الْمُؤَدِّي إِلَى الزُّهُوقِ سَوَاءٌ أَدَّى إِلَيْهِ فِي الْحَالِ

أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَنْتَ سَلَّمْتَ جَوَازَ وُرُودِ الْأَمْرِ بِالْجِرَاحَةِ الَّتِي لَا تَسْتَعْقِبُ الزُّهُوقَ فِي الْحَالِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ جَوَازُ أَنْ يُرَادَ الْأَمْرُ بِأَنْ يَقْتُلَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، سَلَّمْنَا أَنَّ الْقَتْلَ اسْمُ الْفِعْلِ الْمُزْهِقِ لِلرُّوحِ فِي الْحَالِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ وُرُودُ الْأَمْرِ بِهِ؟ قَوْلُهُ: لَا بُدَّ فِي وُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ مِنْ مَصْلَحَةٍ اسْتِقْبَالِيَّةٍ، قُلْنَا: أَوَّلًا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَمَرَ مَنْ يَعْلَمُ كَفْرَهُ بِالْإِيمَانِ وَلَا مَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ إِذْ لَا فَائِدَةَ مِنْ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ إِلَّا حُصُولُ الْعِقَابِ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَصْلَحَةٍ وَلَكِنْ لِمَ قُلْتَ إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَوْدِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ إِلَيْهِ، وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنَّ قَتْلَهُ نَفْسَهُ مَصْلَحَةٌ لِغَيْرِهِ فَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ ذَلِكَ الْغَيْرُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُوَصِّلُ الْعِوَضَ الْعَظِيمَ إِلَيْهِ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَوْدِ الْمُصْلَحَةِ إِلَيْهِ، لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ عِلْمَهُ بِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِذَلِكَ الْفِعْلِ مَصْلَحَةٌ لَهُ، مِثْلُ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِأَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ غَدًا فَإِنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ يَصِيرُ دَاعِيًا لَهُ إِلَى تَرْكِ الْقَبَائِحِ مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ إِلَى وُرُودِ الْغَدِ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ مُمْكِنَةً سَقَطَ مَا قَالَ الْقَاضِي، بَلِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ أَقْوَى، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ صَرْفُ الآية عن ظاهرها، ثم فيه وجهان، الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ أَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ التَّائِبِينَ بِأَنْ يَقْتُلَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا فَقَوْلُهُ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ مَعْنَاهُ لِيَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاءِ: 29] وَمَعْنَاهُ لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ المؤمنين كالنفس الواحدة، وَقِيلَ/ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 11] أَيْ إِخْوَانَكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي قَوْلِهِ: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً [النُّورِ: 12] أَيْ بِأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَقَوْلِهِ: فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّورِ: 61] أَيْ لِيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ. ثُمَّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أُولَئِكَ التَّائِبُونَ بَرَزُوا صَفَّيْنِ فَضَرَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَى اللَّيْلِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ غَيْرَ أُولَئِكَ التَّائِبِينَ بِقَتْلِ أُولَئِكَ التَّائِبِينَ فَيَكُونُ الْمُرَادُ من قوله: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَيِ اسْتَسْلِمُوا لِلْقَتْلِ، وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي أَقْرَبُ لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَزْدَادُ الْمَشَقَّةُ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا اشْتَرَكَتْ فِي الذَّنْبِ كَانَ بَعْضُهُمْ أَشَدَّ عَطْفًا عَلَى الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ فَإِذَا كُلِّفُوا بِأَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَظُمَتِ الْمَشَقَّةُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ، فَالْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَمَرَ مَنْ لَمْ يَعْبُدِ الْعِجْلَ مِنَ السَّبْعِينَ الْمُخْتَارِينَ لِحُضُورِ الْمِيقَاتِ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ مِنْهُمْ، وَكَانَ الْمَقْتُولُونَ سَبْعِينَ أَلْفًا فَمَا تَحَرَّكُوا حَتَّى قُتِلُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أيام، وهذا لقول ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْقَتْلِ أَجَابُوا فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمَوَاثِيقَ لِيَصْبِرُوا عَلَى الْقَتْلِ فَأَصْبَحُوا مُجْتَمِعِينَ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَى حِدَةٍ وَأَتَاهُمْ هَارُونُ بِالِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوا الْعِجْلَ الْبَتَّةَ وَبِأَيْدِيهِمُ السُّيُوفُ، فَقَالَ التَّائِبُونَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ إِخْوَانُكُمْ قَدْ أَتَوْكُمْ شَاهِرِينَ السُّيُوفَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاصْبِرُوا فَلَعَنَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ أَوْ مَدَّ طَرْفَهُ إِلَيْهِمْ أَوِ اتَّقَاهُمْ بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ يَقُولُونَ آمِينَ، فَجَعَلُوا يَقْتُلُونَهُمْ إِلَى الْمَسَاءِ وَقَامَ مُوسَى وَهَارُونُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ يَدْعُوَانِ اللَّهَ وَيَقُولَانِ الْبَقِيَّةَ الْبَقِيَّةَ يَا إِلَهَنَا فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمَا، قَدْ غَفَرْتُ لِمَنْ قُتِلَ وَتُبْتُ عَلَى مَنْ بَقِيَ، قَالَ: وَكَانَ الْقَتْلَى سَبْعِينَ أَلْفًا، هَذِهِ رِوَايَةُ الْكَلْبِيِّ. الثَّالِثُ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا قِسْمَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَعْبُدْهُ وَلَكِنْ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ عَبَدَهُ، فَأَمَرَ مَنْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِالْإِنْكَارِ بِقَتْلِ مَنِ اشْتَغَلَ بِالْعِبَادَةِ، ثُمَّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُبْصِرُ وَالِدَهُ وَوَلَدَهُ وَجَارَهُ فَلَمْ يُمْكِنْهُ الْمُضِيُّ لِأَمْرِ اللَّهِ فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى سَحَابَةً سَوْدَاءَ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْقَتْلِ فَقَتَلُوا إِلَى الْمَسَاءِ حَتَّى دَعَا مُوسَى وَهَارُونُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَقَالَا: يَا رَبِّ هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَقِيَّةَ الْبَقِيَّةَ فَانْكَشَفَتِ السَّحَابَةُ وَنَزَلَتِ التَّوْرَاةُ وَسَقَطَتِ الشِّفَارُ مِنْ أَيْدِيهِمْ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 55 إلى 56]

السُّؤَالُ السَّادِسُ: كَيْفَ اسْتَحَقُّوا الْقَتْلَ وَهُمْ قَدْ تَابُوا مِنَ الرِّدَّةِ وَالتَّائِبُ مِنَ الرِّدَّةِ لَا يُقْتَلُ؟ الْجَوَابُ: ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِالشَّرَائِعِ فَلَعَلَّ شَرْعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقْتَضِي قَتْلَ التَّائِبِ عَنِ الرِّدَّةِ إِمَّا عَامًّا فِي حَقِّ الْكُلِّ أَوْ كَانَ خَاصًّا بِذَلِكَ الْقَوْمِ. السُّؤَالُ السَّابِعُ: هَلْ يَصِحُّ مَا رُوِيَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُقْتَلْ مِمَّنْ قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ؟ الْجَوَابُ: لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ فَلَعَلَّهُ كَانَ مَعَ الْبَعْضِ أَوْ أَنَّهُ كَانَ عَامًّا فَالْعَامُّ قَدْ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ التَّخْصِيصُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا لِأَجْلِهِ يُمْكِنُ تَحَمُّلُ هَذِهِ الْمَشَقَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَالَتَهُمْ كَانَتْ دَائِرَةً بَيْنَ ضَرَرِ الدُّنْيَا وَضَرَرِ الْآخِرَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِالتَّحَمُّلِ لِأَنَّهُ/ مُتَنَاهٍ، وَضَرَرُ الْآخِرَةِ غَيْرُ مُتَنَاهٍ، وَلِأَنَّ الْمَوْتَ لَا بُدَّ وَاقِعٌ فَلَيْسَ فِي تَحَمُّلِ الْقَتْلِ إلا التقدم وَالتَّأْخِيرُ، وَأَمَّا الْخَلَاصُ مِنَ الْعِقَابِ وَالْفَوْزُ بِالثَّوَابِ فَذَاكَ هُوَ الْغَرَضُ الْأَعْظَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتابَ عَلَيْكُمْ فَفِيهِ مَحْذُوفٌ ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَدَّرَ مِنْ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ فَعَلْتُمْ فَقَدْ تَابَ عَلَيْكُمْ، وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ خِطَابًا مِنَ اللَّهِ لَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ فَيَكُونَ التَّقْدِيرُ فَفَعَلْتُمْ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ مُوسَى فَتَابَ عَلَيْكُمْ بَارِئُكُمْ. وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. [سورة البقرة (2) : الآيات 55 الى 56] وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) [في هذه الآية بحثان] [البحث الأول في بيان الإنعام السادس لبني إسرائيل] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِنْعَامُ السَّادِسُ، بَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: اذْكُرُوا نِعْمَتِي حِينَ قُلْتُمْ لِمُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ثُمَّ أَحْيَيْتُكُمْ لِتَتُوبُوا عَنْ بَغْيِكُمْ وَتَتَخَلَّصُوا عَنِ الْعِقَابِ وَتَفُوزُوا بِالثَّوَابِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ فِيهَا تَحْذِيرًا لِمَنْ كَانَ فِي زَمَانِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ فِعْلِ مَا يُسْتَحَقُّ بِسَبَبِهِ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ مَا فُعِلَ بِأُولَئِكَ. وَثَالِثُهَا: تَشْبِيهُهُمْ فِي جُحُودِهِمْ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بأسلافهم في جحود نبوة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ مُشَاهَدَتِهِمْ لِعِظَمِ تِلْكَ الْآيَاتِ الظَّاهِرَةِ وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا لَا يُظْهِرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مثلها لعلمه بأنه لو أظهرها لجحودها وَلَوْ جَحَدُوهَا لَاسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ مِثْلَ مَا اسْتَحَقَّهُ أَسْلَافُهُمْ، وَرَابِعُهَا: فِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا كَانَ يُلَاقِي مِنْهُمْ وَتَثْبِيتٌ لِقَلْبِهِ عَلَى الصَّبْرِ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. وَخَامِسُهَا: فِيهِ إِزَالَةُ شُبْهَةِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ صَحَّتْ لَكَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِالْإِيمَانِ بِهِ أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَا أَنَّهُمْ عَرَفُوا خَبَرَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ أَسْلَافَهُمْ مَعَ مُشَاهَدَتِهِمْ تِلْكَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةَ عَلَى نُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانُوا يَرْتَدُّونَ كُلَّ وَقْتٍ وَيَتَحَكَّمُونَ عَلَيْهِ وَيُخَالِفُونَهُ فَلَا يُتَعَجَّبُ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِنْ وَجَدُوا فِي كُتُبِهِمُ الْأَخْبَارَ عَنْ نُبُوَّتِهِ. وَسَادِسُهَا: لَمَّا أَخْبَرَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ هَذِهِ الْقِصَصِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا لَمْ يَشْتَغِلْ بِالتَّعَلُّمِ الْبَتَّةَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنِ الْوَحْيِ. الْبَحْثُ الثاني: للمفسرين في هذه الواقعة قولان، الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ كَانَتْ بَعْدَ أَنْ كَلَّفَ اللَّهُ عَبَدَةَ الْعِجْلِ بِالْقَتْلِ،

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا رَجَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الطُّورِ إِلَى قَوْمِهِ/ فَرَأَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَقَالَ لِأَخِيهِ وَالسَّامِرِيِّ مَا قَالَ وَحَرَّقَ الْعِجْلَ وَأَلْقَاهُ فِي الْبَحْرِ، اخْتَارَ مِنْ قَوْمِهِ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ خِيَارِهِمْ فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى الطُّورِ قَالُوا لِمُوسَى: سَلْ رَبَّكَ حَتَّى يُسْمِعَنَا كَلَامَهُ، فَسَأَلَ موسى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ فَأَجَابَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَلَمَّا دَنَا مِنَ الْجَبَلِ وَقَعَ عَلَيْهِ عَمُودٌ مِنَ الْغَمَامِ وَتَغَشَّى الْجَبَلُ كُلُّهُ وَدَنَا مِنْ مُوسَى ذَلِكَ الْغَمَامُ حَتَّى دَخَلَ فِيهِ فَقَالَ لِلْقَوْمِ: ادْخُلُوا وَعُوا، وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَتَى كَلَّمَهُ رَبُّهُ وَقَعَ عَلَى جَبْهَتِهِ نُورٌ سَاطِعٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ النَّظَرَ إِلَيْهِ، وَسَمِعَ الْقَوْمُ كَلَامَ اللَّهِ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ لَهُ: افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ، فَلَمَّا تَمَّ الْكَلَامُ انْكَشَفَ عَنْ مُوسَى الْغَمَامُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ فَقَالَ الْقَوْمُ بَعْدَ ذَلِكَ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَمَاتُوا جَمِيعًا وَقَامَ مُوسَى رَافِعًا يديه إلى السماء يدعو ويقول: يا إليه اخْتَرْتُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَبْعِينَ رَجُلًا لِيَكُونُوا شُهُودِي بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ، فَأَرْجِعُ إِلَيْهِمْ وَلَيْسَ مَعِي مِنْهُمْ وَاحِدٌ، فَمَا الَّذِي يَقُولُونَ فِيَّ، فَلَمْ يَزَلْ مُوسَى مُشْتَغِلًا بِالدُّعَاءِ حَتَّى رَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ وَطَلَبَ تَوْبَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ فَقَالَ: لَا إِلَّا أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ كَانَتْ بَعْدَ الْقَتْلِ، قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا تَابَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ بِأَنْ قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ مُوسَى فِي نَاسٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، فَاخْتَارَ مُوسَى سَبْعِينَ رَجُلًا، فَلَمَّا أَتَوُا الطُّورَ قَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَمَاتُوا فَقَامَ مُوسَى يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَاذَا أَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنِّي أَمَرْتُهُمْ بِالْقَتْلِ ثُمَّ اخْتَرْتُ مِنْ بَقِيَّتِهِمْ هَؤُلَاءِ، فَإِذَا رَجَعْتُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَكُونُ مَعِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَمَاذَا أَقُولُ لَهُمْ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعِينَ مِمَّنِ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إِلَهًا فَقَالَ مُوسَى: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ [الْأَعْرَافِ: 155] إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الْأَعْرَافِ: 156] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَحْيَاهُمْ فَقَامُوا وَنَظَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى الْآخَرِ كَيْفَ يُحْيِيهِ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالُوا: يَا مُوسَى إِنَّكَ لَا تَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاكَ فَادْعُهُ يَجْعَلْنَا أَنْبِيَاءَ، فَدَعَاهُ بِذَلِكَ فَأَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَرْجِيحِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ سَأَلُوا الرُّؤْيَةَ هُمُ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ أَوْ غَيْرُهُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ فَمَعْنَاهُ لَا نُصَدِّقُكَ وَلَا نَعْتَرِفُ بِنُبُوَّتِكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [أَيْ] عِيَانًا. قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: وَهِيَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكَ: جَهَرْتُ بِالْقِرَاءَةِ وَبِالدُّعَاءِ كَأَنَّ الَّذِي يَرَى بِالْعَيْنِ جَاهِرٌ بالرؤية والذي يرى بالقلب مخافت بها وانتصار بها عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّهَا نَوْعٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ، فَنُصِبَتْ بِفِعْلِهَا كَمَا يُنْصَبُ الْقُرْفُصَاءُ بِفِعْلِ الْجُلُوسِ أَوْ عَلَى الْحَالِ بِمَعْنَى ذَوِي جَهْرَةٍ وَقُرِئَ جَهْرَةً بِفَتْحِ الْهَاءِ وَهِيَ إِمَّا مَصْدَرٌ كَالْغَلَبَةِ وَإِمَّا جَمْعُ جَاهِرٍ، وَقَالَ الْقَفَّالُ أَصْلُ الْجَهْرَةِ مِنَ الظُّهُورِ يُقَالُ جَهَرْتُ الشَّيْءَ [إِذَا] كَشَفْتَهُ وَجَهَرْتُ الْبِئْرَ إِذَا كَانَ مَاؤُهَا مُغَطًّى بِالطِّينِ فَنَقَّيْتَهُ حَتَّى ظَهَرَ مَاؤُهُ وَيُقَالُ صَوْتٌ جَهِيرٌ وَرَجُلٌ جَهْوَرِيُّ الصَّوْتِ، إِذَا كَانَ صَوْتُهُ عَالِيًا، وَيُقَالُ: وَجْهٌ جَهِيرٌ إِذَا كَانَ ظَاهِرَ الْوَضَاءَةِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: جَهْرَةً تَأْكِيدًا لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّؤْيَةِ الْعِلْمُ أَوِ التَّخَيُّلُ عَلَى [نَحْوِ] مَا يَرَاهُ النَّائِمُ. / أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ مُمْتَنِعَةٌ، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: إِنَّهَا لَوْ كَانَتْ

جَائِزَةً لَكَانُوا قَدِ الْتَمَسُوا أَمْرًا مُجَوَّزًا فَوَجَبَ أَنْ لَا تَنْزِلَ بِهِمُ الْعُقُوبَةُ كَمَا لَمْ تَنْزِلْ بِهِمُ الْعُقُوبَةُ لَمَّا الْتَمَسُوا النَّقْلَ مِنْ قُوتٍ إِلَى قُوتٍ وَطَعَامٍ إِلَى طَعَامٍ فِي قوله تعالى: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ [الْبَقَرَةِ: 61] ، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي كِتَابِ التَّصَفُّحِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا ذَكَرَ سُؤَالَ الرُّؤْيَةِ إِلَّا اسْتَعْظَمَهُ، وَذَلِكَ فِي آيَاتٍ. أَحَدُهَا: هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّ الرُّؤْيَةَ لَوْ كَانَتْ جَائِزَةً لَكَانَ قَوْلُهُمْ: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) كَقَوْلِ الْأُمَمِ لِأَنْبِيَائِهِمْ: لَنْ نُؤْمِنَ إِلَّا بِإِحْيَاءِ مَيِّتٍ فِي أَنَّهُ لَا يُسْتَعْظَمُ ولا تأخذهم الصاعقة. وثانيها: قوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [النِّسَاءِ: 153] ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ ظُلْمًا وَعَاقَبَهُمْ فِي الْحَالِ، فَلَوْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ جَائِزَةً لَجَرَى سُؤَالُهُمْ لَهَا مَجْرَى مَنْ يَسْأَلُ مُعْجِزَةً زَائِدَةً. فَإِنْ قُلْتَ أَلَيْسَ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ أَجْرَى إِنْزَالَ الْكِتَابِ مِنَ السَّمَاءِ مَجْرَى الرُّؤْيَةِ فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُتُوًّا، فَكَمَا أَنَّ إِنْزَالَ الْكِتَابِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فِي نَفْسِهِ فَكَذَا سُؤَالُ الرُّؤْيَةِ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ يَقْتَضِي كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُمْتَنِعًا تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ فِي إِنْزَالِ الْكِتَابِ فَيَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي الرُّؤْيَةِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً [الْفُرْقَانِ: 21] فَالرُّؤْيَةُ لَوْ كَانَتْ جَائِزَةً وَهِيَ عِنْدَ مجزيها مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَافِعِ لَمْ يَكُنِ الْتِمَاسُهَا عُتُوًّا لَأَنَّ مَنْ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى نِعْمَةً فِي الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ عَاتِيًا وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى مَا يُقَالُ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى يُحْيِيَ اللَّهُ بِدُعَائِكَ هَذَا الْمَيِّتَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ مُشْتَرِكَةٌ فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَوْ كَانَتْ جَائِزَةً لَمَا كَانَ سُؤَالُهَا عُتُوًّا وَمُنْكَرًا، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ. [وَ] قَوْلُهُ: إِنَّ طَلَبَ سَائِرِ الْمَنَافِعِ مِنَ النَّقْلِ مِنْ طَعَامٍ إِلَى طَعَامٍ لَمَّا كَانَ مُمْكِنًا لَمْ يَكُنْ طَالِبُهُ عَاتِيًا وَكَذَا الْقَوْلُ فِي طَلَبِ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ. قُلْنَا: وَلِمَ قُلْتَ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ طَالِبُ ذَلِكَ الْمُمْكِنِ لَيْسَ بِعَاتٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَالِبُ كُلِّ مُمْكِنٍ غَيْرَ عَاتٍ وَالِاعْتِمَادُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى ضُرُوبِ الْأَمْثِلَةِ لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الْعِلْمِ وَكَيْفَ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا ذَكَرَ الرُّؤْيَةَ إِلَّا وَذَكَرَ مَعَهَا شَيْئًا مُمْكِنًا حَكَمْنَا بِجَوَازِهِ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ إِمَّا نُزُولُ الْكِتَابِ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ. وَأَثْبَتَ صِفَةَ الْعُتُوِّ عَلَى مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، وَذَلِكَ كَالدَّلَالَةِ الْقَاطِعَةِ فِي أَنَّ صِفَةَ الْعُتُوِّ مَا حَصَلَتْ لِأَجْلِ كَوْنِ الْمَطْلُوبِ مُمْتَنِعًا. أَمَّا قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ: الظَّاهِرُ يَقْتَضِي كَوْنَ الْكُلِّ مُمْتَنِعًا تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ فِي الْبَعْضِ فَيَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي الْبَاقِي. قُلْنَا: إِنَّكَ مَا أَقَمْتَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الِاسْتِعْظَامَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ مُمْتَنِعًا وَإِنَّمَا عَوَّلْتَ فِيهِ عَلَى ضُرُوبِ الْأَمْثِلَةِ، وَالْمِثَالُ لَا يَنْفَعُ فِي هَذَا الْبَابِ، فَبَطَلَ قَوْلُكَ: الظَّاهِرُ يَقْتَضِي كَوْنَ الْكُلِّ مُمْتَنِعًا. فَظَهَرَ بِمَا قُلْنَا سُقُوطُ كَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا السَّبَبُ فِي اسْتِعْظَامِ سُؤَالِ الرُّؤْيَةِ؟ الْجَوَابُ فِي ذَلِكَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، فَكَانَ طَلَبُهَا فِي الدُّنْيَا/ مُسْتَنْكَرًا. وَثَانِيهَا: أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُزِيلَ التَّكْلِيفَ عَنِ الْعَبْدِ حَالَ مَا يَرَى اللَّهُ فَكَانَ طَلَبُ الرُّؤْيَةِ طلباً لِإِزَالَةِ التَّكْلِيفِ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَوْلَى، لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ تَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ يُنَافِي التَّكْلِيفَ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَمَّا تَمَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي كَانَ طَلَبُ الدَّلَائِلِ الزَّائِدَةِ تَعَنُّتًا وَالْمُتَعَنِّتُ يَسْتَوْجِبُ التَّعْنِيفَ، وَرَابِعُهَا: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِي مَنْعِ الْخِلْقِ عَنْ رُؤْيَتِهِ سُبْحَانَهُ فِي الدُّنْيَا ضَرْبًا مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْمُهِمَّةِ، فَلِذَلِكَ اسْتَنْكَرَ طَلَبَ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا كَمَا عَلِمَ أَنَّ فِي إِنْزَالِ الْكِتَابِ مِنَ السَّمَاءِ وَإِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ مِنَ السَّمَاءِ مَفْسَدَةً عَظِيمَةً فَلِذَلِكَ اسْتَنْكَرَ طَلَبَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أعلم.

[سورة البقرة (2) : آية 57]

الْبَحْثُ الثَّانِي: لِلْمُفَسِّرِينَ فِي الصَّاعِقَةِ قَوْلَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهَا هِيَ الْمَوْتُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزُّمَرِ: 68] ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَلَوْ كَانَتِ الصَّاعِقَةُ هِيَ الْمَوْتَ لَامْتَنَعَ كَوْنُهُمْ نَاظِرِينَ إِلَى الصَّاعِقَةِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ مُوسَى: وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً [الْأَعْرَافِ: 143] أَثْبَتَ الصَّاعِقَةَ فِي حَقِّهِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَيِّتًا لأنه قال: فَلَمَّا أَفاقَ وَالْإِفَاقَةُ لَا تَكُونُ عَنِ الْمَوْتِ بَلْ عَنِ الْغَشْيِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الصَّاعِقَةَ وَهِيَ الَّتِي تَصْعَقُ وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى سَبَبِ الْمَوْتِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ وُرُودَهَا وَهُمْ مُشَاهِدُونَ لَهَا أَعْظَمُ فِي بَابِ الْعُقُوبَةِ مِنْهَا إِذَا وَرَدَتْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَلِذَلِكَ قَالَ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ مُنَبِّهًا عَلَى عِظَمِ الْعُقُوبَةِ، الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ: أَنَّ الصَّاعِقَةَ هِيَ سَبَبُ الْمَوْتِ وَلِذَلِكَ قَالَ في سورة الأعراف: فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَارٌ وَقَعَتْ مِنَ السَّمَاءِ فَأَحْرَقَتْهُمْ. وَثَانِيهَا: صَيْحَةٌ جَاءَتْ مِنَ السَّمَاءِ، وَثَالِثُهَا: أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى جُنُودًا سمعوا بخسها فَخَرُّوا صَعِقِينَ مَيِّتِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لِأَنَّ الْبَعْثَ قَدْ [لَا] يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً، ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً [الْكَهْفِ: 11، 12] . فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ دَخَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذَا الْكَلَامِ؟ قُلْتُ: لَا، لِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خِطَابُ مشافهة فلا يحب أَنْ يَتَنَاوَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ تَنَاوَلَ مُوسَى لَوَجَبَ تَخْصِيصُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى في حق موسى: فَلَمَّا أَفاقَ مَعَ أَنَّ لَفْظَةَ الْإِفَاقَةِ لَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْمَوْتِ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ مَاتَ وَهُوَ خَطَأٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ: أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا بَعَثَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي دَارِ الدُّنْيَا لِيُكَلِّفَهُمْ وَلِيَتَمَكَّنُوا مِنَ الْإِيمَانِ وَمِنْ تَلَافِي مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْجَرَائِمِ، أَمَّا أَنَّهُ كَلَّفَهُمْ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَلَفْظُ الشُّكْرِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً [سَبَأٍ: 13] ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُكَلِّفَهُمْ وَقَدْ أَمَاتَهُمْ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَلِّفَ أَهْلَ الْآخِرَةِ إِذَا بَعَثَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ؟ قُلْنَا: الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ تَكْلِيفِهِمْ فِي الْآخِرَةِ لَيْسَ هُوَ الْإِمَاتَةَ ثُمَّ الْإِحْيَاءَ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدِ اضْطَرَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَإِلَى مَعْرِفَةِ مَا فِي الْجَنَّةِ مِنَ اللَّذَّاتِ/ وَمَا فِي النَّارِ مِنَ الْآلَامِ وَبَعْدَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ لَا تَكْلِيفَ فَإِذَا كَانَ الْمَانِعُ هُوَ هَذَا لَمْ يَمْتَنِعْ فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَاتَهُمُ اللَّهُ بِالصَّاعِقَةِ أَنْ لَا يَكُونَ قَدِ اضْطَرَّهُمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ أَنْ يُكَلَّفُوا مِنْ بَعْدُ وَيَكُونُ مَوْتُهُمْ ثُمَّ الْإِحْيَاءُ بِمَنْزِلَةِ النَّوْمِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ الْإِغْمَاءِ. وَنُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ تَعَالَى قَطَعَ آجَالَهُمْ بِهَذِهِ الْإِمَاتَةِ ثُمَّ أَعَادَهُمْ كَمَا أَحْيَا الَّذِي أَمَاتَهُ حِينَ مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَأَحْيَا الَّذِينَ أماتهم بعد ما خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَا أَمَاتَهُمْ بِالصَّاعِقَةِ إِلَّا وَقَدْ كَتَبَ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ فَصَارَ ذَلِكَ الْوَقْتُ أَجَلًا لِمَوْتِهِمُ الْأَوَّلِ ثُمَّ الْوَقْتُ الْآخَرُ أَجَلًا لِحَيَاتِهِمْ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْإِيمَانَ مِنَ الْكُلِّ فَجَوَابُنَا عَنْهُ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا فلا حاجة إلى الإعادة. [سورة البقرة (2) : آية 57] وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)

[سورة البقرة (2) : الآيات 58 إلى 59]

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِنْعَامُ السَّابِعُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِظْلَالَ كَانَ بَعْدَ أَنْ بَعَثَهُمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ بَعْضُهُ مَعْطُوفٌ عَلَى بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْتَنِعُ خِلَافُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْغَرَضَ تَعْرِيفُ النِّعَمِ الَّتِي خَصَّهُمُ اللَّهُ تعالى بها. قال المفسرون: وَظَلَّلْنا وجعلن الْغَمَامَ تُظِلُّكُمْ، وَذَلِكَ فِي التِّيهِ سَخَّرَ اللَّهُ لَهُمُ السَّحَابَ يَسِيرُ بِسَيْرِهِمْ يُظِلُّهُمْ مِنَ الشَّمْسِ وَيُنْزِلُ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَهُوَ التَّرَنْجَبِينُ مِثْلُ الثَّلْجِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ صَاعٌ وَيَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِمُ السَّلْوَى وَهِيَ السُّمَانِيُّ فَيَذْبَحُ الرَّجُلُ مِنْهَا مَا يَكْفِيهِ كُلُوا عَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ: وَما ظَلَمُونا يَعْنِي فَظَلَمُوا بِأَنْ كَفَرُوا هَذِهِ النِّعَمَ أَوْ بِأَنْ أَخَذُوا أَزْيَدَ مِمَّا أَطْلَقَ لَهُمْ فِي أَخْذِهِ أَوْ بِأَنْ سَأَلُوا غَيْرَ ذَلِكَ الْجِنْسِ وَمَا ظَلَمُونَا فَاخْتَصَرَ الْكَلَامَ بِحَذْفِهِ لِدَلَالَةِ وَما ظَلَمُونا عَلَيْهِ. [سورة البقرة (2) : الآيات 58 الى 59] وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِنْعَامُ الثَّامِنُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى النِّعَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى كَمَا بَيَّنَ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ ظَلَّلَ لَهُمْ مِنَ الْغَمَامِ وَأَنْزَلَ [عَلَيْهِمْ] مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَهُوَ مِنَ النِّعَمِ الْعَاجِلَةِ أَتْبَعَهُ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِي بَابِ الدِّينِ حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِمَا يَمْحُو ذُنُوبَهُمْ وَبَيَّنَ لَهُمْ طَرِيقَ الْمُخْلِصِ مِمَّا اسْتَوْجَبُوهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى نَوْعَيْنِ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّفْسِيرِ فَنَقُولُ: أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ [البقرة: 58] فَاعْلَمْ أَنَّهُ أَمْرُ تَكْلِيفٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمْرٌ بِدُخُولِ الْبَابِ سُجَّدًا، وَذَلِكَ فِعْلٌ شَاقٌّ فَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ تَكْلِيفًا وَدُخُولُ الْبَابِ سُجَّدًا مَشْرُوطٌ بِدُخُولِ الْقَرْيَةِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ بِدُخُولِ الْقَرْيَةِ أَمْرُ تَكْلِيفٍ لَا أَمْرُ إِبَاحَةٍ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ [الْمَائِدَةِ: 21] دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. أَمَّا الْقَرْيَةُ فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَيْنِهَا، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْأَخْبَارِ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ وَأَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ أَنَّهَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَرْيَةِ فِي الْآيَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَثَانِيهَا: أَنَّهَا نَفْسُ مِصْرَ، وَثَالِثُهَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي زَيْدٍ إِنَّهَا أَرِيحَاءُ وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْقَرْيَةُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا تَقْتَضِي التَّعْقِيبَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّبْدِيلُ وَقَعَ مِنْهُمْ عَقِيبَ هَذَا الْأَمْرِ فِي حَيَاةِ مُوسَى، لَكِنَّ مُوسَى مَاتَ فِي أَرْضِ التِّيهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّا قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ عَلَى لِسَانِ مُوسَى أَوْ عَلَى

لِسَانِ يُوشَعَ، وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى لِسَانِ يُوشَعَ زَالَ الْإِشْكَالُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً فَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ فِي قِصَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ أَمْرُ إِبَاحَةٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً فَفِيهِ بَحْثَانِ. الْأَوَّلُ: اخْتَلَفُوا فِي الْبَابِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهُ بَابٌ يُدْعَى بَابُ الْحِطَّةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَثَانِيهِمَا: حَكَى الْأَصَمُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ عَنَى بِالْبَابِ جِهَةً مِنْ جِهَاتِ الْقَرْيَةِ وَمَدْخَلًا إِلَيْهَا. الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالسُّجُودِ فَقَالَ الْحَسَنُ أَرَادَ بِهِ نَفْسَ السُّجُودِ الَّذِي هُوَ إِلْصَاقُ/ الْوَجْهِ بِالْأَرْضِ وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الدُّخُولِ حَالَ السُّجُودِ فَلَوْ حَمَلْنَا السُّجُودَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَامْتَنَعَ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى غَيْرِ السُّجُودِ، وَهَؤُلَاءِ ذَكَرُوا وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الرُّكُوعُ، لِأَنَّ الْبَابَ كَانَ صَغِيرًا ضَيِّقًا يَحْتَاجُ الدَّاخِلُ فِيهِ إِلَى الِانْحِنَاءِ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ضَيِّقًا لَكَانُوا مُضْطَرِّينَ إِلَى دُخُولِهِ رُكَّعًا فَمَا كَانَ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْأَمْرِ. الثَّانِي: أَرَادَ بِهِ الْخُضُوعَ وَهُوَ الْأَقْرَبُ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَةِ السُّجُودِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى التَّوَاضُعِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا أَخَذُوا فِي التَّوْبَةِ فَالتَّائِبُ عَنِ الذَّنْبِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَاضِعًا مُسْتَكِينًا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُولُوا حِطَّةٌ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي: الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ بِدُخُولِ الْبَابِ عَلَى وَجْهِ الْخُضُوعِ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا مَا يَدُلُّ عَلَى التَّوْبَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّوْبَةَ صِفَةُ الْقَلْبِ، فَلَا يَطَّلِعُ الْغَيْرُ عَلَيْهَا، فَإِذَا اشْتَهَرَ وَاحِدٌ بِالذَّنْبِ ثُمَّ تَابَ بَعْدَهُ لَزِمَهُ أَنْ يَحْكِيَ تَوْبَتَهُ لِمَنْ شَاهَدَ مِنْهُ الذَّنْبَ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِهِ، إِذِ الْأَخْرَسُ تَصِحُّ تَوْبَتُهُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْكَلَامُ بَلْ لِأَجْلِ تَعْرِيفِ الْغَيْرِ عُدُولَهُ عَنِ الذَّنْبِ إِلَى التَّوْبَةِ، وَلِإِزَالَةِ التُّهْمَةِ عَنْ نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ عُرِفُ بِمَذْهَبٍ خَطَأٍ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقَّ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَرِّفَ إِخْوَانَهُ الَّذِينَ عَرَفُوهُ بِالْخَطَأِ عُدُولَهُ عَنْهُ، لِتَزُولَ عَنْهُ التُّهْمَةُ فِي الثَّبَاتِ عَلَى الْبَاطِلِ وَلِيَعُودُوا إِلَى مُوَالَاتِهِ بَعْدَ مُعَادَاتِهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَلْزَمَ اللَّهُ تَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ الْخُضُوعِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الْقَلْبِ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى تِلْكَ التَّوْبَةِ وهو قوله: وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة: 58] ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَمَرَ الْقَوْمَ بِأَنْ يَدْخُلُوا الْبَابَ عَلَى وَجْهِ الْخُضُوعِ وَأَنْ يَذْكُرُوا بِلِسَانِهِمُ الْتِمَاسَ حَطِّ الذُّنُوبَ حَتَّى يَكُونُوا جَامِعِينَ بَيْنَ نَدَمِ الْقَلْبِ وَخُضُوعِ الْجَوَارِحِ وَالِاسْتِغْفَارِ بِاللِّسَانِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى التَّحْقِيقِ. ثَانِيهَا: قَوْلُ الْأَصَمِّ: إِنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مِنْ أَلْفَاظِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْ لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهَا فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ (حِطَّةٌ) فِعْلَةٌ مِنَ الْحَطِّ كَالْجِلْسَةِ وَالرِّكْبَةِ وَهِيَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ مَسْأَلَتُنَا حِطَّةٌ أَوْ أَمْرُكَ حِطَّةٌ وَالْأَصْلُ النَّصْبُ بِمَعْنَى حَطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا حِطَّةً وَإِنَّمَا رُفِعَتْ لِتُعْطِيَ مَعْنَى الثَّبَاتِ كَقَوْلِهِ: صَبْرٌ جَمِيلٌ فَكِلَانَا مُبْتَلَى وَالْأَصْلُ صَبْرًا عَلَى تَقْدِيرِ اصْبِرْ صَبْرًا، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالنَّصْبِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ مَعْنَاهُ أَمْرُنَا حِطَّةٌ أَيْ أَنْ نَحُطُّ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَنَسْتَقِرُّ فِيهَا، وَزَيَّفَ الْقَاضِي ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ غُفْرَانُ خَطَايَاهُمْ مُتَعَلِّقًا بِهِ وَلَكِنَّ قَوْلَهُ: وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ [البقرة: 58] ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غُفْرَانَ الْخَطَايَا كَانَ لِأَجْلِ قَوْلِهِمْ حِطَّةٌ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُمْ لَمَّا حَطُّوا فِي تِلْكَ الْقَرْيَةِ حَتَّى يَدْخُلُوا سُجَّدًا مَعَ التَّوَاضُعِ كَانَ الْغُفْرَانُ مُتَعَلِّقًا بِهِ. وَخَامِسُهَا: قَوْلُ الْقَفَّالِ: مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا فَإِنَّا إِنَّمَا انْحَطَطْنَا لِوَجْهِكِ

وَإِرَادَةُ التَّذَلُّلِ لَكَ، فَحُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَلْ كَانَ التَّكْلِيفُ وَارِدًا بِذِكْرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ بِعَيْنِهَا أَمْ لَا؟ قُلْنَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ بِعَيْنِهَا وَهَذَا مُحْتَمَلٌ وَلَكِنَّ الْأَقْرَبَ خِلَافُهُ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ عَرَبِيَّةٌ وَهُمْ/ مَا كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَثَانِيهُمَا: وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِأَنْ يَقُولُوا قَوْلًا دَالًّا عَلَى التَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ وَالْخُضُوعِ حَتَّى أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا مَكَانَ قَوْلِهِمْ: حِطَّةٌ اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَغْفِرُكَ وَنَتُوبُ إِلَيْكَ لَكَانَ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّوْبَةِ، إِمَّا الْقَلْبُ وَإِمَّا اللِّسَانُ، أَمَّا الْقَلْبُ فَالنَّدَمُ، وَأَمَّا اللِّسَانُ فَذِكْرُ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ النَّدَمِ فِي الْقَلْبِ وَذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ذِكْرِ لَفْظَةٍ بِعَيْنِهَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: نَغْفِرْ لَكُمْ فَالْكَلَامُ فِي الْمَغْفِرَةِ قَدْ تَقَدَّمَ. ثُمَّ هَاهُنَا بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: نَغْفِرْ لَكُمْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ، وَلَوْ كَانَ قَبُولُ التَّوْبَةِ وَاجِبًا عَقْلًا عَلَى مَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ لَمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ كَانَ أَدَاءً لِلْوَاجِبِ وَأَدَاءُ الْوَاجِبِ لَا يَجُوزُ ذِكْرُهُ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ. الثَّانِي: هَاهُنَا قِرَاءَاتٌ. أَحَدُهَا: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ الْمُنَادِي بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْفَاءِ. وَثَانِيهَا: قَرَأَ نَافِعٌ بِالْيَاءِ وَفَتْحِهَا. وَثَالِثُهَا: قَرَأَ الْبَاقُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَجَبَلَةُ عَنِ الْمُفَضَّلِ بِالتَّاءِ وَضَمِّهَا وَفَتْحِ الْفَاءِ، وَرَابِعُهَا: قَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالْجَحْدَرِيُّ بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا وَفَتْحِ الْفَاءِ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ كُلِّهَا وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْخَطِيئَةَ إِذَا غَفَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَقَدْ غُفِرَتْ وَإِذَا غُفِرَتْ فَإِنَّمَا يَغْفِرُهَا اللَّهُ، وَالْفِعْلُ إِذَا تَقَدَّمَ الِاسْمَ الْمُؤَنَّثَ وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَاعِلِ حَائِلٌ جَازَ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ كَقَوْلِهِ: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [هُودٍ: 67] وَالْمُرَادُ مِنَ الْخَطِيئَةِ الْجِنْسُ لَا الْخَطِيئَةُ الْوَاحِدَةُ بِالْعَدَدِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: خَطاياكُمْ فَفِيهِ قِرَاءَاتٌ، أَحَدُهَا: قَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ «خَطِيئَتُكُمْ» بِمَدَّةٍ وَهَمْزَةٍ وَتَاءٍ مَرْفُوعَةٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ عَلَى وَاحِدَةٍ. وَثَانِيهَا: الْأَعْمَشُ «خَطِيئَاتِكُمْ» بِمَدَّةٍ وَهَمْزَةٍ وَأَلْفٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ قَبْلَ التَّاءِ وَكَسْرِ التَّاءِ. وَثَالِثُهَا: الْحَسَنُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ يَرْفَعُ التَّاءَ، وَرَابِعُهَا: الْكِسَائِيُّ خَطَايَاكُمْ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الطَّاءِ قَبْلَ الْيَاءِ، وَخَامِسُهَا: ابْنُ كَثِيرٍ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الْيَاءِ وَقَبْلَ الكاف. وسادسها: الكسائي بكسر الطاء والتاء، وَالْبَاقُونَ بِإِمَالَةِ الْيَاءِ فَقَطْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمُحْسِنِ مَنْ كَانَ مُحْسِنًا بِالطَّاعَةِ فِي هَذَا التَّكْلِيفِ أَوْ مَنْ كَانَ مُحْسِنًا بِطَاعَاتٍ أُخْرَى فِي سَائِرِ التَّكَالِيفِ. أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ: فَالزِّيَادَةُ الْمَوْعُودَةُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَأَنْ تَكُونَ مِنْ مَنَافِعِ الدِّينِ. أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا، فَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ كَانَ مُحْسِنًا بِهَذِهِ الطَّاعَةِ فَإِنَّا نَزِيدُهُ سَعَةً فِي الدُّنْيَا وَنَفْتَحُ عَلَيْهِ قُرًى غَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مِنْ مَنَافِعِ الْآخِرَةِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ كَانَ مُحْسِنًا بِهَذِهِ الطَّاعَةِ وَالتَّوْبَةِ فَإِنَّا نَغْفِرُ لَهُ خَطَايَاهُ وَنَزِيدُهُ عَلَى غُفْرَانِ الذُّنُوبِ إِعْطَاءَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ كَمَا قَالَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُسَ: 26] ، أَيْ نُجَازِيهِمْ بِالْإِحْسَانِ إِحْسَانًا وَزِيَادَةً كَمَا جَعَلَ الثَّوَابَ لِلْحَسَنَةِ الْوَاحِدَةِ عَشْرًا، وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ «الْمُحْسِنِينَ» مَنْ كَانَ مُحْسِنًا بِطَاعَاتٍ أُخْرَى بَعْدَ هَذِهِ التَّوْبَةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّا نَجْعَلُ دُخُولَكُمُ الْبَابَ سُجَّدًا وَقَوْلَكُمْ حِطَّةٌ مُؤَثِّرًا فِي غُفْرَانِ الذُّنُوبِ، ثُمَّ إِذَا أَتَيْتُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِطَاعَاتٍ أُخْرَى أَعْطَيْنَاكُمُ/ الثَّوَابَ عَلَى تِلْكَ الطَّاعَاتِ الزَّائِدَةِ، وَفِي الْآيَةِ تَأْوِيلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى مَنْ كَانَ خَاطِئًا غَفَرْنَا لَهُ ذَنْبَهُ بِهَذَا الْفِعْلِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ خَاطِئًا بَلْ كَانَ مُحْسِنًا زِدْنَا فِي إِحْسَانِهِ، أَيْ كَتَبْنَا تِلْكَ الطَّاعَةَ فِي حَسَنَاتِهِ وَزِدْنَاهُ زِيَادَةً مِنَّا فِيهَا فَتَكُونُ الْمَغْفِرَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالزِّيَادَةُ للمطيعين.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا فَفِيهِ قَوْلَانِ. الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَدَّلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، لَا عَلَى أَنَّهُمْ أَتَوْا لَهُ بِبَدَلٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ تَبْدِيلَ الْقَوْلِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُخَالَفَةِ، قَالَ تَعَالَى: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ [الْفَتْحِ: 11] إِلَى قَوْلِهِ: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [الْفَتْحِ: 15] وَلَمْ يَكُنْ تَبْدِيلُهُمْ إِلَّا الْخِلَافَ فِي الْفِعْلِ لَا فِي الْقَوْلِ فَكَذَا هَاهُنَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِالتَّوَاضُعِ وَسُؤَالِ الْمَغْفِرَةِ لَمْ يَمْتَثِلُوا أَمْرَ اللَّهِ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ. الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّبْدِيلِ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِبَدَلٍ لَهُ لِأَنَّ التَّبْدِيلَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَدَلِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الْبَدَلِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ بَدَّلَ دِينَهُ، يُفِيدُ أَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ آخَرَ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ وَالْفِعْلَ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ؟ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ دَخَلُوا الْبَابَ الَّذِي أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ سُجَّدًا زَاحِفِينَ عَلَى اسْتَاهِهِمْ، قَائِلِينَ حِنْطَةٌ مِنْ شَعِيرَةٍ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ وَقَالُوا: حِنْطَةٌ اسْتِهْزَاءً، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: اسْتِهْزَاءً بِمُوسَى. وَقَالُوا: مَا شَاءَ مُوسَى أَنْ يَلْعَبَ بِنَا إِلَّا لَعِبَ بِنَا حِطَّةً حِطَّةً أَيْ شَيْءٌ حِطَّةٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ ظَلَمُوا فَإِنَّمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ إِمَّا لِأَنَّهُمْ سَعَوْا فِي نُقْصَانِ خَيْرَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ أَوْ لِأَنَّهُمْ أَضَرُّوا بِأَنْفُسِهِمْ، وَذَلِكَ ظُلْمٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي تَكْرِيرِ: الَّذِينَ ظَلَمُوا زِيَادَةً فِي تَقْبِيحِ أَمْرِهِمْ وَإِيذَانًا بِأَنَّ إِنْزَالَ الرِّجْزِ عَلَيْهِمْ لِظُلْمِهِمْ. الثَّانِي: أَنَّ الرِّجْزَ هُوَ الْعَذَابُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أَيِ الْعُقُوبَةُ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ [الْأَعْرَافِ: 134] وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ أَنَّ الرِّجْزَ وَالرِّجْسَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْعَذَابُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ [الْأَنْفَالِ: 11] فَمَعْنَاهُ لطخه وما يدعوا إِلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْعُقُوبَةَ أَيُّ شَيْءٍ كَانَتْ لَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَاتَ مِنْهُمْ بِالْفَجْأَةِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الطَّاعُونَ حَتَّى مَاتَ مِنَ الْغَدَاةِ إِلَى الْعَشِيِّ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ، فَالْفِسْقُ مِنَ الْخُرُوجِ الْمُضِرِّ، يُقَالُ فَسَقَتِ الرَّطْبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ إِلَى مَعْصِيَتِهِ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: هَذَا الْفِسْقُ هُوَ الظُّلْمُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وَفَائِدَةُ التَّكْرَارِ التَّأْكِيدُ وَالْحَقُّ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَرَّرٍ لِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الظُّلْمَ قَدْ يَكُونُ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ بِالظُّلْمِ/ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: 23] ولأنه تعالى قال: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الظُّلْمُ إِلَّا عَظِيمًا لَكَانَ ذكر العظيم تكريراً والفسق لا بد وأن يَكُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ فَلَمَّا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِالظُّلْمِ أَوَّلًا: وَصَفَهُمْ بِالْفِسْقِ، ثَانِيًا: لِيُعْرَفَ أَنَّ ظُلْمَهُمْ كَانَ مِنَ الْكَبَائِرِ لَا مِنَ الصَّغَائِرِ. الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا اسْمَ الظَّالِمِ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ فَنَزَلَ الرِّجْزُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ بَلْ لِلْفِسْقِ الَّذِي كَانُوا فَعَلُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَزُولُ التكرار.

النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ [الْأَعْرَافِ: 161، 162] وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا عَلَى أَنَّ مَا وَرَدَ بِهِ التَّوْقِيفُ مِنَ الْأَذْكَارِ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ تَغْيِيرُهَا وَلَا تَبْدِيلُهَا بِغَيْرِهَا، وَرُبَّمَا احْتَجَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَحْرِيمُ الصَّلَاةِ بِلَفْظِ التَّعْظِيمِ وَالتَّسْبِيحِ وَلَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِالْفَارِسِيَّةِ وَأَجَابَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ لِتَبْدِيلِهِمُ الْقَوْلَ إِلَى قَوْلٍ آخَرَ يُضَادُّ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْأَوَّلِ، فَلَا جَرَمَ اسْتَوْجَبُوا الذَّمَّ، فَأَمَّا مَنْ غَيَّرَ اللَّفْظَ مَعَ بَقَاءِ الْمَعْنَى فَلَيْسَ كَذَلِكَ وَالْجَوَابُ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ بَدَّلَ قَوْلًا بِقَوْلٍ آخَرَ سَوَاءٌ اتَّفَقَ الْقَوْلَانِ فِي الْمَعْنَى أَوْ لَمْ يَتَّفِقَا، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٍ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَإِذْ قُلْنَا وَقَالَ فِي الْأَعْرَافِ: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ الْجَوَابُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَرَّحَ فِي أَوَّلِ الْقُرْآنِ بِأَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى إِزَالَةً لِلْإِبْهَامِ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 40] ثُمَّ أَخَذَ يُعَدِّدُ [نِعَمَهُ] نِعْمَةً نِعْمَةً فَاللَّائِقُ بِهَذَا الْمَقَامِ أَنْ يَقُولَ: وَإِذْ قُلْنَا أَمَّا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فَلَا يَبْقَى فِي قَوْلِهِ تعالى: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ إِبْهَامٌ بَعْدَ تَقْدِيمِ التَّصْرِيحِ بِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ فِي الْبَقَرَةِ: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا وفي الأعراف: اسْكُنُوا؟ الْجَوَابُ: الدُّخُولُ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّكُونِ وَلَا بُدَّ مِنْهُمَا فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ الدُّخُولَ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالسُّكُونَ فِي السُّورَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ فِي الْبَقَرَةِ: فَكُلُوا بِالْفَاءِ وَفِي الأعراف: وَكُلُوا بِالْوَاوِ؟ وَالْجَوَابُ هَاهُنَا هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَكُلا مِنْها رَغَداً وفي الأعراف: فَكُلا. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لِمَ قَالَ فِي الْبَقَرَةِ: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَفِي الْأَعْرَافِ: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ، الْجَوَابُ: الْخَطَايَا جَمْعُ الْكَثْرَةِ وَالْخَطِيئَاتُ جَمْعُ السَّلَامَةِ فَهُوَ لِلْقِلَّةِ، وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَمَّا أَضَافَ ذَلِكَ الْقَوْلَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ لَا جَرَمَ قَرَنَ بِهِ ما يليق جوده وَكَرَمِهِ وَهُوَ غُفْرَانُ الذُّنُوبِ الْكَثِيرَةِ، فَذَكَرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ الدَّالِّ عَلَى الْكَثْرَةِ، وَفِي الْأَعْرَافِ/ لَمَّا لَمْ يُضِفْ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ بَلْ قَالَ: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ لَا جَرَمَ ذَكَرَ ذَلِكَ بِجَمْعِ الْقِلَّةِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْفَاعِلَ ذَكَرَ مَا يَلِيقُ بكرمه من غفران الخطايا الكثيرة [ة] وَفِي الْأَعْرَافِ لَمَّا لَمْ يُسَمَّ الْفَاعِلُ لَمْ يَذْكُرِ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الْكَثْرَةِ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: لِمَ ذَكَرَ قَوْلَهُ: رَغَداً فِي الْبَقَرَةِ وَحَذَفَهُ فِي الْأَعْرَافِ؟ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ كَالْجَوَابِ فِي الْخَطَايَا وَالْخَطِيئَاتِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى نَفْسِهِ لَا جَرَمَ ذَكَرَ مَعَهُ الْإِنْعَامَ الْأَعْظَمَ وَهُوَ أَنْ يَأْكُلُوا رَغَدًا، وَفِي الْأَعْرَافِ لَمَّا لَمْ يُسْنِدِ الْفِعْلَ إِلَى نَفْسِهِ لَمْ يَذْكُرِ الْإِنْعَامَ الْأَعْظَمَ فِيهِ. السُّؤَالُ السَّادِسُ: لِمَ ذَكَرَ فِي الْبَقَرَةِ: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ وَفِي الْأَعْرَافِ قَدَّمَ الْمُؤَخَّرَ؟ الْجَوَابُ: الْوَاوُ للجمع المطلق وأيضاً فالمخاطبون بقوله: ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ، يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ بَعْضَهُمْ كَانُوا مُذْنِبِينَ وَالْبَعْضَ الْآخَرَ مَا كَانُوا مُذْنِبِينَ، فَالْمُذْنِبُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اشْتِغَالُهُ بِحَطِّ الذُّنُوبِ

[سورة البقرة (2) : آية 60]

مُقَدَّمًا عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَةِ لِأَنَّ التَّوْبَةَ عَنِ الذَّنْبِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لَا مَحَالَةَ، فَلَا جَرَمَ كَانَ تَكْلِيفُ هَؤُلَاءِ أَنْ يَقُولُوا أَوَّلًا «حِطَّةٌ» ثُمَّ يَدْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا، وَأَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ مُذْنِبًا فَالْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَشْتَغِلَ أَوَّلًا بِالْعِبَادَةِ ثُمَّ يَذْكُرَ التَّوْبَةَ، ثَانِيًا: عَلَى سَبِيلِ هَضْمِ النَّفْسِ وَإِزَالَةِ الْعُجْبِ فِي فِعْلِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ فَهَؤُلَاءِ يَجِبُ أَنْ يَدْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا أَوَّلًا ثُمَّ يَقُولُوا حِطَّةٌ ثَانِيًا، فَلَمَّا احْتَمَلَ كَوْنُ أُولَئِكَ الْمُخَاطَبِينَ مُنْقَسِمِينَ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ لَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي سُورَةٍ أُخْرَى. السُّؤَالُ السَّابِعُ: لِمَ قَالَ: وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فِي الْبَقَرَةِ مَعَ الْوَاوِ وَفِي الْأَعْرَافِ: سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ مِنْ غَيْرِ الْوَاوِ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا فِي الْأَعْرَافِ فَذَكَرَ فِيهِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ الْحِطَّةِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّوْبَةِ، وَثَانِيهَا: دُخُولُ الْبَابِ سُجَّدًا وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعِبَادَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ جُزْأَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَهُوَ وَاقِعٌ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِ الْحِطَّةِ. وَالْآخَرُ: قَوْلُهُ: سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وَهُوَ وَاقِعٌ فِي مُقَابَلَةِ دُخُولِ الْبَابِ سُجَّدًا فَتَرْكُ الْوَاوِ يُفِيدُ تَوَزُّعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجُزْأَيْنِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرْطَيْنِ. وَأَمَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَيُفِيدُ كَوْنَ مَجْمُوعِ الْمَغْفِرَةِ وَالزِّيَادَةِ جَزَاءً وَاحِدًا لِمَجْمُوعِ الْفِعْلَيْنِ أَعْنِي دُخُولَ الْبَابِ وَقَوْلَ الْحِطَّةِ. السُّؤَالُ الثَّامِنُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا وَفِي الْأَعْرَافِ: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا فَمَا الْفَائِدَةُ فِي زِيَادَةِ كَلِمَةِ «مِنْهُمْ» فِي الْأَعْرَافِ؟ الْجَوَابُ: سَبَبُ زِيَادَةِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَنَّ أَوَّلَ الْقِصَّةِ هَاهُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْصِيصِ بِلَفْظِ «مِنْ» لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الْأَعْرَافِ: 159] فَذَكَرَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثُمَّ عَدَّدَ صُنُوفَ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ وَأَوَامِرِهِ لَهُمْ، فَلَمَّا انْتَهَتِ الْقِصَّةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَذَكَرَ لَفْظَةَ: مِنْهُمْ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ كَمَا ذَكَرَهَا فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ لِيَكُونَ آخِرُ الْكَلَامِ مُطَابِقًا لِأَوَّلِهِ فَيَكُونُ الظَّالِمُونَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى بِإِزَاءِ الْهَادِينَ مِنْهُمْ فَهُنَاكَ ذَكَرَ أُمَّةً عَادِلَةً، وَهَاهُنَا ذَكَرَ أُمَّةً جَابِرَةً وَكِلْتَاهُمَا مِنْ قَوْمِ/ مُوسَى فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَأَمَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ قَوْلِهِ: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا تَمْيِيزًا وَتَخْصِيصًا حَتَّى يَلْزَمَ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ ذِكْرُ ذَلِكَ التَّخْصِيصَ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. السُّؤَالُ التَّاسِعُ: لِمَ قَالَ فِي الْبَقَرَةِ: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً وقال في الأعراف: فَأَرْسَلْنا الْجَوَابُ: الْإِنْزَالُ يُفِيدُ حُدُوثَهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَالْإِرْسَالُ يُفِيدُ تَسَلُّطَهُ عَلَيْهِمْ وَاسْتِئْصَالَهُ لَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْدُثُ بِالْآخِرَةِ. السُّؤَالُ الْعَاشِرُ: لِمَ قَالَ فِي الْبَقَرَةِ: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وَفِي الأعراف: بِما كانُوا يَظْلِمُونَ، الْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَوْنَ ذَلِكَ الظُّلْمِ فِسْقًا اكْتَفَى بِلَفْظِ الظُّلْمِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْبَيَانِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة البقرة (2) : آية 60] وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ بِسُكُونِ الشِّينِ عَلَى التَّخْفِيفِ وَقِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ بِكَسْرِ الشِّينِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ بِفَتْحِ الشِّينِ، وَالْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ أَخَفُّ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِنْعَامُ التَّاسِعُ مِنَ الْإِنْعَامَاتِ الْمَعْدُودَةِ

عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ جَامِعٌ لِنِعَمِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَزَالَ عَنْهُمُ الْحَاجَةَ الشَّدِيدَةَ إِلَى الْمَاءِ وَلَوْلَاهُ لَهَلَكُوا فِي التِّيهِ، كَمَا لَوْلَا إِنْزَالُهُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى لَهَلَكُوا، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ [الْأَنْبِيَاءِ: 8] وَقَالَ: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الْأَنْبِيَاءِ: 30] بَلِ الْإِنْعَامُ بِالْمَاءِ فِي التِّيهِ أَعْظَمُ مِنَ الْإِنْعَامِ بِالْمَاءِ الْمُعْتَادِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اشْتَدَّتْ حَاجَتُهُ إِلَى الْمَاءِ فِي الْمَفَازَةِ وَقَدِ انْسَدَّتْ عَلَيْهِ أَبْوَابُ الرَّجَاءِ لِكَوْنِهِ فِي مَكَانٍ لَا مَاءَ فِيهِ وَلَا نَبَاتَ، فَإِذَا رَزَقَهُ اللَّهُ الْمَاءَ مِنْ حَجَرٍ ضُرِبَ بِالْعَصَا فَانْشَقَّ وَاسْتَقَى مِنْهُ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ لَا يَكَادُ يَعْدِلُهَا شَيْءٌ مِنَ النِّعَمِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مِنْ نِعَمِ الدِّينُ فَلِأَنَّهُ مِنْ أَظْهَرِ الدَّلَائِلِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَمِنْ أَصْدَقِ الدَّلَائِلِ عَلَى صِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِسْقَاءَ كَانَ فِي التِّيهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَجَعَلَ ثِيَابَهُمْ بِحَيْثُ لَا تَبْلَى وَلَا تَتَّسِخُ خَافُوا/ الْعَطَشَ فَأَعْطَاهُمُ اللَّهُ الْمَاءَ مِنْ ذَلِكَ الْحَجَرِ، وَأَنْكَرَ أَبُو مُسْلِمٍ حَمْلَ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى أَيَّامِ مَسِيرِهِمْ إِلَى التِّيهِ فَقَالَ: بَلْ هُوَ كَلَامٌ مُفْرَدٌ بِذَاتِهِ، وَمَعْنَى الِاسْتِسْقَاءِ طَلَبُ السُّقْيَا مِنَ الْمَطَرِ عَلَى عَادَةِ النَّاسِ إِذَا أَقْحَطُوا وَيَكُونُ مَا فَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ تَفْجِيرِ الْحَجَرِ بِالْمَاءِ فَوْقَ الْإِجَابَةِ بِالسُّقْيَا وَإِنْزَالِ الْغَيْثِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ هَذَا أَوْ ذَاكَ وَإِنْ كَانَ الْأَقْرَبُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي التِّيهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُعْتَادَ فِي الْبِلَادِ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ طَلَبِ الْمَاءِ إِلَّا فِي النَّادِرِ، الثَّانِي: مَا رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْمِلُونَ الْحَجَرَ مَعَ أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُ صَارَ مُعَدًّا لِذَلِكَ فَكَمَا كَانَ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى يَنْزِلَانِ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ غَدَاةٍ فَكَذَلِكَ الْمَاءُ يَنْفَجِرُ لَهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِأَيَّامِهِمْ فِي التِّيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْعَصَا، فَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَتْ عَصًا أَخَذَهَا مِنْ بَعْضِ الْأَشْجَارِ، وَقِيلَ كَانَتْ مِنْ آسِ الْجَنَّةِ طُولُهَا عَشَرَةُ أَذْرُعٍ عَلَى طُولِ مُوسَى وَلَهَا شُعْبَتَانِ تَتَّقِدَانِ فِي الظُّلْمَةِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّ مِقْدَارَهَا كَانَ مِقْدَارًا يَصِحُّ أَنْ يَتَوَكَّأَ عَلَيْهَا وَأَنْ تَنْقَلِبَ حَيَّةً عَظِيمَةً وَلَا تَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا وَلَهَا قَدْرٌ مِنَ الطُّولِ وَالْغِلَظِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ السُّكُوتَ عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ مُتَوَاتِرٌ قَاطِعٌ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا عَمَلٌ حَتَّى يَكْتَفِيَ فِيهَا بِالظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَالْأَوْلَى تَرْكُهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اللَّامُ فِي «الْحَجَرِ» إِمَّا لِلْعَهْدِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى حَجَرٍ مَعْلُومٍ، فَرُوِيَ أَنَّهُ حَجَرٌ طُورِيٌّ حَمَلَهُ مَعَهُ وَكَانَ مُرَبَّعًا لَهُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ يَنْبُعُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ثَلَاثَةُ أَعْيُنٍ لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ تَسِيلُ فِي جَدْوَلٍ إِلَى ذَلِكَ السِّبْطِ، وَكَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ وَسَعَةُ الْمُعَسْكَرِ اثْنَا عَشَرَ مَيْلًا، وَقِيلَ أُهْبِطَ مَعَ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ فَتَوَارَثُوهُ حَتَّى وَقَعَ إِلَى شُعَيْبَ فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ مَعَ الْعَصَا، وَقِيلَ: هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي وَضَعَ عَلَيْهِ ثَوْبَهُ حِينَ اغْتَسَلَ إِذْ رَمَوْهُ بِالْأُدْرَةِ فَفَرَّ بِهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ارْفَعْ هَذَا الْحَجَرَ فَإِنَّ لِي فِيهِ قُدْرَةً وَلَكَ فِيهِ مُعْجِزَةٌ، فَحَمَلَهُ فِي مِخْلَاتِهِ، وَإِمَّا لِلْجِنْسِ أَيِ اضْرِبِ الشَّيْءَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْحَجَرُ، وَعَنِ الْحَسَنِ: لَمْ يَأْمُرُوهُ أَنْ يَضْرِبَ حَجَرًا بِعَيْنِهِ. قَالَ: وَهَذَا أَظْهَرُ فِي الْحُجَّةِ وَأَبْيَنُ فِي الْقُدْرَةِ، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: كَيْفَ بِنَا لَوْ أَفْضَيْنَا إِلَى أَرْضٍ لَيْسَتْ فِيهَا حِجَارَةٌ فَحَمَلَ حَجَرًا فِي مِخْلَاتِهِ فَحِينَمَا نَزَلُوا أَلْقَاهُ وَقِيلَ: كَانَ يَضْرِبُهُ بِعَصَاهُ فَيَنْفَجِرُ وَيَضْرِبُهُ بِهَا فَيَيْبَسُ، فَقَالُوا: إِنْ فَقَدَ مُوسَى عَصَاهُ مُتْنَا عَطَشًا. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ لَا تَقْرَعِ الْحِجَارَةَ، وَكَلِّمْهَا تُطِعْكَ، وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الْحَجَرِ فَقِيلَ: كَانَ مِنْ رُخَامٍ وَكَانَ ذِرَاعًا فِي ذِرَاعٍ، وَقِيلَ: مِثْلُ رَأْسِ الْإِنْسَانِ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا تَفْوِيضُ عِلْمِهِ إِلَى اللَّهِ تعالى.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَانْفَجَرَتْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ أَوْ فَإِنْ ضَرَبْتَ فَقَدِ انْفَجَرَتْ. بَقِيَ هُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ الْحَجَرَ فَيَنْفَجِرَ مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْ تَقْدِيرِ هَذَا الْمَحْذُوفِ؟ الْجَوَابُ: لَا يَمْتَنِعُ فِي الْقُدْرَةِ أَنْ يَأْمُرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ الْحَجَرَ وَمِنْ قَبْلُ أَنْ يَضْرِبَ يَنْفَجِرُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ لِأَنَّ ذلك لو قيل إنه أبلغ في/ قِيلَ: إِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِعْجَازِ لَكَانَ أَقْرَبَ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ ضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَمَرَ رَسُولَهُ بِشَيْءٍ، ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ لَا يَفْعَلُهُ لَصَارَ الرَّسُولُ عَاصِيًا، وَلِأَنَّهُ إِذَا انْفَجَرَ مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ صَارَ الْأَمْرُ بِالضَّرْبِ بِالْعَصَا عَبَثًا، كَأَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ وَلِأَنَّ الْمَرْوِيَّ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ تَقْدِيرَهُ: فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ كما في قوله تعالى: فَانْفَلَقَ [الشعراء: 63] مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَاهُنَا: فَانْفَجَرَتْ وَفِي الْأَعْرَافِ: فَانْبَجَسَتْ [الْأَعْرَافِ: 16] وَبَيْنَهُمَا تَنَاقُضٌ لِأَنَّ الِانْفِجَارَ خُرُوجُ الْمَاءِ بِكَثْرَةٍ وَالِانْبِجَاسُ خُرُوجُهُ قَلِيلًا. الْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: الْفَجْرَ الشَّقُّ فِي الْأَصْلِ، وَالِانْفِجَارُ الِانْشِقَاقُ، وَمِنْهُ الْفَاجِرُ لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ بِخُرُوجِهِ إِلَى الْفِسْقِ، وَالِانْبِجَاسُ اسْمٌ لِلشِّقِّ الضَّيِّقِ الْقَلِيلِ، فَهُمَا مُخْتَلِفَانِ اخْتِلَافَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، فَلَا يَتَنَاقَضَانِ، وَثَانِيهَا: لَعَلَّهُ انْبَجَسَ أَوَّلًا، ثُمَّ انْفَجَرَ ثَانِيًا، وَكَذَا الْعُيُونُ: يَظْهَرُ الْمَاءُ مِنْهَا قَلِيلًا ثُمَّ يَكْثُرُ لِدَوَامِ خُرُوجِهِ. وَثَالِثُهَا: لَا يَمْتَنِعُ أَنَّ حَاجَتَهُمْ كَانَتْ تَشْتَدُّ إِلَى الْمَاءِ فَيَنْفَجِرُ، أَيْ يَخْرُجُ الْمَاءُ كَثِيرًا ثُمَّ كَانَتْ تَقِلُّ فَكَانَ الْمَاءُ يَنْبَجِسُ أَيْ يَخْرُجُ قَلِيلًا. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ يُعْقَلُ خُرُوجُ الْمِيَاهِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الْحَجَرِ الصَّغِيرِ؟ الْجَوَابُ: هَذَا السَّائِلُ إِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ وُجُودَ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ أَوْ يُنْكِرَهُ، فَإِنْ سَلَّمَ فَقَدْ زَالَ السُّؤَالُ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ الْجِسْمَ كَيْفَ شَاءَ كَمَا خَلَقَ الْبِحَارَ وَغَيْرَهَا، وَإِنْ نَازَعَ فَلَا فَائِدَةَ لَهُ فِي الْبَحْثِ عَنْ مَعْنَى الْقُرْآنِ وَالنَّظَرِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ كُلِّ مَا يَسْتَبْعِدُونَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَأَيْضًا فَالْفَلَاسِفَةُ لَا يُمْكِنُهُمُ الْقَطْعُ بِفَسَادِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَنَاصِرَ الْأَرْبَعَةَ لَهَا هَيُولَى مُشْتَرَكَةٌ عِنْدَهُمْ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يَصِحُّ الْكَوْنُ وَالْفَسَادُ عَلَيْهَا، وَإِنَّهُ يَصِحُّ انْقِلَابُ الْهَوَاءِ مَاءً وَبِالْعَكْسِ وَكَذَلِكَ قَالُوا: [الْهَوَاءُ] إِذَا وُضِعَ فِي الْكُوزِ الْفِضَّةِ جَمُدَ فَإِنَّهُ يَجْتَمِعُ عَلَى أَطْرَافِ الْكُوزِ قَطَرَاتُ الْمَاءِ، فَقَالُوا: تِلْكَ الْقَطَرَاتُ إِنَّمَا حَصَلَتْ لِأَنَّ الْهَوَاءَ انْقَلَبَ مَاءً فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ فِي الْجُمْلَةِ وَالْحَوَادِثُ السُّفْلِيَّةُ مُطِيعَةٌ لِلِاتِّصَالَاتِ الْفَلَكِيَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ مُسْتَبْعَدًا أَنْ يَحْدُثَ اتِّصَالٌ فَلَكِيٌّ يَقْتَضِي وُقُوعَ هَذَا الْأَمْرِ الْغَرِيبِ فِي هَذَا الْعَالَمِ. فَثَبَتَ أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ لَا يُمْكِنُهُمُ الْجَزْمَ بِفَسَادِ ذَلِكَ. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ لَمَّا اعْتَقَدُوا كَوْنَ الْعَبْدِ مُوجِدًا لِأَفْعَالِهِ لَا جَرَمَ قُلْنَا لَهُمْ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْدِرَ الْعَبْدُ عَلَى خَلْقِ الْجِسْمِ؟ فَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ طريقين ضعيفين جداً سنذكرهما بأن شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ آيَةِ السِّحْرِ، وَنَذْكُرُ وَجْهَ ضَعْفِهِمَا وَسُقُوطِهِمَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُهُمُ الْقَطْعُ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَتَنْسَدُّ عَلَيْهِمْ أَبْوَابُ الْمُعْجِزَاتِ وَالنُّبُوَّاتِ، أَمَّا أَصْحَابُنَا فَإِنَّهُمْ لَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا مُوجِدَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى لَا جَرَمَ جَزَمُوا أَنَّ الْمُحْدِثَ لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَاتِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا جَرَمَ أَمْكَنَهُمُ الِاسْتِدْلَالُ بِظُهُورِهَا على يدل الْمُدَّعِي عَلَى كَوْنِهِ صَادِقًا. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: أَتَقُولُونَ إِنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ كَانَ مُسْتَكِنًّا فِي الْحَجَرِ ثُمَّ ظَهَرَ أَوْ قَلَبَ اللَّهُ الْهَوَاءَ مَاءً أَوْ خَلَقَ الْمَاءَ ابْتِدَاءً؟ وَالْجَوَابُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَبَاطِلٌ لِأَنَّ الظَّرْفَ الصَّغِيرَ لَا يَحْوِي الْجِسْمَ الْعَظِيمَ/ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّدَاخُلِ وَهُوَ

[سورة البقرة (2) : آية 61]

مُحَالٌ. أَمَّا الْوَجْهَانِ الْأَخِيرَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمَلٌ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَقَدْ أَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى الْيُبُوسَةَ عَنْ أَجْزَاءِ الْهَوَاءِ وَخَلَقَ الرُّطُوبَةَ فِيهَا وَإِنْ كَانَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَقَدْ خَلَقَ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ وَخَلَقَ الرُّطُوبَةَ فِيهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ كَالْكَلَامِ فِيمَا كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ وَقَدْ ضَاقَ بِهِمُ الْمَاءُ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي مُتَوَضَّئِهِ فَفَارَ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ حَتَّى اسْتَكْفَوْا. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: مُعْجِزَةُ مُوسَى فِي هَذَا الْمَعْنَى أَعْظَمُ أَمْ مُعْجِزَةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ الْجَوَابُ: كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُعْجِزَةٌ بَاهِرَةٌ قَاهِرَةٌ، لَكِنَّ الَّتِي لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَى لِأَنَّ نُبُوعَ الْمَاءِ مِنَ الْحَجَرِ مَعْهُودٌ فِي الْجُمْلَةِ، أَمَّا نُبُوعُهُ مِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ فَغَيْرُ مُعْتَادٍ الْبَتَّةَ فَكَانَ ذَلِكَ أَقْوَى. السُّؤَالُ السَّادِسُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ الْمَاءِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَيْنًا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ كَانَ فِي قَوْمِ مُوسَى كَثْرَةٌ وَالْكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ إِذَا اشْتَدَّتْ بِهِمُ الْحَاجَةُ إِلَى الْمَاءِ ثُمَّ وَجَدُوهُ فَإِنَّهُ يَقَعُ بَيْنَهُمْ تَشَاجُرٌ وَتَنَازُعٌ وَرُبَّمَا أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى الْفِتَنِ الْعَظِيمَةِ فَأَكْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ النِّعْمَةَ بِأَنْ عَيَّنَ لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ مَاءً مُعَيَّنًا لَا يَخْتَلِطُ بِغَيْرِهِ وَالْعَادَةُ فِي الرَّهْطِ الْوَاحِدِ أَنْ لَا يَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنَ التَّنَازُعِ مِثْلُ مَا يَقَعُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ. السُّؤَالُ السَّابِعُ: مِنْ كَمْ وَجْهٍ يَدُلُّ هَذَا الِانْفِجَارُ عَلَى الْإِعْجَازِ؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ نَفْسَ ظُهُورِ الْمَاءِ مُعْجِزٌ، وَثَانِيهَا: خُرُوجُ الْمَاءِ الْعَظِيمِ مِنَ الْحَجَرِ الصَّغِيرِ، وَثَالِثُهَا: خُرُوجُ الْمَاءِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِمْ، وَرَابِعُهَا: خُرُوجُ الْمَاءِ عِنْدَ ضَرْبِ الْحَجَرِ بِالْعَصَا، وَخَامِسُهَا: انْقِطَاعُ الْمَاءِ عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْخَمْسَةُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا إِلَّا بِقُدْرَةٍ تَامَّةٍ نَافِذَةٍ فِي كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ وَعِلْمٍ نَافِذٍ فِي جَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَحِكْمَةٍ عَالِيَةٍ عَلَى الدَّهْرِ وَالزَّمَانِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ فَنَقُولُ: إِنَّمَا عَلِمُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَمَرَ كُلَّ إِنْسَانٍ أَنْ لَا يَشْرَبَ إِلَّا مِنْ جَدْوَلٍ مُعَيَّنٍ كَيْلَا يَخْتَلِفُوا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَاءِ، وَأَمَّا إِضَافَةُ الْمَشْرَبِ إِلَيْهِمْ فَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَبَاحَ لِكُلِّ سِبْطٍ مِنَ الْأَسْبَاطِ ذَلِكَ الْمَاءَ الَّذِي ظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ الشَّقِّ الَّذِي يَلِيهِ صَارَ ذَلِكَ كَالْمِلْكِ لَهُمْ وَجَازَتْ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ فَفِيهِ حَذْفٌ، وَالْمَعْنَى: فَقُلْنَا لَهُمْ أَوْ قَالَ لَهُمْ مُوسَى: كُلُوا وَاشْرَبُوا، وَإِنَّمَا قَالَ: كُلُوا لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، فَكَأَنَّهُ قَالَ: كُلُوا مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى الَّذِي رَزَقَكُمُ اللَّهُ بِلَا تَعَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَاشْرَبُوا مِنْ هَذَا الْمَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَغْذِيَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْمَاءِ، فَلَمَّا أَعْطَاهُمُ الْمَاءَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَاهُمُ الْمَأْكُولَ وَالْمَشْرُوبَ. وَاحْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ هُوَ الْحَلَالُ، قَالُوا: لِأَنَّ أَقَلَّ دَرَجَاتِ قَوْلِهِ: كُلُوا وَاشْرَبُوا الْإِبَاحَةُ، وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ الرِّزْقِ مُبَاحًا، فَلَوْ وُجِدَ رِزْقٌ حَرَامٌ لَكَانَ ذَلِكَ الرِّزْقُ مُبَاحًا وَحَرَامًا وَإِنَّهُ/ غَيْرُ جَائِزٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فَالْعِثِيُّ أَشَدُّ الْفَسَادِ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَا تَتَمَادَوْا فِي الْفَسَادِ فِي حَالَةِ إِفْسَادِكُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَمَادِينَ فِيهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ التَّشَاجُرِ وَالتَّنَازُعِ فِي الْمَاءِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنْ وَقَعَ التَّنَازُعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمَاءِ فَلَا تبالغوا في التنازع والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 61] وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61)

اعْلَمْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الْمَعْرُوفَةَ يَخْرُجُ لَنَا بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، تُنْبِتُ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ، تَنْبُتُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الظَّاهِرِيِّينَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ السُّؤَالَ كَانَ مَعْصِيَةً، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ إِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى لَيْسَ بِإِيجَابٍ بَلْ هُوَ إِبَاحَةٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ مَعْصِيَةً لِأَنَّ مَنْ أُبِيحَ لَهُ ضَرْبٌ مِنَ الطَّعَامِ يَحْسُنُ مِنْهُ أَنْ يَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ إِمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا سَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَسْأَلَ ذَلِكَ مِنْ رَبِّهِ كَانَ الدُّعَاءُ أَقْرَبَ إِلَى الْإِجَابَةِ جَازَ لَهُمْ ذلك ولم يكن فيه معصية. [في هذه الآية مسائل] [المسألة الأولى] وَاعْلَمْ أَنَّ سُؤَالَ النَّوْعِ الْآخَرِ مِنَ الطَّعَامِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِأَغْرَاضٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ لَمَّا تَنَاوَلُوا ذَلِكَ النَّوْعَ الْوَاحِدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَلُّوهُ فَاشْتَهَوْا غَيْرَهُ، الثَّانِي: لَعَلَّهُمْ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ مَا تَعَوَّدُوا ذَلِكَ النَّوْعَ وَإِنَّمَا تَعَوَّدُوا سَائِرَ الْأَنْوَاعِ وَرَغْبَةُ الْإِنْسَانِ فِيمَا اعْتَادَهُ فِي أَصْلِ التَّرْبِيَةِ وَإِنْ كَانَ/ خَسِيسًا فَوْقَ رَغْبَتِهِ فِيمَا لَمْ يَعْتَدْهُ وَإِنْ كَانَ شَرِيفًا. الثَّالِثُ: لَعَلَّهُمْ مَلُّوا مِنَ الْبَقَاءِ فِي التِّيهِ فَسَأَلُوا هَذِهِ الْأَطْعِمَةَ الَّتِي لَا تُوجَدُ إِلَّا فِي الْبِلَادِ وَغَرَضُهُمُ الْوُصُولُ إِلَى الْبِلَادِ لَا نَفْسُ تِلْكَ الْأَطْعِمَةِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الطَّعَامِ الْوَاحِدِ سَبَبٌ لِنُقْصَانِ الشَّهْوَةِ وَضَعْفِ الْهَضْمِ وَقِلَّةِ الرَّغْبَةِ وَالِاسْتِكْثَارَ مِنَ الْأَنْوَاعِ يُعِينُ عَلَى تَقْوِيَةِ الشَّهْوَةِ وَكَثْرَةِ الِالْتِذَاذِ، فَثَبَتَ أَنَّ تَبْدِيلَ النَّوْعِ بِالنَّوْعِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودَ الْعُقَلَاءِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَمْنُوعِينَ عَنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ كَالْإِجَابَةِ لِمَا طَلَبُوا وَلَوْ كَانُوا عَاصِينَ فِي ذَلِكَ السُّؤَالِ لَكَانَتِ الْإِجَابَةُ إِلَيْهِ مَعْصِيَةً وَهِيَ غَيْرُ جَائِزَةٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، لَا يُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمَّا أَبَوْا شَيْئًا اخْتَارَهُ اللَّهُ لَهُمْ أَعْطَاهُمْ عَاجِلَ مَا سَأَلُوهُ كَمَا قَالَ: وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها [الشُّورَى: 20] لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السُّؤَالَ كَانَ مَعْصِيَةً بِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُمْ: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَرِهُوا إِنْزَالَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَتِلْكَ الْكَرَاهَةُ مَعْصِيَةٌ، الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَعْصِيَةً. الثَّالِثُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَفَ مَا سَأَلُوهُ بِأَنَّهُ أَدْنَى وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ خَيْرٌ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ قَوْلِهِمْ: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا رَاضِينَ بِهِ فَقَطْ، بَلِ اشْتَهَوْا شَيْئًا آخَرَ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُمْ: لَنْ نَصْبِرَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ كَلِمَةَ لَنْ لِلنَّفْيِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ سَخِطُوا الْوَاقِعَ، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ قَدْ يَكُونُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْأَنْفَعِ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ يَكُونُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْأَنْفَعِ فِي الْآخِرَةِ، وَعَنِ الثَّالِثِ: بِقَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الشَّيْءَ قَدْ يُوصَفُ بِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ حَيْثُ كَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ حَاضِرًا مُتَيَقَّنًا وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَحْصُلُ عَفْوًا بِلَا كَدٍّ كَمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْحَاضِرِ، فَقَدْ يُقَالُ فِي الْغَائِبِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ: إِنَّهُ أَدْنَى مِنْ حَيْثُ لَا يُتَيَقَّنُ وَمِنْ حَيْثُ لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْكَدِّ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ هَذَا الْمَعْنَى أَوْ بَعْضُهُ فَثَبَتَ

بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ السُّؤَالَ مَا كَانَ مَعْصِيَةً بَلْ كَانَ سُؤَالًا مُبَاحًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِمَا تَقَدَّمَ بَلْ لِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَبَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا ضَرَبَ الذِّلَّةَ وَالْمَسْكَنَةَ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَهُمْ مَحَلَّ الْغَضَبِ وَالْعِقَابِ مِنْ حَيْثُ كَانُوا يَكْفُرُونَ لَا لِأَنَّهُمْ سَأَلُوا ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ وَاحِدٌ فِي النَّوْعِ بل أنه واحد في لنهج وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: إِنَّ طَعَامَ فُلَانٍ عَلَى مَائِدَتِهِ طَعَامٌ وَاحِدٌ إِذَا كَانَ لَا يَتَغَيَّرُ عَنْ نَهْجِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ: وَقِثَّائِها بِكَسْرِ الْقَافِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَقُثَّائِهَا بِضَمِّ الْقَافِ وَالْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ: وَفُومِها بِالْفَاءِ وَعَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَثُومِهَا وَهِيَ قِرَاءَةُ/ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالُوا: وَهَذَا أَوْفَقُ لِذِكْرِ الْبَصَلِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْفُومِ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْحِنْطَةُ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْفُومَ هُوَ الْخُبْزُ وَهُوَ أَيْضًا الْمَرْوِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَابْنِ زَيْدٍ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ: فَوِّمُوا لَنَا أَيِ اخْبِزُوا لَنَا وَقِيلَ هُوَ الثُّومُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَاخْتِيَارُ الْكِسَائِيِّ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَثُومِهَا. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ لَوْ كَانَ هُوَ الْحِنْطَةَ لَمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ أَشْرَفُ الْأَطْعِمَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الثُّومَ أَوْفَقُ لِلْعَدَسِ وَالْبَصَلِ مِنَ الْحِنْطَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ: أَتَسْتَبْدِلُونَ وَفِي حَرْفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: (أَتُبْدِلُونَ) بِإِسْكَانِ الْبَاءِ وَعَنْ زُهَيْرٍ الْفُرْقُبِيِّ: (أَدْنَأُ) بِالْهَمْزَةِ مِنَ الدَّنَاءَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْأَدْنَى وَضَبْطُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ المراد إما أن يكون أَدْنَى فِي الْمَصْلَحَةِ فِي الدِّينِ أَوْ فِي الْمَنْفَعَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُ غَيْرُ مُرَادٍ لِأَنَّ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ لَوْ كَانَ أَنْفَعَ فِي بَابِ الدِّينِ مِنَ الَّذِي طَلَبُوهُ لَمَا جَازَ أَنْ يُجِيبَهُمْ إِلَيْهِ، لَكِنَّهُ قَدْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ، فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَنْفَعَةَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الطَّعَامَ الَّذِي يَكُونُ أَلَذَّ الْأَطْعِمَةِ عِنْدَ قَوْمٍ قَدْ يَكُونُ أَخَسَّهَا عِنْدَ آخَرِينَ، بَلِ الْمُرَادُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى مُتَيَقَّنُ الْحُصُولِ وَمَا يَطْلُبُونَهُ مَشْكُوكُ الْحُصُولِ وَالْمُتَيَقَّنُ خَيْرٌ مِنَ الْمَشْكُوكِ أَوْ لِأَنَّ هَذَا يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ كَدٍّ وَلَا تَعَبٍ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْكَدِّ وَالتَّعَبِ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: كَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا هَذَا الَّذِي يَحْصُلُ عَفْوًا صَفْوًا لَمَّا كَرِهْنَاهُ بِطِبَاعِنَا كَانَ تَنَاوُلُهُ أَشَقَّ مِنَ الَّذِي لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْكَدِّ إِذَا اشْتَهَتْهُ طِبَاعُنَا. قُلْنَا: هَبْ أَنَّهُ وَقَعَ التَّعَارُضُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَكِنَّهُ وَقَعَ الترجيح بما أن الحاضر المتيقن راجع عَلَى الْغَائِبِ الْمَشْكُوكِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ: اهْبِطُوا بِكَسْرِ الْبَاءِ وَقُرِئَ بِضَمِّ الْبَاءِ، الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ: مِصْراً بِالتَّنْوِينِ وَإِنَّمَا صَرَفَهُ مَعَ اجْتِمَاعِ السَّبَبَيْنِ فِيهِ وَهُمَا التَّعْرِيفُ وَالتَّأْنِيثُ لِسُكُونِ وَسَطِهِ كقوله: وَنُوحاً هَدَيْنا ... وَلُوطاً [الْأَنْعَامِ: 84، 86] وَفِيهِمَا الْعُجْمَةُ وَالتَّعْرِيفُ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْبَلَدُ، فَمَا فِيهِ إِلَّا سَبَبٌ وَاحِدٌ، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَقَرَأَ بِهِ الْأَعْمَشُ: اهبطوا مصر بغير تنوين كقوله: ادْخُلُوا مِصْرَ وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ: اهْبِطُوا مِصْراً رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ تَرْكُ التَّنْوِينِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْأَلِفُ فِي مِصْرًا زِيَادَةٌ مِنَ الْكَاتِبِ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ مَعْرِفَةً فَيَجِبُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَصُّ بِهَذَا الِاسْمِ وَهُوَ الْبَلَدُ الَّذِي كَانَ فِيهِ فِرْعَوْنُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ، وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا بِالتَّنْوِينِ وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا، فمنهم من

قَالَ: الْمُرَادُ الْبَلَدُ الَّذِي كَانَ فِيهِ فِرْعَوْنُ وَدُخُولُ التَّنْوِينِ فِيهِ كَدُخُولِهِ فِي نُوحٍ وَلُوطٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ الْأَمْرُ بِدُخُولِ أَيِّ بَلَدٍ كَانَ كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمُ ادْخُلُوا بَلَدًا أَيَّ بلد كان لتجدوا في هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُفَسِّرُونَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ مِصْرَ هُوَ الْبَلَدُ الَّذِي كَانُوا فِيهِ أَوَّلًا أَوْ بَلَدٌ آخَرُ، فَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: لَا يَجُوزُ/ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْبَلَدَ الَّذِي كَانُوا فِيهِ مَعَ فِرْعَوْنَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ [الْمَائِدَةِ: 21] وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ إِيجَابٌ لِدُخُولِ تِلْكَ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ دُخُولِ أَرْضٍ أُخْرَى. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: كَتَبَ اللَّهُ يَقْتَضِي دَوَامَ كَوْنِهِمْ فِيهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ صَرِيحٌ فِي الْمَنْعِ مِنَ الرُّجُوعِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَمَرَ بِدُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ قَالَ: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ [الْمَائِدَةِ: 26] فَإِذَا تَقَدَّمَ هَذَا الْأَمْرُ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ دُخُولِهَا هَذِهِ الْمُدَّةَ فَعِنْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُمْ دُخُولُهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ مِصْرَ سِوَاهَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْوُجُوهُ ضَعِيفَةٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ أَمْرٌ وَالْأَمْرُ لِلنَّدْبِ فَلَعَلَّهُمْ نُدِبُوا إِلَى دُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ مَعَ أَنَّهُمْ مَا مُنِعُوا مِنْ دُخُولِ مِصْرَ، أَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ كَقَوْلِهِ: كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى دَوَامِ تِلْكَ النَّدْبِيَّةِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَعْنَاهُ وَلَا تَرْجِعُوا إِلَى مِصْرَ بَلْ فِيهِ وَجْهَانِ آخَرَانِ. الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ لَا تَعْصُوا فِيمَا أُمِرْتُمْ بِهِ إِذِ الْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ عَصَى فِيمَا يُؤْمَرُ بِهِ: ارْتَدَّ عَلَى عَقِبِهِ. وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْعِصْيَانِ أَنْ يُنْكِرَ أَنْ يَكُونَ دُخُولُ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنْ يُخَصَّصَ ذَلِكَ النَّهْيُ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَقَطْ. قُلْنَا: ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ فَيَتِمُّ دَلِيلُنَا بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّهُ لِلنَّدْبِ وَلَكِنَّ الْإِذْنَ فِي تَرْكِهِ يَكُونُ إِذْنًا فِي تَرْكِ الْمَنْدُوبِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ. قَوْلُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَرْتَدُّوا لَا تَرْجِعُوا. قُلْنَا: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِدُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، ثُمَّ قَالَ بعده: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ تَبَادَرَ إِلَى الْفَهْمِ أَنَّ هَذَا النَّهْيَ يَرْجِعُ إِلَى مَا تَعَلَّقَ بِهِ ذَلِكَ الْأَمْرُ. قَوْلُهُ: أَنْ يُخَصَّصَ ذَلِكَ النَّهْيُ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، قُلْنَا: التَّخْصِيصُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، أَمَّا أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ فَإِنَّهُ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِصْرَ فِرْعَوْنَ واحتج عليه بوجهين. الْأَوَّلُ: أَنَّا إِنْ قَرَأْنَا: اهْبِطُوا مِصْرَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ كَانَ لَا مَحَالَةَ عَلَمًا لِبَلَدٍ مُعَيَّنٍ وَلَيْسَ فِي الْعَالَمِ بَلْدَةٌ مُلَقَّبَةٌ بِهَذَا اللَّقَبِ سِوَى هَذِهِ الْبَلْدَةِ الْمُعَيَّنَةِ فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ اللَّفْظَ إِذَا دَارَ بَيْنَ كَوْنِهِ عَلَمًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ صِفَةً فَحَمْلُهُ عَلَى الْعَلَمِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الصِّفَةِ مِثْلَ ظَالِمٍ وَحَادِثٍ، فَإِنَّهُمَا لَمَّا جَاءَا عَلَمَيْنِ كَانَ حَمْلُهُمَا عَلَى الْعَلَمِيَّةِ أَوْلَى. أَمَّا إِنْ قَرَأْنَاهُ بِالتَّنْوِينِ فَإِمَّا أَنْ نَجْعَلَهُ مَعَ ذَلِكَ اسْمَ عَلَمٍ وَنَقُولَ: إِنَّهُ إِنَّمَا دَخَلَ فِيهِ التَّنْوِينُ لِسُكُونِ وَسَطِهِ كَمَا فِي نُوحٍ وَلُوطٍ فَيَكُونُ التَّقْرِيرُ أَيْضًا مَا تَقَدَّمَ بِعَيْنِهِ، وَأَمَّا إِنْ جَعَلْنَاهُ اسْمَ جِنْسٍ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: اهْبِطُوا مِصْراً يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ كَمَا إِذَا قَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً فَإِنَّهُ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ بَيْنَ جَمِيعِ رِقَابِ الدُّنْيَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَّثَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرْضَ مِصْرَ وَإِذَا كَانَتْ مَوْرُوثَةً لَهُمُ امْتَنَعَ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَيْهِمْ دُخُولَهَا بَيَانُ أَنَّهَا مَوْرُوثَةٌ لَهُمْ، قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ إِلَى قَوْلِهِ: كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاءِ: 57- 59] وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهَا مَوْرُوثَةٌ لَهُمْ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونُوا مَمْنُوعِينَ مِنْ دُخُولِهَا/ لِأَنَّ الْإِرْثَ يُفِيدُ الْمِلْكَ وَالْمِلْكُ مُطْلَقٌ لِلتَّصَرُّفِ. فَإِنْ قِيلَ: الرَّجُلُ قَدْ يَكُونُ مَالِكًا لِلدَّارِ وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا عَنْ دُخُولِهَا بِوَجْهٍ آخَرَ، كَحَالِ مَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ دَارَهُ وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ لَكِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ دُخُولُهَا، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَرَّثَهُمْ مِصْرَ بِمَعْنَى الْوِلَايَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا، ثُمَّ

إِنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ دُخُولَهَا مِنْ حَيْثُ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْكُنُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ بِقَوْلِهِ: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ قُلْنَا الْأَصْلُ أَنَّ الْمِلْكَ مُطْلَقٌ لِلتَّصَرُّفِ وَالْمَنْعُ مِنَ التَّصَرُّفِ خِلَافُ الدَّلِيلِ، أَجَابَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ عَنْ هَاتَيْنِ الْحُجَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرَهُمَا أَبُو مُسْلِمٍ فَقَالُوا: أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّا نَتَمَسَّكُ بِالْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ وَهِيَ الَّتِي فِيهَا التَّنْوِينُ. قَوْلُهُ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَقْتَضِي التَّخْيِيرَ، قُلْنَا: نَعَمْ لَكِنَّا نُخَصِّصُ الْعُمُومَ فِي حَقِّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الْمُعَيَّنَةِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ. أَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّا لَا نُنَازِعُ فِي أَنَّ الْمِلْكَ مُطْلَقٌ لِلتَّصَرُّفِ وَلَكِنْ قَدْ يُتْرَكُ هَذَا الْأَصْلُ لِعَارِضٍ كَالْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ، فَنَحْنُ تَرْكَنَا هَذَا الْأَصْلَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلَالَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ فَالْمَعْنَى جُعِلَتِ الذِّلَّةُ مُحِيطَةً بِهِمْ حَتَّى مُشْتَمِلَةً عَلَيْهِمْ فَهُمْ فِيهَا كَمَنْ يَكُونُ فِي الْقُبَّةِ الْمَضْرُوبَةِ أَوْ أُلْصِقَتْ بِهِمْ حَتَّى لَزِمَتْهُمْ ضَرْبَةُ لَازِمٍ كَمَا يُضْرَبُ الطِّينُ عَلَى الْحَائِطِ فَيَلْزَمُهُ وَالْأَقْرَبُ فِي الذِّلَّةِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا مَا يَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِحْقَاقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَنْ يُحَارِبُ وَيُفْسِدُ: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا فَأَمَّا مَنْ يَقُولُ الْمُرَادُ بِهِ الْجِزْيَةُ خَاصَّةً على ما قَالَ: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التَّوْبَةِ: 29] فَقَوْلُهُ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ مَا كَانَتْ مَضْرُوبَةً عَلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمَسْكَنَةُ فَالْمُرَادُ بِهِ الْفَقْرُ وَالْفَاقَةُ وَتَشْدِيدُ الْمِحْنَةِ، فَهَذَا الْجِنْسُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَالْعُقُوبَةِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ عَدَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُعْجِزَاتِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَ عَنْ ضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ عَلَيْهِمْ وَوَقَعَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَانَ هَذَا إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا. أَمَّا قوله تعالى: وَباؤُ ففيه وجوه. أحدها: البوء الرجوع، فقوله: باؤُ أَيْ رَجَعُوا وَانْصَرَفُوا بِذَلِكَ وَلَا يُقَالُ بَاءَ إلا بشر. وثانيها: البوء التسوية. فقوله: باؤُ أي استوى عليهم غضب الله. قال الزجاج. وثالثها: باؤ أَيِ اسْتَحَقُّوا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [الْمَائِدَةِ: 29] أَيْ تَسْتَحِقُّ الْإِثْمَيْنِ جَمِيعًا. وَأَمَّا غَضَبُ اللَّهِ فَهُوَ إِرَادَةُ الِانْتِقَامِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ فَهُوَ عِلَّةٌ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ ضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ عَلَيْهِمْ وَإِلْحَاقِ الْغَضَبِ بِهِمْ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَوْ كَانَ الْكُفْرُ حَصَلَ فِيهِمْ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا حَصَلَتِ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ فِيهِمْ بِخَلْقِهِ لَمَا كَانَ جَعْلُ أحدهما جزاء الثاني أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، وَجَوَابُهُ الْمُعَارَضَةُ بِالْعِلْمِ وَالدَّاعِي، وَأَمَّا حَقِيقَةُ الْكُفْرِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ مَا تَقَدَّمَ لِأَجْلِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ أَيْضًا وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَكْفُرُونَ دَخَلَ تَحْتَهُ قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ فَلِمَ أَعَادَ ذِكْرَهُ مَرَّةً أُخْرَى؟ الْجَوَابُ: الْمَذْكُورُ هَاهُنَا الْكُفْرُ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْجَهْلُ وَالْجَحْدُ بِآيَاتِهِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ: بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؟ الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْبَاطِلِ قَدْ يَكُونُ حَقًّا لِأَنَّ الْآتِيَ بِهِ اعْتَقَدَهُ حَقًّا لِشُبْهَةٍ وَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ وَقَدْ يَأْتِي بِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِكَوْنِهِ بَاطِلًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الثَّانِيَ أَقْبَحُ فَقَوْلُهُ: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ أَيْ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ كان

[سورة البقرة (2) : آية 62]

ذَلِكَ الْقَتْلُ حَقًّا فِي اعْتِقَادِهِمْ وَخَيَالِهِمْ بَلْ كَانُوا عَالِمِينَ بِقُبْحِهِ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ فَعَلُوهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا التَّكْرِيرَ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ [الْمُؤْمِنُونَ: 117] وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لِمُدَّعِي الْإِلَهِ الثَّانِي بُرْهَانٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ ذَمَّهُمْ عَلَى مُجَرَّدِ الْقَتْلِ لَقَالُوا: أَلَيْسَ أَنَّ اللَّهَ يَقْتُلُهُمْ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: الْقَتْلُ الصَّادِرُ مِنَ اللَّهِ قَتْلٌ بِحَقٍّ وَمِنْ غَيْرِ اللَّهِ قَتْلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِما عَصَوْا فَهُوَ تَأْكِيدٌ بِتَكْرِيرِ الشَّيْءِ بِغَيْرِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ وَقَدِ احْتَمَلَ مِنْهُ ذُنُوبًا سَلَفَتْ مِنْهُ فَعَاقَبَهُ عِنْدَ آخِرِهَا: هَذَا بِمَا عَصَيْتَنِي وَخَالَفْتَ أَمْرِي، هَذَا بِمَا تَجَرَّأْتَ علي واغتررت بحلمي، هذا بِكَذَا فَيُعِدُّ عَلَيْهِ ذُنُوبَهُ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ تَبْكِيتًا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانُوا يَعْتَدُونَ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الظُّلْمُ: أَيْ تَجَاوَزُوا الْحَقَّ إِلَى الْبَاطِلِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ إِنْزَالَ الْعُقُوبَةِ بِهِمْ بَيَّنَ عِلَّةَ ذَلِكَ فَبَدَأَ أَوَّلًا بِمَا فَعَلُوهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ جَهْلُهُمْ بِهِ وَجَحْدُهُمْ لِنِعَمِهِ ثُمَّ ثَنَّاهُ بِمَا يَتْلُوهُ فِي الْعِظَمِ وَهُوَ قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ ثَلَّثَهُ بِمَا يَكُونُ مِنْهُمْ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تَخُصُّهُمْ ثُمَّ رَبَّعَ بِمَا يَكُونُ مِنْهُمْ مِنَ الْمَعَاصِي الْمُتَعَدِّيَةِ إِلَى الْغَيْرِ مِثْلَ الِاعْتِدَاءِ وَالظُّلْمِ، وَذَلِكَ فِي نِهَايَةِ حُسْنِ التَّرْتِيبِ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ هَاهُنَا: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَكَرَ الْحَقَّ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ مَعْرِفَةً، وَقَالَ فِي آلِ عِمْرَانَ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آلِ عِمْرَانَ: 21 نَكِرَةً، وَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ لَيْسُوا سَواءً [آلِ عِمْرَانَ: 112، 113] فَمَا الْفَرْقُ؟ الْجَوَابُ: الْحَقُّ الْمَعْلُومُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي يُوجِبُ الْقَتْلَ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى مَعَانٍ ثَلَاثٍ، «كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ وَزِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» ، فَالْحَقُّ الْمَذْكُورُ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا وَأَمَّا الْحَقُّ الْمُنْكَرُ فَالْمُرَادُ بِهِ تَأْكِيدُ الْعُمُومِ أَيْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَقٌّ لَا هَذَا الَّذِي يَعْرِفُهُ المسلمون ولا غيره ألبتة. [سورة البقرة (2) : آية 62] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) اعْلَمْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الْمَشْهُورَةَ: هادُوا بِضَمِّ الدَّالِ وَعَنِ الضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ بِفَتْحِ الدَّالِّ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ وَالْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ الصَّابِئِينَ وَالصَّابِئُونَ بِالْهَمْزَةِ فِيهِمَا حَيْثُ كَانَا وَعَنْ نَافِعٍ وَشَيْبَةَ وَالزَّهْرِيِّ وَالصَّابِّينَ بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَالصَّابُونَ بِبَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَعَنِ الْعُمَرِيِّ يجعل الْهَمْزَةِ فِيهِمَا، وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ بِيَاءَيْنِ خَالِصَتَيْنِ فَهُمَا بَدَلُ الْهَمْزَةِ، فَأَمَّا تَرْكُ الْهَمْزَةِ فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ صَبَا يَصْبُو إِذَا مَالَ إِلَى الشَّيْءِ فَأَحَبَّهُ، وَالْآخَرُ: قَلْبُ الْهَمْزَةِ فَنَقُولُ: الصَّابِيِينَ وَالصَّابِيُونَ وَالِاخْتِيَارُ الْهَمْزُ لِأَنَّهُ قِرَاءَةُ الْأَكْثَرِ وَإِلَى مَعْنَى التَّفْسِيرِ أَقْرَبُ لِأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَالُوا: هُوَ الْخَارِجُ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ عَادَةَ اللَّهِ إِذَا ذَكَرَ وَعَدًا أَوْ وَعِيدًا عَقَّبَهُ بِمَا يُضَادُّهُ ليكون الكلام تاماً فههنا لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الْكَفَرَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ أَخْبَرَ بِمَا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ وَالثَّوَابِ الْكَرِيمِ دَالًّا عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ والمسيء بإساءته كما قال: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النَّجْمِ: 31] فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ مِنْهُ، وَسَبَبُ هَذَا الِاخْتِلَافِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا غَيْرَ الْمُرَادِ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَنَظِيرُهُ فِي الْإِشْكَالِ قَوْلُهُ تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النِّسَاءِ: 136]

فَلِأَجْلِ هَذَا الْإِشْكَالِ ذَكَرُوا وُجُوهًا، أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. الْمُرَادُ الَّذِينَ آمَنُوا قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ بِعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مَعَ الْبَرَاءَةِ عَنْ أَبَاطِيلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِثْلَ قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ، وَبَحِيرَى الرَّاهِبِ وَحَبِيبٍ النَّجَّارِ وَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَأَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ وَوَفْدِ النَّجَاشِيِّ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ وَالَّذِينَ كَانُوا عَلَى الدِّينِ الْبَاطِلِ الَّذِي لِلْيَهُودِ وَالَّذِينَ كَانُوا عَلَى الدِّينِ الْبَاطِلِ الَّذِي لِلنَّصَارَى كُلُّ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِمُحَمَّدٍ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ طَرِيقَةَ الْمُنَافِقِينَ ثُمَّ طَرِيقَةَ الْيَهُودِ، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا هُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، فَذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ ثُمَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُبْطِلُونَ كُلُّ مَنْ أَتَى مِنْهُمْ بِالْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ صَارَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَقِيقَةِ وَهُوَ عَائِدٌ إِلَى/ الْمَاضِي، ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ يَقْتَضِي الْمُسْتَقْبَلَ فَالْمُرَادُ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْمَاضِي وَثَبَتُوا عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُتَكَلِّمِينَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هادُوا فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِقَاقِهِ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: إِنَّمَا سُمُّوا بِهِ حِينَ تَابُوا مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَقَالُوا: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الْأَعْرَافِ: 156] أَيْ تُبْنَا وَرَجَعْنَا، وَهُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَثَانِيهَا: سُمُّوا بِهِ لِأَنَّهُمْ نُسِبُوا إِلَى يَهُوذَا أَكْبَرِ وَلَدِ يَعْقُوبَ وَإِنَّمَا قَالَتِ الْعَرَبُ بِالدَّالِ لِلتَّعْرِيبِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ إِذَا نَقَلُوا أَسْمَاءً مِنَ الْعَجَمِيَّةِ إِلَى لُغَتِهِمْ غَيَّرُوا بَعْضَ حُرُوفِهَا. وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَتَهَوَّدُونَ أَيْ يَتَحَرَّكُونَ عِنْدَ قِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَفِي اشْتِقَاقِ هَذَا الِاسْمِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَرْيَةَ الَّتِي كَانَ يَنْزِلُهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تُسَمَّى نَاصِرَةَ فَنُسِبُوا إِلَيْهَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَثَانِيهَا: لِتَنَاصُرِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ أَيْ لِنُصْرَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَثَالِثُهَا: لِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: النَّصَارَى جَمْعُ نَصْرَانَ يُقَالُ رَجُلٌ نَصْرَانُ، وَامْرَأَةٌ نَصْرَانَةٌ وَالْيَاءُ فِي نَصْرَانِيٍّ لِلْمُبَالَغَةِ كَالَّتِي فِي أَحَمَرِيٍّ لِأَنَّهُمْ نَصَرُوا الْمَسِيحَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالصَّابِئِينَ فَهُوَ مِنْ صَبَأَ إِذَا خَرَجَ مِنْ دِينِهِ إِلَى دِينٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ كَانَتِ الْعَرَبُ يُسَمُّونَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَابِئًا لِأَنَّهُ أَظْهَرَ دِينًا بِخِلَافِ أَدْيَانِهِمْ وَصَبَأَتِ النُّجُومُ إِذَا أُخْرِجَتْ مِنْ مَطْلَعِهَا. وَصَبَأْنَا بِهِ إِذَا خَرَجْنَا بِهِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ مَذْهَبِهِمْ أَقْوَالٌ، أَحَدُهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: هُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَجُوسِ وَالْيَهُودِ لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ، وَثَانِيهَا: قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَيُصَلُّونَ إِلَى الشَّمْسِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ صَلَوَاتٍ. وَقَالَ أَيْضًا: الْأَدْيَانُ خَمْسَةٌ مِنْهَا لِلشَّيْطَانِ أَرْبَعَةٌ وَوَاحِدٌ لِلرَّحْمَنِ: الصَّابِئُونَ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَالْمَجُوسُ وَهُمْ يَعْبُدُونَ النَّارَ، وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَثَالِثُهَا: وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنَّهُمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، ثُمَّ لَهُمْ قَوْلَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِتَعْظِيمِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ وَاتِّخَاذِهَا قِبْلَةً لِلصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّعْظِيمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ، ثُمَّ إِنَّ الْكَوَاكِبَ هِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِمَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَالْخَالِقَةُ لَهَا فَيَجِبُ عَلَى الْبَشَرِ تَعْظِيمُهَا لِأَنَّهَا هِيَ الْآلِهَةُ الْمُدَبِّرَةُ لِهَذَا الْعَالَمِ ثُمَّ إِنَّهَا تَعْبُدُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الْقَوْلُ الْمَنْسُوبُ إِلَى الْكِلْدَانِيِّينَ الَّذِينَ جَاءَهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَادًّا عَلَيْهِمْ وَمُبْطِلًا لِقَوْلِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ فِي

[سورة البقرة (2) : الآيات 63 إلى 64]

هَذِهِ الْفِرَقِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُمْ إِذَا آمَنُوا بِاللَّهِ فَلَهُمُ الثَّوَابُ فِي الْآخِرَةِ لِيَعْرِفَ أَنَّ جَمِيعَ أَرْبَابِ الضَّلَالِ إِذَا رَجَعُوا عَنْ ضَلَالِهِمْ وَآمَنُوا بِالدِّينِ الْحَقِّ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقْبَلُ إِيمَانَهُمْ وَطَاعَتَهُمْ وَلَا يَرُدُّهُمْ عَنْ حَضْرَتِهِ الْبَتَّةَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ الْإِيمَانُ بِمَا أَوْجَبَهُ، أَعْنِي الْإِيمَانَ بِرُسُلِهِ وَدَخَلَ فِي الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ جَمِيعُ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ، فَهَذَانِ الْقَوْلَانِ قَدْ جَمَعَا كُلَّ مَا يَتَّصِلُ بِالْأَدْيَانِ فِي حَالِ التَّكْلِيفِ وَفِي حَالِ الْآخِرَةِ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: عِنْدَ رَبِّهِمْ فَلَيْسَ الْمُرَادُ الْعِنْدِيَّةَ الْمَكَانِيَّةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا/ الْحِفْظَ كَالْوَدَائِعِ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ أَجْرَهُمْ مُتَيَقَّنٌ جَارٍ مَجْرَى الْحَاصِلِ عِنْدَ رَبِّهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فَقِيلَ: أَرَادَ زَوَالَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْآخِرَةِ فِي حَالِ الثَّوَابِ، وَهَذَا أَصَحُّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ عَامٌّ فِي النَّفْيِ، وَكَذَلِكَ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا تَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا وَخُصُوصًا فِي الْمُكَلَّفِينَ لِأَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ لَا يَنْفَكُّونَ مِنْ خَوْفٍ وَحُزْنٍ، إِمَّا فِي أَسْبَابِ الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَعَدَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِالْأَجْرِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مِنْ صِفَةِ ذَلِكَ الْأَجْرِ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ نَعِيمُهُمْ دَائِمًا لِأَنَّهُمْ لَوْ جَوَّزُوا كَوْنَهُ مُنْقَطِعًا لَاعْتَرَاهُمُ الْحُزْنُ الْعَظِيمُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أن الله تعالى ذكر هذه الآية في سُورَةِ الْمَائِدَةِ هَكَذَا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الْمَائِدَةِ: 69] وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [الْحَجِّ: 17] فَهَلْ فِي اخْتِلَافِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِتَقْدِيمِ الصُّنُوفِ وَتَأْخِيرِهَا وَرَفْعِ «الصَّابِئِينَ» فِي آيَةٍ وَنَصْبِهَا فِي أُخْرَى فَائِدَةٌ تَقْتَضِي ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ: لَمَّا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ أَحْكَمَ الْحَاكِمِينَ فَلَا بُدَّ لِهَذِهِ التَّغْيِيرَاتِ مِنْ حِكَمٍ وَفَوَائِدَ، فَإِنْ أَدْرَكْنَا تِلْكَ الْحِكَمَ فَقَدْ فُزْنَا بِالْكَمَالِ وَإِنْ عَجَزْنَا أَحَلْنَا الْقُصُورَ عَلَى عُقُولِنَا لَا عَلَى كَلَامِ الْحَكِيمِ والله أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 63 الى 64] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِنْعَامُ الْعَاشِرُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ لِمَصْلَحَتِهِمْ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ: أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمِيثَاقَ إِنَّمَا يَكُونُ بِفِعْلِ الْأُمُورِ الَّتِي تُوجِبُ الِانْقِيَادَ وَالطَّاعَةَ، وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْمِيثَاقِ وُجُوهًا، أَحَدُهَا: مَا أَوْدَعَ اللَّهُ الْعُقُولَ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَحِكْمَتِهِ وَالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَوَاثِيقِ أَقْوَى الْمَوَاثِيقِ/ وَالْعُهُودِ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الْخُلْفَ وَالتَّبْدِيلَ بِوَجْهٍ الْبَتَّةَ وَهُوَ قول الأصم، وثانيها: مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَجَعَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ بِالْأَلْوَاحِ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ فِيهَا كِتَابَ اللَّهِ فَقَالُوا: لَنْ نَأْخُذَ بِقَوْلِكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَيَقُولُ: هَذَا كِتَابِي فَخُذُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فَمَاتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ: خُذُوا كِتَابَ اللَّهِ فَأَبَوْا فَرُفِعَ فَوْقَهُمُ الطُّورُ وَقِيلَ لَهُمْ: خُذُوا الْكِتَابَ وَإِلَّا طَرَحْنَاهُ عَلَيْكُمْ، فَأَخَذُوهُ فَرَفْعُ الطُّورِ هُوَ الْمِيثَاقُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ رَفْعَ الطُّورِ آيَةٌ بَاهِرَةٌ عَجِيبَةٌ

تُبْهِرُ الْعُقُولَ وَتَرُدُّ الْمُكَذِّبَ إِلَى التَّصْدِيقِ وَالشَّاكَّ إِلَى الْيَقِينِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ وَعَرَفُوا أَنَّهُ مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى عِلْمًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِلْمًا مُضَافًا إِلَى سَائِرِ الْآيَاتِ أَقَرُّوا لَهُ بِالصِّدْقِ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَأَظْهَرُوا التَّوْبَةَ وَأَعْطَوُا الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا يَعُودُوا إِلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَأَنْ يَقُومُوا بِالتَّوْرَاةِ فَكَانَ هَذَا عَهْدًا مُوَثَّقًا جَعَلُوهُ لِلَّهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ لِلَّهِ مِيثَاقَيْنِ، فَالْأَوَّلُ: حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَلْزَمَ النَّاسَ مُتَابَعَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرَادُ هَاهُنَا هُوَ هَذَا الْعَهْدُ. هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. الثَّانِي: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا قَالَ: (مِيثَاقَكُمْ) وَلَمْ يَقُلْ مَوَاثِيقَكُمْ لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَرَادَ بِهِ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْ أَخَذَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غَافِرٍ: 67] أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ شَيْئًا وَاحِدًا أُخِذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَا أُخِذَ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا جَرَمَ كَانَ كُلُّهُ مِيثَاقًا وَاحِدًا وَلَوْ قِيلَ مَوَاثِيقُكُمْ لَأَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَوَاثِيقُ أُخِذَتْ عَلَيْهِمْ لَا مِيثَاقٌ وَاحِدٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ فَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [الْأَعْرَافِ: 171] وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَفَعْنا وَاوُ عَطْفٍ عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ كَانَ مُتَقَدِّمًا فَلَمَّا نَقَضُوهُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ قَبُولِ الْكِتَابِ رُفِعَ عَلَيْهِمُ الْجَبَلُ، وَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِ أَبِي مُسْلِمٍ فَلَيْسَتْ وَاوَ عَطْفٍ وَلَكِنَّهَا وَاوُ الْحَالِ كَمَا يُقَالُ: فَعَلْتُ ذَلِكَ وَالزَّمَانُ زَمَانٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ عِنْدَ رَفْعِنَا الطُّورَ فَوْقَكُمْ. الثَّانِي: قِيلَ: إِنَّ الطُّورَ كُلُّ جَبَلٍ قَالَ الْعَجَّاجُ: دَانَى جَنَاحَيْهِ مِنَ الطُّورِ فَمَرْ ... تَقَضِّيَ الْبَازِي إِذَا الْبَازِي كَسَرْ أَمَّا الْخَلِيلُ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: إِنَّ الطُّورَ اسم جبل معلوم وهذا هو الأقرب لِأَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ فِيهِ تَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى جَبَلٍ مَعْهُودٍ عُرِفَ كَوْنُهُ مُسَمًّى بِهَذَا الِاسْمِ، وَالْمَعْهُودُ هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي وَقَعَتِ الْمُنَاجَاةُ عَلَيْهِ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْقُلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى حَيْثُ هُمْ فَيَجْعَلَهُ فَوْقَهُمْ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنْهُمْ لِأَنَّ الْقَادِرَ أَنْ يُسْكِنَ الْجَبَلَ فِي الْهَوَاءِ قَادِرٌ أَيْضًا عَلَى أَنْ يَقْلَعَهُ وَيَنْقُلَهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَكَانِ الْبَعِيدِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَ تَعَالَى جَبَلًا مِنْ جِبَالِ فِلَسْطِينَ فَانْقَلَعَ مِنْ أَصْلِهِ حَتَّى قَامَ فَوْقَهُمْ كَالظُّلَّةِ وَكَانَ الْمُعَسْكَرُ فَرْسَخًا فِي فَرْسَخٍ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَنِ اقْبَلُوا التَّوْرَاةَ وَإِلَّا رَمَيْتُ الْجَبَلَ عَلَيْكُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنْ لَا مَهْرَبَ قَبِلُوا التَّوْرَاةَ بِمَا فِيهَا وَسَجَدُوا لِلْفَزَعِ سُجُودًا يُلَاحِظُونَ الْجَبَلَ، فَلِذَلِكَ سَجَدَتِ الْيَهُودُ عَلَى أَنْصَافِ وُجُوهِهِمْ. الثَّالِثُ: مِنَ الْمَلَاحِدَةِ مَنْ أَنْكَرَ إِمْكَانَ وُقُوفِ الثَّقِيلِ فِي الْهَوَاءِ بِلَا عِمَادٍ وَأَمَّا الْأَرْضُ فَقَالُوا إِنَّمَا وَقَفَتْ لِأَنَّهَا بِطَبْعِهَا طَالِبَةٌ لِلْمَرْكَزِ فَلَا جَرَمَ وَقَفَتْ فِي الْمَرْكَزِ، وَدَلِيلُنَا عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ وَوُقُوفُ الثَّقِيلِ فِي الْهَوَاءِ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَادِرًا عَلَيْهِ وَتَمَامُ تَقْرِيرِ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ مَعْلُومٌ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ. الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِظْلَالُ الْجَبَلِ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ وَقَعَ لَكَانَ يَجْرِي مَجْرَى الْإِلْجَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ وَهُوَ يُنَافِي التَّكْلِيفَ. أَجَابَ الْقَاضِي بِأَنَّهُ لَا يُلْجِئُ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ خَوْفُ السُّقُوطُ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا اسْتَمَرَّ فِي مَكَانِهِ مدة وقد شاهدوا السموات مَرْفُوعَةً فَوْقَهُمْ بِلَا عِمَادٍ جَازَ هَاهُنَا أَنْ يَزُولَ عَنْهُمُ الْخَوْفُ فَيَزُولَ الْإِلْجَاءُ وَيَبْقَى التَّكْلِيفُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أَيْ بِجِدٍّ وَعَزِيمَةٍ كَامِلَةٍ وَعُدُولٍ عَنِ التَّغَافُلِ وَالتَّكَاسُلِ، قَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَبْلَ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: خُذْ هَذَا بِقُوَّةٍ وَلَا قُوَّةَ حَاصِلَةٌ كما لا

يُقَالُ: اكْتُبْ بِالْقَلَمِ وَلَا قَلَمَ، وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْمُرَادَ: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِجِدٍّ وَعَزِيمَةٍ وَعِنْدَنَا الْعَزِيمَةُ قَدْ تَكُونُ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْفِعْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ أَيِ احْفَظُوا مَا فِي الْكِتَابِ وَادْرُسُوهُ وَلَا تَنْسُوهُ وَلَا تَغْفُلُوا عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا حَمَلْتُمُوهُ عَلَى نَفْسِ الذِّكْرِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الذِّكْرَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يَجُوزُ الْأَمْرُ بِهِ. فَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمُدَارَسَةِ فَلَا إِشْكَالَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيْ لِكَيْ تَتَّقُوا، وَاحْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ فِعْلَ الطَّاعَةِ مِنَ الْكُلِّ، وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَخْذًا لِلْمِيثَاقِ وَلَا صَحَّ قَوْلُهُ مِنْ بَعْدِ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى الْقَبُولِ وَالِالْتِزَامِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أَيْ ثُمَّ أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْمِيثَاقِ وَالْوَفَاءِ بِهِ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَدْ يُعْلَمُ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّهُمْ بَعْدَ قَبُولِ التَّوْرَاةِ وَرَفْعِ الطُّورِ تَوَلَّوْا عَنِ التَّوْرَاةِ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ، فَحَرَّفُوا التَّوْرَاةَ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهَا وَقَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ وَكَفَرُوا بِهِمْ وَعَصَوْا أَمْرَهُمْ وَلَعَلَّ فِيهَا مَا اخْتُصَّ بِهِ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ وَمِنْهَا مَا عَمِلَهُ أَوَائِلُهُمْ وَمِنْهَا مَا فَعَلَهُ مُتَأَخِّرُوهُمْ وَلَمْ يَزَالُوا فِي التِّيهِ مَعَ مُشَاهَدَتِهِمُ الْأَعَاجِيبَ لَيْلًا وَنَهَارًا يُخَالِفُونَ مُوسَى وَيَعْتَرِضُونَ عَلَيْهِ وَيُلْقُونَهُ بِكُلِّ أَذًى وَيُجَاهِرُونَ بِالْمَعَاصِي فِي مُعَسْكَرِهِمْ ذَلِكَ حَتَّى لَقَدْ خُسِفَ بِبَعْضِهِمْ وَأَحْرَقَتِ النَّارُ بَعْضَهُمْ وَعُوقِبُوا بِالطَّاعُونِ وَكُلُّ هَذَا مَذْكُورٌ فِي تَرَاجِمِ التَّوْرَاةِ الَّتِي يُقِرُّونَ بِهَا ثُمَّ فَعَلَ مُتَأَخِّرُوهُمْ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ حَتَّى عُوقِبُوا بِتَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَفَرُوا بِالْمَسِيحِ وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ. وَالْقُرْآنُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ بَيَانُ مَا تَوَلَّوْا بِهِ عَنِ التَّوْرَاةِ فَالْجُمْلَةُ مَعْرُوفَةٌ وَذَلِكَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عِنَادِ أَسْلَافِهِمْ فَغَيْرُ عَجِيبٍ إِنْكَارُهُمْ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ/ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْكِتَابِ وَجُحُودُهُمْ لِحَقِّهِ وَحَالُهُمْ فِي كِتَابِهِمْ وَنَبِيِّهِمْ مَا ذُكِرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: ذَكَرَ الْقَفَّالُ فِي تَفْسِيرِهِ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: لَوْلَا مَا تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ إِمْهَالِكُمْ وَتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْكُمْ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ أَيْ مِنَ الهالكين الذين باعوا أنفسهم نار جَهَنَّمَ، فَدَلَّ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا خَرَجُوا عَنْ هَذَا الْخُسْرَانِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالْإِمْهَالِ حَتَّى تَابُوا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ قَدِ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ثُمَّ قِيلَ: فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ رُجُوعًا بِالْكَلَامِ إِلَى أَوَّلِهِ، أَيْ لَوْلَا لُطْفُ اللَّهِ بِكُمْ برفع الجبل فوقكم لدمتم لي رَدِّكُمُ الْكِتَابَ وَلَكِنَّهُ تَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَرَحِمَكُمْ فَلَطَفَ بِكُمْ بِذَلِكَ حَتَّى تُبْتُمْ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ كَلِمَةُ فَلَوْلا تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِثُبُوتِ غَيْرِهِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ انْتِفَاءَ الْخُسْرَانِ مِنْ لَوَازِمِ حُصُولِ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَحَيْثُ حَصَلَ الْخُسْرَانُ وَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ هُنَاكَ لُطْفُ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَفْعَلْ بِالْكَافِرِ شَيْئًا مِنَ الْأَلْطَافِ الدِّينِيَّةِ وَذَلِكَ خِلَافُ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: أَجَابَ الْكَعْبِيُّ بِأَنَّهُ تَعَالَى سَوَّى بَيْنِ الْكُلِّ فِي الْفَضْلِ لَكِنِ انْتَفَعَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، فَصَحَّ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِرَجُلٍ

[سورة البقرة (2) : الآيات 65 إلى 66]

وَقَدْ سَوَّى بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطِيَّةِ فَانْتَفَعَ بَعْضُهُمْ: لَوْلَا أَنَّ أَبَاكَ فَضَّلَكَ لَكُنْتَ فَقِيرًا، وَهَذَا الْجَوَابُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ نَصُّوا عَلَى أَنَّ: «لَوْلَا» تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِثُبُوتِ غَيْرِهِ وَبَعْدَ ثُبُوتِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ فَكَلَامُ الْكَعْبِيِّ ساقط جداً. [سورة البقرة (2) : الآيات 65 الى 66] وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَدَّدَ وُجُوهَ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا خَتَمَ ذَلِكَ بِشَرْحِ بَعْضِ مَا وَجَّهَ إِلَيْهِمْ مِنَ التَّشْدِيدَاتِ، وَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ كَانُوا فِي زَمَانِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَيْلَةَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَهُوَ مَكَانٌ مِنَ الْبَحْرِ يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ الْحِيتَانُ مِنْ كُلِّ أَرْضٍ فِي شَهْرٍ مِنَ السَّنَةِ حَتَّى لَا يُرَى الْمَاءُ لِكَثْرَتِهَا وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ الشَّهْرِ فِي كُلِّ سَبْتٍ خَاصَّةً وَهِيَ الْقَرْيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قوله: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ [الْأَعْرَافِ: 163] فَحَفَرُوا حِيَاضًا عِنْدَ الْبَحْرِ وَشَرَّعُوا إِلَيْهَا الْجَدَاوِلَ فَكَانَتِ الْحِيتَانُ تَدْخُلُهَا فَيَصْطَادُونَهَا يَوْمَ الْأَحَدِ فَذَلِكَ الْحَبْسُ فِي الْحِيَاضِ هُوَ اعْتِدَاؤُهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَخَذُوا السَّمَكَ وَاسْتَغْنَوْا بِذَلِكَ وَهُمْ خَائِفُونَ مِنَ الْعُقُوبَةِ فَلَمَّا طَالَ/ الْعَهْدُ اسْتَسَنَّ الْأَبْنَاءُ بِسُنَّةِ الْآبَاءِ وَاتَّخَذُوا الْأَمْوَالَ فَمَشَى إِلَيْهِمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ كَرِهُوا الصَّيْدَ يَوْمَ السَّبْتِ وَنَهَوْهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا وَقَالُوا: نَحْنُ فِي هَذَا الْعَمَلِ مُنْذُ زَمَانٍ فَمَا زَادَنَا اللَّهُ بِهِ إِلَّا خَيْرًا، فَقِيلَ لَهُمْ: لَا تَغْتَرُّوا فَرُبَّمَا نَزَلَ بِكُمُ الْعَذَابُ وَالْهَلَاكُ فَأَصْبَحَ الْقَوْمُ وَهُمْ قِرَدَةٌ خَاسِئُونَ فَمَكَثُوا كَذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ هَلَكُوا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَمْرَانِ. الْأَوَّلُ: إِظْهَارُ مُعْجِزَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ كَالْخِطَابِ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَكْتُبْ وَلَمْ يُخَالِطِ الْقَوْمَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا عَرَفَهُ مِنَ الْوَحْيِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِمَا عَامَلَ بِهِ أَصْحَابَ السَّبْتِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ أَمَا تَخَافُونَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْكُمْ بِسَبَبِ تَمَرُّدِكُمْ مَا نَزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِالْإِمْهَالِ الْمَمْدُودِ لَكُمْ ونظيره قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها [النِّسَاءِ: 47] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْكَلَامُ فِيهِ حَذْفٌ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ اعْتِدَاءَ مَنِ اعْتَدَى مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ لِكَيْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ مِنَ الْعُقُوبَةِ جَزَاءً لِذَلِكَ، وَلَفْظُ الِاعْتِدَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي فَعَلُوهُ فِي السَّبْتِ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَكِنَّهُ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ إِنَّمَا تَعَدَّوْا في ذلك الاصطياد فقط، وأن يقال: إِنَّمَا تَعَدَّوْا لِأَنَّهُمُ اصْطَادُوا مَعَ أَنَّهُمُ اسْتَحَلُّوا ذَلِكَ الِاصْطِيَادَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: السَّبْتُ مَصْدَرُ سَبَتَتِ الْيَهُودُ إِذَا عَظَّمَتْ يَوْمَ السَّبْتِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ اللَّهُ نَهَاهُمْ عَنِ الِاصْطِيَادِ يَوْمَ السَّبْتِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ أَكْثَرَ الْحِيتَانِ يَوْمَ السَّبْتِ دُونَ سَائِرِ الْأَيَّامِ كَمَا قَالَ: تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ [الْأَعْرَافِ: 163] وَهَلْ هَذَا إِلَّا

إِثَارَةُ الْفِتْنَةِ وَإِرَادَةُ الْإِضْلَالِ. قُلْنَا: أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَإِرَادَةُ الْإِضْلَالِ جَائِزَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَالتَّشْدِيدُ فِي التَّكَالِيفِ حَسَنٌ لِغَرَضِ ازْدِيَادِ الثَّوَابِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: (قِرَدَةً خاسِئِينَ) خَبَرٌ: أَيْ كُونُوا جَامِعِينَ بَيْنَ الْقِرْدِيَّةِ وَالْخُسُوءِ، وَهُوَ الصَّغَارُ وَالطَّرْدُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ لَيْسَ بِأَمْرٍ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى أَنْ يَقْلِبُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقِرَدَةِ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ سُرْعَةُ التَّكْوِينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ: 4] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فُصِّلَتْ: 11] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُعْجِزْهُ مَا أَرَادَ إِنْزَالَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ بِهَؤُلَاءِ بَلْ لَمَّا قَالَ لَهُمْ، كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ صَارُوا كَذَلِكَ أَيْ لَمَّا أَرَادَ/ ذَلِكَ بِهِمْ صَارُوا كَمَا أَرَادَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [النِّسَاءِ: 47] وَلَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا أَنَّ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِذَلِكَ عِنْدَ هَذَا التَّكْوِينِ إِلَّا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي هَذَا التَّكْوِينِ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْقَوْلِ أَثَرٌ فِي التَّكْوِينِ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِيهِ؟ قُلْنَا: أَمَّا عِنْدُنَا فَأَحْكَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالُهُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ الْبَتَّةَ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَعَلَّ هَذَا الْقَوْلَ يَكُونُ لَفْظًا لِبَعْضِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ لِغَيْرِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَرْوِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَسَخَ قُلُوبَهُمْ بِمَعْنَى الطَّبْعِ وَالْخَتْمِ لَا أَنَّهُ مَسَخَ صُوَرَهُمْ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الْجُمُعَةِ: 5] وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الْأُسْتَاذُ للمتعلم البليد الذي لا ينجح في تَعْلِيمُهُ: كُنْ حِمَارًا. وَاحْتُجَّ عَلَى امْتِنَاعِهِ بِأَمْرَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ هَذَا الْهَيْكَلُ الْمُشَاهَدُ وَالْبِنْيَةُ الْمَحْسُوسَةُ فَإِذَا أَبْطَلَهَا وَخَلَقَ فِي تِلْكَ الْأَجْسَامِ تَرْكِيبَ الْقِرْدِ وَشَكْلَهُ كَانَ ذَلِكَ إِعْدَامًا لِلْإِنْسَانِ وَإِيجَادًا لِلْقِرْدِ فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْمَسْخِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَعْدَمَ الْأَعْرَاضَ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَجْسَامُ إِنْسَانًا وَخَلَقَ فِيهَا الْأَعْرَاضَ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا كَانَتْ قِرْدًا فَهَذَا يَكُونُ إِعْدَامًا وَإِيجَادًا لَا أَنَّهُ يَكُونُ مَسْخًا. وَالثَّانِي: إِنْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَمَا أَمِنَّا فِي كُلِّ مَا نَرَاهُ قِرْدًا وَكَلْبًا أَنَّهُ كَانَ إِنْسَانًا عَاقِلًا، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الشَّكِّ فِي الْمُشَاهَدَاتِ. وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ هُوَ تَمَامَ هَذَا الْهَيْكَلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ قَدْ يَصِيرُ سَمِينًا بَعْدَ أَنْ كَانَ هَزِيلًا، وَبِالْعَكْسِ فَالْأَجْزَاءُ مُتَبَدِّلَةٌ وَالْإِنْسَانُ الْمُعَيَّنُ هُوَ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا وَالْبَاقِي غَيْرَ الزَّائِلِ، فَالْإِنْسَانُ أَمْرٌ وَرَاءَ هَذَا الْهَيْكَلِ الْمَحْسُوسِ، وَذَلِكَ الْأَمْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جِسْمًا سَارِيًا فِي الْبَدَنِ أَوْ جُزْءًا فِي بَعْضِ جَوَانِبِ الْبَدَنِ كَقَلْبٍ أَوْ دِمَاغٍ أَوْ مَوْجُودًا مُجَرَّدًا عَلَى مَا يَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ وَعَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ فَلَا امْتِنَاعَ فِي بَقَاءِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مَعَ تَطَرُّقِ التَّغَيُّرِ إِلَى هَذَا الْهَيْكَلِ وَهَذَا هُوَ الْمَسْخُ وَبِهَذَا التقدير يجوز في المالك الَّذِي تَكُونُ جُثَّتُهُ فِي غَايَةِ الْعِظَمِ أَنْ يَدْخُلَ حُجْرَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ الْأَمَانَ يَحْصُلُ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَلَمَّا ثَبَتَ بِمَا قَرَّرْنَا جَوَازُ الْمَسْخِ أَمْكَنَ إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَلَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إِلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُجَاهِدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ غَيْرَ مُسْتَبْعَدٍ جِدًّا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَصَرَّ عَلَى جَهَالَتِهِ بَعْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ وَجَلَاءِ الْبَيِّنَاتِ فَقَدْ يُقَالُ فِي الْعُرْفِ الظَّاهِرِ إِنَّهُ حِمَارٌ وَقِرْدٌ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَجَازُ مِنَ الْمَجَازَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمَشْهُورَةِ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَصِيرِ إِلَيْهِ مَحْذُورٌ الْبَتَّةَ. بَقِيَ هَاهُنَا سُؤَالَانِ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ قِرْدًا لَا يَبْقَى لَهُ فَهْمٌ وَلَا عَقْلٌ وَلَا عِلْمٌ فَلَا يَعْلَمُ مَا نَزَلَ بِهِ من العذاب

وَمُجَرَّدُ الْقِرْدِيَّةِ غَيْرُ مُؤْلِمٍ بِدَلِيلِ أَنَّ الْقُرُودَ حَالَ سَلَامَتِهَا غَيْرُ مُتَأَلِّمَةٍ فَمِنْ أَيْنَ يَحْصُلُ الْعَذَابُ بِسَبَبِهِ؟ الْجَوَابُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْأَمْرَ الَّذِي بِهِ يَكُونُ الْإِنْسَانُ إِنْسَانًا عَاقِلًا فَاهِمًا كَانَ بَاقِيًا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا تَغَيَّرَتِ الْخِلْقَةُ وَالصُّورَةُ لَا جَرَمَ أَنَّهَا مَا كَانَتْ تَقْدِرُ عَلَى النُّطْقِ وَالْأَفْعَالِ الْإِنْسَانِيَّةِ إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ تَعْرِفُ مَا نَالَهَا مِنْ تَغَيُّرِ الْخِلْقَةِ بِسَبَبِ شُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ وَكَانَتْ فِي نِهَايَةِ الْخَوْفِ/ وَالْخَجَالَةِ، فَرُبَّمَا كَانَتْ مُتَأَلِّمَةً بِسَبَبِ تَغَيُّرِ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ تَأَلُّمِ الْقُرُودِ الْأَصْلِيَّةِ بِتِلْكَ الصُّورَةِ عَدَمُ تَأَلُّمِ الْإِنْسَانِ بِتِلْكَ الصُّورَةِ الْغَرِيبَةِ الْعَرَضِيَّةِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أُولَئِكَ الْقِرَدَةُ بَقُوا أَوْ أَفْنَاهُمُ اللَّهُ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُمْ بَقُوا فَهَذِهِ الْقِرَدَةُ الَّتِي فِي زَمَانِنَا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا مَنْ نَسْلِ أُولَئِكَ الْمَمْسُوخِينَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْكُلُّ جَائِزٌ عَقْلًا إِلَّا أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ مَا مَكَثُوا إِلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ هَلَكُوا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْخَاسِئُ الصَّاغِرُ الْمُبْعَدُ الْمَطْرُودُ كَالْكَلْبِ إِذَا دَنَا مِنَ النَّاسِ قِيلَ لَهُ اخْسَأْ، أَيْ تَبَاعَدْ وَانْطَرِدْ صَاغِرًا فَلَيْسَ هَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ مَوَاضِعِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ يُحْتَمَلُ صَاغِرًا ذَلِيلًا مَمْنُوعًا عَنْ مُعَاوَدَةِ النَّظَرِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [الْمُلْكِ: 3، 4] ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: رَدِّدِ الْبَصَرَ فِي السَّمَاءِ تَرْدِيدَ مَنْ يَطْلُبُ فُطُورًا فَإِنَّكَ وَإِنْ أَكْثَرْتَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ تَجِدْ فُطُورًا فَيَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ذَلِيلًا كَمَا يَرْتَدُّ الْخَائِبُ بَعْدَ طُولِ سَعْيِهِ فِي طَلَبِ شَيْءٍ وَلَا يَظْفَرُ بِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ خَائِبًا صَاغِرًا مَطْرُودًا مِنْ حَيْثُ كَانَ يَقْصِدُهُ مِنْ أَنْ يُعَاوِدَهُ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَجَعَلْناها فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الضَّمِيرَ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَعُودُ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: (جَعَلْنَاهَا) يَعْنِي الْمِسْخَةَ الَّتِي مُسِخُوهَا، وَثَانِيهَا: قَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ جَعَلْنَا الْقِرَدَةَ نَكَالًا. وَثَالِثُهَا: جعلنا قرية أصحاب السبت نكالًا. رابعها: جَعَلْنَا هَذِهِ الْأُمَّةَ نَكَالًا لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ يَدُلُّ عَلَى الْأُمَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَوْ نَحْوِهَا وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ لِأَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ رَدُّ الْكِنَايَةِ إِلَى مَذْكُورٍ مُتَقَدِّمٍ فَلَا وَجْهَ لِرَدِّهَا إِلَى غَيْرِهِ، فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِلَّا ذِكْرُهُمْ وَذِكْرُ عُقُوبَتِهِمْ، أَمَّا النَّكَالُ فَقَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّهُ الْعُقُوبَةُ الْغَلِيظَةُ الرَّادِعَةُ لِلنَّاسِ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى مِثْلِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَنْعِ وَالْحَبْسِ وَمِنْهُ النُّكُولُ عَنِ الْيَمِينِ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ مِنْهَا، وَيُقَالُ لِلْقَيْدِ النِّكْلُ، وَلِلِّجَامِ الثَّقِيلِ أَيْضًا نِكْلٌ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْمَنْعِ وَالْحَبْسِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً [الْمُزَّمِّلِ: 12] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا [النِّسَاءِ: 84] وَالْمَعْنَى: أَنَّا جَعَلْنَا مَا جَرَى عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عُقُوبَةً رَادِعَةً لِغَيْرِهِمْ أَيْ لَمْ نَقْصِدْ بِذَلِكَ مَا يَقْصِدُهُ الْآدَمِيُّونَ مِنَ التَّشَفِّي لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ تَضُرُّهُ الْمَعَاصِي وَتَنْقُصُ مِنْ مُلْكِهِ وَتُؤَثِّرُ فِيهِ، وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّمَا نُعَاقِبُ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فَعِقَابُنَا زَجْرٌ وَمَوْعِظَةٌ، قَالَ الْقَاضِي: الْيَسِيرُ مِنَ الذَّمِّ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ نَكَالٌ حَتَّى إِذْ عَظُمَ وَكَثُرَ وَاشْتَهَرَ، يُوصَفُ بِهِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي السَّارِقِ الْمُصِرِّ الْقَطْعَ جَزَاءً وَنَكَالًا وَأَرَادَ بِهِ أَنْ يَفْعَلَ عَلَى وَجْهِ الْإِهَانَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخِزْيِ الَّذِي لَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الذَّمِّ الْعَظِيمِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مَا أَنْزَلَهُ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ وَاسْتَحَلُّوا مِنَ اصْطِيَادِ الْحِيتَانِ وَغَيْرِهِ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمُ ابْتِغَاءَ الدُّنْيَا وَنَقَضُوا مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْمَوَاثِيقِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ بِهِمْ عُقُوبَةً لَا عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَلِّلَ مِقْدَارَ مَسْخِهِمْ وَيُغَيِّرَ صُوَرَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَا يَنْزِلُ بِالْمُكَلَّفِ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْمُغَيِّرَةِ

[سورة البقرة (2) : الآيات 67 إلى 73]

لِلصُّورَةِ، وَيَكُونُ/ مِحْنَةً لَا عُقُوبَةً فَبَيَّنَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: فَجَعَلْناها نَكالًا أَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَهَا عُقُوبَةً عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: لِمَا قَبْلَهَا وَمَا مَعَهَا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْأُمَمِ وَالْقُرُونِ لِأَنَّ مَسْخَهُمْ ذُكِرَ فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ فَاعْتَبَرُوا بِهَا وَاعْتَبَرَ بِهَا مَنْ بَلَغَ إِلَيْهِ خَبَرُ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مِنَ الَآخِرِينَ، وَثَانِيهَا: أُرِيدُ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا مَا يَحْضُرُهَا مِنَ الْقُرُونِ وَالْأُمَمِ، وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا عُقُوبَةً لِجَمِيعِ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ وَمَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ فَفِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ عَرَفَ الْأَمْرَ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ يَتَّعِظُ بِهِ وَيَخَافُ إِنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ مِثْلُ مَا نَزَلْ بِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ عَاجِلًا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَخَافَ مِنَ الْعِقَابِ الْآجِلِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ وَأَدُومُ. وَأَمَّا تَخْصِيصُهُ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ فَكَمِثْلِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ لأنهم إذا اختصموا بِالِاتِّعَاظِ وَالِانْزِجَارِ وَالِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ صَلُحَ أَنْ يُخَصُّوا بِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْفَعَةٍ لِغَيْرِهِمْ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أَنْ يَعِظَ الْمُتَّقُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَيْ جَعَلْنَاهَا نَكَالًا وَلِيَعِظَ بِهِ بَعْضُ الْمُتَّقِينَ بَعْضًا فَتَكُونُ الْمَوْعِظَةُ مُضَافَةً إِلَى الْمُتَّقِينَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ يَتَّعِظُونَ بِهَا، وَهَذَا خَاصٌّ لَهُمْ دُونَ غَيْرِ الْمُتَّقِينَ وَاللَّهُ أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 73] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) [في شأن النزول الآيات] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ التَّشْدِيدَاتِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَائِرِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلَ قَرِيبًا لِكَيْ يَرِثَهُ ثُمَّ رَمَاهُ فِي مَجْمَعِ الطَّرِيقِ ثُمَّ شَكَا ذَلِكَ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاجْتَهَدَ مُوسَى فِي تَعَرُّفِ الْقَاتِلِ، فَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ قَالُوا لَهُ: سَلْ لَنَا رَبَّكَ حَتَّى يُبَيِّنَهُ، فَسَأَلَهُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فَتَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالِاسْتِفْهَامِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ وَاسْتَقْصَوْا فِي طَلَبِ الْوَصْفِ فَلَمَّا تَعَيَّنَتْ لَمْ يَجِدُوهَا بِذَلِكَ النَّعْتِ إِلَّا عِنْدَ إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ وَلَمْ يَبِعْهَا إِلَّا بِأَضْعَافِ ثَمَنِهَا، فَاشْتَرَوْهَا وذبحوها وأمرهم

مُوسَى أَنْ يَأْخُذُوا عُضْوًا مِنْهَا فَيَضْرِبُوا بِهِ الْقَتِيلَ، فَفَعَلُوا فَصَارَ الْمَقْتُولُ حَيًّا وَسَمَّى لَهُمْ قَاتِلَهُ وَهُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ بِالشِّكَايَةِ فَقَتَلُوهُ قَوَدًا، ثُمَّ هَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْإِيلَامَ وَالذَّبْحَ حَسَنٌ وَإِلَّا لَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، ثُمَّ عِنْدَنَا وَجْهُ الْحُسْنِ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى مَالِكُ الْمُلْكِ فَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ إِنَّمَا يَحْسُنُ لِأَجْلِ الْأَعْوَاضِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مِنْ بَقَرِ الدُّنْيَا وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ الْمُخَيَّرُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا بِالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً مَعْنَاهُ اذْبَحُوا أَيَّ بَقَرَةٍ شِئْتُمْ فَهَذِهِ الصِّيغَةُ تُفِيدُ هَذَا الْعُمُومَ، وَقَالَ مُنْكِرُو الْعُمُومِ: إِنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ اذْبَحْ بَقَرَةً. يُمْكِنُ تَقْسِيمُهُ إِلَى قِسْمَيْنِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: اذْبَحْ بَقَرَةً مُعَيَّنَةً مِنْ شَأْنِهَا كَيْتُ وَكَيْتُ وَيَصِحُّ أَيْضًا/ أَنْ يُقَالَ اذْبَحْ بَقَرَةً أَيَّ بَقَرَةٍ شِئْتَ، فَإِذَنِ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِكَ «اذْبَحْ» مَعْنًى مُشْتَرِكٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ وَالْمُشْتَرِكُ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ لَا يَسْتَلْزِمُ وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَإِذَنْ قَوْلُهُ اذْبَحُوا بَقَرَةً لَا يَسْتَلْزِمُ مَعْنَاهُ مَعْنَى قَوْلِهِ: اذْبَحُوا بَقَرَةً، أَيَّ بَقَرَةٍ شِئْتُمْ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ لِأَنَّهُ لَوْ أَفَادَ الْعُمُومَ لَكَانَ قَوْلُهُ: اذْبَحُوا بَقَرَةً أَيَّ بَقَرَةٍ شِئْتُمْ تَكْرِيرًا وَلَكَانَ قَوْلُهُ: اذْبَحُوا بَقَرَةً مُعَيَّنَةً نَقْضًا، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فاذبحوا بَقَرَةً كَالنَّقِيضِ لِقَوْلِنَا لَا تَذْبَحُوا بَقَرَةً، وَقَوْلُنَا لَا تَذْبَحُوا بَقَرَةً يُفِيدُ النَّفْيَ الْعَامَّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُنَا اذْبَحُوا بَقَرَةً يَرْفَعَ عُمُومَ النَّفْيِ وَيَكْفِي فِي ارْتِفَاعِ عُمُومِ النَّفْيِ خُصُوصُ الثُّبُوتِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَإِذَنْ قَوْلُهُ: اذْبَحُوا بَقَرَةً يُفِيدُ الْأَمْرَ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ، أَمَّا الْإِطْلَاقُ فِي ذَبْحِ أَيِّ بَقَرَةٍ شَاءُوا فَذَلِكَ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي ارْتِفَاعِ ذَلِكَ النَّفْيِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَفَادًا مِنَ اللَّفْظِ، الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: بَقَرَةً لَفْظَةٌ مُفْرَدَةٌ مُنْكَرَةٌ وَالْمُفْرَدُ الْمُنَكَّرُ إِنَّمَا يُفِيدُ فَرْدًا مُعَيَّنًا فِي نَفْسِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ بِحَسَبِ الْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفِيدَ فَرْدًا أَيَّ فَرْدٍ كَانَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ فِي الْخَبَرِ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَمْرِ كَذَلِكَ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ بِأَنَّهُ لَوْ ذَبَحَ أَيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُفِيدَ الْعُمُومَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَثْبُتُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: اذْبَحْ بَقَرَةً مَعْنَاهُ اذْبَحْ أَيَّ بَقَرَةٍ شِئْتَ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ. فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أن قوله تعالى: اذبحوا بَقَرَةً هَلْ هُوَ أَمْرٌ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ مُبَيَّنَةٍ أَوْ هُوَ أَمْرٌ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ أَيِّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، فَالَّذِينَ يُجَوِّزُونَ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ قَالُوا: إِنَّهُ كَانَ أَمْرًا بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَلَكِنَّهَا مَا كَانَتْ مُبَيَّنَةً، وَقَالَ الْمَانِعُونَ مِنْهُ: هُوَ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا بِذَبْحِ أَيِّ بَقَرَةٍ كَانَتْ إِلَّا أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا سَأَلُوا تَغَيُّرَ التَّكْلِيفِ عِنْدَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ الْأَوَّلَ كَانَ كَافِيًا لَوْ أَطَاعُوا وَكَانَ التخيير في جنس البقرة إِذْ ذَاكَ هُوَ الصَّلَاحَ، فَلَمَّا عَصَوْا وَلَمْ يَمْتَثِلُوا وَرَجَعُوا بِالْمَسْأَلَةِ لَمْ يَمْتَنِعْ تَغَيُّرُ الْمَصْلَحَةِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فِي الْمُشَاهَدِ، لِأَنَّ الْمُدَبِّرَ لِوَلَدِهِ قَدْ يَأْمُرُهُ بِالسَّهْلِ اخْتِيَارًا، فَإِذَا امْتَنَعَ الْوَلَدُ مِنْهُ فَقَدْ يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِي أَنْ يَأْمُرَهُ بِالصَّعْبِ فَكَذَا هَاهُنَا. وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ وما لَوْنُها وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ، ... إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ، ... إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ مُنْصَرِفٌ إِلَى مَا أُمِرُوا بِذَبْحِهِ مِنْ قَبْلُ وَهَذِهِ الْكِنَايَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مَا كَانَ ذَبْحَ بَقَرَةٍ أَيِّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، بَلْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ ذَبْحَ

بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ. الثَّانِي: أَنَّ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ فِي الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا صِفَاتُ الْبَقَرَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِذَبْحِهَا أَوَّلًا أَوْ صِفَاتُ بَقَرَةٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ عِنْدَ ذَلِكَ السُّؤَالِ وَانْتَسَخَ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَالثَّانِي: يَقْتَضِي أَنْ يَقَعَ الِاكْتِفَاءُ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ آخِرًا، وَأَنْ لَا يَجِبَ حُصُولُ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَمَّا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ/ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ بِأَسْرِهَا كَانَتْ مُعْتَبَرَةً عَلِمْنَا فَسَادَ هَذَا الْقِسْمِ. فَإِنْ قِيلَ أَمَّا الْكِنَايَاتُ فَلَا نُسَلِّمُ عَوْدَهَا إِلَى الْبَقَرَةِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا كِنَايَاتٌ عَنِ الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ؟ قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْكِنَايَاتِ لَوْ كَانَتْ عَائِدَةً إِلَى الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ لَبَقِيَ مَا بَعْدَ هَذِهِ الْكِنَايَاتِ غَيْرَ مُفِيدٍ، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي قَوْلِهِ: بَقَرَةٌ صَفْراءُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ شَيْءٍ آخَرَ وَذَلِكَ خِلَافُ الْأَصْلِ، أَمَّا إِذَا جَعَلْنَا الْكِنَايَاتِ عَائِدَةً إِلَى الْمَأْمُورِ بِهِ أَوَّلًا لَمْ يَلْزَمْ هَذَا الْمَحْذُورُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْحُكْمَ بِرُجُوعِ الْكِنَايَةِ إِلَى الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ خِلَافُ الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْكِنَايَةَ يَجِبُ عَوْدُهَا إِلَى شَيْءٍ جَرَى ذِكْرُهُ وَالْقِصَّةُ وَالشَّأْنُ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُهُمَا فَلَا يَجُوزُ عَوْدُ الْكِنَايَةِ إِلَيْهِمَا لَكِنَّا خَالَفْنَا هَذَا الدَّلِيلَ لِلضَّرُورَةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَبَقِيَ مَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قوله: ما لَوْنُها، وما هِيَ لَا شَكَّ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْبَقَرَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ عَائِدًا إِلَى تِلْكَ الْبَقَرَةِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنِ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا سَائِلِينَ مُعَانِدِينَ لَمْ يَكُنْ فِي مِقْدَارِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مُوسَى مَا يُزِيلُ الِاحْتِمَالَ لِأَنَّ مِقْدَارَ مَا ذَكَرَهُ مُوسَى أَنْ تَكُونَ بَقَرَةً صَفْرَاءَ مُتَوَسِّطَةً فِي السِّنِّ كَامِلَةً فِي الْقُوَّةِ، وَهَذَا الْقَدْرُ مَوْضِعٌ لِلِاحْتِمَالَاتِ الْكَثِيرَةِ، فَلَمَّا سَكَتُوا هَاهُنَا وَاكْتَفَوْا بِهِ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُعَانِدِينَ. وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً مَعْنَاهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً أَيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُ الصِّفَةِ بَعْدَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا جَدِيدًا، وَثَانِيهَا: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَبْحَ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَمَا اسْتَحَقُّوا التَّعْنِيفَ عَلَى طَلَبِ الْبَيَانِ بَلْ كَانُوا يَسْتَحِقُّونَ الْمَدْحَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا عَنَّفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ، وَفِي قَوْلِهِ: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ عَلِمْنَا تَقْصِيرَهُمْ فِي الْإِتْيَانِ بِمَا أُمِرُوا بِهِ أَوَّلًا وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ لَوْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ أَوَّلًا ذَبْحَ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ. الثَّالِثُ: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ ذَبَحُوا أَيَّةَ بَقَرَةٍ أَرَادُوا لَأَجْزَأَتْ مِنْهُمْ لَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي فِيهِ أُمِرُوا بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى ذَبْحِهَا، فَلَوْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ ذَبْحَ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا بَيَّنَهَا لَكَانَ ذَلِكَ تَأْخِيرًا لِلْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ مَا بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ ذَبْحُ بَقَرَةٍ، أَيِّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ فَرَّطُوا فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ وَأَنَّهُمْ كَادُوا يُفَرِّطُونَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْبَيَانِ، بَلِ اللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَنَحْمِلُهُ عَلَى الْأَخِيرِ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا وَقَفُوا عَلَى تَمَامِ الْبَيَانِ تَوَقَّفُوا عِنْدَ ذَلِكَ وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَهُ، وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ بَابِ الْآحَادِ وَبِتَقْدِيرِ الصِّحَّةِ، فَلَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مُعَارِضَةً لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ دَلَّ الْأَمْرُ عَلَى الْفَوْرِ وَذَلِكَ عِنْدَنَا مَمْنُوعٌ. وَاعْلَمْ أَنَّا إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ بَقَرَةٌ أَيُّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ نَقُولَ: التَّكَالِيفُ مُغَايِرَةٌ فَكُلِّفُوا فِي الْأَوَّلِ: أَيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، وَثَانِيًا: أَنْ تَكُونَ لَا فَارِضًا وَلَا بِكْرًا بَلْ عَوَانًا، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ كُلِّفُوا أَنْ تَكُونَ صَفْرَاءَ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ كُلِّفُوا أَنْ تَكُونَ مَعَ ذَلِكَ لَا ذَلُولًا تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ

الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي التَّكْلِيفِ الْوَاقِعِ أَخِيرًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْفِيًا لِكُلِّ صِفَةٍ تَقَدَّمَتْ حَتَّى تَكُونَ الْبَقَرَةُ مَعَ الصِّفَةِ الْأَخِيرَةِ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ وَصَفْرَاءُ فَاقِعٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّمَا يَجِبُ كَوْنُهَا بِالصِّفَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْكَلَامِ إِذَا كَانَ تَكْلِيفًا بَعْدَ تَكْلِيفٍ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَشْبَهَ بِالرِّوَايَاتِ وَبِطَرِيقَةِ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ عِنْدَ تَرَدُّدِ الِامْتِثَالِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبَيَانَ لَا يَتَأَخَّرُ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ تَكْلِيفًا بَعْدَ تَكْلِيفٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَسْهَلَ قَدْ يُنْسَخُ بِالْأَشَقِّ وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ وَلَكِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ، وَيَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ النَّسْخِ فِي شَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَهُ أَيْضًا تَعَلُّقٌ بِمَسْأَلَةِ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّسْخِ هَلْ هُوَ نَسْخٌ أَمْ لَا، وَيَدُلُّ عَلَى حُسْنِ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ ثَانِيًا لِمَنْ عَصَى وَلَمْ يَفْعَلْ مَا كُلِّفَ أَوَّلًا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ: هُزُواً بِالضَّمِّ وَهُزْؤًا بِسُكُونِ الزَّايِ نَحْوَ كُفُؤًا وَكُفْءً وَقَرَأَ حَفْصٌ: (هُزُوًا) بِالضَّمَّتَيْنِ وَالْوَاوِ وَكَذَلِكَ كُفُوًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً اسْتِفْهَامٌ عَلَى مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَالْهُزْءُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْمَهْزُوءِ بِهِ كَمَا يُقَالُ: كَانَ هَذَا فِي عِلْمِ اللَّهِ أَيْ فِي مَعْلُومِهِ وَاللَّهُ رَجَاؤُنَا أَيْ مَرْجُوُّنَا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا [الْمُؤْمِنُونَ: 110] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : (أتتخذنا هزؤاً) أَتَجْعَلُنَا مَكَانَ هُزْءٍ أَوْ أَهْلَ هُزْءٍ أَوْ مَهْزُوءًا بِنَا وَالْهُزْءُ نَفْسُهُ فَرْطُ الِاسْتِهْزَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَوْمُ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعْيِينَ الْقَاتِلِ فَقَالَ مُوسَى: اذْبَحُوا بَقَرَةً لَمْ يَعْرِفُوا بَيْنَ هَذَا الْجَوَابِ وَذَلِكَ السُّؤَالِ مُنَاسَبَةً، فَظَنُّوا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُلَاعِبُهُمْ، لِأَنَّهُ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ وَمَا أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا ذَبَحُوا الْبَقَرَةَ ضَرَبُوا الْقَتِيلَ بِبَعْضِهَا فَيَصِيرُ حَيًّا فَلَا جَرَمَ، وَقَعَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ مَوْقِعَ الْهُزْءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَانَ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ كَيْفِيَّةَ الْحَالِ إِلَّا أَنَّهُمْ تَعَجَّبُوا مِنْ أَنَّ الْقَتِيلَ كَيْفَ يَصِيرُ حَيًّا بِأَنْ يَضْرِبُوهُ بِبَعْضِ أَجْزَاءِ الْبَقَرَةِ فَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِهْزَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ كفروا بقولهم لموسى عليه السلام: أتتخذنا هزؤاً لِأَنَّهُمْ إِنْ قَالُوا ذَلِكَ وَشَكُّوا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِحْيَاءِ الْمَيِّتِ، فَهُوَ كُفْرٌ وَإِنْ شَكُّوا فِي أَنَّ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ هُوَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ جَوَّزُوا الْخِيَانَةَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْوَحْيِ، وَذَلِكَ أَيْضًا كُفْرٌ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُلَاعَبَةَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ جَائِزَةٌ فَلَعَلَّهُمْ ظَنُّوا بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ يُلَاعِبُهُمْ مُلَاعَبَةً حَقَّةً، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ. الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً أَيْ مَا أَعْجَبَ هَذَا الْجَوَابَ كَأَنَّكَ تَسْتَهْزِئُ بِنَا لَا أَنَّهُمْ حَقَّقُوا عَلَى مُوسَى الِاسْتِهْزَاءَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالِاسْتِهْزَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِسَبَبِ الْجَهْلِ وَمَنْصِبُ النُّبُوَّةِ لَا يَحْتَمِلُ الْإِقْدَامَ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ، فَلَمْ يَسْتَعِذْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ نَفْسِ الشَّيْءِ الَّذِي نَسَبُوهُ إِلَيْهِ، لَكِنَّهُ اسْتَعَاذَ مِنَ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ كَمَا قَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ عِنْدَ مِثْلِ ذَلِكَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَدَمِ الْعَقْلِ وَغَلَبَةِ الْهَوَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ مَجَازًا هَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْأَقْوَى. وَثَانِيهَا: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ بِمَا فِي الِاسْتِهْزَاءِ فِي أَمْرِ الدِّينِ مِنَ الْعِقَابِ الشَّدِيدِ وَالْوَعِيدِ الْعَظِيمِ، فَإِنِّي متى

عَلِمْتُ ذَلِكَ امْتَنَعَ إِقْدَامِي عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ نَفْسَ الْهُزْءِ قَدْ يُسَمَّى جَهْلًا وَجَهَالَةً، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ: إِنَّ الْجَهْلَ ضِدُّ الْحِلْمِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ ضِدُّ الْعِلْمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ مِنَ الْكَبَائِرِ الْعِظَامِ وَقَدْ سَبَقَ تَمَامُ الْقَوْلِ فِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا: (إِنَّا مَعَكُمْ) إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 14- 15] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ سَأَلُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْبَقَرَةِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ فَأَجَابَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ أَبْحَاثًا: الْأَوَّلُ: أَنَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي نَفْسِهَا غَيْرُ مُبَيِّنٍ التَّعْيِينَ حَسُنَ مَوْقِعُ سُؤَالِهِمْ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ لَمَّا كَانَ مُجْمَلًا حَسُنَ الِاسْتِفْسَارُ وَالِاسْتِعْلَامُ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِلْعُمُومِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَنَّهُ مَا الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى هَذَا الِاسْتِفْسَارِ؟ وَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُمْ إِذَا ذَبَحُوا الْبَقَرَةَ وَضَرَبُوا الْقَتِيلَ بِبَعْضِهَا صَارَ حَيًّا تَعَجَّبُوا مِنْ أَمْرِ تِلْكَ الْبَقَرَةِ، وَظَنُّوا أَنَّ تِلْكَ الْبَقَرَةَ الَّتِي يَكُونُ لَهَا مِثْلُ هَذِهِ الْخَاصَّةِ لَا تَكُونُ إِلَّا بَقَرَةً مُعَيَّنَةً، فَلَا جَرَمَ اسْتَقْصُوا فِي السُّؤَالِ عَنْ وَصْفِهَا كَعَصَا مُوسَى الْمَخْصُوصَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْعِصِيِّ بِتِلْكَ الْخَوَاصِّ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُخْطِئِينَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْعَجِيبَةَ مَا كَانَتْ خَاصِّيَّةَ الْبَقَرَةِ، بَلْ كَانَتْ مُعْجِزَةً يُظْهِرُهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَثَانِيهَا: لَعَلَّ الْقَوْمَ أَرَادُوا بَقَرَةً، أَيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، إِلَّا أَنَّ الْقَاتِلَ خَافَ مِنَ الْفَضِيحَةِ، فَأَلْقَى الشُّبْهَةَ فِي التَّبْيِينِ وَقَالَ الْمَأْمُورُ بِهِ بَقَرَةٌ مُعَيَّنَةٌ لا مطلق البقرة، لما وقعت الْمُنَازَعَةِ فِيهِ، رَجَعُوا عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى مُوسَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْخِطَابَ الْأَوَّلَ وَإِنْ أَفَادَ الْعُمُومَ إِلَّا أَنَّ الْقَوْمَ أَرَادُوا الِاحْتِيَاطَ فِيهِ، فَسَأَلُوا طَلَبًا لِمَزِيدِ الْبَيَانِ وَإِزَالَةً لِسَائِرِ الِاحْتِمَالَاتِ، إِلَّا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَغَيَّرَتْ وَاقْتَضَتِ الْأَمْرَ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ الْمُعَيَّنَةِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ سُؤَالَ «مَا هِيَ» طَلَبٌ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ «مَا» سُؤَالٌ، وَ «هِيَ» إِشَارَةٌ إِلَى الْحَقِيقَةِ، فَمَا هِيَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ طَلَبًا لِلْحَقِيقَةِ وَتَعْرِيفُ الْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِذِكْرِ أَجْزَائِهَا وَمُقَدِّمَاتِهَا لَا بِذِكْرِ صِفَاتِهَا الْخَارِجَةِ عَنْ مَاهِيَّتِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَصْفَ السِّنِّ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمَاهِيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِهَذَا السُّؤَالِ: وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَمَا ذَكَرْتُمْ لَكِنَّ قَرِينَةَ الْحَالِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ مَقْصُودُهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا الْبَقَرُ طَلَبُ مَاهِيَّتِهِ وَشَرْحُ حَقِيقَتِهِ بَلْ كَانَ مَقْصُودُهُمْ طَلَبَ الصِّفَاتِ الَّتِي بِسَبَبِهَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُ الْبَقَرِ عَنْ بَعْضٍ، فَلِهَذَا حَسُنَ ذِكْرُ الصِّفَاتِ الْخَارِجَةِ جَوَابًا عَنْ هَذَا السُّؤَالِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْفَارِضُ الْمُسِنَّةُ وَسُمِّيَتْ فَارِضًا لِأَنَّهَا فَرَضَتْ سِنَّهَا، أَيْ قَطَعَتْهَا وَبَلَغَتْ آخِرَهَا، وَالْبِكْرُ: الْفَتِيَّةُ وَالْعَوَانُ النَّصَفُ، قَالَ الْقَاضِي: أَمَّا الْبِكْرُ، فَقِيلَ: إِنَّهَا الصَّغِيرَةُ وَقِيلَ مَا لَمْ تَلِدْ، وَقِيلَ: إِنَّهَا الَّتِي وَلَدَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً، قَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ [الضَّبِّيُّ] : إِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْفَارِضِ أَنَّهَا الْمُسِنَّةُ وَفِي الْبِكْرِ أَنَّهَا الشَّابَّةُ وَهِيَ مِنَ النِّسَاءِ الَّتِي لَمْ تُوطَأْ وَمِنَ الْإِبِلِ الَّتِي وَضَعَتْ بَطْنًا وَاحِدًا. قَالَ الْقَفَّالُ: الْبِكْرُ يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ وَمِنْهُ الْبَاكُورَةُ لِأَوَّلِ الثَّمَرِ وَمِنْهُ بُكْرَةُ النَّهَارِ وَيُقَالُ: بَكَّرْتُ عَلَيْهِمَا الْبَارِحَةَ إِذَا جَاءَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَكَأَنَّ الْأَظْهَرَ

أَنَّهَا هِيَ الَّتِي لَمْ تَلِدْ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنِ اسْمِ الْبِكْرِ مِنَ الْإِنَاثِ فِي بَنِي آدَمَ مَا لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعَوَانُ الَّتِي وَلَدَتْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ. وَحَرْبٌ عَوَانٌ: إِذَا كَانَتْ حَرْبًا قَدْ قُوتِلَ فِيهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَحَاجَةٌ عَوَانٌ: إِذَا كَانَتْ قَدْ قُضِيَتْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ عَلَى جَوَازٍ الِاجْتِهَادِ وَاسْتِعْمَالِ غَالِبِ الظَّنِّ فِي الْأَحْكَامِ إِذْ لَا يُعْلَمُ أَنَّهَا بَيْنَ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَهَاهُنَا سؤالان: الأول: لفظة «بين» تقتضي شيئين فصاعداًفمن أَيْنَ جَازَ دُخُولُهُ عَلَى ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى شَيْئَيْنِ حَيْثُ وَقَعَ مُشَارًا بِهِ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ جَازَ أَنْ يُشَارَ بِلَفْظَةِ: (ذَلِكَ) إِلَى مُؤَنَّثَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى وَاحِدٍ مُذَكَّرٍ؟ الْجَوَابُ: جَازَ ذِكْرُ ذَلِكَ عَلَى تَأْوِيلِ مَا ذُكِرَ أَوْ مَا تَقَدَّمَ لِلِاخْتِصَارِ فِي الْكَلَامِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: الْأَوَّلُ: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ بِهِ مِنْ قَوْلِكَ: أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَافْعَلُوا أَمْرَكُمْ بِمَعْنَى مَأْمُورِكُمْ تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ كَضَرْبِ الْأَمِيرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ كَوْنُ الْبَقَرَةِ فِي أَكْمَلِ أَحْوَالِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ تَكُونُ نَاقِصَةً لِأَنَّهَا بَعْدُ مَا وَصَلَتْ إِلَى حَالَةِ الْكَمَالِ، وَالْمُسِنَّةُ كَأَنَّهَا صَارَتْ نَاقِصَةً وَتَجَاوَزَتْ عَنْ حَدِّ الْكَمَالِ، فأما المتوسطة فهي التي تكوى فِي حَالَةِ الْكَمَالِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى سُؤَالَهُمُ الثَّانِيَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا حَالَ السِّنِّ شَرَعُوا بَعْدَهُ فِي تَعَرُّفِ حَالِ اللَّوْنِ فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بأنها: صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها، والفقوع/ أشدها يَكُونُ مِنَ الصُّفْرَةِ وَأَنْصَعُهُ، يُقَالُ فِي التَّوْكِيدِ أَصْفَرُ فَاقِعٌ وَأَسْوَدُ حَالِكٌ وَأَبْيَضُ يَقَقٌ وَأَحْمَرُ قانٍ وأخضر ناضر، وهاهنا سؤالان: الْأَوَّلُ: «فَاقِعٌ» هَاهُنَا وَاقِعٌ خَبَرًا عَنِ اللَّوْنِ فَكَيْفَ يَقَعُ تَأْكِيدًا لِصَفْرَاءَ؟ الْجَوَابُ: لَمْ يَقَعْ خَبَرًا عَنِ اللَّوْنِ إِنَّمَا وَقَعَ تَأْكِيدًا لِصَفْرَاءَ إِلَّا أَنَّهُ ارْتَفَعَ اللَّوْنُ بِهِ ارْتِفَاعَ الْفَاعِلِ وَاللَّوْنُ سَبَبُهَا وَمُلْتَبِسٌ بِهَا، فَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِكَ: صَفْرَاءُ فَاقِعَةٌ وَصَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا. السُّؤَالُ الثَّانِي: فَهَلَّا قِيلَ صَفْرَاءُ فَاقِعَةٌ وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي ذِكْرِ اللَّوْنِ؟ الْجَوَابُ: الْفَائِدَةُ فِيهِ التَّوْكِيدُ لِأَنَّ اللَّوْنَ اسْمٌ لِلْهَيْئَةِ وَهِيَ الصُّفْرَةُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ شَدِيدَةُ الصُّفْرَةِ صُفْرَتُهَا فَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: جِدُّ جِدِّهِ وَجُنُونُ مَجْنُونٍ. وَعَنْ وَهْبٍ: إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا خُيِّلَ إِلَيْكَ أَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ يَخْرُجُ مِنْ جِلْدِهَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تَسُرُّ النَّاظِرِينَ فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْبَقَرَةَ لِحُسْنِ لَوْنِهَا تَسُرُّ مِنْ نَظَرِ إِلَيْهَا، قَالَ الْحَسَنُ: الصَّفْرَاءُ هَاهُنَا بِمَعْنَى السَّوْدَاءِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْأَسْوَدَ أَصْفَرَ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الدخان: كأنه جمالات صُفْرٌ [الْمُرْسَلَاتِ: 33] أَيْ سُودٌ، وَاعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بِأَنَّ الْأَصْفَرَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْأَسْوَدُ الْبَتَّةَ، فَلَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً فِيهِ، وَأَيْضًا السَّوَادُ لَا يُنْعَتُ بِالْفُقُوعِ، إِنَّمَا يُقَالُ: أَصْفَرُ فَاقِعٌ وَأَسْوَدُ حَالِكٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَمَّا السُّرُورُ فَإِنَّهُ حَالَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ تَعْرِضُ عِنْدَ حُصُولِ اعْتِقَادٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ بِحُصُولِ شَيْءٍ لَذِيذٍ أَوْ نَافِعٍ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى سُؤَالَهُمُ الثَّالِثَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ وَهَاهُنَا مسائل:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْحَسَنُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ لَمْ يَقُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا أَبَدًا» ، وَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّلَفُّظَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مَنْدُوبٌ فِي كُلِّ عَمَلٍ يُرَادُ تَحْصِيلُهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْكَهْفِ: 23] ، وَفِيهِ اسْتِعَانَةٌ بِاللَّهِ وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَيْهِ، وَالِاعْتِرَافُ بِقُدْرَتِهِ وَنَفَاذِ مَشِيئَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْحَوَادِثَ بِأَسْرِهَا مُرَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ فَقَدْ أَرَادَ اهْتِدَاءَهُمْ لَا مَحَالَةَ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِقَوْلِهِمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَائِدَةٌ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا فَإِنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُ فَحِينَئِذٍ يَبْقَى لِقَوْلِنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَائِدَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُحْدَثَةٌ بِقَوْلِهِ: إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ دُخُولَ كَلِمَةِ «إِنْ» عَلَيْهِ يَقْتَضِي الْحُدُوثَ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ حُصُولَ الِاهْتِدَاءِ عَلَى حُصُولِ مَشِيئَةِ الِاهْتِدَاءِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ حُصُولُ الِاهْتِدَاءِ أَزَلِيًّا وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ مَشِيئَةُ الِاهْتِدَاءِ أَزَلِيَّةً. وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ فَفِيهِ السُّؤَالُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَنَا: مَا هُوَ طَلَبُ بَيَانِ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَذْكُورُ هَاهُنَا فِي الْجَوَابِ الصِّفَاتُ الْعَرَضِيَّةُ الْمُفَارَقَةُ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُهُ. / أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا فَالْمَعْنَى أَنَّ الْبَقَرَ الْمَوْصُوفَ بِالتَّعْوِينِ وَالصُّفْرَةِ كَثِيرٌ فَاشْتَبَهَ عَلَيْنَا أَيُّهَا نَذْبَحُ، وَقُرِئَ تَشَابَهُ بِمَعْنَى تَتَشَابَهُ بِطَرْحِ التَّاءِ وَإِدْغَامِهَا فِي الشِّينِ وَ [قُرِئَ] تَشَابَهَتْ وَمُتَشَابِهَةٌ وَمُتَشَابِهٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ ذَكَرَهَا الْقَفَّالُ. أَحَدُهَا: وَإِنَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ نَهْتَدِي لِلْبَقَرَةِ الْمَأْمُورِ بِذَبْحِهَا عِنْدَ تَحْصِيلِنَا أَوْصَافَهَا الَّتِي بها تمتاز عَمَّا عَدَاهَا. وَثَانِيهَا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعْرِيفَهَا إِيَّانَا بِالزِّيَادَةِ لَنَا فِي الْبَيَانِ نَهْتَدِي إِلَيْهَا. وَثَالِثُهَا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى هُدًى فِي اسْتِقْصَائِنَا فِي السُّؤَالِ عَنْ أَوْصَافِ البقرة أي نرجو أَنَّا لَسْنَا عَلَى ضَلَالَةٍ فِيمَا نَفْعَلُهُ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ. وَرَابِعُهَا: إِنَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ نَهْتَدِي لِلْقَاتِلِ إِذَا وَصَفْتَ لَنَا هَذِهِ الْبَقَرَةَ بِمَا بِهِ تَمْتَازُ هِيَ عَمَّا سِوَاهَا ثُمَّ أَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ سُؤَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَقَوْلُهُ: لَا ذَلُولٌ صِفَةٌ لِبَقَرَةٍ بِمَعْنَى بَقَرَةٌ غَيْرُ ذَلُولٍ بمعنى لم تذلل للكراب وَإِثَارَةِ الْأَرْضِ وَلَا هِيَ مِنَ الْبَقَرِ الَّتِي يُسْقَى عَلَيْهَا فَتَسْقِي الْحَرْثَ وَ «لَا» الْأُولَى لِلنَّفْيِ وَالثَّانِيَةُ مَزِيدَةٌ لِتَوْكِيدِ الْأُولَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ وَتَسْقِي عَلَى أَنَّ الْفِعْلَيْنِ صِفَتَانِ لِذَلُولٍ كَأَنَّهُ قِيلَ لَا ذَلُولٌ مُثِيرَةٌ وَسَاقِيَةٌ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الذَّلُولَ بِالْعَمَلِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهَا لَا تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ لِأَنَّ هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ يَظْهَرُ بِهِمَا النَّقْصُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مُسَلَّمَةٌ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: مِنَ الْعُيُوبِ مُطْلَقًا. وَثَانِيهَا: مِنْ آثَارِ الْعَمَلِ الْمَذْكُورِ. وَثَالِثُهَا: مُسَلَّمَةٌ أَيْ وَحْشِيَّةٌ مُرْسَلَةٌ عَنِ الْحَبْسِ. وَرَابِعُهَا: مُسَلَّمَةٌ مِنَ الشِّيَةِ الَّتِي هِيَ خِلَافُ لَوْنِهَا أَيْ خَلُصَتْ صُفْرَتُهَا عَنِ اخْتِلَاطِ سَائِرِ الْأَلْوَانِ بِهَا، وَهَذَا الرَّابِعُ ضَعِيفٌ وَإِلَّا لَكَانَ قَوْلُهُ: لَا شِيَةَ فِيها تَكْرَارًا غَيْرَ مُفِيدٍ، بَلِ الْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى السَّلَامَةِ مِنَ الْعُيُوبِ وَاللَّفْظُ يَقْتَضِي ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ السَّلَامَةَ الْكَامِلَةَ عَنِ الْعِلَلِ وَالْمَعَايِبِ، وَاحْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِهِ عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الظَّاهِرِ مَعَ تَجْوِيزٍ أَنْ يَكُونَ الْبَاطِنُ بِخِلَافِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مُسَلَّمَةٌ إِذَا فَسَّرْنَاهَا بِأَنَّهَا مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ فَذَلِكَ لَا نَعْلَمُهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا نَعْلَمُهُ مِنْ طريق الظاهر.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا شِيَةَ فِيها فَالْمُرَادُ أَنَّ صُفْرَتَهَا خَالِصَةٌ غَيْرُ مُمْتَزِجَةٍ بِسَائِرِ الْأَلْوَانِ لِأَنَّ الْبَقَرَةَ الصَّفْرَاءَ قَدْ تُوصَفُ بِذَلِكَ إِذَا حَصَلَتِ الصُّفْرَةُ فِي أَكْثَرِهَا فَأَرَادَ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ عُمُومَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَا شِيَةَ فِيها رُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ صَفْرَاءَ الْأَظْلَافِ صَفْرَاءَ الْقُرُونِ، وَالْوَشْيُ خَلْطُ لَوْنٍ بِلَوْنٍ. ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ وَقَفُوا عِنْدَ هَذَا الْبَيَانِ وَاقْتَصَرُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ أَيِ الْآنِ بَانَتْ هَذِهِ الْبَقَرَةُ عَنْ غَيْرِهَا لِأَنَّهَا بَقَرَةٌ عَوَانٌ صَفْرَاءُ غَيْرُ مُذَلَّلَةٍ بِالْعَمَلِ، قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ كُفْرٌ مِنْ قِبَلِهِمْ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَوَامِرِ أَنَّهَا مَا كَانَتْ حَقَّةً، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْآنَ ظَهَرَتْ حَقِيقَةُ مَا أَمَرْنَا بِهِ حَتَّى تَمَيَّزَتْ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا يَكُونُ كُفْرًا. / أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ فَالْمَعْنَى فَذَبَحُوا الْبَقَرَةَ وَمَا كَادُوا يَذْبَحُونَهَا، وَهَاهُنَا بَحْثٌ: وَهُوَ أَنَّ النَّحْوِيِّينَ ذَكَرُوا «لِكَادَ» تَفْسِيرَيْنِ. الْأَوَّلُ: قَالُوا: إِنَّ نَفْيَهُ إِثْبَاتٌ وَإِثْبَاتَهُ نَفْيٌ. فَقَوْلُنَا: كَادَ يَفْعَلُ كَذَا مَعْنَاهُ قَرُبَ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ لَكِنَّهُ مَا فَعَلَهُ وَقَوْلُنَا: مَا كَادَ يَفْعَلُ كَذَا مَعْنَاهُ قَرُبَ مِنْ أن يَفْعَلَ لَكِنَّهُ فَعَلَهُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَاهِرِ [الْجُرْجَانِيِّ] النَّحْوِيِّ أَنَّ كَادَ مَعْنَاهُ الْمُقَارَبَةُ فَقَوْلُنَا كَادَ يَفْعَلُ مَعْنَاهُ قَرُبَ مِنَ الْفِعْلِ وَقَوْلُنَا مَا كَادَ يَفْعَلُ مَعْنَاهُ مَا قَرُبَ مِنْهُ وَلِلْأَوَّلِينَ أَنْ يَحْتَجُّوا عَلَى فَسَادِ هَذَا الثَّانِي بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ مَعْنَاهُ وَمَا قَارَبُوا الْفِعْلَ وَنَفْيُ الْمُقَارَبَةِ مِنَ الْفِعْلِ يُنَاقِضُ إِثْبَاتَ وُقُوعِ الْفِعْلِ، فَلَوْ كَانَ كَادَ لِلْمُقَارَبَةِ لَزِمَ وُقُوعُ التَّنَاقُضِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَهَاهُنَا أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ شَيْخٌ صَالِحٌ لَهُ عِجْلَةٌ فَأَتَى بِهَا الْغَيْضَةَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَوْدَعْتُكَهَا لِابْنِي حَتَّى تَكْبُرَ وَكَانَ بَرًّا بِوَالِدَيْهِ فَشَبَّتْ وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ الْبَقَرِ وَأَسْمَنِهَا فَتَسَاوَمُوهَا الْيَتِيمَ وَأُمَّهُ حَتَّى اشْتَرَوْهَا بِمَلْءِ مِسْكِهَا ذَهَبًا وَكَانَتِ الْبَقَرَةُ إِذْ ذَاكَ بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ، وَكَانُوا طَلَبُوا الْبَقَرَةَ الْمَوْصُوفَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً «1» . الْبَحْثُ الثَّانِي: رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْبَقَرَةَ تُذْبَحُ وَلَا تُنْحَرُ وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهَا تُنْحَرُ، قَالَ: فَتَلَوْتُ الْآيَةَ عَلَيْهِ فَقَالَ: الذَّبْحُ وَالنَّحْرُ سَوَاءٌ، وَحُكِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَالزُّهْرِيِّ إِنْ شِئْتَ نَحَرْتَ وَإِنْ شِئْتَ ذَبَحْتَ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالذَّبْحِ وَأَنَّهُمْ فَعَلُوَا مَا يُسَمَّى ذَبْحًا وَالنَّحْرُ وَإِنْ أَجْزَأَ عَنِ الذَّبْحِ فَصُورَتُهُ مُخَالِفَةٌ لِصُورَةِ الذَّبْحِ، فَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي مَا قُلْنَاهُ حَتَّى لَوْ نَحَرُوا وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى قِيَامِهِ مَقَامَ الذَّبْحِ لَكَانَ لَا يُجْزِي. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ مَا كَادُوا يَذْبَحُونَ، فَعَنْ بَعْضِهِمْ لِأَجْلِ غَلَاءِ ثَمَنِهَا وَعَنْ آخَرِينَ أَنَّهُمْ خَافُوا الشُّهْرَةَ وَالْفَضِيحَةَ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ، فَالْإِحْجَامُ عَنِ الْمَأْمُورِ بِهِ غَيْرُ جَائِزٍ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَذَلِكَ الْفِعْلُ مَا كَانَ يَتِمُّ إِلَّا بِالثَّمَنِ الْكَثِيرِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهُ لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ، وَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُ الْمُصَلِّيَ أَنْ يَتَطَهَّرَ بِالْمَاءِ إِذَا لَمْ يَجِدْهُ إِلَّا بِغَلَاءٍ مِنْ حَيْثُ الشَّرْعُ، وَلَوْلَاهُ لَلَزِمَ ذَلِكَ إِذَا وَجَبَ التَّطَهُّرُ مُطْلَقًا. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ خَوْفُ الْفَضِيحَةِ فَذَاكَ لَا يَرْفَعُ التَّكْلِيفَ، فَإِنَّ الْقَوَدَ إِذَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ لَزِمَهُ تَسْلِيمُ النَّفْسِ مِنْ وَلِيِّ الدَّمِ إِذَا طَالَبَ وَرُبَّمَا لَزِمَهُ التعريف

_ (1) في هذا الخبر إبطال للحكمة في ذبح البقرة وضرب القتيل ببعضها ليظهر القاتل، لأن في الأربعين سنة تكون الجثة قد اتلفت وتغيرت وتلاشت والقوم قد فنى منهم ناس، وهذا إضعاف لمعجزة موسى إذ الشأن في المعجزة أن تظهر ثمرتها عن قرب. وإلا فإن كثيراً من حوادث القتل المشابهة لهذه المسألة تقع الآن في مصر ويكشف القناع عنها في الأيام اليسيرة، بل في الساعات.

لِيَزُولَ الشَّرُّ وَالْفِتْنَةُ وَرُبَّمَا لَزِمَهُ ذَلِكَ لِتَزُولَ التُّهْمَةُ فِي الْقَتْلِ عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ طُرِحَ الْقَتِيلُ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ الَّذِي عَرَّضَهُمْ لِلتُّهْمَةِ فَيَلْزَمُهُ إِزَالَتُهَا فَكَيْفَ يَجُوزُ جَعْلُهُ سَبَبًا لِلتَّثَاقُلِ فِي هَذَا الْفِعْلِ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إِلَّا مُجَرَّدُ الْأَمْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ التَّثَاقُلَ فِيهِ وَالتَّكَاسُلَ فِي الِاشْتِغَالِ بِمُقْتَضَاهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ. قَالَ الْقَاضِي: إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنَ الْمَأْمُورِ إِزَالَةَ شَرٍّ وَفِتْنَةٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِهِ وَإِنَّمَا أَمَرَ تَعَالَى بِذَبْحِهَا لِكَيْ يَظْهَرَ الْقَاتِلُ فَتَزُولَ الْفِتْنَةُ وَالشَّرُّ الْمُخَوِّفُ فِيهِمْ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ هَذَا الْجِنْسِ الضَّارِّ وَاجِبٌ، فَلَمَّا كَانَ الْعِلَاجُ إِزَالَتَهُ بِهَذَا الْفِعْلِ صَارَ واجباً وأيضاً فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنَّ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ أَنَّ التَّعَبُّدَ بِالْقُرْبَانِ لَا يَكُونُ إِلَّا سَبِيلَ الْوُجُوبِ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ كَفَاهُمْ مُجَرَّدُ الْأَمْرِ. وَأَقُولُ: حَاصِلُ هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ يَرْجِعُ إِلَى حَرْفٍ واحد وهو أنا وإنا كُنَّا لَا نَقُولُ إِنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فَلَا نَقُولُ: إِنَّهُ يُنَافِي الْوُجُوبَ أَيْضًا فَلَعَلَّهُ فَهِمَ الْوُجُوبَ هَاهُنَا بِسَبَبٍ آخَرَ سِوَى الْأَمْرِ، وَذَلِكَ السَّبَبُ الْمُنْفَصِلُ إِمَّا قَرِينَةٌ حَالِيَّةٌ وَهِيَ الْعِلْمُ بِأَنَّ دَفْعَ الْمَضَارِّ وَاجِبٌ، أَوْ مَقَالِيَّةٌ وَهِيَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ أَنَّ الْقُرْبَانَ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمَذْكُورَ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فَلَمَّا ذُكِرَ الذَّمُّ وَالتَّوْبِيخُ عَلَى تَرْكِ الذَّبْحِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلِمْنَا أَنَّ مَنْشَأَ ذَلِكَ هُوَ مُجَرَّدُ وُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ لِمَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ. الْبَحْثُ الْخَامِسُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ يُفِيدُ الْفَوْرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ وَرَدَ التَّعْنِيفُ عَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ عِنْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لِلْفَوْرِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها فَاعْلَمْ أَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ الْقَتْلِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا لِأَمْرِهِ تَعَالَى بِالذَّبْحِ. أَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْ وُقُوعِ ذَلِكَ الْقَتْلِ وَعَنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُضْرَبَ الْقَتِيلُ بِبَعْضِ تِلْكَ الْبَقَرَةِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ قِصَّةِ الْبَقَرَةِ، فَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: هَذِهِ الْقِصَّةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً فِي التِّلَاوَةِ عَلَى الْأُولَى خَطَأٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي نَفْسِهَا يَجِبُ أَنْ تكون متقدمة على الأول فِي الْوُجُودِ، فَأَمَّا التَّقَدُّمُ فِي الذِّكْرِ فَغَيْرُ وَاجِبٍ لِأَنَّهُ تَارَةً يَتَقَدَّمُ ذِكْرُ السَّبَبِ عَلَى ذِكْرِ الْحُكْمِ وَأُخْرَى عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْوَاقِعَةُ أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ فَلَمَّا ذَبَحُوهَا قَالَ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا مِنْ قَبْلُ وَاخْتَلَفْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فَإِنِّي مُظْهِرٌ لَكُمُ الْقَاتِلَ الَّذِي سَتَرْتُمُوهُ بِأَنْ يُضْرَبَ الْقَتِيلُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ الْمَذْبُوحَةِ، وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ. فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّهُ لَا خَلَلَ فِي هَذَا النَّظْمِ، وَلَكِنَّ النَّظْمَ الْآخَرَ كَانَ مُسْتَحْسَنًا فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَرْجِيحِ هَذَا النَّظْمِ؟ قُلْنَا: إِنَّمَا قُدِّمَتْ قِصَّةُ الْأَمْرَ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ عَلَى ذِكْرِ الْقَتِيلِ لِأَنَّهُ لَوْ عَمِلَ عَلَى عَكْسِهِ لَكَانَتْ قِصَّةً وَاحِدَةً وَلَوْ كَانَتْ قِصَّةً وَاحِدَةً لَذَهَبَ الْغَرَضُ مِنْ بَيْنِيَّةِ التَّفْرِيعِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَادَّارَأْتُمْ فِيها فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: اخْتَلَفْتُمْ وَاخْتَصَمْتُمْ فِي شَأْنِهَا لِأَنَّ الْمُتَخَاصِمِينَ يَدْرَأُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَيْ يُدَافِعُهُ وَيُزَاحِمُهُ. وَثَانِيهَا: «ادَّارَأْتُمْ» أَيْ يَنْفِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمُ الْقَتْلَ عَنْ نَفْسِهِ وَيُضِيفُهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَثَالِثُهَا: دَفْعُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا عَنِ الْبَرَاءَةِ وَالتُّهْمَةِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ/ فِيهِ أَنَّ الدَّرْءَ هُوَ الدَّفْعُ. فَالْمُتَخَاصِمُونَ إِذَا تَخَاصَمُوا فَقَدْ دَفَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ تِلْكَ التُّهْمَةَ، وَدَفَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُجَّةَ صَاحِبِهِ عَنْ تِلْكَ الْفِعْلَةِ، وَدَفَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُجَّةَ صَاحِبِهِ فِي إِسْنَادِ تِلْكَ التُّهْمَةِ إِلَى غَيْرِهِ وَحَجَّةَ صَاحِبِهِ فِي بَرَاءَتِهِ عَنْهُ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَالْكِنَايَةُ فِي (فِيهَا) لِلنَّفْسِ، أَيْ فَاخْتَلَفْتُمْ فِي النَّفْسِ وَيُحْتَمَلُ فِي الْقِتْلَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: قَتَلْتُمْ يَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أَيْ مُظْهِرٌ لَا مَحَالَةَ مَا كَتَمْتُمْ مِنْ أَمْرِ الْقَتْلِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أُعْمِلَ «مُخْرِجٌ» وَهُوَ فِي مَعْنَى الْمُضِيِّ؟ قُلْنَا: قَدْ حَكَى مَا كَانَ مُسْتَقْبَلًا فِي وَقْتِ التَّدَارُءِ كَمَا حَكَى الْحَاضِرُ فِي قَوْلِهِ: باسِطٌ ذِراعَيْهِ [الْكَهْفِ: 18] وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَهُمَا «ادَّارَأْتُمْ، فَقُلْنَا» ثُمَّ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أَيْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا حُكِمَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ وَالتَّنَازُعَ فِي بَابِ الْقَتْلِ يَكُونُ سَبَبًا لِلْفِتَنِ وَالْفَسَادِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ فَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ: لَا بُدَّ وَأَنْ يُزِيلَ هَذَا الْكِتْمَانَ لِيَزُولَ ذَلِكَ الْفَسَادُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُرِيدُ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى بِهِ وَلَا يَخْلُقُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَإِلَّا لَمَا قَدَرَ عَلَى إِظْهَارِ مَا كَتَمُوهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَا يُسِرُّهُ الْعَبْدُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَدَامَ ذَلِكَ مِنْهُ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُظْهِرُهُ. قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ عَبْدًا لَوْ أَطَاعَ اللَّهَ مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حِجَابًا لَأَظْهَرَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ» وَكَذَلِكَ الْمَعْصِيَةُ. وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: «قُلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ يُخْفُونَ لِي أَعْمَالَهُمْ وَعَلَيَّ أَنْ أُظْهِرَهَا لَهُمْ» . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ وُرُودُ الْعَامِّ لِإِرَادَةِ الْخَاصِّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ الْمَكْتُومَاتِ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ صَاحِبَ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ طَلَبَهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى وَجَدَهَا، ثُمَّ ذُبِحَتْ إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها لِلتَّعْقِيبِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها حَصَلَ عَقِيبَ قوله تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اضْرِبُوهُ ضَمِيرٌ وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى النَّفْسِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّذْكِيرُ عَلَى تَأْوِيلِ الشَّخْصِ وَالْإِنْسَانِ وَإِمَّا إِلَى الْقَتِيلِ وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ، لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِذَبْحِهَا مَصْلَحَةٌ/ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِذَبْحِهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا عَلَى السَّوِيَّةِ وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ لَوْ قَامَ غَيْرُهَا مَقَامَهَا لَمَا وَجَبَتْ عَلَى التَّعْيِينِ، بَلْ عَلَى التَّخَيُّرِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا وَهَاهُنَا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي ضَرْبِ الْمَقْتُولِ بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَهُ ابْتِدَاءً؟ الْجَوَابُ: الْفَائِدَةُ فِيهِ لِتَكُونَ الْحُجَّةُ أَوْكَدَ وَعَنِ الْحِيلَةِ أَبْعَدَ فَقَدْ كَانَ يَجُوزُ لِمُلْحِدٍ أَنْ يُوهِمَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا أَحْيَاهُ بِضَرْبٍ مِنَ السِّحْرِ وَالْحِيلَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا حيي عند ما يُضْرَبُ بِقِطْعَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ الْمَذْبُوحَةِ انْتَفَتِ الشُّبْهَةُ فِي أَنَّهُ لَمْ يَحْيَ بِشَيْءٍ انْتَقَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْجِسْمِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ إِنَّمَا حَيِيَ بِفِعْلٍ فَعَلُوهُ هُمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إِعْلَامَ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا بِتَمْوِيهٍ مِنَ الْعِبَادِ وَأَيْضًا فَتَقْدِيمُ الْقُرْبَانِ مِمَّا يُعَظِّمُ أَمْرَ الْقُرْبَانِ.

السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلَّا أَمَرَ بِذَبْحِ غَيْرِ الْبَقَرَةِ، وَأَجَابُوا بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي غَيْرِهَا لَوْ أُمِرُوا به كالكلام فيها، ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهَا فَوَائِدَ، مِنْهَا التَّقَرُّبُ بِالْقُرْبَانِ الَّذِي كَانَتِ الْعَادَةُ بِهِ جَارِيَةً وَلِأَنَّ هَذَا الْقُرْبَانَ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ الْقَرَابِينِ وَلِمَا فِيهِ مِنْ مَزِيدِ الثَّوَابِ لِتَحَمُّلِ الْكُلْفَةِ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ عَلَى غَلَاءِ ثَمَنِهَا، وَلِمَا فِيهِ مِنْ حُصُولِ الْمَالِ الْعَظِيمِ لِمَالِكِ الْبَقَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ الَّذِي ضَرَبُوا الْقَتِيلَ بِهِ مَا هُوَ؟ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُخَيَّرِينَ فِي أَبْعَاضِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِضَرْبِ الْقَتِيلِ بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ وَأَيُّ بَعْضٍ مِنْ أَبِعَاضِ الْبَقَرَةِ ضَرَبُوا الْقَتِيلَ بِهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُمْتَثِلِينَ لِمُقْتَضَى قَوْلِهِ: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها وَالْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْقَتِيلُ فَقِيلَ: لِسَانُهَا وَقِيلَ: فَخْذُهَا الْيُمْنَى وَقِيلَ: ذَنَبُهَا وَقِيلَ: الْعَظْمُ الَّذِي يَلِي الْغُضْرُوفَ وَهُوَ أَصْلُ الْآذَانِ، وَقِيلَ: الْبِضْعَةُ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنْ وَرَدَ خَبَرٌ صَحِيحٌ قُبِلَ وَإِلَّا وَجَبَ السُّكُوتُ عَنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ، فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا فَضَرَبُوهُ بِبَعْضِهَا فَحَيِيَ إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَعَلَيْهِ هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ [الْبَقَرَةِ: 60] أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ، رُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا ضَرَبُوهُ قَامَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَوْدَاجُهُ تَشْخُبُ دَمًا، وَقَالَ قَتَلَنِي فُلَانٌ، وَفُلَانٌ لا بني عَمِّهِ ثُمَّ سَقَطَ مَيِّتًا: وَقُتِلَا. أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ وجهان: أحدهما: أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى نَفْسِ ذَلِكَ الْمَيِّتِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ احْتِجَاجٌ فِي صِحَّةِ الْإِعَادَةِ، ثُمَّ هذا الِاحْتِجَاجُ أَهْوَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَوْ عَلَى غَيْرِهِمْ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَصَمُّ: إِنَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ إِنْ ظَهَرَ لَهُمْ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ هَذَا الْإِحْيَاءَ قَدْ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلِمُوا صِحَّةَ الْإِعَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ دِاعِيَةً لَهُمْ إِلَى التَّفَكُّرِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ مِنْهُ تَعَالَى ذِكْرُ الْأَمْرِ بِالضَّرْبِ وَأَنَّهُ سَبَبُ إحياء ذلك/ الميت، ثم قال: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى فَجَمَعَ الْمَوْتى وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ الْقَتِيلَ لَمَا جَمَعَ فِي الْقَوْلِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: دَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِعَادَةَ كَالِابْتِدَاءِ فِي قُدْرَتِهِ. الثَّانِي: قَالَ الْقَفَّالُ: ظَاهِرُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِحْيَاءُ اللَّهِ تَعَالَى لِسَائِرِ الْمَوْتَى يَكُونُ مِثْلَ هَذَا الْإِحْيَاءِ الَّذِي شَاهَدْتُمْ، لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ وَلَمْ يُشَاهِدُوا شَيْئًا مِنْهُ، فَإِذَا شَاهَدُوهُ اطْمَأَنَّتْ قُلُوبُهُمْ وَانْتَفَتْ عَنْهُمُ الشُّبْهَةُ الَّتِي لَا يَخْلُو مِنْهَا الْمُسْتَدِلُّ، وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى إِلَى قَوْلِهِ: لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَةِ: 26] فَأَحْيَا اللَّهُ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْقَتِيلَ عَيَانًا، ثُمَّ قَالَ لهم: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى أَيْ كَالَّذِي أَحْيَاهُ فِي الدُّنْيَا يُحْيِي فِي الْآخِرَةِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ فِي ذَلِكَ الْإِيجَادِ إِلَى مَادَّةٍ وَمُدَّةٍ وَمِثَالٍ وَآلَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى عَلَى أَنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَاسَ عَلَى إِحْيَاءِ ذَلِكَ الْقَتِيلِ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا كَوْنُ الْقَتِيلِ مَيِّتًا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنْ ذَلِكَ كَانَ آيَةً وَاحِدَةً فَلِمَ سُمِّيَتْ بِالْآيَاتِ؟

وَالْجَوَابُ: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ. الْعَالِمِ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، الْمُخْتَارِ فِي الْإِيجَادِ وَالْإِبْدَاعِ، وَعَلَى صِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى بَرَاءَةِ سَاحَةِ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَاتِلًا. وَعَلَى تَعَيُّنِ تِلْكَ التُّهْمَةِ عَلَى مَنْ بَاشَرَ ذَلِكَ الْقَتْلَ، فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ آيَةً وَاحِدَةً إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا دَلَّتْ عَلَى هَذِهِ الْمَدْلُولَاتِ الْكَثِيرَةِ لَا جَرَمَ جَرَتْ مَجْرَى الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ «لَعَلَّ» قَدْ تَقَدَّمَ تفسيرها في قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا عُقَلَاءَ قَبْلَ عَرْضِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَيْهِمْ وَإِذَا كَانَ الْعَقْلُ حَاصِلًا امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ: إِنِّي عَرَضْتُ عَلَيْكَ الْآيَةَ الْفُلَانِيَّةَ لِكَيْ تَصِيرَ عَاقِلًا، فَإِذَنْ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَعَلَّكُمْ تَعْمَلُونَ عَلَى قَضِيَّةِ عُقُولِكُمْ وَأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى إِحْيَاءِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ قَدِرَ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَنْفُسِ كُلِّهَا لِعَدَمِ الِاخْتِصَاصِ، حَتَّى لَا يُنْكِرُوا الْبَعْثَ، هَذَا آخِرُ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ ذَكَرَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْقَاتِلَ هَلْ يَرِثُ أَمْ لَا؟ قَالُوا: لَا. لِأَنَّهُ روي عن عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ قَاتِلًا فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ حُرِمَ مِنَ الْمِيرَاثِ لِأَجْلِ كَوْنِهِ قَاتِلًا. قَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ جَعْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الظَّاهِرِ أَنَّ الْقَاتِلَ هَلْ كَانَ وَارِثًا لِقَتِيلِهِ أَمْ لَا؟ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا لَهُ فَهَلْ حُرِمَ الْمِيرَاثَ أَمْ لَا؟ وَلَيْسَ يَجِبُ إِذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ الْقَاتِلَ حُرِمَ لِمَكَانِ قَتْلِهِ الْمِيرَاثَ أَنْ يُعَدَّ ذَلِكَ فِي جُمْلَةِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ إِذَا كَانَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا مُجْمَلًا وَلَا مُفَصَّلًا، وَإِذَا كَانَ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ شَرْعَهُمْ كَشَرْعِنَا وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ، فَإِدْخَالُ هَذَا الْكَلَامِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ تَعَسُّفٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي حَقٌّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلْنَذْكُرْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي أَنَّ الْقَاتِلَ هَلْ يَرِثُ أَمْ لَا، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَرِثُ سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً أَوْ كَانَ مُسْتَحَقًّا كَالْعَادِلِ إِذَا قَتَلَ الْبَاغِيَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، لَا يَرِثُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ إِلَّا أَنَّ الْعَادِلَ إِذَا قَتَلَ الْبَاغِيَ فَإِنَّهُ يَرِثُهُ، وَكَذَا الْقَاتِلُ إِذَا كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا يَرِثُهُ لَا من ديته ولا من سائر أمواله، وهو قَوْلُ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: قَاتِلُ الْخَطَأِ يَرِثُ وَقَاتِلُ الْعَمْدِ لَا يَرِثُ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَرِثُهُ مِنْ دِيَتِهِ وَيَرِثُهُ مِنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِعُمُومِ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ الْمُسْتَفِيضِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِنَ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ» إِلَّا أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْخَبَرِ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ جَوَّزْنَا تَخْصِيصَ عُمُومِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، ثُمَّ هَاهُنَا دَقِيقَةٌ وَهِيَ أَنَّ تَطَرُّقَ التَّخْصِيصِ إِلَى الْعَامِّ يُفِيدُ نَوْعَ ضَعْفٍ فَلَوْ خَصَّصْنَا هَذَا الْخَبَرَ بِبَعْضِ الصُّوَرِ فَحِينَئِذٍ يَتَوَالَى عَلَيْهِ أَسْبَابُ الضَّعْفِ، فَإِنَّ كَوْنَهُ خَبَرَ وَاحِدٍ يُوجِبُ الضَّعْفَ وَكَوْنَهُ عَلَى مُصَادَمَةِ الْكِتَابِ سَبَبٌ آخَرُ وَكَوْنَهُ مَخْصُوصًا سَبَبٌ آخَرُ، فَلَوْ خَصَّصْنَا عُمُومَ الْكِتَابِ بِهِ لَكُنَّا قَدْ رَجَّحْنَا الضَّعِيفَ جِدًّا عَلَى الْقَوِيِّ جِدًّا. أَمَّا إِذَا لَمْ يُخَصَّصْ هَذَا الْخَبَرُ أَلْبَتَّةَ انْدَفَعَ عَنْهُ بَعْضُ أَسْبَابِ الضَّعْفِ فَحِينَئِذٍ لَا يَبْعُدُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ بِهِ. وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَلَى أَنَّ الْعَادِلَ إِذَا قَتَلَ الْبَاغِيَ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مَحْرُومًا عَنِ الْمِيرَاثِ بِأَنَّا لَا نَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ مَنْ وَجَبَ لَهُ الْقَوَدُ عَلَى إِنْسَانٍ فَقَتَلَهُ قَوَدًا أَنَّهُ لَا يُحْرَمُ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يمنعون هذه الصورة والله أعلم.

[سورة البقرة (2) : آية 74]

[سورة البقرة (2) : آية 74] ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الشَّيْءُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ بِأَصْلِ ذَاتِهِ أَنْ يَقْبَلَ الْأَثَرَ عَنْ شَيْءٍ آخَرَ ثُمَّ إِنَّهُ عَرَضَ لِذَلِكَ الْقَابِلِ مَا لِأَجْلِهِ صَارَ بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُ الْأَثَرَ فَيُقَالُ لِذَلِكَ الْقَابِلِ: إِنَّهُ صَارَ صُلْبًا غَلِيظًا قَاسِيًا، فَالْجِسْمُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جِسْمٌ يَقْبَلُ الْأَثَرَ عَنِ الْغَيْرِ إِلَّا أَنَّ صِفَةَ الْحَجَرِيَّةِ لَمَّا عَرَضَتْ لِلْجِسْمِ صَارَ/ جِسْمُ الْحَجَرِ غَيْرَ قَابِلٍ وَكَذَلِكَ الْقَلْبُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَأَثَّرَ عَنْ مُطَالَعَةِ الدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ وَالْعِبَرِ وَتَأَثُّرُهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ التَّمَرُّدِ وَالْعُتُوِّ وَالِاسْتِكْبَارِ وَإِظْهَارِ الطَّاعَةِ وَالْخُضُوعِ لِلَّهِ وَالْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا عَرَضَ لِلْقَلْبِ عَارِضٌ أَخْرَجَهُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ صَارَ فِي عَدَمِ التَّأَثُّرِ شَبِيهًا بِالْحَجَرِ فَيُقَالُ: قَسَا الْقَلْبُ وَغَلُظَ، وَلِذَلِكَ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصْفَ الْمُؤْمِنِينَ بِالرِّقَّةِ فَقَالَ: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزُّمَرِ: 23] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ: قُلُوبُكُمْ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيِ اشْتَدَّتْ قُلُوبُكُمْ وَقَسَتْ وَصَلَبَتْ مِنْ بَعْدِ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي جَاءَتْ أَوَائِلَكُمْ وَالْأُمُورُ الَّتِي جَرَتْ عَلَيْهِمْ وَالْعِقَابُ الَّذِي نَزَلَ بِمَنْ أَصَرَّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مِنْهُمْ وَالْآيَاتُ الَّتِي جَاءَهُمْ بِهَا أَنْبِيَاؤُهُمْ وَالْمَوَاثِيقُ الَّتِي أَخَذُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى كُلِّ مَنْ دَانَ بِالتَّوْرَاةِ مِمَّنْ سِوَاهُمْ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ طُغْيَانِهِمْ وَجَفَائِهِمْ مَعَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِآيَاتِ اللَّهِ الَّتِي تَلِينُ عِنْدَهَا الْقُلُوبُ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ، فَحَمْلُهُ عَلَى الْحَاضِرِينَ أَوْلَى، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أُولَئِكَ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خُصُوصًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ سَلَفِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ بَعْدِ مَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إِحْيَاءِ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدَ ضربه بعض الْبَقَرَةِ الْمَذْبُوحَةِ حَتَّى عُيِّنَ الْقَاتِلُ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَتِيلَ لَمَّا عَيَّنَ الْقَاتِلَ نَسَبَهُ الْقَاتِلُ إِلَى الْكَذِبِ وَمَا تَرَكَ الْإِنْكَارَ، بَلْ طَلَبَ الْفِتْنَةَ وَسَاعَدَهُ عَلَيْهِ جَمْعٌ، فَعِنْدَهُ قَالَ تَعَالَى وَاصِفًا لَهُمْ: إِنَّهُمْ بَعْدَ ظُهُورِ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ، أَيْ صَارَتْ قُلُوبُهُمْ بَعْدَ ظُهُورِ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقَسْوَةِ كَالْحِجَارَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ إِشَارَةً إِلَى جَمِيعِ مَا عَدَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي أَظْهَرُهَا عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الْيَهُودَ بَعْدَ أَنْ كَثُرَتْ مُشَاهَدَتُهُمْ لَهَا مَا خَلَوْا مِنَ الْعِنَادِ وَالِاعْتِرَاضِ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي أَخْبَارِهِمْ فِي التِّيهِ لِمَنْ نَظَرُ فِيهَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً فِيهِ مَسَائِلُ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَلِمَةُ «أَوْ» لِلتَّرْدِيدِ وَهِيَ لَا تَلِيقُ بِعَلَّامِ الْغُيُوبِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصَّافَّاتِ: 147] بِمَعْنَى وَيَزِيدُونَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ [النُّورِ: 31] وَالْمَعْنَى وَآبَائِهِنَّ وَكَقَوْلِهِ: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ [النُّورِ: 61] يَعْنِي وَبُيُوتَ آبَائِكُمْ. وَمِنْ نَظَائِرِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طَهَ: 44] ، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً [الْمُرْسَلَاتِ: 5، 6] . وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُبْهِمَهُ عَلَى الْعِبَادِ فَقَالَ ذَلِكَ كما

يَقُولُ الْمَرْءُ لِغَيْرِهِ: أَكَلْتُ خُبْزًا أَوْ تَمْرًا وَهُوَ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ أَكَلَ أَحَدَهُمَا إِذَا أراد أن يُبَيِّنَهُ لِصَاحِبِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَهِيَ كالحجارة، ومنها ما هو أَشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْآدَمِيِّينَ إِذَا/ اطَّلَعُوا عَلَى أَحْوَالِ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: إِنَّهَا كَالْحِجَارَةِ أَوْ هِيَ أَشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى [النَّجْمِ: 9] أَيْ فِي نَظَرِكُمْ وَاعْتِقَادِكُمْ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ كَلِمَةَ «أَوْ» بِمَعْنَى بَلْ وَأَنْشَدُوا: فو الله مَا أَدْرِي أَسَلْمَى تَغَوَّلَتْ ... أَمِ الْقَوْمُ أَوْ كُلٌّ إِلَيَّ حَبِيبُ قَالُوا: أَرَادَ بَلْ كُلٌّ. وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ عَلَى حَدِّ قَوْلِكَ مَا آكُلُ إِلَّا حُلْوًا أَوْ حَامِضًا أَيْ طَعَامِي لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَيْنِ، بَلْ يَتَرَدَّدُ عَلَيْهِمَا، وَبِالْجُمْلَةِ: فَلَيْسَ الْغَرَضُ إِيقَاعَ التَّرَدُّدِ بَيْنَهُمَا، بَلْ نَفْيَ غَيْرِهِمَا. وَسَابِعُهَا: أَنَّ «أَوْ» حَرْفُ إِبَاحَةٍ كَأَنَّهُ قِيلَ بِأَيِّ هَذَيْنِ شَبَّهْتَ قُلُوبَهُمْ كَانَ صِدْقًا كَقَوْلِكَ: جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ أَيْ أَيَّهُمَا جَالَسْتَ كُنْتَ مُصِيبًا وَلَوْ جَالَسْتَهُمَا مَعًا كُنْتَ مُصِيبًا أَيْضًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : «أَشُدُّ» مَعْطُوفٌ عَلَى الْكَافِ، إِمَّا عَلَى معنى أو مثل: «أَشَدُّ قَسْوَةً» فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ وَإِمَّا عَلَى أَوْ هِيَ أَنْفُسُهَا أَشَدُّ قَسْوَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا وَصَفَهَا بِأَنَّهَا أَشَدُّ قَسْوَةً لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْحِجَارَةَ لَوْ كَانَتْ عاقلة ولقيتها هذه الآية لقبلنها كَمَا قَالَ: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الْحَشْرِ: 21] . وَثَانِيهَا: أَنَّ الْحِجَارَةَ لَيْسَ فِيهَا امْتِنَاعٌ مِمَّا يَحْدُثُ فِيهَا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَتْ قَاسِيَةً بَلْ هِيَ مُنْصَرِفَةٌ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ مِنْ تَسْخِيرِهِ، وَهَؤُلَاءِ مَعَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي اتِّصَالِ الْآيَاتِ عِنْدَهُمْ وَتَتَابُعِ النِّعَمِ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْ طَاعَتِهِ وَلَا تَلِينُ قُلُوبُهُمْ لِمَعْرِفَةِ حَقِّهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَامِ: 38] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ [الْأَنْعَامِ: 39] كَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ غَيْرِ بَنِي آدَمَ أُمَمٌ سُخِّرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا لِشَيْءٍ وَهُوَ مُنْقَادٌ لِمَا أُرِيدَ مِنْهُ وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ يَمْتَنِعُونَ عَمَّا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُمْ. وَثَالِثُهَا: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً، لِأَنَّ الْأَحْجَارَ يُنْتَفَعُ بِهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَيَظْهَرُ مِنْهَا الْمَاءُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، أَمَّا قُلُوبُ هَؤُلَاءِ فَلَا نَفْعَ فِيهَا الْبَتَّةَ وَلَا تَلِينُ لِطَاعَةِ اللَّهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْقَاضِي: إِنْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقَ فِيهِمُ الدَّوَامَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ ذَمُّهُمْ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَلَوْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاطَبَهُمْ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الصَّلَابَةَ فِي الْحِجَارَةِ هُوَ الَّذِي خَلَقَ فِي قُلُوبِنَا الْقَسْوَةَ وَالْخَالِقُ فِي الْحِجَارَةِ انْفِجَارَ الْأَنْهَارِ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَنْقُلَنَا عَمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِخَلْقِ الْإِيمَانِ فِينَا، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ فَعُذْرُنَا ظَاهِرٌ لَكَانَتْ حُجَّتُهُمْ عَلَيْهِ أَوْكَدَ مِنْ حُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا النَّمَطُ مِنَ الْكَلَامِ قَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرًا وَتَفْرِيعًا مِرَارًا وَأَطْوَارًا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِنَّمَا قَالَ: أَشَدُّ قَسْوَةً وَلَمْ يَقُلْ أَقْسَى، لِأَنَّ ذَلِكَ أَدَلُّ عَلَى فَرْطِ الْقَسْوَةِ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ لَا يَقْصِدَ مَعْنَى الْأَقْسَى، وَلَكِنْ قَصَدَ وَصْفَ الْقَسْوَةِ بِالشِّدَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: اشْتَدَّتْ قَسْوَةُ الْحِجَارَةِ وَقُلُوبُهُمْ أَشَدُّ قَسْوَةً، وَقُرِئَ «قَسَاوَةً» وَتُرِكَ ضَمِيرُ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْإِلْبَاسِ/ كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ كَرِيمٌ وَعَمْرٌو أَكْرَمُ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَضَّلَ الْحِجَارَةَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِأَنْ بَيَّنَ أَنَّ الْحِجَارَةَ قَدْ يَحْصُلُ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَلَا يُوجَدُ فِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ شَيْءٌ مِنَ الْمَنَافِعِ. فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ: «وَإِنْ» بِالتَّخْفِيفِ وَهِيَ إِنِ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ الَّتِي تَلْزَمُهَا اللَّامُ الْفَارِقَةُ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يَسْ: 32] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: التَّفَجُّرُ التَّفَتُّحُ بِالسَّعَةِ وَالْكَثْرَةِ، يُقَالُ: انْفَجَرَتْ قُرْحَةُ فُلَانٍ، أَيِ انْشَقَّتْ بِالْمُدَّةِ وَمِنْهُ الْفَجْرُ وَالْفُجُورُ. وَقَرَأَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ «يَنْفَجِرُ» بِمَعْنَى وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ مَا يَنْشَقُّ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ الَّذِي يَجْرِي حَتَّى تَكُونَ مِنْهُ الْأَنْهَارُ. قَالَتِ الْحُكَمَاءُ: إِنَّ الْأَنْهَارَ إِنَّمَا تَتَوَلَّدُ عَنْ أَبْخِرَةٍ تَجْتَمِعُ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ، فَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْأَرْضِ رَخْوًا انْشَقَّتْ تِلْكَ الْأَبْخِرَةُ وَانْفَصَلَتْ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْأَرْضِ صُلْبًا حَجَرِيًّا اجْتَمَعَتْ تِلْكَ الْأَبْخِرَةُ، وَلَا يَزَالُ يَتَّصِلُ تَوَالِيهَا بِسَوَابِقِهَا حَتَّى تَكْثُرَ كَثْرَةً عَظِيمَةً فَيَعْرِضَ حِينَئِذٍ مِنْ كَثْرَتِهَا وَتَوَاتُرِ مَدِّهَا أَنْ تَنْشَقَّ الْأَرْضُ وَتَسِيلَ تِلْكَ الْمِيَاهُ أَوْدِيَةً وَأَنْهَارًا. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ، أَيْ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَنْصَدِعُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ فَيَكُونُ عَيْنًا لَا نَهْرًا جَارِيًا، أَيْ أَنَّ الْحِجَارَةَ قَدْ تَنْدَى بِالْمَاءِ الْكَثِيرِ وَبِالْمَاءِ الْقَلِيلِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلُ تَفَاوُتِ الرُّطُوبَةِ فِيهَا، وَأَنَّهَا قَدْ تَكْثُرُ فِي حَالٍ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا مَا يَجْرِي مِنْهُ الْأَنْهَارُ، وَقَدْ تُقِلُّ، وَهَؤُلَاءِ قُلُوبُهُمْ فِي نِهَايَةِ الصَّلَابَةِ لَا تَنْدَى بِقَبُولِ شَيْءٍ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَلَا تَنْشَرِحُ لِذَلِكَ وَلَا تَتَوَجَّهُ إِلَى الِاهْتِدَاءِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَشَّقَّقُ أَيْ يَتَشَقَّقُ، فَأُدْغِمَ التاء كقوله: يَذَّكَّرُ أي يتذكر وقوله: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل: 1] ، يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [الْمُدَّثِّرِ: 1] . وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِيهِ إِشْكَالًا وَهُوَ أَنَّ الْهُبُوطَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ صِفَةُ الْأَحْيَاءِ الْعُقَلَاءِ، وَالْحَجَرُ جَمَادٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِيهِ، فَلِهَذَا الْإِشْكَالِ ذَكَرُوا فِي هذه الآية وجوهاً. أحدها: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ خَاصَّةً وَهُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْها رَاجِعٌ إِلَى القلوب، فإنه يَجُوزُ عَلَيْهَا الْخَشْيَةُ وَالْحِجَارَةُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا الْخَشْيَةُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْقُلُوبِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحِجَارَةِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْحِجَارَةَ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَمَّا كَانَ لَائِقًا بِالْقُلُوبِ دُونَ الْحِجَارَةِ وَجَبَ رُجُوعُ هَذَا الضَّمِيرِ إِلَى الْقُلُوبِ دُونَ الْحِجَارَةِ، وَاعْتَرَضُوا عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً جُمْلَةٌ تَامَّةٌ، ثُمَّ ابْتَدَأَ تَعَالَى فَذَكَرَ حَالَ الْحِجَارَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ فَيَجِبُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَيْهَا، الثَّانِي: أَنَّ الْهُبُوطَ يَلِيقُ بِالْحِجَارَةِ لَا بِالْقُلُوبِ، فَلَيْسَ تَأْوِيلُ الْهُبُوطِ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ الْخَشْيَةِ، وَثَانِيهَا: قَوْلُ جَمْعٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْحِجَارَةِ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحِجَارَةَ لَيْسَتْ حَيَّةً عَاقِلَةً، بَيَانُهُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ جَبَلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ تَقَطَّعَ وَتَجَلَّى/ لَهُ رَبُّهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ فِيهِ الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ وَالْإِدْرَاكَ، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا، قالُوا: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فُصِّلَتْ: 21] ، فَكَمَا جُعِلَ الْجِلْدُ يَنْطِقُ وَيَسْمَعُ وَيَعْقِلُ، فَكَذَلِكَ الْجَبَلُ وَصَفَهُ بِالْخَشْيَةِ، وَقَالَ أَيْضًا: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الْحَشْرِ: 21] ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ جَعَلَ فِيهِ الْعَقْلَ والفهم لصار كذلك، وروي أنه حن الجزع لِصُعُودِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ الْوَحْيُ فِي أَوَّلِ الْمَبْعَثِ وَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَنْزِلِهِ سَلَّمَتْ عَلَيْهِ الْأَحْجَارُ وَالْأَشْجَارُ، فَكُلُّهَا كَانَتْ تَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالُوا: فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ يُخْلَقَ فِي بَعْضِ الْأَحْجَارِ عَقْلٌ وَفَهْمٌ حَتَّى تَحْصُلَ الْخَشْيَةُ فِيهِ، وَأَنْكَرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذَا التَّأْوِيلَ لَمَا أَنَّ عِنْدَهُمُ الْبِنْيَةَ وَاعْتِدَالَ الْمِزَاجِ شَرْطُ قَبُولِ الْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ، وَلَا دَلَالَةَ لَهُمْ عَلَى اشْتِرَاطِ الْبِنْيَةِ إِلَّا مُجَرَّدُ الِاسْتِبْعَادِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَيْهِمْ.

[سورة البقرة (2) : آية 75]

وَثَالِثُهَا: قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْحِجَارَةِ، وَأَنَّ الْحِجَارَةَ لَا تَعْقِلُ وَلَا تَفْهَمُ، وَذَكَرُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْوَاعًا مِنَ التَّأْوِيلِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ مَا يَتَرَدَّى مِنَ الْمَوْضِعِ الْعَالِي الَّذِي يَكُونُ فِيهِ فَيَنْزِلُ إِلَى أَسْفَلَ وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ مُصِرُّونَ عَلَى الْعِنَادِ وَالتَّكَبُّرِ، فَكَأَنَّ الْهُبُوطَ مِنَ الْعُلُوِّ جُعِلَ مَثَلًا لِلِانْقِيَادِ، وَقَوْلُهُ: مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، أَيْ ذَلِكَ الْهُبُوطُ لَوْ وُجِدَ مِنَ الْعَاقِلِ الْمُخْتَارِ لَكَانَ بِهِ خَاشِيًا لِلَّهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ [الْكَهْفِ: 77] ، أي جداراً قد ظهر فيه الْمَيَلَانِ وَمُقَارَبَةِ السُّقُوطِ مَا لَوْ ظَهَرَ مَثَلُهُ فِي حَيٍّ مُخْتَارٍ لَكَانَ مُرِيدًا لِلِانْقِضَاضِ، وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: بَخِيلٌ تَضِلُّ الْبُلْقُ مِنْ حجراته ... ترى الأكم فيه سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ وَقَوْلُ جَرِيرٍ: لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَضَعْضَعَتْ ... سُورُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ فَجَعَلَ الْأَوَّلَ مَا ظَهَرَ فِي الْأُكْمِ مِنْ أَثَرِ الْحَوَافِرِ مَعَ عَدَمِ امْتِنَاعِهَا مِنْ دَفْعِ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهَا كَالسُّجُودِ مِنْهَا لِلْحَوَافِرِ، وَكَذَلِكَ الثَّانِي: جَعَلَ مَا ظَهَرَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ آثَارِ الْجَزَعِ كَالْخُشُوعِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَأَوَّلَ أَهْلُ النَّظَرِ قَوْلَهُ تَعَالَى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 44] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [النَّحْلِ: 49] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرَّحْمَنِ: 6] . الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أَيْ وَمِنَ الْحِجَارَةِ مَا يَنْزِلُ وَمَا يَنْشَقُّ وَيَتَزَايَلُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ، عِنْدَ الزَّلَازِلِ مِنْ أَجْلِ مَا يُرِيدُ اللَّهُ بِذَلِكَ مِنْ خَشْيَةِ عِبَادِهِ لَهُ وَفَزَعِهِمْ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّوْبَةِ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ إِهْبَاطِ الْأَحْجَارِ فِي الزَّلَازِلِ الشَّدِيدَةِ أَنْ تَحْصُلَ خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ صَارَتْ تِلْكَ الْخَشْيَةُ كَالْعِلَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي حُصُولِ ذَلِكَ الْهُبُوطِ، فَكَلِمَةُ «مِنْ» لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَقَوْلُهُ: مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، أَيْ بِسَبَبِ أَنْ تَحْصُلَ خَشْيَةُ اللَّهِ فِي الْقُلُوبِ، الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ وَهُوَ أَنَّهُ فَسَّرَ الْحِجَارَةَ بِالْبَرْدِ الَّذِي يَهْبِطُ مِنَ السَّحَابِ تَخْوِيفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ لِيَزْجُرَهُمْ بِهِ. قَالَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: / مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أَيْ خَشْيَةِ اللَّهِ، أَيْ يَنْزِلُ بِالتَّخْوِيفِ لِلْعِبَادِ أَوْ بِمَا يُوجِبُ الْخَشْيَةَ لِلَّهِ كَمَا يُقَالُ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَحْرِيمِ كَذَا وَتَحْلِيلِ كَذَا أَيْ بِإِيجَابِ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، قَالَ الْقَاضِي: هَذَا التَّأْوِيلُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِأَنَّ الْبَرْدَ لَا يُوصَفُ بِالْحِجَارَةِ، لِأَنَّهُ وَإِنِ اشْتَدَّ عِنْدَ النُّزُولِ فَهُوَ مَاءٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَلِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِالتَّسْمِيَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِالْمِرْصَادِ لِهَؤُلَاءِ الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَحَافِظٌ لِأَعْمَالِهِمْ مُحْصِي لَهَا فَهُوَ يُجَازِيهِمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مَرْيَمَ: 64] وَفِي هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ وَتَخْوِيفٌ كَبِيرٌ لِيَنْزَجِرُوا. فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَافِلٍ؟ قُلْنَا: قَالَ الْقَاضِي: لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ يُوهِمُ جَوَازَ الْغَفْلَةِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْيَ الصِّفَةِ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ صِحَّتِهَا عَلَيْهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [الْبَقَرَةِ: 255] ، وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الْأَنْعَامِ: 14] وَاللَّهُ أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 75] أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)

اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ قَبَائِحَ أَفْعَالِ أَسْلَافِ الْيَهُودِ إِلَى هَاهُنَا، شَرَحَ مِنْ هُنَا قبائح أفعال اليهود الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّ فِيمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ أَقَاصِيصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وُجُوهًا مِنَ الْمَقْصِدِ، أَحَدُهَا: الدَّلَالَةُ بِهَا عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا بِالْوَحْيِ وَيَشْتَرِكُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْعَرَبُ، أَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ هَذِهِ الْقِصَصَ فَلَمَّا سَمِعُوهَا مِنْ مُحَمَّدٍ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ أَصْلًا، عَلِمُوا لَا مَحَالَةَ أَنَّهُ مَا أَخَذَهَا إِلَّا مِنَ الْوَحْيِ. وَأَمَّا الْعَرَبُ فَلَمَّا يُشَاهِدُونَ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُصَدِّقُونَ مُحَمَّدًا فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ. وَثَانِيهَا: تَعْدِيدُ النِّعَمِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى أَسْلَافِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَرَامَةِ وَالْفَضْلِ كَالْإِنْجَاءِ من آل فرعون بعد ما كَانُوا مَقْهُورِينَ مُسْتَعْبَدِينَ وَنَصْرِهِ إِيَّاهُمْ وَجَعْلِهِمْ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا وَتَمْكِينِهِ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَفَرْقِهِ بِهِمُ الْبَحْرَ وَإِهْلَاكِهِ عَدُوَّهُمْ وَإِنْزَالِهِ النُّورَ وَالْبَيَانَ عَلَيْهِمْ بِوَاسِطَةِ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ وَالصَّفْحِ عَنِ الذُّنُوبِ الَّتِي ارْتَكَبُوهَا مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَنَقْضِ الْمَوَاثِيقِ وَمَسْأَلَةِ النَّظَرِ إِلَى اللَّهِ جَهْرَةً، ثُمَّ مَا أَخْرَجَهُ لَهُمْ فِي التِّيهِ مِنَ الْمَاءِ الْعَذْبِ مِنَ الْحَجَرِ وَإِنْزَالِهِ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَوِقَايَتِهِمْ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ بِتَظْلِيلِ الْغَمَامِ، فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ هَذِهِ النِّعَمَ الْقَدِيمَةَ وَالْحَدِيثَةَ، وَثَالِثُهَا: إِخْبَارُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ/ بِتَقْدِيمِ كُفْرِهِمْ وَخِلَافِهِمْ وَشِقَاقِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ مَعَ الأنبياء ومعاندتهم لهم وبلوغهم فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ بَعْدَ مُشَاهَدَتِهِمُ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةَ عَبَدُوا الْعِجْلَ بَعْدَ مُفَارَقَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِيَّاهُمْ بِالْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، فَدَلَّ عَلَى بَلَادَتِهِمْ، ثُمَّ لَمَّا أُمِرُوا بِدُخُولِ الْبَابِ سُجَّدًا وَأَنْ يَقُولُوا حِطَّةٌ وَوَعَدَهُمْ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ وَيَزِيدَ فِي ثَوَابِ مُحْسِنِهِمْ بَدَّلُوا الْقَوْلَ وَفَسَقُوا، ثُمَّ سَأَلُوا الْفُومَ وَالْبَصَلَ بَدَلَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، ثُمَّ امْتَنَعُوا مِنْ قَبُولِ التَّوْرَاةِ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِمُوسَى وَضَمَانِهِمْ لَهُ بِالْمَوَاثِيقِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيَنْقَادُوا لِمَا يَأْتِي بِهِ حَتَّى رُفِعَ فَوْقَهُمُ الْجَبَلُ ثُمَّ اسْتَحَلُّوا الصَّيْدَ فِي السَّبْتِ وَاعْتَدُّوا، ثُمَّ لَمَّا أُمِرُوا بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ شَافَهُوا مُوسَى عليه السلام بقولهم: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً [البقرة: 67] ، ثُمَّ لَمَّا شَاهَدُوا إِحْيَاءَ الْمَوْتَى ازْدَادُوا قَسْوَةً، فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِذَا كَانَتْ هَذِهِ أَفْعَالَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ مَعَ نَبِيِّهِمُ الَّذِي أَعَزَّهُمُ اللَّهُ بِهِ وَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الرِّقِّ وَالْآفَةِ بِسَبَبِهِ، فَغَيْرُ بَدِيعٍ مَا يُعَامِلُ بِهِ أَخْلَافُهُمْ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلْيَهُنْ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَالْمُؤْمِنُونَ مَا تَرَوْنَهُ مِنْ عِنَادِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْحَقِّ. وَرَابِعُهَا: تَحْذِيرُ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ كَمَا نَزَلَ بِأَسْلَافِهِمْ فِي تِلْكَ الْوَقَائِعِ الْمَعْدُودَةِ. وَخَامِسُهَا: تَحْذِيرُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَنْ يَنْزِلَ الْعَذَابُ عَلَيْهِمْ كَمَا نَزَلَ عَلَى أُولَئِكَ الْيَهُودِ، وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ احْتِجَاجٌ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ الْمُنْكِرِينَ لِلْإِعَادَةِ مَعَ إِقْرَارِهِمْ بِالِابْتِدَاءِ، وَهُوَ المراد من قوله تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى [البقرة: 73] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ شَدِيدَ الْحِرْصِ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى الْحَقِّ وَقَبُولِهِمُ الْإِيمَانَ مِنْهُ، وَكَانَ يَضِيقُ صَدْرُهُ بِسَبَبِ عِنَادِهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ، فَقَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَخْبَارَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْعِنَادِ الْعَظِيمِ مَعَ مُشَاهَدَةِ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ تَسْلِيَةً لِرَسُولِهِ فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي زَمَانِهِ مِنْ قِلَّةِ الْقَبُولِ وَالِاسْتِجَابَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً لِأَنَّهُ هُوَ الدَّاعِي وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالِاسْتِجَابَةِ وَاللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ لِلْعُمُومِ، لَكِنَّا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْخُصُوصِ لِهَذِهِ الْقَرِينَةِ، رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَدَعَا الْيَهُودَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَكَذَّبُوهُ فَأَنْزَلَ الله

تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا أَلْيَقُ بِالظَّاهِرِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ فِي الدُّعَاءِ فَقَدْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَيُظْهِرُ لَهُمُ الدَّلَائِلَ وَيُنَبِّهَهُمْ عَلَيْهَا، فَصَحَّ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَيُرِيدُ بِهِ الرَّسُولَ وَمَنْ هَذَا حَالُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا فَلَا وَجْهَ لِتَرْكِ الظَّاهِرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ هُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَصِحُّ فِيهِمُ الطَّمَعُ فِي أَنْ يُؤْمِنُوا وَخِلَافُهُ لِأَنَّ الطَّمَعَ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْوَاقِعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ الِاسْتِبْعَادِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ مَعَ أَنَّهُمْ مَا آمَنُوا بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ هُوَ السَّبَبَ فِي أَنَّ اللَّهَ خَلَّصَهُمْ مِنَ الذُّلِّ وَفَضَّلَهُمْ عَلَى الْكُلِّ، وَمَعَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الْمُتَوَالِيَةِ عَلَى يَدِهِ وَظُهُورِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ عَلَى الْمُتَمَرِّدِينَ. الثَّانِي: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا وَيُظْهِرُوا التَّصْدِيقَ وَمَنْ عَلِمَ مِنْهُمُ الْحَقَّ لَمْ يَعْتَرِفْ بِذَلِكَ، بَلْ غَيَّرَهُ وَبَدَّلَهُ. الثَّالِثُ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنَ لَكُمْ هَؤُلَاءِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَكَيْفَ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ أَسْلَافِهِمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ حَقٌّ ثُمَّ يُعَانِدُونَهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْقَوْمُ مُكَلَّفُونَ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ. فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [العنكبوت: 26] الْجَوَابُ: أَنَّهُ يَكُونُ إِقْرَارًا لَهُمْ بِمَا دُعُوا إِلَيْهِ وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ لِلَّهِ كَمَا قَالَ تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ لَمَّا أَقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ وَبِتَصْدِيقِهِ، وَيَجُوزُ أَنَّ يُرَادَ بِذَلِكَ أَنْ يُؤْمِنُوا لِأَجْلِكُمْ وَلِأَجْلِ تَشَدُّدِكُمْ فِي دُعَائِهِمْ إِلَيْهِ فَيَكُونُ هَذَا مَعْنَى الْإِضَافَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْفَرِيقِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْفَرِيقِ مَنْ كَانَ فِي أَيَّامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذَا الْفَرِيقَ بِأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ. وَالَّذِينَ سَمِعُوا كَلَامَ الله هم أَهْلُ الْمِيقَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْمُرَادُ بِالْفَرِيقِ مَنْ كَانَ فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهَذَا أَقْرَبُ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ رَاجِعٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ وَهُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الَّذِينَ تَعَلَّقَ الطَّمَعُ بِإِيمَانِهِمْ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَإِنْ قِيلَ: الَّذِينَ سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ حَضَرُوا الْمِيقَاتَ، قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ بَلْ قَدْ يَجُوزُ فِيمَنْ سَمِعَ التَّوْرَاةَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ كَمَا يُقَالُ لِأَحَدِنَا سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَفَّالُ: التَّحْرِيفُ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ وَأَصْلُهُ مِنَ الِانْحِرَافِ عَنِ الشَّيْءِ وَالتَّحْرِيفِ عَنْهُ، قَالَ تَعَالَى: إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ [الْأَنْفَالِ: 16] وَالتَّحْرِيفُ هُوَ إِمَالَةُ الشَّيْءِ عَنْ حَقِّهِ، يُقَالُ: قَلَمٌ مُحَرَّفٌ إِذَا كَانَ رَأْسُهُ قَطُّ مَائِلًا غَيْرَ مُسْتَقِيمٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّ التَّحْرِيفَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي اللَّفْظِ أَوْ فِي الْمَعْنَى، وَحَمْلُ التَّحْرِيفِ عَلَى تَغْيِيرِ اللَّفْظِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى تَغْيِيرِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا كَانَ بَاقِيًا عَلَى جِهَتِهِ وَغَيَّرُوا تَأْوِيلَهُ فَإِنَّمَا يَكُونُونَ مُغَيِّرِينَ لِمَعْنَاهُ لَا لِنَفْسِ الْكَلَامِ الْمَسْمُوعِ، فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّهُمْ زَادُوا فِيهِ وَنَقَصُوا فَهُوَ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَغْيِيرِ تَأْوِيلِهِ وَإِنْ كَانَ التَّنْزِيلُ ثَابِتًا،

وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ كَلَامُ اللَّهِ ظُهُورًا مُتَوَاتِرًا كَظُهُورِ الْقُرْآنِ، فَأَمَّا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ كَذَلِكَ فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ تَحْرِيفُ نَفْسِ كَلَامِهِ، لَكِنَّ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ تَغْيِيرُهُمْ لَهُ يُؤَثِّرُ فِي قِيَامِ الْحُجَّةِ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَمْنَعَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي ذَلِكَ صَحَّ/ وُقُوعُهُ فَالتَّحْرِيفُ الَّذِي يَصِحُّ فِي الْكَلَامِ يَجِبُ أَنْ يُقَسَّمَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَأَمَّا تَحْرِيفُ الْمَعْنَى فَقَدْ يَصِحُّ عَلَى وَجْهٍ مَا، لَمْ يُعْلَمْ قصد الرسول فيه بِاضْطِرَارٍ فَإِنَّهُ مَتَى عُلِمَ ذَلِكَ امْتَنَعَ مِنْهُمُ التَّحْرِيفُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ عِلْمِهِمْ بِخِلَافِهِ كَمَا يَمْتَنِعُ الْآنَ أَنْ يَتَأَوَّلَ مُتَأَوِّلٌ تَحْرِيمَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ عَلَى غَيْرِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّا إِنْ قُلْنَا بِأَنَّ الْمُحَرِّفِينَ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُمْ حَرَّفُوا مَا لَا يَتَّصِلُ بِأَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا مِنَ السَّبْعِينَ الْمُخْتَارِينَ سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ حِينَ كَلَّمَ مُوسَى بِالطُّورِ وَمَا أُمِرَ بِهِ مُوسَى وَمَا نُهِيَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالُوا: سَمِعْنَا اللَّهَ يَقُولُ فِي آخِرِهِ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَفْعَلُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَافْعَلُوا وَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا فَلَا بَأْسَ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: الْمُحَرِّفُونَ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ تَحْرِيفُ أَمْرِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ إِمَّا أَنَّهُمْ حَرَّفُوا نَعْتَ الرَّسُولِ وَصَفْتَهُ أَوْ لِأَنَّهُمْ حَرَّفُوا الشَّرَائِعَ كَمَا حَرَّفُوا آيَةَ الرَّجْمِ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَيُّ شَيْءٍ حَرَّفُوا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ يَلْزَمُ مِنْ إِقْدَامِ الْبَعْضِ عَلَى التَّحْرِيفِ حُصُولُ اليأس من إيمان الباقين، فإن عند الْبَعْضِ لَا يُنَافِي إِقْرَارَ الْبَاقِينَ؟ أَجَابَ الْقَفَّالُ عَنْهُ فَقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى كَيْفَ يُؤْمِنُ هَؤُلَاءِ وَهُمْ إِنَّمَا يَأْخُذُونَ دِينَهُمْ وَيَتَعَلَّمُونَهُ مِنْ قَوْمٍ هُمْ يَتَعَمَّدُونَ التَّحْرِيفَ عِنَادًا، فَأُولَئِكَ إِنَّمَا يُعَلِّمُونَهُمْ مَا حَرَّفُوهُ وَغَيَّرُوهُ عَنْ وَجْهِهِ وَالْمُقَلِّدَةُ لَا يَقْبَلُونَ إِلَّا ذَلِكَ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الْحَقِّ وَهُوَ كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ: كيف تفلح وأستاذك فلان! أَيْ وَأَنْتَ عَنْهُ تَأْخُذُ وَلَا تَأْخُذُ عَنْ غَيْرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: أَفَتَطْمَعُونَ فَقَالَ قَائِلُونَ: آيَسَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إِيمَانِ هَذِهِ الْفِرْقَةِ وَهُمْ جَمَاعَةٌ بِأَعْيَانِهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يُؤَيِّسْهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الِاسْتِبْعَادِ لَهُ مِنْهُمْ مَعَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ وَالْعِنَادِ، قَالُوا: وَهُوَ كَمَا لَا نَطْمَعُ لِعَبِيدِنَا وَخَدَمِنَا أَنْ يَمْلِكُوا بِلَادَنَا. ثُمَّ إِنَّا لَا نَقْطَعُ بِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ بَلْ نَسْتَبْعِدُ ذَلِكَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، فَكَانَ ذَلِكَ جَزْمًا بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَلْبَتَّةَ فَإِيمَانُ مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ مُمْتَنِعٌ، فَحِينَئِذٍ تَعُودُ الْوُجُوهُ الْمُقَرِّرَةُ لِلْخَبَرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ عَلِمُوا بِصِحَّتِهِ وَفَسَادِ مَا خَلَقُوهُ فَكَانُوا مُعَانِدِينَ مُقْدِمِينَ عَلَى ذَلِكَ بِالْعَمْدِ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ لِضَرْبٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [آلِ عِمْرَانَ: 187] وَقَالَ تَعَالَى: يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [البقرة: 146] [الأنعام: 20] وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي عَدَدِهِمْ قِلَّةٌ لِأَنَّ الْجَمْعَ الْعَظِيمَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ كِتْمَانُ مَا يَعْتَقِدُونَ لِأَنَّا إِنْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَمْ يُعْلَمِ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ وَإِنْ كَثُرَ الْعَدَدُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ يَعْلَمُونَ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ تَكْرَارٌ/ لَا فَائِدَةَ فِيهِ: أَجَابَ الْقَفَّالُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، الأول: من بعد ما عقلوه مُرَادَ اللَّهِ فَأَوَّلُوهُ تَأْوِيلًا فَاسِدًا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ غير مراد الله تعالى. الثاني: أَنَّهُمْ عَقَلُوا مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلِمُوا أَنَّ التَّأْوِيلَ الْفَاسِدَ يُكْسِبُهُمُ الْوِزْرَ وَالْعُقُوبَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَتَى تَعَمَّدُوا التَّحْرِيفَ مَعَ الْعِلْمِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْوِزْرِ كَانَتْ قَسْوَتُهُمْ أَشَدَّ وَجَرَاءَتُهُمْ أَعْظَمَ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ

[سورة البقرة (2) : الآيات 76 إلى 77]

ذَلِكَ تَسْلِيَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَصْبِيرَهُ عَلَى عِنَادِهِمْ فَكُلَّمَا كَانَ عِنَادُهُمْ أَعْظَمَ كَانَ ذَلِكَ فِي التَّسْلِيَةِ أَقْوَى، وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَاضِي قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ مِنْ قِبَلِهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ لَكَانَ لَا يَتَغَيَّرُ حَالَ الطَّمَعِ فِيهِمْ بِصِفَةِ الْفَرِيقِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرَهُمْ، وَلَمَا صَحَّ كَوْنُ ذَلِكَ تَسْلِيَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَمْرُهُمْ فِي الْإِيمَانِ مَوْقُوفٌ عَلَى خَلْقِهِ تَعَالَى ذَلِكَ، وَزَوَالُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ لَا يَخْلُقَهُ فِيهِمْ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ إِعْظَامُهُ تَعَالَى لِذَنْبِهِمْ فِي التَّحْرِيفِ مِنْ حَيْثُ فَعَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ صِحَّتَهُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ خَلْقِهِ لَكَانَ بِأَنْ يَعْلَمُوا أَوْ لَا يَعْلَمُوا لَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ وَإِضَافَتُهُ تَعَالَى التَّحْرِيفَ إِلَيْهِمْ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَيْهِ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا وَأَطْوَارًا فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ الْمُعَانِدَ فِيهِ أَبْعَدُ مِنَ الرُّشْدِ وَأَقْرَبُ إِلَى الْيَأْسِ مِنَ الْجَاهِلِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ يُفِيدُ زَوَالَ الطَّمَعِ فِي رُشْدِهِمْ لِمُكَابَرَتِهِمُ الْحَقَّ بعد العلم به. [سورة البقرة (2) : الآيات 76 الى 77] وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ قَبَائِحِ أَفْعَالِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ مُنَافِقِي أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا إِذَا لَقُوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا لَهُمْ: آمَنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ وَنَشْهَدُ أَنَّ صَاحِبَكُمْ صَادِقٌ وَأَنَّ قَوْلَهُ حَقٌّ وَنَجِدُهُ بِنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ فِي كِتَابِنَا، ثُمَّ إِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالَ الرُّؤَسَاءُ لَهُمْ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِهِ مِنْ نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ، فَإِنَّ الْمُخَالِفَ إِذَا اعْتَرَفَ بِصِحَّةِ التَّوْرَاةِ وَاعْتَرَفَ/ بِشَهَادَةِ التَّوْرَاةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا حُجَّةَ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ، فَلَا جَرَمَ كَانَ بَعْضُهُمْ يَمْنَعُ بَعْضًا مِنَ الِاعْتِرَافِ بِذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ الْقَفَّالُ: قَوْلُهُ: فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ قَدْ فُتِحَ عَلَى فُلَانٍ فِي عِلْمِ كَذَا أَيْ رُزِقَ ذَلِكَ وَسُهِّلَ لَهُ طَلَبُهُ. أَمَّا قَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّكُمْ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ جَعَلُوا مُحَاجَّتَهُمْ بِهِ وَقَوْلَهُ هُوَ فِي كِتَابِكُمْ هَكَذَا مُحَاجَّةً عِنْدَ اللَّهِ، أَلَا تَرَاكَ تَقُولُ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ هَكَذَا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ هَكَذَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ: أَيْ لِيُحَاجُّوكُمْ فِي رَبِّكُمْ لِأَنَّ الْمُحَاجَّةَ فِيمَا أَلْزَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ تَصِحُّ أَنْ تُوصَفَ بِأَنَّهَا مُحَاجَّةٌ فِيهِ لِأَنَّهَا مُحَاجَّةٌ فِي دِينِهِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْأَصَمُّ: الْمُرَادُ يُحَاجُّوكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعِنْدَ التَّسَاؤُلِ فَيَكُونُ ذَلِكَ زَائِدًا في توبيخكم وظهور فضيحتكم على رؤوس الْخَلَائِقِ فِي الْمَوْقِفِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ اعْتَرَافٍ بِالْحَقِّ ثُمَّ كَتَمَ كَمَنْ ثَبَتَ عَلَى الْإِنْكَارِ فَكَانَ الْقَوْمُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ظُهُورَ ذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُ فِي انْكِشَافِ فَضِيحَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَرَابِعُهَا: قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ الْمُحْتَجَّ بِالشَّيْءِ قَدْ يَحْتَجُّ وَيَكُونُ غَرَضُهُ مِنْ إِظْهَارِ تِلْكَ الْحُجَّةِ حُصُولَ السُّرُورِ بِسَبَبِ غَلَبَةِ الْخَصْمِ وَقَدْ يَكُونُ غَرَضُهُ مِنْهُ الدِّيَانَةَ وَالنَّصِيحَةَ، فَقَطْ لِيَقْطَعَ عُذْرَ خَصْمِهِ وَيُقَرِّرَ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَقَالَ الْقَوْمُ عِنْدَ الْخَلْوَةِ قَدْ حَدَّثْتُمُوهُمْ

[سورة البقرة (2) : الآيات 78 إلى 79]

بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ حُجَّتِهِمْ فِي التَّوْرَاةِ فَصَارُوا يَتَمَكَّنُونَ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى وَجْهِ الدِّيَانَةِ وَالنَّصِيحَةِ، لِأَنَّ مَنْ يَذْكُرُ الْحُجَّةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَدْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ قَدْ أَوْجَبْتُ عَلَيْكَ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقَمْتُ عَلَيْكَ الْحُجَّةَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَبِّي فَإِنْ قَبِلْتَ أَحْسَنْتَ إِلَى نَفْسِكَ وَإِنْ جَحَدْتَ كُنْتَ الْخَاسِرَ الْخَائِبَ. وَخَامِسُهَا: قَالَ الْقَفَّالُ: يُقَالُ: فُلَانٌ عِنْدِي عَالِمٌ أَيْ فِي اعْتِقَادِي وَحُكْمِي، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَلَالٌ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَرَامٌ، أَيْ فِي حُكْمِهِمَا وَقَوْلُهُ: لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَيْ لِتَصِيرُوا مَحْجُوجِينَ بِتِلْكَ الدَّلَائِلِ فِي حُكْمِ اللَّهِ. وَتَأَوَّلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ [النُّورِ: 13] أَيْ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ لِأَنَّ الْقَاذِفَ إِذَا لَمْ يَأْتِ بِالشُّهُودِ لَزِمَهُ حُكْمُ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ صَادِقًا. أَمَّا قَوْلُهُ: أَفَلا تَعْقِلُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَفَلَا تَعْقِلُونَ لِمَا ذَكَرْتُهُ لَكُمْ مِنْ صِفَتِهِمْ أَنَّ الْأَمْرَ لَا مَطْمَعَ لَكُمْ فِي إِيمَانِهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ الحسن. وثانيها: أنه راجع إليهم فكأن عند ما خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ قَالُوا لَهُمْ أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا يَرْجِعُ وَبَالُهُ عَلَيْكُمْ وَتَصِيرُونَ مَحْجُوجِينَ بِهِ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْحِكَايَةِ عَنْهُمْ فَلَا وَجْهَ لِصَرْفِهِ عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ فَفِيهِ قَوْلَانِ، الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَيَعْرِفُونَ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ السِّرَّ وَالْعَلَانِيَةَ فَخَوَّفَهُمُ اللَّهُ بِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ مَا عَلِمُوا بِذَلِكَ فَرَغَّبَهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي أَنْ يَتَفَكَّرُوا فَيَعْرِفُوا أَنَّ لَهُمْ رَبًّا يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَعَلَانِيَتَهُمْ وَأَنَّهُمْ لَا يَأْمَنُونَ حُلُولَ الْعِقَابِ بِسَبَبِ نِفَاقِهِمْ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، فَهَذَا الْكَلَامُ زَجْرٌ/ لَهُمْ عَنِ النِّفَاقِ، وَعَنْ وَصِيَّةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِكِتْمَانِ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ. وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْيَهُودَ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ كَانُوا عَالِمِينَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُقَالُ عَلَى طَرِيقِ الزَّجْرِ: أَوَلَا يَعْلَمُ كَيْتَ وَكَيْتَ إِلَّا وَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ الشَّيْءِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ زَاجِرًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ كَيْفَ يَسْتَجِيزُونَ أَنْ يُسِرَّ إِلَى إِخْوَانِهِمُ النَّهْيَ عَنْ إِظْهَارِ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ لَيْسُوا كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ اللَّهَ وَلَا يَعْلَمُونَ كَوْنَهُ عَالِمًا بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، فَشَأْنُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَعْجَبُ. قَالَ الْقَاضِي: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنْ كَانَ هُوَ الْخَالِقَ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَزْجُرَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْحِجَاجِ وَالنَّظَرِ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ طَرِيقَةَ الصَّحَابَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ ظَاهِرًا عِنْدَ الْيَهُودِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَا قَالُوهُ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُجَّةَ قَدْ تَكُونُ إِلْزَامِيَّةً لِأَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَرَفُوا بِصِحَّةِ التَّوْرَاةِ وَبِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا جَرَمَ لَزِمَهُمُ الِاعْتِرَافُ بِالنُّبُوَّةِ وَلَوْ مَنَعُوا إِحْدَى تَيْنِكَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ لَمَا تَمَّتِ الدَّلَالَةُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآتِيَ بِالْمَعْصِيَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً يَكُونُ أَعْظَمَ جُرْمًا وَوِزْرًا والله أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 78 الى 79] وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ الْيَهُودُ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَهُمْ بِالْعِنَادِ وَأَزَالَ الطَّمَعَ عَنْ إِيمَانِهِمْ بَيْنَ فِرَقِهِمْ، فَالْفِرْقَةُ الْأُولَى: هِيَ الْفِرْقَةُ الضَّالَّةُ الْمُضِلَّةُ، وَهُمُ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَالْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ:

الْمُنَافِقُونَ، وَالْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ الْمُنَافِقِينَ، وَالْفِرْقَةُ الرَّابِعَةُ: هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُمُ الْعَامَّةُ الْأُمِّيُّونَ الَّذِينَ لَا مَعْرِفَةَ عِنْدَهُمْ بِقِرَاءَةٍ وَلَا كِتَابَةٍ وَطَرِيقَتُهُمُ التَّقْلِيدُ وَقَبُولُ مَا يُقَالُ لَهُمْ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ لَيْسَ سَبَبُ ذَلِكَ الِامْتِنَاعِ وَاحِدًا بَلْ لِكُلِّ قِسْمٍ مِنْهُمْ سَبَبٌ آخَرُ وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ شَرْحِ فِرَقِ الْيَهُودِ وَجَدَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ فِي فِرَقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ يُعَانِدُ الْحَقَّ وَيَسْعَى فِي إِضْلَالِ الْغَيْرِ وَفِيهِمْ مَنْ يَكُونُ مُتَوَسِّطًا، وَفِيهِمْ مَنْ يكون عاماً مَحْضًا مُقَلِّدًا، وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الْأُمِّيِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ مَنْ لَا يُقِرُّ بِكِتَابٍ وَلَا بِرَسُولٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَنْ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَالْقِرَاءَةَ وَهَذَا الثَّانِي أَصْوَبُ لِأَنَّ الْآيَةَ فِي الْيَهُودِ وَكَانُوا مُقِرِّينَ بِالْكِتَابِ وَالرَّسُولِ وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ» وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: «الْأَمَانِيُّ» جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ وَلَهَا مَعَانٍ مُشْتَرِكَةٌ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ، أَحَدُهَا: مَا تَخَيَّلَهُ الْإِنْسَانُ فَيُقَدِّرُ فِي نَفْسِهِ وُقُوعَهُ وَيُحَدِّثُهَا بِكَوْنِهِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ يَعِدُ فَلَانًا وَيُمَنِّيهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً [النِّسَاءِ: 120] فَإِنْ فَسَّرْنَا الْأَمَانِيَّ بِهَذَا كَانَ قَوْلُهُ: (إِلَّا أَمَانِيَّ) إِلَّا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمَانِيِّهِمْ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُهُمْ بِخَطَايَاهُمْ وَأَنَّ آبَاءَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ يَشْفَعُونَ لَهُمْ وَمَا تُمَنِّيهِمْ أَحْبَارُهُمْ مِنْ أَنَّ النَّارَ لَا تَمَسُّهُمْ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً. وَثَانِيهَا: إِلَّا أَمانِيَّ إِلَّا أَكَاذِيبَ مُخْتَلِفَةً سَمِعُوهَا مِنْ عُلَمَائِهِمْ فَقَبِلُوهَا عَلَى التَّقْلِيدِ، قَالَ أَعْرَابِيٌّ لِابْنِ دَأْبٍ فِي شَيْءٍ حَدَّثَ بِهِ: أَهَذَا شَيْءٌ رَوَيْتَهُ أَمْ تَمَنَّيْتَهُ أَمِ اخْتَلَقْتَهُ. وَثَالِثُهَا: إِلَّا أَمانِيَّ أَيْ إِلَّا مَا يَقْرَءُونَ مِنْ قَوْلِهِ: تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» والاشتقاق منى من، إِذَا قَدَّرَ لِأَنَّ الْمُتَمَنِّيَ يُقَدِّرُ فِي نَفْسِهِ وَيَجُوزُ مَا يَتَمَنَّاهُ، وَكَذَلِكَ الْمُخْتَلِقُ وَالْقَارِئُ يُقَدِّرُ أَنَّ كَلِمَةَ كَذَا بَعْدَ كَذَا، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: حَمْلُهُ عَلَى تَمَنِّي الْقَلْبِ أَوْلَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ [الْبَقَرَةِ: 111] أَيْ تَمَنِّيهِمْ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النِّسَاءِ: 123] وَقَالَ: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 111] وَقَالَ تَعَالَى: وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الْجَاثِيَةِ: 24] بِمَعْنَى يُقَدِّرُونَ وَيَخْرُصُونَ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: حَمْلُهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ أَوْلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الْحَجِّ: 52] وَلِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ أَلْيَقُ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ كَانَ لَهُ بِهِ تَعَلُّقٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا بِقَدْرِ مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ فَيَسْمَعُونَهُ وَبِقَدْرِ مَا يُذْكَرُ لَهُمْ فَيَقْبَلُونَهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنَ التَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْأَحَادِيثُ وَالْأَكَاذِيبُ أَوِ الظَّنُّ وَالتَّقْدِيرُ وَحَدِيثُ النَّفْسِ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ نَادِرًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا أَمانِيَّ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، قَالَ النَّابِغَةُ: حَلَفْتُ يَمِينًا غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ ... وَلَا عِلْمَ إِلَّا حُسْنُ ظَنٍّ بِغَائِبِ وَقُرِئَ «إِلَّا أَمَانِيَ» بِالتَّخْفِيفِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ فَكَالْمُحَقِّقِ لِمَا قُلْنَاهُ لِأَنَّ الْأَمَانِيَ إِنْ أُرِيدَ بِهَا التَّقْدِيرُ وَالْفِكْرُ لِأُمُورٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، فَهِيَ ظَنٌّ وَيَكُونُ ذَلِكَ تَكْرَارًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حَدِيثُ النَّفْسِ غَيْرُ وَالظَّنُّ غَيْرُ فَلَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى التِّلَاوَةِ عَلَيْهِمْ يَحْسُنُ مَعْنَاهُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمِنْهُمْ أميون لا

يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا بِأَنْ يُتْلَى عَلَيْهِمْ فَيَسْمَعُوهُ وإلا بان يذكرهم تأويله كما يراد فيظنون، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ لَا تُوَصِّلُ إلى الحق، وفي الآية مسائل. أحدها: أَنَّ الْمَعَارِفَ كَسْبِيَّةٌ لَا ضَرُورِيَّةٌ فَلِذَلِكَ ذَمَّ مَنْ لَا يَعْلَمُ وَيَظُنُّ. وَثَانِيهَا: بُطْلَانُ التَّقْلِيدِ مُطْلَقًا وَهُوَ مُشْكَلٌ لِأَنَّ/ التَّقْلِيدَ فِي الْفُرُوعِ جَائِزٌ عِنْدَنَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُضِلَّ وَإِنْ كَانَ مَذْمُومًا فَالْمُغْتَرُّ بِإِضْلَالِ الْمُضِلِّ أَيْضًا مَذْمُومٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالظَّنِّ فِي أُصُولِ الدِّينِ غَيْرُ جَائِزٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَيْلٌ فَقَالُوا: الْوَيْلُ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا كُلُّ مَكْرُوبٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ. وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: إِنَّهُ مَسِيلُ صَدِيدِ أَهْلِ جَهَنَّمَ، وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الْكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ» . قَالَ الْقَاضِي: «وَيْلٌ» يَتَضَمَّنُ نِهَايَةَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ فَهَذَا الْقَدْرُ لَا شُبْهَةَ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ الْوَيْلُ عِبَارَةً عَنْ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ أَوْ عَنِ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَقُولُ كَتَبْتُ إِذَا أَمَرَ بِذَلِكَ فَفَائِدَةُ قَوْلِهِ: بِأَيْدِيهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ إِلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَأْكِيدٌ وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا يَحْسُنُ فِيهِ التَّأْكِيدُ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ يُنْكِرُ مَعْرِفَةَ مَا كَتَبَهُ: يَا هَذَا كَتَبْتَهُ بِيَمِينِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ يَكْتُبُ هَذِهِ الْكِتَابَةَ وَيَكْسِبُ هَذَا الْكَسْبَ فِي غَايَةِ الرَّدَاءَةِ لِأَنَّهُمْ ضَلُّوا عَنِ الدِّينِ وَأَضَلُّوا وَبَاعُوا آخِرَتَهُمْ بِدُنْيَاهُمْ، فَذَنْبُهُمْ أَعْظَمُ مِنْ ذَنْبِ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّ الْكَذِبَ عَلَى الْغَيْرِ بِمَا يَضُرُّ يَعْظُمُ إِثْمُهُ فَكَيْفَ بِمَنْ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ وَيَضُمُّ إِلَى الْكَذِبِ الْإِضْلَالَ وَيَضُمُّ إِلَيْهِمَا حُبَّ الدُّنْيَا وَالِاحْتِيَالَ فِي تَحْصِيلِهَا وَيَضُمُّ إِلَيْهَا أَنَّهُ مَهَّدَ طَرِيقًا فِي الْإِضْلَالِ بَاقِيًا عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ، فَلِذَلِكَ عَظَّمَ تَعَالَى مَا فَعَلُوهُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: كَتَبَةُ الْكِتَابِ وَالْآخَرُ: إِسْنَادُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْكَذِبِ، فَهَذَا الْوَعِيدُ مُرَتَّبٌ عَلَى الْكَتَبَةِ أَوْ عَلَى إِسْنَادِ الْمَكْتُوبِ إِلَى اللَّهِ أَوْ عَلَيْهِمَا مَعًا؟ قُلْنَا: لَا شَكَّ أَنَّ كَتَبَةَ الْأَشْيَاءِ الْبَاطِلَةِ لِقَصْدِ الْإِضْلَالِ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَالْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا كَذَلِكَ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُنْكَرٌ عَظِيمٌ جِدًّا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَمْرَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى نِهَايَةِ شَقَاوَتِهِمْ لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَجِبُ أَنْ لَا يَرْضَى بِالْوِزْرِ الْقَلِيلِ فِي الْآخِرَةِ لِأَجْلِ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ فِي الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَرْضَى بِالْعِقَابِ الْعَظِيمِ فِي الْآخِرَةِ لِأَجْلِ النَّفْعِ الْحَقِيرِ فِي الدُّنْيَا، الثَّانِي: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَا فَعَلُوا ذَلِكَ التَّحْرِيفَ دِيَانَةً بَلْ إِنَّمَا فَعَلُوهُ طَلَبًا لِلْمَالِ وَالْجَاهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَخْذَ الْمَالِ عَلَى الْبَاطِلِ وَإِنْ كَانَ بِالتَّرَاضِي فهو محرم، لأن الذي كَانُوا يُعْطُونَهُ مِنَ الْمَالِ كَانَ عَلَى مَحَبَّةٍ وَرِضًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى تَحْرِيمِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ فَالْمُرَادُ أَنَّ كَتْبَتَهُمْ لِمَا كَتَبُوهُ ذَنْبٌ عَظِيمٌ بِانْفِرَادِهِ، وَكَذَلِكَ أَخْذُهُمُ الْمَالَ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ أَعَادَ ذِكْرَ الْوَيْلِ فِي الْكَسْبِ، وَلَوْ لَمْ يُعِدْ ذِكْرَهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَجْمُوعَهُمَا يَقْتَضِي الْوَعِيدَ الْعَظِيمَ دُونَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الشُّبْهَةَ وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا يَكْسِبُونَ هَلِ الْمُرَادُ مَا كَانُوا يَأْخُذُونَ عَلَى هَذِهِ الْكِتَابَةِ وَالتَّحْرِيفِ فَقَطْ أَوِ الْمُرَادُ بِذَلِكَ سَائِرُ مَعَاصِيهِمْ وَالْأَقْرَبُ فِي نِظَامِ الْكَلَامِ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْمَالِ الْمَأْخُوذِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ كَانَ الْأَقْرَبُ مِنْ حَيْثُ الْعُمُومِ أَنَّهُ يَشْمَلُ الْكُلَّ، لَكِنَّ الَّذِي يُرَجِّحُ الْأَوَّلَ أَنَّهُ مَتَى لَمْ يُقَيَّدْ كَسْبُهُمْ بِهَذَا الْقَيْدِ لَمْ يَحْسُنِ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْكَسْبَ يَدْخُلُ فِيهِ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ وَأَوْلَى مَا يُقَيَّدُ/ بِهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. قَالَ الْقَاضِي: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كِتَابَتَهُمْ لَيْسَتْ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى لَكَانَتْ إِضَافَتُهَا إِلَيْهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِمْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ

[سورة البقرة (2) : آية 80]

اللَّهِ ذَلِكَ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا خَلَقَهَا فِيهِمْ فَهَبْ أَنَّ الْعَبْدَ مُكْتَسِبٌ إِلَّا أَنَّ انْتِسَابَ الْفِعْلِ إِلَى الْخَالِقِ أَقْوَى مِنَ انْتِسَابِهِ إِلَى الْمُكْتَسِبِ فَكَانَ إِسْنَادُ تِلْكَ الْكَتْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى مِنْ إِسْنَادِهَا إِلَى الْعَبْدِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَسْتَحِقُّوا الْحَمْدَ عَلَى قَوْلِهِمْ فِيهَا إِنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ تِلْكَ الْكَتْبَةَ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعَالَى. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الدَّاعِيَةَ الْمُوجِبَةَ لَهَا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى بِالدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فهي أيضاً تكون كذلك والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 80] وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ قَبَائِحِ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَهُوَ جَزْمُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُهُمْ إِلَّا أَيَّامًا قَلِيلَةً، وَهَذَا الْجَزْمُ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ بِالْعَقْلِ الْبَتَّةَ أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا، فَلِأَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ لَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ، فَلَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إِلَّا بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِأَنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ يُسْتَحَقُّ بِهَا مِنَ اللَّهِ الْعِقَابُ الدائم، فلما دل العقل على ذلك احتج فِي تَقْدِيرِ الْعِقَابِ مُدَّةً ثُمَّ فِي زَوَالِهِ بَعْدَهَا إِلَى سَمْعٍ يُبَيِّنُ ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إِلَّا بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ، وَحَيْثُ تُوجَدُ الدَّلَالَةُ السَّمْعِيَّةُ لم يجز الجزم بدلك، وهاهنا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَةِ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ الْأَيَّامِ لَا تُضَافُ إِلَّا إِلَى الْعَشْرَةِ فَمَا دُونَهَا، وَلَا تُضَافُ إِلَى مَا فَوْقَهَا. فَيُقَالُ: أَيَّامٌ خَمْسَةٌ وَأَيَّامٌ عَشَرَةٌ وَلَا يُقَالُ أَيَّامٌ أَحَدَ عَشَرَ إِلَّا أَنَّ هَذَا يُشْكِلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [الْبَقَرَةِ: 183، 184] هِيَ أَيَّامُ الشَّهْرِ كُلِّهِ، وَهِيَ أَزْيَدُ مِنَ الْعَشَرَةِ. ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَيَّامَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا فَالْأَشْبَهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ الْأَقَلُّ أَوِ الْأَكْثَرُ لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ ثَلَاثَةٌ يَقُولُ أَحْمِلُهُ عَلَى أَقَلِّ الْحَقِيقَةِ فَلَهُ وَجْهٌ، وَمَنْ يَقُولُ عَشَرَةٌ يَقُولُ أَحْمِلُهُ عَلَى الْأَكْثَرِ وَلَهُ وَجْهٌ، فَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى الْوَاسِطَةِ أَعْنِي عَلَى مَا هُوَ أَقَلُّ مِنَ الْعَشَرَةِ وَأَزْيَدُ مِنَ الثَّلَاثَةِ فَلَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ عَدَدٌ أَوْلَى مِنْ عَدَدٍ اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا جَاءَتْ فِي تَقْدِيرِهَا رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْقَوْلُ بِهَا، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَدَّرُوهَا بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ تَقُولُ: الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ فَاللَّهُ تَعَالَى يُعَذِّبُهُمْ مَكَانَ كُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ يَوْمًا، فَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَذِّبُنَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ. وَحَكَى الْأَصَمُّ عَنْ بَعْضِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ عَبَدُوا الْعِجْلَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَذِّبُنَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ. وَحَكَى الْأَصَمُّ عَنْ بَعْضِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ عَبَدُوا الْعِجْلَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَذِّبُنَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ ضَعِيفَانِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ/ لَيْسَ بَيْنَ كَوْنِ الدُّنْيَا سَبْعَةَ آلَافِ سَنَةٍ وَبَيْنَ كَوْنِ الْعَذَابِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ مُنَاسَبَةٌ وَمُلَازَمَةٌ الْبَتَّةَ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمَعْصِيَةِ مُقَدَّرَةً بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ أَنْ يَكُونَ عَذَابُهَا كَذَلِكَ. أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا فَلِأَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ كُلُّ شَيْءٍ بِحُكْمِ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِأَنَّ الْعَاصِيَ يَسْتَحِقُّ عَلَى عِصْيَانِهِ الْعِقَابَ الدَّائِمَ مَا لَمْ تُوجَدِ التَّوْبَةُ أَوِ الْعَفْوُ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى مَنَعَ مِنِ اسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ فَقَالَ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] فَوَجَبَ أَنْ لَا يَزِيدَ الْعِقَابُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ؟ قُلْنَا: إِنَّ الْمَعْصِيَةَ تَزْدَادُ بِقَدْرِ النِّعْمَةِ. فَلَمَّا كَانَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ خَارِجَةً عَنِ الْحَصْرِ وَالْحَدِّ لَا جَرَمَ كَانَتْ مَعْصِيَتُهُمْ عَظِيمَةً جِدًّا. الْوَجْهُ الثَّانِي: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَ هَذِهِ الْأَيَّامَ بِالْأَرْبَعِينَ، وَهُوَ عَدَدُ الْأَيَّامِ الَّتِي عَبَدُوا الْعِجْلَ فِيهَا، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ أَيْضًا كَالْكَلَامِ عَلَى السَّبْعَةِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قِيلَ فِي مَعْنَى «مَعْدُودَةً» قَلِيلَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ [يُوسُفَ: 20] وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرَهُ عَشَرَةٌ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ» ، فَمُدَّةُ الْحَيْضِ مَا يُسَمَّى أَيَّامًا وَأَقَلُّ عَدَدٍ يُسَمَّى أَيَّامًا ثَلَاثَةً وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةً وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةً، وَالْإِشْكَالُ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ هاهنا: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً وفي آل عمران: إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [آل عمران: 24] وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ كَانَتِ الْأُولَى مَعْدُودَةً وَالثَّانِيَةُ مَعْدُودَاتٍ وَالْمَوْصُوفُ فِي الْمَكَانَيْنِ مَوْصُوفٌ وَاحِدٌ وَهُوَ «أَيَّامًا» ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الِاسْمَ إِنْ كَانَ مُذَكَّرًا فَالْأَصْلُ فِي صِفَةِ جَمْعِهِ التَّاءُ. يُقَالُ: كُوزٌ وَكِيزَانُ مَكْسُورَةٌ وَثِيَابٌ مَقْطُوعَةٌ وَإِنْ كَانَ مُؤَنَّثًا كَانَ الْأَصْلُ فِي صِفَةِ جَمْعِهِ الْأَلِفَ وَالتَّاءَ، يُقَالُ: جَرَّةٌ وَجِرَارٌ مَكْسُورَاتٌ وَخَابِيَةٌ وَخَوَابِي مَكْسُورَاتٌ. إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ الْجَمْعُ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ فِيمَا وَاحِدُهُ مُذَكَّرٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ نَادِرًا نَحْوَ حَمَّامٌ وَحَمَّامَاتٌ وَجَمَلٌ سِبَطْرٌ وَسِبَطْرَاتٌ وَعَلَى هَذَا وَرَدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ وفِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ فَاللَّهُ تَعَالَى تَكَلَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَيَّاماً مَعْدُودَةً وَفِي آلِ عِمْرَانَ بِمَا هُوَ الْفَرْعُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَهْدُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَجْرِي مَجْرَى الْوَعْدِ وَالْخَبَرِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ خَبَرُهُ سُبْحَانَهُ عَهْدًا لِأَنَّ خَبَرَهُ سُبْحَانَهُ أَوْكَدُ مِنَ الْعُهُودِ الْمُؤَكَّدَةِ مِنَّا بِالْقَسَمِ وَالنَّذْرِ، فَالْعَهْدُ مِنَ اللَّهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِهَذَا الْوَجْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : «فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ» مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَتَقْدِيرُهُ إِنِ اتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتَّخَذْتُمْ لَيْسَ بِاسْتِفْهَامٍ، بَلْ هُوَ إِنْكَارٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ تَعَالَى حُجَّةَ رَسُولِهِ فِي إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ أَنْ يَسْتَفْهِمَهُمْ، بَلِ الْمُرَادُ التَّنْبِيهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِدْلَالِ وَهِيَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ/ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذَا التَّقْدِيرِ إِلَّا بِالسَّمْعِ، فَلَمَّا لَمْ يُوجَدِ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ وَجَبَ أَلَّا يَجُوزَ الْجَزْمُ بِهَذَا التَّقْدِيرِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْكَذِبِ وَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: لِأَنَّ الْكَذِبَ صِفَةُ نَقْصٍ، وَالنَّقْصُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِقُبْحِ الْقَبِيحِ وَعَالِمٌ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُ، وَالْكَذِبُ قَبِيحٌ لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَالْعَالِمُ بِقُبْحِ الْقَبِيحِ وَبِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَذِبَ مِنْهُ مُحَالٌ، فَلِهَذَا قَالَ: فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ، فَإِنْ قِيلَ: الْعَهْدُ هُوَ الْوَعْدُ وَتَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ، فَلَمَّا خَصَّ الْوَعْدَ بِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُهُ عَلِمْنَا أَنَّ الْخُلْفَ فِي الْوَعِيدِ جَائِزٌ، ثُمَّ الْعَقْلُ يُطَابِقُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْخُلْفَ فِي الْوَعْدِ لُؤْمٌ وَفِي الْوَعِيدِ كَرَمٌ. قُلْنَا: الدَّلَالَةُ الْمَذْكُورَةُ قَائِمَةٌ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ وَعَدَ مُوسَى وَلَا سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُ أهل المعاصي والكبائر من النار بعد التعذيب، لِأَنَّهُ لَوْ وَعَدَهُمْ بِذَلِكَ لَمَا جَازَ أَنَّ ينكر على

[سورة البقرة (2) : آية 81]

الْيَهُودِ هَذَا الْقَوْلَ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مَا دَلَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى دَلَّهُمْ عَلَى وَعِيدِ الْعُصَاةِ إِذَا كَانَ بِذَلِكَ زَجْرُهُمْ عَنِ الذُّنُوبِ، فَقَدْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَذَابُهُمْ دَائِمًا عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ الْوَعِيدِيَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأُمَمِ وَجَبَ ثُبُوتُهُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ حُكْمَهُ تَعَالَى فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ فِي الْأُمَمِ، إِذْ كَانَ قَدْرُ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْجَمِيعِ لَا يَخْتَلِفُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ فِي نِهَايَةِ التَّعَسُّفِ فَنَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَعَالَى مَا وَعَدَ مُوسَى أَنَّهُ يُخْرِجُ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مِنَ النَّارِ، قَوْلُهُ: لَوْ وَعَدَهُمْ بِذَلِكَ لَمَا أَنْكَرَ عَلَى الْيَهُودِ قَوْلَهُمْ، قُلْنَا: لِمَ قُلْتَ إِنَّهُ تَعَالَى لَوْ وَعَدَهُمْ ذَلِكَ لَمَا أَنْكَرَ عَلَى الْيَهُودِ ذَلِكَ، وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ؟ ثُمَّ إِنَّا نُبَيِّنُ شَرْعًا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ قَلَّلُوا أَيَّامَ الْعَذَابِ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً، يَدُلُّ عَلَى أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ جِدًّا، فَاللَّهُ تَعَالَى أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ جَزْمَهُمْ بِهَذِهِ الْقِلَّةِ لَا أَنَّهُ تَعَالَى أَنْكَرَ عَلَيْهِمُ انْقِطَاعَ الْعَذَابِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرْجِئَةَ يَقْطَعُونَ فِي الْجُمْلَةِ بِالْعَفْوِ، فَأَمَّا فِي حَقِّ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْقَطْعِ، فَلَمَّا حَكَمُوا فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ لَا جَرَمَ أَنْكَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ وَعِنْدَنَا عَذَابُ الْكَافِرِ دَائِمٌ لَا يَنْقَطِعُ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى مَا وَعَدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ يُخْرِجُ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مِنَ النَّارِ، فَلِمَ قُلْتَ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ؟ بَيَانُهُ أَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى مَا وَعَدَهُ إِخْرَاجَهُمْ مِنَ النَّارِ وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَالْأَوَّلُ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى رُبَّمَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لِمُوسَى إِلَّا أَنَّهُ سَيَفْعَلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا رَدَّ عَلَى الْيَهُودِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ جَزَمُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَكَانَ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَتَوَقَّفُوا فِيهِ وَأَنْ لَا يَقْطَعُوا لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُخْرِجُ عُصَاةَ قَوْمِ مُوسَى مِنَ النَّارِ، فَلِمَ قُلْتَ: إِنَّهُ لَا يُخْرِجُ عُصَاةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ النَّارِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْجُبَّائِيِّ: لِأَنَّ حُكْمَهُ تَعَالَى فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ فِي الْأُمَمِ. فَهُوَ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ، فَإِنَّ الْعِقَابَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَى الْبَعْضِ بِالْإِسْقَاطِ وَأَنْ لَا يَتَفَضَّلَ بِذَلِكَ عَلَى الْبَاقِينَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ/ ضَعِيفٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ فَهُوَ بَيَانٌ لِتَمَامِ الْحُجَّةِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ لَا طَرِيقَ إِلَى التَّقْدِيرِ الْمَذْكُورِ إِلَّا السَّمْعُ وَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ السَّمْعُ، كَانَ الْجَزْمُ بِذَلِكَ التَّقْدِيرِ قَوْلًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا لَا مَحَالَةَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى فَوَائِدَ. أَحُدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَابَ عَلَيْهِمُ الْقَوْلَ الَّذِي قَالُوهُ لَا عَنْ دَلِيلٍ عَلِمْنَا أَنَّ الْقَوْلَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ بَاطِلٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ عَقْلًا لَمْ يَجُزِ الْمَصِيرُ إِلَى الْإِثْبَاتِ أَوْ إِلَى النَّفْيِ إِلَّا بِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. قَالُوا: لِأَنَّ الْقِيَاسَ وَخَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ التَّمَسُّكُ بِهِ جَائِزًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْإِنْكَارِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ عِنْدَ حُصُولِ الظَّنِّ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الْقِيَاسِ أَوْ إِلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ كَانَ وُجُوبُ الْعَمَلِ مَعْلُومًا، فَكَانَ الْقَوْلُ بِهِ قَوْلًا بِالْمَعْلُومِ لا بغير المعلوم. [سورة البقرة (2) : آية 81] بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: «بَلَى» إِثْبَاتٌ لِمَا بَعْدَ حَرْفِ النَّفْيِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ، أَيْ بَلَى تَمَسُّكُمْ أَبَدًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: هُمْ فِيها خالِدُونَ. أَمَّا السَّيِّئَةُ فَإِنَّهَا تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَعَاصِي. قَالَ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النِّسَاءِ: 123] وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ كُلَّ سَيِّئَةٍ صَغُرَتْ أَوْ كَبُرَتْ فَحَالُهَا سَوَاءٌ فِي أَنَّ فَاعِلَهَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ لَا جَرَمَ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الخلود

أَنْ يَكُونَ سَيِّئَةً مُحِيطَةً بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لَفْظَ الْإِحَاطَةِ حَقِيقَةٌ فِي إِحَاطَةِ جِسْمٍ بِجِسْمٍ آخَرَ كَإِحَاطَةِ السُّورِ بِالْبَلَدِ وَالْكُوزِ بِالْمَاءِ وَذَلِكَ هاهنا مُمْتَنِعٌ فَنَحْمِلُهُ عَلَى مَا إِذَا كَانَتِ السَّيِّئَةُ كَبِيرَةً لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُحِيطَ يَسْتُرُ الْمُحَاطَ بِهِ وَالْكَبِيرَةُ لِكَوْنِهَا مُحِيطَةً لِثَوَابِ الطَّاعَاتِ كَالسَّاتِرَةِ لِتِلْكَ الطَّاعَاتِ، فَكَانَتِ الْمُشَابَهَةُ حَاصِلَةً مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَبِيرَةَ إِذَا أَحْبَطَتْ ثَوَابَ الطَّاعَاتِ فَكَأَنَّهَا اسْتَوْلَتْ عَلَى تِلْكَ الطَّاعَاتِ وَأَحَاطَتْ بِهَا كَمَا يُحِيطُ عَسْكَرُ الْعَدُوِّ بِالْإِنْسَانِ، بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ الْإِنْسَانُ مِنَ التَّخَلُّصِ مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: بَلَى مَنْ كَسَبَ كَبِيرَةً وَأَحَاطَتْ كَبِيرَتُهُ بِطَاعَاتِهِ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ وَرَدَتْ فِي حَقِّ الْيَهُودِ، قُلْنَا: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، هَذَا هُوَ الْوَجْهُ الَّذِي اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهِ فِي إِثْبَاتِ الْوَعِيدِ لِأَصْحَابِ الْكَبَائِرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ مُعَظَّمَاتِ الْمَسَائِلِ، ولنذكرها هاهنا فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْقِبْلَةِ فِي وَعِيدِ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَطَعَ بِوَعِيدِهِمْ وَهُمْ فَرِيقَانِ، مِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ الْوَعِيدَ الْمُؤَبَّدَ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ وَعِيدًا مُنْقَطِعًا وَهُوَ قَوْلُ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ/ وَالْخَالِدِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَطَعَ بِأَنَّهُ لَا وَعِيدَ لَهُمْ وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ يُنْسَبُ إِلَى مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمُفَسِّرِ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْفُو عَنْ بَعْضِ الْمَعَاصِي وَلَكِنَّا نَتَوَقَّفُ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى التَّعْيِينِ أَنَّهُ هَلْ يَعْفُو عَنْهُ أَمْ لَا، وَنَقْطَعُ بِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا عَذَّبَ أَحَدًا مِنْهُمْ مُدَّةً فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُ أَبَدًا، بَلْ يَقْطَعُ عَذَابَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَكْثَرِ الْإِمَامِيَّةِ، فَيَشْتَمِلُ هَذَا الْبَحْثُ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: فِي الْقَطْعِ بِالْوَعِيدِ، وَالْأُخْرَى: فِي أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْوَعِيدُ فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى نَعْتِ الدَّوَامِ أَمْ لَا؟ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْوَعِيدِ وَلْنَذْكُرْ دَلَائِلَ الْمُعْتَزِلَةِ أَوَّلًا ثُمَّ دَلَائِلَ الْمُرْجِئَةِ الْخَالِصَةَ ثُمَّ دَلَائِلَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ عَوَّلُوا عَلَى الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ وَتِلْكَ الْعُمُومَاتُ عَلَى جِهَتَيْنِ. بَعْضُهَا وَرَدَتْ بِصِيغَةِ «مَنْ» فِي معرض الشرط وبعضها وردت بصيغة الجمع، [أنواع ما تمسكوا المعتزلة من عمومات القرآن] أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَآيَاتٌ، إِحْدَاهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [النِّسَاءِ: 13] إِلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها [النِّسَاءِ: 14] ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصَّوْمَ وَالْحَجَّ وَالْجِهَادَ وَارْتَكَبَ شُرْبَ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَقَتْلَ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِقَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَلِمَةَ «مَنْ» فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ تُفِيدُ الْعُمُومَ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَمَتَى حَمَلَ الْخَصْمُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْكَافِرِ دُونَ الْمُؤْمِنِ كَانَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ ثُمَّ الَّذِي يُبْطِلُ قَوْلَهُ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ حُدُودَهُ فِي الْمَوَارِيثِ ثُمَّ وَعَدَ مَنْ يُطِيعُهُ فِي تِلْكَ الْحُدُودِ وَتَوَعَّدَ مَنْ يَعْصِيهِ فِيهَا، وَمَنْ تَمَسَّكَ بِالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ تَعَالَى فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهَا إِلَى الطَّاعَةِ فِيهَا مِمَّنْ يَكُونُ مُنْكِرًا لِرُبُوبِيَّتِهِ وَمُكَذِّبًا لِرُسُلِهِ وَشَرَائِعِهِ، فَتَرْغِيبُهُ فِي الطَّاعَةِ فِيهَا أَخَصُّ مِمَّنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الطَّاعَةِ فِيهَا وَهُوَ الْمُؤْمِنُ، وَمَتَى كَانَ الْمُؤْمِنُ مُرَادًا بِأَوَّلِ الْآيَةِ فَكَذَلِكَ بِآخِرِهَا، الثَّانِي: أنه قال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحُدُودُ الْمَذْكُورَةُ، ثُمَّ عَلَّقَ بِالطَّاعَةِ فِيهَا الْوَعْدَ وَبِالْمَعْصِيَةِ فِيهَا الْوَعِيدَ، فَاقْتَضَى سِيَاقُ الْآيَةِ أَنَّ الْوَعِيدَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْصِيَةِ فِي هَذِهِ الْحُدُودِ فَقَطْ دُونَ أَنْ يَضُمَّ إِلَى ذَلِكَ تَعَدِّي حُدُودٍ أُخَرَ، وَلِهَذَا كَانَ مَزْجُورًا بِهَذَا الْوَعِيدِ فِي تَعَدِّي هَذِهِ الْحُدُودِ فَقَطْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا بِهَذَا الْوَعِيدِ لَمَا كَانَ مَزْجُورًا بِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ مُرَادٌ بِهَا كَالْكَافِرِ بَطَلَ قَوْلُ مَنْ يَخُصُّهَا بِالْكَافِرِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ

قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ [النِّسَاءِ: 14] جَمْعٌ مُضَافٌ وَالْجَمْعُ الْمُضَافُ عِنْدَكُمْ يُفِيدُ الْعُمُومَ، كَمَا لَوْ قِيلَ: ضَرَبْتُ عَبِيدِي، فَإِنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ شَامِلًا لِجَمِيعِ عَبِيدِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ اخْتَصَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِمَنْ تَعَدَّى جَمِيعَ حُدُودِ اللَّهِ وَذَلِكَ هُوَ الْكَافِرُ لَا مَحَالَةَ دُونَ الْمُؤْمِنِ، قُلْنَا: الْأَمْرُ وَإِنْ كَانَ كَمَا ذَكَرْتُمْ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ لَكِنَّهُ وُجِدَتْ قَرَائِنُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ليس المراد هاهنا تَعَدِّي جَمِيعِ الْحُدُودِ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ عَلَى قَوْلِهِ: وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَانْصَرَفَ قَوْلُهُ: وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ إِلَى تِلْكَ الْحُدُودِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأُمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ مَزْجُورٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَلَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمْ/ لَكَانَ الْمُؤْمِنُ غَيْرَ مَزْجُورٍ بِهَا، وَثَالِثُهَا: أَنَّا لَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى تَعَدِّي جَمِيعِ الْحُدُودِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَعِيدِ بِهَا فَائِدَةٌ لِأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُكَلَّفِينَ لَا يَتَعَدَّى جَمِيعَ حُدُودِ اللَّهِ، لِأَنَّ فِي الْحُدُودِ مَا لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا فِي التَّعَدِّي لِتَضَادِّهَا، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مَذْهَبَ الثَّنَوِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَلَيْسَ يُوجَدُ فِي الْمُكَلَّفِينَ مَنْ يَعْصِي اللَّهَ بِجَمِيعِ الْمَعَاصِي، وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها [النِّسَاءِ: 93] ، دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ جَزَاؤُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ هَذَا الْجَزَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النِّسَاءِ: 123] . وخامسها: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الْأَنْفَالِ: 16] . وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7، 8] . وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [النِّسَاءِ: 29، 30] . وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى [طه: 74، 75] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْكَافِرَ وَالْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْعِقَابِ الدَّائِمِ كَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ. وَتَاسِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً [طه: 111] وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الظَّالِمُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دَاخِلًا تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ، وَعَاشِرُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ تَعْدَادِ الْمَعَاصِي: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً [الْفُرْقَانِ: 68، 69] بَيَّنَ أَنَّ الْفَاسِقَ كَالْكَافِرِ فِي أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْخُلُودِ، إِلَّا مَنْ تَابَ مِنَ الْفُسَّاقِ أَوْ آمَنَ مِنَ الْكُفَّارِ، وَالْحَادِيَةُ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ [النَّمْلِ: 89، 90] الْآيَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهَا كَمَا أَنَّ الطَّاعَاتِ كُلَّهَا مَوْعُودٌ عَلَيْهَا، وَالثَّانِيَةُ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى [النَّازِعَاتِ: 37- 39] . وَالثَّالِثَةُ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الْجِنِّ: 23] الْآيَةَ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ، وَالرَّابِعَةُ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ الْآيَةَ، فَحَكَى فِي أَوَّلِ الْآيَةِ قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَةِ: 80] ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ كَذَّبَهُمْ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فَهَذِهِ هِيَ الْآيَاتُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي الْمَسْأَلَةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى صِيغَةِ «مَنْ» فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ تُفِيدُ الْعُمُومَ بِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مَوْضُوعَةً لِلْعُمُومِ لَكَانَتْ إِمَّا مَوْضُوعَةً لِلْخُصُوصِ أَوْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ، فَوَجَبَ كَوْنُهَا مَوْضُوعَةً لِلْعُمُومِ، أَمَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً لِلْخُصُوصِ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا حَسُنَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ أَنْ يُعْطِيَ الْجَزَاءَ لِكُلِّ مَنْ أَتَى بِالشَّرْطِ، لِأَنَّ عَلَى

هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْجَزَاءُ مُرَتَّبًا عَلَى ذَلِكَ الشَّرْطِ، لَكِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي أَكْرَمْتُهُ أَنَّهُ يَحْسُنُ أَنْ يُكْرِمَ كُلَّ مَنْ دَخَلَ دَارَهُ فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لَيْسَتْ لِلْخُصُوصِ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ/ تَكُونَ مَوْضُوعَةً لِلِاشْتِرَاكِ، أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا عُرِفَ كيفية ترتب الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ جَمِيعِ الْأَقْسَامِ الْمُمْكِنَةِ مِثْلَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي أَكْرَمْتُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: أَرَدْتَ الرِّجَالَ أَوِ النِّسَاءَ، فَإِذَا قَالَ: أَرَدْتُ الرِّجَالَ يُقَالُ لَهُ: أَرَدْتَ الْعَرَبَ أَوِ الْعَجَمَ، فَإِذَا قَالَ: أَرَدْتُ الْعَرَبَ يُقَالُ لَهُ: أَرَدْتَ رَبِيعَةَ أَوْ مُضَرَ وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى أَنْ يَأْتِيَ عَلَى جَمِيعِ التَّقْسِيمَاتِ الْمُمْكِنَةِ، وَلَمَّا عَلِمْنَا بِالضَّرُورَةِ مِنْ عَادَةِ أَهِلِ اللِّسَانِ قُبْحَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْقَوْلَ بِالِاشْتِرَاكِ بَاطِلٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ إِذَا قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي أَكْرَمْتُهُ حَسُنَ اسْتِثْنَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ مِنْهُ وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَوَجَبَ دُخُولُهُ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنَ الْجِنْسِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَصِحُّ دُخُولُهُ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَإِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ مَعَ الصِّحَّةِ الْوُجُوبُ أَوْ لَا يُعْتَبَرَ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَبْقَى بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ كَقَوْلِهِ: جَاءَنِي الْفُقَهَاءُ إِلَّا زَيْدًا وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ كَقَوْلِهِ: جَاءَنِي الْفُقَهَاءُ إِلَّا زَيْدًا فَرْقٌ لِصِحَّةِ دُخُولِ زَيْدٍ فِي الْكَلَامَيْنِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْعَدَدِ يُخْرِجُ مَا لَوْلَاهُ لَوَجَبَ دُخُولُهُ تَحْتَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا فَائِدَةَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ الدَّاخِلِ عَلَى الْعَدَدِ وَبَيْنَ الدَّاخِلِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَوَجَبَ دُخُولُهُ فِيهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صِيغَةَ «مَنْ» فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ لِلْعُمُومِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ قَوْلَهُ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاءِ: 98] الْآيَةَ قَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى: لَأَخْصِمَنَّ مُحَمَّدًا ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَلَيْسَ قَدْ عُبِدَتِ الْمَلَائِكَةُ أَلَيْسَ قَدْ عُبِدَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَتَمَسَّكَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ «1» ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ تُفِيدُ الْعُمُومَ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ دَلَائِلِ الْمُعْتَزِلَةِ: التَّمَسُّكُ فِي الْوَعِيدِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفَةِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَهِيَ فِي آيَاتٍ. إِحْدَاهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الِانْفِطَارِ: 14] وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ وَالْجُبَّائِيَّ وَأَبَا الْحَسَنِ يَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ تُفِيدُ الْعُمُومَ، وَأَبُو هَاشِمٍ يَقُولُ: إِنَّهَا لَا تُفِيدُ الْعُمُومَ، فَنَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لِلْعُمُومِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَنْصَارَ لَمَّا طَلَبُوا الْإِمَامَةَ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» وَالْأَنْصَارُ سَلَّمُوا تِلْكَ الْحُجَّةَ وَلَوْ لَمْ يَدُلَّ الْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ بِلَامِ الْجِنْسِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ لَمَا صَحَّتْ تِلْكَ الدَّلَالَةُ، لِأَنَّ قَوْلَنَا: بَعْضُ الْأَئِمَّةِ مِنْ قُرَيْشٍ لَا يُنَافِي وُجُودَ إِمَامٍ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ. أَمَّا كَوْنُ كُلِّ الْأَئِمَّةِ مِنْ قُرَيْشٍ يُنَافِي كَوْنَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ لَمَّا هَمَّ بِقِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ: أَلَيْسَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» احْتَجَّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ بِعُمُومِ اللَّفْظِ ثُمَّ لَمْ يَقُلْ أَبُو بَكْرٍ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: إِنِ اللَّفْظَ لَا يُفِيدُهُ بَلْ عَدَلَ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ، فَقَالَ إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِلَّا بِحَقِّهَا» وَإِنْ كَانَ الزَّكَاةُ مِنْ حَقِّهَا، وَثَانِيهَا: / أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ يُؤَكَّدُ بِمَا يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ، فَوَجَبَ أَنْ يُفِيدَ الِاسْتِغْرَاقَ، أَمَّا أَنَّهُ يُؤَكَّدُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [ص: 73] وَأَمَّا أَنَّهُ بَعْدَ التَّأْكِيدِ يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ، فَبِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا أَنَّهُ مَتَى كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ كَوْنُ الْمُؤَكَّدِ فِي أَصْلِهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مسماة بالتأكيد

_ (1) الرواية المشهورة أنه عليه الصلاة والسلام أنكر عليه قوله هذا وقال له: ما أجهلك بلغة قومك «ما» لما لا يعقل.

إِجْمَاعًا، وَالتَّأْكِيدُ هُوَ تَقْوِيَةُ الْحُكْمِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا فِي الْأَصْلِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الِاسْتِغْرَاقُ حَاصِلًا فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا حَصَلَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ ابْتِدَاءً لَمْ يَكُنْ تَأْثِيرُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي تَقْوِيَةِ الْحُكْمِ، بَلْ فِي إِعْطَاءِ حُكْمٍ جَدِيدٍ، وَكَانَتْ مُبِيِّنَةً لِلْمُجْمَلِ لَا مُؤَكِّدَةً، وَحَيْثُ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا مُؤَكِّدَةٌ عَلِمْنَا أَنَّ اقْتِضَاءَ الِاسْتِغْرَاقِ كَانَ حَاصِلًا فِي الْأَصْلِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ إِذَا دَخَلَا فِي الِاسْمِ صَارَ الِاسْمُ مَعْرِفَةً، كَذَا نُقِلَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فَيَجِبُ صَرْفُهُ إِلَى مَا بِهِ تَحْصُلُ الْمَعْرِفَةُ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ بِصَرْفِهِ إِلَى الْكُلِّ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ لِلْمُخَاطَبِ، وَأَمَّا صَرْفُهُ إِلَى مَا دُونَ الْكُلِّ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ الْمَعْرِفَةَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْضُ الْجَمْعِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَكَانَ يَبْقَى مَجْهُولًا. فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا أَفَادَ جَمْعًا مَخْصُوصًا مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ فَقَدْ أَفَادَ تَعْرِيفَ ذَلِكَ الْجِنْسِ، قُلْتُ: هَذِهِ الْفَائِدَةُ كَانَتْ حَاصِلَةً بِدُونِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: رَأَيْتُ رِجَالًا، أَفَادَ تَعْرِيفَ ذَلِكَ الْجِنْسِ وَتَمَيُّزَهُ عَنْ غَيْرِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْأَلِفِ وَاللَّامِ فَائِدَةً زَائِدَةً وَمَا هِيَ إِلَّا الِاسْتِغْرَاقُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ أَيِّ وَاحِدٍ كَانَ مِنْهُ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْعُمُومَ. وَخَامِسُهَا: الْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ فِي اقْتِضَاءِ الْكَثْرَةِ فَوْقَ الْمُنَكَّرِ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ انْتِزَاعُ الْمُنَكَّرِ مِنَ الْمُعَرَّفِ وَلَا يَنْعَكِسُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: رَأَيْتُ رِجَالًا مِنَ الرِّجَالِ، وَلَا يُقَالُ رَأَيْتُ الرِّجَالَ مِنْ رِجَالٍ، وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمُنْتَزَعَ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنَ الْمُنْتَزَعِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَنَقُولُ: إِنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ، إِمَّا الْكُلُّ أَوْ مَا دُونَهُ، وَالثَّانِي: بَاطِلٌ لِأَنَّهُ مَا مِنْ عَدَدٍ دُونَ الْكُلِّ إِلَّا وَيَصِحُّ انْتِزَاعُهُ مِنَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْمُنْتَزَعَ مِنْهُ أَكْثَرُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ مُفِيدًا لِلْكُلِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا عَلَى طَرِيقَةِ أَبِي هَاشِمٍ، وَهِيَ أَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ فَيُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِالْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ فَقَوْلُهُ: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَقْتَضِي أَنَّ الْفُجُورَ هِيَ الْعِلَّةُ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ لَزِمَ عُمُومُ الْحُكْمِ لِعُمُومِ عِلَّتِهِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَفِي هَذَا الْبَابِ طَرِيقَةٌ ثَالِثَةٌ يَذْكُرُهَا النَّحْوِيُّونَ وَهِيَ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَيْسَتْ لَامَ تَعْرِيفٍ، بَلْ هِيَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تُجَابُ بِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [الْمَائِدَةِ: 38] ، وَكَمَا تَقُولُ الَّذِي يَلْقَانِي فَلَهُ دِرْهَمٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ عَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي دَخَلَتْ هَذِهِ اللَّامُ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْحَدِيدِ: 18] فَلَوْلَا أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ بِمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ اصَدَّقُوا لَمَا صَحَّ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَأَقْرَضُوا اللَّهَ وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كان قوله: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ مَعْنَاهُ: إِنَّ الَّذِينَ فَجَرُوا فَهُمْ فِي الْجَحِيمِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ الْعُمُومَ. الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِي هَذَا الْبَابِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً [مَرْيَمَ: 85، 86] وَلَفْظُ الْمُجْرِمِينَ صِيغَةُ جَمْعٍ مُعَرَّفَةٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا [مَرْيَمَ: 72] وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ [النحل: 61] بَيَّنَ أَنَّهُ يُؤَخِّرُ عِقَابَهُمْ إِلَى يَوْمٍ آخَرَ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَصْدُقُ أَنْ لَوْ حَصَلَ عِقَابُهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الْعُمُومَاتِ: صِيَغُ الْجُمُوعِ الْمَقْرُونَةُ بِحَرْفِ الَّذِي، فَأَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: 1، 2] . وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النِّسَاءِ: 10] . وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النَّحْلِ: 28] فَبَيَّنَ مَا يُسْتَحَقُّ عَلَى تَرْكِ الْهِجْرَةِ وَتَرْكِ النُّصْرَةِ وَإِنْ كَانَ معترفاً بالله

وَرَسُولِهِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [يُونُسَ: 27] وَلَمْ يَفْصِلْ فِي الْوَعِيدِ بَيْنَ الْكَافِرِ وَغَيْرِهِ. وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 34] . وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ [النِّسَاءِ: 18] وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْفَاسِقُ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَالْعَذَابِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْقَوْلِ مَعْنًى، بَلْ لَمْ يَكُنْ بِهِ إِلَى التَّوْبَةِ حَاجَةٌ، وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [الْمَائِدَةِ: 33] فَبَيَّنَ مَا عَلَى الْفَاسِقِ مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ [آلِ عِمْرَانَ: 77] . النَّوْعُ الرَّابِعُ: مِنَ الْعُمُومَاتِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ [آلِ عِمْرَانَ: 180] تَوَعُّدٌ عَلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ. النَّوْعُ الْخَامِسُ: مِنَ الْعُمُومَاتِ: لَفْظَةُ «كُلٍّ» وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ [يُونُسَ: 54] فَبَيَّنَ مَا يَسْتَحِقُّ الظَّالِمُ عَلَى ظُلْمِهِ. النَّوْعُ السَّادِسُ: مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْعَلَ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق: 28، 29] بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُبَدَّلُ قَوْلُهُ فِي الْوَعِيدِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْعِلَّةَ فِي إِزَاحَةِ الْعُذْرِ تَقْدِيمَ الْوَعِيدِ، أَيْ بَعْدَ تَقْدِيمِ الْوَعِيدِ لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ عِلَّةٌ وَلَا مَخْلَصٌ مِنْ عَذَابِهِ، وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ تَعَالَى لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْعَلَ مَا دَلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ، فَهَذَا مَجْمُوعُ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ عُمُومَاتِ الْقُرْآنِ. أَمَّا عُمُومَاتُ الْأَخْبَارِ فَكَثِيرَةٌ. فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْمَذْكُورُ بِصِيغَةِ «مَنْ» أَحَدُهَا: مَا رَوَى وَقَّاصُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من أَكَلَ بِأَخِيهِ أَكْلَةً أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَمَنْ أَخَذَ بِأَخِيهِ كِسْوَةً كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ وَمَنْ قَامَ مَقَامَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ أَقَامَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَقَامَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ» ، وَهَذَا نَصٌّ فِي وَعِيدِ الْفَاسِقِ، وَمَعْنَى أَقَامَهُ: أَيْ جَازَاهُ عَلَى ذَلِكَ، وَثَانِيهَا: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ كَانَ ذَا لِسَانَيْنِ وَذَا وَجْهَيْنِ كَانَ فِي النَّارِ ذَا لِسَانَيْنِ وَذَا وَجْهَيْنِ» وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْمُنَافِقِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَثَالِثُهَا: عَنْ سَعِيدِ بْنِ زيد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ ظَلَمَ قَيْدَ شِبْرٍ مِنْ/ أَرْضٍ طُوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ، وَرَابِعُهَا: عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَاجَرَ السُّوءَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَبْدٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» . وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى وَعِيدِ الْفَاسِقِ الظَّالِمِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُؤْمِنٍ وَلَا مُسْلِمٍ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ مِنَ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ. وَخَامِسُهَا: عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَرِيئًا مِنْ ثَلَاثَةٍ، دَخَلَ الْجَنَّةَ: الْكِبْرِ وَالْغُلُولِ وَالدَّيْنِ» ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْكَلَامِ مَعْنًى، وَالْمُرَادُ مِنَ الدَّيْنِ مَنْ مَاتَ عَاصِيًا مَانِعًا وَلَمْ يُرِدِ التَّوْبَةَ وَلَمْ يَتُبْ عَنْهُ. وَسَادِسُهَا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» . وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الثَّوَابَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالطَّاعَةِ، وَالْخَلَاصَ مِنَ النَّارِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَسَابِعُهَا: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ

حَرَامٌ وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ» ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي وَعِيدِ الْفَاسِقِ وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْخُلُودِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَشْرَبْهَا لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ لِأَنَّ فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ. وَثَامِنُهَا: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا قَطَعْتُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» . وَتَاسِعُهَا: عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ سِوَى الْإِسْلَامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ يُعَذَّبُ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» . وَعَاشِرُهَا: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الصَّلَاةِ: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نُورًا وَلَا بُرْهَانًا وَلَا نَجَاةً وَلَا ثَوَابًا وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَهَامَانَ وَفِرْعَوْنَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ» . وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ يُحْبِطُ الْعَمَلَ وَيُوجِبُ وَعِيدَ الْأَبَدِ، الْحَادِيَ عَشَرَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ لَقِيَ اللَّهَ مُدْمِنَ خَمْرٍ لَقِيَهُ كَعَابِدِ وَثَنٍ» ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ إِحْبَاطُ الْعَمَلِ، الثَّانِيَ عَشَرَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا بَطْنَهُ يَهْوِي فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ مُتَعَمِّدًا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ مُتَرَدٍّ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» ، الثَّالِثَ عَشَرَ: عَنْ أَبِي ذر قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ خَابُوا وَخَسِرُوا؟ قَالَ: الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ كَاذِبًا» ، يَعْنِي بِالْمُسْبِلِ الْمُتَكَبِّرَ الَّذِي يُسْبِلُ إِزَارَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ لَمْ يُكَلِّمْهُ اللَّهُ وَلَمْ يَرْحَمْهُ وَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَوُرُودُهُ فِي الْفَاسِقِ نَصٌّ فِي الْبَابِ، الرَّابِعَ عَشَرَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ/ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ فِي النَّارِ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ أَوْ فِي النَّارِ» . الْخَامِسَ عَشَرَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . السَّادِسَ عَشَرَ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبًا لِيَقْطَعَ بِهَا مَالَ أَخِيهِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا [آلِ عِمْرَانَ: 77] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْوَعِيدِ وَنَصٌّ فِي أَنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي الْفُسَّاقِ كَوُرُودِهَا فِي الْكُفَّارِ، السَّابِعَ عَشَرَ: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَاجِرَةٍ لِيَقْطَعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقِّهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا، قَالَ: وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» . الثَّامِنَ عَشَرَ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَتَاهُ رَجُلٌ وَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ مَعِيشَتِي مِنْ هَذِهِ التَّصَاوِيرِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ صَوَّرَ فَإِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ، وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ يَفِرُّونَ مِنْهُ صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ وَمَنْ يُرِي عَيْنَيْهِ فِي الْمَنَامِ مَا لَمْ يره كلف أن يعقد بين شعرتين» . التَّاسِعَ عَشَرَ: عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ، وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» . الْعِشْرُونَ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي مُنَاظَرَتِهِ مَعَ عُثْمَانَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يُوَلِّيَهُ الْقَضَاءَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ كَانَ قَاضِيًا يَقْضِي بِالْجَهْلِ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَمَنْ كَانَ قَاضِيًا يَقْضِي بِالْجَوْرِ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» . الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنِ ادَّعَى أَبًا فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ» . الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهِدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» ، وَإِذَا كَانَ فِي

قَتْلِ الْكُفَّارِ هَكَذَا فَمَا ظَنُّكَ بِقَتْلِ أَوْلَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ» وَإِذَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ [الزُّخْرُفِ: 71] . النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْعُمُومَاتِ الْإِخْبَارِيَّةِ الْوَارِدَةِ لَا بِصِيغَةِ «مَنْ» وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، الْأَوَّلُ: عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِسْكِينٌ مُتَكَبِّرٌ وَلَا شَيْخٌ زَانٍ وَلَا مَنَّانٌ عَلَى اللَّهِ بِعَمَلِهِ» ، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ بِالْإِجْمَاعِ. الثَّانِي: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ثَلَاثَةٌ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الشَّهِيدُ، وَعَبْدٌ نَصَحَ سَيِّدَهُ وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ، وَثَلَاثَةٌ يَدْخُلُونَ النَّارَ: أَمِيرٌ مُسَلَّطٌ، وَذُو ثَرْوَةٍ مِنْ مَالٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ، وَفَقِيرٌ فَخُورٌ» . الثَّالِثُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحِمَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ/ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَهُوَ ذَاكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فاقرؤوا إِنْ شِئْتُمْ، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ، أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ [مُحَمَّدٍ: 23] ، وَهَذَا نَصٌّ فِي وَعِيدِ قَاطِعِ الرَّحِمِ وَتَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنِ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ) . وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ» . الرَّابِعُ: عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبَعْضِ الْحَاضِرِينَ: «مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. قَالَ: فَمَا حَقُّهُمْ عَلَى اللَّهِ إذا فعلوا ذلك؟ قَالَ: أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا يُعَذِّبَهُمْ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى الشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَغْفِرَ لَهُمْ إِذَا لَمْ يَعْبُدُوهُ. الْخَامِسُ: عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اقْتَتَلَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. السَّادِسُ: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» . السَّابِعُ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُبْغِضُ أَهْلَ الْبَيْتِ رَجُلٌ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ» ، وإذا استحقوا النار ببعضهم فَلَأَنْ يَسْتَحِقُّوهَا بِقَتْلِهِمْ أَوْلَى. الثَّامِنُ: فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّا خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَامِ خَيْبَرَ إِلَى أَنْ كُنَّا بِوَادِي الْقُرَى، فَبَيْنَمَا يَحْفَظُ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ وَقَتَلَهُ فَقَالَ النَّاسُ هَنِيئًا له الجنة، قال رسول الله: «كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ حُنَيْنٍ مِنَ الْغَنَائِمِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا» . فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ بِذَلِكَ جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: شِرَاكٌ مِنْ نار أو شراكين مِنَ النَّارِ. التَّاسِعُ: عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ وَقَاطِعُ الرَّحِمِ وَمُصَدِّقُ السِّحْرِ» . الْعَاشِرُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ لَهُ مَالٌ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إِلَّا جَمَعَ اللَّهُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ صَفَائِحَ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ يُكْوَى بِهَا جَبْهَتُهُ وَظَهْرُهُ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» . هَذَا مَجْمُوعُ اسْتِدْلَالِ الْمُعْتَزِلَةِ بِعُمُومَاتِ الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ. أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهَا مِنْ وُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ صِيغَةَ «مَنْ» فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ لِلْعُمُومِ،

وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ إِذَا كَانَتْ مُعَرَّفَةً بِاللَّامِ لِلْعُمُومِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَصِحُّ إِدْخَالُ لَفْظَتَيِ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ عَلَى هَاتَيْنِ اللَّفْظَتَيْنِ، كُلُّ مَنْ دَخَلَ دَارِي أَكْرَمْتُهُ وَبَعْضُ مَنْ دَخَلَ دَارِي أَكْرَمْتُهُ، وَيُقَالُ أَيْضًا: كُلُّ النَّاسِ كَذَا، وَبَعْضُ النَّاسِ كَذَا، وَلَوْ كَانَتْ لَفْظَةُ «مَنْ» لِلشَّرْطِ تُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ لَكَانَ إِدْخَالُ لَفْظِ الْكُلِّ عَلَيْهِ/ تَكْرِيرًا وَإِدْخَالُ لَفْظِ الْبَعْضِ عَلَيْهِ نَقْضًا، وَكَذَلِكَ فِي لَفْظِ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ لَا تُفِيدُ الْعُمُومَ. الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ جَاءَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا تَارَةً الِاسْتِغْرَاقُ وَأُخْرَى الْبَعْضُ، فَإِنَّ أَكْثَرَ عُمُومَاتِ الْقُرْآنِ مَخْصُوصَةٌ، وَالْمَجَازُ وَالِاشْتِرَاكُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَلَا بُدَّ مِنْ جَعْلِهِ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَذَلِكَ هُوَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى إِفَادَةِ الْأَكْثَرِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ أَنَّهُ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ أَوْ لَا يُفِيدُ. الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ لَوْ أَفَادَتِ الْعُمُومَ إِفَادَةً قَطْعِيَّةً لاستحال إدخال لفظ التأكيد عليها، لأنها تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ فَحَيْثُ حَسُنَ إِدْخَالُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَيْهَا عَلِمْنَا أَنَّهَا لَا تُفِيدُ مَعْنَى العموم لا محالة، سلما أنها تفيد معنى وَلَكِنْ إِفَادَةً قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً؟ الْأَوَّلُ: مَمْنُوعٌ وَبَاطِلٌ قَطْعًا لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ النَّاسَ كَثِيرًا مَا يُعَبِّرُونَ عَنِ الْأَكْثَرِ بِلَفْظِ الْكُلِّ وَالْجَمِيعِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْلِ: 23] فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ تُفِيدُ مَعْنَى الْعُمُومِ إِفَادَةً ظَنِّيَّةً، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنَ الْمَسَائِلِ الظَّنِّيَّةِ لَمْ يَجُزِ التَّمَسُّكُ فِيهَا بِهَذِهِ الْعُمُومَاتِ، سَلَّمْنَا أَنَّهَا تُفِيدُ مَعْنَى الْعُمُومِ إِفَادَةً قَطْعِيَّةً وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنِ اشْتِرَاطِ أَنْ لَا يُوجَدَ شَيْءٌ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ؟، فَإِنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ تَطَرُّقِ التَّخْصِيصِ إِلَى الْعَامِّ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ؟ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: بَحَثْنَا فَلَمْ نَجِدْ شَيْئًا مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ لَكِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ عَدَمَ الْوِجْدَانِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُودِ. وَإِذَا كَانَتْ إِفَادَةُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِمَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ مُتَوَقِّفَةً عَلَى نَفْيِ الْمُخَصِّصَاتِ، وَهَذَا الشَّرْطُ غَيْرُ مَعْلُومٍ كَانَتِ الدَّلَالَةُ مَوْقُوفَةً عَلَى شَرْطٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَحْصُلَ الدَّلَالَةُ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الْمَقَامَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَةِ: 6] حَكَمَ عَلَى كُلِّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، ثُمَّ إِنَّا شَاهَدْنَا قَوْمًا مِنْهُمْ قَدْ آمَنُوا فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً لِلشُّمُولِ أَوْ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا أَنَّهُ قَدْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَعْلَمُونَ لِأَجْلِهَا أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْعُمُومِ هُوَ الْخُصُوصُ. وَأَمَّا ما كان هناك فلم يجوز مثله هاهنا؟ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْمُخَصِّصِ، لَكِنَّ آيَاتِ الْعَفْوِ مُخَصِّصَةٌ لَهَا وَالرُّجْحَانُ مَعَنَا لِأَنَّ آيَاتِ الْعَفْوِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى آيَاتِ الْوَعِيدِ خَاصَّةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَامِّ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ لَا مَحَالَةَ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْمُخَصِّصُ وَلَكِنَّ عُمُومَاتِ الْوَعِيدِ مُعَارَضَةٌ بِعُمُومَاتِ الْوَعْدِ، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّرْجِيحِ وَهُوَ مَعَنَا مِنْ وُجُوهٍ، الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ أَدْخَلُ فِي الْكَرْمِ مِنَ الْوَفَاءِ بِالْوَعِيدِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدِ اشْتُهِرَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ سَابِقَةٌ عَلَى غَضَبِهِ وَغَالِبَةٌ عَلَيْهِ فَكَانَ تَرْجِيحُ عُمُومَاتِ الْوَعْدِ أَوْلَى. الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الْوَعِيدَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْوَعْدَ حَقُّ الْعَبْدِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ أَوْلَى بِالتَّحْصِيلِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْمُعَارِضُ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ نَزَلَتْ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ، فَلَا تَكُونُ قَاطِعَةً فِي الْعُمُومَاتِ، فَإِنْ قِيلَ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، قُلْنَا: هَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمَّا رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ وَرَدَتْ فِي الْأَسْبَابِ الْخَاصَّةِ، وَالْمُرَادُ تِلْكَ الْأَسْبَابُ الْخَاصَّةُ فَقَطْ عَلِمْنَا أَنَّ/ إِفَادَتَهَا لِلْعُمُومِ لَا يَكُونُ قَوِيًّا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا الَّذِينَ قَطَعُوا بِنَفْيِ الْعِقَابِ عَنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَقَدِ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ

وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ [النَّحْلِ: 27] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: 48] دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَاهِيَّةَ الْخِزْيِ وَالسُّوءِ وَالْعَذَابِ مُخْتَصَّةٌ بِالْكَافِرِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ لِأَحَدٍ سِوَى الْكَافِرِينَ. الثَّانِي: قَوْلُهُ تعالى: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزُّمَرِ: 53] ، حَكَمَ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَغْفِرُ كُلَّ الذُّنُوبِ وَلَمْ يَعْتَبِرِ التَّوْبَةَ وَلَا غَيْرَهَا، وَهَذَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِغُفْرَانِ كُلِّ الذُّنُوبِ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ [الرَّعْدِ: 6] وَكَلِمَةُ «عَلَى» تُفِيدُ الْحَالَ كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ الْمَلِكَ عَلَى أَكْلِهِ، أَيْ رَأَيْتُهُ حَالَ اشْتِغَالِهِ بالأكل، فكذا هاهنا وَجَبَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمُ اللَّهُ حَالَ اشْتِغَالِهِمْ بِالظُّلْمِ وَحَالُ الِاشْتِغَالِ بِالظُّلْمِ يَسْتَحِيلُ حُصُولُ التَّوْبَةِ مِنْهُمْ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ يَحْصُلُ الْغُفْرَانُ بِدُونِ التَّوْبَةِ وَمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَغْفِرَ لِلْكَافِرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] إِلَّا أَنَّهُ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ هُنَاكَ فَبَقِيَ مَعْمُولًا بِهِ فِي الْبَاقِي. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْكُفْرَ أَعْظَمُ حَالًا مِنَ الْمَعْصِيَةِ. الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [اللَّيْلِ: 14- 16] ، وَكُلُّ نَارٍ فَإِنَّهَا مُتَلَظِّيَةٌ لَا مَحَالَةَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ إِنَّ النَّارَ لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي هُوَ الْمُكَذِّبُ الْمُتَوَلِّي. الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الْمُلْكِ: 8، 9] ، دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ النَّارِ مُكَذِّبٌ لَا يُقَالُ هَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ فِي الْكُفَّارِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ قَبْلَهُ: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ فِي بَعْضِ الْكُفَّارِ وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الملك: 6- 9] ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَوْلِ جَمِيعِ الْكُفَّارِ لِأَنَّا نَقُولُ: دَلَالَةُ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْكُفَّارِ لَا تَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ مَا بَعْدَهَا. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كَانُوا يَقُولُونَ: مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ. السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سَبَأٍ: 17] وَهَذَا بِنَاءُ الْمُبَالَغَةِ فَوَجَبَ أن يختص بالكافر الأصلي. السابع: أنه تعالى بعد ما أَخْبَرَ أَنَّ النَّاسَ صِنْفَانِ: بِيضُ الْوُجُوهِ وَسُودُهُمْ قَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ [آلِ عِمْرَانَ: 106] فَذَكَرَ أَنَّهُمُ الكفار. والثامن: أنه تعالى بعد ما جَعَلَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ، السَّابِقُونَ وَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، بَيَّنَ أَنَّ السَّابِقِينَ وَأَصْحَابَ الْمَيْمَنَةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَصْحَابَ الْمَشْأَمَةِ فِي النَّارِ، ثُمَّ بين أنهم كفار بقوله: وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْوَاقِعَةِ: 47] . التَّاسِعُ: أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يُخْزَى وَكُلُّ مَنْ أُدْخِلَ النَّارَ فَإِنَّهُ يُخْزَى فَإِذَنْ صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ لَا يَدْخُلُ النَّارَ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ/ لَا يُخْزَى لِأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ وَالْمُؤْمِنُ لَا يُخْزَى، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ مُؤْمِنٌ لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَةِ: 3] مِنْ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُخْزَى لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التَّحْرِيمِ: 8] . وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ [النَّحْلِ: 27] . وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 191] إِلَى أَنْ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ [آلِ عِمْرَانَ: 194] ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ [آل عمران: 195]

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ويتفكرون في خلق السموات وَالْأَرْضِ يَدْخُلُ فِيهِ الْعَاصِي وَالزَّانِي وَشَارِبُ الْخَمْرِ، فَلَمَّا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَجَابَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُخْزِيهِمْ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُخْزِي عُصَاةَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ كُلَّ مَنْ أُدْخِلَ النَّارَ فَقَدْ أُخْزِيَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آلِ عِمْرَانَ: 192] ، فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يَدْخُلُ النَّارَ. الْعَاشِرُ: الْعُمُومَاتُ الْكَثِيرَةُ الْوَارِدَةُ فِي الْوَعْدِ نَحْوَ قوله: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَةِ: 4- 5] ، فَحَكَمَ بِالْفَلَاحِ عَلَى كُلِّ مَنْ آمَنَ، وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الْبَقَرَةِ: 62] . فَقَوْلُهُ: وَعَمِلَ صالِحاً نَكِرَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ فَيَكْفِي فِيهِ الْإِثْبَاتُ بِعَمَلٍ وَاحِدٍ وَقَالَ: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النِّسَاءِ: 124] وَإِنَّهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلَنَا فِيهِ رِسَالَةٌ مُفْرَدَةٌ مَنْ أَرَادَهَا فَلْيُطَالِعْ تِلْكَ الرِّسَالَةَ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ: أَنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِعُمُومَاتِ الْوَعِيدِ، وَالْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ يَجِيءُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَمَّا أَصْحَابُنَا الَّذِينَ قَطَعُوا بِالْعَفْوِ فِي حَقِّ الْبَعْضِ وَتَوَقَّفُوا فِي الْبَعْضِ فَقَدِ احْتَجُّوا مِنَ الْقُرْآنِ بِآيَاتٍ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى كَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى عَفُوًّا غَفُورًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشُّورَى: 25] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30] وقوله: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ [الشُّورَى: 32] إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ [الشُّورَى: 34] وَأَيْضًا أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَعْفُو عَنْ عِبَادِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَسْمَائِهِ الْعَفُوَّ فَنَقُولُ: الْعَفْوُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عبارة عن إسقاط العقاب عمن يحسن عقابه أَوْ عَمَّنْ لَا يَحْسُنُ عِقَابُهُ، وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي بَاطِلٌ، لِأَنَّ عِقَابَ مَنْ لَا يَحْسُنُ عِقَابُهُ قَبِيحٌ، وَمَنْ تَرَكَ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ لَا يُقَالُ: إِنَّهُ عَفَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَظْلِمْ أَحَدًا لَا يُقَالُ: أَنَّهُ عَفَا عَنْهُ، إِنَّمَا يُقَالُ لَهُ: عَفَا إِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُعَذِّبَهُ فَتَرَكَهُ وَلِهَذَا قَالَ: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْبَقَرَةِ: 237] وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ [الشُّورَى: 25] ، فَلَوْ كَانَ الْعَفْوُ عِبَارَةً عَنْ إِسْقَاطِ الْعِقَابِ عَنِ التَّائِبِ لَكَانَ ذَلِكَ تَكْرِيرًا/ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْعَفْوَ عبارة عن إسقاط العقاب عمن يحسن عقابه وَذَلِكَ هُوَ مَذْهَبُنَا. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى غَافِرًا وَغَفُورًا وَغَفَّارًا، قَالَ تَعَالَى: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ [غَافِرٍ: 3] وَقَالَ: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ [الْكَهْفِ: 58] وَقَالَ: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ [طه: 82] وَقَالَ: غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الْبَقَرَةِ: 285] . وَالْمَغْفِرَةُ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ إِسْقَاطِ الْعِقَابِ عَمَّنْ لَا يَحْسُنُ عِقَابُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِبَارَةً عَنْ إِسْقَاطِ الْعِقَابِ عَمَّنْ يَحْسُنُ عِقَابُهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَذْكُرُ صِفَةَ الْمَغْفِرَةِ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ عَلَى الْعِبَادِ وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ لَمْ يَبْقَ هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ تَرْكَ الْقَبِيحِ لَا يَكُونُ مِنَّةً عَلَى الْعَبْدِ بَلْ كَأَنَّهُ أَحْسَنَ إِلَى نَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ لَاسْتَحَقَّ الذَّمَّ وَاللَّوْمَ وَالْخُرُوجَ عَنْ حَدِّ الْإِلَهِيَّةِ فَهُوَ بِتَرْكِ الْقَبَائِحِ لَا يَسْتَحِقُّ الثَّنَاءَ مِنَ الْعَبْدِ، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ تَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. فَإِنْ قِيلَ: لم يَجُوزُ حَمْلُ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ عَلَى تَأْخِيرِ الْعِقَابِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعَفْوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنِ الدُّنْيَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْيَهُودِ: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ [الْبَقَرَةِ: 52] وَالْمُرَادُ

لَيْسَ إِسْقَاطَ الْعِقَابِ، بَلْ تَأْخِيرَهُ إِلَى الْآخِرَةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشُّورَى: 30] أَيْ مَا يُعَجِّلُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَصَائِبِ عِقَابِهِ إِمَّا عَلَى جِهَةِ الْمِحْنَةِ أَوْ عَلَى جِهَةِ الْعُقُوبَةِ الْمُعَجَّلَةِ فَبِذُنُوبِكُمْ وَلَا يُعَجِّلُ الْمِحْنَةَ وَالْعِقَابَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهَا، وكذا قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ [الشُّورَى: 32] إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ [الشُّورَى: 34] أَيْ لَوْ شَاءَ إِهْلَاكَهُنَّ لَأَهْلَكَهُنَّ وَلَا يُهْلِكُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الذُّنُوبِ. وَالْجَوَابُ: الْعَفْوُ أَصْلُهُ مِنْ عَفَا أَثَرَهُ أَيْ أَزَالَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مِنَ الْعَفْوِ الْإِزَالَةَ لِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [الْبَقَرَةِ: 178] وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّأْخِيرُ، بَلِ الْإِزَالَةُ وَكَذَا قَوْلُهُ: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الشورى: 237] وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّأْخِيرَ إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ، بَلِ الْإِسْقَاطُ الْمُطْلَقُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَفْوَ لَا يَتَنَاوَلُ التَّأْخِيرَ أَنَّ الْغَرِيمَ إِذَا أَخَّرَ الْمُطَالَبَةَ لَا يُقَالُ: إِنَّهُ عَفَا عَنْهُ وَلَوْ أَسْقَطَهُ يُقَالُ: إِنَّهُ عَفَا عَنْهُ فَثَبَتَ أَنَّ الْعَفْوَ لَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُهُ بِالتَّأْخِيرِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى رَحْمَانًا رَحِيمًا وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا أَنَّ رَحْمَتَهُ سُبْحَانَهُ إِمَّا أَنْ تَظْهَرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُطِيعِينَ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الثَّوَابَ أَوْ إِلَى الْعُصَاةِ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّ رَحْمَتَهُ فِي حَقِّهِمْ إِمَّا أَنْ تَحْصُلَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَاهُمُ الثَّوَابَ الَّذِي هُوَ حَقُّهُمْ أَوْ لِأَنَّهُ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِمَا هُوَ أَزْيَدُ مِنْ حَقِّهِمْ. وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ لَا يُسَمَّى رَحْمَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى إِنْسَانٍ مِائَةُ دِينَارٍ فَأَخَذَهَا مِنْهُ قَهْرًا وَتَكْلِيفًا لَا يُقَالُ فِي الْمُعْطِي إِنَّهُ أَعْطَى الْآخِذَ ذَلِكَ الْقَدْرَ رَحْمَةً. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ صَارَ بِمَا أخذ من الثواب الذي هو حقه كالمستغني عَنْ ذَلِكَ التَّفَضُّلِ فَتِلْكَ الزِّيَادَةُ تُسَمَّى زِيَادَةً فِي الْإِنْعَامِ وَلَا تُسَمَّى الْبَتَّةَ رَحْمَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ السُّلْطَانَ الْمُعَظَّمَ إِذَا كَانَ فِي خِدْمَتِهِ أَمِيرٌ لَهُ ثَرْوَةٌ عَظِيمَةٌ وَمَمْلَكَةٌ كَامِلَةٌ، ثُمَّ إِنَّ السُّلْطَانَ ضَمَّ إِلَى مَالِهِ مِنَ الْمُلْكِ مَمْلَكَةً أُخْرَى، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: إِنَّ السُّلْطَانَ رَحِمَهُ بَلْ يُقَالُ: زَادَ فِي الْإِنْعَامِ عليه فكذا/ هاهنا. أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ رَحْمَتَهُ إِنَّمَا تَظْهَرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ رَحْمَتُهُ لِأَنَّهُ تَعَالَى تَرَكَ الْعَذَابَ الزَّائِدَ عَلَى الْعَذَابِ الْمُسْتَحَقِّ، وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ وَاجِبٌ وَالْوَاجِبُ لَا يُسَمَّى رَحْمَةً وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَافِرٍ وَظَالِمٍ رَحِيمًا عَلَيْنَا لِأَجْلِ أَنَّهُ مَا ظَلَمَنَا، فَبَقِيَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ رَحِيمًا لِأَنَّهُ تَرَكَ الْعِقَابَ الْمُسْتَحَقَّ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الصَّغِيرَةِ وَلَا فِي حَقِّ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ تَرْكَ عِقَابِهِمْ وَاجِبٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ إِنَّمَا حَصَلَتْ لِأَنَّهُ تَرَكَ عِقَابَ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رَحْمَتُهُ لِأَجْلِ أَنَّ الْخَلْقَ وَالتَّكْلِيفَ وَالرِّزْقَ كُلَّهَا تَفَضُّلٌ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى يُخَفِّفُ عَنْ عِقَابِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ؟ قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّهُ يُفِيدُ كَوْنَهُ رَحِيمًا فِي الدُّنْيَا فَأَيْنَ رَحْمَتُهُ فِي الْآخِرَةِ مَعَ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْتَمِعَةٌ عَلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ فِي الْآخِرَةِ أَعْظَمُ مِنْ رَحْمَتِهِ فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ عندكم التخفيف عن العذاب غَيْرُ جَائِزٍ هَكَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ الْوَعِيدِيَّةِ، إِذَا ثَبَتَ حُصُولُ التَّخْفِيفِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ ثَبَتَ جَوَازُ الْعَفْوِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ بِأَحَدِهِمَا قَالَ بِالْآخَرِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] ، فَنَقُولُ: «لِمَنْ يَشَاءُ» لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ صَاحِبَ الصَّغِيرَةِ وَلَا صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ قَبْلَ التوبة، وإنما قلنا: لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَلَا عَلَى الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ، مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ تَفَضُّلًا لَا أَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ اسْتِحْقَاقًا دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ

يَشاءُ أَيْ وَيَتَفَضَّلُ بِغُفْرَانِ مَا دُونَ ذَلِكَ الشِّرْكِ حَتَّى يَكُونَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ مُتَوَجِّهَيْنِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: فُلَانٌ لَا يَتَفَضَّلُ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَيُعْطِي مَا دُونَهَا لِمَنِ اسْتَحَقَّ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا مُنْتَظِمًا، وَلَمَّا كَانَ غُفْرَانُ صَاحِبِ الصَّغِيرَةِ وَصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ مُسْتَحَقًّا امْتَنَعَ كَوْنُهُمَا مُرَادَيْنِ بِالْآيَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ أَنَّهُ يَغْفِرُ الْمُسْتَحِقِّينَ كَالتَّائِبِينَ وَأَصْحَابِ الصَّغَائِرِ لَمْ يَبْقَ لِتَمْيِيزِ الشِّرْكِ مِمَّا دُونَ الشِّرْكِ مَعْنًى لِأَنَّهُ تَعَالَى كَمَا يَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَا يَغْفِرُهُ عِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ فَكَذَلِكَ يَغْفِرُ الشِّرْكَ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَا يَغْفِرُهُ عِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَلَا يَبْقَى لِلْفَصْلِ وَالتَّمْيِيزِ فَائِدَةٌ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ غُفْرَانَ التَّائِبِينَ وَأَصْحَابِ الصَّغَائِرِ وَاجِبٌ وَالْوَاجِبُ غَيْرُ مُعَلَّقٍ عَلَى الْمَشِيئَةِ، لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى الْمَشِيئَةِ هُوَ الَّذِي إِنْ شَاءَ فَاعِلُهُ فِعْلَهُ يَفْعَلُهُ وإن شاء تركه يتركه فالواجب هو الذين لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهِ شَاءَ أَوْ أَبَى، وَالْمَغْفِرَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ مُعَلَّقَةٌ عَلَى الْمَشِيئَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَغْفِرَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ مَغْفِرَةَ التَّائِبِينَ وَأَصْحَابِ الصَّغَائِرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ بِأَسْرِهَا مُبَيَّنَةٌ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ غُفْرَانُ صَاحِبِ الصَّغِيرَةِ وَصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَا نَقُولُ ذَلِكَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ يُفِيدُ الْقَطْعَ بِأَنَّهُ يَغْفِرُ كُلَّ مَا سِوَى/ الشِّرْكِ وَذَلِكَ يَنْدَرِجُ فِيهِ الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَقَبْلَ التَّوْبَةِ إِلَّا أَنَّ غُفْرَانَ كُلِّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ يَحْتَمِلُ قِسْمَيْنِ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَغْفِرَ كُلَّهَا لِكُلِّ أَحَدٍ وَأَنْ يَغْفِرَ كُلَّهَا لِلْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَقَوْلُهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ كُلَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: لِمَنْ يَشاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ كُلَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ لَا لِلْكُلِّ بَلْ لِلْبَعْضِ. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ اللَّائِقُ بِأُصُولِنَا، فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَغْفِرَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ الْعُصَاةَ فِي الْآخِرَةِ بَيَانُهُ أَنَّ الْمَغْفِرَةَ إِسْقَاطُ الْعِقَابِ وَإِسْقَاطُ الْعِقَابِ أَعَمُّ مِنْ إِسْقَاطِ الْعِقَابِ دَائِمًا أَوْ لَا دَائِمًا وَاللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ بِإِزَاءِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَيْنِكَ الْقَيْدَيْنِ، فَإِذَنْ لَفْظُ الْمَغْفِرَةِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْإِسْقَاطِ الدَّائِمِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُؤَخِّرُ عُقُوبَةَ الشِّرْكِ عَنِ الدُّنْيَا وَيُؤَخِّرُ عُقُوبَةَ مَا دُونَ الشِّرْكِ عَنِ الدُّنْيَا لِمَنْ يَشَاءُ، لَا يُقَالُ: كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا وَنَحْنُ لَا نَرَى مَزِيدًا لِلْكُفَّارِ فِي عِقَابِ الدُّنْيَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّا نَقُولُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَخِّرُ عِقَابَ الشِّرْكِ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ يَشَاءُ وَيُؤَخِّرُ عِقَابَ مَا دُونَ الشِّرْكِ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ يَشَاءُ فَحَصَلَ بِذَلِكَ تَخْوِيفُ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بِتَعْجِيلِ الْعِقَابِ لِلْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ لِتَجْوِيزِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْ يُعَجِّلَ عِقَابَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ مِنْهُمْ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْغُفْرَانَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِسْقَاطِ عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَغْفِرَةِ التَّائِبِ وَمَغْفِرَةِ صَاحِبِ الصَّغِيرَةِ؟ أما الوجوه الثلاثة الأول: فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أُصُولٍ لَا يَقُولُونَ بِهَا وَهِيَ وُجُوبُ مَغْفِرَةِ صَاحِبِ الصَّغِيرَةِ وَصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فَلَا نُسَلِّمُ أن قوله: ما دُونَ ذلِكَ يفيد العموم، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَصِحُّ إِدْخَالُ لَفْظِ «كُلُّ» وَ «بَعْضُ» عَلَى الْبَدَلِ عَلَيْهِ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: وَيَغْفِرُ كُلَّ مَا دُونَ ذَلِكَ. وَيَغْفِرُ بَعْضَ مَا دُونَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: مَا دُونَ ذلِكَ يُفِيدُ الْعُمُومَ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ لِلْعُمُومِ وَلَكِنَّا نُخَصِّصُهُ بِصَاحِبِ الصَّغِيرَةِ وَصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِي الْوَعِيدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُخْتَصٌّ بِنَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْكَبَائِرِ مِثْلَ الْقَتْلِ وَالزِّنَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَنَاوِلَةٌ لِجَمِيعِ الْمَعَاصِي وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، فَآيَاتُ الْوَعِيدِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُقَدَّمَةً عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا الْمَغْفِرَةَ عَلَى تَأْخِيرِ الْعِقَابِ وَجَبَ بِحُكْمِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ عِقَابُ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا أَكْثَرَ مِنْ عِقَابِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ فَائِدَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ [الزخرف: 33]

الْآيَةَ. قَوْلُهُ: لِمَ قُلْتُمْ إِنَّ قَوْلَهُ: مَا دُونَ ذلِكَ يُفِيدُ الْعُمُومَ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ قَوْلَهُ: «مَا» تُفِيدُ الْإِشَارَةَ إِلَى الْمَاهِيَّةِ الْمَوْصُوفَةِ بِأَنَّهَا دون الشرك، وهذه الماهية وَاحِدَةٌ، وَقَدْ حَكَمَ قَطْعًا بِأَنَّهُ يَغْفِرُهَا، فَفِي كُلِّ صُورَةٍ تَتَحَقَّقُ فِيهَا هَذِهِ الْمَاهِيَّةُ وَجَبَ تَحَقُّقُ الْغُفْرَانِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لِلْعُمُومِ وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ أَيِّ مَعْصِيَةٍ كَانَتْ مِنْهَا وَعِنْدَ الْوَعِيدِيَّةِ صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ تَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، أَمَّا قَوْلُهُ: آيَاتُ الْوَعِيدِ أَخَصُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، قُلْنَا: لَكِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَخَصُّ مِنْهَا لِأَنَّهَا تُفِيدُ الْعَفْوَ عَنِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ/ وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ يُفِيدُ الْوَعِيدَ لِلْكُلِّ، وَلِأَنَّ تَرْجِيحَ آيَاتِ الْعَفْوِ أَوْلَى لِكَثْرَةِ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي الْعَفْوِ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ نَتَمَسَّكَ بِعُمُومَاتِ الْوَعْدِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، ثُمَّ نَقُولُ: لَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّرْجِيحِ أَوْ مِنَ التَّوْفِيقِ، وَالتَّرْجِيحُ مَعْنَاهُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ عُمُومَاتِ الْوَعْدِ أَكْثَرُ وَالتَّرْجِيحُ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ أَمْرٌ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى صِحَّتِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هُودٍ: 114] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَةَ إِنَّمَا كَانَتْ مُذْهِبَةً لِلسَّيِّئَةِ لِكَوْنِهَا حَسَنَةً عَلَى مَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَوَجَبَ بِحُكْمِ هَذَا الْإِيمَاءِ أَنْ تَكُونَ كُلُّ حَسَنَةٍ مُذْهِبَةً لِكُلِّ سَيِّئَةٍ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الْحَسَنَاتِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْكُفَّارِ، فَإِنَّهَا لَا تُذْهِبُ سَيِّئَاتِهِمْ فَيَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي الْبَاقِي. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الْأَنْعَامِ: 160] ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى زَادَ عَلَى الْعَشْرَةِ فَقَالَ: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَةِ: 261] وَأَمَّا فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ فَقَالَ: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها، وَهَذَا فِي غَايَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الحسنة راجع عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى جَانِبِ السَّيِّئَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةِ الْوَعْدِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النِّسَاءِ: 122] فَقَوْلُهُ: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّمَا ذَكَرَهُ لِلتَّأْكِيدِ وَلَمْ يَقُلْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ وَعِيدُ اللَّهِ حَقًّا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: 29] الْآيَةَ، يَتَنَاوَلُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ. وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً، وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النِّسَاءِ: 110- 111] وَالِاسْتِغْفَارُ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ وَهُوَ غير التوبة، فصرح هاهنا بِأَنَّهُ سَوَاءٌ تَابَ أَوْ لَمْ يَتُبْ فَإِذَا اسْتَغْفَرَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَلَمْ يَقُلْ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّهُ يَجِدِ اللَّهَ مُعَذِّبًا مُعَاقِبًا، بل قال: فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ جَانِبَ الْحَسَنَةِ رَاجِحٌ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: 7] وَلَمْ يَقُلْ: وَإِنْ أسأتم أسأتم لها فكأنها تَعَالَى أَظْهَرَ إِحْسَانَهُ بِأَنْ أَعَادَهُ مَرَّتَيْنِ وَسَتَرَ عَلَيْهِ إِسَاءَتَهُ بِأَنْ لَمْ يَذْكُرْهَا إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الْحَسَنَةِ رَاجِحٌ. وَسَادِسُهَا: أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْعَفْوَ عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَعَادَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ مَرَّتَيْنِ وَالْإِعَادَةُ لَا تَحْسُنُ إِلَّا لِلتَّأْكِيدِ، وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ آيَاتِ الْوَعِيدِ عَلَى وَجْهِ الْإِعَادَةِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، لَا فِي سُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا فِي سُورَتَيْنِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عِنَايَةَ اللَّهِ بِجَانِبِ الْوَعْدِ عَلَى الْحَسَنَاتِ وَالْعَفْوِ عَنِ السَّيِّئَاتِ أَتَمُّ. وَسَابِعُهَا: أَنَّ عُمُومَاتِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَمَّا تَعَارَضَتْ فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِ التَّأْوِيلِ إِلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَصَرْفُ التَّأْوِيلِ إِلَى الْوَعِيدِ أَحْسَنُ مِنْ صَرْفِهِ إِلَى الْوَعْدِ لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنِ

الْوَعِيدِ مُسْتَحْسَنٌ فِي الْعُرْفِ وَإِهْمَالُ الْوَعْدِ مُسْتَقْبَحٌ فِي الْعُرْفِ، فَكَانَ صَرْفُ التَّأْوِيلِ إِلَى الْوَعِيدِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إِلَى الْوَعْدِ. وَثَامِنُهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ مَمْلُوءٌ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى غَافِرًا غَفُورًا غَفَّارًا وَأَنَّ لَهُ الْغُفْرَانَ وَالْمَغْفِرَةَ، وَأَنَّهُ تَعَالَى رَحِيمٌ كَرِيمٌ، وَأَنَّ لَهُ الْعَفْوَ وَالْإِحْسَانَ وَالْفَضْلَ وَالْإِفْضَالَ، وَالْأَخْبَارُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَدْ بَلَغَتْ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُؤَكِّدُ جَانِبَ الْوَعْدِ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى بَعِيدٌ عَنِ الرَّحْمَةِ وَالْكَرَمِ وَالْعَفْوِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ رُجْحَانَ جَانِبِ الْوَعْدِ عَلَى جَانِبِ الْوَعِيدِ. وَتَاسِعُهَا: أَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ أَتَى بِمَا هُوَ أَفْضَلُ الْخَيْرَاتِ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَلَمْ يَأْتِ بِمَا هُوَ أَقْبَحُ الْقَبَائِحِ وَهُوَ الْكُفْرُ، بَلْ أَتَى بِالشَّرِّ الَّذِي هُوَ فِي طَبَقَةِ الْقَبَائِحِ لَيْسَ فِي الْغَايَةِ وَالسَّيِّدُ الَّذِي لَهُ عَبْدٌ ثُمَّ أَتَى عَبْدُهُ بِأَعْظَمِ الطَّاعَاتِ وأتى بمعصية متوسطة فلو رجع الْمَوْلَى تِلْكَ الْمَعْصِيَةَ الْمُتَوَسِّطَةَ عَلَى الطَّاعَةِ الْعَظِيمَةِ لعد ذلك السيد لئيماً مؤذياً فكذا هاهنا، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ ثَبَتَ أَنَّ الرُّجْحَانَ لِجَانِبِ الْوَعْدِ. وَعَاشِرُهَا: قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ: إِلَهِي إِذَا كَانَ تَوْحِيدُ سَاعَةٍ يَهْدِمُ كُفْرَ خَمْسِينَ سَنَةٍ فَتَوْحِيدُ خَمْسِينَ سَنَةٍ كَيْفَ لَا يَهْدِمُ مَعْصِيَةَ سَاعَةٍ! إِلَهِي لَمَّا كَانَ الْكُفْرُ لَا يَنْفَعُ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الطَّاعَاتِ كَانَ مُقْتَضَى الْعَدْلِ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَضُرُّ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَعَاصِي وَإِلَّا فَالْكُفْرُ أَعْظَمُ مِنَ الْإِيمَانِ! فَإِنْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ رَجَاءِ الْعَفْوِ. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ، الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَا قَدْ بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَلَا عَلَى الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، فَلَوْ لَمْ تَحْمِلْهُ عَلَى الْكَبِيرَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ لَزِمَ تَعْطِيلُ الْآيَةِ، أَمَّا لَوْ خَصَّصْنَا عُمُومَاتِ الْوَعِيدِ بِمَنْ يَسْتَحِلُّهَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ إِلَّا تَخْصِيصُ الْعُمُومِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّخْصِيصَ أَهْوَنُ مِنَ التَّعْطِيلِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: تَرْجِيحُ جَانِبِ الْوَعِيدِ أَوْلَى مِنْ وُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: هُوَ أَنَّ الْأُمَّةَ اتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ يُلْعَنُ وَيُحَدُّ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيلِ وَالْعَذَابِ وَأَنَّهُ أَهْلُ الْخِزْيِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ وَإِذَا كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ اسْتَحَالَ أَنْ يَبْقَى فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ جَانِبُ الْوَعِيدِ رَاجِحًا عَلَى جَانِبِ الْوَعْدِ. أَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ يُلْعَنُ، فَالْقُرْآنُ وَالْإِجْمَاعُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النِّسَاءِ: 93] وَكَذَا قَوْلُهُ: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف: 44] وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا أَنَّهُ يُحَدُّ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيلِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ [الْمَائِدَةِ: 38] وَأَمَّا أَنَّهُ يُحَدُّ عَلَى سَبِيلِ الْعَذَابِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الزَّانِي: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النُّورِ: 2] ، وَأَمَّا أَنَّهُمْ أَهْلُ الْخِزْيِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ [الْمَائِدَةِ: 33] . وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُ الْفَاسِقِ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ ثَبَتَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعَذَابِ وَالذَّمِّ، وَمَنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُمَا دَائِمًا وَمَتَى اسْتَحَقَّهُمَا دَائِمًا امْتَنَعَ أَنْ يَبْقَى مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ، لِأَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مُتَنَافِيَانِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِهِمَا مُحَالٌ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ ثَبَتَ أَنْ جَانِبَ الْوَعِيدِ رَاجِحٌ عَلَى جَانِبِ الْوَعْدِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ آيَاتِ الْوَعْدِ عَامَّةٌ وَآيَاتِ الْوَعِيدِ خَاصَّةٌ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ النَّاسَ جُبِلُوا عَلَى الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ فَكَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الزَّجْرِ أَشَدَّ، فَكَانَ جَانِبُ الْوَعِيدِ أَوْلَى، قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ/ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: كَمَا وُجِدَتْ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُلْعَنُونَ وَيُعَذَّبُونَ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ مَعَاصِيهِمْ كَذَلِكَ أَيْضًا وُجِدَتْ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُعَظَّمُونَ وَيُكْرَمُونَ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الْأَنْعَامِ: 54] ، فَلَيْسَ تَرْجِيحُ آيَاتِ الْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ يذمون وَيُعَذَّبُونَ فِي الدُّنْيَا بِأَوْلَى مِنْ تَرْجِيحِ آيَاتِ الْوَعْدِ فِي الْآخِرَةِ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ يُعَظَّمُونَ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ فِي الدُّنْيَا. الثَّانِي: فَكَمَا أن

آيَاتِ الْوَعْدِ مُعَارِضَةٌ لِآيَاتِ الْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ فَهِيَ مُعَارِضَةٌ لِآيَاتِ الْوَعِيدِ وَالنَّكَالِ فِي الدُّنْيَا، فَلِمَ كَانَ تَرْجِيحُ آيَاتِ وَعِيدِ الدُّنْيَا عَلَى آيَاتِ وَعِيدِ الْآخِرَةِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ. الثَّالِثُ: أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ السَّارِقَ وَإِنْ تَابَ إِلَّا أَنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ لَا نَكَالًا وَلَكِنِ امْتِحَانًا، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا [الْمَائِدَةِ: 38] مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الْعَفْوِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْجَزَاءَ مَا يُجْزِي وَيَكْفِي وَإِذَا كَانَ كَافِيًا وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْعِقَابُ فِي الْآخِرَةِ وَإِلَّا قَدَحَ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ مُجْزِيًا وَكَافِيًا، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا يُنَافِي الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ فِي تَرْجِيحِ جَانِبِ الْوَعِيدِ فَنَقُولُ: الْآيَتَانِ الدَّالَّتَانِ عَلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مَوْجُودَتَانِ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: الْعَبْدُ يَصِلُ إِلَيْهِ الثَّوَابُ ثُمَّ يُنْقَلُ إِلَى دَارِ الْعِقَابَ وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، أَوْ يُقَالُ: الْعَبْدُ يَصِلُ إِلَيْهِ الْعِقَابُ ثُمَّ يُنْقَلُ إِلَى دَارِ الثَّوَابِ وَيَبْقَى هُنَاكَ أَبَدَ الْآبَادِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. أَمَّا التَّرْجِيحُ الثَّانِي فَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لَا يَتَنَاوَلُ الْكُفْرَ وَقَوْلَهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء: 14] [الأحزاب: 36] يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ فَكَانَ قَوْلُنَا هُوَ الْخَاصُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ تَأْثِيرَ شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِسْقَاطِ الْعِقَابِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزُّمَرِ: 53] وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الآية إن دلت فإنما تَدُلُّ عَلَى الْقَطْعِ بِالْمَغْفِرَةِ لِكُلِّ الْعُصَاةِ، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ، فَمَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَيْهِ لَا تَقُولُونَ بِهِ وَمَا تَقُولُونَ بِهِ لَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَيْهِ؟ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَنَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ جَمِيعَ الذُّنُوبِ مَعَ التَّوْبَةِ وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا إِذَا حَمَلْنَاهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَدْ حَمَلْنَاهَا عَلَى جَمِيعِ الذُّنُوبِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ [الزُّمَرِ: 54] وَالْإِنَابَةُ هِيَ التَّوْبَةُ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ شَرْطٌ فِيهِ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ. أَنَّ قَوْلَهُ: يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً وَعْدٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى سَيُسْقِطُهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّهُ سَيَفْعَلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ذَلِكَ، فَإِنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّهُ تَعَالَى سَيُخْرِجُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّارِ لَا مَحَالَةَ، فَيَكُونُ هَذَا قَطْعًا بِالْغُفْرَانِ لَا مَحَالَةَ، وَبِهَذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِي إِجْرَاءِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا عَلَى قَيْدِ التَّوْبَةِ، فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ فَنَقُولُ: إِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ فسروا كون الخطيئة محبطة بِكَوْنِهَا كَبِيرَةً مُحْبِطَةً لِثَوَابِ فَاعِلِهَا، وَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ/ مِنْ وُجُوهٍ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَمَا أَنَّ مِنْ شَرْطِ كَوْنِ السَّيِّئَةِ مُحِيطَةً بِالْإِنْسَانِ كَوْنُهَا كَبِيرَةً فَكَذَلِكَ شَرْطُ هَذِهِ الْإِحَاطَةِ عَدَمُ الْعَفْوِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ الْعَفْوُ لَمَا تَحَقَّقَتْ إِحَاطَةُ السَّيِّئَةِ بِالْإِنْسَانِ، فَإِذَنْ لَا يَثْبُتُ كَوْنُ السَّيِّئَةِ مُحِيطَةً بِالْإِنْسَانِ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ عَدَمُ الْعَفْوِ، وَهَذَا أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ وَيَتَوَقَّفُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثُبُوتِ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ بَاطِلٌ. الثَّانِي: أَنَّا لَا نُفَسِّرُ إِحَاطَةَ الْخَطِيئَةِ بِكَوْنِهَا كَبِيرَةً، بَلْ نُفَسِّرُهَا بِأَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ مَوْصُوفًا بِالْمَعْصِيَةِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ الَّذِي يَكُونُ عَاصِيًا لِلَّهِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُ الَّذِي يَكُونُ مُطِيعًا لِلَّهِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَيَكُونُ عَاصِيًا لِلَّهِ تَعَالَى بِبَعْضِ أَعْضَائِهِ دُونَ الْبَعْضِ فَهَهُنَا لَا تَتَحَقَّقُ إِحَاطَةُ الْخَطِيئَةِ بِالْعَبْدِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَفْسِيرَ الْإِحَاطَةِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْجِسْمَ إِذَا مَسَّ بَعْضَ أَجْزَاءِ جِسْمٍ آخَرَ دُونَ بَعْضٍ لَا يُقَالُ: إِنَّهُ مُحِيطٌ بِهِ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا تَتَحَقَّقُ إِحَاطَةُ الْخَطِيئَةِ بِالْعَبْدِ إِلَّا إِذَا كَانَ كَافِرًا. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ: فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ يَقْتَضِي أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ لَيْسُوا إِلَّا هم وذلك

[سورة البقرة (2) : آية 82]

يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ فِي النَّارِ فِي الْحَالِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ النَّارَ. وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ: لَكِنْ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ تَعَالَى هَلْ يَعْفُو عَنْ هَذَا الْحَقِّ وَهَذَا أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ، وَلْنَخْتِمِ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَاعِدَةٍ فِقْهِيَّةٍ: وَهِيَ أَنَّ الشرط هاهنا أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا: اكْتِسَابُ السَّيِّئَةِ، وَالثَّانِي: إِحَاطَةُ تِلْكَ السَّيِّئَةِ بِالْعَبْدِ وَالْجَزَاءُ الْمُعَلَّقُ عَلَى وُجُودِ الشَّرْطَيْنِ لَا يُوجَدُ عِنْدَ حُصُولِ أَحَدِهِمَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى شَرْطَيْنِ فِي طَلَاقٍ أَوْ إِعْتَاقٍ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بوجوه أحدهما والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 82] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ آيَةً فِي الْوَعِيدِ إِلَّا وَذَكَرَ بِجَنْبِهَا آيَةً فِي الْوَعْدِ، وَذَلِكَ لِفَوَائِدَ: أَحَدُهَا: لِيُظْهِرَ بِذَلِكَ عَدْلَهُ سُبْحَانَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا حَكَمَ بِالْعَذَابِ الدَّائِمِ عَلَى الْمُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ وَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ بِالنَّعِيمِ الدَّائِمِ عَلَى الْمُصِرِّينَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَعْتَدِلَ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوْ وُزِنَ خَوْفُ الْمُؤْمِنِ وَرَجَاؤُهُ لَاعْتَدَلَا» ، وَذَلِكَ الِاعْتِدَالُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ يُظْهِرُ بِوَعْدِهِ كَمَالَ رَحْمَتِهِ وَبِوَعِيدِهِ كَمَالَ حِكْمَتِهِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ سبباً للعرفان، وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَمَلُ الصَّالِحُ خَارِجٌ عَنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَوْ دَلَّ الْإِيمَانُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ لَكَانَ ذِكْرُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بَعْدَ الْإِيمَانِ تَكْرَارًا/ أَجَابَ الْقَاضِي بِأَنَّ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: آمَنَ لَا يُفِيدُ إِلَّا أَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا وَاحِدًا مِنْ أَفْعَالِ الْإِيمَانِ، فَلِهَذَا حَسُنَ أَنْ يَقُولَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ فِعْلَ الْمَاضِي يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْمَصْدَرِ فِي زَمَانٍ مَضَى وَالْإِيمَانُ هُوَ الْمَصْدَرُ، فَلَوْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لَكَانَ قَوْلُهُ: آمَنَ دَلِيلًا عَلَى صُدُورِ كُلِّ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ قَدْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لِأَنَّا نَتَكَلَّمُ فِيمَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ وَبِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، ثُمَّ أَتَى بَعْدَ ذَلِكَ بِالْكَبِيرَةِ وَلَمْ يَتُبْ عَنْهَا، فَهَذَا الشَّخْصُ قَبْلَ إِتْيَانِهِ بِالْكَبِيرَةِ كَانَ قَدْ صُدِّقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَمَنْ صُدِّقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ صُدِّقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ وَإِذَا صُدِّقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَجَبَ انْدِرَاجُهُ تَحْتَ قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا أَتَى بِجَمِيعِ الصَّالِحَاتِ وَمِنْ جُمْلَةِ الصَّالِحَاتِ التَّوْبَةُ، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا لَمْ يَكُنْ آتِيًا بِالصَّالِحَاتِ، فَلَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ الْآيَةِ. قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِالْكَبِيرَةِ صُدِّقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِذَا صُدِّقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقَدْ صُدِّقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ، لِأَنَّهُ مَتَى صَدَقَ الْمُرَكَّبُ يَجِبُ صِدْقُ الْمُفْرَدِ، بَلْ إِنَّهُ إِذَا أَتَى بِالْكَبِيرَةِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَيْهِ أَنَّهُ آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، لَكِنَّ قَوْلَنَا: آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِنَا: إِنَّهُ كَذَلِكَ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ أَوْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْآيَةِ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ حُكْمِ الْوَعْدِ. بَقِيَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْفَاسِقَ أَحْبَطَ عِقَابُ مَعْصِيَتِهِ ثَوَابَ طَاعَتِهِ فَيَكُونُ التَّرْجِيحُ لِجَانِبِ الْوَعِيدِ إِلَّا أَنَّ الْكَلَامَ عَلَيْهِ قَدْ تَقَدَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا تَفَضُّلًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أُولئِكَ

[سورة البقرة (2) : آية 83]

أَصْحابُ الْجَنَّةِ لِلْحَصْرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْجَنَّةِ أَصْحَابٌ إِلَّا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، قُلْنَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَهَا فَمَنْ أُعْطِيَ الْجَنَّةَ تَفَضُّلًا لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ هَذَا الْحُكْمِ والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 83] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ أَنْوَاعِ النِّعَمِ الَّتِي خَصَّهُمُ اللَّهُ بِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُوَصِّلٌ إِلَى أَعْظَمِ النِّعَمِ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَالْمُوَصِّلُ إِلَى النِّعْمَةِ نِعْمَةٌ، فَهَذَا التَّكْلِيفُ لَا مَحَالَةَ مِنَ النِّعَمِ، ثُمَّ إنه تعالى بين هاهنا أَنَّهُ كَلَّفَهُمْ بِأَشْيَاءَ: التَّكْلِيفُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «يَعْبُدُونَ» بِالْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ، وَوَجْهُ الْيَاءِ أَنَّهُمْ غَيْبٌ أَخْبَرَ عَنْهُمْ، وَوَجْهُ التَّاءِ أَنَّهُمْ كَانُوا مُخَاطَبِينَ وَالِاخْتِيَارُ التَّاءُ، قَالَ أَبُو عَمْرٍو: أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ قَالَ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً فَدَلَّتِ الْمُخَاطَبَةُ عَلَى التَّاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ «يَعْبُدُونَ» مِنَ الْإِعْرَابِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ: رَفْعُهُ عَلَى أَنْ لَا يَعْبُدُوا كَأَنَّهُ قِيلَ: أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ بِأَنْ لَا يَعْبُدُوا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا أُسْقِطَتْ «أَنْ» رُفِعَ الْفِعْلُ كَمَا قَالَ طَرَفَةُ: أَلَا أيهذا اللاثمي أَحْضُرَ الْوَغَى ... وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي أَرَادَ أَنْ أَحْضُرَ وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ «أَنْ» وَأَجَازَ هَذَا الْوَجْهَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَقُطْرُبٌ وَعَلِيُّ بْنُ عِيسَى وَأَبُو مُسْلِمٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: مَوْضِعُهُ رَفْعٌ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الْقَسَمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِذْ أَقْسَمْنَا عَلَيْهِمْ لَا يَعْبُدُونَ، وَأَجَازَ هَذَا الْوَجْهَ الْمُبَرِّدُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْأَخْفَشِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَوْلُ قُطْرُبٍ: أَنَّهُ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَيَكُونُ مَوْضِعُهُ نَصْبًا كَأَنَّهُ قَالَ: أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ غَيْرَ عَابِدِينَ إِلَّا اللَّهَ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَوْلُ الْفَرَّاءِ إِنَّ مَوْضِعَ «لَا تَعْبُدُونَ» عَلَى النَّهْيِ إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ عَلَى لَفْظِ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها [الْبَقَرَةِ: 233] بِالرَّفْعِ وَالْمَعْنَى عَلَى النَّهْيِ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ كَوْنَهُ نَهْيًا أُمُورٌ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: أَقِيمُوا، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَنْصُرُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَأُبَيٍّ: لَا تَعْبُدُوا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِخْبَارَ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ آكَدُ وَأَبْلَغُ مِنْ صَرِيحِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ سُورِعَ إِلَى الِامْتِثَالِ وَالِانْتِهَاءِ فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: التَّقْدِيرُ أَنْ لَا تَعْبُدُوا تَكُونُ «أَنْ» مَعَ الْفِعْلِ بَدَلًا عَنِ الْمِيثَاقِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِتَوْحِيدِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذَا الْمِيثَاقُ يَدُلُّ عَلَى تَمَامِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الدِّينِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَهَى

عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَمْرَ بِعِبَادَتِهِ وَالنَّهْيَ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ مَسْبُوقٌ بِالْعِلْمِ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ، وَجَمِيعُ مَا يَجِبُ وَيَجُوزُ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ وَبِالْعِلْمِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَبَرَاءَتِهِ عَنِ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ وَالْبَرَاءَةِ عَنِ الصَّاحِبَةِ وَالْأَوْلَادِ، وَمَسْبُوقٌ أَيْضًا بِالْعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهَا إِلَّا بِالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، فَقَوْلُهُ: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ يَتَضَمَّنُ كُلَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ عِلْمُ الْكَلَامِ وَعِلْمُ الْفِقْهِ وَالْأَحْكَامِ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَتَأَتَّى إِلَّا مَعَهَا. التَّكْلِيفُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: بِمَ يَتَّصِلُ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَعَلَامَ انْتَصَبَ؟ قُلْنَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: انْتَصَبَ عَلَى مَعْنَى أَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. وَالثَّانِي: قِيلَ عَلَى مَعْنَى وَصَّيْنَاهُمْ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا لِأَنَّ اتِّصَالَ الْبَاءِ بِهِ أَحْسَنُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَوْ كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ لَكَانَ وَإِلَى الْوَالِدَيْنِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَحْسِنُوا إِلَى الْوَالِدَيْنِ. الثَّالِثُ: قِيلَ: بَلْ هُوَ عَلَى الْخَبَرِ الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ يَعْنِي أَنْ تَعْبُدُوا وَتُحْسِنُوا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا أَرْدَفَ عِبَادَةَ اللَّهِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ أَعْظَمُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ شُكْرِهِ عَلَى شُكْرِ غَيْرِهِ ثُمَّ بَعْدَ نِعْمَةِ اللَّهِ فَنِعْمَةُ الْوَالِدَيْنِ أَعَمُّ النِّعَمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَالِدَيْنِ هُمَا الْأَصْلُ وَالسَّبَبُ فِي كَوْنِ الْوَلَدِ وَوُجُودِهِ كَمَا أَنَّهُمَا مُنْعِمَانِ عَلَيْهِ بِالتَّرْبِيَةِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْوَالِدَيْنِ فَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ الْإِنْعَامُ بِأَصْلِ الْوُجُودِ، بَلْ بِالتَّرْبِيَةِ فَقَطْ، فَثَبَتَ أَنَّ إِنْعَامَهُمَا أَعْظَمُ وُجُوهِ الْإِنْعَامِ بَعْدَ إِنْعَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي وُجُودِ الْإِنْسَانِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْوَالِدَانِ هُمَا الْمُؤَثِّرَانِ فِي وُجُودِهِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ الظَّاهِرِ، فَلَمَّا ذَكَرَ الْمُؤَثِّرَ الْحَقِيقِيَّ أَرْدَفَهُ بِالْمُؤَثِّرِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ الظَّاهِرِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَطْلُبُ بِإِنْعَامِهِ عَلَى الْعَبْدِ عِوَضًا الْبَتَّةَ بَلِ الْمَقْصُودُ إِنَّمَا هُوَ مَحْضُ الْإِنْعَامِ وَالْوَالِدَانِ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُمَا لَا يَطْلُبَانِ عَلَى الْإِنْعَامِ عَلَى الْوَلَدِ عِوَضًا مَالِيًّا وَلَا ثَوَابًا، فَإِنَّ مَنْ يُنْكِرُ الْمِيعَادَ يُحْسِنُ إِلَى وَلَدِهِ وَيُرَبِّيهِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَشْبَهَ إِنْعَامُهُمَا إِنْعَامَ اللَّهِ تَعَالَى. الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَمَلُّ مِنَ الْإِنْعَامِ عَلَى الْعَبْدِ وَلَوْ أَتَى الْعَبْدُ بِأَعْظَمِ الْجَرَائِمِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ عَنْهُ مَوَادَّ نِعَمِهِ وَرَوَادِفَ كَرَمِهِ، وَكَذَا الْوَالِدَانِ لَا يَمَلَّانِ الْوَلَدَ وَلَا يَقْطَعَانِ عَنْهُ مَوَادَّ مَنْحِهِمَا وَكَرَمِهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مُسِيئًا إِلَى الْوَالِدَيْنِ. الْخَامِسُ: كَمَا أَنَّ الْوَالِدَ الْمُشْفِقَ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ وَلَدِهِ بِالِاسْتِرْبَاحِ وَطَلَبِ الزِّيَادَةِ وَيَصُونُهُ عَنِ الْبَخْسِ وَالنُّقْصَانِ، فَكَذَا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَصَرِّفٌ فِي طَاعَةِ الْعَبْدِ فَيَصُونُهَا عَنِ الضَّيَاعِ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَجْعَلُ أَعْمَالَهُ الَّتِي لَا تَبْقَى كَالشَّيْءِ الْبَاقِي أَبَدَ الْآبَادِ كَمَا قَالَ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [الْبَقَرَةِ: 261] . السَّادِسُ: أَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْ نِعْمَةِ الْوَالِدَيْنِ وَلَكِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ مَعْلُومَةٌ بِالِاسْتِدْلَالِ وَنِعْمَةَ الْوَالِدَيْنِ مَعْلُومَةٌ بِالضَّرُورَةِ، إِلَّا أَنَّهَا قَلِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نِعَمِ اللَّهِ فَاعْتَدَلَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَالرُّجْحَانِ لِنِعَمِ اللَّهِ فَلَا جَرَمَ جَعَلْنَا نِعَمَ الْوَالِدَيْنِ كَالتَّالِيَةِ لِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَعْظِيمُ الْوَالِدَيْنِ وَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِكَوْنِهِمَا مُؤْمِنَيْنِ أَمْ لَا، وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُرَتَّبَ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِعِلِّيَّةِ الْوَصْفِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِتَعْظِيمِ الْوَالِدَيْنِ لِمَحْضِ كَوْنِهِمَا وَالِدَيْنِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَهَكَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَقُلْ لَهُما/ أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما الْآيَةَ، وَهَذَا نِهَايَةُ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ إِيذَائِهِمَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الآية: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً

[الْإِسْرَاءِ: 23، 24] فَصَرَّحَ بِبَيَانِ السَّبَبِ فِي وُجُوبِ هَذَا التَّعْظِيمِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَيْفَ تَلَطَّفَ فِي دَعْوَةِ أَبِيهِ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ فِي قوله: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مَرْيَمَ: 42] ثُمَّ إِنَّ أَبَاهُ كَانَ يُؤْذِيهِ وَيَذْكُرُ الْجَوَابَ الْغَلِيظَ وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَتَحَمَّلُ ذَلِكَ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَبَتَ مِثْلُهُ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النَّحْلِ: 123] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِمَا هُوَ أَلَّا يُؤْذِيَهُمَا الْبَتَّةَ وَيُوَصِّلَ إِلَيْهِمَا مِنَ الْمَنَافِعِ قَدْرَ مَا يَحْتَاجَانِ إِلَيْهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ دَعْوَتُهُمَا إِلَى الْإِيمَانِ إِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ وَأَمْرُهُمَا بِالْمَعْرُوفِ عَلَى سَبِيلِ الرِّفْقِ إِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ. التَّكْلِيفُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذِي الْقُرْبى وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ أَوْصَى لِأَقَارِبِ زَيْدٍ دَخَلَ فِيهِ الْوَارِثُ الْمَحْرَمُ وَغَيْرُ الْمَحْرَمِ، وَلَا يَدْخُلُ الْأَبُ وَالِابْنُ لِأَنَّهُمَا لَا يُعْرَفَانِ بِالْقَرِيبِ، وَيَدْخُلُ الْأَحْفَادُ وَالْأَجْدَادُ، وَقِيلَ: لَا يَدْخُلُ الْأُصُولُ وَالْفُرُوعُ وقيل بدخول الكل. وهاهنا دَقِيقَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْعَرَبَ يَحْفَظُونَ الْأَجْدَادَ الْعَالِيَةَ فَيَتَّسِعُ نَسْلُهُمْ وَكُلُّهُمْ أَقَارِبُ، فَلَوْ تَرَقَّيْنَا إِلَى الْجَدِّ الْعَالِي وَحَسَبْنَا أَوْلَادَهُ كَثُرُوا، فَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَرْتَقِي إِلَى أَقْرَبِ جَدٍّ يَنْتَسِبُ هُوَ إِلَيْهِ وَيُعْرَفُ بِهِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، وَذَكَرَ الْأَصْحَابُ فِي مِثَالِهِ: أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِأَقَارِبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّا نَصْرِفُهُ إِلَى بَنِي شَافِعٍ دُونَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَإِنْ كَانُوا أَقَارِبَ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ يَنْتَسِبُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى شَافِعٍ دُونَ عَبْدِ مَنَافٍ. قَالَ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا فِي زَمَانِ الشَّافِعِيِّ، أَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا يَنْصَرِفُ إِلَّا إِلَى أَوْلَادِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا يَرْتَقِي إِلَى بَنِي شَافِعٍ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَنْ يُعْرَفُ بِهِ أَقَارِبُهُ فِي زَمَانِنَا، أَمَّا قَرَابَةُ الْأُمِّ فَإِنَّهَا تَدْخُلُ فِي وَصِيَّةِ الْعَجَمِ وَلَا تَدْخُلُ فِي وَصِيَّةِ الْعَرَبِ عَلَى الْأَظْهَرِ، لِأَنَّهُمْ لَا يُعِدُّونَ ذَلِكَ قَرَابَةً، أَمَّا لَوْ قَالَ لِأَرْحَامِ فُلَانٍ دَخَلَ فِيهِ قَرَابَةُ الْأَبِ وَالْأُمِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ حَقَّ ذِي الْقُرْبَى كَالتَّابِعِ لِحَقِّ الْوَالِدَيْنِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَتَّصِلُ بِهِ أَقْرِبَاؤُهُ بِوَاسِطَةِ اتِّصَالِهِمْ بِالْوَالِدَيْنِ وَالِاتِّصَالُ بِالْوَالِدَيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى الِاتِّصَالِ بِذِي الْقُرْبَى، فَلِهَذَا أَخَّرَ اللَّهُ ذِكْرَهُ عَنِ الْوَالِدَيْنِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إن الرحم سجنة مِنَ الرَّحْمَنِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ إِنِّي ظُلِمْتُ، إِنِّي أُسِيءَ إِلَيَّ، إِنِّي قُطِعْتُ. قَالَ فَيُجِيبُهَا رَبُّهَا: أَلَا تَرْضَيْنَ أَنِّي أَقْطَعُ مَنْ قَطَعَكِ وَأَصِلُ مَنْ وَصَلَكِ، ثُمَّ قَرَأَ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ، وَالسَّبَبُ الْعَقْلِيُّ فِي تَأْكِيدِ رِعَايَةِ هَذَا الْحَقِّ أَنَّ الْقَرَابَةَ مَظِنَّةُ الِاتِّحَادِ وَالْأُلْفَةِ وَالرِّعَايَةِ وَالنُّصْرَةِ، فَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ أَشَقَّ على القلب وأبلغ في الإيمام وَالْإِيحَاشِ وَالضَّرُورَةِ، وَكُلَّمَا كَانَ أَقْوَى كَانَ دَفْعُهُ أَوْجَبَ، فَلِهَذَا وَجَبَتْ رِعَايَةُ حُقُوقِ الْأَقَارِبِ. التَّكْلِيفُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْيَتامى وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْيَتِيمُ الَّذِي مَاتَ أَبُوهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْحُلُمَ وَجَمْعُهُ أَيْتَامٌ وَيَتَامَى، كَقَوْلِهِمْ: نَدِيمٌ وَنَدَامَى، وَلَا يُقَالُ لِمَنْ مَاتَتْ أُمُّهُ إِنَّهُ يَتِيمٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا فِي الْإِنْسَانِ، أَمَّا فِي غَيْرِ الْإِنْسَانِ فَيُتْمُهُ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْيَتِيمُ كَالتَّالِي لِرِعَايَةِ حُقُوقِ الْأَقَارِبِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لِصِغَرِهِ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَلِيُتْمِهِ وَخُلُوِّهِ عمن

يَقُومُ بِهِ، يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَنْفَعُهُ وَالْإِنْسَانُ قَلَّمَا يَرْغَبُ فِي صُحْبَةِ مِثْلِ هَذَا، وَإِذَا كَانَ هَذَا التَّكْلِيفُ شَاقًّا عَلَى النَّفْسِ لَا جَرَمَ كَانَتْ دَرَجَتُهُ عَظِيمَةً فِي الدِّينِ. التَّكْلِيفُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمَساكِينِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «وَالْمَسَاكِينُ» وَاحِدُهَا مِسْكِينٌ، أُخِذَ مِنَ السُّكُونِ كَأَنَّ الْفَقْرَ قَدْ سَكَنَهُ وَهُوَ أَشَدُّ فَقْرًا مِنَ الْفَقِيرِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ [الْبَلَدِ: 16] وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْفَقِيرُ أَسْوَأُ حَالًا، لِأَنَّ الْفَقِيرَ اشْتِقَاقُهُ مِنْ فَقَارِ الظَّهْرِ كَأَنَّ فَقَارَهُ انْكَسَرَ لِشِدَّةِ حَاجَتِهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ. وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الْكَهْفِ: 79] جَعَلَهُمْ مَسَاكِينَ مَعَ أَنَّ السَّفِينَةَ كَانَتْ مِلْكًا لَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا تَأَخَّرَتْ دَرَجَتُهُمْ عَنِ الْيَتَامَى لِأَنَّ الْمِسْكِينَ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الِاسْتِخْدَامِ فَكَانَ الْمَيْلُ إِلَى مُخَالَطَتِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى، وَلِأَنَّ الْمِسْكِينَ أَيْضًا يُمْكِنُهُ الِاشْتِغَالُ بِتَعَهُّدِ نَفْسِهِ وَمَصَالِحِ مَعِيشَتِهِ، وَالْيَتِيمُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا جَرَمَ قَدَّمَ اللَّهُ ذِكْرَ الْيَتِيمِ عَلَى الْمِسْكِينِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْإِحْسَانُ إِلَى ذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِلزَّكَاةِ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي التَّغَايُرَ. التَّكْلِيفُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (حَسَنًا) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالسِّينِ عَلَى مَعْنَى الْوَصْفِ لِلْقَوْلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: قُولُوا لِلنَّاسِ قَوْلًا حَسَنًا، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ السِّينِ، وَاسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً [الْعَنْكَبُوتِ: 8] وَبِقَوْلِهِ: ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ [النَّمْلِ: 11] وَفِيهِ أَوْجُهٌ، الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَخْفَشُ: مَعْنَاهُ قَوْلًا ذَا حُسْنٍ. الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُسْنًا فِي مَوْضِعِ حَسَنًا كَمَا تَقُولُ: رَجُلٌ عَدْلٌ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً أَيْ لِيَحْسُنَ قَوْلُكُمْ نُصِبَ عَلَى مَصْدَرِ الْفِعْلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ. الرَّابِعُ: حُسْنًا أَيْ قَوْلٌ هُوَ حَسَنٌ فِي نَفْسِهِ لِإِفْرَاطِ حُسْنِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُقَالُ: لِمَ خُوطِبُوا بِقُولُوا بَعْدَ الْإِخْبَارِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يُونُسَ: 22] . وَثَانِيهَا: فِيهِ حَذْفٌ أَيْ قُلْنَا لَهُمْ قُولُوا. وَثَالِثُهَا: الْمِيثَاقُ لَا يَكُونُ إِلَّا كَلَامًا كأنه قيل: قلت لا تعبدوا وقولوا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِقَوْلِهِ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً مَنْ هُوَ؟ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وَعَلَى أَنْ يَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ثُمَّ قَالَ لِمُوسَى وَأُمَّتِهِ: قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَالْكُلُّ مُمْكِنٌ بِحَسَبِ اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَ الأول أقرب حتى تكون القصة قصة وَاحِدَةً مُشْتَمِلَةً عَلَى مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا يَجِبُ الْقَوْلُ الْحَسَنُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، أَمَّا مَعَ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ فَلَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجِبُ لَعْنُهُمْ وَذَمُّهُمْ وَالْمُحَارَبَةُ مَعَهُمْ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ مَعَهُمْ حَسَنًا، وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النِّسَاءِ: 148] فَأَبَاحَ الْجَهْرَ

بِالسُّوءِ لِمَنْ ظُلِمَ، ثُمَّ إِنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ صَارَ مَنْسُوخًا بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَحْصُلُ هاهنا احْتِمَالَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّخْصِيصُ وَاقِعًا بِحَسَبِ الْمُخَاطَبِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَقُولُوا لِلْمُؤْمِنِينَ حُسْنًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَقَعَ بِحَسَبِ الْمُخَاطَبِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا فِي الدعاء إلى الله تعالى وفي الأمر المعروف، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: يَتَطَرَّقُ التَّخْصِيصُ إِلَى الْمُخَاطَبِ دُونَ الْخِطَابِ وَعَلَى الثَّانِي: يَتَطَرَّقُ إِلَى الْخِطَابِ دُونَ الْمُخَاطَبِ، وَزَعَمَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ بَاقٍ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى التَّخْصِيصِ، وَهَذَا هُوَ الْأَقْوَى وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ مَعَ جَلَالِ مَنْصِبِهِمَا أُمِرَا بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ مَعَ فِرْعَوْنَ، وَكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِالرِّفْقِ وَتَرْكِ الْغِلْظَةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النَّحْلِ: 125] وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَامِ: 108] وَقَوْلُهُ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفُرْقَانِ: 72] وَقَوْلُهُ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الْأَعْرَافِ: 199] أَمَّا الَّذِي تَمَسَّكُوا بِهِ أَوَّلًا مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ لَعْنُهُمْ وَذَمُّهُمْ فَلَا يُمْكِنُهُمُ الْقَوْلُ الْحَسَنُ مَعَهُمْ، قُلْنَا: أَوَّلًا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَجِبُ لَعْنُهُمْ وَسَبُّهُمْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْأَنْعَامِ: 108] سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَجِبُ لَعْنُهُمْ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّعْنَ لَيْسَ قَوْلًا حَسَنًا بَيَانُهُ: أَنَّ الْقَوْلَ الْحَسَنَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الْقَوْلِ الَّذِي يَشْتَهُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ، بَلِ الْقَوْلُ الْحَسَنُ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ انْتِفَاعُهُمْ بِهِ وَنَحْنُ إِذَا لَعَنَّاهُمْ وَذَمَمْنَاهُمْ لِيَرْتَدِعُوا بِهِ عَنِ الْفِعْلِ الْقَبِيحِ كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى نَافِعًا فِي حَقِّهِمْ فَكَانَ ذَلِكَ اللَّعْنُ قَوْلًا حَسَنًا وَنَافِعًا، كَمَا أَنَّ تَغْلِيظَ الْوَالِدِ فِي الْقَوْلِ قَدْ يَكُونُ حَسَنًا وَنَافِعًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَرْتَدِعُ بِهِ عَنِ الْفِعْلِ الْقَبِيحِ، سَلَّمْنَا أَنَّ لَعْنَهُمْ لَيْسَ قَوْلًا حَسَنًا وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ وُجُوبَهُ يُنَافِي وُجُوبَ الْقَوْلِ الْحَسَنِ، بَيَانُهُ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِ الشَّخْصِ مُسْتَحِقًّا لِلتَّعْظِيمِ بِسَبَبِ إِحْسَانِهِ إِلَيْنَا وَمُسْتَحِقًّا لِلتَّحْقِيرِ بِسَبَبِ كُفْرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْقَوْلِ الْحَسَنِ مَعَهُمْ، وَأَمَّا الَّذِي تَمَسَّكُوا بِهِ ثَانِيًا وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النِّسَاءِ: 148] فَالْجَوَابُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ كَشْفَ حَالِ الظَّالِمِ/ لِيَحْتَرِزَ النَّاسُ عَنْهُ؟ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْكُرُوا الْفَاسِقَ بِمَا فِيهِ كَيْ يَحْذَرَهُ النَّاسُ» . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: كَلَامُ النَّاسِ مَعَ النَّاسِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ أَوْ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَهُوَ مَعَ الْكُفَّارِ أَوْ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الطَّاعَةِ وَهُوَ مَعَ الْفَاسِقِ، أَمَّا الدَّعْوَةُ إِلَى الْإِيمَانِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ بِالْقَوْلِ الْحَسَنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] أَمَرَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِالرِّفْقِ مَعَ فِرْعَوْنَ مَعَ جَلَالَتِهِمَا وَنِهَايَةِ كُفْرِ فِرْعَوْنَ وَتَمَرُّدِهِ وَعُتُوِّهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آلِ عِمْرَانَ: 159] الْآيَةَ، وَأَمَّا دَعْوَةُ الْفُسَّاقِ فَالْقَوْلُ الْحَسَنُ فِيهِ مُعْتَبَرٌ، قَالَ تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النَّحْلِ: 125] وَقَالَ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فُصِّلَتْ: 34] وَأَمَّا فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ التَّوَصُّلُ إِلَى الْغَرَضِ بِالتَّلَطُّفِ مِنَ الْقَوْلِ لَمْ يَحْسُنْ سِوَاهُ، فَثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ آدَابِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا داخلة تحت قوله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى ذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ،

[سورة البقرة (2) : آية 84]

وَكَذَا الْقَوْلُ الْحَسَنُ لِلنَّاسِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّهُمْ عَلَى التَّوَلِّي عَنْهُ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ وَالْأَمْرَ فِي شَرْعِنَا أَيْضًا، كَذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الزَّكَاةَ نَسَخَتْ كُلَّ حَقٍّ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ مَنِ اشْتَدَّتْ بِهِ الْحَاجَةُ وَشَاهَدْنَاهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُنَا التَّصَدُّقُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْنَا الزَّكَاةُ حَتَّى أَنَّهُ إِنْ لَمْ تَنْدَفِعْ حَاجَتُهُمْ بِالزَّكَاةِ كَانَ التَّصَدُّقُ وَاجِبًا وَلَا شَكَّ فِي وُجُوبِ مُكَالَمَةِ النَّاسِ بِطَرِيقٍ لَا يَتَضَرَّرُونَ بِهِ. التَّكْلِيفُ السَّابِعُ وَالثَّامِنُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَنَّهُ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ التَّكَالِيفِ الثَّمَانِيَةِ، بَيَّنَ أَنَّهُ مَعَ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ بِكُلِّ ذَلِكَ لِيَقْبَلُوا فَتَحْصُلُ لَهُمُ الْمَنْزِلَةُ الْعُظْمَى عِنْدَ رَبِّهِمْ، تَوَلَّوْا وَأَسَاءُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَتَلَقَّوْا نِعَمَ رَبِّهِمْ بِالْقَبُولِ مَعَ تَوْكِيدِ الدَّلَائِلِ وَالْمَوَاثِيقِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ يَزِيدُ فِي قُبْحِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْرَاضِ وَالتَّوَلِّي، لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى مُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الْبَيَانِ وَالتَّوَثُّقِ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنَ الْمُخَالَفَةِ مَعَ الْجَهَالَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِ، يَعْنِي أَعْرَضْتُمْ بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ كَإِعْرَاضِ أَسْلَافِكُمْ، وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مَنْ تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ وَمَنْ تَأَخَّرَ. أَمَّا وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ فِي الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهُمْ فَظَاهِرُ الْخَطَّابِ يَقْتَضِي أَنَّ آخِرَهُ فِيهِمْ أَيْضًا إِلَّا بِدَلِيلٍ يُوجِبُ الِانْصِرَافَ عَنْ/ هَذَا الظَّاهِرِ، يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى سَاقَ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ سِيَاقَةَ إِظْهَارِ النِّعَمِ بِإِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ مِنْ بَعْدُ أَنَّهُمْ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ بَقَوْا عَلَى مَا دَخَلُوا فِيهِ. أَمَّا وَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ وَهُوَ بِالْحَاضِرِينَ أَلْيَقُ وَمَا تَقَدَّمَ حِكَايَةٌ، وَهُوَ بِسَلَفِهِمُ الْغَائِبِينَ أَلْيَقُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ كَمَا لَزِمَهُمُ التَّمَسُّكُ بِهَا فَذَلِكَ هُوَ لَازِمٌ لَكُمْ لِأَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ حَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، فَيَلْزَمُكُمْ مِنَ الْحُجَّةِ مِثْلُ الَّذِي لَزِمَهُمْ وَأَنْتُمْ مَعَ ذَلِكَ قَدْ تَوَلَّيْتُمْ وَأَعْرَضْتُمْ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَأَسْلَمُوا، فَهَذَا مُحْتَمَلٌ، وَأَمَّا وَجْهُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ النِّعَمِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ تَوَلَّوْا عَنْهَا كَانَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى نِهَايَةِ قُبْحِ أَفْعَالِهِمْ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ مُخْتَصًّا بِمَنْ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ أَنَّكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ تَوَلَّوْا بَعْدَ أَخْذِ هَذِهِ الْمَوَاثِيقِ فَإِنَّكُمْ بَعْدَ اطِّلَاعِكُمْ عَلَى دَلَائِلِ صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَضْتُمْ عَنْهُ وَكَفَرْتُمْ بِهِ، فَكُنْتُمْ فِي هَذَا الْإِعْرَاضِ بِمَثَابَةِ أُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي ذَلِكَ التولي والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 84] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى كَلَّفَهُمْ هَذَا التَّكْلِيفَ وَأَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِصِحَّتِهِ ثُمَّ خَالَفُوا الْعَهْدَ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِعُلَمَاءِ الْيَهُودِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ أَسْلَافِهِمْ، وَتَقْدِيرُهُ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ آبَائِكُمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَسْلَافِ وَتَقْرِيعٌ لِلْأَخْلَافِ وَمَعْنَى: أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ أَمَرْنَاكُمْ وَأَكَّدْنَا الْأَمْرَ وَقَبِلْتُمْ وَأَقْرَرْتُمْ بِلُزُومِهِ ووجوبه.

[سورة البقرة (2) : آية 85]

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ فَفِيهِ إشكال، وهو أن الْإِنْسَانُ مُلْجَأٌ إِلَى أَنْ لَا يَقْتُلَ نَفْسَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي النَّهْيِ عَنْهُ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْإِلْجَاءَ قَدْ يَتَغَيَّرُ كَمَا ثَبَتَ فِي أَهْلِ الْهِنْدِ أَنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ فِي قَتْلِ النَّفْسِ التَّخَلُّصَ مِنْ عَالَمِ الْفَسَادِ وَاللُّحُوقَ بِعَالَمِ النُّورِ وَالصَّلَاحِ أَوْ كَثِيرٌ مِمَّنْ صَعُبَ عَلَيْهِ الزَّمَانُ، وَثَقُلَ عَلَيْهِ أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ، فَيَقْتُلُ نَفْسَهُ، فَإِذَا انْتَفَى كَوْنُ الْإِنْسَانِ مُلْجَأً إِلَى تَرْكِ قَتْلِهِ نَفْسَهُ صَحَّ كَوْنُهُ مُكَلَّفًا بِهِ، وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَجَعَلَ غَيْرَ الرَّجُلِ نَفْسَهُ إِذَا اتَّصَلَ بِهِ نَسَبًا وَدِينًا وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 54] / وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ غَيْرَهُ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَرَابِعُهَا: لَا تَتَعَرَّضُوا لِمُقَاتَلَةِ مَنْ يَقْتُلُكُمْ فَتَكُونُوا قَدْ قَتَلْتُمْ أَنْفُسَكُمْ، وَخَامِسُهَا: لا تسفكون دماءكم مَنْ قِوَامُكُمْ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا بِهِمْ فَتَكُونُونَ مُهْلِكِينَ لِأَنْفُسِكُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ، الْأَوَّلُ: لَا تَفْعَلُوا مَا تَسْتَحِقُّونَ بِسَبَبِهِ أَنْ تَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ، الثَّانِي: الْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ إِخْرَاجِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَعْظُمُ فِيهِ الْمِحْنَةُ وَالشِّدَّةُ حَتَّى يُقْرُبَ مِنَ الْهَلَاكِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَقْوَى، أَيْ: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بِالْمِيثَاقِ وَاعْتَرَفْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِلُزُومِهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَيْهَا كَقَوْلِكَ فُلَانٌ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِكَذَا أَيْ شَاهِدٌ عَلَيْهَا، وَثَانِيهَا: اعْتَرَفْتُمْ بِقَبُولِهِ وَشَهِدَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ شَائِعًا فِيمَا بَيْنَهُمْ مَشْهُورًا. وَثَالِثُهَا: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ الْيَوْمَ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ عَلَى إِقْرَارِ أَسْلَافِكُمْ بِهَذَا الْمِيثَاقِ، وَرَابِعُهَا: الْإِقْرَارُ الَّذِي هُوَ الرِّضَاءُ بِالْأَمْرِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ كَأَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ لَا يُقِرُّ عَلَى الضَّيْمِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُكُمْ بِذَلِكَ وَرَضِيتُمْ بِهِ فَأَقَمْتُمْ عَلَيْهِ وَشَهِدْتُمْ بِوُجُوبِهِ وَصِحَّتِهِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ: أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، قُلْنَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَقْرَرْتُمْ يَعْنِي أَسْلَافَكُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ الْآنَ يَعْنِي عَلَى إِقْرَارِهِمْ، الثَّانِي: أَقْرَرْتُمْ فِي وَقْتِ الْمِيثَاقِ الَّذِي مَضَى وَأَنْتُمْ بَعْدَ ذَلِكَ تَشْهَدُونَ، الثَّالِثُ: أنه للتأكيد. [سورة البقرة (2) : آية 85] ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) / أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ فَفِيهِ إشكال لأن قوله: أَنْتُمْ للحاضرين وهؤُلاءِ لِلْغَائِبِينَ فَكَيْفَ يَكُونُ الْحَاضِرُ نَفْسَ الْغَائِبِ، وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: تَقْدِيرُهُ ثُمَّ أَنْتُمْ يَا هَؤُلَاءِ، وَثَانِيهَا: تَقْدِيرُهُ ثُمَّ أَنْتُمْ أَعْنِي هَؤُلَاءِ الحاضرين، وثالثها: أنه بمعنى الذين وَصِلَتُهُ «تَقْتُلُونَ» وَمَوْضِعُ تَقْتُلُونَ رَفْعٌ إِذَا كَانَ خَبَرًا وَلَا مَوْضِعَ لَهُ إِذَا كَانَ صِلَةً. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمِثْلُهُ فِي الصِّلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه: 17] يَعْنِي وَمَا تِلْكَ الَّتِي بِيَمِينِكَ، وَرَابِعُهَا: هَؤُلَاءِ تَأْكِيدٌ لِأَنْتُمْ، وَالْخَبَرُ «تَقْتُلُونَ» ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ الْوُجُوهَ، وَأَصَحُّهَا أَنَّ الْمُرَادَ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَقَتْلُ الْبَعْضِ لِلْبَعْضِ قَدْ يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُ قَتْلٌ لِلنَّفْسِ إِذْ كَانَ الْكُلُّ بِمَنْزِلَةِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ وَبَيَّنَّا الْمُرَادَ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الدِّيَارِ مَا هُوَ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «تَظَاهَرُونَ» بِتَخْفِيفِ الظَّاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ فَوَجْهُ التَّخْفِيفِ الْحَذْفُ لِإِحْدَى التَّاءَيْنِ كَقَوْلِهِ: وَلا تَعاوَنُوا وَوَجْهُ التَّشْدِيدِ إِدْغَامُ التَّاءِ فِي الظَّاءِ، كَقَوْلِهِ تعالى: اثَّاقَلْتُمْ [التوبة: 38] وَالْحَذْفُ أَخَفُّ وَالْإِدْغَامُ أَدَلُّ عَلَى الْأَصْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّظَاهُرَ هُوَ التَّعَاوُنُ، وَلَمَّا كَانَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الدِّيَارِ وَقَتْلُ الْبَعْضِ بَعْضًا مِمَّا تَعْظُمُ بِهِ الْفِتْنَةُ وَاحْتِيجَ فِيهِ إِلَى اقْتِدَارٍ وَغَلَبَةٍ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَانَةِ بِمَنْ يُظَاهِرُهُمْ عَلَى الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الظُّلْمَ كَمَا هُوَ مُحَرَّمٌ فَكَذَا إِعَانَةُ الظَّالِمِ عَلَى ظُلْمِهِ مُحَرَّمَةٌ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَقْدَرَ الظَّالِمَ عَلَى الظُّلْمِ وَأَزَالَ الْعَوَائِقَ وَالْمَوَانِعَ وَسَلَّطَ عَلَيْهِ الشَّهْوَةَ الدَّاعِيَةَ إِلَى الظُّلْمِ كَانَ قَدْ أَعَانَهُ عَلَى الظُّلْمِ، فَلَوْ كَانَتْ إِعَانَةُ الظَّالِمِ عَلَى ظُلْمِهِ قَبِيحَةً لَوَجَبَ أَنْ لَا يُوجَدَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ مَكَّنَ الظَّالِمَ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ زَجَرَهُ عَنِ الظُّلْمِ بِالتَّهْدِيدِ وَالزَّجْرِ، بِخِلَافِ الْمُعِينِ لِلظَّالِمِ عَلَى ظُلْمِهِ فَإِنَّهُ يُرَغِّبُهُ فِيهِ وَيُحَسِّنُهُ فِي عَيْنِهِ وَيَدْعُوهُ إِلَيْهِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَدْرَ ذَنْبِ الْمُعِينِ مِثْلُ قَدْرِ ذَنْبِ الْمُبَاشِرِ، بَلِ الدَّلِيلُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ دُونَهُ لِأَنَّ الْإِعَانَةَ لَوْ حَصَلَتْ بِدُونِ الْمُبَاشَرَةِ لَمَا أَثَّرَتْ فِي حُصُولِ الظُّلْمِ وَلَوْ حَصَلَتِ الْمُبَاشَرَةُ بِدُونِ الْإِعَانَةِ لَحَصَلَ الضَّرَرُ وَالظُّلْمُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ أَدْخَلُ فِي الْحُرْمَةِ مِنَ الْإِعَانَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ: (أُسَارَى تُفَادُوهُمْ) بِالْأَلِفِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وحده بغير ألف فيهما والباقون: «أسارى» بالألف وَ «تُفْدُوهُمْ» بِغَيْرِ أَلِفٍ وَ «الْأَسْرَى» جَمْعُ أَسِيرٍ كَجَرِيحٍ وَجَرْحَى، وَفِي أُسَارَى قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَمْعُ أَسْرَى كَسَكْرَى وَسُكَارَى، وَالثَّانِي: جَمْعُ أَسِيرٍ، وَفَرَّقَ أَبُو عَمْرٍو بَيْنَ الْأَسْرَى وَالْأُسَارَى، وَقَالَ: الْأُسَارَى الَّذِينَ فِي وِثَاقٍ، وَالْأَسْرَى الَّذِينَ فِي الْيَدِ، كَأَنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ أُسَارَى أَشَدُّ مُبَالَغَةً، وَأَنْكَرَ ثَعْلَبٌ ذَلِكَ، وَقَالَ/ عَلِيُّ بن عيسى: الاختيار أسارى بالألف لِأَنَّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ الْأَئِمَّةِ وَلِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِ إِذْ كَانَ يُقَالُ بِكَثْرَةٍ فِيهِ، وَهُوَ قَلِيلٌ فِي الْوَاحِدِ نَحْوَ شُكَاعَى وَلِأَنَّهَا لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تُفْدُوهُمْ وَتُفَادُوهُمْ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ تُفْدُوهُمْ مِنَ الْفِدَاءِ وَهُوَ الْعِوَضُ مِنَ الشَّيْءِ صِيَانَةً لَهُ، يُقَالُ: فَدَاهُ فِدْيَةً وَتُفَادُوهُمْ مِنَ الْمُفَادَاةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: تُفادُوهُمْ وَصْفٌ لَهُمْ بِمَا هُوَ طَاعَةٌ وَهُوَ التَّخْلِيصُ مِنَ الْأَسْرِ بِبَذْلِ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ لِيَعُودُوا إِلَى كُفْرِهِمْ، وَذَكَرَ أَبُو مُسْلِمٍ أَنَّهُ ضِدُّ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ أَنَّكُمْ مَعَ الْقَتْلِ وَالْإِخْرَاجِ إِذَا وَقَعَ أَسِيرٌ فِي أَيْدِيكُمْ لَمْ تَرْضَوْا مِنْهُ إِلَّا بِأَخْذِ مَالٍ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا عَلَيْكُمْ ثُمَّ عنده تُخْرِجُونَهُ مِنَ الْأَسْرِ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ وَالْمُفَسِّرُونَ إِنَّمَا أَتَوْا مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ رَاجِعٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي مَعَكُمْ نَبَأُ مُحَمَّدٍ فَجَحَدْتُمُوهُ فَقَدْ آمَنْتُمْ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرْتُمْ بِبَعْضٍ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ يحتمل لفظ

الْمُفَادَاةِ لِأَنَّ الْبَاذِلَ عَنِ الْأَسِيرِ يُوصَفُ بِأَنَّهُ فَادَاهُ وَالْآخِذَ مِنْهُ لِلتَّخْلِيصِ يُوصَفُ أَيْضًا بِذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَيْهِ أَقْرَبُ، لِأَنَّ عَوْدَ قَوْلِهِ: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوْلَى مِنْ عَوْدِهِ إِلَى أُمُورٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا بَعْدَ آيَاتٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الَّذِينَ أُخْرِجُوا وَالَّذِينَ فُودُوا فَرِيقٌ وَاحِدٌ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ كَانَا أَخَوَيْنِ كَالْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَافْتَرَقُوا فَكَانَتِ النَّضِيرُ مَعَ الْخَزْرَجِ وَقُرَيْظَةُ مَعَ الْأَوْسِ. فَكَانَ كُلُّ فَرِيقٍ يُقَاتِلُ مَعَ حُلَفَائِهِ وَإِذَا غَلَبُوا خَرَّبُوا دِيَارَهُمْ وَأَخْرَجُوهُمْ وَإِذَا أُسِرَ رَجُلٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ جَمَعُوا لَهُ حَتَّى يَفْدُوهُ، فَعَيَّرَتْهُمُ الْعَرَبُ وَقَالُوا: كَيْفَ تُقَاتِلُونَهُمْ ثُمَّ تَفْدُونَهُمْ فَيَقُولُونَ: أُمِرْنَا أَنْ نَفْدِيَهُمْ وَحُرِّمَ عَلَيْنَا قِتَالُهُمْ، وَلَكِنَّا نَسْتَحِي أَنْ نُذِلَّ حُلَفَاءَنَا، وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ الَّذِينَ أَخْرَجُوهُمْ فُودُوا وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ آخَرُونَ فَعَابَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ فَفِي قَوْلِهِ: وَهُوَ وَجْهَانِ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ضَمِيرُ الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ كَأَنَّهُ قِيلَ وَالْقِصَّةُ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ، الثَّانِي: أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِخْرَاجِ أُعِيدَ ذِكْرُهُ تَوْكِيدًا لِأَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَهُمَا بِكَلَامٍ فَمَوْضِعُهُ عَلَى هَذَا رَفْعٌ كَأَنَّهُ قِيلَ وَإِخْرَاجُهُمْ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ أُعِيدَ ذِكْرُ إِخْرَاجِهِمْ مُبَيِّنًا لِلْأَوَّلِ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: إِخْرَاجُهُمْ كُفْرٌ، وَفِدَاؤُهُمْ إِيمَانٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَلَمْ يَذُمَّهُمْ عَلَى الْفِدَاءِ، وَإِنَّمَا ذَمَّهُمْ عَلَى الْمُنَاقَضَةِ إِذْ أَتَوْا بِبَعْضِ الْوَاجِبِ وَتَرَكُوا الْبَعْضَ، وَقَدْ تَكُونُ الْمُنَاقَضَةُ أَدْخَلَ فِي الذَّمِّ لَا يُقَالُ هَبْ أَنَّ ذَلِكَ الْإِخْرَاجَ مَعْصِيَةٌ، فَلِمَ سَمَّاهَا كُفْرًا مَعَ أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْعَاصِيَ لَا يَكْفُرُ، لِأَنَّا نَقُولُ لَعَلَّهُمْ صَرَّحُوا أَنَّ ذَلِكَ الْإِخْرَاجَ غَيْرُ وَاجِبٍ/ مَعَ أَنَّ صَرِيحَ التَّوْرَاةِ كَانَ دَالًّا عَلَى وجوبه. وثالثها: الْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُمْ فِي تَمَسُّكِهِمْ بِنُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ التَّكْذِيبِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّ الْحُجَّةَ فِي أَمْرِهِمَا عَلَى سَوَاءٍ يَجْرِي مَجْرَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ مِنْهُمْ فِي أَنْ يُؤْمِنُوا بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُوا بِبَعْضٍ وَالْكُلُّ فِي الْمِيثَاقِ سَوَاءٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَأَصْلُ الْخِزْيِ الذُّلُّ وَالْمَقْتُ. يُقَالُ: أَخْزَاهُ اللَّهُ، إِذَا مَقَتَهُ وَأَبْعَدَهُ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ الِاسْتِحْيَاءُ، فَإِذَا قِيلَ: أَخْزَاهُ اللَّهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَوْقَعَهُ مَوْقِعًا يُسْتَحَيَا مِنْهُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الذَّمُّ الْعَظِيمُ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْخِزْيِ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ الْجِزْيَةُ وَالصَّغَارُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي شَرِيعَتِهِمْ، بَلْ إِنْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَحَّ هَذَا الْوَجْهُ، لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْخِزْيِ الْوَاقِعِ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ. وَثَانِيهَا: إِخْرَاجُ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَقَتْلُ بَنِي قُرَيْظَةَ وَسَبْيُ ذَرَارِيهِمْ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى الْحَاضِرِينَ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَثَالِثُهَا: وَهُوَ الْأَوْلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الذَّمُّ الْعَظِيمُ وَالتَّحْقِيرُ الْبَالِغُ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ ذَلِكَ بِبَعْضِ الْوُجُوهِ دُونَ بَعْضٍ وَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: «خِزْيٌ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذَّمَّ وَاقِعٌ فِي النِّهَايَةِ الْعُظْمَى. أَمَّا قَوْلُهُ: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ فَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ عَذَابَ الدَّهْرِيَّةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ مِنْ عَذَابِ الْيَهُودِ، فَكَيْفَ قَالَ فِي حَقِّ الْيَهُودِ: يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ أَشَدُّ مِنَ الْخِزْيِ الْحَاصِلِ فِي الدُّنْيَا، فَلَفْظُ «الْأَشَدِّ» وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ الجهة.

[سورة البقرة (2) : آية 86]

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَالْبَاقُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَجْهُ الْأَوَّلِ: الْبِنَاءُ عَلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، وَوَجْهُ الثَّانِي: الْبِنَاءُ عَلَى أَنَّهُ آخِرُ الْكَلَامِ وَاخْتِيَارُ الْخِطَابِ لِأَنَّ عَلَيْهِ الْأَكْثَرَ وَلِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى الْمَعْنَى لِتَغْلِيبِ الْخِطَابِ عَلَى الْغَيْبَةِ إِذَا اجْتَمَعَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَزَجْرٌ عَظِيمٌ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَبِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى الطَّاعَةِ، لِأَنَّ الْغَفْلَةَ إِذَا كَانَتْ مُمْتَنِعَةً عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ مَعَ أَنَّهُ أَقْدَرُ الْقَادِرِينَ وَصَلَتِ الْحُقُوقُ لَا مَحَالَةَ إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا. [سورة البقرة (2) : آية 86] أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) اعْلَمْ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ تَحْصِيلِ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِ الْآخِرَةِ مُمْتَنِعٌ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مَكَّنَ الْمُكَلَّفَ مِنْ تَحْصِيلِ أَيِّهِمَا شَاءَ وَأَرَادَ، فَإِذَا اشْتَغَلَ بِتَحْصِيلِ أَحَدِهِمَا فَقَدْ فَوَّتَ الْآخَرَ عَلَى نَفْسِهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ مَا أَعْرَضَ الْيَهُودُ عَنْهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ وَمَا حَصَلَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْكُفْرِ وَلَذَّاتِ الدُّنْيَا كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي نِهَايَةِ الذَّمِّ لَهُمْ لِأَنَّ الْمَغْبُونَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الدُّنْيَا مَذْمُومٌ حَتَّى يُوصَفَ بِأَنَّهُ تَغَيَّرَ فِي عَقْلِهِ فَبِأَنْ يُذَمَّ مُشْتَرِي مَتَاعِ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ أَوْلَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي دُخُولِ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَلا يُخَفَّفُ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: الْعَطْفُ عَلَى اشْتَرَوُا وَالْقَوْلُ الْآخَرُ بِمَعْنَى جَوَابِ الْأَمْرِ، كَقَوْلِكَ أُولَئِكَ الضُّلَّالُ انْتَبِهْ فَلَا خَيْرَ فِيهِمْ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى الْإِضْمَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: بَعْضُهُمْ حَمَلَ التَّخْفِيفَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ بَلْ يَدُومُ، لِأَنَّهُ لَوِ انْقَطَعَ لَكَانَ قَدْ خَفَّ، وَحَمَلَهُ آخَرُونَ عَلَى شِدَّتِهِ لَا عَلَى دَوَامِهِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْعَذَابَ قَدْ يَخِفُّ بِالِانْقِطَاعِ وَقَدْ يَخِفُّ بِالْقِلَّةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ أَوْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَإِذَا وَصَفَ تَعَالَى عَذَابَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يُخَفَّفُ اقْتَضَى ذَلِكَ نَفْيَ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَكْثَرُونَ حَمَلُوهُ عَلَى نَفْيِ النُّصْرَةِ فِي الْآخِرَةِ يَعْنِي أَنَّ أَحَدًا لَا يَدْفَعُ هَذَا الْعَذَابَ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ عَذَابَهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى نَفْيِ النُّصْرَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ ذَلِكَ جَزَاءً عَلَى صَنِيعِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالْآخِرَةِ، لِأَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا وَإِنْ حَصَلَ فَيَصِيرُ كَالْحُدُودِ الَّتِي تُقَامُ عَلَى الْمُقَصِّرِ وَلِأَنَّ الْكُفَّارَ قَدْ يَصِيرُونَ غَالِبِينَ للمؤمنين في بعض الأوقات. [سورة البقرة (2) : آية 87] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أَفَاضَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ إِنَّهُمْ قَابَلُوهُ بِالْكُفْرِ وَالْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ حَالَ الْيَهُودِ مِنْ قَبْلُ بِأَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَتْلِ/ أَنْفُسِهِمْ وَإِخْرَاجِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا مِنْ

دِيَارِهِمْ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ بِهَذَا الصَّنِيعِ اشْتَرَوُا الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ، زَادَ فِي تَبْكِيتِهِمْ بِمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَهُوَ التَّوْرَاةُ آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ التَّوْرَاةَ لَمَّا نَزَلَتْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى بِحَمْلِهَا فَلَمْ يُطِقْ ذَلِكَ، فَبَعَثَ اللَّهُ لِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا مَلَكًا فَلَمْ يُطِيقُوا حَمْلَهَا فَخَفَّفَهَا اللَّهُ عَلَى مُوسَى فَحَمَلَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَفَّيْنَا، أَتْبَعْنَا مَأْخُوذٌ مِنَ الشَّيْءِ يَأْتِي فِي قَفَاهُ الشَّيْءُ، أَيْ بَعْدَ نَحْوِ ذَنَبِهِ مِنَ الذَّنَبِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا [الْمُؤْمِنُونَ: 44] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّ بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَيَّامِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتِ الرُّسُلُ تَتَوَاتَرُ وَيَظْهَرُ بَعْضُهُمْ فِي أَثَرِ بَعْضٍ، وَالشَّرِيعَةُ وَاحِدَةٌ إِلَى أَيَّامِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ جَاءَ بِشَرِيعَةٍ مُجَدِّدَةٍ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فِي الشَّرِيعَةِ يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِيهَا، قَالَ الْقَاضِي: إِنَّ الرَّسُولَ الثَّانِيَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى شَرِيعَةِ الْأَوَّلِ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إِلَى تِلْكَ الشَّرِيعَةِ بِعَيْنِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، مَعَ أَنَّ تِلْكَ الشَّرِيعَةَ مَحْفُوظَةٌ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا بِالتَّوَاتُرِ عَنِ الْأُوَلِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ إِذَا كَانَ هَذَا حَالَهُ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَعْلَمَ مِنْ جِهَةٍ إِلَّا مَا كَانَ قَدْ عَلِمَ مِنْ قَبْلُ أَوْ يُمْكِنْ أَنْ يَعْلَمَ مِنْ قَبْلُ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولًا لَا شَرِيعَةَ مَعَهُ أَصْلًا، تُبَيِّنُ الْعَقْلِيَّاتِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، فَكَذَا الْقَوْلُ فِي مَسْأَلَتِنَا: فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الرُّسُلِ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَتَوْا بِشَرِيعَةٍ جَدِيدَةٍ إِنْ كَانَتِ الْأُولَى مَحْفُوظَةً أَوْ مُحْيِيَةً لِبَعْضِ مَا انْدَرَسَ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْأُولَى. وَالْجَوَابُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ بَعْثَةِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ تَنْفِيذَ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ السالفة على الأمة أو نوع آخَرَ مَنِ الْأَلْطَافِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ، وَبِالْجُمْلَةِ، فَالْقَاضِي مَا أَتَى فِي هَذِهِ الدَّلَالَةِ إِلَّا بِإِعَادَةِ الدَّعْوَى، فَلِمَ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَعْثُ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ إِلَّا لِشَرِيعَةٍ جَدِيدَةٍ أَوْ لِإِحْيَاءِ شَرِيعَةٍ انْدَرَسَتْ وَهَلِ النِّزَاعُ وَقَعَ إِلَّا فِي هَذَا؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَؤُلَاءِ الرُّسُلُ هُمْ: يُوشَعُ، وَشَمْوِيلُ «1» ، وَشَمْعُونُ، وَدَاوُدُ، وَسُلَيْمَانُ وَشَعْيَاءُ، وَأَرْمِيَاءُ، وَعُزَيْرٌ، وَحِزْقِيلُ، وَإِلْيَاسُ، وَالْيَسَعُ، وَيُونُسُ، وَزَكَرِيَّا، وَيَحْيَى، وَغَيْرُهُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: السَّبَبُ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْمَلَ ذِكْرَ الرَّسُولِ ثُمَّ فَصَّلَ ذِكْرَ عِيسَى لِأَنَّ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ جَاءُوا بِشَرِيعَةِ مُوسَى فَكَانُوا مُتَّبِعِينَ لَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِيسَى، لِأَنَّ شَرْعَهُ نَسَخَ أَكْثَرَ شَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قِيلَ عِيسَى بِالسُّرْيَانِيَّةِ أَيْشُوعُ، وَمَرْيَمُ بِمَعْنَى الْخَادِمِ، وَقِيلَ: مَرْيَمُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مِنَ النِّسَاءِ كَزِيرٍ مِنَ الرِّجَالِ، وَبِهِ فُسِّرَ قَوْلُ رُؤْبَةَ: / «قُلْتُ لِزِيرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهُ» الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْبَيِّنَاتِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: الْمُعْجِزَاتُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَنَحْوِهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَثَانِيهَا: أَنَّهَا الْإِنْجِيلُ. وَثَالِثُهَا: وَهُوَ الْأَقْوَى أَنَّ الْكُلَّ يَدْخُلُ فِيهِ، لِأَنَّ الْمُعْجِزَ يُبَيِّنُ صِحَّةَ نُبُوَّتِهِ كَمَا أَنَّ الْإِنْجِيلَ يُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ شَرِيعَتِهِ فَلَا يَكُونُ لِلتَّخْصِيصِ معنى.

_ (1) في الأصل المطبوع: «وأشمويل» ولعلها مصحفة.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ وَأَيَّدْنَاهُ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ «الْقُدْسِ» بِالتَّخْفِيفِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّثْقِيلِ وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ رُعُبٌ وَرُعْبٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الرُّوحِ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ الرُّوحُ الْمُقَدَّسَةُ كَمَا يُقَالُ: حَاتِمُ الْجُودِ وَرَجُلُ صِدْقٍ فَوُصِفَ جِبْرِيلُ بِذَلِكَ تَشْرِيفًا لَهُ وَبَيَانًا لِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الثَّانِي: سُمِّي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحْيَا بِهِ الدِّينُ كَمَا يَحْيَا الْبَدَنُ بِالرُّوحِ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِإِنْزَالِ الْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُكَلَّفُونَ فِي ذَلِكَ يَحْيَوْنَ فِي دِينِهِمْ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ الرُّوحَانِيَّةُ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَلَائِكَةِ غَيْرَ أَنَّ رُوحَانِيَّتَهُ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ. الرَّابِعُ: سُمِّيَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رُوحًا، لِأَنَّهُ مَا ضَمَّتْهُ أَصْلَابُ الْفُحُولِ وَأَرْحَامُ الْأُمَّهَاتِ، وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ بِرُوحِ الْقُدُسِ الْإِنْجِيلُ، كَمَا قَالَ فِي الْقُرْآنِ: رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشُّورَى: 52] وَسُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ الدِّينَ يَحْيَا بِهِ وَمَصَالِحَ الدُّنْيَا تَنْتَظِمُ لِأَجْلِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ الِاسْمُ الَّذِي كَانَ يُحْيِي بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَوْتَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ الرُّوحُ الَّذِي نُفِخَ فِيهِ وَالْقُدُسُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَنَسَبَ رُوحَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى نَفْسِهِ تَعْظِيمًا لَهُ وَتَشْرِيفًا، كَمَا يُقَالُ: بَيْتُ اللَّهِ وَنَاقَةُ الله، عن الربيع، وعلى هذا المراد بِهِ الرُّوحُ الَّذِي يَحْيَا بِهِ الْإِنْسَانُ. وَاعْلَمْ أَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الرُّوحِ عَلَى جِبْرِيلَ وَعَلَى الْإِنْجِيلِ وَعَلَى الِاسْمِ الْأَعْظَمِ مَجَازٌ لِأَنَّ الرُّوحَ هُوَ الرِّيحُ الْمُتَرَدِّدُ فِي مَخَارِقِ الْإِنْسَانِ وَمَنَافِذِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مَا كَانَتْ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ سُمِّيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِالرُّوحِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الرُّوحَ كَمَا أَنَّهُ سَبَبٌ لِحَيَاةِ الرَّجُلِ، فَكَذَلِكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَبَبٌ لِحَيَاةِ الْقُلُوبِ بِالْعُلُومِ، وَالْإِنْجِيلُ سَبَبٌ لِظُهُورِ الشَّرَائِعِ وَحَيَاتِهَا، وَالِاسْمُ الْأَعْظَمُ سَبَبٌ لِأَنْ يُتَوَسَّلَ بِهِ إِلَى تَحْصِيلِ الْأَغْرَاضِ إِلَّا أَنَّ الْمُشَابَهَةَ بَيْنَ مُسَمَّى الرُّوحِ وَبَيْنَ جِبْرِيلَ أَتَمُّ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَخْلُوقٌ مِنْ هَوَاءٍ نُورَانِيٍّ، لَطِيفٍ فَكَانَتِ الْمُشَابَهَةُ أَتَمَّ، فَكَانَ إِطْلَاقُ اسْمِ الرُّوحِ عَلَى جِبْرِيلَ أَوْلَى. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ فِيهِ أَظْهَرُ مِنْهَا فِيمَا عَدَاهُ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ يَعْنِي قَوَّيْنَاهُ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ التَّقْوِيَةِ الْإِعَانَةُ وَإِسْنَادُ الْإِعَانَةِ إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَقِيقَةٌ وَإِسْنَادُهَا إِلَى الْإِنْجِيلِ وَالِاسْمِ الْأَعْظَمِ مَجَازٌ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَرَابِعُهَا: وَهُوَ أَنَّ اخْتِصَاصَ عِيسَى بِجِبْرِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مِنْ آكَدِ وُجُوهِ الِاخْتِصَاصِ بِحَيْثُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِثْلُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَشَّرَ مَرْيَمَ/ بِوِلَادَتِهَا وَإِنَّمَا وُلِدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ نَفْخَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ الَّذِي رَبَّاهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَكَانَ يَسِيرُ مَعَهُ حَيْثُ سَارَ وَكَانَ مَعَهُ حِينَ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَهُوَ نِهَايَةُ الذَّمِّ لَهُمْ، لِأَنَّ الْيَهُودَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا إِذَا أَتَاهُمُ الرَّسُولُ بِخِلَافِ مَا يَهْوُونَ كَذَّبُوهُ، وَإِنْ تَهَيَّأَ لَهُمْ قَتْلُهُ قَتَلُوهُ. وَإِنَّمَا كَانُوا كَذَلِكَ لِإِرَادَتِهِمُ الرِّفْعَةَ فِي الدُّنْيَا وَطَلَبِهِمْ لَذَّاتِهَا وَالتَّرَؤُّسَ عَلَى عَامَّتِهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَكَانَتِ الرسل تبطل عليه ذَلِكَ فَيُكَذِّبُونَهُمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَيُوهِمُونَ عَوَامَّهُمْ كَوْنَهُمْ كَاذِبِينَ وَيَحْتَجُّونَ فِي ذَلِكَ بِالتَّحْرِيفِ وَسُوءِ التَّأْوِيلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَسْتَكْبِرُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ اسْتِكْبَارَ إِبْلِيسَ عَلَى آدَمَ.

[سورة البقرة (2) : آية 88]

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَلَّا قِيلَ وَفَرِيقًا قَتَلْتُمْ؟ وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرَادَ الْحَالُ الْمَاضِيَةُ لِأَنَّ الْأَمْرَ فَظِيعٌ فَأُرِيدَ اسْتِحْضَارُهُ فِي النُّفُوسِ وَتَصْوِيرُهُ فِي الْقُلُوبِ «1» . الثَّانِي: أَنْ يُرَادَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَهُمْ بَعْدُ لِأَنَّكُمْ حَاوَلْتُمْ قَتْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْلَا أَنِّي أَعْصِمُهُ مِنْكُمْ وَلِذَلِكَ سَحَرْتُمُوهُ وَسَمَمْتُمْ لَهُ الشَّاةَ. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ مَوْتِهِ: «مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي. فَهَذَا أَوَانُ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي» وَاللَّهُ أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 88] وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ (88) أَمَّا الْغُلْفُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَمْعُ أغْلَفَ وَالْأَغْلَفُ هُوَ مَا فِي غِلَافٍ أَيْ قُلُوبِنَا مُغَشَّاةٌ بِأَغْطِيَةٍ مَانِعَةٍ مِنْ وُصُولِ أَثَرِ دَعْوَتِكَ إِلَيْهَا، وَثَانِيهَا: رَوَى الْأَصَمُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ قُلُوبَهُمْ غُلْفٌ بِالْعِلْمِ وَمَمْلُوءَةٌ بِالْحِكْمَةِ فَلَا حَاجَةَ مَعَهَا بِهِمْ إِلَى شَرْعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَثَالِثُهَا: غُلْفٌ أَيْ كَالْغِلَافِ الْخَالِي لَا شَيْءَ فِيهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِكَ. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمُ اخْتَارُوا الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، ثُمَّ قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ مَا لَا يُمْكِنُهُمْ مَعَهُ الْإِيمَانُ، لَا غِلَافَ وَلَا كِنَّ وَلَا سَدَّ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُجْبِرَةُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ صَادِقِينَ فِي هَذَا الْقَوْلِ، فَكَانَ لَا يُكَذِّبُهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَذُمُّ الْكَاذِبَ الْمُبْطِلَ لَا الصَّادِقَ الْمُحِقَّ الْمَعْذُورَ، قَالُوا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الْكَهْفِ: 57] وقوله: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا وَقَوْلِهِ: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا [يس: 8، 9] لَيْسَ الْمُرَادُ كَوْنَهُمْ مَمْنُوعِينَ مِنَ الْإِيمَانِ، بَلِ الْمُرَادُ إِمَّا مَنْعُ الْأَلْطَافِ أَوْ تَشْبِيهُ حَالِهِمْ فِي إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ بِمَنْزِلَةِ الْمَجْبُورِ عَلَى الْكُفْرِ. قَالُوا: وَنَظِيرُ ذَمِّ اللَّهِ تَعَالَى الْيَهُودَ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ ذَمُّهُ تَعَالَى الْكَافِرِينَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فُصِّلَتْ: 5] وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُجْبِرَةُ لَكَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ صَادِقِينَ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ كَانُوا/ صَادِقِينَ لَمَا ذَمَّهُمْ بَلْ كَانَ الَّذِي حَكَاهُ عَنْهُمْ إِظْهَارًا لِعُذْرِهِمْ وَمُسْقِطًا لِلَوْمِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْغُلْفِ وُجُوهًا ثَلَاثَةً فَلَا يَجِبُ الْجَزْمُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ ذَلِكَ الْوَجْهُ لَكِنْ لِمَ قُلْتَ إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ مَذْمُومٌ؟ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَفِيهِ أَجْوِبَةٌ. أَحَدُهَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَعَنَهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، أَمَّا لِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّهُ إِنَّمَا لَعَنَهُمْ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ فَلَعَلَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ قَوْلًا ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ مَلْعُونُونَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ. وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ يَعْنِي لَيْسَتْ قُلُوبُنَا فِي أَغْلَافٍ وَلَا فِي أَغْطِيَةٍ، بَلْ قَوِيَّةٌ وَخَوَاطِرُنَا مُنِيرَةٌ ثُمَّ إِنَّا بِهَذِهِ الْخَوَاطِرِ وَالْأَفْهَامِ تأملنا في دلائلك يا محمد، فلم يجد مِنْهَا شَيْئًا قَوِيًّا. فَلَمَّا ذَكَرُوا هَذَا التَّصَلُّفَ الْكَاذِبَ لَا جَرَمَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ عَلَى كُفْرِهِمُ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ هَذَا الْقَوْلِ، وَثَالِثُهَا: لَعَلَّ قُلُوبَهُمْ مَا كَانَتْ فِي الْأَغْطِيَةِ بَلْ كَانُوا عَالِمِينَ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [الأنعام: 20] [الْبَقَرَةِ: 146] إِلَّا أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا تِلْكَ الْمَعْرِفَةَ وَادَّعَوْا أَنَّ قُلُوبَهُمْ غُلْفٌ وَغَيْرُ وَاقِفَةٍ عَلَى ذَلِكَ فكان كفرهم كفر

_ (1) هذا الجواب جواب عن سؤال آخر هو «هلا قيل ففريقاً تكذبون» . [.....]

[سورة البقرة (2) : آية 89]

الْعِنَادِ فَلَا جَرَمَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَلِيلَ صِفَةُ الْمُؤْمِنِ، أَيْ لَا يُؤْمِنُ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ عَنْ قَتَادَةَ وَالْأَصَمِّ وَأَبِي مُسْلِمٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ صِفَةُ الْإِيمَانِ، أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِقَلِيلٍ مِمَّا كُلِّفُوا بِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، إِلَّا أَنَّهُمْ كانوا يكفرن بِالرُّسُلِ. وَثَالِثُهَا: مَعْنَاهُ لَا يُؤْمِنُونَ أَصْلًا لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا كَمَا يُقَالُ: قَلِيلًا مَا يَفْعَلُ بِمَعْنَى لَا يَفْعَلُ الْبَتَّةَ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ: مَرَرْنَا بِأَرْضٍ قَلِيلًا مَا تُنْبِتُ، يريدون ولا تُنْبِتُ شَيْئًا. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ نَظِيرُ قَوْلِهِ: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النِّسَاءِ: 155] وَلِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى إِذَا كَانَ الْمُصَرَّحُ فِيهَا ذِكْرُ الْقَوْمِ فَيَجِبُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي انْتِصَابِ «قَلِيلًا» وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: فَإِيمَانًا قَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ «وَمَا» مَزِيدَةٌ وَهُوَ إِيمَانُهُمْ بِبَعْضِ الْكِتَابِ، وَثَانِيهَا: انْتَصَبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ بِقَلِيلٍ يُؤْمِنُونَ. وَثَالِثُهَا: فَصَارُوا قَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ. [سورة البقرة (2) : آية 89] وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) / اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنْ قَبَائِحِ الْيَهُودِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كِتابٌ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ هُوَ الْقُرْآنُ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ غَيْرُ مَا مَعَهُمْ وَمَا ذَاكَ إِلَّا الْقُرْآنُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ فِي أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بتكليفهم بصديق مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النُّبُوَّةِ وَاللَّائِقُ بِذَلِكَ هُوَ كَوْنُهُ مُوَافِقًا لِمَا مَعَهُمْ فِي دَلَالَةِ نُبُوَّتِهِ إِذْ قَدْ عَرَفُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُوَافِقٍ لِمَا مَعَهُمْ فِي سَائِرِ الشَّرَائِعِ وَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَرِدِ الْمُوَافَقَةُ فِي بَابِ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ جَمِيعَ كُتُبِ اللَّهِ كَذَلِكَ وَلَمَّا بَطَلَ الْكُلُّ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مُوَافَقَتُهُ لِكُتُبِهِمْ فِيمَا يَخْتَصُّ بِالنُّبُوَّةِ وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنَ الْعَلَامَاتِ وَالنُّعُوتِ وَالصِّفَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: مُصَدِّقًا عَلَى الْحَالِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ نَصْبُهَا عَنِ النَّكِرَةِ؟ قُلْنَا: إِذَا وُصِفَتِ النَّكِرَةُ تَخَصَّصَتْ فَصَحَّ انْتِصَابُ الْحَالِ عَنْهَا وَقَدْ وُصِفَ كِتابٌ بِقَوْلِهِ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي جَوَابِ «لَمَّا» ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَحْذُوفٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرَّعْدِ: 31] فَإِنَّ جَوَابَهُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ. لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ، عَنِ الْأَخْفَشِ وَالزَّجَّاجِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَلَى التَّكْرِيرِ لِطُولِ الْكَلَامِ وَالْجَوَابُ: كَفَرُوا به كقوله تعالى: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 35] عَنِ الْمُبَرِّدِ، وَثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ جَوَابًا لِلَمَّا الأولى وكَفَرُوا بِهِ جَوَابًا لِلَمًّا الثَّانِيَةِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [البقرة: 38] [طه: 133] الْآيَةَ عَنِ الْفَرَّاءِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَفِي سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْيَهُودَ مِنْ قَبْلِ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ، أَيْ يَسْأَلُونَ الْفَتْحَ وَالنُّصْرَةَ وَكَانُوا يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ افْتَحْ عَلَيْنَا وَانْصُرْنَا بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ. وَثَانِيهَا: كَانُوا يَقُولُونَ لِمُخَالِفِيهِمْ عِنْدَ الْقِتَالِ: هَذَا نَبِيٌّ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ يَنْصُرُنَا عَلَيْكُمْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَثَالِثُهَا: كَانُوا يَسْأَلُونَ الْعَرَبَ عَنْ مَوْلِدِهِ وَيَصِفُونَهُ بِأَنَّهُ نَبِيٌّ مِنْ صِفَتِهِ كَذَا

[سورة البقرة (2) : آية 90]

وَكَذَا، وَيَتَفَحَّصُونَ عَنْهُ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ. وَرَابِعُهَا: نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِرَسُولِ اللَّهِ قَبْلَ الْمَبْعَثِ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ. وَخَامِسُهَا: نَزَلَتْ فِي أَحْبَارِ الْيَهُودِ كَانُوا إِذَا قَرَءُوا وَذَكَرُوا مُحَمَّدًا فِي التَّوْرَاةِ وَأَنَّهُ مَبْعُوثٌ وَأَنَّهُ مِنَ الْعَرَبِ سَأَلُوا مُشْرِكِي الْعَرَبِ عَنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ هَلْ وُلِدَ فِيهِمْ مَنْ يُوَافِقُ حَالُهُ حَالَ هَذَا الْمَبْعُوثِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عَارِفِينَ بِنُبُوَّتِهِ وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ التَّوْرَاةَ/ نُقِلَتْ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَصَلَ فِيهَا نَعْتُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، أَعْنِي بَيَانَ أَنَّ الشَّخْصَ الْمَوْصُوفَ بِالصُّورَةِ الْفُلَانِيَّةِ وَالسِّيرَةِ الْفُلَانِيَّةِ سَيَظْهَرُ فِي السَّنَةِ الْفُلَانِيَّةِ فِي الْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْوَصْفُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ الْقَوْمُ مُضْطَرِّينَ إِلَى مَعْرِفَةِ شَهَادَةِ التَّوْرَاةِ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ عَلَى أَهْلِ التَّوَاتُرِ إِطْبَاقُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَصْفُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يَلْزَمْ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّوْرَاةِ كَوْنُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا، فَكَيْفَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ فِي التَّوْرَاةِ كَانَ وَصْفًا إِجْمَالِيًّا وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لَمْ يَعْرِفُوا نُبُوَّتَهُ بِمُجَرَّدِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ، بَلْ بِظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ صَارَتْ تِلْكَ الْأَوْصَافُ كَالْمُؤَكِّدَةِ، فَلِهَذَا ذَمَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْإِنْكَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: كَفَرُوا بِهِ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ الْمَبْعُوثَ يَكُونُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِكَثْرَةِ مَنْ جَاءَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانُوا يُرَغِّبُونَ النَّاسَ فِي دِينِهِ وَيَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا مِنَ الْعَرَبِ مِنْ نَسْلِ إِسْمَاعِيلَ صَلَوَاتُ الله عليه، عظم ذلك عليهم فَأَظْهَرُوا التَّكْذِيبَ وَخَالَفُوا طَرِيقَهُمُ الْأَوَّلَ. وَثَانِيهَا: اعْتِرَافُهُمْ بنبوته كان يوجب عليهم زوال رئاساتهم وَأَمْوَالِهِمْ فَأَبَوْا وَأَصَرُّوا عَلَى الْإِنْكَارِ. وَثَالِثُهَا: لَعَلَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً فَلَا جَرَمَ كَفَرُوا بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَفَّرَهُمْ بَعْدَ مَا بَيَّنَ كَوْنَهُمْ عَالِمِينَ بِنُبُوَّتِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ هُوَ الْجَهْلُ بِاللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ فَالْمُرَادُ الْإِبْعَادُ مِنْ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ الْمُبْعَدَ مِنْ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا لَا يَكُونُ مَلْعُونًا. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [الْبَقَرَةِ: 83] وَقَالَ: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَامِ: 108] قُلْنَا: الْعَامُّ قَدْ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ التَّخْصِيصُ عَلَى أَنَّا بَيَّنَّا فِيمَا قَبْلُ أَنَّ لَعْنَ مَنْ يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ مِنَ الْقَوْلِ الْحَسَنِ والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 90] بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) اعْلَمْ أَنَّ الْبَحْثَ عَنْ حَقِيقَةِ بِئْسَمَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَصْلُ نِعْمَ وبئس نِعْمَ وَبِئْسَ بِفَتْحِ الْأَوَّلِ وَكَسْرِ الثَّانِي كَقَوْلِنَا: «عَلِمَ» إِلَّا أَنَّ مَا كَانَ ثَانِيهِ حَرْفَ حَلْقٍ وَهُوَ مَكْسُورٌ يَجُوزُ فِيهِ أَرْبَعُ لُغَاتٍ، الْأَوَّلُ: عَلَى الْأَصْلِ أَعْنِي بِفَتْحِ الْأَوَّلِ وَكَسْرِ الثَّانِي. وَالثَّانِي: إِتْبَاعُ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِكَسْرِ النُّونِ وَالْعَيْنِ، وَكَذَا يُقَالُ: فِخِذٌ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالْخَاءِ، وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا

يَفِرُّونَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْكَسْرَتَيْنِ إِلَّا أَنَّهُمْ جوزوه هاهنا لِكَوْنِ الْحَرْفِ الْحَلْقِيِّ مُسْتَتْبَعًا لِمَا يُجَاوِرُهُ. الثَّالِثُ: إِسْكَانُ الْحَرْفِ الْحَلْقِيِّ الْمَكْسُورِ وَتَرْكُ مَا قَبْلَهُ عَلَى مَا كَانَ فَيُقَالُ: نَعْمَ وَبَئْسَ بِفَتْحِ الْأَوَّلِ وَإِسْكَانِ الثَّانِي كَمَا يُقَالُ: فَخْذٌ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَإِسْكَانِ الْخَاءِ. الرَّابِعُ: أَنْ يُسَكَّنَ الْحَرْفُ الْحَلْقِيُّ وَتُنْقَلَ كَسْرَتُهُ إِلَى مَا قَبْلَهُ فَيُقَالُ: نِعْمَ بِكَسْرِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ كَمَا يُقَالُ: فِخْذٌ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَإِسْكَانِ الْخَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّغْيِيرَ الْأَخِيرَ وَإِنْ كَانَ فِي حَدِّ الْجَوَازِ عِنْدَ إِطْلَاقِ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ إِلَّا أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ لَازِمًا لَهُمَا لِخُرُوجِهِمَا عَمَّا وُضِعَتْ لَهُ الْأَفْعَالُ الْمَاضِيَةُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْ وُجُودِ الْمَصْدَرِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَصَيْرُورَتِهِمَا كَلِمَتَيْ مَدْحٍ وَذَمٍّ وَيُرَادُ بِهِمَا الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، لِيَدُلَّ هَذَا التَّغْيِيرُ اللَّازِمُ فِي اللَّفْظِ عَلَى التَّغْيِيرِ عَنِ الْأَصْلِ فِي الْمَعْنَى فَيَقُولُونَ: نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ وَلَا يَذْكُرُونَهُ عَلَى الْأَصْلِ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ كَمَا أَنْشَدَ الْمُبَرِّدُ: فَفِدَاءٌ لِبَنِي قَيْسٍ عَلَى ... مَا أَصَابَ النَّاسَ مِنْ شَرٍّ وَضُرِّ مَا أَقَلَّتْ قَدَمَايَ إِنَّهُمْ ... نَعِمَ السَّاعُونَ فِي الْأَمْرِ الْمُبِرِّ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمَا فِعْلَانِ مِنْ نَعِمَ يَنْعَمُ وَبَئِسَ وَيَبْأَسُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ دُخُولُ التَّاءِ الَّتِي هِيَ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ فِيهِمَا، فَيُقَالُ: نِعْمَتْ وَبِئْسَتْ، وَالْفَرَّاءُ يَجْعَلُهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْأَسْمَاءِ وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أَلَسْنَا بِنِعْمَ الْجَارِ يُؤْلَفُ بَيْتُهُ ... مِنَ النَّاسِ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ وَمُعْدَمَا وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بُشِّرَ بِمَوْلُودَةٍ فَقِيلَ لَهُ: نِعْمَ الْمَوْلُودُ مَوْلُودَتُكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هِيَ بِنِعْمَ الْمَوْلُودَةِ وَالْبَصْرِيُّونَ يُجِيبُونَ عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْحِكَايَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ «نِعْمَ وَبِئْسَ» أَصْلَانِ لِلصَّلَاحِ وَالرَّدَاءَةِ وَيَكُونُ فَاعِلُهُمَا اسْمًا يَسْتَغْرِقُ الْجِنْسَ إِمَّا مُظْهَرًا وَإِمَّا مُضْمَرًا، وَالْمُظْهَرُ عَلَى وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: نَحْوَ قَوْلِكَ، نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ لَا تُرِيدُ رَجُلًا دُونَ الرَّجُلِ وَإِنَّمَا تَقْصِدُ الرَّجُلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَالثَّانِي: نَحْوَ قَوْلِكَ نِعْمَ غُلَامُ الرَّجُلِ زَيْدٌ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَنِعْمَ صَاحِبُ قَوْمٍ لَا سِلَاحَ لَهُمْ ... وَصَاحِبُ الرَّكْبِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَا فَنَادِرٌ وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّ قَوْلَهُ: «وَصَاحِبُ الرَّكْبِ» قَدْ يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ إِذِ الْمُرَادُ وَاحِدٌ فَإِذَا أَتَى فِي الرَّكْبِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَكَأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِهِ فِي الْقَوْمِ، وَأَمَّا الْمُضْمَرُ فَكَقَوْلِكَ: نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ، الْأَصْلُ: نِعْمَ الرَّجُلُ رَجُلًا زَيْدٌ ثُمَّ تُرِكَ ذِكْرُ الْأَوَّلِ لِأَنَّ النَّكِرَةَ الْمَنْصُوبَةَ تَدُلُّ عَلَيْهِ/ وَرَجُلًا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، مِثْلُهُ فِي قَوْلِكَ: عِشْرُونَ رَجُلًا وَالْمُمَيَّزُ لَا يَكُونُ إِلَّا نَكِرَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ عِشْرُونَ الدِّرْهَمَ وَلَوْ أَدْخَلُوا الْأَلِفَ وَاللَّامَ عَلَى هَذَا فَقَالُوا: نِعْمَ الرَّجُلَ بِالنَّصْبِ لَكَانَ نَقْضًا لِلْغَرَضِ، إِذْ لَوْ كَانُوا يُرِيدُونَ الْإِتْيَانَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لَرَفَعُوا وَقَالُوا نِعْمَ الرَّجُلُ وَكَفَوْا أَنْفُسَهُمْ مُؤْنَةَ الْإِضْمَارِ وَإِنَّمَا أَضْمَرُوا الْفَاعِلَ قَصْدًا لِلِاخْتِصَارِ، إِذْ كَانَ «نِعْمَ رَجُلًا» يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ الَّذِي فُضِّلَ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا قُلْتَ نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً مُؤَخَّرًا كَأَنَّهُ قِيلَ: زَيْدٌ نِعْمَ الرَّجُلُ، أَخَّرْتَ زَيْدًا وَالنِّيَّةُ بِهِ التَّقْدِيمُ، كَمَا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِهِ الْمِسْكِيُنُ تُرِيدُ الْمِسْكِينُ مَرَرْتُ بِهِ، فَأَمَّا الرَّاجِعُ إِلَى الْمُبْتَدَأِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَمَّا كَانَ شَائِعًا يَنْتَظِمُ فِيهِ الْجِنْسُ كَانَ زَيْدٌ دَاخِلًا تَحْتَهُ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الذِّكْرِ الَّذِي يَعُودُ إِلَيْهِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ فِي قَوْلِكَ: نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ: نِعْمَ الرَّجُلُ،

قِيلَ: مَنْ هَذَا الَّذِي أُثْنِيَ عَلَيْهِ؟ فَقِيلَ: زَيْدٌ أَيْ هُوَ زَيْدٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ وَالذَّمِّ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ جِنْسِ الْمَذْكُورِ بَعْدَ نِعْمَ وَبِئْسَ كَزَيْدٍ مِنَ الرِّجَالِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْمُضَافُ إِلَى الْقَوْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الْأَعْرَافِ: 177] مَحْذُوفًا وَتَقْدِيرُهُ سَاءَ مَثَلًا مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، وَإِذْ قَدْ لَخَّصْنَا هَذِهِ الْمَسَائِلَ فَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «مَا» نَكِرَةٌ مَنْصُوبَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِفَاعِلِ بِئْسَ بِمَعْنَى بِئْسَ الشَّيْءُ شَيْئًا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ «أَنْ يكفروا» . المسألة الثانية: في الشراء هاهنا قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى الْبَيْعِ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَكَّنَ الْمُكَلَّفَ مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي يُفْضِي بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْكُفْرِ الَّذِي يُؤَدِّي بِهِ إِلَى النَّارِ صَارَ اخْتِيَارُهُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِيَارِ تَمَلُّكِ سِلْعَةٍ عَلَى سِلْعَةٍ فَإِذَا اخْتَارَ الْإِيمَانَ الَّذِي فِيهِ فَوْزُهُ وَنَجَاتُهُ. قِيلَ: نِعْمَ مَا اشْتَرَى، وَلَمَّا كَانَ الْغَرَضُ بالبيع والشراء هو إبدال ملك بملك صَلُحَ أَنْ يُوصَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ بَائِعٌ وَمُشْتَرٍ لِوُقُوعِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَصَحَّ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ لِأَنَّ الَّذِي حَصَّلُوهُ عَلَى مَنَافِعِ أَنْفُسِهِمْ لَمَّا كَانَ هُوَ الْكُفْرُ صَارُوا بَائِعِينَ أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ، الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا كَانَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ يَأْتِي بِأَعْمَالٍ يَظُنُّ أَنَّهَا تُخَلِّصُهُ مِنَ الْعِقَابِ فَكَأَنَّهُ قَدِ اشْتَرَى نَفْسَهُ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ، فَهَؤُلَاءِ الْيَهُودُ لَمَّا اعْتَقَدُوا فِيمَا أَتَوْا بِهِ أَنَّهَا تُخَلِّصُهُمْ مِنَ الْعِقَابِ، وَتُوَصِّلُهُمْ إِلَى الثَّوَابِ فَقَدْ ظَنُّوا أَنَّهُمُ اشْتَرَوْا أَنْفُسَهُمْ بِهَا، فَذَمَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْرَبُ إِلَى الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ مِنَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ تَفْسِيرَ مَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ بِقَوْلِهِ/ تَعَالَى: أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا شُبْهَةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ كُفْرُهُمْ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ الْخِطَابَ فِي الْيَهُودِ وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ بِغَيْرِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ الْوَجْهَ الَّذِي لِأَجْلِهِ اخْتَارُوا هَذَا الْكُفْرَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَقَالَ: بَغْياً وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى غَرَضِهِمْ بِالْكُفْرِ كَمَا يُقَالُ يُعَادِي فُلَانٌ فَلَانًا حَسَدًا تَنْبِيهًا بِذَلِكَ عَلَى غَرَضِهِ وَلَوْلَا هَذَا الْقَوْلُ لَجَوَّزْنَا أَنْ يَكْفُرُوا جَهْلًا لَا بَغْيًا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَسَدَ حَرَامٌ. وَلَمَّا كَانَ الْبَغْيُ قَدْ يَكُونُ لِوُجُوهٍ شَتَّى بَيَّنَ تَعَالَى غَرَضَهُمْ مِنْ هَذَا الْبَغْيِ بِقَوْلِهِ: أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْقِصَّةُ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِمَا حَكَيْنَاهُ مِنْ أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ هَذَا الْفَضْلَ الْعَظِيمَ بِالنُّبُوَّةِ الْمُنْتَظَرَةِ يَحْصُلُ فِي قَوْمِهِمْ فَلَمَّا وَجَدُوهُ فِي الْعَرَبِ حَمَلَهُمْ ذَلِكَ على البغي والحسد. أما قوله تعالى: فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ الْغَضَبَيْنِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ سَبَبَيْنِ لِلْغَضَبَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ تَكْذِيبُهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا أنزل عليه والآخر تكذيبهم محمد عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَصَارَ ذَلِكَ دُخُولًا فِي غَضَبٍ بَعْدَ غَضَبٍ وَسَخَطٍ بَعْدَ سَخَطٍ مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى لِأَجْلِ أَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي سَبَبٍ بَعْدَ سَبَبٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةَ، الثَّانِي: لَيْسَ الْمُرَادُ إِثْبَاتَ غَضَبَيْنِ فَقَطْ بَلِ الْمُرَادُ إثبات

[سورة البقرة (2) : آية 91]

أَنْوَاعٍ مِنَ الْغَضَبِ مُتَرَادِفَةٍ لِأَجْلِ أُمُورٍ مُتَرَادِفَةٍ صَدَرَتْ عَنْهُمْ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 30] . يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [الْمَائِدَةِ: 64] . إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آلِ عِمْرَانَ: 181] وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ كُفْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَأْكِيدُ الْغَضَبِ وَتَكْثِيرُهُ لِأَجْلِ أَنَّ هَذَا الْكُفْرَ وَإِنْ كان واحداً إلا أنه عظم، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ. الرَّابِعُ: الْأَوَّلُ بِعِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ وَالثَّانِي بِكِتْمَانِهِمْ صِفَةَ مُحَمَّدٍ وَجَحْدِهِمْ نُبُوَّتَهُ عَنِ السُّدِّيِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْغَضَبُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّغَيُّرِ الَّذِي يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ فِي مِزَاجِهِ عِنْدَ غَلَيَانِ دَمِ قَلْبِهِ بِسَبَبِ مُشَاهَدَةِ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ وَذَلِكَ مُحَالٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى إِرَادَتِهِ لِمَنْ عَصَاهُ الْإِضْرَارَ مِنْ جِهَةِ اللَّعْنِ وَالْأَمْرَ بِذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ يَصِحُّ وَصْفُهُ تَعَالَى بِالْغَضَبِ وَأَنَّ غَضَبَهُ يَتَزَايَدُ ويكثر ويصح فيه ذلك كصحته من الْعَذَابِ فَلَا يَكُونُ غَضَبُهُ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِخَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ كَغَضَبِهِ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِخِصَالٍ كَثِيرَةٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى قَوْلِهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ الْأُولَى يَدْخُلُ فِيهَا أُولَئِكَ الْكُفَّارُ وَغَيْرُهُمْ وَالْعِبَارَةُ الثَّانِيَةُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا إِلَّا هُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعَذَابُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَكُونُ مُهِينًا لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ أَهَانَ غَيْرَهُ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا فِيمَا يَعْقِلُ، فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُهِينُ لِلْمُعَذَّبِينَ بِالْعَذَابِ الْكَثِيرِ إِلَّا أَنَّ الْإِهَانَةَ لَمَّا/ حَصَلَتْ مَعَ الْعَذَابِ جَازَ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ وَصْفِهِ، فَإِنْ قِيلَ: الْعَذَابُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الْإِهَانَةِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا الْوَصْفِ؟ قُلْنَا: كَوْنُ الْعَذَابِ مَقْرُونًا بِالْإِهَانَةِ أَمْرٌ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الدَّلِيلِ، فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ لِيَكُونَ دَلِيلًا عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ قَوْمٌ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا عَذَابَ إِلَّا لِلْكَافِرِينَ، ثُمَّ بَعْدَ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: الْخَوَارِجُ قَالُوا: ثَبَتَ بِسَائِرِ الْآيَاتِ أَنَّ الْفَاسِقَ يُعَذَّبُ، وَثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ إِلَّا الْكَافِرُ فَيَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ الْفَاسِقُ كَافِرٌ. وَثَانِيهَا: الْمُرْجِئَةُ قَالُوا: ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ إِلَّا الْكَافِرُ وَثَبَتَ أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ بِكَافِرٍ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ وَفَسَادُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَا يَخْفَى «1» . [سورة البقرة (2) : آية 91] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ أَيْضًا مِنْ قَبَائِحِ أَفْعَالِهِمْ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يَعْنِي به اليهود: آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أَيْ بِكُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَالْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ «مَا» بِمَعْنَى الَّذِي تُفِيدُ الْعُمُومَ، قَالُوا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَلَمَّا آمَنُوا بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ ذَمَّهُمْ عَلَى ذلك ولولا أن لفظة «ما» تفيد

_ (1) وعندنا أن وصف العذاب الواقع بالكافر بأنه مهين يدل على أن العذاب غير المهين ليس للكافرين. ولما كان الأصل في المطيع أنه لا يعذب فحينئذ يكون العذاب غير المهين لصاحب المرتبة الوسطى وهو الفاسق لأن مرتبته دون المطيع وفوق الكافر.

الْعُمُومَ لَمَا حَسُنَ هَذَا الذَّمُّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِذَلِكَ: قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا يَعْنِي بِالتَّوْرَاةِ وَكُتُبِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ أَتَوْا بِتَقْرِيرِ شَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْإِنْجِيلُ والقرآن. وأورده هَذِهِ الْحِكَايَةَ عَنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الذَّمِّ لَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا وَلَهُمْ طَرِيقٌ إِلَى أَنْ يَعْرِفُوا كَوْنَهُ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِلَّا كَانَ ذَلِكَ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ وَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِبَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دُونَ الْبَعْضِ تَنَاقُضٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ فَهُوَ كَالْإِشَارَةِ إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ/ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الْحَقُّ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَتْ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمعجزات التي ظهرت عليه، إنه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ أَمَرَ الْمُكَلَّفِينَ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَكَانَ الْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبًا لَا مَحَالَةَ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْإِيمَانَ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَبَعْضِ الْكُتُبِ مَعَ الْكُفْرِ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَبَعْضِ الْكُتُبِ مُحَالٌ. الثَّانِي: مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لَمْ يَتَعَلَّمْ عِلْمًا وَلَا اسْتَفَادَ مِنْ أُسْتَاذٍ، فَلَمَّا أَتَى بِالْحِكَايَاتِ وَالْقِصَصِ مُوَافِقَةً لِمَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ أَصْلًا عَلِمْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا اسْتَفَادَهَا مِنَ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ. الثَّانِي: أَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِلتَّوْرَاةِ وَجَبَ اشْتِمَالُ التَّوْرَاةِ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ نُبُوَّتِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ مُصَدِّقًا لِلتَّوْرَاةِ بَلْ مُكَذِّبًا لَهَا وَإِذَا كَانَتِ التَّوْرَاةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُمْ قَدِ اعْتَرَفُوا بِوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِالتَّوْرَاةِ لَزِمَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وُجُوبُ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَبِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ دَعْوَاهُمْ كَوْنَهُمْ مُؤْمِنِينَ بِالتَّوْرَاةِ مُتَنَاقِضَةٌ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ صَادِقًا فِي ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ فَإِنَّ قَتْلَهُ كُفْرٌ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ السَّعْيُ فِي قَتْلِ يَحْيَى وَزَكَرِيَّا وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كُفْرًا فَلِمَ سَعَيْتُمْ فِي ذَلِكَ إِنْ صَدَقْتُمْ فِي ادِّعَائِكُمْ كَوْنَكُمْ مُؤْمِنِينَ بِالتَّوْرَاةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُجَادَلَةَ فِي الدِّينِ مِنْ حِرَفِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَنَّ إِيرَادَ الْمُنَاقَضَةِ عَلَى الْخَصْمِ جَائِزٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَلِمَ تَقْتُلُونَ وَإِنْ كَانَ خِطَابَ مُشَافَهَةٍ لَكِنَّ الْمُرَادَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ سَلَفِهِمْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَا كَانُوا مَوْجُودِينَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ مَا أَقْدَمُوا عَلَى ذَلِكَ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ مِنْ قَبْلُ. فَأَمَّا الْمُرَادُ بِهِ الْمَاضِي فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْقَرِينَةَ دَالَّةٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: آمِنُوا خِطَابٌ لهؤلاء الموجودين: وفَلِمَ تَقْتُلُونَ حِكَايَةُ فِعْلِ أَسْلَافِهِمْ فَكَيْفَ وُجِّهَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْنَا مَعْنَاهُ: أَنَّكُمْ بِهَذَا التَّكْذِيبِ خَرَجْتُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَا آمَنْتُمْ كَمَا خَرَجَ أَسْلَافُكُمْ بِقَتْلِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْبَاقِينَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يُقَالُ كَيْفَ جَازَ قَوْلُهُ: لِمَ تَقْتُلُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَنَا أَضْرِبُكَ أَمْسُ؟ وَالْجَوَابُ فِيهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِيمَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ اللَّازِمَةِ كَقَوْلِكَ لِمَنْ تَعْرِفُهُ بِمَا سَلَفَ مِنْ قُبْحِ فعله:

[سورة البقرة (2) : آية 92]

وَيْحَكَ لِمَ تَكْذِبُ؟ كَأَنَّكَ قُلْتَ: لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ شَأْنِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ [الْبَقَرَةِ: 102] وَلَمْ يُقِلْ مَا تَلَتْ لِأَنَّهُ أَرَادَ مِنْ شَأْنِهَا التِّلَاوَةَ. وَالثَّانِي: كَأَنَّهُ قَالَ: لِمَ تَرْضَوْنَ بِقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كنتم آمنتم بالتوراة والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 92] وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) اعْلَمْ أَنَّ تَكْرِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ يُغْنِي عَنْ تَفْسِيرِهَا وَالسَّبَبُ فِي تَكْرِيرِهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى طَرِيقَةَ الْيَهُودِ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَصَفَهُمْ بِالْعِنَادِ وَالتَّكْذِيبِ وَمَثَّلَهُمْ بِسَلَفِهِمْ فِي قَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِي يُنَاسِبُ التَّكْذِيبَ لَهُمْ بَلْ يَزِيدُ عَلَيْهِ، أَعَادَ ذِكْرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَأَنَّهُمْ مَعَ وُضُوحِ ذَلِكَ أَجَازُوا أَنْ يَتَّخِذُوا الْعِجْلَ إِلَهًا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ صَابِرٌ ثَابِتٌ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى رَبِّهِ وَالتَّمَسُّكِ بِدِينِهِ وَشَرْعِهِ فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي حَالِي مَعَكُمْ وَإِنْ بَالَغْتُمْ فِي التَّكْذِيبِ وَالْإِنْكَارِ. [سورة البقرة (2) : آية 93] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) اعْلَمْ أَنَّ فِي الْإِعَادَةِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّكْرَارَ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ لِلتَّأْكِيدِ وَإِيجَابِ الْحُجَّةِ عَلَى الْخَصْمِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ إِنَّمَا ذكر ذلك مع زيادة وهي قولهم: سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ لَجَاجِهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ إِظْلَالَ الْجَبَلِ لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُخَوِّفَاتِ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَصَرَّحُوا بِقَوْلِهِمْ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّخْوِيفَ وَإِنْ عَظُمَ لَا يُوجِبُ الِانْقِيَادَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَكْثَرُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى سَمِعُوهُ فَتَلَقَّوْهُ بِالْعِصْيَانِ فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ وَإِنْ لَمْ يَقُولُوهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [الْبَقَرَةِ: 177] وَكَقَوْلِهِ: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فُصِّلَتْ: 11] وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ صَرْفَ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِغَيْرِ الدَّلِيلِ لَا يَجُوزُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ حُبَّ الْعِجْلِ، وَفِي وَجْهِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ وَجْهَانِ، الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ تَدَاخَلَهُمْ حُبُّهُ وَالْحِرْصُ عَلَى عِبَادَتِهِ كَمَا يَتَدَاخَلُ الصَّبْغُ الثَّوْبَ، وَقَوْلُهُ: فِي قُلُوبِهِمُ بَيَانٌ/ لمكان الإشراف كَقَوْلِهِ: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النِّسَاءِ: 10] . الثَّانِي: كَمَا أَنَّ الشُّرْبَ مَادَّةٌ لِحَيَاةِ مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ فَكَذَا تِلْكَ الْمَحَبَّةُ كَانَتْ مَادَّةً لِجَمِيعِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْأَفْعَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَأُشْرِبُوا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَاعِلًا غَيْرَهُمْ فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ سِوَى اللَّهِ، أَجَابَتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا أَرَادَ اللَّهُ أَنَّ غَيْرَهُمْ فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ لَكِنَّهُمْ لِفَرْطِ وُلُوعِهِمْ

[سورة البقرة (2) : الآيات 94 إلى 95]

وَإِلْفِهِمْ بِعِبَادَتِهِ أَشْرَبُوا قُلُوبَهُمْ حُبَّهُ فَذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ: مُعْجَبٌ بِنَفْسِهِ، الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ أَشْرَبَ أَيْ زَيَّنَهُ عِنْدَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ كَالسَّامِرِيِّ وَإِبْلِيسَ وَشَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. أَجَابَ الْأَصْحَابُ عَنِ الوجهين بأن كلا الوجهين صرف اللفظ عَنْ ظَاهِرِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ إِلَّا لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَلَمَّا أَقَمْنَا الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ الْقَطْعِيَّةَ عَلَى أَنَّ مُحْدِثَ كُلِّ الْأَشْيَاءِ هُوَ اللَّهُ لَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إِلَى تَرْكِ هَذَا الظَّاهِرِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِكُفْرِهِمْ فَالْمُرَادُ بِاعْتِقَادِهِمُ التَّشْبِيهَ عَلَى اللَّهِ وَتَجْوِيزِهِمُ الْعِبَادَةَ لِغَيْرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. أَمَّا قَوْلُهُ: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ بِالتَّوْرَاةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ عِبَادَةُ الْعِجْلِ وَإِضَافَةُ الْأَمْرِ إِلَى إِيمَانِهِمْ تَهَكُّمٌ كَمَا قَالَ فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ [هُودٍ: 87] وَكَذَلِكَ إِضَافَةُ الْإِيمَانِ إِلَيْهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِيمَانُ عَرَضٌ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَكِنَّ الدَّاعِيَ إِلَى الْفِعْلِ قَدْ يُشَبَّهُ بِالْآمِرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [الْعَنْكَبُوتِ: 45] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَالْمُرَادُ التَّشْكِيكُ فِي إِيمَانِهِمْ والقدح في صحة دعواهم. [سورة البقرة (2) : الآيات 94 الى 95] قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ قَبَائِحِهِمْ وَهُوَ ادِّعَاؤُهُمْ أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون النَّاسِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْخَصْمِ إِنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا فَافْعَلْ كَذَا إِلَّا وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُهُ لِيَصِحَّ إِلْزَامُ الثَّانِي عَلَيْهِ «1» . وَثَانِيهَا: مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَةِ: 111] وَفِي قَوْلِهِ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ/ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَةِ: 18] وَفِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَةِ: 80] . وَثَالِثُهَا: اعْتِقَادُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُحِقُّونَ لِأَنَّ النَّسْخَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي شَرْعِهِمْ، وَأَنَّ سَائِرَ الْفِرَقِ مُبْطِلُونَ، وَرَابِعُهَا: اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ انْتِسَابَهُمْ إِلَى أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَعْنِي يَعْقُوبَ وَإِسْحَاقَ وَإِبْرَاهِيمَ يُخَلِّصُهُمْ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُوَصِّلُهُمْ إِلَى ثَوَابِهِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَظَّمُوا شَأْنَ أَنْفُسِهِمْ فَكَانُوا يَفْتَخِرُونَ عَلَى الْعَرَبِ وَرُبَّمَا جَعَلُوهُ كَالْحُجَّةِ فِي أَنَّ النَّبِيَّ الْمُنْتَظَرَ الْمُبَشَّرَ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ مِنْهُمْ لَا مِنَ الْعَرَبِ وَكَانُوا يَصْرِفُونَ النَّاسَ بِسَبَبِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ عَنِ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ احْتَجَّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ وَبَيَانُ هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا قَلِيلَةٌ حَقِيرَةٌ بِالْقِيَاسِ إِلَى نِعَمِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ إِنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا عَلَى قِلَّتِهَا كَانَتْ مُنَغَّصَةً عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ ظُهُورِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُنَازَعَتِهِ مَعَهُمْ بِالْجِدَالِ وَالْقِتَالِ، وَمَنْ كَانَ فِي النِّعَمِ الْقَلِيلَةِ الْمُنَغَّصَةِ، ثُمَّ إِنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى تِلْكَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ رَاغِبًا فِي الْمَوْتِ لِأَنَّ تِلْكَ النِّعَمَ الْعَظِيمَةَ مَطْلُوبَةٌ وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهَا إِلَّا بِالْمَوْتِ وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِنْسَانُ راضياً بالموت متمنياً

_ (1) في الأصل الذي أصحح عليه: (فافعل كذا لا والأول) والتقي على هذا لا معنى له فتعين الاستثناء ليستقيم الكلام. (المصحح) .

لَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَوْ كَانَتْ لَهُمْ خَالِصَةً لَوَجَبَ أَنْ يَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمْ مَا تَمَنَّوُا الْمَوْتَ بَلْ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ قَطْعًا بُطْلَانُ ادِّعَائِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ الدَّارَ الآخرة خالصة لهم من دون الناس. [هاهنا سؤالات] [السؤال الأول] فَإِنْ قِيلَ «1» لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ لَهُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَالِصَةً لَوَجَبَ أَنْ يَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، قَوْلُهُ لَأَنَّ نَعِيمَ الْآخِرَةِ مَطْلُوبٌ وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْمَوْتِ وَالَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا. قُلْنَا: قُلْنَا الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا نَظَرًا إِلَى كَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ إِلَّا أَنَّهُ يَكُونُ مَكْرُوهًا نَظَرًا إِلَى ذَاتِهِ وَالْمَوْتُ مِمَّا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْآلَامِ الْعَظِيمَةِ وَمَا كَانُوا يُطِيقُونَهَا فَلَا جَرَمَ مَا تَمَنَّوُا الْمَوْتَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَقْلِبُوا هَذَا السُّؤَالَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُوا: إِنَّكَ تَدَّعِي أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ خَالِصَةٌ لَكَ وَلِأُمَّتِكَ دُونَ مَنْ يُنَازِعُكَ فِي الْأَمْرِ فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَارْضَ بِأَنْ نَقْتُلَكَ وَنَقْتُلَ أُمَّتَكَ، فَإِنَّا نَرَاكَ وَنَرَى أُمَّتَكَ فِي الضُّرِّ الشَّدِيدِ وَالْبَلَاءِ الْعَظِيمِ بِسَبَبِ الْجِدَالِ وَالْقِتَالِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّكُمْ تَتَخَلَّصُونَ إِلَى نَعِيمِ الْجَنَّةِ فَوَجَبَ أَنْ تَرْضَوْا بِقَتْلِكُمْ! السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لَعَلَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَالِصَةٌ لِمَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِمْ لَكِنْ بِشَرْطِ الِاحْتِرَازِ عَنِ الْكَبَائِرِ، فَأَمَّا صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ فَإِنَّهُ يَبْقَى مُخَلَّدًا فِي النَّارِ أَبَدًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا وَعِيدِيَّةً أَوْ لِأَنَّهُمْ جَوَّزُوا فِي صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ أَنَّ يَصِيرَ مُعَذَّبًا فَلِأَجْلِ هَذَا مَا تَمَنَّوُا الْمَوْتَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْفَعَ هَذَا السُّؤَالَ بِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّهُ لَا تَمَسُّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْقِيَامَةِ/ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَيَّامُ وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً بِحَسَبِ الْعَدَدِ لَكِنَّهَا طَوِيلَةً بِحَسَبِ الْمُدَّةِ فَلَا جَرَمَ مَا تَمَنَّوُا الْمَوْتَ بِسَبَبِ هَذَا الْخَوْفِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ فَقَالَ: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ وَلَكِنْ لِيَقُلِ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي إِنْ كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إِنْ كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» وَأَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها [الشُّورَى: 18] فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَنِ الِاسْتِعْجَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَتَحَدَّى الْقَوْمَ بِذَلِكَ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: أَنَّ لَفْظَ التَّمَنِّي مُشْتَرِكٌ بَيْنَ التَّمَنِّي الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالْقَلْبِ وَبَيْنَ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى وَهُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ: لَيْتَنِي مِتُّ، لِلْيَهُودِ أَنْ يَقُولُوا إِنَّكَ طَلَبْتَ مِنَّا التَّمَنِّي وَالتَّمَنِّي لَفْظٌ مُشْتَرِكٌ، فَإِنْ ذَكَرْنَاهُ بِاللِّسَانِ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: مَا أَرَدْتُ بِهِ هَذَا اللَّفْظَ، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَإِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالْقَلْبِ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: كَذَبْتُمْ مَا أَتَيْتُمْ بِذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَلَمَّا عَلِمَ الْيَهُودُ أَنَّهُ أَتَى بِلَفْظَةٍ مُشْتَرَكَةٍ لَا يُمْكِنُ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا لَا جَرَمَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ. السُّؤَالُ السَّادِسُ: هَبْ أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَوْ كَانَتْ لَهُمْ لَوَجَبَ أَنْ يَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُمْ مَا تَمَنَّوُا الْمَوْتَ وَالِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ضَعِيفٌ لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ ثَبَتَ كَوْنُ الْقُرْآنِ حَقًّا، وَالنِّزَاعُ لَيْسَ إِلَّا فِيهِ. الجواب: قوله أولًاكون الْمَوْتِ مُتَضَمِّنًا لِلْأَلَمِ يَكُونُ كَالصَّارِفِ عَنْ تَمَنِّيهِ، قلنا كما

_ (1) هذا في قوله تعالى: (السؤال الأول) لأنه ذكر بعده السؤال الثاني، لكنه ذكر الرد على هذا السؤال ولم يرد على غيره كما ترى.

أَنَّ الْأَلَمَ الْحَاصِلَ عِنْدَ الْحِجَامَةِ لَا يَصْرِفُ عَنِ الْحِجَامَةِ لِلْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْحَاصِلَةَ بِسَبَبِ الْحِجَامَةِ عَظِيمَةٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ هاهنا كَذَلِكَ. قَوْلُهُ ثَانِيًا: إِنَّهُمْ لَوْ قَلَبُوا الْكَلَامَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَزِمَهُ أَنْ يَرْضَى بِالْقَتْلِ، قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيْنَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ يَقُولُ إِنِّي بُعِثْتُ لِتَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ إِلَى أَهْلِ التَّوَاتُرِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَمْ يَحْصُلْ بَعْدُ فَلِأَجْلِ هَذَا لَا أَرْضَى بِالْقَتْلِ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَسْتُمْ كَذَلِكَ فَظَهَرَ الْفَرْقُ، قَوْلُهُ ثَالِثًا: كَانُوا خَائِفِينَ مِنْ عِقَابِ الْكَبَائِرِ، قُلْنَا: الْقَوْمُ ادَّعَوْا كَوْنَ الْآخِرَةِ خَالِصَةً لَهُمْ وَذَلِكَ يُؤَمِّنُهُمْ مِنَ امْتِزَاجِ ثَوَابِهَا بِالْعِقَابِ قَوْلُهُ رَابِعًا: نُهِيَ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ قُلْنَا هَذَا النَّهْيُ طَرِيقَةُ الشَّرْعِ فَيَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ الْحَالُ فِيهِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فِي غِلَالَةٍ فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا هَذَا بِزِيِّ الْمُحَارِبِينَ فَقَالَ يَا بُنَيَّ لَا يُبَالِي أَبُوكَ أَعَلَى الْمَوْتِ سَقَطَ أَمْ عَلَيْهِ يَسْقُطُ الْمَوْتُ، وَقَالَ عَمَّارٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِصِفِّينَ: الْآنَ أُلَاقِي الْأَحِبَّهْ «1» ... مُحَمَّدًا وَحِزْبَهْ وَقَدْ ظَهَرَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ تَمَنِّي الْمَوْتِ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِسَبَبٍ مَخْصُوصٍ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَرَّمَ أَنْ يَتَمَنَّى الْإِنْسَانُ الْمَوْتَ عِنْدَ الشَّدَائِدِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَالْجَزَعِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الرِّضَاءِ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ، فَأَيْنَ هَذَا مِنَ التَّمَنِّي الَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ. قَوْلُهُ خَامِسًا: إِنَّهُمْ مَا عَرَفُوا أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ التَّمَنِّي بِاللِّسَانِ أَوْ بِالْقَلْبِ، قُلْنَا: التَّمَنِّي فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا/ مَا يَظْهَرُ [مِنْهُ] كَمَا أَنَّ الْخَبَرَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مَا يَظْهَرُ بِالْقَوْلِ وَالَّذِي فِي الْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ، وَأَيْضًا فَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُمْ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ وَيُرِيدُ بِذَلِكَ مَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ الْغَرَضَ بِذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِظُهُورِهِ، قَوْلُهُ سَادِسًا: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَا وُجِدَ التَّمَنِّي، قُلْنَا مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ ذَلِكَ لَنُقِلَ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا لِأَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ فَإِنَّ بِتَقْدِيرِ عَدَمِهِ يَثْبُتُ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِتَقْدِيرِ حُصُولِ هَذَا التَّمَنِّي يَبْطُلُ الْقَوْلُ بِنُبُوَّتِهِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مِنَ الْوَقَائِعِ الْعَظِيمَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُنْقَلَ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، وَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ تَقَدُّمِهِ فِي الرَّأْيِ وَالْحَزْمِ وَحُسْنِ النَّظَرِ فِي الْعَاقِبَةِ وَالْوُصُولِ إِلَى الْمَنْصِبِ الَّذِي وَصَلَ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ وَالْوُصُولِ إِلَى الرِّيَاسَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي انْقَادَ لَهَا الْمُخَالِفُ قَهْرًا وَالْمُوَافِقُ طَوْعًا لَا يَجُوزُ وَهُوَ غَيْرُ وَاثِقٍ مِنْ جِهَةِ رَبِّهِ بِالْوَحْيِ النَّازِلِ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَدَّاهُمْ بِأَمْرٍ لَا يَأْمَنُ عَاقِبَةَ الْحَالِ فِيهِ وَلَا يَأْمَنُ مِنْ خَصْمِهِ أَنْ يَقْهَرَهُ بِالدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ لِأَنَّ الْعَاقِلَ الَّذِي لَمْ يُجَرِّبِ الْأُمُورَ لَا يَكَادُ يَرْضَى بِذَلِكَ فَكَيْفَ الْحَالُ فِي أَعْقَلِ الْعُقَلَاءِ فَيَثْبُتُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا أَقْدَمَ عَلَى تَحْرِيرِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ إِلَّا وَقَدْ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ بِأَنَّهُمْ لَا يَتَمَنَّوْنَهُ. وَثَالِثُهَا: مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «لَوْ أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ لَرَجَعُوا لَا يَجِدُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا» ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَشَرِقُوا بِهِ وَلَمَاتُوا، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي أَنَّهُمْ مَا تَمَنَّوْا بَلَغَتْ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ فَحَصَلَتِ الْحُجَّةُ، فَهَذَا آخِرُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ فَالْمُرَادُ الْجَنَّةُ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ دَارِ الْآخِرَةِ دُونَ النَّارِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ لهم الجنة.

_ (1) الذي أحفظه وعليه يستقيم الوزن: اليوم- أو الآن- ألقى الأحبة.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: عِنْدَ اللَّهِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَكَانَ بَلِ الْمَنْزِلَةُ وَلَا بُعْدَ أَيْضًا فِي حَمْلِهِ عَلَى الْمَكَانِ فَلَعَلَّ الْيَهُودَ كَانُوا مُشَبِّهَةً فَاعْتَقَدُوا الْعِنْدِيَّةَ الْمَكَانِيَّةَ فَأَبْطَلَ اللَّهُ كُلَّ ذَلِكَ بِالدَّلَالَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: خالِصَةً فَنُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الدَّارِ الْآخِرَةِ، أَيْ سَالِمَةً لَكُمْ خَاصَّةً بِكُمْ لَيْسَ لِأَحَدٍ سِوَاكُمْ فِيهَا حَقٌّ، يَعْنِي إِنْ صَحَّ قَوْلُكُمْ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى وَ (النَّاسِ) لِلْجِنْسِ، وَقِيلَ: لِلْعَهْدِ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَالْجِنْسُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ إِلَّا مَنْ كَانَ هوداً أو نصارى ولأنه لم يوجد هاهنا مَعْهُودٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ دُونِ النَّاسِ فَالْمُرَادُ بِهِ سِوَى لَا مَعْنَى الْمَكَانِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِمَنْ وُهِبَ مِنْهُ مُلْكًا: هَذَا لَكَ مِنْ دُونِ النَّاسِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا أَمْرٌ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ مَفْقُودٍ وَهُوَ كَوْنُهُمْ صَادِقِينَ فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ مَوْجُودًا وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّحَدِّي وَإِظْهَارُ كَذِبِهِمْ فِي دَعْوَاهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذَا التَّمَنِّي قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهُمْ يَتَحَدَّوْا بِأَنْ يَدْعُوَ/ الْفَرِيقَانِ بِالْمَوْتِ عَلَى أَيِّ فَرِيقٍ كَانَ أَكْذَبَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولُوا لَيْتَنَا نَمُوتُ وَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى مُوَافَقَةِ اللَّفْظِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ فَخَبَرٌ قَاطِعٌ عَنْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ لِأَنَّ مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُهُولَةِ الْإِتْيَانِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، أَخْبَرَ بِأَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ بِذَلِكَ فَهَذَا إِخْبَارٌ جَازِمٌ عَنْ أَمْرٍ قَامَتِ الْأَمَارَاتُ عَلَى ضِدِّهِ فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْوَحْيِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَبَداً فَهُوَ غَيْبٌ آخَرُ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَزْمِنَةِ الْآتِيَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ عَدَمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُمُومِ الْأَوْقَاتِ فَهُمَا غَيَبَانِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَبَيَانٌ لِلْعِلَّةِ الَّتِي لَهَا لَا يَتَمَنَّوْنَ [الْمَوْتَ] لِأَنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا سُوءَ طَرِيقَتِهِمْ وَكَثْرَةَ ذُنُوبِهِمْ دَعَاهُمْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ لَا يَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فَهُوَ كَالزَّجْرِ وَالتَّهْدِيدِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالسِّرِّ وَالنَّجْوَى وَلَمْ يُمْكِنْ إِخْفَاءُ شَيْءٍ عَنْهُ صَارَ تَصَوُّرُ الْمُكَلَّفِ لِذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الصَّوَارِفِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الظَّالِمِينَ لِأَنَّ كُلَّ كَافِرٍ ظَالِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ ظَالِمٍ كَافِرًا فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ أَعَمَّ كَانَ أَوْلَى بِالذِّكْرِ فَإِنْ قِيلَ: إنه تعالى قال هاهنا: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً وَقَالَ فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً فلم ذكر هاهنا (لَنْ) وَفِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ «لَا» قُلْنَا: إِنَّهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، ادَّعَوْا أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ خَالِصَةٌ لَهُمْ مَنْ دُونِ النَّاسِ وَادَّعَوْا فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ وَالدَّعْوَى الْأُولَى أَعْظَمُ مِنَ الثَّانِيَةِ إِذِ السَّعَادَةُ الْقُصْوَى هِيَ الْحُصُولُ فِي دَارِ الثَّوَابِ، وَأَمَّا مَرْتَبَةُ الْوَلَايَةِ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ شَرِيفَةً إِلَّا أَنَّهَا إِنَّمَا تُرَادُ لِيُتَوَسَّلَ بِهَا إِلَى الْجَنَّةِ فَلَمَّا كَانَتِ الدَّعْوَةُ الْأَوْلَى أَعْظَمَ لَا جَرَمَ بَيَّنَ تَعَالَى فَسَادَ قَوْلِهِمْ بِلَفْظِ: «لَنْ» لِأَنَّهُ أَقْوَى الْأَلْفَاظِ النَّافِيَةِ وَلَمَّا كَانَتِ الدَّعْوَى الثَّانِيَةُ لَيْسَتْ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ لَا جَرَمَ اكْتَفَى فِي إِبْطَالِهَا بِلَفْظِ «لَا» لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي نِهَايَةِ الْقُوَّةِ فِي إِفَادَةِ مَعْنَى النَّفْيِ وَاللَّهُ أعلم.

[سورة البقرة (2) : آية 96]

[سورة البقرة (2) : آية 96] وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) [في هذه الآية مسألتان] [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُمْ لَا يَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ في غاية الحرص على الحياة لأن هاهنا قِسْمًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ بِحَيْثُ لَا يَتَمَنَّى الْمَوْتَ وَلَا يَتَمَنَّى الْحَيَاةَ فَقَالَ: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ. / أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ فَهُوَ مِنْ وَجَدَ بِمَعْنَى عَلِمَ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْمَفْعُولَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَجَدْتُ زَيْدًا ذَا حِفَاظٍ، وَمَفْعُولَاهُ «هُمْ» وَ «أَحْرَصَ» وَإِنَّمَا قَالَ: عَلى حَياةٍ بِالتَّنْكِيرِ لِأَنَّهُ حَيَاةٌ مَخْصُوصَةٌ وَهِيَ الْحَيَاةُ الْمُتَطَاوِلَةُ وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ بِهَا أَوْقَعَ مِنْ قِرَاءَةِ أُبَيٍّ «عَلَى الْحَيَاةِ» أَمَّا الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا فَفِيهِ [ثلاثة أقول] : أَحَدُهَا: أَنَّهَا وَاوُ عَطْفٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْيَهُودَ أَحْرَصُ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَأَحْرَصُ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا كَقَوْلِكَ: هُوَ أَسْخَى النَّاسِ وَمِنْ حَاتِمٍ. هَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالْأَصَمِّ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَمْ يَدْخُلِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا تَحْتَ النَّاسِ؟ قُلْنَا: بَلَى وَلَكِنَّهُمْ أُفْرِدُوا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ حِرْصَهُمْ شَدِيدٌ وَفِيهِ تَوْبِيخٌ عَظِيمٌ لِأَنَّ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْمَعَادِ وَمَا يَعْرِفُونَ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَحِرْصُهُمْ عَلَيْهَا لَا يُسْتَبْعَدُ لِأَنَّهَا جَنَّتُهُمْ فَإِذَا زَادَ عَلَيْهِمْ فِي الْحِرْصِ مَنْ لَهُ كِتَابٌ وَهُوَ مقر بالجزاء كان حقيقياً بِأَعْظَمِ التَّوْبِيخِ، فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ زَادَ حِرْصُهُمْ عَلَى حِرْصِ الْمُشْرِكِينَ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى النَّارِ لَا مَحَالَةَ وَالْمُشْرِكُونَ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْوَاوَ وَاوُ اسْتِئْنَافٍ وَقَدْ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: «عَلَى حَيَاةٍ» [وَ] تَقْدِيرُهُ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أُنَاسٌ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ عَلَى حَذْفِ الْمَوْصُوفِ كَقَوْلِهِ: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصَّافَّاتِ: 164] . الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ فِيهِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَتَقْدِيرُهُ. وَلَتَجِدَنَّهُمْ وَطَائِفَةً مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ، ثُمَّ فَسَّرَ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ بِقَوْلِهِ: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْقِصَّةُ فِي شَأْنِ الْيَهُودِ خَاصَّةً فَالْأَلْيَقُ بِالظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَلَتَجِدَنَّ الْيَهُودَ أَحْرَصَ عَلَى الْحَيَاةِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي إِبْطَالِ دَعْوَاهُمْ وَفِي إِظْهَارِ كَذِبِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ. إِنَّ الدار الآخرة لنا لِغَيْرِنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ قِيلَ الْمَجُوسُ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِمَلِكِهِمْ: عِشْ أَلْفَ نَيْرُوزَ وَأَلْفَ مِهْرَجَانٍ، وَعَنِ ابن عباس هو قول الأعاجم: زي هزار سال، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَقِيلَ: كُلُّ مُشْرِكٍ لَا يُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ حِرْصَ هَؤُلَاءِ عَلَى الدُّنْيَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِ أَلْفِ سَنَةٍ قَوْلَ الْأَعَاجِمِ عِشْ أَلْفَ سَنَةٍ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ التَّكْثِيرُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بُعْدَهُمْ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ هَذَا الْبَقَاءَ وَيَحْرِصُونَ عَلَيْهِ هَذَا الْحِرْصَ الشَّدِيدَ، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ تَمَنِّي الْمَوْتِ؟

[سورة البقرة (2) : الآيات 97 إلى 98]

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: في أن قوله: وَما هُوَ كناية عما ذا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ «أَحَدِهِمْ» الَّذِي جَرَى ذِكْرُهُ أَيْ وَمَا أَحَدُهُمْ بِمَنْ يُزَحْزِحُهُ مِنَ النَّارِ تَعْمِيرُهُ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ ضَمِيرٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ «يُعَمَّرُ» مِنْ مَصْدَرِهِ وَ (أَنْ يُعَمَّرَ) بَدَلٌ مِنْهُ، وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مُبْهَمًا وَ (أَنْ يُعَمَّرَ) مُوَضِّحُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الزَّحْزَحَةُ التَّبْعِيدُ وَالْإِنْحَاءُ، قَالَ الْقَاضِي: وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي إِزَالَةِ الْعَذَابِ أَقَلَّ تَأْثِيرٍ وَلَوْ قَالَ تَعَالَى: وَمَا هُوَ بِمُبْعِدِهِ وَبِمُنْجِيهِ لَمْ يَدُلَّ عَلَى قِلَّةِ التَّأْثِيرِ كَدَلَالَةِ هَذَا الْقَوْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْبَصَرَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ، يُقَالُ: إِنَّ لِفُلَانٍ بَصَرًا بِهَذَا الْأَمْرِ، أَيْ مَعْرِفَةً، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ عَلَى صِفَةٍ لَوْ وُجِدَتِ الْمُبْصَرَاتُ لَأَبْصَرَهَا وَكِلَا الْوَصْفَيْنِ يَصِحَّانِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا أَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ فِي الْأَعْمَالِ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُرَى حُمِلَ هَذَا الْبَصَرُ عَلَى الْعِلْمِ لا محالة والله أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 98] قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ أَيْضًا مِنْ أَنْوَاعِ قَبَائِحِ الْيَهُودِ وَمُنْكَرَاتِ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ لَا بُدَّ لَهُ مَنْ سَبَبٍ وَأَمْرٍ قَدْ ظَهَرَ مِنَ اليهود حتى يأمره تعالى بِأَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْمُحَاجَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا أُمُورًا، أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَّا فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ نَومُكَ، فَقَدْ أُخْبِرْنَا عَنْ نَوْمِ النَّبِيِّ الَّذِي يَجِيءُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي» قَالَ: صَدَقْتَ يَا مُحَمَّدُ، فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْوَلَدِ أَمِنَ الرَّجُلِ يَكُونُ أَمْ مِنَ الْمَرْأَةِ؟ فَقَالَ: أَمَّا الْعِظَامُ وَالْعَصَبُ وَالْعُرُوقُ فَمِنَ الرَّجُلِ، وَأَمَّا اللَّحْمُ وَالدَّمُ وَالظُّفْرُ وَالشَّعْرُ، فَمِنَ الْمَرْأَةِ فَقَالَ صَدَقْتَ. فَمَا بَالُ الرَّجُلِ يُشْبِهُ أَعْمَامَهُ دُونَ أَخْوَالِهِ أَوْ يُشْبِهُ أَخْوَالَهُ دُونَ أَعْمَامِهِ؟ فَقَالَ: أَيُّهُمَا غَلَبَ مَاؤُهُ مَاءَ صَاحِبِهِ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ، قَالَ: صَدَقْتَ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي أَيُّ الطَّعَامِ حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ يُخْبِرُ عَنْهُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أُنْشِدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا فَطَالَ سُقْمُهُ فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْرًا لَئِنْ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ سُقْمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ عَلَى نَفْسِهِ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَهُوَ لُحْمَانُ الْإِبِلِ وَأَلْبَانُهَا؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ: بَقِيَتْ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ إِنْ قُلْتَهَا آمَنْتُ بِكَ، أَيُّ مَلَكٍ يَأْتِيكَ بِمَا تَقُولُ عَنِ اللَّهِ؟ قَالَ جِبْرِيلُ: قَالَ إِنَّ ذَلِكَ عَدُوُّنَا يَنْزِلُ بِالْقِتَالِ وَالشِّدَّةِ، وَرَسُولُنَا مِيكَائِيلُ يَأْتِي بِالْبِشْرِ وَالرَّخَاءِ فَلَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَأْتِيكَ آمَنَّا بِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: وَمَا مَبْدَأُ هَذِهِ الْعَدَاوَةِ؟ فَقَالَ ابْنُ صُورِيًّا/ مَبْدَأُ هَذِهِ الْعَدَاوَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّنَا أَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَيُخَرَّبُ فِي زَمَانِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: بُخْتُنَصَّرُ وَوَصَفَهُ لَنَا فَطَلَبْنَاهُ فَلَمَّا وَجَدْنَاهُ بَعَثْنَا لِقَتْلِهِ رِجَالًا فَدَفَعَ عَنْهُ جِبْرِيلُ وَقَالَ: إِنْ سَلَّطَكُمُ اللَّهُ عَلَى قَتْلِهِ فَهَذَا لَيْسَ هُوَ ذَاكَ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَيُخَرِّبُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي قَتْلِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ كَبُرَ وَقَوِيَ وَمَلَكَ وَغَزَانَا وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَقَتَلَنَا، فَلِذَلِكَ نَتَّخِذُهُ عَدُوًّا، وَأَمَّا مِيكَائِيلُ فَإِنَّهُ

عَدُوُّ جِبْرِيلَ فَقَالَ عُمَرُ، فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَهُوَ عَدُوٌّ لِمِيكَائِيلَ وَهُمَا عَدُوَّانِ لِمَنْ عَادَاهُمَا فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى عُمَرَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ. وَثَانِيهَا: رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لِعُمَرَ أَرْضٌ بِأَعْلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ مَمَرُّهُ عَلَى مِدْرَاسِ الْيَهُودِ وَكَانَ يَجْلِسُ إِلَيْهِمْ وَيَسْمَعُ كَلَامَهُمْ فَقَالُوا: يَا عُمَرُ قَدْ أَحْبَبْنَاكَ وَإِنَّا لَنَطْمَعُ فِيكَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَجِيئُكُمْ لِحُبِّكُمْ وَلَا أَسْأَلُكُمْ لِأَنِّي شَاكٌّ فِي دِينِي وَإِنَّمَا أَدْخُلُ عَلَيْكُمْ لِأَزْدَادَ بَصِيرَةً فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَى آثَارَهُ فِي كِتَابِكُمْ، ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَنْ جِبْرِيلَ فَقَالُوا: ذَاكَ عَدُوُّنَا يُطْلِعُ مُحَمَّدًا عَلَى أَسْرَارِنَا وَهُوَ صَاحِبُ كَلِّ خَسْفٍ وَعَذَابٍ، وَإِنَّ مِيكَائِيلَ يَجِيءُ بِالْخِصْبِ وَالسَّلْمِ فَقَالَ لَهُمْ: وَمَا مَنْزِلَتُهُمَا مِنَ اللَّهِ؟ قَالُوا: أَقْرَبُ مَنْزِلَةً، جِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِهِ وَمِيكَائِيلُ عَنْ يَسَارِهِ وَمِيكَائِيلُ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَقَالَ عُمَرُ: لَئِنْ كَانَ كَمَا تَقُولُونَ فَمَا هُمَا بِعَدُوَّيْنِ وَلَأَنْتُمْ أَكْفَرُ مِنَ الْحَمِيرِ، وَمَنْ كَانَ عَدُوٌّ لِأَحَدِهِمَا كَانَ عَدُوًّا لِلْآخَرِ وَمَنْ كَانَ عَدُوًّا لَهُمَا كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ، ثُمَّ رَجَعَ عُمَرُ فَوَجَدَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ سَبَقَهُ بِالْوَحْيِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ وَافَقَكَ رَبُّكَ يَا عُمَرُ» قَالَ عمر: لقد رأيتني في دين بَعْدَ ذَلِكَ أَصْلَبَ مِنَ الْحَجَرِ، وَثَالِثُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ زَعَمَتِ الْيَهُودُ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَدُوُّنَا، أُمِرَ أَنْ يَجْعَلَ النُّبُوَّةَ فِينَا فَجَعَلَهَا فِي غَيْرِنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَقْرَبَ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ عَدَاوَتِهِمْ لَهُ أَنَّهُ كَانَ يُنَزِّلُ الْقُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ، فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ هَذَا التَّنْزِيلَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْعَدَاوَةِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنَّ يَكُونَ سَبَبًا لِلْعَدَاوَةِ وَتَقْرِيرُ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ، أَوَّلُهَا: أَنَّ الَّذِي نَزَّلَهُ جِبْرِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ بِشَارَةُ الْمُطِيعِينَ بِالثَّوَابِ وإنذار العصاة بالعقاب والأمر بالمحاربة والمقاتلة لما لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ بَلْ بِأَمْرِ اللَّهِ الَّذِي يَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ لَا مَحِيصَ عَنْ أَمْرِهِ وَلَا سَبِيلَ إِلَى مُخَالَفَتِهِ فَعَدَاوَةُ مَنْ هَذَا سَبِيلُهُ تُوجِبُ عَدَاوَةَ اللَّهِ وَعَدَاوَةُ اللَّهِ كُفْرٌ، فَيَلْزَمُ أَنَّ عَدَاوَةَ مَنْ هَذَا سَبِيلُهُ كُفْرٌ، وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ أَمَرَ مِيكَائِيلَ بِإِنْزَالِ مِثْلِ هَذَا الْكِتَابِ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ يَتَمَرَّدُ أَوْ يَأْبَى عَنْ قَبُولِ أَمْرِ اللَّهِ وَذَلِكَ غَيْرُ لَائِقٍ بِالْمَلَائِكَةِ الْمَعْصُومِينَ أَوْ كَانَ يَقْبَلُهُ وَيَأْتِي بِهِ عَلَى وَفْقِ أَمْرِ اللَّهِ فَحِينَئِذٍ يَتَوَجَّهُ عَلَى مِيكَائِيلَ مَا ذَكَرُوهُ عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَمَا الْوَجْهُ فِي تَخْصِيصِ جِبْرِيلَ بِالْعَدَاوَةِ؟ وَثَالِثُهَا: أَنَّ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا شَقَّ عَلَى الْيَهُودِ فَإِنْزَالُ التَّوْرَاةِ عَلَى مُوسَى شَقَّ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ، فَإِنِ اقْتَضَتْ نَفْرَةُ بَعْضِ النَّاسِ لِإِنْزَالِ القرآن قبحه فلتقتض نقرة أُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِينَ إِنْزَالَ التَّوْرَاةِ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قُبْحَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ فَسَادُ مَا قَالُوهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنِ اسْتَبْعَدَ أَنْ يَقُولَ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ: إِنَّ جِبْرِيلَ عَدُوُّهُمْ قَالُوا: لِأَنَّا نَرَى الْيَهُودَ فِي زَمَانِنَا هَذَا مُطْبِقِينَ عَلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ مُصِرِّينَ عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنْ سَلَفِهِمْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ حِكَايَةَ اللَّهِ أَصْدَقُ، وَلِأَنَّ جَهْلَهُمْ كَانَ شَدِيدًا وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا، اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الْأَعْرَافِ: 138] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: «جَبْرِيلَ» بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ مَهْمُوزًا وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ غَيْرَ مَهْمُوزٍ بِوَزْنِ قِنْدِيلٍ وَفِيهِ سَبْعُ لُغَاتٍ ثَلَاثٌ منها ذكرناها، وجبرائيل على وزن جبراعل وجرائيل عَلَى وَزْنِ جِبْرَاعِيلَ وَجِبْرَايِلُ عَلَى وَزْنِ جِبْرَاعِلَ وَجِبْرِينَ بِالنُّونِ وَمُنِعَ الصَّرْفُ لِلتَّعْرِيفِ وَالْعُجْمَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: جِبْرِيلُ مَعْنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ، فَ «جَبَرَ» عَبَدَ وَ «إِيلُ» اللَّهُ: وُمِيكَائِيلُ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ

قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ: أَبُو عَلِيٍّ السُّوسِيُّ: هَذَا لَا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ «إِيلُ» وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ آخِرُ الِاسْمِ مَجْرُورًا «1» . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «فَإِنَّهُ» وَفِي قَوْلِهِ: «نَزَّلَهُ» إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ الْجَوَابُ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْهَاءَ الْأُولَى تَعُودُ عَلَى جِبْرِيلَ وَالثَّانِيَةَ: عَلَى الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ لِأَنَّهُ كَالْمَعْلُومِ كَقَوْلِهِ: مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فَاطِرٍ: 45] يَعْنِي عَلَى الْأَرْضِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. أَيْ إِنْ كَانَتْ عَدَاوَتُهُمْ لِأَنَّ جِبْرِيلَ يُنَزِّلُ الْقُرْآنَ فَإِنَّمَا يُنَزِّلُهُ بِإِذْنِ اللَّهِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِضْمَارُ مَا لَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُهُ فِيهِ فَخَامَةٌ لِشَأْنِ صَاحِبِهِ حَيْثُ يُجْعَلُ لِفَرْطِ شُهْرَتِهِ كَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ وَيَكْتَفِي عَنِ اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته، وثانيها: الْمَعْنَى فَإِنَّ اللَّهَ نَزَّلَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا أَنَّهُ نَزَّلَ نَفْسَهُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: الْقُرْآنُ: إِنَّمَا نَزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا السَّبَبُ فِي قَوْلِهِ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ؟ الْجَوَابُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ذَكَرْنَاهَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: 193] وَأَكْثَرُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ لَا عَلَى قَلْبِهِ إِلَّا أَنَّهُ خَصَّ الْقَلْبَ بِالذِّكْرِ لِأَجْلِ أَنَّ الَّذِي نَزَلَ بِهِ ثَبَتَ فِي قَلْبِهِ حِفْظًا حَتَّى أَدَّاهُ إِلَى أُمَّتِهِ، فَلَمَّا كَانَ سَبَبُ تَمَكُّنِهِ مِنَ الْأَدَاءِ ثَبَاتَهُ فِي قَلْبِهِ حِفْظًا جَازَ أَنْ يُقَالَ: نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ نَزَّلَهُ عَلَيْهِ لَا عَلَى قَلْبِهِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَانَ حَقُّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ عَلَى قَلْبِي، وَالْجَوَابُ: جَاءَتْ عَلَى حِكَايَةِ كَلَامِ اللَّهِ كَمَا تَكَلَّمَ بِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: قُلْ مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ مِنْ قَوْلِي، مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: كَيْفَ اسْتَقَامَ قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ جَزَاءً لِلشَّرْطِ؟ وَالْجَوَابُ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْعَدَاوَةَ فَاسِدَةٌ لِأَنَّهُ مَا أَتَى إِلَّا أَنَّهُ أُمِرَ بِإِنْزَالِ كِتَابٍ فِيهِ الْهِدَايَةُ وَالْبِشَارَةُ فَأَنْزَلَهُ، فَهُوَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَأْمُورٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَتَى/ بِالْهِدَايَةِ وَالْبِشَارَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَشْكُورًا فَكَيْفَ تَلِيقُ بِهِ الْعَدَاوَةُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْيَهُودَ إِنْ كَانُوا يُعَادُونَهُ فَيَحِقُّ لَهُمْ ذَاكَ، لِأَنَّهُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بُرْهَانًا عَلَى نُبُوَّتِكَ، وَمِصْدَاقًا لِصِدْقِكَ وَهُمْ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ فَكَيْفَ لَا يُبْغِضُونَ مَنْ أَكَّدَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرَ الَّذِي يَكْرَهُونَهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِإِذْنِ اللَّهِ فَالْأَظْهَرُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهِ بِالْعِلْمِ لِوُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: أَنَّ الْإِذْنَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَمْرِ مَجَازٌ فِي الْعِلْمِ وَاللَّفْظُ وَاجِبُ الْحَمْلِ عَلَى حَقِيقَتِهِ مَا أَمْكَنَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ إِنْزَالَهُ كَانَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَالْوُجُوبُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَمْرِ لَا مِنَ الْعِلْمِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْزَالَ إِذَا كَانَ عَنْ أَمْرٍ لَازِمٍ كَانَ أَوْكَدَ فِي الْحُجَّةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ مَا قَبْلَهُ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا مَعْنَى لتخصيص كتاب دون كِتَابٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّهُ بِالتَّوْرَاةِ وَزَعَمَ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ يُوَافِقُ التَّوْرَاةَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ شَرَائِعَ الْقُرْآنِ مُخَالِفَةٌ لِشَرَائِعِ سَائِرِ الْكُتُبِ، فَلِمَ صَارَ بِأَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا لَهَا لِكَوْنِهَا مُتَوَافِقَةً فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَنُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ غير مصدق لها؟

_ (1) كلام السوسي إنما يتأتى لو كان: «جبر» و «إيل» عربيتين ولكنهما عبرانيتان. والاضافة في اللغة العبرانية لا توجب كسر الاسم باعتباره مضافاً إليه.

قُلْنَا: الشَّرَائِعُ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا سَائِرُ الْكُتُبِ كَانَتْ مُقَدَّرَةً بِتِلْكَ الْأَوْقَاتِ وَمُنْتَهِيَةً فِي هَذَا الْوَقْتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّسْخَ بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْعِبَادَةِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْكُتُبِ اخْتِلَافٌ فِي الشَّرَائِعِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُدىً فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: بَيَانُ مَا وَقَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ هُدًى. وَثَانِيهِمَا: بَيَانُ أَنَّ الْآتِيَ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ كَيْفَ يَكُونُ ثَوَابُهُ وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بُشْرَى، وَلَمَّا كَانَ الْأَوَّلُ مُقَدَّمًا عَلَى الثَّانِي فِي الْوُجُودِ لَا جَرَمَ قَدَّمَ اللَّهُ لَفْظَ الْهُدَى عَلَى لَفْظِ الْبُشْرَى، فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ خَصَّ كَوْنَهُ هُدًى وَبُشْرَى بِالْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّهُ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُلِّ؟ الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَصَّهُمْ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بالكتاب فهو كقوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَكُونُ بُشْرَى إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبُشْرَى عِبَارَةٌ عَنِ الْخَبَرِ الدَّالِّ عَلَى حُصُولِ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ وَهَذَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَلِهَذَا خَصَّهُمُ اللَّهُ بِهِ. أَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ لِأَجْلِ أَنَّهُ نَزَّلَ الْقُرْآنَ عَلَى قَلْبِ مُحَمَّدٍ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدُوًّا لِلَّهِ تَعَالَى، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ كَانَ عَدُوًّا لَهُ، فَبَيَّنَ أَنَّ فِي مُقَابَلَةِ عَدَاوَتِهِمْ مَا يُعَظِّمُ ضَرَرَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ عَدَاوَةُ اللَّهِ لَهُمْ، لِأَنَّ عَدَاوَتَهُمْ لَا تُؤَثِّرُ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَعَدَاوَتُهُ تَعَالَى تُؤَدِّي إِلَى الْعَذَابِ الدَّائِمِ الأليم الذي لا ضرر أعظم منه، وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ وَمِنْ حَقِّ الْعَدَاوَةِ الْإِضْرَارُ بِالْعَدُوِّ، وَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَعْنَى الْعَدَاوَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِينَا لِأَنَّ الْعَدُوَّ/ لِلْغَيْرِ هُوَ الَّذِي يُرِيدُ إِنْزَالَ الْمَضَارِّ بِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَحَدُ وَجْهَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُعَادُوا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَيَكُونَ ذَلِكَ عَدَاوَةً لِلَّهِ كَقَوْلِهِ: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْمَائِدَةِ: 33] وَكَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْأَحْزَابِ: 57] لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَتَيْنِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ دُونَهُ لِاسْتِحَالَةِ الْمُحَارَبَةِ وَالْأَذِيَّةِ عَلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ كَرَاهَتُهُمُ الْقِيَامَ بِطَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَبُعْدَهُمْ عَنِ التَّمَسُّكِ بِذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ الْعَدُوُّ لَا يَكَادُ يُوَافِقُ عَدُوَّهُ أَوْ يَنْقَادُ لَهُ شَبَّهَ طَرِيقَتَهُمْ فِي هَذَا الْوَجْهِ بِالْعَدَاوَةِ، فَأَمَّا عَدَاوَتُهُمْ لِجِبْرِيلَ وَالرُّسُلِ فَصَحِيحَةٌ لِأَنَّ الْإِضْرَارَ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ لَكِنَّ عَدَاوَتَهُمْ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِمْ لِعَجْزِهِمْ عَنِ الْأُمُورِ الْمُؤَثِّرَةِ فِيهِمْ، وَعَدَاوَتُهُمْ مُؤَثِّرَةٌ فِي الْيَهُودِ لِأَنَّهَا فِي الْعَاجِلِ تَقْتَضِي الذِّلَّةَ وَالْمَسْكَنَةَ، وَفِي الْآجِلِ تَقْتَضِي الْعَذَابَ الدَّائِمَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لَمَّا ذَكَرَ الْمَلَائِكَةَ فَلِمَ أَعَادَ ذِكْرَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ مَعَ انْدِرَاجِهِمَا فِي الْمَلَائِكَةِ؟ الْجَوَابُ لِوَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَفْرَدَهُمَا بِالذِّكْرِ لِفَضْلِهِمَا كَأَنَّهُمَا لِكَمَالِ فَضْلِهِمَا صَارَا جِنْسًا آخَرَ سِوَى جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ، الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي جَرَى بَيْنَ الرَّسُولِ وَالْيَهُودِ هُوَ ذِكْرُهُمَا وَالْآيَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ بِسَبَبِهِمَا، فَلَا جَرَمَ نَصَّ عَلَى اسْمَيْهِمَا، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُمَا أَشْرَفَ مِنْ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّأْوِيلُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلَ مِنْ مِيكَائِيلَ لِوُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الذِّكْرِ، وَتَقْدِيمُ الْمَفْضُولِ عَلَى الْفَاضِلِ فِي الذِّكْرِ مُسْتَقْبَحٌ عُرْفًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَحًا شَرْعًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فهو عند الله حسن» ، وَثَانِيهَا: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ بِالْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ وَالْعِلْمِ وَهُوَ مَادَّةُ بَقَاءِ الْأَرْوَاحِ، وَمِيكَائِيلُ يَنْزِلُ بِالْخِصْبِ وَالْأَمْطَارِ وَهِيَ مَادَّةُ بَقَاءِ الْأَبْدَانِ، وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ أَشْرَفَ مِنَ الْأَغْذِيَةِ

[سورة البقرة (2) : آية 99]

وَجَبَ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ أَفْضَلَ مِنْ مِيكَائِيلَ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ جِبْرِيلَ: مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التَّكْوِيرِ: 21] ذَكَرَهُ بِوَصْفِ الْمُطَاعِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُطَاعًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ميكائيل فوجب أن يكون أفضل منه. [أما قوله تعالى وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين فيه مسائل] المسألة الأولى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَفَصٌ عَنْ عَاصِمٍ مِيكَالَ بِوَزْنِ قِنْطَارٍ، وَنَافِعٌ مِيكَائِلَ مُخْتَلَسَةً لَيْسَ بَعْدَ الْهَمْزَةِ يَاءٌ عَلَى وَزْنِ مِيكَاعِلَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِيكَائِيلَ عَلَى وَزْنِ مِيكَاعِيلَ، وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى ميكئيل على وزن ميكعيل، وَمِيكَئِيلُ كَمِيكَعِيلَ، قَالَ ابْنُ جِنِّي: الْعَرَبُ إِذَا نطقت بالأعجمي خلطت فيه. المسألة الثانية: الْوَاوُ فِي جِبْرِيلَ وَمِيكَالَ، قِيلَ: وَاوُ الْعَطْفِ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى أَوْ يَعْنِي مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِجَمِيعِ الكافرين. المسألة الثالثة: عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ أَرَادَ عَدُوٌّ لَهُمْ إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ بِالظَّاهِرِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا عَادَاهُمْ لِكُفْرِهِمْ وَأَنَّ عَدَاوَةَ الْمَلَائِكَةِ كُفْرٌ. [سورة البقرة (2) : آية 99] وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ قَبَائِحِهِمْ وَفَضَائِحِهِمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ فَلَمَّا بُعِثَ مِنَ الْعَرَبِ كَفَرُوا بِهِ وَجَحَدُوا مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ: فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَسْلِمُوا فَقَدْ كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ وَنَحْنُ أَهْلُ الشِّرْكِ وَتُخْبِرُونَنَا أَنَّهُ مَبْعُوثٌ وَتَصِفُونَ لَنَا صِفَتَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَا جَاءَنَا بِشَيْءٍ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَمَا هُوَ بِالَّذِي كُنَّا نَذْكُرُ لكم فأنزل الله تعالى هذه الآية وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الآيات البينات الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَأْتِي بِمِثْلِهِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الْقُرْآنَ مَعَ سَائِرِ الدَّلَائِلِ نَحْوَ امْتِنَاعِهِمْ مِنَ الْمُبَاهَلَةِ وَمِنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ وَسَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ نَحْوَ إِشْبَاعِ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ مِنَ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ وَنُبُوعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ. قَالَ الْقَاضِي: الْأَوْلَى تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ الْآيَاتِ إِذَا قُرِنَتْ إِلَى التَّنْزِيلِ كَانَتْ أَخَصَّ بِالْقُرْآنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَجْهُ فِي تَسْمِيَةِ الْقُرْآنِ بِالْآيَاتِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّ الْآيَةَ هِيَ الدَّالَّةُ وَإِذَا كَانَتْ أَبْعَاضُ الْقُرْآنِ دَالَّةً بِفَصَاحَتِهَا عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي كَانَتْ آيَاتٍ، وَثَانِيهَا: أَنَّ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى تِلْكَ الْغُيُوبِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالشَّرَائِعِ فَهِيَ آيَاتٌ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، فَإِنْ قِيلَ: الدَّلِيلُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَيِّنًا فَمَا مَعْنَى وَصْفِ الْآيَاتِ بِكَوْنِهَا بَيِّنَةً، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ الْمُرَادُ كَوْنُ بَعْضِهَا أَبْيَنَ مِنْ بَعْضٍ لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ أَمْكَنَ فِي الْعُلُومِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَذَلِكَ لَأَنَّ الْعَالِمَ بِالشَّيْءِ إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ تَجْوِيزُ نَقِيضِ مَا اعْتَقَدَهُ أَوْ لَا يَحْصُلَ، فَإِنْ حَصَلَ مَعَهُ ذَلِكَ التَّجْوِيزُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ عِلْمًا وَإِنْ لَمْ يَحْصُلِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ آخَرُ آكَدَ مِنْهُ. قُلْنَا: التَّفَاوُتُ لَا يَقَعُ فِي نَفْسِ الْعِلْمِ بَلْ فِي طَرِيقِهِ، فَإِنَّ الْعُلُومَ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَكُونُ طَرِيقُ تَحْصِيلِهِ وَالدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مُقَدِّمَاتٍ فَيَكُونُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ أَصْعَبَ، وَإِلَى مَا يَكُونُ أَقَلَّ مُقَدِّمَاتٍ فَيَكُونُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ أَقْرَبَ، وَهَذَا هُوَ الْآيَةُ الْبَيِّنَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْإِنْزَالُ عِبَارَةٌ عَنْ تَحْرِيكِ الشَّيْءِ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ وَذَاكَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا فِي الْجِسْمِيِّ

[سورة البقرة (2) : آية 100]

فَهُوَ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ مُحَالٌ لَكِنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا نَزَلَ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ وَأَخْبَرَ بِهِ سُمِّيَ ذَلِكَ إِنْزَالًا. أَمَّا قَوْلُهُ: وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكُفْرُ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: جُحُودُهَا مَعَ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهَا. وَالثَّانِي: جُحُودُهَا مَعَ الْجَهْلِ وَتَرْكِ النَّظَرِ فِيهَا وَالْإِعْرَاضِ عَنْ دَلَائِلِهَا وَلَيْسَ فِي الظَّاهِرِ تَخْصِيصٌ فَيَدْخُلُ الْكُلُّ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفِسْقُ فِي اللُّغَةِ خُرُوجُ الْإِنْسَانِ عَمَّا حُدَّ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الْكَهْفِ: 50] وَتَقُولُ الْعَرَبُ لِلنَّوَاةِ: إِذَا خَرَجَتْ مِنَ الرُّطَبَةِ عِنْدَ سُقُوطِهَا فَسَقَتِ النَّوَاةُ، وَقَدْ يَقْرُبُ مِنْ مَعْنَاهُ الْفُجُورُ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ فُجُورِ السَّدِّ الَّذِي يَمْنَعُ الْمَاءَ مِنْ أَنْ يَصِيرَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَفْسُدُ [إِذَا صَارَ إِلَيْهِ] فَشَبَّهَ تَعَدِّي الْإِنْسَانِ مَا حُدَّ لَهُ إِلَى الْفَسَادِ بِالَّذِي فَجَّرَ السَّدَّ حَتَّى صَارَ إِلَى حَيْثُ يُفْسِدُ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ صَاحِبَ الصَّغِيرَةِ تَجَاوَزَ أَمْرَ اللَّهِ وَلَا يُوصَفُ بِالْفِسْقِ وَالْفُجُورِ؟ قُلْنَا: إِنَّهُ إِنَّمَا يُسَمَّى بِهِمَا كُلُّ أَمْرٍ يُعَظَّمُ مِنَ الْبَابِ الَّذِي ذَكَرْنَا لِأَنَّ مَنْ فَتَحَ مِنَ النَّهْرِ نَقْبًا يَسِيرًا لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ فَجَّرَ ذَلِكَ النَّهْرَ وَكَذَلِكَ الْفِسْقُ إِنَّمَا يُقَالُ: إِذَا عَظُمَ التَّعَدِّي. إِذَا ثَبَتَ هذا فنقول في قوله: إِلَّا الْفاسِقُونَ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ فَاسِقٌ وَلَا يَنْعَكِسُ فَكَأَنَّ ذِكْرَ الْفَاسِقِ يَأْتِي عَلَى الْكَافِرِ وَغَيْرِهِ فَكَانَ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا يُكَفَّرُ بِهَا إِلَّا الْكَافِرُ الْمُتَجَاوِزُ عَنْ كُلِّ حَدٍّ فِي كَفْرِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ لَمَّا كَانَتْ بَيِّنَةً ظَاهِرَةً لَمْ يَكْفُرْ بِهَا إِلَّا الْكَافِرُ الَّذِي يَبْلُغُ فِي الْكُفْرِ إِلَى النِّهَايَةِ الْقُصْوَى وَتَجَاوَزَ عَنْ كُلِّ حد مستحسن في العقل والشرع. [سورة البقرة (2) : آية 100] أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ قَبَائِحِهِمْ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً وَاوُ عَطْفٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ وَقِيلَ الْوَاوُ زَائِدَةٌ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ مَعَ صِحَّةِ مَعْنَاهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ بِالزِّيَادَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ مَعْنَاهُ: أَكَفَرُوا بِالْآيَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ وَكُلَّمَا عَاهَدُوا، وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّاكِ بِسُكُونِ الْوَاوِ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقُونَ بِمَعْنَى الَّذِينَ فَسَقُوا فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الَّذِينَ فَسَقُوا أَوْ نَقَضُوا عَهْدَ اللَّهِ مِرَارًا كَثِيرَةً وَقُرِئَ عُوهِدُوا وَعُهِدُوا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ، الْإِنْكَارُ وَإِعْظَامُ مَا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ إِذَا قِيلَ بِهَذَا اللَّفْظِ كَانَ أَبْلَغَ فِي التَّنْكِيرِ وَالتَّبْكِيتِ وَدَلَّ بقول: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَلَى عَهْدٍ بَعْدَ عَهْدٍ نَقَضُوهُ وَنَبَذُوهُ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَالْعَادَةِ فِيهِمْ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ تَسْلِيَةَ الرَّسُولِ عِنْدَ كُفْرِهِمْ بِمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِبِدْعٍ مِنْهُمْ، بَلْ هُوَ سَجِيَّتُهُمْ وَعَادَتُهُمْ وَعَادَةُ سَلَفِهِمْ عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ نَقْضِهِمُ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ لِأَنَّ مَنْ يُعْتَادُ/ مِنْهُ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ لَا يَصْعُبُ عَلَى النَّفْسِ مُخَالَفَتُهُ كَصُعُوبَةِ مَنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْعَهْدِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَظْهَرَ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى صِحَّةِ شَرْعِهِ كَانَ ذَلِكَ كَالْعَهْدِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَقَبُولُهُمْ لِتِلْكَ الدَّلَائِلِ كَالْمُعَاهَدَةِ مِنْهُمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعَهْدَ هُوَ الَّذِي كَانُوا يَقُولُونَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَئِنْ خَرَجَ النَّبِيُّ لَنُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَنُخْرِجَنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَاهِدُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَيَنْقُضُونَهُ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا قَدْ عَاهَدُوهُ عَلَى أَنْ لَا يعينوا عليه

[سورة البقرة (2) : آية 101]

أَحَدًا مِنَ الْكَافِرِينَ فَنَقَضُوا ذَلِكَ وَأَعَانُوا عَلَيْهِ قُرَيْشًا يَوْمَ الْخَنْدَقِ، قَالَ الْقَاضِي: إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَمْ يَمْتَنِعْ دُخُولُهُ تَحْتَ الْآيَةِ لَكِنْ لَا يَجُوزُ قَصْرُ الْآيَةِ عَلَيْهِ بَلِ الْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ كُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَحَمْلُهُ عَلَى نَقْضِ الْعَهْدِ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ الْكُتُبُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَالدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ مِنْ صِحَّةِ الْقَوْلِ وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِنَّمَا قَالَ: نَبَذَهُ فَرِيقٌ لِأَنَّ فِي جُمْلَةِ مَنْ عَاهَدَ مَنْ آمَنَ أَوْ يَجُوزُ أَنْ يُؤْمِنَ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صِفَةَ جَمِيعِهِمْ خَصَّ الْفَرِيقَ بِالذِّكْرِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ الْفَرِيقَ هُمُ الْأَقَلُّونَ بَيَّنَ أَنَّهُمُ الْأَكْثَرُونَ فَقَالَ: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَفِيهِ قَوْلَانِ، الْأَوَّلُ: أَكْثَرُ أُولَئِكَ الْفُسَّاقِ لَا يُصَدِّقُونَ بِكَ أَبَدًا لِحَسَدِهِمْ وَبَغْيِهِمْ، وَالثَّانِي: لَا يُؤْمِنُونَ: أَيْ لَا يُصَدِّقُونَ بِكِتَابِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي قَوْمِهِمْ كَالْمُنَافِقِينَ مَعَ الرَّسُولِ يُظْهِرُونَ لَهُمُ الْإِيمَانَ بِكِتَابِهِمْ ورسولهم ثم لا يعملون بموجبه ومقتضاه. [سورة البقرة (2) : آية 101] وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) اعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِ الرَّسُولِ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ هُوَ أَنَّهُ كَانَ مُعْتَرِفًا بِنُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِصِحَّةِ التَّوْرَاةِ أَوْ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّ التَّوْرَاةَ بَشَّرَتْ بِمَقْدِمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا أَتَى مُحَمَّدٌ كَانَ مُجَرَّدُ مَجِيئِهِ مُصَدِّقًا لِلتَّوْرَاةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: نَبَذَ فَرِيقٌ فَهُوَ مَثَلٌ لِتَرْكِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ بِمِثْلِ مَا يُرْمَى بِهِ وَرَاءَ الظَّهْرِ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ وَقِلَّةَ الْتِفَاتٍ إِلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فَفِيهِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِمَّنْ أُوتِيَ عِلْمَ الْكِتَابِ مَنْ يَدْرُسُهُ وَيَحْفَظُهُ، قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذَا الفريق بالعلم/ عند قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، الثَّانِي: الْمُرَادُ مَنْ يَدَّعِي التَّمَسُّكَ بِالْكِتَابِ سَوَاءٌ عَلِمَهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ، وَهَذَا كَوَصْفِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ لَا يُرَادُ بِذَلِكَ مَنْ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَةِ عُلُومِهِ، بَلِ الْمُرَادُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَيَتَمَسَّكُ بِمُوجَبِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ فَقِيلَ: إِنَّهُ التَّوْرَاةُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الْقُرْآنُ، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ لِوَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبْذَ لَا يُعْقَلُ إِلَّا فِيمَا تَمَسَّكُوا بِهِ أَوَّلًا وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ لَا يُقَالُ إِنَّهُمْ نَبَذُوهُ، الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْفَرِيقِ مَعْنًى لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ نَبْذُهُمُ التَّوْرَاةَ وَهُمْ يَتَمَسَّكُونَ بِهِ؟ قُلْنَا: إِذَا كَانَ يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّعْتِ وَالصِّفَةِ وَفِيهِ وُجُوبُ الْإِيمَانِ ثُمَّ عَدَلُوا عَنْهُ كَانُوا نَابِذِينَ لِلتَّوْرَاةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ نَبَذُوهُ عَنْ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ ذَلِكَ إِلَّا فِيمَنْ يَعْلَمُ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ كَانُوا عَالِمِينَ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ إِلَّا أَنَّهُمْ جَحَدُوا مَا يَعْلَمُونَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْجَمْعَ الْعَظِيمَ لَا يَصِحُّ الْجَحْدُ عَلَيْهِمْ فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ أُولَئِكَ الْجَاحِدِينَ كَانُوا فِي الْقِلَّةِ بحيث تجوز المكابرة عليهم.

[سورة البقرة (2) : آية 102]

[سورة البقرة (2) : آية 102] وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ نَوْعٌ آخَرُ مِنْ قَبَائِحِ أَفْعَالِهِمْ وَهُوَ اشْتِغَالُهُمْ بِالسِّحْرِ وَإِقْبَالُهُمْ عَلَيْهِ وَدُعَاؤُهُمُ النَّاسَ إِلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا حِكَايَةٌ عَمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُمُ الْيَهُودُ، ثُمَّ فِيهِ أَقْوَالٌ، أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُمُ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا مِنَ الْيَهُودِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ السَّحَرَةِ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْيَهُودِ يُنْكِرُونَ نُبُوَّةَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَعُدُّونَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُلُوكِ فِي الدُّنْيَا، فَالَّذِينَ كَانُوا مِنْهُمْ فِي زَمَانِهِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْتَقِدُوا فِيهِ أَنَّهُ إِنَّمَا وُجِدَ ذَلِكَ الْمُلْكُ الْعَظِيمُ بِسَبَبِ السِّحْرِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ لَيْسَ صَرْفُ اللَّفْظِ إِلَى الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إِلَى غَيْرِهِ، إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ. قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَارَضُوهُ بِالتَّوْرَاةِ فَخَاصَمُوهُ بِهَا فَاتَّفَقَتِ التَّوْرَاةُ وَالْقُرْآنُ فَنَبَذُوا التَّوْرَاةَ وَأَخَذُوا بِكِتَابِ آصِفَ وَسِحْرِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ فَلَمْ يُوَافِقِ الْقُرْآنَ، فَهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ [البقرة: 101] ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا كُتُبَ السِّحْرِ. المسألة الثانية: ذكروا في تفسير: تَتْلُوا وُجُوهًا، أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التِّلَاوَةُ وَالْإِخْبَارُ، وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ (تَتْلُوا) أَيْ تَكْذِبُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ. يُقَالُ: تَلَا عَلَيْهِ إِذَا كَذَبَ وَتَلَا عَنْهُ، إِذَا صَدَقَ وَإِذَا أَبْهَمَ جَازَ الْأَمْرَانِ. وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ التِّلَاوَةَ حَقِيقَةٌ فِي الْخَبَرِ، إِلَّا أَنَّ الْمُخْبِرَ يُقَالُ فِي خَبَرِهِ إِذَا كَانَ كَذِبًا إِنَّهُ تَلَا فُلَانٌ وَإِنَّهُ قَدْ تَلَا عَلَى فُلَانٍ لِيَمِيزَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّدْقِ الَّذِي لَا يُقَالُ فِيهِ، روي عن فُلَانٍ، بَلْ يُقَالُ: رَوَى عَنْ فُلَانٍ وَأَخْبَرَ عَنْ فُلَانٍ وَتَلَا عَنْ فُلَانٍ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْأَخْبَارِ وَالتِّلَاوَةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي كَانُوا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ مِمَّا يُتْلَى وَيُقْرَأُ فَيَجْتَمِعُ فِيهِ كُلُّ الْأَوْصَافِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الشَّيَاطِينِ فَقِيلَ: الْمُرَادُ شَيَاطِينُ الْجِنِّ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَقِيلَ: شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقِيلَ: هُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مَعًا. أَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوهُ عَلَى شَيَاطِينِ الْجِنِّ قَالُوا: إِنَّ الشَّيَاطِينَ كَانُوا يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ ثُمَّ يَضُمُّونَ إِلَى مَا سَمِعُوا أَكَاذِيبَ يُلَفِّقُونَهَا وَيُلْقُونَهَا إِلَى الْكَهَنَةِ، وَقَدْ دَوَّنُوهَا فِي كُتُبٍ يَقْرَءُونَهَا وَيُعَلِّمُونَهَا النَّاسَ وَفَشَا ذَلِكَ فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى قَالُوا: إِنَّ الْجِنَّ تَعْلَمُ الْغَيْبَ وَكَانُوا يَقُولُونَ: هَذَا عِلْمُ سُلَيْمَانَ وَمَا تَمَّ لَهُ مُلْكُهُ إِلَّا بِهَذَا الْعِلْمِ وَبِهِ يُسَخِّرُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالرِّيحَ الَّتِي تَجْرِي بِأَمْرِهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوهُ عَلَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ قَالُوا: رُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ دَفَنَ كَثِيرًا مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا تَحْتَ سَرِيرِ مُلْكِهِ حِرْصًا عَلَى أَنَّهُ إِنْ هَلَكَ الظَّاهِرُ مِنْهَا يَبْقَى ذَلِكَ

الْمَدْفُونُ، فَلَمَّا مَضَتْ مُدَّةٌ عَلَى ذَلِكَ تَوَصَّلَ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ إِلَى أَنْ كَتَبُوا فِي خِلَالِ ذَلِكَ أَشْيَاءَ مِنَ السِّحْرِ تُنَاسِبُ/ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، ثُمَّ بَعْدَ مَوْتِهِ وَاطِّلَاعِ النَّاسِ عَلَى تِلْكَ الْكُتُبِ أَوْهَمُوا النَّاسَ أَنَّهُ مِنْ عَمَلِ سُلَيْمَانَ وَأَنَّهُ مَا وَصَلَ إِلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِسَبَبِ هَذِهِ الأشياء فهذا معنى: «ما تتلوا الشَّيَاطِينُ» ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْوَجْهِ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ شَيَاطِينَ الْجِنِّ لَوْ قَدَرُوا عَلَى تَغْيِيرِ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ وَشَرَائِعِهِمْ بِحَيْثُ يَبْقَى ذلك التحريف محققاً فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ لَارْتَفَعَ الْوُثُوقُ عَنْ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الطَّعْنِ فِي كُلِّ الْأَدْيَانِ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا جَوَّزْتُمْ ذَلِكَ عَلَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ عَلَى شَيَاطِينِ الْجِنِّ؟ قُلْنَا: الْفَرْقُ أَنَّ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَظْهَرَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، أَمَّا لَوْ جَوَّزْنَا هَذَا الِافْتِعَالَ مِنَ الْجِنِّ وَهُوَ أَنْ نَزِيدَ فِي كُتُبِ سُلَيْمَانَ بِخَطٍّ مِثْلِ خَطِّ سُلَيْمَانَ فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ ذَلِكَ وَيَبْقَى مَخْفِيًّا فَيُفْضِي إِلَى الطَّعْنِ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَمَّا قَوْلُهُ: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فَقِيلَ فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَقِيلَ عَلَى عَهْدِ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ افْتِرَاءً عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ مِنْ كُتُبِ السِّحْرِ وَيَقُولُونَ إِنَّ سُلَيْمَانَ إِنَّمَا وَجَدَ ذَلِكَ الْمُلْكَ بِسَبَبِ هَذَا الْعِلْمِ، فَكَانَتْ تِلَاوَتُهُمْ لِتِلْكَ الْكُتُبِ كَالِافْتِرَاءِ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِمُلْكِ سُلَيْمَانَ، فَقَالَ الْقَاضِي: إِنَّ مُلْكَ سُلَيْمَانَ هُوَ النُّبُوَّةُ، أَوْ يَدْخُلُ فِيهِ النُّبُوَّةُ وَتَحْتَ النُّبُوَّةِ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ وَالشَّرِيعَةُ. وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ «1» ثُمَّ أَخْرَجَ الْقَوْمُ صَحِيفَةً فِيهَا ضُرُوبُ السِّحْرِ وَقَدْ دَفَنُوهَا تَحْتَ سَرِيرِ مُلْكِهِ ثُمَّ أَخْرَجُوهَا بَعْدَ مَوْتِهِ وَأَوْهَمُوا أَنَّهَا مِنْ جِهَتِهِ صَارَ ذَلِكَ مِنْهُمْ تَقَوُّلَا عَلَى مُلْكِهِ فِي الْحَقِيقَةِ. وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا ادَّعَوْا أَنَّ سُلَيْمَانَ إِنَّمَا وَجَدَ تِلْكَ الْمَمْلَكَةَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعِلْمِ كَانَ ذَلِكَ الِادِّعَاءُ كَالِافْتِرَاءِ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: السَّبَبُ فِي أَنَّهُمْ أَضَافُوا السِّحْرَ إِلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَضَافُوا السِّحْرَ إِلَى سُلَيْمَانَ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ وَتَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ وَتَرْغِيبًا لِلْقَوْمِ فِي قَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْيَهُودَ مَا كَانُوا يُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ سُلَيْمَانَ بَلْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّمَا وَجَدَ ذَلِكَ الْمُلْكَ بِسَبَبِ السِّحْرِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا سَخَّرَ الْجِنَّ لِسُلَيْمَانَ فَكَانَ يُخَالِطُهُمْ وَيَسْتَفِيدُ مِنْهُمْ أَسْرَارًا عَجِيبَةً فَغَلَبَ عَلَى الظُّنُونِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَفَادَ السِّحْرَ مِنْهُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ فَهَذَا تَنْزِيهٌ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْكُفْرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ نَسَبُوهُ إِلَى الْكُفْرِ وَالسِّحْرِ: قِيلَ فِيهِ أَشْيَاءُ، أَحَدُهَا: ما روي عن بعض أخبار الْيَهُودِ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ يَزْعُمُ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ نَبِيًّا وَمَا كَانَ إِلَّا سَاحِرًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ السَّحَرَةَ مِنَ الْيَهُودِ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَخَذُوا السِّحْرَ عَنْ سُلَيْمَانَ فَنَزَّهَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْمًا زَعَمُوا أَنَّ قِوَامَ مُلْكِهِ كَانَ بِالسِّحْرِ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْهُ لِأَنَّ كَوْنَهُ نبياً ينافي كونه ساحراً كافراً، [أما قوله تعالى ولكن الشياطين كفروا] ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي بَرَّأَهُ مِنْهُ لَاصِقٌ بِغَيْرِهِ فَقَالَ: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُشِيرُ/ بِهِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّنِ اتَّخَذَ السِّحْرَ كَالْحِرْفَةِ لِنَفْسِهِ وَيَنْسِبُهُ إِلَى سُلَيْمَانَ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا بِهِ كَفَرُوا فَقَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّهُمْ مَا كَفَرُوا أَوَّلًا بِالسِّحْرِ فَقَالَ تَعَالَى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي السِّحْرِ يَقَعُ مِنْ وُجُوهٍ.

_ (1) في هذا الموضع سقط ظاهر واضطراب ولم أجد في الأصول ما يكمله.

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْبَحْثِ عَنْهُ بِحَسَبِ اللُّغَةِ فَنَقُولُ: ذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ عِبَارَةٌ عَمَّا لَطُفَ وَخَفِيَ سَبَبُهُ وَالسَّحْرُ بِالنَّصْبِ هُوَ الْغِذَاءُ لِخَفَائِهِ وَلُطْفِ مَجَارِيهِ، قَالَ لَبِيَدٌ: وَنَسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أنا نعلل ونخذع كَالْمَسْحُورِ الْمَخْدُوعِ، وَالْآخَرُ: نُغَذَّى وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ كَانَ فَمَعْنَاهُ الْخَفَاءُ وَقَالَ: فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا ... عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الْأَنَامِ الْمُسَحَّرِ وَهَذَا الْبَيْتُ يَحْتَمِلُ مِنَ الْمَعْنَى مَا احْتَمَلَهُ الْأَوَّلُ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يُرِيدَ بِالْمُسَحَّرِ أَنَّهُ ذُو سَحْرٍ، وَالسَّحْرُ هُوَ الرِّئَةُ، وَمَا تَعَلَّقَ بِالْحُلْقُومِ وَهَذَا أَيْضًا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْخَفَاءِ وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي» ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ [الشُّعَرَاءِ: 153] ، يَعْنِي مِنَ الْمَخْلُوقِينَ الَّذِي يَطْعَمُ وَيَشْرَبُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [الشُّعَرَاءِ: 154] وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ذُو سَحْرٍ مِثْلُنَا، وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِلسَّحَرَةِ: مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ [يُونُسَ: 81] وَقَالَ: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ [الْأَعْرَافِ: 116] فَهَذَا هُوَ مَعْنَى السِّحْرِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ السِّحْرِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مُخْتَصٌّ بِكُلِّ أَمْرٍ يَخْفَى سَبَبُهُ وَيُتَخَيَّلُ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ وَيَجْرِي مَجْرَى التَّمْوِيهِ وَالْخِدَاعِ، وَمَتَى أُطْلِقَ وَلَمْ يُقَيَّدْ أَفَادَ ذَمَّ فَاعِلِهِ. قَالَ تعالى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الأعراف: 116] يَعْنِي مَوَّهُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ تَسْعَى وَقَالَ تَعَالَى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [طه: 66] وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ مُقَيَّدًا فِيمَا يُمْدَحُ وَيُحْمَدُ. رُوِيَ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ، فَقَالَ لِعَمْرٍو: خَبِّرْنِي عَنِ الزِّبْرِقَانِ، فَقَالَ: مُطَاعٌ فِي نَادِيهِ شَدِيدُ الْعَارِضَةِ مَانِعٌ لِمَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ، فَقَالَ الزِّبْرِقَانُ: هُوَ وَاللَّهِ يَعْلَمُ أَنِّي أَفْضَلُ مِنْهُ، فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّهُ زَمَنُ الْمُرُوءَةِ ضَيِّقُ الْعَطَنِ أَحْمَقُ الْأَبِ لَئِيمُ الْخَالِ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَدَقْتَ فِيهِمَا، أَرْضَانِي فَقُلْتُ: أَحْسَنَ مَا عَلِمْتُ وَأَسْخَطَنِي فَقُلْتُ أَسْوَأَ مَا عَلِمْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» فَسَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ الْبَيَانِ سِحْرًا لِأَنَّ صَاحِبَهُ يُوَضِّحُ الشَّيْءَ الْمُشْكِلَ وَيَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَتِهِ بِحُسْنِ بَيَانِهِ وَبَلِيغِ عِبَارَتِهِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُسَمِّيَ مَا يُوَضِّحُ الْحَقَّ وَيُنْبِئُ عَنْهُ سِحْرًا؟ وَهَذَا الْقَائِلُ إِنَّمَا قَصَدَ إِظْهَارَ الْخَفِيِّ لَا إِخْفَاءَ الظَّاهِرِ وَلَفْظُ السِّحْرِ إِنَّمَا يُفِيدُ إِخْفَاءَ الظَّاهِرِ؟ قُلْنَا: إِنَّمَا سَمَّاهُ سِحْرًا لِوَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لِلُطْفِهِ وَحُسْنِهِ اسْتَمَالَ الْقُلُوبَ فَأَشْبَهَ السِّحْرَ الَّذِي يَسْتَمِيلُ الْقُلُوبَ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ سُمِّيَ سِحْرًا، لَا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ظَنَنْتَ/. الثَّانِي: أَنَّ الْمُقْتَدِرَ عَلَى الْبَيَانِ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى تَحْسِينِ مَا يَكُونُ قَبِيحًا وَتَقْبِيحِ مَا يَكُونُ حَسَنًا فَذَلِكَ يُشْبِهُ السِّحْرَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي أَقْسَامِ السِّحْرِ: اعْلَمْ أَنَّ السِّحْرَ عَلَى أَقْسَامٍ. الْأَوَّلُ: سِحْرُ الْكَلْدَانِيِّينَ والْكَسْدَانِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ وَهُمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا هِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِهَذَا الْعَالَمِ، وَمِنْهَا تَصْدُرُ الْخَيْرَاتُ وَالشُّرُورُ وَالسَّعَادَةُ وَالنُّحُوسَةُ وَهُمُ الَّذِينَ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُبْطِلًا لِمَقَالَتِهِمْ وَرَادًّا عَلَيْهِمْ فِي مَذْهَبِهِمْ. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدِ اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ وَاللَّوْنِ وَالطَّعْمِ، وَاحْتَجُّوا بِوُجُوهٍ ذَكَرَهَا الْقَاضِي وَلَخَّصَهَا فِي تَفْسِيرِهِ وَفِي سَائِرِ كُتُبِهِ وَنَحْنُ نَنْقُلُ تِلْكَ الْوُجُوهَ

وَنَنْظُرُ فِيهَا. أَوَّلُهَا: وَهُوَ النُّكْتَةُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي عَلَيْهَا يُعَوِّلُونَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ إِمَّا مُتَحَيِّزٌ وَإِمَّا قَائِمٌ بِالْمُتَحَيِّزِ، فَلَوْ كَانَ غَيْرُ اللَّهِ فَاعِلًا لِلْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ لَكَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مُتَحَيِّزًا، وَذَلِكَ الْمُتَحَيِّزُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا بِالْقُدْرَةِ، إِذْ لَوْ كَانَ قَادِرًا لِذَاتِهِ لَكَانَ كُلُّ جِسْمٍ كَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ لَكِنَّ الْقَادِرَ بِالْقُدْرَةِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فِعْلُ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ حَاصِلٌ بِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ ابْتِدَاءً، فَقُدْرَتُنَا مُشْتَرِكَةٌ فِي امْتِنَاعِ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَهَذَا الِامْتِنَاعُ حُكْمٌ مُشْتَرَكٌ فَلَا بُدَّ له من علة مشتركة ولا مشترك هاهنا إِلَّا كَوْنُنَا قَادِرِينَ بِالْقُدْرَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ فِيمَنْ كَانَ قَادِرًا بِالْقُدْرَةِ أَنْ يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ فِعْلُ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ. الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْقُدْرَةَ الَّتِي لَنَا لَا شَكَّ أَنَّ بَعْضَهَا يُخَالِفُ بَعْضًا، فَلَوْ قَدَّرْنَا قُدْرَةً صَالِحَةً لِخَلْقِ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ لَمْ تَكُنْ مُخَالَفَتُهَا لِهَذِهِ الْقُدْرَةِ أَشَدَّ مِنْ مُخَالَفَةِ بَعْضِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ لِلْبَعْضِ، فَلَوْ كَفَى ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فِي صَلَاحِيَّتِهَا لِخَلْقِ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ لَوَجَبَ فِي هَذِهِ الْقُدْرَةِ أَنْ يُخَالِفَ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَأَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِخَلْقِ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْقَادِرَ بِالْقُدْرَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَتَعَذَّرَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْمُعْجِزَاتِ عَلَى النُّبُوَّاتِ لِأَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا اسْتِحْدَاثَ الْخَوَارِقِ بِوَاسِطَةِ تَمْزِيجِ الْقُوَى السَّمَاوِيَّةِ بِالْقُوَى الْأَرْضِيَّةِ لَمْ يُمْكِنَّا الْقَطْعُ بِأَنَّ هَذِهِ الْخَوَارِقَ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى أَيْدِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ صَدَرَتْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ يَجُوزُ فِيهَا أَنَّهُمْ أَتَوْا بِهَا مِنْ طَرِيقِ السِّحْرِ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ الْقَوْلُ بِالنُّبُوَّاتِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا أَنْ يَكُونَ فِي النَّاسِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ وَالْأَلْوَانِ لَقَدَرَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ عَلَى تَحْصِيلِ الْأَمْوَالِ الْعَظِيمَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ، لَكِنَّا نَرَى مَنْ يَدَّعِي السِّحْرَ مُتَوَصِّلًا إِلَى اكْتِسَابِ الْحَقِيرِ مِنَ الْمَالِ بِجُهْدٍ جَهِيدٍ، فَعَلِمْنَا كَذِبَهُ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ نَعْلَمُ فَسَادَ مَا يَدَّعِيهِ قَوْمٌ مِنَ الْكِيمْيَاءِ، لِأَنَّا نَقُولُ: لَوْ أَمْكَنَهُمْ بِبَعْضِ الْأَدْوِيَةِ أَنْ يَقْلِبُوا غَيْرَ الذَّهَبِ ذَهَبًا لَكَانَ إِمَّا أَنْ يُمْكِنَهُمْ ذَلِكَ بِالْقَلِيلِ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُغْنُوا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ عَنِ الْمَشَقَّةِ وَالذِّلَّةِ أَوْ لَا يُمْكِنَهُمْ إِلَّا بِالْآلَاتِ الْعِظَامِ وَالْأَمْوَالِ الْخَطِيرَةِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُظْهِرُوا ذَلِكَ لِلْمُلُوكِ الْمُتَمَكِّنِينَ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَفْطِنَ الْمُلُوكُ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لَهُمْ مِنْ فَتْحِ الْبِلَادِ/ الَّذِي لَا يَتِمُّ إِلَّا بِإِخْرَاجِ الْأَمْوَالِ وَالْكُنُوزِ، وَفِي عِلْمِنَا بِانْصِرَافِ النُّفُوسِ وَالْهِمَمِ عَنْ ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ، قَالَ الْقَاضِي: فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ السَّاحِرَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ ضَعِيفَةٌ جِدًّا. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا، وَإِمَّا قَائِمًا بِالْمُتَحَيِّزِ، أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ مُصِرُّونَ عَلَى إِثْبَاتِ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ الْفَلَكِيَّةِ وَالنُّفُوسِ النَّاطِقَةِ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا فِي أَنْفُسِهَا لَيْسَتْ بِمُتَحَيِّزَةٍ وَلَا قَائِمَةٍ بِالْمُتَحَيِّزِ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ بِهَذَا؟ فَإِنْ قَالُوا: لَوْ وُجِدَ مَوْجُودٌ هَكَذَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مِثْلًا لِلَّهِ تَعَالَى، قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْأُسْلُوبِ لَا يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي الْمَاهِيَّةِ، سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَجْسَامِ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ لِذَاتِهِ؟ قَوْلُهُ: الْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ. فَلَوْ كَانَ جِسْمٌ كَذَلِكَ لَكَانَ كُلُّ جِسْمٍ كَذَلِكَ، قُلْنَا: مَا الدَّلِيلُ عَلَى تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْجِسْمِ إِلَّا الْمُمْتَدُّ فِي الْجِهَاتِ، الشَّاغِلُ لِلْأَحْيَازِ وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهَا فِي هَذَا الْمَعْنَى، قُلْنَا: الِامْتِدَادُ فِي الْجِهَاتِ وَالشُّغْلُ لِلْأَحْيَازِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهَا وَلَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِهَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الْأَشْيَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي الْمَاهِيَّةِ مُشْتَرِكَةً فِي بَعْضِ اللَّوَازِمِ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا بِالْقُدْرَةِ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْقَادِرَ بِالْقُدْرَةِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ خَلْقُ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ؟ قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي لَنَا مُشْتَرِكَةٌ فِي هَذَا الِامْتِنَاعِ وَهَذَا الِامْتِنَاعُ حُكْمٌ مُشْتَرَكٌ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ وَلَا مُشْتَرَكَ سِوَى كَوْنِنَا قَادِرِينَ بِالْقُدْرَةِ، قُلْنَا: هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ بِأَسْرِهَا مَمْنُوعَةٌ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الِامْتِنَاعَ حُكْمٌ مُعَلَّلٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عدمي

وَالْعَدَمُ لَا يُعَلَّلُ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ، وَلَكِنْ مِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ لَا يُعَلَّلُ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الأمر هاهنا كَذَلِكَ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ مُعَلَّلٌ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ الْحُكْمَ الْمُشْتَرَكَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ، أَلَيْسَ أَنَّ الْقُبْحَ حَصَلَ فِي الظُّلْمِ مُعَلَّلًا بِكَوْنِهِ ظُلْمًا وَفِي الْكَذِبِ بِكَوْنِهِ كَذِبًا، وَفِي الْجَهْلِ بِكَوْنِهِ جَهْلًا؟ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عِلَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا مُشْتَرَكَ إِلَّا كَوْنُنَا قَادِرِينَ بِالْقُدْرَةِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْقُدْرَةُ الَّتِي لَنَا مُشْتَرِكَةً فِي وَصْفٍ مُعَيَّنٍ وَتِلْكَ الْقُدْرَةُ الَّتِي تَصْلُحُ لِخَلْقِ الْجِسْمِ تَكُونُ خَارِجَةً عَنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ؟ وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَتْ مُخَالَفَةُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ لِبَعْضِ الْقُدَرِ أَشَدَّ مِنْ مُخَالَفَةِ بَعْضِ هَذِهِ الْقُدَرِ لِلْبَعْضِ، فَنَقُولُ: هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّا لَا نُعَلِّلُ صَلَاحِيَّتَهَا لِخَلْقِ الْجِسْمِ بِكَوْنِهَا مُخَالِفَةً لِهَذِهِ الْقُدَرِ، بَلْ لِخُصُوصِيَّتِهَا الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا خَالَفَتْ سَائِرَ الْقُدَرِ وَتِلْكَ الْخُصُوصِيَّةُ مَعْلُومٌ أَنَّهَا غَيْرُ حَاصِلَةٍ فِي سَائِرِ الْقُدَرِ. وَنَظِيرُ مَا ذَكَرُوهُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَتْ مُخَالَفَةُ الصَّوْتِ لِلْبَيَاضِ بِأَشَدَّ مِنْ مُخَالَفَةِ السَّوَادِ لِلْبَيَاضِ، فَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْمُخَالَفَةُ مَانِعَةً لِلصَّوْتِ مِنْ صِحَّةِ أَنْ يُرَى لَوَجَبَ لِكَوْنِ السَّوَادِ مُخَالِفًا لِلْبَيَاضِ أَنْ يَمْتَنِعَ رُؤْيَتُهُ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ فَاسِدًا فَكَذَا مَا قَالُوهُ، وَالْعَجَبُ مِنَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَمَّا حَكَى هَذِهِ الْوُجُوهَ عَنِ الْأَشْعَرِيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَزَيْفِهَا بِهَذِهِ الْأَسْئِلَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ نَفْسَهُ تَمَسَّكَ بِهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ فِي إِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَنَا. أَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ/ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ النُّبُوَّاتِ لَا يَبْقَى مَعَ تَجْوِيزِ هَذَا الْأَصْلِ فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ النُّبُوَّاتِ مُتَفَرِّعًا عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَوْ لَا يَكُونُ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ امْتَنَعَ فَسَادُ هَذَا الْأَصْلِ بِالْبِنَاءِ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّاتِ، وَإِلَّا وَقَعَ الدَّوْرُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَقَدْ سَقَطَ هَذَا الْكَلَامُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْكَلَامُ فِي الْإِمْكَانِ غَيْرٌ، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِأَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ حَاصِلَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ بَلْ هَذِهِ الْحَالَةُ لَا تَحْصُلُ لِلْبَشَرِ إِلَّا فِي الْأَعْصَارِ الْمُتَبَاعِدَةِ فَكَيْفَ يَلْزَمُنَا مَا ذَكَرْتُمُوهُ؟ فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنَ السِّحْرِ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ السِّحْرِ: سِحْرُ أَصْحَابِ الْأَوْهَامِ وَالنَّفْسِ الْقَوِيَّةِ، قَالُوا: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ: «أَنَا» مَا هُوَ؟ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ هُوَ هَذِهِ الْبِنْيَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ جِسْمٌ صَارَ فِي هَذِهِ الْبِنْيَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَلَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا بِجِسْمَانِيٍّ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ هَذِهِ الْبِنْيَةُ، فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْبِنْيَةَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَ فِي بَعْضِ الْأَعْصَارِ الْبَارِدَةِ أَنْ يَكُونَ مِزَاجُهُ مِزَاجًا مِنَ الْأَمْزِجَةِ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ النَّوَاحِي يَقْتَضِي الْقُدْرَةَ عَلَى خَلْقِ الْجِسْمِ وَالْعِلْمِ بِالْأُمُورِ الْغَائِبَةِ عَنَّا وَالْمُتَعَذِّرَةِ، وَهَكَذَا الْكَلَامُ إِذَا قُلْنَا الْإِنْسَانُ جِسْمٌ سار فِي هَذِهِ الْبِنْيَةِ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ النَّفْسُ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: النُّفُوسُ مُخْتَلِفَةٌ فَيَتَّفِقُ فِي بَعْضِ النُّفُوسِ إِنْ كَانَتْ لِذَاتِهَا قَادِرَةً عَلَى هَذِهِ الْحَوَادِثِ الْغَرِيبَةِ مُطَّلِعَةً عَلَى الْأَسْرَارِ الْغَائِبَةِ، فَهَذَا الِاحْتِمَالُ مِمَّا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ عَلَى فَسَادِهِ سِوَى الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَدْ بَانَ بُطْلَانُهَا، ثُمَّ الَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ وُجُوهٌ. أَوَّلُهَا: أَنَّ الْجِذْعَ الَّذِي يَتَمَكَّنُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْمَشْيِ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ مَوْضُوعًا عَلَى الْأَرْضِ لَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ كَالْجِسْرِ عَلَى هَاوِيَةٍ تَحْتَهُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ تَخَيُّلَ السُّقُوطِ مَتَى قَوِيَ أَوْجَبَهُ، وَثَانِيهَا: اجْتَمَعَتِ الْأَطِبَّاءُ عَلَى نَهْيِ الْمَرْعُوفِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْحُمْرِ، وَالْمَصْرُوعِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْقَوِيَّةِ اللَّمَعَانِ وَالدَّوَرَانِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ النُّفُوسَ خُلِقَتْ مُطِيعَةً لِلْأَوْهَامِ، وَثَالِثُهَا: حَكَى صَاحِبُ الشِّفَاءِ عَنْ «أَرِسْطُو» في طبائع الحيوان: أن الدجاجة إذا تشبهت كثيراً بالديكة في الصوت وفي الحراب مَعَ الدِّيَكَةِ نَبَتَ عَلَى سَاقِهَا مِثْلُ

الشَّيْءِ النَّابِتِ عَلَى سَاقِ الدِّيكِ، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الشِّفَاءِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَحْوَالَ الْجُسْمَانِيَّةَ تَابِعَةٌ لِلْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ، وَرَابِعُهَا: أَجْمَعَتِ الْأُمَمُ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ اللِّسَانِيَّ الْخَالِيَ عَنِ الطَّلَبِ النَّفْسَانِيِّ قَلِيلُ الْعَمَلِ عَدِيمُ الْأَثَرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لِلْهِمَمِ وَالنُّفُوسِ آثَارًا وَهَذَا الِاتِّفَاقُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِمَسْأَلَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَحِكْمَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَخَامِسُهَا: أَنَّكَ لَوْ أَنْصَفْتَ لَعَلِمْتَ أَنَّ الْمَبَادِئَ الْقَرِيبَةَ لِلْأَفْعَالِ الْحَيَوَانِيَّةِ لَيْسَتْ إِلَّا التَّصَوُّرَاتِ النَّفْسَانِيَّةَ لِأَنَّ الْقُوَّةَ الْمُحَرِّكَةَ الْمَغْرُوزَةَ فِي الْعَضَلَاتِ صَالِحَةٌ لِلْفِعْلِ وَتَرْكِهِ أَوْ ضِدِّهِ، وَلَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ وَمَا ذَاكَ إِلَّا تَصَوُّرُ كَوْنِ الْفِعْلِ جَمِيلًا أَوْ لَذِيذًا أَوْ تَصَوُّرُ كَوْنِهِ قَبِيحًا أَوْ مُؤْلِمًا فَتِلْكَ التَّصَوُّرَاتُ هِيَ الْمَبَادِئُ لِصَيْرُورَةِ الْقُوَى الْعَضَلِيَّةِ مَبَادِئُ لِلْفِعْلِ لِوُجُودِ الْأَفْعَالِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ كَذَلِكَ بِالْقُوَّةِ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ التَّصَوُّرَاتُ هِيَ الْمَبَادِئَ لِمَبَادِئِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَأَيُّ اسْتِبْعَادٍ فِي/ كَوْنِهَا مَبَادِئَ لأفعال أَنْفُسَهَا وَإِلْغَاءَ الْوَاسِطَةِ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ، وَسَادِسُهَا: التَّجْرِبَةُ وَالْعِيَانُ شَاهِدَانِ بِأَنَّ هَذِهِ التَّصَوُّرَاتِ مَبَادِئُ قَرِيبَةٌ لِحُدُوثِ الْكَيْفِيَّاتِ فِي الْأَبْدَانِ فَإِنَّ الْغَضْبَانَ تَشْتَدُّ سُخُونَةُ مِزَاجِهِ حَتَّى أَنَّهُ يُفِيدُهُ سُخُونَةٌ قَوِيَّةٌ. يُحْكَى أَنَّ بَعْضَ الْمُلُوكِ عَرَضَ لَهُ فَالِجٌ فَأَعْيَا الْأَطِبَّاءَ مُزَاوَلَةُ عِلَاجِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْحُذَّاقِ مِنْهُمْ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْهُ وَشَافَهَهُ بِالشَّتْمِ وَالْقَدْحِ فِي الْعِرْضِ، فَاشْتَدَّ غَضَبُ الْمَلِكِ وَقَفَزَ مِنْ مَرْقَدِهِ قَفْزَةً اضْطِرَارِيَّةً لِمَا نَالَهُ مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ الْكَلَامِ فَزَالَتْ تِلْكَ الْعِلَّةُ الْمُزْمِنَةُ وَالْمَرْضَةُ الْمُهْلِكَةُ. وَإِذَا جَازَ كَوْنُ التَّصَوُّرَاتِ مَبَادِئَ لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ فِي الْبَدَنِ فَأَيُّ اسْتِبْعَادٍ مِنْ كَوْنِهَا مَبَادِئَ لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ خَارِجَ الْبَدَنِ. وَسَابِعُهَا: أَنَّ الْإِصَابَةَ بِالْعَيْنِ أَمْرٌ قَدِ اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ وَذَلِكَ أَيْضًا يُحَقِّقُ إِمْكَانَ مَا قُلْنَاهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: النُّفُوسُ الَّتِي تَفْعَلُ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ قَدْ تَكُونُ قَوِيَّةً جِدًّا فَتَسْتَغْنِي فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِالْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ وَقَدْ تَكُونُ ضَعِيفَةً فَتَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِهَذِهِ الْآلَاتِ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ النَّفْسَ إِذَا كَانَتْ مُسْتَعْلِيَةً عَلَى الْبَدَنِ شَدِيدَةَ الِانْجِذَابِ إِلَى عَالَمِ [السَّمَاءِ] كَانَتْ كَأَنَّهَا رُوحٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ، فَكَانَتْ قَوِيَّةً عَلَى التَّأْثِيرِ فِي مَوَادِّ هَذَا الْعَالَمِ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ ضَعِيفَةً شَدِيدَةَ التَّعَلُّقِ بِهَذِهِ اللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لها تصرف ألبتة إلا في هذه الْبَدَنِ، فَإِذَا أَرَادَ هَذَا الْإِنْسَانُ صَيْرُورَتَهَا بِحَيْثُ يَتَعَدَّى تَأْثِيرٌ مِنْ بَدَنِهَا إِلَى بَدَنٍ آخَرَ اتَّخَذَ تِمْثَالَ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَوَضَعَهُ عِنْدَ الْحِسِّ وَاشْتَغَلَ الْحِسُّ بِهِ فَيَتْبَعُهُ الْخَيَالُ عَلَيْهِ وَأَقْبَلَتِ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ عَلَيْهِ فَقَوِيَتِ التَّأْثِيرَاتُ النَّفْسَانِيَّةُ وَالتَّصَرُّفَاتُ الرُّوحَانِيَّةُ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعْتِ الْأُمَمُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِمُزَاوَلَةِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ مِنِ انْقِطَاعِ الْمَأْلُوفَاتِ وَالْمُشْتَهَيَاتِ وَتَقْلِيلِ الْغِذَاءِ وَالِانْقِطَاعِ عَنْ مُخَالَطَةِ الْخَلْقِ. وَكُلَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ أَتَمَّ كَانَ ذَلِكَ التَّأْثِيرُ أَقْوَى، فَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ كَانَتِ النَّفْسُ مُنَاسِبَةً لِهَذَا الْأَمْرِ نَظَرًا إِلَى مَاهِيَّتِهَا وَخَاصِّيَّتِهَا عَظُمَ التَّأْثِيرُ، وَالسَّبَبُ الْمُتَعَيَّنُ فِيهِ أَنَّ النَّفْسَ إِذَا اشْتَغَلَتْ بِالْجَانِبِ الْأَوَّلِ أَشْغَلَتْ جَمِيعَ قُوَّتِهَا فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ وَإِذَا اشْتَغَلَتْ بِالْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ تَفَرَّقَتْ قُوَّتُهَا وَتَوَزَّعَتْ عَلَى تِلْكَ الْأَفْعَالِ فَتَصِلُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ شُعْبَةٌ مِنْ تِلْكَ الْقُوَّةِ وَجَدْوَلٌ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ. وَلِذَلِكَ نَرَى أَنَّ إِنْسَانَيْنِ يَسْتَوِيَانِ فِي قُوَّةِ الْخَاطِرِ إِذَا اشْتَغَلَ أَحَدُهُمَا: بِصِنَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَاشْتَغَلَ الْآخَرُ بِصِنَاعَتَيْنِ. فَإِنَّ [ذَا الْفَنِّ] الْوَاحِدِ يَكُونُ أَقْوَى مِنْ ذِي الْفَنَّيْنِ، وَمَنْ حَاوَلَ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ مَسْأَلَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ فَإِنَّهُ حَالَ تَفَكُّرِهِ فِيهَا لَا بُدَّ وَأَنْ يُفَرِّغَ خَاطِرَهُ عَمَّا عَدَاهَا، فَإِنَّهُ عِنْدَ تَفْرِيغِ الْخَاطِرِ يَتَوَجَّهُ الْخَاطِرُ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَيْهِ فَيَكُونُ الْفِعْلُ أَسْهَلَ وَأَحْسَنَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مَشْغُولَ الْهَمِّ وَالْهِمَّةِ بِقَضَاءِ اللَّذَّاتِ وَتَحْصِيلِ الشَّهَوَاتِ كَانَتِ الْقُوَّةُ النَّفْسَانِيَّةُ مَشْغُولَةً بِهَا مُسْتَغْرِقَةً فِيهَا، فَلَا يَكُونُ انْجِذَابُهَا إِلَى تَحْصِيلِ الْفِعْلِ الْغَرِيبِ الَّذِي يحاوله انجذاباً قوياً لا سيما وهاهنا آفة

أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ النَّفْسِ قَدِ اعْتَادَتِ الِاشْتِغَالَ بِاللَّذَّاتِ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهَا إِلَى آخِرِهِ، وَلَمْ تَشْتَغِلْ قَطُّ بِاسْتِحْدَاثِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْغَرِيبَةِ، فَهِيَ بِالطَّبْعِ حَنُونٌ إِلَى الْأَوَّلِ عَزُوفٌ إلى الثَّانِي، فَإِذَا وَجَدَتْ مَطْلُوبَهَا مِنَ النَّمَطِ الْأَوَّلِ فَأَنَّى تَلْتَفِتُ/ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ؟ فَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ مُزَاوَلَةَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ لَا تَتَأَتَّى إِلَّا مَعَ التَّجَرُّدِ عَنِ الْأَحْوَالِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَتَرْكِ مُخَالَطَةِ الْخَلْقِ وَالْإِقْبَالِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى عَالَمِ الصَّفَاءِ وَالْأَرْوَاحِ. وَأَمَّا الرُّقَى فَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً فَالْأَمْرُ فِيهَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا أَنَّ حِسَّ الْبَصَرِ كَمَا شَغَلْنَاهُ بِالْأُمُورِ الْمُنَاسِبَةِ لِذَلِكَ الْغَرَضِ فَحِسُّ السَّمْعِ نَشْغَلُهُ أَيْضًا بِالْأُمُورِ الْمُنَاسِبَةِ لِذَلِكَ الْغَرَضِ، فَإِنَّ الْحَوَاسَّ مَتَى تَطَابَقَتْ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَى الْغَرَضِ الْوَاحِدِ كَانَ تَوَجُّهُ النَّفْسِ إِلَيْهِ حِينَئِذٍ أَقْوَى، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ بِأَلْفَاظٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ حَصَلَتْ لِلنَّفْسِ هُنَاكَ حَالَةٌ شَبِيهَةٌ بِالْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ إِنَّمَا تُقْرَأُ لِلِاسْتِعَانَةِ بِشَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ الرُّوحَانِيَّةِ وَلَا يَدْرِي كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الِاسْتِعَانَةِ حَصَلَتْ لِلنَّفْسِ هُنَاكَ حَالَةٌ شَبِيهَةٌ بِالْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ، وَيَحْصُلُ لِلنَّفْسِ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ انْقِطَاعٌ عَنِ الْمَحْسُوسَاتِ وَإِقْبَالٌ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَجِدٌّ عَظِيمٌ، فَيَقْوَى التَّأْثِيرُ النَّفْسَانِيُّ فَيَحْصُلُ الْغَرَضُ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الدُّخْنِ، قَالُوا: فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْقُوَّةِ النَّفْسَانِيَّةِ مُشْتَغِلٌ بِالتَّأْثِيرِ، فَإِنِ انْضَمَّ إِلَيْهِ النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنَ السِّحْرِ وَهُوَ الاستعانة بالكواكب وتأثيراتها عظم التأثير، بل هاهنا نَوْعَانِ آخَرَانِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ النُّفُوسَ الَّتِي فَارَقَتِ الْأَبْدَانَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَا هُوَ شَدِيدُ الْمُشَابَهَةِ لِهَذِهِ النُّفُوسِ فِي قُوَّتِهَا وَفِي تَأْثِيرَاتِهَا، فَإِذَا صَارَتْ تِلْكَ النُّفُوسُ صَافِيَةً لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَنْجَذِبَ إِلَيْهَا مَا يُشَابِهُهَا مِنَ النُّفُوسِ الْمُفَارِقَةِ وَيَحْصُلُ لِتِلْكَ النُّفُوسِ نَوْعٌ مَا مِنَ التَّعَلُّقِ بِهَذَا الْبَدَنِ فَتَتَعَاضَدُ النُّفُوسُ الْكَثِيرَةُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَإِذَا كَمُلَتِ الْقُوَّةُ وَتَزَايَدَتْ قَوِيَ التَّأْثِيرُ، الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ النُّفُوسَ النَّاطِقَةَ إِذَا صَارَتْ صَافِيَةً عَنِ الْكُدُورَاتِ الْبَدَنِيَّةِ صَارَتْ قَابِلَةً لِلْأَنْوَارِ الْفَائِضَةِ مِنَ الْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ وَالنُّفُوسِ الْفَلَكِيَّةِ، فَتَقْوَى هَذِهِ النُّفُوسُ بِأَنْوَارِ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ، فَتَقْوَى عَلَى أُمُورٍ غَرِيبَةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ فَهَذَا شَرْحُ سِحْرِ أَصْحَابِ الْأَوْهَامِ وَالرُّقَى. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ السِّحْرِ: الِاسْتِعَانَةُ بِالْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْجِنِّ مِمَّا أَنْكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، أَمَّا أَكَابِرُ الْفَلَاسِفَةِ فَإِنَّهُمْ مَا أَنْكَرُوا الْقَوْلَ بِهِ إِلَّا أَنَّهُمْ سَمَّوْهَا بِالْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ وَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا مُخْتَلِفَةٌ مِنْهَا خَيِّرَةٌ وَمِنْهَا شِرِّيرَةٌ، فَالْخَيِّرَةُ هُمْ مُؤْمِنُو الْجِنِّ وَالشِّرِّيرَةُ هُمْ كُفَّارُ الْجِنِّ وَشَيَاطِينُهُمْ، ثُمَّ قَالَ الْخَلَفُ مِنْهُمْ: هَذِهِ الْأَرْوَاحُ جَوَاهِرُ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا لَا مُتَحَيِّزَةٌ وَلَا حَالَّةٌ فِي الْمُتَحَيِّزِ وَهِيَ قَادِرَةٌ عَالِمَةٌ مُدْرِكَةٌ لِلْجُزْئِيَّاتِ، وَاتِّصَالُ النُّفُوسِ النَّاطِقَةِ بِهَا أَسْهَلُ مِنِ اتِّصَالِهَا بِالْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ الْقُوَّةَ الْحَاصِلَةَ لِلنُّفُوسِ النَّاطِقَةِ بِسَبَبِ اتِّصَالِهَا بِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ أَضْعَفُ مِنَ الْقُوَّةِ الْحَاصِلَةِ إِلَيْهَا بِسَبَبِ اتِّصَالِهَا بِتِلْكَ الْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ، أَمَّا أَنَّ الِاتِّصَالَ أَسْهَلُ فَلِأَنَّ الْمُنَاسِبَةَ بَيْنَ نُفُوسِنَا وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ أَسْهَلُ، وَلِأَنَّ الْمُشَابَهَةَ وَالْمُشَاكَلَةَ بَيْنَهُمَا أَتَمُّ وَأَشَدُّ مِنَ الْمُشَاكَلَةِ بَيْنَ نُفُوسِنَا وَبَيْنَ الْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ، وَأَمَّا أَنَّ الْقُوَّةَ بِسَبَبِ الِاتِّصَالِ بِالْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ أَقْوَى فَلِأَنَّ الْأَرْوَاحَ السَّمَاوِيَّةَ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ كَالشَّمْسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشُّعْلَةِ، وَالْبَحْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَطْرَةِ، وَالسُّلْطَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّعِيَّةِ. قَالُوا: وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ عَلَى وُجُودِهَا بُرْهَانٌ قَاهِرٌ فَلَا أَقَلَّ مِنَ الِاحْتِمَالِ وَالْإِمْكَانِ، ثُمَّ إِنَّ/ أَصْحَابَ الصَّنْعَةِ وَأَرْبَابَ التَّجْرِبَةِ شَاهَدُوا أَنَّ الِاتِّصَالَ بِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ يَحْصُلُ بِأَعْمَالٍ سَهْلَةٍ قَلِيلَةٍ مِنَ الرُّقَى وَالدُّخْنِ وَالتَّجْرِيدِ، فَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْعَزَائِمِ وَعَمَلِ تَسْخِيرِ الْجِنِّ.

النَّوْعُ الرَّابِعُ: مِنَ السِّحْرِ: التَّخَيُّلَاتُ وَالْأَخْذُ بِالْعُيُونِ، وَهَذَا الْأَخْذُ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ: إِحْدَاهَا: أَنَّ أَغْلَاطَ الْبَصَرِ كَثِيرَةٌ، فَإِنَّ رَاكِبَ السَّفِينَةِ إِذَا نَظَرَ إِلَى الشَّطِّ رَأَى السَّفِينَةَ وَاقِفَةً وَالشَّطَّ مُتَحَرِّكًا. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّاكِنَ يُرَى مُتَحَرِّكًا وَالْمُتَحَرِّكَ يُرَى سَاكِنًا، وَالْقَطْرَةَ النَّازِلَةَ تُرَى خَطًّا مُسْتَقِيمًا، وَالذُّبَالَةَ الَّتِي تُدَارُ بِسُرْعَةٍ تُرَى دَائِرَةً، وَالْعِنَبَةَ تُرَى فِي الْمَاءِ كَبِيرَةً كَالْإِجَّاصَةِ، وَالشَّخْصَ الصَّغِيرَ يُرَى فِي الضَّبَابِ عَظِيمًا، وَكَبُخَارِ الْأَرْضِ الَّذِي يُرِيكَ قُرْصَ الشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا عَظِيمًا، فَإِذَا فَارَقَتْهُ وَارْتَفَعَتْ عَنْهُ صَغُرَتْ، وَأَمَّا رُؤْيَةُ الْعَظِيمِ مِنَ الْبَعِيدِ صَغِيرًا فَظَاهِرٌ، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ قَدْ هَدَتِ الْعُقُولَ إِلَى أَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ قَدْ تُبْصِرُ الشَّيْءَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ لِبَعْضِ الْأَسْبَابِ الْعَارِضَةِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ إِنَّمَا تَقِفُ عَلَى الْمَحْسُوسَاتِ وُقُوفًا تَامًّا إِذَا أَدْرَكَتِ الْمَحْسُوسَ فِي زَمَانٍ لَهُ مِقْدَارٌ مَا، فَأَمَّا إِذَا أَدْرَكَتِ الْمَحْسُوسَ فِي زَمَانٍ صَغِيرٍ جِدًّا ثُمَّ أَدْرَكَتْ بَعْدَهُ مَحْسُوسًا آخَرَ وَهَكَذَا فَإِنَّهُ يَخْتَلِطُ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ وَلَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُ الْمَحْسُوسَاتِ عَنِ الْبَعْضِ، وَذَلِكَ فَإِنَّ الرَّحَى إِذَا أَخْرَجْتَ مِنْ مَرْكَزِهَا إِلَى مُحِيطِهَا خُطُوطًا كَثِيرَةً بِأَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ ثُمَّ اسْتَدَارَتْ، فَإِنَّ الْحِسَّ يَرَى لَوْنًا وَاحِدًا كَأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ كُلِّ تِلْكَ الْأَلْوَانِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ النَّفْسَ إِذَا كَانَتْ مَشْغُولَةً بِشَيْءٍ، فَرُبَّمَا حَضَرَ عِنْدَ الْحِسِّ شَيْءٌ آخَرُ وَلَا يَشْعُرُ الْحِسُّ بِهِ أَلْبَتَّةَ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَ دُخُولِهِ عَلَى السُّلْطَانِ قَدْ يَلْقَاهُ إِنْسَانٌ آخَرُ وَيَتَكَلَّمُ مَعَهُ، فَلَا يَعْرِفُهُ وَلَا يَفْهَمُ كَلَامَهُ، لِمَا أَنَّ قَلْبَهُ مَشْغُولٌ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَكَذَا النَّاظِرُ فِي الْمِرْآةِ فَإِنَّهُ رُبَّمَا قَصَدَ أَنْ يَرَى قَذَاةً فِي عَيْنِهِ فَيَرَاهَا وَلَا يَرَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا، إِنْ كَانَ بِوَجْهِهِ أَثَرٌ أَوْ بِجَبْهَتِهِ أَوْ بِسَائِرِ أَعْضَائِهِ الَّتِي تُقَابِلُ الْمِرْآةَ، وَرُبَّمَا قَصَدَ أَنْ يَرَى سَطْحَ الْمِرْآةِ هَلْ هُوَ مُسْتَوٍ أَمْ لَا فَلَا يَرَى شَيْئًا مِمَّا فِي الْمِرْآةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ سَهُلَ عِنْدَ ذَلِكَ تَصَوُّرُ كَيْفِيَّةِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ السِّحْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشَعْبِذَ الْحَاذِقَ يُظْهِرُ عَمَلَ شَيْءٍ يَشْغَلُ أَذْهَانَ النَّاظِرِينَ بِهِ وَيَأْخُذُ عُيُونَهُمْ إِلَيْهِ حَتَّى إِذَا اسْتَغْرَقَهُمُ الشُّغْلُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ وَالتَّحْدِيقُ نَحْوَهُ عَمِلَ شَيْئًا آخَرَ عَمَلًا بِسُرْعَةٍ شَدِيدَةٍ، فَيَبْقَى ذَلِكَ الْعَمَلُ خَفِيًّا لِتَفَاوُتِ الشَّيْئَيْنِ، أَحَدُهُمَا: اشْتِغَالُهُمْ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي: سُرْعَةُ الْإِتْيَانِ بِهَذَا الْعَمَلِ الثَّانِي وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ لَهُمْ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ مَا انْتَظَرُوهُ فَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ جِدًّا، وَلَوْ أَنَّهُ سَكَتَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَا يَصْرِفُ الْخَوَاطِرَ إِلَى ضِدِّ مَا يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَهُ وَلَمْ تَتَحَرَّكِ النُّفُوسُ وَالْأَوْهَامُ إِلَى غَيْرِ مَا يُرِيدُ إِخْرَاجَهُ، لَفَطِنَ النَّاظِرُونَ لِكُلِّ مَا يَفْعَلُهُ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمُشَعْبِذَ يَأْخُذُ بِالْعُيُونِ لِأَنَّهُ بِالْحَقِيقَةِ يَأْخُذُ الْعُيُونَ إِلَى غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي يَحْتَالُ فِيهَا وَكُلَّمَا كَانَ أَخْذُهُ لِلْعُيُونِ وَالْخَوَاطِرِ وَجَذْبُهُ لَهَا إِلَى سِوَى مَقْصُودِهِ أَقْوَى كَانَ أَحَذَقَ فِي عَمَلِهِ، وَكُلَّمَا كَانَتِ الْأَحْوَالُ الَّتِي تُفِيدُ حِسَّ الْبَصَرِ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَلَلِ أَشَدَّ كَانَ هَذَا الْعَمَلُ أَحْسَنَ، مِثْلَ أَنْ يَجْلِسَ الْمُشَعْبِذُ فِي مَوْضِعٍ مُضِيءٍ جِدًّا، فَإِنَّ الْبَصَرَ يُفِيدُ الْبَصَرَ كَلَالًا وَاخْتِلَالًا، وَكَذَا الظُّلْمَةُ الشَّدِيدَةُ/ وَكَذَلِكَ الْأَلْوَانُ الْمُشْرِقَةُ الْقَوِيَّةُ تُفِيدُ الْبَصَرَ كَلَالًا وَاخْتِلَالًا، وَالْأَلْوَانُ الْمُظْلِمَةُ قَلَّمَا تَقِفُ الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ عَلَى أَحْوَالِهَا، فَهَذَا مَجَامِعُ الْقَوْلِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ السِّحْرِ. النَّوْعُ الْخَامِسُ مِنَ السِّحْرِ: الْأَعْمَالُ الْعَجِيبَةُ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْ تَرْكِيبِ الْآلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ عَلَى النِّسَبِ الْهَنْدَسِيَّةِ تَارَةً وَعَلَى ضُرُوبِ الْخُيَلَاءِ أُخْرَى، مِثْلَ: فَارِسَيْنِ يَقْتَتِلَانِ فَيَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَكَفَارِسٍ عَلَى فَرَسٍ فِي يَدِهِ بُوقٌ، كُلَّمَا مَضَتْ سَاعَةٌ مِنَ النَّهَارِ ضَرَبَ الْبُوقَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ، وَمِنْهَا الصُّوَرُ الَّتِي يُصَوِّرُهَا الرُّومُ وَالْهِنْدُ حَتَّى لَا يُفَرِّقَ النَّاظِرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ، حَتَّى يُصَوِّرُونَهَا ضَاحِكَةً وَبَاكِيَةً، حتى يفرق فيها ضَحِكِ السُّرُورِ وَبَيْنَ ضَحِكِ الْخَجَلِ، وَضَحِكِ الشَّامِتِ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ مِنْ لَطِيفِ أُمُورِ الْمَخَايِلِ، وَكَانَ سِحْرُ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَرْكِيبُ صُنْدُوقِ السَّاعَاتِ، وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا الْبَابِ عِلْمُ جَرِّ الْأَثْقَالِ وَهُوَ أَنْ يجر ثقيلًا

عَظِيمًا بِآلَةٍ خَفِيفَةٍ سَهْلَةٍ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مِنْ بَابِ السِّحْرِ لِأَنَّ لَهَا أَسْبَابًا مَعْلُومَةً نَفِيسَةً مَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا قَدَرَ عَلَيْهَا، إِلَّا أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهَا لَمَّا كَانَ عَسِيرًا شَدِيدًا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ إِلَّا الْفَرْدُ بَعْدَ الْفَرْدِ، لَا جَرَمَ عَدَّ أَهْلُ الظَّاهِرِ ذَلِكَ مِنْ بَابِ السِّحْرِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ عَمَلُ «أَرْجَعْيَانُوسَ» الْمُوسِيقَارِ فِي هَيْكَلِ أُورْشَلِيمَ الْعَتِيقِ عِنْدَ تَجْدِيدِهِ إِيَّاهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ اتَّفَقَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ مُجْتَازًا بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ فَوَجَدَ فِيهَا فَرْخًا مِنْ فِرَاخِ الْبَرَاصِلِ، وَالْبَرَاصِلُ هُوَ طَائِرٌ عَطُوفٌ وَكَانَ يُصَفِّرُ صَفِيرًا حَزِينًا بِخِلَافِ سَائِرِ الْبَرَاصِلِ وَكَانَتِ الْبَرَاصِلُ تَجِيئُهُ بِلَطَائِفِ الزَّيْتُونِ فَتَطْرَحُهَا عِنْدَهُ فَيَأْكُلُ بَعْضَهَا عِنْدَ حَاجَتِهِ وَيَفْضُلُ بَعْضُهَا عَنْ حَاجَتِهِ فَوَقَفَ هَذَا الْمُوسِيقَارُ هُنَاكَ وَتَأَمَّلَ حَالَ ذَلِكَ الْفَرْخِ وَعَلِمَ أَنَّ فِي صَفِيرِهِ الْمُخَالِفِ لِصَفِيرِ الْبَرَاصِلِ ضَرْبًا مِنَ التَّوَجُّعِ وَالِاسْتِعْطَافِ حَتَّى رَقَّتْ لَهُ الطُّيُورُ وَجَاءَتْهُ بِمَا يَأْكُلُهُ فَتَلَطَّفَ بِعَمَلِ آلَةٍ تُشْبِهُ الصَّفَّارَةَ إِذَا اسْتَقْبَلَ الرِّيحَ بِهَا أَدَّتْ ذَلِكَ الصَّفِيرَ وَلَمْ يَزَلْ يُجَرِّبُ ذَلِكَ حَتَّى وَثِقَ بِهَا وَجَاءَتْهُ الْبَرَاصِلُ بِالزَّيْتُونِ كَمَا كَانَتْ تَجِيءُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرْخِ لِأَنَّهَا تَظُنُّ أَنَّ هُنَاكَ فَرْخًا مِنْ جِنْسِهَا، فَلَمَّا صَحَّ لَهُ مَا أَرَادَ أَظْهَرَ النُّسُكَ وَعَمَدَ إِلَى هَيْكَلِ أُورْشَلِيمَ وَسَأَلَ عَنِ اللَّيْلَةِ الَّتِي دُفِنَ فِيهَا «أُسْطُرْخُسُ» النَّاسِكُ الْقَيِّمُ بِعِمَارَةِ ذَلِكَ الْهَيْكَلِ، فَأُخْبِرَ أَنَّهُ دُفِنَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ آبَ فَاتَّخَذَ صُورَةً مِنْ زُجَاجٍ مُجَوَّفٍ عَلَى هَيْئَةِ الْبَرْصَلَةِ وَنَصَبَهَا فَوْقَ ذَلِكَ الْهَيْكَلِ، وَجَعَلَ فَوْقَ تِلْكَ الصُّورَةِ قُبَّةً وَأَمَرَهُمْ بِفَتْحِهَا فِي أَوَّلِ آبَ وَكَانَ يُظْهِرُ صَوْتَ الْبَرْصَلَةِ بِسَبَبِ نُفُوذِ الرِّيحِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ وَكَانَتِ الْبَرَاصِلُ تَجِيءُ بِالزَّيْتُونِ حَتَّى كَانَتْ تَمْتَلِئُ تِلْكَ الْقُبَّةُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ ذَلِكَ الزَّيْتُونِ وَالنَّاسُ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ مِنْ كَرَامَاتِ ذَلِكَ الْمَدْفُونِ وَيَدْخُلُ فِي الْبَابِ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ لَا يَلِيقُ شَرْحُهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. النَّوْعُ السَّادِسُ: مِنَ السِّحْرِ: الِاسْتِعَانَةُ بِخَوَاصِّ الْأَدْوِيَةِ مِثْلَ أَنْ يَجْعَلَ فِي طَعَامِهِ بَعْضَ الْأَدْوِيَةِ الْمُبَلِّدَةِ الْمُزِيلَةِ لِلْعَقْلِ وَالدُّخْنِ الْمُسْكِرَةِ نَحْوَ دِمَاغِ الْحِمَارِ إِذَا تَنَاوَلَهُ الْإِنْسَانُ تَبَلَّدَ عَقْلُهُ وَقَلَّتْ فِطْنَتُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِ الْخَوَاصِّ فَإِنَّ أَثَرَ الْمِغْنَاطِيسِ مَشَاهَدٌ إِلَّا أَنَّ النَّاسَ قَدْ أَكْثَرُوا فِيهِ وَخَلَطُوا الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ وَالْبَاطِلَ بِالْحَقِّ. النَّوْعُ السَّابِعُ: مِنَ السِّحْرِ: تَعْلِيقُ الْقَلْبِ وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ السَّاحِرُ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ وَأَنَّ الْجِنَّ يُطِيعُونَهُ وَيَنْقَادُونَ لَهُ فِي أَكْثَرِ الْأُمُورِ، فَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ كَانَ السَّامِعُ لِذَلِكَ ضَعِيفَ الْعَقْلِ قَلِيلَ التَّمْيِيزِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ حَقٌّ وَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِذَلِكَ وَحَصَلَ فِي نَفْسِهِ نَوْعٌ مِنَ الرُّعْبِ وَالْمَخَافَةِ، وَإِذَا حَصَلَ الْخَوْفُ ضَعُفَتِ الْقُوَى الْحَسَّاسَةُ فَحِينَئِذٍ يَتَمَكَّنَ السَّاحِرُ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ حِينَئِذٍ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ مَنْ جَرَّبَ الْأُمُورَ وَعَرَفَ أَحْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلِمَ أَنَّ لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ أَثَرًا عَظِيمًا فِي تَنْفِيذِ الْأَعْمَالِ وَإِخْفَاءِ الْأَسْرَارِ. النَّوْعُ الثَّامِنُ: مِنَ السِّحْرِ: السَّعْيُ بِالنَّمِيمَةِ وَالتَّضْرِيبِ مِنْ وُجُوهٍ خَفِيفَةٍ لَطِيفَةٍ وَذَلِكَ شَائِعٌ فِي النَّاسِ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي أَقْسَامِ السِّحْرِ وَشَرْحُ أَنْوَاعِهِ وَأَصْنَافِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي أَقْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ هَلْ هِيَ مُمْكِنَةٌ أَمْ لَا؟ أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى إِنْكَارِهَا إِلَّا النَّوْعَ الْمَنْسُوبَ إِلَى التَّخَيُّلِ وَالْمَنْسُوبَ إِلَى إِطْعَامِ بَعْضِ الْأَدْوِيَةِ الْمُبَلِّدَةِ وَالْمَنْسُوبَ إِلَى التَّضْرِيبِ وَالنَّمِيمَةِ، فَأَمَّا الْأَقْسَامُ الْخَمْسَةُ الْأُوَلُ فَقَدْ أَنْكَرُوهَا وَلَعَلَّهُمْ كَفَّرُوا مَنْ قَالَ بِهَا وجوزوا وُجُودَهَا، وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَقَدْ جَوَّزُوا أَنْ يَقْدِرَ السَّاحِرُ عَلَى أَنْ يَطِيرَ فِي الْهَوَاءِ وَيَقْلِبَ الْإِنْسَانَ حِمَارًا وَالْحِمَارَ إِنْسَانًا، إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِهَذِهِ الأشياء عند ما يَقْرَأُ السَّاحِرُ رُقًى مَخْصُوصَةً وَكَلِمَاتٍ مُعَيَّنَةً. فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ الْفَلَكُ وَالنُّجُومُ فَلَا. وَأَمَّا الْفَلَاسِفَةُ وَالْمُنَجِّمُونَ وَالصَّابِئَةُ فَقَوْلُهُمْ عَلَى مَا سَلَفَ تَقْرِيرُهُ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الصَّابِئَةِ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْعَالَمَ مُحْدَثٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُوجِدُهُ قَادِرًا وَالشَّيْءُ الَّذِي حَكَمَ الْعَقْلُ بِأَنَّهُ

مَقْدُورٌ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا لِكَوْنِهِ مُمْكِنًا وَالْإِمْكَانُ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، فَإِذَنْ كُلُّ الْمُمْكِنَاتِ مَقْدُورٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَوْ وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمَقْدُورَاتِ بِسَبَبٍ آخَرَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ السَّبَبُ مُزِيلًا لِتَعَلُّقِ قدرة الله تعالى بذلك المقدور فيكون الحاث سَبَبًا لِعَجْزِ اللَّهِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُ شَيْءٍ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ إِلَّا بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَعِنْدَهُ يَبْطُلُ كُلُّ مَا قَالَهُ الصَّابِئَةُ، قَالُوا: إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَدَّعِي أَنَّهُ يَمْتَنِعُ وُقُوعُ هَذِهِ الْخَوَارِقِ بِإِجْرَاءِ الْعَادَةِ عِنْدَ سِحْرِ السَّحَرَةِ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى وُقُوعِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ السِّحْرِ بِالْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْآثَارِ بِسَبَبِهِ، وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَهِيَ وَارِدَةٌ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَاتِرَةً وَآحَادًا، أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُحِرَ، وَأَنَّ السِّحْرَ عَمِلَ فِيهِ حَتَّى قَالَ: «إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنِّي أَقُولُ الشَّيْءَ وَأَفْعَلُهُ وَلَمْ أَقُلْهُ وَلَمْ أَفْعَلْهُ» وَأَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً سَحَرَتْهُ وَجَعَلَتْ ذَلِكَ السِّحْرَ تَحْتَ رَاعُوفَةِ الْبِئْرِ، فَلَمَّا اسْتُخْرِجَ ذَلِكَ زَالَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الْعَارِضُ وَأُنْزِلَ الْمُعَوِّذَتَانِ بِسَبَبِهِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ عَائِشَةً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ لَهَا: إِنِّي سَاحِرَةٌ فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَتْ: وَمَا سِحْرُكِ؟ فَقَالَتْ: صِرْتُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ هَارُوتُ وَمَارُوتُ بِبَابِلَ لِطَلَبِ عِلْمِ السِّحْرِ فَقَالَا لِي يَا أَمَةَ اللَّهِ لَا تَخْتَارِي عَذَابَ الْآخِرَةِ بِأَمْرِ الدُّنْيَا فَأَبَيْتُ، فَقَالَا لِي: اذْهَبِي فَبُولِي عَلَى ذَلِكَ الرَّمَادِ، فَذَهَبْتُ لِأَبُولَ عَلَيْهِ فَفَكَّرْتُ فِي نَفْسِي فَقُلْتُ لَا أَفْعَلُ وَجِئْتُ إِلَيْهِمَا فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ، فَقَالَا لِي: مَا رَأَيْتِ لَمَّا فَعَلْتِ؟ فَقُلْتُ/ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا، فَقَالَا لِي: أَنْتِ عَلَى رَأْسِ أَمْرٍ فَاتَّقِي اللَّهَ وَلَا تَفْعَلِي، فَأَبَيْتُ فَقَالَا لِي: اذْهَبِي فَافْعَلِي، فذهب فَفَعَلْتُ، فَرَأَيْتُ كَأَنَّ فَارِسًا مُقَنَّعًا بِالْحَدِيدِ قَدْ خَرَجَ مِنْ فَرْجِي فَصَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ فَجِئْتُهُمَا فَأَخْبَرْتُهُمَا فَقَالَا: إِيمَانُكِ قَدْ خَرَجَ عَنْكِ وَقَدْ أَحْسَنْتِ السِّحْرَ، فَقُلْتُ: وَمَا هُوَ؟ قَالَا: مَا تُرِيدِينَ شَيْئًا فَتُصَوِّرِيهِ فِي وَهْمِكِ، إِلَّا كَانَ فَصَوَّرْتُ فِي نَفْسِي حَبًّا مِنْ حِنْطَةٍ، فَإِذَا أَنَا بِحَبٍّ، فَقُلْتُ: انْزَرِعْ فَانْزَرَعَ فَخَرَجَ مِنْ سَاعَتِهِ سُنْبُلًا فَقُلْتُ: انْطَحِنْ فَانْطَحَنَ مِنْ سَاعَتِهِ، فَقُلْتُ: انْخَبِزْ فَانْخَبَزَ وَأَنَا لَا أُرِيدُ شَيْئًا أُصَوِّرُهُ فِي نَفْسِي إِلَّا حَصَلَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ لَكِ تَوْبَةٌ، وَثَالِثُهَا: مَا يَذْكُرُونَهُ مِنَ الْحِكَايَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي هَذَا الْبَابِ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى إِنْكَارِهِ بِوُجُوهٍ، أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه: 69] ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الْفَرْقَانِ: 8] وَلَوْ صَارَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَسْحُورًا لَمَا اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ بِسَبَبِ هَذَا الْقَوْلِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ مِنَ السِّحْرِ فَكَيْفَ يَتَمَيَّزُ الْمُعْجِزُ عَنِ السِّحْرِ ثُمَّ قَالُوا: هَذِهِ الدَّلَائِلُ يَقِينِيَّةٌ وَالْأَخْبَارُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا مِنْ بَابِ الْآحَادِ فَلَا تَصْلُحُ مُعَارِضَةً لِهَذِهِ الدَّلَائِلِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي أَنَّ الْعِلْمَ بِالسِّحْرِ غَيْرُ قَبِيحٍ وَلَا مَحْظُورٌ: اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ لِذَاتِهِ شَرِيفٌ وَأَيْضًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزُّمَرِ: 9] وَلِأَنَّ السِّحْرَ لَوْ لَمْ يَكُنْ يُعْلَمُ لَمَا أَمْكَنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزِ، وَالْعِلْمُ بِكَوْنِ الْمُعْجِزِ مُعْجِزًا وَاجِبٌ وَمَا يَتَوَقَّفُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فَهُوَ وَاجِبٌ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِالسِّحْرِ وَاجِبًا وَمَا يَكُونُ وَاجِبًا كَيْفَ يَكُونُ حَرَامًا وَقَبِيحًا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي أَنَّ السَّاحِرَ قَدْ يُكَفَّرُ أَمْ لَا، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ السَّاحِرَ هَلْ يُكَفَّرُ أَمْ لَا؟ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُمَا بِقَوْلٍ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ هِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِهَذَا الْعَالَمِ وَهِيَ الْخَالِقَةُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَوَادِثِ وَالْخَيْرَاتِ وَالشُّرُورِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنَ السحر.

أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ قَدْ يَبْلُغُ رُوحُ الْإِنْسَانِ فِي التَّصْفِيَةِ وَالْقُوَّةِ إِلَى حَيْثُ يَقْدِرُ بِهَا عَلَى إِيجَادِ الْأَجْسَامِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَتَغْيِيرِ الْبِنْيَةِ وَالشَّكْلِ، فَالْأَظْهَرُ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَيْضًا عَلَى تَكْفِيرِهِ. أَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ السَّاحِرُ أَنَّهُ قَدْ يَبْلُغُ فِي التَّصْفِيَةِ وَقِرَاءَةِ الرُّقَى وَتَدْخِينِ بَعْضِ الْأَدْوِيَةِ إِلَى حَيْثُ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى عَقِيبَ أَفْعَالِهِ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ الْأَجْسَامَ وَالْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ وَتَغْيِيرَ الْبِنْيَةِ وَالشَّكْلِ فَهَهُنَا الْمُعْتَزِلَةُ اتَّفَقُوا عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ قَالُوا لِأَنَّهُ مَعَ هَذَا الِاعْتِقَادِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْرِفَ صِدْقَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَهَذَا رَكِيكٌ مِنَ الْقَوْلِ. فَإِنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَوِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَكَانَ كَاذِبًا فِي دَعْوَاهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِظْهَارُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى يَدِهِ لِئَلَّا يَحْصُلَ التَّلْبِيسُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَدَّعِ النُّبُوَّةَ وَأَظْهَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى يَدِهِ لَمْ يُفْضِ ذَلِكَ إِلَى التَّلْبِيسِ فَإِنَّ الْمُحِقَّ يَتَمَيَّزُ عَنِ/ الْمُبْطِلِ بِمَا أَنَّ الْمُحِقَّ تَحْصُلُ لَهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَعَ ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ وَالْمُبْطِلَ لَا تَحْصُلُ لَهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَعَ ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ. وَأَمَّا سَائِرُ الْأَنْوَاعِ الَّتِي عَدَدْنَاهَا مِنَ السِّحْرِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِكُفْرٍ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْيَهُودَ لَمَّا أَضَافُوا السِّحْرَ إِلَى سُلَيْمَانَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى تَنْزِيهًا لَهُ عَنْهُ: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَيْضًا قَالَ: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَهَذَا أَيْضًا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السِّحْرُ عَلَى الْإِطْلَاقِ كُفْرًا. وَحَكَى عَنِ الْمَلَكَيْنِ أَنَّهُمَا لَا يُعَلِّمَانِ أَحَدًا السِّحْرَ حَتَّى يَقُولَا: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، قُلْنَا: حِكَايَةُ الْحَالِ يَكْفِي فِي صدقها صورة واحدة فتحملها عَلَى سِحْرِ مَنْ يَعْتَقِدُ إِلَهِيَّةَ النُّجُومِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ قَتْلُهُمْ أَمْ لَا؟ أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي الْكَوَاكِبِ كَوْنَهَا آلِهَةً مُدَبِّرَةً. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ السَّاحِرَ قَدْ يَصِيرُ مَوْصُوفًا بِالْقُدْرَةِ عَلَى خَلْقِ الْأَجْسَامِ وَخَلْقِ الْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعَقْلِ وَتَرْكِيبِ الْأَشْكَالِ، فَلَا شَكَّ فِي كُفْرِهِمَا، فَالْمُسْلِمُ إِذَا أَتَى بِهَذَا الِاعْتِقَادِ كَانَ كَالْمُرْتَدِّ يُسْتَتَابُ فَإِنْ أَصَرَّ قُتِلَ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، لَنَا أَنَّهُ أَسْلَمَ فَيُقْبَلُ إِسْلَامُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ» ، أَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِخَلْقِ الْأَجْسَامِ وَالْحَيَاةِ وَتَغْيِيرِ الشَّكْلِ وَالْهَيْئَةِ عِنْدَ قِرَاءَةِ بَعْضِ الرُّقَى وَتَدْخِينِ بَعْضِ الْأَدْوِيَةِ، فَالسَّاحِرُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَى اسْتِحْدَاثِ الْأَجْسَامِ وَالْحَيَاةِ وَتَغْيِيرِ الْخِلْقَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ كُفْرٌ قَالُوا: لِأَنَّهُ مَعَ هَذَا الِاعْتِقَادِ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِدْلَالُ بِالْمُعْجِزِ عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا رَكِيكٌ لِأَنَّهُ يُقَالُ: الْفَرْقُ هُوَ أَنَّ مُدَّعِيَ النُّبُوَّةِ إِنْ كَانَ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ أَمْكَنَهُ الْإِتْيَانُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ. إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَافِرٍ وَثَبَتَ أَنَّهُ مُمْكِنُ الْوُقُوعِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ إِتْيَانَهُ بِهِ مُبَاحٌ كَفَرَ، لِأَنَّهُ حَكَمَ عَلَى الْمَحْظُورِ بِكَوْنِهِ مُبَاحًا، وَإِنِ اعْتَقَدَ حُرْمَتَهُ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ، إِنْ قَالَ: إِنِّي سَحَرْتُهُ وَسِحْرِي يَقْتُلُ غَالِبًا، يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَإِنْ قَالَ: سَحَرْتُهُ وَسِحْرِي قَدْ يَقْتُلُ وَقَدْ لَا يَقْتُلُ فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ وَإِنْ قَالَ سَحَرْتُ غَيْرَهُ فَوَافَقَ اسْمَهُ فَهُوَ خَطَأٌ تَجِبُ الدِّيَةُ مُخَفَّفَةً فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ إِلَّا أَنْ تُصَدِّقَهُ الْعَاقِلَةُ فحينئذ تَجِبُ عَلَيْهِمْ هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: يُقْتَلُ السَّاحِرُ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ سَاحِرٌ وَلَا يُسْتَتَابُ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: إِنِّي أَتْرُكُ السِّحْرَ وَأَتُوبُ مِنْهُ، فَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ سَاحِرٌ فَقَدْ حَلَّ دمه وإن شهد شهدان عَلَى أَنَّهُ سَاحِرٌ أَوْ وَصَفُوهُ بِصِفَةٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ سَاحِرٌ قُتِلَ وَلَا يُسْتَتَابُ وَإِنْ أَقَرَّ بِأَنِّي كُنْتُ أَسْحَرُ مَرَّةً وَقَدْ تَرَكْتُ ذَلِكَ مُنْذُ زَمَانٍ قُبِلَ مِنْهُ وَلَمْ يُقْتَلْ، وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ عَلِيٍّ الرَّازِيِّ قَالَ:

سَأَلْتُ أَبَا يُوسُفَ عَنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي السَّاحِرِ: يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ، فَقَالَ: السَّاحِرُ جَمَعَ مَعَ كُفْرِهِ السَّعْيَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ إِذَا قَتَلَ قُتِلَ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ لَيْسَ بِكُفْرٍ فَهُوَ فِسْقٌ/ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِنَايَةً عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ كَانَ الْحَقُّ هُوَ التَّفْصِيلَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. الثَّانِي: أَنَّ سَاحِرَ الْيَهُودِ لَا يُقْتَلُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَحَرَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ وَامْرَأَةٌ مَنْ يَهُودِ خَيْبَرَ يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ، فَلَمْ يَقْتُلْهُمَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» . وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى قَوْلِهِ بِأَخْبَارٍ، أَحَدُهَا: مَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ جَارِيَةً لِحَفْصَةَ سَحَرَتْهَا وَأَخَذُوهَا فَاعْتَرَفَتْ بِذَلِكَ فَأَمَرَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدٍ فَقَتَلَهَا فَبَلَغَ عُثْمَانَ فَأَنْكَرَهُ فَأَتَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَأَخْبَرَهُ أَمْرَهَا فَكَأَنَّ عُثْمَانَ إِنَّمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ لِأَنَّهَا قَتَلَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَثَانِيهَا: مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّهُ وَرَدَ كِتَابُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنِ اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ، وَثَالِثُهَا: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْعَرَّافِينَ كُهَّانُ الْعَجَمِ، فَمَنْ أَتَى كَاهِنًا يُؤْمِنُ له بما يقول فقد برىء مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْجَوَابُ: لَعَلَّ السَّحَرَةَ الَّذِينَ قُتِلُوا كَانُوا مِنَ الْكَفَرَةِ فَإِنَّ حِكَايَةَ الْحَالِ يَكْفِي فِي صِدْقِهَا صُورَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَمَّا سَائِرُ أَنْوَاعِ السِّحْرِ أَعْنِي الْإِتْيَانَ بِضُرُوبِ الشَّعْبَذَةِ وَالْآلَاتِ الْعَجِيبَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى ضُرُوبِ الْخُيَلَاءِ، وَالْمَبْنِيَّةِ عَلَى النِّسَبِ الْهَنْدَسِيَّةِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِيمَنْ يُوهِمُ ضُرُوبًا مِنَ التَّخْوِيفِ وَالتَّقْرِيعِ حَتَّى يَصِيرَ مَنْ بِهِ السَّوْدَاءُ مُحْكِمَ الِاعْتِقَادِ فِيهِ وَيَتَمَشَّى بِالتَّضْرِيبِ وَالنَّمِيمَةِ وَيَحْتَالُ فِي إِيقَاعِ الْفُرْقَةِ بَعْدَ الْوَصْلَةِ، وَيُوهِمُ أَنَّ ذَلِكَ بِكِتَابَةٍ يَكْتُبُهَا مِنَ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ فَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ بِكُفْرٍ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي دَفْنِ الْأَشْيَاءِ الْوَسِخَةِ فِي دُورِ النَّاسِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي إِيهَامِ أَنَّ الْجِنَّ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَنْ يَدُسُّ الْأَدْوِيَةَ الْمُبَلِّدَةَ فِي الْأَطْعِمَةِ فَإِنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَبْلُغُ حَدَّ الْكُفْرِ وَلَا يُوجِبُ الْقَتْلَ أَلْبَتَّةَ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْكُلِّيُّ فِي السِّحْرِ وَاللَّهُ الْكَافِي وَالْوَاقِي وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ إِنَّمَا كَفَرُوا لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ وَتَعْلِيمُ مَا لَا يَكُونُ كُفْرًا لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ، فَصَارَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ تَعْلِيمَ السِّحْرِ كُفْرٌ، وَعَلَى أَنَّ السِّحْرَ أَيْضًا كُفْرٌ، وَلِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَفَرُوا وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُشْكِلٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي آخِرِ الْآيَةِ أَنَّ الْمَلَكَيْنِ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ، فَلَوْ كَانَ تَعْلِيمُ السِّحْرِ كُفْرًا لَزِمَ تَكْفِيرُ الْمَلَكَيْنِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بِأَسْرِهِمْ مَعْصُومُونَ وَأَيْضًا فَلِأَنَّكُمْ قَدْ دَلَلْتُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا يُسَمَّى سِحْرًا فَهُوَ كُفْرٌ. قُلْنَا: اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَكُونُ عَامًّا فِي جَمِيعِ مُسَمَّيَاتِهِ، فَنَحْنُ نَحْمِلُ هَذَا السِّحْرَ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ عَلَى النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُسَمَّاةِ بِالسِّحْرِ، وَهُوَ اعْتِقَادُ إِلَهِيَّةِ الْكَوَاكِبِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهَا فِي إِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَهَذَا السِّحْرُ كُفْرٌ، وَالشَّيَاطِينُ إِنَّمَا كَفَرُوا لِإِتْيَانِهِمْ بِهَذَا السِّحْرِ لَا بِسَائِرِ الْأَقْسَامِ. وَأَمَّا الْمَلَكَانِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمَا عَلَّمَا هَذَا النَّوْعَ مِنَ السِّحْرِ، بَلْ لَعَلَّهُمْ يُعَلِّمَانِ سَائِرَ الْأَنْوَاعِ عَلَى/ مَا قَالَ تَعَالَى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا عَلَّمَا هَذَا النَّوْعَ لَكِنَّ تَعْلِيمَ هَذَا النَّوْعِ إِنَّمَا يَكُونُ كُفْرًا إذا قصد المعلم أن يعتقد حقيته وَكَوْنُهُ صَوَابًا، فَأَمَّا أَنْ يُعَلِّمَهُ لِيُحْتَرَزَ عَنْهُ فَهَذَا التَّعْلِيمُ لَا يَكُونُ كُفْرًا، وَتَعْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ كَانَ لِأَجْلِ أَنْ يَصِيرَ الْمُكَلَّفُ مُحْتَرِزًا عَنْهُ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً

عَنْهُمَا: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ وَأَمَّا الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ عَلَّمُوا النَّاسَ السِّحْرَ فَكَانَ مَقْصُودُهُمُ اعْتِقَادَ حقية هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو بِتَشْدِيدِ «لَكِنَّ» وَ «الشَّيَاطِينَ» بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ «لَكِنَّ» وَالْبَاقُونَ «لَكِنْ» بِالتَّخْفِيفِ وَ «الشَّيَاطِينُ» بِالرَّفْعِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَنْفَالِ: وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى. وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ [الْأَنْفَالِ: 17] وَالِاخْتِيَارُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ بِالْوَاوِ كَانَ التَّشْدِيدُ أَحْسَنَ، وَإِذَا كَانَ بِغَيْرِ الْوَاوِ فَالتَّخْفِيفُ أَحْسَنُ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ «لَكِنْ» بِالتَّخْفِيفِ يَكُونُ عَطْفًا فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْوَاوِ لِاتِّصَالِ الْكَلَامِ، وَالْمُشَدَّدَةُ لَا تَكُونُ عَطْفًا لِأَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ «إِنَّ» . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «مَا» فِي قَوْلِهِ: وَما أُنْزِلَ فِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بِمَعْنَى الَّذِي ثُمَّ هَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أقوال. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى (السِّحْرِ) أَيْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَيُعَلِّمُونَهُمْ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ أَيْضًا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ أي وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ افْتِرَاءً عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ لِأَنَّ السِّحْرَ مِنْهُ مَا هُوَ كُفْرٌ وَهُوَ الَّذِي تَلَتْهُ الشَّيَاطِينُ، وَمِنْهُ مَا تَأْثِيرُهُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَهُوَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمُ اتَّبَعُوا كِلَا الْأَمْرَيْنِ وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى أَحَدِهِمَا، وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَوْضِعَهُ جَرٌّ عَطْفًا عَلَى (مُلْكِ سُلَيْمَانَ) وتقديره مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ افْتِرَاءً عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَعَلَى مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَنْكَرَ فِي الْمَلَكَيْنِ أَنْ يَكُونَ السِّحْرُ نَازِلًا عَلَيْهِمَا وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ السِّحْرَ لَوْ كَانَ نَازِلًا عَلَيْهِمَا لَكَانَ مُنْزِلُهُ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لَأَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ وَعَبَثٌ وَلَا يَلِيقُ بِاللَّهِ إِنْزَالُ ذَلِكَ، الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَعْلِيمَ السِّحْرِ كُفْرٌ، فَلَوْ ثَبَتَ فِي الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ يُعَلِّمُونَ السِّحْرَ لَزِمَهُمُ الْكُفْرُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ. الثَّالِثُ: كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُبْعَثُوا لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ فَكَذَلِكَ فِي الْمَلَائِكَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، الرَّابِعُ: أَنَّ السِّحْرَ لَا يَنْضَافُ إِلَّا إِلَى الْكَفَرَةِ وَالْفَسَقَةِ وَالشَّيَاطِينِ الْمَرَدَةِ، وَكَيْفَ يُضَافُ إِلَى اللَّهِ مَا يَنْهَى عَنْهُ وَيَتَوَعَّدُ عَلَيْهِ بِالْعِقَابِ؟ وَهَلِ السِّحْرُ إِلَّا الْبَاطِلُ الْمُمَوَّهُ وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِإِبْطَالِهِ كَمَا قَالَ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ [يُونُسَ: 81] ثُمَّ إِنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ سَلَكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ نَهْجًا آخَرَ يُخَالِفُ قَوْلَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، فَقَالَ: كَمَا أَنَّ الشَّيَاطِينَ نَسَبُوا السِّحْرَ إِلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ مَعَ أَنَّ مُلْكَ سُلَيْمَانَ كَانَ مُبَرَّأً/ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ نَسَبُوا مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ إِلَى السِّحْرِ مَعَ أَنَّ الْمُنَزَّلَ عَلَيْهِمَا كَانَ مُبَرَّأً عَنِ السِّحْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنَزَّلَ عَلَيْهِمَا كَانَ هُوَ الشَّرْعَ وَالدِّينَ وَالدُّعَاءَ إِلَى الْخَيْرِ، وَإِنَّمَا كَانَا يُعَلِّمَانِ النَّاسَ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِمَا: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ تَوْكِيدًا لِبَعْثِهِمْ عَلَى الْقَبُولِ وَالتَّمَسُّكِ، وَكَانَتْ طَائِفَةٌ تَتَمَسَّكُ وَأُخْرَى تُخَالِفُ وَتَعْدِلُ عَنْ ذَلِكَ وَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا أَيْ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْكُفْرِ مِقْدَارَ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ مَذْهَبِ أَبِي مُسْلِمٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ «مَا» بِمَعْنَى الْجَحْدِ وَيَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ كَأَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَكْفُرْ سُلَيْمَانُ وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَى الْمَلَكَيْنِ سِحْرٌ لِأَنَّ السَّحَرَةَ كَانَتْ تُضِيفُ السِّحْرَ إِلَى سُلَيْمَانَ وَتَزْعُمُ أَنَّهُ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْقَوْلَيْنِ قوله: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ جَحْدٌ أَيْضًا أَيْ لَا يُعَلِّمَانِ أَحَدًا بَلْ يَنْهَيَانِ عَنْهُ أَشَدَّ النَّهْيِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ أَيِ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ فَلَا تَكْفُرْ وَهُوَ كَقَوْلِكَ مَا أَمَرْتُ فُلَانًا بِكَذَا

حَتَّى قُلْتُ لَهُ إِنْ فَعَلْتَ كَذَا نَالَكَ كَذَا، أَيْ مَا أَمَرْتُ بِهِ بَلْ حَذَّرْتُهُ عَنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَإِنْ كَانَتْ حَسَنَةً إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَحْسَنُ مِنْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَطْفَ قَوْلِهِ: وَما أُنْزِلَ عَلَى مَا يَلِيهِ أَوْلَى مِنْ عَطْفِهِ عَلَى مَا بَعُدَ عَنْهُ إِلَّا لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، أَمَّا قَوْلُهُ: لَوْ نَزَلَ السِّحْرُ عَلَيْهِمَا لَكَانَ مُنْزِلُ ذَلِكَ السِّحْرِ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى. قُلْنَا: تَعْرِيفُ صِفَةِ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ التَّرْغِيبِ فِي إِدْخَالِهِ فِي الْوُجُودِ وَقَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ أَنْ يَقَعَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: عَرَفْتُ الشَّرَّ لا للشر لكن لتوقيه قوله ثانياً: أَنَّ تَعْلِيمَ السِّحْرِ كُفْرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، فَالْجَوَابُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ وَاقِعَةُ حَالٍ فَيَكْفِي فِي صِدْقِهَا صُورَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ مَا إِذَا اشْتَغَلَ بِتَعْلِيمِ سِحْرِ مَنْ يَقُولُ بِإِلَهِيَّةِ الْكَوَاكِبِ وَيَكُونُ قَصْدُهُ مِنْ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ إِثْبَاتَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَذْهَبَ حق. قوله ثالثاً: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ فَكَذَا الْمَلَائِكَةُ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِتَعْلِيمِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ التنبيه على إبطاله. قوله رابعاً: إِنَّمَا يُضَافُ السِّحْرُ إِلَى الْكَفَرَةِ وَالْمَرَدَةِ فَكَيْفَ يُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا يَنْهَى عَنْهُ؟ قُلْنَا: فَرْقٌ بَيْنَ الْعَمَلِ وَبَيْنَ التَّعْلِيمِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَنْهِيًّا عَنْهُ؟ وَأَمَّا تَعْلِيمُهُ لِغَرَضِ التَّنْبِيهِ عَلَى فَسَادِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ: (ملكين) بكسر اللام وهو مروي عَنِ الضَّحَّاكِ وَابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَا عِلْجَيْنِ أَقْلَفَيْنِ بِبَابِلَ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ، وَقِيلَ: كَانَا رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ مِنَ الْمُلُوكِ. وَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَهُمَا كَانَا مَلَكَيْنِ نَزَلَا مِنَ السَّمَاءِ، وَهَارُوتُ وَمَارُوتُ اسْمَانِ لَهُمَا، وَقِيلَ: هُمَا جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقِيلَ غَيْرُهُمَا: أَمَّا الَّذِينَ كَسَرُوا اللَّامَ فَقَدِ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالْمَلَائِكَةِ تَعْلِيمُ السِّحْرِ، وَثَانِيهَا: كَيْفَ يَجُوزُ إِنْزَالُ/ الْمَلَكَيْنِ مَعَ قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ [الْأَنْعَامِ: 8] ، وَثَالِثُهَا: لَوْ أَنْزَلَ الْمَلَكَيْنِ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَجْعَلَهُمَا فِي صُورَةِ الرَّجُلَيْنِ أَوْ لَا يَجْعَلَهُمَا كَذَلِكَ، فَإِنْ جَعَلَهُمَا فِي صُورَةِ الرَّجُلَيْنِ مَعَ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِرَجُلَيْنِ كَانَ ذَلِكَ تَجْهِيلًا وَتَلْبِيسًا عَلَى النَّاسِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ نُشَاهِدُهُمْ لَا يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنْسَانًا، بَلْ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ؟ وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُمَا فِي صُورَةِ الرَّجُلَيْنِ قَدَحَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الْأَنْعَامِ: 9] وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّا سَنُبَيِّنُ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي إِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ وَقِرَاءَةُ الْمَلَكَيْنِ بِفَتْحِ اللَّامِ مُتَوَاتِرَةٌ وَخَاصَّةٌ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُمَا فِي صُورَةِ رَجُلَيْنِ وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فِي زَمَانِ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ لَا يَقْطَعُوا عَلَى مَنْ صُورَتُهُ صُورَةُ الْإِنْسَانِ بِكَوْنِهِ إِنْسَانًا، كَمَا أَنَّهُ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى من شاهد دحية الكلبي أن لا يَقْطَعَ بِكَوْنِهِ مِنَ الْبَشَرِ بَلِ الْوَاجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا قُلْنَا بِأَنَّهُمَا كَانَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِهِمَا فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا أَعْلَمَهُمُ اللَّهُ بِآدَمَ وَقَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: 30] ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَكَّلَ عَلَيْهِمْ جَمْعًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُمُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ فَكَانُوا يَعْرُجُونَ بِأَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ فَعَجِبَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْهُمْ وَمِنْ تَبْقِيَةِ اللَّهِ لَهُمْ مَعَ مَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مِنَ القبائح، ثم

أضافوا إليهما عَمَلَ السِّحْرِ فَازْدَادَ تَعَجُّبُ الْمَلَائِكَةِ فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَبْتَلِيَ الْمَلَائِكَةَ، فَقَالَ لَهُمُ: اخْتَارُوا مَلَكَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَلَائِكَةِ عِلْمًا وَزُهْدًا وَدِيَانَةً لِأُنْزِلَهُمَا إِلَى الْأَرْضِ فَأَخْتَبِرَهُمَا، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَرَكَّبَ فِيهِمَا شَهْوَةَ الْإِنْسِ وَأَنْزَلَهُمَا وَنَهَاهُمَا عَنِ الشِّرْكِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالشُّرْبِ، فَنَزَلَا فَذَهَبَتْ إِلَيْهِمَا امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ وَهِيَ الزُّهَرَةُ فَرَاوَدَاهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ أَنْ تُطِيعَهُمَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْبُدَا الصَّنَمَ، وَإِلَّا بَعْدَ أَنْ يَشْرَبَا الْخَمْرَ، فَامْتَنَعَا أَوَّلًا، ثُمَّ غَلَبَتِ الشَّهْوَةُ عَلَيْهِمَا فَأَطَاعَاهَا فِي كُلِّ ذَلِكَ، فَعِنْدَ إِقْدَامِهِمَا عَلَى الشُّرْبِ وَعِبَادَةِ الصَّنَمِ دَخَلَ سَائِلٌ عَلَيْهِمْ فَقَالَتْ: إِنْ أَظْهَرَ هَذَا السَّائِلُ لِلنَّاسِ مَا رَأَى مِنَّا فَسَدَ أَمْرُنَا، فَإِنْ أَرَدْتُمَا الْوُصُولَ إِلَيَّ فَاقْتُلَا هَذَا الرَّجُلَ، فَامْتَنَعَا مِنْهُ ثُمَّ اشْتَغَلَا بِقَتْلِهِ فَلَمَّا فَرَغَا مِنَ الْقَتْلِ وَطَلَبَا الْمَرْأَةَ فَلَمْ يَجِدَاهَا، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَكَيْنِ عِنْدَ ذَلِكَ نَدِمَا وَتَحَسَّرَا وَتَضَرَّعَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَخَيَّرَهُمَا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختار عَذَابَ الدُّنْيَا وَهُمَا يُعَذَّبَانِ بِبَابِلَ مُعَلَّقَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ، ثُمَّ لَهُمْ في الزهرة قولان، أحدهما: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ابْتَلَى الْمَلَكَيْنِ بِشَهْوَةِ بَنِي آدَمَ أَمَرَ اللَّهُ الْكَوْكَبَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الزُّهَرَةُ وَفَلَكَهَا أَنِ اهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ إِلَى أَنْ كَانَ مَا كَانَ، فَحِينَئِذٍ ارْتَفَعَتِ الزُّهَرَةُ وَفَلَكُهَا إِلَى مَوْضِعِهِمَا مِنَ السَّمَاءِ مُوَبِّخَيْنِ لَهُمَا عَلَى مَا شَاهَدَاهُ مِنْهُمَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أن المرأة كانت فَاجِرَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَوَاقَعَاهَا بَعْدَ شُرْبِ الْخَمْرِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَعِبَادَةِ الصَّنَمِ، ثُمَّ عَلَّمَاهَا الِاسْمَ الَّذِي كَانَا بِهِ يَعْرُجَانِ إِلَى السَّمَاءِ فَتَكَلَّمَتْ بِهِ وَعَرَجَتْ إِلَى السَّمَاءِ وَكَانَ اسْمُهَا «بِيدَخْتَ» فَمَسَخَهَا اللَّهُ وَجَعَلَهَا هِيَ الزُّهَرَةَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فَاسِدَةٌ مَرْدُودَةٌ/ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ فِيهِ مَا يُبْطِلُهَا مِنْ وجوه، الأول: ما تقدم من الدلائل الدَّالَّةِ عَلَى عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ عَنْ كُلِّ الْمَعَاصِي، وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ إِنَّهُمَا خُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ عَذَابِ الْآخِرَةِ فَاسِدٌ، بَلْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُخَيَّرَا بَيْنَ التَّوْبَةِ وَالْعَذَابِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَ بَيْنَهُمَا مَنْ أَشْرَكَ بِهِ طُولَ عُمُرِهِ، فَكَيْفَ يَبْخَلُ عَلَيْهِمَا بِذَلِكَ؟ وَثَالِثُهَا: أَنَّ مِنْ أَعْجَبِ الْأُمُورِ قَوْلَهُمْ: إِنَّهُمَا يُعَلِّمَانِ السِّحْرَ فِي حَالِ كَوْنِهِمَا مُعَذَّبَيْنِ وَيَدْعُوَانِ إِلَيْهِ وَهُمَا يُعَاقَبَانِ وَلَمَّا ظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ فَنَقُولُ: السَّبَبُ فِي إِنْزَالِهِمَا وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ السَّحَرَةَ كَثُرَتْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَاسْتَنْبَطَتْ أَبْوَابًا غَرِيبَةً فِي السِّحْرِ، وَكَانُوا يَدَّعُونَ النُّبُوَّةَ وَيَتَحَدَّوْنَ النَّاسَ بِهَا، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَيْنِ الْمَلَكَيْنِ لِأَجْلِ أَنْ يُعَلِّمَا النَّاسَ أَبْوَابَ السِّحْرِ حَتَّى يَتَمَكَّنُوا مِنْ مُعَارَضَةِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا يَدَّعُونَ النُّبُوَّةَ كَذِبًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الْمُعْجِزَةِ مُخَالِفَةً لِلسِّحْرِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِمَاهِيَّةِ الْمُعْجِزَةِ وَبِمَاهِيَّةِ السِّحْرِ، وَالنَّاسُ كَانُوا جَاهِلِينَ بِمَاهِيَّةِ السِّحْرِ، فَلَا جَرَمَ هَذَا تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ الْمُعْجِزَةِ، فَبَعَثَ اللَّهُ هَذَيْنِ الْمَلَكَيْنِ لِتَعْرِيفِ مَاهِيَّةِ السِّحْرِ لِأَجْلِ هَذَا الْغَرَضِ، وَثَالِثُهَا: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: السِّحْرُ الَّذِي يُوقِعُ الْفُرْقَةَ بَيْنَ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَالْأُلْفَةَ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَانَ مُبَاحًا عِنْدَهُمْ أَوْ مَنْدُوبًا، فَاللَّهُ تَعَالَى بَعَثَ الْمَلَكَيْنِ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ لِهَذَا الْغَرَضِ، ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ تَعَلَّمُوا ذَلِكَ مِنْهُمَا وَاسْتَعْمَلُوهُ فِي الشَّرِّ وَإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَالْأُلْفَةِ بَيْنَ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ بِكُلِّ شَيْءٍ حَسَنٌ وَلَمَّا كَانَ السِّحْرُ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَصَوَّرًا مَعْلُومًا لِأَنَّ الَّذِي لَا يَكُونُ مُتَصَوَّرًا امْتَنَعَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَخَامِسُهَا: لَعَلَّ الْجِنَّ كَانَ عِنْدَهُمْ أَنْوَاعٌ مِنَ السِّحْرِ لَمْ يَقْدِرِ الْبَشَرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا، فَبَعَثَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ لِيُعَلِّمُوا الْبَشَرَ أُمُورًا يَقْدِرُونَ بِهَا عَلَى مُعَارَضَةِ الْجِنِّ، وَسَادِسُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَشْدِيدًا فِي التَّكْلِيفِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ إِذَا عَلَّمَهُ مَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ ثُمَّ مَنَعَهُ مِنِ اسْتِعْمَالِهَا كَانَ ذَلِكَ فِي نِهَايَةِ الْمَشَقَّةِ فَيَسْتَوْجِبُ بِهِ الثَّوَابَ الزَّائِدَ كَمَا ابْتُلِيَ قَوْمُ طَالُوتَ بِالنَّهَرِ عَلَى مَا قَالَ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [الْبَقَرَةِ: 249] فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنْزَالُ الْمَلَكَيْنِ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ والله أعلم.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْوَاقِعَةُ إِنَّمَا وَقَعَتْ فِي زَمَانِ إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُمَا إِذَا كَانَا مَلَكَيْنِ نَزَلَا بِصُورَةِ الْبَشَرِ لِهَذَا الْغَرَضِ فَلَا بُدَّ مِنْ رَسُولٍ فِي وَقْتِهِمَا لِيَكُونَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لَهُ، وَلَا يَجُوزُ كَوْنُهُمَا رَسُولَيْنِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَبْعَثُ الرَّسُولَ إِلَى الْإِنْسِ مَلَكًا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: «هَارُوتُ وَمَارُوتُ» عَطْفُ بَيَانٍ لِلْمَلَكَيْنِ، عَلَمَانِ لَهُمَا وَهُمَا اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ بِدَلِيلِ مَنْعِ الصَّرْفِ، وَلَوْ كَانَا مِنَ الْهَرْتِ وَالْمَرْتِ وَهُوَ الْكَسْرُ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ لَانْصَرَفَا، وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: هَارُوتُ وَمَارُوتُ بِالرَّفْعِ عَلَى: هُمَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى شَرَحَ حَالَهُمَا فَقَالَ: وَهَذَانِ الْمَلَكَانِ لَا يُعَلِّمَانِ السِّحْرَ إِلَّا بَعْدَ التَّحْذِيرِ الشَّدِيدِ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا: / إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ والمراد هاهنا بِالْفِتْنَةِ الْمِحْنَةُ الَّتِي بِهَا يَتَمَيَّزُ الْمُطِيعُ عَنِ الْعَاصِي، كَقَوْلِهِمْ: فَتَنْتُ الذَّهَبَ بِالنَّارِ إِذَا عُرِضَ عَلَى النَّارِ لِيَتَمَيَّزَ الْخَالِصُ عَنِ الْمَشُوبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْوُجُوهَ فِي أَنَّهُ كَيْفَ يَحْسُنُ بَعْثَةُ الْمَلَكَيْنِ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ فَالْمُرَادُ أَنَّهُمَا لَا يُعَلِّمَانِ أَحَدًا السِّحْرَ وَلَا يَصِفَانِهِ لِأَحَدٍ وَلَا يَكْشِفَانِ لَهُ وُجُوهَ الِاحْتِيَالِ حَتَّى يَبْذُلَا لَهُ النَّصِيحَةَ، فَيَقُولَا لَهُ: «إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ» أَيْ هَذَا الَّذِي نَصِفُهُ لَكَ وَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ أَنْ يَتَمَيَّزَ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ السِّحْرِ وَبَيْنَ المعجز، ولكنه يمكنك أن تتوصل إِلَى الْمَفَاسِدِ وَالْمَعَاصِي، فَإِيَّاكَ بَعْدَ وُقُوفِكَ عَلَيْهِ أَنْ تَسْتَعْمِلَهُ فِيمَا نُهِيتَ عَنْهُ أَوْ تَتَوَصَّلَ به إلى شيء من الأغراض الْعَاجِلَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ هَذَا التَّفْرِيقِ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا التَّفْرِيقَ إِنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ السِّحْرَ مُؤَثِّرٌ فِي هَذَا التَّفْرِيقِ فَيَصِيرُ كَافِرًا، وَإِذَا صَارَ كَافِرًا بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ فَيَحْصُلُ تَفَرُّقٌ بَيْنَهُمَا، الثَّانِي: أَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّمْوِيهِ وَالْحِيَلِ وَالتَّضْرِيبِ وَسَائِرِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا لَيْسَ إِلَّا هَذَا الْقَدْرَ، لَكِنْ ذَكَرَ هَذِهِ الصُّورَةَ تَنْبِيهًا عَلَى سَائِرِ الصُّوَرِ، فَإِنَّ اسْتِكَانَةَ الْمَرْءِ إِلَى زَوْجَتِهِ وَرُكُونَهُ إِلَيْهَا مَعْرُوفٌ زَائِدٌ عَلَى كُلِّ مَوَدَّةٍ، فَنَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ إِذَا أَمْكَنَ بِهِ هَذَا الْأَمْرُ عَلَى شِدَّتِهِ فَغَيْرُهُ بِهِ أَوْلَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الضَّرَرَ، وَلَمْ يَقْصُرْهُ عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْإِذْنَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَمْرِ وَاللَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالسِّحْرِ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ عَيْبَهُمْ وَذَمَّهُمْ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَمَرَهُمْ بِهِ لَمَا جَازَ أَنْ يَذُمَّهُمْ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَفِيهِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ مِنْهُ التَّخْلِيَةُ، يَعْنِي السِّحْرُ إِذَا سَحَرَ إِنْسَانًا فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنَعَهُ مِنْهُ وَإِنْ شَاءَ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَرَرِ السِّحْرِ، وَثَانِيهَا: قَالَ الْأَصَمُّ: الْمُرَادُ إِلَّا بِعِلْمِ اللَّهِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْأَذَانُ أَذَانًا لأنه إعلام للناس بوقت الصلاة وسمي الأذان إِذْنًا لِأَنَّ بِالْحَاسَّةِ الْقَائِمَةِ بِهِ يُدْرَكُ الْإِذْنُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ [التَّوْبَةِ: 3] أَيْ إِعْلَامٌ، وَقَوْلُهُ: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 279] مَعْنَاهُ: فاعلموا وقوله: آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ [الأنبياء: 109] يعني أعلمتكم، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الضَّرَرَ الْحَاصِلَ عِنْدَ فِعْلِ السِّحْرِ إنما يحصل

[سورة البقرة (2) : آية 103]

بِخَلْقِ اللَّهِ وَإِيجَادِهِ وَإِبْدَاعِهِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُضَافَ إِلَى إِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ: 40] . وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِذْنِ الْأَمْرَ وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِأَنْ يُفَسَّرَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ بِأَنْ يَصِيرَ كَافِرًا وَالْكُفْرُ يَقْتَضِي التَّفْرِيقَ، فَإِنَّ هَذَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. / أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا ذَكَرَ لَفْظَ الشِّرَاءِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ لِوُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا نَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وراء ظهورهم وأقبلوا على التمسك بما تتلوا الشَّيَاطِينُ فَكَأَنَّهُمْ قَدِ اشْتَرَوْا ذَلِكَ السِّحْرَ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَلَكَيْنِ إِنَّمَا قَصَدَا بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ لِيَصِلَ بِذَلِكَ الِاحْتِرَازِ إِلَى مَنَافِعِ الْآخِرَةِ فَلَمَّا اسْتَعْمَلَ السِّحْرَ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى بِمَنَافِعِ الْآخِرَةِ مَنَافِعَ الدُّنْيَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَمَّا اسْتَعْمَلَ السِّحْرَ عَلِمْنَا أَنَّهُ إِنَّمَا تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالِ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى بِالْمِحَنِ الَّتِي تَحَمَّلَهَا قُدْرَتَهُ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ: «الْخَلَاقُ» النَّصِيبُ، قَالَ الْقَفَّالُ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْخَلَقِ وَمَعْنَاهُ التَّقْدِيرُ وَمِنْهُ خَلِقَ الْأَدِيمُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: قَدَّرَ لِلرَّجُلِ كَذَا دِرْهَمًا رِزْقًا عَلَى عَمَلِ كَذَا. وَقَالَ آخَرُونَ: الْخَلَاقُ الْخَلَاصُ وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: يَدْعُونَ بِالْوَيْلِ فِيهَا لأخلاق لَهُمْ ... إِلَّا سَرَابِيلَ قَطْرَانٍ وَأَغْلَالِ بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ أَثْبَتَ لَهُمُ الْعِلْمَ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمُوا ثُمَّ نَفَاهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ الَّذِينَ عَلِمُوا غَيْرَ الَّذِينَ لَمْ يَعْلَمُوا، فَالَّذِينَ عَلِمُوا هُمُ الَّذِينَ عَلِمُوا السِّحْرَ وَدَعَوُا النَّاسَ إِلَى تَعَلُّمِهِ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّهِمْ: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَأَمَّا الْجُهَّالُ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ فِي تَعَلُّمِ السِّحْرِ فَهُمُ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَهَذَا جَوَابُ الْأَخْفَشِ وَقُطْرُبٍ. وَثَانِيهَا: لَوْ سَلَّمْنَا كَوْنَ الْقَوْمِ وَاحِدًا وَلَكِنَّهُمْ عَلِمُوا شَيْئًا وَجَهِلُوا شَيْئًا آخَرَ، عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ خَلَاقٌ وَلَكِنَّهُمْ جَهِلُوا مِقْدَارَ مَا فَاتَهُمْ مِنْ مَنَافِعِ الْآخِرَةِ، وَمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَارِّهَا وَعُقُوبَاتِهَا. وَثَالِثُهَا: لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْقَوْمَ وَاحِدٌ وَالْمَعْلُومَ وَاحِدٌ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِعِلْمِهِمْ بَلْ أَعْرَضُوا عَنْهُ فَصَارَ ذَلِكَ الْعِلْمُ كَالْعَدَمِ كَمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْكُفَّارَ: عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الإسراء: 97] إِذْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَذِهِ الْحَوَاسِّ. وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ فِي شَيْءٍ يَفْعَلُهُ لَكِنَّهُ لَا يَضَعُهُ مَوْضِعَهُ: صنعت ولم تصنع. [سورة البقرة (2) : آية 103] وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) اعْلَمْ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِيهِمُ الْوَعِيدَ بِقَوْلِهِ: وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ [البقرة: 102] أَتْبَعَهُ بِالْوَعْدِ جَامِعًا بَيْنَ التَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا أَدْعَى إِلَى الطَّاعَةِ وَالْعُدُولِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: آمَنُوا فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ/ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ [البقرة: 101] ثم وصفهم بأنهم اتبعوا ما تتلوا الشَّيَاطِينُ وَأَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِالسِّحْرِ. قَالَ مِنْ بَعْدِ:

[سورة البقرة (2) : آية 104]

وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا يَعْنِي بِمَا نَبَذُوهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. فَإِنْ حَمَلْتَ ذَلِكَ عَلَى الْقُرْآنِ جَازَ، وَإِنْ حَمَلْتَهُ عَلَى كِتَابِهِمُ الْمُصَدِّقِ لِلْقُرْآنِ جَازَ، وَإِنْ حَمَلْتَهُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَازَ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّقْوَى الِاحْتِرَازُ عَنْ فِعْلِ الْمَنْهِيَّاتِ وَتَرْكِ الْمَأْمُورَاتِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ فَفِيهِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَأُثِيبُوا إِلَّا أَنَّهُ تُرِكَتِ الْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ إِلَى هَذِهِ الاسمية لما في الجملة الاسمية مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ الْمَثُوبَةِ وَاسْتِقْرَارِهَا. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا قِيلَ لَمَثُوبَةُ اللَّهِ خَيْرٌ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْمُرَادَ لَشَيْءٌ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُمْ. وَثَانِيهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا تَمَنِّيًا لِإِيمَانِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ عَنْ إِرَادَةِ اللَّهِ إِيمَانَهُمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَيْتَهُمْ آمَنُوا، ثُمَّ ابْتَدَأَ لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خير. [سورة البقرة (2) : آية 104] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ قَبَائِحَ أَفْعَالِهِمْ قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَرَادَ من هاهنا أَنْ يَشْرَحَ قَبَائِحَ أَفْعَالِهِمْ عِنْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجِدِّهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ فِي الْقَدْحِ فِيهِ وَالطَّعْنِ فِي دِينِهِ وَهَذَا هُوَ النوع الأول من هذا الباب وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خاطب المؤمنين بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فِي ثَمَانِيَةٍ وَثَمَانِينَ مَوْضِعًا مِنَ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ يُخَاطِبُ فِي التَّوْرَاةِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الْمَسَاكِينُ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا خَاطَبَهُمْ أَوَّلًا بِالْمَسَاكِينِ أَثْبَتَ الْمَسْكَنَةَ لَهُمْ آخِرًا حَيْثُ قَالَ: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [الْبَقَرَةِ: 61] ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَاطَبَ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالْإِيمَانِ أَوَّلًا فَإِنَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِمُ الْأَمَانَ مِنَ الْعَذَابِ فِي النِّيرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَيْضًا فَاسْمُ الْمُؤْمِنِ أَشْرَفُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَإِذَا كَانَ يُخَاطِبُنَا فِي الدُّنْيَا بِأَشْرَفِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فَنَرْجُو مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يُعَامِلَنَا فِي الْآخِرَةِ بِأَحْسَنِ الْمُعَامَلَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ فِي الْكَلِمَتَيْنِ الْمُتَرَادِفَتَيْنِ أَنْ يَمْنَعَ اللَّهُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَأْذَنَ فِي الْأُخْرَى، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا تَصْلُحُ الصَّلَاةُ بِتَرْجَمَةِ الْفَاتِحَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِالْعِبْرِيَّةِ أَوْ بِالْفَارِسِيَّةِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَمْنَعَ اللَّهُ مِنْ قَوْلِهِ: راعِنا وَيَأْذَنَ فِي قَوْلِهِ: انْظُرْنا وَإِنْ كَانَتَا مُتَرَادِفَتَيْنِ وَلَكِنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا مَنَعَ مِنْ قَوْلِهِ: راعِنا لِاشْتِمَالِهَا عَلَى نَوْعِ مَفْسَدَةٍ ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا، أَحَدُهَا: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَلَا عَلَيْهِمْ/ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ: رَاعِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالْيَهُودُ كَانَتْ لَهُمْ كَلِمَةٌ عِبْرَانِيَّةٌ يَتَسَابُّونَ بِهَا تُشْبِهُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَهِيَ «رَاعِينَا» وَمَعْنَاهَا: اسْمَعْ لَا سَمِعْتَ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُونَ: رَاعِنَا افْتَرَضُوهُ وَخَاطَبُوا بِهِ النَّبِيَّ وَهُمْ يَعْنُونَ تِلْكَ الْمَسَبَّةَ، فَنُهِيَ الْمُؤْمِنُونَ عَنْهَا وَأُمِرُوا بِلَفْظَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ: انْظُرْنا، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ [النِّسَاءِ: 46] ، وَرُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ سَمِعَهَا مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ سَمِعْتُهَا مِنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ يَقُولُهَا لِرَسُولِ اللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ، فَقَالُوا: أَوَلَسْتُمْ تَقُولُونَهَا؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَثَانِيهَا: قَالَ قُطْرُبٌ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةَ الْمَعْنَى إِلَّا أَنَّ أهل

[سورة البقرة (2) : آية 105]

الحجاز ما كانوا يقولونها إلا عند الهزء وَالسُّخْرِيَةِ، فَلَا جَرَمَ نَهَى اللَّهُ عَنْهَا، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ: رَاعِينَا أَيْ أَنْتَ رَاعِي غَنَمِنَا فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهَا، وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: «رَاعِنَا» مُفَاعَلَةٌ مِنَ الرَّعْيِ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَكَانَ هَذَا اللَّفْظُ مُوهِمًا لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُخَاطَبِينَ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: أَرْعِنَا سَمْعَكَ لِنُرْعِيَكَ أَسْمَاعَنَا، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَبَيَّنَ أَنْ لَا بُدَّ مِنْ تَعْظِيمِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمُخَاطَبَةِ عَلَى مَا قَالَ: لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النُّورِ: 63] . وَخَامِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: «رَاعِنَا» خِطَابٌ مَعَ الِاسْتِعْلَاءِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: رَاعِ كَلَامِي وَلَا تَغْفُلْ عَنْهُ وَلَا تَشْتَغِلْ بِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِي «انْظُرْنَا» إِلَّا سُؤَالُ الِانْتِظَارِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ تَوَقَّفْ فِي كَلَامِكَ وَبَيَانِكَ مِقْدَارَ مَا نَصِلُ إِلَى فَهْمِهِ، وَسَادِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: «رَاعِنَا» عَلَى وَزْنِ عَاطِنَا مِنَ الْمُعَاطَاةِ، وَرَامِنَا مِنَ الْمُرَامَاةِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَلَبُوا هَذِهِ النُّونَ إِلَى النُّونِ الْأَصْلِيَّةِ وَجَعَلُوهَا كَلِمَةً مُشْتَقَّةً من الرعونة وهي الحق، فَالرَّاعِنُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الرُّعُونَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ الْمَصْدَرَ. كَقَوْلِهِمْ: عِيَاذًا بِكَ، أَيْ أَعُوذُ عِيَاذًا بِكَ، فَقَوْلُهُمْ: رَاعِنًا: أَيْ فَعَلْتَ رُعُونَةً. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ: صِرْتَ رَاعِنًا، أَيْ صِرْتَ ذَا رُعُونَةٍ، فَلَمَّا قَصَدُوا هَذِهِ الْوُجُوهَ الْفَاسِدَةَ لَا جَرَمَ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. وَسَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا تَقُولُوا قَوْلًا رَاعِنًا أَيْ: قَوْلًا مَنْسُوبًا إِلَى الرُّعُونَةِ بِمَعْنًى رَاعِنٍ: كَتَامِرٍ وَلَابِنٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُولُوا انْظُرْنا فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِنْ نَظَرَهُ أَيِ انْتَظَرَهُ، قَالَ تَعَالَى: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الْحَدِيدِ: 13] فَأَمَرَهُمْ تَعَالَى بِأَنْ يَسْأَلُوهُ الْإِمْهَالَ لِيَنْقُلُوا عَنْهُ، فَلَا يَحْتَاجُونَ إلى الاستعاذة. فَإِنْ قِيلَ: أَفَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يعجل عليهم حتى يقولون هَذَا؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ قَدْ تُقَالُ فِي خِلَالِ الْكَلَامِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ عَجَلَةٌ تُحْوِجُ إِلَى ذَلِكَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ فِي خِلَالِ حَدِيثِهِ: اسْمَعْ أَوْ سَمِعْتَ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ فَسَّرُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْجَلُ قَوْلَ مَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِرْصًا عَلَى تَحْصِيلِ الْوَحْيِ وَأَخْذِ الْقُرْآنِ، فَقِيلَ لَهُ: لَا تَحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَعْجَلَ فِيمَا يُحَدِّثُ بِهِ أَصْحَابَهُ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ حِرْصًا عَلَى تَعْجِيلِ أَفْهَامِهِمْ فَكَانُوا يَسْأَلُونَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يُمْهِلَهُمْ فِيمَا يُخَاطِبُهُمْ بِهِ إِلَى أَنْ يَفْهَمُوا كُلَّ ذَلِكَ الْكَلَامِ، وَثَانِيهَا: «انْظُرْنَا» مَعْنَاهُ «انْظُرْ» إِلَيْنَا إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ/ حَرْفَ «إِلَى» كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الْأَعْرَافِ: 155] وَالْمَعْنَى مِنْ قَوْمِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ الْمُعَلِّمَ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْمُتَعَلِّمِ كَانَ إِيرَادُهُ لِلْكَلَامِ عَلَى نَعْتِ الْإِفْهَامِ وَالتَّعْرِيفِ أَظْهَرَ وَأَقْوَى. وَثَالِثُهَا: قَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ «أَنْظِرْنَا» مِنَ النَّظِرَةِ أَيْ أَمْهِلْنَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْمَعُوا فَحُصُولُ السَّمَاعِ عِنْدَ سَلَامَةِ الْحَاسَّةِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، فَلَا يَجُوزُ وُقُوعُ الْأَمْرِ بِهِ، فَإِذَنِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَحَدُ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ، أَحَدُهَا: فَرِّغُوا أَسْمَاعَكُمْ لِمَا يَقُولُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى لَا تَحْتَاجُوا إِلَى الِاسْتِعَادَةِ، وَثَانِيهَا: اسْمَعُوا سَمَاعَ قَبُولٍ وَطَاعَةٍ وَلَا يَكُنْ سَمَاعُكُمْ سَمَاعَ الْيَهُودِ حَيْثُ قَالُوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، وَثَالِثُهَا: اسْمَعُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ حَتَّى لَا تَرْجِعُوا إِلَى مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ تَأْكِيدًا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ مَا لِلْكَافِرِينَ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ إِذَا لَمْ يَسْلُكُوا مَعَ الرَّسُولِ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ مِنَ الْإِعْظَامِ وَالتَّبْجِيلِ وَالْإِصْغَاءِ إِلَى مَا يَقُولُ وَالتَّفَكُّرِ فِيمَا يقول، ومعنى «العذاب الأليم» قد تقدم. [سورة البقرة (2) : آية 105] مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)

[سورة البقرة (2) : آية 106]

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْيَهُودِ وَالْكُفَّارِ فِي الْعَدَاوَةِ وَالْمُعَانَدَةِ حَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ فَقَالَ: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَنَفَى عَنْ قُلُوبِهِمُ الْوُدَّ وَالْمَحَبَّةَ لِكُلِّ مَا يَظْهَرُ بِهِ فضل المؤمنين وهاهنا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «مِنْ» الْأَوْلَى لِلْبَيَانِ لِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا جِنْسٌ تَحْتَهُ نَوْعَانِ: أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكُونَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ [الْبَيِّنَةِ: 1] وَالثَّانِيَةُ: مَزِيدَةٌ لِاسْتِغْرَاقِ الْخَيْرِ، وَالثَّالِثَةُ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْخَيْرُ الْوَحْيُ وَكَذَلِكَ الرَّحْمَةُ، يَدُلُّ عليه قوله تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزُّخْرُفِ: 32] الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ أَحَقَّ بِأَنْ يُوحَى إِلَيْهِمْ فَيَحْسُدُونَكُمْ وَمَا يُحِبُّونَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْحَسَدَ لَا يُؤَثِّرُ فِي زَوَالِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ من يشاء. [سورة البقرة (2) : آية 106] مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ طَعْنِ الْيَهُودِ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالُوا: أَلَا تَرَوْنَ إِلَى مُحَمَّدٍ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِأَمْرٍ ثُمَّ يَنْهَاهُمْ عَنْهُ وَيَأْمُرُهُمْ بِخِلَافِهِ، وَيَقُولُ الْيَوْمَ قَوْلًا وَغَدًا يَرْجِعُ عَنْهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالْكَلَامُ فِي الْآيَةِ مُرَتَّبٌ عَلَى مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: النَّسْخُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ بِمَعْنَى إِبْطَالِ الشَّيْءِ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: إِنَّهُ لِلنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ لَنَا أَنَّهُ يُقَالُ: نَسَخَتِ الرِّيحُ آثَارَ الْقَوْمِ إِذَا عُدِمَتْ، وَنَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ إِذَا عُدِمَ، لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَحْصُلُ الظِّلُّ فِي مَكَانٍ آخَرَ حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَيْهِ، وَقَالَ تَعَالَى: إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ [الْحَجِّ: 52] أَيْ يُزِيلُهُ وَيُبْطِلُهُ، وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ. وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُ اللَّفْظِ حَقِيقَةً في الإبطال وجب أن لا يَكُونَ حَقِيقَةً فِي النَّقْلِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ. فَإِنْ قِيلَ: وَصْفُهُمُ الرِّيحَ بِأَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِلْآثَارِ، وَالشَّمْسَ بِأَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِلظِّلِّ مَجَازٌ، لِأَنَّ الْمُزِيلَ لِلْآثَارِ وَالظِّلِّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَجَازًا امْتَنَعَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى كَوْنِ اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي مَدْلُولِهِ ثُمَّ نُعَارِضُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ وَنَقُولُ: بَلِ النَّسْخُ هُوَ النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ وَمِنْهُ نَسَخَ الْكِتَابَ إِلَى كِتَابٍ آخَرَ كَأَنَّهُ يَنْقُلُهُ إِلَيْهِ أَوْ يَنْقُلُ حِكَايَتَهُ، وَمِنْهُ تَنَاسُخُ الْأَرْوَاحِ وَتَنَاسُخُ الْقُرُونِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَتَنَاسُخُ الْمَوَارِيثِ إِنَّمَا هُوَ التَّحَوُّلُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى آخَرَ بَدَلًا عَنِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ تَعَالَى: هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الْجَاثِيَةِ: 29] فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِي النَّقْلِ وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْإِبْطَالِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ هُوَ النَّاسِخَ لِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِعْلُ الشَّمْسِ وَالرِّيحِ الْمُؤَثِّرَتَيْنِ فِي تِلْكَ الْإِزَالَةِ وَيَكُونَانِ أَيْضًا نَاسِخَيْنِ لِكَوْنِهِمَا مُخْتَصَّيْنِ بِذَلِكَ التَّأْثِيرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ إِنَّمَا أَخْطَئُوا فِي إِضَافَةِ النَّسْخِ إِلَى الشَّمْسِ وَالرِّيحِ، فَهَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ، لَكِنَّ مُتَمَسَّكَنَا إِطْلَاقُهُمْ لَفْظَ النَّسْخِ عَلَى الْإِزَالَةِ لِإِسْنَادِهِمْ هَذَا الْفِعْلَ إِلَى الرِّيحِ وَالشَّمْسِ، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ النَّقْلَ أَخَصُّ مِنَ الْإِبْطَالِ لِأَنَّهُ حَيْثُ وُجِدَ النَّقْلُ فَقَدْ عُدِمَتْ صِفَةٌ وَحَصَلَ عَقِيبَهَا صِفَةٌ أُخْرَى، فَإِنَّ مُطْلَقَ الْعَدَمِ أَهَمُّ مِنْ عَدَمٍ يَحْصُلُ عَقِيبَهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَإِذَا دَارَ اللَّفْظُ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ كَانَ جَعْلُهُ حَقِيقَةً فِي الْعَامِّ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: (مَا نُنْسِخْ) بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ السِّينِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهِمَا، أَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ

فَفِيهَا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ نَسَخَ وَأَنْسَخَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَالثَّانِي: أَنْسَخْتُهُ جَعَلْتُهُ ذَا نَسْخٍ كَمَا قَالَ قَوْمٌ لِلْحَجَّاجِ وَقَدْ صَلَبَ رَجُلًا. أَقْبِرُوا فُلَانًا، أَيِ اجْعَلُوهُ ذَا قَبْرٍ، قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عَبَسَ: 21] ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: (نَنْسَأْهَا) بِفَتْحِ النُّونِ وَالْهَمْزَةِ وَهُوَ جَزْمٌ بِالشَّرْطِ وَلَا يَدَعُ أَبُو عَمْرٍو الْهَمْزَةَ فِي مِثْلِ هَذَا، لِأَنَّ سُكُونَهَا عَلَامَةٌ لِلْجَزْمِ وَهُوَ مِنَ النَّسْءِ وَهُوَ التَّأْخِيرُ. وَمِنْهُ: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التَّوْبَةِ: 37] وَمِنْهُ سُمِّيَ بَيْعُ الْأَجَلِ نَسِيئَةً، وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَنْسَأَ اللَّهُ أَجْلَهُ وَنَسَأَ فِي أَجْلِهِ، أَيْ أَخَّرَ وَزَادَ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ سَرَّهُ النَّسْءُ فِي الْأَجَلِ وَالزِّيَادَةُ فِي الرِّزْقِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» . وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ السِّينِ وَهُوَ مِنَ النِّسْيَانِ، ثُمَّ/ الْأَكْثَرُونَ حَمَلُوهُ عَلَى النِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الذِّكْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ النِّسْيَانَ عَلَى التَّرْكِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 155] أَيْ فَتَرَكَ وَقَالَ: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا [الْأَعْرَافِ: 51] أَيْ نَتْرُكُهُمْ كَمَا تَرَكُوا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ حَمْلَ النِّسْيَانِ عَلَى التَّرْكِ مَجَازٌ، لِأَنَّ الْمَنْسِيَّ يَكُونُ مَتْرُوكًا، فَلَمَّا كَانَ التَّرْكُ مِنْ لَوَازِمِ النِّسْيَانِ أَطْلَقُوا اسْمَ الْمَلْزُومِ على اللازم وقرئ ننسها وننسها بالتشديد، وتنسها وتنسها عَلَى خِطَابِ الرَّسُولِ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: مَا نُنْسِكْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَنْسَخْهَا، وَقَرَأَ حُذَيْفَةُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِكْهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: «مَا» فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَزَائِيَّةٌ كَقَوْلِكَ: مَا تَصْنَعْ أَصْنَعْ وَعَمَلُهَا الْجَزْمُ فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ إِذَا كَانَا مُضَارِعَيْنِ فَقَوْلُهُ: (نَنْسَخْ) شَرْطٌ وَقَوْلُهُ: (نَأْتِ) جَزَاءٌ وَكِلَاهُمَا مَجْزُومَانِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّنَاسُخَ فِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ طَرِيقٍ شَرْعِيٍّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ لَا يُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا، فَقَوْلُنَا: طَرِيقٌ شَرْعِيٌّ نَعْنِي بِهِ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْقَوْلِ الصَّادِرِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ، وَالْفِعْلِ الْمَنْقُولِ عَنْهُمَا، وَيَخْرُجُ عَنْهُ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّرْعُ نَاسِخًا لِحُكْمِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ الْعَقْلَ لَيْسَ طَرِيقًا شَرْعِيًّا. وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُعْجِزُ نَاسِخًا لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِأَنَّ الْمُعْجِزَ لَيْسَ طَرِيقًا شَرْعِيًّا وَلَا يَلْزَمُ تَقَيُّدُ الْحُكْمِ بِغَايَةٍ أَوْ شَرْطٍ أَوِ اسْتِثْنَاءٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَرَاخٍ، وَلَا يَلْزَمُ مَا إِذَا أَمَرَنَا اللَّهُ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ ثُمَّ نَهَانَا عَنْ مِثْلِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِثْلُ هَذَا النَّهْيِ نَاسِخًا لَمْ يَكُنْ مِثْلُ حُكْمِ الْأَمْرِ ثَابِتًا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: النَّسْخُ عِنْدَنَا جَائِزٌ عَقْلًا وَاقِعٌ سَمْعًا خِلَافًا لِلْيَهُودِ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ عَقْلًا وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ عَقْلًا، لَكِنَّهُ مَنَعَ مِنْهُ سَمْعًا، وَيُرْوَى عَنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ إِنْكَارُ النَّسْخِ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ وَوُقُوعِهِ، لِأَنَّ الدَّلَائِلَ دَلَّتْ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُبُوَّتُهُ لَا تَصِحُّ إِلَّا مَعَ الْقَوْلِ بِنَسْخِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِالنَّسْخِ، وَأَيْضًا قُلْنَا: عَلَى الْيَهُودِ إِلْزَامَانِ. الْأَوَّلُ: جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْفُلْكِ: «إِنِّي جَعَلْتُ كُلَّ دَابَّةٍ مَأْكَلًا لَكَ وَلِذُرِّيَّتِكَ وَأَطْلَقْتُ ذَلِكَ لَكُمْ كَنَبَاتِ الْعُشْبِ مَا خَلَا الدَّمَ فَلَا تَأْكُلُوهُ» ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى مُوسَى وَعَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثِيرًا مِنَ الْحَيَوَانِ، الثَّانِي: كَانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُزَوِّجُ الْأُخْتَ مِنَ الْأَخِ وَقَدْ حَرَّمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى موسى عليه السلام. قال منكر والنسخ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تَصِحُّ إِلَّا مَعَ الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ لِأَنَّ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أُمِرَ النَّاسُ بِشَرْعِهِمَا إِلَى زَمَانِ ظُهُورِ شَرْعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أُمِرَ النَّاسُ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَعِنْدَ ظُهُورِ شَرْعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ زَالَ التَّكْلِيفُ بِشَرْعِهِمَا وَحَصَلَ التكليف

بِشَرْعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لَكِنَّهُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا، بَلْ جَارِيًا مَجْرَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [الْبَقَرَةِ: 187] وَالْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا وُقُوعَ النَّسْخِ أَصْلًا/ بَنَوْا مَذْهَبَهُمْ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ وَقَالُوا: قَدْ ثَبَتَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ قَدْ بَشَّرَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِمَبْعَثِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّ عِنْدَ ظُهُورِهِ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَى شَرْعِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَعَ قِيَامِ هَذَا الِاحْتِمَالِ امْتَنَعَ الْجَزْمُ بِوُقُوعِ النَّسْخِ وَهَذَا هُوَ الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْإِلْزَامَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَاحْتَجَّ منكروا النَّسْخِ بِأَنْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ شَرْعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى دَوَامِهَا أَوْ لَا عَلَى دَوَامِهَا أَوْ مَا كَانَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى الدَّوَامِ وَلَا عَلَى اللَّادَوَامِ، فَإِنْ بَيَّنَ فِيهَا ثُبُوتَهَا عَلَى الدَّوَامِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مَا دَامَتْ كَانَ الْخَبَرُ الْأَوَّلُ كَذِبًا وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى الشَّرْعِ، وَأَيْضًا، فَلَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَنَا طَرِيقٌ إِلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ شَرْعَنَا لَا يَصِيرُ مَنْسُوخًا، لِأَنَّ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَقُولَ الشَّرْعُ: هَذِهِ الشَّرِيعَةُ دَائِمَةٌ وَلَا تَصِيرُ مَنْسُوخَةً قَطُّ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنَّا إِذَا رَأَيْنَا مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ حَاصِلًا فِي شَرْعِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مَعَ أَنَّهُمَا لَمْ يَدُومَا زَالَ الْوُثُوقُ عَنْهُ فِي كُلِّ الصُّوَرِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: ذَكَرَ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الدَّوَامِ، ثُمَّ قَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَيَنْسَخُهُ أَوْ مَا قَرَنَ بِهِ إِلَّا أَنَّهُ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا فِي الْجُمْلَةِ؟ قُلْنَا: هَذَا ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الدَّوَامِ مَعَ التَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدُومُ جَمْعٌ بَيْنَ كَلَامَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ، وَإِنَّهُ سَفَهٌ وَعَبَثٌ، وَثَانِيهَا: عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ شَرْعَهُمَا سَيَصِيرُ مَنْسُوخًا، فَإِذَا نَقَلَ شَرْعَهُ وَجَبَ أَنْ يَنْقُلَ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَنْقُلَ أَصْلَ الشَّرْعِ بِدُونِ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ لَجَازَ مِثْلُهُ فِي شَرْعِنَا أَيْضًا، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لَنَا طَرِيقٌ إِلَى الْقَطْعِ بِأَنَّ شَرْعَنَا غَيْرُ مَنْسُوخٍ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَتَوَفَّرُ فِيهَا الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ اشْتِهَارُهُ وَبُلُوغُهُ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، وَإِلَّا فَلَعَلَّ الْقُرْآنَ عُورِضَ، وَلَمْ تُنْقَلْ مُعَارَضَتُهُ وَلَعَلَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيَّرَ هَذَا الشَّرْعَ عَنْ هَذَا الْوَضْعِ وَلَمْ يُنْقَلْ، وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ أَنْ تُنْقَلَ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاتُرِ فَنَقُولُ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ فِي زَمَانِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَلَى أَنَّ شَرْعَيْهِمَا سَيَصِيرَانِ مَنْسُوخَيْنِ لَكَانَ ذَلِكَ مَشْهُورًا لِأَهْلِ التَّوَاتُرِ، وَمَعْلُومًا لَهُمْ بِالضَّرُورَةِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاسْتَحَالَ مُنَازَعَةُ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ فِيهِ، فَحَيْثُ رَأَيْنَا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مُطْبِقِينَ عَلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّ شَرْعَيْهِمَا يَصِيرَانِ مَنْسُوخَيْنِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى شَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ غَيْرُ دَائِمٍ. فَهَذَا بَاطِلٌ لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ لِأَهْلِ التَّوَاتُرِ، وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ انْتِهَاءً لِلْغَايَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى شَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ كَوْنَهُ دَائِمًا أَوْ كَوْنَهُ غَيْرَ دَائِمٍ فَنَقُولُ: قَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْأَمْرِ لَا يُفِيدُ التَّكْرَارَ وَإِنَّمَا يُفِيدُ/ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ، فَإِذَا أَتَى الْمُكَلَّفُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ، فَوُرُودُ أَمْرٍ آخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِلْأَمْرِ الْأَوَّلِ، فَثَبَتَ بِهَذَا التَّقْسِيمِ أَنَّ الْقَوْلَ بِالنَّسْخِ مُحَالٌ. وَاعْلَمْ أَنَّا بَعْدَ أَنْ قَرَّرْنَا هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي كِتَابِ الْمَحْصُولِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ تَمَسَّكْنَا فِي وُقُوعِ النَّسْخِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها، نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها، والاستدلال به أيضاً ضعيف، لأن «ما» هاهنا تفيد

الشرط والجزاء، وكما أن قولك: من جَاءَكَ فَأَكْرِمْهُ لَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْمَجِيءِ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ مَتَى جَاءَ وَجَبَ الْإِكْرَامُ، فَكَذَا هَذِهِ الْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى حُصُولِ النَّسْخِ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ النَّسْخُ وَجَبَ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، فَالْأَقْوَى أَنْ نُعَوِّلَ فِي الْإِثْبَاتِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ [النَّحْلِ: 101] وَقَوْلِهِ: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرَّعْدِ: 39] وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى وُقُوعِ النَّسْخِ فِي الْقُرْآنِ، وقال أبو مسلم بن بحر: إنه لم يقع، واحتج الجمهور على وقوعه فِي الْقُرْآنِ بِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: هَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ قوله تَعَالَى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها، أَجَابَ أَبُو مُسْلِمٍ عَنْهُ بِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَاتِ الْمَنْسُوخَةِ هِيَ الشَّرَائِعُ الَّتِي فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، كَالسَّبْتِ وَالصَّلَاةِ إِلَى الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مِمَّا وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنَّا وَتَعَبَّدَنَا بِغَيْرِهِ، فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كَانُوا يَقُولُونَ: لَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، فَأَبْطَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، الْوَجْهُ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنَ النَّسْخِ نَقْلُهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَتَحْوِيلُهُ عَنْهُ إِلَى سَائِرِ الْكُتُبِ وَهُوَ كَمَا يُقَالُ نَسَخْتُ الْكِتَابَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ النَّسْخِ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ النَّسْخُ لَوَقَعَ إِلَى خَيْرٍ مِنْهُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَجَابَ عَنِ الِاعْتِرَاضِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْآيَاتِ إِذَا أُطْلِقَتْ فَالْمُرَادُ بِهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْهُودُ عِنْدَنَا، وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّ نَقْلَ الْقُرْآنِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْقُرْآنِ وَهَذَا النَّسْخُ مُخْتَصٌّ بِبَعْضِهِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ عَلَى الْأَوَّلِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ مُخْتَصٌّ بِالْقُرْآنِ، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الدَّلَائِلِ، وَعَلَى الثَّانِي: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّسْخَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ مُخْتَصٌّ بِبَعْضِ الْقُرْآنِ، بَلِ التَّقْدِيرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَا نَنْسَخُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَإِنَّا نَأْتِي بَعْدَهُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: لِلْقَائِلِينَ بِوُقُوعِ النَّسْخِ فِي الْقُرْآنِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا بِالِاعْتِدَادِ حَوْلًا كَامِلًا وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ [الْبَقَرَةِ: 240] ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ كَمَا قَالَ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [الْبَقَرَةِ: 234] قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الِاعْتِدَادُ بِالْحَوْلِ مَا زَالَ بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَامِلًا وَمُدَّةُ حَمْلِهَا حَوْلٌ كَامِلٌ لَكَانَتْ عِدَّتُهَا حَوْلًا كَامِلًا، وَإِذَا بَقِيَ هَذَا الْحُكْمُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لَا نَاسِخًا، وَالْجَوَابُ: أَنْ مُدَّةَ عِدَّةِ الْحَمْلِ تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ سَوَاءٌ حَصَلَ وَضْعُ الْحَمْلِ بِسَنَةٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَجَعْلُ السَّنَةِ الْعِدَّةَ يَكُونُ زَائِلًا بِالْكُلِّيَّةِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَمَرَ اللَّهُ بِتَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَى الرَّسُولِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا/ إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً [الْمُجَادَلَةِ: 12] ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّمَا زَالَ ذَلِكَ لِزَوَالِ سَبَبِهِ لِأَنَّ سَبَبَ التَّعَبُّدِ بِهَا أَنْ يَمْتَازَ الْمُنَافِقُونَ مِنْ حَيْثُ لَا يَتَصَدَّقُونَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا حَصَلَ هَذَا الْغَرَضُ سَقَطَ التَّعَبُّدُ. وَالْجَوَابُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مَنْ لَمْ يَتَصَدَّقْ مُنَافِقًا وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَتَصَدَّقْ غَيْرُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [الْمُجَادَلَةِ: 13] . الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِثَبَاتِ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الْأَنْفَالِ: 65، 66] .

الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [الْبَقَرَةِ: 142] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَزَالَهُمْ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْبَقَرَةِ: 144] . قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: حُكْمُ تِلْكَ الْقِبْلَةِ مَا زَالَ بِالْكُلِّيَّةِ لِجَوَازِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا عِنْدَ الْإِشْكَالِ أَوْ مَعَ الْعِلْمِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ. الْجَوَابُ: أَنَّ عَلَى مَا ذَكَرْتَهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَسَائِرِ الْجِهَاتِ، فَالْخُصُوصِيَّةُ الَّتِي بِهَا امْتَازَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ عَنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ قَدْ زَالَتْ بِالْكُلِّيَّةِ فَكَانَ نَسْخًا. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ [النَّحْلِ: 101] وَالتَّبْدِيلُ يَشْتَمِلُ عَلَى رَفْعٍ وَإِثْبَاتٍ، وَالْمَرْفُوعُ إِمَّا التِّلَاوَةُ وَإِمَّا الْحُكْمُ، فَكَيْفَ كَانَ فَهُوَ رَفْعٌ وَنَسْخٌ، وَإِنَّمَا أَطْنَبْنَا فِي هَذِهِ الدَّلَائِلِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ النَّسْخِ فِي الْجُمْلَةِ وَاحْتَجَّ أَبُو مُسْلِمٍ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ كِتَابَهُ بِأَنَّهُ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، فَلَوْ نُسِخَ لَكَانَ قَدْ أَتَاهُ الْبَاطِلُ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ مَا يُبْطِلُهُ وَلَا يَأْتِيهِ مِنْ بَعْدِهِ أَيْضًا مَا يُبْطِلُهُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الْمَنْسُوخُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْحُكْمَ فَقَطْ أَوِ التِّلَاوَةَ فَقَطْ أَوْ هُمَا مَعًا، أَمَّا الَّذِي يَكُونُ الْمَنْسُوخُ هُوَ الْحُكْمَ دُونَ التِّلَاوَةِ فَكَهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي عَدَدْنَاهَا، وَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ الْمَنْسُوخُ هُوَ التِّلَاوَةَ فَقَطْ فَكَمَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَقْرَأُ آيَةَ الرَّجْمِ: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» وَرُوِيَ: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى إِلَيْهِمَا ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» ، وَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ مَنْسُوخَ الْحُكْمِ وَالتِّلَاوَةِ مَعًا، فَهُوَ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَزَلَ فِي الرَّضَاعِ بِعَشْرٍ مَعْلُومَاتٍ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَالْعَشْرُ مَرْفُوعُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا وَالْخُمْسُ مَرْفُوعُ التِّلَاوَةِ بَاقِي الْحُكْمِ. وَيُرْوَى أَيْضًا أَنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ السَّبْعِ الطِّوَالِ أَوْ أَزْيَدَ ثُمَّ وَقَعَ النُّقْصَانُ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها فَمِنْهُمْ مَنْ/ فَسَّرَ النَّسْخَ بِالْإِزَالَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِالنَّسْخِ بِمَعْنَى نَسَخْتُ الْكِتَابَ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا، أَحَدُهَا: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ وَأَنْتُمْ تَقْرَءُونَهُ أَوْ نُنْسِهَا أَيْ مِنَ الْقُرْآنِ مَا قُرِئَ بَيْنَكُمْ ثُمَّ نُسِّيتُمْ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالْأَصَمِّ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَحَمَلُوهُ عَلَى نَسْخِ الْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ، وَنُنْسِهَا عَلَى نَسْخِ الْحُكْمِ وَالتِّلَاوَةِ مَعًا، فَإِنْ قِيلَ: وُقُوعُ هَذَا النِّسْيَانِ مَمْنُوعٌ عَقْلًا وَشَرْعًا. أَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا بُدَّ مِنْ إِيصَالِهِ إِلَى أَهْلِ التَّوَاتُرِ، وَالنِّسْيَانُ عَلَى أَهْلِ التَّوَاتُرِ بِأَجْمَعِهِمْ مُمْتَنِعٌ. وَأَمَّا النَّقْلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحِجْرِ: 9] وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ النِّسْيَانَ يَصِحُّ بِأَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى بِطَرْحِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُتْلَى وَيُؤْتَى بِهِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ يُحْتَجُّ بِهِ، فَإِذَا زَالَ حُكْمُ التَّعَبُّدِ بِهِ وَطَالَ الْعَهْدُ نُسِيَ أَوْ إِنْ ذُكِرَ فَعَلَى طَرِيقِ مَا يُذْكَرُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فَيَصِيرُ لِهَذَا الْوَجْهِ مَنْسِيًّا عَنِ الصُّدُورِ، الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مُعْجِزَةً لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيُرْوَى فِيهِ خَبَرٌ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ السُّورَةَ فَيُصْبِحُونَ وَقَدْ نَسُوهَا، وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ [الْأَعْلَى: 6، 7] وَبِقَوْلِهِ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ [الْكَهْفِ: 24] . الْقَوْلُ الثَّانِي: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَيْ نُبَدِّلْهَا، إِمَّا بِأَنْ نُبَدِّلَ حُكْمَهَا فَقَطْ أَوْ تِلَاوَتَهَا فَقَطْ أَوْ نُبَدِّلَهُمَا، أَمَّا قوله

تَعَالَى: أَوْ نُنْسِها فَالْمُرَادُ نَتْرُكُهَا كَمَا كَانَتْ فَلَا نُبَدِّلُهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النِّسْيَانَ بِمَعْنَى التَّرْكِ قَدْ جَاءَ، فَيَصِيرُ حَاصِلُ الْآيَةِ أَنَّ الَّذِي نُبَدِّلُهُ فَإِنَّا نَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ، أَيْ مَا نَرْفَعْهَا بَعْدَ إِنْزَالِهَا أَوْ نَنْسَأْهَا عَلَى قِرَاءَةِ الْهَمْزَةِ أَيْ نُؤَخِّرْ إِنْزَالَهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ نُؤَخِّرُ نَسْخَهَا فَلَا نَنْسَخُهَا فِي الْحَالِ، فَإِنَّا نُنَزِّلُ بَدَلَهَا مَا يَقُومُ مَقَامَهَا فِي الْمَصْلَحَةِ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ، وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي صَارَتْ مَنْسُوخَةً فِي الْحُكْمِ وَالتِّلَاوَةِ مَعًا، أَوْ نُنْسِهَا، أَيْ نَتْرُكْهَا وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي صَارَتْ مَنْسُوخَةً فِي الْحُكْمِ وَلَكِنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ فِي التِّلَاوَةِ، بَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ فِي التِّلَاوَةِ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ، أَيْ نَنْسَخْهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ نَنْسَأْهَا، نُؤَخِّرْهَا. وَأَمَّا قِرَاءَةُ «نُنْسِهَا» فَالْمَعْنَى نَتْرُكُهَا يَعْنِي نَتْرُكُ نَسْخَهَا فَلَا نَنْسَخُهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ آيَةٍ فَكُلُّ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلُوهُ عَلَى الْآيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرَ أَبِي مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها فَفِيهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْأَخَفُّ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْأَصْلَحُ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى يَصْرِفُ الْمُكَلَّفُ عَلَى مَصَالِحِهِ لَا عَلَى مَا هُوَ أَخَفُّ عَلَى طِبَاعِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الثَّانِي أَصْلَحَ مِنَ الْأَوَّلِ لَكَانَ الْأَوَّلُ نَاقِصَ الصَّلَاحِ فَكَيْفَ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ؟ قُلْنَا: الْأَوَّلُ أَصْلَحُ مِنَ الثَّانِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَقْتِ الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي بِالْعَكْسِ مِنْهُ فَزَالَ السُّؤَالُ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اسْتَنْبَطُوا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَكْثَرَ مَسَائِلِ النَّسْخِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْحُكْمِ إِلَّا إِلَى بَدَلٍ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا نَسَخَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَأْتِيَ بَعْدَهُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ أَوْ بِمَا يَكُونُ مِثْلَهُ، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ الْبَدَلِ. وَالْجَوَابُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ أَنَّ نَفْيَ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَإِسْقَاطَ التَّعَبُّدِ بِهِ خَيْرٌ مِنْ ثُبُوتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ النَّسْخِ لَا إِلَى بَدَلٍ أَنَّهُ نَسَخَ تَقْدِيمَ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا إِلَى البدل. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ نَسْخُ الشَّيْءِ إِلَى مَا هُوَ أَثْقَلُ مِنْهُ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ قَوْلَهُ: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها يُنَافِي كَوْنَهُ أَثْقَلَ، لِأَنَّ الْأَثْقَلَ لَا يَكُونُ خَيْرًا مِنْهُ وَلَا مِثْلَهُ. وَالْجَوَابُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْخَيْرِ مَا يَكُونُ أَكْثَرَ ثَوَابًا فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ إِنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِهِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَسَخَ فِي حَقِّ الزُّنَاةِ الْحَبْسَ فِي الْبُيُوتِ إِلَى الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ، وَنَسَخَ صَوْمَ عَاشُورَاءَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ، وَكَانَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ قَوْمٍ فَنُسِخَتْ بِأَرْبَعٍ فِي الْحَضَرِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا نَسْخُ الشَّيْءِ إِلَى الْأَثْقَلِ فَقَدْ وَقَعَ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَمَّا نَسْخُهُ إِلَى الْأَخَفِّ فَكَنَسْخِ الْعِدَّةِ مِنْ حَوْلٍ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَكَنَسْخِ صَلَاةِ اللَّيْلِ إِلَى التَّخْيِيرِ فِيهَا. وَأَمَّا نَسْخُ الشَّيْءِ إِلَى الْمِثْلِ فَكَالتَّحْوِيلِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْكِتَابُ لَا يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ مَا يَنْسَخُهُ مِنَ الْآيَاتِ يَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّهُ يَأْتِي بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ، كَمَا إِذَا قَالَ الْإِنْسَانُ: مَا آخُذُ مِنْكَ مِنْ ثواب آتِيكَ بِخَيْرٍ مِنْهُ، يُفِيدُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ بِثَوْبٍ مِنْ جِنْسِهِ خَيْرٍ مِنْهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهِ فَجِنْسُ الْقُرْآنِ قُرْآنٌ، وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها يفيد أنه هو المنفرد

بالإتيان بذلك الخير، وذلك هو الْقُرْآنُ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ دُونَ السُّنَّةِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها يُفِيدُ أَنَّ الْمَأْتِيَّ بِهِ خَيْرٌ مِنَ الْآيَةِ، وَالسُّنَّةُ لَا تَكُونُ خَيْرًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْآتِيَ بِذَلِكَ الْخَيْرِ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْقُدْرَةِ عَلَى جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ وَذَلِكَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْجَوَابُ عَنِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ بِأَسْرِهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها لَيْسَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ الْخَيْرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا، بَلْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْخَيْرُ شَيْئًا مُغَايِرًا لِلنَّاسِخِ يَحْصُلُ بَعْدَ حُصُولِ النَّسْخِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْإِتْيَانَ بِذَلِكَ الْخَيْرِ مُرَتَّبٌ عَلَى نَسْخِ الْآيَةِ الْأَوْلَى، فَلَوْ كَانَ نَسْخُ تِلْكَ الْآيَةِ مُرَتَّبًا عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَذَا الْخَيْرِ لَزِمَ الدَّوْرُ وَهُوَ بَاطِلٌ، ثُمَّ احْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى وُقُوعِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ لِأَنَّ آيَةَ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقْرَبِينَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَبِأَنَّ آيَةَ الْجَلْدِ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِخَبَرِ الرَّجْمِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَّا الْأَوَّلُ: فَضَعِيفٌ لِأَنَّ كَوْنَ الْمِيرَاثِ حَقًّا لِلْوَارِثِ يَمْنَعُ مِنْ صَرْفِهِ إِلَى الْوَصِيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ آيَةَ الْمِيرَاثِ مَانِعَةٌ مِنَ الْوَصِيَّةِ، وَأَمَّا الثَّانِي: / فَضَعِيفٌ أَيْضًا لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَى أَنَّ قَوْلَهُ: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ» كَانَ قُرْآنًا فَلَعَلَّ النَّسْخَ إِنَّمَا وَقَعَ بِهِ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَتَنْبِيهٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى تَصْرِيفِ الْمُكَلَّفِ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا دَافِعَ لِمَا أَرَادَ وَلَا مَانِعَ لِمَا اخْتَارَ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: «1» اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى لَوْ كَانَ قَدِيمًا لَكَانَ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ قَدِيمَيْنِ، لَكِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ، لَأَنَّ النَّاسِخَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْمَنْسُوخِ، وَالْمُتَأَخِّرُ عَنِ الشَّيْءِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا، وَأَمَّا الْمَنْسُوخُ فَلِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَزُولَ وَيَرْتَفِعَ، وَمَا ثَبَتَ زَوَالُهُ اسْتَحَالَ قِدَمُهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ خَيْرٌ مِنْ بَعْضٍ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ قَدِيمًا، وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَادِرُ عَلَى نَسْخِ بَعْضِهَا وَالْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ آخَرَ بَدَلًا مِنَ الْأَوَّلِ، وَمَا كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ الْقُدْرَةِ وَكَانَ فِعْلًا كَانَ مُحْدَثًا، أَجَابَ الْأَصْحَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ كَوْنَهُ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا إِنَّمَا هُوَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ وَالْعِبَارَاتِ وَاللُّغَاتِ وَلَا نِزَاعَ فِي حُدُوثِهَا، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ الْعِبَارَاتِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ مُحْدَثٌ؟ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ الْعِبَارَاتِ وَاللُّغَاتِ لَا شَكَّ أَنَّ تَعَلُّقَهُ الْأَوَّلَ قَدْ زَالَ وَحَدَثَ لَهُ تَعَلُّقٌ آخَرُ، فَالتَّعَلُّقُ الْأَوَّلُ مُحْدَثٌ لِأَنَّهُ زَالَ وَالْقَدِيمُ لَا يَزُولُ، وَالتَّعَلُّقُ الثَّانِي حَادِثٌ لأنه حصل بعد ما لَمْ يَكُنْ، وَالْكَلَامُ الْحَقِيقِيُّ لَا يَنْفَكُّ عَنْ هَذِهِ التَّعَلُّقَاتِ، وَمَا لَا يَنْفَكُّ عَنْ هَذِهِ التَّعَلُّقَاتِ [مُحْدَثٌ] وَمَا لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْمُحْدَثِ مُحْدَثٌ وَالْكَلَامُ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا. أَجَابَ الْأَصْحَابُ: أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ كَانَتْ فِي الْأَزَلِ مُتَعَلِّقَةً بِإِيجَادِ الْعَالِمِ، فَعِنْدَ دُخُولِ الْعَالَمِ فِي الْوُجُودِ هَلْ بَقِيَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ أَوْ لَمْ يَبْقَ؟ فَإِنْ بَقِيَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقَادِرُ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِ الْمَوْجُودِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ فَقَدْ زَالَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ فَيَلْزَمُكُمْ حُدُوثُ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ، وَكَذَلِكَ عِلْمُ اللَّهِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِأَنَّ الْعَالَمَ سَيُوجَدُ، فَعِنْدَ دُخُولِ الْعَالَمِ فِي الْوُجُودِ إِنْ بَقِيَ التَّعَلُّقُ الْأَوَّلُ كَانَ جهلًا، وإن لم يبق

_ (1) هذه المسألة من فروع مسائل النسخ وقد تكلم المؤلف رحمه الله على ثمان مسائل منها مرت إلى ص 641 من هذا الجزء.

[سورة البقرة (2) : آية 107]

فَيَلْزَمُكُمْ كَوْنُ التَّعَلُّقِ الْأَوَّلِ حَادِثًا، لِأَنَّهُ لَوْ كان قديماً لما زال، وبكون التَّعَلُّقُ الَّذِي حَصَلَ بَعْدَ ذَلِكَ حَادِثًا فَإِذَنْ عَالِمِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَنْفَكُّ عَنِ التَّعَلُّقَاتِ الْحَادِثَةِ، وَمَا لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْمُحْدَثِ مُحْدَثٌ فَعَالِمِيَّةُ اللَّهِ مُحْدَثَةٌ. فَكُلُّ مَا تَجْعَلُونَهُ جَوَابًا عَنِ الْعَالِمِيَّةِ وَالْقَادِرِيَّةِ فَهُوَ جَوَابُنَا عَنِ الْكَلَامِ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَلَى أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ تَقْرِيرِهِ فَلَا نُعِيدُهُ، وَالْقَدِيرُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ وَهُوَ بِنَاءُ الْمُبَالَغَةِ. [سورة البقرة (2) : آية 107] أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا حَكَمَ بِجَوَازِ النَّسْخِ عَقَّبَهُ بِبَيَانِ أَنَّ ملك السموات وَالْأَرْضِ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا حَسُنَ مِنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لِكَوْنِهِ مَالِكًا لِلْخَلْقِ وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَأَنَّهُ إِنَّمَا حَسُنَ التَّكْلِيفُ مِنْهُ لِمَحْضِ كَوْنِهِ مَالِكًا لِلْخَلْقِ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِمْ لَا لِثَوَابٍ يَحْصُلُ، أَوْ لِعِقَابٍ يَنْدَفِعُ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِشَارَةً إِلَى أَمْرِ القبلة، فإنه تعالى أخبرهم بأنه مالك السموات وَالْأَرْضِ وَأَنَّ الْأَمْكِنَةَ وَالْجِهَاتِ كُلَّهَا لَهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ بَعْضُ الْجِهَاتِ أَكْبَرَ حُرْمَةً مِنَ الْبَعْضِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ يَجْعَلُهَا هُوَ تَعَالَى لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَكَانَ الْأَمْرُ بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ إِنَّمَا هُوَ مَحْضُ التَّخْصِيصِ بِالتَّشْرِيفِ، فَلَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ تَغَيُّرِهِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ، وَأَمَّا الْوَلِيُّ وَالنَّصِيرُ فَكِلَاهُمَا فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالِغَةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُلْكَ غَيْرُ الْقُدْرَةِ، فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَوَّلًا: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَلَوْ كَانَ الْمُلْكُ عِبَارَةً عَنِ الْقُدْرَةِ لَكَانَ هَذَا تَكْرِيرًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَالْكَلَامُ فِي حَقِيقَةِ الْمُلْكِ وَالْقُدْرَةِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَةِ: 4] . [سورة البقرة (2) : آية 108] أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) اعلم أن هاهنا مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «أَمْ» عَلَى ضَرْبَيْنِ مُتَّصِلَةٍ وَمُنْقَطِعَةٍ، فَالْمُتَّصِلَةُ عَدِيلَةُ الْأَلِفِ وَهِيَ مُفَرِّقَةٌ لِمَا جَمَعَتْهُ أَيٌّ، كَمَا أَنَّ «أَوْ» مُفَرِّقَةٌ لِمَا جَمَعَتْهُ تَقُولُ: اضْرِبْ أَيَّهُمْ شِئْتَ زَيْدًا أَمْ عَمْرًا، فَإِذَا قُلْتَ: اضْرِبْ أَحَدَهُمْ قُلْتَ: اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا، وَالْمُنْقَطِعَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ كَلَامٍ تَامٍّ، لِأَنَّهَا بِمَعْنَى بَلْ وَالْأَلِفِ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: إِنَّهَا الْإِبِلُ أَمْ شَاءٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ هِيَ شَاءٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ [الأحقاف: 8] أَيْ: بَلْ يَقُولُونَ، قَالَ الْأَخْطَلُ: كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلَامِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالًا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُخَاطَبِ بِهِ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ وَالْجُبَّائِيِّ وَأَبِي مُسْلِمٍ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ وَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: أَمْ تُرِيدُونَ يَقْتَضِي مَعْطُوفًا عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لا تَقُولُوا راعِنا [البقرة: 104] فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا فَهَلْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ كَمَا أُمِرْتُمْ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ؟ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَسْأَلُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أُمُورٍ لَا خَيْرَ لَهُمْ فِي الْبَحْثِ عَنْهَا لِيَعْلَمُوهَا كَمَا سَأَلَ الْيَهُودُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ خَيْرٌ عَنِ الْبَحْثِ عَنْهُ، الرَّابِعُ: سَأَلَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ

[سورة البقرة (2) : آية 109]

يَجْعَلَ لَهُمْ ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، وَهِيَ شَجَرَةٌ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَيُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا الْمَأْكُولَ وَالْمَشْرُوبَ، كَمَا سَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ. قَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ مِنْ قُرَيْشٍ فقال: يا محمد والله ما أؤمن بِكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ، أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ بِأَنْ تَصْعَدَ، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا مِنَ اللَّهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَاتَّبِعُوهُ. وَقَالَ لَهُ بَقِيَّةُ الرَّهْطِ: فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ ذَلِكَ فَائْتِنَا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِيهِ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَالْحُدُودُ وَالْفَرَائِضُ كَمَا جَاءَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ بِالْأَلْوَاحِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِيهَا كُلُّ ذَلِكَ، فَنُؤْمِنُ بِكَ عِنْدَ ذَلِكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ مُحَمَّدًا أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْآيَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا سَأَلَ السَّبْعُونَ فَقَالُوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ قُرَيْشًا سَأَلَتْ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا وَفِضَّةً، فَقَالَ: نَعَمْ هُوَ لَكُمْ كَالْمَائِدَةِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَبَوْا وَرَجَعُوا. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ الْيَهُودُ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِ قوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ [الْبَقَرَةِ: 40، 47] حِكَايَةٌ عَنْهُمْ وَمَحَاجَّةٌ مَعَهُمْ وَلِأَنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ وَلِأَنَّهُ جَرَى ذِكْرُ الْيَهُودِ وَمَا جَرَى ذِكْرُ غَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنَ بِالرَّسُولِ لَا يَكَادُ يَسْأَلُهُ فَإِذَا سَأَلَهُ كَانَ مُتَبَدِّلًا كُفْرًا بِالْإِيمَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَيْسَ فِي ظاهر قوله: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِالسُّؤَالِ فَضْلًا عَنْ كَيْفِيَّةِ السُّؤَالِ، بَلِ الْمَرْجِعُ فِيهِ إِلَى الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي أَنَّهُمْ سَأَلُوا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ السُّؤَالَ الَّذِي ذَكَرُوهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ طَلَبًا لِلْمُعْجِزَاتِ فَمِنْ أَيْنَ أَنَّهُ كُفْرٌ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ طَلَبَ الدَّلِيلِ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَكُونُ كُفْرًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ طَلَبًا لِوَجْهِ الْحِكْمَةِ الْمُفَصَّلَةِ فِي نَسْخِ الْأَحْكَامِ، فَهَذَا أَيْضًا لَا يَكُونُ كُفْرًا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ طَلَبُوا الْحِكْمَةَ التَّفْصِيلِيَّةَ فِي خِلْقَةِ الْبَشَرِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كُفْرًا، فَلَعَلَّ الْأَوْلَى حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلهة، وإن كانوا طلبوا المعجزات فإنهم كانوا يَطْلُبُونَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ وَاللَّجَاجِ فَلِهَذَا كَفَرُوا بِسَبَبِ هَذَا السُّؤَالِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ذَكَرُوا فِي اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهًا، أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ بِجَوَازِ النَّسْخِ فِي الشَّرَائِعِ فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يُطَالِبُونَهُ بِتَفَاصِيلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فَمَنَعَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِهَذِهِ الْأَسْئِلَةِ كَمَا أَنَّهُ مَا كَانَ لِقَوْمِ مُوسَى أَنْ يَذْكُرُوا أَسْئِلَتَهُمُ الْفَاسِدَةَ. وَثَانِيهَا: لَمَّا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي قَالَ لَهُمْ: إِنْ لَمْ تَقْبَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَتَمَرَّدْتُمْ عَنِ الطَّاعَةِ كُنْتُمْ كَمَنْ سَأَلَ مُوسَى مَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَهُ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ، وَثَالِثُهَا: لَمَّا أَمَرَ وَنَهَى قَالَ: أَتَفْعَلُونَ مَا أُمِرْتُمْ أَمْ تَفْعَلُونَ كَمَا فَعَلَ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ قَوْمِ مُوسَى؟ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: سَواءَ السَّبِيلِ وَسَطَهُ قَالَ تَعَالَى: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصَّافَّاتِ: 55] أَيْ وَسَطِ الْجَحِيمِ، وَالْغَرَضُ التَّشْبِيهُ دُونَ نَفْسِ الْحَقِيقَةِ، وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَةَ الْإِيمَانِ فَهُوَ جَارٍ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْفَوْزِ وَالظَّفَرِ بِالطِّلْبَةِ مِنَ الثَّوَابِ وَالنَّعِيمِ، فَالْمُبَدِّلُ لِذَلِكَ بِالْكُفْرِ عَادِلٌ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ فَقِيلَ فِيهِ إِنَّهُ ضل سواء السبيل. [سورة البقرة (2) : آية 109] وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ كَيْدِ الْيَهُودِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ فِنْحَاصَ بْنَ عَازُورَاءَ، وَزَيْدَ بْنَ قَيْسٍ وَنَفَرًا مِنَ الْيَهُودِ قَالُوا لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ: أَلَمْ تَرَوْا مَا أَصَابَكُمْ، وَلَوْ كُنْتُمْ عَلَى الْحَقِّ مَا هُزِمْتُمْ، فَارْجِعُوا إِلَى دِينِنَا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَفْضَلُ وَنَحْنُ أَهْدَى مِنْكُمْ سَبِيلًا، فَقَالَ عَمَّارٌ: كَيْفَ نَقْضُ الْعَهْدِ فِيكُمْ؟ قَالُوا: شَدِيدٌ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ عَاهَدْتُ أَنِّي لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ مَا عِشْتُ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: أَمَّا هَذَا فَقَدَ صَبَأَ، وَقَالَ حُذَيْفَةُ: وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا وَبِالْكَعْبَةِ قِبْلَةً وَبِالْمُؤْمِنِينَ إِخْوَانًا، ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ: أَصَبْتُمَا خَيْرًا وَأَفْلَحْتُمَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَاعْلَمْ أَنَّا نَتَكَلَّمُ أَوَّلًا فِي الْحَسَدِ ثُمَّ نَرْجِعُ إِلَى التَّفْسِيرِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي ذَمِّ الْحَسَدِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ، الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْحَسَدُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ» . الثَّانِي: قَالَ أَنَسٌ: «كُنَّا يَوْمًا جَالِسِينَ عِنْدَ النَّبِيِّ/ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ مِنْ هَذَا الْفَجِّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ينظف لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ وَقَدْ عَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي شِمَالِهِ فَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِثْلَ ذَلِكَ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، وَقَالَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِثْلَ ذَلِكَ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي تَأَذَّيْتُ مِنْ أَبِي فَأَقْسَمْتُ لَا أَدْخُلُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَذْهَبَ بِي إِلَى دَارِكَ فَعَلْتَ، قَالَ: نَعَمْ، فَبَاتَ عِنْدَهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا انْقَلَبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ وَلَا يَقُومُ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ: إِلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا مَرَّتِ الثَّلَاثُ وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ، قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ وَالِدِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَأَرَدْتُ أَنْ أَعْرِفَ عَمَلَكَ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ عَمَلًا كَثِيرًا، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ ذَاكَ؟ قَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ. فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي نَفْسِي عَيْبًا وَلَا حَسَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هِيَ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا تُطَاقُ» . الثَّالِثُ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ، الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ وَالْبِغْضَةُ هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ حَالِقَةُ الشَّعْرِ وَلَكِنْ حَالِقَةُ الدِّينِ» . الرَّابِعُ: قَالَ: «إِنَّهُ سَيُصِيبُ أُمَّتِي دَاءُ الْأُمَمِ، قَالُوا: مَا دَاءُ الْأُمَمِ؟ قَالَ: الْأَشَرُ وَالْبَطَرُ وَالتَّكَاثُرُ وَالتَّنَافُسُ فِي الدُّنْيَا وَالتَّبَاعُدُ وَالتَّحَاسُدُ حَتَّى يَكُونَ الْبَغْيُ ثُمَّ الْهَرْجُ» . الْخَامِسُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَهَبَ إِلَى رَبِّهِ رَأَى فِي ظِلِّ الْعَرْشِ رَجُلًا يُغْبَطُ بِمَكَانِهِ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَكَرِيمٌ عَلَى رَبِّهِ فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِاسْمِهِ فَلَمْ يُخْبِرْهُ بِاسْمِهِ وَقَالَ: أُحَدِّثُكَ مِنْ عَمَلِهِ ثَلَاثًا: كَانَ لَا يَحْسُدُ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَكَانَ لَا يَعُقُّ وَالِدَيْهِ وَلَا يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ. السَّادِسُ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ لِنِعَمِ اللَّهِ أَعْدَاءً، قِيلَ: وَمَا أُولَئِكَ؟ قَالَ: الَّذِينَ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» . السَّابِعُ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «سِتَّةٌ يَدْخُلُونَ النَّارَ قَبْلَ الْحِسَابِ، الْأُمَرَاءُ بِالْجَوْرِ، وَالْعَرَبُ بِالْعَصَبِيَّةِ وَالدَّهَاقِينُ بِالتَّكَبُّرِ، وَالتُّجَّارُ بِالْخِيَانَةِ، وَأَهْلُ الرُّسْتَاقِ بِالْجَهَالَةِ، وَالْعُلَمَاءُ بِالْحَسَدِ» . أَمَّا الْآثَارُ، فَالْأَوَّلُ: حُكِيَ أَنَّ عَوْفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ دَخَلَ عَلَى الْفَضْلِ بْنِ الْمُهَلَّبِ وَكَانَ يَوْمَئِذٍ عَلَى وَاسِطَ، فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعِظَكَ بِشَيْءٍ، إِيَّاكَ وَالْكِبْرَ فَإِنَّهُ أَوَّلُ ذَنْبٍ عَصَى اللَّهَ بِهِ إِبْلِيسُ، ثُمَّ قَرَأَ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ [الْبَقَرَةِ: 34] وَإِيَّاكَ وَالْحِرْصَ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ أَسْكَنَهُ

الله في جنة عرضها السموات وَالْأَرْضُ فَأَكَلَ مِنْهَا، فَأَخْرَجَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَرَأَ: اهْبِطا مِنْها [طه: 123] وَإِيَّاكَ وَالْحَسَدَ فَإِنَّهُ قَتَلَ ابْنُ آدَمَ أَخَاهُ حِينَ حَسَدَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ [الْمَائِدَةِ: 27] . الثَّانِي: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: مَا حَسَدْتُ أَحَدًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَيْفَ أَحْسُدُهُ عَلَى الدُّنْيَا وَهِيَ حَقِيرَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَكَيْفَ أَحْسُدُهُ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا وَهُوَ يَصِيرُ إِلَى النَّارِ. الثَّالِثُ: قَالَ رَجُلٌ لِلْحَسَنِ: هَلْ يَحْسُدُ الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: مَا أَنْسَاكَ بَنِي يَعْقُوبَ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَضُرُّكَ مَا لَمْ تُعِدَّ بِهِ يَدًا وَلِسَانًا. الرَّابِعُ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: كُلُّ النَّاسِ أَقْدَرُ عَلَى/ رِضَاهُ إِلَّا الْحَاسِدَ فَإِنَّهُ لَا يُرْضِيهِ إِلَّا زَوَالُ النِّعْمَةِ. الْخَامِسُ: قِيلَ: الْحَاسِدُ لَا يَنَالُ مِنَ الْمَجَالِسِ إِلَّا مَذَمَّةً وَذُلًّا، وَلَا يَنَالُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا لَعْنَةً وَبُغْضًا، وَلَا يَنَالُ مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا جَزَعًا وَغَمًّا، وَلَا يَنَالُ عِنْدَ الْفَزَعِ إِلَّا شِدَّةً وَهَوْلًا، وَعِنْدَ الْمَوْقِفِ إِلَّا فَضِيحَةً وَنَكَالًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي حَقِيقَةِ الْحَسَدِ: إِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى أَخِيكَ بِنِعْمَةٍ فَإِنْ أَرَدْتَ زَوَالَهَا فَهَذَا هُوَ الْحَسَدُ، وَإِنِ اشْتَهَيْتَ لِنَفْسِكَ مِثْلَهَا فَهَذَا هُوَ الْغِبْطَةُ وَالْمُنَافَسَةُ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَحَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ، إِلَّا نِعْمَةً أَصَابَهَا فَاجِرٌ أَوْ كَافِرٌ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى الشَّرِّ وَالْفَسَادِ فَلَا يَضُرُّكَ مَحَبَّتُكَ لِزَوَالِهَا فَإِنَّكَ مَا تُحِبُّ زَوَالَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا نِعْمَةٌ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا يُتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى الْفَسَادِ وَالشَّرِّ وَالْأَذَى. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَسَدَ مَا ذَكَرْنَا آيَاتٌ. أَحَدُهَا: هَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ فَأَخْبَرَ أَنَّ حُبَّهُمْ زَوَالَ نِعْمَةِ الْإِيمَانِ حَسَدٌ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً [النِّسَاءِ: 89] . وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها [آلِ عِمْرَانَ: 120] وَهَذَا الْفَرَحُ شَمَاتَةٌ، وَالْحَسَدُ وَالشَّمَاتَةُ مُتَلَازِمَانِ. وَرَابِعُهَا: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى حَسَدَ إِخْوَةِ يُوسُفَ وَعَبَّرَ عَمَّا فِي قُلُوبِهِمْ بِقَوْلِهِ: قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ [يُوسُفَ: 8، 9] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ حَسَدَهُمْ لَهُ عِبَارَةٌ عَنْ كَرَاهَتِهِمْ حُصُولَ تِلْكَ النِّعْمَةِ لَهُ. وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا [الْحَشْرِ: 9] أَيْ لَا تَضِيقُ بِهِ صُدُورُهُمْ وَلَا يَغْتَمُّونَ، فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِعَدَمِ الْحَسَدِ. وَسَادِسُهَا: قَالَ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ الْإِنْكَارِ: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاءِ: 54] . وَسَابِعُهَا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ [الْبَقَرَةِ: 213] إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [الْبَقَرَةِ: 213] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: حَسَدًا. وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [الشُّورَى: 14] فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْعِلْمَ لِيُؤَلِّفَ بَيْنَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ فَتَحَاسَدُوا وَاخْتَلَفُوا، إِذْ أَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالرِّيَاسَةِ وَقَبُولِ الْقَوْلِ. وَتَاسِعُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتِ الْيَهُودُ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا قَاتَلُوا قَوْمًا قَالُوا: نَسْأَلُكَ بِالنَّبِيِّ الَّذِي وَعَدْتَنَا أَنْ تُرْسِلَهُ وَبِالْكِتَابِ الَّذِي تُنْزِلُهُ إِلَّا تَنْصُرُنَا، فَكَانُوا يُنْصَرُونَ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ عَرَفُوهُ وَكَفَرُوا بِهِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ إِيَّاهُ فَقَالَ تَعَالَى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [الْبَقَرَةِ: 89] إِلَى قَوْلِهِ: أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً [الْبَقَرَةِ: 90] أَيْ حَسَدًا. وَقَالَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: جَاءَ أَبِي وَعَمِّي مِنْ عِنْدِكَ فَقَالَ أَبِي لِعَمِّي مَا تَقُولُ فِيهِ؟ قَالَ: أَقُولُ: إِنَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: فَمَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى مُعَادَاتَهُ أَيَّامَ الْحَيَاةِ، فَهَذَا حُكْمُ الْحَسَدِ. أَمَّا الْمُنَافَسَةُ فَلَيْسَتْ بِحَرَامٍ وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ النَّفَاسَةِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَرَامٍ وُجُوهٌ. أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ

الْمُتَنافِسُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: 26] . وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد: 21] وَإِنَّمَا الْمُسَابَقَةُ عِنْدَ خَوْفِ الْفَوْتِ وَهُوَ كَالْعَبْدَيْنِ يَتَسَابَقَانِ إِلَى خِدْمَةِ/ مَوْلَاهُمَا إِذْ يَجْزَعُ كُلُّ وَاحِدٍ أَنْ يَسْبِقَهُ صَاحِبُهُ فَيَحْظَى عِنْدَ مَوْلَاهُ بِمَنْزِلَةٍ لَا يَحْظَى هُوَ بِهَا. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ، رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَأَنْفَقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا فَهُوَ يَعْمَلُ بِهِ وَيُعَلِّمُهُ النَّاسَ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْحَسَدِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمُنَافَسَةِ، ثُمَّ نَقُولُ: الْمُنَافَسَةُ قَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً وَمَنْدُوبَةً وَمُبَاحَةً، أَمَّا الْوَاجِبَةُ فَكَمَا إِذَا كَانَتْ تِلْكَ النِّعْمَةُ نِعْمَةً دِينِيَّةً وَاجِبَةً كَالْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فههنا يجب عليه أن يحب لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُحِبَّ ذَلِكَ كَانَ رَاضِيًا بِالْمَعْصِيَةِ وَذَلِكَ حَرَامٌ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ تِلْكَ النِّعْمَةُ مِنَ الْفَضَائِلِ الْمَنْدُوبَةِ كَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالتَّشْمِيرِ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ كَانَتِ الْمُنَافَسَةُ فِيهَا مَنْدُوبَةً، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ تِلْكَ النِّعْمَةُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ كَانَتِ الْمُنَافَسَةُ فِيهَا مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَذْمُومُ أَنْ يُحِبَّ زَوَالَهَا عَنِ الْغَيْرِ، فَأَمَّا أَنْ يُحِبَّ حُصُولَهَا لَهُ وَزَوَالَ النُّقْصَانِ عَنْهُ فَهَذَا غَيْرُ مَذْمُومٍ، لَكِنَّ هاهنا دَقِيقَةً وَهِيَ أَنَّ زَوَالَ النُّقْصَانِ عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغَيْرِ لَهُ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مِثْلُ مَا حَصَلَ لِلْغَيْرِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَزُولَ عَنِ الْغَيْرِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ فَإِذَا حَصَلَ الْيَأْسُ عَنْ أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ فَيَكَادُ الْقَلْبُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ شَهْوَةِ الطَّرِيقِ الْآخَرِ، فَهَهُنَا إِنْ وَجَدَ قَلْبَهُ بِحَيْثُ لَوْ قَدَرَ على إزالة تلك الفضيلة عن تلك الشَّخْصِ لَأَزَالَهَا، فَهُوَ صَاحِبُ الْحَسَدِ الْمَذْمُومِ وَإِنْ كَانَ يَجِدُ قَلْبَهُ بِحَيْثُ تَرْدَعُهُ التَّقْوَى عَنْ إِزَالَةِ تِلْكَ النِّعْمَةِ عَنِ الْغَيْرِ فَالْمَرْجُوُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَعْفُوَ عَنْ ذَلِكَ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ثلاث لا ينفك المؤمن منهن، الْحَسَدُ وَالظَّنُّ وَالطِّيَرَةُ، ثُمَّ قَالَ: وَلَهُ مِنْهُنَّ مَخْرَجٌ إِذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ» ، أَيْ إِنْ وَجَدْتَ فِي قَلْبِكَ شَيْئًا فَلَا تَعْمَلْ بِهِ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي حَقِيقَةِ الْحَسَدِ وَكُلُّهُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ الْغَزَالِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي مَرَاتِبِ الْحَسَدِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هِيَ أَرْبَعَةٌ. الْأُولَى: أَنْ يُحِبَّ زَوَالَ تِلْكَ النِّعْمَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ لَهُ وَهَذَا غَايَةُ الْحَسَدِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يُحِبَّ زَوَالَ تِلْكَ النِّعْمَةِ عَنْهُ إِلَيْهِ وَذَلِكَ مِثْلُ رَغْبَتِهِ فِي دَارٍ حَسَنَةٍ أَوِ امْرَأَةٍ جَمِيلَةٍ أَوْ وِلَايَةٍ نَافِذَةٍ نَالَهَا غَيْرُهُ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ تَكُونَ لَهُ، فَالْمَطْلُوبُ بِالذَّاتِ حُصُولُهُ لَهُ، فَأَمَّا زَوَالُهُ عَنْ غَيْرِهِ فَمَطْلُوبٌ بِالْعَرَضِ. الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَشْتَهِي عَنْهَا بَلْ يَشْتَهِي لِنَفَسِهِ مِثْلَهَا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ مِثْلِهَا أَحَبَّ زَوَالَهَا لِكَيْ لَا يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا. الرَّابِعَةُ: أَنْ يَشْتَهِيَ لِنَفَسِهِ مِثْلَهَا، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ فَلَا يُحِبُّ زَوَالَهَا، وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ إِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا وَالْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ فِي الدِّينِ، وَالثَّالِثَةُ: مِنْهَا مَذْمُومَةٌ وَغَيْرُ مَذْمُومَةٍ، وَالثَّانِيَةُ: أَخَفُّ مِنَ الثَّالِثَةِ، وَالْأَوَّلُ: مَذْمُومٌ مَحْضٌ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاءِ: 32] فَتَمَنِّيهِ لِمِثْلِ ذَلِكَ غَيْرُ مَذْمُومٍ وَأَمَّا تَمَنِّيهِ عَيْنَ ذَلِكَ فَهُوَ مَذْمُومٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرَ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ لِلْحَسَدِ سَبْعَةَ أَسْبَابٍ: السَّبَبُ الْأَوَّلُ: الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ، فَإِنَّ مَنْ آذَاهُ إِنْسَانٌ أَبْغَضَهُ قَلْبُهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ/ الْغَضَبُ يُوَلِّدُ الْحِقْدَ وَالْحِقْدُ يَقْتَضِي التَّشَفِّيَ وَالِانْتِقَامَ، فَإِنْ عَجَزَ الْمُبْغِضُ عَنِ التَّشَفِّي بِنَفْسِهِ أَحَبَّ أَنْ يَتَشَفَّى مِنْهُ الزَّمَانُ، فَمَهْمَا أَصَابَ عَدُوَّهُ آفَةٌ وَبَلَاءٌ فَرِحَ، وَمَهْمَا أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ سَاءَتْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ضِدُّ مُرَادِهِ، فَالْحَسَدُ مِنْ لَوَازِمِ الْبُغْضِ وَالْعَدَاوَةِ وَلَا يُفَارِقُهُمَا، وَأَقْصَى الْإِمْكَانِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ لَا يُظْهِرَ تِلْكَ الْعَدَاوَةَ مِنْ نَفْسِهِ وَأَنْ يَكْرَهَ تِلْكَ الْحَالَةَ مِنْ نَفْسِهِ، فَأَمَّا أَنْ يُبْغِضَ إِنْسَانًا ثُمَّ تَسْتَوِي عِنْدَهُ مَسَرَّتُهُ وَمَسَاءَتُهُ فَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْحَسَدِ هُوَ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ الْكُفَّارَ بِهِ، إِذْ قَالَ: وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا

بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها [آلِ عِمْرَانَ: 119، 120] وَكَذَا قَالَ: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 118] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَسَدَ رُبَّمَا أَفْضَى إِلَى التَّنَازُعِ وَالتَّقَاتُلِ. السَّبَبُ الثَّانِي: التَّعَزُّزُ، فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْ أَمْثَالِهِ إِذَا نَالَ مَنْصِبًا عَالِيًا تَرَفَّعُ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ تَحَمُّلُ ذَلِكَ، فَيُرِيدُ زَوَالَ ذَلِكَ الْمَنْصِبِ عَنْهُ وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِهِ أَنْ يَتَكَبَّرَ، بَلْ غَرَضُهُ أَنْ يَدْفَعَ كِبْرَهُ فَإِنَّهُ قَدْ يَرْضَى بِمُسَاوَاتِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يَرْضَى بِتَرَفُّعِهِ عَلَيْهِ. السَّبَبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي طَبِيعَتِهِ أَنْ يَسْتَخْدِمَ غَيْرَهُ فَيُرِيدُ زَوَالَ النِّعْمَةِ مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ لِيَقْدِرَ عَلَى ذَلِكَ الْغَرَضِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ كَانَ حَسَدُ أَكْثَرِ الْكُفَّارِ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذْ قَالُوا: كَيْفَ يَتَقَدَّمُ عَلَيْنَا غُلَامٌ يَتِيمٌ وَكَيْفَ نُطَأْطِئُ لَهُ رؤوسنا؟ فَقَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزُّخْرُفِ: 31] وَقَالَ تَعَالَى يَصِفُ قَوْلَ قُرَيْشٍ: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [الْأَنْعَامِ: 53] كَالِاسْتِحْقَارِ بِهِمْ وَالْأَنَفَةِ مِنْهُمْ. السَّبَبُ الرَّابِعُ: التَّعَجُّبُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ إِذْ قَالُوا: مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [إبراهيم: 10] ، وَقَالُوا: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ [المؤمنون: 47] ، وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 34] وَقَالُوا مُتَعَجِّبِينَ: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: 94] وَقَالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ [الْفُرْقَانِ: 21] وَقَالَ: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ [الْأَعْرَافِ: 63، 69] . السَّبَبُ الْخَامِسُ: الْخَوْفُ مِنْ فَوْتِ الْمَقَاصِدِ وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْمُتَزَاحِمِينَ عَلَى مَقْصُودٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْسُدُ صَاحِبَهُ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ تَكُونُ عَوْنًا لَهُ فِي الِانْفِرَادِ بِمَقْصُودِهِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَحَاسُدُ الضَّرَّاتِ فِي التَّزَاحُمِ عَلَى مَقَاصِدِ الزَّوْجِيَّةِ، وَتَحَاسُدُ الْإِخْوَةِ فِي التَّزَاحُمِ عَلَى نَيْلِ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ الْأَبَوَيْنِ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى مَقَاصِدِ الْمَالِ وَالْكَرَامَةِ، وَكَذَلِكَ تَحَاسُدُ الْوَاعِظِينَ الْمُتَزَاحِمِينَ عَلَى أَهْلِ بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ، إِذْ كَانَ غَرَضُهُمَا نَيْلَ الْمَالِ وَالْقَبُولِ عِنْدَهُمْ. السَّبَبُ السَّادِسُ: حُبُّ الرِّيَاسَةِ وَطَلَبُ الْجَاهِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّلٍ بِهِ إِلَى مَقْصُودِهِ، وَذَلِكَ كَالرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَدِيمَ النَّظِيرِ فِي فَنٍّ مِنَ الْفُنُونِ، فَإِنَّهُ لَوْ سَمِعَ بِنَظِيرٍ لَهُ فِي أَقْصَى الْعَالَمِ سَاءَهُ ذَلِكَ وَأَحَبَّ مَوْتَهُ وَزَوَالَ النِّعْمَةِ الَّتِي بِهَا يُشَارِكُهُ فِي الْمَنْزِلَةِ مِنْ شَجَاعَةٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ زُهْدٍ أَوْ ثَرْوَةٍ وَيَفْرَحُ بِسَبَبِ تَفَرُّدِهِ. السَّبَبُ السَّابِعُ: شُحُّ النَّفْسِ بِالْخَيْرِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ، فَإِنَّكَ تَجِدُ مَنْ لَا يَشْتَغِلُ بِرِيَاسَةٍ وَلَا بِكِبْرٍ وَلَا بِطَلَبِ مَالٍ إِذَا وُصِفَ عِنْدَهُ حُسْنُ حَالِ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِذَا وُصِفَ اضْطِرَابُ أُمُورِ النَّاسِ وَإِدْبَارُهُمْ وَتَنَغُّصُ عَيْشِهِمْ فَرِحَ بِهِ فَهُوَ أَبَدًا يُحِبُّ الْإِدْبَارَ لِغَيْرِهِ وَيَبْخَلُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، كَأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِهِ وَخِزَانَتِهِ، وَيُقَالُ: الْبَخِيلُ مَنْ بَخِلَ بِمَالِ غَيْرِهِ، فَهَذَا يَبْخَلُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ لَا عَدَاوَةٌ وَلَا رَابِطَةٌ وَهَذَا لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ إِلَّا خُبْثُ النَّفْسِ وَرَذَالَةُ جِبِلَّتِهِ فِي الطَّبْعِ، لِأَنَّ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْحَسَدِ يُرْجَى زَوَالُهُ لِإِزَالَةِ سَبَبِهِ، وَهَذَا خُبْثٌ فِي الْجِبِلَّةِ لَا عَنْ سَبَبٍ عَارِضٍ فَتَعْسُرُ إِزَالَتُهُ. فَهَذِهِ هِيَ أَسْبَابُ الْحَسَدِ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ بَعْضُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ أَوْ أَكْثَرُهَا أَوْ جَمِيعُهَا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ فَيَعْظُمُ فِيهِ الْحَسَدُ وَيَقْوَى قُوَّةً لَا يَقْوَى صَاحِبُهَا مَعَهَا

عَلَى الْإِخْفَاءِ وَالْمُجَامَلَةِ بَلْ يَهْتِكُ حِجَابَ الْمُجَامَلَةِ وَيُظْهِرُ الْعَدَاوَةَ بِالْمُكَاشَفَةِ وَأَكْثَرُ الْمُحَاسَدَاتِ تَجْتَمِعُ فِيهَا جُمْلَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ وَقَلَّمَا يَتَجَرَّدُ وَاحِدٌ مِنْهَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي سَبَبِ كَثْرَةِ الْحَسَدِ وَقِلَّتِهِ وَقُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ. اعْلَمْ أَنَّ الْحَسَدَ إِنَّمَا يَكْثُرُ بَيْنَ قَوْمٍ تَكْثُرُ فِيهِمُ الْأَسْبَابُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، إِذِ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ يَجُوزُ أَنْ يَحْسُدَ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ قَوْلِ الْمُتَكَبِّرِ وَلِأَنَّهُ يَتَكَبَّرُ وَلِأَنَّهُ عَدُوٌّ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ إِنَّمَا تَكْثُرُ بَيْنَ قَوْمٍ تَجْمَعُهُمْ رَوَابِطُ يَجْتَمِعُونَ بِسَبَبِهَا فِي مَجَالِسِ الْمُخَاطَبَاتِ وَيَتَوَارَدُونَ عَلَى الْأَغْرَاضِ وَالْمُنَازَعَةُ مَظِنَّةُ الْمُنَافَرَةِ، وَالْمُنَافَرَةُ مُؤَدِّيَةٌ إِلَى الْحَسَدِ فَحَيْثُ لَا مُخَالَطَةَ فَلَيْسَ هُنَاكَ مُحَاسَدَةٌ، وَلَمَّا لَمْ تُوجَدِ الرَّابِطَةُ بَيْنَ شَخْصَيْنِ فِي بَلَدَيْنِ لَا جَرَمَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُحَاسَدَةٌ، فَلِذَلِكَ تَرَى الْعَالِمَ يَحْسُدُ الْعَالِمَ دُونَ الْعَابِدِ وَالْعَابِدَ يَحْسُدُ الْعَابِدَ دُونَ الْعَالِمِ، وَالتَّاجِرَ يَحْسُدُ التَّاجِرَ، بَلِ الْإِسْكَافُ يَحْسُدُ الْإِسْكَافَ وَلَا يَحْسُدُ الْبَزَّازَ، وَيَحْسُدُ الرَّجُلُ أَخَاهُ وَابْنَ عَمِّهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْسُدُ الْأَجَانِبَ وَالْمَرْأَةُ تَحْسُدُ ضَرَّتَهَا وَسُرِّيَّةَ زَوْجِهَا أَكْثَرَ مِمَّا تَحْسُدُ أُمَّ الزَّوْجِ وَابْنَتَهُ، لِأَنَّ مَقْصِدَ الْبَزَّازِ غَيْرُ مَقْصِدِ الْإِسْكَافِ فَلَا يَتَزَاحَمُونَ عَلَى الْمَقَاصِدِ، ثُمَّ مُزَاحَمَةُ الْبَزَّازِ الْمُجَاوِرِ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ مُزَاحَمَةِ الْبَعِيدِ عَنْهُ إِلَى طَرَفِ السُّوقِ وَبِالْجُمْلَةِ فَأَصْلُ الْحَسَدِ الْعَدَاوَةُ وَأَصْلُ الْعَدَاوَةِ التَّزَاحُمُ عَلَى غَرَضٍ وَاحِدٍ وَالْغَرَضُ الْوَاحِدُ لَا يَجْمَعُ مُتَبَاعِدَيْنِ بَلْ لَا يَجْمَعُ إِلَّا مُتَنَاسِبَيْنِ، فَلِذَلِكَ يَكْثُرُ الْحَسَدُ بَيْنَهُمْ، نَعَمْ مَنِ اشْتَدَّ حِرْصُهُ عَلَى الْجَاهِ الْعَرِيضِ وَالصِّيتِ فِي أَطْرَافِ الْعَالَمِ فَإِنَّهُ يَحْسُدُ كُلَّ مَنْ فِي الْعَالَمِ مِمَّنْ يُشَارِكُهُ فِي الْخَصْلَةِ الَّتِي يَتَفَاخَرُ بِهَا، أَقُولُ: وَالسَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ فِيهِ أَنَّ الْكَمَالَ مَحْبُوبٌ بِالذَّاتِ وَضِدُّ الْمَحْبُوبِ مَكْرُوهٌ وَمِنْ جُمْلَةِ أَنْوَاعِ الْكَمَالِ التَّفَرُّدُ بِالْكَمَالِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الشَّرِيكُ فِي الْكَمَالِ مُبَغَّضًا لِكَوْنِهِ مُنَازِعًا فِي الْفَرْدَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الْكَمَالِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْكَمَالِ لَمَّا امْتَنَعَ حُصُولُهُ إِلَّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَوَقَعَ الْيَأْسُ عَنْهُ فَاخْتَصَّ الْحَسَدُ بِالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدُّنْيَا لَا تَفِي بِالْمُتَزَاحِمِينَ، أَمَّا الْآخِرَةُ فَلَا ضِيقَ فِيهَا، وَإِنَّمَا مِثَالُ الْآخِرَةِ نِعْمَةُ الْعِلْمِ، فَلَا جَرَمَ مَنْ يُحِبُّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَةَ صِفَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ فَلَا يَحْسُدُ غَيْرَهُ إِذَا عَرَفَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تَضِيقُ عَلَى الْعَارِفِينَ بَلِ الْمَعْلُومُ الْوَاحِدُ يَعْرِفُهُ أَلْفُ/ أَلْفٍ وَيَفْرَحُ بِمَعْرِفَتِهِ وَيَلْتَذُّ بِهِ وَلَا تَنْقُصُ لَذَّةُ أَحَدٍ بِسَبَبِ غَيْرِهِ، بَلْ يَحْصُلُ بِكَثْرَةِ الْعَارِفِينَ زِيَادَةُ الْأُنْسِ، فَلِذَلِكَ لَا يَكُونُ بَيْنَ عُلَمَاءِ الدِّينِ مُحَاسَدَةٌ لِأَنَّ مَقْصِدَهُمْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ، وَهِيَ بَحْرٌ وَاسِعٌ لَا ضِيقَ فِيهَا وَغَرَضُهُمُ الْمَنْزِلَةُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا ضِيقَ فِيهَا، نَعَمْ إِذَا قَصَدَ الْعُلَمَاءُ بِالْعِلْمِ الْمَالَ وَالْجَاهَ، تَحَاسَدُوا لِأَنَّ الْمَالَ أَعْيَانٌ إِذَا وَقَعَتْ فِي يَدِ وَاحِدٍ خَلَتْ عَنْهَا يَدُ الْآخَرِ، وَمَعْنَى الْجَاهِ مَلْءُ الْقُلُوبِ، وَمَهْمَا امْتَلَأَ قَلْبُ شَخْصٍ بِتَعْظِيمِ عَالِمٍ انْصَرَفَ عَنْ تَعْظِيمِ الْآخَرِ، أَمَّا إِذَا امْتَلَأَ قَلْبٌ بِالْفَرَحِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ أَنْ يَمْتَلِئَ قَلْبُ غَيْرِهِ وَأَنْ يَفْرَحَ بِهِ فَلِذَلِكَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِعَدَمِ الْحَسَدِ فَقَالَ: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [الْحِجْرِ: 47] . الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي الدَّوَاءِ الْمُزِيلِ لِلْحَسَدِ وَهُوَ أَمْرَانِ: الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ. أَمَّا الْعِلْمُ فَفِيهِ مَقَامَانِ إِجْمَالِيٌّ وَتَفْصِيلِيٌّ، أَمَّا الْإِجْمَالِيُّ فَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، لِأَنَّ الْمُمْكِنَ مَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَى الْوَاجِبِ لَمْ يَقِفْ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي النَّفْرَةِ عَنْهُ، وَإِذَا حَصَلَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ زَالَ الْحَسَدُ. وَأَمَّا التَّفْصِيلِيُّ فَهُوَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْحَسَدَ ضَرَرٌ عَلَيْكَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ عَلَى الْمَحْسُودِ ضَرَرٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، بَلْ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، أَمَّا أَنَّهُ ضَرَرٌ عَلَيْكَ فِي الدِّينِ فَمِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّكَ بِالْحَسَدِ كَرِهْتَ حُكْمَ اللَّهِ وَنَازَعْتَهُ فِي قِسْمَتِهِ الَّتِي قَسَمَهَا لِعِبَادِهِ وَعَدْلِهِ الَّذِي أَقَامَهُ فِي خَلْقِهِ بِخَفِيِّ حِكْمَتِهِ، وَهَذِهِ

جِنَايَةٌ عَلَى حَدَقَةِ التَّوْحِيدِ وَقَذًى فِي عَيْنِ الْإِيمَانِ. وَثَانِيهَا: أَنَّكَ إِنْ غَشَشْتَ رَجُلًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَارَقْتَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فِي حُبِّهِمُ الْخَيْرَ لِعِبَادِ اللَّهِ وَشَارَكْتَ إِبْلِيسَ وَسَائِرَ الْكُفَّارِ فِي مَحَبَّتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ الْبَلَايَا، وَثَالِثُهَا: الْعِقَابُ الْعَظِيمُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ ضَرَرًا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ أَنَّكَ بِسَبَبِ الْحَسَدِ لَا تَزَالُ تَكُونُ فِي الْغَمِّ وَالْكَمَدِ وَأَعْدَاؤُكَ لَا يُخَلِّيهِمُ اللَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ النِّعَمِ فَلَا تَزَالُ تَتَعَذَّبُ بِكُلِّ نِعْمَةٍ تَرَاهَا وَتَتَأَلَّمُ بِكُلِّ بَلِيَّةٍ تَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَتَبْقَى أَبَدًا مَغْمُومًا مَهْمُومًا، فَقَدْ حَصَلَ لَكَ مَا أَرَدْتَ حُصُولَهُ لِأَعْدَائِكَ وَأَرَادَ أَعْدَاؤُكَ حُصُولَهُ لَكَ فَقَدْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمِحْنَةَ لِعَدُوِّكَ فَسَعَيْتَ فِي تَحْصِيلِ الْمِحْنَةِ لِنَفْسِكَ. ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْغَمَّ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَيْكَ أَمْرَضَ بَدَنَكَ وَأَزَالَ الصِّحَّةَ عَنْكَ وَأَوْقَعَكَ فِي الْوَسَاوِسِ وَنَغَّصَ عَلَيْكَ لَذَّةَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ. وَأَمَّا أَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمَحْسُودِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَوَاضِحٌ لِأَنَّ النِّعْمَةَ لَا تَزُولُ عَنْهُ بِحَسَدِكَ، بَلْ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنْ إِقْبَالٍ وَنِعْمَةٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَدُومَ إِلَى أَجَلٍ قَدَّرَهُ الله، فإن كان كُلَّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، وَمَهْمَا لَمْ تَزُلِ النِّعْمَةُ بِالْحَسَدِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَحْسُودِ ضَرَرٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا عَلَيْهِ إِثْمٌ فِي الْآخِرَةِ، وَلَعَلَّكَ تَقُولُ: لَيْتَ النِّعْمَةَ كَانَتْ لِي وَتَزُولُ عَنِ الْمَحْسُودِ بِحَسَدِي وَهَذَا غَايَةُ الْجَهْلِ فَإِنَّهُ بَلَاءٌ تَشْتَهِيهِ أَوَّلًا لِنَفْسِكَ فإنك أيضاً لا تخلوا عَنْ عَدُوٍّ يَحْسُدُكَ، فَلَوْ زَالَتِ النِّعْمَةُ بِالْحَسَدِ لَمْ يَبْقَ لِلَّهِ عَلَيْكَ نِعْمَةٌ لَا فِي الدِّينِ وَلَا فِي الدُّنْيَا، وَإِنِ اشْتَهَيْتَ أَنْ تَزُولَ النِّعْمَةُ عَنِ الْخَلْقِ بِحَسَدِكَ وَلَا تَزُولَ عَنْكَ بِحَسَدِ غَيْرِكَ فَهَذَا أَيْضًا جَهْلٌ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ حَمْقَى الْحُسَّادِ يَشْتَهِي أَنْ يَخْتَصَّ بِهَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ، وَلَسْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنَ الْغَيْرِ، فَنِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ فِي أَنْ لَمْ يُزِلِ النِّعْمَةَ بِالْحَسَدِ/ مِمَّا يَجِبُ شُكْرُهَا عَلَيْكَ وَأَنْتَ بِجَهْلِكَ تَكْرَهُهَا. وَأَمَّا أَنَّ الْمَحْسُودَ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَوَاضِحٌ، أَمَّا مَنْفَعَتُهُ فِي الدِّينِ فَهُوَ أَنَّهُ مَظْلُومٌ مِنْ جِهَتِكَ لَا سِيَّمَا إِذَا أَخْرَجْتَ الْحَسَدَ إِلَى الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ بِالْغِيبَةِ وَالْقَدْحِ فِيهِ وَهَتْكِ سِتْرِهِ وَذِكْرِ مَسَاوِئِهِ، فَهِيَ هَدَايَا يُهْدِيهَا اللَّهُ إِلَيْهِ، أَعْنِي أَنَّكَ تُهْدِي إِلَيْهِ حَسَنَاتِكَ فَإِنَّكَ كُلَّمَا ذَكَرْتَهُ بِسُوءٍ نَقَلَ إِلَى دِيوَانِهِ حَسَنَاتِكَ وَازْدَادَتْ سَيِّئَاتُكَ، فَكَأَنَّكَ اشْتَهَيْتَ زَوَالَ نِعَمِ اللَّهِ عَنْهُ إِلَيْكَ فَأُزِيلَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَنْكَ إِلَيْهِ، وَلَمْ تَزَلْ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَوَانٍ تَزْدَادُ شَقَاوَةً، وَأَمَّا مَنْفَعَتُهُ فِي الدُّنْيَا فَمِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ أَهَمَّ أَغْرَاضِ الْخَلْقِ مَسَاءَةُ الْأَعْدَاءِ وَكَوْنُهُمْ مَغْمُومِينَ مُعَذَّبِينَ وَلَا عَذَابَ أَعْظَمُ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ مِنْ أَلَمِ الْحَسَدِ، بَلِ الْعَاقِلُ لَا يَشْتَهِي مَوْتَ عَدُوِّهِ بَلْ يُرِيدُ طُولَ حَيَاتِهِ لِيَكُونَ فِي عَذَابِ الْحَسَدِ لِيَنْظُرَ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَوَانٍ إِلَى نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ فَيَتَقَطَّعَ قَلْبُهُ بِذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: لَا مَاتَ أَعْدَاؤُكَ بَلْ خُلِّدُوا ... حَتَّى يَرَوْا مِنْكَ الَّذِي يُكْمِدُ لَا زِلْتَ مَحْسُودًا عَلَى نِعْمَةٍ ... فَإِنَّمَا الْكَامِلُ مَنْ يُحْسَدُ الثَّانِي: أَنَّ النَّاسَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَحْسُودَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ذَا نِعْمَةٍ فَيَسْتَدِلُّونَ بِحَسَدِ الْحَاسِدِ عَلَى كَوْنِهِ مَخْصُوصًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِأَنْوَاعِ الْفَضَائِلِ وَالْمَنَاقِبِ، وَأَعْظَمُ الْفَضَائِلِ مِمَّا لَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ وَهُوَ الَّذِي يُورِثُ الْحَسَدَ فَصَارَ الْحَسَدُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى اتِّصَافِ الْمَحْسُودِ بِأَنْوَاعِ الْفَضَائِلِ وَالْمَنَاقِبِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْحَاسِدَ يَصِيرُ مَذْمُومًا بَيْنَ الْخَلْقِ مَلْعُونًا عِنْدَ الْخَالِقِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَقَاصِدِ لِلْمَحْسُودِ. الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّهُ سَبَبٌ لِازْدِيَادِ مَسَرَّةِ إِبْلِيسَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَاسِدَ لَمَّا خَلَا عَنِ الْفَضَائِلِ الَّتِي اخْتَصَّ الْمَحْسُودُ بِهَا فَإِنْ رَضِيَ بِذَلِكَ اسْتَوْجَبَ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ فَخَافَ إِبْلِيسُ مِنْ أَنْ يَرْضَى بِذَلِكَ فَيَصِيرَ مُسْتَوْجِبًا لِذَلِكَ الثَّوَابِ، فَلَمَّا لَمْ يَرْضَ بِهِ بَلْ أَظْهَرَ الْحَسَدَ فَاتَهُ ذَلِكَ الثَّوَابُ وَاسْتَوْجَبَ الْعِقَابَ فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِفَرَحِ إِبْلِيسَ وَغَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى. الْخَامِسُ: أَنَّكَ عَسَاكَ تَحْسُدُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَتُحِبُّ أَنْ يُخْطِئَ فِي دِينِ اللَّهِ وَتَكْشِفَ خَطَأَهُ لِيُفْتَضَحَ وَتُحِبُّ أَنْ يُخْرَسَ لِسَانُهُ حَتَّى لَا يَتَكَلَّمَ

أَوْ يَمْرَضَ حَتَّى لَا يُعَلِّمَ وَلَا يَتَعَلَّمَ وَأَيُّ إِثْمٍ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَيُّ مَرْتَبَةٍ أَخَسُّ مِنْ هَذِهِ. وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَيُّهَا الْحَاسِدُ أَنَّكَ بِمَثَابَةِ مَنْ يَرْمِي حَجَرًا إِلَى عَدُوِّهِ لِيُصِيبَ بِهِ مَقْتَلَهُ فَلَا يُصِيبُهُ، بَلْ يَرْجِعُ إِلَى حَدَقَتِهِ الْيُمْنَى فَيَقْلَعُهَا فَيَزْدَادُ غَضَبُهُ فَيَعُودُ وَيَرْمِيهِ ثَانِيًا أَشَدَّ مِنَ الْأَوَّلِ فَيَرْجِعُ الْحَجَرُ عَلَى عَيْنِهِ الْأُخْرَى فَيُعْمِيهِ فَيَزْدَادُ غَيْظُهُ وَيَعُودُ ثَالِثًا فَيَعُودُ عَلَى رَأْسِهِ فَيَشُجُّهُ وَعَدُوُّهُ سَالِمٌ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، وَالْوَبَالُ رَاجِعٌ إِلَيْهِ دَائِمًا وَأَعْدَاؤُهُ حَوَالَيْهِ يَفْرَحُونَ بِهِ وَيَضْحَكُونَ عَلَيْهِ، بَلْ حَالُ الْحَاسِدِ أَقْبَحُ مِنْ هَذَا لِأَنَّ الْحَجَرَ الْعَائِدَ لَمْ يُفَوِّتْ إِلَّا الْعَيْنَ وَلَوْ بَقِيَتْ لَفَاتَتْ بِالْمَوْتِ، وَأَمَّا حَسَدُهُ فَإِنَّهُ يَسُوقُ إِلَى غَضَبِ اللَّهِ وَإِلَى النَّارِ، فَلَأَنْ تَذْهَبَ عَيْنُهُ فِي الدُّنْيَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَبْقَى لَهُ عَيْنٌ وَيَدْخُلَ بِهَا النَّارَ فَانْظُرْ كَيْفَ انْتَقَمَ اللَّهُ مِنَ الْحَاسِدِ إِذَا أَرَادَ زَوَالَ النِّعْمَةِ عَنِ الْمَحْسُودِ فَمَا أَزَالَهَا عَنْهُ ثُمَّ أَزَالَ نِعْمَةَ الْحَاسِدِ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فَاطِرٍ: 43] فَهَذِهِ الْأَدْوِيَةُ الْعِلْمِيَّةُ فَمَهْمَا تَفَكَّرَ/ الْإِنْسَانُ فِيهَا بِذِهْنٍ صَافٍ وَقَلْبٍ حَاضِرٍ انْطَفَأَ مِنْ قَلْبِهِ نَارُ الْحَسَدِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ النَّافِعُ فَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْأَفْعَالِ الْمُضَادَّةِ لِمُقْتَضَيَاتِ الْحَسَدِ، فَإِنْ بَعَثَهُ الْحَسَدُ عَلَى الْقَدْحِ فِيهِ كَلَّفَ لِسَانَهُ الْمَدْحَ لَهُ وَإِنْ حَمَلَهُ عَلَى التَّكَبُّرِ عَلَيْهِ كَلَّفَ نَفْسَهُ التَّوَاضُعَ لَهُ وَإِنْ حَمَلَهُ عَلَى قَطْعِ أَسْبَابِ الْخَيْرِ عَنْهُ كَلَّفَ نَفْسَهُ السَّعْيَ فِي إِيصَالِ الْخَيْرَاتِ إِلَيْهِ، فَمَهْمَا عَرَفَ الْمَحْسُودُ ذَلِكَ طَابَ قَلْبُهُ وَأَحَبَّ الْحَاسِدَ وَذَلِكَ يُفْضِي آخِرَ الْأَمْرِ إِلَى زَوَالِ الْحَسَدِ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَحْسُودَ إِذَا أَحَبَّ الْحَاسِدَ فَعَلَ مَا يُحِبُّهُ الْحَاسِدُ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الْحَاسِدُ مُحِبًّا لِلْمَحْسُودِ وَيَزُولُ الْحَسَدُ حِينَئِذٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْحَاسِدَ إِذَا أَتَى بِضِدِّ مُوجِبَاتِ الْحَسَدِ عَلَى سَبِيلِ التَّكَلُّفِ يَصِيرُ ذَلِكَ بِالْآخِرَةِ طَبْعًا لَهُ فَيَزُولُ الْحَسَدُ عَنْهُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ النَّفْرَةَ الْقَائِمَةَ بِقَلْبِ الْحَاسِدِ مِنَ الْمَحْسُودِ أَمْرٌ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي وُسْعِهِ، فَكَيْفَ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ؟ وَأَمَّا الَّذِي فِي وُسْعِهِ أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ رَاضِيًا بِتِلْكَ النَّفْرَةِ، وَالثَّانِي: إِظْهَارُ آثَارِ تِلْكَ النَّفْرَةِ مِنَ الْقَدْحِ فِيهِ وَالْقَصْدُ إِلَى إِزَالَةِ تِلْكَ النِّعْمَةِ عَنْهُ وَجَرُّ أَسْبَابِ الْمَحَبَّةِ إِلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ، وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ: أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ رُجُوعَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْإِيمَانِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ صَوَابٌ وَحَقٌّ، وَالْعَالِمُ بِأَنَّ غَيْرَهُ عَلَى حَقٍّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ رَدَّهُ عَنْهُ إِلَّا بِشُبْهَةٍ يُلْقِيهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُحِقَّ لَا يَعْدِلُ عَنِ الْحَقِّ إِلَّا بِشُبْهَةٍ وَالشُّبْهَةُ ضَرْبَانِ، أَحَدُهُمَا: مَا يَتَّصِلُ بِالدُّنْيَا وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: قَدْ عَلِمْتُمْ مَا نَزَلَ بِكُمْ مِنْ إِخْرَاجِكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَضِيقِ الْأَمْرِ عَلَيْكُمْ وَاسْتِمْرَارِ الْمَخَافَةِ بِكُمْ، فَاتْرُكُوا الْإِيمَانَ الَّذِي سَاقَكُمْ إِلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَالثَّانِي: فِي بَابِ الدِّينِ: بِطَرْحِ الشُّبَهِ فِي الْمُعْجِزَاتِ أَوْ تَحْرِيفِ مَا فِي التَّوْرَاةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ» : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ حُبَّهُمْ لِأَنْ يَرْجِعُوا عَنِ الْإِيمَانِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الْحَسَدِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ: عَنَى بِقَوْلِهِ: كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْتَوْا ذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى وَأَنَّ كُفْرَهُمْ هُوَ فِعْلُهُمْ لَا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فِيهِمْ، وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِ «ود» على معنى أنهم أحبوا

_ (1) لم يورد المؤلف غير هذه المسألة المنفردة التالية.

أن ترتدوا عن دينكم، وتمنيهم ذلك من قبل شهوتهم لا من قبل التدين والميل مع الحق، لأنهم ودوا ذَلِكَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّكُمْ عَلَى الْحَقِّ فَكَيْفَ يَكُونُ تَمَنِّيهِمْ مِنْ قِبَلِ طلب الحق؟ الثاني: أنه متعلق بحسداً أَيْ حَسَدًا عَظِيمًا مُنْبَعِثًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا فَهَذَا يَدُلُّ على أن اليهود بعد ما أَرَادُوا صَرْفَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْإِيمَانِ احْتَالُوا فِي ذَلِكَ بِإِلْقَاءِ الشُّبَهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ تَعَالَى بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَلَى وَجْهِ الرِّضَا بِمَا فَعَلُوا، لِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ تَرْكُ الْمُقَابَلَةِ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْجَوَابِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى تَسْكِينِ الثَّائِرَةِ فِي الْوَقْتِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الرَّسُولَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنِ الْيَهُودِ فَكَذَا أَمَرَهُ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِقَوْلِهِ/ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الْجَاثِيَةِ: 14] وَقَوْلِهِ: وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 10] وَلِذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ عَلَى الدَّوَامِ بَلْ عَلَّقَهُ بِغَايَةٍ فَقَالَ: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا، أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْمُجَازَاةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنِ الْحَسَنِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قُوَّةُ الرَّسُولِ وَكَثْرَةُ أُمَّتِهِ. وَثَالِثُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، أَنَّهُ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ لِأَنَّ عِنْدَهُ يَتَعَيَّنُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا الْإِسْلَامُ، وَإِمَّا الْخُضُوعُ لِدَفْعِ الْجِزْيَةِ وَتَحَمُّلِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ، فَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَةِ: 29] وَعَنِ الْبَاقِرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالٍ حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الْحَجِّ: 39] وَقَلَّدَهُ سَيْفًا فَكَانَ أَوَّلَ قِتَالٍ قَاتَلَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جحش ببطن نخل وبعده غزوة بدر، وهاهنا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَكُونُ مَنْسُوخًا وَهُوَ مُعَلَّقٌ بِغَايَةٍ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [الْبَقَرَةِ: 187] وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وُرُودُ اللَّيْلِ ناسخاً فكذا هاهنا، الْجَوَابُ: أَنَّ الْغَايَةَ الَّتِي يُعَلَّقُ بِهَا الْأَمْرُ إِذَا كَانَتْ لَا تُعْلَمُ إِلَّا شَرْعًا لَمْ يَخْرُجْ ذَلِكَ الْوَارِدُ شَرْعًا عَنْ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا وَيَحِلُّ مَحَلَّ قَوْلِهِ: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا إِلَى أن أنسحه عَنْكُمْ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ يَعْفُونَ وَيَصْفَحُونَ وَالْكُفَّارُ كَانُوا أَصْحَابَ الشَّوْكَةِ وَالْقُوَّةِ وَالصَّفْحُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ قُدْرَةٍ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الرَّجُلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ يُنَالُ بِالْأَذَى فَيَقْدِرُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ قَبْلَ اجْتِمَاعِ الْأَعْدَاءِ أَنْ يَدْفَعَ عَدُوَّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَأَنْ يَسْتَعِينَ بِأَصْحَابِهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ كَيْ لَا يُهَيِّجُوا شَرًّا وَقِتَالًا. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي التَّفْسِيرِ قَوْلُهُ: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَسُنَ الِاسْتِدْعَاءُ، وَاسْتُعْمِلَ مَا يَلْزَمُ فِيهِ مِنَ النُّصْحِ وَالْإِشْفَاقِ وَالتَّشَدُّدِ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَإِنَّمَا يَجُوزُ نَسْخُهُ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَهُوَ تَحْذِيرٌ لَهُمْ بِالْوَعِيدِ سَوَاءٌ حُمِلَ عَلَى الأمر بالقتال أو غيره. تم الجزء الثالث: ويليه الجزء الرابع، وأوله قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ

الجزء الرابع

الجزء الرابع [تتمة سورة البقرة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة البقرة (2) : آية 110] وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنِ الْيَهُودِ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ كَمَا أَلْزَمَهُمْ لِحَظِّ الْغَيْرِ وَصَلَاحِهِ الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ، فَكَذَلِكَ أَلْزَمَهُمْ لِحَظِّ أَنْفُسِهِمْ وَصَلَاحِهَا الْقِيَامَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ الْوَاجِبَتَيْنِ، وَنَبَّهَ بِهِمَا عَلَى مَا عَدَاهُمَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّطَوُّعَاتُ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَجِدُونَهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ عَيْنَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى وَلِأَنَّ وِجْدَانَ عَيْنِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ لَا يُرْغَبُ فِيهِ، فَبَقِيَ أَنَّ الْمُرَادَ وِجْدَانُ ثَوَابِهِ وَجَزَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أَيْ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْقَلِيلُ وَلَا الْكَثِيرُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَهُوَ تَرْغِيبٌ مِنْ حَيْثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُجَازِي عَلَى الْقَلِيلِ كَمَا يُجَازِي عَلَى الْكَثِيرِ، وَتَحْذِيرٌ مِنْ خِلَافِهِ الَّذِي هُوَ الشَّرُّ، وَأَمَّا الْخَيْرُ فَهُوَ النَّفْعُ الْحَسَنُ وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ مَا يَأْتِيهِ الْمَرْءُ مِنَ الطَّاعَةِ يُؤَدِّي بِهِ إِلَى الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ، وَجَبَ أَنْ يُوصَفَ بِذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالَ تَعَالَى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الْحَجِّ: 77] . [سورة البقرة (2) : الآيات 111 الى 112] وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ تَخْلِيطِ الْيَهُودِ وَإِلْقَاءِ الشُّبَهِ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَهُودَ/ لَا تَقُولُ فِي النَّصَارَى: إِنَّهَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَلَا النَّصَارَى فِي الْيَهُودِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَفْصِيلٍ فِي الْكَلَامِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَقَالَتِ الْيَهُودُ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ نَصَارَى، وَلَا يَصِحُّ فِي الْكَلَامِ سِوَاهُ، مَعَ عِلْمِنَا بِأَنَّ كُلَّ واحد من الفريقين يكفر الآخر، ونظيره: قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَةِ: 135] وَالْهُودُ: جَمْعُ هَائِدٍ، كَعَائِذٍ وَعُوذٍ وَبَازِلٍ وَبُزْلٍ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قِيلَ: كَانَ هُودًا، عَلَى تَوْحِيدِ الِاسْمِ، وَجَمْعِ الْخَبَرِ؟ قُلْنَا: حُمِلَ الِاسْمُ عَلَى لَفْظِ (مَنْ) وَالْخَبَرُ عَلَى مَعْنَاهُ كَقِرَاءَةِ الْحَسَنِ: إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ [الصافات: 163] وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: إِلَّا مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ فَالْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ مُتَمَنَّيَاتُهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لِشِدَّةِ تَمَنِّيهِمْ لِذَلِكَ قَدَّرُوهُ حَقًّا فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ وَقَوْلُهُمْ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَمْنِيَّةٌ وَاحِدَةٌ؟ قُلْنَا: أُشِيرَ بِهَا إِلَى الْأَمَانِيِّ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ أُمْنِيَّتُهُمْ أَنْ لَا يَنْزِلَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأُمْنِيَّتُهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُمْ كُفَّارًا، وَأُمْنِيَّتُهُمْ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ غَيْرُهُمْ، أَيْ: تِلْكَ الْأَمَانِيُّ الْبَاطِلَةُ أَمَانِيُّهُمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً

أَوْ نَصارى وتِلْكَ أَمانِيُّهُمْ اعْتِرَاضٌ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ» وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لَا تَتَّكِلْ عَلَى الْمُنَى فَإِنَّهَا بَضَائِعُ التَّوَلِّي» . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَاتِ: صَوْتٌ بِمَنْزِلَةِ هَاءِ فِي مَعْنَى أَحْضِرْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ سَوَاءٌ ادَّعَى نَفْيًا، أَوْ إِثْبَاتًا، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ، وَذَلِكَ مِنْ أَصْدَقِ الدَّلَائِلِ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِالتَّقْلِيدِ قَالَ الشَّاعِرُ: مَنِ ادَّعَى شَيْئًا بِلَا شَاهِدٍ ... لَا بُدَّ أَنْ تَبْطُلَ دَعْوَاهُ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلى فَفِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِثْبَاتٌ لِمَا نَفَوْهُ مِنْ دُخُولِ غَيْرِهِمُ الْجَنَّةَ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ بُرْهَانٌ أَثْبَتَ أَنَّ لِمَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ بُرْهَانًا. الثَّالِثُ: كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: أَنْتُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَا تَفُوزُونَ بِالْجَنَّةِ، بَلَى إِنْ غَيَّرْتُمْ طَرِيقَتَكُمْ وَأَسْلَمْتُمْ وَجْهَكُمْ لِلَّهِ وَأَحْسَنْتُمْ فَلَكُمُ الْجَنَّةُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَبَيَانًا لِمُفَارَقَةِ حَالِهِمْ لِحَالِ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لِكَيْ يُقْلِعُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ وَيَعْدِلُوا إِلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، فَأَمَّا مَعْنَى: مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ فَهُوَ إِسْلَامُ النَّفْسِ لِطَاعَةِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْوَجْهَ بِالذِّكْرِ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: لِأَنَّهُ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَعْدِنُ الْحَوَاسِّ وَالْفِكْرِ وَالتَّخَيُّلِ، فَإِذَا تَوَاضَعَ الْأَشْرَفُ كَانَ غَيْرُهُ أَوْلَى. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْوَجْهَ قَدْ يُكَنَّى بِهِ عَنِ النَّفْسِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، [الْقَصَصِ: 88] إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى [اللَّيْلِ: 20] . وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَعْظَمَ الْعِبَادَاتِ السَّجْدَةُ وَهِيَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِالْوَجْهِ فَلَا جَرَمَ خَصَّ الْوَجْهَ بِالذِّكْرِ، وَلِهَذَا قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ. وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالًا وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْمُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلَالًا فَيَكُونُ الْمَرْءُ وَاهِبًا نَفْسَهُ لِهَذَا الْأَمْرِ بِإِذْلَالِهَا، وَذَكَرَ الْوَجْهَ وَأَرَادَ بِهِ نَفْسَ الشَّيْءِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالِانْقِيَادِ وَالْخُضُوعِ وَإِذْلَالِ النَّفْسِ فِي طَاعَتِهِ وَتَجَنُّبِ مَعَاصِيهِ، وَمَعْنَى (لِلَّهِ) أَيْ: خَالِصًا لِلَّهِ لَا يَشُوبُهُ شِرْكٌ، فَلَا يَكُونُ عَابِدًا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ، أَوْ مُعَلِّقًا رَجَاءَهُ بِغَيْرِهِ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَنْتَفِعُ بِعَمَلِهِ إِلَّا إِذَا فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ فِي الْإِخْلَاصِ وَالْقُرْبَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ مُحْسِنٌ أَيْ: لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ تَوَاضُعُهُ لِلَّهِ بِفِعْلٍ حَسَنٍ لَا بِفِعْلٍ قَبِيحٍ، فَإِنَّ الْهِنْدَ يَتَوَاضَعُونَ لِلَّهِ لَكِنْ بِأَفْعَالٍ قَبِيحَةٍ، وَمَوْضِعُ قَوْلِهِ: وَهُوَ مُحْسِنٌ مَوْضِعُ حَالٍ كَقَوْلِكَ: جَاءَ فُلَانٌ وَهُوَ رَاكِبٌ، أَيْ جَاءَ فُلَانٌ رَاكِبًا، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ هَذَيْنِ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، يَعْنِي بِهِ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ، ثُمَّ مَعَ هَذَا النَّعِيمِ لَا يَلْحَقُهُ خَوْفٌ وَلَا حُزْنٌ، فَأَمَّا الْخَوْفُ فَلَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَمَّا الْحُزْنُ فَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْوَاقِعِ وَالْمَاضِي كَمَا قَدْ يَكُونُ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ فَنَبَّهَ تَعَالَى بِالْأَمْرَيْنِ عَلَى نِهَايَةِ السَّعَادَةِ لِأَنَّ النَّعِيمَ الْعَظِيمَ إِذَا دَامَ وَكَثُرَ وَخَلُصَ مِنَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ فَلَا يَحْزَنُ عَلَى أَمْرٍ فَاتَهُ وَلَا عَلَى أَمْرٍ يَنَالُهُ وَلَا يَخَافُ انْقِطَاعَ مَا هُوَ فِيهِ وَتَغَيُّرَهُ فَقَدْ بَلَغَ النِّهَايَةَ وَفِي ذَلِكَ تَرْغِيبٌ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَتَحْذِيرٌ مِنْ خِلَافِهَا الَّذِي هُوَ طَرِيقَةُ الْكُفَّارِ الْمَذْكُورِينَ مِنْ قَبْلُ، وَاعْلَمْ أنه تعالى

وَحَّدَ أَوَّلًا ثُمَّ جَمَعَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ [النَّجْمِ: 26] ثُمَّ قَالَ: شَفاعَتُهُمْ وَقَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الْأَنْعَامِ: 25] وَقَالَ في موضع آخر: يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ [يونس: 42] [الإسراء: 47] وَقَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ [مُحَمَّدٍ: 16] وَلَمْ يَقِلْ: خَرَجَ، وَاعْلَمْ أَنَّا لَمَّا فَسَّرْنَا قَوْلَهُ: مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ بالإخلاص فلنذكر هاهنا حَقِيقَةَ الْإِخْلَاصِ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ بَيَانُهُ إِلَّا فِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي فَضْلِ النِّيَّةِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، وَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إِلَى أَعْمَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَنِيَّاتِكُمْ» وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ أَنَّ رَجُلًا مَرَّ بِكُثْبَانٍ مِنْ رَمْلٍ فِي مَجَاعَةٍ فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: لَوْ كَانَ هَذَا الرَّمْلُ طَعَامًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَ النَّاسِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى نَبِيِّهِمْ قُلْ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ قَبِلَ صَدَقَتَكَ وَشَكَرَ حُسْنَ نِيَّتِكَ وَأَعْطَاكَ ثَوَابَ مَا لَوْ كَانَ طَعَامًا فَتَصَدَّقْتَ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِنْسَانُ إِذَا عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَوِ اعْتَقَدَ أَنَّ لَهُ فِي فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ جَلْبَ نَفْعٍ أَوْ دَفْعَ ضُرٍّ ظَهَرَ فِي قَلْبِهِ مَيْلٌ وَطَلَبٌ، وَهُوَ صِفَةٌ تَقْتَضِي تَرْجِيحَ وُجُودِ ذَلِكَ الشَّيْءِ عَلَى عَدَمِهِ، وَهِيَ الْإِرَادَةُ فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ هِيَ النِّيَّةُ وَالْبَاعِثُ لَهُ عَلَى تِلْكَ النِّيَّةِ ذَلِكَ الْعِلْمُ أَوِ الِاعْتِقَادُ أَوِ الظَّنُّ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْبَاعِثُ عَلَى الْفِعْلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وَاحِدًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرَيْنِ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِلًّا بِالْبَعْثِ، أَوْ لَا يَكُونَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُسْتَقِلًّا بِذَلِكَ، أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُسْتَقِلًّا بِذَلِكَ دُونَ الْآخَرِ، فَهَذِهِ أَقْسَامٌ أَرْبَعَةٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ وَاحِدًا/ وَهُوَ كَمَا إِذَا هَجَمَ عَلَى الْإِنْسَانِ سَبُعٌ فَلَمَّا رَآهُ قَامَ مِنْ مَكَانِهِ فَهَذَا الْفِعْلُ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ إِلَّا اعْتِقَادُهُ مَا فِي الْهَرَبِ مِنَ النَّفْعِ وَمَا فِي تَرْكِ الْهَرَبِ مِنَ الضَّرَرِ، فَهَذِهِ النِّيَّةُ تُسَمَّى خَالِصَةً، وَيُسَمَّى الْعَمَلُ بِمُوجَبِهَا إِخْلَاصًا. الثَّانِي: أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَى الْفِعْلِ بَاعِثَانِ مُسْتَقِلَّانِ، كَمَا إِذَا سَأَلَهُ رَفِيقُهُ الْفَقِيرُ حَاجَةً فَيَقْضِيهَا لِكَوْنِهِ رَفِيقًا لَهُ، وَكَوْنِهِ فَقِيرًا، مَعَ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَصْفَيْنِ بِحَيْثُ لَوِ انْفَرَدَ لَاسْتَقَلَّ بِالِاسْتِقْضَاءِ، وَاسْمُ هَذَا مُوَافَقَةُ الْبَاعِثِ. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَسْتَقِلَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لَوِ انْفَرَدَ، لَكِنَّ الْمَجْمُوعَ مُسْتَقِلٌّ، وَاسْمُ هَذَا مُشَارَكَةٌ. الرَّابِعُ: أَنْ يَسْتَقِلَّ أَحَدُهُمَا وَيَكُونُ الْآخَرُ مُعَاضِدًا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ وِرْدٌ مِنَ الطَّاعَاتِ فَاتَّفَقَ أَنْ حَضَرَ فِي وَقْتِ أَدَائِهَا جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ فَصَارَ الْفِعْلُ عَلَيْهِ أَخَفَّ بِسَبَبِ مُشَاهَدَتِهِمْ، وَاسْمُ هَذَا مُعَاوَنَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّ النِّيَّةَ سِرٌّ، وَالْعَمَلَ عَلَنٌ، وَطَاعَةَ السِّرِّ أَفْضَلُ مِنْ طَاعَةِ الْعَلَانِيَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ نِيَّةُ الصَّلَاةِ خَيْرًا مِنْ نَفْسِ الصَّلَاةِ. وَثَانِيهَا: النِّيَّةُ تَدُومُ إِلَى آخِرِ الْعَمَلِ، وَالْأَعْمَالُ لَا تَدُومُ، وَالدَّائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمُنْقَطِعِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْكَثِيرُ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ الْقَلِيلِ، وَأَيْضًا فَنِيَّةُ عَمَلِ الصَّلَاةِ قَدْ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي لَحَظَاتٍ قَلِيلَةٍ، وَالْأَعْمَالُ تَدُومُ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ النِّيَّةَ بِمُجَرَّدِهَا خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ بِمُجَرَّدِهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، إِذِ الْعَمَلُ بِلَا نِيَّةٍ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَظَاهِرٌ التَّرْجِيحِ لِلْمُشْتَرِكَيْنِ فِي أَصْلِ الْخَيْرِيَّةِ. وَرَابِعُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْخَيْرِ إِثْبَاتَ الْأَفْضَلِيَّةِ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ النِّيَّةَ خَيْرٌ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْوَاقِعَةِ بِعَمَلِهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ حَمْلَ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ لَا يُفِيدُ إِلَّا إِيضَاحَ الْوَاضِحَاتِ، بَلِ الْوَجْهُ الْجَيِّدُ فِي التَّأْوِيلِ أَنْ يُقَالَ: النِّيَّةُ مَا لَمْ تَخْلُ عَنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْفُتُورِ لَا تَكُونُ نِيَّةً جَازِمَةً، وَمَتَى خَلَتْ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ الْفُتُورِ وَجَبَ تَرَتُّبُ الْفِعْلِ عَلَيْهَا لَوْ لَمْ يُوجَدْ عَائِقٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: ثَبَتَ أَنَّ النِّيَّةَ لَا تَنْفَكُّ أَلْبَتَّةَ عَنِ الْفِعْلِ، فَيُدَّعَى أَنَّ هَذِهِ النِّيَّةَ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: أَنَّ

الْمَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ تَنْوِيرُ الْقَلْبِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَتَطْهِيرُهُ عَمَّا سِوَى اللَّهِ، وَالنِّيَّةُ صِفَةُ الْقَلْبِ، وَالْفِعْلُ لَيْسَ صِفَةَ الْقَلْبِ، وَتَأْثِيرُ صِفَةِ الْقَلْبِ أَقْوَى مِنْ تَأْثِيرِ صِفَةِ الْجَوَارِحِ فِي الْقَلْبِ، فَلَا جَرَمَ نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلنِّيَّةِ إِلَّا الْقَصْدُ إِلَى إِيقَاعِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ طَاعَةً لِلْمَعْبُودِ وانقيادا له، وإنما يراد الأعمال ليست حفظ التَّذَكُّرُ بِالتَّكْرِيرِ، فَيَكُونُ الذِّكْرُ وَالْقَصْدُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَمَلِ كَالْمَقْصُودِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَسِيلَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَشْرَفُ مِنَ الْوَسِيلَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقَلْبَ أَشْرَفُ مِنَ الْجَسَدِ، فَفِعْلُهُ أَشْرَفُ مِنْ فِعْلِ الْجَسَدِ، فَكَانَتِ النِّيَّةُ أَفْضَلَ مِنَ الْعَمَلِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الأعمال على ثلاثة أقسام: طاعات، ومعاصي، وَمُبَاحَاتٍ، أَمَّا الْمَعَاصِي فَهِيَ لَا تَتَغَيَّرُ عَنْ مَوْضُوعَاتِهَا بِالنِّيَّةِ، فَلَا يَظُنَّ الْجَاهِلُ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» يَقْتَضِي انْقِلَابَ الْمَعْصِيَةِ طَاعَةً بِالنِّيَّةِ كَالَّذِي يُطْعِمُ فَقِيرًا مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، أَوْ يَبْنِي/ مَسْجِدًا مِنْ مَالٍ حَرَامٍ. الثَّانِي: الطَّاعَاتُ وَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِالنِّيَّاتِ فِي الْأَصْلِ وَفِي الْفَضِيلَةِ، أَمَّا فِي الْأَصْلِ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ بِهَا عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ نَوَى الرِّيَاءَ صَارَتْ مَعْصِيَةً، وَأَمَّا الْفَضِيلَةُ فَبِكَثْرَةِ النِّيَّاتِ تَكْثُرُ الْحَسَنَةُ كَمَنْ قَعَدَ فِي الْمَسْجِدِ وَيَنْوِي فِيهِ نِيَّاتٍ كَثِيرَةً. أَوَّلُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ بَيْتُ اللَّهِ وَيَقْصِدَ بِهِ زِيَارَةَ مَوْلَاهُ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ قَعَدَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ زَارَ اللَّهَ وَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ إِكْرَامُ زَائِرِهِ» . وَثَانِيهَا: أَنْ يَنْتَظِرَ الصَّلَاةَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ حَالَ الِانْتِظَارِ كَمَنْ هُوَ فِي الصَّلَاةِ. وَثَالِثُهَا: إِغْضَاءُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وسائر الأعضاء كما لَا يَنْبَغِي، فَإِنَّ الِاعْتِكَافَ كَفٌّ وَهُوَ فِي مَعْنَى الصَّوْمِ، وَهُوَ نَوْعُ تَرَهُّبٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي الْقُعُودُ فِي الْمَسَاجِدِ» . وَرَابِعُهَا: صَرْفُ الْقَلْبِ وَالسِّرِّ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَخَامِسُهَا: إِزَالَةُ مَا سِوَى اللَّهِ عَنِ الْقَلْبِ. وَسَادِسُهَا: أَنْ يَقْصِدَ إِفَادَةَ عِلْمٍ أَوْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ. وَسَابِعُهَا: أَنْ يَسْتَفِيدَ أَخًا فِي اللَّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَنِيمَةُ أَهْلِ الدِّينِ. وَثَامِنُهَا: أَنْ يَتْرُكَ الذُّنُوبَ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ فَهَذَا طَرِيقُ تَكْثِيرِ النِّيَّاتِ، وَقِسْ بِهِ سَائِرَ الطَّاعَاتِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: سَائِرُ الْمُبَاحَاتِ وَلَا شَيْءَ مِنْهَا إِلَّا وَيَحْتَمِلُ نِيَّةً أَوْ نِيَّاتٍ يَصِيرُ بِهَا مِنْ مَحَاسِنِ الْقُرُبَاتِ، فَمَا أَعْظَمَ خُسْرَانَ مَنْ يَغْفُلُ عَنْهَا وَلَا يَصْرِفُهَا إِلَى الْقُرُبَاتِ، وَفِي الْخَبَرِ: مَنْ تَطَيَّبَ لِلَّهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَمَنْ تَطَيَّبَ لِغَيْرِ اللَّهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرِيحُهُ أَنْتَنُ مِنَ الْجِيفَةِ فَإِنْ قُلْتَ: فَاشْرَحْ لِي كَيْفِيَّةَ هَذِهِ النِّيَّةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْقَصْدَ مِنَ التَّطَيُّبِ إِنْ كَانَ هو التنعم وَرِيحُهُ أَنْتَنُ مِنَ الْجِيفَةِ، فَإِنْ قُلْتَ: فَاشْرَحْ لِي كَيْفِيَّةَ هَذِهِ النِّيَّةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْقَصْدَ مِنَ التَّطَيُّبِ إِنْ كَانَ هُوَ التَّنَعُّمَ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا أَوْ إِظْهَارَ التَّفَاخُرِ بِكَثْرَةِ الْمَالِ أَوْ رِيَاءَ الْخَلْقِ أَوْ لِيَتَوَدَّدَ بِهِ إِلَى قُلُوبِ النِّسَاءِ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَجْعَلُ التَّطَيُّبَ مَعْصِيَةً، وَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ إِقَامَةَ السُّنَّةِ وَدَفْعَ الرَّوَائِحِ الْمُؤْذِيَةِ عَنْ عِبَادِ اللَّهِ وَتَعْظِيمَ الْمَسْجِدِ، فَهُوَ عَيْنُ الطَّاعَةِ، وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَقِسْ عَلَيْهِ سَائِرَ الْمُبَاحَاتِ، وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلْتَهُ لِدَاعِي الْحَقِّ فَهُوَ الْعَمَلُ الْحَقُّ، وَكُلَّ مَا عَمِلْتَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ فَحَلَالُهَا حِسَابٌ وَحَرَامُهَا عَذَابٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْجَاهِلَ إِذَا سَمِعَ الْوُجُوهَ الْعَقْلِيَّةَ وَالنَّقْلِيَّةَ فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ فَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ تَدْرِيسِهِ وَتِجَارَتِهِ: نَوَيْتُ أَنْ أُدَرِّسَ لِلَّهِ وَأَتَّجِرَ لِلَّهِ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ نِيَّةٌ وَهَيْهَاتَ فَذَاكَ حَدِيثُ نَفْسٍ أَوْ حَدِيثُ لِسَانٍ وَالنِّيَّةُ بِمَعْزِلٍ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ إِنَّمَا النِّيَّةُ انْبِعَاثُ النَّفْسِ وَمَيْلُهَا إِلَى مَا ظَهَرَ لَهَا أَنَّ فِيهِ غَرَضَهَا إِمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا. وَالْمَيْلُ إِذَا لَمْ يَحْصُلُ لَمْ يَقْدِرِ الْإِنْسَانُ عَلَى اكْتِسَابِهِ وَهُوَ كَقَوْلِ الشَّبْعَانِ نَوَيْتُ أَنْ أَشْتَهِيَ الطَّعَامَ، أَوْ كَقَوْلِ الْفَارِغِ نَوَيْتُ أَنْ أَعْشَقَ، بَلْ لَا طَرِيقَ إِلَى اكْتِسَابِ الْمَيْلِ إِلَى الشَّيْءِ إِلَّا بِاكْتِسَابِ أَسْبَابِهِ وَلَيْسَتْ هِيَ إِلَّا تَحْصِيلَ الْعِلْمِ بِمَا

[سورة البقرة (2) : آية 113]

فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، ثُمَّ هَذَا الْعِلْمُ لَا يُوجِبُ هَذَا الْمَيْلَ إِلَّا عِنْدَ خُلُوِّ الْقَلْبِ عَنْ سَائِرِ الشَّوَاغِلِ، فَإِذَا غَلَبَتْ شَهْوَةُ النِّكَاحِ وَلَمْ يَعْتَقِدْ فِي الْوَلَدِ غَرَضًا صَحِيحًا لَا عَاجِلًا وَلَا آجِلًا، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُوَاقِعَ عَلَى نِيَّةِ الْوَلَدِ بَلْ لَا يُمْكِنُ إِلَّا عَلَى نِيَّةِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ إِذِ النِّيَّةُ هِيَ إِجَابَةُ الْبَاعِثِ وَلَا بَاعِثَ إِلَّا الشَّهْوَةُ فَكَيْفَ يَنْوِي الْوَلَدَ؟ فَثَبَتَ أَنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنِ الْقَوْلِ بِاللِّسَانِ أَوْ بِالْقَلْبِ بَلْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ حُصُولِ هَذَا الْمَيْلِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ مُعَلَّقٌ بِالْغَيْبِ فَقَدْ يَتَيَسَّرُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَقَدْ يَتَعَذَّرُ فِي بَعْضِهَا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ نِيَّاتِ النَّاسِ فِي الطَّاعَاتِ أَقْسَامٌ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ عَمَلُهُمْ إِجَابَةً لِبَاعِثِ الْخَوْفِ فَإِنَّهُ يَتَّقِي النَّارَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ لِبَاعِثِ الرَّجَاءِ وَهُوَ الرَّغْبَةُ فِي الْجَنَّةِ وَالْعَامِلُ لِأَجْلِ الْجَنَّةِ عَامِلٌ لِبَطْنِهِ وَفَرْجِهِ، كَالْأَجِيرِ السُّوءِ وَدَرَجَتُهُ دَرَجَةُ الْبُلْهِ، وَأَمَّا عِبَادَةُ ذَوِي الْأَلْبَابِ فَلَا تُجَاوِزُ ذِكْرَ اللَّهِ وَالْفِكْرَ فِيهِ حُبًّا لِجَلَالِهِ وَسَائِرُ الْأَعْمَالِ مُؤَكِّدَاتٌ لَهُ وَهُمُ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَثَوَابُ النَّاسِ بِقَدْرِ نِيَّاتِهِمْ فَلَا جَرَمَ صَارَ الْمُقَرَّبُونَ مُتَنَعِّمِينَ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَنِسْبَةُ شَرَفِ الِالْتِذَاذِ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ إِلَى شَرَفِ الِالْتِذَاذِ بِهَذَا الْمَقَامِ كَنِسْبَةِ نعيم الجنة إلى وجهه الكريم. [سورة البقرة (2) : آية 113] وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا جَمَعَهُمْ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ فَصَّلَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَيَّنَ قَوْلَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فِي الْآخَرِ، وَكَيْفَ يُنْكِرُ كُلُّ طَائِفَةٍ دِينَ الْأُخْرَى، وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ أَيْ عَلَى شَيْءٍ يَصِحُّ وَيُعْتَدُّ بِهِ وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: أَقَلُّ مِنْ لا شيء، ونظيره قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ [الْمَائِدَةِ: 68] ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالُوا ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ كَانَا يُثْبِتَانِ الصَّانِعَ وَصِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَذَلِكَ قَوْلٌ فِيهِ فَائِدَةٌ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ لَمَّا ضَمُّوا إِلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ الْحَسَنِ قَوْلًا بَاطِلًا يُحْبِطُ ثَوَابَ الْأَوَّلِ، فَكَأَنَّهُمْ مَا أَتَوْا بِذَلِكَ الْحَقِّ. الثَّانِي: أَنْ يُخَصَّ هَذَا الْعَامُّ بِالْأُمُورِ الَّتِي اخْتَلَفُوا فيه، وَهِيَ مَا يَتَّصِلُ بِبَابِ النُّبُوَّاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ أَحْبَارُ الْيَهُودِ فَتَنَاظَرُوا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ وَكَفَرُوا بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْإِنْجِيلِ، وَقَالَتِ النَّصَارَى لَهُمْ: نَحْوَهُ وَكَفَرُوا بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالتَّوْرَاةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِيمَنْ هُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ بَعْثَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالظَّاهِرُ الْحَقُّ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي الظَّاهِرِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى كُلِّ الْيَهُودِ وَكُلِّ النَّصَارَى بَعْدَ بَعْثَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا يَجِبُ لِمَا نُقِلَ فِي سَبَبِ الْآيَةِ/ أَنَّ يَهُودِيًّا خَاطَبَ النَّصَارَى بِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ أَنْ لَا يُرَادَ بِالْآيَةِ سِوَاهُ، إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَقَوْلُهُ: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ يُفِيدُ الْعُمُومَ فَمَا الْوَجْهُ فِي حَمْلِهِ عَلَى التَّخْصِيصِ وَمَعْلُومٌ مِنْ طَرِيقَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّهُمْ مُنْذُ كَانُوا فَهَذَا قَوْلُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ.

[سورة البقرة (2) : آية 114]

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ فَالْوَاوُ وللحال، وَالْكِتَابُ لِلْجِنْسِ. أَيْ قَالُوا ذَلِكَ وَحَالُهُمْ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعُلُومِ وَالتِّلَاوَةِ لِلْكُتُبِ، وَحَقُّ مَنْ حَمَلَ التَّوْرَاةَ أَوِ الْإِنْجِيلَ أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَآمَنَ بِهِ أَنْ لَا يَكْفُرَ بِالْبَاقِي لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْكِتَابَيْنِ مُصَدِّقٌ لِلثَّانِي شَاهِدٌ لِصِحَّتِهِ، فَإِنَّ التَّوْرَاةَ مُصَدِّقَةٌ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْإِنْجِيلَ مُصَدِّقٌ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا لِكَيْ يَصِحَّ هَذَا الْفَرْقُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ الْمَعْرِفَةِ وَالتِّلَاوَةِ إِذَا كَانُوا يَخْتَلِفُونَ هَذَا الِاخْتِلَافَ فَكَيْفَ حَالُ مَنْ لَا يَعْلَمُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ بِعَيْنِهَا قَدْ وَقَعَتْ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فَإِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تُكَفِّرُ الْأُخْرَى مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ هُمُ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ عَلَى وُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: أَنَّهُمْ كُفَّارُ الْعَرَبِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ قَوْلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهُمْ يَقْرَءُونَ الْكُتُبَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ وَيُلْتَفَتَ إِلَيْهِ فَقَوْلُ كُفَّارِ الْعَرَبِ أَوْلَى أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ إِذَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ عَلَى الَّذِينَ كَانُوا حَاضِرِينَ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، حَمَلْنَا قَوْلَهُ: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ على المعاندين وعكسه أيضا محتمل. وثالثها: أن يحمل قَوْلَهُ: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ على علمائهم ويحمل قَوْلَهُ: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ عَلَى عَوَامِّهِمْ فَصْلًا بَيْنَ خَوَاصِّهِمْ وَعَوَامِّهِمْ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ: لِأَنَّ كُلَّ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى دَخَلُوا فِي الْآيَةِ فَمَنْ مُيِّزَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: يُكَذِّبُهُمْ جَمِيعًا وَيُدْخِلُهُمُ النَّارَ. وَثَانِيهَا: حُكْمُ الِانْتِصَافِ مِنَ الظَّالِمِ الْمُكَذِّبِ لِلْمَظْلُومِ الْمُكَذَّبِ. وَثَالِثُهَا: يُرِيهِمْ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عِيَانًا وَمَنْ يَدْخُلُ النَّارَ عِيَانًا، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَرَابِعُهَا: يَحْكُمُ بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ فِيمَا اختلفوا فيه والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 114] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مُجَرَّدَ بَيَانِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، أَعْنِي مُجَرَّدَ بَيَانِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ كَذَا فَإِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ بِهِ كَذَا بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ عِمَارَةَ الْمَسَاجِدِ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَازَاهُمْ بِمَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الَّذِينَ مَنَعُوا مِنْ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ وَسَعَوْا فِي خَرَابِهِ مَنْ هُمْ؟ وَذَكَرُوا فِيهِ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ. أَوَّلُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ مَلِكَ النَّصَارَى غَزَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَخَرَّبَهُ وَأَلْقَى فِيهِ الْجِيَفَ وَحَاصَرَ أَهْلَهُ وَقَتَلَهُمْ وَسَبَى الْبَقِيَّةَ وَأَحْرَقَ التَّوْرَاةَ، وَلَمْ يَزَلْ بَيْتُ الْمَقْدِسِ خَرَابًا حَتَّى بَنَاهُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ فِي زَمَنِ عُمَرَ. وَثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي بُخْتُنَصَّرَ حَيْثُ خَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَبَعْضُ النَّصَارَى أَعَانَهُ عَلَى ذَلِكَ بُغْضًا لِلْيَهُودِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: هَذَانِ الْوَجْهَانِ غَلَطَانِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسِّيَرِ أَنَّ عَهْدَ بُخْتُنَصَّرَ كَانَ قَبْلَ مَوْلِدِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ وَالنَّصَارَى كَانُوا بَعْدَ الْمَسِيحِ فَكَيْفَ يَكُونُونَ مَعَ بُخْتُنَصَّرَ

فِي تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّصَارَى يَعْتَقِدُونَ فِي تَعْظِيمِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِثْلَ اعْتِقَادِ الْيَهُودِ وَأَكْثَرَ، فَكَيْفَ أَعَانُوا عَلَى تَخْرِيبِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ مَنَعُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ الدُّعَاءِ إِلَى الله بمكة وألجؤه إِلَى الْهِجْرَةِ، فَصَارُوا مَانِعِينَ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَدْ كَانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَنَى مَسْجِدًا عِنْدَ دَارِهِ فَمُنِعَ وَكَانَ مِمَّنْ يُؤْذِيهِ وِلْدَانُ قُرَيْشٍ وَنِسَاؤُهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها [الْإِسْرَاءِ: 110] نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ فَمُنِعَ مِنَ الْجَهْرِ لِئَلَّا يُؤْذَى، وَطَرَحَ أبو جهل العذرة على ظهر لنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُوَحِّدُونَ اللَّهَ وَلَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا وَيُصَلُّونَ لَهُ تَذَلُّلًا وَخُشُوعًا، وَيَشْغَلُونَ قُلُوبَهُمْ بِالْفِكْرِ فِيهِ، وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالذِّكْرِ لَهُ، وَجَمِيعَ جَسَدِهِمْ بِالتَّذَلُّلِ لِعَظَمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ. وَرَابِعُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ مِنْهُ الَّذِينَ صَدُّوهُ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حِينَ ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَدِينَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْفَتْحِ: 25] وَبِقَوْلِهِ: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْأَنْفَالِ: 34] وَحَمَلَ قَوْلَهُ: إِلَّا خائِفِينَ بِمَا يُعْلِي اللَّهُ مِنْ يَدِهِ، وَيُظْهِرُ مِنْ كَلِمَتِهِ، كَمَا قَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ: لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الْأَحْزَابِ: 60- 61] وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ خَامِسٌ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى رِعَايَةِ النَّظْمِ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْيَهُودِ فَكَانُوا يَمْنَعُونَ النَّاسَ عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ تَوَجُّهِهِمْ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَلَعَلَّهُمْ سَعَوْا أَيْضًا فِي تَخْرِيبِ الْكَعْبَةِ بِأَنْ حَمَلُوا بَعْضَ الْكُفَّارِ عَلَى تَخْرِيبِهَا، وَسَعَوْا أَيْضًا فِي تَخْرِيبِ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلَّا يُصَلُّوا فِيهِ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَعَابَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَبَيَّنَ سُوءَ طَرِيقَتِهِمْ فِيهِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى مِمَّا قَبْلَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا قَبَائِحَ أَفْعَالِ الْيَهُودِ/ وَالنَّصَارَى، وَذَكَرَ أَيْضًا بَعْدَهَا قَبَائِحَ أَفْعَالِهِمْ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا قَبَائِحَ أَفْعَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي صَدِّهِمُ الرَّسُولَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَمَّا حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى سَعْيِ النَّصَارَى فِي تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَضَعِيفٌ أَيْضًا عَلَى مَا شَرَحَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَا قُلْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ: فَأَمَّا مَنْ حَمَلَهَا عَلَى النَّصَارَى وَخَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ: تَتَّصِلُ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّصَارَى ادَّعَوْا أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَطْ، فَقِيلَ لَهُمْ: كَيْفَ تَكُونُونَ كَذَلِكَ مَعَ أَنَّ مُعَامَلَتَكُمْ فِي تَخْرِيبِ الْمَسَاجِدِ وَالسَّعْيِ فِي خَرَابِهَا هَكَذَا، وَأَمَّا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ قَالَ: جَرَى ذِكْرُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 113] وَقِيلَ: جَرَى ذِكْرُ جَمِيعِ الْكُفَّارِ وَذَمُّهُمْ، فَمَرَّةً وَجَّهَ الذَّمَّ إِلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَرَّةً إِلَى الْمُشْرِكِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: مَساجِدَ اللَّهِ عُمُومٌ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِهِ كُلُّ الْمَسَاجِدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَسَاجِدِ مَكَّةَ، وَقَالُوا: قَدْ كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَسْجِدٌ بِمَكَّةَ يَدْعُو اللَّهَ فِيهِ، فَخَرَّبُوهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَطْ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ حَيْثُ فَسَّرَ الْمَنْعَ بِصَدِّ الرَّسُولِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ حَمْلُ لَفْظِ الْمَسَاجِدِ عَلَى مَسْجِدٍ وَاحِدٍ؟ قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: هَذَا كَمَنَ يَقُولُ لِمَنْ آذَى صَالِحًا وَاحِدًا: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ آذَى الصَّالِحِينَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَسْجِدَ مَوْضِعُ السُّجُودِ فَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ لَا يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مَسْجِدًا وَاحِدًا بَلْ مَسَاجِدَ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَامِلِ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ثَانِي مَفْعُولَيْ مَنَعَ لِأَنَّكَ تَقُولُ: مَنَعْتُهُ كَذَا، وَمِثْلُهُ: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ [الْإِسْرَاءِ: 59] ، وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا [الْإِسْرَاءِ: 94] . الثَّانِي: قَالَ الْأَخْفَشُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ (مِنْ) كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَسَاجِدَ اللَّهِ. الرَّابِعُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى كَرَاهَةَ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ (مَنَعَ) . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: السَّعْيُ فِي تَخْرِيبِ الْمَسْجِدِ قَدْ يَكُونُ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مَنْعُ الْمُصَلِّينَ وَالْمُتَعَبِّدِينَ وَالْمُتَعَهِّدِينَ لَهُ مِنْ دُخُولِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَخْرِيبًا. وَالثَّانِي: بِالْهَدْمِ وَالتَّخْرِيبِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُتَأَوَّلَ عَلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ التَّخْرِيبُ لِأَنَّ مَنْعَ النَّاسِ مِنْ إِقَامَةِ شِعَارِ الْعِبَادَةِ فِيهِ يَكُونُ تَخْرِيبًا لَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَهُ مَوْضِعُ صَلَاةٍ فَخَرَّبَتْهُ قُرَيْشٌ لَمَّا هَاجَرَ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَفِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] مَعَ أَنَّ الشِّرْكَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ، وَكَذَا الزِّنَا وَقَتْلُ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ عَامٌّ دَخَلَهُ/ التَّخْصِيصُ فَلَا يَقْدَحُ فِيهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَسَعَوْا فِي تَخْرِيبِ الْمَسْجِدِ هُمُ الَّذِينَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ دُخُولُهُ إِلَّا خَائِفِينَ، وَأَمَّا مَنْ يَجْعَلُهُ عَامًّا فِي الْكُلِّ فَذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْخَوْفِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ إِلَّا خَائِفِينَ عَلَى حَالِ الْهَيْبَةِ وارتعاد الفرائض مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَبْطِشُوا بِهِمْ فَضْلًا أَنْ يَسْتَوْلُوا عَلَيْهِمْ وَيَمْنَعُوا الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا، وَالْمَعْنَى مَا كَانَ الْحَقُّ وَالْوَاجِبُ إِلَّا ذَلِكَ لَوْلَا ظُلْمُ الْكَفَرَةِ وَعُتُوُّهُمْ. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا بِشَارَةٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُ سَيُظْهِرُهُمْ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَعَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَأَنَّهُ يُذِلُّ الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ حَتَّى لَا يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِلَّا خَائِفًا يَخَافُ أَنْ يُؤْخَذَ فَيُعَاقَبَ، أَوْ يُقْتَلَ إِنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَقَدْ أَنْجَزَ اللَّهُ صِدْقَ هَذَا الْوَعْدِ فَمَنَعَهُمْ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَنَادَى فِيهِمْ عَامَ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَلَا لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِإِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَحَجَّ مِنَ الْعَامِ الثَّانِي ظَاهِرًا عَلَى الْمَسَاجِدِ لَا يَجْتَرِئُ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَحُجَّ وَيَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي مُسْلِمٍ فِي حَمْلِ الْمَنْعِ مِنَ الْمَسَاجِدِ عَلَى صَدِّهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَيُحْمَلُ هَذَا الْخَوْفُ عَلَى ظُهُورِ أَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَلَبَتِهِ لَهُمْ بِحَيْثُ يَصِيرُونَ خَائِفِينَ مِنْهُ وَمِنْ أُمَّتِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُحْمَلَ هَذَا الْخَوْفُ عَلَى مَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الصَّغَارِ وَالذُّلِّ بِالْجِزْيَةِ وَالْإِذْلَالِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ دُخُولُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَّا فِي أَمْرٍ يَتَضَمَّنُ الْخَوْفَ نَحْوَ أَنْ يَدْخُلُوا لِلْمُخَاصَمَةِ وَالْمُحَاكَمَةِ وَالْمُحَاجَّةِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْخَوْفَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التَّوْبَةِ: 17] . وَخَامِسُهَا: قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: قَوْلُهُ: إِلَّا خائِفِينَ بِمَعْنَى أَنَّ النَّصَارَى لَا يَدْخُلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلَّا خَائِفِينَ، وَلَا يُوجِدُ فِيهِ نَصْرَانِيٌّ إِلَّا أُوجِعَ ضَرْبًا وَهَذَا التَّأْوِيلُ مَرْدُودٌ، لِأَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَقِيَ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ فِي أَيْدِي النَّصَارَى بِحَيْثُ لَمْ يَتَمَكَّنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ إِلَّا خَائِفًا، إِلَى أَنِ اسْتَخْلَصَهُ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي زَمَانِنَا. وَسَادِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْخَبَرِ لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ النَّهْيُ

عَنْ تَمْكِينِهِمْ مِنَ الدُّخُولِ، وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ كَقَوْلِهِ: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الْأَحْزَابِ: 53] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْخِزْيِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الذُّلِّ بِمَنْعِهِمْ مِنَ الْمَسَاجِدِ، وَقَالَ آخَرُونَ بِالْجِزْيَةِ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَبِالْقَتْلِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ فَإِنَّ الْخِزْيَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعُقُوبَةِ مِنَ الْهَوَانِ وَالْإِذْلَالِ فَكُلُّ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ يَدْخُلُ تَحْتَهُ وَذَلِكَ رَدْعٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ ثَبَاتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ لِأَنَّ الْخِزْيَ الْحَاضِرَ يَصْرِفُ عَنِ التَّمَسُّكِ بِمَا يُوجِبُهُ وَيَقْتَضِيهِ، وَأَمَّا الْعَذَابُ الْعَظِيمُ فَقَدْ وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا جَرَى مَجْرَى النِّهَايَةِ/ فِي الْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّ الَّذِينَ قَدَّمَ ذِكْرَهُمْ وَصَفَهُمْ بِأَعْظَمِ الظُّلْمِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ الْعَظِيمَ، وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ وَفِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ فَضْلِ الْمَسَاجِدِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْأَخْبَارُ وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَآيَاتٌ، أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الْجِنِّ: 18] . أَضَافَ الْمَسَاجِدَ إِلَى ذَاتِهِ بِلَامِ الِاخْتِصَاصِ ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصَ بِقَوْلِهِ: فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَةِ: 18] فَجَعَلَ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ دَلِيلًا عَلَى الْإِيمَانِ، بَلِ الْآيَةُ تَدُلُّ بِظَاهِرِهَا عَلَى حَصْرِ الْإِيمَانِ فِيهِمْ، لِأَنَّ كَلِمَةَ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [النُّورِ: 36] . وَرَابِعُهَا: هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فَإِنَّ ظَاهِرَهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السَّاعِي فِي تَخْرِيبِ الْمَسَاجِدِ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمُشْرِكِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ يَتَنَاوَلُ الْمُشْرِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] فَإِذَا كَانَ السَّاعِي فِي تَخْرِيبِهِ فِي أَعْظَمِ دَرَجَاتِ الْفِسْقِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ السَّاعِي فِي عِمَارَتِهِ فِي أَعْظَمِ دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ، فَأَحَدُهَا: مَا رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ فَكَرِهَ النَّاسُ ذَلِكَ وَأَحَبُّوا أَنْ يَدَعَهُ، فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ كَهَيْئَتِهِ فِي الْجَنَّةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» . وَثَانِيهَا: مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا» ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا هُوَ السِّرُّ الْعَقْلِيُّ فِي تَعْظِيمِ الْمَسَاجِدِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْأَمْكِنَةَ وَالْأَزْمِنَةَ إِنَّمَا تَتَشَرَّفُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ مَكَانًا لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى إِنَّ الْغَافِلَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ اشْتَغَلَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالسُّوقُ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى الدُّنْيَا وَذَلِكَ مِمَّا يُورِثُ الْغَفْلَةَ عَنِ اللَّهِ، وَالْإِعْرَاضَ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حَتَّى إِنَّ ذَاكَرَ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ السُّوقَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ غَافِلًا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ لَا جَرَمَ كَانَتِ الْمَسَاجِدُ أَشْرَفَ الْمَوَاضِعِ وَالْأَسْوَاقُ أَخَسَّ الْمَوَاضِعِ. الثَّانِي: فِي فَضْلِ الْمَشْيِ إِلَى الْمَسَاجِدِ (أ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ كَانَتْ خُطُوَاتُهُ إِحْدَاهَا تَحُطُّ خَطِيئَتَهُ وَالْأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَتَهُ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (ب) أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ غَدَا أَوْ رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مَنْزِلًا كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحِ. (ج) أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِمَّنْ يُصَلِّي إِلَى الْقِبْلَةِ أَبْعَدَ مَنْزِلًا مِنْهُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ لَا تُخْطِئُهُ الصَّلَوَاتُ مَعَ

الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقِيلَ لَهُ: لَوِ اشْتَرَيْتَ حِمَارًا لِتَرْكَبَهُ فِي الرَّمْضَاءِ وَالظَّلْمَاءِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ مَنْزِلِي بِلِزْقِ الْمَسْجِدِ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْمَا يُكْتَبُ أَثَرِي وَخُطَايَ وَرُجُوعِي إِلَى أَهْلِي وَإِقْبَالِي وَإِدْبَارِي، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ/ «لَكَ مَا احْتَسَبْتَ أَجْمَعُ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. (د) جَابِرٌ قَالَ: خَلَتِ الْبِقَاعُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ فَأَرَادَ بَنُو سَلَمَةَ أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ، فَقَالُوا: نَعَمْ قَدْ أَرَدْنَا ذَلِكَ قَالَ يَا بَنِي سَلَمَةَ دِيَارَكُمْ تُكْتَبُ آثَارُكُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَقِّهِمْ: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ [يس: 12] . (هـ-) عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلَاةِ أَبْعَدُهُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ مَشْيًا وَالَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْإِمَامِ فِي جَمَاعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا مِمَّنْ يُصَلِّيهَا ثُمَّ يَنَامُ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحِ. (و) عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِذَا تَطَهَّرَ الرَّجُلُ ثُمَّ مَرَّ إِلَى الْمَسْجِدِ يَرْعَى الصَّلَاةَ كَتَبَ لَهُ كَاتِبُهُ أَوْ كَاتِبَاهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الْمَسْجِدِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ وَالْقَاعِدُ الَّذِي يَرْعَى الصَّلَاةَ كَالْقَانِتِ وَيُكْتَبُ مِنَ الْمَصَلِّينَ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى يَرْجِعَ» . (ز) عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: حَضَرَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ الْمَوْتُ فَقَالَ لِأَهْلِهِ: مَنْ فِي الْبَيْتِ، فَقَالُوا: أَهْلُكَ، وَأَمَّا إِخْوَتُكَ وَجُلَسَاؤُكَ فَفِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: ارْفَعُونِي فَأَسْنَدَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلَيْهِ فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَوْمِ فَرَدُّوا عَلَيْهِ وَقَالُوا لَهُ: خَيْرًا. فَقَالَ: إِنِّي مُورِثُكُمُ الْيَوْمَ حَدِيثًا مَا حَدَّثْتُ بِهِ أَحَدًا مُنْذُ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتِسَابًا وَمَا أُحَدِّثُكُمُوهُ الْيَوْمَ إِلَّا احْتِسَابًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ يُصَلِّي فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرْفَعْ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً وَلَمْ يَضَعْ رِجْلَهُ الْيُسْرَى إِلَّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً حَتَّى يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا صَلَّى بِصَلَاةِ الْإِمَامِ انْصَرَفَ وَقَدْ غُفِرَ لَهُ، فَإِنْ هُوَ أَدْرَكَ بَعْضَهَا وَفَاتَهُ بَعْضٌ كَانَ كَذَلِكَ» . (ح) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ رَاحَ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ صَلَّاهَا وَحَضَرَهَا وَلَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ أَجْرِهِمْ شَيْئًا» . (ط) أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمُ الرباط» رواه أبو مُسْلِمٌ. (ي) قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِدَاوُدَ بْنِ صَالِحٍ: هَلْ تَدْرِي فِيمَ نزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا [آلِ عِمْرَانَ: 200] قَالَ: قُلْتُ لَا يَا ابْنَ أَخِي، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوٌ يُرَابَطُ فِيهِ وَلَكِنِ انْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ. (يا) بُرَيْدَةُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسْجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، قَالَ النَّخَعِيُّ كَانُوا يَرَوْنَ الْمَشْيَ إِلَى الْمَسْجِدِ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ مُوجِبَةً. (يب) قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَانَ يُقَالُ خَمْسٌ كَانَ عَلَيْهَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالتَّابِعُونَ بِإِحْسَانٍ: لُزُومُ الْجَمَاعَةِ وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ، وَعِمَارَةُ الْمَسْجِدِ وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. (يج) أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ بَيْتًا يُعْبَدُ اللَّهُ فِيهِ مَنْ مَالٍ حَلَالٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ مِنْ دُرٍّ وَيَاقُوتٍ. (يد) أَبُو ذَرٍّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» . (يه) أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ/ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَةِ: 18] . (يو) عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْمَسَاجِدَ بُيُوتُ اللَّهِ وَإِنَّهُ لَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكْرِمَ من زراره فِيهَا. (يز) أَنَسٌ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ عُمَّارَ بُيُوتِ اللَّهِ هُمْ أَهْلُ بُيُوتِ اللَّهِ» . (يح)

أَنَسٌ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: كَأَنِّي لَأَهُمُّ بِأَهْلِ الْأَرْضِ عَذَابًا فَإِذَا نَظَرْتُ إِلَى عُمَّارِ بُيُوتِي وَالْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَإِلَى الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ صَرَفْتُ عَنْهُمْ» . (يط) عَنْ أَنَسٍ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا أُنْزِلَتْ عَاهَةٌ مِنَ السَّمَاءِ صُرِفَتْ عَنْ عَمَّارِ الْمَسَاجِدِ» . (ك) كَتَبَ سَلْمَانُ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ: يَا أَخِي لِيَكُنْ بَيْتُكَ الْمَسَاجِدَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ لِمَنْ كَانَتِ الْمَسَاجِدُ بُيُوتَهُمْ بِالرَّوْحِ وَالرَّحْمَةِ وَالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ إِلَى رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى» . (كا) قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: عن عبد الله بن سلام: إن المساجد أَوْتَادًا مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّ لَهُمْ جُلَسَاءَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَإِذَا فَقَدُوهُمْ سَأَلُوا عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مَرْضَى عَادُوهُمْ، وَإِنْ كَانُوا فِي حَاجَةٍ أَعَانُوهُمْ. (كب) ا لحسن قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ حَدِيثُهُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ فَلَا تُجَالِسُوهُمْ فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِمْ حَاجَةٌ» . (كج) أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ لِلْمُنَافِقِينَ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا تَحِيَّتُهُمْ لَعْنَةٌ وَطَعَامُهُمْ نُهْبَةٌ، وَغَنِيمَتُهُمْ غُلُولٌ، لَا يَقْرَبُونَ الْمَسَاجِدَ إِلَّا هَجْرًا وَلَا الصَّلَاةَ إِلَّا دَبْرًا، لَا يَتَأَلَّفُونَ وَلَا يُؤْلَفُونَ، خُشُبٌ بِاللَّيْلِ سُحُبٌ بِالنَّهَارِ» . (كد) أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «سبعة يظلمهم اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ حُسْنٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمُ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» . هَذَا حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ. (كه) عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ كَتَبَ لَهُ كَاتِبُهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَالْقَاعِدُ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ كَالْقَانِتِ وَيُكْتَبُ مِنَ الْمُصَلِّينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ» . (كو) رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ زُرَيْقِ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَسَأَلَهُ أَبِي: أَحُضُورُ الْجِنَازَةِ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمِ الْقُعُودُ فِي الْمَسْجِدِ؟ قَالَ: مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ تَبِعَهَا حَتَّى تُقْبَرَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ، وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ أَحَبُّ إِلَيَّ، تُسَبِّحُ اللَّهَ وَتُهَلِّلُ وَتَسْتَغْفِرُ وَالْمَلَائِكَةُ تَقُولُ: آمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. الثَّالِثُ: فِي تَزْيِينِ الْمَسَاجِدِ. (أ) ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ» . وَالْمُرَادُ مِنَ التَّشْيِيدِ رَفْعُ الْبِنَاءِ وَتَطْوِيلُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النِّسَاءِ: 78] وَهِيَ الَّتِي يَطُولُ بِنَاؤُهَا. (ب) أَمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ مَسْجِدٍ وَقَالَ لِلْبَنَّاءِ: أَكِنَّ النَّاسَ مِنَ الْمَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ. (ج) رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَأَى أثرجة مِنْ جِصٍّ مُعَلَّقَةً فِي الْمَسْجِدِ، فَأَمَرَ بِهَا فَقُطِعَتْ. (د) قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِذَا حَلَّيْتُمْ مَصَاحِفَكُمْ وَزَيَّنْتُمْ مَسَاجِدَكُمْ فَالدَّمَارُ عَلَيْكُمْ. (هـ-) قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: غَدَوْنَا مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إلى/ الزواية فَحَضَرَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَمَرَرْنَا بِمَسْجِدٍ فَقَالَ أَنَسٌ: لَوْ صَلَّيْنَا فِي هَذَا الْمَسْجِدِ؟ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: حَتَّى نَأْتِيَ الْمَسْجِدَ الْآخَرَ، فَقَالَ أَنَسٌ: أَيُّ مَسْجِدٍ، قَالُوا: مَسْجِدٌ أُحْدِثَ الْآنَ، فَقَالَ أنس: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَيَأْتِي عَلَى أُمَّتِي زَمَانٌ يَتَبَاهَوْنَ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا يَعْمُرُونَهَا إِلَّا قَلِيلًا» . الرَّابِعُ: فِي تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ السُّلَمِيِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ» ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِذَلِكَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمَكْحُولٍ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يَجْلِسُ وَلَا يُصَلِّي، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. الْخَامِسُ: فِيمَا يَقُولُ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، رَوَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَبِيهَا، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ وَقَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ

وقال قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ» . السَّادِسُ: فِي فَضِيلَةِ الْقُعُودِ فِي الْمَسْجِدِ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ. (أ) أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ فَتَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ» . وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ أَتَى النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ: ائْذَنْ لِي فِي الِاخْتِصَاءِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَصَى أَوِ اخْتَصَى إِنَّ خِصَاءَ أُمَّتِي الصِّيَامُ» . فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ، فَقَالَ: «إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتَيِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله ائذن لي في التراهب، فَقَالَ: «إِنَّ تَرَهُّبَ أُمَّتَيِ الْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ انْتِظَارًا لِلصَّلَاةِ» . السَّابِعُ: فِي كَرَاهِيَةِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ تَنَاشُدِ الْأَشْعَارِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَعَنِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيهِ، وَعَنْ أَنْ يَتَحَلَّقَ النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَرِهَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فِي الْمَسْجِدِ وَبِهِ يَقُولُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، وَكَانَ إِذَا مَرَّ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ يَبِيعُ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ: عَلَيْكَ بِسُوقِ الدُّنْيَا فَإِنَّمَا هَذَا سُوقُ الْآخِرَةِ، وَكَانَ لِسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رَحْبَةٌ إِلَى جَنْبِ الْمَسْجِدِ سَمَّاهَا الْبَطْحَاءَ، وَقَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَلْغَطَ أَوْ يُنْشِدَ شِعْرًا أَوْ يَرْفَعَ صَوْتًا فَلْيَخْرُجْ إِلَى هَذِهِ الرَّحْبَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَيْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّحَلُّقِ وَالِاجْتِمَاعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِمُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ، بَلْ يُشْتَغَلُ بِالذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ وَالْإِنْصَاتِ لِلْخُطْبَةِ، ثُمَّ لَا بَأْسَ بِالِاجْتِمَاعِ وَالتَّحَلُّقِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا طَلَبُ الضَّالَّةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِغَيْرِ الذِّكْرِ، فَمَكْرُوهٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ» ، قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَدْخُلُ فِي هَذَا كُلُّ أَمْرٍ لَمْ يُبْنَ لَهُ الْمَسْجِدُ مِنْ أُمُورِ مُعَامَلَاتِ النَّاسِ، وَاقْتِضَاءِ حُقُوقِهِمْ، وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ/ السَّلَفِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَرَى أَنْ لَا يَتَصَدَّقَ عَلَى السَّائِلِ الْمُتَعَرِّضِ فِي الْمَسْجِدِ، وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي الْمَسَاجِدِ، قَالَ عُمَرُ فِيمَنْ لَزِمَهُ حَدٌّ: أَخْرِجَاهُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُهُ، وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: إِنَّ الْمَسَاجِدَ طُهِّرَتْ مِنْ خَمْسٍ: مِنْ أَنْ يُقَامَ فِيهَا الْحُدُودُ أَوْ يُقْبَضَ فِيهَا الْخَرَاجُ، أَوْ يُنْطَقَ فِيهَا بِالْأَشْعَارِ أَوْ يُنْشَدَ فِيهَا الضَّالَّةُ أَوْ تُتَّخَذَ سُوقًا، وَلَمْ يَرَ بَعْضُهُمْ بِالْقَضَاءِ فِي الْمَسْجِدِ بَأْسًا، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَاعَنَ عُمَرُ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَضَى شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانَ الْحَسَنُ وَزُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى يَقْضِيَانِ فِي الرَّحْبَةِ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ. الثَّامِنُ: فِي النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدِ وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاتِّكَاءِ وَالِاضْطِجَاعِ وَأَنْوَاعِ الِاسْتِرَاحَةِ فِي الْمَسْجِدِ مِثْلَ جَوَازِهَا فِي الْبَيْتِ، إِلَّا الِانْبِطَاحَ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْهُ وَقَالَ: إِنَّهَا ضِجْعَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ، وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ شَابًّا أَعْزَبَ لَا أَهْلَ لَهُ فَكَانَ يَنَامُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَخَّصَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَتَّخِذُوهُ مَبِيتًا أَوْ مَقِيلًا. التَّاسِعُ: فِي كَرَاهِيَةِ الْبُزَاقِ فِي الْمَسْجِدِ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا» ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا فَوَجَدْتُ مِنْ مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الْأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا النُّخَامَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لَا تُدْفَنُ» وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الْمَسْجِدَ لَيَنْزَوِي

مِنَ النُّخَامَةِ كَمَا تَنْزَوِي الْجِلْدَةُ فِي النَّارِ» ، أَيْ يَنْضَمُّ وَيَنْقَبِضُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ أَنَّ كَوْنَهُ مَسْجِدًا يَقْتَضِي التَّعْظِيمَ وَإِلْقَاءُ النُّخَامَةِ يَقْتَضِي التَّحْقِيرَ، وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ، فَعَبَّرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ تِلْكَ الْمُنَافَاةِ بِقَوْلِهِ: لَيَنْزَوِي، وَقَالَ آخَرُونَ: أَرَادَ أَهْلَ الْمَسْجِدِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَبْصُقْ أَمَامَهُ فَإِنَّهُ يُنَاجِي اللَّهَ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا، وَلَكِنْ لِيَبْصُقْ عَنْ شِمَالِهِ أَوْ تَحْتَ رِجْلَيْهِ فَيَدْفِنُهُ» . وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حتى رؤي فِي وَجْهِهِ فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ وَقَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ فِي قِبْلَتِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ وَقَالَ: يَفْعَلُ هَكَذَا» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. الْعَاشِرُ: فِي الثُّومِ وَالْبَصَلِ: فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْمُنْتِنَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الْإِنْسُ» ، وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا» وَأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خُضَرٌ فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْبُقُولِ، فَقَالَ: «قَرِّبُوهَا إِلَى بَعْضِ مَنْ كَانَ حَاضِرًا، وَقَالَ/ لَهُ كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. الْحَادِيَ عَشَرَ: فِي الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ فِي الدُّورِ، وَأَنْ يُنَظَّفَ وَيُطَيَّبَ، أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْ مَهْ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تُزْرِمُوهُ» ، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنَ الْعَذِرَةِ وَالْبَوْلِ وَالْخَلَاءِ، إِنَّمَا هِيَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ» ، ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصَبُّوا عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دُخُولِ الْكَافِرِ الْمَسْجِدَ، فَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مُطْلَقًا، وَأَبَاهُ مَالِكٌ مُطْلَقًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ الْحَرَمِ والمسجد الحرام، احتج الشَّافِعِيُّ بِوُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا [التَّوْبَةِ: 28] قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْحَرَمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْإِسْرَاءِ: 1] وَإِنَّمَا أُسْرِيَ بِهِ مِنْ بَيْتِ خَدِيجَةَ. فَالْآيَةُ دَالَّةٌ إِمَّا عَلَى الْمَسْجِدِ فَقَطْ، أَوْ عَلَى الْحَرَمِ كُلِّهِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ، لِأَنَّ الْخِلَافَ حَاصِلٌ فِيهِمَا جَمِيعًا، فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْحَجُّ وَلِهَذَا قَالَ: بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا لِأَنَّ الْحَجَّ إِنَّمَا يُفْعَلُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، قُلْنَا: هَذَا ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ. الثَّانِي: ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ قُرْبِهِمْ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ نَجَاسَتُهُمْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مَا دَامُوا مُشْرِكِينَ كَانُوا مَمْنُوعِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ الْحَجَّ لَذَكَرَ مِنَ الْبِقَاعِ مَا يَقَعُ فِيهِ مُعْظَمُ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَهُوَ عَرَفَةُ. الرَّابِعُ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ دُخُولُ الْحَرَمِ لَا الْحَجُّ فَقَطْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [التَّوْبَةِ: 28] فَأَرَادَ بِهِ الدُّخُولَ لِلتِّجَارَةِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَأَنَّهُمْ مَتَى دَخَلُوا كَانُوا خَائِفِينَ مِنَ الْإِخْرَاجِ إِلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِمَنْ خَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، أَوْ بِمَنْ مَنَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من

[سورة البقرة (2) : آية 115]

الْعِبَادَةِ فِي الْكَعْبَةِ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ خَوْفَ الْإِخْرَاجِ، بَلْ خَوْفُ الْجِزْيَةِ وَالْإِخْرَاجِ، قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ، فَتَخْصِيصُهُ بِبَعْضِ الصُّوَرِ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الظَّاهِرَ قَوْلُهُ: مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْخَوْفُ إِنَّمَا حَصَلَ مِنَ الدُّخُولِ، وَعَلَى مَا يَقُولُونَهُ لَا يَكُونُ الْخَوْفُ مُتَوَلِّدًا مِنَ الدُّخُولِ بَلْ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ، فَسَقَطَ كَلَامُهُمْ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التَّوْبَةِ: 17] وَعِمَارَتُهَا تَكُونُ بِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: بِنَاؤُهَا وَإِصْلَاحُهَا. وَالثَّانِي: حُضُورُهَا وَلُزُومُهَا، كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ يَعْمُرُ/ مَسْجِدَ فُلَانٍ أَيْ يَحْضُرُهُ وَيَلْزَمُهُ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسَاجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ» ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَةِ: 18] ، فَجَعَلَ حُضُورَ الْمَسَاجِدِ عِمَارَةً لَهَا. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْحَرَمَ وَاجِبُ التَّعْظِيمِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الدُّعَاءِ: «اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَمَهَابَةً» فَصَوْنُهُ عَمَّا يُوجِبُ تَحْقِيرَهُ وَاجِبٌ وَتَمْكِينُ الْكُفَّارِ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ تَعْرِيضٌ لِلْبَيْتِ لِلتَّحْقِيرِ لِأَنَّهُمْ لِفَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ فِيهِ رُبَّمَا اسْتَخَفُّوا بِهِ وَأَقْدَمُوا عَلَى تَلْوِيثِهِ وَتَنْجِيسِهِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِتَطْهِيرِ الْبَيْتِ فِي قَوْلِهِ: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [الْحَجِّ: 26] وَالْمُشْرِكُ نَجَسٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التَّوْبَةِ: 28] وَالتَّطْهِيرُ عَلَى النَّجَسِ وَاجِبٌ فَيَكُونُ تَبْعِيدُ الْكُفَّارِ عَنْهُ وَاجِبًا. وَسَادِسُهَا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْجُنُبَ يُمْنَعُ مِنْهُ، فَالْكَافِرُ بِأَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ أَوْلَى إِلَّا أَنَّ هَذَا مُقْتَضَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَهُوَ أَنْ يُمْنَعَ عَنْ كُلِّ الْمَسَاجِدِ وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأُمُورٍ، الْأَوَّلُ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ يَثْرِبَ فَأَنْزَلَهُمُ الْمَسْجِدَ. الثَّانِي: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ فَهُوَ آمِنٌ» وَهَذَا يَقْتَضِي إِبَاحَةَ الدُّخُولِ. الثَّالِثُ: الْكَافِرُ جَازَ لَهُ دُخُولُ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ فَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ كَالْمُسْلِمِ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ: أَنَّهُمَا كَانَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْآيَةِ، وَعَنِ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ فظهر الفرق والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 115] وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، الضَّابِطُ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ زَعَمُوا أَنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَمْرٍ يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَمْرٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ، أَمَّا القول الأول [أي نزلت في أمر يختص بالصلاة] فَهُوَ أَقْوَى لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ كَافَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَقَوْلُهُمْ حُجَّةٌ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا يُفِيدُ التَّوَجُّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا لَا يُعْقَلُ مِنْ قَوْلِهِ: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 144] إِلَّا هَذَا الْمَعْنَى إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِهِ تَحْوِيلَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ وَجَمِيعَ الْجِهَاتِ وَالْأَطْرَافِ كُلَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ سُبْحَانَهُ وَمَخْلُوقَةُ لَهُ، فَأَيْنَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِاسْتِقْبَالِهِ فَهُوَ الْقِبْلَةُ، لِأَنَّ الْقِبْلَةَ لَيْسَتْ قِبْلَةً لِذَاتِهَا، بل لأن الله جَعَلَهَا قِبْلَةً، فَإِنْ جَعَلَ الْكَعْبَةَ قِبْلَةً فَلَا تُنْكِرُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى يُدَبِّرُ عِبَادَهُ كَيْفَ يُرِيدُ وَهُوَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ بِمَصَالِحِهِمْ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ بَيَانًا لِجَوَازِ نَسْخِ الْقِبْلَةِ مِنْ جانب إلى

جَانِبٍ آخَرَ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ مُقَدِّمَةً لِمَا كَانَ يُرِيدُ تَعَالَى مِنْ نَسْخِ الْقِبْلَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمَّا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَنْكَرَ الْيَهُودُ ذَلِكَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ/ رَدًّا عَلَيْهِمْ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْبَقَرَةِ: 142] . وَثَالِثُهَا: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ وَهُوَ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَالَ: إِنَّ الْجَنَّةَ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْيَهُودَ إِنَّمَا اسْتَقْبَلُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَعِدَ السَّمَاءَ مِنَ الصَّخْرَةِ وَالنَّصَارَى اسْتَقْبَلُوا الْمَشْرِقَ لِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا وُلِدَ هُنَاكَ عَلَى مَا حَكَى اللَّهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا [مَرْيَمَ: 16] فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ وَصَفَ مَعْبُودَهُ بِالْحُلُولِ فِي الْأَمَاكِنِ وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ مَخْلُوقٌ لَا خَالِقٌ، فَكَيْفَ تَخْلُصُ لَهُمُ الْجَنَّةُ وَهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ. وَرَابِعُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِالتَّخْيِيرِ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَكَانَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَوَجَّهُوا إِلَى حَيْثُ شَاءُوا فِي الصَّلَاةِ إِلَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْتَارُ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ حَيْثُ شَاءَ، ثُمَّ أَنَّهُ تَعَالَى نَسَخَ ذَلِكَ بِتَعْيِينِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ مَنْ هُوَ مُشَاهِدٌ لِلْكَعْبَةِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهَا مِنْ أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ وَأَرَادَ. وَسَادِسُهَا: مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ فِي لَيْلَةٍ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةٍ فَلَمْ نَعْرِفِ الْقِبْلَةَ فَجَعَلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا مَسْجِدَهُ حِجَارَةً مَوْضُوعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ صَلَّيْنَا فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا نَحْنُ عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ نُقِلُوا حِينَئِذٍ إِلَى الْكَعْبَةِ لِأَنَّ الْقِتَالَ فُرِضَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ نَسْخِ قِبْلَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَسَابِعُهَا: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُسَافِرِ يُصَلِّي النَّوَافِلَ حَيْثُ تَتَوَجَّهُ بِهِ رَاحِلَتُهُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الرَّجُلِ يُصَلِّي إِلَى حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ فِي السَّفَرِ. وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ صَلَّى عَلَى رَاحِلَتِهِ تَطَوُّعًا يُومِئُ بِرَأْسِهِ نَحْوَ الْمَدِينَةِ، فَمَعْنَى الْآيَةِ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ لِنَوَافِلِكُمْ فِي أَسْفَارِكُمْ: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فَقَدْ صَادَفْتُمُ الْمَطْلُوبَ: إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ الْفَضْلِ غَنِيٌّ، فَمِنْ سَعَةِ فَضْلِهِ وَغِنَاهُ رَخَّصَ لَكُمْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَلَّفَكُمُ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ لَزِمَ أَحَدُ الضَّرَرَيْنِ، إِمَّا تَرْكُ النَّوَافِلِ، وَإِمَّا النُّزُولُ عَنِ الرَّاحِلَةِ وَالتَّخَلُّفُ عَنِ الرُّفْقَةِ بِخِلَافِ الْفَرَائِضِ، فَإِنَّهَا صَلَوَاتٌ مَعْدُودَةٌ مَحْصُورَةٌ فَتَكْلِيفُ النُّزُولِ عَنِ الرَّاحِلَةِ عِنْدَ أَدَائِهَا وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِيهَا لَا يُفْضِي إِلَى الْحَرَجِ بِخِلَافِ النَّوَافِلِ، فَإِنَّهَا غَيْرُ مَحْصُورَةٍ فَتَكْلِيفُ الِاسْتِقْبَالِ يُفْضِي إِلَى الْحَرَجِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ. قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ مُشْعِرٌ بِالتَّخْيِيرِ وَالتَّخْيِيرُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا فِي صُورَتَيْنِ أَحَدُهُمَا: فِي التَّطَوُّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ. وَثَانِيهِمَا: فِي السَّفَرِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الِاجْتِهَادِ لِلظُّلْمَةِ أَوْ لِغَيْرِهَا، لِأَنَّ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْمُصَلِّيَ مُخَيَّرٌ فَأَمَّا عَلَى غَيْرِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَلَا تَخْيِيرَ وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَ الْمُكَلَّفِينَ فِي اسْتِقْبَالِ أَيِّ جِهَةٍ شَاءُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهُمْ كَانُوا يَخْتَارُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ لَا لِأَنَّهُ لَازِمٌ، بَلْ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ وَأَوْلَى بِعِيدٌ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ التَّحْوِيلِ إِلَى الْكَعْبَةِ اخْتِصَاصًا فِي الشَّرِيعَةِ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا: لَمْ يَثْبُتْ/ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصُ وَأَيْضًا فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ صَارَ مَنْسُوخًا بِالْكَعْبَةِ فَهَذِهِ الدَّلَالَةَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ، وَأَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ الْقِبْلَةَ لَمَّا حُوِّلَتْ تَكَلَّمَ الْيَهُودُ فِي صَلَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَاةِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَبَيَّنَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ تِلْكَ الْقِبْلَةَ كَانَ التَّوَجُّهُ إِلَيْهَا صَوَابًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالتَّوَجُّهُ إِلَى الْكَعْبَةِ صَوَابٌ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَيْنَمَا يُوَلُّوا مِنْ هَاتَيْنِ الْقِبْلَتَيْنِ فِي الْمَأْذُونِ فِيهِ فثم وجه

اللَّهِ، قَالُوا: وَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ يَعُمُّ كُلَّ مُصَلٍّ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى الْأَوَّلِ لَا يَعُمُّ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَحْمُولًا عَلَى التَّطَوُّعِ دُونَ الْفَرْضِ، وَعَلَى السَّفَرِ فِي حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ دُونَ الْحَضَرِ، وَإِذَا أَمْكَنَ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ الْعَامِّ عَلَى عُمُومِهِ فَهُوَ أَوْلَى مِنَ التَّخْصِيصِ، وَأَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ ضَرْبِ تَقْيِيدٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا مِنَ الْجِهَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْإِضْمَارَ لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لِأَنَّهُ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا بِحَسَبِ مَيْلِ أَنْفُسِكُمْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْإِضْمَارِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ زَالَتْ طَرِيقَةُ التَّخْيِيرِ وَنَظِيرُهُ: إِذَا أَقْبَلَ أَحَدُنَا عَلَى وَلَدِهِ وَقَدْ أَمَرَهُ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ مُتَرَتِّبَةٍ فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ تَصَرَّفْتَ فَقَدِ اتَّبَعْتَ رِضَائِي، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى مَا أَمَرَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَهُ مِنْ تَضْيِيقٍ أَوْ تَخْيِيرٍ، وَلَا يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى التَّخْيِيرِ الْمُطْلَقِ فكذا هاهنا. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَمْرٍ سِوَى الصَّلَاةِ فَلَهُمْ أَيْضًا وُجُوهٌ: أَوَّلُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ظَلَمُوا بِمَنْعِ مَسَاجِدِي أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمِي وَسَعَوْا فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ لَهُمْ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَيْنَمَا وَلَّوْا هَارِبِينَ عَنِّي وَعَنْ سُلْطَانِي فَإِنَّ سُلْطَانِي يَلْحَقُهُمْ، وَقُدْرَتِي تَسْبِقُهُمْ وَأَنَا عَلِيمٌ بِهِمْ، لَا يَخْفَى عَلَيَّ مَكَانُهُمْ وَفِي ذَلِكَ تَحْذِيرٌ مِنَ الْمَعَاصِي وَزَجْرٌ عَنِ ارْتِكَابِهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ نَظِيرُ قَوْلِهِ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ [الرَّحْمَنِ: 33] فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ سَعَةَ الْعِلْمِ، وَهُوَ نَظِيرُ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الْحَدِيدِ: 4] وَقَوْلِهِ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [الْمُجَادَلَةِ: 7] وَقَوْلِهِ: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [غَافِرٍ: 7] وَقَوْلِهِ: وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [طه: 98] أَيْ عَمَّ كُلَّ شَيْءٍ بِعِلْمِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِهِ وَعُلُوِّهِ عَلَيْهِ. وَثَانِيهَا: قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِنَّ أَخَاكُمُ النَّجَّاشِيَّ قَدْ مَاتَ فَصَلُّوا عَلَيْهِ، قَالُوا: نُصَلِّي عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ» فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [آلِ عِمْرَانَ: 199] فَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ وَمَعْنَاهَا أَنَّ الْجِهَاتِ الَّتِي يُصَلِّي إِلَيْهَا أَهْلُ الْمِلَلِ مِنْ شَرْقٍ وَغَرْبٍ وَمَا بَيْنَهُمَا، كُلُّهَا لِي فَمَنْ وَجَّهَ وَجْهَهُ نَحْوَ شَيْءٍ مِنْهَا بِأَمْرٍ يُرِيدُنِي وَيَبْتَغِي طَاعَتِي وَجَدَنِي هُنَاكَ أَيْ وَجَدَ ثَوَابِي فَكَانَ فِي هَذَا عُذْرٌ لِلنَّجَّاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى اسْتِقْبَالِهِمُ الْمَشْرِقَ وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 143] . وَثَالِثُهَا: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: 60] قَالُوا: أَيْنَ نَدْعُوهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ، أَيْ لَا يَمْنَعْكُمْ تَخْرِيبُ مَنْ خَرَّبَ مَسَاجِدَ اللَّهِ عَنْ ذِكْرِهِ حَيْثُ كُنْتُمْ مِنْ أَرْضِهِ فَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ وَالْجِهَاتُ كُلُّهَا، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى. وَخَامِسُهَا: مِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُجْتَهِدِينَ الْوَافِينَ بِشَرَائِطِ الِاجْتِهَادِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا، وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا رَأَى بِشَرَائِطِ الِاجْتِهَادِ فَهُوَ مُصِيبٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ فَسَّرْنَا الْآيَةَ بِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَجْوِيزِ التَّوَجُّهِ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ أُرِيدَ، فَالْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ وَإِنْ فَسَّرْنَاهَا بِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الْقِبْلَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ فَالْآيَةُ نَاسِخَةٌ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهَا بِسَائِرِ الْوُجُوهِ فَهِيَ لَا نَاسِخَةٌ وَلَا مَنْسُوخَةٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ لَامُ الِاخْتِصَاصِ أَيْ هُوَ خَالِقُهُمَا وَمَالِكُهُمَا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن: 17] وقوله: بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج: 40] ، ورَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الْمُزَّمِّلِ: 9] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَشَارَ بِذِكْرِهِمَا إِلَى ذِكْرِ مَنْ بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، كَمَا قَالَ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فُصِّلَتْ: 11] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى نَفْيِ التَّجْسِيمِ وَإِثْبَاتِ التَّنْزِيهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَبَيَّنَ أَنَّ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ مَمْلُوكَتَانِ لَهُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِهَةَ أَمْرٌ مُمْتَدٌّ فِي الْوَهْمِ طُولًا وَعَرْضًا وَعُمْقًا، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُنْقَسِمٌ، وَكُلُّ مُنْقَسِمٍ فَهُوَ مُؤَلَّفٌ مُرَكَّبٌ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ وَمُوجِدٍ، وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ عَامَّةٌ فِي الْجِهَاتِ كُلِّهَا، أَعْنِي الْفَوْقَ وَالتَّحْتَ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقُ الْجِهَاتِ كُلِّهَا، وَالْخَالِقُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْمَخْلُوقِ لَا مَحَالَةَ، فَقَدْ كَانَ الْبَارِي تَعَالَى قَبْلَ خَلْقِ الْعَالَمِ مُنَزَّهًا عَنِ الْجِهَاتِ وَالْأَحْيَازِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ خَلْقِ الْعَالَمِ كَذَلِكَ لَا مَحَالَةَ لِاسْتِحَالَةِ انْقِلَابِ الْحَقَائِقِ وَالْمَاهِيَّاتِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ وَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى جِسْمًا وَلَهُ وَجْهٌ جُسْمَانِيٌّ لَكَانَ وَجْهُهُ مُخْتَصًّا بِجَانِبٍ مُعَيَّنٍ وَجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَمَا كَانَ يَصْدُقُ قَوْلُهُ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فَلَمَّا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَاحْتَجَّ الْخَصْمُ بِالْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْوَجْهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْوَجْهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ كَانَ جِسْمًا. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ وَاسِعًا، وَالسَّعَةُ مِنْ صِفَةِ الْأَجْسَامِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْوَجْهَ وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةً عَنِ الْعُضْوِ الْمَخْصُوصِ لكنا بينا أنا لو حملناه هاهنا عَلَى الْعُضْوِ لَكَذَبَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ لِأَنَّ الْوَجْهَ لَوْ كَانَ مُحَاذِيًا لِلْمَشْرِقِ لَاسْتَحَالَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَنْ يَكُونَ مُحَاذِيًا لِلْمَغْرِبِ أَيْضًا، فَإِذَنْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ إِضَافَةَ وَجْهِ اللَّهِ كَإِضَافَةِ بَيْتِ اللَّهِ وَنَاقَةِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا الْإِضَافَةُ بِالْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ، فَقَوْلُهُ: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أَيْ: فَثَمَّ وَجْهُهُ الَّذِي وَجَّهَكُمْ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ لَهُ بِوَجْهَيْهِمَا، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْقِبْلَةِ إِنَّمَا يَكُونُ قِبْلَةً لِنَصْبِهِ تَعَالَى إِيَّاهَا/ فَأَيُّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْعَالَمِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ نَصَبَهُ وَعَيَّنَهُ فَهُوَ قِبْلَةٌ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْوَجْهِ الْقَصْدَ وَالنِّيَّةَ قَالَ الشَّاعِرُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لَسْتُ أُحْصِيهِ ... رَبَّ الْعِبَادِ إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَامِ: 79] . الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ فَثَمَّ مَرْضَاةُ اللَّهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الْإِنْسَانِ: 9] يَعْنِي لِرِضْوَانِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88] يَعْنِي مَا كَانَ لِرِضَا اللَّهِ، وَوَجْهُ الِاسْتِعَارَةِ أَنَّ مَنْ أَرَادَ الذَّهَابَ إِلَى إِنْسَانٍ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَقْرُبُ مِنْ وَجْهِهِ وَقُدَّامِهِ، فَكَذَلِكَ مَنْ يَطْلُبُ مَرْضَاةَ أَحَدٍ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَقْرُبُ مِنْ مَرْضَاتِهِ، فَلِهَذَا سُمِّيَ طَلَبُ الرِّضَا بِطَلَبِ وَجْهِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْوَجْهَ صِلَةٌ كَقَوْلِهِ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وَيَقُولُ النَّاسُ هَذَا وَجْهُ الْأَمْرِ لَا يُرِيدُونَ بِهِ شَيْئًا آخَرَ غيره، إنما يريدون به أنه من هاهنا يَنْبَغِي أَنْ يُقْصَدَ هَذَا الْأَمْرُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ صَحِيحٌ فِي اللُّغَةِ إِلَّا أَنَّ الْكَلَامَ يَبْقَى، فَإِنَّهُ يُقَالُ لِهَذَا الْقَائِلِ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَكَانُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهِ بِأَنَّ الْمُرَادَ: فَثَمَّ قِبْلَتُهُ الَّتِي يُعْبَدُ بِهَا، أَوْ ثَمَّ رَحْمَتُهُ وَنِعْمَتُهُ

[سورة البقرة (2) : الآيات 116 إلى 117]

وَطَرِيقُ ثَوَابِهِ وَالْتِمَاسُ مَرْضَاتِهِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ وَاسِعًا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِلَّا لَكَانَ مُتَجَزِّئًا مُتَبَعِّضًا فَيَفْتَقِرُ إِلَى الْخَالِقِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يُحْمَلَ عَلَى السَّعَةِ فِي الْقُدْرَةِ وَالْمُلْكِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ وَاسِعُ الْعَطَاءِ وَالرَّحْمَةِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ وَاسِعُ الْإِنْعَامِ بِبَيَانِ الْمَصْلَحَةِ لِلْعَبِيدِ لِكَيْ يَصِلُوا إِلَى رِضْوَانِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا الْوَجْهَ بِالْكَلَامِ أَلْيَقُ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى السَّعَةِ فِي الْعِلْمِ، وَإِلَّا لَكَانَ ذِكْرُ الْعَلِيمِ بَعْدَهُ تَكْرَارًا، فَأَمَّا قَوْلُهُ: عَلِيمٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَكَالتَّهْدِيدِ لِيَكُونَ الْمُصَلِّي عَلَى حَذَرٍ مِنَ التَّفْرِيطِ مِنْ حَيْثُ يَتَصَوَّرُ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا يُخْفِي وَمَا يُعْلِنُ، وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، فَيَكُونُ مُتَحَذِّرًا عَنِ التَّسَاهُلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: واسِعٌ عَلِيمٌ أَنَّهُ تَعَالَى وَاسِعُ الْقُدْرَةِ فِي تَوْفِيَةِ ثَوَابِ مَنْ يَقُومُ بِالصَّلَاةِ عَلَى شَرْطِهَا، وَتَوْفِيَةِ عِقَابِ مَنْ يَتَكَاسَلُ عَنْهَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَلَّى إِذَا أَقْبَلَ، وَوَلَّى إِذَا أَدْبَرَ، وَهُوَ من الأضداد ومعناه هاهنا الْإِقْبَالُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا بِفَتْحِ التَّاءِ من التولي، يريد فأينما توجهوا القبلة. [سورة البقرة (2) : الآيات 116 الى 117] وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الْعَاشِرُ مِنْ مَقَابِحِ أَفْعَالِ الْيَهُودِ والنصارى والمشركين، [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون] وَاعْلَمْ أَنَّ الظَّاهِرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ [البقرة: 114] وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى النَّصَارَى، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَنَحْنُ قَدْ تَأَوَّلْنَاهُ عَلَى الْيَهُودِ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا الْوَلَدَ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ فَلَا جَرَمَ صَحَّتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ، ووهب بن يهودا فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا عُزَيْرًا ابْنَ اللَّهِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: سُبْحانَهُ فَهُوَ كَلِمَةُ تَنْزِيهٍ يُنَزِّهُ بِهَا نَفْسَهُ عَمَّا قَالُوهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [النِّسَاءِ: 171] فَمَرَّةً أَظْهَرَهُ، وَمَرَّةً اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ عَلَى هَذَا التَّنْزِيهِ بِقَوْلِهِ: بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى الْمَوْجُودِ الْوَاجِبِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ لِذَاتِهِ مُحْدَثٌ، وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ، وَالْمَخْلُوقُ لَا يَكُونُ وَلَدًا، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ مَا سِوَى الْمَوْجُودِ الْوَاجِبِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، فَلِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ مَوْجُودَانِ وَاجِبَانِ لِذَاتِهِمَا لَاشْتَرَكَا فِي وُجُوبِ الْوُجُودِ، وَلَامْتَازَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ بِمَا بِهِ التَّعَيُّنِ، وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ، غَيْرُ مَا بِهِ الْمُمَايَزَةُ، وَيَلْزَمُ تَرَكُّبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ قَيْدَيْنِ، وَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَإِنَّهُ مُفْتَقِرٌ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ، وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَوْجُودَيْنِ الواجبين لذاتهما ممكن لذاته، وهذا خُلْفٌ، ثُمَّ نَقُولُ: إِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ من ذينك الجزءين واجباً عاد التقسيم المذكور فيه، ويقضى إِلَى كَوْنِهِ مُرَكَّبًا مِنْ أَجْزَاءٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَمَعَ تَسْلِيمِ أَنَّهُ غَيْرُ مُحَالٍ فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ، لِأَنَّ كُلَّ كَثْرَةٍ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْوَاحِدِ، فَتِلْكَ الْآحَادُ إِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً لِذَوَاتِهَا كَانَتْ مُرَكَّبَةً عَلَى مَا ثَبَتَ، فَالْبَسِيطُ مُرَكَّبٌ هَذَا خُلْفٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُمْكِنَةً كَانَ الْمُرَكَّبُ الْمُفْتَقِرُ إِلَيْهَا أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ، فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَا الْمَوْجُودَ الْوَاجِبَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ لِذَاتِهِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، وَتَأْثِيرُ ذَلِكَ

الْمُؤَثِّرِ فِيهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالَ عَدَمِهِ أَوْ حَالَ وُجُودِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَذَلِكَ الْمُمْكِنُ مُحْدَثٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَاحْتِيَاجُ ذَلِكَ الْمَوْجُودِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالَ بَقَائِهِ أَوْ حَالَ حُدُوثِهِ، وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إِيجَادَ الْوُجُودِ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ ذَلِكَ الْمُمْكِنِ مُحْدَثًا فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مُحْدَثٌ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ وَأَنَّ وُجُودَهُ إِنَّمَا حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِيجَادِهِ وإبداعه، فثبت أن كلما سواه فهو عبده وملكه فيستحل أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِمَّا سِوَاهُ وَلَدًا لَهُ، وَهَذَا الْبُرْهَانُ إِنَّمَا اسْتَفَدْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ لَهُ كُلُّ مَا سِوَاهُ عَلَى سَبِيلِ الْمِلْكِ وَالْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالْإِبْدَاعِ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ وَلَدُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا أَوْ مُحْدَثًا، فَإِنْ كَانَ أَزَلِيًّا لَمْ يَكُنْ حُكْمُنَا بِجَعْلِ أَحَدِهِمَا وَلَدًا وَالْآخَرِ وَالِدًا أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْحُكْمُ حُكْمًا مُجَرَّدًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ/ وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ حَادِثًا كَانَ مَخْلُوقًا لِذَلِكَ الْقَدِيمِ وَعَبْدًا لَهُ فلا يكون ولداً له. الثالث: أَنَّ الْوَلَدَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْوَالِدِ، فَلَوْ فَرَضْنَا لَهُ وَلَدًا لَكَانَ مُشَارِكًا لَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَمُمْتَازًا عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَكَّبًا وَمُحْدَثًا وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَإِذَنِ الْمُجَانَسَةُ مُمْتَنِعَةٌ فَالْوَلَدِيَّةُ مُمْتَنِعَةٌ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْوَلَدَ إِنَّمَا يُتَّخَذُ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي الْكِبَرِ وَرَجَاءَ الِانْتِفَاعِ بِمَعُونَتِهِ حَالَ عَجْزِ الْأَبِ عَنْ أُمُورِ نَفْسِهِ، فَعَلَى هَذَا إِيجَادُ الْوَلَدِ إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى مَنْ يَصِحُّ عَلَيْهِ الْفَقْرُ وَالْعَجْزُ وَالْحَاجَةُ، فإذا كان كل ذلك محال كَانَ إِيجَادُ الْوَلَدِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُحَالًا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُضِيفُونَ إِلَيْهِ الْأَوْلَادَ قَوْلَهُمْ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ وَهِيَ أَنَّ كُلَّ من في السموات وَالْأَرْضِ عَبْدٌ لَهُ، وَبِأَنَّهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَقَالَ فِي مَرْيَمَ: ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [مَرْيَمَ: 34، 35] وَقَالَ أَيْضًا فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مَرْيَمَ: 88- 93] فَإِنْ قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِكَوْنِهِ مَالِكًا لِمَا فِي السموات وَالْأَرْضِ، وَفِي سُورَةِ مَرْيَمَ بِكَوْنِهِ مَالِكًا لِمَنْ في السموات وَالْأَرْضِ عَلَى مَا قَالَ: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً قُلْنَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَتَمُّ، لِأَنَّ كَلِمَةَ «مَا» تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ [الروم: 26] فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقُنُوتُ: أَصْلُهُ الدَّوَامُ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الطَّاعَةِ، كَقَوْلِهِ تعالى: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ [آلِ عِمْرَانَ: 43] وَطُولِ الْقِيَامِ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سُئِلَ: أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «طُولُ الْقُنُوتِ» وَبِمَعْنَى السُّكُوتِ، كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [الْبَقَرَةِ: 238] فَأَمْسَكْنَا عَنِ الْكَلَامِ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى الدَّوَامِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أَيْ كُلُّ مَا فِي السموات وَالْأَرْضِ قَانِتُونَ مُطِيعُونَ، وَالتَّنْوِينُ فِي كُلٌّ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَقِيلَ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ: لَيْسُوا مُطِيعِينَ، فَعِنْدَ هَذَا قَالَ آخَرُونَ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُطِيعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ، فَقِيلَ لِهَؤُلَاءِ: هَذِهِ صِفَةُ الْمُكَلَّفِينَ، وَقَوْلُهُ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ يَتَنَاوَلُ مَنْ لَا يَكُونُ مُكَلَّفًا فَعِنْدَ هَذَا فَسَّرُوا الْقُنُوتَ بِوُجُوهٍ أُخَرَ. الْأَوَّلُ: بِكَوْنِهَا شَاهِدَةً عَلَى وُجُودِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ بِمَا فِيهَا مِنْ آثَارِ الصَّنْعَةِ وَأَمَارَاتِ الْحُدُوثِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ. الثَّانِي: كَوْنُ جَمِيعِهَا فِي مُلْكِهِ وَقَهْرِهِ يَتَصَرَّفُ

فِيهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْآيَةُ عَامَّةٌ. الثَّالِثُ: أَرَادَ به الملائكة وعزيزاً وَالْمَسِيحَ، أَيْ كُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَكَمُوا عَلَيْهِمْ بِالْوَلَدِ أَنَّهُمْ قَانِتُونَ لَهُ، يُحْكَى عَنْ علي بن أبي طالب قَالَ لِبَعْضِ النَّصَارَى: لَوْلَا تَمَرُّدُ عِيسَى عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ لَصِرْتُ عَلَى دِينِهِ، فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ ذَلِكَ إِلَى/ عِيسَى مَعَ جِدِّهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَإِنْ كَانَ عِيسَى إِلَهًا فَالْإِلَهُ كَيْفَ يَعْبُدُ غَيْرَهُ إِنَّمَا الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ الْعِبَادَةُ، فَانْقَطَعَ النَّصْرَانِيُّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا كَانَ الْقُنُوتُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةً عَنِ الدَّوَامِ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ دَوَامَ الْمُمْكِنَاتِ وَبَقَاءَهَا بِهِ سُبْحَانَهُ وَلِأَجْلِهِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْعَالَمَ حَالَ بَقَائِهِ وَاسْتِمْرَارِهِ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُمْكِنَ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَنْقَطِعَ حَاجَتُهُ عَنِ الْمُؤَثِّرِ لَا محال حُدُوثِهِ وَلَا حَالَ بَقَائِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُقَالُ كيف جاء بما الَّذِي لِغَيْرِ أُولِي الْعِلْمِ مَعَ قَوْلِهِ: قانِتُونَ جوابه: كأنه جاء بما دُونَ مَنْ تَحْقِيرًا لِشَأْنِهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْبَدِيعُ وَالْمُبْدِعُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَهُوَ مِثْلُ أَلِيمٍ بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ وَحَكِيمٍ بِمَعْنَى مُحْكِمٍ، غَيْرَ أَنَّ فِي بَدِيعٍ مُبَالَغَةً لِلْعُدُولِ فِيهِ وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الصِّفَةِ فِي غَيْرِ حَالِ الْفِعْلِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ مِنْ شَأْنِهِ الْإِبْدَاعَ فَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ: سَامِعٍ وَسَمِيعٍ وَقَدْ يَجِيءُ بَدِيعٌ بِمَعْنَى مُبْدِعٍ، وَالْإِبْدَاعُ الْإِنْشَاءُ وَنَقِيضُ الْإِبْدَاعِ الِاخْتِرَاعُ عَلَى مِثَالٍ وَلِهَذَا السَّبَبِ فإن الناس يسمعون مَنْ قَالَ أَوْ عَمِلَ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ مُبْتَدِعًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَبَيَّنَ بذلك كونه مالكاً لما في السموات والأرض [في قوله تعالى وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ثم بين بعده أنه المالك أيضاً للسموات وَالْأَرْضِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ كَيْفَ يُبْدِعُ الشَّيْءَ فَقَالَ: وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: الْقَضَاءُ مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ سُمِّيَ بِهِ وَلِهَذَا جُمِعَ عَلَى أَقْضِيَةٍ كَغِطَاءٍ وَأَغْطِيَةٍ، وَفِي مَعْنَاهُ الْقَضِيَّةُ، وَجَمْعُهَا الْقَضَايَا وَوَزْنُهُ فَعَالٌ مِنْ تَرْكِيبِ «ق ض ي» وَأَصْلُهُ «قَضَايٌ» إِلَّا أَنَّ الْيَاءَ لَمَّا وَقَعَتْ طَرَفًا بَعْدَ الْأَلِفِ الزَّائِدَةِ اعْتَلَّتْ فَقُلِبَتْ أَلْفًا، ثُمَّ لَمَّا لَاقَتْ هِيَ أَلِفَ فَعَالٍ قُلِبَتْ هَمْزَةً لِامْتِنَاعِ الْتِقَاءِ الْأَلِفَيْنِ لَفْظًا، وَمِنْ نَظَائِرِهِ الْمَضَاءُ وَالْأَتَاءُ، مِنْ مَضَيْتُ وَأَتَيْتُ وَالسِّقَاءُ، وَالشِّفَاءُ، مِنْ سَقَيْتُ وَشَفَيْتُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَصَالَةِ الْيَاءِ دُونَ الْهَمْزَةِ ثَبَاتُهَا فِي أَكْثَرِ تَصَرُّفَاتِ الْكَلِمَةِ تَقُولُ: قَضَيْتُ وَقَضَيْنَا، وَقَضَيْتَ إِلَى قَضَيْتُنَّ، وَقَضَيَا وَقَضَيْنَ، وَهُمَا يَقْضِيَانِ، وَهِيَ وَأَنْتَ تَقْضِي، وَالْمَرْأَتَانِ وَأَنْتُمَا تَقْضِيَانِ، وَهُنَّ يَقْضِينَ، وَأَمَّا أَنْتِ تَقْضِينَ، فَالْيَاءُ فِيهِ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبَةِ، وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَالْأَصْلُ الَّذِي يَدُلُّ تَرْكِيبُهُ عَلَيْهِ هُوَ مَعْنَى الْقَطْعِ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ، قَضَى الْقَاضِي لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا قَضَاءً إِذَا حَكَمَ، لِأَنَّهُ فَصْلٌ لِلدَّعْوَى، وَلِهَذَا قِيلَ: حَاكِمٌ فَيْصَلٌ إِذَا كَانَ قَاطِعًا لِلْخُصُومَاتِ وَحَكَى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْقَاضِي مَعْنَاهُ الْقَاطِعُ لِلْأُمُورِ الْمُحْكِمُ لَهَا، وَقَوْلُهُمْ انْقَضَى الشَّيْءُ إِذَا تَمَّ وَانْقَطَعَ، وَقَوْلُهُمْ: قَضَى حَاجَتَهُ، مَعْنَاهُ قَطَعَهَا عَنِ الْمُحْتَاجِ وَدَفَعَهَا عَنْهُ وَقَضَى دَيْنَهُ إِذَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ قَطَعَ التَّقَاضِيَ وَالِاقْتِضَاءَ عَنْ نَفْسِهِ أَوِ انْقَطَعَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، / وَقَوْلُهُمْ: قَضَى الْأَمْرَ، إِذَا أَتَمَّهُ وَأَحْكَمَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [فُصِّلَتْ: 12] وَهُوَ مِنْ هَذَا لِأَنَّ فِي إِتْمَامِ الْعَمَلِ قَطْعًا لَهُ وَفَرَاغًا مِنْهُ، وَمِنْهُ:

دِرْعٌ قَضَّاءُ مِنْ قَضَاهَا إِذَا أَحْكَمَهَا وَأَتَمَّ صُنْعَهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ قَضَى الْمَرِيضُ وَقَضَى نَحْبَهُ إِذَا مَاتَ، وَقَضَى عَلَيْهِ: قَتَلَهُ فَمَجَازٌ مِمَّا ذُكِرَ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، وَأَمَّا تَقَضِّي الْبَازِي فَلَيْسَ مِنْ هَذَا التَّرْكِيبِ، وَمِمَّا يُعَضِّدُ ذَلِكَ دَلَالَةُ مَا اسْتُعْمِلَ مِنْ تَقْلِيبِ تَرْتِيبِ هَذَا التَّرْكِيبِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْقَيْضُ وَالضِّيقُ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَيُقَالُ: قَاضَهُ فَانْقَاضَ، أَيْ شَقَّهُ فَانْشَقَّ، وَمِنْهُ قَيْضُ الْبَيْضِ لِمَا انْفَلَقَ مِنْ قِشْرِهِ الْأَعْلَى، وَانْقَاضَّ الْحَائِطُ إِذَا انْهَدَمَ مِنْ غَيْرِ هَدْمٍ، وَالْقَطْعُ وَالشَّقُّ وَالْفَلْقُ وَالْهَدْمُ مُتَقَارِبَةٌ، وَأَمَّا الضِّيقُ وَمَا يُشْتَقُّ مِنْهُ فَدَلَالَتُهُ عَلَى مَعْنَى الْقَطْعِ بَيِّنَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا قُطِعَ ضَاقَ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ مَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا التَّرْكِيبِ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى مَعْنَى الْقَطْعِ، فَأَوَّلُهَا: قَضَبَهُ إِذَا قَطَعَهُ، وَمِنْهُ الْقَضْبَةُ الْمُرَطَّبَةُ، لِأَنَّهَا تُقْضَبُ أَيْ تُقْطَعُ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، وَالْقَضِيبُ: الْغُصْنُ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَالْمِقْضَبُ مَا يُقْضَبُ بِهِ كَالْمِنْجَلِ. وَثَانِيهَا: الْقَضْمُ وَهُوَ الْأَكْلُ بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ، لِأَنَّ فِيهِ قَطْعًا لِلْمَأْكُولِ، وَسَيْفٌ قَضِيمٌ: فِي طَرَفِهِ تَكَسُّرٌ وَتَفَلُّلٌ. وَثَالِثُهَا: الْقَضَفُ وَهُوَ الدِّقَّةُ، يُقَالُ رَجُلٌ قَضِيفٌ، أَيْ: نَحِيفٌ، لِأَنَّ الْقِلَّةَ مِنْ مُسَبَّبَاتِ الْقَطْعِ. وَرَابِعُهَا: الْقُضْأَةُ فُعْلَةٌ وَهِيَ الْفَسَادُ، يُقَالُ قَضِئَتِ القربة إذا عفيت وَفَسَدَتْ وَفِي حَسَبِهِ قُضْأَةٌ أَيْ عَيْبٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْقَطْعِ أَوْ مُسَبَّبَاتِهِ فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي مَفْهُومِهِ الْأَصْلِيِّ بِحَسْبِ اللُّغَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَحَامِلِ لَفْظِ الْقَضَاءِ فِي الْقُرْآنِ قَالُوا: إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: بِمَعْنَى الْخَلْقِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ يَعْنِي خَلَقَهُنَّ. وَثَانِيهَا: بِمَعْنَى الْأَمْرِ قَالَ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاءِ: 23] . وَثَالِثُهَا: بِمَعْنَى الْحُكْمِ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِلْحَاكِمِ: الْقَاضِي. وَرَابِعُهَا: بِمَعْنَى الْإِخْبَارِ، قَالَ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ [الْإِسْرَاءِ: 4] أَيْ أَخْبَرْنَاهُمْ، وهذا يأتي مقروناً بإلى. وَخَامِسُهَا: أَنْ يَأْتِيَ بِمَعْنَى الْفَرَاغِ مِنَ الشَّيْءِ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الْأَحْقَافِ: 29] يَعْنِي لَمَّا فُرِغَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ تَعَالَى: وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هُودٍ: 44] يَعْنِي فُرِغَ مِنْ إِهْلَاكِ الْكُفَّارِ وَقَالَ: لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الْحَجِّ: 29] بِمَعْنَى لِيَفْرُغُوا مِنْهُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: إِذا قَضى أَمْراً [آلِ عِمْرَانَ: 47] قِيلَ: إِذَا خَلَقَ شَيْئًا، وَقِيلَ: حَكَمَ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ شَيْئًا، وَقِيلَ: أَحْكَمَ أَمْرًا، قَالَ الشَّاعِرُ: وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ أَوْ صَنَعَ السَّوَابِغَ تُبَّعُ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، وَهَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْفِعْلِ وَالشَّأْنِ الْحَقِّ؟ نعم وهو المراد بالأمر هاهنا، وَبَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 47] بِالنَّصْبِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي أَوَّلِ آلِ عِمْرَانَ: كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ [آلِ عِمْرَانَ: 59، 60] وَفِي الْأَنْعَامِ: كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ [الْأَنْعَامِ: 73] فَإِنَّهُ رَفَعَهُمَا، وَعَنِ الْكِسَائِيِّ بِالنَّصْبِ فِي النَّحْلِ وَيس وَبِالرَّفْعِ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، أَمَّا النَّصْبُ فَعَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَقِيلَ هُوَ بَعِيدٌ، وَالرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَيْ فَهُوَ يَكُونُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آلِ عِمْرَانَ: 47] هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَحِينَئِذٍ يَتَكَوَّنُ ذَلِكَ الشَّيْءُ فَإِنَّ ذَلِكَ فَاسِدٌ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: كُنْ فَيَكُونُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَوْ مُحْدَثًا وَالْقِسْمَانِ فَاسِدَانِ فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِتَوَقُّفِ حُدُوثِ الْأَشْيَاءِ عَلَى كُنْ إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا لِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ كُنْ لَفْظَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْكَافِ وَالنُّونِ بِشَرْطِ تَقَدُّمِ الْكَافِ عَلَى النُّونِ، فَالنُّونُ لِكَوْنِهِ مَسْبُوقًا بِالْكَافِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا، وَالْكَافُ لِكَوْنِهِ مُتَقَدِّمًا عَلَى

الْمُحْدَثِ بِزَمَانٍ وَاحِدٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا. الثَّانِي: أَنَّ كَلِمَةَ إِذا لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْبَالِ، فَذَلِكَ الْقَضَاءُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ إِذا وَقَوْلُهُ كُنْ مُرَتَّبٌ عَلَى الْقَضَاءِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ وَالْمُتَأَخِّرُ عَنِ الْمُحْدَثِ مُحْدَثٌ، فَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ: كُنْ قَدِيمًا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ تَكَوُّنَ الْمَخْلُوقِ عَلَى قَوْلِهِ: كُنْ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: كُنْ مُقَدَّمًا عَلَى تَكَوُّنِ الْمَخْلُوقِ بِزَمَانٍ وَاحِدٍ وَالْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْمُحْدَثِ بِزَمَانٍ وَاحِدٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا فَقَوْلُهُ: كُنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا، وَلَا جَائِزٌ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: كُنْ مُحْدَثًا لِأَنَّهُ لَوِ افْتَقَرَ كُلُّ مُحْدَثٍ إِلَى قَوْلِهِ: كُنْ وَقَوْلُهُ: كُنْ أَيْضًا مُحْدَثٌ فَيَلْزَمُ افْتِقَارُ: كُنْ آخَرَ وَيَلْزَمُ إِمَّا التَّسَلْسُلُ وَإِمَّا الدَّوْرُ وَهُمَا مُحَالَانِ، فَثَبَتَ بِهَذَا الدَّلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَوَقُّفُ إِحْدَاثِ الْحَوَادِثِ عَلَى قَوْلِهِ: كُنْ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِمَّا أَنْ يُخَاطِبَ الْمَخْلُوقَ بكن قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ أَوْ حَالَ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّ خِطَابَ الْمَعْدُومِ حَالَ عَدَمِهِ سَفَهٌ، وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمَوْجُودَ بِأَنْ يَصِيرَ مَوْجُودًا وَذَلِكَ أَيْضًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْمَخْلُوقَ قَدْ يَكُونُ جَمَادًا، وَتَكْلِيفُ الْجَمَادِ عَبَثٌ وَلَا يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْقَادِرَ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ مِنْهُ الْفِعْلُ وَتَرْكُهُ بِحَسْبِ الْإِرَادَاتِ، فَإِذَا فَرَضْنَا الْقَادِرَ الْمُرِيدَ مُنْفَكًّا عَنْ قَوْلِهِ: كُنْ فَإِمَّا أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْإِيجَادِ وَالْإِحْدَاثِ أَوْ لَا يَتَمَكَّنَ، فَإِنْ تَمَكَّنَ لَمْ يَكُنِ الْإِيجَادُ مَوْقُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: كُنْ وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْقَادِرُ قَادِرًا عَلَى الفعل إلا عند تكلمه بكن فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْأَمْرِ إِلَى أَنَّكُمْ سَمِعْتُمُ الْقُدْرَةَ بكن وَذَلِكَ نِزَاعٌ فِي اللَّفْظِ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ كُنْ لَوْ كَانَ لَهُ أَثَرٌ فِي التَّكْوِينِ لَكُنَّا إِذَا تَكَلَّمْنَا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا ذَلِكَ التَّأْثِيرُ، وَلَمَّا عَلِمْنَا بِالضَّرُورَةِ فَسَادَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ كُنْ كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْكَافِ وَالنُّونِ، بِشَرْطِ كَوْنِ الْكَافِ مُتَقَدِّمًا عَلَى النُّونِ، فَالْمُؤَثِّرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ أَحَدَ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ أَوْ مَجْمُوعَهُمَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ لِكَلِمَةِ كُنْ أَثَرٌ أَلْبَتَّةَ، بَلِ التَّأْثِيرُ لِأَحَدِ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ لَا وُجُودَ لِهَذَا الْمَجْمُوعِ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّهُ حِينَ حَصَلَ الْحَرْفُ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنِ الثَّانِي حَاصِلًا، وَحِينَ جَاءَ الثَّانِي فَقَدْ فَاتَ الْأَوَّلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَجْمُوعِ وُجُودُ أَلْبَتَّةَ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ لِلْمَجْمُوعِ أَثَرٌ أَلْبَتَّةَ. الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آلِ عِمْرَانَ: 59] بَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: كُنْ مُتَأَخِّرٌ عَنْ خلقه إذا الْمُتَأَخِّرُ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِقَوْلِهِ: كُنْ فِي وُجُودِ الشَّيْءِ فَظَهَرَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ فَسَادُ هَذَا الْمَذْهَبِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَقْوَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ سُرْعَةُ نَفَاذِ قُدْرَةِ اللَّهِ فِي تَكْوِينِ الْأَشْيَاءِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْأَشْيَاءَ لَا بِفِكْرَةٍ وَمُعَانَاةٍ وَتَجْرِبَةٍ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى عِنْدَ وَصْفِ خلق السموات وَالْأَرْضِ: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فُصِّلَتْ: 11] مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ كَانَ مِنْهُمَا لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ سُرْعَةِ نَفَاذِ قَدْرَتِهِ فِي

[سورة البقرة (2) : آية 118]

تَكْوِينِهِمَا مِنْ غَيْرِ مُمَانَعَةٍ وَمُدَافَعَةٍ وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: قَالَ الْجِدَارُ لِلْوَتِدِ لِمَ تَشُقُّنِي؟ قَالَ: سَلْ مَنْ يَدُقُّنِي فَإِنَّ الَّذِي وَرَائِي مَا خَلَّانِي وَرَائِي وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الْإِسْرَاءِ: 44] . الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَامَةٌ يَفْعَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ إِذَا سَمِعُوهَا عَلِمُوا أَنَّهُ أَحْدَثَ أَمْرًا يُحْكَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي الْهُذَيْلِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْمَوْجُودِينَ الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [الْبَقَرَةِ: 65] وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ أَمْرٌ لِلْأَحْيَاءِ بِالْمَوْتِ وَلِلْمَوْتَى بِالْحَيَاةِ وَالْكُلُّ ضَعِيفٌ وَالْقَوِيُّ هُوَ الْأَوَّلُ. [سورة البقرة (2) : آية 118] وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ قَبَائِحِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى والمشركين، ففيه مسائل: المسألة الأولى: [ما حكي عن اليهود والنصارى والمشركين في قدح النبوة] أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ مَا يَقْدَحُ فِي التَّوْحِيدِ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى اتَّخَذَ الْوَلَدَ، حَكَى الْآنَ عَنْهُمْ مَا يَقْدَحُ فِي النُّبُوَّةِ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ هَؤُلَاءِ هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاءِ: 90] وَقَالُوا: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء: 5] ، وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الفرقان: 21] هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، إِلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ سَأَلُوا ذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ [النِّسَاءِ: 153] فَإِنْ قِيلَ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ أَهْلُ الْعِلْمِ، قُلْنَا: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ التَّوْحِيدَ وَالنُّبُوَّةَ كَمَا يَنْبَغِي، وَأَهْلُ الْكِتَابِ كَانُوا كَذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَقْرِيرُ هذه الشُّبْهَةِ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا أَنَّ الْحَكِيمَ إِذَا أَرَادَ تَحْصِيلَ شَيْءٍ فَلَا بُدَّ/ وَأَنَّ يَخْتَارَ أَقْرَبَ الطُّرُقِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهِ وَأَبْعَدَهَا عَنِ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُكَلِّمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَ مُوسَى وَأَنْتَ تَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهُ كَلَّمَكَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى [النَّجْمِ: 10] فَلِمَ لَا يُكَلِّمُنَا مُشَافَهَةً وَلَا يَنُصُّ عَلَى نُبُوَّتِكَ حَتَّى يَتَأَكَّدَ الِاعْتِقَادُ وَتَزُولَ الشُّبْهَةُ وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَخُصُّكَ بِآيَةٍ وَمُعْجِزَةٍ وَهَذَا مِنْهُمْ طَعْنٌ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ آيَةً وَمُعْجِزَةً، لِأَنَّهُمْ لَوْ أَقَرُّوا بِكَوْنِهِ مُعْجِزَةً لَاسْتَحَالَ أَنْ يَقُولُوا: هَلَّا يَأْتِينَا بِآيَةٍ ثُمَّ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، وَحَاصِلُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّا قَدْ أَيَّدْنَا قَوْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَبَيَّنَّا صِحَّةَ قَوْلِهِ بِالْآيَاتِ وَهِيَ الْقُرْآنُ وَسَائِرُ الْمُعْجِزَاتِ، فَكَانَ طَلَبُ هَذِهِ الزَّوَائِدِ مِنْ بَابِ التَّعَنُّتِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجِبْ إِجَابَتُهَا لِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا حَصَلَتِ الدَّلَالَةُ الْوَاحِدَةُ فَقَدْ تَمَكَّنَ الْمُكَلَّفُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، فَلَوْ كَانَ غَرَضُهُ طَلَبَ الْحَقِّ لَاكْتَفَى بِتِلْكَ الدَّلَالَةِ، فَحَيْثُ لَمْ يَكْتَفِ بِهَا وَطَلَبَ الزَّائِدَ عَلَيْهَا عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ لِلطَّلَبِ مِنْ بَابِ الْعِنَادِ وَاللَّجَاجِ، فَلَمْ تَكُنْ إِجَابَتُهَا وَاجِبَةً وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: 50، 51] فَبَكَّتَهُمْ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الدَّلَالَةِ الشَّافِيَةِ. وَثَانِيهَا: لَوْ كَانَ فِي مَعْلُومِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ عِنْدَ إِنْزَالِ هَذِهِ الْآيَةِ لَفَعَلَهَا، وَلَكِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ أَعْطَاهُمْ مَا سَأَلُوهُ لَمَا ازْدَادُوا إِلَّا لَجَاجًا فَلَا جَرَمَ لم

[سورة البقرة (2) : آية 119]

يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الْأَنْفَالِ: 23] . وَثَالِثُهَا: إِنَّمَا حَصَلَ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَرُبَّمَا أَوْجَبَ حُصُولُهَا هَلَاكَهُمْ وَاسْتِئْصَالَهُمْ إِنِ اسْتَمَرُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى التَّكْذِيبِ وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهَا مُنْتَهِيًا إِلَى حَدِّ الْإِلْجَاءِ الْمُخِلِّ بِالتَّكْلِيفِ، وَرُبَّمَا كَانَتْ كَثْرَتُهَا وَتَعَاقُبُهَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهَا مُعْجِزَةً، لِأَنَّ الْخَوَارِقَ مَتَى تَوَالَتْ صَارَ انْخِرَاقُ الْعَادَةِ عَادَةً، فَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُعْجِزًا وَكُلُّ ذَلِكَ أُمُورٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فَثَبَتَ أَنَّ عَدَمَ إِسْعَافِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ لَا يَقْدَحُ فِي النُّبُوَّةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ فَالْمُرَادُ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ تَتَشَابَهُ أَقْوَالُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ، فَكَمَا أَنَّ قَوْمَ مُوسَى كَانُوا أَبَدًا فِي التَّعَنُّتِ وَاقْتِرَاحِ الْأَبَاطِيلِ، كَقَوْلِهِمْ: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [الْبَقَرَةِ: 61] وَقَوْلِهِمْ: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الْأَعْرَافِ: 138] وقولهم: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً [الْبَقَرَةِ: 67] وَقَوْلِهِمْ: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النِّسَاءِ: 153] فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَكُونُونَ أَبَدًا فِي الْعِنَادِ وَاللَّجَاجِ وَطَلَبِ الْبَاطِلِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ فَالْمُرَادُ أَنَّ الْقُرْآنَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ كَمَجِيءِ الشَّجَرَةِ وَكَلَامِ الذِّئْبِ، وَإِشْبَاعِ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ مِنَ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ، آيَاتٌ قَاهِرَةٌ، وَمُعْجِزَاتٌ بَاهِرَةٌ لِمَنْ كَانَ طَالِبًا لليقين. [سورة البقرة (2) : آية 119] إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) اعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا أَصَرُّوا عَلَى الْعِنَادِ وَاللَّجَاجِ الْبَاطِلِ وَاقْتَرَحُوا الْمُعْجِزَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا مَزِيدَ عَلَى مَا فَعَلَهُ فِي مَصَالِحِ دِينِهِمْ مِنْ إِظْهَارِ الْأَدِلَّةِ وَكَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا مَزِيدَ عَلَى مَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ فِي بَابِ الْإِبْلَاغِ وَالتَّنْبِيهِ لِكَيْ لَا يَكْثُرَ غَمُّهُ بِسَبَبِ إِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَفِي قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِرْسَالِ، أَيْ أَرْسَلْنَاكَ إِرْسَالًا بِالْحَقِّ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْبَشِيرِ وَالنَّذِيرِ أَيْ أَنْتَ مُبَشِّرٌ بِالْحَقِّ وَمُنْذِرٌ بِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحَقِّ الدِّينَ وَالْقُرْآنَ، أَيْ أَرْسَلْنَاكَ بِالْقُرْآنِ حَالَ كَوْنِهِ بَشِيرًا لِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ بِالثَّوَابِ وَنَذِيرًا لِمَنْ كَفَرَ بِالْعِقَابِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْبَشِيرُ وَالنَّذِيرُ صِفَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ بِالْحَقِّ لِتَكُونَ مُبَشِّرًا لِمَنِ اتَّبَعَكَ وَاهْتَدَى بِدِينِكَ وَمُنْذِرًا لِمَنْ كَفَرَ بِكَ وَضَلَّ عَنْ دِينِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ فَفِيهِ قِرَاءَتَانِ: الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ التَّاءِ وَاللَّامِ عَلَى الْخَبَرِ، وَأَمَّا نَافِعٌ فَبِالْجَزْمِ وَفَتْحِ التَّاءِ عَلَى النَّهْيِ. أَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى فَفِي التَّأْوِيلِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ مَصِيرَهُمْ إلى الجحيم فمعصيتهم لا تضرك ولست بمسؤول عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرَّعْدِ: 40] ، وَقَوْلِهِ: عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ [النُّورِ: 54] . وَالثَّانِي: أَنَّكَ هَادٍ وَلَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، فَلَا تَأْسَفْ وَلَا تَغْتَمَّ لِكُفْرِهِمْ وَمَصِيرِهِمْ إِلَى الْعَذَابِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فَاطِرٍ: 8] . الثَّالِثُ: لَا تَنْظُرْ إِلَى الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي فِي الْوَقْتِ، فَإِنَّ الْحَالَ قَدْ يَتَغَيَّرُ فَهُوَ غَيْبٌ فَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ، وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِ غَيْرِهِ وَلَا يُؤَاخَذُ بِمَا اجْتَرَمَهُ سِوَاهُ سَوَاءٌ كَانَ قَرِيبًا أَوْ كَانَ بَعِيدًا. أَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ فَفِيهَا وَجْهَانِ، الْأَوَّلُ: رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ؟ فَنُهِيَ عَنِ السُّؤَالِ عن

[سورة البقرة (2) : آية 120]

الْكَفَرَةِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ بَعِيدَةٌ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ عَالِمًا بِكُفْرِهِمْ «1» ، وَكَانَ عَالِمًا بِأَنَّ الْكَافِرَ مُعَذَّبٌ، فَمَعَ هَذَا الْعِلْمِ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ: لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ. وَالثَّانِي: مَعْنَى هَذَا النَّهْيِ تَعْظِيمُ مَا وَقَعَ فِيهِ الْكُفَّارُ مِنَ الْعَذَابِ، كَمَا إِذَا سَأَلْتَ عَنْ إِنْسَانٍ وَاقِعٍ فِي بَلِيَّةٍ فَيُقَالُ لَكَ: لا تسأل عنه، ووجه التعظيم أن المسؤول يَجْزَعُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ مَا هُوَ فِيهِ لِفَظَاعَتِهِ فَلَا تَسْأَلْهُ وَلَا تُكَلِّفْهُ مَا يضجره، أو أنت يا مُسْتَخْبِرٌ لَا تَقْدِرُ عَلَى اسْتِمَاعِ خَبَرِهِ لِإِيحَاشِهِ السَّامِعَ وَإِضْجَارِهِ، فَلَا تَسْأَلْ، وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى يُعَضِّدُهَا قِرَاءَةُ أُبَيٍّ: وَمَا تُسْأَلُ وَقِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ ولن تسأل. [سورة البقرة (2) : آية 120] وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا صَبَّرَ رَسُولَهُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَةِ وَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ قَدِ انْزَاحَتْ مِنْ قِبَلِهِ لَا مِنْ قِبَلِهِمْ وَأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي الثَّبَاتِ عَلَى التَّكْذِيبِ بِهِ عَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقَوْمَ بَلَغَ حَالُهُمْ فِي تَشَدُّدِهِمْ فِي بَاطِلِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ وَلَا يَرْضَوْنَ مِنْهُ بِالْكِتَابِ، بَلْ يُرِيدُونَ مِنْهُ الْمُوَافَقَةَ لَهُمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ فَبَيَّنَ بِذَلِكَ شِدَّةَ عَدَاوَتِهِمْ لِلرَّسُولِ وَشَرَحَ مَا يُوجِبُ الْيَأْسَ مِنْ مُوَافَقَتِهِمْ وَالْمِلَّةُ هِيَ الدِّينُ ثُمَّ قَالَ: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى بِمَعْنَى أَنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الَّذِي يَهْدِي إِلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْهُدَى الْحَقُّ وَالَّذِي يَصْلُحُ أَنْ يُسَمَّى هُدًى وَهُوَ الْهُدَى كُلُّهُ لَيْسَ وَرَاءَهُ هُدًى، وَمَا يَدْعُونَ إِلَى اتِّبَاعِهِ مَا هُوَ بِهُدًى إِنَّمَا هُوَ هَوًى، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ أَيْ أَقْوَالَهُمُ الَّتِي هِيَ أَهْوَاءٌ وَبِدَعٌ، بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أَيْ مِنَ الدِّينِ الْمَعْلُومِ صِحَّتُهُ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ. مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أَيْ مُعِينٍ يَعْصِمُكَ وَيَذُبُّ عَنْكَ، بَلِ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِذَا أَقَمْتَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ قَالُوا: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ مِنْهَا أَنَّ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ الشَّيْءَ يَجُوزُ مِنْهُ أَنْ يَتَوَعَّدَهُ عَلَى فِعْلِهِ، فَإِنَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَتَّبِعُ أَهْوَاءَهُمْ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ تَوَعَّدَهُ عَلَيْهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: 65] وَإِنَّمَا حَسُنَ هَذَا الْوَعِيدُ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الصَّارِفَ لَهُ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ هُوَ هَذَا الْوَعِيدُ أَوْ هَذَا الْوَعِيدُ أَحَدُ صَوَارِفِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوَعِيدُ إِلَّا بَعْدَ نَصْبِ الْأَدِلَّةِ وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فَبِأَنْ لَا يَجُوزَ الْوَعِيدُ إِلَّا بَعْدَ الْقُدْرَةِ أَوْلَى فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَنْ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ. وَثَالِثُهَا: فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى لَا يَكُونُ إِلَّا بَاطِلًا، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ. وَرَابِعُهَا: فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا شَفِيعَ لِمُسْتَحِقِّ الْعِقَابِ لِأَنَّ غَيْرَ الرَّسُولِ إِذَا اتَّبَعَ هَوَاهُ لَوْ كَانَ يَجِدُ شَفِيعًا وَنَصِيرًا لَكَانَ الرَّسُولُ أَحَقَّ بِذَلِكَ وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ اتِّبَاعَ أَهْوَائِهِمْ كفر، وعندنا لا شفاعة في الكفر. [سورة البقرة (2) : آية 121] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) / المسألة الأولى: الَّذِينَ موضعه رفع بالابتداء. وأُولئِكَ ابتداء ثان ويُؤْمِنُونَ بِهِ خبره.

_ (1) قوله: «كان عالماً بكفرهم إلخ» هذا كلام تقشعر منه جلود المؤمنين، ويرفضه من كان في عداد المسلمين، وهو خطأ صريح، والصواب أن أصحاب الجحيم هم اليهود والنصارى المذكورون في الآيات السابقة، وهذا هو الموافق لنظم الكتاب الكريم، وهو ما رجحه الإمام أبو حيان في تفسيره، وتوجد مؤلفات عدة لكثير من علماء المتقدمين والمتأخرين في نجاة الأبوين.

[سورة البقرة (2) : الآيات 122 إلى 124]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مَنْ هُمْ فِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آتَاهُمُ اللَّهُ الْقُرْآنَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ حَثٌّ وَتَرْغِيبٌ فِي تِلَاوَةِ هَذَا الْكِتَابِ، وَمَدْحٌ عَلَى تِلْكَ التِّلَاوَةِ، وَالْكِتَابُ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ هُوَ الْقُرْآنُ لَا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، فَإِنَّ قِرَاءَتَهُمَا غَيْرُ جَائِزَةٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ مقصود عَلَيْهِمْ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَالْكِتَابُ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ هَذَا الْوَصْفُ هُوَ الْقُرْآنُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ آتَاهُمُ الْكِتَابَ، هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالرَّسُولِ مِنَ الْيَهُودِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَمَّا ذَمَّ طَرِيقَتَهُمْ وَحَكَى عَنْهُمْ سُوءَ أَفْعَالِهِمْ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَدْحِ مَنْ تَرَكَ طَرِيقَتَهُمْ، بَلْ تَأَمَّلَ التَّوْرَاةَ وَتَرَكَ تَحْرِيفَهَا وَعَرَفَ مِنْهَا صِحَّةَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ فَالتِّلَاوَةُ لَهَا مَعْنَيَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقِرَاءَةُ. الثَّانِي: الِاتِّبَاعُ فِعْلًا، لِأَنَّ مَنِ اتَّبَعَ غَيْرَهُ يُقَالُ تَلَاهُ فِعْلًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها [الشَّمْسِ: 2] فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَيَصِحُّ فِيهِمَا جَمِيعًا الْمُبَالَغَةُ لِأَنَّ التَّابِعَ لِغَيْرِهِ قَدْ يَسْتَوْفِي حَقَّ الِاتِّبَاعِ فَلَا يُخِلُّ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ التَّالِي يَسْتَوْفِي حَقَّ قِرَاءَتِهِ فَلَا يُخِلُّ بِمَا يَلْزَمُ فِيهِ، وَالَّذِينَ تَأَوَّلُوهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ هُمُ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ. فَأَوَّلُهَا: أَنَّهُمْ تَدَبَّرُوهُ فَعَمِلُوا بِمُوجِبِهِ حَتَّى تَمَسَّكُوا بِأَحْكَامِهِ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَغَيْرِهِمَا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ خَضَعُوا عند تلاوته، وخشعوا إذا قرءوا الْقُرْآنَ فِي صَلَاتِهِمْ وَخَلَوَاتِهِمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِمُحْكَمِهِ وَآمَنُوا بِمُتَشَابِهِهِ، وَتَوَقَّفُوا فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ منه وفوضوه إلى الله سبحانه. ورابعها: يقرءونه كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَلَا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلَا يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ. وَخَامِسُهَا: أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى كُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ لِأَنَّهَا مُشْتَرِكَةٌ فِي مَفْهُومٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ تَعْظِيمُهَا، وَالِانْقِيَادُ لَهَا لَفْظًا وَمَعْنًى، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ تَكْثِيرًا لِفَوَائِدِ كَلَامِ الله تعالى والله أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 122 الى 124] يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا اسْتَقْصَى فِي شَرْحِ وُجُوهِ نِعَمِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ فِي شَرْحِ قَبَائِحِهِمْ فِي أَدْيَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَخَتَمَ هَذَا الْفَصْلَ بما بدأ به وهو قوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ شرع سبحانه هاهنا فِي نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْبَيَانِ وَهُوَ أَنْ ذَكَرَ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَيْفِيَّةَ أَحْوَالِهِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَخْصٌ يعترف بفضله جميع الطوائف والملل، فالمشركين كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِفَضْلِهِ مُتَشَرِّفِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِهِ ومن ساكني حرمه وخادمي بيته. [أما قوله تعالى وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ إلى قوله لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] وَأَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَانُوا أَيْضًا

مُقِرِّينَ بِفَضْلِهِ مُتَشَرِّفِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِهِ، فَحَكَى الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام أُمُورًا تُوجِبُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَعَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قبول قوله مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاعْتِرَافَ بِدِينِهِ وَالِانْقِيَادَ لِشَرْعِهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِبَعْضِ التَّكَالِيفِ فَلَمَّا وَفَّى بِهَا وَخَرَجَ عَنْ عُهْدَتِهَا لَا جَرَمَ نَالَ النُّبُوَّةَ وَالْإِمَامَةَ وَهَذَا مِمَّا يُنَبِّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنَّ الْخَيْرَ لَا يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا بِتَرْكِ التَّمَرُّدِ وَالْعِنَادِ وَالِانْقِيَادِ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكَالِيفِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ طَلَبَ الْإِمَامَةَ لِأَوْلَادِهِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْصِبَ الْإِمَامَةِ وَالرِّيَاسَةِ فِي الدِّينِ لَا يَصِلُ إِلَى الظَّالِمِينَ، فَهَؤُلَاءِ مَتَى أَرَادُوا وِجْدَانَ هَذَا الْمَنْصِبِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ تَرْكُ اللَّجَاجِ وَالتَّعَصُّبِ لِلْبَاطِلِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْحَجَّ مِنْ خَصَائِصِ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ لِيَكُونَ ذَلِكَ كَالْحُجَّةِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي وُجُوبِ الِانْقِيَادِ لِذَلِكَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْقِبْلَةَ لَمَّا حُوِّلَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي يَعْتَرِفُونَ بِتَعْظِيمِهِ وَوُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ زَوَالَ ذَلِكَ الْغَضَبِ عَنْ قُلُوبِهِمْ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ابْتَلَى اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ بِهَا بِأُمُورٍ يَرْجِعُ حَاصِلُهَا إِلَى تَنْظِيفِ الْبَدَنِ وَذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ اخْتِيَارَ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِفَضْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيُوجِبُ عَلَيْهِمْ تَرْكَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّلَطُّخِ بِالدِّمَاءِ وَتَرْكِ النَّظَافَةِ وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ بِمَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَبَرَ عَلَى مَا ابْتُلِيَ بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى/ وَهُوَ النَّظَرُ فِي الْكَوَاكِبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ وَمُنَاظَرَةُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، ثُمَّ الِانْقِيَادُ لِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَبْحِ الْوَلَدِ وَالْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ، وَهَذَا يُوجِبُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْتَرِفُونَ بِفَضْلِهِ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِهِ فِي ذَلِكَ وَيَسْلُكُوا طَرِيقَتَهُ فِي تَرْكِ الْحَسَدِ وَالْحَمِيَّةِ وَكَرَاهَةِ الِانْقِيَادِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الَّتِي لِأَجْلِهَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُمُورًا يَرْجِعُ بَعْضُهَا إِلَى الْأُمُورِ الشَّاقَّةِ الَّتِي كَلَّفَهُ بِهَا، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى التَّشْرِيفَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا، وَنَحْنُ نَأْتِي عَلَى تَفْسِيرِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى تَكْلِيفٍ حَصَلَ بَعْدَهُ تَشْرِيفٌ. أَمَّا التَّكْلِيفُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: [الْعَامِلُ فِي إِذِ] قال صاحب الكشاف: العامل في إِذِ إِمَّا مُضْمَرٌ نَحْوُ: وَاذْكُرْ إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ أَوْ إِذِ ابْتَلَاهُ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ وَإِمَّا قالَ إِنِّي جاعِلُكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ تَكْلِيفَهُ إِيَّاهُ بِبَلْوَى تَوَسُّعًا لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يَكُونُ مِنَّا عَلَى جِهَةِ الْبَلْوَى وَالتَّجْرِبَةِ وَالْمِحْنَةِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْرِفُ مَا يَكُونُ مِمَّنْ يَأْمُرُهُ، فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ فِي الْعُرْفِ بَيْنَنَا جَازَ أَنْ يَصِفَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ بِذَلِكَ مَجَازًا لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الِاخْتِبَارُ وَالِامْتِحَانُ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ، وَقَالَ هِشَامُ بن الحكم: إنه تعالى كَانَ فِي الْأَزَلِ عَالِمًا بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَمَاهِيَّاتِهَا فَقَطْ، فَأَمَّا حُدُوثُ تِلْكَ الْمَاهِيَّاتِ وَدُخُولُهَا فِي الْوُجُودِ فَهُوَ تَعَالَى لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا عِنْدَ وُقُوعِهَا وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالْآيَةِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ هَذِهِ الْآيَةُ، قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّهُ يَبْتَلِي عِبَادَهُ وَيَخْتَبِرُهُمْ وَذَكَرَ نَظِيرَهُ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [مُحَمَّدٍ: 31] وَقَالَ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هُودٍ: 7] وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ

وَالْجُوعِ [الْبَقَرَةِ: 155] وَذَكَرَ أَيْضًا مَا يُؤَكِّدُ هَذَا الْمَذْهَبَ نَحْوَ قَوْلِهِ: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] وَكَلِمَةُ «لَعَلَّ» للترجي وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَةِ: 21] فَهَذِهِ الْآيَاتُ وَنَظَائِرُهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَعْلَمُ وُقُوعَ الْكَائِنَاتِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، أَمَّا الْعَقْلُ فَدَلَّ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ عَالِمًا بِوُقُوعِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهَا لَزِمَ نَفْيُ الْقُدْرَةِ عَنِ الْخَالِقِ وَعَنِ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ: أَنَّ مَا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى وُقُوعَهُ اسْتَحَالَ أَنْ لَا يَقَعَ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِوُقُوعِ الشَّيْءِ وَبِلَا وُقُوعِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مُتَضَادَّانِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ مُحَالٌ، وَكَذَلِكَ مَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ كَانَ وُقُوعُهُ مُحَالًا لِعَيْنِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ، فَلَوْ كَانَ الْبَارِي تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الْجُزْئِيَّةِ قَبْلَ وُقُوعِهَا لَكَانَ بَعْضُهَا وَاجِبَ الْوُقُوعِ وَبَعْضُهَا مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، وَلَا قُدْرَةَ الْبَتَّةَ لَا عَلَى الْوَاجِبِ وَلَا عَلَى الْمُمْتَنِعِ فَيَلْزَمُ نَفْيُ الْقُدْرَةِ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَنِ الْخَالِقِ تَعَالَى وَعَنِ الْخَلْقِ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ أَمَّا فِي حَقِّ الْخَالِقِ فَلِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْعَالَمَ مُحْدَثٌ وَلَهُ مُؤَثِّرٌ وَذَلِكَ الْمُؤَثِّرُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا إِذْ لَوْ كَانَ مُوجِبًا لِذَاتِهِ لَزِمَ مِنْ قِدَمِهِ قِدَمُ الْعَالَمِ أَوْ مِنْ حُدُوثِ الْعَالَمِ حُدُوثُهُ، وَأَمَّا/ فِي حَقِّ الْخَلْقِ فَلِأَنَّا نَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا وِجْدَانًا ضَرُورِيًّا كَوْنَنَا مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّا إِنْ شِئْنَا الْفِعْلَ قَدَرْنَا عَلَيْهِ، وَإِنْ شِئْنَا التَّرْكَ قَدَرْنَا عَلَى التَّرْكِ، فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا وَاجِبًا وَالْآخَرُ مُمْتَنِعًا لَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْمُكْنَةُ الَّتِي يُعْرَفُ ثُبُوتُهَا بِالضَّرُورَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ تَعَلُّقَ الْعِلْمِ بِأَحَدِ الْمَعْلُومَيْنِ مُغَايِرٌ لِتَعَلُّقِهِ بِالْمَعْلُومِ الْآخَرِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَصِلُ مِنَّا تعقل أحد التعلقين مع الذهول عن التعليق الْآخَرِ، وَلَوْ كَانَ التَّعَلُّقَانِ تَعَلُّقًا وَاحِدًا لَاسْتَحَالَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا مَذْهُولًا عَنْهُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَوْ كَانَ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ، لَكَانَ لَهُ تَعَالَى عُلُومٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، أَوْ كَانَ لِعِلْمِهِ تَعَلُّقَاتٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَلْزَمُ حُصُولُ مَوْجُودَاتٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّ مَجْمُوعَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ أَزْيَدُ مِنْ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ بِعَيْنِهِ عِنْدَ نُقْصَانِ عَشَرَةٍ مِنْهُ، فَالنَّاقِصُ مُتَنَاهٍ، وَالزَّائِدُ زَادَ عَلَى الْمُتَنَاهِي بِتِلْكَ الْعَشَرَةِ، وَالْمُتَنَاهِي إِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ غَيْرُ الْمُتَنَاهِي كَانَ الْكُلُّ مُتَنَاهِيًا، فَإِذًا وُجُودُ أُمُورٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ مُحَالٌ، فَإِنْ قِيلَ: الْمَوْجُودُ هُوَ الْعِلْمُ، فَأَمَّا تِلْكَ التَّعَلُّقَاتُ فَهِيَ أُمُورٌ نِسْبِيَّةٌ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْأَعْيَانِ، قُلْنَا: الْعِلْمُ إِنَّمَا يَكُونُ عِلْمًا لَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَعْلُومِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ حَاصِلًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ الْعِلْمُ عِلْمًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا، هَلْ يَعْلَمُ اللَّهُ عَدَدَهَا أَوْ لَا يَعْلَمُ، فَإِنْ عَلِمَ عَدَدَهَا فَهِيَ مُتَنَاهِيَةٌ، لِأَنَّ كُلَّ مَا لَهُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ فَهُوَ مُتَنَاهٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ اللَّهُ تَعَالَى عَدَدَهَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَكَلَامُنَا لَيْسَ إِلَّا فِي الْعِلْمِ التَّفْصِيلِيِّ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ كُلَّ مَعْلُومٍ فَهُوَ مُتَمَيِّزٌ فِي الذِّهْنِ عَمَّا عَدَاهُ، وَكُلُّ مُتَمَيِّزٍ عَمَّا عَدَاهُ فَإِنَّ مَا عَدَاهُ خَارِجٌ عَنْهُ، وَكُلُّ مَا خَرَجَ عَنْهُ فَهُوَ مُتَنَاهٍ، فَإِذَنْ كُلُّ مَعْلُومٍ فَهُوَ مُتَنَاهٍ، فَإِذَنْ كُلُّ مَا هُوَ غَيْرُ مُتَنَاهٍ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعْلُومًا لَوْ كَانَ لِلْعِلْمِ تَعَلُّقٌ بِهِ وَنِسْبَةٌ إِلَيْهِ وَانْتِسَابُ الشَّيْءِ إِلَى الشَّيْءِ يُعْتَبَرُ تَحَقُّقُهُ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ تَعَيُّنٌ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ نِسْبَةٌ، وَالشَّيْءُ الْمُشَخَّصُ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ لَمْ يَكُنْ مُشَخَّصًا الْبَتَّةَ، فَاسْتَحَالَ كَوْنُهُ مُتَعَلِّقَ الْعِلْمِ، فَإِنْ قِيلَ: يَبْطُلُ هَذَا بِالْمُحَالَاتِ وَالْمُرَكَّبَاتِ قَبْلَ دُخُولِهَا فِي الْوُجُودِ فَإِنَّا نَعْلَمُهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَعَيُّنَاتٌ الْبَتَّةَ، قُلْنَا: هَذَا الَّذِي أَوْرَدْتُمُوهُ نَقْضٌ عَلَى كَلَامِنَا، وَلَيْسَ جَوَابًا عَنْ كَلَامِنَا، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُزِيلُ الشَّكَّ، وَالشُّبْهَةَ، قَالَ هِشَامٌ: فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْعَقْلِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى صَرْفِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَنْ ظَوَاهِرِهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ هِشَامًا كَانَ رَئِيسَ الرَّافِضَةِ، فلذلك ذهب قدماء الروافض إلى القول بالنداء، أَمَّا الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى

يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهَا بِأَنَّهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا تَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً لِلَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهَا تَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً لِأَنَّا نَعْلَمُهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الشَّمْسَ غَدًا تَطْلُعُ مِنْ مَشْرِقِهَا، وَالْوُقُوعُ يَدُلُّ عَلَى الْإِمْكَانِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَمَّا صَحَّ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً وَجَبَ أَنْ تَكُونَ معلومة لله تعالى، لأن تعلق اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَعْلُومِ أَمْرٌ ثَبَتَ لَهُ لِذَاتِهِ، فَلَيْسَ تَعَلُّقُهُ بِبَعْضِ مَا يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ أَوْلَى مِنْ تَعَلُّقِهِ بِغَيْرِهِ، فَلَوْ حَصَلَ التَّخْصِيصُ لَافْتَقَرَ إِلَى مُخَصِّصٍ، وَذَلِكَ/ مُحَالٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ أَصْلًا وَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْبَعْضِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّهَا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ أَمَّا الشُّبْهَةُ الْأُولَى: فَالْجَوَابُ عَنْهَا أَنَّ الْعِلْمَ بِالْوُقُوعِ تَبَعٌ لِلْوُقُوعِ، وَالْوُقُوعُ تَبَعٌ لِلْقُدْرَةِ، فَالتَّابِعُ لَا يُنَافِي الْمَتْبُوعَ، فَالْعِلْمُ لَازِمٌ لَا يُغْنِي عَنِ الْقُدْرَةِ. وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: فَالْجَوَابُ عَنْهَا: أَنَّهَا مَنْقُوضَةٌ بِمَرَاتِبِ الْأَعْدَادِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا. وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: فَالْجَوَابُ عَنْهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ عَدَدَهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِثْبَاتُ الْجَهْلِ، لِأَنَّ الْجَهْلَ هُوَ أَنْ يَكُونَ لَهَا عَدَدٌ مُعَيَّنٌ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ عَدَدَهَا، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يكن فِي نَفْسِهَا عَدَدٌ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْ قَوْلِنَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ عَدَدَهَا إِثْبَاتُ الْجَهْلِ. وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: فَالْجَوَابُ عَنْهَا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمَعْلُومِ أَنْ يَعْلَمَ الْعِلْمُ تَمَيُّزَهُ عَنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِتَمَيُّزِهِ عَنْ غَيْرِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ الْغَيْرِ، فَلَوْ كَانَ تَوَقُّفُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ عَلَى الْعِلْمِ بِتَمَيُّزِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِتَمَيُّزِهِ مِنْ غَيْرِهِ يُوقَفُ عَلَى الْعِلْمِ بِغَيْرِهِ، لَزِمَ أَنْ لَا يَعْلَمَ الْإِنْسَانُ شَيْئًا وَاحِدًا إِلَّا إِذَا عَلِمَ أُمُورًا لَا نِهَايَةَ لَهَا. وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ: فَالْجَوَابُ عَنْهَا بِالنَّقْضِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَإِذَا انْتَقَضَتِ الشُّبْهَةُ سَقَطَتْ، فَيَبْقَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى عُمُومِ عَالِمِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى سَالِمًا عَنِ الْمُعَارِضِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أن الضمير لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى مَذْكُورٍ سَابِقٍ، فَالضَّمِيرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَذْكُورِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا لَفْظًا وَمُتَأَخِّرًا مَعْنًى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْعَكْسِ، مِنْهُ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ متقدماً لفظاً ومعنى فالمشهور عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَقَالَ ابْنُ جِنِّي بِجَوَازِهِ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالشِّعْرِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الشِّعْرُ فَقَوْلُهُ: جَزَى رَبُّهُ عَنِّي عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ ... جَزَاءَ الْكِلَابِ الْعَاوِيَاتِ وَقَدْ فَعَلْ وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ الْفَاعِلَ مُؤَثِّرٌ وَالْمَفْعُولَ قَابِلٌ وَتَعَلُّقَ الْفِعْلِ بِهِمَا شَدِيدٌ، فَلَا يَبْعُدُ تَقْدِيمُ أَيِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ عَلَى الْآخَرِ فِي اللَّفْظِ، ثُمَّ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قُدِّمَ الْمَنْصُوبُ عَلَى الْمَرْفُوعِ فِي اللَّفْظِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ، فَكَذَا إِذَا لَمْ يُقَدَّمْ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ التَّقْدِيمَ جَائِزٌ. الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ مُتَأَخِّرًا لَفْظًا وَمَعْنًى، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِي صِحَّتِهِ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبَ زَيْدٌ غُلَامَهُ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ مُتَقَدِّمًا فِي اللَّفْظِ مُتَأَخِّرًا فِي الْمَعْنَى وَهُوَ كَقَوْلِكَ: ضَرَبَ غُلَامَهُ زَيْدٌ، فَهَهُنَا الضَّمِيرُ وَإِنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا فِي اللَّفْظِ لَكِنَّهُ مُتَأَخِّرٌ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَنْصُوبَ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْمَرْفُوعِ فِي التَّقْدِيرِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّكَ قُلْتَ: زَيْدٌ ضَرَبَ غُلَامَهُ فَلَا جَرَمَ كَانَ جَائِزًا. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ مُتَقَدِّمًا فِي الْمَعْنَى مُتَأَخِّرًا فِي اللَّفْظِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ فَإِنَّ الْمَرْفُوعَ

مُقَدَّمٌ فِي الْمَعْنَى عَلَى الْمَنْصُوبِ، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَإِذِ ابْتَلَى رَبُّهُ إِبْرَاهِيمَ، إِلَّا أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ بِحَسَبِ الْمَعْنَى لَكِنْ لَمَّا لم يكن الضمير متقدماً في الفظ بَلْ كَانَ مُتَأَخِّرًا لَا جَرَمَ كَانَ جَائِزًا حَسَنًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ إِبْرَاهَامَ بِأَلِفٍ بَيْنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ، وَالْبَاقُونَ، (إِبْرَاهِيمَ) وَهُمَا لُغَتَانِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو حَيْوَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِرَفْعِ إِبْرَاهِيمَ وَنَصْبِ رَبِّهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ دَعَاهُ بِكَلِمَاتٍ مِنَ الدُّعَاءِ فِعْلَ الْمُخْتَبِرِ هَلْ يُجِيبُهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِنَّ أَمْ لَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ هَلْ يَدُلُّ عَلَى تِلْكَ الْكَلِمَاتِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَيْهَا وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْإِمَامَةِ وَتَطْهِيرِ الْبَيْتِ وَرَفْعِ قَوَاعِدِهِ وَالدُّعَاءِ بِإِبْعَاثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أُمُورٌ شَاقَّةٌ، أَمَّا الْإِمَامَةُ فَلِأَنَّ الْمُرَادَ منها هاهنا هُوَ النُّبُوَّةُ، وَهَذَا التَّكْلِيفُ يَتَضَمَّنُ مَشَاقَّ عَظِيمَةً، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْزَمُهُ أن يحتمل جَمِيعَ الْمَشَاقِّ وَالْمَتَاعِبِ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَأَنْ لَا يَخُونَ فِي أَدَاءِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَوْ لَزِمَهُ الْقَتْلُ، بِسَبَبِ ذَلِكَ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَشَاقِّ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِنَّ ثَوَابَ النَّبِيِّ أَعْظَمُ مِنْ ثَوَابِ غَيْرِهِ، وَأَمَّا بِنَاءُ الْبَيْتِ وَتَطْهِيرُهُ وَرَفْعُ قَوَاعِدِهِ، فَمَنْ وَقَفَ عَلَى مَا رُوِيَ فِي كَيْفِيَّةِ بِنَائِهِ عَرَفَ شِدَّةَ الْبَلْوَى فِيهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِقَامَةَ الْمَنَاسِكِ، وَقَدِ امْتَحَنَ اللَّهُ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالشَّيْطَانِ فِي الْمَوْقِفِ لِرَمْيِ الْجِمَارِ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا اشْتِغَالُهُ بِالدُّعَاءِ فِي أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَهَذَا مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِزَالَةُ الْحَسَدِ عَنِ الْقَلْبِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ: تَكَالِيفُ شَاقَّةٌ شَدِيدَةٌ، فَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنِ ابْتِلَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِالْكَلِمَاتِ هُوَ ذَلِكَ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ أَنَّهُ عَقَّبَهُ بِذِكْرِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَقَالَ: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا، بَلْ قَالَ: إِنِّي جاعِلُكَ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِابْتِلَاءَ لَيْسَ إِلَّا التَّكْلِيفَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، وَاعْتَرَضَ الْقَاضِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَالَ: هَذَا إِنَّمَا يَجُوزُ لَوْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهَا إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا فَأَتَمَّهُنَّ، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ ذَكَرَ قَوْلَهُ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً بَعْدَ قَوْلِهِ: فَأَتَمَّهُنَّ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى امْتَحَنَهُ بِالْكَلِمَاتِ وَأَتَمَّهَا إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْإِمَامَةَ فَقَطْ، بَلِ الْإِمَامَةَ وَبِنَاءَ الْبَيْتِ وَتَطْهِيرَهُ وَالدُّعَاءَ فِي بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَلَاهُ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ ابْتَلَاهُ بِأُمُورٍ عَلَى الْإِجْمَالِ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ أَتَمَّهَا، ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالشَّرْحِ وَالتَّفْصِيلِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يعد فِيهِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَهَذَا القول يحتمل وجهين، أحدهما: بِكَلِمَاتٍ كَلَّفَهُ اللَّهُ بِهِنَّ، وَهِيَ أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ مِمَّا شَاءَ كَلَّفَهُ بِالْأَمْرِ بِهَا. وَالْوَجْهُ الثاني: بكلمات تكون من إبراهيم يلكم بِهَا قَوْمَهُ، أَيْ يُبَلِّغُهُمْ إِيَّاهَا، وَالْقَائِلُونَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ التَّكْلِيفَ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ عَلَى أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ عَشْرُ خِصَالٍ كَانَتْ فَرْضًا فِي شَرْعِهِ وَهِيَ سُنَّةٌ فِي شَرْعِنَا، خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ وَخَمْسٌ فِي الْجَسَدِ، أَمَّا الَّتِي فِي الرَّأْسِ: فَالْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ/ وَفَرْقُ الرَّأْسِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَالسِّوَاكُ، وَأَمَّا الَّتِي فِي الْبَدَنِ: فَالْخِتَانُ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَالِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ. وَثَانِيهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: ابْتَلَاهُ بِثَلَاثِينَ خَصْلَةً مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ، عَشْرٌ مِنْهَا فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ [التَّوْبَةِ: 112] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَعَشْرٌ مِنْهَا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ:

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ [الْأَحْزَابِ: 35] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَعَشْرٌ مِنْهَا فِي الْمُؤْمِنُونَ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 1] إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 10] وَرُوِيَ عَشْرٌ فِي: سَأَلَ سائِلٌ [الْمَعَارِجِ: 1] إِلَى قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ [الْمَعَارِجِ: 34] فَجَعَلَهَا أَرْبَعِينَ سَهْمًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَثَالِثُهَا: أَمَرَهُ بِمَنَاسِكِ الْحَجِّ، كَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالرَّمْيِ وَالْإِحْرَامِ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَابِعُهَا: ابْتَلَاهُ بِسَبْعَةِ أَشْيَاءَ: بِالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالْكَوَاكِبِ، وَالْخِتَانِ عَلَى الْكِبَرِ، وَالنَّارِ، وَذَبْحِ الْوَلَدِ، وَالْهِجْرَةِ، فَوَفَّى بِالْكُلِّ فَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النَّجْمِ: 37] عَنِ الْحَسَنِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْبَقَرَةِ: 131] . وَسَادِسُهَا: الْمُنَاظَرَاتُ الْكَثِيرَةُ فِي التَّوْحِيدِ مَعَ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ ومع نمرود وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ، وَقَسْمُ الْغَنَائِمِ، وَالضِّيَافَةُ، وَالصَّبْرُ عَلَيْهَا، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الِابْتِلَاءَ يَتَنَاوَلُ إِلْزَامَ كُلِّ مَا فِي فعله كلفة شدة وَمَشَقَّةٌ، فَاللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا، فَلَوْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ فِي الْكُلِّ وَجَبَ الْقَوْلُ بِالْكُلِّ، وَلَوْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَحِينَئِذٍ يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الِابْتِلَاءُ إِنَّمَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى أَنَّ قِيَامَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهِنَّ كَالسَّبَبِ لِأَنْ يَجْعَلَهُ اللَّهُ إِمَامًا، وَالسَّبَبُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُسَبَّبِ، فَوَجَبَ كَوْنُ هَذَا الِابْتِلَاءِ مُتَقَدِّمًا فِي الْوُجُودِ عَلَى صَيْرُورَتِهِ إِمَامًا وَهَذَا أَيْضًا مُلَائِمٌ لِقَضَايَا الْعُقُولِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَفَاءَ مِنْ شَرَائِطِ النُّبُوَّةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْإِعْرَاضِ عَنْ جَمِيعِ مَلَاذِّ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا وَتَرْكِ الْمُدَاهَنَةِ مَعَ الْخَلْقِ وَتَقْبِيحِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ وَالْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ، وَتَحَمُّلِ الْأَذَى مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْخَلْقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ أَعْظَمِ الْمَشَاقِّ وَأَجَلِّ الْمَتَاعِبِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ يَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ أُمَّتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاللَّهُ تَعَالَى ابْتَلَاهُ بِالتَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، فَلَمَّا وَفَّى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهَا لَا جَرَمَ أَعْطَاهُ خُلْعَةَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مُكَلَّفًا بِتِلْكَ التَّكَالِيفِ إِلَّا مِنَ الْوَحْيِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ الْوَحْيِ عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِكَوْنِهِ كَذَلِكَ، أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذِهِ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، فَلَمَّا تَمَّمَ ذَلِكَ جَعَلَهُ نَبِيًّا مَبْعُوثًا إِلَى الْخَلْقِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَنَقُولُ قَالَ الْقَاضِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ، مَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ مِنْ حَدِيثِ الْكَوْكَبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِذَلِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، أَمَّا ذَبْحُ الْوَلَدِ وَالْهِجْرَةُ وَالنَّارُ فَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وَكَذَا الْخِتَانُ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُرْوَى أَنَّهُ خَتَنَ نَفْسَهُ وَكَانَ سِنُّهُ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قَامَتِ الدَّلَالَةُ السَّمْعِيَّةُ الْقَاهِرَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكَلِمَاتِ/ هَذِهِ الأشياء كان المراد من قوله: فَأَتَمَّهُنَّ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يُتِمُّهُنَّ وَيَقُومُ بِهِنَّ بَعْدَ النُّبُوَّةِ فَلَا جَرَمَ أَعْطَاهُ خُلْعَةَ الْإِمَامَةِ وَالنُّبُوَّةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي فَأَتَمَّهُنَّ فِي إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ لِإِبْرَاهِيمَ بِمَعْنَى فَقَامَ بِهِنَّ حَقَّ الْقِيَامِ، وَأَدَّاهُنَّ أَحْسَنَ التَّأْدِيَةِ، مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ وَتَوَانٍ. وَنَحْوُهُ: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى وَفِي الْأُخْرَى لِلَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى: فَأَعْطَاهُ مَا طلبه لم ينقض منه شيئاً. أما [التشريف ف] قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً فَالْإِمَامُ اسْمُ مَنْ يُؤْتَمُّ بِهِ كَالْإِزَارِ لِمَا يُؤْتَزَرُ بِهِ، أَيْ يَأْتَمُّونَ بِكَ فِي دِينِكَ. وَفِيهِ مسائل:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: الْمُرَادُ مِنَ الإمام هاهنا النَّبِيُّ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: لِلنَّاسِ إِماماً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ إِمَامًا لِكُلِّ النَّاسِ وَالَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُسْتَقِلًّا بِالشَّرْعِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَبَعًا لِرَسُولٍ آخَرَ لَكَانَ مَأْمُومًا لِذَلِكَ الرَّسُولِ لَا إِمَامًا لَهُ، فَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ الْعُمُومُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِمَامٌ فِي كُلِّ شَيْءِ وَالَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ نَبِيًّا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَئِمَّةٌ مِنْ حَيْثُ يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ اتِّبَاعُهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [الْأَنْبِيَاءِ: 73] وَالْخُلَفَاءُ أَيْضًا أَئِمَّةٌ لِأَنَّهُمْ رَتَّبُوا فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعُهُمْ وَقَبُولُ قَوْلِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ وَالْقُضَاةُ وَالْفُقَهَاءُ أَيْضًا أَئِمَّةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَالَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ يُسَمَّى أَيْضًا إِمَامًا لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي صَلَاتِهِ لَزِمَهُ الِائْتِمَامُ بِهِ. قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ إِمَامًا لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَى إِمَامِكُمْ» فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ اسْمَ الْإِمَامِ لِمَنِ اسْتَحَقَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِ فِي الدِّينِ وَقَدْ يُسَمَّى بِذَلِكَ أَيْضًا مَنْ يُؤْتَمُّ بِهِ فِي الْبَاطِلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [الْقَصَصِ: 41] إِلَّا أَنَّ اسْمَ الْإِمَامِ لَا يَتَنَاوَلُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ لَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ إِلَّا مُقَيَّدًا، فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَئِمَّةَ الضَّلَالِ قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ كَمَا أَنَّ اسْمَ الْإِلَهِ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْمَعْبُودَ الْحَقَّ، فَأَمَّا الْمَعْبُودُ الْبَاطِلُ فَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِلَهِ مَعَ الْقَيْدِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [هُودٍ: 101] وَقَالَ: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً [طه: 97] إِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْمَ الْإِمَامِ يَتَنَاوَلُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَثَبَتَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْإِمَامَةِ وَجَبَ حمل اللفظ هاهنا عَلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ لَفْظَ الْإِمَامِ هاهنا فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ تِلْكَ النِّعْمَةُ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ لِيَحْسُنَ نِسْبَةُ الِامْتِنَانِ فَوَجَبَ حَمْلُ هَذِهِ الْإِمَامَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَهُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ إِمَامًا لِلنَّاسِ حَقَّقَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْوَعْدَ فِيهِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْأَدْيَانِ عَلَى شَدَّةِ اخْتِلَافِهَا وَنِهَايَةِ تَنَافِيهَا يُعَظِّمُونَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيَتَشَرَّفُونَ بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ إِمَّا فِي النَّسَبِ وَإِمَّا فِي الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ حَتَّى إِنَّ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ كَانُوا مُعَظِّمِينَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ/ حَنِيفاً [النحل: 123] وقال: مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [الْبَقَرَةِ: 130] وَقَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَجِّ: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ [الْحَجِّ: 78] وَجَمِيعُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُونَ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآلَ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ وَتَرَحَّمْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَصِيرُ إِمَامًا إِلَّا بِالنَّصِّ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا صَارَ إِمَامًا بِسَبَبِ التَّنْصِيصِ عَلَى إِمَامَتِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَةِ: 30] فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ له منصب الخلافة إلا بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ المراد بالإمامة هاهنا النُّبُوَّةُ ثُمَّ إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا مُطْلَقُ الْإِمَامَةِ لَكِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّصَّ طَرِيقُ الْإِمَامَةِ وَذَلِكَ لَا نِزَاعَ فِيهِ، إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ هَلْ تَثْبُتُ الْإِمَامَةُ بِغَيْرِ النَّصِّ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَعَرُّضٌ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَعْصُومًا عَنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ لِأَنَّ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ وَيُقْتَدَى، فَلَوْ صَدَرَتِ الْمَعْصِيَةُ مِنْهُ لَوَجَبَ عَلَيْنَا الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي ذَلِكَ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا فِعْلُ الْمَعْصِيَةِ وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ كَوْنَهُ مَعْصِيَةً عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مَمْنُوعًا مِنْ فِعْلِهِ وَكَوْنَهُ وَاجِبًا عِبَارَةٌ عَنْ

كَوْنِهِ مَمْنُوعًا مِنْ تَرْكِهِ وَالْجَمِيعُ مُحَالٌ. أَمَّا قوله: مِنْ ذُرِّيَّتِي فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الذُّرِّيَّةُ: الْأَوْلَادُ وأولاد الأولاد للرجل وهو من ذرأ اللَّهِ الْخَلْقَ وَتَرَكُوا هَمْزَهَا لِلْخِفَّةِ كَمَا تَرَكُوا فِي الْبَرِّيَّةِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوبَةً إِلَى الذَّرِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي عُطِفَ عَلَى الْكَافِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَجَاعِلُ بَعْضِ ذُرِّيَّتِي كَمَا يُقَالُ لَكَ: سَأُكْرِمُكَ، فَتَقُولُ: وَزَيْدًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمَهُ أَنَّ فِي ذُرِّيَّتِهِ أَنْبِيَاءَ فَأَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي كُلِّهِمْ أَوْ فِي بَعْضِهِمْ وَهَلْ يَصْلُحُ جَمِيعُهُمْ لِهَذَا الْأَمْرِ؟ فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِيهِمْ ظَالِمًا لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْلَامِ وَلَمَّا لَمْ يَعْلَمْ عَلَى وَجْهِ الْمَسْأَلَةِ، فَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى صَرِيحًا بِأَنَّ النُّبُوَّةَ لَا تَنَالُ الظَّالِمِينَ مِنْهُمْ، فَإِنْ قِيلَ: هَلْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَأْذُونًا فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أَوْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ؟ فَإِنْ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الدُّعَاءِ فَلِمَ رَدَّ دُعَاءَهُ؟ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ كَانَ ذَلِكَ ذَنْبًا، قُلْنَا: قَوْلُهُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ ذُرِّيَّتِهِ أَئِمَّةً لِلنَّاسِ، وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ تَعَالَى إِجَابَةَ دُعَائِهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ كَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَجَعَلَ آخِرَهُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَئِمَّةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: عَهْدِي بِإِسْكَانِ الْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ بفتحها، / وقرأ بعضهم: لا ينال عهدي الظالمون أَيْ مَنْ كَانَ ظَالِمًا مِنْ ذُرِّيَّتِكَ فَإِنَّهُ لَا يَنَالُ عَهْدِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي الْعَهْدِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْعَهْدَ هُوَ الْإِمَامَةُ الْمَذْكُورَةُ فِيمَا قَبْلُ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ تِلْكَ الْإِمَامَةِ هُوَ النُّبُوَّةَ فَكَذَا وَإِلَّا فَلَا. وَثَانِيهَا: عَهْدِي أَيْ رَحْمَتِي عَنْ عَطَاءٍ. وَثَالِثُهَا: طَاعَتِي عَنِ الضَّحَّاكِ. وَرَابِعُهَا: أَمَانِي عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي طَلَبٌ لِتِلْكَ الْإِمَامَةِ الَّتِي وَعَدَهُ بِهَا بِقَوْلِهِ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً فَقَوْلُهُ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ لَا يَكُونُ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْعَهْدِ تِلْكَ الْإِمَامَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى سَيُعْطِي بَعْضَ وَلَدِهِ مَا سَأَلَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْجَوَابُ: لَا، أَوْ يَقُولُ: لَا يَنَالُ عَهْدِي ذُرِّيَّتَكَ، فَإِنْ قِيلَ: أَفَمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَالِمًا بِأَنَّ النُّبُوَّةَ لَا تَلِيقُ بِالظَّالِمِينَ، قُلْنَا: بَلَى، وَلَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَالَ ذُرِّيَّتِهِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هَذَا حَالُهُ وَأَنَّ النُّبُوَّةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِمَنْ لَيْسَ بِظَالِمٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الرَّوَافِضُ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْقَدْحِ فِي إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا كَافِرَيْنِ، فَقَدْ كَانَا حَالَ كُفْرِهِمَا ظَالِمَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ يَصْدُقَ عَلَيْهِمَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَنَّهُمَا لَا يَنَالَانِ عَهْدَ الْإِمَامَةِ الْبَتَّةَ، وَإِذَا صَدَقَ عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنَّهُمَا لَا يَنَالَانِ عَهْدَ الْإِمَامَةِ الْبَتَّةَ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ ثَبَتَ أَنَّهُمَا لَا يَصْلُحَانِ لِلْإِمَامَةِ. الثَّانِي: أَنَّ مَنْ كَانَ مُذْنِبًا فِي الْبَاطِنِ كَانَ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَإِذَنْ مَا لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مَا كَانَا مِنَ الظَّالِمِينَ الْمُذْنِبِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَجَبَ أَنْ لَا يَحْكُمَ بِإِمَامَتِهِمَا وَذَلِكَ

إِنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ تَثْبُتُ عِصْمَتُهُ وَلَمَّا لَمْ يَكُونَا مَعْصُومَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ وَجَبَ أَنْ لَا تَتَحَقَّقَ إِمَامَتُهُمَا الْبَتَّةَ. الثَّالِثُ: قَالُوا: كَانَا مُشْرِكَيْنِ، وَكُلُّ مُشْرِكٍ ظَالِمٌ وَالظَّالِمُ لَا يَنَالُهُ عَهْدُ الْإِمَامَةِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَنَالَهُمَا عَهْدُ الْإِمَامَةِ، أَمَّا أَنَّهُمَا كَانَا مُشْرِكَيْنِ فَبِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا أَنَّ الْمُشْرِكَ ظَالِمٌ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] وَأَمَّا أَنَّ الظَّالِمَ لَا يَنَالُهُ عَهْدُ الْإِمَامَةِ فَلِهَذِهِ الْآيَةِ، لَا يُقَالُ إِنَّهُمَا كَانَا ظَالِمَيْنِ حَالَ كُفْرِهِمَا، فَبَعْدَ زَوَالِ الْكُفْرِ لَا يَبْقَى هَذَا الِاسْمُ لِأَنَّا نَقُولُ الظَّالِمُ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ الظُّلْمُ، وَقَوْلُنَا: وُجِدَ مِنْهُ الظُّلْمُ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِنَا وُجِدَ مِنْهُ الظُّلْمُ فِي الْمَاضِي أَوْ فِي الْحَالِ بِدَلِيلِ أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ يُمْكِنُ تَقْسِيمُهُ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، وَمَوْرِدُ التَّقْسِيمِ بِالتَّقْسِيمِ بِالْقِسْمَيْنِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ القسمين وما كان مشتركاً بين القسمين لا يَلْزَمُ انْتِفَاؤُهُ لِانْتِفَاءِ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ كَوْنِهِ ظَالِمًا فِي الْحَالِ نَفْيُ كَوْنِهِ ظَالِمًا وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ نَظَرًا إِلَى الدَّلَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّ النَّائِمَ يُسَمَّى مُؤْمِنًا وَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ وَالتَّصْدِيقُ غَيْرُ حَاصِلٍ حَالَ كَوْنِهِ نَائِمًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُسَمَّى مُؤْمِنًا لِأَنَّ الْإِيمَانَ كَانَ حَاصِلًا قَبْلُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا لِظُلْمٍ وُجِدَ مِنْ قَبْلُ، وَأَيْضًا فَالْكَلَامُ عِبَارَةٌ عَنْ حُرُوفٍ مُتَوَالِيَةٍ، وَالْمَشْيُ عِبَارَةٌ عَنْ حُصُولَاتٍ مُتَوَالِيَةٍ فِي أَحْيَازٍ مُتَعَاقِبَةٍ، فَمَجْمُوعُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْبَتَّةَ لَا وُجُودَ لَهَا، فَلَوْ كَانَ حُصُولُ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ شَرْطًا فِي كَوْنِ الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ حَقِيقَةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمَاشِي وَأَمْثَالِهِمَا حَقِيقَةً فِي شَيْءٍ أَصْلًا، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ قَطْعًا/ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ لَيْسَ شَرْطًا لِكَوْنِ الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ حَقِيقَةً؟ وَالْجَوَابُ: كُلُّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ، بِمَا أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يُسَلِّمُ عَلَى كَافِرٍ فَسَلَّمَ عَلَى إِنْسَانٍ مُؤْمِنٍ فِي الْحَالِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا قَبْلُ بِسِنِينَ مُتَطَاوِلَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ، فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ، وَلِأَنَّ التَّائِبَ عَنِ الْكُفْرِ لَا يُسَمَّى كَافِرًا وَالتَّائِبَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ لَا يُسَمَّى عَاصِيًا، فَكَذَا الْقَوْلُ فِي نَظَائِرِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [هُودٍ: 113] فَإِنَّهُ نَهَى عَنِ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ حَالَ إِقَامَتِهِمْ عَلَى الظُّلْمِ، وَقَوْلُهُ: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التَّوْبَةِ: 91] مَعْنَاهُ: مَا أَقَامُوا عَلَى الْإِحْسَانِ، عَلَى أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِمَامَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: النُّبُوَّةُ، فَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلنُّبُوَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ: الْفَاسِقُ حَالَ فِسْقِهِ لَا يَجُوزُ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لَهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْفِسْقَ الطَّارِئَ هَلْ يُبْطِلُ الْإِمَامَةَ أَمْ لَا؟ وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَصْلُحُ أَنْ تُعْقَدَ لَهُ الْإِمَامَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: مَا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي وَقَوْلَهُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي طَلَبٌ لِلْإِمَامَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْعَهْدِ هُوَ الْإِمَامَةُ، لِيَكُونَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ، فَتَصِيرُ الْآيَةُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا يَنَالُ الْإِمَامَةُ الظَّالِمِينَ، وَكُلُّ عَاصٍ فَإِنَّهُ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، فَكَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى مَا قُلْنَاهُ، فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ كَوْنِهِمْ ظَالِمِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ، قُلْنَا: أَمَّا الشِّيعَةُ فَيَسْتَدِلُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فِي وُجُوبِ الْعِصْمَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ: مُقْتَضَى الْآيَةِ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّا تَرَكْنَا اعْتِبَارَ الْبَاطِنِ فَتَبْقَى الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ مُعْتَبَرَةً، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 87] وَقَالَ آدَمُ: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: 23] قُلْنَا: الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ هُوَ الظُّلْمُ الْمُطْلَقُ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي آدَمَ وَيُونُسَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَهْدَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، قَالَ الله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ [يس: 60] يَعْنِي أَلَمْ آمُرْكُمْ بِهَذَا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قالُوا إِنَّ اللَّهَ

عَهِدَ إِلَيْنا [آلِ عِمْرَانَ: 183] يَعْنِي أَمَرَنَا، وَمِنْهُ عُهُودُ الْخُلَفَاءِ إِلَى أُمَرَائِهِمْ وَقُضَاتِهِمْ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَهْدَ اللَّهِ هُوَ أَمْرُهُ فَنَقُولُ: لَا يَخْلُو قَوْلُهُ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ مِنْ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الظَّالِمِينَ غَيْرُ مَأْمُورِينَ، وَأَنَّ الظَّالِمِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا بِمَحَلِّ مَنْ يُقْبَلُ مِنْهُمْ أَوَامِرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا بَطَلَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ لِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى لَازِمَةٌ لِلظَّالِمِينَ كَلُزُومِهَا لِغَيْرِهِمْ ثَبْتَ الْوَجْهُ الْآخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْتَمَنِينَ عَلَى أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرُ مُقْتَدًى بِهِمْ فِيهَا فَلَا يَكُونُونَ أَئِمَّةً فِي الدِّينِ، فَثَبَتَ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ بُطْلَانُ إِمَامَةِ الْفَاسِقِ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» ، وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَكُونُ حَاكِمًا، وَأَنَّ أَحْكَامَهُ لَا تُنَفَّذُ إِذَا وَلِيَ الْحُكْمَ، وَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا خَبَرُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا فُتْيَاهُ إِذَا أَفْتَى، وَلَا يُقَدَّمُ لِلصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ هُوَ بِحَيْثُ لَوِ اقْتُدِيَ بِهِ فَإِنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ/ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُ الْفَاسِقِ إِمَامًا وَخَلِيفَةً، وَلَا يَجُوزُ كَوْنُ الْفَاسِقِ قَاضِيًا، قَالَ: وَهَذَا خَطَأٌ، وَلَمْ يُفَرِّقْ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَالْحَاكِمِ فِي أَنَّ شَرْطَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعَدَالَةُ، وَكَيْفَ يَكُونُ خَلِيفَةً وَرِوَايَتُهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَأَحْكَامُهُ غَيْرُ نَافِذَةٍ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَقَدْ أَكْرَهَهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي أَيَّامِ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى الْقَضَاءِ، وَضَرَبَهُ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَحُبِسَ، فَلَحَّ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَجَعَلَ يَضْرِبُهُ كُلَّ يَوْمٍ أَسْوَاطًا، فَلَمَّا خِيفَ عَلَيْهِ، قَالَ لَهُ الْفُقَهَاءُ: تَوَلَّ لَهُ شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ حَتَّى يَزُولَ عَنْكَ الضَّرْبُ، فَتَوَلَّى لَهُ عَدَّ أَحْمَالِ التِّبْنِ الَّتِي تَدْخُلُ فَخَلَّاهُ، ثُمَّ دَعَاهُ الْمَنْصُورُ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ حَتَّى عَدَّ لَهُ اللَّبِنَ الَّذِي كَانَ يُضْرَبُ لِسُورِ مَدِينَةِ الْمَنْصُورِ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ وَقِصَّتُهُ فِي أَمْرِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ مَشْهُورَةٌ، وَفِي حَمْلِهِ الْمَالَ إِلَيْهِ وَفُتْيَاهُ النَّاسَ سِرًّا فِي وُجُوبِ نُصْرَتِهِ وَالْقِتَالِ مَعَهُ، وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ مَعَ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ ابْنِي عَبْدِ اللَّهِ بن الحسن، ثم قَالَ: وَإِنَّمَا غَلِطَ مَنْ غَلِطَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ الْقَاضِيَ إِذَا كَانَ عَدْلًا فِي نَفْسِهِ، وَتَوَلَّى الْقَضَاءَ مِنْ إِمَامٍ جَائِرٍ فَإِنَّ أَحْكَامَهُ نَافِذَةٌ، وَالصَّلَاةَ خَلْفَهُ جَائِزَةٌ، لِأَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا كَانَ عَدْلًا فِي نَفْسِهِ وَيُمْكِنُهُ تَنْفِيذُ الْأَحْكَامِ كَانَتْ أَحْكَامُهُ نَافِذَةً، فَلَا اعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ بِمَنْ وَلَّاهُ، لِأَنَّ الَّذِي وَلَّاهُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَعْوَانِهِ، وَلَيْسَ شرط أعوان القاضي أن يكون عُدُولًا أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ بَلَدٍ لَا سُلْطَانَ عَلَيْهِمْ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى الرِّضَا بِتَوْلِيَةِ رَجُلٍ عَدْلٍ مِنْهُمُ الْقَضَاءَ حَتَّى يَكُونُوا أَعْوَانًا لَهُ عَلَى مَنِ امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ أَحْكَامِهِ لَكَانَ قَضَاؤُهُ نَافِذًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ مِنْ جِهَةِ إِمَامٍ وَلَا سُلْطَانٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْعَهْدِ: الْإِمَامَةُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ إِمَامٌ، فَإِنَّ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ، وَالنَّبِيُّ أَوْلَى النَّاسِ، وَإِذَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَكُونُ فَاسِقًا، فَبِأَنْ تَدُلَّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا فَاعِلًا لِلذَّنْبِ وَالْمَعْصِيَةِ أَوْلَى. الثَّانِي: قَالَ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فَهَذَا الْعَهْدُ إِنْ كَانَ هُوَ النُّبُوَّةَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ لَا يَنَالُهَا أَحَدٌ مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْإِمَامَةَ، فَكَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ إِمَامًا يُؤْتَمُّ بِهِ، وَكُلُّ فَاسِقٍ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَحْصُلَ النُّبُوَّةُ لِأَحَدٍ مِنَ الْفَاسِقِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّ لَهُ مَعَكَ عَهْدًا، وَلَكَ مَعَهُ عَهْدًا، وَبَيَّنَ أَنَّكَ مَتَى تَفِي بِعَهْدِكَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَفِي أَيْضًا بِعَهْدِهِ فَقَالَ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 40] ثُمَّ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ فَإِنَّهُ أَفْرَدَ عَهْدَكَ بِالذِّكْرِ، وَأَفْرَدَ عَهْدَ نَفْسِهِ أَيْضًا بِالذِّكْرِ، أَمَّا عَهْدُكَ فَقَالَ فِيهِ: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا [الْبَقَرَةِ: 177] وَقَالَ: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 8] وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ

[الْمَائِدَةِ: 1] وَقَالَ: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفِّ: 2، 3] وَأَمَّا عَهْدُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقَالَ فِيهِ: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 111] ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ عَهْدِهِ إِلَى أَبِينَا آدَمَ فَقَالَ: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ عَهْدِهِ إِلَيْنَا فَقَالَ: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي/ آدَمَ [يس: 60] ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ عَهْدِهِ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ [آلِ عِمْرَانَ: 183] ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ عَهْدِهِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ [الْبَقَرَةِ: 125] ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ عَهْدَهُ لَا يَصِلُ إِلَى الظَّالِمِينَ فَقَالَ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ الشَّدِيدَةُ فِي هَذِهِ الْمُعَاهَدَةِ تَقْتَضِي الْبَحْثَ عَنْ حَقِيقَةِ هَذِهِ الْمُعَاهَدَةِ فَنَقُولُ: الْعَهْدُ الْمَأْخُوذُ عَلَيْكَ لَيْسَ إِلَّا عَهْدَ الْخِدْمَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَالْعَهْدُ الَّذِي الْتَزَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ جِهَتِهِ لَيْسَ إِلَّا عَهْدَ الرَّحْمَةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّ الْعَاقِلَ إِذَا تَأَمَّلَ فِي حَالِ هَذِهِ الْمُعَاهَدَةِ لَمْ يَجِدْ مِنْ نَفْسِهِ إِلَّا نَقْضَ هَذَا الْعَهْدِ، وَمِنْ رَبِّهِ إِلَّا الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ، فَلْنَشْرَعْ فِي مَعَاقِدِ هَذَا الْبَابِ فَنَقُولُ: أَوَّلُ إِنْعَامِهِ عَلَيْكَ إِنْعَامُ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالْإِحْيَاءِ وَإِعْطَاءِ الْعَقْلِ وَالْآلَةِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ اشْتِغَالُكَ بِالطَّاعَةِ وَالْخِدْمَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ عَلَى مَا قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] وَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَلْقُ وَالْإِيجَادُ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْعَبَثِ فَقَالَ: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الأنبياء: 16] ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدخان: 39] وَقَالَ أَيْضًا: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص: 27] وَقَالَ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 115] ثُمَّ بَيَّنَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ مَا هُوَ الْحِكْمَةُ فِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ فَقَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَفَّى بِعَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ حَيْثُ خَلَقَكَ وَأَحْيَاكَ وَأَنْعَمَ عَلَيْكَ بِوُجُوهِ النِّعَمِ وَجَعَلَكَ عَاقِلًا مُمَيِّزًا فَإِذَا لَمْ تَشْتَغِلْ بِخِدْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ فَقَدْ نَقَضْتَ عَهْدَ عُبُودِيَّتِكَ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَفَّى بِعَهْدِ رُبُوبِيَّتِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ عَهْدَ الرُّبُوبِيَّةِ يَقْتَضِي إِعْطَاءَ التَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ وَعَهْدَ الْعُبُودِيَّةِ مِنْكَ يَقْتَضِي الْجِدَّ وَالِاجْتِهَادَ فِي الْعَمَلِ، ثُمَّ إِنَّهُ وَفَّى بِعَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ فَإِنَّهُ مَا تَرَكَ ذَرَّةً مِنَ الذَّرَّاتِ إِلَّا وَجَعَلَهَا هَادِيَةً لَكَ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 44] وَأَنْتَ مَا وَفَّيْتَ الْبَتَّةَ بِعَهْدِ الطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ بِالْإِيمَانِ أَعْظَمُ النِّعَمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ لَوْ فَاتَتْكَ لَكُنْتَ أَشْقَى الْأَشْقِيَاءِ أَبَدَ الْآبِدِينَ وَدَهْرَ الدَّاهِرِينَ، ثُمَّ هَذِهِ النِّعْمَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النَّحْلِ: 53] ثُمَّ مَعَ أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَشْكُرُكَ عَلَيْهَا وَقَالَ: فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الْإِسْرَاءِ: 19] فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَشْكُرُكَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ فَبِأَنْ تَشْكُرَهُ عَلَى مَا أَعْطَى مِنَ التَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ كَانَ أَوْلَى، ثُمَّ إِنَّكَ مَا أَتَيْتَ إِلَّا بِالْكُفْرَانِ عَلَى مَا قَالَ: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ [عَبَسَ: 17] فَهُوَ تَعَالَى وَفَّى بِعَهْدِهِ، وَأَنْتَ نَقَضْتَ عَهْدَكَ. وَرَابِعُهَا: أَنْ تُنْفَقَ نِعَمُهُ فِي سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ، فَعَهْدُهُ مَعَكَ أَنْ يُعْطِيَكَ أَصْنَافَ النِّعَمِ وَقَدْ فَعَلَ وَعَهْدُكَ مَعَهُ أَنْ تَصْرِفَ نِعَمَهُ فِي سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ وَأَنْتَ مَا فَعَلْتَ ذَلِكَ: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [الْعَلَقِ: 6، 7] . وَخَامِسُهَا: أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ لِتَكُونَ مُحْسِنًا إِلَى الْفُقَرَاءِ: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ثُمَّ إِنَّكَ تَوَسَّلْتَ بِهِ إِلَى إِيذَاءِ النَّاسِ وإيحاشهم: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [الحديد: 24] [النِّسَاءِ: 37] . وَسَادِسُهَا: أَعْطَاكَ النِّعَمَ الْعَظِيمَةَ لِتَكُونَ مُقْبِلًا على حمده وأنت تحمد غيره فانظر إن السُّلْطَانِ الْعَظِيمِ لَوْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِخُلْعَةٍ نَفِيسَةٍ، ثُمَّ إِنَّكَ فِي حَضْرَتِهِ تُعْرِضُ عَنْهُ وَتَبْقَى مَشْغُولًا بِخِدْمَةِ بَعْضِ الْأَسْقَاطِ كَيْفَ تَسْتَوْجِبُ الْأَدَبَ والمقت فكذا هاهنا، وَاعْلَمْ أَنَّا لَوِ اشْتَغَلْنَا/ بِشَرْحِ كَيْفِيَّةِ وَفَائِهِ سُبْحَانَهُ بِعَهْدِ الْإِحْسَانِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَكَيْفِيَّةِ نَقْضِنَا لِعَهْدِ الإخلاص

[سورة البقرة (2) : آية 125]

وَالْعُبُودِيَّةِ لَمَا قَدَرْنَا عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّا مِنْ أَوَّلِ الْحَيَاةِ إِلَى آخِرِهَا مَا صِرْنَا مُنْفَكِّينَ لَحْظَةً وَاحِدَةً مِنْ أَنْوَاعِ نِعَمِهِ عَلَى ظَاهِرِنَا وَبَاطِنِنَا وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ النِّعَمِ تَسْتَدْعِي شُكْرًا عَلَى حِدَةٍ وَخِدْمَةً عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ إِنَّا مَا أَتَيْنَا بِهَا بَلْ مَا تَنَبَّهْنَا لَهَا وَمَا عَرَفْنَا كَيْفِيَّتَهَا وَكَمِّيَّتَهَا، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى تَزَايُدِ غَفْلَتِنَا وَتَقْصِيرِنَا يَزِيدُ فِي أَنْوَاعِ النِّعَمِ وَالرَّحْمَةِ وَالْكَرَمِ، فَكُنَّا مِنْ أَوَّلِ عُمْرِنَا إِلَى آخِرِهِ لَا نَزَالُ نَتَزَايَدُ فِي دَرَجَاتِ النُّقْصَانِ وَالتَّقْصِيرِ وَاسْتِحْقَاقِ الذَّمِّ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَزَالُ يَزِيدُ فِي الْإِحْسَانِ وَاللُّطْفِ وَالْكَرَمِ، وَاسْتِحْقَاقِ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ تَقْصِيرُنَا أَشَدَّ كَانَ إِنْعَامُهُ عَلَيْنَا بَعْدَ ذَلِكَ أَعْظَمَ وَقْعًا وَكُلَّمَا كَانَ إِنْعَامُهُ عَلَيْنَا أَكْثَرَ وَقْعًا، كَانَ تَقْصِيرُنَا فِي شُكْرِهِ أَقْبَحَ وَأَسْوَأَ، فَلَا تَزَالُ أَفْعَالُنَا تَزْدَادُ قَبَائِحَ وَمَحَاسِنُ أَفْعَالِهِ عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ بِحَيْثُ لَا تُفْضِي إِلَى الِانْقِطَاعِ ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وَهَذَا تَخْوِيفٌ شَدِيدٌ لَكُنَّا نَقُولُ: إِلَهَنَا صَدَرَ مِنْكَ مَا يَلِيقُ بِكَ مِنَ الْكَرَمِ وَالْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ وَصَدَرَ مِنَّا مَا يَلِيقُ بِنَا مِنَ الْجَهْلِ وَالْغَدْرِ وَالتَّقْصِيرِ وَالْكَسَلِ، فَنَسْأَلُكَ بِكَ وَبِفَضْلِكَ الْعَمِيمِ أَنْ تَتَجَاوَزَ عنا يا أرحم الراحمين. [سورة البقرة (2) : آية 125] وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ حَالِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ كَلَّفَهُ بِالْإِمَامَةِ، وَهَذَا شَرْحُ التَّكْلِيفِ الثَّانِي، وَهُوَ التَّكْلِيفُ بِتَطْهِيرِ الْبَيْتِ، ثُمَّ نَقُولُ: أَمَّا الْبَيْتُ فَإِنَّهُ يُرِيدُ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْبَيْتِ مُطْلَقًا لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِ، إِذَا كَانَتَا تَدْخُلَانِ لِتَعْرِيفِ الْمَعْهُودِ أَوِ الْجِنْسِ، وَقَدْ عَلِمَ الْمُخَاطَبُونَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْجِنْسَ فَانْصَرَفَ إِلَى الْمَعْهُودِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ الْكَعْبَةُ، ثُمَّ نَقُولُ: لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْسَ الْكَعْبَةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ أَمْناً وَهَذَا صِفَةُ جَمِيعِ الْحَرَمِ لَا صِفَةُ الْكَعْبَةِ فَقَطْ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِطْلَاقُ الْبَيْتِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ كُلُّ الْحَرَمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [الْمَائِدَةِ: 95] وَالْمُرَادُ الْحَرَمُ كُلُّهُ لَا الْكَعْبَةُ نَفْسُهَا، لِأَنَّهُ لَا يُذْبَحُ فِي الْكَعْبَةِ، وَلَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا [التَّوْبَةِ: 28] ، وَالْمُرَادُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَنْعُهُمْ مِنَ الْحَجِّ حُضُورَ مَوَاضِعِ النُّسُكِ، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً [الْعَنْكَبُوتِ: 67] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى مُخْبِرًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ: رَبِّ/ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً [إِبْرَاهِيمَ: 35] فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ وَصَفَ الْبَيْتَ بِالْأَمْنِ فَاقْتَضَى جَمِيعَ الْحَرَمِ، وَالسَّبَبُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى أَطْلَقَ لَفْظَ الْبَيْتِ وَعَنَى بِهِ الْحَرَمَ كُلَّهُ أَنَّ حرمة الحرم لما كانت معلقة بِالْبَيْتِ جَازَ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِ الْبَيْتِ. أما قوله: مَثابَةً لِلنَّاسِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَصْلُهُ مِنْ ثَابَ يَثُوبُ مَثَابَةً وَثَوْبًا إِذَا رَجَعَ يُقَالُ: ثَابَ الْمَاءُ إِذَا رَجَعَ إِلَى النَّهْرِ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ، وَثَابَ إِلَى فُلَانٍ عَقْلُهُ أَيْ رَجَعَ وَتَفَرَّقَ عَنْهُ النَّاسُ، ثُمَّ ثَابُوا: أَيْ عَادُوا مُجْتَمِعِينَ، وَالثَّوَابُ مِنْ هَذَا أُخِذَ، كَأَنَّ مَا أَخْرَجَهُ مِنْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَدْ رَجَعَ إِلَيْهِ، وَالْمَثَابُ مِنَ الْبِئْرِ: مُجْتَمَعُ الْمَاءِ فِي أَسْفَلِهَا، قَالَ الْقَفَّالُ قِيلَ: إِنَّ مَثَابًا وَمَثَابَةً لُغَتَانِ مِثْلُ: مَقَامٍ وَمَقَامَةٍ وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ، وَقِيلَ: الْهَاءُ إِنَّمَا دَخَلَتْ فِي مَثَابَةٍ مُبَالَغَةً كَمَا فِي قولهم: نسابة وعلامة، وأصل مثابة مثوبة مَفْعُلَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَثُوبُونَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ عَامٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ

عَنْهُ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَتَمَنَّى الْعَوْدَ إِلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إِبْرَاهِيمَ: 37] وَقِيلَ: مَثَابَةً أَيْ يَحُجُّونَ إِلَيْهِ فَيُثَابُونَ عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: كَوْنُ الْبَيْتِ مَثَابَةً يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ عَوْدِهِمْ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِفِعْلِهِمْ لَا بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ قُلْنَا: أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا فَفِعْلُ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَهَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى قَوْلِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَلْقَى تَعْظِيمَهُ فِي الْقُلُوبِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى الْعَوْدِ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَإِنَّمَا فَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا منافع الدنيا فلأن أهل المشرق والمغرب مجتمعون هُنَاكَ، فَيَحْصُلُ هُنَاكَ مِنَ التِّجَارَاتِ وَضُرُوبِ الْمَكَاسِبِ مَا يَعْظُمُ بِهِ النَّفْعُ، وَأَيْضًا فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ السَّفَرِ إِلَى الْحَجِّ عِمَارَةُ الطَّرِيقِ وَالْبِلَادِ، وَمُشَاهَدَةُ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا مَنَافِعُ الدِّينِ فَلِأَنَّ مَنْ قَصَدَ الْبَيْتَ رَغْبَةً مِنْهُ فِي النُّسُكِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ لَهُ، وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْعُمْرَةِ وَالطَّوَافِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ الْمُكَرَّمِ وَالِاعْتِكَافِ فِيهِ، يَسْتَوْجِبُ بِذَلِكَ ثَوَابًا عَظِيمًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثالثة: تَمَسَّكَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ إِخْبَارٌ عَنْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ مَوْصُوفًا بِصِفَةِ كَوْنِهِ مَثَابَةً لِلنَّاسِ، لَكِنْ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ كَوْنَهُ مَثَابَةً لِلنَّاسِ صِفَةٌ تَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِ النَّاسِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِ النَّاسِ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِالْجَبْرِ وَالْإِلْجَاءِ، وَإِذَا ثَبَتَ تَعَذُّرُ إِجْرَاءِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَجَبَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْوُجُوبِ لِأَنَّا مَتَى حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوُجُوبِ كَانَ ذَلِكَ أَفْضَى إِلَى صَيْرُورَتِهِ كَذَلِكَ مِمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى النَّدْبِ، فَثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْنَا الْعَوْدَ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَقَدْ تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْوُجُوبَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا سِوَى الطَّوَافِ، فَوَجَبَ تَحَقُّقُهُ/ فِي الطَّوَافِ، هَذَا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَكْثَرُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ طَعَنَ فِي دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ، وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا دَلَالَتَهَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمْناً أَيْ مَوْضِعَ أَمْنٍ، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ: جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً خَبَرٌ، فَتَارَةً نَتْرُكُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَنَقُولُ إِنَّهُ خَبَرٌ، وَتَارَةً نَصْرِفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ وَنَقُولُ إِنَّهُ أَمْرٌ. أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ أَهْلَ الْحَرَمِ آمِنِينَ مِنَ الْقَحْطِ وَالْجَدْبِ عَلَى مَا قَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً [الْعَنْكَبُوتِ: 67] وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [الْقَصَصِ: 57] وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِخْبَارَ عَنْ عَدَمِ وُقُوعِ الْقَتْلِ فِي الْحَرَمِ، لِأَنَّا نُشَاهِدُ أَنَّ الْقَتْلَ الْحَرَامَ قَدْ يَقَعُ فِيهِ، وَأَيْضًا فَالْقَتْلُ الْمُبَاحُ قَدْ يُوجَدُ فِيهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [الْبَقَرَةِ: 191] فَأَخْبَرَ عَنْ وُقُوعِ الْقَتْلِ فِيهِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ نَحْمِلَهُ عَلَى الْأَمْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْوِيلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ النَّاسَ بِأَنْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ أَمْنًا مِنَ الْغَارَةِ وَالْقَتْلِ، فَكَانَ الْبَيْتُ مُحْتَرَمًا بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ مُتَمَسِّكِينَ بِتَحْرِيمِهِ، لَا يَهِيجُونَ عَلَى أَحَدٍ الْتَجَأَ إِلَيْهِ، وَكَانُوا يُسَمُّونَ قُرَيْشًا: أَهْلَ اللَّهِ تَعْظِيمًا لَهُ، ثُمَّ اعْتُبِرَ فِيهِ أَمْرُ الصَّيْدِ حَتَّى أَنَّ الْكَلْبَ لَيَهُمُّ بِالظَّبْيِ خَارِجَ الحرم فيفر الظبي منه فَيَتْبَعُهُ الْكَلْبُ فَإِذَا دَخَلَ الظَّبْيُ الْحَرَمَ لَمْ يَتْبَعْهُ الْكَلْبُ، وَرُوِيَتِ الْأَخْبَارُ فِي تَحْرِيمِ مَكَّةَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مكة وأنها لم تَحِلُّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا كَمَا كَانَتْ» ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّهَا لَمْ

تَحِلَّ لِأَحَدٍ بِأَنْ يَنْصُبَ الْحَرْبَ عَلَيْهَا وَأَنَّ ذَلِكَ أُحِلَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ مِنَ الَّذِينَ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْحُدُودُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ الْإِمَامَ يَأْمُرُ بِالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ بِمَا يُؤَدِّي إِلَى خُرُوجِهِ مِنَ الْحَرَمِ، فَإِذَا خَرَجَ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْحِلِّ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى قُتِلَ فِي الْحَرَمِ جَازَ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَاتَلَ فِي الْحَرَمِ جَازَ قَتْلُهُ فِيهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام أمر عند ما قُتِلَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْأَفْلَحِ وَخُبَيْبٌ بِقَتْلِ أَبِي سُفْيَانَ فِي دَارِهِ بِمَكَّةَ غِيلَةً إِنْ قُدِرَ عَلَيْهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَتْ مَكَّةُ فِيهِ مُحَرَّمَةً فَدَلَّ أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ شَيْءٍ وَجَبَ عَلَيْهِ وَأَنَّهَا إِنَّمَا تُمْنَعُ مِنْ أَنْ يُنْصَبَ الْحَرْبُ عَلَيْهَا كَمَا يُنْصَبُ عَلَى غَيْرِهَا، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَمْناً لَيْسَ فيه بيان أنه جعله أمناً في ماذا فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَمْنًا مِنَ الْقَحْطِ، وَأَنْ يَكُونَ أَمْنًا مِنْ نَصْبِ الْحُرُوبِ، وَأَنْ يَكُونَ أَمْنًا مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَلَيْسَ اللَّفْظُ مِنْ بَابِ الْعُمُومِ حَتَّى يُحْمَلَ عَلَى الْكُلِّ، بَلْ حَمْلُهُ عَلَى الْأَمْنِ مِنَ الْقَحْطِ وَالْآفَاتِ أَوْلَى لِأَنَّا عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لَا نَحْتَاجُ إِلَى حَمْلِ لَفْظِ الْخَبَرِ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ وَفِي سَائِرِ الْوُجُوهِ نَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ، فَكَانَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوْلَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وحمزة وعاصم والكسائي: وَاتَّخِذُوا بكسر الْخَاءِ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى صِيغَةِ الْخَبَرِ. أَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى: فَقَوْلُهُ: وَاتَّخِذُوا عَطْفٌ عَلَى مَاذَا، وَفِيهِ أَقْوَالٌ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [البقرة: 122] ، وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى. الثَّانِي: أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [البقرة: 124] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا ابْتَلَاهُ بِكَلِمَاتٍ وَأَتَمَّهُنَّ، قَالَ لَهُ جَزَاءً لِمَا فَعَلَهُ مِنْ ذَلِكَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً وَقَالَ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ بِهَذَا وَلَدَهُ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَضْمَرَ قَوْلَهُ وَقَالَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [الْأَعْرَافِ: 171] الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، وَهُوَ كَلَامٌ اعْتَرَضَ فِي خِلَالِ ذِكْرِ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَأَنَّ وَجْهَهُ: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا أَنْتُمْ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَالتَّقْدِيرُ أَنَّا لَمَّا شَرَّفْنَاهُ وَوَصَفْنَاهُ بِكَوْنِهِ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا فَاتَّخِذُوهُ أَنْتُمْ قِبْلَةً لِأَنْفُسِكُمْ، وَالْوَاوُ وَالْفَاءُ قَدْ يُذْكَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي هَذَا الْوَضْعِ وَإِنْ كَانَتِ الْفَاءُ أَوْضَحَ، أَمَّا مَنْ قَرَأَ: وَاتَّخَذُوا بِالْفَتْحِ فَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِنْ مَقَامِهِ مُصَلًّى، فَيَكُونُ هَذَا عَطْفًا عَلَى: جَعَلْنَا الْبَيْتَ وَاتَّخَذُوهُ مُصَلًّى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ وَإِذِ اتَّخَذُوهُ مُصَلًّى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا أَقْوَالًا فِي أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّهُ مَوْضِعُ الْحَجَرِ قَامَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ ذَكَرُوا وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي كَانَتْ زَوْجَةُ إِسْمَاعِيلَ وَضَعَتْهُ تَحْتَ قَدَمِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ غَسَلَتْ رَأْسَهُ فَوَضَعَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رِجْلَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ رَاكِبٌ فَغَسَلَتْ أَحَدَ شِقَّيْ رَأْسِهِ ثُمَّ رَفَعَتْهُ مِنْ تَحْتِهِ وَقَدْ غَاصَتْ رِجْلُهُ فِي الْحَجَرِ فَوَضَعَتْهُ تَحْتَ الرِّجْلِ الْأُخْرَى فَغَاصَتْ رِجْلُهُ أَيْضًا فِيهِ فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مُعْجِزَاتِهِ وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ

أَنَسٍ. وَثَانِيهَا: مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَبْنِي الْبَيْتَ وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَيَقُولَانِ: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الْبَقَرَةِ: 127] فَلَمَّا ارْتَفَعَ الْبُنْيَانُ وَضَعُفَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ وَضْعِ الْحِجَارَةِ قَامَ عَلَى حَجَرٍ وَهُوَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ الْحَرَمُ كُلُّهُ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَرَفَةُ وَالْمُزْدَلِفَةُ وَالْجِمَارُ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ. الرَّابِعُ: الْحَجُّ كُلُّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاتَّفَقَ المحققون على أن القول الأولى أَوْلَى وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: مَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ أَتَى الْمَقَامَ وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى فَقِرَاءَةُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ هُوَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ ظَاهِرٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا الِاسْمَ فِي الْعُرْفِ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ سَائِلًا لَوْ سَأَلَ الْمَكِّيَّ بِمَكَّةَ عَنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يُجِبْهُ وَلَمْ يَفْهَمْ مِنْهُ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعَ/. وَثَالِثُهَا: مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِالْمَقَامِ وَمَعَهُ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ هَذَا مَقَامَ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَفَلَا نَتَّخِذُهُ مُصَلًّى؟ قَالَ: لَمْ أُومَرْ بِذَلِكَ، فَلَمْ تَغِبِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِهِمْ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْحَجَرَ صَارَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ فِي رُطُوبَةِ الطِّينِ حَتَّى غَاصَتْ فِيهِ رِجْلَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ مِنْ أَظْهَرِ الدَّلَائِلِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُعْجِزَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانَ اخْتِصَاصُهُ بِإِبْرَاهِيمَ أَوْلَى مِنِ اخْتِصَاصِ غَيْرِهِ بِهِ، فَكَانَ إِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ أَوْلَى. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَلَيْسَ لِلصَّلَاةِ تَعَلُّقٌ بِالْحَرَمِ وَلَا بِسَائِرِ الْمَوَاضِعِ إِلَّا بِهَذَا الْمَوْضِعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ هُوَ هَذَا الْمَوْضِعَ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ هُوَ مَوْضِعُ قِيَامِهِ، وَثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَامَ عَلَى هَذَا الْحَجَرِ عِنْدَ الْمُغْتَسَلِ وَلَمْ يَثْبُتْ قِيَامُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَحَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ، أَعْنِي: مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْحَجَرِ يَكُونُ أَوْلَى قَالَ الْقَفَّالُ: وَمَنْ فَسَّرَ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ بِالْحَجَرِ خَرَّجَ قَوْلَهُ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى عَلَى مَجَازِ قَوْلِ الرَّجُلِ: اتَّخَذْتُ مِنْ فُلَانٍ صَدِيقًا وَقَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ مِنْ فُلَانٍ أَخًا صَالِحًا وَوَهَبَ اللَّهُ لِي مِنْكَ وَلِيًّا مُشْفِقًا وَإِنَّمَا تَدْخُلُ «مِنْ» لِبَيَانِ الْمُتَّخَذِ الْمَوْصُوفِ وَتُمَيِّزُهُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: مُصَلًّى وُجُوهًا. أَحَدُهَا: الْمُصَلَّى الْمُدَّعَى فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّلَاةِ الَّتِي هي الدعاء، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ [الْأَحْزَابِ: 56] وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لِيَتِمَّ لَهُ قَوْلُهُ: إِنَّ كُلَّ الْحَرَمِ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ. وَثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ: أَرَادَ بِهِ قِبْلَةً. وَثَالِثُهَا: قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا عِنْدَهُ. قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى لِأَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ إِذَا أُطْلِقَ يُعْقَلُ مِنْهُ الصَّلَاةُ الْمَفْعُولَةُ بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَلَا تَرَى أَنَّ مُصَلَّى الْمِصْرِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ صَلَاةُ الْعِيدِ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ الْمُصَلَّى أَمَامَكَ يَعْنِي بِهِ مَوْضِعَ الصَّلَاةِ الْمَفْعُولَةِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلَاةِ عِنْدَهُ بَعْدَ تِلَاوَةِ الْآيَةِ وَلِأَنَّ حَمْلَهَا عَلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ أَوْلَى لِأَنَّهَا جَامِعَةٌ لِسَائِرِ الْمَعَانِي الَّتِي فَسَّرُوا الْآيَةَ بها وهاهنا بَحْثٌ فِقْهِيٌّ وَهُوَ أَنَّ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ فَرْضٌ أَمْ سُنَّةٌ يُنْظَرُ إِنْ كَانَ الطَّوَافُ فَرْضًا فَلِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: فَرْضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ. وَالثَّانِي: سُنَّةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا، قال: لا إلا أن تطوع وَإِنْ كَانَ الطَّوَافُ نَفْلًا مِثْلَ طَوَافِ الْقُدُومِ فَرَكْعَتَاهُ سُنَّةٌ وَالرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مُخْتَلِفَةٌ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي فَضَائِلِ الْبَيْتِ: رَوَى الشَّيْخُ أحمد البيهقي كِتَابِ شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ عَلَى الْأَرْضِ أَوَّلًا؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قَالَ: قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ فَهُوَ مَسْجِدٌ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قَالَ: خُلِقَ الْبَيْتُ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ عَامٍ ثُمَّ دُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْهُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَوَّلُ بُقْعَةٍ وُضِعَتْ/ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعُ الْبَيْتِ ثُمَّ مُدَّتْ مِنْهَا الْأَرْضُ، وَإِنَّ أَوَّلَ جَبَلٍ وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَبُو قُبَيْسٍ ثُمَّ مُدَّتْ مِنْهُ الْجِبَالُ» . وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ اسْتَوْحَشَ مِنْهَا لِمَا رَأَى مِنْ سَعَتِهَا وَلِأَنَّهُ لَمْ يَرَ فِيهَا أَحَدًا غَيْرَهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أَمَا لِأَرْضِكَ هَذِهِ عَامِرٌ يُسَبِّحُكَ فِيهَا وَيُقَدِّسُ لَكَ غَيْرِي. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي سَأَجْعَلُ فِيهَا مِنْ ذُرِّيَّتِكَ مَنْ يُسَبِّحُ بِحَمْدِي وَيُقَدِّسُ لِي وَسَأَجْعَلُ فِيهَا بُيُوتًا تُرْفَعُ لِذِكْرِي فَيُسَبِّحُنِي فِيهَا خَلْقِي وَسَأُبَوِّئُكَ مِنْهَا بَيْتًا أَخْتَارُهُ لِنَفْسِي وَأَخُصُّهُ بِكَرَامَتِي وَأُوثِرُهُ عَلَى بُيُوتِ الْأَرْضِ كُلِّهَا بِاسْمِي وَأُسَمِّيهِ بَيْتِي أُعَظِّمُهُ بِعَظَمَتِي وَأَحُوطُهُ بحرمتي وأجعله أحق البيوت كلها وأولادها بِذِكْرِي وَأَضَعُهُ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي اخْتَرْتُ لِنَفْسِي فإني اخترت مكانه يوم خلقت السموات وَالْأَرْضَ، أَجْعَلُ ذَلِكَ الْبَيْتَ لَكَ وَلِمَنْ بَعْدَكَ حَرَمًا آمِنًا أُحَرِّمُ بِحُرْمَتِهِ مَا فَوْقَهُ وَمَا تَحْتَهُ وَمَا حَوْلَهُ فَمَنْ حَرَّمَهُ بِحُرْمَتِي فَقَدْ عَظَّمَ حُرْمَتِي وَمَنْ أَحَلَّهُ فَقَدْ أَبَاحَ حُرْمَتِي، وَمَنْ أَمَّنَ أَهْلَهُ اسْتَوْجَبَ بِذَلِكَ أَمَانِي وَمَنْ أَخَافَهُمْ فَقَدْ أَخَافَنِي وَمَنْ عَظَّمَ شَأْنَهُ فَقَدْ عَظُمَ فِي عَيْنِي وَمَنْ تَهَاوَنَ بِهِ فَقَدْ صَغُرَ فِي عَيْنِي سُكَّانُهَا جِيرَانِي وَعُمَّارُهَا وَفْدِي وَزُوَّارُهَا أَضْيَافِي أَجْعَلُهُ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ وَأُعَمِّرُهُ بِأَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، يَأْتُونَهُ أَفْوَاجًا شُعْثًا غُبْرًا: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الْحَجِّ: 27] يَعُجُّونَ بِالتَّكْبِيرِ عَجًّا إِلَيَّ وَيَثُجُّونَ بِالتَّلْبِيَةِ ثَجًّا، فَمَنِ اعْتَمَرَهُ لَا يُرِيدُ غَيْرِي فَقَدْ زَارَنِي وَضَافَنِي وَنَزَلَ بِي وَوَفَدَ عَلَيَّ، فَحَقَّ لِي أَنْ أُتْحِفَهُ بِكَرَامَتِي وَحَقَّ عَلَى الْكَرِيمِ أَنْ يُكْرِمَ وَفْدَهُ وَأَضْيَافَهُ وَزُوَّارَهُ وَأَنْ يُسْعِفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحَاجَتِهِ تُعَمِّرُهُ يَا آدَمُ مَا كُنْتَ حَيًّا ثُمَّ يُعَمِّرُهُ مِنْ بَعْدِكَ الْأُمَمُ وَالْقُرُونُ وَالْأَنْبِيَاءُ مِنْ وَلَدِكَ أُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ وَقَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَنَبِيًّا بَعْدَ نَبِيٍّ حَتَّى يَنْتَهِيَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ وَلَدِكَ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ فَأَجْعَلُهُ مِنْ سُكَّانِهِ وَعُمَّارِهِ وَحُمَاتِهِ وَوُلَاتِهِ فَيَكُونُ أَمِينِي عَلَيْهِ مَا دَامَ حَيًّا، فَإِذَا انْقَلَبَ إِلَيَّ وَجَدَنِي قَدِ ادَّخَرْتُ لَهُ مِنْ أَجْرِهِ مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنَ الْقُرْبَةِ إِلَى الْوَسِيلَةِ عِنْدِي وَأَجْعَلُ اسْمَ ذَلِكَ الْبَيْتِ وَذِكْرَهُ وَشَرَفَهُ وَمَجْدَهُ وَسَنَاهُ وَتَكْرُمَتَهُ لِنَبِيٍّ مِنْ وَلَدِكَ يَكُونُ قَبْلَ هَذَا النَّبِيِّ وَهُوَ أَبُوهُ، يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ أَرْفَعُ لَهُ قَوَاعِدَهُ وَأَقْضِي عَلَى يَدَيْهِ عِمَارَتَهُ وَأُعَلِّمُهُ مَشَاعِرَهُ وَمَنَاسِكَهُ وَأَجْعَلُهُ أُمَّةً وَاحِدَةً قَانِتًا قَائِمًا بِأَمْرِي دَاعِيًا إِلَى سَبِيلِي أَجْتَبِيهِ وَأَهْدِيهِ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أَبْتَلِيهِ فَيَصْبِرُ وَأُعَافِيهِ فَيَشْكُرُ، وَآمُرُهُ فَيَفْعَلُ وَيَنْذِرُ لي فيفي ويدعوني فاستجب دَعْوَتَهُ فِي وَلَدِهِ وَذُرِّيَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَأُشَفِّعُهُ فِيهِمْ وَأَجْعَلُهُمْ أَهْلَ ذَلِكَ الْبَيْتِ وَوُلَاتَهُ وَحُمَاتَهُ وَسُقَاتَهُ وَخُدَّامَهُ وَخُزَّانَهُ وَحُجَّابَهُ حَتَّى يُبَدِّلُوا أَوْ يُغَيِّرُوا وَأَجْعَلُ إِبْرَاهِيمَ إِمَامَ ذَلِكَ الْبَيْتِ وَأَهْلَ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ يَأْتَمُّ بِهِ مَنْ حَضَرَ تِلْكَ الْمَوَاطِنَ مِنْ جَمِيعِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: أُهْبِطَ آدَمُ بِالْهِنْدِ فَقَالَ: يَا رَبِّ مَا لِي لَا أَسْمَعُ صَوْتَ الْمَلَائِكَةِ كَمَا كُنْتُ أَسْمَعُهَا فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: بِخَطِيئَتِكَ يَا آدَمُ فَانْطَلِقْ إِلَى مَكَّةَ فَابْنِ بِهَا بَيْتًا تَطُوفُ بِهِ كَمَا رَأَيْتَهُمْ يَطُوفُونَ فَانْطَلَقَ إِلَى مَكَّةَ فَبَنَى الْبَيْتَ، فَكَانَ مَوْضِعُ قَدَمَيْ آدَمَ قُرًى وَأَنْهَارًا وَعِمَارَةً وَمَا بَيْنَ خُطَاهُ مَفَاوِزَ فَحَجَّ آدَمُ الْبَيْتَ مِنَ الْهِنْدِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَسَأَلَ عُمَرُ كَعْبًا فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الْبَيْتِ فَقَالَ إِنَّ هَذَا الْبَيْتَ أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ السَّمَاءِ يَاقُوتَةً مُجَوَّفَةً مَعَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: / يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا بَيْتِي فَطُفْ حَوْلَهُ

وَصَلِّ حَوْلَهُ كَمَا رَأَيْتَ مَلَائِكَتِي تَطُوفُ حَوْلَ عَرْشِي وَتُصَلِّي وَنَزَلَتْ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ فَرَفَعُوا قَوَاعِدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ، فَوُضِعَ الْبَيْتُ عَلَى الْقَوَاعِدِ فَلَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ قَوْمَ نُوحٍ رَفَعَهُ اللَّهُ وَبَقِيَتْ قَوَاعِدُهُ. وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ بَيْتٌ فِي السَّمَاءِ يُقَالُ لَهُ الضُّرَاحُ، وَهُوَ بِحِيَالِ الْكَعْبَةِ مِنْ فَوْقِهَا حُرْمَتُهُ فِي السَّمَاءِ كَحُرْمَةِ الْبَيْتِ فِي الْأَرْضِ، يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا يَعُودُونَ فِيهِ أَبَدًا، وَذَكَرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ بَعْدَ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ فَانْهَدَمَ فَبَنَتْهُ الْعَمَالِقَةُ وَمَرَّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ فَانْهَدَمَ فَبَنَتْهُ جُرْهُمُ وَمَرَّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ فَانْهَدَمَ فَبَنَتْهُ قُرَيْشٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ شَابٌّ، فَلَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَرْفَعُوا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ اخْتَصَمُوا فِيهِ فَقَالُوا: يَحْكُمُ بَيْنَنَا أَوَّلُ رَجُلٍ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ السِّكَّةِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَضَى بَيْنَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا الْحَجَرَ فِي مِرْطٍ ثُمَّ تَرْفَعُهُ جَمِيعُ الْقَبَائِلِ فَرَفَعُوهُ كُلُّهُمْ فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَهُ، وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَلَاثَ صُفُوحٍ فِي كُلِّ صَفْحٍ مِنْهَا كِتَابٌ، فِي الصَّفْحِ الْأَوَّلِ: أَنَا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ صَنَعْتُهَا يَوْمَ صَنَعْتُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَحَفَفْتُهَا بِسَبْعَةِ أَمْلَاكٍ حَفًّا وَبَارَكْتُ لِأَهْلِهَا فِي اللَّحْمِ وَاللَّبَنِ. وَفِي الصَّفْحِ الثَّانِي: أَنَا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنِ اسْمِي مَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ. وَفِي الثَّالِثِ: أَنَا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ خَلَقْتُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، فَطُوبَى لِمَنْ كَانَ الْخَيْرُ عَلَى يَدَيْهِ وَوَيْلٌ لِمَنْ كَانَ الشَّرُّ عَلَى يَدَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي فَضَائِلِ الْحَجَرِ وَالْمَقَامِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الرُّكْنُ وَالْمَقَامُ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَوَاقِيتِ الْجَنَّةِ طَمَسَ اللَّهُ نُورَهُمَا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَضَاءَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا مسهما ذو عاهة ولا سقيم إلا شقي» وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّهُ كَانَ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا أَهْلِ الشِّرْكِ» ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَيَأْتِيَنَّ هَذَا الْحَجَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ، يَشْهَدُ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ» . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَقَالَ: إِنِّي لَأُقَبِّلُكَ وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ. أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ فَالْأَوْلَى أَنْ يُرَادَ بِهِ أَلْزَمْنَاهُمَا ذَلِكَ وَأَمَرْنَاهُمَا أَمْرًا وَثَّقْنَا عَلَيْهِمَا فِيهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ مَعْنَى الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ فَيَجِبُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّطْهِيرُ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ لَا يَلِيقُ بِالْبَيْتِ، فَإِذَا كَانَ مَوْضِعُ الْبَيْتِ وَحَوَالَيْهِ مُصَلًّى وَجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الْأَنْجَاسِ وَالْأَقْذَارِ، وَإِذَا كَانَ مَوْضِعَ الْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى: وَجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ. وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْكَلَامِ ثُمَّ إِنَّ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَى: طَهِّرا بَيْتِيَ ابْنِيَاهُ وَطَهِّرَاهُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَسِّسَاهُ عَلَى التَّقْوَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 109] . وَثَانِيهَا: عَرِّفَا النَّاسَ أَنَّ بَيْتِيَ/ طُهْرَةٌ لَهُمْ مَتَى حَجُّوهُ وَزَارُوهُ وَأَقَامُوا بِهِ، وَمَجَازُهُ: اجْعَلَاهُ طَاهِرًا عِنْدَهُمْ، كَمَا يُقَالُ: الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُطَهِّرُ هَذَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُنَجِّسُهُ. وَثَالِثُهَا: ابْنِيَاهُ وَلَا تَدَعَا أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الرَّيْبِ وَالشِّرْكِ يُزَاحِمُ الطَّائِفِينَ فِيهِ، بَلْ أَقِرَّاهُ عَلَى طَهَارَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالرَّيْبِ، كَمَا يُقَالُ: طَهَّرَ اللَّهُ الْأَرْضَ مِنْ فُلَانٍ، وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يُوجِبُ إِيقَاعَ تَطْهِيرِهِ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالشِّرْكِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ [الْبَقَرَةِ: 25] فَمَعْلُومٌ أَنَّهُنَّ لَمْ يُطَهَّرْنَ مِنْ نَجَسٍ بَلْ خُلِقْنَ طَاهِرَاتٍ، وَكَذَا الْبَيْتُ الْمَأْمُورُ بِتَطْهِيرِهِ خُلِقَ طَاهِرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَابِعُهَا: مَعْنَاهُ نَظِّفَا بَيْتِيَ مِنَ الْأَوْثَانِ

[سورة البقرة (2) : آية 126]

وَالشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، لِيَقْتَدِيَ النَّاسُ بِكُمَا فِي ذَلِكَ. وَخَامِسُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مَوْضِعَ الْبَيْتِ قَبْلَ الْبِنَاءِ كَانَ يُلْقَى فِيهِ الْجِيَفُ وَالْأَقْذَارُ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ بِإِزَالَةِ تِلْكَ الْقَاذُورَاتِ وَبِنَاءِ الْبَيْتِ هُنَاكَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَبْلَ الْبِنَاءِ مَا كَانَ الْبَيْتُ مَوْجُودًا فَتَطْهِيرُ تِلْكَ الْعَرْصَةِ لَا يَكُونُ تَطْهِيرًا لِلْبَيْتِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ سَمَّاهُ بَيْتًا لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ مَآلَهُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ بَيْتًا وَلَكِنَّهُ مَجَازٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَكْفُ مَصْدَرُ عَكُفَ يعكف بِضَمِّ الْكَافِ وَكَسْرِهَا عَكْفًا إِذَا لَزِمَ الشَّيْءَ وَأَقَامَ عَلَيْهِ فَهُوَ عَاكِفٌ، وَقِيلَ: إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ لَا يَصْرِفُ عَنْهُ وَجْهَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ قَوْلَانِ، الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى فِرَقٍ ثَلَاثَةٍ، لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْمَعْطُوفِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الطَّائِفُونَ غَيْرَ الْعَاكِفِينَ وَالْعَاكِفُونَ غَيْرَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ لِتَصِحَّ فَائِدَةُ الْعَطْفِ، فَالْمُرَادُ بِالطَّائِفِينَ: مَنْ يَقْصِدُ الْبَيْتَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا فَيَطُوفُ بِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَاكِفِينَ: مَنْ يُقِيمُ هُنَاكَ وَيُجَاوِرُ، وَالْمُرَادُ بِالرُّكَّعِ السُّجُودِ: مَنْ يُصَلِّي هُنَاكَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ طَائِفًا فَهُوَ مِنَ الطَّائِفِينَ، وَإِذَا كَانَ جَالِسًا فَهُوَ مِنَ الْعَاكِفِينَ، وَإِذَا كَانَ مُصَلِّيًا فَهُوَ مِنَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ، تَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّا إِذَا فَسَّرْنَا الطَّائِفِينَ بِالْغُرَبَاءِ فَحِينَئِذٍ تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ لِلْغُرَبَاءِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى كَمَا خَصَّهُمْ بِالطَّوَافِ دَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُمْ بِهِ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ: أَنَّ الطَّوَافَ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ أَفْضَلُ، وَالصَّلَاةَ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَفْضَلُ. وَثَانِيهَا: تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِكَافِ فِي الْبَيْتِ. وَثَالِثُهَا: تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلًا إِذْ لَمْ تُفَرِّقِ الْآيَةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مِنْهَا، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ جَوَازِ فِعْلِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فِي الْبَيْتِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فِي الْبَيْتِ، وَكَمَا لَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ فِعْلِ الطَّوَافِ فِي جَوْفِ الْبَيْتِ، وَإِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى فِعْلِهِ خَارِجَ الْبَيْتِ، كَذَلِكَ دَلَالَتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى جَوَازِ فِعْلِ الصَّلَاةِ إِلَى الْبَيْتِ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ، قُلْنَا: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَتَنَاوَلُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ إِلَى الْبَيْتِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْبَيْتِ أَوْ خَارِجًا عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَوْجَبْنَا وُقُوعَ الطَّوَافِ خَارِجَ الْبَيْتِ لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ هُوَ أَنْ/ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَلَا يُسَمَّى طَائِفًا بِالْبَيْتِ مَنْ طَافَ فِي جَوْفِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِهِ لَا بِالطَّوَافِ فِيهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الْحَجِّ: 29] وَأَيْضًا الْمُرَادُ لَوْ كَانَ التَّوَجُّهَ إِلَيْهِ لِلصَّلَاةِ، لَمَا كَانَ لِلْأَمْرِ بِتَطْهِيرِ الْبَيْتِ للركع السجود وجه، إذا كان حاضر والبيت وَالْغَائِبُونَ عَنْهُ سَوَاءً فِي الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْبَقَرَةِ: 144] وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمْ يَكُنْ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَسْجِدِ بَلْ إِلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُتَوَجِّهَ الْوَاحِدَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَجِّهًا إِلَى كُلِّ الْمَسْجِدِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَوَجِّهًا إِلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْبَيْتِ فَهُوَ كَذَلِكَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ الْآيَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: لِلطَّائِفِينَ يَتَنَاوَلُ مُطْلَقَ الطَّوَافِ سَوَاءٌ كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ أَوْ ثَبَتَ حُكْمُهُ بِالسُّنَّةِ، أَوْ كَانَ مِنَ المندوبات. [سورة البقرة (2) : آية 126] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ أَحْوَالِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ تعالى هاهنا، قَالَ الْقَاضِي: فِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْبَلَدِ فِي الْوُجُودِ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ بَعْدُ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [الْبَقَرَةِ: 128] وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي التِّلَاوَةِ فَهُوَ مُتَقَدِّمٌ في المعنى، وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ دُعَاءُ إِبْرَاهِيمَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ سُكَّانِ مَكَّةَ بِالْأَمْنِ وَالتَّوْسِعَةِ بِمَا يُجْلَبُ إِلَى مَكَّةَ لِأَنَّهَا بَلَدٌ لَا زَرْعَ وَلَا غَرْسَ فِيهِ، فَلَوْلَا الْأَمْنُ لَمْ يُجْلَبْ إِلَيْهَا مِنَ النَّوَاحِي وَتَعَذَّرَ الْعَيْشُ فِيهَا. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَ دُعَاءَهُ وَجَعَلَهُ آمِنًا مِنَ الْآفَاتِ، فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ جَبَّارٌ إِلَّا قَصَمَهُ اللَّهُ كَمَا فَعَلَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، وهاهنا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَلَيْسَ أَنَّ الْحَجَّاجَ حَارَبَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَخَرَّبَ الْكَعْبَةَ وَقَصَدَ أَهْلَهَا بِكُلِّ سُوءٍ وَتَمَّ لَهُ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ تَخْرِيبَ الْكَعْبَةِ لِذَاتِهَا، بَلْ كَانَ مَقْصُودُهُ شَيْئًا آخَرَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: الْمَطْلُوبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْبَلَدَ آمِنًا كَثِيرَ الْخِصْبِ، وَهَذَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ/ بِمَنَافِعِ الدُّنْيَا فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّسُولِ الْمُعَظَّمِ طَلَبُهَا. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ الدُّنْيَا إِذَا طُلِبَتْ لِيُتَقَوَّى بِهَا عَلَى الدِّينِ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الدِّينِ، فَإِذَا كَانَ الْبَلَدُ آمِنًا وَحَصَلَ فِيهِ الْخِصْبُ تَفَرَّغَ أَهْلُهُ لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ الْبَلَدُ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ كَانُوا عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَالنَّاسُ إِنَّمَا يُمْكِنُهُمُ الذَّهَابُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَتِ الطُّرُقُ آمِنَةً وَالْأَقْوَاتُ هُنَاكَ رَخِيصَةً. وَثَالِثُهَا: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْنُ وَالْخِصْبُ مِمَّا يَدْعُو الْإِنْسَانُ إِلَى الذَّهَابِ إِلَى تِلْكَ الْبَلْدَةِ، فَحِينَئِذٍ يُشَاهِدُ الْمَشَاعِرَ الْمُعَظَّمَةَ وَالْمَوَاقِفَ الْمُكَرَّمَةَ فَيَكُونُ الْأَمْنُ وَالْخِصْبُ سَبَبَ اتِّصَالِهِ فِي تِلْكَ الطَّاعَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: بَلَداً آمِناً يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مَأْمُونٌ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الْقَارِعَةِ: 7] أَيْ مَرْضِيَّةٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ المراد أهل البلد كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] أَيْ أَهْلَهَا وَهُوَ مَجَازٌ لِأَنَّ الْأَمْنَ وَالْخَوْفَ لَا يَلْحَقَانِ الْبَلَدَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اختلفوا في الأمن المسؤول فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: سَأَلَهُ الْأَمْنَ مِنَ الْقَحْطِ لِأَنَّهُ أَسْكَنَ أَهْلَهُ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ وَلَا ضَرْعٍ. وَثَانِيهَا: سَأَلَهُ الْأَمْنَ مِنَ الْخَسْفِ وَالْمَسْخِ. وَثَالِثُهَا: سَأَلَهُ الْأَمْنَ من القتل وهو قول أبو بَكْرٍ الرَّازِيِّ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَهُ الْأَمْنَ أَوَّلًا، ثُمَّ سَأَلَهُ الرِّزْقَ ثَانِيًا، وَلَوْ كَانَ الْأَمْنُ الْمَطْلُوبُ هُوَ الْأَمْنَ مِنَ الْقَحْطِ لَكَانَ سُؤَالُ الرِّزْقِ بَعْدَهُ تَكْرَارًا فَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ إلى قوله: وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ [إبراهيم: 37] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ ضَعِيفَةٌ فَإِنَّ لِقَائِلٍ أن يقول: لعل الأمن المسؤول هُوَ الْأَمْنُ مِنَ الْخَسْفِ وَالْمَسْخِ، أَوْ لَعَلَّهُ الْأَمْنُ مِنَ الْقَحْطِ، ثُمَّ الْأَمْنُ مِنَ الْقَحْطِ قَدْ يَكُونُ بِحُصُولِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَغْذِيَةِ وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّوْسِعَةِ فِيهَا فَهُوَ بِالسُّؤَالِ الْأَوَّلِ طَلَبُ إِزَالَةِ الْقَحْطِ وَبِالسُّؤَالِ الثَّانِي طَلَبُ التوسعة العظيمة.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ مَكَّةَ هَلْ كَانَتْ آمِنَةً مُحَرَّمَةً قَبْلَ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ إِنَّمَا صَارَتْ كَذَلِكَ بِدَعْوَتِهِ فَقَالَ قَائِلُونَ: إِنَّهَا كَانَتْ كَذَلِكَ أَبَدًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ» وَأَيْضًا قَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إِبْرَاهِيمَ: 37] وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكَّدَهُ بِهَذَا الدُّعَاءِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهَا إِنَّمَا صَارَتْ حَرَمًا آمِنًا بِدُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السلام وقبله كانت لسائر الْبِلَادِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ» . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهَا كَانَتْ حَرَامًا قَبْلَ الدَّعْوَةِ بِوَجْهٍ غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي صَارَتْ بِهِ حَرَامًا بعد الدعوة. فالأول: يمنع اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الِاصْطِلَامِ وَبِمَا جَعَلَ فِي النُّفُوسِ مِنَ التَّعْظِيمِ. وَالثَّانِي: بِالْأَمْرِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِنَّمَا قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: بَلَداً آمِناً عَلَى التَّنْكِيرِ وَقَالَ فِي السورة إبراهيم: هَذَا الْبَلَدَ آمِناً عَلَى التَّعْرِيفِ لِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الدَّعْوَةَ الْأُولَى وَقَعَتْ وَلَمْ يَكُنِ الْمَكَانُ قَدْ جُعِلَ بَلَدًا، كَأَنَّهُ قَالَ: اجْعَلْ هَذَا الْوَادِيَ بَلَدًا آمِنًا لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم: 37] فقال: هاهنا اجْعَلْ هَذَا الْوَادِيَ بَلَدًا آمِنًا، وَالدَّعْوَةُ الثَّانِيَةُ وَقَعَتْ وَقَدْ جُعِلَ بَلَدًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اجْعَلْ هَذَا الْمَكَانَ الَّذِي صَيَّرْتَهُ بَلَدًا ذَا أَمْنٍ وَسَلَامَةٍ، كَقَوْلِكَ: جَعَلْتُ هَذَا الرَّجُلَ آمِنًا. الثَّانِي: أن تكون الدعوتان وقعتا بعد ما صَارَ الْمَكَانُ بَلَدًا، فَقَوْلُهُ: اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً تَقْدِيرُهُ: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ بَلَدًا آمِنًا، كَقَوْلِكَ: كَانَ الْيَوْمُ يَوْمًا حَارًّا، وَهَذَا إِنَّمَا تَذْكُرُهُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي وَصْفِهِ بِالْحَرَارَةِ، لِأَنَّ التَّنْكِيرَ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، فَقَوْلُهُ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً مَعْنَاهُ: اجْعَلْهُ مِنَ الْبُلْدَانِ الْكَامِلَةِ فِي الْأَمْنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا طَلَبُ الْأَمْنِ لَا طَلَبُ الْمُبَالَغَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ أَنْ يُدِرَّ عَلَى سَاكِنِي مَكَّةَ أَقْوَاتَهُمْ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فَصَارَتْ مَكَّةُ يُجْبَى إِلَيْهَا ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ، أَمَّا قَوْلُهُ: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ فَهُوَ يدل مِنْ قَوْلِهِ: أَهْلَهُ يَعْنِي وَارْزُقِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِهِ خَاصَّةً، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آلِ عِمْرَانَ: 97] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَعْلَمَهُ أَنَّ مِنْهُمْ قَوْمًا كُفَّارًا بِقَوْلِهِ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] لَا جَرَمَ خَصَّصَ دُعَاءَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ وَسَبَبُ هَذَا التَّخْصِيصِ النَّصُّ وَالْقِيَاسُ، أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [الْمَائِدَةِ: 68] وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ الْإِمَامَةَ فِي ذُرِّيَّتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: 124] فَصَارَ ذَلِكَ تَأْدِيبًا فِي الْمَسْأَلَةِ، فَلَمَّا مَيَّزَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْكَافِرِينَ فِي بَابِ الْإِمَامَةِ، لَا جَرَمَ خَصَّصَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا الدُّعَاءِ دُونَ الْكَافِرِينَ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَهُ بِقَوْلِهِ: فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا الْفَرْقَ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَرِزْقِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ وَالْإِمَامَةِ لَا يَلِيقُ بِالْفَاسِقِينَ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِمَامَةِ وَالنُّبُوَّةِ مِنْ قُوَّةِ الْعَزْمِ وَالصَّبْرِ عَلَى ضُرُوبِ الْمِحْنَةِ حَتَّى يُؤَدِّيَ عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَلَا تَأْخُذَهُ فِي الدِّينِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَسَطْوَةُ جَبَّارٍ، أَمَّا الرِّزْقُ فَلَا يَقْبُحُ إِيصَالُهُ إِلَى الْمُطِيعِ وَالْكَافِرِ وَالصَّادِقِ وَالْمُنَافِقِ، فَمَنْ آمَنَ فَالْجَنَّةُ مَسْكَنُهُ وَمَثْوَاهُ، وَمَنْ كَفَرَ فَالنَّارُ مُسْتَقَرُّهُ وَمَأْوَاهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوِيٌّ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ إِنْ دَعَا لِلْكُلِّ كَثُرَ فِي الْبَلَدِ الْكُفَّارُ فَيَكُونُ فِي غَلَبَتِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ مَفْسَدَةٌ وَمَضَرَّةٌ مِنْ ذَهَابِ النَّاسِ إِلَى الْحَجِّ، فَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالدُّعَاءِ لِهَذَا السَّبَبِ،

[سورة البقرة (2) : الآيات 127 إلى 129]

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فَأُمَتِّعُهُ بِسُكُونِ الْمِيمِ خَفِيفَةً مِنْ أَمْتَعْتُ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْمِيمِ مُشَدَّدَةً مِنْ مَتَّعْتُ، وَالتَّشْدِيدُ يَدُلُّ على الكثير بِخِلَافِ التَّخْفِيفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أُمَتِّعُهُ قِيلَ: بِالرِّزْقِ، وَقِيلَ: بِالْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: بِهِمَا إِلَى خُرُوجِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يُخْرِجُهُ مِنْ هَذِهِ الدِّيَارِ إِنْ أَقَامَ عَلَى الْكُفْرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ/ تَعَالَى كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّكَ وَإِنْ كُنْتَ خَصَصْتَ بِدُعَائِكَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنِّي أُمَتِّعُ الْكَافِرَ مِنْهُمْ بِعَاجِلِ الدُّنْيَا، وَلَا أَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَنْ يَتِمَّ عُمْرُهُ فَأَقْبِضَهُ ثُمَّ أَضْطَرَّهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَى عَذَابِ النَّارِ، فَجَعَلَ مَا رُزِقَ الْكَافِرُ فِي دَارِ الدُّنْيَا قَلِيلًا، إِذْ كَانَ وَاقِعًا فِي مُدَّةِ عُمْرِهِ، وَهِيَ مُدَّةٌ وَاقِعَةٌ فِيمَا بَيْنَ الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا قَلِيلٌ جِدًّا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ نِعْمَةَ الْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا مَوْصُولَةٌ بِالنِّعْمَةِ فِي الْآخِرَةِ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ فَإِنَّ نِعْمَتَهُ فِي الدُّنْيَا تَنْقَطِعُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَتَتَخَلَّصُ مِنْهُ إِلَى الْآخِرَةِ، أَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي الِاضْطِرَارِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا يَتَعَذَّرُ عليه الخلاص منه وهاهنا كَذَلِكَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطُّورِ: 13] ويَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ [الْقَمَرِ: 48] يُقَالُ: اضْطَرَرْتُهُ إِلَى الْأَمْرِ أَيْ أَلْجَأْتُهُ وَحَمَلْتُهُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ كَانَ كَارِهًا لَهُ، وَقَالُوا: إِنَّ أَصْلَهُ مِنَ الضُّرِّ وَهُوَ إِدْنَاءُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ ضَرَّةُ الْمَرْأَةِ لِدُنُوِّهَا وَقُرْبِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الِاضْطِرَارَ هُوَ أَنْ يَصِيرَ الْفَاعِلُ بِالتَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ إِلَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ اخْتِيَارًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ [البقرة: 173] [الأنعام: 145] [النحل: 115] فَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إِلَى تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْأَكْلُ فَعَلَهُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُلْجِئُهُ إِلَى أَنْ يَخْتَارَ النَّارَ وَالِاسْتِقْرَارَ فِيهَا بِأَنْ أَعْلَمَهُ بِأَنَّهُ لَوْ رَامَ التَّخَلُّصَ لَمُنِعَ مِنْهُ، لِأَنَّ مَنْ هَذَا حَالُهُ يَجْعَلُ مَلْجَأً إِلَى الْوُقُوعِ فِي النَّارِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ بِئْسَ الْمَصِيرُ، لِأَنَّ نِعْمَ الْمَصِيرُ مَا يُنَالُ فِيهِ النَّعِيمُ وَالسُّرُورُ، وبئس المصير ضده. [سورة البقرة (2) : الآيات 127 الى 129] وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَهُوَ أَنَّهُمَا عِنْدَ بِنَاءِ الْبَيْتِ ذَكَرَا ثَلَاثَةً مِنَ الدعاء ثم هاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَإِذْ يَرْفَعُ حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٌ وَالْقَوَاعِدُ جَمْعُ قَاعِدَةٍ وَهِيَ الْأَسَاسُ، وَالْأَصْلُ لِمَا فَوْقَهُ، وَهِيَ صِفَةٌ غَالِبَةٌ، وَمَعْنَاهَا الثَّابِتَةُ، وَمِنْهُ أَقْعَدَكَ اللَّهُ أَيْ أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُقْعِدَكَ أَيْ يُثَبِّتُكَ وَرَفَعَ الْأَسَاسَ الْبَنَّاءُ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا إِذَا بُنِيَ عَلَيْهَا نُقِلَتْ عَنْ هَيْئَةِ الِانْخِفَاضِ إِلَى هَيْئَةِ الِارْتِفَاعِ وَتَطَاوَلَتْ بَعْدَ التَّقَاصُرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا سَافَاتِ الْبِنَاءِ لِأَنَّ كُلَّ سَافٍ قَاعِدَةٌ لِلَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ وَيُوضَعُ فَوْقَهُ، وَمَعْنَى رَفْعِ الْقَوَاعِدِ رَفْعُهَا بِالْبِنَاءِ لِأَنَّهُ إِذَا وَضَعَ سَافًا فَوْقَ سَافٍ فَقَدْ رَفَعَ السَّافَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَخْبَارِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ فِيهِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ فَإِنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ تِلْكَ الْقَوَاعِدَ كَانَتْ مَوْجُودَةً مُتَهَدِّمَةً إِلَّا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَفَعَهَا وَعَمَّرَهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَرِيكًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي رَفْعِ قَوَاعِدِ الْبَيْتِ وَبِنَائِهِ؟ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّهُ كَانَ شَرِيكًا لَهُ فِي ذَلِكَ وَالتَّقْدِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ إِسْمَاعِيلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَطْفُ فِي فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي سَلَفَ ذِكْرُهَا وَلَمْ يَتَقَدَّمْ إلا ذكر رفع قواعد البيت موجب أَنْ يَكُونَ إِسْمَاعِيلُ مَعْطُوفًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ اشْتِرَاكَهُمَا فِي ذَلِكَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْبِنَاءِ وَرَفْعِ الْجُدْرَانِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا بَانِيًا لِلْبَيْتِ وَالْآخَرُ يَرْفَعُ إِلَيْهِ الْحَجَرَ وَالطِّينَ، وَيُهَيِّئُ لَهُ الْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ تَصِحُّ إِضَافَةُ الرَّفْعِ إِلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أُدْخِلَ فِي الْحَقِيقَةِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ إِسْمَاعِيلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ طِفْلًا صَغِيرًا وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَنَّهُ لَمَّا بَنَى الْبَيْتَ خَرَجَ وَخَلَّفَ إِسْمَاعِيلَ وَهَاجَرَ فَقَالَا: إِلَى مَنْ تَكِلُنَا؟ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِلَى اللَّهِ فَعَطِشَ إِسْمَاعِيلُ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا مِنَ الْمَاءِ فَنَادَاهُمَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفَحَصَ الْأَرْضَ بِأُصْبُعِهِ فَنَبَعَتْ زَمْزَمُ وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ: مِنَ الْبَيْتِ ثُمَّ ابْتَدَءُوا: وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا طَاعَتَنَا بِبِنَاءِ هَذَا الْبَيْتِ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ إِسْمَاعِيلُ شَرِيكًا فِي الدُّعَاءِ لَا فِي الْبِنَاءِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: تَقَبَّلْ مِنَّا لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَاذَا يَقْبَلُ فَوَجَبَ صَرْفُهُ إِلَى الْمَذْكُورِ السَّابِقِ وَهُوَ رَفْعُ الْبَيْتِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ كَيْفَ يَدْعُو اللَّهَ بِأَنْ يَتَقَبَّلَهُ مِنْهُ، فَإِذَنْ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ فَوَجَبَ رَدُّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا قَالَ: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَلَمْ يَقُلْ يَرْفَعُ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ لِأَنَّ فِي إِبْهَامِ الْقَوَاعِدِ وَتَبْيِينِهَا بَعْدَ الْإِبْهَامِ مِنْ تَفْخِيمِ الشَّأْنِ مَا لَيْسَ فِي الْعِبَارَةِ الْأُخْرَى، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الدُّعَاءِ. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: تَقَبَّلْ مِنَّا فَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: كُلُّ عَمَلٍ يَقْبَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ يُثِيبُ صَاحِبَهُ وَيَرْضَاهُ مِنْهُ، وَالَّذِي لَا يُثِيبُهُ عَلَيْهِ وَلَا يَرْضَاهُ مِنْهُ فَهُوَ الْمَرْدُودُ، فَهَهُنَا عَبَّرَ عَنْ أَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ بِاسْمِ الْآخَرِ، فَذَكَرَ لَفْظَ الْقَبُولِ وَأَرَادَ بِهِ الثَّوَابَ وَالرِّضَا لِأَنَّ التَّقَبُّلَ هُوَ أَنْ يَقْبَلَ الرَّجُلُ مَا يُهْدَى إِلَيْهِ، فَشَبَّهَ الْفِعْلَ مِنَ الْعَبْدِ بالعطية، والرضا من الله بِالْقَبُولِ تَوَسُّعًا. وَقَالَ الْعَارِفُونَ: فَرْقٌ بَيْنَ الْقَبُولِ وَالتَّقَبُّلِ فَإِنَّ التَّقَبُّلَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ يَتَكَلَّفَ الْإِنْسَانُ فِي قَبُولِهِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ يَكُونُ الْعَمَلُ نَاقِصًا لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقْبَلَ فَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُمَا بِالتَّقْصِيرِ فِي الْعَمَلِ، وَاعْتِرَافٌ بِالْعَجْزِ وَالِانْكِسَارِ، وَأَيْضًا فَلَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ إِعْطَاءَ الثَّوَابِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ وَاقِعًا مَوْقِعَ القبول من المخدوم الذي عِنْدَ الْخَادِمِ الْعَاقِلِ مِنْ إِعْطَاءِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ وَتَمَامُ تَحْقِيقِهِ سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الْمَحَبَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [الْبَقَرَةِ: 165] وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ أَتَوْا بِتِلْكَ الْعِبَادَةِ مُخْلِصِينَ تَضَرَّعُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي قَبُولِهَا وَطَلَبُوا الثَّوَابَ

عَلَيْهَا عَلَى مَا قَالَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ، وَلَوْ كَانَ تَرْتِيبُ الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَقْرُونِ بِالْإِخْلَاصِ وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَمَا كَانَ فِي هَذَا الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ فَائِدَةٌ، فَإِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ فَيَقُولُ: يَا إِلَهِي اجْعَلِ النَّارَ حَارَّةً وَالْجَمَدَ بَارِدًا بَلْ ذَلِكَ الدُّعَاءُ أَحْسَنُ لِأَنَّهُ لَا اسْتِبْعَادَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ فِي صَيْرُورَةِ النَّارِ حَالَ بَقَائِهَا عَلَى صُورَتِهَا فِي الْإِشْرَاقِ وَالِاشْتِعَالِ بَارِدَةً، وَالْجَمَدِ حَالَ بَقَائِهِ عَلَى صُورَتِهِ فِي الِانْجِمَادِ وَالْبَيَاضِ حَارًّا وَيَسْتَحِيلُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنْ لَا يَتَرَتَّبَ الثَّوَابُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ هاهنا أَقْبَحَ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِلْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ أَصْلًا والله أعلم. المسألة الثالثة: إِنَّمَا عَقَّبَ هَذَا الدُّعَاءَ بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: تَسْمَعُ دُعَاءَنَا وَتَضَرُّعَنَا، وَتَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِنَا مِنَ الْإِخْلَاصِ وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَحَدٍ سِوَاكَ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ غَيْرَهُ قَدْ يَكُونُ سَمِيعًا. قُلْنَا: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لِكَمَالِهِ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ يَكُونُ كَأَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِهَا دُونَ غَيْرِهِ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الدُّعَاءِ قَوْلُهُ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَعْمَالِ بِقَوْلِهِ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الدِّينَ وَالِاعْتِقَادَ، أَوِ الِاسْتِسْلَامَ وَالِانْقِيَادَ، وَكَيْفَ كَانَ فَقَدْ رَغِبَا فِي أَنْ يَجْعَلَهُمَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ: وَجَعْلُهُمَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا خَلْقُ ذَلِكَ فِيهِمَا، فَإِنَّ الْجَعْلَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَلْقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: 1] فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي أَنَّهُمَا وَقْتَ السُّؤَالِ غَيْرُ مُسْلِمَيْنِ، إِذْ لَوْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ لَكَانَ طَلَبُ أَنْ يَجْعَلَهُمَا مُسْلِمَيْنِ طَلَبًا لِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَإِنَّهُ بَاطِلٌ، لَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمَا كَانَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُسْلِمَيْنِ، وَلِأَنَّ صُدُورَ هَذَا الدُّعَاءِ مِنْهُمَا لَا يَصْلُحُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ كَانَا/ مُسْلِمَيْنِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ لَمْ يَجُزِ التَّمَسُّكُ بِهَا، سَلَّمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مَتْرُوكَةَ الظَّاهِرِ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجَعْلَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، بَلْ لَهُ مَعَانٍ أُخَرُ سِوَى الْخَلْقِ. أَحَدُهَا: جَعَلَ بِمَعْنَى صَيَّرَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً [الْفُرْقَانِ: 47] . وَثَانِيهَا: جَعَلَ بِمَعْنَى وَهَبَ، نَقُولُ: جَعَلْتُ لَكَ هَذِهِ الضَّيْعَةَ وَهَذَا الْعَبْدَ وَهَذَا الْفَرَسَ. وَثَالِثُهَا: جَعَلَ بِمَعْنَى الْوَصْفِ لِلشَّيْءِ وَالْحُكْمِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزُّخْرُفِ: 19] ، وَقَالَ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَامِ: 10] . وَرَابِعُهَا: جَعَلَهُ كَذَلِكَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً [الْأَنْبِيَاءِ: 73] يَعْنِي أَمَرْنَاهُمْ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وَقَالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [البقرة: 124] فَهُوَ بِالْأَمْرِ. وَخَامِسُهَا: أَنْ يَجْعَلَهُ بِمَعْنَى التَّعْلِيمِ كَقَوْلِهِ: جَعَلْتُهُ كَاتِبًا وَشَاعِرًا إِذَا عَلَّمْتَهُ ذَلِكَ. وَسَادِسُهَا: الْبَيَانُ وَالدَّلَالَةُ تَقُولُ: جَعَلْتُ كَلَامَ فُلَانٍ بَاطِلًا إِذَا أَوْرَدْتَ مِنَ الْحُجَّةِ مَا يُبَيِّنُ بُطْلَانَ ذَلِكَ، إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَنَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَصْفَهُمَا بِالْإِسْلَامِ وَالْحُكْمِ لَهُمَا بِذَلِكَ كَمَا يُقَالُ: جَعَلَنِي فُلَانٌ لِصًّا وَجَعَلَنِي فَاضِلًا أَدِيبًا إِذَا وَصَفَهُ بِذَلِكَ، سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْجَعْلِ الْخَلْقُ، لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ خَلْقَ الْأَلْطَافِ الدَّاعِيَةِ لَهُمَا إِلَى الْإِسْلَامِ وَتَوْفِيقَهُمَا لِذَلِكَ فَمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمُورِ حَتَّى يَفْعَلَهَا فَقَدْ جَعَلَهُ مُسْلِمًا لَهُ، وَمِثَالُهُ: مَنْ يُؤَدِّبُ ابْنَهُ حَتَّى يَصِيرَ أَدِيبًا فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: صَيَّرْتُكَ أَدِيبًا وَجَعَلْتُكَ أَدِيبًا، وَفِي خِلَافِ ذَلِكَ يُقَالُ: جَعَلَ ابْنَهُ لِصًّا مُحْتَالًا، سَلَّمْنَا أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَعَالَى خَالِقًا لِلْإِسْلَامِ، لَكِنَّهُ عَلَى خِلَافِ الدَّلَائِلِ

الْعَقْلِيَّةِ فَوَجَبَ تَرْكُ الْقَوْلِ بِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ عَلَى خِلَافِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِعْلُ الْعَبْدِ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى لَمَا اسْتَحَقَّ الْعَبْدُ بِهِ مَدْحًا وَلَا ذَمًّا، وَلَا ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا، وَلَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُسْلِمَ الْمُطِيعَ لَا الْعَبْدُ. وَالْجَوَابُ: قوله: الآية متروكة الظاهر، قلنا: لا نسلم وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِسْلَامَ عَرَضٌ قَائِمٌ بِالْقَلْبِ وَأَنَّهُ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ فَقَوْلُهُ: وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أَيِ اخْلُقْ هَذَا الْعَرَضَ فِينَا فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ دَائِمًا، وَطَلَبُ تَحْصِيلِهِ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ لَا يُنَافِي حُصُولَهُ فِي الْحَالِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الزِّيَادَةَ فِي الْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الْفَتْحِ: 4] ، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [مُحَمَّدٍ: 17] وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَةِ: 26] فَكَأَنَّهُمَا دَعَوَاهُ بِزِيَادَةِ الْيَقِينِ وَالتَّصْدِيقِ، وَطَلَبُ الزِّيَادَةِ لَا يُنَافِي حُصُولَ الْأَصْلِ فِي الْحَالِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِسْلَامَ إِذَا أُطْلِقَ يُفِيدُ الْإِيمَانَ وَالِاعْتِقَادَ، فَأَمَّا إِذَا أُضِيفَ بِحَرْفِ اللَّامِ كَقَوْلِهِ: مُسْلِمَيْنِ لَكَ فَالْمُرَادُ الِاسْتِسْلَامُ لَهُ وَالِانْقِيَادُ وَالرِّضَا بِكُلِّ مَا قَدَّرَ وَتَرْكُ الْمُنَازَعَةِ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَقْضِيَتِهِ، فَلَقَدْ كَانَا عَارِفَيْنِ مُسْلِمَيْنِ لَكِنْ لَعَلَّهُ بَقِيَ فِي قُلُوبِهِمَا نَوْعٌ مِنَ الْمُنَازَعَةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ الْبَشَرِيَّةِ فَأَرَادَ أَنْ يُزِيلَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمَا بِالْكُلِّيَّةِ لِيَحْصُلَ لَهُمَا مَقَامُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ مَتْرُوكَةَ الظَّاهِرِ، قَوْلُهُ: يُحْمَلُ الْجَعْلُ عَلَى الْحُكْمِ بِذَلِكَ، قُلْنَا: هَذَا مَدْفُوعٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَوْصُوفَ إِذَا حَصَلَتِ الصِّفَةُ لَهُ فَلَا فَائِدَةَ فِي الصِّفَةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَطْلُوبُ/ بِالدُّعَاءِ هُوَ مُجَرَّدَ الْوَصْفِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى تَحْصِيلِ الصِّفَةِ، وَلَا يُقَالُ: وَصْفُهُ تَعَالَى بِذَلِكَ ثَنَاءٌ وَمَدْحٌ وَهُوَ مَرْغُوبٌ فِيهِ، قُلْنَا: نَعَمْ لَكِنَّ الرَّغْبَةَ فِي تَحْصِيلِ نَفْسِ الشَّيْءِ أَكْثَرُ مِنَ الرَّغْبَةِ فِي تَحْصِيلِ الْوَصْفِ بِهِ وَالْحُكْمِ بِهِ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الْإِسْلَامُ فِيهِمَا فَقَدِ اسْتَحَقَّا التَّسْمِيَةَ بِذَلِكَ وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ، فَكَانَ ذَلِكَ الْوَصْفُ حَاصِلًا وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي طَلَبِهِ بِالدُّعَاءِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ التَّسْمِيَةَ لَوَجَبَ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَمَّى إِبْرَاهِيمَ مُسْلِمًا جَازَ أَنْ يُقَالَ جَعَلَهُ مُسْلِمًا، أَمَّا قَوْلُهُ: يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى فِعْلِ الْأَلْطَافِ، قُلْنَا: هَذَا أَيْضًا مَدْفُوعٌ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ لَفْظَ الْجَعْلِ مُضَافٌ إِلَى الْإِسْلَامِ فَصَرْفُهُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ تِلْكَ الْأَلْطَافَ قَدْ فَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَوْجَدَهَا وَأَخْرَجَهَا إِلَى الْوُجُودِ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَطَلَبُهَا يَكُونُ طَلَبًا لِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ تِلْكَ الْأَلْطَافَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا أَثَرٌ فِي تَرْجِيحِ جَانِبِ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ أَوْ لَا يَكُونُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَثَرٌ فِي هَذَا التَّرْجِيحِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لُطْفًا وَإِنْ كَانَ لَهَا أَثَرٌ فِي التَّرْجِيحِ فَنَقُولُ: مَتَى حَصَلَ الرُّجْحَانُ فَقَدْ حَصَلَ الْوُجُوبُ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعَ حُصُولِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ التَّرْجِيحِ إِمَّا أَنْ يَجِبَ الْفِعْلُ أَوْ يَمْتَنِعَ أَوْ لَا يَجِبَ وَلَا يَمْتَنِعَ، فَإِنْ وَجَبَ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنِ امْتَنَعَ فَهُوَ مَانِعٌ لَا مُرَجِّحٌ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ وَلَا يَمْتَنِعْ فَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ وُقُوعُ الْفِعْلِ مَعَهُ تَارَةً وَلَا وُقُوعُهُ أُخْرَى فَاخْتِصَاصُ وَقْتِ الْوُقُوعِ بِالْوُقُوعِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِانْضِمَامِ أَمْرٍ إِلَيْهِ لِأَجْلِهِ تَمَيَّزَ ذَلِكَ الْوَقْتُ بِالْوُقُوعِ أَوْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ الْمُرَجِّحُ مَجْمُوعَ اللُّطْفِ مَعَ هَذِهِ الضَّمِيمَةِ الزَّائِدَةِ فَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا اللُّطْفِ أَثَرٌ فِي التَّرْجِيحِ أَصْلًا وَقَدْ فَرَضْنَاهُ كَذَلِكَ هَذَا خُلْفٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَزِمَ رُجْحَانُ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ الْمُسَاوِي عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِهَذَا اللُّطْفِ غَيْرُ مَعْقُولٍ، قَوْلُهُ: الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ دَلَّتْ عَلَى امْتِنَاعِ وُقُوعِ فِعْلِ الْعَبْدِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ فَصْلُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، قُلْنَا: إِنَّهُ مُعَارَضٌ بِسُؤَالِ الْعِلْمِ وَسُؤَالُ الدَّاعِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ مِرَارًا وَأَطْوَارًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ السُّؤَالَ الْمَشْهُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا مُسْلِمَيْنِ فَكَيْفَ طَلَبَا الْإِسْلَامَ؟ قَدْ أَدْرَجْنَاهُ فِي

هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَذَكَرْنَا عَنْهُ أَجْوِبَةً شَافِيَةً كَافِيَةً وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ الَّذِي يَدُلُّ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ عَلَى أَنَّ صَيْرُورَتَهُمَا مُسْلِمَيْنِ لَهُ سُبْحَانَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقُدْرَةَ الصَّالِحَةَ لِلْإِسْلَامِ هَلْ هِيَ صَالِحَةٌ لِتَرْكِهِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً لِتَرْكِهِ فَتِلْكَ الْقُدْرَةُ مُوجِبَةٌ فَخَلْقُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ الْمُوجِبَةِ فِيهِمَا جَعَلَهُمَا مُسْلِمَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِتَرْكِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَمَعَ تَسْلِيمِ إِمْكَانِهِ فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ أَمَّا بُطْلَانُهُ فَلِأَنَّ التَّرْكَ عِبَارَةٌ عَنْ بَقَاءِ الشَّيْءِ عَلَى عَدَمِهِ الْأَصْلُ وَالْعَدَمُ نَفْيٌ مَحْضٌ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لِلْقُدْرَةِ فِيهِ أَثَرٌ وَلِأَنَّهُ عَدَمٌ بَاقٍ وَالْبَاقِي لَا يَكُونُ مُتَعَلِّقَ الْقُدْرَةِ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ الْعَدَمِ الْمُسْتَمِرِّ، فَإِذَنْ لَا قُدْرَةَ إِلَّا عَلَى الْوُجُودِ، فَالْقُدْرَةُ غَيْرُ صَالِحَةٍ إِلَّا لِلْوُجُودِ، وَأَمَّا أَنَّ بِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِ كَوْنِ الْقُدْرَةِ صَالِحَةً لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فَالْمَقْصُودُ حاصل، فلأن تِلْكَ الْقُدْرَةَ الصَّالِحَةَ لَا تَخْتَصُّ بِطَرَفِ الْوُجُودِ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ، وَيَجِبُ انْتِهَاءُ الْمُرَجِّحَاتِ إِلَى فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، وَعِنْدَ حُصُولِ/ الْمُرَجِّحِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ وُقُوعُ الْفِعْلِ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ عَلَى قَوَانِينِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ يُفِيدُ الْحَصْرَ أَيْ نَكُونُ مُسْلِمَيْنِ لَكَ لَا لِغَيْرِكَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَمَالَ سَعَادَةِ الْعَبْدِ فِي أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا لِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مُلْتَفِتَ الْخَاطِرِ إِلَى شَيْءٍ سِوَاهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: 77] ثم هاهنا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أَيْ مُوَحِّدَيْنِ مُخْلِصَيْنِ لَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ. وَالثَّانِي: قَائِمَيْنِ بِجَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْأَوْجَهُ لِعُمُومِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَا إِنَّ الْعَبْدَ لَا يُخَاطِبُ اللَّهَ تَعَالَى وَقْتَ الدُّعَاءِ إِلَّا بِقَوْلِهِ: رَبَّنَا فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: 60] فِي شَرَائِطِ الدُّعَاءِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ فَالْمَعْنَى: وَاجْعَلْ مِنْ أَوْلَادِنَا وَ «مِنْ» لِلتَّبْعِيضِ وَخَصَّ بَعْضَهُمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمَهُمَا أَنَّ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا الظَّالِمَ بقوله تعالى: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: أَرَادَ بِهِ الْعَرَبَ لأنهم من ذريتهما، وأُمَّةً قِيلَ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ كَمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يَكُونُ ظَالِمًا فَكَذَلِكَ يُوجَدُ فِيهِمْ مَنْ لَا يَكُونُ ظَالِمًا، فَإِذَنْ كَوْنُ بَعْضِ ذُرِّيَّتِهِ أُمَّةً مُسْلِمَةً صَارَ مَعْلُومًا بِتِلْكَ الْآيَةِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي طَلَبِهِ بِالدُّعَاءِ مَرَّةً أُخْرَى؟ الْجَوَابُ: تِلْكَ الدَّلَالَةُ مَا كَانَتْ قَاطِعَةً، وَالشَّفِيقُ بِسُوءِ الظَّنِّ مُولَعٌ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ خَصَّ ذُرِّيَّتَهُمَا بِالدُّعَاءِ أَلَيْسَ أَنَّ هَذَا يَجْرِي مَجْرَى الْبُخْلِ فِي الدُّعَاءِ؟ وَالْجَوَابُ: الذُّرِّيَّةُ أَحَقُّ بِالشَّفَقَةِ وَالْمَصْلَحَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التَّحْرِيمِ: 6] وَلِأَنَّ أَوْلَادَ الْأَنْبِيَاءِ إِذَا صَلَحُوا صَلَحَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ وَتَابَعَهُمْ عَلَى الْخَيْرَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْكُبَرَاءِ إِذَا كَانُوا عَلَى السَّدَادِ كَيْفَ يَتَسَبَّبُونَ إِلَى سَدَادِ مَنْ وَرَاءَهُمْ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: الظَّاهِرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ رَدَّ هَذَا الدُّعَاءَ لَصَرَّحَ بِذَلِكَ الرَّدِّ فَلَمَّا لَمْ يُصَرِّحْ بِالرَّدِّ علمنا أنه

أَجَابَهُ إِلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يَتَوَجَّهُ الْإِشْكَالُ، فَإِنَّ فِي زَمَانِ أَجْدَادِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ مُسْلِمًا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ سِوَى الْعَرَبِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَالْجَوَابُ: قَالَ الْقَفَّالُ: أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وحده ولا يشرك به شيئاً، ولم تزال الرُّسُلُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَقُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ، وَيُقَالُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ جَدُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَامِرُ بْنُ الظَّرِبِ كَانُوا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ يُقِرُّونَ بِالْإِبْدَاءِ وَالْإِعَادَةِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَيُوَحِّدُونَ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَا يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ، وَلَا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ. / أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَرِنا مَناسِكَنا فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي أَرِنا قَوْلَانِ، الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ عَلِّمْنَا شَرَائِعَ حِجِّنَا إِذْ أَمَرْتَنَا بِبِنَاءِ الْبَيْتِ لنحجه وندعوا النَّاسَ إِلَى حَجِّهِ، فَعَلِّمْنَا شَرَائِعَهُ وَمَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَأْتِيَهُ فِيهِ مِنْ عَمَلٍ وَقَوْلٍ مَجَازُ هَذَا مِنْ رُؤْيَةِ الْعِلْمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ [الْفُرْقَانِ: 45] ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ [الْفِيلِ: 1] . الثَّانِي: أَظْهِرْهَا لِأَعْيُنِنَا حَتَّى نَرَاهَا. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَى إِبْرَاهِيمَ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، حَتَّى بَلَغَ عَرَفَاتٍ، فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَعَرَفْتَ مَا أَرَيْتُكَ مِنَ الْمَنَاسِكِ؟ قَالَ: نَعَمْ فَسُمِّيَتْ عَرَفَاتٍ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ أَرَادَ أَنْ يَزُورَ الْبَيْتَ عَرَضَ لَهُ إِبْلِيسُ فَسَدَّ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ، فَأَمَرَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَرْمِيَهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فَفَعَلَ، فَذَهَبَ الشَّيْطَانُ ثُمَّ عَرَضَ لَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَالرَّابِعِ كُلُّ ذَلِكَ يَأْمُرُهُ جِبْرِيلُ عليه السلام برمي الحصيات. وهاهنا قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ الْعِلْمُ وَالرُّؤْيَةُ مَعًا. وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِأُمُورٍ بَعْضُهَا يُعْلَمُ وَلَا يُرَى، وَبَعْضُهَا لَا يَتِمُّ الْغَرَضُ مِنْهُ إِلَّا بِالرُّؤْيَةِ، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ والمجاز معاً وأنه جَائِزٍ، فَبَقِيَ الْقَوْلُ الْمُعْتَبَرُ وَهُوَ الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ، فَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي قَالَ: إِنَّ الْمَنَاسِكَ هِيَ الْمَوَاقِفُ وَالْمَوَاضِعُ الَّتِي يُقَامُ فِيهَا شَرَائِعُ الْحَجِّ كَمِنًى وَعَرَفَاتٍ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَنَحْوِهَا، وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ: إِنَّ الْمَنَاسِكَ هِيَ أَعْمَالُ الْحَجِّ كَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْوُقُوفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: النُّسُكُ هُوَ التَّعَبُّدُ، يُقَالُ لِلْعَابِدِ نَاسِكٌ ثُمَّ سُمِّيَ الذَّبْحُ نُسُكًا وَالذَّبِيحَةُ نَسِيكَةً، وَسُمِّيَ أَعْمَالُ الْحَجِّ مَنَاسِكَ. قال عليه السلام: «خذوا عن مَنَاسِكَكُمْ لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا» . وَالْمَوَاضِعُ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا شَرَائِعُ الْحَجِّ تُسَمَّى: مَنَاسِكَ أَيْضًا، وَيُقَالُ: الْمَنْسَكُ بِفَتْحِ السِّينِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ، وَبِكَسْرِ السِّينِ بِمَعْنَى الْمَوَاضِعِ، كَالْمَسْجِدِ وَالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ [الْحَجِّ: 67] قُرِئَ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، وَظَاهِرُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى الْفِعْلِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَتَعَلَّمُوا أَفْعَالَهُ فِي الْحَجِّ لَا أَنَّهُ أَرَادَ: خُذُوا عَنِّي مَوَاضِعَ نُسُكِكُمْ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنْ حَمَلْنَا الْمَنَاسِكَ عَلَى مَنَاسِكِ الْحَجِّ، فَإِنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الْأَفْعَالِ فَالْإِرَاءَةُ لِتَعْرِيفِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَإِنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الْمَوَاضِعِ فَالْإِرَاءَةُ لِتَعْرِيفِ الْبِقَاعِ وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ حَمَلَ الْمَنَاسِكَ عَلَى الذَّبِيحَةِ فَقَطْ، وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ الذَّبِيحَةَ إِنَّمَا تُسَمَّى نُسُكًا لِدُخُولِهَا تَحْتَ التَّعَبُّدِ، وَلِذَلِكَ لَا يُسَمُّونَ مَا يُذْبَحُ لِلْأَكْلِ بِذَلِكَ فَمَا لِأَجْلِهِ سُمِّيَتِ الذَّبِيحَةُ نُسُكًا، وَهُوَ كَوْنُهُ عَمَلًا مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ قَائِمٌ فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ، فَوَجَبَ دُخُولُ الْكُلِّ فِيهِ وَإِنْ حَمْلَنَا الْمَنَاسِكَ عَلَى مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ أَصْلُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاللُّزُومِ لِمَا يُرْضِيهِ وَجُعِلَ ذَلِكَ عَامًّا لِكُلِّ مَا شَرَعَهُ الله تعالى

لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَوْلُهُ: وَأَرِنا مَناسِكَنا أَيْ عَلِّمْنَا كَيْفَ نَعْبُدُكَ، وَأَيْنَ نَعْبُدُكَ وَبِمَاذَا نَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ حَتَّى نَخْدُمَكَ بِهِ كَمَا يَخْدُمُ الْعَبْدُ مَوْلَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَرِنا بِإِسْكَانِ الرَّاءِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَوَافَقَهُمَا عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ، فِي حم السَّجْدَةِ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا [فُصِّلَتْ: 29] وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ عَنْهُ بِاخْتِلَاسِ كَسْرَةِ الرَّاءِ مِنْ غَيْرِ إِشْبَاعٍ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرَةِ مُشْبَعَةً، وَأَصْلُهُ أَرْئِنَا بِالْهَمْزَةِ الْمَكْسُورَةِ، نُقِلَتْ كَسْرَةُ الْهَمْزَةِ إِلَى الرَّاءِ وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ سَقَطَتِ الْهَمْزَةُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَسْكُنَ الرَّاءُ لِئَلَّا يُجْحَفَ بِالْكَلِمَةِ وَتَذْهَبَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْهَمْزَةِ، وَأَمَّا التَّسْكِينُ فَعَلَى حَذْفِ الْهَمْزَةِ وَحَرَكَتِهَا وَعَلَى التَّشْبِيهِ بِمَا سَكَنَ كَقَوْلِهِمْ: فَخْذٌ وَكَبْدٌ، وَأَمَّا الِاخْتِلَاسُ فَلِطَلَبِ الْخِفَّةِ وَبَقَاءِ الدَّلَالَةِ عَلَى حَذْفِ الْهَمْزَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَتُبْ عَلَيْنا فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ مَنْ جَوَّزَ الذَّنْبَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: لِأَنَّ التَّوْبَةَ مَشْرُوطَةٌ بِتَقَدُّمِ الذَّنْبِ، فَلَوْلَا تَقَدُّمُ الذَّنْبِ وَإِلَّا لَكَانَ طَلَبُ التَّوْبَةِ طَلَبًا لِلْمُحَالِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: إِنَّا نُجَوِّزُ الصَّغِيرَةَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَكَانَتْ هَذِهِ التَّوْبَةُ تَوْبَةً مِنَ الصَّغِيرَةِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الصَّغَائِرَ قَدْ صَارَتْ مُكَفَّرَةً بِثَوَابِ فَاعِلِهَا وَإِذَا صَارَتْ مُكَفَّرَةً فَالتَّوْبَةُ عَنْهَا مُحَالٌ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ التوبة في إزالتها وإزالة الزائل محال. وهاهنا أجوبة أخر نصلح لِمَنْ جَوَّزَ الصَّغَائِرَ وَلِمَنْ لَمْ يُجَوِّزْهَا، وَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِصُورَةِ التوبة تشديداً فِي الِانْصِرَافِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ مَنْ تَصَوَّرَ نَفْسَهُ بِصُورَةِ النَّادِمِ الْعَازِمِ عَلَى التَّحَرُّزِ الشَّدِيدِ، كَانَ أَقْرَبَ إِلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي، فَيَكُونُ ذَلِكَ لُطْفًا دَاعِيًا إِلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعَبْدَ وَإِنِ اجْتَهَدَ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنِ التَّقْصِيرِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ: إِمَّا عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ تَرْكِ الْأَوْلَى، فَكَانَ هَذَا الدُّعَاءُ لِأَجْلِ ذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَعْلَمَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ فِي ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يَكُونُ ظَالِمًا عاصياً، لا جرم سأل هاهنا أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ ذُرِّيَّتِهِ أُمَّةً مُسْلِمَةً، ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُوَفِّقَ أُولَئِكَ الْعُصَاةَ الْمُذْنِبِينَ لِلتَّوْبَةِ فَقَالَ: وَتُبْ عَلَيْنا أَيْ عَلَى الْمُذْنِبِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا، وَالْأَبُ الْمُشْفِقُ عَلَى وَلَدِهِ إِذَا أَذْنَبَ وَلَدُهُ فَاعْتَذَرَ الْوَالِدُ عَنْهُ فَقَدْ يَقُولُ: أَجْرَمْتُ وَعَصَيْتُ وَأَذْنَبْتُ فَاقْبَلْ عُذْرِي وَيَكُونُ مُرَادُهُ: إِنَّ وَلَدِي أَذْنَبَ فَاقْبَلْ عُذْرَهُ، لِأَنَّ وَلَدَ الْإِنْسَانِ يَجْرِي مَجْرَى نَفْسِهِ، وَالَّذِي يُقَوِّي هَذَا التَّأْوِيلَ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إِبْرَاهِيمَ: 35، 36] فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ تَتُوبَ عَلَيْهِ إِنْ تَابَ، وَتَغْفِرَ لَهُ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِ. الثَّانِي: ذَكَرَ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: وَأَرِهِمْ مَنَاسِكَهُمْ وَتُبْ عَلَيْهِمْ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ عَطْفًا عَلَى هَذَا: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ. الرَّابِعُ: تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الْأَعْرَافِ: 11] بجعل خلقه إياه خلقاً لهم إذا كَانُوا مِنْهُ، فَكَذَلِكَ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قوله: أَرِنا مَناسِكَنا أي أر ذُرِّيَّتَنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِقَوْلِهِ: وَتُبْ عَلَيْنا عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى، قَالُوا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ، فَلَوْ كَانَتِ التَّوْبَةُ مَخْلُوقَةً لِلْعَبْدِ، لَكَانَ طَلَبُهَا مِنَ اللَّهِ تعالى محالًا

وَجَهْلًا، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذَا مُعَارَضٌ بِمَا أَنَّ الله تعالى طلب التوبة منا. فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التَّحْرِيمِ: 8] وَلَوْ كَانَتْ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى، لَكَانَ طَلَبُهَا مِنَ الْعَبْدِ مُحَالًا وَجَهْلًا، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ حُمِلَ قَوْلُهُ: وَتُبْ عَلَيْنا عَلَى التَّوْفِيقِ وَفِعْلِ الْأَلْطَافِ أَوْ عَلَى قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنَ الْعَبْدِ، قَالَ الْأَصْحَابُ: التَّرْجِيحُ مَعَنَا لِأَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ يُعَضِّدُ قَوْلَنَا مِنْ وُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ تَعَالَى دَاعِيَةً مُوجِبَةً لِلتَّوْبَةِ اسْتَحَالَ حُصُولُ التَّوْبَةِ، فَكَانَتِ التَّوْبَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنَ الْعَبْدِ، وَتَقْرِيرُ دَلِيلِ الدَّاعِي قَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّ التَّوْبَةَ عَلَى مَا لَخَّصَهُ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ مُرَتَّبَةٍ: علم وحال وعمل، فالعلم أول والحال ثان وَهُوَ مُوجِبُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلُ ثَالِثٌ وَهُوَ مُوجِبُ الْحَالِ، أَمَّا الْعِلْمُ فَهُوَ مَعْرِفَةُ عِظَمِ ضَرَرِ الذُّنُوبِ، يَتَوَلَّدُ مِنْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ تَأَلُّمُ الْقَلْبِ بِسَبَبِ فَوْتِ الْمَنْفَعَةِ وَحُصُولِ الْمَضَرَّةِ، وَهَذَا التَّأَلُّمُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالنَّدَمِ ثُمَّ يَتَوَلَّدُ مِنْ هَذَا النَّدَمِ صِفَةٌ تُسَمَّى: إِرَادَةً وَلَهَا تَعَلُّقٌ بِالْحَالِ وَالْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، أَمَّا تَعَلُّقُهُ بِالْحَالِ فَهُوَ التَّرْكُ لِلذَّنْبِ الَّذِي كَانَ مُلَابِسًا لَهُ، وَأَمَّا بِالِاسْتِقْبَالِ فَبِالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُفَوِّتِ لِلْمَحْبُوبِ إِلَى آخِرِ الْعُمُرِ، وَأَمَّا فِي الْمَاضِي فَبِتَلَافِي مَا فَاتَ بِالْجَبْرِ وَالْقَضَاءِ إِنْ كَانَ قَابِلًا لِلْجَبْرِ فَالْعِلْمُ هُوَ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَطْلَعُ هَذِهِ الْخَيْرَاتِ وَأَعْنِي بِهَذَا الْعِلْمِ الْإِيمَانَ وَالْيَقِينَ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ بِأَنَّ الذُّنُوبَ سُمُومٌ مُهْلِكَةٌ وَالْيَقِينَ عِبَارَةٌ عَنْ تَأَكُّدِ هَذَا التَّصْدِيقِ وَانْتِفَاءِ الشَّكِّ عَنْهُ وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى الْقَلْبِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْيَقِينَ مَهْمَا اسْتَوْلَى عَلَى الْقَلْبِ اشْتَعَلَ نَارُ النَّدَمِ فَيَتَأَلَّمُ بِهِ الْقَلْبُ حَيْثُ يُبْصِرُ بِإِشْرَاقِ نُورِ الْإِيمَانِ، أَنَّهُ صَارَ مَحْجُوبًا عَنْ مَحْبُوبِهِ كَمَنْ يُشْرِقُ عَلَيْهِ نُورُ الشَّمْسِ وَقَدْ كَانَ فِي ظُلْمَةٍ فَرَأَى مَحْبُوبَهُ قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ فَتَشْتَعِلُ نِيرَانُ الْحُبِّ فِي قَلْبِهِ فَيَتَوَلَّدُ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ إِرَادَتُهُ لِلِانْتِهَاضِ لِلتَّدَارُكِ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ تَرَتُّبَ الْفِعْلِ عَلَى الْإِرَادَةِ ضَرُورِيٌّ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ الْخَالِيَةَ عَنِ الْمُعَارِضِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْفِعْلُ وَتَرَتُّبُ الْإِرَادَةِ عَلَى تَأَلُّمِ الْقَلْبِ أَيْضًا ضَرُورِيٌّ، فَإِنَّ مَنْ تَأَلَّمَ قَلْبُهُ بِسَبَبِ مُشَاهَدَةِ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ فِي قَلْبِهِ إِرَادَةُ الدَّفْعِ وَتَرَتُّبُ ذَلِكَ الْأَلَمِ عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِ ذَلِكَ الشَّيْءِ جَالِبًا لِلْمَضَارِّ، وَدَفْعًا لِلْمَنَافِعِ أَيْضًا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ، فَكُلُّ هَذِهِ المراتب ضرورية فكيف تحصل تحت الاختبار والتكليف. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: الدَّاخِلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ هُوَ الْعِلْمُ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ أَيْضًا إِشْكَالًا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَرُورِيًّا أَوْ نَظَرِيًّا، فَإِنْ كَانَ ضَرُورِيًّا لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا تَحْتَ الِاخْتِبَارِ وَالتَّكْلِيفِ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ نَظَرِيًّا فَهُوَ مُسْتَنْتَجٌ عَنِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ. فَمَجْمُوعُ تِلْكَ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ الْمُنْتِجَةِ لِلْعِلْمِ النَّظَرِيِّ الْأَوَّلِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَافِيًا فِي ذَلِكَ الْإِنْتَاجِ أَوْ غيره كَافٍ، فَإِنْ كَانَ كَافِيًا كَانَ تَرَتُّبُ ذَلِكَ الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ الْمُسْتَنْتَجِ أَوَّلًا عَلَى تِلْكَ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَاجِبًا، وَالَّذِي يَجِبُ تَرَتُّبُهُ عَلَى مَا يَكُونُ/ خَارِجًا عَنِ الِاخْتِيَارِ، كَانَ أَيْضًا خَارِجًا عَنِ الِاخْتِيَارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَافِيًا فَلَا بُدَّ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ، فَذَلِكَ الْآخَرُ إِنْ كَانَ مِنَ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ فَهُوَ إِنْ كَانَ حَاصِلًا فَالَّذِي فَرَضْنَاهُ غَيْرُ كَافٍ، وَقَدْ كَانَ كَافِيًا، هَذَا خُلْفٌ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ افْتَقَرَ أَوَّلُ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ إِلَى عِلْمٍ نَظَرِيٍّ آخَرَ قَبْلَهُ فَلَمْ يَكُنْ أَوَّلُ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ أَوَّلًا لِلْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ، وَهَذَا خُلْفٌ. ثُمَّ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ الْأَوَّلِ كَمَا فِيمَا قَبْلَهُ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا آخِرًا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَتُبْ عَلَيْنا مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ الْحَقُّ الْمُطَابِقُ لِلدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَأَنَّ سَائِرَ الْآيَاتِ الْمُعَارِضَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ أَوْلَى بِالتَّأْوِيلِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ

رَسُولًا يُرِيدُ مَنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ مِنْ قَبْلُ وَوَصْفُهُ لِذُرِّيَّتِهِ بِذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعُطِفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ وَهَذَا الدُّعَاءُ يُفِيدُ كَمَالَ حَالِ ذُرِّيَّتِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ رَسُولٌ يُكْمِلُ لَهُمُ الدِّينَ وَالشَّرْعَ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى مَا يَثْبُتُونَ بِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَبْعُوثُ مِنْهُمْ لَا مِنْ غَيْرِهِمْ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: لِيَكُونَ مَحَلُّهُمْ وَرُتْبَتُهُمْ فِي الْعِزِّ وَالدِّينِ أَعْظَمَ، لِأَنَّ الرَّسُولَ وَالْمُرْسَلَ إِلَيْهِ إِذَا كَانَا مَعًا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، كَانَ أَشْرَفَ لِطَلِبَتِهِ إِذَا أُجِيبَ إِلَيْهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مَوْلِدَهُ وَمَنْشَأَهُ فَيَقْرُبُ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ فِي مَعْرِفَةِ صِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْهُمْ كَانَ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى خَيْرِهِمْ وَأَشْفَقَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ لَوْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا كَانَ مُرَادُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِمَارَةَ الدِّينِ فِي الْحَالِ وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَكَانَ قَدْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَتِمُّ وَيَكْمُلُ بِأَنْ يَكُونَ الْقَوْمُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ حَسُنَ مِنْهُ أَنْ يُرِيدَ ذَلِكَ لِيَجْتَمِعَ لَهُ بِذَلِكَ نِهَايَةُ الْمُرَادِ فِي الدِّينِ، ويضاف إِلَيْهِ السُّرُورُ الْعَظِيمُ بِأَنْ يَكُونَ هَذَا الْأَمْرُ فِي ذُرِّيَّتِهِ لِأَنَّ لَا عِزَّ وَلَا شَرَفَ أَعْلَى مِنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ. وَأَمَّا إِنَّ الرَّسُولَ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: إِجْمَاعُ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ حُجَّةٌ. وَثَانِيهَا: مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةُ عِيسَى» وَأَرَادَ بِالدَّعْوَةِ هَذِهِ الْآيَةَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ الصَّفِّ مِنْ قَوْلِهِ: مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصَّفِّ: 6] . وَثَالِثُهَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ بِمَكَّةَ لِذُرِّيَّتِهِ الَّذِينَ يَكُونُونَ بِهَا وَبِمَا حَوْلَهَا وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَنْ بِمَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا إِلَّا مُحَمَّدًا صَلَّى الله عليه وسلّم. وهاهنا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ يُقَالُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَابِ الصَّلَاةِ حَيْثُ يقال: اللهم صل على محمد وآل مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ؟ وَأَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ، أَوَّلُهَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ فَلَمَّا وَجَبَ لِلْخَلِيلِ عَلَى الْحَبِيبِ حَقُّ دُعَائِهِ لَهُ/ قَضَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَقَّهُ بِأَنْ أَجْرَى ذِكْرَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ أُمَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ ذَلِكَ رَبَّهُ بِقَوْلِهِ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشُّعَرَاءِ: 84] يَعْنِي أَبْقِ لِي ثَنَاءً حَسَنًا فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ وَقَرَنَ ذِكْرَهُ بِذِكْرِ حَبِيبِهِ إِبْقَاءً لِلثَّنَاءِ الْحَسَنِ عَلَيْهِ فِي أُمَّتِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أَبَ الْمِلَّةِ لِقَوْلِهِ: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الْحَجِّ: 78] وَمُحَمَّدٌ كَانَ أَبَ الرَّحْمَةِ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ أب لهم وقال في قصته: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التَّوْبَةِ: 128] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ» ، يَعْنِي فِي الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَلَمَّا وَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقُّ الْأُبُوَّةِ مِنْ وَجْهٍ قَرَّبَ بَيْنَ ذِكْرِهِمَا فِي بَابِ الثَّنَاءِ وَالصَّلَاةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُنَادِيَ الشَّرِيعَةِ فِي الْحَجِّ: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الْحَجِّ: 27] وَكَانَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُنَادِيَ الدِّينِ: سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ [آلِ عِمْرَانَ: 193] فَجَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا فِي الذِّكْرِ الْجَمِيلِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا طَلَبَ بَعْثَةَ رَسُولٍ مِنْهُمْ إِلَيْهِمْ، ذَكَرَ لِذَلِكَ الرَّسُولِ صِفَاتٍ. أولها: قوله: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَفِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الْفُرْقَانُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الَّذِي كَانَ يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ لَيْسَ إِلَّا ذَلِكَ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ. الثَّانِي: يَجُوزُ أن تكون الآيات هي الأعلام الدلالة عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَصِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمَعْنَى تِلَاوَتِهِ إِيَّاهَا عَلَيْهِمْ: أَنَّهُ كَانَ يُذَكِّرُهُمْ بِهَا ويدعوهم إليها ويحملهم على الإيمان بها. وثانيها:

قَوْلُهُ: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِتِلَاوَةِ الْكِتَابِ وَيُعَلِّمُهُمْ مَعَانِيَ الْكِتَابِ وَحَقَائِقَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التِّلَاوَةَ مَطْلُوبَةٌ لِوُجُوهٍ: مِنْهَا بَقَاءُ لَفْظِهَا عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ التَّوَاتُرِ فَيَبْقَى مَصُونًا عَنِ التَّحْرِيفِ وَالتَّصْحِيفِ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لَفْظُهُ وَنَظْمُهُ مُعْجِزًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِي تِلَاوَتِهِ نَوْعُ عِبَادَةٍ وَطَاعَةٍ، وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتُهُ فِي الصَّلَوَاتِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ نَوْعَ عِبَادَةٍ، فَهَذَا حُكْمُ التِّلَاوَةِ إِلَّا أَنَّ الْحِكْمَةَ الْعُظْمَى وَالْمَقْصُودَ الْأَشْرَفَ تَعْلِيمُ مَا فِيهِ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْأَحْكَامِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ هُدًى وَنُورًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي وَالْحِكَمِ وَالْأَسْرَارِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَوَّلًا أَمْرَ التِّلَاوَةِ ذَكَرَ بَعْدَهُ تَعْلِيمَ حَقَائِقِهِ وَأَسْرَارِهِ فَقَالَ: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ صِفَاتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ: وَالْحِكْمَةَ أَيْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْحِكْمَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ: الْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَلَا يُسَمَّى حَكِيمًا إِلَّا مَنِ اجْتَمَعَ لَهُ الْأَمْرَانِ وَقِيلَ: أَصْلُهَا مِنْ أَحْكَمْتُ الشَّيْءَ أَيْ رَدَدْتُهُ، فَكَأَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الَّتِي تَرُدُّ عَنِ الْجَهْلِ وَالْخَطَأِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْإِصَابَةِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَوَضْعِ كُلِّ شَيْءِ مَوْضِعَهُ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَعَبَّرَ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ عَنِ الْحِكْمَةِ بِأَنَّهَا التَّشَبُّهُ بِالْإِلَهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ. وَاخْتَلَفَ المفسرون في المراد بالحكمة هاهنا عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ قُلْتُ لِمَالِكٍ: مَا الْحِكْمَةُ؟ قَالَ: مَعْرِفَةُ الدِّينِ، وَالْفِقْهُ فِيهِ، وَالِاتِّبَاعُ لَهُ. وَثَانِيهَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْحِكْمَةُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ تِلَاوَةَ الْكِتَابِ أَوَّلًا وَتَعْلِيمَهُ ثَانِيًا ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْحِكْمَةَ/ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحِكْمَةِ شَيْئًا خَارِجًا عَنِ الْكِتَابِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا سُنَّةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى تَعْلِيمِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوَّةِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْعُقُولَ مُسْتَقْبِلَةٌ بِذَلِكَ فَحَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى مَا لَا يُسْتَفَادُ مِنَ الشَّرْعِ أَوْلَى. وَثَالِثُهَا: الْحِكْمَةُ هِيَ الْفَصْلُ بَيْنَ الحق والباطل، وهو مصدر بمعنى الحكم، كالعقدة وَالْجِلْسَةِ. وَالْمَعْنَى: يُعَلِّمُهُمْ كِتَابَكَ الَّذِي تُنْزِلُهُ عَلَيْهِمْ، وَفَصْلَ أَقَضِيَتِكَ وَأَحْكَامَكَ الَّتِي تُعَلِّمُهُ إِيَّاهَا، وَمِثَالُ هَذَا: الْخُبْرُ وَالْخِبْرَةُ، وَالْعُذْرُ وَالْعِذْرَةُ، وَالْغُلُّ وَالْغِلَّةُ، وَالذُّلُّ وَالذِّلَّةُ. وَرَابِعُهَا: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ أَرَادَ بِهِ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَةَ. وَالْحِكْمَةَ أَرَادَ بِهَا الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ. وخامسها: يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ أَيْ يُعَلِّمُهُمْ مَا فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَالْحِكْمَةَ أَرَادَ بِهَا أَنَّهُ يُعَلِّمُهُمْ حِكْمَةَ تِلْكَ الشَّرَائِعِ وَمَا فِيهَا مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْكُلُّ صِفَاتُ الْكِتَابِ كَأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأَنَّهُ آيَاتٌ، وَبِأَنَّهُ كِتَابٌ، وَبِأَنَّهُ حِكْمَةٌ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ صِفَاتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَوْلُهُ: «وَيُزَكِّيهِمْ» وَاعْلَمْ أَنَّ كَمَالَ حَالِ الْإِنْسَانِ فِي أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْرِفَ الْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، فَإِنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَمْ يَكُنْ طَاهِرًا عَنِ الرَّذَائِلِ وَالنَّقَائِصِ، وَلَمْ يَكُنْ زَكِيًّا عَنْهَا، فَلَمَّا ذَكَرَ صِفَاتِ الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ أَرْدَفَهَا بِذِكْرِ التَّزْكِيَةِ عَنِ الرَّذَائِلِ وَالنَّقَائِصِ، فَقَالَ: وَيُزَكِّيهِمْ وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّسُولَ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي بَوَاطِنِ الْمُكَلَّفِينَ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَحْصُلَ لَهُ هَذِهِ الْقُدْرَةُ لَكِنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ الزَّكَاءُ حَاصِلًا فِيهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْجَبْرِ لَا عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ، فَإِذَنْ هَذِهِ التَّزْكِيَةُ لَهَا تَفْسِيرَانِ. الْأَوَّلُ: مَا يَفْعَلُهُ سِوَى التِّلَاوَةِ وَتَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ كَالسَّبَبِ لِطَهَارَتِهِمْ، وَتِلْكَ الْأُمُورُ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْوَعْدِ وَالْإِيعَادِ، وَالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ، وَتَكْرِيرِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَمِنَ التَّشَبُّثِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا إِلَى أَنْ يُؤْمِنُوا وَيَصْلُحُوا، فَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَفْعَلُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً لِيُقَوِّيَ بِهَا دَوَاعِيَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلِذَلِكَ مَدَحَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وَأَنَّهُ أُوتِيَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ. الثَّانِي: يُزَكِّيهِمْ، يَشْهَدُ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَزْكِيَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا شَهِدَ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، كَتَزْكِيَةِ الْمُزَكِّي الشُّهُودَ، وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ لِأَنَّهُ أَدْخَلُ فِي مُشَاكَلَةِ مُرَادِهِ

[سورة البقرة (2) : آية 130]

بِالدُّعَاءِ، لِأَنَّ مُرَادَهُ أَنْ يَتَكَامَلَ لِهَذِهِ الذُّرِّيَّةِ الْفَوْزُ بِالْجَنَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، ثُمَّ بِالتَّرْغِيبِ الشَّدِيدِ فِي الْعَمَلِ وَالتَّرْهِيبِ عَنِ الْإِخْلَالِ بِالْعَمَلِ وَهُوَ التَّزْكِيَةُ، هَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْمُلَخَّصُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فيه عبارات. أحدها: قال الحسن: يزكيهم: يُطَهِّرُهُمْ مِنْ شِرْكِهِمْ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ سَيَكُونُ فِي ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ جُهَّالٌ لَا حِكْمَةَ فِيهِمْ وَلَا كِتَابَ، وَأَنَّ الشِّرْكَ يُنَجِّسُهُمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَبْعَثُ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يُطَهِّرُهُمْ وَيَجْعَلُهُمْ حُكَمَاءَ الْأَرْضِ بَعْدَ جَهْلِهِمْ. وَثَانِيهَا: التَّزْكِيَةُ هِيَ الطَّاعَةُ لِلَّهِ وَالْإِخْلَاصُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَثَالِثُهَا: وَيُزَكِّيهِمْ عَنِ الشِّرْكِ وَسَائِرِ الْأَرْجَاسِ، كَقَوْلِهِ: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الْأَعْرَافِ: 157] وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ خَتَمَهَا بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَالْعَزِيزُ: / هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يُغْلَبُ، وَالْحَكِيمُ هُوَ الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَجْهَلُ شَيْئًا، وَإِذَا كَانَ عَالِمًا قَادِرًا كَانَ مَا يَفْعَلُهُ صَوَابًا وَمُبَرَّأً عَنِ الْعَبَثِ وَالسَّفَهِ، وَلَوْلَا كَوْنُهُ كَذَلِكَ لَمَا صَحَّ مِنْهُ إِجَابَةُ الدُّعَاءِ وَلَا بَعْثَةُ الرُّسُلِ، وَلَا إِنْزَالُ الْكِتَابِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَزِيزَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ إِذَا أُرِيدَ اقْتِدَارُهُ عَلَى الْأَشْيَاءِ وَامْتِنَاعُهُ مِنَ الْهَضْمِ وَالذِّلَّةِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُنَزَّهًا عَنِ الْحَاجَاتِ لَمْ تَلْحَقْهُ ذِلَّةُ الْمُحْتَاجِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ مُرَادِهِ حَتَّى يَلْحَقَهُ اهْتِضَامٌ، فَهُوَ عَزِيزٌ لَا مَحَالَةَ، وَأَمَّا الْحَكِيمُ فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الْعَلِيمِ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، فَإِذَا أُرِيدَ بِالْعِزَّةِ كَمَالُ الْعِزَّةِ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ مِنِ اسْتِيلَاءِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ، وَأُرِيدَ بِالْحِكْمَةِ أَفْعَالُ الْحِكْمَةِ لَمْ يَكُنِ الْعَزِيزُ وَالْحَكِيمُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ بَلْ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الصِّفَاتِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ صِفَاتِ الذَّاتِ أَزَلِيَّةٌ، وَصِفَاتِ الْفِعْلِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ صِفَاتِ الذَّاتِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَصْدُقَ نَقَائِضُهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَصِفَاتِ الْفِعْلِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ صِفَاتِ الْفِعْلِ أُمُورٌ نِسْبِيَّةٌ يُعْتَبَرُ فِي تَحَقُّقِهَا صُدُورُ الْآثَارِ عَنِ الْفَاعِلِ، وَصِفَاتِ الذَّاتِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَاحْتَجَّ النَّظَّامُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْقَبِيحِ بِأَنْ قَالَ: الْإِلَهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَكِيمًا لِذَاتِهِ، وَإِذَا كَانَ حَكِيمًا لِذَاتِهِ لَمْ يَكُنِ الْقَبِيحُ مَقْدُورًا، وَالْحِكْمَةُ لِذَاتِهَا تُنَافِي فِعْلَ الْقَبِيحِ، فَالْإِلَهُ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ فِعْلُ الْقَبِيحِ، وَمَا كان محال لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا، إِنَّمَا قُلْنَا: الْإِلَهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَكِيمًا لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ لَجَازَ تَبَدُّلُهُ بِنَقِيضِهِ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ إِلَهًا مَعَ عَدَمِ الْحِكْمَةِ وَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ مُحَالٌ، وَأَمَّا أَنَّ الْحِكْمَةَ تُنَافِي فِعْلَ السَّفَهِ فَذَلِكَ أَيْضًا مَعْلُومٌ بِالْبَدِيهَةِ، وَأَمَّا أَنَّ مُسْتَلْزِمَ الْمُنَافِي مُنَافٍ فَمَعْلُومٌ بِالْبَدِيهَةِ، فَإِذَنِ الْإِلَهِيَّةُ لَا يُمْكِنُ تَقْرِيرُهَا مَعَ فِعْلِ السَّفَهِ، وَأَمَّا أَنَّ الْمُحَالَ غَيْرُ مَقْدُورٍ فَبَيِّنٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِلَهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِ الْقَبِيحِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْأَفْعَالِ سَفَهًا مِنْهُ فَزَالَ السُّؤَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة البقرة (2) : آية 130] وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَمْرَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا أَجْرَاهُ عَلَى يَدِهِ مِنْ شَرَائِفِ شَرَائِعِهِ الَّتِي ابْتَلَاهُ بِهَا، وَمِنْ بِنَاءِ بَيْتِهِ وَأَمْرِهِ بِحَجِّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَيْهِ وَمَا جَبَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى مَصَالِحِ عِبَادِهِ وَدُعَائِهِ بِالْخَيْرِ لَهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي سَلَفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ السَّالِفَةِ عَجَّبَ النَّاسَ فَقَالَ: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ وَالْإِيمَانُ بِمَا أَتَى مِنْ شَرَائِعِهِ فَكَانَ فِي ذَلِكَ تَوْبِيخُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ لِأَنَّ الْيَهُودَ إِنَّمَا يَفْتَخِرُونَ بِهِ وَيُوصَلُونَ بِالْوَصْلَةِ الَّتِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ/ مِنْ نَسَبِ إِسْرَائِيلَ، وَالنَّصَارَى فَافْتِخَارُهُمْ لَيْسَ بِعِيسَى وَهُوَ مُنْتَسِبٌ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ إِلَى إِسْرَائِيلَ، وَأَمَّا قُرَيْشٌ فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا نَالُوا كُلَّ خَيْرٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْبَيْتِ الَّذِي بَنَاهُ فَصَارُوا لِذَلِكَ يُدْعَوْنَ

إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَسَائِرُ الْعَرَبِ وَهُمُ الْعَدْنَانِيُّونَ فَمَرْجِعُهُمْ إِلَى إِسْمَاعِيلَ وَهُمْ يَفْتَخِرُونَ عَلَى الْقَحْطَانِيِّينَ بِإِسْمَاعِيلَ بِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ النُّبُوَّةِ، فَرَجَعَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ افْتِخَارُ الْكُلِّ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بَعْثَةَ هَذَا الرَّسُولِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَهُوَ الَّذِي تَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْمَقْصُودِ، فَالْعَجَبُ مِمَّنْ أَعْظَمُ مَفَاخِرِهِ وَفَضَائِلِهِ الِانْتِسَابُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِالرَّسُولِ الَّذِي هُوَ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَطْلُوبُهُ بِالتَّضَرُّعِ لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِمَّا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْهُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: رَغِبْتُ مِنَ الْأَمْرِ إِذَا كَرِهْتَهُ، وَرَغِبْتُ فِيهِ إذا أردته. و «من» الْأُولَى اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَالثَّانِيَةُ بِمَعْنَى الَّذِي، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: مَنْ سَفِهَ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَرْغَبُ وَإِنَّمَا صَحَّ الْبَدَلُ لِأَنَّ مَنْ يَرْغَبُ غَيْرُ مُوجِبٍ كَقَوْلِكَ: هَلْ جَاءَكَ أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ. المسألة الثانية: لقائل أن يقول هاهنا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الْمِلَّةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكَلَامِ تَرْغِيبُ النَّاسِ فِي قَبُولِ هَذَا الدِّينِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ عَيْنُ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، أَوْ يُقَالَ: هَذِهِ الْمِلَّةُ هِيَ تِلْكَ الْمِلَّةُ فِي الْأُصُولِ أَعْنِي التَّوْحِيدَ وَالنُّبُوَّةَ وَرِعَايَةَ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَلَكِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي فُرُوعِ الشَّرَائِعِ وَكَيْفِيَّةِ الْأَعْمَالِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَبَاطِلٌ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَدَّعِي أَنَّ شَرْعَهُ نَسَخَ كُلَّ الشَّرَائِعِ، فَكَيْفَ يُقَالُ هَذَا الشَّرْعُ هُوَ عَيْنُ ذَلِكَ الشَّرْعِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ لِأَنَّ الِاعْتِرَافَ بِالْأُصُولِ أَعْنِي التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ وَمَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَالْمَعَادَ لَا يَقْتَضِي الِاعْتِرَافُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَيْفَ يَتَمَسَّكُ بِهَذَا الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ. وَسُؤَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اعْتَرَفَ بِأَنَّ شَرْعَ إِبْرَاهِيمَ مَنْسُوخٌ، وَلَفْظَ الْمِلَّةِ يَتَنَاوَلُ الْأُصُولَ وَالْفُرُوعَ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَاغِبًا أَيْضًا عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَيَلْزَمُ مَا أَلْزَمَ عَلَيْهِمْ. وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ تَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَطَلَبَ مِنْهُ بَعْثَةَ هَذَا الرَّسُولِ وَنُصْرَتَهُ وَتَأْيِيدَهُ وَنَشْرَ شَرِيعَتِهِ، عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِأَنَّهُ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ فَلَمَّا سَلَّمَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْعَرَبُ كَوْنَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُحِقًّا فِي مَقَالِهِ، وَجَبَ عَلَيْهِمُ الِاعْتِرَافُ بِنُبُوَّةِ/ هَذَا الشَّخْصِ الَّذِي هُوَ مَطْلُوبُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ السَّائِلُ: إِنَّ الْقَوْلَ مَا سَلَّمُوا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ طَلَبَ مِثْلَ هَذَا الرَّسُولِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَوَى هَذَا الْخَبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَبْنِيَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِلْزَامَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الِاعْتِرَافُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِذَنْ لَا تَثْبُتُ نُبُوَّتُهُ مَا لَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ، وَلَا تَثْبُتُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مَا لَمْ تَثْبُتْ نُبُوَّتُهُ، فَيُفْضِي إِلَى الدَّوْرِ وَهُوَ سَاقِطٌ، سَلَّمْنَا أَنَّ الْقَوْمَ سَلَّمُوا صِحَّةَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَكِنْ لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِلَّا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَبْعَثَ رَسُولًا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ، فَكَيْفَ الْقَطْعُ بِأَنَّ ذَلِكَ الرَّسُولَ هُوَ هَذَا الشَّخْصُ؟ فَلَعَلَّهُ شَخْصٌ آخَرُ سَيَجِيءُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِذَا جَازَ أَنْ تَتَأَخَّرَ إِجَابَةُ هَذَا الدُّعَاءِ بِمِقْدَارِ أَلْفَيْ سَنَةٍ، وَهُوَ الزمان الذي

[سورة البقرة (2) : آية 131]

بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَأَخَّرَ بِمِقْدَارِ ثَلَاثَةِ آلَافِ سَنَةٍ حَتَّى يَكُونَ الْمَطْلُوبُ بِهَذَا الدُّعَاءِ شَخْصًا آخَرَ سِوَى هَذَا الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ؟ وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: لَعَلَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ شَاهِدَانِ بِصِحَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مُسَارَعَةً إِلَى تَكْذِيبِهِ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ظُهُورُ الْمُعْجِزِ عَلَى يَدِهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ وَإِخْبَارُهُ عَنِ الْغُيُوبِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا نَبِيُّ مِثْلِ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ تَجْرِي مَجْرَى الْمُؤَكِّدِ لِلْمَقْصُودِ وَالْمَطْلُوبِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي انْتِصَابِ نَفْسَهُ قَوْلَانِ. الْأَوَّلُ: لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: سَفَهَ لَازِمٌ، وَسَفِهَ مُتَعَدٍّ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: امْتَهَنَهَا وَاسْتَخَفَّ بِهَا، وَأَصْلُ السَّفَهِ الْخِفَّةُ، وَمِنْهُ زِمَامٌ سَفِيهٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الْكِبْرُ أَنْ تُسَفِّهَ الْحَقَّ وَتَغْمِصَ النَّاسَ» وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا رَغِبَ عَمَّا لَا يَرْغَبُ عَنْهُ عَاقِلٌ قَطُّ فَقَدْ بَالَغَ فِي إِزَالَةِ نَفْسِهِ وَتَعْجِيزِهَا، حَيْثُ خَالَفَ بِهَا كُلَّ نَفْسٍ عَاقِلَةٍ. وَالثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ: إِلَّا مَنْ جَهِلَ نَفْسَهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ لَا يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ جَهِلَ فَلَمْ يُفَكِّرْ فِيهَا، فَيَسْتَدِلُّ بِمَا يَجِدُهُ فِيهَا مِنْ آثَارِ الصَّنْعَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى حِكْمَتِهِ، فَيَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّالِثُ: أَهْلَكَ نَفْسَهُ وَأَوْبَقَهَا عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَالرَّابِعُ: أَضَلَّ نَفْسَهُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ نَفْسَهُ لَيْسَتْ مَفْعُولًا وَذَكَرُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهًا. الْأَوَّلُ: أَنَّ نَفْسَهُ نُصِبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ تَقْدِيرُهُ سَفِهَ فِي نَفْسِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى التَّفْسِيرِ عَنِ الْفَرَّاءِ وَمَعْنَاهُ سَفِهَ نَفْسًا ثُمَّ أَضَافَ وَتَقْدِيرُهُ إِلَّا السَّفِيهَ، وَذِكْرُ النَّفْسِ تَأْكِيدٌ كَمَا يُقَالُ: هَذَا الْأَمْرُ نَفْسَهُ وَالْمَقْصُودُ منه المبالغة في سفهه. والثالث: قُرِئَ: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ بِسَفَاهَةِ مَنْ رَغِبَ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَّنَ السَّبَبَ فَقَالَ: وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّا إِذَا اخْتَرْنَاهُ لِلرِّسَالَةِ مِنْ دُونِ سَائِرِ الْخَلِيقَةِ، وَعَرَّفْنَاهُ الْمِلَّةَ الَّتِي هِيَ جَامِعَةٌ لِلتَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالشَّرَائِعِ وَالْإِمَامَةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ ثُمَّ أُضِيفَ إِلَيْهِ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فَشَرَّفَهُ اللَّهُ/ بِهَذَا اللَّقَبِ الَّذِي فِيهِ نِهَايَةُ الْجَلَالَةِ لِمَنْ نَالَهَا مِنْ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْبَشَرِ فَكَيْفَ مَنْ نَالَهَا مِنْ مَلِكِ الْمُلُوكِ وَالشَّرَائِعِ فَلْيُحَقِّقْ كُلُّ ذِي لُبٍّ وَعَقْلٍ أَنَّ الرَّاغِبَ عَنْ مِلَّتِهِ فَهُوَ سَفِيهٌ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ عَظِيمُ الْمَنْزِلَةِ لِيَرْغَبَ فِي مِثْلِ طَرِيقَتِهِ لِيَنَالَ مِثْلَ تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، وَقِيلَ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَتَقْدِيرُهُ: وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، وَإِذَا صَحَّ الْكَلَامُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ كَانَ أَوْلَى، قَالَ الْحَسَنُ: مِنَ الَّذِينَ يَسْتَوْجِبُونَ الْكَرَامَةَ وحسن الثواب على كرم الله تعالى. [سورة البقرة (2) : آية 131] إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ الْخَامِسَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَوْضِعُ إِذْ نَصْبٌ وَفِي عَامِلِهِ وَجْهَانِ. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نُصِبَ بِاصْطَفَيْنَاهُ، أَيِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الِاصْطِفَاءَ ثُمَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ سَبَبِ الِاصْطِفَاءِ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ نَفْسَهُ لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَضَعَ لَهَا وَانْقَادَ عَلِمَ تَعَالَى مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ عَلَى الْأَوْقَاتِ وَأَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُطَهَّرٌ مِنْ كُلِّ الذُّنُوبِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اخْتَارَهُ لِلرِّسَالَةِ وَاخْتَصَّهُ بِهَا لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْتَارُ لِلرِّسَالَةِ إِلَّا مَنْ هَذَا حَالُهُ فِي الْبَدْءِ وَالْعَاقِبَةِ، فَإِسْلَامُهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَحُسْنُ إِجَابَتِهِ مَنْطُوقٌ بِهِ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ إِخْبَارٌ عَنِ النَّفْسِ وَقَوْلُهُ: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ إِخْبَارٌ عَنِ الْمُغَايَبَةِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ هذا النظم

[سورة البقرة (2) : آية 132]

وَاحِدًا؟ قُلْنَا: هَذَا مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا. الثَّانِي: أَنَّهُ نُصِبَ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ كَأَنَّهُ قِيلَ: اذْكُرْ ذَلِكَ الْوَقْتَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ الْمُصْطَفَى الصَّالِحُ الَّذِي لَا يُرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ مِثْلِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَتَى قَالَ لَهُ أَسْلِمْ؟ وَمَنْشَأُ الْإِشْكَالِ أَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ لَهُ: أَسْلِمْ فِي زَمَانٍ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا فِيهِ، فَهَلْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَيْرَ مُسْلِمٍ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ لِيُقَالَ لَهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَسْلِمْ؟ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَقَبْلَ الْبُلُوغِ، وَذَلِكَ عِنْدَ اسْتِدْلَالِهِ بِالْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَى أَمَارَاتِ الْحُدُوثِ فِيهَا، وَإِحَاطَتِهِ بِافْتِقَارِهَا إِلَى مُدَبِّرٍ يُخَالِفُهَا فِي الْجِسْمِيَّةِ وَأَمَارَاتِ الْحُدُوثِ، فَلَمَّا عَرَفَ رَبَّهُ قَالَ لَهُ تَعَالَى: أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ عَرَفَ رَبَّهُ وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَسْلِمْ كَانَ قَبْلَ الِاسْتِدْلَالِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ لَا نَفْسَ الْقَوْلِ بَلْ دَلَالَةَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ عَلَى حَسَبِ مَذَاهِبِ الْعَرَبِ فِي هَذَا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: امْتَلَأَ الْحَوْضُ وقال قطني ... مهلا رويدا قد ملأت بطني وَأَصْدَقُ دَلَالَةٍ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [الرُّومِ: 35] فَجَعَلَ دَلَالَةَ الْبُرْهَانِ كَلَامًا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَذَا الْأَمْرُ كَانَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وَقَوْلُهُ: أَسْلِمْ لَيْسَ الْمُرَادُ/ مِنْهُ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ بَلْ أُمُورٌ أُخَرُ. أَحَدُهَا: الِانْقِيَادُ لِأَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُسَارَعَةُ إِلَى تَلَقِّيهَا بِالْقَبُولِ، وَتَرْكُ الْإِعْرَاضِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة: 128] . وَثَانِيهَا: قَالَ الْأَصَمُّ: أَسْلِمْ أَيْ أَخْلِصْ عِبَادَتَكَ وَاجْعَلْهَا سَلِيمَةً مِنَ الشِّرْكِ وَمُلَاحَظَةِ الْأَغْيَارِ. وَثَالِثُهَا: اسْتَقِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَاثْبُتْ عَلَى التَّوْحِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [مُحَمَّدٍ: 19] . وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْإِيمَانَ صِفَةُ الْقَلْبِ وَالْإِسْلَامَ صِفَةُ الْجَوَارِحِ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَارِفًا بِاللَّهِ تَعَالَى بِقَلْبِهِ وَكَلَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ بِعَمَلِ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ بِقَوْلِهِ: أَسْلِمْ. [سورة البقرة (2) : آية 132] وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ السَّادِسُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُسْتَحْسَنَةِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَوْصَى بِالْأَلِفِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَالْبَاقُونَ بِغَيْرِ أَلِفٍ بِالتَّشْدِيدِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ إِلَّا أَنَّ فِي وَصَّى دَلِيلُ مُبَالَغَةٍ وَتَكْثِيرٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي بِها إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى قوله: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [البقرة: 131] عَلَى تَأْوِيلِ الْكَلِمَةِ وَالْجُمْلَةِ، وَنَحْوُهُ رُجُوعُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً [الزُّخْرُفِ: 28] إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف: 26، 27] وقوله: كَلِمَةً باقِيَةً دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّأْنِيثَ عَلَى تَأْوِيلِ الْكَلِمَةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمِلَّةِ فِي قوله: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ [البقرة: 130] قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى مِنَ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُصَرَّحٍ بِهِ وَرَدُّ الْإِضْمَارِ إِلَى الْمُصَرَّحِ بِذِكْرِهِ إِذَا أَمْكَنَ أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إِلَى الْمَدْلُولِ وَالْمَفْهُومِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمِلَّةَ أَجْمَعُ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا وَصَّى وَلَدَهُ إِلَّا بِمَا يَجْمَعُ فِيهِمُ الْفَلَاحَ وَالْفَوْزَ بِالْآخِرَةِ، وَالشَّهَادَةُ وَحْدَهَا لَا تَقْتَضِي ذَلِكَ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 133 إلى 134]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى دَقَائِقَ مُرَغِّبَةٍ فِي قَبُولِ الدِّينِ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ وَأَمَرَ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ بَلْ قَالَ: وَصَّاهُمْ وَلَفْظُ الْوَصِيَّةِ أَوْكَدُ مِنَ الْأَمْرِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنَ الْمَوْتِ، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَكُونُ احْتِيَاطُ الْإِنْسَانِ لِدِينِهِ أَشَدَّ وَأَتَمَّ، فَإِذَا عَرَفَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ مُهْتَمًّا بِهَذَا الْأَمْرِ مُتَشَدِّدًا فِيهِ، كَانَ الْقَوْلُ إِلَى قَبُولِهِ أَقْرَبَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَصَّصَ بَنِيهِ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ شَفَقَةَ الرَّجُلِ عَلَى أَبْنَائِهِ أَكْثَرُ مِنْ شَفَقَتِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَلَمَّا خَصَّهُمْ بِذَلِكَ في آخره عُمْرِهِ، عَلِمْنَا أَنَّ اهْتِمَامَهُ بِذَلِكَ كَانَ أَشَدَّ مِنَ اهْتِمَامِهِ بِغَيْرِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ/ عَمَّمَ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ جَمِيعَ بَنِيهِ وَلَمْ يَخُصَّ أَحَدًا مِنْهُمْ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ، وَذَلِكَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَطْلَقَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ وَمَكَانٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ زَجَرَهُمْ أَبْلَغَ الزَّجْرِ عَنْ أَنْ يَمُوتُوا غَيْرَ مُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْأَمْرِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا مَزَجَ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ وَصِيَّةً أُخْرَى، وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْأَمْرِ، وَلَمَّا كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الرَّجُلُ الْمَشْهُودُ لَهُ بِالْفَضْلِ وَحُسْنِ الطَّرِيقَةِ وَكَمَالِ السِّيرَةِ، ثُمَّ عُرِفَ أَنَّهُ كَانَ فِي نِهَايَةِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْأَمْرِ، عُرِفَ حِينَئِذٍ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَوْلَى الْأُمُورِ بِالِاهْتِمَامِ، وَأَجْرَاهَا بِالرِّعَايَةِ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي أَنَّهُ خَصَّ أَهْلَهُ وَأَبْنَاءَهُ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ، وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ مِنْ حَالِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو الْكُلَّ أَبَدًا إِلَى الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَيَعْقُوبُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَشْهَرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ وَصَّى كَوَصِيَّةِ إِبْرَاهِيمَ. وَالثَّانِي: قُرِئَ وَيَعْقُوبُ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى بَنِيهِ، وَمَعْنَاهُ: وَصَّى إبراهيم بنيه، ونافلته يعقوب، أما قوله: يا بَنِيَّ فَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ يَتَعَلَّقُ بِوَصَّى لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، أَنْ يَا بَنِيَّ. أَمَّا قَوْلُهُ: اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَخْلَصَهُ بِأَنْ أَقَامَ عَلَيْهِ الدَّلَائِلَ الظَّاهِرَةَ الْجَلِيَّةَ وَدَعَاكُمْ إِلَيْهِ وَمَنَعَكُمْ عَنْ غَيْرِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَالْمُرَادُ بَعْثُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا لَمْ يَأْمَنِ الْمَوْتَ فِي كُلِّ طَرْفَةِ عَيْنٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أُمِرَ بِأَنْ يَأْتِيَ بِالشَّيْءِ قَبْلَ الْمَوْتِ صَارَ مَأْمُورًا بِهِ فِي كُلِّ حَالٍ، لِأَنَّهُ يُخْشَى إِنْ لَمْ يُبَادِرْ إِلَيْهِ أَنْ تُعَاجِلَهُ الْمَنِيَّةُ فَيَفُوتُهُ الظَّفَرُ بِالنَّجَاةِ وَيَخَافُ الْهَلَاكَ فَيَصِيرُ مُدْخِلًا نَفْسَهُ فِي الْخَطَرِ وَالْغُرُورِ. [سورة البقرة (2) : الآيات 133 الى 134] أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ بَالَغَ فِي وَصِيَّةِ بَنِيهِ فِي الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ، ذَكَرَ عَقِيبَهُ أَنَّ يَعْقُوبَ وَصَّى بَنِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِلْحُجَّةِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَمُبَالَغَةً فِي البيان وفيه مسائل: [في معنى أم في قوله تعالى أم كنتم شهداء] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ (أَمْ) مَعْنَاهَا حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ، أَوْ حَرْفُ الْعَطْفِ، وَهِيَ تُشْبِهُ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ «أَوْ» وَهِيَ تَأْتِي عَلَى وَجْهَيْنِ: مُتَّصِلَةً بِمَا قَبْلَهَا وَمُنْقَطِعَةً مِنْهُ، أَمَّا الْمُتَّصِلَةُ فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عَمْرٌو؟ فَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ كَوْنَ أَحَدِهِمَا عِنْدَهُ فَتَسْأَلُ هَلْ أَحَدُ هَذَيْنِ عِنْدَكَ فَلَا جَرَمَ كَانَ جَوَابُهُ لَا أَوْ نَعَمْ، أَمَّا إِذَا علمت

كَوْنَ أَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ عِنْدَهُ لَكِنَّكَ لَا تَعْلَمُ أَنَّ الْكَائِنَ عِنْدَهُ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو فَسَأَلْتَهُ عَنِ التَّعْيِينِ قُلْتَ: أَزْيَدٌ عِنْدَكَ أَمْ عَمْرٌو؟ أَيِ اعْلَمْ أَنَّ أَحَدَهُمَا عِنْدَكَ لَكِنْ أَهُوَ هَذَا أَوْ ذَاكَ؟ وَأَمَّا الْمُنْقَطِعَةُ فَقَالُوا: إِنَّهَا بِمَعْنَى «بَلْ» مَعَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، مِثَالُهُ: إذا قال إنها لا بل أَمْ شَاءٌ، فَكَأَنَّ قَائِلَ هَذَا الْكَلَامِ سَبَقَ بَصَرُهُ إِلَى الْأَشْخَاصِ فَقَدَّرَ أَنَّهَا إِبِلٌ فَأَخْبَرَ عَلَى مُقْتَضَى ظَنِّهِ أَنَّهَا الْإِبِلُ، ثُمَّ جَاءَهُ الشَّكُّ وَأَرَادَ أَنْ يُضْرِبَ عَنْ ذَلِكَ الْخَبَرِ وَأَنْ يَسْتَفْهِمَ أَنَّهَا هَلْ هِيَ شَاءٌ أَمْ لَا، فَالْإِضْرَابُ عَنِ الْأَوَّلِ هُوَ مَعْنَى «بَلْ» وَالِاسْتِفْهَامُ عَنْ أَنَّهَا شَاءٌ هُوَ الْمُرَادُ بِهَمْزَةِ الاستفهام، فقولك: إنها لا بل أم شاء جار مجرى قولك: إنها لا بل أهي شاء بقولك: أَهِيَ شَاءٌ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِقَوْلِهِ: إنها لا بل، وَكَيْفَ وَذَلِكَ قَدْ وَقَعَ الْإِضْرَابُ عَنْهُ بِخِلَافِ الْمُتَّصِلَةِ فَإِنَّ قَوْلَكَ: أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عَمْرٌو؟ بِمَعْنَى أَيُّهُمَا عِنْدَكَ وَلَمْ يَكُنْ «مَا» بَعْدَ «أَمْ» مُنْقَطِعًا عَمَّا قَبْلَهُ بِدَلِيلِ أَنَّ عَمْرًا قَرِينُ زَيْدٍ وَكَفَى دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ أَنَّكَ تُعَبِّرُ عَنْ ذَلِكَ بَاسِمٍ مُفْرَدٍ فَتَقُولُ: أَيُّهُمَا عِنْدَكَ؟ وَقَدْ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ النَّوْعَيْنِ كَثِيرٌ، أَمَّا الْمُتَّصِلَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها [النَّازِعَاتِ: 27، 28] أَيْ أَيُّكُمَا أَشَدُّ، وَأَمَّا الْمُنْقَطِعَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ [السَّجْدَةِ: 1- 3] وَاللَّهُ أَعْلَمُ بَلْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ، فَدَلَّ عَلَى الْإِضْرَابِ عَنِ الْأَوَّلِ وَالِاسْتِفْهَامِ عَمَّا بَعْدَهُ، إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَعْنًى، أَيْ كَمَا كَانَ فِي قَوْلِكَ: أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عَمْرٌو؟ وَمَنْ لَا يُحَقِّقُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُونَ إِنَّ «أم» هاهنا بِمَنْزِلَةِ الْهَمْزَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ «أَمْ» هَذِهِ الْمُنْقَطِعَةَ: تَتَضَمَّنُ مَعْنَى بَلْ، إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ «أَمْ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُنْفَصِلَةٌ أَمْ مُتَّصِلَةٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مُنْقَطِعَةٌ عَمَّا قَبْلَهَا، وَمَعْنَى الْهَمْزَةِ فِيهَا الْإِنْكَارُ أَيْ: بَلْ مَا كُنْتُمْ شُهَدَاءَ، «وَالشُّهَدَاءُ» جَمْعُ شَهِيدٍ بِمَعْنَى الْحَاضِرِ أَيْ مَا كنتم حاضرين عند ما حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ، وَالْخِطَابَ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُمْ فِيمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ مِنْ أَنَّ الدِّينَ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ دِينُ الرُّسُلِ: كَيْفَ تَقُولُونَ ذَلِكَ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ وَصَايَا الْأَنْبِيَاءِ بِالدِّينِ وَلَوْ شَهِدْتُمْ ذَلِكَ لَتَرَكْتُمْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ وَلَرَغِبْتُمْ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ نَفْسُ مَا كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَعْقُوبُ وَسَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بَعْدَهُ. فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى كَلَامٍ بَاطِلٍ، وَالْمَحْكِيُّ عَنْ يَعْقُوبَ/ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ كَلَامًا بَاطِلًا بَلْ حَقًّا، فَكَيْفَ يُمْكِنُ صَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ إِلَيْهِ؟ قُلْنَا: الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ مُتَعَلِّقٌ بِمُجَرَّدِ ادِّعَائِهِمُ الْحُضُورَ عِنْدَ وَفَاتِهِ هَذَا هُوَ الذي أنكره الله تعالى. فأما ما ذِكْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي فَهُوَ كَلَامٌ مُفَصَّلٌ بَلْ كَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْكَرَ حُضُورَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ شَرَحَ بَعْدَ ذَلِكَ كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي أَنَّ أَمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَّصِلَةٌ، وَطَرِيقُ ذَلِكَ أَنْ يُقَدَّرَ قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَتَدَّعُونَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْيَهُودِيَّةَ، أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ يَعْنِي إِنَّ أَوَائِلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا مُشَاهِدِينَ لَهُ إِذْ دَعَا بَنِيهِ إِلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَالتَّوْحِيدِ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ ذَلِكَ فَمَا لَكُمْ تَدَّعُونَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مَا هُمْ مِنْهُ بُرَآءُ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ففيه مسألتان: المسألة الأولى: [في معنى إذ في الآية] قَالَ الْقَفَّالُ قَوْلُهُ: إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ أَنَّ «إِذِ» الْأُولَى وَقْتَ الشهداء، وَالثَّانِيَةَ وَقْتَ الْحُضُورِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ شَفَقَةَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى أَوْلَادِهِمْ كَانَتْ فِي بَابِ الدِّينِ وَهِمَّتَهُمْ مَصْرُوفَةٌ إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي فَفِيهِ مسألتان: المسألة الأولى: لفظة «مَا» لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ فَكَيْفَ أَطْلَقَهُ فِي الْمَعْبُودِ الْحَقِّ؟ وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ «مَا» عَامٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَالْمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ تَعْبُدُونَ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: مَا تَعْبُدُونَ كَقَوْلِكَ عِنْدَ طَلَبِ الْحَدِّ وَالرَّسْمِ: مَا الْإِنْسَانُ؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِي أَمَّا قَوْلُهُ: قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ تَمَسَّكَ بِهَا فَرِيقَانِ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ. الْأَوَّلُ: الْمُقَلِّدَةُ قَالُوا: إِنَّ أَبْنَاءَ يَعْقُوبَ اكْتَفَوْا بِالتَّقْلِيدِ، وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ كَافٍ. الثَّانِي: التَّعْلِيمِيَّةُ. قَالُوا: لَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ إِلَّا بِتَعْلِيمِ الرَّسُولِ وَالْإِمَامِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا: نَعْبُدُ الْإِلَهَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ، بَلْ قالوا: نعبد الإله الذي أنت تعبده وآباءك يَعْبُدُونَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَرِيقَ الْمَعْرِفَةِ هُوَ التَّعَلُّمُ. وَالْجَوَابُ: كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ عَرَفُوا الْإِلَهَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، فَلَيْسَ فِيهَا أَيْضًا دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُمْ مَا أَقَرُّوا بِالْإِلَهِ إِلَّا عَلَى طَرِيقَةِ التَّقْلِيدِ وَالتَّعْلِيمِ، ثُمَّ إِنَّ الْقَوْلَ بِالتَّقْلِيدِ وَالتَّعْلِيمِ لَمَّا بَطَلَ بِالدَّلِيلِ عَلِمْنَا أَنَّ إِيمَانَ الْقَوْمِ مَا كَانَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ بَلْ كَانَ حَاصِلًا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: فَلِمَ لَمْ يَذْكُرُوا طَرِيقَةَ الِاسْتِدْلَالِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ، أَوَّلُهَا: أَنَّ ذَلِكَ أَخْصَرُ فِي الْقَوْلِ مِنْ شَرْحِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى/ بِتَوْحِيدِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعَدْلِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى سُكُونِ نَفْسِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فكأنهم قالوا: لسنا نجزي إِلَّا عَلَى مِثْلِ طَرِيقَتِكَ فَلَا خِلَافَ مِنَّا عَلَيْكَ فِيمَا نَعْبُدُهُ وَنُخْلِصُ الْعِبَادَةَ لَهُ. وَثَالِثُهَا: لَعَلَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى ذِكْرِ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى في أول هذه السورة في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 21] وهاهنا مرادهم بقولهم: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ أَيْ: نَعْبُدُ الْإِلَهَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ وُجُودُكَ وَوُجُودُ آبَائِكَ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَكُونُ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى الِاسْتِدْلَالِ لَا إِلَى التَّقْلِيدِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: وَفِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَخَلَ مِصْرَ رَأَى أَهْلَهَا يَعْبُدُونَ النِّيرَانَ وَالْأَوْثَانَ فَخَافَ عَلَى بَنِيهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَقَالَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى التَّمَسُّكِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَحَكَى الْقَاضِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَمَعَهُمْ إِلَيْهِ عِنْدَ الْوَفَاةِ، وَهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَالنِّيرَانَ، فَقَالَ: يَا بَنِيَّ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟ قَالُوا: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي: هَذَا بَعِيدٌ لِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ بَادَرُوا إِلَى الِاعْتِرَافِ بِالتَّوْحِيدِ مُبَادَرَةَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُ العلم واليقين. والثاني: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ حَالَ الْأَسْبَاطِ مِنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ وَأَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحَالِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ عطف بيان لآبائك. قال الْقَفَّالُ: وَقِيلَ أَنَّهُ قَدَّمَ ذِكْرَ إِسْمَاعِيلَ عَلَى إِسْحَاقَ لِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ كَانَ أَسَنَّ مِنْ إِسْحَاقَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْ لِلْأَبِ لَا يسقطون بالجد

وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو حنيفة: إنهم يسقطون بالجد وهو قول أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمِنَ التَّابِعِينَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ، أَمَّا الْأَوَّلُونَ وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ لَا يَسْقُطُونَ بِالْجَدِّ فَلَهُمْ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَدَّ خُيِّرَ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا الْمُقَاسَمَةَ مَعَهُمْ أَوْ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ، ثُمَّ الْبَاقِي بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَهَذَا مَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَحَدِ الْإِخْوَةِ مَا لَمْ تَنْقُصْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنَ السُّدُسِ فَإِنْ نَقَصَتْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنَ السُّدُسِ أُعْطِيَ السُّدُسَ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى قَوْلِهِ بِأَنَّ الْجَدَّ أَبٌ وَالْأَبَ يَحْجُبُ الْأَخَوَاتِ وَالْإِخْوَةَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَحْجُبَهُمُ الْجَدُّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْجَدَّ أَبٌ لِلْآيَةِ وَالْأَثَرِ. أَمَّا الْآيَةُ فَاثْنَانِ هَذِهِ الآية وهي قَوْلِهِ تَعَالَى: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْأَبِ عَلَى الْجَدِّ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَطْلَقَهُ فِي الْعَمِّ وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ مَعَ أَنَّهُ بِالِاتِّفَاقِ لَيْسَ بِأَبٍ. قُلْنَا: الِاسْتِعْمَالُ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ ظَاهِرًا تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ العم الدليل قَامَ فِيهِ فَيَبْقَى فِي الْبَاقِي حُجَّةُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ [يُوسُفَ: 38] / وَأَمَّا الْأَثَرُ فَمَا رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ شَاءَ لَاعَنْتُهُ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، إِنَّ الْجَدَّ أَبٌ، وَقَالَ أَيْضًا: أَلَا لَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا وَلَا يَجْعَلُ أَبَ الْأَبِ أَبًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ وَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [النِّسَاءِ: 11] فِي اسْتِحْقَاقِ الْجَدِّ الثُّلُثَيْنِ دُونَ الْإِخْوَةِ كَمَا اسْتَحَقَّهُ الْأَبُ دُونَهُمْ إِذَا كَانَ بَاقِيًا، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّكُمْ كَمَا اسْتَدْلَلْتُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ، فَنَحْنُ نَسْتَدِلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِأَبٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [الْبَقَرَةِ: 132] فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَدْخَلَ يَعْقُوبَ فِي بَنِيهِ لِأَنَّهُ مَيَّزَهُ عَنْهُمْ، فَلَوْ كَانَ الصَّاعِدُ فِي الأبوة أباً لكان النازل في النبوة ابْنًا فِي الْحَقِيقَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْجَدَّ لَيْسَ بِأَبٍ. وَثَانِيهَا: لَوْ كَانَ الْجَدُّ أَبًا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَمَا صَحَّ لِمَنْ مَاتَ أَبُوهُ وَجَدُّهُ حَيٌّ أَنْ يُنْفَى أَنَّ لَهُ أَبًا، كَمَا لَا يَصِحُّ فِي الْأَبِ الْقَرِيبِ وَلَمَّا صَحَّ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِأَبٍ فِي الْحَقِيقَةِ. فَإِنْ قِيلَ: اسْمُ الْأُبُوَّةِ وَإِنْ حَصَلَ فِي الْكُلِّ إِلَّا أَنَّ رُتْبَةَ الْأَدْنَى أَقْرَبُ مِنْ رُتْبَةِ الْأَبْعَدِ فَلِذَلِكَ صَحَّ فِيهِ النَّفْيُ. قُلْنَا: لَوْ كَانَ الِاسْمُ حَقِيقَةً فِيهِمَا جَمِيعًا لَمْ يَكُنِ التَّرْتِيبُ فِي الْوُجُودِ سَبَبًا لِنَفْيِ اسْمِ الْأَبِ عَنْهُ، وَثَالِثُهَا: لَوْ كَانَ الْجَدُّ أَبًا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَصَحَّ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَاتَ وَخَلَّفَ أُمًّا وَآبَاءً كَثِيرِينَ وَذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُطْلِقْهُ أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَرْبَابِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ. وَرَابِعُهَا: لَوْ كَانَ الْجَدُّ أَبًا وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ عَارِفُونَ بِاللُّغَةِ لَمَا كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِي مِيرَاثِ الْجَدِّ، وَلَوْ كَانَ الْجَدُّ أَبًا لَكَانَتِ الْجَدَّةُ أُمًّا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا وَقَعَتِ الشُّبْهَةُ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ حَتَّى يَحْتَاجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهُ، فَهَذِهِ الدَّلَائِلُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْجَدَّ لَيْسَ بِأَبٍ. وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النِّسَاءِ: 11] فَلَوْ كَانَ الْجَدُّ أَبًا لَكَانَ ابْنُ الِابْنِ ابْنًا لَا مَحَالَةَ فَكَانَ يَلْزَمُ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ حُصُولُ الْمِيرَاثِ لِابْنِ الِابْنِ مَعَ قِيَامِ الِابْنِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْجَدَّ لَيْسَ بِأَبٍ، فَأَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَمَسَّكْتُمْ بِهَا فِي بَيَانِ أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ فَالْجَوَابُ عَنْ وَجْهِ التَّمَسُّكِ بِهَا من وجوه.

أَوَّلُهَا: أَنَّهُ قَرَأَ أُبَيٌّ: وَإِلَهَ إِبْرَاهِيمَ بِطَرْحِ آبَائِكَ إِلَّا أَنَّ هَذَا لَا يَقْدَحُ فِي الغرض لأن القراءة الشاذة لا ترفع الْقِرَاءَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ، بَلِ الْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَطْلَقَ لَفْظَ الْأَبِ عَلَى الْجَدِّ وَعَلَى الْعَمِّ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْعَبَّاسِ: «هَذَا بَقِيَّةُ آبَائِي» وَقَالَ: «رُدُّوا عَلَيَّ أَبِي» فَدَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، والدليل عليه ما قدمناه أَنَّهُ يَصِحُّ نَفْيُ اسْمِ الْأَبِ عَنِ الْجَدِّ، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّمَا أَطْلَقَ الِاسْمَ عَلَيْهِ نظراً إلى الحكم الشرعي لَا إِلَى الِاسْمِ اللُّغَوِيِّ لِأَنَّ اللُّغَاتِ لَا يَقَعُ الْخِلَافُ فِيهَا بَيْنَ أَرْبَابِ اللِّسَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلهاً واحِداً فَهُوَ بدل إِلهَ آبائِكَ كَقَوْلِهِ: بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ [الْعَلَقِ: 15، 16] أَوْ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَيْ تُرِيدُ بِإِلَهِ آبَائِكَ إِلَهًا وَاحِدًا، أَمَّا قَوْلُهُ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: / أَنَّهُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ نَعْبُدُ أَوْ مِنْ مَفْعُولِهِ لِرُجُوعِ الْهَاءِ إِلَيْهِ فِي لَهُ. وَثَانِيهَا: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً مَعْطُوفَةً عَلَى نَعْبُدُ. وَثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً اعْتِرَاضِيَّةً مُؤَكِّدَةً، أَيْ وَمِنْ حَالِنَا أَنَّا لَهُ مُسْلِمُونَ مُخْلِصُونَ لِلتَّوْحِيدِ أَوْ مُذْعِنُونَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَبَنُوهُ الْمُوَحِّدُونَ. والأمة الصِّنْفُ. خَلَتْ سَلَفَتْ وَمَضَتْ وَانْقَرَضَتْ، وَالْمَعْنَى أَنِّي اقْتَصَصْتُ عَلَيْكُمْ أَخْبَارَهُمْ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ لَكُمْ نَفْعٌ فِي سِيرَتِهِمْ دُونَ أَنْ تَفْعَلُوا مَا فَعَلُوهُ، فَإِنْ أَنْتُمْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ انْتَفَعْتُمْ وَإِنْ أَبَيْتُمْ لَمْ تَنْتَفِعُوا بِأَفْعَالِهِمْ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَها مَا كَسَبَتْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَسْبَ كُلِّ أَحَدٍ يَخْتَصُّ بِهِ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ، وَلَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ جَائِزًا لَكَانَ كَسْبُ الْمَتْبُوعِ نَافِعًا لِلتَّابِعِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنِّي مَا ذَكَرْتُ حِكَايَةَ أَحْوَالِهِمْ طَلَبًا مِنْكُمْ أَنْ تُقَلِّدُوهُمْ، وَلَكِنْ لِتُنَبَّهُوا عَلَى مَا يَلْزَمُكُمْ فَتَسْتَدِلُّوا وَتَعْلَمُوا أَنَّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمِلَّةِ هُوَ الْحَقُّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى تَرْغِيبِهِمْ فِي الْإِيمَانِ، وَاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْ مُخَالَفَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَبْنَاءَ لَا يُثَابُونَ عَلَى طَاعَةِ الْآبَاءِ بِخِلَافِ قَوْلِ الْيَهُودِ مِنْ أَنَّ صَلَاحَ آبَائِهِمْ يَنْفَعُهُمْ، وَتَحْقِيقُهُ مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ مُحَمَّدٍ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، ائْتُونِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالِكُمْ لَا بِأَنْسَابِكُمْ فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» . وَقَالَ: «وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 101] وَقَالَ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النِّسَاءِ: 123] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الْأَنْعَامِ: 164] وَقَالَ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ [النُّورِ: 54] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الْأَبْنَاءُ يُعَذَّبُونَ بِكُفْرِ آبَائِهِمْ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ لِكُفْرِ آبَائِهِمْ بِاتِّخَاذِ الْعِجْلِ. وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً

[الْبَقَرَةِ: 80] وَهِيَ أَيَّامُ عِبَادَةِ الْعِجْلِ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بُطْلَانَ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ مُكْتَسِبٌ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةُ فِي تَفْسِيرِ الْكَسْبِ. أَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ الْعَبْدِ مُكْتَسِبًا دُخُولَ شَيْءٍ مِنَ الْأَعْرَاضِ بِقُدْرَتِهِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، ثُمَّ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ذَكَرُوا لِهَذَا الْكَسْبِ ثَلَاثَ تَفْسِيرَاتٍ. أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْقُدْرَةَ صِفَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَقْدُورِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرِ الْقُدْرَةِ فِي الْمَقْدُورِ، بَلِ الْقُدْرَةُ وَالْمَقْدُورُ حَصَلَا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ وَالْمَعْلُومَ حَصَلَا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنَّ الشَّيْءَ الَّذِي حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُتَعَلِّقُ الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ هُوَ الْكَسْبُ. وَثَانِيهَا: / أَنَّ ذَاتَ الْفِعْلِ تُوجَدُ بِقُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ يَحْصُلُ لِذَلِكَ الْفِعْلِ وَصْفُ كَوْنِهِ طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً وَهَذِهِ الصِّفَةُ حَاصِلَةٌ بِالْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقُدْرَةَ الْحَادِثَةَ وَالْقُدْرَةَ الْقَدِيمَةَ، إِذَا تَعَلَّقَتَا بِمَقْدُورٍ واحد وقع المقدور بهما، وكأنه فِعْلَ الْعَبْدِ وَقَعَ بِإِعَانَةِ اللَّهِ، فَهَذَا هُوَ الكسب وهذا يعزى إلى أبي إسحاق الأسفرايني لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ الْكَسْبُ وَالْفِعْلُ الْوَاقِعُ بِالْمُعِينِ. أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْقُدْرَةَ الْحَادِثَةَ مُؤَثِّرَةٌ، فَهُمْ فَرِيقَانِ. الْأَوَّلُ: الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَنَّ الْقُدْرَةَ مَعَ الدَّاعِي تُوجِبُ الْفِعْلَ، فَاللَّهُ تَعَالَى هو الخالق لكل بِمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي وَضَعَ الْأَسْبَابَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى دُخُولِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فِي الْوُجُودِ وَالْعَبْدُ هُوَ الْمُكْتَسِبُ بِمَعْنَى أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي وُقُوعِ فِعْلِهِ هُوَ الْقُدْرَةُ، وَالدَّاعِيَةُ الْقَائِمَتَانِ بِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اخْتَارَهُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي سَمَّاهُ بِالنِّظَامِيَّةِ وَيَقْرُبُ قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُصَرِّحُ بِهِ. الْفَرِيقُ الثَّانِي مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْقُدْرَةُ مَعَ الدَّاعِي لَا تُوجِبُ الْفِعْلَ، بَلِ الْعَبْدُ قَادِرٌ عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمَا، إِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَهَذَا الْفِعْلُ وَالْكَسْبُ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ لِلْأَشْعَرِيِّ: إِذَا كَانَ مَقْدُورُ الْعَبْدِ وَاقِعًا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا خَلَقَهُ فِيهِ: اسْتَحَالَ مِنَ الْعَبْدِ أَنْ لَا يَتَّصِفَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ، وَإِذَا لَمْ يَخْلُقْهُ فِيهِ: اسْتَحَالَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْبَتَّةَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَلَا مَعْنَى لِلْقَادِرِ إِلَّا ذَلِكَ، فَالْعَبْدُ الْبَتَّةَ غَيْرُ قَادِرٍ، وَأَيْضًا فَهَذَا الَّذِي هُوَ مُكْتَسَبُ الْعَبْدِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا بِقُدْرَةِ اللَّهِ، أَوْ لَمْ يَقَعِ الْبَتَّةَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ، أَوْ وَقَعَ بِالْقُدْرَتَيْنِ مَعًا، فَإِنْ وَقَعَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ فِيهِ مُؤَثِّرًا فَكَيْفَ يَكُونُ مُكْتَسِبًا لَهُ؟ وَإِنْ وَقَعَ بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ. وَإِنْ وَقَعَ بِالْقُدْرَتَيْنِ مَعًا فَهَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَقِلَّةٌ بِالْإِيقَاعِ، فَعِنْدَ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، فَكَيْفَ يَبْقَى لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فِيهِ أَثَرٌ، وَأَمَّا قَوْلُ الْبَاقِلَّانِيِّ فَضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنَ الْجُلُوسِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ لَيْسَ إِلَّا شَغْلَ تِلْكَ الْأَحْيَازِ، فَهَذَا الشَّغْلُ إِنْ حَصَلَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَفْسُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ قَدْ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَإِنْ حَصَلَ بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَأَمَّا قَوْلُ الأسفرايني فَضَعِيفٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَقِلَّةٌ بِالتَّأْثِيرِ، فَلَا يَبْقَى لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ مَعَهَا أَثَرٌ الْبَتَّةَ، قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: كَوْنُ الْعَبْدِ مُسْتَقِلًّا بِالْإِيجَادِ وَالْخَلْقِ مُحَالٌ لِوُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ كَانَ مُوجِدًا لِأَفْعَالِهِ، لَكَانَ عَالِمًا بِتَفَاصِيلِ فِعْلِهِ، وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِتِلْكَ التَّفَاصِيلِ، فَهُوَ غَيْرُ مُوجِدٍ لَهَا. وَثَانِيهَا: لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُوجِدًا لِفِعْلِ نَفْسِهِ لَمَا وَقَعَ إِلَّا مَا أَرَادَهُ الْعَبْدُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْكَافِرَ يَقْصِدُ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ فَلَا يُحَصِّلُ إِلَّا الْجَهْلَ. وَثَانِيهَا: لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُوجِدًا لِفِعْلِ نَفْسِهِ لَكَانَ كَوْنُهُ مُوجِدًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ زَائِدًا عَلَى ذَاتِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَذَاتِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْقِلَ ذَاتَ الْفِعْلِ وَذَاتَ الْقُدْرَةِ مَعَ الذُّهُولِ عَنْ كَوْنِ الْعَبْدِ مُوجِدًا لَهُ،

[سورة البقرة (2) : آية 135]

وَالْمَعْقُولُ غَيْرُ الْمَغْفُولِ عَنْهُ، ثُمَّ تِلْكَ الْمُوجِدِيَّةُ حَادِثَةٌ، فَإِنْ كَانَ حُدُوثُهَا بِالْعَبْدِ لَزِمَ افْتِقَارُهَا إِلَى مُوجِدِيَّةٍ أُخْرَى، وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ/ تَعَالَى وَالْأَثَرُ وَاجِبَ الْحُصُولِ عِنْدَ حُصُولِ الْمُوجِدِيَّةِ فَيَلْزَمُ اسْتِنَادُ الْفِعْلِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَلْزَمُنَا ذَلِكَ فِي مُوجِدِيَّةِ الله تعالى لأنه قديم، فكانت موجوديته قَدِيمَةً، فَلَا يَلْزَمُ افْتِقَارُ تِلْكَ الْمَوْجُودِيَّةِ إِلَى مَوْجُودِيَّةٍ أُخْرَى هَذَا مُلَخَّصُ الْكَلَامِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَالْمُنَازَعَاتُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي كَثِيرَةٌ والله الهادي. [سورة البقرة (2) : آية 135] وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ صِحَّةَ دِينِ الْإِسْلَامِ حَكَى بَعْدَهَا أَنْوَاعًا مِنْ شُبَهِ الْمُخَالِفِينَ الطَّاعِنِينَ فِي الْإِسْلَامِ. الشُّبْهَةُ الْأُولَى: حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ شُبْهَةً، بَلْ أَصَرُّوا عَلَى التَّقْلِيدِ، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: ذَكَرَ جَوَابًا إِلْزَامِيًّا وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ طَرِيقُ الدِّينِ التَّقْلِيدَ فَالْأَوْلَى فِي ذَلِكَ اتِّبَاعُ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَالْأَخْذُ بِالْمُتَّفَقِ أَوْلَى مِنَ الْأَخْذِ بِالْمُخْتَلَفِ إِنْ كَانَ الْمُعَوَّلُ فِي الدِّينِ عَلَى التَّقْلِيدِ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: إِنْ كَانَ الْمُعَوَّلُ فِي الدِّينِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ، فَقَدْ قَدَّمْنَا الدَّلَائِلَ، وَإِنْ كَانَ الْمُعَوَّلُ عَلَى التَّقْلِيدِ فَالرُّجُوعُ إِلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَرْكُ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ أولى. [الشبهة الثانية] فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَدَّعِي أَنَّهُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قُلْنَا: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ قَائِلًا بِالتَّوْحِيدِ، وَثَبَتَ أَنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ بِالتَّثْلِيثِ، وَالْيَهُودَ يَقُولُونَ بِالتَّشْبِيهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَعَا إِلَى التَّوْحِيدِ، كَانَ هُوَ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ. وَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ الْأَلْفَاظِ: أَمَّا قَوْلُهُ: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ التَّخْيِيرَ، إِذِ الْمَعْلُومُ مِنْ حَالِ الْيَهُودِ أَنَّهَا لَا تُجَوِّزُ اخْتِيَارَ النَّصْرَانِيَّةِ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ، بَلْ تَزْعُمُ أَنَّهُ كُفْرٌ. وَالْمَعْلُومُ مِنْ حَالِ النَّصَارَى أَيْضًا ذَلِكَ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْيَهُودَ تَدْعُو إِلَى الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصَارَى إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ، فَكُلُّ فَرِيقٍ يَدْعُو إِلَى دِينِهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ الْهُدَى فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: تَهْتَدُوا أَيْ أَنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ اهْتَدَيْتُمْ وَصِرْتُمْ عَلَى سَنَنِ الِاسْتِقَامَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ فَفِي انْتِصَابِ مِلَّةَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. الْأَوَّلُ: لِأَنَّهُ عُطِفَ فِي الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى وَتَقْدِيرُهُ قَالُوا: اتَّبِعُوا/ الْيَهُودِيَّةَ قُلْ بَلِ اتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ. الثَّانِي: عَلَى الْحَذْفِ تَقْدِيرُهُ: بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ. الثَّالِثُ: تَقْدِيرُهُ: بَلْ نَكُونُ أَهْلَ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ كَقَوْلِهِ: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] أَيْ أَهْلَهَا. الرَّابِعُ: التَّقْدِيرُ: بَلِ اتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ بِالرَّفْعِ أَيْ مِلَّتُهُ مِلَّتُنَا، أَوْ دِينُنَا مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ تَجْعَلَهُ مُبْتَدَأً أَوْ خَبَرًا أَمَّا قَوْلُهُ: حَنِيفاً فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِأَهْلِ اللُّغَةِ فِي الْحَنِيفِ قَوْلَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَنِيفَ هُوَ الْمُسْتَقِيمُ، وَمِنْهُ قيل للأعرج:

[سورة البقرة (2) : آية 136]

أَحْنَفُ، تَفَاؤُلًا بِالسَّلَامَةِ، كَمَا قَالُوا لِلَّدِيغِ: سَلِيمٌ، والمهلكة: مَفَازَةٌ، قَالُوا: فَكُلُّ مَنْ أَسْلَمَ لِلَّهِ وَلَمْ يَنْحَرِفْ عَنْهُ فِي شَيْءٍ فَهُوَ حَنِيفٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ. الثَّانِي: أَنَّ الْحَنِيفَ الْمَائِلُ، لِأَنَّ الْأَحْنَفَ هُوَ الَّذِي يَمِيلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ قَدَمَيْهِ إِلَى الْأُخْرَى بِأَصَابِعِهَا، وَتَحَنَّفَ إِذَا مَالَ، فَالْمَعْنَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَنَفَ إِلَى دِينِ اللَّهِ، أَيْ مَالَ إِلَيْهِ، فَقَوْلُهُ: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أَيْ مُخَالِفًا لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مُنْحَرِفًا عَنْهُمَا، وَأَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَذَكَرُوا عِبَارَاتٍ، أَحَدُهَا: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ حَجُّ الْبَيْتِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهَا اتِّبَاعُ الْحَقِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَثَالِثُهَا: اتِّبَاعُ إِبْرَاهِيمَ فِي شَرَائِعِهِ الَّتِي هِيَ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ. وَرَابِعُهَا: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ وَتَقْدِيرُهُ: بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي هِيَ التَّوْحِيدُ عَنِ الْأَصَمِّ قَالَ الْقَفَّالُ: وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحَنِيفُ لَقَبٌ لِمَنْ دَانَ بِالْإِسْلَامِ كَسَائِرِ أَلْقَابِ الدِّيَانَاتِ، وَأَصْلُهُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي نَصْبِ حَنِيفًا قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: قَوْلُ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ وَجْهَ هِنْدٍ قَائِمَةً. الثَّانِي: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْقَطْعِ أَرَادَ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفَ فَلَمَّا سَقَطَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لَمْ تَتْبَعِ النَّكِرَةُ الْمَعْرِفَةَ فَانْقَطَعَ مِنْهُ فَانْتَصَبَ، قَالَهُ نُحَاةُ الْكُوفَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ فِي مَذْهَبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى شُرَكَاءَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ بَعْضِ الْيَهُودِ قَوْلَهُمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَذَلِكَ شِرْكٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْحَنِيفَ اسْمٌ لِمَنْ دَانَ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى بِشَرَائِعَ مَخْصُوصَةٍ، مِنْ حَجِّ الْبَيْتِ وَالْخِتَانِ وَغَيْرِهِمَا، فمن دان بذلك فهو حنيف، وكان الْعَرَبُ تَدِينُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ. ثُمَّ كَانَتْ تُشْرِكُ، فَقِيلَ مِنْ أَجْلِ هَذَا: حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ [الْحَجِّ: 31] ، وَقَوْلُهُ: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يُوسُفَ: 106] قَالَ الْقَاضِي: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْوَاحِدِ مِنَّا أَنْ يحتج على غيره بما يجري مجرى المناقصة لِقَوْلِهِ: إِفْحَامًا لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُجَّةً فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ يَحْتَجُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ بَلْ كَانَ يَحْتَجُّ بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَانَ قَدْ أَقَامَ الْحُجَّةَ بِهَا وَأَزَاحَ الْعِلَّةَ ثُمَّ وَجَدَهُمْ مُعَانِدِينَ مُسْتَمِرِّينَ عَلَى بَاطِلِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَوْرَدَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُجَّةِ مَا يُجَانِسُ/ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الدِّينُ بِالِاتِّبَاعِ فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ وَهُوَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى إِنْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِفَضْلِ إِبْرَاهِيمَ، وَمُقِرِّينَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ مَا كَانَ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالتَّشْبِيهِ وَالتَّثْلِيثِ، امْتَنَعَ أَنْ يَقُولُوا بِذَلِكَ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُوا قَائِلِينَ بِالتَّنْزِيهِ وَالتَّوْحِيدِ، وَمَتَى كَانُوا قَائِلِينَ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي دَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِ فَائِدَةٌ، وَإِنْ كَانُوا مُنْكِرِينَ فَضْلَ إِبْرَاهِيمَ أَوْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِهِ، لَكِنَّهُمْ أَنْكَرُوا كَوْنَهُ مُنْكِرًا لِلتَّجْسِيمِ وَالتَّثْلِيثِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ لَا يَصِحُّ إِلْزَامُ الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أَثْبَتَ الْوَلَدَ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمَّا صَحَّ عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّهُمْ قَالُوا بِذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ طَرِيقَتَهُمْ مُخَالِفَةٌ لِطَرِيقَةِ إبراهيم عليه السلام. [سورة البقرة (2) : آية 136] قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَجَابَ بِالْجَوَابِ الْجَدَلِيِّ أَوَّلًا، ذَكَرَ بَعْدَهُ جَوَابًا بُرْهَانِيًّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ: أَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ظُهُورُ الْمُعْجِزِ عَلَيْهِمْ، وَلَمَّا ظَهَرَ الْمُعْجِزُ عَلَى يَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِنُبُوَّتِهِ وَالْإِيمَانُ بِرِسَالَتِهِ، فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْبَعْضِ بِالْقَبُولِ وَتَخْصِيصَ الْبَعْضِ بِالرَّدِّ يُوجِبُ الْمُنَاقَضَةَ فِي الدَّلِيلِ وَأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَهَذَا هُوَ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ الْإِيمَانُ بِإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ شَرَائِعَهُمْ مَنْسُوخَةٌ، قُلْنَا: نَحْنُ نُؤْمِنُ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الشَّرَائِعِ كَانَ حَقًّا فِي زَمَانِهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنَّا الْمُنَاقَضَةُ، أَمَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَمَّا اعْتَرَفُوا بِنُبُوَّةِ بَعْضِ مَنْ ظَهَرَ الْمُعْجِزُ عَلَيْهِ، وَأَنْكَرُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قِيَامِ الْمُعْجِزِ عَلَى يَدِهِ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُمُ الْمُنَاقَضَةُ فَظَهَرَ الْفَرْقُ، ثُمَّ نَقُولُ فِي الْآيَةِ مسائل: [قوله تعالى قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: 135] ذَكَرُوا فِي مُقَابَلَتِهِ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [البقرة: 135] ثُمَّ قَالَ لِأُمَّتِهِ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَالَ الْقَاضِي قَوْلُهُ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ، أَعْنِي النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأُمَّتَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: قُولُوا خِطَابٌ عَامٌّ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا لَا يَلِيقُ إِلَّا بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ دَاخِلًا فِيهِ، وَاحْتَجَّ الْحَسَنُ عَلَى قَوْلِهِ بِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُمِرَ مِنْ قَبْلُ بِقَوْلِهِ: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ. الثَّانِي: أَنَّهُ فِي نِهَايَةِ الشَّرَفِ، وَالظَّاهِرُ إِفْرَادُهُ بِالْخِطَابِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْقَرَائِنَ وَإِنْ كَانَتْ مُحْتَمَلَةً إِلَّا أَنَّهَا لَا تَبْلُغُ فِي الْقُوَّةِ إِلَى حَيْثُ تَقْتَضِي تَخْصِيصَ عُمُومِ قَوْلِهِ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ أَمَّا قَوْلُهُ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِنَّمَا قَدَّمَهُ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ أَصْلُ الْإِيمَانِ بِالشَّرَائِعِ، فَمَنْ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ اسْتَحَالَ أَنْ يَعْرِفَ نَبِيًّا أَوْ كِتَابًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ التَّعْلِيمِيَّةِ وَالْمُقَلِّدَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْأَسْباطِ قَالَ الْخَلِيلُ: السِّبْطُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْقَبِيلَةِ فِي الْعَرَبِ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» السِّبْطُ، الْحَافِدُ، وَكَانَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سِبْطَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأسباط: الحفدة وهم حفدة يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَرَارِيُّ أَبْنَائِهِ الِاثْنَيْ عَشَرَ. أَمَّا قَوْلُهُ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّا لَا نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ ونكفر ببعض، فإنا لو فعلنا ذلك كَانَتِ الْمُنَاقَضَةُ لَازِمَةً عَلَى الدَّلِيلِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. الثَّانِي: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، أَيْ لَا نَقُولُ: إِنَّهُمْ مُتَفَرِّقُونَ فِي أُصُولِ الدِّيَانَاتِ، بَلْ هُمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَى الْأُصُولِ الَّتِي هِيَ الْإِسْلَامُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَلْيَقُ بِسِيَاقِ الْآيَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّ إِسْلَامَنَا لِأَجْلِ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِأَجْلِ الْهَوَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَتَى ظَهَرَ الْمُعْجِزُ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ. فَأَمَّا تَخْصِيصُ بَعْضِ أَصْحَابِ الْمُعْجِزَاتِ بِالْقَبُولِ، وَالْبَعْضِ بِالرَّدِّ، فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ الْإِيمَانِ لَيْسَ طَاعَةَ اللَّهِ وَالِانْقِيَادَ لَهُ، بَلِ اتِّبَاعُ الْهَوَى والميل.

[سورة البقرة (2) : آية 137]

[سورة البقرة (2) : آية 137] فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الطَّرِيقَ الْوَاضِحَ فِي الدِّينِ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَرِفَ الْإِنْسَانُ بِنُبُوَّةِ مَنْ قَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَأَنْ يَحْتَرِزَ فِي ذَلِكَ عَنِ الْمُنَاقَضَةِ: رَغَّبَهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْإِيمَانِ فَقَالَ: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا. [في معنى اهْتَدَوْا] / مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّثْبِيتُ وَالْمَعْنَى: إِنْ حَصَّلُوا دِينًا آخَرَ مِثْلَ دِينِكُمْ وَمُسَاوِيًا لَهُ فِي الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ فَقَدِ اهْتَدَوْا، لَمَّا اسْتَحَالَ أَنْ يُوجَدَ دِينٌ آخَرُ يُسَاوِي هَذَا الدِّينَ فِي السَّدَادِ اسْتَحَالَ الِاهْتِدَاءُ بِغَيْرِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ لِلرَّجُلِ الَّذِي تُشِيرُ عَلَيْهِ: هَذَا هُوَ الرَّأْيُ وَالصَّوَابُ فَإِنْ كَانَ عِنْدَكَ رَأْيٌ أَصْوَبَ مِنْهُ فَاعْمَلْ بِهِ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنْ لَا أَصْوَبَ مِنْ رَأْيِكَ وَلَكِنَّكَ تُرِيدُ تثبيت صاحبك وتوفيقه عَلَى أَنَّ مَا رَأَيْتَ لَا رَأْيَ وَرَاءَهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُوجَدَ دِينٌ آخَرُ يُسَاوِي هَذَا الدِّينَ فِي السَّدَادِ لِأَنَّ هَذَا الدِّينَ مَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُعْجِزُ وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِنُبُوَّتِهِ، وَكُلُّ مَا غَايَرَ هَذَا الدِّينَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى الْمُنَاقَضَةِ، وَالْمُتَنَاقِضُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِغَيْرِ الْمُتَنَاقِضِ فِي السَّدَادِ وَالصِّحَّةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمِثْلَ صِلَةٌ فِي الْكَلَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: 11] أَيْ لَيْسَ كَهُوَ شَيْءٌ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: وِصَالِيَّاتٌ كَكَمَا يُؤْثَفِينَ، وَكَانَتْ أُمُّ الْأَحْنَفِ تُرَقِّصُهُ وَتَقُولُ: وَاللَّهِ لَوْلَا حَنَفٌ بِرِجْلِهِ ... وَدِقَّةٌ فِي سَاقِهِ مِنْ هَزْلِهِ مَا كَانَ مِنْكُمْ أَحَدٌ كَمِثْلِهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّكُمْ آمَنْتُمْ بِالْفُرْقَانِ مِنْ غَيْرِ تَصْحِيفٍ وَتَحْرِيفٍ، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ذَلِكَ وَهُوَ التَّوْرَاةُ مِنْ غَيْرِ تَصْحِيفٍ وَتَحْرِيفٍ فَقَدِ اهْتَدَوْا لِأَنَّهُمْ يَتَّصِلُونَ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ أَيْ فَإِنْ صَارُوا مُؤْمِنِينَ بِمِثْلِ مَا بِهِ صِرْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَقَدِ اهْتَدَوْا، فَالتَّمْثِيلُ فِي الْآيَةِ بَيْنَ الْإِيمَانَيْنِ وَالتَّصْدِيقَيْنِ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا تَقُولُوا فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ مِثْلٌ وَلَكِنْ قُولُوا فَإِنْ آمَنُوا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ، قَالَ الْقَاضِي: لَا وَجْهَ لِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ مِنْ حَيْثُ يُشْكِلُ الْمَعْنَى وَيُلَبِّسُ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنْ جَعَلَهُ الْمَرْءُ مَذْهَبًا لَزِمَهُ أَنْ يُغَيِّرَ تِلَاوَةَ كُلِّ الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ وَذَلِكَ مَحْظُورٌ وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ فِي الْجَوَابِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَقَدِ اهْتَدَوْا فَالْمُرَادُ فَقَدْ عَمِلُوا بِمَا هُدُوا إِلَيْهِ وَقَبِلُوهُ، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ دَاخِلًا فِي أَهْلِ رِضْوَانِهِ، فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ هَذَا الِاهْتِدَاءِ، وَتِلْكَ الْهِدَايَةُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا إِلَّا عَلَى الدَّلَائِلِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَكَشَفَ عَنْهَا وَبَيَّنَ وُجُوهَ دَلَالَتِهَا، ثُمَّ بَيَّنَ عَلَى وَجْهِ الزَّجْرِ مَا يَلْحَقُهُمْ إِنْ تَوَلَّوْا فَقَالَ: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ وَفِي الشِّقَاقِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: الشِّقَاقُ مَأْخُوذٌ مِنَ الشِّقِّ، كَأَنَّهُ صَارَ فِي شِقٍّ غَيْرِ شِقِّ صَاحِبِهِ بِسَبَبِ الْعَدَاوَةِ وَقَدْ شَقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ إِذَا فَرَّقَ جَمَاعَتَهُمْ وَفَارَقَهَا، وَنَظِيرُهُ: الْمُحَادَّةُ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي حَدٍّ وَذَاكَ فِي حَدٍّ آخَرَ، وَالتَّعَادِي مِثْلُهُ لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ فِي عُدْوَةٍ وَذَاكَ فِي عُدْوَةٍ، وَالْمُجَانَبَةُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي جَانِبٍ وَذَاكَ فِي جَانِبٍ آخَرَ وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْرِصُ عَلَى مَا يَشُقُّ عَلَى صَاحِبِهِ وَيُؤْذِيهِ قَالَ الله

[سورة البقرة (2) : آية 138]

تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما أَيْ فِرَاقَ بَيْنِهِمَا فِي الِاخْتِلَافِ حَتَّى يَشُقَّ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ أَيْ إِنْ تَرَكُوا مِثْلَ هَذَا الْإِيمَانِ فَقَدِ الْتَزَمُوا الْمُنَاقَضَةَ وَالْعَاقِلُ لَا يَلْتَزِمُ الْمُنَاقَضَةَ الْبَتَّةَ فَحَيْثُ الْتَزَمُوهَا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ غَرَضُهُمْ طَلَبَ الدِّينِ/ وَالِانْقِيَادَ للحق وَإِنَّمَا غَرَضُهُمُ الْمُنَازَعَةُ وَإِظْهَارُ الْعَدَاوَةِ ثُمَّ لِلْمُفَسِّرِينَ عِبَارَاتٌ. أَوَّلُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فِي خِلَافٍ مُذْ فَارَقُوا الْحَقَّ وَتَمَسَّكُوا بِالْبَاطِلِ فَصَارُوا مُخَالِفِينَ لِلَّهِ. وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَمُقَاتِلٌ فِي شِقَاقٍ. أَيْ فِي ضَلَالٍ. وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي مُنَازَعَةٍ وَمُحَارَبَةٍ. وَرَابِعُهَا: قَالَ الْحَسَنُ فِي عَدَاوَةٍ قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَكَادُ يُقَالُ فِي الْمُعَادَاةِ عَلَى وَجْهِ الْحَقِّ أَوِ الْمُخَالَفَةِ الَّتِي لَا تَكُونُ مَعْصِيَةً إِنَّهُ شِقَاقٌ وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي مُخَالَفَةٍ عَظِيمَةٍ تُوقِعُ صَاحِبَهَا فِي عَدَاوَةِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ وَلَعْنِهِ وَفِي اسْتِحْقَاقِ النَّارِ فَصَارَ هَذَا الْقَوْلُ وَعِيدًا مِنْهُ تَعَالَى لَهُمْ وَصَارَ وَصْفُهُمْ بِذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ القوم معادون للرسول مضمرون له السؤال مُتَرَصِّدُونَ لِإِيقَاعِهِ فِي الْمِحَنِ، فَعِنْدَ هَذَا آمَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ كَيْدِهِمْ وَآمَنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ شرهم ومكرهم فقال: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ تقوية لقبه وَقَلْبِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا تَكَفَّلَ بِالْكِفَايَةِ فِي أَمْرٍ حَصَلَتِ الثِّقَةُ بِهِ قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: هَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا دَالًّا عَلَى صِدْقِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ وَذَلِكَ لِأَنَّا وَجَدْنَا مُخْبِرَ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى كَفَاهُ شَرَّ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَنَصَرَهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى غَلَبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَأَخَذُوا دِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَصَارُوا أَذِلَّاءَ فِي أَيْدِيهِمْ يُؤَدُّونَ إِلَيْهِمُ الْخَرَاجَ وَالْجِزْيَةَ أَوْ لَا يَقْدِرُونَ الْبَتَّةَ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ مُعْجِزٌ لِأَنَّهُ الْمُتَخَرِّصُ لَا يُصِيبُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ، قَالَ الْمُلْحِدُونَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا مُعْجِزٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعْجِزَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ نَاقِضًا لِلْعَادَةِ، وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مُبْتَلًى بِإِيذَاءِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ: اصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ يَكْفِيكَ شَرَّهُ، ثُمَّ قَدْ يَقَعُ ذَلِكَ تَارَةً وَلَا يَقَعُ أُخْرَى، وَإِذَا كَانَ هَذَا مُعْتَادًا فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ مُعْجِزٌ وَأَيْضًا لَعَلَّهُ تَوَصَّلَ إِلَى ذَلِكَ بِرُؤْيَا رَآهَا، وَذَلِكَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِهِ، فَإِنَّ الْمُنَجِّمِينَ يَقُولُونَ: مَنْ كَانَ سَهْمُ الْغَيْبِ فِي طَالِعِهِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ غَرَضُنَا مِنْ قَوْلِنَا أَنَّهُ مُعْجِزٌ أَنَّ هَذَا الْإِخْبَارَ وَحْدَهُ مُعْجِزٌ، بَلْ غَرَضُنَا أَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْكَثِيرَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ مِمَّا لَا يَتَأَتَّى مِنَ المتخرص الكاذب. [في معنى وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَهُ بِالنُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ أَتْبَعَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ تَعَالَى فَقَالَ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَفِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ وَعِيدٌ لَهُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُدْرِكُ مَا يُضْمِرُونَ وَيَقُولُونَ وَهُوَ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ أَمْرٌ إِلَّا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى كِفَايَتِهِ إِيَّاهُمْ فِيهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ وَعْدٌ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْنِي: يَسْمَعُ دُعَاءَكَ وَيَعْلَمُ نِيَّتَكَ وَهُوَ يَسْتَجِيبُ لَكَ وَيُوصِلُكَ إِلَى مُرَادِكَ، وَاحْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ عَلَى أَنَّ سَمْعَهُ تَعَالَى زَائِدٌ عَلَى عِلْمِهِ بِالْمَسْمُوعَاتِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: «عَلِيمٌ» بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ فَيَتَنَاوَلُ كَوْنَهُ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فَلَوْ كَانَ كَوْنُهُ سَمِيعًا عِبَارَةً عَنْ عِلْمِهِ بِالْمَسْمُوعَاتِ لَزِمَ التَّكْرَارُ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صِفَةُ كَوْنِهِ تَعَالَى سَمِيعًا أَمْرًا زَائِدًا عَلَى وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ عَلِيمًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. أَمَّا قَوْلُهُ: بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ الَّذِي آمَنَ بِهِ المؤمنون ليس له مثل، وجوابه. [سورة البقرة (2) : آية 138] صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْجَوَابَ الثَّانِيَ وَهُوَ أَنْ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الدِّينِ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَلَائِلَ هَذَا الدِّينِ وَاضِحَةٌ جَلِيَّةٌ فَقَالَ: صِبْغَةَ اللَّهِ ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الصَّبْغُ مَا يُلَوَّنُ بِهِ الثِّيَابُ وَيُقَالُ: صَبَغَ الثَّوْبَ يَصْبُغُهُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا وَضَمِّهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ صَبْغًا بِفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ. (وَالصِّبْغَةُ) فِعْلَةٌ مِنْ صَبَغَ كَالْجِلْسَةِ مِنْ جَلَسَ، وَهِيَ الْحَالَةُ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْهَا الصَّبْغُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِصِبْغَةِ اللَّهِ عَلَى أَقْوَالٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ دِينُ اللَّهِ وَذَكَرُوا فِي أَنَّهُ لم سمي دين الله بصبغة اللَّهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّ بَعْضَ النَّصَارَى كَانُوا يَغْمِسُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي مَاءٍ أَصْفَرَ يُسَمُّونَهُ الْمَعْمُودِيَّةَ وَيَقُولُونَ: هُوَ تَطْهِيرٌ لَهُمْ. وَإِذَا فَعَلَ الْوَاحِدُ بِوَلَدِهِ ذَلِكَ قَالَ: الْآنَ صَارَ نَصْرَانِيًّا. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اطْلُبُوا صِبْغَةَ اللَّهِ وَهِيَ الدِّينُ، والإسلام لاصبغتهم، وَالسَّبَبُ فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الصِّبْغَةِ عَلَى الدِّينِ طَرِيقَةُ الْمُشَاكَلَةِ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ يَغْرِسُ الْأَشْجَارَ وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَأْمُرَهُ بِالْكَرَمِ: اغْرِسْ كَمَا يَغْرِسُ فُلَانٌ تُرِيدُ رَجُلًا مُوَاظِبًا عَلَى الْكَرَمِ، ونظيره قوله تعالى: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 14، 15] ، يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ [النِّسَاءِ: 142] ، وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: 54] ، وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] ، إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ [هُودٍ: 38] . وَثَانِيهَا: الْيَهُودُ تَصْبُغُ أَوْلَادَهَا يَهُودًا وَالنَّصَارَى تَصْبُغُ أَوْلَادَهَا نَصَارَى بِمَعْنَى يُلْقُونَهُمْ فَيَصْبُغُونَهُمْ بِذَلِكَ لِمَا يُشْرِبُونَ فِي قُلُوبِهِمْ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يُقَالُ: فُلَانٌ يَصْبُغُ فُلَانًا فِي الشَّيْءِ، أَيْ يُدْخِلُهُ فِيهِ وَيُلْزِمُهُ إِيَّاهُ كَمَا يُجْعَلُ الصَّبْغُ لَازِمًا للثواب وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ: دَعِ الشَّرَّ وَانْزِلْ بِالنَّجَاةِ تَحَرُّزًا ... إِذَا أَنْتَ لَمْ يَصْبُغْكَ فِي الشَّرِّ صَابِغُ وَثَالِثُهَا: سُمِّيَ الدِّينُ صِبْغَةً لِأَنَّ هَيْئَتَهُ تَظْهَرُ بِالْمُشَاهَدَةِ مِنْ أَثَرِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الْفَتْحِ: 29] . وَرَابِعُهَا: قَالَ الْقَاضِي قَوْلُهُ: صِبْغَةَ اللَّهِ متعلق بقوله: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة: 136] إلى قوله: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 136] فَوَصَفَ هَذَا الْإِيمَانَ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ صِبْغَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْمُبَايَنَةَ بَيْنَ هَذَا الدِّينِ الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّهُ، وَبَيْنَ الدِّينِ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُبْطِلُ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ، كَمَا تَظْهَرُ الْمُبَايَنَةُ بَيْنَ الْأَلْوَانِ وَالْأَصْبَاغِ لِذِي الْحِسِّ السَّلِيمِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أن صبغة الله فطرته وهو كقوله: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الرُّومِ: 30] وَمَعْنَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَوْسُومٌ فِي تَرْكِيبِهِ وَبِنْيَتِهِ بِالْعَجْزِ وَالْفَاقَةِ، وَالْآثَارُ الشَّاهِدَةُ عَلَيْهِ بِالْحُدُوثِ وَالِافْتِقَارِ إِلَى الْخَالِقِ فَهَذِهِ الْآثَارُ كَالصِّبْغَةِ لَهُ وَكَالسِّمَةِ اللَّازِمَةِ. قَالَ الْقَاضِي: مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: صِبْغَةَ اللَّهِ عَلَى الْفِطْرَةِ فَهُوَ مُقَارِبٌ فِي الْمَعْنَى، لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: هُوَ دِينُ اللَّهِ لِأَنَّ الْفِطْرَةَ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْأَدِلَّةُ مِنْ عَقْلٍ وَشَرْعٍ، وَهُوَ الدِّينُ أَيْضًا لَكِنَّ الدِّينَ أَظْهَرُ لِأَنَّ الْمُرَادَ عَلَى مَا بَيَّنَّا هُوَ الَّذِي وَصَفُوا أَنْفُسَهُمْ بِهِ فِي قَوْلِهِ/ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي ذَلِكَ: إِنَّ دِينَ اللَّهِ الَّذِي أَلْزَمَكُمُ التَّمَسُّكَ بِهِ فَالنَّفْعُ بِهِ سَيَظْهَرُ دِينًا وَدُنْيَا كَظُهُورِ حُسْنِ الصِّبْغَةِ، وَإِذَا حُمِلَ الْكَلَامُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِعَادَةٍ جَارِيَةٍ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي صَبْغٍ يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي أَوْلَادِهِمْ مَعْنًى، لِأَنَّ الْكَلَامَ إِذَا اسْتَقَامَ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ بِدُونِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلْنَذْكُرِ الْآنَ بَقِيَّةَ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ: الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ صِبْغَةَ اللَّهِ هِيَ الْخِتَانُ، الَّذِي هُوَ تَطْهِيرٌ، أَيْ كَمَا أَنَّ الْمَخْصُوصَ الَّذِي لِلنَّصَارَى تَطْهِيرٌ لَهُمْ فَكَذَلِكَ الْخِتَانُ تَطْهِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ.

[سورة البقرة (2) : آية 139]

الْقَوْلُ الرَّابِعُ: إِنَّهُ حُجَّةُ اللَّهِ، عَنِ الْأَصَمِّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ سُنَّةُ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَالْقَوْلُ الْجَيِّدُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي نَصْبِ صِبْغَةَ أَقْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ مِلَّةَ وَتَفْسِيرٌ لَهَا. الثَّانِي: اتَّبِعُوا صِبْغَةَ اللَّهِ. الثَّالِثُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ فَيَنْتَصِبُ عَنْ قَوْلِهِ: آمَنَّا بِاللَّهِ كَمَا انْتَصَبَ وَعْدُ اللَّهِ عَمَّا تَقَدَّمَهُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً فَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَصْبُغُ عِبَادَهُ بِالْإِيمَانِ وَيُطَهِّرُهُمْ بِهِ مِنْ أَوْسَاخِ الْكُفْرِ، فَلَا صِبْغَةَ أَحْسَنُ مِنْ صِبْغَتِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى: آمَنَّا بِاللَّهِ وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ صِبْغَةَ اللَّهِ بَدَلٌ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَوْ نُصِبَ عَلَى الْإِغْرَاءِ بِمَعْنَى عَلَيْكُمْ صِبْغَةَ اللَّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَكِّ النَّظْمِ وَانْتِصَابُهَا عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ، وَالْقَوْلُ مَا قالت حذام. [سورة البقرة (2) : آية 139] قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْمُحَاجَّةِ وَذَكَرُوا وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَوْلَهُمْ إِنَّهُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ وَالنُّبُوَّةِ لِتَقَدُّمِ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ وَالْمَعْنَى: أَتُجَادِلُونَنَا فِي أن الله اصطفى رسول مِنَ الْعَرَبِ لَا مِنْكُمْ وَتَقُولُونَ: لَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أَحَدٍ لَأَنْزَلَ عَلَيْكُمْ، وَتَرَوْنَكُمْ أَحَقَّ بِالنُّبُوَّةِ مِنَّا. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُمْ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالْإِيمَانِ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْأَوْثَانَ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُمْ نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَقَوْلُهُمْ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَةِ: 111] وَقَوْلُهُمْ: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا [البقرة: 135] عَنِ الْحَسَنِ. وَرَابِعُهَا: أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ أَيْ: أَتُحَاجُّونَنَا فِي دِينِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْمُحَاجَّةُ كَانَتْ مَعَ مَنْ؟ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْيَهُودِ/ وَالنَّصَارَى. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ حَيْثُ قَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزُّخْرُفِ: 31] وَالْعَرَبُ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالْخَالِقِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْكُلِّ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِنَظْمِ الْآيَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَعْلَمُ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ وَبِمَنْ يَصْلُحُ لِلرِّسَالَةِ وَبِمَنْ لَا يَصْلُحُ لَهَا، فَلَا تَعْتَرِضُوا عَلَى رَبِّكُمْ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَى رَبِّهِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ بِالْكُلِّيَّةِ لَهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا نِسْبَةَ لَكُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِالْعُبُودِيَّةِ، وَهَذِهِ النِّسْبَةُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، فَلِمَ تُرَجِّحُونَ أَنْفُسَكُمْ عَلَيْنَا، بَلِ التَّرْجِيحُ مِنْ جَانِبِنَا لِأَنَّا مُخْلِصُونَ لَهُ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَلَسْتُمْ كَذَلِكَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ وَهَذَا التأويل أقرب. أما قوله تعالى: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ فَالْمُرَادُ مِنْهُ النَّصِيحَةُ فِي الدِّينِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ: قُلْ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى وَجْهِ الشَّفَقَةِ وَالنَّصِيحَةِ، أَيْ لَا يَرْجِعُ إِلَيَّ مِنْ أَفْعَالِكُمُ الْقَبِيحَةِ ضَرَرٌ حَتَّى يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ دَفْعَ ذَلِكَ الضَّرَرِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نُصْحُكُمْ وَإِرْشَادُكُمْ إِلَى الْأَصْلَحِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَكُونُ مَقْبُولَ الْقَوْلِ إِذَا كَانَ خَالِيًا عَنِ الْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ لَمْ يَنْجَعْ قَوْلُهُ فِي الْقَلْبِ الْبَتَّةَ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ

[سورة البقرة (2) : آية 140]

فَيَكُونُ فِيهِ مِنَ الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ مَا يَبْعَثُ عَلَى النَّظَرِ وَتَحَرُّكِ الطِّبَاعِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ وَقَبُولِ الحق، وأما معنى الإخلاص فقد تقدم. [سورة البقرة (2) : آية 140] أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَيْنِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: أَمْ تَقُولُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَتُحَاجُّونَنَا أَمْ تَقُولُونَ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَعَلَى الْأَوَّلِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ (أَمْ) مُتَّصِلَةً وَتَقْدِيرُهُ: بِأَيِّ الْحُجَّتَيْنِ تَتَعَلَّقُونَ فِي أَمْرِنَا، أَبِالتَّوْحِيدِ فَنَحْنُ مُوَحِّدُونَ، أَمْ بِاتِّبَاعِ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ فَنَحْنُ مُتَّبِعُونَ؟ وَأَنْ تَكُونَ مُنْقَطِعَةً بِمَعْنَى: بَلْ أَتَقُولُونَ وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ أَيْضًا، وَعَلَى الثَّانِي تَكُونُ مُنْقَطِعَةً لِانْقِطَاعِ مَعْنَاهُ بِمَعْنَى الِانْقِطَاعِ إِلَى حِجَاجٍ آخَرَ غَيْرِ الْأَوَّلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَتَقُولُونَ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا قَبْلَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ هُودًا أَوْ نَصَارَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا أَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْقَوْلَ عَلَيْهِمْ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ بِسَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ كَذِبِهِمْ فِي ذَلِكَ فَثَبَتَ لَا مَحَالَةَ كَذِبُهُمْ فِيهِ. وَثَانِيهَا: شَهَادَةُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْحَنِيفِيَّةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ أُنْزِلَا بَعْدَهُمْ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمُ ادَّعَوْا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ فَوَبَّخَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْكَلَامِ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ الزَّجْرُ وَالتَّوْبِيخُ وَأَنْ يُقَرِّرَ اللَّهُ فِي نُفُوسِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِيمَا يَقُولُونَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ فَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ وَخَبَرَهُ أَصْدَقُ وَقَدْ أَخْبَرَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَفِي الْقُرْآنِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ مُبَرَّئِينَ عَنِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يُقَالُ هَذَا فِيمَنْ لَا يَعْلَمُ وَهُمْ عَلِمُوهُ وَكَتَمُوهُ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْكَلَامُ؟ قُلْنَا: مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ظَنٍّ وَتَوَهُّمٍ فَالْكَلَامُ ظَاهِرٌ وَمَنْ قَالَ: عَلِمُوا وَجَحَدُوا فَمَعْنَاهُ أَنَّ مَنْزِلَتَكُمْ مَنْزِلَةُ الْمُعْتَرِضِينَ عَلَى مَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِهِ فَلَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ مَعَ إِقْرَارِهِ بِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَالتَّقْدِيرُ: وَمَنْ أَظْلَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً حَصَلَتْ عِنْدَهُ كَقَوْلِكَ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِنْ زَيْدٍ مِنْ جُمْلَةِ الْكَاتِمِينَ لِلشَّهَادَةِ وَالْمَعْنَى. لَوْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ وَبَنُوهُ هود أَوْ نَصَارَى، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ كَتَمَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِمَّنْ يَكْتُمُ شَهَادَةً أَظْلَمَ مِنْهُ لَكِنْ لَمَّا اسْتَحَالَ ذَلِكَ مَعَ عَدْلِهِ وَتَنَزُّهِهِ عَنِ الْكَذِبِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَثَانِيهَا: وَمَنْ أَظْلَمُ مِنْكُمْ مَعَاشِرَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِنْ كَتَمْتُمْ هَذِهِ الشَّهَادَةَ مِنَ اللَّهِ فَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنَ اللَّهِ تَتَعَلَّقُ بِالْكَاتِمِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَبِالْمَكْتُومِ مِنْهُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ فَلَمْ يُقِمْهَا عِنْدَ اللَّهِ بَلْ كَتَمَهَا وَأَخْفَاهَا. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ: مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنَ اللَّهِ صِلَةَ الشَّهَادَةِ وَالْمَعْنَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً جَاءَتْهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَجَحَدَهَا كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ عِنْدِي شَهَادَةٌ مِنْكَ، أَيْ شَهَادَةٌ سَمِعْتُهَا مِنْكَ وَشَهَادَةٌ جَاءَتْنِي مِنْ جِهَتِكَ وَمِنْ عِنْدِكَ.

[سورة البقرة (2) : آية 141]

أَمَّا قَوْلُهُ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فَهُوَ الْكَلَامُ الْجَامِعُ لِكُلِّ وَعِيدٍ، وَمَنْ تَصَوَّرَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِسِرِّهِ وَإِعْلَانِهِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ أَنَّهُ مِنْ وَرَاءِ مُجَازَاتِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ لَا يَمْضِي عَلَيْهِ طَرْفَةُ عَيْنٍ إِلَّا وَهُوَ حَذِرٌ خَائِفٌ أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَنَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ رَقِيبٌ مِنْ جِهَةِ سُلْطَانٍ يَعُدُّ عَلَيْهِ الْأَنْفَاسَ لَكَانَ دَائِمَ الْحَذَرِ وَالْوَجَلِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الرَّقِيبَ لَا يَعْرِفُ إِلَّا الظَّاهِرَ، فَكَيْفَ بِالرَّبِّ الرَّقِيبِ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى إِذَا هَدَّدَ وأوعد بهذا الجنس من القول. [سورة البقرة (2) : آية 141] تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَاجَّ الْيَهُودَ فِي هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَقَّبَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: لِيَكُونَ وَعْظًا لَهُمْ وَزَجْرًا حتى لا يتكلوا عَلَى فَضْلِ الْآبَاءِ فَكُلُّ وَاحِدٍ يُؤْخَذُ بِعَمَلِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ مَتَى لَا يَسْتَنْكِرُ أَنْ يَكُونَ فَرْضُكُمْ عَيْنَ فَرْضِهِمْ لِاخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ لَمْ يَسْتَنْكِرْ أَنْ تَخْتَلِفَ الْمَصَالِحُ فَيَنْقُلُكُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مِلَّةٍ إِلَى مِلَّةٍ أُخْرَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حُسْنَ طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَيَّنَ أَنَّ الدَّلِيلَ لَا يَتِمُّ بذلك بل كل إنسان مسؤول عَنْ عَمَلِهِ، وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي تَرْكِ الْحَقِّ بِأَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِطَرِيقَةِ مَنْ تَقَدَّمَ، لِأَنَّهُمْ أَصَابُوا أَمْ أَخْطَئُوا لَا يَنْفَعُ هَؤُلَاءِ وَلَا يَضُرُّهُمْ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَنَّ طَرِيقَةَ الدِّينِ التَّقْلِيدُ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ كُرِّرَتِ الْآيَةُ؟ قُلْنَا فِيهِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَنَى بِالْآيَةِ الْأُولَى إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، وَالثَّانِيَةِ أَسْلَافَ الْيَهُودِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ قَالَ الْقَاضِي: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ أَسْلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَمْ يَجْرِ لَهُمْ ذِكْرٌ مُصَرَّحٌ وَمَوْضِعُ الشُّبْهَةِ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا قَالُوا فِي إِبْرَاهِيمَ وَبَنِيهِ إِنَّهُمْ كَانُوا هُودًا فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مِثْلِ طَرِيقَةِ أَسْلَافِنَا مِنَ الْيَهُودِ فَصَارَ سَلَفُهُمْ فِي حُكْمِ الْمَذْكُورِينَ فَجَازَ أَنْ يَقُولَ: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ وَيُعَيِّنُهُمْ وَلَكِنَّ ذَلِكَ كَالتَّعَسُّفِ بَلِ الْمَذْكُورُ السَّابِقُ هُوَ إِبْرَاهِيمُ وَبَنُوهُ فَقَوْلُهُ: تِلْكَ أُمَّةٌ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَيْهِمْ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَتَى اخْتَلَفَتِ الْأَوْقَاتُ وَالْأَحْوَالُ وَالْمَوَاطِنُ لَمْ يَكُنِ التَّكْرَارُ عَبَثًا فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ فَوَصْفُ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ لَا يُسَوِّغُ التَّقْلِيدَ فِي هَذَا الْجِنْسِ فَعَلَيْكُمْ بِتَرْكِ الْكَلَامِ فِي تِلْكَ الْأُمَّةِ فَلَهَا مَا كَسَبَتْ وَانْظُرُوا فِيمَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ لَكُمْ وَأَعْوَدُ عَلَيْكُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ إِلَّا عَنْ عَمَلِكُمْ. [سورة البقرة (2) : آية 142] سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الشُّبَهِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى طَعْنًا فِي الْإِسْلَامِ فَقَالُوا: النَّسْخُ يَقْتَضِي إِمَّا الْجَهْلَ أَوِ التَّجْهِيلَ، وَكِلَاهُمَا لَا يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنِ الْقَيْدِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِلَا دَوَامٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِقَيْدِ الدَّوَامِ، فَإِنْ كَانَ خَالِيًا عَنِ الْقَيْدِ لَمْ يَقْتَضِ الْفِعْلَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَا يَكُونُ وُرُودُ الْأَمْرِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِهِ نَاسِخًا وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِقَيْدِ اللَّادَوَامَ فَهَهُنَا ظَاهِرٌ أَنَّ الْوَارِدَ بَعْدَهُ عَلَى خِلَافِهِ لَا يَكُونُ نَاسِخًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِقَيْدِ الدَّوَامِ فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ يُعْتَقَدُ فِيهِ أَنَّهُ يَبْقَى دَائِمًا مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَبْقَى دَائِمًا ثُمَّ إِنَّهُ رَفَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَهُنَا كَانَ جَاهِلًا ثُمَّ بَدَا لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا يَبْقَى دَائِمًا مَعَ أَنَّهُ/ ذَكَرَ لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَبْقَى دَائِمًا كَانَ ذَلِكَ تَجْهِيلًا فَثَبَتَ أَنَّ النَّسْخَ يَقْتَضِي إِمَّا الْجَهْلَ أَوِ التَّجْهِيلَ وَهُمَا مُحَالَانِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ النَّسْخُ مِنْهُ مُحَالًا، فَالْآتِي بِالنَّسْخِ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ يكون مبطلًا

فَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَوَصَّلُوا بِالْقَدْحِ فِي نَسْخِ الْقِبْلَةِ إِلَى الطَّعْنِ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ خَصَّصُوا هَذِهِ الصُّورَةَ بِمَزِيدِ شُبْهَةٍ فَقَالُوا: إِنَّا إِذَا جَوَّزْنَا النَّسْخَ إِنَّمَا نُجَوِّزُهُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ وهاهنا الْجِهَاتُ مُتَسَاوِيَةٌ فِي أَنَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَمَخْلُوقَةٌ لَهُ فَتَغْيِيرُ الْقِبْلَةِ مِنْ جَانِبِ فِعْلٍ خَالٍ عَنِ الْمَصْلَحَةِ فَيَكُونُ عَبَثًا وَالْعَبَثُ لَا يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ هَذَا التَّغْيِيرَ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَتَوَصَّلُوا بِهَذَا الْوَجْهِ إِلَى الطَّعْنِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلْنَتَكَلَّمِ الْآنَ فِي تَفْسِيرِ الْأَلْفَاظِ ثُمَّ لِنَذْكُرِ الْجَوَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ. أَمَّا قَوْلُهُ: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ فَفِيهِ قَوْلَانِ. الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ لِلْمُسْتَقْبَلِ ظَاهِرًا لَكِنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَاضِي أَيْضًا، كَالرَّجُلِ يَعْمَلُ عَمَلًا فَيَطْعَنُ فِيهِ بَعْضُ أَعْدَائِهِ فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُمْ سَيَطْعَنُونَ عَلَيَّ فِيمَا فَعَلْتُ، وَمَجَازُ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِيمَا يُكَرَّرُ وَيُعَادُ، فَإِذَا ذَكَرُوهُ مَرَّةً فَسَيَذْكُرُونَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَصَحَّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنْ يُقَالَ: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ ذَلِكَ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا ذَلِكَ نَزَلَتِ الْآيَةُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ قبل أن ذكروا هَذَا الْكَلَامَ أَنَّهُمْ سَيَذْكُرُونَهُ وَفِيهِ فَوَائِدُ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذَا أَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ وُقُوعِهِ، كَانَ هَذَا إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ أَوَّلًا ثُمَّ سَمِعَهُ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ يَكُونُ تَأَذِّيهِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَقَلَّ مِمَّا إِذَا سَمِعَهُ مِنْهُمْ أَوَّلًا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَسْمَعَهُ ذَلِكَ أَوَّلًا ثُمَّ ذَكَرَ جَوَابَهُ مَعَهُ فَحِينَ يَسْمَعُهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْهُمْ يَكُونُ الْجَوَابُ حَاضِرًا، فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى مِمَّا إِذَا سَمِعَهُ وَلَا يَكُونُ الْجَوَابُ حَاضِرًا، وَأَمَّا السَّفَهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ فَقَدْ شَرَحْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ [الْبَقَرَةِ: 13] وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ مَنْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ مَا لَهُ وَعَلَيْهِ، وَيَعْدِلُ عَنْ طَرِيقِ مَنَافِعِهِ إِلَى مَا يَضُرُّهُ، يُوصَفُ بِالْخِفَّةِ وَالسَّفَهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَطَأَ فِي بَابِ الدِّينِ أَعْظَمُ مَضَرَّةً مِنْهُ فِي بَابِ الدُّنْيَا فَإِذَا كَانَ الْعَادِلُ عَنِ الرَّأْيِ الْوَاضِحِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ يُعَدُّ سَفِيهًا، فَمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ فِي أَمْرِ دِينِهِ كَانَ أَوْلَى بِهَذَا الِاسْمِ فَلَا كَافِرَ إِلَّا وَهُوَ سَفِيهٌ فَهَذَا اللَّفْظُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْيَهُودِ، وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ وَعَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَعَلَى جُمْلَتِهِمْ، وَلَقَدْ ذَهَبَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ قَوْمٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. فَأَوَّلُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: هم اليهود، وذلك لأنهم كانوا يأتسون بموافقة الرسول لهم في القبلة، وكانوا يظنون أن موافقة لَهُمْ فِي الْقِبْلَةِ رُبَّمَا تَدْعُوهُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ مُوَافِقًا لَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَمَّا تَحَوَّلَ عَنْ تلك القبلة استوحشوا من ذلك واغتنموا وَقَالُوا: قَدْ عَادَ إِلَى طَرِيقَةِ آبَائِهِ، وَاشْتَاقَ إِلَى دِينِهِمْ، وَلَوْ ثَبَتَ عَلَى قِبْلَتِنَا لَعَلِمْنَا أَنَّهُ الرَّسُولُ الْمُنْتَظَرُ الْمُبَشَّرُ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ، فَقَالُوا: مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الآية. وثانيها: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَالْحَسَنُ وَالْأَصَمُّ، إِنَّهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَى/ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حِينَ كَانَ بِمَكَّةَ، وَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يَتَأَذَّوْنَ مِنْهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَلَمَّا جَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَحَوَّلَ إِلَى الْكَعْبَةِ قَالُوا: أَبَى إِلَّا الرُّجُوعَ إِلَى مُوَافَقَتِنَا، وَلَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ لَكَانَ أَوْلَى بِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ، وَهَؤُلَاءِ إِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً مِنْ حَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُ الْجِهَاتِ عَنْ بَعْضٍ بِخَاصِّيَّةٍ مَعْقُولَةٍ تَقْتَضِي تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ إِلَيْهَا، فَكَانَ هَذَا التَّحْوِيلُ مجرد البعث وَالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ وَالشَّهْوَةِ، وَإِنَّمَا حَمَلْنَا لَفْظَ السُّفَهَاءِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لَا يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: 13] . وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْكُلُّ لِأَنَّ لَفْظَ السُّفَهَاءِ لَفْظُ عُمُومٍ دَخَلَ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، وَقَدْ بَيَّنَّا صَلَاحِيَتَهُ لِكُلِّ الْكُفَّارِ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ وَالنَّصُّ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [الْبَقَرَةِ: 130] فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَاوَلَ

الْكُلَّ. قَالَ الْقَاضِي: الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ وُقُوعِ هَذَا الْكَلَامِ مِنْهُمْ فِي الْجُمْلَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ ادِّعَاءُ الْعُمُومِ فِيهِ بَعِيدًا قُلْنَا: هَذَا الْقَدْرُ لَا يُنَافِي الْعُمُومَ وَلَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بَلِ الْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ قَدْ قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْدَاءَ مَجْبُولُونَ عَلَى الْقَدْحِ وَالطَّعْنِ فَإِذَا وَجَدُوا مَجَالًا لَمْ يَتْرُكُوا مَقَالًا الْبَتَّةَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَلَّاهُ عَنْهُ صَرَفَهُ عَنْهُ وَوَلَّى إِلَيْهِ بِخِلَافِ وَلَّى عَنْهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [الْأَنْفَالِ: 16] وَقَوْلُهُ: مَا وَلَّاهُمْ اسْتِفْهَامٌ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّعَجُّبِ. الْمَسْأَلَةُ الثانية: في هذا التولي وجهان. الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ لَمَّا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَابَ الْكُفَّارُ الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مَا وَلَّاهُمْ لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْقِبْلَةُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا هِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَتَى حَوَّلَ الْقِبْلَةَ بَعْدَ ذَهَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَعَنْ مُعَاذٍ بَعْدَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَعَنْ قَتَادَةَ بَعْدَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ بَعْدَ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَهَذَا الْقَوْلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا مِنْ سَائِرِ الْأَقْوَالِ وَعَنْ بَعْضِهِمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِهِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: صُرِفَتِ الْقِبْلَةُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ النِّصْفِ مِنْ رَجَبٍ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَقَالَ آخرون: بل سنتان. الوجه الثاني: قول أب مُسْلِمٍ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ الْخَبَرُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَوَّلَهُ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاحْتَمَلَ لَفْظُ الْآيَةِ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ كَانُوا عَلَيْهَا، أَيِ السُّفَهَاءُ كَانُوا عَلَيْهَا فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا قِبْلَةَ الْيَهُودِ وَقِبْلَةَ النَّصَارَى، فَالْأُولَى إِلَى الْمَغْرِبِ وَالثَّانِيَةُ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَمَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِالصَّلَاةِ حَتَّى يَتَوَجَّهُوا إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْجِهَاتِ فَلَمَّا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الْكَعْبَةِ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مُسْتَنْكَرًا، فَقَالُوا: كَيْفَ يَتَوَجَّهُ أَحَدٌ إِلَى هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ الْمَعْرُوفَتَيْنِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ صَدَقَ فَإِنَّهُ لَوْلَا الرِّوَايَاتُ الظَّاهِرَةُ لَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مُحْتَمَلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. / الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: الْقِبْلَةُ هِيَ الْجِهَةُ الَّتِي يَسْتَقْبِلُهَا الْإِنْسَانُ، وَهِيَ مِنَ الْمُقَابَلَةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ القبلة لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يُقَابِلُهَا وَتُقَابِلُهُ، وَقَالَ قُطْرُبٌ: يَقُولُونَ فِي كَلَامِهِمْ لَيْسَ لِفُلَانٍ قِبْلَةٌ، أَيْ لَيْسَ لَهُ جِهَةٌ يَأْوِي إِلَيْهَا، وَهُوَ أَيْضًا مَأْخُوذٌ من الاستقبال، وقال غيره: إذ تَقَابَلَ الرَّجُلَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِبْلَةٌ لِلْآخَرِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ: جَعَلْتُ مَأْوَاكَ لِي قَرَارًا ... وَقِبْلَةً حَيْثُمَا لَجَأْتُ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْأَوَّلُ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْجِهَاتِ كُلَّهَا لِلَّهِ مِلْكًا وَمُلْكًا، فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْءٌ مِنْهَا لِذَاتِهِ أَنْ يَكُونَ قِبْلَةً، بَلْ إِنَّمَا تَصِيرُ قِبْلَةً لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهَا قبلة، وإذا كان الأمر كذلك فلا اعتراض عَلَيْهِ بِالتَّحْوِيلِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ أَوَّلًا فِي تَعْيِينِ الْقِبْلَةِ؟ ثُمَّ مَا الْحِكْمَةُ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ؟ قُلْنَا: أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَفِيهَا الْخِلَافُ الشَّدِيدُ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، أَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا يَجِبُ تَعْلِيلُ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْبَتَّةَ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُودُ ذَلِكَ الْغَرَضِ أَوْلَى لَهُ مِنْ لَا وُجُودِهِ،

وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، بَلِ الْوُجُودُ وَالْعَدَمُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سِيَّانِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، كَانَ نَاقِصًا لِذَاتِهِ مُسْتَكْمَلًا بِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ غَرَضًا وَمَقْصُودًا وَمُرَجَّحًا فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ عَلَى السَّوِيَّةِ إِلَّا أَنَّ وُجُودَهُ لَمَّا كَانَ أَنْفَعَ لِلْغَيْرِ مِنْ عَدَمِهِ، فَالْحَكِيمُ يَفْعَلُهُ لِيَعُودَ النَّفْعُ إِلَى الْغَيْرِ قُلْنَا: عَوْدُ النَّفْعِ إِلَى الْغَيْرِ وَلَا عَوْدُهُ إِلَيْهِ، هَلْ هُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى السَّوَاءِ، أَوْ لَيْسَ الْأَمْرُ كذلك، وحينئذ يعود التقسيم. وَثَانِيهَا: إِنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْغَرَضِ مِنْ دُونِ تِلْكَ الْوَاسِطَةِ، أَوْ لَا يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ تَوَسُّطُ تِلْكَ الْوَاسِطَةِ عَبَثًا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَانَ عَجْزًا وَهُوَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنْ فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ فَذَلِكَ الْغَرَضَ إِنْ كَانَ قَدِيمًا لَزِمَ مِنْ قِدَمَهِ قِدَمُ الْفِعْلِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ مُحْدَثًا تَوَقَّفَ إِحْدَاثُهُ عَلَى غَرَضٍ آخَرَ، وَلَزِمَ الدَّوْرُ أَوِ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ تَخْصِيصَ إِحْدَاثِ الْعَالَمِ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ إِنْ كَانَ لِحِكْمَةٍ اخْتَصَّ بِهَا ذَلِكَ الْوَقْتُ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ كَانَ طَلَبُ الْعِلَّةِ فِي أَنَّهُ لِمَ حَصَلَتْ تِلْكَ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دُونَ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ كَطَلَبِ الْعِلَّةِ فِي أَنَّهُ لِمَ حَصَلَ الْعَالَمُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دُونَ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، فَإِنِ اسْتَغْنَى أَحَدُهُمَا عَنِ الْمُرَجِّحِ فَكَذَا الْآخَرُ، وَإِنِ افْتَقَرَ فَكَذَا الْآخَرُ وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ ذَلِكَ عَلَى الْحِكْمَةِ فَقَدْ بَطَلَ تَوْقِيفُ فَاعِلِيَّةِ اللَّهِ عَلَى الْحِكْمَةِ وَالْغَرَضِ. وَخَامِسُهَا: مَا سَبَقَ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْكُفْرِ، وَالْإِيمَانِ، وَالطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ وَاقِعٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالْغَرَضِ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ غَرَضٌ يَرْجِعُ إِلَى الْعَبْدِ فِي خَلْقِ الْكُفْرِ فِيهِ وَتَعْذِيبِهِ عَلَيْهِ أَبَدَ الْآبَادِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ تَعَلُّقَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتَهُ بِإِيجَادِ الْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ فِي/ الْأَزَلِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَائِزًا أَوْ وَاجِبًا، فَإِنْ كَانَ جَائِزًا افْتَقَرَ إِلَى مُؤَثِّرٍ آخَرَ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ صِحَّةُ الْعَدَمِ عَلَى الْقَدِيمِ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَالْوَاجِبُ لَا يُعَلَّلُ فَثَبَتَ عِنْدَنَا بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ تَعْلِيلَ أَفْعَالِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ بِالدَّوَاعِي وَالْأَغْرَاضِ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ فَاعِلِيَّتُهُ بِمَحْضِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالنَّفَاذِ وَالِاسْتِيلَاءِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَإِنَّهُ عَلَّلَ جَوَازَ النَّسْخِ بِكَوْنِهِ مَالِكًا لِلْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَالْمُلْكُ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى الْقُدْرَةِ، وَلَمْ يُعَلِّلْ ذَلِكَ بِالْحِكْمَةِ عَلَى مَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ بَصَرِيحِهَا عَلَى قَوْلِنَا وَمَذْهَبِنَا، أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ قَالُوا: لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى حَكِيمٌ، وَالْحَكِيمُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُهُ خَالِيَةً عَنِ الْأَغْرَاضِ، عَلِمْنَا أَنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ حِكَمًا وَأَغْرَاضًا، ثُمَّ إِنَّهَا تَارَةً تَكُونُ ظَاهِرَةً جَلِيَّةً لَنَا، وَتَارَةً مَسْتُورَةً خَفِيَّةً عَنَّا، وَتَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِمَصَالِحَ خَفِيَّةٍ وَأَسْرَارٍ مَطْوِيَّةٍ عَنَّا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ: اسْتَحَالَ الطَّعْنُ بِهَذَا التَّحْوِيلِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْكَلَامِ فِي تِلْكَ الْحِكَمِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ لَا تَكُونُ قَطْعِيَّةً، بَلْ غَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ أُمُورًا احْتِمَالِيَّةً أَمَّا تَعْيِينُ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ حِكَمًا. أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي الْإِنْسَانِ قُوَّةً عَقْلِيَّةً مُدْرِكَةً لِلْمُجَرَّدَاتِ وَالْمَعْقُولَاتِ، وَقُوَّةً خَيَالِيَّةً مُتَصَرِّفَةً فِي عَالَمِ الْأَجْسَادِ، وَقَلَّمَا تَنْفَكُّ الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ عَنْ مُقَارَنَةِ الْقُوَّةِ الْخَيَالِيَّةِ وَمُصَاحَبَتِهَا، فَإِذَا أَرَادَ الْإِنْسَانُ اسْتِحْضَارَ أَمْرٍ عَقْلِيٍّ مُجَرَّدٍ وَجَبَ أَنْ يَضَعَ لَهُ صُورَةً خَيَالِيَّةً يَحْسِبُهَا حَتَّى تَكُونَ تِلْكَ الصُّورَةُ الْخَيَالِيَّةُ مُعِينَةً عَلَى إِدْرَاكِ تِلْكَ الْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْمُهَنْدِسَ إِذَا أَرَادَ إِدْرَاكَ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الْمَقَادِيرِ، وَضَعَ لَهُ صُورَةً مُعَيَّنَةً وَشَكْلًا مُعَيَّنًا لِيَصِيرَ الْحِسُّ وَالْخَيَالُ مُعِينَيْنِ لِلْعَقْلِ عَلَى إِدْرَاكِ ذَلِكَ الْحُكْمِ الْكُلِّيِّ، وَلَمَّا كَانَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ إِذَا وَصَلَ إِلَى مَجْلِسِ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ، فإنه

لَا بُدَّ وَأَنْ يَسْتَقْبِلَهُ بِوَجْهِهِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مُعْرِضًا عَنْهُ، وَأَنْ يُبَالِغَ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ، وَيُبَالِغَ فِي الْخِدْمَةِ وَالتَّضَرُّعِ لَهُ، فَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ يَجْرِي مَجْرَى كَوْنِهِ مُسْتَقْبَلًا لِلْمَلِكِ لَا مُعْرِضًا عَنْهُ، وَالْقِرَاءَةُ وَالتَّسْبِيحَاتُ تَجْرِي مَجْرَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ يَجْرِي مَجْرَى الْخِدْمَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الصَّلَاةِ حُضُورُ الْقَلْبِ وَهَذَا الْحُضُورُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ السُّكُونِ وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ وَالْحَرَكَةِ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا إِذَا بَقِيَ فِي جَمِيعِ صَلَاتِهِ مُسْتَقْبِلًا لِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى التَّعْيِينِ، فَإِذَا اخْتَصَّ بَعْضُ الْجِهَاتِ بِمَزِيدِ شَرَفٍ فِي الْأَوْهَامِ، كَانَ اسْتِقْبَالُ تِلْكَ الْجِهَةِ أَوْلَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّهَ تعالى يجب الْمُوَافَقَةَ وَالْأُلْفَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمِنَّةَ بها عليهم، حيث قال: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إلى قوله: إِخْواناً [آل عمران: 103] ولو توجه وَاحِدٍ فِي صَلَاتِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى، لَكَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ اخْتِلَافًا ظَاهِرًا، فَعَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ جِهَةً مَعْلُومَةً، وَأَمَرَهُمْ جَمِيعًا بِالتَّوَجُّهِ نَحْوَهَا، لِيَحْصُلَ لَهُمُ الْمُوَافَقَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إلى أن الله تعالى يجب الْمُوَافَقَةَ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي أَعْمَالِ الْخَيْرِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الْكَعْبَةَ بِإِضَافَتِهَا إِلَيْهِ في قوله: بَيْتِيَ وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِإِضَافَتِهِمْ بِصِفَةِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَيْهِ، وَكِلْتَا/ الْإِضَافَتَيْنِ لِلتَّخْصِيصِ وَالتَّكْرِيمِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا مُؤْمِنُ أَنْتَ عَبْدِي، وَالْكَعْبَةُ بَيْتِي، وَالصَّلَاةُ خِدْمَتِي، فَأَقْبِلْ بِوَجْهِكَ فِي خِدْمَتِي إِلَى بَيْتِي، وَبِقَلْبِكَ إِلَيَّ. وَخَامِسُهَا: قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: إِنَّ الْيَهُودَ اسْتَقْبَلُوا الْقِبْلَةَ لِأَنَّ النِّدَاءَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جَاءَ مِنْهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ [الْقَصَصِ: 44] الْآيَةَ، وَالنَّصَارَى اسْتَقْبَلُوا الْمَغْرِبَ، لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ مِنْ جَانِبِ الْمَشْرِقِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا [مَرْيَمَ: 16] وَالْمُؤْمِنُونَ اسْتَقْبَلُوا الْكَعْبَةَ لِأَنَّهَا قِبْلَةُ خَلِيلِ اللَّهِ، وَمَوْلِدُ حَبِيبِ اللَّهِ، وَهِيَ مَوْضِعُ حَرَمِ اللَّهِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: اسْتَقْبَلَتِ النَّصَارَى مَطْلَعَ الْأَنْوَارِ، وَقَدِ اسْتَقْبَلْنَا مَطْلَعَ سَيِّدِ الْأَنْوَارِ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمِنْ نُورِهِ خُلِقَتِ الْأَنْوَارُ جَمِيعًا. وَسَادِسُهَا: قَالُوا: الْكَعْبَةُ سُرَّةُ الْأَرْضِ وَوَسَطُهَا، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعَ خَلْقِهِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى وَسَطِ الْأَرْضِ فِي صَلَاتِهِمْ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْعَدْلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلِأَجْلِهِ جَعَلَ وَسَطَ الْأَرْضِ قِبْلَةً لِلْخَلْقِ. وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَظْهَرَ حُبَّهُ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِوَاسِطَةِ أَمْرِهِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَتَمَنَّى ذَلِكَ مُدَّةً لِأَجْلِ مُخَالَفَةِ الْيَهُودِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [الْبَقَرَةِ: 144] الْآيَةَ، وَفِي الشَّاهِدِ إِذَا وُصِفَ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ بِمَحَبَّةِ آخَرَ قَالُوا: فُلَانٌ يُحَوِّلُ الْقِبْلَةَ لِأَجْلِ فُلَانٍ عَلَى جِهَةِ التَّمْثِيلِ، فَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ حَوَّلَ الْقِبْلَةَ لِأَجْلِ حَبِيبِهِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى جِهَةِ التَّحْقِيقِ، وَقَالَ: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها [الْبَقَرَةِ: 144] وَلَمْ يَقُلْ قِبْلَةً أَرْضَاهَا، وَالْإِشَارَةُ فِيهِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ كُلُّ أَحَدٍ يَطْلُبُ رِضَايَ وَأَنَا أَطْلُبُ رِضَاكَ فِي الدَّارَيْنِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضُّحَى: 5] وَفِيهِ إِشَارَةٌ أَيْضًا إِلَى شَرَفِ الْفُقَرَاءِ: فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الْأَنْعَامِ: 52] وَقَالَ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْقِبْلَةِ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة: 145] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: الْكَعْبَةُ قِبْلَةُ وَجْهِكَ، وَالْفُقَرَاءُ قِبْلَةُ رَحْمَتِي، فَإِعْرَاضُكَ عَنْ قِبْلَةِ وَجْهِكَ، يُوجِبُ كَوْنَكَ ظَالِمًا، فَالْإِعْرَاضُ عَنْ قِبْلَةِ رَحْمَتِي كَيْفَ يَكُونُ. وَثَامِنُهَا: الْعَرْشُ قِبْلَةُ الْحَمَلَةِ، وَالْكُرْسِيُّ قِبْلَةُ الْبَرَرَةِ، وَالْبَيْتُ الْمَعْمُورُ قِبْلَةُ السَّفَرَةِ، وَالْكَعْبَةُ قِبْلَةُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْحَقُّ قِبْلَةُ الْمُتَحَيِّرِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 115] وَثَبَتَ أَنَّ الْعَرْشَ مَخْلُوقٌ مِنَ النُّورِ، وَالْكُرْسِيَّ مِنَ الدُّرِّ، وَالْبَيْتَ الْمَعْمُورَ مِنَ الْيَاقُوتِ، وَالْكَعْبَةَ مِنْ جِبَالٍ خَمْسَةٍ: مِنْ طُورِ سَيْنَا، وَطُورِ زَيْتَا، وَالْجُودِيِّ، وَلُبْنَانَ، وَحِرَاءٍ، وَالْإِشَارَةُ فِيهِ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى

[سورة البقرة (2) : آية 143]

يَقُولُ: إِنْ كَانَتْ عَلَيْكَ ذُنُوبٌ بِمِثْقَالِ هَذِهِ الْجِبَالِ فَأَتَيْتَ الْكَعْبَةَ حَاجًّا أَوْ تَوَجَّهْتَ نَحْوَهَا مُصَلِّيًا كَفَّرْتُهَا عَنْكَ وَغَفَرْتُهَا لَكَ فَهَذَا جُمْلَةُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَالتَّحْقِيقُ هُوَ الْأَوَّلُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي حِكْمَةِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ، قَدْ ذَكَرْنَا شُبْهَةَ الْقَوْمِ فِي إِنْكَارِ هَذَا التَّحْوِيلِ، وَهِيَ أَنَّ الْجِهَاتِ لَمَّا كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ كَانَ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ مُجَرَّدَ الْعَبَثِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْحَكِيمِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ: إِنَّهُ لَا يَجِبُ تَعْلِيلُ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحِكَمِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَهُمْ طَرِيقَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ اخْتِلَافُ الْمَصَالِحِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْجِهَاتِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا تَرَسَّخَ فِي أَوْهَامِ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّ هَذِهِ الْجِهَاتِ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهَا بِسَبَبِ أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ بَنَاهُ الْخَلِيلُ وَعَظَّمَهُ، كَانَ هَذَا الْإِنْسَانُ عِنْدَ اسْتِقْبَالِهِ أَشَدَّ تَعْظِيمًا وَخُشُوعًا، وَذَلِكَ مَصْلَحَةٌ مَطْلُوبَةٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بِنَاءُ هَذَا الْبَيْتِ سَبَبًا لِظُهُورِ دَوْلَةِ الْعَرَبِ كَانَتْ رَغْبَتُهُمْ فِي تَعْظِيمِهِ أَشَدَّ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا كَانُوا يُعَيِّرُونَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّا أَرْشَدْنَاكُمْ إِلَى الْقِبْلَةِ لَمَا كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ الْقِبْلَةَ، فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَشْوِيشِ الْخَوَاطِرِ، وَذَلِكَ مُخِلٌّ بِالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ، فَهَذَا يُنَاسِبُ الصَّرْفَ عَنْ تِلْكَ الْقِبْلَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْكَعْبَةَ مَنْشَأُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَعْظِيمُ الْكَعْبَةِ يَقْتَضِي تَعْظِيمَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ لِأَنَّهُ مَتَى رَسَخَ فِي قَلْبِهِمْ تَعْظِيمُهُ، كَانَ قَبُولُهُمْ لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ فِي الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ أَسْرَعَ وَأَسْهَلَ، وَالْمُفْضِي إِلَى الْمَطْلُوبِ مَطْلُوبٌ، فَكَانَ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ مُنَاسِبًا. وَخَامِسُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [الْبَقَرَةِ: 143] فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تعالى حين كانوا بمكة أن يتوجهوا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِيَتَمَيَّزُوا عَنِ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَبِهَا الْيَهُودُ، أُمِرُوا بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ لِيَتَمَيَّزُوا عَنِ الْيَهُودِ. أَمَّا قَوْلُهُ: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فَالْهِدَايَةُ قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّمَا هِيَ الدَّلَالَةُ الْمُوَصِّلَةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى مَا هُوَ لِلْعِبَادَةِ أَصْلَحُ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الَّذِي يُؤَدِّيهِمْ إِذَا تَمَسَّكُوا بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذِهِ الْهِدَايَةُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا الدَّعْوَةَ أَوِ الدَّلَالَةَ أَوْ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ فِيهِ، وَالْأَوَّلَانِ بَاطِلَانِ، لِأَنَّهُمَا عَامَّانِ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي بِأَنَّ الْهِدَايَةَ وَالْإِضْلَالَ مِنَ اللَّهِ تعالى. [سورة البقرة (2) : آية 143] وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً. اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكَافُ فِي كَذلِكَ كَافُ التَّشْبِيهِ، وَالْمُشَبَّهُ بِهِ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ وَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى يَهْدِي، أَيْ كَمَا أَنْعَمْنَا عَلَيْكُمْ بِالْهِدَايَةِ، كَذَلِكَ أَنْعَمْنَا عَلَيْكُمْ بِأَنْ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا. وَثَانِيهَا:

قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ تَقْرِيرُهُ كَمَا هَدَيْنَاكُمْ إِلَى قِبْلَةٍ هِيَ أَوْسَطُ الْقِبَلِ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ/ أُمَّةً وَسَطًا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا [الْبَقَرَةِ: 130] أَيْ فَكَمَا اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا فَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا. وَرَابِعُهَا: يَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة: 115] فَهَذِهِ الْجِهَاتُ بَعْدَ اسْتِوَائِهَا فِي كَوْنِهَا مُلْكًا لِلَّهِ وَمِلْكًا لَهُ، خَصَّ بَعْضَهَا بِمَزِيدِ التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ بِأَنْ جَعَلَهُ قِبْلَةً فَضْلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا فَكَذَلِكَ الْعِبَادُ كُلُّهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الْعُبُودِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ خَصَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِمَزِيدِ الْفَضْلِ وَالْعِبَادَةِ فضلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا لَا وُجُوبًا. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ قَدْ يُذْكَرُ ضَمِيرُ الشَّيْءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُضْمَرُ مَذْكُورًا إِذَا كَانَ الْمُضْمَرُ مَشْهُورًا مَعْرُوفًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: 1] ثُمَّ مِنَ الْمَشْهُورِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِعْزَازِ مَنْ شَاءَ وَإِذْلَالِ مَنْ شَاءَ فَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ الْجَعْلِ الْعَجِيبِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ سِوَاهُ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَسَطُ اسْمًا حَرَّكْتَ الْوَسَطَ كَقَوْلِهِ: أُمَّةً وَسَطاً وَالظَّرْفُ مُخَفَّفٌ تَقُولُ: جَلَسْتُ وَسْطَ الْقَوْمِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْوَسَطِ وَذَكَرُوا أُمُورًا. أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَسَطَ هُوَ الْعَدْلُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْخَبَرُ وَالشِّعْرُ وَالنَّقْلُ وَالْمَعْنَى، أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ أَوْسَطُهُمْ [الْقَلَمِ: 28] أَيْ أَعْدَلُهُمْ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَا رَوَى الْقَفَّالُ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمَّةً وَسَطًا قَالَ عَدْلًا» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا» أَيْ أَعْدَلُهَا، وَقِيلَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْسَطَ قُرَيْشٍ نَسَبًا، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَلَيْكُمْ بِالنَّمَطِ الْأَوْسَطِ» وَأَمَّا الشِّعْرُ فَقَوْلُ زُهَيْرٍ: هُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ ... إِذَا نَزَلَتْ إِحْدَى اللَّيَالِي الْعَظَائِمُ وَأَمَّا النَّقْلُ فَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي «الصِّحَاحِ» : وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً أَيْ عَدْلًا وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ الْأَخْفَشُ وَالْخَلِيلُ وَقُطْرُبٌ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَمِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَسَطَ حَقِيقَةٌ فِي الْبُعْدِ عَنِ الطَّرَفَيْنِ وَلَا شَكَّ أَنَّ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ رَدِيئَانِ فَالْمُتَوَسِّطُ فِي الْأَخْلَاقِ يَكُونُ بَعِيدًا عَنِ الطَّرَفَيْنِ فَكَانَ مُعْتَدِلًا فَاضِلًا. وَثَانِيهَا: إِنَّمَا سُمِّيَ الْعَدْلُ وَسَطًا لِأَنَّهُ لَا يَمِيلُ إِلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، وَالْعَدْلُ هُوَ الْمُعْتَدِلُ الَّذِي لَا يَمِيلُ إِلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ. وَثَالِثُهَا: لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً طَرِيقَةُ الْمَدْحِ لَهُمْ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهُ تَعَالَى وَصْفًا وَيَجْعَلَهُ كَالْعِلَّةِ فِي أَنْ جَعَلَهُمْ شُهُودًا لَهُ ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَى ذَلِكَ شَهَادَةَ الرَّسُولِ إِلَّا وَذَلِكَ مَدْحٌ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: (وَسَطًا) مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَدْحِ فِي بَابِ الدِّينِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْدَحَ اللَّهُ الشُّهُودَ حَالَ حُكْمِهِ عَلَيْهِمْ بِكَوْنِهِمْ شُهُودًا إِلَّا بِكَوْنِهِمْ عُدُولًا، فَوَجَبَ أَنْ يكون المراد من الْوَسَطِ الْعَدَالَةَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ أَعْدَلَ بِقَاعِ الشَّيْءِ وَسَطُهُ، لِأَنَّ حُكْمَهُ مَعَ سَائِرِ أَطْرَافِهِ عَلَى سَوَاءٍ وَعَلَى اعْتِدَالٍ، وَالْأَطْرَافُ يَتَسَارَعُ إِلَيْهَا الْخَلَلُ والفساد والأوسط مَحْمِيَّةٌ مَحُوطَةٌ فَلَمَّا صَحَّ ذَلِكَ فِي الْوَسَطِ صَارَ كَأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُعْتَدِلِ الَّذِي لَا يَمِيلُ إِلَى جِهَةٍ دُونَ جِهَةٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَسَطَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خِيَارُهُ قَالُوا: وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَوْلَى مِنَ الْأَوَّلِ لِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أن لفظ الوسط يستعمل في الجامدات قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : اكْتَرَيْتُ جَمَلًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ بمكة للحج فقال: أعطى مِنْ سَطَا تَهْنَةٍ أَرَادَ مِنْ خِيَارِ الدَّنَانِيرِ وَوَصْفُ الْعَدَالَةِ لَا يُوجَدُ فِي الْجَمَادَاتِ فَكَانَ هَذَا التَّفْسِيرُ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنَّهُ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آلِ عِمْرَانَ: 110] الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ: فُلَانٌ أَوْسَطُنَا نَسَبًا فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَكْثَرُ فَضْلًا وَهَذَا وَسَطٌ فِيهِمْ كَوَاسِطَةِ

القلادة، وأصل هذا أن الاتباع يتحوشون الرَّئِيسَ فَهُوَ فِي وَسَطِهِمْ وَهُمْ حَوْلَهُ فَقِيلَ وَسَطٌ لِهَذَا الْمَعْنَى. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا وَسَطًا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ مُتَوَسِّطُونَ فِي الدِّينِ بَيْنَ الْمُفَرِّطِ وَالْمُفْرِطِ وَالْغَالِي وَالْمُقَصِّرِ فِي الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَغْلُوا كَمَا غَلَتِ النَّصَارَى فجعلوا ابناً وإلهاً ولأقصروا كَتَقْصِيرِ الْيَهُودِ فِي قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَتَبْدِيلِ الْكُتُبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَصَّرُوا فِيهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ مُتَقَارِبَةٌ غَيْرُ مُتَنَافِيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ عَدَالَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَخَيْرِيَّتَهُمْ بِجَعْلِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْمَذْهَبِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْجَعْلِ فِعْلُ الْأَلْطَافِ الَّتِي عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَتَى فَعَلَهَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ اخْتَارُوا عِنْدَهَا الصَّوَابَ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، أَجَابَ الْأَصْحَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا، لَكِنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ الْبَاهِرَةَ لَيْسَتْ إِلَّا مَعَنَا، أَقْصَى مَا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذَا الْبَابِ التَّمَسُّكُ بِفَصْلِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا كَثِيرَةً أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ مُنْتَقَضَةٌ عَلَى أُصُولِهِمْ بِمَسْأَلَةِ الْعِلْمِ وَمَسْأَلَةِ الدَّاعِي، وَالْكَلَامُ الْمَنْقُوضُ لَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ الْبَتَّةَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: 142] وَقَدْ بَيَّنَّا دَلَالَةَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِنَا فِي أَنَّهُ تَعَالَى يَخُصُّ الْبَعْضَ بِالْهِدَايَةِ دُونَ الْبَعْضِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَحْمُولَةً عَلَى ذَلِكَ لِتَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُؤَكِّدَةً لِمَضْمُونِ الْأُخْرَى. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ مَا فِي مَقْدُورِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْأَلْطَافِ فِي حَقِّ الْكُلِّ فَقَدْ فَعَلَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا الْمَعْنَى فَائِدَةٌ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ وَفِعْلُ اللُّطْفِ وَاجِبٌ وَالْوَاجِبُ لَا يَجُوزُ ذِكْرُهُ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ فَقَالُوا: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عَدَالَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَعَنْ خَيْرِيَّتِهِمْ فَلَوْ أَقَامُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ لَمَا اتَّصَفُوا بِالْخَيْرِيَّةِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ لَا يُقْدِمُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً، فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةُ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ وَصْفَ الْأُمَّةِ بِالْعَدَالَةِ يَقْتَضِي اتِّصَافَ كُلِّ وَاحِدٍ/ مِنْهُمْ بِهَا وَخِلَافُ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْبَعْضِ فَنَحْنُ نَحْمِلُهَا عَلَى الْأَئِمَّةِ الْمَعْصُومِينَ، سَلَّمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مَتْرُوكَةَ الظاهرة لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوَسَطَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خِيَارُهُ وَالْوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا مُعَارَضَةٌ بِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ عَدَالَةَ الرَّجُلِ عِبَارَةٌ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَهَذَا مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ جَعَلَهُمْ وَسَطًا فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ كَوْنَهُمْ وَسَطًا مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُمْ وَسَطًا غَيْرَ كَوْنِهِمْ عُدُولًا وَإِلَّا لَزِمَ وُقُوعُ مَقْدُورٍ وَاحِدٍ بِقَادِرَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ. الثَّانِي: أَنَّ الْوَسَطَ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَجَعْلُهُ حَقِيقَةً فِي الْعَدَالَةِ وَالْخَيْرِيَّةِ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، سَلَّمْنَا اتِّصَافَهُمْ بِالْخَيْرِيَّةِ وَلَكِنْ لِمَ لَا يَكْفِي فِي حُصُولِ هَذَا الْوَصْفِ الِاجْتِنَابُ عَنِ الْكَبَائِرِ فَقَطْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ احْتَمَلَ أَنَّ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً لَكِنَّهُ مِنَ الصَّغَائِرِ فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي خَيْرِيَّتِهِمْ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِكَوْنِهِمْ عُدُولًا لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَفِعْلُ الصَّغَائِرِ لَا يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ، سَلَّمْنَا اجْتِنَابَهُمْ عَنِ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ اتِّصَافَهُمْ بِذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهِمْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ مَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي الْآخِرَةِ فَيَلْزَمُ وُجُوبُ تَحَقُّقِ عَدَالَتِهِمْ هُنَاكَ لِأَنَّ عَدَالَةَ

الشُّهُودِ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ حَالَةَ الْأَدَاءِ لَا حَالَةَ التَّحَمُّلِ، وَذَلِكَ لَا نِزَاعَ فِيهِ، لِأَنَّ الْأُمَّةَ تَصِيرُ مَعْصُومَةً فِي الْآخِرَةِ فَلِمَ قُلْتَ إِنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ؟ سَلَّمْنَا وُجُوبَ كَوْنِهِمْ عُدُولًا فِي الدُّنْيَا لَكِنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْخِطَابِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْخِطَابَ مَعَ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مُحَالٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي عَدَالَةَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَا تَقْتَضِي عَدَالَةَ غَيْرِهِمْ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ أُولَئِكَ حَقٌّ فَيَجِبُ أَنْ لَا نَتَمَسَّكَ بِالْإِجْمَاعِ إِلَّا إِذَا عَلِمْنَا حُصُولَ قَوْلِ كُلِّ أُولَئِكَ فِيهِ لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا إِذَا عَلِمْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ بِأَعْيَانِهِمْ وَعَلِمْنَا بَقَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى مَا بَعْدَ وَفَاةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِمْنَا حُصُولَ أَقْوَالِهِمْ بِأَسْرِهِمْ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَالْمُتَعَذَّرِ امْتَنَعَ التَّمَسُّكُ بِالْإِجْمَاعِ. وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ الْآيَةُ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِ مَعَ غَيْرِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُمْ فِي كُلِّ أَمْرٍ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَكُونُ عَدْلًا فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ، بَلْ إِذَا اخْتَلَفُوا فَعِنْدَ ذَلِكَ قَدْ يَفْعَلُونَ الْقَبِيحَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ هَذَا خِطَابٌ مَعَهُمْ حَالَ الِاجْتِمَاعِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: جَعَلْناكُمْ خِطَابٌ لِمَجْمُوعِهِمْ لَا لِكُلِّ واحد منهم وحده، على أن وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَدْلًا لَكِنَّا نَقُولُ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الْبَعْضِ لِدَلِيلٍ قَامَ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي حَقِّ الباقي وهذا المعنى مَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّهُمْ كَذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُوجَدَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَنْ يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِذَا كُنَّا لَا نَعْلَمُ بِأَعْيَانِهِمُ افْتَقَرْنَا إِلَى اجْتِمَاعِ جَمَاعَتِهِمْ عَلَى الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، لِكَيْ يَدْخُلَ الْمُعْتَبَرُونَ فِي جُمْلَتِهِمْ، مِثَالُهُ: أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذَا قَالَ إِنَّ وَاحِدًا/ مِنْ أَوْلَادِ فُلَانٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُصِيبًا فِي الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ فَإِذَا لَمْ نَعْلَمْهُ بِعَيْنِهِ وَوَجَدْنَا أَوْلَادَهُ مُجْتَمِعِينَ عَلَى رَأْيٍ عَلِمْنَاهُ حَقًّا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُوجَدَ فِيهِمْ ذَلِكَ الْمُحِقُّ، فَأَمَّا إِذَا اجْتَمَعُوا سِوَى الْوَاحِدِ عَلَى رَأْيٍ لَمْ نَحْكُمْ بِكَوْنِهِ حَقًّا لِتَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ مَعَ ذَلِكَ الْوَاحِدِ الَّذِي خَالَفَ، وَلِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّا لَوْ مَيَّزَنَا فِي الْأُمَّةِ مَنْ كَانَ مُصِيبًا عَمَّنْ كَانَ مُخْطِئًا كَانَتِ الْحُجَّةُ قَائِمَةً فِي قَوْلِ الْمُصِيبِ وَلَمْ نَعْتَبِرِ الْبَتَّةَ بِقَوْلِ الْمُخْطِئِ قَوْلُهُ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِمْ وَسَطًا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ عَدَالَتِهِمْ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْعَبْدِ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى قُلْنَا: هَذَا مَذْهَبُنَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، قَوْلُهُ: لِمَ قُلْتُمْ إِنَّ إِخْبَارَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عَدَالَتِهِمْ وَخَيْرِيَّتِهِمْ يَقْتَضِي اجْتِنَابَهُمْ عَنِ الصَّغَائِرِ؟ قُلْنَا: خَبَرُ اللَّهِ تَعَالَى صِدْقٌ، وَالْخَبَرُ الصِّدْقُ يَقْتَضِي حُصُولَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَفِعْلُ الصَّغِيرَةِ لَيْسَ بِخَيْرٍ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَنَاقِضٌ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّخْصِ بِأَنَّهُ خَيْرٌ أَعَمُّ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُ خَيْرٌ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، أَوْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَصِحُّ تَقْسِيمُهُ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ فَيُقَالُ: الْخَيْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ دُونَ الْبَعْضِ أَوْ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، وَمَوْرِدُ التَّقْسِيمِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، فَمَنْ كَانَ خَيْرًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ دُونَ الْبَعْضِ، يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَيْرٌ، فَإِذَنْ إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ خَيْرِيَّةِ الْأُمَّةِ لَا يَقْتَضِي إِخْبَارَهُ تَعَالَى عَنْ خَيْرِيَّتِهِمْ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا لَا يُنَافِي إِقْدَامَهُمْ عَلَى الْكَبَائِرِ فَضْلًا عَنِ الصَّغَائِرِ، وَكُنَّا قَدْ نَصَرْنَا هَذِهِ الدَّلَالَةَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إِلَّا أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ وَارِدٌ عَلَيْهَا، أَمَّا السُّؤَالُ الْآخَرُ فَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَوْجُودًا وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [الْبَقَرَةِ: 178] ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَةِ: 183] يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْمَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ تَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَوَامِرِهِ وَزَوَاجِرِهِ خطاب

لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ هَذَا خِطَابًا لِجَمِيعِ مَنْ يُوجَدُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، فَإِنَّمَا حُكِمَ لِجَمَاعَتِهِمْ بِالْعَدَالَةِ فَمِنْ أَيْنَ حَكَمْتَ لِأَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ بِالْعَدَالَةِ حَتَّى جَعَلْتَهُمْ حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا جَعَلَهُمْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، فَلَوِ اعْتَبَرْنَا أَوَّلَ الْأُمَّةِ وَآخِرَهَا بِمَجْمُوعِهَا فِي كَوْنِهَا حُجَّةً عَلَى غَيْرِهَا لَزَالَتِ الْفَائِدَةُ إِذْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ انْقِضَائِهَا مَنْ تَكُونُ الْأُمَّةُ حُجَّةً عَلَيْهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ، وَيَجُوزُ تَسْمِيَةُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْوَاحِدِ بِالْأُمَّةِ، فَإِنَّ الْأُمَّةَ اسْمٌ لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي تَؤُمُّ جِهَةً وَاحِدَةً، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ كَذَلِكَ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أُمَّةً وَسَطاً فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِلَفْظِ النَّكِرَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ الشَّهَادَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ تَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِي الدُّنْيَا. فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّهَا تَقَعُ فِي الْآخِرَةِ، وَالذَّاهِبُونَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ لَهُمْ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَشْهَدُ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَى أُمَمِهِمُ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَهُمْ، رُوِيَ أَنَّ الْأُمَمَ يَجْحَدُونَ تَبْلِيغَ الْأَنْبِيَاءِ، فَيُطَالِبُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَنْبِيَاءَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى/ أَنَّهُمْ قَدْ بَلَّغُوا وَهُوَ أَعْلَمُ، فَيُؤْتَى بأمة محمد صلى الله عليه وسلّم اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَشْهَدُونَ فَتَقُولُ الْأُمَمُ مِنْ أَيْنَ عَرَفْتُمْ فَيَقُولُونَ: عَلِمْنَا ذَلِكَ بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ النَّاطِقِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الصَّادِقِ، فَيُؤْتَى بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَيُسْأَلُ عَنْ حَالِ أُمَّتِهِ فَيُزَكِّيهِمْ وَيَشْهَدُ بِعَدَالَتِهِمْ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاءِ: 41] وَقَدْ طَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهُا: أَنَّ مَدَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَنَّ الْأُمَمَ يُكَذِّبُونَ أَنْبِيَاءَهُمْ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أن الْقِيَامَةِ قَدْ يَكْذِبُونَ، وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَ الْقَاضِي، إِلَّا أَنَّا سَنَتَكَلَّمُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الْأَنْعَامِ: 23، 24] . وَثَانِيهَا: أَنَّ شَهَادَةَ الْأُمَّةِ وَشَهَادَةَ الرَّسُولِ مُسْتَنِدَةٌ فِي الْآخِرَةِ إِلَى شَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِمَ لَمْ يَشْهَدِ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ بِذَلِكَ ابْتِدَاءً؟ وَجَوَابُهُ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ تَمْيِيزُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفَضْلِ عَنْ سَائِرِ الْأُمَمِ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى تَصْدِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَصْدِيقِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْإِيمَانِ بِهِمْ جَمِيعًا، فَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ الْأُمَمِ كَالْعَدْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَاسِقِ، فَلِذَلِكَ يَقْبَلُ اللَّهُ شَهَادَتَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ وَلَا يَقْبَلُ شَهَادَةَ الْأُمَمِ عَلَيْهِمْ إِظْهَارًا لِعَدَالَتِهِمْ وَكَشْفًا عَنْ فَضِيلَتِهِمْ وَمَنْقَبَتِهِمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ لَا تُسَمَّى شَهَادَةً وَهَذَا ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ» وَالشَّيْءُ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَهُوَ مَعْلُومٌ مِثْلُ الشَّمْسِ فَوَجَبَ جَوَازُ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالُوا مَعْنَى الْآيَةِ: لِتَشْهَدُوا عَلَى النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي خَالَفُوا الْحَقَّ فِيهَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْأَشْهَادُ أَرْبَعَةٌ. أَوَّلُهَا: الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِإِثْبَاتِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ. قَالَ تَعَالَى: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: 21] وَقَالَ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18] وَقَالَ: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الِانْفِطَارِ: 10- 12] . وَثَانِيهَا: شَهَادَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ حَاكِيًا عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة: 117] وَقَالَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَقَالَ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً

[النِّسَاءِ: 41] . وَثَالِثُهَا: شَهَادَةُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً. قَالَ تَعَالَى: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ [الزُّمَرِ: 69] وَقَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غَافِرٍ: 51] . وَرَابِعُهَا: شَهَادَةُ الْجَوَارِحِ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بَلْ أَعْجَبُ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ [النُّورِ: 24] الْآيَةَ، وَقَالَ: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ [يس: 65] الْآيَةَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ أَدَاءَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ وَالْمُشَاهَدَةَ وَالشُّهُودَ هُوَ الرُّؤْيَةُ يُقَالُ: شَاهَدْتُ كَذَا إِذَا رَأَيْتَهُ وَأَبْصَرْتَهُ، وَلَمَّا كَانَ بَيْنَ الْإِبْصَارِ بِالْعَيْنِ وَبَيْنَ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَلْبِ مُنَاسِبَةٌ شَدِيدَةٌ لَا جَرَمَ قَدْ تُسَمَّى الْمَعْرِفَةُ الَّتِي فِي الْقَلْبِ: مُشَاهَدَةً وَشُهُودًا، وَالْعَارِفُ بِالشَّيْءِ: شَاهِدًا وَمُشَاهِدًا، ثُمَّ سُمِّيَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى الشَّيْءِ: شَاهِدًا عَلَى الشَّيْءِ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي بِهَا صَارَ الشَّاهِدُ شَاهِدًا، وَلَمَّا كَانَ الْمُخْبِرُ عَنِ الشَّيْءِ وَالْمُبَيِّنُ لِحَالِهِ جَارِيًا مَجْرَى الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ سُمِّيَ ذَلِكَ/ الْمُخْبِرُ أَيْضًا شَاهِدًا، ثُمَّ اخْتَصَّ هَذَا اللَّفْظُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ بِمَنْ يُخْبِرُ عَنْ حُقُوقِ النَّاسِ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى جِهَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مَنْ عَرَفَ حَالَ شَيْءٍ وَكَشَفَ عَنْهُ كَانَ شَاهِدًا عَلَيْهِ وَاللَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالشَّهَادَةِ، فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِي الدُّنْيَا لَا جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُمْ عُدُولًا فِي الدُّنْيَا لِأَجْلِ أَنْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ فِي الدُّنْيَا، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمْ عُدُولًا فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْمَاضِي فَلَا أَقَلَّ مِنْ حُصُولِهِ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي صَيْرُورَتَهُمْ شُهُودًا فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ رَتَّبَ كَوْنَهُمْ شُهَدَاءَ عَلَى صَيْرُورَتِهِمْ وَسَطًا تَرْتِيبَ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ، فَإِذَا حَصَلَ وَصْفُ كَوْنِهِمْ وَسَطًا فِي الدُّنْيَا وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ وَصْفُ كَوْنِهِمْ شُهَدَاءَ فِي الدُّنْيَا، فَإِنْ قِيلَ: تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي الدُّنْيَا، وَمُتَحَمِّلُ الشَّهَادَةِ قَدْ يُسَمَّى شَاهِدًا وَإِنْ كَانَ الْأَدَاءُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي الْقِيَامَةِ قُلْنَا: الشَّهَادَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْآيَةِ لَا التَّحَمُّلُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى اعْتَبَرَ الْعَدَالَةَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَالشَّهَادَةُ الَّتِي يُعْتَبَرُ فِيهَا الْعَدَالَةُ، هِيَ الْأَدَاءُ لَا التَّحَمُّلُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي كَوْنَ الْأُمَّةِ مُؤَدِّينَ لِلشَّهَادَةِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ إِذَا أَخْبَرُوا عَنْ شَيْءٍ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً وَلَا مَعْنًى لِقَوْلِنَا الْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ إِلَّا هَذَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ لَا يُبْطِلُ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لِأَنَّا بَيَّنَّا بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ أَنَّ الْأُمَّةَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُوا شُهُودًا فِي الدُّنْيَا وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَهُمْ شُهُودًا فِي الْقِيَامَةِ أَيْضًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِهِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ عِنْدَ الْإِجْمَاعِ حُجَّةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ قَوْلَهُمْ: عِنْدَ الْإِجْمَاعِ يُبَيَّنُ لِلنَّاسِ الْحَقُّ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً يَعْنِي مُؤَدِّيًا وَمُبَيِّنًا، ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَحْصُلَ مَعَ ذَلِكَ لَهُمُ الشَّهَادَةُ فِي الْآخِرَةِ فَيَجْرِي الْوَاقِعُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا مَجْرَى التَّحَمُّلِ لِأَنَّهُمْ إِذَا أَثْبَتُوا الْحَقَّ عَرَفُوا عِنْدَهُ مَنِ الْقَابِلُ وَمَنِ الرَّادُّ، ثُمَّ يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا أَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى الْعُقُودِ يَعْرِفُ مَا الَّذِي تَمَّ وَمَا الَّذِي لَمْ يَتِمَّ ثُمَّ يَشْهَدُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ ظَهَرَ كُفْرُهُ وَفِسْقُهُ نَحْوَ الْمُشَبِّهَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا جَعَلَ الشُّهَدَاءَ مَنْ وَصَفَهُمْ بِالْعَدَالَةِ وَالْخَيْرِيَّةِ، وَلَا يَخْتَلِفُ فِي ذلك الحكم من فسق أو كفر بقوله أَوْ فِعْلٍ، وَمَنْ كَفَرَ بِرَدِّ النَّصِّ أَوْ كَفَرَ بِالتَّأْوِيلِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إِنَّمَا قَالَ: شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَلَمْ يَقُلْ: شُهَدَاءَ لِلنَّاسِ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ يَقْتَضِي التَّكْلِيفَ إِمَّا

بِقَوْلٍ وَإِمَّا بِفِعْلٍ وَذَلِكَ عَلَيْهِ لَا لَهُ فِي الْحَالِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ أُخِّرَتْ صِلَةُ الشَّهَادَةِ أَوَّلًا وَقُدِّمَتْ آخِرًا؟ قُلْنَا لِأَنَّ الْغَرَضَ فِي الْأَوَّلِ إِثْبَاتُ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْأُمَمِ وَفِي الآخر الاختصاص بكون الرسول شهيداً عليهم. [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إلى قوله إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. واعلم أَنَّ قَوْلَهُ: وَما جَعَلْنَا مَعْنَاهُ مَا شَرَعْنَا وَمَا حَكَمْنَا كَقَوْلِهِ: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ [الْمَائِدَةِ: 103] أَيْ مَا شَرَعَهَا وَلَا جَعَلَهَا دِينًا، وَقَوْلُهُ: كُنْتَ عَلَيْها أَيْ كُنْتَ مُعْتَقِدًا لِاسْتِقْبَالِهَا، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: كَانَ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ دَيْنٌ، وَقَوْلُهُ: كُنْتَ عَلَيْها لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلْقِبْلَةِ، إِنَّمَا هُوَ ثَانِي مَفْعُولَيْ جَعَلَ يُرِيدُ: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الْجِهَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا. ثُمَّ هَاهُنَا وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ بَيَانًا لِلْحِكْمَةِ فِي جَعْلِ الْقِبْلَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُصَلِّي بِمَكَّةَ إِلَى الْكَعْبَةِ ثُمَّ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ تَأْلِيفًا لِلْيَهُودِ، ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَنَقُولُ: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الْجِهَةَ: الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها. أَوَّلًا: يَعْنِي وَمَا رَدَدْنَاكَ إِلَيْهَا إِلَّا امْتِحَانًا لِلنَّاسِ وَابْتِلَاءً. الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها لِسَانًا لِلْحِكْمَةِ فِي جَعْلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قِبْلَةً يَعْنِي أَنَّ أَصْلَ أَمْرِكَ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ وَأَنَّ اسْتِقْبَالَكَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ كَانَ أَمْرًا عَارِضًا لِغَرَضٍ وَإِنَّمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الْجِهَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا قَبْلَ وَقْتِكَ هَذَا، وَهِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، لِنَمْتَحِنَ النَّاسَ وَنَنْظُرَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ وَمَنْ لَا يَتَّبِعُهُ وَيَنْفِرُ عَنْهُ. وَهَاهُنَا وَجْهٌ ثَالِثٌ ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ فَقَالَ: لَوْلَا الرِّوَايَاتُ لَمْ تَدُلَّ الْآيَةُ عَلَى قِبْلَةٍ مِنْ قِبَلِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: كُنْتَ بِمَعْنَى صِرْتَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آلِ عِمْرَانَ: 110] وَقَدْ يُقَالُ: كَانَ فِي مَعْنَى لَمْ يَزَلْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النِّسَاءِ: 158] فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها أَيِ الَّتِي لَمْ تَزَلْ عَلَيْهَا وَهِيَ الْكَعْبَةُ إِلَّا كَذَا وَكَذَا. أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لِنَعْلَمَ لَامُ الْغَرَضِ وَالْكَلَامُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ الْغَرَضُ عَلَى اللَّهِ أَوْ لَا يَصِحُّ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَصِحَّ فَكَيْفَ تَأْوِيلُ هَذَا الْكَلَامِ فَقَدْ تَقَدَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَمَا جَعَلْنَا كَذَا وَكَذَا إِلَّا لِنَعْلَمَ كَذَا يُوهِمُ أَنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ الشَّيْءِ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا فَهُوَ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ لِيَحْصُلَ لَهُ ذَلِكَ الْعِلْمُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَعْلَمْ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَنَظِيرُهُ فِي الْإِشْكَالِ قَوْلُهُ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [مُحَمَّدٍ: 31] وَقَوْلُهُ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ/ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً [الْأَنْفَالِ: 66] وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] وَقَوْلُهُ: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا [الْعَنْكَبُوتِ: 3] وَقَوْلُهُ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 142] وَقَوْلُهُ: وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ [سبأ: 21] والكلام في هذه المسألة أمر مُسْتَقْصًى فِي قَوْلِهِ: وَإِذِ ابْتَلى وَالْمُفَسِّرُونَ أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَعْنَاهُ إِلَّا لِيَعْلَمَ حِزْبُنَا مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُؤْمِنِينَ كَمَا يَقُولُ الْمَلِكُ: فَتَحْنَا الْبَلْدَةَ

الْفُلَانِيَّةَ بِمَعْنَى: فَتَحَهَا أَوْلِيَاؤُنَا، وَمِنْهُ يُقَالُ: فَتَحَ عمر السواد، ومنه قول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيمَا يَحْكِيهِ عَنْ رَبِّهِ: «اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَمْ يُقْرِضْنِي، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ ينبغي له أن يشتمني يقول وا دهراه وَأَنَا الدَّهْرُ» وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ أَهَانَنِي» . وَثَانِيهَا: مَعْنَاهُ لِيَحْصُلَ الْمَعْدُومُ فَيَصِيرَ مَوْجُودًا، فَقَوْلُهُ: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَعْنَاهُ: إِلَّا لِنَعْلَمَهُ مَوْجُودًا، فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يَقْتَضِي حُدُوثَ الْعِلْمِ، قُلْنَا: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الشَّيْءَ سَيُوجَدُ هَلْ هُوَ عُلِمَ بِوُجُودِهِ إِذَا وُجِدَ الْخِلَافُ فِيهِ مَشْهُورٌ. وَثَالِثُهَا: إِلَّا لِنُمَيِّزَ هَؤُلَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ بِانْكِشَافِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالنِّفَاقِ، فَيَعْلَمَ الْمُؤْمِنُونَ مَنْ يُوَالُونَ مِنْهُمْ وَمَنْ يُعَادُونَ، فَسَمَّى التَّمْيِيزَ عِلْمًا، لِأَنَّهُ أَحَدُ فَوَائِدِ الْعِلْمِ وَثَمَرَاتِهِ. وَرَابِعُهَا: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَعْنَاهُ: إِلَّا لِنَرَى، وَمَجَازُ هَذَا أَنَّ الْعَرَبَ تَضَعُ الْعِلْمَ مَكَانَ الرُّؤْيَةِ، وَالرُّؤْيَةَ مَكَانَ الْعِلْمِ كقوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ [الفجر: 6] [الفيل: 1] [إبراهيم: 19] وَرَأَيْتُ، وَعَلِمْتُ، وَشَهِدْتُ، أَلْفَاظٌ مُتَعَاقِبَةٌ. وَخَامِسُهَا: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفَرَّاءُ: وَهُوَ أَنَّ حُدُوثَ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَاجِعٌ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ، وَمِثَالُهُ أَنَّ جَاهِلًا وَعَاقِلًا اجْتَمَعَا، فَيَقُولُ الْجَاهِلُ: الْحَطَبُ يَحْرِقُ النَّارَ، وَيَقُولُ الْعَاقِلُ: بَلِ النَّارُ تَحْرِقُ الْحَطَبَ، وَسَنَجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِنَعْلَمَ أَيُّهُمَا يَحْرِقُ صَاحِبَهُ مَعْنَاهُ: لِنَعْلَمَ أَيُّنَا الْجَاهِلُ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِلَّا لِنَعْلَمَ إِلَّا لِتَعْلَمُوا وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مِنَ الْكَلَامِ: الِاسْتِمَالَةُ وَالرِّفْقُ فِي الْخِطَابِ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً [سَبَأٍ: 24] فَأَضَافَ الكلام الموهم للشك إلى نفسه ترفيقاً لِلْخِطَابِ وَرِفْقًا بِالْمُخَاطَبِ، فَكَذَا قَوْلُهُ: إِلَّا لِنَعْلَمَ. وَسَادِسُهَا: نُعَامِلُكُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبَرِ الَّذِي كَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ، إِذِ الْعَدْلُ يُوجِبُ ذَلِكَ. وَسَابِعُهَا: أَنَّ الْعِلْمَ صِلَةٌ زَائِدَةٌ، فَقَوْلُهُ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ مَعْنَاهُ: إِلَّا لِيَحْصُلَ اتِّبَاعُ الْمُتَّبِعِينَ، وَانْقِلَابُ الْمُنْقَلِبِينَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ فِي الشَّيْءِ الَّذِي تَنْفِيهِ عَنْ نَفْسِكَ: مَا عَلِمَ اللَّهُ هَذَا مِنِّي أَيْ مَا كَانَ هَذَا مِنِّي وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَعَلِمَهُ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ الْمِحْنَةَ حَصَلَتْ بِسَبَبِ تَعْيِينِ الْقِبْلَةِ أَوْ بِسَبَبِ تَحْوِيلِهَا، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ تَعْيِينِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْمَدِينَةَ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْعَرَبِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَرَكَ قِبْلَتَهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا حَوَّلَهُ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى الْكَعْبَةِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْيَهُودِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَرَكَ قِبْلَتَهُمْ، وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَهْلِ التَّحْقِيقِ قَالُوا: هَذِهِ الْمِحْنَةُ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ التَّحْوِيلِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِهِ لَمَا تَغَيَّرَ رَأْيُهُ، رَوَى الْقَفَّالُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ رَجَعَ نَاسٌ مِمَّنْ أَسْلَمَ، وَقَالُوا مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا تَوَجَّهَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ/ نَحْوَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: مَا بَالُهُمْ كَانُوا عَلَى قِبْلَةٍ ثُمَّ تَرَكُوهَا، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: لَسْنَا نَعْلَمُ حَالَ إِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ آخَرُونَ: اشْتَاقَ إِلَى بَلَدِ أَبِيهِ وَمَوْلِدِهِ، وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: تَحَيَّرَ فِي دِينِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الْأَخِيرَ أَوْلَى لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي أَمْرِ النَّسْخِ أَعْظَمُ مِنَ الشُّبْهَةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ تَعْيِينِ الْقِبْلَةِ، وَقَدْ وَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْكَبِيرَةِ فَقَالَ: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ اسْتِعَارَةٌ وَمَعْنَاهُ: مَنْ يَكْفُرُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَوَجْهُ الِاسْتِعَارَةِ أَنَّ الْمُنْقَلِبَ عَلَى عَقِبَيْهِ قَدْ تَرَكَ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَدْبَرَ عَنْهُ، فَلَمَّا تَرَكُوا الْإِيمَانَ وَالدَّلَائِلَ صَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْمُدْبِرِ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ فَوُصِفُوا بِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ [الْمُدَّثِّرِ: 23] وَكَمَا قَالَ: كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: 48] وَكُلُّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كانَتْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «إِنْ» الْمَكْسُورَةُ الْخَفِيفَةُ، مَعْنَاهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: جَزَاءٌ، وَمُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَجَحْدٌ، وَزَائِدَةٌ، أَمَّا الْجَزَاءُ فَهِيَ تُفِيدُ رَبْطَ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى فَالْمُسْتَلْزَمُ هُوَ الشَّرْطُ وَاللَّازِمُ هُوَ الْجَزَاءُ كَقَوْلِكَ: إِنْ جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: وَهِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ فَهِيَ تُفِيدُ تَوْكِيدَ المعنى في الجملة بمنزلة «إِنَّ» الْمُشَدَّدَةِ كَقَوْلِكَ: إِنَّ زَيْدًا لَقَائِمٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ [الطَّارِقِ: 4] وَقَالَ: إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا [الْإِسْرَاءِ: 108] وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، وَالْغَرَضُ فِي تَخْفِيفِهَا إِيلَاؤُهَا مَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلِيَهَا مِنَ الْفِعْلِ، وَإِنَّمَا لَزِمَتِ اللَّامُ هَذِهِ الْمُخَفَّفَةَ لِلْعِوَضِ عَمَّا حُذِفَ مِنْهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الَّتِي لِلْجَحْدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ [الْمُلْكِ: 20] وَقَوْلُهُ: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [الأحقاف: 9] إِذْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَلِيهَا الِاسْمُ وَالْفِعْلُ جَمِيعًا كَمَا وَصَفْنَا، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ: وَهِيَ الَّتِي لِلْجَحْدِ، كَقَوْلِهِ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الْأَنْعَامِ: 57] وَقَالَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [الْأَنْعَامِ: 148] وَقَالَ: وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما [فَاطِرٍ: 41] أَيْ مَا يُمْسِكُهُمَا، وَأَمَّا الرَّابِعَةُ وَهِيَ الزَّائِدَةُ فَكَقَوْلِكَ: مَا إِنْ رَأَيْتَ زَيْدًا. إِذَا عَرَفَتْ هَذَا فَنَقُولُ: «إِنْ» فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً [البقرة: 143] هِيَ الْمُخَفَّفَةُ الَّتِي تَلْزَمُهَا اللَّامُ، وَالْغَرَضُ مِنْهَا تَوْكِيدُ الْمَعْنَى فِي الْجُمْلَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: كانَتْ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَعُودُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْقِبْلَةِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَذْكُورٍ سَابِقٍ وَمَا ذَاكَ إِلَّا الْقِبْلَةُ فِي قَوْلِهِ: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها [البقرة: 143] الثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ وَهِيَ مُفَارَقَةُ الْقِبْلَةِ، وَالتَّأْنِيثُ لِلتَّوْلِيَةِ لِأَنَّهُ قَالَ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ثُمَّ قَالَ عَطْفًا عَلَى هَذَا: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً أَيْ وَإِنْ كَانَتِ التَّوْلِيَةُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا وَلَّاهُمْ يَدُلُّ عَلَى التَّوْلِيَةِ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الْأَنْعَامِ: 121] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْفِعْلَةُ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَحْثَ مُتَفَرِّعٌ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا وَهِيَ أَنَّ الِامْتِحَانَ/ وَالِابْتِلَاءَ حَصَلَ بِنَفْسِ الْقِبْلَةِ، أَوْ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الثَّانِيَ أَوْلَى لِأَنَّ الْإِشْكَالَ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ النَّسْخِ أَقْوَى مِنَ الْإِشْكَالِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ تِلْكَ الْجِهَاتِ، وَلِهَذَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْكَبِيرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَكَبِيرَةً فَالْمَعْنَى: لَثَقِيلَةً شَاقَّةً مُسْتَنْكَرَةً كَقَوْلِهِ: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [الْكَهْفِ: 5] أَيْ: عَظُمَتِ الْفِرْيَةُ بِذَلِكَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ [النُّورِ: 16] وَقَالَ: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الْأَحْزَابِ: 53] ثُمَّ إِنَّا إِنْ قُلْنَا الِامْتِحَانُ وَقَعَ بِنَفْسِ الْقِبْلَةِ، قُلْنَا: إِنَّ تَرْكَهَا ثَقِيلٌ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَرْكَ الْإِلْفِ وَالْعَادَةِ، وَالْإِعْرَاضَ عَنْ طَرِيقَةِ الْآبَاءِ وَالْأَسْلَافِ وَإِنْ قُلْنَا: الِامْتِحَانُ وَقَعَ بِتَحْرِيفِ الْقِبْلَةِ قُلْنَا: إِنَّهَا لَثَقِيلَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ إِلَّا بَعْدَ أَنْ عَرَفَ مَسْأَلَةَ النَّسْخِ وَتَخَلَّصَ عَمَّا فِيهَا مِنَ السُّؤَالَاتِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ ثَقِيلٌ صَعْبٌ إِلَّا عَلَى مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى عَرَفَ أَنَّهُ لَا

يَسْتَنْكِرُ نَقْلَ الْقِبْلَةِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ كَمَا لَا يَسْتَنْكِرُ نَقْلَهُ إِيَّاهُمْ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ فِي الصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، فَمَنِ اهْتَدَى لِهَذَا النَّظَرِ ازْدَادَ بَصَرُهُ، وَمَنْ سَفِهَ وَاتَّبَعَ الْهَوَى وَظَوَاهِرَ الْأُمُورِ ثَقُلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَاحْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَعْمَالِ فَقَالُوا: الْمُرَادُ مِنَ الْهِدَايَةِ إِمَّا الدَّعْوَةُ أَوْ وَضْعُ الدَّلَالَةِ أَوْ خَلْقُ الْمَعْرِفَةِ، وَالْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ هَاهُنَا بَاطِلَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِكَوْنِهَا ثَقِيلَةً عَلَى الْكُلِّ إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الَّذِي هَدَاهُ اللَّهُ لَا يَثْقُلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَالْهِدَايَةُ بِمَعْنَى الدَّعْوَةِ، وَوَضْعُ الدَّلَائِلِ عَامَّةٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْقُلَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْكُفَّارِ، فَلَمَّا ثَقُلَ عَلَيْهِمْ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْهِدَايَةِ هَاهُنَا خَلْقُ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْمَدْحِ فَخَصَّهُمْ بِذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَرَادَ بِهِ الِاهْتِدَاءَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِهُدَى اللَّهِ فَغَيْرُهُمْ كَأَنَّهُ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِمْ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْكُلِّ: أَنَّهُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ فَيَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ففيه مسائل: المسألة الأولى: [فيمن ماتوا على القبلة الْأُولَى] أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَأَبِي أُمَامَةَ، وَسَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَالْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، وَغَيْرِهِمْ مَاتُوا عَلَى الْقِبْلَةِ الْأُولَى فَقَالَ عَشَائِرُهُمْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوُفِّيَ إِخْوَانُنَا عَلَى الْقِبْلَةِ الْأُولَى فَكَيْفَ حَالُهُمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ هَذَا السَّبَبِ، وَإِلَّا لَمْ يَتَّصِلْ بَعْضُ الْكَلَامِ بِبَعْضٍ، وَوَجْهُ تَقْرِيرِ الْإِشْكَالِ أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُجَوِّزُوا النَّسْخَ إِلَّا مَعَ الْبَدَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَمَّا تَغَيَّرَ الْحُكْمُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مَفْسَدَةً وَبَاطِلًا فَوَقَعَ فِي قَلْبِهِمْ بِنَاءً عَلَى هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي أَتَوْا بِهَا مُتَوَجِّهِينَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَتْ ضَائِعَةً، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ وَبَيَّنَ أَنَّ النَّسْخَ نَقْلٌ مِنْ مَصْلَحَةٍ إِلَى مَصْلَحَةٍ/ وَمِنْ تَكْلِيفٍ إِلَى تَكْلِيفٍ، وَالْأَوَّلُ كَالثَّانِي فِي أَنَّ الْقَائِمَ بِهِ مُتَمَسِّكٌ بِالدِّينِ، وَأَنَّ مَنْ هَذَا حَالُهُ فَإِنَّهُ لَا يَضِيعُ أَجْرُهُ وَنَظِيرُهُ: مَا سَأَلُوا بَعْدَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَمَّنْ مَاتَ وَكَانَ يَشْرَبُهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ [الْمَائِدَةِ: 93] فَعَرَّفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِمْ فِيمَا مَضَى لَمَّا كَانَ ذَلِكَ بِإِبَاحَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الشَّكُّ إِنَّمَا تَوَلَّدَ مِنْ تَجْوِيزِ الْبَدَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يَلِيقُ ذَلِكَ بِالصَّحَابَةِ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الشَّكَّ وَقَعَ لِمُنَافِقٍ فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِيَذْكُرَهُ الْمُسْلِمُونَ جَوَابًا لِسُؤَالِ ذَلِكَ الْمُنَافِقِ. وَثَانِيهَا: لَعَلَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ الصَّلَاةَ إِلَى الْكَعْبَةِ أَفْضَلُ فَقَالُوا: لَيْتَ إِخْوَانَنَا مِمَّنْ مَاتَ أَدْرَكَ ذَلِكَ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْكَلَامَ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: لَعَلَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ لِيَكُونَ دَفْعًا لِذَلِكَ السُّؤَالِ لَوْ خَطَرَ بِبَالِهِمْ. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا عَلِمَ أَنَّ الصَّلَاحَ فِي نَقْلِكُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ فَلَوْ أَقَرَّكُمْ عَلَى الصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ ذَلِكَ إِضَاعَةً عَنْهُ لِصَلَاتِكُمْ لِأَنَّهَا تَكُونُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ خَالِيَةً عَنِ الْمَصَالِحِ فَتَكُونُ ضَائِعَةً وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي هَذَا التَّحْوِيلِ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَا لَهُمْ عِنْدَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَأَنَّهُ لَا يُضِيعُ مَا عَمِلُوهُ وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ.

الْقَوْلُ الرَّابِعُ: كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَفَّقْتُكُمْ لِقَبُولِ هَذَا التَّكْلِيفِ لِئَلَّا يَضِيعَ إِيمَانُكُمْ فَإِنَّهُمْ لَوْ رَدُّوا هَذَا التَّكْلِيفَ لَكَفَرُوا وَلَوْ كَفَرُوا لَضَاعَ إِيمَانُهُمْ فَقَالَ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ فَلَا جَرَمَ وَفَّقَكُمْ لِقَبُولِ هَذَا التَّكْلِيفِ وَأَعَانَكُمْ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ خِطَابٌ مَعَ من؟ على قولين: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَكَرَ الْقَفَّالُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهًا أَرْبَعَةً. الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ خَاطَبَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ حِينَئِذٍ، وَذَلِكَ جَوَابٌ عَمَّا سَأَلُوهُ مِنْ قَبْلُ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَمَّنْ مَاتَ قَبْلَ نَسْخِ الْقِبْلَةِ فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أَيْ وَإِذَا كَانَ إِيمَانُكُمُ الْمَاضِي قَبْلَ النَّسْخِ لَا يُضِيعُهُ اللَّهُ فَكَذَلِكَ إِيمَانُ مَنْ مَاتَ قَبْلَ النَّسْخِ. الثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَحْيَاءُ قَدْ تَوَهَّمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَمَّا نُسِخَ بَطَلَ، وَكَانَ مَا يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ النَّسْخِ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَى الْكَعْبَةِ كَفَّارَةً لِمَا سَلَفَ وَاسْتَغْنَوْا عَنِ السُّؤَالِ عَنْ أَمْرِ أَنْفُسِهِمْ لِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ التَّأْوِيلِ فَسَأَلُوا عَنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا وَلَمْ يَأْتُوا بِمَا يُكَفِّرُ مَا سَلَفَ فَقِيلَ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ وَالْمُرَادُ أَهْلُ مِلَّتِكُمْ كَقَوْلِهِ لِلْيَهُودِ الْحَاضِرِينَ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً [الْبَقَرَةِ: 72] ، وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [الْبَقَرَةِ: 50] . الرَّابِعُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ وَاقِعًا عَنِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ مَعًا، فَإِنَّهُمْ أَشْفَقُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْ صَلَاتِهِمْ أَنْ يُبْطِلَ ثَوَابَهُمْ، وَكَانَ الْإِشْفَاقُ وَاقِعًا فِي الْفَرِيقَيْنِ فَقِيلَ: إِيمَانُكُمْ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، إِذْ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ إِذَا أَخْبَرُوا عَنْ حَاضِرٍ وَغَائِبٍ أَنْ يُغَلِّبُوا الْخِطَابَ فَيَقُولُوا: كُنْتَ أَنْتَ وَفُلَانٌ الْغَائِبُ فَعَلْتُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ صَلَاتُهُمْ وَطَاعَتُهُمْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ ثُمَّ نُسِخَ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ أَبُو مُسْلِمٍ هَذَا الْقَوْلَ لِئَلَّا يَلْزَمَهُ وُقُوعُ النَّسْخِ فِي شَرْعِنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ اسْمٌ لِفِعْلِ الطَّاعَاتِ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِالْإِيمَانِ هَاهُنَا الصَّلَاةَ. وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِيمَانِ هَاهُنَا الصَّلَاةُ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَنَّهُ لَا يُضِيعُ تَصْدِيقَكُمْ بِوُجُوبِ تِلْكَ الصَّلَاةِ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِيمَانِ هَاهُنَا الصَّلَاةُ وَلَكِنَّ الصَّلَاةَ أَعْظَمُ الْإِيمَانِ وَأَشْرَفُ نَتَائِجِهِ وَفَوَائِدِهِ فَجَازَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْإِيمَانِ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أَيْ لَا يُضِيعُ ثَوَابَ إِيمَانِكُمْ لِأَنَّ الْإِيمَانَ قَدِ انْقَضَى وَفَنِيَ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ حِفْظُهُ وَإِضَاعَتُهُ إِلَّا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ قَائِمٌ بَعْدَ انْقِضَائِهِ فَصَحَّ حِفْظُهُ وَإِضَاعَتُهُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 195] أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ أَنَّ الرَّأْفَةَ مُبَالَغَةٌ فِي رَحْمَةٍ خَاصَّةٍ وَهِيَ دَفْعُ الْمَكْرُوهِ وَإِزَالَةُ الضَّرَرِ كَقَوْلِهِ: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النُّورِ: 2] أَيْ لَا تَرْأَفُوا بِهِمَا فَتَرْفَعُوا الْجَلْدَ عَنْهُمَا، وَأَمَّا الرَّحْمَةُ فَإِنَّهَا اسْمٌ جَامِعٌ يَدْخُلُ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى ويدخل فيه الانفصال وَالْإِنْعَامُ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمَطَرَ رَحْمَةً فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الْأَعْرَافِ: 57] لِأَنَّهُ إِفْضَالٌ مِنَ اللَّهِ وَإِنْعَامٌ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّأْفَةَ أَوَّلًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُضِيعُ أَعْمَالَهُمْ وَيُخَفِّفُ الْمِحَنَ عَنْهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّحْمَةَ لِتَكُونَ

[سورة البقرة (2) : آية 144]

أَعَمَّ وَأَشْمَلَ، وَلَا تَخْتَصُّ رَحْمَتُهُ بِذَلِكَ النَّوْعِ بَلْ هُوَ رَحِيمٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ دَافِعٌ لِلْمَضَارِّ الَّتِي هِيَ الرَّأْفَةُ وَجَالِبٌ لِلْمَنَافِعِ مَعًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي وَجْهِ تَعَلُّقِ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ بِمَا قَبْلَهُمَا وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُضِيعُ إِيمَانَهُمْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [الحج: 65] وَالرَّءُوفُ الرَّحِيمُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ هَذِهِ الْإِضَاعَةُ. وثانيها: أنه لرؤف رَحِيمٌ فَلِذَلِكَ يَنْقُلُكُمْ مِنْ شَرْعٍ إِلَى شَرْعٍ آخَرَ وَهُوَ أَصْلَحُ لَكُمْ وَأَنْفَعُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَثَالِثُهَا: قَالَ: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وإنما هداهم الله ولأنه رؤف رَحِيمٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ عَمْرٌو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وأبو بكر عن عاصم: لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ مَهْمُوزًا غَيْرَ مُشْبَعٍ عَلَى وَزْنِ رَعُفٍ والباقون لَرَؤُفٌ مُثَقَّلًا مَهْمُوزًا مُشْبَعًا عَلَى وَزْنِ رَعُوفٍ وَفِيهِ أَرْبَعُ لُغَاتٍ رَئِفٍ أَيْضًا كَحَزِرٍ، وَرَأْفٌ عَلَى وَزْنِ فَعْلٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْلُقُ الْكُفْرَ وَلَا الْفَسَادَ قَالُوا لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ بالناس لرؤف رَحِيمٌ، وَالْكُفَّارُ مِنَ النَّاسِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رؤفاً رَحِيمًا بِهِمْ، / وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَخْلُقْ فِيهِمُ الْكُفْرَ الَّذِي يَجُرُّهُمْ إِلَى الْعِقَابِ الدَّائِمِ وَالْعَذَابِ السَّرْمَدِيِّ، وَلَوْ لَمْ يُكَلِّفْهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ مَعَ مثل هذا الإضرار رؤفاً رَحِيمًا فَعَلَى أَيِّ طَرِيقٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ لَا يكون رؤفاً رَحِيمًا وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَيْهِ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 144] قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) [في قَوْلُهُ تَعَالَى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ] [المسألة الأولى] اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِانْتِظَارِ تَحْوِيلِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ويجب التَّوَجُّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، إِلَّا أَنَّهُ مَا كَانَ يَتَكَلَّمُ بِذَلِكَ فَكَانَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ فِي السَّمَاءِ لِهَذَا الْمَعْنَى، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «يَا جِبْرِيلُ وَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَرَفَنِي عَنْ قِبْلَةِ الْيَهُودِ إِلَى غَيْرِهَا فَقَدْ كَرِهْتُهَا» فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: «أَنَا عَبْدٌ مِثْلُكَ فَاسْأَلْ رَبَّكَ ذَلِكَ» فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدِيمُ النَّظَرَ إِلَى السَّمَاءِ رَجَاءَ مَجِيءِ جِبْرِيلَ بِمَا سَأَلَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَهَؤُلَاءِ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ هَذِهِ الْمِحْنَةِ أُمُورًا. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ يُخَالِفُنَا ثُمَّ إِنَّهُ يَتَّبِعُ قِبْلَتَنَا وَلَوْلَا نَحْنُ لَمْ يَدْرِ أَيْنَ يَسْتَقْبِلُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ كَرِهَ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى قِبْلَتِهِمْ. الثَّانِي: أَنَّ الْكَعْبَةَ كَانَتْ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقْدِرُ أَنْ يُصَيِّرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاسْتِمَالَةِ الْعَرَبِ وَلِدُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحَبَّ أَنْ يَحْصُلَ هَذَا الشَّرَفُ لِلْمَسْجِدِ الَّذِي فِي بَلْدَتِهِ وَمَنْشَئِهِ لَا فِي مَسْجِدٍ آخَرَ، وَاعْتَرَضَ الْقَاضِي عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَقَالَ: أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَكْرَهَ قِبْلَةً أُمِرَ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَيْهَا، وَأَنْ يُحِبَّ أَنْ يُحَوِّلَهُ رَبُّهُ عَنْهَا إِلَى قِبْلَةٍ يَهْوَاهَا بِطَبْعِهِ، وَيَمِيلُ إِلَيْهَا بِحَسَبِ شَهْوَتِهِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلِمَ وَعَلَّمَ أَنَّ الصَّلَاحَ فِي خِلَافِ الطَّبْعِ وَالْمَيْلِ:

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ قَلِيلُ التَّحْصِيلِ، لِأَنَّ الْمُسْتَنْكَرَ مِنَ الرَّسُولِ أَنْ يُعْرِضَ عَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَيَشْتَغِلَ بِمَا يَدْعُوهُ طَبْعُهُ إِلَيْهِ، فَأَمَّا أَنْ يَمِيلَ قَلْبُهُ إِلَى شَيْءٍ فَيَتَمَنَّى فِي قَلْبِهِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ فِيهِ، فَذَلِكَ مِمَّا لَا إِنْكَارَ عَلَيْهِ، لَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ، أَيْ بَعْدُ فِي أَنْ يَمِيلَ طَبْعُ الرَّسُولِ إِلَى شَيْءٍ فَيَتَمَنَّى فِي قَلْبِهِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ فِيهِ، وَهَذَا مِمَّا/ لَا اسْتِبْعَادَ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدِ اسْتَأْذَنَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ تَعَالَى بِذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي هَذَا الدُّعَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ لِئَلَّا يَسْأَلُوا مَا لَا صَلَاحَ فِيهِ فَلَا يُجَابُوا إِلَيْهِ فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى تَحْقِيرِ شَأْنِهِمْ، فَلَمَّا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فِي الْإِجَابَةِ عَلِمَ أَنَّهُ يُسْتَجَابُ إِلَيْهِ فَكَانَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ فِي السَّمَاءِ يَنْتَظِرُ مَجِيءَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْوَحْيِ فِي الْإِجَابَةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُحَوِّلُ الْقِبْلَةَ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى قِبْلَةٍ أُخْرَى، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُ إِلَى أَيِّ مَوْضِعٍ يُحَوِّلُهَا، وَلَمْ تَكُنْ قِبْلَةٌ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكَعْبَةِ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ فِي السَّمَاءِ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتْرُكُهُ بِغَيْرِ صَلَاةٍ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السلام فأمره أن يصل نَحْوَ الْكَعْبَةِ وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْوَجْهِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُنِعَ مِنِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلَمْ يُعَيَّنْ لَهُ الْقِبْلَةُ، فَكَانَ يَخَافُ أَنْ يَرِدَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَلَمْ تَظْهَرِ الْقِبْلَةُ فَتَتَأَخَّرَ صَلَاتُهُ فَلِذَلِكَ كَانَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ عَنِ الْأَصَمِّ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ وُعِدَ بِذَلِكَ وَقِبْلَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَاقِيَةٌ بِحَيْثُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ إِلَيْهَا، لَكِنْ لِأَجْلِ الْوَعْدِ كَانَ يَتَوَقَّعُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ كَانَ يَرْجُو عِنْدَ التَّحْوِيلِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ وُجُوهًا كَثِيرَةً مِنَ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ، نَحْوَ: رَغْبَةِ الْعَرَبِ فِي الْإِسْلَامِ، وَالْمُبَايَنَةِ عَنِ الْيَهُودِ، وَتَمْيِيزِ الْمُوَافِقِ مِنَ الْمُنَافِقِ، فَلِهَذَا كَانَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْلَى، وَإِلَّا لَمَا كَانَتِ الْقِبْلَةُ الثَّانِيَةُ نَاسِخَةً لِلْأُولَى، بَلْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً، وَالْمُفَسِّرُونَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِلْأُولَى، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالصَّلَاةِ إِلَّا مَعَ بَيَانِ مَوْضِعِ التَّوَجُّهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ تَقَلُّبَ وَجْهِهِ فِي السَّمَاءِ هُوَ الدُّعَاءُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ، قَالُوا: لَوْلَا الْأَخْبَارُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَإِلَّا فَلَفْظُ الْآيَةِ يَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا كَانَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ فِي أَوَّلِ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا صَلَّى بِمَكَّةَ جَعَلَ الْكَعْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهَذِهِ صَلَاةٌ إِلَى الْكَعْبَةِ فَلَمَّا هَاجَرَ لَمْ يَعْلَمْ أَيْنَ يَتَوَجَّهُ فَانْتَظَرَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي صَلَاتِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ بِمَكَّةَ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ فَلَمَّا صَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ أُمِرَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ كَانَ بِمَكَّةَ يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، إِلَّا أَنَّهُ يَجْعَلُ الْكَعْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا: وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ كَانَ يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَطْ وَبِالْمَدِينَةِ أَوَّلًا سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الصَّلَاحِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تَوَجُّهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ هَلْ كَانَ فَرْضًا/ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ، أَوْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَيَّرًا فِي تَوَجُّهِهِ إِلَيْهِ وَإِلَى غَيْرِهِ، فَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: قَدْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ فَرْضًا مُحَقَّقًا بِلَا تخيير.

واعلم أنه على أي الوجهين كان قد صَارَ مَنْسُوخًا، وَاحْتَجَّ الذَّاهِبُونَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِالْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 115] وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُخَيَّرًا فِي التَّوَجُّهِ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَا رَوَى أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي كِتَابِ «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» : أَنَّ نَفَرًا قَصَدُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ لِلْبَيْعَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ فِيهِمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ، فَتَوَجَّهَ بِصَلَاتِهِ إِلَى الْكَعْبَةِ فِي طَرِيقِهِ، وَأَبَى الْآخَرُونَ وَقَالُوا: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَوَجَّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَمَّا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ- يَعْنِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ- لَوْ ثَبَتَّ عَلَيْهَا أَجْزَأَكَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِاسْتِئْنَافِ الصَّلَاةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا مُخَيَّرِينَ، وَاحْتَجَّ الذَّاهِبُونَ إِلَى الْقَوْلِ الثَّانِي بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَرْتَضِي الْقِبْلَةَ الْأُولَى، فَلَوْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ مَا كَانَ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا فَحَيْثُ تَوَجَّهَ إِلَيْهَا مَعَ أَنَّهُ كَانَ مَا يَرْتَضِيهَا عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمَشْهُورُ أَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِنَّمَا صَارَ مَنْسُوخًا بِالْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: التَّوَجُّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ صَارَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ صَارَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ وَالْأَثَرِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلًا قَوْلَهُ: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ثم ذكر بعد: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [البقرة: 142] ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَهَذَا التَّرْتِيبُ يَقْتَضِي صِحَّةَ الْمَذْهَبِ الَّذِي قُلْنَاهُ بِأَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ صَارَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مُتَأَخِّرًا فِي النُّزُولِ وَالدَّرَجَةِ عَنْ قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ فِي التَّرْتِيبِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَثَبَتَ مَا قُلْنَاهُ، وَأَمَّا الْأَثَرُ فما روي عن ابن عباس أَمْرَ الْقِبْلَةِ أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالْأَمْرُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْقُرْآنِ، إِنَّمَا الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ نَاسِخًا لِذَلِكَ، لَا لِلْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ فَلَنُعْطِيَنَّكَ وَلَنُمَكِّنَنَّكَ مِنِ اسْتِقْبَالِهَا مِنْ قَوْلِكَ وَلَّيْتُهُ كَذَا، إذا جعلته والياً له، أو فلنجعلنك تلي سمتها دون سمة بَيْتِ الْمَقْدِسِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: تَرْضاها فِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: تَرْضَاهَا تُحِبُّهَا وَتَمِيلُ إِلَيْهَا، لِأَنَّ الْكَعْبَةَ/ كَانَتْ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِهَا بِحَسَبِ مَيْلِ الطَّبْعِ، قَالَ الْقَاضِي: هَذَا لَا يَجُوزُ فَإِنَّهُ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً يَمِيلُ طَبْعُكَ إِلَيْهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي حِكْمَتِهِ تَعَالَى فِيمَا يُكَلِّفُ، وَيَقْدَحُ فِي حَالِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيمَا يُرِيدُهُ فِي حَالِ التَّكْلِيفِ، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الطَّعْنَ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ لَوْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّا حَوَّلْنَاكَ إِلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي مَالَ طَبْعُكَ إِلَيْهَا بِمُجَرَّدِ مَيْلِ طَبْعِكَ فَأَمَّا لَوْ قَالَ: إِنَّا حَوَّلْنَاكَ إِلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي مَالَ طَبْعُكَ إِلَيْهَا لِأَجْلِ أَنَّ الْحِكْمَةَ وَالْمَصْلَحَةَ وَافَقَتْ مَيْلَ طَبْعِكَ فَأَيُّ ضَرَرٍ يَلْزَمُ مِنْهُ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» فَكَانَ طَبْعُهُ يَمِيلُ إِلَى الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ كَانَتْ مُوَافِقَةً لِذَلِكَ. وَثَانِيهَا: قِبْلَةً

تَرْضاها أَيْ تُحِبُّهَا بِسَبَبِ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْأَصَمُّ: أَيْ كُلَّ جِهَةٍ وَجَّهَكَ اللَّهُ إِلَيْهَا فَهِيَ لَكَ رِضًا لَا يَجُوزُ أَنْ تَسْخَطَ، كَمَا فَعَلَ مَنِ انْقَلَبَ على عقيبه مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا، فَلَمَّا تَحَوَّلَتِ الْقِبْلَةُ ارْتَدُّوا. وَرَابِعُهَا: تَرْضاها أَيْ تَرْضَى عَاقِبَتَهَا لِأَنَّكَ تَعْرِفُ بِهَا مَنْ يَتَّبِعُكَ لِلْإِسْلَامِ، فَمَنْ يَتَّبِعُكَ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ مَالٍ يَكْتَسِبُهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ مِنَ الْوَجْهِ هَاهُنَا جُمْلَةُ بَدَنِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِجُمْلَتِهِ لَا بِوَجْهِهِ فَقَطْ وَالْوَجْهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ نَفْسُ الشَّيْءِ لِأَنَّ الْوَجْهَ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ وَلِأَنَّ بِالْوَجْهِ تُمَيَّزُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ بَعْضٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْ كُلِّ الذَّاتِ بِالْوَجْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الشَّطْرُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَقَعُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: النِّصْفُ يُقَالُ: شَطَرْتُ الشَّيْءَ أَيْ جَعَلْتُهُ نِصْفَيْنِ، وَيُقَالُ فِي الْمَثَلِ أَجْلِبُ جَلْبًا لَكَ شَطْرُهُ أَيْ نِصْفُهُ. وَالثَّانِي: نَحْوَهُ وَتِلْقَاءَهُ وِجْهَتَهُ، وَاسْتَشْهَدَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ «الرِّسَالَةِ» على هذا بأبيات أربعة: قال خقاف بْنُ نُدْبَةَ: أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَمْرًا رَسُولًا ... وَمَا تُغْنِي الرِّسَالَةُ شَطْرَ عَمْرِو وَقَالَ سَاعِدَةُ بن جؤبة: أَقُولُ لِأُمِّ زِنْبَاعٍ: أَقِيمِي ... صُدُورَ الْعِيسِ شَطْرَ بَنِي تَمِيمِ وَقَالَ لَقِيطٌ الْإِيَادِيُّ: وَقَدْ أَظَلَّكُمُ مِنْ شَطْرِ شِعْرِكُمُ ... هَوْلٌ لَهُ ظُلَمٌ يَغْشَاكُمُ قِطَعَا وَقَالَ آخَرُ: إِنَّ الْعَسِيرَ بِهَا دَاءٌ مُخَامِرُهَا ... فَشَطْرُهَا بَصَرُ الْعَيْنَيْنِ مَسْحُورُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُرِيدُ تِلْقَاءَهَا بَصَرُ الْعَيْنَيْنِ مَسْحُورٌ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، وَاخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ: أَنَّ الْمُرَادَ جِهَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَتِلْقَاءَهُ وَجَانِبَهُ، قَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ/ تِلْقَاءَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْجُبَّائِيِّ وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الشَّطْرِ هَاهُنَا: وَسَطُ الْمَسْجِدِ وَمُنْتَصَفُهُ لِأَنَّ الشَّطْرَ هو النصف، والكعبة واقعة في نصف المسجد من جميع الجوانب، فلما كان الجواب هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ وَاقِعَةً في الْمَسْجِدِ حَسُنَ مِنْهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يَعْنِي النِّصْفَ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَكَأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ بُقْعَةِ الْكَعْبَةِ، قَالَ الْقَاضِي: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْنَا وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُصَلِّيَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لَوْ وَقَفَ بِحَيْثُ يَكُونُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَسْجِدِ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ مُتَوَجِّهًا إِلَى مُنْتَصَفِ الْمَسْجِدِ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ الْكَعْبَةِ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ. الثَّانِي: أَنَّا لَوْ فَسَّرْنَا الشَّطْرَ بِالْجَانِبِ لَمْ يَبْقَ لِذِكْرِ الشَّطْرِ مَزِيدُ فَائِدَةٍ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَدْ حَصَلَتِ الْفَائِدَةُ الْمَطْلُوبَةُ، أَمَّا لَوْ فَسَّرْنَا الشَّطْرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ كَانَ لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ، فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: فَوَلِّ وَجْهَكَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ وُجُوبُ التَّوَجُّهِ

إِلَى مُنْتَصَفِهِ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا قِيلَ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَصَلَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ الزَّائِدَةُ، فَكَانَ حَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ أَوْلَى فَإِنْ قِيلَ: لَوْ حَمَلْنَا الشَّطْرَ عَلَى الْجَانِبِ يَبْقَى لِذِكْرِ الشَّطْرِ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: فَوَلِّ وَجْهَكَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، لَزِمَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، لِأَنَّ مَنْ فِي أَقْصَى الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُوَلِّيَ وَجْهَهُ الْمَسْجِدَ، أَمَّا إِذَا قَالَ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَيْ جَانِبَ الْمَسْجِدِ، دَخَلَ فِيهِ الْحَاضِرُونَ وَالْغَائِبُونَ قُلْنَا: هَذِهِ الْفَائِدَةُ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فَلَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ: شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ هَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الْوَجْهِ وَفِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ فَوَلِّ وَجْهَكَ نِصْفَ الْمَسْجِدِ وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالنِّصْفِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ النِّصْفِ وَبَيْنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي عَلَيْهِ يُقْبَلُ التَّنْصِيفُ وَالْكَلَامُ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ لَوْ حُمِلَ عَلَى الثَّانِي، إِلَّا أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أي شيء هو؟ فحكى فِي كِتَابِ «شَرْحِ السُّنَّةِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْبَيْتُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ، وَالْمَسْجِدُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْحَرَمِ وَالْحَرَمُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْقِبْلَةُ هِيَ الْكَعْبَةُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا أُخْرِجَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي قِبَلِ الْكَعْبَةِ وَقَالَ: هَذِهِ الْقِبْلَةُ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ الْكَثِيرَةُ فِي صَرْفِ الْقِبْلَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَفِي خَبَرِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: ثُمَّ صُرِفَ إِلَى الْكَعْبَةِ وَكَانَ يجب أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ وَفِي خَبَرِ ابْنِ عُمَرَ فِي صَلَاةِ أَهْلِ قُبَاءَ: فَأَتَاهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُوِّلَ إِلَى الْكَعْبَةِ وَفِي رِوَايَةِ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّه بْنِ أَنَسٍ: جَاءَ مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ فَنَادَى: إِنَّ الْقِبْلَةَ حُوِّلَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ وَهَكَذَا عَامَّةُ الرِّوَايَاتِ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ كُلُّهُ، قَالُوا: لِأَنَّ الْكَلَامَ يجب إجزاؤه على ظاهر لفظ إِلَّا إِذَا مَنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ، وَقَالَ/ آخَرُونَ: الْمُرَادُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْحَرَمُ كُلُّهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْإِسْرَاءِ: 1] وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا أُسْرِيَ بِهِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْحَرَمَ كُلَّهُ مُسَمًّى بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ: الْجَمَاعَةُ إِذَا صَلَّوْا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يُسْتَحِبُّ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ خَلْفَ الْمَقَامِ وَالْقَوْمُ يَقِفُونَ مُسْتَدِيرِينَ بِالْبَيْتِ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَقْرَبَ إِلَى الْبَيْتِ مِنَ الْإِمَامِ جَازَ، فَلَوِ امْتَدَّ الصَّفُّ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ مَنْ خَرَجَ عَنْ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَصِحُّ، لِأَنَّ عِنْدَهُ الْجِهَةَ كَافِيَةٌ وَهَذَا اخْتِيَارُ الشَّيْخِ الْغَزَالِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْإِحْيَاءِ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ وَالْقِيَاسُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّا دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ شَطْرِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جَانِبُهُ وَجَانِبُ الشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُحَاذِيًا لَهُ وَوَاقِعًا فِي سَمْتِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ: إِنَّ زَيْدًا وَلَّى وَجْهَهُ إِلَى جَانِبِ عَمْرٍو وَلَوْ قَابَلَ بِوَجْهِهِ وَجْهَهُ وَجَعَلَهُ مُحَاذِيًا لَهُ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَجْهُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى جَانِبِ الْمَشْرِقِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَجْهُ أَحَدِهِمَا مُحَاذِيًا لِوَجْهِ الْآخَرِ، لَا يُقَالُ: إِنَّهُ وَلَّى وَجْهَهُ إِلَى جَانِبِ عَمْرٍو فَثَبَتَ دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اسْتِقْبَالَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ وَاجِبٌ. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَا رَوَيْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْكَعْبَةِ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي قِبْلَةِ الْكَعْبَةِ وَقَالَ: هَذِهِ الْقِبْلَةُ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تُفِيدُ الْحَصْرَ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا قِبْلَةَ إِلَّا عَيْنُ الْكَعْبَةِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا فِي أَنَّ الْقِبْلَةَ

هِيَ الْكَعْبَةُ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَنَّ مُبَالَغَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ أَمْرٌ بَلَغَ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ وَالصَّلَاةُ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الدِّينِ وَتَوْقِيفُ صِحَّتِهَا عَلَى اسْتِقْبَالِ عَيْنِ الْكَعْبَةِ بِمَا يُوجِبُ حُصُولَ مَزِيدِ شَرَفِ الْكَعْبَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا وَلِأَنَّ كَوْنَ الْكَعْبَةِ قِبْلَةً أَمْرٌ مَعْلُومٌ، وَكَوْنَ غَيْرِهَا قِبْلَةً أَمْرٌ مَشْكُوكٌ، وَالْأَوْلَى رِعَايَةُ الِاحْتِيَاطِ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ تَوْقِيفُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِأُمُورٍ. الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يُوَلِّيَ وَجْهَهُ إِلَى جَانِبِهِ فَمَنْ وَلَّى وَجْهَهُ إِلَى الْجَانِبِ الَّذِي حَصَلَتِ الْكَعْبَةُ فِيهِ فَقَدْ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُسْتَقْبِلًا لِلْكَعْبَةِ أَمْ لَا فَوَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ» ، قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ كُلَّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَيْنَ مَشْرِقٍ وَمَغْرِبٍ فَهُوَ قِبْلَةٌ: لِأَنَّ جَانِبَ الْقُطْبِ الشَّمَالِيِّ يَصْدُقُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَهُوَ بِالِاتِّفَاقِ لَيْسَ بِقِبْلَةٍ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي هُوَ بَيْنَ مَشْرِقٍ مُعَيَّنٍ وَمَغْرِبٍ مُعَيَّنٍ قِبْلَةٌ وَنَحْنُ نَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْمَشْرِقِ الشِّتْوِيِّ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ الصَّيْفِيِّ فَإِنَّ ذَلِكَ قِبْلَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَشْرِقَ الشِّتْوِيَّ جَنُوبِيٌّ مُتَبَاعِدٌ عَنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ بِمِقْدَارِ الْمَيْلِ وَالْمَغْرِبَ الصَّيْفِيَّ شَمَالِيٌّ مُتَبَاعِدٌ عَنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ بِمِقْدَارِ الْمَيْلِ وَالَّذِي بَيْنَهُمَا هُوَ سَمْتُ مَكَّةَ قَالُوا: فَهَذَا الْحَدِيثُ بِأَنْ يَدُلَّ عَلَى مَذْهَبِنَا أَوْلَى مِنْهُ بِالدَّلَالَةِ عَلَى مَذْهَبِكُمْ أَمَّا فِعْلُ/ الصَّحَابَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ أَهْلَ مَسْجِدِ قُبَاءَ كَانُوا فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِالْمَدِينَةِ مُسْتَقْبِلِينَ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، مُسْتَدْبِرِينَ لِلْكَعْبَةِ، لِأَنَّ الْمَدِينَةَ بَيْنَهُمَا فَقِيلَ لَهُمْ: أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَاسْتَدَارُوا فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ دَلَالَةٍ، وَلَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَسُمِّيَ مَسْجِدُهُمْ بِذِي الْقِبْلَتَيْنِ، وَمُقَابَلَةُ الْعَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِأَدِلَّةٍ هَنْدَسِيَّةٍ يَطُولُ النَّظَرُ فِيهَا فَكَيْفَ أَدْرَكُوهَا عَلَى الْبَدِيهَةِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَفِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ. الثَّانِي: أَنَّ النَّاسَ مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَوُا الْمَسَاجِدَ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يُحْضِرُوا قَطُّ مُهَنْدِسًا عِنْدَ تَسْوِيَةِ الْمِحْرَابِ، وَمُقَابَلَةُ الْعَيْنِ لَا تُدْرَكُ إِلَّا بِدَقِيقِ نَظَرِ الْهَنْدَسَةِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَمِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: لَوْ كَانَ اسْتِقْبَالُ عَيْنِ الْكَعْبَةِ وَاجِبًا إِمَّا عِلْمًا أَوْ ظَنًّا، وَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاةُ أَحَدٍ قَطُّ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُحَاذَاةُ الْكَعْبَةِ مِقْدَارَ نَيْفٍ وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَهْلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَقِفُوا فِي مُحَاذَاةِ هَذَا الْمِقْدَارِ، بَلِ الْمَعْلُومُ أَنَّ الَّذِي يَقَعُ مِنْهُمْ فِي مُحَاذَاةِ هَذَا الْقَدْرِ الْقَلِيلِ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَثِيرٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ بِالْغَالِبِ، وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاةُ أَحَدٍ مِنْهُمْ لَا سِيَّمَا وَذَلِكَ الَّذِي وَقَعَ فِي مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي مُحَاذَاتِهَا، وَحَيْثُ اجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْكُلِّ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُحَاذَاةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فَإِنْ قِيلَ: الدَّائِرَةُ وَإِنْ كَانَتْ عَظِيمَةً إِلَّا أَنَّ جَمِيعَ النُّقَطِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَيْهَا تَكُونُ مُحَاذِيَةً لِمَرْكَزِ الدَّائِرَةِ فَالصُّفُوفُ الْوَاقِعَةُ فِي الْعَالَمِ بِأَسْرِهَا كَأَنَّهَا دَائِرَةٌ بِالْكَعْبَةِ، وَالْكَعْبَةُ كَأَنَّهَا نُقْطَةٌ لِتِلْكَ الدَّائِرَةِ إِلَّا أَنَّ الدَّائِرَةَ إِذَا صَغُرَتْ صَغُرَ التَّقَوُّسُ وَالِانْحِنَاءُ فِي جَمِيعِهَا، وَإِنِ اتَّسَعَتْ وَعَظُمَتْ لَمْ يَظْهَرِ التَّقَوُّسُ وَالِانْحِنَاءُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ قِسْمَيْهَا، بَلْ نَرَى كُلَّ قِطْعَةٍ مِنْهَا شَبِيهًا بِالْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ، فَلَا جَرَمَ صَحَّتِ الْجَمَاعَةُ بِصَفٍّ طَوِيلٍ فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يَزِيدُ طُولُهَا عَلَى أَضْعَافِ الْبَيْتِ، وَالْكُلُّ يُسَمَّوْنَ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى عَيْنِ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا: هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ وَلَكِنَّ الْقِطْعَةَ مِنَ الدَّائِرَةِ الْعَظِيمَةِ وَإِنْ كَانَتْ شَبِيهَةً بِالْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ فِي الْحِسِّ، إِلَّا أَنَّهَا لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ منحية فِي نَفْسِهَا، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فِي نَفْسِهَا مُسْتَقِيمَةً، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ قِطَعِ تِلْكَ الدَّائِرَةِ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الدَّائِرَةُ مُرَكَّبَةً مِنْ خُطُوطٍ مُسْتَقِيمَةٍ يَتَّصِلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَيَلْزَمُ أَنْ

تَكُونَ الدَّائِرَةُ إِمَّا مُضَلَّعَةً أَوْ خَطًّا مُسْتَقِيمًا وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ قِطْعَةٍ مِنَ الدَّائِرَةِ الْكَبِيرَةِ فَهِيَ فِي نَفْسِهَا مُنْحَنِيَةٌ، فَالصُّفُوفُ الْمُتَّصِلَةُ فِي أَطْرَافِ الْعَالَمِ إِنَّمَا يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُسْتَقْبِلًا لِعَيْنِ الْكَعْبَةِ لَوْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الصُّفُوفُ وَاقِعَةً عَلَى الْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ، بَلْ إِذَا حَصَلَ فِيهَا ذَلِكَ الِانْحِنَاءُ الْقَلِيلُ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الِانْحِنَاءَ الْقَلِيلَ الَّذِي لَا يَفِي بِإِدْرَاكِهِ الْحِسُّ الْبَتَّةَ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ التَّكْلِيفِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الصُّفُوفِ جَاهِلًا بِأَنَّهُ هَلْ هُوَ مُسْتَقْبِلٌ لِعَيْنِ الْكَعْبَةِ أَمْ لَا فَلَوْ كَانَ اسْتِقْبَالُ عَيْنِ الْكَعْبَةِ شرطاً لكان حصول هذا الشرط مجهولًا للكل، وَالشَّكُّ فِي حُصُولِ الشَّرْطِ يَقْتَضِي الشَّكَّ فِي حُصُولِ الْمَشْرُوطِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصُّفُوفِ شَاكًّا فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي/ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ الْبَتَّةَ، وَحَيْثُ اجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْعَيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لَا عِلْمًا وَلَا ظَنًّا، وَهَذَا كَلَامٌ بَيِّنٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ اسْتِقْبَالُ عَيْنِ الْكَعْبَةِ وَاجِبًا وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِالدَّلَالَةِ الْهَنْدَسِيَّةِ، وَمَا لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ تَعَلُّمُ الدَّلَالَةِ الْهَنْدَسِيَّةِ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ اسْتِقْبَالَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ فَإِنْ قِيلَ: عِنْدَنَا اسْتِقْبَالُ عَيْنِ الْجِهَةِ وَاجِبٌ ظَنًّا لَا يَقِينًا، وَالْمُفْتَقِرُ إِلَى الدَّلَائِلِ الْهَنْدَسِيَّةِ هُوَ الِاسْتِقْبَالُ يَقِينًا لَا ظَنًّا، قُلْنَا: لَوْ كَانَ اسْتِقْبَالُ عَيْنِ الْكَعْبَةِ وَاجِبًا لَكَانَ الْقَادِرُ عَلَى تَحْصِيلِ الْيَقِينِ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاكْتِفَاءُ بِالظَّنِّ، وَالرَّجُلُ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ تَعَلُّمِ الدَّلَائِلِ الْهَنْدَسِيَّةِ فَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ تِلْكَ الدَّلَائِلِ، وَلَمَّا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ اسْتِقْبَالَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ وَاجِبٌ. الثَّالِثُ: لَوْ كَانَ اسْتِقْبَالُ الْعَيْنِ وَاجِبًا إِمَّا عِلْمًا أَوْ ظَنًّا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ الظَّنِّ إِلَّا بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَمَارَاتِ، وَمَا لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ تَعَلُّمُ تِلْكَ الْأَمَارَاتِ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْعَيْنِ غَيْرُ وَاجِبٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ: اعْلَمْ أَنَّ الدَّلَائِلَ إِمَّا أَرْضِيَّةٌ وَهِيَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْجِبَالِ، وَالْقُرَى، وَالْأَنْهَارِ، أَوْ هَوَائِيَّةٌ وَهِيَ الِاسْتِدْلَالُ بِالرِّيَاحِ، أَوْ سَمَاوِيَّةٌ وهي النجوم. أما الأرضية والهوائية غير مَضْبُوطَةٍ ضَبْطًا كُلِّيًّا، فَرُبَّ طَرِيقٍ فِيهِ جَبَلٌ مُرْتَفِعٌ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى يَمِينِ الْمُسْتَقْبِلِ أَوْ شِمَالِهِ أَوْ قُدَّامَهُ أَوْ خَلْفَهُ، فَكَذَلِكَ الرِّيَاحُ قَدْ تَدُلُّ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ وَلَسْنَا نَقْدِرُ عَلَى اسْتِقْصَاءِ ذَلِكَ، إِذْ كُلُّ بَلَدٍ بِحُكْمٍ آخَرَ فِي ذَلِكَ. أَمَّا السَّمَاوِيَّةُ فَأَدِلَّتُهَا مِنْهَا تَقْرِيبِيَّةٌ وَمِنْهَا تَحْقِيقِيَّةٌ، أَمَّا التَّقْرِيبِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: هَذِهِ الْأَدِلَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ نَهَارِيَّةً أَوْ لَيْلِيَّةً، أَمَّا النَّهَارِيَّةُ فَالشَّمْسُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُرَاعَى قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنَ الْبَلَدِ أَنَّ الشَّمْسَ عِنْدَ الزَّوَالِ أَهِيَ بَيْنَ الْحَاجِبَيْنِ، أَمْ هِيَ عَلَى الْعَيْنِ الْيُمْنَى أَمِ الْيُسْرَى، أَوْ تَمِيلُ إِلَى الْجَبِينِ مَيْلًا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الشَّمْسَ لَا تَعْدُو فِي الْبِلَادِ الشَّمَالِيَّةِ هَذِهِ الْمَوَاقِعَ، وَكَذَلِكَ يُرَاعَى مَوْقِعُ الشَّمْسِ وَقْتَ الْعَصْرِ، وَأَمَّا وَقْتُ الْمَغْرِبِ فَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِمَوْضِعِ الْغُرُوبِ، وَهُوَ أَنْ يُعْرَفَ بِأَنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ عَنْ يَمِينِ الْمُسْتَقْبِلِ، أَوْ هِيَ مَائِلَةٌ إِلَى وَجْهِهِ أَوْ قَفَاهُ، وَكَذَلِكَ يُعْرَفُ وَقْتُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ بِمَوْضِعِ الشَّفَقِ، وَيُعْرَفُ وَقْتُ الصُّبْحِ بمشرق الشمس، فكأن الشَّمْسُ تَدُلُّ عَلَى الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلَكِنْ يَخْتَلِفُ حُكْمُ ذَلِكَ بِالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَإِنَّ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ كَثِيرَةٌ، وَكَذَلِكَ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي هَذَا الْبَابِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْبِلَادِ، وَأَمَّا اللَّيْلِيَّةُ فَهُوَ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى الْقِبْلَةِ بِالْكَوْكَبِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْجَدْيُ، فَإِنَّهُ كَوْكَبٌ كَالثَّابِتِ لَا تَظْهَرُ حَرَكَتُهُ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى قَفَا الْمُسْتَقْبِلِ أَوْ مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ

مِنْ ظَهْرِهِ، أَوْ مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ فِي الْبِلَادِ الشَّمَالِيَّةِ مِنْ مَكَّةَ، وَفِي الْبِلَادِ الْجَنُوبِيَّةِ مِنْهَا، كَالْيَمَنِ وَمَا وَرَاءَهَا يَقَعُ فِي مُقَابَلَةِ الْمُسْتَقْبِلِ فَلْيَعْلَمْ ذَلِكَ وَمَا عَرَفَهُ بِبَلَدِهِ فَلْيُعَوِّلْ عَلَيْهِ فِي الطَّرِيقِ كُلِّهِ، إِلَّا إِذَا طَالَ السَّفَرُ فَإِنَّ الْمَسَافَةَ إِذَا بَعُدَتِ اخْتَلَفَ مَوْقِعُ الشَّمْسِ، وَمَوْقِعُ الْقُطْرِ، / وَمَوْقِعُ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ فِي أَثْنَاءِ سَفَرِهِ إِلَى بَلَدٍ، فَيَنْبَغِي أن يسأل أهل البصرة أَوْ يُرَاقِبَ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ وَهُوَ مُسْتَقْبَلَ مِحْرَابِ جَامِعِ الْبَلَدِ حَتَّى يَتَّضِحَ لَهُ ذَلِكَ فَمَهْمَا تَعَلَّمَ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ فَلَهُ أَنْ يُعَوِّلَ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الطَّرِيقَةُ الْيَقِينِيَّةُ وَهِيَ الْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ فِي كُتُبِ الْهَيْئَةِ قَالُوا: سَمْتُ الْقِبْلَةِ نُقْطَةُ التَّقَاطُعِ بَيْنَ دَائِرَةِ الْأُفُقِ، وَبَيْنَ دَائِرَةٍ عَظِيمَةٍ تَمُرُّ بسمت رؤسنا ورؤوس أَهْلِ مَكَّةَ، وَانْحِرَافُ الْقِبْلَةِ قَوْسٌ مِنْ دَائِرَةِ الْأُفُقِ مَا بَيْنَ سَمْتِ الْقِبْلَةِ دَائِرَةُ نِصْفِ النَّهَارِ فِي بَلَدِنَا، وَمَا بَيْنَ سَمْتِ الْقِبْلَةِ وَمَغْرِبِ الِاعْتِدَالِ تَمَامُ الِانْحِرَافِ قَالُوا: وَيَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَةِ سَمْتِ الْقِبْلَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ طُولِ مَكَّةَ وَعَرْضِهَا، فَإِنْ كَانَ طُولُ الْبَلَدِ مُسَاوِيًا لِطُولِ مَكَّةَ وَعَرْضُهَا مُخَالِفٌ لِعَرْضِ مَكَّةَ، كَانَ سَمْتُ قِبْلَتِهَا عَلَى خَطِّ نِصْفِ النَّهَارِ فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ شَمَالِيًّا فَإِلَى الْجَنُوبِ وَإِنْ كَانَ جَنُوبِيًّا فَإِلَى الشَّمَالِيِّ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَرْضُ الْبَلَدِ مُسَاوِيًا لِعَرْضِ مَكَّةَ وَطُولُهُ مُخَالِفًا لِطُولِهَا فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ سَمْتَ قِبْلَةِ ذَلِكَ الْبَلَدِ عَلَى خَطِّ الِاعْتِدَالِ وَهُوَ ظَنٌّ خَطَأٌ وَقَدْ يُمْكِنُ أَيْضًا فِي الْبِلَادِ الَّتِي أَطْوَالُهَا وَعُرُوضُهَا مُخَالِفَةٌ لِطُولِ مَكَّةَ وَعَرْضِهَا، أَنْ يَكُونَ سَمْتُ قِبْلَتِهَا مطلع الاعتدال ومعربه وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِخْرَاجِ قَدْرِ الِانْحِرَافِ وَلِذَلِكَ طُرُقٌ أَسْهَلُهَا أَنْ يُعْرَفَ الجزء الذي يسامت رؤس أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ فَلَكِ الْبُرُوجِ وَهُوَ (زَيْحٌ) مِنَ الْجَوْزَاءِ (وَكَجٌّ ح) مِنْ السَّرَطَانِ فَيَضَعُ ذَلِكَ الْجُزْءَ عَلَى خَطٍّ وَسَطَ السَّمَاءِ فِي الِاسْطِرْلَابِ الْمَعْمُولِ لِعَرْضِ الْبَلَدِ، وَيُعَلِّمُ عَلَى الْمَرْئِيِّ عَلَامَةً، ثُمَّ يُدِيرُ الْعَنْكَبُوتَ إِلَى نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ إِنْ كَانَ الْبَلَدُ شَرْقِيًّا عَنْ مَكَّةَ كَمَا فِي بِلَادِ خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ بِقَدْرِ مَا بَيْنَ الطُّولَيْنِ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَجَرَةِ ثُمَّ يَنْظُرُ أَيْنَ وَقَعَ ذَلِكَ الْجُزْءُ مِنْ مُقَنْطَرَاتِ الِارْتِفَاعِ فَمَا كَانَ فَهُوَ الِارْتِفَاعُ الَّذِي عِنْدَهُ يُسَامِتُ ذَلِكَ الجزء رؤوس أَهْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ يَرْصُدُ مُسَامَتَةَ الشَّمْسِ ذَلِكَ الْجُزْءُ فَإِذَا انْتَهَى ارْتِفَاعُ الشَّمْسِ إِلَى ذَلِكَ الارتفاع فقد سامتت الشمس رؤس أَهْلِ مَكَّةَ فَيَنْصِبُ مِقْيَاسًا وَيَخُطُّ عَلَى ظِلِّ الْمِقْيَاسِ خَطًّا مِنْ مَرْكَزِ الْعَمُودِ إِلَى طَرَفِ الظِّلِّ فَذَلِكَ الْخَطُّ خَطُّ الظِّلِّ فَيَبْنِي عَلَيْهِ الْمِحْرَابَ فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي دَلَائِلَ الْقِبْلَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَعْرِفَةُ دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ فَرْضٌ عَلَى الْعَيْنِ أَمْ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا فَرْضٌ عَلَى الْعَيْنِ، لِأَنَّ كُلَّ مُكَلَّفٍ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالِاسْتِقْبَالِ وَلَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِقْبَالُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ مَعْرِفَةِ دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ، وَمَا لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اعلم أن قوله تعالى: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ عَامٌّ فِي الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، إِلَّا أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الِاسْتِقْبَالَ خَارِجَ الصَّلَاةِ غَيْرُ وَاجِبٍ، بَلْ إِنَّهُ طَاعَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «خَيْرُ الْمَجَالِسِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ» فَبَقِيَ أَنَّ وُجُوبَ الِاسْتِقْبَالِ مِنْ خَوَاصِّ الصَّلَاةِ، ثُمَّ نَقُولُ: الرَّجُلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَايِنًا لِلْقِبْلَةِ أَوْ غَائِبًا عَنْهَا، أَمَّا الْمُعَايِنُ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ، وَأَمَّا الْغَائِبُ فَإِمَّا أن يكون قادر عَلَى تَحْصِيلِ الْيَقِينِ أَوْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ الظَّنِّ أَوْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ الْيَقِينِ وَلَا عَلَى تَحْصِيلِ الظن فهذه أقسام ثلاثة: [أقسام الأشخاص بالنسبة إلى القبلة] الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْقَادِرُ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْغَائِبَ عَنِ الْقِبْلَةِ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى تَحْصِيلِ الْيَقِينِ بِجِهَةِ الْقِبْلَةِ إِلَّا بِالدَّلَائِلِ الْهَنْدَسِيَّةِ

وَمَا لَا سَبِيلَ إِلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ تَعَلُّمُ الدَّلَائِلِ الْهَنْدَسِيَّةِ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إِلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا: إِنَّ تَعَلُّمَهَا غَيْرُ وَاجِبٍ بَلْ رُبَّمَا قَالُوا: إِنَّ تَعَلُّمَهَا مَكْرُوهٌ أَوْ مُحَرَّمٌ وَلَا أَدْرِي مَا عُذْرُهُمْ فِي هَذَا؟ الْبَحْثُ الثَّانِي: الْمُصَلِّي إِذَا كَانَ بِأَرْضِ مَكَّةَ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ حَائِلٌ وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ؟ قَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» نُظِرَ إِنْ كَانَ الْحَائِلُ أَصْلِيًّا كَالْجِبَالِ فَلَهُ الِاجْتِهَادُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلِيًّا كَالْأَبْنِيَةِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: لَهُ الِاجْتِهَادُ لِأَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حَائِلًا يَمْنَعُ الْمُشَاهَدَةَ كَمَا فِي الْحَائِلِ الْأَصْلِيِّ. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ الِاجْتِهَادُ لِأَنَّ فَرْضَهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْيَقِينِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِ الْيَقِينِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكْتَفِيَ فِيهِ بِالظَّنِّ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ اللَّائِقُ بِمَسَاقِ الْآيَةِ، لِأَنَّهَا لَمَّا دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ التَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَالْمُكَلَّفُ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاكْتِفَاءُ بِالظَّنِّ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْيَقِينِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْقَادِرُ عَلَى تَحْصِيلِ الظَّنِّ دُونَ الْيَقِينِ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِتَحْصِيلِ هَذَا الظَّنِّ طُرُقًا: الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: الِاجْتِهَادُ وَظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْتَضِي أَنَّ الِاجْتِهَادَ يُقَدَّمُ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِ الْغَيْرِ وَهُوَ الْحَقُّ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: قوله تعالى: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الْحَشْرِ: 2] أَمْرٌ بِالِاعْتِبَارِ، وَالرَّجُلُ قَادِرٌ عَلَى الِاعْتِبَارِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ إِنَّمَا وَصَلَ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ بِالِاجْتِهَادِ، لِأَنَّهُ لَوْ عَرَفَ الْقِبْلَةَ بِالتَّقْلِيدِ أَيْضًا لَزِمَ إِمَّا التَّسَلْسُلُ أَوِ الدَّوْرُ وَهُمَا بَاطِلَانِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ آخِرَ الْأَمْرِ إِلَى الِاجْتِهَادِ فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ أَوْلَى أَمْ تَقْلِيدَ صَاحِبِ الِاجْتِهَادِ؟ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِأَنَّهُ إِذَا أَتَى بِالِاجْتِهَادِ فَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ احْتِمَالُ الخطأ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا قَلَّدَ صَاحِبُ الِاجْتِهَادِ فَقَدْ تَطَرَّقَ إِلَى عَمَلِهِ احْتِمَالُ الْخَطَأِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ طَرِيقَيْنِ فَأَقَلُّهُمَا خَطَأً أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا منه ما استطعتم» فههنا أُمِرَ بِالِاسْتِقْبَالِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الطَّلَبِ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ صَاحِبَ «التَّهْذِيبِ» ذَكَرَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي قَرْيَةٍ كَبِيرَةٍ فِيهَا مَحَارِيبُ مَنْصُوبَةٌ إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ وَجَدَ مِحْرَابًا أَوْ عَلَامَةً لِلْقِبْلَةِ فِي طَرِيقٍ هِيَ جَادَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهَا وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي الْجِهَةِ، قَالَ: لِأَنَّ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ كَالْيَقِينِ، أَمَّا فِي الِانْحِرَافِ يَمْنَةٌ أَوْ يَسْرَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ مَعَ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ وَكَانَ عَبْدُ اللَّه بْنُ الْمُبَارَكِ يَقُولُ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنَ الْحَجِّ: تَيَاسَرُوا يَا أَهْلَ مَرْوَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْبَرَهُ مُسْلِمٌ بِأَنْ قَالَ، رَأَيْتُ غَالِبَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ فَعَلَيْهِ قَبُولُهُ وَلَيْسَ هَذَا بِتَقْلِيدٍ، بَلْ هُوَ قَبُولُ الْخَبَرِ مِنْ أَهْلِهِ كَمَا فِي الْوَقْتِ، وَهُوَ مَا إِذَا/ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ: إِنِّي رَأَيْتُ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ أَوِ الشَّمْسَ قَدْ زَالَتْ يَجِبُ قَبُولُ قَوْلِهِ، هَذَا كُلُّهُ لَفْظُ صَاحِبِ «التَّهْذِيبِ» ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُشْكِلٌ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلتَّقْلِيدِ إِلَّا قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا شُبْهَةٍ، فَإِذَا قَبِلْنَا قَوْلَ الْغَيْرِ أَوْ فِعْلَهُ فِي تَعْيِينِ الْقِبْلَةِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا شُبْهَةٍ كَانَ هَذَا تَقْلِيدًا، وَنَحْنُ قَدْ ذَكَرْنَا الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الِاجْتِهَادِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِالِاجْتِهَادِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ جَوَّزَ الْمُخَالَفَةَ فِي الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ بِنَاءً عَلَى الِاجْتِهَادِ فَنَقُولُ: هُوَ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِ الظَّنِّ بِنَاءً عَلَى الِاجْتِهَادِ الَّذِي يَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَجُوزَ لَهُ الْمُخَالَفَةُ كَمَا فِي الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ. وَثَالِثُهَا: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنَ الِاجْتِهَادِ، أَوْ مِنَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الِاجْتِهَادِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ مُعَاذًا لَمَّا قال: اجتهد برأي مدحه الرسول

عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّ الْقِبْلَةَ لَيْسَتْ فِي الْجِهَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَحَارِيبُ فَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّوَجُّهُ إِلَى ذَلِكَ الْمِحْرَابِ لَكَانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لِلتَّقْلِيدِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ وَأَنَّهُ خَطَأٌ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ، فَالْقَادِرُ عَلَى تَحْصِيلِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ بِالْأَمَارَاتِ كَيْفَ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مَحَارِيبِ الْبِلَادِ؟ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِتَرْجِيحِ مَحَارِيبِ الْأَمْصَارِ عَلَى الْبِلَادِ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهَا كَالتَّوَاتُرِ مَعَ الِاجْتِهَادِ، فَوَجَبَ رُجْحَانُهُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا رَأَى الْمُؤَذِّنَ فَرَغَ من الأذان والإقامة وقد تقدم الإمام، فههنا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعَرُّفِ الْوَقْتِ فَكَذَا هَاهُنَا. الثَّالِثُ: أَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ رَضُوا بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَطَأً لَتَنَبَّهُوا لَهُ، وَلَوْ تَنَبَّهُوا لَهُ لَمَا رَضُوا بِهِ، فَهَذَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْجَانِبَيْنِ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِ الْغَيْرِ، مِثْلُ مَا إِذَا أَخْبَرَهُ عَدْلٌ عَنْ كَوْنِ الْقِبْلَةِ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ فَهَذَا يُفِيدُ ظَنَّ أَنَّ الْقِبْلَةَ هُنَاكَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ شَرْطَيْنِ: الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ، فَلَا عِبْرَةَ فِي هَذَا الْبَابِ بقول الكافر والمجنون ولا بعلمها، وَاخْتَلَفُوا فِي شَرَائِطَ ثَلَاثَةٍ. أَوَّلُهَا: الْبُلُوغُ. حَكَى الْخُيْضَرِيُّ نَصًّا عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الصَّبِيِّ، وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ أَيْضًا عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُقْبَلُ. وَثَانِيهَا: الْعَدَالَةُ قَالُوا: لَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْفَاسِقِ لِأَنَّهُ كَالشَّهَادَةِ، وَقِيلَ: يُقْبَلُ. وَثَالِثُهَا: الْعَدَدُ، فَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَهُ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ لَا سِيَّمَا الَّذِينَ اعْتَبَرُوا الْعَدَدَ فِي الرِّوَايَةِ أَيْضًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرِ الْعَدَدَ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ أَحْكَامٌ. أَوَّلُهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ يُفِيدُ ظَنًّا أَقْوَى كَانَ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْأَخْذِ بِقَوْلِ مَنْ يُفِيدُ ظَنَّا أَضْعَفَ مِثَالُهُ أَنَّ تَقْلِيدَ الْمُتَيَقِّنِ رَاجِحٌ عَلَى تَقْلِيدِ الظَّانِّ بِالِاجْتِهَادِ، وَتَقْلِيدَ الْمُجْتَهِدِ الظَّانِّ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ مَنْ قَلَّدَ غَيْرَهُ وَهَلُمَّ جَرَّا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْوَقْتِ، فَالْأَوْلَى لَهُ تَحْصِيلُ الِاجْتِهَادِ حَتَّى تَصِيرَ الصَّلَاةُ قَضَاءً أَوْ تَقْلِيدُ الْغَيْرِ حَتَّى تَبْقَى الصَّلَاةُ أَدَاءً فِيهِ تَرَدُّدٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ دَلَائِلَ الْقِبْلَةِ فَلَهُ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِ الْغَيْرِ حِينَ الصَّلَاةِ بَلْ يَجِبُ. الطَّرِيقُ الثَّالِثُ: إِنْ شَاهَدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِحْرَابًا مَنْصُوبًا جَازَ لَهُ التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ عَلَى التَّفْصِيلِ/ الَّذِي تَقَدَّمَ، أَمَّا إِذَا رَأَى الْقِبْلَةَ مَنْصُوبَةً فِي طَرِيقٍ يَقِلُّ فِيهِ مُرُورُ النَّاسِ أَوْ فِي طَرِيقٍ يَمُرُّ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَلَا يَدْرِي مَنْ نَصَبَهَا أَوْ رَأَى مِحْرَابًا فِي قَرْيَةٍ وَلَا يَدْرِي بَنَاهُ الْمُسْلِمُونَ أَوِ الْمُشْرِكُونَ أَوْ كَانَتْ قَرْيَةٌ صَغِيرَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ كَوْنُ أَهْلِهَا مُطَّلِعِينَ عَلَى دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ. الطَّرِيقُ الرَّابِعُ: مَا يَتَرَكَّبُ مِنَ الِاجْتِهَادِ وَقَوْلِ الْغَيْرِ، وَهُوَ أَنْ يُخْبِرَهُ إِنْسَانٌ بِمَوَاقِعِ الْكَوَاكِبِ وَكَانَ هُوَ عالماً بالاستدلال بها على القبلة، فههنا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِدْلَالُ بِمَا يَسْمَعُ إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ رُؤْيَتِهَا بِنَفْسِهِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الَّذِي عَجَزَ عَنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ، وَهُوَ الْكَائِنُ فِي الظُّلْمَةِ الَّتِي خَفِيَتِ الْأَمَارَاتُ بِأَسْرِهَا عَلَيْهِ أَوِ الْأَعْمَى الَّذِي لَا يَجِدُ مَنْ يُخْبِرُهُ، أَوْ تَعَارَضَتِ الْأَمَارَاتُ لَدَيْهِ وَعَجَزَ عَنِ التَّرْجِيحِ، وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الشَّخْصَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِالِاجْتِهَادِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ وَلَا أَمَارَةٍ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ مَنْفِيٌّ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أحد أمور ثلاثة: إما أن يقال التكاليف بِالصَّلَاةِ مَشْرُوطٌ بِالِاسْتِقْبَالِ، وَتَعَذُّرُ الشَّرْطِ يُوجِبُ سُقُوطَ التكليف بالمشروط، فههنا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ، أَوْ يُقَالُ: شَرْطُ الِاسْتِقْبَالِ قَدْ سَقَطَ عَنِ الْمُكَلَّفِ بِعُذْرٍ أَقَلَّ مِنْ هَذَا، وَهُوَ حَالُ الْمُسَابَقَةِ فَيَسْقُطُ هَاهُنَا أَيْضًا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالصَّلَاةِ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ شَرْطُ الِاسْتِقْبَالِ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُ يَأْتِي بِتِلْكَ الصَّلَاةِ إِلَى جَمِيعِ الْجِهَاتِ لِيَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ

بِيَقِينٍ، فَهَذِهِ هِيَ الْوُجُوهُ الْمُمْكِنَةُ، أَمَّا سُقُوطُ الصَّلَاةِ عَنْهُ فَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّا رَأَيْنَا فِي الشَّرْعِ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ صَحَّتْ بِدُونِ الِاسْتِقْبَالِ كَمَا فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ وَفِي النَّافِلَةِ، وَأَمَّا إِيجَابُ الصَّلَاةِ إِلَى جَمِيعِ الْجِهَاتِ فَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَلَيْسَ أَنَّ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ صلوات يوم وليلة ولا يدري عينها فإنها يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ بِأَسْرِهَا لِيَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ بِالْيَقِينِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ هَاهُنَا كَذَلِكَ؟ قَالُوا: وَلَمَّا بَطَلَ الْقِسْمَانِ تَعَيَّنَ الثَّالِثُ وَهُوَ التَّخْيِيرُ فِي جَمِيعِ الجهات. البحث الثاني: أنه إذا مال قبله إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْجِهَةَ أَوْلَى بِأَنْ تَكُونَ قِبْلَةً مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يكون ذلك الترجيح مبنياً على الاستدلال، بَلْ يَحْصُلُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَمَيْلِ الْقَلْبِ إِلَيْهِ فَهَلْ يُعَدُّ هَذَا اجْتِهَادًا، وَهَلِ الْمُكَلَّفُ مُكَلَّفٌ بِأَنْ يُعَوِّلَ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُؤْمِنُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» وَلِأَنَّ سَائِرَ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ لَمَّا انْسَدَّتْ وَجَبَ الِاكْتِفَاءُ بِهَذَا الْقَدْرِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: إِذَا أَدَّى هَذِهِ الصَّلَاةَ فَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ الْقَضَاءُ، لِأَنَّهُ أَدَّى وَظِيفَةَ الْوَقْتِ وَقَدْ صَحَّتْ مِنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَجِبُ الْإِعَادَةُ سَوَاءٌ بَانَ صَوَابُهُ أَوْ خَطَؤُهُ. / الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَيَتَوَجَّهُ إِلَى أَيِّ جَانِبٍ شَاءَ وَقَالَ مَالِكٌ: يُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْكَعْبَةِ الْمَكْتُوبَةَ لِأَنَّ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ لَا يَكُونُ مُتَوَجِّهًا إِلَى كُلِّ الْكَعْبَةِ، بَلْ يَكُونُ مُتَوَجِّهًا إِلَى بَعْضِ أَجْزَائِهَا، وَمُسْتَدْبِرًا عَنْ بَعْضِ أَجْزَائِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقْبِلًا لِكُلِّ الْكَعْبَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِاسْتِقْبَالِ الْبَيْتِ قَالَ: وَأَمَّا النَّافِلَةُ فَجَائِزَةٌ، لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ فِيهَا غَيْرُ وَاجِبٍ، حُجَّةُ الْجُمْهُورِ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَخَلَ الْكَعْبَةَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَبِلَالٌ فَأَغْلَقَهَا عَلَيْهِ وَمَكَثَ فِيهَا، قَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ عُمَرَ: فَسَأَلْتُ بِلَالًا حِينَ خَرَجَ: مَاذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، وَعَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ، وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ، ثُمَّ صَلَّى، وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْخَبَرِ ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُعَارِضُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ. وَثَانِيهَا: لَعَلَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ كَانَتْ نَافِلَةً، وَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ جَائِزٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَالِكًا خَالَفَ هَذَا الْخَبَرَ وَمُخَالَفَةُ الرَّاوِي وَإِنْ كَانَتْ لَا تُوجِبُ الطَّعْنَ فِي الْخَبَرِ إِلَّا أَنَّهَا تُفِيدُ نَوْعَ مَرْجُوحِيَّةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خَبَرٍ وَاحِدٍ خلى عَنْ هَذَا الطَّعْنِ، فَكَيْفَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقُرْآنِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الشَّيْخَيْنِ أَوْرَدَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابن جريح عَنْ عَطَاءٍ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي قِبَلِ الْكَعْبَةِ وَقَالَ: «هَذِهِ الْقِبْلَةُ» وَالتَّعَارُضُ حَاصِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ يَتَعَارَضَانِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذِهِ الْقِبْلَةُ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَوَجُّهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَمَنْ جَوَّزَ الصَّلَاةَ دَاخِلَ الْبَيْتِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بَلْ جَوَّزَ اسْتِدْبَارَهُ. وَالْجَوَابُ: عَنِ اسْتِدْلَالِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ نَقُولَ قَوْلُهُ: (وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ) إِمَّا أَنْ يَكُونَ صِيغَةَ عُمُومٍ أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كَانَ صِيغَةَ عُمُومٍ فَقَدْ تَنَاوَلَ الْإِنْسَانَ الَّذِي يَكُونُ فِي الْبَيْتِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ، فَالْآتِي بِهِ يَكُونُ خَارِجًا عَنِ الْعُهْدَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صِيغَةَ عُمُومٍ لَمْ تَكُنِ الآية متناولة

لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْبَتَّةَ، فَلَا تَدُلُّ عَلَى حُكْمِهَا لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ، ثُمَّ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ الْوَاحِدَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى كُلِّ الْبَيْتِ، بَلْ إِنَّمَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَيْتِ وَالَّذِي فِي الْبَيْتِ يَتَوَجَّهُ إِلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَيْتِ فَقَدْ كَانَ آتِيًا بِمَا أُمِرَ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْكَعْبَةَ عِبَارَةٌ عَنْ أَجْسَامٍ مَخْصُوصَةٍ هِيَ السَّقْفُ وَالْحِيطَانُ وَالْبِنَاءُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْأَجْسَامَ حَاصِلَةٌ فِي أَحْيَازٍ مَخْصُوصَةٍ، فَالْقِبْلَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَحْيَازَ فَقَطْ، أَوْ تِلْكَ الْأَجْسَامَ فَقَطْ، أَوْ تِلْكَ الْأَجْسَامَ بِشَرْطِ حُصُولِهَا فِي تِلْكَ الْأَحْيَازِ لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ أَنَّهَا تِلْكَ الْأَجْسَامُ فَقَطْ، لِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ نُقِلَ تُرَابُ الْكَعْبَةِ وَمَا فِي بِنَائِهَا مِنَ الْأَحْجَارِ وَالْخَشَبِ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ وَبُنِيَ بِهِ بِنَاءٌ وَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ أَحَدٌ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَلَا جائز أن يقال: / إنها تلك الْأَجْسَامِ بِشَرْطِ كَوْنِهَا فِي تِلْكَ الْأَحْيَازِ لِأَنَّ الْكَعْبَةَ لَوِ انْهَدَمَتْ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، وَأُزِيلَ عَنْ تِلْكَ الْأَحْيَازِ تِلْكَ الْأَحْجَارُ وَالْخَشَبُ، وَبَقِيَتِ الْعَرْصَةُ خَالِيَةً، فَإِنَّ أَهْلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إِذَا تَوَجَّهُوا إِلَى ذَلِكَ الْجَانِبِ صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ وَكَانُوا مُسْتَقْبِلِينَ لِلْقِبْلَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْقِبْلَةُ هُوَ ذَلِكَ الْخَلَاءُ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ تِلْكَ الْأَجْسَامُ، وَهَذَا الْمَعْنَى كَمَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَهُوَ أَيْضًا مُطَابِقٌ لِلْآيَةِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ اسْمٌ لِذَلِكَ الْبِنَاءِ الْمُرَكَّبِ مِنَ السَّقْفِ وَالْحِيطَانِ وَالْمِقْدَارُ وَجِهَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُوَ الْأَحْيَازُ الَّتِي حَصَلَتْ فِيهَا تِلْكَ الْأَجْسَامُ، فَإِذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّوَجُّهِ إِلَى جِهَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، كَانَتِ الْقِبْلَةُ هُوَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنَ الْخَلَاءِ وَالْفَضَاءِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوِ انْهَدَمَتِ الْكَعْبَةُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، فَالْوَاقِفُ فِي عَرْصَتِهَا لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ، وَذَكَرَ ابْنُ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَصِحُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالِاخْتِيَارُ عِنْدِي وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْقِبْلَةَ هِيَ ذَلِكَ الْقَدْرُ الْمُعَيَّنُ مِنَ الْخَلَاءِ، وَالْوَاقِفُ فِي الْعَرْصَةِ مُسْتَقْبِلٌ لِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْخَلَاءِ فَيَكُونُ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَقَالُوا أَيْضًا: الْوَاقِفُ عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي قُبَالَتِهِ جِدَارٌ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ إِلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ عِنْدِي، لِأَنَّهُ مُسْتَقْبِلٌ لِذَلِكَ الْخَلَاءِ وَالْفَضَاءِ الَّذِي هُوَ الْقِبْلَةُ فَوَجَبَ أَنْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: لَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِقْبَالِ، وَثَبَتَ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ إِلَى الْجِهَاتِ إِلَّا بِالِاجْتِهَادِ، وَثَبَتَ بِالْعَقْلِ أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، لَزِمَ الْقَطْعُ بِوُجُوبِ الِاجْتِهَادِ وَالِاجْتِهَادُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الظَّنِّ، فَكَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى التَّكْلِيفِ بِالظَّنِّ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ التَّكْلِيفَ بِالظَّنِّ وَاقِعٌ فِي الْجُمْلَةِ وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ إِثْبَاتٌ لِلْقِيَاسِ بِالْقِيَاسِ وَذَلِكَ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ نِيَّةُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِقْبَالِ وَالْآتِي بِهِ آتٍ بِمَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ نِيَّةٌ أُخْرَى، كَمَا فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَطَهَارَةِ الْمَكَانِ وَالثَّوْبِ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ سَاقِطٌ عِنْدَ قِيَامِ الْعُذْرِ كَمَا فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ، وَيَلْحَقُ بِهِ الْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ مِنَ الْعَدُوِّ، أَوْ مِنَ السَّبُعِ، أَوْ مِنَ الْجَمَلِ الصَّائِلِ، أَوْ عِنْدَ الْخَطَأِ فِي الْقِبْلَةِ بِسَبَبِ التَّيَامُنِ وَالتَّيَاسُرِ، أَوْ فِي أَدَاءِ النَّوَافِلِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ إِذَا أَدَّى الصَّلَاةَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ، وَكَذَا الْمُجْتَهِدُ إِذَا كان لَهُ تَعَيُّنُ الْخَطَأِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى جِهَةٍ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرِفَ وَيَتَحَوَّلَ وَيَبْنِيَ

لِأَنَّ عَارِضَ الِاجْتِهَادِ لَا يُبْطِلُ السَّابِقَ، فَكَذَلِكَ فِيمَنْ صَدَّقَ مُخْبِرًا، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ نَفْسُهُ إِلَيْهِ أَسْكَنُ فَأَخْبَرَهُ بِخِلَافِهِ، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسَائِلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي حُكْمِ الاستقبال والله أعلم. / قوله تعالى: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا لَيْسَ بِتَكْرَارٍ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ خِطَابٌ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لا مع الأمة، وقوله: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ خِطَابٌ مَعَ الْكُلِّ. وثانيها: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُولَى مُخَاطَبَتُهُمْ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ خَاصَّةً، وَقَدْ كَانَ مِنَ الْجَائِزِ لَوْ وَقَعَ الِاخْتِصَارُ عليه أن يظن أن هذه القبلة قبلة لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ خَاصَّةً، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ أَيْنَمَا حَصَلُوا مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ يَجِبُ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا نَحْوَ هَذِهِ الْقِبْلَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ يَعْنِي: وَأَيْنَمَا كُنْتُمْ وَمَوْضِعُ (كُنْتُمْ) مِنَ الْإِعْرَابِ جَزْمٌ بِالشَّرْطِ كَأَنَّهُ قِيلَ: حَيْثُمَا تَكُونُوا، وَالْفَاءُ جَوَابٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الْيَهُودُ خَاصَّةً، وَالْكِتَابُ هُوَ التَّوْرَاةُ عَنِ السُّدِّيِّ، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ أَحْبَارُ الْيَهُودِ وَعُلَمَاءُ النَّصَارَى وَهُوَ الصَّحِيحُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ وَالْكِتَابُ الْمُتَقَدِّمُ هُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا عَدَدًا قَلِيلًا لِأَنَّ الْكَثِيرَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكِتْمَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَنَّهُ الْحَقُّ رَاجِعٌ إِلَى مَذْكُورٍ سَابِقٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الرَّسُولِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْقِبْلَةِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْقَوْمَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الرَّسُولَ مَعَ شَرْعِهِ وَنُبُوَّتِهِ حَقٌّ فَيَشْتَمِلُ ذَلِكَ عَلَى أَمْرِ الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى هَذَا التَّكْلِيفِ الْخَاصِّ بِالْقِبْلَةِ، وَأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ الْأَخِيرُ أَقْرَبُ لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِالْكَلَامِ إِذِ الْمَقْصُودُ بِالْآيَةِ ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُمْ كَيْفَ عَرَفُوا ذَلِكَ؟ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ كَانُوا عَرَفُوا فِي كُتُبِ أَنْبِيَائِهِمْ خَبَرَ الرَّسُولِ وَخَبَرَ الْقِبْلَةِ وَأَنَّهُ يُصَلِّي إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكَعْبَةَ هِيَ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى قِبْلَةً لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَمَتَى عَلِمُوا نُبُوَّتَهُ فَقَدْ عَلِمُوا لَا مَحَالَةَ أَنَّ كُلَّ مَا أَتَى بِهِ فَهُوَ حَقٌّ فَكَانَ هَذَا التَّحْوِيلُ حَقًّا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابن عمار وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: تَعْمَلُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْيَهُودِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّا إِنْ جَعَلْنَاهُ خِطَابًا لِلْمُسْلِمِينَ فَهُوَ وَعْدٌ لَهُمْ وَبِشَارَةٌ أَيْ لَا يَخْفَى على جدكم واجتهادهم فِي قَبُولِ الدِّينِ، فَلَا أُخِلُّ بِثَوَابِكُمْ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَلَامًا مَعَ الْيَهُودِ فَهُوَ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ لَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ بِغَافِلٍ عَنْ مكافأتهم ومجازاتهم وإن لم يجعلها لَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَحْسَبَنَّ/ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إِبْرَاهِيمَ: 42]

[سورة البقرة (2) : آية 145]

[سورة البقرة (2) : آية 145] وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْقِبْلَةَ حَقٌّ، بين بعد ذلك صِفَتَهُمْ لَا تَتَغَيَّرُ فِي الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْمُعَانَدَةِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فَقَالَ الْأَصَمُّ: الْمُرَادُ عُلَمَاؤُهُمُ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: 144] وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ فَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الْهَوَى، وَمَنِ اعْتَقَدَ فِي الْبَاطِلِ أَنَّهُ حَقٌّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَى النَّفْسِ، بَلْ يَكُونُ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلْهُدَى فَأَمَّا الَّذِينَ يَعْلَمُونَ بِقُلُوبِهِمْ، ثُمَّ يُنْكِرُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَهُمُ الْمُتَّبِعُونَ لِلْهَوَى. وَثَانِيهَا: أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ لَا يَتَنَاوَلُ عَوَامَّهُمْ بَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْعُلَمَاءِ، وَمَا بَعْدَهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [الأنعام: 20] مُخْتَصٌّ بِالْعُلَمَاءِ أَيْضًا إِذْ لَوْ كَانَ عَامًّا فِي الْكُلِّ امْتَنَعَ الْكِتْمَانُ لِأَنَّ الْجَمْعَ الْعَظِيمَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْكِتْمَانُ، وَإِذَا كَانَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا خَاصًّا فَكَذَا هَذِهِ الْآيَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى قَوْلِهِمْ، وَمُسْتَمِرُّونَ عَلَى بَاطِلِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَنْ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ بِسَبَبِ شَيْءٍ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُعَانِدِ اللَّجُوجِ، لَا شَأْنَ الْمُعَانِدِ الْمُتَحَيِّرِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعُمُومِ لَصَارَتِ الْآيَةُ كَذِبًا لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبِعَ قَبِلْتَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ جَمِيعُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ صِيغَةُ عُمُومٍ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، ثُمَّ أَجَابُوا عَنِ الْحُجَّةِ الْأُولَى أَنَّ صَاحِبَ الشُّبْهَةِ صَاحِبُ هَوًى فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّهُ مَا تَمَّمَ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ فَإِنَّهُ لَوْ أَتَى بِتَمَامِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لَوَصَلَ إِلَى الْحَقِّ، فَحَيْثُ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ تَرَكَ النَّظَرَ التَّامَّ بِمُجَرَّدِ الْهَوَى، وَأَجَابُوا عَنِ الْحُجَّةِ الثَّانِيَةِ بِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُرَادَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بَعْضُهُمْ، وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ كُلُّهُمْ، وَأَجَابُوا عَنِ الْحُجَّةِ الثَّالِثَةِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمَّا كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَى الشُّبُهَاتِ، وَالْعَوَامَّ كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَى اتِّبَاعِ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ كَانَ/ الْإِصْرَارُ حَاصِلًا فِي الْكُلِّ، وَأَجَابُوا عَنِ الْحُجَّةِ الرَّابِعَةِ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ بِكُلِّيَّتِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَقَوْلُنَا: كُلُّ الْيَهُودِ لَا يُؤْمِنُونَ مُغَايِرٌ لِقَوْلِنَا إِنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يُؤْمِنُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْكَعْبِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَقْدُورِ لُطْفٌ لِبَعْضِهِمْ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ فِي الْمَقْدُورِ لِهَؤُلَاءِ لُطْفٌ، لَكَانَ فِي جُمْلَةِ الْآيَاتِ مَا لَوْ أَتَاهُمْ بِهِ لَكَانُوا يُؤْمِنُونَ، فَكَانَ لَا يَصِحُّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَبُو مُسْلِمٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي عِبَادِهِ وَمَا يَفْعَلُونَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لَهُمْ فِيمَا يَرْتَكِبُونَ، فَإِنَّهُمْ مُسْتَطِيعُونَ لِأَنْ يَفْعَلُوا الْخَيْرَ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ وَيَتْرُكُوا ضِدَّهُ الَّذِي نُهُوا عَنْهُ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ قِبْلَتَهُ، فَلَوِ اتَّبَعُوا قِبْلَتَهُ لزم انقلاب

خَبَرِ اللَّهِ الصِّدْقِ كَذِبًا وَعِلْمِهِ جَهْلًا وَهُوَ مُحَالٌ، وَمُسْتَلْزِمُ الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَكَانَ ذَلِكَ مُحَالًا وَقَدْ أُمِرُوا بِهِ فَقَدْ أُمِرُوا بِالْمُحَالِ وَتَمَامُ الْقَوْلِ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَةِ: 6] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَنْ أَبَاطِيلِهِمْ بِسَبَبِ الْبُرْهَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِعْرَاضَهُمْ عَنْ قَبُولِ هَذَا الدِّينِ لَيْسَ عَنْ شُبْهَةٍ يُزِيلُهَا بِإِيرَادِ الْحُجَّةِ، بَلْ هُوَ مَحْضُ الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ وَالْحَسَدِ، وَذَلِكَ لَا يَزُولُ بِإِيرَادِ الدَّلَائِلِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ قَالَ الْحَسَنُ وَالْجُبَّائِيُّ: أَرَادَ جَمِيعَهُمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى اتِّبَاعِ قِبْلَتِكَ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى [الْأَنْعَامِ: 35] وَقَالَ الْأَصَمُّ وَغَيْرُهُ: بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يُؤْمِنُ، قَالَ الْقَاضِي: إِنْ أُرِيدَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ كُلِّهِمُ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ وَالْعَوَامُّ فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ الْحَسَنِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْعُلَمَاءُ نَظَرْنَا فَإِنْ كَانَ فِي عُلَمَائِهِمُ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَدْ آمَنَ وَجَبَ أَيْضًا ذَلِكَ التَّأْوِيلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ قَدْ آمَنَ صَحَّ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي رُجُوعِ النَّفْيِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَلْيَقُ بِالظَّاهِرِ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: مَا تَبِعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ قِبْلَتَكَ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: «لَئِنْ» بِمَعْنَى «لَوْ» وَأُجِيبَ بِجَوَابِ لَوْ وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ خِلَافٌ فَقِيلَ: إِنَّهُمَا لَمَّا تَقَارَبَا اسْتُعْمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ، وَأُجِيبَ بِجَوَابِهِ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً [الرُّومِ: 51] ثُمَّ قَالَ: لَظَلُّوا عَلَى جَوَابِ: «لَوْ» وَقَالَ: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا [الْبَقَرَةِ: 103] ثُمَّ قَالَ: لَمَثُوبَةٌ عَلَى جَوَابِ: لَئِنْ وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ «لَوْ» لِلْمَاضِي «وَلَئِنْ» لِلْمُسْتَقْبَلِ هَذَا قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى مَوْضِعِهَا، وَإِنَّمَا الْحَقُّ فِي الْجَوَابِ هَذَا التَّدَاخُلُ لِدَلَالَةِ اللَّامِ عَلَى مَعْنَى الْقَسَمِ، فَجَاءَ الْجَوَابُ كَجَوَابِ الْقَسَمِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الْآيَةُ: وَزْنُهَا فَعْلَةٌ أَصْلُهَا: أَيَّةٌ، فَاسْتَثْقَلُوا التَّشْدِيدَ فِي الْآيَةِ فَأَبْدَلُوا مِنَ الْيَاءِ الْأُولَى أَلِفًا لِانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، وَالْآيَةُ الْحُجَّةُ وَالْعَلَامَةُ، وَآيَةُ الرَّجُلِ: شَخْصُهُ، وَخَرَجَ الْقَوْمُ/ بِآيَتِهِمْ جَمَاعَتِهِمْ، وَسُمِّيَتْ آيَةُ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا جَمَاعَةُ حُرُوفٍ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ لِانْقِطَاعِ الْكَلَامِ الَّذِي بَعْدَهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى انْقِطَاعِهَا عَنِ الْمَخْلُوقِينَ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ إِلَّا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: رُوِيَ أَنَّ يَهُودَ الْمَدِينَةِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ قَالُوا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ائْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أَتَى الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَالْأَقْرَبُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَا نَزَلَتْ فِي وَاقِعَةٍ مُبْتَدَأَةٍ بَلْ هِيَ مِنْ بَقِيَّةِ أَحْكَامِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ فَفِيهِ أَقْوَالٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ دَفْعٌ لِتَجْوِيزِ النَّسْخِ، وَبَيَانٌ أَنَّ هَذِهِ الْقِبْلَةَ لَا تَصِيرُ مَنْسُوخَةً. وَالثَّانِي: حَسْمًا لِأَطْمَاعِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ ثَبَتَ عَلَى قِبْلَتِنَا لَكُنَّا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ صَاحِبَنَا الَّذِي نَنْتَظِرُهُ، وَطَمِعُوا فِي رُجُوعِهِ إِلَى قِبْلَتِهِمْ. الثَّالِثُ: الْمُقَابَلَةُ يَعْنِي مَا هُمْ بِتَارِكِي بَاطِلِهِمْ وَمَا أَنْتَ بِتَارِكِ حَقِّكَ. الرَّابِعُ: أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْكَ اسْتِصْلَاحُهُمْ بِاتِّبَاعِ قِبْلَتِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ. الْخَامِسُ: وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ جَمِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِأَنَّ قِبْلَةَ الْيَهُودِ مُخَالِفَةٌ لِقِبْلَةِ النَّصَارَى، فَلِلْيَهُودِ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَلِلنَّصَارَى الْمَشْرِقُ، فَالْزَمْ قِبْلَتَكَ وَدَعْ أَقْوَالَهُمْ.

أَمَّا قَوْلُهُ: وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ قَالَ الْقَفَّالُ: هَذَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَالِ وَعَلَى الِاسْتِقْبَالِ، أَمَّا عَلَى الْحَالِ فَمِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ لَيْسُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى قِبْلَةٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى يُمْكِنَ إِرْضَاؤُهُمْ بِاتِّبَاعِهَا. الثَّانِي: أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِكَ مُتَبَايِنُونَ فِي الْقِبْلَةِ فَكَيْفَ يَدْعُونَكَ إِلَى تَرْكِ قِبْلَتِكَ مَعَ أَنَّهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ مُخْتَلِفُونَ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا إِبْطَالٌ لِقَوْلِهِمْ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ مُخَالَفَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ تَخْتَلِفَ قِبْلَتَاهُمَا لِلْمَصْلَحَةِ جَازَ أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ فِي ثَالِثٍ، وَأَمَّا حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ فَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَدِ اتَّبَعَ قِبْلَةَ الْآخَرِ لَكِنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ فَيُفْضِي إِلَى الْخُلْفِ، وَجَوَابُهُ أَنَّا إِنْ حَمَلْنَا أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى عُلَمَائِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ يَتَّبِعُ قِبْلَةَ الْآخَرِ فَالْخُلْفُ غَيْرُ لَازِمٍ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْكُلِّ قُلْنَا إِنَّهُ عَامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْهَوَى الْمَقْصُورُ هُوَ مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ الطَّبْعُ وَالْهَوَاءُ الْمَمْدُودُ مَعْرُوفٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُخَاطَبِ بِهَذَا الْخِطَابِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: الرَّسُولُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الرَّسُولُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ غَيْرُهُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَرَفَ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّهُ بِهَذَا الْخِطَابِ، وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ خَطَأٌ لِأَنَّ كُلَّ مَا لَوْ وَقَعَ مِنَ الرَّسُولِ لَقَبُحَ، وَالْإِلْجَاءُ عَنْهُ مُرْتَفِعٌ، فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْلُومُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ مَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ وَجَبَ أَنْ لَا يَنْهَاهُ عَنْهُ، لَكَانَ مَا عَلِمَ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ وَجَبَ أَنْ لَا يَأْمُرَهُ/ بِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ النَّبِيُّ مَأْمُورًا بِشَيْءٍ وَلَا مَنْهِيًّا عَنْ شَيْءٍ وَأَنَّهُ بِالِاتِّفَاقِ بَاطِلٌ. وَثَانِيهَا: لَوْلَا تَقَدُّمُ النَّهْيِ وَالتَّحْذِيرِ لَمَا احْتَرَزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الِاحْتِرَازُ مَشْرُوطًا بِذَلِكَ النَّهْيِ وَالتَّحْذِيرِ فَكَيْفَ يَجْعَلُ ذَلِكَ الِاحْتِرَازَ مُنَافِيًا لِلنَّهْيِ وَالتَّحْذِيرِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنَ النَّهْيِ وَالْوَعِيدِ أَنْ يَتَأَكَّدَ قُبْحُ ذَلِكَ فِي الْعَقْلِ، فَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ وَلَمَّا حَسُنَ مِنَ اللَّهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنْوَاعِ الدَّلَائِلِ الدالة على التوحيد بعد ما قَرَّرَهَا فِي الْعُقُولِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَأْكِيدُ الْعَقْلِ بِالنَّقْلِ فَأَيُّ بُعْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْغَرَضِ هاهنا. ورابعها: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاءِ: 29] مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ عِصْمَتِهِمْ فِي قَوْلِهِ: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النَّحْلِ: 50] وَقَالَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: 65] وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا أَشْرَكَ وَمَا مَالَ إليه، وقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَابِ: 1] وَقَالَ تَعَالَى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [الْقَلَمِ: 9] وَقَالَ: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [الْمَائِدَةِ: 67] وَقَوْلُهُ: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: 14] فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ غَيْرَهُ أَيْضًا مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ مِنْ خَوَاصِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: فَلِمَ خَصَّهُ بِالنَّهْيِ دُونَ غَيْرِهِ؟ فَنَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَكْثَرُ، كَانَ صُدُورُ الذَّنْبِ مِنْهُ أَقْبَحَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَكْثَرُ فَكَانَ حُصُولُ الذَّنْبِ مِنْهُ أَقْبَحَ فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّخْصِيصِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ مَزِيدَ الْحُبِّ يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِمَزِيدِ التَّحْذِيرِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الرَّجُلَ الْحَازِمَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى أَكْبَرِ أَوْلَادِهِ وَأَصْلَحِهِمْ فَزَجَرَهُ عَنْ أَمْرٍ بِحَضْرَةِ جَمَاعَةِ

[سورة البقرة (2) : الآيات 146 إلى 147]

أَوْلَادِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُنَبِّهًا بِذَلِكَ عَلَى عِظَمِ ذَلِكَ الْفِعْلِ إِنِ اخْتَارُوهُ وَارْتَكَبُوهُ وَفِي عَادَةِ وفي النَّاسِ أَنْ يُوَجِّهُوا أَمْرَهُمْ وَنَهْيَهُمْ إِلَى مَنْ هُوَ أَعْظَمُ دَرَجَةً تَنْبِيهًا لِلْغَيْرِ أَوْ تَوْكِيدًا، فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُقَرَّرَةٌ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ ليس المراد منه أن اتَّبَعَ أَهْوَاءَهُمْ فِي كُلِّ الْأُمُورِ فَلَعَلَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ يَتَّبِعُ أَهْوَاءَهُمْ، مِثْلُ تَرْكِ الْمُخَاشَنَةِ فِي الْقَوْلِ وَالْغِلْظَةِ فِي الْكَلَامِ، طَمَعًا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي اسْتِمَالَتِهِمْ، فَنَهَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ أَيْضًا وَآيَسَهُ مِنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى مَا قَالَ: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 74] . الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ ظَاهِرَ الْخِطَابِ وَإِنْ كَانَ مَعَ الرَّسُولِ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ غَيْرُهُ، وَهَذَا كَمَا أَنَّكَ إِذَا عَاتَبْتَ إِنْسَانًا أَسَاءَ عَبْدُهُ إِلَى عَبْدِكَ فَتَقُولُ لَهُ: لَوْ فَعَلْتَ مَرَّةً أُخْرَى مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ لَعَاقَبْتُكَ عَلَيْهِ عِقَابًا شَدِيدًا، فَكَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ لَا يَمِيلُ إِلَى مُخَاطَبَتِهِمْ وَمُتَابَعَتِهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَّةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّهُ نَفْسُ الْعِلْمِ جَاءَكَ، بَلِ الْمُرَادُ الدَّلَائِلُ وَالْآيَاتُ وَالْمُعْجِزَاتُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ طُرُقِ الْعِلْمِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ، وَاعْلَمْ/ أَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ هُوَ الْمُبَالَغَةُ وَالتَّعْظِيمُ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَظَّمَ أَمْرَ النُّبُوَّاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ بِأَنْ سَمَّاهَا بِاسْمِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ يُنَبِّهُكَ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ شَرَفًا وَمَرْتَبَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ تَوَجُّهَ الْوَعِيدِ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَشَدُّ مِنْ تَوَجُّهِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ فَالْمُرَادُ إِنَّكَ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَكُنْتَ بِمَنْزِلَةِ الْقَوْمِ فِي كُفْرِهِمْ وَظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ التهديد والزجر والله أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 146 الى 147] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَإِنْ كَانَ عَامًّا بِحَسَبِ اللَّفْظِ لَكِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، وَالْجَمْعُ الْعَظِيمُ الَّذِي عَلِمُوا شَيْئًا اسْتَحَالَ عَلَيْهِمُ الِاتِّفَاقُ عَلَى كِتْمَانِهِ فِي الْعَادَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ وَاحِدًا لَوْ دَخَلَ الْبَلَدَ وَسَأَلَ عَنِ الْجَامِعِ لَمْ يَجُزْ أَنْ لَا يلقاه أحد إلا بالكذب والكتمان، بل إنما يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى الْجَمْعِ الْقَلِيلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: يَعْرِفُونَهُ إِلَى مَاذَا يَرْجِعُ؟ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ يَعْرِفُونَهُ مَعْرِفَةً جَلِيَّةً، يُمَيِّزُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، لَا تَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ وَأَبْنَاءُ غَيْرِهِمْ. عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي بِابْنِي، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنِّي لَسْتُ أَشُكُّ فِي مُحَمَّدٍ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَأَمَّا وَلَدِي فَلَعَلَّ وَالِدَتَهُ خَانَتْ. فَقَبَّلَ عُمَرُ رَأَسَهُ، وَجَازَ الْإِضْمَارُ

وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ ذِكْرٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا يَلْتَبِسُ عَلَى السَّامِعِ وَمِثْلُ هَذَا الْإِضْمَارِ فِيهِ تَفْخِيمٌ وَإِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لِشُهْرَتِهِ مَعْلُومٌ بِغَيْرِ إِعْلَامٍ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَسْئِلَةٌ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِهَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ أَمْرِ الْقِبْلَةِ. الْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَمَّا حَذَّرَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اتِّبَاعِ الْيَهُودِ/ وَالنَّصَارَى بِقَوْلِهِ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة: 145] أَخْبَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِحَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: اعْلَمُوا يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ يَعْرِفُونَ مُحَمَّدًا وَمَا جَاءَ بِهِ وَصِدْقَهُ وَدَعْوَتَهُ وَقِبْلَتَهُ لَا يَشُكُّونَ فِيهِ كَمَا لَا يَشُكُّونَ فِي أَبْنَائِهِمْ. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الْأَعْرَافِ: 157] وَقَالَ: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصَّفِ: 6] إِلَّا أَنَّا نَقُولُ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ يعرفوه كما يعرفون أبناءهم، وذلك لأنه وَصْفَهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَتَى مُشْتَمِلًا عَلَى التَّفْصِيلِ التَّامِّ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِتَعْيِينِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالصِّفَةِ وَالْخِلْقَةِ والنسب والقبلة أَوْ هَذَا الْوَصْفُ مَا أَتَى مَعَ هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّفْصِيلِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمَقْدَمِهِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ مِنَ الْبَلَدِ الْمُعَيَّنِ مِنَ الْقِبْلَةِ الْمُعَيَّنَةِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُعَيَّنَةِ مَعْلُومًا لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ كَانَا مَشْهُورَيْنِ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمَا تَمَكَّنَ أَحَدٌ مِنَ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ مِنْ إِنْكَارِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِصِدْقِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّا نَقُولُ: هَبْ أَنَّ التَّوْرَاةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ سَيَكُونُ نَبِيًّا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُنْتَهِيًا فِي التَّفْصِيلِ إِلَى حَدِّ الْيَقِينِ، لَمْ يَلْزَمْ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِهِ الِاعْتِرَافُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْجَوَابُ: عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ لَوْ قُلْنَا بِأَنَّ الْعِلْمَ بِنُبُوَّتِهِ إِنَّمَا حَصَلَ مِنِ اشْتِمَالِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى وَصْفِهِ وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهِ بَلْ نَقُولُ أَنَّهُ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَظَهَرَتِ الْمُعْجِزَةُ عَلَى يَدِهِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ نَبِيًّا صَادِقًا فَهَذَا بُرْهَانٌ وَالْبُرْهَانُ يُفِيدُ الْيَقِينَ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الْعِلْمُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقوى وأظهر من العلم بنبوة الأنبياء وَأُبُوَّةِ الْآبَاءِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْتُمُوهُ كَانَ الْعِلْمُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمًا بُرْهَانِيًّا غَيْرَ مُحْتَمِلٍ لِلْغَلَطِ، أَمَّا الْعِلْمُ بِأَنَّ هَذَا ابْنِي فَذَلِكَ ليس علماً يقيناً بَلْ ظَنٌّ وَمُحْتَمِلٌ لِلْغَلَطِ، فَلِمَ شُبِّهَ الْيَقِينُ بِالظَّنِّ؟ وَالْجَوَابُ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْعِلْمَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشْبِهُ الْعِلْمَ بنبوة الْأَبْنَاءِ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ تَشْبِيهُ الْعِلْمِ بِأَشْخَاصِ الْأَبْنَاءِ وَذَوَاتِهِمْ فَكَمَا أَنَّ الْأَبَ يَعْرِفُ شَخْصَ ابْنِهِ مَعْرِفَةً لَا يُشْتَبَهُ هُوَ عِنْدَهُ بِغَيْرِهِ، فَكَذَا هَاهُنَا وَعِنْدَ هَذَا يَسْتَقِيمُ التَّشْبِيهُ لِأَنَّ هَذَا الْعِلْمَ ضَرُورِيٌّ وَذَلِكَ نَظَرِيٌّ وَتَشْبِيهُ النَّظَرِيِّ بِالضَّرُورِيِّ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ وَحُسْنَ الِاسْتِعَارَةِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لِمَ خَصَّ الْأَبْنَاءَ الذُّكُورَ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ الذُّكُورَ أَعْرَفُ وَأَشْهَرُ وَهُمْ بِصُحْبَةِ الْآبَاءِ أَلْزَمُ وَبِقُلُوبِهِمْ ألصق.

الْقَوْلُ الثَّانِي: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: يَعْرِفُونَهُ رَاجِعٌ إِلَى أَمْرِ الْقِبْلَةِ: أَيْ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَعْرِفُونَ أَمْرَ الْقِبْلَةِ الَّتِي نُقِلْتَ إِلَيْهَا كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ وَابْنِ زَيْدٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الضَّمِيرَ إِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى مَذْكُورٍ سَابِقٍ، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ الْعِلْمُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [البقرة: 145] وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ: النُّبُوَّةُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ الْعِلْمَ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، وَأَمَّا أَمْرُ الْقِبْلَةِ فَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ الْبَتَّةَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَخْبَرَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ أَمْرَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مَذْكُورٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَأَخْبَرَ فِيهِ أَنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَذْكُورَةٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَكَانَ صَرْفُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ إِلَى أَمْرِ النُّبُوَّةِ أَوْلَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ لَا تَدُلُّ أَوَّلَ دَلَالَتِهَا إِلَّا عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَمَّا أَمْرُ الْقِبْلَةِ فَذَلِكَ إِنَّمَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُ أَحَدُ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ صَرْفُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ إِلَى أَمْرِ النُّبُوَّةِ أَوْلَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَعَرَفُوا الرَّسُولَ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنُ بِهِ مِثْلُ عَبْدِ اللَّه بْنِ سَلَامٍ وَأَتْبَاعِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ، وَمَنْ آمَنَ لَا يُوصَفُ بِكِتْمَانِ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِذَلِكَ مَنْ بَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ، لَا جَرَمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فَوَصَفَ الْبَعْضُ بِذَلِكَ، وَدَلَّ بِقَوْلِهِ: لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ عَلَى سَبِيلِ الذَّمِّ، عَلَى أَنَّ كِتْمَانَ الْحَقِّ فِي الدِّينِ مَحْظُورٌ إِذَا أَمْكَنَ إِظْهَارُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَكْتُومِ فَقِيلَ: أَمْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، وقيل: أمر القبلة وقد استقصينا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ الْحَقُّ، وَقَوْلُهُ: مِنْ رَبِّكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بِغَيْرِ خَبَرٍ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ: مِنْ رَبِّكَ وَقَرَأَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ عَلَى الْإِبْدَالِ مِنَ الْأَوَّلِ، أَيْ يَكْتُمُونَ الْحَقَّ مِنْ رَبِّكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: الْحَقُّ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ لِلْعَهْدِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ أَيْ هَذَا الَّذِي يَكْتُمُونَهُ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، وَأَنْ يَكُونَ لِلْجِنْسِ عَلَى مَعْنَى: الْحَقُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ غَيْرِهِ يَعْنِي إِنَّ الْحَقَّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَالَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ وَمَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ كَالَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ فَهُوَ الْبَاطِلُ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فِي مَاذَا اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فِي أَنَّ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ عَلِمُوا صِحَّةَ نُبُوَّتِكَ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ عَانَدَ وَكَتَمَ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَثَانِيهَا: بَلْ يَرْجِعُ إِلَى أَمْرِ الْقِبْلَةِ. وَثَالِثُهَا: إِلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَشَرْعِهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ لِأَنَّ أَقْرَبَ الْمَذْكُورَاتِ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَإِذَا كَانَ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي النُّبُوَّةَ وَمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ/ قُرْآنٍ وَوَحْيٍ وَشَرِيعَةٍ، فَقَوْلُهُ: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إليه.

[سورة البقرة (2) : آية 148]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ نَهَاهُ عَنِ الِامْتِرَاءِ فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ شَاكًّا فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي بَيَانِ هذه المسألة والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 148] وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) اعْلَمْ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا في المراد بقوله: لِكُلٍ وفيه مسألتان: المسألة الأولى: إنما قال: لِكُلٍ وَلَمْ يَقُلْ لِكُلِّ قَوْمٍ أَوْ أُمَّةٍ لِأَنَّهُ مَعْرُوفُ الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ فَلَمْ يَضُرَّ حَذْفُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ كَقَوْلِهِ: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [الْمَائِدَةِ: 48] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِيهِ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْفِرَقِ، أَعْنِي الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ، قَالَ: لِأَنَّ فِي الْمُشْرِكِينَ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَيَتَقَرَّبُ بِذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُسَ: 18] . وَثَانِيهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ، أَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَهُمُ: الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَالْمُشْرِكُونَ غَيْرُ دَاخِلِينَ فِيهِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ لِكُلِّ قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وِجْهَةٌ أَيْ جِهَةٌ مِنَ الْكَعْبَةِ يُصَلِّي إِلَيْهَا: جَنُوبِيَّةٌ أَوْ شَمَالِيَّةٌ، أَوْ شَرْقِيَّةٌ أَوْ غَرْبِيَّةٌ، وَاحْتَجُّوا عَلَى هذا القول بوجهين. الأول: قوله تعالى: وَمُوَلِّيها يَعْنِي اللَّهُ مُوَلِّيهَا وَتَوْلِيَةُ اللَّهِ لَمْ تَحْصُلْ إِلَّا فِي الْكَعْبَةِ، لِأَنَّ مَا عَدَاهَا تَوْلِيَةُ الشَّيْطَانِ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْخَيْرَاتِ مَا لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ جِهَةٍ، وَالْجِهَاتُ الْمَوْصُوفَةُ بِالْخَيْرِيَّةِ لَيْسَتْ إِلَّا جِهَاتُ الْكَعْبَةِ. وَرَابِعُهَا: قَالَ آخَرُونَ: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ أَيْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرُّسُلِ وَأَصْحَابِ الشَّرَائِعِ جِهَةُ قِبْلَةٍ، فَقِبْلَةُ الْمُقَرَّبِينَ: الْعَرْشُ، وَقِبْلَةُ الرُّوحَانِيِّينَ: الْكُرْسِيُّ، وَقِبْلَةُ الْكَرُوبِيِّينَ: الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَقِبْلَةُ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ قَبْلَكَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وقبلتك الكعبة. أما قوله تعالى: جْهَةٌ ففيه مسألتان: المسألة الأولى: قرئ: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ عَلَى الْإِضَافَةِ وَالْمَعْنَى: وَكُلُّ وُجْهَةٍ هُوَ مُوَلِّيهَا فَزِيدَتِ اللَّامُ لِتَقَدُّمِ الْمَفْعُولِ كَقَوْلِكَ: لِزَيْدٍ ضَرَبْتَ، وَلِزَيْدٍ أَبُوهُ ضَارِبٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الفاء: وِجْهَةٌ، وَجِهَةٌ، وَوَجْهٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ فَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ الْمِنْهَاجُ وَالشَّرْعُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً [الْحَجِّ: 67] ، لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ [المائدة: 48] / شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [الْمَائِدَةِ: 48] وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ لِلشَّرَائِعِ مَصَالِحَ، فَلَا جَرَمَ اخْتَلَفَتِ الشَّرَائِعُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ، وَكَمَا اخْتَلَفَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ لَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا اخْتِلَافُهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الزَّمَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَلِهَذَا صَحَّ الْقَوْلُ بِالنَّسْخِ وَالتَّغْيِيرِ، وَقَالَ الْبَاقُونَ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَمْرُ الْقِبْلَةِ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: 144] فَهَذِهِ الْوِجْهَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَحْمُولَةً عَلَى ذلك. أما قوله: وَمُوَلِّيها فَفِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْكُلِّ، أَيْ وَلِكُلِّ أَحَدٍ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّي وَجْهَهُ إِلَيْهَا. الثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ اللَّهُ تَعَالَى يُوَلِّيهَا إِيَّاهُ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنْ نَقُولَ:

أن لكل منكم وجهة مِنَ الْقِبْلَةِ هُوَ مُوَلِّيهَا، أَيْ هُوَ مُسْتَقْبِلُهَا. وَمُتَوَجِّهٌ إِلَيْهَا لِصَلَاتِهِ الَّتِي هُوَ مُتَقَرِّبٌ بِهَا إِلَى رَبِّهِ، وَكُلٌّ يَفْرَحُ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ وَلَا يُفَارِقُهُ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى اجْتِمَاعِكُمْ عَلَى قبلة واحدة، مع لزوم الأديان المختلفة: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْ فَالْزَمُوا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ قِبْلَتَكُمْ فَإِنَّكُمْ عَلَى خَيْرَاتٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلِشَرَفِكُمْ بِقِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلِلثَّوَابِ الْعَظِيمِ الَّذِي تَأْخُذُونَهُ عَلَى انْقِيَادِكُمْ لِأَوَامِرِهِ فَإِنَّ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعَكُمْ، وَأَيْنَمَا تَكُونُوا مِنْ جِهَاتِ الْأَرْضِ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فِي صَعِيدِ الْقِيَامَةِ، فَيُفْصَلُ بَيْنَ الْمُحِقِّ مِنْكُمْ وَالْمُبْطِلِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَنِ الْمُطِيعُ مِنْكُمْ وَمَنِ الْعَاصِي، وَمَنِ الْمُصِيبُ مِنْكُمْ وَمَنِ الْمُخْطِئُ، إِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَادِرٌ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ: الْمُرَادُ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَجِهَةً قَدِ اخْتَارَهَا، إِمَّا بِشَرِيعَةٍ وَإِمَّا بِهَوًى، فَلَسْتُمْ تُؤْخَذُونَ بِفِعْلِ غَيْرِكُمْ، فَإِنَّمَا لَهُمْ أَعْمَالُهُمْ وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ، وَأَمَّا تَقْرِيرُ الْكَلَامِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَعْنِي أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قوله: وَمُوَلِّيها عائداً إلى الله تعالى فههنا وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ عَرَّفَنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْقِبْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةُ جِهَةٌ يُوَلِّيهَا اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ، إِذَا شَاءَ يَفْعَلُهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَعْلَمُهُ صَلَاحًا فَالْجِهَتَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي وَلَّى وُجُوهَ عِبَادِهِ إِلَيْهِمَا، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ بِالِانْقِيَادِ لِأَمْرِ اللَّهِ فِي الْحَالَتَيْنِ، فَإِنَّ انْقِيَادَكُمْ خَيْرَاتٌ لَكُمْ، وَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَى مَطَاعِنِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يقولون: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ [البقرة: 142] فَإِنَّ اللَّهَ يَجْمَعُكُمْ وَهَؤُلَاءِ السُّفَهَاءَ جَمِيعًا فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ، فَيَفْصِلُ بَيْنَكُمْ. الثَّانِي: أَنَّا إِذَا فسرنا قوله: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ بِجِهَاتِ الْكَعْبَةِ وَنَوَاحِيهَا، كَانَ الْمَعْنَى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ مِنْكُمْ مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ وِجْهَةٌ، أَيْ نَاحِيَةٌ من الكعبة: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهَا مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي، فَإِنَّهَا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ بَعْدَ أَنْ تُؤَدَّى إِلَى الْكَعْبَةِ فَهِيَ كَجِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ نِيَّاتُهُمْ فَهُوَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا وَيُثِيبُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ. أما قوله تعالى: وَمُوَلِّيها أَيْ هُوَ مُوَلِّيهَا وَجْهَهُ فَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْوَجْهِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ مُسْتَقْبِلُهَا وَقَالَ أَبُو مُعَاذٍ: مُوَلِّيهَا عَلَى مَعْنَى مُتَوَلِّيهَا يُقَالُ: قَدْ تَوَلَّاهَا وَرَضِيَهَا وَأَتْبَعَهَا، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ النَّخَعِيِّ: هُوَ مَوْلَاهَا وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الباقر وفي قراءة الباقين: وَلِّيها وَلِقِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ مَعْنَيَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا وَلَيْتَهُ فَقَدْ وَلَاكَ، لِأَنَّ مَعْنَى وَلَيْتَهُ أَيْ جَعَلْتَهُ/ بِحَيْثُ تَلِيهِ وَإِذَا صَارَ هَذَا بِحَيْثُ يَلِي ذَلِكَ فَذَاكَ أَيْضًا، يَلِي هَذَا، فَإِذَنْ قَدْ وَلِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [الْبَقَرَةِ: 37] ولا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: 124] وَالظَّالِمُونَ، وَهَذَا قَوْلُ الفراء. والثاني: وَمُوَلِّيها أي قد زُيِّنَتْ لَهُ تِلْكَ الْجِهَةُ وَحُبِّبَتْ إِلَيْهِ، أَيْ صارت بحيث يحبها ويرضاها. أما قوله: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ فَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِالْبَدَارِ إِلَى الطَّاعَةِ فِي وَقْتِهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَفْضَلُ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِوُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: أَنَّ الصَّلَاةَ خَيْرٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ» وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُهُ أَفْضَلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فَلَا أَقَلَّ مِنَ النَّدْبِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الْحَدِيدِ: 21] وَمَعْنَاهُ إِلَى مَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ وَالصَّلَاةُ مِمَّا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمُسَابَقَةُ إِلَيْهَا مَنْدُوبَةً. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الْوَاقِعَةِ: 10، 11] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ السَّابِقُونَ فِي الطَّاعَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّلَاةَ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُقَرَّبُ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا السَّابِقُونَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَمَالَ الْفَضْلِ مَنُوطٌ بالمسابقة. ورابعها:

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 133] وَالْمَعْنَى: وَسَارِعُوا إِلَى مَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّلَاةَ كَذَلِكَ، فَكَانَتِ الْمُسَارَعَةُ بِهَا مَأْمُورَةً. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ مَدَحَ الْأَنْبِيَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ [الْأَنْبِيَاءِ: 90] وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّلَاةَ مِنَ الْخَيْرَاتِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «خَيْرُ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ» . وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ إِبْلِيسَ فِي تَرْكِ الْمُسَارَعَةِ فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الْأَعْرَافِ: 12] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْمُسَارَعَةِ مُوجِبٌ لِلذَّمِّ. وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ [الْبَقَرَةِ: 238] وَالْمُحَافَظَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالتَّعْجِيلِ، لِيَأْمَنَ الْفَوْتَ بِالنِّسْيَانِ وَسَائِرِ الْأَشْغَالِ. وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى [طه: 84] فَثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِعْجَالَ أَوْلَى. وَتَاسِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا [الْحَدِيدِ: 10] فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسَابَقَةَ سَبَبٌ لِمَزِيدِ الْفَضِيلَةِ فَكَذَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. وَعَاشِرُهَا: مَا رَوَى عُمَرُ وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّه وَأَنَسٌ وَأَبُو مَحْذُورَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ وَفِي آخِرِهِ عَفْوُ اللَّهِ» قَالَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رِضْوَانُ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ عَفْوِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رِضْوَانُ اللَّهِ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْمُحْسِنِينَ وَالْعَفْوُ يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ عَنِ الْمُقَصِّرِينَ فَإِنْ قِيلَ هَذَا احْتِجَاجٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَأْثَمَ بِالتَّأْخِيرِ، وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْفِعْلَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ يُوجِبُ الْعَفْوَ عَنِ السَّيِّئَاتِ السَّابِقَةِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُوجِبُ رِضْوَانَ اللَّهِ، فَكَانَ التَّأْخِيرُ مُوجِبًا لِلْعَفْوِ وَالرِّضْوَانِ، وَالتَّقْدِيمُ مُوجِبًا لِلرِّضْوَانِ دُونَ الْعَفْوِ فَكَانَ التَّأْخِيرُ أَوْلَى قُلْنَا: هَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ/ تَأْخِيرُ الْمَغْرِبِ أَفْضَلَ وذلك لم يقله أحد. الثاني: أنه عدم المسارعة الِامْتِثَالِ يُشْبِهُ عَدَمَ الِالْتِفَاتِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْعِقَابَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَتَى بِالْفِعْلِ بَعْدَ ذَلِكَ سَقَطَ ذَلِكَ الِاقْتِضَاءُ. الثَّالِثُ: أَنَّ تَفْسِيرَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُبْطِلُ هَذَا التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرُوهُ. الْحَادِي عَشَرَ: رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَا عَلِيُّ ثَلَاثٌ لَا تُؤَخِّرْهَا: الصَّلَاةُ إِذَا أَتَتْ، وَالْجِنَازَةُ إِذَا حَضَرَتْ، وَالْأَيِّمُ إِذَا وجدت لها كفؤا» . الثاني عشر: روي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سَأَلَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: الصَّلَاةُ لِمِيقَاتِهَا الْأَوَّلِ. الثَّالِثَ عَشَرَ: رَوَى عن أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ وَقَدْ فَاتَهُ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ» . الرَّابِعَ عَشَرَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فَمَنْ كَانَ أَسْبَقَ فِي الطَّاعَةِ كَانَ هُوَ الَّذِي سَنَّ عَمَلَ الطَّاعَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثَوَابُهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَوَابِ الْمُتَأَخِّرِ. الْخَامِسَ عَشَرَ: إِنَّا تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّ أَحَدَ أَسْبَابِ الْفَضِيلَةِ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ الْمُسَابَقَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى وَقَعَ الْخِلَافُ الشَّدِيدُ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَسْبَقُ إِسْلَامًا أَمْ عَلِيًّا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُسَابَقَةَ فِي الطَّاعَةِ تُوجِبُ مَزِيدَ الْفَضْلِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا.

السَّادِسَ عَشَرَ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي خُطْبَةٍ لَهُ: «وَبَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ أَنْ تَشْتَغِلُوا» وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّلَاةَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ تَعْجِيلَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي أداء حقوق اللَّهِ تَعَالَى كَذَلِكَ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا رِعَايَةُ مَعْنَى التَّعْظِيمِ. الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنَّ الْمُبَادَرَةَ وَالْمُسَارَعَةَ إِلَى الصَّلَاةِ إِظْهَارٌ لِلْحِرْصِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالْوَلُوعِ بِهَا، وَالرَّغْبَةِ فِيهَا وَفِي التَّأْخِيرِ كَسَلٌ عَنْهَا، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ أَوْلَى. التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي تَعْجِيلِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ إِذَا أَدَّاهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ تَفَرَّغَتْ ذِمَّتُهُ، فَإِذَا أَخَّرَ فَرُبَّمَا عَرَضَ لَهُ شُغْلٌ فَمَنَعَهُ عَنْ أَدَائِهَا فَيَبْقَى الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ، فَالْوَجْهُ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ الِاحْتِيَاطُ لَا شَكَّ أَنَّهُ أَوْلَى. الْعِشْرُونَ: أَجْمَعْنَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ أَنَّ تَعْجِيلَهُ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرِيضَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَيُؤَخِّرَ الصَّوْمَ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَجِّلَ وَيَصُومَ فِي الْحَالِ، ثُمَّ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ التَّعْجِيلَ فِي الصَّوْمِ أَفْضَلُ عَلَى مَا قَالَ: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 184] فَوَجَبَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ التَّعْجِيلُ فِي الصَّلَاةِ أَوْلَى فَإِنْ قِيلَ: تَنْتَقِضُ هَذِهِ الدَّلَائِلُ الْقِيَاسِيَّةُ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، أَوْ بِمَا إِذَا حَصَلَ لَهُ رَجَاءُ إِدْرَاكِ/ الْجَمَاعَةِ أَوْ وُجُودُ الْمَاءِ قُلْنَا: التَّأْخِيرُ ثَبَتَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِأُمُورٍ عَارِضَةٍ، وَكَلَامُنَا فِي مُقْتَضَى الْأَصْلِ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: الْمُسَارَعَةُ إِلَى الِامْتِثَالِ أَحْسَنُ فِي الْعُرْفِ مِنْ تَرْكِ الْمُسَارَعَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الشَّرْعِ كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ حَسَنٌ» . الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: صَلَاةٌ كَمُلَتْ شَرَائِطُهَا فَوَجَبَ أَدَاؤُهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، كَالْمَغْرِبِ فَفِيهِ احْتِرَازٌ عَنِ الظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُسْتَحَبُّ التَّأْخِيرُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ أَنَّ الْمَشْيَ إِلَى الْمَسْجِدِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ كَالْمَانِعِ، أَمَّا إِذَا صَلَّاهَا فِي دَارِهِ فَالتَّعْجِيلُ أَفْضَلُ، وَفِيهِ احْتِرَازٌ عَمَّنْ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ أَوْ حَضَرَهُ الطَّعَامُ وَبِهِ جُوعٌ لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، وَكَذَلِكَ الْمُتَيَمِّمُ إِذَا كَانَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ، وَكَذَلِكَ إِذَا تَوَقَّعَ حُضُورَ الْجَمَاعَةِ فَإِنَّ الْكَمَالَ لَمْ يَحْصُلْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَهَذِهِ هِيَ الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُسَارَعَةَ أَفْضَلُ، وَلْنَذْكُرْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ: أَمَّا صَلَاةُ الْفَجْرِ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا بِالتَّغْلِيسِ، وَيَخْرُجَ مِنْهَا بِالْإِسْفَارِ، فَإِنْ أَرَادَ الِاقْتِصَارَ عَلَى أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ فَالْإِسْفَارُ أَفْضَلُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: التَّغْلِيسُ أَفْضَلُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ الدَّلَائِلِ السَّالِفَةِ بِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: مَا أُخْرِجَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُصَلِّي الصُّبْحَ فَيَنْصَرِفُ وَالنِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٌ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ» قَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ فِي كِتَابِ «شَرْحِ السُّنَّةِ» : مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ أَيْ مُتَجَلِّلَاتٍ بِأَكْسِيَتِهِنَّ، وَالتَّلَفُّعُ بِالثَّوْبِ الِاشْتِمَالُ، وَالْمُرُوطُ: الْأَرْدِيَةُ الْوَاسِعَةُ، وَاحِدُهَا مِرْطٌ، وَالْغَلَسُ: ظُلْمَةُ آخِرِ اللَّيْلِ، فَإِنْ قِيلَ: كَانَ هَذَا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ النِّسَاءُ يَحْضُرْنَ الْجَمَاعَاتِ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِالْغَلَسِ كَيْلَا يُعْرَفْنَ، وَهَكَذَا كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُصَلِّي بِالْغَلَسِ، ثُمَّ لَمَّا نُهِينَ عَنِ الْحُضُورِ فِي الْجَمَاعَاتِ تَرَكَ ذَلِكَ قُلْنَا: الْأَصْلُ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ فِي إِثْبَاتِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ عَدَمُ النَّسْخِ، وَلَوْلَا هَذَا الْأَصْلُ لَمَا جَازَ الِاسْتِدْلَالُ بِشَيْءٍ مِنَ

الدلائل الشرعية. وثالثها: مَا أُخْرِجَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قُمْنَا إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ قُلْتُ: كَمْ كَانَ قَدْرُ ذَلِكَ، قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً، وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى التَّغْلِيسِ. وَثَالِثُهَا: مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَّسَ بِالصُّبْحِ، ثُمَّ أَسْفَرَ مَرَّةً، ثُمَّ لَمْ يَعُدْ إِلَى الْإِسْفَارِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ فَقَالَ: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ [آلِ عِمْرَانَ: 17] وَمَدَحَ التَّارِكِينَ لِلنَّوْمِ فَقَالَ: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السَّجْدَةِ: 16] وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ النَّوْمِ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ أَفْضَلَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ: «لَنْ يَتَقَرَّبَ الْمُتَقَرِّبُونَ إِلَيَّ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ» وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّغْلِيسُ أَفْضَلَ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ النَّوْمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَطْيَبُ، فَيَكُونُ تَرْكُهُ أَشَقَّ، / فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثَوَابُهُ أَكْثَرَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ أَحْمَزُهَا» أَيْ أَشَقُّهَا، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ» . وَثَانِيهَا: رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ صَلَّى الْفَجْرَ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَغَلَّسَ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَوَاتٍ إِلَّا لِمِيقَاتِهَا إِلَّا صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَإِنَّهُ صَلَّاهَا يَوْمَئِذٍ لِغَيْرِ مِيقَاتِهَا. وَثَالِثُهَا: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَافَظُوا عَلَى شَيْءٍ مَا حَافَظُوا عَلَى التَّنْوِيرِ بِالْفَجْرِ. وَرَابِعُهَا: عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى الْفَجْرَ فَقَرَأَ آلَ عِمْرَانَ، فَقَالُوا: كَادَتِ الشَّمْسُ أَنَّ تَطْلُعَ، فَقَالَ لَوْ طَلَعَتْ لَمْ تَجِدْنَا غَافِلِينَ، وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَرَأَ الْبَقَرَةَ فَاسْتَشْرَقُوا الشَّمْسَ، فَقَالَ: لَوْ طَلَعَتْ لَمْ تَجِدْنَا غَافِلِينَ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَضِيلَةِ الِانْتِظَارِ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُنْتَظِرُ لِلصَّلَاةِ كَمَنْ هُوَ فِي الصَّلَاةِ» فَمَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا فَقَدِ انْتَظَرَ الصَّلَاةَ أَوَّلًا ثُمَّ بِهَا ثَانِيًا وَمَنْ صَلَّاهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَقَدْ فَاتَهُ فَضْلُ الِانْتِظَارِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ التَّأْخِيرَ يُفْضِي إِلَى كَثْرَةِ الْجَمَاعَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى تَحْصِيلًا لِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ. وَسَابِعُهَا: أَنَّ التَّغْلِيسَ يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الصَّلَاةُ فِي وَقْتِ الغليس احْتَاجَ الْإِنْسَانُ إِلَى أَنْ يَتَوَضَّأَ بِاللَّيْلِ حَتَّى يَتَفَرَّغَ لِلصَّلَاةِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ شَرْعًا. وَثَامِنُهَا: أَنَّهُ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَإِذَا صَلَّى وَقْتَ الْإِسْفَارِ فَإِنَّهُ يَقِلُّ وَقْتُ الْكَرَاهَةِ، وَإِذَا صَلَّى بِالتَّغْلِيسِ فَإِنَّهُ يَكْثُرُ وَقْتُ الْكَرَاهَةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْفَجْرَ اسْمٌ لِلنُّورِ الَّذِي يُنْفَى بِهِ ظَلَامُ الْمَشْرِقِ، فَالْفَجْرُ إِنَّمَا يَكُونُ فَجْرًا لَوْ كَانَتِ الظُّلْمَةُ بَاقِيَةً فِي الْهَوَاءِ، فَأَمَّا إِذَا زَالَتِ الظُّلْمَةُ بِالْكُلِّيَّةِ وَاسْتَنَارَ الْهَوَاءُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَجْرًا، وَأَمَّا الْإِسْفَارُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الظُّهُورِ، يُقَالُ: أَسْفَرَتِ الْمَرْأَةُ عَنْ وَجْهِهَا إِذَا كَشَفَتْ عَنْهُ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظُهُورُ الْفَجْرِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ بَقَاءِ الظَّلَامِ فِي الْهَوَاءِ، فَإِنَّ الظَّلَامَ كُلَّمَا كَانَ أَشَدَّ كَانَ النُّورُ الَّذِي يَظْهَرُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ الظَّلَامِ أَشَدَّ، فَقَوْلُهُ: «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ» يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى التَّغْلِيسِ، أَيْ كُلَّمَا وَقَعَتْ صَلَاتُكُمْ حِينَ كَانَ الْفَجْرُ أَظْهَرَ وَأَبْهَرَ كَانَ أَكْثَرَ ثَوَابًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي أَوَّلِ الْفَجْرِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْإِسْفَارَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ مَحْمُولٌ عَلَى تَيَقُّنِ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَزَوَالِ الشَّكِّ عَنْهُ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَشَقُّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ ثَوَابًا، وَأَمَّا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إِلَى وَقْتِ التَّنْوِيرِ فَهُوَ عَادَةُ أَهْلِ الْكَسَلِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ: إِنَّ الْكَسَلَ أَفْضَلُ مِنَ الْجِدِّ فِي الطَّاعَةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: حَافِظُوا عَلَى التَّنْوِيرِ بِالْفَجْرِ، فَجَوَابُهُ هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ لِأَنَّ

[سورة البقرة (2) : الآيات 149 إلى 150]

التَّنْوِيرَ بِالْفَجْرِ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، فَأَمَّا عِنْدَ امْتِلَاءِ الْعَالَمِ مِنَ النُّورِ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى ذَلِكَ فَجْرًا، وَأَمَّا سَائِرُ الْوُجُوهِ فَهِيَ مُعَارَضَةٌ بِبَعْضِ مَا قَدَّمْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أما قوله تعالى: يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَهُوَ وَعْدٌ لِأَهْلِ الطَّاعَةِ، وَوَعِيدٌ لِأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: اسْتَبِقُوا أَيُّهَا الْمُحَقِّقُونَ وَالْعَارِفُونَ بِالنُّبُوَّةِ وَالشَّرِيعَةِ الْخَيْرَاتِ وَتَحَمَّلُوا فِيهَا/ الْمَشَاقَّ لِتَصِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلى مالكم عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَرَامَةِ وَالزُّلْفَى، ثُمَّ إنه سبحانه حقق بقوله: نَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِعَادَةَ فِي نَفْسِهَا مُمْكِنَةٌ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْإِعَادَةِ، وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الْبَقَرَةِ: 20] . [سورة البقرة (2) : الآيات 149 الى 150] وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) [ما الفائدة في تكرار هذه الآية وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ] اعْلَمْ أَنَّ أَوَّلَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْبَحْثِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة: 144] وَذَكَرَ هَاهُنَا ثَانِيًا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ثُمَّ ذَكَرَ ثَالِثًا قَوْلَهُ: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ فَهَلْ فِي هَذَا التَّكْرَارِ فَائِدَةٌ أَمْ لَا؟ وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ أَقْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَحْوَالَ ثَلَاثَةٌ، أَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَيَكُونُ فِي الْبَلَدِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْبَلَدِ إِلَى أَقْطَارِ الْأَرْضِ، فَالْآيَةُ الْأُولَى مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةُ عَلَى الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةُ عَلَى الثَّالِثَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يُتَوَهَّمُ أن للقرب حرمة لا تثبت فيها للبعد، فَلِأَجْلِ إِزَالَةِ هَذَا الْوَهْمِ كَرَّرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَاتِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أَعَادَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِأَنَّهُ عَلَّقَ بِهَا كُلَّ مَرَّةٍ فَائِدَةً زَائِدَةً أَمَّا/ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَبَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ أَنَّ أَمْرَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْرَ هَذِهِ الْقِبْلَةِ حَقٌّ، لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَأَمَّا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى يَشْهَدُ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ، وَشَهَادَةُ اللَّهِ بِكَوْنِهِ حَقًّا مُغَايِرَةٌ لِعِلْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِكَوْنِهِ حَقًّا، وَأَمَّا فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ فَبَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ، فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْفَوَائِدُ حَسُنَتْ إِعَادَتُهَا لِأَجْلِ أَنْ يَتَرَتَّبَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَرَّاتِ وَاحِدَةٌ مِنْ هَذِهِ الْفَوَائِدِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [الْبَقَرَةِ: 79] .

وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فَكَانَ رُبَّمَا يَخْطُرُ بِبَالِ جَاهِلٍ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ طَلَبًا لِرِضَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ قَالَ: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْوَهْمَ الْفَاسِدَ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أَيْ نَحْنُ مَا حَوَّلْنَاكَ إِلَى هَذِهِ الْقِبْلَةِ بِمُجَرَّدِ رِضَاكَ، بَلْ لِأَجْلِ أَنَّ هَذَا التَّحْوِيلَ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ فَاسْتِقْبَالُهَا لَيْسَ لِأَجْلِ الْهَوَى وَالْمَيْلِ كَقِبْلَةِ الْيَهُودِ الْمَنْسُوخَةِ الَّتِي إِنَّمَا يُقِيمُونَ عَلَيْهَا بِمُجَرَّدِ الْهَوَى وَالْمَيْلِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ ثَالِثًا: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَالْمُرَادُ دُومُوا عَلَى هَذِهِ الْقِبْلَةِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَوْقَاتِ، وَلَا تَوَلَّوْا فَيَصِيرَ ذَلِكَ التَّوَلِّي سَبَبًا لِلطَّعْنِ فِي دِينِكُمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْآيَةَ السَّالِفَةَ أَمْرٌ بِالدَّوَامِ فِي جَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ وَالثَّانِيَةَ أَمْرٌ بِالدَّوَامِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ، وَالثَّالِثَةَ أَمْرٌ بِالدَّوَامِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ وَإِشْعَارٌ بِأَنَّ هَذَا لَا يَصِيرُ مَنْسُوخًا الْبَتَّةَ. وَالْجَوَابُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ مَقْرُونٌ بِإِكْرَامِهِ إِيَّاهُمْ بِالْقِبْلَةِ الَّتِي كَانُوا يُحِبُّونَهَا وَهِيَ قِبْلَةُ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالثَّانِي مقرون بقوله تعالى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها [البقرة: 148] أَيْ لِكُلِّ صَاحِبِ دَعْوَةٍ وَمِلَّةٍ قِبْلَةٌ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا فَتَوَجَّهُوا أَنْتُمْ إِلَى أَشْرَفِ الْجِهَاتِ الَّتِي يَعْلَمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا حَقٌّ وَذَلِكَ هُوَ قوله: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ. وَالثَّالِثُ مَقْرُونٌ بِقَطْعِ اللَّهِ تَعَالَى حُجَّةَ مَنْ خَاصَمَهُ مِنَ الْيَهُودِ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ فَكَانَتْ هَذِهِ عِلَلًا ثَلَاثًا قُرِنَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَمْرٌ بِالْتِزَامِ الْقِبْلَةِ نَظِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: الْزَمْ هَذِهِ الْقِبْلَةَ فَإِنَّهَا الْقِبْلَةُ الَّتِي كُنْتَ تَهْوَاهَا، ثُمَّ يقال: ألزم هذه القبلة فإنها قبلة الْحَقُّ لَا قِبْلَةَ الْهَوَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ثُمَّ يُقَالُ: الْزَمْ هَذِهِ الْقِبْلَةَ فَإِنَّ فِي لُزُومِكَ إِيَّاهَا انْقِطَاعَ حُجَجِ الْيَهُودِ عَنْكَ، وَهَذَا التَّكْرَارُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَالتَّكْرَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرَّحْمَنِ: 12] وَكَذَلِكَ مَا كُرِّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاءِ: 174] . وَالْجَوَابُ الْخَامِسُ: أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ أَوَّلُ الْوَقَائِعِ الَّتِي ظَهَرَ النَّسْخُ فِيهَا فِي شَرْعِنَا فَدَعَتِ/ الْحَاجَةُ إِلَى التَّكْرَارِ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ وَإِيضَاحِ الْبَيِّنَاتِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 74] يَعْنِي مَا يَعْمَلُهُ هَؤُلَاءِ الْمُعَانِدُونَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ وَيُدْخِلُونَ الشُّبْهَةَ عَلَى الْعَامَّةِ بِقَوْلِهِمْ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [الْبَقَرَةِ: 142] وَبِأَنَّهُ قَدِ اشْتَاقَ إِلَى مَوْلِدِهِ وَدِينِ آبَائِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِهَذَا فَأَنْزَلَ مَا أَبْطَلَهُ وَكَشَفَ عَنْ وَهْنِهِ وَضَعْفِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُوهِمُ حِجَاجًا وَكَلَامًا تَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ فِي بَابِ الْقِبْلَةِ عَنِ الْقَوْمِ فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ تِلْكَ الْحُجَّةَ تَزُولُ الْآنَ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ تِلْكَ الْحُجَّةِ رِوَايَاتٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: تُخَالِفُنَا فِي دِينِنَا وَتَتَّبِعُ قِبْلَتَنَا. وَثَانِيهَا: قَالُوا: أَلَمْ يَدْرِ مُحَمَّدٌ أَيْنَ يَتَوَجَّهُ فِي صَلَاتِهِ حَتَّى هَدَيْنَاهُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْعَرَبَ قَالُوا: إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَنَا عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَالْآنَ تَرَكَ التَّوَجُّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَمَنْ تَرَكَ التَّوَجُّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَدْ تَرَكَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَصَارَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ وَسَائِلَ لَهُمْ إِلَى الطَّعْنِ فِي شَرْعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،

إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ أَنَّ الصَّلَاحَ فِي ذَلِكَ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي الدِّينِ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَصَالِحِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةَ، وَهِيَ تَمْيِزُ مَنِ اتَّبَعَهُ بِمَكَّةَ مِمَّنْ أَقَامَ عَلَى تَكْذِيبِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الِامْتِيَازَ مَا كَانَ يَظْهَرُ إِلَّا بِهَذَا الْجِنْسِ وَلَمَّا انْتَقَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى الْمَدِينَةِ تَغَيَّرَتِ الْمَصْلَحَةُ فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ يَعْنِي تِلْكَ الشُّبْهَةَ الَّتِي ذَكَرُوهَا تَزُولُ بِسَبَبِ هَذَا التَّحْوِيلِ، وَلَمَّا كَانَ فِيهِمْ مِنَ الْمَعْلُومِ مَنْ حَالُهُ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ عِنْدَ هَذَا التَّحْوِيلِ بِشُبْهَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْعَرَبِ: إِنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَادَ إِلَى دِينِنَا فِي الْكَعْبَةِ وَسَيَعُودُ إِلَى دِينِنَا بِالْكُلِّيَّةِ وَكَانَ التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ وَالِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهَا سَبَبًا لِلْبَقَاءِ عَلَى الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ، وَذَلِكَ ظُلْمٌ عَلَى النَّفْسِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] فَلَا جَرَمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ: لِيَلَّا يَتْرُكُ الْهَمْزَةَ وَكُلُّ هَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ قَبْلَهَا كسرة فإنه يقبلها يَاءً وَالْبَاقُونَ بِالْهَمْزَةِ وَهُوَ الْأَصْلُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (لِئَلَّا) مَوْضِعُهُ نَصْبٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ (وَلُّوا) أَيْ وَلُّوا لِئَلَّا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ التَّقْدِيرُ: عَرَّفْتُكُمْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قِيلَ: النَّاسُ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْعُمُومِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَاهُنَا سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ شُبْهَةَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ، فَكَيْفَ يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهَا عَنِ الْحُجَّةِ وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُمْكِنُ دَفْعُ السُّؤَالِ مِنْ وُجُوهٍ. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُجَّةَ كَمَا أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ صَحِيحَةً، قَدْ تَكُونُ أَيْضًا بَاطِلَةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى/ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الشُّورَى: 16] وَقَالَ تَعَالَى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آلِ عِمْرَانَ: 61] وَالْمُحَاجَّةُ هِيَ أَنْ يُورِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى صَاحِبِهِ حُجَّةً وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الَّذِي يُورِدُ الْمُبْطِلَ يُسَمَّى بِالْحُجَّةِ وَلِأَنَّ الْحُجَّةَ اشْتِقَاقُهَا مِنْ حَجَّهُ إِذَا عَلَا عَلَيْهِ فَكُلُّ كَلَامٍ يُقْصَدُ بِهِ غَلَبَةُ الْغَيْرِ فَهُوَ حُجَّةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَحَجَّةِ الطَّرِيقِ، فَكُلُّ كَلَامٍ يَتَّخِذُهُ الْإِنْسَانُ مَسْلَكًا لِنَفْسِهِ فِي إِثْبَاتٍ أَوْ إِبْطَالٍ فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الشُّبْهَةَ قَدْ تُسَمَّى حُجَّةً كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ أَهْلُ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ وَجَدُوهُ فِي كِتَابِهِمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُحَوِّلُ الْقِبْلَةَ فَلَمَّا حُوِّلَتْ، بَطَلَتْ حُجَّتُهُمْ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَتَمُوا مَا عَرَفُوا عَنْ أَبِي رَوْقٍ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ لَمَّا أَوْرَدُوا تِلْكَ الشُّبْهَةَ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهَا حُجَّةٌ سَمَّاهَا اللَّهُ. (حُجَّةٌ) بِنَاءً عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ أَوْ لَعَلَّهُ تَعَالَى سَمَّاهَا (حُجَّةٌ) تَهَكُّمًا بِهِمْ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَرَادَ بِالْحُجَّةِ الْمُحَاجَّةَ وَالْمُجَادَلَةَ فَقَالَ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ يُحَاجُّونَكُمْ بِالْبَاطِلِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَمَعْنَاهُ لَكِنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ يَتَعَلَّقُونَ بِالشُّبْهَةِ وَيَضَعُونَهَا مَوْضِعَ الْحُجَّةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ [النِّسَاءِ: 157] وَقَالَ النَّابِغَةُ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ وَمَعْنَاهُ: لَكِنْ بِسُيُوفِهِمْ فُلُولٌ وَلَيْسَ بِعَيْبٍ وَيُقَالُ مَا لَهُ عَلَيَّ حَقٌّ إِلَّا التَّعَدِّي يَعْنِي لَكِنَّهُ يَتَعَدَّى وَيَظْلِمُ، وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ [النَّمْلِ: 10، 11] وَقَالَ: لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هُودٍ: 43] وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْكَلَامِ عَادَةٌ مَشْهُورَةٌ لِلْعَرَبِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: زَعَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ (إِلَّا) بِمَعْنَى الْوَاوِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ وَلِلَّذِينِ ظَلَمُوا وَأَنْشَدَ: وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ يَعْنِي: وَالْفَرْقَدَانِ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَالَ قُطْرُبٌ: مَوْضِعُ الَّذِينَ خَفْضٌ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْكَافِ وَالْمِيمِ فِي عَلَيْكُمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: لِئَلَّا يَكُونَ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا فَإِنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ وَهُمُ الْكُفَّارُ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: هَذَانِ الْوَجْهَانِ بَعِيدَانِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي فَالْمَعْنَى لَا تَخْشَوْا مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّنْ يَتَعَنَّتُ وَيُجَادِلُ وَيُحَاجُّ، وَلَا تَخَافُوا مَطَاعِنَهُمْ فِي قِبْلَتِكُمْ فإنهم لا يضرنكم وَاخْشَوْنِي، يَعْنِي احْذَرُوا عِقَابِي إِنْ أَنْتُمْ عَدَلْتُمْ عما ألزمتكم وفرضت عليكم، وهذه الآية يدل عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمَرْءِ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ وَتُرُوكِهِ أَنْ يَنْصِبَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: خَشْيَةَ عِقَابِ اللَّهِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ الْخَلْقِ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، وَأَنْ/ لَا يَكُونَ مُشْتَغِلَ الْقَلْبِ بِهِمْ، وَلَا مُلْتَفِتَ الْخَاطِرِ إِلَيْهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مُتَعَلَّقِ اللَّامِ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ، ولِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ حَوَّلَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْكَعْبَةِ لِهَاتَيْنِ الْحِكْمَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: لِانْقِطَاعِ حُجَّتِهِمْ عَنْهُ. وَالثَّانِيَةُ: لِتَمَامِ النِّعْمَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو مُسْلِمِ بْنُ بَحْرٍ الْأَصْفَهَانِيُّ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ النِّعْمَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِاتِّبَاعِ إِبْرَاهِيمَ فِي جَمِيعِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فَلَمَّا حُوِّلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَحِقَهُمْ ضَعْفُ قَلْبٍ، وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّحَوُّلَ إِلَى الْكَعْبَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ شَرَفِ الْبُقْعَةِ فَهَذَا مَوْضِعُ النِّعْمَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ مُتَعَلَّقَ اللَّامِ مَحْذُوفٌ، مَعْنَاهُ: وَلِإِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَيْكُمْ وَإِرَادَتِي اهْتِدَاءَكُمْ أَمَرْتُكُمْ بِذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُعْطَفَ عَلَى عِلَّةٍ مُقَدَّرَةٍ، كَأَنَّهُ قيل: واحشوني لِأُوَفِّقَكُمْ وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ عِنْدَ قُرْبِ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [الْمَائِدَةِ: 3] فَبَيَّنَ أَنَّ تَمَامَ النِّعْمَةِ إِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَكَيْفَ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ قُلْنَا: تَمَامُ النِّعْمَةِ اللَّائِقَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ هُوَ الَّذِي خَصَّهُ بِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «تَمَامُ النِّعْمَةِ دُخُولُ الْجَنَّةِ» وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَمَامُ النِّعْمَةِ الْمَوْتُ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنَ التَّشَكُّكِ فِي صَلَاةِ الرَّسُولِ وَصَلَاةِ أُمَّتِهِ إِلَى بَيْتِ

[سورة البقرة (2) : آية 151]

الْمَقْدِسِ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ، لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ الْبَتَّةَ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ إِنْكَارَهُ أَصْلًا، فَبَعِيدٌ، لِأَنَّ الْأَخْبَارَ فِي ذَلِكَ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمُتَوَاتِرِ، وَلِأَبِي مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُمْنَعَ التَّوَاتُرُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا يَصِحُّ التَّعْوِيلُ فِي الْقَطْعِ بِوُقُوعِ النَّسْخِ فِي شَرْعِنَا عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ وَاللَّهُ أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 151] كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) اعْلَمْ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ دِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِوُجُوهٍ، بَعْضُهَا إِلْزَامِيَّةٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الدِّينَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ فَوَجَبَ قَبُولُهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [الْبَقَرَةِ: 130] وَبَعْضُهَا بُرْهَانِيَّةٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ [الْبَقَرَةِ: 136] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَقَّبَ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بِحِكَايَةِ/ شُبْهَتَيْنِ لَهُمْ. إِحْدَاهُمَا: قَوْلُهُ: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا [الْبَقَرَةِ: 135] . وَالثَّانِيَةُ: اسْتِدْلَالُهُمْ بِإِنْكَارِ النَّسْخِ عَلَى الْقَدْحِ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ قول: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [الْبَقَرَةِ: 142] وَأَطْنَبَ اللَّهُ تعالى في الجواب عن هذه الشبهة وبالحق فعل ذلك، لأن أعظم الشبهة لِلْيَهُودِ فِي إِنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنْكَارُ النَّسْخِ، فَلَا جَرَمَ أَطْنَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَخَتَمَ ذَلِكَ الْجَوَابَ بِقَوْلِهِ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فَصَارَ هَذَا الْكَلَامُ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْجَوَابِ عَنِ الشُّبْهَةِ تَنْبِيهًا عَلَى عَظِيمِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ أَشَدُّ اسْتِمَالَةً لحصول العز والشرف في الدنيا، والتخلص في الذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ يَكُونُ مَرْغُوبًا فِيهِ، وَعِنْدَ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ فَقَدْ بَلَغَ النِّهَايَةَ فِي هَذَا الْبَابِ. أَمَّا قَوْلُهُ: كَما أَرْسَلْنا فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا الْكَافُ إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا قَبْلَهُ أَوْ بِمَا بَعْدَهُ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ فَفِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ راجع إلى قوله: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ [البقرة: 150] أي ولأتم نعمتي عليكم في الدنيا بحصول الشرف، وفي الآخرة بالفوز بالثواب، كما أتممتها عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ. الثَّانِي: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ ... وَيُزَكِّيهِمْ [الْبَقَرَةِ: 129] وَقَالَ أَيْضًا: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا [الْبَقَرَةِ: 128] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بِبَيَانِ الشَّرَائِعِ، وَأَهْدِيكُمْ إِلَى الدِّينِ إِجَابَةً لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا أَرْسَلْنَا فيكم رسولًا إجابة لدعوة عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ. الثَّالِثُ: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَهُوَ أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا، أَيْ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْ شَأْنِهِ وَصِفَتِهِ كَذَا وَكَذَا، فَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، فَالتَّقْدِيرُ: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يُعَلِّمُكُمُ الدِّينَ وَالشَّرْعَ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَصَمِّ وَتَقْرِيرُهُ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ عَلَى صُورَةٍ لَا تَتْلُونَ كِتَابًا، وَلَا تَعْلَمُونَ رَسُولًا، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْكُمْ لَيْسَ بِصَاحِبِ كِتَابٍ، ثُمَّ أَتَاكُمْ بِأَعْجَبِ الْآيَاتِ يَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ بِلِسَانِكُمْ وَفِيهِ مَا فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِيهِ الْخَبَرُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ، وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى الْأَخْلَاقِ الشَّرِيفَةِ، وَالنَّهْيُ عَنْ أَخْلَاقِ السُّفَهَاءِ، وَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ الْبُرْهَانِ عَلَى صِدْقِهِ فَقَالَ: كَمَا أَوْلَيْتُكُمْ هَذِهِ النِّعْمَةَ وَجَعَلْتُهَا لَكُمْ دَلِيلًا، فَاذْكُرُونِي بِالشُّكْرِ عَلَيْهَا، أَذْكُرْكُمْ بِرَحْمَتِي وَثَوَابِي، والذي

[سورة البقرة (2) : آية 152]

يُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 164] فَلَمَّا ذَكَّرَهُمْ هَذِهِ النِّعْمَةَ وَالْمِنَّةَ، أَمَرَهُمْ فِي مُقَابَلَتِهَا بِالذِّكْرِ وَالشُّكْرِ فَإِنْ قِيلَ: كَما هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا؟ قُلْنَا: جوزه الفراء وجعل لأذكروني جَوَابَيْنِ. أَحَدُهُمَا: كَما. وَالثَّانِي: أَذْكُرْكُمْ وَوَجْهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الذِّكْرَ لِيَذْكُرَهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وَلِمَا سَلَفَ مِنْ نِعْمَتِهِ، قَالَ الْقَاضِي: وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ قَبْلَ الْكَلَامِ إِذَا وُجِدَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْكَلَامُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فَتَعَلُّقُهُ بِهِ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي وَجْهِ التشبيه قولان: إن قلنا لكاف مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي كَانَ الْمَعْنَى/ أَنَّ النِّعْمَةَ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ كَالنِّعْمَةِ بِالرِّسَالَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ الْأَصْلَحَ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاذْكُرُونِي دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النِّعْمَةَ بِالذِّكْرِ جَارِيَةٌ مَجْرَى النِّعْمَةِ بِالرِّسَالَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: «مَا» فِي قَوْلِهِ: كَما أَرْسَلْنا مَصْدَرِيَّةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَإِرْسَالِنَا فِيكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ كَافَّةً. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيكُمْ فَالْمُرَادُ بِهِ الْعَرَبُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: مِنْكُمْ وَفِي إِرْسَالِهِ فِيهِمْ وَمِنْهُمْ، نِعَمٌ عَظِيمَةٌ عَلَيْهِمْ لِمَا لَهُمْ فِيهِ الشَّرَفِ، وَلِأَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ حَالِ الْعَرَبِ الْأَنَفَةُ الشَّدِيدَةُ مِنَ الِانْقِيَادِ لِلْغَيْرِ فَبَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ وَاسِطَتِهِمْ لِيَكُونُوا إِلَى الْقَبُولِ أَقْرَبَ. أَمَّا قوله تعالى: يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا فَاعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ لِأَنَّهُ مُعْجِزَةٌ بَاقِيَةٌ، وَلِأَنَّهُ يُتْلَى فَيَتَأَدَّى بِهِ الْعِبَادَاتُ، وَلِأَنَّهُ يُتْلَى فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَمِيعُ الْعُلُومِ، وَلِأَنَّهُ يُتْلَى فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ مَجَامِعُ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، فَكَأَنَّهُ يَحْصُلُ مِنْ تِلَاوَتِهِ كُلُّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَيُزَكِّيكُمْ فَفِيهِ أَقْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُعَلِّمُهُمْ مَا إِذَا تَمَسَّكُوا بِهِ صَارُوا أَزْكِيَاءَ عَنِ الْحَسَنِ. وَثَانِيهَا: يُزَكِّيهِمْ بِالثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ، أَيْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ فَيَصِفُكُمْ بِهِ، كَمَا يُقَالُ: إِنَّ الْمُزَكِّيَ زَكَّى الشَّاهِدَ، أَيْ وَصَفَهُ بِالزَّكَاءِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ التَّزْكِيَةَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّنْمِيَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ يُكَثِّرُكُمْ، كَمَا قَالَ: إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ [الْأَعْرَافِ: 86] وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْمَعَهُمْ عَلَى الْحَقِّ فَيَتَوَاصَلُوا وَيَكْثُرُوا، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذِهِ الْوُجُوهُ غَيْرُ مُتَنَافِيَةٍ فَلَعَلَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ بِالْمُطِيعِ كُلَّ ذَلِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ فَلَيْسَ بِتَكْرَارٍ لِأَنَّ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ غَيْرُ تَعْلِيمِهِ إِيَّاهُمْ، وَأَمَّا الْحِكْمَةَ فَهِيَ الْعِلْمُ بِسَائِرِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي يَشْتَمِلُ الْقُرْآنُ عَلَى تَفْصِيلِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْحِكْمَةَ هِيَ سُنَّةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ وَجَهَالَةٍ مِنَ الْأُمَمِ، فَالْخَلْقُ كَانُوا مُتَحَيِّرِينَ ضَالِّينَ فِي أَمْرِ أَدْيَانِهِمْ فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ حَتَّى عَلَّمَهُمْ مَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ فِي دِينِهِمْ وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أنواع النعم. [سورة البقرة (2) : آية 152] فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّفَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَمْرَيْنِ: الذِّكْرِ، وَالشُّكْرِ، أَمَّا الذِّكْرُ فَقَدْ يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْقَلْبِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْجَوَارِحِ، فَذِكْرُهُمْ إِيَّاهُ بِاللِّسَانِ أَنْ يَحْمَدُوهُ وَيُسَبِّحُوهُ وَيُمَجِّدُوهُ وَيَقْرَءُوا كِتَابَهُ، وَذِكْرُهُمْ إِيَّاهُ

[سورة البقرة (2) : آية 153]

بِقُلُوبِهِمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَيَتَفَكَّرُوا فِي الْجَوَابِ عَنِ الشُّبْهَةِ الْقَادِحَةِ فِي تِلْكَ الدَّلَائِلِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى كَيْفِيَّةِ تَكَالِيفِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَوَعْدِهِ، وَوَعِيدِهِ، فَإِذَا عَرَفُوا/ كَيْفِيَّةَ التَّكْلِيفِ وَعَرَفُوا مَا فِي الْفِعْلِ مِنَ الْوَعْدِ، وَفِي التَّرْكِ مِنَ الْوَعِيدِ سَهُلَ فِعْلُهُ عَلَيْهِمْ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَسْرَارِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى تَصِيرَ كُلُّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْمِرْآةِ الْمَجْلُوَّةِ الْمُحَاذِيَةِ لِعَالَمِ الْقُدُسِ، فَإِذَا نَظَرَ الْعَبْدُ إِلَيْهَا انْعَكَسَ شُعَاعُ بَصَرِهِ مِنْهَا إِلَى عَالَمِ الْجَلَالِ وَهَذَا الْمَقَامُ مَقَامٌ لَا نِهَايَةَ لَهُ، أَمَّا ذِكْرُهُمْ إِيَّاهُ تَعَالَى بِجَوَارِحِهِمْ، فَهُوَ أَنْ تَكُونَ جَوَارِحُهُمْ مُسْتَغْرِقَةً فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا، وَخَالِيَةً عَنِ الْأَعْمَالِ الَّتِي نُهُوا عَنْهَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الصَّلَاةَ ذِكْرًا بقوله: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ فَصَارَ الْأَمْرُ بِقَوْلِهِ: فَاذْكُرُونِي مُتَضَمِّنًا جَمِيعَ الطَّاعَاتِ، فَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: اذْكُرُونِي بِطَاعَتِي فَأَجْمَلَهُ حَتَّى يَدْخُلَ الْكُلُّ فِيهِ، أَمَّا قَوْلُهُ: أَذْكُرْكُمْ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِالْمَوْضِعِ، وَالَّذِي لَهُ تَعَلُّقٌ بِذَلِكَ الثَّوَابِ وَالْمَدْحِ، وَإِظْهَارِ الرِّضَا وَالْإِكْرَامِ، وَإِيجَابِ الْمَنْزِلَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: أَذْكُرْكُمْ ثُمَّ لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِبَارَاتٌ. الْأُولَى: اذْكُرُونِي بِطَاعَتِي أَذْكُرْكُمْ بِرَحْمَتِي. الثَّانِيَةُ: اذْكُرُونِي بِالْإِجَابَةِ وَالْإِحْسَانِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: 60] وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ قَالَ: أَمَرَ الْخَلْقَ بِأَنْ يَذْكُرُوهُ رَاغِبِينَ رَاهِبِينَ، وَرَاجِينَ خَائِفِينَ وَيُخْلِصُوا الذِّكْرَ لَهُ عَنِ الشُّرَكَاءِ، فَإِذَا هُمْ ذَكَرُوهُ بِالْإِخْلَاصِ فِي عِبَادَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ ذَكَرَهُمْ بِالْإِحْسَانِ وَالرَّحْمَةِ وَالنِّعْمَةِ فِي الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ. الثَّالِثَةُ: اذْكُرُونِي بِالثَّنَاءِ وَالطَّاعَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالثَّنَاءِ وَالنِّعْمَةِ. الرَّابِعَةُ: اذْكُرُونِي فِي الدُّنْيَا أَذْكُرْكُمْ فِي الْآخِرَةِ. الْخَامِسَةُ: اذْكُرُونِي فِي الْخَلَوَاتِ أَذْكُرْكُمْ فِي الْفَلَوَاتِ. السَّادِسَةُ: اذْكُرُونِي فِي الرَّخَاءِ أَذْكُرْكُمْ فِي الْبَلَاءِ. السَّابِعَةُ: اذْكُرُونِي بِطَاعَتِي أَذْكُرْكُمْ بِمَعُونَتِي. الثَّامِنَةُ: اذْكُرُونِي بِمُجَاهَدَتِي أَذْكُرْكُمْ بِهِدَايَتِي. التَّاسِعَةُ: اذْكُرُونِي بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ أَذْكُرْكُمْ بِالْخَلَاصِ وَمَزِيدِ الِاخْتِصَاصِ. الْعَاشِرَةُ: اذْكُرُونِي بِالرُّبُوبِيَّةِ فِي الفاتحة أذكركم بالرحمة والعبودية في الخاتمة. [سورة البقرة (2) : آية 153] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ بِقَوْلِهِ: فَاذْكُرُونِي جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ، وَبِقَوْلِهِ: وَاشْكُرُوا لِي مَا يَتَّصِلُ بِالشُّكْرِ أَرْدَفَهُ بِبَيَانِ مَا يُعِينُ عَلَيْهِمَا فَقَالَ: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّمَا خَصَّهُمَا بِذَلِكَ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْمَعُونَةِ عَلَى الْعِبَادَاتِ، أَمَّا الصَّبْرُ فَهُوَ قَهْرُ النَّفْسِ عَلَى احْتِمَالِ الْمَكَارِهِ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْطِينِهَا عَلَى تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ وَتَجَنُّبِ الْجَزَعِ، وَمَنْ حَمَلَ نَفْسَهُ وَقَلْبَهُ عَلَى هَذَا التَّذْلِيلِ سَهُلَ عَلَيْهِ فِعْلُ الطَّاعَاتِ وَتَحَمُّلُ مَشَاقِّ الْعِبَادَاتِ، وَتَجَنُّبُ الْمَحْظُورَاتِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ الصَّبْرَ عَلَى الصَّوْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْجِهَادِ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَهُ: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 154] وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالتَّثَبُّتِ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الْأَنْفَالِ: 45] وَبِالتَّثَبُّتِ فِي الصَّلَاةِ أَيْ فِي الدُّعَاءِ فَقَالَ: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 147] . / إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ أَوْلَى لعموم اللفظ وعدم تقيده، والاستعانة بالصلاة لأنه يَجِبُ أَنْ تُفْعَلَ عَلَى طَرِيقِ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ لِلْمَعْبُودِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، وَيَجِبُ أَنْ يُوَفِّرَ هَمَّهُ وَقَلْبَهُ عَلَيْهَا وَعَلَى مَا يَأْتِي فِيهَا مِنْ قراءة فيتدبر الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ومن سلك هذه الطريقة في الصلاة فقد ذلل نفسه لاحتمال المشقة فيما عداها من العبادات وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [الْعَنْكَبُوتِ: 45] وَلِذَلِكَ نَرَى أَهْلَ الْخَيْرِ

[سورة البقرة (2) : آية 154]

عِنْدَ النَّوَائِبِ مُتَّفِقِينَ عَلَى الْفَزَعِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزَعَ إِلَى الصَّلَاةِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ يَعْنِي فِي النَّصْرِ لَهُمْ كَمَا قَالَ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الْبَقَرَةِ: 137] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى ضَمِنَ لَهُمْ إِذَا هُمُ اسْتَعَانُوا عَلَى طَاعَاتِهِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ أَنْ يَزِيدَهُمْ تَوْفِيقًا وَتَسْدِيدًا وَأَلْطَافًا كَمَا قَالَ: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً [مريم: 76] . [سورة البقرة (2) : آية 154] وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) اعْلَمْ أن هذه الآية نظيرة قَوْلِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 169] وَوَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا كَأَنَّهُ قِيلَ: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ فِي إِقَامَةِ دِينِي، فَإِنِ احْتَجْتُمْ فِي تِلْكَ الْإِقَامَةِ إِلَى مُجَاهَدَةِ عَدُوِّي بِأَمْوَالِكُمْ وَأَبْدَانِكُمْ فَفَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَتَلِفَتْ نُفُوسُكُمْ فَلَا تَحْسَبُوا أَنَّكُمْ ضَيَّعْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بَلِ اعْلَمُوا أَنَّ قَتْلَاكُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدِي وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي قَتْلَى بَدْرٍ وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، سِتَّةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَثَمَانِيَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ: عُبَيْدَةُ بن الحرث بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعُمَرُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَذُو الشَّمَالَيْنِ، وَعَمْرُو بْنُ نُفَيْلَةَ، وَعَامِرُ بْنُ بَكْرٍ، وَمِهْجَعُ بْنُ عَبْدِ اللَّه. وَمِنَ الْأَنْصَارِ: سَعِيدُ بْنُ خَيْثَمَةَ، وَقَيْسُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وزيد بن الحرث، وَتَمِيمُ بْنُ الْهُمَامِ، وَرَافِعُ بْنُ الْمُعَلَّى، وَحَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ، وَمُعَوِّذُ بْنُ عَفْرَاءَ، وَعَوْفُ بْنُ عَفْرَاءَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: مَاتَ فُلَانٌ وَمَاتَ فُلَانٌ فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ إِنَّهُمْ مَاتُوا. وَعَنْ آخَرِينَ أَنَّ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ قَالُوا: إِنَّ النَّاسَ يَقْتُلُونَ أَنْفُسَهُمْ طَلَبًا لِمَرْضَاةِ مُحَمَّدٍ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمْواتٌ رُفِعَ لِأَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: لَا تَقُولُوا هُمْ أَمْوَاتٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ فِي الْوَقْتِ أَحْيَاءٌ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَاهُمْ لِإِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَيْهِمْ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُطِيعِينَ يَصِلُ ثَوَابُهُمْ إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِي الْقُبُورِ، فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ نُشَاهِدُ أَجْسَادَهُمْ مَيْتَةً فِي الْقُبُورِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ مَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ؟ قُلْنَا: أَمَّا عِنْدَنَا فَالْبِنْيَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْحَيَاةِ وَلَا امْتِنَاعَ فِي أَنْ يعبد اللَّهُ الْحَيَاةَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الذَّرَّاتِ وَالْأَجْزَاءِ الصَّغِيرَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ/ إِلَى التَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُعِيدَ اللَّهُ الْحَيَاةَ إِلَى الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا فِي مَاهِيَّةِ الْحَيِّ وَلَا يُعْتَبَرُ بِالْأَطْرَافِ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يُحْيِيَهُمْ إِذَا لَمْ يُشَاهَدُوا. الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ الْأَصَمُّ: يَعْنِي لَا تُسَمُّوهُمْ بِالْمَوْتَى وَقُولُوا لَهُمُ الشُّهَدَاءَ الْأَحْيَاءَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: هُمْ أَمْوَاتٌ فِي الدِّينِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الْأَنْعَامِ: 122] فَقَالَ: وَلَا تَقُولُوا لِلشُّهَدَاءِ مَا قَالَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَكِنْ قُولُوا: هُمْ أَحْيَاءٌ فِي الدِّينِ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ، يَعْنِي الْمُشْرِكُونَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ قُتِلَ عَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيٌّ فِي الدِّينِ، وَعَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِ وَنُورٍ كَمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الْحِكَايَاتِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَجُلٍ: مَا مَاتَ رَجُلٌ خَلَفَ مِثْلَكَ، وَحُكِيَ عَنْ بُقْرَاطَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِتَلَامِذَتِهِ: مُوتُوا بِالْإِرَادَةِ تَحْيَوْا بِالطَّبِيعَةِ أَيْ بِالرُّوحِ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتُلُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَخْسَرُونَ حَيَاتَهُمْ فَيَخْرُجُونَ مِنَ الدُّنْيَا بِلَا فَائِدَةٍ وَيُضَيِّعُونَ أَعْمَارَهُمْ إِلَى غَيْرِ شَيْءٍ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ، يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا دَهْرِيَّةً، يُنْكِرُونَ الْمَعَادَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِالْمَعَادِ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلِذَلِكَ قَالُوا هَذَا الْكَلَامَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَا تَقُولُوا كَمَا قَالَ الْمُشْرِكُونَ إِنَّهُمْ أَمْوَاتٌ لَا يُنْشَرُونَ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا تَحَمَّلُوا مِنَ الشَّدَائِدِ فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنِ اعْلَمُوا أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ، أَيْ سَيَحْيَوْنَ فَيُثَابُونَ وَيُنَعَّمُونَ فِي الْجَنَّةِ وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ: أَحْياءٌ بِأَنَّهُمْ سَيَحْيَوْنَ غَيْرُ بَعِيدٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الِانْفِطَارِ: 13، 14] وَقَالَ: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها [الْكَهْفِ: 29] وَقَالَ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاءِ: 145] وَقَالَ: فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الْحَجِّ: 56] عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ سَيَصِيرُونَ كَذَلِكَ وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ الْكَعْبِيِّ وَأَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَرْجِيحِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غَافِرٍ: 11] وَالْمَوْتَتَانِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الْحَيَاةِ فِي الْقَبْرِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نُوحٍ: 25] وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، وَقَالَ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غَافِرٍ: 46] وَإِذَا ثَبَتَ عَذَابُ الْقَبْرِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِثَوَابِ الْقَبْرِ أَيْضًا لِأَنَّ الْعَذَابَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ وَالثَّوَابَ حَقٌّ للعبد على الله تعالى، فاسقط الْعِقَابِ أَحْسَنُ مِنْ إِسْقَاطِ الثَّوَابِ فَحَيْثُمَا أَسْقَطَ الْعِقَابَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بَلْ حَقَّقَهُ فِي الْقَبْرِ، كَانَ ذَلِكَ فِي الثَّوَابِ أَوْلَى. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَعْنَى لَوْ كَانَ عَلَى مَا قِيلَ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا تَشْعُرُونَ مَعْنًى لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ كَانُوا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ سَيَحْيَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُمْ مَاتُوا عَلَى هُدًى وَنُورٍ، فَعُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَاهُمْ فِي قُبُورِهِمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 170] دَلِيلٌ عَلَى حُصُولِ الْحَيَاةِ فِي الْبَرْزَخِ قَبْلَ الْبَعْثِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ» وَالْأَخْبَارُ فِي ثَوَابِ الْقَبْرِ وَعَذَابِهِ كَالْمُتَوَاتِرَةِ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ فِي آخِرِ/ صَلَاتِهِ: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» . وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ أَنَّهُمْ سَيَحْيَوْنَ، فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِتَخْصِيصِهِمْ بِهَذَا فَائِدَةٌ، أَجَابَ عَنْهُ أَبُو مُسْلِمٍ بِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ دَرَجَتَهُمْ فِي الْجَنَّةِ أَرْفَعُ وَمَنْزِلَتَهُمْ أَعْلَى وَأَشْرَفُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النِّسَاءِ: 69] فَأَرَادَهُمْ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ ضَعِيفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْزِلَةَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ أَعْظَمُ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ النَّاسَ يَزُورُونَ قُبُورَ الشُّهَدَاءِ وَيُعَظِّمُونَهَا وَذَلِكَ يَدُلُّ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَاحْتَجَّ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى تَرْجِيحِ قَوْلِهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي آلِ عِمْرَانَ فَقَالَ: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [آل عمران: 169] وَهَذِهِ الْعِنْدِيَّةُ لَيْسَتْ بِالْمَكَانِ، بَلْ بِالْكَوْنِ فِي الْجَنَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ الثَّوَابِ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا بَعْدَ الْقِيَامَةِ. وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْعِنْدِيَّةَ لَيْسَتْ إِلَّا بِالْكَوْنِ فِي الْجَنَّةِ بَلْ بِإِعْلَاءِ الدَّرَجَاتِ وَإِيصَالِ الْبِشَارَاتِ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي الْقَبْرِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ قَوْلًا آخَرَ وَهُوَ: أَنَّ ثَوَابَ الْقَبْرِ وَعَذَابَهُ لِلرُّوحِ لَا لِلْقَالَبِ، وَهَذَا الْقَوْلُ بِنَاءً عَلَى مَعْرِفَةِ الرُّوحِ، وَلْنُشِرْ إِلَى خُلَاصَةِ حَاصِلِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ فَنَقُولُ:

إِنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ هَذَا الْهَيْكَلِ الْمَحْسُوسِ، أَمَّا إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ هَذَا الْهَيْكَلِ فَلِوَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَجْزَاءَ هَذَا الْهَيْكَلِ أَبَدًا فِي النُّمُوِّ وَالذُّبُولِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالِاسْتِكْمَالِ وَالذَّوَبَانِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِنْسَانَ من حيث هُوَ أَمْرٌ بَاقٍ مِنْ أَوَّلِ عُمُرِهِ، وَالْبَاقِي غَيْرُ مَا هُوَ غَيْرُ بَاقٍ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ: «أَنَا» وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِهَذَا الْهَيْكَلِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنِّي أَكُونُ عَالِمًا بِأَنِّي أَنَا حَالَ مَا أَكُونُ غَافِلًا عَنْ جَمِيعِ أَجَزَائِي وَأَبْعَاضِي، وَالْمَعْلُومُ غَيْرُ مَا هُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَالَّذِي أُشِيرُ إِلَيْهِ بِقَوْلِي (أَنَا) مُغَايِرٌ لِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ وَالْأَبْعَاضِ، وَأَمَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرُ مَحْسُوسٍ فَلِأَنَّ الْمَحْسُوسَ إِنَّمَا هُوَ السَّطْحُ وَاللَّوْنُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ هُوَ مُجَرَّدُ اللَّوْنِ وَالسَّطْحِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا عِنْدَ ذَلِكَ فِي أَنَّ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ (أَنَا) أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ وَالْأَقْوَالُ فِيهِ كَثِيرَةٌ إِلَّا أَنَّ أَشَدَّهَا تَلْخِيصًا وَتَحْصِيلًا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَجْزَاءَ جِسْمَانِيَّةً سَارِيَةٌ فِي هَذَا الْهَيْكَلِ سَرَيَانَ النَّارِ فِي الْفَحْمِ وَالدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ وَمَاءِ الْوَرْدِ فِي الْوَرْدِ وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ فَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الَّذِينَ اعْتَقَدُوا تَمَاثُلَ الْأَجْسَامِ فَقَالُوا: إِنَّ تِلْكَ الْأَجْسَامَ مُمَاثِلَةٌ لِسَائِرِ الْأَجْزَاءِ الَّتِي مِنْهَا يَتَأَلَّفُ هَذَا الْهَيْكَلُ إِلَّا أَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ سُبْحَانَهُ يُبْقِي بَعْضَ الْأَجْزَاءِ مِنْ أَوَّلِ الْعُمُرِ إِلَى آخِرِهِ فَتِلْكَ الْأَجْزَاءُ هِيَ الَّتِي يُشِيرُ إِلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ (أَنَا) ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ حَيَّةٌ بِحَيَاةٍ يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا فَإِذَا زَالَتِ الحياة ماتت وهذا قول أكثر المتكلفين. وَثَانِيهِمَا: الَّذِينَ اعْتَقَدُوا اخْتِلَافَ الْأَجْسَامِ وَزَعَمُوا أَنَّ الْأَجْسَامَ الَّتِي هِيَ بَاقِيَةٌ مِنْ أَوَّلِ الْعُمُرِ إِلَى آخِرِ الْعُمُرِ أَجْسَامٌ مُخَالِفَةٌ بِالْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ لِلْأَجْسَامِ الَّتِي يَتَأَلَّفُ مِنْهَا هَذَا الْهَيْكَلُ وَتِلْكَ الْأَجْسَامُ حَيَّةٌ لِذَاتِهَا مُدْرِكَةٌ لِذَاتِهَا، فَإِذَا خَالَطَتْ هَذَا الْبَدَنَ وَصَارَتْ سَارِيَةً فِي هَذَا الْهَيْكَلِ، سَرَيَانَ النَّارِ فِي الْفَحْمِ صَارَ هَذَا الْهَيْكَلُ مُسْتَطِيرًا بِنُورِ ذَلِكَ الرُّوحِ/ مُتَحَرِّكًا بِتَحَرُّكِهِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْهَيْكَلَ أَبَدًا فِي الذَّوَبَانِ وَالتَّحَلُّلِ وَالتَّبَدُّلِ، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ بَاقِيَةٌ بِحَالِهَا، وَإِنَّمَا لَا يَعْرِضُ لَهَا التَّحَلُّلُ لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ بِالْمَاهِيَّةِ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ الْبَالِيَةِ، فَإِذَا فَسَدَ هَذَا الْقَالَبُ انْفَصَلَتْ تِلْكَ الْأَجْسَامُ اللَّطِيفَةُ النُّورَانِيَّةُ إِلَى عالم السموات وَالْقُدُسِ وَالطَّهَارَةِ إِنْ كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ السُّعَدَاءِ، وَإِلَى الْجَحِيمِ وَعَالَمِ الْآفَاتِ إِنْ كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْقِيَاءِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ: (أَنَا مَوْجُودٌ) لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ وَلَا قَائِمٌ بِالْمُتَحَيِّزِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَ الْعَالَمِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي السُّلُوكِ لَا يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي الْمَاهِيَّةِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ فِي الْمَعْلُومَاتِ مَا هُوَ فَرْدٌ حَقًّا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِهِ فَرْدًا حَقًّا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ بِذَلِكَ الْعِلْمِ فَرْدًا حَقًّا، وَكُلُّ جِسْمٍ وَكُلُّ حَالٍ فِي الْجِسْمِ فَلَيْسَ بِفَرْدٍ حَقًّا، فَذَلِكَ الَّذِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ مِنَّا أَنَّهُ يَعْلَمُ هَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ جِسْمًا وَلَا جِسْمَانِيًّا أَمَّا أَنَّ فِي الْمَعْلُومَاتِ مَا هُوَ فَرْدٌ حَقًّا فَلِأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي وُجُودِ شَيْءٍ، فَهَذَا الْمَوْجُودُ إِنْ كَانَ فَرْدًا حَقًّا فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ مُرَكَّبًا فَالْمُرَكَّبُ مُرَكَّبٌ عَلَى الْفَرْدِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْفَرْدِ عَلَى كُلِّ الْأَحْوَالِ، وَأَمَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْمَعْلُومَاتِ مَا هُوَ فَرْدٌ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ مَا هُوَ فَرْدٌ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِذَلِكَ الْفَرْدِ إِنْ كَانَ مُنْقَسِمًا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ أَوْ بَعْضِ أَجْزَائِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِلْمًا بِذَلِكَ الْمَعْلُومِ وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ مُسَاوِيًا لِلْكُلِّ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ عِلْمًا بِذَلِكَ الْمَعْلُومِ، فَعِنْدَ اجْتِمَاعِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ إِمَّا أَنْ يَحْدُثَ زَائِدٌ هُوَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ الْمَعْلُومِ الْفَرْدِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ الْمَعْلُومِ هُوَ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ الْحَادِثَةُ لَا تِلْكَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي فَرَضْنَاهَا قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ هذه الكيفية

[سورة البقرة (2) : آية 155]

إِنْ كَانَتْ مُنْقَسِمَةً عَادَ الْحَدِيثُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُنْقَسِمَةً فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَأَمَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْمَعْلُومِ عِلْمٌ لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ كَانَ الْمَوْصُوفُ بِهِ أَيْضًا كَذَلِكَ، فَلِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهِ لَوْ كَانَ قَبِلَ الْقِسْمَةَ، لَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَوْ شَيْءٌ مِنْهَا إِنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهِ بِتَمَامِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْعَرَضُ الْوَاحِدُ حَالًّا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ وَهُوَ مُحَالٌ، أَوْ يَتَوَزَّعُ أَجْزَاءُ الْحَالِّ عَلَى أَجْزَاءِ الْمَحَلِّ، فَيُقَسَّمُ الْحَالُّ وَقَدْ فَرَضْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُنْقَسِمٍ أَوْ لَا يَتَّصِفُ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَحَلِّ إِلَّا بِتَمَامِ الْحَالِّ وَلَا شَيْءَ مِنْ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْحَالِّ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَحَلُّ خَالِيًا عَنْ ذَلِكَ الْحَالِّ وَقَدْ فَرَضْنَاهُ مَوْصُوفًا بِهِ هَذَا خُلْفٌ، وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مُتَحَيِّزٍ يَنْقَسِمُ فَبِالدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي نَفْيِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ، قَالُوا: فَثَبَتَ أَنَّ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ: (أَنَا مَوْجُودٌ) لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ وَلَا قَائِمٌ بِالْمُتَحَيِّزِ ثُمَّ نَقُولُ: هَذَا الْمَوْجُودُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُدْرِكًا لِلْجُزْئِيَّاتِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَحْكُمَ عَلَى هَذَا الشَّخْصِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ إِنْسَانٌ وَلَيْسَ بِفَرَسٍ، وَالْحَاكِمُ بِشَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يُحْضِرَ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِمَا فَهَذَا الشَّيْءُ مُدْرِكٌ لِهَذَا الْجُزْئِيِّ وَلِلْإِنْسَانِ الْكُلِّيِّ حَتَّى يُمْكِنَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهَذَا الْكُلِّيِّ عَلَى هَذَا الْجُزْئِيِّ وَالْمُدْرِكِ لِلْكُلِّيَّاتِ هُوَ النَّفْسُ وَالْمُدْرِكُ لِلْجُزْئِيَّاتِ أَيْضًا هُوَ النَّفْسُ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مُدْرِكًا لِلْجُزْئِيَّاتِ فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَلْتَذَّ وَيَتَأَلَّمَ، قَالُوا: إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذِهِ الْأَرْوَاحُ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ تَتَأَلَّمُ وَتَلْتَذُّ إِلَى أَنْ يَرُدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْأَبْدَانِ/ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهُنَاكَ يَحْصُلُ الِالْتِذَاذُ وَالتَّأَلُّمُ لِلْأَبْدَانِ، فَهَذَا قَوْلٌ قَالَ بِهِ عَالَمٌ مِنَ النَّاسِ قَالُوا: وَهَبْ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بُرْهَانٌ قَاهِرٌ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ وَلَكِنْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِهِ، فَإِنَّهُ مِمَّا يُؤَيِّدُ الشَّرْعُ وَيَنْصُرُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ وَيُزِيلُ الشُّكُوكَ وَالشُّبُهَاتِ عَمَّا وَرَدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ ثَوَابِ الْقَبْرِ وَعَذَابِهِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ الْمُخْتَصَرَةُ فِي تَوْجِيهِ هَذَا الْقَوْلِ، وَاللَّهُ هُوَ الْعَالِمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ. قَالُوا: وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ أَنَّ ثَوَابَ الْقَبْرِ وَعَذَابَهُ إِمَّا أَنْ يَصِلَ إِلَى هَذِهِ الْبِنْيَةِ أَوْ إِلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَالْأَوَّلُ مُكَابَرَةٌ لِأَنَّا نَجِدُ هَذِهِ البينة مُتَفَرِّقَةً مُتَمَزِّقَةً فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِوُصُولِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ إِلَيْهَا؟ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِي بَعْضَ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الصَّغِيرَةِ وَيُوصِلُ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ إِلَيْهَا، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْإِنْسَانُ هُوَ الرُّوحُ فَإِنَّهُ لَا يَعْرِضُ لَهُ التَّفَرُّقُ وَالتَّمَزُّقُ فَلَا جَرَمَ يَصِلُ إِلَيْهِ الْأَلَمُ وَاللَّذَّةُ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَرُدُّ الرُّوحَ إِلَى البدن يوم القيامة الكبرى، حتى تنظم الأحوال الجسمانية إلى الأحوال الروحانية. [سورة البقرة (2) : آية 155] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) [في قوله تعالى ولنبلون بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ والأنفس والثمرات] اعْلَمْ أَنَّ الْقَفَّالَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: هَذَا متعلق بقوله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: 45] أَيِ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ فَإِنَّا نَبْلُوكُمْ بِالْخَوْفِ وبكذا وفيه مسائل: المسألة الأولى: [الشكر يوجب المزيد فَكَيْفَ أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ] فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة: 152] وَالشُّكْرُ يُوجِبُ الْمَزِيدَ عَلَى مَا قَالَ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ فَكَيْفَ أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ إِكْمَالَ الشَّرَائِعِ إِتْمَامُ النِّعْمَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلشُّكْرِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ الْقِيَامَ بِتِلْكَ الشَّرَائِعِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِتَحَمُّلِ الْمِحَنِ، فَلَا جَرَمَ أَمَرَ فِيهَا بِالصَّبْرِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْعَمَ أَوَّلًا فَأَمَرَ بِالشُّكْرِ، ثُمَّ ابْتَلَى وَأَمَرَ بِالصَّبْرِ، لِيَنَالَ الرَّجُلُ دَرَجَةَ الشَّاكِرِينَ وَالصَّابِرِينَ مَعًا، فَيَكْمُلُ إِيمَانُهُ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْإِيمَانُ نِصْفَانِ: نِصْفُ صَبْرٍ وَنِصْفُ شُكْرٍ» . المسألة الثانية: [المراد بهذه المخاطبة] رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْمُخَاطَبَةِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَّا أَنَّ الِابْتِلَاءَ كَيْفَ يَصِحُّ عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ [البقرة: 124] وأما الحكمة في تقدم تَعْرِيفِ هَذَا الِابْتِلَاءِ فَفِيهَا وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: لِيُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا إِذَا وَرَدَتْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَبْعَدَ لَهُمْ عَنِ الْجَزَعِ، وَأَسْهَلَ عَلَيْهِمْ/ بَعْدَ الْوُرُودِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا أَنَّهُ ستصل إليهم تلك المحن، اشتد خرقهم، فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْخَوْفُ تَعْجِيلًا لِلِابْتِلَاءِ، فَيَسْتَحِقُّونَ بِهِ مَزِيدَ الثَّوَابِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا شَاهَدُوا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ مُقِيمِينَ عَلَى دِينِهِمْ مُسْتَقِرِّينَ عَلَيْهِ مَعَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ نِهَايَةِ الضُّرِّ وَالْمِحْنَةِ وَالْجُوعِ، يَعْلَمُونَ أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا اخْتَارُوا هَذَا الدِّينَ لِقَطْعِهِمْ بِصِحَّتِهِ، فَيَدْعُوهُمْ ذَلِكَ إِلَى مَزِيدِ التَّأَمُّلِ فِي دَلَائِلِهِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ الظَّاهِرِ أَنَّ التَّبَعَ إِذَا عَرَفُوا أَنَّ الْمَتْبُوعَ فِي أَعْظَمِ الْمِحَنِ بِسَبَبِ الْمَذْهَبِ الَّذِي يَنْصُرُهُ، ثُمَّ رَأَوْهُ مَعَ ذَلِكَ مُصِرًّا عَلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُمْ إِلَى اتِّبَاعِهِ مِمَّا إِذَا رَأَوْهُ مُرَفَّهَ الْحَالِ لَا كُلْفَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَذْهَبِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ بِوُقُوعِ ذَلِكَ الِابْتِلَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، فَوُجِدَ مُخْبِرُ ذَلِكَ الْخَبَرِ عَلَى مَا أَخْبَرَ عَنْهُ فَكَانَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ فَكَانَ مُعْجِزًا. وَخَامِسُهَا: أَنَّ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ أَظْهَرَ مُتَابَعَةَ الرَّسُولِ طَمَعًا مِنْهُ فِي الْمَالِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ فَإِذَا اخْتَبَرَهُ تَعَالَى بِنُزُولِ هَذِهِ الْمِحَنِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَمَيَّزُ الْمُنَافِقُ عَنِ الْمُوَافِقِ لِأَنَّ الْمُنَافِقَ إِذَا سَمِعَ ذَلِكَ نَفَرَ مِنْهُ وَتَرَكَ دِينَهُ فَكَانَ فِي هَذَا الِاخْتِبَارِ هَذِهِ الْفَائِدَةُ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ إِخْلَاصَ الْإِنْسَانِ حَالَةَ الْبَلَاءِ وَرُجُوعَهُ إِلَى بَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَكْثَرُ مِنْ إِخْلَاصِهِ حَالَ إِقْبَالِ الدُّنْيَا عَلَيْهِ، فَكَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي هَذَا الِابْتِلَاءِ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا قَالَ بِشَيْءٍ عَلَى الْوُحْدَانِ، وَلَمْ يَقُلْ بِأَشْيَاءَ عَلَى الْجَمْعِ لِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: لِئَلَّا يُوهِمَ بِأَشْيَاءَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ، فَيَدُلُّ عَلَى ضُرُوبِ الْخَوْفِ وَالتَّقْدِيرُ بِشَيْءٍ مِنْ كَذَا وَشَيْءٍ مِنْ كَذَا. الثَّانِي: مَعْنَاهُ بِشَيْءٍ قَلِيلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا يُلَاقِيكَ مِنْ مَكْرُوهٍ وَمَحْبُوبٍ، فَيَنْقَسِمُ إِلَى مَوْجُودٍ فِي الْحَالِ وَإِلَى مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الْمَاضِي وَإِلَى مَا سَيُوجَدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِذَا خَطَرَ بِبَالِكَ مَوْجُودٌ فِيمَا مَضَى سُمِّيَ ذِكْرًا وَتَذَكُّرًا وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ: يُسَمَّى ذَوْقًا وَوَجْدًا وَإِنَّمَا سُمِّيَ وَجْدًا لِأَنَّهَا حَالَةٌ تَجِدُهَا مِنْ نَفْسِكَ وَإِنْ كَانَ قَدْ خَطَرَ بِبَالِكَ وُجُودُ شَيْءٍ فِي الاستقبال وغلب ذلك على قبلك، سُمِّيَ انْتِظَارًا وَتَوَقُّعًا، فَإِنْ كَانَ الْمُنْتَظَرُ مَكْرُوهًا حَصَلَ مِنْهُ أَلَمٌ فِي الْقَلْبِ يُسَمَّى خَوْفًا وَإِشْفَاقًا، وَإِنْ كَانَ مَحْبُوبًا سُمِّيَ ذَلِكَ ارْتِيَاحًا، والارتياح رجاء، فالخوف هو تألم الْقَلْبِ لِانْتِظَارِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُ، وَالرَّجَاءُ هُوَ ارْتِيَاحُ الْقَلْبِ لِانْتِظَارِ مَا هُوَ مَحْبُوبٌ عِنْدَهُ، وَأَمَّا الْجُوعُ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْقَحْطُ وَتَعَذُّرُ تَحْصِيلِ الْقُوتِ: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَمَّا الْخَوْفُ الشَّدِيدُ فَقَدْ حَصَلَ لَهُمْ عِنْدَ مُكَاشَفَتِهِمُ الْعَرَبَ بِسَبَبِ الدِّينِ، فَكَانُوا لَا يَأْمَنُونَ قَصْدَهُمْ إِيَّاهُمْ وَاجْتِمَاعَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ كَانَ مِنَ الْخَوْفِ فِي وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ مَا كَانَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً [الْأَحْزَابِ: 11] وَأَمَّا الْجُوعُ فَقَدْ أَصَابَهُمْ فِي أَوَّلِ مُهَاجَرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِقِلَّةِ أَمْوَالِهِمْ، حَتَّى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ، وَرَوَى أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَيِّهَانِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا خَرَجَ الْتَقَى مَعَ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: مَا أَخْرَجَكَ؟ قَالَ: الْجُوعُ. قَالَ: أَخْرَجَنِي مَا أَخْرَجَكَ: وَأَمَّا النَّقْصُ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ فَقَدْ يَحْصُلُ ذَلِكَ عِنْدَ مُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ بِأَنْ يُنْفِقَ الْإِنْسَانُ مَالَهُ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْجِهَادِ وَقَدْ يُقْتَلُ، فَهُنَاكَ يَحْصُلُ/ النَّقْصُ فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَةِ: 41] وَقَدْ يَحْصُلُ الجوع في السفر الْجِهَادِ عِنْدَ فَنَاءِ الزَّادِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 120] وَقَدْ يَكُونُ النَّقْصُ فِي النَّفْسِ بِمَوْتِ بَعْضِ

الْإِخْوَانِ وَالْأَقَارِبِ عَلَى مَا هُوَ التَّأْوِيلُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاءِ: 29] وَأَمَّا نَقْصُ الثَّمَرَاتِ فَقَدْ يَكُونُ بِالْجَدْبِ وَقَدْ يَكُونُ بِتَرْكِ عِمَارَةِ الضِّيَاعِ لِلِاشْتِغَالِ بِجِهَادِ الْأَعْدَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ كَانَ يَرِدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْوُفُودِ، هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَفَّالِ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْخَوْفُ: خَوْفُ اللَّهِ، وَالْجُوعُ: صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالنَّقْصُ مِنَ الْأَمْوَالِ: الزَّكَوَاتُ وَالصَّدَقَاتُ، وَمِنَ الْأَنْفُسِ: الْأَمْرَاضُ، وَمِنَ الثمرات: موت الأولاد [في قوله تعالى وبشر الصابرين] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بَيَّنَ جُمْلَةَ الصَّابِرِينَ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ بِقَوْلِهِ تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: 155] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الصَّبْرَ وَاجِبٌ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ إِذَا كَانَ مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عَدْلٌ وَحِكْمَةٌ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مُحَقَّقًا فِي الْإِيمَانِ كَانَ كَمَنْ قَالَ فِيهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ [الْحَجِّ: 11] فَأَمَّا مَا يَكُونُ مِنْ جَانِبِ الظُّلْمَةِ فَلَا يَجِبُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ مِثَالُهُ: أَنَّ الْمُرَاهِقَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ بِهِ أَبُوهُ مِنَ التَّأْدِيبِ، وَلَوْ فَعَلَهُ بِهِ غَيْرُهُ، لَكَانَ لَهُ أَنْ يُمَانِعَ بَلْ يُحَارِبَ، وَكَذَا فِي الْعَبْدِ مَعَ مَوْلَاهُ فَمَا يُدَبِّرُ تَعَالَى عِبَادَهُ عَلَيْهِ لَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا حِكْمَةً وَصَوَابًا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُ الْعِبَادُ مِنَ الظُّلْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْخِطَابُ فِي وَبَشِّرِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ الْبِشَارَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: اعْلَمْ أَنَّ الصَّبْرَ مِنْ خَوَاصِّ الْإِنْسَانِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْبَهَائِمِ وَالْمَلَائِكَةِ، أَمَّا فِي الْبَهَائِمِ فَلِنُقْصَانِهَا، وَأَمَّا فِي الْمَلَائِكَةِ فَلِكَمَالِهَا، بَيَانُهُ أَنَّ الْبَهَائِمَ سُلِّطَتْ عَلَيْهَا الشَّهَوَاتُ، وَلَيْسَ لِشَهَوَاتِهَا عَقْلٌ يُعَارِضُهَا، حَتَّى يُسَمَّى ثَبَاتُ تِلْكَ الْقُوَّةِ فِي مُقَابَلَةِ مُقْتَضَى الشَّهْوَةِ صَبْرًا، وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَإِنَّهُمْ جُرِّدُوا لِلشَّوْقِ إِلَى حَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالِابْتِهَاجِ بِدَرَجَةِ الْقُرْبِ مِنْهَا وَلَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِمْ شَهْوَةٌ صَارِفَةٌ عَنْهَا، حَتَّى تَحْتَاجَ إِلَى مُصَادَمَةِ مَا يَصْرِفُهَا عَنْ حَضْرَةِ الْجَلَالِ بِجُنْدٍ آخَرَ، وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ خُلِقَ فِي ابْتِدَاءِ الصِّبَا نَاقِصًا مِثْلَ الْبَهِيمَةِ، وَلَمْ يُخْلَقْ فِيهِ إِلَّا شَهْوَةُ الْغِذَاءِ الَّذِي هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَظْهَرُ فِيهِ شَهْوَةُ اللَّعِبِ، ثُمَّ شَهْوَةُ النِّكَاحِ، وَلَيْسَ لَهُ قُوَّةُ الصَّبْرِ الْبَتَّةَ، إِذِ الصَّبْرُ عِبَارَةٌ عَنْ ثَبَاتِ جُنْدٍ فِي مُقَابَلَةِ جُنْدٍ آخَرَ، قَامَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمَا لِتَضَادِّ مَطَالِبِهِمَا أَمَّا الْبَالِغُ فَإِنَّ فِيهِ شَهْوَةً تَدْعُوهُ إِلَى طَلَبِ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَعَقْلًا يَدْعُوهُ إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَطَلَبُ اللَّذَّاتِ الرُّوحَانِيَّةِ الْبَاقِيَةِ، فَإِذَا عَرَفَ الْعَقْلُ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِطَلَبِ هذه اللذات العاجلة، عَنِ الْوُصُولِ إِلَى تِلْكَ اللَّذَّاتِ الْبَاقِيَةِ، صَارَتْ دَاعِيَةُ الْعَقْلِ صَادَّةً وَمَانِعَةً لِدَاعِيَةِ الشَّهْوَةِ مِنَ الْعَمَلِ، فَيُسَمَّى ذَلِكَ الصَّدُّ وَالْمَنْعُ صَبْرًا، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الصَّبْرَ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: بَدَنِيٌّ، كَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ بِالْبَدَنِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ، وَهُوَ إِمَّا بِالْفِعْلِ كَتَعَاطِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ أَوْ بِالِاحْتِمَالِ/ كَالصَّبْرِ عَلَى الضَّرْبِ الشَّدِيدِ وَالْأَلَمِ الْعَظِيمِ. وَالثَّانِي: هُوَ الصَّبْرُ النَّفْسَانِيُّ وَهُوَ مَنْعُ النَّفْسِ عَنْ مُقْتَضَيَاتِ الشَّهْوَةِ وَمُشْتَهِيَاتِ الطَّبْعِ، ثُمَّ هَذَا الضَّرْبُ إِنْ كَانَ صَبْرًا عَنْ شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ سُمِّيَ عِفَّةً، وَإِنْ كَانَ عَلَى احْتِمَالٍ مَكْرُوهٍ اخْتَلَفَتْ أَسَامِيهِ عِنْدَ النَّاسِ بِاخْتِلَافِ الْمَكْرُوهِ الَّذِي عَلَيْهِ الصَّبْرُ، فَإِنْ كَانَ فِي مُصِيبَةٍ اقْتُصِرَ عَلَيْهِ بِاسْمِ الصَّبْرِ وَيُضَادُّهُ حَالَةٌ تُسَمَّى الْجَزَعَ وَالْهَلَعَ، وَهُوَ إِطْلَاقُ دَاعِي الْهَوَى فِي رَفْعِ الصَّوْتِ وَضَرْبِ الْخَدِّ وَشَقِّ الْجَيْبِ وَغَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الْغِنَى يُسَمَّى ضَبْطَ النَّفْسِ وَيُضَادُّهُ حَالَةٌ تُسَمَّى: الْبَطَرَ. وَإِنْ كَانَ فِي حَرْبٍ وَمُقَاتِلَةٍ يُسَمَّى: شَجَاعَةً، وَيُضَادُّهُ الْجُبْنُ، وَإِنْ كَانَ فِي كَظْمِ الْغَيْظِ وَالْغَضَبِ يُسَمَّى: حِلْمًا، وَيُضَادُّهُ النَّزَقُ، وَإِنْ كَانَ فِي نَائِبَةٍ مِنْ نَوَائِبِ الزَّمَانِ مُضْجِرَةٍ سُمِّيَ: سِعَةَ الصَّدْرِ، وَيُضَادُّهُ الضَّجَرُ وَالنَّدَمُ

وَضِيقُ الصَّدْرِ وَإِنْ كَانَ فِي إِخْفَاءِ كَلَامٍ يُسَمَّى: كِتْمَانَ النَّفْسِ وَيُسَمَّى صَاحِبُهُ: كَتُومًا، وَإِنْ كَانَ عَنْ فُضُولِ الْعَيْشِ سُمِّيَ زُهْدًا، وَيُضَادُّهُ الْحِرْصُ وَإِنْ كَانَ عَلَى قَدْرٍ يَسِيرٍ مِنَ الْمَالِ سُمِّيَ بِالْقَنَاعَةِ وَيُضَادُّهُ الشَّرَهُ وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى أَقْسَامَ ذَلِكَ وَسَمَّى الْكُلَّ صَبْرًا فقال: الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ أَيِ الْمُصِيبَةِ: وَالضَّرَّاءِ أَيِ الْفَقْرِ: وَحِينَ الْبَأْسِ أَيِ الْمُحَارِبَةِ: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الْبَقَرَةِ: 177] قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ الصَّبْرُ أَنْ لَا يَجِدَ الْإِنْسَانُ أَلَمَ الْمَكْرُوهِ وَلَا أَنْ لَا يَكْرَهَ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، إِنَّمَا الصَّبْرُ هُوَ حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى تَرْكِ إِظْهَارِ الْجَزَعِ، فَإِذَا كَظَمَ الْحُزْنَ وَكَفَّ النَّفْسَ عَنْ إِبْرَازِ آثَارِهِ كَانَ صَاحِبُهُ صَابِرًا، وَإِنْ ظَهَرَ دَمْعُ عَيْنٍ أَوْ تَغَيُّرُ لَوْنٍ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» وَهُوَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ مَا لَا يُعَدُّ مَعَهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ثُمَّ صَبَرَ، فَذَلِكَ يُسَمَّى سَلْوًا وَهُوَ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ قَالَ الْحَسَنُ: لَوْ كُلِّفَ النَّاسُ إِدَامَةَ الْجَزَعِ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي فَضِيلَةِ الصَّبْرِ قَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّابِرِينَ بِأَوْصَافٍ وَذَكَرَ الصَّبْرَ فِي الْقُرْآنِ فِي نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ مَوْضِعًا وَأَضَافَ أَكْثَرَ الْخَيْرَاتِ إِلَيْهِ فَقَالَ: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا [السَّجْدَةِ: 24] وَقَالَ: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [الْأَعْرَافِ: 137] وَقَالَ: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 96] وَقَالَ: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا [الْقَصَصِ: 54] وَقَالَ: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزُّمَرِ: 10] فَمَا مِنْ طَاعَةٍ إِلَّا وَأَجْرُهَا مُقَدَّرًا إِلَّا الصَّبْرَ، وَلِأَجْلِ كَوْنِ الصَّوْمِ مِنَ الصَّبْرِ قَالَ تَعَالَى: الصَّوْمُ لِي فَأَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَوَعَدَ الصَّابِرِينَ بِأَنَّهُ مَعَهُمْ فَقَالَ: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الْأَنْفَالِ: 46] وَعَلَّقَ النُّصْرَةَ عَلَى الصَّبْرِ فَقَالَ: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [آلِ عِمْرَانَ: 125] وَجَمَعَ لِلصَّابِرِينَ أُمُورًا لَمْ يَجْمَعْهَا لِغَيْرِهِمْ فَقَالَ: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [الْبَقَرَةِ: 157] . وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الصَّبْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ» وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بَعْدَ تَرْكِ مَا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَالْعَقَائِدِ، وَبِحُصُولِ مَا يَنْبَغِي، فَالِاسْتِمْرَارُ عَلَى تَرْكِ مَا لَا يَنْبَغِي هُوَ الصَّبْرُ وَهُوَ النِّصْفُ الْآخَرُ، فَعَلَى مُقْتَضَى هَذَا الْكَلَامِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ كُلُّهُ صَبْرًا إِلَّا أَنَّ تَرَكَ مَا لَا يَنْبَغِي وَفِعْلَ/ مَا يَنْبَغِي قَدْ يَكُونُ مُطَابِقًا لِلشَّهْوَةِ، فَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الصَّبْرِ، وَقَدْ يَكُونُ مُخَالِفًا لِلشَّهْوَةِ فَيَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الصَّبْرِ، فَلَا جَرَمَ جَعَلَ الصَّبْرَ نِصْفَ الْإِيمَانِ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مِنْ أَفْضَلِ مَا أُوتِيتُمُ الْيَقِينُ وَعَزِيمَةُ الصَّبْرِ وَمَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْهُمَا لَمْ يُبَالِ مَا فَاتَهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ» وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْإِيمَانُ هُوَ الصَّبْرُ» وَهَذَا شَبَهُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْحَجُّ عَرَفَةُ» . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: في بيان أن الصبر أفضل الشُّكْرَ؟ قَالَ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: دَلَالَةُ الْأَخْبَارِ عَلَى فَضِيلَةِ الصَّبْرِ أَشَدُّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مِنْ أَفْضَلِ مَا أُوتِيتُمُ الْيَقِينُ وَعَزِيمَةُ الصَّبْرِ» وَقَالَ: «يُؤْتَى بِأَشْكَرِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَيَجْزِيهِ اللَّهُ جَزَاءَ الشَّاكِرِينَ، وَيُؤْتَى بِأَصْبَرِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ نَجْزِيَكَ كَمَا جَزَيْنَا هَذَا الشَّاكِرَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ فَشَكَرْتَ، وَابْتَلَيْتُكَ فَصَبَرْتَ، لَأُضَعِّفَنَّ لَكَ الْأَجْرَ فَيُعْطَى أَضْعَافَ جَزَاءِ الشَّاكِرِينَ» وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ» فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الصَّبْرِ، لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يُذْكَرُ فِي مَعْرِضِ الْمُبَالَغَةِ، وَهِيَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَعْظَمَ دَرَجَةً مِنَ الْمُشَبَّهِ

[سورة البقرة (2) : الآيات 156 إلى 157]

كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ» وَأَيْضًا رُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا لِمَكَانِ مُلْكِهِ، وَآخِرُ الصَّحَابَةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لِمَكَانِ غِنَاهُ، وَفِي الْخَبَرِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ كُلُّهَا مِصْرَاعَانِ إِلَّا بَابَ الصَّبْرِ فَإِنَّهُ مِصْرَاعٌ وَاحِدٌ وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُهُ أَهْلُ الْبَلَاءِ وَأَمَامُهُمْ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْمِحَنَ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَاتٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ الْمِحَنَ إِذَا قَارَنَهَا الصَّبْرُ أَفَادَتْ دَرَجَةً عَالِيَةً فِي الدِّينِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْمِحَنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى خِلَافَ قَوْلِ الثَّنَوِيَّةِ الَّذِينَ يَنْسُبُونَ الْأَمْرَاضَ وَغَيْرَهَا إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَخِلَافَ قَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ الَّذِينَ يَنْسُبُونَهَا إِلَى سَعَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَنُحُوسَتِهَا. وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغِذَاءَ لَا يُفِيدُ الشِّبَعَ، وَشُرْبُ الْمَاءِ لَا يُفِيدُ الرِّيَّ، بَلْ كُلُّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِمَا أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِهِ عِنْدَ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ صَرِيحٌ فِي إِضَافَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ أَسْبَابَهَا صَحَّ مِنْهُ هَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ مَجَازٌ وَالْعُدُولُ إِلَى الْمَجَازِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ تَعَذُّرِ الحقيقة. [سورة البقرة (2) : الآيات 156 الى 157] الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) اعْلَمْ أَنَّهُ تعالى لما قال: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: 155] بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَيْفَ يَكُونُ صَابِرًا، وَأَنَّ تِلْكَ الْبِشَارَةَ كَيْفَ هِيَ؟ ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَصَائِبَ قَدْ تَكُونُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ تَكُونُ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ، أَمَّا الْخَوْفُ الَّذِي يَكُونُ مِنَ اللَّهِ فَمِثْلُ الخوف من الغرق والحريق وَالصَّاعِقَةِ وَغَيْرِهَا، وَالَّذِي مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ، فَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى عَدَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا الْجُوعُ فَلِأَجْلِ الْفَقْرِ، وَقَدْ يَكُونُ الْفَقْرُ مِنَ اللَّهِ بِأَنْ يُتْلِفَ أَمْوَالَهُمْ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْعَبْدِ بِأَنْ يُغْلَبُوا عَلَيْهِ فَيُتْلِفُوهُ، وَنَقْصُ الْأَمْوَالِ مِنَ اللَّهِ تعالى إنما يكون بالجوانح الَّتِي تُصِيبُ الْأَمْوَالَ وَالثَّمَرَاتِ، وَمِنَ الْعَدُوِّ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَنَّ الْقَوْمَ لِاشْتِغَالِهِمْ لَا يَتَفَرَّغُونَ لِعِمَارَةِ الْأَرَاضِي، وَنَقْصُ الْأَنْفُسِ مِنَ اللَّهِ بِالْإِمَاتَةِ وَمِنَ الْعِبَادِ بِالْقَتْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُضِفْ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ إِلَى نَفْسِهِ بَلْ عَمَّمَ وَقَالَ: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَهَا كُلُّ مَضَرَّةٍ يَنَالُهَا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَنَالُهَا مِنْ قِبَلِ الْعِبَادِ، لِأَنَّ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا عَلَيْهِ تَكْلِيفًا، وَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى خِلَافِهِ كَانَ تَارِكًا لِلتَّمَسُّكِ بِأَدَائِهِ فَالَّذِي يَنَالُهُ مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ أَنَّهُ حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ وَعَدْلٌ وَخَيْرٌ وَصَلَاحٌ وَأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الرِّضَا بِهِ وَتَرْكُ الْجَزَعِ وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: إِنَّا لِلَّهِ لِأَنَّ فِي إِقْرَارِهِمْ بِالْعُبُودِيَّةِ تَفْوِيضَ الْأُمُورِ إِلَيْهِ وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ فِيمَا يَبْتَلِيهِمْ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي إِلَّا بِالْحَقِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ [غَافِرٍ: 20] أَمَّا إِذَا نَزَلَتْ بِهِ الْمُصِيبَةُ مِنْ غَيْرِهِ فَتَكْلِيفُهُ أن يرجع إلى الله تعالى في الانتصاب مِنْهُ وَأَنْ يَكْظِمَ غَيْظَهُ وَغَضَبَهُ فَلَا يَتَعَدَّى إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ شُفَعَاءَ غَيْظُهُ، وَيَدْخُلُ أَيْضًا تَحْتَ قَوْلِهِ: إِنَّا لِلَّهِ لِأَنَّهُ الَّذِي أَلْزَمَهُ سُلُوكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ حَتَّى لَا يُجَاوِزَ أَمْرَهُ كَأَنَّهُ يَقُولُ فِي الْأَوَّلِ، إنا الله يُدَبِّرُ فِينَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَفِي الثَّانِي يَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ يَنْتَصِفُ لَنَا كَيْفَ يَشَاءُ.

المسألة الثانية: أَمَالَ الْكِسَائِيُّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنْ إِنَّا وَلَامِ لِلَّهِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّفْخِيمِ وَإِنَّمَا جَازَتِ الْإِمَالَةُ فِي هَذِهِ الْأَلِفِ لِلْكَسْرَةِ مَعَ كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، حَتَّى صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ: لَا يَجُوزُ إِمَالَةُ «إِنَّا» مَعَ غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا وَجَبَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْحُرُوفِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا امْتِنَاعُ الْإِمَالَةِ وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِمَالَةُ «حَتَّى» وَ «لَكِنَّ» . أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ إِنَّا لِلَّهِ إِقْرَارٌ مِنَّا لَهُ بِالْمُلْكِ: وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إِقْرَارٌ عَلَى أَنْفُسِنَا بِالْهَلَاكِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الِانْتِقَالِ إِلَى مَكَانٍ أَوْ جِهَةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى حَيْثُ لَا يَمْلِكُ الْحُكْمَ فِيهِ سواء، وَذَلِكَ هُوَ الدَّارُ الْآخِرَةُ، لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ أَحَدٌ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَمَا دَامُوا فِي الدُّنْيَا قَدْ يَمْلِكُ غَيْرُ اللَّهِ نَفْعَهُمْ وَضَرَّهُمْ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا رُجُوعًا إِلَيْهِ تَعَالَى، كَمَا يُقَالُ: إِنَّ الْمُلْكَ وَالدَّوْلَةَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ/ لَا بِمَعْنَى الِانْتِقَالِ بَلْ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ وَتَرْكِ الْمُنَازَعَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ إِقْرَارٌ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَالِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ سَيُجَازِي الصَّابِرِينَ عَلَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ، وَلَا يَضِيعُ عِنْدَهُ أَجْرُ الْمُحْسِنِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّا لِلَّهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ رَاضِيًا بِكُلِّ مَا نَزَلَ بِهِ فِي الْحَالِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ وَقَوْلُهُ: وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ فِي الْحَالِ رَاضِيًا بِكُلِّ مَا سَيَنْزِلُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، مِنْ إِثَابَتِهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَمِنْ تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ عَلَى مَا نَزَلَ بِهِ، ومن الانتصاب مِمَّنْ ظَلَمَهُ، فَيَكُونُ مُذَلِّلًا نَفْسَهُ، رَاضِيًا بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَجْرِ فِي الْآخِرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْأَخْبَارُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ. أَحَدُهَا: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ: جَبَرَ اللَّهُ مُصِيبَتَهُ، وَأَحْسَنَ عُقْبَاهُ، وَجَعَلَ لَهُ خَلَفًا صَالِحًا يَرْضَاهُ» . وَثَانِيهَا: رُوِيَ أَنَّهُ طُفِئَ سِرَاجُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» فَقِيلَ أَمُصِيبَةٌ هِيَ؟ قَالَ: نَعَمْ كُلُّ شَيْءٍ يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ فَهُوَ لَهُ مُصِيبَةٌ. وَثَالِثُهَا: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ فَيَفْزَعُ إِلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ اللَّهُمَّ عِنْدَكَ احْتَسَبْتُ مُصِيبَتِي فَأْجُرْنِي فِيهَا وَعَوِّضْنِي خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا آجَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا وَعَوَّضَهُ خَيْرًا مِنْهَا» قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ ذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ وَقُلْتُ هَذَا الْقَوْلَ: فَعَوَّضَنِي اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَرَابِعُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا سَلَّمَ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَجَعَ وَاسْتَرْجَعَ عِنْدَ مُصِيبَتِهِ كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ ثَلَاثَ خِصَالٍ: الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ، وَالرَّحْمَةُ وَتَحْقِيقُ سَبِيلِ الْهُدَى. وَخَامِسُهَا: عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نِعْمَ الْعَدْلَانِ وَهُمَا: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَنِعْمَتِ الْعِلَاوَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ لِشَيْءٍ قَضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ. أَمَّا قَوْلُهُ: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ فَاعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّهِ هِيَ: الثَّنَاءُ وَالْمَدْحُ وَالتَّعْظِيمُ، وَأَمَّا رَحْمَتُهُ فَهِيَ: النِّعَمُ الَّتِي أَنْزَلَهَا بِهِ عَاجِلًا ثُمَّ آجِلًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الْمُهْتَدُونَ لِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ الْمُوصِّلَةِ بِصَاحِبِهَا

[سورة البقرة (2) : آية 158]

إِلَى كُلِّ خَيْرٍ. وَثَانِيهَا: الْمُهْتَدُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، الْفَائِزُونَ بِالثَّوَابِ. وَثَالِثُهَا: الْمُهْتَدُونَ لِسَائِرِ مَا لَزِمَهُمْ، وَالْأَقْرَبُ فِيهِ مَا يَصِيرُ دَاخِلًا فِي الْوَعْدِ حَتَّى يَكُونَ عَطْفُهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَالرَّحْمَةِ صَحِيحًا، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُمُ الْفَائِزُونَ بِالثَّوَابِ وَالْجَنَّةِ، وَالطَّرِيقِ إِلَيْهَا لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الِاهْتِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُمُ الْمُتَأَدِّبُونَ بِآدَابِهِ الْمُتَمَسِّكُونَ بِمَا أَلْزَمَ وَأَمَرَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: اشْتَمَلَتِ الْآيَةُ عَلَى حُكْمَيْنِ: فَرْضٍ وَنَفْلٍ، أَمَّا الْفَرْضُ فَهُوَ التَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ، وَالصَّبْرُ عَلَى أَدَاءِ فَرَائِضِهِ، لَا يَصْرِفُ عَنْهَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا وَأَمَّا النَّفْلُ فَإِظْهَارًا لِقَوْلِهِ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فَإِنَّ فِي إِظْهَارِهِ فَوَائِدَ جَزِيلَةً مِنْهَا أَنَّ غَيْرَهُ يَقْتَدِي/ بِهِ إِذَا سَمِعَهُ، وَمِنْهَا غَيْظُ الْكُفَّارِ وَعِلْمُهُمْ بِجِدِّهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي دِينِ اللَّهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ وَعَلَى طَاعَتِهِ، وَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ الطَّائِيِّ قَالَ: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَا يُحَبَّ الْبَقَاءُ فِيهَا، وَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الرِّضَا عَنِ اللَّهِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَحْزُنَ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ ثَوَابًا. وَلْنَخْتِمْ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِبَيَانِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ فَنَقُولُ: الْعَبْدُ إِنَّمَا يَصْبِرُ رَاضِيًا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى بِطَرِيقَيْنِ: إِمَّا بِطَرِيقِ التَّصَرُّفِ، أَوْ بِطَرِيقِ الْجَذْبِ، أَمَّا طَرِيقُ التَّصَرُّفِ فَمِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَتَى مَالَ قَلْبُهُ إِلَى شَيْءٍ وَالْتَفَتَ خَاطِرُهُ إِلَى شَيْءٍ جَعَلَ ذَلِكَ الشَّيْءَ مَنْشَأً لِلْآفَاتِ فَحِينَئِذٍ يَنْصَرِفُ وَجْهُ الْقَلْبِ عَنْ عَالَمِ الْحُدُوثِ إِلَى جَانِبِ الْقُدُسِ فَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِالْجَنَّةِ جَعَلَهَا مِحْنَةً عَلَيْهِ حَتَّى زَالَتِ الْجَنَّةُ، فَبَقِيَ آدَمُ مَعَ ذِكْرِ اللَّهِ، وَلَمَّا اسْتَأْنَسَ يَعْقُوبُ بِيُوسُفَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَوْقَعَ الْفِرَاقَ بَيْنَهُمَا حَتَّى بَقِيَ يَعْقُوبُ مَعَ ذِكْرِ الْحَقِّ، وَلَمَّا طَمِعَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فِي النُّصْرَةِ وَالْإِعَانَةِ صَارُوا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ: «مَا أُوذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَ مَا أُوذِيتُ» . وَثَانِيهَا: أَنْ لَا يَجْعَلَ ذَلِكَ الشَّيْءَ بَلَاءً وَلَكِنْ يَرْفَعُهُ مِنَ الْبَيْنِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَا الْبَلَاءُ وَلَا الرَّحْمَةُ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْعَبْدَ مَتَى تَوَقَّعَ مِنْ جَانِبٍ شَيْئًا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِلَا وَاسِطَةٍ خَيْرًا مِنْ مُتَوَقَّعِهِ فَيَسْتَحِي الْعَبْدُ فَيَرْجِعُ إِلَى بَابِ رَحْمَةِ اللَّهِ. وَأَمَّا طَرِيقُ الْجَذْبِ فَهُوَ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «جَذْبَةٌ مِنْ جَذَبَاتِ الْحَقِّ تُوَازِي عَمَلَ الثَّقَلَيْنِ» . وَمَنْ جَذَبَهُ الْحَقُّ إِلَى نَفْسِهِ صَارَ مَغْلُوبًا لِأَنَّ الْحَقَّ غَالِبٌ لَا مَغْلُوبٌ، وَصِفَةُ الرَّبِّ الرُّبُوبِيَّةُ، وَصِفَةُ الْعَبْدِ الْعُبُودِيَّةُ، وَالرُّبُوبِيَّةُ غَالِبَةٌ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ لَا بِالضِّدِّ، وَصِفَةُ الْحَقِّ حَقِيقَةٌ، وَصِفَةُ الْعَبْدِ مَجَازٌ، وَالْحَقِيقَةُ غَالِبَةٌ عَلَى الْمَجَازِ لَا بِالضِّدِّ، وَالْغَالِبُ يَقْلِبُ الْمَغْلُوبَ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ تَلِيقُ بِهِ، وَالْعَبْدُ إِذَا دَخَلَ عَلَى السُّلْطَانِ الْمَهِيبِ نَسِيَ نَفْسَهُ وَصَارَ بِكُلِّ قَلْبِهِ وَفِكْرِهِ وَحِسِّهِ مُقْبِلًا عَلَيْهِ وَمُشْتَغِلًا بِهِ وَغَافِلًا عَنْ غَيْرِهِ، فكيف بمن لحظ نصره حَضْرَةَ السُّلْطَانِ الَّذِي كَانَ مَنْ عَدَاهُ حَقِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَيَصِيرُ الْعَبْدُ هُنَالِكَ كَالْفَانِي عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ حُظُوظِ نَفْسِهِ فَيَصِيرُ هُنَالِكَ رَاضِيًا بِأَقْضِيَةِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَحْكَامِهِ مِنْ غَيْرِ أن يبقى في طاعته شبهة المنازعة. [سورة البقرة (2) : آية 158] إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا حَوَّلَ الْقِبْلَةَ إِلَى الْكَعْبَةِ لِيُتِمَّ إِنْعَامَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ بِإِحْيَاءِ شَرَائِعِ إِبْرَاهِيمَ/ وَدِينِهِ عَلَى ما قال: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ [البقرة:

150] وَكَانَ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ شَعَائِرِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي قِصَّةِ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ وَسَعْيِ هَاجَرَ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْحُكْمَ عَقِيبَ تِلْكَ الْآيَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ [البقرة: 155] إِلَى قَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ قَالَ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ وَإِنَّمَا جَعَلَهُمَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا مِنْ آثَارِ هَاجَرَ وَإِسْمَاعِيلَ مِمَّا جَرَى عَلَيْهِمَا مِنَ الْبَلْوَى وَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى الْبَلْوَى لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِلَ إِلَى أَعْظَمِ الدَّرَجَاتِ وَأَعْلَى الْمَقَامَاتِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَقْسَامَ تَكْلِيفِ اللَّهِ تَعَالَى ثَلَاثَةٌ. أَحَدُهَا: مَا يَحْكُمُ الْعَقْلُ بِحُسْنِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَذَكَرَ هَذَا الْقِسْمَ أَوَّلًا وَهُوَ قَوْلُهُ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [الْبَقَرَةِ: 152] فَإِنَّ كان عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ ذِكْرَ الْمُنْعِمِ بِالْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى شُكْرِهِ أَمْرٌ مُسْتَحْسَنٌ فِي الْعُقُولِ. وَثَانِيهَا: مَا يَحْكُمُ الْعَقْلُ بِقُبْحِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ إِلَّا أَنَّهُ بِسَبَبِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ يُسَلِّمُ حُسْنَهُ، وَذَلِكَ مِثْلُ إِنْزَالِ الْآلَامِ وَالْفَقْرِ وَالْمِحَنِ فَإِنَّ ذَلِكَ كَالْمُسْتَقْبَحِ فِي الْعُقُولِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَتَأَلَّمُ الْعَبْدُ مِنْهُ فَكَانَ ذَلِكَ كَالْمُسْتَقْبَحِ إِلَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا وَرَدَ بِهِ وَبَيَّنَ الْحِكْمَةَ فِيهِ، وَهِيَ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ عَلَى مَا قَالَ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ [البقرة: 155] فَحِينَئِذٍ يَعْتَقِدُ الْمُسْلِمُ حُسْنَهُ وَكَوْنَهُ حِكْمَةً وَصَوَابًا. وَثَالِثُهَا: الْأَمْرُ الَّذِي لَا يُهْتَدَى لَا إِلَى حُسْنِهِ وَلَا إِلَى قُبْحِهِ، بَلْ يَرَاهُ كَالْعَبَثِ الْخَالِي عَنِ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَضَرَّةِ وَهُوَ مِثْلُ أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْقِسْمَ عَقِيبَ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلِينَ لِيَكُونَ قَدْ نَبَّهَ عَلَى جَمِيعِ أَقْسَامِ تَكَالِيفِهِ وذكراً لِكُلِّهَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِيفَاءِ وَالِاسْتِقْصَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ عَلَمَانِ لِلْجَبَلَيْنِ الْمَخْصُوصَيْنِ إِلَّا أَنَّ النَّاسَ تَكَلَّمُوا فِي أَصْلِ اشْتِقَاقِهِمَا قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قِيلَ إِنَّ الصَّفَا وَاحِدٌ وَيُجْمَعُ عَلَى صِفِيِّ وَأَصْفَاءٍ كَمَا يُقَالُ عَصَا وَعِصِيٌّ، وَرَحَا وَأَرْحَاءٌ قَالَ الزاجر: كَأَنَّ مَتْنَيْهِ مِنَ النَّفِيِّ ... مَوَاقِعُ الطَّيْرِ مِنَ الصِّفِيِّ وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى جَمْعٍ وَاحِدَتُهُ صَفَاةٌ قَالَ جَرِيرٌ: إِنَّا إِذَا قَرَعَ الْعَدُوُّ صَفَاتَنَا ... لَاقَوْا لَنَا حَجَرًا أَصَمَّ صَلُودَا وَفِي كِتَابِ الْخَلِيلِ: الصَّفَا الْحَجَرُ الضَّخْمُ الصُّلْبُ الْأَمْلَسُ، وَإِذَا نَعَتُوا الصَّخْرَةَ قَالُوا: صَفَاةٌ صَفْوَاءُ، وَإِذَا ذَكَّرُوا قَالُوا: صَفَا صَفْوَانُ: فَجَعَلَ الصَّفَا وَالصَّفَاةَ كَأَنَّهُمَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ وَقَالَ الْمُبَرِّدُ الصَّفَا كُلُّ حَجَرٍ لَا يُخَالِطُهُ غَيْرُهُ مِنْ طِينٍ أَوْ تراب متصل به، واشتقاقه من صفا يصفوا إِذَا خَلُصَ وَأَمَّا الْمَرْوَةُ فَقَالَ الْخَلِيلُ: مِنَ الْحِجَارَةِ مَا كَانَ أَبْيَضَ أَمْلَسَ صُلْبًا شَدِيدَ الصلابة، وقاله غير: هو الحجارة الصغيرة يجمع فِي الْقَلِيلِ مَرَوَاتٌ وَفِي الْكَثِيرِ مَرْوٌ قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ: حَتَّى كَأَنِّي لِلْحَوَادِثِ مَرْوَةٌ ... بِصَفَا الْمَشَاعِرِ كُلَّ يَوْمٍ يَقْرَعُ وَأَمَّا شَعائِرِ اللَّهِ فَهِيَ أَعْلَامُ طَاعَتِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ جُعِلَ عَلَمًا مِنْ أَعْلَامِ طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ شَعَائِرِ/ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [الْحَجِّ: 36] أَيْ عَلَامَةً لِلْقُرْبَةِ، وَقَالَ: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ [الْحَجِّ: 32] وَشَعَائِرُ الْحَجِّ: مَعَالِمُ نُسُكِهِ وَمِنْهُ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، وَمِنْهُ إِشْعَارُ السَّنَامِ: وَهُوَ أَنْ يُعَلَّمَ بِالْمُدْيَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَمًا عَلَى إِحْرَامِ صَاحِبِهَا، وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ جَعَلَهُ هَدْيًا لِبَيْتِ اللَّهِ، وَمِنْهُ الشَّعَائِرُ فِي الْحَرْبِ،

وَهُوَ الْعَلَامَةُ الَّتِي يَتَبَيَّنُ بِهَا إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ مِنَ الْأُخْرَى وَالشَّعَائِرُ جَمْعُ شَعِيرَةٍ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِشْعَارِ الَّذِي هُوَ الْإِعْلَامُ وَمِنْهُ قَوْلُكَ: شَعَرْتُ بِكَذَا، أَيْ عَلِمْتُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الشَّعَائِرُ إِمَّا أَنْ نَحْمِلَهَا عَلَى الْعِبَادَاتِ أَوْ عَلَى النُّسُكِ، أَوْ نَحْمِلَهَا عَلَى مَوَاضِعِ الْعِبَادَاتِ وَالنُّسُكِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ حَصَلَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، لِأَنَّ نَفْسَ الْجَبَلَيْنِ لَا يَصِحُّ وَصْفُهُمَا بِأَنَّهُمَا دِينٌ وَنُسُكٌ، فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا وَالسَّعْيَ مِنْ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي اسْتَقَامَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ، لِأَنَّ هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا مَوْضِعَيْنِ لِلْعِبَادَاتِ وَالْمَنَاسِكِ وَكَيْفَ كَانَ فَالسَّعْيُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ وَمِنْ أَعْلَامِ دِينِهِ، وَقَدْ شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنَ الْمَنَاسِكِ الَّذِي حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال: وَأَرِنا مَناسِكَنا [البقرة: 128] وَاعْلَمْ أَنَّ السَّعْيَ لَيْسَ عِبَادَةً تَامَّةً فِي نَفْسِهِ بَلْ إِنَّمَا يَصِيرُ عِبَادَةً إِذَا صَارَ بَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِ الْحَجِّ، فَلِهَذَا السِّرِّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ يَصِيرُ السَّعْيُ عِبَادَةً فَقَالَ: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْحِكْمَةُ فِي شَرْعِ هَذَا السَّعْيِ الْحِكَايَةُ الْمَشْهُورَةُ وَهِيَ أَنَّ هَاجَرَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ حِينَ ضَاقَ بِهَا الْأَمْرُ فِي عَطَشِهَا وَعَطَشِ ابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَغَاثَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْمَاءِ الَّذِي أَنْبَعَهُ لَهَا وَلِابْنِهَا مِنْ زَمْزَمَ حَتَّى يَعْلَمَ الْخَلْقُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُخَلِّي أَوْلِيَاءَهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمِحَنِ إِلَّا أَنَّ فَرَجَهُ قَرِيبٌ مِمَّنْ دَعَاهُ فَإِنَّهُ غِيَاثُ الْمُسْتَغِيثِينَ، فَانْظُرْ إِلَى حَالِ هَاجَرَ وَإِسْمَاعِيلَ كَيْفَ أَغَاثَهُمَا وَأَجَابَ دُعَاءَهُمَا، ثُمَّ جَعَلَ أَفْعَالَهُمَا طَاعَةً لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَآثَارَهُمَا قُدْوَةً لِلْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ لِيُعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَحْقِيقٌ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ أَنَّهُ يَبْتَلِي عِبَادَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ إِلَّا أَنَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ نَالَ السَّعَادَةَ فِي الدَّارَيْنِ وَفَازَ بِالْمَقْصِدِ الْأَقْصَى فِي الْمَنْزِلَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ذَكَرَ الْقَفَّالُ فِي لَفْظِ الْحَجِّ أَقْوَالًا. الْأَوَّلُ: الْحَجُّ فِي اللُّغَةِ كَثْرَةُ الِاخْتِلَافِ إِلَى شَيْءٍ وَالتَّرَدُّدِ إِلَيْهِ، فَمَنْ زَارَ الْبَيْتَ لِلْحَجِّ فَإِنَّهُ يَأْتِيهِ أَوَّلًا لِيَعْرِفَهُ ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِ لِلطَّوَافِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ إِلَى مِنًى ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِ لِطَوَافِ الصَّدْرِ. الثَّانِي: قَالَ قُطْرُبٌ: الْحَجُّ الْحَلْقُ يُقَالُ: احْجُجْ شَجَّتَكَ، وَذَلِكَ أَنْ يَقْطَعَ الشَّعْرَ مِنْ نَوَاحِي الشجة ليدخل المحجاج فِي الشَّجَّةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: حَجَّ فُلَانٌ أَيْ خلق، قَالَ الْقَفَّالُ وَهَذَا مُحْتَمَلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الْفَتْحِ: 27] أَيْ حُجَّاجًا وَعُمَّارًا، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْحَلَقِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ مُسَمًّى بِهَذَا الِاسْمِ لِمَعْنَى الْحَلْقِ. الثَّالِثُ: قَالَ قَوْمٌ الْحَجُّ الْقَصْدُ، يُقَالُ: رَجُلٌ مَحْجُوجٌ، وَمَكَانٌ/ مَحْجُوجٌ إِذَا كَانَ مَقْصُودًا، وَمِنْ ذَلِكَ مَحَجَّةُ الطَّرِيقِ، فَكَانَ الْبَيْتُ لَمَّا كَانَ مَقْصُودًا بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعِبَادَةِ سُمِّيَ ذَلِكَ الْفِعْلُ حَجًّا، قَالَ الْقَفَّالُ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ رَجُلٌ مَحْجُوجٌ إِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ يُخْتَلَفُ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَكَذَلِكَ مَحَجَّةُ الطَّرِيقِ هُوَ الَّذِي كَثُرَ السَّيْرُ إِلَيْهِ. وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الِاعْتِمَارُ هُوَ الْقَصْدُ وَالزِّيَارَةُ، قَالَ الْأَعْشَى: وَجَاشَتِ النَّفْسُ لَمَّا جَاءَ جَمْعُهُمُ ... وَرَاكِبٌ جَاءَ مِنْ تَثْلِيثِ مُعْتَمِرِ وَقَالَ قُطْرُبٌ: الْعُمْرَةُ فِي كَلَامِ عَبْدِ الْقَيْسِ: الْمَسْجِدُ، وَالْبَيْعَةُ، وَالْكَنِيسَةُ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَلَا شُبْهَةَ فِي

الْعُمْرَةِ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى الْبَيْتِ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الزِّيَارَةِ، لِأَنَّ الْمُعْتَمِرَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ كَالزَّائِرِ، وَأَمَّا الْجَنَاحُ فَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: جَنَحَ إِلَى كَذَا أَيْ مَالَ إِلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الْأَنْفَالِ: 61] وَجَنَحَتِ السَّفِينَةُ إِذَا لَزِمَتِ الْمَاءَ فَلَمْ تَمْضِ، وَجَنَحَ الرَّجُلُ فِي الشَّيْءِ يُعَلِّمُهُ بِيَدِهِ إِذَا مَالَ إِلَيْهِ بِصَدْرِهِ وَقِيلَ لِلْأَضْلَاعِ: جَوَانِحُ لِاعْوِجَاجِهَا، وَجَنَاحُ الطَّائِرِ مِنْ هَذَا، لِأَنَّهُ يَمِيلُ فِي أَحَدِ شِقَّيْهِ وَلَا يَطِيرُ عَلَى مُسْتَوَى خِلْقَتِهِ فَثَبَتَ أَنَّ أَصْلَهُ مِنَ الْمَيْلِ، ثُمَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ بَقِيَ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ كَذَلِكَ أَيْضًا فَمَعْنَى: لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَيْنَمَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ: لَا مَيْلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ بِمُطَالَبَةِ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمَيْلِ إِلَى الْبَاطِلِ وَإِلَى مَا يَأْثَمُ بِهِ. وَقَوْلُهُ: أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما أَيْ يَتَطَوَّفَ فَأُدْغِمَتِ التاء في الطاء كما قال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: 1] ، يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [الْمُزَّمِّلِ: 1] أَيْ الْمُتَدَثِّرُ وَالْمُتَزَمِّلُ، وَيُقَالُ: طَافَ وَأَطَافَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَالَّذِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِثْمَ فِي فِعْلِهِ يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ وَالْمُبَاحُ، ثُمَّ يَمْتَازُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عن الآخر بقيد زائد، فإذن ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَاجِبٌ، أَوْ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِأَنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَقْسَامِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ الْبَتَّةَ عَلَى خُصُوصِيَّةٍ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا السَّعْيَ رُكْنٌ، وَلَا يَقُومُ الدَّمُ مَقَامَهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِرُكْنٍ، وَيَقُومُ الدَّمُ مَقَامَهُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ، أَنَّ مَنْ تَرَكَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ فَاسْعَوْا» ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ السَّعْيِ وَهُوَ الْعَدْوُ، ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّعْيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَدْوِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الْجُمُعَةِ: 9] وَالْعَدْوُ فِيهِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى [النَّجْمِ: 39] وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَدْوَ، بَلِ الْجِدَّ وَالِاجْتِهَادَ فِي الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْعَدْوِ، وَلَكِنَّ الْعَدْوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى صِفَةِ تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ فِي حَقِّ هَذِهِ الصِّفَةِ، فَيَبْقَى أَصْلُ الْمَشْيِ وَاجِبًا. وَثَانِيهَا: مَا ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَعَى لَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا فِي حَجَّتِهِ، وَقَالَ: «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقَى عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى/ الْبَيْتَ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَعَى وَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا السَّعْيُ لِلْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْقُرْآنُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوهُ وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [آلِ عِمْرَانَ: 31] وَقَوْلُهُ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الْأَحْزَابِ: 21] وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ أَشْوَاطٌ شُرِعَتْ فِي بُقْعَةٍ مِنْ بِقَاعِ الْحَرَمِ، أَوْ يُؤْتَى بِهِ فِي إِحْرَامٍ كَامِلٍ فَكَانَ جِنْسُهَا رُكْنًا كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَلَا يَلْزَمُ طَوَافُ الصَّدْرِ لِأَنَّ الْكَلَامَ لِلْجِنْسِ لِوُجُوبِهِ مَرَّةً، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: هَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَهَذَا لَا يُقَالُ فِي الْوَاجِبَاتِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَبَيَّنَ أَنَّهُ تَطَوُّعٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَثَانِيهِمَا: قَوْلُهُ: «الْحَجُّ عَرَفَةُ» وَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي التَّمَامَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، فَيَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي السَّعْيِ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: مَا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَى فَاعِلِهِ، وَهَذَا الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلَالَةٌ

عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ وَالَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ [النِّسَاءِ: 101] وَالْقَصْرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَاجِبٌ، مَعَ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ فَكَذَا هَاهُنَا. الثَّانِي: أَنَّهُ رَفَعَ الْجُنَاحَ عَنِ الطَّوَافِ بِهِمَا لَا عَنِ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا، وَعِنْدَنَا الْأَوَّلُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَإِنَّمَا الثَّانِي هُوَ الْوَاجِبُ. الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ عَلَى الصَّفَا صَنَمٌ وَعَلَى الْمَرْوَةِ صَنَمٌ وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَطُوفُونَ بِهِمَا وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِمَا فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَرِهَ الْمُسْلِمُونَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا لِأَجْلِ الصَّنَمَيْنِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ انْصَرَفَتِ الْإِبَاحَةُ إِلَى وُجُودِ الصَّنَمَيْنِ حَالَ الطَّوَافِ لَا إِلَى نَفْسِ الطَّوَافِ كما لو كان في الثواب نَجَاسَةٌ يَسِيرَةٌ عِنْدَكُمْ، أَوْ دَمُ الْبَرَاغِيثِ عِنْدَنَا، فَقِيلَ: لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ أَنْ تُصَلِّيَ فِيهِ، فَإِنَّ رَفْعَ الْجُنَاحِ يَنْصَرِفُ إِلَى مَكَانِ النَّجَاسَةِ لَا إِلَى نَفْسِ الصَّلَاةِ. الرَّابِعُ: رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ: إِنِّي أَرَى أَنْ لَا حَرَجَ عَلَيَّ فِي أَنْ لَا أَطُوفَ بِهِمَا، فَقَالَتْ: بِئْسَ مَا قُلْتَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ: أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، ثُمَّ حَكَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الصَّنَمَيْنِ، وَتَفْسِيرُ عَائِشَةَ راجع عَلَى تَفْسِيرِ التَّابِعِينَ، فَإِنْ قَالُوا: قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا) وَاللَّفْظُ أَيْضًا مُحْتَمِلٌ لَهُ كَقَوْلِهِ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النِّسَاءِ: 176] أَيْ أَنْ لَا تَضِلُّوا، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ [الْأَعْرَافِ: 172] مَعْنَاهُ: أَنْ لَا تَقُولُوا، قُلْنَا: الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ تَصْحِيحَهَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ مُتَوَاتِرًا. الْخَامِسُ: كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْوَاجِبِ، فَكَذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْمَنْدُوبِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ السَّعْيَ مَنْدُوبٌ، فَقَدْ صَارَتِ الْآيَةُ مَتْرُوكَةَ الْعَمَلِ بِظَاهِرِهَا. وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَضَعِيفٌ، لِأَنَّ هَذَا لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّطَوُّعِ هُوَ الطَّوَافُ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ شَيْئًا آخَرَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ [الْبَقَرَةِ: 184] ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ [البقرة: 184] فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الطَّعَامَ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ إِلَى التَّطَوُّعِ بِالْخَيْرِ فَكَانَ الْمَعْنَى: فَمَنْ تَطَوَّعَ وَزَادَ عَلَى طَعَامِ مِسْكِينٍ كَانَ خَيْرًا، فَكَذَا هَاهُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّطَوُّعُ مَصْرُوفًا إِلَى شَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَزِيدُ فِي الطَّوَافِ فَيَطُوفُ أَكْثَرَ مِنَ الطَّوَافِ الْوَاجِبِ مِثْلَ أَنْ يَطُوفَ ثَمَانِيَةً أَوْ أَكْثَرَ. الثَّانِي: أَنْ يَتَطَوَّعَ بَعْدَ حَجِّ الْفَرْضِ وَعُمْرَتِهِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَرَّةً أُخْرَى حَتَّى طَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَطَوُّعًا وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي تَمَسَّكُوا بِهِ فَنَقُولُ: ذَلِكَ الْحَدِيثُ عَامٌّ وَحَدِيثُنَا خَاصٌّ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَعَاصِمٍ وَالْكِسَائِيِّ (يَطَّوَّعْ) بِالْيَاءِ وَجَزْمِ الْعَيْنِ، وَتَقْدِيرُهُ: يَتَطَوَّعُ، إِلَّا أَنَّ التَّاءَ أُدْغِمَتْ فِي الطَّاءِ لِتَقَارُبِهِمَا، وَهَذَا أَحْسَنُ لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِقْبَالِ وَالشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ الْأَحْسَنُ فِيهِمَا الِاسْتِقْبَالُ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مَنْ أَتَانِي أَكْرَمْتُهُ فَيُوقِعُ الْمَاضِي مَوْقِعَ الْمُسْتَقْبَلِ فِي الْجَزَاءِ، إِلَّا أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا كَانَ يُوَافِقُ الْمَعْنَى كَانَ أَحْسَنَ، وَأَمَّا الْبَاقُونَ مِنَ الْقُرَّاءِ فَقَرَءُوا تَطَوَّعَ عَلَى وَزْنِ تَفَعَّلَ مَاضِيًا وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ تَطَوَّعَ جَزْمًا. الثَّانِي: أَنْ لَا يُجْعَلَ (مِنْ) لِلْجَزَاءِ، وَلَكِنْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ (الَّذِي) وَيَكُونُ مُبْتَدَأً وَالْفَاءُ مَعَ مَا بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِكَوْنِهَا خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ الْمَوْصُولِ وَالْمَعْنَى فِيهِ مَعْنَى مُبْتَدَأِ الْخَبَرِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْفَاءَ إِذَا دَخَلَتْ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ أَوِ النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ، أَفَادَتْ أَنَّ الثَّانِيَ إِنَّمَا وَجَبَ لِوُجُوبِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النَّحْلِ: 53] فَمَا مُبْتَدَأٌ مَوْصُولٌ، وَالْفَاءُ مَعَ مَا بَعْدَهَا خَبَرٌ لَهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: الَّذِينَ

[سورة البقرة (2) : آية 159]

يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ [النساء: 38] إلى قوله: لَهُمْ أَجْرُهُمْ [البقرة: 274] وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ [الْبُرُوجِ: 10] إِلَى قَوْلِهِ: فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَقَوْلُهُ: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وقوله: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا وَقَوْلُهُ: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَقَوْلُهُ: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ وَنَذْكُرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً [الْبَقَرَةِ: 274] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: تَطَوَّعَ تَفَعَّلَ مِنَ الطَّاعَةِ وَسَوَاءٌ قَوْلُ الْقَائِلِ: طَاعَ وَتَطَوَّعَ، كَمَا يُقَالُ: حَالَ وَتَحَوَّلَ وَقَالَ وَتَقَوَّلَ وَطَافَ وَتَطَوَّفَ وَتَفَعَّلَ بِمَعْنَى فَعَلَ كَثِيرًا، وَالطَّوْعُ هُوَ الِانْقِيَادُ، وَالطَّوْعُ مَا تَرْغَبُ بِهِ مِنْ ذَاتِ نَفْسِكَ مِمَّا لَا يَجِبُ عَلَيْكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِينَ قَالُوا: السَّعْيُ وَاجِبٌ، فَسَّرُوا هَذَا التَّطَوُّعَ بِالسَّعْيِ الزَّائِدِ عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِالسَّعْيِ فِي الْحَجَّةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ مِنْهُ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ أَوْفَقُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ فَاعْلَمْ أَنَّ الشَّاكِرَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمُظْهِرُ لِلْإِنْعَامِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، فَالشَّاكِرُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى مَجَازٌ، وَمَعْنَاهُ الْمُجَازِي عَلَى الطَّاعَةِ: وَإِنَّمَا سَمَّى الْمُجَازَاةَ عَلَى الطَّاعَةِ شُكْرًا لِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّفْظَ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّلَطُّفِ لِلْعِبَادِ مُبَالَغَةً فِي الْإِحْسَانِ/ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْبَقَرَةِ: 245] وَهُوَ تَعَالَى لَا يَسْتَقْرِضُ مِنْ عِوَضٍ، وَلَكِنَّهُ تَلَطُّفٌ فِي الِاسْتِدْعَاءِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ الْمُقْرِضِ بِأَنْ يُقَدِّمَ فَيَأْخُذَ أَضْعَافَ مَا قَدَّمَ. الثَّانِي: أَنَّ الشُّكْرَ لَمَّا كَانَ مُقَابِلًا لِلْإِنْعَامِ أَوِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ سُمِّيَ كُلُّ مَا كَانَ جَزَاءً شُكْرًا عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ. الثَّالِثُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَنَا وَإِنْ كُنْتُ غَنِيًّا عَنْ طَاعَتِكَ إِلَّا أَنِّي أَجْعَلُ لَهَا مِنَ الْمَوْقِعِ بِحَيْثُ لَوْ صَحَّ عَلَى أَنْ أَنْتَفِعَ بِهَا لَمَا ازْدَادَ وَقْعُهُ عَلَى مَا حَصَلَ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ طَاعَةَ الْعَبْدِ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَوَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْقَبُولِ فِي أَقْصَى الدَّرَجَاتِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: عَلِيمٌ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَعْلَمُ قَدْرَ الْجَزَاءِ فَلَا يَبْخَسُ الْمُسْتَحِقَّ حَقَّهُ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِقَدْرِهِ وَعَالِمٌ بِمَا يَزِيدُ عَلَيْهِ مِنَ التَّفَضُّلِ، وَهُوَ أَلْيَقُ بِالْكَلَامِ لِيَكُونَ لقوله تعالى: عَلِيمٌ تعلق بشاكر وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَأْتِي الْعَبْدُ فَيَقُومُ بِحَقِّهِ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَمَا يَفْعَلُهُ لَا عَلَى هَذَا الْحَدِّ، وَذَلِكَ تَرْغِيبٌ فِي أَدَاءِ مَا يَجِبُ عَلَى شُرُوطِهِ، وَتَحْذِيرٌ من خلاف ذلك. [سورة البقرة (2) : آية 159] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) [في هذه الْآيَةِ مَسَائِلُ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الدِّينِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ يَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْعُمُومِ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا نَفَرًا مِنَ الْيَهُودِ عَمَّا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَاتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمِنَ الْأَحْكَامِ، فَكَتَمُوا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ وَالسُّدِّيِّ وَالْأَصَمِّ. وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَالْعَارِضُ الْمَوْجُودُ، وَهُوَ نزوله عند سبب معين لا يَقْتَضِي الْخُصُوصَ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا

بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ ثَبَتَ أَيْضًا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْوَصْفُ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كِتْمَانَ الدِّينِ يُنَاسِبُهُ اسْتِحْقَاقُ اللَّعْنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْوَصْفُ عِلَّةً لِهَذَا الْحُكْمِ وَجَبَ عُمُومُ هَذَا الْحُكْمِ عِنْدَ عُمُومِ الْوَصْفِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ حَمَلُوا هَذَا اللَّفْظَ عَلَى الْعُمُومِ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى فَحُمِلَتِ الْآيَةُ عَلَى الْعُمُومِ، وَعَنْ/ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَوْلَا آيَتَانِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا بَعْدَ أَنْ قَالَ النَّاسُ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ. وَتَلَا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى وَاحْتَجَّ مَنْ خَصَّ الْآيَةَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، أَنَّ الْكِتْمَانَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْهُمْ فِي شَرْعِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَأَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ مُتَوَاتِرٌ، فَلَا يَصِحُّ كِتْمَانُهُ، قُلْنَا: الْقُرْآنُ قَبْلَ صَيْرُورَتِهِ مُتَوَاتِرًا يَصِحُّ كِتْمَانُهُ، وَالْمُجْمَلُ مِنَ الْقُرْآنِ إِذَا كَانَ بَيَانُهُ عِنْدَ الْوَاحِدِ صَحَّ كِتْمَانُهُ وَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا يَحْتَاجُ الْمُكَلَّفُ إِلَيْهِ مِنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: الْكِتْمَانُ تَرْكُ إِظْهَارِ الشَّيْءِ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَحُصُولُ الدَّاعِي إِلَى إِظْهَارِهِ لِأَنَّهُ مَتَى لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَا يُعَدُّ كِتْمَانًا، فَلَمَّا كَانَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ أَشَدِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ، وَصَفَ مَنْ عَلِمَهُ وَلَمْ يُظْهِرْهُ بِالْكِتْمَانِ، كَمَا يُوصَفُ أَحَدُنَا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا بِالْكِتْمَانِ، إِذَا كَانَتْ مِمَّا تَقْوَى الدَّوَاعِي عَلَى إِظْهَارِهَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُمْدَحُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى كِتْمَانِ السِّرِّ، لِأَنَّ الْكِتْمَانَ مِمَّا يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يَتَّصِلُ بِالدِّينِ وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُكَلَّفُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُكْتَمَ، ومن كتمه فقد عظمت خطيئته، ونظيره هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آلِ عِمْرَانَ: 187] وَقَرِيبٌ مِنْهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [الْبَقَرَةِ: 174] فَهَذِهِ الْآيَةُ كُلُّهَا مُوجِبَةٌ لِإِظْهَارِ عُلُومِ الدِّينِ تَنْبِيهًا لِلنَّاسِ وَزَاجِرَةٌ عَنْ كِتْمَانِهَا، وَنَظِيرُهَا فِي بَيَانِ الْعِلْمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ذِكْرُ الْوَعِيدِ لِكَاتِمِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التَّوْبَةِ: 122] وَرَوَى حَجَّاجٌ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يَعْلَمُهُ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ فَالْمُرَادُ كُلُّ مَا أنزله على الأنبياء كتاباً وحياً دُونَ أَدِلَّةِ الْعُقُولِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْهُدى يَدْخُلُ فِيهِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ وَالنَّقْلِيَّةُ، لِأَنَّا بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: 2] أَنَّ الْهُدَى عِبَارَةٌ عَنِ الدَّلَائِلِ فَيَعُمُّ الْكُلَّ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ: وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ فَعَادَ إِلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ قُلْنَا: الْأَوَّلُ هُوَ التَّنْزِيلُ وَالثَّانِي مَا يَقْتَضِيهِ التَّنْزِيلُ مِنَ الْفَوَائِدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكِتَابَ لَمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَالْإِجْمَاعَ وَالْقِيَاسَ حُجَّةٌ فَكُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَحَدُ هَذِهِ الْأُمُورِ فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَكَانَ كِتْمَانُهُ دَاخِلًا تَحْتَ الْآيَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى تَوَعَّدَ عَلَى كِتْمَانِ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَجَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي الْوَعِيدِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَمْكَنَهُ بَيَانُ أُصُولِ الدِّينِ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ لِمَنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا ثُمَّ تَرَكَهَا أَوْ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَعَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فَقَدْ لَحِقَهُ الْوَعِيدُ الْعَظِيمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذَا الْإِظْهَارُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ وَهَذَا لِأَنَّهُ إِذَا أَظْهَرَ الْبَعْضُ/ صَارَ بِحَيْثُ

يَتَمَكَّنُ كُلُّ أَحَدٍ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ فَلَمْ يَبْقَ مَكْتُومًا، وَإِذَا خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْكِتْمَانِ لم يجب على الباقيين إِظْهَارُهُ مَرَّةً أُخْرَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَقَالَ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ إِظْهَارَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَاجِبٌ، وَلَوْ لَمْ يَجِبِ الْعَمَلُ بِهَا لَمْ يَكُنْ إِظْهَارُهَا وَاجِبًا وَتَمَامُ التَّقْرِيرِ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا [الْبَقَرَةِ: 160] فَحَكَمَ بِوُقُوعِ الْبَيَانِ بِخَبَرِهِمْ فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مَنْهِيًّا عَنِ الكتمان ومأمور بِالْبَيَانِ لِيَكْثُرَ الْمُخْبِرُونَ فَيَتَوَاتَرَ الْخَبَرُ؟ قُلْنَا: هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُمْ مَا نُهُوا عَنِ الْكِتْمَانِ إِلَّا وَهُمْ مِمَّنْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْكِتْمَانُ وَمَنْ جَازَ مِنْهُمُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكِتْمَانِ جَازَ مِنْهُمُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْوَضْعِ وَالِافْتِرَاءِ فَلَا يَكُونُ خَبَرُهُمْ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى التَّعْلِيمِ لِأَنَّ الْآيَةَ لَمَّا دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ كَانَ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ أَخْذًا لِلْأُجْرَةِ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [البقرة: 174] وظاهر ذلك بمنع أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى الْإِظْهَارِ وَعَلَى الْكِتْمَانِ جَمِيعًا لأن قوله: وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [البقرة: 174] مَانِعٌ أَخَذَ الْبَدَلِ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ قيل فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنَ الْأَحْكَامِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْمَنْزِلِ الْأَوَّلِ مَا فِي كُتُبِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالثَّانِي: مَا فِي الْقُرْآنِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ فَاللَّعْنَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هِيَ الْإِبْعَادُ وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ الْإِبْعَادُ مِنَ الثَّوَابِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ فَيَجِبُ أَنْ يحمل على من للعنة تَأْثِيرٌ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ كَذَلِكَ فَهُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ لَا مَحَالَةَ، وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [الْبَقَرَةِ: 161] وَالنَّاسُ ذَكَرُوا وُجُوهًا أُخَرَ. أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّاعِنِينَ هُمْ دَوَابُّ الْأَرْضِ وَهَوَامُّهَا، فَإِنَّهَا تَقُولُ: مُنِعْنَا الْقَطَرَ بِمَعَاصِي بَنِي آدَمَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَإِنَّمَا قَالَ: اللَّاعِنُونَ وَلَمْ يَقُلِ اللَّاعِنَاتُ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهَا بِصِفَةِ مَنْ يَعْقِلُ فَجَمَعَهَا جَمْعَ مَنْ يَعْقِلُ كَقَوْلِهِ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يُوسُفَ: 4] ويا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النَّمْلِ: 18] وقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا [فُصِّلَتْ: 21] ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 33] . وَثَانِيهَا: كُلُّ شَيْءٍ سِوَى الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ اللَّعْنُ مِنَ الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ؟ قُلْنَا: عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَاقِلَةً لَكَانَتْ تَلْعَنُهُمْ. الثَّانِي: أَنَّهَا فِي الْآخِرَةِ إِذَا أُعِيدَتْ وَجُعِلَتْ مِنَ الْعُقَلَاءِ فَإِنَّهَا تَلْعَنُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَمَاتَ عَلَيْهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَهْلَ النَّارِ/ يَلْعَنُونَهُمْ أَيْضًا حَيْثُ كَتَمُوهُمُ الدِّينَ، فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ. وَرَابِعُهَا: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا تَلَاعَنَ الْمُتَلَاعِنَانِ وَقَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقٌّ رَجَعَتْ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ كَتَمُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَخَامِسُهَا: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ لَهُمْ لَعْنَتَيْنِ: لَعْنَةَ اللَّهِ. وَلَعْنَةَ الْخَلَائِقِ. قَالَ: وَذَلِكَ إِذَا وُضِعَ الرَّجُلُ فِي قَبْرِهِ فَيُسْأَلُ: مَا دِينُكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ وَمَنْ

[سورة البقرة (2) : آية 160]

رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: مَا أَدْرِي فَيُضْرَبُ ضَرْبَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ، فَلَا يَسْمَعُ شَيْءٌ صَوْتَهُ إِلَّا لَعَنَهُ، وَيَقُولُ لَهُ الْمَلَكُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ، كَذَلِكَ كُنْتَ فِي الدُّنْيَا. وَسَادِسُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: (اللَّاعِنُونَ) هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ، وَمَعْنَى اللَّعْنِ مِنْهُمْ: مُبَاعَدَةُ الْمَلْعُونِ وَمُشَاقَّتُهُ وَمُخَالَفَتُهُ مَعَ السُّخْطِ عَلَيْهِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ. قَالَ الْقَاضِي: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكِتْمَانَ مِنَ الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ فِيهِ اللَّعْنَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكْتُمْ مَا حُمِّلَ مِنَ الرسالة وإلا كان داخلًا في الآية. [سورة البقرة (2) : آية 160] إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ عَظِيمَ الْوَعِيدِ فِي الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْوَعِيدَ يَلْحَقُهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ إِذَا تَابُوا تَغَيَّرَ حُكْمُهُمْ، وَدَخَلُوا فِي أَهْلِ الْوَعِيدِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّوْبَةَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّدَمِ عَلَى فِعْلِ الْقَبِيحِ لَا لِغَرَضٍ سِوَاهُ، لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ رَدَّ الْوَدِيعَةِ ثُمَّ نَدِمَ عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّاسَ ذَمُّوهُ، أَوْ لِأَنَّ الْحَاكِمَ رَدَّ شَهَادَتَهُ لَمْ يَكُنْ تَائِبًا، وَكَذَلِكَ لَوْ عَزَمَ عَلَى رَدِّ كُلِّ وَدِيعَةٍ، والقيام بكل واجب، لكي تقبل شهادة، أَوْ يُمْدَحَ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ تَائِبًا، وَهَذَا مَعْنَى الْإِخْلَاصِ فِي التَّوْبَةِ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ مِنْ إِصْلَاحِ مَا أَفْسَدَهُ مَثَلًا لَوْ أَفْسَدَ عَلَى غَيْرِهِ دِينَهُ بِإِيرَادِ شُبْهَةٍ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ إِزَالَةُ تِلْكَ الشُّبْهَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ ثَالِثًا أَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُ ضِدِّ الْكِتْمَانِ، وَهُوَ الْبَيَانُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَبَيَّنُوا فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِتَرْكِ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي وَبِفِعْلِ كُلِّ مَا يَنْبَغِي، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ عَنْ بَعْضِ الْمَعَاصِي مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْبَعْضِ لَا تَصِحُّ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَصْلَحُوا عَامٌّ فِي الْكُلِّ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ اللَّفْظَ الْمُطْلَقَ يَكْفِي فِي صِدْقِهِ حُصُولُ فَرْدٍ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَقْلًا، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ وَاجِبًا لَمَا حَسُنَ هَذَا الْمَدْحُ وَمَعْنَى: أَتُوبُ عَلَيْهِمْ أَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ وَقَبُولُ التَّوْبَةِ يَتَضَمَّنُ إِزَالَةَ عِقَابِ مَا تَابَ مِنْهَا فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا قُلْتُمْ أَنَّ مَعْنَى فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ هُوَ قَبُولُ التَّوْبَةِ بِمَعْنَى الْمُجَازَاةِ وَالثَّوَابِ كَمَا تَقُولُونَ فِي قَبُولِ الطَّاعَةِ قُلْنَا: الطَّاعَةُ إِنَّمَا أَفَادَ قَبُولُهَا اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ، لِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ بِهَا سِوَاهُ وَهُوَ الْغَرَضُ بِفِعْلِهَا/ وَلَيْسَ كَذَلِكَ التَّوْبَةُ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِإِسْقَاطِ الْعِقَابِ، وَهُوَ الْغَرَضُ بِفِعْلِهَا، وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهَا الثَّوَابَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُخْطِئًا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَنَا التَّوَّابُ الْقَابِلُ لِتَوْبَةِ كُلِّ ذِي تَوْبَةٍ فَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ، وَمَعْنَى الرَّحِيمِ عَقِيبَ ذَلِكَ: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ لِرَحْمَتِهِ بِالْمُكَلَّفِينَ مِنْ عِبَادِهِ، يَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ بَعْدَ التَّفْرِيطِ الْعَظِيمِ منهم. [سورة البقرة (2) : الآيات 161 الى 162] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ بِبَعْضِ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ الْآيَاتِ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ التَّائِبِينَ مِنْهُمْ، ذَكَرَ أَيْضًا حَالَ مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ أُولَئِكَ الْكَاتِمِينَ مَلْعُونُونَ حَالَ الْحَيَاةِ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ

الْآيَةِ أَنَّهُمْ مَلْعُونُونَ أَيْضًا بَعْدَ الْمَمَاتِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ مَتَى كَانَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ لَا يَكُونُونَ دَاخِلِينَ تَحْتَ الْآيَةِ الْأُولَى، فَأَمَّا إِذَا دَخَلُوا تَحْتَ الْأُولَى: اسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِهِمْ فَيَجِبُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَأْنَفٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا ذُكِرَ فِي الْكَلَامِ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ صَارَ الْوَعِيدُ لَازِمًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَلَمَّا كَانَ الْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ عَدَمًا عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ عَلِمْنَا أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يَكُنْ حَالُهُ كَذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَلْعَنُهُ النَّاسُ أَجْمَعُونَ، وَأَهْلُ دِينِهِ لَا يَلْعَنُونَهُ؟ قُلْنَا الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ أَهْلَ دِينِهِ يَلْعَنُونَهُ فِي الْآخِرَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الْعَنْكَبُوتِ: 25] . وَثَانِيهَا: قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ: أَرَادَ بِالنَّاسِ أَجْمَعِينَ الْمُؤْمِنِينَ، كَأَنَّهُ لَمْ يَعْتَدَّ بِغَيْرِهِمْ وَحَكَمَ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ النَّاسُ لَا غَيْرَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَلْعَنُ الْجَاهِلَ وَالظَّالِمَ لِأَنَّ قُبْحَ ذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي الْعُقُولِ، فَإِذَا كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ جَاهِلًا أَوْ ظَالِمًا وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ كَوْنَهُ كَذَلِكَ، كَانَتْ لَعْنَتُهُ عَلَى الْجَاهِلِ وَالظَّالِمِ تَتَنَاوَلُ نَفْسَهُ عَنِ السُّدِّيِّ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يُحْمَلَ وُقُوعُ اللَّعْنِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ اللَّعْنِ، وَحِينَئِذٍ يَعُمُّ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَعْنَ مَنْ مَاتَ كَافِرًا، / وَأَنَّ زَوَالَ التَّكْلِيفِ عَنْهُ بِالْمَوْتِ لَا يُسْقِطُ عَنَّا لَعْنَهُ وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قَدِ اقْتَضَى أَمْرَنَا بِلَعْنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَوْ جُنَّ لَمْ يَكُنْ زَوَالُ التَّكْلِيفِ عَنْهُ بِالْجُنُونِ مُسْقِطًا لِلَعْنِهِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ السَّبِيلُ فِيمَا يُوجِبُ الْمَدْحَ وَالْمُوَالَاةَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ، فَإِنَّ مَوْتَ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ أَوْ جُنُونَهُ، لَا يُغَيِّرُ حُكْمَهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ حُدُوثِ الْحَالِ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْقَائِلُونَ بِالْمُوَافَاةِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: عَلَّقَ تَعَالَى وُجُوبَ لَعْنَتِهِ بِأَنْ يَمُوتَ عَلَى كُفْرِهِ فَلَوِ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْكُفْرَ إِنَّمَا يُفِيدُ اسْتِحْقَاقَ اللَّعْنِ لَوْ مَاتَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ وَكَذَا الْإِيمَانُ إِنَّمَا يُفِيدُ اسْتِحْقَاقَ الْمَدْحِ إِذَا مَاتَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ. الْجَوَابُ: الْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَى الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ مَجْمُوعُ أُمُورٍ مِنْهَا اللَّعْنُ لَوْ مَاتَ، وَمِنْهَا الْخُلُودُ فِي النَّارِ، وَعِنْدَنَا أَنَّ هَذَا الْمَجْمُوعَ وَهُوَ اللَّعْنُ وَحْدَهُ، لِمَ قُلْتُمْ: أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْكُفْرَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَا بَقِيَ عَلَى الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ وَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ وَاللَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ حَالَ مَوْتِهِمْ بِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكُفْرَ بِمَعْنَى السَّتْرِ وَالتَّغْطِيَةِ، لَا يَبْقَى فِيهِمْ حَالَ الْمَوْتِ، لِأَنَّ التَّغْطِيَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي حَقِّ الْحَيِّ الْفَاهِمِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ مَعَ التَّوْكِيدِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ مَعَ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ بَعْضُهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: خالِدِينَ فِيها فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْخُلُودُ اللُّزُومُ الطَّوِيلُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: أَخْلَدَ إِلَى كَذَا أَيْ لَزِمَهُ وَرَكَنَ إِلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعَامِلُ فِي خالِدِينَ الظَّرْفُ مِنْ قَوْلِهِ (عَلَيْهِمْ) لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ لِلَّعْنَةِ فَهُوَ حَالٌ من

[سورة البقرة (2) : آية 163]

الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي عَلَيْهِمْ كَقَوْلِكَ: عَلَيْهِمُ الْمَالُ صَاغِرِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: خالِدِينَ فِيها أَيْ فِي اللَّعْنَةِ، وَقِيلَ فِي النَّارِ إِلَّا أَنَّهَا أُضْمِرَتْ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهَا وَتَهْوِيلًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: 1] وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ إِذَا وُجِدَ لَهُ مَذْكُورٌ مُتَقَدِّمٌ فَرَدُّهُ إِلَيْهِ أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إِلَى مَا لَمْ يُذْكَرْ. الثَّانِي: أَنَّ حَمْلَ هَذَا الضَّمِيرِ عَلَى اللَّعْنَةِ أَكْثَرُ فَائِدَةً من حمله على النار، لأن اللعنة هُوَ الْإِبْعَادُ مِنَ الثَّوَابِ بِفِعْلِ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ وَإِيجَادِهِ فِي الدُّنْيَا فَكَانَ اللَّعْنُ يَدْخُلُ فِيهِ النَّارُ وَزِيَادَةٌ فَكَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ أَوْلَى. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: خالِدِينَ فِيها إِخْبَارٌ عَنِ الْحَالِ، وَفِي حَمْلِ الضَّمِيرِ عَلَى اللَّعْنِ يَكُونُ ذَلِكَ حَاصِلًا فِي الْحَالِ، وَفِي حَمْلِهِ عَلَى النَّارِ لَا يَكُونُ حَاصِلًا فِي الْحَالِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذَا الْعَذَابَ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ. أَحَدُهَا: الْخُلُودُ وَهُوَ الْمُكْثُ الطَّوِيلُ عِنْدَنَا، وَالْمُكْثُ الدَّائِمُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: 81] . وَثَانِيهَا: عَدَمُ التَّخْفِيفِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي يَنَالُهُمْ مِنْ/ عَذَابِ اللَّهِ فَهُوَ مُتَشَابِهٌ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا، لَا يَصِيرُ بَعْضُ الْأَوْقَاتِ أَقَلَّ مِنْ بَعْضٍ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا التَّشَابُهُ مُمْتَنِعٌ لِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا تَصَوَّرَ حَالَ غَيْرِهِ فِي شِدَّةٍ كَالْعِقَابِ، كَانَ ذَلِكَ كَالتَّخْفِيفِ مِنْهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى يُوَفِّرُ عَلَيْهِمْ مَا فَاتَ وَقْتُهُ مِنَ الْعَذَابِ ثُمَّ تَنْقَطِعُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَخْفِيفًا. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ حَيْثُمَا يُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَزْدَادُ غَمُّهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. (أَجَابُوا عَنْهُ) بِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الْقَلِيلَةِ، فَالْمُسْتَغْرِقُ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ لَا يَنْتَبِهُ لِهَذَا الْقَدْرِ الْقَلِيلِ مِنَ التَّفَاوُتِ، قَالُوا: وَلَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعِقَابَ مُتَشَابِهٌ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَائِمًا لِأَنَّهُمْ لَوْ جَوَّزُوا انْقِطَاعَ ذَلِكَ مِمَّا يُخَفِّفُ عنهم إذا تصوره، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَاقِعَ فِي مِحْنَةٍ عَظِيمَةٍ فِي الدُّنْيَا إِذَا بُشِّرَ بِالْخَلَاصِ بَعْدَ أَيَّامٍ فَإِنَّهُ يَفْرَحُ وَيُسَرُّ وَيَسْهُلُ عَلَيْهِ مَوْقِعُ مِحْنَتِهِ وَكُلَّمَا كَانَتْ مِحْنَتُهُ أَعْظُمَ، كَانَ مَا يَلْحَقُهُ مِنَ الرَّوْحِ وَالتَّخْفِيفِ بِتَصَوُّرِ الِانْقِطَاعِ أَكْثَرَ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ صِفَاتِ ذَلِكَ الْعِقَابِ: قَوْلُهُ: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وَالْإِنْظَارُ هُوَ التَّأْجِيلُ وَالتَّأْخِيرُ قَالَ تَعَالَى: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [الْبَقَرَةِ: 280] وَالْمَعْنَى: أَنَّ عَذَابَهُمْ لَا يُؤَجَّلُ، بَلْ يَكُونُ حَاضِرًا مُتَّصِلًا بِعَذَابٍ مِثْلِهِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمَنَا أَنَّ حُكْمَ دَارِ الْعَذَابِ وَالثَّوَابِ بِخِلَافِ حُكْمِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ يُمْهَلُونَ فِيهَا إِلَى آجَالٍ قَدَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي الْآخِرَةِ لَا مُهْلَةَ الْبَتَّةَ فَإِذَا اسْتَمْهَلُوا لَا يُمْهَلُونَ، وَإِذَا اسْتَغَاثُوا لَا يُغَاثُونَ وَإِذَا استعتبوا لا يعتبون، وقيل لهم اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 108] نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْعِقَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَّتْ عَلَى يَأْسِ الْكَافِرِ مِنَ الِانْقِطَاعِ وَالتَّخْفِيفِ والتأخير [سورة البقرة (2) : آية 163] وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ لَفْظِ الْإِلَهِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَمَّا الْوَاحِدُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَوْلُهُمْ وَاحِدٌ اسْمٌ جَرَى عَلَى وَجْهَيْنِ فِي كَلَامِهِمْ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اسْمًا وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا، فَالِاسْمُ الَّذِي لَيْسَ بِصِفَةٍ قَوْلُهُمْ: وَاحِدٌ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْعَدَدِ نَحْوُ: وَاحِدٌ اثْنَانِ ثَلَاثَةٌ، فَهَذَا اسْمٌ لَيْسَ بِوَصْفٍ كَمَا أَنَّ سَائِرَ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ كَذَلِكَ، وَأَمَّا كَوْنُهُ صِفَةً فَنَحْوُ قَوْلِكَ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ وَهَذَا شَيْءٌ وَاحِدٌ فَإِذَا أُجْرِيَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَازَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي هُوَ الْوَصْفُ كَالْعَالِمِ وَالْقَادِرِ،

وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي هُوَ الِاسْمُ كَقَوْلِنَا شَيْءٌ وَيُقَوِّي الْأَوَّلَ قَوْلُهُ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وَأَقُولُ: تَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ فِي الْعَقْلِ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا وَاحِدٌ مُشْتَرِكَةٌ فِي مَفْهُومِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَمُخْتَلِفَةٌ فِي خُصُوصِيَّاتِ مَاهِيَّاتِهَا، أَعْنِي كَوْنَهَا جَوْهَرًا، أَوْ عَرَضًا، أَوْ جِسْمًا، أَوْ مُجَرَّدًا، وَيَصِحُّ أَيْضًا فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَعْنِي مَاهِيَّتَهُ، / وَكَوْنَهُ وَاحِدًا مَعَ الذُّهُولِ عَنِ الْآخَرِ، فَإِذَنْ كَوْنُ الْجَوْهَرِ جَوْهَرًا مَثَلًا غَيْرٌ، وَكَوْنُهُ وَاحِدًا غَيْرٌ، وَالْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا غَيْرٌ، فَلَفْظُ الْوَاحِدِ تَارَةً يُفِيدُ مُجَرَّدَ مَعْنَى أَنَّهُ وَاحِدٌ، وَهَذَا هُوَ الِاسْمُ، وَتَارَةً يُفِيدُ مَعْنَى أَنَّهُ وَاحِدٌ حِينَ مَا يَحْصُلُ نَعْتًا لِشَيْءٍ آخَرَ، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهِ نَعْتًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَاحِدِيَّةُ هَلْ هِيَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ أَمْ لَا؟ اخْتَلَفُوا فِيهَا فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّا إِذَا قُلْنَا هَذَا الْجَوْهَرُ وَاحِدٌ، فَالْمَفْهُومُ مِنْ كَوْنِهِ جَوْهَرًا، غَيْرُ الْمَفْهُومِ مِنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا، بِدَلِيلِ أَنَّ الْجَوْهَرَ يُشَارِكُهُ الْعَرَضُ فِي كَوْنِهِ وَاحِدًا، وَلَا يُشَارِكُهُ فِي كَوْنِهِ جَوْهَرًا، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُعْقَلَ كَوْنُهُ جَوْهَرًا حَالَ الذُّهُولِ عن كونه واحداً والمعلوم مغايراً لِغَيْرِ الْمَعْلُومِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَوْنُهُ وَاحِدًا نَفْسَ كَوْنِهِ جَوْهَرًا، لَكَانَ قَوْلُنَا الْجَوْهَرُ وَاحِدٌ جَارِيًا مَجْرَى قَوْلِنَا: الْجَوْهَرُ جَوْهَرٌ، وَلِأَنَّ مُقَابِلَ الْجَوْهَرِ هُوَ الْعَرَضُ، وَمُقَابِلَ الْوَاحِدِ هُوَ الْكَثِيرُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَلْبِيًّا أَوْ ثُبُوتِيًّا لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ سَلْبِيًّا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سَلْبِيًّا لَكَانَ سَلْبًا لِلْكَثْرَةِ وَالْكَثْرَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ سَلْبِيَّةً أَوْ ثُبُوتِيَّةً، فَإِنْ كَانَتِ الْكَثْرَةُ سَلْبِيَّةً، والواحدة سَلْبُ الْكَثْرَةِ، كَانَتِ الْوَحْدَةُ سَلْبًا لِلسَّلْبِ وَسَلْبُ السَّلْبِ ثُبُوتٌ، فَالْوَحْدَةُ ثُبُوتِيَّةٌ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَإِنْ كَانَتِ الْكَثْرَةُ ثُبُوتِيَّةً وَلَا مَعْنًى لِلْكَثْرَةِ إِلَّا مَجْمُوعَ الْوَحَدَاتِ فَلَوْ كَانَتِ الْوَحْدَةُ سَلْبِيَّةً مَعَ الْكَثْرَةِ كَانَ مَجْمُوعُ الْمَعْدُومَاتِ أَمْرًا مَوْجُودًا وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْوَحْدَةَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ، ثُمَّ هَذِهِ الصِّفَةُ الزَّائِدَةُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَا تَحَقُّقَ لَهَا إِلَّا فِي الذِّهْنِ أولها تَحَقُّقٌ خَارِجَ الذِّهْنِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ وَإِلَّا لَمْ يَكُنِ الذِّهْنِيُّ مُطَابِقًا لِمَا فِي الْخَارِجِ، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي نَفْسِهِ وَاحِدًا وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الشَّيْءَ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ قَدْ كَانَ واحداً في نفسه قبل أن وجد ذِهْنِيًّا وَفَرَضِيًّا وَاعْتِبَارِيًّا، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ وَاحِدًا صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى ذَاتِهِ قَائِمَةٌ بِتِلْكَ الذَّاتِ، وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَى كَوْنَ الْوَحْدَةِ صِفَةً ثُبُوتِيَّةً بِأَنْ قَالَ: لَوْ كَانَتِ الْوَحْدَةُ صِفَةً زَائِدَةً عَلَى الذَّاتِ، كَانَتِ الْوَحَدَاتُ مُتَسَاوِيَةً فِي مَاهِيَّةِ كَوْنِهَا وَاحِدَةً وَمُتَبَايِنَةً بِتَعَيُّنَاتِهَا، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِلْوَحْدَةِ وَحْدَةٌ أُخْرَى، وَيَنْجَرُّ ذَلِكَ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَهُوَ مُحَالٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْوَاحِدُ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ مِنْ جِهَةِ مَا قِيلَ لَهُ إِنَّهُ وَاحِدٌ، فَالْإِنْسَانُ الْوَاحِدُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَنْقَسِمَ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِنْسَانٌ إِلَى إِنْسَانَيْنِ بَلْ قَدْ يَنْقَسِمُ إِلَى الْأَبْعَاضِ وَالْأَجْزَاءِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْوَحْدَةِ حَتَّى الْعَدَدُ فَإِنَّ الْعَشَرَةَ الْوَاحِدَةَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا عَشَرَةٌ وَاحِدَةٌ قَدْ عَرَضَتِ الْوَحْدَةُ لَهَا فَإِنْ قُلْتَ: عَشَرَتَانِ فَالْعَشَرَتَانِ مَرَّةً وَاحِدَةً قَدْ عَرَضَتِ الْوَحْدَةُ لَهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، فَلَا شَيْءَ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ يَنْفَكُّ عَنِ الْوَحْدَةِ وَلِأَجْلِ هَذَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِهِمُ الْوَحْدَةُ بِالْمَوْجُودِ فَظَنَّ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ لَمَّا صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ وَاحِدٌ كَانَ وُجُودُهُ نَفْسَ وَحْدَتِهِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْوُجُودَ يَنْقَسِمُ إِلَى الْوَاحِدِ وَالْكَثِيرِ وَالْمُنْقَسِمُ إِلَى شَيْءٍ مُغَايِرٌ لِمَا بِهِ الِانْقِسَامُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاحِدٌ بِاعْتِبَارَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَتْ ذَاتُهُ مُرَكَّبَةً مِنِ اجْتِمَاعِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ مَا يُشَارِكُهُ فِي كَوْنِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَفِي كَوْنِهِ مَبْدَأً لِوُجُودِ جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، فَالْجَوْهَرُ الْفَرْدُ عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُهُ وَاحِدٌ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ وَاحِدٌ بِالتَّفْسِيرِ الثَّانِي. والبرهان على

ثُبُوتِ الْوَحْدَةِ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَكَّبًا لَافْتَقَرَ تَحَقُّقُهُ إِلَى تَحَقُّقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ غَيْرُهُ، فَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ، وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ إِلَى غَيْرِهِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ فَهُوَ مُرَكَّبٌ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، فَمَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا، فَإِذَنْ حَقِيقَتُهُ سُبْحَانَهُ حَقِيقَةٌ أَحَدِيَّةٌ فَرْدِيَّةٌ لَا كَثْرَةَ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، لَا كَثْرَةً مِقْدَارِيَّةً، كَمَا تَكُونُ لِلْأَجْسَامِ، وَلَا كَثْرَةً مَعْنَوِيَّةً كَمَا تَكُونُ لِلنَّوْعِ الْمُتَرَكِّبِ مِنَ الْفَصْلِ وَالْجِنْسِ أَوِ الشَّخْصِ الْمُتَرَكِّبِ مِنَ الْمَاهِيَّةِ وَالتَّشَخُّصِ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ صَعُبَ ذَلِكَ عَلَى أَقْوَامٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ قَادِرٌ حَيٌّ مُرِيدٌ، فَالْمَفْهُومُ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ إِمَّا هُوَ نَفْسُ الْمَفْهُومِ مِنْ ذَاتِهِ أَوْ لَيْسَ كَذَلِكَ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُمْكِنُنَا أَنْ نَتَعَقَّلَ ذَاتَهُ مَعَ الذُّهُولِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُمْكِنُنَا تَعَقُّلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ مَعَ الذُّهُولِ عَنْ أَنْ نَتَعَقَّلَ ذَاتَهُ الْمَخْصُوصَةَ بَلْ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ ذَاتَهُ الْمَخْصُوصَةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، وَصِفَاتُهُ مَعْلُومَةٌ وَالْمَعْلُومُ مُغَايِرٌ لِمَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ، فَإِذَنْ هَذِهِ الصِّفَاتُ أُمُورٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَوْ كَانَتْ هِيَ نَفْسَ الذَّاتِ لَكَانَ قَوْلُنَا فِي الذَّاتِ: إِنَّهَا عَالِمَةٌ أَوْ لَيْسَتْ عَالِمَةً جَارِيًا مَجْرَى قَوْلِنَا الذات ذات أو لا ذات، ولا استحال أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْبَحْثِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَامَ الْبُرْهَانُ عَلَى نَفْيِهِ وَإِثْبَاتِهِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ: الذَّاتُ ذَاتٌ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ بِالضَّرُورَةِ صِدْقَهُ وَمَنْ قَالَ: الذَّاتُ لَيْسَتْ بِذَاتٍ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ بِالضَّرُورَةِ كَذِبَهُ، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُنَا: الذَّاتُ عَالِمَةٌ أَوْ لَيْسَتْ عَالِمَةً لَيْسَ بِمَثَابَةِ قَوْلِنَا لِذَاتٍ ذَاتُ الذَّاتِ لَيْسَتْ بِذَاتٍ عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ أُمُورٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَرْجِعُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ إِلَى ذَاتِهِ فَقَطْ وَذَاتُهُ لَيْسَتْ إِلَّا شَيْئًا وَاحِدًا لَكَانَ الْمَرْجِعُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إِقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا تُغْنِي عَنْ إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا، وَعَلَى كَوْنِهِ حَيًّا، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلِ افْتَقَرْنَا فِي كُلِّ صِفَةٍ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمَرْجِعُ بِهَا إِلَى الذَّاتِ، إِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ أُمُورٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ، فَنَقُولُ: هَذِهِ الصِّفَاتُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ سَلْبِيَّةً أَوْ ثُبُوتِيَّةً، لَا جَائِزَ أَنْ تَكُونَ سَلْبِيَّةً، لِأَنَّ السَّلْبَ نَفْيٌ مَحْضٌ، وَالنَّفْيُ الْمَحْضُ لَا تَخَصُّصَ فِيهِ، وَلِأَنَّا جَعَلْنَا كَوْنَهُ عَالِمًا قَادِرًا عِبَارَةً عَنْ نَفْيِ الْجَهْلِ وَالْعَجْزِ، فَالْجَهْلُ وَالْعَجْزُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَرْجِعُ بِهِمَا إِلَى الْعَدَمِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا قَادِرٍ، أَوْ يَكُونَ الْمَرْجِعُ إِلَى أَمْرٍ ثُبُوتِيٍّ: وَهُوَ أَنَّ الْجَهْلَ عِبَارَةٌ عَنِ اعْتِقَادٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ، وَالْعَجْزَ عِبَارَةٌ عَنْ إِخْلَالِ حَالِ الْقُدْرَةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ عِبَارَةً عَنْ سَلْبِ السَّلْبِ، فَيَكُونُ ثُبُوتِيًّا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَلْزَمْ مِنِ انْتِفَاءِ الْجَهْلِ وَالْعَجْزِ بِهَذَا الْمَعْنَى تَحَقُّقُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، فَإِنَّ الْجَمَادَ قَدِ انْتَفَى عَنْهُ الْجَهْلُ وَالْعَجْزُ بِهَذَا الْمَعْنَى مَعَ/ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أُمُورٌ زَائِدَةٌ عَلَى ذَاتِهِ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ، وَالْإِلَهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، فَقَدْ عَادَ الْقَوْلُ إِلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِلَهِ تَعَالَى مُرَكَّبَةٌ مِنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، فَكَيْفَ الْقَوْلُ فِيهِ؟ وَإِشْكَالٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْوَحْدَةَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ قَائِمَةٌ بِالذَّاتِ، فَإِذَا كَانَتْ حَقِيقَةُ الْحَقِّ وَاحِدَةً، فَهُنَاكَ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ: تِلْكَ الْحَقِيقَةُ، وَتِلْكَ الْوَاحِدِيَّةُ وَمَوْصُوفِيَّةُ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ بِتِلْكَ الْوَاحِدِيَّةِ، فَذَلِكَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، فَأَيْنَ التَّوْحِيدُ؟ وَإِشْكَالٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ تِلْكَ الْحَقِيقَةَ هَلْ هِيَ مَوْجُودَةٌ وَوَاجِبَةُ الْوُجُودِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فَهِيَ بِوُجُودِهَا تُشَارِكُ سَائِرَ الْمَوْجُودَاتِ وَبِمَاهِيَّاتِهَا تَمْتَازُ عَنْ سَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ، فَهُنَاكَ كَثْرَةٌ حَاصِلَةٌ بِسَبَبِ الْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْعَدَمِ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْوُجُوبِ، فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ وَاجِبَةَ الوجود

لِذَاتِهَا، فَوُجُوبُ وُجُودِهَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ عَيْنَ الذَّاتِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ صِفَةٌ لِانْتِسَابِ الْمَوْضُوعِ إِلَى الْمَحْمُولِ بِالْمَوْصُوفِيَّةِ وَالِانْتِسَابُ مُغَايِرٌ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مُغَايِرٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ حَيْثُ هُوَ فَلَأَنْ تَكُونَ صِفَةُ ذَلِكَ الِانْتِسَابِ مُغَايِرَةً لَهُمَا أَوْلَى، وَأَيْضًا فَالذَّاتُ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُسَمَّى الْوَاجِبِ أَمْرًا قَائِمًا بِالنَّفْسِ وَلِأَنَّا نَصِفُ الذَّاتَ بِالْوُجُوبِ وَوَصْفُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ مَوْجُودٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ لَكَانَ وُجُوبُ وُجُودِهِ زَائِدًا عَلَى ذَاتِهِ، فَهُنَاكَ أَمْرَانِ تِلْكَ الذَّاتُ مَعَ ذَلِكَ الْوُجُوبِ وَمَعَ الْمَوْصُوفِيَّةِ بِذَلِكَ الْوُجُوبِ فَقَدْ عَادَ التَّثْلِيثُ. وَإِشْكَالٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الْبَسِيطَةَ هَلْ يُمْكِنُ الْإِخْبَارُ عَنْهَا وَهَلْ يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا أَمْ لَا. وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ إِنَّمَا يَكُونُ بِشَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ، فَالْمُخْبَرُ عَنْهُ غَيْرُ الْمُخْبَرِ بِهِ فَهُمَا أَمْرَانِ لَا وَاحِدٌ، وَإِنْ لَمْ يكن التعبير عنه فهو غير مَعْلُومٌ الْبَتَّةَ لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ فَهُوَ مَغْفُولٌ عَنْهُ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا فِي هَذَا المقام من السؤال: وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَاتٌ مَوْصُوفَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَجْمُوعَ مُفْتَقِرٌ فِي تَحَقُّقِهِ إِلَى تَحَقُّقِ أَجْزَائِهِ إِلَّا أَنَّ الذَّاتَ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا وَاجِبَةٌ لِذَاتِهَا، ثُمَّ إِنَّهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا بَعْدِيَّةٌ بِالرُّتْبَةِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِتِلْكَ النُّعُوتِ والصفات فهذا مما لا امتناع فِيهِ عِنْدَ الْعَقْلِ. وَأَمَّا الْإِشْكَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْوَحْدَةَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا وَاحِدَةٌ فَهُنَاكَ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ لَا أَمْرٌ وَاحِدٌ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الَّذِي ذَكَرْتُهُ حَقٌّ وَلَكِنْ فُرِّقَ بَيْنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ وَبَيْنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ، فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ مَعَ تَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ فهناك تتحقق الوحدة وهاهنا حَالَةٌ عَجِيبَةٌ فَإِنَّ الْعَقْلَ مَا دَامَ يَلْتَفِتُ إِلَى الْوَحْدَةِ فَهُوَ بَعْدُ لَمْ يَصِلْ إِلَى عَالَمِ الْوَحْدَةِ، فَإِذَا تَرَكَ الْوَحْدَةَ فَقَدْ وَصَلَ إِلَى الْوَحْدَةِ فَاعْتَبِرْ هَذِهِ الْحَالَةَ بِذِهْنِكَ اللَّطِيفِ لَعَلَّكَ تَصِلُ إِلَى سِرِّهِ وَهَذَا أَيْضًا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ إِشْكَالِ الْوُجُودِ وَإِشْكَالِ الْوُجُوبِ. أَمَّا الْإِشْكَالُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ؟ فَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ لِأَنَّكَ مَتَى عَبَّرْتَ عَنْهُ فَقَدْ أَخْبَرْتَ عَنْهُ بِأَمْرٍ آخَرَ، وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ مُغَايِرٌ لِلْمُخْبَرِ بِهِ لَا مَحَالَةَ، فَلَيْسَ هُنَاكَ تَوْحِيدٌ، وَلَوْ أَخْبَرْتَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ، فَهُنَاكَ ذَاتٌ مَعَ سَلْبٍ خَاصٍّ، فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ تَوْحِيدٌ فَأَمَّا إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخْبِرَ عَنْهُ لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ، فَهُنَاكَ تَحَقَّقَ الْوُصُولُ إِلَى مَبَادِئِ عَالَمِ التَّوْحِيدِ، ثُمَّ الِالْتِفَاتُ الْمَذْكُورُ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ إِلَّا بِقَوْلِهِ هُوَ فَلِذَلِكَ عَظُمَ وَقْعُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عِنْدَ الْخَائِضِينَ فِي بِحَارِ التَّوْحِيدِ، وَسَنَذْكُرُ شَمَّةً مِنْ حَقَائِقِهَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا الْوَحْدَةُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي، وَهِيَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ يُشَارِكُهُ فِي وُجُوبِ الْوُجُودِ، فكأن هَذِهِ الْوَحْدَةَ هِيَ الْوَحْدَةُ الْخَاصَّةُ بِذَاتِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَبَرَاهِينُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] أم الْوَحْدَةُ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، فَلَيْسَتْ مِنْ خَوَاصِّ ذَاتِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي وُجُودِ مَوْجُودَاتٍ وَهَذِهِ الْمَوْجُودَاتُ إِمَّا مُفْرَدَاتٌ أَوْ مُرَكَّبَاتٌ، فَالْمُرَكَّبُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ الْمُفْرَدَاتِ في عالم الْمُمْكِنَاتِ، فَالْوَاحِدِيَّةُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَيْسَتْ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَوَحَّدَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ بِهَا، أَمَّا الْوَاحِدِيَّةُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَوَحِّدٌ بِهَا وَمُتَفَرِّدٌ بِهَا، وَلَا يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ النَّعْتِ شَيْءٌ سِوَاهُ، فَهَذِهِ تَلْخِيصُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِحَسَبِ مَا

يَلِيقُ بِعَقْلِ الْبَشَرِ وَفِكْرِهِ الْقَاصِرِ، مَعَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ تَصَرُّفَاتِ الْأَفْكَارِ وَالْأَوْهَامِ، وَعَلَائِقِ الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ، وَلَا بِذِي أَجْزَاءٍ، وَلِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالْقِدَمِ، وَلِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَلِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِصِفَاتِ ذَاتِهِ نَحْوَ كَوْنِهِ عَالِمًا بِنَفْسِهِ، وَقَادِرًا بِنَفْسِهِ، وَأَبُو هَاشِمٍ يَقْتَصِرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فَجَعَلَ تَفَرُّدَهُ بِالْقِدَمِ، وَبِصِفَاتِ الذَّاتِ وَجْهًا وَاحِدًا، قَالَ الْقَاضِي: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُرَادُ تَفَرُّدُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ فَقَطْ، لِأَنَّهُ أَضَافَ التَّوْحِيدَ إِلَى ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ لَا قَسِيمَ لَهُ، وَوَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ لَا شَبِيهَ لَهُ، وَوَاحِدٌ فِي أَفْعَالِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ، أَمَّا أَنَّهُ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ فَلِأَنَّ تِلْكَ الذَّاتَ الْمَخْصُوصَةَ الَّتِي هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِنَا هُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَاصِلَةً فِي شَخْصٍ آخَرَ سِوَاهُ، أَوْ لَا تَكُونَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ امْتِيَازُ ذَاتِهِ الْمُعَيَّنَةِ عَنِ الْمَعْنَى الْآخَرِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِقَيْدٍ زَائِدٍ، فَيَكُونُ هُوَ فِي نَفْسِهِ مُرَكَّبًا بِمَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ وَمَا بِهِ الِامْتِيَازُ، فَيَكُونُ مُمْكِنًا مَعْلُولًا مُفْتَقِرًا وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ لَا قَسِيمَ لَهُ، وَأَمَّا أَنَّهُ وَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ فَلِأَنَّ مَوْصُوفِيَّتَهُ سُبْحَانَهُ بِصِفَاتٍ مُتَمَيِّزَةٍ عَنْ مَوْصُوفِيَّةِ غَيْرِهِ بِصِفَاتٍ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ فَانٍ، لِأَنَّ حُصُولَ صِفَاتِهِ لَهُ لَا تَكُونُ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِقُّ حُصُولَ صِفَاتِهِ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ صِفَاتِ غَيْرِهِ مُخْتَصَّةٌ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ لِأَنَّهَا حَادِثَةٌ، وَصِفَاتُ الْحَقِّ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ صِفَاتِ الْحَقِّ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ بِحَسَبِ/ الْمُتَعَلِّقَاتِ، فَإِنَّ عِلْمَهُ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَقُدْرَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِجَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ، بَلْ لَهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ مَعْلُومَاتٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ فِي ذَلِكَ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ أَنَّهُ كَيْفَ كَانَ وَيَكُونُ حَالُهُ بِحَسَبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَحْيَازِ الْمُتَنَاهِيَةِ وَبِحَسَبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الصِّفَاتِ الْمُتَنَاهِيَةِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَتْ مَوْصُوفِيَّةُ ذَاتِهِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ بِمَعْنَى كَوْنِهَا حَالَّةً فِي ذَاتِهِ وَكَوْنِ ذَاتِهِ مَحَلًّا لَهَا، وَلَا أَيْضًا بِحَسَبِ كَوْنِ ذَاتِهِ مُسْتَكْمَلَةً بِهَا لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الذَّاتَ كَالْمَبْدَأِ لِتِلْكَ الصِّفَاتِ فَلَوْ كَانَتِ الذَّاتُ مُسْتَكْمَلَةً بِالصِّفَاتِ لَكَانَ الْمَبْدَأُ نَاقِصًا لِذَاتِهِ مُسْتَكْمَلًا بِالْمُمْكِنِ لِذَاتِهِ وَهُوَ مُحَالٌ، بَلْ ذَاتُهُ مُسْتَكْمِلَةٌ لِذَاتِهِ وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ الِاسْتِكْمَالِ الذَّاتِيِّ تَحَقُّقُ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَعَهُ إِلَّا أَنَّ التَّقْسِيمَ يَعُودُ فِي نَفْسِ الِاسْتِكْمَالِ فَيَنْتَهِي إِلَى حَيْثُ تَقْصُرُ الْعِبَارَةُ عَنِ الْوَفَاءِ بِهِ، خَامِسُهَا: أَنَّهُ لَا خَبَرَ عِنْدَ الْعُقُولِ مِنْ كُنْهِ صِفَاتِهِ كَمَا لَا خَبَرَ عِنْدَهَا مِنْ كُنْهِ ذَاتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا أَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي لِأَجْلِهِ ظَهَرَ الْإِحْكَامُ وَالْإِتْقَانُ فِي عَالَمِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَالْمَعْلُومُ مِنْ عِلْمِهِ أَنَّهُ أَمْرٌ مَا لَا نَدْرِي أَنَّهُ مَا هُوَ وَلَكِنْ نَعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ هَذَا الْأَثَرُ الْمَحْسُوسُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي كَوْنِهِ قَادِرًا وَحَيًّا، فَسُبْحَانَ مَنْ رَدَعَ بِنُورِ عِزَّتِهِ أَنْوَارَ الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ، وَأَمَّا إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاحِدٌ فِي أَفْعَالِهِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ، فَالْوَاجِبُ هُوَ هُوَ، وَالْمُمْكِنُ مَا عَدَاهُ وَكُلُّ مَا كَانَ مُمْكِنًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يُوجَدَ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِالْوَاجِبِ وَلَا يَخْتَلِفُ هَذَا الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِ أَقْسَامِ الْمُمْكِنَاتِ سَوَاءٌ كَانَ مُلْكًا أَوْ مِلْكًا أَوْ كَانَ فِعْلًا لِلْعِبَادِ أَوْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ فَهُوَ مُلْكُهُ وَمِلْكُهُ وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ وَقَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ وَاسْتِيلَائِهِ، وَعِنْدَ هَذَا تُدْرِكُ شَمَّةً مِنْ رَوَائِحِ أَسْرَارِ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَيَلُوحُ لَكَ شَيْءٌ مِنْ حَقَائِقِ قَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَرِ: 49] وَتَعْرِفُ أَنَّ الْمَوْجُودَ لَيْسَ الْبَتَّةَ إِلَّا مَا هُوَ هُوَ، وَمَا هُوَ لَهُ وَإِذَا وَقَعَتْ سَفِينَةُ الْفِكْرَةِ فِي هَذِهِ اللُّجَّةِ، فَلَوْ سَارَتْ إِلَى الْأَبَدِ لَمْ تَقِفْ، لِأَنَّ السَّيْرَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، فَالشَّيْءُ الأول

مَتْرُوكٌ، وَالشَّيْءُ الثَّانِي مَطْلُوبٌ وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ، فَأَنْتَ بَعْدُ خَارِجٌ عَنْ عَالَمِ الْفَرْدَانِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ، فَأَمَّا إِذَا وَصَلْتَ إِلَى بَرْزَخِ عَالَمِ الْحُدُوثِ وَالْقِدَمِ، فَهُنَاكَ تَنْقَطِعُ الْحَرَكَاتُ، وَتَضْمَحِلُّ الْعَلَامَاتُ وَالْأَمَارَاتُ، وَلَمْ يَبْقَ فِي الْعُقُولِ وَالْأَلْبَابِ إِلَّا مُجَرَّدُ أَنَّهُ هُوَ، فَيَا هُوَ وَيَا مَنْ لَا هُوَ إِلَّا هُوَ أَحْسِنْ إِلَى عَبْدِكَ الضَّعِيفِ، فَإِنَّ عَبْدَكَ بِفِنَائِكَ وَمِسْكِينَكَ بِبَابِكَ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى إِضَافَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَإِلهُكُمْ وَهَلْ تَصِحُّ هَذِهِ الْإِضَافَةُ فِي كُلِّ الْخَلْقِ أَوْ لَا تَصِحُّ إِلَّا فِي الْمُكَلَّفِ؟ قُلْنَا: لَمَّا كَانَ الْإِلَهُ هُوَ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا وَالَّذِي يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا بِهَذَا الْوَصْفِ، إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يُتَصَوَّرُ منه عبادة الله تعالى، فإذن هَذِهِ الْإِضَافَةَ صَحِيحَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ الْمُكَلَّفِينَ، وَإِلَى جَمِيعِ مَنْ تَصِحُّ صَيْرُورَتُهُ مُكَلَّفًا تَقْدِيرًا. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَإِلهُكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِلَهِ مَا يَصِحُّ أَنْ تَدْخُلَهُ الْإِضَافَةُ فَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْإِلَهِ الْقَادِرَ لَصَارَ الْمَعْنَى وَقَادِرُكُمْ قَادِرٌ وَاحِدٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ رَكِيكٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَعْبُودُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَاحِدٌ فِي الْإِلَهِيَّةِ، لِأَنَّ وُرُودَ لَفْظِ الْوَاحِدِ بَعْدَ لَفْظِ الْإِلَهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْوَحْدَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْإِلَهِيَّةِ لَا فِي غَيْرِهَا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ وَصْفِ الرَّجُلِ بِأَنَّهُ سَيِّدٌ وَاحِدٌ، وَبِأَنَّهُ عَالِمٌ وَاحِدٌ، وَلَمَّا قَالَ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أَمْكَنَ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِ أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: هَبْ أَنَّ إِلَهَنَا وَاحِدٌ، فَلَعَلَّ إِلَهَ غَيْرِنَا مُغَايِرٌ لِإِلَهِنَا، فَلَا جَرَمَ أَزَالَ هَذَا الْوَهْمَ بِبَيَانِ التَّوْحِيدِ الْمُطْلَقِ، فَقَالَ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَنَا: لَا رَجُلَ يَقْتَضِي نَفْيَ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ، وَمَتَى انْتَفَتْ هَذِهِ الْمَاهِيَّةُ انْتَفَى جَمِيعُ أَفْرَادِهَا، إِذْ لَوْ حَصَلَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ فَمَتَى حَصَلَ ذَلِكَ الْفَرْدُ، فَقَدْ حَصَلَتِ الْمَاهِيَّةُ، وَذَلِكَ يُنَاقِضُ مَا دَلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ مِنِ انْتِفَاءِ الْمَاهِيَّةِ: فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَنَا: لَا رَجُلَ يَقْتَضِي النَّفْيَ الْعَامَّ الشَّامِلَ، فَإِذَا قِيلَ بَعْدُ: إِلَّا زَيْدًا، أَفَادَ التَّوْحِيدَ التَّامَّ الْمُحَقَّقَ وَفِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَبْحَاثٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ النَّحْوِيِّينَ قَالُوا: الْكَلَامُ فِيهِ حَذْفٌ وَإِضْمَارٌ وَالتَّقْدِيرُ: لَا إِلَهَ لَنَا، أَوْ لَا إِلَهَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلتَّوْحِيدِ الْحَقِّ وَذَلِكَ لِأَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: التَّقْدِيرُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ لَنَا إِلَّا اللَّهُ، لَكَانَ هَذَا توحيداً لإلهنا لا توحيد لِلْإِلَهِ الْمُطْلَقِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى بَيْنَ قَوْلِهِ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَرْقٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَكْرَارًا مَحْضًا، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَأَمَّا لَوْ قُلْنَا: التَّقْدِيرُ لَا إِلَهَ فِي الْوُجُودِ، فَذَلِكَ الْإِشْكَالُ زَائِلٌ، إِلَّا أَنَّهُ يَعُودُ الْإِشْكَالُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وذلك لأنك إذا قلنا: لَا إِلَهَ فِي الْوُجُودِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كَانَ هَذَا نَفْيًا لِوُجُودِ الْإِلَهِ الثَّانِي، أَمَّا لَوْ لَمْ يُضْمَرْ هَذَا الْإِضْمَارُ كَانَ قَوْلُكَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفْيًا لِمَاهِيَّةِ الْإِلَهِ الثَّانِي، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَفْيَ الْمَاهِيَّةِ أَقْوَى فِي التَّوْحِيدِ الصِّرْفِ مِنْ نَفْيِ الْوُجُودِ، فَكَانَ إِجْرَاءُ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ هَذَا الْإِضْمَارِ أَوْلَى، فَإِنْ قِيلَ: نَفْيُ الْمَاهِيَّةِ كَيْفَ يُعْقَلُ؟ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ السَّوَادُ لَيْسَ بِسَوَادٍ، كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا بِأَنَّ السَّوَادَ لَيْسَ بِسَوَادٍ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ، أَمَّا إِذَا قُلْتَ: السَّوَادُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، فَهَذَا مَعْقُولٌ مُنْتَظِمٌ مُسْتَقِيمٌ، قُلْنَا: بِنَفْيِ الْمَاهِيَّةِ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: السَّوَادُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، فَقَدْ نَفَيْتَ الْوُجُودَ، وَالْوُجُودُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وُجُودُ مَاهِيَّةٍ، فَإِذَا نَفَيْتَهُ فَقَدْ نَفَيْتَ هَذِهِ الْمَاهِيَّةَ الْمُسَمَّاةَ بِالْوُجُودِ، فَإِذَا عُقِلَ نَفْيُ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، فَلِمَ لَا يُعْقَلُ نَفْيُ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ أَيْضًا، فَإِذَا عُقِلَ ذَلِكَ صَحَّ إِجْرَاءُ قَوْلِنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْإِضْمَارِ، فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّا إِذَا قُلْنَا السَّوَادُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، فَمَا نَفَيْتَ الْمَاهِيَّةَ وَمَا نَفَيْتَ الْوُجُودَ، وَلَكِنْ نَفَيْتَ مَوْصُوفِيَّةَ الْمَاهِيَّةِ بِالْوُجُودِ، قُلْتُ: فَمَوْصُوفِيَّةُ الْمَاهِيَّةِ بِالْوُجُودِ، هَلْ هِيَ أَمْرٌ مُنْفَصِلٌ

عَنِ الْمَاهِيَّةِ وَعَنِ الْوُجُودِ أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْهُمَا كَانَ نَفْيُهَا نَفْيًا لِتِلْكَ الْمَاهِيَّةِ، فَالْمَاهِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ أَمْكَنَ نَفْيُهَا، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ التَّقْرِيبُ الْمَذْكُورُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْمَوْصُوفِيَّةُ أَمْرًا مُنْفَصِلًا عَنْهَا اسْتَحَالَ تَوْجِيهُ النَّفْيِ إِلَيْهَا إِلَّا بِتَوْجِيهِ النَّفْيِ، إِمَّا إِلَى الْمَاهِيَّةِ وَإِمَّا إِلَى الْوُجُودِ، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ التَّقْرِيبُ الْمَذْكُورُ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَنَا، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْإِضْمَارِ الْبَتَّةَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّ تَصَوُّرَ النَّفْيِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ تَصَوُّرِ الْإِثْبَاتِ، فَإِنَّكَ مَا لَمْ تَتَصَوَّرِ الْوُجُودَ أولا، استحال أن تتصور العدم، فإنك لَا تَتَصَوَّرُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَّا ارْتِفَاعَ الْوُجُودِ. فَتَصَوُّرُ الْوُجُودِ غَنِيٌّ عَنْ تَصَوُّرِ الْعَدَمِ، وَتَصَوُّرُ الْعَدَمِ مَسْبُوقٌ بِتَصَوُّرِ الْوُجُودِ، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَا السَّبَبُ فِي قَلْبِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ حَتَّى قَدَّمْنَا النَّفْيَ وَأَخَّرْنَا الْإِثْبَاتَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْعَقْلِ عَلَى مَا ذَكَرْتُ، إِلَّا أَنَّ تَقْدِيمَ النَّفْيِ عَلَى الْإِثْبَاتِ كَانَ لِغَرَضِ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي كَلِمَةِ هُوَ اعْلَمْ أَنَّ الْمَبَاحِثَ اللَّفْظِيَّةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهُوَ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَمَّا الْأَسْرَارُ الْمَعْنَوِيَّةُ فَنَقُولُ، اعْلَمْ أَنَّ الْأَلْفَاظَ عَلَى نَوْعَيْنِ: مُظْهَرَةٌ وَمُضْمَرَةٌ: أَمَّا الْمُظْهَرَةُ فَهِيَ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَاهِيَّاتِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، كَالسَّوَادِ، وَالْبَيَاضِ، وَالْحَجَرِ، وَالْإِنْسَانِ، وَأَمَّا الْمُضْمَرَاتُ فَهِيَ الألفاظ الدالة على شيء ما، هو المتكلم، وَالْمُخَاطَبِ، وَالْغَائِبِ، مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى مَاهِيَّةِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: أَنَا، وَأَنْتَ، وَهُوَ، وَأَعْرَفُهَا أَنَا، ثُمَّ أَنْتَ، ثُمَّ هُوَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّ تَصَوُّرِي لِنَفْسِي مِنْ حَيْثُ أَنِّي أَنَا مِمَّا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الِاشْتِبَاهُ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ أَصِيرَ مُشْتَبَهًا بِغَيْرِي، أَوْ يَشْتَبِهَ بِي غَيْرِي، بِخِلَافِ أَنْتَ، فَإِنَّكَ قَدْ تَشْتَبِهُ بِغَيْرِكَ، وَغَيْرُكُ يَشْتَبِهُ بِكَ فِي عَقْلِي وَظَنِّي، وَأَيْضًا فَأَنْتَ أَعْرَفُ مِنْ هُوَ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ أَشَدَّ الْمُضْمَرَاتِ عِرْفَانًا أَنَا وَأَشَدَّهَا بُعْدًا عَنِ الْعِرْفَانِ. (هُوَ) وَأَمَّا (أَنْتَ) فَكَالْمُتَوَسِّطِ بَيْنَهُمَا، وَالتَّأَمُّلُ التَّامُّ يَكْشِفُ عَنْ صِدْقِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْرَفَ الضَّمَائِرِ قَوْلًا قَوْلِي (أَنَا) أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ حَصَلَ لَهُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ لَفْظٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، لِأَنَّ الْفَصْلَ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنَ الِالْتِبَاسِ، وهاهنا لَا يُمْكِنُ الِالْتِبَاسُ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْفَصْلِ، وَأَمَّا عِنْدَ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ فَاللَّفْظُ وَاحِدٌ، أَمَّا فِي الْمُتَّصِلِ فَكَقَوْلِكَ: شَرِبْنَا، وَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ فَقَوْلِكَ: نَحْنُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِلْأَمْنِ مِنَ اللَّبْسِ، وَأَمَّا الْمُخَاطَبُ فَإِنَّهُ فُصِلَ بَيْنَ لَفْظِ مُؤَنَّثِهِ وَمُذَكَّرِهِ، وَيُثَنَّى وَيُجْمَعُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِحَضْرَةِ الْمُتَكَلِّمِ مُؤَنَّثٌ وَمُذَكَّرٌ وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا، فَيُخَاطِبُ أَحَدَهُمَا فَلَا يَعْرِفُ حَتَّى يُبَيِّنَهُ بِعَلَامَةٍ: وَتَثْنِيَةُ الْمُخَاطَبِ وَجَمْعُهُ إِنَّمَا حَسُنَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَأَمَّا أَنَّ الْحَاضِرَ أَعْرَفُ مِنَ الْغَائِبِ فَهَذَا أَمْرٌ كَالضَّرُورِيِّ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَهَرَ أَنَّ عِرْفَانَ كُلِّ شَيْءٍ بِذَاتِهِ أَتَمُّ مِنْ عِرْفَانِهِ بِغَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا فَالْعِرْفَانُ التَّامُّ بِاللَّهِ لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ: لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لِنَفْسِهِ (أَنَا) وَلَفْظُ (أَنَا) أَعْرَفُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَسِيرَ إِلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ بِالضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ أَعْرَفُ الضَّمَائِرِ وَهُوَ قَوْلُ (أَنَا) إِلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ عَلِمْنَا أَنَّ الْعِرْفَانَ التَّامَّ بِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى ليس الإله. بَقِيَ أَنَّ هُنَاكَ قَوْمًا يُجَوِّزُونَ الِاتِّحَادَ: الْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ إِذَا اسْتَنَارَتْ بِأَنْوَارِ مَعْرِفَةِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ اتَّحَدَ الْعَاقِلُ بِالْمَعْقُولِ وَعِنْدَ الِاتِّحَادِ يَصِحُّ لِذَلِكَ الْعَارِفِ أَنْ يَقُولَ: أَنَا اللَّهُ إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ بِالِاتِّحَادِ غَيْرُ مَعْقُولٍ، لِأَنَّ حَالَ الِاتِّحَادِ إِنْ فَنِيَا أَوْ أَحَدُهُمَا، فَذَاكَ لَيْسَ بِاتِّحَادٍ، وَإِنْ بَقِيَا فَهُمَا اثْنَانِ لَا وَاحِدٌ، / وَلَمَّا انْسَدَّ هَذَا الطَّرِيقُ الَّذِي هُوَ

أَكْمَلُ الطُّرُقِ فِي الْإِشَارَةِ بَقِيَ الطَّرِيقَانِ الْآخَرَانِ، وَهُوَ (أَنْتَ) وَ (هُوَ) أَمَّا (أَنْتَ) فَهُوَ لِلْحَاضِرِينَ فِي مَقَامَاتِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ لِمَنْ فَنِيَ عَنْ جَمِيعِ الْحُظُوظِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ فَنِيَ عَنْ ظُلُمَاتِ عَالَمِ الْحُدُوثِ وَعَنْ آثَارِ الْحُدُوثِ وَصَلَ إِلَى مَقَامِ الشُّهُودِ فَقَالَ: فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ [الْأَنْبِيَاءِ: 87] وَهَذَا يُنَبِّهُكَ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى مَقَامِ الْمُشَاهَدَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ إِلَّا بِالْغَيْبَةِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نفسك» وأما هُوَ فللغائبين، ثم هاهنا بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ هُوَ فِي حَقِّهِ أَشْرَفُ الْأَسْمَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الِاسْمَ إِمَّا كُلِّيٌّ أَوْ جُزْئِيٌّ، وَأَعْنِي بِكُلِّيٍّ أَنْ يَكُونَ مَفْهُومُهُ بِحَيْثُ لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ، وَأَعْنِي بِالْجُزْئِيِّ أَنْ يَكُونَ نَفْسُ تَصَوُّرِهِ مَانِعًا مِنَ الشَّرِكَةِ، وَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ الِاسْمِ لَيْسَ هُوَ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ ذَلِكَ الِاسْمِ أَمْرًا لَا يَمْنَعُ الشَّرِكَةَ وَذَاتُهُ الْمُعَيَّنَةُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَانِعَةٌ مِنَ الشَّرِكَةِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ الِاسْمِ لَيْسَ هُوَ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ، فَإِذَنْ جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ: كَالرَّحْمَنِ، وَالرَّحِيمِ، وَالْحَكِيمِ، وَالْعَلِيمِ، وَالْقَادِرِ، لَا يَتَنَاوَلُ ذَاتَهُ الْمَخْصُوصَةَ وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا بِوَجْهٍ الْبَتَّةَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ الْمُسَمَّى بِاسْمِ الْعِلْمِ وَالْعِلْمُ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِشَارَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِكَ: يَا زَيْدُ وَبَيْنَ قَوْلِكَ: يَا أَنْتَ وَيَا هُوَ. وَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ قَائِمًا مَقَامَ الْإِشَارَةِ فَالْعِلْمُ فَرْعٌ وَاسْمُ الْإِشَارَةِ أَصْلٌ وَالْأَصْلُ أَشْرَفُ مِنَ الْفَرْعِ، فَقَوْلُنَا: يَا أَنْتَ، يَا هُوَ أَشْرَفُ مِنْ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَّا أَنَّ الْفَرْقَ أَنَّ (أَنْتَ) لَفْظٌ يَتَنَاوَلُ الْحَاضِرَ وَ (هُوَ) يَتَنَاوَلُ الْغَائِبَ وَفِيهِ سِرٌّ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ (هُوَ) إِنَّمَا يَصِحُّ التَّعْبِيرُ عَنْهُ إِذَا حَصَلَ فِي الْعَقْلِ صُورَةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَقَوْلُكَ (هُوَ) يَتَنَاوَلُ تِلْكَ الصُّورَةَ وَهِيَ حَاضِرَةٌ، فَقَدْ عَادَ الْقَوْلُ إِلَى أَنَّ (هُوَ) أَيْضًا لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْحَاضِرَ. وَثَانِيهَا: أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْحَقِّ مُنَزَّهَةٌ عَنْ جَمِيعِ أَنْحَاءِ التَّرَاكِيبِ، وَالْفَرْدُ الْمُطْلَقُ لَا يُمْكِنُ نَعْتُهُ، لِأَنَّ النَّعْتَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ وَعِنْدَ حُصُولِ الْغَيْرِيَّةِ لَا تَبْقَى الْفَرْدَانِيَّةُ، وَأَيْضًا لَا يُمْكِنُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ لِأَنَّ النعت يَقْتَضِي مُخْبَرًا عَنْهُ وَمُخْبِرًا بِهِ وَذَلِكَ يُنَافِي الْفَرْدَانِيَّةَ، فَثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ قَاصِرَةٌ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى كُنْهِ حَقِيقَةِ الْحَقِّ وَأَمَّا لَفْظُ (هُوَ) فَإِنَّهُ يَصِلُ إِلَى كُنْهِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ الْمُفْرَدَةِ الْمُبَرَّأَةِ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ الْكَثْرَةِ فَهَذِهِ اللَّفْظَةُ لِوُصُولِهَا إِلَى كُنْهِ الْحَقِيقَةِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَشْرَفَ مِنْ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَمْتَنِعُ وُصُولُهَا إِلَى كُنْهِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمُشْتَقَّةَ دَالَّةٌ عَلَى حُصُولِ صِفَةٍ لِلذَّاتِ ثُمَّ مَاهِيَّاتُ صِفَةِ الْحَقِّ أَيْضًا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ إِلَّا بِآثَارِهَا الظَّاهِرَةِ فِي عَالَمِ الْحُدُوثِ، فَلَا يُعْرَفُ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا أَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي بِاعْتِبَارِهِ صَحَّ مِنْهُ الْإِحْكَامُ وَالْإِتْقَانُ، وَمِنْ قُدْرَتِهِ إِلَّا أَنَّهَا الْأَمْرُ الَّذِي بِاعْتِبَارِهِ صَحَّ مِنْهُ صُدُورُ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَإِذَنْ هَذِهِ الصِّفَاتُ لا يمكننا تعلقها إِلَّا عِنْدَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي عَالَمِ الْحُدُوثِ، فَالْأَلْفَاظُ الْمُشْتَقَّةُ لَا تُشِيرُ إِلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ، بَلْ تُشِيرُ إِلَيْهِ وَإِلَى عَالَمِ الْحُدُوثِ مَعًا/ وَالنَّاظِرُ إِلَى شَيْئَيْنِ لَا يَكُونُ مُسْتَكْمِلًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَلْ يَكُونُ نَاقِصًا قَاصِرًا، فَإِذَنْ جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ لا تفيد كمال الاستغراق في مقام معرفة الحق بل كلها تَصِيرُ حِجَابًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ الرَّبِّ، وَأَمَّا (هُوَ) فَإِنَّهُ لَفْظٌ يَدُلُّ عيله مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ لَا مِنْ حَيْثُ عَرَضَتْ لَهُ إِضَافَةٌ أَوْ نِسْبَةٌ بِالْقِيَاسِ إِلَى عَالَمِ الْحُدُوثِ، فَكَانَ لَفْظُ (هُوَ) يُوَصِّلُكَ إِلَى الحق ويقطعك عما سواء، وَمَا عَدَاهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُكَ عما سواء، فكان لفظ (هُوَ) أَشْرَفَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْبَرَاهِينَ السَّالِفَةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنْبَعَ الْجَلَالِ وَالْعِزَّةِ هُوَ الذَّاتُ، وَأَنَّ ذَاتَهُ مَا كَمُلَتْ بِالصِّفَاتِ بَلْ ذَاتُهُ لِكَمَالِهَا اسْتَلْزَمَتْ

[سورة البقرة (2) : آية 164]

صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَلَفْظُ (هُوَ) يُوَصِّلُكَ إِلَى يَنْبُوعِ الرَّحْمَةِ وَالْعِزَّةِ وَالْعُلُوِّ وَهُوَ الذَّاتُ وَسَائِرُ الْأَلْفَاظِ لَا تُوَقِّفُكَ إِلَّا فِي مَقَامَاتِ النُّعُوتِ وَالصِّفَاتِ، فَكَانَ لَفْظُ (هُوَ) أَشْرَفَ، فَهَذَا مَا خَطَرَ بِالْبَالِ فِي الْكَشْفِ عَنْ أَسْرَارِ لَفْظِ (هُوَ) وَإِلَيْهِ الرَّغْبَةُ سُبْحَانَهُ فِي أَنْ يُنَوِّرَ بِدُرَّةٍ مِنْ لَمَعَاتِ أَنْوَارِهَا صُدُورَنَا وَأَسْرَارَنَا، وَيُرَوِّحَ بِهَا عُقُولَنَا وَأَرْوَاحَنَا حَتَّى نَتَخَلَّصَ مِنْ ضِيقِ عَالَمِ الْحُدُوثِ إِلَى فُسْحَةِ مَعَارِجِ الْقِدَمِ، وَنَرْقَى مِنْ حضيض ظلمة البشرية إلى سموات الْأَنْوَارِ وَمَا ذَلِكَ عَلَيْهِ بِعَزِيزٍ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ النَّحْوِيُّونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ ارْتَفَعَ هُوَ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ مَوْضِعِ لَا مَعَ الِاسْمِ وَلْنَتَكَلَّمْ فِي قَوْلِهِ: مَا جَاءَنِي رَجُلٌ إِلَّا زِيدٌ فَقَوْلُهُ: إِلَّا زِيدٌ مَرْفُوعٌ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ لِأَنَّ الْبَدَلِيَّةَ هِيَ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْأَوَّلِ وَالْأَخْذُ بِالثَّانِي فَكَأَنَّكَ قُلْتَ: مَا جَاءَنِي إِلَّا زَيْدٌ وَهَذَا مَعْقُولٌ لِأَنَّهُ يُفِيدُ نَفْيَ الْمَجِيءِ عَنِ الْكُلِّ إِلَّا عَنْ زَيْدٍ، أَمَّا قَوْلُهُ: جَاءَنِي إِلَّا زَيْدًا فَهَهُنَا الْبَدَلِيَّةُ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي التَّقْدِيرِ: جَاءَنِي خَلْقٌ إِلَّا زَيْدًا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ جَاءَ كُلُّ أَحَدٍ إِلَّا زَيْدًا وَذَلِكَ مُحَالٌ فَظَهَرَ الْفَرْقُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِهِمَا وَبَيَّنَّا أَنَّ الرَّحْمَةَ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ هِيَ النِّعْمَةُ وَفَاعِلُهَا هُوَ الرَّاحِمُ فَإِذَا أَرَدْنَا إِفَادَةَ الْكَثْرَةِ قُلْنَا (رَحِيمٌ) وَإِذَا أَرَدْنَا الْمُبَالَغَةَ التَّامَّةَ الَّتِي لَيْسَتْ إِلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ قُلْنَا الرَّحْمنُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا خَصَّ هَذَا الْمَوْضِعَ بِذِكْرِ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْإِلَهِيَّةِ الْفَرْدَانِيَّةِ يُفِيدُ الْقَهْرَ وَالْعُلُوَّ فَعَقَّبَهُمَا بِذِكْرِ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ فِي الرَّحْمَةِ تَرْوِيحًا لِلْقُلُوبِ عَنْ هَيْبَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَعِزَّةِ الْفَرْدَانِيَّةِ وَإِشْعَارًا بِأَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ وَأَنَّهُ مَا خلق الخلق إلا للرحمة والإحسان. [سورة البقرة (2) : آية 164] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا حَكَمَ بِالْفَرْدَانِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ ذَكَرَ ثَمَانِيَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى وُجُودِهِ سبحانه أولا وعلى توحيده وبراءته على الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ ثَانِيًا، وَقَبْلَ الْخَوْضِ فِي شَرْحِ تكلم الدَّلَائِلِ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَهِيَ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْخَلْقَ هَلْ هُوَ الْمَخْلُوقُ أَوْ غَيْرُهُ؟ فَقَالَ عَالَمٌ مِنَ النَّاسِ: الْخَلْقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ. وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْآيَةِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِلَى قَوْلِ: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْآيَاتِ ليست إلا في الْمَخْلُوقُ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْخَلْقَ عِبَارَةٌ عَنْ إِخْرَاجِ الشَّيْءِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، فَهَذَا الْإِخْرَاجُ لَوْ كَانَ أَمْرًا مُغَايِرًا لِلْقُدْرَةِ وَالْأَثَرِ فَهُوَ إِمَّا أن يكون قديما أو حديثا، فَإِنْ كَانَ قَدِيمًا فَقَدْ حَصَلَ فِي الْأَزَلِ مُسَمَّى الْإِخْرَاجِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَالْإِخْرَاجُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ وَالْأَزَلُ هُوَ نَفْيُ الْمَسْبُوقِيَّةِ فَلَوْ حَصَلَ الْإِخْرَاجُ فِي الْأَزَلِ لَزِمَ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ مُحْدَثًا فَلَا بُدَّ لَهُ أَيْضًا مِنْ مُخْرِجٍ يُخْرِجُهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ إِخْرَاجٍ آخَرَ وَالْكَلَامُ فِيهِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ لَمْ يَكُنْ مُخْرِجًا لِلْأَشْيَاءِ مِنْ عَدَمِهَا إِلَى وُجُودِهَا، ثُمَّ فِي الْأَزَلِ هَلْ أَحْدَثَ أَمْرًا أَوْ لَمْ

يُحْدِثْ؟ فَإِنْ أَحْدَثَ أَمْرًا فَذَلِكَ الْأَمْرُ الْحَادِثُ هُوَ الْمَخْلُوقُ، وَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ أَمْرًا فَاللَّهُ تَعَالَى قَطُّ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُؤَثِّرِيَّةَ نِسْبَةٌ بَيْنَ ذَاتِ الْمُؤَثِّرِ وَذَاتِ الْأَثَرِ وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ يَسْتَحِيلُ تَقْرِيرُهَا بِدُونِ الْمُنْتَسِبِ فَهَذِهِ الْمُؤَثِّرِيَّةُ إِنْ كَانَتْ حَادِثَةً لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَإِنْ كَانَتْ قَدِيمَةً كَانَتْ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُصُولُ الْأَثَرِ إِمَّا فِي الْحَالِ أو في الاستقبال من لوازم هذا الصِّفَةِ الْقَدِيمَةِ الْعَظِيمَةِ وَلَازِمُ اللَّازِمِ لَازِمٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْأَثَرُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى قَادِرًا مُخْتَارًا بَلْ مُلْجِأً مُضْطَرًّا إِلَى ذَلِكَ التَّأْثِيرِ فَيَكُونُ عِلَّةً مُوجِبَةً وَذَلِكَ كُفْرٌ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ بِوُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: أَنْ قَالُوا: لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ خَالِقٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْأَشْيَاءَ، وَالْخَالِقُ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالْخَلْقِ، فَلَوْ كَانَ الْخَلْقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ لَزِمَ كَوْنُهُ تَعَالَى مَوْصُوفًا بِالْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي مِنْهَا الشَّيَاطِينُ وَالْأَبَالِسَةُ وَالْقَاذُورَاتُ، وَذَلِكَ/ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّا إِذَا رَأَيْنَا حَادِثًا حَدَثَ بعد أن لم يكن قلنا: لم وُجِدَ هَذَا الشَّيْءُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَإِذَا قِيلَ لَنَا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ وَأَوْجَدَهُ قَبِلْنَا ذَلِكَ وَقُلْنَا: إِنَّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ، وَلَوْ قِيلَ إِنَّهُ إِنَّمَا وُجِدَ بِنَفْسِهِ لَقُلْنَا إِنَّهُ خَطَأٌ وَكُفْرٌ وَمُتَنَاقِضٌ، فَلَمَّا صَحَّ تَعْلِيلُ حدوثه بعد ما لَمْ يَكُنْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ وَلَمْ يَصِحَّ تَعْلِيلُ حُدُوثِهِ بِحُدُوثِهِ بِنَفْسِهِ، عَلِمْنَا أَنَّ خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ مُغَايِرٌ لِوُجُودِهِ فِي نفسه، فالخلق غير المخلوق. وثالثها: أنا نَعْرِفُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَنَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى وَقُدْرَتَهُ مَعَ أَنَّا لَا نَعْرِفُ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ أَهُوَ قُدْرَةُ اللَّهِ أَمْ هُوَ قُدْرَةُ الْعَبْدِ وَالْمَعْلُومُ غَيْرُ مَا هُوَ مَعْلُومٌ فَمُؤَثِّرِيَّةُ قُدْرَةِ الْقَادِرِ فِي وُقُوعِ الْمَقْدُورِ مُغَايِرَةٌ لِنَفْسِ تِلْكَ الْقُدْرَةِ وَلِنَفْسِ ذَلِكَ الْمَقْدُورِ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْمُغَايَرَةَ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ سَلْبِيَّةً لِأَنَّهُ نَقِيضُ الْمُؤَثِّرِيَّةِ الَّتِي هِيَ عَدَمِيَّةٌ، فَهَذِهِ الْمُؤَثِّرِيَّةُ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى ذَاتِ الْمُؤَثِّرِ وَذَاتِ الْأَثَرِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ النُّحَاةَ قَالُوا: إِذْ قُلْنَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَالَمَ فَالْعَالَمُ لَيْسَ هُوَ الْمَصْدَرَ بَلْ هُوَ الْمَفْعُولُ بِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَلْقَ الْعَالَمِ غَيْرُ الْعَالِمِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: خَلْقُ السواد وخلق البياض وخلق والجوهر وَخَلْقُ الْعَرَضِ فَمَفْهُومُ الْخَلْقِ أَمْرٌ وَاحِدٌ فِي الْكُلِّ مُغَايِرٌ لِهَذِهِ الْمَاهِيَّاتِ الْمُخْتَلِفَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ تَقْسِيمُ الْخَالِقِيَّةِ إِلَى خَالِقِيَّةِ الْجَوْهَرِ وَخَالِقِيَّةِ الْعَرَضِ وَمَوْرِدُ التَّقْسِيمِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَقْسَامِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ فَهَذَا جُمْلَةُ مَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَصْلُ الْخَلْقِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ التَّقْدِيرُ وَصَارَ ذَلِكَ اسْمًا لِأَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ جَمِيعُهَا صَوَابًا قَالَ تَعَالَى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الْفُرْقَانِ: 2] وَيَقُولُ النَّاسُ فِي كُلِّ أَمْرٍ مُحْكَمٍ هُوَ مَعْمُولٌ عَلَى تَقْدِيرٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَأَنَّ التَّقْلِيدَ لَيْسَ طريقا ألبتة إِلَى تَحْصِيلِ هَذَا الْغَرَضِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرَ ابن جرير في سبب نزول هذه الْآيَةِ: عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَيْهِ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الْبَقَرَةِ: 163] فَقَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَيْفَ يَسَعُ النَّاسَ إِلَهٌ وَاحِدٌ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلَتْ قُرَيْشٌ الْيَهُودَ فَقَالُوا حَدِّثُونَا عَمَّا جَاءَكُمْ بِهِ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ فَحَدَّثُوهُمْ بِالْعَصَا وَبِالْيَدِ الْبَيْضَاءِ وَسَأَلُوا النَّصَارَى عَنْ ذَلِكَ فَحَدَّثُوهُمْ بِإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى فَقَالَتْ قُرَيْشٌ عِنْدَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا فَنَزْدَادَ يَقِينًا وَقُوَّةً عَلَى عَدُوِّنَا، فَسَأَلَ رَبَّهُ ذَلِكَ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ وَلَكِنْ إِنْ كَذَّبُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَذَّبْتُهُمْ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ

الفصل الأول في ترتيب الأفلاك

الْعَالَمِينَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ذَرْنِي وَقَوْمِي أَدْعُوهُمْ يَوْمًا فَيَوْمًا» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ مُبَيِّنًا لَهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ أَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا لِيَزْدَادُوا يَقِينًا فَخَلْقُ السموات وَالْأَرْضِ وَسَائِرِ مَا ذَكَرَ أَعْظَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّمَانِيَةِ مِنَ الدَّلَائِلِ على أقسام: القسم الْأَوَّلُ: فِي تَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنَ الدَّلَائِلِ: الِاسْتِدْلَالُ/ بِأَحْوَالِ السموات وَقَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً [البقرة: 22] ولنذكر هاهنا نَمَطًا آخَرَ مِنَ الْكَلَامِ: رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْحُسَامِ كَانَ يَقْرَأُ كِتَابَ الْمِجِسْطِيِّ عَلَى عُمَرَ الْأَبْهَرِيِّ، فَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَوْمًا: مَا الَّذِي تَقْرَءُونَهُ فَقَالَ: أُفَسِّرُ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها [ق: 6] فَأَنَا أُفَسِّرُ كَيْفِيَّةَ بُنْيَانِهَا، وَلَقَدْ صَدَقَ الْأَبْهَرِيُّ فِيمَا قَالَ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ تَوَغُّلًا فِي بِحَارِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ أَكْثَرَ عِلْمًا بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ فَنَقُولُ: الْكَلَامُ فِي أَحْوَالِ السموات عَلَى الْوَجْهِ الْمُخْتَصَرِ الَّذِي يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مُرَتَّبٌ فِي فُصُولٍ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَرْتِيبِ الْأَفْلَاكِ قَالُوا: أَقْرَبُهَا إِلَيْنَا كُرَةُ الْقَمَرِ، وَفَوْقَهَا كُرَةُ عُطَارِدَ، ثُمَّ كُرَةُ الزُّهْرَةِ، ثُمَّ كُرَةُ الشَّمْسِ، ثُمَّ كُرَةُ الْمِرِّيخِ، ثُمَّ كُرَةُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ كُرَةُ زُحَلَ، ثُمَّ كُرَةُ الثَّوَابِتِ، ثُمَّ الْفَلَكُ الْأَعْظَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ أَبْحَاثًا: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: ذَكَرُوا فِي طَرِيقِ مَعْرِفَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ: السَّيْرُ، وَذَلِكَ أن الكواكب الأسفل إذا مر بين أبصارنا وبين الكواكب الْأَعْلَى فَإِنَّهُمَا يُبْصَرَانِ كَكَوْكَبٍ وَاحِدٍ، وَيَتَمَيَّزُ السَّائِرُ عَنِ الْمَسْتُورِ بِلَوْنِهِ الْغَالِبِ، كَصُفْرَةِ عُطَارِدٍ، وَبَيَاضِ الزُّهَرَةِ وَحُمْرَةِ الْمِرِّيخِ، وَدُرِّيَّةِ الْمُشْتَرِي، وَكَمَوَدَّةِ زُحَلَ، ثُمَّ إِنَّ الْقُدَمَاءَ وَجَدُوا الْقَمَرَ يَكْسِفُ الْكَوَاكِبَ السِّتَّةَ، وَكَثِيرًا مِنَ الثَّوَابِتِ فِي طَرِيقِهِ فِي مَمَرِّ الْبُرُوجِ، وَكَوْكَبُ عُطَارِدٍ يَكْسِفُ الزُّهَرَةَ، وَالزُّهَرَةُ تَكْسِفُ الْمِرِّيخَ وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فَهَذَا الطَّرِيقُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْقَمَرِ تَحْتَ الشَّمْسِ لِانْكِسَافِهَا بِهِ، لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الشَّمْسِ فَوْقَ سَائِرِ الْكَوَاكِبِ أَوْ تَحْتَهَا، لِأَنَّ الشَّمْسَ لَا تَنْكَسِفُ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِاضْمِحْلَالِ أَضْوَائِهَا فِي ضَوْءِ الشَّمْسِ، فَسَقَطَ هَذَا الطَّرِيقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّمْسِ. الثَّانِي: اخْتِلَافُ الْمَنْظَرِ فَإِنَّهُ مَحْسُوسٌ لِلْقَمَرِ وعطارد والزهرة، وغير محسوس للمريخ والمشتري وزحل، وَأَمَّا فِي حَقِّ الشَّمْسِ فَقَلِيلٌ جِدًّا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الشَّمْسُ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ بَيِّنٌ جِدًّا لِمَنِ اعْتَبَرَ اخْتِلَافَ مَنْظَرِ الْكَوَاكِبِ، وَشَاهَدَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُمَارِسْهُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُقَلِّدًا فِيهِ، لَا سِيَّمَا وَأَنَّ أَبَا الرَّيْحَانِ وَهُوَ أُسْتَاذُ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ ذَكَرَ فِي تَلْخِيصِهِ لِفُصُولِ الْفَرْغَانِيِّ أَنَّ اخْتِلَافَ الْمَنْظَرِ لَا يُحَسُّ بِهِ إِلَّا فِي الْقَمَرِ. الثَّالِثُ: قَالَ بَطْلَيْمُوسُ: إِنَّ زُحَلَ وَالْمُشْتَرِيَ وَالْمِرِّيخَ تَبْعُدُ عَنِ الشَّمْسِ فِي جَمِيعِ الْأَبْعَادِ، وَأَمَّا عُطَارِدُ وَالزُّهَرَةُ فَإِنَّهُمَا لَا يَبْعُدَانِ عَنِ الشَّمْسِ بَعْدَ

التَّسْدِيسِ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْأَبْعَادِ، فَوَجَبَ كَوْنُ الشَّمْسِ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ مَنْقُوضٌ بِالْقَمَرِ، فَإِنَّهُ يَبْعُدُ عَنِ الشَّمْسِ كُلَّ الْأَبْعَادِ، مَعَ أَنَّهُ تَحْتَ الْكُلِّ. الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي أَعْدَادِ الْأَفْلَاكِ، قَالُوا إِنَّهَا تِسْعَةٌ فَقَطْ، وَالْحَقُّ أَنَّ الرَّصْدَ لَمَّا دَلَّ عَلَى هَذِهِ التِّسْعَةِ أَثْبَتْنَاهَا، فَأَمَّا مَا عَدَاهَا، فَلَمَّا لَمْ يَدُلَّ الرَّصْدُ عَلَيْهِ، لَا جَرَمَ مَا جَزَمْنَا بِثُبُوتِهَا وَلَا بِانْتِفَائِهَا، وَذَكَرَ ابْنُ سِينَا فِي الشِّفَاءِ: إِنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لِي إِلَى الْآنِ أَنَّ كُرَةَ الثَّوَابِتِ كُرَةٌ وَاحِدَةٌ، أَوْ كُرَاتٌ مُنْطَبِقٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَأَقُولُ: هَذَا الِاحْتِمَالُ وَاقِعٌ، لِأَنَّ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى وَحْدَةِ كُرَةِ الثَّوَابِتِ لَيْسَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ حَرَكَاتِهَا مُتَسَاوِيَةٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ كَوْنُهَا مَرْكُوزَةً فِي كُرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْمُقَدِّمَتَانِ ضَعِيفَتَانِ. أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: فَلِأَنَّ حَرَكَاتِهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي حَوَاسِّنَا مُتَشَابِهَةً، لَكِنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ لَعَلَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، لِأَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهَا يُتِمُّ الدَّوْرَ فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَالْآخَرُ يُتِمُّ هَذَا الدَّوْرَ فِي مِثْلِ هَذَا الزَّمَانِ لَكِنْ يَنْقُصَانِ عَاشِرَةً، إِذَا وَزَّعْنَا تِلْكَ الْعَاشِرَةَ عَلَى أَيَّامِ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، لَا شَكَّ أَنَّ حِصَّةَ كُلِّ يَوْمٍ، بَلْ كُلِّ سَنَةٍ، بَلْ كُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا لَا يَصِيرُ مَحْسُوسًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ سَقَطَ الْقَطْعُ بِتَشَابُهِ حَرَكَاتِ الثَّوَابِتِ. وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَنَّهَا لَمَّا تَشَابَهَتْ فِي حَرَكَاتِهَا وَجَبَ كَوْنُهَا مَرْكُوزَةً فِي كُرَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَيْضًا لَيْسَتْ يَقِينِيَّةً، فَإِنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ لَا يُسْتَبْعَدُ اشْتِرَاكُهَا فِي لَازِمٍ وَاحِدٍ، بَلْ أَقُولُ هَذَا الِاحْتِمَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ سِينَا فِي كُرَةِ الثَّوَابِتِ قَائِمٌ فِي جَمِيعِ الْكُرَاتِ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى وَحْدَةِ كُلِّ كُرَةٍ لَيْسَ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ وَزَيَّفْنَاهُ، فَإِذَنْ لَا يمكن الجزم بوحدة الكرة المتحركة اليومية فعلها كُرَاتٌ كَثِيرَةٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي مَقَادِيرِ حَرَكَاتِهَا بِمِقْدَارٍ قَلِيلٍ جِدًّا لَا تَفِي بِضَبْطِ ذَلِكَ التَّفَاوُتِ أَعْمَارُنَا، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الْمُمَثَّلَاتِ وَالْحَوَامِلِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَثْبَتَ كُرَةً فَوْقَ كُرَةِ الثَّوَابِتِ، وَتَحْتَ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ، وَاحْتَجُّوا مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّاصِدِينَ لِلْمَيْلِ الْأَعْظَمِ وَجَدُوهُ مُخْتَلِفَ الْمِقْدَارِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ رَصْدُهُ أَقْدَمَ كَانَ وِجْدَانُ الْمَيْلِ الْأَعْظَمِ أَعْظَمَ، فَإِنَّ بَطْلَيْمُوسَ وَجَدَهُ. (كج نا) ثُمَّ وُجِدَ فِي زَمَانِ الْمَأْمُونِ (كج له) ثُمَّ وُجِدَ بَعْدَ الْمَأْمُونِ وَقَدْ تَنَاقَصَ بِدَقِيقَةٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْقُطْبَيْنِ أَنْ يَقِلَّ مَيْلُهُمَا تَارَةً وَيَكْثُرَ أُخْرَى، وَهَذَا إِنَّمَا يُمْكِنُ إِذَا كَانَ بَيْنَ كُرَةِ الْكُلِّ، وَكُرَةِ الثَّوَابِتِ كُرَةٌ أُخْرَى يَدُورُ قُطْبَاهَا حَوْلَ قُطْبَيْ كُرَةِ الْكُلِّ، وَيَكُونُ كُرَةُ الثَّوَابِتِ يَدُورُ أَيْضًا قُطْبَاهَا حَوْلَ قُطْبَيْ تِلْكَ الْكُرَةِ فَيَعْرِضُ لِقُطْبِهَا تَارَةً أَنْ يَصِيرَ إِلَى جَانِبِ الشَّمَالِ مُنْخَفِضًا، وَتَارَةً إِلَى جَانِبِ الْجَنُوبِ مُرْتَفِعًا فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَنْطَبِقَ مُعَدَّلُ النَّهَارِ على منطقة البروج، وأن ينفصل عنه تارة أُخْرَى إِلَى الْجَنُوبِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ أَصْحَابَ الْأَرْصَادِ اضْطَرَبُوا اضْطِرَابًا شَدِيدًا فِي مِقْدَارِ مَسِيرِ الشَّمْسِ عَلَى مَا هُوَ مَشْرُوحٌ فِي الْمُطَوَّلَاتِ، حَتَّى إِنَّ بَطْلَيْمُوسَ حَكَى عَنْ أَبْرِخْسَ أَنَّهُ كَانَ شَاكًّا فِي أَنَّ هَذَا السَّيْرَ يَكُونُ فِي أَزْمِنَةٍ مُتَسَاوِيَةٍ أَوْ مُخْتَلِفَةٍ. ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ اخْتِلَافِهِ قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُ أَوْجَ الشَّمْسِ/ مُتَحَرِّكًا فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ الَّذِي يَلْحَقُ حَرَكَةَ الشَّمْسِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَخْتَلِفُ عِنْدَ نُقْطَتَيِ الِاعْتِدَالَيْنِ لِاخْتِلَافِ بُعْدِهِمَا مِنَ الْأَوْجِ، فَيَخْتَلِفُ زَمَانُ سَيْرِ الشَّمْسِ مِنْ أَجْلِهِ. وَثَانِيهُمَا: قَوْلُ أَهْلِ الْهِنْدِ وَالصِّينِ وَبَابِلَ، وَأَكْثَرِ قُدَمَاءِ عُلَمَاءِ الرُّومِ وَمِصْرَ وَالشَّامِ: إن السبب فيه انتقال فلك البروج، وارتفاع قطبيه وانحطاطه، وحكى أَبْرِخْسَ أَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ هَذَا الرَّأْيَ، وَذَكَرَ باربا الإسكنداني أَنَّ أَصْحَابَ الطَّلْسَمَاتِ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ أَيْضًا، وَأَنَّ قُطْبَ فَلَكِ الْبُرُوجِ يَتَقَدَّمُ عَنْ مَوْضِعِهِ وَيَتَأَخَّرُ ثَمَانِ دَرَجَاتٍ، وَقَالُوا: إِنَّ ابْتِدَاءَ الْحَرَكَةِ من (كب) درجة من الحوت إلى أول الحمل. وثالثها:

أَنَّ بَطْلَيْمُوسَ رَصَدَ الثَّوَابِتَ فَوَجَدَهَا تَقْطَعُ فِي كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ دَرَجَةً وَاحِدَةً وَالْمُتَأَخِّرُونَ رَصَدُوهَا فَوَجَدُوهَا تَقْطَعُ فِي كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ دَرَجَةً وَنِصْفًا، وَهَذَا تَفَاوُتٌ عَظِيمٌ يَبْعُدُ حَمْلُهُ عَلَى التَّفَاوُتِ فِي الْآلَاتِ الَّتِي تَتَّخِذُهَا الْمَهَرَةُ فِي الصِّنَاعَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ازْدِيَادِ الْمَيْلِ وَنُقْصَانِهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَوْلَ بِثُبُوتِ الْفَلَكِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الْكَوَاكِبَ الثَّابِتَةَ مَرْكُوزَةٌ فِي فَلَكٍ فَوْقَ أَفْلَاكِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، فَقَالُوا: شاهدنا لهذا الْأَفْلَاكِ السَّبْعَةِ حَرَكَاتٍ أَسْرَعَ مِنْ حَرَكَاتِ هَذِهِ الثواب، وَثَبَتَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ لَا تَتَحَرَّكُ إِلَّا بِحَرَكَةِ الْفَلَكِ، وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ هَذِهِ الثَّوَابِتِ مَرْكُوزَةً فِي كُرَةٍ سِوَى هَذِهِ السَّبْعَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَرْكُوزَةً فِي الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ لِأَنَّهُ سَرِيعُ الْحَرَكَةِ، يَدُورُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَوْرَةً وَاحِدَةً بِالتَّقْرِيبِ، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّهَا مَرْكُوزَةٌ فِي كُرَةٍ فَوْقَ كُرَاتِ هَذِهِ السَّبْعَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ قَدْ تَكْسِفُ تِلْكَ الثَّوَابِتَ، وَالْكَاسِفُ تَحْتَ الْمَكْسُوفِ، فَكُرَاتُ هَذِهِ السَّبْعَةِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ دُونَ كُرَاتِ الثَّوَابِتِ. وَهَذَا الطَّرِيقُ أَيْضًا ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّا لَا نسلم أن الكواكب لَا يَتَحَرَّكُ إِلَّا بِحَرَكَةٍ فَلَكِيَّةٍ، وَهُمْ إِنَّمَا بَنَوْا عَلَى امْتِنَاعِ الْخَرْقِ عَلَى الْأَفْلَاكِ، وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَ دَلَائِلِهِمْ عَلَى ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِهَذِهِ الثَّوَابِتِ مِنْ كُرَاتٍ أُخْرَى إِلَّا أَنَّ مَذْهَبَكُمْ أَنَّ كُلَّ كُرَةٍ مِنْ هَذِهِ الْكُرَاتِ السَّبْعَةِ تَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ كَثِيرَةٍ، وَمَجْمُوعُهَا هُوَ الْفَلَكُ الْمُمَثَّلُ وَأَنَّ هَذِهِ الْمُمَثَّلَةَ بَطِيئَةُ الْحَرَكَةِ عَلَى وِفْقِ حَرَكَةِ كُرَةِ الثَّوَابِتِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الثَّوَابِتُ مَرْكُوزَةٌ فِي هَذِهِ الْمُمَثَّلَاتِ الْبَطِيئَةِ الْحَرَكَةِ، فَأَمَّا السَّيَّارَاتُ فَإِنَّهَا مَرْكُوزَةٌ فِي الْحَوَامِلِ الَّتِي هِيَ أَفْلَاكٌ خَارِجَةُ الْمَرْكَزِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا حَاجَةَ إِلَى إِثْبَاتِ كُرَةِ الثَّوَابِتِ. وَثَالِثُهَا: هَبْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ كُرَةٍ أُخْرَى فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ كُرَتَانِ إِحْدَاهُمَا فَوْقَ كُرَةِ زُحَلَ، وَالْأُخْرَى دُونَ كُرَةِ الْقَمَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ السَّيَّارَاتِ لَا تَمُرُّ إِلَّا بِالثَّوَابِتِ الْوَاقِعَةِ فِي مَمَرِّ تِلْكَ السَّيَّارَاتِ، فَأَمَّا الثَّوَابِتُ الْمُقَارِبَةُ لِلْقُطْبَيْنِ فَإِنَّ السَّيَّارَاتِ لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَلَا تُكْسِفُهَا، فَالثَّوَابِتُ الَّتِي تَنْكَسِفُ بِهَذِهِ السَّيَّارَاتِ هَبْ أَنَّا حَكَمْنَا بِكَوْنِهَا مَرْكُوزَةً فِي كُرَةٍ فَوْقَ كُرَةِ زُحَلَ، أَمَّا الَّتِي لَا تَنْكَسِفُ بِهَذِهِ السَّيَّارَاتِ فَكَيْفَ نَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ دُونَ السَّيَّارَاتِ فَثَبْتَ أَنَّ الَّذِي قَالُوهُ غَيْرُ بُرْهَانِيٍّ بَلِ احْتِمَالِيٌّ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: زَعَمُوا أَنَّ الْفَلَكَ الْأَعْظَمَ حَرَكَتُهُ أَسْرَعُ الْحَرَكَاتِ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّكُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ قَرِيبًا مِنْ دَوْرَةٍ تَامَّةٍ، وَأَنَّهُ يَتَحَرَّكُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ. وَأَمَّا الْفَلَكُ الثَّامِنُ الَّذِي تَحْتَهُ فَإِنَّهُ فِي نِهَايَةِ الْبُطْءِ حَتَّى إِنَّهُ يَتَحَرَّكُ فِي كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ دَرَجَةً عِنْدَ بَطْلَيْمُوسَ، وَعِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي كُلِّ سِتَّةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً دَرَجَةً، وَأَنَّهُ يَتَحَرَّكُ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ عَلَى عَكْسِ الْحَرَكَةِ الْأُولَى، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّا لَمَّا رَصَدْنَا هَذِهِ الثَّوَابِتَ وَجَدْنَا لَهَا حَرَكَةً عَلَى خِلَافِ الْحَرَكَةِ الْيَوْمِيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْفَلَكَ الْأَعْظَمَ يَتَحَرَّكُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَوْرَةً تَامَّةً، وَالْفَلَكَ الثَّامِنَ أَيْضًا يَتَحَرَّكُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَوْرَةً إِلَّا بِمِقْدَارٍ نَحْوَ عُشْرِ ثَانِيَةٍ فَلَا جَرَمَ نَرَى حَرَكَةَ الْكَوَاكِبِ فِي الْحِسِّ مُخْتَلِفَةً عَنِ الْحَرَكَةِ الْأُولَى بِذَلِكَ الْقَدْرِ الْقَلِيلِ فِي خِلَافِ جِهَةِ الْحَرَكَةِ الْأُولَى، فإذا اجتمعت تلك المقادير أحس كأن الكواكب الثَّابِتَ يَرْجِعُ بِحَرَكَةٍ بَطِيئَةٍ إِلَى خِلَافِ جِهَةِ الْحَرَكَةِ الْيَوْمِيَّةِ، فَهَذَا الِاحْتِمَالُ وَاقِعٌ، وَهُمْ مَا أَقَامُوا الدَّلَالَةَ عَلَى إِبْطَالِهِ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: وَهُوَ بُرْهَانِيٌّ، أَنَّ حَرَكَةَ الْفَلَكِ الثَّامِنِ لَوْ كَانَتْ إِلَى خِلَافِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ لَكَانَ حِينَمَا

الفصل الثاني في معرفة الأفلاك

يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَةِ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ إِلَى جِهَةٍ إِمَّا أَنْ يَتَحَرَّكَ بِحَرَكَةِ نَفْسِهِ إِلَى خِلَافِ تِلْكَ الْجِهَةِ أَوْ لَا يَتَحَرَّكُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِمُقْتَضَى حَرَكَةِ نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَزِمَ كَوْنُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ دُفْعَةً وَاحِدَةً مُتَحَرِّكًا إِلَى جِهَتَيْنِ، وَالْحَرَكَةُ إِلَى جِهَتَيْنِ تَقْتَضِي الْحُصُولَ فِي الْجِهَتَيْنِ دُفْعَةً وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الْقِسْمَ الثَّانِيَ لَزِمَ انْقِطَاعُ الْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةِ، وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ بِذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّ نِهَايَةَ الْحَرَكَةِ حَاصِلَةٌ لِلْفَلَكِ الْأَعْظَمِ، وَنِهَايَةَ السُّكُونِ حَاصِلَةٌ لِلْأَرْضِ، وَالْأَقْرَبُ إلى العقول أن يقال: كل مَا كَانَ أَقْرَبَ مِنَ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ كَانَ أَسْرَعَ حَرَكَةً، وَكُلُّ مَا كَانَ أَبْعَدَ كَانَ أَبْطَأَ حَرَكَةً، فَفَلَكُ الثَّوَابِتِ أَقْرَبُ الْأَفْلَاكِ إِلَيْهِ، فَلَا جَرَمَ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ الْحَرَكَتَيْنِ إِلَّا بِقَدْرٍ قَلِيلٍ، وَهُوَ الَّذِي يَحْصُلُ مِنِ اجْتِمَاعِ مَقَادِيرِ التَّفَاوُتِ فِي كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ، وَيَلِيهِ فَلَكُ زُحَلَ فَإِنَّهُ أَبْطَأُ مِنْ فَلَكِ الثَّوَابِتِ فَلَا جَرَمَ كَانَ تَخَلُّفُهُ عَنِ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ أَكْثَرَ حَتَّى إِنَّ مَقَادِيرَ التَّفَاوُتِ إِذَا اجْتَمَعَتْ بَلَغَتْ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ سَنَةً إِلَى تَمَامِ الدَّوْرِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ كُلُّ مَا كَانَ أَبْعَدَ عَنِ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ كَانَ أَبْطَأَ حَرَكَةً، فَكَانَ تَفَاوُتُهُ أَكْثَرَ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى فَلَكِ الْقَمَرِ الَّذِي هُوَ أَبْطَأُ الْأَفْلَاكِ حَرَكَةً، فَهُوَ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَتَخَلَّفُ عَنِ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ دَرَجَةً، فَلَا جَرَمَ يُتَمِّمُ دَوْرَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ، وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنِ الْفَلَكِ، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ فِي نِهَايَةِ السُّكُونِ، فَثَبَتَ أَنَّ كَلَامَهُمْ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ مُخْتَلٌّ ضَعِيفٌ وَالْعَقْلُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهَا. الْفَصْلُ الثَّانِي فِي مَعْرِفَةِ الْأَفْلَاكِ الْقَوْمُ وَضَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ مُقْدِّمَتَيْنِ ظَنِّيَّتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: أَنَّ حَرَكَاتِ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ مُتَسَاوِيَةٌ مُتَّصِلَةٌ، وَأَنَّهَا لَا تُبْطِئُ مَرَّةً وَتُسْرِعُ أُخْرَى، وَلَيْسَ لَهَا رُجُوعٌ عَنْ مُتَوَجِّهَاتِهَا. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْكَوَاكِبَ لَا تَتَحَرَّكُ بِذَاتِهَا بَلْ بِتَحَرُّكِ الْفَلَكِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ بَنَوْا عَلَى هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ مُقَدِّمَةً أُخْرَى فَقَالُوا: الْفَلَكُ الَّذِي يَحْمِلُ الْكَوَاكِبَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَرْكَزُهُ مَرْكَزَ الْأَرْضِ أَوْ لَا يَكُونَ، فإن كان مركزه مركز الأرض، فإما أن يكون الكواكب مَرْكُوزًا فِي ثِخَنِهِ أَوْ مَرْكُوزًا فِي جِرْمٍ مَرْكُوزٍ فِي ثِخَنِ ذَلِكَ الْفَلَكِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ اسْتَحَالَ أَنْ يَخْتَلِفَ قُرْبُ الْكَوْكَبِ وَبُعْدُهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَأَنْ يَخْتَلِفَ قَطْعُهُ لِلْقِسِيِّ مِنْ ذَلِكَ الْفَلَكِ وَالْأَعْرَاضُ الِاخْتِلَافُ فِي حَرَكَةِ الْفَلَكِ، أَوْ حَرَكَةِ الْكَوْكَبِ، وَقَدْ فَرَضْنَا أَنَّهُمَا لَا يُوجَدَانِ الْبَتَّةَ، فَبَقِيَ الْقِسْمَانِ الْآخَرَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يكون الكوكب مركوزا في جرم كري مُسْتَدِيرِ الْحَرَكَةِ، مَغْرُوزٍ فِي ثِخَنِ الْفَلَكِ الْمُحِيطِ بِالْأَرْضِ، وَذَلِكَ الْجِرْمُ نُسَمِّيهِ بِالْفَلَكِ الْمُسْتَدِيرِ، فَحِينَئِذٍ يَعْرِضُ بِسَبَبِ حَرَكَتِهِ اخْتِلَافُ حَالِ الْكَوْكَبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَرْضِ تَارَةً بِالْقُرْبِ وَالْبُعْدِ وَتَارَةً بِالرُّجُوعِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَتَارَةً بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ فِي الْمَنْظَرِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْفَلَكُ الْمُحِيطُ بِالْأَرْضِ لَيْسَ مَرْكَزُهُ مُوَافِقًا لِمَرْكَزِ الْأَرْضِ، فَهُوَ الْفَلَكُ الْخَارِجُ الْمَرْكَزِ، وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ فِي أَحَدِ نِصْفَيْ فَلَكِ الْبُرُوجُ مِنْ ذَلِكَ الْفَلَكِ أَعْظَمَ مِنَ النِّصْفِ، وَفِي نِصْفِهِ الْآخَرِ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ، فَلَا جَرَمَ يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ: الْقُرْبُ وَالْبُعْدُ مِنَ الأرض، وأن يقطع أحد نصفي فلك الْبُرُوجِ فِي زَمَانٍ أَكْثَرَ مِنْ قَطْعِهِ النِّصْفَ الْآخَرَ، فَظَهَرَ أَنَّ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْكَوَاكِبِ فِي صِغَرِهَا وَكِبَرِهَا، وَسُرْعَتِهَا وَبُطْئِهَا، وَقُرْبِهَا وَبُعْدِهَا، مِنَ الْأَرْضِ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ إِلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ، أَعْنِي التَّدْوِيرَ، وَالْفَلَكَ الْخَارِجَ الْمَرْكَزِ.

الفصل الثالث في مقادير الحركات

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْصِيلِ قَوْلُهُمْ فِي الْأَفْلَاكِ، فَقَالُوا: هَذِهِ الْأَفْلَاكُ التِّسْعَةُ، مِنْهَا مَا هُوَ كُرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ الْفَلَكُ الْأَعْظَمُ، وَفَلَكُ الثَّوَابِتِ، وَمِنْهَا مَا يَنْقَسِمُ إِلَى كُرَتَيْنِ، وَهُوَ فَلَكُ الشَّمْسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَنْفَصِلُ مِنْهُ فَلَكٌ آخَرُ مَرْكَزُهُ غَيْرُ مَرْكَزِ الْعَالَمِ، بِحَيْثُ يَتَمَاسُّ سَطْحَاهُمَا الْمُحَدَّبَانِ عَلَى نُقْطَةٍ تُسَمَّى الْأَوْجَ، وَهُوَ الْبُعْدُ الْأَبْعَدُ مِنَ الْفَلَكِ الْمُنْفَصِلِ، وَيَتَمَاسُّ سَطْحَاهُمَا الْمُقَعَّرَانِ عَلَى نُقْطَةٍ تُسَمَّى الْحَضِيضَ، وَهُوَ الْبُعْدُ الْأَقْرَبُ مِنْهُ، وَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ فَلَكٌ وَاحِدٌ، مُنْفَصِلٌ عَنْهُ فَلَكٌ آخَرُ، إِلَّا أَنَّهُ يُقَالُ: فَلَكَانِ، تَوَسُّعًا، وَيُسَمَّى الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ: الْفَلَكَ الْمُمَثّلَ، وَالْمُنْفَصِلُ الْخَارِجُ الْمَرْكَزِ فَلَكَ الْأَوْجِ، وَجِرْمُ الشَّمْسِ مُغْرَقٌ فِيهِ بِحَيْثُ يَمَاسُّ سَطْحُهُ سَطْحَيْهِ، وَمِنْهَا مَا يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثِ أُكَرَ، وَهِيَ أَفْلَاكُ الْكَوَاكِبِ الْعُلْوِيَّةِ وَالزُّهَرَةِ، فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهما فليكن مِثْلَ فَلَكِ الشَّمْسِ، وَفَلَكًا آخَرَ مَوْقِعُهُ مِنْ خَارِجِ الْمَرْكَزِ مِثْلُ مَوْقِعِ جِرْمِ الشَّمْسِ مِنْ فَلَكِهِ وَيُسَمَّى: فَلَكَ/ التَّدْوِيرِ وَالْكَوْكَبُ مُغْرَقٌ فِيهِ بِحَيْثُ يَمَاسُّ سَطْحَهُ وَيُسَمَّى الْخَارِجُ الْمَرْكَزِ: الْفَلَكَ الْحَامِلَ، وَمِنْهَا مَا يَنْقَسِمُ إِلَى أَرْبَعِ أُكَرَ وَهُوَ فَلَكُ عُطَارِدٍ وَالْقَمَرِ، أَمَّا عُطَارِدٌ فَإِنَّ له فليكن مِثْلَ فَلَكَيِ الشَّمْسِ وَيَنْفَصِلُ مِنَ الثَّانِي فَلَكٌ آخَرُ انْفِصَالَ الْخَارِجِ الْمَرْكَزِ عَنِ الْمُمَثَّلِ بِحَيْثُ يَقَعُ مَرْكَزُهُ خَارِجًا عَنِ الْمَرْكَزَيْنِ وَبُعْدُهُ عَنْ مَرْكَزِ الْخَارِجِ الْمَرْكَزِ مِثْلُ نِصْفِ بُعْدِ مَا بَيْنَ مَرْكَزَيِ الْخَارِجِ الْمَرْكَزِ وَالْمُمَثَّلِ وَيُسَمَّى الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ الْفَلَكَ الْمُدِيرَ وَالْمُنْفَصِلُ الْفَلَكَ الْحَامِلَ، وَمِنْهُ فَلَكُ التَّدْوِيرِ وَعُطَارِدٌ فِيهِ كَمَا سَبَقَ فِي الْكُرَاتِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَمَّا الْقَمَرُ فَإِنَّ فَلَكَهُ يَنْقَسِمُ إلى كرتين متوازيتين والعظمى تسمى الْفَلَكُ الْمِثْلُ وَالصُّغْرَى الْفَلَكُ الْمَائِلُ وَيَنْقَسِمُ الْمَائِلُ إِلَى ثَلَاثِ أُكَرَ كَمَا فِي الْكَوَاكِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَكُلُّ فَلَكٍ يَنْفَصِلُ عَنْهُ فَلَكٌ آخَرُ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي عَرَفْتَهَا فِي فَلَكِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهُ يَبْقَى مِنَ الْمُنْفَصِلِ عَنْهُ كُرَتَانِ مُخْتَلِفَتَا الثِّخَنِ يُسَمَّيَانِ مُتَمِّمَيْنِ لِذَلِكَ الْفَلَكِ الْمُنْفَصِلِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْلَاكِ يَتَحَرَّكُ عَلَى مَرْكَزِهِ حَرَكَةً دَائِمَةً مُتَّصِلَةً إِلَى أَنْ يَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَالنَّاسُ إِنَّمَا وَصَلُوا إِلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْكُرَاتِ بِنَاءً عَلَى الْمُقَدِّمَةِ الَّتِي قَرَّرْنَاهَا وَلَا شَكَّ أَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ لَصَحَّ الْقَوْلُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا الشَّأْنُ فِيهَا «1» . الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي مَقَادِيرِ الْحَرَكَاتِ قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ جَمِيعَ الْأَفْلَاكِ تَتَحَرَّكُ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ سِوَى الفلك الأعظم، والمدبر لِعُطَارِدٍ وَالْفَلَكِ الْمُمَثَّلِ وَالْمَائِلِ وَالْمُدِيرِ لِلْقَمَرِ فَالْحَرَكَةُ الشَّرْقِيَّةُ تُسَمَّى: الْحَرَكَةَ إِلَى التَّوَالِي وَالْغَرْبِيَّةُ إِلَى خِلَافِ التَّوَالِي، وَالْفَلَكُ الْأَعْظَمُ يَتَحَرَّكُ حَرَكَةً سَرِيعَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ بِلَيْلَتِهِ دَوْرَةً وَاحِدَةً عَلَى قُطْبَيْنِ يُسَمَّيَانِ قُطْبَيِ الْعَالَمِ وَيُحَرِّكُ جَمِيعَ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ، وَبِهَذِهِ الْحَرَكَةِ يَقَعُ لِلْكَوَاكِبِ الطُّلُوعُ وَالْغُرُوبُ وَتُسَمَّى الْحَرَكَةَ الْأُولَى، وَفَلَكُ الثَّوَابِتِ يَتَحَرَّكُ حَرَكَةً بَطِيئَةً فِي كُلِّ سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ دَرَجَةً وَاحِدَةً عَلَى قُطْبَيْنِ يُسَمَّيَانِ قُطْبَيْ فَلَكِ الْبُرُوجِ، وَهُمَا يَدُورَانِ حَوْلَ قُطْبَيِ الْعَالَمِ بِالْحَرَكَةِ الْأُولَى وَتَتَحَرَّكُ عَلَى وِفْقِ هَذِهِ الْحَرَكَةِ جَمِيعُ الْأَفْلَاكِ الْمُتَحَرِّكَةِ، وَبِهَذِهِ الْحَرَكَةِ تَنْتَقِلُ الْأَوْجَاتُ عَنْ مَوْضِعِهَا مِنْ فَلَكِ الْبُرُوجِ وَتُسَمَّى الْحَرَكَةَ الثانية وحركة الأوج وهي حركة الثوابت

_ (1) هكذا بياض بسائر الأصول التي بأيدينا.

وَالثَّوَابِتُ إِنَّمَا سُمِّيَتْ ثَوَابِتَ لِأَسْبَابٍ. أَحَدُهَا: كَوْنُهَا بَطِيئَةً لِأَنَّهَا بِإِزَاءِ السَّيَّارَةِ تُشْبِهُ السَّاكِنَةَ. وَثَانِيهَا: السَّيَّارَةُ تَتَحَرَّكُ إِلَيْهَا وَهِيَ لَا تَتَحَرَّكُ إِلَى السَّيَّارَةِ فَكَأَنَّ الثَّوَابِتَ ثَابِتَةٌ لِانْتِظَارِهَا. وَثَالِثُهَا: عُرُوضُهَا ثَابِتَةٌ عَلَى مِقْدَارٍ وَاحِدٍ لَا يَتَغَيَّرُ. وَرَابِعُهَا: أَبْعَادُ مَا بَيْنَهَا ثَابِتَةٌ عَلَى حَالٍ وَاحِدٍ لَا تَتَغَيَّرُ الصُّورَةُ الْمُتَوَهَّمَةُ عَلَيْهَا مِنَ الصُّوَرِ الثَّمَانِي وَالْأَرْبَعِينَ. وَخَامِسُهَا: الْأَزْمِنَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ عَوَامِّ الأمم منوطة بِطُلُوعِهَا وَأُفُولِهَا بِحَيْثُ لَا يَتَفَاوَتُ إِلَّا فِي الْقُرُونِ وَالْأَحْقَابِ. وَأَمَّا الْأَفْلَاكُ الْخَارِجَةُ الْمَرْكَزِ فَإِنَّهَا تَتَحَرَّكُ فِي كُلِّ يَوْمٍ هَكَذَا: زُحَلُ (ب أ) المشتري (دنط) المريخ بدلالة الشمس (لاكر) الزُّهَرَةُ (نط ج) عُطَارِدٌ (نط ح) وَالْقَمَرُ (يج يج مو) وَتُسَمَّى حَرَكَةَ الْمَرْكَزِ، وَحَرَكَةَ الْوَسَطِ، وَهِيَ حَرَكَاتُ مَرَاكِزِ أَفْلَاكِ التَّدَاوِيرِ وَمَرْكَزِ الشَّمْسِ وَالْأَفْلَاكُ التَّدَاوِيرُ تَتَحَرَّكُ بِهَذَا الْمِقْدَارِ زُحَلُ (نرح) الْمُشْتَرِي (ند ط) الْمِرِّيخُ (كرمب) الزُّهَرَةُ (لونط) عُطَارِدٌ (ج وكد) الْقَمَرُ (يج ج ند) وَتُسَمَّى: الْحَرَكَةَ الْخَاصَّةَ، وَحَرَكَةَ الِاخْتِلَافِ وَهِيَ حَرَكَاتُ مَرَاكِزِ الْكَوَاكِبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ يَعْرِضُ لِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَحْصُلُ لِلْقَمَرِ مَثَلًا أَبْعَادٌ مُخْتَلِفَةٌ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الْعَالَمِ وَالْأَنْوَاعُ الْمَضْبُوطَةُ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْقَمَرُ عَلَى الْبُعْدِ الْأَقْرَبِ مِنْ فَلَكِ التَّدْوِيرِ وَمَرْكَزُ التَّدْوِيرِ عَلَى الْبُعْدِ الْأَقْرَبِ مِنَ الْفَلَكِ الْخَارِجِ الْمَرْكَزِ وَيُقَالُ لَهُ الْبُعْدُ الْأَقْرَبُ، وَهُوَ الثَّلَاثُ وَثَلَاثُونَ مَرَّةً مِثْلَ نِصْفِ قُطْرِ الْأَرْضِ بِالتَّقْرِيبِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَمَرُ عَلَى الْبُعْدِ الْأَبْعَدِ مِنْ فَلَكِ التَّدْوِيرِ وَمَرْكَزُ فَلَكِ التَّدْوِيرِ عَلَى الْبُعْدِ الْأَقْرَبِ مِنَ الْفَلَكِ الْخَارِجِ الْمَرْكَزِ وَهُوَ الْبُعْدُ الْأَقْرَبُ لِلْأَبْعَدِ وَهُوَ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ مَرَّةً مِثْلَ نِصْفِ قُطْرِ الْأَرْضِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْقَمَرُ عَلَى الْبُعْدِ الْأَقْرَبِ مِنْ فَلَكِ التَّدْوِيرِ وَمَرْكَزُ فَلَكِ التَّدْوِيرِ عَلَى الْبُعْدِ الْأَبْعَدِ مِنَ الْفَلَكِ الْخَارِجِ الْمَرْكَزِ وَهُوَ الْبُعْدُ الْأَبْعَدُ لِلْأَقْرَبِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ مَرَّةً مِثْلَ نِصْفِ قُطْرِ الْأَرْضِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْقَمَرُ عَلَى الْبُعْدِ الْأَبْعَدِ مِنْ فَلَكِ التَّدْوِيرِ وَمَرْكَزُ التَّدْوِيرِ عَلَى الْبُعْدِ الْأَبْعَدِ مِنَ الْفَلَكِ الْخَارِجِ الْمَرْكَزِ وَهُوَ الْبُعْدُ الْأَبْعَدُ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ مَرَّةً مِثْلَ نِصْفِ قُطْرِ الْأَرْضِ، ثُمَّ إِنَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ النُّقَطِ الْأَرْبَعَةِ الْأَحْوَالُ مُخْتَلِفَةٌ عَلَى مَا أَتَى عَلَى شَرْحِهَا أَبُو الرَّيْحَانِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ جَمِيعَ الْكَوَاكِبِ مُرْتَبِطَةٌ بِالشَّمْسِ ارْتِبَاطًا مَا، فَأَمَّا الْعُلْوِيَّةُ فَإِنَّ بُعْدَ مَرَاكِزِهَا عَنْ ذُرَى أَفْلَاكِ تَدَاوِيرِهَا أَبَدًا تَكُونُ بِمِقْدَارِ بُعْدِ مَرْكَزِ الشَّمْسِ عَنْ مَرَاكِزِ تَدَاوِيرِهَا وَحِينَئِذٍ تَكُونُ مُحْتَرِقَةً وَمَتَى كَانَتْ فِي الْحَضِيضِ كَانَتْ فِي مُقَابَلَتِهَا وَحِينَئِذٍ تَكُونُ مُقَابِلَةً لِلشَّمْسِ وَذَلِكَ يُقَارِنُ الشَّمْسَ فِي مُنْتَصَفِ الِاسْتِقَامَةِ وَيُقَابِلُهَا فِي مُنْتَصَفِ الرُّجُوعِ وَقِيلَ: إِنَّ نِصْفَ قُطْرِ فَلَكِ تَدْوِيرِ الْمِرِّيخِ أَعْظَمُ مِنْ نِصْفِ قُطْرِ فَلَكِ مُمَثَّلِ الشَّمْسِ فَيَلْزَمُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُقَارِنًا لِلشَّمْسِ يَكُونُ بُعْدُ مَرْكَزِهِ عَنْ مَرْكَزِ الشَّمْسِ أَعْظَمَ مِنْهُ إِذَا كَانَ مُقَابِلًا لَهَا، وَأَمَّا السُّفْلِيَّاتُ فَإِنَّ مَرَاكِزَ أَفْلَاكِ تَدْوِيرِهَا أَبَدًا يَكُونُ مُقَارِنًا لِلشَّمْسِ فَيَلْزَمُ أَنْ تُقَارِنَ الشَّمْسُ الذُّرْوَةَ وَالْحَضِيضَ فِي مُنْتَصَفَيِ الِاسْتِقَامَةِ، وَالرُّجُوعُ غَايَةُ بُعْدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الشَّمْسِ بِمِقْدَارِ نِصْفِ قُطْرِ فَلَكِ تَدْوِيرِهِمَا، وَهُوَ لِلزُّهَرَةِ (مه) وَلِعُطَارِدٍ (كه) بِالتَّقْرِيبِ وَأَمَّا الْقَمَرُ فَإِنَّ مَرْكَزَ الشَّمْسِ أَبَدًا يَكُونُ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ بُعْدِهِ الْأَبْعَدِ وَبَيْنَ مَرْكَزِ تَدْوِيرِهِ وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِبُعْدِ مَرْكَزِ تَدْوِيرِهِ عَنِ الْبُعْدِ الْأَبْعَدِ الْبُعْدُ الْمُضَاعَفُ لِأَنَّهُ ضِعْفُ بُعْدِ مَرْكَزِ تَدْوِيرِهِ مِنَ الشَّمْسِ فَلَزِمَ أَنَّهُ مَتَى كَانَ مَرْكَزُ تَدْوِيرِهِ فِي الْبُعْدِ الْأَبْعَدِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَابِلًا لِلشَّمْسِ أَوْ مُقَارِنًا لَهَا، وَمَتَى كَانَ فِي الْبُعْدِ الْأَقْرَبِ تَكُونُ الشَّمْسُ فِي تَرْبِيعِهِ فَلِذَلِكَ يَكُونُ اجْتِمَاعُهُ وَاسْتِقْبَالُهُ فِي الْبُعْدِ الْأَبْعَدِ وَتَرْبِيعُهُ مَعَ الشَّمْسِ فِي الْأَقْرَبِ.

الفصل الرابع في كيفية الاستدلال بهذه الأحوال على وجود الصانع

الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: النَّظَرُ إِلَى مَقَادِيرِ هَذِهِ الْأَفْلَاكِ، فَإِنَّهَا مَعَ اشْتِرَاكِهَا فِي الطَّبِيعَةِ الْفَلَكِيَّةِ، اخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ وُقُوعُهَا عَلَى أَزْيَدَ مِنْ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ أَوْ أَنْقَصَ مِنْهُ بِذَرَّةٍ، فَلَمَّا قَضَى صَرِيحُ الْعَقْلِ بِأَنَّ الْمَقَادِيرَ بِأَسْرِهَا عَلَى السَّوِيَّةِ، قَضَى بِافْتِقَارِهَا فِي مَقَادِيرِهَا إِلَى مُخَصِّصٍ مُدَبِّرٍ. وَثَانِيهَا: النَّظَرُ إِلَى أَحْيَازِهَا، فَإِنَّ كُلَّ فَلَكٍ مُمَاسٍّ بِمُحَدَّبِهِ فَلَكًا آخَرَ فَوْقَهُ وَبِمُقَعَّرِهِ فَلَكًا آخَرَ تَحْتَهُ، ثُمَّ ذَلِكَ الْفَلَكُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَشَابِهَ الْأَجْزَاءِ أَوْ يَنْتَهِيَ بِالْآخِرَةِ إِلَى جِسْمٍ مُتَشَابِهِ الْأَجْزَاءِ، وَذَلِكَ الْجِسْمُ الْمُتَشَابِهُ الْأَجْزَاءِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ طَبِيعَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ طَرَفَيْهِ مُسَاوِيَةً لِطَبِيعَةِ طَرَفِهِ الْآخَرِ، فَكَمَا صَحَّ عَلَى مُحَدَّبِهِ أَنْ يَلْقَى جِسْمًا وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ عَلَى مُقَعَّرِهِ أَنْ يَلْقَى ذَلِكَ الْجِسْمَ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ أَنَّ الْعَالِيَ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ سَافِلًا، وَالسَّافِلُ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ عَالِيًا، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ منها بحيزه المعين أمرا جائزا يقتضي الْعَقْلُ بِافْتِقَارِهِ إِلَى الْمُقْتَضَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ كُلَّ كَوْكَبٍ حَصَلَ فِي مُقَعَّرِهِ اخْتَصَّ بِهِ أَحَدُ جَوَانِبِ ذَلِكَ الْفَلَكِ دُونَ سَائِرِ الْجَوَانِبِ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ الْمُنْتَفِيَ مِنْ ذَلِكَ الْفَلَكِ مُسَاوٍ لِسَائِرِ جَوَانِبِهِ، لِأَنَّ الْفَلَكَ عِنْدَهُ جِسْمٌ مُتَشَابِهُ الْأَجْزَاءِ، فَاخْتِصَاصُ ذَلِكَ الْمُقَعَّرِ بِذَلِكَ الْكَوْكَبِ دُونَ سَائِرِ الْجَوَانِبِ يَكُونُ أَمْرًا مُمْكِنًا جَائِزًا فَيَقْضِي الْعَقْلُ بِافْتِقَارِهِ إِلَى الْمُخَصِّصِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ كُلَّ كُرَةٍ فَإِنَّهَا تَدُورُ عَلَى قُطْبَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ، وَإِذَا كَانَ الْفَلَكُ مُتَشَابِهَ الْأَجْزَاءِ كَانَ جَمِيعُ النُّقَطِ الْمُفْتَرَضَةِ عَلَيْهِ مُتَسَاوِيَةً، وَجَمِيعُ الدَّوَائِرِ الْمُفْتَرَضَةِ عَلَيْهِ أَيْضًا مُتَسَاوِيَةً، فَاخْتِصَاصُ نُقْطَتَيْنِ مُعَيَّنَتَيْنِ بِالْقُطْبِيَّةِ دُونَ سَائِرِ النُّقَطِ مَعَ اسْتِوَائِهَا فِي الطَّبِيعَةِ يَكُونُ أَمْرًا جَائِزًا، فَيَقْضِي الْعَقْلُ بِافْتِقَارِهِ إِلَى الْمُقْتَضِي، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي تَعَيُّنِ كُلِّ دَائِرَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ دَوَائِرِهَا بِأَنْ تَكُونَ مِنْطَقَةً. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْأَجْرَامَ الْفَلَكِيَّةَ مَعَ تَشَابُهِهَا فِي الطَّبِيعَةِ الْفَلَكِيَّةِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُخْتَصٌّ بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْحَرَكَةِ فِي الْبُطْءِ وَالسُّرْعَةِ، فَانْظُرْ إِلَى الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ مَعَ نِهَايَةِ اتِّسَاعِهِ وَعِظَمِهِ ثُمَّ إِنَّهُ يَدُورُ دَوْرَةً تَامَّةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَالْفَلَكُ الثَّامِنُ الَّذِي هُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ لَا يَدُورُ الدَّوْرَةَ التَّامَّةَ إِلَّا فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، ثُمَّ إِنَّ الْفَلَكَ السَّابِعَ الَّذِي تَحْتَهُ يَدُورُ فِي ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَاخْتِصَاصُ الْأَعْظَمِ بِمَزِيدِ السُّرْعَةِ، وَالْأَصْغَرُ بمزيد البطء مع أنه على خِلَافُ حُكْمِ الْعَقْلِ فَإِنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَوْسَعُ أَبْطَأَ حَرَكَةً لِعِظَمِ مَدَارِهِ، وَالْأَصْغَرُ أَسْرَعَ اسْتِدَارَةً لِصِغَرِ مَدَارِهِ لَيْسَ إِلَّا لِمُخَصِّصٍ، وَالْعَقْلُ يَقْضِي بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِنَّمَا اخْتَصَّ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ الْفَلَكَ الْمُمَثَّلَ إِذَا انْفَصَلَ عَنْهُ الْفَلَكُ الْخَارِجُ الْمَرْكَزِ بَقِيَ مُتَمِّمَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنَ الْخَارِجِ، وَالْآخَرُ: مِنَ الدَّاخِلِ، وَأَنَّهُ جِرْمٌ مُتَشَابِهُ الطَّبِيعَةِ، ثُمَّ اخْتَصَّ أَحَدُ جَوَانِبِهِمَا بِغَايَةِ/ الثِّخَنِ، وَالْآخَرُ بِغَايَةِ الرِّقَّةِ بِالنِّسْبَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ نِسْبَةُ ذَلِكَ الثِّخَنِ وَالرِّقَّةِ إلى طبيعة عَلَى السَّوِيَّةِ، فَاخْتِصَاصُ أَحَدِ جَانِبَيْهِ بِالرِّقَّةِ وَالْآخَرِ بِالثِّخَنِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ الْمُخَصِّصِ الْمُخْتَارِ. وَسَابِعُهَا: أَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ فِي جِهَاتِ الْحَرَكَاتِ، فَبَعْضُهَا مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَبَعْضُهَا مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَبَعْضُهَا شَمَالِيَّةٌ، وَبَعْضُهَا جَنُوبِيَّةٌ، مَعَ أَنَّ جَمِيعَ الْجِهَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا عَلَى السَّوِيَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِافْتِقَارِ إِلَى الْمُدَبِّرِ. وَثَامِنُهَا: أَنَّا نَرَاهَا الْآنَ مُتَحَرِّكَةً وَمُحَالٌ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا كَانَتْ أَزَلًا مُتَحَرِّكَةٌ، أَوْ مَا كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً، ثُمَّ ابْتَدَأَتْ بِالْحَرَكَةِ، وَمُحَالٌ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا كَانَتْ أَزَلًا مُتَحَرِّكَةً لِأَنَّ مَاهِيَّةَ الْحَرَكَةِ تَقْتَضِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ، لِأَنَّ الْحَرَكَةَ انْتِقَالٌ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ وَالْأَزَلُ يُنَافِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَرَكَةِ وَالْأَزَلِيَّةِ مُحَالٌ، وَإِنْ قلنا

إِنَّهَا مَا كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً أَزَلًا سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ تِلْكَ الْحَرَكَةِ مَوْجُودَةً أَوْ كَانَتْ سَاكِنَةً، أَوْ قُلْنَا: إِنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ تِلْكَ الْحَرَكَةِ مَعْدُومَةً أَصْلًا، فَالِابْتِدَاءُ بِالْحَرَكَةِ بَعْدَ عَدَمِ الْحَرَكَةِ يَقْتَضِي الِافْتِقَارَ إِلَى مُدَبِّرٍ قَدِيمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِيُحَرِّكَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً، أَوْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ سَاكِنَةً، وَهَذَا الْمَأْخَذُ أَحْسَنُ الْمَآخِذِ وَأَقْوَاهَا. وَتَاسِعُهَا: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ حَرَكَاتِهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ لَوَازِمِ جُسْمَانِيَّتِهَا المعينة، لكنا نرى جسمانيتها الْمُعَيَّنَةَ مُنْفَكَّةً عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ تِلْكَ الْحَرَكَةِ، فَإِذَنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَرَكَتِهِ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِهِ، فَافْتَقَرَتِ الْأَفْلَاكُ فِي حَرَكَاتِهَا إِلَى مُحَرِّكٍ مِنْ خَارِجٍ، وَذَلِكَ هُوَ مُحَرِّكُ الْمُتَحَرِّكَاتِ، وَمُدَبِّرُ الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ، وَهُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَعَاشِرُهَا: أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ الْعَجِيبَ فِي تَرْكِيبِ هَذِهِ الْأَفْلَاكِ وَائْتِلَافِ حَرَكَاتِهَا أَتُرَى أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى حِكْمَةٍ، أَمْ هِيَ وَاقِعَةٌ بِالْجُزَافِ وَالْعَبَثِ؟ أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَبَاطِلٌ وَبَعِيدٌ عن العقل، فإن جوز فِي بِنَاءٍ رَفِيعٍ، وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أَنَّ التُّرَابَ وَالْمَاءَ انْضَمَّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ، ثُمَّ تَوَلَّدَ منهما لبنات، ثم تركبها قصر مشيد وبناء عال، فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْجُنُونِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ تَرْكِيبَ هَذِهِ الْأَفْلَاكِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ، وَمَا لَهَا مِنَ الْحَرَكَاتِ لَيْسَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الْبِنَاءِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ رِعَايَةِ حِكْمَةٍ، ثُمَّ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا أَحْيَاءٌ نَاطِقَةٌ فَهِيَ تَتَحَرَّكُ بِأَنْفُسِهَا أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُ يُحَرِّكُهَا مُدَبِّرٌ قَاهِرٌ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ حَرَكَتَهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِطَلَبِ اسْتِكْمَالِهَا أَوْ لَا لِهَذَا الْغَرَضِ، فَإِنْ كَانَتْ طَالِبَةً بِحَرَكَتِهَا لِتَحْصِيلِ كَمَالٍ فَهِيَ نَاقِصَةٌ فِي ذَوَاتِهَا، طَالِبَةٌ لِلِاسْتِكْمَالِ أَوْ لَا لِهَذَا الْغَرَضِ، وَالنَّاقِصُ بِذَاتِهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُكَمِّلٍ، فَهِيَ مُفْتَقِرَةٌ مُحْتَاجَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ طَالِبَةً بِحَرَكَتِهَا لِلِاسْتِكْمَالِ، فَهِيَ عَابِثَةٌ فِي أَفْعَالِهَا، فَيَعُودُ الْأَمْرُ إِلَى أَنَّهُ يَبْعُدُ فِي الْعُقُولِ أَنْ يَكُونَ مَدَارُ هَذِهِ الْأَجْرَامِ الْمُسْتَعْظَمَةِ، وَالْحَرَكَاتِ الدَّائِمَةِ، عَلَى الْعَبَثِ وَالسَّفَهِ، فَلَمْ يَبْقَ فِي الْعُقُولِ قِسْمٌ هُوَ الْأَلْيَقُ بِالذَّهَابِ إِلَيْهِ إِلَّا أَنَّ مُدَبِّرًا قَاهِرًا غَالِبًا عَلَى الدَّهْرِ وَالزَّمَانِ يُحَرِّكُهَا لِأَسْرَارٍ مَخْفِيَّةٍ، وَلِحِكَمٍ لَطِيفَةٍ هُوَ الْمُسْتَأْثِرُ بِهَا، وَالْمُطَّلِعُ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ عِنْدَنَا إِلَّا الْإِيمَانُ بِهَا عَلَى الْإِجْمَالِ عَلَى مَا قَالَ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا [آلِ عِمْرَانَ: 191] . وَالْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّا نَرَاهَا مُخْتَلِفَةً فِي الْأَلْوَانِ، مِثْلَ صُفْرَةِ عُطَارِدٍ، وَبَيَاضِ الزُّهَرَةِ وَضَوْءِ/ الشَّمْسِ وَحُمْرَةِ الْمِرِّيخِ وَدُرِّيَّةِ الْمُشْتَرِي، وَكُمُودَةِ زُحَلَ وَاخْتِلَافِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَوَاكِبِ الثَّابِتَةِ بِعِظَمٍ خَاصٍّ وَلَوْنٍ خَاصٍّ وَتَرْكِيبٍ خَاصٍّ، وَنَرَاهَا أَيْضًا مُخْتَلِفَةً بِالسَّعَادَةِ وَالنُّحُوسَةِ، وَنَرَى أَعْلَى الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ أَنْحَسَهَا وَنَرَى مَا دُونَهَا أَسْعَدَهَا، وَنَرَى سُلْطَانَ الْكَوَاكِبِ سَعِيدًا فِي بَعْضِ الِاتِّصَالَاتِ نَحْسًا فِي بَعْضٍ وَنَرَاهَا مُخْتَلِفَةً فِي الْوُجُوهِ وَالْخُدُودِ وَاللِّثَاتِ وَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَكَوْنِ بَعْضِهَا نَهَارِيًّا وَلَيْلِيًّا وَسَائِرًا وَرَاجِعًا وَمُسْتَقِيمًا وَصَاعِدًا وَهَابِطًا مَعَ اشْتِرَاكِهَا بِأَسْرِهَا فِي الشَّفَافِيَّةِ وَالصَّفَاءِ وَالنَّقَاءِ فِي الْجَوْهَرِ فَيَقْضِي الْعَقْلُ بِأَنَّ اخْتِصَاصَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِمَا اخْتُصَّ بِهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ. وَالثَّانِيَ عَشَرَ: وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ وَكَانَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي هَذَا الْعَالَمِ فَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَدَافِعَةً أَوْ مُتَعَاوِنَةً، أَوْ لَا مُتَدَافِعَةً وَلَا مُتَعَاوِنَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُتَدَافِعَةً فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ أَوْ تَكُونَ مُتَسَاوِيَةً فِي الْقُوَّةِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ كَانَ الْقَوِيُّ غَالِبًا أَبَدًا وَالضَّعِيفُ مَغْلُوبًا أَبَدًا، فَوَجَبَ أَنْ تَسْتَمِرَّ أَحْوَالُ الْعَالَمِ عَلَى طَبِيعَةِ ذَلِكَ الْكَوْكَبِ لَكِنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً فِي الْقُوَّةِ وَهِيَ مُتَدَافِعَةٌ وَجَبَ تَعَذُّرُ الْفِعْلِ عَلَيْهَا بِأَسْرِهَا فَتَكُونُ الْأَفْعَالُ الظَّاهِرَةُ فِي الْعَالَمِ صَادِرَةً عَنْ غَيْرِهَا فَلَا يَكُونُ مُدَبِّرُ الْعَالَمِ هُوَ هَذِهِ الْكَوَاكِبُ، بَلْ غَيْرُهَا وإن كانت متعاونة لزم بقاء العالم أيضا عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ أَصْلًا وَإِنْ كَانَتْ تَارَةً مُتَعَاوِنَةً وَتَارَةً مُتَدَافِعَةً كَانَ

الفصل الأول في بيان أحوال الأرض

انْتِقَالُهَا مِنَ الْمَحَبَّةِ إِلَى الْبِغْضَةِ وَبِالْعَكْسِ تَغَيُّرًا لَهَا فِي صِفَاتِهَا فَتَكُونُ هِيَ مُفْتَقِرَةً فِي تِلْكَ التَّغَيُّرَاتِ إِلَى الصَّانِعِ الْمُسْتَوْلِي عَلَيْهَا بِالْقَهْرِ وَالتَّسْخِيرِ. وَالثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّهَا أَجْسَامٌ وَكُلُّ جِسْمٍ مُرَكَّبٌ وَكُلُّ مُرَكَّبٍ مُفْتَقِرٌ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ غَيْرُهُ فَكُلُّ جِسْمٍ هُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ مُمْكِنٌ وَكُلُّ مُمْكِنٍ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وكل ممكن لذاته فله مؤثر وكل ماله مُؤَثِّرٌ فَافْتِقَارُهُ إِلَى مُؤْثِرِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالَ بَقَائِهِ، أَوْ حَالَ حُدُوثِهِ أَوْ حَالَ عَدَمِهِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إِيجَادَ الْمَوْجُودِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَبَقِيَ الْقِسْمَانِ الْآخَرَانِ وَهُمَا يَقْتَضِيَانِ الْحُدُوثَ الدَّالَّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ. وَالرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْجِسْمِيَّةِ لِأَنَّهُ يَصِحُّ تَقْسِيمُ الْجِسْمِ إِلَى الْفَلَكِيِّ وَالْعُنْصُرِيِّ وَالْكَثِيفِ وَاللَّطِيفِ، وَالْحَارِّ وَالْبَارِدِ، وَالرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، وَمَوْرِدُ التَّقْسِيمِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ كُلِّ الْأَجْسَامِ. فَالْجِسْمِيَّةُ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَالْأُمُورُ الْمُتَسَاوِيَةُ فِي الْمَاهِيَّةِ يَجِبُ أن تكون متساوية في قالمية الصِّفَاتِ، فَإِذَنْ كُلُّ مَا صَحَّ عَلَى جِسْمٍ صَحَّ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِذَنِ اخْتِصَاصُ كُلِّ جِسْمٍ بِمَا اخْتَصَّ بِهِ مِنَ الْمِقْدَارِ، وَالْوَضْعِ، وَالشَّكْلِ، وَالطَّبْعِ، وَالصِّفَةِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الجائزات، وذلك يقضي بِالِافْتِقَارِ إِلَى الصَّانِعِ الْقَدِيمِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ، فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إلى معاقد الدلائل المستنبطة من أجسام السموات وَالْأَرْضِ، عَلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [لُقْمَانَ: 27] النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الدَّلَائِلِ أَحْوَالُ الْأَرْضِ وَفِيهِ فَصْلَانِ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ الْأَرْضِ اعْلَمْ أَنَّ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَرْضِ أَسْبَابًا: السَّبَبُ الْأَوَّلُ: اخْتِلَافُ أَحْوَالِهَا بِسَبَبِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ، وَهِيَ أَقْسَامٌ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْمَوَاضِعُ الْعَدِيمَةُ الْعَرْضِ، وَهِيَ الَّتِي عَلَى خَطِّ الِاسْتِوَاءِ بِمُوَافَقَتِهَا قُطْبَيِ الْعَالَمِ، تُقَاطِعُ مُعَدَّلَ النَّهَارِ عَلَى زَوَايَا قَائِمَةٍ، وَتَقْطَعُ جَمِيعَ الْمَدَارَاتِ الْيَوْمِيَّةِ بِنِصْفَيْنِ، وَتَكُونُ حَرَكَةُ الْفَلَكِ دُولَابِيَّةً، وَلَمْ يَخْتَلِفْ هُنَاكَ لَيْلُ كَوْكَبٍ مَعَ نَهَارِهِ، وَلَمْ يُتَصَوَّرْ كَوْكَبٌ أَبَدِيُّ الظُّهُورِ، وَلَا أَبَدِيُّ الْخَفَاءِ، بَلْ يَكُونُ لِكُلِّ نُقْطَةٍ سِوَى الْقُطْبَيْنِ: طُلُوعٌ وَغُرُوبٌ، وَيَمُرُّ فَلَكُ الْبُرُوجُ بِسَمْتِ الرَّأْسِ فِي الدَّوْرَةِ مَرَّتَيْنِ، وَذَلِكَ عِنْدَ بلوغ قطبية دَائِرَةِ الْأُفُقِ، وَتَمُرُّ الشَّمْسُ بِسَمْتِ الرَّأْسِ مَرَّتَيْنِ فِي السَّنَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ بُلُوغِهَا نُقْطَتَيِ الِاعْتِدَالَيْنِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمَوَاضِعُ الَّتِي لَهَا عَرْضٌ، فَإِنَّ قُطْبَ الشَّمَالِ يَرْتَفِعُ فِيهَا مِنَ الْأُفُقِ، وَقُطْبَ الْجَنُوبِ يَنْحَطُّ عَنْهُ وَيَقْطَعُ الْأُفُقَ مُعَدَّلَ النَّهَارِ فَقَطْ عَلَى نِصْفَيْنِ، فَأَمَّا سَائِرُ الْمَدَارَاتِ فَيَقْطَعُهَا بِقِسْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، الظَّاهِرُ مِنْهُمَا فِي الشَّمَالِيَّةِ أَعْظَمُ مِنَ الْخَافِي وَفِي الْجَنُوبِيَّةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا يَكُونُ النَّهَارُ فِي الشَّمَالِيَّةِ أَطْوَلَ مِنَ اللَّيْلِ، وفي الجنوبية بالخلاف، وتصير الحركة هاهنا حَمَائِلِيَّةً، وَلَمْ يَتَّفِقْ لَيْلُ كَوْكَبٍ مَعَ نَهَارِهِ، إِلَّا مَا كَانَ فِي مُعَدَّلِ النَّهَارِ، وَتَصِيرُ الْكَوَاكِبُ الَّتِي بِالْقُرْبِ مِنْ قُطْبِ الشَّمَالِ أَبَدِيَّةَ الظُّهُورِ، وَالَّتِي بِالْقُرْبِ مِنْ قُطْبِ الْجَنُوبِ أَبَدِيَّةَ الخفاء،

وَتَمُرُّ الشَّمْسُ بِسَمْتِ الرَّأْسِ فِي نُقْطَتَيْنِ بُعْدُهُمَا عَنْ مُعَدَّلِ النَّهَارِ إِلَى الشَّمَالِ مِثْلُ عَرْضِ الْمَوْضِعِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَصِيرُ ارتفاع القطب فيه مثل الميل الأعظم، وهاهنا يَبْطُلُ طُلُوعُ قُطْبَيْ فَلَكِ الْبُرُوجِ وَغُرُوبُهُمَا إِلَّا أَنَّهُمَا يُمَاسَّانِ الْأُفُقَ، وَحِينَئِذٍ يَمُرُّ فَلَكُ الْبُرُوجِ بِسَمْتِ الرَّأْسِ، وَلَمْ تَمُرَّ الشَّمْسُ بِسَمْتِ الرَّأْسِ إِلَّا فِي الِانْقِلَابِ الصَّيْفِيِّ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أن يزداد العرض على ذلك، وهاهنا يَبْطُلُ مُرُورُ فَلَكِ الْبُرُوجِ وَالشَّمْسِ بِسَمْتِ الرَّأْسِ، وَيَصِيرُ الْقُطْبُ الشَّمَالِيُّ مِنْ فَلَكِ الْبُرُوجِ أَبَدِيَّ الظُّهُورِ، وَالْآخَرُ أَبَدِيَّ الْخَفَاءِ. الْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يصير العرض مثل تمام الميل، وهاهنا يَنْعَدِمُ غُرُوبُ الْمُنْقَلَبِ الصَّيْفِيِّ وَطُلُوعُ الشَّتْوِيِّ لَكِنَّهُمَا يَمَاسَّانِ الْأُفُقَ، وَعِنْدَ بُلُوغِ الِاعْتِدَالِ الرَّبِيعِيِّ أُفُقَ الْمَشْرِقِ، وَالْخَرِيفِيِّ أُفُقَ الْمَغْرِبِ يَكُونُ الْمُنْقَلَبُ الصَّيْفِيُّ فِي جِهَةِ الشَّمَالِ وَالشَّتْوِيُّ فِي جِهَةِ الْجَنُوبِ وَحِينَئِذٍ يَنْطَبِقُ فَلَكُ الْبُرُوجِ عَلَى الْأُفُقِ، ثُمَّ يَطْلَعُ مِنْ أَوَّلِ الْجَدْيِ، إِلَى أَوَّلِ السَّرَطَانِ دُفْعَةً، وَيَغْرُبُ مُقَابِلُهُ كَذَلِكَ ثُمَّ تَأْخُذُ/ الْبُرُوجُ الطَّالِعَةُ فِي الْغُرُوبِ، وَالْغَارِبَةُ فِي الطُّلُوعِ، إِلَى أَنْ تَعُودَ الْحَالَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَيَنْعَدِمُ اللَّيْلُ هُنَاكَ في الانقلاب الصيفي، والنهار في الشَّتْوِيِّ. الْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ يَزْدَادَ الْعَرْضُ عَلَى ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ قَوْسٌ مِنْ فَلَكِ الْبُرُوجِ أَبَدِيَّ الظُّهُورِ مِمَّا يَلِي الْمُنْقَلَبَ الصَّيْفِيَّ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْمُنْقَلَبُ فِي وَسَطِهَا، وَمُدَّةُ قَطْعُ الشَّمْسِ إِيَّاهَا يَكُونُ نَهَارًا، وَيَصِيرُ مِثْلُهَا مِمَّا يَلِي الْمُنْقَلَبَ الشَّتْوِيَّ أَبَدِيَّ الْخَفَاءِ، وَمُدَّةُ قَطْعِ الشَّمْسِ إِيَّاهَا يَكُونُ لَيْلًا، وَيَعْرِضُ هُنَاكَ لِبَعْضِ الْبُرُوجِ نُكُوسٌ، فَإِذَا وَافَى الْجَدْيُ نِصْفَ النَّهَارِ مِنْ نَاحِيَةِ الْجَنُوبِ، كَانَ أَوَّلُ السَّرَطَانِ عَلَيْهِ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّمَالِ، وَنُقْطَةُ الِاعْتِدَالِ الرَّبِيعِيِّ عَلَى أُفُقِ الْمَشْرِقِ، فَإِذَنْ قَدْ طَلَعَ السَّرَطَانُ قَبْلَ الْجَوْزَاءِ، وَالْجَوْزَاءُ قَبْلَ الثَّوْرِ، وَالثَّوْرُ قَبْلَ الْحَمَلِ، ثُمَّ إِذَا تَحَرَّكَ الْفَلَكُ يَطْلَعُ بِالضَّرُورَةِ آخِرُ الْحُوتِ وَأَوَّلُهُ تَحْتَ الْأَرْضِ، وَكُلُّ جُزْءٍ يَطْلُعُ فَإِنَّهُ يَغِيبُ نَظِيرُهُ، فَالْبُرُوجُ الَّتِي تَطْلَعُ مَنْكُوسَةً يَغِيبُ نَظِيرُهَا كَذَلِكَ الْقِسْمُ السَّابِعُ: أَنْ يَصِيرَ ارْتِفَاعُ الْقُطْبِ تِسْعِينَ دَرَجَةً، فَيَكُونُ هُنَاكَ مُعَدَّلُ النَّهَارِ مُنْطَبِقًا عَلَى الْأُفُقِ، وَتَصِيرُ الْحَرَكَةُ رَحَوِيَّةً، وَيَبْطُلُ الطلوع والغروب أصلا، ويكون النصف الشمالي من فَلَكِ الْبُرُوجِ أَبَدِيَّ الظُّهُورِ، وَالنِّصْفُ الْجَنُوبِيُّ أَبَدِيَّ الْخَفَاءِ، وَيَصِيرُ نِصْفُ السَّنَةِ لَيْلًا وَنَصِفُهَا نَهَارًا. السَّبَبُ الثَّانِي: لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَرْضِ اخْتِلَافُ أَحْوَالِهَا بِسَبَبِ الْعِمَارَةِ: اعْلَمْ أَنَّ خَطَّ الِاسْتِوَاءِ يَقْطَعُ الْأَرْضَ نِصْفَيْنِ: شَمَالِيٍّ وَجَنُوبِيٍّ، فَإِذَا فَرَضْتَ دَائِرَةً أُخْرَى عَظِيمَةً مُقَاطِعَةً لَهَا عَلَى زَوَايَا قَائِمَةٍ، انْقَسَمَتْ كُرَةُ الْأَرْضِ بِهِمَا أَرْبَاعًا، وَالَّذِي وُجِدَ مَعْمُورًا مِنَ الْأَرْضِ أَحَدُ الرُّبْعَيْنِ الشَّمَالِيَّيْنِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْجِبَالِ وَالْبِحَارِ وَالْمَفَاوِزِ، وَيُقَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِنَّ ثَلَاثَةَ الْأَرْبَاعِ مَاءٌ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي طُولُهُ تِسْعُونَ دَرَجَةً عَلَى خَطِّ الِاسْتِوَاءِ، يُسَمَّى: قُبَّةَ الْأَرْضِ، وَيُحْكَى عَنِ الْهِنْدِ أَنَّ هُنَاكَ قَلْعَةً شَامِخَةً فِي جَزِيرَةٍ هِيَ مُسْتَقَرُّ الشَّيَاطِينِ، فَتُسَمَّى لِأَجْلِهَا: قُبَّةً، ثُمَّ وُجِدَ طُولُ الْعِمَارَةِ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ الدَّوْرِ، وَهُوَ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ جَعَلُوا ابْتِدَاءَهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي التَّعْيِينِ، فَبَعْضُهُمْ يَأْخُذُهُ مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ وَهُوَ بَحْرُ أُوقْيَانُوسَ، وَبَعْضُهُمْ يَأْخُذُهُ مِنْ جَزَائِرَ وَغِلَةٍ فِيهِ تُسَمَّى: جَزَائِرَ الْخَالِدَاتِ، زَعَمَ الْأَوَائِلُ أَنَّهَا كَانَتْ عَامِرَةً فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ، وَبُعْدُهَا عَنِ السَّاحِلِ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ، فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا وُقُوعُ الِاخْتِلَافِ فِي الِانْتِهَاءِ أَيْضًا، وَلَمْ يُوجَدْ عَرْضُ الْعِمَارَةِ إِلَّا إِلَى بُعْدِ

سِتٍّ وَسِتِّينَ دَرَجَةً مِنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ، إِلَّا أَنَّ بَطْلَيْمُوسَ زَعَمَ أَنَّ وَرَاءَ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ عِمَارَةً إِلَى بُعْدِ سِتَّ عَشْرَةَ دَرَجَةً، فَيَكُونُ عَرْضُ الْعِمَارَةِ قَرِيبًا مِنِ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ دَرَجَةً، ثُمَّ قَسَّمُوا هَذَا الْقَدْرَ الْمَعْمُورَ سَبْعَ قِطَعٍ مُسْتَطِيلَةٍ عَلَى مُوَازَاةِ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى: الْأَقَالِيمَ وَابْتِدَاؤُهُ مِنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ، وَبَعْضُهُمْ يَأْخُذُ أَوَّلَ الْأَقَالِيمِ مِنْ عِنْدَ قَرِيبٍ مِنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ دَرَجَةً مِنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ، وَآخِرَ الْإِقْلِيمِ السَّابِعِ إِلَى بُعْدِ خَمْسِينَ دَرَجَةً وَلَا يَعُدُّ مَا وَرَاءَهَا مِنَ الْأَقَالِيمِ، لِقِلَّةِ مَا وَجَدُوا فِيهِ مِنَ الْعِمَارَةِ. السَّبَبُ الثَّالِثُ: لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَرْضِ، كَوْنُ بَعْضِهَا بَرِّيًّا وَبَحْرِيًّا، وَسَهْلِيًّا وَجَبَلِيًّا، وَصَخْرِيًّا وَرَمْلِيًّا وَفِي غَوْرٍ وَعَلَى نَجْدٍ وَيَتَرَكَّبُ بَعْضُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِبَعْضٍ فَتَخْتَلِفُ أَحْوَالُهَا اخْتِلَافًا شَدِيدًا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا النَّوْعِ فَقَدِ اسْتَقْصَيْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً [الْبَقَرَةِ: 22] وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْأَرْضِ أَنَّهَا كُرَةٌ وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ امْتِدَادَ الْأَرْضِ فِيمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يُسَمَّى طُولًا وَامْتِدَادَهَا بَيْنَ الشَّمَالِ وَالْجَنُوبِ يُسَمَّى عَرْضًا فَنَقُولُ: طُولُ الْأَرْضِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِيمًا أَوْ مُقَعَّرًا أَوْ مُحَدَّبًا وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ وَإِلَّا لَصَارَ جَمِيعُ وَجْهِ الْأَرْضِ مُضِيئًا دُفْعَةً وَاحِدَةً عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَصَارَ جَمِيعُهُ مُظْلِمًا دُفْعَةً وَاحِدَةً عِنْدَ غَيْبَتِهَا، لَكِنْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّا لَمَّا اعْتَبَرْنَا مِنَ الْقَمَرِ خُسُوفًا وَاحِدًا بِعَيْنِهِ، وَاعْتَبَرْنَا مَعَهُ حَالًا مَضْبُوطًا مِنْ أَحْوَالِهِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي هِيَ أَوَّلُ الْكُسُوفِ وَتَمَامُهُ، وَأَوَّلُ انْجِلَائِهِ وَتَمَامُهُ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي البلاد المختلفة الطول في الوقت وَاحِدٍ وَوُجِدَ الْمَاضِي مِنَ اللَّيْلِ فِي الْبَلَدِ الشَّرْقِيِّ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا فِي الْبَلَدِ الْغَرْبِيِّ وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ وَإِلَّا لَوُجِدَ الْمَاضِي مِنَ اللَّيْلِ فِي الْبَلَدِ الْغَرْبِيِّ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْبَلَدِ الشَّرْقِيِّ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَحْصُلُ فِي غَرْبِ الْمُقَعَّرِ أَوَّلًا ثُمَّ فِي شَرْقِهِ ثَانِيًا وَلَمَّا بَطَلَ الْقِسْمَانِ ثَبَتَ أَنَّ طُولَ الْأَرْضِ مُحَدَّبٌ، ثُمَّ هَذَا الْمُحَدَّبُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كُرِيًّا أَوْ عَدَسِيًّا، وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّا نَجِدُ التَّفَاوُتَ بَيْنَ أَزْمِنَةِ الْخُسُوفِ الْوَاحِدِ بِحَسَبِ التَّفَاوُتِ فِي أَجْزَاءِ الدَّائِرَةِ حَتَّى إِنَّ الْخُسُوفَ الَّذِي يَتَّفِقُ فِي أَقْصَى عِمَارَةِ الْمَشْرِقِ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، يُوجَدُ فِي أَقْصَى عِمَارَةِ الْمَغْرِبِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَثَبَتَ أَنَّهَا كُرَةٌ فِي الطُّولِ، فَأَمَّا عَرْضُ الْأَرْضِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَطَّحًا أَوْ مُقَعَّرًا أَوْ مُحَدَّبًا، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ وَإِلَّا لَكَانَ السَّالِكُ مِنَ الْجَنُوبِ عَلَى سَمْتِ الْقُطْبِ لَا يَزْدَادُ ارْتِفَاعُ الْقُطْبِ عَلَيْهِ، وَلَا يَظْهَرُ لَهُ مِنَ الْكَوَاكِبِ الْأَبَدِيَّةِ الظُّهُورِ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَكِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ أَحْوَالَهَا مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ عُرُوضِهَا، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ وَإِلَّا لَصَارَتِ الْأَبَدِيَّةُ الظُّهُورِ خَفِيَّةً عَنْهُ عَلَى دَوَامِ تَوَغُّلِهِ في ذلك المقعر، ولا ننقص ارتفاع القطب والتوالي كاذبة على ما قطعنا فِي بَيَانِ الْمَرَاتِبِ السَّبْعَةِ الْحَاصِلَةِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ عُرُوضِ الْبُلْدَانِ وَهَذِهِ الْحُجَّةُ عَلَى حُسْنِ تَقْرِيرِهَا إِقْنَاعِيَّةٌ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: ظِلُّ الْأَرْضِ مُسْتَدِيرٌ فَوَجَبَ كَوْنُ الْأَرْضِ مُسْتَدِيرَةً. بَيَانُ الْأَوَّلِ: أَنَّ انْخِسَافَ الْقَمَرِ نَفْسُ ظِلِّ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِانْخِسَافِهِ إِلَّا زَوَالُ النُّورِ عَنْ جَوْهَرِهِ عِنْدَ تَوَسُّطِ الْأَرْضِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّمْسِ ثُمَّ نَقُولُ: وَانْخِسَافُ الْقَمَرِ مُسْتَدِيرٌ لِأَنَّا نُحِسُّ بِالْمِقْدَارِ الْمُنْخَسِفِ مِنْهُ مُسْتَدِيرًا، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مُسْتَدِيرَةً لِأَنَّ امْتِدَادَ الظِّلِّ يَكُونُ عَلَى شَكْلِ الْفَصْلِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْقِطْعَةِ الْمُسْتَضِيئَةِ بِإِشْرَاقِ الشَّمْسِ عَلَيْهَا، وَبَيْنَ الْقِطْعَةِ الْمُظْلِمَةِ مِنْهَا فَإِذَا كَانَ الظِّلُّ مُسْتَدِيرًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَصْلُ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي شَكَّلَ كُلَّ الظِّلِّ مِثْلَ شَكْلِهِ مُسْتَدِيرًا فَثَبَتَ أَنَّ الْأَرْضَ مُسْتَدِيرَةٌ ثم إن هذا الْكَلَامَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِجَانِبٍ وَاحِدٍ مِنْ جَوَانِبِ الأرض لأن المناظر الموجبة للكسوف تنفق فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ فَلَكِ الْبُرُوجِ مَعَ أَنَّ شكل الخسوف أبدا على الاستدارة فإذن الْأَرْضَ مُسْتَدِيرَةُ الشَّكْلِ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ.

الفصل الثاني في بيان الاستدلال بأحوال الأرض على وجود الصانع

الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْأَرْضَ طَالِبَةٌ لِلْبُعْدِ مِنَ الْفَلَكِ وَمَتَى كَانَ حَالُ جَمِيعِ أَجْزَائِهَا كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مُسْتَدِيرَةً، لِأَنَّ امْتِدَادَ الظِّلِّ كُرَةٌ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَدَحَ فِي كُرِيَّةِ الْأَرْضِ بِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَرْضَ لَوْ كَانَتْ كرة لكان مركزها متطبقا عَلَى مَرْكَزِ الْعَالَمِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْمَاءُ مُحِيطًا بِهَا مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ، لِأَنَّ طَبِيعَةَ الْمَاءِ تَقْتَضِي طَلَبَ الْمَرْكَزِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْمَاءِ مُحِيطًا بِكُلِّ الْأَرْضِ. الثَّانِي: مَا نُشَاهِدُ فِي الْأَرْضِ مِنَ التِّلَالِ وَالْجِبَالِ الْعَظِيمَةِ وَالْأَغْوَارِ الْمُقَعَّرَةِ جِدًّا. أَجَابُوا عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْعِنَايَةَ الْإِلَهِيَّةَ اقْتَضَتْ إِخْرَاجَ جَانِبٍ مِنَ الْأَرْضِ عَنِ الْمَاءِ بِمَنْزِلَةِ جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ لِتَكُونَ مُسْتَقَرًّا لِلْحَيَوَانَاتِ، وَأَيْضًا لَا يَبْعُدُ سَيَلَانُ الْمَاءِ مِنْ بَعْضِ جَوَانِبِ الْأَرْضِ إِلَى الْمَوَاضِعِ الْغَائِرَةِ مِنْهَا وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ بَعْضُ جَوَانِبِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَاءِ. وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ هَذِهِ التَّضَارِيسَ لَا تُخْرِجُ الْأَرْضَ عَنْ كَوْنِهَا كُرَةً، قَالُوا: لَوِ اتَّخَذْنَا كُرَةً مِنْ خَشَبٍ قُطْرُهَا ذِرَاعٌ مَثَلًا، ثُمَّ أَثْبَتْنَا فِيهَا أَشْيَاءَ بِمَنْزِلَةِ جَارُوسَاتٍ أَوْ شُعَيْرَاتٍ، وَقَوَّرْنَا فِيهَا كَأَمْثَالِهَا فَإِنَّهَا لَا تُخْرِجُهَا عَنِ الْكُرَيَّةِ وَنِسْبَةُ الْجِبَالِ وَالْغَيَرَانِ إِلَى الْأَرْضِ دُونَ نِسْبَةِ تِلْكَ الثَّابِتَاتِ إِلَى الْكُرَةِ الصَّغِيرَةِ. الْفَصْلُ الثَّانِي فِي بَيَانِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِ الْأَرْضِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِأَحْوَالِ الْأَرْضِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ أَسْهَلُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِ السموات عَلَى ذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَصْمَ يَدَّعِي أَنَّ اتصاف السموات بِمَقَادِيرِهَا وَأَحْيَازِهَا وَأَوْضَاعِهَا أَمْرٌ وَاجِبٌ لِذَاتِهِ، مُمْتَنِعُ التَّغَيُّرِ فَيَسْتَغْنِي عَنِ الْمُؤَثِّرِ، فَيَحْتَاجُ فِي إِبْطَالِ ذَلِكَ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ الْأَرْضِيَّةِ فَإِنَّا نُشَاهِدُ تَغَيُّرَهَا فِي جَمِيعِ صِفَاتِهَا أَعْنِي حُصُولَهَا فِي أَحْيَازِهَا وَأَلْوَانِهَا وَطُعُومِهَا وَطِبَاعِهَا وَنُشَاهِدُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْجِبَالِ وَالصُّخُورِ الصُّمِّ يُمْكِنُ كَسْرُهَا وَإِزَالَتُهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا وَجَعْلُ الْعَالِي سَافِلًا وَالسَّافِلِ عَالِيًا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ اخْتِصَاصَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ وَالْمُمَاسَّةِ وَالْقُرْبِ مِنْ بَعْضِ الْأَجْسَامِ وَالْبُعْدِ مِنْ بَعْضِهَا مُمْكِنُ التَّغَيُّرِ وَالتَّبَدُّلِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اتِّصَافَ تِلْكَ الْأَجْرَامِ بِصِفَاتِهَا أَمْرٌ جَائِزٌ وَجَبَ افْتِقَارُهَا فِي ذَلِكَ الِاخْتِصَاصِ إِلَى مُدَبِّرٍ قَدِيمٍ عَلِيمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ قَوْلِ الظَّالِمِينَ، وَإِذَا عَرَفْتَ مَأْخَذَ الْكَلَامِ سَهُلَ عَلَيْكَ التَّفْرِيعُ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الدَّلَائِلِ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا لِلِاخْتِلَافِ تفسيرين. أحدها: أَنَّهُ افْتِعَالٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: خَلَفَهُ يَخْلُفُهُ إِذَا ذَهَبَ الْأَوَّلُ وَجَاءَ الثَّانِي، فَاخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ تَعَاقُبُهُمَا فِي الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: / فُلَانٌ يَخْتَلِفُ إِلَى فُلَانٍ إِذَا كَانَ يَذْهَبُ إِلَيْهِ وَيَجِيءُ مِنْ عِنْدِهِ فَذَهَابُهُ يَخْلُفُ مَجِيئَهُ وَمَجِيئُهُ يَخْلُفُ ذَهَابَهُ وَكُلُّ شَيْءٍ يَجِيءُ بَعْدَ شَيْءٍ آخَرَ فَهُوَ خَلَفُهُ، وَبِهَذَا فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً [الْفُرْقَانِ: 62] . وَالثَّانِي: أَرَادَ اخْتِلَافَ

اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ لِكُلِّ شَيْئَيْنِ اختلفا هما خلفان. [المسألة الثانية] وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ كَمَا يَخْتَلِفَانِ بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ فِي الْأَزْمِنَةِ، فَهُمَا يَخْتَلِفَانِ بِالْأَمْكِنَةِ، فَإِنَّ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: الْأَرْضُ كُرَةٌ فَكُلُّ سَاعَةٍ عَيَّنْتَهَا فَتِلْكَ السَّاعَةُ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْأَرْضِ صُبْحٌ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ ظُهْرٌ، وَفِي مَوْضِعٍ ثَالِثٍ عَصْرٌ، وَفِي رَابِعٍ مَغْرِبٌ، وَفِي خَامِسٍ عِشَاءٌ وَهَلُمَّ جَرًّا هَذَا إِذَا اعْتَبَرْنَا الْبِلَادَ الْمُخَالِفَةَ فِي الْأَطْوَالِ، أما البلاد المختلفة بالعرض، فكل بلد تكون عَرْضُهُ الشَّمَالِيُّ أَكْثَرَ كَانَتْ أَيَّامُهُ الصَّيْفِيَّةُ أَطْوَلَ وَلَيَالِيهِ الصَّيْفِيَّةُ أَقْصَرَ وَأَيَّامُهُ الشَّتَوِيَّةُ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَطْوَالِ الْبُلْدَانِ وَعَرْضِهَا أَمْرٌ مُخْتَلِفٌ عَجِيبٌ، وَلَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي كِتَابِهِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ فَقَالَ فِي بَيَانِ كَوْنِهِ مَالِكَ الْمُلْكِ: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الحديد: 6] وَقَالَ فِي الْقَصَصِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الْقَصَصِ: 71- 73] وَفِي الرُّومِ: وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [الرُّومِ: 23] وَفِي لُقْمَانَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [لُقْمَانَ: 29] وَفِي الْمَلَائِكَةِ: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ [فَاطِرٍ: 13] وَفِي يس: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ [يس: 37] وَفِي الزُّمَرِ: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [الزُّمَرِ: 5] وَفِي حم غَافِرٍ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً [غَافِرٍ: 61] وَفِي عم: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النَّبَأِ: 10- 11] وَالْآيَاتُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ كَثِيرَةٌ وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مُرْتَبِطٌ بِحَرَكَاتِ الشَّمْسِ، وَهِيَ مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ. الثَّانِي: مَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ طُولِ الْأَيَّامِ تَارَةً، وَطُولِ اللَّيَالِي أُخْرَى مِنِ اخْتِلَافِ الْفُصُولِ، وَهُوَ الرَّبِيعُ وَالصَّيْفُ وَالْخَرِيفُ وَالشِّتَاءُ، وَهُوَ مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ. الثَّالِثُ: أَنَّ انْتِظَامَ أَحْوَالِ الْعِبَادِ بِسَبَبِ طَلَبِ الْكَسْبِ وَالْمَعِيشَةِ فِي الْأَيَّامِ وَطَلَبِ النَّوْمِ وَالرَّاحَةِ فِي اللَّيَالِي مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ. الرَّابِعُ: أَنَّ كَوْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مُتَعَاوِنَيْنِ عَلَى تَحْصِيلِ مَصَالِحِ الْخَلْقِ مَعَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّضَادِّ وَالتَّنَافِي مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ، فَإِنَّ مُقْتَضَى التَّضَادِّ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَنْ يَتَفَاسَدَا لَا أَنْ يَتَعَاوَنَا عَلَى تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ. الْخَامِسُ: أَنَّ إِقْبَالَ الْخَلْقِ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ عَلَى النَّوْمِ يُشْبِهُ مَوْتَ الْخَلَائِقِ أَوَّلًا عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى فِي الصُّورِ/ وَيَقَظَتَهُمْ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ شَبِيهَةٌ بِعَوْدِ الْحَيَاةِ إِلَيْهِمْ عِنْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ الْمُنَبِّهَةِ عَلَى الْآيَاتِ الْعِظَامِ. السَّادِسُ: أَنَّ انْشِقَاقَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ بِظُهُورِ الصُّبْحِ الْمُسْتَطِيلِ فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ كَأَنَّهُ جَدْوَلُ مَاءٍ صَافٍ يَسِيلُ فِي بَحْرٍ كَدِرٍ بِحَيْثُ لَا يَتَكَدَّرُ الصَّافِي بِالْكَدِرِ وَلَا الْكَدِرُ بِالصَّافِي، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً [الْأَنْعَامِ: 96] . السَّابِعُ: أَنَّ تَقْدِيرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِالْمِقْدَارِ الْمُعْتَدِلِ الْمُوَافِقِ لِلْمَصَالِحِ مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ

الْقُطْبُ عَلَى سَمْتِ الرَّأْسِ تَكُونُ السَّنَةُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فِيهَا نَهَارًا وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ لَيْلًا وَهُنَاكَ لَا يَتِمُّ النُّضْجُ وَلَا يَصْلُحُ الْمَسْكَنُ لِحَيَوَانٍ وَلَا يَتَهَيَّأُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعِيشَةِ. الثَّامِنُ: أَنَّ ظُهُورَ الضَّوْءِ فِي الْهَوَاءِ لَوْ قُلْنَا إِنَّهُ حَصَلَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِخَلْقِ ضَوْءٍ فِي الْهَوَاءِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ قُلْنَا الشَّمْسُ تُوجِبُ حُصُولَ الضَّوْءِ فِي الْجِرْمِ الْمُقَابِلِ لَهُ كَانَ اخْتِصَاصُ الشَّمْسِ بِهَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ دُونَ سَائِرِ الْأَجْسَامِ مَعَ كَوْنِ الْأَجْسَامِ بِأَسْرِهَا مُتَمَاثِلَةً، يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْمُحَرِّكُ لِأَجْرَامِ السموات مَلِكٌ عَظِيمُ الْجُثَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ الصَّانِعُ قُلْنَا: أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا فَلَمَّا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ غَيْرُ صَالِحَةٍ لِلْإِيجَادِ، فَقَدْ زَالَ السُّؤَالُ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَقَدْ نَفَى أَبُو هَاشِمٍ هَذَا الِاحْتِمَالَ بِالسَّمْعِ. النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنَ الدَّلَائِلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ [الْبَقَرَةِ: 164] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْفَلَكُ أَصْلُهُ مِنَ الدَّوَرَانِ وَكُلُّ مُسْتَدِيرٍ فَلَكٌ، وفلك السماء اسم لأطوق سَبْعَةٍ تَجْرِي فِيهَا النُّجُومُ، وَفَلَكَتِ الْجَارِيَةُ إِذَا اسْتَدَارَ ثَدْيُهَا وَفَلْكَةُ الْمِغْزَلِ مِنْ هَذَا وَالسَّفِينَةُ سُمِّيَتْ فُلْكًا لِأَنَّهَا تَدُورُ بِالْمَاءِ أَسْهَلَ دَوَرَانٍ قَالَ: وَالْفُلْكُ وَاحِدٌ وَجَمْعٌ فَإِذَا أَرَادَ بِهَا الواحد ذكر، وإذا أريد به الجمع أنت وَمِثَالُهُ قَوْلُهُمْ: نَاقَةٌ هِجَانٌ وَنُوقٌ هِجَانٌ وَدِرْعٌ دِلَاصٌ وَدُرُوعٌ دِلَاصٌ قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْفُلْكُ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْوَاحِدُ فَضَمَّةُ الْفَاءِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَّةِ بَاءِ بُرْدٍ وَخَاءِ خُرْجٍ، وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ فَضَمَّةُ الْفَاءِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاءِ مِنْ حُمْرٍ وَالصَّادِ مِنْ صُفْرٍ فَالضَّمَّتَانِ وَإِنِ اتَّفَقَتَا فِي اللَّفْظِ فَهُمَا مُخْتَلِفَتَانِ فِي الْمَعْنَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ اللَّيْثُ سُمِّيَ الْبَحْرُ بَحْرًا لاستبحاره، وهو سعته وانبساطه ويقال استجر فلان في العلم إذا اتسع فيه والراعي وَتَبَحَّرَ فُلَانٌ فِي الْمَالِ وَقَالَ غَيْرُهُ سُمِّيَ الْبَحْرُ بَحْرًا لِأَنَّهُ شَقٌّ فِي الْأَرْضِ وَالْبَحْرُ الشَّقُّ وَمِنْهُ الْبُحَيْرَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الْجُبَّائِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِمَوَاضِعِ الْبُحُورِ أَنَّ الْبُحُورَ الْمَعْرُوفَةَ خَمْسَةٌ أَحَدُهَا: بَحْرُ الْهِنْدِ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ أَيْضًا بَحْرُ الصِّينِ. وَالثَّانِي: بَحْرُ الْمَغْرِبِ. وَالثَّالِثُ: بَحْرُ الشَّامِ وَالرُّومِ وَمِصْرَ. وَالرَّابِعُ: بَحْرُ نِيطَشَ. وَالْخَامِسُ: بَحْرُ جُرْجَانَ. فَأَمَّا بَحْرُ الْهِنْدِ فَإِنَّهُ يَمْتَدُّ طُولُهُ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ، مِنْ أَقْصَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى أَقْصَى أَرْضِ الْهِنْدِ وَالصِّينِ، يَكُونُ مِقْدَارُ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ ألف ميل، وعرضه ألفي وَسَبْعُمِائَةِ مِيلٍ وَيُجَاوِزُ خَطَّ الِاسْتِوَاءِ أَلْفًا وَسَبْعَمِائَةِ مِيلٍ، وَخُلْجَانُ هَذَا الْبَحْرِ. الْأَوَّلُ: خَلِيجٌ عِنْدَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَيَمْتَدُّ إِلَى نَاحِيَةِ الْبَرْبَرِ، وَيُسَمَّى الخليج البربري، طول مِقْدَارُ خَمْسُمِائَةِ مِيلٍ وَعَرْضُهُ مِائَةُ مِيلٍ. وَالثَّانِي: خَلِيجُ بَحْرِ أَيْلَةَ وَهُوَ بَحْرُ الْقُلْزُمِ، طُولُهُ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةِ مِيلٍ، وَعَرْضُهُ سَبْعُمِائَةِ مِيلٍ، وَمُنْتَهَاهُ إِلَى الْبَحْرِ الَّذِي يُسَمَّى الْبَحْرَ الْأَخْضَرَ، وَعَلَى طَرَفِهِ الْقُلْزُمُ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ بِهِ، وَعَلَى شَرْقِيِّهِ أَرْضُ الْيَمَنِ وَعَدَنٍ، وَعَلَى غَرْبِيِّهِ أَرْضُ الْحَبَشَةِ. الثَّالِثُ: خَلِيجُ بَحْرِ أَرْضِ فَارِسَ، وَيُسَمَّى: الْخَلِيجَ الْفَارِسِيَّ، وَهُوَ بَحْرُ الْبَصْرَةِ وَفَارِسَ، الَّذِي عَلَى شَرْقِيِّهِ تِيزُ وَمَكْرَانُ، وَعَلَى غَرْبِيِّهِ عُمَانُ طُولُهُ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةِ مِيلٍ، وَعَرْضُهُ خَمْسُمِائَةِ مَيْلٍ، وَبَيْنَ هَذَيْنِ الْخَلِيجَيْنِ أَعْنِي خَلِيجَ أَيْلَةَ وَخَلِيجَ فَارِسَ أرض الحجاز

وَالْيَمَنِ وَسَائِرُ بِلَادِ الْعَرَبِ، فِيمَا بَيْنَ مَسَافَةِ ألف وخمسائة مَيْلٍ. الرَّابِعُ: يَخْرُجُ مِنْهُ خَلِيجٌ آخَرُ إِلَى أَقْصَى بِلَادِ الْهِنْدِ وَيُسَمَّى الْخَلِيجَ الْأَخْضَرَ طُولُهُ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ مِيلٍ قَالُوا: وَفِي جَزِيرَةِ بَحْرِ الْهِنْدِ مِنَ الْجَزَائِرِ الْعَامِرَةِ وَغَيْرِ الْعَامِرَةِ: أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةٍ وَسَبْعُونَ جَزِيرَةً مِنْهَا جَزِيرَةٌ ضَخْمَةٌ فِي أَقْصَى الْبَحْرِ مُقَابِلَ أَرْضِ الْهِنْدِ فِي نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ عِنْدَ بِلَادِ الصِّينِ وَهِيَ: سَرَنْدِيبُ، يُحِيطُ بِهَا ثَلَاثَةُ آلَافِ مِيلٍ فِيهَا جِبَالٌ عَظِيمَةٌ وَأَنْهَارٌ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا يَخْرُجُ الْيَاقُوتُ الْأَحْمَرُ، وَحَوْلَ هَذِهِ الْجَزِيرَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ جَزِيرَةً عَامِرَةً، فِيهَا مَدَائِنُ عَامِرَةٌ وَقُرًى كَثِيرَةٌ وَمِنْ جَزَائِرِ هَذَا الْبَحْرِ جَزِيرَةُ كِلَّةَ، الَّتِي يُجْلَبُ مِنْهَا الرَّصَاصُ الْقَلْعِيُّ، وَجَزِيرَةُ سَرِيرَةَ الَّتِي يُجْلَبُ مِنْهَا الْكَافُورُ. وَأَمَّا بَحْرُ الْمَغْرِبِ: فَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بِالْمُحِيطِ وَتُسَمِّيهِ الْيُونَانِيُّونَ: أُوقْيَانُوسَ، وَيَتَّصِلُ بِهِ بَحْرُ الْهِنْدِ وَلَا يُعْرَفُ طَرَفُهُ إِلَّا فِي نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ وَالشَّمَالِ، عِنْدَ مُحَاذَاةِ أَرْضِ الرُّوسِ وَالصَّقَالِبَةِ فَيَأْخُذُ مِنْ أَقْصَى الْمُنْتَهَى فِي الْجَنُوبِ، مُحَاذِيًا لِأَرْضِ السُّودَانِ، مَارًّا عَلَى حُدُودِ السُّوسِ الْأَقْصَى وَطَنْجَةَ، وَتَاهَرْتَ، ثُمَّ الْأَنْدَلُسِ، وَالْجَلَالِقَةِ وَالصَّقَالِبَةِ ثُمَّ يَمْتَدُّ مِنْ هُنَاكَ وَرَاءَ الْجِبَالِ غَيْرِ الْمَسْلُوكَةِ وَالْأَرَاضِي غَيْرِ الْمَسْكُونَةِ نَحْوَ بَحْرِ الْمَشْرِقِ وَهَذَا الْبَحْرُ لَا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ وَإِنَّمَا تَسْلُكُ بِالْقُرْبِ مِنْ سَوَاحِلِهِ وَفِيهِ سِتُّ جَزَائِرَ مُقَابِلَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ تُسَمَّى: جَزَائِرَ الْخَالِدَاتِ، وَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ خَلِيجٌ عَظِيمٌ فِي شَمَالِ الصَّقَالِبَةِ، وَيَمْتَدُّ هَذَا الْخَلِيجُ إِلَى أَرْضِ بُلْغَارِ الْمُسْلِمِينَ، طُولُهُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ ثَلَاثُمِائَةِ مِيلٍ وَعَرْضُهُ مِائَةُ مِيلٍ. وَأَمَّا بَحْرُ الرُّومِ وَإِفْرِيقِيَّةَ وَمِصْرَ وَالشَّامِ: فَطُولُهُ مِقْدَارُ خَمْسَةِ آلَافِ مِيلٍ، وَعَرْضُهُ سِتُّمِائَةِ مِيلٍ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ خَلِيجٌ إِلَى نَاحِيَةِ الشَّمَالِ قَرِيبٌ مِنَ الرُّومِيَّةِ، طُولُهُ خَمْسُمِائَةِ مِيلٍ، وَعَرْضُهُ سِتُّمِائَةٍ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ خَلِيجٌ آخَرُ إِلَى أَرْضِ سِرَّيْنِ، طُولُهُ مِائَتَا مِيلٍ، وَفِي هَذَا الْبَحْرِ مِائَةٌ وَاثْنَتَانِ/ وَسِتُّونَ جَزِيرَةً عَامِرَةً، مِنْهَا خَمْسُونَ جَزِيرَةً عِظَامٌ. وَأَمَّا بَحْرُ نِيطَشَ فَإِنَّهُ يَمْتَدُّ مِنَ اللَّاذِقِيَّةِ إِلَى خَلْفِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، فِي أَرْضِ الرُّوسِ وَالصَّقَالِبَةِ طُولُهُ أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةِ مِيلٍ، وَعَرْضُهُ ثَلَاثُمَائَةِ مِيلٍ. وَأَمَّا بَحْرُ جُرْجَانَ فَطُولُهُ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ ثَلَاثُمِائَةِ مِيلٍ، وَعَرْضُهُ سِتُّمَائَةِ مِيلٍ، وَفِيهِ جَزِيرَتَانِ كَانَتَا عَامِرَتَيْنِ فِيمَنْ مَضَى مِنَ الزَّمَانِ وَيُعْرَفُ هَذَا الْبَحْرُ بِبَحْرِ آبُسْكُونَ، لِأَنَّهَا عَلَى فَرْضَتِهِ ثُمَّ يَمْتَدُّ إِلَى طَبَرِسْتَانَ، وَالدَّيْلَمِ، وَالنَّهْرَوَانِ، وَبَابِ الْأَبْوَابِ، وَنَاحِيَةِ أَرَانَ، وَلَيْسَ يَتَّصِلُ بِبَحْرٍ آخَرَ، فَهَذِهِ هِيَ الْبُحُورُ الْعِظَامُ، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَبُحَيْرَاتٌ وَبَطَائِحُ، كَبُحَيْرَةِ خَوَارِزْمَ، وَبُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ. وَحُكِيَ عَنْ أَرِسْطَاطَالِيسَ: أَنَّ بَحْرَ أُوقْيَانُوسَ مُحِيطٌ بِالْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ الْمِنْطَقَةِ لَهَا، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْمُخْتَصَرُ فِي أَمْرِ الْبُحُورِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِجَرَيَانِ الْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، وَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ السُّفُنَ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ تَرْكِيبِ النَّاسِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْآلَاتَ الَّتِي بِهَا يُمْكِنُ تَرْكِيبُ هَذِهِ السُّفُنِ، فَلَوْلَا خَلْقُهُ لَهَا لَمَا أَمْكَنَ ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: لَوْلَا الرِّيَاحُ الْمُعِينَةُ عَلَى تَحْرِيكِهَا لَمَا تَكَامَلَ النَّفْعُ بِهَا. وَثَالِثُهَا: لَوْلَا هَذِهِ الرِّيَاحُ وَعَدَمُ عَصْفِهَا لَمَا بَقِيَتْ وَلَمَا سَلِمَتْ. وَرَابِعُهَا: لَوْلَا تَقْوِيَةُ قُلُوبِ مَنْ يَرْكَبُ هَذِهِ السُّفُنَ لَمَا تَمَّ الْغَرَضُ فَصَيَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ مَصْلَحَةً لِلْعِبَادِ، وَطَرِيقًا لِمَنَافِعِهِمْ وَتِجَارَاتِهِمْ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ خَصَّ كُلَّ طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ الْعَالَمِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَأَحْوَجَ الْكُلَّ إِلَى الْكُلِّ فَصَارَ ذَلِكَ دَاعِيًا يَدْعُوهُمْ إِلَى اقْتِحَامِهِمْ

هَذِهِ الْأَخْطَارَ فِي هَذِهِ الْأَسْفَارِ وَلَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ كُلَّ طَرَفٍ بِشَيْءٍ وَأَحْوَجَ الْكُلَّ إِلَيْهِ لَمَا ارْتَكَبُوا هَذِهِ السُّفُنَ، فَالْحَامِلُ يَنْتَفِعُ بِهِ لِأَنَّهُ يَرْبَحُ وَالْمَحْمُولُ إِلَيْهِ يَنْتَفِعُ بِمَا حُمِلَ إِلَيْهِ. وَسَادِسُهَا: تَسْخِيرُ اللَّهِ الْبَحْرَ لِحَمْلِ الْفُلْكِ مَعَ قُوَّةِ سُلْطَانِ الْبَحْرِ إِذَا هَاجَ، وَعِظَمِ الْهَوْلِ فِيهِ إِذَا أَرْسَلَ اللَّهُ الرِّيَاحَ فَاضْطَرَبَتْ أَمْوَاجُهُ وَتَقَلَّبَتْ مِيَاهُهُ. وَسَابِعُهَا: أَنَّ الْأَوْدِيَةَ الْعِظَامَ، مِثْلَ: جَيْحُونَ، وَسَيْحُونَ، تَنْصَبُّ أَبَدًا إِلَى بُحَيْرَةِ خَوَارِزْمَ عَلَى صِغَرِهَا، ثُمَّ إِنَّ بُحَيْرَةَ خَوَارِزْمَ لَا تَزْدَادُ الْبَتَّةَ وَلَا تَمْتَدُّ، فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ بِكَيْفِيَّةِ حَالِ هَذِهِ الْمِيَاهِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَنْصَبُّ فِيهَا. وَثَامِنُهَا: مَا فِي الْبِحَارِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْعَظِيمَةِ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخَلِّصُ السُّفُنَ عَنْهَا، وَيُوَصِّلُهَا إِلَى سَوَاحِلِ السَّلَامَةِ. وَتَاسِعُهَا: مَا فِي الْبِحَارِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْعَجِيبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ [الرَّحْمَنِ: 19- 20] وَقَالَ: هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ [فَاطِرٍ: 12] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بِقُدْرَتِهِ يَحْفَظُ الْبَعْضَ عَنِ الِاخْتِلَاطِ بِالْبَعْضِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُرْشِدُ الْعُقُولَ وَالْأَلْبَابَ إِلَى افْتِقَارِهَا إِلَى مُدَبِّرٍ يُدَبِّرُهَا وَمُقَدِّرٍ يَحْفَظُهَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: دَلَّ قَوْلُهُ فِي صِفَةِ الْفُلْكِ: بِما يَنْفَعُ النَّاسَ عَلَى إِبَاحَةِ رُكُوبِهَا، وَعَلَى إِبَاحَةِ الِاكْتِسَابِ وَالتِّجَارَةِ وَعَلَى الِانْتِفَاعِ بِاللَّذَّاتِ. النَّوْعُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الْبَقَرَةِ: 164] . وَاعْلَمْ أَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى الصَّانِعِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ تِلْكَ الْأَجْسَامَ، وَمَا قَامَ بِهَا مِنْ صفات الرقة، والرطوبة، والعذوبة، ولا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى خَلْقِهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ سُبْحَانَهُ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ [الْمُلْكِ: 30] . وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ سَبَبًا لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ، وَلِأَكْثَرِ مَنَافِعِهِ قَالَ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [الْوَاقِعَةِ: 68، 69] وَقَالَ: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 30] . وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا جَعَلَهُ سَبَبًا لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ، جَعَلَهُ سَبَبًا لِرِزْقِهِ قَالَ تَعَالَى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ [الذَّارِيَاتِ: 22] . وَرَابِعُهَا: أَنَّ السَّحَابَ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْمِيَاهِ الْعَظِيمَةِ، الَّتِي تَسِيلُ مِنْهَا الْأَوْدِيَةُ الْعِظَامُ تَبْقَى مُعَلَّقَةً فِي جَوِّ السَّمَاءِ وَذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ نُزُولَهَا عند التضرع واحتياج الخلق إليه مقدرا بِمِقْدَارِ النَّفْعِ مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً [نُوحٍ: 10، 11] . وَسَادِسُهَا: مَا قَالَ: فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ [فَاطِرٍ: 9] وَقَالَ: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الْحَجِّ: 5] فَإِنْ قِيلَ: أَفَتَقُولُونَ: إِنَّ الْمَاءَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ مِنَ السَّحَابِ أَوْ تُجَوِّزُونَ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الشَّمْسَ تُؤَثِّرُ فِي الْأَرْضِ فَيَخْرُجُ مِنْهَا أَبْخِرَةٌ مُتَصَاعِدَةٌ فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَى الْجَوِّ الْبَارِدِ بَرَدَتْ فَثَقُلَتْ فَنَزَلَتْ مِنْ فَضَاءِ الْمُحِيطِ إِلَى ضِيقِ الْمَرْكَزِ، فَاتَّصَلَتْ فَتَوَلَّدَتْ مِنِ اتِّصَالِ بَعْضِ تِلْكَ الذَّرَّاتِ بِالْبَعْضِ قَطَرَاتٌ هِيَ قَطَرَاتُ الْمَطَرِ. قُلْنَا: بَلْ نَقُولُ إِنَّهُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الصَّادِقُ فِي خَبَرِهِ، وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إِمْسَاكِ الْمَاءِ فِي السَّحَابِ، فَأَيُّ بُعْدٍ فِي أَنْ يُمْسِكَهُ فِي السَّمَاءِ، فَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ مِنْ بِحَارِ الْأَرْضِ فَهَذَا مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ، لَكِنَّ الْقَطْعَ بِهِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ الْقَوْلِ بِنَفْيِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَقِدَمِ الْعَالَمِ، وَذَلِكَ كُفْرٌ، لِأَنَّا مَتَى جَوَّزْنَا

الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ الْقَادِرَ عَلَى خَلْقِ الْجِسْمِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُنَا مَعَ إِمْكَانِ هَذَا الْقِسْمِ أَنْ نَقْطَعَ بِمَا قَالُوهُ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الْجَاثِيَةِ: 5] فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ مِنْ جِهَاتٍ. أَحَدُهَا: ظُهُورُ النَّبَاتِ الَّذِي هُوَ الْكَلَأُ وَالْعُشْبُ وَمَا شَاكَلَهُمَا، مِمَّا لَوْلَاهُ لَمَا عَاشَتْ دَوَابُّ الْأَرْضِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْلَاهُ لَمَا حَصَلَتِ الْأَقْوَاتُ لِلْعِبَادِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يُنْبِتُ كُلَّ شَيْءٍ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ضَمِنَ أَرْزَاقَ الْحَيَوَانَاتِ، بِقَوْلِهِ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هُودٍ: 6] . وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ يُوجَدُ فِيهِ مِنَ الْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ وَمَا يَصْلُحُ لِلْمَلَابِسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ. وَخَامِسُهَا: يَحْصُلُ لِلْأَرْضِ بِسَبَبِ النَّبَاتِ حُسْنٌ وَنَضْرَةٌ وَرِوَاءٌ وَرَوْنَقٌ فَذَلِكَ هُوَ الْحَيَاةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ وَصْفَهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِالْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ مَجَازٌ، لِأَنَّ الْحَيَاةَ لا تصح إلى عَلَى مَنْ يُدْرِكُ وَيَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ، وَكَذَلِكَ الْمَوْتُ، إِلَّا أَنَّ الْجِسْمَ إِذَا صَارَ حَيًّا حَصَلَ فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْحَسَنِ وَالنَّضْرَةِ وَالْبَهَاءِ، وَالنُّشُورِ وَالنَّمَاءِ، فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْحَيَاةِ عَلَى حُصُولِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَهَذَا مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ الَّذِي عَلَى اخْتِصَارِهِ يَجْمَعُ الْمَعَانِيَ الْكَثِيرَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا يَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: نَفْسُ الزَّرْعِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي مَقْدُورِ أَحَدٍ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي يَخْرُجُ عَلَيْهِ. وَثَانِيهَا: اخْتِلَافُ أَلْوَانِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَكَادُ يُحَدُّ وَيُحْصَى. وَثَالِثُهَا: اخْتِلَافُ طُعُومِ مَا يَظْهَرُ عَلَى الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ. وَرَابِعُهَا: اسْتِمْرَارُ الْعَادَاتِ بِظُهُورِ ذَلِكَ فِي أَوْقَاتِهَا الْمَخْصُوصَةِ. النَّوْعُ السَّادِسُ مِنَ الْآيَاتِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ [الْبَقَرَةِ: 164] وَنَظِيرُهُ جَمِيعُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ، وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، كَقَوْلِهِ: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النِّسَاءِ: 1] . وَاعْلَمْ أَنَّ حُدُوثَ الْحَيَوَانَاتِ قَدْ يَكُونُ بِالتَّوْلِيدِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّوَالُدِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا بُدَّ فِيهِمَا مِنَ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ فَلْنُبَيِّنْ ذَلِكَ فِي النَّاسِ ثُمَّ فِي سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ. أَمَّا الْإِنْسَانُ فَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى افْتِقَارِهِ فِي حُدُوثِهِ إِلَى الصَّانِعِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: يُرْوَى أَنَّ وَاحِدًا قَالَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي أَتَعَجَّبُ مِنْ أَمْرِ الشِّطْرَنْجِ، فَإِنَّ رُقْعَتَهُ ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ، وَلَوْ لَعِبَ الْإِنْسَانُ أَلْفَ أَلْفِ مَرَّةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَتَّفِقُ مَرَّتَانِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخطاب هاهنا مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ مِقْدَارَ الْوَجْهِ شِبْرٌ فِي شِبْرٍ، ثُمَّ إِنَّ مَوْضِعَ الْأَعْضَاءِ الَّتِي فِيهَا كَالْحَاجِبَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْفَمِ، لَا يَتَغَيَّرُ الْبَتَّةَ ثُمَّ إِنَّكَ لَا تَرَى شَخْصَيْنِ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ يَشْتَبِهَانِ، فَمَا أَعْظَمَ تِلْكَ الْقُدْرَةَ وَالْحِكْمَةَ الَّتِي أَظْهَرَتْ فِي هَذِهِ الرُّقْعَةِ الصَّغِيرَةِ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ مُتَوَلِّدٌ مِنَ النُّطْفَةِ، فَالْمُؤَثِّرُ فِي تَصْوِيرِ النُّطْفَةِ وَتَشْكِيلِهَا قُوَّةٌ مَوْجُودَةٌ فِي النُّطْفَةِ أَوْ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِيهَا فَإِنْ كَانَتِ الْقُوَّةُ الْمُصَوَّرَةُ فِيهَا، فَتِلْكَ الْقُوَّةُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا شُعُورٌ وَإِدْرَاكٌ وَعِلْمٌ وَحِكْمَةٌ حَتَّى تَمَكَّنَتْ مِنْ هَذَا التَّصْوِيرِ الْعَجِيبِ، وَأَمَّا أَنْ لَا تَكُونَ تِلْكَ الْقُوَّةُ كَذَلِكَ، بَلْ يَكُونُ تَأْثِيرُهَا بِمُجَرَّدِ الطَّبْعِ وَالْعِلِيَّةِ، وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ حَالَ اسْتِكْمَالِهِ أَكْثَرُ عِلْمًا وَقُدْرَةً، ثُمَّ إِنَّهُ حَالَ كَمَالِهِ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُغِيِّرَ شَعْرَةً عَنْ كَيْفِيَّتِهَا لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَحَالُ مَا كَانَ فِي نِهَايَةِ الضَّعْفِ كَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْقُوَّةُ مُؤَثِّرَةً بِالطَّبْعِ، فَهَذَا الْمَعْنَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ جِسْمًا مُتَشَابِهَ الْأَجْزَاءِ فِي نَفْسِهِ، أَوْ يَكُونَ مُخْتَلِفَ الْأَجْزَاءِ، فَإِنْ كَانَ مُتَشَابِهَ الْأَجْزَاءِ فَالْقُوَّةُ الطَّبِيعِيَّةُ إِذَا عَمِلَتْ فِي الْمَادَّةِ الْبَسِيطَةِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَصْدُرَ

مِنْهُ فِعْلٌ مُتَشَابِهٌ، وَهَذَا هُوَ الْكُرَةُ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ عَلَى صُورَةِ كُرَةٍ، وَتَكُونُ جَمِيعُ الْأَجْزَاءِ الْمُفْتَرَضَةِ فِي تِلْكَ الْكُرَةِ مُتَشَابِهَةً فِي الطَّبْعِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى أَنَّ الْبَسَائِطَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ كُرَاتٍ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلنُّطْفَةِ فِي انْقِلَابِهَا لَحْمًا وَدَمًا وَإِنْسَانًا مِنْ مُدَبِّرٍ وَمُقَدِّرٍ لِأَعْضَائِهَا وَقُوَاهَا وَتَرَاكِيبِهَا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا الصَّانِعُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَثَالِثُهَا: الِاسْتِدْلَالُ بِأَحْوَالِ تَشْرِيحِ أَبْدَانِ الْحَيَوَانَاتِ وَالْعَجَائِبِ الْوَاقِعَةِ فِي تَرْكِيبِهَا وَتَأْلِيفِهَا، وَإِيرَادُ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَالْمُتَعَذِّرِ لِكَثْرَتِهَا، وَاسْتِقْصَاءِ النَّاسِ فِي شَرْحِهَا فِي الْكُتُبِ الْمَعْمُولَةِ فِي هَذَا الْفَنِّ. وَرَابِعُهَا: مَا رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: سُبْحَانَ مَنْ بَصَّرَ بِشَحْمٍ، وَأَسْمَعَ بِعَظْمٍ، وَأَنْطَقَ بِلَحْمٍ، وَمِنْ عَجَائِبِ الْأَمْرِ/ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ أَنَّ أَهْلَ الطَّبَائِعِ قَالُوا: أَعْلَى الْعَنَاصِرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّارَ، لِأَنَّهَا حَارَّةٌ يَابِسَةٌ، وَأَدْوَنُ مِنْهَا فِي اللَّطَافَةِ الْهَوَاءُ، ثُمَّ الْمَاءُ وَالْأَرْضُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ تَحْتَ الْكُلِّ لِثِقَلِهَا وَكَثَافَتِهَا وَيُبْسِهَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَلَبُوا هَذِهِ الْقَضِيَّةَ فِي تَرْكِيبِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ، لِأَنَّ أَعْلَى الْأَعْضَاءِ مِنْهُ عَظْمُ الْقِحْفِ وَالْعَظْمُ بَارِدٌ يَابِسٌ عَلَى طَبِيعَةِ الْأَرْضِ، وَتَحْتَهُ الدِّمَاغُ وَهُوَ بَارِدٌ رَطْبٌ عَلَى طَبْعِ الْمَاءِ، وَتَحْتَهُ النَّفَسُ وَهُوَ حَارٌّ رَطْبٌ عَلَى طَبْعِ الْهَوَاءِ، وَتَحْتَ الْكُلِّ: الْقَلْبُ، وَهُوَ حَارٌّ يَابِسٌ عَلَى طَبْعِ النَّارِ، فَسُبْحَانَ مَنْ بِيَدِهِ قَلْبُ الطَّبَائِعِ يُرَتِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَيُرَكِّبُهَا كَيْفَ أَرَادَ. وَمِمَّا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ كُلَّ صَانِعٍ يَأْتِي بِنَقْشٍ لَطِيفٍ فَإِنَّهُ يَصُونُهُ عَنِ التُّرَابِ كَيْ لَا يُكَدِّرَهُ وَعَنِ الْمَاءِ كَيْ لَا يَمْحُوَهُ، وَعَنِ الْهَوَاءِ كَيْ لَا يُزِيلَ طَرَاوَتَهُ وَلَطَافَتَهُ، وَعَنِ النَّارِ كَيْلَا تَحْرِقَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَضَعَ نَقْشَ خِلْقَتِهِ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَقَالَ: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آلِ عِمْرَانَ: 59] وَقَالَ: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الْأَنْبِيَاءِ: 30] وَقَالَ فِي الْهَوَاءِ: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [التَّحْرِيمِ: 12] وَقَالَ أَيْضًا: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها [الْمَائِدَةِ: 110] وَقَالَ: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الْحِجْرِ: 29] وَقَالَ فِي النَّارِ: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرَّحْمَنِ: 15] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صُنْعَهُ بِخِلَافِ صُنْعِ كُلِّ أَحَدٍ. وَخَامِسُهَا: انْظُرْ إِلَى الطِّفْلِ بَعْدَ انْفِصَالِهِ مِنَ الْأُمِّ، فَإِنَّكَ لَوْ وَضَعْتَ عَلَى فَمِهِ وَأَنْفِهِ ثَوْبًا يَقْطَعُ نَفَسَهُ لَمَاتَ فِي الْحَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ بَقِيَ فِي الرَّحِمِ الضَّيِّقِ مُدَّةً مَدِيدَةً، مَعَ تَعَذُّرِ النَّفَسِ هُنَاكَ وَلَمْ يَمُتْ، ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ يَكُونُ مِنْ أَضْعَفِ الْأَشْيَاءِ وَأَبْعَدِهَا عَنِ الْفَهْمِ، بِحَيْثُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالنَّارِ، وَبَيْنَ الْمُؤْذِي وَالْمُلِذِّ، وَبَيْنَ الْأُمِّ وَبَيْنَ غَيْرِهَا، ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ مِنْ أَبْعَدِ الْأَشْيَاءِ عَنِ الْفَهْمِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِهِ أَكْمَلُ الْحَيَوَانَاتِ فِي الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ وَالْإِدْرَاكِ، لِيَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَطِيَّةِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالطَّبْعِ لَكَانَ كُلُّ مَنْ كَانَ أَذْكَى فِي أَوَّلِ الْخِلْقَةِ، كَانَ أَكْثَرَ فَهْمًا وَقْتَ الِاسْتِكْمَالِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ كَانَ عَلَى الضِّدِّ مِنْهُ، عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ عَطِيَّةِ اللَّهِ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ. وَسَادِسُهَا: اخْتِلَافُ الْأَلْسِنَةِ وَاخْتِلَافُ طَبَائِعِهِمْ، وَاخْتِلَافُ أَمْزِجَتِهِمْ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ ونرى الحيوانات البرية والجبلية، شديدة المتشابهة بَعْضَهَا بِالْبَعْضِ، وَنَرَى النَّاسَ مُخْتَلِفِينَ جِدًّا فِي الصُّورَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاخْتَلَّتِ الْمَعِيشَةُ، وَلَاشْتَبَهَ كُلُّ أَحَدٍ بِأَحَدٍ، فَمَا كَانَ يَتَمَيَّزُ الْبَعْضُ عَنِ الْبَعْضِ، وَفِيهِ فَسَادُ الْمَعِيشَةِ، وَاسْتِقْصَاءُ الْكَلَامِ فِي هَذَا النَّوْعِ لَا مَطْمَعَ فِيهِ لِأَنَّهُ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ. النَّوْعُ السَّابِعُ مِنَ الدَّلَائِلِ: تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ عَلَى وَجْهٍ يَقْبَلُ التَّصْرِيفَ، وَهُوَ الرِّقَّةُ وَاللَّطَافَةُ، ثُمَّ إِنَّهُ

سُبْحَانَهُ يَصْرِفُهَا عَلَى وَجْهٍ يَقَعُ بِهِ النَّفْعُ الْعَظِيمُ فِي الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهَا مَادَّةُ النَّفَسِ الَّذِي لَوِ انْقَطَعَ سَاعَةً عَنِ الْحَيَوَانِ لَمَاتَ، وَقِيلَ فِيهِ إِنَّ كُلَّ مَا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَشَدَّ، كَانَ وِجْدَانُهُ أَسْهَلَ، وَلَمَّا كَانَ احْتِيَاجُ الْإِنْسَانِ إِلَى الْهَوَاءِ أَعْظَمَ الْحَاجَاتِ/ حَتَّى لَوِ انْقَطَعَ عَنْهُ لَحْظَةً لَمَاتَ لَا جَرَمَ كَانَ وِجْدَانُهُ أَسْهَلَ مِنْ وِجْدَانِ كُلِّ شَيْءٍ، وَبَعْدَ الْهَوَاءِ الْمَاءُ فَإِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْمَاءِ أَيْضًا شَدِيدَةٌ دُونَ الْحَاجَةِ إِلَى الْهَوَاءِ فَلَا جَرَمَ سَهُلَ أَيْضًا وِجْدَانُ الْمَاءِ وَلَكِنَّ وِجْدَانَ الْهَوَاءِ أَسْهَلُ. لِأَنَّ الْمَاءَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَكَلُّفِ الِاغْتِرَافِ بِخِلَافِ الْهَوَاءِ، فَإِنَّ الْآلَاتِ الْمُهَيَّأَةَ لِجَذْبِهِ حَاضِرَةٌ أَبَدًا، ثُمَّ بَعْدَ الْمَاءِ الْحَاجَةُ إِلَى الطَّعَامِ شَدِيدَةٌ وَلَكِنْ دُونَ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَاءِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ تَحْصِيلُ الطَّعَامِ أَصْعَبَ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَاءِ، وَبَعْدَ الطَّعَامِ الْحَاجَةُ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَعَاجِينِ، وَالْأَدْوِيَةِ النَّادِرَةِ قَلِيلَةٌ، فَلَا جَرَمَ عَزَّتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ، وَبَعْدَ الْمَعَاجِينِ الْحَاجَةُ إِلَى أَنْوَاعِ الْجَوَاهِرِ مِنَ الْيَوَاقِيتِ وَالزَّبَرْجَدِ نَادِرَةٌ جِدًّا، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ فِي نِهَايَةِ الْعِزَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ الِاحْتِيَاجُ إِلَيْهِ أَشَدَّ، كَانَ وِجْدَانُهُ أَسْهَلَ وَكُلَّ مَا كَانَ الِاحْتِيَاجُ إِلَيْهِ أَقَلَّ كَانَ وِجْدَانُهُ أَصْعَبَ وَمَا ذَاكَ إِلَّا رَحْمَةٌ مِنْهُ عَلَى الْعِبَادِ وَلَمَّا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى أعظم الحاجات فنرجوا أَنْ يَكُونَ وِجْدَانُهَا أَسْهَلَ مِنْ وِجْدَانِ كُلِّ شَيْءٍ وَعَبَّرَ الشَّاعِرُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: سُبْحَانَ مَنْ خَصَّ الْقَلِيلَ بِعِزِّهِ ... وَالنَّاسُ مُسْتَغْنُونَ عَنْ أَجْنَاسِهِ وَأَذَلَّ أَنْفَاسَ الْهَوَاءِ وَكُلُّ ذِي ... نَفْسٍ لَمُحْتَاجٌ إِلَى أَنْفَاسِهِ وَثَانِيهَا: لَوْلَا تَحَرُّكُ الرِّيَاحِ لَمَا جَرَتِ الْفُلْكُ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ فَلَوْ أَرَادَ كل من في العالم بقلب الرِّيحَ مِنَ الشَّمَالِ إِلَى الْجَنُوبِ، أَوْ إِذَا كَانَ الْهَوَاءُ سَاكِنًا أَنْ يُحَرِّكَهُ لَتَعَذَّرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ أَرَادَ وَتَصْرِيفَهُ الرِّيَاحَ فَأَضَافَ الْمَصْدَرَ إِلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ كَثِيرٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الرِّيَاحُ جَمْعُ الرِّيحِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الرِّيحُ اسْمٌ عَلَى فِعْلٍ وَالْعَيْنُ مِنْهُ وَاوٌ انْقَلَبَتْ فِي الْوَاحِدِ لِلْكَسْرَةِ يَاءً فَإِنَّهُ فِي الْجَمْعِ الْقَلِيلِ أَرْوَاحٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ يُوجِبُ الْإِعْلَالَ أَلَا تَرَى أَنَّ سُكُونَ الرَّاءِ لَا يُوجِبُ الْإِعْلَالَ، كَالْوَاوِ فِي قَوْمٍ وَقَوْلٍ، وَفِي الْجَمْعِ الْكَثِيرِ رِيَاحٌ انْقَلَبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِلْكَسْرَةِ الَّتِي قَبْلَهَا نَحْوَ دِيمَةٍ وَدِيَمٍ وَحِيلَةٍ وَحِيَلٍ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الرِّيحُ رِيحًا لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا فِي هُبُوبِهَا الْمَجِيءُ بِالرَّوْحِ وَالرَّاحَةِ وَانْقِطَاعَ هُبُوبِهَا يَكْسِبُ الْكَرْبَ وَالْغَمَّ فَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الرَّوْحِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا الْوَاوُ قَوْلُهُمْ فِي الْجَمْعِ أَرْوَاحٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالُوا: الرِّيَاحُ أَرْبَعٌ، الشَّمَالُ وَالْجَنُوبُ وَالصَّبَا وَالدَّبُورُ، فَالشَّمَالُ مِنْ نُقْطَةِ الشَّمَالِ، وَالْجَنُوبُ مِنْ نُقْطَةِ الْجَنُوبِ، وَالصَّبَا مَشْرِقِيَّةٌ، وَالدَّبُورُ مَغْرِبِيَّةٌ وَتُسَمَّى الصَّبَا قَبُولًا لِأَنَّهَا اسْتَقْبَلَتِ الدَّبُورَ وَمَا بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَهَابِّ فَهِيَ نَكْبَاءُ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي الرِّيَاحِ فَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ الرِّياحِ عَلَى الْجَمْعِ فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ الْبَقَرَةِ، وَالْأَعْرَافِ، وَالْحِجْرِ، وَالْكَهْفِ، وَالْفُرْقَانِ وَالنَّمْلِ وَالرُّومِ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَالْجَاثِيَةِ وَفَاطِرٍ، وَقَرَأَ نَافِعٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مَوْضِعًا هَذِهِ الْعَشْرَةِ وَفِي إِبْرَاهِيمَ: كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيَاحُ [إِبْرَاهِيمَ: 18] وَفِي حم

عسق: إن يشأ يسكن الرياح [الشُّورَى: 33] وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: الرِّياحِ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ/ الْبَقَرَةِ وَالْحِجْرِ وَالْكَهْفِ وَالرُّومِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي الْحِجْرِ وَالْفُرْقَانِ وَالرُّومِ الْأَوَّلِ مِنْهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ واحدة مِنْ هَذِهِ الرِّيَاحِ مِثْلُ الْأُخْرَى فِي دَلَالَتِهَا عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، وَأَمَّا مَنْ وَحَّدَ فَإِنَّهُ يُرِيدُ بِهِ الْجِنْسَ، كَقَوْلِهِمْ: أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ، وَإِذَا أُرِيدَ بِالرِّيحِ الْجِنْسُ كَانَتْ قِرَاءَةُ مَنْ وَحَّدَ كَقِرَاءَةِ مَنْ جَمَعَ، فَأَمَّا مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ قَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَوَاضِعَ الرَّحْمَةِ بِالْجَمْعِ أَوْلَى، قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ [الرُّومِ: 46] وَإِنَّمَا يُبَشِّرُ بِالرَّحْمَةِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعِ الْإِفْرَادِ: فِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [الذَّارِيَاتِ: 41] وَقَدْ يَخْتَصُّ اللَّفْظُ فِي الْقُرْآنِ بِشَيْءٍ فَيَكُونُ أَمَارَةً لَهُ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عَامَّةَ مَا جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشُّورَى: 17] وَمَا كَانَ مِنْ لَفْظِ أَدْرَاكَ فَإِنَّهُ مُفَسِّرٌ لِمُبْهَمٍ غَيْرِ معين كقوله: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ ... وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ [الْقَارِعَةِ: 3، 10] النَّوْعُ الثَّامِنُ مِنَ الدَّلَائِلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [البقرة: 164] سُمِّيَ السَّحَابُ سَحَابًا لِانْسِحَابِهِ فِي الْهَوَاءِ، وَمَعْنَى التَّسْخِيرِ التَّذْلِيلُ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ مُسَخَّرًا لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ طَبْعَ الْمَاءِ ثَقِيلٌ يَقْتَضِي النُّزُولَ فَكَانَ بَقَاؤُهُ فِي جَوِّ الْهَوَاءِ عَلَى خِلَافِ الطَّبْعِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَاسِرٍ قَاهِرٍ يَقْهَرُهُ عَلَى ذَلِكَ فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ بِالْمُسَخَّرِ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا السَّحَابَ لَوْ دَامَ لَعَظُمَ ضَرَرُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَسْتُرُ ضَوْءَ الشَّمْسِ، وَيُكْثِرُ الْأَمْطَارَ وَالِابْتِلَالَ، وَلَوِ انْقَطَعَ لَعَظُمَ ضَرَرُهُ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْقَحْطَ وَعَدَمَ الْعُشْبِ وَالزِّرَاعَةِ، فَكَانَ تَقْدِيرُهُ بِالْمِقْدَارِ الْمَعْلُومِ هو المصلحة فهو المسخر الله سُبْحَانَهُ يَأْتِي بِهِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ وَيَرُدُّهُ عِنْدَ زَوَالِ الْحَاجَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ السَّحَابَ لَا يَقِفُ فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ بَلْ يَسُوقُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِوَاسِطَةِ تَحْرِيكِ الرِّيَاحِ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ وَشَاءَ فَذَلِكَ هُوَ التَّسْخِيرُ فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى وُجُوهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 24] فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: لَآياتٍ لَفْظُ جَمْعٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى الْكُلِّ، أَيْ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ آيَاتٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرْنَا آيَاتٍ وَأَدِلَّةً وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّمَانِيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى مَدْلُولَاتٍ كَثِيرَةٍ فَهِيَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً ثُمَّ وُجِدَتْ دَلَّتْ عَلَى وُجُودِ الْمُؤَثِّرِ وَعَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُؤَثِّرُ مُوجِبًا لَدَامَ الْأَثَرُ بِدَوَامِهِ، فَمَا كَانَ يَحْصُلُ التَّغَيُّرُ وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى وَجْهِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ دَلَّتْ عَلَى عِلْمِ الصَّانِعِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ حُدُوثَهَا اخْتَصَّ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ دَلَّتْ عَلَى إِرَادَةِ الصَّانِعِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى وَجْهِ الِاتِّسَاقِ وَالِانْتِظَامِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ الْفَسَادِ فِيهَا دَلَّتْ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الصَّانِعِ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى/ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] . وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا كَمَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَصِفَاتِهِ فَكَذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِ وَشُكْرِهِ عَلَيْنَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ عَقْلًا لِأَنَّ كَثْرَةَ النِّعَمِ تُوجِبُ الْخُلُوصَ فِي الشُّكْرِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الثَّمَانِيَةِ أَجْسَامٌ عَظِيمَةٌ فَهِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تَتَجَزَّأُ فَذَلِكَ الْجُزْءُ الَّذِي يَتَقَاصَرُ الْحِسُّ وَالْوَهْمُ وَالْخَيَالُ عَنْ إِدْرَاكِهِ قَدْ حَصَلَ فِيهِ جَمِيعُ هَذِهِ الدَّلَائِلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ حَادِثٌ، فكان

[سورة البقرة (2) : آية 165]

حُدُوثُهُ لَا مَحَالَةَ مُخْتَصًّا بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِصِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ وُقُوعُهُ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الِافْتِقَارِ إِلَى الصَّانِعِ الْمَوْصُوفِ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ وَمِنْ صِفَاتِهَا شَاهِدًا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، لَا جَرَمَ قَالَ: إِنَّهَا آيَاتٌ وَحَاصِلُ الْقَوْلِ أَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا مُحْدَثٌ، أَمَّا الْقَدِيمُ فَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَمَّا الْمُحْدَثُ فَكُلُّ مَا عَدَاهُ، وَإِذَا كَانَ فِي كُلِّ مُحْدَثٍ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ كَانَ كُلُّ مَا عَدَاهُ شَاهِدًا على وجوده مقرا بوحدانية مُعْتَرِفًا بِلِسَانِ الْحَالِ بِإِلَهِيَّتِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44] . [المسألة الثانية] أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فَإِنَّمَا خَصَّ الْآيَاتِ بِهِمْ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَتَمَكَّنُونَ مِنَ النَّظَرِ فِيهِ، وَالِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ تَوْحِيدِ رَبِّهِمْ وَعَدْلِهِ وَحُكْمِهِ لِيَقُومُوا بِشُكْرِهِ، وَمَا يلزم عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ النِّعَمَ عَلَى قِسْمَيْنِ نِعَمٌ دُنْيَوِيَّةٌ وَنِعَمٌ دِينِيَّةٌ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّمَانِيَةُ الَّتِي عَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى نِعَمٌ دُنْيَوِيَّةٌ فِي الظَّاهِرِ، فَإِذَا تَفَكَّرَ الْعَاقِلُ فِيهَا وَاسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى مَعْرِفَةِ الصَّانِعِ صَارَتْ نِعَمًا دِينِيَّةً لَكِنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا نِعَمٌ دُنْيَوِيَّةٌ لَا يَكْمُلُ إِلَّا عِنْدَ سَلَامَةِ الْحَوَاسِّ وَصِحَّةِ الْمِزَاجِ فَكَذَا الِانْتِفَاعُ بِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا نِعَمٌ دِينِيَّةٌ لَا يَكْمُلُ إِلَّا عِنْدَ سَلَامَةِ الْعُقُولِ وَانْفِتَاحِ بَصَرِ الْبَاطِنِ فَلِذَلِكَ قَالَ: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ قَالَ الْقَاضِيَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَقُّ يُدْرَكُ بِالتَّقْلِيدِ وَاتِّبَاعِ الْآبَاءِ وَالْجَرْيِ عَلَى الْإِلْفِ وَالْعَادَةِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: لَوْ كَانَتِ الْمَعَارِفُ ضَرُورِيَّةً وَحَاصِلَةً بِالْإِلْهَامِ لَمَا صَحَّ وَصْفُ هَذِهِ الْأُمُورِ بِأَنَّهَا آيَاتٌ لِأَنَّ الْمَعْلُومَ بِالضَّرُورَةِ لَا يَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهِ إِلَى الْآيَاتِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ سَائِرَ الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ وَإِنْ كَانَتْ تَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ فَهُوَ تَعَالَى خَصَّ هَذِهِ الثَّمَانِيَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا جَامِعَةٌ بَيْنَ كَوْنِهَا دَلَائِلَ وَبَيْنَ كَوْنِهَا نِعَمًا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ عَلَى أَوْفَرِ حَظٍّ وَنَصِيبٍ وَمَتَى كَانَتِ الدَّلَائِلُ كَذَلِكَ كَانَتْ أنجع في القلوب وأشد تأثير في الخواطر [سورة البقرة (2) : آية 165] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) [في قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أندادا يحبونهم كحب الله] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ التَّوْحِيدَ بِالدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ الْقَاطِعَةِ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِتَقْبِيحِ مَا يُضَادُّ التَّوْحِيدَ لِأَنَّ تَقْبِيحَ ضِدِّ الشَّيْءِ مِمَّا يُؤَكِّدُ حُسْنَ الشَّيْءِ وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ: وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ، وَقَالُوا أَيْضًا النِّعْمَةُ مَجْهُولَةٌ، فَإِذَا فُقِدَتْ عُرِفَتْ، وَالنَّاسُ لَا يَعْرِفُونَ قَدْرَ الصِّحَّةِ، فَإِذَا مَرِضُوا ثُمَّ عَادَتِ الصِّحَّةُ إِلَيْهِمْ عَرَفُوا قَدْرَهَا، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ النِّعَمِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَرْدَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ الدَّالَّةَ عَلَى التوحيد بهذه الآية، وهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمَّا النِّدُّ فَهُوَ الْمِثْلُ الْمُنَازِعُ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: 22] وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْأَنْدَادِ عَلَى أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهَا هِيَ الْأَوْثَانُ الَّتِي اتَّخَذُوهَا آلِهَةً لِتُقَرِّبَهَمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، ورجوا من عندها النفع والضرر، وَقَصَدُوهَا بِالْمَسَائِلِ، وَنَذَرُوا لَهَا النُّذُورَ، وَقَرَّبُوا لَهَا الْقَرَابِينَ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْنَامُ أَنْدَادٌ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ، أَيْ أَمْثَالٌ لَيْسَ إنها أندادا لله، أو المعنى: إنها أندادا لِلَّهِ تَعَالَى بِحَسَبِ ظُنُونِهِمُ الْفَاسِدَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمُ السَّادَةُ الَّذِينَ كَانُوا

يُطِيعُونَهُمْ فَيُحِلُّونَ لِمَكَانِ طَاعَتِهِمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَيُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، عَنِ السُّدِّيِّ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ رَجَّحُوا هَذَا الْقَوْلَ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ الْهَاءُ وَالْمِيمُ فِيهِ ضَمِيرُ الْعُقَلَاءِ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَبْعُدُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحِبُّونَ الْأَصْنَامَ كَمَحَبَّتِهِمُ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ. الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [الْبَقَرَةِ: 166] وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إلا بمن اتخذ الرجال أنداد وَأَمْثَالًا لِلَّهِ تَعَالَى، يَلْتَزِمُونَ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ وَالِانْقِيَادِ لَهُمْ، مَا يَلْتَزِمُهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الِانْقِيَادِ لِلَّهِ تَعَالَى. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ الْأَنْدَادِ قَوْلُ الصُّوفِيَّةِ وَالْعَارِفِينَ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ شَغَلْتَ قبلك بِهِ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ جَعَلْتَهُ فِي قبلك نِدًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الفرقان: 43] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مَحَبَّةَ ذَاتِهِمْ فَلَا بُدَّ مِنْ مَحْذُوفٍ، وَالْمُرَادُ يُحِبُّونَ عَادَتَهُمْ أَوِ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِمْ وَالِانْقِيَادَ لَهُمْ، أَوْ جَمِيعَ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: كَحُبِّ اللَّهِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قِيلَ فِيهِ كَحُبِّهِمْ لِلَّهِ، وَقِيلَ فِيهِ: كَالْحُبِّ اللَّازِمِ عَلَيْهِمْ لِلَّهِ، وَقِيلَ فِيهِ: كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَذَا الِاخْتِلَافَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُمْ هَلْ كَانُوا يَعْرِفُونَ اللَّهَ أَمْ لا؟ فمن قال: كانوا يعرفون مَعَ اتِّخَاذِهِمُ الْأَنْدَادَ تَأَوَّلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ كَحُبِّهِمْ لِلَّهِ وَمَنْ قَالَ إِنَّهُمْ مَا كَانُوا عَارِفِينَ بِرَبِّهِمْ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ إِمَّا كَالْحُبِّ اللَّازِمِ لَهُمْ أَوْ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: يُحِبُّونَهُمْ/ كَحُبِّ اللَّهِ رَاجِعٌ إِلَى النَّاسِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: كَحُبِّ اللَّهِ يَقْتَضِي حُبًّا لِلَّهِ ثَابِتًا فِيهِمْ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ، وَنَبَّهَ عَلَى دَلَائِلِهِ، ثُمَّ حَكَى قَوْلَ مَنْ يُشْرِكُ مَعَهُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ مُقِرِّينَ بِاللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: الْعَاقِلُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ حُبُّهُ لِلْأَوْثَانِ كَحُبِّهِ لِلَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَوْثَانَ أَحْجَارٌ لَا تَنْفَعُ، وَلَا تَضُرُّ، وَلَا تَسْمَعُ، وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَعْقِلُ، وَكَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ صَانِعًا مُدَبِّرًا حَكِيمًا وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر: 38] وَمَعَ هَذَا الِاعْتِقَادِ كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ حُبُّهُمْ لِتِلْكَ الْأَوْثَانِ كَحُبِّهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزُّمَرِ: 3] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ طلب مرضات اللَّهِ تَعَالَى، فَكَيْفَ يُعْقَلُ الِاسْتِوَاءُ فِي الْحُبِّ مَعَ هَذَا الْقَوْلِ، قُلْنَا قَوْلُهُ: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ أَيْ فِي الطَّاعَةِ لَهَا، وَالتَّعْظِيمِ لَهَا، فَالِاسْتِوَاءُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي الْمَحَبَّةِ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْتُمُوهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْبَحْثِ عَنْ مَاهِيَّةِ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعَالَى، اعْلَمْ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي إِطْلَاقِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَهِيَ أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يُحِبُّ اللَّهَ تَعَالَى، وَالْقُرْآنُ نَاطِقٌ بِهِ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [الْمَائِدَةِ: 54] وَكَذَا الْأَخْبَارُ، رُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِمَلَكِ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ جَاءَهُ لِقَبْضِ رُوحِهِ: هَلْ رَأَيْتَ خَلِيلًا يُمِيتُ خَلِيلَهُ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: هَلْ رَأَيْتَ خَلِيلًا يَكْرَهُ لِقَاءَ خَلِيلِهِ؟ فَقَالَ: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ الْآنَ فَاقْبِضْ، وَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَالَ مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ فَقَالَ مَا أَعْدَدْتُ كَثِيرَ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْمَرْءُ مَعَ من

أَحَبَّ» . فَقَالَ أَنَسٌ: فَمَا رَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ فَرِحُوا بِشَيْءٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحَهُمْ بِذَلِكَ، وَرُوِيَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِثَلَاثَةِ نَفَرٍ، وَقَدْ نَحَلَتْ أَبْدَانُهُمْ، وَتَغَيَّرَتْ أَلْوَانُهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا الَّذِي بَلَغَ بِكُمْ إِلَى مَا أَرَى؟ فَقَالُوا: الْخَوْفُ مِنَ النَّارِ، فَقَالَ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُؤَمِّنَ الْخَائِفَ، ثُمَّ تَرَكَهُمْ إِلَى ثَلَاثَةٍ آخَرِينَ، فَإِذَا هُمْ أَشَدُّ نُحُولًا وَتَغَيُّرًا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا الَّذِي بَلَغَ بِكُمْ إِلَى هَذَا الْمَقَامِ؟ قَالُوا الشَّوْقُ إِلَى الْجَنَّةِ، فَقَالَ: حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْطِيَكُمْ مَا تَرْجُونَ ثُمَّ تَرَكَهُمْ إِلَى ثَلَاثَةٍ آخَرِينَ فَإِذَا هُمْ أَشَدُّ نُحُولًا وَتَغَيُّرًا، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَرَايَا مِنَ النُّورِ، فَقَالَ: كَيْفَ بَلَغْتُمْ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ، قَالُوا: بِحُبِّ اللَّهِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَنْتُمُ الْمُقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، وَعِنْدَ السُّدِّيِّ قَالَ: تُدْعَى الْأُمَمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْبِيَائِهَا، فَيُقَالُ: يَا أُمَّةَ مُوسَى، وَيَا أُمَّةَ عِيسَى، وَيَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، غَيْرَ الْمُحِبِّينَ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُنَادَوْنَ: يَا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ: «عَبْدِي أَنَا وَحَقِّكَ لَكَ مُحِبٌّ فَبِحَقِّي عَلَيْكَ كُنْ لِي مُحِبًّا» . وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ وَإِنِ اتَّفَقُوا فِي إِطْلَاقِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهَا، فَقَالَ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ الْمَحَبَّةَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِرَادَةِ، وَالْإِرَادَةُ لَا تَعَلُّقَ لَهَا إِلَّا بِالْجَائِزَاتِ، فَيَسْتَحِيلُ/ تَعَلُّقُ الْمَحَبَّةِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، فَإِذَا قُلْنَا: نُحِبُّ اللَّهَ، فَمَعْنَاهُ نُحِبُّ طَاعَةَ اللَّهِ وَخِدْمَتَهُ، أَوْ نُحِبُّ ثَوَابَهُ وَإِحْسَانَهُ، وَأَمَّا الْعَارِفُونَ فَقَدْ قَالُوا: الْعَبْدُ قَدْ يُحِبُّ اللَّهَ تَعَالَى لِذَاتِهِ، وَأَمَّا حُبُّ خِدْمَتِهِ أَوْ حُبُّ ثَوَابِهِ فَدَرَجَةٌ نَازِلَةٌ، وَاحْتَجُّوا بِأَنْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا أَنَّ اللَّذَّةَ مَحْبُوبَةٌ لِذَاتِهَا، وَالْكَمَالَ أَيْضًا مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ، أَمَّا اللَّذَّةُ فَإِنَّهُ إِذَا قِيلَ لَنَا: لِمَ تَكْتَسِبُونَ؟ قُلْنَا: لِنَجِدَ الْمَالَ، فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ تَطْلُبُونَ الْمَالَ؟ قُلْنَا: لِنَجِدَ بِهِ الْمَأْكُولَ وَالْمَشْرُوبَ، فَإِنْ قَالُوا: لِمَ تطلبون المأكول والمشروب؟ قلنا: لتحصيل اللذة ويندفع الألم، فإن قيل لنا: ولما تَطْلُبُونَ اللَّذَّةَ وَتَكْرَهُونَ الْأَلَمَ؟ قُلْنَا: هَذَا غَيْرُ مُعَلَّلٍ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ إِنَّمَا كان مطلوبا أجل شيء آخر، لزم التَّسَلْسُلُ، وَإِمَّا الدَّوْرُ، وَهُمَا مُحَالَانِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى مَا يَكُونُ مَطْلُوبًا لِذَاتِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ اللَّذَّةَ مَطْلُوبَةُ الْحُصُولِ لِذَاتِهَا، وَالْأَلَمَ مَطْلُوبُ الدَّفْعِ لِذَاتِهِ، لَا لِسَبَبٍ آخَرَ، وَأَمَّا الْكَمَالُ فَلِأَنَّا نُحِبُّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِمْ مَوْصُوفِينَ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَإِذَا سَمِعْنَا حِكَايَةَ بَعْضِ الشُّجْعَانِ مِثْلَ رُسْتُمَ، وَإِسْفِنْدِيَارَ، وَاطَّلَعْنَا عَلَى كَيْفِيَّةِ شَجَاعَتِهِمْ مَالَتْ قُلُوبُنَا إِلَيْهِمْ، حَتَّى إِنَّهُ قَدْ يَبْلُغُ ذَلِكَ الْمَيْلُ إِلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ الْعَظِيمِ فِي تَقْرِيرِ تَعْظِيمِهِ، وَقَدْ يَنْتَهِي ذَلِكَ إِلَى الْمُخَاطَرَةِ بِالرُّوحِ، وَكَوْنُ اللَّذَّةِ مَحْبُوبَةً لِذَاتِهَا لَا يُنَافِي كَوْنَ الْكَمَالِ محبوبا لذاته، إذا أثبت هَذَا فَنَقُولُ: الَّذِينَ حَمَلُوا مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَحَبَّةِ طَاعَتِهِ، أَوْ عَلَى مَحَبَّةِ ثَوَابِهِ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ عَرَفُوا أَنَّ اللَّذَّةَ مَحْبُوبَةٌ لِذَاتِهَا، وَلَمْ يَعْرِفُوا أَنَّ الْكَمَالَ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ، أَمَّا الْعَارِفُونَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى مَحْبُوبٌ فِي ذَاتِهِ وَلِذَاتِهِ، فَهُمُ الَّذِينَ انْكَشَفَ لَهُمْ أَنَّ الْكَمَالَ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَكْمَلَ الْكَامِلِينَ هُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَإِنَّهُ لِوُجُوبِ وُجُودِهِ: غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ، وَكَمَالُ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْهُ وَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَكْمَلُ الْكَامِلِينَ فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ فَإِذَا كُنَّا نُحِبُّ الرَّجُلَ الْعَالِمَ لِكَمَالِهِ فِي عِلْمِهِ وَالرَّجُلَ الشُّجَاعَ لِكَمَالِهِ فِي شَجَاعَتِهِ وَالرَّجُلَ الزَّاهِدَ لِبَرَاءَتِهِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْأَفْعَالِ، فَكَيْفَ لَا نُحِبُّ اللَّهَ وَجَمِيعُ الْعُلُومِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عمله كَالْعَدَمِ، وَجَمِيعُ الْقُدَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِهِ كَالْعَدَمِ وجميع ما للخلق من البرءاة عَنِ النَّقَائِصِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ كَالْعَدَمِ، فَلَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمَحْبُوبَ الْحَقَّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُ مَحْبُوبٌ فِي ذَاتِهِ وَلِذَاتِهِ، سَوَاءٌ أَحَبَّهُ غَيْرُهُ أَوْ مَا أَحَبَّهُ غَيْرُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَمَّا وَقَفْتَ عَلَى النُّكْتَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَنَقُولُ: الْعَبْدُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ ابْتِدَاءً، بَلْ مَا لَمْ يَنْظُرْ

فِي مَمْلُوكَاتِهِ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إِلَى ذَلِكَ الْمَقَامِ، فَلَا جَرَمَ كُلُّ مَنْ كَانَ اطِّلَاعُهُ عَلَى دَقَائِقِ حِكْمَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَتَمَّ، كَانَ عِلْمُهُ بِكَمَالِهِ أَتَمَّ، فَكَانَ لَهُ حُبُّهُ أَتَمَّ، وَلَمَّا كَانَ لَا نِهَايَةَ لِمَرَاتِبِ وُقُوفِ الْعَبْدِ عَلَى دَقَائِقِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا جَرَمَ لَا نِهَايَةَ لِمَرَاتِبِ مَحَبَّةِ الْعِبَادِ لِجَلَالِ حَضْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ تَحْدُثُ هُنَاكَ حَالَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَثُرَتْ مُطَالَعَتُهُ لِدَقَائِقِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَثُرَ تَرَقِّيهِ فِي مَقَامِ مَحَبَّةِ اللَّهِ، فَإِذَا كَثُرَ ذَلِكَ صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاسْتِيلَاءِ حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ، وَغَوْصِهِ فِيهِ عَلَى مِثَالِ الْقَطَرَاتِ النَّازِلَةِ مِنَ الْمَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فَإِنَّهَا مَعَ لَطَافَتِهَا تَثْقُبُ الْحِجَارَةَ الصَّلْدَةَ فَإِذَا غَاصَتْ مَحَبَّةُ اللَّهِ فِي الْقَلْبِ تَكَيَّفَ/ الْقَلْبُ بِكَيْفِيَّتِهَا، وَاشْتَدَّ أُلْفُهُ بِهَا وَكُلَّمَا كَانَ ذَلِكَ الألف أشد كان النَّفْرَةُ عَمَّا سِوَاهُ أَشَدَّ لِأَنَّ الِالْتِفَاتَ إِلَى مَا عَدَاهُ يَشْغَلُهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ وَالْمَانِعُ عَنْ حُضُورِ الْمَحْبُوبِ مَكْرُوهٌ فَلَا تَزَالُ تَتَعَاقَبُ مَحَبَّةُ اللَّهِ، وَنَفْرَتُهُ عَمَّا سِوَاهُ عَلَى الْقَلْبِ، وَيَشْتَدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، إِلَى أَنْ يَصِيرَ الْقَلْبُ نُفُورًا عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالنَّفْرَةُ تُوجِبُ الْإِعْرَاضَ عَمَّا سِوَى اللَّهِ، وَالْإِعْرَاضُ يُوجِبُ الْفَنَاءَ عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْقَلْبُ مُسْتَنِيرًا بِأَنْوَارِ الْقُدْسِ، مُسْتَضِيئًا بِأَضْوَاءِ عَالَمِ الْعِصْمَةِ فَانِيًا عَنِ الْحُظُوظِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِعَالَمِ الْحُدُوثِ وَهَذَا الْمَقَامُ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِثَالٌ إِلَّا الْعِشْقَ الشَّدِيدَ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ فَإِنَّكَ تَرَى مِنَ التُّجَّارِ الْمَشْغُوفِينَ بِتَحْصِيلِ الْمَالِ مَنْ نَسِيَ جُوعَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ عِنْدَ اسْتِغْرَاقِهِ فِي حِفْظِ الْمَالِ فَإِذَا عُقِلَ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ الْخَسِيسِ فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ ذَلِكَ عِنْدَ مُطَالَعَةِ جَلَالِ الْحَضْرَةِ الصمدية. المسألة الثانية: في معنى الشَّوْقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، اعْلَمْ أَنَّ الشَّوْقَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا إِلَى شَيْءٍ أُدْرِكَ مِنْ وَجْهٍ، وَلَمْ يُدْرَكْ مِنْ وَجْهٍ فَأَمَّا الَّذِي لَمْ يُدْرَكْ أَصْلًا، فَلَا يُشْتَاقُ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَرَ شَخْصًا وَلَمْ يَسْمَعْ وَصْفَهُ، لَمْ يَتَصَوَّرْ أَنْ يَشْتَاقَ إِلَيْهِ وَلَوْ أَدْرَكَ كَمَالَهُ لَا يَشْتَاقُ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ الشَّوْقَ إِلَى الْمَعْشُوقِ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا رَآهُ ثُمَّ غَابَ عَنْهُ اشْتَاقَ إِلَى اسْتِكْمَالِ خَيَالِهِ بالرؤية. الثاني: أَنْ يَرَى وَجْهَ مَحْبُوبِهِ وَلَا يَرَى شَعْرَهُ، وَلَا سَائِرَ مَحَاسِنِهِ، فَيَشْتَاقُ إِلَى أَنْ يَنْكَشِفَ لَهُ مَا لَمْ يَرَهُ قَطُّ، وَالْوَجْهَانِ جَمِيعًا مُتَصَوَّرَانِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ هُمَا لَازِمَانِ بِالضَّرُورَةِ لِكُلِّ الْعَارِفِينَ، فَإِنَّ الَّذِي اتَّضَحَ لِلْعَارِفِينَ مِنَ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ، مَشُوبٌ بِشَوَائِبِ الْخَيَالَاتِ، فَإِنَّ الْخَيَالَاتِ لَا تَفْتُرُ فِي هَذَا الْعَالَمِ عَنِ الْمُحَاكَاةِ وَالتَّمْثِيلَاتِ، وَهِيَ مُدْرَكَاتٌ لِلْمَعَارِفِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَلَا يَحْصُلُ تَمَامُ التَّجَلِّي إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي حُصُولَ الشَّوْقِ لَا مَحَالَةَ فِي الدُّنْيَا فَهَذَا أحد نوعي الشوق فبما اتَّضَحَ اتِّضَاحًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأُمُورَ الْإِلَهِيَّةَ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَإِنَّمَا يَنْكَشِفُ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنَ الْعِبَادِ بَعْضُهَا، وَتَبْقَى أُمُورٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا غَامِضَةً، فَإِذَا عَلِمَ الْعَارِفُ أَنَّ مَا غَابَ عَنْ عَقْلِهِ أَكْثَرُ مِمَّا حَضَرَ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَكُونُ مُشْتَاقًا إِلَى مَعْرِفَتِهَا، وَالشَّوْقُ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ يَنْتَهِي فِي دَارِ الْآخِرَةِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُسَمَّى رُؤْيَةً وَلِقَاءً وَمُشَاهَدَةً، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا الشَّوْقُ بِالتَّفْسِيرِ الثَّانِي فَيُشْبِهُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ نِهَايَةٌ، إِذْ نِهَايَتُهُ أَنْ يَنْكَشِفَ لِلْعَبْدِ فِي الْآخِرَةِ جَلَالُ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ، وَحِكْمَتُهُ فِي أَفْعَالِهِ، وَهِيَ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالِاطِّلَاعُ عَلَى غَيْرِ الْمُتَنَاهِي عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ مُحَالٌ، وَقَدْ عَرَفْتَ حَقِيقَةَ الشَّوْقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الشَّوْقَ لَذِيذٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ فِي التَّرَقِّي حَصَّلَ بِسَبَبِ تَعَاقُبِ الْوِجْدَانِ، وَالْحِرْمَانِ، وَالْوُصُولِ، وَالصَّدِّ آلَامًا مَخْلُوطَةً بِلَذَّاتٍ، وَاللَّذَّاتُ مَحْفُوفَةٌ بِالْحِرْمَانِ وَالْفِقْدَانِ، كَانَتْ أَقْوَى، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ اللَّذَّاتِ مِمَّا لَا يَحْصُلُ إِلَّا

لِلْبَشَرِ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ كَمَالَاتُهُمْ حَاضِرَةٌ بِالْفِعْلِ، وَالْبَهَائِمُ لَا تَسْتَعِدُّ لَهَا أَمَّا الْبَشَرُ فَهُمُ الْمُتَرَدِّدُونَ بَيْنَ جِهَتَيِ السَّفَالَةِ وَالْعُلُوِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي بَيَانِ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا هُمْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ، أَمَّا الْمُتَكَلِّمُونَ فَقَالُوا: إِنَّ حُبَّهُمْ لِلَّهِ/ يكون من وجهين. أحدهما: أنه مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِنَ التَّعْظِيمِ، وَالْمَدْحِ، وَالثَّنَاءِ وَالْعِبَادَةِ خَالِصَةٌ عَنِ الشِّرْكِ وَعَمَّا لَا يَنْبَغِي مِنَ الِاعْتِقَادِ وَمَحَبَّةُ غَيْرِهِمْ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ حُبَّهُمْ لِلَّهِ اقْتَرَنَ بِهِ الرَّجَاءُ وَالثَّوَابُ وَالرَّغْبَةُ فِي عَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ وَالْخَوْفُ مِنَ الْعِقَابِ وَالْأَخْذُ فِي طَرِيقِ التَّخَلُّصِ مِنْهُ، وَمَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَيُعَظِّمُهُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ تَكُونُ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ أَشَدَّ، وَأَمَّا الْعَارِفُونَ فَقَالُوا: الْمُؤْمِنُونَ هُمُ الَّذِينَ عَرَفُوا اللَّهَ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْحُبَّ مِنْ لَوَازِمِ الْعِرْفَانِ فكلما كان عرفناهم أَتَمَّ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَحَبَّتُهُمْ أَشَدَّ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مَحَبَّةُ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ تَعَالَى أَشَدُّ مَعَ أَنَّا نَرَى الْهُنُودَ يَأْتُونَ بِطَاعَاتٍ شَاقَّةٍ لَا يَأْتِي بِشَيْءٍ مِنْهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَأْتُونَ بِهَا إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ يَقْتُلُونَ أَنْفُسَهُمْ حُبًّا لِلَّهِ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَتَضَرَّعُونَ إِلَّا إِلَى اللَّهِ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ يَعْدِلُونَ إِلَى اللَّهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَعِنْدَ زَوَالِ الْحَاجَةِ، يَرْجِعُونَ إِلَى الْأَنْدَادِ، قَالَ تَعَالَى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الْعَنْكَبُوتِ: 6] إِلَى آخِرِهِ وَالْمُؤْمِنُ لَا يُعْرِضُ عَنِ اللَّهِ فِي الضَّرَّاءِ وَالسَّرَّاءِ وَالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَالْكَافِرُ قَدْ يُعْرِضُ عَنْ رَبِّهِ، فَكَانَ حُبُّ الْمُؤْمِنِ أَقْوَى. وَثَانِيهَا: أَنَّ مَنْ أَحَبَّ غَيْرَهُ رَضِيَ بِقَضَائِهِ، فَلَا يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ، فَأُولَئِكَ الْجُهَّالُ قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَقَدْ يَقْتُلُونَ أَنْفُسَهُمْ بِإِذْنِهِ، وَذَلِكَ فِي الْجِهَادِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا ابْتُلِيَ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ لَا يُمْكِنُهُ الِاشْتِغَالُ بِمَعْرِفَةِ الرَّبِّ، فَالَّذِي فَعَلُوهُ بَاطِلٌ. وَرَابِعُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ صَنَمًا، فَإِذَا رَأَوْا شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْهُ تَرَكُوا ذَلِكَ وَأَقْبَلُوا عَلَى عِبَادَةِ الْأَحْسَنِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُوَحِّدُونَ رَبَّهَمْ، وَالْكُفَّارَ يَعْبُدُونَ مَعَ الصَّنَمِ أَصْنَامًا فَتَنْقُصُ مَحَبَّةُ الْوَاحِدِ، أَمَّا الْإِلَهُ الْوَاحِدُ فَتَنْضَمُّ مَحَبَّةُ الْجَمِيعِ إِلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ هَذِهِ الْآيَةِ أَبْحَاثًا: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عُمَرَ: (وَلَوْ تَرَى) بِالتَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتُ عَلَى الْإِخْبَارِ عَمَّنْ جَرَى ذِكْرُهُمْ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِاتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَوْلَى، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ قَدْ عَلِمُوا قَدْرَ مَا يُشَاهِدُهُ الْكُفَّارُ، وَيُعَايِنُونَ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَمَّا الْمُتَوَعَّدُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ، فَوَجَبَ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَيْهِمْ. الْبَحْثُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي يَرَوْنَ فَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: (يُرَوْنَ) بِضَمِّ الْيَاءِ عَلَى التَّعْدِيَةِ وَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَالْبَاقُونَ (يَرَوْنَ) بِالْفَتْحِ عَلَى إِضَافَةِ الرُّؤْيَةِ إِلَيْهِمْ. البحث الثالث: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ فَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ (إِنَّ) بِكَسْرِ الْأَلِفِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَأَمَّا الْقُرَّاءُ السَّبْعُ فَعَلَى فَتْحِ الْأَلِفِ فِيهَا.

[سورة البقرة (2) : الآيات 166 إلى 167]

الْبَحْثُ الرَّابِعُ: لَمَّا عَرَفْتَ أَنَّ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قُرِئَ تَارَةً بِالتَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ وَأُخْرَى بِالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتُ، وَقَوْلُهُ: أَنَّ الْقُوَّةَ قُرِئَ تَارَةً بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ (أَنَّ) وأخرى بكسرها حصل هاهنا أَرْبَعُ احْتِمَالَاتٍ. الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُقْرَأَ وَلَوْ يَرَى بِالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتُ مَعَ فَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ (أَنَّ) وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُمْ أَعْمَلُوا يَرَوْنَ فِي الْقُوَّةِ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ يَرَوْنَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ: وَمَعْنَاهُ، وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا شِدَّةَ عَذَابِ اللَّهِ وَقُوَّتَهُ لَمَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَنْدَادًا فَعَلَى هَذَا جَوَابُ (لَوْ) مَحْذُوفٌ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ كَقَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الْأَنْعَامِ: 27] ، وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ [الْأَنْعَامِ: 93] ، وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرَّعْدِ: 31] وَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَيْتَ فُلَانَا وَالسِّيَاطُ تَأْخُذُ مِنْهُ، قَالُوا: وَهَذَا الْحَذْفُ أَفْخَمُ وَأَعْظَمُ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَذْهَبُ خَاطِرُ الْمُخَاطَبِ إِلَى كُلِّ ضَرْبٍ مِنَ الْوَعِيدِ فَيَكُونُ الْخَوْفُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مِمَّا إِذَا كَانَ عُيِّنَ لَهُ ذَلِكَ الْوَعِيدُ. الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يُقْرَأَ بِالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتُ مَعَ كَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ (إِنَّ) وَالتَّقْدِيرُ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا عَجْزَهُمْ حَالَ مُشَاهَدَتِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ لَقَالُوا: إِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ. الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: أَنْ تُقْرَأَ بِالتَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ، مَعَ فَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ (أَنَّ) وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْوَجْهُ فِيهِ تَكْرِيرُ الرُّؤْيَةِ وَالتَّقْدِيرُ فِيهِ وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظلموا إذا يَرَوْنَ الْعَذَابَ تَرَى أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا. الِاحْتِمَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقْرَأَ بِالتَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ، مَعَ كَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ لَقُلْتَ إِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وَهَذَا أَيْضًا تَأْوِيلٌ ظَاهِرٌ جَيِّدٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَاءَ قَوْلُهُ: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ مَعَ قَوْلِهِ: إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ وَ (إِذْ) لِلْمَاضِي؟ قُلْنَا: إِنَّمَا جَاءَ عَلَى لَفْظِ الْمُضِيِّ لِأَنَّ وُقُوعَ السَّاعَةِ قَرِيبٌ، قَالَ تَعَالَى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النَّحْلِ: 77] وَقَالَ: لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشُّورَى: 17] وَكُلُّ مَا كَانَ قَرِيبَ الْوُقُوعِ فَإِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى مَا وَقَعَ وَحَصَلَ وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ تَعَالَى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَافِ: 44] وَقَوْلُ الْمُقِيمِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ يَقُولُ ذَلِكَ قَبْلَ إِيقَاعِهِ التَّحْرِيمَ لِلصَّلَاةِ لِقُرْبِ ذَلِكَ وَقَدْ جَاءَ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ مِنْ هَذَا الْبَابِ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا [الْأَنْعَامِ: 27] ، وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ [سبأ: 31] ، وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا [سَبَأٍ: 51] ، وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى [الأنفال: 50] . [سورة البقرة (2) : الآيات 166 الى 167] إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا بِقَوْلِهِ: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ [البقرة: 165] عَلَى طَرِيقِ التَّهْدِيدِ زَادَ فِي هَذَا الْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ أَفْنَوْا عُمْرَهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِمْ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ أَوْكَدُ أَسْبَابِ نَجَاتِهِمْ فإنهم يتبرءون

مِنْهُمْ عِنْدَ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الْعَنْكَبُوتِ: 25] وَقَالَ أَيْضًا: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزُّخْرُفِ: 67] وَقَالَ: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الْأَعْرَافِ: 38] وَحَكَى عَنْ إِبْلِيسَ أَنَّهُ قال: إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم: 22] وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: إِذْ تَبَرَّأَ قَوْلَانِ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ: إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ [البقرة: 165] . الثَّانِي: أَنَّ عَامِلَ الْإِعْرَابِ فِي (إِذْ) مَعْنَى شَدِيدُ كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ يَعْنِي فِي وَقْتِ التَّبَرُّؤِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمَتْبُوعِينَ يَتَبَرَّءُونَ مِنَ الْأَتْبَاعِ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَبَيَّنَ تَعَالَى مَا لِأَجْلِهِ يَتَبَرَّءُونَ مِنْهُمْ وَهُوَ عَجْزُهُمْ عَنْ تَخْلِيصِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي رَأَوْهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا إِلَى تَخْلِيصِ أَنْفُسِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ سَبَبًا، وَالْآيِسُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَرْجُو بِهِ الْخَلَاصَ مِمَّا نَزَلَ بِهِ وَبِأَوْلِيَائِهِ مِنَ الْبَلَاءِ يُوصَفُ بِأَنَّهُ تَقَطَّعَتْ بِهِ الْأَسْبَابُ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَؤُلَاءِ الْمَتْبُوعِينَ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ السَّادَةُ وَالرُّؤَسَاءُ مِنْ مُشْرِكِي الْإِنْسِ، عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ وَعَطَاءٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ الَّذِينَ صَارُوا مَتْبُوعِينَ لِلْكُفَّارِ بِالْوَسْوَسَةِ عَنِ السُّدِّيِّ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَرَابِعُهَا: الْأَوْثَانُ الَّذِينَ كَانُوا يُسَمُّونَهَا بِالْآلِهَةِ وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْأَقْرَبَ فِي الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَنَّهُمُ الَّذِينَ يَصِحُّ مِنْهُمُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ حَتَّى يُمْكِنَ أَنْ يُتَّبَعُوا وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْأَصْنَامِ، وَيَجِبُ أَيْضًا حَمْلُهُمْ عَلَى السَّادَةِ مِنَ النَّاسِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَصِحُّ وَصْفُهُمْ مِنْ عِظَمِهِمْ بِأَنَّهُمْ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ دُونَ الشَّيَاطِينِ وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الْأَحْزَابِ: 67] ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ الْأَوَّلَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَالثَّانِي عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ تَبَرَّأَ الْأَتْبَاعُ من الرؤساء. المسألة الثالثة: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ التَّبَرُّؤِ وُجُوهًا. أَحَدَهَا: أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ نُزُولُ الْعَذَابِ بِهِمْ، وَعَجْزُهُمْ عَنْ دَفْعِهِمْ عَنْ أنفسهم فكيف عن غيرهم فتبرؤا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ ظَهَرَ فِيهِمُ النَّدَمُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ فَسُمِّيَ ذَلِكَ النَّدَمُ تَبَرُّؤًا وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ هُوَ الْحَقِيقَةُ فِي اللَّفْظِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَأَوُا الْعَذابَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، أي يتبرؤون فِي حَالِ رُؤْيَتِهِمُ الْعَذَابَ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ سَائِرِ الْأَقْوَالِ، لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَزْدَادُ الْهَوْلُ وَالْخَوْفُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى تَبَرَّأَ وَذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْأَسْبَابِ سَبْعَةَ أقوال. الأول: أنها المواصلات التي كانوا يتواصلان عَلَيْهَا، عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ. الثَّانِي: الْأَرْحَامُ الَّتِي كَانُوا يَتَعَاطَفُونَ بِهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ. الثَّالِثُ: الْأَعْمَالُ الَّتِي كَانُوا يَلْزَمُونَهَا عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَالسُّدِّيِّ. وَالرَّابِعُ: الْعُهُودُ وَالْحِلْفُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ يَتَوَادُّونَ عَلَيْهَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الْخَامِسُ: مَا كَانُوا يَتَوَاصَلُونَ بِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَكَانَ بِهَا انْقِطَاعُهُمْ عَنِ الْأَصَمِّ. السَّادِسُ: الْمَنَازِلُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَنِ الضَّحَّاكِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ. السَّابِعُ: أَسْبَابُ النَّجَاةِ تَقَطَّعَتْ عَنْهُمْ وَالْأَظْهَرُ دُخُولُ الْكُلِّ فِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَالنَّفْيِ فَيَعُمُّ الْكُلَّ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَزَالَ عَنْهُمْ كُلُّ سَبَبٍ يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وأنهم

لَا يَنْتَفِعُونَ بِالْأَسْبَابِ عَلَى اخْتِلَافِهَا مِنْ مَنْزِلَةٍ وسبب ونسب وخلف وَعَقْدٍ وَعَهْدٍ، وَذَلِكَ نِهَايَةُ مَا يَكُونُ مِنَ الْيَأْسِ فَحَصَلَ فِيهِ التَّوْكِيدُ الْعَظِيمُ فِي الزَّجْرِ. المسألة الثانية: الباء في قوله: بِهِمُ الْأَسْبابُ بمعنى (عن) كقوله تعالى: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً [الْفُرْقَانِ: 59] أَيْ عَنْهُ قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ: فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي ... بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ أَيْ عَنِ النِّسَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَصْلُ السَّبَبِ فِي اللُّغَةِ الْحَبْلُ قَالُوا: وَلَا يُدْعَى الْحَبْلُ سَبَبًا حَتَّى يَنْزِلَ وَيَصْعَدَ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ [الْحَجِّ: 15] ثُمَّ قِيلَ لِكُلِّ شَيْءٍ وَصَلْتَ بِهِ إِلَى مَوْضِعٍ أَوْ حَاجَةٍ تُرِيدُهَا سَبَبٌ. يُقَالُ: مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ سَبَبٌ أَيْ رَحِمٌ وَمَوَدَّةٌ، وَقِيلَ لِلطَّرِيقِ: سَبَبٌ لِأَنَّكَ بِسُلُوكِهِ تَصِلُ الْمَوْضِعَ الَّذِي تُرِيدُهُ، قَالَ تَعَالَى: فَأَتْبَعَ سَبَباً [الكهف: 85] أي طريقا، وأسباب السموات: أَبْوَابُهَا لِأَنَّ الْوُصُولَ إِلَى السَّمَاءِ يَكُونُ بِدُخُولِهَا، قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ [غَافِرٍ: 36، 37] قَالَ زُهَيْرٌ: وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا تَنَالُهُ ... وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ وَالْمَوَدَّةُ بَيْنَ الْقَوْمِ تُسَمَّى سَبَبًا لِأَنَّهُمْ بِهَا يَتَوَاصَلُونَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا فَذَلِكَ تَمَنٍّ مِنْهُمْ لِأَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الرَّجْعَةِ إِلَى الدُّنْيَا وَإِلَى حَالِ التَّكْلِيفِ فَيَكُونُ الاختيار إليهم حتى يتبرءون منهم في الدنيا كما تبرؤا مِنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَفْهُومُ الْكَلَامِ أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مَا يُقَارِبُ الْعَذَابَ فَيَتَبَرَّءُونَ مِنْهُمْ وَلَا يُخَلِّصُونَهُمْ وَلَا يَنْصُرُونَهُمْ كَمَا فَعَلُوا بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَقْدِيرُهُ: فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ وَقَدْ دَهَمَهُمْ مِثْلُ هَذَا الخطب كما تبرؤا منا والحالة هذه لأنهم إن تمنوا التبرأ مِنْهُمْ مَعَ سَلَامَةٍ فَلَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ يُرِيهِمُ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: كَتَبَرُّؤِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ وَذَلِكَ لِانْقِطَاعِ الرَّجَاءِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ. الثَّانِي: كَمَا أَرَاهُمُ الْعَذَابَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ، لِأَنَّهُمْ أَيْقَنُوا بِالْهَلَاكِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِالْأَعْمَالِ أَقْوَالٌ. الْأَوَّلُ: الطَّاعَاتُ يَتَحَسَّرُونَ لِمَ ضَيَّعُوهَا عَنِ السُّدِّيِّ. الثَّانِي: الْمَعَاصِي وَأَعْمَالُهُمُ الْخَبِيثَةُ عَنِ الرَّبِيعِ وَابْنِ زَيْدٍ يَتَحَسَّرُونَ لِمَ عَمِلُوهَا. الثَّالِثُ: ثَوَابُ طَاعَاتِهِمُ الَّتِي أَتَوْا بِهَا فَأَحْبَطُوهُ بِالْكُفْرِ عَنِ الْأَصَمِّ. الرَّابِعُ: أَعْمَالُهُمُ الَّتِي تَقَرَّبُوا بِهَا إِلَى رُؤَسَائِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ وَالِانْقِيَادِ لِأَمْرِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الْأَعْمَالُ الَّتِي اتَّبَعُوا فِيهَا السَّادَةَ، وَهُوَ كُفْرُهُمْ وَمَعَاصِيهِمْ، وَإِنَّمَا تَكُونُ حَسْرَةً بِأَنْ رَأَوْهَا فِي صَحِيفَتِهِمْ، وَأَيْقَنُوا بِالْجَزَاءِ عَلَيْهَا، وَكَانَ يُمْكِنُهُمْ تَرْكُهَا وَالْعُدُولُ إِلَى الطَّاعَاتِ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ الْإِضَافَةُ حَقِيقِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ عَمِلُوهَا، وَفِي الثَّانِي مَجَازٌ بِمَعْنَى لَزِمَهُمْ فَلَمْ يَقُومُوا بِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حَسَرَاتٌ ثَالِثُ مَفَاعِيلِ: رَأَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْحَسْرَةُ شِدَّةُ النَّدَامَةِ حَتَّى يَبْقَى النَّادِمُ كَالْحَسِيرِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَهُوَ الَّذِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، يُقَالُ: حَسِرَ فُلَانٌ يَحْسِرُ حَسْرَةً وَحَسْرًا إِذَا اشْتَدَّ نَدَمُهُ عَلَى أَمْرٍ فَاتَهُ، وَأَصْلُ الْحَسْرِ الْكَشْفُ، يُقَالُ: حَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ أَيْ كَشَفَ وَالْحَسْرَةُ انْكِشَافٌ عَنْ حَالِ النَّدَامَةِ، وَالْحُسُورُ: الْإِعْيَاءُ لِأَنَّهُ انْكِشَافُ الْحَالِ عَمَّا أَوْجَبَهُ طُولُ السَّفَرِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 19] وَالْمِحْسَرَةُ الْمِكْنَسَةُ لِأَنَّهَا تَكْشِفُ عَنِ الْأَرْضِ، وَالطَّيْرُ تَنْحَسِرُ لِأَنَّهَا تَنْكَشِفُ بِذَهَابِ الرِّيشِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ فَقَدِ احْتَجَّ بِهِ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْكَبِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ فَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ وَما هُمْ تَخْصِيصٌ لَهُمْ بِعَدَمِ الْخُرُوجِ عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْخُرُوجِ مَخْصُوصًا بِهِمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَكْشِفُ عَنِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ [الانفطار: 14- 16] وثبت أن المراد بالفجار هاهنا الكفار لدلالة هذه الآية عليه. تم الجزء الرابع، ويليه الجزء الخامس، وأوله قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً

الجزء الخامس

الجزء الخامس [تتمة سورة البقرة] بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 169] يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ التَّوْحِيدَ وَدَلَائِلَهُ، وَمَا لِلْمُوَحِّدِينَ مِنَ الثَّوَابِ وَأَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الشِّرْكِ وَمَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا، وَيَتَّبِعُ رؤساء الكفرة أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ إِنْعَامِهِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وَأَنَّ مَعْصِيَةَ مَنْ عَصَاهُ وَكُفْرَ مَنْ كَفَرَ بِهِ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي قَطْعِ إِحْسَانِهِ ونعمه عنهم، فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي الَّذِينَ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ السَّوَائِبَ وَالْوَصَائِلَ وَالْبَحَائِرَ وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ ثَقِيفٍ وَبَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَخُزَاعَةَ وَبَنِي مُدْلِجٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَلَالُ الْمُبَاحُ الَّذِي انْحَلَّتْ عُقْدَةُ الْحَظْرِ عَنْهُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْحَلِّ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْعَقْدِ وَمِنْهُ: حَلَّ بِالْمَكَانِ إِذَا نَزَلَ بِهِ، لِأَنَّهُ حَلُّ شَدِّ الِارْتِحَالِ لِلنُّزُولِ وَحَلَّ الدَّيْنُ إِذَا وَجَبَ لِانْحِلَالِ الْعُقْدَةِ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وحل من إحرامه، لأنه حل عقيدة الْإِحْرَامِ، وَحَلَّتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ، أَيْ وَجَبَتْ لِانْحِلَالِ الْعُقْدَةِ بِالْمَانِعَةِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْحُلَّةُ الْإِزَارُ وَالرِّدَاءُ، لِأَنَّهُ يُحَلُّ عَنِ الطَّيِّ لِلُّبْسِ، وَمِنْ هَذَا تَحِلَّةُ الْيَمِينِ، لِأَنَّهُ عُقْدَةُ الْيَمِينِ تَنْحَلُّ بِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَرَامَ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا لِخُبْثِهِ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ، وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا لَا لِخُبْثِهِ، كَمِلْكِ الْغَيْرِ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ فِي أَكْلِهِ فَالْحَلَالُ هُوَ الْخَالِي عَنِ الْقَيْدَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ حَلالًا طَيِّباً إِنْ شِئْتَ نَصَبْتَهُ عَلَى الْحَالِ مِمَّا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ شِئْتَ نَصَبْتَهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الطَّيِّبُ فِي اللُّغَةِ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الطَّاهِرِ وَالْحَلَالُ يُوصَفُ بِأَنَّهُ طَيِّبٌ، لِأَنَّ الْحَرَامَ يُوصَفُ بِأَنَّهُ خَبِيثٌ قَالَ تَعَالَى: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ [الْمَائِدَةِ: 100] وَالطَّيِّبُ فِي الْأَصْلِ هُوَ مَا يستلذ به ويسطاب وَوُصِفَ بِهِ الطَّاهِرُ وَالْحَلَالُ عَلَى جِهَةِ التَّشْبِيهِ، لِأَنَّ النَّجِسَ تَكْرَهُهُ النَّفْسُ فَلَا تَسْتَلِذُّهُ وَالْحَرَامُ غَيْرُ مُسْتَلَذٍّ، لِأَنَّ الشَّرْعَ يَزْجُرُ عَنْهُ وَفِي الْمُرَادِ بِالطَّيِّبِ فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْمُسْتَلَذُّ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْحَلَالِ لَزِمَ التَّكْرَارُ فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ طَيِّبًا إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يُشْتَهَى لِأَنَّهُ إِنْ تَنَاوَلَ مَا لَا شَهْوَةَ لَهُ فِيهِ عَادَ حَرَامًا وَإِنْ كَانَ يَبْعُدُ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنَ الْعَاقِلِ إِلَّا عِنْدَ شُبْهَةٍ وَالثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُبَاحُ وَقَوْلُهُ يَلْزَمُ التَّكْرَارُ قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ فَإِنَّ قَوْلَهُ: حَلالًا الْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَكُونُ جِنْسُهُ حَلَالًا وَقَوْلُهُ طَيِّباً الْمُرَادُ مِنْهُ لَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ فَإِنَّ أَكْلَ الْحَرَامِ وَإِنَّ اسْتِطَابَةَ الْآكِلِ فَمِنْ حَيْثُ يُفْضِي إِلَى الْعِقَابِ يَصِيرُ مَضَرَّةً وَلَا يَكُونُ مُسْتَطَابًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: 10] .

أما قوله تعالى: لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ، وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ خُطُواتِ بِضَمِّ الْخَاءِ وَالطَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِسُكُونِ الطَّاءِ، أَمَّا مَنْ ضَمَّ الْعَيْنَ فَلِأَنَّ الْوَاحِدَةَ خُطْوَةٌ فَإِذَا جَمَعْتَ حَرَّكْتَ الْعَيْنَ لِلْجَمْعِ، كَمَا فُعِلَ بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَى هَذَا الْوَزْنِ نَحْوَ غُرْفَةٍ وَغُرُفَاتٍ، وَتَحْرِيكُ الْعَيْنِ لِلْجَمْعِ كَمَا فُعِلَ فِي نَحْوِ هَذَا الْجَمْعِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا كَانَ اسْمًا جَمَعْتَهُ بِتَحْرِيكِ الْعَيْنِ نَحْوَ تَمْرَةٍ وَتَمَرَاتٍ وَغُرْفَةٍ وَغُرُفَاتٍ وَشَهْوَةٍ وَشَهَوَاتٍ، وَمَا كَانَ نَعْتًا جُمِعَ بِسُكُونِ الْعَيْنِ نَحْوَ ضَخْمَةٍ وَضَخْمَاتٍ وَعَبْلَةٍ وَعَبْلَاتٍ، وَالْخُطْوَةُ مِنَ الْأَسْمَاءِ لَا مِنَ الصِّفَاتِ فَيُجْمَعُ بِتَحْرِيكِ الْعَيْنِ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّفَ الْعَيْنَ فَبَقَّاهُ عَلَى الْأَصْلِ وَطَلَبَ الْخِفَّةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْجُبَّائِيُّ الْخَطْوَةُ وَالْخُطْوَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَحُكِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ: خَطَوْتُ خَطْوَةً وَالْخُطْوَةُ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ كَمَا يُقَالُ: حَثَوْتُ حَثْوَةً، وَالْحُثْوَةُ اسْمٌ لِمَا تَحَثَّيْتَ، وَكَذَلِكَ غَرَفْتُ غَرْفَةً وَالْغُرْفَةُ اسْمٌ لِمَا اغْتَرَفْتَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْخُطْوَةُ الْمَكَانُ الْمُتَخَطَّى كَمَا أَنَّ الْغُرْفَةَ هِيَ الشَّيْءُ الْمُغْتَرَفُ بِالْكَفِّ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَا تَتَّبِعُوا سَبِيلَهُ وَلَا تَسْلُكُوا طَرِيقَهُ لِأَنَّ الْخُطْوَةَ اسْمُ مَكَانٍ، وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ فَإِنَّهُمَا قَالَا: خطوات الشيطان طرفه وَإِنْ جَعَلْتَ الْخَطْوَةَ بِمَعْنَى الْخُطْوَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ فَالتَّقْدِيرُ: لَا تَأْتَمُّوا بِهِ وَلَا تَقْفُوا أَثَرَهُ وَالْمَعْنَيَانِ مُقَارِبَانِ وَإِنِ اخْتَلَفَ التَّقْدِيرَانِ هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلَيْسَ مُرَادُ الله هاهنا مَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ بَلْ كَأَنَّهُ قِيلَ لِمَنْ أُبِيحَ لَهُ الْأَكْلُ عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ احْذَرْ أَنْ تَتَعَدَّاهُ إِلَى مَا يَدْعُوكَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَزَجْرُ الْمُكَلَّفِ بِهَذَا الْكَلَامِ عَنْ تَخَطِّي الْحَلَالِ إِلَى الشُّبَهِ كَمَا زَجَرَهُ عَنْ تَخَطِّيهِ إِلَى الْحَرَامِ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يُلْقِي إِلَى الْمَرْءِ مَا يَجْرِي مَجْرَى الشُّبْهَةِ فَيُزَيِّنُ بِذَلِكَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فَزَجَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي هَذَا/ التَّحْذِيرِ، وهو كونه عدوا مبنيا أَيْ مُتَظَاهِرٌ بِالْعَدَاوَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ الْتَزَمَ أُمُورًا سَبْعَةً فِي الْعَدَاوَةِ أَرْبَعَةٌ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النِّسَاءِ: 119] وَثَلَاثَةٌ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الْأَعْرَافِ: 16، 17] فَلَمَّا الْتَزَمَ الشَّيْطَانُ هَذِهِ الْأُمُورَ كَانَ عَدُوًّا مُتَظَاهِرًا بِالْعَدَاوَةِ فَلِهَذَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ فَهَذَا كَالتَّفْصِيلِ لِجُمْلَةِ عَدَاوَتِهِ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَوَّلُهَا: السُّوءُ، وَهُوَ مُتَنَاوِلٌ جَمِيعَ الْمَعَاصِي سَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ الْمَعَاصِي مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ أَوْ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَثَانِيهَا: الْفَحْشَاءُ وَهِيَ نَوْعٌ مِنَ السُّوءِ، لِأَنَّهَا أَقْبَحُ أَنْوَاعِهِ، وَهُوَ الَّذِي يُسْتَعْظَمُ وَيُسْتَفْحَشُ من المعاصي وثالثها: أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَكَأَنَّهُ أَقْبَحُ أَنْوَاعِ الْفَحْشَاءِ، لِأَنَّهُ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَنْبَغِي مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْكَبَائِرِ، فَصَارَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَيَدْخُلُ فِي الْآيَةِ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَدْعُو إِلَى الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ وَالْكُفْرِ وَالْجَهْلِ بالله، وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ أَمْرَ الشَّيْطَانِ وَوَسْوَسَتَهُ عِبَارَةٌ عَنْ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ الَّتِي نَجِدُهَا مِنْ أَنْفُسِنَا، وَقَدِ اخْتَلَفَتِ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْخَوَاطِرِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: اخْتَلَفُوا فِي مَاهِيَّاتِهَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهَا حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ

خَفِيَّةٌ، وَقَالَ الْفَلَاسِفَةُ: إِنَّهَا تَصَوُّرَاتُ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَتَخَيُّلَاتُهَا عَلَى مِثَالِ الصُّوَرِ الْمُنْطَبِعَةِ فِي الْمَرَايَا، فَإِنَّ تِلْكَ الصُّوَرَ تُشْبِهُ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُشَابِهَةً لَهَا فِي كُلِّ الْوُجُوهِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: صُوَرُ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَتَخَيُّلَاتُهَا هَلْ تُشْبِهُ هَذِهِ الْحُرُوفَ فِي كَوْنِهَا حُرُوفًا أَوْ لَا تُشْبِهُهَا؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَصُوَرُ الْحُرُوفِ حُرُوفٌ، فَعَادَ الْقَوْلُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْخَوَاطِرَ أَصْوَاتٌ وَحُرُوفٌ خَفِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ تَكُنْ تَصَوُّرَاتُ هَذِهِ الْحُرُوفِ حُرُوفًا، لَكِنِّي أَجِدُ مِنْ نَفْسِي هَذِهِ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ مُتَرَتِّبَةً مُنْتَظِمَةً عَلَى حَسَبِ انْتِظَامِهَا فِي الْخَارِجِ، وَالْعَرَبِيُّ لَا يَتَكَلَّمُ فِي قَلْبِهِ إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكَذَا الْعَجَمِيُّ، وَتَصَوُّرَاتُ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَتَعَاقُبُهَا وَتَوَالِيهَا لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مُطَابَقَةِ تَعَاقُبِهَا وَتَوَالِيهَا فِي الْخَارِجِ، فَثَبَتَ أَنَّهَا فِي أَنْفُسِهَا حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ خَفِيَّةٌ وَثَانِيهَا: أَنَّ فَاعِلَ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ مَنْ هُوَ؟ أَمَّا عَلَى أَصْلِنَا وَهُوَ أَنَّ خَالِقَ الْحَوَادِثِ بِأَسْرِهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ عِنْدَهُمْ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ فَلَوْ كَانَ فَاعِلُ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِيهَا مَا يَكُونُ كَذِبًا وَسُخْفًا، لَزِمَ كَوْنُ اللَّهِ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ تَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فَاعِلَهَا هُوَ الْعَبْدُ، لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكْرَهُ حُصُولَ تِلْكَ الْخَوَاطِرَ، وَيَحْتَالُ فِي دَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ مَعَ أَنَّهَا الْبَتَّةَ لَا تَنْدَفِعُ، بَلْ يَنْجَرُّ الْبَعْضُ إِلَى الْبَعْضِ عَلَى سبيل الاتصال، / فإذن لا بد هاهنا مِنْ شَيْءٍ آخَرَ، وَهُوَ إِمَّا الْمَلِكُ وَإِمَّا الشَّيْطَانُ، فَلَعَلَّهُمَا يَتَكَلَّمَانِ بِهَذَا الْكَلَامِ فِي أَقْصَى الدِّمَاغِ، وَفِي أَقْصَى الْقَلْبِ، حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الصَّمَمِ، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ هَذِهِ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ ثُمَّ إِنْ قُلْنَا بِأَنَّ الشَّيْطَانَ وَالْمَلِكَ ذَوَاتٌ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا، غَيْرُ مُتَحَيِّزَةٍ الْبَتَّةَ، لَمْ يَبْعُدْ كَوْنُهَا قَادِرَةً عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّهَا أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ لَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتَوَلَّجُ بَوَاطِنَ الْبَشَرِ إِلَّا أَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى إِيصَالِ هَذَا الْكَلَامِ إِلَى بَوَاطِنِ الْبَشَرِ، وَلَا بَعُدَ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا لِغَايَةِ لَطَافَتِهَا تَقْدِرُ عَلَى النُّفُوذِ فِي مَضَايِقِ بَاطِنِ الْبَشَرِ وَمَخَارِقِ جِسْمِهِ وَتُوصِلُ الْكَلَامَ إِلَى الأقصى قَلْبِهِ وَدِمَاغِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا مَعَ لَطَافَتِهَا تَكُونُ مُسْتَحْكِمَةَ التَّرْكِيبِ، بِحَيْثُ يَكُونُ اتِّصَالُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ بِالْبَعْضِ اتِّصَالًا لَا يَنْفَصِلُ، فَلَا جَرَمَ لَا يَقْتَضِي نُفُوذُهَا فِي هَذِهِ الْمَضَايِقِ وَالْمَخَارِقِ انْفِصَالَهَا وَتَفَرُّقَ أَجْزَائِهَا وَكُلُّ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ مِمَّا لَا دَلِيلَ عَلَى فَسَادِهَا وَالْأَمْرُ فِي مَعْرِفَةِ حَقَائِقِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ إِلْهَامِ الْمَلَائِكَةِ بِالْخَيْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الْأَنْفَالِ: 12] أَيْ أَلْهِمُوهُمُ الثَّبَاتَ وَشَجِّعُوهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً» وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا «إِذَا وُلِدَ الْمَوْلُودُ لِبَنِي آدَمَ قَرَنَ إِبْلِيسُ بِهِ شَيْطَانًا وَقَرَنَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا، فَالشَّيْطَانُ جَاثِمٌ عَلَى أُذُنِ قَلْبِهِ الْأَيْسَرِ، وَالْمَلَكُ جَاثِمٌ عَلَى أُذُنِ قلبه الأيمن فهما يدعوانه» ومن صوفية والفلاسفة مَنْ فَسَّرَ الْمَلَكَ الدَّاعِيَ إِلَى الْخَيْرِ بِالْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَفَسَّرَ الشَّيْطَانَ الدَّاعِيَ إِلَى الشَّرِّ بِالْقُوَّةِ والشهوانية والغضبية. المسألة الثاني: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالْقَبَائِحِ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ إِنَّما وَهِيَ لِلْحَصْرِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَدْعُو إِلَى الْخَيْرِ لَكِنْ لِغَرَضِ أَنْ يَجُرَّهُ مِنْهُ إِلَى الشَّرِّ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنْوَاعٍ: إِمَّا أَنْ يَجُرَّهُ مِنَ الْأَفْضَلِ إِلَى الْفَاضِلِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ الْفَاضِلِ إِلَى الشَّرِّ، وَإِمَّا أَنْ يَجُرَّهُ مِنَ الْفَاضِلِ الْأَسْهَلِ إِلَى الْأَفْضَلِ الْأَشَقِّ لِيَصِيرَ ازْدِيَادُ الْمَشَقَّةِ سَبَبًا لِحُصُولِ النُّفْرَةِ عَنِ الطَّاعَةِ بِالْكُلِّيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ بل

[سورة البقرة (2) : آية 170]

يَتَنَاوَلُ مُقَلِّدَ الْحَقِّ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا لِلْحَقِّ لَكِنَّهُ قَالَ مَا لَا يَعْلَمُهُ فَصَارَ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ لِانْدِرَاجِهِ تَحْتَ الذَّمِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَمَسَّكَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِقَوْلِهِ: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ مَتَى قَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ وَاجِبٌ كَانَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ قَوْلًا عَلَى اللَّهِ بِمَا يَعْلَمُ لَا بِمَا لا يعلم. [سورة البقرة (2) : آية 170] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) اعْلَمْ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: لَهُمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى «مَنْ» فِي قَوْلِهِ: مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً [الْبَقَرَةِ: 165] وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ. وَثَانِيهَا: يَعُودُ عَلَى «الناس» في قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة: 21] فَعَدَلَ عَنِ الْمُخَاطَبَةِ إِلَى الْمُغَايَبَةِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ مُبَالَغَةً فِي بَيَانِ ضَلَالِهِمْ، كَأَنَّهُ يَقُولُ لِلْعُقَلَاءِ: انْظُرُوا إِلَى هَؤُلَاءِ الْحَمْقَى مَاذَا يَقُولُونَ. وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَذَلِكَ حِينَ دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالُوا: نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، فَهُمْ كانوا خير مِنَّا، وَأَعْلَمَ مِنَّا، فَعَلَى هَذَا الْآيَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَالْكِنَايَةُ فِي لَهُمُ تَعُودُ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، إِلَّا أَنَّ الضَّمِيرَ قَدْ يَعُودُ عَلَى الْمَعْلُومِ، كَمَا يَعُودُ عَلَى الْمَذْكُورِ، ثُمَّ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكِسَائِيُّ يُدْغِمُ لَامَ «هَلْ» وَ «بَلْ» فِي ثَمَانِيَةِ أَحْرُفٍ: التَّاءُ كَقَوْلِهِ: بَلْ تُؤْثِرُونَ [الْأَعْلَى: 16] وَالنُّونُ بَلْ نَتَّبِعُ وَالثَّاءُ هَلْ ثُوِّبَ [الْمُطَفِّفِينَ: 36] وَالسِّينُ بَلْ سَوَّلَتْ [يُوسُفَ: 18] وَالزَّايُ بَلْ زُيِّنَ [الرَّعْدِ: 33] وَالضَّادُ بَلْ ضَلُّوا [الْأَحْقَافِ: 28] وَالظَّاءُ بَلْ ظَنَنْتُمْ وَالطَّاءُ بَلْ طَبَعَ [النِّسَاءِ: 155] وَأَكْثَرُ الْقُرَّاءِ عَلَى الْإِظْهَارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَافِقُهُ فِي الْبَعْضِ، وَالْإِظْهَارُ هُوَ الْأَصْلُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَلْفَيْنا بِمَعْنَى وَجَدْنَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا [لُقْمَانَ: 21] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ [يُوسُفَ: 25] وَقَوْلُهُ: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ [الصَّافَّاتِ: 69] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّه مِنَ الدَّلَائِلِ الْبَاهِرَةِ فَهُمْ قَالُوا لَا نَتَّبِعُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَتَّبِعُ آبَاءَنَا وَأَسْلَافَنَا، فَكَأَنَّهُمْ عَارَضُوا الدَّلَالَةَ بِالتَّقْلِيدِ، وَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَاوُ فِي أَوَلَوْ وَاوُ الْعَطْفِ، دَخَلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ الْمَنْقُولَةُ إِلَى مَعْنَى التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ لِلتَّوْبِيخِ، لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْإِقْرَارَ بِشَيْءٍ يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِهِ فَضِيحَةً، كَمَا يَقْتَضِي الِاسْتِفْهَامُ الْإِخْبَارَ عَنِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ لِلْمُقَلِّدِ: هَلْ تَعْتَرِفُ بِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْلَمَ كَوْنَهُ مُحِقًّا أَمْ لَا؟ فَإِنِ اعْتَرَفْتَ بِذَلِكَ لَمْ نَعْلَمْ جَوَازَ تَقْلِيدِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَعْرِفَ كَوْنَهُ مُحِقًّا، فَكَيْفَ عَرَفْتَ أَنَّهُ مُحِقٌّ؟ وَإِنْ عَرَفْتَهُ بِتَقْلِيدِ آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ عَرَفْتَهُ بِالْعَقْلِ فَذَاكَ كَافٍ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّقْلِيدِ، وَإِنْ قُلْتَ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ تَقْلِيدِهِ أَنْ يُعْلَمَ/ كَوْنُهُ مُحِقًّا، فَإِذَنْ قَدْ جَوَّزْتَ تَقْلِيدَهُ، وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا فَإِذَنْ أَنْتَ عَلَى

[سورة البقرة (2) : آية 171]

تَقْلِيدِكَ لَا تَعْلَمُ أَنَّكَ مُحِقٌّ أَوْ مُبْطِلٌ وَثَانِيهَا: هَبْ أَنَّ ذَلِكَ الْمُتَقَدِّمَ كَانَ عَالِمًا بِهَذَا الشَّيْءِ إِلَّا أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْمُتَقَدِّمَ مَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ الشَّيْءِ قَطُّ وَمَا اخْتَارَ فِيهِ الْبَتَّةَ مَذْهَبًا، فَأَنْتَ مَاذَا كُنْتَ تَعْمَلُ؟ فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يُوجَدَ ذَلِكَ الْمُتَقَدِّمُ وَلَا مَذْهَبُهُ كَانَ لَا بد من العدول إلى النظر فكذا هاهنا وَثَالِثُهَا: أَنَّكَ إِذَا قَلَّدْتَ مَنْ قَبْلَكَ، فَذَلِكَ الْمُتَقَدِّمُ كَيْفَ عَرَفْتَهُ؟ أَعَرَفْتَهُ بِتَقْلِيدٍ أَمْ لَا بِتَقْلِيدٍ؟ فَإِنْ عَرَفْتَهُ بِتَقْلِيدٍ لَزِمَ إِمَّا الدَّوْرُ وَإِمَّا التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ عَرَفْتَهُ لَا بِتَقْلِيدٍ بَلْ بِدَلِيلٍ، فَإِذَا أَوْجَبْتَ تَقْلِيدَ ذَلِكَ الْمُتَقَدِّمِ وَجَبَ أَنْ تَطْلُبَ الْعِلْمَ بِالدَّلِيلِ لَا بِالتَّقْلِيدِ، لِأَنَّكَ لَوْ طَلَبْتَ بِالتَّقْلِيدِ لَا بِالدَّلِيلِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْمُتَقَدِّمَ طَلَبَهُ بِالدَّلِيلِ لَا بِالتَّقْلِيدِ كُنْتَ مُخَالِفًا لَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّقْلِيدِ يُفْضِي ثُبُوتُهُ إِلَى نَفْيِهِ فَيَكُونُ بَاطِلًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ عَقِيبَ الزَّجْرِ عَنِ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مُتَابَعَةِ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ، وَبَيْنَ متابعة التَّقْلِيدِ، وَفِيهِ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَتَرْكِ التَّعْوِيلِ عَلَى مَا يَقَعُ فِي الْخَاطِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، أَوْ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْغَيْرُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً لَفْظٌ عَامٌّ، وَمَعْنَاهُ الْخُصُوصُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْقِلُونَ كَثِيرًا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذِكْرِ الْعَامِّ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخَاصُّ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنَ الدِّينِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَهْتَدُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى كَيْفِيَّةِ اكتسابه. [سورة البقرة (2) : آية 171] وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ إِلَى اتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَرَكُوا النَّظَرَ وَالتَّدَبُّرَ، وَأَخْلَدُوا إِلَى التَّقْلِيدِ، وَقَالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا [البقرة: 170] ضَرَبَ لَهُمْ هَذَا الْمَثَلَ تَنْبِيهًا لِلسَّامِعِينَ لَهُمْ أَنَّهُمْ إِنَّمَا وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ بِسَبَبِ تَرْكِ الْإِصْغَاءِ، وَقِلَّةِ الِاهْتِمَامِ بِالدِّينِ، فَصَيَّرَهُمْ مِنْ هذا الوجه بمنزلة الْأَنْعَامِ، وَمِثْلُ هَذَا الْمَثَلِ يَزِيدُ السَّامِعَ مَعْرِفَةً بِأَحْوَالِ الْكُفَّارِ، وَيُحَقِّرُ إِلَى الْكَافِرِ نَفْسَهُ إِذَا سَمِعَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ كَسْرًا لِقَلْبِهِ، وَتَضْيِيقًا لِصَدْرِهِ، حَيْثُ صَيَّرَهُ كَالْبَهِيمَةِ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ نِهَايَةُ الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ لِمَنْ يَسْمَعُهُ عَنْ أَنْ يَسْلُكَ مثل طريقه في التقليد، وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نَعَقَ الرَّاعِي بِالْغَنَمِ إِذَا صاح بها وأما نعق الْغُرَابُ فَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِلْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا: تَصْحِيحُ الْمَعْنَى بِالْإِضْمَارِ فِي الْآيَةِ وَالثَّانِي: إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ إِضْمَارٍ، أَمَّا الَّذِينَ أَضْمَرُوا فَذَكَرُوا وُجُوهًا الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَالزَّجَّاجِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَثَلُ مَنْ يَدْعُو الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى الْحَقِّ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ، فَصَارَ النَّاعِقُ الَّذِي هُوَ الرَّاعِي بمنزل الدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ، وَهُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَسَائِرُ الدُّعَاةِ إِلَى الْحَقِّ وَصَارَ الْكُفَّارُ بِمَنْزِلَةِ الْغَنَمِ الْمَنْعُوقِ بِهَا وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّ الْبَهِيمَةَ تَسْمَعُ الصَّوْتَ وَلَا تَفْهَمُ الْمُرَادَ، وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ كَانُوا يَسْمَعُونَ صَوْتَ الرَّسُولِ وَأَلْفَاظَهُ، وَمَا كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِهَا وَبِمَعَانِيهَا لَا جَرَمَ حَصَلَ وَجْهُ التَّشْبِيهِ الثَّانِي: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي دعاتهم آلِهَتَهُمْ مِنَ الْأَوْثَانِ كَمَثَلِ النَّاعِقِ فِي دُعَائِهِ مَا لَا يَسْمَعُ كَالْغَنَمِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنَ الْكَلَامِ وَالْبَهَائِمُ لَا

[سورة البقرة (2) : آية 172]

تَفْهَمُ: فَشَبَّهُ الْأَصْنَامَ فِي أَنَّهَا لَا تَفْهَمُ بِهَذِهِ الْبَهَائِمِ، فَإِذَا كَانَ لَا شَكَّ أَنَّ هاهنا الْمَحْذُوفَ هُوَ الْمَدْعُوُّ، وَفِي الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ الْمَحْذُوفُ هُوَ الدَّاعِي، وَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا دُعاءً وَنِداءً لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي دُعَائِهِمْ آلِهَتَهُمْ كَمَثَلِ النَّاعِقِ فِي دُعَائِهِ عِنْدَ الْجَبَلِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ إِلَّا صَدَى صَوْتِهِ فَإِذَا قَالَ: يَا زَيْدُ يَسْمَعُ مِنَ الصَّدَى: يَا زَيْدُ. فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ إِذَا دَعَوْا هَذِهِ الْأَوْثَانَ لَا يَسْمَعُونَ إِلَّا مَا تَلَفَّظُوا بِهِ مِنَ الدُّعَاءِ وَالنِّدَاءِ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: فِي الْآيَةِ وَهُوَ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ إِضْمَارٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قِلَّةِ عَقْلِهِمْ فِي عِبَادَتِهِمْ لِهَذِهِ الْأَوْثَانِ، كَمَثَلِ الرَّاعِي إِذَا تَكَلَّمَ مَعَ الْبَهَائِمِ فَكَمَا أَنَّهُ يُقْضَى عَلَى ذَلِكَ الرَّاعِي بِقِلَّةِ العقل، فكذا هاهنا الثَّانِي: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي اتِّبَاعِهِمْ آبَاءَهُمْ وَتَقْلِيدِهِمْ لَهُمْ، كَمَثَلِ الرَّاعِي إِذَا تَكَلَّمَ مَعَ الْبَهَائِمِ فَكَمَا أَنَّ الْكَلَامَ مَعَ الْبَهَائِمِ عَبَثٌ عَدِيمُ الْفَائِدَةِ، فَكَذَا التَّقْلِيدُ عَبَثٌ عَدِيمُ الْفَائِدَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَبَّهَهُمْ بِالْبَهَائِمِ زَادَ فِي تَبْكِيتِهِمْ، فَقَالَ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ لِأَنَّهُمْ صَارُوا بِمَنْزِلَةِ الصُّمِّ فِي أَنَّ الَّذِي سَمِعُوهُ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوهُ وَبِمَنْزِلَةِ الْبُكْمِ فِي أَنْ لَا يَسْتَجِيبُوا لِمَا دُعُوا إِلَيْهِ وَبِمَنْزِلَةِ الْعُمْيِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنِ الدَّلَائِلِ فَصَارُوا كَأَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوهَا، قَالَ النَّحْوِيُّونَ صُمٌّ أَيْ هُمْ صُمٌّ وَهُوَ رَفْعٌ عَلَى الذَّمِّ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ فَالْمُرَادُ الْعَقْلُ الِاكْتِسَابِيُّ لِأَنَّ الْعَقْلَ الْمَطْبُوعَ كَانَ حَاصِلًا لَهُمْ قَالَ: الْعَقْلُ عَقْلَانِ مَطْبُوعٌ وَمَسْمُوعٌ. وَلَمَّا كَانَ طَرِيقُ اكْتِسَابِ الْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ هُوَ الِاسْتِعَانَةُ بِهَذِهِ الْقُوَى الثَّلَاثَةِ فَلَمَّا أَعْرَضُوا عَنْهَا فَقَدُوا الْعَقْلَ الْمُكْتَسَبَ وَلِهَذَا قيل: من فقد حسا فقد علما. [سورة البقرة (2) : آية 172] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَبِيهَةٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً [الْبَقَرَةِ: 168] ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَكَلَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هاهنا فِي دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَاسْتَقْصَى فِي الرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَمِنْ هُنَا شَرَعَ فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ، اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْأَكْلَ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، وَذَلِكَ عِنْدَ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا، وَذَلِكَ أَنَّ الضَّيْفَ قَدْ يَمْتَنِعُ مِنَ الْأَكْلِ إِذَا انْفَرَدَ وَيَنْبَسِطُ فِي ذَلِكَ إِذَا سُوعِدَ، فَهَذَا الْأَكْلُ مَنْدُوبٌ، وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا إِذَا خَلَا عَنْ هَذِهِ الْعَوَارِضِ، وَالْأَصْلُ فِي الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنِ الْعَوَارِضِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ مُسَمَّى الْأَكْلِ مُبَاحًا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: كُلُوا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يُفِيدُ الْإِيجَابَ وَالنَّدْبَ بَلِ الْإِبَاحَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ فَإِنَّ الطَّيِّبَ هُوَ الْحَلَالُ فَلَوْ كَانَ كُلُّ رِزْقٍ حَلَالًا لَكَانَ قَوْلُهُ: مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ مَعْنَاهُ مِنْ مُحَلَّلَاتِ مَا أَحْلَلْنَا لَكُمْ، فَيَكُونُ تَكْرَارًا وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، أَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ الطَّيِّبَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُسْتَلَذِّ الْمُسْتَطَابِ، وَلَعَلَّ أَقْوَامًا ظَنُّوا أَنَّ التَّوَسُّعَ فِي الْمَطَاعِمِ وَالِاسْتِكْثَارَ مِنْ طَيِّبَاتِهَا مَمْنُوعٌ مِنْهُ. فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ، كُلُوا مِنْ لَذَائِذِ مَا أَحْلَلْنَاهُ لَكُمْ فَكَانَ تَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ لِهَذَا الْمَعْنَى.

[سورة البقرة (2) : آية 173]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ أَمْرٌ: وَلَيْسَ بِإِبَاحَةٍ فَإِنْ قِيلَ: الشُّكْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْقَلْبِ أَوْ بِاللِّسَانِ أَوْ بِالْجَوَارِحِ، أَمَّا بِالْقَلْبِ فَهُوَ إِمَّا الْعِلْمُ بِصُدُورِ النِّعْمَةِ عَنْ ذَلِكَ الْمُنْعِمِ، أَوِ الْعَزْمُ عَلَى تَعْظِيمِهِ بِاللِّسَانِ وَبِالْجَوَارِحِ، أَمَّا ذَلِكَ الْعِلْمُ فَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ كَمَالِ الْعَقْلِ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يَنْسَى ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ ضَرُورِيًّا فَكَيْفَ يُمْكِنُ إِيجَابُهُ، وَأَمَّا الْعَزْمُ عَلَى تَعْظِيمِهِ بِاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ فَذَلِكَ الْعَزْمُ الْقَلْبِيُّ مَعَ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ وَالْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ، فَإِذَا بَيَّنَّا أَنَّهُمَا لَا يُجِيبَانِ كَانَ الْعَزْمُ بِأَنْ لَا يَجِبَ أَوْلَى، وَأَمَّا الشُّكْرُ بِاللِّسَانِ فَهُوَ إِمَّا أَنْ يُقِرَّ بِالِاعْتِرَافِ لَهُ بِكَوْنِهِ مُنْعِمًا أَوْ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ فَهَذَا غَيْرُ وَاجِبٍ بِالِاتِّفَاقِ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْمَنْدُوبَاتِ، وَأَمَّا الشُّكْرُ بِالْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ فَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِأَفْعَالٍ دَالَّةٍ عَلَى تَعْظِيمِهِ، وَذَلِكَ أَيْضًا غَيْرُ وَاجِبٍ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الشُّكْرِ/ قُلْنَا الَّذِي تَلَخَّصَ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ كَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلتَّعْظِيمِ وَإِظْهَارُ ذَلِكَ بِاللِّسَانِ أَوْ بِسَائِرِ الْأَفْعَالِ إِنْ وُجِدَتْ هُنَاكَ تُهْمَةٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ وجوها. أَحَدُهَا: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ عَارِفِينَ بِاللَّهِ وَبِنِعَمِهِ، فَعَبَّرَ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِعِبَادَتِهِ، إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ. وَثَانِيهَا: مَعْنَاهُ: إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ فَاشْكُرُوهُ، فَإِنَّ الشُّكْرَ رَأْسُ الْعِبَادَاتِ. وَثَالِثُهَا: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ الَّذِي رَزَقَكُمْ هَذِهِ النِّعَمَ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أَيْ إِنْ صَحَّ أَنَّكُمْ تَخُصُّونَهُ بِالْعِبَادَةِ وَتُقِرُّونَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُنْعِمُ لَا غَيْرُهُ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ فِي نَبَأٍ عَظِيمٍ أَخْلُقُ وَيُعْبَدُ غَيْرِي، وَأَرْزُقُ وَيُشْكَرُ غَيْرِي» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُعَلَّقَ بِلَفْظِ: إِنْ، لَا يَكُونُ عَدَمًا عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ الْأَمْرَ بِالشُّكْرِ بِكَلِمَةِ «إن» على فعل العبادة، مَعَ أَنَّ مَنْ لَا يَفْعَلُ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ يجب عليه الشكر أيضا. [سورة البقرة (2) : آية 173] إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) [الحكم الاول] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَمَرَنَا فِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ بِتَنَاوُلِ الْحَلَالِ فَصَّلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْوَاعَ الْحَرَامِ، وَالْكَلَامُ فِيهَا عَلَى نَوْعَيْنِ. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّفْسِيرِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي اسْتَنْبَطَهَا الْعُلَمَاءُ مِنْ هذه الآية «فالنوع الأول» [أي ما يتعلق بالتفسير] [قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وما أحل به لغير الله] فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ «إِنَّمَا» عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ حَرْفًا وَاحِدًا، كَقَوْلِكَ: إِنَّمَا دَارِي دَارُكَ، وَإِنَّمَا مَالِي مَالُكَ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ (مَا) مُنْفَصِلَةً مِنْ: إِنَّ، وَتَكُونُ (مَا) بِمَعْنَى الَّذِي، كَقَوْلِكَ: إِنَّ مَا أَخَذْتَ مَالُكَ، وَإِنَّ مَا رَكِبْتَ دَابَّتُكَ، وَجَاءَ فِي التَّنْزِيلِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، أَمَّا عَلَى الأول فقوله: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ وإِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ [هُودٍ: 12] وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَقَوْلُهُ: إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ [طه: 69] وَلَوْ نَصَبْتَ كَيْدَ سَاحِرٍ عَلَى أَنْ تَجْعَلَ «إِنَّمَا» حَرْفًا وَاحِدًا كَانَ صَوَابًا، وَقَوْلُهُ: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ [الْعَنْكَبُوتِ: 25] تَنْصِبُ الْمَوَدَّةَ وَتَرْفَعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: «إِنَّمَا» تُفِيدُ الْحَصْرَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ وَالشِّعْرِ/ وَالْقِيَاسِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ [النِّسَاءِ: 171]

أَيْ مَا هُوَ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَقَالَ: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ [التَّوْبَةِ: 60] أَيْ لَهُمْ لا لغيرهم وقال تعالى لمحمد: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الْكَهْفِ: 110] أَيْ مَا أَنَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَكَذَا هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [الْأَنْعَامِ: 145] فَصَارَتِ الْآيَتَانِ وَاحِدَةً فَقَوْلُهُ: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُفَسِّرٌ لِقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً إِلَّا كَذَا فِي تِلْكَ الْآيَةِ، وَأَمَّا الشِّعْرُ فقوله الْأَعْشَى. وَلَسْتُ بِالْأَكْثَرِ مِنْهُمْ حَصًى ... وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ وَقَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: أَنَا الذَّائِدُ الْحَامِي الذِّمَارَ وَإِنَّمَا ... يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِ أَنَا أَوْ مِثْلِي وَأَمَّا الْقِيَاسُ، فَهُوَ أَنَّ كَلِمَةَ «إِنَّ» لِلْإِثْبَاتِ وَكَلِمَةَ «مَا» لِلنَّفْيِ فَإِذَا اجْتَمَعَا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَبْقَيَا عَلَى أَصْلَيْهِمَا فَإِمَّا أَنْ يُفِيدَا ثُبُوتَ غَيْرِ الْمَذْكُورِ، وَنَفْيَ الْمَذْكُورِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ، أَوْ ثُبُوتَ الْمَذْكُورِ، وَنَفْيَ غَيْرِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُفِيدُ الْحَصْرَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَلَقَدْ كَانَ غَيْرُهُ نَذِيرًا، وَجَوَابُهُ مَعْنَاهُ: مَا أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ فَهُوَ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَلَا يَنْفِي وُجُودَ نَذِيرٍ آخَرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ حَرَّمَ على البناء للفاعل وحرم للبناء للمفعول وحرم بِوَزْنِ كَرُمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمَيْتَةُ ما فارقته الروح من غير زكاة مِمَّا يُذْبَحُ، وَأَمَّا الدَّمُ فَكَانَتِ الْعَرَبُ تَجْعَلُ الدَّمَ فِي الْمَبَاعِرِ وَتَشْوِيهَا ثُمَّ تَأْكُلُهَا، فَحَرَّمَ اللَّهُ الدَّمَ وَقَوْلُهُ: لَحْمَ الْخِنْزِيرِ أَرَادَ الْخِنْزِيرَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ، لَكِنَّهُ خَصَّ اللَّحْمَ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْأَكْلِ وَقَوْلُهُ: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْإِهْلَالُ أَصْلُهُ رَفْعُ الصَّوْتِ فَكُلُّ رَافِعٍ صَوْتَهُ فَهُوَ مُهِلٌّ، وَقَالَ ابْنُ أَحْمَرَ: يهل بالفدفد رُكْبَانُهَا ... كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ الْمُعْتَمِرْ هَذَا مَعْنَى الْإِهْلَالِ فِي اللُّغَةِ، ثُمَّ قِيلَ لِلْمُحْرِمِ مُهِلٌّ لِرَفْعِهِ الصَّوْتَ بِالتَّلْبِيَةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، هَذَا مَعْنَى الْإِهْلَالِ، يُقَالُ: أَهَلَّ فُلَانٌ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ أَيْ أَحْرَمَ بِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ الصَّوْتَ بِالتَّلْبِيَةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَالذَّابِحُ مُهِلٌّ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كانوا يسمعون الْأَوْثَانَ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَيَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِذِكْرِهَا وَمِنْهُ: اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ يَعْنِي مَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَشَدُّ مُطَابَقَةً لِلَّفْظِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَوْ أَنَّ مُسْلِمًا ذَبَحَ ذَبِيحَةً، وَقَصَدَ بِذَبْحِهَا التَّقَرُّبَ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ صَارَ مُرْتَدًّا وَذَبِيحَتُهُ ذَبِيحَةُ مُرْتَدٍّ، وَهَذَا الْحُكْمُ فِي غَيْرِ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَمَّا ذَبَائِحُ/ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَتَحِلُّ لَنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ [الْمَائِدَةِ: 5] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنِ اضْطُرَّ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ: فَمَنِ اضْطُرَّ بِضَمِّ النُّونِ وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ، فَالضَّمُّ لِلْإِتْبَاعِ، وَالْكَسْرُ عَلَى أَصْلِ الْحَرَكَةِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اضْطُرَّ: أُحْوِجَ وَأُلْجِئَ، وَهُوَ افْتُعِلَ مِنَ الضَّرُورَةِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الضَّرَرِ، وَهُوَ الضِّيقُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى تِلْكَ الْأَشْيَاءَ، اسْتَثْنَى عَنْهَا حَالَ الضَّرُورَةِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَهَا سَبَبَانِ أَحَدُهُمَا: الْجُوعُ الشَّدِيدُ، وَأَنْ لَا يَجِدَ مَأْكُولًا حَلَالًا يَسُدُّ بِهِ الرَّمَقَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مُضْطَرًّا الثَّانِي: إِذَا أَكْرَهَهُ عَلَى تَنَاوُلِهِ مُكْرِهٌ، فَيَحِلُّ لَهُ تَنَاوُلُهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الِاضْطِرَارَ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ، حَتَّى يُقَالَ إِنَّهُ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فإذن لا بد هاهنا مِنْ إِضْمَارٍ وَهُوَ الْأَكْلُ وَالتَّقْدِيرُ: فَمَنِ اضْطُرَّ فأكل فلا إثم عليه والحذف هاهنا كَالْحَذْفِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [الْبَقَرَةِ: 184] أَيْ فَأَفْطَرَ فَحَذَفَ فَأَفْطَرَ وَقَوْلُهُ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ [الْبَقَرَةِ: 196] وَمَعْنَاهُ فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ، وَإِنَّمَا جَازَ الْحَذْفُ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْحَذْفِ، وَلِدَلَالَةِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: غَيْرَ باغٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قال الفراء غَيْرَ هاهنا لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّ غير هاهنا بِمَعْنَى النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهَا لَا لِأَنَّهَا في معنى: لا، وهي هاهنا حال للمضطر، كأنك قلت: فمن اضطر بَاغِيًا، وَلَا عَادِيًا فَهُوَ لَهُ حَلَالٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَصْلُ الْبَغْيِ فِي اللُّغَةِ الْفَسَادُ، وَتَجَاوُزُ الْحَدِّ قَالَ اللَّيْثُ: الْبَغْيُ فِي عَدْوِ الْفَرَسِ اخْتِيَالٌ وَمُرُوحٌ، وَأَنَّهُ يَبْغِي فِي عَدْوِهِ وَلَا يُقَالُ: فَرَسٌ بَاغٍ، وَالْبَغْيُ الظُّلْمُ وَالْخُرُوجُ عَنِ الْإِنْصَافِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشُّورَى: 39] وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: بَغَى الْجُرْحُ يَبْغِي بَغْيًا، إِذَا بَدَأَ بِالْفَسَادِ، وَبَغَتِ السَّمَاءُ، إِذَا كَثُرَ مَطَرُهَا حَتَّى تَجَاوَزَ الْحَدَّ، وَبَغَى الْجُرْحُ وَالْبَحْرُ وَالسَّحَابُ إِذَا طَغَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا عادٍ فَالْعَدْوُ هُوَ التَّعَدِّي فِي الْأُمُورِ، وَتَجَاوُزُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَيْهِ، يُقَالُ عَدَا عَلَيْهِ عَدْوًا، وَعُدْوَانًا، وَاعْتِدَاءً وَتَعَدِّيًا، إِذَا ظَلَمَهُ ظُلْمًا مُجَاوِزًا لِلْحَدِّ، وَعَدَا طَوْرَهُ: جَاوَزَ قَدْرَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِأَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ، غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ مُخْتَصًّا بِالْأَكْلِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ/ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: غَيْرَ باغٍ وَذَلِكَ بِأَنْ يَجِدَ حَلَالًا تَكْرَهُهُ النَّفْسُ، فَعَدَلَ إِلَى أَكْلِ الْحَرَامِ اللَّذِيذِ وَلا عادٍ أَيْ مُتَجَاوِزٍ قَدْرَ الرُّخْصَةِ الثَّانِي: غَيْرَ بَاغٍ لِلَذَّةِ أَيْ طَالِبٍ لَهَا، وَلَا عَادٍ مُتَجَاوِزِ سَدِّ الْجَوْعَةِ، عَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَالرَّبِيعِ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ زَيْدٍ الثَّالِثُ: غَيْرُ بَاغٍ عَلَى مُضْطَرٍّ آخَرَ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، وَلَا عَادٍ فِي سَدِّ الْجَوْعَةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى غَيْرَ بَاغٍ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ مِنَ الْبَغْيِ، وَلَا عَادٍ بِالْمَعْصِيَةِ أَيْ مُجَاوِزٍ طَرِيقَةَ الْمُحِقِّينَ، وَالْكَلَامُ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ سَيَجِيءُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أَمَّا قَوْلُهُ: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فَفِيهِ سُؤَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَكْلَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَاجِبٌ وَقَوْلُهُ: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ يُفِيدُ الْإِبَاحَةَ الثَّانِي: أَنَّ الْمُضْطَرَّ كَالْمُلْجَأِ إِلَى الْفِعْلِ وَالْمُلْجَأُ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قوله: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [الْبَقَرَةِ: 158] أَنَّ نَفْيَ الْإِثْمِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ رَفْعُ الْحَرَجِ وَالضِّيقِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَائِعَ إِنْ حَصَلَتْ فِيهِ شَهْوَةُ الْمَيْتَةِ، وَلَمْ يَحْصُلْ فِيهِ النُّفْرَةُ الشَّدِيدَةُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُلْجَأً إِلَى تَنَاوُلِ مَا يَسُدُّ بِهِ الرَّمَقَ كَمَا يَصِيرُ مُلْجَأً إِلَى

الفصل الأول فيما يتعلق بالميتة

الْهَرَبِ مِنَ السَّبُعِ إِذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ، أَمَّا إِذَا حَصَلَتِ النُّفْرَةُ الشَّدِيدَةُ فَإِنَّهُ بِسَبَبِ تِلْكَ النُّفْرَةِ يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُلْجَأً وَلَزِمَهُ تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ النفار، وهاهنا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْوُجُوبِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي آخِرِ الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يَقُولَ بَعْدَهُ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِنَّ الْغُفْرَانَ إِنَّمَا يَكُونُ عند حصول الإثم. والجواب: من وجوه أحدها: أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْحُرْمَةِ قَائِمٌ فِي الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، إِلَّا أَنَّهُ زَالَتِ الْحُرْمَةُ لِقِيَامِ الْمُعَارِضِ، فَلَمَّا كَانَ تَنَاوُلُهُ تَنَاوُلًا لِمَا حَصَلَ فِيهِ الْمُقْتَضِي لِلْحُرْمَةِ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَغْفِرَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ أَنَّهُ رَحِيمٌ، يَعْنِي لِأَجْلِ الرَّحْمَةِ عَلَيْكُمْ أَبَحْتُ لَكُمْ ذَلِكَ وَثَانِيهَا: لَعَلَّ الْمُضْطَرَّ يَزِيدُ عَلَى تَنَاوُلِ الْحَاجَةِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ غَفُورٌ بِأَنْ يَغْفِرَ ذَنْبَهُ فِي تَنَاوُلِ الزِّيَادَةِ، رَحِيمٌ حَيْثُ أَبَاحَ فِي تَنَاوُلِ قَدْرِ الْحَاجَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ عَقَّبَهَا بِكَوْنِهِ غَفُورًا رَحِيمًا لِأَنَّهُ غَفُورٌ لِلْعُصَاةِ إِذَا تَابُوا، رَحِيمٌ بِالْمُطِيعِينَ الْمُسْتَمِرِّينَ عَلَى نَهْجِ حُكْمِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَسَائِلُ الْفِقْهِيَّةُ الَّتِي اسْتَنْبَطَهَا الْعُلَمَاءُ مِنْهَا وَهِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى فُصُولٍ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَيْتَةِ وَالْكَلَامُ فِيهِ مُرَتَّبٌ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَمَقَاصِدَ: أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ: فَفِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ التَّحْرِيمَ الْمُضَافَ إِلَى الْأَعْيَانِ، هَلْ يَقْتَضِي الْإِجْمَالَ؟ فَقَالَ الْكَرْخِيُّ: إِنَّهُ يَقْتَضِي الْإِجْمَالَ، لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا يُمْكِنُ وَصْفُهَا بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهِمَا إِلَى فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِنَا فِيهَا، وَلَيْسَتْ جَمِيعُ أَفْعَالِنَا فِيهَا مُحَرَّمَةً لِأَنَّ تَبْعِيدَهَا عَنِ النَّفْسِ وَعَمَّا يُجَاوِزُ الْمَكَانَ فِعْلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ فِيهَا، وَهُوَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، فَإِذَنْ لَا بُدَّ مِنْ صَرْفِ هَذَا التَّحْرِيمِ إِلَى فِعْلٍ خَاصٍّ، وَلَيْسَ بَعْضُ الْأَفْعَالِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ فَوَجَبَ صَيْرُورَةُ الْآيَةِ مُجْمَلَةً، وَأَمَّا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمُجْمَلَاتِ بَلْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ تُفِيدُ فِي الْعُرْفِ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ فِي هَذِهِ الْأَجْسَامِ كَمَا أَنَّ الذَّوَاتِ لَا تُمَلَّكُ وَإِنَّمَا يُمْلَكُ التَّصَرُّفَاتُ فِيهَا، فَإِذَا قِيلَ فُلَانٌ يَمْلِكُ جَارِيَةً فَهِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهَا فكذا هنا، وقد استقصينا الكلام فيه في كِتَابِ الْمَحْصُولِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا ثَبَتَ الْأَصْلُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَجَبَ أَنْ تَدُلَّ الْآيَةُ عَلَى حُرْمَةِ جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ الدَّلِيلُ الْمُخَصِّصُ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ هَذَا التَّحْرِيمِ بِالْأَكْلِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُتَعَارَفَ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ وَرَدَ عَقِيبَ قَوْلِهِ: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ [البقرة: 57] وَثَالِثُهَا: مَا رُوِيَ عَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي خَبَرِ شَاةِ مَيْمُونَةَ، إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُتَعَارَفَ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا فَلَا يَجِبُ قَصْرُهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، بَلْ يَجِبُ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ ظاهر القرآن

مُقَدَّمٌ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، لَكِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إِذَا لَمْ يُجَوَّزْ تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِنَّمَا رَجَعُوا فِي مَعْرِفَةِ وُجُوهِ الْحُرْمَةِ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ، فَدَلَّ انْعِقَادُ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مَخْصُوصَةٍ بِبَيَانِ حُرْمَةِ الْأَكْلِ، وَلِلسَّائِلِ أَنَّ يَمْنَعَ هَذَا الْإِجْمَاعَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَيْتَةُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَيًّا مِنْ دُونِ نَقْضٍ بِنِيَّةٍ وَلِذَلِكَ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمَقْتُولِ وَالْمَيِّتِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَهُوَ غَيْرُ الْمُذَكَّى إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يُذْبَحْ أَوْ أَنَّهُ ذُبِحَ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ ذبحه ذكاة وسنذكر حد الزكاة فِي مَوْضِعِهِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [الْمَائِدَةِ: 3] ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ بَعْدِهِ الْمُنْخَنِقَةَ وَالْمَوْقُوذَةَ وَالْمُتَرَدِّيَةَ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُذَكَّى مِنْهُ مَا هُوَ مَيْتَةٌ وَمِنْهُ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، قُلْنَا لَعَلَّ الْأَمْرَ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الشَّرْعِ عَلَى أَصْلِ اللُّغَةِ، وَأَمَّا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ فَالْمَيْتَةُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا الْمَقَاصِدُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْخَطَأَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا أَخْرَجُوهُ عَنِ الْآيَةِ وَهُوَ دَاخِلٌ فِيهَا وَالثَّانِي: مَا أَدْخَلُوهُ فِيهَا وَهُوَ خارج عنها. أما القسم الأول [أي ما خرجوه عن الآية] : فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَظْهَرِ أَقْوَالِهِ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِصُوفِ الْمَيْتَةِ وَشَعْرِهَا وَعَظْمِهَا وَقَالَ مَالِكٌ: يَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِعَظْمِهَا خَاصَّةً وَجُلُّ الْفُقَهَاءِ اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَيْتَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ الِانْتِفَاعُ بِهَا، إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهَا مَيْتَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ» وَهَذَا الْخَبَرُ يَعُمُّ الشَّعْرَ وَالْعَظْمَ وَالْكُلَّ وَأَمَّا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَظْمَ ميتة خاصة فقوله تعالى: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 78] فَثَبَتَ أَنَّهَا كَانَتْ حَيَّةً فَعِنْدَ الْمَوْتِ تَصِيرُ مَيْتَةً وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مَيْتَةٌ وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ الِانْتِفَاعُ بِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ اعْتَرَضَ الْمُخَالِفُ عَلَيْهِ بِأَنَّ الشَّعْرَ وَالصُّوفَ لَا حَيَاةَ فِيهِ، لِأَنَّ حُكْمَ الْحَيَاةِ الْإِدْرَاكُ وَالشُّعُورُ وَذَلِكَ مَفْقُودٌ فِي الشَّعْرِ وَلِأَجْلِ هَذَا الْكَلَامِ ذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى تَنْجِيسِ الْعِظَامِ دُونَ الشُّعُورِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْحَيَاةَ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلْإِدْرَاكِ وَالشُّعُورِ بِدَلِيلِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تعالى: كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الرُّومِ: 50] وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْحَيَاةَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ، بَلْ عَنْ كَوْنِ الْحَيَوَانِ أَوِ النَّبَاتِ صَحِيحًا فِي مِزَاجِهِ مُعْتَدِلًا فِي حَالِهِ غَيْرَ معترض لِلْفَسَادِ وَالتَّعَفُّنِ وَالتَّفَرُّقِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ظَهَرَ انْدِرَاجُهُ تَحْتَ الْآيَةِ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ [النَّحْلِ: 80] حَيْثُ ذَكَرَهَا فِي مَعْرِضِ الْمِنَّةِ، والامتنان لا يقع بالجنس الَّذِي لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ «إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَلْبَسُونَ جُلُودَ الثَّعَالِبِ، وَيَجْعَلُونَ مِنْهَا الْقَلَانِسَ، وَعَنِ النَّخَعِيِّ: كَانُوا لَا يَرَوْنَ بِجُلُودِ السِّبَاعِ وَجُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ بَأْسًا، وَمَا خَصُّوا حَالَ الشَّعْرِ وَعَدَمَهُ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: كَانُوا إِشَارَةٌ إِلَى الصَّحَابَةِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ الثَّعْلَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَلَالٌ، فلهذا يقول بإباحته لأن الزكاة شَرْطٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ غَيْرُ حَاصِلٍ فِي هَذِهِ الثَّعَالِبِ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَلِأَنَّ هَذِهِ الشُّعُورَ وَالْعِظَامَ أَجْسَامٌ مُنْتَفَعٌ بِهَا غَيْرُ مُتَعَرِّضَةٍ

للتعفن والفساد، فوجب أن يقتضي بِطَهَارَتِهَا كَالْجُلُودِ الْمَدْبُوغَةِ، وَأَمَّا النَّفْعُ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ: فَفِي الْفُقَهَاءِ مَنْ مَنَعَ نَجَاسَتَهُ وَهُوَ الْأَسْلَمُ، ثُمَّ قَالُوا: هَبْ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ يَقْتَضِي حُرْمَةَ الِانْتِفَاعِ بِالصُّوفِ وَالْعَظْمِ وَغَيْرِهِمَا إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ تُنْتِجُ الِانْتِفَاعَ بِهَا، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ فَكَانَ هَذَا الْجَانِبُ أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا مَاتَ فِي الْمَاءِ دَابَّةٌ لَيْسَ لَهَا نَفْسٌ سَائِلَةٌ لَمْ يُفْسِدِ الْمَاءَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلَانِ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ، وَاحْتَجُّوا لِلشَّافِعِيِّ، بِأَنَّهَا حَيَوَانَاتٌ فَإِذَا مَاتَتْ صَارَتْ مَيْتَةً فَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا بِمُقْتَضَى الْآيَةِ، وَإِذَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهَا بِمُقْتَضَى الْآيَةِ وَجَبَ الْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهَا، وَإِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهَا، وَجَبَ الْحُكْمُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الْقَلِيلِ الَّذِي/ وَقَعَتْ هِيَ فِيهِ، وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ مَيْتَةٌ، وَيَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِهَا وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّهَا مَتَى كَانَتْ كَذَلِكَ كَانَتْ نَجِسَةً، ثُمَّ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ نَجَاسَتِهَا تَنَجُّسُ الْمَاءِ بِهَا، وَاحْتَجُّوا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَامْقُلُوهُ ثُمَّ انْقُلُوهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْآخَرِ دَوَاءً» وَأَمَرَ بِالْمَقْلِ فَرُبَّمَا كَانَ الطَّعَامُ حَارًّا فَيَمُوتُ الذُّبَابُ فِيهِ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلتَّنْجِيسِ لَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِلْفُقَهَاءِ مَذَاهِبُ سَبْعَةٌ فِي أَمْرِ الدِّبَاغِ، فَأَوْسَعُ النَّاسِ فِيهِ قَوْلًا الزُّهْرِيُّ، فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ اسْتِعْمَالَ الْجُلُودِ بِأَسْرِهَا قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَيَلِيهِ دَاوُدُ فَإِنَّهُ قَالَ تَطْهُرُ كُلُّهَا بِالدِّبَاغِ، وَيَلِيهِ مَالِكٌ فَإِنَّهُ قَالَ يَطْهُرُ ظَاهِرُهَا دُونَ بَاطِنِهَا، وَيَلِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ قَالَ يَطْهُرُ كُلُّهَا إِلَّا جِلْدَ الْخِنْزِيرِ، وَيَلِيهِ الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ يَطْهُرُ الْكُلُّ إِلَّا جِلْدَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَيَلِيهِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ فَإِنَّهُمَا يَقُولَانِ: يَطْهُرُ جِلْدُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَقَطْ، وَيَلِيهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَطْهُرُ مِنْهَا شَيْءٌ بِالدِّبَاغِ، وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَةِ: 3] أَطْلَقَ التَّحْرِيمَ وَمَا قَيَّدَهُ بِحَالٍ دُونَ حَالٍ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُ عَبْدِ اللَّه بْنِ حَكِيمٍ: أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ وَفَاتِهِ أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ، أَجَابُوا عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْآيَةِ، بِأَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وبالقياس جائز، وقد وجدا هاهنا خَبَرَ الْوَاحِدِ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَهُوَ أن الدباغ يعود الْجِلْدَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالَ الْحَيَاةِ وَكَمَا كَانَ حَالُ الْحَيَاةِ طَاهِرًا كَذَلِكَ بَعْدَ الدِّبَاغِ وَهَذَا الْقِيَاسُ وَالْخَبَرُ هُمَا مُعْتَمَدُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَيْتَةِ، بِإِطْعَامِ الْبَازِي وَالْبَهِيمَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ لِأَنَّهُ إِذَا أَطْعَمَ الْبَازِي ذَلِكَ فَقَدِ انْتَفَعَ بِتِلْكَ الْمَيْتَةِ وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَيْتَةِ فَأَمَّا إِذَا أَقْدَمَ الْبَازِي مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْنَا مَنْعُهُ أَمْ لَا فِيهِ احْتِمَالَانِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي دُهْنِ الْمَيْتَةِ وَوَدَكِهَا هَلْ يَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ أَمْ لَا، وَهَذَا يُنْظَرُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا حَلَّتْهُ الْحَيَاةُ، أَوْ فِي جُمْلَتِهِ مَا هُوَ هَذَا حَالُهُ، فَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمَيْتَةِ، وَإِنَّمَا يُحَرِّمُ ذَلِكَ الدَّلِيلُ سِوَى الظَّاهِرِ، وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ لَمَّا قَدِمَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ أَتَاهُ الَّذِينَ يَجْمَعُونَ الْأَوْدَاكَ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَجْمَعُ الْأَوْدَاكَ وَهِيَ مِنَ الْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا وَإِنَّمَا هِيَ لِلْأَدِيمِ وَالسُّفُنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ تَحْرِيمَهُ إِيَّاهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ بَيْعِهَا كَمَا أَوْجَبَ تحريم أكلها.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الظَّاهِرُ يَقْتَضِي حُرْمَةَ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ إِلَّا أَنَّهُمَا خُصَّا بِالْخَبَرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ أَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْجَرَادُ وَالنُّونُ/ وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالطِّحَالُ وَالْكَبِدُ» وَعَنْ جَابِرٍ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ: أَنَّ الْبَحْرَ أَلْقَى إِلَيْهِمْ حُوتًا فَأَكَلُوا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ، فَلَمَّا رَجَعُوا أَخْبَرُوا النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَلِكَ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْهُ شَيْءٍ تُطْعِمُونِي، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي صِفَةِ الْبَحْرِ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَأَيْضًا فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: حِلُّ السَّمَكِ، وَاخْتَلَفُوا فِي السَّمَكِ الطَّافِي وَهُوَ الَّذِي يَمُوتُ فِي الْمَاءِ حَتْفَ أَنْفِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ إِنَّهُ مَكْرُوهٌ وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا طَفَا مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ فَلَا نَأْكُلُهُ، وَهَذَا أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَبِي أَيُّوبَ إِبَاحَتُهُ، وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ رِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةً عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام قال: «ما ألقى البحر أو جرد عَنْهُ فَكُلُوهُ، وَمَا مَاتَ فِيهِ وَطَفَا فَلَا تَأْكُلُوهُ» وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدِ احْتَجَّ بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ [الْمَائِدَةِ: 96] وَهَذَا السَّمَكُ الطَّافِي مِنْ طَعَامِ الْبَحْرِ فَوَجَبَ حِلُّهُ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أحلت لنا ميتتان السم وَالْجَرَادُ» وَهَذَا مُطْلَقٌ، وَقَوْلُهُ فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَهَذَا عَامٌّ وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «كُلُّ مَا طَفَا عَلَى الْبَحْرِ» . الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْجَرَادِ كُلِّهِ مَا أَخَذْتَهُ وَمَا وَجَدْتَهُ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ مَا وُجِدَ مَيِّتًا لَا يَحِلُّ، وَأَمَّا مَا أُخِذَ حَيًّا ثُمَّ قُطِعَ رَأْسُهُ وَشُوِيَ أُكِلَ، وَمَا أُخِذَ حَيًّا فَغُفِلَ عَنْهُ حَتَّى يَمُوتَ لَمْ يُؤْكَلْ حُجَّةُ مَالِكٍ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ» فَوَجَبَ حَمْلُهُمَا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ قَطْعَ رَأْسِهِ إِنْ جُعِلَ لَهُ ذَكَاةً فَهُوَ كَالشَّاةِ الْمُذَكَّاةِ فِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَيْتَةً، فَلَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ» فَائِدَةٌ وَقَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ أَبِي أَوْفَى: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ وَلَا نَأْكُلُ غَيْرَهُ، فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَيْتَةٍ وَبَيْنَ مَقْتُولَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْجَنِينِ إِذَا خَرَجَ مَيِّتًا بَعْدَ ذَبْحِ الْأُمِّ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، لَا يُؤْكَلُ إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ حَيًّا فَيُذْبَحَ، وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِنَّهُ يُؤْكَلُ وَهَذَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ تَمَّ خَلْقُهُ وَنَبَتَ شَعْرُهُ أُكِلَ، وَإِلَّا لَمْ يُؤْكَلْ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ أَنَّهُ مَيْتَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يحرم، قال الشافعي، خصص هَذَا الْعُمُومَ بِالْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ، أَمَّا الْخَبَرُ فَهُوَ أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْمُذَكَّى مُبَاحٌ وَهَذَا مذكى، لما روى عن أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَأَبُو أُمَامَةَ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو أَيُّوبَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: / «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ كَوْنَ الذَّكَاةِ سَبَبًا لِلْإِبَاحَةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ ذَكَاةُ الْجَنِينِ حَاصِلَةً شَرْعًا بِتَحْصِيلِ ذَكَاةِ أُمِّهِ، أَجَابَ الْحَنَفِيُّونَ بِأَنَّ قَوْلَهُ ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ، يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ ذَكَاةَ أُمِّهِ ذَكَاةٌ لَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ إِيجَابَ تَذْكِيَتِهِ كَمَا تُذَكَّى أُمُّهُ، وَأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران: 133] ومعناه كعرض السموات والأرض، كقول الْقَائِلِ: قَوْلِي قَوْلُكَ، وَمَذْهَبِي مَذْهَبُكَ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: قَوْلِي كَقَوْلِكَ، وَمَذْهَبِي كَمَذْهَبِكَ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

فَعَيْنَاكِ عَيْنَاهَا ... وَجِيدُكِ جِيدُهَا وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا كَانَ أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ إِيجَابَ تَذْكِيَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ غَيْرُ مُذَكًّى فِي نَفْسِهِ، وَالْآخَرُ أَنَّ ذَكَاةَ أُمِّهِ تُبِيحُ أَكْلَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُ الْأَمْرِ بَلْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَى الْمُوَافِقِ لِلْآيَةِ، أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ عَلَى الِاحْتِمَالِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِضْمَارٍ وَهُوَ أَنَّ ذَكَاةَ الْجَنِينِ كَذَكَاةِ أُمِّهِ، وَالْإِضْمَارُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَا يُسَمَّى جَنِينًا إِلَّا حَالَ كَوْنِهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَمَتَى وُلِدَ لَا يُسَمَّى جَنِينًا، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا أَثْبَتَ لَهُ الذَّكَاةَ حَالَ كَوْنِهِ جَنِينًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مُذَكًّى بِذَكَاتِهَا وَثَالِثُهَا: أَنَّ حَمْلَ الْخَبَرِ عَلَى مَا ذَكَرْتَ مِنْ إِيجَابِ ذَكَاتِهِ إِذَا خَرَجَ حَيًّا تَسْقُطُ فَائِدَتُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ قَبْلَ وُرُودِهِ وَرَابِعُهَا: مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَنِ الْجَنِينِ يَخْرُجُ مَيِّتًا، قَالَ: إِنْ شِئْتُمْ فَكُلُوهُ، فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فمن وجوه أحدهما: أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ مَنْ ضُرِبَ بَطْنُ امرأته فماتت وألقيت جَنِينًا مَيِّتًا، لَمْ يَنْفَرِدِ الْجَنِينُ بِحُكْمِ نَفْسِهِ، وَلَوْ خَرَجَ الْوَلَدُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ انْفَرَدَ بِحُكْمِ نَفْسِهِ دُونَ أُمِّهِ فِي إِيجَابِ الْغِرَّةِ، فَكَذَلِكَ جَنَيْنُ الْحَيَوَانِ إِذَا مَاتَ عَنْ ذَبْحِ أَمِّهِ وَخَرَجَ مَيِّتًا، كَانَ تَبَعًا لِلْأُمِّ فِي الذَّكَاةِ، وَإِذَا خَرَجَ حَيًّا لَمْ يُؤْكَلْ حَتَّى يُذَكَّى وَثَانِيهَا: أَنَّ الْجَنِينَ حَالَ اتِّصَالِهِ بِالْأُمِّ فِي حُكْمِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَحِلَّ بِذَكَاتِهَا كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَثَالِثُهَا: الْوَاجِبُ فِي الْوَلَدِ أَنْ يَتْبَعَ الْأُمَّ فِي الذَّكَاةِ، كَمَا يَتْبَعُ الْوَلَدُ الْأُمَّ فِي الْعَتَاقِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالْكِتَابَةِ وَنَحْوِهَا. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: مَا قُطِعَ مِنَ الْحَيِّ مِنَ الْأَبْعَاضِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ مَيْتَةٌ، لِلنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ» وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ كَانَ حَيًّا لِأَنَّهُ يُدْرِكُ الْأَلَمَ وَاللَّذَّةَ، وَبِالْقَطْعِ زَالَ ذَلِكَ الْوَصْفُ فَصَارَ مَيِّتًا، فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَةِ: 3] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَبْحَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ هَلْ يَسْتَعْقِبُ طَهَارَةَ الْجِلْدِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَا يَسْتَعْقِبُهُ، لِأَنَّ هَذَا الذَّبْحَ لَا يَسْتَعْقِبُ حِلَّ الْأَكْلِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَعْقِبَ الطَّهَارَةَ كَذَبْحِ الْمَجُوسِيِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَسْتَعْقِبُهُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مِمَّا دَخَلَ فِي الْآيَةِ وَلَيْسَ مِنْهَا، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ مَا مَاتَ فِيهِ مِنَ الْمَائِعَاتِ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ عَيْنِ الْمَيْتَةِ، وَمَا جَاوَرَ الْمَيْتَةَ فَلَا يُسَمَّى مَيْتَةً، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ التَّحْرِيمِ، كَالسَّمْنِ إِذَا وَقَعَتْ فيه فأوة وَمَاتَتْ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهَا، هَذَا الظَّاهِرُ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ تَدُورُ عَلَى فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَمَّا الَّذِي يَنْجُسُ بِمُجَاوَرَتِهِ الْمَيْتَةَ فَيَحْرُمُ، وَأَمَّا الَّذِي لَا يَنْجُسُ فَلَا يَحْرُمُ وَالثَّانِي: أَنَّ الَّذِي يَنْجُسُ كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى تَطْهِيرِهِ؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: سَأَلَ عَبْدُ اللَّه بْنُ الْمُبَارَكِ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ طَائِرٍ وَقَعَ فِي قِدْرٍ مَطْبُوخٍ فَمَاتَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِأَصْحَابِهِ: مَا تَرَوْنَ فِيهَا؟ فَذَكَرُوا لَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أن اللحم يؤكل بعد ما يُغْسَلُ وَيُرَاقُ الْمَرَقُ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذَا نَقُولُ عَلَى شَرِيطَةِ إِنْ كَانَ وَقَعَ فِيهَا فِي حَالِ سُكُونِهَا كَمَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ كَانَ وَقَعَ فِي حَالِ غَلَيَانِهَا: لَمْ

الفصل الثاني في تحريم الدم، وفيه مسألتان

يُؤْكَلِ اللَّحْمُ وَلَا الْمَرَقُ، قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: وَلِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ إِذَا سَقَطَ فِيهَا غَلَيَانِهَا فَمَاتَ فَقَدْ دَاخَلَتِ الْمَيْتَةُ اللَّحْمَ، وَإِذَا وقع فيها في حَالَ سُكُونِهَا فَمَاتَ فَإِنَّمَا رَشَّحَتِ الْمَيْتَةُ اللَّحْمَ، قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَعَقَدَ بِيَدِهِ ثَلَاثِينَ: هَذَا زرين، بِالْفَارِسِيَّةِ يَعْنِي الْمَذْهَبَ، وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ مِثْلَ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَبَنُ الشَّاةِ الْمَيْتَةِ وَأَنْفِحَتُهَا طَاهِرَتَانِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ: لَا يَحِلُّ هَذَا اللَّبَنُ وَالْأَنْفِحَةُ، وَقَالَ اللَّيْثُ: لَا تُؤْكَلُ الْبَيْضَةُ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ دَجَاجَةٍ مَيْتَةٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَتَمَسَّكُ فِي هَذِهِ المسألة بظاهر قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3] لِأَنَّ اللَّبَنَ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مَيْتَةٌ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ، وَمُعْتَمَدُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ اللَّبَنَ لَوْ كَانَ مَجْمُوعًا فِي إِنَاءٍ فَسَقَطَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَيْتَةِ يَنْجُسُ فَكَذَلِكَ إِذَا مَاتَتْ وَهُوَ فِي ضَرْعِهَا، وَهَكَذَا الْخِلَافُ فِي الْأَنْفِحَةِ، أَمَّا الْبَيْضُ إِذَا أُخْرِجَ مِنْ جَوْفِ الدَّجَاجِ فَهُوَ طَاهِرٌ إِذَا غُسِلَ، وَيَحِلُّ أَكْلُهُ لِأَنَّ الْقِشْرَةَ إِذَا صَلُبَتْ حَجَزَتْ بَيْنَ الْمَأْكُولِ وَبَيْنَ الْمَيْتَةِ فَتَحِلُّ، وَلِذَلِكَ لَوْ كَانَتِ الْبَيْضَةُ غَيْرَ مُنْعَقِدَةٍ لَحَرُمَتْ. وَلْنَخْتِمْ هَذَا الْفَصْلَ بِمَسَائِلَ مُشْتَرِكَةٍ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي أَنَّ الْمَيْتَةَ هَلْ تَكُونُ مَيْتَةً بِمَعْنَى الْمَوْتِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ الْمَوْتَ بِمَعْنًى مُضَادٍّ لِلْحَيَاةِ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: 2] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَدَمُ الْحَيَاةِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقْبَلَ الْحَيَاةَ وَهَذَا أَقْرَبُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ حُرْمَةَ الْمَيْتَةِ هَلْ تَقْتَضِي نَجَاسَتَهَا، وَالْحَقُّ أَنَّ حُرْمَةَ الِانْتِفَاعِ لَا تقتضي النجاسة، لأن لَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَحْرُمَ الِانْتِفَاعُ بِهَا، وَيَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِمَا جَاوَرَهَا، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ الْمَيْتَةَ نَجِسَةٌ. الْفَصْلُ الثَّانِي فِي تَحْرِيمِ الدَّمِ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَرَّمَ جَمِيعَ الدِّمَاءِ سَوَاءٌ كَانَ مَسْفُوحًا أَوْ غَيْرَ مَسْفُوحٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: دَمُ السَّمَكِ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ تَمَسَّكَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَهَذَا دَمٌ فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ تَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [الْأَنْعَامِ: 145] فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَّا هَذِهِ الْأُمُورَ، فَالدَّمُ الَّذِي لَا يَكُونُ مَسْفُوحًا وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مُحَرَّمًا بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ فَإِذَنْ هَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ وَقَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ عَامٌّ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَحْلِيلِ غَيْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا بَيَّنَ لَهُ إِلَّا تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَحْرِيمَ مَا عَدَاهَا، فَلَعَلَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِتَحْرِيمِ الدَّمِ سَوَاءٌ كَانَ مَسْفُوحًا أَوْ غَيْرَ مَسْفُوحٍ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ الْحُكْمُ بِحُرْمَةِ جَمِيعِ الدِّمَاءِ وَنَجَاسَتِهَا فَتَجِبُ إِزَالَةُ الدَّمِ عَنِ اللَّحْمِ مَا

الفصل الثالث في الخنزير، وفيه مسائل

أمكن، وكذا في المسلك، وَأَيُّ دَمٍ وَقَعَ فِي الْمَاءِ وَالثَّوْبِ فَإِنَّهُ يُنَجِّسُ ذَلِكَ الْمَوْرُودَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ الطِّحَالُ وَالْكَبِدُ» هَلْ يُطْلَقُ اسْمُ الدَّمِ عَلَيْهِمَا فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً صَحِيحًا أَمْ لَا؟ فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْكَبِدَ يَجْرِي مَجْرَى اللَّحْمِ وَكَذَا الطِّحَالُ وَإِنَّمَا يُوصَفَانِ بِذَلِكَ تَشْبِيهًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ كَالدَّمِ الْجَامِدِ وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي الْخِنْزِيرِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْخِنْزِيرَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُحَرَّمٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَحْمَهُ لِأَنَّ مُعْظَمَ الِانْتِفَاعِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وهو كَقَوْلِهِ: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الْجُمُعَةِ: 9] فَخُصَّ الْبَيْعُ بِالنَّهْيِ لَمَّا كَانَ هُوَ أَعْظَمَ الْمُهِمَّاتِ عِنْدَهُمْ، أَمَّا شَعْرُ الْخِنْزِيرِ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَتَنْجِيسِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِلْخَرَزِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أكره الخزر بِهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ الْإِبَاحَةُ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّا نَرَى الْمُسْلِمِينَ يُقِرُّونَ الْأَسَاكِفَةَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ مِنْ/ غَيْرِ نَكِيرٍ ظَهَرَ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إِلَيْهِ، وَإِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي دَمِ الْبَرَاغِيثِ، إِنَّهُ لَا يُنَجِّسُ الثَّوْبَ لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ فَهَلَّا جَازَ مِثْلُهُ فِي شَعْرِ الْخِنْزِيرِ إِذَا خُرِزَ بِهِ؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي خِنْزِيرِ الْمَاءِ، قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ شَيْءٍ يَكُونُ فِي الْبَحْرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا يُؤْكَلُ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ [الْمَائِدَةِ: 96] وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا خِنْزِيرٌ فَيَحْرُمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [الْمَائِدَةِ: 3] وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْخِنْزِيرُ إِذَا أُطْلِقَ فَإِنَّهُ يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ خِنْزِيرُ الْبَرِّ لَا خِنْزِيرُ الْبَحْرِ، كَمَا أَنَّ اللَّحْمَ إِذَا أُطْلِقَ يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ لَحْمُ غَيْرِ السَّمَكِ لَا لَحْمُ السَّمَكِ بِالِاتِّفَاقِ وَلِأَنَّ خِنْزِيرَ الْمَاءِ لَا يُسَمَّى خِنْزِيرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ يُسَمَّى خِنْزِيرَ الْمَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلَانِ: فِي أَنَّهُ هَلْ يُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْ وَلْغِ الْخِنْزِيرِ سَبْعًا؟ أَحَدُهَا: نَعَمْ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْكَلْبِ وَالثَّانِي: لَا لِأَنَّ ذَلِكَ التَّشْدِيدَ إِنَّمَا كَانَ فَطْمًا لَهُمْ عَنْ مُخَالَطَةِ الْكِلَابِ وَهُمْ مَا كَانُوا يُخَالِطُونَ الْخِنْزِيرَ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي تَحْرِيمِ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ مِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ ذَبَائِحُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ كَانُوا يَذْبَحُونَ لِأَوْثَانِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [الْمَائِدَةِ: 3] وَأَجَازُوا ذَبِيحَةَ النَّصْرَانِيِّ إِذَا سَمَّى عَلَيْهَا بِاسْمِ الْمَسِيحِ، وَهُوَ مذهب عطاء

الفصل الخامس القائلون بأن كلمة"إنما" للحصر

وَمَكْحُولٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ لَا يَحِلُّ ذَلِكَ وَالْحُجَّةُ فِيهِ أَنَّهُمْ إِذَا ذَبَحُوا عَلَى اسْمِ الْمَسِيحِ فَقَدْ أَهَلُّوا بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُهِلُّونَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَلَا تَأْكُلُوا وَإِذَا لَمْ تَسْمَعُوهُمْ فَكُلُوا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحَلَّ ذَبَائِحَهُمْ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا يَقُولُونَ، وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ [الْمَائِدَةِ: 5] وَهَذَا عَامٌّ، الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّصْرَانِيَّ إِذَا سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ الْمَسِيحَ فَإِذَا كَانَتْ إِرَادَتُهُ لِذَلِكَ لَمْ تَمْنَعْ حِلَّ ذَبِيحَتِهِ مَعَ أَنَّهُ يُهِلُّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ إِذَا أَظْهَرَ مَا يُضْمِرُهُ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ الْمَسِيحَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ عَامٌّ وَقَوْلَهُ: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ خَاصٌّ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ قَوْلِهِ: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ لِأَنَّهُمَا آيَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا وَعَنِ/ الثَّالِثِ: أَنَّا إِنَّمَا كَلَّفَنَا بِالظَّاهِرِ لَا بِالْبَاطِنِ، فَإِذَا ذَبَحَهُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ وَجَبَ أَنْ يَحِلَّ، وَلَا سَبِيلَ لَنَا إِلَى الْبَاطِنِ. الْفَصْلُ الْخَامِسُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ كَلِمَةَ «إِنَّمَا» لِلْحَصْرِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُحَرِّمُ سِوَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَكِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ فِي الشَّرْعِ أَشْيَاءَ أُخَرَ سِوَاهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ فَتَصِيرُ كَلِمَةُ «إِنَّمَا» مَتْرُوكَةَ الظَّاهِرِ فِي الْعَمَلِ وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا لَا تُفِيدُ الْحَصْرَ فَالْإِشْكَالُ زَائِلٌ. الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي «الْمُضْطَرِّ» وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ كَانَ مُضْطَرًّا وَلَا يَكُونُ مَوْصُوفًا بِصِفَةِ الْبَغْيِ، وَلَا بِصِفَةِ الْعُدْوَانِ الْبَتَّةَ فَأَكَلَ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مَعْنَاهُ فَمَنِ اضْطُرَّ فَأَكَلَ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فِي الْأَكْلِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فَخَصَّصَ صِفَةَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ بِالْأَكْلِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ هَلْ يَتَرَخَّصُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَتَرَخَّصُ لِأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْعُدْوَانِ فَلَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ الْآيَةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بَلْ يَتَرَخَّصُ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فِي الْأَكْلِ فَيَنْدَرِجُ تَحْتَ الْآيَةِ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى قَوْلِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى الْكُلِّ بِقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [الْمَائِدَةِ: 3] ثُمَّ أَبَاحَهَا لِلْمُضْطَرِّ الَّذِي يَكُونُ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ غَيْرُ بَاغٍ وَلَا عَادٍ، وَالْعَاصِي بِسَفَرِهِ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّ قولنا: فلان ليس بمعتد نَقِيضٌ لِقَوْلِنَا: فُلَانٌ مُتَعَدٍّ وَيَكْفِي فِي صِدْقِهِ كَوْنُهُ مُتَعَدِّيًا فِي أَمْرٍ مَا مِنَ الْأُمُورِ سَوَاءٌ كَانَ فِي السَّفَرِ، أَوْ فِي الْأَكْلِ، أَوْ فِي غَيْرِهِمَا، وَإِذَا كَانَ اسْمُ

الْمُتَعَدِّي يَصْدُقُ بِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا فِي أَمْرٍ مَا أَيَّ أَمْرٍ كَانَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُنَا: فلان غير معتدلا يَصْدُقُ إِلَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْبَتَّةَ، فَإِذَنْ قَوْلُنَا: غَيْرُ بَاغٍ وَلَا عَادٍ لَا يَصْدُقُ إِلَّا إِذَا انْتَفَى عَنْهُ صِفَةُ التَّعَدِّي مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَالْعَاصِي بِسَفَرِهِ مُتَعَدٍّ بِسَفَرِهِ، فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ كَوْنُهُ غَيْرَ عَادٍ، وَإِذَا لَمْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَجَبَ بَقَاؤُهُ تَحْتَ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا يُشْكِلُ بِالْعَاصِي فِي سَفَرِهِ، فَإِنَّهُ يَتَرَخَّصُ مَعَ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْعُدْوَانِ لَكِنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ عَامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أَنَّ الرُّخْصَةَ إِعَانَةٌ عَلَى السَّفَرِ فَإِذَا كَانَ السَّفَرُ مَعْصِيَةً كَانَتِ الرُّخْصَةُ إِعَانَةً عَلَى الْمَعْصِيَةِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ السَّفَرُ فِي نَفْسِهِ مَعْصِيَةً لَمْ تَكُنِ الْإِعَانَةُ عَلَيْهِ إِعَانَةً عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ وَأَبَا بَكْرٍ/ الرَّازِيَّ نَقَلَا عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ أَيْ بَاغٍ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا عَادٍ بِأَنْ لَا يَكُونُ سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ، ثُمَّ قَالَا. تَفْسِيرُ الْآيَةِ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فِي الْأَكْلِ أَوْلَى مِمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ شَرْطٌ وَالشَّرْطُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي أَنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِمَذْكُورٍ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا مَذْكُورَ إِلَّا الْأَكْلُ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ فَمَنِ اضْطُرَّ فَأَكَلَ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالْأَكْلِ الَّذِي هُوَ فِي حُكْمِ الْمَذْكُورِ دُونَ السَّفَرِ الَّذِي هُوَ الْبَتَّةَ غَيْرُ مَذْكُورٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ لَا يَصْدُقُ إِلَّا إِذَا انْتَفَى عَنْهُ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ نَفْيُ الْعُدْوَانِ بِالسَّفَرِ ضِمْنًا، وَلَا نَقُولُ: اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى التَّعْيِينِ وَأَمَّا تَخْصِيصُهُ بِالْأَكْلِ فَهُوَ تَخْصِيصٌ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَكَانَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى الْأَكْلِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ حَالٌ مِنَ الِاضْطِرَارِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ وَصْفُ الِاضْطِرَارِ بَاقِيًا مَعَ بَقَاءِ كَوْنِهِ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ كَوْنَهُ كَذَلِكَ فِي الْأَكْلِ لَاسْتَحَالَ أَنْ يَبْقَى وَصْفُ الِاضْطِرَارَ مَعَهُ لِأَنَّ حَالَ الْأَكْلِ لا يبق وَصْفَ الِاضْطِرَارِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْفِرُ بِطَبْعِهِ عَنْ تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَاجَةٌ إِلَى النَّهْيِ عَنْهُ فَصَرْفُ هَذَا الشَّرْطِ إِلَى التَّعَدِّي فِي الْأَكْلِ يُخْرِجُ الْكَلَامِ عَنِ الْفَائِدَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ كَوْنَهُ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ يُفِيدُ نَفْيَ مَاهِيَّةِ الْبَغْيِ وَنَفْيَ مَاهِيَّةِ الْعُدْوَانِ، وَهَذِهِ الْمَاهِيَّةُ إِنَّمَا تَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَاءِ جَمِيعِ أَفْرَادِهَا وَالْعُدْوَانُ فِي الْأَكْلِ أَحَدُ أَفْرَادِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ وَكَذَا الْعُدْوَانُ فِي السَّفَرِ فَرْدٌ آخَرُ مِنْ أَفْرَادِهَا فَإِذَنْ نَفْيُ الْعُدْوَانِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْعُدْوَانِ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْجِهَاتِ فَكَانَ تَخْصِيصُهُ بِالْأَكْلِ غَيْرَ جَائِزٍ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يُخَصِّصُهُ بِنَفْيِ الْعُدْوَانِ فِي السَّفَرِ بَلْ يَحْمِلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ نَفْيُ الْعُدْوَانِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَيَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْعُدْوَانِ فِي السَّفَرِ وَحِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ مَقْصُودُهُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الِاحْتِمَالَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مُتَأَيِّدٌ بِآيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ [الْمَائِدَةِ: 3] وَهُوَ الَّذِي قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الْأَنْعَامِ: 119] وَهَذَا الشَّخْصُ مُضْطَرٌّ فَوَجَبَ أَنْ يَتَرَخَّصَ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [النِّسَاءِ: 29] وَقَالَ: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [الْبَقَرَةِ: 195] وَالِامْتِنَاعُ مِنَ الْأَكْلِ سَعْيٌ فِي قَتْلِ النَّفْسِ وَإِلْقَاءِ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ وَثَالِثُهَا: رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَخَّصَ لِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً،

وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا وَلَمْ يُفَرِّقْ فِيهِ بَيْنَ الْعَاصِي وَالْمُطِيعِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ إِذَا كَانَ نَائِمًا فَأَشْرَفَ عَلَى غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ يَجِبُ عَلَى الْحَاضِرِ الَّذِي يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ أَنَّ يَقْطَعَ صَلَاتَهُ لِإِنْجَائِهِ مِنَ الْغَرَقِ أَوِ الْحَرْقِ فَلَأَنْ/ يَجِبَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنْ يَسْعَى فِي إِنْقَاذِ الْمُهْجَةِ أَوْلَى وَخَامِسُهَا: أَنْ يَدْفَعَ أَسْبَابَ الْهَلَاكِ، كَالْفِيلِ، وَالْجَمَلِ الصَّئُولِ، وَالْحَيَّةِ، وَالْعَقْرَبِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ، فَكَذَا هاهنا وَسَادِسُهَا: أَنَّ الْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ إِذَا اضْطُرَّ فَلَوْ أَبَاحَ لَهُ رَجُلٌ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فَإِنَّهُ يُحِلُّ لَهُ ذَلِكَ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ فَكَذَا هاهنا وَالْجَامِعُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ وَسَابِعُهَا: أَنَّ الْمُؤْنَةَ فِي دَفْعِ ضَرَرِ النَّاسِ أَعْظَمُ فِي الْوُجُوبِ مِنْ كُلِّ مَا يَدْفَعُ الْمَرْءَ مِنَ الْمَضَارِّ عَنْ نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ يَدْفَعُ ضَرَرَ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ بِهَذَا الْأَكْلِ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا، وَثَامِنُهَا: أَنَّ الضَّرُورَةَ تُبِيحُ تَنَاوُلَ طَعَامِ الْغَيْرِ مِنْ دُونِ الرِّضَا بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ، وهذا التناول محرم لولا الاضطرار فكذا هاهنا أَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْعُمُومَاتِ بِأَنَّ دَلِيلَنَا النَّافِيَ لِلتَّرَخُّصِ أَخَصُّ مِنْ دَلَائِلِهِمُ الْمُرَخِّصَةِ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، وَعَنِ الْوُجُوهِ الْقِيَاسِيَّةِ بِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إِلَى اسْتِبَاحَةِ هَذِهِ الرُّخَصِ بِالتَّوْبَةِ وَإِذَا لَمْ يَتُبْ فَهُوَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ عَارَضَ هَذِهِ الْوُجُوهَ بِوَجْهٍ قَوِيٍّ وَهُوَ أَنَّ الرُّخْصَةَ إِعَانَةٌ عَلَى السَّفَرِ فَإِذَا كَانَ السَّفَرُ مَعْصِيَةً كَانَتِ الرُّخْصَةُ إِعَانَةً عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ مَمْنُوعٌ مِنْهَا وَالْإِعَانَةُ سَعْيٌ فِي تَحْصِيلِهَا وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَنَاقِضٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا يَأْكُلُ الْمُضْطَرُّ مِنَ الْمَيْتَةِ إِلَّا قَدْرَ مَا يُمْسِكُ رَمَقَهُ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ: يَأْكُلُ مِنْهَا مَا يَسُدُّ جُوعَهُ، وَعَنْ مَالِكٍ: يَأْكُلُ مِنْهَا حَتَّى يَشْبَعَ وَيَتَزَوَّدَ، فَإِنْ وَجَدَ غِنًى عَنْهَا طَرَحَهَا، وَالْأَقْرَبُ في دلالة الآية ما ذكرناه أو لا لِأَنَّ سَبَبَ الرُّخْصَةِ إِذَا كَانَ الْإِلْجَاءَ فَمَتَى ارْتَفَعَ الْإِلْجَاءُ ارْتَفَعَتِ الرُّخْصَةُ، كَمَا لَوْ وَجَدَ الْحَلَالَ لَمْ يَجُزْ لَهُ تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ لِارْتِفَاعِ الْإِلْجَاءِ إِلَى أَكْلِهَا لِوُجُودِ الْحَلَالِ، فَكَذَلِكَ إِذَا زَالَ الِاضْطِرَارُ بِأَكْلِ قَدْرٍ مِنْهُ فَالزَّائِدُ مُحَرَّمٌ، وَلَا اعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ بِسَدِّ الْجَوْعَةِ عَلَى مَا قَالَهُ الْعَنْبَرِيُّ، لِأَنَّ الْجَوْعَةَ فِي الِابْتِدَاءِ لَا تُبِيحُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ إِذَا لَمْ يَخَفْ ضررًا بتركه، فكذا هاهنا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الطَّعَامِ مِقْدَارُ مَا إِذَا أَكَلَهُ أَمْسَكَ رَمَقَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمَيْتَةَ، فَإِذَا أَكَلَ ذَلِكَ الطَّعَامَ وَزَالَ خَوْفُ التَّلَفِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ، فَكَذَا إِذَا أَكَلَ مِنَ الْمَيْتَةِ مَا زَالَ مَعَهُ خَوْفُ الضَّرَرِ وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ الْأَكْلُ بَعْدَ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُضْطَرِّ إِذَا وَجَدَ كُلَّ مَا يُعَدُّ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، فَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ خَيَّرُوهُ بَيْنَ الْكُلِّ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ سَوَاءٌ فِي التَّحْرِيمِ وَالِاضْطِرَارِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا فِي الْكُلِّ وَهَذَا هُوَ الْأَلْيَقُ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ أولى من قول من أوجب أن يتناول الْمَيْتَةَ دُونَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَعْظَمُ شَأْنًا فِي التَّحْرِيمِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُضْطَرِّ إِلَى الشُّرْبِ إِذَا وَجَدَ خَمْرًا، أَوْ مَنْ غُصَّ بِلُقْمَةٍ فَلَمْ يَجِدْ مَاءً يُسِيغُهُ وَوَجَدَ الْخَمْرَ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَبَاحَهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَبَاحَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ إِبْقَاءً لِلنَّفْسِ وَدَفْعًا لِلْهَلَاكِ عَنْهَا، فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى الظَّاهِرِ، / وَالْقِيَاسُ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَشْرَبُ لِأَنَّهُ يَزِيدُهُ عَطَشًا وَجُوعًا وَيُذْهِبُ عَقْلَهُ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَزِيدُهُ إِلَّا عَطَشًا وَجُوعًا مُكَابَرَةٌ، وَقَوْلُهُ: يُزِيلُ الْعَقْلَ فَكَلَامُنَا فِي الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يَكُونُ كَذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا إِذَا كَانَتِ الْمَيْتَةُ يُحْتَاجُ إِلَى تَنَاوُلِهَا لِلْعِلَاجِ إِمَّا بِانْفِرَادِهَا أَوْ بِوُقُوعِهَا فِي بعض

[سورة البقرة (2) : آية 174]

الْأَدْوِيَةِ الْمُرَكَّبَةِ، فَأَبَاحَهُ بَعْضُهُمْ لِلنَّصِّ وَالْمَعْنَى، أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ أَنَّهُ أَبَاحَ لِلْعُرَنِيِّينَ شُرْبَ أَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا لِلتَّدَاوِي، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَمِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ التِّرْيَاقَ الَّذِي جَعَلَ فِيهِ لُحُومَ الْأَفَاعِي مُسْتَطَابٌ فَوَجَبَ أَنْ يَحِلَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [الْمَائِدَةِ: 4] غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ وَلَكِنْ لَا يُقْدَحُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً الثَّانِي: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمَّا عَفَا عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنَ النَّجَاسَةِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، وَالشَّافِعِيُّ عَفَا عَنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ لِلْحَاجَةِ فَلِمَ لَا يَحْكُمَانِ بِالْعَفْوِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِلْحَاجَةِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ أكل الميتة لمصلحة النفس فكذا هاهنا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَرَّمَهُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ» وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذَا الْخَبَرِ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ تَنَاوُلُهُ، وَالنِّزَاعُ لَيْسَ إِلَّا فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ التَّدَاوِي إِنِ انْتَهَتْ إِلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ، فَإِنْ لَمْ تَنْتَهِ إِلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الخامسة: [سورة البقرة (2) : آية 174] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) الحكم الثاني اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ، وَمَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ، وَحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَأَبِي يَاسِرِ بْنِ أَخْطَبَ، كَانُوا يَأْخُذُونَ/ مِنْ أَتْبَاعِهِمُ الْهَدَايَا، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَافُوا انْقِطَاعَ تِلْكَ الْمَنَافِعِ، فَكَتَمُوا أَمْرَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَمْرَ شَرَائِعِهِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُمْ أَيَّ شَيْءٍ كَانُوا يَكْتُمُونَ؟ فَقِيلَ: كَانُوا يَكْتُمُونَ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتَهُ وَالْبِشَارَةَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالْأَصَمِّ وَأَبِي مُسْلِمٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ: كَتَمُوا الْأَحْكَامَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 34] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْكِتْمَانِ، فَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا مُحَرِّفِينَ يُحَرِّفُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَعِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ هَذَا مُمْتَنِعٌ، لِأَنَّهُمَا كَانَا كِتَابَيْنِ بَلَغَا فِي الشُّهْرَةِ وَالتَّوَاتُرِ إِلَى حَيْثُ يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ فِيهِمَا، بَلْ كَانُوا يَكْتُمُونَ التَّأْوِيلَ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعْرِفُ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانُوا يَذْكُرُونَ لَهَا تَأْوِيلَاتٍ بَاطِلَةً، وَيَصْرِفُونَهَا عَنْ مَحَامِلِهَا الصَّحِيحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَهَذَا هو المراد من الكتمان، فيصير المعنى: إن الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَعَانِيَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكِنَايَةُ فِي: بِهِ، يَجُوزُ أَنْ تَعُودَ إِلَى الْكِتْمَانِ وَالْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى الْمَكْتُومِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا كَقَوْلِهِ: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [الْبَقَرَةِ: 41] وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ فَكَانَ غَرَضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْكِتْمَانِ: أَخْذَ الْأَمْوَالِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنِ اشْتِرَائِهِمْ بِذَلِكَ ثَمَنًا قَلِيلًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا سَمَّاهُ قَلِيلًا إِمَّا لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ قَلِيلٌ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ قَلِيلٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: كَانَ غَرَضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْكِتْمَانِ أَخْذَ الْأَمْوَالِ مِنْ عَوَامِّهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ غَرَضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَخْذَهُمُ الْأَمْوَالَ مِنْ كُبَرَائِهِمْ وَأَغْنِيَائِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا نَاصِرِينَ لِذَلِكَ الْمَذْهَبِ، وَلَيْسَ فِي الظَّاهِرِ أَكْثَرُ مِنِ اشْتِرَائِهِمْ بِذَلِكَ الْكِتْمَانِ الثَّمَنَ الْقَلِيلَ، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ مَنْ طَمِعُوا فِيهِ وَأَخَذُوا مِنْهُ، فَالْكَلَامُ مُجْمَلٌ وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ الطَّمَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى مَنْ يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ الْجَهْلُ، وَقِلَّةُ الْمَعْرِفَةِ الْمُتَمَكِّنُ مِنَ الْمَالِ وَالشُّحُّ عَلَى الْمَأْلُوفِ فِي الدِّينِ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ مَا يَلْتَمِسُ مِنْهُ فَهَذَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْحِكَايَةَ عَنْهُمْ ذَكَرَ الْوَعِيدَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بعضهم: ذكر البطن هاهنا زِيَادَةُ بَيَانٍ لِأَنَّهُ يُقَالُ أَكَلَ فُلَانٌ الْمَالَ إِذَا بَدَرَهُ وَأَفْسَدَهُ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ فِيهِ فَائِدَةٌ فَقَوْلُهُ: فِي بُطُونِهِمْ أَيْ مِلْءَ بُطُونِهِمْ يُقَالُ: أَكَلَ فُلَانٌ فِي بَطْنِهِ وَأَكَلَ فِي بَعْضِ بَطْنِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قِيلَ: إِنَّ أَكْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ طَيِّبًا فِي الْحَالِ فَعَاقِبَتُهُ النَّارُ فَوُصِفَ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النِّسَاءِ: 10] عَنِ الْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَكَلَ مَا يُوجِبُ النَّارَ فَكَأَنَّهُ أَكَلَ النَّارَ، كَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ «الشَّارِبُ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» وَقَوْلُهُ: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يُوسُفَ: 36] أي عنباً فسماه باسم ما يؤول إِلَيْهِ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ يَأْكُلُونَ النَّارَ لأكلهم في الدنيا الحرام عن الأصم وثانيها: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ فَظَاهِرُهُ: أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ أَصْلًا لَكِنَّهُ لَمَّا أَوْرَدَهُ مَوْرِدَ الْوَعِيدِ فُهِمَ مِنْهُ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعُقُوبَةِ لَهُمْ، وَذَكَرُوا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَدْ دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يكلمهم، وذلك قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92، 93] وقوله: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الْأَعْرَافِ: 6] فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَسْأَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، وَالسُّؤَالُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِكَلَامٍ فَقَالُوا: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُكَلِّمُهُمْ بِتَحِيَّةٍ وَسَلَامٍ وَإِنَّمَا يُكَلِّمُهُمْ بِمَا يَعْظَمُ عِنْدَهُ مِنَ الْغَمِّ وَالْحَسْرَةِ من المناقشة والمساءلة وبقوله: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 108] الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لا يكلمهم وأما قوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الْحِجْرِ: 92] فَالسُّؤَالُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِأَمْرِهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا كَانَ عَدَمُ تَكْلِيمِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَذْكُورًا فِي مَعْرِضِ التَّهْدِيدِ لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يُكَلِّمُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ كُلَّ الْخَلَائِقِ بِلَا وَاسِطَةٍ فَيَظْهَرُ عِنْدَ كَلَامِهِ السُّرُورُ فِي أَوْلِيَائِهِ، وَضِدُّهُ فِي أَعْدَائِهِ، وَيَتَمَيَّزُ أَهْلُ الْجَنَّةِ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلَا جَرَمَ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْوَعِيدِ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اسْتِعَارَةٌ عَنِ الْغَضَبِ لِأَنَّ عَادَةَ الْمُلُوكِ أَنَّهُمْ عِنْدَ الْغَضَبِ يُعْرِضُونَ عَنِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ وَلَا يُكَلِّمُونَهُ كَمَا أَنَّهُمْ عِنْدَ الرِّضَا يُقْبِلُونَ عَلَيْهِ بِالْوَجْهِ وَالْحَدِيثِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَلا يُزَكِّيهِمْ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: لَا يَنْسُبُهُمْ إِلَى التَّزْكِيَةِ وَلَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ الثاني: لا

[سورة البقرة (2) : آية 175]

يَقْبَلُ أَعْمَالَهُمْ كَمَا يَقْبَلُ أَعْمَالَ الْأَزْكِيَاءِ الثَّالِثُ: لَا يُنْزِلُهُمْ مَنَازِلَ الْأَزْكِيَاءِ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَعِيلَ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ كَالسَّمِيعِ بِمَعْنَى السَّامِعِ وَالْعَلِيمَ بِمَعْنَى الْعَالِمِ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْجَرِيحِ وَالْقَتِيلِ بِمَعْنَى الْمَجْرُوحِ وَالْمَقْتُولِ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمُفْعِلِ كَالْبَصِيرِ بِمَعْنَى الْمُبْصِرِ وَالْأَلِيمِ بِمَعْنَى الْمُؤْلِمِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُصُولِ قَالُوا: الْعِقَابُ هُوَ الْمَضَرَّةُ الْخَالِصَةُ الْمَقْرُونَةُ بِالْإِهَانَةِ فَقَوْلُهُ: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يُزَكِّيهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِهَانَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ، وَقَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَضَرَّةِ وَقَدَّمَ الْإِهَانَةَ عَلَى الْمَضَرَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْإِهَانَةَ أَشَقُّ وَأَصْعَبُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْكِتْمَانِ لِكُلِّ عِلْمٍ فِي بَابِ الدِّينِ يَجِبُ إِظْهَارُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ فَالْآيَةُ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ لَكِنَّهَا عَامَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ بَابِ الدِّينِ يَجِبُ إِظْهَارُهُ فَتَصْلُحُ لِأَنْ يَتَمَسَّكُ بِهَا الْقَاطِعُونَ بِوَعِيدِ أَصْحَابِ الكبائر والله اعلم. [سورة البقرة (2) : آية 175] أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ بِكِتْمَانِ الْحَقِّ وَعَظَّمَ فِي الْوَعِيدِ عَلَيْهِ، وَصَفَ ذَلِكَ الْجُرْمِ لِيُعْلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْعِقَابَ إِنَّمَا عَظُمَ لِهَذَا الْجُرْمِ الْعَظِيمِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْفِعْلَ إِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُهُ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَأَحْسَنُ الْأَشْيَاءِ الِاهْتِدَاءُ وَالْعِلْمُ وَأَقْبَحُ الْأَشْيَاءِ الضَّلَالُ وَالْجَهْلُ فَلَمَّا تَرَكُوا الْهُدَى وَالْعِلْمَ فِي الدُّنْيَا، وَرَضُوا بِالضَّلَالِ وَالْجَهْلِ، فَلَا شَكَّ أنهم في نهاية الخيانة فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَأَحْسَنُ الْأَشْيَاءِ الْمَغْفِرَةُ، وَأَخْسَرُهَا الْعَذَابُ، فَلَمَّا تَرَكُوا الْمَغْفِرَةَ وَرَضُوا بِالْعَذَابِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ فِي نِهَايَةِ الْخَسَارَةِ فِي الْآخِرَةِ وَإِذَا كَانَتْ صِفَتُهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، كَانُوا لَا مَحَالَةَ أَعْظَمَ النَّاسِ خَسَارًا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا حَكَمَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمُ اشْتَرَوُا الْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا عَالِمِينَ بِمَا هُوَ الْحَقُّ، وَكَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ فِي إِظْهَارِهِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ عَنْهُ أَعْظَمَ الثواب، وفي إخفائه وإلقائه الشُّبْهَةِ فِيهِ أَعْظَمَ الْعِقَابِ، فَلَمَّا أَقْدَمُوا عَلَى إِخْفَاءِ ذَلِكَ الْحَقِّ كَانُوا بَائِعِينَ لِلْمَغْفِرَةِ بِالْعَذَابِ لَا مَحَالَةَ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ في هذه اللفظة قولان أَحَدُهُمَا: أَنَّ «مَا» فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِفْهَامُ التَّوْبِيخِ مَعْنَاهُ: مَا الَّذِي أَصْبَرَهُمْ وَأَيُّ شَيْءٍ صَبَّرَهَمْ عَلَى النَّارِ حَتَّى تَرَكُوا الْحَقَّ وَاتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَابْنِ زَيْدٍ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَقَدْ يَكُونُ أَصْبَرَ بِمَعْنَى صَبَّرَ وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ أَفْعَلَ بِمَعْنَى فَعَّلَ نَحْوُ أَكْرَمَ وَكَرَّمَ، وَأَخْبَرَ وَخَبَّرَ الثَّانِي: أَنَّهُ بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الرَّاضِيَ بِمُوجِبِ الشَّيْءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِمَعْلُولِهِ وَلَازِمِهِ إِذَا عَلِمَ ذَلِكَ اللُّزُومَ فَلَمَّا أَقْدَمُوا عَلَى مَا يُوجِبُ النَّارَ وَيَقْتَضِي عَذَابَ اللَّهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ صَارُوا كَالرَّاضِينَ بِعَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالصَّابِرِينَ عَلَيْهِ، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ وَهُوَ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ يَتَعَرَّضُ لِمَا يُوجِبُ غَضَبَ السُّلْطَانِ مَا أَصْبَرَكَ عَلَى الْقَيْدِ وَالسِّجْنِ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِ: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ عَلَى حَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ/ ذَلِكَ وَصْفٌ لَهُمْ فِي حَالِ التَّكْلِيفِ، وَفِي حَالِ اشْتِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، وَقَالَ الْأَصَمُّ: الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا قِيلَ لهم اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 108] فَهُمْ يَسْكُتُونَ وَيَصْبِرُونَ عَلَى النَّارِ لِلْيَأْسِ

مِنَ الْخَلَاصِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِذَلِكَ فِي الْحَالِ فَصَرَفَهُ إِلَى أَنَّهُمْ سَيَصِيرُونَ كَذَلِكَ خِلَافَ الظَّاهِرِ وَثَانِيهَا: أَنَّ أَهْلَ النَّارِ قَدْ يَقَعُ مِنْهُمُ الْجَزَعُ وَالِاسْتِغَاثَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي حَقِيقَةِ التَّعَجُّبِ وَفِي الألفاظ الدالة عليه في اللغة وهاهنا بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي التَّعَجُّبِ: وَهُوَ اسْتِعْظَامُ الشَّيْءِ مَعَ خَفَاءِ سَبَبِ حُصُولِ عِظَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فَمَا لَمْ يُوجَدِ الْمَعْنَيَانِ لَا يَحْصُلُ التَّعَجُّبُ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لَفْظَةُ التَّعَجُّبِ عِنْدَ مُجَرَّدِ الِاسْتِعْظَامِ مِنْ غَيْرِ خَفَاءِ السَّبَبِ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْعَظَمَةِ سَبَبُ حُصُولٍ، وَلِهَذَا أَنْكَرَ شُرَيْحٌ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ [الصَّافَّاتِ: 12] بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ عَجِبْتُ، فَإِنَّهُ رَأَى أَنَّ خَفَاءَ شَيْءٍ مَا عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ قَالَ النَّخَعِيُّ: مَعْنَى التَّعَجُّبِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُجَرَّدُ الِاسْتِعْظَامِ، وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ الْعِبَادِ لَا بُدَّ مَعَ الِاسْتِعْظَامِ مِنْ خَفَاءِ السَّبَبِ كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ إِضَافَةُ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالْمَكْرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَا بِالْمَعْنَى الَّذِي يُضَافُ إِلَى الْعِبَادِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ لِلتَّعَجُّبِ صِيغَتَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا أَفْعَلَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ وَالثَّانِي: أَفْعِلْ بِهِ كَقَوْلِهِ: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ [مَرْيَمَ: 38] أَمَّا الْعِبَارَةُ الْأُولَى: وَهِيَ قَوْلُهُمْ مَا أَصْبَرَهُ فَفِيهَا مَذَاهِبُ. الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ «مَا» اسْمٌ مُبْهَمٌ يَرْتَفِعُ بِالِابْتِدَاءِ، وَأَحْسَنَ فِعْلٌ وَهُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَزَيْدًا مَفْعُولٌ وَتَقْدِيرُهُ: شَيْءٌ حَسَّنَ زَيْدًا أَيْ صَيَّرَهُ حَسَنًا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ عِنْدَ الكوفيين فاسداً وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ مَا أَكْرَمَ اللَّهَ، وَمَا أَعْظَمَهُ وَمَا أَعْلَمَهُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ صِفَاتِهِ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُقَالَ: شَيْءٌ جَعَلَ اللَّهَ كَرِيمًا وَعَظِيمًا وَعَالِمًا، لِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاجِبَةٌ لِذَاتِهِ فَإِنْ قِيلَ. هَذِهِ اللَّفْظَةُ إِذَا أُطْلِقَتْ فِيمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحُدُوثُ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِعْظَامُ مَعَ خَفَاءِ سَبَبِهِ وَإِذَا أُطْلِقَتْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَحَدَ شَطْرَيْهِ وَهُوَ الِاسْتِعْظَامُ فَحَسْبُ، قُلْنَا: إِذَا قُلْنَا مَا أعظم الله فكلمة «ما» هاهنا لَيْسَتْ بِمَعْنَى شَيْءٍ فَلَا تَكُونُ مُبْتَدَأً، وَلَا يَكُونُ أَعْظَمَ خَبَرًا عَنْهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهِ إِلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي مَقَامِ التَّعَجُّبِ غَيْرُ صَحِيحٍ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِنَا. مَا أَحْسَنَ زَيْدًا شَيْءٌ حَسَّنَ زَيْدًا، لَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَعْنَى التَّعَجُّبِ إِذَا صَرَّحْنَا بِهَذَا الْكَلَامِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّا إِذَا قُلْنَا: شَيْءٌ حَسَّنَ زَيْدًا فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ الْبَتَّةَ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ كَالْهَذَيَانِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ قَوْلِنَا: مَا أَحْسَنَ زَيْدًا بِقَوْلِنَا شَيْءٌ حَسَّنَ زَيْدًا. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الَّذِي حَسَّنَ زَيْدًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْعَالَمَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى ولا يجوز التعبير عنه بما وإن جاز ذلك لكن التعبير عنه سبحانه بمن أَوْلَى، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنَّا لَوْ قُلْنَا مَنْ أَحْسَنَ زَيْدًا أَنْ يَبْقَى مَعْنَى التَّعَجُّبِ، وَلَمَّا لَمْ يَبْقَ عَلِمْنَا فَسَادَ مَا قَالُوهُ. الْحُجَّةُ الرابعة: أن على التفسير الذي قالوه لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: مَا أَحْسَنَ زَيْدًا وَبَيْنَ قَوْلِهِ زَيْدًا ضَرَبَ عَمْرًا فَكَمَا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَعَجُّبٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ كَذَلِكَ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ ثَبَتَتْ لِلشَّيْءِ فَثُبُوتُهَا لَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مَنْ غَيْرِهِ فَإِذَا كَانَ الْمُؤَثِّرُ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَشَيْءٌ صَيَّرَهُ حَسَنًا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ هُوَ نَفْسُهُ أَوْ غَيْرُهُ،

فَإِذَنِ الْعِلْمُ بِأَنَّ شَيْئًا صَيَّرَهُ حَسَنًا عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ وَالْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مُتَعَجَّبًا مِنْهُ غَيْرُ ضَرُورِيٍّ، فَإِذَنْ لَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ قَوْلِنَا: مَا أَحْسَنَ زَيْدًا بِقَوْلِنَا شَيْءٌ حَسَّنَ زَيْدًا. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: الْمُبْتَدَأُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نكرة فكيف جعلوا هاهنا أَشَدَّ الْأَشْيَاءِ تَنْكِيرًا مُبْتَدَأً؟ وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: رَجُلٌ كَاتِبٌ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ فِي الدُّنْيَا رَجُلًا كَاتِبًا فَلَا يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ مُفِيدًا: وَكَذَا كُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ شَيْئًا مَا هُوَ الَّذِي حَسَّنَ زَيْدًا فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا الْإِخْبَارِ؟ الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: دُخُولُ التَّصْغِيرِ الَّذِي هُوَ مِنْ خَاصِّيَّةِ الْأَسْمَاءِ فِي قَوْلِكَ: مَا أَحْسَنَ زَيْدًا، فَإِنْ قِيلَ: جَوَازُ دُخُولِ التَّصْغِيرِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ قَدْ لَزِمَ طَرِيقَةً وَاحِدَةً، فَصَارَ مشابهاً للاسم فأخذ خاصية وَهُوَ التَّصْغِيرُ قُلْنَا: لَا شَكَّ أَنَّ لِلْفِعْلِ مَاهِيَّةً وَلِلتَّصْغِيرِ مَاهِيَّةً فَهَاتَانِ الْمَاهِيَّتَانِ: إِمَّا أَنْ يكونا متنافيتين، أو لا يكون مُتَنَافِيَتَيْنِ فَإِنْ كَانَتَا مُتَنَافِيَتَيْنِ اسْتَحَالَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي كل المواضع فحيث اجتماعهما هاهنا عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِفِعْلٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مُتَنَافِيَتَيْنِ وَجَبَ صِحَّةُ تَطَرُّقِ التَّصْغِيرِ إِلَى كُلِّ الْأَفْعَالِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا فَسَادَ هَذَا الْقِسْمِ. الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: تَصْحِيحُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَإِبْطَالُ إِعْلَالِهِ فَإِنَّكَ تَقُولُ فِي التَّعَجُّبِ: مَا أَقْوَمَ زَيْدًا بِتَصْحِيحِ الْوَاوِ كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ أَقْوَمُ مِنْ عَمْرٍو، وَلَوْ كَانَتْ فِعْلًا لَكَانَتْ وَاوُهُ أَلِفًا لِفَتْحَةِ مَا قَبْلَهَا، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ: أَقَامَ يُقِيمُ فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ اللَّفْظَةُ لَمَّا لَزِمَتْ طَرِيقَةً وَاحِدَةً صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ، وَتَمَامُ التَّقْرِيرِ أَنَّ الْإِعْلَالَ فِي الْأَفْعَالِ مَا كَانَ لِعِلَّةِ كَوْنِهَا فِعْلًا وَلَا التَّصْحِيحَ فِي الْأَسْمَاءِ لِعِلَّةِ الِاسْمِيَّةِ، بَلْ كَانَ الْإِعْلَالُ فِي الْأَفْعَالِ لِطَلَبِ الْخِفَّةِ عِنْدَ وُجُوبِ كَثْرَةِ التَّصَرُّفِ، وَعَدَمُ الْإِعْلَالِ فِي الْأَسْمَاءِ لِعَدَمِ التَّصَرُّفِ وَهَذَا الْفِعْلُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ فِي عِلَّةِ التَّصْحِيحِ وَالِامْتِنَاعِ مِنَ الْإِعْلَالِ قُلْنَا: لَمَّا كَانَ الْإِعْلَالُ فِي الْأَفْعَالِ لِطَلَبِ الْخِفَّةِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ خَفِيفًا ثُمَّ يُتْرُكَ عَلَى خِفَّتِهِ فَإِنَّ هَذَا أَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ. الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّ قَوْلَكَ: أَحْسَنَ لَوْ كَانَ فِعْلًا، وَقَوْلَكَ: زَيْدًا مَفْعُولًا لَجَازَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا/ بِالظَّرْفِ، فَيُقَالُ: مَا أَحْسَنَ عِنْدَكَ زَيْدًا، وَمَا أَجْمَلَ الْيَوْمَ عَبْدَ اللَّهِ، وَالرِّوَايَةُ الظَّاهِرَةُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَبَطَلَ مَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ. الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: أَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ التَّعَجُّبُ بِكُلِّ فِعْلٍ مُتَعَدٍّ مُجَرَّدًا كَانَ أَوْ مَزِيدًا، ثُلَاثِيًّا كَانَ أَوْ رُبَاعِيًّا، وَحَيْثُ لَمْ يَجُزْ إِلَّا مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ دَلَّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ، وَاحْتَجَّ الْبَصْرِيُّونَ عَلَى أَنَّ أَحْسَنَ فِي قَوْلِنَا، مَا أَحْسَنَ زَيْدًا فِعْلٌ بِوُجُوهٍ أَوَّلُهَا: بِأَنَّ أَحْسَنَ فِعْلٌ بِالِاتِّفَاقِ فَنَحْنُ عَلَى فِعْلِيَّتِهِ إِلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ الصَّارِفِ عَنْهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ أَحْسَنَ مَفْتُوحُ الْآخِرِ، وَلَوْ كَانَ اسْمًا لَوَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ إِذَا كَانَ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ وَثَالِثُهَا: الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ فِعْلًا اتِّصَالُ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُكَ: مَا أَحْسَنَهُ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ أَحْسَنَ كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِعْلًا، فَهُوَ أَيْضًا قَدْ يَكُونُ اسْمًا، حِينَ مَا يَكُونُ كَلِمَةَ تَفْضِيلٍ، وَأَيْضًا فَقَدْ دَلَّلْنَا بِالْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا وَأَنْتُمْ مَا طَلَبْتُمُونَا إِلَّا بِالدَّلَالَةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّا سَنَذْكُرُ الْعِلَّةَ فِي لُزُومِ الْفَتْحَةِ لِآخِرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِقَوْلِكَ: لَعَلِّي وَلَيْتَنِي، وَالْعَجَبُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالتَّصْغِيرِ عَلَى الِاسْمِيَّةِ

[سورة البقرة (2) : آية 176]

أَقْوَى مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الضَّمِيرِ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ، فَإِذَا تَرَكْتُمْ ذَلِكَ الدَّلِيلَ الْقَوِيَّ، فَبِأَنْ تَتْرُكُوا هَذَا الضَّعِيفَ أَوْلَى، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْقَوْلِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَخْفَشِ قَالَ: الْقِيَاسُ أَنْ يُجْعَلَ الْمَذْكُورُ بَعْدَ كَلِمَةِ «مَا» وَهُوَ قَوْلُكَ: أَحْسَنَ صِلَةً لِمَا، وَيَكُونُ خَبَرُ «مَا» مُضْمَرًا، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَكْثَرِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ مِنْهَا أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: الَّذِي أَحْسَنَ زَيْدًا لَيْسَ هُوَ بِكَلَامٍ مُنْتَظِمٍ، وَقَوْلُكَ: مَا أَحْسَنَ زَيْدًا كَلَامٌ مُنْتَظِمٌ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي بَقِيَّةِ الْوُجُوهِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ: أَنَّ كَلِمَةَ «مَا» لِلِاسْتِفْهَامِ وَأَفْعَلَ اسْمٌ، وَهُوَ لِلتَّفْضِيلِ، كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ أَحْسَنُ مِنْ عَمْرٍو، وَمَعْنَاهُ أَيُّ شَيْءٍ أَحْسَنُ مِنْ زَيْدٍ فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ تَحْتَهُ إِنْكَارٌ أَنَّهُ وُجِدَ شَيْءٌ أَحْسَنُ مِنْهُ، كَمَا يَقُولُ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ عِلْمِ إِنْسَانٍ فَأَنْكَرَهُ غَيْرُهُ فَيَقُولُ هَذَا الْمُخْبِرُ: وَمَنْ أَعْلَمُ مِنْ فُلَانٍ؟ إِظْهَارًا مِنْهُ مَا يَدَّعِيهِ مُنَازِعُهُ عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ، وَأَنْ لَا يُمْكِنُهُ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَيَظْهَرُ عَجْزُهُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ مُطَالَبَتِي إِيَّاهُ بِالدَّلِيلِ، ثُمَّ قَوْلُكَ أَحْسَنُ وَإِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا كَمَا فِي قَوْلِكَ: مَا أَحْسَنُ زَيْدٍ إِذَا اسْتَفْهَمْتَ عَنْ أَحْسَنِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، إِلَّا أَنَّهُ نُصِبَ لِيَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ الِاسْتِفْهَامِ وَبَيْنَ هَذَا، فَإِنَّ هُنَاكَ مَعْنَى قَوْلِكَ: مَا أَحْسَنُ زَيْدٍ أَيُّ عُضْوٍ مِنْ زَيْدٍ أَحْسَنُ، وَفِي هَذَا مَعْنَاهُ أَيُّ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ فِي الْعَالَمِ أَحْسَنُ مِنْ زَيْدٍ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ كَمَا تَرَى، وَاخْتِلَافُ الْحَرَكَاتِ مَوْضُوعٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعَانِي وَالنَّصْبُ قَوْلُنَا زَيْدًا أَيْضًا لِلْفَرْقِ لِأَنَّهُ هُنَاكَ خَفْضٌ/ لِأَنَّهُ أُضِيفَ أَحْسَنُ إِلَيْهِ، وَنُصِبَ هنا للفرق، وأيضاً ففي كل تفصيل مَعْنَى الْفِعْلِ، وَفِي كُلِّ مَا فُضِّلَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مَعْنَى الْمَفْعُولِ، فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِكَ: زَيْدٌ أَعْلَمُ مِنْ عَمْرٍو، أَنَّ زَيْدًا جَاوَزَ عَمْرًا فِي الْعِلْمِ، فَجُعِلَ هَذَا الْمَعْنَى مُعْتَبَرًا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الْفَرْقِ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ قَالَ إِنَّ «مَا» لِلِاسْتِفْهَامِ وَأَحْسَنُ فِعْلٌ كَمَا يَقُولُهُ الْبَصْرِيُّونَ، مَعْنَاهُ: أَيُّ شَيْءٍ حَسَّنَ زَيْدًا، كَأَنَّكَ تَسْتَدِلُّ بِكَمَالِ هَذَا الْحُسْنِ عَلَى كَمَالِ فَاعِلِ هَذَا الْحُسْنِ، ثُمَّ تَقُولُ: إِنَّ عَقْلِي لَا يُحِيطُ بِكُنْهِ كَمَالِهِ، فَتَسْأَلُ غَيْرَكَ أَنَّ يَشْرَحَ لَكَ كَمَالَهُ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَأَمَّا تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي أَفْعِلْ بِهِ فَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ [مريم: 38] . [سورة البقرة (2) : آية 176] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَاذَا؟ فَذَكَرُوا وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَعِيدِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ عَلَى الَّذِينَ يَكْتُمُونَ الْبَيِّنَاتِ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْوَعِيدَ عَلَى ذَلِكَ الْكِتْمَانِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فِي صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لِأَجْلِ مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ يُخْفُونَهُ وَيُوقِعُونَ الشُّبْهَةَ فِيهِ، فَلَا جَرَمَ اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ، ثُمَّ قَدْ تَقَدَّمَ فِي وَعِيدِهِمْ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ اشْتَرَوُا الْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ وَثَانِيهَا: اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَثَالِثُهَا: أَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَرَابِعُهَا: أَنَّ اللَّهَ لَا يُزَكِّيهِمْ وَخَامِسُهَا: أَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّمُهُمْ فَقَوْلُهُ: ذلِكَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى مجموعها.

الثَّانِي: أَنَّ ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ جَرَاءَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ فِي مُخَالَفَتِهِمْ أَمْرَ اللَّهِ، وَكِتْمَانِهِمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ، وَقَدْ نَزَلَ فِيهِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَا يَنْقَادُونَ، وَلَا يَكُونُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِصْرَارُ عَلَى الْكُفْرِ، كَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَةِ: 6] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ذلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ أَوْ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، أَمَّا فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بِأَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَلَا مَحَالَةَ لَهُ خَبَرٌ، وَذَلِكَ الْخَبَرُ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ ذَلِكَ الْوَعِيدُ/ مَعْلُومٌ لَهُمْ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ، فَبَيَّنَ فِيهِ وَعِيدَ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَكَانَ هَذَا الْوَعِيدُ مَعْلُومًا لَهُمْ لَا مَحَالَةَ الثَّانِي: التَّقْدِيرُ: ذَلِكَ الْعَذَابُ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ وَكَفَرُوا بِهِ فَيَكُونُ الْبَاءُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بِالْخَبَرِيَّةِ، وَأَمَّا فِي مَحَلِّ النَّصْبِ فَلِأَنَّ التَّقْدِيرَ: فَعَلْنَا ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَهُمْ قَدْ حَرَّفُوهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ الْمُشْتَمِلَيْنِ عَلَى بَعْثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقُرْآنَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ الْمَعْنَى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ وَتَحْرِيفِهِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَانَ الْمَعْنَى وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ حَقًّا مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: بِالْحَقِّ أَيْ بِالصِّدْقِ، وَقِيلَ بِبَيَانِ الْحَقِّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا قِيلَ: هُمُ الْكُفَّارُ أَجْمَعُ اخْتَلَفُوا فِي القرآن، والأقرب حمله على التوراة والإنجيل الذين ذُكِرَتِ الْبِشَارَةُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمَا، لِأَنَّ الْقَوْمَ قَدْ عَرَفُوا ذَلِكَ وَكَتَمُوهُ وَحَرَّفُوا تَأْوِيلَهُ، فَإِذَا أَوْرَدَ تَعَالَى مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعِلَّةِ فِي إِنْزَالِ الْعُقُوبَةِ بِهِمْ فَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كِتَابَهُمُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمْ دُونَ الْقُرْآنِ الَّذِي إِذَا عَرَفُوهُ فَعَلَى وَجْهِ التَّبَعِ لِصِحَّةِ كِتَابِهِمْ، أَمَّا قَوْلُهُ: بِالْحَقِّ فقيل: بالصدق، وقيل: ببيان الحق، [المسألة الثانية] وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ فَاعْلَمْ أَنَّا وَإِنْ قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْقُرْآنُ، كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِيهِ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنَّهُ كَهَانَةٌ، وَآخَرُونَ قَالُوا: إِنَّهُ سِحْرٌ، وَثَالِثٌ قَالَ: رِجْزٌ، وَرَابِعٌ قَالَ: إِنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَخَامِسٌ قَالَ: إِنَّهُ كَلَامٌ مَنْقُولٌ مُخْتَلَقٌ، وَإِنْ قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فالمراد باختلافهم يحتمل وجوهاًأحدها: أَنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي دَلَالَةِ التَّوْرَاةِ عَلَى نُبُوَّةِ الْمَسِيحِ، فَالْيَهُودُ قَالُوا: إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى الْقَدْحِ فِي عِيسَى وَالنَّصَارَى قَالُوا إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقَوْمَ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَهُ تَأْوِيلًا آخَرَ فَاسِدًا لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَقًّا وَاجِبَ الْقَبُولِ بَلْ كَانَ مُتَكَلَّفًا كَانَ كُلُّ أَحَدٍ يَذْكُرُ شَيْئًا آخَرَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ صَاحِبِهِ، فَكَانَ هَذَا هُوَ الِاخْتِلَافَ وَثَالِثُهَا: مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ فَقَالَ: قَوْلُهُ: اخْتَلَفُوا مِنْ بَابِ افْتَعَلَ الَّذِي يَكُونُ مَكَانَ فَعَلَ، كَمَا يُقَالُ: كَسَبَ وَاكْتَسَبَ، وَعَمِلَ وَاعْتَمَلَ، وَكَتَبَ وَاكْتَتَبَ، وَفَعَلَ وَافْتَعَلَ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ الَّذِينَ خَلَفُوا فِيهِ أَيْ تَوَارَثُوهُ وَصَارُوا خُلَفَاءَ فِيهِ كَقَوْلِهِ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [الْأَعْرَافِ: 169] وَقَوْلِهِ: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [يُونُسَ: 6] أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ يَأْتِي خَلْفَ الْآخَرِ، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ [الْفُرْقَانِ: 62] أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَخْلُفُ الْآخَرَ، وَفِي الْآيَةِ تَأْوِيلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ جِنْسَ/ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ

[سورة البقرة (2) : آية 177]

وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ الَّذِينَ اخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ فِي الْكِتَابِ، فَقَبِلُوا بَعْضَ كُتُبِ اللَّهِ وَرَدُّوا الْبَعْضَ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى حَيْثُ قَبِلُوا بَعْضَ كُتُبِ اللَّهِ وَهُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَرَدُّوا الْبَاقِيَ وَهُوَ الْقُرْآنُ. أَمَّا قَوْلُهُ: لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ فِي كَيْفِيَّةِ تَحْرِيفِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ لِأَجْلِ عَدَاوَتِكَ هُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَمُنَازَعَةٍ شَدِيدَةٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَلْتَفِتَ إِلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْعَدَاوَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مُؤَالَفَةٌ وَمُوَافَقَةٌ وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِمُحَمَّدٍ هَؤُلَاءِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَإِنَّهُمْ كَالْمُتَّفِقِينَ عَلَى عَدَاوَتِكَ وَغَايَةِ الْمُشَاقَّةِ لَكَ فَلِهَذَا خَصَّهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْوَعِيدِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيفِ وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ التَّحْرِيفِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُكَذِّبُ صَاحِبَهُ وَيُشَاقُّهُ وَيُنَازِعُهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدِ اعْتَرَفُوا بِكَذِبِهِمْ بِقَوْلِهِمْ فَلَا يَكُونُ قَدْحُهُمْ فِيكَ قَادِحًا فيك ألبتة، والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 177] لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) الحكم الثالث اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ الْبِرَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمَّا شَدَّدُوا فِي الثَّبَاتِ عَلَى التَّوَجُّهِ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ تَعَالَى: لَيْسَ الْبِرُّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْمُرَادُ مُخَاطَبَةُ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ نَالُوا الْبُغْيَةَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ مِنْ حَيْثُ كَانُوا يُحِبُّونَ ذَلِكَ فَخُوطِبُوا بِهَذَا الْكَلَامِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ هُوَ خِطَابٌ لِلْكُلِّ لِأَنَّ عِنْدَ نَسْخِ الْقِبْلَةِ وَتَحْوِيلِهَا حَصَلَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الِاغْتِبَاطُ بِهَذِهِ الْقِبْلَةِ وَحَصَلَ مِنْهُمُ التَّشَدُّدُ فِي تِلْكَ الْقِبْلَةِ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُ الْغَرَضُ الْأَكْبَرُ فِي الدِّينِ فَبَعَثَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا الْخِطَابِ عَلَى اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِأَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَإِنَّمَا الْبِرُّ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِالظَّاهِرِ إِذْ لَا تَخْصِيصَ فِيهِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَيْسَ الْبِرُّ الْمَطْلُوبُ هُوَ أَمْرَ الْقِبْلَةِ، بَلِ الْبِرُّ الْمَطْلُوبُ هَذِهِ الْخِصَالُ الَّتِي عَدَّهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ «لَيْسَ» فِعْلٌ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ وَزَعَمَ أَنَّهُ حُرِّفَ، حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا فِعْلٌ اتِّصَالُ الضَّمَائِرِ بِهَا الَّتِي لَا تَتَّصِلُ إِلَّا بِالْأَفْعَالِ كَقَوْلِكَ: لَسْتُ وَلَسْنَا وَلَسْتُمْ وَالْقَوْمُ لَيْسُوا قَائِمِينَ، وَهَذِهِ الْحُجَّةُ مَنْقُوضَةٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّنِي وَلَيْتَنِي وَلَعَلَّ وَحُجَّةُ الْمُنْكِرِينَ أَوَّلُهَا: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فِعْلًا لَكَانَتْ مَاضِيًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِعْلًا، بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ فِعْلٌ قَالَ: إِنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ وَبَيَانُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا اتِّفَاقُ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّهُ لِنَفْيِ الْحَالِ، وَلَوْ كَانَ مَاضِيًا لَكَانَ لِنَفْيِ الْمَاضِي لَا لِنَفْيِ الْحَالِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ، فَنَقُولُ: لَيْسَ يَخْرُجُ زَيْدٌ، وَالْفِعْلُ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ عَقْلًا وَنَقْلًا، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّ «لَيْسَ» دَاخِلٌ عَلَى ضَمِيرِ الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَفْسِيرٌ لِذَلِكَ الضَّمِيرِ ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ لَوْ جاز

ذَلِكَ جَازَ مِثْلُهُ فِي «مَا» وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْحَرْفَ «مَا» يَظْهَرُ مَعْنَاهُ فِي غَيْرِهِ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ كَذَلِكَ فَإِنَّكَ لَوْ قُلْتَ: لَيْسَ زَيْدٌ لَمْ يَتِمَّ الْكَلَامُ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ تَقُولَ لَيْسَ زَيْدٌ قَائِمًا وَرَابِعُهَا: أَنَّ «لَيْسَ» لَوْ كَانَ فِعْلًا لَكَانَ «مَا» فِعْلًا وَهَذَا بَاطِلٌ، فَذَاكَ بَاطِلٌ بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ «لَيْسَ» لو كان فعلًا لكان ذلك لدلالة عَلَى حُصُولِ مَعْنَى السَّلْبِ مَقْرُونًا بِزَمَانٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْحَالُ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ فِي «مَا» فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ «مَا» فِعْلًا فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا فِعْلًا فَكَذَا الْقَوْلُ ذَلِكَ، أَوْ نَذْكُرُ هَذَا الْمَعْنَى بِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَنَقُولُ: «لَيْسَ» كَلِمَةٌ جَامِدَةٌ وُضِعَتْ لِنَفْيِ الْحَالِ فَأَشْبَهَتْ «مَا» فِي نَفْيِ الْفِعْلِيَّةِ وَخَامِسُهَا: أَنَّكَ تَصِلُ «مَا» بالأفعال الماضية فتقول: ما أحسن زيد وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَصِلَ «مَا» بِلَيْسَ فَلَا تقول ما ليس زيد يذكرك وسادسها: أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ أَوْزَانِ الْفِعْلِ لِأَنَّ فَعْلَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي أَبْنِيَةِ الْفِعْلِ، فَكَانَ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّهُ فِعْلٌ إِثْبَاتُ مَا لَيْسَ مِنْ أَوْزَانِ الْفِعْلِ. فَإِنْ قِيلَ: أَصْلُهُ لَيْسَ مِثْلَ صَيْدِ الْبَعِيرِ إِلَّا أَنَّهُمْ خَفَّفُوهُ وَأَلْزَمُوهُ التَّخْفِيفَ لِأَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ/ لِلُزُومِهِ حَالَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ أَبْنِيَةُ الْأَفْعَالِ لِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عليها، وجعلوا للبناء الَّذِي خَصُّوهُ بِهِ مَاضِيًا، لِأَنَّهُ أَخَفُّ الْأَبْنِيَةِ. قُلْنَا: هَذَا كُلُّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفِعْلِ التَّصَرُّفُ، فَلَمَّا مَنَعُوهُ التَّصَرُّفَ كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ يُبْقُوهُ عَلَى بِنَائِهِ الْأَصْلِيِّ لِئَلَّا يَتَوَالَى عَلَيْهِ النُّقْصَانَاتُ، فَأَمَّا أَنْ يُجْعَلَ مَنْعُ التَّصَرُّفِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ عِلَّةً لِتَغَيُّرِ الْبِنَاءِ الَّذِي هُوَ أَيْضًا خِلَافُ الْأَصْلِ فَذَاكَ فَاسِدٌ جِدًّا وَسَابِعُهَا: ذَكَرَ الْقُتَيْبِيُّ أَنَّهَا كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْحُرُوفِ النَّافِي الَّذِي هُوَ لَا، وَ: أَيْسَ، أَيْ مَوْجُودٌ قَالَ وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: أَخْرَجَهُ مِنَ اللَّيْسِيَّةِ إِلَى الْأَيْسِيَّةِ أَيْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَأَيَسْتُهُ أَيْ وَجَدْتُهُ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، قَالَ وَذَكَرَ الْخَلِيلُ أَنَّ «لَيْسَ» كَلِمَةُ جَحُودٍ مَعْنَاهَا: لَا أَيْسَ، فَطُرِحَتِ الْهَمْزَةُ اسْتِخْفَافًا لِكَثْرَةِ مَا يَجْرِي فِي الْكَلَامِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ الْعَرَبِ: ائْتِنِي بِهِ مِنْ حَيْثُ أَيْسَ وَلَيْسَ، وَمَعْنَاهُ: مِنْ حَيْثُ هُوَ وَلَا هُوَ وَثَامِنُهَا: الِاسْتِقْرَاءُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ إِنَّمَا يُوضَعُ لِإِثْبَاتِ المصدر، وهذا إنما يفيد السلب أو لا يَكُونُ فِعْلًا، فَإِنْ قِيلَ: يَنْتَقِضُ قَوْلُكُمْ بِقَوْلِهِ: نَفَى زَيْدًا وَأَعْدَمَهُ، قُلْنَا: قَوْلُكَ نَفَى زَيْدًا مُشْتَقٌّ مِنَ النَّفْيِ فَقَوْلُكَ نَفَى دَلَّ عَلَى حُصُولِ مَعْنَى النَّفْيِ فَكَانَتِ الصِّيغَةُ الْفِعْلِيَّةُ دَالَّةً تُحَقِّقُ مَصْدَرَهَا، فَلَمْ يَكُنِ السُّؤَالُ وَارِدًا، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ «لَيْسَ» فِعْلٌ فَقَدْ تَكَلَّفُوا فِي الْجَوَابِ عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ «لَيْسَ» قَدْ يَجِيءُ لِنَفْيِ الْمَاضِي كَقَوْلِهِمْ: جَاءَنِي الْقَوْمُ لَيْسَ زَيْدًا، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِقَوْلِهِمْ: أَخَذَ يفعل كذاو عن الثَّالِثِ: أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِسَائِرِ الْأَفْعَالِ النَّاقِصَةِ وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّ الْمُشَابَهَةَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ لَا تقتضي المماثلة وعن الخامس: أن لك إِنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ: مَا، لِلْحَالِ وليس لِلْمَاضِي، فَلَا يَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَعَنِ السَّادِسِ: أَنَّ تَغَيُّرَ الْبِنَاءِ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لَكِنَّهُ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ ضَرُورَةَ الْعَمَلِ بما ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلِيلِ وَعَنِ السَّابِعِ: أَنِ اللَّيْسِيَّةَ اسْمٌ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ لَيْسَ اسْمٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ أَيْسَ وَلَيْسَ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ يَجِبُ كَوْنُهُ اسْمًا، وَأَمَّا الْكِتَابُ فَمَمْنُوعٌ مِنْهُ بِالدَّلِيلِ وَعَنِ الثَّامِنِ: أَنَّ «لَيْسَ» مُشْتَقٌّ مِنَ اللَّيْسِيَّةِ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى تَقْرِيرِ مَعْنَى اللَّيْسِيَّةِ، فَهَذَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْجَوَابَاتُ مُخْتَلِفَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ لَيْسَ الْبِرَّ بِنَصْبِ الرَّاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَكِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ حَسَنٌ لِأَنَّ اسْمَ «لَيْسَ» وَخَبَرَهَا اجْتَمَعَا فِي التَّعْرِيفِ فَاسْتَوَيَا فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْمًا، وَالْآخَرِ خَبَرًا، وَحُجَّةُ مَنْ رَفَعَ الْبِرُّ أَنَّ اسْمَ لَيْسَ مُشَبَّهٌ بِالْفَاعِلِ، وَخَبَرَهَا بِالْمَفْعُولِ، وَالْفَاعِلُ بِأَنْ يلي

الْفِعْلَ أَوْلَى مِنَ الْمَفْعُولِ، وَمَنْ نَصَبَ الْبِرَّ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ بَعْضَ النَّحْوِيِّينَ قَالَ: أَنَّ مَعَ صِلَتِهَا أَوْلَى أَنْ تَكُونَ اسْمَ لَيْسَ لشبهها بالضمير فِي أَنَّهَا لَا تُوصَفُ كَمَا لَا يُوصَفُ المضمر، فكان هاهنا اجْتَمَعَ مُضْمَرٌ وَمُظْهَرٌ، وَالْأَوْلَى إِذَا اجْتَمَعَا أَنْ يَكُونَ الْمُضْمَرُ/ الِاسْمَ مِنْ حَيْثُ كَانَ أَذْهَبَ فِي الِاخْتِصَاصِ مِنَ الْمُظْهَرِ، وَعَلَى هَذَا قُرِئَ فِي التَّنْزِيلِ قَوْلُهُ: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ [الْحَشْرِ: 12] وَقَوْلِهِ: ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا [الْأَعْرَافِ: 82] وما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا [الْجَاثِيَةِ: 25] وَالِاخْتِيَارُ رَفْعُ الْبِرِّ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ: لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ وَالْبَاءُ تَدْخُلُ فِي خَبَرِ لَيْسَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْبِرُّ اسْمٌ جَامِعٌ لِلطَّاعَاتِ، وَأَعْمَالِ الْخَيْرِ الْمُقَرِّبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ هَذَا بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الِانْفِطَارِ: 13- 14] فَجَعَلَ الْبِرَّ ضِدَّ الْفُجُورِ وَقَالَ: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ [الْمَائِدَةِ: 2] فَجَعَلَ الْبِرَّ ضِدَّ الْإِثْمِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ مَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَأَصْلُهُ مِنَ الِاتِّسَاعِ وَمِنْهُ الْبَرُّ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْبَحْرِ لِاتِّسَاعِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: قَدْ قِيلَ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ، وَالَّذِي عِنْدَنَا أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى السُّفَهَاءِ الَّذِينَ طَعَنُوا فِي الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا مَعَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ الْمَغْرِبَ، وَالنَّصَارَى كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ الْمَشْرِقَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ صِفَةَ الْبِرِّ لَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ اسْتِقْبَالِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، بَلِ الْبِرُّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ مَجْمُوعِ أُمُورٍ أَحَدُهَا: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ أخلوا بذلك، أما اليهود فقولهم: بِالتَّجْسِيمِ وَلِقَوْلِهِمْ: بِأَنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللَّهِ، وَأَمَّا النَّصَارَى، فَقَوْلُهُمْ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَلِأَنَّ الْيَهُودَ وَصَفُوا اللَّهَ تَعَالَى بِالْبُخْلِ، عَلَى مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آلِ عِمْرَانَ: 181] وَثَانِيهَا: الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْيَهُودُ أَخَلُّوا بِهَذَا الْإِيمَانِ حيث قالوا: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَةِ: 111] وَقَالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَةِ: 80] وَالنَّصَارَى أَنْكَرُوا الْمَعَادَ الْجُسْمَانِيَّ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَكْذِيبٌ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَثَالِثُهَا: الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ، وَالْيَهُودُ أَخَلُّوا ذَلِكَ حَيْثُ أَظْهَرُوا عَدَاوَةَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَابِعُهَا: الْإِيمَانُ بِكُتُبِ اللَّهِ، وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَدْ أَخَلُّوا بِذَلِكَ، لِأَنَّ مَعَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابُ اللَّهِ رَدُّوهُ وَلَمْ يَقْبَلُوهُ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [الْبَقَرَةِ: 85] وَخَامِسُهَا: الْإِيمَانُ بِالنَّبِيِّينَ وَالْيَهُودُ أَخَلُّوا بِذَلِكَ حَيْثُ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الْبَقَرَةِ: 61] وَحَيْثُ طَعَنُوا فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَادِسُهَا: بَذْلُ الْأَمْوَالِ عَلَى وَفْقِ أَمْرِ الله سبحانه واليهود وأخلوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يُلْقُونَ الشُّبُهَاتِ لِطَلَبِ الْمَالِ الْقَلِيلِ كما قال وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [البقرة: 187] وَسَابِعُهَا: إِقَامَةُ الصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتُ وَالْيَهُودُ كَانُوا يَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنْهَا وَثَامِنُهَا: الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، وَالْيَهُودُ نَقَضُوا العهد حيث قال: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: 40] وهاهنا سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى نَفَى أَنْ يَكُونَ التَّوَجُّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ بِرًّا ثُمَّ حَكَمَ بِأَنَّ الْبِرَّ مَجْمُوعُ أُمُورٍ أَحَدُهَا الصَّلَاةُ وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنِ اسْتِقْبَالٍ فَيَلْزَمُ التَّنَاقُضُ وَلِأَجْلِ هَذَا السُّؤَالِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: لَيْسَ الْبِرَّ نَفْيٌ لِكَمَالِ الْبِرِّ وَلَيْسَ نَفْيًا لِأَصْلِهِ كَأَنَّهُ قَالَ لَيْسَ الْبِرَّ كُلَّهُ هُوَ هَذَا، الْبِرُّ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَاحِدٌ مِنْهَا، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ/ تَمَامَ الْبِرِّ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هَذَا نَفْيًا لِأَصْلِ كَوْنِهِ بِرًّا، لِأَنَّ اسْتِقْبَالَهُمْ لِلْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ كَانَ خَطَأً فِي وَقْتِ النَّفْيِ حِينَ مَا نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ إثماً وفجوراً

لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِمَنْسُوخٍ قَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ فِي الْبِرِّ الثَّالِثُ: أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ لَا يَكُونُ بِرًّا إِذَا لَمْ يُقَارِنْهُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِرًّا إِذَا أُتِيَ بِهِ مَعَ الْإِيمَانِ، وَسَائِرِ الشَّرَائِطِ كَمَا أَنَّ السَّجْدَةَ لَا تَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْبِرِّ، إِلَّا إِذَا أُتِيَ بِهَا مَعَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَمَّا إِذَا أُتِيَ بِهَا بِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ، فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْبِرِّ، رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ كَثُرَ الْخَوْضُ فِي نَسْخِهَا وَصَارَ كَأَنَّهُ لَا يُرَاعَى بِطَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا الِاسْتِقْبَالُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مَا هَذَا الْخَوْضُ الشَّدِيدُ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ كُلِّ أَرْكَانِ الدِّينِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فِيهِ حَذْفٌ وَفِي كَيْفِيَّتِهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: وَلَكِنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [الْبَقَرَةِ: 93] أَيْ حُبَّ الْعِجْلِ، وَيَقُولُونَ: الْجُودُ حَاتِمٌ وَالشِّعْرُ زُهَيْرٌ، وَالشَّجَاعَةُ عَنْتَرَةُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ، وَالزَّجَّاجِ، وَقُطْرُبٍ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ [التَّوْبَةِ: 19] ثُمَّ قَالَ كَمَنْ آمَنَ [التَّوْبَةِ: 19] وَتَقْدِيرُهُ، أَجَعَلْتُمْ أَهْلَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ كَمَنْ آمَنَ، أَوْ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ كَإِيمَانِ مَنْ آمَنَ لِيَقَعَ التمثيل بين مصدرين أو بين فاعلين، إذا لَا يَقَعُ التَّمْثِيلُ بَيْنَ مَصْدَرٍ وَفَاعِلٍ وَثَانِيهَا: قال أبو عبيدة البر هاهنا بِمَعْنَى الْبَاءِ كَقَوْلِهِ: وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى [طه: 132] أَيْ لِلْمُتَّقِينَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً [الْمُلْكِ: 30] أَيْ غَائِرًا، وَقَالَتِ الْخَنْسَاءُ: فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ أَيْ مُقْبِلَةٌ وَمُدْبِرَةٌ مَعًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ وَلَكِنَّ ذَا الْبِرِّ فَحُذِفَ كَقَوْلِهِمْ: هم درجات عند الله أي ذووا دَرَجَاتٍ عَنِ الزَّجَّاجِ وَرَابِعُهَا: التَّقْدِيرُ وَلَكِنَّ الْبِرَّ يَحْصُلُ بِالْإِيمَانِ وَكَذَا وَكَذَا عَنِ الْمُفَصَّلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَقْرَبُ إِلَى مَقْصُودِ الْكَلَامِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ الَّذِي هُوَ كُلُّ الْبِرِّ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الثَّوَابِ الْعَظِيمِ بِرُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، وَعَنِ الْمُبَرِّدِ: لَوْ كُنْتُ مِمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِقِرَاءَتِهِ لَقَرَأْتُ وَلكِنَّ الْبِرَّ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَلَكِنِ مُخَفَّفَةً الْبِرُّ بِالرَّفْعِ، وَالْبَاقُونَ لكِنَّ مُشَدَّدَةً الْبِرَّ بِالنَّصْبِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اعتبر في تحقق ماهية البر أموراًالأول: الْإِيمَانُ بِأُمُورٍ خَمْسَةٍ أَوَّلُهَا: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَلَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ إِلَّا عِنْدَ الْعِلْمِ بِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ وَالْعِلْمِ بِمَا يَجِبُ وَيَجُوزُ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ، وَلَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ إِلَّا عِنْدَ الْعِلْمِ بِالدَّلَالَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا فَيَدْخُلُ فِيهِ الْعِلْمُ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَالْعِلْمُ بِالْأُصُولِ الَّتِي عَلَيْهَا يَتَفَرَّعُ حُدُوثُ الْعَالَمِ، وَيَدْخُلُ فِي الْعِلْمِ بِمَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الصِّفَاتِ الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ وَقِدَمِهِ وَبَقَائِهِ، وَكَوْنِهِ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، قَادِرًا عَلَى كُلِّ الممكنات/ حياً مريداً سمعياً بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا، وَيَدْخُلُ فِي الْعِلْمِ بِمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الْحَالِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْعَرَضِيَّةِ، وَيَدْخُلُ فِي الْعِلْمِ بِمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ اقْتِدَارُهُ عَلَى الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَبَعْثَةِ الرُّسُلِ وَثَانِيهَا: الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهَذَا الْإِيمَانُ مُفَرَّعٌ عَلَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّا مَا لَمْ نَعْلِمْ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَلَمْ نَعْلَمْ قُدْرَتَهُ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْلَمَ صِحَّةَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَثَالِثُهَا: الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ وَرَابِعُهَا: الإيمان بالكتب وخامسها: الإيمان بالرسل، وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: إِنَّهُ لَا طَرِيقَ لَنَا إِلَى الْعِلْمِ بِوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ وَلَا إِلَى الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْكُتُبِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ صِدْقِ الرُّسُلِ

فَإِذَا كَانَ قَوْلُ الرُّسُلِ كَالْأَصْلِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالْكُتُبِ فَلِمَ قَدَّمَ الْمَلَائِكَةَ وَالْكُتُبَ فِي الذكر على الرسل؟ الجواب: أن الأمل وَإِنْ كَانَ كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي عُقُولِنَا وَأَفْكَارِنَا، إِلَّا أَنَّ تَرْتِيبَ الْوُجُودِ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَلَكَ يُوجَدُ أَوَّلًا، ثُمَّ يَحْصُلُ بِوَاسِطَةِ تَبْلِيغِهِ نُزُولُ الْكُتُبِ، ثُمَّ يَصِلُ ذَلِكَ الْكِتَابُ إِلَى الرَّسُولِ، فَالْمُرَاعَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَرْتِيبُ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، لَا تَرْتِيبُ الِاعْتِبَارِ الذِّهْنِيِّ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ خُصَّ الْإِيمَانُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَهَا كُلُّ مَا يلزم أن صدق بِهِ، فَقَدْ دَخَلَ تَحْتَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ: مَعْرِفَتُهُ بِتَوْحِيدِهِ وَعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَدَخَلَ تَحْتَ الْيَوْمِ الْآخِرِ: الْمَعْرِفَةُ بِمَا يَلْزَمُ مِنْ أَحْكَامِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْمَعَادِ، إِلَى سَائِرِ مَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ، وَدَخَلَ تَحْتَ الْمَلَائِكَةِ مَا يَتَّصِلُ بِأَدَائِهِمُ الرِّسَالَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُؤَدِّيَهَا إِلَيْنَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ مِنْ أَحْوَالِ الْمَلَائِكَةِ، وَدَخَلَ تَحْتَ الْكِتَابِ الْقُرْآنُ، وَجَمِيعُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، وَدَخَلَ تَحْتَ النَّبِيِّينَ الْإِيمَانُ بِنُبُوَّتِهِمْ، وَصِحَّةِ شَرَائِعِهِمْ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ إِلَّا دَخَلَ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَقْرِيرٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ لِلْمُكَلَّفِ مَبْدَأً وَوَسَطًا وَنِهَايَةً، ومعرفة المبدأ والمنتهي هو المقصود بالذات، هو الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ مَصَالِحِ الْوَسَطِ فَلَا تَتِمُّ إِلَّا بِالرِّسَالَةِ وَهِيَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: الْمَلَائِكَةِ الْآتِينَ بِالْوَحْيِ، وَنَفْسِ ذَلِكَ الْوَحْيِ وَهُوَ الْكِتَابُ، وَالْمُوحَى إليه وهي الرَّسُولُ؟ السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قُدِّمَ هَذَا الْإِيمَانُ عَلَى أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ، وَهُوَ إِيتَاءُ الْمَالِ، وَالصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةُ. الْجَوَابُ: لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ أَشْرَفُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، الْأَمْرُ الثَّانِي مِنَ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي تَحَقُّقِ مُسَمَّى البر قوله: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: عَلى حُبِّهِ إِلَى مَاذَا يَرْجِعُ؟ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّ الْمَالِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ: وَهُوَ أَنْ تُؤْتِيَهُ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَأْمَلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى/ الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ حَالَ الصِّحَّةِ أَفْضَلُ مِنْهَا عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ، وَالْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ عِنْدَ الصِّحَّةِ يَحْصُلُ ظَنُّ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَالِ وَعِنْدَ ظَنِّ قُرْبِ الْمَوْتِ يَحْصُلُ ظَنُّ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْمَالِ، وَبَذْلُ الشَّيْءِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ أَدَلُّ عَلَى الطَّاعَةِ مِنْ بَذْلِهِ عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ عَلَى مَا قَالَ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آلِ عِمْرَانَ: 92] وَثَانِيهَا: أَنَّ إِعْطَاءَهُ حَالَ الصِّحَّةِ أَدَلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُتَيَقِّنًا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ من إعطاءه حَالَ الْمَرَضِ وَالْمَوْتِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ إِعْطَاءَهُ حَالَ الصِّحَّةِ أَشَقُّ، فَيَكُونُ أَكْثَرَ ثَوَابًا قِيَاسًا عَلَى مَا يَبْذُلُهُ الْفَقِيرُ مِنْ جُهْدِ الْمُقِلِّ فَإِنَّهُ يَزِيدُ ثَوَابُهُ عَلَى مَا يَبْذُلُهُ الْغَنِيُّ وَرَابِعُهَا: أَنَّ مَنْ كَانَ مَالُهُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَوَهَبَهُ مِنْ أَحَدٍ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَوْ لم يهبه منه لَضَاعَ فَإِنَّ هَذِهِ الْهِبَةَ لَا تَكُونُ مُسَاوِيَةً لِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ خَائِفًا مِنْ ضَيَاعِ الْمَالِ ثُمَّ إِنَّهُ وَهَبَهُ مِنْهُ طَائِعًا وَرَاغِبًا فكذا هاهنا وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ مُتَأَيِّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آلِ عِمْرَانَ: 92] وَقَوْلِهِ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ [الْإِنْسَانِ: 80] أَيْ عَلَى حُبِّ الطَّعَامِ، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ الَّذِي تصدق عند الموت مثل الذي يهدي بعد ما شبع» .

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ إِلَى الْإِيتَاءِ كَأَنَّهُ قِيلَ: يُعْطِي وَيُحِبُّ الْإِعْطَاءَ رَغْبَةً فِي ثَوَابِ اللَّهِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، يَعْنِي يُعْطُونَ الْمَالَ عَلَى حُبِّ اللَّهِ أَيْ عَلَى طَلَبِ مَرْضَاتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذَا الْإِيتَاءِ فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا الزَّكَاةُ وَهَذَا ضَعِيفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ الزَّكَاةَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَمِنْ حَقِّ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يَتَغَايَرَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ به غير الزكاة، ثم إنه لا يخلوا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ أَوْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وَقَفَ التَّقْوَى عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ نَدْبًا لَمَا وَقَفَ التَّقْوَى عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْإِيتَاءَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الزَّكَاةِ إِلَّا أَنَّهُ مِنَ الْوَاجِبَاتِ ثُمَّ فِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ دَفْعِ الْحَاجَاتِ الضَّرُورِيَّةِ مِثْلُ إِطْعَامِ الْمُضْطَرِّ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ هَذَا الْوُجُوبِ النَّصُّ والمعقول، أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام «لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ طَاوٍ إِلَى جَنْبِهِ» وَرُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: أَنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ، ثُمَّ تَلَتْ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ لَهُ مَالٌ فَأَدَّى زَكَاتَهُ فَهَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ سِوَاهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ يَصِلُ الْقَرَابَةَ، وَيُعْطِي السَّائِلَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَمَّا الْعَقْلُ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ إِذَا انْتَهَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الضَّرُورَةِ، وَجَبَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يُعْطُوهُ مِقْدَارَ دَفْعِ الضَّرُورَةِ/ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الزَّكَاةُ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ، وَلَوِ امْتَنَعُوا مِنَ الْإِعْطَاءِ جَازَ الْأَخْذُ مِنْهُمْ قَهْرًا، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِيتَاءَ وَاجِبٌ، وَاحْتَجَّ مَنْ طَعَنَ فِي هَذَا الْقَوْلِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الزَّكَاةَ نَسَخَتْ كُلَّ حَقٍّ. وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «فِي الْمَالِ حُقُوقٌ سِوَى الزَّكَاةِ» وَقَوْلُ الرَّسُولِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ الثَّانِي: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا حَضَرَ الْمُضْطَرُّ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مَا يَدْفَعُ الضَّرَرَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَدَّى الزَّكَاةَ بِالْكَمَالِ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ أَنَّ الزَّكَاةَ نَسَخَتِ الْحُقُوقَ الْمُقَدَّرَةَ، أَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ مُقَدَّرًا فَإِنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَلْزَمُ التَّصَدُّقُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَيَلْزَمُ النَّفَقَةُ عَلَى الْأَقَارِبِ، وَعَلَى الْمَمْلُوكِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّهُ صَحَّ هَذَا التَّأْوِيلُ لَكِنْ مَا الْحِكْمَةُ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى لِأَنَّ الْفَقِيرَ إِذَا كَانَ قَرِيبًا فَهُوَ أَوْلَى بِالصَّدَقَةِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ جَامِعًا بَيْنَ الصِّلَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ مِنْ أَوْكَدِ الْوُجُوهِ فِي صَرْفِ الْمَالِ إِلَيْهِ وَذَلِكَ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْإِرْثَ وَيَحْجُرُ بِسَبَبِهِ عَلَى الْمَالِكِ فِي الْوَصِيَّةِ، حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ مِنَ الْوَصِيَّةِ إِلَّا فِي الثُّلْثِ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْأَقَارِبِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [آل عمران: 180] الْآيَةَ، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ قَدْ صَارَتْ مَنْسُوخَةً إِلَّا عِنْدَ بَعْضِهِمْ، فَلِهَذِهِ الْوُجُوهِ قَدَّمَ ذَا الْقُرْبَى، ثُمَّ أَتْبَعَهُ تَعَالَى بِالْيَتَامَى، لِأَنَّ الصَّغِيرَ الْفَقِيرَ الَّذِي لَا وَالِدَ لَهُ وَلَا كَاسِبَ فَهُوَ مُنْقَطِعُ الْحِيلَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُمْ تَعَالَى بِذِكْرِ الْمَسَاكِينِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَشْتَدُّ بِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ ابْنَ السَّبِيلِ إِذْ قَدْ تَشْتَدُّ حَاجَتُهُ عِنْدَ اشْتِدَادِ رَغْبَتِهِ إِلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ لِأَنَّ حَاجَتَهُمَا دُونَ حَاجَةِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ مَعْرِفَةَ الْمَرْءِ بِشِدَّةِ حَاجَةِ هَذِهِ الْفِرَقِ تَقْوَى وَتَضْعُفُ، فَرَتَّبَ تَعَالَى ذِكْرَ هَذِهِ الْفِرَقِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِشِدَّةِ حَاجَةِ مَنْ يَقْرُبُ إِلَيْهِ أَقْرَبُ، ثُمَّ بِحَاجَةِ الْأَيْتَامِ، ثُمَّ بِحَاجَةِ

الْمَسَاكِينِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا النَّسَقِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ ذَا الْقُرْبَى مِسْكِينٌ، وَلَهُ صِفَةٌ زَائِدَةٌ تَخُصُّهُ لِأَنَّ شِدَّةَ الْحَاجَةِ فِيهِ تَغُمُّهُ وَتُؤْذِي قَلْبَهُ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْغَيْرِ، فَلِذَلِكَ بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِذِي الْقُرْبَى، ثُمَّ بِالْيَتَامَى، وَأَخَّرَ الْمَسَاكِينَ لِأَنَّ الْغَمَّ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ عَجْزِ الصِّغَارِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ أَشَدُّ مِنَ الْغَمِّ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ عَجْزِ الْكِبَارِ عَنْ تَحْصِيلِهِمَا فَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ فَقَدْ يَكُونُ غَنِيًّا، وَقَدْ تَشْتَدُّ حَاجَتُهُ فِي الْوَقْتِ، وَالسَّائِلُ قَدْ يَكُونُ غَنِيًّا وَيُظْهِرُ شِدَّةَ الْحَاجَةِ وَأَخَّرَ الْمُكَاتِبَ لِأَنَّ إِزَالَةَ الرِّقِّ لَيْسَتْ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ الشَّدِيدَةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بإيتاء الماء مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ ذِكْرِهِ لِلْإِبِلِ قَالَ: «إِنَّ فِيهَا حَقًّا» هُوَ إِطْرَاقُ فَحْلِهَا وَإِعَارَةُ ذَلُولِهَا، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى إِطْرَاقِ الْفَحْلِ أَمْرٌ لَا يَخْتَصُّ بِهِ ابْنُ السَّبِيلِ وَالسَّائِلُ وَالْمُكَاتِبُ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ إِيتَاءَ الْمَالِ إِلَى هَؤُلَاءِ كَانَ وَاجِبًا، ثُمَّ إِنَّهُ صَارَ مَنْسُوخًا بِالزَّكَاةِ، وَهَذَا/ أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بين هذا الإيتاء وبين الزكاة. المسألة الثالثة: أَمَّا ذَوُو الْقُرْبَى فَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى الْمَذْكُورِ فِي آيَةِ النَّفْلِ وَالْغَنِيمَةِ وَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى لِلْمُعْطِينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُمْ بِهِ أَخَصُّ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى [النُّورِ: 22] وَاعْلَمْ أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى هُمُ الَّذِينَ يَقْرُبُونَ مِنْهُ بِوِلَادَةِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ بِوِلَادَةِ الْجَدَّيْنِ، فَلَا وَجْهَ لِقَصْرِ ذَلِكَ عَلَى ذَوِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ قَوْمٍ لِأَنَّ الْمُحَرَّمِيَّةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ أَمَّا الْقَرَابَةُ فَهِيَ لَفْظَةٌ لُغَوِيَّةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْقَرَابَةِ فِي النَّسَبِ وَإِنْ كَانَ مَنْ يَخْتَصُّ بِذَلِكَ يَتَفَاضَلُ وَيَتَفَاوَتُ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، أَمَّا الْيَتَامَى فَفِي النَّاسِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ذَوِي الْيَتَامَى، قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ مِنَ الْمُتَصَدِّقِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ إِلَى الْيَتِيمِ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ وَلَا يَعْرِفُ وُجُوهَ مَنَافِعِهِ، فَإِنَّهُ مَتَى فَعَلَ ذَلِكَ يَكُونُ مُخْطِئًا بَلْ إِذَا كَانَ الْيَتِيمُ مُرَاهِقًا عَارِفًا بِمَوَاقِعِ حَظِّهِ، وَتَكُونُ الصَّدَقَةُ مِنْ بَابِ مَا يُؤَكَلُ وَيُلْبَسُ وَلَا يَخْفَى عَلَى الْيَتِيمِ وَجْهُ الِانْتِفَاعِ بِهِ جَازَ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، هَذَا كُلُّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: الْيَتِيمُ هُوَ الَّذِي لَا أَبَ لَهُ مَعَ الصِّغَرِ، وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا هَذَا الِاسْمُ قد يقع على الصغر وَعَلَى الْبَالِغِ وَالْحُجَّةُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاءِ: 20] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يُؤْتَوْنَ الْمَالَ إِلَّا إِذَا بَلَغُوا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمَّى: يَتِيمَ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ بُلُوغِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْيَتِيمُ بَالِغًا دُفِعَ الْمَالُ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَيُدْفَعُ إِلَى وَلِيِّهِ، وَأَمَّا الْمَسَاكِينُ فَفِيهِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ وَالَّذِي نَقُولُهُ هُنَا: إِنَّ الْمَسَاكِينَ أَهْلُ الْحَاجَةِ، ثُمَّ هُمْ ضَرْبَانِ مِنْهُمْ مَنْ يَكُفُّ عَنِ السؤال وهو المراد هاهنا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْأَلُ وَيَنْبَسِطُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَالسَّائِلِينَ وَإِنَّمَا فَرَّقَ تَعَالَى بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ يَظْهَرُ عَلَى الْمِسْكِينِ الْمَسْكَنَةُ مِمَّا يَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ السَّائِلُ لِأَنَّهُ بِمَسْأَلَتِهِ يَعْرِفُ فَقْرَهُ وَحَاجَتَهُ، وَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ فَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ الْمُسَافِرُ، وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ الضَّيْفُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَصَلَ إِلَيْكَ مِنَ السَّبِيلِ، وَالْأَوَّلُ أشبه لأن السبيل لِلطَّرِيقِ وَجُعِلَ الْمُسَافِرُ ابْنًا لَهُ لِلُزُومِهِ إِيَّاهُ كَمَا يُقَالُ لِطَيْرِ الْمَاءِ: ابْنُ الْمَاءِ وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي أَتَتْ عَلَيْهِ السُّنُونَ: ابْنُ الْأَيَّامِ. وَلِلشُّجْعَانِ: بَنُو الْحَرْبِ. وَلِلنَّاسِ: بَنُو الزَّمَانِ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: وَرَدْتُ عِشَاءً وَالثُّرَيَّا كَأَنَّهَا ... عَلَى قمة الرأس ابن ماء ملحق وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالسَّائِلِينَ فَعَنَى بِهِ الطَّالِبِينَ، وَمَنْ جَعَلَ الْآيَةَ فِي غَيْرِ الزَّكَاةِ أَدْخَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُسْلِمَ

وَالْكَافِرَ، رَوَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «لِلسَّائِلِ حق ولو جاء على فرس» وقال تعالى: فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الْمَعَارِجِ: 24، 25] . أَمَّا قَوْلُهُ: وَفِي الرِّقابِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الرِّقابِ جَمْعُ الرَّقَبَةِ وَهِيَ مُؤَخَّرُ أَصْلِ الْعُنُقِ، وَاشْتِقَاقُهَا مِنَ الْمُرَاقَبَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَكَانَهَا مِنَ الْبَدَنِ مَكَانُ الرَّقِيبِ الْمُشْرِفِ عَلَى الْقَوْمِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ: أَعْتَقَ اللَّهُ رَقَبَتَهُ/ وَلَا يُقَالُ أَعْتَقَ اللَّهُ عُنُقَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا سُمِّيَتْ رَقَبَةً كَأَنَّهَا تُرَاقِبُ الْعَذَابَ، وَمِنْ هَذَا يُقَالُ لِلَّتِي لَا يَعِيشُ وَلَدُهَا: رَقُوبٌ، لِأَجْلِ مُرَاعَاتِهَا مَوْتَ وَلَدِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: وَيُؤْتِي الْمَالَ فِي عِتْقِ الرِّقَابِ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الرِّقَابِ الْمَذْكُورِينَ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ، فَقَالَ قَائِلُونَ: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَشْتَرِيهِ فَيُعْتِقُهُ، وَمَنْ يَكُونُ مُكَاتِبُهَا فَيُعِينُهُ عَلَى أَدَاءِ كِتَابَتِهِ، فَهَؤُلَاءِ أَجَازُوا شِرَاءَ الرِّقَابِ مِنَ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَقَالَ قَائِلُونَ: لَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إِلَّا فِي إِعَانَةِ الْمُكَاتِبِينَ، فَمَنْ تَأَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فَحِينَئِذٍ يَبْقَى فِيهِ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ، وَمَنْ حَمَلَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى غَيْرِ الزَّكَاةِ أَجَازَ الْأَمْرَيْنِ فِيهَا قَطْعًا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى وَجْهٍ ثَالِثٍ وَهُوَ فِدَاءُ الْأُسَارَى. وَاعْلَمْ أَنَّ تَمَامَ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ فِي تَفْسِيرِ الصَّدَقَاتِ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: مِنَ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي تحقق ماهية البر قوله: وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. الْأَمْرُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي رَفْعِ وَالْمُوفُونَ قَوْلَانِ أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَحَلِّ مَنْ آمَنَ تَقْدِيرُهُ لَكِنَّ الْبِرَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُوفُونَ، عَنِ الْفَرَّاءِ وَالْأَخْفَشِ الثَّانِي: رَفْعٌ عَلَى الْمَدْحِ عَلَى أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَهُمُ الْمُوفُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْعَهْدِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا أَخَذَهُ اللَّهُ مِنَ الْعُهُودِ عَلَى عِبَادِهِ بِقَوْلِهِمْ، وَعَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ إِلَيْهِمْ بِالْقِيَامِ بِحُدُودِهِ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، فَقَبِلَ الْعِبَادُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ آمَنُوا بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْكُتُبِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ نَقَضُوا الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ وَأَمَرَهُمْ بِالْوَفَاءِ بِهَا فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 40] فَكَانَ الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْبِرَّ هُوَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَعْمَالِ مَعَ الْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ، لَا كَمَا نَقَضَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِيثَاقَ اللَّهِ وَمَا وَفَّوْا بِعُهُودِهِ فَجَحَدُوا أَنْبِيَاءَهُ وَقَتَلُوهُمْ وَكَذَّبُوا بِكِتَابِهِ، وَاعْتَرَضَ الْقَاضِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ صَرِيحٌ فِي إِضَافَةِ هَذَا الْعَهْدِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِذا عاهَدُوا فَلَا وَجْهَ لِحَمْلِهِ عَلَى مَا سَيَكُونُ لُزُومُهُ ابْتِدَاءً مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى. الْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ أَلْزَمَهُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَكِنَّهُمْ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ قَبِلُوا ذَلِكَ الْإِلْزَامَ وَالْتَزَمُوهُ، فَصَحَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ إِضَافَةُ الْعَهْدِ إِلَيْهِمْ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى الْأُمُورِ الَّتِي يَلْتَزِمُهَا الْمُكَلَّفُ ابْتِدَاءً مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْعَهْدَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ/ أَمَّا الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَهُوَ مَا يَلْزَمُهُ بِالنُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ، وَأَمَّا الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ فَهُوَ الَّذِي عَاهَدَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْبَيْعَةِ مِنَ الْقِيَامِ بِالنُّصْرَةِ وَالْمُظَاهَرَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ وَمُوَالَاةِ مَنْ وَالَاهُ وَمُعَادَاةِ مَنْ عَادَاهُ، وَأَمَّا الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ مِثْلُ مَا يَلْزَمُهُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ مِنَ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ، وَكَذَا الشَّرَائِطُ الَّتِي يَلْتَزِمُهَا فِي السَّلَمِ وَالرَّهْنِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ مِثْلُ الْوَفَاءِ بِالْمَوَاعِيدِ فِي بَذْلِ الْمَالِ وَالْإِخْلَاصِ فِي الْمُنَاصَرَةِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا يَتَنَاوَلُ كُلَّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ فَلَا مَعْنَى لِقَصْرِ الْآيَةِ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ دُونَ الْبَعْضِ، وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ هُوَ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ الْمُفَسِّرُونَ فَقَالُوا: هُمُ الَّذِينَ إِذَا وَاعَدُوا أَنْجَزُوا وَإِذَا حَلَفُوا وَنَذَرُوا وفوا، وإذا قالوا صدقوا، وإذا ائتمنوا أَدَّوْا، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ [التَّوْبَةِ: 75] الْآيَةَ. الْأَمْرُ الْخَامِسُ: مِنَ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي تَحَقُّقِ مَاهِيَّةِ الْبِرِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ [الْبَقَرَةِ: 177] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي نَصْبِ الصَّابِرِينَ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى ذَوِي الْقُرْبى كَأَنَّهُ قَالَ: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالصَّابِرِينَ: قَالَ النَّحْوِيُّونَ: إِنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ يَصِيرُ هَكَذَا: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالصَّابِرِينَ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَالصَّابِرِينَ مِنْ صِلَةِ مَنْ قَوْلُهُ: وَالْمُوفُونَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَالصَّابِرِينَ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَنْ فَحِينَئِذٍ قَدْ عَطَفْتَ عَلَى الْمَوْصُولِ قَبْلَ صِلَتِهِ شَيْئًا، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ مَعَ الصِّلَةِ بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ، وَمُحَالٌ أَنْ يُوصَفَ الِاسْمُ أَوْ يُؤَكَّدَ أَوْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِهِ وَانْقِضَائِهِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ، أَمَّا إِنْ جَعَلْتَ قَوْلَهُ: وَالْمُوفُونَ رَفْعًا عَلَى الْمَدْحِ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا الْفَصْلَ غَيْرُ جَائِزٍ، بَلْ هَذَا أَشْنَعُ لِأَنَّ الْمَدْحَ جُمْلَةٌ فَإِذَا لَمْ يَجُزِ الْفَصْلُ بِالْمُفْرَدِ فَلِأَنْ لَا يَجُوزَ بِالْجُمْلَةِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ جَازَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بِالْجُمْلَةِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: إِنَّ زَيْدًا فَافْهَمْ مَا أَقُولُ رَجُلٌ عَالِمٌ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الْكَهْفِ: 30] ثُمَّ قَالَ: أُولئِكَ فَفَصَلَ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بِقَوْلِهِ: إِنَّا لَا نُضِيعُ قُلْنَا: الْمَوْصُولُ مَعَ الصِّلَةِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَالتَّعَلُّقُ الَّذِي بَيْنَهُمَا أَشَدُّ مِنَ التَّعَلُّقِ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ جوازه الفصل بين المبتدأ والخبر جواز بَيْنَ الْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ الْفَرَّاءِ: إِنَّهُ نَصْبٌ عَلَى الْمَدْحِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ صِفَةِ مَنْ، وَإِنَّمَا رَفَعَ الْمُوفُونَ وَنَصَبَ الصَّابِرِينَ لِطُولِ الْكَلَامِ بِالْمَدْحِ، وَالْعَرَبُ تَنْصِبُ عَلَى الْمَدْحِ وَعَلَى الذَّمِّ إِذَا طَالَ الْكَلَامُ بِالنَّسَقِ فِي صِفَةِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثَ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحِمْ وقالوا فيمن قرأ: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد: 4] بِنَصْبِ حَمَّالَةَ أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الذَّمِّ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ:

[سورة البقرة (2) : آية 178]

وَإِذَا ذُكِرَتِ الصِّفَاتُ الْكَثِيرَةُ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ فَالْأَحْسَنُ أَنْ تُخَالَفَ بِإِعْرَابِهَا وَلَا تُجْعَلَ كُلُّهَا جَارِيَةً عَلَى مَوْصُوفِهَا، لِأَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ مِنْ مَوَاضِعِ الْإِطْنَابِ فِي الْوَصْفِ وَالْإِبْلَاغِ فِي الْقَوْلِ، فَإِذَا خُولِفَ بِإِعْرَابِ الْأَوْصَافِ كَانَ الْمَقْصُودُ أَكْمَلَ، لِأَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ أَنْوَاعٌ مِنَ الْكَلَامِ وَضُرُوبٌ مِنَ الْبَيَانِ، وَعِنْدَ الِاتِّحَادِ فِي الْإِعْرَابِ يَكُونُ وَجْهًا وَاحِدًا، وَجُمْلَةً وَاحِدَةً. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْكُوفِيُّونَ وَالْبَصْرِيُّونَ في أن المدح والذم لم صَارَا عِلَّتَيْنِ لِاخْتِلَافِ الْحَرَكَةِ؟ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَصْلُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ مِنْ كَلَامِ السَّامِعِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَخْبَرَ غَيْرَهُ فَقَالَ لَهُ: قَامَ زَيْدٌ فَرُبَّمَا أَثْنَى السَّامِعُ عَلَى زَيْدٍ، وَقَالَ ذَكَرْتَ وَاللَّهِ الظَّرِيفَ، ذَكَرْتَ الْعَاقِلَ، أَيْ هُوَ وَاللَّهِ الظَّرِيفُ هُوَ الْعَاقِلُ، فَأَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يَمْدَحَ بِمِثْلِ مَا مَدَحَهُ بِهِ السَّامِعُ، فَجَرَى الْإِعْرَابُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْمَدْحُ وَالذَّمُّ يَنْصِبَانِ عَلَى مَعْنَى أَعْنِي الظَّرِيفَ، وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَعْنِي إِنَّمَا يَقَعُ تَفْسِيرًا لِلِاسْمِ الْمَجْهُولِ، وَالْمَدْحُ يَأْتِي بَعْدَ الْمَعْرُوفِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَا قَالَهُ الْخَلِيلُ لَصَحَّ أَنْ يَقُولَ: قَامَ زَيْدٌ أَخَاكَ، عَلَى مَعْنَى: أَعْنِي أَخَاكَ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ تَقُلْهُ العرب أصلا. [المسألة الثانية قوله تعالى في قراءة والموفين، والصابرين] وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَرَأَ وَالْمُوفِينَ ... ، وَالصَّابِرِينَ ومنهم من قرأ وَالْمُوفُونَ، والصابرون [المسألة الثالثة قوله: تعالى في البأساء والضراء] أما قَوْلُهُ: فِي الْبَأْساءِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْفَقْرَ، وَهُوَ اسْمٌ مِنَ الْبُؤْسِ وَالضَّرَّاءِ قَالَ: يُرِيدُ بِهِ الْمَرَضَ، وَهُمَا اسْمَانِ عَلَى فَعْلَاءَ وَلَا أَفْعَلَ لَهُمَا، لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِنَعْتَيْنِ وَحِينَ الْبَأْسِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُرِيدُ الْقِتَالَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْجِهَادَ، وَمَعْنَى الْبَأْسِ فِي اللُّغَةِ الشِّدَّةُ يُقَالُ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ فِي هَذَا، أَيْ لَا شِدَّةَ بِعَذابٍ بَئِيسٍ [الْأَعْرَافِ: 165] شَدِيدٍ ثُمَّ تُسَمَّى الْحَرْبُ بَأْسًا لِمَا فِيهَا مِنَ الشِّدَّةِ وَالْعَذَابُ يُسَمَّى بَأْسًا لِشِدَّتِهِ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غَافِرٍ: 84] فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا [الْأَنْبِيَاءِ: 12] فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ [غَافِرٍ: 29] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أَيْ أَهْلُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ هُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي إِيمَانِهِمْ، وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَسْأَلَةً وَهِيَ أَنَّهُ قَالَ هَذِهِ الْوَاوَاتُ فِي الْأَوْصَافِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْجَمْعِ، فَمِنْ شَرَائِطِ الْبِرِّ وَتَمَامِ شَرْطِ الْبَارِّ أَنَّ تَجْتَمِعَ فِيهِ هَذِهِ الْأَوْصَافُ، وَمَنْ قَامَ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهَا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْوَصْفَ بِالْبِرِّ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَظُنَّ الْإِنْسَانُ أَنَّ الْمُوفِيَ بِعَهْدِهِ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قَامَ بِالْبِرِّ وَكَذَا الصَّابِرُ فِي الْبَأْسَاءِ بَلْ لَا يَكُونُ قَائِمًا بِالْبِرِّ، إِلَّا عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ هَذِهِ الْخِصَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الصِّفَةُ خَاصَّةٌ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، لِأَنَّ غَيْرَهُمْ لَا تَجْتَمِعُ فِيهِ هَذِهِ الْأَوْصَافُ كُلُّهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: هَذِهِ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بالله عليه توكلت. [سورة البقرة (2) : آية 178] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178)

الحكم الرابع

الحكم الرابع قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي التَّفْسِيرِ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ سَبَبِ النُّزُولِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهِ إِزَالَةُ الْأَحْكَامِ الَّتِي كَانَتْ ثَابِتَةً قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُوجِبُونَ الْقَتْلَ فَقَطْ، وَالنَّصَارَى كَانُوا يُوجِبُونَ الْعَفْوَ فَقَطْ، وَأَمَّا الْعَرَبُ فَتَارَةً كَانُوا يُوجِبُونَ الْقَتْلَ، وَأُخْرَى يُوجِبُونَ الدِّيَةَ لَكِنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ التَّعَدِّيَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ، أَمَّا فِي الْقَتْلِ فَلِأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ الْقَتْلُ بَيْنَ قَبِيلَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا أَشْرَفُ مِنَ الْأُخْرَى، فَالْأَشْرَافُ كَانُوا يَقُولُونَ: لَنَقْتُلَنَّ بِالْعَبْدِ مِنَّا الْحُرَّ مِنْهُمْ، وَبِالْمَرْأَةِ مِنَّا الرَّجُلَ مِنْهُمْ، وَبِالرَّجُلِ مِنَّا الرَّجُلَيْنِ مِنْهُمْ، وَكَانُوا يَجْعَلُونَ جِرَاحَاتِهِمْ ضِعْفَ جِرَاحَاتِ خُصُومِهِمْ، وَرُبَّمَا زَادُوا عَلَى ذَلِكَ عَلَى مَا يُرْوَى أَنَّ وَاحِدًا قَتَلَ إِنْسَانًا مِنَ الْأَشْرَافِ، فَاجْتَمَعَ أَقَارِبُ الْقَاتِلِ عِنْدَ وَالِدِ الْمَقْتُولِ، وَقَالُوا: مَاذَا تُرِيدُ؟ فَقَالَ إِحْدَى ثَلَاثٍ قَالُوا: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: إِمَّا تُحْيُونَ وَلَدِي، أَوْ تملأون دَارِي مِنْ نُجُومِ السَّمَاءِ، أَوْ تَدْفَعُوا إِلَيَّ جُمْلَةَ قَوْمِكُمْ حَتَّى أَقْتُلَهُمْ، ثُمَّ لَا أَرَى أَنِّي أَخَذْتُ عِوَضًا. وَأَمَّا الظُّلْمُ فِي أَمْرِ الدِّيَةِ فَهُوَ أَنَّهُمْ رُبَّمَا جَعَلُوا دِيَةَ الشَّرِيفِ أَضْعَافَ دِيَةِ الرَّجُلِ الْخَسِيسِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ رِعَايَةَ الْعَدْلِ وَسَوَّى بَيْنِ عِبَادِهِ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ وَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ: إِنَّ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ كَانُوا مَعَ تَدَيُّنِهِمْ بِالْكِتَابِ سَلَكُوا طَرِيقَةَ الْعَرَبِ فِي التَّعَدِّي. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَاقِعَةِ قَتْلِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَالرِّوَايَةُ الرَّابِعَةُ: مَا نَقَلَهَا مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ وَرَوَاهَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ وَالْعَبْدَيْنِ وَالذَّكَرَيْنِ وَالْأُنْثَيَيْنِ يَقَعُ الْقِصَاصُ وَيَكْفِي ذَلِكَ فَقَطْ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْقَاتِلُ لِلْعَبْدِ حُرًّا، أَوْ لِلْحُرِّ عَبْدًا فَإِنَّهُ يَجِبُ مَعَ الْقِصَاصِ التَّرَاجُعُ، وَأَمَّا حُرٌّ قَتَلَ عَبْدًا فَهُوَ قَوَدُهُ، فَإِنْ شَاءَ مَوَالِي الْعَبْدِ أَنْ يَقْتُلُوا الْحُرَّ قَتَلُوهُ بِشَرْطِ أَنْ يُسْقِطُوا ثَمَنَ الْعَبْدِ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ، وَيَرُدُّوا إِلَى أَوْلِيَاءِ الْحُرِّ بقية ديته، وإن قتل عبدا حُرًّا فَهُوَ بِهِ قَوَدٌ، فَإِنْ شَاءَ أَوْلِيَاءُ الْحُرِّ قَتَلُوا الْعَبْدَ وَأَسْقَطُوا قِيمَةَ الْعَبْدِ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ، وَأَدَّوْا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْحُرِّ بَقِيَّةَ دِيَتِهِ، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا كُلَّ الدِّيَةِ وَتَرَكُوا قَتْلَ الْعَبْدِ، وَإِنْ قَتَلَ رَجُلٌ امْرَأَةً فَهُوَ بِهَا قَوَدٌ، فَإِنْ شَاءَ أَوْلِيَاءُ الْمَرْأَةِ قَتَلُوهُ وَأَدَّوْا نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِنْ قَتَلَتِ الْمَرْأَةُ رَجُلًا فَهِيَ بِهِ قَوَدٌ، فَإِنْ شَاءَ أَوْلِيَاءُ الرَّجُلِ قَتَلُوهَا وَأَخَذُوا نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِنْ شَاءُوا أُعْطُوا كُلَّ الدِّيَةِ وَتَرَكُوهَا، قَالُوا فَاللَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ لِبَيَانِ أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالْقِصَاصِ مَشْرُوعٌ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ وَالْعَبْدَيْنِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَالذَّكَرَيْنِ فأما عند إخلاف الْجِنْسِ فَالِاكْتِفَاءُ بِالْقِصَاصِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِيهِ إِذَا عَرَفْنَا سَبَبَ النُّزُولِ فَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ فَمَعْنَاهُ: فُرِضَ عَلَيْكُمْ فَهَذِهِ اللَّفْظَةُ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كُتِبَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ قَالَ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ وَقَالَ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ [الْبَقَرَةِ: 180] وَقَدْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً وَمِنْهُ الصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَاتُ أَيِ الْمُفْرَدَاتُ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ثَلَاثٌ كُتِبْنَ عَلَيَّ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ» وَالثَّانِي: لَفْظَةُ عَلَيْكُمُ مُشْعِرَةٌ بِالْوُجُوبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آلِ عِمْرَانَ: 97] وَأَمَّا الْقِصَاصُ

فَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ بِالْإِنْسَانِ مِثْلَ مَا فَعَلَ، مِنْ قَوْلِكَ: اقْتَصَّ فُلَانٌ أَثَرَ فُلَانٍ إِذَا فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ، قَالَ تَعَالَى فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً [الْكَهْفِ: 64] وَقَالَ تَعَالَى: وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ [الْقَصَصِ: 11] أَيِ اتْبِعِي أَثَرَهُ، وَسُمِّيَتِ الْقِصَّةُ قصة لأن بالحكاية تساوي المحكي، وسمي القصص لِأَنَّهُ يَذْكُرُ مِثْلَ أَخْبَارِ النَّاسِ، وَيُسَمَّى الْمِقَصُّ مِقَصًّا لِتَعَادُلِ جَانِبَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي الْقَتْلى أَيْ بِسَبَبِ قَتْلِ الْقَتْلَى، لِأَنَّ كَلِمَةَ «فِي» قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلسَّبَبِيَّةِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ» إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَجَبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ بِسَبَبِ قَتْلِ الْقَتْلَى، فَدَلَّ ظَاهِرُ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ بِسَبَبِ قَتْلِ جَمِيعِ الْقَتْلَى، إِلَّا أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْقَاتِلِ خَارِجٌ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ وَأَمَّا الْقَاتِلُ فَقَدْ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ أَيْضًا فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ، وَهِيَ إِذَا قَتَلَ الْوَالِدُ وَلَدَهُ، وَالسَّيِّدُ عَبْدَهُ وَفِيمَا إِذَا قَتَلَ الْمُسْلِمُ حَرْبِيًّا أَوْ مُعَاهَدًا، وَفِيمَا إذا قتل مسلم خَطَأً إِلَّا أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ/ يَبْقَى حُجَّةً فِيمَا عَدَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِيهِ إِشْكَالَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقِصَاصَ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ إِمَّا عَلَى الْقَاتِلِ، أَوْ عَلَى وَلِيِّ الدَّمِ، أَوْ عَلَى ثَالِثٍ، وَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ بَاطِلَةٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى وَلِيِّ الدَّمِ لِأَنَّ وَلِيَّ الدَّمِ مُخَيَّرٌ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إِلَى التَّرْكِ بِقَوْلِهِ: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْبَقَرَةِ: 237] وَالثَّالِثُ أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَجْنَبِيًّا عَنْ ذَلِكَ الْقَتْلِ وَالْأَجْنَبِيُّ عَنِ الشَّيْءِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: إِذَا بَيَّنَّا أَنَّ الْقِصَاصَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّسْوِيَةِ فَكَانَ مَفْهُومُ الْآيَةِ إِيجَابَ التَّسْوِيَةِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا تَكُونُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى إِيجَابِ الْقَتْلِ الْبَتَّةَ، بَلْ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ التَّسْوِيَةِ فِي الْقَتْلِ الَّذِي يَكُونُ مَشْرُوعًا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَسْقُطُ دلالة على كون القتل مشرعا بِسَبَبِ الْقَتْلِ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ إِيجَابُ إِقَامَةِ الْقِصَاصِ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ مَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُ، لِأَنَّهُ مَتَى حَصَلَتْ شَرَائِطُ وُجُوبِ الْقَوَدِ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتْرُكَ الْقَوَدَ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالتَّقْدِيرُ: يَا أَيُّهَا الْأَئِمَّةُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ إِنْ أَرَادَ وَلِيُّ الدَّمِ اسْتِيفَاءَهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْقَاتِلِ وَالتَّقْدِيرُ: يَا أَيُّهَا الْقَاتِلُونَ كُتِبَ عَلَيْكُمْ تَسْلِيمُ النَّفْسِ عِنْدَ مُطَالَبَةِ الْوَلِيِّ بِالْقِصَاصِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَاتِلَ ليس له أن يمتنع هاهنا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ، بَلْ لِلزَّانِي وَالسَّارِقِ الْهَرَبُ مِنَ الْحَدِّ وَلَهُمَا أَيْضًا أَنْ يَسْتَتِرَا بِسِتْرِ اللَّهِ وَلَا يُقِرَّا، وَالْفَرْقُ أَنَّ ذَلِكَ حَقُّ الْآدَمِيِّ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي إِيجَابَ التَّسْوِيَةِ فِي الْقَتْلِ وَالتَّسْوِيَةُ فِي الْقَتْلِ صِفَةُ الْقَتْلِ وَإِيجَابُ الصِّفَةِ يَقْتَضِي إِيجَابَ الذَّاتِ، فَكَانَتِ الْآيَةُ مُفِيدَةً لِإِيجَابِ الْقَتْلِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى مُوجِبِ الْعَمْدِ هُوَ الْقِصَاصُ، وَذَهَبُ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إِلَى أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ إِمَّا الْقِصَاصُ وَإِمَّا الدِّيَةُ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، لِأَنَّهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُخَاطَبُ بِهَذَا الْخِطَابِ هُوَ الْإِمَامَ أَوْ وَلِيَّ الدَّمِ فَهُوَ بِالِاتِّفَاقِ مَشْرُوطٌ بِمَا إِذَا كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ يُرِيدُ الْقَتْلَ

عَلَى التَّعْيِينِ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ الْقِصَاصُ مُتَعَيِّنًا، إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ وَلِيَّ الدَّمِ هَلْ يَتَمَكَّنُ مِنَ الْعُدُولِ إِلَى الدِّيَةِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ الدِّيَةَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْمُمَاثَلَةِ الَّتِي دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِيجَابِهَا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُرَاعَى جِهَةُ الْقَتْلِ الْأَوَّلِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ قَتَلَهُ بِقَطْعِ الْيَدِ قُطِعَتْ يَدُ الْقَاتِلِ فَإِنْ مَاتَ مِنْهُ فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ وَإِلَّا/ حُزَّتْ رَقَبَتُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُحْرِقَ الْأَوَّلُ بِالنَّارِ أُحْرِقَ الثَّانِي، فَإِنْ مَاتَ فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ وَإِلَّا حُزَّتْ رَقَبَتُهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُرَادُ بِالْمَثَلِ تَنَاوُلُ النَّفْسِ بِأَرْجَى مَا يُمْكِنُ فَعَلَى هَذَا لَا اقْتِصَاصَ إِلَّا بِالسَّيْفِ بِحَزِّ الرَّقَبَةِ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي حُصُولَ التَّسْوِيَةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ الْمُمْكِنَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ كُتِبَتِ التَّسْوِيَةُ فِي الْقَتْلَى إِلَّا فِي كَيْفِيَّةِ الْقَتْلِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ، فَدَخَلَ هَذَا عَلَى أَنَّ كَيْفِيَّةَ الْقَتْلِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ النَّصِّ وَثَانِيهَا: أَنَّا لَوْ لَمْ نَحْكُمْ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى التَّسْوِيَةِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ لَصَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً وَلَوْ حَكَمْنَا فِيهَا بِالْعُمُومِ كَانَتِ الْآيَةُ مُفِيدَةً، لَكِنَّهَا بِمَا صَارَتْ مَخْصُوصَةً فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَالتَّخْصِيصُ أَهْوَنُ مِنَ الْإِجْمَالِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْآيَةَ لَوْ لَمْ تُفِدْ إِلَّا الْإِيجَابَ لِلتَّسْوِيَةِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ فَلَا شَيْئَيْنِ إِلَّا وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، فَحِينَئِذٍ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، وَهَذَا الْوَجْهُ قَرِيبٌ مِنَ الثاني فثبت أن هذه الآية تفيد وجوب التَّسْوِيَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ ثُمَّ تَأَكَّدَ هَذَا النَّصُّ بِسَائِرِ النُّصُوصِ الْمُقْتَضِيَةِ لِوُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 194] مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [غَافِرٍ: 40] ثُمَّ تَأَكَّدَتْ هَذِهِ النُّصُوصُ الْمُتَوَاتِرَةُ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ عَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ: «مَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ» وَمِمَّا يُرْوَى أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَخَ رَأْسَ صَبِيَّةٍ بِالْحِجَارَةِ فَقَتَلَهَا، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُرْضَخَ رَأْسُ الْيَهُودِيِّ بِالْحِجَارَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بَلَغَتْ دَلَالَةُ الْآيَةِ مَعَ سَائِرِ الْآيَاتِ، وَمَعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ مَبْلَغًا قَوِيًّا، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا قَوَدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ» وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّهَا» وَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ لَمَّا تَعَارَضَتْ بَقِيَتْ دَلَالَةُ الْآيَاتِ خَالِيَةً عَنِ الْمُعَارَضَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَاتِلَ إِذَا لَمْ يَتُبْ وَأَصَرَّ عَلَى تَرْكِ التَّوْبَةِ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّهِ عُقُوبَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا إِذَا كَانَ تَائِبًا فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ [الشُّورَى: 25] وَإِذَا صَارَتِ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةً امْتَنَعَ أَنْ يَبْقَى التَّائِبُ مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ، وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «التَّوْبَةُ تَمْحُو الْحَوْبَةَ» فَثَبَتَ أَنَّ شَرْعَ الْقِصَاصِ فِي حَقِّ التَّائِبِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً ثُمَّ عِنْدَ هَذَا اخْتَلَفُوا فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِنَّمَا شُرِعَ لِيَكُونَ لُطْفًا بِهِ ثُمَّ سَأَلُوا أَنْفُسَهُمْ فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا تَكَلُّفَ بَعْدَ الْقَتْلِ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْقَتْلُ لُطْفًا بِهِ؟ وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا الْقَتْلَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ مِنْ حَيْثُ التَّشَفِّي وَمَنْفَعَةٌ لِسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَيْثُ يَزْجُرُ سَائِرَ النَّاسِ عَنِ الْقَتْلِ، وَمَنْفَعَةٌ لِلْقَاتِلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَتَّى عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُقْتَلَ صَارَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُ إِلَى الْخَيْرِ وَتَرْكِ الْإِصْرَارِ وَالتَّمَرُّدِ. / أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَفِيهِ قَوْلَانِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الْقِصَاصُ مَشْرُوعًا إِلَّا بَيْنَ الْحُرَّيْنِ وَبَيْنَ الْعَبْدَيْنِ وَبَيْنَ الْأُنْثَيَيْنِ. وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ: الْحُرُّ تُفِيدُ الْعُمُومَ فَقَوْلُهُ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ يُفِيدُ أَنْ يُقْتَلَ كُلُّ حُرٍّ بِالْحُرِّ، فَلَوْ كَانَ قَتْلُ حُرٍّ بِعَبْدٍ مَشْرُوعًا لَكَانَ ذَلِكَ الْحُرُّ مَقْتُولًا لَا بِالْحُرِّ وَذَلِكَ يُنَافِي إِيجَابَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ حُرٍّ مَقْتُولًا بِالْحُرِّ الثَّانِي: أَنَّ الْبَاءَ مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ فَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا لَا مَحَالَةَ بِفِعْلٍ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: الْحُرُّ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ وَالْمُبْتَدَأُ لَا يَكُونُ أَعَمَّ مِنَ الْخَبَرِ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُ أَوْ أَخَصَّ مِنْهُ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ حُرٍّ مَقْتُولًا بِالْحُرِّ وَذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَ حُرٍّ مَقْتُولًا بِالْعَبْدِ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ رِعَايَةَ الْمُمَاثَلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى فَلَمَّا ذَكَرَ عَقِيبَهُ قَوْلَهُ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ رِعَايَةَ التَّسْوِيَةِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالْعَبْدِيَّةِ مُعْتَبَرَةٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى وَإِيجَابُ الْقِصَاصِ عَلَى الْحُرِّ بِقَتْلِ الْعَبْدِ إِهْمَالٌ لِرِعَايَةِ التَّسْوِيَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَشْرُوعًا فَإِنِ احْتَجَّ الْخَصْمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [الْمَائِدَةِ: 45] فَجَوَابُنَا أَنَّ التَّرْجِيحَ مَعَنَا لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ شَرْعٌ لِمَنْ قَبْلَنَا، وَالْآيَةُ الَّتِي تَمَسَّكْنَا بِهَا شَرْعٌ لَنَا وَلَا شَكَّ أَنَّ شَرْعَنَا أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ مِنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي تَمَسَّكْنَا بِهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَحْكَامِ النُّفُوسِ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالتَّخْصِيصِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَاصَّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، ثُمَّ قَالَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ مُقْتَضَى ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ لَا يُقْتَلَ الْعَبْدُ إِلَّا بِالْعَبْدِ، وَأَنْ لَا تُقْتَلَ الْأُنْثَى إِلَّا بِالْأُنْثَى، إِلَّا أَنَّا خَالَفْنَا هَذَا الظَّاهِرَ لِدَلَالَةِ الِاجْتِمَاعِ، وَلِلْمَعْنَى الْمُسْتَنْبَطِ مِنْ نَسَقِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي قَتْلِ الحر بالعبد، فوجب أن يبقى هاهنا عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمَعْنَى الْمُسْتَنْبَطُ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ فَلَأَنْ يَقْتُلَ بِالْحُرِّ وَهُوَ فَوْقَهُ كَانَ أَوْلَى، بِخِلَافِ الْحُرِّ فَإِنَّهُ لَمَّا قُتِلَ بِالْحُرِّ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُقْتَلَ بِالْعَبْدِ الَّذِي هُوَ دُونَهُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي قَتْلِ الْأُنْثَى بِالذَّكَرِ، فَأَمَّا قَتْلُ الذَّكَرِ بِالْأُنْثَى فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْإِجْمَاعُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ لَا يُفِيدُ الْحَصْرَ الْبَتَّةَ، بَلْ يُفِيدُ شَرْعَ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْمَذْكُورِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى سَائِرِ الْأَقْسَامِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى يَقْتَضِي قِصَاصَ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ بِالْمَرْأَةِ الرَّقِيقَةِ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ مَانِعًا مِنْ ذَلِكَ لَوَقَعَ التَّنَاقُضُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى جُمْلَةٌ تَامَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا وَقَوْلَهُ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ جُزْئِيَّاتِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ بِالذِّكْرِ وَإِذَا تَقَدَّمَ/ ذِكْرُ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَقِلَّةِ كَانَ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ بِالذِّكْرِ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي سَائِرِ الْجُزْئِيَّاتِ بَلْ ذَلِكَ التَّخْصِيصُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِفَوَائِدَ سِوَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ سَائِرِ الصُّوَرِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْفَائِدَةِ فَذَكَرُوا فِيهَا وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ تِلْكَ الْفَائِدَةَ بَيَانُ إِبْطَالِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى مَا رُوِّينَا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ بِالْعَبْدِ مِنْهُمُ الْحُرَّ مِنْ قَبِيلَةِ الْقَاتِلِ، فَفَائِدَةُ التَّخْصِيصِ زَجْرُهُمْ عَنْ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْقَائِلِينَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنْ يَقُولُوا قَوْلُهُ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى هَذَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُسَاوَاةِ، وَقَتْلُ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ رِعَايَةُ الْمُسَاوَاةِ لِأَنَّهُ

زَائِدٌ عَلَيْهِ فِي الشَّرَفِ وَفِي أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ وَالْإِمَامَةِ وَالشَّهَادَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَشْرُوعًا، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهَذَا النَّصِّ فِي قَتْلِ الْعَالِمِ بِالْجَاهِلِ وَالشَّرِيفِ بِالْخَسِيسِ، إِلَّا أَنَّهُ يَبْقَى فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْأَصْلِ، ثُمَّ إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى يُوجِبُ قَتْلَ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، إِلَّا أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، هَذَا خَاصٌّ وَمَا قَبْلَهُ عَامٌّ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْخَاصُّ مُتَّصِلًا بِالْعَامِّ فِي اللَّفْظِ فَإِنَّهُ يَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ وَلَا شَكَّ فِي وُجُوبِ تَقْدِيمِهِ عَلَى الْعَامِّ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ فَائِدَةِ التَّخْصِيصِ مَا نَقَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّ هَذِهِ الصُّوَرَ هِيَ الَّتِي يُكْتَفَى فِيهَا بِالْقِصَاصِ، أَمَّا فِي سَائِرِ الصُّوَرِ وَهِيَ مَا إِذَا كَانَ الْقِصَاصُ وَاقِعًا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَبَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَهُنَاكَ لَا يُكْتَفَى بِالْقِصَاصِ بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّرَاجُعِ، وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْقَوْلَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَّا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُحَقِّقِينَ زَعَمُوا أَنَّ هَذَا النَّقْلَ لَمْ يَصِحَّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ عِنْدَ النَّظَرِ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ تُقْتَلُ بِالْوَاحِدِ وَلَا تَرَاجُعَ، فَكَذَلِكَ يُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى وَلَا تَرَاجُعَ، وَلِأَنَّ الْقَوَدَ نِهَايَةُ مَا يَجِبُ فِي الْقَتْلِ فَلَا يَجُوزُ وُجُوبُ غَيْرِهِ مَعَهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: مُوجِبُ الْعَمْدِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إِمَّا الْقِصَاصُ وَإِمَّا الدِّيَةُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عَافِيًا ومعفوا عنه، وليس هاهنا إِلَّا وَلِيُّ الدَّمِ وَالْقَاتِلُ، فَيَكُونُ الْعَافِي أَحَدَهُمَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقَاتِلَ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْعَفْوِ هُوَ إِسْقَاطُ الْحَقِّ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَأَتَّى مِنَ الْوَلِيِّ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ عَلَى القتل، فصار تقدير الآية: فإذا عفي وَلِيُّ الدَّمِ عَنْ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِالْقَاتِلِ فَلْيُتْبِعِ الْقَاتِلُ ذَلِكَ الْعَفْوَ بِمَعْرُوفٍ، وَقَوْلُهُ: شَيْءٌ مُبْهَمٌ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَذْكُورِ السَّابِقِ وَهُوَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ إِزَالَةً لِلْإِبْهَامِ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ إِذَا حَصَلَ الْعَفْوُ لِلْقَاتِلِ عَنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ، فَلْيُتْبِعِ الْقَاتِلُ الْعَافِيَ بِالْمَعْرُوفِ، وَلْيُؤَدِّ إِلَيْهِ مَالًا بِإِحْسَانٍ، وَبِالْإِجْمَاعِ لَا يَجِبُ أَدَاءُ غَيْرِ الدِّيَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ/ ذَلِكَ الْوَاجِبُ هُوَ الدِّيَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ هُوَ الْقَوَدُ أَوِ الْمَالُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ الْمَالُ وَاجِبًا عِنْدَ الْعَفْوِ عَنِ الْقَوَدِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ أَيْ أَثْبَتَ الْخِيَارَ لَكُمْ فِي أَخْذِ الدِّيَةِ، وَفِي الْقِصَاصِ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْيَهُودِ حَتْمُ الْقِصَاصِ وَالْحُكْمَ فِي النَّصَارَى حتم العفو فخف عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَشَرَعَ لَهُمُ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، وَذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِأَنَّ وَلِيَّ الدَّمِ قَدْ تَكُونُ الدِّيَةُ آثَرَ عِنْدَهُ مِنَ الْقَوَدِ إدا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الْمَالِ، وَقَدْ يَكُونُ الْقَوَدُ آثَرَ إِذَا كَانَ رَاغِبًا فِي التَّشَفِّي وَدَفْعِ شَرِّ الْقَاتِلِ عَنْ نَفْسِهِ، فَجَعَلَ الْخِيَرَةَ لَهُ فِيمَا أَحَبَّهُ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ فِي حَقِّهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَافِيَ هُوَ وَلِيُّ الدَّمِ وَقَوْلُهُ الْعَفْوُ إِسْقَاطُ الْحَقِّ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِوَلِيِّ الدَّمِ قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَفْوَ هُوَ إِسْقَاطُ الْحَقِّ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ أَيْ فَمَنْ سَهُلَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ، يُقَالُ: أَتَانِي هَذَا الْمَالُ عَفْوًا صَفْوًا، أَيْ سَهْلًا، وَيُقَالُ: خُذْ مَا عَفَا، أَيْ مَا سَهُلَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَمَنْ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ وَسَهُلَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ الَّذِي هُوَ الْقَاتِلُ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ فَلْيَتْبَعْ وَلِيُّ الدَّمِ ذَلِكَ الْقَاتِلَ فِي مُطَالَبَةِ ذَلِكَ الْمَالِ وَلْيُؤَدِّ الْقَاتِلُ إِلَى وَلِيِّ الدَّمِ ذَلِكَ الْمَالَ بالإحسان من

غير معطل وَلَا مُدَافَعَةٍ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَثَّ الْأَوْلِيَاءَ إِذَا دَعَوْا إِلَى الصُّلْحِ مِنَ الدَّمِ عَلَى الدِّيَةِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا أَنْ يَرْضَوْا بِهِ وَيَعْفُوا عَنِ الْقَوَدِ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْعَافِيَ هُوَ وَلِيُّ الدَّمِ، لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَيَعْفُو أَحَدُهُمَا فَحِينَئِذٍ يَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا فَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الشَّرِيكَ السَّاكِتَ بِاتِّبَاعِ الْقَاتِلِ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَمَرَ الْقَاتِلَ بِالْأَدَاءِ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْعَافِيَ هُوَ وَلِيُّ الدَّمِ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا مَشْرُوطٌ بِرِضَا الْقَاتِلِ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ رِضَا الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ يَكُونُ ثَابِتًا لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ كُلِّ عَامِلٍ أَنَّهُ يَبْذُلُ كُلَّ الدُّنْيَا لِغَرَضِ دَفْعِ الْقَتْلِ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ إِذَا قُتِلَ لَا يَبْقَى لَهُ لَا النَّفْسُ وَلَا الْمَالُ أَمَّا بَذْلُ الْمَالِ فَفِيهِ إِحْيَاءُ النَّفْسِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الرِّضَا حَاصِلًا فِي الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ لَا جَرَمَ تَرَكَ ذكره وإن كان معتبرا في النفس الْأَمْرِ. وَالْجَوَابُ: حَمْلُ لَفْظِ الْعَفْوِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِسْقَاطِ حَقِّ الْقِصَاصِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ الْقَاتِلُ الْمَالَ إِلَى وَلِيِّ الدَّمِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ حَقِيقَةَ الْعَفْوِ إِسْقَاطُ الْحَقِّ، فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ حَقِيقَةً فِي غَيْرِهِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ، وَحَمْلُ اللَّفْظِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَقِّ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى كَانَ حَمْلُ قَوْلِهِ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ عَلَى إِسْقَاطِ حَقِّ الْقِصَاصِ أَوْلَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ: شَيْءٌ لَفْظٌ مُبْهَمٌ/ وَحَمْلُ هَذَا الْمُبْهَمِ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ الْمَذْكُورُ السَّابِقُ أَوْلَى الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْعَفْوِ مَا ذَكَرْتُمْ، لَكَانَ قَوْلُهُ: فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ عَبَثًا لِأَنَّ بَعْدَ وُصُولِ الْمَالِ إِلَيْهِ بِالسُّهُولَةِ وَالْيُسْرِ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى اتِّبَاعِهِ، وَلَا حَاجَةَ بِذَلِكَ الْمُعْطِي إِلَى أَنْ يُؤْمَرَ بِأَدَاءِ ذَلِكَ الْمَالِ بِالْإِحْسَانِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي فَمَدْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَتَمَشَّى بِفَرْضِ صُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهِيَ مَا إِذَا كَانَ حَقُّ الْقِصَاصِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ شَخْصَيْنِ ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا وَسَكَتَ الْآخَرُ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى شَرْعِيَّةِ هَذَا الْحُكْمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَحَمْلُ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ عَلَى الصُّورَةِ الْخَاصَّةِ الْمُفِيدَةِ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْهَاءَ فِي قَوْلِهِ: وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى مَذْكُورٍ سَابِقٍ، وَالْمَذْكُورُ السَّابِقُ هُوَ الْعَافِي، فَوَجَبَ أَدَاءُ هَذَا الْمَالِ إِلَى الْعَافِي، وَعَلَى قَوْلِكُمْ: يَجِبُ أَدَاؤُهُ إِلَى غَيْرِ الْعَافِي فَكَانَ قَوْلُكُمْ بَاطِلًا. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ أَنَّ شَرْطَ الرِّضَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعَ الزَّوَالِ، أَوْ كَانَ مُمْكِنَ الزَّوَالِ، فَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعَ الزَّوَالِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَكِنَةُ أَخْذِ الدِّيَةِ ثَابِتَةً لِوَلِيِّ الدَّمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنْ كَانَ مُمْكِنَ الزَّوَالِ كَانَ تَقْيِيدُ اللَّفْظِ بِهَذَا الشَّرْطِ الَّذِي مَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى اعْتِبَارِهِ مُخَالَفَةً لِلظَّاهِرِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَلَمَّا تَلَخَّصَ هَذَا الْبَحْثُ فَنَقُولُ: الْآيَةُ بَقِيَتْ فِيهَا أَبْحَاثٌ لَفْظِيَّةٌ نَذْكُرُهَا فِي مَعْرِضِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ تَرْكِيبُ قَوْلِهِ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ. الْجَوَابُ: تَقْدِيرُهُ: فَمَنْ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْعَفْوِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: سِيرَ بِزَيْدٍ بَعْضُ السَّيْرِ وَطَائِفَةٌ مِنَ السَّيْرِ الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ عُفِيَ يَتَعَدَّى بِعَنْ لَا بِاللَّامِ، فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ الْجَوَابُ: أَنَّهُ يَتَعَدَّى بِعَنْ إِلَى الْجَانِي وَإِلَى الذَّنْبِ، فَيُقَالُ عَفَوْتُ عَنْ فُلَانٍ وَعَنْ ذَنْبِهِ قَالَ اللَّهُ تعالى: عَفَا

اللَّهُ عَنْكَ [التَّوْبَةِ: 43] فَإِذَا تَعَدَّى إِلَى الذَّنْبِ قِيلَ: عَفَوْتُ عَنْ فُلَانٍ عَمَّا جَنَى، كَمَا تَقُولُ: عَفَوْتُ لَهُ عَنْ ذَنْبِهِ، وَتَجَاوَزْتُ لَهُ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ جِنَايَتِهِ، فَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْجِنَايَةِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: لِمَ قِيلَ شَيْءٌ مِنَ الْعَفْوِ؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يُشْكِلُ إِذَا كَانَ الْحَقُّ لَيْسَ إِلَّا الْقَوَدَ فَقَطْ، فَحِينَئِذٍ يُقَالُ: الْقَوَدُ لَا يَتَبَعَّضُ فَلَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ: شَيْءٌ فَائِدَةٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ مَجْمُوعُ حَقِّهِ إِمَّا الْقَوَدُ وَإِمَّا الْمَالُ كَانَ مَجْمُوعُ حَقِّهِ مُتَبَعِّضًا لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ دُونَ الْمَالِ، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْكُلِّ، فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَقُولَ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ تَنْكِيرَ الشَّيْءِ يُفِيدُ فَائِدَةً عَظِيمَةً، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْعَفْوَ لَا يُؤَثِّرُ/ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَفْوًا عَنْ جَمِيعِهِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ جُزْئِهِ كَالْعَفْوِ عَنْ كُلِّهِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ، وَعَفْوُ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ حَقِّهِ، كَعَفْوِ جَمِيعِهِمْ عَنْ خَلْقِهِمْ، فَلَوْ عَرَّفَ الشَّيْءَ كَانَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَلَمَّا نَكَّرَهُ صَارَ هَذَا الْمَعْنَى مَفْهُومًا مِنْهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: بِأَيِّ مَعْنًى أَثْبَتَ اللَّهُ وَصْفَ الْأُخُوَّةِ. وَالْجَوَابُ: قِيلَ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ كَوْنِ الْفَاسِقِ مُؤْمِنًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ مُؤْمِنًا حَالَ مَا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ إِذَا صَدَرَ عَنْهُ الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ وَهُوَ بِالْإِجْمَاعِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ الْأُخُوَّةَ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَبَيْنَ وَلِيِّ الدَّمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأُخُوَّةَ تَكُونُ بِسَبَبِ الدِّينِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الْحُجُرَاتِ: 15] فَلَوْلَا أَنَّ الْإِيمَانَ بَاقٍ مَعَ الْفِسْقِ وَإِلَّا لَمَا بَقِيَتِ الْأُخُوَّةُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى نَدَبَ إِلَى الْعَفْوِ عَنِ الْقَاتِلِ، وَالنَّدْبُ إِلَى الْعَفْوِ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِ، أَجَابَتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَقَالُوا: إِنْ قُلْنَا الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى هُمُ الْأَئِمَّةُ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمْ هُمُ الْقَاتِلُونَ فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَاتِلَ قَبْلَ إِقْدَامِهِ عَلَى الْقَتْلِ كَانَ مُؤْمِنًا، فَسَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى مُؤْمِنًا بِهَذَا التَّأْوِيلِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَاتِلَ قَدْ يَتُوبُ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مُؤْمِنًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَدْخَلَ فِيهِ غَيْرَ التَّائِبِ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ذِكْرُ الْأُخُوَّةِ، فَأَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ نَازِلَةٌ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدٌ أَحَدًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِخْوَةٌ قَبْلَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ وَالثَّانِي: الظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاسِقَ يَتُوبُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ أَخًا لَهُ وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَعْلُهُ أَخًا لَهُ فِي النَّسَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [الْأَعْرَافِ: 65] وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ حَصَلَ بَيْنَ وَلِيِّ الدَّمِ وَبَيْنَ الْقَاتِلِ تَعَلُّقٌ وَاخْتِصَاصٌ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْأُخُوَّةِ، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ، قُلْ لِصَاحِبِكَ كَذَا إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَدْنَى تَعَلُّقٍ وَالْخَامِسُ: ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْأُخُوَّةِ لِيَعْطِفَ أَحَدَهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِذِكْرِ مَا هُوَ ثَابِتٌ بَيْنَهُمَا مِنَ الْجِنْسِيَّةِ فِي الْإِقْرَارِ وَالِاعْتِقَادِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ بِأَسْرِهَا تَقْتَضِي تَقْيِيدَ الْأُخُوَّةِ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَبِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ الْأُخُوَّةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ فَفِيهِ أبحاث:

[سورة البقرة (2) : آية 179]

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ رَفْعٌ لِأَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَتَقْدِيرُهُ: فَحُكْمُهُ اتِّبَاعٌ، أَوْ هُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَعَلَيْهِ اتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قِيلَ: عَلَى الْعَافِي الِاتِّبَاعُ بِالْمَعْرُوفِ، وَعَلَى الْمَعْفُوِّ عَنْهُ أَدَاءٌ بِإِحْسَانٍ، عَنِ ابْنِ/ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ، وَقِيلَ: هُمَا عَلَى الْمَعْفُوِّ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُتْبِعُ عَفْوَ الْعَافِي بِمَعْرُوفٍ، وَيُؤَدِّي ذَلِكَ الْمَعْرُوفَ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الِاتِّبَاعُ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ لَا يُشَدِّدَ بِالْمُطَالَبَةِ، بَلْ يَجْرِي فِيهَا عَلَى الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَالنَّظِرَةُ، وَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لَعِينِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يُطَالِبُهُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الْحَقِّ، وَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِغَيْرِ الْمَالِ الْوَاجِبِ، فَالْإِمْهَالُ إِلَى أَنْ يَبْتَاعَ وَيَسْتَبْدِلَ، وَأَنْ لَا يَمْنَعَهُ بِسَبَبِ الِاتِّبَاعِ عَنْ تَقْدِيمِ الْأَهَمِّ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، فَأَمَّا الْأَدَاءُ بِإِحْسَانٍ فَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ لَا يَدَّعِيَ الْإِعْدَامَ فِي حَالِ الْإِمْكَانِ وَلَا يُؤَخِّرَهُ مَعَ الْوُجُودِ، وَلَا يُقَدِّمَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ الْمَالَ عَلَى بِشْرٍ وَطَلَاقَةٍ وَقَوْلٍ جَمِيلٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ أَيِ الْحُكْمُ بِشَرْعِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ تَخْفِيفٌ فِي حَقِّكُمْ، لِأَنَّ الْعَفْوَ وَأَخْذَ الدِّيَةَ مُحَرَّمَانِ عَلَى أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْقِصَاصُ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِمُ الْبَتَّةَ وَالْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ مُحَرَّمَانِ عَلَى أَهْلِ الْإِنْجِيلِ وَالْعَفْوُ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِمْ وَهَذِهِ الْأُمَّةُ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ وَالْعَفْوِ تَوْسِعَةً عَلَيْهِمْ وَتَيْسِيرًا، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ التَّخْفِيفُ يَعْنِي جَاوَزَ الْحَدَّ إِلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: الْمُرَادُ أَنْ لَا يَقْتُلَ بَعْدَ الْعَفْوِ وَالدِّيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا عَفَوْا وَأَخَذُوا الدِّيَةَ، ثُمَّ ظَفِرُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِالْقَاتِلِ قَتَلُوهُ، فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَقِيلَ الْمُرَادُ: أَنْ يَقْتُلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ قَاتَلِهِ أَوْ طَلَبَ أَكْثَرَ مِمَّا وَجَبَ له من الدية أو جاوز الحد بعد ما بَيَّنَ لَهُ كَيْفِيَّةَ الْقِصَاصِ وَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْجَمِيعِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ وَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْعَذَابِ شَدِيدُ الْأَلَمِ فِي الْآخِرَةِ وَالثَّانِي: رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ هُوَ أَنْ يُقْتَلَ لَا مَحَالَةَ وَلَا يُعْفَى عَنْهُ وَلَا يُقْبَلَ الدِّيَةُ مِنْهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا أُعَافِي أَحَدًا قَتَلَ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ الدِّيَةَ» وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْقَوَدَ تَارَةً يَكُونُ عَذَابًا وَتَارَةً يَكُونُ امْتِحَانًا، كَمَا فِي حَقِّ التَّائِبِ فَلَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ اسْمِ الْعَذَابِ عَلَيْهِ إِلَّا فِي وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقَاتِلَ لِمَنْ عُفِيَ عَنْهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ بِأَنْ لَا يُمَكَّنَ وَلِيُّ الدَّمِ مِنَ الْعَفْوِ عَنْهُ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ وَلِيِّ الدَّمِ فَلَهُ إِسْقَاطُهُ قِيَاسًا عَلَى تَمَكُّنِهِ من إسقاط سائر الحقوق والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 179] وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْقِصَاصَ وَكَانَ الْقِصَاصُ مِنْ بَابِ الْإِيلَامِ تَوَجَّهَ فِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ كَيْفَ يَلِيقُ بِكَمَالِ رَحْمَتِهِ إِيلَامُ الْعَبْدِ الضَّعِيفِ؟ فَلِأَجْلِ دَفْعِ هَذَا السُّؤَالِ ذَكَرَ عَقِيبَهُ حِكْمَةَ شَرْعِ

الْقِصَاصِ فَقَالَ: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ نَفْسَ الْقِصَاصِ حَيَاةٌ لِأَنَّ الْقِصَاصَ إِزَالَةٌ لِلْحَيَاةِ وَإِزَالَةُ الشَّيْءِ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ نَفْسَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ شَرْعَ الْقِصَاصِ يُفْضِي إِلَى الْحَيَاةِ فِي حَقِّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ قَاتِلًا، وَفِي حَقِّ مَنْ يُرَادُ جَعْلُهُ مَقْتُولًا وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمَا أَيْضًا، أَمَّا فِي حَقِّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ قَاتِلًا فَلِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ قُتِلَ تَرَكَ الْقَتْلَ فَلَا يَقْتُلُ فَيَبْقَى حَيًّا، وَأَمَّا فِي حَقِّ مَنْ يُرَادُ جَعْلُهُ مَقْتُولًا فَلِأَنَّ مَنْ أَرَادَ قَتْلَهُ إِذَا خَافَ مِنَ الْقِصَاصِ تَرَكَ قَتْلَهُ فَيَبْقَى غَيْرَ مَقْتُولٍ، وَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا فَلِأَنَّ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ بَقَاءَ مَنْ هَمَّ بِالْقَتْلِ، أَوْ مَنْ يَهُمُّ بِهِ وَفِي بَقَائِهِمَا بَقَاءُ مَنْ يَتَعَصَّبُ لَهُمَا، لِأَنَّ الْفِتْنَةَ تَعْظُمُ بِسَبَبِ الْقَتْلِ فَتُؤَدِّي إِلَى الْمُحَارَبَةِ الَّتِي تَنْتَهِي إِلَى قَتْلِ عَالَمٍ مِنَ النَّاسِ وَفِي تَصَوُّرِ كَوْنِ الْقِصَاصِ مَشْرُوعًا زَوَالُ كُلِّ ذَلِكَ وَفِي زَوَالِهِ حَيَاةُ الْكُلِّ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا أَنَّ نَفْسَ الْقِصَاصِ سَبَبُ الْحَيَاةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ سَافِكَ الدَّمِ إِذَا أُقِيدَ مِنْهُ ارْتَدَعَ مَنْ كَانَ يَهُمُّ بِالْقَتْلِ فَلَمْ يَقْتُلْ، فَكَانَ الْقِصَاصُ نَفْسُهُ سَبَبًا لِلْحَيَاةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْقِصَاصِ الَّذِي هُوَ الْقَتْلُ، يَدْخَلُ فِيهِ الْقِصَاصُ فِي الْجَوَارِحِ وَالشِّجَاجِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ إِنْ جَرَحَ عَدُوَّهُ اقْتُصَّ مِنْهُ زَجَرَهُ ذَلِكَ عَنِ الْإِقْدَامِ فَيَصِيرُ سَبَبًا لِبَقَائِهِمَا لِأَنَّ الْمَجْرُوحَ لَا يُؤْمَنُ فِيهِ الْمَوْتُ وَكَذَلِكَ الْجَارِحُ إِذَا اقْتُصَّ مِنْهُ وَأَيْضًا فَالشَّجَّةُ وَالْجِرَاحَةُ الَّتِي لَا قَوَدَ فِيهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْآيَةِ لِأَنَّ الْجَارِحَ لَا يَأْمَنُ أَنْ تُؤَدِّيَ جِرَاحَتُهُ إِلَى زُهُوقِ النَّفْسِ فَيَلْزَمُ الْقَوَدُ، فَخَوْفُ الْقِصَاصِ حَاصِلٌ فِي النَّفْسِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْقِصَاصِ إِيجَابُ التَّسْوِيَةِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّ فِي إِيجَابِ التَّسْوِيَةِ حَيَاةٌ لِغَيْرِ الْقَاتِلِ، لِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ غَيْرُ الْقَاتِلِ بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَرَأَ أَبُو الْجَوْزَاءِ وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أَيْ فِيمَا قَصَّ عَلَيْكُمْ مِنْ حُكْمِ الْقَتْلِ وَالْقِصَاصِ وَقِيلَ: الْقِصاصُ الْقُرْآنُ، أَيْ لَكُمْ فِي الْقُرْآنِ حَيَاةٌ لِلْقُلُوبِ كقوله: رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الْأَنْفَالِ: 42] وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْإِيجَازِ مَعَ جَمْعِ الْمَعَانِي بِاللُّغَةِ بَالِغَةٌ إِلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثير، كَقَوْلِهِمْ: قَتْلُ الْبَعْضِ إِحْيَاءٌ لِلْجَمِيعِ، وَقَوْلُ آخَرِينَ: أَكْثِرُوا الْقَتْلَ لِيَقِلَّ الْقَتْلُ، وَأَجْوَدُ الْأَلْفَاظِ الْمَنْقُولَةِ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ، ثُمَّ إِنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ أَفْصَحُ مِنْ هَذَا، وَبَيَانُ التَّفَاوُتِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أَخْصَرُ مِنَ الْكُلِّ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَكُمْ لَا يَدْخُلُ فِي/ هَذَا الْبَابِ، إِذْ لَا بُدَّ فِي الْجَمِيعِ مِنْ تَقْدِيرِ ذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: قَتْلُ الْبَعْضِ إِحْيَاءٌ لِلْجَمِيعِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقْدِيرٍ مِثْلِهِ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ فَإِذَا تَأَمَّلْتَ عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَهُ: فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أَشَدُّ اخْتِصَارًا مِنْ قَوْلِهِمْ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي كَوْنَ الشَّيْءِ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ نَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَقَوْلَهُ: فِي الْقِصاصِ حَياةٌ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْقَتْلِ وَهُوَ الْقِصَاصُ، ثُمَّ مَا جَعَلَهُ سَبَبًا لِمُطْلَقِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْحَيَاةَ مُنَكَّرَةً، بَلْ جَعَلَهُ سَبَبًا لِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَاةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ، فِيهِ تَكْرَارٌ لِلَفْظِ الْقَتْلِ وَلَيْسَ قَوْلُهُ: فِي الْقِصاصِ حَياةٌ كَذَلِكَ وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ. لَا يُفِيدُ إِلَّا الرَّدْعَ عَنِ الْقَتْلِ، وَقَوْلُهُ: فِي الْقِصاصِ

حَياةٌ يُفِيدُ الرَّدْعَ عَنِ الْقَتْلِ وَعَنِ الْجَرْحِ وَغَيْرِهِمَا فَهُوَ أَجْمَعُ لِلْفَوَائِدِ وَخَامِسُهَا: أَنَّ نَفْيَ الْقَتْلِ مَطْلُوبٌ تَبَعًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَتَضَمَّنُ حُصُولَ الْحَيَاةِ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى حُصُولِ الْحَيَاةِ وَهُوَ مَقْصُودٌ أَصْلِيٌّ، فَكَانَ هَذَا أَوْلَى وَسَادِسُهَا: أَنَّ الْقَتْلَ ظُلْمًا قَتْلٌ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ نَافِيًا لِلْقَتْلِ بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِزِيَادَةِ الْقَتْلِ، إِنَّمَا النَّافِي لِوُقُوعِ الْقَتْلِ هُوَ الْقَتْلُ الْمَخْصُوصُ وَهُوَ الْقِصَاصُ، فَظَاهِرُ قَوْلِهِمْ بَاطِلٌ، أَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ صَحِيحَةٌ ظَاهِرًا وَتَقْدِيرًا، فَظَهَرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ كَلَامِ الْعَرَبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَقْتُولَ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ لَوَجَبَ أَنْ يَمُوتَ. فَقَالُوا إِذَا كَانَ الَّذِي يُقْتَلُ يَجِبُ أَنْ يَمُوتَ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ، فَهَبْ أَنَّ شَرْعَ الْقِصَاصِ يَزْجُرُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ قَاتِلًا عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ، لَكِنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ يَمُوتُ سَوَاءٌ قَتَلَهُ هَذَا الْقَاتِلُ أَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ شَرْعُ الْقِصَاصِ مُفْضِيًا إِلَى حُصُولِ الْحَيَاةِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّا إِنَّمَا نَقُولُ فِيمَنْ قُتِلَ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ كَانَ يَمُوتُ لَا فِيمَنْ أُرِيدَ قَتْلُهُ وَلَمْ يُقْتَلْ فَلَا يَلْزَمُ مَا قُلْتُمْ، قُلْنَا أَلَيْسَ إِنَّمَا يُقَالُ فِيمَنْ قُتِلَ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ؟ فَإِذَا قُلْتُمْ: كَانَ يَمُوتُ فَقَدْ حَكَمْتُمْ فِي أَنَّ مِنْ حَقِّ كُلِّ وَقْتٍ صَحَّ وُقُوعُ قَتْلِهِ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ كَقَتْلِهِ، وَذَلِكَ يُصَحِّحُ مَا أَلْزَمْنَاكُمْ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَوْلِكُمُ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لو لم يقتله إما لأن مَنَعَهُ مَانِعٌ عَنِ الْقَتْلِ، أَوْ بِأَنْ خَافَ قَتْلَهُ أَنَّهُ كَانَ يَمُوتُ وَفِي ذَلِكَ صِحَّةُ مَا أَلْزَمْنَاكُمْ، هَذَا كُلُّهُ أَلْفَاظُ الْقَاضِي أَمَّا قوله تعالى: يا أُولِي الْأَلْبابِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْعُقَلَاءُ الَّذِينَ يَعَرِفُونَ الْعَوَاقِبَ وَيَعْلَمُونَ جِهَاتِ الْخَوْفِ، فَإِذَا أَرَادُوا الْإِقْدَامَ عَلَى قتل أعداءهم، وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ يُطَالِبُونَ بِالْقَوَدِ صَارَ ذَلِكَ رَادِعًا لَهُمْ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يُرِيدُ إِتْلَافَ غَيْرِهِ بِإِتْلَافِ نَفْسِهِ فَإِذَا خَافَ ذَلِكَ كَانَ خَوْفُهُ سَبَبًا لِلْكَفِّ وَالِامْتِنَاعِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْخَوْفَ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْفِكْرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِمَّنْ لَهُ عَقْلٌ يَهْدِيهِ إِلَى هَذَا الْفِكْرِ فَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ يَهْدِيهِ إِلَى هَذَا الْفِكْرِ لَا يَحْصُلُ لَهُ هَذَا الْخَوْفُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَذَا الْخِطَابِ أُولِي الْأَلْبَابِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَفْظَةُ «لَعَلَّ» لِلتَّرَجِّي، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَجَوَابُهُ مَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَةِ: 21] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنَ الْكُلِّ التَّقْوَى، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ لَا يَتَّقُونَ بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ، وَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ أَيْضًا فِي تِلْكَ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: قَوْلُ الْحَسَنِ وَالْأَصَمِّ أَنَّ الْمُرَادَ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ نَفْسَ الْقَتْلِ بِخَوْفِ الْقِصَاصِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ التَّقْوَى مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَخْصِيصٌ لِلتَّقْوَى، فَحَمْلُهُ عَلَى الْكُلِّ أَوْلَى: وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا كَتَبَ عَلَى الْعِبَادِ الْأُمُورَ الشَّاقَّةَ مِنَ الْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ لِأَجْلِ أَنْ يَتَّقُوا النَّارَ بِاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي وَيَكُفُّوا عَنْهَا، فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ المقصود الأصلي وجب حمل الكلام عليه.

[سورة البقرة (2) : آية 180]

[سورة البقرة (2) : آية 180] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) الحكم الخامس [في قَوْلُهُ تَعَالَى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ] اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، أَمَّا قَوْلُهُ: إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ مُعَايَنَةَ الْمَوْتِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَكُونُ عَاجِزًا عَنِ الْإِيصَاءِ ثُمَّ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِهِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ حُضُورُ أَمَارَةِ الْمَوْتِ، وَهُوَ الْمَرَضُ الْمَخُوفُ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي اللُّغَةِ، يُقَالُ فِيمَنْ يُخَافُ عَلَيْهِ الْمَوْتُ: إِنَّهُ قَدْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ قَارَبَ الْبَلَدَ إِنَّهُ قَدْ وَصَلَ وَالثَّانِي: قَوْلُ الْأَصَمِّ إِنَّ الْمُرَادَ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْوَصِيَّةَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ بِأَنْ تَقُولُوا: إِذَا حَضَرَنَا الْمَوْتُ فَافْعَلُوا كَذَا قَالَ الْقَاضِي: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُوصِيَ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِي وَصِيَّتِهِ الْمَوْتَ جَازَ وَالثَّانِي: أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى غَيْرِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ الْمَالُ هاهنا وَالْخَيْرُ يُرَادُ بِهِ الْمَالُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْقُرْآنِ/ كَقَوْلِهِ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ [الْبَقَرَةِ: 272] وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ [الْعَادِيَاتِ: 8] مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ وإذا عرفت هذا فنقول: هاهنا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، فَالْوَصِيَّةُ وَاجِبَةٌ فِي الْكُلِّ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْوَصِيَّةَ فِيمَا إِذَا تَرَكَ خَيْرًا، وَالْمَالُ الْقَلِيلُ خَيْرٌ، يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7، 8] وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [الْقَصَصِ: 24] وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْخَيْرَ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَالْمَالُ الْقَلِيلُ كَذَلِكَ فَيَكُونُ خَيْرًا. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اعْتَبَرَ أَحْكَامَ الْمَوَارِيثِ فِيمَا يَبْقَى مِنَ الْمَالِ قَلَّ أَمْ كَثُرَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً [النِّسَاءِ: 7] فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ لَفْظَ الْخَيْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُخْتَصٌّ بِالْمَالِ الْكَثِيرِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ تَرَكَ دِرْهَمًا لَا يُقَالُ: إِنَّهُ تَرَكَ خَيْرًا، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ ذُو مَالٍ، فَإِنَّمَا يُرَادُ تَعْظِيمُ مَالِهِ وَمُجَاوَزَتُهُ حَدَّ أَهْلِ الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَ اسْمُ الْمَالِ قَدْ يَقَعُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى كُلِّ مَا يَتَمَوَّلُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا قِيلَ: فُلَانٌ فِي نِعْمَةٍ، وَفِي رَفَاهِيَةٍ مِنَ الْعَيْشِ. فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ تَكْثِيرُ النِّعْمَةِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ لَا يَنْفَكُّ عَنْ نِعْمَةِ اللَّهِ، وَهَذَا بَابٌ مِنَ الْمَجَازِ مَشْهُورٌ وَهُوَ نَفْيُ الِاسْمِ عَنِ الشَّيْءِ لِنَقْصِهِ، كَمَا قَدْ رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ» وَقَوْلِهِ: «لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ من باب شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ» وَنَحْوِ هَذَا. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً فِي كُلِّ مَا تَرَكَ، سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا، أَوْ كَثِيرًا، لَمَا كَانَ التَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: إِنْ تَرَكَ خَيْراً كَلَامًا مُفِيدًا، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا مَا، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، أَمَّا الَّذِي يَمُوتُ عُرْيَانًا وَلَا يَبْقَى مَعَهُ كسرة خبر، وَلَا قَدْرٌ مِنَ الْكِرْبَاسِ الَّذِي يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ، فَذَاكَ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ أن المراد هاهنا مِنَ الْخَيْرِ الْمَالُ الْكَثِيرُ، فَذَاكَ الْمَالُ هَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مَحْدُودٍ أَمْ لَا فيه قولان:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى مَوْلًى لَهُمْ فِي الْمَوْتِ، وَلَهُ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ أَوَلَا أُوصِي، قَالَ: لَا إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً وَلَيْسَ لَكَ كَثِيرُ مَالٍ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَجُلًا قال لها: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُوصِيَ، قَالَتْ: كَمْ مَالُكَ؟ قَالَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، قَالَتْ: كَمْ عِيَالُكَ؟ قَالَ أَرْبَعَةٌ قَالَتْ: قَالَ اللَّهُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً وَإِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يَسِيرٌ فَاتْرُكْهُ لِعِيَالِكَ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذَا تَرَكَ سَبْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَلَا يُوصِي فَإِنْ بَلَغَ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْصَى وَعَنْ قَتَادَةَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَعَنِ النَّخَعِيِّ مِنْ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ غير مقدر بمقدار معين. بل يختلف دلك بِاخْتِلَافِ حَالِ الرِّجَالِ، لِأَنَّ/ بِمِقْدَارٍ مِنَ الْمَالِ يُوصَفُ الْمَرْءُ بِأَنَّهُ غَنِيٌّ، وَبِذَلِكَ الْقَدْرِ لَا يُوصَفُ غَيْرُهُ بِالْغِنَى لِأَجْلِ كَثْرَةِ الْعِيَالِ وَكَثْرَةِ النَّفَقَةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ فِي الْإِيجَابِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمِقْدَارٍ مُقَدَّرٍ بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَ فَقْدَ الْبَيَانِ فِي مِقْدَارِ الْمَالِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ لَمْ تَجِبْ فِيهَا قَطُّ بِأَنْ يَقُولَ لَوْ وَجَبَتْ لَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّرَ الْمَالُ الْوَاجِبُ فِيهَا. أَمَّا قَوْلُهُ: الْوَصِيَّةُ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا قَالَ: كُتِبَ: لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْوَصِيَّةِ الْإِيصَاءَ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ الضمير في قوله: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ [الْبَقَرَةِ: 181] وَأَيْضًا إِنَّمَا ذُكِرَ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا طَالَ كَانَ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْمُؤَنَّثِ وَالْفِعْلِ، كَالْعِوَضِ مِنْ تَاءِ التَّأْنِيثِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ حَضَرَ الْقَاضِيَ امْرَأَةٌ، فَيُذَكِّرُونَ لِأَنَّ الْقَاضِيَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَفْعُ الْوَصِيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَالثَّانِي: عَلَى أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَلِلْوَالِدَيْنِ الْخَبَرُ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِكُتِبَ، كَمَا تَقُولُ قِيلَ عَبْدُ اللَّهِ قَائِمٌ، فَقَوْلُكَ عَبْدُ اللَّهِ قَائِمٌ جُمْلَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِقِيلَ. أَمَّا قَوْلُهُ: لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ وَاجِبَةٌ، بَيَّنَ بَعْدِ ذَلِكَ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لِمَنْ فَقَالَ: لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَصَمُّ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُوصُونَ لِلْأَبْعَدِينَ طَلَبًا لِلْفَخْرِ وَالشَّرَفِ، وَيَتْرُكُونَ الْأَقَارِبَ فِي الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ، فَأَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ الْوَصِيَّةَ لِهَؤُلَاءِ مَنْعًا لِلْقَوْمِ عَمَّا كَانُوا اعْتَادُوهُ وَهَذَا بَيِّنٌ الثَّانِي: قَالَ آخَرُونَ إِنَّ إِيجَابَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ لَمَّا كَانَ قَبْلَ آيَةِ الْمَوَارِيثِ، جَعَلَ اللَّهُ الْخِيَارَ إِلَى الْمُوصِي فِي مَالِهِ وَأَلْزَمَهُ أَنْ لَا يَتَعَدَّى فِي إخراجه ماله بعد موته عن الوالدان وَالْأَقْرَبِينَ فَيَكُونُ وَاصِلًا إِلَيْهِمْ بِتَمْلِيكِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» فَبَيَّنَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ كَانَ وَاصِلًا إِلَيْهِمْ بِعَطِيَّةِ الْمُوصِي، فَأَمَّا الْآنَ فَاللَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَأَنَّ عَطِيَّةَ اللَّهِ أَوْلَى مِنْ عَطِيَّةِ الْمُوصِي، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ الْبَتَّةَ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مِنْ قَبْلُ وَاجِبَةً لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: وَالْأَقْرَبِينَ مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ قَائِلُونَ: هُمُ الْأَوْلَادُ فَعَلَى هَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَقْرَبِينَ مَنْ عَدَا الْوَالِدَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ جَمِيعُ الْقَرَابَاتِ مَنْ يَرِثُ مِنْهُمْ وَمَنْ لَا يَرِثُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ الْوَصِيَّةَ لِلْقَرَابَةِ، ثُمَّ رَآهَا مَنْسُوخَةً. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: هُمْ مَنْ لَا يَرِثُونَ مِنَ الرَّجُلِ مِنْ أَقَارِبِهِ، فَأَمَّا الْوَارِثُونَ فَهُمْ خَارِجُونَ عَنِ اللَّفْظِ، أَمَّا قَوْلُهُ: بِالْمَعْرُوفِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ قَدْرَ مَا يُوصِي بِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَمْيِيزَ مَنْ يُوصَى لَهُ مِنَ الْأَقْرَبِينَ مِمَّنْ لَا يُوصَى، لِأَنَّ كِلَا الْوَجْهَيْنِ يَدْخُلُ فِي الْمَعْرُوفِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ فِي الْوَصِيَّةِ أَنْ يَسْلُكَ الطَّرِيقَ الْجَمِيلَةَ، فَإِذَا فَاضَلَ بَيْنَهُمْ، فَبِالْمَعْرُوفِ وَإِذَا سَوَّى فَكَمِثْلٍ، وَإِذَا حَرَمَ الْبَعْضَ فَكَمِثْلٍ لِأَنَّهُ لَوْ حَرَمَ الْفَقِيرَ وَأَوْصَى لِلْغَنِيِّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْرُوفًا، وَلَوْ سَوَّى بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ مَعَ عِظَمِ حَقِّهِمَا وَبَيْنَ بَنِي الْعَمِّ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا، وَلَوْ أَوْصَى لِأَوْلَادِ الْجَدِّ الْبَعِيدِ مَعَ حُضُورِ الْإِخْوَةِ لَمْ يَكُنْ مَا يَأْتِيهِ مَعْرُوفًا فَاللَّهُ تَعَالَى كَلَفَّهُ الْوَصِيَّةَ عَلَى طَرِيقَةٍ جَمِيلَةٍ خَالِيَةٍ عَنْ شَوَائِبِ الْإِيحَاشِ وَذَلِكَ مِنْ بَابِ مَا يُعْلَمُ بِالْعَادَةِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً لَمْ يَشْتَرِطْ تَعَالَى فِيهِ هَذَا الشَّرْطَ، الَّذِي لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَزِيَادَةٌ فِي تَوْكِيدِ وُجُوبِهِ، فَقَوْلُهُ: حَقًّا مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ، أَيْ حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا، فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذَا التَّكْلِيفِ بِالْمُتَّقِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ. فَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ أَنَّهُ لَازِمٌ لِمَنْ آثَرَ التَّقْوَى، وَتَحَرَّاهُ وَجَعَلَهُ طَرِيقَةً لَهُ وَمَذْهَبًا فَيَدْخُلُ الْكُلُّ فِيهِ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي وُجُوبَ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى الْمُتَّقِينَ وَالْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَاتِ وَالتَّكَالِيفَ عَامَّةٌ فِي حَقِّ الْمُتَّقِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَدْخُلُ الْكُلُّ تَحْتَ هَذَا التَّكْلِيفِ فَهَذَا جملة ما يتعلق بتفسير هذه الآية. [البحث حول أدلة الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً] وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَتْ وَاجِبَةً وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَتْ نَدْبًا وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَوْلِهِ: كُتِبَ وَبِقَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ وَكِلَا اللَّفْظَيْنِ يُنْبِئُ عَنِ الْوُجُوبِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ ذَلِكَ الْإِيجَابَ بِقَوْلِهِ: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا مِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْآيَةُ صَارَتْ مَنْسُوخَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَتَقْرِيرُ قَوْلِهِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَا هِيَ مُخَالِفَةً لِآيَةِ الْمَوَارِيثِ وَمَعْنَاهَا كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا أَوْصَى بِهِ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تَوْرِيثِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: 11] أو كتب على المختصر أَنْ يُوصِيَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِتَوْفِيرِ مَا أَوْصَى بِهِ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِمْ وَأَنْ لَا يَنْقُصَ مِنْ أَنْصِبَائِهِمْ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ ثُبُوتِ الْمِيرَاثِ لِلْأَقْرِبَاءِ مَعَ ثُبُوتِ الْوَصِيَّةِ بِالْمِيرَاثِ عَطِيَّةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْوَصِيَّةُ عَطِيَّةٌ مِمَّنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، فَالْوَارِثُ جُمِعَ لَهُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ بِحُكْمِ الْآيَتَيْنِ وَثَالِثُهَا: لَوْ قَدَّرْنَا حُصُولَ الْمُنَافَاةِ لَكَانَ يُمْكِنُ جَعْلُ آيَةِ الْمِيرَاثِ مُخَصِّصَةً لِهَذِهِ الْآيَةِ وَذَلِكَ لَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُوجِبُ الْوَصِيَّةَ لِلْأَقْرَبِينَ، ثُمَّ آيَةُ الْمِيرَاثِ تُخْرِجُ الْقَرِيبَ الْوَارِثَ وَيَبْقَى الْقَرِيبُ الَّذِي لَا يَكُونُ وَارِثًا دَاخِلًا تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنَ الْوَالِدَيْنِ مَنْ يَرِثُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرِثُ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الدِّينِ وَالرِّقِّ وَالْقَتْلِ وَمِنَ الْأَقَارِبِ الَّذِينَ لَا يَسْقُطُونَ فِي فَرِيضَةِ مَنْ لا يرث بهذه الأسباب الحاجة وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْقُطُ/ فِي حَالٍ وَيَثْبُتُ فِي حَالٍ، إِذَا كَانَ فِي الْوَاقِعَةِ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْقُطُ فِي كُلِّ حَالٍ إِذَا

كَانُوا ذَوِي رَحِمٍ فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَارِثًا لَمْ يَجُزِ الْوَصِيَّةُ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا جَازَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ لِأَجْلِ صِلَةِ الرَّحِمِ، فَقَدْ أَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ [النِّسَاءِ: 1] وَبِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى [النَّحْلِ: 90] فَهَذَا تَقْرِيرُ مَذْهَبِ أَبِي مُسْلِمٍ فِي هَذَا الْبَابِ. أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ فَيَتَوَجَّهُ تَفْرِيعًا عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا بِأَيِّ دَلِيلٍ صَارَتْ مَنْسُوخَةً؟ وَذَكَرُوا وجوها أحدهما: أَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِإِعْطَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَهْلَ الْمَوَارِيثِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَقَطْ وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مَعَ قَدْرٍ مِنَ الْحَقِّ بِالْمِيرَاثِ وُجُوبُ قَدْرٍ آخَرَ بِالْوَصِيَّةِ وَأَكْثَرُ مَا يُوجِبُهُ ذَلِكَ التَّخْصِيصُ لَا النَّسْخُ بِأَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ منسوخة فيمن لم يختلف إِلَّا الْوَالِدَيْنِ مِنْ حَيْثُ يَصِيرُ كُلُّ الْمَالُ حَقًّا لَهُمَا بِسَبَبِ الْإِرْثِ فَلَا يَبْقَى لِلْوَصِيَّةِ شَيْءٌ إِلَّا أَنَّ هَذَا تَخْصِيصٌ لَا نَسْخٌ وَثَانِيهَا: أَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَّا أَنَّ الْإِشْكَالَ فِيهِ أَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ فَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِهِ، وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ وَإِنْ كَانَ خَبَرَ وَاحِدٍ إِلَّا أَنَّ الْأَئِمَّةَ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ فَالْتَحَقَ بِالْمُتَوَاتِرِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: يُدَّعَى أَنَّ الْأَئِمَّةَ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ عَلَى وَجْهِ الظَّنِّ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ، فَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِهِ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَطَعُوا بِصِحَّتِهِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْآحَادِ لَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى الْخَطَأِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِالْإِجْمَاعِ وَالْإِجْمَاعُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ بِهِ الْقُرْآنُ. لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ الدَّلِيلُ النَّاسِخُ مَوْجُودًا إِلَّا أَنَّهُمُ اكْتَفَوْا بالإجماع من ذِكْرِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ فِي الْأُمَّةِ مَنْ أَنْكَرَ وُقُوعَ هَذَا النَّسْخِ فَكَيْفَ يُدَّعَى انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى حُصُولِ النَّسْخِ؟ وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِدَلِيلٍ قِيَاسِيٍّ وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: هَذِهِ الْوَصِيَّةُ لَوْ كانت واجبة لكان عند ما لَمْ تُوجَدْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ وَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ حَقُّ هَؤُلَاءِ الْأَقْرَبِينَ قِيَاسًا عَلَى الدُّيُونِ التي لا توجد الوصية بها لكن عند ما لَمْ تُوجَدِ الْوَصِيَّةُ لِهَؤُلَاءِ الْأَقْرَبِينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ شَيْئًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ [النِّسَاءِ: 11] وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ وَصِيَّةٌ وَلَا دَيْنٌ، فَالْمَالُ أَجْمَعُ مَصْرُوفٌ إِلَى أَهْلِ الْمِيرَاثِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْقِيَاسِ غَيْرُ جَائِزٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ صَارَتْ مَنْسُوخَةً اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً فِي حَقِّ مَنْ يَرِثُ وَفِي حَقِّ مَنْ لَا يَرِثُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُعْتَبَرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فِيمَنْ يَرِثُ ثَابِتَةٌ فِيمَنْ لَا يَرِثُ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ/ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَطَاوُسٌ وَالضَّحَّاكُ وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ وَالْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ حَتَّى قَالَ الضَّحَّاكُ: مَنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوصِيَ لِأَقْرِبَائِهِ فَقَدْ خَتَمَ عَمَلَهُ بِمَعْصِيَةٍ، وَقَالَ طَاوُسٌ: إِنْ أَوْصَى لِلْأَجَانِبِ وَتَرَكَ الْأَقَارِبَ نُزِعَ مِنْهُمْ وَرُدَّ إِلَى الْأَقَارِبِ، فَعِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بَقِيَتْ دَالَّةً عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرِيبِ الَّذِي لَا يَكُونُ وَارِثًا، وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرِيبِ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الْوَارِثِ الْقَرِيبِ، إِمَّا بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ وَإِمَّا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاة والسلام: «ألا لا وصية الوارث» أَوْ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ، وهاهنا الْإِجْمَاعُ غَيْرُ مَوْجُودٍ مَعَ ظُهُورِ الْخِلَافِ فِيهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَوَجَبَ أَنْ تَبْقَى الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرِيبِ الَّذِي لَا يَكُونُ وارثا.

[سورة البقرة (2) : آية 181]

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ مَالٌ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِغَيْرِ الْأَقَارِبِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ الْوَاجِبَةُ مُخْتَصَّةً بِالْأَقَارِبِ، وَصَارَتِ السُّنَّةُ مُؤَكِّدَةً لِلْقُرْآنِ فِي وُجُوبِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ صَارَتْ مَنْسُوخَةً فِي حَقِّ الْقَرِيبِ الَّذِي لَا يَكُونُ وَارِثًا فَأَجْوَدُ مَا لَهُمُ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَقْرِيرَهُ فِيمَا قَبْلُ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً فِي حَقِّ الْقَرِيبِ الَّذِي لَا يَكُونُ وَارِثًا، اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعَيْنِ الْأَوَّلُ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ جَعَلَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ لِلْأَفْقَرِ فَالْأَفْقَرِ مِنَ الْأَقْرِبَاءِ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هُمْ الأغنياء سَوَاءٌ الثَّانِي: رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَخَالِدِ بْنِ زَيْدٍ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ يَعْلَى أَنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ يُوصِي لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ وَلَهُ قُرَابَةٌ لَا تَرِثُهُ: يَجْعَلُ ثُلُثَيِ الثُّلُثِ لِذَوِي الْقَرَابَةِ وَثُلُثَ الثُّلُثِ لِمَنْ أَوْصَى لَهُ وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّ الْأَقَارِبَ إِنْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ انْتُزِعَتِ الْوَصِيَّةُ مِنَ الأجانب وردت إلى الأقارب والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 181] فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَمْرَ الْوَصِيَّةِ وَوُجُوبَهَا، وَعِظَمَ أَمْرِهَا، أَتْبَعَهُ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى الْوَعِيدِ فِي تَغْيِيرِهَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ بَدَّلَهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا الْمُبَدِّلُ مَنْ هُوَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ هُوَ الْوَصِيُّ/ أَوِ الشَّاهِدُ أَوْ سَائِرُ النَّاسِ، أَمَّا الْوَصِيُّ فَبِأَنْ يُغَيِّرَ الْوَصِيُّ الْوَصِيَّةَ إِمَّا فِي الْكِتَابَةِ وَإِمَّا فِي قِسْمَةِ الْحُقُوقِ وَأَمَّا الشَّاهِدُ فَبِأَنْ يُغَيِّرَ شَهَادَةً أَوْ يَكْتُمَهَا، وَأَمَّا غَيْرُ الْوَصِيِّ وَالشَّاهِدُ فبأن يمنعوا من وصول ذَلِكَ الْمَالِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ بَدَّلَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنِ التَّغْيِيرِ هُوَ الْمُوصِي نَهَى عَنْ تَغْيِيرِ الْوَصِيَّةِ عَنِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَصِيَّةِ إِلَيْهَا وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُوصُونَ لِلْأَجَانِبِ وَيَتْرُكُونَ الْأَقَارِبَ فِي الْجُوعِ وَالضُّرِّ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِالْوَصِيَّةِ لِلْأَقْرَبِينَ، ثُمَّ زَجَرَ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ هَذَا التَّكْلِيفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ بَدَّلَهُ عَائِدٌ إلى الوصية، مع أن الكناية المذكورة مذكورة وَالْوَصِيَّةُ مُؤَنَّثَةٌ، وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَعْنَى الْإِيصَاءِ وَدَالَّةٌ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ [الْبَقَرَةِ: 275] أَيْ وَعْظٌ، وَالتَّقْدِيرُ فَمَنْ بَدَّلَ مَا قَالَهُ الْمَيِّتُ، أَوْ مَا أَوْصَى بِهِ أَوْ سَمِعَهُ عَنْهُ وَثَانِيهَا: قِيلَ الْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْحُكْمِ وَالْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرُ فَمَنْ بَدَّلَ الْأَمْرَ الْمُقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى مَا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتَ فَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُؤَنَّثَةً وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْكِنَايَةَ تَعُودُ إِلَى مَعْنَى الْوَصِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ وَخَامِسُهَا: أَنَّ تَأْنِيثَ الْوَصِيَّةِ لَيْسَ بِالْحَقِيقِيِّ فَيَجُوزُ أَنْ يُكَنَّى عَنْهَا بِكِنَايَةِ الْمُذَكَّرِ. أما قوله: بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِثْمَ إِنَّمَا يَثْبُتُ أَوْ يَعْظُمُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُبَدِّلُ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلسَّمَاعِ لَوْ لَمْ يَقَعِ الْعِلْمُ بِهِ، فَصَارَ إِثْبَاتُ سَمَاعِهِ كَإِثْبَاتِ عِلْمِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ فَاعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ «إِنَّمَا» لِلْحَصْرِ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: إِثْمُهُ

[سورة البقرة (2) : آية 182]

عَائِدٌ إِلَى التَّبْدِيلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِثْمَ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ لَا يَعُودُ إِلَّا إِلَى الْمُبَدِّلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَنَّ الْمُبَدِّلَ مَنْ هُوَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَحْكَامٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الطِّفْلَ لَا يُعَذَّبُ عَلَى كُفْرِ أَبِيهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَمَرَ الْوَارِثَ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْوَارِثَ قَصَّرَ فِيهِ بِأَنْ لَا يَقْضِيَ دَيْنَهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْمَيِّتَ لَا يُعَذَّبُ بِسَبَبِ تَقْصِيرِ ذَلِكَ الْوَارِثِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْجُهَّالِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ إِثْمَ التَّبْدِيلِ لَا يَعُودُ إِلَّا إِلَى الْمُبَدِّلِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا بِذَنْبِ غَيْرِهِ وَتَتَأَكَّدُ دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الْأَنْعَامِ: 164] مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [الجاثية: 15، فُصِّلَتْ: 46] لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الْبَقَرَةِ: 286] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا أَوْصَى لِلْأَجَانِبِ، وَفِي الْأَقَارِبِ مَنْ تَشْتَدُّ حَاجَتُهُ هَلْ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ تَغْيِيرُ الْوَصِيَّةِ أَمَّا مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِمَنْ لَا يَرِثُ مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، / فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْأَقَارِبِ وَاجِبَةً عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ وَصَرَفَ الْوَصِيَّةَ إِلَى الْأَجَانِبِ كَانَ ذَلِكَ الْأَجْنَبِيُّ أَحَقَّ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُنْقَضُ ذَلِكَ وَيُرَدُّ إِلَى الْأَقْرَبِينَ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْصِيلَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ، أَمَّا مَنْ لَا يُوجِبُ الْوَصِيَّةَ لِلْقَرِيبِ الَّذِي لَا يَرِثُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِالثُّلُثِ أَوْ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنْ كَانَ بِالثُّلُثِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْمُسْتَحَبِّ، فَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: الْمُسْتَحَبُّ هُوَ النُّقْصَانُ مِنَ الثُّلُثِ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» فَنَدَبَ إِلَى النُّقْصَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الثُّلُثُ مُسْتَحَبٌّ، لِأَنَّهُ حَقُّهُ وَالثَّوَابُ فِيهِ أَكْثَرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ حَالَ الْمَيِّتِ وَحَالَ الْوَرَثَةِ وَقَدْرَ التَّرِكَةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى، فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلْثِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا بِأَمْرِ الْوَرَثَةِ، وَالْتِمَاسِ الرِّضَا مِنْهُمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا تَأْثِيرَ لِقَوْلِ الْوَرَثَةِ إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ، ثُمَّ إِذَا أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ إِنْ أَجَازَهُ الْوَارِثُ وَيَكُونُ عَطِيَّةً مِنَ الْمَيِّتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ يَكُونُ كَابْتِدَاءِ عَطِيَّةٍ مِنَ الْوَارِثِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى سَمِيعٌ لِلْوَصِيَّةِ عَلَى حَدِّهَا، وَيَعْلَمُهَا عَلَى صِفَتِهَا، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنَ التَّغْيِيرِ الْوَاقِعِ فِيهَا، وَاللَّهُ أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 182] فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَوَعَّدَ مَنْ يُبَدِّلُ الْوَصِيَّةَ، بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ التَّبْدِيلِ أَنْ يُبَدِّلَهُ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، أَمَّا إِذَا غَيَّرَهُ عَنْ بَاطِلٍ إِلَى حَقٍّ عَلَى طَرِيقِ الْإِصْلَاحِ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ لِأَنَّ الْإِصْلَاحَ يَقْتَضِي ضَرْبًا مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ فَذَكَرَ تَعَالَى الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا التَّبْدِيلِ وَبَيْنَ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ الْأَوَّلِ بِأَنْ أَوْجَبَ الْإِثْمَ فِي الْأَوَّلِ وَأَزَالَهُ عَنِ الثَّانِي بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي كَوْنِهِمَا تَبْدِيلَيْنِ وَتَغْيِيرَيْنِ، لِئَلَّا يُقَدَّرَ أَنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ فِي هَذَا الباب، وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ مُوصٍ بِالتَّشْدِيدِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَهُمَا لُغَتَانِ: وَصَّى وَأَوْصَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْجَنَفُ: الْمَيْلُ فِي الْأُمُورِ، وَأَصْلُهُ الْعُدُولُ عَنِ الِاسْتِوَاءِ، يُقَالُ: جَنِفَ يَجْنَفُ بِكَسْرِ النُّونِ

فِي الْمَاضِي، وَفَتْحِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، جَنَفًا، وَكَذَلِكَ: تَجَانَفَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: / غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ [الْمَائِدَةِ: 3] وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَنَفِ وَالْإِثْمِ أَنَّ الْجَنَفَ هُوَ الْخَطَأُ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ بِهِ وَالْإِثْمُ هُوَ الْعَمْدُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ خافَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هُوَ الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ. فَإِنْ قِيلَ: الْخَوْفُ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي أَمْرٍ مُنْتَظَرٍ، وَالْوَصِيَّةُ وَقَعَتْ فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَعَلُّقُهَا بِالْخَوْفِ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذَا الْمُصْلِحَ إِذَا شَاهَدَ الْمُوصِيَ يُوصِي فَظَهَرَتْ مِنْهُ أَمَارَاتُ الْجَنَفِ الَّذِي هُوَ الْمَيْلُ عَنْ طَرِيقَةِ الْحَقِّ مَعَ ضَرْبٍ مِنَ الْجَهَالَةِ، أَوْ مَعَ التَّأْوِيلِ أَوْ شَاهَدَ مِنْهُ تَعَمُّدًا بِأَنْ يَزِيدَ غَيْرَ الْمُسْتَحِقِّ، أَوْ يَنْقُصَ الْمُسْتَحِقَّ حَقَّهُ، أَوْ يَعْدِلَ عَنِ الْمُسْتَحِقِّ، فَعِنْدَ ظُهُورِ أَمَارَاتِ ذَلِكَ وَقَبْلَ تَحْقِيقِ الْوَصِيَّةِ يَأْخُذُ فِي الْإِصْلَاحِ، لِأَنَّ إِصْلَاحَ الْأَمْرِ عند ظهور أمارت فَسَادِهِ وَقَبْلَ تَقْرِيرِ فَسَادِهِ يَكُونُ أَسْهَلَ، فَلِذَلِكَ عَلَّقَ تَعَالَى بِالْخَوْفِ مِنْ دُونِ الْعِلْمِ، فَكَأَنَّ الْمُوصِيَ يَقُولُ وَقَدْ حَضَرَ الْوَصِيُّ وَالشَّاهِدُ عَلَى وَجْهِ الْمَشُورَةِ، أُرِيدُ أَنْ أُوصِيَ لِلْأَبَاعِدِ دُونَ الْأَقَارِبِ وَأَنْ أَزِيدَ فُلَانًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لِلزِّيَادَةِ، أَوْ أَنْقُصَ فُلَانًا مَعَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلزِّيَادَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ السَّامِعُ خائفا من جنف وَإِثْمٍ لَا قَاطِعًا عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً فَعَلَّقَهُ بِالْخَوْفِ الَّذِي هُوَ الظَّنُّ وَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِالْعِلْمِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَكِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَسْتَمِرَّ الْمُوصِي عَلَى تِلْكَ الْوَصِيَّةِ بَلْ يَفْسَخُهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَمِرَّ لِأَنَّ الْمُوصِيَ مَا لَمْ يَمُتْ فَلَهُ الرُّجُوعُ عَنِ الْوَصِيَّةِ وَتَغْيِيرُهَا بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَصِرِ الْجَنَفُ وَالْإِثْمُ مَعْلُومَيْنِ، لِأَنَّ تَجْوِيزَ فَسْخِهِ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ عَلَّقَهُ بِالْخَوْفِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَسْتَقِرَّ الْوَصِيَّةُ وَمَاتَ الْمُوصِي، فَمِنْ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصِي لَهُمْ مُصَالَحَةٌ عَلَى وَجْهِ تَرْكِ الْمَيْلِ وَالْخَطَأِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُنْتَظَرًا لَمْ يَكُنْ حُكْمُ الْجَنَفِ وَالْإِثْمِ مَاضِيًا مُسْتَقِرًّا، فَصَحَّ أَنْ يُعَلِّقَهُ تَعَالَى بِالْخَوْفِ وَزَوَالِ الْيَقِينِ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ يُمْكِنُ أَنْ تُذْكَرَ فِي مَعْنَى الْخَوْفِ وَإِنْ كَانَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَقْوَى. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ خافَ أَيْ فَمَنْ عَلِمَ وَالْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ يُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَوْفَ عِبَارَةٌ عَنْ حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ ظَنٍّ مَخْصُوصٍ وَبَيْنَ الْعِلْمِ وَبَيْنَ الظَّنِّ مُشَابَهَةٌ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ فَلِهَذَا صَحَّ إِطْلَاقُ اسْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمَيِّتَ إِذَا أَخْطَأَ فِي وَصِيَّتِهِ أَوْ جَارَ فِيهَا مُتَعَمِّدًا فَلَا حَرَجَ عَلَى مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ أَنْ يُغَيِّرَهُ وَيَرُدَّهُ إِلَى الصَّلَاحِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْجَنَفَ هُوَ الْخَطَأُ وَالْإِثْمَ هُوَ الْعَمْدُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَطَأَ فِي حَقِّ/ الْغَيْرِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ إِبْطَالُهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَمْدِ فَلَا فَصْلَ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ فِي ذَلِكَ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ سَوَّى عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا الْمُصْلِحُ مَنْ هُوَ؟ الظَّاهِرُ أَنَّهُ هُوَ الْوَصِيُّ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْوَصِيَّةِ وَقَدْ يَدْخُلُ تَحْتَهُ الشَّاهِدُ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ مَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ وَالٍ أَوْ وَلِيٍّ أَوْ وَصِيٍّ، أَوْ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ. فَكُلُّ

هَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ إِذَا ظَهَرَتْ لَهُمْ أَمَارَاتُ الْجَنَفِ والاسم فِي الْوَصِيَّةِ، أَوْ عَلِمُوا ذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ فِي هَذَا الْبَابِ، بَلِ الْوَصِيُّ وَالشَّاهِدُ أَوْلَى بِالدُّخُولِ تَحْتَ هَذَا التَّكْلِيفِ وَذَلِكَ لِأَنَّ بِهِمْ تَثْبُتَ الْوَصِيَّةُ فَكَانَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَا أَشَدَّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى مَذْكُورٍ سَابِقٍ فَمَا ذَلِكَ الْمَذْكُورُ السَّابِقُ؟ وَجَوَابُهُ: أَنْ لَا شُبْهَةَ أَنَّ الْمُرَادَ بَيْنَ أَهْلِ الْوَصَايَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ مُوصٍ دَلَّ عَلَى مَنْ لَهُ الْوَصِيَّةُ فَصَارَ كَأَنَّهُمْ ذَكَرُوا فَصَلَحَ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ كَأَنَّهُ قَالَ: فَأَصْلَحَ بَيْنَ أَهْلِ الْوَصِيَّةِ وَقَالَ الْقَائِلُونَ: الْمُرَادُ فَأَصْلَحَ بَيْنَ أَهْلِ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ هُوَ أَنْ يَزِيدَ الْمُوصِي فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى قَدْرِ الثُّلُثِ، فَالْمُصْلِحُ يُصْلِحُ بَيْنَ أَهْلِ الْوَصَايَا وَالْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ لَفْظَ الْمُوصِي إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَهْلِ الْوَصِيَّةِ لَا عَلَى الْوَرَثَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْجَنَفَ وَالْإِثْمَ لَا يَدْخُلُ فِي أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِالرِّضَا صَارَ ذِكْرُهُ كَلَا ذِكْرٍ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي إِبْطَالِهِ إِلَى إِصْلَاحٍ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي بيان كيفية هذا الإصلاح وهاهنا بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ هَذَا الْإِصْلَاحِ قَبْلَ أَنْ صَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً، فَنَقُولُ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ الْجَنَفَ وَالْإِثْمَ كَانَ إِمَّا بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ أَوْ بِعُدُولٍ فَإِصْلَاحُهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِإِزَالَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَرَدِّ كُلِّ حَقٍّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا الْإِصْلَاحِ بَعْدَ أَنْ صَارَتْ هَذِهِ الآية المنسوخة فنقول الجنف والإثم هاهنا يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ مِنْهَا أَنْ يَظْهَرَ مِنَ الْمَرِيضِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُحَاوِلُ مَنْعَ وُصُولِ الْمَالِ إِلَى الْوَارِثِ، إِمَّا بِذِكْرِ إِقْرَارٍ، أَوْ بِالْتِزَامِ عَقْدٍ، فَهَهُنَا يُمْنَعُ مِنْهُ وَمِنْهَا أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ وَمِنْهَا أَنْ يُوصِيَ لِلْأَبَاعِدِ وَفِي الْأَقَارِبِ شِدَّةُ حَاجَةٍ، وَمِنْهَا أَنْ يُوصِيَ مَعَ قِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ الْعِيَالِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْمُصْلِحُ قَدْ أَتَى بِطَاعَةٍ عَظِيمَةٍ فِي هَذَا الْإِصْلَاحِ وَهُوَ/ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُقَالَ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ. وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ إِثْمَ الْمُبَدِّلِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَهَذَا أَيْضًا مِنَ التَّبْدِيلِ بَيَّنَ مُخَالَفَتَهُ لِلْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ رَدَّ الْوَصِيَّةَ إِلَى الْعَدْلِ وَالثَّانِي: لَمَّا كَانَ الْمُصْلِحُ يَنْقُصُ الْوَصَايَا وَذَلِكَ يَصْعُبُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ وَيُوهِمُ فِيهِ إِثْمًا أَزَالَ الشُّبْهَةَ وَقَالَ: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَالثَّالِثُ: بَيَّنَ أَنَّ بِالْوَصِيَّةِ وَالْإِشْهَادِ لَا يَتَحَتَّمُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ مَتَى غَيَّرَ إِلَى الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ خَالَفَ الْوَصِيَّةَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَصَلَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِوَصِيَّةِ الْمُوصِي وَصَرْفٌ لِمَالِهِ عَمَّنْ أَحَبَّ إِلَى مَنْ كَرِهَ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوهِمُ الْقُبْحَ، فَبَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ لِقَوْلِهِ: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْإِكْثَارِ مِنَ الْقَوْلِ وَيَخَافُ فِيهِ أَنْ يَتَخَلَّلَهُ بَعْضُ مَا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَى الْمُصْلِحِ فِي هَذَا الْجِنْسِ إِذَا كَانَ قَصْدُهُ فِي الْإِصْلَاحِ جَمِيلًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ إِذَا خَافَ مَنْ يُرِيدُ الصُّلْحَ إِفْضَاءَ تِلْكَ الْمُنَازَعَةِ إِلَى أَمْرٍ مَحْذُورٍ فِي الشرع.

[سورة البقرة (2) : آية 183]

أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَفِيهِ أَيْضًا سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا يَلِيقُ بِمَنْ فَعَلَ فِعْلًا لَا يَجُوزُ، أَمَّا هَذَا الْإِصْلَاحُ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الطَّاعَاتِ فَكَيْفَ بِهِ هَذَا الْكَلَامُ وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ تَنْبِيهِ الْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى كَأَنَّهُ قَالَ أَنَا الَّذِي أَغْفِرُ الذُّنُوبَ ثُمَّ أَرْحَمُ الْمُذْنِبَ فَبِأَنْ أُوصِلَ رَحْمَتِي وَثَوَابِي إِلَيْكَ مَعَ أَنَّكَ تَحَمَّلْتَ الْمِحَنَ الْكَثِيرَةَ فِي إِصْلَاحِ هَذَا الْمُهِمِّ كَانَ أَوْلَى، وَثَانِيهَا: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الْمُوصِيَ الَّذِي أَقْدَمَ عَلَى الْجَنَفِ وَالْإِثْمِ مَتَى أُصْلِحَتْ وَصِيَّتُهُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَغْفِرُ لَهُ وَيَرْحَمُهُ بِفَضْلِهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُصْلِحَ رُبَّمَا احْتَاجَ فِي إِيتَاءِ الْإِصْلَاحِ إِلَى أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ كَانَ الْأَوْلَى تَرْكَهَا فَإِذَا عَلِمَ تَعَالَى مِنْهُ أَنَّ غَرَضَهُ لَيْسَ إِلَّا الْإِصْلَاحَ فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخِذُهُ بِهَا لأنه غفور رحيم. [سورة البقرة (2) : آية 183] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) الحكم السادس اعْلَمْ أَنَّ الصِّيَامَ مَصْدَرُ صَامَ كَالْقِيَامِ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْإِمْسَاكُ عَنِ الشَّيْءِ وَالتَّرْكُ لَهُ، وَمِنْهُ قِيلَ/ لِلصَّمْتِ: صَوْمٌ لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ عَنِ الْكَلَامِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً [مَرْيَمَ: 26] وَصَوْمُ النَّهَارِ إِذَا اعْتَدَلَ وَقَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَدَعْهَا وَسَلِّ الهم عنها بحسرة ... ذَمُولٍ إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا وَقَالَ آخَرُ: حَتَّى إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَاعْتَدَلْ وَصَامَتِ الرِّيحُ إِذَا رَكَدَتْ، وَصَامَ الْفَرَسُ إِذَا قَامَ عَلَى غَيْرِ اعْتِلَافٍ وَقَالَ النَّابِغَةُ: خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا وَيُقَالُ: بَكَرَةٌ صَائِمَةٌ إِذَا قَامَتْ فَلَمْ تَدُرْ قَالَ الرَّاجِزُ: وَالْبَكَرَاتُ شَرُّهُنَّ الصَّائِمَهْ وَمَصَامُ الشَّمْسِ حَيْثُ تَسْتَوِي فِي مُنْتَصَفِ النَّهَارِ، وَكَذَلِكَ مَصَامُ النَّجْمِ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ في فصامها ... بِأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إِلَى صُمِّ جَنْدَلِ هَذَا هُوَ مَعْنَى الصَّوْمِ فِي اللُّغَةِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ هُوَ الْإِمْسَاكُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ حَالَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ صَائِمًا مَعَ اقْتِرَانِ النِّيَّةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذَا التَّشْبِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى أَصْلِ إِيجَابِ الصَّوْمِ، يَعْنِي هَذِهِ الْعِبَادَةَ كَانَتْ مَكْتُوبَةً وَاجِبَةً عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى عَهْدِكُمْ، مَا أَخْلَى اللَّهُ أُمَّةً مِنْ إِيجَابِهَا عَلَيْهِمْ لَا يَفْرِضُهَا عَلَيْكُمْ وَحْدَكُمْ وَفَائِدَةُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ شَاقَّةٌ، وَالشَّيْءُ الشَّاقُّ إِذَا عَمَّ سَهُلَ تحمله.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ التَّشْبِيهَ يَعُودُ إِلَى وَقْتِ الصَّوْمِ وَإِلَى قَدْرِهِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ تَشْبِيهَ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي اسْتِوَاءَهُمَا فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَقْتَضِي الِاسْتِوَاءَ فِي كُلِّ الْأُمُورِ فَلَا، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ صِيَامَ رَمَضَانَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَمَّا الْيَهُودُ فَإِنَّهَا تَرَكَتْ هَذَا الشَّهْرَ وَصَامَتْ يَوْمًا مِنَ السَّنَةِ، زَعَمُوا أَنَّهُ يَوْمٌ غَرِقَ فِيهِ فِرْعَوْنُ، وَكَذَبُوا فِي ذَلِكَ أَيْضًا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ صَامُوا رَمَضَانَ فَصَادَفُوا فِيهِ الْحَرَّ الشَّدِيدَ فَحَوَّلُوهُ إِلَى وَقْتٍ لَا يَتَغَيَّرُ، ثُمَّ قَالُوا عِنْدَ التَّحْوِيلِ نَزِيدُ فِيهِ فَزَادُوا عَشْرًا، ثُمَّ بَعْدَ زَمَانٍ اشْتَكَى مَلِكُهُمْ فَنَذَرَ سَبْعًا فَزَادُوهُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ مَلِكٌ آخَرُ فَقَالَ: مَا بَالُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَأَتَمَّهُ خَمْسِينَ يَوْمًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً [التَّوْبَةِ: 31] وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ أَخَذُوا بِالْوَثِيقَةِ زَمَانًا فَصَامُوا قَبْلَ الثَّلَاثِينَ يَوْمًا وَبَعْدَهَا يَوْمًا، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْأَخِيرُ يَسْتَسِنُّ بِسُنَّةِ الْقَرْنِ الَّذِي قَبْلَهُ حَتَّى صَارُوا إِلَى خَمْسِينَ يَوْمًا، وَلِهَذَا كُرِهَ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَثَالِثُهَا: أَنَّ وَجْهَ التَّشْبِيهِ أَنَّهُ/ يَحْرُمُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْجِمَاعُ بَعْدَ النَّوْمِ كَمَا كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 187] يُفِيدُ نَسْخَ هَذَا الْحُكْمِ، فَهَذَا الْحُكْمُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ إِلَّا هَذَا التَّشْبِيهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّشْبِيهُ دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الْمَعْنَى، قَالَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَشْبِيهَ شَيْءٍ بِشَيْءٍ لَا يَدُلُّ عَلَى مُشَابَهَتِهِمَا مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ تَشْبِيهِ صَوْمِنَا بِصَوْمِهِمْ أَنْ يَكُونَ صَوْمُهُمْ مُخْتَصًّا بِرَمَضَانَ، وَأَنْ يَكُونَ صَوْمُهُمْ مُقَدَّرًا بِثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مِمَّا يُنَفِّرُ مِنْ قَبُولِ الْإِسْلَامِ إِذَا عَلِمَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى كَوْنَهُ كَذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَوْضِعِ كَما ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ مَوْضِعُ كَما نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّ الْمَعْنَى: فُرِضَ عَلَيْكُمْ فَرْضًا كَالَّذِي فُرِضَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الصِّيَامِ يُرَادُ بِهَا: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ مُشَبَّهًا وَمُمَثَّلًا بِمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هُوَ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: كِتَابَةً كَمَا كُتِبَ عَلَيْهِمْ، فَحُذِفَ الْمَصْدَرُ وَأُقِيمَ نَعْتُهُ مَقَامَهُ قَالَ: وَمِثْلُهُ فِي الِاتِّسَاعِ وَالْحَذْفِ قَوْلُهُمْ فِي صَرِيحِ الطَّلَاقِ: أَنْتِ وَاحِدَةٌ، وَيُرِيدُونَ أَنْتِ ذَاتُ تَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ وَأُقِيمَ صِفَةُ الْمُضَافِ مَقَامَ الِاسْمِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فَاعْلَمْ أَنَّ تَفْسِيرَ (لَعَلَّ) فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ تَقَدَّمَ، وَأَمَّا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ كَيْفَ يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الصَّوْمَ يُورِثُ التَّقْوَى لِمَا فِيهِ مِنَ انْكِسَارِ الشَّهْوَةِ وَانْقِمَاعِ الْهَوَى فَإِنَّهُ يَرْدَعُ عَنِ الْأَشَرِ وَالْبَطَرِ وَالْفَوَاحِشِ ويهون لذات الدنيا ورئاستها، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّوْمَ يَكْسِرُ شَهْوَةَ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ، وَإِنَّمَا يَسْعَى النَّاسُ لِهَذَيْنِ، كَمَا قِيلَ فِي المثل السائر: المرء يسعى لعارية بَطْنِهِ وَفَرْجِهِ، فَمَنْ أَكْثَرَ الصَّوْمَ هَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ هَذَيْنِ وَخَفَّتْ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُمَا، فَكَانَ ذَلِكَ رَادِعًا لَهُ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَحَارِمِ وَالْفَوَاحِشِ، وَمُهَوِّنًا عَلَيْهِ أَمْرَ الرِّيَاسَةِ فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ جَامِعٌ لِأَسْبَابِ التَّقْوَى فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ فَرَضْتُ عَلَيْكُمُ الصِّيَامَ لِتَكُونُوا بِهِ مِنَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَثْنَيْتُ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِي، وَأَعْلَمْتُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ هَدًى لَهُمْ وَلَمَّا اخْتُصَّ الصَّوْمُ بِهَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ حَسُنَ مِنْهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ عِنْدَ إِيجَابِهَا لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ مِنْهَا بِذَلِكَ عَلَى وَجْهِ وُجُوبِهِ لِأَنَّ مَا يَمْنَعُ النَّفْسَ عَنِ الْمَعَاصِي لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وَثَانِيهَا: الْمَعْنَى يَنْبَغِي لَكُمْ بِالصَّوْمِ أَنْ يَقْوَى وِجَاؤُكُمْ فِي

[سورة البقرة (2) : آية 184]

التقوى وهذا معنى «لعل» وثانيها: الْمَعْنَى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ اللَّهَ بِصَوْمِكُمْ وَتَرْكِكُمْ لِلشَّهَوَاتِ فَإِنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا كَانَتِ الرَّغْبَةُ فِيهِ أَكْثَرَ كَانَ الِاتِّقَاءُ عَنْهُ أَشَقَّ وَالرَّغْبَةُ فِي الْمَطْعُومِ وَالْمَنْكُوحِ أَشَدُّ مِنَ الرَّغْبَةِ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ فَإِذَا سَهُلَ عَلَيْكُمُ اتِّقَاءُ اللَّهِ بِتَرْكِ الْمَطْعُومِ وَالْمَنْكُوحِ، كَانَ اتِّقَاءُ اللَّهِ بِتَرْكِ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ أَسْهَلَ وَأَخَفَّ وَرَابِعُهَا: الْمُرَادُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ/ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ إِهْمَالُهَا وَتَرْكُ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا بِسَبَبِ عِظَمِ دَرَجَاتِهَا وَأَصَالَتِهَا وَخَامِسُهَا: لَعَلَّكُمْ تَنْتَظِمُونَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ فِي زُمْرَةِ الْمُتَّقِينَ لِأَنَّ الصَّوْمَ شِعَارُهُمْ والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 184] أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي انْتِصَابِ أَيَّاماً أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ فِي أَيَّامٍ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ: نَوَيْتُ الْخُرُوجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ خَبْرُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، كَقَوْلِهِمْ: أُعْطِيَ زَيْدٌ مَالًا وَالثَّالِثُ: عَلَى التَّفْسِيرِ وَالرَّابِعُ: بِإِضْمَارٍ أَيْ فَصُومُوا أَيَّامًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا غَيْرُ رَمَضَانَ، وَهُوَ قَوْلُ مُعَاذٍ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ، وَرَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَقِيلَ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، عَنْ قَتَادَةَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ كَانَ تَطَوُّعًا ثُمَّ فُرِضَ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ وَاجِبًا وَاتَّفَقَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِصَوْمِ رَمَضَانَ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْأَيَّامِ غَيْرُ صَوْمِ رَمَضَانَ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ نَسَخَ كُلَّ صَوْمٍ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ قَبْلَ وُجُوبِ رَمَضَانَ كَانَ صَوْمًا آخَرَ وَاجِبًا الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَهُمَا أَيْضًا فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ، فَلَوْ كَانَ هَذَا الصَّوْمُ هُوَ صَوْمَ رَمَضَانَ، لَكَانَ ذَلِكَ تَكْرِيرًا مَحْضًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ عَلَى التَّخْيِيرِ، يَعْنِي: إِنْ شَاءَ صَامَ، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى الْفِدْيَةَ، وَأَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى التَّعْيِينِ فَوَجَبَ أَنَّ يَكُونَ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ غَيْرَ صَوْمِ رَمَضَانَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ، كَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَأَبِي مُسْلِمٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ/ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ: شَهْرُ رَمَضَانَ قَالُوا، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَوَّلًا: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [البقرة: 183] وَهَذَا مُحْتَمِلٌ لِيَوْمٍ وَيَوْمَيْنِ وَأَيَّامٍ ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَزَالَ بَعْضُ الِاحْتِمَالِ ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [الْبَقَرَةِ: 185] فَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يُمْكِنُ جَعْلُ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ بِعَيْنِهَا شَهْرَ رَمَضَانَ، وَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِحَمْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَإِثْبَاتِ النَّسْخِ فِيهِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ لَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَيْهَا فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ. أَمَّا تَمَسُّكُهُمْ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ نَسَخَ كُلَّ صَوْمٍ» . فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ نَسَخَ عَنْهُ وَعَنْ أُمَّتِهِ كُلَّ صَوْمٍ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ نَسَخَ كُلَّ

صَوْمٍ وَاجِبٍ فِي الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ، لِأَنَّهُ كَمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ شَرْعِهِ نَاسِخًا لِلْبَعْضِ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ شَرْعُهُ نَاسِخًا لِشَرْعِ غَيْرِهِ. سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ صَوْمُ رَمَضَانَ نَسَخَ صَوْمًا ثَبَتَ فِي شَرْعِهِ، وَلَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِصِيَامٍ وَجَبَ بِغَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَمِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَأَمَّا حُجَّتُهُمُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ لَوْ كَانَتْ هِيَ شَهْرَ رَمَضَانَ، لَكَانَ حُكْمُ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ مُكَرَّرًا. فَالْجَوَابُ: أَنَّ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ كَانَ التَّخْيِيرُ ثَابِتًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِدْيَةِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَرُخِّصَ لِلْمُسَافِرِ الْفِطْرُ كَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ دُونَ الْقَضَاءِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ وَلَا قَضَاءَ لِمَكَانِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي يُفَارِقُ بِهَا الْمُقِيمَ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بَعِيدًا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ إِفْطَارَ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ فِي الْحُكْمِ خِلَافُ التَّخْيِيرِ فِي حُكْمِ الْمُقِيمِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، فَلَمَّا نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنِ الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ وَأَلْزَمَهُ بِالصَّوْمِ حَتْمًا، كَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ حُكْمَ الصَّوْمِ لَمَّا انْتَقَلَ عَنِ التَّخْيِيرِ إِلَى التَّضْيِيقِ حُكْمٌ يَعُمُّ الْكُلَّ حَتَّى يَكُونَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ مِنْ حَيْثُ تَغَيُّرُ حُكْمِ اللَّهِ فِي الصَّوْمِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ حَالَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ ثَابِتٌ فِي رُخْصَةِ الْإِفْطَارِ وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ كَحَالِهَا أَوَّلًا، فَهَذَا هُوَ الْفَائِدَةُ فِي إِعَادَةِ ذِكْرِ حُكْمِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، لَا لِأَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ سِوَى شَهْرِ رَمَضَانَ. وَأَمَّا حُجَّتُهُمُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ قَوْلُهُمْ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَاجِبٌ مُخَيَّرٌ، وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَاجِبٌ مُعَيَّنٌ. فَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ كَانَ وَاجِبًا مُخَيَّرًا، ثُمَّ صَارَ مُعَيَّنًا، فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الْقَوْلِ، وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ تَطَرُّقِ النَّسْخِ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَلِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ صَوْمُ رَمَضَانَ/ وَاجِبًا مُخَيَّرًا وَالْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا تَدُلُّ عَلَى التَّعْيِينِ، فَكَانَتِ الْآيَةُ الثَّانِيَةُ نَاسِخَةً لِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [الْبَقَرَةِ: 185] نَاسِخًا لِلتَّخْيِيرِ مَعَ اتِّصَالِهِ بِالْمَنْسُوخِ وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ الِاتِّصَالَ فِي التِّلَاوَةِ لَا يُوجِبُ الِاتِّصَالَ فِي النُّزُولِ وَهَذَا كَمَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَنَّ الْمُقَدَّمَ فِي التِّلَاوَةِ وَهُوَ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ مُتَأَخِّرٌ وَهَذَا ضِدُّ مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَالُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فَقَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ فِي التِّلَاوَةِ أَمَّا فِي الْإِنْزَالِ فَكَانَ الِاعْتِدَادُ بِالْحَوْلِ هُوَ الْمُتَقَدِّمَ وَالْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ هِيَ الْمُتَأَخِّرَةُ فَصَحَّ كَوْنُهَا نَاسِخَةً وَكَذَلِكَ نَجِدُ فِي الْقُرْآنِ آيَةً مَكِّيَّةً مُتَأَخِّرَةً في التلاوة عن الآية المدينة وَذَلِكَ كَثِيرٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: مَعْدُوداتٍ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مُقَدَّرَاتٍ بِعَدَدٍ مَعْلُومٍ وَثَانِيهِمَا: قَلَائِلَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ [يُوسُفَ: 20] وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمَالَ الْقَلِيلَ يُقَدَّرُ بِالْعَدَدِ وَيُحْتَاطُ فِي مَعْرِفَةِ تَقْدِيرِهِ، وَأَمَّا الْكَثِيرُ فَإِنَّهُ يُصَبُّ صَبًّا وَيُحْثَى وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: إِنِّي رَحِمْتُكُمْ وَخَفَّفْتُ عَنْكُمْ حِينَ لَمْ أَفْرِضْ عَلَيْكُمْ صِيَامَ الدَّهْرِ كُلِّهِ، وَلَا صِيَامَ أَكْثَرِهِ، وَلَوْ شِئْتُ لَفَعَلْتُ ذَلِكَ وَلَكِنِّي رَحِمْتُكُمْ وَمَا أَوْجَبْتُ الصَّوْمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا فِي أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ مِنْ صِلَةِ قَوْلِهِ:

كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 183] وَتَكُونُ الْمُمَاثَلَةُ وَاقِعَةً بَيْنَ الْفَرْضَيْنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ تَعْلِيقُ الصَّوْمِ بِمُدَّةٍ غَيْرِ مُتَطَاوِلَةٍ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْمُدَّتَانِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَيَكُونُ المراد ما ذكرناه من تعريفه سبحانه إيانا أَنَّ فَرْضَ الصَّوْمِ عَلَيْنَا وَعَلَى مَنْ قَبْلَنَا مَا كَانَ إِلَّا مُدَّةً قَلِيلَةً لَا تَشْتَدُّ مَشَقَّتُهَا، فَكَانَ هَذَا بَيَانًا لِكَوْنِهِ تَعَالَى رَحِيمًا بِجَمِيعِ الْأُمَمِ، وَمُسَهِّلًا أَمْرَ التَّكَالِيفِ عَلَى كُلِّ الْأُمَمِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ فَرْضَ الصَّوْمِ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ إِنَّمَا يَلْزَمُ الْأَصِحَّاءَ الْمُقِيمِينَ فَأَمَّا مَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا فَلَهُ تَأْخِيرُ الصَّوْمِ عَنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ إِلَى أَيَّامٍ أُخَرَ قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: انْظُرُوا إِلَى عَجِيبِ مَا نَبَّهَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ سَعَةِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ فِي هَذَا التَّكْلِيفِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ أَنَّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فِي هَذَا التَّكْلِيفِ أُسْوَةً بِالْأُمَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأُمُورَ الشَّاقَّةَ إِذَا عَمَّتْ خَفَّتْ، ثُمَّ ثَانِيًا بَيَّنَ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي إِيجَابِ الصَّوْمِ، وَهُوَ أَنَّهُ سَبَبٌ لِحُصُولِ التَّقْوَى، فَلَوْ لَمْ يَفْرِضِ الصَّوْمَ لَفَاتَ هَذَا الْمَقْصُودُ الشَّرِيفُ، ثُمَّ ثَالِثًا: بَيَّنَ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، فَإِنَّهُ لَوْ جَعَلَهُ أَبَدًا أَوْ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ لَحَصَلَتِ الْمَشَقَّةُ الْعَظِيمَةُ ثُمَّ بَيَّنَ رَابِعًا: أَنَّهُ خَصَّهُ مِنَ الْأَوْقَاتِ بِالشَّهْرِ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ لِكَوْنِهِ أَشْرَفَ الشُّهُورِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ خَامِسًا: إِزَالَةَ الْمَشَقَّةِ فِي إِلْزَامِهِ فَأَبَاحَ تَأْخِيرَهُ لِمَنْ شَقَّ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسَافِرِينَ وَالْمَرْضَى إِلَى أَنْ يَصِيرُوا إِلَى الرَّفَاهِيَةِ وَالسُّكُونِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ رَاعَى فِي إِيجَابِ الصَّوْمِ هَذِهِ/ الْوُجُوهَ مِنَ الرَّحْمَةِ فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى نِعَمِهِ كَثِيرًا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً إِلَى قَوْلِهِ: أُخَرَ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ أَيْ مَنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا فَأَفْطَرَ فَلْيَقْضِ، وَإِذَا قَدَّرْتَ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ كَانَ الِاسْتِقْبَالَ لَا الْمَاضِيَ، كَمَا تَقُولُ: مَنْ أَتَانِي أَتَيْتُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَرَضُ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ اخْتِصَاصِ جَمِيعِ أَعْضَاءِ الْحَيِّ بِالْحَالَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِصُدُورِ أَفْعَالِهِ سَلِيمَةً سَلَامَةً تَلِيقُ بِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرَضِ الْمُبِيحِ لِلْفِطْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنَّ أَيَّ مَرِيضٍ كَانَ، وَأَيَّ مُسَافِرٍ كَانَ، فَلَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ تَنْزِيلًا لِلَفْظِهِ الْمُطْلَقِ عَلَى أَقَلِّ أَحْوَالِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، يُرْوَى أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَى ابْنِ سِيرِينَ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ يَأْكُلُ، فَاعْتَلَّ بِوَجَعِ أُصْبُعِهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ الرُّخْصَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمَرِيضِ الَّذِي لَوْ صَامَ لَوَقَعَ فِي مَشَقَّةٍ وَجُهْدٍ، وَبِالْمُسَافِرِ الَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَصَمِّ، وَحَاصِلُهُ تَنْزِيلُ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ عَلَى أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ وَثَالِثُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ الْمَرَضَ الْمُبِيحَ لِلْفِطْرِ هُوَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى ضَرَرِ النَّفْسِ أَوْ زِيَادَةٍ فِي الْعِلَّةِ، إِذْ لَا فَرْقَ فِي الْفِعْلِ بَيْنَ مَا يُخَافُ مِنْهُ وَبَيْنَ مَا يُؤَدِّي إِلَى مَا يُخَافُ مِنْهُ كَالْمَحْمُومِ إِذَا خَافَ أَنَّهُ لَوْ صَامَ تَشْتَدُّ حُمَّاهُ، وَصَاحِبُ وَجَعِ الْعَيْنِ يَخَافُ إِنْ صَامَ أَنْ يَشْتَدَّ وَجَعُ عَيْنِهِ، قَالُوا: وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ كُلُّ مَرَضٍ مُرَخِّصٍ مَعَ عِلْمِنَا أَنَّ فِي الْأَمْرَاضِ مَا يَنْقُصُهُ الصَّوْمُ، فَالْمُرَادُ إِذَنْ مِنْهُ مَا يُؤَثِّرُ الصَّوْمُ فِي تَقْوِيَتِهِ، ثُمَّ تَأْثِيرُهُ فِي الْأَمْرِ الْيَسِيرِ لَا عِبْرَةَ بِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ فِيمَنْ لَيْسَ بِمَرِيضٍ أَيْضًا، فَإِذَنْ يَجِبُ فِي تَأْثِيرِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَصْلُ السَّفَرِ مِنَ الْكَشْفِ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَكْشِفُ عَنْ أَحْوَالِ الرِّجَالِ وَأَخْلَاقِهِمْ وَالْمِسْفَرَةُ الْمِكْنَسَةُ، لِأَنَّهَا تُسْفِرُ التُّرَابَ عَنِ الْأَرْضِ، وَالسَّفِيرُ الدَّاخِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِلصُّلْحِ، لِأَنَّهُ يَكْشِفُ الْمَكْرُوهَ الَّذِي اتَّصَلَ بِهِمَا، وَالْمُسْفِرُ الْمُضِيءُ، لِأَنَّهُ قَدِ انْكَشَفَ وَظَهَرَ وَمِنْهُ أَسْفَرَ الصُّبْحُ وَالسِّفْرُ الْكِتَابُ، لِأَنَّهُ يَكْشِفُ عَنِ الْمَعَانِي

بِبَيَانِهِ، وَأَسْفَرَتِ الْمَرْأَةُ عَنْ وَجْهِهَا إِذَا كَشَفَتِ النقاب، قال الأزهري: وسمي المسافر لِكَشْفِ قِنَاعِ الْكِنِّ عَنْ وَجْهِهِ وَبُرُوزِهِ لِلْأَرْضِ الْفَضَاءِ، وَسُمِّيَ السَّفَرُ سَفَرًا لِأَنَّهُ يُسْفِرُ عَنْ وُجُوهِ الْمُسَافِرِينَ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَيُظْهِرُ مَا كَانَ خَافِيًا مِنْهُمْ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَدْرِ السَّفَرِ الْمُبِيحِ لِلرُّخَصِ، فَقَالَ دَاوُدُ: الرُّخَصُ حَاصِلَةٌ فِي كُلِّ سَفَرٍ وَلَوْ كَانَ السَّفَرُ فَرْسَخًا، وَتَمَسَّكَ فِيهِ بِأَنَّ الْحُكْمَ لَمَّا كَانَ مُعَلَّقًا عَلَى كَوْنِهِ مُسَافِرًا، فَحَيْثُ تَحَقَّقَ هَذَا الْمَعْنَى حَصَلَ هَذَا الْحُكْمُ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ يُرْوَى خَبَرٌ وَاحِدٌ فِي تَخْصِيصِ هَذَا الْعُمُومِ، لَكِنَّ تَخْصِيصَ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: السَّفَرُ الْمُبِيحُ مَسَافَةُ يَوْمٍ: وَذَلِكَ لِأَنَّ أَقَلَّ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ قَدْ يَتَّفِقُ لِلْمُقِيمِ، وَأَمَّا الْأَكْثَرُ فَلَيْسَ عَدَدٌ أَوْلَى مِنْ عَدَدٍ، فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْوَاحِدِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِسِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَلَا يُحْسَبُ مِنْهُ مَسَافَةُ الْإِيَابِ، كُلُّ فَرْسَخٍ ثَلَاثَةُ/ أَمْيَالٍ بِأَمْيَالِ هَاشِمٍ جَدِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الَّذِي قَدَّرَ أَمْيَالَ الْبَادِيَةِ، كُلُّ مِيلٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ قَدَمٍ وَهِيَ أَرْبَعَةُ آلَافِ خُطْوَةٍ، فَإِنَّ كُلَّ ثَلَاثِ أَقْدَامٍ خَطْوَةٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: رُخَصُ السَّفَرِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي ثَلَاثِ مَرَاحِلَ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَرْسَخًا، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُقْتَضَاهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ الْمُسَافِرُ مُطْلَقًا تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ فِيمَا إِذَا كَانَ السَّفَرُ مَرْحَلَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ تَعَبَ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ يَسْهُلُ تَحَمُّلُهُ، أَمَّا إِذَا تَكَرَّرَ التَّعَبُ فِي الْيَوْمَيْنِ فَإِنَّهُ يَشُقُّ تَحَمُّلُهُ فَيُنَاسِبُ الرُّخْصَةَ تَحْصِيلًا لِهَذَا التَّخْفِيفِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الْخَبَرِ: وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَدْنَى مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: وَكُلُّ بَرِيدٍ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ فَيَكُونُ مَجْمُوعُهُ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا أَنَّ عَطَاءً قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَقْصُرُ إِلَى عَرَفَةَ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ إِلَى مَرِّ الظَّهْرَانِ؟ فَقَالَ: لَا. وَلَكِنِ اقْصُرْ إِلَى جُدَّةَ وَعُسْفَانَ وَالطَّائِفِ، قَالَ مَالِكٌ: بَيْنَ مَكَّةَ وَجُدَّةَ وَعُسْفَانَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [الْبَقَرَةِ: 185] يَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّوْمِ عَدَلْنَا عَنْهُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِسَبَبِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مُرَخِّصٌ، وَالْأَقَلُّ مِنْهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى وُجُوبُ الصَّوْمِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ» دَلَّ الْخَبَرُ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ مُسَافِرٍ أَنْ يَمْسَحَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ حَتَّى تَتَقَدَّرَ مُدَّةُ السَّفَرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ السَّفَرَ عِلَّةَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ وَجَعَلَ هَذَا الْمَسْحَ مَعْلُولًا وَالْمَعْلُولُ لَا يَزِيدُ عَلَى الْعِلَّةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْآيَةِ فَإِنْ رَجَّحُوا جَانِبَهُمْ بِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي الْعِبَادَاتِ أَوْلَى، رَجَّحْنَا جَانِبَنَا بِأَنَّ التَّخْفِيفَ فِي رُخَصِ السَّفَرِ مَطْلُوبُ الشَّرْعِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «هَذِهِ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا مِنْهُ صَدَقَتَهُ» وَالتَّرْجِيحُ لِهَذَا الْجَانِبِ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى أَنَّ رُخَصَ السَّفَرِ مَطْلُوبَةٌ لِلشَّرْعِ أَخَصُّ مِنَ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الِاحْتِيَاطِ وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً» وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَحْصُلُ الْإِقَامَةُ فِي أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ سَاعَةً صَارَ مُقِيمًا فَكَذَا قَوْلُهُ: «وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» لَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَحْصُلَ السَّفَرُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: رِعَايَةُ اللَّفْظِ تَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا وَلَمْ يَقُلْ

هَكَذَا بَلْ قَالَ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ وَجَوَابُهُ: إِنَّ الْفَرْقَ هُوَ أَنَّ الْمَرَضَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالذَّاتِ: فَإِنْ حَصَلَتْ حَصَلَتْ وَإِلَّا فَلَا وَأَمَّا السَّفَرُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا نَزَلَ فِي مَنْزِلٍ فَإِنْ عَدِمَ الْإِقَامَةَ كَانَ سُكُونُهُ هُنَاكَ إِقَامَةً لَا سَفَرًا وَإِنْ عَدِمَ السَّفَرَ كَانَ هُوَ فِي ذلك الكون مُسَافِرًا فَإِذَنْ كَوْنُهُ مُسَافِرًا أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِقَصْدِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَقَوْلُهُ: عَلى سَفَرٍ مَعْنَاهُ كَوْنُهُ عَلَى قَصْدِ السَّفَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْعِدَّةُ فِعْلَةٌ مِنَ الْعَدِّ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَعْدُودِ كَالطَّحْنِ بِمَعْنَى الْمَطْحُونِ وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْجَمَاعَةِ الْمَعْدُودَةِ مِنَ النَّاسِ عِدَّةٌ وَعِدَّةُ الْمَرْأَةِ مِنْ هَذَا. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: فَعِدَّةٌ عَلَى التَّنْكِيرِ وَلَمْ يَقُلْ فَعِدَّتُهَا أَيْ فَعِدَّةُ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ. قُلْنَا: لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْعِدَّةَ بِمَعْنَى الْمَعْدُودِ فَأَمَرَ بِأَنْ يَصُومَ أَيَّامًا مَعْدُودَةً مَكَانَهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِمِثْلِ ذَلِكَ الْعَدَدِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنِ التَّعْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَعِدَّةٌ قُرِئَتْ مَرْفُوعَةً وَمَنْصُوبَةً، أَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى مَعْنَى فَعَلَيْهِ صَوْمُ عِدَّةٍ فَيَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَأَمَّا إِضْمَارُ «عَلَيْهِ» فَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَرْفُ الْفَاءِ. وَأَمَّا النَّصْبُ فَعَلَى مَعْنَى: فَلْيَصُمْ عِدَّةً. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ أَنْ يُفْطِرَا وَيَصُومَا عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَنَقَلَ الْخَطَّابِيُّ فِي إِعْلَامِ التَّنْزِيلِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لَوْ صَامَ فِي السَّفَرِ قَضَى فِي الْحَضَرِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِفْطَارَ رُخْصَةٌ فَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَإِنْ شَاءَ صَامَ حُجَّةُ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ أَمَّا الْقُرْآنُ فمن وجهين الأول: أنا إن قرأنا فعدة بِالنَّصْبِ كَانَ التَّقْدِيرُ: فَلْيَصُمْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَهَذَا لِلْإِيجَابِ، وَلَوْ أَنَّا قَرَأْنَا بِالرَّفْعِ كَانَ التَّقْدِيرُ: فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ، وَكَلِمَةُ «عَلَى» لِلْوُجُوبِ فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي إِيجَابَ صَوْمِ أَيَّامٍ أُخَرَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِطْرُ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَاجِبًا ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْجَمْعِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَعَادَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ عَقِيبَهَا يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: 185] وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ هَذَا الْيُسْرُ وَالْعُسْرُ شَيْئًا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا، وَلَيْسَ هُنَاكَ يُسْرٌ إِلَّا أَنَّهُ أُذِنَ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فِي الْفِطْرِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ عُسْرٌ إِلَّا كَوْنَهُمَا صَائِمَيْنِ فَكَانَ قَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ مَعْنَاهُ يُرِيدُ مِنْكُمُ الْإِفْطَارَ وَلَا يُرِيدُ مِنْكُمُ الصَّوْمَ فَذَلِكَ تَقْرِيرُ قَوْلِنَا، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَاثْنَانِ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» لَا يُقَالُ هَذَا الْخَبَرُ وَارِدٌ عَنْ سَبَبٍ خَاصٍّ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ جَالِسٍ تَحْتَ مِظَلَّةٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ هَذَا صَائِمٌ أَجْهَدَهُ الْعَطَشُ، فَقَالَ: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» لِأَنَّا نَقُولُ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الصَّائِمُ فِي/ السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ» . أَمَّا حُجَّةُ الْجُمْهُورِ: فَهِيَ أَنَّ فِي الْآيَةِ إِضْمَارًا لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَتَمَامُ تَقْرِيرِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْإِضْمَارَ فِي كَلَامِ اللَّهِ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ على وقوعه هاهنا أَمَّا بَيَانُ الْجَوَازِ فَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ [الْبَقَرَةِ: 60] وَالتَّقْدِيرُ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا

تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ [البقرة: 196] أي فلحق فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِضْمَارَ جَائِزٌ، أَمَّا إِنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى وُقُوعِهِ فَفِي تَقْرِيرِهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَفَّالُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [الْبَقَرَةِ: 185] يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الصَّوْمِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا ضَعِيفٌ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّا إِذَا أَجْرَيْنَا ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185] عَلَى الْعُمُومِ لَزِمَنَا الْإِضْمَارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَبَيْنَ الْإِضْمَارِ كَانَ تَحَمُّلُ التَّخْصِيصِ أَوْلَى وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَصُمْهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَيْنًا، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْوُجُوبَ مُنْتَفٍ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ فِي حَقِّهِمَا عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ سَوَاءٌ أَجْرَيْنَا قَوْلَهَ تَعَالَى فَعَلَيْهِ: عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْ لَمْ نَفْعَلْ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ إِجْرَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ إِضْمَارٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي كِتَابِ الْبَسِيطِ، فَقَالَ: الْقَضَاءُ إِنَّمَا يَجِبُ بِالْإِفْطَارِ لَا بِالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، فَلَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ الْقَضَاءَ وَالْقَضَاءُ مَسْبُوقٌ بِالْفِطْرِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ الْإِفْطَارِ وَهَذَا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: فَعَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى بَلْ قَالَ: فَعَلَيْهِ صَوْمُ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَإِيجَابُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ لَا يَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالْإِفْطَارِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ حَمْزَةَ الْأَسْلَمِيَّ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ أَصُومُ عَلَى السَّفَرِ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «صُمْ إِنْ شِئْتَ وَأَفْطِرْ إِنْ شِئْتَ» وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا يَقْتَضِي نَسْخَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي وُجُوبَ صَوْمِ سَائِرِ الْأَيَّامِ، فَرَفْعُ هَذَا الْخَبَرُ غَيْرُ جَائِزٍ إِذَا ثَبَتَ ضَعْفُ هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَالِاعْتِمَادُ فِي إِثْبَاتِ الْمَذْهَبِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَسَيَأْتِي بَيَانُ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: لِمَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الصَّوْمَ جَائِزٌ فَرْعَانِ: الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ أَمِ الْفِطْرَ؟ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي أَوْفَى الصَّوْمُ أَفْضَلُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ الْفِطْرُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ: أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ أَيْسَرُهُمَا عَلَى الْمَرْءِ. حُجَّةُ الْأَوَّلِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ. حُجَّةُ الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّ الْقَصْرَ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِفْطَارُ أَفْضَلَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: الْإِتْمَامُ أَفْضَلُ إِلَّا أَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الذِّمَّةَ تَبْقَى مَشْغُولَةً بِقَضَاءِ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ إِذَا قَصَرَهَا وَالثَّانِي: أَنَّ فَضِيلَةَ الْوَقْتِ تَفُوتُ بِالْفِطْرِ وَلَا تَفُوتُ بِالْقَصْرِ. حُجَّةُ الْفِرْقَةِ الثَّالِثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: 185] فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إِنْ كَانَ الصَّوْمُ أَيْسَرَ عَلَيْهِ صَامَ وَإِنْ كَانَ الْفِطْرُ أَيْسَرَ أَفْطَرَ.

الْفَرْعُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا أَفْطَرَ كَيْفَ يَقْضِي؟ فَمَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهُ يَقْضِيهِ مُتَتَابِعًا وَقَالَ الْبَاقُونَ: التَّتَابُعُ مُسْتَحَبٌّ وَإِنْ فَرَّقَ جَازَ حُجَّةُ الْأَوَّلِينَ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قِرَاءَةَ أُبَيٍّ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَضَاءَ نَظِيرُ الْأَدَاءِ فَلَمَّا كَانَ الْأَدَاءُ مُتَتَابِعًا، فَكَذَا الْقَضَاءُ. حُجَّةُ الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّ قَوْلَهُ: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا بِصَوْمِ أَيَّامٍ عَلَى عَدَدِ تِلْكَ الْأَيَّامِ مُطْلَقًا، فَيَكُونُ التَّقْيِيدُ بِالتَّتَابُعِ مُخَالِفًا لِهَذَا التَّعْمِيمِ، وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرَخِّصْ لَكُمْ فِي فِطْرِهِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَلَيْكُمْ فِي قَضَائِهِ، إِنْ شِئْتَ فَوَاتِرْ وَإِنْ شِئْتَ فَفَرِّقْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ أَفَيَجْزِينِي أَنْ أَقْضِيَهَا مُتَفَرِّقًا فَقَالَ لَهُ: «أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَيْكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ أَمَا كَانَ يَجْزِيكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَعْفُوَ وَيَصْفَحَ» . الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: أُخَرَ لَا يَنْصَرِفُ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِيهِ سَبَبَانِ الْجَمْعُ وَالْعَدْلُ أَمَّا الْجَمْعُ فَلِأَنَّهَا جَمْعُ أُخْرَى، وَأَمَّا الْعَدْلُ فَلِأَنَّهَا جَمْعُ أُخْرَى، وَأُخْرَى تَأْنِيثُ آخَرَ، وَآخَرُ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ، وَمَا كَانَ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَ مَعَ «مِنْ» أَوْ مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، يُقَالُ: زِيدٌ أَفْضَلُ مِنْ عَمْرٍو وَزَيْدٌ الْأَفْضَلُ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ رَجُلٌ آخَرُ من زيد كما تقول قدم أمن عَمْرٍو، إِلَّا أَنَّهُمْ حَذَفُوا لَفْظَ «مِنْ» لِأَنَّ لَفْظَهُ اقْتَضَى مَعْنَى «مِنْ» فَأَسْقَطُوا «مِنْ» اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ مُنَافِيَانِ «مِنْ» فَلَمَّا جَازَ اسْتِعْمَالُهُ بِغَيْرِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ صَارَ أُخَرُ وَآخَرُ وَأُخْرَى مَعْدُولَةً عَنْ حُكْمِ نَظَائِرِهَا، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ اسْتُعْمِلَتَا فِيهَا ثُمَّ حَذَفَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ يُطِيقُونَهُ وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَعَطَاءٌ يُطِيقُونَهُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ قَالَ: / ابْنُ جِنِّي: أَمَّا عَيْنُ الطَّاقَةِ فَوَاوٌ كَقَوْلِهِمْ: لَا طَاقَةَ لِي بِهِ وَلَا طَوْقَ لِي به وعليه قراءة (يطوقونه) فهو يَفْعَلُونَهُ فَهُوَ كَقَوْلِكَ: يُجَشَّمُونَهُ. أَيْ يُكَلَّفُونَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا رَاجَعٌ إِلَى الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ وَالْمَرِيضَ قَدْ يَكُونُ مِنْهُمَا مَنْ لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ وَمِنْهُمَا مَنْ يُطِيقُ الصَّوْمَ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ حُكْمَهُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمُسَافِرُ وَالْمَرِيضُ اللَّذَانِ يُطِيقَانِ الصَّوْمَ، فَإِلَيْهِمَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ لِلْمَرِيضِ وَلِلْمُسَافِرِ حَالَتَيْنِ فِي إِحْدَاهُمَا: يَلْزَمُهُ أَنْ يُفْطِرَ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهِيَ حَالُ الْجُهْدِ الشَّدِيدِ لَوْ صَامَ وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مُطِيقًا لِلصَّوْمِ لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَصُومَ وَبَيْنَ أَنْ يُفْطِرَ مَعَ الْفِدْيَةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ الْمُقِيمُ الصَّحِيحُ فَخَيَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوَّلًا بَيْنَ هَذَيْنِ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ وَأَوْجَبَ الصَّوْمَ عَلَيْهِ مُضَيِّقًا مُعَيِّنًا.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْهَرَمِ قَالُوا: وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوُسْعَ فَوْقَ الطَّاقَةِ فَالْوُسْعُ اسْمٌ لِمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ السُّهُولَةِ أَمَّا الطَّاقَةُ فَهُوَ اسْمٌ لِمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الشَّيْءِ مَعَ الشِّدَّةِ وَالْمَشَقَّةِ فَقَوْلُهُ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أَيْ وَعَلَى الَّذِينَ يَقْدِرُونَ عَلَى الصَّوْمِ مَعَ الشِّدَّةِ وَالْمَشَقَّةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فَإِنَّ مَعْنَاهُ وَعَلَى الَّذِينَ يُجَشَّمُونَهُ وَيُكَلَّفُونَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الشَّيْءِ مَعَ ضَرْبٍ مِنَ الْمَشَقَّةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ: أَنَّهُ هُوَ الشَّيْخُ الْهَرَمُ، فَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً، يُرْوَى أَنَّ أَنَسًا كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ يُفْطِرُ وَلَا يَسْتَطِيعُ الصَّوْمَ وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهَا تَتَنَاوَلُ الشَّيْخَ الْهَرَمَ وَالْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ سُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ إِذَا خافتا على نفسهما وَعَلَى وَلَدَيْهِمَا فَقَالَ: فَأَيُّ مَرَضٍ أَشَدُّ مِنَ الْحَمْلِ تُفْطِرُ وَتَقْضِي. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الشَّيْخَ الْهَرَمَ إِذَا أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، أَمَّا الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ إِذَا أَفْطَرَتَا فَهَلْ عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَلَيْهِمَا الفدية، فقال أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبُ حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ قَوْلَهَ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ يَتَنَاوَلُ الْحَامِلَ والمرض، وَأَيْضًا الْفِدْيَةُ وَاجِبَةٌ/ عَلَى الشَّيْخِ الْهَرَمِ فَتَكُونُ وَاجِبَةً أَيْضًا عَلَيْهِمَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ فَرَّقَ فَقَالَ: الشَّيْخُ الْهَرَمُ لَا يُمْكِنُ إِيجَابُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ فَلَا جَرَمَ وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ، أَمَّا الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ فَالْقَضَاءُ وَاجِبٌ عَلَيْهِمَا، فَلَوْ أَوْجَبْنَا الْفِدْيَةَ عَلَيْهِمَا أَيْضًا كَانَ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بَدَلٌ وَالْفِدْيَةُ بَدَلٌ، فَهَذَا تَفْصِيلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ. أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَصَمِّ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَرَضَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَرَضُ الذي يكون في الغاية، وَهُوَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَحَمُّلُهُ، أَوِ الْمُرَادُ كُلُّ مَا يُسَمَّى مَرَضًا، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَكُونُ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ هَاتَيْنِ الدَّرَجَتَيْنِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمُتَوَسِّطَاتِ لَهَا مَرَاتِبٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ، وَكُلُّ مَرْتَبَةٍ مِنْهَا فَإِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فوقها ضعيفة وبالنسبة إلى ما فوقها إِلَى مَا تَحْتَهَا قَوِيَّةٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى تَعْيِينِ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ مَعَ أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ هُوَ تِلْكَ الْمَرْتَبَةُ صَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَانِ الْقِسْمَانِ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَضْبُوطٌ، فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى صَيْرُورَةِ الْآيَةِ مُجْمَلَةً. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَوَّلُ الْآيَةِ دَلَّ عَلَى إِيجَابِ الصَّوْمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ثُمَّ بَيَّنَ أَحْوَالَ الْمَعْذُورِينَ، وَلَمَّا كَانَ الْمَعْذُورُونَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ أَصْلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُطِيقُهُ مَعَ الْمَشَقَّةِ وَالشِّدَّةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِحُكْمِ الْقِسْمِ الثَّانِي. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ إِنَّهُ لَا يُقَالُ فِي الْعُرْفِ لِلْقَادِرِ الْقَوِيِّ: إِنَّهُ يُطِيقُ هَذَا الْفِعْلَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ مَعَ ضَرْبٍ مِنَ الْمَشَقَّةِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ عَلَى أَقْوَالِكُمْ لَا بُدَّ مِنْ إِيقَاعِ النَّسْخِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعَلَى قَوْلِنَا لَا يَجِبُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ

النَّسْخَ كُلَّمَا كَانَ أَقَلَّ كَانَ أَوْلَى فَكَانَ الْمَصِيرُ إِلَى إِثْبَاتِ النَّسْخِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ غَيْرَ جَائِزٍ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ نَاسِخَهَا آيَةُ شُهُودِ الشَّهْرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ تِلْكَ الْآيَةِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: 185] وَلَوْ كَانَتِ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِهَذَا لَمَا كَانَ قَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ لَائِقًا بِهَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ أَوْجَبَ الصَّوْمَ عَلَى سَبِيلِ التَّضْيِيقِ، وَرَفَعَ وَجُوبَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ، فَكَانَ ذَلِكَ رَفْعًا لِلْيُسْرِ وَإِثْبَاتًا لِلْعُسْرِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَقُولَ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ. وَاحْتَجَّ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي فَسَادِ قَوْلِ الْأَصَمِّ فَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهَ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، وَمِنْ حَقِّ الْمَعْطُوفِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَبَطَلَ قَوْلُ الْأَصَمِّ. وَالْجَوَابُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْآيَةِ هُمَا اللَّذَانِ لَا يُمْكِنُهُمَا الصَّوْمُ الْبَتَّةَ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ الْمُسَافِرُ وَالْمَرِيضُ اللَّذَانِ يُمْكِنُهُمَا الصَّوْمَ، فَكَانَتِ الْمُغَايَرَةُ حَاصِلَةً فَثَبَتَ بِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأَصَمُّ لَيْسَ بِضَعِيفٍ، أَمَّا إِذَا وَافَقْنَا الْجُمْهُورَ وَسَلَّمْنَا فَسَادَهُ بَقِيَ الْقَوْلَانِ الْآخَرَانِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ وَاحْتَجَّ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ الثَّالِثِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الشَّيْخِ الْهَرَمِ وَالْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ بِأَنْ قَالَ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الشَّيْخُ الْهَرَمُ لَمَا قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ لِأَنَّهُ لَا يُطِيقُهُ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الشَّيْخِ الْهَرَمِ الَّذِي يُطِيقُ الصَّوْمَ وَلَكِنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يُمْتَنَعُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: لَوْ تَحَمَّلْتَ هَذِهِ الْمَشَقَّةَ لَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَكَ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ كُلَّمَا كَانَتْ أَشَقَّ كَانَتْ أَكْثَرَ ثَوَابًا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ فِدْيَةُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ طَعَامِ بِالْكَسْرِ مُضَافًا إِلَيْهِ مَسَاكِينَ جَمْعًا، وَالْبَاقُونَ فِدْيَةٌ مُنَوَّنَةٌ طَعامُ بِالرَّفْعِ مِسْكِينٍ مَخْفُوضٌ، أَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى فَفِيهَا بَحْثَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَا مَعْنَى إِضَافَةُ فِدْيَةٍ إِلَى طَعَامٍ؟ فَنَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفِدْيَةَ لَهَا ذَاتٌ وَصِفَتُهَا أَنَّهَا طَعَامٌ، فَهَذَا مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، كَقَوْلِهِمْ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ وَبَقْلَةُ الْحَمْقَاءِ وَالثَّانِي: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْفِدْيَةُ اسْمٌ لِلْقَدْرِ الْوَاجِبِ، وَالطَّعَامُ اسْمٌ يَعُمُّ الْفِدْيَةَ وَغَيْرَهَا، فَهَذِهِ الْإِضَافَةُ مِنَ الْإِضَافَةِ الَّتِي تَكُونُ بِمَعْنَى «مِنْ» كَقَوْلِكَ: ثَوْبُ خَزٍّ وَخَاتَمُ حَدِيدٍ، وَالْمَعْنَى: ثَوْبٌ مِنْ خَزٍّ وَخَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ، فكذا هاهنا التَّقْدِيرُ: فِدْيَةٌ مِنْ طَعَامٍ فَأُضِيفَتِ الْفِدْيَةُ إِلَى الطَّعَامِ مَعَ أَنَّكَ تُطْلِقُ عَلَى الْفِدْيَةِ اسْمَ الطَّعَامِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ جَمَعُوا الْمَسَاكِينَ لِأَنَّ الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ جَمَاعَةٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَلْزَمُهُ مِسْكِينٌ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ فِدْيَةٌ بِالتَّنْوِينِ فَجَعَلُوا مَا بَعْدَهُ مُفَسِّرًا لَهُ وَوَحَّدُوا الْمِسْكِينَ لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ لِكُلِّ يَوْمٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفِدْيَةُ فِي مَعْنَى الْجَزَاءِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْبَدَلِ الْقَائِمِ عَلَى الشَّيْءِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ مُدَّانِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مُدٌّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَبْلَ الفعل

[سورة البقرة (2) : آية 185]

فَقَالَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ عَائِدٌ إِلَى الصَّوْمِ فَأَثْبَتَ الْقُدْرَةَ عَلَى الصَّوْمِ حَالَ عَدَمِ الصَّوْمِ، لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ إِذَا لَمْ يَصُمْ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الصَّوْمِ حَاصِلَةٌ قَبْلَ حُصُولِ الصَّوْمِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضمير عائد إِلَى الْفِدْيَةِ؟ / قُلْنَا لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفِدْيَةَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ مِنْ قَبْلُ فَكَيْفَ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إِلَيْهَا وَالثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ مُذَكَّرٌ وَالْفِدْيَةَ مُؤَنَّثَةٌ، فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا قُلْنَا: كَانَتْ قَبْلَ أَنْ صَارَتْ مَنْسُوخَةً دَالَّةً عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ حَاصِلَةٌ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَالْحَقَائِقُ لَا تَتَغَيَّرُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يُطْعِمَ مِسْكِينًا أَوْ أَكْثَرَ وَالثَّانِي: أَنْ يُطْعِمَ الْمِسْكِينَ الْوَاحِدَ أَكْثَرَ مِنَ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ وَالثَّالِثُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: مَنْ صَامَ مَعَ الْفِدْيَةِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا خِطَابًا مَعَ الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فَقَطْ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَأَنْ تَصُومُوا أَيُّهَا الْمُطِيقُونَ أَوِ الْمُطَوَّقُونَ وَتَحَمَّلْتُمُ الْمَشَقَّةَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْفِدْيَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا خِطَابٌ مَعَ كُلِّ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، أَعْنِي الْمَرِيضَ وَالْمُسَافِرَ وَالَّذِينَ يُطِيقُونَهُ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنِ اتِّصَالِهِ بِقَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مُخْتَصًّا بِهِمْ، لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَلَا مُنَافَاةَ فِي رُجُوعِهِ إِلَى الْكُلِّ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِذَلِكَ وَعِنْدَ هَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِضْمَارِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ عَطْفًا عَلَيْهِ عَلَى أَوَّلِ الْآيَةِ فَالتَّقْدِيرُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ أَنَّ الصَّوْمَ عَلَيْكُمْ فَاعْلَمُوا صِدْقَ قَوْلِنَا وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ الثَّانِي: أَنَّ آخِرَ الْآيَةِ مُتَعَلِّقٌ بِأَوَّلِهَا وَالتَّقْدِيرُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ أَنَّكُمْ إِذَا تَدَبَّرْتُمْ عَلِمْتُمْ مَا فِي الصَّوْمِ مِنَ الْمَعَانِي الْمُوَرِّثَةِ لِلتَّقْوَى وَغَيْرِهَا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَالِمَ بِاللَّهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ خَشْيَةُ اللَّهِ عَلَى مَا قَالَ: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: 28] فَذَكَرَ الْعِلْمَ وَالْمُرَادُ الْخَشْيَةُ، وَصَاحِبُ الْخَشْيَةِ يُرَاعِي الِاحْتِيَاطَ وَالِاحْتِيَاطُ فِي فِعْلِ الصَّوْمِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ اللَّهَ حَتَّى تخشونه كان الصوم خيرا لكم. [سورة البقرة (2) : آية 185] شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الشَّهْرُ مَأْخُوذٌ مِنَ الشُّهْرَةِ يُقَالُ، شَهَرَ الشَّيْءُ يَشْهَرُ شُهْرَةً وَشَهْرًا إِذَا ظَهَرَ، وَسُمِّيَ الشَّهْرُ شَهْرًا لِشُهْرَةِ أَمْرِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَاجَاتِ النَّاسِ مَاسَّةٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِسَبَبِ أَوْقَاتِ دُيُونِهِمْ، وَقَضَاءِ نُسُكِهِمْ في صومهم

وَحَجِّهِمْ، وَالشُّهْرَةُ ظُهُورُ الشَّيْءِ وَسُمِيَ الْهِلَالُ شَهْرًا لِشُهْرَتِهِ وَبَيَانِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ سُمِّيَ الشَّهْرُ شَهْرًا بِاسْمِ الْهِلَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي رَمَضَانَ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهُ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: شَهْرُ رَمَضَانَ أَيْ شَهْرُ اللَّهِ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَقُولُوا جَاءَ رَمَضَانُ وَذَهَبَ رَمَضَانُ وَلَكِنْ قُولُوا: جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ وَذَهَبَ شَهْرُ رَمَضَانَ فَإِنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى» . الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ اسْمٌ لِلشَّهْرِ كَشَهْرِ رَجَبٍ وَشَعْبَانَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِقَاقِهِ عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: مَا نُقِلَ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّهُ مِنَ الرَّمْضَاءِ بِسُكُونِ الْمِيمِ، وَهُوَ مَطَرٌ يَأْتِي قَبْلَ الْخَرِيفِ يُطَهِّرُ وَجْهَ الْأَرْضِ عَنِ الْغُبَارِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ كَمَا يَغْسِلُ ذَلِكَ الْمَطَرُ وَجْهَ الْأَرْضِ وَيُطَهِّرُهَا فَكَذَلِكَ شَهْرُ رَمَضَانَ يَغْسِلُ أَبْدَانَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الذُّنُوبِ وَيُطَهِّرُ قُلُوبَهُمْ الثَّانِي: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّمَضِ وَهُوَ حَرُّ الْحِجَارَةِ مِنْ شِدَّةِ حَرِّ الشَّمْسِ، وَالِاسْمُ الرَّمْضَاءُ، فَسُمِّيَ هَذَا الشَّهْرُ بِهَذَا الِاسْمِ إِمَّا لِارْتِمَاضِهِمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ مِنْ حَرِّ الْجُوعِ أَوْ مُقَاسَاةِ شِدَّتِهِ، كَمَا سَمُّوهُ تَابِعًا لِأَنَّهُ كَانَ يَتْبَعُهُمْ أَيْ يُزْعِجُهُمْ لِشِدَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: لَمَّا نَقَلُوا أَسْمَاءَ الشُّهُورِ عَنِ اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ سَمَّوْهَا بِالْأَزْمِنَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا فَوَافَقَ هَذَا الشَّهْرُ أَيَّامَ رَمَضِ الْحَرِّ، وَقِيلَ سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّهُ يَرْمِضُ الذُّنُوبَ أَيْ يَحْرِقُهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّمَا سُمِّيَ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ يَرْمِضُ ذُنُوبَ عِبَادِ اللَّهِ» الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الِاسْمَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَمَضْتُ النَّصْلَ أَرْمِضُهُ رَمْضًا إِذَا دَفَعْتَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ لِيَرِقَّ، وَنَصْلٌ رَمِيضٌ وَمَرْمُوضٌ، فَسُمِّيَ هَذَا الشَّهْرُ: رَمَضَانَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْمِضُونَ فِيهِ أَسْلِحَتَهُمْ لِيَقْضُوا مِنْهَا أَوْطَارَهُمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُحْكَى عَنِ الْأَزْهَرِيِّ الرَّابِعُ: لَوْ صَحَّ قَوْلُهُمْ: إِنَّ رَمَضَانَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الشَّهْرُ أَيْضًا سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الذُّنُوبَ تَتَلَاشَى فِي جَنْبِ رَحْمَةِ اللَّهِ حَتَّى كَأَنَّهَا احْتَرَقَتْ، وَهَذَا الشَّهْرُ أَيْضًا رَمَضَانُ بِمَعْنَى أَنَّ الذُّنُوبَ تَحْتَرِقُ في جنب بركته. المسألة الثالثة: قرى شَهْرُ بِالرَّفْعِ وَبِالنَّصْبِ، أَمَّا الرَّفْعُ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ ارْتَفَعَ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الصِّيَامِ، وَالْمَعْنَى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالْأَخْفَشِ أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: أَيَّاماً كَأَنَّهُ قِيلَ: هِيَ شَهْرُ رَمَضَانَ، لِأَنَّ/ قَوْلَهُ: شَهْرُ رَمَضانَ تَفْسِيرٌ لِلْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ وَتَبْيِينٌ لَهَا الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ، كَأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [البقرة: 183] قِيلَ فِيمَا كُتِبَ عَلَيْكُمْ مِنَ الصِّيَامِ شَهْرُ رَمَضَانَ أَيْ صِيَامُهُ الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَخَبَرَهُ الَّذِي مَعَ صِلَتِهِ كَقَوْلِهِ زَيْدٌ الَّذِي فِي الدَّارِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي وَصْفًا لِيَكُونَ لَفْظُ الْقُرْآنِ نَصًّا فِي الْأَمْرِ بِصَوْمِ الشَّهْرِ، لِأَنَّكَ إِنْ جَعَلْتَهُ خَبَرًا لَمْ يَكُنْ شَهْرُ رَمَضَانَ مَنْصُوصًا عَلَى صَوْمِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ، إِنَّمَا يَكُونُ مُخْبَرًا عَنْهُ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ فِيهِ، وَأَيْضًا إِذَا جَعَلْتَ الَّذِي وَصْفًا كَانَ حَقُّ النَّظْمِ أَنْ يُكَنَّى عَنِ الشَّهْرِ لَا أَنْ يَظْهَرَ كَقَوْلِكَ. شَهْرُ رَمَضَانَ الْمُبَارَكُ مَنْ شَهِدَهُ فَلْيَصُمْهُ وَأَمَّا قِرَاءَةُ النَّصْبِ فَفِيهَا وُجُوهٌ أَحَدُهَا: التَّقْدِيرُ: صُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ وَثَانِيهَا: عَلَى الْإِبْدَالِ مِنْ أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ مَفْعُولُ وَأَنْ تَصُومُوا وَهَذَا الْوَجْهُ ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ النَّظْمُ: وأن تصوموا رمضان الذين أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ خَيْرٌ لَكُمْ، وَهَذَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بِهَذَا الْكَلَامِ الْكَثِيرِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ جَارِيَانِ مَجْرَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَإِيقَاعُ الْفَصْلِ بَيْنَ الشَّيْءِ وَبَيْنَ نَفْسِهِ غَيْرُ جَائِزٍ. أَمَّا قَوْلُهُ: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَصَّ هَذَا الشَّهْرَ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ بَيَّنَ الْعِلَّةَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ، وَذَلِكَ هُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَصَّهُ بِأَعْظَمِ آيَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، فَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا تَخْصِيصُهُ بِنَوْعٍ

عَظِيمٍ مِنْ آيَاتِ الْعُبُودِيَّةِ وَهُوَ الصَّوْمُ، مِمَّا يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَنْوَارَ الصَّمَدِيَّةَ مُتَجَلِّيَةٌ أَبَدًا يَمْتَنِعُ عَلَيْهَا الْإِخْفَاءُ وَالِاحْتِجَابُ إِلَّا أَنَّ الْعَلَائِقَ الْبَشَرِيَّةَ مَانِعَةٌ مِنْ ظُهُورِهَا فِي الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ وَالصَّوْمُ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي إِزَالَةِ الْعَلَائِقِ الْبَشَرِيَّةِ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ أَرْبَابَ الْمُكَاشَفَاتِ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى التَّوَصُّلِ إِلَيْهَا إِلَّا بِالصَّوْمِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوْلَا أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَحُومُونَ عَلَى قُلُوبِ بَنِي آدَمَ لَنَظَرُوا إِلَى مَلَكُوتِ السموات» فَثَبَتَ أَنَّ بَيْنَ الصَّوْمِ وَبَيْنَ نُزُولِ الْقُرْآنِ مُنَاسِبَةٌ عَظِيمَةٌ فَلَمَّا كَانَ هَذَا الشَّهْرُ مُخْتَصًّا بِنُزُولِ الْقُرْآنِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالصَّوْمِ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَسْرَارٌ كَثِيرَةٌ وَالْقَدْرُ الَّذِي أشرنا إليه كاف هاهنا، ثُمَّ هَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نزل صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشَرَ والقرآن لأربع وعشرين» وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ مَا نَزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دُفْعَةً، وَإِنَّمَا نَزَلَ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً مُنَجَّمًا مُبَعَّضًا، وَكَمَا نَزَلَ بَعْضُهُ فِي رَمَضَانَ نَزَلَ بَعْضُهُ فِي سَائِرِ الشُّهُورِ، فَمَا مَعْنَى تَخْصِيصُ إِنْزَالِهِ بِرَمَضَانَ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ جُمْلَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ نُجُومًا، وَإِنَّمَا جَرَتِ الْحَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِمَا عَلِمَهُ تَعَالَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ سُكَّانُ سَمَاءِ الدُّنْيَا مَصْلَحَةٌ فِي إِنْزَالِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ أَوْ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تَوَقُّعِ الْوَحْيِ مِنْ أَقْرَبِ الْجِهَاتِ، أَوْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ كَانَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِإِنْزَالِهِ وَتَأْدِيَتِهِ، أَمَّا الْحِكْمَةُ فِي إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى الرَّسُولِ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا فَقَدْ شَرَحْنَاهَا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الْفُرْقَانِ: 32] . الْجَوَابُ الثَّانِي عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ ابْتُدِئَ إِنْزَالُهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَبَادِئَ الْمِلَلِ وَالدُّوَلِ هِيَ الَّتِي يُؤَرَّخُ بِهَا لِكَوْنِهَا أَشْرَفَ الْأَوْقَاتِ وَلِأَنَّهَا أَيْضًا أَوْقَاتٌ مَضْبُوطَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ الْأَوَّلَ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تحمل شيء من المجاز وهاهنا يُحْتَاجُ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ مِنْ حَمْلِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضِ أَجْزَائِهِ وَأَقْسَامِهِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: 1] وَبَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدُّخَانِ: 3] . وَالْجَوَابُ: رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ فِي رَمَضَانَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِذَا كَانَتْ فِي رَمَضَانَ كَانَ إِنْزَالُهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إنزالا له فِي رَمَضَانَ، وَهَذَا كَمَنْ يَقُولُ: لَقِيتُ فُلَانًا فِي هَذَا الشَّهْرِ فَيُقَالُ لَهُ. فِي أَيِّ يَوْمٍ مِنْهُ فَيَقُولُ يَوْمَ كَذَا فَيَكُونُ ذَلِكَ تفسيرا للكلام الأول فكذا هاهنا.

السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْقُرْآنَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ كُلَّ الْقُرْآنِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ثُمَّ أَنْزَلَهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَجَّمًا إِلَى آخِرِ عُمْرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَانَ يُنْزِلُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا مِنَ الْقُرْآنِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأُمَّتَهُ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ ثُمَّ يُنْزِلُهُ عَلَى الرَّسُولِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ ثُمَّ كَذَلِكَ أَبَدًا مَا دَامَ فَأَيُّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ. الْجَوَابُ: كِلَاهُمَا مُحْتَمَلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الشَّخْصَ، وَهُوَ رَمَضَانُ مُعَيَّنٌ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّوْعَ، وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمَلًا صَالِحًا وَجَبَ التَّوَقُّفُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ مَعْنَاهُ أُنْزِلَ فِي فَضْلِهِ الْقُرْآنُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ قَالَ: وَمِثْلُهُ أَنْ يُقَالَ: أُنْزِلَ فِي الصِّدِّيقِ كَذَا/ آيَةً: يُرِيدُونَ فِي فَضْلِهِ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أُنْزِلَ فِي إِيجَابِ صَوْمِهِ عَلَى الخلق القرآن، كأن يَقُولُ: أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الزَّكَاةِ كَذَا وَكَذَا يُرِيدُ فِي إِيجَابِهَا وَأَنْزَلَ فِي الْخَمْرِ كَذَا يُرِيدُ فِي تَحْرِيمِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقُرْآنُ اسْمٌ لِمَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِقَاقِهِ، فَرَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّه بْنِ الْحَكَمِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ اسْمٌ وَلَيْسَ بِمَهْمُوزٍ وَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْ قَرَأْتُ وَلَكِنَّهُ اسْمٌ لِكِتَابِ اللَّهِ مِثْلُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، قَالَ وَيُهْمَزُ قِرَاءَةً وَلَا يُهْمَزُ الْقُرْآنُ كَمَا يَقُولُ: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ [الْإِسْرَاءِ: 45] قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ اسْمٌ لِكِتَابِ اللَّهِ يُشْبِهُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُشْتَقٍّ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَهْمِزُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَهْمِزُهُ، أَمَّا الْأَوَّلُونَ فَلَهُمْ فِيهِ اشْتِقَاقَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَرَنْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إِذَا ضَمَمْتَ أَحَدَهُمَا إِلَى الْآخَرِ، فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَرَنَ وَالِاسْمُ قُرَانٌ غَيْرُ مَهْمُوزٍ، فَسُمِّيَ الْقُرَانُ قُرَانًا إِمَّا لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ السُّورِ وَالْآيَاتِ وَالْحُرُوفِ يَقْتَرِنُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، أَوْ لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالشَّرَائِعِ مُقْتَرِنٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، أَوْ لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُقْتَرِنٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، أَعْنِي اشْتِمَالَهُ عَلَى جِهَاتِ الْفَصَاحَةِ وَعَلَى الْأُسْلُوبِ الْغَرِيبِ، وَعَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَعَلَى الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَرَنَ وَالِاسْمُ قُرَانٌ غَيْرُ مَهْمُوزٍ وَثَانِيهُمَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: أَظُنُّ أَنَّ الْقُرْآنَ سُمِّيَ مِنَ الْقَرَائِنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَاتِ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاءِ: 82] فَهِيَ قَرَائِنُ، وَأَمَّا الَّذِينَ هَمَزُوا فَلَهُمْ وُجُوهٌ أَحُدُهَا: أَنَّهُ مَصْدَرُ القراءة يقال: قرأت القرآن فأنا أقرؤه قرأ وَقِرَاءَةً وَقُرْآنًا، فَهُوَ مَصْدَرٌ، وَمِثْلُ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَصَادِرِ: الرُّجْحَانُ وَالنُّقْصَانُ وَالْخُسْرَانُ وَالْغُفْرَانُ، قَالَ الشَّاعِرُ: ضَحُّوا بِأَشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ ... يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنًا أَيْ قِرَاءَةً، وَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الْإِسْرَاءِ: 78] هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ إِنَّ الْمَقْرُوءَ يُسَمَّى قُرْآنًا، لِأَنَّ الْمَفْعُولَ يُسَمَّى بِالْمَصْدَرِ كَمَا قَالُوا لِلْمَشْرَبِ: شَرَابٌ وَلِلْمَكْتُوبِ كِتَابٌ، وَاشْتُهِرَ هَذَا الِاسْمُ فِي الْعُرْفِ حَتَّى جَعَلُوهُ اسْمًا لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَثَانِيهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقُرْءِ

وَهُوَ الْجَمْعُ، قَالَ عَمْرٌو: هِجَانُ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينًا أَيْ لَمْ تَجْمَعْ فِي رَحِمِهَا وَلَدًا، وَمِنْ هَذَا الْأَصْلِ: قُرْءُ الْمَرْأَةِ وَهُوَ أَيَّامُ اجْتِمَاعِ الدَّمِ فِي رَحِمِهَا، فَسُمِّيَ الْقُرْآنُ قُرْآنًا، لِأَنَّهُ يَجْمَعُ السُّوَرَ وَيَضُمُّهَا وَثَالِثُهَا: قَوْلُ قُطْرُبٍ وَهُوَ أَنَّهُ سُمِّيَ قُرْآنًا، لِأَنَّ الْقَارِئَ يَكْتُبُهُ، وَعِنْدَ الْقِرَاءَةِ كَأَنَّهُ يُلْقِيهِ مِنْ فِيهِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: مَا قَرَأَتِ النَّاقَةُ سَلًى قَطُّ، أَيْ مَا رَمَتْ بِوَلَدٍ وَمَا أَسْقَطَتْ وَلَدًا قَطُّ وَمَا طَرَحَتْ، وَسُمِّيَ الْحَيْضُ، قرأ لِهَذَا التَّأْوِيلِ، فَالْقُرْآنُ/ يَلْفِظُهُ الْقَارِئُ مِنْ فِيهِ وَيُلْقِيهِ فَسُمِّيَ قُرْآنًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [الْبَقَرَةِ: 23] أَنَّ التَّنْزِيلَ مُخْتَصٌّ بِالنُّزُولِ عَلَى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ، وَالْإِنْزَالُ مُخْتَصٌّ بِمَا يَكُونُ النُّزُولُ فِيهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ هاهنا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أُنْزِلَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، لَا جَرَمَ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْإِنْزَالِ دُونَ التَّنْزِيلِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ رَاجِحٌ عَلَى سَائِرِ الْأَقْوَالِ. أَمَّا قَوْلُهُ: هُدىً لِلنَّاسِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: بَيَّنَّا تَفْسِيرَ الْهُدَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: 2] . وَالسُّؤَالُ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْقُرْآنَ فِي تلك الآية هدى للمتقين، وهاهنا جَعَلَهُ هُدًى لِلنَّاسِ، فَكَيْفَ وَجْهُ الْجَمْعِ؟ وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَاكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، أَيْ أُنْزِلَ وَهُوَ هِدَايَةٌ لِلنَّاسِ إِلَى الْحَقِّ وَهُوَ آيَاتٌ وَاضِحَاتٌ مَكْشُوفَاتٌ مِمَّا يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى بَعْدَ قَوْلِهِ: هُدىً. وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلًا أَنَّهُ هُدًى، ثُمَّ الْهُدَى عَلَى قِسْمَيْنِ: تَارَةً يَكُونُ كَوْنُهُ هُدًى لِلنَّاسِ بَيِّنًا جَلِيًّا، وَتَارَةً لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ لَا شَكَّ أَنَّهُ أَفْضَلُ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: هُوَ هُدًى لِأَنَّهُ هُوَ الْبَيِّنُ مِنَ الْهُدَى، وَالْفَارِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَهَذَا مِنْ بَابِ مَا يُذْكَرُ الْجِنْسُ وَيُعْطَفُ نَوْعُهُ عَلَيْهِ، لِكَوْنِهِ أَشْرَفَ أَنْوَاعِهِ، وَالتَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قِيلَ: هَذَا هُدًى، وَهَذَا بَيِّنٌ مَنِ الْهُدَى، وَهَذَا بَيِّنَاتٌ مِنَ الْهُدَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا غَايَةُ الْمُبَالَغَاتِ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: الْقُرْآنُ هَدًى فِي نَفْسِهِ، وَمَعَ كَوْنِهِ كَذَلِكَ فَهُوَ أَيْضًا بَيِّنَاتٌ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ، وَالْمُرَادُ بِالْهُدَى وَالْفُرْقَانِ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ [آلِ عمران: 3 و 4] وَقَالَ: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الْبَقَرَةِ: 53] وَقَالَ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 48] فَبَيَّنَ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَعَ كَوْنِهِ هُدًى فِي نَفْسِهِ فَفِيهِ أَيْضًا هُدًى مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي هِيَ هُدًى وَفُرْقَانٌ الثَّالِثُ: أَنْ يُحْمَلَ الْأَوَّلُ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ، وَالْهُدَى الثَّانِي عَلَى فُرُوعِ الدِّينِ، فَحِينَئِذٍ يَزُولُ التَّكْرَارُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نَقْلَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْبَسِيطِ» عَنِ الْأَخْفَشِ وَالْمَازِنِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ زَائِدَةٌ، قَالَا: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفَاءَ قَدْ تَدْخُلُ لِلْعَطْفِ أَوْ لِلْجَزَاءِ/ أَوْ تَكُونُ زَائِدَةً، وَلَيْسَ للعطف والجزاء هاهنا وَجْهٌ، وَمِنْ زِيَادَةِ الْفَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ [الْجُمُعَةِ: 8] . وَأَقُولُ يمكن أن يقال الفاء هاهنا لِلْجَزَاءِ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَوْنَ رَمَضَانَ مُخْتَصًّا بِالْفَضِيلَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ سَائِرُ الشُّهُورِ فِيهَا، فَبَيَّنَ أَنَّ اخْتِصَاصَهُ بِتِلْكَ الْفَضِيلَةِ يُنَاسِبُ اخْتِصَاصَهُ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كان لتقديم بيان تلك الفضيلة هاهنا وَجْهٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَمَّا عُلِمَ اخْتِصَاصُ هَذَا الشَّهْرِ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ فَأَنْتُمْ أَيْضًا خُصُّوهُ بِهَذِهِ العبادة، أما قوله تعالى: فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ الْفَاءُ فِيهِ غَيْرُ زَائِدَةٍ وَأَيْضًا بَلْ هَذَا مِنْ بَابِ مُقَابَلَةِ الضِّدِّ بِالضِّدِّ كَأَنَّهُ قِيلَ: لما فروا من الموت فجزائهم أَنْ يَقْرُبَ الْمَوْتُ مِنْهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا يُغْنِي الْحَذَرُ عَنِ الْقَدَرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: شَهِدَ أي حضر والشهود الحضور، ثم هاهنا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَفْعُولَ شَهِدَ مَحْذُوفٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الْبَلَدَ أَوْ بَيْتَهُ بِمَعْنَى لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا وَقَوْلُهُ: الشَّهْرَ انْتِصَابُهُ عَلَى الظَّرْفِ وَكَذَلِكَ الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَصُمْهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مَفْعُولُ شَهِدَ هُوَ الشَّهْرَ وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ شَاهَدَ الشَّهْرَ بِعَقْلِهِ وَمَعْرِفَتِهِ فَلْيَصُمْهُ وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: شَهِدْتُ عَصْرَ فُلَانٍ، وَأَدْرَكْتُ زَمَانَ فُلَانٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ كِلَا الْقَوْلَيْنِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِمُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ، أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فَإِنَّمَا يَتِمُّ بِإِضْمَارِ أَمْرٍ زَائِدٍ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي فَيُوجِبُ دُخُولَ التَّخْصِيصِ فِي الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ شُهُودَ الشَّهْرِ حَاصِلٌ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمُ الصَّوْمُ إِلَّا أَنَّا بَيَّنَّا فِي أصول الفقه أنه متى أنه وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالْإِضْمَارِ فَالتَّخْصِيصُ أَوْلَى، وَأَيْضًا فَلِأَنَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَمَّا الْتَزَمْنَا الْإِضْمَارَ لَا بُدَّ أَيْضًا مِنِ الْتِزَامِ التَّخْصِيصِ لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ وَالْمَرِيضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَهِدَ الشَّهْرَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمُ الصَّوْمُ بَلِ الْمُسَافِرُ لَا يَدْخُلُ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَخْصِيصِ هَذِهِ الصُّورَةِ فِيهِ فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ لَا يَتَمَشَّى إِلَّا مَعَ الْتِزَامِ الْإِضْمَارِ وَالتَّخْصِيصِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي يَتَمَشَّى بِمُجَرَّدِ الْتِزَامِ التَّخْصِيصِ فَكَانَ الْقَوْلُ الثَّانِي أَوْلَى هَذَا مَا عِنْدِي فِيهِ مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُحَقِّقِينَ كَالْوَاحِدِيِّ وَصَاحِبِ «الْكَشَّافِ» ذَهَبُوا إِلَى الْأَوَّلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ لِلْمَعْهُودِ السَّابِقِ وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ [النُّورِ: 13] أَيْ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ الْأَرْبَعَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ إِشْكَالًا وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ جُمْلَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ فَالشَّرْطُ هُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ وَالْجَزَاءُ هُوَ الْأَمْرُ بِالصَّوْمِ وَمَا لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ بِتَمَامِهِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَالشَّهْرُ اسْمٌ لِلزَّمَانِ الْمَخْصُوصِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَشُهُودُ الشَّهْرِ إِنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ الْجَزَاءِ الْأَخِيرِ مِنَ الشَّهْرِ وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ عِنْدَ شُهُودِ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنَ الشَّهْرِ/ يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُ كُلِّ الشَّهْرِ وَهَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى إِيقَاعِ الْفِعْلِ فِي الزَّمَانِ الْمُنْقَضِي وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فَلِهَذَا الدَّلِيلِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهَا إِلَى التَّأْوِيلِ، وَطَرِيقُهُ أَنْ يُحْمَلَ لَفْظُ الشَّهْرِ عَلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الشَّهْرِ فِي جانب الشرط فيصير تقريره: من شهد جزأ مِنْ أَجْزَاءِ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ كُلَّ الشَّهْرِ، فَعَلَى هَذَا: مَنْ شَهِدَ هِلَالَ

رمضان فقد شهد جزأ مِنْ أَجْزَاءِ الشَّهْرِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ الشَّرْطُ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِصَوْمِ كُلِّ الشَّهْرِ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَسْتَقِيمُ مَعْنَى الْآيَةِ وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا حَمْلُ لَفْظِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ وَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ أَوَّلَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ جَمِيعَهُ وَقَدْ عَرَفْتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْبَتَّةَ إِلَّا هَذَا الْقَوْلُ، ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَرْعَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا شَهِدَ أَوَّلَ الشَّهْرِ هَلْ يَلْزَمُهُ صَوْمُ كُلِّ الشَّهْرِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا شَهِدَ آخِرَ الشَّهْرِ هَلْ يَلْزَمُهُ صَوْمُ كُلِّ الشَّهْرِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ الشَّهْرُ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ، أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَصُومَ الْكُلَّ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ شَهِدَ أَوَّلَ الشَّهْرِ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ كُلِّ الشَّهْرِ، وَأَمَّا سَائِرُ الْمُجْتَهِدِينَ فَيَقُولُونَ: أن قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ: أَنَّ مَنْ شَهِدَ أَوَّلَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْهُ كُلَّهُ إِلَّا أَنَّهُ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الْحَاضِرُ وَالْمُسَافِرُ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ خَاصٌّ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ. فَثَبَتَ أَنَّهُ وَإِنْ سَافَرَ بَعْدَ شهوة الشَّهْرِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الْإِفْطَارُ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ زَعَمَ أَنَّ الْمَجْنُونَ إِذَا أَفَاقَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ يَلْزَمُهُ قَضَاءَ مَا مَضَى، قَالَ: لِأَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ أدرك جزأ مِنْ رَمَضَانَ لَزِمَهُ صَوْمُ كُلِّ رَمَضَانَ وَالْمَجْنُونُ إِذَا أَفَاقَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ فَقَدْ شَهِدَ جزأ مِنْ رَمَضَانَ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ صَوْمُ كُلِّ رَمَضَانَ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ صِيَامُ مَا تَقَدَّمَ فَالْقَضَاءُ وَاجِبٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ يَسْتَدْعِي بَحْثَيْنِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ شُهُودَ الشَّهْرِ بِمَاذَا يَحْصُلُ؟ فَنَقُولُ: إِمَّا بِالرُّؤْيَةِ وَإِمَّا بِالسَّمَاعِ، أَمَّا الرُّؤْيَةُ فَنَقُولُ: إِذَا رَأَى إِنْسَانٌ هِلَالَ رَمَضَانَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا بِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا بِهَا فَإِمَّا أَنْ يَرُدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ أَوْ لَا يَرُدَّهَا، فَإِنْ تَفَرَّدَ بِالرُّؤْيَةِ وَرَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ، لَزِمَهُ أَنْ يَصُومَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ شُهُودَ الشَّهْرِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ، وَقَدْ حَصَلَ شُهُودُ الشَّهْرِ فِي حَقِّهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، وَأَمَّا إِنِ انْفَرَدَ بِالرُّؤْيَةِ وَقَبِلَ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ أَوْ لَمْ يَنْفَرِدْ بِالرُّؤْيَةِ فَلَا كَلَامَ فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ، وَأَمَّا السَّمَاعُ فَنَقُولُ إِذَا شَهِدَ عَدْلَانِ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ حُكِمَ بِهِ فِي الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ جَمِيعًا، وَإِذَا شَهِدَ عَدْلٌ وَاحِدٌ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ لَا يُحْكَمُ بِهِ وَإِذَا شَهِدَ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ/ يُحْكَمُ بِهِ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ الصَّوْمِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هِلَالِ شَوَّالٍ أَنَّ هِلَالَ رَمَضَانَ لِلدُّخُولِ فِي الْعِبَادَةِ وَهِلَالَ شَوَّالٍ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِي إِثْبَاتِ الْعِبَادَةِ يُقْبَلُ، أَمَّا فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْعِبَادَةِ لَا يُقْبَلُ إِلَّا عَلَى قَوْلِ الِاثْنَيْنِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّا إِنَّمَا قَبِلْنَا قَوْلَ الْوَاحِدِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ لِكَيْ يَصُومُوا وَلَا يُفْطِرُوا احْتِيَاطًا فَكَذَلِكَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ لِكَيْ يَصُومُوا وَلَا يُفْطِرُوا احْتِيَاطًا. الْبَحْثُ الثَّانِي فِي الصَّوْمِ: فَنَقُولُ: إِنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ صَائِمًا مِنْ أَوَّلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ إِلَى حِينِ غُرُوبِ الشَّمْسِ مَعَ النِّيَّةِ وَفِي الْحَدِّ قُيُودٌ: الْقَيْدُ الْأَوَّلُ: الْإِمْسَاكُ وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: لَوْ طَارَتْ ذُبَابَةٌ إِلَى حَلْقِهِ، أَوْ وَصَلَ غُبَارُ الطَّرِيقِ إِلَى بَطْنِهِ لَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ، لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ شَاقٌّ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي آيَةِ الصَّوْمِ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ

بِكُمُ الْعُسْرَ وَالثَّانِي: لَوْ صُبَّ الطَّعَامُ أَوِ الشَّرَابُ فِي حَلْقِهِ كَرْهًا أَوْ حَالَ نَوْمٍ لَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْإِمْسَاكُ وَالِامْتِنَاعُ وَالْإِكْرَاهُ لَا يُنَافِي ذَلِكَ. الْقَيْدُ الثَّانِي: قَوْلُنَا عَنِ الْمُفْطِرَاتِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: دُخُولُ دَاخِلٍ، وَخُرُوجُ خَارِجٍ، وَالْجِمَاعُ، وَحَدُّ الدُّخُولِ كُلُّ عَيْنٍ وَصَلَ مِنَ الظَّاهِرِ إِلَى الْبَاطِنِ مِنْ مَنْفَذٍ مَفْتُوحٍ إِلَى الْبَاطِنِ إِمَّا الدِّمَاغِ أَوِ الْبَطْنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْعَاءِ وَالْمَثَانَةِ، أَمَّا الدِّمَاغُ فَيَحْصُلُ الْفِطْرُ بِالسَّعُوطِ وَأَمَّا الْبَطْنُ فَيَحْصُلُ الْفِطْرُ بِالْحُقْنَةِ وَأَمَّا الْخُرُوجُ فَالْقَيْءُ بِالِاخْتِيَارِ وَالِاسْتِمْنَاءُ يُبْطِلَانِ الصَّوْمَ، وَأَمَّا الْجِمَاعُ فَالْإِيلَاجُ يُبْطِلُ الصَّوْمَ. الْقَيْدُ الثَّالِثُ: قَوْلُنَا مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ صَائِمًا فَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا لِلصَّوْمِ لَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَعِنْدَ مَالِكٍ يَبْطُلُ. الْقَيْدُ الرَّابِعُ: قَوْلُنَا مِنْ أَوَّلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [الْبَقَرَةِ: 187] وَكَلِمَةُ «حَتَّى» لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَكَانَ الْأَعْمَشُ يَقُولُ: أَوَّلُ وَقْتِهِ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَكَانَ يُبِيحُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَيَحْتَجُّ بِأَنَّ انْتِهَاءَ الْيَوْمِ مِنْ وَقْتِ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَكَذَا ابْتِدَاؤُهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ طُلُوعِهَا، وَهَذَا بَاطِلٌ بِالنَّصِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَحُكِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ يَعُودُهُ، فَقَالَ لَهُ الْأَعْمَشُ: إِنَّكَ لَثَقِيلٌ عَلَى قَلْبِي وَأَنْتَ فِي بَيْتِكَ، فَكَيْفَ إِذَا زُرْتَنِي! فَسَكَتَ عَنْهُ أَبُو حَنِيفَةَ فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قِيلَ لَهُ: لِمَ سَكَتَّ عَنْهُ؟ فَقَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ فِي رَجُلٍ مَا صَامَ وَمَا صَلَّى فِي دَهْرِهِ عُنِيَ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بَعْدَ الْفَجْرِ الثَّانِي قَبْلَ الشَّمْسِ فَلَا صَوْمَ لَهُ وَكَانَ لَا يَغْتَسِلُ مِنَ الْإِنْزَالِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ. الْقَيْدُ الْخَامِسُ: قَوْلُنَا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ وَقْتُ الْإِفْطَارِ عِنْدَ غُرُوبِ ضَوْءِ/ الشَّمْسِ، قَاسَ هَذَا الطَّرَفَ عَلَى الطَّرَفِ الْأَوَّلِ مِنَ النَّهَارِ. الْقَيْدُ السَّادِسُ: قَوْلُنَا مَعَ النِّيَّةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: لَا حَاجَةَ لِصَوْمِ رَمَضَانَ إِلَى النِّيَّةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالصَّوْمِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَصُمْهُ وَالصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ وَقَدْ وُجِدَ فَيَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ لَكُنَّا نَقُولُ: لَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ لِأَنَّ الصَّوْمَ عَمَلٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الصَّوْمُ» وَالْعَمَلُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ النِّيَّةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُقِيمَ الصَّحِيحَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَصُومَ وَبَيْنَ أَنْ يُفْطِرَ مَعَ الْفِدْيَةِ قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لَهَا وأبو مسلم الأصفهاني والأصم ينكرون ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ بِتَقْدِيرِ صِحَّةِ الْقَوْلِ بِهَذَا النَّسْخِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَسْخَ الْأَخَفِّ بِالْأَثْقَلِ جَائِزٌ، لِأَنَّ إِيجَابَ الصَّوْمِ عَلَى التَّعْيِينِ أَثْقَلُ مِنْ إِيجَابِهِ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِدْيَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ السَّبَبِ فِي التَّكْرِيرِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الكلام إنما يحسن ذكره هاهنا

بشرط دخول ما قبله فيه والأمر هاهنا كَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الصَّوْمَ عَلَى سَبِيلِ السُّهُولَةِ وَالْيُسْرِ فَإِنَّهُ مَا أَوْجَبَهُ إِلَّا فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ مِنَ السَّنَةِ ثُمَّ ذَلِكَ الْقَلِيلُ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى الْمَرِيضِ وَلَا عَلَى الْمُسَافِرِ وَكُلُّ ذَلِكَ رِعَايَةً لِمَعْنَى الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْيُسْرُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ السُّهُولَةُ وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْغِنَى وَالسَّعَةِ الْيَسَارُ لِأَنَّهُ يَسْهُلُ بِهِ الْأُمُورُ وَالْيَدُ الْيُسْرَى قِيلَ تَلِي الْفِعَالَ بِالْيُسْرِ، وَقِيلَ إِنَّهُ يَتَسَهَّلُ الْأَمْرُ بِمَعُونَتِهَا الْيُمْنَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ، قَالُوا لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِمْ مَا تَيَسَّرَ دُونَ مَا تَعَسَّرَ فَكَيْفَ يُكَلِّفُهُمْ مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْيُسْرَ وَالْعُسْرَ لَا يُفِيدَانِ الْعُمُومَ لِمَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُفْرَدَ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَأَيْضًا فَلَوْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنَّهُ قَدْ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ فَنَصْرِفُهُ إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ مِنَ الْعَبْدِ مَا لَا يُرِيدُهُ اللَّهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرِيضَ لَوْ حَمَلَ نَفْسَهُ عَلَى الصَّوْمِ حَتَّى أَجْهَدَهُ، لَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْ فَعَلَ مَا لَا يُرِيدُهُ الله منه إذا كَانَ لَا يُرِيدُ الْعُسْرَ الْجَوَابُ: يَحْتَمِلُ اللَّفْظُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِمَا فِيهِ عُسْرٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُرِيدُ مِنْهُ الْعُسْرَ وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَنَا الْأَمْرَ قَدْ يَثْبُتُ بِدُونِ الْإِرَادَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى رَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ فَلَوْ أَرَادَ بِهِمْ أَنْ يَكْفُرُوا فَيَصِيرُوا إِلَى النَّارِ، وَخَلَقَ فِيهِمْ ذَلِكَ الْكُفْرَ لَمْ يَكُنْ لَائِقًا بِهِ أَنْ يَقُولَ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ/ بِكُمُ الْعُسْرَ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِالْعِلْمِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَهُمَا لُغَتَانِ: أَكْمَلْتُ وَكَمَّلْتُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ عَلَى مَاذَا عَلَّقَ؟ جَوَابُنَا: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ الْمُعَلِّلَ مَحْذُوفٌ، ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَهُوَ أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، فِعْلُ جُمْلَةِ لما ذُكِرَ وَهُوَ الْأَمْرُ بِصَوْمِ الْعِدَّةِ، وَتَعْلِيمُ كَيْفِيَّةِ الْقَضَاءِ، وَالرُّخْصَةُ فِي إِبَاحَةِ الْفِطْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ ذَكَرَ عَقِيبَهَا أَلْفَاظًا ثَلَاثَةً، فَقَوْلُهُ: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ عِلَّةٌ لِلْأَمْرِ بِمُرَاعَاةِ الْعِدَّةِ وَلِتُكَبِّرُوا عِلَّةُ مَا عَلِمْتُمْ مِنْ كَيْفِيَّةِ الْقَضَاءِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ عِلَّةُ التَّرَخُّصِ وَالتَّسْهِيلِ، وَنَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَذْفِ الْفِعْلِ الْمُنَبِّهِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الْأَنْعَامِ: 75] أَيْ أَرَيْنَاهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنَ التَّكْلِيفِ عَلَى الْمُقِيمِ صَحِيحٌ وَالرُّخْصَةُ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ إِنَّمَا هُوَ إِكْمَالُ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ مَعَ الطَّاقَةِ يَسْهُلُ عَلَيْهِ إِكْمَالُ الْعِدَّةِ، وَمَعَ الرُّخْصَةِ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ يَسْهُلُ إِكْمَالُ الْعِدَّةِ بِالْقَضَاءِ، فَلَا يَكُونُ عُسْرًا، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ كَلَّفَ الْكُلَّ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ إِكْمَالُ الْعِدَّةِ عَسِيرًا،

بَلْ يَكُونُ سَهْلًا يَسِيرًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ فِي الْأَوَّلِ إِضْمَارًا وَقْعَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَفِي الثَّانِي قَبْلَهُ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَالَ: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلَمْ يَقُلْ: وَلِتُكْمِلُوا الشَّهْرَ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ دَخَلَ تَحْتَهُ عِدَّةُ أَيَّامِ الشَّهْرِ وَأَيَّامِ الْقَضَاءِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِمَا جَمِيعًا وَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الْقَضَاءِ مَثَلًا لِعَدَدِ الْمَقْضِيِّ، وَلَوْ قَالَ تَعَالَى: وَلِتُكْمِلُوا الشَّهْرَ لَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ الْأَدَاءِ فَقَطْ وَلَمْ يَدْخُلْ حُكْمُ الْقَضَاءِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّكْبِيرُ لَيْلَةَ الْفِطْرِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِذَا رَأَوْا هِلَالَ شَوَّالٍ أَنْ يُكَبِّرُوا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأُحِبُّ إِظْهَارَ التَّكْبِيرِ فِي الْعِيدَيْنِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُكْرَهُ ذَلِكَ غَدَاةَ الْفِطْرِ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَقَالَ: مَعْنَاهُ وَلِتُكْمِلُوا عِدَّةَ شَهْرِ رَمَضَانَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عِنْدَ انْقِضَائِهِ عَلَى مَا هَدَاكُمْ إِلَى هَذِهِ الطَّاعَةِ، ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: إِحْدَاهَا: اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي أَنَّ أَيَّ الْعِيدَيْنِ أَوْكَدُ فِي التَّكْبِيرِ؟ فَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَيْلَةُ النَّحْرِ أَوْكَدُ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَيْهَا، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَيْلَةُ الْفِطْرِ أَوْكَدُ لِوُرُودِ النَّصِّ/ فِيهَا وَثَانِيهَا: أَنَّ وَقْتَ التَّكْبِيرِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ الْفِطْرِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُكَبَّرُ فِي لَيْلَةِ الْفِطْرِ وَلَكِنَّهُ يُكَبَّرُ فِي يَوْمِهِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالَ إِسْحَاقُ: إِذَا غَدَا إِلَى الْمُصَلَّى حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ وَقَعَ مُعَلَّلًا بِحُصُولِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ، لَكِنْ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ تَحْصُلُ هَذِهِ الْهِدَايَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَثَالِثُهَا: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ وَقْتَ هَذَا التَّكْبِيرِ مُمْتَدٌّ إِلَى أَنْ يُحْرِمَ الْإِمَامُ بِالصَّلَاةِ، وَقِيلَ فِيهِ قَوْلَانِ آخَرَانِ أَحَدُهُمَا: إِلَى خُرُوجِ الْإِمَامِ وَالثَّانِي: إِلَى انْصِرَافِ الْإِمَامِ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا بَلَغَ إِلَى أَدْنَى الْمُصَلَّى تَرَكَ التَّكْبِيرَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّعْظِيمُ لِلَّهِ شُكْرًا عَلَى مَا وُفِّقَ عَلَى هَذِهِ الطَّاعَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ تَمَامَ هَذَا التَّكْبِيرِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ والاعتقاد والعمل أما القول: فالإقرار بصفاته العلي، وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَتَنْزِيهُهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ نِدٍّ وَصَاحِبَةٍ وَوَلَدٍ وَشَبَهٍ بِالْخَلْقِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ صِحَّةِ الِاعْتِقَادِ بِالْقَلْبِ وَأَمَّا الْعَمَلُ: فَالتَّعَبُّدُ بِالطَّاعَاتِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَقْرَبُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَكْبِيرَ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا التَّفْسِيرِ وَاجِبٌ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَمَعَ كُلِّ الطَّاعَاتِ فَتَخْصِيصُ هَذِهِ الطَّاعَةِ بِهَذَا التَّكْبِيرِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّكْبِيرُ لَهُ خُصُوصِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى التَّكْبِيرِ الْوَاجِبِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى مَا هَداكُمْ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْإِنْعَامَ الْعَظِيمَ فِي الدُّنْيَا بِالْأَدِلَّةِ وَالتَّعْرِيفَ وَالتَّوْفِيقَ وَالْعِصْمَةَ، وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا بِخَلْقِ الطَّاعَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فَفِيهِ بَحْثَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ كَلِمَةَ «لَعَلَّ» لِلتَّرَجِّي، وَالتَّرَجِّي لَا يَجُوزُ فِي حَقِّ اللَّهِ وَالثَّانِي: الْبَحْثُ عَنْ حَقِيقَةِ الشُّكْرِ، وَهَذَانَ بحثان قد مر تقريرهما. بقي هاهنا بَحْثٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا اللَّفْظِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالتَّكْبِيرِ وَهُوَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِأَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ جَلَالَ الله وكبريائه وَعِزَّتَهُ وَعَظَمَتَهُ، وَكَوْنَهُ أَكْبَرَ مِنْ أَنْ تَصِلَ إليه عقول

[سورة البقرة (2) : آية 186]

الْعُقَلَاءِ، وَأَوْصَافُ الْوَاصِفِينَ، وَذِكْرُ الذَّاكِرِينَ، ثُمَّ يَعْلَمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَعَ جَلَالِهِ وَعِزَّتِهِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَضْلًا عَنْ هَذَا الْمِسْكِينِ خَصَّهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ الْعَظِيمَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ دَاعِيًا لِلْعَبْدِ إِلَى الِاشْتِغَالِ بِشُكْرِهِ، وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمِقْدَارِ قُدْرَتِهِ وَطَاقَتِهِ فلهذا قال: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. [سورة البقرة (2) : آية 186] وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ بعض إِيجَابِ فَرْضِ الصَّوْمِ وَبَيَانِ أَحْكَامِهِ: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الْبَقَرَةِ: 185] فَأَمَرَ العبد بعد التكبير الَّذِي هُوَ الذِّكْرُ وَبِالشُّكْرِ، بَيَّنَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بِلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ قَرِيبٌ مِنَ الْعَبْدِ مُطَّلِعٌ عَلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ فَيَسْمَعُ نِدَاءَهُ، وَيُجِيبُ دُعَاءَهُ، وَلَا يُخَيِّبُ رَجَاءَهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِالتَّكْبِيرِ أَوَّلًا ثُمَّ رَغَّبَهُ فِي الدُّعَاءِ ثَانِيًا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَرَادَ الدُّعَاءَ قَدَّمَ عَلَيْهِ الثَّنَاءَ، فَقَالَ أَوَّلًا: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشُّعَرَاءِ: 78] إِلَى قَوْلِهِ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشُّعَرَاءِ: 82] وَكُلُّ هَذَا ثَنَاءٌ مِنْهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ شَرَعَ بَعْدَهُ فِي الدُّعَاءِ فَقَالَ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشُّعَرَاءِ: 83] فكذا هاهنا أَمَرَ بِالتَّكْبِيرِ أَوَّلًا ثُمَّ شَرَعَ بَعْدَهُ فِي الدُّعَاءِ ثَانِيًا الثَّالِثُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا فَرَضَ عَلَيْهِمُ الصِّيَامَ كَمَا فَرَضَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا نَامُوا حَرُمَ عَلَيْهِمْ مَا يَحْرُمُ عَلَى الصَّائِمِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِهِمْ حَتَّى عَصَوُا اللَّهَ فِي ذَلِكَ التَّكْلِيفِ، ثُمَّ نَدِمُوا وَسَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَوْبَتِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ مُخْبِرًا لَهُمْ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ، وَنَسَخَ ذَلِكَ التَّشْدِيدَ بِسَبَبِ دُعَائِهِمْ وَتَضَرُّعِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ، قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ أَقَرِيبٌ أَنْتَ فَأُنَاجِيكَ، أَمْ بَعِيدٌ فَأُنَادِيكَ؟ فَقَالَ: يَا مُوسَى أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي، قَالَ: يَا رَبِّ فَإِنَّا نَكُونُ عَلَى حَالَةِ نَجِلُّكَ أَنْ نَذْكُرَكَ عَلَيْهَا مِنْ جَنَابَةٍ وَغَائِطٍ، قَالَ: يَا مُوسَى اذْكُرْنِي عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ رَغَّبَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ فِي ذِكْرِهِ وَفِي الرُّجُوعِ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَثَانِيهَا: أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيهِ، أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي غَزْوَةٍ وَقَدْ رَفَعَ أَصْحَابُهُ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالدُّعَاءِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا» وَرَابِعُهَا: مَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ سَبَبَهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَالُوا: كَيْفَ نَدْعُو رَبَّنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ فَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ وَخَامِسُهَا: قَالَ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُمْ سَأَلُوهُ فِي أَيِّ سَاعَةٍ نَدْعُو اللَّهَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَسَادِسُهَا: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ أَنَّ يَهُودَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ يَسْمَعُ رَبُّكَ دُعَاءَنَا؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَسَابِعُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: سَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَيْنَ رَبُّنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَثَامِنُهَا: مَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 183] لَمَّا اقْتَضَى تَحْرِيمَ الْأَكْلِ بَعْدَ/ النَّوْمِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَكَلُوا ثُمَّ نَدِمُوا وَتَابُوا وَسَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَعَالَى هَلْ يقبل توبتنا؟ فأنزل الله هذه الآية. [المسألة الثالثة] وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ سَأَلُوا النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى،

فَذَلِكَ السُّؤَالُ إِمَّا أَنَّهُ كَانَ سُؤَالًا عَنْ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ عَنْ صِفَاتِهِ، أَوْ عَنْ أَفْعَالِهِ، أَمَّا السُّؤَالُ عَنِ الذَّاتِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ مِمَّنْ يُجَوِّزُ التَّشْبِيهَ، فَيَسْأَلَ عَنِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ بِحَسَبِ الذَّاتِ، وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنِ الصِّفَاتِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ سَأَلَ عَنْ أَنَّهُ تَعَالَى هَلْ يَسْمَعُ دُعَاءَنَا فَيَكُونُ السُّؤَالُ وَاقِعًا عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى سَمِيعًا، أَوْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ السُّؤَالِ أَنَّهُ تَعَالَى كَيْفَ أَذِنَ فِي الدُّعَاءِ، وَهَلْ أَذِنَ فِي الدُّعَاءِ، وهل أذن في أن ندعوه بِجَمِيعِ الْأَسْمَاءِ، أَوْ مَا أَذِنَ إِلَّا بِأَنْ نَدْعُوَهُ بِأَسْمَاءٍ مُعَيَّنَةٍ، وَهَلْ أَذِنَ لَنَا أَنْ نَدْعُوَهُ كَيْفَ شِئْنَا، أَوْ مَا أَذِنَ بِأَنْ نَدْعُوَهُ عَلَى وَجْهٍ مُعَيَّنٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها [الْإِسْرَاءِ: 110] وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنِ الْأَفْعَالِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنَّهُ إِذَا سَمِعَ دُعَاءَنَا فَهَلْ يُجِيبُنَا إِلَى مَطْلُوبِنَا، وَهَلْ يَفْعَلُ مَا نَسْأَلُهُ عَنْهُ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي يَحْتَمِلُ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ، إِلَّا أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى السُّؤَالِ عَنِ الذَّاتِ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: عَنِّي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنْ ذَاتِهِ لَا عَنْ فِعْلِهِ وَالثَّانِي: أَنَّ السُّؤَالَ مَتَى كَانَ مُبْهَمًا وَالْجَوَابَ مُفَصَّلًا، دَلَّ الْجَوَابُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الْمُبْهَمِ هُوَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ، فَلَمَّا قَالَ فِي الْجَوَابِ: فَإِنِّي قَرِيبٌ عَلِمْنَا أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ عَنِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ بِحَسَبِ الذَّاتِ، وَلِقَائِلٍ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ بَلِ السُّؤَالُ كَانَ عَلَى الْفِعْلِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى هَلْ يجيب دعاءهم، وهل يحصل مقصود، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: فَإِنِّي قَرِيبٌ قَالَ: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَهَذَا هُوَ شَرْحُ هَذَا الْمَقَامِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنِّي قَرِيبٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ ليس المراد من هذا القريب بِالْجِهَةِ وَالْمَكَانِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقُرْبُ بِالْعِلْمِ والحفظ، فيحتاج هاهنا إِلَى بَيَانِ مَطْلُوبَيْنِ: الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ أن هذا القريب لَيْسَ قُرْبًا بِحَسَبِ الْمَكَانِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْمَكَانِ مُشَارًا إِلَيْهِ بِالْحِسِّ لَكَانَ مُنْقَسِمًا، إِذْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي الصِّغَرِ وَالْحَقَارَةِ مِثْلَ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ. وَلَوْ كَانَ مُنْقَسِمًا لَكَانَتْ مَاهِيَّتُهُ مُفْتَقِرَةً فِي تَحَقُّقِهَا إِلَى تَحَقُّقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهَا الْمَفْرُوضَةِ وَجُزْءُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ، فَلَوْ كَانَ فِي مَكَانٍ لَكَانَ مُفْتَقِرًا إِلَى غَيْرِهِ، وَالْمُفْتَقِرُ إِلَى غَيْرِهِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَمُحْدَثٌ وَمُفْتَقِرٌ إِلَى الْخَالِقِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْخَالِقِ الْقَدِيمِ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَكَانِ فَلَا يَكُونُ قُرْبُهُ بِالْمَكَانِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْمَكَانِ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ عَنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، أَوْ غَيْرَ مُتَنَاهٍ عَنْ جِهَةٍ دُونِ جِهَةٍ، أَوْ كَانَ مُتَنَاهِيًا مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ وَالْأَوَّلُ: مُحَالٌ لِأَنَّ الْبَرَاهِينَ الْقَاطِعَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ فَرْضَ بُعْدٍ غَيْرِ مُتَنَاهٍ مُحَالٌ وَالثَّانِي: مُحَالٌ أَيْضًا/ لِهَذَا الْوَجْهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ مُتَنَاهِيًا وَالْآخَرُ غَيْرُ مُتَنَاهٍ لَكَانَتْ حَقِيقَةُ هَذَا الْجَانِبِ الْمُتَنَاهِي مُخَالِفَةً فِي الْمَاهِيَّةِ لِحَقِيقَةِ ذَلِكَ الْجَانِبِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُتَنَاهٍ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ تَعَالَى مُرَكَّبًا مِنْ أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةِ الطَّبَائِعِ وَالْخَصْمُ لَا يَقُولُ بِذَلِكَ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيًا مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ، فَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خُصُومِنَا، فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ تَعَالَى فِي الْجِهَةِ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْقُرْبَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ قُرْبًا بِالْجِهَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ فِي الْمَكَانِ لَمَا كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْكُلِّ، بَلْ كَانَ يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَبَعِيدًا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَكَانَ إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ زَيْدٍ الَّذِي هُوَ بِالْمَشْرِقِ كَانَ بَعِيدًا مِنْ عَمْرٍو الَّذِي هُوَ بِالْمَغْرِبِ، فَلَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى قَرِيبًا مِنَ الْكُلِّ عَلِمْنَا أَنَّ الْقُرْبَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ قربا

بِحَسْبِ الْجِهَةِ، وَلَمَّا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقُرْبَ بِالْجِهَةِ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقُرْبُ بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَسْمَعُ دُعَاءَهُمْ وَيَرَى تَضَرُّعَهُمْ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْقُرْبِ: الْعِلْمُ وَالْحِفْظُ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الْحَدِيدِ: 4] وَقَالَ: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] وَقَالَ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [الْمُجَادَلَةِ: 7] وَالْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ إِنَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ مَكَانٍ وَيُرِيدُونَ بِهِ التَّدْبِيرَ وَالْحِفْظَ وَالْحِرَاسَةَ إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ فِي بَعْضِ أُولَئِكَ الْحَاضِرِينَ مَنْ كَانَ قَائِلًا بِالتَّشْبِيهِ، فَقَدْ كَانَ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَفِي الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ هَذِهِ طَرِيقَتُهُ، فَإِذَا سَأَلُوهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالُوا: أَيْنَ رَبُّنَا؟ صَحَّ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ: فَإِنِّي قَرِيبٌ، وَكَذَلِكَ إِنْ سَأَلُوهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالُوا: هَلْ يَسْمَعُ رَبُّنَا دُعَاءَنَا؟ صَحَّ أَنْ يَقُولَ فِي جَوَابِهِ: فَإِنِّي قَرِيبٌ فَإِنَّ الْقَرِيبَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ يَسْمَعُ كَلَامَهُ، وَإِنْ سَأَلُوهُ كَيْفَ نَدْعُوهُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ أَوْ بِإِخْفَائِهِ؟ صَحَّ أَنْ يجب أن بِقَوْلِهِ: فَإِنِّي قَرِيبٌ، وَإِنْ سَأَلُوهُ هَلْ يُعْطِينَا مَطْلُوبَنَا بِالدُّعَاءِ؟ صَلَحَ هَذَا الْجَوَابُ أَيْضًا، وَإِنْ سَأَلُوهُ إِنَّا إِذَا أَذْنَبْنَا ثُمَّ تُبْنَا فَهَلْ يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَتَنَا؟ صَلَحَ أَنْ يُجِيبَ بِقَوْلِهِ: فَإِنِّي قَرِيبٌ أَيْ فَأَنَا الْقَرِيبُ بِالنَّظَرِ لَهُمْ وَالتَّجَاوُزِ عَنْهُمْ وَقَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْهُمْ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ مُطَابِقٌ لِلسُّؤَالِ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْرِفُ بِحُدُوثِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ عَلَى وَفْقِ غَرَضِ الدَّاعِي فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْلَا مُدَبِّرٌ لِهَذَا الْعَالَمِ يَسْمَعُ دُعَاءَهُ وَلَمْ يُخَيِّبْ رَجَاءَهُ وَإِلَّا لَمَا حَصَلَ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنِّي قَرِيبٌ فِيهِ سِرٌّ عَقْلِيٌّ وَذَلِكَ لِأَنَّ اتِّصَافَ مَاهِيَّاتِ الْمُمْكِنَاتِ بِوُجُودَاتِهَا إِنَّمَا كَانَ بِإِيجَادِ الصَّانِعِ، فَكَانَ إِيجَادُ الصَّانِعِ كَالْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ مَاهِيَّاتِ الْمُمْكِنَاتِ وَبَيْنَ وُجُودَاتِهَا فَكَانَ الصَّانِعُ أَقْرَبَ إِلَى مَاهِيَّةِ كُلِّ مُمْكِنٍ من وجود تلك الماهية إليها، بل هاهنا كَلَامٌ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ الصَّانِعَ هُوَ الَّذِي لِأَجْلِهِ صَارَتْ مَاهِيَّاتُ الْمُمَكَّنَاتِ مَوْجُودَةً فَهُوَ أَيْضًا لِأَجْلِهِ كَانَ الْجَوْهَرُ جَوْهَرًا/ وَالسَّوَادُ سَوَادًا وَالْعَقْلُ عَقْلًا وَالنَّفْسُ نَفْسًا، فَكَمَا أَنَّ بِتَأْثِيرِهِ وَتَكْوِينِهِ صَارَتِ الْمَاهِيَّاتُ مَوْجُودَةً فَكَذَلِكَ بِتَأْثِيرِهِ وَتَكْوِينِهِ صَارَتْ كُلُّ مَاهِيَّةٍ تِلْكَ الْمَاهِيَّةَ، فَعَلَى قِيَاسِ مَا سَبَقَ كَانَ الصَّانِعُ أَقْرَبَ إِلَى كُلِّ مَاهِيَّةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ إِلَى نَفْسِهَا، فَإِنْ قِيلَ: تَكْوِينُ الْمَاهِيَّةِ مُمْتَنِعٌ لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ جَعْلُ السَّوَادِ سَوَادًا فَنَقُولُ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْوُجُودِ وُجُودًا لِأَنَّهُ مَاهِيَّةٌ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْمَوْصُوفِيَّةِ دَالَّةً لِلْمَاهِيَّةِ فَإِذَنِ الْمَاهِيَّةُ لَيْسَتْ بِالْفَاعِلِ، وَالْوُجُودُ مَاهِيَّةٌ أَيْضًا فَلَا يَكُونُ بِالْفَاعِلِ، وَمَوْصُوفِيَّةُ الْمَاهِيَّةِ بِالْوُجُودِ هُوَ أَيْضًا مَاهِيَّةٌ فَلَا تَكُونُ بِالْفَاعِلِ، فَإِذَنْ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ الْبَتَّةَ بِالْفَاعِلِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، فَإِذَنْ وَجَبَ الْحُكْمُ بِأَنَّ الْكُلَّ بِالْفَاعِلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ الْكَلَامُ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَقَالُونُ عَنْ نَافِعٍ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِيهِمَا فِي الْوَصْلِ وَالْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا فَالْأُولَى عَلَى الْوَصْلِ وَالثَّانِيَةُ عَلَى التَّخْفِيفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ: الدُّعَاءُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكَ: دَعَوْتُ الشَّيْءَ أَدْعُوهُ دُعَاءً ثُمَّ أَقَامُوا الْمَصْدَرَ مَقَامَ الِاسْمِ تَقُولُ: سَمِعْتُ دُعَاءً كَمَا تَقُولُ سَمِعْتُ صَوْتًا وَقَدْ يُوضَعُ الْمَصْدَرُ مَوْضِعَ الِاسْمِ كَقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ عَدْلٌ. وَحَقِيقَةُ الدُّعَاءِ اسْتِدْعَاءُ الْعَبْدِ رَبَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ الْعِنَايَةَ وَاسْتِمْدَادُهُ إِيَّاهُ الْمَعُونَةَ. وَأَقُولُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الدُّعَاءِ، فَقَالَ بَعْضُ الْجُهَّالِ الدُّعَاءُ شَيْءٌ عَدِيمُ الْفَائِدَةِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالدُّعَاءِ إِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ وَاجِبَ الْوُقُوعِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الدُّعَاءِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْلُومِ الْوُقُوعِ كَانَ

مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، فَلَا حَاجَةَ أَيْضًا إِلَى الدُّعَاءِ وَثَانِيهَا: أَنَّ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ فِي هَذَا الْعَالَمِ لَا بُدَّ مِنِ انْتِهَائِهَا بِالْآخِرَةِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ الْقَدِيمِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ إِمَّا التَّسَلْسُلُ، وَإِمَّا الدَّوْرُ وَإِمَّا وُقُوعُ الْحَادِثِ مِنْ غَيْرِ مُؤَثِّرٍ وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ انْتِهَائِهَا بِالْآخِرَةِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ الْقَدِيمِ، فَكُلُّ مَا اقْتَضَى ذَلِكَ الْمُؤَثِّرُ الْقَدِيمُ وُجُودَهُ اقْتِضَاءً قَدِيمًا أَزَلِيًّا كَانَ وَاجِبَ الْوُقُوعِ، وَكُلُّ مَا لَمْ يَقْتَضِ الْمُؤَثِّرُ الْقَدِيمُ وُجُودَهُ اقْتِضَاءً قَدِيمًا أَزَلِيًّا كَانَ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، وَلَمَّا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ فِي الْأَزَلِ لَمْ يَكُنْ لِلدُّعَاءِ الْبَتَّةَ أَثَرٌ، وَرُبَّمَا عَبَّرُوا عَنْ هَذَا الْكَلَامِ بِأَنْ قَالُوا: الْأَقْدَارُ سَابِقَةٌ وَالْأَقْضِيَةُ مُتَقَدِّمَةٌ وَالدُّعَاءُ لَا يَزِيدُ فِيهَا وَتَرْكُهُ لَا يُنْقِصُ شَيْئًا مِنْهَا، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي الدُّعَاءِ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدَّرَ اللَّهُ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ بِكَذَا وَكَذَا عَامًا وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ» وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهَا: الْعُمْرُ وَالرِّزْقُ وَالْخَلْقُ وَالْخُلُقُ» وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ [غَافِرٍ: 19] فَأَيُّ حَاجَةٍ بِالدَّاعِي إِلَى الدُّعَاءِ؟ وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالُوا إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ/ السَّلَامُ بَلَغَ بِسَبَبِ هَذَا الْكَلَامِ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِخْلَاصِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَلَوْلَا أَنَّ تَرْكَ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالدُّعَاءِ إِنْ كَانَ مِنْ مَصَالِحِ الْعَبْدِ فَالْجَوَادُ الْمُطْلَقُ لَا يُهْمِلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَصَالِحِهِ لَمْ يَجُزْ طَلَبُهُ وَخَامِسُهَا: ثَبَتَ بِشَوَاهِدِ الْعَقْلِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ أَجَلَّ مَقَامَاتِ الصِّدِّيقِينَ وَأَعْلَاهَا الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَالدُّعَاءُ يُنَافِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِالِالْتِمَاسِ وَتَرْجِيحٌ لِمُرَادِ النَّفْسِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَلَبُهُ لِحِصَّةِ الْبَشَرِ وَسَادِسُهَا: أَنَّ الدُّعَاءَ يُشْبِهُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَذَلِكَ مِنَ الْعَبْدِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى الْكَرِيمِ الرَّحِيمِ سُوءُ أَدَبٍ وَسَابِعُهَا: رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ رِوَايَةً عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» قَالُوا فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْأَوْلَى تَرَكُ الدُّعَاءِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْعُقَلَاءِ: إِنَّ الدُّعَاءَ أَهَمُّ مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ مِنَ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ، أَمَّا الدَّلَائِلُ النَّقْلِيَّةُ فَكَثِيرَةٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ السُّؤَالَ وَالْجَوَابُ فِي كِتَابِهِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْهَا أُصُولِيَّةٌ وَمِنْهَا فروعية، أما الأصولية فقوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء: 85] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ [طه: 105] ويَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ [النَّازِعَاتِ: 42] وَأَمَّا الْفُرُوعِيَّةُ فَمِنْهَا فِي البقرة على التوالي يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ [البقرة: 219] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ [البقرة: 217] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة: 219] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى [البقرة: 220] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة: 222] وقال أيضا: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ [الأنفال: 1] وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [الْكَهْفِ: 83] وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ [يُونُسَ: 53] يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النِّسَاءِ: 176] . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا: فَنَقُولُ هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ جَاءَتْ أَجْوِبَتُهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ فَالْأَغْلَبُ فِيهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى السُّؤَالَ قَالَ لِمُحَمَّدٍ: قُلْ وَفِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ جَاءَ الْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: فَقُلْ مَعَ فَاءِ التَّعْقِيبَ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ سُؤَالٌ عَنْ قِدَمِهَا وَحُدُوثِهَا وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ فَلَا جَرَمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه: 105] كَأَنَّهُ قَالَ يَا مُحَمَّدُ أَجِبْ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فِي الْحَالِ وَلَا تُؤَخِّرِ الْجَوَابَ فَإِنَّ الشَّكَّ فِيهِ كُفْرٌ ثُمَّ تَقْدِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ النَّسْفَ مُمْكِنٌ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْجَبَلِ فَيَكُونُ مُمْكِنًا فِي الْكُلِّ وَجَوَازُ عَدَمِهِ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ قِدَمِهِ، أَمَّا سَائِرُ الْمَسَائِلِ فَهِيَ فُرُوعِيَّةٌ فَلَا جَرَمَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا فَاءَ التَّعْقِيبِ، أَمَّا الصُّورَةُ الثالثة وهي

فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ وَلَمْ يَقُلْ فَقُلْ إِنِّي قَرِيبٌ فَتَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ حَالِ الدُّعَاءِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ عَبْدِي أَنْتَ إِنَّمَا تَحْتَاجُ إِلَى الْوَاسِطَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الدُّعَاءِ أَمَّا فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ فَلَا وَاسِطَةَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ وَقَوْلَهُ: فَإِنِّي قَرِيبٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ لِلْعَبْدِ وَثَالِثُهَا: لَمْ يَقُلْ: فَالْعَبْدُ مِنِّي قَرِيبٌ، بَلْ قَالَ: أَنَا مِنْهُ قَرِيبٌ، وَفِيهِ سِرٌّ نَفِيسٌ فَإِنَّ الْعَبْدَ مُمْكِنُ الْوُجُودِ فَهُوَ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ فِي مَرْكَزِ الْعَدَمِ وَحَضِيضِ الْفَنَاءِ، فَلَا يُمْكِنُهُ الْقُرْبَ مِنَ الرَّبِّ أَمَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ فَهُوَ الْقَادِرُ مِنْ أَنْ يَقْرُبَ بِفَضْلِهِ وَبِرَحْمَتِهِ مِنَ الْعَبْدِ، وَالْقُرْبُ مِنَ الحق إلى العبد/ لا من العبد إلا الْحَقِّ فَلِهَذَا قَالَ: فَإِنِّي قَرِيبٌ وَالرَّابِعُ: أَنَّ الدَّاعِيَ مَا دَامَ يَبْقَى خَاطِرُهُ مَشْغُولًا بِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ دَاعِيًا لَهُ فَإِذَا فَنِيَ عَنِ الْكُلِّ صَارَ مُسْتَغْرِقًا فِي مَعْرِفَةِ الْأَحَدِ الْحَقِّ، فَامْتَنَعَ مِنْ أَنْ يَبْقَى فِي هَذَا الْمَقَامِ مُلَاحِظًا لِحَقِّهِ وَطَالِبًا لِنَصِيبِهِ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الْوَسَائِطُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا جَرَمَ حَصَلَ الْقُرْبُ فَإِنَّهُ مَا دَامَ يَبْقَى الْعَبْدُ مُلْتَفِتًا إِلَى غَرَضِ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ قَرِيبًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ ذَلِكَ الْغَرَضَ يَحْجُبُهُ عَنِ اللَّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الدُّعَاءَ يُفِيدُ الْقُرْبَ مِنَ اللَّهِ، فَكَانَ الدُّعَاءُ أَفْضَلَ الْعِبَادَاتِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ فِي فَضْلِ الدُّعَاءِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرِ: 60] . الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقْتَصِرْ فِي بَيَانِ فَضْلِ الدُّعَاءِ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ بَلْ بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُسْأَلْ يَغْضَبْ فَقَالَ: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْأَنْعَامِ: 43] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ وَلَكِنْ يَجْزِمُ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» وَقَرَأَ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ فَقَوْلُهُ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُعْظَمُ الْعِبَادَةِ وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «الْحَجُّ عَرَفَةُ» أَيِ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ هُوَ الرَّكْنُ الْأَعْظَمُ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الْأَعْرَافِ: 55] وقال: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ [الْفُرْقَانِ: 77] وَالْآيَاتُ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ فَمَنْ أَبْطَلَ الدُّعَاءَ فَقَدْ أَنْكَرَ الْقُرْآنَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى: أَنَّهَا مُتَنَاقِضَةٌ، لِأَنَّ إِقْدَامَ الْإِنْسَانِ عَلَى الدُّعَاءِ إِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ فَلَا فَائِدَةَ فِي اشْتِغَالِكُمْ بِإِبْطَالِ الدُّعَاءِ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْعَدَمِ لَمْ يَكُنْ إِلَى إِنْكَارِكِمْ حَاجَةٌ، ثُمَّ نَقُولُ: كَيْفِيَّةُ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَيْفِيَّةُ قَضَائِهِ وَقَدَرِهُ غَائِبَةٌ عَنِ الْعُقُولِ، وَالْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُعَلَّقًا بَيْنَ الرَّجَاءِ وَبَيْنَ الْخَوْفِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا تَتِمُّ الْعُبُودِيَّةُ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ صَحَّحْنَا الْقَوْلَ بِالتَّكَالِيفِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِالْكُلِّ وَجَرَيَانِ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ فِي الْكُلِّ، وَلِهَذَا الْإِشْكَالِ سَأَلَتِ الصَّحَابَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَرَأَيْتَ أَعْمَالَنَا هَذِهِ أَشَيْءٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ أَمْ أَمْرٌ يَسْتَأْنِفُهُ؟ فَقَالَ: بَلْ شَيْءٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ. فَقَالُوا: فَفِيمَ الْعَمَلُ إِذَنْ؟ قَالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» فَانْظُرْ إِلَى لَطَائِفَ هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ عليه السلام علقهم بين الأمرين فربهم سَابِقَ الْقَدَرِ الْمَفْرُوغِ مِنْهُ ثُمَّ أَلْزَمَهُمُ الْعَمَلَ الَّذِي هُوَ مُدْرَجَةُ التَّعَبُّدِ، فَلَمْ يُعَطِّلْ ظَاهِرَ الْعَمَلِ بِمَا يُفِيدُ مِنَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لِلْآخَرِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ فَائِدَةَ الْعَمَلِ هُوَ الْمُقَدَّرُ الْمَفْرُوغُ مِنْهُ فَقَالَ: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» يُرِيدُ أَنَّهُ مُيَسَّرٌ فِي أَيَّامِ حَيَاتِهِ لِلْعَمَلِ الَّذِي سَبَقَ لَهُ الْقَدَرُ قَبْلَ وُجُودِهِ، إِلَّا أَنَّكَ تُحِبُّ أَنْ تعلم هاهنا فَرْقَ مَا بَيْنَ الْمُيَسَّرِ وَالْمُسَخَّرِ فَتَأَهَّبْ لِمَعْرِفَتِهِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي بَابِ الْكَسْبِ وَالرِّزْقِ

فَإِنَّهُ مَفْرُوغٌ مِنْهُ فِي الْأَصْلِ لَا يَزِيدُهُ الطَّلَبُ وَلَا يَنْقُصُهُ التَّرْكُ. وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودَ مِنَ الدُّعَاءِ الْإِعْلَامُ، بَلْ إِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ وَالذِّلَّةِ وَالِانْكِسَارِ وَالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَعَنِ الثَّالِثَةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مَا لَيْسَ بِمَصْلَحَةٍ مَصْلَحَةً بِحَسَبِ سَبْقِ الدُّعَاءِ وَعَنِ الرَّابِعَةِ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَقْصُودُهُ مِنَ الدُّعَاءِ إِظْهَارَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ ثُمَّ بَعْدُ رضى بما قدره الله وقضاء، فَذَلِكَ أَعْظَمُ الْمَقَامَاتِ وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ بَقِيَّةِ الشُّبَهِ فِي هَذَا الْبَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ مُشْكِلٌ مَشْهُورٌ، وَهُوَ أَنَّهُ تعالى قال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ وَكَذَلِكَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النَّمْلِ: 62] ثُمَّ إِنَّا نَرَى الدَّاعِيَ يُبَالِغُ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ فَلَا يُجَابُ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً إِلَّا أَنَّهُ قَدْ وَرَدَتْ آيَةٌ أُخْرَى مُقَيَّدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ [الْأَنْعَامِ: 41] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ، ثُمَّ تَقْرِيرُ الْمَعْنَى فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الدَّاعِيَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَجِدَ مِنْ دُعَائِهِ عِوَضًا، إِمَّا إِسْعَافًا بِطَلَبَتِهِ الَّتِي لِأَجْلِهَا دَعَا وَذَلِكَ إِذَا وَافَقَ الْقَضَاءَ، فَإِذَا لَمْ يُسَاعِدْهُ الْقَضَاءُ فَإِنَّهُ يُعْطَى سَكِينَةً فِي نَفْسِهِ، وَانْشِرَاحًا فِي صَدْرِهِ، وَصَبْرًا يَسْهُلُ مَعَهُ احْتِمَالُ الْبَلَاءِ الْحَاضِرِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا يَعْدَمُ فَائِدَةً، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الِاسْتِجَابَةِ وَثَانِيهَا: مَا رَوَى الْقَفَّالُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْوَةُ الْمُسْلِمِ لا ترد إلا لإحدى ثلاثة: مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، إِمَّا أَنْ يُعَجَّلَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يُصْرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ بِقَدْرِ مَا دَعَا» . وَهَذَا الْخَبَرُ تَمَامُ الْبَيَانِ فِي الْكَشْفِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وَلَمْ يَقُلْ: أَسْتَجِبْ لَكُمْ فِي الْحَالِ فَإِذَا اسْتَجَابَ لَهُ وَلَوْ فِي الْآخِرَةِ كَانَ الْوَعْدُ صِدْقًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي عَارِفًا بِرَبِّهِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ دَاعِيًا لَهُ، بَلْ لِشَيْءٍ مُتَخَيَّلٍ لا وجود له ألبتة، فثبت أن الشرط الدَّاعِي أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِرَبِّهِ وَمِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ إِلَّا مَا وَافَقَ قَضَاءَهُ وَقَدَرَهُ وَعِلْمَهُ وَحِكْمَتَهُ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ صِفَةَ الرَّبِّ هَكَذَا اسْتَحَالَ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ بِقَلْبِهِ وَبِعَقْلِهِ: يَا رَبِّ أَفْعَلُ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ لَا مَحَالَةَ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقُولَ: أَفْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ إِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِقَضَائِكَ وَقَدَرِكَ وَحِكْمَتِكَ، وَعِنْدَ هَذَا يَصِيرُ الدُّعَاءُ الَّذِي دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى تَرْتِيبِ الْإِجَابَةِ عَلَيْهِ مَشْرُوطًا بِهَذِهِ الشَّرَائِطِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ زَالَ السُّؤَالُ الرَّابِعُ أَنَّ لَفْظَ الدُّعَاءِ وَالْإِجَابَةِ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا كَثِيرَةً أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ عِبَارَةً عَنِ التَّوْحِيدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ كَقَوْلِ الْعَبْدِ: يَا اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، وَهَذَا إِنَّمَا سُمِّيَ دُعَاءً لِأَنَّكَ عَرَفْتَ اللَّهَ تَعَالَى ثُمَّ وَحَّدْتَهُ وَأَثْنَيْتَ عَلَيْهِ، فَهَذَا يُسَمَّى دُعَاءً بِهَذَا التَّأْوِيلِ وَلَمَّا سُمِّيَ هَذَا الْمَعْنَى دُعَاءً سُمِّي قَبُولُهُ إِجَابَةً لِتَجَانُسِ اللَّفْظِ وَمِثْلُهُ كثير وقال ابن الأنباري: أُجِيبُ هاهنا بِمَعْنَى أَسْمَعُ لِأَنَّ بَيْنَ السَّمَاعِ وَبَيْنَ الْإِجَابَةِ نَوْعُ مُلَازَمَةٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ يُقَامُ كُلُّ وَاحِدٍ/ مِنْهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ، فَقَوْلُنَا سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ أَيْ أَجَابَ اللَّهُ فكذا هاهنا قَوْلُهُ: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ أَيْ أَسْمَعُ تِلْكَ الدَّعْوَةَ، فَإِذَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ تَعَالَى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ زَالَ الْإِشْكَالُ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الدُّعَاءِ

التَّوْبَةَ عَنِ الذُّنُوبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّائِبَ يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ التَّوْبَةِ، وَإِجَابَةُ الدُّعَاءِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ عِبَارَةٌ عَنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا لَا إِشْكَالَ، وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الدُّعَاءِ الْعِبَادَةَ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر: 60] فظهر أن الدعاء هاهنا هُوَ الْعِبَادَةُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِجَابَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِلدُّعَاءِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَفَاءِ بِمَا ضَمِنَ لِلْمُطِيعِينَ مِنَ الثَّوَابِ كَمَا قَالَ: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [الشُّورَى: 26] وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْإِشْكَالُ زَائِلٌ وَرَابِعُهَا: أَنَّ يُفَسَّرَ الدُّعَاءُ بِطَلَبِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ حَوَائِجَهُ فَالسُّؤَالُ الْمَذْكُورُ إِنْ كَانَ مُتَوَجِّهًا عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لَمْ يَكُنْ مُتَوَجِّهًا عَلَى التَّفْسِيرَاتِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِشْكَالَ زَائِلٌ. المسألة الرابعة: قال الْمُعْتَزِلَةُ: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الْأَنْعَامِ: 82] وَذَلِكَ لِأَنَّ وَصْفَنَا الْإِنْسَانَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَجَابَ دَعْوَتَهُ، صِفَةُ مَدْحٍ وَتَعْظِيمٍ، أَلَا تَرَى أَنَّا إِذَا أَرَدْنَا الْمُبَالَغَةَ فِي تَعْظِيمِ حَالِ إِنْسَانٍ فِي الدِّينِ قُلْنَا إِنَّهُ مُسْتَجَابُ الدَّعْوَةِ وَإِذَا كَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَاصِبِ فِي الدِّينِ، وَالْفَاسِقُ وَاجِبُ الْإِهَانَةِ فِي الدِّينِ، ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا لِمَنْ لَا يَتَلَوَّثُ إِيمَانُهُ بِالْفِسْقِ، بَلِ الْفَاسِقُ قَدْ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَطْلُبُهُ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَجْهُ النَّاظِمِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَنَا أُجِيبُ دُعَاءَكَ مَعَ أَنِّي غَنِيٌّ عَنْكَ مُطْلَقًا، فَكُنْ أَنْتَ أَيْضًا مُجِيبًا لِدُعَائِي مَعَ أَنَّكَ مُحْتَاجٌ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، فَمَا أَعْظَمَ هَذَا الْكَرَمَ، وَفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ لِلْعَبْدِ: أَجِبْ دُعَائِيَ حَتَّى أُجِيبَ دُعَاءَكَ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ ذَلِكَ لَصَارَ لِدُعَائِي، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ إِجَابَةَ اللَّهِ عَبْدَهُ فَضْلٌ مِنْهُ ابْتِدَاءً، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُعَلَّلٍ بِطَاعَةِ الْعَبْدِ، وَأَنَّ إِجَابَةَ الرَّبِّ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَى الْعَبْدِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى اشْتِغَالِ الْعَبْدِ بِطَاعَةِ الرَّبِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَا نَقَلْنَاهُ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَجَابَ وَاسْتَجَابَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ: قَالَ كَعْبُ الْغَنَوِيُّ: وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النِّدَا ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ وَقَالَ أَهْلُ الْمَعْنَى: الْإِجَابَةُ مِنَ الْعَبْدِ لِلَّهِ الطَّاعَةُ، وَإِجَابَةُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ إِعْطَاؤُهُ إِيَّاهُ مَطْلُوبَهُ، لِأَنَّ إِجَابَةَ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى وَفْقِ مَا يَلِيقُ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِجَابَةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ إِنْ كَانَتْ إِجَابَةً بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، فَذَاكَ هُوَ الْإِيمَانُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ قَوْلُهُ: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي تَكْرَارًا مَحْضًا، وَإِنْ كَانَتْ إِجَابَةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ عِبَارَةً عَنِ الطَّاعَاتِ كَانَ الْإِيمَانُ مُقَدَّمًا عَلَى الطَّاعَاتِ، وَكَانَ حَقُّ النَّظْمِ أَنْ يَقُولَ: فَلْيُؤْمِنُوا بِي وَلْيَسْتَجِيبُوا لِي، فَلِمَ جَاءَ عَلَى الْعَكْسِ مِنْهُ؟ وَجَوَابُهُ: أَنَّ الِاسْتِجَابَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الِانْقِيَادِ وَالِاسْتِسْلَامِ، وَالْإِيمَانُ عِبَارَةٌ عَنْ صِفَةِ الْقَلْبِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَصِلُ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَقُوَّتِهِ إِلَّا بِتَقَدُّمِ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ يَرْشُدُونَ بِفَتْحِ الشِّينِ وَكَسْرِهَا، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ إِذَا اسْتَجَابُوا لِي وَآمَنُوا بِي: اهْتَدَوْا لِمَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، لِأَنَّ الرَّشِيدَ هُوَ من كان كذلك،

[سورة البقرة (2) : آية 187]

[سورة البقرة (2) : آية 187] أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ فِي أَوَّلِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ الصَّائِمُ إِذَا أَفْطَرَ حَلَّ لَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْوِقَاعُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَنَامَ وَأَنْ لَا يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ فَإِذَا فَعَلَ أَحَدَهُمَا حَرُمَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ هَذِهِ الْحُرْمَةُ مَا كَانَتْ ثَابِتَةً فِي شَرْعِنَا الْبَتَّةَ، بَلْ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي شَرْعِ النَّصَارَى، وَاللَّهُ تَعَالَى نَسَخَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا كَانَ ثَابِتًا فِي شَرْعِهِمْ، وَجَرَى فِيهِ عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي شَرْعِنَا نَسْخٌ الْبَتَّةَ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى قَوْلِهِمْ بِوُجُوهٍ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 183] يَقْتَضِي تَشْبِيهَ صَوْمِنَا بِصَوْمِهِمْ، وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي صَوْمِهِمْ، فَوَجَبَ بِحُكْمِ هَذَا التَّشْبِيهِ أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً أَيْضًا فِي صَوْمِنَا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحُرْمَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي شَرْعِنَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِهَذِهِ الْحُرْمَةِ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِحُكْمٍ كَانَ ثَابِتًا فِي شَرْعِنَا. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ وَلَوْ كَانَ هَذَا الْحِلُّ ثَابِتًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ أُحِلَّ لَكُمْ فَائِدَةٌ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ حَلَالًا لَهُمْ لَمَا كَانَ بِهِمْ حَاجَةٌ إِلَى أَنْ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ أَقْدَمُوا عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِسَبَبِ الْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، لَمَا صَحَّ قَوْلُهُ: فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَلَوْ كَانَ الْحِلُّ ثَابِتًا قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا هُوَ الْآنَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ فَائِدَةً. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: هِيَ أَنَّ الرِّوَايَاتِ الْمَنْقُولَةَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي شَرْعِنَا، هَذَا مَجْمُوعُ دَلَائِلِ الْقَائِلِينَ بِالنَّسْخِ، أَجَابَ أَبُو مُسْلِمٍ عَنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ فَقَالَ: أَمَّا الْحُجَّةُ الْأُولَى: فَضَعِيفَةٌ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ تَشْبِيهَ الصَّوْمِ بِالصَّوْمِ يَكْفِي فِي صِدْقِهِ مُشَابَهَتُهُمَا فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ. وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: فَضَعِيفَةٌ أَيْضًا لِأَنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، فَقَوْلُهُ: أُحِلَّ

لَكُمْ مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى غَيْرِكُمْ فَقَدْ أُحِلُّ لَكُمْ. وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثالثة: فضعيفة أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ تِلْكَ الْحُرْمَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي شَرْعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْنَا الصَّوْمَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي ذلك الإيجاب زَوَالَ تِلْكَ الْحُرْمَةِ فَكَانَ يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ أَنَّ تِلْكَ الْحُرْمَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي الشَّرْعِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي شَرْعِنَا مَا دَلَّ عَلَى زَوَالِهَا فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِبَقَائِهَا، ثُمَّ تَأَكَّدَ هَذَا الْوَهْمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ/ مِنْ قَبْلِكُمْ فَإِنَّ مُقْتَضَى التَّشْبِيهِ حُصُولُ الْمُشَابِهَةِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي الشَّرْعِ الْمُتَقَدِّمِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً فِي هَذَا الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حُجَّةً قَوِيَّةً إِلَّا أَنَّهَا لَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ شُبْهَةً مُوهِمَةً فَلِأَجْلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ بَقَاءَ تِلْكَ الْحُرْمَةِ فِي شَرْعِنَا، فَلَا جَرَمَ شَدَّدُوا وَأَمْسَكُوا عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ وَأَرَادَ بِهِ تَعَالَى النَّظَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالتَّخْفِيفِ لَهُمْ بِمَا لَوْ لَمْ تَتَبَيَّنِ الرُّخْصَةُ فِيهِ لَشَدَّدُوا وَأَمْسَكُوا عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَنَقَصُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الشَّهْوَةِ، وَمَنَعُوهَا مِنَ الْمُرَادِ، وَأَصْلُ الْخِيَانَةِ النَّقْصُ، وَخَانَ وَاخْتَانَ وَتَخَوَّنُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَقَوْلِهِمْ: كَسَبَ وَاكْتَسَبَ وَتَكَسَّبُ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَكُمْ إِحْلَالُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْمُبَاشَرَةِ طُولَ اللَّيْلِ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَنْقُصُونَ أَنْفُسَكُمْ شَهَوَاتِهَا وَتَمْنَعُونَهَا لَذَّاتِهَا وَمَصْلَحَتِهَا بِالْإِمْسَاكِ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ النَّوْمِ كَسُنَّةِ النَّصَارَى. وَأَمَّا الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: فَضَعِيفَةٌ لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الْعِبَادِ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ وَمِنَ اللَّهِ الرُّجُوعُ إِلَى الْعَبْدِ بِالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَأَمَّا الْعَفْوُ فَهُوَ التَّجَاوُزُ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى إِنْعَامَهُ عَلَيْنَا بِتَخْفِيفِ مَا جَعَلَهُ ثَقِيلًا عَلَى مَنْ قَبْلَنَا كَقَوْلِهِ: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الْأَعْرَافِ: 157] . وَأَمَّا الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: فَضَعِيفَةٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِسَبَبِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ مُمْتَنِعِينَ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ، فَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَأَزَالَ الشُّبْهَةَ فِيهِ لَا جَرَمَ قَالَ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ. وَأَمَّا الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: فَضَعِيفَةٌ لِأَنَّ قَوْلَنَا: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِحُكْمٍ كَانَ مَشْرُوعًا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِبَابِ الْعَمَلِ وَلَا يَكُونُ خَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةً فِيهِ، وَأَيْضًا فَفِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي تِلْكَ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْقَوْمَ اعْتَرَفُوا بِمَا فَعَلُوا عِنْدَ الرَّسُولِ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ هُوَ الْمُبَاشَرَةُ، لِأَنَّهُ افْتِعَالٌ مِنَ الْخِيَانَةِ، فَهَذَا حَاصِلُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي شَرْعِنَا، ثُمَّ إِنَّهَا نُسِخَتْ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّرِيعَةِ يُحَلُّ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ، مَا لَمْ يَرْقُدِ الرَّجُلُ أَوْ يُصَلِّ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، فَإِذَا فَعَلَ أَحَدُهُمَا حَرُمَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ إِلَى اللَّيْلَةِ الْآتِيَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ عَشِيَّةً وَقَدْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ، وَاخْتَلَفُوا فِي اسْمِهِ، فَقَالَ مُعَاذٌ: اسْمُهُ أَبُو صِرْمَةَ، وَقَالَ الْبَرَاءُ: قَيْسُ بْنُ صِرْمَةَ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَبُو قَيْسِ بْنُ صِرْمَةَ، وَقِيلَ: صِرْمَةُ بْنُ أَنَسٍ، فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبَبِ ضَعْفِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَمِلْتُ فِي النَّخْلِ نَهَارِي أَجْمَعَ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَأَتَيْتُ أَهْلِي لِتُطْعِمَنِي شَيْئًا فَأَبْطَأَتْ فَنِمْتُ فَأَيْقَظُونِي، وَقَدْ حَرُمَ الْأَكْلُ فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ من مثله. رجعت إلى أهلي بعد ما صَلَّيْتُ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، فَأَتَيْتُ امْرَأَتِي، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَمْ تَكُنْ جَدِيرًا بِذَلِكَ يَا عُمَرُ ثُمَّ قَامَ رِجَالٌ فَاعْتَرَفُوا بِالَّذِي صَنَعُوا فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُحِلَّ/ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ أَيْ أَحَلَّ اللَّهُ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ الرُّفُوثُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: لَيْلَةَ الصِّيَامِ أَرَادَ لَيَالِيَ الصِّيَامِ فَوَقَعَ الْوَاحِدُ مَوْقِعَ الْجَمَاعَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ: فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمْ ... فَقَدْ بَرِئَتْ مِنَ الْإِحَنِ الصُّدُورُ وَأَقُولُ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ لَيْلَةَ الصِّيامِ لَيْلَةً وَاحِدَةً بَلِ الْمُرَادُ الْإِشَارَةُ إِلَى اللَّيْلَةِ الْمُضَافَةِ إِلَى هَذِهِ الْحَقِيقَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ اللَّيْثُ: الرَّفَثُ أَصْلُهُ قَوْلُ الْفُحْشِ، وَأَنْشَدَ الزَّجَّاجُ: ورب أسراب حجيج كقلم ... عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ يُقَالُ رَفَثَ فِي كَلَامِهِ يَرْفُثُ وَأَرْفَثَ إِذَا تَكَلَّمَ بِالْقَبِيحِ قَالَ تَعَالَى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [الْبَقَرَةِ: 197] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَنْشَدَ وَهُوَ مُحْرِمٌ: وَهُنَّ يمشين بنا هميسا ... أن يصدق الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسًا فَقِيلَ لَهُ: أَتَرْفُثُ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا الرَّفَثُ مَا كَانَ عِنْدَ النِّسَاءِ فَثَبَتَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الرَّفَثِ هُوَ قَوْلُ الْفُحْشِ ثُمَّ جُعِلَ ذَلِكَ اسْمًا لِمَا يُتَكَلَّمُ بِهِ عِنْدَ النِّسَاءِ مِنْ مَعَانِيَ الْإِفْضَاءِ، ثُمَّ جُعِلَ كِنَايَةً عَنِ الْجِمَاعِ وَعَنْ كُلِّ مَا يَتْبَعُهُ. فإن قيل: لم كنى هاهنا عَنِ الْجِمَاعِ بِلَفْظِ الرَّفَثِ الدَّالِّ عَلَى مَعْنَى الْقُبْحِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ [النِّسَاءِ: 21] فَلَمَّا تَغَشَّاها [الْأَعْرَافِ: 189] أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء: 43] دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء: 23] فَأْتُوا حَرْثَكُمْ [البقرة: 223] مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الْبَقَرَةِ: 236] فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ [النِّسَاءِ: 24] وَلا تَقْرَبُوهُنَّ [الْبَقَرَةِ: 222] . جَوَابُهُ: السَّبَبُ فِيهِ اسْتِهْجَانُ مَا وُجِدَ مِنْهُمْ قَبْلَ الإباحة كَمَا سَمَّاهُ اخْتِيَانًا لِأَنْفُسِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّمَا عَدَّى الرَّفَثَ بِإِلَى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْإِفْضَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ [النِّسَاءِ: 21] . الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ يَقْتَضِي حُصُولَ الْحِلِّ فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ لِأَنَّ «لَيْلَةَ» نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اللَّيْلُ ظَرْفًا لِلرَّفَثِ لَوْ كَانَ اللَّيْلُ كُلُّهُ مَشْغُولًا بِالرَّفَثِ، وَإِلَّا لكان ظرف ذلك الرفث بعض الليل لأكله، فَعَلَى هَذَا النَّسْخُ حَصَلَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَأَمَّا الذي بعده من قَوْلِهِ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ فَذَاكَ يَكُونُ كَالتَّأْكِيدِ لِهَذَا النَّسْخِ، وَأَمَّا الَّذِي يَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ يُفِيدُ حِلَّ الرَّفَثِ فِي اللَّيْلِ، فَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَقْتَضِي حُصُولَ النَّسْخِ بِهِ فَيَكُونُ النَّاسِخُ هُوَ قَوْلُهُ: كُلُوا وَاشْرَبُوا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ ذَكَرْنَا فِي تَشْبِيهِ الزَّوْجَيْنِ بِاللِّبَاسِ وُجُوهًا أَحُدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ يَعْتَنِقَانِ،

فَيَضُمُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِسْمَهُ إِلَى جِسْمِ صَاحِبِهِ حَتَّى يَصِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ كَالثَّوْبِ الَّذِي يَلْبَسُهُ، سُمِّيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِبَاسًا، قَالَ الرَّبِيعُ: هُنَّ فِرَاشٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِحَافٌ لَهُنَّ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ، يُرِيدُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتُرُ صَاحِبَهُ عِنْدَ الْجِمَاعِ عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ وَثَانِيهَا: إِنَّمَا سُمِّيَ الزَّوْجَانِ لِبَاسًا لِيَسْتُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَمَّا لَا يَحِلُّ، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ «مَنْ تَزَوَّجَ فَقَدْ أَحْرَزَ ثُلُثَيْ دِينِهِ» وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا لِبَاسًا لِلرَّجُلِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَخُصُّهَا بِنَفْسِهِ، كَمَا يَخُصُّ لِبَاسَهُ بِنَفْسِهِ، وَيَرَاهَا أَهْلًا لِأَنْ يُلَاقِيَ كُلُّ بَدَنِهِ كُلَّ بَدَنِهَا كَمَا يَعْمَلُهُ فِي اللِّبَاسِ وَرَابِعُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ سَتْرُهُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْمَفَاسِدِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْبَيْتِ، لَوْ لَمْ تَكُنِ الْمَرْأَةُ حَاضِرَةً، كَمَا يَسْتَتِرُ الْإِنْسَانُ بِلِبَاسِهِ عَنِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْمَضَارِّ وَخَامِسُهَا: ذَكَرَ الْأَصَمُّ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ كَاللِّبَاسِ السَّاتِرِ لِلْآخَرِ فِي ذَلِكَ الْمَحْظُورِ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْرَدَ هَذَا الْوَصْفَ عَلَى طَرِيقِ الْإِنْعَامِ عَلَيْنَا، فَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَى التَّسَتُّرِ بِهِنَّ فِي الْمَحْظُورِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّمَا وَحَّدَ اللِّبَاسَ بَعْدَ قَوْلِهِ هُنَّ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْمَصْدَرِ، وَفِعَالٌ مِنْ مَصَادِرِ فَاعَلَ، وَتَأْوِيلُهُ: هُنَّ مُلَابِسَاتٌ لَكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَوْقِعُ قَوْلِهِ: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ فَنَقُولُ: هُوَ اسْتِئْنَافٌ كَالْبَيَانِ لِسَبَبِ الْإِحْلَالِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَتْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُنَّ مِثْلُ هَذِهِ الْمُخَالَطَةِ وَالْمُلَابَسَةِ قَلَّ صَبْرُكُمْ عَنْهُنَّ، وَضَعُفَ عَلَيْكُمُ اجْتِنَابُهُنَّ، فَلِذَلِكَ رَخَّصَ لَكُمْ فِي مُبَاشَرَتِهِنَّ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: خَانَهُ يَخُونُهُ خَوْنًا وَخِيَانَةً إِذَا لَمْ يَفِ لَهُ، وَالسَّيْفُ إِذَا نَبَا عَنِ الضَّرْبَةِ فَقَدْ خَانَكَ، وَخَانَهُ الدَّهْرُ إِذَا تَغَيَّرَ حَالُهُ إِلَى الشَّرِّ، وَخَانَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ إِذَا لَمْ يُؤَدِّ الْأَمَانَةَ، وَنَاقِضُ الْعَهْدِ خَائِنٌ، لِأَنَّهُ كَانَ يُنْتَظَرُ مِنْهُ الْوَفَاءُ فَغَدَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً [الْأَنْفَالِ: 58] أَيْ نَقْضًا لِلْعَهْدِ، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ الْمَدِينِ: إِنَّهُ خَائِنٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَفِ بِمَا يَلِيقُ بِدِينِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [الْأَنْفَالِ: 27] وَقَالَ: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ [الْأَنْفَالِ: 71] فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ سَمَّى اللَّهُ الْمَعْصِيَةَ بِالْخِيَانَةِ، وَإِذَا عَلِمْتَ مَعْنَى الْخِيَانَةِ، فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الِاخْتِيَانُ مِنَ الْخِيَانَةِ، كَالِاكْتِسَابِ مِنَ الْكَسْبِ فِيهِ زِيَادَةٌ وَشِدَّةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّهَ تعالى ذكر هاهنا أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ تِلْكَ الْخِيَانَةَ كَانَتْ فِي مَاذَا؟ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ هَذِهِ الْخِيَانَةِ عَلَى شَيْءٍ يَكُونُ لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ، وَالَّذِي تَقَدَّمَ هُوَ ذِكْرُ الْجِمَاعِ، وَالَّذِي تَأَخَّرَ قَوْلُهُ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ المراد بهذه/ الخيانة الجماع، ثم هاهنا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تُسِرُّونَ بِالْمَعْصِيَةِ فِي الْجِمَاعِ بَعْدَ الْعَتَمَةِ وَالْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ وَتَرْكَبُونَ الْمُحَرَّمَ مِنْ ذَلِكَ وَكُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ خَانَ نَفْسَهُ وَقَدْ خَانَ اللَّهَ، لِأَنَّهُ جَلَبَ إِلَيْهَا الْعِقَابَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجِبُ أَنْ يُقْطَعَ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِهِمْ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى وُقُوعِهِ مِنْ جَمِيعِهِمْ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَجَبَ فِي جَمِيعِهِمْ أَنْ يَكُونُوا مُخْتَانِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، لَكَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّبْعِيضُ لِلْعَادَةِ وَالْإِخْبَارُ، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فَيَجِبُ أَنَّ يُقْطَعَ عَلَى وُقُوعِ هَذَا الْجِمَاعِ الْمَحْظُورِ مِنْ بَعْضِهِمْ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمٍ سَابِقٍ وَعَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِهِمْ، وَلِأَبِي مُسْلِمٍ أَنْ يَقُولَ قَدْ بينا أن

الْخِيَانَةَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَأَنْتُمْ حَمَلْتُمُوهُ عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَنَحْنُ حَمَلْنَاهُ عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ بِمَا هُوَ خَيْرٌ لِلنَّفْسِ وَهَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ اللَّهَ، كَمَا قَالَ: لَا تَخُونُوا اللَّهَ [الأنفال: 27] ما قَالَ: كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَكَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْلَى فَلَا أَقَلَّ مِنَ التَّسَاوِي وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَثْبُتُ النَّسْخُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ لَوْ دَامَتْ تِلْكَ الْحُرْمَةُ وَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ دَامَ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ الشَّاقُّ لَوَقَعُوا فِي الْخِيَانَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مَا وَقَعَتِ الْخِيَانَةُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ التَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى إِضْمَارِ الشَّرْطِ وَأَنْ يُقَالَ بَلِ الثَّانِي أَوْلَى، لِأَنَّ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ يَصِيرُ إِقْدَامُهُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ سَبَبًا لِنَسْخِ التَّكْلِيفِ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَوْ دَامَ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ لَحَصَلَتِ الْخِيَانَةُ فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لَنَسْخِ التَّكْلِيفِ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ حَتَّى لَا يَقَعُوا فِي الْخِيَانَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتابَ عَلَيْكُمْ فَمَعْنَاهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ فَرَجَعَ عَلَيْكُمْ بِالْإِذْنِ فِي هَذَا الْفِعْلِ وَالتَّوْسِعَةِ عَلَيْكُمْ وَعَلَى قَوْلِ مُثْبِتِي النَّسَخِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِضْمَارٍ تَقْدِيرُهُ: تُبْتُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فِيهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَفا عَنْكُمْ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ مَعْنَاهُ وَسَّعَ عَلَيْكُمْ أَنْ أَبَاحَ لَكُمُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالْمُعَاشَرَةَ فِي كُلِّ اللَّيْلِ وَلَفْظُ الْعَفْوِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّوْسِعَةِ وَالتَّخْفِيفِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ» وَقَالَ «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ» وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّخْفِيفُ بِتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ وَيُقَالُ: أَتَانِي هَذَا الْمَالُ عَفْوًا، أَيْ سَهْلًا فَثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ الْعَفْوِ غَيْرُ مُشْعِرٍ بِسَبْقِ التَّحْرِيمِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُثْبِتِي النَّسْخِ فَقَوْلُهُ: عَفا عَنْكُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ: عَفَا عَنْ ذُنُوبِكُمْ، وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي أَيْضًا قَوْلَ أَبِي مُسْلِمٍ لِأَنَّ تَفْسِيرَهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِضْمَارِ وَتَفْسِيرَ مُثْبِتِي النَّسْخِ يَحْتَاجُ إِلَى الْإِضْمَارِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا أَمْرٌ وارد عقب الخطر فالذين قالوا: الأمر الوارد عقيب الخطر/ لَيْسَ إِلَّا لِلْإِبَاحَةِ، كَلَامُهُمْ ظَاهِرٌ وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: مُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ قَالُوا إِنَّمَا تَرَكْنَا الظَّاهِرَ وَعَرَفْنَا كَوْنَ هَذَا الْأَمْرِ لِلْإِبَاحَةِ بِالْإِجْمَاعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُبَاشَرَةُ فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا الْجِمَاعُ، سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ لِتَلَاصُقِ الْبَشَرَتَيْنِ وَانْضِمَامِهِمَا، وَمِنْهَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَى أَنْ يُبَاشِرَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، وَالْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ: إِنَّهُ الْجِمَاعُ فَمَا دُونَهُ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ اخْتَلَفَ المفسرين فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى كُلِّ الْمُبَاشَرَاتِ وَلَمْ يَقْصُرْهُ عَلَى الْجِمَاعِ وَالْأَقْرَبُ أَنَّ لَفْظَ الْمُبَاشَرَةِ لَمَّا كَانَ مُشْتَقًّا مِنْ تَلَاصُقِ الْبَشَرَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ مُخْتَصًّا بِالْجِمَاعِ بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَكَذَا الْمُعَانَقَةُ وَالْمُلَامَسَةُ إِلَّا أَنَّهُمْ إِنَّمَا اتَّفَقُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُوَ الْجِمَاعُ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي هَذِهِ الرُّخْصَةِ كَانَ وُقُوعُ الْجِمَاعِ مِنَ الْقَوْمِ، وَلِأَنَّ الرَّفَثَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُ لَا يُرَادُ بِهِ إِلَّا الْجِمَاعُ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ إِبَاحَةُ الْجِمَاعِ تَتَضَمَّنُ إِبَاحَةَ مَا دُونَهُ صَارَتْ إِبَاحَتُهُ دَالَّةً عَلَى إِبَاحَةِ مَا عداه، فصح هاهنا حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْجِمَاعِ فَقَطْ، وَلَمَّا كَانَ فِي الِاعْتِكَافِ الْمَنْعُ مِنَ الْجِمَاعِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِمَّا دُونَهُ صَلَحَ اخْتِلَافُ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ، عَلَى مَا لَخَّصَهُ الْقَاضِي.

أَمَّا قَوْلُهُ: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي الْآيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ الْوَلَدِ بِالْمُبَاشَرَةِ أَيْ لَا تُبَاشِرُوا لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَحْدَهَا، وَلَكِنْ لِابْتِغَاءِ مَا وَضَعَ اللَّهُ لَهُ النِّكَاحَ مِنَ التَّنَاسُلِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا تَكْثُرُوا» وَثَانِيهَا: أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْعَزْلِ، وَقَدْ رُوِيَتِ الْأَخْبَارُ فِي كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَعْزِلُ الرَّجُلُ عَنِ الْحُرَّةِ إِلَّا بِإِذْنِهَا وَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْزِلَ عَنِ الْأَمَةِ وَرَوَى عَاصِمٌ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْعَزْلَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَعْزِلَ عَنِ الْحُرَّةِ إِلَّا بِإِذْنِهَا وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: ابْتَغُوا الْمَحِلَّ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَحَلَّلَهُ دُونَ مَا لَمْ يَكْتُبْ لَكُمْ مِنَ الْمَحِلِّ الْمُحَرَّمِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَةِ: 222] وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا التَّأْكِيدَ تَقْدِيرُهُ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا هَذِهِ الْمُبَاشَرَةَ الَّتِي كَتَبَهَا لَكُمْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْكُمْ وَخَامِسُهَا: وَهُوَ عَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، يَعْنِي هَذِهِ الْمُبَاشَرَةَ الَّتِي كَانَ اللَّهُ تَعَالَى كتبها لكم وإن كنتم تظنوها مُحَرَّمَةً عَلَيْكُمْ وَسَادِسُهَا: أَنَّ مُبَاشَرَةَ الزَّوْجَةِ قَدْ تَحْرُمُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بِسَبَبِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْعِدَّةِ وَالرِّدَّةِ فَقَوْلُهُ: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يَعْنِي لَا تُبَاشِرُوهُنَّ إِلَّا فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ الَّتِي أُذِنَ لَكُمْ فِي مُبَاشَرَتِهِنَّ وَسَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ إِذْنٌ فِي الْمُبَاشَرَةِ وَقَوْلَهُ: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يَعْنِي لَا تَبْتَغُوا هَذِهِ الْمُبَاشَرَةَ إِلَّا مِنَ الزَّوْجَةِ وَالْمَمْلُوكَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي/ كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ بِقَوْلِهِ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المؤمنون: 6] وَثَامِنُهَا: قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْجَوْزَاءِ: يَعْنِي اطْلُبُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَمَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ الثَّوَابِ فِيهَا إِنْ وَجَدْتُمُوهَا، وَجُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ اسْتَبْعَدُوا هَذَا الْوَجْهَ، وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ قَلْبُهُ مُشْتَغِلًا بِطَلَبِ الشَّهْوَةِ وَاللَّذَّةِ، لَا يُمْكِنُهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَتَفَرَّغَ لِلطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْحُضُورِ، أَمَّا إِذَا قَضَى وَطَرَهُ وَصَارَ فَارِغًا مِنْ طَلَبِ الشَّهْوَةِ يُمْكِنُهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَتَفَرَّغَ لِلْعُبُودِيَّةِ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ حَتَّى تَتَخَلَّصُوا مِنْ تِلْكَ الْخَوَاطِرِ الْمَانِعَةِ عَنِ الْإِخْلَاصِ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَإِذَا تَخَلَّصْتُمْ مِنْهَا فَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ مِنَ الْإِخْلَاصِ فِي الْعُبُودِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَطَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ غَيْرُ مُسْتَبْعَدَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كُتِبَ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ كُتِبَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ بِمَعْنَى جَعَلَ، كَقَوْلِهِ: كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [الْمُجَادَلَةِ: 22] أَيْ جَعَلَ، وَقَوْلُهُ: فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 53] فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الْأَعْرَافِ: 156] أَيْ أَجْعَلُهَا وَثَانِيهَا: مَعْنَاهُ قَضَى اللَّهُ لَكُمْ كَقَوْلِهِ: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا [التَّوْبَةِ: 51] أَيْ قَضَاهُ، وَقَوْلِهِ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [الْمُجَادَلَةِ: 21] وَقَوْلِهِ: لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ [آلِ عِمْرَانَ: 154] أَيْ قَضَى، وَثَالِثُهَا: أَصْلُهُ هُوَ مَا كَتَبَ اللَّهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ، وَكُلُّ حُكْمٍ حَكَمَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ فَقَدْ أَثْبَتَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَرَابِعُهَا: هُوَ مَا كَتَبَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ إِبَاحَةِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْتَغُوا وقرأ الأعمش وَابْتَغُوا أَمَّا قَوْلُهُ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا فَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهِمَا أن تحريمهما وتحريم الجماع بالدليل بَعْدَ النَّوْمِ، لَمَّا تَقَدَّمَ احْتِيجَ فِي إِبَاحَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ يَزُولُ بِهِ التَّحْرِيمُ، فَلَوِ اقْتَصَرَ تَعَالَى عَلَى قَوْلِهِ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ لَمْ يُعْلَمْ بِذَلِكَ زَوَالُ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَقَرَنَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا لِتَتِمَّ الدَّلَالَةُ عَلَى الْإِبَاحَةِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ أَخَذْتُ عِقَالَيْنِ أَبْيَضَ وَأَسْوَدَ فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي، وَكُنْتُ أَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ فَأَنْظُرُ إِلَيْهِمَا، فَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِيَ الْأَبْيَضُ مِنَ الْأَسْوَدِ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَضَحِكَ، وَقَالَ «إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا، إِنَّمَا ذَلِكَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ» ، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا» لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى بَلَاهَةِ الرَّجُلِ، وَنَقُولُ: يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَنَّى بِذَلِكَ عَنْ بَيَاضِ أَوَّلِ النَّهَارِ وَسَوَادِ آخِرِ اللَّيْلِ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ بَيَاضَ الصُّبْحِ الْمُشَبَّهَ بِالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ هُوَ بَيَاضُ الصُّبْحِ الْكَاذِبُ، لِأَنَّهُ بَيَاضٌ مُسْتَطِيلٌ يُشْبِهُ الْخَيْطَ، فَأَمَّا بَيَاضُ الصُّبْحِ الصَّادِقُ فَهُوَ بَيَاضٌ مُسْتَدِيرٌ فِي الْأُفُقِ فَكَانَ يَلْزَمُ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ النَّهَارِ مِنْ طُلُوعِ الصُّبْحِ الْكَاذِبِ/ وَبِالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ لَوْلَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ: مِنَ الْفَجْرِ لَكَانَ السُّؤَالُ لَازِمًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفَجْرَ إِنَّمَا يُسَمَّى فَجْرًا لِأَنَّهُ يَنْفَجِرُ مِنْهُ النُّورُ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الصُّبْحِ الثَّانِي لَا فِي الصُّبْحِ الْأَوَّلِ، فَلَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْفَجْرِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الصُّبْحَ الْكَاذِبَ بَلِ الصُّبْحَ الصَّادِقَ، فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُشَبَّهُ الصُّبْحُ الصَّادِقُ بِالْخَيْطِ، مَعَ أَنَّ الصُّبْحَ الصَّادِقَ لَيْسَ بِمُسْتَطِيلٍ وَالْخَيْطَ مُسْتَطِيلٌ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْقَدْرَ مِنَ الْبَيَاضِ الَّذِي يَحْرُمُ هُوَ أَوَّلُ الصُّبْحِ الصَّادِقِ، وَأَوَّلُ الصُّبْحِ الصَّادِقِ لَا يَكُونُ مُنْتَشِرًا بَلْ يَكُونُ صَغِيرًا دَقِيقًا، بَلِ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصُّبْحِ الْكَاذِبِ أَنَّ الصُّبْحَ الْكَاذِبَ يَطْلُعُ دَقِيقًا، وَالصَّادِقُ يَبْدُو دَقِيقًا، وَيَرْتَفِعُ مُسْتَطِيلًا فَزَالَ السُّؤَالُ، فَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فَبَعِيدٌ، لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَخْفَى عَلَى مِثْلِهِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنَ الْفَجْرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ كَلِمَةَ «حَتَّى» لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ حِلَّ الْمُبَاشَرَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ يَنْتَهِي عِنْدَ طُلُوعِ الصُّبْحِ، وَزَعَمَ أبو مسلم الأصفهاني لَا شَيْءَ مِنَ الْمُفْطِرَاتِ إِلَّا أَحَدُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، فَأَمَّا الْأُمُورُ الَّتِي تَذْكُرُهَا الْفُقَهَاءُ مِنْ تَكَلُّفِ الْقَيْءِ وَالْحُقْنَةِ وَالسُّعُوطِ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا بِمُفْطِرٍ، قَالَ لِأَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَانَتْ مُبَاحَةً ثُمَّ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى حُرْمَةِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الصَّائِمِ بَعْدَ الصُّبْحِ، فَبَقِيَ مَا عَدَاهَا عَلَى الْحِلِّ الْأَصْلِيِّ، فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا مُفْطِرًا وَالْفُقَهَاءُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ النَّفْسَ تَمِيلُ إِلَيْهَا، وَأَمَّا الْقَيْءُ وَالْحُقْنَةُ فَالنَّفْسُ تَكْرَهُهُمَا، وَالسُّعُوطُ نَادِرٌ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَذْهَبُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بن جني أَنَّ الْجُنُبَ إِذَا أَصْبَحَ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَوْمٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ إِذَا كَانَتْ مُبَاحَةً إِلَى انْفِجَارِ الصُّبْحِ لَمْ يُمْكِنْهُ الِاغْتِسَالُ إِلَّا بَعْدَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: زَعَمَ الْأَعْمَشُ أَنَّهُ يَحِلُّ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ قِيَاسًا لِأَوَّلِ النَّهَارِ عَلَى آخِرِهِ، فَكَمَا أَنَّ آخِرَهُ بِغُرُوبِ الْقُرْصِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُهُ بِطُلُوعِ الْقُرْصِ، وَقَالَ فِي الْآيَةِ إِنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ وَالْخَيْطِ الأسود النهار والليل، ووجه الشبهة لَيْسَ إِلَّا فِي الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ فِي الشَّكْلِ مُرَادًا فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ ظُلْمَةَ الْأُفُقِ حَالَ طُلُوعِ الصُّبْحِ لَا يُمْكِنُ تَشْبِيهُهَا بِالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ فِي الشَّكْلِ الْبَتَّةَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ وَالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ هُوَ النَّهَارُ وَاللَّيْلُ ثُمَّ لَمَّا بَحَثْنَا عَنْ حَقِيقَةِ اللَّيْلِ

فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَجَدْنَاهَا عِبَارَةً عَنْ زَمَانِ غَيْبَةِ الشَّمْسِ بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى مَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ لَيْلًا مَعَ بَقَاءِ الضَّوْءِ فِيهِ فَثَبَتَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي الطَّرَفِ الْأَوَّلِ مِنَ النَّهَارِ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لَيْلًا، وَأَنْ لَا يُوجَدَ/ النَّهَارُ إِلَّا عِنْدَ طُلُوعِ الْقُرْصِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ قَوْلِ الْأَعْمَشِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ سَلَّمَ أَنَّ أَوَّلَ النَّهَارِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ طُلُوعِ الصُّبْحِ فَقَاسَ عَلَيْهِ آخِرَ النَّهَارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ الْإِفْطَارُ إِلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الْحُمْرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ عَلَيْهِ وَقَالَ: بَلْ لَا يَجُوزُ الْإِفْطَارُ إِلَّا عِنْدَ طُلُوعِ الْكَوَاكِبِ، وَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ قَدِ انْقَرَضَتْ، وَالْفُقَهَاءُ أَجْمَعُوا عَلَى بُطْلَانِهَا فَلَا فَائِدَةَ فِي اسْتِقْصَاءِ الْكَلَامِ فِيهَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْفَجْرِ مَصْدَرُ قَوْلِكَ: فَجَرْتُ الْمَاءَ أَفْجُرُهُ فَجْرًا، وَفَجَّرْتُهُ تَفْجِيرًا. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْفَجْرُ أَصْلُهُ الشَّقُّ، فَعَلَى هَذَا الْفَجْرُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ هُوَ انْشِقَاقُ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ بِنُورِ الصبح، وأما في قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَ الْفَجْرِ فَقِيلَ لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ بَعْضُ الْفَجْرِ لَا كُلُّهُ، وَقِيلَ لِلتَّبْيِينِ كَأَنَّهُ قِيلَ: الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ الَّذِي هُوَ الْفَجْرُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَحَلَّ الْجِمَاعَ وَالْأَكْلَ وَالشُّرْبَ إِلَى غَايَةِ تَبَيُّنِ الصُّبْحِ، وَجَبَ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ تَبَيُّنَ الصُّبْحِ مَا هُوَ؟ فَنَقُولُ: الطَّرِيقُ إِلَى مَعْرِفَةِ تَبَيُّنِ الصُّبْحِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا، أَمَّا الْقَطْعِيُّ فَبِأَنْ يُرَى طُلُوعُ الصُّبْحِ أَوْ يُتَيَقَّنَ أَنَّهُ مَضَى مِنَ الزَّمَانِ مَا يَجِبُ طُلُوعُ الصُّبْحِ عِنْدَهُ وَأَمَّا الظَّنِّيُّ فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ ظَنٌّ أَنَّ الصُّبْحَ طَلَعَ فَيَحْرُمُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْوِقَاعُ فَإِنْ حَصَلَ ظَنٌّ أَنَّهُ مَا طَلَعَ كَانَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْوِقَاعُ مُبَاحًا، فَإِنْ أَكَلَ ثُمَّ تَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الظَّنَّ خَطَأٌ وَأَنَّ الصُّبْحَ كَانَ قَدْ طَلَعَ عِنْدَ ذَلِكَ الْأَكْلِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا، وَكَذَلِكَ إِنْ ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَأَفْطَرَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مَا كَانَتْ غَارِبَةً فَقَالَ الْحَسَنُ: لَا قَضَاءَ فِي الصُّورَتَيْنِ قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ أَكَلَ نَاسِيًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةِ الْمُزَنِيُّ عَنْهُ: يَجِبُ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِالصَّوْمِ مِنَ الصُّبْحِ إِلَى الْغُرُوبِ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ وَأَمَّا النَّاسِي فَعِنْدَ مَالِكٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَأَمَّا الْبَاقُونَ الَّذِينَ سَلَّمُوا أَنَّهُ لَا قَضَاءَ قَالُوا: مُقْتَضَى الدَّلِيلِ وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّا أَسْقَطْنَاهُ عَنْهُ لِلنَّصِّ، وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: أَكَلْتُ وَشَرِبْتُ وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَطْعَمَكَ اللَّهُ وسقاك فأنت ضيف الله فتم صَوْمَكَ» . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا أَخْطَأَ فِي طُلُوعِ الصُّبْحِ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ، وَإِذَا أَخْطَأَ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ يَجِبُ الْقَضَاءُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ ثَابِتٍ بَقَاؤُهُ عَلَى مَا كَانَ، وَالثَّابِتُ فِي اللَّيْلِ حِلُّ الْأَكْلِ، وَفِي النَّهَارِ حُرْمَتُهُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ لَا بَقَاءُ اللَّيْلِ وَلَا طُلُوعُ الصُّبْحِ، بَلْ بَقِيَ مُتَوَقِّفًا فِي الْأَمْرَيْنِ، فَهَهُنَا يُكْرَهُ لَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ، فَإِنْ فَعَلَ جَازَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ كَلِمَةَ إِلى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، فَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الصَّوْمَ يَنْتَهِي عِنْدَ دُخُولِ اللَّيْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ غَايَةَ الشَّيْءِ مَقْطَعُهُ وَمُنْتَهَاهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَقْطَعًا وَمُنْتَهًى إِذَا لَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ تَجِيءُ/ هَذِهِ الكلمة لا للانتهاء كما قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَى الْمَرافِقِ [الْمَائِدَةِ: 6] إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ النَّهَارِ، فَيَكُونُ اللَّيْلُ خَارِجًا عَنْ حُكْمِ النَّهَارِ، وَالْمَرَافِقُ مِنْ جِنْسِ الْيَدِ فَيَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: سَبِيلٌ إِلَى الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ جَائِزٌ، تَقُولُ: أَكَلْتُ السَّمَكَةَ إِلَى رَأْسِهَا، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الرَّأْسُ دَاخِلًا فِي الْأَكْلِ وَخَارِجًا مِنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَشُكُّ ذُو عَقْلٍ أَنَّ اللَّيْلَ خَارِجٌ عَنِ الصَّوْمِ، إِذْ لَوْ كَانَ دَاخِلًا

الحكم السابع من الأحكام المذكورة في هذه السورة الاعتكاف

فِيهِ لَعَظُمَتِ الْمَشَقَّةُ وَدَخَلَتِ الْمَرَافِقُ فِي الْغَسْلِ أَخْذًا بِالْأَوْثَقِ، ثُمَّ سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّهُ مُجْمَلٌ أَوْ غَيْرُ مُجْمَلٍ، فَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِيهِ، وَهُوَ مَا رَوَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وَقَدْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ يَنْتَهِي فِي هَذَا الْوَقْتِ. فَأَمَّا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَتَنَاوَلَ عِنْدَ هَذَا الْوَقْتِ شَيْئًا، فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْوِصَالِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوَاصِلُ، أَيْ كَيْفَ تَنْهَانَا عَنْ أَمْرٍ أَنْتَ تَفْعَلُهُ؟ فَقَالَ: «إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» ، وَقِيلَ فِيهِ مَعَانٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ يُطْعَمُ وَيُسْقَى مِنْ طَعَامِ الْجَنَّةِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِنِّي عَلَى ثِقَةٍ مِنْ أَنِّي لَوِ احْتَجْتُ إِلَى الطَّعَامِ أَطْعَمَنِي مُوَاصِلًا» ، وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ كَانَ يُوَاصِلُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَبِرَ جَعَلَهَا خَمْسًا، فَلَمَّا كَبِرَ جِدًّا جَعَلَهَا ثَلَاثًا، فَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّهْيَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ، وَقِيلَ: هُوَ نَهْيُ تَنْزِيهٍ، لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِلْمُبَاحِ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ صَحَّ فِعْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا تَنَاوَلَ شَيْئًا قَلِيلًا وَلَوْ قَطْرَةً مِنَ الْمَاءِ، فَعَلَى ذَلِكَ هُوَ بِالْخِيَارِ فِي الِاسْتِيفَاءِ إِلَّا أَنْ يَخَافَ الْمَرْءُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي صَوْمِ الْمُسْتَأْنَفِ، أَوْ فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنَ الطَّعَامِ قَدْرًا يَزُولُ بِهِ هَذَا الْخَوْفُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ اللَّيْلَ مَا هُوَ؟ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: آخِرُ النَّهَارِ عَلَى أَوَّلِهِ، فَاعْتَبَرُوا فِي حُصُولِ اللَّيْلِ زَوَالَ آثَارِ الشَّمْسِ، كَمَا حَصَلَ اعْتِبَارُ زَوَالِ اللَّيْلِ عِنْدَ ظُهُورِ آثَارِ الشَّمْسِ ثُمَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنِ اكْتَفَى بِزَوَالِ الْحُمْرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَ ظُهُورَ الظَّلَامِ التَّامِّ وَظُهُورَ الْكَوَاكِبِ، إِلَّا أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ عُمَرُ يُبْطِلُ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْفُقَهَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْحَنَفِيَّةُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ التَّبْيِيتَ وَالتَّعْيِينَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ، قَالُوا: الصَّوْمُ فِي اللغة هو الإمساك، وقد وجد هاهنا فَيَكُونُ صَائِمًا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ، لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ وَعُسْرٌ وَهُوَ منفي بقوله تعالى: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَجِّ: 78] وَقَوْلِهِ: وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: 185] تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي الصَّوْمِ الصَّحِيحِ فَيَبْقَى غَيْرُ الصَّحِيحِ عَلَى الْأَصْلِ، ثُمَّ نَقُولُ: مُقْتَضَى هَذَا الدَّلِيلِ، أَنْ يَصِحَّ صَوْمُ/ الْفَرْضِ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الزَّوَالِ إِلَّا أَنَّا قُلْنَا: الْأَقَلُّ يَلْحَقُ بِالْأَغْلَبِ فَلَا جَرَمَ أَبْطَلْنَا الصَّوْمَ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الزَّوَالِ وَصَحَّحْنَا نِيَّتَهُ قَبْلَ الزَّوَالِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْحَنَفِيَّةُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ صَوْمَ النَّفْلِ يَجِبُ إِتْمَامُهُ قَالُوا: لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أَمْرٌ وَهُوَ لِلْوُجُوبِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ الصِّيَامَاتِ، وَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: هَذَا إِنَّمَا وَرَدَ لِبَيَانِ أَحْكَامِ صَوْمِ الْفَرْضِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ صَوْمَ الْفَرْضِ. الْحُكْمُ السَّابِعُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الِاعْتِكَافُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الصَّوْمَ، وَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ حُكْمِهِ تَحْرِيمَ الْمُبَاشَرَةِ، كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ فِي الِاعْتِكَافِ أَنَّ حَالَهُ كَحَالِ الصَّوْمِ فِي أَنَّ الْجِمَاعَ يَحْرُمُ فِيهِ نَهَارًا لَا لَيْلًا، فَبَيَّنَّ تَعَالَى تَحْرِيمَ الْمُبَاشَرَةِ فِيهِ نَهَارًا وَلَيْلًا، فَقَالَ:

وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الِاعْتِكَافُ اللُّغَوِيُّ مُلَازَمَةُ الْمَرْءِ لِلشَّيْءِ وَحَبْسُ نَفْسِهِ عَلَيْهِ، بِرًّا كَانَ أَوْ إِثْمًا، قَالَ تَعَالَى: يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ [الْأَعْرَافِ: 138] وَالِاعْتِكَافُ الشَّرْعِيُّ: الْمُكْثُ فِي بَيْتِ اللَّهِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ، وَحَاصِلُهُ رَاجِعٌ إِلَى تَقْيِيدِ اسْمِ الْجِنْسِ بِالنَّوْعِ بِسَبَبِ الْعُرْفِ، وَهُوَ مِنَ الشَّرَائِعِ القديمة، قال الله تَعَالَى: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ [الْبَقَرَةِ: 125] وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ لَمَسَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ جَازَ، لَأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها كانت ترجل رأس رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، أَمَّا إِذَا لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ، أَوْ قَبَّلَهَا، أَوْ بَاشَرَهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، فَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمُعْتَكِفِ، وَهَلْ يَبْطُلُ بِهَا اعْتِكَافُهُ؟ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَبْطُلُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، لَا يَفْسُدُ الِاعْتِكَافُ إِذَا لَمْ يُنْزِلْ، احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالْإِفْسَادِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي لَفْظِ الْمُبَاشَرَةِ مُلَاقَاةُ الْبَشَرَتَيْنِ، فَقَوْلُهُ: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ مَنَعَ مِنْ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْجِمَاعُ وَسَائِرُ هَذِهِ الْأُمُورِ، لِأَنَّ مُسَمَّى الْمُبَاشَرَةِ حَاصِلٌ فِي كُلِّهَا. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ حَمَلْتُمُ الْمُبَاشَرَةَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْجِمَاعِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْجِمَاعُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ وَسَبَبُ نُزُولِ تِلْكَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْجِمَاعُ، ثُمَّ لَمَّا أَذِنَ فِي الْجِمَاعِ كَانَ ذَلِكَ إِذْنًا فِيمَا دون الجماع بطريق الأولى، أما هاهنا فَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْقَرَائِنِ، فَوَجَبَ إِبْقَاءُ لَفْظِ الْمُبَاشَرَةِ عَلَى مَوْضِعِهِ الْأَصْلِيِّ وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا لَا تُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ، أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُبَاشَرَةَ لَا تُفْسِدُ الصَّوْمَ وَالْحَجَّ، / فَوَجَبَ أَنْ لَا تُفْسِدَ الِاعْتِكَافَ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَيْسَ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْهُمَا وَالْجَوَابُ: أَنَّ النَّصَّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ شَرْطَ الِاعْتِكَافِ لَيْسَ الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُمَيَّزٌ عَنْ سَائِرِ الْبِقَاعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بُنِيَ لِإِقَامَةِ الطَّاعَاتِ فِيهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَنُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْحُجَّةُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ [الْبَقَرَةِ: 125] فَعَيَّنَ ذَلِكَ الْبَيْتَ لِجَمِيعِ الْعَاكِفِينَ، وَلَوْ جَازَ الِاعْتِكَافُ فِي غَيْرِهِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ الْعُمُومُ وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامِ وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي» وَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَجُوزُ فِي هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ وَفِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا» وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي الْجَامِعِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ وَمُؤَذِّنٌ رَاتِبٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَجُوزُ فِي جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا أَنَّ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ أَفْضَلُ حَتَّى لَا يُحْتَاجَ إِلَى الْخُرُوجِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ الْمَسَاجِدِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يَجُوزُ الِاعْتِكَافُ بِغَيْرِ صَوْمٍ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَصُومَ مَعَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِالصَّوْمِ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، لِأَنَّهُ بِغَيْرِ الصَّوْمِ عَاكِفٌ وَاللَّهُ تَعَالَى مَنَعَ الْعَاكِفَ مِنْ مُبَاشَرَةِ المرأة ولو

كَانَ اعْتِكَافُهُ بَاطِلًا لَمَا كَانَ مَمْنُوعًا تَرْكُ الْعَمَلِ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ إِذَا تَرَكَ النِّيَّةَ فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ وَاحْتَجَّ الْمُزَنِيُّ بِصِحَّةِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ الْأَوَّلُ: لَوْ كَانَ الِاعْتِكَافُ يُوجِبُ الصَّوْمَ لَمَا صَحَّ فِي رَمَضَانَ، لَأَنَّ الصَّوْمَ الَّذِي هُوَ مُوجِبُهُ إِمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِسَبَبِ الشَّهْرِ لَا بِسَبَبِ الِاعْتِكَافِ، أَوْ صَوْمٌ آخَرُ سِوَى صَوْمِ رَمَضَانَ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَحَيْثُ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ فِي رَمَضَانَ، عَلِمْنَا أَنَّ الصَّوْمَ لَا يُوجِبُهُ الِاعْتِكَافُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الِاعْتِكَافُ لَا يَجُوزُ إِلَّا مُقَارَنًا بِالصَّوْمِ لَخَرَجَ الصَّائِمُ بِاللَّيْلِ عَنِ الِاعْتِكَافِ لِخُرُوجِهِ فِيهِ عَنِ الصَّوْمِ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، عَلِمْنَا أَنَّ الِاعْتِكَافَ يَجُوزُ مُفْرَدًا أَبَدًا بِدُونِ الصَّوْمِ وَالثَّالِثُ: مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ الله لَيْلَةً فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ» وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ فِي اللَّيْلِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا تَقْدِيرَ لِزَمَانِ الِاعْتِكَافِ فَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ/ سَاعَةٍ يَنْعَقِدُ وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ مُطْلَقًا يَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ بِاعْتِكَافِهِ سَاعَةً، كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ مُطْلَقًا تَصَدَّقَ بِمَا شَاءَ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأُحِبُّ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِلْخُرُوجِ عَنِ الْخِلَافِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يُجَوِّزُ اعْتِكَافَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ بِشَرْطِ أَنْ يَدْخُلَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَيَخْرُجَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ تَقْدِيرُ الِاعْتِكَافِ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الزَّمَانِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَوَجَبَ تَرْكُ التَّقْدِيرِ وَالرُّجُوعُ إِلَى أَقَلِّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الِاعْتِكَافَ هُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ فِي اللَّحْظَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَتَمَيَّزُ الْمُعْتَكِفُ عَمَّنْ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: تِلْكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى حُكْمِ الِاعْتِكَافِ لِأَنَّ الْحُدُودَ جَمْعٌ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى فِي الِاعْتِكَافِ إِلَّا حَدًّا وَاحِدًا، وَهُوَ تَحْرِيمُ الْمُبَاشَرَةِ بَلْ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ آيَةِ الصوم إلى هاهنا عَلَى مَا سَبَقَ شَرْحُ مَسَائِلِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ اللَّيْثُ: حَدُّ الشَّيْءِ مَقْطَعُهُ وَمُنْتَهَاهُ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْمَحْرُومِ مَحْدُودٌ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنِ الرِّزْقِ وَيُقَالُ لِلْبَوَّابِ: حَدَّادٌ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنَ الدُّخُولِ وَحَدُّ الدَّارِ مَا يَمْنَعُ غَيْرَهَا مِنَ الدُّخُولِ فِيهَا، وَحُدُودُ اللَّهِ مَا يَمْنَعُ مِنْ مُخَالَفَتِهَا وَالْمُتَكَلِّمُونَ يُسَمُّونَ الْكَلَامَ الْجَامِعَ الْمَانِعَ: حَدًّا، وَسُمِّيَ الْحَدِيدُ: حَدِيدًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنْعِ، وَكَذَلِكَ إِحْدَادُ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا تُمْنَعُ مِنَ الزِّينَةِ إِذَا عَرَفْتَ الِاشْتِقَاقَ فَنَقُولُ: الْمُرَادُ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ مَحْدُودَاتُهُ أَيْ مَقْدُورَاتُهُ الَّتِي قَدَّرَهَا بِمَقَادِيرَ مَخْصُوصَةٍ وَصِفَاتٍ مَضْبُوطَةٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَقْرَبُوها فَفِيهِ إِشْكَالَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، وَالْأُمُورُ الْمُتَقَدِّمَةُ بَعْضُهَا إِبَاحَةٌ وَبَعْضُهَا حَظْرٌ فَكَيْفَ قَالَ فِي الْكُلِّ فَلا تَقْرَبُوها وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها [الْبَقَرَةِ: 229] وَقَالَ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ [النِّسَاءِ: 14] وَقَالَ هاهنا: فَلا تَقْرَبُوها فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالَيْنِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَحْسَنُ وَالْأَقْوَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَالْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ فَهُوَ مُتَصَرِّفٌ فِي حَيِّزِ الْحَقِّ، فَنُهِيَ أَنْ يَتَعَدَّاهُ لِأَنَّ مَنْ تَعَدَّاهُ وَقَعَ فِي حَيِّزِ الضَّلَالِ، ثُمَّ بُولِغَ فِي ذَلِكَ فَنُهِيَ أن

[سورة البقرة (2) : آية 188]

يَقْرَبَ الْحَدَّ الَّذِي هُوَ الْحَاجِزُ بَيْنَ حَيِّزِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، لِئَلَّا يُدَانِيَ الْبَاطِلَ وَأَنْ يَكُونَ بَعِيدًا عَنِ الطَّرَفِ فَضْلًا أَنْ يَتَخَطَّاهُ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَحِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: لَا تَقْرَبُوهَا أَيْ لَا تَتَعَرَّضُوا لَهَا بِالتَّغْيِيرِ كَقَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ [الأسراء: 34] الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ فِيمَا قَبْلُ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً إِلَّا أَنَّ أَقْرَبَهَا إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ: / وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ وَقَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَذَلِكَ يُوجِبُ حُرْمَةَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي النَّهَارِ، وَقَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ مُوَاقَعَةِ غَيْرِ الزَّوْجَةِ وَالْمَمْلُوكَةِ وَتَحْرِيمَ مُوَاقَعَتِهِمَا فِي غَيْرِ الْمَأْتَى وَتَحْرِيمَ مُوَاقَعَتِهِمَا فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْعِدَّةِ وَالرِّدَّةِ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا إِبَاحَةُ الشُّرْبِ وَالْأَكْلِ وَالْوِقَاعِ فِي اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْأَحْكَامُ الْمُتَقَدِّمَةُ أَكْثَرَهَا تَحْرِيمَاتٍ، لَا جَرَمَ غَلَبَ جَانِبُ التَّحْرِيمِ فَقَالَ: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها أَيْ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي مُنِعْتُمْ عَنْهَا إِنَّمَا مُنِعْتُمْ عَنْهَا بِمَنْعِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ عَنْهَا فَلَا تَقْرَبُوهَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ أَنَّهُ كَمَا بَيَّنَ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ سَائِرَ أَدِلَّتِهِ عَلَى دِينِهِ وَشَرْعِهِ وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ الْفَرَائِضُ الَّتِي بَيَّنَهَا كَمَا قَالَ: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ [النُّورِ: 1] ثُمَّ فَسَّرَ الْآيَاتِ بِقَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النُّورِ: 2] إِلَى سَائِرِ مَا بَيَّنَهُ مِنْ أَحْكَامِ الزِّنَا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لِلنَّاسِ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ لِيَتَّقُوهُ بِأَنْ يَعْمَلُوا بِمَا لَزِمَ وَثَالِثُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ أَحْكَامَ الصَّوْمِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْأَلْفَاظِ الْقَلِيلَةِ بَيَانًا شَافِيًا وَافِيًا، قَالَ بَعْدَهُ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ أَيْ مِثْلُ هَذَا الْبَيَانِ الْوَافِي الْوَاضِحِ الْكَامِلِ هُوَ الَّذِي يُذْكَرُ لِلنَّاسِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَعْظِيمُ حَالِ الْبَيَانِ وَتَعْظِيمُ رَحْمَتِهِ عَلَى الْخَلْقِ فِي ذِكْرِهِ مِثْلَ هَذَا الْبَيَانِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فقد مر شرحه غير مرة. [سورة البقرة (2) : آية 188] وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) الْحُكْمُ الثَّامِنُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السورة : حكم الأموال [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ] [المسألة الأولى] اعْلَمْ أَنَّهُمْ مَثَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِقَوْلِهِ: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 11] وَهَذَا مُخَالِفٌ لَهَا، لِأَنَّ أَكْلَهُ لِمَالِ نَفْسِهِ بِالْبَاطِلِ يَصِحُّ كَمَا يَصِحُّ أَكْلُهُ مَالَ غَيْرِهِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ الْإِحْيَاءِ: الْمَالُ إِنَّمَا يَحْرُمُ لِمَعْنًى فِي عَيْنِهِ أَوْ لِحَالٍ فِي جِهَةِ اكْتِسَابِهِ. وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْحَرَامُ لِصِفَةٍ فِي عَيْنِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْوَالَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمَعَادِنِ أَوْ مِنَ النَّبَاتِ، أَوْ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، أَمَّا الْمَعَادِنُ وَهِيَ أَجْزَاءُ الْأَرْضِ فَلَا يَحْرُمُ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَّا مِنْ حَيْثُ يَضُرُّ بِالْأَكْلِ، وَهُوَ مَا يَجْرِي مَجْرَى السُّمِّ، وَأَمَّا النَّبَاتُ فَلَا يَحْرُمُ مِنْهُ إلا

مَا يُزِيلُ الْحَيَاةَ وَالصِّحَّةَ أَوِ الْعَقْلَ، فَمُزِيلُ الْحَيَاةِ السُّمُومُ، وَمُزِيلُ الصِّحَّةِ الْأَدْوِيَةُ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا، وَمُزِيلُ الْعَقْلِ الْخَمْرُ وَالْبِنْجُ وَسَائِرُ الْمُسْكِرَاتِ. وَأَمَّا الْحَيَوَانَاتُ فَتَنْقَسِمُ إِلَى مَا يُؤْكَلُ وَإِلَى مَا لَا يُؤْكَلُ، وَمَا يَحِلُّ إِنَّمَا يَحِلُّ إِذَا ذُبِحَ ذَبْحًا شَرْعِيًّا ثُمَّ إِذَا ذُبِحَتْ فَلَا تَحِلُّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا بَلْ يَحْرُمُ مِنْهَا الْفَرْثُ وَالدَّمُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَحْرُمُ لِخَلَلٍ مِنْ جِهَةِ إِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ، فَنَقُولُ: أَخْذُ الْمَالِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِاخْتِيَارِ الْمُتَمَلِّكِ، أَوْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَالْإِرْثِ، وَالَّذِي بِاخْتِيَارِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مأخوذا من الْمَالِكِ كَأَخْذِ الْمَعَادِنِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ مَالِكٍ، وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يُؤْخَذَ قَهْرًا أو بالتراضي، والمأخوذ قهرا إما أن لِسُقُوطِ عِصْمَةِ الْمِلْكِ كَالْغَنَائِمِ أَوْ لِاسْتِحْقَاقِ الْأَخْذِ كَزَكَوَاتِ الْمُمْتَنِعِينَ وَالنَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِمْ، وَالْمَأْخُوذُ تَرَاضِيًا إما أن يؤخذ بعوض كالبيع والصدق وَالْأُجْرَةِ، وَإِمَّا أَنَّ يُؤْخَذَ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ فَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا التَّقْسِيمِ أَقْسَامٌ سِتَّةٌ الْأَوَّلُ: مَا يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ مَالِكٍ كَنَيْلِ الْمَعَادِنِ، وَإِحْيَاءِ الْمَوْتِ، وَالِاصْطِيَادِ، وَالِاحْتِطَابِ، وَالِاسْتِقَاءِ مِنَ الْأَنْهَارِ، وَالِاحْتِشَاشِ، فَهَذَا حَلَالٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مُخْتَصًّا بِذِي حُرْمَةٍ مِنَ الْآدَمِيِّينَ الثَّانِي: الْمَأْخُوذُ قَهْرًا مِمَّنْ لَا حُرْمَةَ لَهُ، وهو الفيء، والغنيمة، وسائر أموال الكفار والمحاربين، وَذَلِكَ حَلَالٌ لِلْمُسْلِمِينَ إِذَا أَخْرَجُوا مِنْهُ الْخُمْسَ، وَقَسَّمُوهُ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّينَ بِالْعَدْلِ، وَلَمْ يَأْخُذُوهُ مِنْ كَافِرٍ لَهُ حُرْمَةٌ وَأَمَانٌ وَعَهْدٌ وَالثَّالِثُ: مَا يُؤْخَذُ قَهْرًا بِاسْتِحِقَاقٍ عِنْدَ امْتِنَاعِ مَنْ عَلَيْهِ فَيُؤْخَذُ دُونَ رِضَاهُ، وَذَلِكَ حَلَالٌ إِذَا تَمَّ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ، وَتَمَّ وَصْفُ الْمُسْتَحَقِّ وَاقْتَصَرَ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ الرَّابِعُ: مَا يُؤْخَذُ تَرَاضِيًا بِمُعَاوَضَةٍ وَذَلِكَ حَلَالٌ إِذَا رُوعِيَ شَرْطُ الْعِوَضَيْنِ وَشَرْطُ الْعَاقِدَيْنَ وَشَرْطُ اللَّفْظَيْنِ أَعْنِي الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ مِمَّا يَعْتَدُّ الشَّرْعُ بِهِ مِنِ اجْتِنَابِ الشَّرْطِ الْمُفْسِدِ الْخَامِسُ: مَا يُؤْخَذُ بِالرِّضَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ كَمَا فِي الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ إِذَا رُوعِيَ شَرْطُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَشَرْطُ الْعَاقِدَيْنِ، وَشَرْطُ الْعَقْدِ، وَلَمْ يُؤَدِّ إِلَى ضَرَرٍ بِوَارِثٍ أَوْ غَيْرِهِ السَّادِسُ: مَا يَحْصُلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَالْمِيرَاثِ، وَهُوَ حَلَالٌ إِذَا كَانَ الْمَوْرُوثُ قَدِ اكْتَسَبَ الْمَالَ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ الْخَمْسِ عَلَى وَجْهٍ حَلَالٍ، ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَتَنْفِيذِ الْوَصَايَا، وَتَعْدِيلِ الْقِسْمَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، وَإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْكَفَّارَةِ إِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً، فَهَذَا مَجَامِعُ مَدَاخِلِ الْحَلَالِ، وَكُتُبُ الْفِقْهِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَفَاصِيلِهَا فَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَالًا حَلَالًا، وَكُلُّ مَا كَانَ بِخِلَافِهِ كَانَ حَرَامًا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَالُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ أَوْ لَهُ، فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ كَانَتْ حُرْمَتُهُ لِأَجْلِ الْوُجُوهِ السِّتَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فَأَكْلُهُ بِالْحَرَامِ أَنْ يُصْرَفَ إِلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالْقِمَارِ أَوْ إِلَى السَّرَفِ الْمُحَرَّمِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: / وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ واعلم أن سُبْحَانَهُ كَرَّرَ هَذَا النَّهْيَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كتابه فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً [النِّسَاءِ: 29] وَقَالَ: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النِّسَاءِ: 10] وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْبَقَرَةِ: 278] ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الْبَقَرَةِ: 279] ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 279] ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: 275] جَعَلَ آكِلَ الرِّبَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مُؤْذِنًا بِمُحَارَبَةِ اللَّهِ، وَفِي آخِرِهِ مُتَعَرِّضًا لِلنَّارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوا لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْأَكْلَ خَاصَّةً، لِأَنَّ غَيْرَ الْأَكْلِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ كَالْأَكْلِ فِي هَذَا الْبَابِ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْمَالِ إِنَّمَا هُوَ الْأَكْلُ وَقَعَ التَّعَارُفُ فِيمَنْ يُنْفِقُ مَالَهُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ

[سورة البقرة (2) : آية 189]

أَكَلَهُ فَلِهَذَا السَّبَبِ عَبَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِالْأَكْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: «الْبَاطِلُ» فِي اللُّغَةِ الزَّائِلُ الذَّاهِبُ، يُقَالُ: بَطَلَ الشَّيْءُ بُطُولًا فَهُوَ بَاطِلٌ، وَجَمْعُ الْبَاطِلِ بَوَاطِلُ، وَأَبَاطِيلُ جَمْعُ أُبْطُولَةٍ، وَيُقَالُ: بَطَلَ الْأَجِيرُ يَبْطُلُ بَطَالَةً إِذَا تَعَطَّلَ وَاتَّبَعَ اللَّهْوَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْإِدْلَاءُ مَأْخُوذٌ مِنْ إِدْلَاءِ الدَّلْوِ، وَهُوَ إِرْسَالُكَ إِيَّاهَا فِي الْبِئْرِ لِلِاسْتِقَاءِ يُقَالُ. أَدْلَيْتُ دَلْوِي أُدْلِيهَا إِدْلَاءً فَإِذَا اسْتَخْرَجْتَهَا قُلْتَ دَلَوْتُهَا قَالَ تَعَالَى: فَأَدْلى دَلْوَهُ [يُوسُفَ: 19] ، ثُمَّ جَعَلَ كُلَّ إِلْقَاءِ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ إِدْلَاءً، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْمُحْتَجِّ: أَدْلَى بِحُجَّتِهِ، كَأَنَّهُ يُرْسِلُهَا لِيَصِيرَ إِلَى مُرَادِهِ كَإِدْلَاءِ الْمُسْتَقِي الْوَلَدَ لِيَصِلَ إِلَى مَطْلُوبِهِ مِنَ الْمَاءِ، وَفُلَانٌ يُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِقَرَابَةٍ أَوْ رَحِمٍ، إِذَا كَانَ مُنْتَسِبًا إِلَيْهِ فَيَطْلُبُ الْمِيرَاثَ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ، طَلَبَ الْمُسْتَحِقِّ بِالدَّلْوِ الْمَاءَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ النَّهْيِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ، وَلَا تُدْلُوا إِلَى الْحُكَّامِ، أَيْ لَا تُرْشُوهَا إِلَيْهِمْ لِتَأْكُلُوا طَائِفَةً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَفِي تَشْبِيهِ الرِّشْوَةِ بِالْإِدْلَاءِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرِّشْوَةَ رِشَاءُ الْحَاجَةِ، فَكَمَا أَنَّ الدَّلْوَ الْمَمْلُوءَ مِنَ الْمَاءِ يَصِلُ مِنَ الْبَعِيدِ إِلَى الْقَرِيبِ بِوَاسِطَةِ الرِّشَاءِ فَالْمَقْصُودُ الْبَعِيدُ يَصِيرُ قَرِيبًا بِسَبَبِ الرِّشْوَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَاكِمَ بِسَبَبِ أَخْذِ الرِّشْوَةِ يَمْضِي فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ كَمُضِيِّ الدَّلْوِ فِي الْإِرْسَالِ، ثُمَّ الْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْوَدَائِعُ وَمَا لَا يَقُومُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ مَالُ الْيَتِيمِ فِي يَدِ الْأَوْصِيَاءِ يَدْفَعُونَ بَعْضَهُ إِلَى الْحَاكِمِ لِيَبْقَى عَلَيْهِمْ بَعْضُهُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْحَاكِمِ شَهَادَةُ الزُّورِ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَرَابِعُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ هُوَ أَنْ يَحْلِفَ لِيُذْهِبَ حَقَّهُ وَخَامِسُهَا: هُوَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْحَاكِمِ رِشْوَةً، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الظَّاهِرِ، وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا حمل اللفظ على الكل، لأنها بأسره أَكْلٌ بِالْبَاطِلِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَالْمَعْنَى وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ مُبْطِلُونَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْقَبِيحِ مَعَ الْعِلْمِ بِقُبْحِهِ أَقْبَحُ، وَصَاحِبُهُ بِالتَّوْبِيخِ أَحَقُّ، رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ، اخْتَصَمَ رَجُلَانِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَالِمٌ بِالْخُصُومَةِ وَجَاهِلٌ بِهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَالِمِ، فَقَالَ مَنْ قُضِيَ عَلَيْهِ: يَا رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنِّي مُحِقٌّ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ أُعَاوِدُهُ، فَعَاوَدَهُ فَقَضَى لِلْعَالِمِ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا قَالَ أَوَّلًا ثُمَّ عَاوَدَهُ ثَالِثًا، ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِخُصُومَتِهِ فَإِنَّمَا اقْتَطَعَ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» فَقَالَ الْعَالِمُ الْمَقْضِيُّ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْحَقَّ حَقُّهُ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «من اقطع بخصومته وجد له حق غيره فليتبوأ مقعده من النار» . [سورة البقرة (2) : آية 189] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) الحكم التاسع فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا كَانَ قَوْمٌ أَقَلَّ سُؤَالًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوا عَنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا فَأُجِيبُوا. وَأَقُولُ: ثَمَانِيَةٌ مِنْهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوَّلُهَا: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [الْبَقَرَةِ: 186] وَثَانِيهَا: هَذِهِ الْآيَةُ ثُمَّ السِّتَّةُ الْبَاقِيَةُ بَعْدُ فِي سُورَةِ البقرة، فالمجموع ثمانية في هَذِهِ السُّورَةِ وَالتَّاسِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ المائدة: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ [الْمَائِدَةِ: 4] وَالْعَاشِرُ: فِي سُورَةِ الأنفال يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ [الْأَنْفَالِ: 1] وَالْحَادِيَ عَشَرَ: فِي بَنِي إسرائيل يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الْإِسْرَاءِ: 85] وَالثَّانِي عَشَرَ: فِي الْكَهْفِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [الْكَهْفِ: 83] وَالثَّالِثَ عَشَرَ: فِي طه وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ [طَه: 105] وَالرَّابِعَ عَشَرَ: فِي النَّازِعَاتِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ [النَّازِعَاتِ: 42] وَلِهَذِهِ الْأَسْئِلَةِ تَرْتِيبٌ عَجِيبٌ: اثْنَانِ مِنْهَا فِي الْأَوَّلِ فِي شَرْحِ الْمَبْدَأِ فَالْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي [الْبَقَرَةِ: 186] وهذا سؤال عن الذات والثاني: قوله: يَسْئَلُونَكَ/ عَنِ الْأَهِلَّةِ وَهَذَا سُؤَالٌ عَنْ صِفَةِ الْخَلَاقِيَّةِ وَالْحِكْمَةِ فِي جَعْلِ الْهِلَالِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَاثْنَانِ مِنْهَا فِي الْآخِرَةِ فِي شَرْحِ الْمَعَادِ أحدهما: قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ والثاني: قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها [الأعراف: 187] وَنَظِيرُ هَذَا أَنَّهُ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ سُورَتَانِ أولهما: يا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة: 21] أَحَدُهُمَا: فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ: وَهِيَ السُّورَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ سُورَةِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ أُولَاهَا الْفَاتِحَةُ وثانيتها البقرة وثالثها آلُ عِمْرَانَ وَرَابِعَتُهَا النِّسَاءُ وَثَانِيَتُهُمَا: فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ الْقُرْآنِ وَهِيَ أَيْضًا السُّورَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ سُوَرِ النِّصْفِ الثَّانِي أُولَاهَا مَرْيَمُ، وَثَانِيَتُهَا طه، وَثَالِثَتُهَا الْأَنْبِيَاءُ، وَرَابِعَتُهَا الْحَجُّ، ثُمَّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ الَّتِي فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ تَشْتَمِلُ على شرح المبدأ فقال يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ [النساء: 1] ويا أَيُّهَا النَّاسُ الَّتِي فِي النِّصْفِ الثَّانِي تَشْتَمِلُ على شرح المعاد فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الْحَجِّ: 1] فَسُبْحَانَ مَنْ لَهُ فِي هَذَا الْقُرْآنِ أَسْرَارٌ خَفِيَّةٌ، وَحِكَمٌ مَطْوِيَّةٌ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الْخَوَاصُّ مِنْ عَبِيدِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَثَعْلَبَةَ بْنَ غَنْمٍ وَكُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو دَقِيقًا مِثْلَ الْخَيْطِ ثُمَّ يَزِيدُ حَتَّى يَمْتَلِئَ وَيَسْتَوِيَ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَنْقُصُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا بَدَأَ، لَا يَكُونُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ كَالشَّمْسِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَيُرْوَى أَيْضًا عَنْ مُعَاذٍ أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلَتْ عَنِ الْأَهِلَّةِ. وَاعْلَمْ أن قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُمْ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ سَأَلُوا لَكِنَّ الْجَوَابَ كَالدَّالِّ عَلَى مَوْضِعِ السُّؤَالِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُؤَالَهُمْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْفَائِدَةِ وَالْحِكْمَةِ فِي تَغَيُّرِ حَالِ الْأَهِلَّةِ فِي النُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ، فَصَارَ الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ مُتَطَابِقَيْنِ فِي أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَهِلَّةُ جَمْعُ هِلَالٍ وَهُوَ أَوَّلُ حَالِ الْقَمَرِ حِينَ يَرَاهُ النَّاسُ، يُقَالُ لَهُ: هِلَالُ لَيْلَتَيْنِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ ثُمَّ يَكُونُ قَمَرًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: يُسَمَّى الْقَمَرُ لَيْلَتَيْنِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ هِلَالًا، وَكَذَلِكَ لَيْلَتَيْنِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ، ثُمَّ يُسَمَّى مَا بَيْنَ ذَلِكَ قَمَرًا، قَالَ الزَّجَّاجُ: فِعَالٌ يُجْمَعُ فِي أَقَلِّ الْعَدَدِ عَلَى أَفْعِلَةٍ، نَحْوُ مِثَالٍ وَأَمْثِلَةٍ، وَحِمَارٍ وَأَحْمِرَةٍ، وَفِي أَكْثَرِ الْعَدَدِ يُجْمَعُ عَلَى فُعُلٍ مِثْلُ حُمُرٍ لِأَنَّهُمْ كَرِهُوا فِي التَّضْعِيفِ فُعَلَ، نَحْوَ هُلَلٍ وَخُلَلٍ، فَاقْتَصَرُوا عَلَى جَمْعِ أَدْنَى الْعَدَدِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَوَاقِيتُ جَمْعُ الْمِيقَاتِ بِمَعْنَى الْوَقْتِ كَالْمِيعَادِ بِمَعْنَى الْوَعْدِ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ الْمِيقَاتُ مُنْتَهَى الْوَقْتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ [الْأَعْرَافِ: 142] وَالْهِلَالُ مِيقَاتُ الشَّهْرِ، وَمَوَاضِعُ الْإِحْرَامِ مَوَاقِيتُ الْحَجِّ لِأَنَّهَا مَوَاضِعُ يُنْتَهَى إِلَيْهَا، وَلَا تصرف مواقيت لأنها غاية المجموع، فَصَارَ كَأَنَّ الْجَمْعَ يُكَرَّرُ فِيهَا فَإِنْ قِيلَ: لَمْ صُرِفَتْ قَوَارِيرُ؟ قِيلَ: لِأَنَّهَا فَاصِلَةٌ وَقَعَتْ فِي رَأْسِ آيَةٍ، فَنُوِّنَ لِيَجْرِي عَلَى طَرِيقَةِ/ الآيات، كما تنون القوافي، مثل قوله: أقل اللَّوْمَ عَاذِلَ وَالْعِتَابَنْ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الزَّمَانَ مُقَدَّرًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: السَّنَةِ وَالشَّهْرِ وَالْيَوْمِ وَالسَّاعَةِ، أَمَّا السَّنَةُ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الزَّمَانِ الْحَاصِلِ مِنْ حَرَكَةِ الشَّمْسِ مِنْ نُقْطَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْفَلَكِ بِحَرَكَتِهَا الْحَاصِلَةِ عَنْ خِلَافِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ إِلَى أَنْ تَعُودَ إِلَى تِلْكَ النُّقْطَةِ بِعَيْنِهَا، إِلَّا أَنَّ الْقَوْمَ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ تِلْكَ النُّقْطَةَ نُقْطَةُ الِاعْتِدَالِ الرَّبِيعِيِّ وَهُوَ أَوَّلُ الْحَمْلِ، وَأَمَّا الشَّهْرُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ حَرَكَةِ الْقَمَرِ مِنْ نُقْطَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ فَلَكِهِ الْخَاصِّ بِهِ إِلَى أَنْ يَعُودَ إِلَى تِلْكَ النُّقْطَةِ، وَلَمَّا كَانَ أَشْهَرُ أَحْوَالِ الْقَمَرِ وَضْعَهُ مَعَ الشَّمْسِ، وَأَشْهَرُ أَوْضَاعِهِ مِنَ الشَّمْسِ هُوَ الْهِلَالُ الْعَرَبِيُّ، مَعَ أَنَّ الْقَمَرَ فِي هَذَا الْوَقْتِ يُشْبِهُ الْمَوْجُودَ بَعْدَ الْعَدَمِ وَالْمَوْلُودَ الْخَارِجَ مِنَ الظُّلَمِ لَا جَرَمَ جَعَلُوا هَذَا الْوَقْتَ مُنْتَهًى لِلشَّهْرِ، وَأَمَّا الْيَوْمُ بِلَيْلَتِهِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مُفَارَقَةِ نُقْطَةٍ مِنْ دَائِرَةِ مُعَدَّلِ النَّهَارِ نُقْطَةً مِنْ دَائِرَةِ الْأُفُقِ، أَوْ نُقْطَةً مِنْ دَائِرَةِ نِصْفِ النَّهَارِ وَعَوْدِهَا إِلَيْهَا، فَالزَّمَانُ الْمُقَدَّرُ عِبَارَةٌ عَنِ الْيَوْمِ بِلَيْلَتِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُنَجِّمِينَ اصْطَلَحُوا عَلَى تَعْيِينِ دَائِرَةِ نصف النهار مبدأ لليوم بِلَيْلَتِهِ، أَمَّا أَكْثَرُ الْأُمَمِ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا مَبَادِئَ الْأَيَّامِ بِلَيَالِيهَا مِنْ مُفَارَقَةِ الشَّمْسِ أُفُقَ الْمَشْرِقِ وَعَوْدِهَا إِلَيْهِ مِنَ الْغَدَاةِ، وَاحْتَجَّ مَنْ نَصَرَ مَذْهَبَهُمْ بِأَنَّ الشَّمْسَ عِنْدَ طُلُوعِهَا كَالْمَوْجُودِ بَعْدَ الْعَدَمِ فَجَعَلَهُ أَوَّلًا أَوْلَى، فَزَمَانُ النَّهَارِ عِبَارَةٌ عَنْ مُدَّةِ كَوْنِ الشَّمْسِ فَوْقَ الْأَرْضِ، وَزَمَانُ اللَّيْلِ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهَا تَحْتَ الْأَرْضِ، وَفِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ يَفْتَتِحُونَ النَّهَارَ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَحْكَامِ، وَعِنْدَ الْمُنَجِّمِينَ مُدَّةُ الصَّوْمِ فِي الشَّرْعِ هِيَ زَمَانُ النَّهَارِ كُلِّهِ مَعَ زِيَادَةٍ مِنْ زَمَانِ اللَّيْلِ مَعْلُومَةِ الْمِقْدَارِ مَحْدُودَةِ الْمَبْدَأِ، وَأَمَّا السَّاعَةُ فَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُسْتَوِيَةٌ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَهَذَا كَلَامٌ مُخْتَصَرٌ فِي تَعْرِيفِ السَّنَةِ وَالشَّهْرِ وَالْيَوْمِ وَالسَّاعَةِ. فَنَقُولُ: أَمَّا السَّنَةُ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ دَوْرَةِ الشَّمْسِ فَتَحْدُثُ بِسَبَبِهَا الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّمْسَ إِذَا حَصَلَتْ فِي الْحَمَلِ فَإِذَا تَرَكَتْ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَى جَانِبِ الشَّمَالِ، أَخَذَ الْهَوَاءُ فِي جَانِبِ الشَّمَالِ شَيْئًا مِنَ السُّخُونَةِ لِقُرْبِهَا مِنْ مُسَامَتَةِ الرُّؤُوسِ، وَيَتَوَاتَرُ الْإِسْخَانُ إِلَى أَنْ تَصِلَ أَوَّلَ السَّرَطَانِ، وَتَشْتَدُّ الْحَرَارَةُ وَيَزْدَادُ الْحَرُّ مَا دَامَتْ فِي السَّرَطَانِ وَالْأَسَدِ لِقُرْبِهَا مِنْ سَمْتِ الرُّؤُوسِ، وَيَتَوَاتَرُ الْإِسْخَانُ، ثُمَّ يَنْعَكِسُ إِلَى أَنْ يَصِلَ الْمِيزَانَ: وَحِينَئِذٍ يَطِيبُ الْهَوَاءُ وَيَعْتَدِلُ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْحَرُّ فِي النُّقْصَانِ وَالْبَرْدُ فِي الزِّيَادَةِ، وَلَا يَزَالُ يَزْدَادُ الْبَرْدُ إِلَى أَنْ تَصِلَ الشَّمْسُ إِلَى أَوَّلِ الْجَدْيِ، وَيَشْتَدُّ الْبَرْدُ حِينَئِذٍ لِبُعْدِهَا عَنْ سَمْتِ الرُّؤُوسِ، وَيَتَوَاتَرُ الْبَرْدُ ثُمَّ إِنَّ الشَّمْسَ تَأْخُذُ فِي الصُّعُودِ إِلَى نَاحِيَةِ الشَّمَالِ، وَمَا دَامَتْ فِي الْجَدْيِ وَالدَّلْوِ، فَالْبَرْدُ أَشَدُّ مَا يَكُونُ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى الْحَمَلِ، فَحِينَئِذٍ يَطِيبُ الْهَوَاءُ وَيَعْتَدِلُ، وَعَادَتِ الشَّمْسُ إِلَى مَبْدَأِ حَرَكَتِهَا وَانْتَهَى زَمَانُ السَّنَةِ نِهَايَتَهُ، وَحَصَلَتِ الْفُصُولُ/ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي هِيَ الرَّبِيعُ وَالصَّيْفُ وَالْخَرِيفُ وَالشِّتَاءُ، وَمَنَافِعُ الْفُصُولِ الأربعة وتعاقبا ظَاهِرَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الْكُتُبِ.

وَأَمَّا الشَّهْرُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ دَوْرَةِ الْقَمَرِ فِي فَلَكِهِ الْخَاصِّ وَزَعَمُوا أَنَّ نُورَهُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الشَّمْسِ وَأَبَدًا يَكُونُ أَحَدُ نِصْفَيْهِ مُضِيئًا بِالتَّمَامِ إِلَّا أَنَّهُ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ يَكُونُ النِّصْفُ الْمُضِيءُ هُوَ النِّصْفُ الْفَوْقَانِيُّ فَلَا جَرَمَ نَحْنُ لَا نَرَى مِنْ نُورِهِ شَيْئًا وَعِنْدَ الِاسْتِقْبَالِ يَكُونُ نِصْفُهُ الْمُضِيءُ مُوَاجِهًا لَنَا فَلَا جَرَمَ نَرَاهُ مُسْتَنِيرًا بِالتَّمَامِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْقَمَرُ أَقْرَبَ إِلَى الشَّمْسِ، كَانَ الْمَرْئِيُّ مِنْ نَصْفِهِ الْمُضِيءِ أَقَلَّ وَكُلَّمَا كَانَ أَبْعَدَ كَانَ الْمَرْئِيُّ مِنْ نَصْفِهِ الْمُضِيءِ أَكْثَرَ، ثُمَّ إِنَّهُ مِنْ وَقْتِ الِاجْتِمَاعِ إِلَى وَقْتِ الِانْفِصَالِ يَكُونُ كُلَّ لَيْلَةٍ أَبْعَدَ مِنَ الشَّمْسِ، وَيُرَى كُلَّ لَيْلَةٍ ضَوْءُهُ أَكْثَرَ مِنْ وَقْتِ الِاسْتِقْبَالِ إِلَى وَقْتِ الِاجْتِمَاعِ، وَيَكُونُ كُلَّ لَيْلَةٍ أَقْرَبَ إِلَى الشَّمْسِ، فَلَا جرم يرى كل ليلة ضوءه أَقَلَّ، وَلَا يَزَالُ يَقِلُّ وَيَقِلُّ: حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: 39] فَهَذَا مَا قَالَهُ أَصْحَابُ الطَّبَائِعِ وَالنُّجُومِ. وَأَمَّا الَّذِي يَقُولُهُ الْأُصُولِيُّونَ فَهُوَ أَنَّ الْقَمَرَ جِسْمٌ، وَالْأَجْسَامُ كُلُّهَا مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْجِسْمِيَّةِ، وَالْأَشْيَاءُ الْمُتَسَاوِيَةُ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ يَمْتَنِعُ اخْتِلَافُهَا فِي اللَّوَازِمِ، وَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ يَقِينِيَّةٌ فَإِذَنْ حُصُولُ الضَّوْءِ فِي جِرْمِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَمْرٌ جَائِزٌ أَنْ يَحْصُلَ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ رُجْحَانُ وَجُودِهِ عَلَى عَدَمِهِ إِلَّا بِسَبَبِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَكُلُّ مَا كَانَ فِعْلًا لِفَاعِلٍ مُخْتَارٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِهِ وَعَلَى إعدامه، وعلى هذا التقدير فلا حاجة إِلَى إِسْنَادِ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ الْحَاصِلَةِ فِي نُورِ الْقَمَرِ إِلَى قُرْبِهَا وَبُعْدِهَا مِنَ الشَّمْسِ، بَلْ عِنْدَنَا أَنَّ حُصُولَ النُّورِ فِي جِرْمِ الشَّمْسِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ إِيجَادِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ، وَكَذَا الذي في جرم القمر. بقي هاهنا أَنْ يُقَالَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ لِمَ خَصَّصَ الْقَمَرَ دُونَ الشَّمْسِ بِهَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ، فَنَقُولُ لِعُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فَاعِلِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُهَا بِغَرَضٍ وَمَصْلَحَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: إِنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْغَرَضِ بِدُونِ تِلْكَ الْوَاسِطَةِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِعْلُ تِلْكَ الْوَاسِطَةِ عَبَثًا، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَهُوَ عَاجِزٌ وَثَانِيهَا: إِنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ، فَإِنْ كَانَ وُجُودُ ذَلِكَ الْغَرَضِ أَوْلَى لَهُ مِنْ لَا وُجُودِهِ فَهُوَ نَاقِصٌ بِذَاتِهِ، مُسْتَكْمَلٌ بِغَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْلَى لَهُ لَمْ يَكُنْ غَرَضًا وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لو كان فعله مُعَلَّلًا بِغَرَضٍ فَذَلِكَ الْغَرَضُ إِنْ كَانَ مُحْدَثًا افْتَقَرَ إِحْدَاثُهُ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا لَزِمَ مِنْ قِدَمِهِ قِدَمُ الْفِعْلِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَلَا جَرَمَ قَالُوا: كُلُّ شَيْءٍ صُنْعُهُ وَلَا عِلَّةَ لِصُنْعِهِ، وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيلُ أَفْعَالِهِ وأحكامه ألبتة لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 23] . وَالْجَوَابُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَا بُدَّ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ مِنْ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ وَالْحِكَمِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ سَلَّمُوا أَنَّ الْعُقُولَ الْبَشَرِيَّةَ قَاصِرَةٌ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى أَسْرَارِ/ حِكَمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مُلْكِهِ وَمَلَكُوتِهِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا سَأَلُوا عَنِ الْحِكْمَةِ فِي اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْقَمَرِ فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ وُجُوهَ الْحِكْمَةِ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَةٍ أُخْرَى وهو قَوْلُهُ: وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يُونُسَ: 5] وَقَالَ فِي آيَةٍ ثَالِثَةٍ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [الْإِسْرَاءِ: 12] وَتَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ تَقْدِيرَ الزَّمَانِ بِالشُّهُورِ فِيهِ مَنَافِعُ بَعْضُهَا مُتَّصِلٌ بِالدِّينِ وَبَعْضُهَا بِالدُّنْيَا، أَمَّا مَا يَتَّصِلُ مِنْهَا بِالدِّينِ فَكَثِيرَةٌ مِنْهَا الصَّوْمُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [الْبَقَرَةِ: 185] وَثَانِيهَا: الْحَجُّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [الْبَقَرَةِ: 197] وَثَالِثُهَا: عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ

أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [الْبَقَرَةِ: 234] وَرَابِعُهَا: النُّذُورُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَوْقَاتِ، وَلِفَضَائِلِ الصَّوْمِ فِي أَيَّامٍ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِالْأَهِلَّةِ. وَأَمَّا مَا يَتَّصِلُ مِنْهَا بِالدُّنْيَا فَهُوَ كَالْمُدَايَنَاتِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْمَوَاعِيدِ وَلِمُدَّةِ الْحَمْلِ وَالرَّضَاعِ كَمَا قَالَ وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الْأَحْقَافِ: 15] وَغَيْرِهَا فَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَسْهُلُ ضَبْطُ أَوْقَاتِهَا إِلَّا عِنْدَ وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِي شَكْلِ الْقَمَرِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّا نَحْتَاجُ فِي تَقْدِيرِ الْأَزْمِنَةِ إِلَى حُصُولِ الشَّهْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَقْدِيرُهَا بِالسَّنَةِ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ دَوْرَةِ الشَّمْسِ وَبِإِجْرَائِهَا مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: كَلَّفَتْكُمْ بِالطَّاعَةِ الْفُلَانِيَّةِ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ، أَوْ فِي سُدُسِهَا، أَوْ نِصْفِهَا، وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَجْزَاءِ، وَيُمْكِنُ تَقْدِيرُهَا بِالْأَيَّامِ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: كُلِّفْتُمْ بِالطَّاعَةِ الْفُلَانِيَّةِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ وَبَعْدَ خَمْسِينَ يَوْمًا مِنْ أَوَّلِ السَّنَةِ، وَأَيْضًا بِتَقْدِيرِ أَنْ يُسَاعِدَ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ تَقْدِيرِ الزَّمَانِ بِالسَّنَةِ وَبِالْيَوْمِ تَقْدِيرُهُ بِالْقَمَرِ لَكِنَّ الشَّهْرَ عِبَارَةٌ عَنْ دَوْرَةٍ مِنِ اجْتِمَاعِهِ مَعَ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَهَا مَرَّةً أُخْرَى هَذَا التَّقْدِيرُ حَاصِلٌ سَوَاءٌ حَصَلَ الِاخْتِلَافُ فِي أَشْكَالِ نُورِهِ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَقْدِيرَ السَّنَةِ بِحَرَكَةِ الشَّمْسِ وإن لم يحصل فِي نُورِ الشَّمْسِ اخْتِلَافًا، فَكَذَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الشَّمْسِ بِحَرَكَةِ الْقَمَرِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ فِي نُورِ الْقَمَرِ اخْتِلَافٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِنُورِ الْقَمَرِ مُخَالَفَةٌ بِحَالٍ وَلَا أَثَرٌ فِي هَذَا الْبَابِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيرُهُ بِهِ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: إِنَّ مَا ذَكَرْتُمْ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا إِلَّا أَنَّ إِحْصَاءَ الْأَهِلَّةِ أَيْسَرُ مِنْ إِحْصَاءِ الْأَيَّامِ لِأَنَّ الْأَهِلَّةَ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، وَالْأَيَّامَ كَثِيرَةٌ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ تَقْسِيمَ جُمْلَةِ الزَّمَانِ إِلَى السِّنِينَ، ثُمَّ تَقْسِيمَ كُلِّ سَنَةٍ إِلَى الشُّهُورِ، ثُمَّ تَقْسِيمَ الشُّهُورِ إِلَى الْأَيَّامِ، ثُمَّ تَقْسِيمَ كُلِّ يَوْمٍ إِلَى السَّاعَاتِ، ثُمَّ تَقْسِيمَ كُلِّ سَاعَةٍ إِلَى الْأَنْفَاسِ أَقْرَبُ إِلَى الضَّبْطِ وَأَبْعَدُ عَنِ الْخَبْطِ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً [التَّوْبَةِ: 36] وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمُصَنِّفَ الَّذِي يُرَاعِي حُسْنَ التَّرْتِيبِ يُقَسِّمُ تَصْنِيفَهُ إِلَى الْكُتُبِ، ثُمَّ كُلَّ كِتَابٍ إِلَى الْأَبْوَابِ، ثُمَّ كُلَّ بَابٍ إِلَى الْفُصُولِ ثُمَّ كُلَّ فَصْلٍ إِلَى المسائل فكذا هاهنا الْجَوَابُ عَنْهُ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْتُمْ، إِلَّا أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْقَمَرُ مُخْتَلِفَ الشَّكْلِ، كَانَ مَعْرِفَةُ أَوَائِلِ الشُّهُورِ وَأَنْصَافِهَا وَأَوَاخِرِهَا أَسْهَلَ مِمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَأَخْبَرَ جَلَّ جَلَالُهُ أَنَّهُ دَبَّرَ الْأَهِلَّةَ هَذَا التَّدْبِيرَ الْعَجِيبَ لِمَنَافِعِ عِبَادِهِ فِي قِوَامِ دُنْيَاهُمْ مَعَ مَا يَسْتَدِلُّونَ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ [آلِ عِمْرَانَ: 190] وَقَالَ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الْفُرْقَانِ: 61] وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَقَعْ فِي جِرْمِ الْقَمَرِ هَذَا الِاخْتِلَافُ لَتَأَكَّدَتْ شُبَهُ الْفَلَاسِفَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْأَجْرَامَ الْفَلَكِيَّةَ لَا يُمْكِنُ تَطَرُّقُ التَّغْيِيرِ إِلَى أَحْوَالِهَا، فَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى بِحِكْمَتِهِ الْقَاهِرَةِ أَبْقَى الشَّمْسَ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَظْهَرَ الِاخْتِلَافَ فِي أَحْوَالِ الْقَمَرِ لِيَظْهَرَ لِلْعَاقِلِ أَنَّ بَقَاءَ الشَّمْسِ عَلَى أَحْوَالِهَا لَيْسَ إِلَّا بِإِبْقَاءِ اللَّهِ وَتَغَيُّرَ الْقَمَرِ فِي أَشْكَالِهِ لَيْسَ إِلَّا بِتَغْيِيرِ اللَّهِ فَيَصِيرُ الْكُلُّ بِهَذَا الطَّرِيقِ شَاهِدًا عَلَى افْتِقَارِهَا إِلَى مُدَبِّرٍ حَكِيمٍ قَادِرٍ قَاهِرٍ، كَمَا قَالَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الْإِسْرَاءِ: 44] . إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فَنَقُولُ: إِنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي أَحْوَالِ الْقَمَرِ مَعُونَةٌ عَظِيمَةٌ فِي تَعْيِينِ الْأَوْقَاتِ مِنَ الْجِهَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا نَبَّهَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْمَنَافِعِ، لِأَنَّ تَعْدِيدَ جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ يَقْضِي إِلَى الْإِطْنَابِ وَالِاقْتِصَارَ عَلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ

تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى كَوْنِهِ مِيقَاتًا فَكَانَ هَذَا الِاقْتِصَارُ دَلِيلًا عَلَى الْفَصَاحَةِ الْعَظِيمَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْحَجِّ فَفِيهِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ وَلِلْحَجِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 233] أَيْ لِأَوْلَادِكُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتُ لِكَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَإِفْرَادُ الْحَجِّ بِالذِّكْرِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ فَائِدَةٍ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ تِلْكَ الْفَائِدَةُ هِيَ أَنَّ مَوَاقِيتَ الْحَجِّ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالْأَهِلَّةِ، قَالَ تَعَالَى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [الْبَقَرَةِ: 197] وَذَلِكَ لِأَنَّ وَقْتَ الصَّوْمِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالْأَهِلَّةِ، قَالَ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [الْبَقَرَةِ: 185] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ أَنَّ إِفْرَادَ الْحَجِّ بِالذِّكْرِ إِنَّمَا كَانَ لِبَيَانِ أَنَّ الْحَجَّ مَقْصُورٌ عَلَى الْأَشْهُرِ الَّتِي عَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِفَرْضِهِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الْحَجِّ مِنْ تِلْكَ الْأَشْهُرِ إِلَى أَشْهُرٍ كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي النَّسِيءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ وَالْأَصَمُّ كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا هَمَّ بِشَيْءٍ فَتَعَسَّرَ عَلَيْهِ مَطْلُوبُهُ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهُ مِنْ بَابِهِ بَلْ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِهِ وَيَبْقَى عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ حَوْلًا كَامِلًا، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ تَطَيُّرًا، وَعَلَى هَذَا تَأْوِيلُ الْآيَةِ لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا عَلَى وَجْهِ التَّطَيُّرِ، لَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ يَتَّقِي اللَّهَ وَلَمْ/ يَتَّقِ غَيْرَهُ وَلَمْ يَخَفْ شَيْئًا كَانَ يَتَطَيَّرُ بِهِ، بَلْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاتَّقَاهُ وَحْدَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أَيْ لِتَفُوزُوا بِالْخَيْرِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطَّلَاقِ: 2، 3] وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطَّلَاقِ: 4] وَتَمَامُ التَّحْقِيقِ فِي الْآيَةِ أَنَّ مَنْ رَجَعَ خَائِبًا يُقَالُ: مَا أَفْلَحَ وَمَا أَنْجَحَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَلَاحُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ هُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَّقُوا اللَّهَ حَتَّى تَصِيرُوا مُفْلِحِينَ مُنْجِحِينَ وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّطَيُّرِ، وَقَالَ: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيرَةَ» وَقَالَ مَنْ «رَدَّهُ عَنْ سَفَرِهِ تَطِيرٌ فَقَدْ أَشْرَكَ» أَوْ كَمَا قَالَ وَأَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الطِّيَرَةَ وَيُحِبُّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ وَقَدْ عَابَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمًا تَطَيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ [النَّمْلِ: 47] . الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، رُوِيَ أَنَّهُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ كَانَ إِذَا أَحْرَمَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمُدُنِ نَقَبَ فِي ظَهْرِ بَيْتِهِ مِنْهُ يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ، أَوْ يَتَّخِذُ سُلَّمًا يَصْعَدُ مِنْهُ سَطْحَ دَارِهِ ثُمَّ يَنْحَدِرُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَبَرِ خَرَجَ مِنْ خَلْفِ الْخِبَاءِ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَيْسَ الْبِرُّ بِتَحَرُّجِكُمْ عَنْ دُخُولِ الْبَابِ، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا أَحْرَمَ أَحَدُهُمْ نَقَبَ خَلْفَ بَيْتِهِ أَوْ خَيْمَتِهِ نَقْبًا مِنْهُ يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ إِلَّا الْحُمْسُ، وَهُمْ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَخُزَاعَةُ وَثَقِيفٌ وَخَيْثَمُ وَبَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَبَنُو نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَهَؤُلَاءِ سُمُّوا حُمْسًا لِتَشَدُّدِهِمْ فِي دِينِهِمْ، الْحَمَاسَةُ الشِّدَّةُ، وَهَؤُلَاءِ مَتَى أَحْرَمُوا لَمْ يَدْخُلُوا بُيُوتَهُمُ الْبَتَّةَ وَلَا يَسْتَظِلُّونَ الْوَبَرَ وَلَا يَأْكُلُونَ السَّمْنَ وَالْأَقِطَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُحْرِمًا وَرَجُلٌ آخَرُ كَانَ مُحْرِمًا، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَ كَوْنِهِ مُحْرِمًا مِنْ بَابِ بُسْتَانٍ قَدْ خَرِبَ فَأَبْصَرَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ مُحْرِمًا فَاتَّبَعَهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَنَحَّ عَنِّي، قَالَ: وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: دَخَلْتَ الْبَابَ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ فَوَقَفَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَقَالَ: إِنِّي رَضِيتُ بِسُنَّتِكَ وَهَدْيِكَ وَقَدْ رَأَيْتُكَ دَخَلْتَ فَدَخَلْتُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ تَشْدِيدَهُمْ فِي أَمْرِ الْإِحْرَامِ لَيْسَ بِبِرٍّ وَلَكِنَّ البر من

اتَّقَى مُخَالَفَةَ اللَّهِ وَأَمَرَهُمْ بِتَرْكِ سُنَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها فَهَذَا مَا قِيلَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا فِي سَبَبِ النُّزُولِ، إِلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ صَعُبَ الْكَلَامُ فِي نَظْمِ الْآيَةِ، فَإِنَّ الْقَوْمَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي تَغْيِيرِ نُورِ الْقَمَرِ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ فَأَيُّ تَعَلُّقٍ بَيْنَ بَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي اخْتِلَافِ نُورِ الْقَمَرِ، وَبَيْنَ هَذِهِ الْقِصَّةِ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَجَابُوا عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَهِلَّةِ جَعْلُهَا مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ/ وَالْحَجِّ، وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبروها فِي الْحَجِّ لَا جَرَمَ تَكَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا وَصَلَ قَوْلَهُ: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها بقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا اتَّفَقَ وُقُوعُ الْقِصَّتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمَا مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَوَصَلَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ وَثَالِثُهَا: كَأَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنِ الْحِكْمَةِ فِي اخْتِلَافِ حَالِ الْأَهِلَّةِ فَقِيلَ لَهُمْ: اتْرُكُوا السُّؤَالَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي لَا يَعْنِيكُمْ وَارْجِعُوا إِلَى مَا الْبَحْثُ عَنْهُ أَهَمُّ لَكُمْ فَإِنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ إِتْيَانَ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا بِرٌّ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ ظَاهِرَهُ، وَتَفْسِيرُهُ أَنَّ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ الْمَعْلُومَ هُوَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالْمَعْلُومِ عَلَى الْمَظْنُونِ، فَأَمَّا أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالْمَظْنُونِ عَلَى الْمَعْلُومِ فَذَاكَ عَكْسُ الْوَاجِبِ وَضِدُّ الْحَقِّ وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ أَنَّ لِلْعَالِمِ صَانِعًا مُخْتَارًا حَكِيمًا، وَثَبَتَ أَنَّ الْحَكِيمَ لَا يَفْعَلُ إِلَّا الصَّوَابَ الْبَرِيءَ عَنِ الْعَبَثِ وَالسَّفَهِ، وَمَتَى عَرَفْنَا ذَلِكَ، وَعَرَفْنَا أَنَّ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْقَمَرِ فِي النُّورِ مِنْ فِعْلِهِ عَلِمْنَا أَنَّ فِيهِ حِكْمَةً وَمَصْلَحَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِلْمَنَا بِهَذَا الْحَكِيمِ الَّذِي لَا يَفْعَلُ إِلَّا الْحِكْمَةَ يُفِيدُنَا الْقَطْعَ بِأَنَّ فِيهِ حِكْمَةً، لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِالْمَعْلُومِ عَلَى الْمَجْهُولِ، فَأَمَّا أَنْ يَسْتَدِلَّ بِعَدَمِ عِلْمِنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ لَيْسَ بِالْحَكِيمِ، فَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِالْمَجْهُولِ عَلَى الْقَدْحِ فِي الْمَعْلُومِ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها يَعْنِي أَنَّكُمْ لَمَّا لَمْ تَعْلَمُوا حِكْمَتَهُ فِي اخْتِلَافِ نُورِ الْقَمَرِ صِرْتُمْ شَاكِّينَ فِي حِكْمَةِ الْخَالِقِ، فَقَدْ أَتَيْتُمُ الشَّيْءَ لَا مِنَ الْبِرِّ وَلَا مِنْ كَمَالِ الْعَقْلِ إِنَّمَا الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا فَتَسْتَدِلُّوا بِالْمَعْلُومِ الْمُتَيَقِّنِ وَهُوَ حِكْمَةُ خَالِقِهَا عَلَى هَذَا الْمَجْهُولِ فَتَقْطَعُوا بِأَنَّ فِيهِ حِكْمَةً بَالِغَةً، وَإِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَهَا، فَجَعَلَ إِتْيَانَ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا كِنَايَةً عَنِ الْعُدُولِ عَنِ الطَّرِيقِ الصَّحِيحِ، وَإِتْيَانَهَا مِنْ أَبْوَابِهَا كِنَايَةً عَنِ التَّمَسُّكِ بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهَذَا طَرِيقٌ مَشْهُورٌ فِي الْكِنَايَةِ فَإِنَّ مَنْ أَرْشَدَ غَيْرَهُ إِلَى الْوَجْهِ الصَّوَابِ يَقُولُ لَهُ: يَنْبَغِي أَنْ تَأْتِيَ الْأَمْرَ مِنْ بَابِهِ وَفِي ضِدِّهِ يُقَالُ: إِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ بَابِهِ قَالَ تَعَالَى: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 187] وَقَالَ: وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ [هُودٍ: 92] فَلَمَّا كَانَ هَذَا طَرِيقًا مَشْهُورًا مُعْتَادًا فِي الْكِنَايَاتِ، ذَكَرَهُ اللَّهُ تعالى هاهنا، وَهَذَا تَأْوِيلُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ تَفْسِيرَهَا بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَطْرُقُ إِلَى الْآيَةِ سُوءَ التَّرْتِيبِ وَكَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنْهُ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا كَانُوا يَعْلَمُونَهُ مِنَ النَّسِيءِ،

[سورة البقرة (2) : آية 190]

فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُخْرِجُونَ الْحَجَّ عَنْ وَقْتِهِ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّهُ لَهُ فَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ وَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ فَذِكْرُ إِتْيَانِ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا مَثَلٌ لِمُخَالَفَةِ الْوَاجِبِ فِي الْحَجِّ وَشُهُورِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى تَقْدِيرُهُ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنِ اتَّقَى فَهُوَ/ كَقَوْلِهِ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 177] وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَقَالُونُ عَنْ نَافِعٍ الْبِيُوتَ: بِكَسْرِ الْبَاءِ لِأَنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوا الْخُرُوجَ مِنْ ضَمَّةِ بَاءٍ إِلَى يَاءٍ، وَالْبَاقُونَ بِالضَّمِّ عَلَى الْأَصْلِ وَلِلْقُرَّاءِ فِيهَا وَفِي نَظَائِرِهَا نَحْوِ بُيُوتٍ، وَعُيُونٍ، وَجُيُوبٍ: مَذَاهِبُ وَاخْتِلَافَاتٌ يَطُولُ تَفْصِيلُهَا. أَمَّا قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ فَقَدْ بَيَّنَّا دُخُولَ كُلِّ وَاجِبٍ وَاجْتِنَابَ كُلِّ مُحَرَّمٍ تَحْتَهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لِكَيْ تُفْلِحُوا، وَالْفَلَاحُ هُوَ الظَّفَرُ بِالْبُغْيَةِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَتِهِ تَعَالَى الْفَلَاحَ مِنْ جَمِيعِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا تَخْصِيصَ فِي الْآيَةِ وَاللَّهُ أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 190] وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) الحكم العاشر ما يتعلق بالقتال وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالِاسْتِقَامَةِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِالتَّقْوَى فِي طَرِيقِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها [الْبَقَرَةِ: 189] وَأَمَرَ بِالتَّقْوَى فِي طَرِيقِ طَاعَةِ اللَّهِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ وَفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ فَالِاسْتِقَامَةُ عِلْمٌ، وَالتَّقْوَى عَمَلٌ، وَلَيْسَ التَّكْلِيفُ إِلَّا فِي هَذَيْنِ، ثُمَّ لَمَّا أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَشَدِّ أَقْسَامِ التَّقْوَى وَأَشَقِّهَا عَلَى النَّفْسِ، وَهُوَ قَتْلُ أَعْدَاءِ اللَّهِ فَقَالَ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ النُّزُولِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الرَّبِيعُ وَابْنُ زَيْدٍ: هَذِهِ الْآيَةُ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَاتِلُ مَنْ قَاتَلَ، وَيَكُفُّ عَنْ قِتَالِ مَنْ تَرَكَهُ، وَبَقِيَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ إِلَى أَنَّ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَةِ: 5] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَرَجَ بِأَصْحَابِهِ لِإِرَادَةِ الْحَجِّ وَنَزَلَ الْحُدَيْبِيَةَ وَهُوَ مَوْضِعٌ كَثِيرُ الشَّجَرِ وَالْمَاءِ فَصَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ دُخُولِ الْبَيْتِ فَأَقَامَ شَهْرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ صَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ ذَلِكَ الْعَامَ وَيَعُودَ إِلَيْهِمْ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، وَيَتْرُكُونَ لَهُ مَكَّةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى يَطُوفَ وَيَنْحَرَ الْهَدْيَ وَيَفْعَلَ مَا شَاءَ، فَرَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَصَالَحَهُمْ عَلَيْهِ، / ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَجَهَّزَ فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ، ثُمَّ خَافَ أَصْحَابُهُ مِنْ قُرَيْشٍ أَنْ لَا يَفُوا بِالْوَعْدِ وَيَصُدُّوهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَأَنْ يُقَاتِلُوهُمْ، وَكَانُوا كَارِهِينَ لِمُقَاتَلَتِهِمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَفِي الْحَرَمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَاتِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ كَيْفِيَّةَ الْمُقَاتَلَةِ إِنِ احْتَاجُوا إِلَيْهَا، فَقَالَ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 191 إلى 192]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ فِي طَاعَتِهِ وَطَلَبِ رِضْوَانِهِ، رَوَى أَبُو مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَمَّنْ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ: هُوَ «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَلَا يُقَاتِلُ رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً» . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، الْمُرَادُ مِنْهُ: قَاتِلُوا الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ إِمَّا عَلَى وَجْهِ الدَّفْعِ عَنِ الْحَجِّ، أَوْ عَلَى وَجْهِ الْمُقَاتَلَةِ ابْتِدَاءً، وَهَذَا الْوَجْهُ مُوَافِقٌ لِمَا رَوَيْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَثَانِيهَا: قَاتِلُوا كُلَّ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ وَأَهْلِيَّةٌ عَلَى الْقِتَالِ وَثَالِثُهَا: قَاتَلُوا كُلَّ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْقِتَالِ وَأَهْلِيَّةٌ كَذَلِكَ سِوَى مَنْ جَنَحَ لِلسَّلْمِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الْأَنْفَالِ: 61] وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَقْرَبُ إِلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ فَاعِلِينَ لِلْقِتَالِ، فَأَمَّا الْمُسْتَعِدُّ لِلْقِتَالِ وَالْمُتَأَهِّلُ لَهُ قَبْلَ إِقْدَامِهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُقَاتِلًا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ قِتَالَ الْمُقَاتِلِينَ، وَنَهَى عَنْ قِتَالِ غَيْرِ الْمُقَاتِلِينَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ثُمَّ بَعْدَهُ: وَلَا تَعْتَدُوا هَذَا الْقَدْرَ، وَلَا تُقَاتِلُوا مَنْ لَا يُقَاتِلُكُمْ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَانِعَةٌ مِنْ قِتَالِ غَيْرِ الْمُقَاتِلِينَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [الْبَقَرَةِ: 191] فَاقْتَضَى هَذَا حُصُولَ الْأَوَّلِ فِي قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِقِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْنَا، لَكِنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَا صَارَ مَنْسُوخًا. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْنَا، فَهَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَعْتَدُوا فَهَذَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أُخَرَ سِوَى مَا ذكرتم، منها أن يكون المعنى: ولا تبدؤا فِي الْحَرَمِ بِقِتَالٍ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَلَا تَعْتَدُوا بِقِتَالِ مَنْ نُهِيتُمْ عَنْ قِتَالِهِ مِنَ الَّذِينَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ، أَوْ بِالْحِيلَةِ أَوْ بِالْمُفَاجَأَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمِ دَعْوَةٍ، أَوْ بِقَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالشَّيْخِ الْفَانِي، وَعَلَى جَمِيعِ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ لَا تَكُونُ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً. فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّهُ لَا نَسْخَ فِي الْآيَةِ، وَلَكِنْ مَا السَّبَبُ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ أَوَّلًا بِقِتَالِ مَنْ يُقَاتِلُ، ثُمَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ أَذِنَ فِي قِتَالِهِمْ سَوَاءً قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا. قُلْنَا: لِأَنَّ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَلِيلِينَ، فَكَانَ الصَّلَاحُ اسْتِعْمَالَ الرِّفْقِ وَاللِّينِ وَالْمُجَامَلَةِ، فَلَمَّا قَوِيَ الْإِسْلَامُ وَكَثُرَ الْجَمْعُ، وَأَقَامَ مَنْ أَقَامَ مِنْهُمْ عَلَى الشِّرْكِ، بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ وَتَكَرُّرِهَا/ عَلَيْهِمْ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، حَصَلَ الْيَأْسُ مِنْ إِسْلَامِهِمْ، فَلَا جَرَمَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقِتَالِهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ قَالُوا: لَوْ كَانَ الِاعْتِدَاءُ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِتَخْلِيقِهِ لَمَا صَحَّ هَذَا الكلام، وجوابه قد تقدم والله أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 191 الى 192] وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)

وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الثَّقْفُ وُجُودُهُ عَلَى وَجْهِ الْأَخْذِ وَالْغَلَبَةِ وَمِنْهُ رَجُلٌ ثَقِيفٌ سَرِيعُ الْأَخْذِ لِأَقْرَانِهِ، قَالَ: فَإِمَّا تَثْقَفُونِي فَاقْتُلُونِي ... فَمَنْ أُثْقَفَ فَلَيْسَ إِلَى خُلُودٍ ثُمَّ نَقُولُ قَوْلُهُ تعالى: اقْتُلُوهُمْ الْخِطَابُ فِيهِ وَاقِعٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ هَاجَرَ مَعَهُ وَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ بِهِ لَازِمًا لِكُلِّ مُؤْمِنٍ، وَالضَّمِيرُ فِي قوله: اقْتُلُوهُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَهُمُ الْكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَتْلِهِمْ حَيْثُ كَانُوا فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَفِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْجِهَادِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِشَرْطِ إِقْدَامِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُقَاتَلَةِ، وَفِي هَذِهِ زَادَ فِي التَّكْلِيفِ فَأَمَرَ بِالْجِهَادِ مَعَهُمْ سَوَاءٌ قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ الْمُقَاتَلَةَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نُقِلَ عَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 190] مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ثُمَّ تِلْكَ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الْبَقَرَةِ: 193] وَهَذَا الْكَلَامُ ضَعِيفٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَدْ/ تَقَدَّمَ إِبْطَالُهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَهَذَا مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ لَا مِنْ بَابِ النَّسْخِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة: 193] فَهُوَ خَطَأٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِالْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ، وَهَذَا الْحُكْمُ مَا نُسِخَ بَلْ هُوَ بَاقٍ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ ضَعِيفٌ وَلِأَنَّهُ يَبْعُدُ مِنَ الْحَكِيمِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ آيَاتٍ مُتَوَالِيَةٍ تَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا نَاسِخَةً لِلْأُخْرَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِخْرَاجَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَلَّفُوهُمُ الْخُرُوجَ قَهْرًا وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ بَالَغُوا فِي تَخْوِيفِهِمْ وَتَشْدِيدِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ، حَتَّى صَارُوا مُضْطَرِّينَ إِلَى الْخُرُوجِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ صِيغَةَ «حَيْثُ» تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَخْرِجُوهُمْ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخْرَجُوكُمْ وَهُوَ مَكَّةُ وَالثَّانِي: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ مَنَازِلِكُمْ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يُخْرِجُوا أُولَئِكَ الْكُفَّارَ مِنْ مَكَّةَ إِنْ أَقَامُوا عَلَى شِرْكِهِمْ إِنْ تَمَكَّنُوا مِنْهُ، لَكِنَّهُ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ يَتَمَكَّنُونَ مِنْهُ فِيمَا بَعْدُ، وَلِهَذَا السَّبَبِ أَجْلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ مُشْرِكٍ مِنَ الْحَرَمِ. ثُمَّ أَجْلَاهُمْ أَيْضًا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْفِتْنَةِ الْكُفْرُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْكُفْرُ بِالْفِتْنَةِ لِأَنَّهُ فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ يُؤَدِّي إِلَى الظُّلْمِ وَالْهَرْجِ، وَفِيهِ الْفِتْنَةُ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْكُفْرَ أَعْظَمَ مِنَ الْقَتْلِ، لِأَنَّ الْكُفْرَ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ بِهِ الْعِقَابَ الدَّائِمَ، وَالْقَتْلُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْكُفْرُ يَخْرُجُ صَاحِبُهُ بِهِ عَنِ الْأُمَّةِ، وَالْقَتْلُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَكَانَ الْكُفْرُ أَعْظَمَ مِنَ الْقَتْلِ، وَرُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانَ قَتَلَ رَجُلًا مِنَ الْكُفَّارِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فالمؤمنون عبوه عَلَى ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَكَانَ الْمَعْنَى لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَعْظِمُوا الْإِقْدَامَ عَلَى الْقَتْلِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَإِنَّ إِقْدَامَ الكفار على

الْكُفْرِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْفِتْنَةَ أَصْلُهَا عَرْضُ الذَّهَبِ عَلَى النَّارِ لِاسْتِخْلَاصِهِ مِنَ الْغِشِّ، ثُمَّ صَارَ اسْمًا لِكُلِّ مَا كَانَ سَبَبًا لِلِامْتِحَانِ تَشْبِيهًا بِهَذَا الْأَصْلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِقْدَامَ الْكُفَّارِ عَلَى الْكُفْرِ وَعَلَى تَخْوِيفِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَى تَشْدِيدِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ بِحَيْثُ صَارُوا مُلْجَئِينَ إِلَى تَرْكِ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ هَرَبًا مِنْ إِضْلَالِهِمْ فِي الدِّينِ، وَتَخْلِيصًا لِلنَّفْسِ مِمَّا يَخَافُونَ وَيَحْذَرُونَ، فِتْنَةٌ شَدِيدَةٌ بَلْ هِيَ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّخْلِيصَ مِنْ غُمُومِ الدُّنْيَا وَآفَاتِهَا، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَا أَشَدُّ مِنْ هَذَا الْقَتْلِ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَيْكُمْ جَزَاءً غَيْرَ تِلْكَ الْفِتْنَةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْفِتْنَةِ الْعَذَابَ الدَّائِمَ الَّذِي يَلْزَمُهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، / فَكَأَنَّهُ قِيلَ: اقْتُلُوهُمْ مِنْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ كَقَوْلِهِ: وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ [التَّوْبَةِ: 52] وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْفِتْنَةِ عَلَى الْعَذَابِ جَائِزٌ، وَذَلِكَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذَّارِيَاتِ: 13] ثُمَّ قَالَ عَقِيبَهُ: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ [الذَّارِيَاتِ: 14] أَيْ عَذَابَكُمْ، وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الْبُرُوجِ: 10] أَيْ عَذَّبُوهُمْ، وَقَالَ: فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ [الْعَنْكَبُوتِ: 10] أَيْ عَذَابَهُمْ كَعَذَابِهِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِتْنَتَهُمْ إِيَّاكُمْ بِصَدِّكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَشَدَّ مِنْ قَتْلِكُمْ إِيَّاهُمْ فِي الْحَرَمِ، لِأَنَّهُمْ يَسْعَوْنَ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَالطَّاعَةِ الَّتِي مَا خُلِقَتِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ إِلَّا لَهَا. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ ارْتِدَادَ الْمُؤْمِنِ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يُقْتَلَ مُحِقًّا وَالْمَعْنَى: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَلَوْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ إِنْ قُتِلْتُمْ وَأَنْتُمْ عَلَى الْحَقِّ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى بِكُمْ وَأَسْهَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ أَنْ تَرْتَدُّوا عَنْ دِينِكُمْ أَوْ تَتَكَاسَلُوا فِي طَاعَةِ رَبِّكُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ ففيه مسائل: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا بَيَانٌ لِبَقَاءِ هَذَا الشَّرْطِ فِي قِتَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ خَاصَّةً، وَقَدْ كَانَ مِنْ قَبْلُ شَرْطًا فِي كُلِّ الْقِتَالِ وَفِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: وَلَا تَقْتُلُوهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوكُمْ فَإِنْ قَتَلُوكُمْ كُلَّهُ بِغَيْرِ أَلْفٍ، وَالْبَاقُونَ جَمِيعَ ذَلِكَ بِالْأَلْفِ، وَهُوَ فِي الْمُصْحَفِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَإِنَّمَا كُتِبَتْ كَذَلِكَ لِلْإِيجَازِ، كَمَا كُتِبَ: الرَّحْمَنُ بِغَيْرِ أَلْفٍ، وكذلك: صالح، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ حُرُوفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ، قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: الْقِرَاءَتَانِ الْمَشْهُورَتَانِ إِذَا لَمْ يَتَنَافَ الْعَمَلُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِمَا، كَمَا يُعْمَلُ بِالْآيَتَيْنِ إِذَا لَمْ يَتَنَافَ الْعَمَلُ بِهِمَا، وَمَا يَقْتَضِيهِ هَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ الْمَشْهُورَتَانِ لَا تَنَافِيَ فِيهِ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا مَا لَمْ يَقَعِ النَّسْخُ فِيهِ، يُرْوَى أَنَّ الْأَعْمَشَ قَالَ لِحَمْزَةَ: أَرَأَيْتَ قِرَاءَتَكَ إِذَا صَارَ الرَّجُلُ مَقْتُولًا فَبَعْدَ ذَلِكَ كَيْفَ يَصِيرُ قَاتِلًا لِغَيْرِهِ؟ فَقَالَ حَمْزَةُ: إِنَّ الْعَرَبَ إِذَا قُتِلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَالُوا قُتِلْنَا، وَإِذَا ضُرِبَ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَالُوا ضُرِبْنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْحَنَفِيَّةُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُلْتَجِئِ إِلَى الْحَرَمِ، وَقَالُوا: لَمَّا لَمْ يَجُزِ الْقَتْلُ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِسَبَبِ جِنَايَةِ الْكُفْرِ فَلِأَنْ لَا يَجُوزَ الْقَتْلُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِسَبَبِ الذَّنْبِ الَّذِي هُوَ دُونَ الْكُفْرِ كَانَ أَوْلَى، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ

[سورة البقرة (2) : آية 193]

ذِكْرُهُ، وَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ أَنَّ ذَلِكَ القتال لا يزول وَإِنِ انْتَهَوْا وَتَابُوا كَمَا ثَبَتَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْحُدُودِ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُزِيلُهُ، فَقَالَ تعالى بعد ما أَوْجَبَ الْقَتْلَ عَلَيْهِمْ: فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُمْ مَتَى انْتَهَوْا عَنْ ذَلِكَ سَقَطَ وُجُوبُ الْقَتْلِ عَنْهُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا/ يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الْأَنْفَالِ: 38] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنِ انْتَهَوْا عَنِ الْقِتَالِ وَقَالَ الْحَسَنُ: فَإِنِ انْتَهَوْا عَنِ الشِّرْكِ. حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ مَنْعُ الْكُفَّارِ عَنِ الْمُقَاتَلَةِ فَكَانَ قَوْلُهُ: فَإِنِ انْتَهَوْا مَحْمُولًا عَلَى تَرْكِ الْمُقَاتَلَةِ. حُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَنَالُ غُفْرَانَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ بِتَرْكِ الْقِتَالِ، بَلْ بِتَرْكِ الْكُفْرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الِانْتِهَاءُ عَنِ الْكُفْرِ لَا يَحْصُلُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: التَّوْبَةُ وَالْآخَرُ التَّمَسُّكُ بِالْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُقَالُ فِي الظَّاهِرِ لِمَنْ أَظْهَرَ الشَّهَادَتَيْنِ: إِنَّهُ انْتَهَى عَنِ الْكُفْرِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي حَقْنِ الدَّمِ فَقَطْ. أَمَّا الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَالْغُفْرَانِ والرحمة فَلَيْسَ إِلَّا مَا ذَكَرْنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ مَقْبُولَةٌ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: التَّوْبَةُ عَنِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ خَطَأٌ، لِأَنَّ الشِّرْكَ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، فَإِذَا قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَةَ الْكَافِرِ فَقَبُولُ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ أَوْلَى، وَأَيْضًا فَالْكَافِرُ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ جَمَعَ مَعَ كَوْنِهِ كَافِرًا كَوْنَهُ قَاتِلًا. فَلَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى قَبُولِ تَوْبَةِ كُلِّ كَافِرٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ تَوْبَتَهُ إِذَا كان قاتلا مقبولا والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 193] وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَوْمُ: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ [الْبَقَرَةِ: 191] وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْبِدَايَةَ بِالْمُقَاتَلَةِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ نَفَتْ حُرْمَتَهُ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ عَامَّةٌ وَلَكِنْ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْعَامَّ سَوَاءٌ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْمُخَصَّصِ أَوْ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَخْصُوصًا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِالْفِتْنَةِ هاهنا وُجُوهٌ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الشِّرْكُ وَالْكُفْرُ، قَالُوا: كَانَتْ فِتْنَتُهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَضْرِبُونَ وَيُؤْذُونَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ حَتَّى ذَهَبُوا إِلَى الْحَبَشَةِ ثُمَّ وَاظَبُوا عَلَى ذَلِكَ الْإِيذَاءِ حَتَّى ذَهَبُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ غَرَضُهُمْ مِنْ إِثَارَةِ تِلْكَ الْفِتْنَةِ أَنْ يَتْرُكُوا دِينَهُمْ وَيَرْجِعُوا كُفَّارًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَالْمَعْنَى: قَاتِلُوهُمْ حَتَّى تَظْهَرُوا عَلَيْهِمْ فَلَا يَفْتِنُوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ فَلَا تَقَعُوا فِي الشِّرْكِ وَثَانِيهَا: قَالَ أبو مسلم: معنى الفتنة هاهنا الْجُرْمُ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ/ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى لَا يَكُونَ مِنْهُمُ الْقِتَالُ الَّذِي إِذَا بدءوا بِهِ كَانَ فِتْنَةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِمَا يَخَافُونَ عِنْدَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَضَارِّ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُقَالُ: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ مَعَ عِلْمِنَا بِأَنَّ قِتَالَهُمْ لَا يُزِيلُ الْكُفْرَ وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ خَبَرَ اللَّهِ لَا يَكُونُ حَقًّا. قُلْنَا الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْأَغْلَبِ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ عِنْدَ قِتَالِهِمْ زَوَالُ الْكُفْرِ

[سورة البقرة (2) : آية 194]

وَالشِّرْكِ، لِأَنَّ مَنْ قُتِلَ فَقَدْ زَالَ كُفْرُهُ، وَمَنْ لَا يُقْتَلُ يُخَافُ مِنْهُ الثَّبَاتُ عَلَى الْكُفْرِ فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْأَغْلَبُ جَازَ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ. الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ قَاتِلُوهُمْ قَصْدًا مِنْكُمْ إِلَى زَوَالِ الْكُفْرِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُقَاتِلِ لِلْكُفَّارِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ هَذَا، وَلِذَلِكَ مَتَى ظَنَّ أَنَّ مَنْ يُقَاتِلُهُ يُقْلِعُ عَنِ الْكُفْرِ بِغَيْرِ الْقِتَالِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعُدُولُ عَنْهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى حَمْلِ الْفِتْنَةِ عَلَى الشِّرْكِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الشِّرْكِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَاسِطَةٌ وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ تَعَالَى هُوَ الْمَعْبُودَ الْمُطَاعَ دُونَ سَائِرِ مَا يُعْبَدُ وَيُطَاعُ غَيْرُهُ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَزُولَ الْكُفْرُ وَيَثْبُتَ الْإِسْلَامُ، وَحَتَّى يَزُولَ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْعِقَابِ وَيَحْصُلَ مَا يُؤَدِّي إِلَى الثَّوَابِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الْفَتْحِ: 16] وَفِي ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ بِالْقِتَالِ لِهَذَا الْمَقْصُودِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنِ انْتَهَوْا فَالْمُرَادُ: فَإِنِ انْتَهَوْا عَنِ الْأَمْرِ الَّذِي لِأَجْلِهُ وَجَبَ قِتَالُهُمْ، وَهُوَ إِمَّا كُفْرُهُمْ أَوْ قِتَالُهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الْأَنْفَالِ: 38] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ، أَيْ فَلَا قَتْلَ إِلَّا عَلَى الَّذِينَ لَا يَنْتَهُونَ عَلَى الْكُفْرِ فَإِنَّهُمْ بِإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ سُمِّيَ ذَلِكَ الْقَتْلُ عُدْوَانًا مَعَ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ حَقٌّ وَصَوَابٌ؟. قُلْنَا: لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَتْلَ جَزَاءُ الْعُدْوَانِ فَصَحَّ إِطْلَاقُ اسْمِ الْعُدْوَانِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ، ... وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ ... فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [لقمان: 13] وَالثَّانِي: إِنْ تَعَرَّضْتُمْ لَهُمْ بَعْدَ انْتِهَائِهِمْ عَنِ الشِّرْكِ وَالْقِتَالِ كُنْتُمْ أَنْتُمْ ظَالِمِينَ فَنُسَلِّطَ عَلَيْكُمْ من يعتدي عليكم. [سورة البقرة (2) : آية 194] الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) [في قوله تعالى الشهر الحرام بالشهر الحرام] اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَبَاحَ الْقِتَالَ وَكَانَ ذَلِكَ مُنْكَرًا فِيمَا بَيْنَهُمْ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُزِيلُ ذَلِكَ فَقَالَ: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ لِلْعُمْرَةِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ فَصَدَّهُ أَهْلُ مَكَّةَ عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ صَالَحُوهُ عَنْ أَنْ يَنْصَرِفَ ويعود في العالم الْقَابِلِ حَتَّى يَتْرُكُوا لَهُ مَكَّةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ وَهُوَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَدَخَلَ مَكَّةَ وَاعْتَمَرَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ يَعْنِي أَنَّكَ دَخَلْتَ الْحَرَمَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالْقَوْمُ كَانُوا صَدُّوكَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ فِي هَذَا الشَّهْرِ فَهَذَا الشَّهْرُ بِذَاكَ الشَّهْرِ وَثَانِيهَا: مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْكُفَّارَ سَمِعُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَأَرَادُوا مُقَاتَلَتَهُ وَظَنُّوا أنه لا يقاتلهم، وذلك قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ

[سورة البقرة (2) : آية 195]

وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْبَقَرَةِ: 217] فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ لِبَيَانِ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، فَقَالَ: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ أَيْ مَنِ اسْتَحَلَّ دَمَكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَاسْتَحِلُّوهُ فِيهِ وَثَالِثُهَا: مَا ذَكَرَهُ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَهُوَ أَنَّ الشَّهْرَ الْحَرَامَ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْكُمْ عَنِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، فَكَيْفَ يَمْنَعُنَا عَنْ مُقَاتَلَتِكُمْ، فَالشَّهْرُ الْحَرَامُ مِنْ جَانِبِنَا، مُقَابَلٌ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ مِنْ جَانِبِكُمْ، وَالْحَاصِلُ فِي الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ حُرْمَةَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَمَّا لَمْ تَمْنَعْهُمْ عَنِ الْكُفْرِ وَالْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ، فَكَيْفَ جَعَلُوهُ سَبَبًا فِي أَنْ يَمْنَعَ لِلْقِتَالِ مِنْ شَرِّهِمْ وَفَسَادِهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَالْحُرُمَاتُ جَمْعُ حُرْمَةٍ وَالْحُرْمَةُ مَا مُنِعَ مِنِ انْتِهَاكِهِ وَالْقِصَاصُ الْمُسَاوَاةُ وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَعُودُ تِلْكَ الْوُجُوهُ. أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُرُمَاتِ: الشَّهْرُ الْحَرَامُ، والبلد الحرام، وحرمة الإحرام فقوله: الْحُرُماتُ قِصاصٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَمَّا أَضَاعُوا هَذِهِ الْحُرُمَاتِ في سنة ست فقد وقفتم حَتَّى قَضَيْتُمُوهُ عَلَى زَعْمِكُمْ فِي سَنَةِ سَبْعٍ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ: إِنْ أَقْدَمُوا عَلَى مُقَاتَلَتِكُمْ فَقَاتِلُوهُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَعَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْتَهِكُوا هَذِهِ الْحُرُمَاتِ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْقِصَاصِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا تُقاتِلُوهُمْ/ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ [الْبَقَرَةِ: 191] وَبِمَا بَعْدَهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ. أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ: فَقَوْلُهُ: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ يَعْنِي حُرْمَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّهْرَيْنِ كَحُرْمَةِ الْآخَرِ فَهُمَا مِثْلَانِ، وَالْقِصَاصُ هُوَ الْمِثْلُ فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْكُمْ حُرْمَةُ الشَّهْرِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفِتْنَةِ وَالْقِتَالِ فَكَيْفَ يَمْنَعُنَا عَنِ الْقِتَالِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَالْمُرَادُ مِنْهُ: الْأَمْرُ بِمَا يُقَابِلُ الِاعْتِدَاءَ مِنَ الْجَزَاءِ وَالتَّقْدِيرُ: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَقَابِلُوهُ، وَالسَّبَبُ فِي تَسْمِيَتِهِ اعْتِدَاءً قَدْ تَقَدَّمَ ثُمَّ قَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّقْوَى، ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ أَيْ بِالْمَعُونَةِ وَالنُّصْرَةِ وَالْحِفْظِ وَالْعِلْمِ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا فِي مَكَانٍ إِذْ لَوْ كَانَ جِسْمًا لَكَانَ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ، فَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ الْآخَرِ أَوْ يَكُونَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ وَبَعْضٌ مِنْ أَبْعَاضِهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ علوا كبيرا. [سورة البقرة (2) : آية 195] وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) [قوله تعالى وأنفقوا في سبيل الله] اعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْقِتَالِ وَالِاشْتِغَالُ بِالْقِتَالِ لَا يَتَيَسَّرُ إِلَّا بِالْآلَاتِ وَأَدَوَاتٍ يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الْمَالِ، وَرُبَّمَا كَانَ ذُو الْمَالِ عَاجِزًا عَنِ الْقِتَالِ وَكَانَ الشُّجَاعُ الْقَادِرُ عَلَى الْقِتَالِ فَقِيرًا عَدِيمَ الْمَالِ، فَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَغْنِيَاءَ بِأَنْ يُنْفِقُوا عَلَى الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ يَقْدِرُونَ عَلَى الْقِتَالِ وَالثَّانِي: يُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [البقرة: 194] قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْحَاضِرِينَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا زَادٌ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُطْعِمُنَا فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْ

يَتَصَدَّقُوا وَأَنْ لَا يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عَنِ الصَّدَقَةِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ تُحْمَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَهْلِكُوا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وَفْقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْفَاقَ هُوَ صَرْفُ الْمَالِ إِلَى وُجُوهِ الْمَصَالِحِ، فَلِذَلِكَ لَا يُقَالُ فِي الْمُضَيِّعِ: إِنَّهُ مُنْفِقٌ فَإِذَا قَيَّدَ الْإِنْفَاقَ بِذِكْرِ سَبِيلِ اللَّهِ، فَالْمُرَادُ به في طريق الدين، لأن السَّبِيلُ هُوَ الطَّرِيقُ، وَسَبِيلُ اللَّهِ هُوَ دِينُهُ. فَكُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي دِينِهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ سَوَاءٌ كَانَ إِنْفَاقًا فِي حَجٍّ/ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ كَانَ جِهَادًا بِالنَّفْسِ، أَوْ تَجْهِيزًا لِلْغَيْرِ، أَوْ كَانَ إِنْفَاقًا فِي صِلَةِ الرَّحِمِ، أَوْ فِي الصَّدَقَاتِ أَوْ عَلَى الْعِيَالِ، أَوْ فِي الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ، أَوْ عِمَارَةِ السَّبِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ الْأَقْرَبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْجِهَادِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْإِنْفَاقُ فِي الْجِهَادِ، بَلْ قَالَ: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا كَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْعِلَّةِ فِي وُجُوبِ هَذَا الْإِنْفَاقِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَالَ مَالُ اللَّهِ فَيَجِبُ إِنْفَاقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا سَمِعَ ذِكْرَ اللَّهِ اهْتَزَّ وَنَشِطَ فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ إِنْفَاقُ الْمَالِ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ وَقْتَ ذَهَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ لِقَضَاءِ الْعُمْرَةِ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْعُمْرَةُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تُفْضِيَ إِلَى الْقِتَالِ إِنْ مَنَعَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَكَانَتْ عُمْرَةً وَجِهَادًا، وَاجْتَمَعَ فِيهِ الْمَعْنَيَانِ، فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ: وَأَنْفِقُوا فِي الْجِهَادِ وَالْعُمْرَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ التَّهْلُكَةِ الْهَلَاكُ يُقَالُ: هَلَكَ يَهْلِكُ هَلَاكًا وَهَلَكًا وَتَهْلُكَةً: قَالَ الْخَارْزَنْجِيُّ: لَا أَعْلَمُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَصْدَرًا عَلَى تَفْعُلَةٍ بِضَمِّ الْعَيْنِ إِلَّا هَذَا، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ: التَّنْصُرَةَ وَالتَّسْتُرَةَ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْمِثَالُ اسْمًا غَيْرَ مَصْدَرٍ، قَالَ: وَلَا نَعْلَمُهُ جَاءَ صِفَةً قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَصْلُهُ التَّهْلِكَةُ، كَالتَّجْرِبَةِ وَالتَّبْصِرَةِ عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرٌ هَكَذَا فَأُبْدِلَتِ الضَّمَّةُ بِالْكَسْرَةِ، كَمَا جَاءَ الْجُوَارُ فِي الْجِوَارِ. وَأَقُولُ: إِنِّي لَأَتَعَجَّبُ كَثِيرًا مِنْ تَكَلُّفَاتِ هَؤُلَاءِ النَّحْوِيِّينَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَوْ وَجَدُوا شِعْرًا مَجْهُولًا يَشْهَدُ لَمَا أَرَادُوهُ فَرِحُوا بِهِ، وَاتَّخَذُوهُ حُجَّةً قَوِيَّةً، فَوُرُودُ هَذَا اللَّفْظِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَشْهُودِ لَهُ مِنَ الْمُوَافِقِ وَالْمُخَالِفِ بِالْفَصَاحَةِ، أَوْلَى بِأَنْ يَدُلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَاسْتِقَامَتِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: بِأَيْدِيكُمْ تَقْتَضِي إِمَّا زِيَادَةً أَوْ نُقْصَانًا فَقَالَ قَوْمٌ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تُلْقُوا أَيْدِيَكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. وَهُوَ كَقَوْلِهِ: جَذَبْتُ الثَّوْبَ بِالثَّوْبِ، وَأَخَذْتُ الْقَلَمَ بِالْقَلَمِ فَهُمَا لُغَتَانِ مُسْتَعْمَلَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْأَيْدِي الْأَنْفُسُ كَقَوْلِهِ: بِما قَدَّمَتْ يَداكَ [الْحَجِّ: 10] أَوْ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشُّورَى: 30] فَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تُلْقُوا بِأَنْفُسِكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بل هاهنا حَذْفٌ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تُلْقُوا أَنْفُسَكُمْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى نَفْسِ النَّفَقَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى غَيْرِهَا، أَمَّا الأولون فذكروا فيه وجوه الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يُنْفِقُوا فِي مُهِمَّاتِ الْجِهَادِ أَمْوَالَهُمْ، فَيَسْتَوْلِيَ الْعَدُوُّ عَلَيْهِمْ وَيُهْلِكَهُمْ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: إن كنت من رجال الدين فأنفق مَالَكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي طَلَبِ مَرْضَاتِهِ، وَإِنْ كُنْتَ مِنْ رِجَالِ الدُّنْيَا/ فَأَنْفِقْ مَالَكَ فِي دَفْعِ الْهَلَاكِ وَالضَّرَرِ عَنْ نَفْسِكَ

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِالْإِنْفَاقِ نَهَاهُ عَنْ أَنْ يُنْفِقَ كُلَّ مَالِهِ، فَإِنَّ إِنْفَاقَ كُلِّ الْمَالِ يُفْضِي إِلَى التَّهْلُكَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ الشَّدِيدَةِ إِلَى الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً [الشورى: 67] وَفِي قَوْلِهِ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الْإِسْرَاءِ: 29] وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: الْمُرَادُ مِنْهُ غَيْرُ النَّفَقَةِ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنْ يُخِلُّوا بِالْجِهَادِ فَيَتَعَرَّضُوا لِلْهَلَاكِ الَّذِي هُوَ عَذَابُ النَّارِ فَحَثَّهُمْ بِذَلِكَ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْجِهَادِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ [الْأَنْفَالِ: 42] وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ أَيْ لَا تَقْتَحِمُوا فِي الْحَرْبِ بِحَيْثُ لَا تَرْجُونَ النَّفْعَ، وَلَا يَكُونُ لَكُمْ فِيهِ إِلَّا قَتْلُ أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ، وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَقْتَحِمَ إِذَا طَمِعَ فِي النِّكَايَةِ وَإِنْ خَافَ الْقَتْلَ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ آيِسًا مِنَ النِّكَايَةِ وَكَانَ الْأَغْلَبُ أَنَّهُ مَقْتُولٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مَنْقُولٌ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ الرَّجُلُ يَسْتَقِلُّ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ طَعَنَ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ وَقَالَ: هَذَا الْقَتْلُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حَمَلَ عَلَى صَفِّ الْعَدُوِّ فَصَاحَ بِهِ النَّاسُ فَأَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ نَحْنُ أَعْلَمُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِينَا: صَحِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصَرْنَاهُ وَشَهِدْنَا مَعَهُ الْمَشَاهِدَ فَلَمَّا قَوِيَ الْإِسْلَامُ وكثر أهله رجعنا إلى أهالينا وأموالنا وتصالحنا، فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَتَرْكَ الْجِهَادِ وَالثَّانِي: رَوَى الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم ذَكَرَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَرَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ قُتِلْتُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا؟ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَكَ الْجَنَّةُ» فَانْغَمَسَ فِي جَمَاعَةِ الْعَدُوِّ فَقَتَلُوهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ، وَأَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَلْقَى دِرْعًا كَانَتْ عَلَيْهِ حِينَ ذَكَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجَنَّةَ ثُمَّ انْغَمَسَ فِي الْعَدُوِّ فَقَتَلُوهُ وَالثَّالِثُ: رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ تَخَلَّفَ عَنْ بَنِي مُعَاوِيَةَ فَرَأَى الطَّيْرَ عُكُوفًا عَلَى مَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لِبَعْضِ مَنْ مَعَهُ سَأَتَقَدَّمُ إِلَى الْعَدُوِّ فَيَقْتُلُونَنِي وَلَا أَتَخَلَّفُ عَنْ مَشْهَدٍ قُتِلَ فِيهِ أَصْحَابِي، فَفَعَلَ ذَلِكَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ فِيهِ قَوْلًا حَسَنًا الرَّابِعُ: رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا حَاصَرُوا حِصْنًا، فَقَاتَلَ رَجُلٌ حَتَّى قُتِلَ فَقِيلَ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ فَبَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ فَقَالَ: كَذَبُوا أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 207] وَلِمَنْ نَصَرَ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ أَنْ يُجِيبَ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَيَقُولَ: إِنَّا إِنَّمَا حَرَّمْنَا إِلْقَاءَ النَّفْسِ فِي صَفِّ الْعَدُوِّ إِذَا لَمْ يُتَوَقَّعْ إِيقَاعُ نِكَايَةٍ مِنْهُمْ، فَأَمَّا إِذَا تُوُقِّعَ فَنَحْنُ نُجَوِّزُ ذَلِكَ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ يُوجَدُ هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْوَقَائِعِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [الْبَقَرَةِ: 194] أَيْ فَإِنْ/ قَاتَلُوكُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَقَاتِلُوهُمْ فِيهِ فَإِنَّ الْحُرُمَاتِ قِصَاصٌ، فَجَازُوا اعْتِدَاءَهُمْ عَلَيْكُمْ وَلَا تَحْمِلَنَّكُمْ حُرْمَةُ الشَّهْرِ عَلَى أَنْ تَسْتَسْلِمُوا لِمَنْ قَاتَلَكُمْ فَتَهْلِكُوا بِتَرْكِكُمُ الْقِتَالَ فَإِنَّكُمْ بِذَلِكَ تَكُونُونَ مُلْقِينَ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تَقُولُوا إِنَّا نَخَافُ الْفَقْرَ إِنْ أَنْفَقْنَا فَنَهْلِكُ وَلَا يَبْقَى مَعَنَا شَيْءٌ، فَنُهُوا أَنْ يَجْعَلُوا أَنْفُسَهُمْ هَالِكِينَ بِالْإِنْفَاقِ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْجَعْلِ وَالْإِلْقَاءِ الْحُكْمُ بِذَلِكَ كَمَا يُقَالُ جَعَلَ فُلَانٌ فُلَانًا هَالِكًا وَأَلْقَاهُ فِي الْهَلَاكِ إِذَا حَكَمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْوَجْهُ الْخَامِسُ: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ الرَّجُلُ يُصِيبُ الذَّنْبَ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ مَعَهُ عَمَلٌ فَذَاكَ هُوَ إِلْقَاءُ النَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنِ الْقُنُوطِ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى تَرْكِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ الْوَجْهُ السَّادِسُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا ذَلِكَ الْإِنْفَاقَ فِي التَّهْلُكَةِ وَالْإِحْبَاطِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَفْعَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ الْإِنْفَاقِ فِعْلًا يُحْبِطُ ثَوَابَهُ إِمَّا بتذكير

[سورة البقرة (2) : آية 196]

الْمِنَّةِ أَوْ بِذِكْرِ وُجُوهِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ [مُحَمَّدٍ: 33] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُحْسِنَ مُشْتَقٌّ مِنْ مَاذَا وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلِ الْحُسْنِ وَأَنَّهُ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَنْ يَنْفَعُ غَيْرَهُ بِنَفْعٍ حَسَنٍ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِحْسَانَ حَسَنٌ فِي نَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالضَّرْبُ وَالْقَتْلُ إِذَا حَسُنَا كَانَ فَاعِلُهُمَا مُحْسِنًا الثَّانِي: أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِحْسَانِ، فَفَاعِلُ الْحُسْنِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُحْسِنًا إِلَّا إِذَا كَانَ فِعْلُهُ حَسَنًا وَإِحْسَانًا مَعًا، فَالِاشْتِقَاقُ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَأَحْسِنُوا فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ الْأَصَمُّ: أَحْسِنُوا فِي فَرَائِضِ اللَّهِ وَثَانِيهَا: وَأَحْسِنُوا فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ تَلْزَمُكُمْ مُؤْنَتُهُ وَنَفَقَتُهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْإِنْفَاقُ وَسَطًا فَلَا تُسْرِفُوا وَلَا تُقَتِّرُوا، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ لِاتِّصَالِهِ بِمَا قَبْلَهُ وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فهو ظاهر وقد تقدم تفسيره مرارا. [سورة البقرة (2) : آية 196] وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْحَجَّ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَصْدِ وَإِنَّمَا يُقَالُ: حَجَّ فُلَانٌ الشَّيْءَ إِذَا قَصَدَهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَأَدَامَ الِاخْتِلَافَ إِلَيْهِ وَالْحِجَّةُ بِكَسْرِ الْحَاءِ السَّنَةُ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا حِجَّةٌ لِأَنَّ النَّاسَ يَحُجُّونَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَهُوَ اسْمٌ لِأَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْهَا أَرْكَانٌ وَمِنْهَا أَبْعَاضٌ وَمِنْهَا هَيْئَاتٌ، فَالْأَرْكَانُ مَا لَا يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ وَالْأَبْعَاضُ هِيَ الْوَاجِبَاتُ الَّتِي إِذَا تُرِكَ شَيْءٌ يُجْبَرُ بِالدَّمِ، وَالْهَيْئَاتُ مَا لَا يَجِبُ الدَّمُ عَلَى تَرْكِهَا، وَالْأَرْكَانُ عِنْدَنَا خَمْسَةٌ: الْإِحْرَامُ وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَفِي حَلْقِ الرَّأْسِ أَوْ تَقْصِيرِهِ قَوْلَانِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ نُسُكٌ لَا يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ إِلَّا بِهِ، وَأَمَّا الْأَبْعَاضُ فَهِيَ الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ وَالْمُقَامُ بِعَرَفَةَ إِلَى الْغُرُوبِ فِي قَوْلٍ وَالْبَيْتُوتَةُ بِمُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ فِي قَوْلٍ وَرَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَالْبَيْتُوتَةُ بِمِنَى لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ فِي قَوْلٍ وَرَمِيُ أَيَّامِهَا. وَأَمَّا سَائِرُ أَعْمَالِ الْحَجِّ فَهِيَ سُنَّةٌ. وَأَمَّا أَرْكَانُ الْعُمْرَةِ فَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْإِحْرَامُ، وَالطَّوَافُ، وَالسَّعْيُ، وَفِي الْحَلْقِ قَوْلَانِ، ثم المعتمر بعد ما فَرَغَ مِنَ السَّعْيِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ ذَبَحَهُ ثُمَّ حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ، وَلَا يَتَوَقَّفُ التَّحَلُّلُ عَلَى ذَبْحِ الْهَدْيِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا أَمْرٌ بِالْإِتْمَامِ، وَهَلْ هَذَا الْأَمْرُ مُطْلَقٌ أَوْ مَشْرُوطٌ بِالدُّخُولِ فِيهِ، ذَهَبَ أَصْحَابُنَا إِلَى أَنَّهُ مُطْلَقٌ، وَالْمَعْنَى: افْعَلُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ عَلَى نَعْتِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ مَشْرُوطٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِيهِ فَلْيُتِمَّهُ قَالُوا: وَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ لَا يَكُونَ الدُّخُولُ فِي الشَّيْءِ وَاجِبًا إِلَّا أَنَّ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ يَكُونُ إِتْمَامُهُ وَاجِبًا، وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ الْعُمْرَةَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وغير واجبة عن أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حُجَّةُ أَصْحَابِنَا مِنْ وُجُوهٍ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ الْإِتْمَامَ قَدْ يُرَادُ بِهِ فِعْلُ الشَّيْءِ كَامِلًا تَامًّا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ إِذَا شَرَعْتُمْ فِي الْفِعْلِ فَأَتِمُّوهُ، وَإِذَا ثَبَتَ الِاحْتِمَالُ وَجَبَ أَنْ يكون المراد

مِنْ هَذَا اللَّفْظِ هُوَ ذَاكَ، أَمَّا بَيَانُ الِاحْتِمَالِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [الْبَقَرَةِ: 124] أَيْ فَعَلَهُنَّ عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [الْبَقَرَةِ: 187] أَيْ فَافْعَلُوا الصِّيَامَ تَامًّا إِلَى اللَّيْلِ، وَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ فَاشْرَعُوا فِي الصِّيَامِ ثُمَّ أَتِمُّوهُ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يُحْتَاجُ إِلَى الْإِضْمَارِ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِتْيَانَ بِهِ عَلَى نَعْتِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّكُمْ إِذَا شَرَعْتُمْ فِيهِ فَأَتِمُّوهُ، إِلَّا أَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَوْلَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ/ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْأَمْرُ مَشْرُوطًا، وَيَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ إِنْ شَرَعْتُمْ فِيهِمَا، وَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ الَّذِي نَصَرْنَاهُ لَا يُحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ هَذَا الشَّرْطِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى وَالثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيرِ ذَكَرُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْحَجِّ فَحَمْلُهَا عَلَى إِيجَابِ الْحَجِّ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْإِتْمَامِ بِشَرْطِ الشُّرُوعِ فِيهِ الثَّالِثُ: قَرَأَ بَعْضُهُمْ وَأَقِيمُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قِرَاءَةً شَاذَّةً جَارِيَةً مَجْرَى خَبَرِ الْوَاحِدِ لَكِنَّهُ بِالِاتِّفَاقِ صَالِحٌ لِتَرْجِيحِ تَأْوِيلٍ عَلَى تَأْوِيلٍ الرَّابِعُ: أَنَّ الْوَجْهَ الَّذِي نَصَرْنَاهُ يُفِيدُ وُجُوبَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَيُفِيدُ وُجُوبَ إِتْمَامِهِمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا، وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ لَا يُفِيدُ إِلَّا أَصْلَ الْوُجُوبِ، فَكَانَ الَّذِي نَصَرْنَاهُ أَكْبَرَ فَائِدَةً، فَكَانَ حَمْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ أَوْلَى الْخَامِسُ: أَنَّ الْبَابَ بَابُ الْعِبَادَةِ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِيهِ أَوْلَى، وَالْقَوْلُ بِإِيجَابِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا أَقْرَبُ إِلَى الِاحْتِيَاطِ، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ السَّادِسُ: هَبْ أَنَّا نَحْمِلُ اللَّفْظَ عَلَى وُجُوبِ الْإِتْمَامِ، لَكِنَّا نَقُولُ: اللَّفْظُ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْإِتْمَامِ جَزْمًا، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ فَكَانَ الْإِتْمَامُ وَاجِبًا جَزْمًا وَالْإِتْمَامُ مَسْبُوقٌ بِالشُّرُوعِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ وَكَانَ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشُّرُوعُ وَاجِبًا فِي الْحَجِّ وَفِي الْعُمْرَةِ السَّابِعُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَقَرِينَتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، أَيْ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَقَرِينَةُ الْحَجِّ فِي الْأَمْرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ يَعْنِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ فكان كقوله: أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [البقرة: 43] فَهَذَا تَمَامُ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْحُجَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: قَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالشَّعْبِيُّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ بِالرَّفْعِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَصَدُوا إِخْرَاجَ الْعُمْرَةِ عَنْ حُكْمِ الْحَجِّ فِي الْوُجُوبِ. قُلْنَا: هَذَا مَدْفُوعٌ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ فَلَا تُعَارِضُ الْقِرَاءَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ، الثَّانِي: أَنَّ فِيهَا ضَعْفًا فِي الْعَرَبِيَّةِ، لِأَنَّهَا تَقْتَضِي عَطْفَ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعُمْرَةَ عِبَادَةُ اللَّهِ، وَمُجَرَّدُ كَوْنِهَا عِبَادَةَ اللَّهِ لَا يُنَافِي وُجُوبَهَا، وَإِلَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ مَدْلُولِ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ مَعْنَاهُ: وَالْعُمْرَةُ عِبَادَةُ اللَّهِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعُمْرَةُ مَأْمُورًا بِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ [الْبَيِّنَةِ: 5] وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ [التَّوْبَةِ: 3] يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ حَجٍّ أَصْغَرَ عَلَى مَا عَلَيْهِ حَقِيقَةُ أَفْعَلَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا الْعُمْرَةُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعُمْرَةَ حَجٌّ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَلِقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آلِ عِمْرَانَ: 97] . الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ مِنْهَا مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُتَّفَقِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ جِبْرِيلَ

عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ/ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ وَتَعْتَمِرَ، وَرَوَى النُّعْمَانُ بْنُ سَالِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَوْسٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فقال: إن أبي شيخ كفي أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ، وَلَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَلَا الظَّعْنَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ، فَأَمَرَ بِهِمَا، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَمِنْهَا مَا رَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرْضَانِ لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِمَا بَدَأْتَ» وَمِنْهَا ما روت عائشة رضي الله عنها بنت طلحة عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْحَجِّ، وَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْعُمْرَةُ وَاجِبَةً لَكَانَ الْأَشْبَهُ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى الْحَجِّ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ، وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: الْعُمْرَةُ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وُجُوهٌ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَصَدَ الْأَعْرَابِيُّ الَّذِي سَأَلَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ فَعَلَّمَهُ الصَّلَاةَ، وَالزَّكَاةَ، وَالْحَجَّ، وَالصَّوْمَ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُ هَذَا؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعْ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَفْلَحَ الْأَعْرَابِيُّ إِنْ صَدَقَ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «صَلُّوا خَمْسَكُمْ وَزَكُّوا أَمْوَالَكُمْ وَحُجُّوا بَيْتَكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» فَهَذِهِ أَخْبَارٌ مَشْهُورَةٌ كَالْمُتَوَاتِرَةِ فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا وَلَا رَدُّهَا، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سئل عن الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: لَا وَإِنْ تَعْتَمِرْ خَيْرٌ لَكَ، وَعَنْ مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْحَنَفِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» . وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ أَخْبَارٌ آحَادٌ فَلَا تُعَارِضُ الْقُرْآنَ وَثَانِيهَا: لَعَلَّ العمرة ما كانت واجبة عند ما ذَكَرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَهَا قَوْلُهُ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قِصَّةَ الْأَعْرَابِيِّ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْرِ الْحَجِّ وَلَيْسَ فِيهَا بَيَانُ تَفْصِيلِ الْحَجِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعُمْرَةَ حَجٌّ لِأَنَّهَا هِيَ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ، فَلَا تَكُونُ هِيَ مُنَافِيَةً لِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ فَقَالُوا: رِوَايَةُ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَجَّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْإِفْرَادُ، وَالْقِرَانُ، وَالتَّمَتُّعُ، فَالْإِفْرَادُ أَنْ يَحُجَّ ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ يَعْتَمِرُ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ، أَوْ يعتمر قبل أشهر الحج، ثُمَّ يَحُجُّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، / وَالْقِرَانُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ بِأَنْ يَنْوِيَهُمَا بِقَلْبِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ قَبْلَ الطَّوَافِ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ يَصِيرُ قِرَانًا، وَالتَّمَتُّعُ هُوَ أَنَّ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَأْتِي بِأَعْمَالِهَا ثُمَّ يَحُجُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ تَمَتُّعًا لِأَنَّهُ يَسْتَمْتِعُ بِمَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ عَنِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأَفْضَلِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَفْضَلُهَا الْإِفْرَادُ ثُمَّ التَّمَتُّعُ ثُمَّ الْقِرَانُ وَقَالَ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنَ الْإِفْرَادِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْقِرَانُ أَفْضَلُ، ثُمَّ الْإِفْرَادُ، ثُمَّ التَّمَتُّعُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ وَالْمَرْوَزِيِّ

مِنْ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الْقِرَانُ أَفْضَلُ، ثُمَّ التَّمَتُّعُ، ثُمَّ الْإِفْرَادُ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ عَطْفَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ، وَالْعَطْفُ يَسْتَدْعِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَالْمُغَايِرَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الْإِفْرَادِ، فَأَمَّا عِنْدَ الْقِرَانِ فَالْمَوْجُودُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ حَجٌّ وَعُمْرَةٌ وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ الْعَطْفِ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ يَقْتَضِي الْإِفْرَادَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَالْقَارِنُ يَلْزَمُهُ هَدْيَانِ عِنْدَ الْحَصْرِ، وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْخَلْقِ عِنْدَ الْأَدَاءِ فِدْيَةً وَاحِدَةً، وَالْقَارِنُ يَلْزَمُهُ فِدْيَتَانِ عِنْدَ الْحَصْرِ الثَّالِثُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِتْمَامِ، وَالْإِتْمَامُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الْإِفْرَادِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ السَّفَرَ مَقْصُودٌ فِي الْحَجِّ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجُّ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُحَجُّ مِنْ وَطَنِهِ، وَلَوْلَا أَنَّ السَّفَرَ مَقْصُودٌ فِي الْحَجِّ لَكَانَ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ أَدْنَى الْمَوَاقِيتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُمْ قَالُوا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا وَحَجَّ رَاكِبًا يَلْزَمُهُ دَمٌ، فَثَبَتَ أَنَّ السَّفَرَ مَقْصُودٌ وَالْقِرَانُ يَقْتَضِي تَقْلِيلَ السَّفَرِ، لِأَنَّ بِسَبَبِهِ يَصِيرُ السَّفَرَانِ سَفَرًا وَاحِدًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِتْمَامَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْإِفْرَادِ الثَّانِي: أَنَّ الْحَجَّ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا زِيَارَةُ بِقَاعٍ مُكَرَّمَةٍ، وَمَشَاهِدٍ مُشَرَّفَةٍ، وَالْحَاجُّ زَائِرُ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مَزُورُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ الزِّيَارَةُ وَالْخِدْمَةُ أَكْثَرَ كَانَ مَوْقِعُهَا عِنْدَ الْمَخْدُومِ أَعْظَمَ، وَعِنْدَ الْقِرَانِ تَنْقَلِبُ الزِّيَارَتَانِ زِيَارَةً وَاحِدَةً، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ جُمْلَةَ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ فِي الْحَجِّ وَفِي الْعُمْرَةِ تُكَرَّرُ عِنْدَ الْإِفْرَادِ، وَتَصِيرُ وَاحِدَةً عِنْدَ الْقِرَانِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِفْرَادَ أَقْرَبُ إِلَى التَّمَامِ، فَكَانَ الْإِفْرَادُ إِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْكُمْ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ كَوْنِهِ أَفْضَلَ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: فِي بَيَانِ أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ: أَنَّ الْإِفْرَادَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ آتِيًا بِالْحَجِّ مَرَّةً، ثُمَّ بِالْعُمْرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَتَكُونُ الْأَعْمَالُ الشَّاقَّةُ فِي الْإِفْرَادِ أَكْثَرَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا» أَيْ أَشَقُّهَا. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُفْرِدًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِفْرَادُ أَفْضَلَ، أَمَّا قَوْلُنَا: إِنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا فَاعْلَمْ أَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفَتْ رِوَايَاتُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ بِالْحَجِّ، وَرَوَى جَابِرٌ وَابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ أَفْرَدَ، وَأَمَّا أَنَسٌ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ وَاقِفًا عِنْدَ جِرَانِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ لُعَابُهَا يَسِيلُ عَلَى كَتِفِي، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ «لَبَّيْكَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ مَعًا» ثُمَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَّحَ رِوَايَةَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَجَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ عَلَى رِوَايَةِ أَنَسٍ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: بِحَالِ الرُّوَاةِ، أَمَّا عَائِشَةُ فَلِأَنَّهَا كَانَتْ عَالِمَةً، وَمَعَ عِلْمِهَا كَانَتْ أَشَدَّ النَّاسِ الْتِصَاقًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَشَدَّ النَّاسِ وُقُوفًا عَلَى أَحْوَالِهِ، وَأَمَّا جَابِرٌ فَإِنَّهُ كَانَ أَقْدَمَ صُحْبَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَسٍ، وَإِنَّ أَنَسًا كَانَ صَغِيرًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَبْلَ الْعِلْمِ، وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ فِقْهِهِ أَقْرَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ أُخْتَهُ حَفْصَةَ كَانَتْ زَوْجَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّانِي: أَنَّ عَدَمَ الْقِرَانِ مُتَأَكِّدٌ بِالِاسْتِصْحَابِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْإِفْرَادَ يَقْتَضِي تَكْثِيرَ الْعِبَادَةِ، وَالْقِرَانَ يَقْتَضِي تَقْلِيلَهَا، فَكَانَ إِلْحَاقُ الْإِفْرَادِ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْلَى، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُفْرِدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِفْرَادُ أَفْضَلَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَخْتَارُ الْأَفْضَلَ لِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» أَيْ تَعَلَّمُوا مِنِّي. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْإِفْرَادَ يَقْتَضِي تَكْثِيرَ الْعِبَادَةِ، وَالْقِرَانَ يَقْتَضِي تَقْلِيلَهَا، فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ

مِنْ خَلْقِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ هُوَ الْعِبَادَةُ، وَكُلُّ ما كان أفضى إلى تكثير كَانَ أَفْضَلَ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَهَذَا اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِيجَابَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِيجَابَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ، فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ لَا يُفِيدُ الثَّانِي، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الثَّانِي أَفَادَ الْأَوَّلَ، فَكَانَ الثَّانِي أَكْثَرَ فَائِدَةً، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَوْلَى حَمْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى مَا يَكُونُ أَكْثَرَ فَائِدَةً. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْقِرَانَ جَمْعٌ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ الْإِتْيَانِ بِنُسُكٍ وَاحِدٍ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ فِي الْقِرَانِ مُسَارَعَةً إلى التسكين وفي الإفراد ترك مسارعة إلى أحد التسكين فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقِرَانُ أَفْضَلَ لِقَوْلِهِ: وَسارِعُوا [آلِ عِمْرَانَ: 133] . وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ دَلَالَةَ مَا هُوَ أَكْثَرُ فَائِدَةً عَلَى الْإِفْرَادِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ فَمُجَرَّدُ حُسْنِ ظَنٍّ حَيْثُ قُلْتُمْ: حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ فَائِدَةً أَوْلَى وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ التَّرْجِيحُ لِقَوْلِنَا. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ: أَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ الْقَارِنُ يَفْعَلُهُ الْمُفْرِدُ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّ الْقِرَانَ كَانَ/ حِيلَةً فِي إِسْقَاطِ الطَّاعَةِ فَيَنْتَهِي الْأَمْرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُرَخَّصًا فِيهِ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ فَلَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَقُولُ إِنَّ الْحَجَّةَ الْمُفْرَدَةَ بِلَا عُمْرَةٍ أَفْضَلُ مِنَ الْحَجَّةِ الْمَقْرُونَةِ لَكِنَّهُ يَقُولُ: مَنْ أَتَى بِالْحَجِّ فِي وَقْتِهِ ثُمَّ بِالْعُمْرَةِ فِي وَقْتِهَا فَمَجْمُوعُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَفْضَلُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِالْحَجَّةِ الْمَقْرُونَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْإِتْمَامِ فِي قَوْلِهِ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ إِتْمَامَهُمَا أَنْ يُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ نَوَى الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ مَنَعَ الْكُفَّارُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ عَنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ لَا يَرْجِعَ حَتَّى يُتِمَّ هَذَا الْفَرْضَ، وَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ فَائِدَةٌ فِقْهِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ تَطَوُّعَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَفَرْضَيْهِمَا فِي وُجُوبِ الْإِتْمَامِ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْأَصَمُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ثُمَّ أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يُتِمُّوا الْآدَابَ الْمُعْتَبَرَةَ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْإِحْيَاءِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ فَقَالَ: الْأُمُورُ الْمُعْتَبَرَةُ قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى الْإِحْرَامِ ثَمَانِيَةٌ الْأَوَّلُ: فِي الْمَالِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ بِالتَّوْبَةِ، وَرَدِّ الْمَظَالِمِ، وَقَضَاءِ الدُّيُونِ، وَإِعْدَادِ النَّفَقَةِ لِكُلِّ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ إِلَى وَقْتِ الرُّجُوعِ، وَيَرُدَّ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْوَدَائِعِ، وَيَسْتَصْحِبَ مِنَ الْمَالِ الطَّيِّبِ الْحَلَالِ مَا يَكْفِيهِ لِذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْتِيرٍ بَلْ عَلَى وَجْهٍ يُمَكِّنُهُ مِنَ التَّوَسُّعِ فِي الزَّادِ وَالرِّفْقِ بِالْفُقَرَاءِ، وَيَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ قَبْلَ خُرُوجِهِ، وَيَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ دَابَّةً قَوِيَّةً عَلَى الْحَمْلِ أَوْ يَكْتَرِيَهَا، فَإِنِ اكْتَرَاهَا فَلْيُظْهِرْ لِلْمُكَارِي كُلَّ مَا يَحْصُلُ رِضَاهُ فِيهِ الثَّانِي: فِي الرَّفِيقِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْتَمِسَ رَفِيقًا صَالِحًا مُحِبًّا لِلْخَيْرِ، مُعِينًا عَلَيْهِ، إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ سَاعَدَهُ، وَإِنْ جَبُنَ شَجَّعَهُ، وَإِنْ عَجَزَ قَوَّاهُ وَإِنْ ضَاقَ صَدْرُهُ صَبَّرَهُ، وَأَمَّا الْإِخْوَانُ وَالرُّفَقَاءُ الْمُقِيمُونَ فَيُوَدِّعُهُمْ، وَيَلْتَمِسُ أَدْعِيَتَهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي دُعَائِهِمْ خَيْرًا، وَالسُّنَّةُ فِي الْوَدَاعِ أَنْ يَقُولَ: أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ الثَّالِثُ: فِي الْخُرُوجِ مِنَ الدَّارِ، فَإِذَا هَمَّ بِالْخُرُوجِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى بعد الفاتحة

قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الْكَافِرُونَ: 1] وَفِي الثَّانِيَةِ الْإِخْلَاصَ وَبَعْدَ الْفَرَاغِ يَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ بِالْإِخْلَاصِ، الرَّابِعُ: إِذَا حَصَلَ عَلَى بَابِ الدَّارِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَكُلَّمَا كَانَتِ الدَّعْوَاتُ أَزْيَدَ كَانَتْ أَوْلَى الْخَامِسُ: فِي الرُّكُوبِ، فَإِذَا رَكِبَ الرَّاحِلَةَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لم يشاء لَمْ يَكُنْ، سُبْحَانَ اللَّهِ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ السَّادِسُ: فِي النُّزُولِ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ سَيْرِهِ بِاللَّيْلِ، وَلَا يَنْزِلُ حَتَّى يَحْمَى النَّهَارُ، وَإِذَا نَزَلَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا اللَّهَ كَثِيرًا السَّابِعُ: إِنْ قَصَدَهُ عَدُوٌّ أَوْ سَبُعٌ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، فَلْيَقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ، وَشَهِدَ اللَّهُ، وَالْإِخْلَاصَ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَيَقُولُ: تَحَصَّنْتُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَاسْتَعَنْتُ بِالْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، الثامنة: مَهْمَا عَلَا شَرَفًا مِنَ الْأَرْضِ فِي الطَّرِيقِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَبِّرَ ثَلَاثًا التَّاسِعُ: أَنْ لَا يَكُونُ هَذَا السَّفَرُ مَشُوبًا بِشَيْءٍ مِنْ أَثَرِ الْأَغْرَاضِ الْعَاجِلَةِ كَالتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا الْعَاشِرُ: أَنْ يَصُونَ الْإِنْسَانُ لِسَانَهُ عَنِ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ، ثُمَّ بَعَدَ الْإِتْيَانِ بِهَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ، يَأْتِي بِجَمِيعِ أَرْكَانِ الْحَجِّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَصَحِّ الْأَقْرَبِ إِلَى مُوَافَقَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَكُونُ غَرَضُهُ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأُمُورِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَوْلُهُ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ كَلِمَةٌ شَامِلَةٌ جَامِعَةٌ لِهَذِهِ الْمَعَانِي، فَإِذَا أَتَى الْعَبْدُ بِالْحَجِّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ مُتَّبِعًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [الْبَقَرَةِ: 124] . الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ أَنَّ الْمُرَادَ: أَفْرِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَفَرٍ وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ بِالْإِفْرَادِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ بِالدَّلِيلِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ يُرْوَى مَرْفُوعًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَانَ عُمَرُ يَتْرُكُ الْقِرَانَ وَالتَّمَتُّعَ، وَيَذْكُرُ أَنَّ ذَلِكَ أَتَمُّ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَأَنْ يَعْتَمِرَ فِي غَيْرِ شُهُورِ الْحَجِّ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [الْبَقَرَةِ: 197] وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: فَرِّقُوا بَيْنَ حَجِّكِمْ وَعُمْرَتِكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وابن كثير وأبو عامر وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ الْحَجَّ بِفَتْحِ الْحَاءِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ بِالْكَسْرِ فِي آلِ عِمْرَانَ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَرَطْلٍ وَرِطْلٍ، وَقِيلَ: بِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ، وَبِالْكَسْرِ الِاسْمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: أَصْلُ الْحَصْرِ وَالْإِحْصَارِ: الْحَبْسُ وَمِنْهُ يُقَالُ لِلَّذِي لَا يَبُوحُ بِسِرِّهِ: حَصَرَ. لِأَنَّهُ حَبَسَ نَفْسَهُ عَنِ الْبَوْحِ وَالْحَصْرُ احْتِبَاسُ الْغَائِطِ وَالْحَصِيرُ الْمَلِكُ لِأَنَّهُ كَالْمَحْبُوسِ بَيْنَ الْحُجَّابِ وَفِي شِعْرِ لَبِيَدٍ: جِنٌّ لَدَى بَابِ الْحَصِيرِ قِيَامُ وَالْحَصِيرُ مَعْرُوفٌ سُمِّيَ بِهِ لِانْضِمَامِ بَعْضِ أَجْزَائِهِ إِلَى بَعْضٍ تَشْبِيهًا بِاحْتِبَاسِ الشَّيْءِ مَعَ غَيْرِهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْحَصْرِ مَخْصُوصٌ بِمَنْعِ الْعَدُوِّ إِذَا مَنَعَهُ عَنْ مُرَادِهِ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، أَمَّا لَفْظُ الْإِحْصَارِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَابْنِ السِّكِّيتِ وَالزَّجَّاجِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ وَأَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمَرَضِ، قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ أَحْصَرَهُ الْمَرَضُ إِذَا مَنَعَهُ مِنَ السَّفَرِ وَقَالَ

ثَعْلَبٌ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ: أُحْصِرَ بِالْمَرَضِ وَحُصِرَ بِالْعَدُوِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الْإِحْصَارِ يُفِيدُ الْحَبْسَ وَالْمَنْعَ، سَوَاءٌ كَانَ بِسَبَبِ الْعَدُوِّ أَوْ بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمَنْعِ الْحَاصِلِ مِنْ جِهَةِ الْعَدُوِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، فَإِنَّهُمَا قَالَا: لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرُ الْعَدُوِّ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ/ يَرُدُّونَ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفَائِدَةُ هَذَا الْبَحْثِ تَظْهَرُ فِي مَسْأَلَةٍ فِقْهِيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْإِحْصَارِ عِنْدَ حَبْسِ الْعَدُوِّ ثَابِتٌ، وَهَلْ يَثْبُتُ بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَسَائِرِ الْمَوَانِعِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَثْبُتُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَثْبُتُ. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرَةٌ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا: الَّذِينَ قَالُوا: الْإِحْصَارُ مُخْتَصٌّ بِالْحَبْسِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ فَقَطْ، وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ نَصًّا صَرِيحًا فِي أَنَّ إِحْصَارَ الْمَرَضِ يُفِيدُ هَذَا الْحُكْمَ وَالثَّانِي: الَّذِينَ قَالُوا الْإِحْصَارُ اسْمٌ لِمُطْلَقِ الْحَبْسِ سَوَاءٌ كَانَ حَاصِلًا بِسَبَبِ الْمَرَضِ أَوْ بِسَبَبِ الْعَدُوِّ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ تَكُونُ ظَاهِرَةً أَيْضًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ الْحُكْمَ عَلَى مُسَمَّى الْإِحْصَارِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا عِنْدَ حُصُولِ الْإِحْصَارِ سَوَاءٌ حَصَلَ بِالْعَدُوِّ أَوْ بِالْمَرَضِ وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ: وَهُوَ أَنَّ الْإِحْصَارَ اسْمٌ لِلْمَنْعِ الْحَاصِلِ بِالْعَدُوِّ، فَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَنَحْنُ نَقِيسُ الْمَرَضَ عَلَى الْعَدُوِّ بِجَامِعِ دَفْعِ الْحَرَجِ وَهَذَا قِيَاسٌ جَلِيٌّ ظَاهِرٌ فَهَذَا تَقْرِيرُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ، وَأَمَّا تَقْرِيرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَهُوَ أَنَّا نَدَّعِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْعُ الْعَدُوِّ فَقَطْ، وَالرِّوَايَاتُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مُعَارَضَةٌ بِالرِّوَايَاتِ الْمَنْقُولَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُمَا أَوْلَى لِتَقَدُّمِهِمَا عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَدْنَى فِي مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ وَفِي مَعْرِفَةِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ إِنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نُؤَكِّدُ هَذَا الْقَوْلَ بِوُجُوهٍ مِنَ الدَّلَائِلِ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الْإِحْصَارَ إِفْعَالٌ مِنَ الْحَصْرِ وَالْإِفْعَالُ تَارَةً يَجِيءُ بِمَعْنَى التَّعْدِيَةِ نَحْوَ: ذَهَبَ زَيْدٌ وَأَذْهَبْتُهُ أَنَا، وَيَجِيءُ بِمَعْنَى صَارَ ذَا كَذَا نَحْوَ: أَغَدَّ الْبَعِيرُ إِذَا صَارَ ذَا غُدَّةٍ، وَأَجْرَبَ الرَّجُلُ إِذَا صَارَ ذَا إِبِلٍ جَرْبَى وَيَجِيءُ بِمَعْنَى وَجَدْتُهُ بِصِفَةِ كَذَا نَحْوَ: أَحَمَدْتُ الرَّجُلَ أَيْ وَجَدْتُهُ مَحْمُودًا وَالْإِحْصَارُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْدِيَةِ، فَوَجَبَ إِمَّا حَمْلُهُ عَلَى الصَّيْرُورَةِ أَوْ عَلَى الْوِجْدَانِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ صَارُوا مَحْصُورِينَ أَوْ وُجِدُوا مَحْصُورِينَ، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَحْصُورَ هُوَ الْمَمْنُوعُ بِالْعَدُوِّ لَا بِالْمَرَضِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْإِحْصَارِ هُوَ أَنَّهُمْ صَارُوا مَمْنُوعِينَ بِالْعَدُوِّ، أَوْ وُجِدُوا مَمْنُوعِينَ بِالْعَدُوِّ، وَذَلِكَ يُؤَكِّدُ مَذْهَبَنَا. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْحَصْرَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَنْعِ وَإِنَّمَا يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ إِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ فِعْلِهِ وَمَحْبُوسٌ عَنْ مُرَادِهِ، إِذَا كَانَ قَادِرًا عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ مَنَعَهُ مَانِعٌ عَنْهُ، وَالْقُدْرَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ اعْتِدَالِ الْمِزَاجِ وَسَلَامَةِ الْأَعْضَاءِ، وَذَلِكَ مَفْقُودٌ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ فَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ الْبَتَّةَ عَلَى الْفِعْلِ، فَيَسْتَحِيلُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ، لِأَنَّ إِحَالَةَ الْحُكْمِ عَلَى الْمَانِعِ تَسْتَدْعِي حُصُولَ الْمُقْتَضِي، أَمَّا إِذَا كَانَ مَمْنُوعًا بِالْعَدُوِّ فَهَهُنَا الْقُدْرَةُ عَلَى الْفِعْلِ حَاصِلَةٌ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الْفِعْلُ لِأَجْلِ مُدَافَعَةِ العدو، فصح هاهنا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْفِعْلِ، فَثَبَتَ أَنَّ لَفْظَةَ الْإِحْصَارِ حَقِيقَةٌ فِي الْعَدُوِّ، / وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْمَرَضِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أُحْصِرْتُمْ أَيْ حُبِسْتُمْ وَمُنِعْتُمْ وَالْحَبْسُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَابِسٍ، وَالْمَنْعُ لَا بُدَّ

لَهُ مِنْ مَانِعٍ، وَيُمْتَنَعُ وَصْفُ الْمَرَضِ بِكَوْنِهِ حَابِسًا وَمَانِعًا، لِأَنَّ الْحَبْسَ وَالْمَنْعَ فِعْلٌ، وَإِضَافَةُ الْفِعْلِ إِلَى الْمَرَضِ مُحَالٌ عَقْلًا، لِأَنَّ الْمَرَضَ عَرَضٌ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ، فَكَيْفَ يَكُونُ فَاعِلًا وَحَابِسًا وَمَانِعًا، أَمَّا وَصْفُ الْعَدُوِّ بِأَنَّهُ حَابِسٌ وَمَانِعٌ، فَوَصْفٌ حَقِيقِيٌّ، وَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَجَازِهِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْإِحْصَارَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَصْرِ وَلَفْظُ الْحَصْرِ لَا إِشْعَارَ فِيهِ بِالْمَرَضِ، فَلَفْظُ الْإِحْصَارِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنِ الْإِشْعَارِ بِالْمَرَضِ قِيَاسًا عَلَى جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَقَّةِ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَعَطَفَ عَلَيْهِ الْمَرِيضَ، فَلَوْ كَانَ الْمُحْصَرُ هُوَ الْمَرِيضُ أَوْ مَنْ يَكُونُ الْمَرَضُ دَاخِلًا فِيهِ، لَكَانَ هَذَا عَطْفًا لِلشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ خَصَّ هَذَا الْمَرَضَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ لَهُ حُكْمًا خَاصًّا، وَهُوَ حَلْقُ الرَّأْسِ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ إِنْ مُنِعْتُمْ بِمَرَضٍ تَحَلَّلْتُمْ بِدَمٍ، وَإِنْ تَأَذَّى رَأْسُكُمْ بِمَرَضٍ حَلَقْتُمْ وَكَفَّرْتُمْ. قُلْنَا: هَذَا وَإِنْ كَانَ حَسَنًا لِهَذَا الْغَرَضِ، إِلَّا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَلْزَمُ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُحْصَرُ مُفَسَّرًا بِالْمَرِيضِ، لَمْ يَلْزَمْ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، فَكَانَ حَمْلُ الْمُحْصَرِ عَلَى غَيْرِ الْمَرِيضِ يُوجِبُ خُلُوَّ الْكَلَامِ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ وَلَفْظُ الْأَمْنِ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَوْفِ مِنَ الْعَدُوِّ لَا فِي الْمَرَضِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ فِي الْمَرَضِ: شُفِيَ وَعُفِيَ وَلَا يُقَالُ أَمِنَ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْنِ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْخَوْفِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: أَمِنَ الْمَرِيضُ مِنَ الْهَلَاكِ وَأَيْضًا خُصُوصُ آخِرِ الْآيَةِ لَا يَقْدَحُ فِي عُمُومِ أَوَّلِهَا. قُلْنَا: لَفْظُ الْأَمْنِ إِذَا كَانَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا الْأَمْنَ مِنَ الْعَدُوِّ، وَقَوْلُهُ خُصُوصُ آخَرِ الْآيَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ أَوَّلِهَا. قُلْنَا: بَلْ يُوجِبُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِذا أَمِنْتُمْ ليس فيه بيان أنه حصل الأمن مما ذا، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حُصُولَ الْأَمْنِ مِنْ شَيْءٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَالَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ هُوَ الْإِحْصَارُ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: فَإِذَا أَمِنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ الْإِحْصَارِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْنِ لَا يُطْلَقُ إِلَّا فِي حَقِّ الْعَدُوِّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْإِحْصَارِ مَنْعَ الْعَدُوِّ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ الْإِحْصَارَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ مَنْعُ الْعَدُوِّ فَقَطْ، أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَنْعُ الْمَرَضِ صَاحَبَهُ خَاصَّةً فَهُوَ بَاطِلٌ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ أَحْصَرُوا النَّبِيَّ/ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَالنَّاسُ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْآيَةَ النَّازِلَةَ فِي سَبَبٍ هَلْ تَتَنَاوَلُ غَيْرَ ذَلِكَ السَّبَبِ؟ إِلَّا أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ السَّبَبُ خَارِجًا عَنْهُ، فَلَوْ كَانَ الْإِحْصَارُ اسْمًا لِمَنْعِ الْمَرَضِ، لَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ خَارِجًا عَنْهَا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِحْصَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِبَارَةٌ عَنْ مَنْعِ الْعَدُوِّ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا يُمْكِنُ قِيَاسُ مَنْعِ الْمَرَضِ عَلَيْهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ: إِنْ، شَرْطٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَحُكْمُ الشَّرْطِ انْتِفَاءُ الْمَشْرُوطِ عَنِ انْتِفَائِهِ ظَاهِرًا، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَثْبُتَ الْحُكْمُ إِلَّا فِي الْإِحْصَارِ الَّذِي دلت الآية عليه، فلو أثبتا هَذَا الْحُكْمَ فِي غَيْرِهِ قِيَاسًا كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا لِلنَّصِّ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْعٌ لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ قَصْدًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا جَامَعَ امْرَأَتَهُ حَتَّى فَسَدَ حَجُّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ حَتَّى لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَالْمَرَضُ لَيْسَ كَالْعَدُوِّ، وَلِأَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَسْتَفِيدُ بِتَحَلُّلِهِ وَرُجُوعِهِ أَمْنًا مِنْ مَرَضِهِ، أَمَّا الْمُحْصَرُ بِالْعَدُوِّ فَإِنَّهُ خَائِفٌ مِنَ الْقَتْلِ إِنْ أَقَامَ، فَإِذَا رَجَعَ فَقَدْ تَخَلَّصَ مِنْ خَوْفِ الْقَتْلِ، فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِالتَّفْسِيرِ أَمَّا قَوْلُهُ: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَحَلَلْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [الْبَقَرَةِ: 184] أَيْ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ، وَفِيهَا إِضْمَارٌ آخَرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ كَلَامٌ غَيْرُ تَامٍّ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِضْمَارٍ، ثُمَّ فِيهِ احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: مَحَلُّ، مَا: رَفْعٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَوَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مَا اسْتَيْسَرَ وَالثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: لَوْ نَصَبْتَ عَلَى مَعْنَى: اهْدُوا مَا تَيَسَّرَ كَانَ صَوَابًا، وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَشْبَاهِهِ مَرْفُوعٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَيْسَرَ بِمَعْنَى تَيَسَّرَ، وَمِثْلُهُ: اسْتَعْظَمَ، أَيْ تَعَظَّمَ وَاسْتَكْبَرَ: أَيْ تَكَبَّرَ، وَاسْتَصْعَبَ: أَيْ تَصَعَّبَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْهَدْيِ جَمْعُ هَدْيَةٍ، كَمَا تَقُولُ: تَمْرٌ وَتَمْرَةٌ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: أَهْلُ الْحِجَازِ يُخَفِّفُونَ الْهَدْيِ وَتَمِيمٌ تُثَقِّلُهُ، فَيَقُولُونَ: هَدِيَّةٌ، وَهَدِيٌّ وَمَطِيَّةٌ، وَمَطِيٌّ، قَالَ الشَّاعِرُ: حَلَفْتُ بِرَبِّ مَكَّةَ وَالْمُصَلَّى ... وَأَعْنَاقِ الْهَدِيِّ مُقَلَّدَاتِ وَمَعْنَى الْهَدْيِ: مَا يُهْدَى إِلَى بَيْتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ، بِمَنْزِلَةِ الْهَدِيَّةِ يُهْدِيهَا الْإِنْسَانُ إِلَى غَيْرِهِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الْهَدْيُ أَعْلَاهُ بَدَنَةٌ، وَأَوْسَطُهُ بَقَرَةٌ، وَأَخَسُّهُ شَاةٌ، فَعَلَيْهِ مَا تَيَسَّرَ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُحْصَرُ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْهَدْيِ، هَلْ لَهُ بَدَلٌ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ؟ لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا بَدَلَ لَهُ وَيَكُونُ الْهَدْيُ فِي ذِمَّتِهِ أَبَدًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، / وَالْحُجَّةُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْمُحْصَرِ الْهَدْيَ عَلَى التَّعْيِينِ، وَمَا أَثْبَتَ لَهُ بَدَلًا وَالثَّانِي: أَنَّ لَهُ بَدَلًا يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ فَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ: هَلْ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ فِي الْحَالِ أَوْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُقِيمُ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَجِدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَالثَّانِي: أَنْ يَتَحَلَّلَ فِي الْحَالِ لِلْمَشَقَّةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي فَفِيهِ اخْتِلَافَاتٌ كَثِيرَةٌ وَأَقْرَبُهَا أَنْ يُقَالَ: يَقُومُ الْهَدْيُ بِالدَّرَاهِمِ وَيُشْتَرَى بِهَا طَعَامٌ وَيُؤَدَّى، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْهَدْيِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمُحْصَرُ إِذَا أَرَادَ التَّحَلُّلَ وَذَبَحَ، وَجَبَ أَنْ يَنْوِيَ التَّحَلُّلَ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَلَا يَتَحَلَّلَ الْبَتَّةَ قَبْلَ الذَّبْحِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْعُمْرَةِ فَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ قَالُوا حُكْمُهَا فِي الْإِحْصَارِ كَحُكْمِ الْحَجِّ وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ لَا إِحْصَارَ فِيهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ، وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ مَذْكُورٌ عَقِيبَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَكَانَ عَائِدًا إِلَيْهِمَا.

أما قوله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ حَذْفٌ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَتَحَلَّلُ بِبُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ بَلْ لَا يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ إِلَّا بِالنَّحْرِ فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ وَيُنْحَرَ فَإِذَا نُحِرَ فَاحْلِقُوا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: يَجُوزُ إِرَاقَةُ دَمِ الْإِحْصَارِ لَا فِي الْحَرَمِ، بَلْ حَيْثُ حُبِسَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الْحَرَمِ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ الْبَحْثُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: الْمَحِلُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْمٌ لِلزَّمَانِ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ التَّحَلُّلُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّهُ اسْمٌ لِلْمَكَانِ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَنَحَرَ بِهَا، وَالْحُدَيْبِيَةُ لَيْسَتْ مِنَ الْحَرَمِ، قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ إِنَّهُ إِنَّمَا أُحْصِرَ فِي طَرَفِ الْحُدَيْبِيَةِ الَّذِي هُوَ أَسْفَلُ مَكَّةَ، وَهُوَ مِنَ الْحَرَمِ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: الْحُدَيْبِيَةُ عَلَى طَرَفِ الْحَرَمِ عَلَى تِسْعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ، أَجَابَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فَقَالَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ نَحْرَ ذَلِكَ الْهَدْيِ مَا وَقَعَ فِي الْحَرَمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الْفَتْحِ: 25] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْكُفَّارَ مَنَعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِبْلَاغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ الَّذِي كَانَ يُرِيدُهُ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ نَحَرُوا ذَلِكَ الْهَدْيَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمُحْصَرَ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحِلِّ أَوْ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِنَحْرِ الْهَدْيِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَمَكَّنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ مِنْ نَحْرِ الْهَدْيِ. بَيَانُ الْمَقَامِ الْأَوَّلِ: أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ مُحْصَرًا سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحِلِّ/ أَوْ فِي الْحَرَمِ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ مَعْنَاهُ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهدي نحره وَاجِبٌ، أَوْ مَعْنَاهُ فَانْحَرُوا مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ نَحْرَ الْهَدْيِ وَاجِبٌ عَلَى الْمُحْصَرِ سَوَاءٌ كَانَ مُحْصَرًا فِي الْحِلِّ أَوْ فِي الْحَرَمِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ الذَّبْحُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ بِالشَّيْءِ أَوَّلُ دَرَجَاتِهِ أَنْ يَجُوزَ لَهُ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُحْصَرُ قَادِرًا عَلَى إِرَاقَةِ الدَّمِ حَيْثُ أُحْصِرَ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا مَكَّنَ الْمُحْصَرَ مِنَ التَّحَلُّلِ بِالذَّبْحِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ تَخْلِيصِ النَّفْسِ عَنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ فِي الْحَالِ، فَلَوْ لَمْ يَجُزِ النَّحْرُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ وَمَا لَمْ يَحْصُلِ النَّحْرُ لَا يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ التَّحَلُّلُ فِي الْحَالِ، وَذَلِكَ يُنَاقِضُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ هَذَا الْحُكْمِ، وَلِأَنَّ الْمُوصِلَ لِلنَّحْرِ إِلَى الْحَرَمِ إِنْ كَانَ هُوَ فَقَدْ نُفِيَ الْخَوْفُ، وَكَيْفَ يُؤْمَنُ بِهَذَا الْفِعْلِ مِنْ قِيَامِ الْخَوْفِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَقَدْ لَا يَجِدُ ذَلِكَ الْغَيْرَ فَمَاذَا يَفْعَلُ؟ حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَحِلَّ بِكَسْرِ عَيْنِ الْفِعْلِ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَكَانِ، كَالْمَسْجِدِ وَالْمَجْلِسِ فَقَوْلُهُ: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ بَالِغٍ فِي الْحَالِ إِلَى مَكَانِ الْحِلِّ، وَهُوَ عِنْدَكُمْ بَالِغٌ مَحِلَّهُ فِي الْحَالِ، جَوَابُهُ: الْمَحِلُّ عِبَارَةٌ عَنِ الزَّمَانِ وَأَنَّ مِنَ الْمَشْهُورِ أَنَّ مَحِلَّ الدَّيْنِ هُوَ وَقْتُ وُجُوبِهِ الثَّانِي: هَبْ أَنَّ لَفْظَ

الْمَحِلِّ يَحْتَمِلُ الْمَكَانَ وَالزَّمَانَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَزَالَ هَذَا الِاحْتِمَالَ بِقَوْلِهِ ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الْحَجِّ: 33] وَفِي قَوْلِهِ: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [الْمَائِدَةِ: 95] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْحَرَمُ فَإِنَّ الْبَيْتَ عَيْنَهُ لَا يُرَاقُ فِيهِ الدِّمَاءُ. جَوَابُهُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُلُّ مَا وَجَبَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي مَالِهِ مِنْ بَدَنَةٍ وَجَزَاءِ هَدْيٍ فَلَا يُجْزِي إِلَّا فِي الْحَرَمِ لِمَسَاكِينِ أَهْلِهِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَنْ سَاقَ هَدْيًا فَعَطَفَ فِي طَرِيقِهِ ذَبَحَهُ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسَاكِينِ وَالثَّانِي: دَمُ الْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ فَإِنَّهُ يَنْحَرُ حَيْثُ حُبِسَ، فَالْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا فِي سَائِرِ الدِّمَاءِ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهَا تَتَنَاوَلُ هَذِهِ الصُّورَةَ الثَّالِثُ: قَالُوا: الْهَدْيُ سُمِّيَ هَدْيًا لِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْهَدِيَّةِ الَّتِي يَبْعَثُهَا الْعَبْدُ إِلَى رَبِّهِ، وَالْهَدِيَّةُ لَا تَكُونُ هَدِيَّةً إِلَّا إِذَا بَعَثَهَا الْمُهْدِي إِلَى دَارِ الْمُهْدَى إِلَيْهِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بِجَعْلِ مَوْضِعِ الْهَدْيِ هُوَ الْحَرَمُ. جَوَابُهُ: هَذَا التَّمَسُّكُ بِالِاسْمِ ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَفْضَلِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ الرَّابِعُ: أَنَّ سَائِرَ دِمَاءِ الْحَجِّ كُلِّهَا قُرْبَةً كَانَتْ أَوْ كَفَّارَةً لَا تَصِحُّ إِلَّا فِي الْحَرَمِ، فَكَذَا هَذَا. جَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا الدَّمَ إِنَّمَا وَجَبَ لِإِزَالَةِ الْخَوْفِ وَزَوَالُ الْخَوْفِ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ حَيْثُ أُحْصِرَ، أَمَّا لَوْ وَجَبَ إِرْسَالُهُ إِلَى الْحَرَمِ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي سَائِرِ الدِّمَاءِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا فَيَحْلِقُوا رُؤُوسَهُمْ إِلَّا بَعْدَ تَقْدِيمِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ كَمَا أَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يُنَاجُوا الرَّسُولَ إلا بعد تقديم الصدقة. فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ كَعْبٌ: مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ فِي شَعْرِ رَأْسِي كَثِيرٌ مِنَ الْقَمْلِ وَالصِّئْبَانِ وَهُوَ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ احْلِقْ رَأْسَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا تَأَذَّى بِالْمَرَضِ أَوْ بِهَوَامِّ رَأْسِهِ أُبِيحَ لَهُ الْمُدَاوَاةُ وَالْحَلْقُ بِشَرْطِ الْفِدْيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَفِدْيَةٌ رُفِعَ لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ، وَأَيْضًا فَفِيهِ إِضْمَارٌ آخَرُ وَالتَّقْدِيرُ: فَحَلَقَ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُحْصَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَبْلَ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ رُبَّمَا لَحِقَهُ مَرَضٌ أَوْ أَذًى فِي رَأْسِهِ إِنْ صَبَرَ فَاللَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ بِشَرْطِ بَذْلِ الْفِدْيَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ الْكَلَامُ مُسْتَأْنَفٌ لِكُلِّ مُحْرِمٍ لَحِقَهُ الْمَرَضُ فِي بَدَنِهِ فَاحْتَاجَ إِلَى عِلَاجٍ أَوْ لَحِقَهُ أَذًى فِي رَأْسِهِ فَاحْتَاجَ إِلَى الْحَلْقِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْفِدْيَةِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَرَضُ قَدْ يُحْوِجُ إِلَى اللِّبَاسِ، فَتَكُونُ الرُّخْصَةُ فِي اللِّبَاسِ كَالرُّخْصَةِ فِي الْحَلْقِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِغَيْرِ الْمَرَضِ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ وَمَا شَاكَلَهُ فَأُبِيحَ لَهُ بِشَرْطِ الْفِدْيَةِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ أَيْضًا إِلَى اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرَاضِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ ذَاكَ، وَأَمَّا مَنْ يَكُونُ بِهِ أَذًى/ مَنْ رَأْسِهِ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْقَمْلِ وَالصِّئْبَانِ وَقَدْ يَكُونُ بِسَبَبِ الصُّدَاعِ وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْ حُدُوثِ مَرَضٍ أَوْ أَلَمٍ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُقَدِّمُ الْفِدْيَةَ ثُمَّ يَتَرَخَّصُ أَوْ يُؤَخِّرُ الْفِدْيَةَ عَنِ التَّرَخُّصِ وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يُؤَخِّرُ الْفِدْيَةَ عَنِ التَّرَخُّصِ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى التَّرَخُّصِ كَالْعِلَّةِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، وَأَيْضًا فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: فَحَلَقَ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ، وَلَا يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ إِلَّا عَلَى هَذَا الْحَدِّ، فَإِذَنْ يَجِبُ تَأْخِيرُ الْفِدْيَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَالْمُرَادُ أَنَّ تِلْكَ الْفِدْيَةَ أَحَدُ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَصْلُ النُّسُكِ الْعِبَادَةُ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ النُّسُكُ سَبَائِكُ الْفِضَّةِ كُلُّ سَبِيكَةٍ مِنْهَا نَسِيكَةٌ، ثُمَّ قِيلَ لِلْمُتَعَبِّدِ: نَاسِكٌ لِأَنَّهُ خَلَّصَ نَفْسَهُ مِنْ دَنَسِ الْآثَامِ وَصَفَّاهَا كَالسَّبِيكَةِ الْمُخَلَّصَةِ مِنَ الْخَبَثِ، هَذَا أَصْلُ مَعْنَى النُّسُكِ، ثُمَّ قِيلَ لِلذَّبِيحَةِ: نسك مِنْ أَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اتَّفَقُوا فِي النُّسُكِ عَلَى أَنَّ أَقَلَّهُ شَاةٌ، لِأَنَّ النُّسُكَ لَا يَتَأَدَّى إِلَّا بِأَحَدِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ: الْجَمَلُ، وَالْبَقَرَةُ، وَالشَّاةُ، وَلَمَّا كَانَ أَقَلُّهَا الشَّاةَ، لَا جَرَمَ كَانَ أَقَلُّ الْوَاجِبِ فِي النُّسُكِ هُوَ الشَّاةَ، أَمَّا الصِّيَامُ وَالْإِطْعَامُ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى كِمِّيَّتِهِمَا وَكَيْفِيَّتِهِمَا، وَبِمَاذَا يَحْصُلُ بَيَانُهُ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَصَلَ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا مَرَّ بِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ وَرَأَى كَثْرَةَ الْهَوَامِّ فِي رَأْسِهِ، قَالَ لَهُ: احْلِقْ ثُمَّ اذْبَحْ شَاةً نُسُكًا أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا قَالَا: الصِّيَامُ لِلْمُتَمَتِّعِ عَشْرَةُ أَيَّامٍ، وَالْإِطْعَامُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ، وَحُجَّتُهُمَا أَنَّ الصِّيَامَ وَالْإِطْعَامَ لَمَّا كَانَا مُجْمَلَيْنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَجَبَ حَمْلُهُمَا عَلَى الْمُفَسَّرِ فِيمَا جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي يَلْزَمُ الْمُتَمَتِّعَ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى حُكْمِ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ بعذر، أم مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ عَامِدًا بِغَيْرِ عُذْرٍ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَبِي حَنِيفَةَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ، وَقَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِعُذْرٍ، وَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ هَذَا الْحُكْمِ بِهَذِهِ الْأَعْذَارِ، وَالْمَشْرُوطُ بِالشَّيْءِ عُدِمَ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَهُ: فَإِذَا أَمِنْتُمْ مِنَ الْإِحْصَارِ، وَقَوْلُهُ: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى التَّمَتُّعِ التَّلَذُّذُ، يُقَالُ: تَمَتَّعَ بِالشَّيْءِ أَيْ تَلَذَّذَ بِهِ، وَالْمَتَاعُ: كُلُّ شَيْءٍ يُتَمَتَّعُ بِهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَبْلٌ مَاتِعٌ أَيْ طَوِيلٌ، وَكُلُّ مَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ مَعَ الشَّيْءِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ بِهِ، وَالْمُتَمَتِّعُ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ هُوَ أَنْ يَقْدُمَ مَكَّةَ فَيَعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ يُقِيمَ بِمَكَّةَ حَلَالًا يُنْشِئُ مِنْهَا الْحَجَّ، فَيَحُجُّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ مُتَمَتِّعًا لِأَنَّهُ يَكُونُ مُسْتَمْتِعًا بِمَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فِيمَا بَيْنَ تَحَلُّلِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ إِلَى إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ،

وَالتَّمَتُّعُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ صَحِيحٌ لَا كَرَاهَةَ فيه، وهاهنا نَوْعٌ آخَرُ مِنَ التَّمَتُّعِ مَكْرُوهٌ، وَهُوَ الَّذِي حَذَّرَ عَنْهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ: مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَأُعَاقِبُ عَلَيْهِمَا: مُتْعَةُ النِّسَاءِ وَمُتْعَةُ الْحَجِّ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْمُتْعَةِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ ثُمَّ يَفْسَخَ الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ وَيَتَمَتَّعَ بِهَا إِلَى الْحَجِّ، وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِأَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ نُسِخَ، رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ: مَا كَانَتْ مُتْعَةُ الْحَجِّ إِلَّا لِي خَاصَّةً، فَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَعُدُّونَهَا مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْطَالَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ عَلَيْهِمْ بَالَغَ فِيهِ بِأَنْ نَقَلَهُمْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنَ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ وَهَذَا سَبَبٌ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ فَسْخُ الْحَجِّ خَاصًّا بِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ أَيْ فَمَنْ يَتَمَتَّعُ بِسَبَبِ الْعُمْرَةِ فَكَأَنَّهُ لَا يَتَمَتَّعُ بِالْعُمْرَةِ وَلَكِنَّهُ يَتَمَتَّعُ بِمَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ بِسَبَبِ إِتْيَانِهِ بِالْعُمْرَةِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَصْحَابُنَا: لِوُجُوبِ دَمِ التَّمَتُّعِ خَمْسُ شَرَائِطَ أَحَدُهَا: أَنْ يُقَدِّمَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ وَالثَّانِي: أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَتَى بشيء من الطواف وإن كان شرطا وَاحِدًا ثُمَّ أَكْمَلَ بَاقِيَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَتَى بِأَعْمَالِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ فِي «الْأُمِّ» وَهُوَ الْأَصَحُّ: لَا يَلْزَمُهُ دَمُ التَّمَتُّعِ لِأَنَّهُ أَتَى بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، كَمَا لَوْ طَافَ قَبْلَهُ، وَقَالَ فِي «الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ» : يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَيَجْعَلُ اسْتِدَامَةَ الْإِحْرَامِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ كَابْتِدَائِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا أَتَى بِبَعْضِ الطَّوَافِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ إِذَا لَمْ يَأْتِ بِأَكْثَرِهِ الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَإِنْ حَجَّ فِي سَنَةٍ أُخْرَى لَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مُزَاحَمَةُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَاضِرُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَنْ كَانَ أَهْلُهُ عَلَى مَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَلَيْسَ مِنَ الْحَاضِرِينَ، وَهَذِهِ الْمَسَافَةُ تُعْتَبَرُ مِنْ مَكَّةَ أَوْ مِنَ الْحَرَمِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ/ جَوْفِ مَكَّةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعُمْرَةِ فَإِنْ عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَا يَلْزَمُهُ دَمُ التَّمَتُّعِ لِأَنَّ لُزُومَ الدَّمِ لِتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ وَلَمْ يُوجَدْ، فَهَذِهِ هِيَ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي لُزُومِ دَمِ التَّمَتُّعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَمُ التَّمَتُّعِ دَمُ جُبْرَانِ الْإِسَاءَةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّهُ دَمُ نُسُكٍ وَيَأْكُلُ مِنْهُ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ مِنْ وُجُوهٍ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ التَّمَتُّعَ حَصَلَ فِيهِ خَلَلٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الدَّمُ دَمَ جُبْرَانٍ، بَيَانُ حُصُولِ الْخَلَلِ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ الْأَوَّلُ: رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ كَانَ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: عَمَدْتَ إِلَى رُخْصَةٍ بِسَبَبِ الْحَاجَةِ وَالْغُرْبَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ نَقْصٍ فِيهَا الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ تَمَتُّعًا، وَالتَّمَتُّعُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّلَذُّذِ وَالِارْتِفَاعِ، وَمَبْنَى الْعِبَادَةِ عَلَى الْمَشَقَّةِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ فِي كَوْنِهِ عِبَادَةً نَوْعُ خَلَلٍ الثَّالِثُ: وَهُوَ بَيَانُ الْخَلَلِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ: أَنَّ فِي التَّمَتُّعِ صَارَ السَّفَرُ لِلْعُمْرَةِ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَكُونَ لِلْحَجِّ، فَإِنَّ الْحَجَّ الْأَكْبَرَ هُوَ الْحَجُّ، وَأَيْضًا حَصَلَ التَّرَفُّهُ وَقْتَ الْإِحْلَالِ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ خَلَلٌ، وَأَيْضًا كَانَ مِنْ حَقِّهِ جَعْلُ الْمِيقَاتِ لِلْحَجِّ، فَإِنَّهُ

أَعْظَمُ، فَلَمَّا جَعَلَ الْمِيقَاتَ لِلْعُمْرَةِ كَانَ ذَلِكَ نَوْعَ خَلَلٍ، وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُ الْخَلَلِ فِي هَذَا الْحَجِّ وَجَبَ جَعْلُ الدَّمِ دَمَ جُبْرَانٍ لَا دَمَ نُسُكٍ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الدَّمَ لَيْسَ بِنُسُكٍ أَصْلِيٍّ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ كَمَا لَوْ أَفْرَدَ بِهِمَا، وَكَمَا فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ لَا يُوجِبُ الدَّمَ أَيْضًا بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ لَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ هَذَا الدَّمَ لَيْسَ دَمَ نُسُكٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ دَمَ جُبْرَانٍ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْهَدْيَ عَلَى التَّمَتُّعِ بِلَا تَوْقِيتٍ، وَكَوْنُهُ غَيْرَ مُؤَقَّتٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ دَمُ جُبْرَانٍ لِأَنَّ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا مُؤَقَّتَةٌ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ لِلصَّوْمِ فِيهِ مَدْخَلًا، وَدَمُ النُّسُكِ لَا يُبْدَلُ بِالصَّوْمِ، وَإِذَا عَرَفْتَ صِحَّةَ مَا ذَكَرْنَا فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْزَمَ الْمُكَلَّفَ إِتْمَامَ الْحَجِّ فِي قَوْلِهِ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَقَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ حَجَّ التَّمَتُّعِ غَيْرُ تَامٍّ، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَمَتُّعَكُمْ يُوقِعُ نَقْصًا فِي حَجَّتِكُمْ فَاجْبُرُوهُ بِالْهَدْيِ لِتَكْمُلَ بِهِ حَجَّتُكُمْ فَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ مَفْهُومٌ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ وَهُوَ لَا يَتَقَرَّرُ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الدَّمُ الْوَاجِبُ بِالتَّمَتُّعِ: دَمُ شَاةٍ جَذَعَةٍ مِنَ الضَّأْنِ أَوْ ثَنِيَّةٍ مِنَ الْمَعْزِ، وَلَوْ تَشَارَكَ سِتَّةٌ فِي بقرة أو بدنة جاز، ووقت وجوبه بعد ما أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَجَبَ عَقِيبَ التَّمَتُّعِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَذْبَحَ يَوْمَ النَّحْرِ، فلو ذبح بعد ما أَحْرَمَ بِالْحَجِّ جَازَ لِأَنَّ التَّمَتُّعَ قَدْ تَحَقَّقَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ عِنْدَنَا دَمُ جُبْرَانٍ كَسَائِرِ دِمَاءِ الْجُبْرَانَاتِ، وَعِنْدَهُ دَمُ نُسُكٍ كَدَمِ الْأُضْحِيَّةِ فَيَخْتَصُّ/ بِيَوْمِ النَّحْرِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فالمعنى أن التمتع إِنْ وَجَدَ الْهَدْيَ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بَدَلَهُ مِنَ الصِّيَامِ، فَهَذَا الْهَدْيُ أَفْضَلُ أَمِ الصِّيَامُ؟ الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْمُبْدَلُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ أَفْضَلَ، لَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذَا الْبَدَلِ أَنَّهُ فِي الْكَمَالِ وَالثَّوَابِ كَالْهَدْيِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ نَصٌّ فِيمَا إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ، وَالْفُقَهَاءُ قَاسُوا عَلَيْهِ مَا إِذَا وَجَدَ الْهَدْيَ وَلَمْ يَجِدْ ثَمَنَهُ، أَوْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا، أَوْ يُبَاعُ بِثَمَنٍ غَالٍ فَهُنَا أَيْضًا يَعْدِلُ إِلَى الصَّوْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أَيْ فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَقْتَ اشْتِغَالِهِ بِالْحَجِّ وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ بَعْدَ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ إِحْرَامِ الْحَجِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَصِحُّ حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ صَامَ قَبْلَ وَقْتِهِ فَلَا يَجُوزُ كَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ قَبْلَهُ، وَكَمَا إِذَا صَامَ السَّبْعَةَ أَيَّامٍ قَبْلَ الرُّجُوعِ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ صَامَ قَبْلَ وَقْتِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَأَرَادَ بِهِ إِحْرَامَ الْحَجِّ، لِأَنَّ سَائِرَ أَفْعَالِ الْحَجِّ لَا تَصْلُحُ طَرَفًا لِلصَّوْمِ، وَالْإِحْرَامُ يَصْلُحُ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ الثَّانِي: أَنَّ مَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْهَدْيِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ، فَكَذَا لَا يَكُونُ وَقْتًا لِلصَّوْمِ الَّذِي هُوَ بدله اعتبار بِسَائِرِ الْأُصُولِ وَالْإِبْدَالِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْبَدَلَ حَالَ عَدَمِ الْأَصْلِ يَقُومُ مَقَامَهُ فَيَصِيرُ فِي

الْحُكْمِ كَأَنَّهُ الْأَصْلُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ فِي وَقْتٍ لَوْ وَجَدَ الْأَصْلَ لَمْ يَجُزْ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ النَّحْرِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ يَوْمَ النَّحْرِ وَلَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَلَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ» وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَصُومَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ حَيْثُ يَكُونُ يَوْمَ عَرَفَةَ مُفْطِرًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنَ الرُّجُوعِ فِي قَوْلِهِ: إِذا رَجَعْتُمْ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي «الْجَدِيدِ» : هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْمُرَادُ مِنَ الرُّجُوعِ الْفَرَاغُ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَالْأَخْذُ فِي الرُّجُوعِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا صَامَ الْأَيَّامَ السَّبْعَةَ بَعْدَ الرُّجُوعِ عَنِ الْحَجِّ، وَقَبْلَ الْوَصِيَّةِ إِلَى بَيْتِهِ، لَا يُجْزِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَيُجْزِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: إِذا رَجَعْتُمْ مَعْنَاهُ إِلَى الْوَطَنِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الرُّجُوعَ إِلَى الْوَطَنِ شَرْطًا وَمَا لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ لَمْ يُوجَدِ الْمَشْرُوطُ وَالرُّجُوعُ إِلَى الْوَطَنِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى الْوَطَنِ فَقَبْلَهُ لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُوجَدَ الْمَشْرُوطُ وَيَتَأَكَّدُ مَا قُلْنَا بِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى الْوَطَنِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ الثَّانِي: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْعَلُوا إِهَلَالَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً إِلَّا مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ» فَطُفْنَا/ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ، وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ، ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَلَمَّا فَرَغْنَا قَالَ: «عَلَيْكُمُ الْهَدْيَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَصِيَامُ ثَلَاثَةٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى أَمْصَارِكُمْ» الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَسْقَطَ الصَّوْمَ عَنِ الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ. فَصَوْمُ التَّمَتُّعِ أَخَفُّ شَأْنًا مِنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ سَبْعَةٍ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، كَقَوْلِهِ: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً [الْبَلَدِ: 14، 15] أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ فَقَدْ طَعَنَ الْمُلْحِدُونَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْلُومَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الثَّلَاثَةَ وَالسَّبْعَةَ عَشَرَةٌ فَذِكْرُهُ يَكُونُ إِيضَاحًا لِلْوَاضِحِ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: كامِلَةٌ يُوهِمُ وُجُودَ عَشَرَةٍ غَيْرِ كَامِلَةٍ فِي كَوْنِهَا عَشَرَةً وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَالْعُلَمَاءُ ذَكَرُوا أَنْوَاعًا مِنَ الْفَوَائِدِ فِي هَذَا الْكَلَامِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ لَيْسَ نَصًّا قَاطِعًا فِي الْجَمْعِ بَلْ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى أَوْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [النِّسَاءِ: 3] وَكَمَا فِي قَوْلِهِمْ: جَالِسِ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ أَيْ جَالِسْ هَذَا أَوْ هَذَا، فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قَوْلَهُ: عَشَرَةٌ كامِلَةٌ إِزَالَةً لِهَذَا الْوَهْمِ النَّوْعُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُعْتَادَ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ أَضْعَفَ حَالًا مِنَ المبدل كما في اليتيم مَعَ الْمَاءِ فَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْبَدَلَ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ كَامِلٌ فِي كَوْنِهِ قَائِمًا مَقَامَ الْمُبْدَلِ لِيَكُونَ الْفَاقِدُ لِلْهَدْيِ الْمُتَحَمِّلُ لِكُلْفَةِ الصَّوْمِ سَاكِنَ النَّفْسِ إِلَى مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ الْكَامِلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَذِكْرُ الْعَشَرَةِ إِنَّمَا هُوَ لِصِحَّةِ التَّوَصُّلِ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ: كامِلَةٌ كَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: تِلْكَ كَامِلَةٌ، جَوَّزَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الثَّلَاثَةُ الْمُفْرَدَةُ عَنِ السَّبْعَةِ، أَوِ السَّبْعَةُ الْمُفْرَدَةُ عَنِ الثَّلَاثَةِ، فَلَا بُدَّ فِي هَذَا مِنْ ذِكْرِ الْعَشَرَةِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: كامِلَةٌ يَحْتَمِلُ بَيَانَ الْكَمَالِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهَا كَامِلَةٌ فِي الْبَدَلِ عَنِ الْهَدْيِ قَائِمَةٌ مَقَامَهُ وَثَانِيهَا: أَنَّهَا كَامِلَةٌ فِي أَنَّ ثَوَابَ صَاحِبِهِ كَامِلٌ مِثْلُ ثَوَابِ مَنْ يَأْتِي بِالْهَدْيِ مِنَ الْقَادِرِينَ عَلَيْهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا كَامِلَةٌ فِي أَنَّ حَجَّ الْمُتَمَتِّعِ إِذَا أَتَى بِهَذَا الصِّيَامِ يَكُونُ كَامِلًا، مِثْلَ حَجِّ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهَذَا التَّمَتُّعِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا قَالَ: أَوْجَبْتُ عَلَيْكُمُ الصِّيَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ دَلِيلٌ يَقْتَضِي خُرُوجَ بَعْضِ هَذِهِ الْأَيَّامِ عَنْ هَذَا اللَّفْظِ، فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ كَثِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ، فَلَوْ قَالَ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ

فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٌ إِذَا رَجَعْتُمْ، بَقِيَ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِحَسَبِ بَعْضِ الدَّلَائِلِ الْمُخَصَّصَةِ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَهُ: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ فَهَذَا يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُخَصَّصَ لَمْ يُوجَدْ أَلْبَتَّةَ، فَتَكُونَ دَلَالَتُهُ أَقْوَى وَاحْتِمَالُهُ لِلتَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ أَبْعَدَ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: أَنَّ مَرَاتِبَ الْأَعْدَادِ أَرْبَعَةٌ: آحَادٌ، وَعَشَرَاتٌ، وَمِئِينَ، وَأُلُوفٌ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا أَوْ مَكْسُورًا، وَكَوْنُ الْعَشَرَةُ عَدَدًا مَوْصُوفًا بِالْكَمَالِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ أَمْرٌ يَحْتَاجُ إِلَى التَّعْرِيفِ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إِنَّمَا أَوْجَبْتُ هَذَا الْعَدَدَ لِكَوْنِهِ عَدَدًا مَوْصُوفًا بِصِفَةِ الْكَمَالِ خَالِيًا عَنِ الْكَسْرِ وَالتَّرْكِيبِ. النَّوْعُ الخامس: ن التَّوْكِيدَ طَرِيقَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، كَقَوْلِهِ: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الْحَجِّ: 46] وَقَالَ: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَامِ: 38] وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعِبَارَاتِ الْكَثِيرَةِ وَيُعْرَفُ بِالصِّفَاتِ الْكَثِيرَةِ، أَبْعَدُ عَنِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعِبَارَةِ الواحدة، فالتعبير بالعبادات الْكَثِيرَةِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى مَصَالِحَ كَثِيرَةٍ وَلَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهَا، أَمَّا مَا عُبِّرَ عَنْهُ بِعِبَارَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ مَصْلَحَةً مُهِمَّةً لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهَا، وَإِذَا كَانَ التَّوْكِيدُ مُشْتَمِلًا عَلَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ كَانَ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ رِعَايَةَ الْعَدَدِ فِي هَذَا الصَّوْمِ مِنَ الْمُهِمَّاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ إِهْمَالُهَا أَلْبَتَّةَ. النَّوْعُ السَّادِسُ: فِي بَيَانِ فَائِدَةِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ مَعَ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُونُوا أَهْلَ حِسَابٍ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بَيَانًا قَاطِعًا لِلشَّكِّ وَالرَّيْبِ، وَهَذَا كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ فِي الشَّهْرِ: هَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ بِيَدَيْهِ ثَلَاثًا، وَأَشَارَ مَرَّةً أُخْرَى وَأَمْسَكَ إِبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ مُنَبِّهًا بِالْإِشَارَةِ الْأُولَى عَلَى ثَلَاثِينَ، وَبِالثَّانِيَةِ عَلَى تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ. النَّوْعُ السَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُزِيلُ الْإِبْهَامَ الْمُتَوَلِّدَ مِنْ تَصْحِيفِ الْخَطِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَبْعَةً وَتِسْعَةً مُتَشَابِهَتَانِ فِي الْخَطِّ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَهُ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ زَالَ هَذَا الِاشْتِبَاهُ. النَّوْعُ الثَّامِنُ: أَنَّ قَوْلَهُ: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ بَعْدَ الرُّجُوعِ أَنْ يُكْمِلَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، عَلَى أَنَّهُ يَحْسُبُ مِنْ هَذِهِ السَّبْعَةِ تِلْكَ الثَّلَاثَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ، حَتَّى يَكُونَ الْبَاقِي عَلَيْهِ بَعْدُ مِنَ الْحَجِّ أَرْبَعَةً سِوَى تِلْكَ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ بَعْدَ الرُّجُوعِ سَبْعَةً سِوَى تِلْكَ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَهَذَا الْكَلَامُ مُحْتَمِلٌ لِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَهُ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ زَالَ هَذَا الْإِشْكَالُ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ بَعْدَ الرُّجُوعِ سَبْعَةٌ سِوَى الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. النَّوْعُ التَّاسِعُ: أَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ خَبَرًا لَكِنَّ الْمَعْنَى أَمْرٌ وَالتَّقْدِيرُ: فَلْتَكُنْ تِلْكَ الصِّيَامَاتُ صِيَامَاتٍ كَامِلَةً لِأَنَّ الْحَجَّ الْمَأْمُورَ بِهِ حَجٌّ تَامٌّ عَلَى مَا قَالَ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَهَذِهِ الصِّيَامَاتُ جُبْرَانَاتٌ لِلْخَلَلِ الْوَاقِعِ فِي ذَلِكَ الْحَجِّ، فَلْتَكُنْ هَذِهِ الصِّيَامَاتُ صِيَامَاتٍ كَامِلَةً حَتَّى يَكُونَ جَابِرًا لِلْخَلَلِ الْوَاقِعِ فِي ذَلِكَ الْحَجِّ، الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَامًّا كَامِلًا، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ هَذِهِ الصِّيَامَاتِ كَامِلَةً مَا ذَكَرْنَا فِي بَيَانِ كَوْنِ الْحَجِّ تَامًّا، وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْ لَفْظِ الْأَمْرِ إِلَى لَفْظِ الْخَبَرِ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِالشَّيْءِ إِذَا كَانَ مُتَأَكَّدًا جِدًّا فَالظَّاهِرُ دُخُولُ الْمُكَلَّفِ بِهِ فِي الْوُجُودِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ جَازَ أَنْ يُجْعَلَ الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِالْوُقُوعِ كِنَايَةً عَنْ تَأَكُّدِ الْأَمْرِ بِهِ، وَمُبَالَغَةِ الشَّرْعِ فِي إِيجَابِهِ. النَّوْعُ الْعَاشِرُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنَ الْحَجِّ، فَلَيْسَ

فِي هَذَا الْقَدْرِ بَيَانُ أَنَّهُ طَاعَةٌ عَظِيمَةٌ كَامِلَةٌ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَلَمَّا قَالَ/ بَعْدَهُ: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الطَّاعَةَ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّوْمَ مُضَافٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِلَامِ الِاخْتِصَاصِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: الصَّوْمُ لِي وَالْحَجُّ أَيْضًا مُضَافٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِلَامِ الِاخْتِصَاصِ، عَلَى مَا قَالَ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَكَمَا دَلَّ النَّصُّ عَلَى مَزِيدِ اخْتِصَاصٍ لِهَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَالْعَقْلُ دَلَّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ، أَمَّا فِي حَقِّ الصَّوْمِ فَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَا يَطَّلِعُ الْعَقْلُ أَلْبَتَّةَ عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهَا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ شَاقٌّ عَلَى النَّفْسِ جِدًّا، فَلَا جَرَمَ لَا يُؤْتَى بِهِ إِلَّا لِمَحْضِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحَجُّ أَيْضًا عِبَادَةٌ لَا يَطَّلِعُ الْعَقْلُ أَلْبَتَّةَ عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهَا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ شَاقٌّ جِدًّا لِأَنَّهُ يُوجِبُ مُفَارَقَةَ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ، وَيُوجِبُ التَّبَاعُدَ عَنْ أَكْثَرِ اللَّذَّاتِ، فَلَا جَرَمَ لَا يُؤْتَى بِهِ إِلَّا لِمَحْضِ مَرْضَاتِهِ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ الْعَشَرَةَ بَعْضُهُ وَاقِعٌ فِي زَمَانِ الْحَجِّ فَيَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ شَاقَّيْنِ جِدًّا، وَبَعْضُهُ وَاقِعٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْحَجِّ وَهُوَ انْتِقَالٌ مَنْ شَاقٍّ إِلَى شَاقٍّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الثَّوَابِ وَعُلُوِّ الدَّرَجَةِ فَلَا جَرَمَ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى صِيَامَ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشَرَةِ، وَشَهِدَ سُبْحَانَهُ عَلَى أَنَّهُ عِبَادَةٌ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ وَالْعُلُوِّ، فَقَالَ: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ فَإِنَّ التَّنْكِيرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ الْحَالِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: عَشَرَةٌ وَأَيَّةُ عَشَرَةٍ، عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ، فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْعَشَرَةِ اشتمال هذه الكلمة على هذا الْفَوَائِدِ النَّفِيسَةِ، وَسَقَطَ بِهَذَا الْبَيَانِ طَعْنُ الْمُلْحِدِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، وَأَقْرَبُ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ ذِكْرُ مَا يَلْزَمُ الْمُتَمَتِّعُ مِنَ الْهَدْيِ وَبَدَلِهِ، وَأَبْعَدُ مِنْهُمْ ذِكْرُ تَمَتُّعِهِمْ. فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَقْرَبِ، وَهُوَ لُزُومُ الْهَدْيِ وَبَدَلِهِ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ، أَيْ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُتَمَتِّعُ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْهَدْيُ وَلَا بَدَلُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا الْهَدْيَ إِنَّمَا لَزِمَ الْآفَاقِيَّ لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ عَنِ الْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ: فَلَمَّا أَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ عَنِ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَحْرَمَ عَنِ الْحَجِّ لَا مِنَ الْمِيقَاتِ، فَقَدْ حَصَلَ هُنَاكَ الْخَلَلُ فَجُعِلَ مَجْبُورًا بِهَذَا الدَّمِ، وَالْمَكِّيُّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ مِنَ الْمِيقَاتِ، فَإِقْدَامُهُ عَلَى التَّمَتُّعِ لَا يُوقِعُ خَلَلًا فِي حَجِّهِ، فَلَا جَرَمَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ وَلَا بَدَلٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَبْعَدِ، وَهُوَ ذِكْرُ التَّمَتُّعِ، وَعِنْدَهُ لَا مُتْعَةَ وَلَا قِرَانَ لِحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَنْ تَمَتَّعَ أَوْ قَرَنَ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ هُوَ دَمُ جِنَايَةٍ لَا يَأْكُلُ مِنْهُ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الْحَرَمِيُّ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ذلِكَ كِنَايَةٌ فَوَجَبَ عَوْدُهَا إِلَى الْمَذْكُورِ الْأَقْرَبِ، وَهُوَ وُجُوبُ/ الْهَدْيِ، وَإِذَا خَصَّ إِيجَادَ الْهَدْيِ بِالْمُتَمَتِّعِ الَّذِي يَكُونُ آفَاقِيًّا لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ غَيْرَ الْآفَاقِيِّ قَدْ يَكُونُ أَيْضًا مُتَمَتِّعًا. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ الْقِرَانَ وَالْمُتْعَةَ إِبَانَةً لِنَسْخِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي تَحْرِيمِهِمُ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَالنَّسْخُ يَثْبُتُ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِفْرَادِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمُتْعَةِ قِيَاسًا عَلَى الْمَدَنِيِّ، إِلَّا أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ الْمَكِّيَّ

لَا دَمَ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ كِنَايَةٌ فَوَجَبَ عَوْدُهَا إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ. وَجَوَابُهُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَوْدُهُ إِلَى الْأَقْرَبِ أَوْلَى لِأَنَّ الْقُرْبَ سَبَبٌ لِلرُّجْحَانِ أَلَيْسَ أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمَذْكُورَ عَقِيبَ الْجُمَلِ مُخْتَصٌّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَإِنَّمَا تَمَيَّزَتْ تِلْكَ الْجُمْلَةُ عن سائر الجمل بسبب القرب فكذا هاهنا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ مَالِكٌ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ ذِي طُوًى قَالَ: فَلَوْ أَنَّ أَهْلَ مِنًى أَحْرَمُوا بِالْعُمْرَةِ مِنْ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُمْ، ثُمَّ أَقَامُوا بِمَكَّةَ حَتَّى حَجُّوا كَانُوا مُتَمَتِّعِينَ، وَسُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَهْلِ الْحَرَمِ أَيَجِبُ عَلَيْهِمْ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ، قَالَ: نَعَمْ وَلَيْسَ هُمْ مِثْلَ أَهْلِ مَكَّةَ فَقِيلَ لَهُ: فَأَهْلُ مِنًى فَقَالَ: لَا أَرَى ذَلِكَ إِلَّا لأهل مكة خاصة وقال طاوس حاضروا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُمُ الَّذِينَ يَكُونُونَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ مِنْ مَكَّةَ، فَإِنْ كَانُوا عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَلَيْسُوا مِنَ الْحَاضِرِينَ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: حاضروا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَهْلُ الْمَوَاقِيتِ، وَهِيَ ذُو الْحُلَيْفَةِ وَالْجُحْفَةُ وَقَرْنٌ وَيَلَمْلَمُ وَذَاتُ الْعِرْقِ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَوْضِعٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، أَوْ مِنْ أَهْلِ مَا وَرَاءَهَا إِلَى مَكَّةَ فَهُوَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، هَذَا هُوَ تَفْصِيلُ مَذَاهِبِ النَّاسِ، وَلَفْظُ الْآيَةِ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ هُمُ الَّذِينَ يُشَاهِدُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامِ وَيَحْضُرُونَهُ، فَلَفْظُ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَيْهِمْ، إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: كَثِيرًا مَا ذَكَرَ اللَّهُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْحَرَمُ، قَالَ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْإِسْرَاءِ: 1] وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أُسَرِيَ بِهِ مِنَ الْحَرَمِ لَا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَالَ: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الْحَجِّ: 33] وَالْمُرَادُ الْحَرَمُ، لِأَنَّ الدِّمَاءَ لَا تُرَاقُ فِي الْبَيْتِ وَالْمَسْجِدِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: المراد من المسجد الحرام هاهنا مَا ذَكَرْنَاهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْحَاضِرُ ضِدُّ الْمُسَافِرِ، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا كَانَ حَاضِرًا، وَلَمَّا كَانَ حُكْمُ السَّفَرِ إِنَّمَا ثَبَتَ فِي مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا وَكَانَ حَاضِرًا الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي أَهْلَ الْقُرَى: حَاضِرَةً وَحَاضِرِينَ، وَأَهْلَ الْبَرِّ: بَادِيَةً وَبَادِينَ وَمَشْهُورُ كَلَامِ النَّاسِ: أَهِلُ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ يُرَادُ بِهِمَا أَهْلُ الْوَبَرِ وَالْمَدَرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِمَنْ بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ ذَلِكَ الْفَرْضُ الَّذِي هُوَ الدَّمُ أَوِ الصَّوْمُ لَازِمٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ» أَيْ عَلَيْهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُضُورَ الْأَهْلِ وَالْمُرَادُ حُضُورُ الْمُحْرِمِ لَا حُضُورُ الْأَهْلِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الرَّجُلِ أَنَّهُ يَسْكُنُ حَيْثُ أَهْلُهُ سَاكِنُونَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ إِنَّمَا وُصِفَ بِهَذَا الْوَصْفِ لِأَنَّ أَصْلَ الْحَرَامِ وَالْمَحْرُومِ الْمَمْنُوعُ عَنِ الْمَكَاسِبِ وَالشَّيْءُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ حَرَامٌ لِأَنَّهُ مُنِعَ مِنْ إِتْيَانِهِ، وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ الْمَمْنُوعُ مِنْ أَنْ يُفْعَلَ فِيهِ مَا مُنِعَ عَنْ فِعْلِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيُقَالُ حَرَامٌ وَحَرَمٌ مِثْلُ زَمَانٌ وَزَمَنٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ فِيمَا فُرِضَ عَلَيْكُمْ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لِمَنْ تَهَاوَنَ بِحُدُودِهِ قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْعِقَابُ وَالْمُعَاقَبَةُ سِيَّانِ، وَهُوَ مُجَازَاةُ الْمُسِيءِ عَلَى إِسَاءَتِهِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ

[سورة البقرة (2) : آية 197]

الْعَاقِبَةِ: كَأَنَّهُ يُرَادُ عَاقِبَةُ فِعْلِ الْمُسِيءِ، كَقَوْلِ القائل: لتذوقن عاقبة فعلك. [سورة البقرة (2) : آية 197] الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبابِ (197) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْحَجَّ لَيْسَ نَفْسَ الْأَشْهُرِ فَلَا بد هاهنا مِنْ تَأْوِيلٍ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: التَّقْدِيرُ: أَشْهُرُ الْحَجِّ أَشْهَرٌ مَعْلُومَاتٌ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: الْبَرْدُ شَهْرَانِ، أَيْ وَقْتُ الْبَرْدِ شَهْرَانِ وَالثَّانِي: التقدير الحج حج أَشْهَرٌ مَعْلُومَاتٌ، أَيْ لَا حَجَّ إِلَّا فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ، وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا كَمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَجِيزُونَهَا فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَشْهُرِ، فَحَذَفَ الْمَصْدَرَ الْمُضَافَ إِلَى الْأَشْهُرِ الثَّالِثُ: يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْآيَةِ مِنْ غَيْرِ إِضْمَارٍ وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَشْهُرَ نَفْسَ الْحَجِّ لَمَّا كَانَ الْحَجُّ فِيهَا كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ قَائِمٌ، وَنَهَارٌ صَائِمٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ شَوَّالًا وَذَا الْقِعْدَةِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَاخْتَلَفُوا فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: إِنَّهَا بِكُلِّيَّتِهَا مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، / وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: التِّسْعَةُ الْأُولَى مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، حُجَّةُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الله تعالى ذكر الأشهر تلفظ الْجَمْعِ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ أَيَّامَ النَّحْرِ يُفْعَلُ فِيهَا بَعْضُ مَا يَتَّصِلُ بِالْحَجِّ، وَهُوَ رَمْيُ الْجِمَارِ وَالْمَرْأَةُ إِذَا حَاضَتْ فَقَدْ تُؤَخِّرُ الطَّوَافَ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ إِلَى انْقِضَاءِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْعَشْرِ، وَمَذْهَبُ عُرْوَةَ جَوَازُ تَأْخِيرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ يَشْتَرِكُ فِيهِ مَا وَرَاءَ الْوَاحِدِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيمِ: 4] وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَزَّلَ بَعْضَ الشَّهْرِ مَنْزِلَةَ كُلِّهِ، كَمَا يُقَالُ: رَأَيْتُكَ سَنَةَ كَذَا إِنَّمَا رَآهُ فِي سَاعَةٍ مِنْهَا وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ وَقَدْ حَجَّ بِالْحَلْقِ وَالطَّوَافِ وَالنَّحْرِ مِنْ إِحْرَامِهِ فَكَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَالْحَائِضُ إِذَا طَافَتْ بَعْدَهُ فَكَأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْقَضَاءِ لَا فِي حُكْمِ الْأَدَاءِ، وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ هِيَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَقَدْ تَمَسَّكُوا فِيهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ وَالثَّانِي: أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ وَقْتٌ لِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ احْتَجَّ عَلَى قَوْلِهِ بِأَنَّ الْحَجَّ يَفُوتُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَالْعِبَادَةُ لَا تَكُونُ فَائِتَةً مَعَ بَقَاءِ وَقْتِهَا، فهذا تقرير هذه المذاهب. بقي هاهنا إِشْكَالَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مِنْ قَبْلُ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189] فَجَعَلَ كُلَّ الْأَهِلَّةِ مَوَاقِيتَ لِلْحَجِّ الثَّانِي: أَنَّهُ اشْتَهَرَ عَنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: مِنْ إِتْمَامِ الْحَجِّ أَنْ يُحْرِمَ الْمَرْءُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَمَنْ بَعُدَ دَارُهُ الْبُعْدَ الشَّدِيدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ بِالْحَجِّ إِلَّا قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِزَمَانٍ مَخْصُوصٍ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ عَامَّةٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ خَاصَّةٌ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ النَّصَّ لَا يُعَارِضُهُ الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ عَنِ الصحابة.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَعْلُوماتٌ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَجَّ إِنَّمَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ مِنْ شُهُورِهَا، لَيْسَ كَالْعُمْرَةِ الَّتِي يُؤْتَى بِهَا فِي السَّنَةِ مِرَارًا، وَأَحَالَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ تِلْكَ الْأَشْهُرِ عَلَى مَا كَانُوا عَلِمُوهُ قَبْلَ نُزُولِ هَذَا الشَّرْعِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالشَّرْعُ لَمْ يَأْتِ عَلَى خِلَافِ مَا عَرَفُوا وَإِنَّمَا جَاءَ مُقَرِّرًا لَهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَعْلُومَاتٌ بِبَيَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ بِهَا أَنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا وَلَا تَأْخِيرُهَا، لَا كَمَا يَفْعَلُهُ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التَّوْبَةِ: 37] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: لَا يَجُوزُ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ وَأَشْهَرٌ جَمْعُ تَقْلِيلٍ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ، فَلَا يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَإِنَّمَا أَكْثَرُهُ إِلَى عَشَرَةٍ وَأَدْنَاهُ ثَلَاثَةٌ وَعِنْدَ التَّنْكِيرِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْأَدْنَى، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ ثَلَاثَةٌ، وَالْمُفَسِّرُونَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تِلْكَ الثَّلَاثَةَ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَبَعْضٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ الْوَقْتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْعِبَادَةِ قَبْلَ وَقْتِ الْأَدَاءِ لَا يَصِحُّ قِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ الثَّانِي: أَنَّ الْخُطْبَةَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لَا تَجُوزُ قَبْلَ الْوَقْتِ، لِأَنَّهَا أُقِيمَتْ مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ مِنَ الظَّهْرِ، حُكْمًا فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ الْإِحْرَامُ وَهُوَ شُرُوعٌ فِي الْعِبَادَةِ أَوْلَى الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَبْقَى صَحِيحًا لِأَدَاءِ الْحَجِّ إِذَا ذَهَبَ وَقْتُ الْحَجِّ قَبْلَ الْأَدَاءِ فَلَأَنْ لَا يَنْعَقِدَ صَحِيحًا لِأَدَاءِ الْحَجِّ قَبْلَ الْوَقْتِ أَوْلَى لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنَ الِابْتِدَاءِ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ الله عنه وجهان الأول: قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [الحج: 189] فَجَعَلَ الْأَهِلَّةَ كُلَّهَا مَوَاقِيتَ لِلْحَجِّ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَوَاقِيتَ لِلْحَجِّ فَثَبَتَ إِذَنْ أَنَّهَا مَوَاقِيتُ لِصِحَّةِ الْإِحْرَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الْإِحْرَامُ حَجًّا مَجَازًا كَمَا سُمِّيَ الْوَقْتُ حَجًّا فِي قَوْلِهِ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ بَلْ هَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الْإِحْرَامَ إِلَى الْحَجِّ أَقْرَبُ مِنَ الْوَقْتِ. وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْإِحْرَامَ الْتِزَامٌ لِلْحَجِّ، فَجَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْوَقْتِ كَالنُّذُرِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَخَصُّ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي تَمَسَّكْتُمْ بِهَا. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ النذر وبين الإحرام أن الوقت معتبر لأداء وَالِاتِّصَالِ لِلنُّذُرِ بِالْأَدَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَدَاءَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بِعَقْدٍ مُبْتَدَأٍ وَأَمَّا الْإِحْرَامُ فَإِنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ الْتِزَامًا فَهُوَ أَيْضًا شُرُوعٌ فِي الْأَدَاءِ وَعَقْدٌ عَلَيْهِ، فَلَا جَرَمَ افْتَقَرَ إِلَى الْوَقْتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى فَرَضَ فِي اللُّغَةِ أَلَزَمَ وَأَوْجَبَ، يُقَالُ: فَرَضْتُ عَلَيْكَ كَذَا أَيْ أَوْجَبْتُهُ وَأَصْلُ مَعْنَى الْفَرْضِ فِي اللُّغَةِ الْحَزُّ وَالْقَطْعُ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْفَرْضُ الْحَزُّ فِي الْقَدَحِ وَفِي الْوَتِدِ وَفِي غَيْرِهِ، وَفُرْضَةُ الْقَوْسِ، الْحَزُّ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْوَتَرُ، وَفُرْضَةُ الْوَتِدِ الْحَزُّ الَّذِي فِيهِ، وَمِنْهُ فَرْضُ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ لِلْعَبْدِ، كَلُزُومِ الْحَزِّ لِلْقَدَحِ، ففرض هاهنا بِمَعْنَى أَوْجَبَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ: فَرَضَ بِمَعْنَى أَبَانَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها [النُّورِ: 1] بِالتَّخْفِيفِ، وَقَوْلُهُ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ [التَّحْرِيمِ: 2] وَهَذَا أَيْضًا رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْقَطْعِ، لِأَنَّ مَنْ قَطَعَ شَيْئًا فَقَدْ أَبَانَهُ مَنْ غَيْرِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى إِذَا فَرَضَ شَيْئًا أَبَانَهُ عَنْ غَيْرِهِ،

فَفَرَضَ بِمَعْنَى أَوْجَبَ، وَفَرَضَ بِمَعْنَى أَبَانَ، كِلَاهُمَا يَرْجِعُ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَذْفًا، وَالتَّقْدِيرُ: فَمَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ فِيهِنَّ الْحَجَّ، وَالْمُرَادُ/ بِهَذَا الْفَرْضِ مَا بِهِ يَصِيرُ الْمُحْرِمُ مُحْرِمًا إِذْ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ حَاجًّا إِلَّا بِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ، فَيَخْرُجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّيْدُ وَاللُّبْسُ وَالطِّيبُ وَالنِّسَاءُ وَالتَّغْطِيَةُ لِلرَّأْسِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَلِأَجْلِ تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَيْهِ سُمِّيَ مُحْرِمًا، لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا حَرَّمَ بِهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى نَفْسِهِ وَلِهَذَا السَّبَبِ أَيْضًا سُمِّيَتِ الْبُقْعَةُ حَرَمًا لِأَنَّهُ يُحَرِّمُ مَا يَكُونُ فِيهَا مِمَّا لَوْلَاهُ كَانَ لَا يَحْرُمُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُحْرِمِ مِنْ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ لِأَجْلِهِ يَصِيرُ حَاجًّا وَمُحْرِمًا، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ مَا هُوَ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّهُ يَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى التَّلْبِيَةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الْإِحْرَامِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَيْهَا التَّلْبِيَةُ أَوْ سَوْقُ الْهَدْيِ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «تَفْسِيرِهِ» : يُرْوَى عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّ مَنْ أَشْعَرَ هَدْيَهُ أَوْ قَلَّدَهُ فَقَدْ أَحْرَمَ، وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا قَلَّدَ أَوْ أَشْعَرَ فَقَدْ أَحْرَمَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا قَلَّدَ الْهَدْيَ وَصَاحَبَهُ يُرِيدُ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ فَقَدْ أَحْرَمَ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وُجُوهٌ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَفَرْضُ الْحَجِّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنِ التَّلْبِيَةِ أَوْ سَوْقِ الْهَدْيِ فَإِنَّهُ لَا إِشْعَارَ أَلْبَتَّةَ فِي التَّلْبِيَةِ بِكَوْنِهِ مُحْرِمًا لَا بِحَقِيقَةٍ وَلَا بِمَجَازٍ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَرْضُ الْحَجِّ عِبَارَةً عَنِ النِّيَّةِ، وَفَرْضُ الْحَجِّ مُوجِبٌ لِانْعِقَادِ الْحَجِّ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا رَفَثَ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ كَافِيَةً فِي انْعِقَادِ الْحَجِّ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» . الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: الْقِيَاسُ وَهُوَ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْحَجِّ كَفٌّ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ، فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ فِيهِ بِالنِّيَّةِ كَالصَّوْمِ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: مَا رَوَى أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَا يُحْرِمُ إِلَّا مَنْ أَهَلَّ أَوْ لَبَّى الثَّانِي: أَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ لَهَا تَحْلِيلٌ وَتَحْرِيمٌ فَلَا يَشْرَعُ فِيهِ إِلَّا بِنَفْسِ النِّيَّةِ كَالصَّلَاةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ وَلا جِدالَ بِالنَّصْبِ، وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا الْكُلَّ بِالنَّصْبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْمَعْنَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِمُقَدِّمَتَيْنِ الْأُولَى: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ اسْمٌ، فَجَوْهَرُ الِاسْمِ دَلِيلٌ عَلَى جَوْهَرِ الْمُسَمَّى، وَحَرَكَاتُ الِاسْمِ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَحْوَالِ الْمُسَمَّى، فَقَوْلُكَ: رَجُلٌ يُفِيدُ الْمَاهِيَّةَ الْمَخْصُوصَةَ، وَحَرَكَاتُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، أَعْنِي كَوْنَهَا مَنْصُوبَةً وَمَرْفُوعَةً وَمَجْرُورَةً، دَالٌّ عَلَى أَحْوَالِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ وَهِيَ الْمَفْعُولِيَّةُ وَالْفَاعِلِيَّةُ وَالْمُضَافِيَّةُ، وَهَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الْعَقْلِيُّ حَتَّى يَكُونَ الْأَصْلُ بِإِزَاءِ الْأَصْلِ، وَالصِّفَةُ بِإِزَاءِ الصِّفَةِ، فَعَلَى هَذَا الْأَسْمَاءُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَاهِيَّاتِ يَنْبَغِي أن يتلفظ بها ساكنة الأواخر فيقال: رحل جِدَارْ حَجَرْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ/ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ لَمَّا وُضِعَتْ لِتَعْرِيفِ أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي ذَاتِ الْمُسَمَّى فَحَيْثُ أُرِيدَ تَعْرِيفُ الْمُسَمَّى مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى تَعْرِيفِ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِ وَجَبَ جَعْلُ اللَّفْظِ خَالِيًا عَنِ الْحَرَكَاتِ، فَإِنْ أُرِيدَ فِي

بَعْضِ الْأَوْقَاتِ تَحْرِيكُهُ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ بِالنَّصْبِ، لِأَنَّهُ أَخَفُّ الْحَرَكَاتِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى السُّكُونِ. الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا قُلْتَ: لَا رَجُلَ بِالنَّصْبِ، فَقَدْ نَفَيْتَ الْمَاهِيَّةَ، وَانْتِفَاءُ الْمَاهِيَّةِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ جَمِيعِ أَفْرَادِهَا قَطْعًا، أَمَّا إِذَا قُلْتَ: لَا رَجُلٌ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، فَقَدْ نَفَيْتَ رَجُلًا مُنْكَرًا مُبْهَمًا، وَهَذَا بِوَصْفِهِ لَا يُوجِبُ انْتِفَاءَ جَمِيعِ أَفْرَادِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَكَ: لَا رَجُلَ بِالنَّصْبِ أَدَلُّ عَلَى عُمُومِ النَّفْيِ مِنْ قَوْلِكَ: لَا رَجُلٌ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ. إِذَا عَرَفْتَ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ فَلْنَرْجِعْ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فَنَقُولُ: أَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا ثَلَاثَةً: بِالنَّصْبِ فَلَا إِشْكَالَ وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا الْأَوَّلَيْنِ بِالرَّفْعِ مَعَ التَّنْوِينِ، وَالثَّالِثَ بِالنَّصْبِ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاهْتِمَامَ بِنَفْيِ الْجِدَالِ أَشَدُّ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِنَفْيِ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّفَثَ عِبَارَةٌ عَنْ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَالْجِدَالُ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُجَادِلَ يَشْتَهِي تَمْشِيَةَ قَوْلِهِ، وَالْفُسُوقُ عِبَارَةٌ عَنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ، وَالْمُجَادِلُ لَا يَنْقَادُ لِلْحَقِّ، وَكَثِيرًا مَا يُقْدِمُ عَلَى الْإِيذَاءِ وَالْإِيحَاشِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ فَلَمَّا كَانَ الْجِدَالُ مُشْتَمِلًا عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقُبْحِ لَا جَرَمَ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِمَزِيدِ الزَّجْرِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي النَّفْيِ، أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فإنهم قالوا: من قرأ الأولين بالرفث وَالثَّالِثَ بِالنَّصْبِ فَقَدْ حَمَلَ الْأَوَّلَيْنِ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَا يَكُونُ رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ وَحَمَلَ الثَّالِثَ عَلَى الْإِخْبَارِ بِانْتِفَاءِ الْجِدَالِ، هَذَا مَا قَالُوهُ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بَيَانٌ أَنَّهُ لِمَ خُصَّ الْأَوَّلَانِ بِالنَّهْيِ وَخُصَّ الثَّالِثُ بِالنَّفْيِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا الرَّفَثُ فَقَدْ فَسَّرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 187] وَالْمُرَادُ: الْجِمَاعُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ مِنْهُ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ فَالرَّفَثُ بِاللِّسَانِ ذِكْرُ الْمُجَامَعَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَالرَّفَثُ بِالْيَدِ اللَّمْسُ وَالْغَمْزُ، وَالرَّفَثُ بِالْفَرَجِ الْجِمَاعُ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: التَّلَفُّظُ بِهِ فِي غَيْبَةِ النِّسَاءِ لَا يَكُونُ رَفَثًا، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَحْدُو بَعِيرَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَيَقُولُ: وَهُنَّ يَمْشِينَ بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ أَتَرْفُثُ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ؟ قَالَ: إِنَّمَا الرَّفَثُ مَا قِيلَ عِنْدَ النِّسَاءِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الرَّفَثُ هُوَ قَوْلُ الْخَنَا وَالْفُحْشِ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِالْخَبَرِ وَاللُّغَةِ أَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّفَثَ هاهنا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا قَوْلَ الْخَنَا وَالْفُحْشِ، وَأَمَّا اللُّغَةُ فَهُوَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: الرَّفَثُ الْإِفْحَاشُ فِي الْمَنْطِقِ، يُقَالُ أَرْفَثَ الرَّجُلُ إِرْفَاثًا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الرَّفَثُ اللَّغْوُ مِنَ الْكَلَامِ. أَمَّا الْفُسُوقُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْفِسْقَ وَالْفُسُوقَ وَاحِدٌ وَهُمَا مَصْدَرَانِ لِفَسَقَ يَفْسُقُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلُ أَنَّ الْفُسُوقَ هُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الطَّاعَةِ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَكَثِيرٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ حَمَلُوهُ عَلَى كُلِّ الْمَعَاصِي/ قَالُوا: لِأَنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لِلْكُلِّ وَمُتَنَاوِلٌ لَهُ، وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ يُوجِبُ الِانْتِهَاءَ عَنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِهِ فَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى بَعْضِ أَنْوَاعِ الْفُسُوقِ تَحَكُّمٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَهَذَا مُتَأَكَّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الْكَهْفِ: 50] وَبِقَوْلِهِ: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ [الْحُجُرَاتِ: 7] . وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ بَعْضُ الْأَنْوَاعِ ثُمَّ ذَكَرُوا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ السِّبَابُ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ

بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ [الْحُجُرَاتِ: 11] وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» وَالثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِيذَاءُ والإفحاش، قال تعالى: لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 282] وَالثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ الذَّبْحُ لِلْأَصْنَامِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي حَجِّهِمْ يَذْبَحُونَ لِأَجْلِ الْحَجِّ، وَلِأَجْلِ الْأَصْنَامِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الْأَنْعَامِ: 121] وَقَوْلُهُ: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الْأَنْعَامِ: 145] وَالرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّهُ الْعَاصِي فِي قَتْلِ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَمْنَعُ الْإِحْرَامُ مِنْهُ وَالْخَامِسُ: أَنَّ الرَّفَثَ هُوَ الْجِمَاعُ وَمُقَدِّمَاتُهُ مَعَ الْحَلِيلَةِ، وَالْفُسُوقُ هُوَ الْجِمَاعُ وَمُقَدِّمَاتُهُ عَلَى سَبِيلِ الزِّنَا وَالسَّادِسُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الطَّبَرِيِّ: الْفُسُوقُ، هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْحَجِّ إِذَا لَمْ يَعْزِمْ عَلَى تَرْكِ مَحْظُورَاتِهِ. وَأَمَّا الْجِدَالُ فَهُوَ فِعَالٌ مِنَ الْمُجَادَلَةِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْجَدَلِ الَّذِي مِنَ الْقَتْلِ، يُقَالُ: زِمَامٌ مَجْدُولٌ وَجَدِيلٌ، أَيْ مَفْتُولٌ، وَالْجَدِيلُ اسْمُ الزِّمَامِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَفْتُولًا، وَسُمِّيَتِ الْمُخَاصَمَةُ مُجَادَلَةً لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ يَرُومُ أَنْ يَفْتِلَ صَاحِبُهُ عَنْ رَأْيِهِ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وُجُوهًا فِي هَذَا الْجِدَالِ. فَالْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْجِدَالُ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْخُرُوجُ إِلَى السِّبَابِ وَالتَّكْذِيبِ وَالتَّجْهِيلِ. وَالثَّانِي: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: إِنَّ قُرَيْشًا كَانُوا إِذَا اجْتَمَعُوا بِمِنًى، قَالَ بَعْضُهُمْ: حَجُّنَا أَتَمُّ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ حَجُّنَا أَتَمُّ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ: قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» الْجِدَالُ فِي الْحَجِّ أَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا يَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فِي الْمُزْدَلِفَةِ بِقُزَحَ وَكَانَ غَيْرُهُمْ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ وَكَانُوا يَتَجَادَلُونَ يَقُولُ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ أَصْوَبُ، وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ أَصْوَبُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ، وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ [الْحَجِّ: 67، 68] قَالَ مَالِكٌ هَذَا هُوَ الْجِدَالُ فِيمَا يُرْوَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالرَّابِعُ: قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: الْجِدَالُ فِي الْحَجِّ أَنْ يَقُولَ بَعْضُهُمْ: الْحَجُّ الْيَوْمَ، وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: بَلْ غَدًا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَجْعَلُوا حِسَابَ الشُّهُورِ عَلَى رُؤْيَةِ الْأَهِلَّةِ، وَآخَرُونَ كَانُوا يَجْعَلُونَهُ عَلَى الْعَدَدِ فَبِهَذَا السَّبَبِ كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هَذَا الْيَوْمُ يَوْمُ الْعِيدِ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: بَلْ غَدًا، فَاللَّهُ تَعَالَى نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ أَنَّ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ، / فَاسْتَقِيمُوا عَلَى ذَلِكَ وَلَا تُجَادِلُوا فِيهِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ. الْخَامِسُ: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَدْخُلُ فِي هَذَا النَّهْيِ مَا جَادَلُوا فِيهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَقَالُوا: نَرُوحُ إِلَى مِنًى وَمَذَاكِيرُنَا تَقْطُرُ مَنِيًّا؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» وَتَرَكُوا الْجِدَالَ حِينَئِذٍ. السَّادِسُ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: جِدَالُهُمْ فِي الْحَجِّ بِسَبَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَيِّهِمُ الْمُصِيبُ فِي الْحَجِّ لِوَقْتِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. السَّابِعُ: أَنَّهُمْ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي السِّنِينَ فَقِيلَ لَهُمْ: لَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ فَإِنَّ الزَّمَانَ اسْتَدَارَ وَعَادَ إِلَى مَا كَانَ

عَلَيْهِ الْحَجُّ فِي وَقْتِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خلق الله السموات وَالْأَرْضَ» فَهَذَا مَجْمُوعُ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي كَلَامًا حَسَنًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَأَنْ يَكُونَ نَهْيًا كَقَوْلِهِ: لا رَيْبَ فِيهِ [السجدة: 2] أَيْ لَا تَرْتَابُوا فِيهِ، وَظَاهِرُ اللَّفْظِ لِلْخَبَرِ فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْخَبَرِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَثْبُتُ مَعَ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِلَالِ بَلْ يَفْسُدُ لِأَنَّهُ كَالضِّدِّ لَهَا وَهِيَ مَانِعَةٌ مِنْ صِحَّتِهِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى، إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالرَّفَثِ الْجِمَاعُ الْمُفْسِدُ لِلْحَجِّ، وَيُحْمَلَ الْفُسُوقُ عَلَى الزِّنَا لِأَنَّهُ يُفْسِدُ الْحَجَّ، وَيُحْمَلُ الْجِدَالُ عَلَى الشَّكِّ فِي الْحَجِّ وَوُجُوبِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ كُفْرًا فَلَا يَصِحُّ مَعَهُ الْحَجُّ وَإِنَّمَا حَمَلْنَا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الثَّلَاثَةَ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي حَتَّى يَصِحَّ خَبَرُ اللَّهِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُوجَدُ مَعَ الْحَجِّ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ مَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَصِيرُ الْحَجُّ فَاسِدًا وَيَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ الْمُضِيُّ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ الْحَجُّ بَاقِيًا مَعَهَا لَمْ يَصْدُقِ الْخَبَرُ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُوجَدُ مَعَ الْحَجِّ، قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ حُصُولُ الْمُضَادَّةِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَبَيْنَ الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا ابْتِدَاءً وَتِلْكَ الْحَجَّةُ الصَّحِيحَةُ لَا تَبْقَى مَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ قَضَاؤُهَا، وَالْحَجَّةُ الْفَاسِدَةُ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهَا شَيْءٌ آخَرُ سِوَى تِلْكَ الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا ابْتِدَاءً، وَأَمَّا الْجِدَالُ الْحَاصِلُ بِسَبَبِ الشَّكِّ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يَبْقَى مَعَهُ عَمَلُ الْحَجِّ لِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ وَعَمَلُ الْحَجِّ مَشْرُوطٌ بِالْإِسْلَامِ فَثَبَتَ أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا اللَّفْظَ على الخبر وجب حمل الرفث والفسوق الجدال عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى النَّهْيِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عُدُولٌ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ فَقَدْ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالرَّفَثِ الْجِمَاعُ وَمُقَدِّمَاتُهُ وَقَوْلُ الْفُحْشِ، وَأَنْ يُرَادَ بِالْفُسُوقِ جَمِيعُ أَنْوَاعِهِ، وَبِالْجِدَالِ جَمِيعُ أَنْوَاعِهِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ وَمُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْهَا نَهْيًا عَنْ جَمِيعِ أَقْسَامِهَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ كَالْحَثِّ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ، وَالتَّمَسُّكِ بِالْآدَابِ الْحَسَنَةِ، وَالِاحْتِرَازِ عَمَّا/ يُحْبِطُ ثَوَابَ الطَّاعَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الثَّلَاثَةَ لَا أَزْيَدَ وَلَا أَنْقَصَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ هِيَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِيهِ قُوًى أَرْبَعَةٌ: قُوَّةٌ شَهْوَانِيَّةٌ بَهِيمِيَّةٌ، وَقُوَّةٌ غَضَبِيَّةٌ سَبُعِيَّةٌ، وَقُوَّةٌ وَهْمِيَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ، وَقُوَّةٌ عَقْلِيَّةٌ مَلَكِيَّةٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ قَهْرُ الْقُوَى الثَّلَاثَةِ، أَعْنِي الشَّهْوَانِيَّةَ، وَالْغَضَبِيَّةَ، وَالْوَهْمِيَّةَ، فَقَوْلُهُ فَلا رَفَثَ إشارة إلى قهر الشَّهْوَانِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: وَلا فُسُوقَ إِشَارَةٌ إِلَى قَهْرِ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ الَّتِي تُوجِبُ التَّمَرُّدَ وَالْغَضَبَ، وَقَوْلُهُ: وَلا جِدالَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُوَّةِ الْوَهْمِيَّةِ الَّتِي تَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى الْجِدَالِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَصِفَاتِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَأَحْكَامِهِ، وَأَسْمَائِهِ، وَهِيَ الْبَاعِثَةُ لِلْإِنْسَانِ عَلَى مُنَازَعَةِ النَّاسِ وَمُمَارَاتِهِمْ، وَالْمُخَاصِمَةِ مَعَهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ مَنْشَأُ الشَّرِّ مَحْصُورًا فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ لَا جَرَمَ قَالَ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ أَيْ فَمَنْ قَصَدَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَمَحَبَّتَهُ وَالِاطِّلَاعَ عَلَى نُورِ جَلَالِهِ، وَالِانْخِرَاطَ فِي سِلْكِ الْخَوَاصِّ مِنْ عِبَادِهِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ هَذِهِ الأمور، وهذه أسرار نفسية هِيَ الْمَقْصِدُ الْأَقْصَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعَاقِلُ غَافِلًا عَنْهَا، وَمِنَ اللَّهِ التَّوْفِيقُ فِي كُلِّ الْأُمُورِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ عَابَ الِاسْتِدْلَالَ وَالْبَحْثَ وَالنَّظَرَ وَالْجِدَالَ وَاحْتَجَّ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَهَذَا يَقْتَضِي نَفْيَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْجِدَالِ، وَلَوْ كَانَ الْجِدَالُ فِي الدِّينِ طَاعَةً وَسَبِيلًا

إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَمَا نَهَى عَنْهُ فِي الْحَجِّ، بَلْ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِالْجِدَالِ فِي الْحَجِّ ضَمَّ طَاعَةٍ إِلَى طَاعَةٍ فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّرْغِيبِ فِيهِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزُّخْرُفِ: 58] عَابَهُمْ بِكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْجَدَلِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَدَلَ مَذْمُومٌ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الْأَنْفَالِ: 46] نَهْيٌ عَنِ الْمُنَازَعَةِ. وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْجِدَالُ فِي الدِّينِ طَاعَةٌ عَظِيمَةٌ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْلِ: 125] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا لِنُوحٍ عَلَيْهِ السلام: يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا [هُودٍ: 32] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا كَانَ ذَلِكَ الْجِدَالُ إِلَّا لِتَقْرِيرِ أُصُولِ الدِّينِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا بُدَّ مِنَ التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذِهِ النُّصُوصِ، فَنَحْمِلُ الْجَدَلَ الْمَذْمُومَ عَلَى الْجَدَلِ فِي تَقْرِيرِ الْبَاطِلِ، وَطَلَبِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، وَالْجَدَلَ الْمَمْدُوحَ عَلَى الْجَدَلِ فِي تَقْرِيرِ الْحَقِّ وَدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى سَبِيلِ اللَّهِ، وَالذَّبِّ عَنْ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى [البقرة: 197] فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ أَمَرَ بِفِعْلِ مَا هُوَ خَيْرٌ وَطَاعَةٌ، فَقَالَ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: 196] وَقَالَ: فَمَنْ فَرَضَ/ فِيهِنَّ الْحَجَّ وَنَهَى عَمَّا هُوَ شَرٌّ وَمَعْصِيَةٌ فَقَالَ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ثُمَّ عَقَّبَ الْكُلَّ بِقَوْلِهِ: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَقَدْ كَانَ الْأَوْلَى فِي الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ شَيْءٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ، حَتَّى يَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْخَيْرَ بِأَنَّهُ يَعْلَمُهُ اللَّهُ لِفَوَائِدَ وَلَطَائِفَ أَحَدُهَا: إِذَا عَلِمْتُ مِنْكَ الْخَيْرَ ذَكَرْتُهُ وَشَهَّرْتُهُ، وَإِذَا عَلِمْتُ مِنْكَ الشَّرَّ سَتَرْتُهُ وَأَخْفَيْتُهُ لِتَعْلَمَ أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ رَحْمَتِي بِكَ فِي الدُّنْيَا هَكَذَا، فَكَيْفَ فِي الْعُقْبَى وَثَانِيهَا: أَنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها [طه: 15] مَعْنَاهُ: لَوْ أَمْكَنَنِي أَنْ أُخْفِيَهَا عَنْ نَفْسِي لَفَعَلْتُ فَكَذَا هَذِهِ الْآيَةُ، كَأَنَّهُ قِيلَ لِلْعَبْدِ: مَا تَفْعَلُهُ مِنْ خَيْرٍ عَلِمْتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي تَفْعَلُهُ مِنَ الشَّرِّ فَلَوْ أَمْكَنَ أَنْ أُخْفِيَهُ عَنْ نَفْسِي لَفَعَلْتُ ذَلِكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ السُّلْطَانَ الْعَظِيمَ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ الْمُطِيعِ: كُلُّ مَا تَتَحَمَّلُهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَشَقَّةِ وَالْخِدْمَةِ فِي حَقِّي فَأَنَا عَالِمٌ بِهِ وَمُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، كَانَ هَذَا وَعْدًا لَهُ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِعَبْدِهِ الْمُذْنِبِ الْمُتَمَرِّدِ كَانَ تَوَعُّدًا بِالْعِقَابِ الشَّدِيدِ، وَلَمَّا كَانَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ لَا جَرَمَ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَعْدِ بِالثَّوَابِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَعِيدِ بِالْعِقَابِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: مَا الْإِحْسَانُ؟ فَقَالَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» فَهَهُنَا بَيَّنَ لِلْعَبْدِ أَنَّهُ يَرَاهُ وَيَعْلَمُ جَمِيعَ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ لِتَكُونَ طَاعَةُ الْعَبْدِ لِلرَّبِّ مِنَ الْإِحْسَانِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ الْخَادِمَ مَتَّى عَلِمَ أَنَّ مَخْدُومَهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ لَيْسَ بِغَافِلٍ عَنْ أَحْوَالِهِ كَانَ أَحْرَصَ عَلَى الْعَمَلِ وَأَكْثَرَ الْتِذَاذًا بِهِ وَأَقَلَّ نُفْرَةً عَنْهُ وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْخَادِمَ إِذَا عَلِمَ اطِّلَاعَ الْمَخْدُومِ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَمَا يَفْعَلُهُ كَانَ جِدُّهُ وَاجْتِهَادُهُ فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ وَفِي الِاحْتِرَازِ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ أَشَدَّ مِمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَلِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَتْبَعَ تَعَالَى الْأَمْرَ بِالْحَجِّ وَالنَّهْيَ عَنِ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ بِقَوْلِهِ: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى فَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ: وَتَزَوَّدُوا مِنَ التقوى،

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ سَفَرَانِ: سَفَرٌ فِي الدُّنْيَا وَسَفَرٌ مِنَ الدُّنْيَا، فَالسَّفَرُ فِي الدُّنْيَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ زَادٍ، وَهُوَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْمَرْكَبُ وَالْمَالُ، وَالسَّفَرُ مِنَ الدُّنْيَا لَا بُدَّ فِيهِ أَيْضًا مِنْ زَادٍ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَمَحَبَّتُهُ وَالْإِعْرَاضُ عما سواه، وهذا الزاد خير من زاد الْأَوَّلِ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ زَادَ الدُّنْيَا يُخَلِّصُكَ مِنْ عَذَابٍ مَوْهُومٍ وَزَادَ الْآخِرَةِ يُخَلِّصُكَ مِنْ عَذَابٍ مُتَيَقَّنٍ وَثَانِيهَا: أَنَّ زَادَ الدُّنْيَا يُخَلِّصُكَ مِنْ عَذَابٍ مُنْقَطِعٍ، وَزَادَ الْآخِرَةِ يُخَلِّصُكَ مِنْ عَذَابٍ دَائِمٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّ زَادَ الدُّنْيَا يُوصِلُكَ إِلَى لَذَّةٍ مَمْزُوجَةٍ بِالْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ وَالْبَلِيَّاتِ، وَزَادَ الْآخِرَةِ يُوصِلُكَ إِلَى لَذَّاتٍ بَاقِيَةٍ خَالِصَةٍ عَنْ شَوَائِبِ الْمَضَرَّةِ، آمِنَةٍ مِنَ الِانْقِطَاعِ وَالزَّوَالِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ زَادَ الدُّنْيَا وَهِيَ كُلُّ سَاعَةٍ فِي الْإِدْبَارِ وَالِانْقِضَاءِ، وَزَادَ الْآخِرَةِ يُوصِلُكَ إِلَى الْآخِرَةِ، وَهِيَ كُلُّ سَاعَةٍ فِي الْإِقْبَالِ وَالْقُرْبِ وَالْوُصُولِ وَخَامِسُهَا: أَنَّ زَادَ الدُّنْيَا يُوصِلُكَ إِلَى/ مَنَصَّةِ الشَّهْوَةِ وَالنَّفْسِ، وَزَادَ الْآخِرَةِ يُوصِلُكَ إِلَى عَتَبَةِ الْجَلَالِ وَالْقُدْسِ، فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى فَاشْتَغِلُوا بِتَقْوَايَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ، يَعْنِي إِنْ كُنْتُمْ مِنْ أَرْبَابِ الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ حَقَائِقَ الْأُمُورِ وَجَبَ عَلَيْكُمْ بِحُكْمِ عَقْلِكُمْ وَلُبِّكُمْ أَنْ تَشْتَغِلُوا بِتَحْصِيلِ هذا الزاد لما فيه كَثْرَةِ الْمَنَافِعِ، وَقَالَ الْأَعْشَى فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى: إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى ... وَلَاقَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لَا تَكُونَ كَمِثْلِهِ ... وَأَنَّكَ لَمْ تَرْصُدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ كَانُوا يَحُجُّونَ بِغَيْرِ زَادٍ وَيَقُولُونَ: إِنَّا مُتَوَكِّلُونَ، ثُمَّ كَانُوا يَسْأَلُونَ النَّاسَ وَرُبَّمَا ظَلَمُوا النَّاسَ وَغَصَبُوهُمْ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَتَزَوَّدُوا فَقَالَ: وَتَزَوَّدُوا مَا تَبْلُغُونَ بِهِ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ مَا تَكُفُّونَ بِهِ وُجُوهَكُمْ عَنِ السُّؤَالِ وَأَنْفُسَكُمْ عَنِ الظُّلْمِ وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ: أَنَّ قَبَائِلَ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يُحَرِّمُونَ الزَّادَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَنَزَلَتْ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانُوا إِذَا أَحْرَمُوا وَمَعَهُمْ أَزْوِدَةٌ رَمَوْا بِهَا فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَتَزَوَّدُوا فَكَانَ تَقْدِيرُهُ: وَتَزَوَّدُوا مِنَ التَّقْوَى وَالتَّقْوَى فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَالْقُرْآنِ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ قَالَ: فَإِنْ أَرَدْنَا تَصْحِيحَ هَذَا الْقَوْلِ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى أَنْ يَسْتَصْحِبَ الزَّادَ فِي السَّفَرِ إِذَا لَمْ يَسْتَصْحِبْهُ عَصَى اللَّهَ فِي ذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ صَحَّ دُخُولُهُ تَحْتَ الْآيَةِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَيَكُونَ الْمُرَادُ: وَتَزَوَّدُوا لِعَاجِلِ سَفَرِكُمْ وَلِلْآجِلِ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُونِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّ قَوْلَهُ: وَاتَّقُونِ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى كَمَالِ عَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَهُوَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَثْبَتَ أَبُو عَمْرٍو الْيَاءَ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُونِ عَلَى الْأَصْلِ، وَحَذَفَهَا الْآخَرُونَ لِلتَّخْفِيفِ وَدَلَالَةِ الْكَسْرِ عَلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: يا أُولِي الْأَلْبابِ فَاعْلَمْ أَنَّ لُبَابَ الشَّيْءِ وَلُبَّهُ هُوَ الْخَالِصُ مِنْهُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ اسْمٌ لِلْعَقْلِ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ مَا فِي الْإِنْسَانِ، وَالَّذِي تَمَيَّزَ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنِ الْبَهَائِمِ وَقَرُبَ مِنْ دَرَجَةِ

[سورة البقرة (2) : آية 198]

الْمَلَائِكَةِ، وَاسْتَعَدَّ بِهِ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ خَيْرِ الْخَيْرَيْنِ، وَشَرِّ الشَّرَّيْنِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْعَقْلِ، وَالْقَلْبُ قَدْ يُجْعَلُ كِنَايَةً عَنِ الْعَقْلِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي/ ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37] فكذا هاهنا جعل اللب كناية عن العقل، فقوله: يا أُولِي الْأَلْبابِ مَعْنَاهُ: يَا أُولِي الْعُقُولِ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ لَهُ غَيْرَةٌ وَحَمِيَّةٌ: فُلَانٌ لَهُ نَفْسٌ، وَلِمَنْ لَيْسَ لَهُ حَمِيَّةٌ: فُلَانٌ لَا نَفْسَ له فكذا هاهنا. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ لَا يَصِحُّ إِلَّا خطاب العقلاء فما الفائدة في قوله: يا أُولِي الْأَلْبابِ. قُلْنَا: مَعْنَاهُ: إِنَّكُمْ لَمَّا كُنْتُمْ مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ كُنْتُمْ مُتَمَكِّنِينَ مِنْ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَالْعَمَلِ بِهَا فَكَانَ وُجُوبُهَا عَلَيْكُمْ أَثْبَتَ وَإِعْرَاضُكُمْ عَنْهَا أَقْبَحَ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَمْ أَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ شَيْئًا ... كَنَقْصِ الْقَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الْأَعْرَافِ: 179] يَعْنِي الْأَنْعَامُ مَعْذُورَةٌ بِسَبَبِ الْعَجْزِ، أَمَّا هَؤُلَاءِ الْقَادِرُونَ فَكَانَ إِعْرَاضُهُمْ أفحش، فلا جرم كانوا أضل. [سورة البقرة (2) : آية 198] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ حَذْفٌ وَالتَّقْدِيرُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِي أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا وَاللَّهُ أعلم. المسألة الثانية: اعلم أن الشبهة كان حَاصِلَةً فِي حُرْمَةِ التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى مَنَعَ عَنِ الْجِدَالِ فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالتِّجَارَةُ كَثِيرَةُ الْإِفْضَاءِ إِلَى الْمُنَازَعَةِ بِسَبَبِ الْمُنَازَعَةِ فِي قِلَّةِ الْقِيمَةِ وَكَثْرَتِهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ التِّجَارَةُ مُحَرَّمَةً وَقْتَ الْحَجِّ وَثَانِيهَا: أَنَّ التِّجَارَةَ كَانَتْ مُحَرَّمَةً وَقْتَ الْحَجِّ فِي دِينِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَظَاهِرُ ذَلِكَ شَيْءٌ مُسْتَحْسَنٌ لِأَنَّ الْمُشْتَغِلَ بِالْحَجِّ مُشْتَغِلٌ بِخِدْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَلَطَّخَ هَذَا الْعَمَلُ مِنْهُ بِالْأَطْمَاعِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُ صَارَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُبَاحَاتِ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ فِي وَقْتِ الْحَجِّ، كَاللُّبْسِ وَالطِّيبِ وَالِاصْطِيَادِ وَالْمُبَاشَرَةِ مَعَ الْأَهْلِ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ أَنَّ الْحَجَّ لَمَّا صَارَ سَبَبًا لِحُرْمَةِ اللُّبْسِ مَعَ مَسَاسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فَبِأَنْ يَصِيرَ سَبَبًا لِحُرْمَةِ التِّجَارَةِ مَعَ قِلَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا كَانَ أَوْلَى وَرَابِعُهَا: عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِالصَّلَاةِ يَحْرُمُ الِاشْتِغَالُ بِسَائِرِ الطَّاعَاتِ فَضْلًا عَنِ الْمُبَاحَاتِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْحَجِّ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ تَصْلُحُ أَنْ تَصِيرَ شُبْهَةً فِي تَحْرِيمِ الِاشْتِغَالِ بِالتِّجَارَةِ عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِالْحَجِّ، فَلِهَذَا السَّبَبِ بَيَّنَ الله تعالى/ هاهنا أَنَّ التِّجَارَةَ جَائِزَةٌ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ، فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ التِّجَارَةُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الْمُزَّمِلِ: 20] وَقَوْلُهُ: جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [الْقَصَصِ: 73] ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّفْسِيرِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: مَا رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ

وابن الزبير أنهما قرءا: أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ وَالثَّانِي: الرِّوَايَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ فَالرِّوَايَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ يَحْتَرِزُونَ مِنَ التِّجَارَةِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ وَإِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ بَالَغُوا فِي تَرْكِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَكَانُوا يُسَمُّونَ التَّاجِرَ فِي الْحَجِّ: الدَّاجَّ وَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ الدَّاجُّ، وَلَيْسُوا بِالْحَاجِّ، وَمَعْنَى الدَّاجِّ: الْمُكْتَسِبُ الْمُلْتَقِطُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الدَّجَاجَةِ، وَبَالَغُوا فِي الِاحْتِرَازِ عَنِ الْأَعْمَالِ، إِلَى أَنِ امْتَنَعُوا عَنْ إِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، وَإِغَاثَةِ الضَّعِيفِ وَإِطْعَامِ الْجَائِعِ، فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْوَهْمَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا جُنَاحَ فِي التِّجَارَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَحْكَامِ الْحَجِّ، وَمَا بَعْدَهَا أَيْضًا فِي الْحَجِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ وَاقِعٌ فِي زَمَانِ الْحَجِّ، فَلِهَذَا السَّبَبِ اسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ إِنَّا قَوْمٌ نُكْرِي وَإِنَّ قَوْمًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا حَجَّ لَنَا، فَقَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا سَأَلْتَ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فَدَعَاهُ وَقَالَ: أَنْتُمْ حُجَّاجٌ وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ: لَا حَجَّ لِلتُّجَّارِ وَالْأُجَرَاءِ وَالْجَمَّالِينَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ عُكَاظَ وَمَجَنَّةَ وَذَا الْمَجَازِ كَانُوا يَتِّجِرُونَ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ فِيهَا، وَكَانَتْ مَعَايِشُهُمْ مِنْهَا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَرِهُوا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي الْحَجِّ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَالرِّوَايَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَتَبَايَعُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِعَرَفَةَ وَلَا مِنًى، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. إِذَا ثَبَتَ صِحَّةُ هَذَا الْقَوْلِ فَنَقُولُ: أَكْثَرُ الذَّاهِبِينَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى التِّجَارَةِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ، وَأَمَّا أَبُو مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى مَا بَعْدَ الْحَجِّ، قَالَ وَالتَّقْدِيرُ: فَاتَّقُونِ فِي كُلِّ أَفْعَالِ الْحَجِّ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الْجُمُعَةِ: 10] . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هذه الإفاضة حصلت بعد انتفاء الْفَضْلِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ التِّجَارَةِ فِي زَمَانِ الْحَجِّ/ وَثَانِيهَا: أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا لَا عَلَى مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَحَلَّ الشُّبْهَةِ هُوَ التِّجَارَةُ فِي زَمَنِ الْحَجِّ، فَأَمَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْحَجِّ فَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ حِلَّ التِّجَارَةِ. أَمَّا مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ مِنْ قِيَاسِ الْحَجِّ عَلَى الصَّلَاةِ فَجَوَابُهُ: أَنَّ الصَّلَاةَ أَعْمَالُهَا مُتَّصِلَةٌ فَلَا يَصِحُّ فِي أَثْنَائِهَا التَّشَاغُلُ بِغَيْرِهَا، وَأَمَّا أَعْمَالُ الْحَجِّ فَهِيَ مُتَفَرِّقَةٌ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، فَفِي خِلَالِهَا يَبْقَى الْمَرْءُ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ حَاجًّا لَا يُقَالُ: بَلْ حُكْمُ الْحَجِّ بَاقٍ فِي كُلِّ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ، بِدَلِيلِ أَنَّ حُرْمَةَ التَّطَيُّبِ وَاللُّبْسِ وَأَمْثَالِهِمَا بَاقِيَةٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَيَكُونُ سَاقِطًا. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ هُوَ أَنْ يَبْتَغِيَ الْإِنْسَانُ حَالَ كَوْنِهِ حَاجًّا أَعْمَالًا أُخْرَى تَكُونُ مُوجِبَةً لِاسْتِحْقَاقِ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ مِثْلَ إِعَانَةِ الضَّعِيفِ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، وَإِطْعَامِ الْجَائِعِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْسُوبٌ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَاعْتَرَضَ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِأَنَّ هَذَا وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ، وَلَا يُقَالُ فِي مِثْلِهِ: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْمُبَاحَاتِ. وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُذْكَرُ إِلَّا فِي الْمُبَاحَاتِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ

جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء: 101] والقصر بالإنفاق مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ، وَأَيْضًا فَأَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ضَمَّ سَائِرِ الطَّاعَاتِ إِلَى الْحَجِّ يُوقِعُ خَلَلًا فِي الْحَجِّ وَنَقْصًا فِيهِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تعالى أن الأمر ليس كذلك بقوله: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ [الممتحنة: 10] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ التِّجَارَةَ إِذَا أَوْقَعَتْ نُقْصَانًا فِي الطَّاعَةِ لَمْ تَكُنْ مُبَاحَةً، أَمَّا إِنْ لَمْ تُوقِعْ نُقْصَانًا أَلْبَتَّةَ فِيهَا فَهِيَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي الْأَوْلَى تَرْكُهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الْبَيِّنَةِ: 5] وَالْإِخْلَاصُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ حَامِلٌ عَلَى الْفِعْلِ سِوَى كَوْنِهِ عِبَادَةً، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: «أَنَا أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِذْنَ فِي هَذِهِ التِّجَارَةِ جَارٍ مَجْرَى الرخص. قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْإِفَاضَةُ الِانْدِفَاعُ فِي السَّيْرِ بِكَثْرَةٍ، وَمِنْهُ يُقَالُ: أَفَاضَ الْبَعِيرُ بِجَرَّتِهِ، إِذَا وَقَعَ بِهَا فَأَلْقَاهَا مُنْبَثَّةً، وَكَذَلِكَ أَفَاضَ الْأَقْدَاحَ فِي الْمَيْسِرِ، مَعْنَاهُ جَمَعَهَا ثُمَّ أَلْقَاهَا مُتَفَرِّقَةً، وَإِفَاضَةُ الْمَاءِ مِنْ هَذَا لِأَنَّهُ إِذَا صُبَّ تَفَرَّقَ وَالْإِفَاضَةُ فِي الْحَدِيثِ إِنَّمَا هِيَ الِانْدِفَاعُ فِيهِ بِإِكْثَارٍ وَتَصَرُّفٍ فِي وُجُوهِهِ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يُونُسَ: 61] وَمِنْهُ يُقَالُ لِلنَّاسِ: فَوْضٌ، وَأَيْضًا جَمْعُهُمْ فَوْضَى وَيُقَالُ: أَفَاضَتِ الْعَيْنُ دَمْعَهَا فَأَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الدَّفْعُ لِلشَّيْءِ حَتَّى يَتَفَرَّقَ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَضْتُمْ أَيْ دَفَعْتُمْ بِكَثْرَةٍ، وَأَصْلُهُ أَفَضْتُمْ أَنْفُسَكُمْ، فَتَرَكَ ذِكْرَ الْمَفْعُولِ، كَمَا تَرَكَ فِي قَوْلِهِمْ: دَفَعُوا مِنْ مَوْضِعِ كَذَا وَصَبُّوا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَنَزَلَ فِي وَادِي قَيْرَوَانَ وَهُوَ يَخْدِشُ بَعِيرَهُ بِمِحْجَنِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عَرَفاتٍ جُمَعُ عَرَفَةَ، سُمِّيَتْ بِهَا بُقْعَةٌ وَاحِدَةٌ، كَقَوْلِهِمْ: ثَوْبٌ أَخْلَاقٌ، وَبُرْمَةٌ أَعْشَارٌ، وَأَرْضٌ سَبَاسِبٌ، وَالتَّقْدِيرُ: كَأَنَّ كُلَّ قِطْعَةٍ مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ عَرَفَةُ فَسُمِّيَ مَجْمُوعُ تِلْكَ الْقِطَعِ بِعَرَفَاتٍ، فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا مُنِعَتْ مِنَ الصَّرْفِ وَفِيهَا السَّبَبَانِ: التَّعْرِيفُ وَالتَّأْنِيثُ قُلْنَا: هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِقِطَعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْأَرْضِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مُسَمَّاةٌ بِعَرَفَةَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَكُنْ عَلَمًا ثُمَّ جُعِلَتْ عَلَمًا لِمَجْمُوعِ تِلْكَ الْقِطَعِ فَتَرَكُوهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهَا فِي عَدَمِ الصَّرْفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْيَوْمَ الثَّامِنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ يُسَمَّى بِيَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَالْيَوْمَ التَّاسِعَ مِنْهُ يُسَمَّى بِيَوْمِ عَرَفَةَ، وَذَلِكَ الْمَوْضِعُ الْمَخْصُوصُ سُمِّيَ بِعَرَفَاتٍ، وَذَكَرُوا فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وُجُوهًا أَمَّا يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: مِنْ رَوَى يَرْوِي تَرْوِيَةً، إِذَا تَفَكَّرَ وَأَعْمَلَ فِكْرَهُ وَرَوِيَّتَهُ وَالثَّانِي: مِنْ رَوَاهُ مِنَ الْمَاءِ يَرْوِيهِ إِذَا سَقَاهُ مِنْ عَطَشٍ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا بَنَاهُ تَفَكَّرَ فَقَالَ: رَبِّ إِنَّ لِكُلِّ عَامِلٍ أَجْرًا فَمَا أَجْرِي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ؟ قَالَ: إِذَا طُفْتَ بِهِ غَفَرْتُ لَكَ ذُنُوبَكَ بِأَوَّلِ شَوْطٍ مِنْ طَوَافِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ زِدْنِي قَالَ: أَغْفِرُ لِأَوْلَادِكَ إِذَا طَافُوا بِهِ، قَالَ: زِدْنِي قَالَ: أَغْفِرُ لِكُلِّ مَنِ اسْتَغْفَرَ لَهُ الطَّائِفُونَ مِنْ مُوَحِّدِي أَوْلَادِكَ، قَالَ: حَسْبِي يَا رَبِّ حَسْبِي وَثَانِيهَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى فِي مَنَامِهِ لَيْلَةَ التَّرْوِيَةِ كَأَنَّهُ يَذْبَحُ ابْنَهُ فَأَصْبَحَ مُفَكِّرًا هَلْ هَذَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنَ الشَّيْطَانِ؟ فَلَمَّا رَآهُ لَيْلَةَ عَرَفَةَ يُؤْمَرُ بِهِ أَصْبَحَ فَقَالَ: عَرَفْتُ يَا رَبِّ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَخْرُجُونَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إِلَى مِنًى فَيَرْوُونَ فِي الْأَدْعِيَةِ الَّتِي يُرِيدُونَ أَنْ يَذْكُرُوهَا فِي غَدِهِمْ بِعَرَفَاتٍ.

أَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اشْتِقَاقُهُ مِنْ تَرْوِيَةِ الْمَاءِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا يُخْفُونَ الْمَاءَ لِلْحَجِيجِ الَّذِينَ يَقْصِدُونَهُمْ مِنَ الْآفَاقِ، وَكَانَ الْحَاجُّ يَسْتَرِيحُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ مِنْ مَشَاقِّ السَّفَرِ، وَيَتَّسِعُونَ فِي الْمَاءِ، وَيَرْوُونَ بَهَائِمَهُمْ بَعْدَ مُقَاسَاتِهِمْ قِلَّةَ الْمَاءِ فِي طَرِيقِهِمْ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ يَتَزَوَّدُونَ الْمَاءَ إِلَى عَرَفَةَ والثالث: أن المذنبين كالعطاش الذي وَرَدُوا بِحَارَ رَحْمَةِ اللَّهِ فَشَرِبُوا مِنْهَا حَتَّى رُوُوا، وَأَمَّا فَضْلُ هَذَا الْيَوْمِ فَدَلَّ عَلَيْهِ قوله تعالى: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ [الشفع: 3] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّ الشَّفْعَ التَّرْوِيَةُ وَعَرَفَةُ، وَالْوَتْرَ يَوْمُ النَّحْرِ، وَعَنْ عُبَادَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «صِيَامُ عَشْرِ الْأَضْحَى كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا كَالشَّهْرِ، وَلِمَنْ يَصُومُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ سَنَةٌ، وَلِمَنْ يَصُومُ يَوْمَ عَرَفَةَ سَنَتَانِ» وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَنْ صَامَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَعْطَاهُ اللَّهُ مِثْلَ ثَوَابِ أَيُّوبَ عَلَى بَلَائِهِ، وَمَنْ صَامَ يَوْمَ عَرَفَةَ أعطاه الله تعالى مثل ثواب عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ» . وَأَمَّا يَوْمُ عَرَفَةَ فَلَهُ عَشَرَةُ أَسْمَاءٍ، خَمْسَةٌ مِنْهَا مُخْتَصَّةٌ بِهِ، وَخَمْسَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، أَمَّا الْخَمْسَةُ الْأُولَى فَأَحَدُهَا: عَرَفَةُ، وَفِي اشْتِقَاقِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَفِيهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ الْتَقَيَا بِعَرَفَةَ فَعَرَفَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَسُمِّيَ/ الْيَوْمُ عَرَفَةَ، وَالْمَوْضِعُ عَرَفَاتٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا لَمَّا أُهْبِطَا من الجنة وقع آدم بسر نديب، وَحَوَّاءُ بِجُدَّةَ، وَإِبْلِيسُ بِنِيسَانَ، وَالْحَيَّةُ بِأَصْفَهَانَ، فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ بِالْحَجِّ لَقِيَ حَوَّاءَ بِعَرَفَاتٍ فَتَعَارَفَا وَثَانِيهَا: أَنَّ آدَمَ عَلَّمَهُ جِبْرِيلُ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، فَلَمَّا وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ قَالَ لَهُ: أَعَرَفْتَ؟ قَالَ نَعَمْ، فَسُمِّيَ عَرَفَاتٍ وَثَالِثُهَا: قَوْلُ عَلِيٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَالسُّدِّيِّ: سُمِّيَ الْمَوْضِعُ عَرَفَاتٍ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَرَفَهَا حِينَ رَآهَا بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّعْتِ وَالصِّفَةِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ عَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَنَاسِكَ، وَأَوْصَلَهُ إِلَى عَرَفَاتٍ، وَقَالَ لَهُ: أَعَرَفْتَ كَيْفَ تَطُوفُ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ تَقِفُ؟ قَالَ نَعَمْ وَخَامِسُهَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَضَعَ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ وَأُمَّهُ هَاجَرَ بِمَكَّةَ وَرَجَعَ إِلَى الشَّامِ وَلَمْ يَلْتَقِيَا سِنِينَ، ثُمَّ الْتَقَيَا يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ وَسَادِسُهَا: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَمْرِ مَنَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَابِعُهَا: أَنَّ الْحَاجَّ يَتَعَارَفُونَ فِيهِ بِعَرَفَاتٍ إِذَا وَقَفُوا وَثَامِنُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يَتَعَرَّفُ فِيهِ إِلَى الْحَاجِّ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي اشْتِقَاقِ عَرَفَةَ أَنَّهُ مِنَ الِاعْتِرَافِ لِأَنَّ الْحُجَّاجَ إِذَا وَقَفُوا فِي عَرَفَةَ اعْتَرَفُوا لِلْحَقِّ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْجَلَالِ وَالصَّمَدِيَّةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ وَلِأَنْفُسِهِمْ بِالْفَقْرِ وَالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْحَاجَةِ وَيُقَالُ: إِنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَمَّا وَقَفَا بِعَرَفَاتٍ قَالَا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا، فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْآنَ عَرَفْتُمَا أَنْفُسَكُمَا. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مِنَ العرف وهو الرائحة الطيبة قال تعالى: يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ [مُحَمَّدٍ: 6] أَيْ طَيَّبَهَا لَهُمْ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُذْنِبِينَ لَمَّا تَابُوا فِي عَرَفَاتٍ فَقَدْ تَخَلَّصُوا عَنْ نَجَاسَاتِ الذُّنُوبِ، وَيَكْتَسِبُونَ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى رَائِحَةً طَيِّبَةً، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ عِنْدَ اللَّهِ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» الثَّانِي: يَوْمُ إِيَاسِ الْكُفَّارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ الثَّالِثُ: يَوْمُ إِكْمَالِ الدِّينِ الرَّابِعُ: يَوْمُ إِتْمَامِ النِّعْمَةِ الْخَامِسُ: يَوْمُ الرِّضْوَانِ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فِي أَرْبَعِ آيَاتٍ، فِي قَوْلِهِ: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ [الْمَائِدَةِ: 3] الْآيَةَ، قَالَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وَكَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ فِي مَوْقِفِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَقَدِ اضْمَحَلَّ الْكُفْرُ، وَهُدِّمَ بُنْيَانُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَقَرَّتْ أَعْيُنُهُمْ» فَقَالَ يَهُودِيٌّ لِعُمَرَ: لَوْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَيْنَا لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا فَقَالَ عُمَرُ: أَمَّا نَحْنُ فَجَعَلْنَاهُ عِيدَيْنِ، كَانَ يَوْمَ عَرَفَةَ ويوم

الْجُمُعَةِ فَأَمَّا مَعْنَى: إِيَاسِ الْمُشْرِكِينَ: فَهُوَ أَنَّهُمْ يَئِسُوا مِنْ قَوْمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَرْتَدُّوا رَاجِعِينَ إِلَى دِينِهِمْ، فَأَمَّا مَعْنَى إِكْمَالِ الدِّينِ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَمَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَأَمَّا إِتْمَامُ النِّعْمَةِ فَأَعْظَمُ النِّعَمِ نِعْمَةُ الدِّينِ، لِأَنَّ بِهَا يَسْتَحِقُّ الْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ وَالْخَلَاصَ مِنَ النَّارِ، وَقَدْ تَمَّتْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الْمَائِدَةِ: 6] وَلَمَّا جَاءَ الْبَشِيرُ وَقَدِمَ/ عَلَى يَعْقُوبَ، قَالَ: عَلَى أَيِّ دِينٍ تَرَكْتَ يُوسُفَ؟ قَالَ: عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ قَالَ: الْآنَ تَمَّتِ النِّعْمَةُ، وَأَمَّا مَعْنَى الرِّضْوَانِ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى رَضِيَ بِدِينِهِمُ الَّذِي تَمَسَّكُوا بِهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ فَهِيَ بِشَارَةٌ بَشَّرَهُمْ بِهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَلَا يَوْمَ أَكْمَلُ مِنَ الْيَوْمِ الَّذِي بَشَّرَهُمْ فِيهِ بِإِكْمَالِ الدِّينِ، وَقِيلَ: هَذَا الْيَوْمُ يَوْمُ صِلَةِ الْوَاصِلِينَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [الْمَائِدَةِ: 3] وَيَوْمُ قَطِيعَةِ الْقَاطِعِينَ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التَّوْبَةِ: 3] وَيَوْمُ إِقَالَةِ عَثْرِ النَّادِمِينَ وَقَبُولِ تَوْبَةِ التَّائِبِينَ رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: 23] فَكَمَا تَابَ بِرَحْمَتِهِ عَلَى آدَمَ فِيهِ فَكَذَلِكَ يَتُوبُ عَلَى أَوْلَادِهِ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [الشُّورَى: 25] وَهُوَ أَيْضًا يوم وقد الْوَافِدِينَ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا [الحج: 27] وفي الخبر «الحاج وقد اللَّهِ، وَالْحَاجُّ زُوَّارُ اللَّهِ وَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ الْكَرِيمِ أَنْ يُكْرِمَ زَائِرَهُ» . وَأَمَّا الْأَسْمَاءُ الْخَمْسَةُ الْأُخْرَى لِيَوْمِ عَرَفَةَ فَأَحَدُهَا: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ [التَّوْبَةِ: 3] وَهَذَا الِاسْمُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ عَرَفَةَ وَالنَّحْرِ، وَاخْتَلَفَ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَرَفَةُ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ فِيهِ الْوُقُوفُ بِعَرَفَاتٍ وَالْحَجُّ عَرَفَةُ إِذَا لَوْ أَدْرَكَهُ وَفَاتَهُ سَائِرُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ أَجْزَأَ عَنْهَا الدَّمُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ سُمِّيَ بِالْحَجِّ الْأَكْبَرِ قَالَ الْحَسَنُ: سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ الْكُفَّارُ وَالْمُسْلِمُونَ، وَنُودِيَ فِيهِ أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَهُ مُشْرِكٌ، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِنَّمَا سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ أَعْيَادُ أَهْلِ الْمِلَلِ كُلِّهَا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَحَجَّ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَجْتَمِعْ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ لِأَنَّهُ يَقَعُ فِيهِ أَكْثَرُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، فَأَمَّا الْوُقُوفُ فَلَا يَجِبُ فِي الْيَوْمِ بَلْ يُجْزِئُ فِي اللَّيْلِ وَرُوِيَ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَثَانِيهَا: الشَّفْعُ وَثَالِثُهَا: الْوَتْرُ وَرَابِعُهَا: الشَّاهِدُ وَخَامِسُهَا: الْمَشْهُودُ فِي قَوْلِهِ: وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ [الْبُرُوجِ: 3] وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ فَسَّرْنَاهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ يَوْمَ عَرَفَةَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَيَّامِ الْحَجِّ بِفَضَائِلَ، مِنْهَا أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ صَوْمَهُ بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «صَوْمُ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ كَفَّارَةُ سَنَةٍ وَصَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ» وَعَنْ أَنَسٍ كَانَ يُقَالُ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ: كُلُّ يَوْمٍ بِأَلْفٍ وَيَوْمُ عَرَفَةَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ بَلْ يُسْتَحَبُّ لِلْحَاجِّ الْوَاقِفِ بِعَرَفَاتٍ أَنْ يُفْطِرَ حَتَّى يَكُونَ وَقْتَ الدُّعَاءِ قَوِيَّ الْقَلْبِ حَاضِرَ النَّفْسِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ نُشِيرَ إِشَارَةً حَقِيقِيَّةً إِلَى تَرْتِيبِ أَعْمَالِ الْحَجِّ حَتَّى يَسْهُلَ الْوُقُوفُ عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ، فَمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ مُحْرِمًا فِي ذِي الْحِجَّةِ أَوْ قَبْلَهُ، فَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا طَافَ طَوَافَ الْقُدُومِ، وَأَقَامَ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى عَرَفَاتٍ، وَإِنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا طَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ وَتَحَلَّلَ مِنْ عُمْرَتِهِ وَأَقَامَ إِلَى وَقْتِ خُرُوجِهِ إِلَى عَرَفَاتٍ، وَحِينَئِذٍ يُحْرِمُ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ بِالْحَجِّ وَيَخْرُجُ وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَالسُّنَّةُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْطُبَ بمكة يوم السابع من ذي الحجة، بعد ما يُصَلِّي الظُّهْرَ خُطْبَةً وَاحِدَةً يَأْمُرُ النَّاسَ فِيهَا بالذهاب غدا بعد ما يُصَلُّونَ الصُّبْحَ إِلَى مِنًى وَيُعَلِّمُهُمْ/ تِلْكَ الْأَعْمَالَ، ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ يَذْهَبُونَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إِلَى مِنًى بِحَيْثُ يُوَافُونَ

الظُّهْرَ بِهَا، وَيُصَلُّونَ بِهَا مَعَ الْإِمَامِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، ثُمَّ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ عَلَى ثَبِيرٍ يَتَوَجَّهُونَ إِلَى عَرَفَاتٍ، فَإِذَا دَنَوْا مِنْهَا فَالسُّنَّةُ أَنْ لَا يَدْخُلُوهَا، بَلْ يَضْرِبُ فِيهِ الْإِمَامُ بِنَمِرَةَ وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ عَرَفَةَ، فَيَنْزِلُونَ هُنَاكَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، فَيَخْطُبُ الْإِمَامُ خُطْبَتَيْنِ يُبَيِّنُ لَهُمْ مَنَاسِكَ الْحَجِّ وَيُحَرِّضُهُمْ عَلَى إِكْثَارِ الدُّعَاءِ وَالتَّهْلِيلِ بالموقف، إذا فَرَغَ مِنَ الْخُطْبَةِ الْأُولَى جَلَسَ، ثُمَّ قَامَ وَافْتَتَحَ الْخُطْبَةَ الثَّانِيَةَ وَالْمُؤَذِّنُونَ يَأْخُذُونَ فِي الْأَذَانِ مَعَهُ وَيُخَفِّفُ بِحَيْثُ يَكُونُ فَرَاغُهُ مِنْهَا مَعَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِينَ مِنَ الْأَذَانِ، ثُمَّ يَنْزِلُ فَيُقِيمُ الْمُؤَذِّنُونَ فَيُصَلِّي بِهِمُ الظُّهْرَ، ثُمَّ يُقِيمُونَ فِي الْحَالِ وَيُصَلِّي بِهِمُ الْعَصْرَ، وَهَذَا الْجَمْعُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ يَتَوَجَّهُونَ إِلَى عَرَفَاتٍ فَيَقِفُونَ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ هُنَاكَ، وَإِذَا وَقَفُوا اسْتَقْبَلُوا الْقِبْلَةَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى وَيَدْعُونَهُ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوُقُوفَ رُكْنٌ لَا يُدْرَكُ الْحَجُّ إِلَّا بِهِ فَمَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ فِي وَقْتِهِ وَمَوْضُوعِهِ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَوَقْتُ الْوُقُوفِ يَدْخُلُ بِزَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَيَمْتَدُّ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَذَلِكَ نِصْفُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٌ كَامِلَةٌ، وَإِذَا حَضَرَ الْحَاجُّ هُنَاكَ فِي هَذَا الْوَقْتِ لَحْظَةً وَاحِدَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ كَفَى، وَقَالَ أَحْمَدُ: وَقْتُ الْوُقُوفِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ يوم عرفة، ويمتد إلى طلوع الفجر من يَوْمِ النَّحْرِ فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ دَفَعَ الْإِمَامُ مِنْ عَرَفَاتٍ وَأَخَّرَ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ. وَفِي تَسْمِيَةِ الْمُزْدَلِفَةِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ يَقْرُبُونَ فِيهَا مِنْ مِنًى وَالِازْدِلَافُ الْقُرْبُ وَالثَّانِي: أَنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ فِيهَا وَالِاجْتِمَاعُ الِازْدِلَافُ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ يَزْدَلِفُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْ يَتَقَرَّبُونَ بِالْوُقُوفِ وَيُقَالُ لِلْمُزْدَلِفَةِ: جَمْعٌ لِأَنَّهُ يُجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَالْمَغْرِبِ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ، وَقِيلَ إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اجْتَمَعَ فِيهَا مَعَ حَوَّاءَ، وَازْدَلَفَ إِلَيْهَا أَيْ دَنَا مِنْهَا، ثُمَّ إِذَا أَتَى الْإِمَامُ الْمُزْدَلِفَةَ: جَمَعَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِإِقَامَتَيْنِ، ثُمَّ يَبِيتُونَ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَبِتْ بِهَا فَعَلَيْهِ دَمُ شَاةٍ، فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّوْا صَلَاةَ الصُّبْحِ بغلس والتغليس بالفجر هاهنا أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا مِنْهُ فِي غَيْرِهَا، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا صَلَّوُا الصُّبْحَ أَخَذُوا مِنْهَا الْحَصَى لِلرَّمْيِ، يَأْخُذُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهَا سَبْعِينَ حَصَاةً، ثُمَّ يَذْهَبُونَ إِلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَهُوَ جَبَلٌ يُقَالُ لَهُ قُزَحُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَهَذَا الْجَبَلُ أَقْصَى الْمُزْدَلِفَةِ مِمَّا يَلِي مِنًى، فَيَرْقَى فَوْقَهُ إِنْ أَمْكَنَهُ، أَوْ وَقَفَ بِالْقُرْبِ مِنْهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ، وبحمد الله تالي يُهَلِّلُهُ وَيُكَبِّرُهُ، وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُسْفِرَ جِدًّا، ثُمَّ يَدْفَعُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَيَكْفِي الْمُرُورُ كَمَا فِي عَرَفَةَ، ثُمَّ يَذْهَبُونَ مِنْهُ إِلَى وَادِي مُحَسِّرٍ فَإِذَا بَلَغُوا بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ كَانَ رَاكِبًا أَنْ يُحَرِّكَ دَابَّتَهُ، وَمَنْ كَانَ مَاشِيًا أَنْ يَسْعَى سَعْيًا شَدِيدًا قَدْرَ رَمْيَةِ حَجَرٍ، / فَإِذَا أَتَوْا مِنًى رَمَوْا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِذَا ابْتَدَأَ الرَّمْيَ، فَإِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ذَبَحَ الْهَدْيَ إِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَذَلِكَ سُنَّةٌ لَوْ تَرَكَهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَكُونُ مَعَهُ هَدْيٌ، ثم بعد ما ذَبَحَ الْهَدْيَ يَحْلِقُ رَأْسَهُ أَوْ يُقَصِّرُ وَالتَّقْصِيرُ أَنْ يَقْطَعَ أَطْرَافَ شُعُورِهِ، ثُمَّ بَعْدَ الْحَلْقِ يَأْتِي مَكَّةَ وَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَعُودُونَ إِلَى مِنًى فِي بَقِيَّةِ يَوْمِ النَّحْرِ وَعَلَيْهِمُ الْبَيْتُوتَةُ بِمِنًى لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ لِأَجْلِ الرَّمْيِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الرَّمْيُ وَالْحَلْقُ وَالطَّوَافُ فَقَدْ حَصَلَ التَّحَلُّلُ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّحَلُّلِ حِلُّ اللُّبْسِ وَالتَّقْلِيمِ وَالْجِمَاعِ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي أَعْمَالِ الْحَجِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا قَدْ غَيَّرُوا مَنَاسِكَ الْحَجِّ عَنْ سُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام،

وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَقَوْمًا آخَرِينَ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ بِالْحُمْسِ، وَهُمْ أَهْلُ الشِّدَّةِ فِي دِينِهِمْ، وَالْحَمَاسَةُ الشِّدَّةُ يُقَالُ: رَجُلٌ أَحْمُسُ وَقَوْمٌ حُمْسٌ، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا لَا يَقِفُونَ فِي عَرَفَاتٍ، وَيَقُولُونَ لَا نَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ وَلَا نَتْرُكُهُ فِي وَقْتِ الطَّاعَةِ وَكَانَ غَيْرُهُمْ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ وَالَّذِينَ كَانُوا يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ يُفِيضُونَ قَبْلَ أَنْ تغرب الشمس، والذي يَقِفُونَ بِمُزْدَلِفَةَ يُفِيضُونَ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرُ، وَمَعْنَاهُ: أَشْرِقْ يَا ثَبِيرُ بِالشَّمْسِ كَيْمَا نَنْدَفِعُ مِنْ مُزْدَلِفَةَ فَيَدْخُلُونَ فِي غَوْرٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ الْمُنْخَفَضُ مِنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَاوَزُوا الْمُزْدَلِفَةَ وَصَارُوا فِي غَوْرٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمُخَالَفَةِ الْقَوْمِ فِي الدَّفْعَتَيْنِ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُفِيضَ مِنْ عَرَفَةَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَبِأَنْ يُفِيضَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَالْآيَةُ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ، بَلِ السُّنَّةُ دَلَّتْ عَلَى هَذِهِ الْأَحْكَامِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُصُولَ بِعَرَفَةَ وَاجِبٌ فِي الْحَجِّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ ذِكْرِ اللَّهِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ عِنْدَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَالْإِفَاضَةُ مِنْ عَرَفَاتٍ مَشْرُوطَةٌ بِالْحُصُولِ فِي عَرَفَاتٍ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ وَكَانَ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ فَهُوَ وَاجِبٌ فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْحُصُولَ فِي عَرَفَاتٍ وَاجِبٌ فِي الْحَجِّ، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ آتِيًا بِالْحَجِّ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ شَرْطًا أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْحَجَّ يَحْصُلُ عِنْدَ تَرْكِ بَعْضِ الْمَأْمُورَاتِ إِلَّا أَنَّ الْأَصْلَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنَّمَا يَعْدِلُ عَنْهُ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ شَرْطٌ وَنُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَاجِبٌ، إِلَّا أَنَّهُ إِنْ فَاتَهُ ذَلِكَ قَامَ الْوُقُوفُ بِجَمِيعِ الْحَرَمِ مَقَامَهُ، وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْحَجَّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ يَدُلُّ أَنَّ الْحُصُولَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاجِبٌ وَيَكْفِي فِيهِ الْمُرُورُ بِهِ كَمَا فِي عَرَفَةَ، فَأَمَّا الْوُقُوفُ هُنَاكَ فَمَسْنُونٌ، وَرُوِيَ عَنْ عَلْقَمَةَ/ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: الْوُقُوفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ رُكْنٌ بِمَنْزِلَةِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَحُجَّتُهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لَا ذِكْرَ لَهُ صَرِيحًا فِي الْكِتَابِ وَإِنَّمَا وَجَبَ بِإِشَارَةِ الْآيَةِ أَوْ بِالسُّنَّةِ، وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ فِيهِ أَمْرُ جَزْمٍ، وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهُ لَيْسَ بِرُكْنٍ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْحَجُّ عَرَفَةُ فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» وَبِقَوْلِهِ: «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ» قَالُوا: وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قُلْنَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ أَمَرَ بِالذِّكْرِ لَا بِالْوُقُوفِ، فَعَلِمَ أَنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ تَبَعٌ لِلذِّكْرِ، وَلَيْسَ بِأَصْلٍ، وَأَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَهُوَ أَصْلٌ لِأَنَّهُ قَالَ: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ وَلَمْ يَقُلْ مِنَ الذِّكْرِ بِعَرَفَاتٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْمَشْعَرِ الْمَعْلَمُ وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِكَ: شَعَرْتُ بِالشَّيْءِ إِذَا عَلِمْتَهُ، وَلَيْتَ شعري ما فعل فلان، أي ليت عِلْمِي بَلَغَهُ وَأَحَاطَ بِهِ، وَشِعَارُ الشَّيْءِ أَعْلَامُهُ، فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، لِأَنَّهُ مَعْلَمٌ مِنْ مَعَالِمِ الْحَجِّ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ قَائِلُونَ: الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ هُوَ الْمُزْدَلِفَةُ، وَسَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالْمَقَامَ وَالْمَبِيتَ بِهِ وَالدُّعَاءَ عِنْدَهُ، هَكَذَا قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْأَصَحُّ أَنَّهُ قُزَحُ، وَهُوَ آخِرُ حَدِّ الْمُزْدَلِفَةِ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ يَحْصُلُ عَقِيبَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِالْبَيْتُوتَةِ بِالْمُزْدَلِفَةِ.

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الذِّكْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ هُنَاكَ وَالصَّلَاةُ تُسَمَّى ذِكْرًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ أَمْرٌ وَهُوَ لِلْوُجُوبِ، وَلَا ذِكْرَ هُنَاكَ يَجِبُ إِلَّا هَذَا، وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَالُوا: الْمُرَادُ مِنْهُ ذِكْرُ اللَّهِ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى النَّاسِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَقَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا أَدْرَكُوا هَذِهِ اللَّيْلَةَ لَا يَنَامُونَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَمَّا قَالَ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ فَلِمَ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى وَاذْكُرُوهُ وَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّكْرِيرِ؟. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ لَا قِيَاسِيَّةٌ فَقَوْلُهُ أَوَّلًا: فَاذْكُرُوا اللَّهَ أَمْرٌ بِالذِّكْرِ، وَقَوْلُهُ ثَانِيًا: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ أَمْرٌ لَنَا بِأَنْ نَذْكُرَهُ سُبْحَانَهُ بِالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي بَيَّنَهَا لَنَا وَأَمَرَنَا أَنْ نَذْكُرَهُ بِهَا، لَا بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي نَذْكُرُهَا بِحَسَبِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالذِّكْرِ أَوَّلًا، ثُمَّ قَالَ ثَانِيًا: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ أَيْ وَافْعَلُوا مَا أَمَرْنَاكُمْ بِهِ مِنَ الذِّكْرِ كَمَا هَدَاكُمُ اللَّهُ لِدِينِ الْإِسْلَامِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّمَا أَمَرْتُكُمْ بِهَذَا الذِّكْرِ/ لِتَكُونُوا شَاكِرِينَ لِتِلْكَ النِّعْمَةِ، وَنَظِيرُهُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ التَّكْبِيرِ إِذَا أَكْمَلُوا شَهْرَ رَمَضَانَ، فَقَالَ: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ [الْبَقَرَةِ: 185] وَقَالَ في «الأضاحي» : كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ [الحج: 37] وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ أَوَّلًا: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ أَمَرَ بِالذِّكْرِ بِاللِّسَانِ وَقَوْلَهُ ثَانِيًا: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ أَمَرَ بِالذِّكْرِ بِالْقَلْبِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الذِّكْرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا: ذِكْرٌ هُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ وَالثَّانِي: الذِّكْرُ بِالْقَوْلِ، فَمَا هُوَ خِلَافُ النِّسْيَانِ قَوْلُهُ: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الْكَهْفِ: 63] وَأَمَّا الذِّكْرُ الَّذِي هُوَ الْقَوْلُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [الْبَقَرَةِ: 200] وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [الْبَقَرَةِ: 203] فَثَبَتَ أَنَّ الذِّكْرَ وَارِدٌ بِالْمَعْنَيَيْنِ فَالْأَوَّلُ: مَحْمُولٌ عَلَى الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ وَالثَّانِي: عَلَى الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ، فَإِنَّ بِهِمَا يَحْصُلُ تَمَامُ الْعُبُودِيَّةِ وَرَابِعُهَا: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ يَعْنِي اذْكُرُوهُ بِتَوْحِيدِهِ كَمَا ذَكَرَكُمْ بِهِدَايَتِهِ وَخَامِسُهَا: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الذِّكْرِ مُوَاصَلَةَ الذِّكْرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: اذْكُرُوا اللَّهَ وَاذْكُرُوهُ أَيِ اذْكُرُوهُ ذِكْرًا بَعْدَ ذِكْرٍ، كَمَا هَدَاكُمْ هِدَايَةً بَعْدَ هداية، ويرجع حاصله إلى قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الْأَحْزَابِ: 41] وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الشَّرِيعَةِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّ تَوْقِيفَ الذِّكْرِ عَلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فِيهِ إِقَامَةٌ لِوَظَائِفِ الشَّرِيعَةِ، فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا قَرُبْتَ إِلَى مَرَاتِبِ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ أَنْ يَنْقَطِعَ قَلْبُكَ عَنِ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، بَلْ عَنْ مَنْ سِوَاهُ فَيَصِيرَ مُسْتَغْرِقًا فِي نُورِ جَلَالِهِ وَصَمَدِيَّتِهِ، وَيَذْكُرَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ لِهَذَا الذِّكْرِ وَلِأَنَّ هَذَا الذِّكْرَ يُعْطِيكَ نِسْبَةً شَرِيفَةً إِلَيْهِ بِكَوْنِكَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَكُونُ فِي مَقَامِ الْعُرُوجِ ذَاكِرًا لَهُ وَمُشْتَغِلًا بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا بَدَأَ بِالْأَوَّلِ وَثَنَّى بِالثَّانِي لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ فِي مَقَامِ الْعُرُوجِ فَيَصْعَدُ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى وَهَذَا مَقَامٌ شَرِيفٌ لَا يَشْرَحُهُ الْمَقَالُ وَلَا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْخَيَالُ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ، فَلْيَكُنْ مِنَ الْوَاصِلِينَ إِلَى الْعَيْنِ، دُونَ السَّامِعِينَ للأثر ورابعها: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ هُوَ ذِكْرَ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ الْحُسْنَى، وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الثَّانِي: الِاشْتِغَالُ بِشُكْرِ نَعْمَائِهِ، وَالشُّكْرُ مُشْتَمِلٌ أَيْضًا عَلَى

[سورة البقرة (2) : آية 199]

الذِّكْرِ، فَصَحَّ أَنْ يُسَمِّيَ الشُّكْرَ ذِكْرًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ الثَّانِيَ هُوَ الشُّكْرُ أَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْهِدَايَةِ، فَقَالَ: كَما هَداكُمْ وَالذِّكْرُ الْمُرَتَّبُ عَلَى النِّعْمَةِ لَيْسَ إِلَّا الشُّكْرَ وَثَامِنُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ جَازَ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ الذِّكْرَ مُخْتَصٌّ بِهَذِهِ الْبُقْعَةِ وَبِهَذِهِ الْعِبَادَةِ، يَعْنِي الْحَجَّ فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الشُّبْهَةَ فَقَالَ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ يَعْنِي اذْكُرُوهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَفِي كُلِّ مَكَانٍ، لِأَنَّ هَذَا الذِّكْرَ إِنَّمَا وَجَبَ شُكْرًا عَلَى هِدَايَتِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ نِعْمَةُ الْهِدَايَةِ مُتَوَاصِلَةً غَيْرَ مُنْقَطِعَةٍ، فَكَذَلِكَ الشُّكْرُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَمِرًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ وَتَاسِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ هُنَاكَ، ثُمَّ قَوْلُهُ: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّهْلِيلُ وَالتَّسْبِيحُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْمُرَادُ مِنَ الْهِدَايَةِ فِي قَوْلِهِ: كَما هَداكُمْ؟ الْجَوَابُ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا خَاصَّةٌ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ كَمَا هَدَاكُمْ بِأَنْ رَدَّكُمْ فِي مَنَاسِكِ حَجِّكُمْ إِلَى سُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا بَلْ هِيَ عَامَّةٌ مُتَنَاوِلَةٌ لِكُلِّ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْرِفَةِ مَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَشَرَائِعِهِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِهِ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟. الْجَوَابُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى الْهَدْيِ وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ هَدَاكُمْ مِنَ الضَّالِّينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ بِكِتَابِهِ الَّذِي بَيَّنَ لَكُمْ مَعَالِمَ دِينِهِ، وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِ إِنْزَالِهِ ذلك عَلَيْكُمْ مِنَ الضَّالِّينَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ فَقَالَ الْقَفَّالُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: وَمَا كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ إِلَّا الضَّالِّينَ وَالثَّانِي: قَدْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الضَّالِّينَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ [الطَّارِقِ: 4] وقوله: وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ [الشعراء 186] . [سورة البقرة (2) : آية 199] ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) [في قوله تعالى ثم أفيضوا] فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِهِ الْإِفَاضَةُ مِنْ عَرَفَاتٍ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فَالْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَمْرٌ لِقُرَيْشٍ وَحُلَفَائِهَا وَهُمُ الْحُمْسُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَتَجَاوَزُونَ الْمُزْدَلِفَةَ وَيَحْتَجُّونَ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَرَمَ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوُقُوفُ بِهِ أَوْلَى وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَرَفَّعُونَ عَلَى النَّاسِ وَيَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُ اللَّهِ فَلَا نُحِلُّ حَرَمَ اللَّهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا لَوْ سَلَّمُوا أَنَّ الْمَوْقِفَ هُوَ عَرَفَاتٌ لَا الْحَرَمُ، لَكَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ نَقْصًا فِي الْحَرَمِ ثُمَّ ذَلِكَ النَّقْصُ كَانَ يَعُودُ إِلَيْهِمْ، وَلِهَذَا كَانَ الْحُمْسُ لَا يَقِفُونَ إِلَّا فِي الْمُزْدَلِفَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ أَمْرًا لَهُمْ بِأَنْ يَقِفُوا فِي عَرَفَاتٍ، وَأَنْ يُفِيضُوا مِنْهَا كَمَا تَفْعَلُهُ سَائِرُ النَّاسِ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا جَعَلَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا فِي الْحَجِّ أَمَرَهُ بِإِخْرَاجِ النَّاسِ إِلَى عَرَفَاتٍ، فَلَمَّا ذَهَبَ مَرَّ عَلَى الْحُمْسِ وَتَرَكَهُمْ فَقَالُوا لَهُ: إِلَى أَيْنَ وَهَذَا مَقَامُ آبَائِكَ وَقَوْمِكَ فَلَا تَذْهَبْ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ وَمَضَى بِأَمْرِ اللَّهِ إِلَى عَرَفَاتٍ وَوَقَفَ بِهَا، وَأَمَرَ سَائِرَ النَّاسِ بِالْوُقُوفِ بِهَا، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَقَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ يَعْنِي لِتَكُنْ إِفَاضَتُكُمْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ سَائِرُ النَّاسِ الَّذِينَ هُمْ وَاقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الآية الإضافة مِنْ عَرَفَاتٍ مَنْ يَقُولُ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَفِيضُوا أَمْرٌ عَامٌّ لِكُلِّ النَّاسِ، وَقَوْلُهُ: / مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ

الْمُرَادُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَإِنَّ سُنَّتَهُمَا كَانَتِ الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقِفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِعَرَفَةَ كَسَائِرِ النَّاسِ، وَيُخَالِفُ الْحُمْسَ، وَإِيقَاعُ اسْمِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ جَائِزٌ إِذَا كَانَ رَئِيسًا يُقْتَدَى بِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آلِ عِمْرَانَ: 173] يَعْنِي نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 173] يَعْنِي أَبَا سُفْيَانَ، وَإِيقَاعُ اسْمِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ الْمُعَظَّمِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: 1] وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ ثَالِثٌ ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ عِبَارَةً عَنْ تَقَادُمِ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَةَ وَأَنَّهُ هُوَ الْأَمْرُ الْقَدِيمُ وَمَا سِوَاهُ فَهُوَ مُبْتَدَعٌ مُحْدَثٌ كَمَا يُقَالُ: هَذَا مِمَّا فَعَلَهُ النَّاسُ قَدِيمًا، فَهَذَا جُمْلَةُ الْوُجُوهِ فِي تَقْرِيرِ مَذْهَبِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الضَّحَّاكِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْإِفَاضَةُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِلرَّمْيِ وَالنَّحْرِ وَقَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ وَأَتْبَاعُهُمَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَتْ طَرِيقَتُهُمُ الْإِفَاضَةَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْعَرَبُ الَّذِينَ كَانُوا وَاقِفِينَ بِالْمُزْدَلِفَةِ كَانُوا يُفِيضُونَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِأَنْ تَكُونَ إِفَاضَتُهُمْ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَحْصُلُ فِيهِ إِفَاضَةُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ إِشْكَالًا: أَمَّا الْإِشْكَالُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ أَنَّ هَذِهِ الْإِفَاضَةَ غَيْرُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قوله: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ [البقرة: 198] لِمَكَانِ ثُمَّ فَإِنَّهَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَاتٍ، مَعَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ كَانَ هَذَا عَطْفًا لِلشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ عَرَفَاتٍ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَالتَّقْدِيرُ: فَاتَّقَوْنِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ ربكم، فإذا أفضتم من عرفات فذكروا اللَّهَ، وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يَصِحُّ فِي هَذِهِ الْإِفَاضَةِ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ بِعَيْنِهَا. قُلْنَا: هَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا إِلَّا أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، وَإِذَا أَمْكَنَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ إِلَى مَا ذَكَرْتُمْ فَأَيُّ حَاجَةٍ بِنَا إِلَى الْتِزَامِهِ. وَأَمَّا الْإِشْكَالُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ لَا يَتَمَشَّى إِلَّا إِذَا حَمَلْنَا لَفْظَ مِنْ حَيْثُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ عَلَى الزَّمَانِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمَكَانِ لَا بِالزَّمَانِ. أَجَابَ الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ: عَنْ ذَلِكَ السؤال بأن ثُمَّ هاهنا عَلَى مِثَالِ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: / وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَدِ: 13- 17] أَيْ كَانَ مَعَ هَذَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: قَدْ أَعْطَيْتُكَ الْيَوْمَ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ أَعْطَيْتُكَ أَمْسِ كَذَا فَإِنَّ فَائِدَةَ كلمة ثُمَّ هاهنا تَأَخُّرُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، لَا تَأَخُّرُ هَذَا الْمُخْبَرِ عَنْهُ عَنْ ذَلِكَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ.

وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي: بِأَنَّ التَّوْقِيتَ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ يَتَشَابَهَانِ جِدًّا فَلَا يَبْعُدُ جَعْلُ اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي أَحَدِهِمَا مُسْتَعْمَلًا فِي الْآخَرِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. أَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النَّاسِ إِمَّا الْوَاقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ وَإِمَّا إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَأَتْبَاعُهُمَا، وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ. إِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاحْتَجَّ بِقِرَاءَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَقَالَ: هُوَ آدَمُ نَسِيَ مَا عُهِدَ إِلَيْهِ، وَيُرْوَى أَنَّهُ قَرَأَ النَّاسِ بِكَسْرِ السِّينِ اكْتِفَاءً بالكسرة عن الياء، والمعنى: أن الإفاضة مع عَرَفَاتٍ شَرْعٌ قَدِيمٌ فَلَا تَتْرُكُوهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ مَعَ التَّوْبَةِ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ أَنْ يَنْدَمَ عَلَى كُلِّ تَقْصِيرٍ مِنْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَيَعْزِمَ عَلَى أَنْ لَا يُقَصِّرَ فِيمَا بَعْدُ، وَيَكُونَ غرضه في ذلك تحصيل مرضات اللَّهِ تَعَالَى لَا لِمَنَافِعِهِ الْعَاجِلَةِ كَمَا أَنَّ ذِكْرَ الشَّهَادَتَيْنِ لَا يَنْفَعُ إِلَّا وَالْقَلْبُ حَاضِرٌ مُسْتَقِرٌّ عَلَى مَعْنَاهُمَا، وَأَمَّا الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ حُصُولِ التَّوْبَةِ بِالْقَلْبِ فَهُوَ إِلَى الضَّرَرِ أَقْرَبُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَمَرَ بِالِاسْتِغْفَارِ مُطْلَقًا، وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ فَحِينَئِذٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُذْنِبًا فَالِاسْتِغْفَارُ وَاجِبٌ، وَإِنْ لَمْ يُذْنِبْ إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ صَدَرَ عَنْهُ تَقْصِيرٌ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ، وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ، وَجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِغْفَارُ أَيْضًا تَدَارُكًا لِذَلِكَ الْخَلَلِ الْمُجَوَّزِ، وَإِنْ قَطَعَ بِأَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ أَلْبَتَّةَ خَلَلٌ فِي شَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَهَذَا كَالْمُمْتَنِعِ فِي حَقِّ الْبَشَرِ، فَمِنْ أَيْنَ يُمْكِنُهُ هَذَا الْقَطْعُ فِي عَمَلٍ وَاحِدٍ، فَكَيْفَ فِي أَعْمَالِ كُلِّ الْعُمُرِ، إِلَّا أَنَّ بِتَقْدِيرِ إِمْكَانِهِ فَالِاسْتِغْفَارُ أَيْضًا وَاجِبٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ طَاعَةَ الْمَخْلُوقِ لَا تَلِيقُ بِحَضْرَةِ الْخَالِقِ، وَلِهَذَا قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ، فَكَانَ الِاسْتِغْفَارُ لَازِمًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً» . وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ غَفُورًا يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ، وَكَذَا الرَّحِيمُ، ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنَ التَّائِبِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمُذْنِبَ بِالِاسْتِغْفَارِ، ثُمَّ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ كَثِيرُ الْغُفْرَانِ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ، فَهَذَا يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ لِذَلِكَ الْمُسْتَغْفِرِ، وَيَرْحَمُ ذَلِكَ الَّذِي تَمَسَّكَ بِحَبْلِ رَحْمَتِهِ وَكَرَمِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمَغْفِرَةِ الْمَوْعُودَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ قَائِلُونَ: إِنَّهَا عِنْدَ الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى الْجَمْعِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهَا عِنْدَ الدَّفْعِ مِنَ الْجَمْعِ إِلَى مِنًى، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مُفَرَّعٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ أَفِيضُوا عَلَى أَيِّ الْأَمْرَيْنِ يُحْمَلُ؟ قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَتَأَكَّدُ الْقَوْلُ الثَّانِي بِمَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَطَّلِعُ عَلَيْكُمْ فِي مَقَامِكُمْ هَذَا، فَقَبِلَ مِنْ مُحْسِنِكُمْ وَوَهَبَ مُسِيئَكُمْ لِمُحْسِنِكُمْ، وَالتَّبِعَاتُ عِوَضُهَا مِنْ عِنْدِهِ أَفِيضُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ» فَقَالَ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَضْتَ بِنَا بِالْأَمْسِ كَئِيبًا حَزِينًا وَأَفَضْتَ بِنَا الْيَوْمَ فَرِحًا مَسْرُورًا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

[سورة البقرة (2) : آية 200]

وَالسَّلَامُ: «إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ بِالْأَمْسِ شَيْئًا لَمْ يَجُدْ لِي بِهِ: سَأَلْتُهُ التَّبِعَاتِ فَأَبَى عَلَيَّ بِهِ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: التَّبِعَاتُ ضَمَنْتُ عِوَضَهَا مِنْ عِنْدِي» اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِهِ بِفَضْلِكَ يَا أكرم الأكرمين. [سورة البقرة (2) : آية 200] فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ حَجَّتِهِمْ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَقِفُونَ بَيْنَ مَسْجِدِ مِنًى وَبَيْنَ الْجَبَلِ، وَيَذْكُرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَضَائِلَ آبَائِهِ فِي السَّمَاحَةِ وَالْحَمَاسَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَيَتَنَاشَدُونَ فِيهَا الْأَشْعَارَ، وَيَتَكَلَّمُونَ بِالْمَنْثُورِ مِنَ الْكَلَامِ، وَيُرِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ حُصُولَ الشُّهْرَةِ وَالتَّرَفُّعَ بِمَآثِرِ سَلَفِهِ، فَلَمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ أَمَرَهُمْ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُمْ لِرَبِّهِمْ كَذِكْرِهِمْ لِآبَائِهِمْ، وَرَوَى الْقَفَّالُ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ الْقُصْوَى يَوْمَ الْفَتْحِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنِهِ ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَفَكُّكَهَا، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا النَّاسُ رَجُلَانِ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ أَوْ فَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ ثُمَّ تَلَا يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الْحُجُرَاتِ: 13] أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ» وَعَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْعَرَبَ بِمِنًى بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنَ الْحَجِّ كَانَ أَحَدُهُمْ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ أَبِي كَانَ عَظِيمَ الْجَفْنَةِ، عَظِيمَ الْقَدْرِ، كَثِيرَ الْمَالِ، فَأَعْطِنِي مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْقَضَاءَ إِذَا عُلِّقَ بِفِعْلِ النَّفْسِ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْإِتْمَامُ وَالْفَرَاغُ، وَإِذَا عُلِّقَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْإِلْزَامُ، نَظِيرُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فُصِّلَتَ: 12] ، فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ [الجمعة: 10] وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» وَيُقَالُ فِي الْحَاكِمِ عِنْدَ فَصْلِ الْخُصُومَةِ قَضَى بَيْنَهُمَا، وَنَظِيرُ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ [الْإِسْرَاءِ: 23] وَإِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الْإِعْلَامِ، فَالْمُرَادُ أَيْضًا ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ [الْإِسْرَاءِ: 4] يَعْنِي أَعْلَمْنَاهُمْ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا الْفَرَاغَ مِنْ جَمِيعِهِ خُصُوصًا وَذِكْرُ كَثِيرٍ مِنْهُ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: اذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَنَاسِكِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الذِّكْرِ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الدُّعَاءِ بِعَرَفَاتٍ وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ إِذَا حَجَجْتَ فَطُفْ وَقِفْ بِعَرَفَةَ وَلَا يَعْنِي بِهِ الْفَرَاغَ مِنَ الْحَجِّ بَلِ الدُّخُولَ فِيهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ مُشْعِرٌ بِالْفَرَاغِ وَالْإِتْمَامِ مِنَ الْكُلِّ، وَهَذَا مُفَارِقٌ لِقَوْلِ الْقَائِلِ: إِذَا حَجَجْتَ فَقِفْ بِعَرَفَاتٍ، لِأَنَّ مُرَادَهُ هُنَاكَ الدُّخُولُ فِي الْحَجِّ لَا الْفَرَاغُ، وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا إِلَّا الْفَرَاغَ مِنَ الْحَجِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: «الْمَنَاسِكُ» جَمْعُ مَنْسَكٍ الَّذِي هُوَ الْمَصْدَرُ بِمَنْزِلَةِ النُّسُكِ، أَيْ إِذَا قَضَيْتُمْ عِبَادَاتِكُمُ التي أمرتم بها في الحج، وإن جعلنها جَمْعَ مَنْسَكٍ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ الْعِبَادَةِ، كَانَ التَّقْدِيرُ: فَإِذَا قَضَيْتُمْ أَعْمَالَ مَنَاسِكِكُمْ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: المراد من المناسك هاهنا مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ النَّاسَ فِي الْحَجِّ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ قَضَاءَ الْمَنَاسِكِ هُوَ إِرَاقَةُ الدِّمَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَرَاغَ مِنَ الْمَنَاسِكِ يُوجِبُ هَذَا الذِّكْرَ، فَلِهَذَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الذِّكْرَ أَيُّ ذِكْرٍ هُوَ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الذِّكْرِ عَلَى الذَّبِيحَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ التَّكْبِيرَاتُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وأيام التشويق، عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي وَقْتِهِ أَوَّلًا وَآخِرًا، لِأَنَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْحَجِّ لَا ذِكْرٌ مَخْصُوصٌ إِلَّا هَذِهِ التَّكْبِيرَاتُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْمُرَادُ تَحْوِيلُ الْقَوْمِ عَمَّا اعْتَادُوهُ بَعْدَ الْحَجِّ مِنْ ذِكْرِ التَّفَاخُرِ بِأَحْوَالِ الْآبَاءِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ بِإِنْزَالِ هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَكُونُوا لِيَعْدِلُوا عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الذَّمِيمَةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِذَا قَضَيْتُمْ وَفَرَغْتُمْ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ وَحَلَلْتُمْ فَتَوَفَّرُوا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ دُونَ ذِكْرِ الْآبَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْفَرَاغَ مِنَ الْحَجِّ يُوجِبُ الْإِقْبَالَ عَلَى الدُّعَاءِ، وَالِاسْتِغْفَارِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ تَحَمَّلَ مُفَارَقَةَ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ وَإِنْفَاقَ الْأَمْوَالِ، وَالْتِزَامَ الْمَشَاقِّ فِي سَفَرِ الْحَجِّ فَحَقِيقٌ بِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَكَثْرَةِ الِاسْتِغْفَارِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا جَرَتِ السُّنَّةُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ بِالدَّعَوَاتِ الْكَثِيرَةِ وَفِيهِ وَجْهٌ خَامِسٌ وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ: قَهْرُ النَّفْسِ وَمَحْوُ آثَارِ النَّفْسِ وَالطَّبِيعَةِ ثُمَّ هَذَا الْعَزْمُ لَيْسَ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ تَزُولَ النُّقُوشُ الْبَاطِلَةُ عَنْ لَوْحِ الرُّوحِ حَتَّى يَتَجَلَّى فِيهِ نُورُ جَلَالِ اللَّهِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ وَأَزَلْتُمْ آثَارَ الْبَشَرِيَّةِ، وَأَمَطْتُمُ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ السُّلُوكِ فَاشْتَغِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِتَنْوِيرِ الْقَلْبِ بِذِكْرِ اللَّهِ، فَالْأَوَّلُ نَفْيٌ وَالثَّانِي إِثْبَاتٌ وَالْأَوَّلُ إِزَالَةُ مَا دُونَ الْحَقِّ مِنْ سُنَنِ الْآثَارِ وَالثَّانِي اسْتِنَارَةُ/ الْقَلْبِ بِذِكْرِ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْحَجِّ يُبَالِغُونَ فِي الثَّنَاءِ عَلَى آبَائِهِمْ فِي ذِكْرِ مَنَاقِبِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ يَعْنِي تَوَفَّرُوا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ كَمَا كُنْتُمْ تَتَوَفَّرُونَ عَلَى ذِكْرِ الْآبَاءِ وَابْذُلُوا جُهْدَكُمْ فِي الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَشَرْحِ آلَائِهِ وَنَعْمَائِهِ كَمَا بَذَلْتُمْ جُهْدَكُمْ فِي الثَّنَاءِ عَلَى آبَائِكُمْ لِأَنَّ هَذَا أَوْلَى وَأَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى الْآبَاءِ، فَإِنَّ ذِكْرَ مَفَاخِرِ الْآبَاءِ إِنْ كَانَ كَذِبًا فَذَلِكَ يُوجِبُ الدَّنَاءَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ صِدْقًا فَذَلِكَ يُوجِبُ الْعُجْبَ وَالْكِبْرَ وَكَثْرَةَ الْغُرُورِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُهْلِكَاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ اشْتِغَالَكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَوْلَى مِنِ اشْتِغَالِكُمْ بِمَفَاخِرِ آبَائِكُمْ، فَإِنْ لَمْ تَحْصُلِ الْأَوْلَوِيَّةُ فَلَا أَقَلَّ مِنَ التَّسَاوِي وَثَانِيهَا: قَالَ الضحاك والربيع: اذكروا الله كذكركم آبائكم وَأُمَّهَاتَكُمْ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْآبَاءِ عَنِ الْأُمَّهَاتِ كَقَوْلِهِ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْلِ: 81] قَالُوا وَهُوَ قَوْلُ الصَّبِيِّ أَوَّلَ مَا يُفْصِحُ الْكَلَامَ أَبَهْ أَبَهْ، أَمَّهْ أَمَّهْ، أَيْ كُونُوا مُوَاظِبِينَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ كَمَا يَكُونُ الصَّبِيُّ فِي صِغَرِهِ مُوَاظِبًا عَلَى ذِكْرِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: جَرَى ذِكْرُ الْآبَاءِ مَثَلًا لِدَوَامِ الذِّكْرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الرَّجُلَ كَمَا لَا يَنْسَى ذِكْرَ أَبِيهِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لَا يَغْفَلَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَرَابِعُهَا: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ الْعَرَبَ كَانَ أَكْثَرُ أَقْسَامِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْآبَاءِ كَقَوْلِهِ وَأَبِي وَأَبِيكُمْ وَجَدِّي وجدكم، فقال تعالى: عظموا الله كتعظيمكم آبائكم وَخَامِسُهَا: قَالَ بَعْضُ الْمَذْكُورِينَ: الْمَعْنَى اذْكُرُوا اللَّهَ بالوحدانية كذكركم آبائكم بِالْوَحْدَانِيَّةِ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لَوْ نُسِبَ إِلَى وَالِدَيْنِ لَتَأَذَّى وَاسْتَنْكَفَ مِنْهُ ثُمَّ كَانَ يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ آلِهَةً فَقِيلَ لَهُمْ: اذْكُرُوا اللَّهَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ كذكركم آبائكم بالوحدانية، بل المبالغة في التوحيد هاهنا أَوْلَى مِنْ هُنَاكَ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَوْ أَشَدَّ

[سورة البقرة (2) : الآيات 201 إلى 202]

ذِكْراً وَسَادِسُهَا: أَنَّ الطِّفْلَ كَمَا يَرْجِعُ إِلَى أبيه في طلب جميع المهمات ويكون ذكرا لَهُ بِالتَّعْظِيمِ، فَكُونُوا أَنْتُمْ فِي ذِكْرِ اللَّهِ كَذَلِكَ وَسَابِعُهَا: يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَذْكُرُونَ آبَاءَهُمْ لِيَتَوَسَّلُوا بِذِكْرِهِمْ إِلَى إِجَابَةِ الدُّعَاءِ عِنْدَ اللَّهِ فَعَرَّفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ آبَاءَهُمْ لَيْسُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ إِذْ أَفْعَالُهُمُ الْحَسَنَةُ صَارَتْ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ بِسَبَبِ شِرْكِهِمْ وَأُمِرُوا أَنْ يَجْعَلُوا بَدَلَ ذَلِكَ تَعْدِيدَ آلَاءِ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ وَتَكْثِيرَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ وَسِيلَةً إِلَى تَوَاتُرِ النِّعَمِ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يَحْلِفُوا بِآبَائِهِمْ فَقَالَ: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» إِذَا كَانَ مَا سِوَى اللَّهِ فَإِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ فَالْأَوْلَى تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا إِلَهَ غَيْرَهُ وَثَامِنُهَا: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ أَنْ تَغْضَبَ لِلَّهِ إِذَا عُصِيَ أَشَدَّ مِنْ غَضَبِكَ لِوَالِدِكَ إِذَا ذُكِرَ بِسُوءٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ وَإِنْ كَانَتْ مُحْتَمَلَةً إِلَّا أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ وَجَمِيعُ الْوُجُوهِ مُشْتَرِكَةٌ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ دَائِمَ الذِّكْرِ لِرَبِّهِ دَائِمَ التَّعْظِيمِ لَهُ دَائِمَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ/ فِي طَلَبِ مُهِمَّاتِهِ دَائِمَ الِانْقِطَاعِ عَمَّنْ سِوَاهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: عَامِلُ الْإِعْرَابِ فِي أَشَدَّ قيل: الكاف، فيكون موضعه جرا وقيل: فَاذْكُرُوا فَيَكُونُ مَوْضِعُهُ نَصْبًا، وَالتَّقْدِيرُ: اذْكُرُوا اللَّهَ مِثْلَ ذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ، وَاذْكُرُوهُ أَشَدَّ ذِكْراً مِنْ آبَائِكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً مَعْنَاهُ: بَلْ أَشَدُّ ذِكْرًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَفَاخِرَ آبَائِهِمْ كَانَتْ قَلِيلَةً، أَمَّا صِفَاتُ الْكَمَالِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهِيَ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ اشْتِغَالُهُمْ بِذِكْرِ صِفَاتِ الْكَمَالِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَشَدَّ مِنِ اشْتِغَالِهِمْ بِذِكْرِ مَفَاخِرِ آبَائِهِمْ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَجَازُ اللُّغَةِ فِي مِثْلِ هَذَا مَعْرُوفٌ، يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: افْعَلْ هَذَا إِلَى شَهْرٍ أَوْ أَسْرَعَ مِنْهُ، لَا يُرِيدُ بِهِ التَّشْكِيكَ، إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ النَّقْلَ عَنِ الْأَوَّلِ إِلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ. [سورة البقرة (2) : الآيات 201 الى 202] وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَوَّلًا تَفْصِيلَ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، ثُمَّ أَمَرَ بَعْدَهَا بِالذِّكْرِ، فَقَالَ: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [البقرة: 198] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُتْرَكَ ذِكْرُ غَيْرِهِ، وَأَنْ يُقْتَصُرَ عَلَى ذِكْرِهِ فَقَالَ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ الذِّكْرِ كَيْفِيَّةَ الدُّعَاءِ فَقَالَ: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَمَا أَحْسَنَ هَذَا التَّرْتِيبَ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْعِبَادَةِ لِكَسْرِ النَّفْسِ وَإِزَالَةِ ظُلُمَاتِهَا، ثُمَّ بَعْدَ الْعِبَادَةِ لَا بُدَّ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَنْوِيرِ الْقَلْبِ وَتَجَلِّي نُورِ جَلَالِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الذِّكْرِ يَشْتَغِلُ الرَّجُلُ بِالدُّعَاءِ فَإِنَّ الدُّعَاءَ إِنَّمَا يَكْمُلُ إِذَا كَانَ مَسْبُوقًا بِالذِّكْرِ كَمَا حُكِيَ عَنْ

إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَدَّمَ الذِّكْرَ/ فَقَالَ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشُّعَرَاءِ: 78] ثُمَّ قَالَ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ فَقَدَّمَ الذِّكْرَ عَلَى الدُّعَاءِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ اللَّهَ فَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ دُعَاؤُهُمْ مَقْصُورًا عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا وَالثَّانِي: الَّذِينَ يَجْمَعُونَ فِي الدُّعَاءِ بَيْنَ طَلَبِ الدُّنْيَا وَطَلَبِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ كَانَ فِي التَّقْسِيمِ قِسْمٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ مَنْ يَكُونُ دُعَاؤُهُ مَقْصُورًا عَلَى طَلَبِ الْآخِرَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ هَلْ هُوَ مَشْرُوعٌ أَوْ لَا؟ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مُحْتَاجًا ضَعِيفًا لَا طَاقَةَ لَهُ بِآلَامِ الدُّنْيَا وَلَا بِمَشَاقِّ الْآخِرَةِ، فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِرَبِّهِ مِنْ كُلِّ شُرُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، رَوَى الْقَفَّالُ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ يَعُودُهُ وَقَدْ أَنْهَكَهُ المرض، فقال: ما كنت تدعوا اللَّهَ بِهِ قَبْلَ هَذَا قَالَ: كُنْتُ أَقُولُ. اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ تُعَاقِبُنِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَعَجِّلْ بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ أَلَا قَلْتَ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ [الشعراء: 83] » قَالَ فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشُفِيَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ سَلَّطَ الْأَلَمَ عَلَى عِرْقٍ وَاحِدٍ فِي الْبَدَنِ، أَوْ عَلَى مَنْبَتِ شَعْرَةٍ وَاحِدَةٍ، لَشَوَّشَ الْأَمْرَ عَلَى الْإِنْسَانِ وَصَارَ بِسَبَبِهِ مَحْرُومًا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ الِاشْتِغَالِ بِذِكْرِهِ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْنِي عَنْ إِمْدَادِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أُولَاهُ وَعُقْبَاهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الِاقْتِصَارَ فِي الدُّعَاءِ عَلَى طَلَبِ الْآخِرَةِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ حَيْثُ ذَكَرَ الْقِسْمَيْنِ، وَأَهْمَلَ هَذَا الْقِسْمَ الثَّالِثَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الَّذِينَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقْتَصِرُونَ فِي الدُّعَاءِ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: هُمُ الْكُفَّارُ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ إِذَا وَقَفُوا: اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا إِبِلًا وَبَقَرًا وَغَنَمًا وَعَبِيدًا وَإِمَاءً، وَمَا كَانُوا يَطْلُبُونَ التَّوْبَةَ وَالْمَغْفِرَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ وَالْمَعَادِ، وَعَنْ أَنَسٍ كَانُوا يَقُولُونَ: اسْقِنَا الْمَطَرَ وَأَعْطِنَا عَلَى عَدُوِّنَا الظَّفَرَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ فَلَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ لَا نَصِيبَ لَهُ فِيهَا مِنْ كَرَامَةٍ وَنَعِيمٍ وَثَوَابٍ، نُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: أَهْلُ النَّارِ يَسْتَغِيثُونَ ثُمَّ يَقُولُونَ: أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ، أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا، طَلَبًا لِلْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، فَلَمَّا غَلَبَتْهُمْ شَهَوَاتُهُمُ افْتُضِحُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: هَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّهُمْ يَسْأَلُونَ اللَّهَ لِدُنْيَاهُمْ، لَا لَأُخْرَاهُمْ وَيَكُونُ سُؤَالُهُمْ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الذُّنُوبِ حَيْثُ سَأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى فِي أَعْظَمِ الْمَوَاقِفِ، وَأَشْرَفِ الْمَشَاهِدِ حُطَامَ الدُّنْيَا وَعَرَضَهَا الْفَانِيَ، مُعْرِضِينَ عَنْ سُؤَالِ النَّعِيمِ الدَّائِمِ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ يُقَالُ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ إِنَّهُ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ مُسْلِمًا، كَمَا رُوِيَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ [آلِ عِمْرَانَ: 77] أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ أَخَذَ مَالًا بِيَمِينٍ فَاجِرَةٍ، رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «إن الله يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِأَقْوَامٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ/ ثُمَّ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ وَالثَّانِي: لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ وَالثَّالِثُ: لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ كَخَلَاقِ مَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِآخِرَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَا خَلَاقَ لِمَنْ أَخَذَ مَالًا بِيَمِينٍ فَاجِرَةٍ كَخَلَاقِ مَنْ تَوَرَّعَ عَنْ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حُذِفَ مَفْعُولُ آتِنا مِنَ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ كَالْمَعْلُومِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَرَاتِبَ السَّعَادَاتِ ثَلَاثٌ: رُوحَانِيَّةٌ، وَبَدَنِيَّةٌ، وَخَارِجِيَّةٌ أَمَّا الرُّوحَانِيَّةُ فَاثْنَانِ: تَكْمِيلُ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ بِالْعِلْمِ، وَتَكْمِيلُ الْقُوَّةِ العلمية بِالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَأَمَّا الْبَدَنِيَّةُ فَاثْنَانِ: الصِّحَّةُ وَالْجَمَالُ، وَأَمَّا الْخَارِجِيَّةُ فَاثْنَانِ: الْمَالُ،

وَالْجَاهُ، فَقَوْلُهُ: آتِنا فِي الدُّنْيا يَتَنَاوَلُ كُلَّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ فَإِنَّ الْعِلْمَ إِذَا كَانَ يُرَادُ لِلتَّزَيُّنِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالتَّرَفُّعِ بِهِ عَلَى الْأَقْرَانِ كَانَ مِنَ الدُّنْيَا، وَالْأَخْلَاقُ الْفَاضِلَةُ إِذَا كَانَتْ تُرَادُ لِلرِّيَاسَةِ فِي الدُّنْيَا وَضَبْطِ مَصَالِحِهَا كَانَتْ مِنَ الدُّنْيَا، وَكُلُّ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ وَالْمَعَادِ فَإِنَّهُ لَا يَطْلُبُ فَضِيلَةً لَا رُوحَانِيَّةً وَلَا جُسْمَانِيَّةً إِلَّا لِأَجْلِ الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ هَذَا الْفَرِيقِ وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أَيْ لَيْسَ لَهُ نَصِيبٌ فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشُّورَى: 20] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الَّذِي طَلَبَهُ فِي الدُّنْيَا هَلْ أُجِيبُ لَهُ أَمْ لَا؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِنْسَانِ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْإِجَابَةِ لِأَنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ مُجَابَ الدَّعْوَةِ صِفَةُ مَدْحٍ فَلَا تَثْبُتُ إِلَّا لِمَنْ كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ تَعَالَى مُسْتَحِقًّا لِلْكَرَامَةِ لكنه وإن لَمْ يَجِبْ فَإِنَّهُ مَا دَامَ مُكَلَّفًا حَيًّا فَاللَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِ رِزْقَهُ عَلَى مَا قَالَ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هُودٍ: 6] وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِنْسَانِ قَدْ يَكُونُ مُجَابًا، لَكِنَّ تِلْكَ الْإِجَابَةَ قَدْ تَكُونُ مَكْرًا وَاسْتِدْرَاجًا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ فَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَسَنَةَ فِي الدُّنْيَا عِبَارَةٌ عَنِ الصِّحَّةِ، وَالْأَمْنِ، وَالْكِفَايَةِ وَالْوَلَدِ الصَّالِحِ، وَالزَّوْجَةِ الصَّالِحَةِ، وَالنُّصْرَةِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْخِصْبَ وَالسَّعَةَ فِي الرِّزْقِ، وَمَا أَشْبَهَهُ «حَسَنَةً» فَقَالَ: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [التَّوْبَةِ: 50] وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التَّوْبَةِ: 52] أَنَّهُمَا الظَّفَرُ وَالنُّصْرَةُ وَالشَّهَادَةُ، وَأَمَّا الْحَسَنَةُ في الآخرة فهي الفوز بالثوب، وَالْخَلَاصُ مِنَ الْعِقَابِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ مَطَالِبِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لِأَنَسٍ: ادْعُ لَنَا، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» قَالُوا: زِدْنَا فَأَعَادَهَا قَالُوا زِدْنَا قَالَ مَا تُرِيدُونَ؟ قَدْ سَأَلْتُ لَكُمْ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَقَدْ صَدَقَ أَنَسٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ دَارٌ سِوَى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِذَا سَأَلَ حَسَنَةَ الدُّنْيَا وَحَسَنَةَ الْآخِرَةِ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ سِوَاهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا الْعَمَلُ النَّافِعُ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ وَالْحَسَنَةُ فِي الْآخِرَةِ اللَّذَّةُ الدَّائِمَةُ وَالتَّعْظِيمُ وَالتَّنَعُّمُ بِذِكْرِ اللَّهِ/ وَبِالْأُنْسِ بِهِ وَبِمَحَبَّتِهِ وَبِرُؤْيَتِهِ وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا دَعَا رَبَّهُ فَقَالَ فِي دُعَائِهِ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ سَأَلَ اللَّهَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، فَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ قَالَ: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنه يَقُولُ: آتِنَا فِي الدُّنْيَا عَمَلًا صَالِحًا وَهَذَا مُتَأَكَّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الْفُرْقَانِ: 74] وَتِلْكَ الْقُرَّةُ هِيَ أَنْ يُشَاهِدُوا أَوْلَادَهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ مُطِيعِينَ مُؤْمِنِينَ مُوَاظِبِينَ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ وَثَالِثُهَا: قَالَ قَتَادَةُ: الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ طَلَبُ الْعَافِيَةِ فِي الدَّارَيْنِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا فَهْمُ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْشَأَ الْبَحْثِ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ، آتِنَا فِي الدُّنْيَا الْحَسَنَةَ وَفِي الْآخِرَةِ الْحَسَنَةَ لَكَانَ ذَلِكَ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ الحسنات، ولكنه قال: آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَهَذَا نَكِرَةٌ فِي مَحَلِّ الْإِثْبَاتِ فَلَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا حَسَنَةً وَاحِدَةً، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَمَلَ اللَّفْظَ عَلَى مَا رَآهُ أَحْسَنَ أَنْوَاعِ الْحَسَنَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: آتِنَا الْحَسَنَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْحَسَنَةَ فِي الْآخِرَةِ لَكَانَ ذَلِكَ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ الْأَقْسَامِ فَلِمَ تُرِكَ ذَلِكَ وَذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ؟ قُلْتُ: الَّذِي أَظُنُّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أَنَّا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلدَّاعِي أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي كَذَا وَكَذَا بَلْ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا مَصْلَحَةً لِي وَمُوَافِقًا لِقَضَائِكَ وَقَدَرِكَ فَأَعْطِنِي ذَلِكَ، فَلَوْ قَالَ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي الْحَسَنَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَكَانَ ذَلِكَ جَزْمًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، أَمَّا لَمَّا ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ فَقَالَ أَعْطِنِي فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ حَسَنَةً وَاحِدَةً وَهِيَ الْحَسَنَةُ الَّتِي تَكُونُ مُوَافِقَةً لِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَرِضَاهُ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ فَكَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إِلَى رِعَايَةِ الْأَدَبِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى أُصُولِ الْيَقِينِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْفَرِيقِ الثَّانِي فَقَطِ الَّذِينَ سَأَلُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ حَيْثُ قَالَ: وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ أَيْ لِكُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ نَصِيبٌ مِنْ عَمَلِهِ عَلَى قَدْرِ مَا نواه، فمن أنكر البحث وَحَجَّ الْتِمَاسًا لِثَوَابِ الدُّنْيَا فَذَلِكَ مِنْهُ كُفْرٌ وَشِرْكٌ وَاللَّهُ مُجَازِيهِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ عَمِلَ لِلدُّنْيَا أُعْطِيَ نَصِيبٌ مِثْلُهُ فِي دُنْيَاهُ كَمَا قَالَ: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى: 20] . [المسألة الثانية] أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا يَجْرِي مَجْرَى التَّحْقِيرِ وَالتَّقْلِيلِ فَمَا الْمُرَادُ مِنْهُ؟ الْجَوَابُ: الْمُرَادُ: لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمِنَ الْآخِرَةِ بِسَبَبِ كَسْبِهِمْ وَعَمَلِهِمْ فَقَوْلُهُ: «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِمَّا كَسَبُوا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ لَا لِلتَّبْعِيضِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْعَمَلِ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ. وَلَكِنْ بِحَسَبِ الْوَعْدِ لَا بِحَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ الذَّاتِيِّ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْكَسْبُ؟ الْجَوَابُ: الْكَسْبُ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَنَالُهُ الْمَرْءُ بِعَمَلِهِ فَيَكُونُ كَسْبَهُ وَمُكْتَسَبَهُ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَرَّ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعَ مَضَرَّةٍ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ فِي الْأَرْبَاحِ: إِنَّهَا كَسْبُ فُلَانٍ، وَإِنَّهُ كثير الكسب أو قليل الكسب، لأن لَا يُرَادُ إِلَّا الرِّبْحُ، فَأَمَّا الَّذِي يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا مِنْ أَنَّ الْكَسْبَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْجَبْرِ وَالْخَلْقِ فَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ فِي الْكَلَامِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ فَفِيهِ مَسَائِلُ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: سَرِيعُ فَاعِلٌ مِنَ السُّرْعَةِ، قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: سَرُعَ يَسْرُعُ سَرْعًا وَسُرْعَةً فَهُوَ سَرِيعٌ والْحِسابِ مَصْدَرٌ كَالْمُحَاسَبَةِ، وَمَعْنَى الْحِسَابِ فِي اللُّغَةِ الْعَدُّ يُقَالُ: حَسَبَ يَحْسُبُ حِسَابًا وَحِسْبَةً وَحَسَبًا إِذَا

عَدَّ ذَكَرَهُ اللَّيْثُ وَابْنُ السِّكِّيتِ، وَالْحَسْبُ مَا عُدَّ وَمِنْهُ حَسَبَ الرَّجُلُ وَهُوَ مَا يُعَدُّ مِنْ مَآثِرِهِ وَمَفَاخِرِهِ، وَالِاحْتِسَابُ الِاعْتِدَادُ بِالشَّيْءِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْحِسَابُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَسْبُكَ كَذَا أَيْ كَفَاكَ فَسُمِّيَ الْحِسَابُ فِي الْمُعَامَلَاتِ حِسَابًا لِأَنَّهُ يُعْلَمُ بِهِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَلَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى الْمِقْدَارِ وَلَا نُقْصَانٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى كَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَاسِبًا لِخَلْقِهِ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَى الْحِسَابِ أَنَّهُ تَعَالَى يُعْلِمُهُمْ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْعُلُومَ الضَّرُورِيَّةَ فِي قُلُوبِهِمْ بِمَقَادِيرِ أَعْمَالِهِمْ وَكِمِّيَّاتِهَا وَكَيْفِيَّاتِهَا، وَبِمَقَادِيرِ مَا لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، قَالُوا: وَوَجْهُ هَذَا الْمَجَازِ أَنَّ الْحِسَابَ سَبَبٌ لِحُصُولِ عِلْمِ الْإِنْسَانِ بِمَا لَهُ وَعَلَيْهِ، فَإِطْلَاقُ اسْمِ الْحِسَابِ عَلَى هَذَا الْإِعْلَامِ يَكُونُ إِطْلَاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ وَهَذَا مَجَازٌ مَشْهُورٌ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ لَا حِسَابَ عَلَى الْخَلْقِ بَلْ يَقِفُونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُعْطُونَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ فِيهَا سَيِّئَاتُهُمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذِهِ سَيِّئَاتُكُمْ قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْهَا ثُمَّ يُعْطَوْنَ حَسَنَاتِهِمْ وَيُقَالُ: هَذِهِ حَسَنَاتُكُمْ قَدْ ضَعَّفْتُهَا لَكُمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُحَاسَبَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُجَازَاةِ قَالَ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً [الطَّلَاقِ: 8] وَوَجْهُ الْمَجَازِ فِيهِ أَنَّ الْحِسَابَ سَبَبٌ لِلْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ وَإِطْلَاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ جَائِزٌ، فَحَسُنَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْحِسَابِ عَنِ الْمُجَازَاةِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى يُكَلِّمُ العباد في أحوال أعمالهم وكيفية مالها مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ/ فَمَنْ قَالَ إِنَّ كَلَامَهُ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا بِصَوْتٍ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ فِي أُذُنِ الْمُكَلَّفِ سَمْعًا يَسْمَعُ بِهِ كَلَامَهُ الْقَدِيمَ كَمَا أَنَّهُ يَخْلُقُ فِي عَيْنِهِ رُؤْيَةً يَرَى بِهَا ذَاتَهُ الْقَدِيمَةَ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ صَوْتٌ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ كَلَامًا يَسْمَعُهُ كُلُّ مُكَلَّفٍ إِمَّا بِأَنْ يَخْلُقَ ذَلِكَ الْكَلَامَ فِي أُذُنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ فِي جِسْمٍ يَقْرُبُ مِنْ أُذُنِهِ بِحَيْثُ لَا تَبْلُغُ قُوَّةُ ذَلِكَ الصَّوْتِ أَنْ تَمَنْعَ الْغَيْرَ مِنْ فَهْمِ مَا كُلِّفَ بِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى مُحَاسِبًا لِخَلْقِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي مَعْنَى كَوْنِهِ تَعَالَى سَرِيعَ الْحِسَابِ وَجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ مُحَاسَبَتَهُ تَرْجِعُ إِمَّا إِلَى أَنَّهُ يَخْلُقُ عُلُومًا ضَرُورِيَّةً فِي قَلْبِ كُلِّ مُكَلَّفٍ بِمَقَادِيرِ أَعْمَالِهِ وَمَقَادِيرِ ثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، أَوْ إِلَى أَنَّهُ يُوصِلُ إِلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ مَا هُوَ حَقُّهُ مِنَ الثَّوَابِ أَوْ إِلَى أَنَّهُ يَخْلُقُ سَمْعًا فِي أُذُنِ كُلِّ مُكَلَّفٍ يَسْمَعُ بِهِ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ، أَوْ إِلَى أَنَّهُ يَخْلُقُ فِي أُذُنِ كُلِّ مُكَلَّفٍ صَوْتًا دَالًّا عَلَى مَقَادِيرِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَعَلَى الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ فَيَرْجِعُ حَاصِلُ كَوْنِهِ تَعَالَى مُحَاسِبًا إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ شَيْئًا، وَلَمَّا كَانَتْ قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَلِّقَةً بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ تَخْلِيقُهُ وَإِحْدَاثُهُ عَلَى سَبْقِ مَادَّةٍ وَلَا مُدَّةٍ وَلَا آلَةٍ ولا يشتغله شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ لَا جَرَمَ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَخْلُقَ جَمِيعَ الْخَلْقِ فِي أَقَلَّ مِنْ لَمْحَةِ الْبَصَرِ وَهَذَا كَلَامٌ ظَاهِرٌ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحَاسِبُ الْخَلْقَ فِي قَدَرِ حَلْبِ نَاقَةٍ وَثَانِيهَا: أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهُ تَعَالَى: سَرِيعُ الْحِسابِ أَنَّهُ سَرِيعُ الْقَبُولِ لِدُعَاءِ عِبَادِهِ وَالْإِجَابَةِ لَهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ يَسْأَلُهُ السَّائِلُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةً مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَيُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مَطْلُوبَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مَعَ وَاحِدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَطَالَ الْعَدُّ وَاتَّصَلَ الْحِسَابُ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِجُمْلَةِ سُؤَالَاتِ السَّائِلِينَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَحْتَاجُ إِلَى عَقْدِ يَدٍ، وَلَا إِلَى فِكْرَةٍ وَرَوِيَّةٍ، وَهَذَا مَعْنَى الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ «يَا مَنْ لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ» وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ تَعَالَى سَرِيعُ الْحِسابِ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ أَحْوَالِ الْخَلْقِ وَأَعْمَالِهِمْ وَوَجْهُ الْمَجَازِ فِيهِ أَنَّ الْمُحَاسَبَ إِنَّمَا

[سورة البقرة (2) : آية 203]

يُحَاسَبُ لِيَحْصُلَ لَهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ فَالْحِسَابُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْعِلْمِ فَأُطْلِقَ اسْمُ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُحَاسَبَةَ اللَّهِ سَرِيعَةٌ بِمَعْنَى آتية لا محالة. [سورة البقرة (2) : آية 203] وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ لَمْ يَذْكُرِ الرَّمْيَ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَمْرًا مَشْهُورًا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَمَا كَانُوا مُنْكِرِينَ لِذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَفْعَلُونَهُ وَالثَّانِي: لَعَلَّهُ إِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ الرَّمْيَ لِأَنَّ فِي الْأَمْرِ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ دَلِيلًا عَلَيْهِ، إِذْ كَانَ مِنْ سُنَنِهِ التَّكْبِيرُ عَلَى كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ، وَالْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ فَقَالَ هُنَا: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ [الْحَجِّ: 28] فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ هِيَ الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ آخِرُهَا يَوْمُ النَّحْرِ، وَأَمَّا الْمَعْدُودَاتُ فَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَاحْتَجَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْدُودَاتِ هِيَ أيام التشريع بِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ، وَالْأَيَّامُ لَفْظُ جَمْعٍ فَيَكُونُ أَقَلُّهَا ثَلَاثَةً، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ إِنَّمَا ثَبَتَ فِي أَيَّامِ مِنًى وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ هِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَالْقَفَّالُ أَكَدَّ هَذَا بِمَا رَوَى فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نُعْمَانَ الدَّيْلَمِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: «الْحَجُّ عَرَفَةُ مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَأَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ هِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ هِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ أَوَّلُهَا: يَوْمُ النَّفْرِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ يَنْفُرُ النَّاسُ فِيهِ بِمِنًى وَالثَّانِي: يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلُ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَنْفُرُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ مِنْ مِنًى وَالثَّالِثُ: يَوْمُ النَّفْرِ الثَّانِي، وَهَذِهِ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ مَعَ يَوْمِ النَّحْرِ كُلُّهَا أَيَّامُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ رَمْيِ الْجِمَارِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ يَوْمِ عَرَفَةَ أَيَّامُ التَّكْبِيرِ أَدْبَارَ الصَّلَوَاتِ عَلَى مَا سَنَشْرَحُ مَذَاهِبَ النَّاسِ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ: الذِّكْرُ عِنْدَ الْجَمَرَاتِ، فَإِنَّهُ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَالذِّكْرُ أَدْبَارَ الصَّلَوَاتِ وَالنَّاسُ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَوَاضِعَ: الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ: أَجْمَعُتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ التَّكْبِيرَاتِ الْمُقَيَّدَةَ بِأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ مُخْتَصَّةٌ بِعِيدِ الْأَضْحَى، ثُمَّ فِي ابْتِدَائِهَا وَانْتِهَائِهَا خِلَافٌ. الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تُبْتَدَأُ مِنَ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى مَا بَعْدَ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَتَكُونُ التَّكْبِيرَاتُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ صَلَاةً، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ بِهَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ إِنَّمَا/ وَرَدَ فِي حَقِّ الْحَاجِّ، قَالَ تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ [البقرة: 200] ثُمَّ قَالَ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَهَذَا إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي حَقِّ

الْحَاجِّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِهَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ إِنَّمَا وَرَدَ فِي حَقِّ الْحَاجِّ، وَسَائِرُ النَّاسِ تَبَعٌ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ هِيَ أَوَّلُ صَلَاةٍ يُكَبِّرُ الْحَاجُّ فِيهَا بِمِنًى، فَإِنَّهُمْ يُلَبُّونَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَآخِرُ صَلَاةٍ يُصَلُّونَهَا بِمِنًى هِيَ صَلَاةُ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ التَّكْبِيرَاتُ في حق غير الحاج مقيد بِهَذَا الزَّمَانِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يُبْتَدَأُ بِهِ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ النَّحْرِ، إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ التَّكْبِيرَاتُ بَعْدَ ثَمَانِي عَشْرَةَ صَلَاةً. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: لِلشَّافِعِيِّ رضي الله عنه أن يُبْتَدَأُ بِهَا مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَيَنْقَطِعُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَتَكُونُ التَّكْبِيرَاتُ بَعْدَ ثَمَانِ صَلَوَاتٍ وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَالنَّخَعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُبْتَدَأُ بِهَا مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَيَنْقَطِعُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَتَكُونُ التَّكْبِيرَاتُ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً، وَهُوَ قَوْلُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، كَعَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالْمُزَنِيِّ وَابْنِ شُرَيْحٍ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ بِالْبُلْدَانِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الصُّبْحَ يَوْمَ عَرَفَةَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَمَدَّ التَّكْبِيرَ إِلَى الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَالثَّانِي: أَنَّ الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَخَذَ بِالْأَقَلِّ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَخَذَ بِالْأَكْثَرِ، وَالتَّكْثِيرُ فِي التَّكْبِيرِ أَوْلَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الْأَحْزَابِ: 41] الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَحْوَطُ، لِأَنَّهُ لَوْ زَادَ فِي التَّكْبِيرَاتِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهَا وَالرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ تُنْسَبُ إِلَى أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَوَجَبَ أَنْ يُؤْتَى بِهَا إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ التَّكْبِيرَاتُ مُضَافَةٌ إِلَى الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ مَشْرُوعَةً يَوْمَ عَرَفَةَ. قُلْنَا: فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُكَبِّرَ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ الْأَغْلَبُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، صَحَّ أَنْ يُضَافَ التَّكْبِيرُ إِلَيْهَا الْمَوْضِعُ الثَّانِي: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْمُسْتَحَبُّ فِي التَّكْبِيرَاتِ أَنْ تَكُونَ ثَلَاثًا نَسَقًا أَيْ مُتَتَابِعًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: يُكَبِّرُ مَرَّتَيْنِ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، قَالَ: رَأَيْتُ الْأَئِمَّةَ يُكَبِّرُونَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ثَلَاثًا، وَلِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي التَّكْبِيرِ، فَكَانَ أَوْلَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَيَقُولُ بَعْدَ الثَّلَاثِ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ» ثُمَّ قَالَ: وَمَا زَادَ مِنْ ذِكْرِ/ اللَّهِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَقَالَ فِي التَّلْبِيَةِ: وَأُحِبُّ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْفَرْقُ أَنَّ مِنْ سُنَّةِ التَّلْبِيَةِ التَّكْرَارَ فَتَكْرَارُهَا أَوْلَى مِنْ ضَمِّ الزِّيَادَةِ إليها، وهاهنا يُكَبِّرُ مَرَّةً وَاحِدَةً فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ أَوْلَى مِنَ السُّكُوتِ، وَأَمَّا التَّكْبِيرُ عَلَى الْجِمَارِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ ذَلِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ فَمَنْ تَعَجَّلَ وَلَمْ يَقُلْ فَمَنْ عَجَّلَ؟. الْجَوَابُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : تَعَجَّلَ وَاسْتَعْجَلَ يَجِيئَانِ مُطَاوِعَيْنِ بِمَعْنَى عَجَّلَ، يُقَالُ: تَعَجَّلَ فِي

الْأَمْرِ وَاسْتَعْجَلَ، وَمُتَعَدِّيَيْنِ يُقَالُ: تَعَجَّلَ الذَّهَابَ وَاسْتَعْجَلَهُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ إِشْكَالٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ قَدِ اسْتَوْفَى كُلَّ مَا يَلْزَمُهُ فِي تَمَامِ الْحَجِّ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ إِنَّمَا يُقَالُ فِي حَقِّ الْمُقَصِّرِ وَلَا يُقَالُ فِي حَقِّ مَنْ أَتَى بِتَمَامِ الْعَمَلِ. وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَذِنَ فِي التَّعَجُّلِ عَلَى سَبِيلِ الرُّخْصَةِ احْتَمَلَ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِ قَوْمٍ أَنَّ مَنْ لَمْ يَجْرِ عَلَى مُوجَبِ هَذِهِ الرُّخْصَةِ فَإِنَّهُ يَأْثَمُ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: الْقَصْرُ عَزِيمَةٌ، وَالْإِتْمَامُ غَيْرُ جَائِزٍ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الِاحْتِمَالُ قَائِمًا، لَا جَرَمَ أَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الشُّبْهَةَ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا إِثْمَ فِي الْأَمْرَيْنِ، فَإِنْ شَاءَ اسْتَعْجَلَ وَجَرَى عَلَى مُوجَبِ الرُّخْصَةِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَسْتَعْجِلْ وَلَمْ يَجْرِ عَلَى مُوجَبِ الرُّخْصَةِ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وَثَانِيهَا: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَتَعَجَّلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَتَأَخَّرُ، ثُمَّ كَلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يَعِيبُ عَلَى الْآخَرِ فِعْلَهُ، كَانَ الْمُتَأَخِّرُ يَرَى أَنَّ التَّعَجُّلَ مُخَالَفَةٌ لِسُّنَّةِ الْحَجِّ، وَكَانَ الْمُتَعَجِّلُ يَرَى أَنَّ التَّأَخُّرَ مُخَالَفَةٌ لِسُّنَّةِ الْحَجِّ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا عَيْبَ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ وَلَا إِثْمَ، فَإِنْ شَاءَ تَعَجَّلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَتَعَجَّلْ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى فِي إِزَالَةِ الْإِثْمِ عَنِ الْمُتَأَخِّرِ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ زَادَ عَلَى مَقَامِ الثَّلَاثِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ أَيَّامَ مِنًى الَّتِي يَنْبَغِي الْمُقَامُ بِهَا هِيَ ثَلَاثٌ، فَمَنْ نَقَصَ عَنْهَا فَتَعَجَّلَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْهَا فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ زَادَ عَلَيْهَا فَتَأَخَّرَ عَنِ الثَّالِثِ إِلَى الرَّابِعِ فَلَمْ يَنْفُرْ مَعَ عَامَّةِ النَّاسِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا ذُكِرَ مُبَالَغَةً فِي بَيَانِ أَنَّ الْحَجَّ سَبَبٌ لِزَوَالِ الذُّنُوبِ وَتَكْفِيرِ الْآثَامِ وَهَذَا مِثْلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَنَاوَلَ التِّرْيَاقَ، فَالطَّبِيبُ يَقُولُ لَهُ: الْآنَ إِنْ تَنَاوَلْتَ السُّمَّ فَلَا ضَرَرَ، وَإِنْ لَمْ تَتَنَاوَلْ فَلَا ضَرَرَ، مَقْصُودُهُ مِنْ هَذَا بَيَانُ أَنَّ التِّرْيَاقَ دَوَاءٌ كَامِلٌ فِي دَفْعِ الْمَضَارِّ، لَا بَيَانَ أَنَّ تناول السم وعدم تناوله يجريان مجرى واحد، فكذا هاهنا الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ بَيَانُ الْمُبَالَغَةِ فِي كَوْنِ الْحَجِّ مُكَفِّرًا لِكُلِّ الذُّنُوبِ، لَا بَيَانُ أَنَّ التَّعَجُّلَ وَتَرْكَهُ سِيَّانِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى كونه الْحَجِّ سَبَبًا/ قَوِيًّا فِي تَكْفِيرِ الذُّنُوبِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» وَخَامِسُهَا: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: الْجِوَارُ مَكْرُوهٌ، لِأَنَّهُ إِذَا جَاوَرَ الْحَرَمَ وَالْبَيْتَ سَقَطَ وَقْعُهُ عَنْ عَيْنِهِ، وَإِذَا كَانَ غَائِبًا ازْدَادَ شَوْقُهُ إِلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ احْتَمَلَ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِ أَحَدِنَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَحَالُهُ أَفْضَلُ ممن لم يتعجل، وأيضا من تعجل في يومين فقد انصرف إلى مكة لطواف الزيارة وترك المقام بمنى، ومن لَمْ يَتَعَجَّلْ فَقَدِ اخْتَارَ الْمَقَامَ بِمِنًى وَتَرَكَ الِاسْتِعْجَالَ فِي الطَّوَافِ فَلِهَذَا السَّبَبِ يَبْقَى فِي الْخَاطِرِ تَرَدُّدٌ فِي أَنَّ الْمُتَعَجِّلَ أَفْضَلُ أَمِ الْمُتَأَخِّرَ؟ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا إِثْمَ وَلَا حَرَجَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَسَادِسُهَا: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّمَا قَالَ: وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِتَكُونَ اللَّفْظَةُ الْأُولَى مُوَافِقَةً لِلثَّانِيَةِ، كَقَوْلِهِ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] وَقَوْلُهُ: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 194] وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ جَزَاءَ السَّيِّئَةِ وَالْعُدْوَانِ لَيْسَ بِسَيِّئَةٍ وَلَا بِعُدْوَانٍ، فَإِذَا حَمَلَ عَلَى مُوَافَقَةِ اللَّفْظِ مَا لَا يَصِحُّ فِي الْمَعْنَى، فَلِأَنْ يَحْمِلَ عَلَى مُوَافَقَةِ اللَّفْظِ مَا يَصِحُّ فِي الْمَعْنَى أَوْلَى، لِأَنَّ الْمَبْرُورَ الْمَأْجُورَ يَصِحُّ فِي الْمَعْنَى نَفْيُ الْإِثْمِ عَنْهُ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَلْ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْإِقَامَةِ بِمِنًى بَعْدَ الْإِفَاضَةِ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ، كَمَا كَانَ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ [الْبَقَرَةِ: 198] دَلِيلٌ عَلَى وُقُوفِهِمْ بِهَا.

[سورة البقرة (2) : الآيات 204 إلى 206]

وَاعْلَمْ أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا: إِنَّمَا يَجُوزُ التَّعَجُّلُ فِي الْيَوْمَيْنِ لِمَنْ تَعَجَّلَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمَيْنِ فَأَمَّا إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي قَبْلَ النَّفْرِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفُرَ إِلَّا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ لِأَنَّ الشَّمْسَ إِذَا غَابَتْ فَقَدْ ذَهَبَ الْيَوْمُ، وَإِنَّمَا جُعِلَ لَهُ التَّعَجُّلُ فِي الْيَوْمَيْنِ لَا فِي الثَّالِثِ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْفُرَ مَا لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتَ الرَّمْيِ بَعْدُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِمَنِ اتَّقى فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَاجَّ يَرْجِعُ مَغْفُورًا لَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ وَلَمْ يَرْتَكِبْ مَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ الْعَذَابَ، وَمَعْنَاهُ التَّحْذِيرُ مِنَ الِاتِّكَالِ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ عَلَيْهِمْ مَعَ ذَلِكَ مُلَازَمَةَ التَّقْوَى وَمُجَانَبَةَ الِاغْتِرَارِ بِالْحَجِّ السَّابِقِ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ الْمَغْفِرَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِمَنْ كَانَ مُتَّقِيًا قَبْلَ حَجِّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الْمَائِدَةِ: 27] وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ الْمُصِرَّ عَلَى الذَّنْبِ لَا يَنْفَعُهُ حَجُّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَدَّى الْفَرْضَ فِي الظَّاهِرِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْمَغْفِرَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِمَنْ كَانَ مُتَّقِيًا عَنْ جَمِيعِ الْمَحْظُورَاتِ حَالَ اشْتِغَالِهِ بِالْحَجِّ، كَمَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ» وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا إِشَارَةٌ إِلَى اعْتِبَارِهِ فِي الْحَالِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْكُلِّ وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لِمَنِ اتَّقى مَا يَلْزَمُهُ التَّوَقِّي فِي الْحَجِّ عَنْهُ مَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجْتَنِبْ ذَلِكَ صَارَ مَأْثُومًا، وَرُبَّمَا صَارَ عَمَلُهُ مُحْبَطًا، وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَقْيِيدٌ لِلَّفْظِ الْمُطْلَقِ/ بِغَيْرِ دَلِيلٍ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا لَا يَصِحَّ إِلَّا إِذَا حُمِلَ عَلَى مَا قَبْلَ هَذِهِ الْأَيَّامِ، لِأَنَّهُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ إِذَا رَمَى وَطَافَ وَحَلَقَ، فَقَدْ تَحَلَّلَ قَبْلَ رَمْيِ الْجِمَارِ فَلَا يَلْزَمُهُ اتِّقَاءُ الصَّيْدِ إِلَّا فِي الْحَرَمِ، لَكِنَّ ذَاكَ لَيْسَ لِلْإِحْرَامِ، لَكِنَّ اللَّفْظَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ هَذَا الِاتِّقَاءَ مُعْتَبَرٌ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَسَقَطَ هَذَا الْوَجْهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ فَهُوَ أَمْرٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ: لِمَنِ اتَّقى الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْمَاضِي فَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَكْرَارٍ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ التَّقْوَى عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحْرَّمَاتِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَبَعْثٌ عَلَى التَّشْدِيدِ فِيهِ، لِأَنَّ مَنْ تَصَوَّرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حَشْرٍ وَمُحَاسَبَةٍ وَمُسَاءَلَةٍ، وَأَنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا دَارَ إِلَّا الْجَنَّةُ أَوِ النَّارُ، صَارَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الدَّوَاعِي لَهُ إِلَى التَّقْوَى، وَأَمَّا الْحَشْرُ فَهُوَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى ابْتِدَاءِ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى انْتِهَاءِ الْمَوْقِفِ، لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ كَوْنُهُمْ هُنَاكَ إِلَّا بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِلَيْهِ أَنَّهُ حَيْثُ لَا مَالِكَ سِوَاهُ وَلَا مَلْجَأَ إِلَّا إِيَّاهُ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الإنفطار: 19] . [سورة البقرة (2) : الآيات 204 الى 206] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ مَشَاعِرَ الْحَجِّ فَرِيقَانِ: كَافِرٌ وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَمُسْلِمٌ وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [الْبَقَرَةِ: 201] بَقِيَ الْمُنَافِقُ

فَذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَشَرَحَ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِنَظْمِ الْآيَةِ، وَالْغَرَضُ بِكُلِّ ذَلِكَ أَنْ يَبْعَثَ الْعِبَادَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْحَسَنَةِ فِيمَا يَتَّصِلُ بِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ، وَأَنْ يَعْلَمُوا لَا يُمْكِنُ إِخْفَاءُ الْأُمُورِ عَنْهُ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُخْتَصَّةٌ بِأَقْوَامٍ مُعَيَّنِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا عَامَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَمَّا/ الْأَوَّلُونَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ: فَالرِّوَايَةُ الْأُولَى: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ الثَّقَفِيِّ، وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي زُهْرَةَ أَقْبَلَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَزَعَمَ أَنَّهُ يُحِبُّهُ وَيَحْلِفُ بِاللَّهِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا حَسَنَ الْعَلَانِيَةِ خَبِيثَ الْبَاطِنِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمَرَّ بِزَرْعٍ لِقَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَحْرَقَ الزَّرْعَ وَقَتَلَ الْحُمُرَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَقَالَ آخَرُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ هُوَ أَنَّ الْأَخْنَسَ أَشَارَ عَلَى بَنِي زُهْرَةَ بِالرُّجُوعِ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ مُحَمَّدًا ابْنُ أُخْتِكُمْ، فَإِنْ يَكُ كَاذِبًا كَفَاكُمُوهُ سَائِرُ النَّاسِ، وَإِنْ يَكُ صَادِقًا كُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ قَالُوا: نِعْمَ الرَّأْيُ مَا رَأَيْتَ، قَالَ: فَإِذَا نُودِيَ فِي النَّاسِ بِالرَّحِيلِ فَإِنِّي أَتَخَنَّسُ بِكُمْ فَاتَّبِعُونِي ثُمَّ خَنَسَ بِثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ عَنْ قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسُمِّيَ لِهَذَا السَّبَبِ أَخْنَسَ، وَكَانَ اسْمُهُ: أُبَيَّ بْنَ شَرِيقٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْجَبَهُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِهَذَا الْفِعْلِ لَا يَسْتَوْجِبُ الذَّمَّ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ مَذْكُورٌ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ بَلِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضِّحَاكِ أَنَّ كَفَّارَ قُرَيْشٍ بَعَثُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّا قَدْ أَسْلَمْنَا فَابْعَثْ إِلَيْنَا نَفَرًا مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابِكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ جَمَاعَةً فَنَزَلُوا بِبَطْنِ الرَّجِيعِ، وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى الْكُفَّارِ، فَرَكِبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَاكِبًا وَأَحَاطُوا بِهِمْ وَقَتَلُوهُمْ وَصَلَبُوهُمْ، فَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلِذَلِكَ عَقَبَهُ مِنْ بَعْدُ بِذِكْرِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ مُنَبِّهًا بِذَلِكَ عَلَى حَالِ هَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْآيَةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَنُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، أَنَّهُ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَلَامٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ إِنَّهَا وَإِنْ نَزَلَتْ فِيمَنْ ذَكَرَ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَنْزِلَ الْآيَةُ فِي الرَّجُلِ ثُمَّ تَكُونَ عَامَّةً فِي كُلِّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمِنَ النَّاسِ إِشَارَةٌ إِلَى بَعْضِهِمْ، فَيَحْتَمِلُ الْوَاحِدَ وَيَحْتَمِلُ الْجَمْعَ، وَقَوْلُهُ: وَيُشْهِدُ اللَّهَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ لِجَوَازِ أَنْ يَرْجِعَ ذَلِكَ إِلَى اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى وَهُوَ جَمْعٌ وَأَمَّا نُزُولُهُ عَلَى الْمُسَبِّبِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ فَلَا يَمْتَنِعُ مِنَ الْعُمُومِ، بَلْ نَقُولُ: فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ، فَلَمَّا ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمًا وَوَصَفَهُمْ بِصِفَاتٍ تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الذَّمِّ، عَلِمْنَا أَنَّ الْمُوجِبَ لِتِلْكَ الْمَذَمَّةِ هُوَ تِلْكَ الصِّفَاتُ، فَيَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ/ مَوْصُوفًا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْجِبًا لِلذَّمِّ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْعُمُومِ أَكْثَرُ فَائِدَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَكُونُ زَجْرًا لِكُلِّ الْمُكَلَّفِينَ عَنْ تِلْكَ الطَّرِيقِ الْمَذْمُومَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إِلَى الِاحْتِيَاطِ لِأَنَّا إِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى الْعُمُومِ دَخَلَ فِيهِ ذَلِكَ الشَّخْصُ، وَأَمَّا إِذَا خَصَصْنَاهُ بِذَلِكَ الشَّخْصِ لَمْ يَثْبُتِ الْحُكْمُ فِي غَيْرِهِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى الْعُمُومِ أَوْلَى، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْآيَةَ هَلْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ بهذه

الصِّفَاتِ مُنَافِقٌ أَمْ لَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ هَذَا الْمَذْكُورَ بِصِفَاتٍ خَمْسَةٍ، وَشَيْءٌ مِنْهَا لَا يَدُلُّ عَلَى النِّفَاقِ فَأَوَّلُهَا قَوْلُهُ: يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى صِفَةٍ مَذْمُومَةٍ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْإِيمَاءِ الْحَاصِلِ بِقَوْلِهِ: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ حُلْوُ الْكَلَامِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بالدنيا أو هم نَوْعًا مِنَ الْمَذَمَّةِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى حَالَةٍ مُنْكَرَةٍ، فَإِنْ أَضْمَرْنَا فِيهِ أَنْ يُشْهِدَ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مَعَ أَنَّ قَلْبَهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَالْكَلَامُ مَعَ هَذَا الْإِضْمَارِ لَا يَدُلُّ عَلَى النِّفَاقِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّ الَّذِي يُظْهِرُهُ لِلرَّسُولِ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَالتَّوْحِيدِ، فَإِنَّهُ يُضْمِرُ خِلَافَهُ حَتَّى يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ مُنَافِقًا، بَلْ لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يُضْمِرُ الْفَسَادَ وَيُظْهِرُ ضِدَّهُ حَتَّى يَكُونَ مُرَائِيًا وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ وَهَذَا أَيْضًا لَا يُوجِبُ النِّفَاقَ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَالْمُسْلِمُ الَّذِي يَكُونُ مُفْسِدًا قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَهَذَا أَيْضًا لَا يَقْتَضِي النِّفَاقَ، فَعَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ كَمَا يُمْكِنُ ثُبُوتُهَا فِي الْمُنَافِقِ يُمْكِنُ ثُبُوتُهَا فِي الْمُرَائِي، فَإِذَنْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَذْكُورَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُنَافِقًا إِلَّا أَنَّ الْمُنَافِقَ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مُنَافِقٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْخَمْسَةِ بَلْ قَدْ يَكُونُ الْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْخَمْسَةِ غَيْرَ مُنَافِقٍ فَثَبَتَ أَنَّا مَتَى حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْخَمْسَةِ دَخَلَ فِيهَا الْمُنَافِقُ وَالْمُرَائِي، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فَنَقُولُ: اللَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذَا الْمَذْكُورَ بِصِفَاتٍ خَمْسَةٍ. الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْمَعْنَى: يَرُوقُكَ وَيَعْظُمُ فِي قَلْبِكَ وَمِنْهُ الشَّيْءُ الْعَجِيبُ الَّذِي يَعْظُمُ فِي النَّفْسِ. أَمَّا فِي قَوْلِهِ: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَظِيرُ قَوْلِ الْقَائِلِ: يُعْجِبُنِي كَلَامُ فُلَانٍ فِي هذه المسألة والمعنى: يعجبك قوله وكلامه عند ما يَتَكَلَّمُ لِطَلَبِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ وَكَلَامُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ لَا يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ وَكَلَامُهُ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي الدُّنْيَا يَكُونُ جَرِيءَ اللِّسَانِ حُلْوَ الْكَلَامِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ تَعْتَرِيهِ اللُّكْنَةُ وَالِاحْتِبَاسُ خَوْفًا مِنْ هَيْبَةِ اللَّهِ وَقَهْرِ كِبْرِيَائِهِ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُقَرِّرُ صِدْقَهُ فِي كَلَامِهِ وَدَعْوَاهُ/ بِالِاسْتِشْهَادِ بِاللَّهِ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الِاسْتِشْهَادُ بِالْحَلِفِ وَالْيَمِينِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ: اللَّهُ يَشْهَدُ بِأَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قُلْتُ، فَهَذَا يَكُونُ اسْتِشْهَادًا بِاللَّهِ وَلَا يَكُونُ يَمِينًا، وَعَامَّةُ القراء يقرؤن وَيُشْهِدُ اللَّهَ بِضَمِّ الْيَاءِ، أَيْ هَذَا الْقَائِلُ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي ضَمِيرِهِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَنْ قَلْبُهُ خِلَافُ مَا أَظْهَرُهُ. فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى: تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُرَائِيًا وَعَلَى أَنَّهُ يُشْهِدُ اللَّهَ بَاطِلًا عَلَى نِفَاقِهِ وَرِيَائِهِ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ: فَلَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى كَوْنِهِ كَاذِبًا، فَأَمَّا عَلَى كَوْنِهِ مُسْتَشْهِدًا بِاللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الكذب فلا، فعلى هذا القراءة الأولى أدلى عَلَى الذَّمِّ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأَلَدُّ: الشَّدِيدُ الْخُصُومَةِ، يُقَالُ: رَجُلٌ أَلَدُّ، وَقَوْمٌ لُدٌّ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً

لُدًّا [مَرْيَمَ: 97] وَهُوَ كَقَوْلِهِ: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزُّخْرُفِ: 58] يُقَالُ: مِنْهُ لَدَّ يَلَدُّ، بِفَتْحِ اللَّامِ فِي يَفْعَلُ مِنْهُ، فَهُوَ أَلَدُّ، إِذَا كَانَ خَصِمًا، وَلَدَدْتُ الرَّجُلَ أَلُدُّهُ بِضَمِّ اللَّامِ، إِذَا غَلَبْتَهُ بِالْخُصُومَةِ، قَالَ الزَّجَّاجُ اشْتِقَاقُهُ مِنْ لَدِيدَتَيِ الْعُنُقِ وَهُمَا صَفْحَتَاهُ، وَلَدِيدَيِ الْوَادِي، وَهُمَا جَانِبَاهُ، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ فِي أَيِّ وَجْهٍ أَخْذَهُ خَصْمُهُ مِنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ فِي أَبْوَابِ الْخُصُومَةِ غَلَبَ مَنْ خَاصَمَهُ. وَأَمَّا الْخِصامِ فَفِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: وهو قول خليل: إنه مصدر بمعنى المخاصمة، كالقتال والطعام بِمَعْنَى الْمُقَاتَلَةِ وَالْمُطَاعَنَةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَهُوَ شَدِيدُ الْمُخَاصَمَةِ، ثُمَّ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى فِي وَالتَّقْدِيرُ: أَلَدُّ فِي الْخِصَامِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ الْخِصَامَ أَلَدَّ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْخِصَامَ جَمْعُ خَصْمٍ، كَصِعَابٍ وَصَعْبٍ، وَضِخَامٍ وَضَخْمٍ، وَالْمَعْنَى: وَهُوَ أَشَدُّ الْخُصُومِ خُصُومَةً، وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ: وَفِيهِ نَزَلَ أَيْضًا قَوْلُهُ: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ [الْهُمَزَةِ: 1] وَقَوْلُهُ: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [الْقَلَمِ: 10، 11] ثُمَّ لِلْمُفَسِّرِينَ عِبَارَاتٌ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ أَلَدُّ الْخِصامِ مَعْنَاهُ: طَالِبٌ لَا يَسْتَقِيمُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَعْوَجُ الْخِصَامِ وَقَالَ قَتَادَةُ أَلَدُّ الْخِصَامِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَدِلٌ بِالْبَاطِلِ، شَدِيدُ القصوة فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، عَالِمُ اللِّسَانِ جَاهِلُ الْعَمَلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَ الْمُنْكِرُونَ لِلنَّظَرِ وَالْجَدَلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ بِكَوْنِهِ شَدِيدًا فِي الْجَدَلِ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ مِنْ صِفَاتِ الذَّمِّ، وَإِلَّا لَمَا جَازَ ذَلِكَ وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [الْبَقَرَةِ: 197] . الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مِنْ حَالِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ حُلْوُ الْكَلَامِ، وَأَنَّهُ يُقَرِّرُ/ صِدْقَ قَوْلِهِ بِالِاسْتِشْهَادِ بِاللَّهِ وَأَنَّهُ أَلَدُّ الْخِصَامِ، بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرَهُ بِاللِّسَانِ فَقَلْبُهُ مُنْطَوٍ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ فَقَالَ: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا تَوَلَّى فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ وَإِذَا انْصَرَفَ مِنْ عِنْدِكَ سَعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، ثُمَّ هَذَا الْفَسَادُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ إِتْلَافِ الْأَمْوَالِ بِالتَّخْرِيبِ وَالتَّحْرِيقِ وَالنَّهْبِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ ذَكَرُوا رِوَايَاتٍ مِنْهَا مَا قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَخْنَسَ لَمَّا أَظْهَرَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ وَأَنَّهُ عَلَى عَزْمٍ أَنْ يُؤْمِنَ فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ مَرَّ بِزَرْعٍ لِلْمُسْلِمِينَ فَأَحْرَقَ الزَّرْعَ وَقَتَلَ الْحُمُرَ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا انْصَرَفَ مِنْ بَدْرٍ مَرَّ بِبَنِي زُهْرَةَ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ثَقِيفٍ خُصُومَةٌ فَبَيَّتَهُمْ لَيْلًا وَأَهْلَكَ مَوَاشِيَهُمْ وَأَحْرَقَ زَرْعَهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ الْفَسَادِ: أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ الِانْصِرَافِ مِنْ حَضْرَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَشْتَغِلُ بِإِدْخَالِ الشُّبَهِ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِاسْتِخْرَاجِ الْحِيَلِ فِي تَقْوِيَةِ الْكُفْرِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُسَمَّى فَسَادًا، قَالَ تَعَالَى: حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ حَيْثُ قَالُوا لَهُ: أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [الْأَعْرَافِ: 127] أَيْ يَرُدُّوا قَوْمَكَ عَنْ دِينِهِمْ، وَيُفْسِدُوا عَلَيْهِمْ شَرِيعَتَهُمْ، وَقَالَ أَيْضًا: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ [غَافِرٍ: 26] وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [الْبَقَرَةِ: 11] مَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الوجه،

وإنا سُمِّيَ هَذَا الْمَعْنَى فَسَادًا فِي الْأَرْضِ لِأَنَّهُ يُوقِعُ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ النَّاسِ وَيُفَرِّقُ كَلِمَتَهُمْ وَيُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَتَبَرَّأَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَتَنْقَطِعَ الأرحام وينفسك الدِّمَاءُ، قَالَ تَعَالَى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [مُحَمَّدٍ: 22] فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ إِنْ تَوَلَّوْا عَنْ دِينِهِ لَمْ يَحْصُلُوا إِلَّا عَلَى الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَقَطْعِ الْأَرْحَامِ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ قُلْنَا وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَاعْلَمْ أَنَّ حَمْلَ الْفَسَادِ عَلَى هَذَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى التَّخْرِيبِ وَالنَّهْبِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَإِذا تَوَلَّى وَإِذَا صَارَ وَالِيًا فَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ وُلَاةُ السُّوءِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِإِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، وَقِيلَ: يُظْهِرُ الظُّلْمَ حَتَّى يَمْنَعَ اللَّهُ بِشُؤْمِ ظُلْمِهِ الْقَطْرَ فَيَهْلَكَ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى نَظْمِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ نِفَاقِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ عِنْدَ الْحُضُورِ يَقُولُ الْكَلَامَ الْحَسَنَ وَيُظْهِرُ الْمَحَبَّةَ، وَعِنْدَ الْغَيْبَةِ يَسْعَى فِي إِيقَاعِ الْفِتْنَةِ وَالْفَسَادِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: سَعى فِي الْأَرْضِ أَيِ اجْتَهَدَ فِي إِيقَاعِ الْقِتَالِ، وَأَصْلُ السَّعْيِ هُوَ الْمَشْيُ بِسُرْعَةٍ وَلَكِنَّهُ مُسْتَعَارٌ لِإِيقَاعِ الْفِتْنَةِ وَالتَّخْرِيبِ بَيْنَ النَّاسِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: فُلَانٌ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [التَّوْبَةِ: 47] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَنْ فَسَّرَ الْفَسَادَ بِالتَّخْرِيبِ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ أَوَّلًا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لِيُفْسِدَ فِيها ثُمَّ ذَكَرَهُ ثَانِيًا عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ فَقَالَ: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَمَنْ فَسَّرَ/ الْإِفْسَادَ بِإِلْقَاءِ الشبهة قال: كما أن الدين الحق أمر أن أَوَّلُهُمَا الْعِلْمُ، وَثَانِيهِمَا الْعَمَلُ، فَكَذَا الدِّينُ الْبَاطِلُ أَمْرَانِ أَوَّلُهُمَا الشُّبُهَاتُ، وَثَانِيهِمَا فِعْلُ الْمُنْكَرَاتِ، فَهَهُنَا ذَكَرَ تَعَالَى أَوَّلًا مِنْ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ اشْتِغَالَهُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لِيُفْسِدَ فِيها ثُمَّ ذَكَرَ ثَانِيًا إِقْدَامَهُ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ أَوْلَى ثُمَّ مَنْ قَالَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّ الْأَخْنَسَ مَرَّ بِزَرْعٍ لِلْمُسْلِمِينَ فَأَحْرَقَ الزَّرْعَ وَقَتَلَ الْحُمُرَ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْحَرْثِ الزَّرْعُ، وَبِالنَّسْلِ تِلْكَ الْحُمُرُ، وَالْحَرْثُ هُوَ مَا يَكُونُ مِنْهُ الزَّرْعُ، قَالَ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ [الْوَاقِعَةِ: 63] وَهُوَ يَقَعُ على كل ما يحرث ويزرع مِنْ أَصْنَافِ النَّبَاتِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْحَرْثَ هُوَ شَقُّ الْأَرْضِ، وَيُقَالُ لِمَا يُشَقُّ بِهِ: مِحْرَثٌ، وَأَمَّا النَّسْلُ فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ نَسْلُ الدَّوَابِّ، وَالنَّسْلُ فِي اللُّغَةِ: الْوَلَدُ، وَاشْتِقَاقُهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَسَلَ يَنْسِلُهُ إِذَا خَرَجَ فَسَقَطَ، وَمِنْهُ نَسَلَ رِيشُ الطَّائِرِ، وَوَبَرَ الْبَعِيرُ، وَشَعَرَ الْحِمَارُ، إِذَا خَرَجَ فَسَقَطَ، وَالْقِطْعَةُ مِنْهَا إِذَا سَقَطَتْ نُسَالَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: 51] أَيْ يُسْرِعُونَ، لِأَنَّهُ أَسْرَعَ الْخُرُوجَ بِحِدَّةٍ، وَالنَّسْلُ الْوَلَدُ لِخُرُوجِهِ مِنْ ظَهْرِ الْأَبِ وَبَطْنِ الْأُمِّ وَسُقُوطِهِ، وَالنَّاسُ نَسْلُ آدَمَ، وَأَصْلُ الْحَرْفِ مِنَ النُّسُولِ وَهُوَ الْخُرُوجُ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ: أَنَّ الْأَخْنَسَ بَيَّتَ عَلَى قَوْمِ ثَقِيفٍ وَقَتَلَ مِنْهُمْ جَمْعًا، فَالْمُرَادُ بِالْحَرْثِ: إِمَّا النِّسْوَانُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 223] أَوِ الرِّجَالُ وَهُوَ قَوْلُ قَوْمٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ فَسَّرُوا الْحَرْثَ بِشَقِّ الْأَرْضِ، إِذِ الرِّجَالُ هُمُ الَّذِينَ يَشُقُّونَ أَرْضَ التَّوْلِيدِ، وَأَمَّا النَّسْلُ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الصِّبْيَانُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَالْمُرَادُ بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ الْفَسَادَ فَسَادٌ عَظِيمٌ لَا أَعْظَمَ مِنْهُ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ. إِهْلَاكُ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، وَعَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي: إِهْلَاكُ الْحَيَوَانِ بِأَصْلِهِ وَفَرْعِهِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَلَا فَسَادَ أَعْظَمُ مِنْهُ، فَإِذَنْ قَوْلُهُ: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْفَصِيحَةِ جِدًّا الدَّالَّةِ مَعَ اختصارها على

الْمُبَالَغَةِ الْكَثِيرَةِ وَنَظِيرُهُ فِي الِاخْتِصَارِ مَا قَالَهُ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزُّخْرُفِ: 71] وَقَالَ: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها [النَّازِعَاتِ: 31] . فَإِنْ قِيلَ: أَفَتَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، أَوْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ؟ قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ: سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها دَلَّ عَلَى أَنَّ غَرَضَهُ أَنْ يَسْعَى فِي ذَلِكَ، ثُمَّ قَوْلُهُ: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ إِنْ عَطَفْنَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ لَمْ تَدُلَّ الْآيَةُ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ، فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ هَكَذَا: سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا، وَسَعَى لِيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَلَامًا مُبْتَدَأً مُنْقَطِعًا عَنِ الْأَوَّلِ، دَلَّ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَتِ الْأَخْبَارُ الْمَذْكُورَةُ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ قَدْ وَقَعَتْ وَدَخَلَتْ فِي الْوُجُودِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ بَعْضُهُمْ وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لِلْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، وَقَرَأَ/ الْحَسَنُ بِفَتْحِ اللَّامِ مِنْ يَهْلَكُ وَهِي لُغَةٌ نَحْوُ: أَبَى يَأْبَى، وَرُوِي عَنْهُ وَيُهْلِكَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُرِيدُ الْقَبَائِحَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ قَالُوا: وَالْمَحَبَّةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِرَادَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ [النُّورِ: 19] وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ، وَأَيْضًا نُقِلَ عَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَحَبَّ لَكُمْ ثَلَاثًا وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا، أَحَبَّ لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَنَاصَحُوا مِنْ وُلَاةِ أَمْرِكُمْ وَكَرِهَ لَكُمُ الْقِيلَ وَالْقَالَ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ» فَجَعَلَ الْكَرَاهَةَ ضِدَّ الْمَحَبَّةِ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَحَبَّةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِرَادَةِ وَإِلَّا لَكَانَتِ الْكَرَاهَةُ ضِدًّا لِلْإِرَادَةِ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَتِ الْمَحَبَّةُ غَيْرَ الْإِرَادَةِ لَصَحَّ أَنْ يُحِبَّ الْفِعْلَ وَإِنْ كَرِهَهُ، لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنَّمَا تُضَادُّ الْإِرَادَةَ دُونَ الْمَحَبَّةِ، قَالُوا: وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَحَبَّةَ نَفْسُ الْإِرَادَةِ فَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ جَارٍ مَجْرَى قَوْلِهِ وَاللَّهُ لَا يُرِيدُ الْفَسَادَ كَقَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ [غَافِرٍ: 31] بَلْ دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَى لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَا وَقَعَ مِنَ الْفَسَادِ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ إِشَارَةً إِلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَاقِعَ وَقَعَ لَا بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ الْفَسَادَ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ خَالِقًا لَهُ لِأَنَّ الْخَلْقَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا مَعَ الْإِرَادَةِ فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى مَسْأَلَةِ الْإِرَادَةِ وَمَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَالْأَصْحَابُ أَجَابُوا عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَحَبَّةَ غَيْرُ الْإِرَادَةِ بَلِ الْمَحَبَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ مَدْحِ الشَّيْءِ وَذِكْرِ تَعْظِيمِهِ وَالثَّانِي: إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَحَبَّةَ نَفْسُ الْإِرَادَةِ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الدَّاخِلَيْنِ فِي اللَّفْظِ لَا يُفِيدَانِ الْعُمُومَ ثُمَّ الَّذِي يَهْدِمُ قُوَّةَ هَذَا الْكَلَامِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ وَدَاعِيَتَهُ صَالِحَةٌ لِلصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ فترجع الْفَسَادُ عَلَى الصَّلَاحِ، إِنْ وَقَعَ لَا لِعِلَّةٍ لَزِمَ نَفْيُ الصَّانِعِ، وَإِنْ وَقَعَ لِمُرَجِّحٍ فَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّهِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، فَثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُرَجِّحُ لِجَانِبِ الْفَسَادِ عَلَى جَانِبِ الصَّلَاحِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَا يُرِيدُهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَالِمٌ بِوُقُوعِ الْفَسَادِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ لَا يَقَعَ الْفَسَادُ لَزِمَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقْلِبَ عِلْمَ نَفْسِهِ جَهْلًا وَذَلِكَ مُحَالٌ. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ مَعْنَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ دَعَاهُ إِلَى تَرْكِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَدَعَاهُ الْكِبَرُ وَالْأَنَفَةُ إِلَى الظلم.

[سورة البقرة (2) : آية 207]

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ إِلَّا عَلَى أَنَّهُ مَتَى قِيلَ لَهُ هَذَا الْقَوْلُ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ، فَإِمَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ قِيلَ أَوْ مَا قِيلَ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِرِوَايَةٍ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ وَإِنْ كُنَّا نعلم أنه عليه السلام كان يدعوا الْكُلَّ إِلَى التَّقْوَى مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ هَذَا الْمُنَافِقِ جُمْلَةً مِنَ الْأَفْعَالِ الْمَذْمُومَةِ أَوَّلُهَا: اشْتِغَالُهُ بِالْكَلَامِ الْحَسَنِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَثَانِيهَا: اسْتِشْهَادُهُ بِاللَّهِ كَذِبًا وَبُهْتَانًا وَثَالِثُهَا: لَجَاجُهُ فِي إِبْطَالِ الْحَقِّ وَإِثْبَاتِ الْبَاطِلِ وَرَابِعُهَا: سَعْيُهُ فِي الْفَسَادِ وَخَامِسُهَا: سَعْيُهُ فِي إِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ وَكُلُّ ذَلِكَ فعل منكر قبيح وظاهر قوله: إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ فَلَيْسَ بِأَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى بَعْضِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْكُلِّ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: اتَّقِ اللَّهَ فِي إِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ وَفِي السَّعْيِ بِالْفَسَادِ، وَفِي اللَّجَاجِ الْبَاطِلِ، وَفِي الِاسْتِشْهَادِ بِاللَّهِ كَذَلِكَ، وَفِي الْحِرْصِ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ لَيْسَ رُجُوعُ النَّهْيِ إِلَى الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ أَخَذَتْ فُلَانًا بِأَنْ يَعْمَلَ كَذَا، أَيْ أَلْزَمَتْهُ ذَلِكَ وَحَكَمَتْ بِهِ عَلَيْهِ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِأَنْ يَعْمَلَ الْإِثْمَ، وَذَلِكَ الْإِثْمُ هُوَ تَرْكُ الِالْتِفَاتِ إِلَى هَذَا الْوَاعِظِ وَعَدَمُ الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ وَثَانِيهَا: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ أَيْ لَزِمَتْهُ يُقَالُ: أَخَذَتْهُ الْحُمَّى أَيْ لَزِمَتْهُ، وَأَخَذَهُ الْكِبَرُ، أَيِ اعْتَرَاهُ ذَلِكَ، فَمَعْنَى الْآيَةِ إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ لَزِمَتْهُ الْعِزَّةُ الْحَاصِلَةُ بالإثم الذين فِي قَلْبِهِ، فَإِنَّ تِلْكَ الْعِزَّةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ مَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَعَدَمِ النَّظَرِ فِي الدَّلَائِلِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ [ص: 2] والباء هاهنا فِي مَعْنَى اللَّامِ، يَقُولُ الرَّجُلُ: فَعَلْتُ هَذَا بِسَبَبِكَ وَلِسَبَبِكَ، وَعَاقَبْتُهُ بِجِنَايَتِهِ وَلِجِنَايَتِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَافِيهِ جَهَنَّمُ جَزَاءً لَهُ وَعَذَابًا يُقَالُ: حَسْبُكَ دِرْهَمٌ أَيْ كَفَاكَ وَحَسْبُنَا اللَّهُ، أَيْ كَافِينَا اللَّهُ، وَأَمَّا جَهَنَّمُ فَقَالَ يُونُسُ وَأَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ: هِيَ اسْمٌ لِلنَّارِ الَّتِي يُعَذِّبُ اللَّهُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ وَهِيَ أَعْجَمِيَّةٌ وَقَالَ آخَرُونَ. جَهَنَّمُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ سُمِّيتْ نَارُ الْآخِرَةِ بِهَا لِبُعْدِ قَعْرِهَا، حُكِيَ عن رؤية أنه قال: ركية جهنام بريد بَعِيدَةُ الْقَعْرِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَبِئْسَ الْمِهادُ فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمِهَادَ وَالتَّمْهِيدَ: التَّوْطِئَةُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَهْدِ، قَالَ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ [الذَّارِيَاتِ: 48] أَيِ الْمُوَطِّئُونَ الْمُمَكِّنُونَ، أَيْ جَعَلْنَاهَا سَاكِنَةً مُسْتَقِرَّةً لَا تَمِيدُ بِأَهْلِهَا وَلَا تَنْبُو عَنْهُمْ وَقَالَ تَعَالَى: فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [الرُّومِ: 44] أَيْ يَفْرِشُونَ وَيُمَكِّنُونَ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَلَبِئْسَ الْمِهادُ أَيْ لَبِئْسَ الْمُسْتَقَرُّ كَقَوْلِهِ: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ [إِبْرَاهِيمَ: 29] وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمِهَادُ الْفِرَاشُ لِلنَّوْمِ، فَلَمَّا كَانَ الْمُعَذَّبُ فِي النَّارِ يُلْقَى عَلَى نَارِ جَهَنَّمَ جَعَلَ ذَلِكَ مهادا له وفراشا. [سورة البقرة (2) : آية 207] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ حَالَ مَنْ يَبْذُلُ دِينَهُ لِطَلَبِ الدُّنْيَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَالَ مَنْ يَبْذُلُ دُنْيَاهُ وَنَفْسَهُ وَمَالَهُ لِطَلَبِ الدِّينِ فَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ النُّزُولِ رِوَايَاتٌ أَحَدُهَا: رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي صُهَيْبِ بن سنان

مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ، وَفِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَفِي سُمَيَّةَ أُمِّهِ، وَفِي يَاسِرٍ أَبِيهِ، وَفِي بِلَالٍ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، وَفِي خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، وَفِي عَابِسٍ مَوْلَى حُوَيْطِبٍ أَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَعَذَّبُوهُمْ، فَأَمَّا صُهَيْبٌ فَقَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ: إِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَلِي مَالٌ وَمَتَاعٌ، وَلَا يَضُرُّكُمْ كُنْتُ مِنْكُمْ أَوْ مِنْ عَدْوِّكُمْ تَكَلَّمْتُ بِكَلَامٍ وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ أَنْزِلَ عَنْهُ وَأَنَا أُعْطِيكُمْ مَالِي وَمَتَاعِي وَأَشْتَرِي مِنْكُمْ دِينِي، فَرَضُوا مِنْهُ بِذَلِكَ وَخَلَّوْا سَبِيلَهُ، فَانْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، وَعِنْدَ دُخُولِ صُهَيْبٍ الْمَدِينَةَ لَقِيَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ: رَبِحَ بَيْعُكَ، فَقَالَ لَهُ صُهَيْبٌ: وبيعك فلا نخسر مَا ذَاكَ؟ فَقَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ كَذَا، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْآيَةَ، وَأَمَّا خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ وَأَبُو ذَرٍّ فَقَدْ فَرَّا وَأَتَيَا الْمَدِينَةَ، وَأَمَّا سُمَيَّةُ فَرُبِطَتْ بَيْنَ بَعِيرَيْنِ ثُمَّ قُتِلَتْ وَقُتِلَ يَاسِرٌ، وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَأَعْطَوْا بِسَبَبِ الْعَذَابِ بَعْضَ مَا أَرَادَ الْمُشْرِكُونَ فَتُرِكُوا، وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [النَّحْلِ: 41] بِتَعْذِيبِ أَهْلِ مَكَّةَ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً [النَّحْلِ: 41] بِالنَّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ، وَفِيهِمْ نَزَلَ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النَّحْلِ: 106] . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ وَنَهَى عَنْ مُنْكَرٍ، عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بَاتَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ خُرُوجِهِ إِلَى الْغَارِ، وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا نَامَ عَلَى فِرَاشِهِ قَامَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَمِيكَائِيلُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَجِبْرِيلُ يُنَادِي: بَخٍ بَخٍ مَنْ مِثْلُكَ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ يُبَاهِي اللَّهُ بِكَ الْمَلَائِكَةَ وَنَزَلَتِ الْآيَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الشِّرَاءِ: الْبَيْعُ، قَالَ تَعَالَى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ [يُوسُفَ: 20] أَيْ بَاعُوهُ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمُكَلَّفَ بَاعَ نَفْسَهُ بِثَوَابِ الْآخِرَةِ وَهَذَا الْبَيْعُ هُوَ أَنَّهُ بَذَلَهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ، ثُمَّ تَوَصَّلَ بِذَلِكَ إِلَى وِجْدَانِ ثَوَابِ اللَّهِ، كَانَ مَا يَبْذُلُهُ مِنْ نَفْسِهِ كَالسِّلْعَةِ، وَصَارَ الْبَاذِلُ كَالْبَائِعِ، وَاللَّهُ كَالْمُشْتَرِي، كَمَا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التَّوْبَةِ: 111] وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ تِجَارَةً، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [الصَّفِ: 10، 11] وَعِنْدِي أَنَّهُ يُمْكِنُ إِجْرَاءُ لَفْظَةِ الشِّرَاءِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالتَّوَسُّعِ/ فِي مَلَاذِ الدُّنْيَا وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْآخِرَةِ وَقَعَ فِي الْعَذَابِ الدَّائِمِ فَصَارَ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّ نَفْسَهُ كَانَتْ لَهُ، فَبِسَبَبِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ وَصَارَتْ حَقًّا لِلنَّارِ وَالْعَذَابِ، فَإِذَا تَرَكَ الْكُفْرَ وَالْفِسْقَ وَأَقَدَمَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ صَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى نَفْسَهُ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّارِ فَصَارَ حَالُ الْمُؤْمِنِ كَالْمُكَاتَبِ يَبْذُلُ دَارَهِمَ مَعْدُودَةً وَيَشْتَرِي بِهَا نَفْسَهُ فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يَبْذُلُ أَنْفَاسًا مَعْدُودَةً وَيَشْتَرِي بِهَا نَفْسَهُ أَبَدًا لَكِنَّ المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، فَكَذَا الْمُكَلَّفُ لَا يَنْجُو عَنْ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ مَا دَامَ لَهُ نَفْسٌ وَاحِدٌ فِي الدُّنْيَا وَلِهَذَا قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مَرْيَمَ: 31] وَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحِجْرِ: 99] . فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ نَفْسَهُ مُشْتَرِيًا حَيْثُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [التَّوْبَةِ: 111] وَهَذَا يَمْنَعُ كَوْنَ الْمُؤْمِنِ مُشْتَرِيًا.

[سورة البقرة (2) : آية 208]

قُلْنَا: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَهُوَ كَمَنِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَبْدٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَائِعٌ، وكل واحد منهما مشتر، فكذا هاهنا وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَرْكِ الظَّاهِرِ وَإِلَى حَمْلِ لَفْظِ الشِّرَاءِ عَلَى الْبَيْعِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا كُلُّ مَشَقَّةٍ يَتَحَمَّلُهَا الْإِنْسَانُ فِي طَلَبِ الدِّينِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُجَاهِدُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْبَاذِلُ مُهْجَتَهُ الصَّابِرُ عَلَى الْقَتْلِ، كَمَا فَعَلَهُ أَبُو عَمَّارٍ وَأُمُّهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْآبِقُ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُشْتَرِي نَفْسَهُ مِنَ الْكُفَّارِ بِمَالِهِ كَمَا فَعَلَ صُهَيْبٌ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يُظْهِرُ الدِّينَ وَالْحَقَّ عِنْدَ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بَعَثَ جَيْشًا فَحَاصَرُوا قَصْرًا فَتَقَدَّمَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: كَذَبْتُمْ رَحِمَ اللَّهُ أَبَا فُلَانٍ، وَقَرَأَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمَشَقَّةَ الَّتِي يَتَحَمَّلُهَا الْإِنْسَانُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ حَتَّى يَدْخُلَ بِسَبَبِهِ تَحْتَ الْآيَةِ، فَأَمَّا لَوْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الشَّرْعِ فَهُوَ غَيْرُ داخل فيه بل بعد ذَلِكَ مِنْ بَابِ إِلْقَاءِ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ نَحْوَ مَا إِذَا خَافَ التَّلَفَ عِنْدَ الِاغْتِسَالِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَفَعَلَ، قَالَ قَتَادَةُ: أَمَا وَاللَّهِ مَا هُمْ بِأَهْلِ حَرُورَاءَ الْمُرَّاقِ مِنَ الدِّينِ وَلَكِنَّهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَمَّا رَأَوُا الْمُشْرِكِينَ يَدَّعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ قَاتَلُوا عَلَى دِينِ اللَّهِ وَشَرَوْا أَنْفُسَهُمْ غَضَبًا لِلَّهِ وَجِهَادًا في سبيله. المسألة الثالثة: يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي لابتغاء مرضاة الله، ويَشْرِي بمعنى يشتري. أما قوله تعالى: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ فَمِنْ رَأْفَتِهِ أَنَّهُ جَعَلَ النَّعِيمَ الدَّائِمَ جَزَاءً عَلَى الْعَمَلِ الْقَلِيلِ الْمُنْقَطِعِ، وَمِنْ رَأْفَتِهِ جَوَّزَ لَهُمْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ إِبْقَاءً عَلَى النَّفْسِ، وَمِنْ رَأْفَتِهِ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَمِنْ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنَّ الْمُصِرَّ عَلَى الْكُفْرِ مِائَةَ سَنَةٍ إِذَا تَابَ وَلَوْ فِي لَحْظَةٍ أَسْقَطَ كُلَّ ذَلِكَ الْعِقَابِ. / وَأَعْطَاهُ الثَّوَابَ الدَّائِمَ، وَمِنْ رَأْفَتِهِ أَنَّ النَّفْسَ لَهُ وَالْمَالَ، ثُمَّ إِنَّهُ يَشْتَرِي مُلْكَهُ بِمُلْكِهِ فَضْلًا مِنْهُ ورحمة وإحسانا. [سورة البقرة (2) : آية 208] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْمُنَافِقِ أَنَّهُ يَسْعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يُضَادُّ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمُوَافَقَةُ فِي الْإِسْلَامِ وَفِي شرائعه، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ السِّلْمِ بِفَتْحِ السِّينِ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ [الْأَنْفَالِ: 61] وَقَوْلِهِ: وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ [مُحَمَّدٍ: 35] وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رواية أبي بكر بن عياش السِّلْمِ بِكَسْرِ السِّينِ فِي الْكُلِّ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ السِّينِ فِي هَذِهِ، وَالَّتِي فِي الْبَقَرَةِ، وَالَّتِي فِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِكَسْرِ السِّينِ فِي هَذِهِ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ وَحْدَهَا وَبِفَتْحِ السِّينِ فِي الْأَنْفَالِ، وَفِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ، فَذَهَبَ ذَاهِبُونَ إِلَى أَنَّهُمَا لُغَتَانِ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، مِثْلَ: رَطْلٍ وَرِطْلٍ وَجَسْرٍ وَجِسْرٍ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِفَتْحِ السين واللام.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنَ الِانْقِيَادِ، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ [الْبَقَرَةِ: 131] وَالْإِسْلَامُ إِنَّمَا سُمِّيَ إِسْلَامًا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَغَلُبَ اسْمُ السِّلْمِ عَلَى الصُّلْحِ وَتَرْكِ الْحَرْبِ، وَهَذَا أَيْضًا رَاجِعٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ عِنْدَ الصُّلْحِ يَنْقَادُ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ وَلَا يُنَازِعُهُ فِيهِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَفِيهِ لُغَاتٌ ثَلَاثٌ: السِّلْمُ، وَالسَّلْمُ، وَالسَّلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلُوا السِّلْمَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَالْإِيمَانُ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلِأَجْلِ هَذَا السُّؤَالِ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وُجُوهًا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الْمُنَافِقُونَ، وَالتَّقْدِيرُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمُ ادْخُلُوا بِكُلِّيَّتِكُمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، أَيْ آثَارَ تَزْيِينِهِ وَغُرُورِهِ فِي الْإِقَامَةِ عَلَى النِّفَاقِ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ احْتَجَّ عَلَى صِحَّتِهِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا وَرَدَتْ عَقِيبَ مَا مَضَى مِنْ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ [البقرة: 204] الْآيَةَ فَلَمَّا وَصَفَ الْمُنَافِقَ بِمَا ذَكَرَ دَعَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الْإِيمَانِ/ بِالْقَلْبِ وَتَرْكِ النِّفَاقِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ مِنْ مُسْلِمِي أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ حِينَ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقَامُوا بَعْدَهُ عَلَى تَعْظِيمِ شَرَائِعِ مُوسَى، فَعَظَّمُوا السَّبْتَ، وَكَرِهُوا لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا، وَكَانُوا يَقُولُونَ: تَرْكُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُبَاحٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَوَاجِبٌ فِي التَّوْرَاةِ، فَنَحْنُ نَتْرُكُهَا احْتِيَاطًا فَكَرِهَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ مِنْهُمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً، أَيْ فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كَافَّةً، وَلَا يَتَمَسَّكُوا بِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ اعْتِقَادًا لَهُ وَعَمَلًا بِهِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ فِي التَّمَسُّكِ بِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ بَعْدَ أَنْ عَرَفْتُمْ أَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ جَعَلُوا قَوْلَهُ: كَافَّةً من وصف المسلم، كَأَنَّهُ قِيلَ: ادْخُلُوا فِي جَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخِطَابُ وَاقِعًا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بالنبي عليه السلام فقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ بِالْكِتَابِ الْمُتَقَدِّمِ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أَيْ أَكْمِلُوا طَاعَتَكُمْ فِي الْإِيمَانِ وَذَلِكَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِجَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ وَكُتُبِهِ فَادْخُلُوا بِإِيمَانِكُمْ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِكِتَابِهِ فِي السِّلْمِ عَلَى التَّمَامِ، وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فِي تَحْسِينِهِ عِنْدَ الِاقْتِصَارِ عَلَى دِينِ التَّوْرَاةِ بِسَبَبِ أَنَّهُ دِينٌ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ بِسَبَبِ أَنَّهُ جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ: تَمَسَّكُوا بِالسَّبْتِ ما دامت السموات وَالْأَرْضُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُرَادُ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ الشُّبُهَاتُ الَّتِي يَتَمَسَّكُونَ بِهَا فِي بَقَاءِ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ. ورابعها: هذا الخطاب واقع على المسلمين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِالْأَلْسِنَةِ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أَيْ دُومُوا عَلَى الْإِسْلَامِ فِيمَا تَسْتَأْنِفُونَهُ مِنَ الْعُمُرِ وَلَا تَخْرُجُوا عَنْهُ وَلَا عَنْ شَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِهِ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ، الشَّيْطانِ أَيْ وَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَى الشُّبُهَاتِ الَّتِي تُلْقِيهَا إِلَيْكُمْ أَصْحَابُ الضَّلَالَةِ وَالْغَوَايَةِ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ: هَذَا الْوَجْهُ مُتَأَكَّدٌ بِمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبِمَا بَعْدَهَا، أَمَّا مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ ذَلِكَ الْمُنَافِقِ فِي قَوْلِهِ: سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَمَا ذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ إِلْقَاءُ الشُّبُهَاتِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: دُومُوا عَلَى إِسْلَامِكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا تِلْكَ الشُّبُهَاتِ الَّتِي يَذْكُرُهَا الْمُنَافِقُونَ، وَأَمَّا مَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ

قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ [الْبَقَرَةِ: 210] يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ مُعَانِدُونَ مُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ قَدْ أُزِيحَتْ عِلَلُهُمْ وَهُمْ لَا يُوقِفُونَ قَوْلَهُمْ بِهَذَا الدِّينِ الْحَقِّ إِلَّا عَلَى أُمُورٍ بَاطِلَةٍ مِثْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظِلٍّ مِنَ الْغَمَامِ والملائكة. فإن قيل: الموصوف بِالشَّيْءِ يُقَالُ لَهُ: دُمْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا يُقَالُ لَهُ: ادْخُلْ فِيهِ وَالْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ: ادْخُلُوا. قُلْنَا إِنَّ الْكَائِنَ فِي الدَّارِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ خُرُوجًا عَنْهَا فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ يُؤْمَرَ بِدُخُولِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَإِنْ كَانَ كَائِنًا فِيهَا فِي الْحَالِ، لِأَنَّ حَالَ كَوْنِهِ فِيهَا غَيْرُ الْحَالَةِ الَّتِي أُمِرَ أَنْ/ يَدْخُلَهَا، فَإِذَا كَانَ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي قَدْ يَخْرُجُ عَنْهَا صَحَّ أَنْ يُؤْمَرَ بِدُخُولِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ يَخْرُجُونَ عَنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ بِالنَّوْمِ وَالسَّهْوِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَحْوَالِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَأْمُرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالدُّخُولِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فِي الْإِسْلَامِ وَخَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ السِّلْمُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ مَعْنَاهُ الصُّلْحُ وَتَرْكُ الْمُحَارَبَةِ وَالْمُنَازَعَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أَيْ كُونُوا مُوَافِقِينَ وَمُجْتَمِعِينَ فِي نُصْرَةِ الدِّينِ وَاحْتِمَالِ الْبَلْوَى فِيهِ، وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ بِأَنْ يَحْمِلَكُمْ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا وَالْمُنَازَعَةِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: 46] وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا [آلِ عِمْرَانَ: 200] وَقَالَ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آلِ عِمْرَانَ: 103] وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُؤْمِنُ يَرْضَى لِأَخِيهِ مَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ» وَهَذِهِ الْوُجُوهُ فِي التَّأْوِيلِ ذَكَرَهَا جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَعِنْدِي فِيهِ وُجُوهٌ أُخَرُ أحدها: أن قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَقَوْلَهُ: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ مُخَالَفَةٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَيَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى تَرْكُهَا بِالسِّلْمِ، أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ: كُونُوا مُنْقَادِينَ لِلَّهِ فِي الْإِتْيَانِ بِالطَّاعَاتِ، وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ الْإِيمَانَ بَاقٍ مَعَ الِاشْتِغَالِ بِالْمَعَاصِي وَهَذَا تَأْوِيلٌ ظَاهِرٌ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ السِّلْمِ كَوْنَ الْعَبْدِ رَاضِيًا وَلَمْ يَضْطَرِبْ قَلْبُهُ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «الرِّضَا بِالْقَضَاءِ بَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ» وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَرْكَ الِانْتِقَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفُرْقَانِ: 72] وَفِي قَوْلِهِ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 199] فهذا هو كلام فِي وُجُوهِ تَأْوِيلَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ كَافَّةً يَصِحُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمَأْمُورِينَ بِالدُّخُولِ أَيِ ادْخُلُوا بِأَجْمَعِكُمْ فِي السِّلْمِ. وَلَا تَفَرَّقُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا، قَالَ قُطْرُبٌ: تَقُولُ الْعَرَبُ: رَأَيْتُ الْقَوْمَ كَافَّةً وَكَافِّينَ وَرَأَيْتُ النِّسْوَةَ كَافَّاتٍ وَيَصْلُحُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ أَيِ ادْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ كُلِّهِ أَيْ فِي كُلِّ شَرَائِعِهِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا أَلْيَقُ بِظَاهِرِ التَّفْسِيرِ لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْقِيَامِ بِهَا كُلِّهَا، وَمَعْنَى الْكَافَّةِ فِي اللُّغَةِ الْحَاجِزَةُ الْمَانِعَةُ يُقَالُ: كَفَفْتُ فَلَانًا عَنِ السُّوءِ أَيْ مَنَعْتُهُ، وَيُقَالُ: كَفَّ الْقَمِيصَ لِأَنَّهُ مَنَعَ الثَّوَابَ عَنِ الِانْتِشَارِ، وَقِيلَ لِطَرَفِ الْيَدِ: كَفٌّ لِأَنَّهُ يُكَفُّ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْبَدَنِ، وَرَجُلٌ مَكْفُوفٌ أَيْ كُفَّ بَصَرُهُ مِنْ أَنْ يُبْصِرَ، فَالْكَافَّةُ مَعْنَاهَا الْمَانِعَةُ، ثُمَّ صَارَتِ اسْمًا لِلْجُمْلَةِ الْجَامِعَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ يَمْنَعُ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالشُّذُوذِ، فَقَوْلُهُ: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أَيِ ادْخُلُوا فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ فَتَكُفُّوا مِنْ أَنْ تَتْرُكُوا شَيْئًا مِنْ شَرَائِعِهِ، أَوْ يَكُونَ الْمَعْنَى ادْخُلُوا كُلُّكُمْ حَتَّى تَمْنَعُوا وَاحِدًا مِنْ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِيهِ.

[سورة البقرة (2) : آية 209]

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَالْمَعْنَى: وَلَا تُطِيعُوهُ وَمَعْرُوفٌ فِي الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ فِيمَنِ اتَّبَعَ سُنَّةَ إِنْسَانٍ اقْتَفَى أَثَرَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: اتَّبَعْتُ خُطُوَاتِهِ. وَخُطُوَاتٌ/ جَمْعُ خُطْوَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: إِنَّ مُبِينٌ مِنْ صِفَاتِ الْبَلِيغِ الَّذِي يُعْرِبُ عَنْ ضَمِيرِهِ، وَأَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ [الزخرف: 1، الدُّخَانِ: 1] وَلَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ مُبِينًا إِلَّا ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُمْكِنُ وَصْفُ الشَّيْطَانِ بِأَنَّهُ مُبِينٌ مَعَ أَنَّا لَا نَرَى ذَاتَهُ وَلَا نَسْمَعُ كَلَامَهُ. قُلْنَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ عَدَاوَتَهُ لِآدَمَ وَنَسْلِهِ فَلِذَلِكَ الْأَمْرِ صَحَّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَإِنْ لَمْ يُشَاهَدْ وَمِثَالُهُ: مَنْ يُظْهِرُ عَدَاوَتَهُ لِرَجُلٍ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ فَقَدْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فَلَانًا عَدُوٌّ مُبِينٌ لَكَ وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ فِي الْحَالِ وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِبَانَةِ الْقَطْعُ وَالْبَيَانُ إِنَّمَا سُمِّيَ بَيَانًا لِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ بَعْضَ الِاحْتِمَالَاتِ عَنْ بَعْضٍ، فَوَصْفُ الشَّيْطَانِ بِأَنَّهُ مُبِينٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقْطَعُ الْمُكَلَّفَ بِوَسْوَسَتِهِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ وَرِضْوَانِهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَوْنُ الشَّيْطَانِ عدوا لنا إما أن يكون بسبب أنه يُقْصَدَ إِيصَالُ الْآلَامِ وَالْمَكَارِهِ إِلَيْنَا فِي الْحَالِ، أَوْ بِسَبَبِ أَنَّهُ بِوَسْوَسَتِهِ يَمْنَعُنَا عَنِ الدِّينِ وَالثَّوَابِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأَوْقَعَنَا فِي الْأَمْرَاضِ وَالْآلَامِ وَالشَّدَائِدِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ مَنْ قَبِلَ مِنْهُ تِلْكَ الْوَسْوَسَةَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ كَمَا قَالَ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إِبْرَاهِيمَ: 22] إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ عَدُوٌّ مُبِينُ الْعَدَاوَةِ، وَالْحَالُ مَا ذَكَرْنَاهُ؟. الْجَوَابُ: أَنَّهُ عَدُوٌّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ مَعًا أَمَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُحَاوِلُ إِيصَالَ الضَّرَرِ إِلَيْنَا فَهُوَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مُرِيدًا لِإِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَيْنَا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهَا وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُقْدِمُ عَلَى الْوَسْوَسَةِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ تَزْيِينَ الْمَعَاصِي وَإِلْقَاءَ الشُّبُهَاتِ كُلُّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِوُقُوعِ الْإِنْسَانِ فِي الْبَاطِلِ وَبِهِ يَصِيرُ مَحْرُومًا عَنِ الثَّوَابِ، فَكَانَ ذَلِكَ من أعظم جهات العداوة. [سورة البقرة (2) : آية 209] فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ زَلَلْتُمْ بِكَسْرِ اللَّامِ الْأُولَى وَهُمَا لُغَتَانِ كَضَلَلْتُ وَضَلِلْتُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُقَالُ: زَلَّ يَزِلُّ زُلُولًا وَزِلْزَالًا إِذَا دَحَضَتْ قَدَمُهُ وَزَلَّ فِي الطِّينِ، وَيُقَالُ لِمَنْ زَلَّ فِي حَالٍ كَانَ عَلَيْهَا: زَلَّتْ بِهِ الْحَالُ، وَيُسَمَّى الذَّنْبُ زَلَّةً، يُرِيدُونَ بِهِ الزَّلَّةَ لِلزَّوَالِ عَنِ الْوَاجِبِ فَقَوْلُهُ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ أَيْ أَخْطَأْتُمُ الْحَقَّ وَتَعَدَّيْتُمُوهُ، وَأَمَّا سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً، فَمَنْ قَالَ فِي الْأَوَّلِ: إِنَّهُ فِي الْمُنَافِقِينَ، فَكَذَا الثَّانِي، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَذَا/ الثَّانِي، وَقِسِ الْبَاقِيَ عَلَيْهِ. يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ فِي تَحْرِيمِ السَّبْتِ وَلَحْمِ الْإِبِلِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَائِعُهُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ بِالنِّقْمَةِ حَكِيمٌ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ، فَعِنْدَ هَذَا قَالُوا لَئِنْ شِئْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَنَتْرُكَنَّ كُلَّ كِتَابٍ غَيْرَ كتابك، فأنزل الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاءِ: 136] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ فِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَشْرُوطَ إِنَّمَا يَحْسُنُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَكُونُ عَارِفًا بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَأَجَابَ قَتَادَةُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: قَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ سَيَزِلُّونَ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ ذَلِكَ وَأَوْعَدَ فِيهِ لِكَيْ يَكُونَ لَهُ حُجَّةٌ عَلَى خَلْقِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ يَعْنِي إِنِ انْحَرَفْتُمْ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْكَبَائِرُ وَالصَّغَائِرُ فَإِنَّ الِانْحِرَافَ كَمَا يَحْصُلُ بِالْكَثِيرِ يَحْصُلُ بِالْقَلِيلِ. فَتَوَعَّدَ تَعَالَى عَلَى كُلِّ ذَلِكَ زَجْرًا لَهُمْ عَنِ الزَّوَالِ عَنِ الْمِنْهَاجِ لِكَيْ يَتَحَرَّزَ الْمُؤْمِنُ عَنْ قَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ فَلَا شَكَّ فِي وُجُوبِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ، وَمَا لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ مِنَ الْكَبَائِرِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ كَوْنُ الْعِقَابِ مُسْتَحِقًّا بِهِ وَحِينَئِذٍ يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ أَمَّا الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ فَهِيَ الدَّلَائِلُ عَلَى الْأُمُورِ الَّتِي تُثْبِتُ صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِهَا نَحْوَ الْعِلْمِ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَافْتِقَارِهِ إِلَى صَانِعٍ يَكُونُ عَالِمًا بِالْمَعْلُومَاتِ كُلِّهَا، قَادِرًا عَلَى الْمُمْكِنَاتِ كُلِّهَا، غَنِيًّا عَنِ الْحَاجَاتِ كُلِّهَا، وَمِثْلَ الْعِلْمِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ وَالسِّحْرِ، وَالْعِلْمِ بِدَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ فَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ، وَأَمَّا الْبَيِّنَاتُ السَّمْعِيَّةُ فَهِيَ الْبَيَانُ الْحَاصِلُ بِالْقُرْآنِ وَالْبَيَانُ الْحَاصِلُ بِالسُّنَّةِ فَكُلُّ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ دَاخِلَةٌ فِي الْآيَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ عُذْرَ الْمُكَلَّفِ لَا يَزُولُ عِنْدَ حُصُولِ كُلِّ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الْقَاضِي: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ بِالذَّنْبِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ الْبَيَانِ وَإِزَاحَةِ الْعِلَّةِ، فَإِذَا عَلَّقَ الْوَعِيدَ بِشَرْطِ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ وَحُصُولِهَا فَبِأَنْ لَا يَجُوزَ أَنْ يَحْصُلَ الْوَعِيدُ لِمَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْفِعْلِ أَصْلًا أَوْلَى، ولأن الدلالة لا ينتفع بها إلا أولوا الْقُدْرَةِ، وَقَدْ يَنْتَفِعُ بِالْقُدْرَةِ مَعَ فَقْدِ الدَّلَالَةِ، وَقَالَ أَيْضًا: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حُصُولُ الْبَيِّنَاتِ لَا حُصُولُ الْيَقِينِ مِنَ الْمُكَلَّفِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُتَمَكِّنَ مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ كَالْعَارِفِ، فَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنْ لَا حُجَّةَ لِلَّهِ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ وَيَعْرِفُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قوله تعالى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ/ إشارة إلى أن ذَنْبِهِمْ وَجُرْمِهِمْ، فَكَيْفَ يَدُلُّ قَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ عَلَى الزَّجْرِ وَالتَّهْدِيدِ. الْجَوَابُ: أَنَّ الْعَزِيزَ مَنْ لَا يُمْنَعُ عَنْ مُرَادِهِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، فَكَانَ عَزِيزًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مُقْتَدِرٌ عَلَيْكُمْ لَا يَمْنَعُهُ مَانِعٌ عَنْكُمْ، فَلَا يَفُوتُهُ مَا يُرِيدُهُ مِنْكُمْ وَهَذَا نِهَايَةٌ فِي الْوَعِيدِ، لِأَنَّهُ يَجْمَعُ مِنْ ضُرُوبِ الْخَوْفِ مَا لَا يَجْمَعُهُ الْوَعِيدُ بِذِكْرِ الْعِقَابِ، وَرُبَّمَا قَالَ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ: إِنْ عَصَيْتَنِي فَأَنْتَ عَارِفٌ بِي، وَأَنْتَ تَعْلَمُ قُدْرَتِي عَلَيْكَ وَشِدَّةَ سَطْوَتِي، فَيَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ فِي الزَّجْرِ أَبْلَغَ مِنْ ذِكْرِ الضَّرْبِ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ قِيلَ: أَفَهَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْوَعْدِ كَمَا أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْوَعِيدِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ مِنْ حَيْثُ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: حَكِيمٌ فَإِنَّ اللَّائِقَ بِالْحِكْمَةِ أَنْ يُمَيِّزَ بَيْنَ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ فَكَمَا يَحْسُنُ مِنَ الْحَكِيمِ إِيصَالُ الْعَذَابِ إِلَى الْمُسِيءِ فَكَذَلِكَ

[سورة البقرة (2) : آية 210]

يَحْسُنُ مِنْهُ إِيصَالُ الثَّوَابِ إِلَى الْمُحْسِنِ، بَلْ هَذَا أَلْيَقُ بِالْحِكْمَةِ وَأَقْرَبُ لِلرَّحْمَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ لَا وُجُوبَ لِشَيْءٍ قَبْلَ الشَّرْعِ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ التَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ بِشَرْطِ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ، وَلَفْظُ الْبَيِّناتُ لَفْظُ جَمْعٍ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ مَشْرُوطٌ بِمَجِيءِ كُلِّ الْبَيِّنَاتِ وَقَبْلَ الشَّرْعِ لَمْ تَحْصُلْ كُلُّ الْبَيِّنَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْوَعِيدُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَقَرَّرَ الْوُجُوبُ قَبْلَ الشَّرْعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُهُ الْمُجْبِرَةُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ مِنَ السُّفَهَاءِ وَالْكُفَّارِ: السَّفَاهَةَ وَالْكُفْرَ لَمَا جَازَ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ حَكِيمٌ، لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ السَّفَهَ وَأَرَادَهُ كَانَ سَفِيهًا، وَالسَّفِيهُ لَا يَكُونُ حَكِيمًا أَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ الْحَكِيمَ هُوَ الْعَالِمُ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ فَيَرْجِعُ مَعْنَى كَوْنِهِ تَعَالَى حَكِيمًا إِلَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ خَالِقًا لِكُلِّ الْأَشْيَاءِ وَمُرِيدًا لَهَا، بَلْ يُوجِبُ ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ مَا عُلِمَ عَدَمُهُ لَكَانَ قَدْ أَرَادَ تَجْهِيلَ نَفْسِهِ فَقَالُوا: لَوْ لَزِمَ ذَلِكَ لَكَانَ إِذَا أَمَرَ بِمَا عُلِمَ عَدَمُهُ فَقَدْ أَمَرَ بِتَجْهِيلِ نَفْسِهِ. قُلْنَا: هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ أَمْرًا بِمَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ، وَهَذَا عِنْدَنَا مَمْنُوعٌ فَإِنْ قَالُوا: لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَزِمَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، قُلْنَا هَذَا عِنْدَنَا جَائِزٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يُحْكَى أَنَّ قَارِئًا قَرَأَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَسَمِعَهُ أَعْرَابِيٌّ فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ إِنْ كَانَ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ فَلَا يَقُولُ كَذَا الْحَكِيمُ لَا يَذْكُرُ الْغُفْرَانَ عِنْدَ الزَّلَلِ لِأَنَّهُ إِغْرَاءٌ عليه. [سورة البقرة (2) : آية 210] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكَلَامُ الْمُسْتَقْصَى فِي لَفْظِ النَّظَرِ مَذْكُورٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [الْقِيَامَةِ: 22، 23] وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِيءُ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النَّمْلِ: 35] فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ هُوَ الِانْتِظَارُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعَ الْمُعْتَبِرُونَ مِنَ الْعُقَلَاءِ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَجِيءِ وَالذَّهَابِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: مَا ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ كُلَّ مَا يَصِحُّ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ وَالذَّهَابُ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَهُمَا مُحْدَثَانِ، وَمَا لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْمُحْدَثِ فَهُوَ مُحْدَثٌ، فَيَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَصِحُّ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ وَالذَّهَابُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا مَخْلُوقًا وَالْإِلَهُ الْقَدِيمُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ مَا يَصِحُّ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الصِّغَرِ وَالْحَقَارَةِ كَالْجُزْءِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ بَلْ يَكُونُ شَيْئًا كَبِيرًا فَيَكُونُ أَحَدُ جَانِبَيْهِ مُغَايِرًا لِلْآخَرِ فَيَكُونُ مُرَكَّبًا مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ وَكُلُّ مَا كَانَ مُرَكَّبًا، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمُرَكَّبَ يَكُونُ مُفْتَقِرًا فِي تَحَقُّقُهُ إِلَى تَحَقُّقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ غَيْرُهُ فَكُلُّ مُرَكَّبٍ هُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ لِذَاتِهِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ فِي وُجُودِهِ إِلَى الْمُرَجِّحِ وَالْمُوجِدِ، فَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ، وَالْإِلَهُ الْقَدِيمُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ

كَذَلِكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ كُلَّ مَا يَصِحُّ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ فَهُوَ مَحْدُودٌ وَمُتَنَاهٍ فَيَكُونُ مُخْتَصًّا بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ وُقُوعُهُ عَلَى مِقْدَارٍ أَزْيَدَ مِنْهُ أَوْ أَنْقَصَ فَاخْتِصَاصُهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِتَرْجِيحِ مُرَجِّحٍ، وَتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فِعْلًا لِفَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ، فَالْإِلَهُ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَرَابِعُهَا: أَنَّا مَتَى جَوَّزْنَا فِي الشَّيْءِ الَّذِي يَصِحُّ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ وَالذَّهَابُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا قَدِيمًا أَزَلِيًّا فَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَحْكُمَ بِنَفْيِ الْإِلَهِيَّةِ عَنِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَكَانَ بَعْضُ الْأَذْكِيَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا يَقُولُ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا عَيْبَ فِيهِمَا يَمْنَعُ مِنَ القول بإلهيتهما سوى أنهم جِسْمٌ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْغَيْبَةُ وَالْحُضُورُ، فَمَنْ جَوَّزَ الْمَجِيءَ وَالذَّهَابَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلِمَ لَا يَحْكُمُ بِإِلَهِيَّةِ الشَّمْسِ، وَمَا الَّذِي أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ بِإِثْبَاتِ مَوْجُودٍ آخَرَ يَزْعُمُ أَنَّهُ إِلَهٌ وَخَامِسُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ طَعَنَ فِي إِلَهِيَّةِ الْكَوَاكِبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ بِقَوْلِهِ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الْأَنْعَامِ: 76] وَلَا مَعْنَى لِلْأُفُولِ إِلَّا الْغَيْبَةُ وَالْحُضُورُ فَمَنْ جَوَّزَ الْغَيْبَةَ وَالْحُضُورَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ طَعَنَ فِي دَلِيلِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَذَّبَ اللَّهَ فِي تَصْدِيقِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ. سَادِسُهَا: أَنَّ فِرْعَوْنَ لَعْنَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ لَمَّا سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: 23] وَطَلَبَ مِنْهُ الْمَاهِيَّةَ وَالْجِنْسَ وَالْجَوْهَرَ، فَلَوْ كَانَ تَعَالَى جِسْمًا مَوْصُوفًا بِالْأَشْكَالِ وَالْمَقَادِيرِ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ لَيْسَ إِلَّا بِذِكْرِ الصُّورَةِ وَالشَّكْلِ وَالْقَدْرِ: فَكَانَ جَوَابُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [مريم: 65] رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الدُّخَانِ: 8] رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [المزمل: 9، الشُّعَرَاءِ: 28] خَطَأً وَبَاطِلًا، وَهَذَا يَقْتَضِي تَخْطِئَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا ذَكَرَ مِنَ الْجَوَابِ، وَتَصْوِيبَ فِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشُّعَرَاءِ: 27] وَلَمَّا كَانَ كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلًا، عَلِمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا، وَأَنْ يَكُونَ فِي مَكَانٍ، وَمُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَصِحَّ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ وَالذَّهَابُ وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاصِ: 1] وَالْأَحَدُ هُوَ الْكَامِلُ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ وَكُلُّ جِسْمٍ فَهُوَ مُنْقَسِمٌ بِحَسَبِ الْغَرَضِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى جُزْأَيْنِ، فَلَمَّا كَانَ تَعَالَى أَحَدًا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا أَوْ مُتَحَيِّزًا، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ جِسْمًا وَلَا مُتَحَيِّزًا امْتَنَعَ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ وَالذَّهَابُ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مَرْيَمَ: 65] أَيْ شَبِيهًا وَلَوْ كَانَ جِسْمًا مُتَحَيِّزًا لَكَانَ مُشَابِهًا لِلْأَجْسَامِ فِي الْجِسْمِيَّةِ، إِنَّمَا الِاخْتِلَافُ يَحْصُلُ فِيمَا وَرَاءَ الْجِسْمِيَّةِ، وَذَلِكَ إِمَّا بِالْعِظَمِ أَوْ بِالصِّفَاتِ وَالْكَيْفِيَّاتِ، وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي حُصُولِ الْمُشَابَهَةِ فِي الذَّاتِ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: 11] وَلَوْ كَانَ جِسْمًا لَكَانَ مَثَلًا لِلْأَجْسَامِ وَثَامِنُهَا: لَوْ كَانَ جِسْمًا مُتَحَيِّزًا لَكَانَ مُشَارِكًا لِسَائِرِ الْأَجْسَامِ فِي عُمُومِ الْجِسْمِيَّةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا فِي خُصُوصِ ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ، وَإِمَّا أن لَا يَكُونُ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُمَايَزَةُ، فَعُمُومُ كَوْنِهِ جِسْمًا مُغَايِرٌ لِخُصُوصِ ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ، وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّا إِذَا وَصَفْنَا تِلْكَ الذَّاتِ الْمَخْصُوصَةَ بِالْمَفْهُومِ مِنْ كَوْنِهِ جِسْمًا كُنَّا قَدْ جَعَلْنَا الْجِسْمَ صِفَةً وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّ الْجِسْمَ ذَاتُ الصِّفَةِ، وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّ تِلْكَ الذَّاتَ الْمَخْصُوصَةَ الَّتِي هِيَ مُغَايِرَةٌ لِلْمَفْهُومِ مِنْ كَوْنِهِ جِسْمًا وَغَيْرَ مَوْصُوفٍ بِكَوْنِهِ جِسْمًا، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا مُغَايِرًا لِلْمَفْهُومِ مِنَ الْجِسْمِ، وَغَيْرَ مَوْصُوفٍ بِهِ وَذَلِكَ يَنْفِي كَوْنَهُ تَعَالَى جِسْمًا، وَأَمَّا إِنْ قِيلَ: إِنَّ ذَاتَهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ كَانَتْ جِسْمًا لَا يُخَالِفُ سَائِرَ الْأَجْسَامِ فِي خُصُوصِيَّةٍ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَثَلًا لَهَا مُطْلَقًا، وَكُلُّ مَا صَحَّ عَلَيْهَا فَقَدْ صَحَّ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَجْسَامُ مُحْدَثَةً

وَجَبَ فِي ذَاتِهِ أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَلَا بِمُتَحَيِّزٍ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْمَجِيءُ وَالذَّهَابُ عَلَيْهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ أَنَّ الْمَجِيءَ وَالذَّهَابَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، عَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمَجِيءَ وَالذَّهَابَ، وَأَنَّ مُرَادَهُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ آخَرُ فَإِنْ عَيَّنَّا ذَلِكَ الْمُرَادَ لَمْ نَأْمَنِ الْخَطَأَ، فَالْأَوْلَى السُّكُوتُ عَنِ التَّأْوِيلِ، / وَتَفْوِيضُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهٌ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ لِجَهَالَتِهِ، وَوَجْهٌ يَعْرِفُهُ الْعُلَمَاءُ وَيُفَسِّرُونَهُ وَوَجْهٌ نَعْرِفُهُ مِنْ قِبَلِ الْعَرَبِيَّةِ فَقَطْ، وَوَجْهٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ وَهَذَا الْقَوْلُ قَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الم. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ على سبيل الفصيل ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ أَيْ آيَاتُ اللَّهِ فَجَعَلَ مَجِيءَ الْآيَاتِ مَجِيئًا لَهُ عَلَى التَّفْخِيمِ لِشَأْنِ الْآيَاتِ، كَمَا يُقَالُ: جَاءَ الْمَلِكُ إِذَا جَاءَ جَيْشٌ عَظِيمٌ مِنْ جِهَتِهِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 209] فَذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الزَّجْرِ وَالتَّهْدِيدِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّقْدِيرَ أَنْ يَصِحَّ الْمَجِيءُ عَلَى اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدُ حُضُورِهِ سَبَبًا لِلتَّهْدِيدِ وَالزَّجْرِ، لِأَنَّهُ عِنْدَ الْحُضُورِ كَمَا يَزْجُرُ الْكُفَّارُ وَيُعَاقِبُهُمْ، فَهُوَ يُثِيبُ الْمُؤْمِنِينَ وَيَخُصُّهُمْ بِالتَّقْرِيبِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْحُضُورِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، فَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ الْوَعِيدُ وَالتَّهْدِيدُ، وَجَبَ أَنْ يُضْمَرَ فِي الْآيَةِ مَجِيءُ الْهَيْبَةِ وَالْقَهْرِ وَالتَّهْدِيدِ، وَمَتَى أَضْمَرْنَا ذَلِكَ زَالَتِ الشُّبْهَةُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ مُوَافِقٌ لِنَظْمِ الْآيَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ أَيْ أَمْرُ اللَّهِ، وَمَدَارُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا ذَكَرَ فِعْلًا وَأَضَافَهُ إِلَى شَيْءٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُحَالًا فَالْوَاجِبُ صَرْفُهُ إِلَى التَّأْوِيلِ، كَمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ والمراد يحاربون أولياءه، وقال: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] وَالْمُرَادُ: وَاسْأَلْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ، فَكَذَا قَوْلُهُ: يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ الْمُرَادُ بِهِ يَأْتِيهِمْ أَمْرُ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: وَجاءَ رَبُّكَ [الْفَجْرِ: 22] الْمُرَادُ: جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا حَذْفُ الْمُضَافِ، وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مُقَامَهُ، وَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ، يُقَالُ: ضَرَبَ الْأَمِيرُ فُلَانًا، وَصَلَبَهُ، وَأَعْطَاهُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ، لَا أَنَّهُ تَوَلَّى ذَلِكَ الْعَمَلَ بِنَفَسِهِ، ثُمَّ الَّذِي يُؤَكِّدُ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ هذا التأويل وجهان الأول: أن قوله هاهنا: يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَقَوْلَهُ: وَجاءَ رَبُّكَ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ بِعَيْنِهَا في سورة النحل فقال: لْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ [النَّحْلِ: 33] فَصَارَ هَذَا الْحُكْمُ مُفَسِّرًا لِذَلِكَ الْمُتَشَابِهِ، لِأَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْآيَاتِ لَمَّا وَرَدَتْ فِي وَاقِعَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَبْعُدْ حَمْلُ بَعْضِهَا عَلَى الْبَعْضِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بعده: وَقُضِيَ الْأَمْرُ [هود: 44، البقرة: 21] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْمَعْهُودِ السَّابِقِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ جَرَى ذِكْرُ أَمْرٍ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى تَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ إِشَارَةً إِلَيْهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا الَّذِي أَضْمَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ أَيْ يَأْتِيهِمْ أمر الله.

فَإِنْ قِيلَ: أَمْرُ اللَّهِ عِنْدَكُمْ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ، فَالْإِتْيَانُ عَلَيْهَا مُحَالٌ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ أَصْوَاتٌ فَتَكُونُ/ أَعْرَاضًا، فَالْإِتْيَانُ عَلَيْهَا أَيْضًا مُحَالٌ. قُلْنَا: الْأَمْرُ فِي اللُّغَةِ لَهُ مَعْنَيَانِ، أَحَدُهُمَا الْفِعْلُ وَالشَّأْنُ وَالطَّرِيقُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [الْقَمَرِ: 50] وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هُودٍ: 97] وَفِي الْمَثَلِ: لِأَمْرٍ مَا جَدَعَ قَصِيرٌ أَنْفَهُ، لِأَمْرٍ مَا يَسُودُ مَنْ يسود فيحمل الأمر هاهنا عَلَى الْفِعْلِ، وَهُوَ مَا يَلِيقُ بِتِلْكَ الْمَوَاقِفِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَإِظْهَارِ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ، وَهَذَا هُوَ التأويل الأول الذي ذكرناه، وأما إن حَمْلُنَا الْأَمْرَ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَنَّ مُنَادِيًا يُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَلَا إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ بِكَذَا وَكَذَا، فَذَاكَ هُوَ إِتْيَانُ الْأَمْرِ، وَقَوْلُهُ: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ أَيْ مَعَ ظُلَلٍ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ سَمَاعَ ذَلِكَ النِّدَاءِ وَوُصُولَ تِلْكَ الظُّلَلِ يَكُونُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ إِتْيَانِ أَمْرِ اللَّهِ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ حُصُولَ أَصْوَاتٍ مُقَطَّعَةٍ مَخْصُوصَةٍ فِي تِلْكَ الْغَمَامَاتِ تَدُلُّ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ نُقُوشًا مَنْظُومَةً فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ لِشِدَّةِ بَيَاضِهَا وَسَوَادُ تِلْكَ الْكِتَابَةِ يُعْرَفُ بِهَا حَالُ أَهْلِ الْمَوْقِفِ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَغَيْرِهِمَا وَتَكُونُ فَائِدَةُ الظُّلَلِ مِنَ الْغَمَامِ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ أَمَارَةً لِمَا يُرِيدُ إِنْزَالَهُ بِالْقَوْمِ فَعِنْدَهُ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ حَضَرَ وَقَرُبَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي التَّأْوِيلِ أَنَّ الْمَعْنَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ بِمَا وَعَدَ مِنَ الْعَذَابِ وَالْحِسَابِ، فَحَذَفَ مَا يَأْتِي بِهِ تَهْوِيلًا عَلَيْهِمْ، إِذْ لَوْ ذَكَرَ مَا يَأْتِي بِهِ كَانَ أَسْهَلَ عَلَيْهِمْ فِي بَابِ الْوَعِيدِ وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ كَانَ أَبْلَغَ لِانْقِسَامِ خَوَاطِرِهِمْ، وَذَهَابِ فِكْرِهِمْ فِي كُلِّ وَجْهٍ، ومثله قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ [الْحَشْرِ: 2] وَالْمَعْنَى أَتَاهُمُ اللَّهُ بِخِذْلَانِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ [النحل: 26] فقوله: وَأَتاهُمُ الْعَذابُ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ الظَّاهِرِ إِذَا سُمِعَ بِوِلَايَةِ جَائِرٍ: قَدْ جَاءَنَا فُلَانٌ بِجَوْرِهِ وَظُلْمِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مَجَازٌ مَشْهُورٌ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ فِي بِمَعْنَى الْبَاءِ، وَحُرُوفُ الْجَرِّ يُقَامُ بَعْضُهَا مُقَامَ الْبَعْضِ، وَتَقْدِيرُهُ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ بِظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ، وَالْمُرَادُ الْعَذَابُ الَّذِي يَأْتِيهِمْ فِي الْغَمَامِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ تَصْوِيرُ عَظَمَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَوْلِهَا وَشِدَّتِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمُذْنِبِينَ إِذَا حَضَرُوا لِلْقَضَاءِ وَالْخُصُومَةِ، وَكَانَ الْقَاضِي فِي تِلْكَ الْخُصُومَةِ أَعْظَمَ السَّلَاطِينِ قَهْرًا وَأَكْبَرَهُمْ هَيْبَةً، فَهَؤُلَاءِ الْمُذْنِبُونَ لَا وَقْتَ عَلَيْهِمْ أَشَدُّ مَنْ وَقْتِ حُضُورِهِ لِفَصْلِ تِلْكَ الْخُصُومَةِ، فَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ إِتْيَانِ اللَّهِ تَصْوِيرَ غَايَةِ الْهَيْبَةِ وَنِهَايَةِ الْفَزَعِ، وَنَظِيرُهُ/ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزُّمَرِ: 67] مِنْ غَيْرِ تَصْوِيرِ قَبْضَةٍ وَطَيٍّ وَيَمِينٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَصْوِيرٌ لِعَظَمَةِ شَأْنِهِ لِتَمْثِيلِ الْخَفِيِّ بالجلي، فكذا هاهنا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: وَهُوَ أَوْضَحُ عِنْدِي مِنْ كُلِّ مَا سَلَفَ: أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة: 208] إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي حَقِّ الْيَهُودِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا

جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 209] يَكُونُ خِطَابًا مَعَ الْيَهُودِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة: 210] حِكَايَةً عَنِ الْيَهُودِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ دِينَكَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَعَ مُوسَى مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [الْبَقَرَةِ: 55] وَإِذَا كَانَ هَذَا حِكَايَةً عَنْ حَالِ الْيَهُودِ وَلَمْ يَمْنَعْ إِجْرَاءَ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا عَلَى مَذْهَبِ التَّشْبِيهِ، وَكَانُوا يُجَوِّزُونَ عَلَى اللَّهِ الْمَجِيءَ وَالذَّهَابَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى تَجَلَّى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الطَّوْرِ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَطَلَبُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ حِكَايَةً عَنْ مُعْتَقَدِ الْيَهُودِ الْقَائِلِينَ بِالتَّشْبِيهِ، فَلَا يُحْتَاجُ حِينَئِذٍ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَلَا إِلَى حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَجَازِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْمًا يَنْتَظِرُونَ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِي ذَلِكَ الِانْتِظَارِ أَوْ مُبْطِلُونَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ الْإِشْكَالُ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ كَيْفَ يَتَعَلَّقُ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. قُلْنَا: الْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عِنَادَهُمْ وَتَوَقُّفَهُمْ فِي قَبُولِ الدِّينِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ الْفَاسِدِ، فَذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يَجْرِي مَجْرَى التَّهْدِيدِ فَقَالَ: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ عِنْدِي مِنْ كُلِّ مَا سَبَقَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ كَلَامِهِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: فِي التَّأْوِيلِ مَا حَكَاهُ الْقَفَّالُ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِتْيَانَ فِي الظُّلَلِ مُضَافٌ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، فَأَمَّا الْمُضَافُ إِلَى اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ فَهُوَ الْإِتْيَانُ فَقَطْ، فَكَانَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَيَسْتَشْهِدُ فِي صِحَّتِهِ بِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا التَّأْوِيلُ مُسْتَنْكَرٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ فَاعْلَمْ أَنَّ الظُّلَلَ جَمْعُ ظُلَّةٍ، وَهِيَ مَا أَظَلَّكَ اللَّهُ بِهِ، وَالْغَمَامُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ مُجْتَمِعًا مُتَرَاكِمًا، فَالظُّلَلُ مِنَ الْغَمَامِ عِبَارَةٌ عَنْ قِطَعٍ مُتَفَرِّقَةٍ كُلُّ قِطْعَةٍ مِنْهَا تَكُونُ فِي غَايَةِ الْكَثَافَةِ وَالْعِظَمِ، فَكُلُّ قِطْعَةٍ ظُلَّةٌ، وَالْجَمْعُ ظُلَلٌ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ [لُقْمَانَ: 32] وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظِلَالٍ مِنَ الْغَمَامِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الظِّلَالُ جَمْعَ ظُلَّةٍ، كَقِلَالٍ وَقُلَّةٍ، وَأَنْ يَكُونَ جَمْعَ ظِلٍّ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَعْنَى مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ قَهْرُ اللَّهِ وَعَذَابُهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ. فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فِي الْغَمَامِ؟ قُلْنَا: لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْغَمَامَ مَظِنَّةُ الرَّحْمَةِ، فَإِذَا نَزَلَ مِنْهُ الْعَذَابُ كَانَ الْأَمْرُ أَفْظَعَ، لأن السر إِذَا جَاءَ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ كَانَ أَهْوَلَ وَأَفْظَعَ، كَمَا أَنَّ الْخَيْرَ إِذَا جَاءَ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ كَانَ أَكْثَرَ تَأْثِيرًا فِي السُّرُورِ، فَكَيْفَ إِذَا جَاءَ الشَّرُّ مِنْ حَيْثُ يَحْتَسِبُ الْخَيْرَ، وَمِنْ هَذَا اشْتَدَّ عَلَى الْمُتَفَكِّرِينَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزُّمَرِ: 47] وَثَانِيهَا: أَنَّ نُزُولَ الْغَمَامِ عَلَامَةٌ لِظُهُورِ مَا يَكُونُ أَشَدَّ الْأَهْوَالِ فِي الْقِيَامَةِ قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً

عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً [الْفُرْقَانِ: 25- 26] وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْغَمَامَ تَنْزِلُ عَنْهُ قَطَرَاتٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ وَلَا مَحْدُودَةٍ، فَكَذَا هَذَا الْغَمَامُ يَنْزِلُ عَنْهُ قَطَرَاتُ الْعَذَابِ نُزُولًا غَيْرَ مَحْصُورٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الْمَلائِكَةُ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَا سَبَقَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَتَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَإِتْيَانُ الْمَلَائِكَةِ يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهَا فَصَارَ الْمَعْنَى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَآيَاتُهُ وَالْمَلَائِكَةُ مَعَ ذَلِكَ يَأْتُونَ لِيَقُومُوا بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ إِهَانَةٍ أَوْ تَعْذِيبٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَحْكَامِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُضِيَ الْأَمْرُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى أَنَّهُ فَرَغَ مَا كانوا يوعدون به فعند ذلك لا يقال لَهُمْ عَثْرَةٌ لَهُمْ وَلَا تُصْرَفُ عَنْهُمْ عُقُوبَةٌ وَلَا يَنْفَعُ فِي دَفْعِ مَا نَزَلِ بِهِمْ حِيلَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَقُضِيَ الْأَمْرُ مَعْنَاهُ: ويقتضي الْأَمْرَ وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَيَقْضِيَ الْأَمْرَ فَوَضَعَ الْمَاضِي مَوْضِعَ الْمُسْتَقْبَلِ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَخُصُوصًا فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ فَإِنَّ الْإِخْبَارَ عَنْهَا يَقَعُ كَثِيرًا بِالْمَاضِي، قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي [الْمَائِدَةِ: 116] وَالسَّبَبُ فِي اخْتِيَارِ هَذَا الْمَجَازِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: التَّنْبِيهُ عَلَى قُرْبِ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَكَأَنَّ السَّاعَةَ قَدْ أَتَتْ وَوَقَعَ مَا يُرِيدُ اللَّهُ إِيقَاعَهُ وَالثَّانِي: الْمُبَالَغَةُ فِي تَأْكِيدِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى، فَصَارَ بِحُصُولِ الْقَطْعِ وَالْجَزْمِ بِوُقُوعِهِ كَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ وَحَصَلَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَمْرُ الْمَذْكُورُ هاهنا هُوَ فَصْلُ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْخَلَائِقِ. وَأَخْذُ الْحُقُوقِ لِأَرْبَابِهَا وَإِنْزَالُ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ مَنْزِلَتَهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، قَالَ تَعَالَى: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ [إِبْرَاهِيمَ: 22] . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَقُضِيَ الْأَمْرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَ الْقِيَامَةِ تُوجَدُ دُفْعَةً مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لِقَضَائِهِ، دَافِعٌ، وَلَا لِحُكْمِهِ مَانِعٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَقَضَاءُ الْأَمْرِ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَرْفُوعِ عَطْفًا عَلَى الْمَلَائِكَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مِنَ الْمُجَسِّمَةِ مَنْ قَالَ: كَلِمَةُ إِلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَكَانٍ يُنْتَهَى إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَجَابَ أَهْلُ التَّوْحِيدِ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى مَلَّكَ عِبَادَهُ فِي الدُّنْيَا كَثِيرًا مِنْ أُمُورِ خَلْقِهِ فَإِذَا صَارُوا إِلَى الْآخِرَةِ فَلَا مَالِكَ لِلْحُكْمِ فِي الْعِبَادِ سواء كَمَا قَالَ: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الِانْفِطَارِ: 19] وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ: رَجَعَ أَمْرُنَا إِلَى الْأَمِيرِ إِذَا كَانَ هُوَ يَخْتَصُّ بِالنَّظَرِ فِيهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران: 28] مَعَ أَنَّ الْخَلْقَ السَّاعَةَ فِي مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ الثَّانِي: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّهُ تَعَالَى قَدْ مَلَّكَ كُلَّ أَحَدٍ فِي دَارِ الِاخْتِبَارِ وَالْبَلْوَى أُمُورًا امْتِحَانًا فَإِذَا انْقَضَى أَمْرُ هَذِهِ الدَّارِ وَوَصَلْنَا إِلَى دَارِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ كَانَ الْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ أَهْلٌ أَنْ يُتَّقَى وَيُطَاعَ وَيَدْخُلَ فِي السِّلْمِ كَمَا أَمَرَ، وَيَحْتَرِزَ عَنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ كَمَا نَهَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ تُرْجَعُ بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى مَعْنَى تَرِدُ، يُقَالُ: رَجَعْتُهُ أَيْ

رَدَدْتُهُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي [فُصِّلَتْ: 50] وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي [الْكَهْفِ: 36] وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [الْأَنْعَامِ: 62] وَقَالَ تَعَالَى: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً [الْمُؤْمِنُونَ: 99- 100] أَيْ رُدَّنِي، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ تَرْجِعُ بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ تَصِيرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشُّورَى: 53] وَقَوْلِهِ: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ، وإِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ [هود: 4، المائدة: 48، الغاشية: 25] قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْمَعْنَى فِي الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَقَارِبٌ، لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَهُوَ جَلَّ جَلَالُهُ يُرْجِعُهَا إِلَى نَفْسِهِ بِإِفْنَاءِ الدُّنْيَا وَإِقَامَةِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي قَوْلِهِ: تُرْجَعُ الْأُمُورُ بِضَمِّ التَّاءِ ثَلَاثُ مَعَانٍ أَحَدُهَا: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ يُرْجِعُهَا كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَهُوَ قَاضِيهَا وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى مَذْهَبِ الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يُعْجَبُ بِنَفْسِهِ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ بِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَذْهَبُ بِهِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ ذَوَاتِ الْخُلُقِ وَصِفَاتِهِمْ لَمَّا كَانَتْ شَاهِدَةً عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مُحْدَثُونَ مُحَاسَبُونَ، وَكَانُوا رَادِّينَ أَمْرَهُمْ إِلَى خَالِقِهِمْ، فَقَوْلُهُ: تُرْجَعُ الْأُمُورُ أَيْ يَرُدُّهَا الْعِبَادُ إِلَيْهِ وَإِلَى حُكْمِهِ بِشَهَادَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ كَمَا قَالَ: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الجمعة: 1، التغابن: 1] فَإِنَّ هَذَا التَّسْبِيحَ بِحَسَبِ شَهَادَةِ الْحَالِ، لَا بِحَسَبِ النُّطْقِ بِاللِّسَانِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ أَيْضًا قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً [الرَّعْدِ: 15] قِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى يَسْجُدُ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ طَوْعًا، وَيَسْجُدُ لَهُ الْكُفَّارُ كَرْهًا بِشَهَادَةِ أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ عَبِيدُ اللَّهِ، فَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْعِبَادَ يَرُدُّونَ أُمُورَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَعْتَرِفُونَ بِرُجُوعِهَا إِلَيْهِ، أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَبِالْمَقَالِ، وَأَمَّا الكفار فبشهادة الحال. تم الجزء الخامس، وَيَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْجُزْءُ السَّادِسَ، وأوله قَوْلُهُ تَعَالَى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ أعان الله على إكماله

الجزء السادس

الجزء السادس [تتمة سورة البقرة] بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة البقرة (2) : آية 211] سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: سَلْ كَانَ فِي الْأَصْلِ اسْأَلْ فَتُرِكَتِ الْهَمْزَةُ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْفِعْلِ لِكَثْرَةِ الدَّوْرِ فِي الْكَلَامِ تَخْفِيفًا، وَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى السَّاكِنِ الَّذِي قَبْلَهَا، وَعِنْدَ هَذَا التَّصْرِيفِ اسْتُغْنِيَ عَنْ أَلِفِ الْوَصْلِ، وَقَالَ قُطْرُبٌ: يُقَالُ سَأَلَ يَسْأَلُ مِثْلُ زَأَرَ الْأَسَدُ يَزْأَرُ، وَسَالَ يَسَالُ، مِثْلُ خَافَ يَخَافُ، وَالْأَمْرُ فِيهِ: سَلْ مِثْلُ خَفْ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ سَأَلَ سائِلٌ عَلَى وَزْنِ قَالَ، وَكَالَ، وَقَوْلُهُ: كَمْ هُوَ اسْمٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ مَوْضُوعٌ لِلْعَدَدِ، يُقَالُ إِنَّهُ مِنْ تَأْلِيفِ كَافِ التَّشْبِيهِ مَعَ (مَا) ثُمَّ قُصِرَتْ (مَا) وَسُكِّنَتِ الْمِيمُ، وَبُنِيَتْ عَلَى السُّكُونِ لِتَضَمُّنِهَا حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ، وَهِيَ تَارَةً تُسْتَعْمَلُ فِي الْخَبَرِ وَتَارَةً فِي الِاسْتِفْهَامِ وَأَكْثَرُ لُغَةِ الْعَرَبِ الْجَرُّ بِهِ عِنْدَ الْخَبَرِ، وَالنَّصْبُ عِنْدَ الِاسْتِفْهَامِ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَنْصِبُ بِهِ فِي الْخَبَرِ، وَيَجُرُّ بِهِ في الاستفهام، وهي هاهنا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ خَبَرِيَّةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيُخْبِرُوكَ عَنْ تِلْكَ الْآيَاتِ فَتَعْلَمَهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ عَالِمًا بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي الزَّجْرِ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْ دَلَائِلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَيَانُ هَذَا الكلام أنه تعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [الْبَقَرَةِ: 208] فَأَمَرَ بِالْإِسْلَامِ وَنَهَى عَنِ الْكُفْرِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ أَيْ فَإِنْ أَعْرَضْتُمْ عَنْ هَذَا التَّكْلِيفِ/ صِرْتُمْ مُسْتَحِقِّينَ لِلتَّهْدِيدِ بِقَوْلِهِ: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الْبَقَرَةِ: 209] ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ التَّهْدِيدَ بِقَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ [الْبَقَرَةِ: 210] ثُمَّ ثَلَّثَ ذَلِكَ التَّهْدِيدَ بِقَوْلِهِ: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ يَعْنِي سَلْ هَؤُلَاءِ الْحَاضِرِينَ أَنَّا لَمَّا آتَيْنَا أَسْلَافَهُمْ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَأَنْكَرُوهَا، لَا جَرَمَ اسْتَوْجَبُوا الْعِقَابَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ لِهَؤُلَاءِ الْحَاضِرِينَ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ زَلُّوا عَنْ آيَاتِ اللَّهِ لَوَقَعُوا فِي الْعَذَابِ كَمَا وَقَعَ أُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمُونَ فِيهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ أَنْ يعتبروا بغيرهم، كما قال تعالى: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الْحَشْرِ: 2] وَقَالَ: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يُوسَفَ: 111] فَهَذَا بَيَانُ وَجْهِ النَّظْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَرَّقَ أَبُو عَمْرٍو فِي «سَلْ» بَيْنَ الِاتِّصَالِ بِوَاوٍ وَفَاءٍ وَبَيْنَ الِاسْتِئْنَافِ، فقرأ سَلْهُمْ وسَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ بغير همزة وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ، وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاءِ: 32] بِالْهَمْزِ، وَسَوَّى الْكِسَائِيُّ بَيْنَ الْكُلِّ، وَقَرَأَ الْكُلَّ بِغَيْرِ هَمْزٍ وَجْهُ الفرق الْفَرْقِ أَنَّ التَّخْفِيفَ فِي

[سورة البقرة (2) : آية 212]

الِاسْتِئْنَافِ وَصْلَةٌ إِلَى إِسْقَاطِ الْهَمْزَةِ الْمُبْتَدَأَةِ وَهِيَ مُسْتَقِلَّةٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الِاتِّصَالِ وَالْكِسَائِيُّ اتَّبَعَ الْمُصْحَفَ، لِأَنَّ الْأَلِفَ سَاقِطَةٌ فِيهَا أَجْمَعُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ بِهِ مُعْجِزَاتُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، نَحْوُ فَلْقِ الْبَحْرِ، وَتَظْلِيلِ الْغَمَامِ، وَإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَنَتْقِ الْجَبَلِ، وَتَكْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ السَّحَابِ، وَإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِمْ، وَتَبْيِينِ الْهُدَى مِنَ الْكُفْرِ لَهُمْ، فَكُلُّ ذَلِكَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى، كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ حُجَّةٍ بَيِّنَةٍ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، يُعْلَمُ بِهَا صِدْقُهُ وَصِحَّةُ شَرِيعَتِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ وَمَنْ يُبَدِّلْ بِالتَّخْفِيفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: فِي الْآيَةِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَكَفَرُوا بِهَا لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْإِضْمَارِ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثالثة: في نعمة الله هاهنا قولان أحدهما: أَنَّ الْمُرَادَ آيَاتُهُ وَدَلَائِلُهُ وَهِيَ مِنْ أَجَلِّ أَقْسَامِ نِعَمِ اللَّهِ لِأَنَّهَا أَسْبَابُ الْهُدَى وَالنَّجَاةِ مِنَ الضَّلَالَةِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي تَبْدِيلِهِمْ إِيَّاهَا وَجْهَانِ فَمَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْبَيِّنَةِ مُعْجِزَاتُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: الْمُرَادُ بِتَبْدِيلِهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَظْهَرَهَا لِتَكُونَ أَسْبَابَ هداهم فجعلوها أسباب ضلالاتهم كَقَوْلِهِ: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَةِ: 125] وَمَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْبَيِّنَةِ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ تَبْدِيلِهَا تَحْرِيفُهَا وَإِدْخَالُ الشُّبْهَةِ فِيهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ وَالْأَمْنِ وَالْكِفَايَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى/ هُوَ الَّذِي أَبْدَلَ النِّعْمَةَ بِالنِّقْمَةِ لَمَّا كَفَرُوا، وَلَكِنْ أَضَافَ التَّبْدِيلَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ سَبَبٌ مِنْ جِهَتِهِمْ وَهُوَ تَرْكُ الْقِيَامِ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَمَلِ بِتِلْكَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ فَإِنْ فَسَّرْنَا النِّعْمَةَ بِإِيتَاءِ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا تَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَتِهَا، أَوْ مِنْ بَعْدِ مَا عَرَفَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: 75] لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ مَعْرِفَتِهَا أَوْ لَمْ يَعْرِفْهَا، فَكَأَنَّهَا غَائِبَةٌ عَنْهُ، وَإِنْ فَسَّرْنَا النِّعْمَةَ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا مِنَ الصِّحَّةِ وَالْأَمْنِ وَالْكِفَايَةِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ يَكُونُ الشُّكْرُ أَوْجَبَ فَكَانَ الْكُفْرُ أَقْبَحَ، فَلِهَذَا قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ إِضْمَارٌ، وَالْمَعْنَى شَدِيدُ الْعِقَابِ لَهُ، وَأَقُولُ: بَيَّنَ عَبْدُ الْقَاهِرِ النَّحْوِيُّ فِي كِتَابِ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» أَنَّ تَرْكَ هَذَا الْإِضْمَارِ أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ التَّخْوِيفُ بِكَوْنِهِ فِي ذَاتِهِ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى كَوْنِهِ شَدِيدَ الْعِقَابِ لِهَذَا أَوْ لِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْعِقَابُ عَذَابٌ يعقب الجرم. [سورة البقرة (2) : آية 212] زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ حَالَ مَنْ يُبَدِّلُ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ وَهُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالدَّلَالَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَعَدَلُوا عَنْهَا أَتْبَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِ السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَتْ هَذِهِ طَرِيقَتُهُمْ فَقَالَ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَمَحْصُولُ هَذَا الْكَلَامِ تَعْرِيفُ الْمُؤْمِنِينَ ضَعْفَ عُقُولِ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي تَرْجِيحِ الْفَانِي مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا عَلَى الْبَاقِي مِنْ دَرَجَاتِ الْآخِرَةِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: زُيِّنَتْ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ: أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْإِحْيَاءَ وَاحِدٌ، فَإِنْ أُنِّثَ فَعَلَى اللَّفْظِ، وَإِنْ ذُكِّرَ فَعَلَى الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الْبَقَرَةِ: 275] ، وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [هُودٍ: 67] وَثَانِيهَا: وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ أَنَّ تَأْنِيثَ الْحَيَاةِ لَيْسَ بِحَقِيقِيٍّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ حَيَوَانًا بِإِزَائِهِ ذَكَرٌ، مِثْلُ امْرَأَةٍ وَرَجُلٍ، وَنَاقَةٍ وَجَمَلٍ، بَلْ مَعْنَى الْحَيَاةِ وَالْعَيْشِ وَالْبَقَاءِ وَاحِدٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: زُيِّنَ لِلَّذِينِ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَالْبَقَاءُ وَثَالِثُهَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: زُيِّنَتْ، لِأَنَّهُ فُصِلَ بَيْنَ زُيِّنَ وَبَيْنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، بِقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَإِذَا فُصِلَ بَيْنَ فِعْلِ الْمُؤَنَّثِ وَبَيْنَ الِاسْمِ/ بِفَاصِلٍ، حَسُنَ تَذْكِيرُ الْفِعْلِ، لِأَنَّ الْفَاصِلَ يُغْنِي عَنْ تَاءِ التَّأْنِيثِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهًا: فَالرِّوَايَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَرُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ، كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارٍ، وَخَبَّابٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَعَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ بِسَبَبِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْفَقْرِ وَالضَّرَرِ وَالصَّبْرِ عَلَى أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ مَعَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا فِي التَّنَعُّمِ وَالرَّاحَةِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: نَزَلَتْ فِي رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ وَعُلَمَائِهِمْ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاعٍ، سَخِرُوا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمُهَاجِرِينَ، حَيْثُ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ، كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ نُزُولِهَا في جميعهم. المسألة الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّزْيِينِ، أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَذَكَرُوا وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْمُزَيِّنُ هُوَ غُوَاةُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، زَيَّنُوا لِلْكُفَّارِ الْحِرْصَ عَلَى الدُّنْيَا، وَقَبَّحُوا أَمْرَ الْآخِرَةِ فِي أَعْيُنِهِمْ، وَأَوْهَمُوا أَنْ لَا صِحَّةَ لِمَا يُقَالُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، فَلَا تُنَغِّصُوا عِيشَتَكُمْ فِي الدُّنْيَا قَالَ: وَأَمَّا الَّذِي يَقُولُهُ الْمُجَبِّرَةُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى زَيَّنَ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمُزَيِّنَ لِلشَّيْءِ هُوَ الْمُخْبِرُ عَنْ حُسْنِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُزَيِّنُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صادقا في ذلك التزين، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا زَيَّنَهُ حَسَنًا، فَيَكُونُ فَاعِلُهُ الْمُسْتَحْسِنُ لَهُ مُصِيبًا وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ الْكَافِرَ مُصِيبٌ فِي كُفْرِهِ وَمَعْصِيَتِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ كُفْرٌ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي ذَلِكَ التَّزْيِينِ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى أَنْ لَا يُوثَقَ مِنْهُ تَعَالَى بَقَوْلٍ وَلَا خَبَرٍ، وَهَذَا أَيْضًا كُفْرٌ، قَالَ: فَصَحَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْمُزَيِّنَ هُوَ الشَّيْطَانُ، هَذَا تَمَامُ كَلَامِ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ فِي «تَفْسِيرِهِ» . وَأَقُولُ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْكُفَّارِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ مُزَيِّنٌ، وَالْمُزَيِّنُ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لَهُمْ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ

يُزَيِّنُ لِلْآخَرِ، وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ دَوْرًا فَثَبَتَ أَنَّ الذين يُزَيِّنُ الْكُفْرَ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لَهُمْ، فَبَطَلَ قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُزَيِّنَ هُمْ غُوَاةُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْغُوَاةَ دَاخِلُونَ فِي الْكُفَّارِ أَيْضًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُزَيِّنَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَهُمْ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ ضَعِيفٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْمُزَيِّنُ لِلشَّيْءِ هُوَ الْمُخْبِرُ عَنْ حُسْنِهِ فَهَذَا مَمْنُوعٌ، بَلِ الْمُزَيِّنُ مَنْ يَجْعَلُ الشَّيْءَ مَوْصُوفًا بِالزِّينَةِ، وَهِيَ صِفَاتٌ قَائِمَةٌ بِالشَّيْءِ بِاعْتِبَارِهَا يَكُونُ الشَّيْءُ مُزَيَّنًا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ سَقَطَ كَلَامُهُ، ثُمَّ إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُزَيِّنَ لِلشَّيْءِ هُوَ الْمُخْبِرُ عَنْ حُسْنِهِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: اللَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ حُسْنِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَمَّا فِيهَا مِنَ اللَّذَّاتِ وَالطَّيِّبَاتِ/ وَالرَّاحَاتِ، وَالْإِخْبَارُ عَنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِكَذِبٍ، وَالتَّصْدِيقُ بِهَا لَيْسَ بِكُفْرٍ، فَسَقَطَ كَلَامُ أَبِي عَلِيٍّ فِي هَذَا الْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ. التَّأْوِيلُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: يُحْتَمَلُ فِي زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ زَيَّنُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَالْعَرَبُ يَقُولُونَ لِمَنْ يبعد منهم: أين يذهب بل لَا يُرِيدُونَ أَنَّ ذَاهِبًا ذَهَبَ بِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيِ الْكَثِيرَةِ: أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة: 75، التوبة: 30، المنافقون: 4] ، أَنَّى يُصْرَفُونَ [غَافِرٍ: 69] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَكَّدَهُ بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الْمُنَافِقُونَ: 9] فَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَيْهِمَا لَمَّا كَانَا كَالسَّبَبِ، وَلَمَّا كَانَ الشَّيْطَانُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَحْمِلَ الْإِنْسَانَ عَلَى الْفِعْلِ قَهْرًا فَالْإِنْسَانُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الَّذِي زَيَّنَ لِنَفْسِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: زُيِّنَ يَقْتَضِي أَنْ مُزَيِّنًا زَيَّنَهُ، وَالْعُدُولُ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ غَيْرُ مُمْكِنٍ. التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الْمُزَيِّنَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الْكَهْفِ: 7] ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ ذَكَرُوا وُجُوهًا الْأَوَّلُ: يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ تَعَالَى هُوَ الْمُزَيِّنُ بِمَا أَظْهَرَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الزَّهْرَةِ وَالنَّضَارَةِ وَالطِّيبِ وَاللَّذَّةِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ ابْتِلَاءً لِعِبَادِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ [آلِ عِمْرَانَ: 14] إِلَى قَوْلِهِ: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ [آلِ عِمْرَانَ: 15] وَقَالَ أَيْضًا: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا [الْكَهْفِ: 46] وَقَالُوا: فَهَذِهِ الْآيَاتُ مُتَوَافِقَةٌ، وَالْمَعْنَى فِي الْكُلِّ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ جَلَالُهُ جَعَلَ الدُّنْيَا دَارَ ابْتِلَاءٍ وَامْتِحَانٍ، فَرَكَّبَ فِي الطِّبَاعِ الْمَيْلَ إِلَى اللَّذَّاتِ وَحُبِّ الشَّهَوَاتِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّحْبِيبِ الَّذِي تَمِيلُ إِلَيْهِ النَّفْسُ مَعَ إِمْكَانِ رَدِّهَا عَنْهُ لِيَتِمَّ بِذَلِكَ الِامْتِحَانُ، وَلِيُجَاهِدَ الْمُؤْمِنُ هَوَاهُ فَيُقْصِرَ نَفْسَهُ عَلَى الْمُبَاحِ وَيَكُفَّهَا عَنِ الْحَرَامِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّزْيِينِ أَنَّهُ تَعَالَى أَمْهَلَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ عَنِ الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا، وَالْحِرْصِ الشَّدِيدِ فِي طَلَبِهَا، فَهَذَا الْإِمْهَالُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالتَّزْيِينِ. وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْلَةَ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي نَقَلْنَاهَا عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهَا سُؤَالٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الزِّينَةِ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ وَإِلَّا فَقَدَ وَقَعَ الْمُحْدَثُ لَا عَنْ مُؤَثِّرٍ وَهَذَا مُحَالٌ ثُمَّ هَذَا التَّزْيِينُ الْحَاصِلُ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ هَلْ رَجَّحَ جَانِبَ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ عَلَى جَانِبِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ أَوْ مَا رَجَّحَ فَإِنْ لَمْ يُرَجِّحِ أَلْبَتَّةَ بَلِ الْإِنْسَانُ مَعَ حُصُولِ هَذِهِ الزِّينَةِ فِي قَلْبِهِ كَهُوَ لَا مَعَ حُصُولِهَا فِي قَلْبِهِ فَهَذَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ تَزْيِينًا فِي قَلْبِهِ، وَالنَّصُّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ هَذَا التَّزْيِينُ، وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّ حُصُولَ هَذَا التَّزْيِينِ فِي قَلْبِهِ يُرَجِّحُ جَانِبَ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، عَلَى جَانِبِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، فَقَدْ زَالَ الِاخْتِيَارُ لِأَنَّ حَالَ الِاسْتِوَاءِ لَمَّا امْتَنَعَ حُصُولُ الرُّجْحَانِ، فَحَالُ صَيْرُورَةِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ

مَرْجُوحًا كَانَ أَوْلَى بِامْتِنَاعِ الْوُقُوعِ، وَإِذَا صَارَ الْمُرَجِّحُ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ صَارَ الرَّاجِحُ وَاجِبَ الْوُقُوعِ، ضَرُورَةَ/ أَنَّهُ لَا خُرُوجَ عَنِ النَّقِيضَيْنِ فَهَذَا هُوَ تَوْجِيهُ السُّؤَالِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَنْدَفِعُ بِالْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَقْرِيرِ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَيَّنَ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا كَانَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ دُونَ الْمَحْظُورَاتِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ سَقَطَ الْإِشْكَالُ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ بِهَذَا التَّزْيِينِ الْكُفَّارَ، وتزيين المباحات لا يختص به الكافر، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا التَّزْيِينِ تَزْيِينَ الْمُبَاحَاتِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا تَمَتَّعَ بِالْمُبَاحَاتِ مِنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا يَكُونُ تَمَتُّعُهُ بِهَا مَعَ الْخَوْفِ وَالْوَجَلِ مِنَ الْحِسَابِ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ وَإِنْ كَثُرَ مَالُهُ وَجَاهُهُ فَعَيْشُهُ مُكَدَّرٌ مُنَغَّصٌ، وَأَكْثَرُ غَرَضِهِ أَجْرُ الْآخِرَةِ وَإِنَّمَا يَعُدُّ الدُّنْيَا كَالْوَسِيلَةِ إِلَيْهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْكَافِرُ، فَإِنَّهُ وَإِنْ قَلَّتْ ذَاتُ يَدِهِ فَسُرُورُهُ بِهَا يَكُونُ غَالِبًا عَلَى ظَنِّهِ، لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهَا كَمَالُ الْمَقْصُودِ دُونَ غَيْرِهَا، وَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُهُ صَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ تَزْيِينَ الْمُبَاحَاتِ، وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى أَتْبَعَ تِلْكَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَذَلِكَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ فِي تَرْكِهِمُ اللَّذَّاتِ الْمَحْظُورَةَ، وَتَحَمُّلِهِمُ الْمَشَاقَّ الْوَاجِبَةَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّزْيِينَ مَا وَقَعَ فِي الْمُبَاحَاتِ بَلْ وَقَعَ فِي الْمَحْظُورَاتِ. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَإِنَّهُمْ حَمَلُوا التَّزْيِينَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِي قَلْبِهِ إِرَادَةَ الْأَشْيَاءِ وَالْقُدْرَةَ عَلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، بَلْ خَلَقَ تِلْكَ الْأَفْعَالَ وَالْأَحْوَالَ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْخَالِقَ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ ظَهَرَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فَقَدْ رُوِّينَا فِي كَيْفِيَّةِ تِلْكَ السُّخْرِيَةِ وُجُوهًا مِنَ الرِّوَايَاتِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَوْلُهُ: وَيَسْخَرُونَ مُسْتَأْنَفٌ غَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلَى زُيِّنَ، وَلَا يَبْعُدُ اسْتِئْنَافُ الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ الْمَاضِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بزين وَهُوَ مَاضٍ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِفِعْلٍ يُدِيمُونَهُ فَقَالَ: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَمَعْنَى هَذِهِ السُّخْرِيَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينُ تَرَكُوا لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا وَيَتَحَمَّلُونَ الْمَشَاقَّ وَالْمَتَاعِبَ لِطَلَبِ الْآخِرَةِ مَعَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْآخِرَةِ قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ بَطَلَ الْقَوْلُ بِالْمَعَادِ لَكَانَتْ هَذِهِ السُّخْرِيَةُ لَازِمَةً أَمَّا لَوْ ثبت القول بصحة المعاد لكانت السُّخْرِيَةُ مُنْقَلِبَةً عَلَيْهِمْ لَأَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْمُلْكِ الْأَبَدِيِّ بِسَبَبِ لَذَّاتٍ حَقِيرَةٍ فِي أَنْفَاسٍ مَعْدُودَةٍ لَمْ يُوجَدْ فِي الْخَلْقِ أَحَدٌ أَوْلَى بِالسُّخْرِيَةِ مِنْهُ، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ الْإِعْرَاضُ عَنِ الدُّنْيَا، وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْآخِرَةِ هُوَ الْحَزْمُ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ فَإِنَّهُ إِنْ بَطَلَ الْقَوْلُ بِالْآخِرَةِ لَمْ يَكُنِ الْفَائِتُ إِلَّا لَذَّاتٍ حَقِيرَةً وَأَنْفَاسًا مَعْدُودَةً وَإِنْ صَحَّ الْقَوْلُ بِالْآخِرَةِ كَانَ الْإِعْرَاضُ عَنِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْآخِرَةِ أَمْرًا مُتَعَيَّنًا فَثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ السُّخْرِيَةَ كَانَتْ بَاطِلَةً وَأَنَّ عَوْدَ السُّخْرِيَةِ عَلَيْهِمْ أَوْلَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ: مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا. الْجَوَابُ: لِيُظْهِرَ بِهِ أَنَّ السَّعَادَةَ الْكُبْرَى لَا تَحْصُلُ إِلَّا للمؤمن التقي، وليكون بعثا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى التَّقْوَى. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْفَوْقِيَّةِ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفَوْقِيَّةِ الْفَوْقِيَّةَ بِالْمَكَانِ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَكُونُونَ فِي عِلِّيِّينَ

مِنَ السَّمَاءِ وَالْكَافِرِينَ يَكُونُونَ فِي سِجِّينٍ مِنَ الْأَرْضِ وَثَانِيهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفَوْقِيَّةِ الفوقية فِي الْكَرَامَةِ وَالدَّرَجَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يُقَالُ: فُلَانٌ فَوْقَ فُلَانٍ فِي الْكَرَامَةِ، إِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْكَرَامَةِ ثُمَّ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَزْيَدَ حَالًا مِنَ الْآخَرِ فِي تِلْكَ الْكَرَامَةِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْكَرَامَةِ فَكَيْفَ يُقَالُ: الْمُؤْمِنُ فَوْقَهُ فِي الْكَرَامَةِ. قُلْنَا: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا فَوْقَهُمْ فِي سَعَادَاتِ الدُّنْيَا ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ يَنْقَلِبُ الْأَمْرُ، فَاللَّهُ تَعَالَى يُعْطِي الْمُؤْمِنَ مِنْ سَعَادَاتِ الْآخِرَةِ مَا يَكُونُ فَوْقَ السَّعَادَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ حَاصِلَةً لِلْكَافِرِينَ، وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَنَّهُمْ فَوْقَهُمْ فِي الْحُجَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ شُبَهَاتِ الْكُفَّارِ رُبَّمَا كَانَتْ تَقَعُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا يَرُدُّونَهَا عَنْ قُلُوبِهِمْ بِمَدَدِ تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ تَزُولُ الشُّبَهَاتُ، وَلَا تُؤَثِّرُ وَسَاوِسُ الشَّيْطَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ إِلَى قَوْلِهِ- فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْمُطَفِّفِينَ: 29- 34] الْآيَةِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ سُخْرِيَةَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ سُخْرِيَةِ الْكَافِرِينَ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ سُخْرِيَةَ الْكَافِرِ بِالْمُؤْمِنِ بَاطِلَةٌ، وَهِيَ مَعَ بُطْلَانِهَا مُنْقَضِيَةٌ، وَسُخْرِيَةُ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ فِي الْآخِرَةِ حَقَّةٌ ومع حقيقتها هِيَ دَائِمَةٌ بَاقِيَةٌ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَلْ تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى الْقَطْعِ بِوَعِيدِ الْفَسَادِ فَإِنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِهَذِهِ الْفَوْقِيَّةِ فَالَّذِينَ لَا يَكُونُونَ مَوْصُوفِينَ بِالتَّقْوَى وَجَبَ أَنْ لَا تَحْصُلَ لَهُمْ هَذِهِ الْفَوْقِيَّةُ وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الْفَوْقِيَّةُ كَانُوا مِنْ أَهْلِ النَّارِ. الْجَوَابُ: هَذَا تَمَسَّكٌ بِالْمَفْهُومِ، فَلَا يَكُونُ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ مِنَ الْعُمُومَاتِ الَّتِي بَيَّنَّا أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِدَلَائِلِ الْعَفْوِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا يُعْطِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا يُعْطِي فِي الدُّنْيَا أَصْنَافَ عَبِيدِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى رِزْقِ الْآخِرَةِ احْتَمَلَ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ فِي/ الْآخِرَةِ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، أَيْ رِزْقًا وَاسِعًا رَغْدًا لَا فَنَاءَ لَهُ، وَلَا انْقِطَاعَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ [غَافِرٍ: 40] فَإِنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ تَحْتَ الْحِسَابِ وَالْحَصْرِ وَالتَّقْدِيرِ فَهُوَ مُتَنَاهٍ، فَمَا لَا يَكُونُ مُتَنَاهِيًا كَانَ لَا مَحَالَةَ خَارِجًا عَنِ الْحِسَابِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَنَافِعَ الْوَاصِلَةَ إِلَيْهِمْ فِي الْجَنَّةِ بَعْضُهَا ثَوَابٌ وَبَعْضُهَا تَفَضُّلٌ كَمَا قَالَ: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاءِ: 173] فَالْفَضْلُ مِنْهُ بِلَا حِسَابٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَا يَخَافُ نَفَادَهَا عِنْدَهُ، فَيَحْتَاجُ إِلَى حِسَابِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ، لِأَنَّ الْمُعْطِيَ إِنَّمَا يُحَاسِبُ لِيَعْلَمَ لِمِقْدَارِ مَا يُعْطِي وَمَا يَبْقَى، فَلَا يَتَجَاوَزُ فِي عَطَايَاهُ إِلَى مَا يُجْحِفُ بِهِ، وَاللَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْحِسَابِ، لِأَنَّهُ عَالِمٌ غَنِيٌّ لَا نِهَايَةَ لِمَقْدُورَاتِهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِهَذَا رِزْقَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحِسَابَ إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ بِحَيْثُ إِذَا أَعْطَى شَيْئًا انْتَقَصَ قَدْرَ الْوَاجِبِ عَمَّا كَانَ، وَالثَّوَابُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَدْوَارِ وَالْأَعْصَارِ يَكُونُ الثَّوَابُ الْمُسْتَحَقُّ بِحُكْمِ الْوَعْدِ وَالْفَضْلِ بَاقِيًا، فَعَلَى هَذَا لَا يَتَطَرَّقُ الْحِسَابُ أَلْبَتَّةَ إِلَى الثَّوَابِ وَخَامِسُهَا: أَرَادَ أَنَّ الَّذِي يُعْطَى لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى مَا فِي الْخِزَانَةِ لِأَنَّ الَّذِي يُعْطَى فِي كُلِّ وَقْتٍ يَكُونُ مُتَنَاهِيًا لَا مَحَالَةَ، وَالَّذِي فِي خِزَانَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ غَيْرُ مُتَنَاهٍ وَالْمُتَنَاهِي لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى غَيْرِ الْمُتَنَاهِي فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: بِغَيْرِ حِسابٍ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِمَقْدُورَاتِ اللَّهِ تعالى

وَسَادِسُهَا: بِغَيْرِ حِسابٍ أَيْ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ يُقَالُ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ حِسَابٌ إِذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أَحَدٌ شَيْئًا، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مَعَهُ حِسَابٌ بَلْ كُلُّ مَا أَعْطَاهُ فَقَدْ أَعْطَاهُ بِمُجَرَّدِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، لَا بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَسَابِعُهَا: بِغَيْرِ حِسابٍ أَيْ يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ، يُقَالُ: فُلَانٌ يُنْفِقُ بِالْحِسَابِ إِذَا كَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ، فَأَمَّا إِذَا زَادَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقَالُ: يُنْفِقُ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَثَامِنُهَا: بِغَيْرِ حِسابٍ أَيْ يُعْطِي كَثِيرًا لِأَنَّ مَا دَخَلَهُ الْحِسَابُ فَهُوَ قَلِيلٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ كُلَّهَا مُحْتَمَلَةٌ وَعَطَايَا اللَّهِ لَهَا مُنْتَظِمَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كُلَّهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا إِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى مَا يُعْطِي فِي الدُّنْيَا أَصْنَافَ عِبَادِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: وَهُوَ أَلْيَقُ بِنَظْمِ الْآيَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ إِنَّمَا كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَدِلُّونَ بِحُصُولِ السَّعَادَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَيَحْرِمُونَ فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تِلْكَ السَّعَادَاتِ عَلَى أَنَّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ يَعْنِي أَنَّهُ يُعْطِي فِي الدُّنْيَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُنْبِئًا عَنْ كَوْنِ الْمُعْطَى مُحِقًّا أَوْ مُبْطِلًا أَوْ مُحْسِنًا أَوْ مُسِيئًا وَذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ، فَقَدْ وَسَّعَ الدُّنْيَا عَلَى قَارُونَ، وَضَيَّقَهَا عَلَى أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَا يَجُوزُ لَكُمْ أَيُّهَا الْكُفَّارُ أَنْ تَسْتَدِلُّوا بِحُصُولِ مَتَاعِ الدُّنْيَا لَكُمْ وَعَدَمِ حُصُولِهَا لِفُقَرَاءِ المسلمين على كونهم مُحِقِّينَ وَكَوْنِهِمْ مُبْطِلِينَ، بَلِ الْكَافِرُ قَدْ يُوَسَّعُ عَلَيْهِ زِيَادَةً فِي الِاسْتِدْرَاجِ، وَالْمُؤْمِنُ قَدْ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ زِيَادَةً فِي الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا/ لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ [الزُّخْرُفِ: 33] وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ فِي الدُّنْيَا مِنْ كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حِسَابٍ يَكُونُ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، وَلَا مُطَالَبَةٍ، وَلَا تَبِعَةٍ، وَلَا سُؤَالِ سَائِلٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ لَا يَقُولَ الْكَافِرُ: لَوْ كَانَ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْحَقِّ فَلِمَ لَمْ يُوَسَّعْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا؟ وَأَنْ لَا يَقُولَ الْمُؤْمِنُ إِنْ كان الكافر مبطلا فلم وسع عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا؟ بَلِ الِاعْتِرَاضُ سَاقِطٌ، وَالْأَمْرُ أمره، والحكم حكمه لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 23] وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: بِغَيْرِ حِسابٍ أَيْ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا جَاءَهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي تَقْدِيرِهِ: لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي حِسَابِي، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ وَإِنْ كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا لِفَقْرِهِمْ، فَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَلَعَلَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ فَأَغْنَاهُمْ بِمَا أَفَاءَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ وَرُؤَسَاءِ الْيَهُودِ، وَبِمَا فَتَحَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَى أَيْدِي أَصْحَابِهِ حَتَّى مَلَكُوا كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُتَّقِينَ وَمَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ عَطاءً حِساباً [النَّبَأِ: 36] أَلَيْسَ ذَلِكَ كَالْمُنَاقِضِ لِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. قُلْنَا: أَمَّا مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: بِغَيْرِ حِسابٍ عَلَى التَّفَضُّلِ، وَحَمَلَ قَوْلَهُ: عَطاءً حِساباً عَلَى الْمُسْتَحِقِّ بِحَسَبِ الْوَعْدِ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُنَا، أَوْ بِحَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، فَالسُّؤَالُ سَاقِطٌ، وَأَمَّا مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: بِغَيْرِ حِسابٍ عَلَى سَائِرِ الْوُجُوهِ، فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ ذَلِكَ الْعَطَاءَ إِذَا كَانَ يَتَشَابَهُ فِي الْأَوْقَاتِ وَيَتَمَاثَلُ، صَحَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يُوصَفَ بِكَوْنِهِ عَطَاءً حِسَابًا، وَلَا يَنْقُضُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: بِغَيْرِ حِسابٍ.

[سورة البقرة (2) : آية 213]

[سورة البقرة (2) : آية 213] كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ سَبَبَ إِصْرَارِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ هُوَ حُبُّ الدُّنْيَا، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهَذَا الزَّمَانِ، بَلْ كَانَ حَاصِلًا فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَقَادِمَةِ، لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً قَائِمَةً عَلَى الْحَقِّ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا وَمَا كَانَ اخْتِلَافُهُمْ إِلَّا بِسَبَبِ الْبَغْيِ وَالتَّحَاسُدِ وَالتَّنَازُعِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي تَرْتِيبِ النَّظْمِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَفَّالُ: الْأُمَّةُ الْقَوْمُ الْمُجْتَمِعُونَ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ يَقْتَدِي بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الِائْتِمَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَكِنَّهَا مَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْحَقِّ أَمْ فِي الْبَاطِلِ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالْحَقُّ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ فَقَالَ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إِنَّمَا بُعِثُوا حِينَ الِاخْتِلَافِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا [يُونُسَ: 19] وَيَتَأَكَّدُ أَيْضًا بِمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ- إِلَى قَوْلِهِ- لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَعْثُهُمْ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ وَلَوْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْكُفْرِ، لَكَانَتْ بَعْثَةُ الرُّسُلِ قَبْلَ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَوْلَى، لِأَنَّهُمْ لَمَّا بُعِثُوا عند ما كَانَ بَعْضُهُمْ مُحِقًّا وَبَعْضُهُمْ مُبْطِلًا، فَلَأَنْ يُبْعَثُوا حين ما كَانُوا كُلُّهُمْ مُبْطِلِينَ مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ كَانَ أَوْلَى، وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ حَسَنٌ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّهُ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ أَدْرَجَنَا فِيهِ فَاخْتَلَفُوا بِحَسَبِ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَبِحَسَبِ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، ثُمَّ قَالَ: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ هُوَ الِاخْتِلَافُ الْحَاصِلُ بَعْدَ ذَلِكَ الِاتِّفَاقِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، بِقَوْلِهِ: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ثُمَّ حَكَمَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ الْبَغْيِ، وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمَذَاهِبَ الْبَاطِلَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ/ بِسَبَبِ الْبَغْيِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الإنفاق الَّذِي كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ حُصُولِ هَذَا الِاخْتِلَافِ إِنَّمَا كَانَ فِي الْحَقِّ لَا فِي الْبَاطِلِ، فَثَبَتَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الدِّينِ الْحَقِّ لَا فِي الدِّينِ الْبَاطِلِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ رَسُولًا إِلَى أَوْلَادِهِ، فَالْكُلُّ كَانُوا مُسْلِمِينَ مُطِيعِينَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَحْدُثْ فِيمَا بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ فِي الدِّينِ، إِلَى أَنْ

قَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ بِسَبَبِ الْحَسَدِ وَالْبَغْيِ، وَهَذَا الْمَعْنَى ثَابِتٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ، وَالْآيَةُ مُنْطَبِقَةٌ عَلَيْهِ، لأن الناس هم آدَمُ وَأَوْلَادُهُ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْحَقِّ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بِسَبَبِ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنِ ابْنَيْ آدَمَ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ [الْمَائِدَةِ: 27] فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْقَتْلُ وَالْكُفْرُ بِاللَّهِ إِلَّا بِسَبَبِ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى ثَابِتٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَالْآيَةُ مُنْطَبِقَةٌ عَلَيْهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لَمَّا غَرَقَتِ الْأَرْضُ بِالطُّوفَانِ لَمْ يَبْقِ إِلَّا أَهْلُ السَّفِينَةِ، وَكُلُّهُمْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ وَالدِّينِ الصَّحِيحِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مِمَّا عُرِفَ ثُبُوتُهَا بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ وَالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْحَقِّ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يَثْبُتِ أَلْبَتَّةَ بِشَيْءٍ مِنَ الدَّلَائِلِ أَنَّهُمْ كَانُوا مُطْبِقِينَ عَلَى الْبَاطِلِ وَالْكُفْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ وَأَنْ لَا يُحْمَلَ عَلَى مَا لَمْ يَثْبُتْ بِشَيْءٍ مِنَ الدَّلَائِلِ. وَخَامِسُهَا: وَهُوَ أَنَّ الدِّينَ الْحَقَّ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِالنَّظَرِ وَالنَّظَرُ لا معنى له إلا ترتيب المقدمات لتوصل بِهَا إِلَى النَّتَائِجِ، وَتِلْكَ الْمُقَدِّمَاتُ إِنْ كَانَتْ نَظَرِيَّةً افْتَقَرَتْ إِلَى مُقَدِّمَاتٍ أُخَرَ وَلَزِمَ الدَّوْرُ أَوِ التَّسَلْسُلُ وَهُمَا بَاطِلَانِ فَوَجَبَ انْتِهَاءُ النَّظَرِيَّاتِ بِالْآخِرَةِ إِلَى الضَّرُورِيَّاتِ، وَكَمَا أَنَّ الْمُقَدِّمَاتِ يَجِبُ انْتِهَاؤُهَا إِلَى الضَّرُورِيَّاتِ فَتَرْتِيبُ الْمُقَدِّمَاتِ يَجِبُ انْتِهَاؤُهُ أَيْضًا إِلَى تَرْتِيبٍ تُعْلَمُ صِحَّتُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وإذا كانت النظريات مستندة إلى مقامات تُعْلَمُ صِحَّتُهَا بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، وَإِلَى تَرْتِيبَاتٍ تُعْلَمُ صِحَّتُهَا بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْعَقْلَ السَّلِيمَ لَا يَغْلَطُ لَوْ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ سَبَبٌ مِنْ خَارِجٍ، فَأَمَّا إِذَا عَرَضَ لَهُ سَبَبٌ خَارِجِيٌّ، فَهُنَاكَ يَحْصُلُ الْغَلَطُ فَثَبَتَ أَنَّ مَا بِالذَّاتِ هُوَ الصَّوَابُ وَمَا بِالْعَرَضِ هُوَ الْخَطَأُ، وَمَا بِالذَّاتِ أَقْدَمُ مِمَّا بِالْعَرَضِ بِحَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَبِحَسَبِ الزَّمَانِ أَيْضًا، هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ فَثَبَتَ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الدِّينِ الْحَقِّ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَسْبَابٍ خَارِجِيَّةٍ وَهِيَ الْبَغْيُّ وَالْحَسَدُ، فَهَذَا دَلِيلٌ مَعْقُولٌ وَلَفْظُ الْقُرْآنِ مُطَابِقٌ لَهُ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ [هُودٍ: 118، 119] . قُلْنَا: الْمَعْنَى وَلِأَجْلِ أَنْ يَرْحَمَهُمْ خَلَقَهُمْ. وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ» دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْمَوْلُودَ لَوْ تُرِكَ مَعَ فِطْرَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ لَمَا كَانَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُقْدِمُ عَلَى الدِّينِ الْبَاطِلِ لِأَسْبَابٍ خَارِجِيَّةٍ، وَهِيَ سَعْيُ الْأَبَوَيْنِ فِي ذَلِكَ وَحُصُولُ الْأَغْرَاضِ/ الْفَاسِدَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ وَسَابِعُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَافِ: 172] فَذَلِكَ الْيَوْمَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى الدِّينِ الْحَقٍّ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، إِلَّا أَنَّ لِلْمُتَكَلِّمِينَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَبْحَاثًا كَثِيرَةً، وَلَا حَاجَةَ بِنَا فِي نُصْرَةِ هَذَا الْقَوْلِ بَعْدَ تِلْكَ الْوُجُوهِ السِّتَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا إِلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا القول. أما القول الثَّانِي: هُوَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الدِّينِ الْبَاطِلِ، فَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَاحْتَجُّوا بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَهُوَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِذَلِكَ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ عربهم وعجمهم فبعثهم إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ» .

وَجَوَابُهُ: مَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ إِلَّا بِضِدِّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ لَمَا وَجَبَتِ الْبَعْثَةُ. فَلَوْ كَانَ الِاتِّفَاقُ السَّابِقُ اتِّفَاقًا عَلَى الْكُفْرِ لَكَانَتِ الْبَعْثَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْلَى، وَحَيْثُ لَمْ تَحْصُلِ الْبَعْثَةُ هُنَاكَ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الِاتِّفَاقَ كَانَ اتِّفَاقًا عَلَى الْحَقِّ لَا عَلَى الْبَاطِلِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ مَتَى كَانَ النَّاسُ مُتَّفِقِينَ عَلَى الْكُفْرِ فَقِيلَ مِنْ وَفَاةِ آدَمَ إِلَى زَمَانِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانُوا كُفَّارًا، ثُمَّ سَأَلُوا أَنْفُسَهُمْ سُؤَالًا وَقَالُوا: أَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ كَانَ مُسْلِمًا نَحْوُ هَابِيلَ وَشِيثٍ وَإِدْرِيسَ، وَأَجَابُوا بِأَنَّ الْغَالِبَ كَانَ هُوَ الْكُفْرَ وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِالْقَلِيلِ فِي الْكَثِيرِ كَمَا لَا يُعْتَدُّ بِالشَّعِيرِ الْقَلِيلِ فِي الْبُرِّ الْكَثِيرِ، وَقَدْ يُقَالُ: دَارُ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ وَدَارُ الْحَرْبِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مُسْلِمُونَ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ وَالْقَاضِي: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي التَّمَسُّكِ بِالشَّرَائِعِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهِيَ الِاعْتِرَافُ بِوُجُودِ الصَّانِعِ وَصِفَاتِهِ، وَالِاشْتِغَالُ بِخِدْمَتِهِ وَشُكْرِ نِعْمَتِهِ، وَالِاجْتِنَابُ عَنِ الْقَبَائِحِ الْعَقْلِيَّةِ، كَالظُّلْمِ، وَالْكَذِبِ، وَالْجَهْلِ، وَالْعَبَثِ وَأَمْثَالِهَا. وَاحْتَجَّ الْقَاضِي عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ بِأَنَّ لَفْظَ النَّبِيِّينَ يُفِيدُ الْعُمُومَ وَالِاسْتِغْرَاقَ، وَحَرْفُ الْفَاءِ يُفِيدُ التَّرَاخِي، فَقَوْلُهُ: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ يُفِيدُ أَنَّ بَعْثَةَ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً عَنْ كَوْنِ النَّاسِ أُمَّةً وَاحِدَةً، فَتِلْكَ الْوَحْدَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى بَعْثَةِ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ وَحْدَةً فِي شَرْعِهِ غَيْرَ مُسْتَفَادَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ فِي شَرِيعَةٍ مُسْتَفَادَةٍ مِنَ الْعَقْلِ وَذَلِكَ مَا بَيَّنَّاهُ، وَأَيْضًا فَالْعِلْمُ بِحُسْنِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَطَاعَةُ الْخَالِقِ وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ، وَالْعَدْلُ، مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ الْكُلِّ، وَالْعِلْمُ بِقُبْحِ الْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَالْجَهْلِ وَالْعَبَثِ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ الْكُلِّ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَسْبَابٍ مُنْفَصِلَةٍ، ثُمَّ سَأَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ: أَلَيْسَ أَوَّلَ النَّاسِ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا، فَكَيْفَ يَصِحُّ إِثْبَاتُ النَّاسِ مُكَلَّفِينَ قَبْلَ بَعْثَةِ الرُّسُلِ، وَأَجَابَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَوْلَادِهِ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالشَّرَائِعِ الْعَقْلِيَّةِ أَوَّلًا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ/ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ بَعَثَهُ إِلَى أَوْلَادِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْدَ ذَلِكَ صَارَ شَرْعُهُ مُنْدَرِسًا، فَالنَّاسُ رَجَعُوا إِلَى التَّمَسُّكِ بِالشَّرَائِعِ الْعَقْلِيَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مَعَ إِثْبَاتِ تَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ مَشْهُورٌ فِي الْأُصُولِ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْإِيمَانِ أَوْ عَلَى الْكُفْرِ، فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النَّاسِ هاهنا أَهْلُ الْكِتَابِ مِمَّنْ آمَنَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بما تقدم من قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [الْبَقَرَةِ: 208] وَذَكَرْنَا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ زَعَمُوا أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أَيْ كَانَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى أُمَّةً وَاحِدَةً، عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، وَمَذْهَبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بِسَبَبِ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ، وَهُمُ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ، كَمَا بَعَثَ الزَّبُورَ إِلَى دَاوُدَ، وَالتَّوْرَاةَ إِلَى مُوسَى، وَالْإِنْجِيلَ إِلَى عِيسَى، وَالْفُرْقَانَ إِلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِتَكُونَ تِلْكَ الْكُتُبُ حَاكِمَةً عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ مُطَابِقٌ لِنَظْمِ الْآيَةِ وَمُوَافِقٌ لِمَا قَبْلَهَا وَلِمَا بَعْدَهَا، وَلَيْسَ فِيهَا إِشْكَالٌ إِلَّا أَنَّ تَخْصِيصَ لَفْظِ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: كانَ النَّاسُ بِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ خِلَافُ الظَّاهِرِ إِلَّا أَنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ كَمَا تَكُونُ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَقَدْ تَكُونُ أَيْضًا لِلْعَهْدِ فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بهذه الآية.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَاعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ هاهنا مِنَ الْإِضْمَارِ، وَالتَّقْدِيرُ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً- فاختلفوا- فبعث الله النبيين واعلم أنه اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ النَّبِيِّينَ بِصِفَاتٍ ثَلَاثٍ: الصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُمْ مُبَشِّرِينَ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُمْ مُنْذِرِينَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [النِّسَاءِ: 165] وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْبِشَارَةَ عَلَى الْإِنْذَارِ، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ تَجْرِي مَجْرَى حِفْظِ الصِّحَّةِ، وَالْإِنْذَارَ يَجْرِي مَجْرَى إِزَالَةِ الْمَرَضِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ هُوَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي فَلَا جَرَمَ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ فِي الذِّكْرِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَإِنْ قِيلَ: إِنْزَالُ الْكِتَابِ يَكُونُ قَبْلَ وُصُولِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ، وَوُصُولُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَيْهِمْ يَكُونُ قَبْلَ التَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ فَلِمَ قَدَّمَ ذِكْرَ التَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ عَلَى إِنْزَالِ الْكُتُبِ؟ أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ فَقَالَ: لِأَنَّ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ مِنْهُمْ قَبْلَ بَيَانِ الشَّرْعِ مُمْكِنٌ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْعَقْلِيَّاتِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ وَتَرْكِ الظُّلْمِ وَغَيْرِهِمَا وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِنَّمَا يَتَحَمَّلُ النَّظَرَ فِي دَلَالَةِ الْمُعْجِزِ عَلَى الصِّدْقِ وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُعْجِزِ إِذَا خَافَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْظُرْ فَرُبَّمَا تَرَكَ الْحَقَّ فَيَصِيرُ مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ، وَالْخَوْفُ إِنَّمَا يَقْوَى وَيَكْمُلُ عِنْدَ التَّبْشِيرِ/ وَالْإِنْذَارِ فَلَا جَرَمَ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ عَلَى إِنْزَالِ الْكِتَابِ فِي الذِّكْرِ ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا نَبِيَّ إِلَّا مَعَهُ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ فِيهِ بَيَانُ الْحَقِّ طَالَ ذَلِكَ الْكِتَابُ أَمْ قَصُرَ وَدُوِّنَ ذَلِكَ الْكِتَابُ أَوْ لَمْ يُدَوِّنْ وَكَانَ ذَلِكَ الْكِتَابُ مُعْجِزًا أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لِأَنَّ كَوْنَ الْكِتَابِ مُنَزَّلًا مَعَهُمْ لَا يَقْتَضِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فَاعْلَمْ أنه قَوْلَهُ: لِيَحْكُمَ فِعْلٌ فَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِنَادِهِ إِلَى شَيْءٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ، فَأَقْرَبُهَا إِلَى هَذَا اللَّفْظِ: الْكِتَابُ، ثُمَّ النَّبِيُّونَ، ثُمَّ اللَّهُ فَلَا جَرَمَ كَانَ إِضْمَارُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا صَحِيحًا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لِيَحْكُمَ اللَّهُ، أَوِ النَّبِيُّ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ، أَوِ الْكِتَابُ، ثُمَّ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ يَخْتَصُّ بِوَجْهِ تَرْجِيحٍ، أَمَّا الْكِتَابُ فَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ، وَأَمَّا اللَّهُ فَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْحَاكِمُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا الْكِتَابُ، وَأَمَّا النَّبِيُّ فَلِأَنَّهُ هُوَ الْمُظْهِرُ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: حَمْلُهُ عَلَى الْكِتَابِ أَوْلَى، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: الْحَاكِمُ هُوَ اللَّهُ، فَإِسْنَادُ الْحُكْمِ إِلَى الْكِتَابِ مَجَازٌ إِلَّا أَنْ نَقُولَ: هَذَا الْمَجَازُ يَحْسُنُ تَحَمُّلُهُ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَجَازٌ مَشْهُورٌ يُقَالُ: حَكَمَ الْكِتَابُ بِكَذَا، وَقَضَى كِتَابُ اللَّهِ بِكَذَا، وَرَضِيَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ هُدًى وَشِفَاءً، جَازَ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ [الْإِسْرَاءِ: 9] وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُفِيدُ تَفْخِيمَ شَأْنِ الْقُرْآنِ وَتَعْظِيمَ حَالِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْهَاءَ فِي قَوْلِهِ: فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا، إِمَّا إِلَى الْكِتَابِ، وَإِمَّا إِلَى الْحَقِّ، لِأَنَّ ذِكْرَهُمَا جَمِيعًا قَدْ تَقَدَّمَ، لَكِنَّ رُجُوعَهُ إِلَى الْحَقِّ أَوْلَى، لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْزَلَ الْكِتَابَ لِيَكُونَ حَاكِمًا فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَالْكِتَابُ حَاكِمٌ، وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ، وَالْحَاكِمُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ فَالْهَاءُ الْأُولَى رَاجِعَةٌ إِلَى الْحَقِّ وَالثَّانِيَةُ: إلى الكتاب

وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا اخْتَلَفَ فِي الْحَقِّ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، ثُمَّ قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَاللَّهُ تَعَالَى كَثِيرًا مَا يَذْكُرُهُمْ فِي الْقُرْآنِ بِهَذَا اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ [الْمَائِدَةِ: 5] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 64] ثُمَّ الْمُرَادُ بِاخْتِلَافِهِمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ تَكْفِيرَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ [الْبَقَرَةِ: 113] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمْ تَحْرِيفَهُمْ وَتَبْدِيلَهُمْ، فَقَوْلُهُ: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أَيْ وَمَا اخْتَلَفَ فِي الْحَقِّ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِنْزَالِ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَخْتَلِفُوا وَأَنْ يَرْفَعُوا الْمُنَازَعَةَ فِي الدِّينِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْحَقِّ لَمْ يُوجَدْ إِلَّا بَعْدَ بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ قَبْلَ بَعْثِهِمْ مَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْحَقِّ حَاصِلًا، بَلْ كَانَ الِاتِّفَاقُ فِي الْحَقِّ حَاصِلًا وَهُوَ/ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً مَعْنَاهُ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي دِينِ الْحَقِّ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إِيتَاءُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمُ الْكِتَابَ كَانَ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْبَيِّنَاتُ مُغَايِرَةً لَا مَحَالَةَ لِإِيتَاءِ الْكِتَابِ وَهَذِهِ الْبَيِّنَاتُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى شَيْءٍ سِوَى الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى إِثْبَاتِ الْأُصُولِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالنُّبُوَّةِ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ يَقُولُونَ كُلُّ مَا لَا يَصِحُّ إِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِهِ، فَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ وَإِلَّا وَقَعَ الدَّوْرُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِهَا بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ فَهَذِهِ الدَّلَائِلُ هِيَ الْبَيِّنَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى إِيتَاءِ اللَّهِ الْكُتُبَ إِيَّاهُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بَغْياً بَيْنَهُمْ فَالْمَعْنَى أَنَّ الدَّلَائِلَ إِمَّا سَمْعِيَّةٌ وَإِمَّا عَقْلِيَّةٌ. أَمَّا السَّمْعِيَّةُ فَقَدْ حَصَلَتْ بِإِيتَاءِ الْكِتَابِ، وَأَمَّا الْعَقْلِيَّةُ فَقَدْ حَصَلَتْ بِالْبَيِّنَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى إِيتَاءِ الْكِتَابِ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَدْ تَمَّتِ الْبَيِّنَاتُ وَلَمْ يَبْقَ فِي الْعُدُولِ عُذْرٌ وَلَا عِلَّةٌ، فَلَوْ حَصَلَ الْإِعْرَاضُ وَالْعُدُولُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلَّا بحسب الْحَسَدِ وَالْبَغْيِ وَالْحِرْصِ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةِ: 4] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ حَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَنَّهُمْ بَعْدَ كَمَالِ الْبَيِّنَاتِ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ بِسَبَبِ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ بَيَّنَ أَنَّ حَالَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِخِلَافِ حَالِ أُولَئِكَ فَإِنَّ اللَّهَ عَصَمَهُمْ عَنِ الزَّلَلِ وَهَدَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْكِتَابِ، يُرْوَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، ونحن أولى النَّاسِ دُخُولًا الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهُمْ فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي هَدَانَا لَهُ، وَالنَّاسُ له فِيهِ تَبَعٌ وَغَدًا لِلْيَهُودِ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى» قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: اخْتَلَفُوا فِي الْقِبْلَةِ فَصَلَّتِ الْيَهُودُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالنَّصَارَى إِلَى الْمَشْرِقِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لِلْكَعْبَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي الصِّيَامِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لِشَهْرِ رَمَضَانَ، وَاخْتَلَفُوا فِي إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: كَانَ يَهُودِيًّا وَقَالَتِ النَّصَارَى: كَانَ نَصْرَانِيًّا، فَقُلْنَا: إِنَّهُ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَاخْتَلَفُوا فِي عِيسَى، فَالْيَهُودُ فَرَّطُوا، وَالنَّصَارَى أَفْرَطُوا، وَقُلْنَا الْقَوْلَ الْعَدْلَ، وَبَقِيَ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ: لِأَنَّ الهداية

[سورة البقرة (2) : آية 214]

هِيَ الْعِلْمُ وَالْمَعْرِفَةُ، وَقَوْلُهُ: فَهَدَى اللَّهُ نَصٌّ فِي أَنَّ الْهِدَايَةَ حَصَلَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ ضَعِيفٌ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْهِدَايَةَ غَيْرٌ، وَالِاهْتِدَاءَ غَيْرٌ، وَالَّذِي يدل هاهنا عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ عِبَارَةً عَنِ الْإِيمَانِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْهِدَايَةَ إِلَى الْإِيمَانِ غَيْرُ/ الْإِيمَانِ كَمَا أَنَّ التَّوْفِيقَ لِلْإِيمَانِ غَيْرُ الْإِيمَانِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: بِإِذْنِهِ وَلَا يُمْكِنُ صَرْفُ هَذَا الْإِذْنِ إِلَى قَوْلِهِ: فَهَدَى اللَّهُ إِذْ لَا جَائِزَ أَنْ يَأْذَنَ لِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ هاهنا مِنْ إِضْمَارٍ لِيَصْرِفَ هَذَا الْإِذْنَ إِلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ فَاهْتَدَوْا بِإِذْنِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْهِدَايَةُ مُغَايِرَةً لِلِاهْتِدَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَخُصُّ الْمُؤْمِنَ بِهِدَايَاتٍ لَا يَفْعَلُهَا فِي حَقِّ الْكَافِرِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ اخْتُصُّوا بِالِاهْتِدَاءِ فَجَعَلَ هِدَايَةً لَهُمْ خَاصَّةً كَقَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: 2] ثُمَّ قَالَ: هُدىً لِلنَّاسِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: الْهِدَايَةُ إِلَى الثَّوَابِ وطريقة الْجَنَّةِ وَثَالِثُهَا: هَدَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ بِالْأَلْطَافِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْ إِلَى مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَعُودُونَ لِما قالُوا [الْمُجَادَلَةِ: 3] أَيْ إِلَى مَا قَالُوا وَيُقَالُ: هدايته الطَّرِيقَ وَلِلطَّرِيقِ وَإِلَى الطَّرِيقِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ فَهَدَاهُمْ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: هَدَاهُمْ لِلْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفُوا وَقَدَّمَ الِاخْتِلَافَ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْعِنَايَةُ بِذِكْرِ الِاخْتِلَافِ لَهُمْ بَدَأَ بِهِ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِمَنْ هَدَاهُ الثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ، أَيْ فَهَدَاهُمْ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: بِإِذْنِهِ فِيهِ وجهان أحدها: قَالَ الزَّجَّاجُ بِعِلْمِهِ الثَّانِي: هَدَاهُمْ بِأَمْرِهِ أَيْ حَصَلَتِ الْهِدَايَةُ بِسَبَبِ الْأَمْرِ كَمَا يُقَالُ: قَطَعْتُ بِالسِّكِّينِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَكُنْ مُتَمَيِّزًا عَنِ الْبَاطِلِ وَبِالْأَمْرِ حَصَلَ التَّمْيِيزُ فَجُعِلَتِ الْهِدَايَةُ بِسَبَبِ إِذْنِهِ الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِضْمَارٍ وَالتَّقْدِيرُ: هَدَاهُمْ فَاهْتَدَوْا بِإِذْنِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فاستدل الْأَصْحَابِ بِهِ مَعْلُومٌ، وَالْمُعْتَزِلَةُ أَجَابُوا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ بِالْهِدَايَةِ الْبَيَانُ، فَاللَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْمُكَلَّفِينَ بِذَلِكَ وَالثَّانِي: الْمُرَادُ بِالْهِدَايَةِ الطَّرِيقُ إِلَى الْجَنَّةِ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ بِهِ اللُّطْفُ فَيَكُونُ خَاصًّا لِمَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَصْلُحُ لَهُ وَهُوَ قول أبي بكر الرازي. [سورة البقرة (2) : آية 214] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) فِي النَّظْمِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ: وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى الْحَقِّ وَطَلَبِ الْجَنَّةِ فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ الطَّلَبَ لَا يَتِمُّ وَلَا يَكْمُلُ إِلَّا بِاحْتِمَالِ الشَّدَائِدِ فِي التَّكْلِيفِ فَقَالَ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ الْآيَةِ الثَّانِي: أَنَّهُ فِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ ما بَيَّنَ أَنَّهُ هَدَاهُمْ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ بعد تلك

الْهِدَايَةِ احْتَمَلُوا الشَّدَائِدَ فِي إِقَامَةِ الْحَقِّ وَصَبَرُوا عَلَى الْبَلْوَى، فَكَذَا أَنْتُمْ يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ لَا تَسْتَحِقُّونَ الْفَضِيلَةَ فِي الدِّينِ إِلَّا بِتَحَمُّلِ هَذِهِ الْمِحَنِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ فِي لَفْظِ «أَمْ» فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ [البقرة: 133] والذي نريده هاهنا أَنْ نَقُولَ «أَمْ» اسْتِفْهَامٌ مُتَوَسِّطٌ كَمَا أَنَّ (هَلْ) اسْتِفْهَامٌ سَابِقٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: هَلْ عِنْدَكَ رَجُلٌ، أَعِنْدَكَ رَجُلٌ؟ ابْتِدَاءً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَمْ عِنْدَكَ رَجُلٌ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُتَوَسِّطًا جَازَ سَوَاءٌ كَانَ مَسْبُوقًا بِاسْتِفْهَامٍ آخَرَ أَوْ لَا يَكُونُ، أَمَّا إِذَا كَانَ مَسْبُوقًا بِاسْتِفْهَامٍ آخَرَ فَهُوَ كَقَوْلِكَ: أَنْتَ رَجُلٌ لَا تُنْصِفُ، أَفَعَنْ جَهْلٍ تَفْعَلُ هَذَا أَمْ لَكَ سُلْطَانٌ؟ وَأَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ مَسْبُوقًا بِالِاسْتِفْهَامِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ [السَّجْدَةِ: 1- 3] وَهَذَا الْقِسْمُ يَكُونُ فِي تَقْدِيرِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَفَيُؤْمِنُونَ بِهَذَا أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ؟ فَكَذَا تَقْدِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، فَصَبَرُوا عَلَى اسْتِهْزَاءِ قَوْمِهِمْ بِهِمْ، أَفَتَسْلُكُونَ سَبِيلَهُمْ، أَمْ تَحْسَبُونَ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ سُلُوكِ سَبِيلِهِمْ؟ هَذَا مَا لَخَّصَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أَيْ وَلَمْ يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا وَذَكَرَ الْكُوفِيُّونَ مِنْ أَهْلِ النَّحْوِ أَنَّ (لَمَّا) إِنَّمَا هِيَ (لَمْ) وَ (مَا) زَائِدَةٌ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: (مَا) لَيْسَتْ زَائِدَةً لِأَنَّ (لَمَّا) تَقَعُ فِي مَوَاضِعَ لَا تَقَعُ فِيهَا (لَمْ) يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: أَقَدِمَ فُلَانٌ؟ فَيَقُولُ: (لَمَّا) وَلَا يَقُولُ: (لَمْ) مُفْرَدَةً، قَالَ الْمُبَرِّدُ: إِذَا قَالَ الْقَائِلُ: لَمْ يَأْتِنِي زَيْدٌ، فَهُوَ نَفْيٌ لِقَوْلِكَ أَتَاكَ زَيْدٌ وَإِذَا قَالَ: لَمَّا يَأْتِنِي فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِنِي بَعْدُ وَأَنَا أَتَوَقَّعُهُ قَالَ النَّابِغَةُ: أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنَا ... لَمَّا نزل بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِ فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِتْيَانَ ذَلِكَ مُتَوَقَّعٌ مُنْتَظَرٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، اشْتَدَّ الضَّرَرُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا بِلَا مَالٍ، وَتَرَكُوا دِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ، وَأَظْهَرَتِ الْيَهُودُ الْعَدَاوَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ أَمْ حَسِبْتُمْ وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ حِينَ أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْجَهْدِ وَالْحَزَنِ، وَكَانَ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الْأَحْزَابِ: 10] وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي حَرْبِ أُحُدٍ لَمَّا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلَى مَتَى تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتَرْجُونَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا لَمَا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْأَسْرَ وَالْقَتْلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمُجَرَّدِ الْإِيمَانِ بِي وَتَصْدِيقِ رَسُولِي، دُونَ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ بِكُلِّ مَا تَعَبَّدَكُمْ بِهِ، وَابْتَلَاكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَنَالُكُمْ مِنْ أَذَى الْكُفَّارِ، وَمِنَ احْتِمَالِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ، ومكايدة الضُّرِّ وَالْبُؤْسِ فِي الْمَعِيشَةِ، وَمُقَاسَاةِ الْأَهْوَالِ فِي مُجَاهَدَةِ الْعَدُوِّ، كَمَا كَانَ كَذَلِكَ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْمَثَلُ هُوَ الْمِثْلُ وَهُوَ الشَّبَهُ، وَهُمَا لُغَتَانِ: مَثَلٌ ومثل كشبه وَشِبْهٌ، إِلَّا أَنَّ الْمَثَلَ مُسْتَعَارٌ لِحَالَةٍ غَرِيبَةٍ أَوْ قِصَّةٍ عَجِيبَةٍ لَهَا شَأْنٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: وَلِلَّهِ

الْمَثَلُ الْأَعْلى [النَّحْلِ: 60] أَيِ الصِّفَةُ الَّتِي لَهَا شَأْنٌ عَظِيمٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ: مَثَلُ مِحْنَةِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَقَوْلُهُ: مَسَّتْهُمُ بَيَانٌ لِلْمَثَلِ، وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ ذَلِكَ الْمَثَلُ؟ فَقَالَ: مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا. أَمَّا الْبَأْساءُ فَهُوَ اسْمٌ مِنَ الْبُؤْسِ بِمَعْنَى الشِّدَّةِ وَهُوَ الْفَقْرُ وَالْمَسْكَنَةُ وَمِنْهُ يُقَالُ فُلَانٌ فِي بُؤْسٍ وَشِدَّةٍ. وَأَمَّا الضَّرَّاءُ فَالْأَقْرَبُ فِيهِ أَنَّهُ وُرُودُ الْمَضَارِّ عَلَيْهِ مِنَ الْآلَامِ وَالْأَوْجَاعِ وَضُرُوبِ الْخَوْفِ، وَعِنْدِي أَنَّ الْبَأْسَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ تَضْيِيقِ جِهَاتِ الْخَيْرِ وَالْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ، وَالضَّرَّاءُ عِبَارَةٌ عَنِ انْفِتَاحِ جِهَاتِ الشَّرِّ وَالْآفَةِ وَالْأَلَمِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَزُلْزِلُوا أَيْ حُرِّكُوا بِأَنْوَاعِ الْبَلَايَا وَالرَّزَايَا قَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُ الزَّلْزَلَةِ فِي اللُّغَةِ مِنْ أَزَالَ الشَّيْءَ عَنْ مَكَانِهِ فَإِذَا قُلْتَ: زَلْزَلْتُهُ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّكَ كَرَّرْتَ تِلْكَ الْإِزَالَةَ فَضُوعِفَ لَفْظُهُ بِمُضَاعَفَةِ مَعْنَاهُ، وَكُلُّ مَا كَانَ فِيهِ تَكْرِيرٌ كُرِّرَتْ فِيهِ فَاءُ الْفِعْلِ، نَحْوُ صَرَّ، وَصَرْصَرَ، وَصَلَّ وَصَلْصَلَ، وَكَفَّ، وَكَفْكَفَ، وَأَقَلَّ الشَّيْءَ، أَيْ رَفَعَهُ مِنْ مَوْضِعِهِ، فإذا كرر قيل: قلقل، وفسر بعضهم زُلْزِلُوا هاهنا بِخُوِّفُوا، وَحَقِيقَتُهُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَائِفَ لَا يَسْتَقِرُّ بَلْ يَضْطَرِبُ قَلْبُهُ، وَلِذَلِكَ لَا يُقَالُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الْخَوْفِ الْمُقِيمِ الْمُقْعِدِ، لِأَنَّهُ يُذْهِبُ السُّكُونَ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ زلزلوا هاهنا مَجَازًا، وَالْمُرَادُ: خُوِّفُوا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا مُضْطَرِبِينَ لَا يَسْتَقِرُّونَ لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجَزَعِ وَالْخَوْفِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ذَكَرَ شَيْئًا آخَرَ وَهُوَ النِّهَايَةُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ الضُّرِّ/ وَالْبُؤْسِ وَالْمِحْنَةِ، فَقَالَ: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَكُونُونَ فِي غَايَةِ الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ وَضَبْطِ النَّفْسِ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ صَبْرٌ حَتَّى ضَجُّوا، كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْغَايَةَ الْقُصْوَى فِي الشِّدَّةِ، فَلَمَّا بَلَغَتْ بِهِمُ الشِّدَّةُ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ الْعَظِيمَةِ قِيلَ لَهُمْ: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ إِجَابَةً لَهُمْ إِلَى طَلَبِهِمْ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ هَكَذَا: كَانَتْ حَالُهُمْ إِلَى أَنْ أَتَاهُمْ نَصْرُ اللَّهِ وَلَمْ يُغَيِّرْهُمْ طُولُ الْبَلَاءِ عَنْ دِينِهِمْ، وَأَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ كُونُوا عَلَى ذَلِكَ وَتَحَمَّلُوا الْأَذَى وَالْمَشَقَّةَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ، فَإِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ، لِأَنَّهُ آتٍ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِثْلُ قَوْلِهِ: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ [الْعَنْكَبُوتِ: 1- 3] وَقَالَ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 142] وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَصْحَابَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَنَالُهُمُ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ، وَلَمَّا أُذِنَ لَهُمْ فِي الْقِتَالِ نَالَهُمْ مِنَ الْجِرَاحِ وَذَهَابِ الْأَمْوَالِ وَالنُّفُوسِ مَا لَا يَخْفَى، فَعَزَّاهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ وَبَيَّنَ أَنَّ حَالَ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي طَلَبِ الدِّينِ كَانَ كَذَلِكَ، وَالْمُصِيبَةُ إِذَا عَمَّتْ طَابَتْ، وَذَكَرَ اللَّهُ مِنْ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِلْقَائِهِ فِي النَّارِ، وَمِنْ أَمْرِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِهِ، وَمِنْ أَمْرِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي مُصَابَرَتِهِمْ عَلَى أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ مَا صَارَ ذَلِكَ فِي سَلْوَةِ الْمُؤْمِنِينَ. رَوَى قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا نَلْقَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: «إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ كَانُوا يُعَذَّبُونَ بِأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ فَلَمْ يَصْرِفْهُمْ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِمْ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ يُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ الْمِنْشَارُ فَيُشُقُّ فِلْقَتَيْنِ، وَيُمَشَّطُ الرَّجُلُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ فِيمَا دُونَ الْعَظْمِ مِنْ لَحْمٍ وَعَصَبٍ وَمَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عن دينه، وأيم الله ليتمن هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخْشَى إِلَّا اللَّهَ والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون» .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ حَتَّى يَقُولَ بِرَفْعِ اللَّامِ وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ (حَتَّى) إِذَا نَصَبَتِ الْمُضَارِعَ تَكُونُ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى: إِلَى، وَفِي هَذَا الضَّرْبِ يَكُونُ الْفِعْلُ الَّذِي حَصَلَ قَبْلَ (حَتَّى) وَالَّذِي حَصَلَ بَعْدَهَا قَدْ وُجِدَا وَمَضَيَا، تَقُولُ: سِرْتُ حَتَّى أَدْخُلَهَا، أَيْ إِلَى أَنْ أَدْخُلَهَا، فَالسَّيْرُ وَالدُّخُولُ قد وجدا مضيا، وَعَلَيْهِ النَّصْبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَزُلْزِلُوا إِلَى أَنْ يَقُولَ الرَّسُولُ، وَالزَّلْزَلَةُ وَالْقَوْلُ قَدْ وُجِدَا وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى: كَيْ، كَقَوْلِهِ: أَطَعْتُ اللَّهَ حَتَّى أَدْخُلَ الْجَنَّةَ، أَيْ كَيْ أَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَالطَّاعَةُ قَدْ وُجِدَتْ وَالدُّخُولُ لَمْ يُوجَدْ، وَنَصْبُ الْآيَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْفِعْلَ الْوَاقِعَ بَعْدَ (حَتَّى) لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْحَالِ الْمَحْكِيَّةِ الَّتِي وُجِدَتْ، كَمَا حُكِيَتِ الْحَالُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ [الْقَصَصِ: 15] وَفِي قَوْلِهِ: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الْكَهْفِ: 18] لِأَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى/ سَبِيلِ أَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ يُقَالُ هَذَا الْكَلَامُ، وَيُقَالُ: شَرِبَتِ الْإِبِلُ حَتَّى يَجِيءَ الْبَعِيرُ يَجُرُّ بَطْنَهُ، وَالْمَعْنَى شَرِبَتْ حَتَّى إِنَّ مَنْ حَضَرَ هُنَاكَ يُقَالُ: يَجِيءُ الْبَعِيرُ يَجُرُّ بَطْنَهُ، ثُمَّ هَذَا قَدْ يَصْدُقُ عِنْدَ انْقِضَاءِ السَّبَبِ وَحْدَهُ دُونَ الْمُسَبِّبِ، كَقَوْلِكَ: سِرْتُ حَتَّى أَدْخُلَ الْبَلَدَ. فَيُحْتَمَلُ أَنَّ السَّيْرَ وَالدُّخُولَ قَدْ وُجِدَا وَحَصَلَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وُجِدَ السَّيْرُ وَالدُّخُولُ بَعْدُ لَمْ يُوجَدْ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي تَقْرِيرِ وَجْهِ النَّصْبِ وَوَجْهِ الرَّفْعِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ اخْتَارُوا النَّصْبَ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الرَّفْعِ لَا تَصِحُّ إِلَّا إِذَا جَعَلْنَا الْكَلَامَ حِكَايَةً عَمَّنْ يُخْبِرُ عَنْهَا حَالَ وُقُوعِهَا، وَقِرَاءَةُ النَّصْبِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى هَذَا الْفَرْضِ فَلَا جَرَمَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّصْبِ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّسُولِ الْقَاطِعِ بِصِحَّةِ وَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ أَنْ يَقُولَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ مَتى نَصْرُ اللَّهِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ كَوْنَهُ رَسُولًا لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَتَأَذَّى مِنْ كَيْدِ الْأَعْدَاءِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ [الْحِجْرِ: 97] وَقَالَ تَعَالَى: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاءِ: 3] وَقَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ [يُوسَفَ: 110] وَعَلَى هَذَا فَإِذَا ضَاقَ قَلْبُهُ وَقَلَّتْ حِيلَتُهُ، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَنْصُرُهُ إِلَّا أَنَّهُ مَا عَيَّنَ لَهُ الْوَقْتَ فِي ذَلِكَ، قَالَ عِنْدَ ضِيقِ قَلْبِهِ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ حَتَّى إِنَّهُ إِنْ عَلِمَ قُرْبَ الْوَقْتِ زَالَ هَمُّهُ وَغَمُّهُ وَطَابَ قَلْبُهُ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْجَوَابِ: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ فَلَمَّا كَانَ الْجَوَابُ بِذِكْرِ الْقُرْبِ دَلَّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ وَاقِعًا عَنِ الْقُرْبِ، وَلَوْ كَانَ السُّؤَالُ وَقَعَ عَنْ أَنَّهُ هَلْ يُوجَدُ النَّصْرُ أَمْ لَا؟ لَمَا كَانَ هَذَا الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِذَلِكَ السُّؤَالِ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الرَّسُولِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنَّهُمْ قَالُوا قَوْلًا ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَتى نَصْرُ اللَّهِ وَالثَّانِي: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ فَوَجَبَ إِسْنَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ ذَيْنِكَ الْمَذْكُورِينَ: فَالَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا: مَتى نَصْرُ اللَّهِ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ قَالُوا وَلِهَذَا نَظِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَالشِّعْرِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [الْقَصَصِ: 73] وَالْمَعْنَى: لِتَسْكُنُوا فِي اللَّيْلِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فِي النَّهَارِ، وَأَمَّا مِنَ الشِّعْرِ فَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْبًا وَيَابِسًا ... لَدَى وَكْرِهَا الْعُنَّابُ وَالْحَشَفُ الْبَالِي فَالتَّشْبِيهُ بِالْعُنَّابِ لِلرَّطْبِ وَبِالْحَشَفِ الْبَالِي لِلْيَابِسِ، فَهَذَا جَوَابٌ ذَكَرَهُ قَوْمٌ وَهُوَ متكلف جدا.

[سورة البقرة (2) : آية 215]

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ، إِذْ قَالُوا: مَتى نَصْرُ اللَّهِ فَيَكُونُ كَلَامُهُمْ قَدِ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَوْلًا لِقَوْمٍ مِنْهُمْ، كَأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: مَتى نَصْرُ اللَّهِ رَجَعُوا/ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُعْلِي عَدُوَّهُمْ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ فَنَحْنُ قَدْ صَبَرْنَا يَا رَبَّنَا ثِقَةً بِوَعْدِكَ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ يُوجِبُ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ لَحِقَهُ شِدَّةٌ أَنْ يَعْلَمَ أَنْ سَيَظْفَرَ بِزَوَالِهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ ثَابِتٍ. قُلْنَا: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ خَوَاصِّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَامًّا فِي حَقِّ الْكُلِّ، إِذْ كُلُّ مَنْ كَانَ فِي بَلَاءٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مَنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَتَخَلَّصَ عَنْهُ، وَإِمَّا أَنْ يَمُوتَ وَإِذَا مَاتَ فَقَدْ وَصَلَ إِلَى مَنْ لَا يُهْمِلُ أَمْرَهُ وَلَا يُضَيِّعُ حَقَّهُ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ النَّصْرِ، وَإِنَّمَا جعله قريبا لأن الموت قريب. [سورة البقرة (2) : آية 215] يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي بَيَانِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَكُونَ مُعْرِضًا عَنْ طَلَبِ الْعَاجِلِ، وَأَنْ يَكُونَ مُشْتَغِلًا بِطَلَبِ الْآجِلِ، وَأَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَبْذُلُ النَّفْسَ وَالْمَالَ فِي ذَلِكَ شَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 243] لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ التَّوْحِيدِ وَبَيَانُ الْوَعْظِ وَالنَّصِيحَةِ وَبَيَانُ الْأَحْكَامِ مُخْتَلِطًا بَعْضُهَا بِالْبَعْضِ، لِيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُقَوِّيًا لِلْآخَرِ وَمُؤَكِّدًا لَهُ. الْحُكْمُ الْأَوَّلُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّفَقَةِ هُوَ هَذِهِ الْآيَةُ وَفِيهِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ عَطَاءٌ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ أتى للنبي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ إِنَّ لِي دِينَارًا فَقَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ قَالَ: إِنَّ لِي دِينَارَيْنِ قَالَ: أَنْفِقْهُمَا عَلَى أَهْلِكَ قَالَ: إِنَّ لِي ثَلَاثَةً قَالَ: أَنْفِقْهَا عَلَى خَادِمِكَ قَالَ: إِنَّ لِي أَرْبَعَةً قَالَ: أَنْفِقْهَا عَلَى وَالِدَيْكَ قَالَ: إِنَّ لِي خَمْسَةً قَالَ: أَنْفِقْهَا عَلَى قَرَابَتِكَ قَالَ إِنَّ لِي سِتَّةً قَالَ: أَنْفِقْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ أَحْسَنُهَا. وَرَوَى الْكَلْبِيُّ/ عن ابن عباس أن الآية نزلت عن عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا هَرِمًا، وَهُوَ الَّذِي قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَعِنْدَهُ مَالٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ: مَاذَا نُنْفِقُ مِنْ أَمْوَالِنَا وَأَيْنَ نَضَعُهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِلنَّحْوِيِّينَ فِي (مَاذَا) قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْعَلَ (مَا) مَعَ (ذَا) بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ وَيَكُونُ الْمَوْضِعُ نصبا بينفقون، والدليل عليه أن العرب يقولون: عما ذا تَسْأَلُ؟ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي (مَا) فَلَوْلَا أَنَّ (مَا) مَعَ (ذَا) بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ لَقَالُوا: عما ذا تَسْأَلُ؟ بِحَذْفِ الْأَلِفِ كَمَا حَذَفُوهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ [النَّبَأِ: 1] وَقَوْلُهُ: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها [النَّازِعَاتِ: 43] فَلَمَّا لَمْ يَحْذِفُوا الْأَلِفَ مِنْ آخِرِ (مَا) عَلِمْتَ أَنَّهُ مَعَ

(ذَا) بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَحْذِفُوا الْأَلِفَ مِنْهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ آخِرَ الِاسْمِ وَالْحَذْفُ يَلْحَقُهَا إِذَا كَانَ آخِرًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ في شعر كقوله: غلاما قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ ... كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَ (ذَا) بِمَعْنَى الَّذِي وَيَكُونُ (مَا) رَفْعًا بِالِابْتِدَاءِ خَبَرُهَا (ذَا) وَالْعَرَبُ قَدْ يَسْتَعْمِلُونَ (ذَا) بِمَعْنَى الَّذِي، فَيَقُولُونَ: مَنْ ذَا يَقُولُ ذَاكَ؟ أَيْ مَنْ ذَا الَّذِي يقول ذاك، فعلى هذ يَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: يَسْأَلُونَكَ مَا الَّذِي يُنْفِقُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْمَ سَأَلُوا عَمَّا يُنْفِقُونَ لَا عَمَّنْ تُصْرَفُ النَّفَقَةُ إِلَيْهِمْ، فَكَيْفَ أَجَابَهُمْ بِهَذَا؟. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَصَلَ فِي الْآيَةِ مَا يَكُونُ جَوَابًا عَنِ السُّؤَالِ وَضَمَّ إِلَيْهِ زِيَادَةً بِهَا يَكْمُلُ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ جَوَابٌ عَنِ السُّؤَالِ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْإِنْفَاقَ لَا يَكْمُلُ إِلَّا إِذَا كَانَ مَصْرُوفًا إِلَى جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْجَوَابَ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ الْمَصْرِفِ تَكْمِيلًا لِلْبَيَانِ وَثَانِيهَا: قَالَ الْقَفَّالُ: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ وَارِدًا بِلَفْظِ (مَا) إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ: السُّؤَالُ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ أَنَّ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ إِنْفَاقُ مَالٍ يَخْرُجُ قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْلُومًا لَمْ يَنْصَرِفِ الْوَهْمُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ وَإِذَا خَرَجَ هَذَا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا تَعَيَّنَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالسُّؤَالِ أَنَّ مَصْرِفَهُ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا ... قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ [الْبَقَرَةِ: 70- 71] وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْجَوَابُ مُوَافِقًا لِذَلِكَ السُّؤَالِ، لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْبَقَرَةَ هِيَ الْبَهِيمَةُ الَّتِي شَأْنُهَا وَصِفَتُهَا كَذَا، فَقَوْلُهُ: مَا هِيَ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى طَلَبِ الْمَاهِيَّةِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ طَلَبَ الصِّفَةِ الَّتِي بِهَا تَتَمَيَّزُ تِلْكَ الْبَقَرَةُ عَنْ غَيْرِهَا، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ الْجَوَابَ مطابق لذلك السؤال، فكذا هاهنا لَمَّا عَلِمْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ الَّذِي أُمِرُوا بِإِنْفَاقِهِ مَا هُوَ، وَجَبَ أَنْ يُقْطَعَ بِأَنَّ مُرَادَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَاذَا يُنْفِقُونَ لَيْسَ هُوَ طَلَبَ الْمَاهِيَّةِ، بَلْ طَلَبُ الْمَصْرِفِ فَلِهَذَا حَسُنَ الْجَوَابُ وَثَالِثُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ سَأَلُوا هَذَا/ السُّؤَالَ فَكَأَنَّهُمْ قِيلَ لَهُمْ: هذا السؤال فَاسِدٌ أَنْفِقْ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَالًا حَلَالًا وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَصْرُوفًا إِلَى الْمَصْرِفِ وَهَذَا مِثْلُ مَا إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ صَحِيحَ الْمِزَاجِ لَا يَضُرُّهُ أَكْلُ أَيِّ طَعَامٍ كَانَ، فَقَالَ لِلطَّبِيبِ: مَاذَا آكُلُ؟ فَيَقُولُ الطَّبِيبُ: كُلْ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ، كَانَ الْمَعْنَى: كُلْ مَا شِئْتَ لَكِنْ بِهَذَا الشَّرْطِ كذا هاهنا الْمَعْنَى: أَنْفِقْ أَيَّ شَيْءٍ أَرَدْتَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَصْرِفُ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى رَاعَى التَّرْتِيبَ فِي الْإِنْفَاقِ، فَقَدَّمَ الْوَالِدَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا كَالْمُخْرِجِ لَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ، ثُمَّ رَبَّيَاهُ فِي الْحَالِ الَّذِي كَانَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، فَكَانَ إِنْعَامُهُمَا عَلَى الِابْنِ أَعْظَمَ مِنْ إِنْعَامِ غَيْرِهِمَا عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ [الْإِسْرَاءِ: 23] وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ رِعَايَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ أَوْجَبُ مِنْ رِعَايَةِ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الْإِنْسَانَ من العدم إلى الوجود في الحقيقة، والولدان هُمَا اللَّذَانِ أَخْرَجَاهُ إِلَى عَالَمِ الْوُجُودِ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ حَقَّهُمَا أَعْظَمُ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِمَا فَلِهَذَا أَوْجَبَ تَقْدِيمَهُمَا عَلَى غَيْرِهِمَا فِي رِعَايَةِ الْحُقُوقِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى بَعْدَ الْوَالِدَيْنِ الْأَقْرَبِينَ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُومَ بِمَصَالِحِ جَمِيعِ

الْفُقَرَاءِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يُرَجِّحَ الْبَعْضَ عَلَى الْبَعْضِ، وَالتَّرْجِيحُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ، وَالْقُرَابَةُ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِلتَّرْجِيحِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَرَابَةَ مَظِنَّةُ الْمُخَالَطَةِ، وَالْمُخَالَطَةُ سَبَبٌ لِاطِّلَاعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حَالِ الْآخَرِ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا غَنِيًّا وَالْآخَرُ فَقِيرًا كَانَ اطِّلَاعُ الْفَقِيرِ عَلَى الْغَنِيِّ أَتَمَّ، وَاطِّلَاعُ الْغَنِيِّ عَلَى الْفَقِيرِ أَتَمَّ، وَذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الْحَوَامِلِ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُرَاعِ جَانِبَ الْفَقِيرِ، احْتَاجَ الْفَقِيرُ لِلرُّجُوعِ إِلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ عَارٌ وَسَيِّئَةٌ فِي حَقِّهِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَكَفَّلَ بِمَصَالِحِهِمْ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَرِيبَ الْإِنْسَانِ جَارٍ مَجْرَى الْجُزْءِ مِنْهُ وَالْإِنْفَاقُ عَلَى النَّفْسِ أَوْلَى مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْغَيْرِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْقَرِيبِ أَوْلَى مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْبَعِيدِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ الْأَقْرَبِينَ الْيَتَامَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لِصِغَرِهِمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِاكْتِسَابِ وَلِكَوْنِهِمْ يَتَامَى لَيْسَ لَهُمْ أَحَدٌ يَكْتَسِبُ لَهُمْ، فَالطِّفْلُ الَّذِي مَاتَ أَبُوهُ قَدْ عَدِمَ الكسب والكاسب وأشرب عَلَى الضَّيَاعِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى بَعْدَهُمُ الْمَسَاكِينَ وَحَاجَةُ هَؤُلَاءِ أَقَلُّ مِنْ حَاجَةِ الْيَتَامَى لِأَنَّ قُدْرَتَهُمْ عَلَى التَّحْصِيلِ أَكْثَرُ مِنْ قُدْرَةِ الْيَتَامَى ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى بَعْدَهُمُ ابْنَ السَّبِيلِ فَإِنَّهُ بِسَبَبِ انْقِطَاعِهِ عَنْ بَلَدِهِ، قَدْ يَقَعُ فِي الِاحْتِيَاجِ وَالْفَقْرِ، فَهَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الصَّحِيحُ الَّذِي رَتَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَيْفِيَّةِ الْإِنْفَاقِ، ثُمَّ لَمَّا فَصَّلَ هَذَا التَّفْصِيلَ الْحَسَنَ الْكَامِلَ أَرْدَفَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْإِجْمَالِ فَقَالَ: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ أَيْ وَكُلُّ مَا فَعَلْتُمُوهُ مِنْ خَيْرٍ إِمَّا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ وَإِمَّا مَعَ غَيْرِهِمْ حِسْبَةً لِلَّهِ وَطَلَبًا لِجَزِيلِ ثَوَابِهِ وَهَرَبًا مِنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ، وَالْعَلِيمُ مُبَالَغَةٌ فِي كَوْنِهِ عَالِمًا يَعْنِي لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي/ السَّمَاءِ فَيُجَازِيكُمْ أَحْسَنَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى [آلِ عِمْرَانَ: 195] وَقَالَ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7] . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْخَيْرِ هُوَ الْمَالُ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [الْعَادِيَاتِ: 8] وَقَالَ: إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ [الْبَقَرَةِ: 180] فَالْمَعْنَى وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ إِنْفَاقِ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَتَنَاوَلُ هَذَا الْإِنْفَاقَ وَسَائِرَ وُجُوهِ الْبِرِّ وَالطَّاعَةِ، وَهَذَا أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوهٍ لَا يَتَطَرَّقُ النَّسْخُ إِلَيْهَا أَحَدُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ عِنْدَ قُصُورِهِمَا عَنِ الْكَسْبِ وَالْمِلْكِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَقْرَبِينَ الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ وَقَدْ تَلْزَمُ نَفَقَتُهُمْ عِنْدَ فَقْدِ الْمِلْكِ، وَإِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ تَلْزَمُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَالْمِيرَاثُ يَصِلُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَيْضًا فَمَا يَصِلُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ نَفَقَةٌ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ أَحَبَّ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي بَابِ النَّفَقَةِ فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يُنْفِقَهُ فِي هَذِهِ الْجِهَاتِ فَيُقَدِّمُ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ التَّطَوُّعَ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْوُجُوبَ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مِنْ حَيْثُ الْكِفَايَةُ وَفِيمَا يَتَّصِلُ بِالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ مِمَّا يَكُونُ زَكَاةً وَرَابِعُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مَا يَكُونُ بَعْثًا عَلَى صِلَةِ الرَّحِمِ وَفِيمَا يَصْرِفُهُ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ مَا يَخْلُصُ لِلصَّدَقَةِ فَظَاهِرُ الْآيَةِ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ هَذِهِ الوجوه من غير نسخ.

[سورة البقرة (2) : آية 216]

[سورة البقرة (2) : آية 216] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) الحكم الثاني فيما يتعلق بالقتال وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِي الْقِتَالِ مُدَّةَ إِقَامَتِهِ بِمَكَّةَ فَلَمَّا هَاجَرَ أُذِنَ لَهُ فِي قِتَالِ مَنْ يُقَاتِلُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ أُذِنَ لَهُ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ عَامَّةً، ثُمَّ فَرَضَ اللَّهُ الْجِهَادَ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا تَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِتَالِ عَلَى الْكُلِّ وَعَنْ مَكْحُولٍ أَنَّهُ كَانَ يَحْلِفُ عِنْدَ الْبَيْتِ بِاللَّهِ أَنَّ الْغَزْوَ وَاجِبٌ وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِتَالِ عَلَى أَصْحَابِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَقَطْ حُجَّةُ الْأَوَّلِينَ أَنَّ قَوْلَهُ: كُتِبَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَقَوْلُهُ: عَلَيْكُمُ يَقْتَضِيهِ أَيْضًا، وَالْخِطَابُ بِالْكَافِ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْكُمُ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْوُجُوبِ عَلَى الْمَوْجُودِينَ وَعَلَى مَنْ سَيُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلَهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [الْبَقَرَةِ: 178] ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَةِ: 183] . فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ هَلْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَلَى الْأَعْيَانِ أَوْ عَلَى الْكِفَايَةِ. قُلْنَا: بَلْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَلَى الْأَعْيَانِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلَيْكُمُ أَيْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِكُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ حُجَّةُ عَطَاءٍ أَنَّ قَوْلَهُ: كُتِبَ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ، وَيَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِهِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ وَقَوْلُهُ: عَلَيْكُمُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذَا الْخِطَابِ بِالْمَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَّا أَنَّا قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ حَالُ الْمَوْجُودِينَ فِيهِ كَحَالِ مَنْ سَيُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ، بِدَلَالَةٍ مُنْفَصِلَةٍ وَهِيَ الْإِجْمَاعُ، وَتِلْكَ الدَّلَالَةُ مفقودة هاهنا فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَى الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ، قَالُوا: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تعالى: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [النساء: 95] وَلَوْ كَانَ الْقَاعِدُ مُضَيِّعًا فَرْضًا لَمَا كَانَ مَوْعُودًا بِالْحُسْنَى، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْفَرْضُ كَانَ ثَابِتًا ثُمَّ نُسِخَ، إِلَّا أَنَّ الْتِزَامَ الْقَوْمِ بِالنَّسْخِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ غَيْرُ جَائِزٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التَّوْبَةِ: 122] وَالْقَوْلُ بِالنَّسْخِ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَالْإِجْمَاعُ الْيَوْمَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ الْمُشْرِكُونَ دِيَارَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْجِهَادُ حِينَئِذٍ عَلَى الْكُلِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ فِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُؤْمَرُ بِقِتَالِ الْكَافِرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ قَالَ: وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ فَإِنَّ هَذَا يُشْعِرُ بِكَوْنِ الْمُؤْمِنِ كَارِهًا لِحُكْمِ اللَّهِ وَتَكْلِيفِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَكُونُ سَاخِطًا لِأَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكَالِيفِهِ، بَلْ يَرْضَى بِذَلِكَ وَيُحِبُّهُ وَيَتَمَسَّكُ بِهِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ صَلَاحُهُ وَفِي تَرْكِهِ فَسَادُهُ. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكُرْهِ، كَوْنَهُ شَاقًّا عَلَى النَّفْسِ، وَالْمُكَلَّفُ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ صَلَاحُهُ، لَكِنْ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ ثَقِيلًا شَاقًّا عَلَى النَّفْسِ، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ عِبَارَةٌ عَنْ إِلْزَامِ مَا فِي فِعْلِهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنْ أَعْظَمَ مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ الطَّبْعُ الْحَيَاةُ، / فَلِذَلِكَ أَشَقُّ الْأَشْيَاءِ على النفس

الْقِتَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَرَاهَتَهُمْ لِلْقِتَالِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَوْفِ، وَلِكَثْرَةِ الْأَعْدَاءِ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي تَكْرَهُونَهُ مِنَ الْقِتَالِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ تَرْكِهِ لِئَلَّا تَكْرَهُونَهُ بَعْدَ أَنْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْكُرْهُ بِضَمِّ الْكَافِ هُوَ الْكَرَاهَةُ بِدَلِيلِ قوله: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَضْعَ الْمَصْدَرِ مَوْضِعَ الْوَصْفِ مُبَالَغَةً كَقَوْلِ الْخَنْسَاءِ: فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ كَأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ كَرَاهَةٌ لِفَرْطِ كَرَاهَتِهِمْ لَهُ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِعْلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَالْخَبَرِ بِمَعْنَى الْمَخْبُورِ أَيْ وَهُوَ مَكْرُوهٌ لَكُمْ وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ بِالْفَتْحِ وَهُمَا لُغَتَانِ كَالضَّعْفِ وَالضَّعَفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْإِكْرَاهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، كَأَنَّهُمْ أُكْرِهُوا عَلَيْهِ لِشِدَّةِ كَرَاهَتِهِمْ لَهُ، وَمَشَقَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً [الْأَحْقَافِ: 15] وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْكُرْهُ، بِالضَّمِّ مَا كَرِهْتَهُ مِمَّا لَمْ تُكْرَهْ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ بِالْإِكْرَاهِ فَبِالْفَتْحِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: عَسى فِعْلٌ دَرَجَ مُضَارِعُهُ وَبَقِيَ مَاضِيهِ فَيُقَالُ مِنْهُ، عَسَيْتُمَا وَعَسَيْتُمْ قَالَ تَعَالَى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ [مُحَمَّدٍ: 22] وَيَرْتَفِعُ الِاسْمُ بَعْدَهُ كَمَا يَرْتَفِعُ بَعْدَ الْفِعْلِ فَتَقُولُ: عَسَى زَيْدٌ. كَمَا تَقُولُ: قَامَ زَيْدٌ وَمَعْنَاهُ: قَرُبَ قَالَ تَعَالَى: قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ [النَّمْلِ: 72] أَيْ قَرُبَ، فَقَوْلُكَ عَسَى زَيْدٌ أَنْ يَقُومَ تَقْدِيرُهُ عَسَى قِيَامُ زَيْدٍ أَيْ قَرُبَ قِيَامُ زَيْدٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ الشَّيْءُ شَاقًّا عَلَيْكُمْ فِي الْحَالِ، وَهُوَ سَبَبٌ لِلْمَنَافِعِ الْجَلِيلَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَبِالضِّدِّ، وَلِأَجْلِهِ حَسُنَ شُرْبُ الدَّوَاءِ الْمُرِّ فِي الْحَالِ لِتَوَقُّعِ حُصُولِ الصِّحَّةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَحَسُنَ تَحَمُّلُ الْأَخْطَارِ فِي الْأَسْفَارِ لِتَوَقُّعِ حُصُولِ الرِّبْحِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَحَسُنَ تَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ لِلْفَوْزِ بالسعادة العظيمة في الدنيا وفي العقبى، وهاهنا كَذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَرْكَ الْجِهَادِ وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ فِي الْحَالِ صَوْنَ النَّفْسِ عَنْ خَطَرِ الْقَتْلِ، وَصَوْنَ الْمَالِ عَنِ الْإِنْفَاقِ، وَلَكِنْ فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمَضَارِّ مِنْهَا: أَنَّ الْعَدُوَّ إِذَا علم ميلكم إلى الدعة والسكون قصة بِلَادَكُمْ وَحَاوَلَ قَتْلَكُمْ فَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَكُمْ وَيَسْتَبِيحَ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ تَحْتَاجُوا إِلَى قِتَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِعْدَادِ آلَةٍ وَسِلَاحٍ، وَهَذَا يَكُونُ كَتَرْكِ مُدَاوَاةِ الْمَرَضِ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ بِسَبَبِ نُفْرَةِ النَّفْسِ عَنْ تَحَمُّلِ مَرَارَةِ الدَّوَاءِ، ثُمَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ يَصِيرُ الْمَرْءُ مُضْطَرًّا إِلَى تَحَمُّلِ أَضْعَافِ تِلْكَ النُّفْرَةِ وَالْمَشَقَّةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقِتَالَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْأَمْنِ، وَذَلِكَ خَيْرٌ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِسَلَامَةِ الْوَقْتِ، وَمِنْهَا وِجْدَانُ الْغَنِيمَةِ، وَمِنْهَا/ السُّرُورُ الْعَظِيمُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْأَعْدَاءِ. أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ فَكَثِيرَةٌ، مِنْهَا مَا يَحْصُلُ لِلْمُجَاهِدِ مِنَ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ إِذَا فَعَلَ الْجِهَادَ تَقَرُّبًا وَعِبَادَةً وَسَلَكَ طَرِيقَةَ الِاسْتِقَامَةِ فَلَمْ يُفْسِدْ مَا فَعَلَهُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَخْشَى عَدُوُّكُمْ أَنْ يَسْتَغْنِمَكُمْ فَلَا تَصْبِرُونَ عَلَى الْمِحْنَةِ فَتَرْتَدُّونَ عَنِ الدِّينِ، وَمِنْهَا أَنَّ عَدُوَّكُمْ إِذَا رَأَى جَدَّكُمْ فِي دِينِكُمْ وَبَذْلَكُمْ أَنْفُسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ فِي طَلَبِهِ مَالَ بِسَبَبِ ذَلِكَ إِلَى دِينِكُمْ فَإِذَا أَسْلَمَ عَلَى يَدِكُمْ صِرْتُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُسْتَحِقِّينَ لِلْأَجْرِ الْعَظِيمِ عِنْدَ اللَّهِ، وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْقِتَالِ طَلَبًا لِمَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ قَدْ تَحَمَّلَ أَلَمَ الْقَتْلِ بِسَبَبِ طَلَبِ رِضْوَانِ اللَّهِ، وَمَا لَمْ يَصِرِ الرَّجُلُ مُتَيَقِّنًا بِفَضْلِ

[سورة البقرة (2) : آية 217]

اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ وَأَنَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَبِأَنَّ لَذَّاتِ الدُّنْيَا أُمُورٌ بَاطِلَةٌ لَا يَرْضَى بِالْقَتْلِ وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ فَارَقَ الْإِنْسَانُ الدُّنْيَا عَلَى حُبِّ اللَّهِ وَبُغْضِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ سَعَادَاتِ الْإِنْسَانِ. فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الطَّبْعَ وَلَوْ كَانَ يَكْرَهُ الْقِتَالَ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَبِالضِّدِّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْرَيْنِ مَتَى تَعَارَضَا فَالْأَكْثَرُ مَنْفَعَةً هُوَ الرَّاجِحُ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الشَّرُّ السُّوءُ وَأَصْلُهُ مِنْ شَرَرْتُ الشَّيْءَ إِذَا بَسَطْتُهُ، يُقَالُ شَرَرْتُ اللَّحْمَ وَالثَّوْبَ إِذَا بَسَطْتُهُ لِيَجِفَّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَحَتَّى أُشِرَّتْ بِالْأَكُفِّ الْمَصَاحِفُ وَالشَّرَرُ اللَّهَبُ لِانْبِسَاطِهِ فَعَلَى هَذَا الشَّرُّ انْبِسَاطُ الْأَشْيَاءِ الضَّارَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: (عَسَى) تُوهِمُ الشَّكَّ مِثْلُ (لَعَلَّ) وَهِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَقِينٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهَا كَلِمَةٌ مُطَمِّعَةٌ، فَهِيَ لَا تَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الشَّكِّ لِلْقَائِلِ إِلَّا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الشَّكِّ لِلْمُسْتَمِعِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يُحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ، أَمَّا إِنْ قُلْنَا بِأَنَّهَا بِمَعْنَى (لَعَلَّ) فَالتَّأْوِيلُ فِيهِ هُوَ الْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَةِ: 183] قَالَ الْخَلِيلُ: (عَسَى) مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [المائدة: 52] وقد وجد عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً [يُوسَفَ: 83] وَقَدْ حَصَلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّرْغِيبُ الْعَظِيمُ فِي الْجِهَادِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اعْتَقَدَ قُصُورَ عِلْمِ نَفْسِهِ، وَكَمَالَ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَأْمُرُ الْعَبْدَ إِلَّا بِمَا فِيهِ خَيْرَتُهُ وَمَصْلَحَتُهُ، عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ امْتِثَالُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مَكْرُوهًا لِلطَّبْعِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا أَيُّهَا الْعَبْدُ اعْلَمْ أَنَّ عِلْمِي أَكْمَلُ مِنْ عِلْمِكَ فَكُنْ مُشْتَغِلًا بِطَاعَتِي وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى مُقْتَضَى طَبْعِكَ فَهَذِهِ الْآيَةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَجْرِي مَجْرَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي جَوَابِ الملائكة إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ. [سورة البقرة (2) : آية 217] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا السَّائِلَ أَكَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَرِيقَانِ الْأَوَّلُ: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَتَبَ عليهم القتال وقد كان عند القوم الشهر الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَعْظَمُ الْحُرْمَةِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْقِتَالِ لَمْ يَبْعُدْ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ مُقَيَّدًا بِأَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ هَذَا الزَّمَانِ وَفِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ فَدَعَاهُمْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: أَيَحِلُّ لَنَا قِتَالُهُمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ؟ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ كَانَ من المسلمين.

الْفَرِيقُ الثَّانِي: وَهُمْ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: رَوَوْا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّ وَهُوَ ابْنُ عَمَّتِهِ قَبْلَ قِتَالِ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ، وَبَعْدَ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدِمِهِ الْمَدِينَةَ فِي ثَمَانِيَةِ رَهْطٍ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا وَعَهْدًا وَدَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَفْتَحَهُ بَعْدَ مَنْزِلَتَيْنِ، وَيَقْرَأَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَيَعْمَلَ بِمَا فِيهِ، فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنِ اتَّبَعَكَ حَتَّى تَنْزِلَ بَطْنَ نَخْلٍ، فَتَرَصَّدَ بِهَا عِيرَ قُرَيْشٍ لَعَلَّكَ أَنْ تَأْتِيَنَا مِنْهُ بِخَيْرٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَمْعًا/ وَطَاعَةً لِأَمْرِهِ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمُ الشَّهَادَةَ فَلْيَنْطَلِقْ مَعِي فَإِنِّي مَاضٍ لِأَمْرِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ التَّخَلُّفَ فَلْيَتَخَلَّفْ فَمَضَى حَتَّى بَلَغَ بَطْنَ نَخْلٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، فَمَرَّ عَلَيْهِمْ عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ وَثَلَاثَةٌ مَعَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا أَصْحَابَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ حَلَقُوا رَأْسَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَأَوْهَمُوا بِذَلِكَ أَنَّهُمْ قَوْمٌ عُمَّارٌ، ثُمَّ أَتَى وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنْظَلِيُّ وَهُوَ أَحَدُ مِنْ كَانَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَرَمَى عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَتَلَهُ، وَأَسَرُّوا اثْنَيْنِ وَسَاقُوا الْعِيرَ بِمَا فِيهِ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَضَجَّتْ قُرَيْشٌ وَقَالُوا: قَدِ اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، شَهْرٌ يَأْمَنُ فِيهِ الْخَائِفُ فَيَسْفِكُ فِيهِ الدِّمَاءَ، وَالْمُسْلِمُونَ أَيْضًا قَدِ اسْتَبْعَدُوا ذَلِكَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنِّي مَا أَمَرْتُكُمْ بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَتَلْنَا ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ، ثُمَّ أَمْسَيْنَا فَنَظَرْنَا إِلَى هِلَالِ رَجَبٍ فَلَا نَدْرِي أَفِي رَجَبٍ أَصَبْنَاهُ أَمْ فِي جُمَادَى فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِيرَ وَالْأُسَارَى، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْغَنِيمَةَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ إِنَّمَا صَدَرَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ أَكْثَرَ الْحَاضِرِينَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَثَانِيهَا: أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا خِطَابٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَمَّا مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَوْلُهُ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وهو خطاب مع المسلمين وقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ... وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى [الْبَقَرَةِ: 219، 220] وَثَالِثُهَا: رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ قَوْمًا كَانُوا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَأَلُوهُ إِلَّا عَنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً حَتَّى قُبِضَ كلهن في القرآن منها يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ كَانَ مِنَ الْكُفَّارِ قَالُوا: سَأَلُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ حَتَّى لَوْ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ حَلَالٌ فَتَكُوا بِهِ وَاسْتَحَلُّوا قِتَالَهُ فِيهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هذه الآية: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ أَيْ يَسْأَلُونَكَ عَنْ قِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَلَكِنَّ الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْكُفْرَ بِهِ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ الْقِتَالِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ غَرَضَهُمْ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ أَنْ يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَهُ قَوْلَهُ: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 194] فَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ الْقِتَالَ عَلَى سَبِيلِ الدَّفْعِ جَائِزٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قِتالٍ فِيهِ خفض عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَهَذَا يُسَمَّى بَدَلَ الِاشْتِمَالَ، كَقَوْلِكَ: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ عِلْمُهُ وَنَفَعَنِي زَيْدٌ كَلَامُهُ وَسُرِقَ زَيْدٌ مَالُهُ، وَسُلِبَ زَيْدٌ ثَوَابُهُ، قَالَ تَعَالَى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ [الْبُرُوجِ: 4، 5] وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْخَفْضُ فِي قِتَالٍ عَلَى تَكْرِيرِ الْعَامِلِ وَالتَّقْدِيرُ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ عَنْ قِتَالٍ فِيهِ، وَهَكَذَا هُوَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالرَّبِيعِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الْأَعْرَافِ: 75] وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ قَتْلٍ فِيهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

المسألة الأولى: قِتالٍ فِيهِ مبتدأ وكَبِيرٌ خَبَرُهُ، وَقَوْلُهُ: قِتالٍ وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً إِلَّا أَنَّهُ تَخَصَّصَ بِقَوْلِهِ: فِيهِ فَحَسُنَ جَعْلُهُ مُبْتَدَأً وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: كَبِيرٌ أَيْ عَظِيمٌ مُسْتَنْكَرٌ كَمَا يُسَمَّى الذَّنْبُ الْعَظِيمُ كَبِيرَةً قَالَ تَعَالَى: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [الْكَهْفِ: 5] . فَإِنْ قِيلَ: لِمَ نَكَّرَ الْقِتَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قِتالٍ فِيهِ وَمِنْ حَقِّ النَّكِرَةِ إِذَا تَكَرَّرَتْ أَنْ تَجِيءَ بِاللَّامِ حَتَّى يَكُونَ الْمَذْكُورُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلَ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ الْمَذْكُورُ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشَّرْحِ: 6] . قُلْنَا: نَعَمْ مَا ذَكَرْتُمْ أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا تَكَرَّرَ وَكَانَا نَكِرَتَيْنِ كَانَ الْمُرَادُ بِالثَّانِي إِذَنْ غير الأول والقوم أرادوا بقولهم: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ذَلِكَ الْقِتَالَ الْمُعَيَّنَ الَّذِي أَقْدَمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، فَقَالَ تَعَالَى: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْقِتَالَ الَّذِي يَكُونُ كَبِيرًا لَيْسَ هُوَ هَذَا الْقِتَالَ الَّذِي سَأَلْتُمْ عَنْهُ، بَلْ هُوَ قِتَالٌ آخَرُ لِأَنَّ هَذَا الْقِتَالَ كَانَ الْغَرَضُ بِهِ نُصْرَةَ الْإِسْلَامِ وَإِذْلَالَ الْكُفْرِ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا مِنَ الْكَبَائِرِ، إِنَّمَا الْقِتَالُ الْكَبِيرُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ الْغَرَضُ فِيهِ هَدْمَ الْإِسْلَامِ وَتَقْوِيَةَ الْكُفْرِ فَكَانَ اخْتِيَارُ التَّنْكِيرِ فِي اللَّفْظَيْنِ لِأَجْلِ هَذِهِ الدَّقِيقَةِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى مَا صَرَّحَ بِهَذَا الْكَلَامِ لِئَلَّا تَضِيقَ قُلُوبُهُمْ بَلْ أَبْهَمَ الْكَلَامَ بِحَيْثُ يَكُونُ ظَاهِرُهُ كَالْمُوهِمِ لِمَا أَرَادُوهُ، وَبَاطِنُهُ يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْحَقِّ، وَهَذَا إِنَّمَا حَصَلَ بِأَنْ ذَكَرَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ، وَلَوْ أَنَّهُ وَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْهُمَا أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا بِلَفْظِ التَّعْرِيفِ لَبَطَلَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ الْجَلِيلَةُ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَهُ تَحْتَ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْ كَلِمَاتِ هَذَا الْكِتَابِ سِرٌّ لَطِيفٌ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ حُرْمَةُ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ هَلْ بَقِيَ أَمْ نُسِخَ فَنُقِلَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ: حَلَفَ لِي عَطَاءٌ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلنَّاسِ الْغَزْوُ فِي الْحَرَمِ، وَلَا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الدَّفْعِ، رَوَى جَابِرٌ قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلَّا أَنْ يُغْزَى وَسُئِلَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ هَلْ يَصْلُحُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا الْكُفَّارَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَالنَّاسُ بِالثُّغُورِ الْيَوْمَ جَمِيعًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَرَوْنَ الْغَزْوَ مُبَاحًا فِي الشُّهُورِ كُلِّهَا، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ يُنْكِرُهُ عليهم كذلك أحسب قَوْلِ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَالْحُجَّةُ فِي إِبَاحَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التَّوْبَةِ: 5] وَهَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ هَذَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَيَتَنَاوَلُ فَرْدًا وَاحِدًا، وَلَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ الْأَفْرَادِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى تَحْرِيمِ الْقِتَالِ مُطْلَقًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ النَّسْخِ فِيهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِلنَّحْوِيِّينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ، أَنَّ قَوْلَهُ: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ كُلُّهَا مَرْفُوعَةٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهَا قَوْلُهُ: أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقِتَالَ الَّذِي سَأَلْتُمْ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَكْبَرُ مِنْهُ، فَإِذَا لَمْ تَمْتَنِعُوا

عَنْهَا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَكَيْفَ تَعِيبُونَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ عَلَى ذَلِكَ الْقِتَالِ مَعَ أَنَّ لَهُ فِيهِ عُذْرًا ظَاهِرًا، فَإِنَّهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَتْلُ وَاقِعًا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 44] ، لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفِّ: 2] وَهَذَا وَجْهٌ ظَاهِرٌ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْجَرِّ فِي قَوْلِهِ: وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَذَكَرُوا فِيهِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الْهَاءِ فِي بِهِ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ قَالُوا: وَهُوَ مُتَأَكِّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْحَجِّ: 25] . وَاعْتَرَضُوا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: مَرَرْتُ بِهِ وَعَمْرٍو، وَعَلَى الثَّانِي بِأَنَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَوْلُهُ: عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ صِلَةٌ لِلصَّدِّ، وَالصِّلَةُ وَالْمَوْصُولُ فِي حُكْمِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، فَإِيقَاعُ الْأَجْنَبِيِّ بَيْنَهُمَا لَا يَكُونُ جَائِزًا. أُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ: لِمَ لَا يَجُوزُ إِضْمَارُ حَرْفِ الْجَرِّ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَكُفْرٌ بِهِ وَبِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْإِضْمَارُ فِي كَلَامِ اللَّهِ لَيْسَ بِغَرِيبٍ، ثُمَّ يَتَأَكَّدُ هذا بقراءة حمزة تساءلون به والأرحام [النساء: 1] عَلَى سَبِيلِ الْخَفْضِ وَلَوْ أَنَّ حَمْزَةَ رَوَى هَذِهِ اللُّغَةَ لَكَانَ مَقْبُولًا بِالِاتِّفَاقِ، فَإِذَا قَرَأَ بِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَقْبُولًا، وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ الَّذِينَ اخْتَارُوا الْقَوْلَ الثَّانِيَ قَالُوا: لَا شَكَّ أَنَّهُ يَقْتَضِي وُقُوعَ الْأَجْنَبِيِّ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْمَوْصُولِ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ لا يجوز إلا أنا تحملناه هاهنا لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْكُفْرَ بِهِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي الْمَعْنَى، فَكَأَنَّهُ لَا فَصْلَ الثَّانِي: أَنَّ مَوْضِعَ قَوْلِهِ: وَكُفْرٌ بِهِ عَقِيبَ قَوْلِهِ: وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَّا أَنَّهُ قُدِّمَ عَلَيْهِ لِفَرْطِ الْعِنَايَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: 4] كَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: وَلَمْ يكن له أحد كفوا إِلَّا أَنَّ فَرْطَ الْعِنَايَةِ أَوْجَبَ تَقْدِيمَهُ فَكَذَا هاهنا. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَأَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ عَطْفٌ بِالْوَاوِ عَلَى الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَسْأَلُونَكَ عَنْ قِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: قِتالٍ فِيهِ مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ: كَبِيرٌ/ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ خَبَرٌ بعد خبر، والتقدير: إن قتلا فِيهِ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَبِيرٌ وَبِأَنَّهُ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَبِأَنَّهُ كُفْرٌ بِاللَّهِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ جُمْلَةَ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَكُفْرٌ بِهِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَبِيرٌ وَكُفْرٌ بِهِ كَبِيرٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ: زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ وَعَمْرٌو، تَقْدِيرُهُ: وَعَمْرٌو مُنْطَلِقٌ، طَعَنَ الْبَصْرِيُّونَ فِي هَذَا الْجَوَابِ فَقَالُوا: أَمَّا قَوْلُكُمْ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: يَسْأَلُونَكَ عَنْ قِتَالٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ السُّؤَالَ كَانَ وَاقِعًا عَنِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَا عَنِ الْقِتَالِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَطَعَنُوا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كُفْرًا بِاللَّهِ، وَهُوَ خَطَأٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَطَعَنُوا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي بِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ أَيْ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إِخْرَاجُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ مِنَ الْمَسْجِدِ أَكْبَرَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَهُوَ خَطَأٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَقُولُ: لِلْفَرَّاءِ أَنْ يُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ مَنِ الَّذِي أَخْبَرَكُمْ بِأَنَّهُ مَا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنِ الْقِتَالِ فِي الْمَسْجِدِ

الْحَرَامِ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ وَقَعَ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُسْتَعْظِمِينَ لِلْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَفِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا: كَالْآخَرِ فِي الْقُبْحِ عِنْدَ الْقَوْمِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ جَمَعُوهُمَا فِي السُّؤَالِ، وَقَوْلُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كُفْرًا. قُلْنَا: يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قِتَالٌ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كُفْرًا وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، لِأَنَّ النَّكِرَةَ فِي الْإِثْبَاتِ لَا تُفِيدُ الْعُمُومَ، وَعِنْدَنَا أَنَّ قِتَالًا وَاحِدًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كُفْرٌ، وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ قِتَالٍ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إِخْرَاجُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ مِنْهُ أَكْبَرَ مِنَ الْكُفْرِ، قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ هُمُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالصَّحَابَةُ، وَإِخْرَاجُ الرَّسُولِ مِنَ الْمَسْجِدِ عَلَى سَبِيلِ الْإِذْلَالِ لَا شَكَّ أَنَّهُ كُفْرٌ وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ كُفْرًا فَهُوَ ظُلْمٌ لِأَنَّهُ إِيذَاءٌ لِلْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ جرم سابق وعرض لا حق وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَكُونُ ظُلْمًا وَكُفْرًا، أَكْبَرُ وَأَقْبَحُ عِنْدَ اللَّهِ مِمَّا يَكُونُ كُفْرًا وَحْدَهُ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي تَقْرِيرِ قول الفراء. الوجه الثَّالِثُ: فِي الْآيَةِ قَوْلُهُ: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَجْهُهُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ قِتَالًا فِيهِ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَأَمَّا الْخَفْضُ فِي قَوْلِهِ: وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَهُوَ وَاوُ الْقَسَمِ إِلَّا أَنَّ الْجُمْهُورَ مَا أَقَامُوا لِهَذَا الْقَوْلِ وَزْنًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ صَدٌّ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَثَانِيهَا: صَدٌّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَثَالِثُهَا: / صَدٌّ الْمُسْلِمِينَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَنْ عُمْرَةِ الْبَيْتِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الرِّوَايَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، وَقِصَّةُ الْحُدَيْبِيَةِ كَانَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ مَا كَانَ فِي مَعْلُومِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ كَالْوَاقِعِ، وَأَمَّا الْكُفْرُ بِاللَّهِ فَهُوَ الْكُفْرُ بِكَوْنِهِ مُرْسِلًا لِلرُّسُلِ، مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ، قَادِرًا عَلَى الْبَعْثِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَإِنْ عَطَفْنَاهُ عَلَى الضَّمِيرِ فِي بِهِ كَانَ الْمَعْنَى: وَكُفْرٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَعْنَى الْكُفْرِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُوَ مَنْعُ النَّاسِ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَالطَّوَافِ بِهِ، فَقَدْ كَفَرُوا بِمَا هُوَ السَّبَبُ فِي فَضِيلَتِهِ الَّتِي بِهَا يَتَمَيَّزُ عَنْ سَائِرِ الْبِقَاعِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ الْمَعْنَى: وَصَدٌّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ صَدُّوا عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعَ السُّجُودَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوا الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَسْجِدِ، بَلْ مِنْ مَكَّةَ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُمْ أَهْلًا لَهُ إِذْ كَانُوا هُمُ الْقَائِمِينَ بِحُقُوقِ الْبَيْتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها [الْفَتْحِ: 26] وَقَالَ تَعَالَى: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الْأَنْفَالِ: 34] فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ خَرَجُوا بِشِرْكِهِمْ عَنْ أَنْ يَكُونُوا أَوْلِيَاءَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ حَكَمَ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا أَكْبَرُ، أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَكْبَرُ مِنْ قِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَكْبَرُ مِنْ قِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كُفْرٌ، وَالْكُفْرُ أَعْظَمُ مِنَ الْقِتَالِ وَالثَّانِي: أَنَّا نَدَّعِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَكْبَرُ مِنْ قِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَهُوَ الْقِتَالُ الَّذِي صَدَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، وَهُوَ مَا كَانَ قَاطِعًا بِوُقُوعِ ذَلِكَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ قَاطِعُونَ بِوُقُوعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وُقُوعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَكْبَرَ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ فَقَدْ ذَكَرُوا فِي الْفِتْنَةِ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: هِيَ الْكُفْرُ وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّ عَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَكُفْرٌ بِهِ ... أَكْبَرُ فَحَمْلُ الْفِتْنَةِ عَلَى الْكُفْرِ يَكُونُ تَكْرَارًا، بَلْ هَذَا التَّأْوِيلُ يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْفِتْنَةَ هِيَ مَا كَانُوا يَفْتِنُونَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ، تَارَةً بِإِلْقَاءِ الشُّبَهَاتِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَتَارَةً بِالتَّعْذِيبِ، كَفِعْلِهِمْ بِبِلَالٍ وَصُهَيْبٍ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْفِتْنَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الِامْتِحَانِ، يُقَالُ فَتَنْتَ الذَّهَبَ بِالنَّارِ إِذَا أَدْخَلْتَهُ فِيهَا لِتُزِيلَ الْغِشَّ عَنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التَّغَابُنِ: 15] أَيِ امْتِحَانٌ لَكُمْ لِأَنَّهُ إِذَا لَزِمَهُ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَفَكَّرَ فِي وَلَدِهِ، فَصَارَ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُ عَنِ الْإِنْفَاقِ، وَقَالَ تَعَالَى: الم أَحَسِبَ/ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: 1، 2] أَيْ لَا يُمْتَحَنُونَ فِي دِينِهِمْ بِأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ، وَقَالَ: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً [طَهَ: 40] وَإِنَّمَا هُوَ الِامْتِحَانُ بِالْبَلْوَى، وَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ [الْعَنْكَبُوتِ: 10] وَالْمُرَادُ بِهِ الْمِحْنَةُ الَّتِي تُصِيبُهُ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ مِنَ الْكُفَّارِ وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا [الْبُرُوجِ: 10] وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ آذُوهُمْ وَعَرَضُوهُمْ عَلَى الْعَذَابِ لِيَمْتَحِنُوا ثَبَاتَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَقَالَ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النِّسَاءِ: 101] وَقَالَ: مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ [الصَّافَّاتِ: 162، 163] وَقَالَ: فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ [آلِ عِمْرَانَ: 7] أَيِ الْمِحْنَةِ فِي الدِّينِ وَقَالَ: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [الْمَائِدَةِ: 49] وَقَالَ: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الممتحنة: 5] وَقَالَ: رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [يُونُسَ: 85] وَالْمَعْنَى أَنْ يُفْتَنُوا بِهَا عَنْ دِينِهِمْ فَيَتَزَيَّنَ فِي أَعْيُنِهِمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الكفر والظلم وقال: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ [الْقَلَمِ: 5، 6] قِيلَ: الْمَفْتُونُ الْمَجْنُونُ، وَالْجُنُونُ فِتْنَةٌ، إِذْ هُوَ مِحْنَةٌ وَعُدُولٌ عَنْ سَبِيلِ أَهْلِ السَّلَامَةِ فِي الْعُقُولِ. فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْفِتْنَةَ هِيَ الِامْتِحَانُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْفِتْنَةَ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ عَنِ الدِّينِ تُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ الْكَثِيرِ فِي الدُّنْيَا، وَإِلَى اسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ الدَّائِمِ فِي الْآخِرَةِ، فَصَحَّ أَنَّ الْفِتْنَةَ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ فَضْلًا عَنْ ذَلِكَ الْقَتْلِ الَّذِي وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ وَهُوَ قَتْلُ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ. رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ صَاحِبُ هَذِهِ السَّرِيَّةِ إِلَى مُؤْمِنِي مَكَّةَ: إِذَا عَيَّرَكُمُ الْمُشْرِكُونَ بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَعَيِّرُوهُمْ أَنْتُمْ بِالْكُفْرِ وَإِخْرَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، وَمَنْعِ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ قَالَ: وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [الْبَقَرَةِ: 120] . وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا زَالَ يَفْعَلُ كَذَا، وَلَا يَزَالُ يَفْعَلُ كَذَا، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا فِعْلٌ لَا مَصْدَرَ لَهُ، وَلَا يُقَالُ مِنْهُ: فَاعِلٌ وَلَا مَفْعُولٌ، وَمِثَالُهُ فِي الْأَفْعَالِ كَثِيرٌ نَحْوُ عَسَى لَيْسَ لَهُ مَصْدَرٌ وَلَا مُضَارِعٌ وَكَذَلِكَ: ذُو، وَمَا فَتِئَ، وَهَلُمَّ، وَهَاكَ، وَهَاتِ، وَتَعَالَ، ومعنى: لا يَزالُونَ أَيْ يَدُومُونَ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ لِأَنَّ الزَّوَالَ يُفِيدُ النَّفْيَ

فَإِذَا أَدْخَلْتَ عَلَيْهِ: مَا، كَانَ ذَلِكَ نَفْيًا لِلنَّفْيِ فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الثُّبُوتِ الدَّائِمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ أَيْ إِلَى أَنْ يَرُدُّوكُمْ وَقِيلَ الْمَعْنَى: لِيَرُدُّوكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: إِنِ اسْتَطاعُوا اسْتِبْعَادٌ لِاسْتِطَاعَتِهِمْ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِعَدُوِّهِ: إِنْ ظَفِرْتَ بِي فَلَا تُبْقِ عَلَيَّ وَهُوَ وَاثِقٌ بِأَنَّهُ لَا يَظْفَرُ بِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَرْتَدِدْ أَظْهَرَ التَّضْعِيفَ مَعَ الْجَزْمِ لِسُكُونِ الْحَرْفِ الثَّانِي: وَهُوَ أَكْثَرُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْإِدْغَامِ، وَقَوْلُهُ: فَيَمُتْ هُوَ جَزْمٌ بِالْعَطْفِ عَلَى يَرْتَدِدْ وَجَوَابُهُ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ غَرَضَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْمُقَاتَلَةِ هُوَ أَنْ يَرْتَدَّ الْمُسْلِمُونَ عَنْ دِينِهِمْ، ذَكَرَ بَعْدَهُ وَعِيدًا شَدِيدًا عَلَى الرِّدَّةِ، فَقَالَ: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاسْتَوْجَبَ الْعَذَابَ الدَّائِمَ فِي النَّارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الِارْتِدَادَ إِنَّمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ إِذَا مَاتَ الْمُرْتَدُّ عَلَى الْكُفْرِ، أَمَّا إِذَا أَسْلَمَ بَعْدَ الرِّدَّةِ لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ تَفَرَّعَ عَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ بَحْثٌ أُصُولِيٌّ وَبَحْثٌ فُرُوعِيٌّ، أَمَّا الْبَحْثُ الْأُصُولِيُّ فَهُوَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ زَعَمُوا أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ حُصُولُ الْمُوَافَاةِ، فَالْإِيمَانُ لَا يَكُونُ إِيمَانًا إِلَّا إِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ عَلَيْهِ وَالْكُفْرُ لَا يَكُونُ كُفْرًا إِلَّا إِذَا مَاتَ الْكَافِرُ عَلَيْهِ، قَالُوا: لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْإِيمَانُ الظَّاهِرُ إِيمَانًا فِي الْحَقِيقَةِ لَكَانَ قَدِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الثَّوَابَ الْأَبَدِيَّ، ثُمَّ بَعْدَ كُفْرِهِ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ الْأَبَدِيَّ فَإِمَّا أَنْ يَبْقَى الِاسْتِحْقَاقَانِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الطَّارِئَ يُزِيلُ السَّابِقَ وَهَذَا مُحَالٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُنَافَاةَ حَاصِلَةٌ بَيْنَ السَّابِقِ وَالطَّارِئِ، فَلَيْسَ كَوْنُ الطَّارِئِ مُزِيلًا لِلسَّابِقِ أَوْلَى مِنْ كَوْنِ السَّابِقِ دَافِعًا لِلطَّارِئِ، بَلِ الثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّ الدَّفْعَ أَسْهَلُ مِنَ الرَّفْعِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُنَافَاةَ إِذَا كَانَتْ حَاصِلَةً مِنَ الْجَانِبَيْنِ، كَانَ شَرْطُ طَرَيَانِ الطَّارِئِ زَوَالَ السَّابِقِ فَلَوْ عَلَّلْنَا زَوَالَ السَّابِقِ بِطَرَيَانِ الطَّارِئِ لَزِمَ الدَّوْرُ وَهُوَ مُحَالٌ وَثَالِثُهَا: أَنَّ ثَوَابَ الْإِيمَانِ السَّابِقِ وَعِقَابَ الْكُفْرِ الطَّارِئِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَا مُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَزْيَدَ مِنَ الْآخَرِ، فَإِنْ تَسَاوَيَا وَجَبَ أَنْ يَتَحَابَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، فَحِينَئِذٍ يَبْقَى الْمُكَلَّفُ لَا مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْعِقَابِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنِ ازْدَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَلْنَفْرِضْ أَنَّ السَّابِقَ أَزْيَدُ، فَعِنْدَ طَرَيَانِ الطَّارِئِ لَا يَزُولُ إِلَّا مَا يُسَاوِيهِ، فَحِينَئِذٍ يَزُولُ بَعْضُ الِاسْتِحْقَاقَاتِ دُونَ الْبَعْضِ مَعَ كَوْنِهَا مُتَسَاوِيَةً فِي الْمَاهِيَّةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ، لِنَفْرِضْ أَنَّ السَّابِقَ أَقَلُّ فَحِينَئِذٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الطَّارِئُ الزَّائِدَ، يَكُونُ جُمْلَةُ أَجْزَائِهِ مُؤَثِّرَةً في إزالة السابق فحينئذ يجمع على الأثر الواحد مؤثرات يكون مُسْتَقِلَّةٌ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ فِي إِزَالَةِ السَّابِقِ بَعْضَ أَجْزَاءِ الطَّارِئِ دُونَ الْبَعْضِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ الْبَعْضِ بِالْمُؤَثِّرِيَّةِ تَرْجِيحًا لِلْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ كَفَرَ، فَذَلِكَ الْإِيمَانُ السَّابِقُ، وَإِنْ كُنَّا نَظُنُّهُ إِيمَانًا إِلَّا أَنَّهُ مَا كَانَ عِنْدَ اللَّهِ إِيمَانًا، فَظَهَرَ أَنَّ الْمُوَافَاةَ شَرْطٌ لِكَوْنِ الْإِيمَانِ إِيمَانًا، وَالْكُفْرِ كُفْرًا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ

شَرْطَ كَوْنِ الرِّدَّةِ مُوجِبَةً لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ أَنْ يَمُوتَ/ الْمُرْتَدُّ عَلَى تِلْكَ الرِّدَّةِ. أَمَّا الْبَحْثُ الْفُرُوعِيُّ: فَهُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا صَلَّى ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ فِي الْوَقْتِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَزِمَهُ قَضَاءُ مَا أَدَّى وَكَذَلِكَ الْحَجُّ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ شَرْطٌ فِي حُبُوطِ الْعَمَلِ أَنْ يَمُوتَ وَهُوَ كَافِرٌ، وَهَذَا الشَّخْصُ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ هَذَا الشَّرْطُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِيرَ عَمَلُهُ مُحْبَطًا، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْأَنْعَامِ: 88] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [الْمَائِدَةِ: 5] لَا يُقَالُ: حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَاجِبٌ. لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ عَلَّقَ حُكْمًا بِشَرْطَيْنِ، وَعَلَّقَهُ بِشَرْطِ أَنَّ الْحُكْمَ ينزل عند أيهما وجد، كَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إِذَا جَاءَ يَوْمُ الْخَمِيسِ، أَنْتَ حُرٌّ إِذَا جَاءَ يَوْمُ الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ: لَا يَبْطُلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، بَلْ إِذَا جَاءَ يَوْمُ الْخَمِيسِ عَتَقَ، وَلَوْ كَانَ بَاعَهُ فَجَاءَ يَوْمُ الْخَمِيسِ وَلَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ ثُمَّ جَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ عَتَقَ بِالتَّعْلِيقِ الْأَوَّلِ. وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: عَنِ التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمَوْتَ عَلَى الرِّدَّةِ شَرْطٌ لِمَجْمُوعِ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ: الْخُلُودَ فِي النَّارِ وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا مَعَ هَذَا الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي حَبْطِ الْأَعْمَالِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَوْتَ عَلَى الرِّدَّةِ شَرْطٌ فِيهِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ لَا مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ وَبِشَرْطَيْنِ، لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِشَرْطٍ وَبِشَرْطَيْنِ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ لَمْ يَكُنْ تَعْلِيقُهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَانِعًا مِنْ تَعْلِيقِهِ بِالْآخَرِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَوْ جَعَلْنَا مُجَرَّدَ الرِّدَّةِ مُؤَثِّرًا فِي الْحُبُوطِ لَمْ يَبْقَ لِلْمَوْتِ عَلَى الرِّدَّةِ أَثَرٌ فِي الْحُبُوطِ أَصْلًا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ وَبِشَرْطَيْنِ بَلْ مِنْ بَابِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَجَوَابُهُ أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الرِّدَّةَ إِنَّمَا تُوجِبُ الْحُبُوطَ بِشَرْطِ الْمَوْتِ عَلَى الرِّدَّةِ، وَإِنَّمَا تُوجِبُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ بِشَرْطِ الْمَوْتِ عَلَى الرِّدَّةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَذَلِكَ السُّؤَالُ سَاقِطٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَصْلُ الْحَبَطِ أَنْ تَأْكُلَ الْإِبِلُ شَيْئًا يَضُرُّهَا فَتَعْظُمَ بُطُونُهَا فَتَهْلِكَ وَفِي الْحَدِيثِ «وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ» فَسَمَّى بُطْلَانَ الْأَعْمَالِ بِهَذَا لِأَنَّهُ كَفَسَادِ الشَّيْءِ بِسَبَبِ وُرُودِ الْمُفْسِدِ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنْ إِحْبَاطِ الْعَمَلِ لَيْسَ هُوَ إبطال نفس العمل، لأن العمل شيء كما وُجِدَ فَنِيَ وَزَالَ، وَإِعْدَامُ الْمَعْدُومِ مُحَالٌ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِيهِ، فَقَالَ الْمُثْبِتُونَ لِلْإِحْبَاطِ وَالتَّكْفِيرِ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ عِقَابَ الرِّدَّةِ الْحَادِثَةِ يُزِيلُ ثَوَابَ الْإِيمَانِ السَّابِقِ، إِمَّا بِشَرْطِ الْمُوَازَنَةِ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي هَاشِمٍ وَجُمْهُورِ الْمُتَأَخِّرِينَ من المعتزلة أولا بِشَرْطِ الْمُوَازَنَةِ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ، وَقَالَ الْمُنْكِرُونَ لِلْإِحْبَاطِ بِهَذَا الْمَعْنَى الْمُرَادُ مِنَ الْإِحْبَاطِ الْوَارِدِ فِي كِتَابِ اللَّهِ هُوَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا أَتَى بِالرِّدَّةِ فَتِلْكَ الرِّدَّةُ عَمَلٌ مُحْبِطٌ لِأَنَّ الْآتِيَ بِالرِّدَّةِ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بَدَلَهَا بِعَمَلٍ يَسْتَحِقُّ بِهِ ثَوَابًا فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ الْعَمَلِ الْجَيِّدِ وَأَتَى بَدَلَهُ بِهَذَا الْعَمَلِ الرَّدِيءِ الَّذِي لَا

[سورة البقرة (2) : آية 218]

يَسْتَفِيدُ مِنْهُ نَفْعًا بَلْ يَسْتَفِيدُ مِنْهُ أَعْظَمَ الْمَضَارِّ يُقَالُ: إِنَّهُ أَحْبَطَ عَمَلَهُ أَيْ أَتَى بِعَمَلٍ بَاطِلٍ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ بَلْ فِيهِ مَضَرَّةٌ، ثُمَّ قَالَ الْمُنْكِرُونَ لِلْإِحْبَاطِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْإِحْبَاطِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي لَفْظِ الْإِحْبَاطِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِيهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَجَازًا وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، لِأَنَّا ذَكَرْنَا الدَّلَائِلَ الْقَاطِعَةَ فِي مَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُوَافَاةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ، عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ أَثَرَ الْفِعْلِ الْحَادِثِ يُزِيلُ أَثَرَ الْفِعْلِ السَّابِقِ مُحَالٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَّا حُبُوطُ الْأَعْمَالِ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ أَنَّهُ يُقْتَلُ عِنْدَ الظَّفَرِ بِهِ وَيُقَاتَلُ إِلَى أَنْ يُظْفَرَ بِهِ وَلَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مُوَالَاةً وَلَا نَصْرًا وَلَا ثَنَاءً حَسَنًا، وَتَبِينُ زَوْجَتُهُ مِنْهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا أَنَّ مَا يُرِيدُونَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِينَ وَمُكَايَدَتِهِمْ بِالِانْتِقَالِ عَنْ دِينِهِمْ يَبْطُلُ كُلُّهُ، فَلَا يَحْصُلُونَ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ لِإِعْزَازِ اللَّهِ الْإِسْلَامَ بِأَنْصَارِهِ فَتَكُونُ الْأَعْمَالُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَا يَعْمَلُونَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ، وَأَمَّا حُبُوطُ أَعْمَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَعِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْإِحْبَاطِ مَعْنَاهُ أَنَّ هذه الردة تبطل استحقاقهم للثواب الذي استقوه بِأَعْمَالِهِمُ السَّالِفَةِ، وَعِنْدَ الْمُنْكِرِينَ لِذَلِكَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ لَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ تِلْكَ الرِّدَّةِ ثَوَابًا وَنَفْعًا فِي الْآخِرَةِ بَلْ يَسْتَفِيدُونَ مِنْهَا أَعْظَمَ الْمَضَارِّ، ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الْمَضَرَّةِ فَقَالَ تَعَالَى: وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. [سورة البقرة (2) : آية 218] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَبْ أَنَّهُ لَا عِقَابَ فِيمَا فَعَلْنَا، فَهَلْ نَطْمَعُ مِنْهُ أَجْرًا وَثَوَابًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ مُؤْمِنًا، وَكَانَ مُهَاجِرًا، وَكَانَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمُقَاتَلَةِ مُجَاهِدًا وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ الْجِهَادَ مِنْ قَبْلُ بِقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 216] وَبَيَّنَ أَنَّ تَرْكَهُ سَبَبٌ لِلْوَعِيدِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَنْ يَقُومُ بِهِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ وَعِيدٌ إِلَّا وَيَعْقُبُهُ وَعْدٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هاجَرُوا أَيْ فَارَقُوا أَوْطَانَهُمْ وَعَشَائِرَهُمْ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْهَجْرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْوَصْلِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْكَلَامِ الْقَبِيحِ: هُجْرٌ، لِأَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُهْجَرَ، وَالْهَاجِرَةُ وَقْتٌ يُهْجَرُ فِيهِ الْعَمَلُ، وَالْمُهَاجَرَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْأَحْبَابَ وَالْأَقَارِبَ هَجَرُوهُ بِسَبَبِ هَذَا الدِّينِ، وَهُوَ أَيْضًا هَجَرَهُمْ بِهَذَا السَّبَبِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُهَاجَرَةً، وَأَمَّا الْمُجَاهَدَةُ فَأَصْلُهَا مِنَ الْجَهْدِ الَّذِي هُوَ الْمَشَقَّةُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْمُجَاهَدَةِ أَنْ يَضُمَّ جُهْدَهُ إِلَى جُهْدٍ آخَرَ فِي نُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ، كَمَا أَنَّ الْمُسَاعَدَةَ عِبَارَةٌ عَنْ ضَمِّ الرَّجُلِ سَاعِدَهُ إِلَى سَاعِدٍ آخَرَ لِيَحْصُلَ التَّأْيِيدُ وَالْقُوَّةُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المراد من المجاهدة بذل الجهة في قتال العدو، وعند فعل العدو، ومثل ذَلِكَ فَتَصِيرُ مُفَاعَلَةً.

[سورة البقرة (2) : آية 219]

ثم قال تعالى: أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الرَّجَاءُ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ ظَنِّ الْمَنَافِعِ الَّتِي يَتَوَقَّعُهَا، وَأَرَادَ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُمْ يَطْمَعُونَ فِي ثَوَابِ اللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ مَا كَانَ قَاطِعًا بِالْفَوْزِ وَالثَّوَابِ فِي عَمَلِهِ، بَلْ كَانَ يَتَوَقَّعُهُ وَيَرْجُوهُ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ جُعِلَ الْوَعْدُ مُطْلَقًا بِالرَّجَاءِ، وَلَمْ يَقَعْ بِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْآيَاتِ؟. قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ الثَّوَابَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَقْلًا، بَلْ بِحُكْمِ الْوَعْدِ، فَلِذَلِكَ عَلَّقَهُ بِالرَّجَاءِ وَثَانِيهَا: هَبْ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَقْلًا بِحُكْمِ الْوَعْدِ، وَلَكِنَّهُ تَعَلَّقَ بِأَنْ لَا يَكْفُرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذَا الشَّرْطُ مَشْكُوكٌ فِيهِ لَا مُتَيَقَّنٌ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الْحَاصِلُ هُوَ الرَّجَاءَ لَا الْقَطْعَ وثالثها: أن المذكور هاهنا هُوَ الْإِيمَانُ، وَالْهِجْرَةُ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مَعَ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ أَنْ يَرْجُوَ أَنْ يُوَفِّقَهُ اللَّهُ لَهَا، كَمَا وَفَّقَهُ لِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، فَلَا جَرَمَ عَلَّقَهُ عَلَى الرَّجَاءِ وَرَابِعُهَا: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ شَكَّكَ الْعَبْدَ فِي هَذِهِ الْمَغْفِرَةِ، بَلِ الْمُرَادُ وَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ يُفَارِقُونَ الدُّنْيَا مَعَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، مُسْتَقْصِرِينَ أَنْفُسَهُمْ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، يَرَوْنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ، وَلَمْ يَقْضُوا مَا يَلْزَمُهُمْ فِي نُصْرَةِ دِينِهِ، فَيُقْدِمُونَ عَلَى اللَّهِ مَعَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، كَمَا قَالَ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 60] . الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الرَّجَاءِ: الْقَطْعُ وَالْيَقِينُ فِي أَصْلِ الثَّوَابِ، وَالظَّنُّ إِنَّمَا دَخَلَ فِي كَمِّيَّتِهِ وَفِي وَقْتِهِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ قَرَّرْنَاهَا فِي تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَةِ: 46] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحَقِّقُ لَهُمْ رَجَاءَهُمْ إِذَا مَاتُوا عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، غَفَرَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جحش وأصحابه ما لم يعلموا ورحمهم. [سورة البقرة (2) : آية 219] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) الحكم الثالث في الخمر اعلم أن قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُمْ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ سَأَلُوا، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ حَقِيقَتِهِ وَمَاهِيَّتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ حِلِّ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ حِلِّ شُرْبِهِ وَحُرْمَتِهِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَجَابَ بِذِكْرِ الْحُرْمَةِ دَلَّ تَخْصِيصُ الْجَوَابِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السؤال كان وقعا عَنِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالُوا: نَزَلَتْ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعُ آيَاتٍ، نَزَلَ بِمَكَّةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النَّحْلِ: 67] وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَشْرَبُونَهَا وَهِيَ حَلَالٌ لَهُمْ، ثُمَّ إن عمر

وَمُعَاذًا وَنَفَرًا مِنَ الصَّحَابَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي الْخَمْرِ، فَإِنَّهَا مُذْهِبَةٌ لِلْعَقْلِ، مُسْلِبَةٌ لِلْمَالِ، فَنَزَلَ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ فَشَرِبَهَا قَوْمٌ وَتَرَكَهَا آخَرُونَ، ثُمَّ دَعَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ نَاسًا مِنْهُمْ، فَشَرِبُوا وَسَكِرُوا، فَقَامَ بَعْضُهُمْ يصلي فقرأ: قل يا أيها الكافرون لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، فَنَزَلَتْ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النِّسَاءِ: 43] فَقَلَّ مَنْ شَرِبَهَا، ثُمَّ اجْتَمَعَ قَوْمٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَفِيهِمْ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَلَمَّا سَكِرُوا افْتَخَرُوا وَتَنَاشَدُوا الْأَشْعَارَ حَتَّى أَنْشَدَ سَعْدٌ شِعْرًا فِيهِ هِجَاءٌ لِلْأَنْصَارِ، فَضَرَبَهُ أَنْصَارِيٌّ بَلَحْيِ بَعِيرٍ فَشَجَّهُ شَجَّةً مُوضِحَةً، فَشَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا فَنَزَلَ: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إِلَى قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [الْمَائِدَةِ: 91] فَقَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا يَا رَبِّ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْحِكْمَةُ فِي وُقُوعِ التَّحْرِيمِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ كَانُوا أَلِفُوا شُرْبَ الْخَمْرِ، وَكَانَ انْتِفَاعُهُمْ بِذَلِكَ كَثِيرًا، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ مَنَعَهُمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً لَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَلَا جَرَمَ اسْتَعْمَلَ فِي التَّحْرِيمِ هَذَا التَّدْرِيجَ، وَهَذَا الرِّفْقَ، وَمِنَ/ النَّاسِ مَنْ قَالَ بِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى فَاقْتَضَى ذَلِكَ تَحْرِيمَ شُرْبِ الْخَمْرِ وَقْتَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَّا مَعَ السُّكْرِ، فَكَانَ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ مَنْعًا مِنَ الشُّرْبِ ضِمْنًا، ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ فَكَانَتْ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ فِي التَّحْرِيمِ، وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ عِنْدَنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَنَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانِ أَنَّ الْخَمْرَ مَا هُوَ؟ ثُمَّ إِلَى بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ. أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ أَنَّ الْخَمْرَ مَا هو؟ [النوع الأول مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ] قال الشافعي رحمه الله: كل شراب مُسْكِرٍ فَهُوَ خَمْرٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْخَمْرُ عِبَارَةٌ عَنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ الشَّدِيدِ الَّذِي قَذَفَ بِالزَّبَدِ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ عَلَى قَوْلِهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ» : عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ يَوْمَ نَزَلَ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالذُّرَةِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبَرَ أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ يَوْمَ حُرِّمَتْ وَهِيَ تُتَّخَذُ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، كَمَا أَنَّهَا كَانَتْ تُتَّخَذُ مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهَا كُلَّهَا خَمْرًا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قَالَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ يَوْمَ حرمت، وهي تتخذ من هذه الأشياء الخمس، وَهَذَا كَالتَّصْرِيحِ بِأَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ يَتَنَاوَلُ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْخَمْسَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَلْحَقَ بِهَا كُلَّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ مِنْ شَرَابٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عُمَرَ كَانَ عَالِمًا بِاللُّغَةِ، وَرِوَايَتُهُ أَنَّ الْخَمْرَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ فَغَيَّرَهُ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الْعِنَبِ خَمْرًا، وَإِنَّ مِنَ التَّمْرِ خَمْرًا، وَإِنَّ مِنَ الْعَسَلِ خَمْرًا، وَإِنَّ مِنَ الْبُرِّ خَمْرًا، وَإِنَّ مِنَ الشَّعِيرِ خَمْرًا» وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ اسْمِ الْخَمْرِ فَتَكُونُ دَاخِلَةً تَحْتَ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ تَعْلِيمَ اللُّغَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ بَيَانَ أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ فِي الْخَمْرِ ثَابِتٌ فِيهَا، أَوِ الْحُكْمَ الْمَشْهُورَ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ الْخَمْرَ هُوَ حُرْمَةُ الشُّرْبِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَتَخْصِيصُ الْخَمْرِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْخَمْسَةِ لَيْسَ لِأَجْلِ أَنَّ الْخَمْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ بِأَعْيَانِهَا، وَإِنَّمَا جَرَى ذِكْرُهَا خُصُوصًا لِكَوْنِهَا مَعْهُودَةً فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَكُلُّ

مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا مِنْ ذُرَةٍ أَوْ سُلْتٍ أَوْ عُصَارَةِ شَجَرَةٍ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ هَذِهِ الْخَمْسَةِ، كَمَا أَنَّ تَخْصِيصَ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ بِالذِّكْرِ فِي خَبَرِ الرِّبَا لَا يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِ الرِّبَا فِي غَيْرِهَا. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» دَلَّ عَلَى/ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخَمْرَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا وُجِدَ مِنْهُ السُّكْرُ مِنَ الْأَشْرِبَةِ كُلِّهَا، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ الْآيَةَ لَمَّا دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَكَانَ مُسَمَّى الْخَمْرِ مَجْهُولًا لِلْقَوْمِ حَسُنَ مِنَ الشَّارِعِ أَنْ يُقَالَ: مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ هَذَا إِمَّا عَلَى سَبِيلِ أَنَّ هَذَا هُوَ مُسَمَّاهُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ أَنْ يَضَعَ اسْمًا شَرْعِيًّا عَلَى سَبِيلِ الْإِحْدَاثِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَالْخَمْرِ فِي الْحُرْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا خَمْرٌ فَحَقِيقَةُ هَذَا اللَّفْظِ يُفِيدُ كَوْنَهُ فِي نَفْسِهِ خَمْرًا فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَجَبَ حَمْلُهُ مَجَازًا عَلَى الْمُشَابَهَةِ فِي الْحُكْمِ، الَّذِي هُوَ خَاصِّيَّةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِتْعِ، فَقَالَ: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْبِتْعُ شَرَابٌ يُتَّخَذُ مِنَ الْعَسَلِ، وَفِيهِ إِبْطَالُ كُلِّ تَأْوِيلٍ يَذْكُرُهُ أَصْحَابُ تَحْلِيلِ الْأَنْبِذَةِ، وَإِفْسَادٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْمُسْكِرِ مُبَاحٌ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُئِلَ عَنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْبِذَةِ فَأَجَابَ عَنْهُ بِتَحْرِيمِ الْجِنْسِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ تَفْصِيلٌ فِي شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ وَمَقَادِيرِهِ لَذَكَرَهُ وَلَمْ يُهْمِلْهُ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» . الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: رُوِيَ أَيْضًا عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَمَا أَسْكَرَ مِنْهُ الْفَرَقُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ» قَالَ الْخَطَّابِيُّ: «الْفَرَقُ» مِكْيَالٌ يَسَعُ سِتَّةَ عَشَرَ رَطْلًا، وَفِيهِ أَبْيَنُ الْبَيَانِ أَنَّ الْحُرْمَةَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الشَّرَابِ. الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُفَتِّرُ كُلُّ شَرَابٍ يُورِثُ الْفُتُورَ وَالْخَدَرَ فِي الْأَعْضَاءِ، وَهَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ مُتَنَاوِلٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَشْرِبَةِ، فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ فَهُوَ خَمْرٌ، وَهُوَ حَرَامٌ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ التَّمَسُّكُ بِالِاشْتِقَاقَاتِ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَصْلُ هَذَا الْحَرْفِ التَّغْطِيَةُ، سُمِّيَ الْخِمَارُ خِمَارًا لِأَنَّهُ يُغَطِّي رَأْسَ الْمَرْأَةِ، وَالْخَمْرُ مَا وَارَاكَ مِنْ شَجَرٍ وَغَيْرِهِ، مِنْ وَهْدَةٍ وَأَكَمَةٍ، وَخَمَّرْتُ رَأْسَ الْإِنَاءِ أَيْ غَطَّيْتُهُ، وَالْخَامِرُ هُوَ الَّذِي يَكْتُمُ شَهَادَتَهُ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: سُمِّيَتْ خَمْرًا لِأَنَّهَا تُخَامِرُ الْعَقْلَ، أَيْ تُخَالِطُهُ، يُقَالُ: خَامَرَهُ الدَّاءُ إِذَا خَالَطَهُ، وَأَنْشَدَ لِكُثَيِّرٍ: هَنِيئًا مَرِيئًا غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ وَيُقَالُ خَامَرَ السِّقَامُ كَبِدَهُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا خَالَطَ الشَّيْءَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ

السَّاتِرِ لَهُ، فَهَذِهِ الِاشْتِقَاقَاتُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ مَا يَكُونُ سَاتِرًا لِلْعَقْلِ، كَمَا سُمِّيَتْ مُسْكِرًا لِأَنَّهَا تُسْكِرُ الْعَقْلَ أَيْ تَحْجِزُهُ، وَكَأَنَّهَا سُمِّيَتْ بِالْمَصْدَرِ مِنْ خَمَّرَهُ خَمْرًا إِذَا سَتَرَهُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَيَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ هُوَ السُّكْرُ، لِأَنَّ السُّكْرَ يُغَطِّي الْعَقْلَ، وَيَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ نُورِهِ إِلَى الْأَعْضَاءِ، فَهَذِهِ الِاشْتِقَاقَاتُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الْخَمْرِ هُوَ الْمُسْكِرُ، فَكَيْفَ إِذَا انْضَافَتِ الْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ إِلَيْهِ لَا يُقَالُ هَذَا إِثْبَاتٌ لِلُّغَةٍ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ هَذَا إِثْبَاتًا لِلُّغَةٍ بِالْقِيَاسِ، بَلْ هُوَ تَعْيِينُ الْمُسَمَّى بِوَاسِطَةِ هَذِهِ الِاشْتِقَاقَاتِ، كَمَا أَنَّ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُونَ إِنَّ مُسَمَّى النِّكَاحِ هُوَ الْوَطْءُ وَيُثْبِتُونَهُ بِالِاشْتِقَاقَاتِ، وَمُسَمَّى الصَّوْمِ هُوَ الْإِمْسَاكُ، وَيُثْبِتُونَهُ بِالِاشْتِقَاقَاتِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ هُوَ الْمُسْكِرُ، أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِي الْخَمْرِ ثلاثة، اثنان مِنْهَا وَرَدَا بِلَفْظِ الْخَمْرِ أَحَدُهُمَا: هَذِهِ الْآيَةُ وَالثَّانِيَةُ: آيَةُ الْمَائِدَةِ وَالثَّالِثَةُ: وَرَدَتْ فِي السُّكْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النِّسَاءِ: 43] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْخَمْرِ هُوَ الْمُسْكِرُ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: مِنَ الْحُجَّةِ أَنَّ سَبَبَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ هُوَ أَنَّ عُمَرَ وَمُعَاذًا قَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْخَمْرَ مُسْلِبَةٌ لِلْعَقْلِ، مُذْهِبَةٌ لِلْمَالِ، فَبَيِّنْ لَنَا فِيهِ، فَهُمَا إِنَّمَا طَلَبَا الْفَتْوَى مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِسَبَبِ كَوْنِ الْخَمْرِ مُذْهِبَةً لِلْعَقْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا كَانَ مُسَاوِيًا لِلْخَمْرِ فِي هَذَا الْمَعْنَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَمْرًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْخَمْرِ فِي هَذَا الْحُكْمِ. النَّوْعُ الْخَامِسُ: مِنَ الْحُجَّةِ أَنَّ اللَّهَ عَلَّلَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [الْمَائِدَةِ: 91] وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مُعَلَّلَةٌ بِالسُّكْرِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ يَقِينِيٌّ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ نَصًّا فِي أَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ مُعَلَّلَةٌ بِكَوْنِهَا مُسْكِرَةً، فَأَمَّا أَنْ يَجِبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ فِي كُلِّ مُسْكِرٍ، وَكُلُّ مَنْ أَنْصَفَ وَتَرَكَ الْعِنَادَ، عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النَّحْلِ: 67] مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا بِاتِّخَاذِ السَّكَرِ وَالرِّزْقِ الْحَسَنِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ سُكْرٌ وَرِزْقٌ حَسَنٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا لِأَنَّ الْمِنَّةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْمُبَاحِ. وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَتَى السِّقَايَةَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَاسْتَنَدَ إِلَيْهَا، وَقَالَ: اسْقُونِي، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَلَا أَسْقِيكَ مِمَّا نَنْبِذُهُ فِي بُيُوتِنَا؟ فَقَالَ: مَا تَسْقِي النَّاسَ، فَجَاءَهُ بِقَدَحٍ مِنْ نَبِيذٍ فَشَمَّهُ، فَقَطَّبَ وَجْهَهُ وَرَدَّهُ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْسَدْتَ عَلَى/ أَهْلِ مَكَّةَ شَرَابَهُمْ، فَقَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ الْقَدَحَ، فَرَدُّوهُ عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ مِنْ زَمْزَمَ وَصَبَّ عَلَيْهِ وَشَرِبَ، وَقَالَ: إِذَا اغتلمت عليكم هذه الأشربة فاقطعوا متنها بِالْمَاءِ. وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ التَّقْطِيبَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الشَّدِيدِ، وَلِأَنَّ الْمَزْجَ بِالْمَاءِ كَانَ لِقَطْعِ الشِّدَّةِ بِالنَّصِّ، وَلِأَنَّ اغْتِلَامَ الشَّرَابِ شِدَّتُهُ، كَاغْتِلَامِ الْبَعِيرِ سُكْرُهُ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: التَّمَسُّكُ بآثار الصحابة.

وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً نَكِرَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ ذَلِكَ السَّكَرَ وَالرِّزْقَ الْحَسَنَ هُوَ هَذَا النَّبِيذُ؟ ثُمَّ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ كَانَتْ نَازِلَةً قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ إِمَّا نَاسِخَةً، أَوْ مُخَصِّصَةً لَهَا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَعَلَّ ذَلِكَ النَّبِيذَ كَانَ مَاءً نُبِذَتْ تَمَرَاتٍ فِيهِ لِتَذْهَبَ الْمُلُوحَةُ فَتَغَيَّرَ طَعْمُ الْمَاءِ قَلِيلًا إِلَى الْحُمُوضَةِ، وَطَبْعُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي غَايَةِ اللَّطَافَةِ، فَلَمْ يَحْتَمِلْ طَبْعُهُ الْكَرِيمُ ذَلِكَ الطَّعْمَ، فَلِذَلِكَ قَطَّبَ وَجْهَهُ، وَأَيْضًا كَانَ الْمُرَادُ بِصَبِّ الْمَاءِ فيه إزالة ذلك القذر مِنَ الْحُمُوضَةِ أَوِ الرَّائِحَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ تِلْكَ الدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ الضَّعِيفِ غَيْرُ جَائِزٍ. وَأَمَّا آثَارُ الصَّحَابَةِ فَهِيَ مُتَدَافِعَةٌ مُتَعَارِضَةٌ، فَوَجَبَ تَرْكُهَا وَالرُّجُوعُ إِلَى ظَاهِرِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي حَقِيقَةِ الْخَمْرِ. الْمَقَامُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْإِثْمِ، وَالْإِثْمُ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ [الْأَعْرَافِ: 33] فَكَانَ مَجْمُوعُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ دَلِيلًا عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ الثَّانِي: أَنَّ الْإِثْمَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْعِقَابُ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الْعِقَابُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهِ إِلَّا الْمُحَرَّمُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما صَرَّحَ بِرُجْحَانِ الْإِثْمِ وَالْعِقَابِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ. فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ إِثْمٌ، بَلْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهِ إِثْمًا، فَهَبْ أَنَّ ذَلِكَ الْإِثْمَ حَرَامٌ فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ لَمَّا حَصَلَ فِيهِ ذَلِكَ الْإِثْمُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا؟. قُلْنَا: لِأَنَّ السُّؤَالَ كَانَ وَاقِعًا عَنْ مُطْلَقِ الْخَمْرِ، فَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ فِيهِ إِثْمًا، كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الْإِثْمَ لَازِمٌ لَهُ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ، فَكَانَ شُرْبُ الْخَمْرِ مُسْتَلْزِمًا لِهَذِهِ الْمُلَازَمَةِ الْمُحَرَّمَةِ، وَمُسْتَلْزِمُ الْمُحَرَّمِ مُحَرَّمٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الشُّرْبُ مُحَرَّمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الْخَمْرِ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ فِيهَا مَنَافِعَ لِلنَّاسِ، وَالْمُحَرَّمُ لَا يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَالثَّانِي: / لَوْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى حُرْمَتِهَا فَلِمَ لَمْ يَقْنَعُوا بِهَا حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ وَآيَةُ تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ؟ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ فِيهِمَا إِثْمًا كَبِيرًا فَمُقْتَضَاهُ أَنَّ ذَلِكَ الْإِثْمَ الْكَبِيرَ يَكُونُ حَاصِلًا مَا دَامَا مَوْجُودَيْنِ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْإِثْمُ الْكَبِيرُ سَبَبًا لِحُرْمَتِهَا لَوَجَبَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ حُرْمَتِهَا فِي سَائِرِ الشَّرَائِعِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ حُصُولَ النَّفْعِ الْعَاجِلِ فِيهِ فِي الدُّنْيَا لَا يمنع كَوْنِهِ مُحَرَّمًا، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حُصُولُ النَّفْعِ فِيهِمَا مَانِعًا مِنْ حُرْمَتِهِمَا لِأَنَّ صِدْقَ الْخَاصِّ يُوجِبُ صِدْقَ الْعَامِّ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّا رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَالتَّوَقُّفُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ غَيْرَ مَرْوِيٍّ عَنْهُمْ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَطْلُبَ الْكِبَارُ مِنَ الصَّحَابَةِ نُزُولَ مَا هُوَ آكَدُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي التَّحْرِيمِ، كَمَا الْتَمَسَ إِبْرَاهِيمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ مُشَاهَدَةَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِيَزْدَادَ سُكُونًا وَطُمَأْنِينَةً. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ قَوْلَهُ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ إِخْبَارٌ عَنِ الْحَالِ لَا عَنِ الْمَاضِي، وَعِنْدَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى

عَلِمَ أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ مَفْسَدَةٌ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ مَا كَانَ مَفْسَدَةً لِلَّذِينِ كَانُوا قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي حَقِيقَةِ الْمَيْسِرِ فَنَقُولُ: الْمَيْسِرُ الْقِمَارُ، مَصْدَرٌ مِنْ يَسَرَ كَالْمَوْعِدِ وَالْمَرْجِعِ مِنْ فِعْلِهِمَا، يُقَالُ يَسَرْتُهُ إِذَا قَمَرْتُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِقَاقِهِ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: اشْتِقَاقُهُ مِنَ الْيُسْرِ لِأَنَّهُ أَخْذٌ لِمَالِ الرَّجُلِ بِيُسْرٍ وَسُهُولَةٍ مِنْ غَيْرِ كَدٍّ وَلَا تَعَبٍ، كَانُوا يَقُولُونَ: يَسِّرُوا لَنَا ثَمَنَ الْجَزُورِ، أَوْ مِنَ الْيَسَارِ لِأَنَّهُ سَبَبُ يَسَارِهِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُخَاطِرُ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمَيْسِرُ مِنَ التَّجْزِئَةِ وَالِاقْتِسَامِ، يُقَالُ: يَسَرُوا الشَّيْءَ، أَيِ اقْتَسَمُوهُ، فَالْجَزُورُ نَفْسُهُ يُسَمَّى مُيَسَّرًا لِأَنَّهُ يُجَزَّأُ أَجْزَاءً، فَكَأَنَّهُ مَوْضِعُ التَّجْزِئَةِ، وَالْيَاسِرُ الْجَازِرُ، لِأَنَّهُ يُجَزِّئُ لَحْمَ الْجَزُورِ، ثُمَّ يقال لضاربين بالقدح والمتقاربين عَلَى الْجَزُورِ: إِنَّهُمْ يَاسِرُونَ لِأَنَّهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْفِعْلِ يُجَزِّءُونَ لَحْمَ الْجَزُورِ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: يَسَّرَ لِي هَذَا الشَّيْءَ يُيَسِّرُ يُسْرًا وَمَيْسِرًا إِذَا وَجَبَ، وَالْيَاسِرُ الْوَاجِبُ بِسَبَبِ الْقِدَاحِ، هَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي اشْتِقَاقِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ. وَأَمَّا صِفَةُ الْمَيْسِرِ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : كَانَتْ لَهُمْ عَشْرَةُ قِدَاحٍ، وَهِيَ الْأَزْلَامُ والأقلام الفذ، والتوأم، وَالرَّقِيبُ، وَالْحَلِسُ، بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَقِيلَ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَالْمُسْبِلُ، وَالْمُعَلَّى، وَالنَّافِسُ، وَالْمَنِيحُ، وَالسَّفِيحُ، وَالْوَغْدُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا نَصِيبٌ معلوم من جزور ينحرونها ويجزؤونها عَشْرَةَ أَجْزَاءٍ، وَقِيلَ: ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ جُزْءًا إِلَّا ثلاثة، وهي: المنيح والسفيح، والوعد، وَلِبَعْضِهِمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى شِعْرٌ: لِي فِي الدُّنْيَا سِهَامٌ ... لَيْسَ فِيهِنَّ رَبِيحُ وَأَسَامِيهِنَّ وَغْدٌ ... وسفيح ومنيح فللفذ سهم، وللتوأم سَهْمَانِ، وَلِلرَّقِيبِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْحَلِسِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلنَّافِسِ خَمْسَةٌ، وَلِلْمُسْبِلِ/ سِتَّةٌ، وَلِلْمُعَلَّى سَبْعَةٌ، يَجْعَلُونَهَا فِي الرَّبَابَةِ، وَهِيَ الْخَرِيطَةُ وَيَضَعُونَهَا عَلَى يَدِ عَدْلٍ، ثُمَّ يُجَلْجِلُهَا وَيُدْخِلُ يَدَهُ فَيُخْرِجُ بِاسْمِ رَجُلٍ رَجُلٍ قَدَحًا مِنْهَا فَمَنْ خَرَجَ لَهُ قَدَحٌ مِنْ ذوات الأنصباء أخذ النصب الْمَوْسُومَ بِهِ ذَلِكَ الْقَدَحُ، وَمَنْ خَرَجَ لَهُ قَدَحٌ لَا نَصِيبَ لَهُ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا، وَغَرِمَ ثَمَنَ الْجَزُورِ كُلِّهِ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ تِلْكَ الْأَنْصِبَاءَ إِلَى الْفُقَرَاءِ، وَلَا يَأْكُلُونَ مِنْهَا، وَيَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ وَيَذُمُّونَ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ وَيُسَمُّونَهُ الْبَرَمَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَيْسِرَ هَلْ هُوَ اسْمٌ لِذَلِكَ الْقِمَارِ الْمُعَيَّنِ، أَوْ هُوَ اسْمٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقِمَارِ، رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَهَاتَيْنِ الْكَعْبَتَيْنِ فَإِنَّهُمَا مِنْ مَيْسِرِ الْعَجَمِ» وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ: كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ خَطَرٌ فَهُوَ مِنَ الْمَيْسِرِ، حَتَّى لَعِبِ الصِّبْيَانِ بِالْجَوْزِ، وَأَمَّا الشِّطْرَنْجُ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: النَّرْدُ وَالشِّطْرَنْجُ مِنَ الْمَيْسِرِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا خَلَا الشِّطْرَنْجُ عَنِ الرِّهَانِ، وَاللِّسَانُ عَنِ الطُّغْيَانِ وَالصَّلَاةُ عَنِ النِّسْيَانِ، لَمْ يَكُنْ حَرَامًا، وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْمَيْسِرِ، لِأَنَّ الْمَيْسِرَ مَا يُوجِبُ دَفْعَ الْمَالِ، أَوْ أَخْذَ مَالٍ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ قِمَارًا وَلَا مَيْسِرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَمَّا السَّبَقُ فِي الْخُفِّ وَالْحَافِرِ فَبِالِاتِّفَاقِ لَيْسَ مِنَ الْمَيْسِرِ، وَشَرْحُهُ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ السَّبَقِ وَالرَّمْيِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْإِثْمُ الْكَبِيرُ، فِيهِ أُمُورٌ أَحَدُهَا: أَنَّ عَقْلَ الْإِنْسَانِ أَشْرَفُ صِفَاتِهِ، وَالْخَمْرُ عَدُوُّ الْعَقْلِ، وَكُلُّ مَا كَانَ عَدُوَّ الْأَشْرَفِ فَهُوَ أَخَسُّ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ شُرْبُ الْخَمْرِ أَخَسَّ الْأُمُورِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعَقْلَ إنما سمي

عَقْلًا لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى عِقَالِ النَّاقَةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا دَعَاهُ طَبْعُهُ إِلَى فِعْلٍ قَبِيحٍ، كَانَ عَقْلُهُ مَانِعًا لَهُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، فَإِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ بَقِيَ الطَّبْعُ الدَّاعِي إِلَى فِعْلِ الْقَبَائِحِ خَالِيًا عَنِ الْعَقْلِ الْمَانِعِ مِنْهَا، وَالتَّقْرِيبُ بَعْدَ ذَلِكَ مَعْلُومٌ، ذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّهُ مَرَّ عَلَى سَكْرَانَ وَهُوَ يَبُولُ فِي يَدِهِ وَيَمْسَحُ بِهِ وَجْهَهُ كَهَيْئَةِ الْمُتَوَضِّئِ، وَيَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْإِسْلَامَ نُورًا وَالْمَاءَ طَهُورًا، وَعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: لِمَ لَا تَشْرَبُ الْخَمْرَ فَإِنَّهَا تَزِيدُ فِي جَرَاءَتِكَ؟ فَقَالَ مَا أَنَا بِآخِذٍ جَهْلِي بِيَدِي فَأُدْخِلُهُ جَوْفِي، وَلَا أَرْضَى أَنْ أُصْبِحَ سَيِّدَ قَوْمٍ وَأُمْسِيَ سَفِيهَهُمْ وَثَانِيهَا: مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْمَعْصِيَةَ مِنْ خَوَاصِّهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ كُلَّمَا كَانَ اشْتِغَالُهُ بِهَا أَكْثَرَ، وَمُوَاظَبَتُهُ عَلَيْهَا أَتَمَّ كَانَ الْمَيْلُ إِلَيْهَا أَكْثَرَ وَقُوَّةُ النَّفْسِ عَلَيْهَا أَقْوَى بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي، مِثْلُ الزَّانِي إِذَا فَعَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَتَرَتْ رَغْبَتُهُ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَكُلَّمَا كَانَ فِعْلُهُ لِذَلِكَ الْعَمَلِ أَكْثَرَ كَانَ فُتُورُهُ أَكْثَرَ وَنُفْرَتُهُ أَتَمَّ، بِخِلَافِ الشُّرْبِ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ إِقْدَامُهُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ، كَانَ نَشَاطُهُ أَكْثَرَ، وَرَغْبَتُهُ فِيهِ أَتَمَّ. فَإِذَا وَاظَبَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ صَارَ الْإِنْسَانُ غَرِقًا فِي اللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ، مُعْرِضًا عَنْ تَذَكُّرِ الْآخِرَةِ وَالْمَعَادِ، حَتَّى يَصِيرَ مِنَ الَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْخَمْرُ يُزِيلُ الْعَقْلَ، وَإِذَا زَالَ الْعَقْلُ/ حَصَلَتِ الْقَبَائِحُ بِأَسْرِهَا وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ» وَأَمَّا الْمَيْسِرُ فَالْإِثْمُ فِيهِ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْعَدَاوَةِ، وَأَيْضًا لِمَا يَجْرِي بَيْنَهُمْ مِنَ الشَّتْمِ وَالْمُنَازَعَةِ وَأَنَّهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَذَلِكَ أَيْضًا يُورِثُ الْعَدَاوَةَ، لِأَنَّ صَاحِبَهُ إِذَا أَخَذَ مَالَهُ مَجَّانًا أَبْغَضَهُ جِدًّا، وَهُوَ أَيْضًا يَشْغَلُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا الْمَنَافِعُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ فَمَنَافِعُ الْخَمْرِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَغَالَوْنَ بِهَا إِذَا جَلَبُوهَا مِنَ النَّوَاحِي، وَكَانَ الْمُشْتَرِي إِذَا تَرَكَ الْمُمَاكَسَةَ فِي الثَّمَنِ كَانُوا يَعُدُّونَ ذَلِكَ فَضِيلَةً وَمَكْرُمَةً، فَكَانَ تَكْثُرُ أَرْبَاحُهُمْ بِذَلِكَ السَّبَبِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يُقَوِّي الضَّعِيفَ وَيَهْضِمُ الطَّعَامَ وَيُعِينُ عَلَى الْبَاهِ، وَيُسَلِّي الْمَحْزُونَ، وَيُشَجِّعُ الْجَبَانَ، وَيُسَخِّي الْبَخِيلَ وَيُصَفِّي اللَّوْنَ، وَيُنْعِشُ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ وَيَزِيدُ فِي الْهِمَّةِ وَالِاسْتِعْلَاءِ «1» وَمِنْ مَنَافِعِ الْمَيْسِرِ: التَّوْسِعَةُ عَلَى ذَوِي الْحَاجَةِ لِأَنَّ مَنْ قَمَرَ لَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْجَزُورِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُفَرِّقُهُ فِي الْمُحْتَاجِينَ وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ كَانَ رُبَّمَا قَمَرَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ بَعِيرٍ، فَيَحْصُلُ لَهُ مَالٌ مِنْ غَيْرِ كَدٍّ وَتَعَبٍ، ثُمَّ يَصْرِفُهُ إِلَى الْمُحْتَاجِينَ، فَيَكْتَسِبُ مِنْهُ الْمَدْحَ وَالثَّنَاءَ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ كَثِيرٌ بِالثَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ وَالْبَاقُونَ بِالْبَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتُ حُجَّةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الْإِثْمِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [الْمَائِدَةِ: 91] فَذَكَرَ أَعْدَادًا مِنَ الذُّنُوبِ فِيهِمَا وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ عَشْرَةً بِسَبَبِ الْخَمْرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْإِثْمِ فِيهِمَا، وَلِأَنَّ الْإِثْمَ في هذه الآية كالمضاد

_ (1) قول الفخر رحمه الله تعالى في شرب الخمر: أَنَّهُ يُقَوِّي الضَّعِيفَ، وَيَهْضِمُ الطَّعَامَ، وَيُعِينُ عَلَى الْبَاهِ، وَيُسَلِّي الْمَحْزُونَ وَيُشَجِّعُ الْجَبَانَ، وَيُسَخِّي الْبَخِيلَ، وَيُصَفِّي اللَّوْنَ، وَيُنْعِشُ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ، وَيَزِيدُ فِي الهمة والاستعلاء، هو قول عجيب لا يصدر من لبيب ولو كان فيها من المزايا بعض ما ذكر: لما منعنا الله تعالى عنها، وأحرمنا منها، ولم ينهنا تعالى إلا عما فيه فساد الدين والبدن، فله الحمد على أمره ونهيه، وتحريمه وتحليله!. والخمر: كما يشهد بذلك العقل والطب، تضعف القوى، وتعسر الهضم، وتتلف المعدة، وتضعف الباه، وإن دل ظاهرها على إذهاب الحزن، فهي جالبة للهم والغم والكدر، وتورث الشجاع الجبن والخور، وتحض الكريم على البخل، وتفسد الدم وتكدر اللون وتظهر غضون الوجه، وهي في جملتها مبعث لسائر الشرور والفجور والخصال الذميمة. أما تأويل قوله تعالى: وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ فهو خاص بالمنافع الدنيوية الفانية والربح التجاري الزائل. انتهى مصححه.

الحكم الرابع في الإنفاق

لِلْمَنَافِعِ لِأَنَّهُ قَالَ: فِيهِمَا إِثْمٌ وَمَنَافِعُ، وَكَمَا أَنَّ الْمَنَافِعَ أَعْدَادٌ كَثِيرَةٌ فَكَذَا الْإِثْمُ فَصَارَ التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: فِيهِمَا مَضَارٌّ كَثِيرَةٌ وَمَنَافِعُ كَثِيرَةٌ حُجَّةُ الْبَاقِينَ أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي تَعْظِيمِ الذَّنْبِ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْكِبَرِ لَا بِكَوْنِهِ كَثِيرًا يدل عليه قوله تعالى: كَبائِرَ الْإِثْمِ [النجم: 32] ، كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النِّسَاءِ: 31] ، إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً [النِّسَاءِ: 2] وَأَيْضًا الْقُرَّاءُ اتَّفَقُوا عَلَى قَوْلِهِ: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ بِالْبَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتُ، وَذَلِكَ يُرَجِّحُ مَا قُلْنَاهُ. الْحُكْمُ الرَّابِعُ فِي الإنفاق اعْلَمْ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فأجيب عنه بذكر المصرف وأعيد هاهنا فَأُجِيبُ عَنْهُ بِذِكْرِ الْكَمِّيَّةِ، قَالَ الْقَفَّالُ: قَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ لِآخَرَ يَسْأَلُهُ عَنْ مَذْهَبِ رَجُلٍ وَخُلُقِهِ مَا فُلَانٌ هَذَا؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ مَذْهَبِهِ كَذَا، وَمِنْ خُلُقِهِ كَذَا إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: كَانَ النَّاسُ لَمَّا رَأَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَحُضَّانِ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَيَدُلَّانِ عَلَى عَظِيمِ ثَوَابِهِ، سَأَلُوا عَنْ مِقْدَارِ مَا كُلِّفُوا بِهِ، هَلْ هُوَ كُلُّ الْمَالِ أَوْ بَعْضُهُ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْعَفْوَ مَقْبُولٌ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَصْلُ الْعَفْوِ فِي اللُّغَةِ الزِّيَادَةُ، قَالَ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ [الْأَعْرَافِ: 199] أَيِ الزِّيَادَةَ، وَقَالَ أَيْضًا: حَتَّى عَفَوْا [الْأَعْرَافِ: 95] أَيْ زَادُوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَدِ قَالَ الْقَفَّالُ: الْعَفْوُ مَا سَهُلَ وَتَيَسَّرَ مِمَّا يَكُونُ فَاضِلًا عَنِ الْكِفَايَةِ يُقَالُ: خُذْ مَا عَفَا لَكَ، أَيْ مَا تَيَسَّرَ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْعَفْوُ عَنِ الذَّنْبِ رَاجِعًا إِلَى التَّيَسُّرِ وَالتَّسْهِيلِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ فَهَاتُوا رُبْعَ عُشْرِ أَمْوَالِكُمْ» مَعْنَاهُ التَّخْفِيفُ بِإِسْقَاطِ زَكَاةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ، وَيُقَالُ: أَعْفَى فُلَانٌ فُلَانًا بِحَقِّهِ إِذَا أَوْصَلَهُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِلْحَاحٍ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى التَّخْفِيفِ وَيُقَالُ: أَعْطَاهُ كَذَا عَفْوًا صَفْوًا، إِذَا لَمْ يُكَدِّرْ عَلَيْهِ بِالْأَذَى، وَيُقَالُ: خُذْ مِنَ النَّاسِ مَا عَفَا لَكَ أَيْ مَا تَيَسَّرَ، وَمِنْهُ قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف: 199] أَيْ مَا سَهُلَ لَكَ مِنَ النَّاسِ، وَيُقَالُ لِلْأَرْضِ السَّهْلَةِ: الْعَفْوُ وَإِذَا كَانَ الْعَفْوُ هُوَ التَّيْسِيرُ فَالْغَالِبُ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ مَؤُنَتُهُمْ فَقَوْلُ مَنْ قَالَ: الْعَفْوُ هُوَ الزِّيَادَةُ رَاجِعٌ إِلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَجُمْلَةُ التَّأْوِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَدَّبِ النَّاسَ فِي الْإِنْفَاقِ فَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الْإِسْرَاءِ: 26، 27] وَقَالَ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الْإِسْرَاءِ: 29] وَقَالَ: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الْفُرْقَانِ: 67] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ عِنْدَ أَحَدِكُمْ شَيْءٌ فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ بِمَنْ يَعُولُ وَهَكَذَا وَهَكَذَا» وَقَالَ/ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا أَبْقَتْ غِنًى وَلَا يُلَامُ عَلَى كَفَافٍ» وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ بِمِثْلِ الْبَيْضَةِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: يا رسول الله خذها صدقة فو الله لَا أَمْلِكُ غَيْرَهَا، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَقَالَ: هَاتِهَا مُغْضَبًا فَأَخَذَهَا مِنْهُ، ثُمَّ حَذَفَهُ بِهَا حَيْثُ لَوْ أَصَابَتْهُ لَأَوْجَعَتْهُ، ثُمَّ قَالَ: يَأْتِينِي أَحَدُكُمْ بِمَالِهِ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ، ثُمَّ يَجْلِسُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ إِنَّمَا الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى خُذْهَا فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهَا، وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَحْبِسُ لِأَهْلِهِ قُوتَ

سَنَةٍ، وَقَالَ الْحُكَمَاءُ: الْفَضِيلَةُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، فَالْإِنْفَاقُ الْكَثِيرُ هُوَ التَّبْذِيرُ، وَالتَّقْلِيلُ جِدًّا هُوَ التَّقْتِيرُ، وَالْعَدْلُ هُوَ الْفَضِيلَةُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: قُلِ الْعَفْوَ وَمَدَارُ شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رِعَايَةِ هَذِهِ الدَّقِيقَةِ فَشَرْعُ الْيَهُودِ مَبْنَاهُ عَلَى الْخُشُونَةِ التَّامَّةِ، وَشَرْعُ النَّصَارَى عَلَى الْمُسَامَحَةِ التَّامَّةِ، وَشَرْعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَسِّطٌ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَكْمَلَ مِنَ الْكُلِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو (الْعَفْوُ) بِضَمِّ الْوَاوِ وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ، فَمَنْ رَفَعَ جَعَلَ (ذَا) بِمَعْنَى (الَّذِي) وَيُنْفِقُونَ صِلَتَهُ كَأَنَّهُ قَالَ: مَا الَّذِي يُنْفِقُونَ؟ فَقَالَ: هُوَ الْعَفْوُ وَمَنْ نَصَبَ كَانَ التَّقْدِيرُ: مَا يُنْفِقُونَ وَجَوَابُهُ: يُنْفِقُونَ الْعَفْوَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِنْفَاقِ هُوَ الْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ أَوِ التَّطَوُّعُ، أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ هُوَ الْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ، فَلَهُمْ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ العفو هو الزكاة فجاء ذكرها هاهنا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، وَأَمَّا تَفَاصِيلُهَا فَمَذْكُورَةٌ فِي السُّنَّةِ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الصَّدَقَاتِ فَالنَّاسُ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِأَنْ يَأْخُذُوا مِنْ مَكَاسِبِهِمْ مَا يَكْفِيهِمْ فِي عَامِهِمْ، ثُمَّ يُنْفِقُوا الْبَاقِي، ثُمَّ صَارَ هَذَا مَنْسُوخًا بِآيَةِ الزَّكَاةِ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْإِنْفَاقِ هُوَ الْإِنْفَاقُ عَلَى سَبِيلِ التَّطَوُّعِ وَهُوَ الصَّدَقَةُ وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِلُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَفْرُوضًا لَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مِقْدَارَهُ فَلَمَّا لَمْ يُبَيِّنْ بَلْ فَوَّضَهُ إِلَى رَأْيِ الْمُخَاطَبِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ. وَأُجِيبُ عَنْهُ: بِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُوجِبَ اللَّهُ شَيْئًا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، ثم يذكر تفصيله وبيانه بطريق آخر. ما قَوْلُهُ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ فَمَعْنَاهُ أَنِّي بَيَّنْتُ لَكُمُ الْأَمْرَ فِيمَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ مِنْ وُجُوهِ الْإِنْفَاقِ وَمَصَارِفِهِ فَهَكَذَا أُبَيِّنُ لَكُمْ فِي مُسْتَأْنَفِ أَيَّامِكُمْ جَمِيعَ مَا تَحْتَاجُونَ. وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ وَالثَّانِي: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ فَيُعَرِّفُكُمْ أَنَّ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ فِيهِمَا مَنَافِعُ فِي الدُّنْيَا وَمَضَارٌّ فِي الْآخِرَةِ/ فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَرْجِيحِ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا الثَّالِثُ: يُعَرِّفُكُمْ أَنَّ إِنْفَاقَ الْمَالِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ لِأَجْلِ الْآخِرَةِ وَإِمْسَاكَهُ لِأَجْلِ الدُّنْيَا فَتَتَفَكَّرُونَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَرْجِيحِ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا أَمْكَنَ إِجْرَاءُ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَفَرْضُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ عَلَى مَا قَالَهُ الْحَسَنُ يَكُونُ عُدُولًا عَنِ الظَّاهِرِ لَا لِدَلِيلٍ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ.

[سورة البقرة (2) : آية 220]

[سورة البقرة (2) : آية 220] فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) الحكم الخامس في اليتامى فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا قَدِ اعْتَادُوا الِانْتِفَاعَ بِأَمْوَالِ الْيَتَامَى وَرُبَّمَا تَزَوَّجُوا بِالْيَتِيمَةِ طَمَعًا فِي مَالِهَا أَوْ يُزَوِّجُهَا مِنِ ابْنٍ لَهُ لِئَلَّا يَخْرُجَ مَالُهَا مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النِّسَاءِ: 10] وَأَنْزَلَ فِي الْآيَاتِ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ: 3] وَقَوْلَهُ: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ، وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ، وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً [النِّسَاءِ: 127] وَقَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الْأَنْعَامِ: 152] فَعِنْدَ ذَلِكَ تَرَكَ الْقَوْمُ مُخَالَطَةَ الْيَتَامَى، وَالْمُقَارَبَةَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَالْقِيَامَ بِأُمُورِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اخْتَلَّتْ مَصَالِحُ الْيَتَامَى وَسَاءَتْ مَعِيشَتُهُمْ، فَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، وَبَقَوْا مُتَحَيِّرِينَ إِنْ خَالَطُوهُمْ وَتَوَلَّوْا أَمْرَ أَمْوَالِهِمْ، اسْتَعَدُّوا لِلْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَإِنْ تَرَكُوا وَأَعْرَضُوا عَنْهُمْ، اخْتَلَّتْ مَعِيشَةُ اليتامى، فتحير القوم عند ذلك. ثم هاهنا يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ سَأَلُوا الرَّسُولَ عَنْ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، يحتمل أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ فِي قَلْبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ/ تَمَنَّوْا أَنْ يُبَيِّنَ اللَّهُ لَهُمْ كَيْفِيَّةَ الْحَالِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ تِلْكَ الْآيَاتُ اعْتَزَلُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى، وَاجْتَنَبُوا مُخَالَطَتَهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى كَانَ يُوضَعُ لِلْيَتِيمِ طَعَامٌ فَيَفْضُلُ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَتْرُكُونَهُ وَلَا يَأْكُلُونَهُ حَتَّى يَفْسَدَ، وَكَانَ صَاحِبُ الْيَتِيمِ يُفْرِدُ لَهُ مَنْزِلًا وَطَعَامًا وَشَرَابًا فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ عَبْدُ الله بن رواحة: يا رسول الله مالكنا مَنَازِلُ تَسْكُنُهَا الْأَيْتَامُ وَلَا كُلُّنَا يَجِدُ طَعَامًا وَشَرَابًا يُفْرِدُهُمَا لِلْيَتِيمِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الْكَلَامُ يَجْمَعُ النَّظَرَ فِي صَلَاحِ مَصَالِحِ الْيَتِيمِ بِالتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ وَغَيْرِهِمَا، لِكَيْ يَنْشَأَ عَلَى عِلْمٍ وَأَدَبٍ وَفَضْلٍ لِأَنَّ هَذَا الصُّنْعَ أَعْظَمُ تَأْثِيرًا فِيهِ مِنْ إِصْلَاحِ حَالِهِ بِالتِّجَارَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَيْضًا إِصْلَاحُ مَالِهِ كَيْ لَا تَأْكُلَهُ النَّفَقَةُ مِنْ جِهَةِ التِّجَارَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَيْضًا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النِّسَاءِ: 2] وَمَعْنَى قَوْلِهِ: خَيْرٌ يَتَنَاوَلُ حَالَ الْمُتَكَفِّلِ، أَيْ هَذَا الْعَمَلُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقَصِّرًا فِي حَقِّ الْيَتِيمِ، وَيَتَنَاوَلُ حَالَ اليتيم

أَيْضًا، أَيْ هَذَا الْعَمَلُ خَيْرٌ لِلْيَتِيمِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَتَضَمَّنُ صَلَاحَ نَفْسِهِ، وَصَلَاحَ مَالِهِ، فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ مَصَالِحِ الْيَتِيمِ وَالْوَلِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا تَدْبِيرَ أَنْفُسِهِمْ دُونَ مَالِهِمْ. قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى إِصْلَاحِ مَالِهِ بِالتَّنْمِيَةِ وَالزِّيَادَةِ يَكُونُ إِصْلَاحًا لَهُ، فَلَا يَمْتَنِعُ دُخُولُهُ تَحْتَ الظَّاهِرِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَثَانِيهَا: قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْخَبَرُ عَائِدٌ إِلَى الولي، يعني إِصْلَاحَ أَمْوَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَلَا أُجْرَةٍ خَيْرٌ لِلْوَلِيِّ وَأَعْظَمُ أَجْرًا لَهُ، وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ عَائِدًا إِلَى الْيَتِيمِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مُخَالَطَتَهُمْ بِالْإِصْلَاحِ خَيْرٌ لَهُمْ مِنَ التَّفَرُّدِ عَنْهُمْ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ فَتَخْصِيصُهُ بِبَعْضِ الْجِهَاتِ دُونَ الْبَعْضِ، تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْخَيْرَاتِ الْعَائِدَةِ إِلَى الْوَلِيِّ، وَإِلَى الْيَتِيمِ فِي إِصْلَاحِ النَّفْسِ، وَإِصْلَاحِ الْمَالِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ جِهَاتِ الْمَصَالِحِ مُخْتَلِفَةٌ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَيْنُ الْمُتَكَفِّلِ لِمَصَالِحِ الْيَتِيمِ عَلَى تَحْصِيلِ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِنَفْسِهِ، وَالْيَتِيمِ فِي مَالِهِ وَفِي نَفْسِهِ، فَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِهَذِهِ الْجِهَاتِ بِالْكُلِّيَّةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُخَالَطَةُ جَمْعٌ يَتَعَذَّرُ فِيهِ التَّمْيِيزُ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْجِمَاعِ: الْخِلَاطُ وَيُقَالُ: خُولِطَ الرَّجُلُ إِذَا جُنَّ، وَالْخِلَاطُ الْجُنُونُ لِاخْتِلَاطِ الْأُمُورِ عَلَى صَاحِبِهِ بِزَوَالِ عَقْلِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْمَسْكَنِ وَالْخَدَمِ فَإِخْوَانُكُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَوْمَ مَيَّزُوا طَعَامَهُ عَنْ طَعَامِ أَنْفُسِهُمْ، وَشَرَابَهُ عَنْ شَرَابِ أَنْفُسِهُمْ وَمَسْكَنَهُ عَنْ مَسْكَنِ أَنْفُسِهُمْ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ لَهُمْ خَلْطَ الطَّعَامَيْنِ وَالشَّرَابَيْنِ، وَالِاجْتِمَاعَ/ فِي الْمَسْكَنِ الْوَاحِدِ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِمَالِ وَلَدِهِ، فَإِنَّ هَذَا أَدْخَلُ فِي حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَالْمُؤَالَفَةِ، وَالْمَعْنَى وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ بِمَا لَا يَتَضَمَّنُ إِفْسَادَ أَمْوَالِهِمْ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْمُخَالَطَةِ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِأَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ مَا يَكُونُ أَجْرُهُ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ الْقَيِّمُ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِذَا كَانَ الْقَيِّمُ غَنِيًّا لَمْ يَأْكُلْ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَيْهِ وَطَلَبُ الْأُجْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ الْوَاجِبِ لَا يَجُوزُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْقَيِّمُ فَقِيرًا فَقَالُوا إِنَّهُ يَأْكُلُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَيَرُدُّهُ إِذَا أَيْسَرَ، فَإِنْ لَمْ يُوسِرْ تَحَلَّلَهُ مِنَ الْيَتِيمِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَنْزَلْتُ نَفْسِي مِنْ مَالِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ: إِنِ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ، وَإِنِ افْتَقَرْتُ أَكَلْتُ قَرْضًا بِالْمَعْرُوفِ ثُمَّ قَضَيْتُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فَقِيرًا وَأَكَلَ بِالْمَعْرُوفِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنْ يَخْلِطُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى بِأَمْوَالِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الشَّرِكَةِ بِشَرْطِ رِعَايَةِ جِهَاتِ الْمَصْلَحَةِ وَالْغِبْطَةِ لِلصَّبِيِّ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَلْطِ الْمُصَاهَرَةُ فِي النِّكَاحِ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا [النِّسَاءِ: 3] وَقَوْلِهِ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ [النِّسَاءِ: 127] قَالَ وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِحٌ عَلَى غيره من

وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ خَلْطٌ لِلْيَتِيمِ نَفْسِهِ وَالشَّرِكَةُ خَلْطٌ لِمَالِهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الشَّرِكَةَ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَالْخَلْطُ مِنْ جِهَةِ النِّكَاحِ، وَتَزْوِيجُ الْبَنَاتِ مِنْهُمْ لَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ، فَحَمْلُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْخَلْطِ أَقْرَبُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِخْوانُكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَلْطِ هُوَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْخَلْطِ، لِأَنَّ الْيَتِيمَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ لَوَجَبَ أَنْ يَتَحَرَّى صَلَاحَ أَمْوَالِهِ كَمَا يَتَحَرَّاهُ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَإِخْوانُكُمْ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْمُخَالَطَةِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [الْبَقَرَةِ: 221] فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُخَالَطَةَ الْمَنْدُوبَ إِلَيْهَا إِنَّمَا هِيَ فِي الْيَتَامَى الَّذِينَ هُمْ لَكُمْ إِخْوَانٌ بِالْإِسْلَامِ فَهُمُ الَّذِينَ يَنْبَغِي أَنْ تُنَاكِحُوهُمْ لِتَأْكِيدِ الْأُلْفَةِ، فَإِنْ كَانَ الْيَتِيمُ مِنَ الْمُشْرِكَاتِ فَلَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَإِخْوانُكُمْ أَيْ فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوْ نَصَبْتَهُ كَانَ صَوَابًا، وَالْمَعْنَى فَإِخْوَانُكُمْ تُخَالِطُونَ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ فَقِيلَ: الْمُفْسِدُ لِأَمْوَالِهِمْ مِنَ الْمُصْلِحِ لَهَا، وَقِيلَ: يَعْلَمُ ضَمَائِرَ مَنْ أَرَادَ الْإِفْسَادَ وَالطَّمَعَ فِي مَالِهِمْ بِالنِّكَاحِ مِنَ الْمُصْلِحِ، يَعْنِي: أَنَّكُمْ إِذَا أَظْهَرْتُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إِرَادَةَ الْإِصْلَاحِ فَإِذَا لَمْ تُرِيدُوا ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ بَلْ كَانَ مُرَادُكُمْ مِنْهُ غَرَضًا آخَرَ فَاللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمَائِرِكُمْ عَالِمٌ بِمَا فِي قُلُوبِكُمْ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ، وَالسَّبَبُ أَنَّ الْيَتِيمَ لَا يُمْكِنُهُ رِعَايَةَ الغبطة لنفسه، وليس له/ أَحَدٌ يُرَاعِيهَا فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدٌ يَتَكَفَّلُ بِمَصَالِحِهِ فَأَنَا ذَلِكَ الْمُتَكَفِّلُ وَأَنَا الْمُطَالِبُ لِوَلِيِّهِ، وَقِيلَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُصْلِحَ الَّذِي يَلِي مِنْ أَمْرِ الْيَتِيمِ مَا يَجُوزُ لَهُ بِسَبَبِهِ الِانْتِفَاعُ بِمَالِهِ وَيَعْلَمُ الْمُفْسِدَ الَّذِي لَا يَلِي مِنْ إِصْلَاحِ أَمْرِ الْيَتِيمِ مَا يَجُوزُ لَهُ بِسَبَبِهِ الِانْتِفَاعُ بِمَالِهِ، فَاتَّقُوا أَنْ تَتَنَاوَلُوا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ إِصْلَاحٍ مِنْكُمْ لِمَالِهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «الْإِعْنَاتُ» الْحَمْلُ عَلَى مَشَقَّةٍ لَا تُطَاقُ يُقَالُ: أَعْنَتَ فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا أَوْقَعَهُ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ مِنْهُ وَتَعَنَّتَهُ تَعَنُّتًا إِذَا لَبَّسَ عَلَيْهِ فِي سُؤَالِهِ، وَعَنَتَ الْعَظْمُ الْمَجْبُورُ إِذَا انْكَسَرَ بَعْدَ الْجَبْرِ وَأَصْلُ الْعَنَتِ مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَأَكَمَةٌ عَنُوتٌ إِذَا كَانَتْ شَاقَّةً كَدُودًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [التَّوْبَةِ: 128] أَيْ شَدِيدٌ عَلَيْهِ مَا شَقَّ عَلَيْكُمْ، وَيُقَالُ أَعْنَتَنِي فِي السُّؤَالِ أَيْ شَدَّدَ عَلَيَّ وَطَلَبَ عَنَتِي وَهُوَ الْإِضْرَارُ وَأَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَ مَا أَصَبْتُمْ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى مُوبَقًا وَقَالَ عَطَاءٌ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَدْخَلَ عَلَيْكُمُ الْمَشَقَّةَ كَمَا أَدْخَلْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلَضَيَّقَ الْأَمْرَ عَلَيْكُمْ فِي مُخَالَطَتِهِمْ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَكَلَّفَكُمْ مَا يَشْتَدُّ عَلَيْكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفِ الْعَبْدَ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَفْعَلِ الْإِعْنَاتَ وَالضِّيقَ فِي التَّكْلِيفِ، وَلَوْ كَانَ مُكَلِّفًا بِمَا لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ لَكَانَ قَدْ تَجَاوَزَ حَدَّ الْإِعْنَاتِ وَحَدَّ الضِّيقِ. وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ كَلِمَةَ (لَوْ) تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ، ثُمَّ سَأَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي حَقِّ الْيَتِيمِ، وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَأَيْضًا فَوَلِيُّ هَذَا الْيَتِيمِ قَدْ

[سورة البقرة (2) : آية 221]

لَا يَفْعَلُ تَعَالَى فِيهِ قُدْرَةَ الْإِصْلَاحِ، لِأَنَّ هَذَا هُوَ قَوْلُهُمْ فِيمَنْ يَخْتَارُ خِلَافَ الْإِصْلَاحِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى فِيهِ خَاصَّةً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ مَعَ أَنَّهُ كَلَّفَهُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى فِعْلِهِ، وَأَيْضًا فَالْإِعْنَاتُ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِيمَنْ يَتَمَكَّنُ مِنَ الشَّيْءِ فَيَشُقُّ عَلَيْهِ وَيَضِيقُ، فَأَمَّا مَنْ لَا يَتَمَكَّنُ أَلْبَتَّةَ فَذَلِكَ لَا يَصِحُّ فِيهِ، وَعِنْدَ الْخَصْمِ الْوَلِيُّ إِذَا اخْتَارَ الصَّلَاحَ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُ الْفَسَادِ، وَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْفَسَادِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: الْمُعَارَضَةُ بِمَسْأَلَةِ الْعِلْمِ وَالدَّاعِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْكَعْبِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خِلَافِ الْعَدْلِ، لِأَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ وَصْفُهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْإِعْنَاتِ مَا جَازَ أَنْ يَقُولَ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ وَلِلنَّظَّامِ أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا مُعَلَّقٌ عَلَى مَشِيئَةِ الْإِعْنَاتِ، فَلِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَشِيئَةَ مُمْكِنَةُ الثُّبُوتِ فِي حَقِّهِ تعالى، والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 221] وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) الحكم السادس فيما يتعلق بالنكاح اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الْمُمْتَحِنَةِ: 10] وَقُرِئَ بِضَمِّ التَّاءِ، أَيْ لَا تُزَوِّجُوهُنَّ وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَا يُزَوِّجُونَهُنَّ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ ابْتِدَاءُ حُكْمٍ وَشَرْعٍ، أَوْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَقَدَّمَ، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ ابْتِدَاءُ شَرْعٍ فِي بَيَانِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقِصَّةِ الْيَتَامَى، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [البقرة: 220] وَأَرَادَ مُخَالَطَةَ النِّكَاحِ عَطَفَ عَلَيْهِ مَا يَبْعَثُ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْيَتَامَى، وَأَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى مِمَّا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَ مِنَ الرَّغْبَةِ فِي الْمُشْرِكَاتِ، وَبَيَّنَ أَنَّ أَمَةً مُؤْمِنَةً خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَإِنْ بَلَغَتِ النِّهَايَةَ فِيمَا يَقْتَضِي الرَّغْبَةَ فِيهَا، لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى مَا يَبْعَثُ عَلَى التَّزَوُّجِ بِالْيَتَامَى، وَعَلَى تَزْوِيجِ الْأَيْتَامِ عِنْدَ الْبُلُوغِ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَاعِيَةً لِمَا أَمَرَ بِهِ مِنَ النَّظَرِ فِي صَلَاحِهِمْ وَصَلَاحِ أَمْوَالِهِمْ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَحُكْمُ الْآيَةِ لَا يَخْتَلِفُ، ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعَثَ مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ حَلِيفًا لِبَنِي هَاشِمٍ إِلَى مَكَّةَ لِيُخْرِجَ أُنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِهَا سِرًّا، فَعِنْدَ قُدُومِهِ جَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ يُقَالُ لَهَا عَنَاقُ خَلِيلَةٌ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَعْرَضَتْ عَنْهُ عِنْدَ الْإِسْلَامِ، فَالْتَمَسَتِ الْخَلْوَةَ، فَعَرَّفَهَا أَنَّ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ وَعَدَهَا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَتَزَوَّجُ بِهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَّفَهُ مَا جَرَى فِي أَمْرِ عَنَاقَ، وَسَأَلَهُ هَلْ يَحِلُّ لَهُ التَّزَوُّجُ بِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى/ هَذِهِ الْآيَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي لَفْظِ النِّكَاحِ، فَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي

الْعَقْدِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشُهُودٍ» وَقَفَ النِّكَاحَ عَلَى الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ، وَالْمُتَوَقِّفُ عَلَى الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ هُوَ الْعَقْدُ لَا الْوَطْءُ، وَالثَّانِي: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أُولَدْ مِنْ سِفَاحٍ» دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ كَالْمُقَابِلِ لِلسِّفَاحِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ السِّفَاحَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْوَطْءِ، فَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ اسْمًا لِلْوَطْءِ لَامْتَنَعَ كَوْنُ النِّكَاحِ مُقَابِلًا لِلسِّفَاحِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ [النُّورِ: 32] وَلَا شَكَّ أَنَّ لَفْظَ أَنْكِحُوا لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ إِلَّا عَلَى الْعَقْدِ وَرَابِعُهَا: قَوْلُ الْأَعْشَى، أَنْشَدَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» : فَلَا تَقْرَبَنْ مِنْ جَارَةٍ إِنَّ سِرَّهَا ... عَلَيْكَ حرام فانكحن أو تأيما وقوله: فَانْكِحُوهُنَّ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا الْأَمْرَ بِالْعَقْدِ، لِأَنَّهُ قَالَ: «لَا تَقْرَبَنْ جَارَةً» يَعْنِي مُقَارَبَتَهَا عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَحْرُمُ فَاعْقِدْ وَتَزَوَّجْ وَإِلَّا فَتَأَيَّمْ وَتَجَنَّبِ النِّسَاءَ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [الْبَقَرَةِ: 230] نَفْيُ الْحِلِّ مُمْتَدٌّ إِلَى غَايَةِ النِّكَاحِ، وَالنِّكَاحُ الَّذِي تَنْتَهِي بِهِ هَذِهِ الْحُرْمَةُ لَيْسَ هُوَ الْعَقْدُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ هُوَ الْوَطْءَ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «نَاكِحُ الْيَدِ مَلْعُونٌ وَنَاكِحُ الْبَهِيمَةِ مَلْعُونٌ» أَثْبَتَ النِّكَاحَ مَعَ عَدَمِ الْعَقْدِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ النِّكَاحَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الضَّمِّ وَالْوَطْءِ، يُقَالُ: نَكَحَ الْمَطَرُ الْأَرْضَ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهَا، وَنَكَحَ النُّعَاسُ عَيْنَهُ، وَفِي المثل أنكحنا الفرا فسترى، وَقَالَ الشَّاعِرُ: التَّارِكِينَ عَلَى طُهْرٍ نِسَاءَهُمُ ... وَالنَّاكِحِينَ بِشَطَّيْ دِجْلَةَ الْبَقَرَا وَقَالَ الْمُتَنَبِّي: أَنْكَحْتُ صُمَّ حَصَاهَا خُفَّ يَعْمَلَةٍ ... تَعَثَّرَتْ بِي إِلَيْكَ السَّهْلَ وَالْجَبَلَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعْنَى الضَّمِّ وَالْوَطْءِ فِي الْمُبَاشَرَةِ أَتَمُّ مِنْهُ فِي الْعَقْدِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: النِّكَاحُ عِبَارَةٌ عَنِ الضَّمِّ، وَمَعْنَى الضَّمِّ حَاصِلٌ فِي الْعَقْدِ وَفِي الْوَطْءِ، فَيَحْسُنُ اسْتِعْمَالُ هَذَا اللَّفْظِ فِيهِمَا جَمِيعًا، قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: سَأَلْتُ أَبَا عَلِيٍّ عَنْ قَوْلِهِمْ: نَكَحَ الْمَرْأَةَ، فَقَالَ: فَرَّقَتِ الْعَرَبُ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَرْقًا لَطِيفًا حَتَّى لَا يَحْصُلَ الِالْتِبَاسُ، فَإِذَا قَالُوا: نَكَحَ فُلَانٌ فُلَانَةً: أَرَادُوا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَعَقَدَ عَلَيْهَا، وَإِذَا قَالُوا: نَكَحَ امْرَأَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ، لَمْ يُرِيدُوا غَيْرَ الْمُجَامَعَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا ذَكَرَ أَنَّهُ نَكَحَ امْرَأَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ فَقَدِ اسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْعَقْدِ، فَلَمْ تَحْتَمِلِ الْكَلِمَةُ غَيْرَ الْمُجَامَعَةِ، فَهَذَا تَمَامُ مَا فِي هَذَا/ اللَّفْظِ مِنَ الْبَحْثِ، وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَنْكِحُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْ لَا تَعْقِدُوا عَلَيْهِنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكِ هَلْ يَتَنَاوَلُ الْكُفَّارَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ، وَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكِ يَنْدَرِجُ فِيهِ الْكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 30] ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التَّوْبَةِ: 31] وَهَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أن اليهودي والنصراني مشرك وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الشِّرْكِ قَدْ يَغْفِرُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجُمْلَةِ فَلَوْ كَانَ كُفْرُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ لَيْسَ بِشِرْكٍ لَوَجَبَ

بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجُمْلَةِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا عَلِمْنَا أَنَّ كُفْرَهُمَا شِرْكٌ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ [الْمَائِدَةِ: 73] فَهَذَا التَّثْلِيثُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِاعْتِقَادِهِمْ وُجُودَ صِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ، أَوْ لِاعْتِقَادِهِمْ وُجُودَ ذَوَاتٍ ثَلَاثَةٍ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا غَيْرُ الْمَفْهُومِ مِنْ كَوْنِهِ قَادِرًا وَمِنْ كَوْنِهِ حَيًّا، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَفْهُومَاتُ الثَّلَاثَةُ لَا بُدَّ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِهَا، كَانَ الْقَوْلُ بِإِثْبَاتِ صِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ مِنْ ضَرُورَاتِ دِينِ الْإِسْلَامِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَكْفِيرُ النَّصَارَى بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا كَفَّرَهُمْ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا ذَوَاتًا ثَلَاثَةً قَدِيمَةً مُسْتَقِلَّةً، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوا فِي أُقْنُومِ الْكَلِمَةِ أَنْ يَحِلَّ فِي عِيسَى، وَجَوَّزُوا فِي أُقْنُومِ الْحَيَاةِ أَنْ يَحِلَّ فِي مَرْيَمَ وَلَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْمُسَمَّاةَ عِنْدَهُمْ بِالْأَقَانِيمِ ذَوَاتٌ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا، لَمَّا جَوَّزُوا عَلَيْهَا الِانْتِقَالَ مِنْ ذَاتٍ إِلَى ذَاتٍ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِإِثْبَاتِ ذَوَاتٍ قَائِمَةٍ بِالنَّفْسِ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ وَهَذَا شِرْكٌ، وَقَوْلٌ بِإِثْبَاتِ الْآلِهَةِ، فَكَانُوا مُشْرِكِينَ، وَإِذَا ثَبَتَ دُخُولُهُمْ تَحْتَ اسْمِ الْمُشْرِكِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْيَهُودِيُّ كَذَلِكَ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ وَرَابِعُهَا: مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَّرَ أَمِيرًا وَقَالَ: إِذَا لَقِيتَ عَدَدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَإِنْ أَبَوْا فَادْعُهُمْ إِلَى الْجِزْيَةِ وَعَقْدِ الذِّمَّةِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، سَمَّى مَنْ يُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَعَقْدُ الذِّمَّةِ بِالْمُشْرِكِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ يُسَمَّى بِالْمُشْرِكِ وَخَامِسُهَا: مَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ فَقَالَ: كُلُّ مَنْ جَحَدَ رِسَالَتَهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدِهِ كَانَتْ خَارِجَةً عَنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، وَكَانُوا مُنْكِرِينَ صُدُورَهَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ كَانُوا يُضِيفُونَهَا إِلَى الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ فِيهَا: إِنَّهَا سِحْرٌ وَحَصَلَتْ مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، فَالْقَوْمُ قَدْ أَثْبَتُوا شَرِيكًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي خَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْخَارِجَةِ عَنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِكَوْنِهِمْ مُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْإِلَهِ إِلَّا مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَاعْتَرَضَ الْقَاضِي فَقَالَ: إِنَّمَا يَلْزَمُ هَذَا إِذَا سَلَّمَ الْيَهُودِيُّ أَنَّ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ من الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ إِذَا أَضَافَهُ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ مُشْرِكًا، أَمَّا إِذَا أَنْكَرَ ذَلِكَ وَزَعَمَ أَنَّ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِنْسِ مَا يَقْدِرُ الْعِبَادُ عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مُشْرِكًا بِسَبَبِ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِإِقْرَارِهِ أَنَّ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ خَارِجَةٌ عَنْ مَقْدُورِ الْبَشَرِ أَمْ لَا، إِنَّمَا الِاعْتِبَارُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمُعْجِزَ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، فَمَنْ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ مُشْرِكًا، كَمَا أَنَّ إِنْسَانًا لَوْ قَالَ: إِنَّ خَلْقَ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِ الْبَشَرِ ثُمَّ أَسْنَدَ خَلْقَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ إِلَى الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ كَانَ مُشْرِكًا فَكَذَا هاهنا، فَهَذَا مَجْمُوعُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ يَدْخُلَانِ تَحْتَ اسْمِ الْمُشْرِكِ، وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاهُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَصَلَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الذِّكْرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ اسْمِ الْمُشْرِكِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى فَصَلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [الْحَجِّ: 17] وَقَالَ أَيْضًا: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ [الْبَقَرَةِ: 105] وَقَالَ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ [الْبَيِّنَةِ: 1] فَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ فَصَلَ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ وَعَطَفَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّغَايُرَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا مُشْكِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الْأَحْزَابِ: 7] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنْ قَالُوا إِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى كمال

الدَّرَجَةِ فِي ذَلِكَ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ، قُلْنَا: فَهَهُنَا أَيْضًا إِنَّمَا خَصَّ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِهَذَا الِاسْمِ تَنْبِيهًا عَلَى كَمَالِ دَرَجَتِهِمْ فِي هَذَا الْكُفْرِ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يَنْدَرِجُونَ تَحْتَ اسْمِ الْمُشْرِكِ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ فَقَالَ قَوْمٌ: وُقُوعُ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَائِلُونَ بِالشِّرْكِ، وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي هَذَا الِاسْمُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ، وَاحْتَجَّا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ قَدْ تَوَاتَرَ النَّقْلُ عَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يُسَمِّي كُلَّ مَنْ كَانَ كَافِرًا بِالْمُشْرِكِ، وَمَنْ كَانَ فِي الْكُفَّارِ مَنْ لَا يُثْبِتُ إِلَهًا أَصْلًا أَوْ كَانَ شَاكًّا فِي وُجُودِهِ، أَوْ كَانَ شَاكًّا فِي وُجُودِ الشَّرِيكِ، وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ كَانَ عِنْدَ الْبَعْثَةِ مُنْكِرًا لِلْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ مُنْكِرًا لِلْبَعْثَةِ وَالتَّكْلِيفِ، وَمَا كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا مِنَ الْأَوْثَانِ، وَالَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ فِيهِمْ مَنْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهَا شُرَكَاءُ اللَّهِ فِي الْخَلْقِ وَتَدْبِيرِ الْعَالَمِ، بَلْ كَانُوا يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ مُعِينٌ فِي خَلْقِ الْعَالَمِ وَتَدْبِيرِهِ وَشَرِيكٌ وَنَظِيرٌ إِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ وُقُوعَ اسْمِ الْمُشْرِكِ عَلَى الْكَافِرِ لَيْسَ مِنَ الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ، بَلْ مِنَ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ، كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهِمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ انْدِرَاجُ كُلِّ كَافِرٍ تَحْتَ هَذَا الِاسْمِ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ/ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اسْمَ الْمُشْرِكِ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ قَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ نَهْيٌ عَنْ نِكَاحِ الْوَثَنِيَّةِ، أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اسْمَ الْمُشْرِكِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْكُفَّارِ قَالُوا: ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْكَافِرَةِ أَصْلًا، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ لَا، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الْأَئِمَّةِ قَالُوا إِنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْكِتَابِيَّةِ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَمُحَمَّدِ بن الْحَنَفِيَّةِ وَالْهَادِي وَهُوَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الزَّيْدِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ، حُجَّةُ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْمَائِدَةِ: 5] وَسُورَةُ الْمَائِدَةِ كُلُّهَا ثَابِتَةٌ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ قَطُّ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ: مَنْ آمَنُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؟. قُلْنَا: هَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ تَعَالَى أَوَّلًا أَحَلَّ الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ آمَنَ مِنْهُنَّ بَعْدَ الْكُفْرِ، وَمَنْ كُنَّ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَلِأَنَّ قوله: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [البقرة: 101] يُفِيدُ حُصُولَ هَذَا الْوَصْفِ فِي حَالَةِ الْإِبَاحَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ بِالْكِتَابِيَّاتِ، وَمَا ظَهَرَ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِنْكَارٌ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ هَذَا إِجْمَاعًا عَلَى الْجَوَازِ. نُقِلَ أَنَّ حُذَيْفَةَ تَزَوَّجَ بِيَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنْ خَلِّ سَبِيلَهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَتَزْعُمُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ فَقَالَ: لَا وَلَكِنَّنِي أَخَافُ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَتَزَوَّجُ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا يَتَزَوَّجُونَ نِسَاءَنَا» وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِي الْمَجُوسِ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ» وَلَوْ لَمْ يَكُنْ نِكَاحُ نِسَائِهِمْ جَائِزًا لَكَانَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ عَبَثًا، واحتج القائلون بأنه لا يجوز بأمور أَوَّلُهَا: أَنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكِ يَتَنَاوَلُ الْكِتَابِيَّةَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَقَوْلُهُ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ صَرِيحٌ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ، وَالتَّخْصِيصُ والنسخ خلاف

الظَّاهِرِ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالُوا: وَفِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَالْوَصْفُ إِذَا ذُكِرَ عُقَيْبَ الْحُكْمِ، وَكَانَ الْوَصْفُ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ عِلَّةٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ نِكَاحَ الْمُشْرِكَاتِ لِأَنَّهُنَّ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ قَائِمَةٌ فِي الْكِتَابِيَّةِ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةً. وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: لَهُمْ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَتَلَا آيَةَ التَّحْرِيمِ وَآيَةَ التَّحْلِيلِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَبْضَاعِ الْحُرْمَةُ، فَلَمَّا تَعَارَضَ دَلِيلُ الْحُرْمَةِ تَسَاقَطَا، فَوَجَبَ بَقَاءُ/ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ لَمَّا سُئِلَ عُثْمَانُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، فَقَالَ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، فَحَكَمْتُمْ عِنْدَ ذَلِكَ بالتحريم للسبب الذي ذكرناه فكذا هاهنا. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: لَهُمْ: حَكَى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَحْرِيمَ أَصْنَافِ النِّسَاءِ إِلَّا الْمُؤْمِنَاتِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [الْمَائِدَةِ: 5] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ كَالْمُرْتَدَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: التَّمَسُّكُ بِأَثَرِ عُمَرَ: حُكِيَ أَنَّ طَلْحَةَ نَكَحَ يَهُودِيَّةً، وَحُذَيْفَةُ نَصْرَانِيَّةً، فَغَضِبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهِمَا غَضَبًا شَدِيدًا، فَقَالَا: نَحْنُ نُطَلِّقُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا تَغْضَبْ، فَقَالَ: إِنْ حَلَّ طَلَاقُهُنَّ فَقَدْ حَلَّ نِكَاحُهُنَّ، وَلَكِنْ أَنْتَزِعُهُنَّ مِنْكُمْ. أَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنِ الْحُجَّةِ الْأُولَى بِأَنَّ مَنْ قَالَ: الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ اسْمِ الْمُشْرِكِ فَالْإِشْكَالُ عَنْهُ سَاقِطٌ، وَمَنْ سَلَّمَ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْمَائِدَةِ: 5] أَخَصُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ ثَبَتَتْ ثُمَّ زَالَتْ جَعَلْنَا قَوْلَهُ: وَالْمُحْصَناتُ نَاسِخًا، وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ جَعَلْنَاهُ مُخَصَّصًا، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ النَّسْخَ وَالتَّخْصِيصَ خِلَافُ الْأَصْلِ، إلا أنه لما كان لا سبيل إلا التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ إِلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، أَمَّا قَوْلُهُ ثَانِيًا إِنَّ تَحْرِيمَ نِكَاحِ الْوَثَنِيَّةِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهَا تَدْعُو إِلَى النَّارِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ فِي الْكِتَابِيَّةِ، قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُشْرِكَةَ مُتَظَاهِرَةٌ بِالْمُخَالَفَةِ وَالْمُنَاصَبَةِ، فَلَعَلَّ الزَّوْجَ يُحِبُّهَا، ثُمَّ إِنَّهَا تَحْمِلُهُ عَلَى الْمُقَاتَلَةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الذِّمِّيَّةِ، لِأَنَّهَا مَقْهُورَةٌ رَاضِيَةٌ بِالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ، فَلَا يُفْضِي حُصُولُ ذَلِكَ النِّكَاحِ إِلَى الْمُقَاتَلَةِ، أَمَّا قَوْلُهُ ثَالِثًا إِنَّ آيَةَ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ قَدْ تَعَارَضَتَا، فَنَقُولُ: لَكِنَّ آيَةَ التَّحْلِيلِ خَاصَّةٌ وَمُتَأَخِّرَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلَى آيَةِ التَّحْرِيمِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْآيَتَيْنِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ تَيْنِكَ الْآيَتَيْنِ أَخَصُّ مِنَ الْأُخْرَى مِنْ وَجْهٍ وَأَعَمُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَلَمْ يحصل سبب الترجيح فيه. أما قوله هاهنا: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْمَائِدَةِ: 5] أَخَصُّ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ مُطْلَقًا، فَوَجَبَ حُصُولُ التَّرْجِيحِ. وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [الْمَائِدَةِ: 5] . فَجَوَابُهُ: أَنَّا لَمَّا فَرَّقْنَا بَيْنَ الْكِتَابِيَّةِ وَبَيْنَ الْمُرْتَدَّةِ فِي أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا فِي هَذَا الْحُكْمِ؟.

وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِأَثَرِ عُمَرَ فَقَدْ نَقَلْنَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَإِذَا حَصَلَ التَّعَارُضُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: حَتَّى يُؤْمِنَّ الْإِقْرَارُ بِالشَّهَادَةِ وَالْتِزَامُ/ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَعِنْدَ هَذَا احْتَجَّتِ الْكَرَّامِيَّةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ وَقَالُوا إِنَّ الله تعالى جعل الإيمان هاهنا غاية التحريم والذي هو غاية التحريم هاهنا الْإِقْرَارُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِقْرَارِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى فَسَادِ هَذَا الْمَذْهَبِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّا بَيَّنَّا بِالدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَةِ: 3] أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [الْبَقَرَةِ: 8] وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِبَارَةً عَنْ مُجَرَّدِ الإقرار لكان قوله تعالى: ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ كَذِبًا وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا [الْحُجُرَاتِ: 14] وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِبَارَةً عَنْ مُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ لَكَانَ قَوْلُهُ: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا كَذِبًا، ثُمَّ أَجَابُوا عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ فَأُقِيمَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ مَقَامَ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَزْوِيجِ الْمُشْرِكَاتِ قَالَ الْقَاضِي: كَوْنُهُمْ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مُقْدِمِينَ عَلَى نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ إِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ لَا مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ امْتَنَعَ وَصْفُ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهَا نَاسِخَةٌ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ يَجِبُ أَنْ يكون حُكْمَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ، أَمَّا إِنْ كَانَ جَوَازُ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ ثَابِتًا مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةً. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلَأَمَةٌ فِي إِفَادَةِ التَّوْكِيدِ تُشْبِهُ لَامَ الْقَسَمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الخير هو النفع الحسن: والمعنى: أن الشركة لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي الْمَالِ وَالْجِمَالِ وَالنَّسَبِ، فَالْأَمَةُ الْمُؤْمِنَةُ خَيْرٌ مِنْهَا لَأَنَّ الْإِيمَانَ مُتَعَلِّقٌ بِالدِّينِ وَالْمَالُ وَالْجَمَالُ وَالنَّسَبُ مُتَعَلِّقٌ بِالدُّنْيَا وَالدِّينُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَلِأَنَّ الدِّينَ أَشْرَفُ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ فَعِنْدَ التَّوَافُقِ فِي الدِّينِ تَكْمُلُ الْمَحَبَّةُ فَتَكْمُلُ مَنَافِعُ الدُّنْيَا مِنَ الصِّحَّةِ وَالطَّاعَةِ وَحِفْظِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ لَا تَحْصُلُ الْمَحَبَّةُ، فَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ يَدُلُّ عَلَى صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ بِحُسْنِهَا أَوْ مَالِهَا أَوْ حُرِّيَّتِهَا أَوْ نَسَبِهَا، فَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: إِنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ يَجُوزُ لَهُ التَّزَوُّجُ بِالْأَمَةِ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْوَاجِدَ لطول الحرة المشركة يجوز له التزوج بِالْأَمَةِ لَكِنَّ الْوَاجِدَ لِطَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُشْرِكَةِ يَكُونُ لَا مَحَالَةَ وَاجِدًا لِطَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ لِأَنَّ سَبَبَ التَّفَاوُتِ فِي الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ لَا يَتَفَاوَتُ بِقَدْرِ الْمَالِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ فِي أُهْبَةِ النِّكَاحِ، / فَيَلْزَمُ قَطْعًا أَنْ يَكُونَ الْوَاجِدُ لِطَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ لِطَيْفٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ يَقْتَضِي حُرْمَةَ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ،

ثُمَّ قَوْلُهُ: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّزَوُّجِ بِالْمُشْرِكَةِ لِأَنَّ لَفْظَةَ أَفْعَلَ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الصِّفَةِ وَلِأَحَدِهِمَا مَزِيَّةٌ. قُلْنَا: نِكَاحُ الْمُشْرِكَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَنَافِعِ الدُّنْيَا، وَنِكَاحُ الْمُؤْمِنَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَنَافِعِ الْآخِرَةِ، وَالنَّفْعَانِ يَشْتَرِكَانِ في أصل كونهما نفعا، إلا أن نَفْعًا، إِلَّا أَنَّ نَفْعَ الْآخِرَةِ لَهُ الْمَزِيَّةُ الْعُظْمَى، فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا فَلَا خلاف هاهنا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكُلُّ وَأَنَّ الْمُؤْمِنَةَ لَا يَحِلُّ تَزْوِيجُهَا مِنَ الْكَافِرِ أَلْبَتَّةَ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِ الْكَفَرَةِ. وَقَوْلُهُ: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ فَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ. أَمَّا قَوْلُهُ: أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ: مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غَافِرٍ: 41] . فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَرُبَّمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِالنَّارِ أَصْلًا، فَكَيْفَ يَدْعُونَ إِلَيْهَا. وَجَوَابُهُ: أَنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى مَا يُؤَدِّي إِلَى النَّارِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ مَظِنَّةُ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْمُوَافَقَةَ فِي الْمَطَالِبِ وَالْأَغْرَاضِ، وَرُبَّمَا يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى انْتِقَالِ الْمُسْلِمِ عَنِ الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ مُوَافَقَةِ حَبِيبِهِ. فَإِنْ قِيلَ: احْتِمَالُ الْمَحَبَّةِ حَاصِلٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَكَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَصِيرَ الْمُسْلِمُ كَافِرًا بِسَبَبِ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، يُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَصِيرَ الْكَافِرُ مُسْلِمًا بِسَبَبِ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَإِذَا تَعَارَضَ الِاحْتِمَالَانِ وَجَبَ أَنْ يَتَسَاقَطَا، فَيَبْقَى أَصْلُ الْجَوَازِ. قُلْنَا: إِنَّ الرُّجْحَانَ لِهَذَا الْجَانِبِ لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَنْتَقِلَ الْكَافِرُ عَنْ كُفْرِهِ يَسْتَوْجِبُ الْمُسْلِمُ بِهِ مَزِيدَ ثَوَابٍ وَدَرَجَةٍ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَنْتَقِلَ الْمُسْلِمُ عَنْ إِسْلَامِهِ يَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ الْعَظِيمَةَ، وَالْإِقْدَامُ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ يَلْحَقَهُ مَزِيدُ نَفْعٍ، وَبَيْنَ أَنْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ عَظِيمٌ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنِ الضَّرَرِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ رَجَّحَ اللَّهُ تَعَالَى جَانِبَ الْمَنْعِ عَلَى جَانِبِ الْإِطْلَاقِ. التَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ فِي النَّاسِ مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى تَرْكِ الْمُحَارَبَةِ وَالْقِتَالِ، وَفِي تَرْكِهِمَا وُجُوبُ اسْتِحْقَاقِ النَّارِ وَالْعَذَابِ وَغَرَضُ هَذَا الْقَائِلِ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا فَرْقًا بَيْنَ الذِّمِّيَّةِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا، فَإِنَّ الذِّمِّيَّةَ لَا تَحْمِلُ زَوْجَهَا عَلَى الْمُقَاتَلَةِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي يَحْدِثُ رُبَّمَا دَعَاهُ الْكَافِرُ إِلَى الْكُفْرِ فَيَصِيرُ الْوَلَدُ مِنْ أَهْلِ/ النَّارِ، فَهَذَا هُوَ الدعوة إلى النار وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ حَيْثُ أَمَرَنَا بِتَزْوِيجِ الْمُسْلِمَةِ حَتَّى يَكُونَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. أَمَّا قوله تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ يَدْعُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَعْدَاءُ اللَّهِ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ يَدْعُونَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ فَلَا جَرَمَ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يدور حول المشركات اللواتي هُنَّ أَعْدَاءُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَنْكِحَ الْمُؤْمِنَاتُ فَإِنَّهُنَّ يَدْعُونَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَأَبَاحَ بَعْضَهَا

[سورة البقرة (2) : آية 222]

وحرم بعضها، قال: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ لِأَنَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَا اسْتَحَقَّ الْجَنَّةَ وَالْمَغْفِرَةَ. أَمَّا قَوْلُهُ: بِإِذْنِهِ فَالْمَعْنَى بِتَيْسِيرِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ لِلْعَمَلِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الْجَنَّةَ وَالْمَغْفِرَةَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [يُونُسَ: 100] وَقَوْلُهُ: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 145] وَقَوْلُهُ: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 102] وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ بِالرَّفْعِ أَيْ وَالْمَغْفِرَةُ حَاصِلَةٌ بِتَيْسِيرِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فمعناه ظاهر. [سورة البقرة (2) : آية 222] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) الحكم السابع في المحيض فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ سِتَّةً مِنَ الْأَسْئِلَةِ، فَذَكَرَ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ بِغَيْرِ الْوَاوِ، وَذَكَرَ الثَّلَاثَةَ الْأَخِيرَةَ بِالْوَاوِ، وَالسَّبَبُ أَنَّ سُؤَالَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْحَوَادِثِ الْأُوَلِ وَقَعَ فِي أَحْوَالٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَلَمْ يُؤْتَ فِيهَا بِحَرْفِ الْعَطْفِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ السُّؤَالَاتِ سُؤَالٌ مُبْتَدَأٌ، / وَسَأَلُوا عَنِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَجِيءَ بِحَرْفِ الْجَمْعِ لِذَلِكَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَجْمَعُونَ لَكَ بَيْنَ السُّؤَالِ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَالسُّؤَالِ عَنْ كَذَا، وَالسُّؤَالِ عَنْ كَذَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ وَالْمَجُوسَ كَانُوا يُبَالِغُونَ فِي التَّبَاعُدِ عَنِ الْمَرْأَةِ حَالَ حَيْضِهَا، وَالنَّصَارَى كَانُوا يُجَامِعُونَهُنَّ، وَلَا يُبَالُونَ بِالْحَيْضِ، وَأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا، وَلَمْ يُشَارِبُوهَا، وَلَمْ يُجَالِسُوهَا عَلَى فُرُشٍ وَلَمْ يُسَاكِنُوهَا فِي بَيْتٍ كَفِعْلِ الْيَهُودِ وَالْمَجُوسِ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَأَخْرَجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ فَقَالَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْبَرْدُ شَدِيدٌ، وَالثِّيَابُ قَلِيلَةٌ، فَإِنْ آثَرْنَاهُنَّ بِالثِّيَابِ هَلَكَ سَائِرُ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَإِنِ اسْتَأْثَرْنَاهَا هَلَكَتِ الْحُيَّضُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّمَا أَمَرْتُكُمْ أَنْ تَعْتَزِلُوا مُجَامَعَتَهُنَّ إِذَا حِضْنَ، وَلَمْ آمُرْكُمْ بِإِخْرَاجِهِنَّ مِنَ الْبُيُوتِ كَفِعْلِ الْأَعَاجِمِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْيَهُودُ ذَلِكَ قَالُوا: هَذَا الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ لَا يَدَعَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِنَا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ، ثُمَّ جَاءَ عَبَّادُ بْنُ بَشِيرٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَاهُ بِذَلِكَ وَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَنْكِحُهُنَّ فِي الْمَحِيضِ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ظننا أنه غضب عليها فَقَامَا، فَجَاءَتْهُ هَدِيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمَا فَسَقَاهُمَا فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَغْضَبْ عَلَيْهِمَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَصْلُ الْحَيْضِ فِي اللُّغَةِ السَّيْلُ يُقَالُ: حَاضَ السَّيْلُ وَفَاضَ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَمِنْهُ قِيلَ لِلْحَوْضِ حَوْضٌ، لِأَنَّ الْمَاءَ يَحِيضُ إِلَيْهِ أَيْ يَسِيلُ إِلَيْهِ، وَالْعَرَبُ تُدْخِلُ الْوَاوَ عَلَى الْيَاءِ وَالْيَاءَ عَلَى الْوَاوِ لِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْبِنَاءَ قَدْ يَجِيءُ لِلْمَوْضِعِ، كَالْمَبِيتِ، وَالْمَقِيلِ، وَالْمَغِيبِ، وَقَدْ يَجِيءُ أَيْضًا بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، يُقَالُ: حَاضَتْ مَحِيضًا، وَجَاءَ مَجِيئًا، وَبَاتَ مَبِيتًا، وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ: إِذَا كَانَ الْفِعْلُ مِنْ ذَوَاتِ الثَّلَاثَةِ، نَحْوَ: كَالَ يَكِيلُ، وَحَاضَ يَحِيضُ، وَأَشْبَاهُهُ فَإِنَّ الِاسْمَ مِنْهُ مَكْسُورٌ، وَالْمَصْدَرَ مَفْتُوحٌ مِنْ ذَلِكَ مَالَ مُمَالًا، وَهَذَا مُمِيلُهُ يَذْهَبُ بِالْكَسْرِ إِلَى الِاسْمِ، وَبِالْفَتْحِ إِلَى الْمَصْدَرِ، وَلَوْ فَتَحَهُمَا جَمِيعًا أَوْ كَسَرَهُمَا فِي الْمَصْدَرِ وَالِاسْمِ لَجَازَ، تَقُولُ الْعَرَبُ: الْمَعَاشُ وَالْمَعِيشُ، وَالْمَغَابُ وَالْمَغِيبُ، وَالْمَسَارُ وَالْمَسِيرُ، فَثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ الْمَحِيضِ حقيقة في موضوع الْحَيْضِ، وَهُوَ أَيْضًا اسْمٌ لِنَفْسِ الْحَيْضِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الأدباء زعموا أن المراد بالمحيض هاهنا الْحَيْضُ، وَعِنْدِي أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، إِذْ لَوْ كان المراد بالمحيض هاهنا الْحَيْضَ لَكَانَ قَوْلُهُ: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ مَعْنَاهُ: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْحَيْضِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ، فَيَكُونُ ظَاهِرُهُ مَانِعًا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِيمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَدُونَ الرُّكْبَةِ وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَنْعُ غَيْرَ ثَابِتٍ لَزِمَ الْقَوْلُ بِتَطَرُّقِ النَّسْخِ أَوِ التَّخْصِيصِ إِلَى الْآيَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الْأَصْلِ أَمَّا إِذَا حَمَلْنَا الْمَحِيضَ عَلَى مَوْضِعِ الْحَيْضِ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي/ مَوْضِعِ الْحَيْضِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَاعْتَزِلُوا مَوْضِعَ الْحَيْضِ مِنَ النِّسَاءِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَى الْآيَةِ نَسْخٌ وَلَا تَخْصِيصٌ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ، وَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا يُوجِبُ مَحْذُورًا وَعَلَى الْآخَرِ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ الْمَحْذُورَ، فَإِنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي لَا يُوجِبُ الْمَحْذُورَ أَوْلَى، هَذَا إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ لَفْظَ الْمَحِيضِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمَوْضِعِ وَبَيْنَ الْمَصْدَرِ، مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ أن استعمال هذا اللفظ في موضع أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ مِنْهُ فِي الْمَصْدَرِ. فَإِنْ قِيلَ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَحِيضِ الْحَيْضُ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ أَذىً أَيِ الْمَحِيضُ أَذًى، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَحِيضِ الْمَوْضِعَ لَمَا صَحَّ هَذَا الْوَصْفُ. قُلْنَا: بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمَحِيضُ عِبَارَةً عَنِ الْحَيْضِ، فَالْحَيْضُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِأَذًى لِأَنَّ الْحَيْضَ عِبَارَةٌ عَنِ الدَّمِ الْمَخْصُوصِ، وَالْأَذَى كَيْفِيَّةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَهُوَ عَرَضٌ، وَالْجِسْمُ لَا يَكُونُ نَفْسَ الْعَرَضِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَقُولُوا: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْحَيْضَ مَوْصُوفٌ بِكَوْنِهِ أَذًى، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَيَجُوزُ لَنَا أَيْضًا أَنْ نَقُولَ: الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ ذُو أَذًى، وَأَيْضًا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَحِيضِ الْأَوَّلِ هُوَ الْحَيْضَ، وَمِنَ الْمَحِيضِ الثَّانِي مَوْضِعَ الْحَيْضِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْإِشْكَالِ، فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ أَذىً فَقَالَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أَيْ قَذَرٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَذَى فِي اللُّغَةِ مَا يُكْرَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَقَوْلُهُ: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ الِاعْتِزَالُ التَّنَحِّي عَنِ الشَّيْءِ، قَدَّمَ ذِكْرَ الْعِلَّةِ وَهُوَ الْأَذَى، ثُمَّ رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ وُجُوبُ الِاعْتِزَالِ. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ الْأَذَى إِلَّا الدَّمَ وَهُوَ حَاصِلٌ وَقْتَ الِاسْتِحَاضَةِ مَعَ أَنَّ اعْتِزَالَ الْمَرْأَةِ فِي الِاسْتِحَاضَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ فَقَدِ انْتَقَضَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ. قُلْنَا: الْعِلَّةُ غَيْرُ مَنْقُوضَةٍ لِأَنَّ دَمَ الْحَيْضِ دَمٌ فَاسِدٌ يَتَوَلَّدُ مِنْ فَضْلَةٍ تَدْفَعُهَا طَبِيعَةُ الْمَرْأَةِ مِنْ طَرِيقِ الرَّحِمِ، وَلَوِ احْتَبَسَتْ تِلْكَ الْفَضْلَةُ لَمَرِضَتِ الْمَرْأَةُ، فَذَلِكَ الدَّمُ جَارٍ مجرى البول والغائط، فكان أذى وقذر، أَمَّا دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ دَمٌ صَالِحٌ يَسِيلُ مِنْ عُرُوقٍ تَنْفَجِرُ فِي عُمْقِ الرَّحِمِ فَلَا يَكُونُ أَذًى، هَذَا مَا عندي

في هذا الباب، وهو قاعدة طيبة، وبتقريرها يتلخص ظَاهِرُ الْقُرْآنِ مِنَ الطَّعْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ دَمَ الْحَيْضِ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتٍ حَقِيقِيَّةٍ وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، أَمَّا الصِّفَاتُ الْحَقِيقِيَّةُ فَأَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: الْمَنْبَعُ وَدَمُ الْحَيْضِ دَمٌ يَخْرُجُ مِنَ الرَّحِمِ، قَالَ تَعَالَى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ [الْبَقَرَةِ: 228] قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْحَيْضُ وَالْحَمْلُ، وَأَمَّا دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ الرَّحِمِ، لَكِنْ مِنْ عُرُوقٍ تَنْقَطِعُ فِي فَمِ الرَّحِمِ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صِفَةِ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ: «إِنَّهُ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ» وَهَذَا الْكَلَامُ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا فِي دفع للنقض/ عَنْ تَعْلِيلِ الْقُرْآنِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ صِفَاتِ دَمِ الْحَيْضِ: الصِّفَاتُ الَّتِي وَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَ الْحَيْضِ بِهَا أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَسْوَدُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ ثَخِينٌ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مُحْتَدِمٌ وَهُوَ الْمُحْتَرِقُ مِنْ شِدَّةِ حَرَارَتِهِ الرابعة: أَنَّهُ يَخْرُجُ بِرِفْقٍ وَلَا يَسِيلُ سَيَلَانًا وَالْخَامِسَةُ: أَنَّ لَهُ رَائِحَةً كَرِيهَةً بِخِلَافِ سَائِرِ الدِّمَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنَ الْفَضَلَاتِ الَّتِي تَدْفَعُهَا الطَّبِيعَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ بَحْرَانِيٌّ، وَهُوَ شَدِيدُ الْحُمْرَةِ وَقِيلَ: مَا تَحْصُلُ فِيهِ كُدُورَةٌ تَشْبِيهًا لَهُ بِمَاءِ الْبَحْرِ، فَهَذِهِ الصِّفَاتُ هِيَ الصِّفَاتُ الْحَقِيقِيَّةُ. ثُمَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: دَمُ الْحَيْضِ يَتَمَيَّزُ عَنْ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ فَكُلُّ دَمٍ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَهُوَ دَمُ الْحَيْضِ، وَمَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ دَمَ حَيْضٍ، وَمَا اشْتَبَهَ الْأَمْرُ فِيهِ فَالْأَصْلُ بَقَاءُ التَّكَالِيفِ وَزَوَالُهَا إِنَّمَا يَكُونُ لِعَارِضِ الْحَيْضِ، فَإِذَا كَانَ غَيْرَ مَعْلُومِ الْوُجُودِ بَقِيَتِ التَّكَالِيفُ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى مَا كَانَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَذِهِ الصِّفَاتُ قَدْ تَشْتَبِهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ، فَإِيجَابُ التأمل في تلك الدماء وفي تلك الدماء وفي الصِّفَاتِ يَقْتَضِي عُسْرًا وَمَشَقَّةً، فَالشَّارِعُ قَدَّرَ وَقْتًا مَضْبُوطًا مَتَى حَصَلَتِ الدِّمَاءُ فِيهِ كَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْحَيْضِ كَيْفَ كَانَتْ تِلْكَ الدِّمَاءُ، وَمَتَى حَصَلَتْ خَارِجَ ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ حُكْمُهَا حُكْمَ الْحَيْضِ كَيْفَ كَانَتْ صِفَةُ تِلْكَ الدِّمَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا إِسْقَاطُ الْعُسْرِ وَالْمَشَقَّةِ عَنِ الْمُكَلَّفِ، ثُمَّ إِنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لِلْحَيْضِ هِيَ الْمَنْعُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَاجْتِنَابُ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَتَصِيرُ الْمَرْأَةُ بِهِ بَالِغَةً، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ لِلْحَيْضِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ إِنَّمَا هُوَ حَظْرُ الْجِمَاعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مُدَّةِ الْحَيْضِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَقَلُّهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَأَكْثَرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهَذَا قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: أَقَلُّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ فَإِنْ نَقَصَ عَنْهُ فَهُوَ دَمٌ فَاسِدٌ، وَأَكْثَرُهُ عَشْرَةُ أَيَّامٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: وَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ بِقَوْلِ عَطَاءٍ: إِنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَأَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ تَرَكَهُ وَقَالَ مَالِكٌ لَا تَقْدِيرَ لِذَلِكَ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، فَإِنْ وُجِدَ سَاعَةً فَهُوَ حَيْضٌ، وَإِنْ وُجِدَ أَيَّامًا فَكَذَلِكَ، وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَالِكٍ فَقَالَ: لَوْ كَانَ الْمِقْدَارُ سَاقِطًا فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَيْضُ هُوَ الدَّمُ الْمَوْجُودُ مِنَ الْمَرْأَةِ فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يُوجَدَ فِي الدُّنْيَا مُسْتَحَاضَةٌ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ الدَّمِ يَكُونُ حَيْضًا عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَلِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، وَأَيْضًا رُوِيَ أَنَّ حَمْنَةَ اسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ وَلَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا إِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ حَيْضٌ، بَلْ أَخْبَرَهُمَا أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ حَيْضٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ اسْتِحَاضَةٌ، فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا يُمَيَّزُ دَمُ الْحَيْضِ عَنْ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ بِالصِّفَاتِ

الَّتِي ذَكَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدَمِ الْحَيْضِ، فَإِذَا عَلِمْنَا ثُبُوتَهَا حَكَمْنَا بِالْحَيْضِ، وَإِذَا عَلِمْنَا عَدَمَهَا حَكَمْنَا بِعَدَمِ الْحَيْضِ، وَإِذَا تَرَدَّدْنَا فِي الْأَمْرَيْنِ كَانَ طَرَيَانُ الْحَيْضِ مَجْهُولًا وَبَقَاءُ التَّكْلِيفِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ مَعْلُومٌ وَالْمَشْكُوكُ لَا يُعَارِضُ الْمَعْلُومَ، فَلَا جَرَمَ حُكِمَ بِبَقَاءِ التَّكَالِيفِ الْأَصْلِيَّةِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يُمَيَّزُ الْحَيْضُ عَنِ الِاسْتِحَاضَةِ وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ لِلْحَيْضِ زَمَانٌ مُعَيَّنٌ، وَحُجَّةُ مَالِكٍ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ عَلَامَةَ دَمِ الْحَيْضِ وَصِفَتَهُ بِقَوْلِهِ: «دَمُ الْحَيْضِ هُوَ الْأَسْوَدُ الْمُحْتَدِمُ» فَمَتَى كَانَ الدَّمُ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ الْحَيْضُ حَاصِلًا، فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَتَحْتَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: «إِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ» . الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي دَمِ الْحَيْضِ: هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ ذَكَرَ وَصْفَ كَوْنِهِ أَذًى فِي مَعْرِضِ بَيَانِ الْعِلَّةِ لِوُجُوبِ الِاعْتِزَالِ، وَإِنَّمَا كَانَ أَذًى لِلرَّائِحَةِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي فِيهِ، وَاللَّوْنِ الْفَاسِدِ وَلِلْحِدَّةِ الْقَوِيَّةِ الَّتِي فِيهِ، وَإِذَا كَانَ وُجُوبُ الِاعْتِزَالِ مُعَلَّلًا بِهَذِهِ الْمَعَانِي فَعِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَجَبَ الِاحْتِرَازُ عَمَلًا بِالْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّصْرِيحِ، وَعِنْدِي أَنَّ قَوْلَ مَالِكٍ قَوِيٌّ جِدًّا، أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَاحْتَجَّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ بِوَجْهَيْنِ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّهُ وُجِدَ دَمُ الْحَيْضِ فِي الْيَوْمِ بِلَيْلَتِهِ وَفِي الزَّائِدِ عَلَى الْعَشَرَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَفَ دَمَ الْحَيْضِ بِأَنَّهُ أَسْوَدُ مُحْتَدِمٌ، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ الْحَيْضُ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ تَرْكُنَا الْعَمَلَ بِهَذَا الدَّلِيلِ فِي الْأَقَلِّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَفِي الْأَكْثَرِ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِالِاتِّفَاقِ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: لِلشَّافِعِيِّ فِي جَانِبِ الزِّيَادَةِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَصَفَ النِّسْوَانَ بِنُقْصَانِ الدِّينِ، فَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: تَمْكُثُ إِحْدَاهُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لَا تُصَلِّي، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ قَدْ يَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الطُّهْرُ أَيْضًا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَيَكُونُ الْحَيْضُ نِصْفَ عُمْرِهَا، وَلَوْ كَانَ الْحَيْضُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمَا وُجِدَتِ امْرَأَةٌ لَا تُصَلِّي نِصْفَ عُمْرِهَا، أَجَابَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الشَّطْرَ لَيْسَ هُوَ النِّصْفَ بَلْ هُوَ الْبَعْضُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ تَكُونُ حَائِضًا نِصْفَ عُمْرِهَا، لِأَنَّ مَا مَضَى مِنْ عُمْرِهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ هُوَ مِنْ عُمْرِهَا. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الشَّطْرَ هُوَ النِّصْفُ، يُقَالُ: شَطَرْتُ الشَّيْءَ أَيْ جَعَلْتُهُ نِصْفَيْنِ، وَيُقَالُ فِي الْمَثَلِ: أَجْلِبُ جَلْبًا لَكَ شَطْرُهُ، أَيْ نِصْفُهُ، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تَمْكُثُ إِحْدَاهُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لا تصلي» إنما يتناول زمان هِيَ تُصَلِّي فِيهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا زَمَانَ الْبُلُوغِ، وَاحْتَجَّ/ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ وُجُوهٍ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَقَلُّ الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشر أَيَّامٍ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ لِأَحَدٍ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا الْحَيْضُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَرْبَعَةُ أَيَّامٍ إِلَى عَشْرَةِ أَيَّامٍ وَمَا زَادَ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ إِذَا ظَهَرَ عَنِ

الصَّحَابِيِّ وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ كَانَ إِجْمَاعًا وَالثَّانِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى الْعَقْلِ إِلَيْهِ مَتَى رُوِيَ عَنِ الصَّحَابِيِّ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ: «تَحِيضِي فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ فِي كُلِّ شَهْرٍ» مُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ حَيْضُ جَمِيعِ النِّسَاءِ فِي كُلِّ شَهْرٍ هَذَا الْقَدْرَ خَالَفْنَا هَذَا الظَّاهِرَ فِي الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ فَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ: «مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِعُقُولِ ذَوِي الْأَلْبَابِ مِنْهُنَّ، فَقِيلَ مَا نُقْصَانُ دِينِهِنَّ؟ قَالَ: تَمْكُثُ إِحْدَاهُنَّ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِي لَا تُصَلِّي» وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْحَيْضِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسم الأيام والليال، وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُهَا عَشَرَةٌ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ لَفْظُ الْأَيَّامِ، وَلَا يُقَالُ فِي الزَّائِدِ عَلَى الْعَشَرَةِ أَيَّامٌ، بَلْ يُقَالُ: أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا أَمَّا الثَّلَاثَةُ إِلَى الْعَشَرَةِ فَيُقَالُ فِيهَا أَيَّامٌ، وَأَيْضًا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ وَلَفْظُ الْأَيَّامِ مُخْتَصٌّ بِالثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي سَأَلَتْهُ أَنَّهَا تُهْرِقُ الدَّمَ، فَقَالَ: لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ مِنَ الشَّهْرِ فَلْتَتْرُكِ الصَّلَاةَ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنَ الشَّهْرِ، ثُمَّ لِتَغْتَسِلْ وَلْتُصَلِّ. فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّ حَيْضَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ كَانَ مُقَدَّرًا بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ. قُلْنَا: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا سَأَلَهَا عَنْ قَدْرِ حَيْضِهَا بَلْ حَكَمَ عَلَيْهَا بِهَذَا الْحُكْمِ مُطْلَقًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ مُطْلَقًا مُقَدَّرٌ بِمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْأَيَّامِ وَأَيْضًا قَالَ فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ حَيْضِهَا، وَذَلِكَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: وَهِيَ حُجَّةٌ ذَكَرَهَا الْجُبَّائِيُّ مِنْ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي «تَفْسِيرِهِ» فَقَالَ: إِنَّ فَرْضَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ لَازِمٌ يَتَعَيَّنُ لِلْعُمُومَاتِ الدَّالَّةِ على وجوبها تُرِكَ الْعَمَلُ بِهَا فِي الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ فَوَجَبَ بَقَاؤُهَا عَلَى الْأَصْلِ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثَةِ وَفَوْقَ الْعَشَرَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثَةِ حَصَلَ اخْتِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً فَلَمْ نَجْعَلْهُ حَيْضًا وَمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ فَفِيهِ أَيْضًا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً فَلَمْ نَجْعَلْهُ حَيْضًا، فَأَمَّا مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ فَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَجَعَلْنَاهُ حَيْضًا فَهَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى حُرْمَةِ الْجِمَاعِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى حَلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْمَرْأَةِ بِمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَدُونَ الرُّكْبَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا دُونَ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ، فَنَقُولُ: إِنْ فَسَّرْنَا الْمَحِيضَ بِمَوْضِعِ الْحَيْضِ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ كَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى تَحْرِيمِ الْجِمَاعِ فَقَطْ، فَلَا يَكُونُ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ مَا وَرَاءَهُ، بَلْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ، يَقُولُ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى حِلِّ مَا سِوَى الْجِمَاعِ، أَمَّا مَنْ يُفَسِّرُ الْمَحِيضَ بِالْحَيْضِ، كَانَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ عِنْدَهُ فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ، ثُمَّ يَقُولُ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِيمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَدُونَ الرُّكْبَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى الْبَاقِي عَلَى الْحُرْمَةِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ أَيْ وَلَا تُجَامِعُوهُنَّ، يُقَالُ قَرَبَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِذَا جَامَعَهَا، وَهَذَا كَالتَّأْكِيدِ لقوله تعالى:

فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَيُمْكِنُ أَيْضًا حَمْلُهَا عَلَى فَائِدَةٍ جَلِيلَةٍ جَدِيدَةٍ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ نَهْيًا عَنِ الْمُبَاشَرَةِ فِي مَوْضِعِ الدَّمِ وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ يَكُونُ نَهْيًا عَنِ الِالْتِذَاذِ بِمَا يَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَنَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ (حَتَّى يَطْهُرْنَ) خَفِيفَةً مِنَ الطَّهَارَةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَطْهُرْنَ بِالتَّشْدِيدِ، وَكَذَلِكَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، فَمَنْ خَفَّفَ فَهُوَ زَوَالُ الدَّمِ لِأَنَّ يَطْهُرْنَ من طهرت امرأة مِنْ حَيْضِهَا، وَذَلِكَ إِذَا انْقَطَعَ الْحَيْضُ، فَالْمَعْنَى: لا تقربون حَتَّى يَزُولَ عَنْهُنَّ الدَّمُ، وَمَنْ قَرَأَ: يَطْهُرْنَ بِالتَّشْدِيدِ فَهُوَ عَلَى مَعْنَى يَتَطَهَّرْنَ فَأَدْغَمَ كَقَوْلِهِ: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل: 1] ، ويا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [الْمُدَّثِّرِ: 1] أَيِ الْمُتَزَمِّلُ وَالْمُتَدَثِّرُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا انْقَطَعَ حَيْضُهَا لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ مُجَامَعَتُهَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَغْتَسِلَ مِنَ الْحَيْضِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا إِنْ رَأَتِ الطُّهْرَ دُونَ عَشْرَةِ أَيَّامٍ لَمْ يَقْرَبْهَا زَوْجُهَا، وَإِنْ رَأَتْهُ لِعَشْرَةِ أَيَّامٍ جَازَ أَنْ يَقْرَبَهَا قَبْلَ الِاغْتِسَالِ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الْقِرَاءَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ، حُجَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِذَا حَصَلَتْ قِرَاءَتَانِ مُتَوَاتِرَتَانِ وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قُرِئَ حَتَّى يَطْهُرْنَ بالتخفيف وبالتثقيل ويطهرن بِالتَّخْفِيفِ عِبَارَةٌ عَنِ انْقِطَاعِ الدَّمِ، وَبِالتَّثْقِيلِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّطَهُّرِ بِالْمَاءِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مُمْكِنٌ، وَجَبَ دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرَيْنِ، وَإِذَا كَانَ وَجَبَ أَنْ لَا تَنْتَهِيَ هَذِهِ الْحُرْمَةُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الْأَمْرَيْنِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ عَلَّقَ الْإِتْيَانَ عَلَى التَّطَهُّرِ بِكَلِمَةِ إِذَا وَكَلِمَةُ إِذَا لِلشَّرْطِ فِي اللُّغَةِ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْإِتْيَانُ عِنْدَ عَدَمِ التَّطَهُّرِ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ نَهَى عَنْ قُرْبَانِهِنَّ وَجَعَلَ غَايَةَ ذَلِكَ النَّهْيِ أَنْ يَطْهُرْنَ بِمَعْنَى يَنْقَطِعُ حَيْضُهُنَّ، وَإِذَا كَانَ انْقِطَاعُ الْحَيْضِ غَايَةً لِهَذَا النَّهْيِ وَجَبَ أَنْ لَا يَبْقَى هَذَا النَّهْيُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ، أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ بِأَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: حَتَّى يَطْهُرْنَ لَكَانَ مَا ذَكَرْتُمْ لَازِمًا، أَمَّا لَمَّا ضُمَّ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِذا تَطَهَّرْنَ صَارَ الْمَجْمُوعُ هُوَ الْغَايَةُ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: لَا تُكَلِّمْ فُلَانًا حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ فَإِذَا طَابَتْ نَفْسُهُ بَعْدَ الدُّخُولِ فَكَلِّمْهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّقَ إِبَاحَةُ كَلَامِهِ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ مِنَ التَّطَهُّرِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ التَّطَهُّرِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: هو الاغتسال وقال بعضهم: هو غَسْلُ الْمَوْضِعِ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ: هُوَ أَنْ تَغْسِلَ الْمَوْضِعَ وَتَتَوَضَّأَ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: فَإِذا تَطَهَّرْنَ حُكْمٌ عَائِدٌ إِلَى ذَاتِ الْمَرْأَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ هَذَا التَّطَهُّرُ فِي كُلِّ بَدَنِهَا لَا فِي بَعْضٍ مِنْ أَبْعَاضِ بَدَنِهَا وَالثَّانِي: أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى التَّطَهُّرِ الَّذِي يَخْتَصُّ الْحَيْضُ بِوُجُوبِهِ أَوْلَى مِنَ التَّطَهُّرِ الَّذِي يَثْبُتُ فِي الِاسْتِحَاضَةِ كَثُبُوتِهِ فِي الْحَيْضِ، فَهَذَا يُوجِبُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الِاغْتِسَالُ وَإِذَا أَمْكَنَ بِوُجُودِ

الْمَاءِ وَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَجْمَعَ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الِاغْتِسَالِ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَا التَّيَمُّمَ مَقَامَ الِاغْتِسَالِ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ قُرْبَانُهَا إِلَّا عِنْدَ الِاغْتِسَالِ بِالْمَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَقَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ: فَأْتُوهُنَّ فِي الْمَأْتَى فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَلَا تُؤْتُوهُنَّ فِي غَيْرِ الْمَأْتَى، وَقَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أَيْ فِي حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ، كَقَوْلِهِ: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الْجُمُعَةِ: 9] أَيْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ. الثَّانِي: قَالَ الْأَصَمُّ وَالزَّجَّاجُ: أَيْ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ يَحِلُّ لَكُمْ غِشْيَانُهُنَّ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَكُنَّ صَائِمَاتٍ، وَلَا مُعْتَكِفَاتٍ، وَلَا مُحْرِمَاتٍ الثَّالِثُ: وهو قول محمد بن الْحَنَفِيَّةِ فَأْتُوهُنَّ مِنْ قِبَلِ الْحَلَالِ دُونَ الْفُجُورِ، وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ لَفْظَةَ «حَيْثُ» حَقِيقَةٌ فِي الْمَكَانِ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ فَالْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي تَفْسِيرِ التَّوْبَةِ قَدْ تَقَدَّمَ فَلَا نُعِيدُهُ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: التَّوَّابُ هُوَ الْمُكْثِرُ مِنْ فِعْلِ مَا يُسَمَّى تَوْبَةً، وَقَدْ يُقَالُ هَذَا مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ يُكْثِرُ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ. فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُحِبُّ تَكْثِيرَ التَّوْبَةِ مُطْلَقًا وَالْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالْمُذْنِبِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُذْنِبًا وَجَبَ أَنْ لَا تَحْسُنَ مِنْهُ التَّوْبَةُ. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَأْمَنُ أَلْبَتَّةَ مِنَ التَّقْصِيرِ، فَتَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ دَفْعًا لِذَلِكَ التَّقْصِيرِ الْمُجَوَّزِ الثَّانِي: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ التَّوْبَةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الرُّجُوعِ وَرُجُوعُ الْعَبْدِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ مَحْمُودٌ اعْتَرَضَ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِأَنَّ التَّوْبَةَ وَإِنْ كَانَتْ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةً عَنِ الرُّجُوعِ، إِلَّا أَنَّهَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنِ النَّدَمِ عَلَى مَا فَعَلَ فِي الْمَاضِي، وَالتَّرْكِ فِي الْحَاضِرِ، وَالْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ مِثْلَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ دُونَ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ، وَلِأَبِي مُسْلِمٍ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ فَيَقُولُ: مُرَادِي مِنْ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى التَّوْبَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَقَدْ صَحَّ اللَّفْظُ وَسَلِمَ عَنِ السُّؤَالِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ حَمَلْتُهُ عَلَى التَّوْبَةِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ الْأَصْلِيَّةِ، لِئَلَّا يَتَوَجَّهَ الطَّعْنُ وَالسُّؤَالُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْزِيهُ عَنِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّائِبَ هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ، وَالْمُتَطَهِّرُ هُوَ الَّذِي مَا فَعَلَهُ تَنَزُّهًا عَنْهُ، وَلَا ثَالِثَ لِهَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ، لِأَنَّ الذَّنْبَ نَجَاسَةٌ رُوحَانِيَّةٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التَّوْبَةِ: 28] فَتَرْكُهُ يَكُونُ طَهَارَةً رُوحَانِيَّةً، وَبِهَذَا الْمَعْنَى يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهَّرٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الْعُيُوبِ وَالْقَبَائِحِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ طَاهِرُ الذَّيْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ: لَا يَأْتِيهَا فِي زَمَانِ الْحَيْضِ، وَأَنْ لَا يَأْتِيَهَا فِي غَيْرِ الْمَأْتَى عَلَى مَا قَالَ: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ: هَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِمَا قَبْلَ الْآيَةِ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ لُوطٍ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الْأَعْرَافِ: 82] فَكَانَ قَوْلُهُ: وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ تَرْكَ الْإِتْيَانِ فِي الْأَدْبَارِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَنَا بِالتَّطَهُّرِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَلَا جَرَمَ مَدَحَ الْمُتَطَهِّرَ فَقَالَ:

[سورة البقرة (2) : آية 223]

وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّطَهُّرُ بِالْمَاءِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التَّوْبَةِ: 108] فَقِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: إِنَّهُمْ كانوا يستنجون بالماء فأثنى الله عليهم. [سورة البقرة (2) : آية 223] نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) الحكم الثامن فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: مَنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي قُبُلِهَا مِنْ دُبُرِهَا كَانَ وَلَدُهَا أَحْوَلَ مُخَبَّلًا، وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَذَبَتِ الْيَهُودُ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَثَانِيهَا: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ، وَحَكَى وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَثَالِثُهَا: كَانَتِ الْأَنْصَارُ تُنْكِرُ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا، وَكَانُوا أَخَذُوا ذَلِكَ مِنَ الْيَهُودِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَفْعَلُ ذَلِكَ فَأَنْكَرَتِ الْأَنْصَارُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَرْثٌ لَكُمْ أَيْ مَزْرَعٌ وَمَنْبَتٌ لِلْوَلَدِ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ، فَفَرْجُ الْمَرْأَةِ كَالْأَرْضِ، وَالنُّطْفَةُ كَالْبَذْرِ، وَالْوَلَدُ كَالنَّبَاتِ الْخَارِجِ، وَالْحَرْثُ مَصْدَرٌ، وَلِهَذَا وَحَّدَ الْحَرْثَ فَكَانَ الْمَعْنَى نِسَاؤُكُمْ ذَوَاتُ حَرْثٍ لَكُمْ فِيهِنَّ تَحْرُثُونَ لِلْوَلَدِ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَأَيْضًا قَدْ يُسَمَّى مَوْضِعُ الشَّيْءِ بِاسْمِ الشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِ: فإنما هي إقبالي وَإِدْبَارُ وَيُقَالُ: هَذَا أَمْرُ اللَّهِ، أَيْ مَأْمُورُهُ، وَهَذَا شَهْوَةُ فُلَانٍ، أَيْ مُشْتَهَاهُ، فَكَذَلِكَ حَرْثُ الرَّجُلِ مَحْرَثُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الرَّجُلَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَأْتِيَهَا مِنْ قُبُلِهَا فِي قُبُلِهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَأْتِيَهَا مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا، فَقَوْلُهُ: أَنَّى شِئْتُمْ مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ، وَنَقَلَ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ تَجْوِيزُ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، وَسَائِرُ النَّاسِ كَذَّبُوا نَافِعًا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَاخْتِيَارُ السَّيِّدِ الْمُرْتَضَى مِنَ الشِّيعَةِ، وَالْمُرْتَضَى رَوَاهُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِتْيَانُ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ مِنْ وُجُوهٍ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةِ الْمَحِيضِ: قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة: 222] جَعَلَ قِيَامَ الْأَذَى عِلَّةً لِحُرْمَةِ إِتْيَانِ مَوْضِعِ الْأَذَى، وَلَا مَعْنَى لِلْأَذَى إِلَّا مَا يَتَأَذَّى الإنسان منه وهاهنا يَتَأَذَّى الْإِنْسَانُ بِنَتَنِ رَوَائِحِ ذَلِكَ الدَّمِ وَحُصُولُ هَذِهِ الْعِلَّةِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ أَظْهَرُ فَإِذَا كانت تلك العلة قائمة هاهنا وَجَبَ حُصُولُ الْحُرْمَةِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة: 222] وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يُفِيدُ وُجُوبَ إِتْيَانِهِنَّ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ مَنْ أَتَى الْمَرْأَةَ

وَجَبَ أَنْ يَأْتِيَهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ثُمَّ هَذَا غَيْرُ مَحْمُولٍ عَلَى الدُّبُرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ غَيْرُ وَاجِبٍ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْقُبُلِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: رَوَى خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَلَالٌ، فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ دَعَاهُ فَقَالَ: كَيْفَ قُلْتَ فِي أَيِّ الْخَرِبَتَيْنِ، أَوْ فِي أَيِّ الخرزتين، أو في أي الخصفتين، أو من قُبُلِهَا فِي قُبُلِهَا فَنَعَمْ، أَمِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا فَنَعَمْ، أَمِنْ دُبُرِهَا فِي دُبُرِهَا فَلَا، إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِ مِنَ الْحَقِّ: «لَا تؤتوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ» وَأَرَادَ بِخَرِبَتِهَا مَسْلَكَهَا، وَأَصْلُ الْخَرِبَةِ عُرْوَةُ الْمَزَادَةِ شَبَّهَ الثُّقْبَ بِهَا، وَالْخَرَزَةُ هِيَ الَّتِي يَثْقُبُهَا الْخَرَّازُ، كَنَى بِهِ عَنِ الْمَأْتَى، وَكَذَلِكَ الْخَصْفَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ: خَصَفْتُ الْجِلْدَ إِذَا خَرَزْتُهُ، حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ وُجُوهٌ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْحَرْثَ اسْمًا لِلْمَرْأَةِ فَقَالَ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَرْثَ اسْمٌ لِلْمَرْأَةِ لَا لِلْمَوْضِعِ الْمُعَيَّنِ، فَلَمَّا قَالَ بَعْدَهُ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ كَانَ الْمُرَادُ فَأْتُوا نِسَاءَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ فَيَكُونُ هَذَا إِطْلَاقًا فِي إِتْيَانِهِنَّ عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مَحَلُّ النِّزَاعِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ كَلِمَةَ «أَنَّى» مَعْنَاهَا أَيْنَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 37] وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَيْنَ شِئْتُمْ وَكَلِمَةُ: أَيْنَ شِئْتُمْ، تَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِ الأمكنة: اجْلِسْ أَيْنَ شِئْتَ وَيَكُونُ هَذَا تَخْيِيرًا بَيْنَ الْأَمْكِنَةِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ مِنْ قُبُلِهَا فِي قُبُلِهَا، أَوْ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْمَكَانَ وَاحِدٌ، وَالتَّعْدَادُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي طَرِيقِ الْإِتْيَانِ، وَاللَّفْظُ اللَّائِقُ بِهِ أَنْ يُقَالَ: اذْهَبُوا إِلَيْهِ كَيْفَ شئتم فلما لم يكن المذكور هاهنا لَفْظَةَ: كَيْفَ، بَلْ لَفْظَةُ «أَنَّى» وَيَثْبُتُ أَنَّ لَفْظَةَ «أَنَّى» مُشْعِرَةٌ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَمْكِنَةِ، ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْتُمْ بَلْ مَا ذَكَرْنَاهُ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: لَهُمْ: التَّمَسُّكُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [الْمُؤْمِنُونَ: 6] تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الذُّكُورِ لِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي حَقِّ النِّسْوَانِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِلْمَرْأَةِ: دُبُرُكِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ أَنَّهُ يَكُونُ طَلَاقًا، وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ دُبُرِهَا حَلَالًا لَهُ، هَذَا مَجْمُوعُ كَلَامِ الْقَوْمِ فِي هَذَا الْبَابِ. أَجَابَ الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ هَذِهِ الْآيَةِ إِتْيَانَ النِّسَاءِ فِي غَيْرِ الْمَأْتَى وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَرْثَ اسْمٌ لِمَوْضِعِ الْحِرَاثَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا لَيْسَتْ مَوْضِعًا لِلْحِرَاثَةِ، فَامْتَنَعَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْحَرْثِ عَلَى ذَاتِ الْمَرْأَةِ، وَيَقْتَضِي هَذَا الدليل أن لا يُطْلَقَ لَفْظُ الْحَرْثِ عَلَى ذَاتِ الْمَرْأَةِ إِلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِهَذَا الدَّلِيلِ فِي قَوْلِهِ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَرَّحَ هاهنا بِإِطْلَاقِ لَفْظِ الْحَرْثِ عَلَى ذَاتِ الْمَرْأَةِ، فَحَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى الْمَجَازِ الْمَشْهُورِ مِنْ تَسْمِيَةِ كُلِّ الشَّيْءِ بِاسْمِ جُزْئِهِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ مَفْقُودَةٌ فِي قوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ فوجب حمل الحرث هاهنا عَلَى/ مَوْضِعِ الْحِرَاثَةِ عَلَى التَّعْيِينِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ لَا دَلَالَةَ فِيهَا إِلَّا عَلَى إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي الْمَأْتَى.

الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى مَا ذَكَرُوهُ لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِمَّا ذَكَرُوهُ مِنْ وجهين أحدهما: قوله: قُلْ هُوَ أَذىً [البقرة: 222] وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فَلَوْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى التَّجْوِيزِ لَكَانَ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ وَبَيْنَ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّحْلِيلِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: الرِّوَايَاتُ الْمَشْهُورَةُ فِي أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ اخْتِلَافُهُمْ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ إِتْيَانُهَا مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا، وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ لَا يَكُونُ خَارِجًا عَنِ الْآيَةِ فَوَجَبَ كَوْنُ الْآيَةِ مُتَنَاوِلَةً لِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَمَتَى حَمَلْنَاهَا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إِلَى حَمْلِهَا عَلَى الصُّورَةِ الْأُخْرَى فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ لَيْسَ مَا ذَكَرُوهُ، وَعِنْدَ هَذَا نَبْحَثُ عَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ مَعْنَاهُ: فَأْتُوا مَوْضِعَ الْحَرْثِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِالْحَرْثِ فِي قَوْلِهِ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ الْمُعَيَّنَ لَمْ يَكُنْ حَمْلُ أَنَّى شِئْتُمْ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي مَكَانٍ، وَعِنْدَ هَذَا يُضْمِرُ فِيهِ زِيَادَةً، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ أَنَّى شِئْتُمْ فَيُضْمِرُ لَفْظَةَ: مَنْ، لَا يُقَالُ لَيْسَ حَمْلُ لَفْظِ الْحَرْثِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَالْتِزَامُ هَذَا الْإِضْمَارِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِ لَفْظِ الْحَرْثِ عَلَى الْمَرْأَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، حَتَّى لَا يُلْزِمَنَا هَذَا الْإِضْمَارُ لِأَنْ نَقُولَ: بَلْ هَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَبْضَاعِ الْحُرْمَةُ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَجَوَابُهُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [الْمُؤْمِنُونَ: 6] عَامٌّ، وَدَلَائِلُنَا خَاصَّةٌ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ. وَأَمَّا الرَّابِعُ: فَجَوَابُهُ: أَنَّ قَوْلَهُ: دُبُرُكِ عَلَيَّ حَرَامٌ، إِنَّمَا صَلُحَ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ مَحِلٌّ لِحِلِّ الْمُلَابَسَةِ وَالْمُضَاجَعَةِ، فَصَارَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: يَدُكِ طَالِقٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أَنَّى شِئْتُمْ وَالْمَشْهُورُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْتِيَهَا مِنْ قُبُلِهَا فِي قُبُلِهَا، وَمِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى: أَيَّ وَقْتٍ شِئْتُمْ مِنْ أَوْقَاتِ الْحِلَّ: يَعْنِي إِذَا لَمْ تَكُنْ أَجْنَبِيَّةً، أَوْ مُحَرَّمَةً، أَوْ صَائِمَةً، أَوْ حَائِضًا وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْكِحَهَا قَائِمَةً أَوْ بَارِكَةً، أَوْ مُضْطَجِعَةً، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ فِي الْفَرْجِ الرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى إن شاء، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَعْزِلْ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ الْخَامِسُ: مَتَى شِئْتُمْ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْمُخْتَارُ مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ؟. قُلْنَا: قَدْ ظَهَرَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ: مَنْ أَتَى/ الْمَرْأَةَ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا لِتَكْذِيبِ قَوْلِهِمْ، فَكَانَ الْأَوْلَى حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْأَوْقَاتُ فَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي هَذَا الْبَابِ، لِأَنَّ «أَنَّى» يَكُونُ بِمَعْنَى مَتَّى وَيَكُونُ بِمَعْنَى كَيْفَ وَأَمَّا الْعَزْلُ وَخِلَافُهُ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ «أَنَّى» لِأَنَّ حَالَ الْجِمَاعِ لَا يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ، فَلَا وَجْهَ لِحَمْلِ الْكَلَامِ إِلَّا عَلَى مَا قُلْنَا. أَمَّا قَوْلُهُ: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ فَمَعْنَاهُ: افْعَلُوا مَا تَسْتَوْجِبُونَ بِهِ الْجَنَّةَ وَالْكَرَامَةَ وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: قَدِّمْ لِنَفْسِكَ عَمَلًا صَالِحًا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى [الْبَقَرَةِ: 197] وَنَظِيرُ لفظ

[سورة البقرة (2) : آية 224]

التَّقْدِيمِ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فَرِيقٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَهُوَ قَوْلُهُ: قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ [ص: 60] . فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَعَلَّقَ هَذَا الْكَلَامُ بِمَا قَبْلَهُ؟. قُلْنَا: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْجِمَاعِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَالَّذِي عِنْدِي فِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ جَارٍ مَجْرَى التَّنْبِيهِ عَلَى سَبَبِ إِبَاحَةِ الْوَطْءِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: هَؤُلَاءِ النِّسْوَانُ إِنَّمَا حَكَمَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَةِ وَطْئِهِنَّ لَكُمْ لِأَجْلِ أَنَّهُنَّ حَرْثٌ لَكُمْ أَيْ بِسَبَبِ أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ الْوَلَدُ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أَيْ لَمَّا كَانَ السَّبَبُ فِي إِبَاحَةِ وَطْئِهَا لَكُمْ حُصُولَ الْحَرْثِ، فَأْتُوا حَرْثَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا غَيْرَ مَوْضِعِ الْحَرْثِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ دَلِيلًا عَلَى الْإِذْنِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَالْمَنْعِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَلَمَّا اشْتَمَلَتِ الْآيَةُ عَلَى الْإِذْنِ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْمَنْعِ عَنِ الْمَوْضِعِ الْآخَرِ، لَا جَرَمَ قَالَ: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ أَيْ لَا تَكُونُوا فِي قَيْدِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ بَلْ كُونُوا فِي قَيْدِ تَقْدِيمِ الطَّاعَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ ثُمَّ أَكَّدَهُ ثَالِثًا بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَهَذِهِ التَّهْدِيدَاتُ الثَّلَاثَةُ الْمُتَوَالِيَةُ لَا يَلِيقُ ذِكْرُهَا إِلَّا إِذَا كَانَتْ مَسْبُوقَةً بِالنَّهْيِ عَنْ شَيْءٍ لَذِيذٍ مُشْتَهًى، فَثَبَتَ أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ دَالٌّ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا الْعَمَلِ، وَمَا بَعْدَهَا أَيْضًا دَالٌّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُجْتَهِدِينَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي التَّقْوَى قَدْ تَقَدَّمَ، وَالْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَةِ: 46] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ أَوَّلُهَا: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَالْمُرَادُ مِنْهُ فِعْلُ الطَّاعَاتِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَرْكُ الْمَحْظُورَاتِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنِّي إِنَّمَا كَلَّفْتُكُمْ بِتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ فِي فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ لِأَجْلِ يَوْمِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْحِسَابِ، فَلَوْلَا ذَلِكَ الْيَوْمُ لَكَانَ تَحَمُّلُ الْمَشَقَّةِ فِي فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ عَبَثًا وَمَا أَحْسَنَ هَذَا التَّرْتِيبَ، ثُمَّ قَالَ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ رِعَايَةُ التَّرْتِيبِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْقُرْآنِ/ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ مَعَ كُلِّ وَعِيدٍ وَعْدًا وَالْمَعْنَى وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً بِالثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ فَحَذَفَ ذِكْرَهُمَا لِمَا أَنَّهُمَا كَالْمَعْلُومِ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب: 47] . [سورة البقرة (2) : آية 224] وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) الحكم التاسع في الأيمان وَالْمُفَسِّرُونَ أَكْثَرُوا مِنَ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَجْوَدُ مَا ذَكَرُوهُ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ، وَهُوَ الْأَحْسَنُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ نَهَى عَنِ الْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ بِكَثْرَةِ الْحَلِفِ بِهِ، لِأَنَّ مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ شَيْءٍ فِي مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي فَقَدْ جَعَلَهُ عُرْضَةً لَهُ يَقُولُ الرَّجُلُ: قَدْ جَعَلْتَنِي عُرْضَةً لِلَوْمِكَ،

وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَلَا تَجْعَلْنِي عُرْضَةً لِلَّوَائِمِ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ أَكْثَرَ الْحَلِفَ بِقَوْلِهِ: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [الْقَلَمِ: 10] وَقَالَ تَعَالَى: وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ [الْمَائِدَةِ: 89] وَالْعَرَبُ كَانُوا يَمْدَحُونَ الْإِنْسَانَ بِالْإِقْلَالِ مِنَ الْحَلِفِ، كَمَا قَالَ كُثَيِّرٌ: قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ وَالْحِكْمَةُ فِي الْأَمْرِ بِتَقْلِيلِ الْأَيْمَانِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ بِاللَّهِ انْطَلَقَ لِسَانُهُ بِذَلِكَ وَلَا يَبْقَى لِلْيَمِينِ فِي قَلْبِهِ وَقْعٌ، فَلَا يُؤْمَنُ إِقْدَامُهُ عَلَى الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، فَيَخْتَلُّ مَا هُوَ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ فِي الْيَمِينِ، وَأَيْضًا كُلَّمَا كَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى كَانَ أَكْمَلَ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَمِنْ كَمَالِ التَّعْظِيمِ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى أَجَلَّ وَأَعْلَى عِنْدَهُ مِنْ أَنْ يَسْتَشْهِدَ بِهِ فِي غَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: أَنْ تَبَرُّوا فَهُوَ عِلَّةٌ لِهَذَا النَّهْيِ، فَقَوْلُهُ: أَنْ تَبَرُّوا أَيْ إِرَادَةَ أَنْ تَبَرُّوا، وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ هَذَا لِمَا أَنَّ تَوَقِّيَ ذَلِكَ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ، فَتَكُونُونَ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ بَرَرَةً أَتْقِيَاءَ مُصْلِحِينَ فِي الْأَرْضِ غَيْرَ مُفْسِدِينَ. فَإِنْ قِيلَ: وَكَيْفَ يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الْحَلِفِ حُصُولُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ؟. قُلْنَا: لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ الْحَلِفَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَلُّ وَأَعْظَمُ أَنْ يُسْتَشْهَدَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ فِي/ مَطَالِبِ الدُّنْيَا وَخَسَائِسِ مَطَالِبِ الْحَلِفِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الْبِرِّ وَأَمَّا مَعْنَى التَّقْوَى فَظَاهِرٌ أَنَّهُ اتَّقَى أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ مَا يُخِلُّ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ فَمَتَى اعْتَقَدُوا فِي صِدْقِ لَهْجَتِهِ، وَبُعْدِهِ عَنِ الْأَغْرَاضِ الْفَاسِدَةِ فَيَقْبَلُونَ قَوْلَهُ فَيَحْصُلُ الصُّلْحُ بِتَوَسُّطِهِ. التَّأْوِيلُ الثَّانِي: قَالُوا: الْعُرْضَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَانِعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ اللُّغَةِ أَنَّهُ يُقَالُ: أَرَدْتُ أَفْعَلُ كَذَا فَعَرَضَ لِي أَمْرُ كَذَا، وَاعْتَرَضَ أَيْ تَحَامَى ذَلِكَ فَمَنَعَنِي مِنْهُ، وَاشْتِقَاقُهَا مِنَ الشَّيْءِ الَّذِي يُوضَعُ فِي عُرْضِ الطَّرِيقِ فَيَصِيرُ مَانِعًا لِلنَّاسِ مِنَ السُّلُوكِ وَالْمُرُورِ وَيُقَالُ: اعْتَرَضَ فُلَانٌ عَلَى كَلَامِ فُلَانٍ، وَجَعَلَ كَلَامَهُ مُعَارِضًا لِكَلَامٍ آخَرَ، أَيْ ذَكَرَ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ تَثْبِيتِ كَلَامِهِ، إِذَا عَرَفْتَ أَصْلَ الِاشْتِقَاقِ فَالْعُرْضَةُ فُعْلَةٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، كَالْقُبْضَةِ، وَالْغُرْفَةِ، فَيَكُونُ اسْمًا لِمَا يُجْعَلُ مُعْرَضًا دُونَ الشَّيْءِ، وَمَانِعًا مِنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْعُرْضَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَانِعِ، وَأَمَّا اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِأَيْمانِكُمْ فَهُوَ لِلتَّعْلِيلِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَلَا تَجْعَلُوا ذِكْرَ اللَّهِ مَانِعًا بِسَبَبِ أَيْمَانِكُمْ مِنْ أَنْ تَبَرُّوا أَوْ فِي أَنْ تَبَرُّوا، فَأُسْقِطَ حَرْفُ الْجَرِّ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ بِسَبَبِ ظُهُورِهِ، قَالُوا: وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَحْلِفُ عَلَى تَرْكِ الْخَيْرَاتِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، أَوْ إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، أَوْ إِحْسَانٍ إِلَى أَحَدِ أَدْعِيَائِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَخَافُ اللَّهَ أَنْ أَحْنَثَ فِي يَمِينِي فَيَتْرُكُ الْبِرَّ إِرَادَةَ الْبِرِّ فِي يَمِينِهِ فَقِيلَ: لَا تَجْعَلُوا ذِكْرَ اللَّهِ مَانِعًا بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَيْمَانِ عَنْ فِعْلِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى هَذَا أَجْوَدُ مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَقَدْ طَوَّلُوا فِي كَلِمَاتٍ أُخَرَ، وَلَكِنْ لَا فَائِدَةَ فِيهَا فَتَرَكْنَاهَا، ثُمَّ قَالَ في آخِرِ الْآيَةِ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ: إِنْ حَلَفْتُمْ يَسْمَعُ، وَإِنْ تَرَكْتُمُ الْحَلِفَ تَعْظِيمًا لِلَّهِ وَإِجْلَالًا لَهُ مِنْ أَنْ يُسْتَشْهَدَ بِاسْمِهِ الْكَرِيمِ فِي الْأَعْرَاضِ الْعَاجِلَةِ فَهُوَ عَلِيمٌ عَالِمٌ بِمَا في قلوبكم ونيتكم.

[سورة البقرة (2) : آية 225]

[سورة البقرة (2) : آية 225] لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّغْوُ السَّاقِطُ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ كَلَامًا أَوْ غَيْرَهُ، أَمَّا وُرُودُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي الْكَلَامِ، فَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْخَبَرُ وَالرِّوَايَةُ، أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [الْقَصَصِ: 55] وَقَوْلُهُ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً [الْوَاقِعَةِ: 25] وَقَوْلُهُ: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ/ وَالْغَوْا فِيهِ [فُصِّلَتْ: 26] وقوله: لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً [الْغَاشِيَةِ: 11] أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفُرْقَانِ: 72] فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ، وَإِذَا مَرُّوا بِالْكَلَامِ الَّذِي يَكُونُ لَغْوًا، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ، وَإِذَا مَرُّوا بِالْفِعْلِ الَّذِي يَكُونُ لَغْوًا. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِصَاحِبِهِ صَهْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَا» . وَأَمَّا الرِّوَايَةُ فَيُقَالُ: لَغَا الطَّائِرُ يَلْغُو لَغْوًا إِذَا صَوَّتَ، وَلَغْوُ الطَّائِرِ تَصْوِيتُهُ، وَأَمَّا وُرُودُ هَذَا اللَّفْظِ فِي غَيْرِ الْكَلَامِ، فَهُوَ أَنَّهُ يُقَالُ لِمَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَوْلَادِ الْإِبِلِ: لَغْوٌ، قَالَ جَرِيرٌ: يَعُدُّ النَّاسِبُونَ بَنِي تَمِيمٍ ... بُيُوتَ الْمَجْدِ أَرْبَعَةً كِبَارَا وَتُخْرِجُ مِنْهُمُ الْمَرْئِيَّ لَغْوًا ... كَمَا أَلْغَيْتَ فِي الدِّيَةِ الْحُوَارَا وَقَالَ الْعَجَّاجُ: وَرُبَّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ ... عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ قَالَ الْفَرَّاءُ: اللَّغَا، مَصْدَرٌ للغيت، واللغو مَصْدَرٌ لِلَغَوْتُ، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ. أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَقَدْ ذَكَرُوا وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ، مِمَّا يُؤَكِّدُونَ بِهِ كَلَامَهُمْ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمُ الْحَلِفُ، وَلَوْ قِيلَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ: سَمِعْتُكَ الْيَوْمَ تَحْلِفُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَلْفَ مَرَّةٍ لَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ قَالَ: لَا وَاللَّهِ أَلْفَ مَرَّةٍ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ اللَّغْوَ هُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَانَ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَهَذَا هُوَ اللَّغْوُ، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ وَيُوجِبُهَا فِيمَا إِذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَانَ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَحْكُمُ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ هُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَعِكْرِمَةَ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَمَكْحُولٍ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى قَوْلِهِ وُجُوُهٌ الْأَوَّلُ: مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَغْوُ الْيَمِينِ قَوْلُ الرَّجُلِ فِي كَلَامِهِ كَلَّا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ، وَلَا وَاللَّهِ» وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمٍ يَنْتَضِلُونَ، وَمَعَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَرَمَى رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: أَصَبْتَ وَاللَّهِ، ثُمَّ أَخْطَأَ، ثُمَّ قَالَ الَّذِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَنِثَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ أَيْمَانِ الرُّمَاةِ لَغْوٌ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا وَلَا عُقُوبَةَ» وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَيْمَانُ اللَّغْوِ مَا كَانَ فِي الْهَزْلِ وَالْمِرَاءِ وَالْخُصُومَةِ الَّتِي لَا يُعْقَدُ عَلَيْهَا الْقَلْبُ، وَأَثَرُ الصَّحَابِيِّ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ حُجَّةٌ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ يَدُلُّ

عَلَى أَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ كَالْمُقَابِلِ الْمُضَادِّ لِمَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ كَسْبِ الْقَلْبِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْ/ قَوْلِهِ: بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ هُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ الْإِنْسَانُ عَلَى الْجِدِّ وَيَرْبُطُ قَلْبَهُ بِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّغْوُ الَّذِي هُوَ كَالْمُقَابِلِ لَهُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَا لَا يَقْصِدُهُ الْإِنْسَانُ بِالْجِدِّ، وَلَا يَرْبُطُ قَلْبَهُ بِهِ، وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُ النَّاسِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَوُّدِ فِي الْكَلَامِ: لَا وَاللَّهِ بَلَى وَاللَّهِ، فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ بِالْجِدِّ أَنَّهُ كَانَ حَاصِلًا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَقَدْ قَصَدَ الْإِنْسَانُ بِذَلِكَ الْيَمِينِ تَصْدِيقَ قَوْلِ نَفْسِهِ وَرَبْطَ قَلْبِهِ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لغوا ألبتة بل كان ذلك حَاصِلًا بِكَسْبِ الْقَلْبِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ [البقرة: 224] وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنْ كَثْرَةِ الْحَلِفِ وَالْيَمِينِ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِيَادِ: لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ يُكْثِرُونَ الْحَلِفَ، فَذَكَرَ تَعَالَى عَقِيبَ قَوْلِهِ: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ حَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ الْحَلِفَ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِيَادِ فِي الْكَلَامِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْقَصْدِ إِلَى الْحَلِفِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِمْ، وَلَا كَفَّارَةَ، لِأَنَّ إِيجَابَ الْمُؤَاخَذَةِ وَالْكَفَّارَةِ عَلَيْهِمْ يُفْضِي إِمَّا إِلَى أَنْ يَمْتَنِعُوا عَنِ الْكَلَامِ، أَوْ يَلْزَمَهُمْ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ كَفَّارَةٌ وَكِلَاهُمَا حَرَجٌ فِي الدِّينِ فَظَهَرَ أَنَّ تَفْسِيرَ اللَّغْوِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا قَبْلَ الْآيَةِ، فَأَمَّا الَّذِي قال أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يُنَاسِبُ مَا قَبْلَ الْآيَةِ فَكَانَ تَأْوِيلُ الشَّافِعِيِّ أَوْلَى، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» الْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحَانِثِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُجِدِّ وَالْهَازِلِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْيَمِينَ مَعْنًى لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَصْدُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَهَاتَانِ الْحُجَّتَانِ يُوجِبَانِ الْكَفَّارَةَ فِي قَوْلِ النَّاسِ: لَا وَاللَّهِ بَلَى وَاللَّهِ، إِذَا حَصَلَ الْحِنْثُ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّغْوَ لَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُهُ بِمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَيَجِبُ تَفْسِيرُهُ بِمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ الْيَمِينَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُوَّةِ قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ أَيْ بِالْقُوَّةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْيَمِينِ تَقْوِيَةُ جَانِبِ الْبِرِّ عَلَى جَانِبِ الْحِنْثِ بِسَبَبِ الْيَمِينِ، وَهَذَا إِنَّمَا يُفْعَلُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ قَابِلًا لِلتَّقْوِيَةِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا وَقَعَ الْيَمِينُ عَلَى فِعْلٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَأَمَّا إِذَا وَقَعَ الْيَمِينُ عَلَى الْمَاضِي فَذَلِكَ لَا يَقْبَلُ التَّقْوِيَةَ الْبَتَّةَ، فَعَلَى هَذَا الْيَمِينُ عَلَى الْمَاضِي تَكُونُ خَالِيَةً عَنِ الْفَائِدَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهَا، وَالْخَالِي عَنِ الْمَطْلُوبِ يَكُونُ لَغْوًا، فَثَبَتَ أَنَّ اللَّغْوَ هُوَ الْيَمِينُ عَلَى الْمَاضِي، وَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَهُوَ قَابِلٌ لِلتَّقْوِيَةِ، فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْيَمِينُ خَالِيَةً عَنِ الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ مِنْهَا فَلَا تَكُونُ لَغْوًا. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ يَمِينِ اللَّغْوِ: هُوَ أَنَّهُ إِذَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِ طَاعَةٍ، أَوْ فِعْلِ مَعْصِيَةٍ، / فَهَذَا هُوَ يَمِينُ اللَّغْوِ وَهُوَ الْمَعْصِيَةُ. قَالَ تَعَالَى: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [الْقَصَصِ: 55] فَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُ بِتَرْكِ هَذِهِ الْأَيْمَانِ، ثُمَّ قَالَ: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أَيْ بِإِقَامَتِكُمْ عَلَى ذَلِكَ الَّذِي حَلَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الطَّاعَةِ وَفِعْلِ الْمَعْصِيَةِ، قَالُوا: وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُنَافٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لْيُكَفِّرْ» وَهَذَا التَّأْوِيلُ ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ صَارَتْ مُفَسَّرَةً فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ [الْمَائِدَةِ:

[سورة البقرة (2) : الآيات 226 إلى 227]

89] وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِالْمُؤَاخَذَةِ إِيجَابَ الْكَفَّارَةِ وَهَاهُنَا الْكَفَّارَةُ وَاجِبَةٌ، عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ لَيْسَ هُوَ هَذِهِ الصُّورَةَ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْمُقَابِلَ لِلَّغْوِ هُوَ كَسْبَ الْقَلْبِ، وَلَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُهُ بِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي حَلَفُوا عَلَيْهِ لِأَنَّ كَسْبَ الْقَلْبِ مُشْعِرٌ بِالشُّرُوعِ فِي فِعْلٍ جَدِيدٍ، فَأَمَّا الِاسْتِمْرَارُ عَلَى مَا كَانَ فَذَلِكَ لَا يُسَمَّى كَسْبَ الْقَلْبِ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: فِي تَفْسِيرِ يَمِينِ اللَّغْوِ: أَنَّهَا الْيَمِينُ الْمُكَفَّرَةُ سُمِّيَتْ لَغْوًا لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ أَسْقَطَتِ الْإِثْمَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ إِذَا كَفَّرْتُمْ، وَهَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَقَعُ سَهْوًا غَيْرَ مَقْصُودٍ إِلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أَيْ يُؤَاخِذُكُمْ إِذَا تَعَمَّدْتُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُقَابِلَ لِلْعَمْدِ هُوَ السَّهْوُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ، قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَاهُنَا وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَقَالَ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ وَعَقْدُ الْيَمِينِ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَقْدَ الْقَلْبِ بِهِ، وَلِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْعَقْدَ الَّذِي يُضَادُّ الْحَلَّ، فَلَمَّا ذَكَرَ هَاهُنَا قَوْلَهُ: بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الْعَقْدِ هُوَ عَقْدُ الْقَلْبِ، وَأَيْضًا ذَكَرَ الْمُؤَاخَذَةَ هَاهُنَا، وَلَمْ يُبَيِّن أَنَّ تِلْكَ الْمُؤَاخَذَةَ مَا هِيَ، وَبَيَّنَهَا فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ بِقَوْلِهِ: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ هِيَ الْكَفَّارَةُ، فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مُجْمَلَةٌ مِنْ وَجْهٍ، مُبَيَّنَةً مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَصَارَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُفَسِّرَةً لِلْأُخْرَى مِنْ وَجْهٍ، وَحَصَلَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الْجِدِّ وَرَبْطِ الْقَلْبِ، فَالْكَفَّارَةُ وَاجِبَةٌ فِيهَا، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ كَذَلِكَ فَكَانَتِ الْكَفَّارَةُ وَاجِبَةً فِيهَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ: الْغَفُورَ، مُبَالَغَةٌ فِي سَتْرِ الذُّنُوبِ، وَفِي إِسْقَاطِ عُقُوبَتِهَا، وَأَمَّا: الْحَلِيمُ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْحِلْمَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْأَنَاةُ وَالسُّكُونُ، يُقَالُ: ضَعِ الْهَوْدَجَ عَلَى أَحْلَمِ الْجِمَالِ، أَيْ عَلَى أَشَدِّهَا تُؤَدَةً فِي السَّيْرِ، وَمِنْهُ الْحُلْمُ لِأَنَّهُ يُرَى فِي حَالِ السُّكُونِ، وَحَلَمَةُ الثَّدْيِ، وَمَعْنَى: الْحَلِيمِ، فِي صِفَةِ اللَّهِ: الَّذِي لَا يُعَجِّلُ بالعقوبة، بل يؤخر عقوبة الكفار والفجار. [سورة البقرة (2) : الآيات 226 الى 227] لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) الحكم العاشر فيما يتعلق بالإيلاء والطلاق فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: آلَى يُؤَالِي إِيلَاءً، وَتَأَلَّى يَتَأَلَّى تَأَلِّيًا، وَائْتَلَى يَأْتَلِي ائْتِلَاءً، وَالِاسْمُ مِنْهُ أَلِيَّةٌ وَأَلُوَّةٌ، كِلَاهُمَا بِالتَّشْدِيدِ، وَحَكَى أبو عبيدة ألوة وألوة وألوة ثلاثة لُغَاتٍ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَلِيَّةُ وَالْقَسَمُ وَالْيَمِينُ، وَالْحَلِفُ، كُلُّهَا عِبَارَاتٌ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ، وَفِي الْحَدِيثِ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: «آلَيْتُ أَفْعَلُ خِلَافَ الْمُقَدِّرِينَ» وقال كثير:

قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... فَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بُرَّتِ هَذَا هُوَ مَعْنَى اللَّفْظِ بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ، أَمَّا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ فَهُوَ الْيَمِينُ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ، كَمَا إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُجَامِعُكِ، وَلَا أُبَاضِعُكِ، وَلَا أَقْرَبُكِ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: فِي الْآيَةِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ أَنْ يَعْتَزِلُوا مِنْ نِسَائِهِمْ، إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْبَاقِي عَلَيْهِ، وَأَنَا أَقُولُ: هَذَا الْإِضْمَارُ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِذَا حَمَلْنَا لَفْظَ الْإِيلَاءِ عَلَى الْمَعْهُودِ اللُّغَوِيِّ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ فِي الشَّرْعِ اسْتَغْنَيْنَا عَنْ هَذَا الْإِضْمَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّ الْإِيلَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ طَلَاقًا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ الرَّجُلُ لَا يُرِيدُ الْمَرْأَةَ وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ فَيَحْلِفُ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا، فَكَانَ يَتْرُكُهَا بِذَلِكَ لَا أَيِّمًا وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ مُضَارَّةُ الْمَرْأَةِ، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الْإِسْلَامِ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ أَيْضًا، فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَأَمْهَلَ لِلزَّوْجِ مُدَّةً حَتَّى يَتَرَوَّى وَيَتَأَمَّلَ، فَإِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي تَرْكِ هَذِهِ الْمُضَارَّةِ فَعَلَهَا، وَإِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي الْمُفَارَقَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ فَارَقَهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ آلَوْا مِنْ نِسَائِهِمْ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُقْسِمُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ نِسائِهِمْ فَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ يُقَالُ: الْمُتَعَارَفُ أَنْ يُقَالَ: حَلَفَ فُلَانٌ عَلَى/ كَذَا أَوْ آلَى عَلَى كَذَا، فَلِمَ أُبْدِلَتْ لَفْظَةُ عَلَى هَاهُنَا بِلَفْظَةِ (مِنْ) ؟. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُرَادَ لَهُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، كَمَا يُقَالُ: لِي مِنْكَ كَذَا وَالثَّانِي: أَنَّهُ ضَمَّنَ فِي هَذَا الْقَسَمِ مَعْنَى الْبُعْدِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَبْعُدُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ مُوَلِّينَ أَوْ مُقْسِمِينَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَاعْلَمْ أَنَّ التَّرَبُّصَ التَّلَبُّثُ وَالِانْتِظَارُ يُقَالُ: تَرَبَّصْتُ الشَّيْءَ تَرَبُّصًا، وَيُقَالُ: مَا لِي عَلَى هَذَا الْأَمْرِ رُبْصَةٌ، أَيْ تَلَبُّثٌ، وَإِضَافَةُ التَّرَبُّصِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إِضَافَةُ الْمَصْدَرِ إِلَى الظَّرْفِ كَقَوْلِهِ: بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ يَوْمٍ، أَيْ مَسِيرَةٌ فِي يَوْمٍ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. أما قوله: فَإِنْ فاؤُ فَمَعْنَاهُ فَإِنْ رَجَعُوا، وَالْفَيْءُ فِي اللُّغَةِ هُوَ رُجُوعُ الشَّيْءِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، وَلِهَذَا قِيلَ لِمَا تَنْسَخُهُ الشَّمْسُ مِنَ الظِّلِّ ثُمَّ يَعُودُ: فَيْءٌ، وَفَرَّقَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ بَيْنَ الْفَيْءِ وَالظِّلِّ، فَقَالُوا: الْفَيْءُ مَا كَانَ بِالْعَشِيِّ، لِأَنَّهُ الَّذِي نَسَخَتْهُ الشَّمْسُ وَالظِّلُّ مَا كَانَ بِالْغَدَاةِ لِأَنَّهُ لَمْ تَنْسَخْهُ الشَّمْسُ وَفِي الْجَنَّةِ ظِلٌّ وَلَيْسَ فِيهَا فَيْءٌ، لِأَنَّهُ لَا شَمْسَ فِيهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الْوَاقِعَةِ: 30] وَأَنْشَدُوا: فَلَا الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى يَسْتَطِيعُهُ ... وَلَا الْفَيْءُ مِنْ بَرْدِ الْعَشِيِّ يَذُوقُ وَقِيلَ: فُلَانٌ سَرِيعُ الْفَيْءِ وَالْفَيْئَةِ حَكَاهُمَا الْفَرَّاءُ عَنِ الْعَرَبِ، أَيْ سَرِيعُ الرُّجُوعِ عَنِ الْغَضَبِ إِلَى الْحَالَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَقِيلَ: لِمَا رَدَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَالِ الْمُشْرِكِينَ فَيْءٌ كَأَنَّهُ كان لهم فرجع إليهم فقوله: فَإِنْ فاؤُ مَعْنَاهُ فَإِنْ رَجَعُوا عَمَّا حَلَفُوا عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ جِمَاعِهَا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِلزَّوْجِ إِذَا تَابَ مِنْ إِضْرَارِهِ بِامْرَأَتِهِ كَمَا أَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِكُلِّ التَّائِبِينَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَزْمَ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى الشَّيْءِ يقال عزم على الشيء يغرم عَزْمًا وَعَزِيمَةً، وَعَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَفْعَلَنَّ، أَيْ أَقْسَمْتُ، وَالطَّلَاقُ مَصْدَرُ طَلَّقْتُ الْمَرْأَةَ أُطَلِّقُ طَلَاقًا، وَقَالَ اللَّيْثُ: طَلُقَتْ بِضَمِّ اللَّامِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: طَلُقَتْ بِضَمِّ اللَّامِ مِنَ الطَّلَاقِ أَجْوَدُ، وَمَعْنَى الطَّلَاقِ هُوَ حَلُّ عَقْدِ النِّكَاحِ بِمَا يَكُونُ حَلَالًا فِي الشَّرْعِ، وَأَصْلُهُ مِنْ الِانْطِلَاقِ، وَهُوَ الذَّهَابُ، فَالطَّلَاقُ عِبَارَةٌ عَنِ

انْطِلَاقِ الْمَرْأَةِ، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِتَفْسِيرِ لَفْظِ الْآيَةِ. أَمَّا الْأَحْكَامُ فَكَثِيرَةٌ وَنَذْكُرُ هَاهُنَا بَعْضَ مَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَيْهِ فِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كُلُّ زَوْجٍ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوِقَاعُ، وَكَانَ تَصَرُّفُهُ مُعْتَبَرًا فِي الشَّرْعِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ الْإِيلَاءُ، وَهَذَا الْقَيْدُ مُعْتَبَرٌ طَرْدًا وَعَكْسًا. أَمَّا الطَّرْدُ فَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ إِيلَاؤُهُ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ الْأَوَّلُ: يَصِحُّ إِيلَاءُ الذِّمِّيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَصِحُّ إِيلَاؤُهُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَيَصِحُّ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَهَذَا الْعُمُومُ يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ وَالْمُسْلِمَ. الْحُكْمُ الثَّانِي: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مُدَّةُ الْإِيلَاءِ لَا تَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجَانِ حُرَّيْنِ أَوْ رَقِيقَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا كَانَ حُرًّا وَالْآخَرُ رَقِيقًا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ، إِلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَتَنَصَّفُ بِرِقِّ الْمَرْأَةِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ بِرِقِّ الرَّجُلِ، كَمَا قَالَا فِي الطَّلَاقِ لَنَا أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَالتَّخْصِيصُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ تَقْدِيرَ هَذِهِ الْمُدَّةِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ مَعْنًى يَرْجِعُ إِلَى الْجِبِلَّةِ وَالطَّبْعِ، وَهُوَ قِلَّةُ الصَّبْرِ عَلَى مُفَارَقَةِ الزَّوْجِ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْحُرُّ وَالرَّقِيقُ، كَالْحَيْضِ، وَمُدَّةِ الرَّضَاعِ وَمُدَّةِ الْعُنَّةِ. الْحُكْمُ الثَّالِثُ: يَصِحُّ الْإِيلَاءُ فِي حَالِ الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي حَالِ الْغَضَبِ لَنَا ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ. الْحُكْمُ الرَّابِعُ: يَصِحُّ الْإِيلَاءُ مِنَ الْمَرْأَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي صُلْبِ النِّكَاحِ، أَوْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً طَلْقَةً رَجْعِيَّةً، بِدَلِيلِ أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا مِنْ نِسَائِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: نِسَائِي طَوَالِقُ، وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مِنْ نِسَائِهِ دَخَلَتْ تَحْتَ الْآيَةِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ. أَمَّا عَكْسُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ. وَهُوَ أَنَّ مَنْ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوِقَاعُ لَا يَصِحُّ إِيلَاؤُهُ، فَفِيهِ حُكْمَانِ: الْحُكْمُ الْأَوَّلُ: إِيلَاءُ الْخَصِيِّ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ يُجَامِعُ كَمَا يُجَامِعُ الْفَحْلُ، إِنَّمَا الْمَفْقُودُ فِي حَقِّهِ الْإِنْزَالُ وَذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ وَلِأَنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ عُمُومِ الْآيَةِ. الْحُكْمُ الثَّانِي: الْمَجْبُوبُ إِنْ بَقِيَ مِنْهُ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجَامِعَ بِهِ صَحَّ إِيلَاؤُهُ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ فَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِيلَاؤُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ لِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ قَصْدَ الْمُضَارَّةِ بِالْيَمِينِ قَدْ حَصَلَ مِنْهُ. الْقَيْدُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ زَوْجًا، فَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: وَاللَّهِ لَا أُجَامِعُكِ ثُمَّ نَكَحَهَا لَمْ يَكُنْ مُؤْلِيًا لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يُفِيدُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَهُمْ لَا لِغَيْرِهِمْ، كَقَوْلِهِ: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الْكَافِرُونَ: 6] أَيْ لَكُمْ لَا لِغَيْرِكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَحْلُوفُ بِهِ وَالْحَلِفُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِاللَّهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ بِاللَّهِ كَانَ مُولِيًا ثُمَّ إِنْ جَامَعَهَا فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ خَرَجَ عَنِ الْإِيلَاءِ، وَهَلْ تَجِبُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فِيهِ قَوْلَانِ: الْجَدِيدُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَجِبُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَالْقَدِيمُ أَنَّهُ إِذَا فَاءَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ أَوْ فِي خِلَالِ الْمُدَّةِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ،

حُجَّةُ الْقَوْلِ: وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ ثُمَّ يَقْرَبُهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكِ ثُمَّ يُكَلِّمُهَا وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْقَدِيمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَذَكَرَهَا اللَّهُ هَاهُنَا، لِأَنَّ الْحَاجَةَ هَاهُنَا دَاعِيَةٌ إِلَى/ مَعْرِفَتِهَا، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا لَمْ يَذْكُرْ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ نَبَّهَ عَلَى سُقُوطِهَا بِقَوْلِهِ: فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَالْغُفْرَانُ يُوجِبُ تَرْكَ الْمُؤَاخَذَةِ وَلِلْأَوَّلَيْنِ أَنْ يُجِيبُوا فَيَقُولُوا: إِنَّمَا تَرَكَ الْكَفَّارَةَ هَاهُنَا لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَهَا فِي الْقُرْآنِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ. أَمَّا قَوْلُهُ: غَفُورٌ رَحِيمٌ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْعِقَابِ، لَكِنْ عَدَمُ الْعِقَابِ لَا يُنَافِي وُجُوبَ الْفِعْلِ، كَمَا أَنَّ التَّائِبَ عَنِ الزِّنَا وَالْقَتْلِ لَا عِقَابَ عَلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَلِفُ فِي الْإِيلَاءِ بِغَيْرِ الله كما إذا قال: إن وطأتك فَعَبْدِي حُرٌّ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ ضَرَّتُكِ طَالِقٌ، أَوْ أَلْزَمَ أَمْرًا فِي الذِّمَّةِ، فَقَالَ: إن وطأتك فَلِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ، أَوْ صَدَقَةٌ أَوْ صَوْمٌ، أَوْ حَجٌّ، أَوْ صَلَاةٌ، فَهَلْ يَكُونُ مُولِيًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَا يَكُونُ مُولِيًا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ دَلِيلُهُ أَنَّ الْإِيلَاءَ مَعْهُودٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ مَعْهُودُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ الْحَلِفُ بِاللَّهِ، وَأَيْضًا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ حَلَفَ فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ، فَمُطْلَقُ الْحَلِفِ يُفْهَمُ مِنْهُ الْحَلِفُ بِاللَّهِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَجَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا لِأَنَّ لَفْظَ الْإِيلَاءِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَعَلَّقَ الْقَوْلَيْنِ فَيَمِينُهُ مُنْعَقِدَةٌ فَإِنْ كَانَ قَدْ عَلَّقَ بِهِ عِتْقًا أَوْ طَلَاقًا، فَإِذَا وَطِئَهَا يَقَعُ ذَلِكَ الْمُتَعَلِّقُ، وَإِنْ كَانَ الْمُعَلَّقُ بِهِ الْتِزَامَ قُرْبَةٍ فِي الذِّمَّةِ فَعَلَيْهِ مَا فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ أَصَحُّهَا: أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَبَيْنَ الْوَفَاءِ بِمَا سَمَّى، وَفَائِدَةُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا فَبَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يَضِيقُ الْأَمْرُ عَلَيْهِ حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَكُونُ مُولِيًا لَا يَضِيقُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ عَلَى أَقْوَالٍ فَالْأَوَّلُ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يَحْلِفَ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَهَا أَبَدًا وَالثَّانِي: قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَإِسْحَاقَ: إِنَّ أَيَّ مُدَّةٍ حَلِفَ عَلَيْهَا كَانَ مُولِيًا وَإِنْ كَانَتْ يَوْمًا، وَهَذَانَ الْمَذْهَبَانِ فِي غَايَةِ التَّبَاعُدِ وَالثَّالِثُ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يحلف على أنه لَا يَطَأَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ فِيمَا زَادَ وَالرَّابِعُ: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ مُوِلِيًا حَتَّى تَزِيدَ الْمُدَّةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ إِذَا آلَى مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أُجِّلَ أَرْبَعَةً، وَهَذِهِ الْمُدَّةُ تَكُونُ حَقًّا لِلزَّوْجِ، فَإِذَا مَضَتْ تُطَالِبُ الْمَرْأَةُ الزَّوْجَ بِالْفَيْئَةِ أَوْ بِالطَّلَاقِ، فَإِنِ امْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنْهُمَا طَلَّقَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أشهر يقع الطلاق بنفسه، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ مِنْ وُجُوهٍ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الْفَاءَ في قوله: فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ/ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تَقْتَضِي كَوْنَ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ مَشْرُوعَيْنِ مُتَرَاخِيًا عَنِ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مَمْنُوعٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ فاؤُ ... وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ وَالتَّفْصِيلُ يَعْقُبُ الْمُفَصَّلَ، كَمَا تَقُولُ: أَنَا أَنْزِلُ عِنْدَكُمْ هَذَا الشَّهْرَ فَإِنْ أَكْرَمْتُمُونِي بَقِيتُ مَعَكُمْ وَإِلَّا تَرَحَّلْتُ عَنْكُمْ.

قُلْنَا: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ هَذِهِ الْمُدَّةَ يَدُلُّ عَلَى الأمرين والفاء في قوله: فَإِنْ فاؤُ وَرَدَ عَقِيبَ ذِكْرِهِمَا، فَيَكُونُ هَذَا الْحُكْمُ مَشْرُوعًا عَقِيبَ الْإِيلَاءِ، وَعَقِيبَ حُصُولِ التَّرَبُّصِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ بِخِلَافِ الْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنَا أَنْزِلُ عِنْدَكُمْ فَإِنْ أَكْرَمْتُمُونِي بَقِيتُ وَإِلَّا تَرَحَّلْتُ، لِأَنَّ هُنَاكَ الْفَاءَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ ذَلِكَ النُّزُولِ، أَمَّا هَاهُنَا فَالْفَاءُ مَذْكُورَةٌ عَقِيبَ ذِكْرِ الْإِيلَاءِ وَذِكْرِ التَّرَبُّصِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَا دَخَلَ الْفَاءُ عَلَيْهِ وَاقِعًا عَقِيبَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَهَذَا كَلَامٌ ظَاهِرٌ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِيقَاعِ الزَّوْجِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ لَا بِإِيقَاعِ الزَّوْجِ. فَإِنْ قِيلَ: الْإِيلَاءُ الطَّلَاقُ فِي نَفْسِهِ. فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ الْإِيلَاءُ الْمُتَقَدِّمُ. قُلْنَا: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَإِنْ عَزَمَ الَّذِينَ يُؤْلُونَ الطَّلَاقَ، فَجَعَلَ الْمُؤْلِي عَازِمًا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْإِيلَاءُ وَالْعَزْمُ قَدِ اجْتَمَعَا، وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَهُوَ مُتَعَلِّقُ الْعَزْمِ، وَمُتَعَلِّقُ الْعَزْمِ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْعَزْمِ، فَإِذًا الطَّلَاقُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْعَزْمِ لَا مَحَالَةَ، وَالْإِيلَاءُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِلْعَزْمِ أَوْ مُتَقَدِّمًا، وَهَذَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُغَايِرٌ لِذَلِكَ الْإِيلَاءِ وَهَذَا كَلَامٌ ظَاهِرٌ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَقْتَضِي أَنْ يَصْدُرَ مِنَ الزَّوْجِ شَيْءٌ يَكُونُ مَسْمُوعًا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنْ نَقُولَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ فَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ وَطَلَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِكَلَامِهِمْ، عَلِيمٌ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِذَلِكَ الْإِيلَاءِ. قُلْنَا: هَذَا يَبْعُدُ لِأَنَّ هَذَا التَّهْدِيدَ لَمْ يَحْصُلْ عَلَى نَفْسِ الْإِيلَاءِ، بَلْ إِنَّمَا حَصَلَ عَلَى شَيْءٍ حَصَلَ بَعْدَ الْإِيلَاءِ، وَهُوَ كَلَامٌ غَيْرُهُ حَتَّى يَكُونَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تَهْدِيدًا عَلَيْهِ. الحجة الرابعة: أن قوله تعالى: فَإِنْ فاؤُ ... وَإِنْ عَزَمُوا ظَاهِرُهُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وَقْتُ ثُبُوتِهِمَا وَاحِدًا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ الْإِيلَاءَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، بَلْ هُوَ حَلِفٌ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْجِمَاعِ/ مُدَّةً مَخْصُوصَةً إِلَّا أَنَّ الشَّرْعَ ضَرَبَ مِقْدَارًا مَعْلُومًا مِنَ الزَّمَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَتْرُكُ جِمَاعَ الْمَرْأَةِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ لَا بِسَبَبِ الْمُضَارَّةِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ الزَّمَانُ قَصِيرًا، فَأَمَّا تَرْكُ الْجِمَاعِ زَمَانًا طَوِيلًا فَلَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ قَصْدِ الْمُضَارَّةِ، وَلَمَّا كَانَ الطُّولُ وَالْقِصَرُ فِي هَذَا الْبَابِ أَمْرًا غَيْرَ مَضْبُوطٍ، بَيَّنَ تَعَالَى حَدًّا فَاصِلًا بَيْنَ الْقَصِيرِ وَالطَّوِيلِ، فَعِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ تَبَيَّنَ قَصْدُ الْمُضَارَّةِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْبَتَّةَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، بَلِ اللَّائِقُ بِحِكْمَةِ الشَّرْعِ عِنْدَ ظُهُورِ قَصْدِ الْمُضَارَّةِ أَنَّهُ يُؤْمَرُ إِمَّا بِتَرْكِ الْمُضَارَّةِ أَوْ بِتَخْلِيصِهَا مِنْ قَيْدِ الْإِيلَاءِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ كَمَا قُلْنَا فِي ضَرْبِ الْأَجَلِ فِي مُدَّةِ الْعِنِّينِ وَغَيْرِهِ حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مسعود قرأ، فإن فاؤ فِيهِنَّ. وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ: أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ مَرْدُودَةٌ لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ قُرْآنًا وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بِالتَّوَاتُرِ فَحَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ بِالتَّوَاتُرِ قَطَعْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَأَوْلَى النَّاسِ بِهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ بِهَذَا الْحَرْفِ تَمَسَّكَ فِي أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ مِنَ

[سورة البقرة (2) : آية 228]

الْقُرْآنِ، وَأَيْضًا فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْفَيْئَةَ لَا تَكُونُ فِي الْمُدَّةِ، فَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ لَمَّا كَانَتْ مُخَالِفَةً لَهَا وَجَبَ الْقَطْعُ بِفَسَادِهَا. [سورة البقرة (2) : آية 228] وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الحكم الحادي عشر في الطلاق قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً لِلطَّلَاقِ: فَالْحُكْمُ الْأَوَّلُ لِلطَّلَاقِ وُجُوبُ الْعِدَّةِ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُطَّلَقَةَ هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي أُوقِعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، وَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَجْنَبِيَّةً أَوْ مَنْكُوحَةً، فَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً فَإِذَا أُوقِعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا فَهِيَ مُطَلَّقَةٌ بِحَسَبِ اللُّغَةِ، لَكِنَّهَا غَيْرُ مُطَلَّقَةٍ بِحَسَبِ عُرْفِ الشَّرْعِ، وَالْعِدَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا الْمَنْكُوحَةُ فَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ لَا تَكُونَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا لَمْ تَجِبِ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [الْأَحْزَابِ: 49] وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا فَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَائِلًا أَوْ حَامِلًا، فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَعِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ لَا بِالْأَقْرَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطَّلَاقِ: 4] وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ/ الْحَيْضُ مُمْكِنًا فِي حَقِّهَا أَوْ لَا يَكُونُ فَإِنِ امْتَنَعَ الْحَيْضُ فِي حَقِّهَا إِمَّا لِلصِّغَرِ الْمُفْرِطِ، أَوْ لِلْكِبَرِ الْمُفْرِطِ كَانَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَشْهُرِ لَا بِالْأَقْرَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ [الطَّلَاقِ: 4] وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْحَيْضُ فِي حَقِّهَا مُمْكِنًا فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ رَقِيقَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ حُرَّةً، فَإِنْ كَانَتْ رَقِيقَةً كَانَتْ عِدَّتُهَا بِقُرْأَيْنِ لَا بِثَلَاثَةٍ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَنْكُوحَةً، وَكَانَتْ مُطَلَّقَةً بَعْدَ الدُّخُولِ، وَكَانَتْ حَائِلًا، وَكَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ وَكَانَتْ حُرَّةً، فَعِنْدَ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الصِّفَاتِ كَانَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ الثَّلَاثَةِ عَلَى مَا بَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْعَامُّ إِنَّمَا يَحْسُنُ تَخْصِيصُهُ إِذَا كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ أَكْثَرَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جَرَتِ الْعَادَةُ بِإِطْلَاقِ لَفْظِ الْكُلِّ عَلَى الْغَالِبِ، يُقَالُ فِي الثَّوْبِ: إِنَّهُ أَسْوَدُ إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ السَّوَادُ، أَوْ حَصَلَ فِيهِ بَيَاضٌ قَلِيلٌ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْبَيَاضُ، وَكَانَ السَّوَادُ قَلِيلًا، كَانَ انْطِلَاقُ لَفْظِ الْأَسْوَدِ عَلَيْهِ كَذِبًا، فَثَبَتَ أَنَّ الشَّرْطَ فِي كَوْنِ الْعَامِّ مَخْصُوصًا أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ أَكْثَرَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَإِنَّكُمْ أَخْرَجْتُمْ مِنْ عُمُومِهَا خَمْسَةَ أَقْسَامٍ وَتَرَكْتُمْ قِسْمًا وَاحِدًا، فَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْعَامِّ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْجَوَابُ: أَمَّا الْأَجْنَبِيَّةُ فَخَارِجَةٌ عَنِ اللَّفْظِ فَإِنَّ الْأَجْنَبِيَّةَ لَا يُقَالُ فِيهَا: إِنَّهَا مُطَلَّقَةٌ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا

فَالْقَرِينَةُ تُخْرِجُهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِدَّةِ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى الْبَرَاءَةِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ سَبْقِ الشَّغْلِ، وَأَمَّا الْحَامِلُ وَالْآيِسَةُ فَهُمَا خَارِجَتَانِ عَنِ اللَّفْظِ لِأَنَّ إِيجَابَ الِاعْتِدَادِ بِالْأَقْرَاءِ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ تَحْصُلُ الْأَقْرَاءُ، وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ لَمْ تَحْصُلِ الْأَقْرَاءُ فِي حَقِّهِمَا، وَأَمَّا الرَّقِيقَةُ فَتَزْوِيجُهَا كَالنَّادِرِ فَثَبَتَ أَنَّ الْأَعَمَّ الْأَغْلَبَ بَاقٍ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: يَتَرَبَّصْنَ لَا شَكَّ أَنَّهُ خَبَرٌ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْأَمْرُ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْأَمْرِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ لَكَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ إِلَّا إِذَا شَرَعْتَ فِيهَا بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ وَلَمْ تَعْلَمِ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي الْمَقْصُودِ، لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مَأْمُورَةً بِذَلِكَ لَمْ تَخْرُجْ عَنِ الْعُهْدَةِ إِلَّا إِذَا قَصَدَتْ أَدَاءَ التَّكْلِيفِ، أَمَّا لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا التَّكْلِيفَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ زَالَ ذَلِكَ الْوَهْمُ، وَعُرِفَ أَنَّهُ مَهْمَا انْقَضَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، سَوَاءٌ عَلِمَتْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ وَسَوَاءٌ شَرَعَتْ فِي الْعِدَّةِ بِالرِّضَا أَوْ بِالْغَضَبِ الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : التَّعْبِيرُ عَنِ الْأَمْرِ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ يُفِيدُ تَأْكِيدَ الْأَمْرِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى امْتِثَالِهِ، فَكَأَنَّهُنَّ امْتَثَلْنَ الْأَمْرَ بِالتَّرَبُّصِ فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ مَوْجُودًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ فِي الدُّعَاءِ: رَحِمَكَ اللَّهُ أُخْرِجَ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ ثِقَةً بِالْإِجَابَةِ كَأَنَّهَا وُجِدَتِ الرَّحْمَةُ فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهَا. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لَوْ قَالَ يَتَرَبَّصُ الْمُطَّلَقَاتُ: لَكَانَ ذَلِكَ جُمْلَةً مِنْ فِعْلٍ وَفَاعِلٍ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَرْكِ ذَلِكَ، وَجَعْلِ الْمُطَلَّقَاتِ مُبْتَدَأً، ثُمَّ قَوْلِهِ: يَتَرَبَّصْنَ إسناد الْفِعْلِ إِلَى الْفَاعِلِ، ثُمَّ جَعْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةَ خَبَرًا عَنْ ذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ. الْجَوَابُ: قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ فِي كِتَابِ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» : إِنَّكَ إِذَا قَدَّمْتَ الِاسْمَ فَقُلْتَ: زَيْدٌ فَعَلَ فَهَذَا يُفِيدُ مِنَ التَّأْكِيدِ وَالْقُوَّةِ مَا لَا يُفِيدُهُ قَوْلُكَ: فَعَلَ زَيْدٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَكَ: زَيْدٌ فَعَلَ يُسْتَعْمَلُ فِي أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِتَخْصِيصِ ذَلِكَ الْفَاعِلِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ، كَقَوْلِكَ: أَنَا أَكْتُبُ فِي الْمُهِمِّ الْفُلَانِيِّ إِلَى السُّلْطَانِ، وَالْمُرَادُ دَعْوَى الْإِنْسَانِ الِانْفِرَادَ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَقْصُودُ ذَلِكَ، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّ تَقْدِيمَ ذِكْرِ الْمُحَدَّثِ عَنْهُ بِحَدِيثِ كَذَا لِإِثْبَاتِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، كَقَوْلِهِمْ: هُوَ يُعْطِي الْجَزِيلَ لَا يُرِيدُ الْحَصْرَ، بَلْ أَنْ يُحَقِّقَ عِنْدَ السَّامِعِ أَنَّ إِعْطَاءَ الْجَزِيلِ دَأْبُهُ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النَّحْلِ: 20] لَيْسَ الْمُرَادُ تَخْصِيصَ الْمَخْلُوقِيَّةِ وقوله تعالى: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ [الْمَائِدَةِ: 61] وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: هُمَا يَلْبَسَانِ الْمَجْدَ أَحْسَنَ لُبْسَةٍ ... شَجِيعَانِ مَا اسْطَاعَا عَلَيْهِ كِلَاهُمَا وَالسَّبَبُ فِي حُصُولِ هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ تَقْدِيمِ ذِكْرِ الْمُبْتَدَأِ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: عَبْدُ اللَّهِ، فَقَدْ أَشْعَرْتَ بِأَنَّكَ تُرِيدُ الْإِخْبَارَ عَنْهُ، فَيَحْصُلُ فِي الْعَقْلِ شَوْقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَإِذَا ذَكَرْتَ ذَلِكَ الْخَبَرَ قَبِلَهُ الْعَقْلُ قَبُولَ الْعَاشِقِ لِمَعْشُوقِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي التَّحْقِيقِ ونفي الشبهة.

السُّؤَالُ الرَّابِعُ: هَلَّا قِيلَ: يَتَرَبَّصْنَ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ كَمَا قِيلَ: تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [الْبَقَرَةِ: 226] وَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الْأَنْفُسِ. الْجَوَابُ: فِي ذِكْرِ الْأَنْفُسِ تَهْيِيجٌ لَهُنَّ عَلَى التَّرَبُّصِ وَزِيَادَةُ بَعْثٍ، لِأَنَّ فِيهِ مَا يَسْتَنْكِفْنَ مِنْهُ فَيَحْمِلُهُنَّ عَلَى أَنْ يَتَرَبَّصْنَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَنْفُسَ النِّسَاءِ طَوَامِحُ إِلَى الرِّجَالِ فَأَرَادَ أَنْ يَقْمَعْنَ أَنْفُسَهُنَّ وَيَغْلِبْنَهَا على الطموح ويخبرنها عَلَى التَّرَبُّصِ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: لَفْظُ أَنْفُسٍ جَمْعُ قِلَّةٍ، مَعَ أَنَّهُنَّ نُفُوسٌ كَثِيرَةٌ، وَالْقُرُوءُ جَمْعُ كَثْرَةٍ، فَلِمَ ذَكَرَ جَمْعَ الْكَثْرَةِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ هَذِهِ الْقُرُوءُ الثَّلَاثَةُ وَهِيَ قَلِيلَةٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُمْ يَتَّسِعُونَ فِي ذَلِكَ فَيَسْتَعْمِلُونَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمْعَيْنِ مَكَانَ الْآخَرِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ، أَوْ لَعَلَّ الْقُرُوءَ كَانَتْ أَكْثَرَ اسْتِعْمَالًا فِي جَمْعِ قُرْءٍ مِنَ الْأَقْرَاءِ. السُّؤَالُ السَّادِسُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: ثَلَاثَ قُرُوءٍ، كَمَا يُقَالُ: ثَلَاثَةُ حِيَضٍ. الْجَوَابُ: لِأَنَّهُ اتَّبَعَ تَذْكِيرَ اللَّفْظِ ولفظ القروء مُذَكَّرٌ فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالسُّؤَالَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبَقِيَ مِنَ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ فِي حَقِيقَةِ الْقُرُوءِ، فَنَقُولُ: الْقُرُوءُ جَمْعُ قَرْءٍ وَقُرْءٍ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ اسْمَ الْقُرْءِ يَقَعُ عَلَى الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْأَقْرَاءُ مِنَ الْأَضْدَادِ فِي كَلَامِ/ الْعَرَبِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا كَالشَّفَقِ اسْمٌ لِلْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ جَمِيعًا، وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَيْضِ، مَجَازٌ فِي الطُّهْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ الْأَمْرَ، وَقَالَ قَائِلُونَ: إِنَّهُ مَوْضُوعٌ بِحَيْثِيَّةِ مَعْنًى وَاحِدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فَالْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الِاجْتِمَاعُ، ثُمَّ فِي وَقْتِ الْحَيْضِ يَجْتَمِعُ الدَّمُ فِي الرَّحِمِ، وَفِي وَقْتَ الطُّهْرِ يَجْتَمِعُ الدَّمُ فِي الْبَدَنِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصْمَعِيِّ وَالْأَخْفَشِ وَالْفَرَّاءِ وَالْكِسَائِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الِانْتِقَالِ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ: أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الْوَقْتُ، يُقَالُ: أَقْرَأَتِ النُّجُومُ إِذَا طَلَعَتْ، وَأَقْرَأَتْ إِذَا أَفَلَتْ، وَيُقَالُ: هَذَا قَارِئُ الرِّيَاحِ لِوَقْتِ هُبُوبِهَا، وَأَنْشَدُوا لِلْهُذَلِيِّ: إِذَا هَبَّتْ لِقَارِئِهَا الرِّيَاحُ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الْوَقْتُ دَخَلَ فِيهِ الْحَيْضُ وَالطُّهْرُ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتًا مُعَيَّنًا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُطَلَّقَةَ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي أَنَّهَا إِذَا اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ تُسَمَّى ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ إِنْ تَخْرُجَ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ، إِلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي ذَلِكَ، بَلْ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ مِنْ أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا الْأَطْهَارُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدٍ، وَعَائِشَةَ، وَالْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَمَالِكٍ، وَرَبِيعَةَ، وَأَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي رِوَايَةٍ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ هِيَ الْحِيَضُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَإِسْحَاقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّ مُدَّةَ الْعِدَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَقْصَرُ، وَعِنْدَهُمْ أَطْوَلُ، حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا فِي حَالِ الطُّهْرِ يُحْسَبُ بَقِيَّةُ الطُّهْرِ قُرْءًا وَإِنْ حَاضَتْ عَقِيبَهُ فِي الْحَالِ، فَإِذَا شَرَعَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا لَمْ تَطْهُرْ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي حَالِ الطُّهْرِ، وَمِنَ الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ إِنْ كَانَ فِي حَالِ الْحَيْضِ لَا يُحْكَمُ

بِانْقِضَاءِ عَدَّتِهَا، ثُمَّ قَالَ إِذَا طَهُرَتْ لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا قَبْلَ الْغُسْلِ وَإِنْ طَهُرَتْ لِأَقَلِّ الْحَيْضِ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ أَوْ تَتَيَمَّمَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ مِنْ وُجُوهٍ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطَّلَاقِ: 1] وَمَعْنَاهُ فِي وَقْتِ عِدَّتِهِنَّ، لَكِنَّ الطَّلَاقَ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ زَمَانُ الْعِدَّةِ غَيْرَ زَمَانِ الْحَيْضِ، أَجَابَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنْهُ فَقَالَ بِمَعْنَى مُسْتَقْبِلَاتٍ لِعِدَّتِهِنَّ، كَمَا يَقُولُ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنَ الشَّهْرِ، يُرِيدُ مُسْتَقْبِلًا لِثَلَاثٍ، وَأَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ يُقَوِّي اسْتِدْلَالَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنَ الشَّهْرِ مَعْنَاهُ لِزَمَانٍ يَقَعُ الشُّرُوعُ فِي الثَّلَاثِ عَقِيبَهُ، فَكَذَا هَاهُنَا قَوْلُهُ: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ مَعْنَاهُ طَلِّقُوهُنَّ بِحَيْثُ يَحْصُلُ الشُّرُوعُ فِي الْعِدَّةِ عَقِيبَهُ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ حَاصِلًا بِالتَّطْلِيقِ فِي جَمِيعِ زَمَانِ الطُّهْرِ وَجَبَ أَنْ/ يَكُونَ الطُّهْرُ الْحَاصِلُ عَقِيبَ زَمَانِ التَّطْلِيقِ مِنَ الْعِدَّةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: هل تدرون الْأَقْرَاءُ؟ الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَالنِّسَاءُ بِهَذَا أَعْلَمُ، لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يُبْتَلَى بِهِ النِّسَاءُ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: الْقُرْءُ عِبَارَةٌ عَنِ الْجَمْعِ، يُقَالُ: مَا قَرَأَتِ النَّاقَةُ نَسْلًا قَطُّ، أَيْ مَا جَمَعَتْ فِي رَحِمِهَا وَلَدًا قَطُّ وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ: هِجَانُ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا وَقَالَ الْأَخْفَشُ يُقَالُ: مَا قَرَأَتْ حَيْضَةً، أَيْ مَا ضَمَّتْ رَحِمَهَا عَلَى حَيْضَةٍ، وَسُمِّيَ الْحَوْضُ مَقْرَأَةً لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ، وَأَقْرَأَتِ النُّجُومُ إِذَا اجْتَمَعَتْ لِلْغُرُوبِ، وَسُمِّيَ الْقُرْآنُ قُرْآنًا لِاجْتِمَاعِ حُرُوفِهِ وَكَلِمَاتِهِ وَلِاجْتِمَاعِ الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ فِيهِ، وَقَرَأَ الْقَارِئُ أَيْ جَمَعَ الْحُرُوفَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَقْتُ اجْتِمَاعِ الدَّمِ إِنَّمَا هُوَ زَمَانُ الطُّهْرِ لِأَنَّ الدَّمَ يَجْتَمِعُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي الْبَدَنِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: بَلْ زَمَانُ الْحَيْضِ أَوْلَى بِهَذَا الِاسْمِ، لِأَنَّ الدَّمَ يَجْتَمِعُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الرَّحِمِ. قُلْنَا: الدِّمَاءُ لَا تَجْتَمِعُ فِي الرَّحِمِ الْبَتَّةَ بَلْ تَنْفَصِلُ قَطْرَةً قَطْرَةً أَمَّا وَقْتُ الطُّهْرِ فَالْكُلُّ مُجْتَمِعٌ فِي الْبَدَنِ فَكَانَ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ فِي وَقْتِ الطُّهْرِ أَتَمَّ، وَتَمَامُ التَّقْرِيرِ فِيهِ أَنَّ اسْمَ الْقُرْءِ لَمَّا دَلَّ عَلَى الِاجْتِمَاعِ فَأَكْثَرُ أَحْوَالِ الرَّحِمِ اجْتِمَاعًا وَاشْتِمَالًا فِي الدَّمِ آخِرُ الطُّهْرِ، إِذْ لَوْ لَمْ تَمْتَلِئْ بِذَلِكَ الْفَائِضِ لَمَا سَالَتْ إِلَى الخارج، فمن أولى الطُّهْرِ يَأْخُذُ فِي الِاجْتِمَاعِ وَالِازْدِيَادِ إِلَى آخِرِهِ، وَالْآخَرُ هُوَ حَالُ كَمَالِ الِاجْتِمَاعِ فَكَانَ آخِرُ الطُّهْرِ هُوَ الْقُرْءَ فِي الْحَقِيقَةِ وَهَذَا كَلَامٌ بين. الحجة الرابعة: أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ الْمُكَلَّفِينَ حَقُّ الْحَبْسِ وَالْمَنْعِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِهِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَقَلُّ مَا يُسَمَّى بِالْأَقْرَاءِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْأَطْهَارُ، لِأَنَّ الِاعْتِدَادَ بِالْأَطْهَارِ أَقَلُّ زَمَانًا مِنْ الِاعْتِدَادِ بِالْحِيَضِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ أَثْبَتْنَا الْأَقَلَّ ضَرُورَةَ الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَطَرَحْنَا الْأَكْثَرَ وَفَاءً بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدٍ عَلَى غَيْرِهِ قُدْرَةُ الحبس والمنع. الحجة الخامسة: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ يَقْتَضِي أَنَّهَا إِذَا اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ تُسَمَّى أَقْرَاءً أَنْ تَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ،

وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الطُّهْرِ وَمِنَ الْحَيْضِ يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ، فَوَجَبَ أَنْ تَخْرُجَ الْمَرْأَةُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِأَيِّهِمَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ، إِلَّا أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مُدَّةَ الْعِدَّةِ بِالْأَطْهَارِ أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ الْعِدَّةِ بِالْحِيَضِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ مُخَيَّرَةً بَيْنَ أَنْ تَعْتَدَّ بِالْمُدَّةِ النَّاقِصَةِ أَوْ بِالْمُدَّةِ الزَّائِدَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ مُتَمَكِّنَةً مِنْ أَنْ تَتْرُكَ الْقَدْرَ الزَّائِدَ لَا إِلَى بَدَلٍ، / وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَإِذَنْ الِاعْتِدَادُ بِالْقَدْرِ الزَّائِدِ عَلَى مُدَّةِ الْأَطْهَارِ غَيْرُ وَاجِبٍ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الِاعْتِدَادُ بِمُدَّةِ الْحَيْضِ وَاجِبًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَقْرَاءَ فِي اللُّغَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْأَطْهَارِ وَالْحِيَضِ إِلَّا أَنَّ فِي الشَّرْعِ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْحَيْضِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ» وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ صَرْفُ الْأَقْرَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ إِلَى الْحَيْضِ أَوْلَى. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْأَقْرَاءَ حِيَضٌ يُمْكِنُ مَعَهُ اسْتِيفَاءُ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ بِكَمَالِهَا لِأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ يَقُولُ: إِنَّ الْمُطَلَّقَةَ يَلْزَمُهَا تَرَبُّصُ ثَلَاثِ حِيَضٍ، وَإِنَّمَا تَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِزَوَالِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ طُهْرٌ يَجْعَلُهَا خَارِجَةً مِنَ الْعِدَّةِ بِقُرْأَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ، لِأَنَّ عِنْدَهُ إِذَا طَلَّقَهَا فِي آخِرِ الطُّهْرِ تَعْتَدُّ بِذَلِكَ قُرْءًا فَإِذَا كَانَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ تُكْمِلُ الْأَقْرَاءَ الثَّلَاثَةَ دُونَ الْقَوْلِ الْآخَرِ كَانَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَلْيَقَ بِالظَّاهِرِ، أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [الحج: 197] وَالْأَشْهُرُ جَمْعٌ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ إِنَّا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى شَهْرَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ، وَذَلِكَ هُوَ شَوَّالٌ، وَذُو الْقِعْدَةِ، وَبَعْضُ ذُو الْحِجَّةِ، فَكَذَا هَاهُنَا جَازَ أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ عَلَى طُهْرَيْنِ وَبَعْضِ طُهْرٍ، أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ مِنْ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّا تَرَكْنَا الظَّاهِرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ لِدَلِيلٍ، فَلَمْ يَلْزَمْنَا أَنْ نَتْرُكَ الظَّاهِرَ هَاهُنَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَالثَّانِي: أَنْ فِي الْعِدَّةِ تَرَبُّصًا مُتَّصِلًا، فَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِيفَاءِ الثَّلَاثَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَشْهُرُ الْحَجِّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا فِعْلٌ مُتَّصِلٌ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: هَذِهِ الْأَشْهُرُ وَقْتُ الْحَجِّ لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْرَاقِ، وَأَجَابَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: كَمَا أَنَّ حَمْلَ الْأَقْرَاءِ عَلَى الْأَطْهَارِ يُوجِبُ النُّقْصَانَ عَنِ الثَّلَاثَةِ، فَحَمْلُهُ عَلَى الْحِيَضِ يُوجِبُ الزِّيَادَةَ، لِأَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا فِي أَثْنَاءِ الطُّهْرِ كَانَ مَا بَقِيَ مِنَ الطُّهْرِ غَيْرَ مَحْسُوبٍ مِنَ الْعِدَّةِ فَتَحْصُلُ الزِّيَادَةُ وَعُذْرُهُمْ عَنْهُ أَنَّ هَذِهِ لَا بُدَّ مِنْ تَحَمُّلِهَا لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ لَأَمَرْنَاهُ بِالطَّلَاقِ فِي آخِرِ الْحَيْضِ حَتَّى تَعْتَدَّ بِأَطْهَارٍ كَامِلَةٍ، وَإِذَا اخْتَصَّ الطَّلَاقُ بِالطَّاهِرِ صَارَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ مُتَحَمَّلَةً لِلضَّرُورَةِ، فَنَحْنُ أَيْضًا نَقُولُ: لَمَّا صَارَتِ الْأَقْرَاءُ مُفَسَّرَةً بِالْأَطْهَارِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَنَا بِالطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ، صَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ أَطْهَارٍ طُهْرُ الطَّلَاقِ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْقُرْءَ اسْمٌ لِلِاجْتِمَاعِ وَكَمَالُ الِاجْتِمَاعِ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي آخِرِ الطُّهْرِ قُرْءًا تَامًّا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَلْزَمْ دُخُولُ النُّقْصَانِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْءِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: لَهُمْ: أَنَّهُ تَعَالَى نَقَلَ إِلَى الشُّهُورِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَيْضِ فَقَالَ: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ [الطَّلَاقِ: 4] فَأَقَامَ الْأَشْهُرَ مُقَامَ الحيض دون الأطهار وأيضا لما كان الْأَشْهُرُ شُرِعَتْ بَدَلًا عَنِ الْأَقْرَاءِ وَالْبَدَلُ يُعْتَبَرُ بِتَمَامِهَا، فَإِنَّ الْأَشْهُرَ لَا بُدَّ مِنْ إِتْمَامِهَا وَجَبَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْكَمَالُ مُعْتَبَرًا فِي الْمُبْدَلِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ الْأَقْرَاءُ الْكَامِلَةُ هِيَ الْحِيَضَ، / أَمَّا الْأَطْهَارُ فَالْوَاجِبُ فِيهَا قُرْءَانِ وَبَعْضٌ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: لَهُمْ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ عِدَّةُ الْحُرَّةِ هِيَ الحيض.

الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ فِي شِرَاءِ الْجَوَارِي يَكُونُ بِالْحَيْضَةِ، فَكَذَا الْعِدَّةُ تَكُونُ بِالْحَيْضَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ وَالْعِدَّةِ شَيْءٌ وَاحِدٌ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: لَهُمْ: أَنَّ الْغَرَضَ الْأَصْلِيَّ فِي الْعِدَّةِ اسْتِبْرَاءُ الرَّحِمِ، وَالْحَيْضُ هُوَ الَّذِي تُسْتَبْرَأُ بِهِ الْأَرْحَامُ دُونَ الطُّهْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْحَيْضَ دُونَ الطُّهْرِ. الْحُجَّةُ السابعة: لهم: أن القول بأل الْقُرُوءَ هِيَ الْحِيَضُ احْتِيَاطٌ وَتَغْلِيبٌ لِجَانِبِ الْحُرْمَةِ، لِأَنَّ الْمُطَّلَقَةَ إِذَا مَرَّ عَلَيْهَا بَقِيَّةُ الطُّهْرِ وَطَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَإِنْ جَعْلَنَا الْقُرْءَ هُوَ الْحَيْضَ، فَحِينَئِذٍ يَحْرُمُ لِلْغَيْرِ التَّزَوُّجُ بِهَا، وَإِنْ جَعَلْنَا الْقُرْءَ طُهْرًا، فَحِينَئِذٍ يَحِلُّ لِلْغَيْرِ التَّزَوُّجُ بِهَا، وَجَانِبُ التَّحْرِيمِ أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اجْتَمَعَ الْحَرَامُ وَالْحَلَالُ إِلَّا وَغَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ» وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَبْضَاعِ الْحُرْمَةُ، وَلِأَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إِلَى الِاحْتِيَاطِ، فَكَانَ أَوْلَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» فَهَذَا جُمْلَةُ الْوُجُوهِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّ عِنْدَ تَعَارُضِ هَذِهِ الْوُجُوهِ تَضْعُفُ التَّرْجِيحَاتُ، وَيَكُونُ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّ الْكُلِّ مَا أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ فَاعْلَمْ أَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ لَمَّا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى انْقِضَاءِ الْقُرْءِ فِي حق ذوات الأقراء، وضع الْحَمْلِ فِي حَقِّ الْحَامِلِ، وَكَانَ الْوُصُولُ إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ لِلرِّجَالِ مُتَعَذِّرًا جُعِلَتِ الْمَرْأَةُ أَمِينَةً فِي الْعِدَّةِ، وَجُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا إِذَا ادَّعَتِ انْقِضَاءَ قُرْئِهَا فِي مُدَّةٍ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهَا، وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَسَاعَةٌ، لِأَنَّ أَمْرَهَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا طُلِّقَتْ طَاهِرَةً فَحَاضَتْ بَعْدَ سَاعَةٍ، ثُمَّ حَاضَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَهُوَ أَقَلُّ الْحَيْضِ، ثُمَّ طَهُرَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَهُوَ أَقَلُّ الطُّهْرِ، مَرَّةً أُخْرَى يَوْمًا وَلَيْلَةً، ثُمَّ طَهُرَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَتِ الدَّمَ فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِحُصُولِ ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ، فَمَتَى ادَّعَتْ هَذَا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا قُبِلَ قَوْلُهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا فَادَّعَتْ أَنَّهَا أَسْقَطَتْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا، لِأَنَّهَا عَلَى أَصْلِ أَمَانَتِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْحَبَلُ وَالْحَيْضُ مَعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا أَغْرَاضٌ كَثِيرَةٌ فِي كِتْمَانِهِمَا، أَمَّا كِتْمَانُ الْحَبَلِ فَإِنَّ غَرَضَهَا فِيهِ أَنَّ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا بِالْقُرُوءِ أَقَلُّ زَمَانًا مِنِ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، فَإِذَا كَتَمَتِ الْحَبَلَ قَصُرَتْ مُدَّةُ عِدَّتِهَا فَتُزَوَّجُ بِسُرْعَةٍ، وَرُبَّمَا كَرِهَتْ مُرَاجَعَةَ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَرُبَّمَا أَحَبَّتِ التَّزَوُّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ/ أَوْ أَحَبَّتْ أَنْ يَلْتَحِقَ وَلَدُهَا بِالزَّوْجِ الثَّانِي، فَلِهَذِهِ الْأَغْرَاضِ تَكْتُمُ الْحَبَلَ، وَأَمَّا كِتْمَانُ الْحَيْضِ فَغَرَضُهَا فِيهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَقَدْ تُحِبُّ تَطْوِيلَ عِدَّتِهَا لِكَيْ يُرَاجِعَهَا الزَّوْجُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ تُحِبُّ تَقْصِيرَ عِدَّتِهَا لِتَبْطِيلِ رَجْعَتِهِ وَلَا يَتِمُّ لَهَا ذَلِكَ إِلَّا بِكِتْمَانِ بَعْضِ الْحَيْضِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِأَنَّهَا إِذَا حَاضَتْ أَوَّلًا فَكَتَمَتْهُ، ثُمَّ أَظْهَرَتْ عِنْدَ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ ذَلِكَ أَوَّلُ حَيْضِهَا فَقَدْ طَوَّلَتِ الْعِدَّةَ، وَإِذَا كَتَمَتْ أَنَّ الْحَيْضَةَ الثَّالِثَةَ وُجِدَتْ فكمثل، وَإِذَا كَتَمَتْ أَنَّ حَيْضَهَا بَاقٍ فَقَدْ قَطَعَتِ الرَّجْعَةَ عَلَى زَوْجِهَا، فَثَبَتَ أَنَّهُ كَمَا أَنَّ لَهَا غَرَضًا فِي كِتْمَانِ الْحَبَلِ، فَكَذَلِكَ فِي كِتْمَانِ الْحَيْضِ، فَوَجَبَ حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ النَّهْيُ عَنْ كِتْمَانِ الْحَمْلِ فَقَطْ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ [آلِ عِمْرَانَ: 6] وَثَانِيهَا: أَنَّ الْحَيْضَ خَارِجٌ عَنِ الرَّحِمِ لَا أَنَّهُ

مَخْلُوقٌ فِي الرَّحِمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ حَمْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ عَلَى الْوَلَدِ الَّذِي هُوَ جَوْهَرٌ شَرِيفٌ، أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْحَيْضِ الَّذِي هُوَ شَيْءٌ فِي غَايَةِ الْخَسَاسَةِ وَالْقَذَرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ ضَعِيفَةٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مَنْعَهَا عَنْ إِخْفَاءِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الَّتِي لَا اطِّلَاعَ لِغَيْرِهَا عَلَيْهَا، وَبِسَبَبِهَا تَخْتَلِفُ أَحْوَالُ الْحُرْمَةِ وَالْحِلِّ فِي النِّكَاحِ، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْكُلِّ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ هُوَ النَّهْيُ عَنْ كِتْمَانِ الْحَيْضِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ عَقِيبَ ذِكْرِ الْأَقْرَاءِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ الْحَمْلِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُضَافَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى كُلِّ مَا يُخْلَقُ فِي الرَّحِمِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ النَّهْيَ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِهَا مُؤْمِنَةً، بَلْ هَذَا كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَظْلِمُ: إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا فَلَا تَظْلِمْ، تُرِيدُ إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَكَ إِيمَانُكَ عَنْ ظُلْمِي، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ عَلَى النِّسَاءِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ فِي الشَّهَادَةِ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [الْبَقَرَةِ: 283] وَقَالَ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [الْبَقَرَةِ: 283] وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ جُعِلَ أَمِينًا فِي شَيْءٍ فخان فيه فأمره عند الله شديد. قوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحُكْمُ الثَّانِي لِلطَّلَاقِ وَهُوَ الرَّجْعِيَّةُ، وَفِي الْبُعُولَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَمْعُ بَعْلٍ، كَالْفُحُولَةِ وَالذُّكُورَةِ وَالْجُدُودَةِ وَالْعُمُومَةِ، وَهَذِهِ الْهَاءُ زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِتَأْنِيثِ الْجَمَاعَةِ وَلَا يَجُوزُ إِدْخَالُهَا فِي كُلِّ جَمْعٍ بَلْ فِيمَا رَوَاهُ أَهْلُ اللُّغَةِ عَنِ الْعَرَبِ، فَلَا يُقَالُ فِي كَعْبٍ: كُعُوبَةٌ، وَلَا فِي كَلْبٍ: كِلَابَةٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ اسْمَ الْبَعْلِ مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ الزَّوْجَانِ فَيُقَالُ لِلْمَرْأَةِ بَعْلَةٌ، كَمَا يُقَالُ لَهَا زَوْجَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ اللُّغَاتِ، وَزَوْجٌ فِي أَفْصَحِ اللُّغَاتِ فَهُمَا بَعْلَانِ، كَمَا أَنَّهُمَا زَوْجَانِ، وَأَصْلُ الْبَعْلِ السَّيِّدُ الْمَالِكُ فِيمَا قِيلَ، يُقَالُ: مَنْ بَعْلُ هَذِهِ النَّاقَةِ؟ كَمَا يُقَالُ: مَنْ رَبُّهَا، وَبَعْلٌ اسْمُ صَنَمٍ كَانُوا يَتَّخِذُونَهُ رَبًّا، وَقَدْ كَانَ النِّسَاءُ يَدْعُونَ أَزْوَاجَهُنَّ بِالسُّؤْدَدِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبُعُولَةَ مَصْدَرٌ، يُقَالُ: بَعَلَ الرَّجُلُ يَبْعَلُ بُعُولَةً، إِذَا صَارَ بَعْلًا، وَبَاعَلَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِذَا جَامَعَهَا، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: «إنها أيام أكل وشرب وبعال» وامرأته حَسَنَةُ الْبَعْلِ إِذَا كَانَتْ تُحْسِنُ عِشْرَةَ زَوْجِهَا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «إِذَا أَحْسَنْتُنَّ بِبَعْلِ أَزْوَاجِكُنَّ» وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ: وَأَهْلُ بُعُولَتِهِنَّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ فَالْمَعْنَى: أَحَقُّ بِرَجْعَتِهِنَّ فِي مُدَّةِ ذَلِكَ التَّرَبُّصِ وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: أَحَقُّ مَعَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِغَيْرِ الزَّوْجِ فِي ذَلِكَ. الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ كَأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ: فَإِنَّهُنَّ إِنْ كَتَمْنَ لِأَجْلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهِنَّ زَوْجٌ آخَرُ، فَإِذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ كَانَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ أَحَقَّ بِرَدِّهِنَّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِلزَّوْجِ الثَّانِي حَقٌّ فِي الظَّاهِرِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ أَحَقُّ مِنْهُ، وَكَذَا إِذَا ادَّعَتِ انْقِضَاءَ أَقْرَائِهَا ثُمَّ عُلِمَ خِلَافُهُ فَالزَّوْجُ الْأَوَّلُ أَحَقُّ مِنَ الزَّوْجِ الْآخَرِ فِي الْعِدَّةِ الثَّانِي: إِذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً فَلَهَا فِي مُضِيِّ الْعِدَّةِ حَقُّ انْقِطَاعِ النِّكَاحِ فَلَمَّا كَانَ لَهُنَّ هَذَا الْحَقُّ الَّذِي يَتَضَمَّنُ إِبْطَالَ حَقِّ الزَّوْجِ جَازَ أَنْ يَقُولَ: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ مِنْ حَيْثُ إِنَّ لَهُمْ أَنْ يُبْطِلُوا بِسَبَبِ الرَّجْعَةِ مَا هُنَّ عَلَيْهِ مِنَ الْعِدَّةِ.

السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى الرَّدِّ؟. الْجَوَابُ: يُقَالُ: رَدَدْتُهُ أَيْ رَجَعْتُهُ قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي [الْكَهْفِ: 36] وَفِي مَوْضِعٍ آخر: وَلَئِنْ رُجِعْتُ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا مَعْنَى الرَّدِّ فِي الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ؟ وَهِيَ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ فَهِيَ زَوْجَتُهُ كَمَا كَانَتْ. الْجَوَابُ: أَنَّ الرَّدَّ وَالرَّجْعَةَ يَتَضَمَّنُ إِبْطَالَ التَّرَبُّصِ وَالتَّحَرِّي فِي الْعِدَّةِ فَهِيَ ما دامت في العدة كأنه كَانَتْ جَارِيَةً فِي إِبْطَالِ حَقِّ الزَّوْجِ وَبِالرَّجْعَةِ يَبْطُلُ ذَلِكَ، فَلَا جَرَمَ سُمِّيَتِ الرَّجْعَةُ رَدًّا، لَا سِيَّمَا وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَحْرُمُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ الرَّجْعَةِ، فَفِي الرَّدِّ عَلَى مَذْهَبِهِ شَيْئَانِ/ أَحَدُهُمَا: رَدُّهَا مِنَ التَّرَبُّصِ إِلَى خِلَافِهِ الثَّانِي: رَدُّهَا مِنَ الْحُرْمَةِ إِلَى الْحِلِّ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي ذلِكَ. الْجَوَابُ: أَنَّ حَقَّ الرَّدِّ إِنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ وَقْتُ التَّرَبُّصِ، فَإِذَا انْقَضَى ذَلِكَ الْوَقْتُ فَقَدْ بَطَلَ حَقُّ الرَّدَّةِ وَالرَّجْعَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً فَالْمَعْنَى أَنَّ الزَّوْجَ أَحَقُّ بِهَذِهِ الْمُرَاجَعَةِ إِنْ أَرَادُوا الْإِصْلَاحَ وَمَا أَرَادُوا الْمُضَارَّةَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [البقرة: 231] وَالسَّبَبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَرْجِعُونَ الْمُطَلَّقَاتِ، وَيُرِيدُونَ بِذَلِكَ الْإِضْرَارَ بِهِنَّ لِيُطَلِّقُوهُنَّ بَعْدَ الرَّجْعَةِ، حَتَّى تَحْتَاجَ الْمَرْأَةُ إِلَى أَنْ تَعْتَدَّ عِدَّةً حَادِثَةً، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الشَّرْطَ فِي حِلِّ الْمُرَاجَعَةِ إِرَادَةَ الْإِصْلَاحِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ كَلِمَةَ «إِنْ» لِلشَّرْطِ، وَالشَّرْطُ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَائِهِ، فَيَلْزَمُ إِذَا لَمْ تُوجَدْ إِرَادَةُ الْإِصْلَاحِ أَنْ لَا يَثْبُتَ حَقُّ الرَّجْعَةِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِرَادَةَ صِفَةٌ بَاطِنَةٌ لَا اطِّلَاعَ لَنَا عَلَيْهَا، فَالشَّرْعُ لَمْ يُوقِفْ صِحَّةَ الْمُرَاجَعَةِ عَلَيْهَا، بَلْ جَوَازُهَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ مَوْقُوفٌ عَلَى هَذِهِ الْإِرَادَةِ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ رَاجَعَهَا لِقَصْدِ الْمُضَارَّةِ اسْتَحَقَّ الْإِثْمَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمُرَاجَعَةِ إِصْلَاحَ حَالِهَا، لَا إِيصَالَ الضَّرَرِ إِلَيْهَا بَيَّنَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ حَقًّا عَلَى الْآخَرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَاعِيًا حَقَّ الْآخَرِ، وَتِلْكَ الْحُقُوقُ الْمُشْتَرَكَةُ كَثِيرَةٌ، وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى بَعْضِهَا فَأَحَدُهَا: أَنَّ الزَّوْجَ كَالْأَمِيرِ وَالرَّاعِي، وَالزَّوْجَةَ كَالْمَأْمُورِ وَالرَّعِيَّةِ، فَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ أَمِيرًا وَرَاعِيًا أَنْ يَقُومَ بِحَقِّهَا وَمَصَالِحِهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهَا فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ إِظْهَارُ الِانْقِيَادِ وَالطَّاعَةِ لِلزَّوْجِ وَثَانِيهَا: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي لَأَتَزَيَّنُ لِامْرَأَتِي كَمَا تَتَزَيَّنُ لِي» لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ وَثَالِثُهَا: وَلَهُنَّ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ إِرَادَةِ الْإِصْلَاحِ عِنْدَ الْمُرَاجَعَةِ، مِثْلُ مَا عَلَيْهِنَّ مِنْ تَرْكِ الْكِتْمَانِ فِيمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ، وَهَذَا أَوْفَقُ لِمُقَدِّمَةِ الْآيَةِ.

[سورة البقرة (2) : آية 229]

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: رَجُلٌ بَيِّنُ الرَّجْلَةِ، أَيِ الْقُوَّةِ، وَهُوَ أَرْجَلُ الرَّجُلَيْنِ أَيْ أَقْوَاهُمَا، وَفَرَسٌ رَجِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى الْمَشْيِ، وَالرَّجُلُ مَعْرُوفٌ لِقُوَّتِهِ عَلَى الْمَشْيِ، وَارْتَجَلَ الْكَلَامَ أَيْ قَوِيَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فِيهِ إِلَى فِكْرَةٍ وَرَوِيَّةٍ، وَتَرَجَّلَ النَّهَارُ قَوِيَ ضِيَاؤُهُ، وَأَمَّا الدَّرَجَةُ فَهِيَ الْمَنْزِلَةُ وَأَصْلُهَا/ مِنْ دَرَجْتُ الشَّيْءَ أَدْرُجُهُ دَرْجًا، وَأَدْرَجْتُهُ إِدْرَاجًا إِذَا طَوَيْتَهُ، وَدَرَجَ الْقَوْمُ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ أَيْ فَنُوا وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ طَوَوْا عُمُرَهُمْ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَالْمَدْرَجَةُ قَارِعَةُ الطَّرِيقِ، لِأَنَّهَا تَطْوِي مَنْزِلًا بَعْدَ مَنْزِلٍ، وَالدَّرَجَةُ الْمَنْزِلَةُ مِنْ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ، وَمِنْهُ الدَّرَجَةُ الَّتِي يُرْتَقَى فِيهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ فَضْلَ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ، إِلَّا أَنَّ ذِكْرَهُ هَاهُنَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّجُلَ أَزْيَدُ فِي الْفَضِيلَةِ مِنَ النِّسَاءِ فِي أُمُورٍ أَحَدُهَا: الْعَقْلُ وَالثَّانِي: فِي الدِّيَةِ وَالثَّالِثُ: فِي الْمَوَارِيثِ وَالرَّابِعُ: فِي صَلَاحِيَةِ الْإِمَامَةِ وَالْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَالْخَامِسُ: لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يَتَسَرَّى عَلَيْهَا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ مَعَ الزَّوْجِ وَالسَّادِسُ: أَنَّ نَصِيبَ الزَّوْجِ فِي الْمِيرَاثِ مِنْهَا أَكْثَرُ مِنْ نَصِيبِهَا فِي الْمِيرَاثِ مِنْهُ وَالسَّابِعُ: أَنَّ الزَّوْجَ قَادِرٌ عَلَى تَطْلِيقِهَا، وَإِذَا طَلَّقَهَا فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مُرَاجَعَتِهَا، شَاءَتِ الْمَرْأَةُ أَمْ أَبَتْ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا تَقْدِرُ عَلَى تَطْلِيقِ الزَّوْجِ، وَبَعْدَ الطَّلَاقِ لَا تَقْدِرُ عَلَى مُرَاجَعَةِ الزَّوْجِ وَلَا تَقْدِرُ أَيْضًا عَلَى أَنْ تَمْنَعَ الزَّوْجَ مِنَ الْمُرَاجَعَةِ وَالثَّامِنُ: أَنَّ نَصِيبَ الرَّجُلِ فِي سَهْمِ الْغَنِيمَةِ أَكْثَرُ مِنْ نَصِيبِ الْمَرْأَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ فَضْلُ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، ظَهَرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَالْأَسِيرِ الْعَاجِزِ فِي يَدِ الرَّجُلِ، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ» وَفِي خَبَرٍ آخَرَ: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ» ، وَكَانَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ لِأَجْلِ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِلرِّجَالِ مِنَ الدَّرَجَةِ عَلَيْهِنَّ فِي الِاقْتِدَارِ كَانُوا مَنْدُوبِينَ إِلَى أَنْ يُوَفُّوا مِنْ حُقُوقِهِنَّ أَكْثَرَ، فَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ كَالتَّهْدِيدِ لِلرِّجَالِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى مُضَارَّتِهِنَّ وَإِيذَائِهِنَّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَكْثَرُ، كَانَ صُدُورُ الذَّنْبِ عَنْهُ أَقْبَحَ، وَاسْتِحْقَاقُهُ لِلزَّجْرِ أَشَدَّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حُصُولُ الْمَنَافِعِ وَاللَّذَّةِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ السَّكَنُ وَالْأُلْفَةُ وَالْمَوَدَّةُ، وَاشْتِبَاكُ الْأَنْسَابِ وَاسْتِكْثَارُ الْأَعْوَانِ وَالْأَحْبَابِ وَحُصُولُ اللَّذَّةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ نَصِيبَ الْمَرْأَةِ فِيهَا أَوْفَرُ، ثُمَّ إِنَّ الزَّوْجَ اخْتُصَّ بِأَنْوَاعٍ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجَةِ، وَهِيَ الْتِزَامُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَالذَّبُّ عَنْهَا، وَالْقِيَامُ بِمَصَالِحِهَا، وَمَنْعُهَا عَنْ مَوَاقِعِ الْآفَاتِ، فَكَانَ قِيَامُ الْمَرْأَةِ بِخِدْمَةِ الرَّجُلِ آكَدَ وُجُوبًا، رِعَايَةً لِهَذِهِ الْحُقُوقِ الزَّائِدَةِ وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ [النِّسَاءِ: 34] وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا بِالسُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ بِالسُّجُودِ لِزَوْجِهَا» ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أَيْ غَالِبٌ لَا يُمْنَعُ، مُصِيبٌ أَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ، لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمَا احْتِمَالُ الْعَبَثِ والسفه والغلط والباطل. [سورة البقرة (2) : آية 229] الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) قَوْلُهُ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ.

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحُكْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ الَّذِي تَثْبُتُ فِيهِ الرَّجْعَةُ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَلَوْ طَلَّقَهَا أَلْفَ مَرَّةٍ كَانَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُرَاجَعَةِ ثَابِتَةً لَهُ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَشَكَتْ أَنَّ زَوْجَهَا يُطَلِّقُهَا وَيُرَاجِعُهَا يُضَارُّهَا بِذَلِكَ، فَذَكَرَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ في أن هذا الكلام حكم مبتدأ وهو مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، قَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ حُكْمٌ مُبْتَدَأٌ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ التَّطْلِيقَ الشَّرْعِيَّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَطْلِيقَةً بَعْدَ تَطْلِيقَةٍ عَلَى التَّفْرِيقِ دُونَ الْجَمْعِ وَالْإِرْسَالِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَهَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الثَّلَاثِ حَرَامٌ، وَزَعَمَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي الْأَسْرَارِ: أَنَّ هَذَا هُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَحُذَيْفَةَ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ مَرَّتَانِ، وَلَا رَجْعَةَ بَعْدَ الثَّلَاثِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ قَوْلُ مَنْ جَوَّزَ الْجَمْعَ بَيْنَ الثَّلَاثِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. حُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ إِذَا لَمْ يَكُونَا لِلْمَعْهُودِ أَفَادَا الِاسْتِغْرَاقَ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: كُلُّ الطَّلَاقِ مَرَّتَانِ، وَمَرَّةٌ ثَالِثَةٌ، وَلَوْ قَالَ هَكَذَا لَأَفَادَ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمَشْرُوعَ مُتَفَرِّقٌ، لِأَنَّ الْمَرَّاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَفَرُّقٍ بِالْإِجْمَاعِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ وَرَدَتْ لِبَيَانِ الطَّلَاقِ الْمَسْنُونِ، وَعِنْدِي الْجَمْعُ مُبَاحٌ لَا مَسْنُونٌ. قُلْنَا: لَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ صِفَةِ السُّنَّةِ، بَلْ كَانَ تَفْسِيرُ الْأَصْلِ الطَّلَاقَ، ثُمَّ قَالَ هَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْخَبَرِ، إِلَّا أَنَّ مَعْنَاهُ هُوَ الْأَمْرُ، أَيْ طَلِّقُوا مَرَّتَيْنِ يَعْنِي دَفْعَتَيْنِ، وَإِنَّمَا وقع العدول عن لفظ الأمر إلى الْخَبَرِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ التَّعْبِيرَ عَنِ الْأَمْرِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ يُفِيدُ تَأْكِيدَ مَعْنَى الْأَمْرِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِتَفْرِيقِ الطَّلَقَاتِ، وَعَلَى التَّشْدِيدِ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ وَالْمُبَالَغَةِ فِيهِ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الدِّينِ، أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَا يَقَعُ إِلَّا الْوَاحِدَةُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَقْيَسُ، لِأَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى اشْتِمَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ، وَالْقَوْلُ بِالْوُقُوعِ سَعْيٌ فِي إِدْخَالِ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ فِي الْوُجُودِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا إِلَّا أَنَّهُ يَقَعُ، وَهَذَا/ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ كَلَامًا مُبْتَدَأً، بَلْ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ حَقَّ الْمُرَاجَعَةِ ثَابِتٌ لِلزَّوْجِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ ذَلِكَ الْحَقَّ ثَابِتٌ دَائِمًا أَوْ إِلَى غَايَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَكَانَ ذَلِكَ كَالْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إِلَى الْمُبَيِّنِ، أَوْ كَالْعَامِّ الْمُفْتَقِرِ إِلَى الْمُخَصِّصِ فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذلك الطلاق

الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ لِلزَّوْجِ حَقُّ الرَّجْعَةِ، هُوَ أَنْ يُوجَدَ طَلْقَتَانِ فَقَطْ وَأَمَّا بَعْدَ الطَّلْقَتَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ الْبَتَّةَ حَقُّ الرَّجْعَةِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: الطَّلَاقُ لِلْمَعْهُودِ السَّابِقِ، يَعْنِي ذَلِكَ الطَّلَاقُ الَّذِي حَكَمْنَا فِيهِ بِثُبُوتِ الرَّجْعَةِ هُوَ أَنْ يُوجَدَ مَرَّتَيْنِ، فَهَذَا تَفْسِيرٌ حَسَنٌ مُطَابِقٌ لِنَظْمِ الْآيَةِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ أَوْلَى لوجوه الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [الْبَقَرَةِ: 228] إِنْ كَانَ لِكُلِّ الْأَحْوَالِ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْمُخَصِّصِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا فَهُوَ مُجْمَلٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الشَّرْطِ الَّذِي عِنْدَهُ يَثْبُتُ حَقُّ الرَّجْعَةِ، فَيَكُونُ مُفْتَقِرًا إِلَى الْبَيَانِ، فَإِذَا جَعَلْنَا الْآيَةَ الثَّانِيَةَ مُتَعَلِّقَةً بِمَا قَبْلَهَا كَانَ الْمُخَصِّصُ حَاصِلًا مَعَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، أَوْ كَانَ الْبَيَانُ حَاصِلًا مَعَ الْمُجْمَلِ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا إِلَّا أَنَّ الْأَرْجَحَ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا جَعَلْنَا هَذَا الْكَلَامَ مُبْتَدَأً، كَانَ قَوْلُهُ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ يَقْتَضِي حَصْرَ كُلِّ الطَّلَاقِ فِي الْمَرَّتَيْنِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، لَا يُقَالُ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ وَمَرَّةٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ لَا بِقَوْلِهِ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ وَلِأَنَّ لَفْظَ التَّسْرِيحِ بِالْإِحْسَانِ لَا إِشْعَارَ فِيهِ بِالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا التَّسْرِيحَ هُوَ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ، لَكَانَ قَوْلُهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً رَابِعَةً وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: مَا رُوِّينَا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ امْرَأَةٍ شَكَتْ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ زَوْجَهَا يُطَلِّقُهَا وَيُرَاجِعُهَا كَثِيرًا بِسَبَبِ الْمُضَارَّةِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْ عُمُومِ الْآيَةِ، فَكَانَ تَنْزِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى مِنْ تَنْزِيلِهَا عَلَى حُكْمٍ آخَرَ أَجْنَبِيٍّ عَنْهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْإِمْسَاكُ خِلَافُ الْإِطْلَاقِ وَالْمِسَاكُ وَالْمُسْكَةُ اسْمَانِ مِنْهُ، يُقَالُ: إِنَّهُ لَذُو مُسْكَةٍ وَمِسَاكَةٍ إِذَا كَانَ بَخِيلًا قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ إِنَّهُ لَيْسَ بِمَسَاكِ غِلْمَانِهِ، وَفِيهِ مِسَاكَةٌ مِنْ جَبْرٍ، أَيْ قُوَّةٌ، وَأَمَّا التَّسْرِيحُ فَهُوَ الْإِرْسَالُ، وَتَسْرِيحُ الشَّعْرِ تَخْلِيصُكَ بَعْضَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَسَرَّحَ الْمَاشِيَةَ إِذَا أَرْسَلَهَا تَرْعَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ ذَلِكَ الطَّلَاقُ الَّذِي حَكَمْنَا فِيهِ بِثُبُوتِ الرَّجْعَةِ لِلزَّوْجِ، هُوَ أَنْ يُوجَدَ مَرَّتَانِ، ثُمَّ الْوَاجِبُ بَعْدَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ إِمَّا إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، وَمَعْنَى الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ أَنْ يُرَاجِعَهَا لَا عَلَى قَصْدِ الْمُضَارَّةِ، بَلْ عَلَى قَصْدِ الْإِصْلَاحِ وَالْإِنْفَاعِ، وَفِي مَعْنَى الْآيَةِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تُوقَعَ عَلَيْهَا الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ، رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ قِيلَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَيْنَ الثَّالِثَةُ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ قَوْلُهُ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَتْرُكَ الْمُرَاجَعَةَ حَتَّى تَبِينَ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ هُوَ الْأَقْرَبُ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها [البقرة: 230] تَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلْقَةِ مُتَأَخِّرَةً عَنْ ذَلِكَ التَّسْرِيحِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالتَّسْرِيحِ هُوَ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ، لَكَانَ قَوْلُهُ: فَإِنْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً رَابِعَةً وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَثَانِيهَا: أَنَّا لَوْ حَمَلْنَا التَّسْرِيحَ عَلَى تَرْكِ الْمُرَاجَعَةِ كَانَتِ الْآيَةُ مُتَنَاوِلَةً لِجَمِيعِ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ، إِمَّا أَنْ يُرَاجِعَهَا وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ لَا يُرَاجِعَهَا بَلْ يَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ وَتَحْصُلَ الْبَيْنُونَةُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أَوْ يُطَلِّقَهَا وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها

فَكَانَتِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى بَيَانِ كُلِّ الْأَقْسَامِ، أَمَّا لَوْ جَعَلْنَا التَّسْرِيحَ بِالْإِحْسَانِ طَلَاقًا آخَرَ لزم ترك أحد الأقسام الثلاث، وَلَزِمَ التَّكْرِيرُ فِي ذِكْرِ الطَّلَاقِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّ ظَاهِرَ التَّسْرِيحِ هُوَ الْإِرْسَالُ وَالْإِهْمَالُ فَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى تَرْكِ الْمُرَاجَعَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى التَّطْلِيقِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ التَّسْرِيحِ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُلْعُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْخُلْعُ بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا الثَّالِثَةَ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ ظَاهِرَةٌ لَوْ لَمْ يَثْبُتِ الْخَبَرُ الَّذِي رُوِّينَاهُ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ الْخَبَرُ فَلَا مَزِيدَ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِحْسَانِ، هُوَ أَنَّهُ إِذَا تَرَكَهَا أَدَّى إِلَيْهَا حُقُوقَهَا الْمَالِيَّةَ، وَلَا يَذْكُرُهَا بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ بِسُوءٍ وَلَا يُنَفِّرُ النَّاسَ عَنْهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْحِكْمَةُ فِي إِثْبَاتِ حَقِّ الرَّجْعَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ يَكُونُ مَعَ صَاحِبِهِ لَا يَدْرِي أَنَّهُ هَلْ تَشُقُّ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهُ أَوْ لَا فَإِذَا فَارَقَهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ، فَلَوْ جَعَلَ اللَّهُ الطَّلْقَةَ الْوَاحِدَةَ مَانِعَةً مِنَ الرُّجُوعِ لَعَظُمَتِ الْمَشَقَّةُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَظْهَرَ الْمَحَبَّةُ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ كَمَالُ التَّجْرِبَةِ لَا يَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، فَلَا جَرَمَ أَثْبَتَ تَعَالَى حَقَّ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ مَرَّتَيْنِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ قَدْ جَرَّبَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فِي تِلْكَ الْمُفَارَقَةِ وَعَرَفَ حَالَ قَلْبِهِ فِي ذَلِكَ الْبَابِ، فَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ إِمْسَاكَهَا رَاجَعَهَا وَأَمْسَكَهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ لَهُ تَسْرِيحَهَا سَرَّحَهَا عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَهَذَا التَّدْرِيجُ وَالتَّرْتِيبُ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ رَحْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ بعبده. [قوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ إلى قوله فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. واعلم أن هذا الْحُكْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ وَهُوَ بَيَانُ الْخُلْعِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ أَنْ يَكُونَ التَّسْرِيحُ مَقْرُونًا بِالْإِحْسَانِ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْإِحْسَانِ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا لَا يَأْخُذُ مِنْهَا شَيْئًا مِنَ الَّذِي أَعْطَاهَا مِنَ الْمَهْرِ وَالثِّيَابِ وَسَائِرِ مَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَلَكَ بُضْعَهَا، وَاسْتَمْتَعَ بِهَا فِي مُقَابَلَةِ مَا أَعْطَاهَا، فَلَا يَجُوزُ أن يأخذ منها شيئا، ويدل فِي هَذَا النَّهْيِ أَنْ يُضَيِّقَ عَلَيْهَا لِيُلْجِئَهَا إِلَى الِافْتِدَاءِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ [النِّسَاءِ: 19] وَقَوْلُهُ هَاهُنَا: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ هُوَ كَقَوْلِهِ هُنَاكَ: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ قَدْ يَكُونُ بِالْبَذَاءِ وَسُوءِ الْخُلُقِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الطَّلَاقِ: 1] فَقِيلَ الْمُرَادُ مِنَ الْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ الْبَذَاءُ عَلَى أَحْمَائِهَا وَقَالَ أَيْضًا: فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً [النِّسَاءِ: 20] فَعَظَّمَ فِي أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِفْضَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَنِ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا فَإِنْ كَانَ لِلْأَزْوَاجِ لَمْ يُطَابِقْهُ قَوْلُهُ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَإِنْ قُلْتَ لِلْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ فَهَؤُلَاءِ لَا يَأْخُذُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا. قُلْنَا: الْأَمْرَانِ جَائِزَانِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ الْآيَةِ خِطَابًا لِلْأَزْوَاجِ وَآخِرُهَا خِطَابًا لِلْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ، وَذَلِكَ غَيْرُ غَرِيبٍ فِي الْقُرْآنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ كُلُّهُ لِلْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْأَخْذِ وَالْإِيتَاءِ عِنْدَ التَّرَافُعِ إِلَيْهِمْ فَكَأَنَّهُمْ هُمُ الْآخِذُونَ وَالْمُؤْتُونَ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَنَعَ الرَّجُلَ أَنَّ يَأْخُذَ مِنِ امْرَأَتِهِ عِنْدَ الطَّلَاقِ شَيْئًا اسْتَثْنَى هَذِهِ الصُّورَةَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْخُلْعِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي جَمِيلَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَفِي زَوْجِهَا ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَكَانَتْ تُبْغِضُهُ أَشَدَّ الْبُغْضِ، وَكَانَ يُحِبُّهَا أَشَدَّ الْحُبِّ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَتْ: فَرِّقْ بيني وبينه فإني أبعضه، وَلَقَدْ رَفَعْتُ طَرَفَ الْخِبَاءِ فَرَأَيْتُهُ يَجِيءُ فِي أَقْوَامٍ فَكَانَ أَقْصَرَهُمْ قَامَةً، وَأَقْبَحَهُمْ وَجْهًا، وَأَشَدَّهُمْ سَوَادًا، وَإِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ ثَابِتٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْهَا فَلْتَرُدَّ عَلَيَّ الْحَدِيقَةَ الَّتِي أَعْطَيْتُهَا، فَقَالَ لَهَا: مَا تَقُولِينَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَأَزِيدُهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا حَدِيقَتُهُ فَقَطْ، ثُمَّ قَالَ لِثَابِتٍ: خُذْ مِنْهَا مَا أَعْطَيْتَهَا وَخَلِّ سَبِيلَهَا فَفَعَلَ فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ خُلْعٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ حَفْصَةَ بِنْتَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَخافا هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ أَوْ مُنْقَطِعٌ، وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي مَسْأَلَةٍ فِقْهِيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُجْتَهِدِينَ قَالُوا: يَجُوزُ الْخُلْعُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْخَوْفِ وَالْغَضَبِ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَدَاوُدُ: لَا يُبَاحُ الْخُلْعُ إِلَّا عِنْدَ الْغَضَبِ، وَالْخَوْفِ مِنْ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، فَإِنْ وَقَعَ الْخُلْعُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَالْخُلْعُ فَاسِدٌ وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ طَلَاقِهَا شَيْئًا، ثُمَّ اسْتَثْنَى اللَّهُ حَالَةً مَخْصُوصَةً فَقَالَ: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَكَانَتِ الْآيَةُ صَرِيحَةً فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَخْذُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْخَوْفِ، وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُجْتَهِدِينَ فَقَالُوا: الْخُلْعُ جَائِزٌ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ وَفِي غَيْرِ حَالَةِ الْخَوْفِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النِّسَاءِ: 4] فَإِذَا جَازَ لَهَا أَنْ تَهَبَ مَهْرَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُحَصِّلَ لِنَفْسِهَا شَيْئًا بِإِزَاءِ مَا بُذِلَ كَانَ ذَلِكَ فِي الْخُلْعِ الَّذِي تَصِيرُ بِسَبَبِهِ مَالِكَةً لِنَفْسِهَا أَوْلَى، وَأَمَّا كَلِمَةُ (إِلَّا) فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ كَمَا فِي قوله تَعَالَى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النِّسَاءِ: 92] أَيْ لَكِنْ إِنْ كَانَ خَطَأً فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ [النِّسَاءِ: 92] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْخَوْفُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْخَوْفِ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ الْإِشْفَاقُ مِمَّا يُكْرَهُ وُقُوعُهُ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الظَّنِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَوْفَ حَالَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَسَبَبُ حُصُولِهَا ظَنُّ أَنَّهُ سَيَحْدُثُ مَكْرُوهٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ فَلَا جَرَمَ أَطْلَقَ عَلَى هَذَا الظَّنِّ اسْمَ الْخَوْفِ، وَهَذَا مَجَازٌ مَشْهُورٌ فَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: قَدْ خَرَجَ غُلَامُكَ بِغَيْرِ إِذْنِكَ، فَتَقُولُ: قَدْ خِفْتُ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى ظَنَنْتُهُ وَتَوَهَّمْتُهُ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: إِذَا مُتُّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ ... تُرَوِّي عِظَامِي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقُهَا وَلَا تدفنني فِي الْفَلَاةِ فَإِنَّنِي ... أَخَافُ إِذَا مَا مُتُّ أَنْ لَا أَذُوقُهَا ثُمَّ الَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيمَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [البقرة: 230] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ حُصُولُ الْخَوْفِ لِلرَّجُلِ وَلِلْمَرْأَةِ، وَلَا بُدَّ هَاهُنَا مِنْ مَزِيدِ بَحْثٍ، فَنَقُولُ: الْأَقْسَامُ الْمُمْكِنَةُ فِي هَذَا الْبَابِ أَرْبَعَةٌ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَوْفُ حاصلا

مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ فَقَطْ، أَوْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فَقَطْ، أَوْ لَا يَحْصُلَ الْخَوْفُ مِنْ قِبَلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ يَكُونَ الْخَوْفُ حَاصِلًا مَنْ قِبَلِهِمَا مَعًا. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَوْفُ حَاصِلًا مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ نَاشِزَةً مُبْغِضَةً للزوج، فههنا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ أَخْذُ الْمَالِ مِنْهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَمِيلَةَ مَعَ ثَابِتٍ، لِأَنَّهَا أَظْهَرَتِ الْبُغْضَ فَجَوَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا الْخُلْعَ وَلِثَابِتٍ الْأَخْذَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ شَرَطَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَوْفَهُمَا مَعًا، فَكَيْفَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ يَكْفِي حُصُولُ الْخَوْفِ مِنْهَا فَقَطْ. قُلْنَا: سَبَبُ هَذَا الْخَوْفِ وَإِنْ كَانَ أَوَّلُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْخَوْفُ الْحَاصِلُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَخَافُ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ عِصْيَانِ اللَّهِ فِي أَمْرِ الزَّوْجِ، وَهُوَ يَخَافُ أَنَّهَا إِذَا لَمْ تُطِعْهُ فَإِنَّهُ يَضْرِبُهَا وَيَشْتُمُهَا، وَرُبَّمَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ فَكَانَ الْخَوْفُ حَاصِلًا لَهُمَا جَمِيعًا، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ السَّبَبُ مِنْهَا لِأَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالزَّوْجِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكْرَهَ الْمَرْأَةُ مُصَاحَبَةَ ذَلِكَ الزَّوْجِ لِفَقْرِهِ أَوْ لِقُبْحِ وَجْهِهِ، أَوْ لِمَرَضٍ مُنَفِّرٍ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ الْمَرْأَةُ خَائِفَةً مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فِي أَنْ لَا تُطِيعَ الزَّوْجَ، وَيَكُونُ الزَّوْجُ خَائِفًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فِي بَعْضِ حُقُوقِهَا. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فَقَطْ، بِأَنْ يَضْرِبَهَا وَيُؤْذِيَهَا، حَتَّى تَلْتَزِمَ الْفِدْيَةَ فَهَذَا الْمَالُ حَرَامٌ بِدَلِيلِ أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبِدَلِيلِ سَائِرِ الْآيَاتِ، كَقَوْلِهِ: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا إِلَى قَوْلِهِ: أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً [النِّسَاءِ: 19، 20] وَهَذَا مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ فِي تَحْرِيمِ أَخْذِ ذَلِكَ الْمَالِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا الْخَوْفُ حَاصِلًا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، وَلَا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَ أَكْثَرِ الْمُجْتَهِدِينَ: إِنَّ هَذَا الْخُلْعَ جَائِزٌ، وَالْمَالَ الْمَأْخُوذَ حَلَالٌ، وَقَالَ قَوْمٌ إِنَّهُ حَرَامٌ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ حَاصِلًا مِنْ قِبَلِهِمَا مَعًا، فَهَذَا الْمَالُ حَرَامٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي تَلَوْنَاهَا تَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ أَخْذِ ذَلِكَ الْمَالِ إِذَا كَانَ السَّبَبُ حَاصِلًا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَقْيِيدٌ بِقَيْدِ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ سَبَبٌ لِذَلِكَ أَمْ لَا وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْرَدَ لِهَذَا الْقِسْمِ آيَةً أُخْرَى وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما [النِّسَاءِ: 35] الْآيَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ تَعَالَى حِلَّ أَخْذِ الْمَالِ، فَهَذَا شَرْحُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا بَيْنَ الْمُكَلَّفِينَ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَهُوَ جَائِزٌ هَذَا هُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ: إِلَّا أَنْ يَخافا بِضَمِّ الْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» / وَجْهُ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ إِبْدَالُ أَنْ لَا يُقِيمَا مِنْ أَلِفِ الضَّمِيرِ، وَهُوَ مِنْ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ، كَقَوْلِكَ: خِيفَ زَيْدٌ تَرْكُهُ إِقَامَةَ حُدُودِ اللَّهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَأَكَّدٌ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ إِلَّا أَنْ يَخَافُوا وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ وَلَمْ يَقُلْ: خَافَا، فَجَعَلَ الْخَوْفَ لِغَيْرِهِمَا، وَجْهُ قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ إِضَافَةُ الْخَوْفِ إِلَيْهِمَا عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخَافُ الْفِتْنَةَ عَلَى نَفْسِهَا، وَالزَّوْجَ يَخَافُ أَنَّهَا إِنْ لَمْ تُطِعْهُ يَعْتَدِي عَلَيْهَا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مَا يَجُوزُ وُقُوعُ الْخُلْعُ بِهِ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: بَلْ مَا دُونُ مَا أَعْطَاهَا حَتَّى يَكُونَ الْفَضْلُ لَهُ، وَأَمَّا سَائِرُ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوا الْمُخَالَعَةَ بالأزيد والأقل

وَالْمُسَاوِي، وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِالْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ فَوَجَبَ أَنَّ يَكُونَ هَذَا رَاجِعًا إِلَى مَا آتَاهَا: وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي إِبَاحَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا قَدْرُ مَا آتَاهَا مِنَ الْمَهْرِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ رُوِّينَا أَنَّ ثَابِتًا لَمَّا طَلَبَ مِنْ جَمِيلَةَ أَنْ تَرُدَّ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ، فَقَالَتْ جَمِيلَةُ وَأَزِيدُهُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا حَدِيقَتُهُ فَقَطْ، وَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ بِالزَّائِدِ جَائِزًا لَمَا جَازَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَنَّهُ اسْتَبَاحَ بَعْضَهَا، فَلَوْ أَخَذَ مِنْهَا أَزْيَدَ مِمَّا دَفَعَ إِلَيْهَا لَكَانَ ذَلِكَ إحجافا بِجَانِبِ الْمَرْأَةِ وَإِلْحَاقًا لِلضَّرَرِ بِهَا، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَأَمَّا سَائِرُ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا الْخُلْعُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُتَقَيَّدَ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، فَكَمَا أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ لَا تَرْضَى عِنْدَ النِّكَاحِ إِلَّا بِالصَّدَاقِ الْكَثِيرِ، فَكَذَا لِلزَّوْجِ أن لا يرضى عند المخالعة إلا بالبذل الْكَثِيرِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَظْهَرَتْ الِاسْتِخْفَافَ بِالزَّوْجِ، حَيْثُ أَظْهَرَتْ بُغْضَهُ وَكَرَاهَتَهُ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَفَعَتْ إليه امرأة ناشزة أمرها فأخذها عمر وحسبها فِي بَيْتِ الزِّبْلِ لَيْلَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: كَيْفَ حَالُكِ؟ فَقَالَتْ: مَا بِتُّ أَطْيَبَ مِنْ هَاتَيْنِ اللَّيْلَتَيْنِ، فَقَالَ عُمَرُ: اخْلَعْهَا وَلَوْ بِقُرْطِهَا، وَالْمُرَادُ اخْلَعْهَا حَتَّى بِقُرْطِهَا وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ قَدِ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِكُلِّ شَيْءٍ وَبِكُلِّ ثَوْبٍ عَلَيْهَا إِلَّا دِرْعَهَا، فلم ينكر عليها. المسألة السابعة: الْخُلْعُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَعَطَاءٍ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَشُرَيْحٍ وَمُجَاهِدٍ وَمَكْحُولٍ وَالزُّهْرِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٌ وَعِكْرِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: إِنَّهُ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ. حُجَّةُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ طَلَاقٌ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّهُ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ، فَإِذَا بَطَلَ كَوْنُهُ فَسْخًا ثَبَتَ أَنَّهُ طَلَاقٌ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِفَسْخٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَسْخًا لَمَا صَحَّ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمَهْرِ الْمُسَمَّى: كَالْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْخُلْعُ فَسْخًا فَإِذَا خَالَعَهَا وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَهْرَ وَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهَا الْمَهْرُ، كَالْإِقَالَةِ، / فَإِنَّ الثَّمَنَ يَجِبُ رَدُّهُ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْخُلْعَ لَيْسَ بِفَسْخٍ، وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ طَلَاقٌ. حُجَّةُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ وُجُوهٌ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ثُمَّ ذَكَرَ الطَّلَاقَ فَقَالَ: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [الْبَقَرَةِ: 230] فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَكَانَ الطَّلَاقُ أَرْبَعًا، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ فِي كِتَابِ مَعَالِمِ السُّنَنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ فِي مُخَالَعَةِ امْرَأَتِهِ، مَعَ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ حَصَلَ الْجِمَاعُ فِيهِ حَرَامٌ، فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَكَانَ يَجِبُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَكْشِفَ الْحَالَ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَكْشِفْ بَلْ أَمَرَهُ بِالْخُلْعِ مُطْلَقًا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ» عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ لَمَّا اخْتَلَعَتْ مِنْهُ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّتَهَا حَيْضَةً، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهَذَا أَدَلُّ شَيْءٍ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ مُطَلَّقَةً لَمْ يَقْتَصِرْ لَهَا عَلَى قُرْءٍ وَاحِدٍ.

[سورة البقرة (2) : آية 230]

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَالْمَعْنَى أَنَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالْخُلْعِ فَلا تَعْتَدُوها أَيْ فَلَا تَتَجَاوَزُوا عَنْهَا، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا النَّهْيِ الْمُؤَكَّدِ أَتْبَعَهُ بِالْوَعِيدِ، فَقَالَ: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هُودٍ: 18] فَذَكَرَ الظُّلْمَ هَاهُنَا تَنْبِيهًا عَلَى حُصُولِ اللَّعْنِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الظَّالِمَ اسْمُ ذَمٍّ وَتَحْقِيرٍ، فَوُقُوعُ هَذَا الِاسْمِ يَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى الْوَعِيدِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ أَطْلَقَ لَفْظَ الظُّلْمِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ ظُلْمٌ مِنَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، حَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَظُلْمٌ أَيْضًا لِلْغَيْرِ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا تُتِمَّ الْمَرْأَةُ عِدَّتَهَا، أَوْ كَتَمَتْ شَيْئًا مِمَّا خُلِقَ فِي رَحِمِهَا، أَوِ الرَّجُلُ تَرَكَ الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ وَالتَّسْرِيحَ بِالْإِحْسَانِ، أَوْ أَخَذَ مِنْ جُمْلَةِ مَا آتَاهَا شَيْئًا لَا بِسَبَبِ نُشُوزٍ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ، فَفِي كُلِّ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يَكُونُ ظَالِمًا لِلْغَيْرِ فَلَوْ أَطْلَقَ لَفْظَ الظَّالِمِ دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ ظَالِمًا لنفسه، وظالما لغيره، وفيه أعظم التهديدات. [سورة البقرة (2) : آية 230] فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحُكْمُ الْخَامِسُ مِنْ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ، وَهُوَ بَيَانُ أَنَّ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ قَاطِعَةٌ لِحَقِّ الرَّجْعَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة: 229] إِشَارَةٌ إِلَى الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ قَالُوا إِنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ طَلَّقَها تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ، إِلَّا أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ مَعَ الْمَرْأَةِ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ أَحْوَالًا ثَلَاثَةً أَحَدُهَا: أَنْ يُرَاجِعَهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ [البقرة: 229] وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُرَاجِعَهَا بَلْ يَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ وَتَحْصُلَ الْبَيْنُونَةُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَالثَّالِثُ: أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً ثَالِثَةً، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها فَإِذَا كَانَتِ الْأَقْسَامُ ثَلَاثَةً، وَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَلْفَاظًا ثَلَاثَةً وَجَبَ تَنْزِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ عَلَى مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ، فَأَمَّا إِنْ جَعَلْنَا قَوْلَهُ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ عِبَارَةً عَنِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ كُنَّا قَدْ صَرَفْنَا لَفْظَيْنِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرَارِ، وَأَهْمَلْنَا الْقِسْمَ الثَّالِثَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى. وَاعْلَمْ أَنَّ وُقُوعَ آيَةِ الْخُلْعِ فِيمَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ كَالشَّيْءِ الْأَجْنَبِيِّ، وَنَظْمُ الْآيَةِ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ النَّظْمُ الصَّحِيحُ هُوَ هَذَا فَمَا السَّبَبُ فِي إِيقَاعِ آيَةِ الْخُلْعِ فِيمَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ؟. قُلْنَا: السَّبَبُ أَنَّ الرَّجْعَةَ وَالْخُلْعَ لَا يَصِحَّانِ إِلَّا قَبْلَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، أَمَّا بَعْدَهَا فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ: فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ اللَّهُ حُكْمَ الرَّجْعَةِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِحُكْمِ الْخُلْعِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ الْكُلِّ حُكْمَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّهَا كَالْخَاتِمَةِ لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْمُجْتَهِدِينَ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ بِالثَّلَاثِ لَا تَحِلُّ لِذَلِكَ الزَّوْجِ إِلَّا بِخَمْسِ شَرَائِطَ: تَعْتَدُّ مِنْهُ، وَتَعْقِدُ لِلثَّانِي، وَيَطَؤُهَا، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنْهُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: تَحِلُّ

بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ شَرْطَ الْوَطْءِ بِالسُّنَّةِ، أَوْ بِالْكِتَابِ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: الْأَمْرَانِ مَعْلُومَانِ بِالْكِتَابِ وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ. وَقَبْلَ الْخَوْضِ فِي الدَّلِيلِ لَا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى مُقَدِّمَةٍ، قَالَ عُثْمَانُ بْنُ جِنِّي: سَأَلْتُ أَبَا عَلِيٍّ عَنْ قَوْلِهِمْ: نَكَحَ الْمَرْأَةَ، فَقَالَ: فَرَّقَتِ الْعَرَبُ بِالِاسْتِعْمَالِ، فَإِذَا قَالُوا: نَكَحَ فُلَانٌ فُلَانَةَ، أَرَادُوا أَنَّهُ عَقَدَ عَلَيْهَا، وَإِذَا قَالُوا: نَكَحَ امْرَأَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ أَرَادُوا بِهِ الْمُجَامَعَةَ، وَأَقُولُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ كَلَامٌ مُحَقَّقٌ بِحَسَبَ الْقَوَانِينِ الْعَقْلِيَّةِ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ الْحَاصِلَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مُغَايِرَةٌ لِذَاتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ/ الْمُضَافَيْنِ، فَإِذَا قِيلَ: نَكَحَ فُلَانٌ زَوْجَتَهُ، فَهَذَا النِّكَاحُ أَمْرٌ حَاصِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ فَهَذَا النِّكَاحُ مُغَايِرٌ لَهُ وَلِزَوْجَتِهِ، ثُمَّ الزَّوْجَةُ لَيْسَتِ اسْمًا لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ بِحَسَبَ ذَاتِهَا بَلِ اسْمًا لِتِلْكَ الذَّاتِ بِشَرْطِ كَوْنِهَا مَوْصُوفَةً بِالزَّوْجِيَّةِ، فَالزَّوْجَةُ مَاهِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الذَّاتِ وَمِنَ الزَّوْجِيَّةِ وَالْمُفْرَدُ مُقَدَّمٌ لَا مَحَالَةَ عَلَى الْمُرَكَّبِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا قُلْنَا نَكَحَ فُلَانٌ زوجته، فالناكح مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْمَفْهُومِ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ، وَالزَّوْجِيَّةُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الزَّوْجَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا زَوْجَةٌ، تَقَدُّمَ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُرَكَّبِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ ذَلِكَ النِّكَاحَ غَيْرُ الزَّوْجِيَّةِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ قَوْلُهُ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ النِّكَاحُ غَيْرَ الزَّوْجِيَّةِ، فَكُلُّ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ قَالَ: إِنَّهُ الْوَطْءُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْوَطْءِ، فَقَوْلُهُ: تَنْكِحَ يَدُلُّ عَلَى الْوَطْءِ، وَقَوْلُهُ: زَوْجاً يَدُلُّ عَلَى الْعَقْدِ، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْآيَةَ غَيْرُ دَالَّةٍ عَلَى الْوَطْءِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْوَطْءُ بِالسُّنَّةِ فَضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي نَفْيَ الْحِلِّ مَمْدُودًا إِلَى غَايَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ: حَتَّى تَنْكِحَ وَمَا كَانَ غَايَةً لِلشَّيْءِ يَجِبُ انْتِهَاءُ الْحُكْمِ عِنْدَ ثُبُوتِهِ، فَيَلْزَمُ انْتِهَاءُ الْحُرْمَةِ عِنْدَ حُصُولِ النِّكَاحِ، فَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ عِبَارَةً عَنِ الْعَقْدِ لَكَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى وُجُوبِ انْتِهَاءِ الْحُرْمَةِ عِنْدَ حُصُولِ الْعَقْدِ، فَكَانَ رَفْعُهَا بِالْخَبَرِ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَا النِّكَاحَ عَلَى الْوَطْءِ، وَحَمَلْنَا قَوْلَهُ: زَوْجاً عَلَى الْعَقْدِ، لَمْ يَلْزَمْ هَذَا الْإِشْكَالُ، وَأَمَّا الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ فِي السُّنَّةِ فَمَا رُوِيَ أَنَّ تَمِيمَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَظِيِّ، كَانَتْ تَحْتَ رِفَاعَةَ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَتِيكٍ الْقُرَظِيِّ ابْنِ عَمِّهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَتَزَوَّجَتْ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْقُرَظِيِّ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: كُنْتُ تَحْتَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي، فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَإِنَّ مَا مَعَهُ مِثْلَ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، وَإِنَّهُ طَلَّقَنِي قَبْلَ أَنْ يَمَسَّنِي أَفَأَرْجِعُ إِلَى ابْنِ عَمِّي؟ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» وَالْمُرَادُ بِالْعُسَيْلَةِ الْجِمَاعُ شَبَّهَ اللَّذَّةَ فِيهِ بِالْعَسَلِ، فَلَبِثَتْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ عَادَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: إِنْ زَوْجِي مَسَّنِي فَكَذَّبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: كَذَبْتِ فِي الْأَوَّلِ فَلَنْ أُصَدِّقَكِ فِي الْآخَرِ، فَلَبِثَتْ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَتْ أَبَا بَكْرٍ فَاسْتَأْذَنَتْ، فَقَالَ: لَا تَرْجِعِي إِلَيْهِ فَلَبِثَتْ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، فَأَتَتْ عُمَرَ فَاسْتَأْذَنَتْ فَقَالَ لَئِنْ رَجَعْتِ إِلَيْهِ لَأَرْجُمَنَّكِ، وَفِي قِصَّةِ رِفَاعَةَ نَزَلَ قَوْلُهُ: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ. أَمَّا الْقِيَاسُ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَوْقِيفِ حُصُولِ الْحَلِّ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ زَجْرُ الزَّوْجِ عَنِ الطَّلَاقِ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الزَّوْجَ يَسْتَنْكِرُ أَنْ يَفْتَرِشَ زَوْجَتَهُ رَجُلٌ آخَرُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ أَنْ يَنْكِحْنَ غَيْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَضَاضَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزَّجْرَ إِنَّمَا يَحْصُلُ/ بِتَوْقِيفِ الْحِلِّ عَلَى الدُّخُولِ فَأَمَّا مُجَرَّدُ الْعَقْدِ فَلَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ نَفْرَةٍ فَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ مانعا وزاجرا.

المسألة الثالثة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، ثُمَّ نَكَحَتْ زَوْجًا آخَرَ وَأَصَابَهَا، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الْأَوَّلِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا إِلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الَّتِي بَقِيَتْ لَهُ مِنَ الطَّلَقَاتِ الْأُولَى، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بَلْ يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلَاثًا كَمَا لَوْ نَكَحَتْ زَوْجًا بَعْدَ الثَّلَاثِ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذِهِ طَلْقَةٌ ثَالِثَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ تَحْصُلَ الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ، إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهَا طَلْقَةٌ ثَالِثَةٌ لِأَنَّهَا طَلْقَةٌ وُجِدَتْ بَعْدَ الطَّلْقَتَيْنِ، وَالطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ مُوجِبَةٌ لِلْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: فَإِنْ طَلَّقَها أَعَمُّ مِنْ أَنْ يُطَلِّقَهَا الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ مَسْبُوقًا بِنِكَاحِ غَيْرِهِ، أَوْ غَيْرَ مَسْبُوقٍ بِنِكَاحِ غَيْرِهِ فَكَانَ الْكُلُّ دَاخِلًا فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا تَزَوَّجَ بِالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِلْغَيْرِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَحَلَّهَا لِلْأَوَّلِ بِأَنْ أَصَابَهَا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا، فَهَذَا نِكَاحُ مُتْعَةٍ بِأَجَلٍ مَجْهُولٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا إِذَا أَحَلَّهَا لِلْأَوَّلِ فَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ وَالثَّانِي: يَصِحُّ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا مُطْلَقًا مُعْتَقِدًا بِأَنَّهُ إِذَا أَحَلَّهَا طَلَّقَهَا فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ وَيُكْرَهُ ذَلِكَ وَيَأْثَمُ بِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ: هَذَا النِّكَاحُ بَاطِلٌ دَلِيلُنَا أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ تَنْتَهِي بِوَطْءٍ مَسْبُوقٍ بِعَقْدٍ، وَقَدْ وُجِدَتْ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِانْتِهَاءِ الْحُرْمَةِ وَحَيْثُ حَكَمْنَا بِفَسَادِ النِّكَاحِ، فَوَطِئَهَا هَلْ يَقَعُ بِهِ التَّحْلِيلُ قَوْلَانِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ التَّحْلِيلُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَها فَالْمَعْنَى: إِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي الَّذِي تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ... فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَيْ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ وَالزَّوْجِ الْأَوَّلِ أَنْ يَتَرَاجَعَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، فَذَكَرَ لَفْظَ النِّكَاحِ بِلَفْظِ التَّرَاجُعِ، لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ كَانَتْ حَاصِلَةً بَيْنَهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِذَا تَنَاكَحَا فَقَدْ تَرَاجَعَا إِلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ مِنَ النِّكَاحِ، فَهَذَا تَرَاجُعٌ لُغَوِيٌّ، بَقِيَ فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ عند ما يُطَلِّقُهَا الزَّوْجُ الثَّانِي تَحِلُّ الْمُرَاجَعَةُ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، إِلَّا أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِدَّةِ اسْتِبْرَاءُ الرَّحِمِ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ هَاهُنَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فِي أَنَّ التَّحْلِيلَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، لِأَنَّ الْوَطْءَ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لَكَانَتِ الْعِدَّةُ وَاجِبَةً، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْعِدَّةِ، لَأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ حِلَّ الْمُرَاجَعَةِ حَاصِلٌ عَقِيبَ طَلَاقِ الزَّوْجِ الثَّانِي إِلَّا أَنَّ الْجَوَابَ مَا قَدَّمْنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْخَلِيلُ وَالْكِسَائِيُّ: مَوْضِعُ أَنْ يَتَراجَعا خَفْضٌ بِإِضْمَارِ الْخَافِضِ، تَقْدِيرُهُ: فِي أَنْ يَتَرَاجَعَا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَوْضِعُهُ نَصْبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنْ ظَنَّا أَيْ إِنْ عَلِمَا وَأَيْقَنَا أَنَّهُمَا يُقِيمَانِ حُدُودَ اللَّهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّكَ لَا تَقُولُ: عَلِمْتُ أَنْ يَقُومَ زَيْدٌ وَلَكِنْ عَلِمْتُ أَنَّهُ يَقُومُ زَيْدٌ وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْلَمُ مَا فِي الْقَدَرِ وَإِنَّمَا يَظُنُّهُ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً [البقرة: 228] فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَاكَ الظَّنُّ فَكَذَا هَاهُنَا، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ فَالْمُرَادُ مِنْهُ نَفْسُ الظَّنِّ، أَيْ مَتَى حَصَلَ هَذَا الظَّنُّ، وَحَصَلَ لَهُمَا الْعَزْمُ عَلَى إِقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ، حَسُنَتْ هَذِهِ الْمُرَاجَعَةُ وَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ هَذَا

[سورة البقرة (2) : آية 231]

الظَّنُّ وَخَافَا عِنْدَ الْمُرَاجَعَةِ مِنْ نُشُوزٍ مِنْهَا أَوْ إِضْرَارٍ مِنْهُ فَالْمُرَاجَعَةُ تَحْرُمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَلِمَةُ «إِنْ» فِي اللُّغَةِ لِلشَّرْطِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عُدِمَ عِنْدَ عُدْمِ الشَّرْطِ فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الظَّنُّ لَمْ يَحْصُلْ جَوَازُ الْمُرَاجَعَةِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ جَوَازَ الْمُرَاجَعَةِ ثَابِتٌ سَوَاءٌ حَصَلَ هَذَا الظَّنُّ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْمُرَاجَعَةِ: بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ عِنْدَ الْمُرَاجَعَةِ بِالنِّكَاحِ الْجَدِيدِ رِعَايَةُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَصْدُ الْإِقَامَةِ لِحُدُودِ اللَّهِ وَأَوَامِرِهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إشارة إلى ما بينها مِنَ التَّكَالِيفِ، وَقَوْلُهُ: يُبَيِّنُها إِشَارَةٌ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَنَاقِضٌ وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ أَكْثَرُهَا عَامَّةٌ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا تَخْصِيصَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَأَكْثَرُ تِلْكَ الْمُخَصِّصَاتِ إِنَّمَا عُرِفَتْ بِالسُّنَّةِ، فَكَانَ الْمُرَادُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ هِيَ حُدُودُ اللَّهِ وَسَيُبَيِّنُهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَالَ الْبَيَانِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النَّحْلِ: 44] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبَانٍ نُبَيِّنُهَا بِالنُّونِ وَهِيَ نُونُ التَّعْظِيمِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا خُصَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذَا الْبَيَانِ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالْآيَاتِ فَغَيْرُهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] والثاني: أنه خصصهم بِالذِّكْرِ كَقَوْلِهِ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: 98] وَالثَّالِثُ: يَعْنِي بِهِ الْعَرَبَ لِعِلْمِهِمْ بِاللِّسَانِ وَالرَّابِعُ: يُرِيدُ مَنْ لَهُ عَقْلٌ وَعِلْمٌ، كَقَوْلِهِ: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: 43] وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ إِلَّا عَاقِلًا عَالِمًا بِمَا يُكَلِّفُهُ، لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ أُزِيحَ عُذْرُ الْمُكَلَّفِ والخامس: أن قوله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ يُبَيِّنُهَا اللَّهُ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أنزل الكتاب وبعث الرسول ليعلموا بأمره وينتهوا عما نهوا عنه. [سورة البقرة (2) : آية 231] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَوَّلُ مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قوله: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة: 229] فَتَكُونُ إِعَادَةُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الْآيَةِ تَكْرِيرًا لِكَلَامٍ وَاحِدٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَالْجَوَابُ: أَمَّا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فَهُمُ الَّذِينَ حَمَلُوا قوله: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الطَّلَقَاتِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَإِنَّمَا الْمَشْرُوعُ هُوَ التَّفْرِيقُ، فَهَذَا السُّؤَالُ سَاقِطٌ عَنْهُمْ، لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الرَّجْعَةِ، وَأَمَّا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ

وَهُمُ الَّذِينَ حَمَلُوا تِلْكَ الْآيَةَ عَلَى كَيْفِيَّةِ الرَّجْعَةِ فَهَذَا السُّؤَالُ وَارِدٌ عَلَيْهِمْ، وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ مَنْ ذَكَرَ حُكْمًا يَتَنَاوَلُ صُوَرًا كَثِيرَةً، وَكَانَ إِثْبَاتُ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ تِلْكَ الصُّوَرِ أَهَمَّ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُعِيدَ بَعْدَ ذَلِكَ الْحُكْمِ الْعَامِّ تِلْكَ الصُّورَةَ الْخَاصَّةَ مَرَّةً أُخْرَى، لِيَدُلَّ ذَلِكَ التَّكْرِيرُ عَلَى أَنَّ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ مِنْ الِاهْتِمَامِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا وَهَاهُنَا كَذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة: 229] فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ عِنْدَ مُشَارَفَةِ الْعِدَّةِ عَلَى الزَّوَالِ لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ رِعَايَةَ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَ مُشَارَفَةِ زَوَالِ الْعِدَّةِ أَوْلَى بِالْوُجُوبِ/ مِنْ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْإِيذَاءِ أَنْ يُطَلِّقَهَا، ثُمَّ يُرَاجِعَهَا مَرَّتَيْنِ عِنْدَ آخِرِ الْأَجَلِ حَتَّى تَبْقَى فِي الْعِدَّةِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْمُضَارَّةِ لَمْ يَقْبُحْ أَنَّ يُعِيدَ اللَّهُ حُكْمَ هَذِهِ الصُّورَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ أَعْظَمُ الصُّوَرِ اشْتِمَالًا عَلَى الْمُضَارَّةِ وَأَوْلَاهَا بِأَنْ يَحْتَرِزَ الْمُكَلَّفُ عَنْهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُرَاجَعَةِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ الْمُرَاجَعَةِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ نِكَاحٌ وَلَا طَلَاقٌ إِلَّا بِكَلَامٍ، لَمْ تَكُنِ الرَّجْعَةُ إِلَّا بِكَلَامٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بِالْوَطْءِ، وَقَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنْ نَوَى الرَّجْعَةَ بِالْوَطْءِ كَانَتْ رَجْعَةً وَإِلَّا فَلَا. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيُمْسِكْهَا» حَتَّى تَطْهُرَ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بالمراجعة مطلقا، وقيل: دَرَجَاتِ الْأَمْرِ الْجَوَازُ فَنَقُولُ: إِنَّهُ كَانَ مَأْذُونًا بِالْمُرَاجَعَةِ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ، وَمَا كَانَ مَأْذُونًا بِالْوَطْءِ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْوَطْءُ رَجْعَةً وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَمَرَ بِمُجَرَّدِ الْإِمْسَاكِ، وَإِذَا وَطِئَهَا فَقَدْ أَمْسَكَهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَافِيًا، أَمَّا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْكَلَامِ، فَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى الرَّجْعَةِ مُسْتَحَبٌّ وَلَا يَجِبُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَالَ فِي «الْإِمْلَاءِ» : هُوَ وَاجِبٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا يَكُونُ مَعْرُوفًا إِلَّا إِذَا عَرَفَهُ الْغَيْرُ، وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عِرْفَانُ غَيْرِ الشَّاهِدِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عِرْفَانُ الشَّاهِدِ وَاجِبًا وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الْمُرَاعَاةُ وَإِيصَالُ الْخَيْرِ لَا مَا ذَكَرْتُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ عِنْدَ بُلُوغِ الْأَجَلِ حَقَّ الْمُرَاجَعَةِ، وَبُلُوغُ الْأَجَلِ عِبَارَةٌ عَنِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَعِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْمُرَاجَعَةِ. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ بِبُلُوغِ الْأَجَلِ مُشَارَفَةُ الْبُلُوغِ لَا نَفْسُ الْبُلُوغِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا مِنْ بَابِ الْمَجَازِ الَّذِي يُطْلَقُ فِيهِ اسْمُ الْكُلِّ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَهُوَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ إِذَا قَارَبَ الْبَلَدَ: قَدْ بَلَغْنَا الثَّانِي: أَنَّ الْأَجَلَ اسْمٌ لِلزَّمَانِ فَنَحْمِلُهُ عَلَى الزَّمَانِ الَّذِي هُوَ آخِرُ زَمَانٍ يُمْكِنُ إِيقَاعُ الرَّجْعَةِ إِلَيْهِ، بِحَيْثُ إِذَا فَاتَ لَا يَبْقَى بَعْدَهُ مُكْنَةُ الرَّجْعَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى الْمَجَازِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً ففيه مسألتان:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّكْرَارِ؟. وَالْجَوَابُ: الْأَمْرُ لَا يُفِيدُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ الْأَوْقَاتِ، أَمَّا النَّهْيُ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ الْأَوْقَاتِ، فَلَعَلَّهُ يُمْسِكُهَا بِمَعْرُوفٍ فِي الْحَالِ، وَلَكِنْ فِي قَلْبِهِ أَنْ يُضَارَّهَا فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً انْدَفَعَتِ الشُّبُهَاتُ وَزَالَتْ الِاحْتِمَالَاتُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: الضِّرَارُ هُوَ الْمُضَارَّةُ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً [التَّوْبَةِ: 107] أَيِ اتَّخَذُوا الْمَسْجِدَ ضِرَارًا لِيُضَارُّوا الْمُؤْمِنِينَ، وَمَعْنَاهُ رَجَعَ إِلَى إِثَارَةِ الْعَدَاوَةِ وَإِزَالَةِ الْأُلْفَةِ وَإِيقَاعِ الْوَحْشَةِ، وَمُوجِبَاتِ النَّفْرَةِ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الضِّرَارِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُطَّلِقُ الْمَرْأَةَ ثُمَّ يَدَعُهَا، فَإِذَا قَارَبَ انْقِضَاءُ الْقُرْءِ الثَّالِثِ رَاجَعَهَا، وَهَكَذَا يَفْعَلُ بِهَا حَتَّى تَبْقَى فِي الْعِدَّةِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ وَالثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الضِّرَارِ سُوءُ الْعِشْرَةِ وَالثَّالِثُ: تَضْيِيقُ النَّفَقَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ رَجَاءَ أَنْ تَخْتَلِعَ الْمَرْأَةُ مِنْهُ بِمَالِهَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِتَعْتَدُوا فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ لَا تُضَارُّوهُنَّ فَتَكُونُوا مُعْتَدِينَ، يَعْنِي فَتَكُونُ عَاقِبَةُ أَمْرِكُمْ ذَلِكَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَصِ: 8] أَيْ فَكَانَ لَهُمْ وَهِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا تُضَارُّوهُنَّ عَلَى قصد الاعتداء عليهن، فحينئذ تصيرون عصاة الله، وَتَكُونُونَ مُتَعَمِّدِينَ قَاصِدِينَ لِتِلْكَ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: ظَلَمَ نَفْسَهُ بِتَعْرِيضِهَا لِعَذَابِ اللَّهِ وَثَانِيهَا: ظَلَمَ نَفْسَهُ بِأَنْ فَوَّتَ عَلَيْهَا مَنَافِعَ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، أَمَّا مَنَافِعُ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ إِذَا اشْتَهَرَ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ الْقَبِيحَةِ لَا يَرْغَبُ فِي التَّزَوُّجِ بِهِ وَلَا مُعَامَلَتِهِ أَحَدٌ، وَأَمَّا مَنَافِعُ الدِّينِ فَالثَّوَابُ الْحَاصِلُ عَلَى حُسْنِ الْعِشْرَةِ مَعَ الْأَهْلِ وَالثَّوَابُ الْحَاصِلُ عَلَى الِانْقِيَادِ لِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكَالِيفِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ نَسِيَ فَلَمْ يَفْعَلْهُ بَعْدَ أَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ مَنْصِبَ مَنْ يُطِيعُ ذَلِكَ الْأَمْرَ، يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُ اسْتَهْزَأَ بِهَذَا الْأَمْرِ وَيَلْعَبُ بِهِ، فَعَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ أُمِرَ بِأَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَةُ اللَّهِ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ، ثُمَّ وَصَلَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ التَّكَالِيفُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي الْعِدَّةِ وَالرَّجْعَةِ وَالْخُلْعِ وَتَرْكِ الْمُضَارَّةِ فَلَا يَتَشَمَّرُ لِأَدَائِهَا، كَانَ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِهَا، وَهَذَا تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ لِلْعُصَاةِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ: وَلَا تَتَسَامَحُوا فِي تَكَالِيفِ اللَّهِ كَمَا يُتَسَامَحُ فِيمَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْهَزْلِ وَالْعَبَثِ وَالثَّالِثُ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيَقُولُ: طَلَّقْتُ وَأَنَا لَاعِبٌ، وَيُعْتِقُ وَيَنْكِحُ، وَيَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: «مَنْ طَلَّقَ، أَوْ حَرَّرَ، أَوْ نَكَحَ، فَزَعَمَ أَنَّهُ لَاعِبٌ فَهُوَ جَدٌّ» وَالرَّابِعُ: قَالَ عَطَاءٌ: الْمَعْنَى أَنَّ الْمُسْتَغْفِرَ مِنَ الذَّنْبِ إِذَا كَانَ مُصِرًّا عَلَيْهِ أَوْ عَلَى مِثْلِهِ، كَانَ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِآيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً تَهْدِيدٌ، وَالتَّهْدِيدُ إِذَا ذُكِرَ بَعْدَ ذِكْرِ التَّكَالِيفِ كَانَ ذَلِكَ التَّهْدِيدُ تَهْدِيدًا عَلَى تَرْكِهَا، لَا عَلَى شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِهَا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ/ تَعَالَى لَمَّا رَغَّبَهُمْ فِي أَدَاءِ التَّكَالِيفِ بِمَا ذَكَرَ مِنَ التَّهْدِيدِ، رَغَّبَهُمْ أَيْضًا فِي أَدَائِهَا بِأَنَّ ذَكَّرَهُمْ أَنْوَاعَ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، فَبَدَأَ أَوَّلًا بِذِكْرِهَا عَلَى سَبِيلِ الإجمال فقال:

[سورة البقرة (2) : آية 232]

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الدِّينِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا نِعَمَ الدِّينِ، وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَجَلُّ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا، فَقَالَ: وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ لِيَعِظَكُمْ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ أَيْ فِي أَوَامِرِهِ كُلِّهَا، وَلَا تُخَالِفُوهُ فِي نَوَاهِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. [سورة البقرة (2) : آية 232] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحُكْمُ السَّادِسُ مِنْ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ، وَهُوَ حُكْمُ الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: رُوِيَ أَنَّ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ زَوَّجَ أُخْتَهُ جَمِيلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَاصِمٍ، فَطَلَّقَهَا ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ نَدِمَ فَجَاءَ يَخْطِبُهَا لِنَفْسِهِ وَرَضِيَتِ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهَا مَعْقِلٌ: إِنَّهُ طَلَّقَكِ ثُمَّ تُرِيدِينَ مُرَاجَعَتَهُ وَجْهِي مِنْ وَجْهِكِ حَرَامٌ إِنْ رَاجَعْتِيهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الآية، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ وَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ مَعْقِلٌ: رَغِمَ أَنْفِي لِأَمْرِ رَبِّي، اللَّهُمَّ رَضِيتُ وَسَلَّمْتُ لِأَمْرِكَ، وَأَنْكَحَ أُخْتَهُ زَوْجَهَا وَالثَّانِي: رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ بِنْتُ عَمٍّ فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَأَرَادَ رَجَعَتْهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ فَأَبَى جَابِرٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَكَانَ جَابِرٌ يَقُولُ فِيَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعَضْلُ الْمَنْعُ، يُقَالُ: عَضَلَ فُلَانٌ ابْنَتَهُ، إِذَا مَنَعَهَا مِنَ التَّزَوُّجِ، فَهُوَ يَعْضُلُهَا وَيَعْضِلُهَا، بِضَمِّ الضَّادِ وَبِكَسْرِهَا وَأَنْشَدَ الْأَخْفَش: وَإِنَّ قَصَائِدِي لَكَ فَاصْطَنِعْنِي ... كَرَائِمَ قَدْ عُضِلْنَ عَنِ النِّكَاحِ وَأَصْلُ الْعَضْلِ فِي اللُّغَةِ الضِّيقُ، يُقَالُ: عَضَّلَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا نَشِبَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا، وَكَذَلِكَ عَضَّلَتِ/ الشَّاةُ، وَعَضَّلَتِ الْأَرْضُ بِالْجَيْشِ إِذَا ضَاقَتْ بِهِمْ لِكَثْرَتِهِمْ، قَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ: تَرَى الْأَرْضَ مِنَّا بِالْفَضَاءِ مَرِيضَةً ... مُعَضِّلَةً مِنَّا بِجَيْشِ عَرَمْرَمِ وَأَعْضَلَ الْمَرِيضُ الْأَطِبَّاءَ أَيْ أَعْيَاهُمْ، وَسُمِّيَتِ الْعَضَلَةُ عَضَلَةً لِأَنَّ الْقُوَى الْمُحَرِّكَةَ مَنْشَؤُهَا مِنْهَا، وَيُقَالُ: دَاءٌ عُضَالٌ، لِلْأَمْرِ إِذَا اشْتَدَّ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَوْسٍ: وَلَيْسَ أَخُوكَ الدَّائِمُ الْعَهْدِ بِالَّذِي ... يَذُمُّكَ إِنْ وَلَّى وَيُرْضِيكَ مُقْبِلَا وَلَكِنَّهُ النَّائِي إِذَا كُنْتَ آمِنًا ... وَصَاحِبُكَ الْأَدْنَى إِذَا الْأَمْرُ أَعْضَلَا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ خِطَابٌ لِمَنْ؟ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ إِنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ، الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ، فَالشَّرْطُ قَوْلُهُ: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ وَالْجَزَاءُ قَوْلُهُ: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّرْطَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ خِطَابٌ مَعَ الْأَزْوَاجِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ خِطَابًا مَعَهُمْ أَيْضًا، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ

لَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ أَيُّهَا الْأَزْوَاجُ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَيُّهَا الْأَوْلِيَاءُ وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَبَيْنَ الْجَزَاءِ مُنَاسَبَةٌ أَصْلًا وَذَلِكَ يُوجِبُ تَفَكُّكَ نَظْمَ الْكَلَامِ وَتَنْزِيهُ كَلَامِ اللَّهِ عَنْ مِثْلِهِ وَاجِبٌ، فَهَذَا كَلَامٌ قَوِيٌّ مَتِينٌ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَتَأَكَّدُ بِوَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ مِنْ أَوَّلِ آيَةٍ فِي الطَّلَاقِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ كَانَ الْخِطَابُ كُلُّهُ مَعَ الْأَزْوَاجِ، وَالْبَتَّةَ مَا جَرَى لِلْأَوْلِيَاءِ ذِكْرٌ فَكَانَ صَرْفُ هَذَا الْخِطَابِ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ عَلَى خِلَافِ النَّظْمِ وَالثَّانِي: مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ خِطَابٌ مَعَ الْأَزْوَاجِ فِي كَيْفِيَّةِ مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ النِّسَاءِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِذَا جَعَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ خِطَابًا لَهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ النِّسَاءِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَانَ الْكَلَامُ مُنْتَظِمًا، وَالتَّرْتِيبُ مُسْتَقِيمًا، أَمَّا إِذَا جَعَلْنَاهُ خِطَابًا لِلْأَوْلِيَاءِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ مِثْلُ هَذَا التَّرْتِيبِ الْحَسَنِ اللَّطِيفِ، فَكَانَ صَرْفُ الْخِطَابِ إِلَى الْأَزْوَاجِ أَوْلَى. حُجَّةُ مَنْ قَالَ الْآيَةُ خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ عُمْدَتُهُمُ الْكُبْرَى: أَنَّ الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خِطَابٌ مَعَ الْأَوْلِيَاءِ لَا مَعَ الْأَزْوَاجِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ هَذِهِ الْحُجَّةِ وَبَيْنَ الْحُجَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا كَانَتِ الْحُجَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ لِأَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى نَظْمِ الْكَلَامِ أَوْلَى مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ وَأَيْضًا فَلِأَنَّ الرِّوَايَاتِ مُتَعَارِضَةٌ، فَرُوِيَ عَنْ مَعْقِلٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ، إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَوْ كَانَتْ خِطَابًا مَعَ الْأَزْوَاجِ لَكَانَتْ إِمَّا أَنْ تَكُونَ خِطَابًا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ مَعَ انْقِضَائِهَا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْآيَةِ، فَلَوْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْمَعْنَى كَانَ تَكْرَارًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ فَنَهَى عَنِ الْعَضْلِ حَالَ/ حُصُولِ التَّرَاضِي، وَلَا يَحْصُلُ التَّرَاضِي بِالنِّكَاحِ إِلَّا بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِالْخُطْبَةِ، وَلَا يَجُوزُ التَّصْرِيحُ بِالْخِطْبَةِ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، قَالَ تَعَالَى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ [الْبَقَرَةِ: 235] وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَيْسَ لِلزَّوْجِ قُدْرَةٌ عَلَى عَضْلِ الْمَرْأَةِ، فَكَيْفَ يُصْرَفُ هَذَا النَّهْيُ إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يَشْتَدُّ نَدَمُهُ عَلَى مُفَارَقَةِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَتَلْحَقُهُ الْغَيْرَةُ إِذَا رَأَى مَنْ يَخْطُبُهَا، وَحِينَئِذٍ يَعْضُلُهَا عَنْ أَنْ يَنْكِحَهَا غَيْرُهُ إِمَّا بِأَنْ يَجْحَدَ الطَّلَاقَ أَوْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ كَانَ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ، أَوْ يَدُسَّ إِلَى مَنْ يَخْطُبُهَا بِالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، أَوْ يُسِيءَ الْقَوْلَ فِيهَا وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْسُبَهَا إِلَى أُمُورٍ تُنَفِّرُ الرَّجُلَ عَنِ الرَّغْبَةِ فِيهَا، فَاللَّهُ تَعَالَى نَهَى الْأَزْوَاجَ عَنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَعَرَّفَهُمْ أَنَّ تَرْكَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ أَزْكَى لَهُمْ وَأَطْهَرُ مِنْ دَنَسِ الْآثَامِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: لَهُمْ قَالُوا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ مَعْنَاهُ: وَلَا تَمْنَعُوهُنَّ مِنْ أَنْ يَنْكِحْنَ الَّذِينَ كَانُوا أَزْوَاجًا لَهُنَّ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَنْتَظِمُ إِلَّا إِذَا جَعَلْنَا الْآيَةَ خِطَابًا لِلْأَوْلِيَاءِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَمْنَعُونَهُنَّ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى الَّذِينَ كَانُوا أَزْوَاجًا لَهُنَّ قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَمَّا إِذَا جَعَلْنَا الْآيَةَ خِطَابًا لِلْأَزْوَاجِ، فَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَصِحُّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ مَنْ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَزَوَّجُوهُنَّ فَيَكُونُونَ أَزْوَاجًا وَالْعَرَبُ قَدْ تُسَمِّي الشَّيْءَ بِاسْمِ مَا يؤول إِلَيْهِ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرٍ وَلِيٍّ لَا يَجُوزُ وَبَنَى ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ الْأَوْلِيَاءِ، قَالَ: وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّزْوِيجُ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ لَا إِلَى النِّسَاءِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِنَفْسِهَا أَوْ تُوَكِّلَ مَنْ يُزَوِّجُهَا لَمَا كَانَ الْوَلِيُّ قَادِرًا عَلَى عَضْلِهَا مِنَ النِّكَاحِ، وَلَوْ لَمْ يَقْدِرِ الْوَلِيُّ عَلَى هَذَا الْعَضَلِ لَمَا نَهَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الْعَضْلِ، وَحَيْثُ نَهَاهُ عَنِ الْعَضْلِ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْعَضْلِ، وَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ قَادِرًا عَلَى الْعَضْلِ وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُتَمَكِّنَةً مِنَ النِّكَاحِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هذا

الِاسْتِدْلَالَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ مَعَ الْأَوْلِيَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ مِنَ الْمَبَاحِثِ، ثُمَّ إِنْ سَلَّمْنَا هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يُخَلِّيَهَا وَرَأْيَهَا فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي النِّسَاءِ الْأَيَامَى أَنْ يَرْكَنَّ إِلَى رَأْيِ الْأَوْلِيَاءِ فِي بَابِ النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِئْذَانُ الشَّرْعِيُّ لَهُنَّ، وَإِنْ يَكُنَّ تَحْتَ تَدْبِيرِهِمْ وَرَأْيِهِمْ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُونَ مُتَمَكِّنِينَ مِنْ مَنْعِهِنَّ لِتَمَكُّنِهِمْ مِنْ تَزْوِيجِهِنَّ، فَيَكُونُ النَّهْيُ مَحْمُولًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَأَيْضًا فَثُبُوتُ الْعَضْلِ فِي حَقِّ الْوَلِيِّ مُمْتَنِعٌ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَضَلَ لَا يَبْقَى لِعَضْلِهِ أَثَرٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَصُدُورُ الْعَضْلِ عَنْهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَتَمَسَّكَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ جَائِزٌ، وَقَالَ إِنَّهُ/ تَعَالَى أَضَافَ النِّكَاحَ إِلَيْهَا إِضَافَةَ الْفِعْلِ إِلَى فَاعِلِهِ، وَالتَّصَرُّفِ إِلَى مُبَاشِرِهِ، وَنَهَى الْوَلِيَّ عَنْ مَنْعِهَا مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ فَاسِدًا لَمَا نَهَى الْوَلِيَّ عَنْ مَنْعِهَا مِنْهُ، قَالُوا: وَهَذَا النَّصُّ مُتَأَكَّدٌ بِقَوْلِهِ تعالى: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 230] وَبِقَوْلِهِ: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 234] وَتَزْوِيجُهَا نَفْسَهَا مِنَ الْكُفْءِ فِعْلٌ بِالْمَعْرُوفِ فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ، وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ عَلَى الْمُبَاشِرِ دون الخطاب، وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها [الْأَحْزَابِ: 50] دَلِيلٌ وَاضِحٌ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ هُنَاكَ وَلِيٌّ الْبَتَّةَ، وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْفِعْلَ كَمَا يُضَافُ إِلَى الْمُبَاشِرِ قَدْ يُضَافُ أَيْضًا إِلَى الْمُتَسَبِّبِ، يُقَالُ: بَنَى الْأَمِيرُ دَارًا، وَضَرَبَ دِينَارًا، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَجَازًا إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ لِدَلَالَةِ الْأَحَادِيثِ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا النِّكَاحِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ مَحْمُولٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَلَّ سِيَاقُ الْكَلَامَيْنِ عَلَى افْتِرَاقِ الْبُلُوغَيْنِ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَوْ كَانَتْ عِدَّتُهَا قَدِ انْقَضَتْ لَمَا قَالَ: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ لِأَنَّ إِمْسَاكَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَا يَجُوزُ، وَلَمَّا قَالَ: أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ لِأَنَّهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ تَكُونُ مُسَرَّحَةً فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَسْرِيحِهَا، وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا فَاللَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ عَضْلِهِنَّ عَنِ التَّزَوُّجِ بِالْأَزْوَاجِ، وَهَذَا النَّهْيُ إِنَّمَا يَحْسُنُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُمْكِنُهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ فِيهِ بِالْأَزْوَاجِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، دَلَّ سِيَاقُ الْكَلَامَيْنِ عَلَى افْتِرَاقِ الْبُلُوغَيْنِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي التَّرَاضِي وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مَا وَافَقَ الشَّرْعَ مِنْ عَقْدٍ حَلَالٍ وَمَهْرٍ جَائِزٍ وَشُهُودٍ عُدُولٍ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا يُضَادُّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا [البقرة: 231] فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ يَرْضَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَزِمَهُ فِي هَذَا الْعَقْدِ لِصَاحِبِهِ، حَتَّى تَحْصُلَ الصُّحْبَةُ الْجَمِيلَةُ، وَتَدُومَ الْأُلْفَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: التَّرَاضِي بِالْمَعْرُوفِ، هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَفَرَّعُوا عَلَيْهِ مَسْأَلَةً فِقْهِيَّةً وَهِيَ أَنَّهَا إِذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا وَنَقَصَتْ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا نُقْصَانًا فَاحِشًا، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهَا بِسَبَبِ النُّقْصَانِ عَنِ الْمَهْرِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَيْسَ لِلْوَلِيِّ ذلك.

حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَأَيْضًا أَنَّهَا بِهَذَا النُّقْصَانِ أَرَادَتْ إِلْحَاقَ الشَّيْنِ بِالْأَوْلِيَاءِ، لِأَنَّ الْأَوْلِيَاءَ يَتَضَرَّرُونَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يُعَيَّرُونَ بِقِلَّةِ الْمُهُورِ، وَيَتَفَاخَرُونَ بِكَثْرَتِهَا، وَلِهَذَا يَكْتُمُونَ الْمَهْرَ الْقَلِيلَ حَيَاءً وَيُظْهِرُونَ الْمَهْرَ الْكَثِيرَ رِيَاءً، وَأَيْضًا فَإِنَّ نِسَاءَ الْعَشِيرَةِ يَتَضَرَّرْنَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ رُبَّمَا وَقَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى إِيجَابِ مَهْرِ الْمِثْلِ لِبَعْضِهِنَّ، / فَيَعْتَبِرُونَ ذَلِكَ بِهَذَا الْمَهْرِ الْقَلِيلِ، فَلَا جَرَمَ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَمْنَعُوهَا عَنْ ذَلِكَ وَيَنُوبُوا عَنْ نِسَاءِ الْعَشِيرَةِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حِكْمَةَ التَّكْلِيفِ قَرَنَهُ بِالتَّهْدِيدِ فَقَالَ: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْوَعْظِ أَنْ يَتَضَمَّنَ التَّحْذِيرَ مِنَ الْمُخَالَفَةِ كَمَا يَتَضَمَّنُ التَّرْغِيبَ فِي الْمُوَافَقَةِ، فَكَانَتِ الْآيَةُ تَهْدِيدًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ وَحَّدَ الْكَافَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ مَعَ أَنَّهُ يُخَاطِبُ جَمَاعَةً؟. وَالْجَوَابُ: هَذَا جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ، وَالتَّثْنِيَةُ أَيْضًا جَائِزَةٌ، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِاللُّغَتَيْنِ جَمِيعًا، قَالَ تَعَالَى: ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي [يُوسُفَ: 37] وَقَالَ: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يُوسُفَ: 32] وَقَالَ: يُوعَظُ بِهِ وَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ [الْأَعْرَافِ: 22] . السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ خَصَّصَ هَذَا الْوَعْظَ بِالْمُؤْمِنِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ؟. الْجَوَابُ: لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: لَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُ هُوَ الْمُنْتَفِعَ بِهِ حَسُنَ تَخْصِيصُهُ بِهِ كَقَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وَهُوَ هُدًى لِلْكُلِّ، كَمَا قَالَ: هُدىً لِلنَّاسِ وَقَالَ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النَّازِعَاتِ: 45] ، إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [يس: 11] مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُنْذِرًا لِلْكُلِّ كَمَا قَالَ: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الْفُرْقَانِ: 1] وَثَانِيهَا: احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الدِّينِ، قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ بَيَانِ الْأَحْكَامِ، فَلَمَّا خَصَّصَ ذَلِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ دَلَّ عَلَى أَنَّ التَّكْلِيفَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ غَيْرُ حَاصِلٍ إِلَّا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ التَّكْلِيفَ عَامٌّ، قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آلِ عِمْرَانَ: 97] وَثَالِثُهَا: أَنَّ بَيَانَ الْأَحْكَامِ وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ، إِلَّا أَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ الْبَيَانِ وَعْظًا مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ هَذِهِ التَّكَالِيفَ إِنَّمَا تُوجَبُ عَلَى الْكُفَّارِ عَلَى سَبِيلِ إِثْبَاتِهَا بِالدَّلِيلِ الْقَاهِرِ الْمُلْزِمِ الْمُعْجِزِ، أَمَّا الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُقِرُّ بِحَقِيقَتِهَا، فَإِنَّهَا إِنَّمَا تُذْكَرُ لَهُ وَتُشْرَحُ لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ وَالتَّحْذِيرِ، ثُمَّ قَالَ: ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ يُقَالُ: زَكَا الزَّرْعُ إِذَا نَمَا فَقَوْلُهُ: أَزْكى لَكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ الدَّائِمِ، وَقَوْلُهُ: وَأَطْهَرُ إِشَارَةٌ إِلَى إِزَالَةِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي يَكُونُ حُصُولُهَا سَبَبًا لِحُصُولِ الْعِقَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ وَجْهَ الصَّلَاحِ فِي هَذِهِ التَّكَالِيفِ عَلَى الْجُمْلَةِ، إِلَّا أَنَّ التَّفْصِيلَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَاللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ وَنَهَى بِالْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ وَبِحَسَبِ التَّقْدِيرِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَنْ يَعْمَلُ عَلَى وَفْقِ هَذِهِ التَّكَالِيفِ وَمَنْ لَا يَعْمَلُ بِهَا وَعَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَالْمَقْصُودُ مِنَ الآيات تقرير طريقة الوعد والوعيد.

[سورة البقرة (2) : آية 233]

[سورة البقرة (2) : آية 233] وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) الحكم الثاني عشر في الرضاع [قوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ إلى قوله فَلا جُناحَ عَلَيْهِما] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما. اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْوالِداتُ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا أَشْعَرَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَهُوَ جَمِيعُ الْوَالِدَاتِ، سَوَاءٌ كُنَّ مُزَوَّجَاتٍ أَوْ مُطَلَّقَاتٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَمَا قَامَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ فَوَجَبَ تَرْكُهُ عَلَى عُمُومِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهُ: الْوَالِدَاتُ الْمُطَلَّقَاتُ، قَالُوا: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ وَجْهَانِ أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ عَقِيبَ آيَةِ الطَّلَاقِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَتِمَّةَ تِلْكَ الْآيَاتِ ظَاهِرًا، وَسَبَبُ التَّعْلِيقِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا أَنَّهُ إِذَا حَصَلَتِ الْفُرْقَةُ حَصَلَ التَّبَاغُضُ وَالتَّعَادِي، وَذَلِكَ يَحْمِلُ الْمَرْأَةَ عَلَى إِيذَاءِ الْوَلَدِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِيذَاءَ الْوَلَدِ يَتَضَمَّنُ إِيذَاءَ الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ وَالثَّانِي: أَنَّهَا رُبَّمَا رَغِبَتْ فِي التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي إِقْدَامَهَا عَلَى إِهْمَالِ أَمْرِ الطِّفْلِ فَلَمَّا كَانَ هَذَا الِاحْتِمَالُ قَائِمًا لَا جَرَمَ نَدَبَ اللَّهُ الْوَالِدَاتِ الْمُطَّلَقَاتِ إِلَى رِعَايَةِ جَانِبِ الْأَطْفَالِ وَالِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِمْ، فَقَالَ: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ وَالْمُرَادُ الْمُطَلَّقَاتُ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ لَهُمْ: مَا ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ، قَالَ: الْمُرَادُ بِالْوَالِدَاتِ الْمُطَّلَقَاتُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ وَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةً لَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ ذَلِكَ بِسَبَبِ الزَّوْجِيَّةِ لَا لِأَجْلِ الرَّضَاعِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنِ الْحُجَّةِ الْأُولَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى حُكْمٍ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَجِبْ تَعَلُّقُهَا بِمَا قَبْلَهَا، وَعَنِ الْحُجَّةِ الثَّانِيَةِ لَا يَبْعُدُ أَنْ تَسْتَحِقَّ/ الْمَرْأَةُ قَدْرًا مِنَ الْمَالِ لِمَكَانِ الزَّوْجِيَّةِ وَقَدْرًا آخَرَ لِمَكَانِ الرَّضَاعِ فَإِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» : الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الزَّوْجَاتِ فِي حَالِ بَقَاءِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ لَا تَسْتَحِقُّ الْكِسْوَةَ وَإِنَّمَا تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَتِ الزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةً فَهِيَ مُسْتَحِقَّةُ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ بِسَبَبِ النِّكَاحِ سَوَاءٌ أَرْضَعَتِ الْوَلَدَ أَوْ لَمْ تُرْضِعْ فَمَا وَجْهُ تَعْلِيقِ هَذَا الِاسْتِحْقَاقِ بِالْإِرْضَاعِ. قُلْنَا: النَّفَقَةُ وَالْكُسْوَةُ يَجِبَانِ فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ، فَإِذَا أُشْغِلَتْ بِالْحَضَانَةِ وَالْإِرْضَاعِ لَمْ تَتَفَرَّغْ لِخِدْمَةِ الزَّوْجِ فَرُبَّمَا تَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ نَفَقَتَهَا وَكِسْوَتَهَا تَسْقُطُ بِالْخَلَلِ الْوَاقِعِ فِي خِدْمَةِ الزَّوْجِ فَقَطَعَ اللَّهُ ذَلِكَ الْوَهْمَ بِإِيجَابِ الرِّزْقِ

وَالْكِسْوَةِ، وَإِنِ اشْتَغَلَتِ الْمَرْأَةُ بِالْإِرْضَاعِ، هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ الْوَاحِدِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ خَبَرًا إِلَّا أَنَّهُ فِي الْمَعْنَى أَمْرٌ وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ فِي حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ، إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى يُرْضِعْنَ: لِيُرْضِعْنَ، إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ ذَلِكَ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْكَلَامِ مَعَ زَوَالِ الْإِيهَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا الْأَمْرُ لَيْسَ أَمْرَ إِيجَابٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطَّلَاقِ: 6] وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهَا الرَّضَاعُ لَمَا اسْتَحَقَّتِ الْأُجْرَةَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى [الطَّلَاقِ: 6] وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَمَسَّكَ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ [البقرة: 233] وَالْوَالِدَةُ قَدْ تَكُونُ مُطَلَّقَةً فَلَمْ يَكُنْ وُجُوبُ رِزْقِهَا عَلَى الْوَالِدِ إِلَّا بِسَبَبِ الْإِرْضَاعِ، فَلَوْ كَانَ الْإِرْضَاعُ وَاجِبًا عَلَيْهَا لَمَا وَجَبَ ذَلِكَ، وَفِيهِ الْبَحْثُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِرْضَاعَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْأُمِّ فَهَذَا الْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ تَرْبِيَةَ الطِّفْلِ بِلَبَنِ الْأُمِّ أَصْلَحُ لَهُ مِنْ سَائِرِ الْأَلْبَانِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ شَفَقَةَ الْأُمِّ عَلَيْهِ أَتَمُّ مِنْ شَفَقَةِ غَيْرِهَا هَذَا إِذَا لَمْ يَبْلُغِ الْحَالُ فِي الْوَلَدِ إِلَى حَدِّ الِاضْطِرَارِ بِأَنْ لَا يُوجَدَ غَيْرُ الْأُمِّ، أَوْ لَا يَرْضَعَ الطِّفْلُ إِلَّا مِنْهَا، فَوَاجِبٌ عَلَيْهَا عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ تُرْضِعَهُ كَمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مُوَاسَاةُ الْمُضْطَرِّ فِي الطَّعَامِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَصْلُ الْحَوْلِ مِنْ حَالَ الشَّيْءُ يَحُولُ إِذَا انْقَلَبَ فَالْحَوْلُ مُنْقَلِبٌ مِنَ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّانِي، وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْكَمَالُ لِرَفْعِ التَّوَهُّمِ مِنْ أَنَّهُ عَلَى مِثْلِ قَوْلِهِمْ أَقَامَ فُلَانٌ بِمَكَانِ كَذَا حَوْلَيْنِ أَوْ شَهْرَيْنِ، وَإِنَّمَا أَقَامَ حَوْلًا وَبَعْضَ الْآخَرِ، وَيَقُولُونَ: الْيَوْمُ يَوْمَانِ مُذْ لَمْ أَرَهُ، وَإِنَّمَا يَعْنُونَ/ يَوْمًا وَبَعْضَ الْيَوْمِ الْآخَرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ التَّحْدِيدُ بِالْحَوْلَيْنِ تَحْدِيدَ إِيجَابٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ فَلَمَّا عَلَّقَ هَذَا الْإِتْمَامَ بِإِرَادَتِنَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْإِتْمَامَ غَيْرُ وَاجِبٍ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا التَّحْدِيدِ إِيجَابَ هَذَا الْمِقْدَارِ، بَلْ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ قَطْعُ التَّنَازُعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا تَنَازَعَا فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ، فَقَدَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَوْلَيْنِ حَتَّى يَرْجِعَا إِلَيْهِ عِنْدَ وُقُوعِ التَّنَازُعِ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ أَرَادَ الْأَبُ أَنْ يَفْطِمَهُ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ وَلَمْ تَرْضَ الْأُمُّ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَى عَكْسِ هَذَا فَأَمَّا إِذَا اجْتَمَعَا عَلَى أَنْ يَفْطِمَا الْوَلَدَ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ فَلَهُمَا ذَلِكَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْمَقْصُودِ مِنْ هَذَا التَّحْدِيدِ هُوَ أَنَّ لِلرِّضَاعِ حُكْمًا خَاصًّا فِي الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا التَّحْدِيدِ بَيَانُ أَنَّ الِارْتِضَاعَ مَا لَمْ يَقَعْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، لَا يُفِيدُ هَذَا الْحُكْمَ، هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ عَلَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَلْقَمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مُدَّةُ الرَّضَاعِ ثَلَاثُونَ شهرا.

حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ هُوَ التَّمَامُ بِحَسَبِ حَاجَةِ الصَّبِيِّ إِلَى ذَلِكَ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصَّبِيَّ كَمَا يَسْتَغْنِي عَنِ اللَّبَنِ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ، فَقَدْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ لِضَعْفٍ فِي تَرْكِيبِهِ لِأَنَّ الْأَطْفَالَ يَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّمَامِ هَذَا الْمَعْنَى، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْحُكْمَ الْمَخْصُوصَ الْمُتَعَلِّقَ بِالرَّضَاعِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَصِيرُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ حُكْمَ الرَّضَاعِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الْإِرْضَاعِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ» وَقَالَ تَعَالَى: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ [لُقْمَانَ: 14] . الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ» . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْمَقْصُودِ من هذا التحديد ما روى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِلَّتِي تَضَعُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ إِنَّهَا تُرْضِعُ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، فَإِنْ وَضَعَتْ لِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ أَرْضَعَتْ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ شَهْرًا، وَقَالَ آخَرُونَ: الْحَوْلَانِ هَذَا الْحَدُّ فِي رَضَاعِ كُلِّ مَوْلُودٍ، وَحُجَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الْأَحْقَافِ: 15] دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ زَمَانَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ هُوَ هَذَا الْقَدْرُ مِنَ/ الزَّمَانِ، فَكَمَا ازْدَادَ فِي مُدَّةِ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ انْتَقَصَ مِنْ مُدَّةِ الْحَالَةِ الْأُخْرَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: تَزَوَّجْتُ جَارِيَةً بِكْرًا وَمَا رَأَيْتُ بِهَا رِيبَةً، ثُمَّ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ اللَّهُ: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وَقَالَ تَعَالَى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ فَالْحَمْلُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ الْوَلَدُ وَلَدُكَ، وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ جِيءَ بِامْرَأَةٍ وَضَعَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَشَاوَرَ فِي رَجْمِهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ خَاصَمْتُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ خَصَمْتُكُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَاسْتَخْرَجَ مِنْهُمَا أَنَّ أَقَلَّ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنْ يُكْمِلَ الرَّضَاعَةَ وَقُرِئَ الرِّضَاعَةَ بِكَسْرِ الرَّاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: هَذَا الْحُكْمُ لِمَنْ أَرَادَ إِتْمَامَ الرَّضَاعَةِ، وَعَنْ قَتَادَةَ أَنْزَلَ اللَّهُ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، ثُمَّ أَنْزَلَ الْيُسْرَ وَالتَّخْفِيفَ فَقَالَ: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى جَوَّزَ النُّقْصَانَ بِذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّامَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: يُرْضِعْنَ كَمَا تَقُولُ: أَرْضَعَتْ فُلَانَةُ لِفُلَانٍ وَلَدَهُ، أَيْ يُرْضِعْنَ حَوْلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الْإِرْضَاعَ مِنَ الْآبَاءِ، لِأَنَّ الْأَبَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِرْضَاعُ الْوَلَدِ دُونَ الْأُمِّ لِمَا بَيَّنَّاهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَوْلُودِ لَهُ هُوَ الْوَالِدُ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِهَذَا الِاسْمِ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ صاحب

«الْكَشَّافِ» : إِنَّ السَّبَبَ فِيهِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْوَالِدَاتِ إِنَّمَا وَلَدْنَ الْأَوْلَادَ لِلْآبَاءِ، وَلِذَلِكَ يُنْسَبُونَ إليهم لا إلى الأمهات وأنشد للمأمون بن الرَّشِيدِ: وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ ... مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلْآبَاءِ أَبْنَاءُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ إِنَّمَا يَلْتَحِقُ بِالْوَالِدِ لِكَوْنِهِ مَوْلُودًا عَلَى فِرَاشِهِ عَلَى مَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ الْوَلَدَ لِلرَّجُلِ وَعَلَى فِرَاشِهِ، وَجَبَ عَلَيْهِ رِعَايَةُ مَصَالِحِهِ، فَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ سَبَبَ النَّسَبِ وَاللَّحَاقِ مُجَرَّدُ هَذَا الْقَدْرِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ قيل في تفسير قوله: ابْنَ أُمَ [طه: 94] أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ الْأُمَّ مُشْفِقَةٌ عَلَى الْوَلَدِ، فَكَانَ الْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ الْأُمِّ تَذْكِيرُ الشَّفَقَةِ، فَكَذَا هَاهُنَا ذَكَرَ الْوَالِدَ بِلَفْظِ الْمَوْلُودِ لَهُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ إِنَّمَا وُلِدَ لِأَجْلِ الْأَبِ، فَكَانَ نَقْصُهُ عَائِدًا إِلَيْهِ، وَرِعَايَةُ مَصَالِحِهِ لَازِمَةً لَهُ، كَمَا قِيلَ: كَلِمَةٌ لَكَ، وَكَلِمَةٌ عَلَيْكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا وَصَّى الْأُمَّ بِرِعَايَةِ جَانِبِ الطِّفْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ وَصَّى الْأَبَ بِرِعَايَةِ جَانِبِ الْأُمِّ حَتَّى تَكُونَ قَادِرَةً عَلَى رِعَايَةِ/ مَصْلَحَةِ الطِّفْلِ فَأَمَرَهُ بِرِزْقِهَا وَكِسْوَتِهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَالْمَعْرُوفُ فِي هَذَا الْبَابِ قَدْ يَكُونُ مَحْدُودًا بِشَرْطٍ وَعَقْدٍ، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَحْدُودٍ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ، لِأَنَّهُ إِذَا قَامَ بِمَا يَكْفِيهَا فِي طَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا، فَقَدِ اسْتَغْنَى عَنْ تَقْدِيرِ الْأُجْرَةِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ الْكِفَايَةِ لَحِقَهَا مِنَ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ، فَضَرَرُهَا يَتَعَدَّى إِلَى الْوَلَدِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَّى الْأُمَّ بِرِعَايَةِ الطِّفْلِ أَوَّلًا، ثُمَّ وَصَّى الْأَبَ بِرِعَايَتِهِ ثَانِيًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ احْتِيَاجَ الطِّفْلِ إِلَى رِعَايَةِ الْأُمِّ أَشَدُّ مِنِ احْتِيَاجِهِ إِلَى رِعَايَةِ الْأَبِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الطِّفْلِ وَبَيْنَ رِعَايَةِ الْأُمِّ وَاسِطَةٌ الْبَتَّةَ، أَمَّا رِعَايَةُ الْأَبِ فَإِنَّمَا تَصِلُ إِلَى الطِّفْلِ بِوَاسِطَةٍ، فَإِنَّهُ يَسْتَأْجِرُ الْمَرْأَةَ عَلَى إِرْضَاعِهِ وَحَضَانَتِهِ بِالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْأُمِّ أَكْثَرُ مِنْ حَقِّ الْأَبِ، وَالْأَخْبَارُ الْمُطَابِقَةُ لِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّكْلِيفُ: الْإِلْزَامُ، يُقَالُ: كَلَّفَهُ الْأَمْرَ فَتَكَلَّفَ وَكُلِّفَ، وَقِيلَ: إِنَّ أَصْلَهُ مِنَ الْكَلْفِ، وَهُوَ الْأَثَرُ عَلَى الْوَجْهِ مِنَ السَّوَادِ، فَمَعْنَى تَكَلَّفَ الْأَمْرَ اجْتَهَدَ أَنْ يُبَيِّنَ فِيهِ أَثَرَهُ وَكَلَّفَهُ أَلْزَمَهُ مَا يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُهُ، وَالْوُسْعُ مَا يَسَعُ الإنسان فيطيقه أَخْذَهُ، مِنْ سِعَةِ الْمُلْكِ أَيِ الْعَرَضِ، وَلَوْ ضَاقَ لَعَجَزَ عَنْهُ، وَالسِّعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْقُدْرَةِ، فَلِهَذَا قِيلَ: الْوُسْعُ فَوْقَ الطَّاقَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ أَبَ هَذَا الصَّبِيِّ لَا يُكَلَّفُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ، إِلَّا مَا تَتَّسِعُ لَهُ قُدْرَتُهُ، لِأَنَّ الْوُسْعَ فِي اللُّغَةِ مَا تَتَّسِعُ لَهُ الْقُدْرَةُ، وَلَا يَبْلُغُ اسْتِغْرَاقَهَا، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْأَبَ إِلَّا ذَلِكَ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى ثُمَّ بَيَّنَ فِي النَّفَقَةِ أَنَّهَا عَلَى قَدْرِ إِمْكَانِ الرَّجُلِ بِقَوْلِهِ: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا [الطَّلَاقِ: 6، 7] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ الْعِبَادَ إِلَّا مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا إِلَّا مَا تَتَّسِعُ لَهُ قُدْرَتُهُ، وَالْوُسْعُ فَوْقَ الطَّاقَةِ، فَإِذَا لَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا لَا تَتَّسِعُ لَهُ قُدْرَتُهُ، فَبِأَنْ لَا يُكَلِّفَهُ مَا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ أَوْلَى.

ثُمَّ قَالَ: لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَقُتَيْبَةُ عَنِ الْكِسَائِيِّ لَا تُضَارَّ بِالرَّفْعِ وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ، أَمَّا الرَّفْعُ فَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ إِنَّهُ نَسَقٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَا تُكَلَّفُ قَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ النَّسَقَ بلا إِنَّمَا هُوَ إِخْرَاجُ الثَّانِي مِمَّا دَخَلَ فِيهِ الْأَوَّلُ نَحْوَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا لَا عَمْرًا فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: يَقُومُ زَيْدٌ لَا يَقْعُدُ عَمْرٌو، فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى النَّسَقِ، بَلِ الصَّوَابُ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ فِي النَّهْيِ كَمَا يُقَالُ: لَا يَضْرِبُ زَيْدٌ لَا تَقْتُلْ عُمْرًا وأما النصب فعلى النهي، والأصل لا تضار فَأُدْغِمَتِ/ الرَّاءُ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ وَفُتِحَتِ الثَّانِيَةُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، يُقَالُ: يُضَارِرُ رَجُلٌ زَيْدًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ التَّضْعِيفُ، فَأُدْغِمَتْ إِحْدَى الرَّاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى، فَصَارَ لَا تُضَارَّ، كَمَا تَقُولُ: لَا تَرْدُدْ ثُمَّ تُدْغِمُ فَتَقُولُ: لَا تَرُدَّ بالفتح قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ [الْمَائِدَةِ: 54] وَقَرَأَ الْحَسَنُ: لَا تُضَارَّ بِالْكَسْرِ وَهُوَ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ، وَقَرَأَ أَبَانٌ عَنْ عَاصِمٍ (لا تضارر) مطهرة الرَّاءِ مَكْسُورَةً عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لَهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: لَا تُضَارَّ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ كِلَاهُمَا جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ نَظَرًا لِحَالِ الْإِدْغَامِ الْوَاقِعِ فِي تُضَارَّ أَحَدُهُمَا: أَنْ يكون أصله لا تضار بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ الْمَرْأَةُ هِيَ الْفَاعِلَةَ لِلضِّرَارِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ لَا تُضَارَرْ بِفَتْحِ الرَّاءِ الْأُولَى فَتَكُونُ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمَفْعُولَةَ بِهَا الضِّرَارُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى: لَا تَفْعَلُ الْأُمُّ الضِّرَارَ بِالْأَبِ بِسَبَبِ إِيصَالِ الضِّرَارِ إِلَى الْوَلَدِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَمْتَنِعَ الْمَرْأَةُ مِنْ إِرْضَاعِهِ مَعَ أَنَّ الْأَبَ مَا امْتَنَعَ عَلَيْهَا فِي النَّفَقَةِ مِنَ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ، فَتُلْقِي الْوَلَدَ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مَعْنَاهُ: لَا تُضَارَرْ، أَيْ لَا يَفْعَلُ الْأَبُ الضِّرَارَ بِالْأُمِّ فَيَنْزِعَ الْوَلَدَ مِنْهَا مَعَ رغبتها في إمساكها وَشِدَّةِ مَحَبَّتِهَا لَهُ، وَقَوْلُهُ: وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ أَيْ: وَلَا تَفْعَلُ الْأُمُّ الضِّرَارَ بِالْأَبِ بِأَنْ تُلْقِيَ الْوَلَدَ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَيَانِ يَرْجِعَانِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنْ يَغِيظَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِسَبَبِ الْوَلَدِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ تُضَارَّ وَالْفِعْلُ لِوَاحِدٍ؟. قُلْنَا لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ الْمُبَالَغَةُ، فَإِنَّ إِيذَاءَ مَنْ يُؤْذِيكَ أَقْوَى مِنْ إِيذَاءِ مَنْ لَا يُؤْذِيكَ وَالثَّانِي: لَا يُضَارُّ الْأُمُّ وَالْأَبُ بِأَنْ لَا تُرْضِعَ الْأُمُّ أَوْ يَمْنَعَهَا الْأَبُ وَيَنْزِعَهُ مِنْهَا وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِضْرَارِ الْوَلَدِ إِضْرَارُ الْآخَرِ، فَكَانَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ مُضَارَّةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَإِنْ كَانَ خَبَرًا فِي الظَّاهِرِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ النَّهْيُ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ إِسَاءَتَهَا إِلَى الْوَلَدِ بِتَرْكِ الرَّضَاعِ، وَتَرْكِ التَّعَهُّدِ وَالْحِفْظِ. وَقَوْلُهُ: وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ الْمَضَارِّ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَمْنَعَ الْوَالِدَةَ أَنْ تُرْضِعَهُ وَهِيَ بِهِ أَرْأَفُ وَقَدْ يَكُونُ بِأَنْ يُضَيِّقَ عَلَيْهَا النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ أَوْ بِأَنْ يُسِيءَ الْعِشْرَةَ فَيَحْمِلَهَا ذَلِكَ عَلَى إِضْرَارِهَا بِالْوَلَدِ، فَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي هَذَا النَّهْيِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْوَلَدِ وَذِكْرُ الْوَالِدِ وَذِكْرُ الْوَالِدَاتِ احْتَمَلَ فِي الْوَارِثِ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَالْعُلَمَاءُ لَمْ يَدَعُوا وَجْهًا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِهِ إِلَّا وَقَالَ بِهِ بَعْضُهُمْ.

فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ وَارِثُ الْأَبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ/ بِالْمَعْرُوفِ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ لِبَيَانِ الْمَعْرُوفِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَوْلُودَ لَهُ إِنْ مَاتَ فَعَلَى وَارِثِهِ مِثْلُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ، يَعْنِي إِنْ مَاتَ الْمَوْلُودُ لَهُ لَزِمَ وَارِثَهُ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ فِي أَنْ يَرْزُقَهَا وَيَكْسُوَهَا بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ رِعَايَةُ الْمَعْرُوفِ وَتَجَنُّبُ الضِّرَارِ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ هَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّا إِذَا حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى وَارِثِ الْوَلَدِ وَالْوَلَدُ أَيْضًا وَارِثُهُ، أَدَّى إِلَى وُجُوبِ نفقته على غيره، حال ماله مَالٌ يُنْفِقُ مِنْهُ وَإِنَّ هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الصَّبِيَّ إِذَا وَرِثَ مِنْ أَبِيهِ مَالًا فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِتَعَهُّدِهِ وَيُنْفِقُ ذَلِكَ الْمَالَ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَدْفَعُ الضِّرَارَ عَنْهُ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ يُمْكِنُ إِيجَابُهَا عَلَى وَارِثِ الْأَبِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ وَارِثُ الْأَبِ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ مَوْتِ الْأَبِ كُلُّ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْأَبِ وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَأَبِي مُسْلِمٍ وَالْقَاضِي، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ أَيُّ وَارِثٍ هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ الْعَصَبَاتُ دُونَ الْأُمِّ، وَالْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَسُفْيَانَ وَإِبْرَاهِيمَ وَقِيلَ: هُوَ وَارِثُ الصَّبِيِّ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى قَدْرِ النَّصِيبِ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالُوا: النَّفَقَةُ عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ، وَقِيلَ: الْوَارِثُ مِمَّنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ ابْنِ الْعَمِّ وَالْمَوْلَى وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنْ لَا فَضْلَ بَيْنَ وَارِثٍ وَوَارِثٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَطْلَقَ اللَّفْظَ فَغَيْرُ ذِي الرَّحِمِ بِمَنْزِلَةِ ذِي الرَّحِمِ، كَمَا أَنَّ الْبَعِيدَ كَالْقَرِيبِ، وَالنِّسَاءَ كَالرِّجَالِ، وَلَوْلَا أَنَّ الْأُمَّ خَرَجَتْ مِنْ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ مَرَّ ذِكْرُهَا بِإِيجَابِ الْحَقِّ لَهَا، لَصَحَّ أَيْضًا دُخُولُهَا تَحْتَ الْكَلَامِ، لأنها قد تكون وارث كَغَيْرِهَا. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ مِنَ الْوَارِثِ الْبَاقِي مِنَ الْأَبَوَيْنِ، وَجَاءَ فِي الدُّعَاءِ الْمَشْهُورِ: وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، أَيِ الْبَاقِيَ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ وَجَمَاعَةٍ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَرَادَ بِالْوَارِثِ الصَّبِيَّ نَفْسَهُ الَّذِي هُوَ وَارِثُ أَبِيهِ الْمُتَوَفَّى فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَجَبَ أَجْرُ الرَّضَاعَةِ فِي مَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أُجْبِرَتْ أُمُّهُ عَلَى إِرْضَاعِهِ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَةِ الصَّبِيِّ إِلَّا الْوَالِدَانِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِثْلُ ذلِكَ فَقِيلَ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ: مِنْ تَرْكِ الْإِضْرَارِ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَالضَّحَّاكِ، وَقِيلَ: مِنْهُمَا عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْفِصَالِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْفِطَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الْأَحْقَافِ: 15] وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْفِطَامُ بِالْفِصَالِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَنْفَصِلُ عَنْ الِاغْتِذَاءِ بِلَبَنِ أُمِّهِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَاتِ قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ فُصِلَ الْوَلَدُ عَنِ الْأُمِّ فَصْلًا وَفِصَالًا، وَقُرِئَ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ وَالْفِصَالُ/ أَحْسَنُ، لِأَنَّهُ إِذَا انْفَصَلَ مِنْ أُمِّهِ فَقَدِ انْفَصَلَتْ مِنْهُ، فَبَيْنَهُمَا فِصَالٌ نَحْوُ الْقِتَالِ وَالضِّرَابِ، وَسُمِّيَ الْفَصِيلُ فَصِيلًا لِأَنَّهُ مَفْصُولٌ عَنْ أُمِّهِ، وَيُقَالُ: فَصَلَ مِنَ الْبَلَدِ إِذَا خَرَجَ عَنْهُ وَفَارَقَهُ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ [الْبَقَرَةِ: 249] وَاعْلَمْ أَنَّ حَمْلَ الْفِصَالِ هَاهُنَا عَلَى الْفِطَامِ هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْحَوْلَيْنِ الْكَامِلَيْنِ هُوَ تَمَامُ مُدَّةِ الرَّضَاعِ وَجَبَ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْفِطَامَ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ جَائِزٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِطَامَ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ جَائِزٌ، وَبَعْدَهُ أَيْضًا جَائِزٌ وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَا قَبْلَ الْآيَةِ لَمَّا دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْفِطَامِ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ كَانَ أَيْضًا دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْحَوْلَيْنِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَقِيَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى جَوَازِ الْفِطَامِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ فَقَطْ. وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْوَلَدَ قَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا فَيَحْتَاجُ إِلَى الرَّضَاعِ وَيَضُرُّ بِهِ فَطْمُهُ كَمَا يَضُرُّ ذَلِكَ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ، وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ أَنَّ حُصُولَ الْمَضَرَّةِ فِي الْفِطَامِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ نَادِرٌ وَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْمَعْهُودِ وَاجِبٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. القول الثاني: في تفسير الفصال، وهو أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ لَمَّا ذَكَرَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْفِصَالِ إِيقَاعُ الْمُفَاصَلَةِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ إِذَا حَصَلَ التَّرَاضِي وَالتَّشَاوُرُ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ بِسَبَبِ ذَلِكَ ضَرَرٌ إِلَى الْوَلَدِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: التَّشَاوُرُ فِي اللُّغَةِ: اسْتِجْمَاعُ الرَّأْيِ، وَكَذَلِكَ الْمَشُورَةُ وَالْمَشُورَةُ مَفُعْلَةٌ مِنْهُ كَالْمَعُونَةِ، وَشُرْتُ الْعَسَلَ اسْتَخْرَجْتُهُ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: شُرْتُ الدَّابَّةَ وَأَشَرْتُهَا أَيْ أَجْرَيْتُهَا لِاسْتِخْرَاجِ جَرْيِهَا، وَالشَّوَارُ مَتَاعُ الْبَيْتِ، لِأَنَّهُ يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ، وَقَالُوا: شَوَّرْتُهُ فَتَشَوَّرَ، أَيْ خَجَّلْتُهُ، وَالشَّارَةُ هَيْئَةُ الرَّجُلِ، لِأَنَّهُ مَا يَظْهَرُ مِنْ زِيِّهِ وَيَبْدُو مِنْ زِينَتِهِ، وَالْإِشَارَةُ إِخْرَاجُ مَا فِي نَفْسِكَ، وَإِظْهَارُهُ لِلْمُخَاطَبِ بِالنُّطْقِ وَبِغَيْرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْفِطَامَ فِي أَقَلَّ مِنْ حَوْلَيْنِ لَا يَجُوزُ إِلَّا عِنْدَ رِضَا الْوَالِدَيْنِ وَعِنْدَ الْمُشَاوَرَةِ مَعَ أَرْبَابِ التَّجَارِبِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُمَّ قَدْ تَمَلُّ مِنَ الرَّضَاعِ فَتُحَاوِلُ الْفِطَامَ وَالْأَبُ أَيْضًا قَدْ يَمَلُّ مِنْ إِعْطَاءِ الْأُجْرَةِ عَلَى الْإِرْضَاعِ، فَقَدْ يُحَاوِلُ الْفِطَامَ دَفْعًا لِذَلِكَ، لَكِنَّهُمَا قَلَّمَا يَتَوَافَقَانِ عَلَى الْإِضْرَارِ بِالْوَلَدِ لِغَرَضِ النَّفْسِ، ثُمَّ بِتَقْدِيرِ تَوَافُقِهِمَا اعْتُبِرَ الْمُشَاوَرَةُ مَعَ غَيْرِهِمَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَبْعُدُ أَنْ تَحْصُلَ مُوَافَقَةُ الْكُلِّ عَلَى مَا يَكُونُ فِيهِ إِضْرَارٌ بِالْوَلَدِ، فَعِنْدَ اتِّفَاقِ الْكُلِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِطَامَ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ لَا يَضُرُّهُ الْبَتَّةَ فَانْظُرْ إِلَى إِحْسَانِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الطِّفْلِ الصَّغِيرِ كَمْ شَرَطَ فِي جَوَازِ إِفْطَامِهِ مِنَ الشَّرَائِطِ دَفْعًا لِلْمَضَارِّ عَنْهُ، ثُمَّ عِنْدَ اجْتِمَاعِ كُلِّ هَذِهِ الشَّرَائِطِ لَمْ يُصَرِّحْ بالإذن/ بل قال: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ كُلَّمَا كَانَ أَكْثَرَ ضَعْفًا كَانَتْ رَحْمَةُ اللَّهِ معه أكثر وعناية به أشد. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حُكْمَ الْأُمِّ وَأَنَّهَا أَحَقُّ بِالرَّضَاعِ، بَيَّنَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْعُدُولُ فِي هَذَا الْبَابِ عَنِ الْأُمِّ إِلَى غَيْرِهَا ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : اسْتَرْضَعَ مَنْقُولٌ مِنْ أَرْضَعَ، يُقَالُ: أَرْضَعَتِ الْمَرْأَةُ الصَّبِيَّ وَاسْتَرْضَعَهَا الصَّبِيُّ، فَتُعَدِّيهِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، كَمَا تَقُولُ: أَنْجَحَ الْحَاجَةَ وَاسْتَنْجَحَتْهُ الْحَاجَةُ وَالْمَعْنَى: أَنْ تَسْتَرْضِعُوا الْمَرَاضِعَ أَوْلَادَكُمْ، فَحُذِفَ أَحَدُ الْمَفْعُولَيْنِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، كَمَا تَقُولُ: اسْتَنْجَحْتُ الْحَاجَةَ وَلَا تَذْكُرُ مَنِ اسْتَنْجَحْتَهُ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ مَفْعُولَيْنِ لَمْ يَكُنْ آخِرُهُمَا عِبَارَةً عَنِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَنْ تَسْتَرْضِعُوا

[سورة البقرة (2) : آية 234]

أَوْلادَكُمْ أَيْ لِأَوْلَادِكُمْ وَحَذَفَ اللَّامَ اجْتِزَاءً بِدَلَالَةِ الِاسْتِرْضَاعِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْأَوْلَادِ، وَلَا يَجُوزُ دَعَوْتُ زَيْدًا وَأَنْتَ تُرِيدُ لِزَيْدٍ، لِأَنَّهُ تَلْبِيسٌ هَاهُنَا بِخِلَافِ مَا قُلْنَا فِي الِاسْتِرْضَاعِ، وَنَظِيرُ حَذْفِ اللَّامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ [الْمُطَفِّفِينَ: 3] أَيْ كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِالْإِرْضَاعِ، فَأَمَّا إِذَا حَصَلَ مَانِعٌ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، مِنْهَا مَا إِذَا تَزَوَّجَتْ آخَرَ، فَقِيَامُهَا بِحَقِّ ذَلِكَ الزَّوْجِ يَمْنَعُهَا عَنِ الرَّضَاعِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ الْأَوَّلُ فَقَدْ تَكْرَهُ الرَّضَاعَ حَتَّى يَتَزَوَّجَ بِهَا زَوْجٌ آخر، ومنها أن تأتي الْمَرْأَةُ قَبُولَ الْوَلَدِ إِيذَاءً لِلزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ وَإِيحَاشًا لَهُ، وَمِنْهَا أَنْ تَمْرَضَ أَوْ يَنْقَطِعَ لَبَنُهَا، فَعِنْدَ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ إِذَا وَجَدْنَا مُرْضِعَةً أُخْرَى وَقَبِلَ الطِّفْلُ لَبَنَهَا جَازَ الْعُدُولُ عَنِ الْأُمِّ إِلَى غَيْرِهَا، فَأَمَّا إِذَا لَمْ نَجِدْ مُرْضِعَةً أُخْرَى، أَوْ وَجَدْنَاهَا وَلَكِنَّ الطِّفْلَ لَا يقبل لبنها فههنا الْإِرْضَاعُ وَاجِبٌ عَلَى الْأُمِّ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحْدَهُ مَا آتَيْتُمْ مَقْصُورَةَ الْأَلِفِ، وَالْبَاقُونَ مَا آتَيْتُمْ مَمْدُودَةَ الْأَلِفِ، أَمَّا الْمَدُّ فَتَقْدِيرُهُ: مَا آتَيْتُمُوهُ الْمَرْأَةَ أَيْ أَرَدْتُمْ إِيتَاءَهُ وَأَمَّا الْقَصْرُ فَتَقْدِيرُهُ: مَا آتيتم/ به، فحذف المفعولان فِي الْأَوَّلِ وَحَذَفَ لَفْظَةَ بِهِ فِي الثَّانِي لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَرَوَى شَيْبَانُ عَنْ عَاصِمٍ مَا أُوتِيتُمْ أَيْ مَا آتَاكُمُ اللَّهُ وَأَقْدَرَكُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأُجْرَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الْحَدِيدِ: 7] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَيْسَ التَّسْلِيمُ شَرْطًا لِلْجَوَازِ وَالصِّحَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَدْبٌ إِلَى الْأَوْلَى وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ تَسْلِيمَ الْأُجْرَةِ إِلَى الْمُرْضِعَةِ يَدًا بِيَدٍ حَتَّى تَكُونَ طَيِّبَةَ النَّفْسِ رَاضِيَةً فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِصَلَاحِ حَالِ الصَّبِيِّ، وَالِاحْتِيَاطِ فِي مَصَالِحِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِالتَّحْذِيرِ، فَقَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. [سورة البقرة (2) : آية 234] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) الحكم الثالث عشر عدة الوفاة وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُتَوَفَّوْنَ مَعْنَاهُ يَمُوتُونَ وَيُقْبَضُونَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزُّمَرِ: 42] وَأَصْلُ التَّوَفِّي أَخْذُ الشَّيْءِ وَافِيًا كَامِلًا، فَمَنْ مَاتَ فَقَدْ وَجَدَ عُمُرَهُ وَافِيًا كَامِلًا، وَيُقَالُ: تُوُفِّيَ فُلَانٌ، وَتَوَفَّى إِذَا مَاتَ، فَمَنْ قَالَ: تُوُفِّيَ كَانَ مَعْنَاهُ قُبِضَ وَأُخِذَ وَمَنْ قَالَ: تَوَفَّى. كَانَ مَعْنَاهُ تَوَفَّى أجله واستوفى أكله وَعُمُرَهُ وَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَلَيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَوَفَّوْنَ بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَذَرُونَ مَعْنَاهُ: يَتْرُكُونَ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ مِنْهُ الْمَاضِي وَلَا الْمَصْدَرُ اسْتِغْنَاءً عنه يترك تركا،

وَمِثْلُهُ يَدَعُ فِي رَفْضِ مَصْدَرِهِ وَمَاضِيهِ، فَهَذَانَ الْفِعْلَانِ الْعَابِرُ وَالْأَمْرُ مِنْهُمَا مَوْجُودَانِ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَدَعُ كَذَا وَيَذَرُ وَيُقَالُ: دَعْهُ وَذَرْهُ أَمَّا الْمَاضِي وَالْمَصْدَرُ فَغَيْرُ مَوْجُودَيْنِ مِنْهُمَا وَالْأَزْوَاجُ هَاهُنَا النِّسَاءُ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الرَّجُلَ زَوْجًا وَامْرَأَتَهُ زَوْجًا لَهُ، وَرُبَّمَا أَلْحَقُوا بِهَا الْهَاءَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ مُبْتَدَأٌ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَبَرٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي خَبَرِهِ عَلَى أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُضَافَ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ، وَأَزْوَاجُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ يَتَرَبَّصْنَ وَالثَّانِي: وَهُوَ/ قَوْلُ الْأَخْفَشِ التَّقْدِيرُ: يَتَرَبَّصْنَ بَعْدَهُمْ إِلَّا أَنَّهُ أُسْقِطَ لِظُهُورِهِ كَقَوْلِهِ: السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشُّورَى: 43] وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذْرُوَن أَزْوَاجًا، أَزْوَاجُهُمْ يَتَرَبَّصْنَ، قَالَ: وَإِضْمَارُ الْمُبْتَدَأِ لَيْسَ بِغَرِيبٍ قَالَ تَعَالَى: قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ [الْحَجِّ: 72] يَعْنِي هُوَ النَّارُ، وَقَوْلُهُ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يُوسُفَ: 18] . فَإِنْ قِيلَ: أَنْتُمْ أَضْمَرْتُمْ هَاهُنَا مُبْتَدَأً مُضَافًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ شَيْئًا وَاحِدًا بَلْ شَيْئَانِ، وَالْأَمْثِلَةُ الَّتِي ذَكَرْتُمُ الْمُضْمَرُ فِيهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ. قُلْنَا: كَمَا وَرَدَ إِضْمَارُ الْمُبْتَدَأِ الْمُفْرَدِ، فَقَدْ وَرَدَ أَيْضًا إِضْمَارُ الْمُبْتَدَأِ الْمُضَافِ، قَالَ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ [آلِ عِمْرَانَ: 196، 197] وَالْمَعْنَى: تَقَلُّبُهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ، أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ مُبْتَدَأٌ، إِلَّا أَنَّ الْغَرَضَ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ هَاهُنَا بِبَيَانِ حُكْمٍ عَائِدٍ إِلَيْهِمْ، بَلْ بِبَيَانِ حُكْمٍ عَائِدٍ إِلَى أَزْوَاجِهِمْ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَذْكُرْ لِذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ خَبَرًا، وَأَنْكَرَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَجِيءَ الْمُبْتَدَأِ بِدُونِ الْخَبَرِ مُحَالٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّرَبُّصِ، وَبَيَّنَّا الْفَائِدَةَ فِي قَوْلِهِ: بِأَنْفُسِهِنَّ وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ خَبَرًا إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ هُوَ الْأَمْرُ، وَبَيِّنَّا الْفَائِدَةَ فِي العدول عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَعَشْراً مَذْكُورٌ بِلَفْظِ التَّأْنِيثِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَذَكَرُوا فِي الْعُذْرِ عَنْهُ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: تَغْلِيبُ اللَّيَالِي عَلَى الْأَيَّامِ وَذَلِكَ أَنَّ ابْتِدَاءَ الشَّهْرِ يَكُونُ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيَالِي هِيَ الْأَوَائِلَ غُلِّبَتْ، لِأَنَّ الْأَوَائِلَ أَقْوَى مِنَ الثَّوَانِي، قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يَقُولُونَ صُمْنَا خَمْسًا مِنَ الشَّهْرِ، فَيُغَلِّبُونَ اللَّيَالِيَ عَلَى الْأَيَّامِ، إِذْ لَمْ يَذْكُرُوا الْأَيَّامَ، فَإِذَا أَظْهَرُوا الْأَيَّامَ قَالُوا صُمْنَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ الْحُزْنِ وَالْمَكْرُوهِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَيَّامِ تُسَمَّى بِاللَّيَالِي عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، كَقَوْلِهِمْ: خَرَجْنَا لَيَالِيَ الْفِتْنَةِ، وَجِئْنَا لَيَالِيَ إِمَارَةِ الْحَجَّاجِ وَالثَّالِثُ: ذَكَرَهُ الْمُبَرِّدُ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَنَّثَ الْعَشْرَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُدَّةُ، مَعْنَاهُ وَعَشْرُ مُدَدٍ، وَتِلْكَ الْمُدَّةُ كُلُّ مُدَّةٍ مِنْهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٍ الرَّابِعُ: ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ: إِذَا انْقَضَى لَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرُ لَيَالٍ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ، فَيَتَأَوَّلُ الْعَشَرَةَ بِاللَّيَالِي، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا حَدَّ الْعِدَّةَ بِهَذَا الْقَدْرِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فِي الْعَشْرِ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ، وَهُوَ أَيْضًا مَنْقُولٌ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ امْرَأَةٍ مَاتَ عَنْهَا زوجها إلا في صورتين أحدهما: أَنْ تَكُونَ أَمَةً فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ نِصْفَ عِدَّةِ الْحُرَّةِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: عِدَّتُهَا عِدَّةُ الْحَرَائِرِ، وَتَمَسَّكَ

بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَأَيْضًا اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ وَضْعَ الْحَمْلِ فِي حَقِّ الْحَامِلِ بَدَلًا/ عَنْ هَذِهِ المدة، ثم وضع الحمل مشترك فيه الْحُرَّةِ وَالرَّقِيقَةِ، فَكَذَا الِاعْتِدَادُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ يَجِبُ أَنْ يَشْتَرِكَا فِيهِ، وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ قَالُوا: التَّنْصِيفُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مُمْكِنٌ، وَفِي وَضْعِ الْحَمْلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَإِنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ، فَإِذَا وَضَعَتِ الْحَمْلَ حَلَّتْ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ وَفَاةِ الزَّوْجِ بِسَاعَةٍ، وَعَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَتَرَبَّصُ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطَّلَاقِ: 4] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْآيَةَ مُخَصِّصَةً لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَالشَّافِعِيُّ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَعَمُّ مِنَ الْأُخْرَى مِنْ وَجْهٍ وَأَخَصُّ مِنْهَا مِنْ وَجْهٍ، لِأَنَّ الْحَامِلَ قَدْ يُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ لَا يُتَوَفَّى، كَمَا أَنَّ الَّتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا قَدْ تَكُونُ حَامِلًا وَقَدْ لَا تَكُونُ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ جَعْلُ إحدى الآيتين مخصصة للأخرى الثاني: أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ إِنَّمَا وَرَدَ عَقِيبَ ذِكْرِ الْمُطَلَّقَاتِ، فَرُبَّمَا يَقُولُ قَائِلٌ: هِيَ فِي الْمُطَلَّقَةِ لَا فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا. فَلِهَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ لَمْ يُعَوِّلِ الشَّافِعِيُّ فِي الْبَابِ عَلَى الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا عَوَّلَ عَلَى السُّنَّةِ، وَهِيَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ أن سبيعة بنت الحرث الْأَسْلَمِيَّةَ كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهِيَ حَامِلٌ، فَوَلَدَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِنِصْفِ شَهْرٍ، فَلَمَّا طَهُرَتْ مِنْ دَمِهَا تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ، فَقَالَ لَهَا بَعْضُ النَّاسِ: مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، قَالَتْ سُبَيْعَةُ: فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، فَأَمَرَنِي بِالتَّزَوُّجِ إِنْ بَدَا لِي، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الأصل فههنا تَفَارِيعُ الْأَوَّلُ: لَا فَرْقَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَهَذَا قَوْلٌ مَتْرُوكٌ لِأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ. الْحُكْمُ الثَّانِي: إِذَا تَمَّتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَإِنْ لَمْ تَرَ عَادَتَهَا مِنَ الْحَيْضِ فِيهَا وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا حَتَّى تَرَى عَادَتَهَا مِنَ الْحَيْضِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، مَثَلًا إِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً فَعَلَيْهَا فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ أَرْبَعُ حِيَضٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ فِي كُلِّ شَهْرَيْنِ مَرَّةً فَعَلَيْهَا حَيْضَتَانِ، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مَرَّةً فَعَلَيْهَا حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ فِي كُلِّ خَمْسَةِ أَشْهُرٍ مرة فههنا تَكْفِيهَا الشُّهُورُ حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ المتوفى عنها زوجها بهذه المدة ولم يزيد عَلَى هَذَا الْقَدْرِ فَوَجَبَ أَنَّ يَكُونَ هَذَا الْقَدْرُ كَافِيًا، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّهَا إِنِ ارْتَابَتِ اسْتَبْرَأَتْ نَفْسَهَا مِنَ الرِّيبَةِ، كَمَا أَنَّ ذَاتَ الْأَقْرَاءِ لَوِ ارْتَابَتْ وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَحْتَاطَ. الْحُكْمُ الثَّالِثُ: إِذَا مَاتَ الزَّوْجُ فَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ شَهْرِ الْوَفَاةِ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ فَالشَّهْرُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ يُؤْخَذُ بِالْأَهِلَّةِ سَوَاءٌ خَرَجَتْ كَامِلَةً أَوْ نَاقِصَةً، ثُمَّ تُكْمِلُ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ بِالْخَامِسِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَضُمُّ إِلَيْهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ مَاتَ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الشَّهْرِ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ اعْتُبِرَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْأَهِلَّةِ وَكُمِّلَ الْعَشْرُ مِنَ الشَّهْرِ السَّادِسِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِمَا بَعْدَهَا مِنْ الِاعْتِدَادِ بِالْحَوْلِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً فِي التِّلَاوَةِ غَيْرَ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ فَإِنَّهُ أَبَى نَسْخَهَا، وَسَنَذْكُرُ كَلَامَهُ مِنْ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالتَّقَدُّمُ فِي

التِّلَاوَةِ لَا يَمْنَعُ التَّأَخُّرَ فِي النُّزُولِ، إِذْ لَيْسَ تَرْتِيبُ الْمُصْحَفِ عَلَى تَرْتِيبِ النُّزُولِ، وَإِنَّمَا تَرْتِيبُ التِّلَاوَةِ فِي الْمَصَاحِفِ هُوَ تَرْتِيبُ جِبْرِيلَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ سَبَبُهَا الْوَفَاةُ أَوِ الْعِلْمُ بِالْوَفَاةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا لَمْ تَعْلَمْ بِوَفَاةِ زَوْجِهَا لَا تَعْتَدُّ بِانْقِضَاءِ الْأَيَّامِ فِي الْعِدَّةِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ وَلَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا قَصَدَتْ هَذَا التَّرَبُّصَ، وَالْقَصْدُ إِلَى التَّرَبُّصِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَالْأَكْثَرُونَ قَالُوا السَّبَبُ هُوَ الْمَوْتُ، فَلَوِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ أَوْ أَكْثَرُهَا ثُمَّ بَلَغَهَا خَبَرُ وَفَاةِ الزَّوْجِ وَجَبَ أَنْ تَعْتَدَّ بِمَا انْقَضَى، قَالُوا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لَا عِلْمَ لَهَا يَكْفِي فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا انْقِضَاءُ هَذِهِ الْمُدَّةِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: الْمُرَادُ مِنْ تَرَبُّصِهَا بِنَفْسِهَا الِامْتِنَاعُ عَنِ النِّكَاحِ، وَالِامْتِنَاعُ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَنْزِلِ الَّذِي تُوُفِّيَ زَوْجُهَا فِيهِ: وَالِامْتِنَاعُ عَنِ التَّزَيُّنِ وَهَذَا اللَّفْظُ كَالْمُجْمَلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ فِي أَيِّ شَيْءٍ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: الِامْتِنَاعُ عَنِ النِّكَاحِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الِامْتِنَاعُ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَنْزِلِ فَوَاجِبٌ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ، وَأَمَّا تَرْكُ التَّزَيُّنِ فَهُوَ وَاجِبٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» وَقَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ: هُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ لِأَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي حِلَّ الْإِحْدَادِ لَا وُجُوبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَتَلَبَّثِي ثَلَاثًا ثُمَّ اصْنَعِي مَا شِئْتِ» . الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْكُفَّارَ لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ فَقَوْلُهُ: مِنْكُمْ خِطَابٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ بِهَذِهِ الْفُرُوعِ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ فَقَطْ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا كَانُوا هُمُ الْعَامِلِينَ بِذَلِكَ خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ كَقَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النَّازِعَاتِ: 45] مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُنْذِرًا لِلْكُلِّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الْفُرْقَانِ: 1] . وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَالْمَعْنَى إِذَا انْقَضَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ الَّتِي هِيَ أَجَلُ الْعِدَّةِ فَلَا جُنَاحَ/ عَلَيْكُمْ قِيلَ الْخِطَابُ مَعَ الْأَوْلِيَاءِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْعَقْدَ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ مَعَ الْحُكَّامِ وَصُلَحَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُنَّ إِنْ تَزَوَّجْنَ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَنْعُهُنَّ عَنْ ذَلِكَ إِنْ قَدَرَ عَلَى الْمَنْعِ، فَإِنْ عَجَزَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالسُّلْطَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْعِدَّةِ أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ اشْتِمَالُ فَرْجِهَا عَلَى مَاءِ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ تَقْدِيرُهُ: لَا جُنَاحَ عَلَى النِّسَاءِ وَعَلَيْكُمْ، ثُمَّ قَالَ: فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ مَا يَحْسُنُ عَقْلًا وَشَرْعًا لِأَنَّهُ ضِدُّ الْمُنْكَرِ الَّذِي لَا يَحْسُنُ، وَذَلِكَ هُوَ الْحَلَالُ مِنَ التَّزَوُّجِ إِذَا كَانَ مُسْتَجْمِعًا لِشَرَائِطِ الصِّحَّةِ، ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِالتَّهْدِيدِ، فَقَالَ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ بَقِيَ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ فِي وُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَى الْمَرْأَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا تَنْفَرِدُ الْمَرْأَةُ بِفِعْلِهِ، وَالنِّكَاحُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا مَعَ الْغَيْرِ فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى مَا يَتِمُّ بِالْمَرْأَةِ وَحْدَهَا مِنَ التَّزَيُّنِ وَالتَّطَيُّبِ وَغَيْرِهِمَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي جَوَازِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، قَالُوا: إِنَّهَا إِذَا زوجت

[سورة البقرة (2) : آية 235]

نَفْسَهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَائِزًا لِقَوْلِهِ تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ وَإِضَافَةُ الْفِعْلِ إِلَى الْفَاعِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ، لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ فِي اللَّفْظَةِ، وَتَمَسَّكَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ إِلَّا من الولي لأن قوله: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ خِطَابٌ مَعَ الْأَوْلِيَاءِ وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنَ الْوَلِيِّ وإلا لما صار مخاطبا بقوله: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وبالله التوفيق. [سورة البقرة (2) : آية 235] وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) الحكم الرابع عشر في خطبة النساء [قوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إلى قوله إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّعْرِيضُ فِي اللُّغَةِ ضِدُّ التَّصْرِيحِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يُضَمِّنَ كَلَامَهُ مَا يَصْلُحُ لِلدَّلَالَةِ/ عَلَى مَقْصُودِهِ وَيَصْلُحُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى غَيْرِ مَقْصُودِهِ إِلَّا أَنَّ إِشْعَارَهُ بِجَانِبِ الْمَقْصُودِ أَتَمُّ وَأَرْجَحُ وَأَصْلُهُ مِنْ عَرْضِ الشَّيْءِ وَهُوَ جَانِبُهُ كَأَنَّهُ يَحُومُ حَوْلَهُ وَلَا يُظْهِرُهُ، وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُحْتَاجُ لِلْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ: جِئْتُكَ لِأُسَلِّمَ عَلَيْكَ وَلِأَنْظُرَ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ وَلِذَلِكَ قَالُوا: وَحَسْبُكَ بِالتَّسْلِيمِ مِنِّي تَقَاضِيَا وَالتَّعْرِيضُ قَدْ يُسَمَّى تَلْوِيحًا لِأَنَّهُ يَلُوحُ مِنْهُ مَا يُرِيدُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ أَنَّ الْكِنَايَةَ أَنْ تَذْكُرَ الشَّيْءَ بِذِكْرِ لَوَازِمِهِ، كَقَوْلِكَ: فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ، كَثِيرُ الرَّمَادِ، وَالتَّعْرِيضُ أَنْ تَذْكُرَ كَلَامًا يَحْتَمِلُ مَقْصُودَكَ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَ مَقْصُودِكَ إِلَّا أَنَّ قَرَائِنَ أَحْوَالِكَ تُؤَكِّدُ حَمْلَهُ عَلَى مَقْصُودِكَ، وَأَمَّا الْخِطْبَةُ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْخِطْبَةُ مَصْدَرٌ بِمَنْزِلَةِ الْخَطْبِ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِكَ: إنه لحسن الْقَعْدَةِ وَالْجِلْسَةِ تُرِيدُ الْقُعُودَ وَالْجُلُوسَ وَفِي اشْتِقَاقِهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخَطْبَ هُوَ الْأَمْرُ، وَالشَّأْنُ يُقَالُ: مَا خَطْبُكَ، أَيْ مَا شَأْنُكَ، فَقَوْلُهُمْ: خَطَبَ فُلَانٌ فُلَانَةَ، أَيْ سَأَلَهَا أَمْرًا وَشَأْنًا فِي نَفْسِهَا الثَّانِي: أَصْلُ الْخِطْبَةِ مِنَ الْخِطَابِ الَّذِي هُوَ الْكَلَامُ، يُقَالُ: خَطَبَ الْمَرْأَةَ خِطْبَةً لِأَنَّهُ خَاطِبٌ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، وَخَطَبَ خُطْبَةً أَيْ خَاطَبَ بِالزَّجْرِ وَالْوَعْظِ وَالْخَطْبُ: الْأَمْرُ الْعَظِيمُ، لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى خِطَابٍ كَثِيرٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: النِّسَاءُ فِي حُكْمِ الْخِطْبَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: الَّتِي تَجُوزُ خِطْبَتُهَا تَعْرِيضًا وَتَصْرِيحًا وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ خَالِيَةً عَنِ الْأَزْوَاجِ وَالْعِدَدِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ نِكَاحُهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَكَيْفَ لَا تَجُوزُ خِطْبَتُهَا، بَلْ يُسْتَثْنَى عَنْهُ صُورَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ مَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَخْطُبَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ» ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ وَرَدَ مُطْلَقًا لَكِنْ فِيهِ ثلاثة أحوال.

الحالة الأولى: إذا خطب امرأته فَأُجِيبَ إِلَيْهِ صَرِيحًا هَاهُنَا لَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ أَنْ يَخْطِبَهَا لِهَذَا الْحَدِيثِ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا وجد صريح الإباء عن الإجابة فههنا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ أَنْ يَخْطِبَهَا. الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا لَمْ يُوجَدْ صَرِيحُ الْإِجَابَةِ وَلَا صَرِيحُ الرَّدِّ لِلشَّافِعِيِّ هَاهُنَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْغَيْرِ خِطْبَتُهَا، لِأَنَّ السُّكُوتَ لَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا وَالثَّانِي: وَهُوَ الْقَدِيمُ وَقَوْلُ مَالِكٍ: أَنَّ السُّكُوتَ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الرِّضَا لَكِنَّهُ لَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى الْكَرَاهَةِ، فَرُبَّمَا كَانَتِ الرَّغْبَةُ حَاصِلَةً مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَتَصِيرُ هَذِهِ الْخِطْبَةُ الثَّانِيَةُ مُزِيلَةً لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الرَّغْبَةِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الَّتِي لَا تَجُوزُ خِطْبَتُهَا لَا تَصْرِيحًا وَلَا تَعْرِيضًا، وَهِيَ مَا إِذَا كَانَتْ مَنْكُوحَةً لِلْغَيْرِ لِأَنَّ خِطْبَتَهُ إِيَّاهَا رُبَّمَا صَارَتْ سَبَبًا لِتَشْوِيشِ الْأَمْرِ عَلَى زَوْجِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا عَلِمَتْ رَغْبَةَ الْخَاطِبِ فَرُبَّمَا حَمَلَهَا ذَلِكَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ تَأْدِيَةِ حُقُوقِ الزَّوْجِ، وَالتَّسَبُّبُ إِلَى هذا حرام، وكذا/ الرجعة فَإِنَّهَا فِي حُكْمِ الْمَنْكُوحَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهَا وَظِهَارُهَا وَلِعَانُهَا، وَتَعْتَدُّ مِنْهُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَيَتَوَارَثَانِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُفَصَّلَ فِي حَقِّهَا بَيْنَ التَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحِ وَهِيَ الْمُعْتَدَّةُ غَيْرُ الرَّجْعِيَّةِ وَهِيَ أَيْضًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الَّتِي تَكُونُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَتَجُوزُ خِطْبَتُهَا تَعْرِيضًا لَا تَصْرِيحًا، أَمَّا جَوَازُ التَّعْرِيضِ فَلِقَوْلِهِ تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَذْكُورَةٌ عَقِيبَ تِلْكَ الْآيَةِ، أَمَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّصْرِيحُ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمَّا خَصَّصَ التَّعْرِيضَ بِعَدَمِ الْجُنَاحِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّصْرِيحُ بِخِلَافِهِ، ثُمَّ الْمَعْنَى يُؤَكِّدُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ التَّصْرِيحَ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ النِّكَاحِ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَحْمِلَهَا الْحِرْصُ عَلَى النِّكَاحِ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَبْلَ أَوَانِهَا بِخِلَافِ التَّعْرِيضِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَدْعُوهَا ذَلِكَ إِلَى الْكَذِبِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمُعْتَدَّةُ عَنِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْأُمِّ» : وَلَا أُحِبُّ التَّعْرِيضَ لِخِطْبَتِهَا، وَقَالَ فِي «الْقَدِيمِ» وَ «الْإِمْلَاءِ» : يَجُوزُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي النِّكَاحِ، فَأَشْبَهَتِ الْمُعْتَدَّةَ عَنِ الْوَفَاةِ وَجْهُ الْمَنْعِ هُوَ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ عَنِ الْوَفَاةِ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا بِسَبَبِ الْخِطْبَةِ الْخِيَانَةُ فِي أَمْرِ الْعِدَّةِ فَإِنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي بِالْأَشْهُرِ أَمَّا هَاهُنَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ فَلَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا الْخِيَانَةُ بِسَبَبِ رَغْبَتِهَا فِي هَذَا الْخَاطِبِ وَكَيْفِيَّةُ الْخِيَانَةِ هِيَ أَنْ تُخْبِرَ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْبَائِنُ الَّتِي يَحِلُّ لِزَوْجِهَا نِكَاحُهَا فِي عِدَّتِهَا، وَهِيَ الْمُخْتَلِعَةُ وَالَّتِي انْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِعَيْبٍ أو عنة أو إعسار نفقته فههنا لِزَوْجِهَا التَّعْرِيضُ وَالتَّصْرِيحُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ نِكَاحُهَا فِي الْعِدَّةِ فَالتَّصْرِيحُ أَوْلَى وَأَمَّا غَيْرُ الزَّوْجِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ التَّصْرِيحُ وَفِي التَّعْرِيضِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: يَحِلُّ كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ تَحِلُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَنْكِحَهَا فِي عِدَّتِهَا فَلَمْ يَحِلَّ التَّعْرِيضُ لَهَا كَالرَّجْعِيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالتَّعْرِيضُ كَثِيرٌ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: رُبَّ رَاغِبٍ فِيكِ، أَوْ مَنْ يَجِدُ مِثْلَكِ؟ أَوْ لَسْتِ بِأَيِّمٍ وإذا حَلَلْتِ فَأَدْرِينِي، وَذَكَرَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَلْفَاظِ التَّعْرِيضِ: إِنَّكِ لَجَمِيلَةٌ وَإِنَّكِ لَصَالِحَةٌ، وَإِنَّكِ

لَنَافِعَةٌ، وَإِنَّ مِنْ عَزْمِي أَنْ أَتَزَوَّجَ، وَإِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ فَاعْلَمْ أَنَّ الْإِكْنَانَ الْإِخْفَاءُ وَالسَّتْرُ قَالَ الْفَرَّاءُ: لِلْعَرَبِ فِي أَكْنَنْتُ الشَّيْءَ أَيْ سَتَرْتُهُ لُغَتَانِ: كَنَنْتُهُ وَأَكْنَنْتُهُ فِي الْكِنِّ وَفِي النفس بمعنى، ومنه: ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ [النمل: 74] ، وبَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصَّافَّاتِ: 49] وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَهُمَا، فَقَالُوا: كَنَنْتُ الشَّيْءَ إِذَا صُنْتَهُ حَتَّى لَا تُصِيبَهُ آفَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسْتُورًا يُقَالُ: دُرٌّ مَكْنُونٌ، وَجَارِيَةٌ مَكْنُونَةٌ، وَبَيْضٌ مَكْنُونٌ، مَصُونٌ عَنِ التَّدَحْرُجِ وَأَمَّا أَكْنَنْتُ فَمَعْنَاهُ أَضْمَرْتُ، وَيُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي الشَّيْءِ الَّذِي يُخْفِيهِ الْإِنْسَانُ وَيَسْتُرُهُ عَنْ غَيْرِهِ، / وَهُوَ ضِدُّ أَعْلَنْتُ وَأَظْهَرْتُ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي التَّعْرِيضِ لِلْمَرْأَةِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَلَا فِيمَا يُضْمِرُهُ الرَّجُلُ مِنَ الرَّغْبَةِ فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ التَّعْرِيضَ بِالْخِطْبَةِ أَعْظَمُ حَالًا مِنْ أَنْ يَمِيلَ قَلْبُهُ إِلَيْهَا وَلَا يَذْكُرُ شَيْئًا فَلَمَّا قَدَّمَ جَوَازَ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ كَانَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ جَارِيًا مَجْرَى إِيضَاحِ الْوَاضِحَاتِ. قُلْنَا: لَيْسَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْتُمْ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ أَبَاحَ التَّعْرِيضَ وَحَرَّمَ التَّصْرِيحَ فِي الْحَالِ، ثُمَّ قَالَ: أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَعْقِدُ قَلْبَهُ عَلَى أَنَّهُ سَيُصَرِّحُ بِذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَالْآيَةُ الْأُولَى إِبَاحَةٌ لِلتَّعْرِيضِ فِي الْحَالِ، وَتَحْرِيمٌ لِلتَّصْرِيحِ فِي الْحَالِ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ إِبَاحَةٌ لِأَنْ يَعْقِدَ قَلْبَهُ عَلَى أَنَّهُ سَيُصَرِّحُ بِذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ زَمَانِ الْعِدَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْوَجْهَ الَّذِي لِأَجْلِهِ أَبَاحَ ذَلِكَ، فَقَالَ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ لِأَنَّ شَهْوَةَ النَّفْسِ إِذَا حَصَلَتْ فِي بَابِ النِّكَاحِ لَا يَكَادُ يَخْلُو ذَلِكَ الْمُشْتَهِي مِنَ الْعَزْمِ وَالتَّمَنِّي، فَلَمَّا كَانَ دَفْعُ هَذَا الْخَاطِرِ كَالشَّيْءِ الشَّاقِّ أَسْقَطَ تَعَالَى عَنْهُ هَذَا الْحَرَجَ وَأَبَاحَ لَهُ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا وَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَيْنَ الْمُسْتَدْرَكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا الْجَوَابُ: هُوَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةٍ سَتَذْكُرُونَهُنَّ عَلَيْهِ، تَقْدِيرُهُ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ فَاذْكُرُوهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى السِّرِّ؟. وَالْجَوَابُ: أَنَّ السِّرَّ ضِدُّ الْجَهْرِ وَالْإِعْلَانِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ السر هاهنا صفة المواعدة على معنى: وَلَا تُوَاعِدُوهُنَّ مُوَاعَدَةً سِرِّيَّةً وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْمَوْعُودِ بِهِ عَلَى مَعْنَى وَلَا تُواعِدُوهُنَّ بِالشَّيْءِ الَّذِي يَكُونُ مَوْصُوفًا بِوَصْفِ كَوْنِهِ سِرًّا، أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَظْهَرُ التَّقْدِيرَيْنِ، فَالْمُوَاقَعَةُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ عَلَى وَجْهِ السِّرِّ لَا تَنْفَكُّ ظَاهِرًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مُوَاعَدَةً بِشَيْءٍ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، وَهَاهُنَا احْتِمَالَاتٌ الْأَوَّلُ: أَنْ يُوَاعِدَهَا فِي السِّرِّ بِالنِّكَاحِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ إِذْنٌ فِي التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ وَآخِرَ الْآيَةِ مَنْعٌ عَنِ التَّصْرِيحِ بِالْخِطْبَةِ الثَّانِي: أَنْ يُوَاعِدَهَا بِذِكْرِ الْجِمَاعِ وَالرَّفَثِ، لِأَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ بَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ وَالْأَجْنَبِيَّةِ غَيْرُ جَائِزٍ، قَالَ تَعَالَى لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ [الْأَحْزَابِ: 32] أَيْ لَا تَقُلْنَ مِنْ أَمْرِ الرَّفَثِ شَيْئًا فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الْأَحْزَابِ: 32] الثَّالِثُ: قَالَ الْحَسَنُ: وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا بِالزِّنَا طَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ: إِنَّ الْمُوَاعَدَةَ مُحَرَّمَةٌ بِالْإِطْلَاقِ فحمل الكلام مَا يُخَصُّ بِهِ الْخَاطِبُ حَالَ الْعِدَّةِ أَوْلَى. وَالْجَوَابُ: رَوَى الْحَسَنُ أَنَّ الرَّجُلَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَهُوَ يُعَرِّضُ بِالنِّكَاحِ فَيَقُولُ لَهَا: دَعِينِي أُجَامِعْكِ فَإِذَا أَتْمَمْتِ عِدَّتَكِ أَظْهَرْتُ نِكَاحَكِ، فَاللَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ ذَلِكَ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ/ ذَلِكَ نَهْيًا عَنْ أَنْ يُسَارَّ الرَّجُلُ

الْمَرْأَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُورِثُ نَوْعَ رِيبَةٍ فِيهَا الْخَامِسُ: أَنْ يُعَاهِدَهَا بِأَنْ لَا يَتَزَوَّجَ أَحَدًا سِوَاهَا. أَمَّا إِذَا حَمَلْنَا السِّرَّ عَلَى الْمَوْعُودِ بِهِ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: السِّرُّ الْجِمَاعُ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: وَأَنْ لَا يَشْهَدَ السِّرَّ أَمْثَالِي وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: مَوَانِعُ لِلْأَسْرَارِ إِلَّا مِنْ أَهْلِهَا ... وَيُخْلِفْنَ مَا ظَنَّ الْغَيُورُ الْمُشْغَفُ أَيِ الَّذِي شَغَفَهُ بِهِنَّ، يَعْنِي أَنَّهُنَّ عَفَائِفُ يَمْنَعْنَ الْجِمَاعَ إِلَّا مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْمُرَادُ لَا يَصِفُ نَفْسَهُ لَهَا فَيَقُولُ: آتِيكِ الْأَرْبَعَةَ وَالْخَمْسَةَ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ السِّرِّ النِّكَاحُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُسَمَّى سِرًّا وَالنِّكَاحُ سَبَبُهُ وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ سَبَبِهِ جَائِزٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً فَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى بِأَيِّ شَيْءٍ عَلَّقَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ. وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَذِنَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ بِالتَّعْرِيضِ، ثُمَّ نَهَى عَنِ الْمُسَارَّةِ مَعَهَا دفعا للريبة والغيبة استثنى عنه أَنْ يُسَارِرَهَا بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ، وَذَلِكَ أَنْ يَعِدَهَا فِي السِّرِّ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا، وَالِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهَا، وَالتَّكَفُّلِ بِمَصَالِحِهَا، حَتَّى يَصِيرَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْجَمِيلَةِ مؤكدا لذلك التعريض والله أعلم. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ. اعلم أن لَفْظِ الْعَزْمِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ عَقْدِ الْقَلْبِ عَلَى فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ، قَالَ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 159] وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَزْمَ إِنَّمَا يَكُونُ عَزْمًا عَلَى الْفِعْلِ، فَلَا بُدَّ فِي الْآيَةِ مِنْ إِضْمَارِ فِعْلٍ، وَهَذَا اللَّفْظُ إِنَّمَا يُعَدَّى إِلَى الْفِعْلِ بِحَرْفِ عَلَى فَيُقَالُ: فُلَانٌ عَزَمَ عَلَى كَذَا إِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَلَا تَعْزِمُوا عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَالْحَذْفُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يُقَاسُ، فَعَلَى هَذَا تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ أَنْ تُقَدِّرُوهَا حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي النَّهْيِ عَنِ النِّكَاحِ فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ فَإِنَّ الْعَزْمَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْمَعْزُومِ عَلَيْهِ، فَإِذَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْعَزْمِ فَلَأَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مُتَأَكَّدًا عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْزُومِ عَلَيْهِ أَوْلَى. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَزْمُ عِبَارَةً عَنِ الْإِيجَابِ، يُقَالُ: عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ، أَيْ أَوْجَبْتُ عَلَيْكُمْ وَيُقَالُ: هَذَا مِنْ بَابِ الْعَزَائِمِ لَا مِنْ بَابِ الرُّخَصِ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا» وَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْعَزْمَ بِهَذَا الْمَعْنَى جَائِزٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَبِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْإِيجَابُ سَبَبُ الْوُجُودِ ظَاهِرًا، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُسْتَفَادَ لَفْظُ الْعَزْمِ فِي الْوُجُودِ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ أَيْ لَا تُحَقِّقُوا ذَلِكَ وَلَا تُنْشِئُوهُ، وَلَا تَفْرَغُوا مِنْهُ فِعْلًا، حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا لَمْ يَقُلْ وَلَا تَعْزِمُوا عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: لَا تَعْزِمُوا

[سورة البقرة (2) : آية 236]

عَلَيْهِنَّ عُقْدَةَ النِّكَاحِ، أَيْ لَا تَعْزِمُوا عَلَيْهِنَّ أَنْ يَعْقِدْنَ النِّكَاحَ، كَمَا تَقُولُ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: عُقْدَةَ النِّكاحِ فَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ الشَّدُّ، وَالْعُهُودُ وَالْأَنْكِحَةُ تُسَمَّى عُقُودًا لِأَنَّهَا تُعْقَدُ كَمَا يُعْقَدُ الْحَبْلُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ فَفِي الْكِتَابِ وَجْهَانِ الْأَوَّل: الْمُرَادُ مِنْهُ: الْمَكْتُوبُ وَالْمَعْنَى: تَبْلُغُ الْعِدَّةُ الْمَفْرُوضَةُ آخِرَهَا، وَصَارَتْ مُنْقَضِيَةً وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ نَفْسُهُ فِي مَعْنَى الْفَرْضِ كَقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَةِ: 183] فَيَكُونُ الْمَعْنَى حَتَّى يَبْلُغَ هَذَا التَّكْلِيفُ آخِرَهُ وَنِهَايَتَه، وَإِنَّمَا حَسُنَ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ مَعْنَى: فَرَضَ، بِلَفْظِ كَتَبَ لِأَنَّ مَا يُكْتَبُ يَقَعُ فِي النُّفُوسِ أَنَّهُ أَثْبَتُ وَآكَدُ وَقَوْلُهُ: حَتَّى هُوَ غَايَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُفِيدَ ارتفاع الخطر المتقدم، لأن من حق الغاية ضُرِبَتْ لِلْحَظْرِ أَنْ تَقْتَضِيَ زَوَالَهُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِالتَّهْدِيدِ فَقَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَجَبَ الْحَذَرُ فِي كُلِّ مَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ الْوَعِيدِ الْوَعْدَ، فَقَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ. [سورة البقرة (2) : آية 236] لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) الْحُكْمُ الْخَامِسَ عَشَرَ حُكْمُ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ اعْلَمْ أَنَّ أَقْسَامَ الْمُطَلَّقَاتِ أَرْبَعَةٌ أَحَدُهَا: الْمُطَلَّقَةُ الَّتِي تَكُونُ مَفْرُوضًا لَهَا وَمَدْخُولًا بِهَا وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا تَقَدَّمَ أَحْكَامَ هَذَا الْقِسْمِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُنَّ عَلَى الْفِرَاقِ شَيْءٌ عَلَى سَبِيلِ الظُّلْمِ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ لَهُنَّ كَمَالَ الْمَهْرِ، وَأَنَّ عِدَّتَهُنَّ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ مَا لَا يَكُونُ مَفْرُوضًا وَلَا مَدْخُولًا بِهَا وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا مَهْرٌ، وَأَنَّ لَهَا الْمُتْعَةَ بِالْمَعْرُوفِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ: الَّتِي يَكُونُ مَفْرُوضًا لَهَا، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ مَدْخُولًا بِهَا وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [الْبَقَرَةِ: 237] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ حُكْمَ عِدَّةِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَذَكَرَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا الْبَتَّةَ، فَقَالَ: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ [الْأَحْزَابِ: 49] . الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ: الَّتِي تَكُونُ مَدْخُولًا بِهَا، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ مَفْرُوضًا لَهَا، وَحُكْمُ هَذَا الْقِسْمِ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النِّسَاءِ: 24] أَيْضًا الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ دَالٌّ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَوْطُوءَةَ بِالشُّبْهَةِ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، فَالْمَوْطُوءَةُ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْلَى بِهَذَا الْحُكْمِ، فَهَذَا

التَّقْسِيمُ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ هَذَا التَّقْسِيمِ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، فَيُقَالُ: إِنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يُوجِبُ بَدَلًا عَلَى كُلِّ حَالٍ، ثُمَّ ذَلِكَ الْبَدَلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا أَوْ غَيْرَ مَذْكُورٍ، فَإِنْ كَانَ الْبَدَلُ مَذْكُورًا، فَإِنْ حَصَلَ الدُّخُولُ اسْتَقَرَّ كُلُّهُ، وَهَذَا هُوَ حُكْمُ الْمُطَلَّقَاتِ الَّتِي ذَكَرَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلِ الدُّخُولُ سَقَطَ نِصْفُ الْمَذْكُورِ بِالطَّلَاقِ، وَهَذَا هُوَ حُكْمُ الْمُطَلَّقَاتِ الَّتِي ذَكَرَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي تَجِيءُ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْبَدَلُ مَذْكُورًا فَإِنْ لَمْ يَحْصُلِ الدُّخُولُ فَهُوَ هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَحُكْمُهَا أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ لَهَا الْمُتْعَةُ، وَإِنْ حَصَلَ الدُّخُولُ فَحُكْمُهَا غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، إِلَّا أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَمَّا نَبَّهْنَا عَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ فَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الطَّلَاقَ جَائِزٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِنَا يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِحَرَامٍ، قَالُوا: لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا جُناحَ/ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ التَّطْلِيقَاتِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الثَّلَاثِ مِنْهَا فَيُقَالُ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ إِلَّا إِذَا طَلَّقْتُمُوهُنَّ ثَلَاثَ طَلَقَاتٍ فَإِنَّ هُنَاكَ يَثْبُتُ الْجُنَاحُ، قَالُوا: وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ التَّطْلِيقَاتِ، أَعْنِي حَالَ الْإِفْرَادِ وَحَالَ الْجَمْعِ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ عِنْدِي ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْإِذْنِ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ فِي الْوُجُودِ، وَيَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِهِ إِدْخَالُهُ فِي الْوُجُودِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يُفِيدُ التَّكْرَارَ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِنَّهُ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ انْعَقَدَتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَقَطْ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُ حَالَةَ الْجَمْعِ، وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ الَّذِي ذَكَرُوهُ فَنَقُولُ: يُشْكِلُ هَذَا بِالْأَمْرِ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ التَّكْرَارَ بِالِاتِّفَاقِ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، مَعَ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: صَلِّ إِلَّا فِي الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ وَصُمْ إِلَّا فِي الْيَوْمِ الْفُلَانِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ تُمَاسُّوهُنَّ بِالْأَلْفِ عَلَى الْمُفَاعَلَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَحْزَابِ وَالْبَاقُونَ تَمَسُّوهُنَّ بِغَيْرِ أَلِفٍ، حُجَّةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ أَنَّ بَدَنَ كُلِّ وَاحِدٍ يَمَسُّ بَدَنَ صَاحِبِهِ وَيَتَمَاسَّانِ جَمِيعًا وَأَيْضًا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [الْمُجَادَلَةِ: 3] وَهُوَ إِجْمَاعٌ وَحُجَّةُ الْبَاقِينَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [آلِ عِمْرَانَ: 47] وَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَلْفَاظِ فِي هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ عَلَى الْمَعْنَى بِفِعْلٍ دُونَ فَاعِلٍ كَقَوْلِهِ: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ [الرَّحْمَنِ: 56] وَكَقَوْلِهِ: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ [النِّسَاءِ: 25] وَأَيْضًا الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْمَسِّ: الْغِشْيَانُ، وَذَلِكَ فِعْلُ الرَّجُلِ، وَيَدُلُّ في الآية الثانية على الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْمَسِّ الْغِشْيَانُ، وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي الظِّهَارِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُمَاسَّةُ الَّتِي هِيَ غَيْرُ الْجِمَاعِ وَهِيَ حَرَامٌ فِي الظِّهَارِ، وَبَعْضُ مَنْ قَرَأَ: تُمَاسُّوهُنَّ قَالَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى تَمَسُّوهُنَّ لأن فَاعَلَ قَدْ يُرَادُ بِهِ فَعَلَ، كَقَوْلِهِ: طَارَقْتُ النَّعْلَ، وَعَاقَبْتُ اللِّصَّ، وَهُوَ كَثِيرٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ نَفْيَ الْجَنَاحِ عَنِ الْمُطَلِّقِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْمَسِيسِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَيْضًا بَعْدَ الْمَسِيسِ. وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى إِبَاحَةِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ مُطْلَقًا، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ غَيْرُ ثَابِتٍ

بَعْدَ الْمَسِيسِ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ الطَّلَاقُ بَعْدَ الْمَسِيسِ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ، وَلَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ حِلَّ الطَّلَاقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَحِلُّ الطَّلَاقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَرْطِ عَدَمِ الْمَسِيسِ، صَحَّ ظَاهِرُ اللَّفْظِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ (مَا) فِي قَوْلِهِ: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ بِمَعْنَى الَّذِي وَالتَّقْدِيرُ: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ اللَّاتِي لَمْ تسموهن، إِلَّا أَنَّ (مَا) اسْمٌ جَامِدٌ لَا يَنْصَرِفُ، / وَلَا يَبِينُ فِيهِ الْإِعْرَابُ وَلَا الْعَدَدُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ لَفْظُ (مَا) شَرْطًا، فَزَالَ السُّؤَالُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ مَا يَدُورُ حَوْلَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى مَا أَقُولُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْجُنَاحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لُزُومُ الْمَهْرِ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَا مَهْرَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً، بِمَعْنَى: لَا يَجِبُ الْمَهْرُ إِلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، فَإِذَا فُقِدَا جَمِيعًا لَمْ يَجِبِ الْمَهْرُ، وَهَذَا كَلَامٌ ظَاهِرٌ إِلَّا أَنَّا نَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا جُناحَ مَعْنَاهُ لَا مَهْرَ، فَنَقُولُ: إِطْلَاقُ لَفْظِ الْجُنَاحِ عَلَى الْمَهْرِ مُحْتَمَلٌ، وَالدَّلِيلُ دَلَّ عَلَيْهِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا بَيَانُ الِاحْتِمَالِ فَهُوَ أَنَّ أَصْلَ الْجَنَاحِ فِي اللُّغَةِ هُوَ الثِّقَلُ، يُقَالُ: أَجْنَحَتِ السَّفِينَةُ إِذَا مَالَتْ لِثِقَلِهَا وَالذَّنْبُ يُسَمَّى جَنَاحًا لِمَا فِيهِ مِنَ الثِّقَلِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: 13] إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجُنَاحَ هُوَ الثِّقَلُ، وَلُزُومُ أَدَاءِ الْمَالِ ثِقَلٌ فَكَانَ جُنَاحًا، فَثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لَهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً نَفَى الْجُنَاحَ مَحْدُودًا إِلَى غَايَةٍ وَهِيَ إِمَّا الْمَسِيسُ أَوِ الْفَرْضُ، وَالتَّقْدِيرُ: فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ الْجُنَاحُ عِنْدَ حُصُولِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ ثُمَّ إِنَّ الْجُنَاحَ الَّذِي يَثْبُتُ عِنْدَ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ هُوَ لُزُومُ الْمَهْرِ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْجُنَاحَ الْمَنْفِيَّ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ هُوَ لُزُومُ الْمَهْرِ الثَّانِي: أَنَّ تَطْلِيقَ النِّسَاءِ قَبْلَ الْمَسِيسِ عَلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا: الَّذِي يَكُونُ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَقَبْلَ تَقْدِيرِ الْمَهْرِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالثَّانِي: الَّذِي يَكُونُ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَبَعْدَ التقدير الْمَهْرِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً [الْبَقَرَةِ: 237] ثُمَّ إِنَّهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَوْجَبَ نِصْفَ الْمَفْرُوضِ وَهَذَا الْقِسْمُ كَالْمُقَابِلِ لِذَلِكَ الْقِسْمِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْجُنَاحُ الْمَنْفِيُّ هُنَاكَ هُوَ الْمُثْبَتَ هَاهُنَا، فَلَمَّا كَانَ الْمُثْبَتُ هَاهُنَا هُوَ لُزُومَ الْمَهْرِ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: الْجُنَاحُ الْمَنْفِيُّ هُنَاكَ هُوَ لُزُومُ الْمَهْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَقْسَامَ الْمُطَلَّقَاتِ أَرْبَعَةٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَكُونُ مُشْتَمِلَةً عَلَى بَيَانِ حُكْمِ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مِنْهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَا مَهْرَ إِلَّا عِنْدَ الْمَسِيسِ أَوْ عِنْدَ التَّقْدِيرِ، عُرِفَ مِنْهُ أَنَّ الَّتِي لَا تَكُونُ مَمْسُوسَةً وَلَا مَفْرُوضًا لَهَا لَا يَجِبُ لَهَا الْمَهْرُ، وَعُرِفَ أَنَّ الَّتِي تَكُونُ مَمْسُوسَةً وَلَا تَكُونُ مَفْرُوضًا لَهَا وَالَّتِي تَكُونُ مَفْرُوضًا لَهَا وَلَا تَكُونُ مَمْسُوسَةً يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْمَهْرُ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى بَيَانِ حُكْمِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ مَمْسُوسَةً وَمَفْرُوضًا لَهَا، فَبَيَانُ حُكْمِهِ مَذْكُورٌ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَاتُ مُشْتَمِلَةً عَلَى بَيَانِ حُكْمِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ بِالتَّمَامِ وَهَذَا مِنْ لَطَائِفِ الْكَلِمَاتِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ وَالزَّجَّاجُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ الْمَهْرِ جائز،

وَقَالَ الْقَاضِي: إِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ لَكِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الصِّحَّةِ، أَمَّا بَيَانُ دَلَالَتِهَا عَلَى الصِّحَّةِ، فَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ مَشْرُوعًا، وَلَمْ تَكُنِ الْمُتْعَةُ لَازِمَةً، وَأَمَّا أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الصِّحَّةِ الْجَوَازُ، بِدَلِيلِ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ حَرَامٌ وَمَعَ ذَلِكَ وَاقِعٌ وَصَحِيحٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَسِيسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الدُّخُولُ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: وَإِنَّمَا كَنَّى تَعَالَى بِقَوْلِهِ: تَمَسُّوهُنَّ عَنِ الْمُجَامَعَةِ تَأْدِيبًا لِلْعِبَادِ فِي اخْتِيَارِ أَحْسَنِ الْأَلْفَاظِ فِيمَا يَتَخَاطَبُونَ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً فَالْمَعْنَى يُقَدِّرُ لَهَا مِقْدَارًا مِنَ الْمَهْرِ يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْفَرْضَ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّقْدِيرُ، وَذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ (أَوْ) هَاهُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَيُرِيدُ: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ وَلَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً، كَقَوْلِهِ: أَوْ يَزِيدُونَ [الصَّافَّاتِ: 147] وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ فِيمَا لَخَّصْنَاهُ عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ مُتَكَلَّفٌ، بَلْ خَطَأٌ قَطْعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَتِّعُوهُنَّ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا مَهْرَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَسِيسِ، وَالتَّقْدِيرِ بَيَّنَ أَنَّ الْمُتْعَةَ لَهَا وَاجِبَةٌ، وَتَفْسِيرُ لَفْظِ الْمُتْعَةِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [الْبَقَرَةِ: 196] . وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُطَلَّقَاتُ قِسْمَانِ، مُطَلَّقَةٌ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَمُطَلَّقَةٌ بَعْدَ الدُّخُولِ، أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ يُنْظَرُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ لَهَا مَهْرٌ فَلَهَا الْمُتْعَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ فُرِضَ لَهَا فَلَا مُتْعَةَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي حَقِّهَا نِصْفَ الْمَهْرِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُتْعَةَ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَذَكَرَهَا وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ إِلَّا الَّتِي فُرِضَ لَهَا وَلَمْ يُدْخَلْ بِهَا فَحَسْبُهَا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ سَوَاءٌ فُرِضَ لَهَا أَوْ لَمْ يُفْرَضْ، فَهَلْ تَسْتَحِقُّ الْمُتْعَةَ، فِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ فِي «الْقَدِيمِ» وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا مُتْعَةَ لَهَا، لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ كَالْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الْفَرْضِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَقَالَ فِي «الْجَدِيدِ» : بَلْ لَهَا الْمُتْعَةُ، وَهُوَ قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [الْبَقَرَةِ: 241] وَقَالَ تَعَالَى: فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ [الْأَحْزَابِ: 28] وَكَانَ ذَلِكَ فِي نِسَاءٍ دَخَلَ بِهِنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ كَالْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الْفَرْضِ قَبْلَ الْمَسِيسِ، لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتِ الصَّدَاقَ لَا بِمُقَابَلَةِ اسْتِبَاحَةِ عِوَضٍ فَلَمْ تَسْتَحِقَّ الْمُتْعَةَ وَالْمُطَلَّقَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ اسْتَحَقَّتِ الصَّدَاقَ بِمُقَابَلَةِ اسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ فَتَجِبُ لَهَا الْمُتْعَةُ لِلْإِيحَاشِ بِالْفِرَاقِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُتْعَةَ وَاجِبَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ، وَرُوِيَ عَنِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرَوْنَهَا وَاجِبَةً، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ/ لَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَتِّعُوهُنَّ وَظَاهِرُ الأمر للإيجاب، وقال: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ فَجَعَلَ مِلْكًا لَهُنَّ أَوْ فِي مَعْنَى الْمِلْكِ، وَحُجَّةُ مَالِكٍ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فَجَعَلَ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ وَإِنَّمَا يُقَالُ: هَذَا الْفِعْلُ إِحْسَانٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ دَيْنٍ فَأَدَّاهُ لَا يُقَالُ إِنَّهُ أَحْسَنُ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التَّوْبَةِ: 91] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا تَدَلُّ عَلَى قَوْلِنَا لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فذكره بكلمة (على) هي لِلْوُجُوبِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ: هَذَا حَقٌّ عَلَى فُلَانٍ، لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ النَّدْبُ بَلِ الْوُجُوبُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَصْلُ الْمُتْعَةِ وَالْمَتَاعِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا غَيْرَ بَاقٍ بَلْ مُنْقَضِيًا عَنْ قَرِيبٍ، وَلِهَذَا يُقَالُ: الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَيُسَمَّى التَّلَذُّذُ تَمَتُّعًا لِانْقِطَاعِهِ بِسُرْعَةٍ وَقِلَّةِ لَبْثٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُوسِعِ الْغَنِيُّ الَّذِي يَكُونُ فِي سَعَةٍ مِنْ غِنَاهُ، يُقَالُ: أَوْسَعَ الرَّجُلُ إِذَا كَثُرَ مَالُهُ، وَاتَّسَعَتْ حَالُهُ، وَيُقَالُ: أَوْسَعَهُ كَذَا أَيْ وَسَّعَهُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذَّارِيَاتِ: 47] وَقَوْلُهُ: قَدَرُهُ أَيْ قدر إمكانه وطلاقته، فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَالْمُقْتِرُ الَّذِي فِي ضِيقٍ مِنْ فَقْرِهِ وَهُوَ الْمُقِلُّ الْفَقِيرُ، وَأَقْتَرَ إِذَا افْتَقَرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ قَدَرُهُ بِسُكُونِ الدَّالِ، وَالْبَاقُونَ قَدَرُهُ بِفَتْحِ الدَّالِ، وَهُمَا لُغَتَانِ فِي جَمِيعِ مَعَانِي الْقَدْرِ، يُقَالُ: قَدَّرَ الْقَوْمُ أَمْرَهُمْ يُقَدِّرُونَهُ قَدْرًا، وَهَذَا قَدْرُ هَذَا، وَاحْمِلْ عَلَى رَأْسِكَ قَدْرَ مَا تُطِيقُ، وَقَدَّرَ اللَّهُ الرِّزْقَ يُقَدِّرُهُ وَيَقْدُرُهُ قَدْرًا، وَقَدَّرْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ أُقَدِّرُهُ قَدْرًا، وَقَدَرْتُ عَلَى الْأَمْرِ أَقْدِرُ عَلَيْهِ قُدْرَةً، كُلُّ هَذَا يَجُوزُ فِيهِ التَّحْرِيكُ وَالتَّسْكِينُ، يُقَالُ: هُمْ يَخْتَصِمُونَ فِي الْقَدْرِ وَالْقَدَرِ، وَخَدَمْتُهُ بِقَدْرِ كَذَا وَبِقَدَرِ كَذَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها [الرَّعْدِ: 17] وَقَالَ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الْأَنْعَامِ: 91] وَلَوْ حُرِّكَ لَكَانَ جَائِزًا، وَكَذَلِكَ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الرَّعْدِ: 17] وَقَالَ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الْأَنْعَامِ: 91] وَلَوْ حُرِّكَ لَكَانَ جَائِزًا، وَكَذَلِكَ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَرِ: 49] وَلَوْ خُفِّفَ جَازَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَقْدِيرَ الْمُتْعَةِ مُفَوَّضٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ، وَلِأَنَّهَا كَالنَّفَقَةِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلزَّوْجَاتِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْمُوسِعَ يُخَالِفُ الْمُقْتِرَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُسْتَحَبُّ عَلَى الْمُوسِعِ خَادِمٌ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُقْتِرِ مِقْنَعَةٌ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: أَكْثَرُ الْمُتْعَةِ خَادِمٌ وَأَقَلُّهَا مِقْنَعَةٌ، وَأَيُّ قَدْرٍ أَدَّى جَازَ فِي جَانِبَيِ الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْمُتْعَةُ لَا تُزَادُ عَلَى نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ، قَالَ: لِأَنَّ حَالَ الْمَرْأَةِ الَّتِي يُسَمَّى لَهَا الْمَهْرُ أَحْسَنُ مِنْ حَالِ الَّتِي لَمْ يُسَمَّ لَهَا، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَجِبْ لَهَا زِيَادَةٌ عَلَى نِصْفِ الْمُسَمَّى إِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَأَنْ لَا يَجِبَ زِيَادَةٌ عَلَى نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَدْرِ حَالِ الزَّوْجِ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ حَالَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ حَالَ الزَّوْجِ فَقَطْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُتْعَةِ: يُعْتَبَرُ حَالُ الرَّجُلِ، وَفِي مَهْرِ الْمِثْلِ حَالُهَا، وَكَذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ بِقَوْلِهِ: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَاحْتَجَّ الْقَاضِي بِقَوْلِهِ: بِالْمَعْرُوفِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى حَالِهِمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ الشَّرِيفَةِ وَالْوَضِيعَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَتاعاً تَأْكِيدٌ لِمَتِّعُوهُنَّ، يَعْنِي: مَتِّعُوهُنَّ تمتعا بالمعروف وحَقًّا صِفَةٌ لِمَتَاعًا أَيْ: مَتَاعًا وَاجِبًا عَلَيْهِمْ، أَوْ حُقَّ ذَلِكَ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ، وَقِيلَ: نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ قَدَرُهُ لِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الظَّرْفُ، وَقِيلَ: نُصِبَ عَلَى الْقَطْعِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: عَلَى الْمُحْسِنِينَ فَفِي سَبَبِ تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُحْسِنَ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بهذا

[سورة البقرة (2) : آية 237]

الْبَيَانِ: كَقَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النَّازِعَاتِ: 45] وَالثَّانِي: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فَهَذَا شَأْنُهُ وَطَرِيقُهُ، وَالْمُحْسِنُ هُوَ الْمُؤْمِنُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ الْعَمَلَ بِمَا ذَكَرْتُ هُوَ طَرِيقُ الْمُؤْمِنِينَ الثَّالِثُ: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فِي المسارعة إلى طاعة الله تعالى. [سورة البقرة (2) : آية 237] وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الْمُطَلَّقَةِ غَيْرِ الْمَمْسُوسَةِ إِذَا لَمْ يُفْرَضْ لَهَا مَهْرٌ، تَكَلَّمَ فِي الْمُطَلَّقَةِ غَيْرِ الْمَمْسُوسَةِ إِذَا كَانَ قَدْ فُرِضَ لَهَا مَهْرٌ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْخَلْوَةَ لَا تُقَرِّرُ الْمَهْرَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ/ تُقَرِّرُ الْمَهْرَ، وَيَعْنِي بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ: أَنْ يَخْلُوَ بِهَا وَلَيْسَ هُنَاكَ مَانِعٌ حِسِّيٌّ وَلَا شَرْعِيٌّ، فَالْحِسِّيُّ نَحْوُ: الرَّتْقُ وَالْقَرْنُ وَالْمَرَضُ، أَوْ يَكُونُ مَعَهُمَا ثَالِثٌ وَإِنْ كَانَ نَائِمًا، وَالشَّرْعِيُّ نَحْوُ، الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَصَوْمِ الْفَرْضِ وَصَلَاةِ الْفَرْضِ وَالْإِحْرَامِ الْمُطْلَقِ سَوَاءٌ كَانَ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الْمَسِيسِ يُوجِبُ سُقُوطَ نِصْفِ الْمَهْرِ وَهَاهُنَا وُجِدَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِسُقُوطِ نِصْفِ الْمَهْرِ. بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ فَقَوْلُهُ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ لَيْسَ كَلَامًا تَامًّا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ آخَرَ لِيَتِمَّ الْكَلَامُ، فَإِمَّا أَنْ يُضْمَرَ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ سَاقِطٌ، أَوْ يُضْمَرَ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ثَابِتٌ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَالثَّانِي مَرْجُوحٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى الشَّيْءِ بِكَلِمَةِ إِنْ عُدِمَ ذَلِكَ الشَّيْءُ ظَاهِرًا، فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوُجُوبِ تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِقَضِيَّةِ التَّعْلِيقِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْفِيٍّ قَبْلَهُ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى السُّقُوطِ، عَمِلْنَا بِقَضِيَّةِ التَّعْلِيقِ، لِأَنَّهُ مَنْفِيٌّ قَبْلَهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً يَقْتَضِي وُجُوبَ كُلِّ الْمَهْرِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا الْتَزَمَ لَزِمَهُ الْكُلُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فَلَمْ تَكُنِ الْحَاجَةُ إِلَى بَيَانِ ثُبُوتِ النِّصْفِ قَائِمَةً لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِوُجُوبِ الْكُلِّ مُقْتَضٍ أَيْضًا لِوُجُوبِ النِّصْفِ إِنَّمَا الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ بَيَانُ سُقُوطِ النِّصْفِ، لِأَنَّ عِنْدَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِوُجُوبِ الْكُلِّ كَانَ الظَّاهِرُ هُوَ وُجُوبَ الْكُلِّ، فَكَانَ سُقُوطُ الْبَعْضِ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ الْمُحْتَاجَ إِلَى الْبَيَانِ، فَكَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى بَيَانِ السُّقُوطِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى بَيَانِ الْوُجُوبِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْآيَةَ الدَّالَّةَ عَلَى وُجُوبِ إِيتَاءِ كُلِّ الْمَهْرِ قَدْ تَقَدَّمَتْ كَقَوْلِهِ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً [الْبَقَرَةِ: 129] فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى سُقُوطِ النِّصْفِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى وُجُوبِ النِّصْفِ وَرَابِعُهَا: وَهُوَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الْمَسِيسِ، وَكَوْنُ الطَّلَاقِ وَاقِعًا قَبْلَ الْمَسِيسِ يُنَاسِبُ سُقُوطَ نِصْفِ الْمَهْرِ، وَلَا يُنَاسِبُ وُجُوبَ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ مَا يُنَاسِبُ السُّقُوطَ، لَا مَا يُنَاسِبُ الْوُجُوبَ كَانَ إِضْمَارُ السُّقُوطِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا اسْتَقْصَيْنَا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ وَاجِبٌ، وَتَخْصِيصُ النِّصْفِ بِالْوُجُوبِ لَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ النِّصْفِ الْآخَرِ، إِلَّا مِنْ حَيْثُ دَلِيلُ الْخِطَابِ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فَكَانَ غَرَضُنَا مِنْ هَذَا الِاسْتِقْصَاءِ دَفْعَ هَذَا السُّؤَالِ. بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ: وَهِيَ أَنَّ هَاهُنَا وُجِدَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الْمَسِيسِ، هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسِيسِ إِمَّا حقيقة المس

بِالْيَدِ أَوْ جُعِلَ كِنَايَةً عَنِ الْوِقَاعِ، وَأَيَّهُمَا كَانَ فَقَدْ وُجِدَ الطَّلَاقُ قَبْلَهُ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [النِّسَاءِ: 20] إِلَى قَوْلِهِ: وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ [النِّسَاءِ: 21] وَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ أَخْذِ الْمَهْرِ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَعَدَمِ الطَّلَاقِ إِلَّا إِنْ تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّهُ خَصَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الْخَلْوَةِ، / وَمَنِ ادَّعَى التَّخْصِيصَ هَاهُنَا فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى عَنْ أَخْذِ الْمَهْرِ وَعَلَّلَ بِعِلَّةِ الْإِفْضَاءِ، وَهِيَ الْخَلْوَةُ، وَالْإِفْضَاءُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَضَاءِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْخَالِي، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْخَلْوَةَ تُقَرِّرُ الْمَهْرَ. وَجَوَابُنَا عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا عَامَّةٌ، وَالْآيَةُ الَّتِي تَمَسَّكْنَا بِهَا خَاصَّةٌ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ طَلَّقْتُمُوهُنَّ وَالتَّقْدِيرُ: طَلَّقْتُمُوهُنَّ حَالَ مَا فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا لَمْ تَسْقُطِ النُّونُ مِنْ يَعْفُونَ وَإِنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ (أَنْ) النَّاصِبَةُ لِلْأَفْعَالِ لِأَنَّ يَعْفُونَ فِعْلُ النِّسَاءِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ وَالْجَزْمُ، وَالنُّونُ فِي يَعْفُونَ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ مُسْنَدًا إِلَى النِّسَاءِ ضَمِيرُ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ، وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ مُسْنَدًا إِلَى الرِّجَالِ فَالنُّونُ عَلَامَةُ الرَّفْعِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَسْقُطِ النُّونُ الَّتِي هِيَ ضَمِيرُ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ، كَمَا لَمْ تَسْقُطِ الْوَاوُ الَّتِي هِيَ ضَمِيرُ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ، وَالسَّاقِطُ فِي يَعْفُونَ إِذَا كَانَ لِلرِّجَالِ الْوَاوُ الَّتِي هِيَ لَامُ الْفِعْلِ فِي يَعْفُونَ لَا الْوَاوُ الَّتِي هِيَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ الْمُطَلَّقَاتُ عَنْ أَزْوَاجِهِنَّ فَلَا يُطَالِبْنَهُمْ بِنِصْفِ الْمَهْرِ، وَتَقُولُ الْمَرْأَةُ: مَا رَآنِي وَلَا خَدَمْتُهُ، وَلَا اسْتَمْتَعَ بِي فَكَيْفَ آخُذُ مِنْهُ شيئا. أما قوله تعالى: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الزَّوْجُ، وَهُوَ قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ الْوَلِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ وَعَلْقَمَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنَّ يَهَبَ مَهْرَ مُوَلِّيَتِهِ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْوَلِيِّ وَالثَّانِي: أَنَّ الَّذِي بِيَدِ الْوَلِيِّ هُوَ عَقْدُ النِّكَاحِ، فَإِذَا عُقِدَ حَصَلَتِ الْعُقْدَةُ، لِأَنَّ بِنَاءَ الْفُعْلَةِ يَدُلُّ عَلَى الْمَفْعُولِ، كَالْأُكْلَةِ وَاللُّقْمَةِ، وَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَالْعَقْدُ كَالْأَكْلِ وَاللَّقْمِ، ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعُقْدَةَ الْحَاصِلَةَ بَعْدَ الْعَقْدِ فِي يَدِ الزَّوْجِ لَا فِي يَدِ الْوَلِيِّ وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ مَعْنَاهُ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ نِكَاحٍ ثَابِتٍ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النَّازِعَاتِ: 40] أَيْ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى الثَّابِتِ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، كَانَتِ الْجَنَّةُ ثَابِتَةً لَهُ، فَتَكُونُ مَأْوَاهُ الرَّابِعُ: مَا رُوِيَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مَطْعِمٍ، أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَأَكْمَلَ الصَّدَاقَ، وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِالْعَفْوِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمُوا مِنَ الْآيَةِ الْعَفْوَ الصَّادِرَ مِنَ الزَّوْجِ.

حُجَّةُ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ هُوَ الْوَلِيُّ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الصَّادِرَ مِنَ الزَّوْجِ هُوَ أَنْ يُعْطِيَهَا كُلَّ الْمَهْرِ، وَذَلِكَ يَكُونُ هِبَةً، وَالْهِبَةُ لَا تُسَمَّى عَفْوًا، أَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ الْغَالِبُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَسُوقَ الْمَهْرَ إِلَيْهَا عِنْدَ التَّزَوُّجِ، فَإِذَا طَلَّقَهَا اسْتَحَقَّ أَنْ يُطَالِبَهَا بِنِصْفِ مَا سَاقَ إِلَيْهَا، فَإِذَا تَرَكَ الْمُطَالَبَةَ فَقَدْ عَفَا عَنْهَا وَثَانِيهَا: سَمَّاهُ عَفْوًا عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْعَفْوَ قَدْ يُرَادُ بِهِ التَّسْهِيلُ يُقَالُ: فُلَانٌ وَجَدَ الْمَالَ عَفْوًا صَفْوًا، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ هَذَا الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ وَعَلَى هَذَا عَفْوُ الرَّجُلِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهَا كُلَّ الصَّدَاقِ عَلَى وَجْهِ السُّهُولَةِ. أَجَابَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْوَلِيُّ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ صُدُورَ الْعَفْوِ عَنِ الزَّوْجِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عَلَى بَعْضِ التَّقْدِيرَاتِ وَاللَّهُ تَعَالَى نَدَبَ إِلَى الْعَفْوِ مُطْلَقًا وَحَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَأَجَابُوا عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي أَنَّ الْعَفْوَ الصَّادِرَ عَنِ الْمَرْأَةِ هُوَ الْإِبْرَاءُ وَهَذَا عَفْوٌ فِي الْحَقِيقَةِ أَمَّا الصَّادِرُ عَنِ الرَّجُلِ مَحْضُ الْهِبَةِ فَكَيْفَ يُسَمَّى عَفْوًا؟. وَأَجَابُوا عَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعَفْوُ هُوَ التَّسْهِيلَ لَكَانَ كُلُّ مَنْ سَهَّلَ عَلَى إِنْسَانٍ شَيْئًا يُقَالُ إِنَّهُ عَفَا عَنْهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: لِلْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْوَلِيُّ هُوَ أَنَّ ذِكْرَ الزَّوْجِ قَدْ تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَلَوْ كَانَ المراد بقوله: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ هُوَ الزَّوْجَ، لَقَالَ: أَوْ تَعْفُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمُخَاطَبَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بَلْ عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمُغَايَبَةِ، عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ غَيْرُ الزَّوْجِ. وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ سَبَبَ الْعُدُولِ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ يَرْغَبُ الزَّوْجُ فِي الْعَفْوِ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ الزَّوْجُ الَّذِي حَبَسَهَا بِأَنْ مَلَكَ عُقْدَةَ نِكَاحِهَا عَنِ الْأَزْوَاجِ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا سَبَبٌ فِي الْفِرَاقِ وَإِنَّمَا فَارَقَهَا الزَّوْجُ، فَلَا جَرَمَ كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ لَا يَنْقُصَهَا مِنْ مَهْرِهَا وَيُكْمِلَ لَهَا صَدَاقَهَا. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: لِلْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ هُوَ أَنَّ الزَّوْجَ لَيْسَ بِيَدِهِ الْبَتَّةَ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَبْلَ النِّكَاحِ كَانَ الزَّوْجُ أَجْنَبِيًّا عَنِ الْمَرْأَةِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إِنْكَاحِهَا الْبَتَّةَ وَأَمَّا بَعْدَ النِّكَاحِ فَقَدْ حَصَلَ النِّكَاحُ ولا قدرة على إيجاد الموجود بل له لا قُدْرَةٌ عَلَى إِزَالَةِ النِّكَاحِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ الْعَفْوَ لِمَنْ فِي يَدِهِ وَفِي قُدْرَتِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الزَّوْجَ لَيْسَ لَهُ يَدٌ وَلَا قُدْرَةٌ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ هُوَ الزَّوْجَ، أَمَّا الْوَلِيُّ فَلَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إِنْكَاحِهَا، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ هُوَ الْوَلِيَّ لَا الزَّوْجُ، ثُمَّ إِنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَجَابُوا عَنْ دَلَائِلَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ هُوَ الزَّوْجُ. أَمَّا الْحُجَّةُ الْأُولَى: فَإِنَّ الْفِعْلَ قَدْ يُضَافُ إِلَى الْفَاعِلِ تَارَةً عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ وَأُخْرَى عِنْدَ/ السَّبَبِ يُقَالُ بَنَى الْأَمِيرُ دَارًا، وَضَرَبَ دِينَارًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النِّسَاءَ إِنَّمَا يَرْجِعْنَ فِي مُهِمَّاتِهِنَّ وَفِي مَعْرِفَةِ مَصَالِحِهِنَّ إِلَى أَقْوَالِ الْأَوْلِيَاءِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ التَّزَوُّجِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَخُوضُ فِيهِ، بَلْ تُفَوِّضُهُ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى رَأْيِ الْوَلِيِّ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ حُصُولُ الْعَفْوِ بِاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ وَبِسَعْيِهِ فَلِهَذَا السَّبَبِ أُضِيفَ الْعَفْوُ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ. وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ قَوْلُهُمْ: الَّذِي بِيَدِ الْوَلِيِّ عَقْدُ النِّكَاحِ لَا عُقْدَةُ النِّكَاحِ، قُلْنَا: الْعُقْدَةُ قَدْ يُرَادُ بِهَا الْعَقْدُ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ سَلَّمْنَا أَنَّ الْعُقْدَةَ هِيَ الْمَعْقُودَةُ لَكِنَّ تِلْكَ الْمَعْقُودَةَ إِنَّمَا حصلت

وَتَكَوَّنَتْ بِوَاسِطَةِ الْعَقْدِ، وَكَانَ عَقْدُ النِّكَاحِ فِي يَدِ الْوَلِيِّ ابْتِدَاءً، فَكَانَتْ عُقْدَةُ النِّكَاحِ فِي يَدِ الْوَلِيِّ أَيْضًا بِوَاسِطَةِ كَوْنِهَا مِنْ نَتَائِجِ الْعَقْدِ وَمِنْ آثَارِهِ. وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ لِنَفْسِهِ فَجَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا التَّقْيِيدَ لَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ لِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ: فُلَانٌ فِي يَدِهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالرَّفْعُ وَالْخَفْضُ فَلَا يراد به أن الذي في يده الأمر نَفْسِهِ وَنَهْيُ نَفْسِهِ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ فِي يَدِهِ أَمْرَ غَيْرِهِ وَنَهْيَ غَيْرِهِ فَكَذَا هَاهُنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ إِلَّا بِالْوَلِيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أن المراد من قوله: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ إِمَّا الزَّوْجُ، وَإِمَّا الْوَلِيُّ، وَبَطَلَ حَمْلُهُ عَلَى الزَّوْجِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الزَّوْجَ لَا قُدْرَةَ لَهُ الْبَتَّةَ عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْوَلِيِّ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ هَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ لِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ: بِيَدِهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ بِيَدِهِ لَا بِيَدِ غَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: لَكُمْ دِينُكُمْ [الْكَافِرُونَ: 6] أَيْ لَا لِغَيْرِكُمْ، فَكَذَا هَاهُنَا بِيَدِ الْوَلِيِّ عُقْدَةُ النِّكَاحِ لَا بِيَدِ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِيَدِ الْمَرْأَةِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا خِطَابٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا إِلَّا أَنَّ الْغَلَبَةَ لِلذُّكُورِ إِذَا اجْتَمَعُوا مَعَ الْإِنَاثِ، وَسَبَبُ التَّغْلِيبِ أَنَّ الذُّكُورَةَ أَصْلٌ وَالتَّأْنِيثَ فَرْعٌ فِي اللَّفْظِ وَفِي الْمَعْنَى أَمَّا فِي اللَّفْظِ فَلِأَنَّكَ تَقُولُ: قَائِمٌ. ثُمَّ تُرِيدُ التَّأْنِيثَ فَتَقُولُ: قَائِمَةٌ. فَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمُذَكَّرِ هُوَ الْأَصْلُ، وَالدَّالُّ عَلَى الْمُؤَنَّثِ فَرْعٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا فِي الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الْكَمَالَ لِلذُّكُورِ وَالنُّقْصَانَ لِلْإِنَاثِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ مَتَى اجْتَمَعَ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ كَانَ جَانِبُ التَّذْكِيرِ مُغَلَّبًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَوْضِعُ (أَنْ) رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالْعَفْوُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: عَفْوُ بَعْضِكُمْ عَنْ بَعْضٍ أَقْرَبُ إِلَى حُصُولِ مَعْنَى التَّقْوَى وَإِنَّمَا/ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ سَمَحَ بِتَرْكِ حَقِّهِ فَهُوَ مُحْسِنٌ، وَمَنْ كَانَ مُحْسِنًا فَقَدِ اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ، وَمَنِ اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ نَفَى بِذَلِكَ الثَّوَابِ مَا هُوَ دُونَهُ من العقاب وأزاله والثاني: أن هذه الصُّنْعَ يَدْعُوهُ إِلَى تَرْكِ الظُّلْمِ الَّذِي هُوَ التَّقْوَى فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ مَنْ سَمَحَ بِحَقِّهِ وَهُوَ لَهُ مُعْرَضٌ تَقَرُّبًا إِلَى رَبِّهِ كَانَ أبعد من أن يظلم غيره يأخذ مَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّهْيَ عَنِ النِّسْيَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي الْوُسْعِ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّرْكُ، فَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَتْرُكُوا الْفَضْلَ وَالْإِفْضَالَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَزَوَّجَ بِالْمَرْأَةِ فَقَدْ تَعَلَّقَ قَلْبُهَا بِهِ، فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَأَذِّيهَا مِنْهُ، وَأَيْضًا إِذَا كُلِّفَ الرَّجُلُ أَنْ يَبْذُلَ لَهَا مَهْرًا مِنْ غَيْرِ أَنِ انْتَفَعَ بِهَا الْبَتَّةَ صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَأَذِّيهِ مِنْهَا، فَنَدَبَ تَعَالَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى فِعْلٍ يُزِيلُ ذَلِكَ التَّأَذِّيَ عَنْ قَلْبِ الْآخَرِ، فَنَدَبَ الزَّوْجَ إِلَى أَنْ يُطَيِّبَ قَلْبَهَا بِأَنْ يُسَلِّمَ الْمَهْرَ إِلَيْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَنَدَبَ الْمَرْأَةَ إِلَى تَرْكِ الْمَهْرِ بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى التَّهْدِيدِ عَلَى الْعَادَةِ الْمَعْلُومَةِ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.

[سورة البقرة (2) : آية 238]

[سورة البقرة (2) : آية 238] حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) الْحُكْمُ السَّادِسَ عَشَرَ حُكْمُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصلاة الوسطى اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ لِلْمُكَلَّفِينَ مَا بَيَّنَ مِنْ مَعَالِمِ دِينِهِ، وَأَوْضَحَ لَهُمْ مِنْ شَرَائِعِ شَرْعِهِ أَمَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَذَلِكَ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّلَاةَ لِمَا فِيهَا مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ تُفِيدُ انْكِسَارَ الْقَلْبِ مِنْ هَيْبَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَزَوَالَ التَّمَرُّدِ عَنِ الطَّبْعِ، وَحُصُولَ الِانْقِيَادِ لِأَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى وَالِانْتِهَاءَ عَنْ مَنَاهِيهِ، كَمَا قَالَ: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [الْعَنْكَبُوتِ: 45] وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّلَاةَ تُذَكِّرُ الْعَبْدَ جَلَالَةَ الرُّبُوبِيَّةِ وَذِلَّةَ الْعُبُودِيَّةِ وَأَمْرَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْهُلُ عَلَيْهِ الِانْقِيَادُ لِلطَّاعَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [الْبَقَرَةِ: 45] وَالثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ اشْتِغَالٌ بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا، فَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ مَصَالِحُ الْآخِرَةِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ خَمْسَةٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا دَالَّةٌ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ يَدُلُّ عَلَى الثَّلَاثَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ أَزْيَدَ مِنَ الثَّلَاثَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّكْرَارُ، / وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، ثُمَّ ذَلِكَ الزَّائِدُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَرْبَعَةً، وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهَا وُسْطَى، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَنْضَمَّ إِلَى تِلْكَ الثَّلَاثَةِ عَدَدٌ آخَرُ يَحْصُلُ بِهِ لِلْمَجْمُوعِ وَسَطٌ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ خَمْسَةً، فَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْوُسْطَى مَا تَكُونُ وُسْطَى فِي الْعَدَدِ لَا مَا تَكُونُ وُسْطَى بِسَبَبِ الْفَضِيلَةِ وَنُبَيِّنُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَكِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَوْقَاتِهَا، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى تَفْصِيلِ الْأَوْقَاتِ أَرْبَعٌ: الْآيَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الرُّومِ: 17، 18] وَهَذِهِ الْآيَةُ أَبْيَنُ آيَاتِ الْمَوَاقِيتِ فَقَوْلُهُ: فَسُبْحانَ اللَّهِ أَيْ سَبِّحُوا اللَّهَ مَعْنَاهُ صَلُّوا لِلَّهِ حِينَ تُمْسُونَ، أَرَادَ بِهِ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَحِينَ تُصْبِحُونَ أَرَادَ صَلَاةَ الصُّبْحِ وَعَشِيًّا أَرَادَ بِهِ صَلَاةَ الْعَصْرِ وَحِينَ تُظْهِرُونَ صَلَاةَ الظُّهْرِ. الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ [الْإِسْرَاءِ: 78] أَرَادَ بِالدُّلُوكِ زَوَالَهَا فَدَخَلَ فِيهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ، والعشاء، ثم قال: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ أَرَادَ صَلَاةَ الصُّبْحِ. الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ [طه: 130] فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، لِأَنَّ الزَّمَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ قَبْلَ غُرُوبِهَا، فَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ دَاخِلَانِ فِي هَاتَيْنِ اللَّفْظَتَيْنِ. الْآيَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ [هُودٍ: 114] فَالْمُرَادُ بِطَرَفَيِ

النَّهَارِ: الصُّبْحُ، وَالْعَصْرُ، وَقَوْلُهُ: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَمَسَّكُ بِهِ فِي وُجُوبِ الْوَتْرِ، لِأَنَّ لَفْظَ زُلَفًا جَمْعٌ فَأَقَلُّهُ الثَّلَاثَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ أَمْرٌ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى جَمِيعِ شَرَائِطِهَا، أَعْنِي طَهَارَةَ الْبَدَنِ، وَالثَّوْبِ، وَالْمَكَانِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى جَمِيعِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ جَمِيعِ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ أَوْ مِنْ أَعْمَالِ اللِّسَانِ، أَوْ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَأَهَمُّ الْأُمُورِ فِي الصَّلَاةِ، رِعَايَةُ النِّيَّةِ فَإِنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الصَّلَاةِ، قَالَ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] فَمَنْ أَدَّى الصَّلَاةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ مُحَافِظًا عَلَى الصَّلَاةِ وَإِلَّا فَلَا. فَإِنْ قِيلَ: الْمُحَافَظَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ، كَالْمُخَاصَمَةِ، وَالْمُقَاتَلَةِ، فَكَيْفَ الْمَعْنَى هَاهُنَا؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْمُحَافَظَةَ تَكُونُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: احْفَظِ الصَّلَاةَ لِيَحْفَظَكَ الْإِلَهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِالصَّلَاةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 152] وَفِي الْحَدِيثِ: «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ» الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْمُحَافَظَةُ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَالصَّلَاةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: احْفَظِ الصَّلَاةَ/ حَتَّى تَحْفَظَكَ الصَّلَاةُ، وَاعْلَمْ أَنَّ حِفْظَ الصَّلَاةِ لِلْمُصَلِّي عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الصَّلَاةَ تَحْفَظُهُ عَنِ الْمَعَاصِي، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [الْعَنْكَبُوتِ: 45] فَمَنْ حَفِظَ الصَّلَاةَ حَفِظَتْهُ الصَّلَاةُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّلَاةَ تَحْفَظُهُ مِنَ الْبَلَايَا وَالْمِحَنِ، قَالَ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [الْبَقَرَةِ: 153] وَقَالَ تَعَالَى: وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ [الْمَائِدَةِ: 12] وَمَعْنَاهُ: إِنِّي مَعَكُمْ بِالنُّصْرَةِ وَالْحِفْظِ إِنْ كُنْتُمْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الصَّلَاةَ تَحْفَظُ صَاحِبَهَا وَتَشْفَعُ لِمُصَلِّيهَا، قَالَ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 110] وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا الْقِرَاءَةُ، وَالْقُرْآنُ يَشْفَعُ لِقَارِئِهِ، وَهُوَ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وَفِي الْخَبَرِ: «إِنَّهُ تَجِيءُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ كَأَنَّهُمَا عمامتان فَيَشْهَدَانِ وَيَشْفَعَانِ» وَأَيْضًا فِي الْخَبَرِ «سُورَةُ الْمُلْكِ تَصْرِفُ عَنِ الْمُتَهَجِّدِ بِهَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَتُجَادِلُ عَنْهُ فِي الْحَشْرِ وَتَقِفُ فِي الصِّرَاطِ عِنْدَ قَدَمَيْهِ وَتَقُولُ لِلنَّارِ لَا سَبِيلَ لَكِ عَلَيْهِ» وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى عَلَى سَبْعَةِ مَذَاهِبَ. فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا أَيُّ صَلَاةٍ هِيَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لِأَنَّهُ لَوْ بَيَّنَ ذَلِكَ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَهَا بِطَرِيقٍ قَطْعِيٍّ، أَوْ بِطَرِيقٍ ظَنِّيٍّ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ بَيَانٌ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، أَوْ بِطَرِيقٍ آخَرَ قَاطِعٍ، أَوْ خَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْبَيَانُ حَاصِلًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ عَدَدَ الصَّلَوَاتِ خَمْسٌ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرٌ لِأَوَّلِهَا وَآخِرِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَمْكَنَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا هِيَ الْوُسْطَى، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: بَيَانٌ حَصَلَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَوْ فِي خَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ، وَذَلِكَ مَفْقُودٌ، وَأَمَّا بَيَانُهُ بِالطَّرِيقِ الظَّنِّيِّ وَهُوَ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسُ فَغَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ الْمُفِيدَ لِلظَّنِّ مُعْتَبَرٌ فِي الْعَمَلِيَّاتِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى مَا هِيَ ثُمَّ قَالُوا: وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَصَّهَا بِمَزِيدِ التَّوْكِيدِ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْهَا جَوَّزَ الْمَرْءُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ يُؤَدِّيهَا أَنَّهَا هِيَ الْوُسْطَى فَيَصِيرُ ذَلِكَ دَاعِيًا إِلَى أَدَاءِ الْكُلِّ عَلَى نَعْتِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ أَخْفَى اللَّهُ تَعَالَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ، وَأَخْفَى

سَاعَةَ الْإِجَابَةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَأَخْفَى اسْمَهُ الْأَعْظَمَ فِي جَمِيعِ الْأَسْمَاءِ، وَأَخْفَى وَقْتَ الْمَوْتِ فِي الْأَوْقَاتِ لِيَكُونَ الْمُكَلَّفُ خَائِفًا مِنَ الْمَوْتِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، فَيَكُونُ آتِيًا بِالتَّوْبَةِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فَقَالَ: حَافِظْ عَلَى الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا تَصِبْهَا، وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ وَاحِدٌ عَنْهَا، فَقَالَ: يَا ابْنَ عَمِّ الْوُسْطَى وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ فَحَافِظْ عَلَى الْكُلِّ تَكُنْ مُحَافِظًا عَلَى الْوُسْطَى ثُمَّ قَالَ الرَّبِيعُ: لَوْ عَلِمْتَهَا بِعَيْنِهَا لَكُنْتَ مُحَافِظًا لَهَا وَمُضَيِّعًا لِسَائِرِهِنَّ، قَالَ السَّائِلُ: لَا قَالَ الرَّبِيعُ: فَإِنْ حَافَظْتَ عَلَيْهِنَّ فَقَدْ حَافَظْتَ عَلَى الْوُسْطَى. الْقَوْلُ الثَّانِي: هِيَ مَجْمُوعُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْخَمْسَةَ هِيَ الْوُسْطَى مِنَ الطَّاعَاتِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْإِيمَانَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ دَرَجَةً، أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَاتُ دُونَ الْإِيمَانِ وَفَوْقَ إِمَاطَةِ الْأَذَى فَهِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنَ الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعُمْرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، وَمِنَ التَّابِعِينَ قَوْلُ طَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ تُصَلَّى فِي الْغَلَسِ فَأَوَّلُهَا يَقَعُ فِي الظَّلَامِ فَأَشْبَهَتْ صَلَاةَ اللَّيْلِ، وَآخِرُهَا يَقَعُ فِي الضَّوْءِ فَأَشْبَهَتْ صَلَاةَ النَّهَارِ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ تُؤَدَّى بَعْدَ طُلُوعِ الصُّبْحِ، وَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الزَّمَانِ لَا تَكُونُ الظُّلْمَةُ فِيهِ تَامَّةً، وَلَا يَكُونُ الضَّوْءُ أَيْضًا تَامًّا، فَكَأَنَّهُ لَيْسَ بِلَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ فَهُوَ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُمَا الثَّالِثُ: أَنَّهُ حَصَلَ فِي النَّهَارِ التَّامِّ صَلَاتَانِ: الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، وَفِي اللَّيْلِ صَلَاتَانِ: الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، وَصَلَاةُ الصُّبْحِ كَالْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ صَلَاتَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الْمَعَانِي حَاصِلَةٌ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ قُلْنَا: إِنَّا نُرَجِّحُ صَلَاةَ الصُّبْحِ عَلَى الْمَغْرِبِ بِكَثْرَةِ فَضَائِلِ صَلَاةِ الصُّبْحِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّابِعُ: أَنَّ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ يُجْمَعَانِ بِعَرَفَةَ بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي السَّفَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، وَأَمَّا صَلَاةُ الْفَجْرِ فَهِيَ مُنْفَرِدَةٌ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَكَانَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَقْتًا وَاحِدًا وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَقْتًا وَاحِدًا، وَوَقْتُ الْفَجْرِ مُتَوَسِّطًا بَيْنَهُمَا، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَتَحْقِيقُ هَذَا الِاحْتِجَاجِ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: فُلَانٌ وَسَطٌ، إِذَا لَمْ يَمِلْ إِلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، فَكَانَ مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ عَنْهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الْإِسْرَاءِ: 78] وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهَا مَشْهُودًا لِأَنَّهَا تُؤَدَّى بِحَضْرَةِ مَلَائِكَةِ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةِ النَّهَارِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْرَدَ صَلَاةَ الْفَجْرِ بِالذِّكْرِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى مَزِيدِ فَضْلِهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى بِمَزِيدِ التَّأْكِيدِ، فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهَا أَفْضَلُ بِتِلْكَ الْآيَةِ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُرَادَ بِالتَّأْكِيدِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَعَاقَبُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَلَا تَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ إِلَّا صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَثَبَتَ أَنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ قَدْ أَخَذَتْ بِطَرَفَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَكَانَتْ كَالشَّيْءِ الْمُتَوَسِّطِ السَّادِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ قَرَنَ هَذِهِ الصَّلَاةَ بِذِكْرِ الْقُنُوتِ، وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ صَلَاةٌ ثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ الصِّحَاحِ الْقُنُوتُ فِيهَا إِلَّا الصُّبْحُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ الْوُسْطَى هِيَ صَلَاةُ الصُّبْحِ السَّابِعُ: لَا شَكَّ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَفْرَدَهَا بِالذِّكْرِ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ أَحْوَجُ/ الصَّلَوَاتِ إِلَى التَّأْكِيدِ، إِذْ ليس في

الصَّلَاةِ أَشَقُّ مِنْهَا، لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى النَّاسِ فِي أَلَذِّ أَوْقَاتِ النَّوْمِ، حَتَّى إِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يُسَمُّونَ نَوْمَ الْفَجْرِ الْعُسَيْلَةَ لِلَذَّتِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَرْكَ النَّوْمِ اللَّذِيذِ الطَّيِّبِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالْعُدُولَ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْبَارِدِ، وَالْخُرُوجَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَالتَّأَهُّبَ لِلصَّلَاةِ شَاقٌّ صَعْبٌ عَلَى النَّفْسِ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ الْوُسْطَى إِذْ هِيَ أَشَدُّ الصَّلَوَاتِ حَاجَةً إِلَى التَّأْكِيدِ الثَّامِنُ: أَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةَ الصُّبْحِ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهَا أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ [آلِ عِمْرَانَ: 17] فَجَعَلَ خَتْمَ طَاعَاتِهِمُ الشَّرِيفَةِ وَعِبَادَاتِهِمُ الْكَامِلَةِ بِذِكْرِ كَوْنِهِمْ مُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ، ثُمَّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الِاسْتِغْفَارِ هُوَ أَدَاءَ الْفَرْضِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَاكِيًا عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى «لَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَيَّ الْمُتَقَرِّبُونَ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ» وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ أَفْضَلَ الطَّاعَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ هُوَ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَثَانِيهَا: مَا رُوِيَ فِيهَا أَنَّ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى مِنْهَا مَعَ الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ مَخْصُوصَةٌ بِالْأَذَانِ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَمَرَّةً أُخْرَى بَعْدَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمَرَّةِ الْأُولَى إِيقَاظُ النَّاسِ حَتَّى يَقُومُوا وَيَتَشَمَّرُوا لِلْوُضُوءِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا بِأَسْمَاءٍ، فَقَالَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الْإِسْرَاءِ: 78] وَقَالَ فِي النُّورِ: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ [النُّورِ: 58] وَقَالَ فِي الرُّومِ: وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الرُّومِ: 17] وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِدْبارَ النُّجُومِ [الطُّورِ: 49] صَلَاةُ الْفَجْرِ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِهِ فَقَالَ: وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ [الْفَجْرِ: 1، 2] وَلَا يُعَارَضُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [الْعَصْرِ: 1، 2] فَإِنَّا إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقَسَمُ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ لَكِنْ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ تأكيد، وهو قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هُودٍ: 114] وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا التَّأْكِيدَ لَمْ يُوجَدْ فِي الْعَصْرِ وَسَادِسُهَا: أَنَّ التَّثْوِيبَ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ مُعْتَبَرٌ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْحَيْعَلَتَيْنِ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّأْكِيدِ غَيْرُ حَاصِلٍ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَسَابِعُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَامَ مِنْ مَنَامِهِ فَكَأَنَّهُ كَانَ مَعْدُومًا، ثُمَّ صَارَ مَوْجُودًا، أَوْ كَانَ مَيِّتًا، ثُمَّ صَارَ حَيًّا، بَلْ كَأَنَّ الْخَلْقَ كَانُوا فِي اللَّيْلِ كُلُّهُمْ أَمْوَاتًا، فَصَارُوا أَحْيَاءً، فَإِذَا قَامُوا مِنْ مَنَامِهِمْ وَشَاهَدُوا هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ مِنْ كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ حَيْثُ أَزَالَ عَنْهُمْ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةَ النَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ، وَظُلْمَةَ العجز والخيرة، وَأَبْدَلَ الْكُلَّ بِالْإِحْسَانِ، فَمَلَأَ الْعَالَمَ مِنَ النُّورِ، وَالْأَبْدَانَ مِنْ قُوَّةِ الْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ أَلْيَقُ الْأَوْقَاتِ بِأَنْ يَشْتَغِلَ الْعَبْدُ بِأَدَاءِ الْعُبُودِيَّةِ، وَإِظْهَارِ الْخُضُوعِ وَالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ، فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْبَيَانَاتِ أَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ، فَكَانَ حَمْلُ الْوُسْطَى عَلَيْهَا أَوْلَى التَّاسِعُ: مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، فَقَالَ: كُنَّا نَرَى أَنَّهَا الْفَجْرُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ/ هِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى الْعَاشِرُ: أَنَّ سُنَنَ الصُّبْحِ آكَدُ مِنْ سَائِرِ السُّنَنِ فَفَرْضُهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنْ سَائِرِ الْفُرُوضِ فَصَرْفُ التَّأْكِيدِ إِلَيْهَا أَوْلَى، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ صَلَاةُ الصُّبْحِ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا صَلَاةُ الظُّهْرِ، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ وَزَيْدٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الظُّهْرَ كَانَ شَاقًّا عَلَيْهِمْ لِوُقُوعِهِ فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ وَشِدَّةِ الْحَرِّ فَصَرْفُ الْمُبَالَغَةِ إِلَيْهِ أَوْلَى، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ

يُصَلِّي بِالْهَاجِرَةِ، وَكَانَتْ أَثْقَلَ الصَّلَوَاتِ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَرُبَّمَا لَمْ يَكُنْ وَرَاءَهُ إِلَّا الصَّفُّ وَالصَّفَّانِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُحَرِّقَ عَلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ بُيُوتَهُمْ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالثَّانِي: صَلَاةُ الظُّهْرِ تَقَعُ وَسَطَ النَّهَارِ وَلَيْسَ فِي الْمَكْتُوبَاتِ صَلَاةٌ تَقَعُ فِي وَسَطِ اللَّيْلِ أَوِ النَّهَارِ غَيْرُهَا وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا بَيْنَ صَلَاتَيْنِ نَهَارِيَّتَيْنِ: الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ الرَّابِعُ: أَنَّهَا صَلَاةٌ بَيْنَ الْبَرْدَيْنِ: بَرْدُ الْغَدَاةِ وَبَرْدُ الْعَشِيِّ الْخَامِسُ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: صَلَّيْتُ مَعَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ، فَلَمَّا فَرَغُوا سَأَلْتُهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، فَقَالُوا الَّتِي صَلَّيْتَهَا السَّادِسُ: رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَقْرَأُ «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ» وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهَا عَطَفَتْ صَلَاةَ الْعَصْرِ عَلَى الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْمَعْطُوفِ، وَالَّتِي قَبْلَ الْعَصْرِ هِيَ الظَّهْرُ السَّابِعُ: رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا كَانُوا عِنْدَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَأَرْسَلُوا إِلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَسَأَلُوهُ عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، فَقَالَ: هِيَ صَلَاةُ الظُّهْرِ كَانَتْ تُقَامُ فِي الْهَاجِرَةِ الثَّامِنُ: رُوِيَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ أَوَّلَ إِمَامَةِ جِبْرِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهَا أَشْرَفُ الصَّلَوَاتِ، فَكَانَ صَرْفُ التَّأْكِيدِ إِلَيْهَا أَوْلَى التَّاسِعُ: أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ هِيَ أَشْرَفُ الصَّلَوَاتِ، وَهِيَ صَلَاةُ الظُّهْرِ، فَصَرْفُ الْمُبَالَغَةِ إِلَيْهَا أَوْلَى. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلَيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: النَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: مَا رُوِيَ عَنْ عَلَيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا» وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ عَظِيمُ الْوَقْعِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ» وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَجَابَ عَنْهُ فَقَالَ: الْعَصْرُ وَسَطٌ، وَلَكِنْ ليس هي المذكورة في القرآن، فههنا صَلَاتَانِ وَسَطِيَّانِ الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ، وَأَحَدُهُمَا ثَبَتَ بِالْقُرْآنِ وَالْآخَرُ بِالسُّنَّةِ، كَمَا أَنَّ الْحَرَمَ حَرَمَانِ: حَرَمُ مَكَّةَ بِالْقُرْآنِ، وَحَرَمُ الْمَدِينَةِ بِالسُّنَّةِ، وَهَذَا الْجَوَابُ مُتَكَلَّفٌ/ جِدًّا الثَّانِي: قَالُوا رُوِيَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنَ التَّأْكِيدِ مَا لَمْ يُرْوَ فِي غَيْرِهَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ فَاتَهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وَتَرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» وَأَيْضًا أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فَقَالَ: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [الْعَصْرِ: 1، 2] فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا أَحَبُّ السَّاعَاتِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَصْرَ بِالتَّأْكِيدِ أَوْلَى مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى سَائِرِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ أَخَفُّ وَأَسْهَلُ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَقْتَ صَلَاةِ الْعَصْرِ أَخْفَى الْأَوْقَاتِ، لِأَنَّ دُخُولَ صَلَاةِ الْفَجْرِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الْمُسْتَطِيرِ ضوؤه، وَدُخُولَ الظُّهْرِ بِظُهُورِ الزَّوَالِ، وَدُخُولَ الْمَغْرِبِ بِغُرُوبِ الْقُرْصِ وَدُخُولَ الْعِشَاءِ بِغُرُوبِ الشَّفَقِ، أَمَّا صَلَاةُ الْعَصْرِ فَلَا يَظْهَرُ دُخُولُ وَقْتِهَا إِلَّا بِنَظَرٍ دَقِيقٍ وَتَأَمُّلٍ عَظِيمٍ فِي حَالِ الظِّلِّ، فَلَمَّا كَانَتْ مَعْرِفَتُهُ أَشَقَّ لَا جَرَمَ كَانَتِ الْفَضِيلَةُ فِيهَا أَكْثَرَ الثَّانِي: أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ عِنْدَ الْعَصْرِ يَكُونُونَ مُشْتَغِلِينَ بِالْمُهِمَّاتِ، فَكَانَ الْإِقْبَالُ عَلَى الصَّلَاةِ أَشَقَّ، فَكَانَ صَرْفُ التَّأْكِيدِ إِلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ أَوْلَى. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: فِي أَنَّ الْوُسْطَى هِيَ الْعَصْرُ أَشْبَهُ بِالصَّلَاةِ الْوُسْطَى لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهَا مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ صَلَاةٍ هِيَ شَفْعٌ، وَبَيْنَ صَلَاةٍ هِيَ وَتْرٌ، أَمَّا الشَّفْعُ فَالظُّهْرُ، وَأَمَّا الْوَتْرُ فَالْمَغْرِبُ، إِلَّا أَنَّ الْعِشَاءَ أَيْضًا كَذَلِكَ، لِأَنَّ قَبْلَهَا الْمَغْرِبَ وَهِيَ وَتْرٌ، وَبَعْدَهَا الصُّبْحُ وَهُوَ شَفْعٌ وَثَانِيهَا: الْعَصْرُ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ صَلَاةٍ نَهَارِيَّةٍ وَهِيَ الظُّهْرُ، وَلَيْلِيَّةٍ وَهِيَ الْمَغْرِبُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْعَصْرَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ بِاللَّيْلِ وَصَلَاتَيْنِ بِالنَّهَارِ.

وَالْقَوْلُ السَّادِسُ: أَنَّهَا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، وَهُوَ قَوْلُ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ، وَقَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا بَيْنَ بَيَاضِ النَّهَارِ وَسَوَادِ اللَّيْلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ حَاصِلًا فِي الصُّبْحِ إِلَّا أَنَّ الْمَغْرِبَ يَرْجُحُ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ أَزْيَدُ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ كَمَا فِي الصُّبْحِ، وَأَقَلُّ مِنَ الْأَرْبَعِ كَمَا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ، فَهِيَ وَسَطٌ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ تُسَمَّى بِالصَّلَاةِ الْأُولَى، وَلِذَلِكَ ابْتَدَأَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بإمامة فِيهَا، وَإِذَا كَانَ الظُّهْرُ أَوَّلَ الصَّلَوَاتِ كَانَ الْوُسْطَى هِيَ الْمَغْرِبَ لَا مَحَالَةَ. الْقَوْلُ السَّابِعُ: أَنَّهَا صَلَاةُ الْعِشَاءِ، قَالُوا لِأَنَّهَا مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ لَا يُقْصَرَانِ، الْمَغْرِبُ وَالصُّبْحُ، وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ لَيْلَةٍ» فَهَذَا مَجْمُوعُ دَلَائِلِ النَّاسِ وَأَقْوَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ تَرَكْتُ تَرْجِيحَ بَعْضِهَا فَإِنَّهُ يَسْتَدْعِي تَطْوِيلًا عَظِيمًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، قَالَ: الْوِتْرُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَانَتِ الصَّلَوَاتُ الْوَاجِبَةُ سِتَّةً، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا حَصَلَ لَهَا وُسْطَى، وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى حُصُولِ الْوُسْطَى لَهَا. فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِدْلَالُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْوُسْطَى فِي الْعَدَدِ وَهَذَا مَمْنُوعٌ بَلِ الْمُرَادُ مِنَ الْوُسْطَى الْفَضِيلَةُ قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَةِ: 143] أَيْ عُدُولًا وَقَالَ تَعَالَى: قالَ أَوْسَطُهُمْ [الْقَلَمِ: 28] أَيْ أَعْدَلُهُمْ، وَقَدْ أَحْكَمْنَا هَذَا الِاشْتِقَاقَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً وَأَيْضًا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْوُسْطَى فِي الْمِقْدَارِ كَالْمَغْرِبِ فَإِنَّهُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ وَهُوَ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ وَبَيْنَ الْأَرْبَعِ، وَأَيْضًا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْوُسْطَى فِي الصِّفَةِ وَهِيَ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَإِنَّهَا تَقَعُ فِي وَقْتٍ لَيْسَ بِغَايَةٍ فِي الظُّلْمَةِ وَلَا غَايَةٍ فِي الضَّوْءِ. الْجَوَابُ: أَنَّ الْخُلُقَ الْفَاضِلَ إِنَّمَا يُسَمَّى وَسَطًا لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ خُلُقٌ فَاضِلٌ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَكُونُ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ رَذِيلَتَيْنِ هُمَا طَرَفَا الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، مِثْلُ الشَّجَاعَةِ فَإِنَّهَا خُلُقٌ فَاضِلٌ وَهِيَ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْجُبْنِ وَالتَّهَوُّرِ فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْأَمْرِ إِلَى أَنَّ لَفْظَ الْوَسَطِ حَقِيقَةٌ فِيمَا يَكُونُ وَسَطًا بِحَسَبَ الْعَدَدِ وَمَجَازٌ فِي الْخُلُقِ الْحَسَنِ وَالْفِعْلِ الْحَسَنِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا وَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ. أَمَّا قَوْلُهُ: نَحْمِلُهُ عَلَى مَا يَكُونُ وَسَطًا فِي الزَّمَانِ وَهُوَ الظُّهْرُ. فَجَوَابُهُ: إِنَّ الظُّهْرَ لَيْسَتْ بِوَسَطٍ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّهَا تُؤَدَّى بَعْدَ الزَّوَالِ، وَهُنَا قَدْ زَالَ الْوَسَطُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: نَحْمِلُهُ عَلَى الصُّبْحِ لِكَوْنِ وَقْتِ وُجُوبِهِ وَسَطًا بَيْنَ وَقْتِ الظُّلْمَةِ وَبَيْنَ وَقْتِ النُّورِ، أَوْ عَلَى الْمَغْرِبِ لِكَوْنِ عَدَدِهَا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الِاثْنَيْنِ وَالْأَرْبَعَةِ. فَجَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا مُحْتَمَلٌ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْكُلِّ فَهَذَا هُوَ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِحَسَبَ الْإِمْكَانِ والله أعلم.

[سورة البقرة (2) : آية 239]

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْقُنُوتَ هُوَ الدُّعَاءُ وَالذِّكْرُ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ أَمْرٌ بِمَا فِي الصَّلَاةِ مِنَ الْفِعْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ الْقُنُوتُ عَلَى كُلِّ مَا فِي الصَّلَاةِ مِنَ الذِّكْرِ، فَمَعْنَى الْآيَةِ: وَقُومُوا لِلَّهِ ذَاكِرِينَ دَاعِينَ مُنْقَطِعِينَ إِلَيْهِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْقُنُوتِ هُوَ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً [الزُّمَرِ: 9] وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِالْقُنُوتِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْوِتْرِ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَنَتَ عَلَيَّ فُلَانٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الدُّعَاءُ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قانِتِينَ أَيْ مُطِيعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ، الدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ قُنُوتٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ الطَّاعَةُ» الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَزْوَاجِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاءِ: 34] وَقَالَ فِي كُلِّ النِّسَاءِ: فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ [النِّسَاءِ: 34] / فَالْقُنُوتُ عِبَارَةٌ عَنْ إِكْمَالِ الطَّاعَةِ وَإِتْمَامِهَا، وَالِاحْتِرَازُ عَنْ إِيقَاعِ الْخَلَلِ فِي أَرْكَانِهَا وَسُنَنِهَا وَآدَابِهَا، وَهُوَ زَجْرٌ لِمَنْ لَمْ يُبَالِ كَيْفَ صَلَّى فَخَفَّفَ وَاقْتَصَرَ عَلَى مَا يُجْزِئُ وَذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لِلَّهِ إِلَى صَلَاةِ الْعِبَادِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ رَأْسًا، لِأَنَّهُ يُقَالُ: كَمَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْكَثِيرِ مِنْ عِبَادَتِنَا، فَكَذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْقَلِيلِ وَقَدْ صَلَّى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرُّسُلُ وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ فَأَطَالُوا وَأَظْهَرُوا الْخُشُوعَ وَالِاسْتِكَانَةَ وَكَانُوا أَعْلَمَ بِاللَّهِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قانِتِينَ سَاكِتِينَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ فَيُسَلِّمُ الرَّجُلُ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ، وَيَسْأَلُهُمْ: كَمْ صَلَّيْتُمْ؟ كَفِعْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَنَزَّلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ: الْقُنُوتُ عِبَارَةٌ عَنِ الْخُشُوعِ، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ وَسُكُونِ الْأَطْرَافِ وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ مِنْ هَيْبَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يَهَابُ رَبَّهُ فَلَا يَلْتَفِتُ وَلَا يقلب الحصى، ولا يبعث بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ، وَلَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَنْصَرِفَ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: الْقُنُوتُ هُوَ الْقِيَامُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ طُولُ الْقُنُوتِ» يُرِيدُ طُولَ الْقِيَامِ، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي ضَعِيفٌ، وَإِلَّا صَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَقُومُوا لِلَّهِ قَائِمِينَ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: وَقُومُوا لِلَّهِ مُدِيمِينَ لِذَلِكَ الْقِيَامِ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الْقُنُوتُ مُفَسَّرًا بِالْإِدَامَةِ لَا بِالْقِيَامِ. الْقَوْلُ السَّادِسُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى: أَنَّ الْقُنُوتَ عِبَارَةٌ عَنِ الدَّوَامِ عَلَى الشَّيْءِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ وَالْمُلَازَمَةِ لَهُ وَهُوَ فِي الشَّرِيعَةِ صَارَ مُخْتَصًّا بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى خِدْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَقُومُوا لِلَّهِ مُدِيمِينَ عَلَى ذَلِكَ الْقِيَامِ فِي أَوْقَاتِ وُجُوبِهِ وَاسْتِحْبَابِهِ والله تعالى أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 239] فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالْقِيَامَ عَلَى أَدَائِهَا بِأَرْكَانِهَا وَشُرُوطِهَا، بَيَّنَ مِنْ بَعْدُ أَنَّ هَذِهِ الْمُحَافَظَةَ عَلَى هَذَا الْحَدِّ لَا تَجِبُ إِلَّا مَعَ الْأَمْنِ دُونَ الخوف، فقال: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا/ أَوْ رُكْباناً وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُرْوَى فَرِجالًا بِضَمِّ الرَّاءِ ورجالا بالتشديد ورجلا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعْنَى الْآيَةِ: فَإِنْ خِفْتُمْ عَدُوًّا فَحَذَفَ الْمَفْعُولَ لِإِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِهِ، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: فَإِنْ كَانَ بِكُمْ خَوْفٌ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ غَيْرِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ ثَابِتٌ عِنْدَ حُصُولِ الْخَوْفِ، سَوَاءٌ كَانَ الْخَوْفُ مِنَ الْعَدُوِّ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَوَاتَ الْوَقْتِ إِنْ أَخَّرْتُمُ الصَّلَاةَ إِلَى أَنْ تَفْرُغُوا مِنْ حَرْبِكُمْ فَصَلُّوا رِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ فَرْضِ الْوَقْتِ حَتَّى يُتَرَخَّصَ لِأَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ بِتَرْكِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الرِّجَالِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: رِجَالًا جَمْعُ رَاجِلٍ مِثْلَ تِجَارٍ وَتَاجِرٍ وَصِحَابٍ وَصَاحِبٍ وَالرَّاجِلُ هُوَ الْكَائِنُ عَلَى رِجْلِهِ مَاشِيًا كَانَ أَوْ وَاقِفًا وَيُقَالُ فِي جَمْعِ رَاجِلٍ: رَجُلٌ وَرِجَالَةٌ وَرِجَّالَةٌ وَرِجَالٌ وَرِجَّالٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ الْجَمْعِ، لِأَنَّ رَاجِلًا يُجْمَعُ عَلَى رَاجِلٍ، ثُمَّ يُجْمَعُ رَجُلٌ عَلَى رِجَالٍ، وَالرُّكَبَانُ جَمْعُ رَاكِبٍ، مِثْلُ فُرْسَانٍ وَفَارِسٍ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَيُقَالُ إِنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ رَاكِبٌ لِمَنْ كَانَ عَلَى جَمَلٍ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى فَرَسٍ فَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ فَارِسٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: رِجَالًا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَصَلُّوا رِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: صَلَاةُ الْخَوْفِ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَالثَّانِي: فِي غَيْرِ حَالِ الْقِتَالِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النِّسَاءِ: 102] وَفِي سِيَاقِ الْآيَتَيْنِ بَيَانُ اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا الْتَحَمَ الْقِتَالُ وَلَمْ يُمْكِنْ تَرْكُ الْقِتَالِ لِأَحَدٍ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ رُكْبَانًا عَلَى دَوَابِّهِمْ وَمُشَاةً عَلَى أَقْدَامِهِمْ إِلَى الْقِبْلَةِ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ يُومِئُونَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَيَجْعَلُونَ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ وَيَحْتَرِزُونَ عَنِ الصَّيْحَاتِ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُصَلِّي الْمَاشِي بَلْ يُؤَخِّرُ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً يَعْنِي مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا قَالَ نَافِعٌ: لَا أَرَى ابْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْخَوْفَ الَّذِي تَجُوزُ مَعَهُ الصَّلَاةُ مَعَ التَّرَجُّلِ وَالْمَشْيِ وَمَعَ الرُّكُوبِ وَالرَّكْضِ لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ، فَصَارَ قَوْلُهُ: فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً يَدُلُّ عَلَى التَّرَخُّصِ/ فِي تَرْكِ التَّوَجُّهِ، وَأَيْضًا يَدُلُّ عَلَى التَّرَخُّصِ فِي تَرْكِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إِلَى الْإِيمَاءِ لِأَنَّ مَعَ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ مِنَ الْعَدُوِّ لَا يَأْمَنُ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ إِنْ وَقَفَ فِي مَكَانِهِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَصَحَّ بِمَا ذَكَرْنَا دَلَالَةُ رِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا عَلَى جَوَازِ تَرْكِ الِاسْتِقْبَالِ، وَعَلَى جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِالْإِيمَاءِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلْنَتَكَلَّمْ فِيمَا يَسْقُطُ عَنْهُ وَفِيمَا لَا يَسْقُطُ، فَنَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ الصَّلَاةَ إِنَّمَا تَتِمُّ بِمَجْمُوعِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا: فِعْلُ الْقَلْبِ وَهُوَ النِّيَّةُ، وَذَلِكَ لَا يَسْقُطُ لِأَنَّهُ لَا يَتَبَدَّلُ حَالُ الْخَوْفِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَالثَّانِي: فِعْلُ اللِّسَانِ

وَهِيَ الْقِرَاءَةُ، وَهِيَ لَا تَسْقُطُ عِنْدَ الْخَوْفِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَكَلَّمَ حَالَ الصَّلَاةِ بِكَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ، أَوْ يَأْتِيَ بِصَيْحَاتٍ لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهَا وَالثَّالِثُ: أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ فَنَقُولُ: أَمَّا الْقِيَامُ وَالْقُعُودُ فَسَاقِطَانِ عَنْهُ لَا مَحَالَةَ وَأَمَّا الِاسْتِقْبَالُ فَسَاقِطٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَأَمَّا الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فَالْإِيمَاءُ قَائِمٌ مَقَامَهُمَا، فَيَجِبُ أَنْ يَجْعَلَ الْإِيمَاءَ النَّائِبَ عَنِ السُّجُودِ أَخْفَضَ مِنَ الْإِيمَاءِ النَّائِبِ عَنِ الرُّكُوعِ، لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مُمْكِنٌ، وَأَمَّا تَرْكُ الطَّهَارَةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَجْلِ الْخَوْفِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّطْهِيرُ بِالْمَاءِ أَوِ التُّرَابِ، إِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ وَامْتَنَعَ عليه التوضي بِهِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ بِالْغُبَارِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مِنْهُ حَالَ رُكُوبِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ خَوْفُ الْعَطَشِ يُرَخِّصُ التَّيَمُّمَ، فَالْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ أَوْلَى أَنَّ يُرَخِّصَ فِي ذَلِكَ، فَهَذَا تَفْصِيلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَبِالْجُمْلَةِ فَاعْتِمَادُهُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَوَجَبَ عَلَيْنَا ذَلِكَ أَيْضًا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ يَوْمَ الْخَنْدَقِ لَمْ يَبْلُغِ الْخَوْفُ هَذَا الْحَدَّ وَمَعَ ذلك فإنه صلى الله عليه وسلّم أخرى الصَّلَاةَ فَعَلِمْنَا كَوْنَ هَذِهِ الْآيَةِ نَاسِخَةً لِذَلِكَ الْفِعْلِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْخَوْفِ الَّذِي يُفِيدُ هَذِهِ الرُّخْصَةَ وَطَرِيقُ الضَّبْطِ أَنْ نَقُولَ: الْخَوْفُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْقِتَالِ، أَوْ فِي غَيْرِ الْقِتَالِ، أَمَّا الْخَوْفُ فِي الْقِتَالِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي قِتَالٍ وَاجِبٍ، أَوْ مُبَاحٍ، أَوْ مَحْظُورٍ، أَمَّا الْقِتَالُ الْوَاجِبُ فَهُوَ كَالْقِتَالِ مَعَ الْكُفَّارِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَفِيهِ نَزَلَتِ الْآيَةُ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ قِتَالُ أَهْلِ الْبَغْيِ، قَالَ تَعَالَى: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ [الْحُجُرَاتِ: 9] وَأَمَّا الْقِتَالُ الْمُبَاحُ فَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْمَحَاسِنِ الطَّبَرِيُّ فِي كِتَابِ شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ: إِنَّ دَفْعَ الْإِنْسَانِ عَنْ نَفْسِهِ مُبَاحٌ غَيْرُ وَاجِبٍ بِخِلَافِ مَا إِذَا قَصَدَ الْكَافِرُ نَفْسَهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الدَّفْعُ لِئَلَّا يَكُونَ إِخْلَالًا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا الْقِتَالُ فِي الدَّفْعِ عَنِ النَّفْسِ وَفِي الدَّفْعِ عَنْ كُلِّ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ صَلَاةُ الْخَوْفِ، أَمَّا قَصْدُ أَخْذِ مَالِهِ، أَوْ إِتْلَافِ حَالِهِ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ شِدَّةِ/ الْخَوْفِ، فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَصَحُّ أَنْ يَجُوزَ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الدَّفْعَ عَنِ الْمَالِ كَالدَّفْعِ عَنِ النَّفْسِ وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الزَّوْجِ أَعْظَمُ، أَمَّا الْقِتَالُ الْمَحْظُورُ فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ فِيهِ صَلَاةُ الْخَوْفِ، لِأَنَّ هَذَا رُخْصَةٌ وَالرُّخْصَةُ إِعَانَةٌ وَالْعَاصِي لَا يَسْتَحِقُّ الْإِعَانَةَ، أَمَّا الْخَوْفُ الْحَاصِلُ لَا فِي الْقِتَالِ، كَالْهَارِبِ مِنَ الْحَرْقِ وَالْغَرَقِ وَالسَّبُعِ وَكَذَا الْمُطَالِبِ بِالدِّينِ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا خَائِفًا مِنَ الْحَبْسِ، عَاجِزًا عَنْ بَيِّنَةِ الْإِعْسَارِ، فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا هَذِهِ الصَّلَاةَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْخَوْفُ مِنَ الْعَدُوِّ حَالَ الْمُقَاتَلَةِ. قُلْنَا: هَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ هُنَاكَ دفعا للضرر، وهذا المعنى قائم هاهنا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مَشْرُوعًا وَاللَّهُ أعلم. المسألة السابعة: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فَرَضَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمُ الصَّلَاةَ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعٌ، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَانِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْخَوْفِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ مَتْرُوكٌ.

[سورة البقرة (2) : آية 240]

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَالْمَعْنَى بِزَوَالِ الْخَوْفِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ وَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: فَاذْكُرُوا بِمَعْنَى فَافْعَلُوا الصَّلَاةَ كَمَا عَلَّمَكُمْ بِقَوْلِهِ: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [الْبَقَرَةِ: 238] وَكَمَا بَيَّنَهُ بِشُرُوطِهِ وَأَرْكَانِهِ، لِأَنَّ سَبَبَ الرُّخْصَةِ إِذَا زَالَ عَادَ الْوُجُوبُ فِيهِ كَمَا كَانَ مِنْ قَبْلُ، وَالصَّلَاةُ قَدْ تُسَمَّى ذِكْرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الْجُمُعَةِ: 9] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فَاذْكُرُوا اللَّهَ أَيْ فَاشْكُرُوهُ لِأَجْلِ إِنْعَامِهِ عَلَيْكُمْ بِالْأَمْنِ، طَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْقَوْلِ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الذِّكْرَ لَمَّا كَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ حُصُولُ الْأَمْنِ بَعْدَ الْخَوْفِ لَمْ يَكُنْ حَمْلُهُ عَلَى ذِكْرٍ يَلْزَمُ مَعَ الْخَوْفِ وَالْأَمْنِ جَمِيعًا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعَ الْخَوْفِ يَلْزَمُ الشُّكْرُ، كَمَا يَلْزَمُ مَعَ الْأَمْنِ، لِأَنَّ فِي كِلَا الْحَالَيْنِ نِعْمَةَ الله تعالى متصلة، والخوف هاهنا مِنْ جِهَةِ الْكُفَّارِ لَا مِنْ جِهَتِهِ تَعَالَى، فَالْوَاجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عَلَى ذِكْرٍ يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْحَالَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ الصَّلَاةُ وَالشُّكْرُ جَمِيعًا، لِأَنَّ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الشُّكْرِ مُحَدَّدٌ يَلْزَمُ فِعْلُهُ مَعَ فِعْلِ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَما عَلَّمَكُمْ فَبَيَانُ إِنْعَامِهِ عَلَيْنَا بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّعْرِيفِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ تَعَالَى، وَلَوْلَا هِدَايَتُهُ لَمْ نَصِلْ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَنَا فَسَّرُوا هَذَا التَّعْلِيمَ بِخَلْقِ الْعِلْمِ وَالْمُعْتَزِلَةُ فَسُّرُوهُ بِوَضْعِ الدَّلَائِلِ، وَفِعْلِ الْأَلْطَافِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قَبْلَ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم من زمان الجهالة والضلالة. [سورة البقرة (2) : آية 240] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) الحكم السابع عشر الوفاة فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَصِيَّةٌ بِالرَّفْعِ، وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ، أَمَّا الرَّفْعُ فَفِيهِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَصِيَّةٌ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلَهُ: لِأَزْواجِهِمْ خَبَرٌ، وَحَسُنَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ، لِأَنَّهَا مُتَخَصِّصَةٌ بِسَبَبِ تَخْصِيصِ الْمَوْضِعِ، كَمَا حَسُنَ قَوْلُهُ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَخَيْرٌ بَيْنَ يَدَيْكَ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مُبْتَدَأً، وَيُضْمَرُ لَهُ خَبَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ فَعَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ لِأَزْوَاجِهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [الْبَقَرَةِ: 237] ، فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ [النِّسَاءِ: 92] ، فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [الْمَائِدَةِ: 89] وَالثَّالِثُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: الْأَمْرُ وَصِيَّةٌ، أَوِ الْمَفْرُوضُ، أَوِ الْحُكْمُ وَصِيَّةٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَضْمَرْنَا الْمُبْتَدَأَ وَالرَّابِعُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ وَصِيَّةٌ وَالْخَامِسُ: تَقْدِيرُهُ: لِيَكُونَ مِنْكُمْ وَصِيَّةٌ وَالسَّادِسُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَوَصِيَّةُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَصِيَّةٌ إِلَى الْحَوْلِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ جَائِزَةٌ حَسَنَةٌ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ النَّصْبِ فَفِيهَا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ فَلْيُوصُوا

وَصِيَّةً وَالثَّانِي: تَقْدِيرُهَا: تُوصُونَ وَصِيَّةً، كَقَوْلِكَ: إِنَّمَا أَنْتَ سَيْرَ الْبَرِيدِ أَيْ تَسِيرُ سَيْرَ الْبَرِيدِ الثَّالِثُ: تَقْدِيرُهَا: أَلْزَمَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ وَصِيَّةً. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَتاعاً فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى: مَتِّعُوهُنَّ مَتَاعًا، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَلْيُوصُوا لَهُنَّ وَصِيَّةً، وَلْيُمَتِّعُوهُنَّ مَتَاعًا الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ ذَلِكَ مَتَاعًا لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الثَّالِثُ: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. أَمَّا قَوْلُهُ: غَيْرَ إِخْراجٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نُصِبَ بِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ الْحَالِ كَأَنَّهُ قَالَ: مَتِّعُوهُنَّ مُقِيمَاتٍ غَيْرَ مُخْرَجَاتٍ وَالثَّانِي: انْتَصَبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَرَادَ مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، قَالُوا: كَانَ الْحُكْمُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ لَمْ يَكُنْ لِامْرَأَتِهِ مِنْ مِيرَاثِهِ شَيْءٌ إِلَّا النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى سَنَةً، وَكَانَ الْحَوْلُ عَزِيمَةً عَلَيْهَا فِي الصَّبْرِ عَنِ التَّزَوُّجِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ مُخَيَّرَةً فِي أَنْ تَعْتَدَّ إِنْ شَاءَتْ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ، لَكِنَّهَا مَتَى خَرَجَتْ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا، هَذَا جُمْلَةُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّا إِنْ قَرَأْنَا وَصِيَّةً بِالرَّفْعِ، كَانَ الْمَعْنَى: فَعَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ، وَإِنْ قَرَأْنَاهَا بِالنَّصْبِ، كَانَ الْمَعْنَى: فَلْيُوصُوا وَصِيَّةً، وَعَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةٌ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ صَارَتْ مُفَسَّرَةً بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْمَتَاعُ وَالنَّفَقَةُ إِلَى الْحَوْلِ وَالثَّانِي: السُّكْنَى إِلَى الْحَوْلِ، ثُمَّ أَنْزَلَ تَعَالَى أَنَّهُنَّ إِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُوجِبُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى مِنْ مَالِ الزَّوْجِ سَنَةً وَالثَّانِي: وُجُوبُ الِاعْتِدَادِ سَنَةً، لِأَنَّ وُجُوبَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ سَنَةً تُوجِبُ الْمَنْعَ مِنَ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ، أَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى فَلِأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْمِيرَاثِ لَهَا، وَالسُّنَّةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، فَصَارَ مَجْمُوعُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ نَاسِخًا لِلْوَصِيَّةِ لِلزَّوْجَةِ بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى فِي الْحَوْلِ، وَأَمَّا وُجُوبُ الْعِدَّةِ فِي الْحَوْلِ فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [الْبَقَرَةِ: 234] فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا آيَتَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ قَوْلُهُ: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً وَالْأُخْرَى: هَذِهِ الْآيَةُ، فَوَجَبَ تَنْزِيلُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى حَالَتَيْنِ فَنَقُولُ: إِنَّهَا إِنْ لَمْ تَخْتَرِ السُّكْنَى فِي دَارِ زَوْجِهَا وَلَمْ تَأْخُذِ النَّفَقَةَ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا، كَانَتْ عِدَّتُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا عَلَى مَا فِي تِلْكَ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَمَّا إِنِ اخْتَارَتِ السُّكْنَى فِي دَارِ زَوْجِهَا، وَالْأَخْذَ مِنْ مَالِهِ وَتَرِكَتِهِ، فَعِدَّتُهَا هِيَ الْحَوْلُ، وَتَنْزِيلُ الْآيَتَيْنِ عَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ أَوْلَى، حَتَّى يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْمُولًا بِهِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ يُتَوَفَّى مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا، وَقَدْ وَصَّوْا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ بِنَفَقَةِ الْحَوْلِ وَسُكْنَى الْحَوْلِ فَإِنْ خَرَجْنَ قَبْلَ ذَلِكَ وَخَالَفْنَ وَصِيَّةَ الزَّوْجِ بَعْدَ أَنْ يُقِمْنَ الْمُدَّةَ الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُنَّ فَلَا حَرَجَ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ أَيْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ، لِأَنَّ إِقَامَتَهُنَّ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ غَيْرُ لَازِمَةٍ، قَالَ: وَالسَّبَبُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُوصُونَ بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى حَوْلًا كَامِلًا، وَكَانَ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الِاعْتِدَادُ بِالْحَوْلِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالنَّسْخُ زَائِلٌ، وَاحْتَجَّ عَلَى قَوْلِهِ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ النَّسْخَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى عَدَمِهِ بِقَدْرِ الإمكان الثاني:

أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مُتَأَخِّرًا/ عَنِ الْمَنْسُوخِ فِي النُّزُولِ، وَإِذَا كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ فِي النُّزُولِ كَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ فِي التِّلَاوَةِ أَيْضًا، لِأَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ أَحْسَنُ، فَأَمَّا تَقَدُّمُ النَّاسِخِ عَلَى الْمَنْسُوخِ فِي التِّلَاوَةِ، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي الْجُمْلَةِ، إِلَّا أَنَّهُ يُعَدُّ مِنْ سُوءِ التَّرْتِيبِ وَتَنْزِيهُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَأَخِّرَةً عَنْ تِلْكَ التِّلَاوَةِ، كَانَ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُحْكَمَ بِكَوْنِهَا مَنْسُوخَةً بِتِلْكَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ النسخ وبين التخصيص، كان التخصيص أولى، وهاهنا إِنْ خَصَّصْنَا هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِالْحَالَتَيْنِ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ انْدَفَعَ النَّسْخُ فَكَانَ الْمَصِيرُ إِلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ أَوْلَى مِنِ الْتِزَامِ النَّسْخِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ فَالْكَلَامُ أَظْهَرُ، لِأَنَّكُمْ تَقُولُونَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَعَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ لِأَزْوَاجِهِمْ، أَوْ تَقْدِيرُهَا: فَلْيُوصُوا وَصِيَّةً، فَأَنْتُمْ تُضِيفُونَ هَذَا الْحُكْمَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَبُو مُسْلِمٍ يَقُولُ: بَلْ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَلَهُمْ وَصِيَّةٌ لِأَزْوَاجِهِمْ، أَوْ تَقْدِيرُهَا: وَقَدْ أَوْصَوْا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ، فَهُوَ يُضِيفُ هَذَا الْكَلَامَ إِلَى الزَّوْجِ، وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْإِضْمَارِ فَلَيْسَ إِضْمَارُكُمْ أَوْلَى مِنْ إِضْمَارِهِ، ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْإِضْمَارُ مَا ذَكَرْتُمْ يَلْزَمُ تَطَرُّقُ النَّسْخِ إِلَى الْآيَةِ، وَعِنْدَ هَذَا يَشْهَدُ كُلُّ عَقْلٍ سَلِيمٍ بِأَنَّ إِضْمَارَ أَبِي مُسْلِمٍ أَوْلَى مِنْ إِضْمَارِكُمْ، وَأَنَّ الْتِزَامَ هَذَا النَّسْخِ الْتِزَامٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، مَعَ مَا فِي الْقَوْلِ بِهَذَا النَّسْخِ مِنْ سُوءِ التَّرْتِيبِ الَّذِي يَجِبُ تَنْزِيهُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ، وَهَذَا كَلَامٌ وَاضِحٌ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا تَكُونُ جُمْلَةً وَاحِدَةً شَرْطِيَّةً، فَالشَّرْطُ هُوَ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَهَذَا كُلُّهُ شَرْطٌ، وَالْجَزَاءُ هُوَ قَوْلُهُ: فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ فَهَذَا تَقْرِيرُ قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُعْتَدَّةُ عَنْ فُرْقَةِ الْوَفَاةِ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا كُسْوَةَ، حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا، وَعَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمَا قَالَا لَا نَفَقَةَ لَهَا حَسْبُهَا الْمِيرَاثُ، وَهَلْ تَسْتَحِقُّ السُّكْنَى فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: لَا تَسْتَحِقُّ السُّكْنَى وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ وَالثَّانِي: تَسْتَحِقُّ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ، وَبِنَاءُ الْقَوْلَيْنِ عَلَى خَبَرِ فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ أُخْتِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قُتِلَ زَوْجُهَا قَالَتْ: فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي فَإِنَّ زَوْجِي مَا تَرَكَنِي فِي مَنْزِلٍ يَمْلِكُهُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: نَعَمْ فانصرفت حين إِذَا كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي الْحُجْرَةِ دَعَانِي فَقَالَ: امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَنْزِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ، قِيلَ لَمْ يُوجِبْ فِي الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ أَوْجَبَ فَصَارَ الْأَوَّلُ مَنْسُوخًا، وَقِيلَ: أَمَرَهَا بِالْمُكْثِ فِي بَيْتِهَا أَمْرًا عَلَى سَبِيلِ/ الِاسْتِحْبَابِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، وَاحْتَجَّ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ لَا سُكْنَى لَهَا، فَقَالَ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا، لِأَنَّ الْمِلْكَ انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ، فَكَذَلِكَ السُّكْنَى، بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ لَهُ نَفَقَةٌ وَسُكْنَى مِنْ وَالِدٍ وَوَلَدٍ عَلَى رَجُلٍ فَمَاتَ انْقَطَعَتْ نَفَقَتُهُمْ وَسُكْنَاهُمْ، لِأَنَّ مَالَهُ صَارَ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ، فَكَذَا هاهنا. أَجَابَ الْأَصْحَابُ فَقَالُوا: لَا يُمْكِنُ قِيَاسُ السُّكْنَى عَلَى النَّفَقَةِ لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الثَّلَاثَ تَسْتَحِقُّ السُّكْنَى بِكُلِّ حَالٍ وَلَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ لِنَفْسِهَا عِنْدَ الْمُزَنِيِّ وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ وَجَبَتْ فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ من الاستمتاع ولا يمكن هاهنا،

[سورة البقرة (2) : الآيات 241 إلى 242]

وَأَمَّا السُّكْنَى فَوَجَبَتْ لِتَحْصِينِ النِّسَاءِ وَهُوَ مَوْجُودٌ هاهنا فَافْتَرَقَا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ لَا بُدَّ وَأَنْ يَخْتَلِفَ قَوْلُهُمْ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُوجِبُ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى، أَمَّا وُجُوبُ النَّفَقَةِ فَقَدْ صَارَ مَنْسُوخًا، وَأَمَّا وُجُوبُ السُّكْنَى فَهَلْ صَارَ مَنْسُوخًا أَمْ لَا؟ وَالْكَلَامُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ وَاجِبَةً أَوْرَدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ سُؤَالًا فَقَالُوا: اللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْوَفَاةَ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْوَصِيَّةِ، فَكَيْفَ يُوصِي الْمُتَوَفَّى؟ وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ الْمَعْنَى: وَالَّذِينَ يُقَارِبُونَ الْوَفَاةَ يَنْبَغِي أَنَّ يَفْعَلُوا هَذَا فَالْوَفَاةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِشْرَافِ عَلَيْهَا وَجَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُضَافَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى أَمْرِهِ وَتَكْلِيفِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَصِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ لِأَزْوَاجِهِمْ، كَقَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النِّسَاءِ: 11] وَإِنَّمَا يَحْسُنُ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فَالْمَعْنَى: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ يَا أَوْلِيَاءَ الْمَيِّتِ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنَ التَّزَيُّنِ، وَمِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى النِّكَاحِ، وَفِي رَفْعِ الْجُنَاحِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَا جُنَاحَ فِي قَطْعِ النَّفَقَةِ عَنْهُنَّ إِذَا خَرَجْنَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ وَالثَّانِي: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي تَرْكِ مَنْعِهِنَّ مِنَ الْخُرُوجِ، لِأَنَّ مُقَامَهَا حَوْلًا فِي بَيْتِ زَوْجِهَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عليها. [سورة البقرة (2) : الآيات 241 الى 242] وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) الحكم الثامن عشر في المطلقات يُرْوَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَتِّعُوهُنَّ إِلَى قَوْلِهِ: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [الْبَقَرَةِ: 236] قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: إِنْ أَرَدْتُ فَعَلْتُ، وَإِنْ لَمْ أُرِدْ لَمْ أَفْعَلْ، فَقَالَ تَعَالَى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ يَعْنِي عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ مُتَّقِيًا عَنِ الْكُفْرِ، وَاعْلَمْ أن المراد من المتاع هاهنا فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ هُوَ الْمُتْعَةُ، فَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ هَذِهِ الْمُتْعَةِ لِكُلِّ الْمُطَلَّقَاتِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَمَسَّكَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَوْجَبَ الْمُتْعَةَ لِجَمِيعِ الْمُطَلَّقَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالزُّهْرِيِّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ إِلَّا الْمُطَلَّقَةَ الَّتِي فُرِضَ لَهَا مَهْرٌ وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهَا الْمَسِيسُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [الْبَقَرَةِ: 236] . فَإِنْ قِيلَ: لم أعيد هاهنا ذِكْرُ الْمُتْعَةِ مَعَ أَنَّ ذِكْرَهَا قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ. قُلْنَا: هُنَاكَ ذَكَرَ حُكْمًا خَاصًّا، وهاهنا ذَكَرَ حُكْمًا عَامًّا.

[سورة البقرة (2) : آية 243]

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْمُتْعَةِ النَّفَقَةُ، وَالنَّفَقَةُ قَدْ تُسَمَّى مَتَاعًا وَإِذَا حَمَلْنَا هَذَا الْمَتَاعَ عَلَى النَّفَقَةِ انْدَفَعَ التَّكْرَارُ فَكَانَ ذَلِكَ أولى، وهاهنا آخِرُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة البقرة (2) : آية 243] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) القصة الأولى من قصص بني إسرائيل اعْلَمْ أَنَّ عَادَتَهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَ بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْقِصَصَ لِيُفِيدَ الِاعْتِبَارَ لِلسَّامِعِ، وَيَحْمِلَهُ ذَلِكَ الِاعْتِبَارُ عَلَى تَرْكِ التَّمَرُّدِ وَالْعِنَادِ، وَمَزِيدِ الْخُضُوعِ وَالِانْقِيَادِ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أَمَّا قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الرُّؤْيَةَ قَدْ تَجِيءُ بِمَعْنَى رُؤْيَةِ الْبَصِيرَةِ وَالْقَلْبِ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْعِلْمِ، كَقَوْلِهِ: وَأَرِنا مَناسِكَنا [الْبَقَرَةِ: 128] مَعْنَاهُ: عَلِّمْنَا، وَقَالَ: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النِّسَاءِ: 105] أَيْ عَلَّمَكَ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا تَقَدَّمَ لِلْمُخَاطَبِ الْعِلْمُ بِهِ، وَفِيمَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ يُرِيدُ تَعْرِيفَهُ ابْتِدَاءً: أَلَمْ تَرَ إِلَى مَا جَرَى عَلَى فُلَانٍ، فَيَكُونُ هَذَا ابْتِدَاءَ تَعْرِيفٍ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْرِفْ هَذِهِ الْقِصَّةَ إِلَّا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ نَقُولَ: كَانَ الْعِلْمُ بِهَا سَابِقًا عَلَى نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ الْعِلْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا الْكَلَامُ ظَاهِرُهُ خِطَابٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ وَأُمَّتَهُ، إِلَّا أَنَّهُ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِالْخِطَابِ معه، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطَّلَاقِ: 1] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دُخُولُ لَفْظَةِ (إِلَى) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ أَنَّ (إِلَى) عِنْدَهُمْ حَرْفٌ لِلِانْتِهَاءِ كَقَوْلِكَ: مِنْ فُلَانٍ إِلَى فُلَانٍ، فَمَنْ عَلِمَ بِتَعْلِيمِ مُعَلِّمٍ، فَكَأَنَّ ذَلِكَ الْمُعَلِّمَ أَوْصَلَ ذَلِكَ الْمُتَعَلِّمَ إِلَى ذَلِكَ الْمَعْلُومِ وَأَنْهَاهُ إِلَيْهِ، فَحَسُنَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ دُخُولُ حَرْفِ (إِلَى) فِيهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ [الْفُرْقَانِ: 45] . أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ فَفِيهِ رِوَايَاتٌ أَحَدُهَا: قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَتْ قَرْيَةٌ وَقَعَ فِيهَا الطَّاعُونُ وَهَرَبَ عَامَّةُ أَهْلِهَا، وَالَّذِينَ بَقُوا مَاتَ أَكْثَرُهُمْ، وَبَقِيَ قَوْمٌ مِنْهُمْ فِي الْمَرَضِ وَالْبَلَاءِ، ثُمَّ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْمَرَضِ وَالطَّاعُونِ رَجَعَ الَّذِينَ هَرَبُوا سَالِمِينَ، فَقَالَ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمَرْضَى: هَؤُلَاءِ أَحْرَصُ مِنَّا، لَوْ صَنَعْنَا مَا صَنَعُوا لَنَجَوْنَا مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْآفَاتِ، وَلَئِنْ وَقَعَ الطَّاعُونُ ثَانِيًا خَرَجْنَا فَوَقَعَ وَهَرَبُوا وَهُمْ بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي، نَادَاهُمْ مَلَكٌ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي وَآخَرُ مِنْ أَعْلَاهُ: أَنْ مُوتُوا، فَهَلَكُوا وَبَلِيَتْ أَجْسَامُهُمْ، فَمَرَّ بِهِمْ نَبِيٌّ يقال له حزقيل، فلما رآهما وَقَفَ عَلَيْهِمْ وَتَفَكَّرَ فِيهِمْ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَتُرِيدُ أَنْ أُرِيَكَ كَيْفَ أُحْيِيهِمْ؟ فَقَالَ نَعَمْ فَقِيلَ لَهُ: نَادِ أَيَّتُهَا الْعِظَامُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَجْتَمِعِي، فَجَعَلَتِ الْعِظَامُ يَطِيرُ بعضها

إِلَى بَعْضٍ حَتَّى تَمَّتِ الْعِظَامُ ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: نَادِ يَا أَيَّتُهَا الْعِظَامُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَكْتَسِي لَحْمًا وَدَمًا، فَصَارَتْ لَحْمًا وَدَمًا، ثُمَّ قِيلَ: نَادِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَقُومِي فَقَامَتْ، فَلَمَّا صَارُوا أَحْيَاءً قَامُوا، وَكَانُوا يَقُولُونَ: «سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى قَرْيَتِهِمْ بَعْدَ حَيَاتِهِمْ، وَكَانَتْ أَمَارَاتُ أَنَّهُمْ مَاتُوا ظَاهِرَةً فِي وُجُوهِهِمْ ثُمَّ بَقُوا إِلَى أَنْ مَاتُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِحَسَبِ آجَالِهِمْ. الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ مَلِكَا مِنْ مُلُوكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَرَ عَسْكَرَهُ بِالْقِتَالِ، فَخَافُوا الْقِتَالَ وَقَالُوا لِمَلِكِهِمْ: إِنَّ الْأَرْضَ الَّتِي نَذْهَبُ إِلَيْهَا فِيهَا الْوَبَاءُ، فَنَحْنُ لَا نَذْهَبُ إِلَيْهَا حَتَّى يَزُولَ ذَلِكَ الْوَبَاءُ، فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَسْرِهِمْ، وَبَقُوا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حَتَّى انْتَفَخُوا، وَبَلَغَ بَنِي/ إِسْرَائِيلَ مَوْتُهُمْ، فَخَرَجُوا لِدَفْنِهِمْ، فَعَجَزُوا مِنْ كَثْرَتِهِمْ، فَحَظَّرُوا عَلَيْهِمْ حَظَائِرَ، فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ بَعْدَ الثَّمَانِيَةِ، وَبَقِيَ فِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ النَّتَنِ وَبَقِيَ ذَلِكَ فِي أَوْلَادِهِمْ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 244] . وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ حِزْقِيلَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَدَبَ قَوْمَهُ إِلَى الْجِهَادِ فَكَرِهُوا وَجَبُنُوا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ، فَلَمَّا كَثُرَ فِيهِمْ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فِرَارًا مِنَ الْمَوْتِ، فَلَمَّا رَأَى حِزْقِيلُ ذَلِكَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِلَهَ يَعْقُوبَ وَإِلَهَ مُوسَى تَرَى مَعْصِيَةَ عِبَادِكَ فَأَرِهِمْ آيَةً فِي أَنْفُسِهِمْ تَدُلُّهُمْ عَلَى نَفَاذِ قُدْرَتِكَ وَأَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ قَبْضَتِكَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ضَاقَ صَدْرُهُ بِسَبَبِ مَوْتِهِمْ، فَدَعَا مَرَّةً أُخْرَى فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ أُلُوفٌ فَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ بَيَانُ الْعَدَدِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَبْلَغِ عَدَدِهِمْ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَمْ يَكُونُوا دُونَ ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَلَا فَوْقَ سَبْعِينَ أَلْفًا، وَالْوَجْهُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ عَدَدُهُمْ أَزْيَدَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ لِأَنَّ الْأُلُوفَ جَمْعُ الْكَثْرَةِ، وَلَا يُقَالُ فِي عَشَرَةٍ فَمَا دُونَهَا أُلُوفٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْأُلُوفَ جَمْعُ آلَافٍ كَقُعُودٍ وَقَاعِدٍ، وَجُلُوسٍ وَجَالِسٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْتَلِفِي الْقُلُوبِ، قَالَ الْقَاضِي: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ وُرُودَ الْمَوْتِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ كَثْرَةٌ عَظِيمَةٌ يُفِيدُ مَزِيدَ اعْتِبَارٍ بِحَالِهِمْ، لِأَنَّ مَوْتَ جَمْعٍ عَظِيمٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً لَا يَتَّفِقُ وُقُوعُهُ يُفِيدُ اعْتِبَارًا عَظِيمًا، فَأَمَّا وُرُودُ الْمَوْتِ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَهُمُ ائْتِلَافٌ وَمَحَبَّةٌ، كَوُرُودِهِ وَبَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ فِي أَنَّ وَجْهَ الِاعْتِبَارِ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَخْتَلِفُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ الْمُرَادَ كَونُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ آلِفًا لِحَيَاتِهِ، مُحِبًّا لِهَذِهِ الدُّنْيَا فَيَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى مَا قَالَ تَعَالَى فِي صِفَتِهِمْ: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ [الْبَقَرَةِ: 96] ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ غَايَةِ حُبِّهِمْ لِلْحَيَاةِ وَأُلْفِهِمْ بِهَا، أَمَاتَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَهْلَكَهُمْ، لِيَعْلَمَ أَنَّ حِرْصَ الْإِنْسَانِ عَلَى الْحَيَاةِ لَا يَعْصِمُهُ مِنَ الْمَوْتِ فَهَذَا الْقَوْلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ. أَمَّا قَوْلُهُ: حَذَرَ الْمَوْتِ فَهُوَ مَنْصُوبٌ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ لِحَذَرِ الْمَوْتِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَحْذَرُ الْمَوْتَ، فَلَمَّا خَصَّ هَذَا الْمَوْضِعَ بِالذِّكْرِ، عَلِمَ أَنَّ سَبَبَ الْمَوْتِ كَانَ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ أَكْثَرَ، إِمَّا لِأَجْلِ غَلَبَةِ الطَّاعُونِ أَوْ لِأَجْلِ الْأَمْرِ بِالْمُقَاتَلَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ففي تفسير جار اللَّهُ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى قَوْلِهِ: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ: 40] وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِثْبَاتَ قَوْلٍ، بَلِ الْمُرَادُ

أَنَّهُ تَعَالَى مَتَى أَرَادَ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْ غَيْرِ مَنْعٍ وَتَأْخِيرٍ، وَمِثْلُ هَذَا عُرْفٌ مَشْهُورٌ فِي اللُّغَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَحْياهُمْ فَإِذَا صَحَّ الْإِحْيَاءُ بِالْقَوْلِ، فَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْإِمَاتَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الرَّسُولَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: مُوتُوا، وَأَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْإِحْيَاءِ مَا رُوِّينَاهُ عَنِ السُّدِّيِّ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَلَكَ قَالَ ذَلِكَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى التَّحْقِيقِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَحْياهُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَحْيَاهُمْ بَعْدَ أَنْ مَاتُوا فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ جَائِزٌ وَالصَّادِقُ أَخْبَرَ عَنْ وُقُوعِهِ فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِوُقُوعِهِ، أَمَّا الْإِمْكَانُ فَلِأَنَّ تَرَكُّبَ الْأَجْزَاءِ عَلَى الشَّكْلِ الْمَخْصُوصِ مُمْكِنٌ، وَإِلَّا لَمَا وُجِدَ أَوَّلًا، وَاحْتِمَالُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ لِلْحَيَاةِ مُمْكِنٌ وَإِلَّا لَمَا وُجِدَ أَوَّلًا، وَمَتَى ثَبَتَ هَذَا فَقَدَ ثَبَتَ الْإِمْكَانُ، وَأَمَّا إِنَّ الصَّادِقَ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَتَى أَخْبَرَ الصَّادِقُ عَنْ وُقُوعِ مَا ثَبَتَ فِي الْعَقْلِ إِمْكَانُ وُقُوعِهِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِحْيَاءُ الْمَيِّتِ فِعْلٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إظهاره إلا عند ما يَكُونُ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ، إِذْ لَوْ جَازَ ظُهُورُهُ لَا لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ لَبَطَلَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى النُّبُوَّةِ، وَأَمَّا عِنْدَ أَصْحَابِنَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ إِظْهَارُ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ لِكَرَامَةِ الْوَلِيِّ، وَلِسَائِرِ الْأَغْرَاضِ، فَكَانَ هَذَا الْحَصْرُ بَاطِلًا، ثُمَّ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذَا الْإِحْيَاءَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي زَمَانِ حِزْقِيلَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ببركة دعائه، وهذا يتحقق مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُوجَدُ إِلَّا لِيَكُوَنَ مُعْجِزَةً لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَقِيلَ: حِزْقِيلُ هُوَ ذُو الْكِفْلِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ تَكَفَّلَ بِشَأْنِ سَبْعِينَ نَبِيًّا وَأَنْجَاهُمْ مِنَ الْقَتْلِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِهِمْ وَهُمْ مَوْتَى فَجَعَلَ يُفَكِّرُ فِيهِمْ مُتَعَجِّبًا، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: إِنْ أَرَدْتَ أَحْيَيْتُهُمْ وَجَعَلْتُ ذَلِكَ الْإِحْيَاءَ آيَةً لَكَ، فَقَالَ: نَعَمْ فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِدُعَائِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ أَنَّ مَعَارِفَ الْمُكَلَّفِينَ تَصِيرُ ضَرُورِيَّةً عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ: وَعِنْدَ مُعَايَنَةِ الْأَهْوَالِ وَالشَّدَائِدِ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَاتَهُمُ اللَّهُ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ عَايَنُوا الْأَهْوَالَ وَالْأَحْوَالَ الَّتِي مَعَهَا صَارَتْ مَعَارِفُهُمْ ضَرُورِيَّةً، وَإِمَّا مَا شَاهَدُوا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَهْوَالِ بَلِ اللَّهُ تَعَالَى أَمَاتَهُمْ بَغْتَةً، كَالنَّوْمِ الْحَادِثِ مِنْ غَيْرِ مُشَاهَدَةِ الْأَهْوَالِ الْبَتَّةَ، فَإِنْ كان الحق هو الأول، فعند ما أَحْيَاهُمْ يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ نَسُوا تِلْكَ الْأَهْوَالَ وَنَسُوا مَا عَرَفُوا بِهِ رَبَّهُمْ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ الْأَحْوَالَ الْعَظِيمَةَ لَا يَجُوزُ نِسْيَانُهَا مَعَ كَمَالِ الْعَقْلِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ تَبْقَى تِلْكَ الْمَعَارِفُ الضَّرُورِيَّةُ مَعَهُمْ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ، وَبَقَاءُ تِلْكَ الْمَعَارِفِ الضَّرُورِيَّةِ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ التَّكْلِيفِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَبْقَى التَّكْلِيفُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ بَقُوا بَعْدَ الْإِحْيَاءِ غَيْرَ مُكَلَّفِينَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ أَمَاتَهُمْ مَا أَرَاهُمْ شَيْئًا مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَصِيرُ مَعَارِفُهُمْ عِنْدَهَا ضَرُورِيَّةً، وَمَا كَانَ ذَلِكَ الْمَوْتُ كَمَوْتِ سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ الَّذِينَ يُعَايِنُونَ الْأَهْوَالَ عِنْدَ/ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا أَحْيَاهُمْ لِيَسْتَوْفُوا بَقِيَّةَ آجَالِهِمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَبَحْثٌ طَوِيلٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَفَضَّلَ عَلَى أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الذين

[سورة البقرة (2) : آية 244]

أَمَاتَهُمْ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَحْيَاهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَهُوَ تَعَالَى أَعَادَهُمْ إِلَى الدُّنْيَا وَمَكَّنَهُمْ مِنَ التَّوْبَةِ وَالتَّلَافِي وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعَرَبَ الَّذِينَ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْمَعَادَ كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِقَوْلِ الْيَهُودِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ، فَلَمَّا نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى الْيَهُودَ عَلَى هَذِهِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي كَانَتْ مَعْلُومَةً لَهُمْ، وَهُمْ يَذْكُرُونَهَا لِلْعَرَبِ الْمُنْكِرِينَ لِلْمَعَادِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُنْكِرِينَ يَرْجِعُونَ مِنَ الدِّينِ الْبَاطِلِ الَّذِي هُوَ الْإِنْكَارُ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ الْإِقْرَارُ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ فَيَخْلُصُونَ مِنَ الْعِقَابِ، وَيَسْتَحِقُّونَ الثَّوَابَ، فَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِحْسَانًا فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَذَرَ مِنَ الْمَوْتِ لَا يُفِيدُ، فَهَذِهِ الْقِصَّةُ تُشَجِّعُ الْإِنْسَانَ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَيْفَ كَانَ، وَتُزِيلُ عَنْ قَلْبِهِ الْخَوْفَ مِنَ الْمَوْتِ، فَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ سَبَبًا لِبُعْدِ الْعَبْدِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَقُرْبِهِ مِنَ الطَّاعَةِ الَّتِي بِهَا يَفُوزُ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ، فَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَضْلًا وَإِحْسَانًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً [الفرقان: 50] . [سورة البقرة (2) : آية 244] وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِلَّذِينِ أُحْيُوا، قَالَ الضَّحَّاكُ: أَحْيَاهُمْ ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الْجِهَادِ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَاتَهُمْ بِسَبَبِ أَنْ كَرِهُوا الْجِهَادَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِإِضْمَارِ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَقِيلَ لَهُمْ قَاتِلُوا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ جُمْهُورِ الْمُحَقِّقِينَ: أَنَّ هَذَا اسْتِئْنَافُ خِطَابٍ لِلْحَاضِرِينَ، يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالْجِهَادِ إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بِلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ قَدَّمَ عَلَى الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ ذِكْرَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ لِئَلَّا يُنْكَصَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِحُبِّ الْحَيَاةِ بِسَبَبِ خَوْفِ الْمَوْتِ، وليعلم كل أحد أنه يترك الْقِتَالِ لَا يَثِقُ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْمَوْتِ، كَمَا قَالَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الْأَحْزَابِ: 16] فَشَجَّعَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ الَّذِي بِهِ وَعَدَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إِمَّا فِي الْعَاجِلِ الظُّهُورُ عَلَى الْعَدُوِّ، أَوْ فِي الْآجِلِ الْفَوْزُ بِالْخُلُودِ فِي النَّعِيمِ، وَالْوُصُولُ إِلَى مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَالسَّبِيلُ هُوَ الطَّرِيقُ، وَسُمِّيَتِ الْعِبَادَاتُ سَبِيلًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى/ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِنْسَانَ يَسْلُكُهَا، وَيَتَوَصَّلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجِهَادَ تَقْوِيَةٌ لِلدِّينِ، فَكَانَ طَاعَةً، فَلَا جَرَمَ كَانَ الْمُجَاهِدُ مُقَاتِلًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ هُوَ يَسْمَعُ كَلَامَكُمْ فِي تَرْغِيبِ الْغَيْرِ فِي الْجِهَادِ، وَفِي تَنْفِيرِ الْغَيْرِ عَنْهُ، وَعَلِيمٌ بِمَا فِي صُدُورِكُمْ مِنَ الْبَوَاعِثِ وَالْأَغْرَاضِ وَأَنَّ ذَلِكَ الْجِهَادَ لِغَرَضِ الدِّينِ أو لعاجل الدنيا. [سورة البقرة (2) : آية 245] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً

حَسَناً اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا وَالْمُرَادُ مِنْهَا الْقَرْضُ فِي الْجِهَادِ خَاصَّةً، فَنَدَبَ الْعَاجِزَ عَنِ الْجِهَادِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى الْفَقِيرِ الْقَادِرِ عَلَى الْجِهَادِ، وَأَمَرَ الْقَادِرَ عَلَى الْجِهَادِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ فِي طَرِيقِ الْجِهَادِ، ثُمَّ أكد تعالى ذلك بقوله: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ كَانَ اعْتِمَادُهُ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَكْثَرَ مِنِ اعْتِمَادِهِ عَلَى مَالِهِ وَذَلِكَ يَدْعُوهُ إِلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْبُخْلِ بِذَلِكَ الْإِنْفَاقِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُبْتَدَأٌ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْقَرْضِ إِنْفَاقُ الْمَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ غَيْرُهُ، وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ إِنْفَاقُ الْمَالِ لَهُمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ بِالْقَرْضِ وَالْقَرْضُ لَا يَكُونُ إِلَّا تَبَرُّعًا. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي أَبِي الدَّحْدَاحِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي حَدِيقَتَيْنِ فَإِنْ تَصَدَّقْتُ بِإِحْدَاهُمَا فَهَلْ لِي مِثْلَاهَا فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَأُمُّ الدَّحْدَاحِ مَعِي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَالصِّبْيَةُ معي؟ قال: نعم، فتصدق بأفضل حديقته، وكانت تسمى الحنينة، قَالَ: فَرَجَعَ أَبُو الدَّحْدَاحِ إِلَى أَهْلِهِ وَكَانُوا فِي الْحَدِيقَةِ الَّتِي تَصَدَّقَ بِهَا، فَقَامَ عَلَى بَابِ الْحَدِيقَةِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ لِامْرَأَتِهِ فَقَالَتْ أُمُّ الدَّحْدَاحِ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا اشْتَرَيْتَ، فَخَرَجُوا مِنْهَا وَسَلَّمُوهَا، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: كَمْ مِنْ نَخْلَةٍ رَدَاحٍ، تُدْلِي عُرُوقَهَا فِي الْجَنَّةِ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ. إِذَا عَرَفْتَ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ ظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْقَرْضِ مَا كَانَ تَبَرُّعًا لَا وَاجِبًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْقَرْضِ الْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِلُ عَلَى قَوْلِهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَذَلِكَ كَالزَّجْرِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْوَاجِبِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ كِلَا الْقِسْمَيْنِ، كَمَا أَنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ [الْبَقَرَةِ: 261] مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْقَرْضِ شَيْءٌ سِوَى إِنْفَاقِ الْمَالِ، قَالُوا: رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَوْلُ الرَّجُلِ «سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ» قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ لَفْظَ الْإِقْرَاضِ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ ثُمَّ قَالَ: وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى الصِّحَّةِ، إِلَّا أَنْ نَقُولَ: الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَمْلِكُ شَيْئًا إِذَا كَانَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَادِرًا لَأَنْفَقَ وَأَعْطَى فَحِينَئِذٍ تَكُونُ تِلْكَ النِّيَّةُ قَائِمَةً مَقَامَ الْإِنْفَاقِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَلْيَلْعَنِ الْيَهُودَ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْقَرْضِ عَلَى هَذَا الْإِنْفَاقِ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ، قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَرْضَ هُوَ كُلُّ مَا يُفْعَلُ لِيُجَازَى عَلَيْهِ، تَقُولُ العرب: لك عندي قرض حسن وسيء، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْفِعْلُ الَّذِي يُجَازَى عَلَيْهِ، قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ: كُلُّ امْرِئٍ سَوْفَ يُجْزَى قَرْضَهُ حَسَنًا ... أَوْ سَيِّئًا أَوْ مَدِينًا كَالَّذِي دَانَا وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَرْضَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْقَرْضَ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ القطع، ومنه القراض، وانقراض، وَانْقَرَضَ الْقَوْمُ إِذَا

هَلَكُوا، وَذَلِكَ لِانْقِطَاعِ أَثَرِهِمْ فَإِذَا أَقْرَضَ فَالْمُرَادُ قَطَعَ لَهُ مِنْ مَالِهِ أَوْ عَمَلِهِ قِطْعَةً يُجَازَى عَلَيْهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الْقَرْضِ هاهنا مَجَازٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَرْضَ هُوَ أَنْ يُعْطِيَ الإنسان شيئا ليرجع إليه مثله وهاهنا الْمُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّمَا يُنْفِقُ لِيَرْجِعَ إِلَيْهِ بَدَلَهُ إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ هَذَا الْإِنْفَاقِ وَبَيْنَ الْقَرْضِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَرْضَ إِنَّمَا يَأْخُذُهُ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِفَقْرِهِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْبَدَلَ فِي الْقَرْضِ الْمُعْتَادِ لَا يَكُونُ إِلَّا الْمِثْلَ، وَفِي هَذَا الْإِنْفَاقِ هُوَ الضِّعْفُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَالَ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْمُسْتَقْرِضُ لا يكون ملكا له وهاهنا هَذَا الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِلْكٌ لِلَّهِ، ثُمَّ مَعَ حُصُولِ هَذِهِ الْفُرُوقِ سَمَّاهُ اللَّهُ قَرْضًا، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضِيعُ عِنْدَ اللَّهِ، فَكَمَا أَنَّ الْقَرْضَ يَجِبُ أَدَاؤُهُ لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهِ فَكَذَا الثَّوَابُ الْوَاجِبُ عَلَى هَذَا الْإِنْفَاقِ وَاصِلٌ إِلَى الْمُكَلَّفِ لَا مَحَالَةَ، وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ، فَهُوَ يَطْلُبُ مِنَّا الْقَرْضَ، وَهَذَا الْكَلَامُ لَائِقٌ بِجَهْلِهِمْ وَحُمْقِهِمْ، لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِمُ التَّشْبِيهُ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ مَعْبُودَهُمْ شَيْخٌ، قَالَ الْقَاضِيَ: مَنْ يَقُولُ فِي مَعْبُودِهِ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ/ لَا يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ أَنْ يَصِفَهُ بِالْفَقْرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَلِأَيِّ فَائِدَةٍ جَرَى الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ. قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ فِي التَّرْغِيبِ فِي الدُّعَاءِ إِلَى الْفِعْلِ أَقْرَبُ مِنْ ظَاهِرِ الْأَمْرِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَرْضاً حَسَناً فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْقَرْضُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْمٌ لَا مَصْدَرٌ، وَلَوْ كَانَ مَصْدَرًا لَكَانَ ذَلِكَ إِقْرَاضًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُ الْقَرْضِ حَسَنًا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَرَادَ بِهِ حَلَالًا خَالِصًا لَا يَخْتَلِطُ بِهِ الْحَرَامُ، لِأَنَّ مَعَ الشُّبْهَةِ يَقَعُ الِاخْتِلَاطُ، وَمَعَ الِاخْتِلَاطِ رُبَّمَا قَبُحَ الْفِعْلُ وَثَانِيهَا: أَنْ لَا يُتْبِعَ ذَلِكَ الْإِنْفَاقَ مَنًّا وَلَا أَذًى وَثَالِثُهَا: أَنْ يَفْعَلَهُ عَلَى نِيَّةِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ مَا يُفْعَلُ رِيَاءً وَسُمْعَةً لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الثَّوَابَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيُضاعِفَهُ لَهُ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: فَيُضاعِفَهُ أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ أَحَدُهَا: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فَيُضاعِفَهُ بِالْأَلِفِ وَالرَّفْعِ وَالثَّانِي: قَرَأَ عَاصِمٌ فَيُضاعِفَهُ بِأَلِفٍ وَالنَّصْبِ وَالثَّالِثُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فَيُضَعِّفُهُ بِالتَّشْدِيدِ وَالرَّفْعِ بِلَا أَلِفٍ وَالرَّابِعُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فَيُضَعِّفَهُ بِالتَّشْدِيدِ وَالنَّصْبِ. فَنَقُولُ: أَمَّا التَّشْدِيدُ وَالتَّخْفِيفُ فَهُمَا لُغَتَانِ، وَوَجْهُ الرَّفْعِ الْعَطْفُ عَلَى يُقْرِضُ، وَوَجْهُ النَّصْبِ أَنْ يُحْمَلَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَعْنَى لَا عَلَى اللَّفْظِ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَكُونُ قَرْضًا فَيُضَاعِفُهُ، وَالِاخْتِيَارُ الرَّفْعُ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْجَزَاءِ، وَجَوَابُ الْجَزَاءِ بِالْفَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا رَفْعًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: التَّضْعِيفُ وَالْإِضْعَافُ وَالْمُضَاعَفَةُ وَاحِدٌ وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى أَصْلِ الشَّيْءِ حَتَّى يَبْلُغَ مِثْلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَفِي الْآيَةِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَيُضَاعِفُ ثَوَابَهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَضْعافاً كَثِيرَةً فَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ فِيهِ قَدْرًا مُعَيَّنًا، وَأَجْوَدُ مَا يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ [الْبَقَرَةِ: 261] فَيُقَالُ

[سورة البقرة (2) : آية 246]

يُحْمَلُ الْمُجْمَلُ عَلَى الْمُفَسَّرِ لِأَنَّ كِلْتَا الْآيَتَيْنِ وَرَدَتَا فِي الْإِنْفَاقِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقْتَصِرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى التَّحْدِيدِ، بَلْ قَالَ بَعْدَهُ: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَةِ: 261] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ وَاخْتِيَارُ السُّدِّيِّ: أَنَّ هَذَا التَّضْعِيفَ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا هُوَ وَكَمْ هُوَ؟ وَإِنَّمَا أَبْهَمَ تَعَالَى ذَلِكَ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُبْهَمِ فِي بَابِ التَّرْغِيبِ أَقْوَى مِنْ ذِكْرِ الْمَحْدُودِ. أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ فَفِي بَيَانِ أَنَّ هَذَا كَيْفَ يُنَاسِبُ مَا تَقَدَّمَ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: / أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ هُوَ الْقَابِضَ الْبَاسِطَ، فَإِنْ كَانَ تَقْدِيرُ هَذَا الَّذِي أُمِرَ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ الْفَقْرَ فَلْيُنْفِقِ الْمَالَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ سَوَاءٌ أَنَفَقَ أَوْ لَمْ يُنْفِقْ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الْفَقْرُ، وَإِنْ كَانَ تَقْدِيرُهُ الْغِنَى فَلْيُنْفِقْ فَإِنَّهُ سَوَاءٌ أَنَفَقَ أَوْ لَمْ يُنْفِقْ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الْغِنَى وَالسَّعَةُ وَبَسْطُ الْيَدِ، فَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْلَى وَثَانِيهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْقَبْضَ وَالْبَسْطَ بِاللَّهِ انْقَطَعَ نَظَرُهُ عَنْ مَالِ الدُّنْيَا، وَبَقِيَ اعْتِمَادُهُ عَلَى اللَّهِ، فَحِينَئِذٍ يَسْهُلُ عَلَيْهِ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي سَبِيلِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يُوَسِّعُ عَنْ عِبَادِهِ وَيَقْتُرُ، فَلَا تَبْخَلُوا عَلَيْهِ بِمَا وَسَّعَ عَلَيْكُمْ، لِئَلَّا يُبَدِّلَ السَّعَةَ الْحَاصِلَةَ لَكُمْ بِالضِّيقِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَحَثَّهُمْ عَلَيْهَا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا بِتَوْفِيقِهِ وإعانته، فقال: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ يَعْنِي يَقْبِضُ الْقُلُوبَ حَتَّى لَا تُقْدِمَ عَلَى هَذِهِ الطَّاعَةِ، وَيَبْسُطُ بَعْضَهَا حَتَّى يُقْدِمَ عَلَى هَذِهِ الطَّاعَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَالْمُرَادُ بِهِ إِلَى حَيْثُ لَا حَاكِمَ وَلَا مُدَبِّرَ سواه، والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 246] أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) القصة الثانية قصة طالوت الْمَلَأُ الْأَشْرَافُ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ اسْمُ الْجَمَاعَةِ، كَالْقَوْمِ وَالرَّهْطِ وَالْجَيْشِ، وَجَمْعُهُ أَمْلَاءٌ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَقَالَ لَهَا الْأَمْلَاءُ مِنْ كُلِّ مَعْشَرٍ ... وَخَيْرُ أَقَاوِيلِ الرِّجَالِ سَدِيدُهَا وَأَصْلُهَا مِنَ الْمَلْءِ، وَهُمُ الذين يملؤون العيون هيبة ورواء، وقيل: هم الذين يملؤون الْمَكَانَ إِذَا حَضَرُوا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَلَأُ الرُّؤَسَاءُ، سموا بذلك لأنهم يملؤون الْقُلُوبَ بِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَلَأَ الرجل يملأ ملأة فهو ملئ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَعَلُّقُ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا فَرَضَ الْقِتَالَ بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 244] ثُمَّ أَمَرَنَا بِالْإِنْفَاقِ فِيهِ لِمَا لَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي كَمَالِ الْمُرَادِ بِالْقِتَالِ ذَكَرَ قِصَّةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ،

وَهِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِالْقِتَالِ نَكَثُوا وَخَالَفُوا فَذَمَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَنَسَبَهُمْ إِلَى الظُّلْمِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ لَا يُقَدِّمَ الْمَأْمُورُونَ بِالْقِتَالِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ، وَأَنْ يَكُونُوا مُسْتَمِرِّينَ فِي الْقِتَالِ مَعَ أَعْدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمَقْصُودَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ حَاصِلٌ، سَوَاءٌ عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ مَنْ كَانَ مِنْ أُولَئِكَ، وَأَنَّ أُولَئِكَ الْمَلَأَ مَنْ كَانُوا أَوْ لَمْ نَعْلَمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّرْغِيبُ فِي بَابِ الْجِهَادِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ مَنْ ذَلِكَ النَّبِيُّ وَمَنْ ذَلِكَ الْمَلَأُ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ وَهُوَ مَفْقُودٌ، وَأَمَّا خَبَرُ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُوشَعُ بْنُ نُونِ بْنِ أَفْرَايِمَ بْنِ يُوسُفَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مُوسى وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ بَعْدِ مُوسى كَمَا يَحْتَمِلُ الِاتِّصَالَ يَحْتَمِلُ الْحُصُولَ مِنْ بَعْدِ زَمَانٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَ اسْمُ ذَلِكَ النَّبِيِّ أَشْمُوِيلَ مِنْ بَنِي هَارُونَ وَاسْمُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ: إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ شَمْعُونُ، سَمَّتْهُ أُمُّهُ بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا دَعَتِ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَهَا وَلَدًا فَاسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى دُعَاءَهَا، فَسَمَّتْهُ شَمْعُونَ، يَعْنِي سَمِعَ دُعَاءَهَا فِيهِ، وَالسِّينُ تَصِيرُ شِينًا بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ وَهْبٌ وَالْكَلْبِيُّ: إِنَّ الْمَعَاصِيَ كَثُرَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْخَطَايَا عَظُمَتْ فِيهِمْ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِمْ عَدُوٌّ لَهُمْ فَسَبَى كَثِيرًا مِنْ ذَرَارِيهِمْ، فَسَأَلُوا نَبِيَّهُمْ مَلِكًا تَنْتَظِمُ بِهِ كَلِمَتُهُمْ وَيَجْتَمِعُ بِهِ أَمْرُهُمْ، وَيَسْتَقِيمُ حَالُهُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّهِمْ، وَقِيلَ تَغَلَّبَ جَالُوتُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ قِوَامُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَلِكٍ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ يُجَاهِدُ الْأَعْدَاءَ، وَيُجْرِي الْأَحْكَامَ، وَنَبِيٍّ يُطِيعُهُ الْمَلِكُ، وَيُقِيمُ أَمْرَ دِينِهِمْ، وَيَأْتِيهِمْ بِالْخَبَرِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ قُرِئَ نُقاتِلْ بِالنُّونِ وَالْجَزْمِ عَلَى الْجَوَابِ، وَبِالنُّونِ وَالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، أَيِ ابْعَثْهُ لَنَا مُقَدِّرِينَ الْقِتَالَ، أَوِ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا تَصْنَعُونَ بِالْمَلِكِ، / قَالُوا نُقَاتِلُ، وَقُرِئَ بِالْيَاءِ وَالْجَزْمِ عَلَى الْجَوَابِ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: مَلِكاً أَمَّا قَوْلُهُ: قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ عَسَيْتُمْ بِكَسْرِ السين هاهنا، وَفِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللُّغَةُ الْمَشْهُورَةُ فَتْحُهَا وَوَجْهُ قِرَاءَةِ نَافِعٍ مَا حَكَاهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: هُوَ عَسِيٌّ بِكَذَا وَهَذَا يُقَوِّي عَسَيْتُمْ بِكَسْرِ السِّينِ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَسِيٌّ بِكَذَا، مِثْلُ حَرِيٍّ وَشَحِيحٍ وَطَعَنَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَقَالَ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ عَسى رَبُّكُمْ أَجَابَ أَصْحَابُ نَافِعٍ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْيَاءَ إِذَا سَكَنَتْ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا حَصَلَ فِي التَّلَفُّظِ بِهَا نَوْعُ كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ، وَلَيْسَتِ الْيَاءُ مِنْ (عَسِيٌّ) كَذَلِكَ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي الْكِتَابَةِ يَاءً إِلَّا أَنَّهَا فِي اللَّفْظِ مَدَّةٌ، وَهِيَ خَفِيفَةٌ فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى خِفَّةٍ أُخْرَى. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: هَبْ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي جَوَازَ عَسى رَبُّكُمْ إِلَّا أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا لُغَتَانِ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِاللُّغَتَيْنِ فَيَسْتَعْمِلَ إِحْدَاهُمَا فِي مَوْضِعٍ وَالْأُخْرَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. الْمَسْأَلَةُ الثانية: خبر هَلْ عَسَيْتُمْ وهو قَوْلُهُ: أَلَّا تُقاتِلُوا وَالشَّرْطُ فَاصِلٌ بَيْنَهُمَا، وَالْمَعْنَى هَلْ قَارَبْتُمْ أَنْ تُقَاتِلُوا بِمَعْنَى أَتَوَقَّعُ جُبْنَكُمْ عَنِ الْقِتَالِ فَأَدْخَلَ (هَلْ) مُسْتَفْهِمًا عَمَّا هُوَ مُتَوَقَّعٌ عِنْدَهُ وَمَظْنُونٌ، وَأَرَادَ بِالِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرَ، وَثَبَتَ أَنَّ الْمُتَوَقَّعَ كَائِنٌ لَهُ، وَأَنَّهُ صَائِبٌ فِي تَوَقُّعِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ، ثُمَّ إِنَّهُ تعالى ذكر أنه الْقَوْمَ قَالُوا: وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى

[سورة البقرة (2) : آية 247]

ضَمَانٍ قَوِيٍّ خُصُوصًا وَأَتْبَعُوا ذَلِكَ بِعِلَّةٍ قَوِيَّةٍ تُوجِبُ التَّشَدُّدَ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا لِأَنَّ مَنْ بَلَغَ مِنْهُ الْعَدُوُّ هَذَا الْمَبْلَغَ فَالظَّاهِرُ مِنْ أَمْرِهِ الِاجْتِهَادُ فِي قَمْعِ عَدُوِّهِ وَمُقَاتَلَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: المشهور أنه يقال: مالك تفعل كذا؟ ولا يقال: مالك أَنْ تَفْعَلَ كَذَا؟ قَالَ تَعَالَى: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [نُوحٍ: 13] وَقَالَ: وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [الْحَدِيدِ: 8] . وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ: أَنَّ (مَا) فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَحْدٌ لَا اسْتِفْهَامٌ كَأَنَّهُ قَالَ: مَا لَنَا نَتْرُكُ الْقِتَالَ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَزُولُ السُّؤَالُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نُسَلِّمَ أن (ما) هاهنا بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهٌ الأول: قال الأخفش: أن هاهنا زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: مَا لَنَا لَا نُقَاتِلُ وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْقَوْلَ بِثُبُوتِ الزِّيَادَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ خِلَافُ الْأَصْلِ الثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْكَلَامُ هاهنا مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ قَوْلَكَ: مَا لَكَ لَا تُقَاتِلُ مَعْنَاهُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُقَاتِلَ؟ فَلَمَّا ذَهَبَ إِلَى مَعْنَى الْمَنْعِ حَسُنَ إِدْخَالُ أَنْ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ [ص: 75] وَقَالَ: مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الْحِجْرِ: 32] الثَّالِثُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ: مَعْنَى وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ أَيُّ شَيْءٍ لَنَا فِي تَرْكِ الْقِتَالِ؟ ثُمَّ سَقَطَتْ كَلِمَةُ فِي وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، قَوْلَ/ الْكِسَائِيِّ عَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ، قَالَ: وَذَلِكَ لِأَنَّ عَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا يَمْنَعُنَا مِنْ أَنْ نُقَاتِلَ، إِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ الْكِسَائِيِّ يَبْقَى اللَّفْظُ مَعَ هَذَا الْإِضْمَارِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَعَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ لَا يَبْقَى، فَكَانَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ لَا مَحَالَةَ أَوْلَى وَأَقْوَى. أَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى ذَلِكَ فَبَعَثَ لَهُمْ مَلِكًا وَكَتَبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ فَتَوَلَّوْا. أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَهُمُ الَّذِينَ عَبَرُوا مِنْهُمُ النَّهَرَ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُمْ، وَقِيلَ: كَانَ عَدَدُ هَذَا الْقَلِيلِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ عَلَى عَدَدِ أَهْلِ بَدْرٍ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِمَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ حِينَ خَالَفَ رَبَّهُ وَلَمْ يَفِ بِمَا قِيلَ مِنْ رَبِّهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ قَبْلَ ذَلِكَ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ وُجُوبَ ذَلِكَ بِأَنْ ذَكَرَ قِصَّةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْجِهَادِ وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ تَقَدَّمَ عَلَى مِثْلِهِ فَهُوَ ظَالِمٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ الظَّالِمُ وَهَذَا بَيِّنٌ فِي كَوْنِهِ زَجْرًا عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَفِي كَوْنِهِ بَعْثًا عَلَى الْجِهَادِ، وَأَنْ يَسْتَمِرَّ كُلُّ مُسْلِمٍ عَلَى الْقِيَامِ بِذَلِكَ والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 247] وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ أَجَابَهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوا، ثُمَّ إِنَّهُمْ تَوَلَّوْا فَبَيَّنَ أَنَّ أَوَّلَ مَا تَوَلَّوْا إِنْكَارُهُمْ إِمْرَةَ طَالُوتَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْ نَبِيِّهِمْ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُمْ مَلِكًا فَأَجَابَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَهُمْ طَالُوتَ مَلِكًا، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : طَالُوتُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ، كَجَالُوتَ، ودَاوُدَ وَإِنَّمَا امْتَنَعَ مِنَ الصَّرْفِ لِتَعْرِيفِهِ وَعُجْمَتِهِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ مِنَ الطُّولِ لِمَا وُصِفَ بِهِ مِنَ الْبَسْطَةِ فِي الْجِسْمِ، وَوَزْنُهُ إِنْ كَانَ مِنَ الطُّولِ فَعَلُوتُ، وَأَصْلُهُ

طَوَلُوتُ، إِلَّا أَنَّ امْتِنَاعَ صَرْفِهِ يَدْفَعُ أَنْ يَكُونَ/ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: هُوَ اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ وَافَقَ عَرَبِيًّا كَمَا وَافَقَ حِطَّةٌ حِنْطَةً، وعلى هذا التقدير يكون أحد سببه الْعُجْمَةَ لِكَوْنِهِ عِبْرَانِيًّا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَيَّنَهُ لِأَنْ يَكُونَ مَلِكًا لَهُمْ أَظْهَرُوا التَّوَلِّيَ عَنْ طَاعَتِهِ، وَالْإِعْرَاضَ عَنْ حُكْمِهِ، وَقَالُوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَاسْتَبْعَدُوا جِدًّا أَنْ يَكُونَ هُوَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَسَبَبُ هَذَا الِاسْتِبْعَادِ أَنَّ النُّبُوَّةَ كَانَتْ مَخْصُوصَةً بِسِبْطٍ مُعَيَّنٍ مِنْ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ سِبْطُ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ، وَمِنْهُ مُوسَى وَهَارُونُ، وَسِبْطُ الْمَمْلَكَةِ، سِبْطُ يَهُوذَا، وَمِنْهُ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ، وَأَنَّ طَالُوتَ مَا كَانَ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ السِّبْطَيْنِ، بَلْ كَانَ مِنْ وَلَدِ بِنْيَامِينَ فَلِهَذَا السَّبَبِ أَنْكَرُوا كَوْنَهُ مَلِكًا لَهُمْ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَكَّدُوا هَذِهِ الشُّبْهَةَ بِشُبْهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ فَقِيرٌ، وَاخْتَلَفُوا فَقَالَ وَهْبٌ، كَانَ دَبَّاغًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ مُكَارِيًا، وَقَالَ آخَرُونَ، كَانَ سَقَّاءً. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاوَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَنَحْنُ أَحَقُّ وَفِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يُؤْتَ. قُلْنَا: الْأُولَى لِلْحَالِ، وَالثَّانِيَةُ لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ حَالًا، وَالْمَعْنَى: كَيْفَ يَتَمَلَّكُ عَلَيْنَا وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ التَّمَلُّكَ لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ، وَأَنَّهُ فَقِيرٌ وَلَا بُدَّ للملك من مال يعتضد به، [وجوه التي أجاب الله تعالى في هذه الآية بأنه لَا يَسْتَحِقُّ التَّمَلُّكَ لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بالملك، وأن طالوت فَقِيرٌ وَلَا بُدَّ لِلْمَلِكِ مِنْ مَالٍ يَعْتَضِدُ بِهِ] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ شُبَهِهِمْ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّهُ بِالْمُلْكِ وَالْإِمْرَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا كَانُوا مُقِرِّينَ بِنُبُوَّةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ، كَانَ إِخْبَارُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ طَالُوتَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ حُجَّةً قَاطِعَةً فِي ثُبُوتِ الْمُلْكِ لَهُ لِأَنَّ تَجْوِيزَ الْكَذِبِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَقْتَضِي رَفْعَ الْوُثُوقِ بِقَوْلِهِمْ وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي ثُبُوتِ نَبُوَّتِهِمْ وَرِسَالَتِهِمْ، وَإِذَا ثَبَتَ صِدْقُ الْمُخْبِرِ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُ بِالْمُلْكِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَ مَلِكًا وَاجِبَ الطَّاعَةِ وَكَانَتِ الِاعْتِرَاضَاتُ سَاقِطَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: اصْطَفاهُ أَيْ أَخَذَ الْمُلْكَ مِنْ غَيْرِهِ صَافِيًا لَهُ، وَاصْطَفَاهُ، وَاسْتَصْفَاهُ بِمَعْنَى الِاسْتِخْلَاصِ، وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ الشَّيْءَ خَالِصًا لِنَفْسِهِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الصَّفْوَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ اصْتَفَى بِالتَّاءِ فَأُبْدِلَتِ التَّاءُ طَاءً لِيَسْهُلَ النُّطْقُ بِهَا بَعْدَ الصَّادِ، وَكَيْفَمَا كَانَ الِاشْتِقَاقُ فَالْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّهُ بِالْمُلْكِ وَالْإِمْرَةِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَصَفَ تَعَالَى نَفْسَهُ بِأَنَّهُ اصْطَفَى الرُّسُلَ وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمُ: الْمُصْطَفَوْنَ الْأَخْيَارَ وَوَصَفَ الرَّسُولَ بِأَنَّهُ الْمُصْطَفَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْإِمَامَةَ مَوْرُوثَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مَلِكُهُمْ مَنْ لَا يَكُونُ مِنْ بَيْتِ الْمَمْلَكَةِ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا سَاقِطٌ، وَالْمُسْتَحِقُّ لِذَلِكَ مَنْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَهُوَ نَظِيرُ قوله: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ [آلِ عِمْرَانَ: 26] . الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَتَقْرِيرُ/ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّهُمْ طَعَنُوا فِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلْمُلْكِ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ الْمُلْكِ الثَّانِي: أَنَّهُ فَقِيرٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْمُلْكِ وَقَرَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ وَصْفَانِ أَحَدُهُمَا: الْعِلْمُ وَالثَّانِي: الْقُدْرَةُ، وَهَذَانِ الْوَصْفَانِ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِاسْتِحْقَاقِهِ الْمُلْكَ مِنَ الْوَصْفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ مِنْ باب الكمالات

[سورة البقرة (2) : الآيات 248 إلى 249]

الحقيقة، وَالْمَالُ وَالْجَاهُ لَيْسَا كَذَلِكَ وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ مِنَ الْكِمَالَاتِ الْحَاصِلَةِ لِجَوْهَرِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ وَالْمَالُ وَالْجَاهُ أَمْرَانِ مُنْفَصِلَانِ عَنْ ذَاتِ الْإِنْسَانِ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ لَا يُمْكِنُ سَلْبُهُمَا عَنِ الْإِنْسَانِ، وَالْمَالُ وَالْجَاهُ يُمْكِنُ سَلْبُهُمَا عَنِ الْإِنْسَانِ وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْعِلْمَ بِأَمْرِ الْحُرُوبِ، وَالْقَوِيَّ الشَّدِيدَ عَلَى الْمُحَارَبَةِ يَكُونُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي حِفْظِ مَصْلَحَةِ الْبَلَدِ، وَفِي دَفْعِ شَرِّ الْأَعْدَاءِ أَتَمَّ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالرَّجُلِ النَّسِيبِ الْغَنِيِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِضَبْطِ الْمَصَالِحِ، وَقُدْرَةٌ عَلَى دَفْعِ الْأَعْدَاءِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إِسْنَادَ الْمُلْكِ إِلَى الْعَالِمِ الْقَادِرِ، أَوْلَى مِنْ إسناده إلى النسيب الغني ثم هاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَعْمَالِ بِقَوْلِهِ: وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعُلُومَ الْحَاصِلَةَ لِلْخَلْقِ، إِنَّمَا حَصَلَتْ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِيجَادِهِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الْإِضَافَةُ إِنَّمَا كَانَتْ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُعْطِي الْعَقْلَ وَنَصَبَ الدَّلَائِلَ، وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِضَافَةِ الْمُبَاشَرَةُ دُونَ التَّسَبُّبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِالْبَسْطَةِ فِي الْجِسْمِ طُولُ الْقَامَةِ، وَكَانَ يَفُوقُ النَّاسَ بِرَأْسِهِ وَمَنْكِبِهِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ طَالُوتَ لِطُولِهِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنَ الْبَسْطَةِ فِي الْجِسْمِ الْجَمَالُ، وَكَانَ أَجْمَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْقُوَّةُ، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي أَصَحُّ لِأَنَّ الْمُنْتَفَعَ بِهِ فِي دَفْعِ الْأَعْدَاءِ هُوَ الْقُوَّةُ وَالشِّدَّةُ، لَا الطُّولُ وَالْجَمَالُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ الْبَسْطَةَ فِي الْعِلْمِ، عَلَى الْبَسْطَةِ فِي الْجِسْمِ، وَهَذَا مِنْهُ تَعَالَى تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْفَضَائِلَ النَّفْسَانِيَّةَ أَعْلَى وَأَشْرَفُ وَأَكْمَلُ مِنَ الْفَضَائِلِ الْجِسْمَانِيَّةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ عَنِ الشُّبْهَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمُلْكَ لِلَّهِ وَالْعَبِيدَ لِلَّهِ فَهُوَ سُبْحَانُهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ، لِأَنَّ الْمَالِكَ إِذَا تَصَرَّفَ فِي مُلْكِهِ فَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي الْجَوَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى وَاسِعُ الْفَضْلِ وَالرِّزْقِ وَالرَّحْمَةِ، وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنْتُمْ طَعَنْتُمْ فِي طَالُوتَ بِكَوْنِهِ فَقِيرًا، وَاللَّهُ تَعَالَى وَاسِعُ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، فَإِذَا فَوَّضَ الْمُلْكَ إِلَيْهِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمُلْكَ لَا يَتَمَشَّى إِلَّا بِالْمَالِ، فَاللَّهُ تَعَالَى يَفْتَحُ عَلَيْهِ بَابَ الرِّزْقِ وَالسَّعَةِ فِي الْمَالِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَاسِعٌ، بِمَعْنَى مُوَسِّعٌ، أَيْ يُوَسِّعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ نِعَمِهِ، وَتَعَلُّقُهُ بِمَا/ قَبْلَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ وَاسِعٌ بِمَعْنَى ذُو سَعَةٍ، وَيَجِيءُ فَاعِلٌ وَمَعْنَاهُ ذُو كَذَا، كَقَوْلِهِ: عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: 21] أَيْ ذَاتِ رِضًا، وَهَمٌّ نَاصِبٌ ذُو نَصَبٍ، ثُمَّ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: عَلِيمٌ أَنَّهُ تَعَالَى مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى إِغْنَاءِ الْفَقِيرِ عَالِمٌ بِمَقَادِيرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي تَدْبِيرِ الْمُلْكِ، وَعَالِمٌ بِحَالِ ذَلِكَ الْمُلْكِ فِي الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، فَيَخْتَارُ لِعِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْعَوَاقِبِ مَا هُوَ مَصْلَحَتُهُ فِي قِيَامِهِ بأمر الملك. [سورة البقرة (2) : الآيات 248 الى 249] وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)

اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِنُبُوَّةِ النَّبِيِّ الَّذِي كَانَ فِيهِمْ/ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً كَالظَّاهِرِ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِنُبُوَّةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ، وَمُقِرِّينَ بِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ النَّبِيَّ لَمَّا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً كَانَ هَذَا دَلِيلًا قَاطِعًا فِي كَوْنِ طَالُوتَ مَلِكًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لِكَمَالِ رَحْمَتِهِ بِالْخَلْقِ، ضَمَّ إِلَى ذَلِكَ الدَّلِيلِ دَلِيلًا آخَرَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ النَّبِيِّ صَادِقًا فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ طَالُوتَ نَصَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُلْكِ وَإِكْثَارُ الدَّلَائِلِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى جَائِزٌ، وَلِذَلِكَ أَنَّهُ كَثُرَتْ مُعْجِزَاتُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ مَجِيءَ ذَلِكَ التَّابُوتِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقَعَ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ خَارِقًا لِلْعَادَةِ حَتَّى يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ آيَةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، دَالَّةً عَلَى صِدْقِ تِلْكَ الدَّعْوَى، ثُمَّ قَالَ أَصْحَابُ الْأَخْبَارِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَابُوتًا فِيهِ صُوَرُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَوْلَادِهِ، فَتَوَارَثَهُ أَوْلَادُ آدَمَ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى يَعْقُوبَ، ثُمَّ بَقِيَ فِي أَيْدِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَانُوا إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ تَكَلَّمَ وَحَكَمَ بَيْنَهُمْ وَإِذَا حَضَرُوا الْقِتَالَ قَدَّمُوهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَحْمِلُهُ فَوْقَ الْعَسْكَرِ وَهُمْ يُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ فَإِذَا سَمِعُوا مِنَ التَّابُوتِ صَيْحَةً اسْتَيْقَنُوا بِالنُّصْرَةِ، فَلَمَّا عَصَوْا وَفَسَدُوا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَمَالِقَةَ فَغَلَبُوهُمْ عَلَى التَّابُوتِ وَسَلَبُوهُ، فَلَمَّا سَأَلُوا نَبِيَّهُمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مُلْكِ طَالُوتَ، قَالَ ذَلِكَ النَّبِيُّ: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنَّكُمْ تَجِدُونَ التَّابُوتَ فِي دَارِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ سَلَبُوا ذَلِكَ التَّابُوتَ كَانُوا قَدْ جَعَلُوهُ فِي مَوْضِعِ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، فَدَعَا النَّبِيُّ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَى أُولَئِكَ الْكُفَّارِ الْبَلَاءَ حَتَّى إِنَّ كُلَّ مَنْ بَالَ عِنْدَهُ أَوْ تَغَوَّطَ ابْتَلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْبَوَاسِيرِ، فَعَلِمَ الْكُفَّارُ أَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ اسْتِخْفَافِهِمْ بِالتَّابُوتِ، فَأَخْرَجُوهُ وَوَضَعُوهُ عَلَى ثَوْرَيْنِ فَأَقْبَلَ الثَّوْرَانِ يَسِيرَانِ وَوَكَّلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمَا أَرْبَعَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَسُوقُونَهُمَا، حَتَّى أَتَوْا مَنْزِلَ طَالُوتَ، ثُمَّ إِنَّ قَوْمَ ذَلِكَ النَّبِيِّ رَأَوُا التَّابُوتَ عِنْدَ طَالُوتَ، فَعَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ مَلِكًا لَهُمْ، فذلك هو قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ وَالْإِتْيَانُ عَلَى هَذَا مَجَازٌ، لِأَنَّهُ أُتِيَ بِهِ وَلَمْ يَأْتِ هُوَ فَنُسِبَ إِلَيْهِ تَوَسُّعًا، كَمَا يُقَالُ: رَبِحَتِ الدَّرَاهِمُ، وَخَسِرَتِ التِّجَارَةُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ التَّابُوتَ صُنْدُوقٌ كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَضَعُ التَّوْرَاةَ فِيهِ، وَكَانَ مِنْ خَشَبٍ، وَكَانُوا يَعْرِفُونَهُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفَعَهُ بَعْدَ مَا قَبَضَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِسُخْطِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ قَالَ نَبِيُّ ذَلِكَ الْقَوْمِ: إِنَّ آيَةَ مُلْكِ طَالُوتَ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ مِنَ السَّمَاءِ، ثُمَّ إِنَّ التَّابُوتَ لَمْ تَحْمِلْهُ الْمَلَائِكَةُ وَلَا الثَّوْرَانِ، بَلْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْمَلَائِكَةُ كَانُوا يَحْفَظُونَهُ، وَالْقَوْمُ كَانُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ حَتَّى نَزَلَ عِنْدَ طَالُوتَ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعَلَى هَذَا الْإِتْيَانُ حَقِيقَةٌ فِي التَّابُوتِ، وَأُضِيفُ الْحَمْلُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ فِي الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّ مَنْ حَفِظَ شَيْئًا فِي/ الطَّرِيقِ جَازَ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ حَمَلَ ذَلِكَ الشَّيْءَ وَإِنْ لَمْ يَحْمِلْهُ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ:

حَمَلْتُ الْأَمْتِعَةَ إِلَى زَيْدٍ إِذَا حَفِظَهَا فِي الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانَ الْحَامِلُ غَيْرَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ إِتْيَانَ التَّابُوتِ مُعْجِزَةً، ثُمَّ فِيهِ احْتِمَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَجِيءُ التَّابُوتِ مُعْجِزًا، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ التَّابُوتُ مُعْجِزًا، بَلْ يَكُونُ مَا فِيهِ هُوَ الْمُعْجِزَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُشَاهِدُوا التَّابُوتَ خَالِيًا، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ النَّبِيَّ يَضَعُهُ بِمَحْضَرٍ مِنَ الْقَوْمِ فِي بَيْتٍ وَيُغْلِقُوا الْبَيْتَ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ يَدَّعِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى وَاقِعَتِنَا، فَإِذَا فَتَحُوا بَابَ الْبَيْتِ وَنَظَرُوا فِي التَّابُوتِ رَأَوْا فِيهِ كِتَابًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَلِكَهُمْ هُوَ طَالُوتُ، وَعَلَى أَنَّ اللَّهَ سَيَنْصُرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ فَهَذَا يَكُونُ مُعْجِزًا قَاطِعًا دَالًّا عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَفْظُ الْقُرْآنِ يَحْتَمِلُ هَذَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِي التَّابُوتِ هَذَا الْمُعْجِزَ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِاسْتِقْرَارِ قَلْبِهِمْ وَاطْمِئْنَانِ أَنْفُسِهِمْ فَهَذَا مُحْتَمَلٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَزْنُ التَّابُوتِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فَعْلُوتًا أَوْ فَاعُولًا، وَالثَّانِي مَرْجُوحٌ، لِأَنَّهُ يَقِلُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَفْظٌ يَكُونُ فَاؤُهُ وَلَامُهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، نَحْوُ: سَلَسٌ وَقَلَقٌ، فَلَا يُقَالُ: تَابُوتٌ مِنْ تَبَتَ قِيَاسًا عَلَى مَا نُقِلَ، وَإِذَا فَسَدَ هَذَا الْقِسْمُ تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّهُ فَعْلُوتٌ مِنَ التَّوْبِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ يُوضَعُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ، ويودع فيه فلا يزول يَرْجِعُ إِلَيْهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ وَصَاحِبُهُ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مُودَعَاتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ الْكُلُّ: التَّابُوتُ بِالتَّاءِ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ التَّابُوهُ بِالْهَاءِ وَهِيَ لُغَةُ الْأَنْصَارِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ طَالُوتَ كَانَ نَبِيًّا، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَظْهَرَ الْمُعْجِزَةُ عَلَى يَدِهِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ نَبِيًّا، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا كَانَ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْكَرَامَةِ وَالْمُعْجِزَةِ أَنَّ الْكَرَامَةَ لَا تَكُونُ عَلَى سَبِيلِ التَّحَدِّي، وَهَذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّحَدِّي، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْكَرَامَاتِ. وَالْجَوَابُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِنَبِيِّ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَمَعَ كَوْنِهِ مُعْجِزَةً لَهُ فَإِنَّهُ كَانَ آيَةً قَاطِعَةً فِي ثُبُوتِ مُلْكِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَفِيهِ مسائل: المسألة الأولى: السكينة فعلية مِنَ السُّكُونِ، وَهُوَ ضِدُّ الْحَرَكَةِ وَهِيَ مَصْدَرٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الِاسْمِ، نَحْوُ: الْقَضِيَّةُ وَالْبَقِيَّةُ وَالْعَزِيمَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي السَّكِينَةِ، وَضَبْطُ الْأَقْوَالِ فِيهَا أَنْ نَقُولَ: الْمُرَادُ بِالسَّكِينَةِ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ شَيْئًا حَاصِلًا فِي التَّابُوتِ أَوْ مَا كَانَ كَذَلِكَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: هُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ تَسْكُنُونَ عِنْدَ مَجِيئِهِ وَتُقِرُّونَ لَهُ بِالْمُلْكِ، وَتَزُولُ نَفْرَتُكُمْ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مَتَى جَاءَهُمُ التَّابُوتُ مِنَ السَّمَاءِ وَشَاهَدُوا تِلْكَ الْحَالَةَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَسْكُنَ قُلُوبُهُمْ إِلَيْهِ وَتَزُولَ نَفْرَتُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ السَّكِينَةِ شَيْءٌ كَانَ مَوْضُوعًا فِي التَّابُوتِ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ كَانَ فِي التَّابُوتِ بِشَارَاتٌ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَةِ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، بِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ طَالُوتَ وَجُنُودَهُ، وَيُزِيلُ خَوْفَ الْعَدُوِّ عَنْهُمْ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَانَ لَهَا وَجْهٌ كَوَجْهِ الْإِنْسَانِ، وَكَانَ لَهَا رِيحٌ هَفَّافَةٌ وَالثَّالِثُ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:

هِيَ صُورَةٌ مِنْ زَبَرْجَدٍ أَوْ يَاقُوتٍ لَهَا رَأْسٌ كَرَأْسِ الْهِرِّ، وَذَنَبٌ كَذَنَبِهِ، فَإِذَا صَاحَتْ كَصِيَاحِ الْهِرِّ ذَهَبَ التَّابُوتُ نَحْوَ الْعَدُوِّ وَهُمْ يَمْضُونَ مَعَهُ فَإِذَا وَقَفَ وَقَفُوا وَنَزَلَ النَّصْرُ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ: إِنَّ السَّكِينَةَ الَّتِي كَانَتْ فِي التَّابُوتِ شَيْءٌ لَا يُعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ السَّكِينَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الثَّبَاتِ وَالْأَمْنِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ الْغَارِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الْفَتْحِ: 26] فَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ مَعْنَاهُ الْأَمْنُ وَالسُّكُونُ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ حَصَلَ فِي التَّابُوتِ شَيْءٌ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: فِيهِ سَكِينَةٌ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ التَّابُوتِ ظَرْفًا لِلسَّكِينَةِ وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى فَكَمَا أَنَّ التَّابُوتَ كَانَ ظَرْفًا لِلْبَقِيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلسَّكِينَةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ كَلِمَةَ فِي كَمَا تَكُونُ لِلظَّرْفِيَّةِ فَقَدْ تَكُونُ لِلسَّبَبِيَّةِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ» وَقَالَ: «فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ» أَيْ بِسَبَبِهِ فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فِيهِ سَكِينَةٌ أَيْ بِسَبَبِهِ تَحْصُلُ السَّكِينَةُ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَقِيَّةً مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ مِنَ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ بِسَبَبِ هَذَا التَّابُوتِ يَنْتَظِمُ أَمْرُ مَا بَقِيَ من دينها وَشَرِيعَتِهِمَا. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَقِيَّةِ شَيْءٌ كَانَ مَوْضُوعًا فِي التَّابُوتِ فَقَالُوا: الْبَقِيَّةُ هِيَ رُضَاضُ الْأَلْوَاحِ وَعَصَا مُوسَى وَثِيَابُهُ وَشَيْءٌ مِنَ التَّوْرَاةِ وَقَفِيزٌ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ فَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ آلِ مُوسَى وَآلِ هَارُونَ هُوَ مُوسَى وَهَارُونَ أَنْفُسَهُمَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: «لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ» وَأَرَادَ بِهِ دَاوُدَ نَفْسَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ آلِ دَاوُدَ مِنَ الصَّوْتِ الْحَسَنِ مِثْلَ مَا كَانَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا أُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى آلِ مُوسَى وَآلِ هَارُونَ، لِأَنَّ ذَلِكَ التَّابُوتَ قَدْ تَدَاوَلَتْهُ الْقُرُونُ بَعْدَهُمَا إِلَى وَقْتِ طَالُوتَ، وَمَا فِي التَّابُوتِ أَشْيَاءُ تَوَارَثَهَا الْعُلَمَاءُ مِنْ أَتْبَاعِ مُوسَى وَهَارُونَ، فَيَكُونُ الْآلُ هُمُ الْأَتْبَاعُ، قَالَ تَعَالَى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غَافِرٍ: 46] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُعْجِزَةٌ بَاهِرَةٌ إِنْ كُنْتُمْ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِدَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ فِيهِ مَسَائِلُ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا يَظْهَرُ بِتَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ بَاقِي الْكَلَامِ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُمْ بِآيَةِ التَّابُوتِ أَذْعَنُوا لَهُ، وَأَجَابُوا إِلَى الْمَسِيرِ تَحْتَ رَايَتِهِ. فَلَمَّا فَصَلَ بِهِمْ أَيْ فَارَقَ بِهِمْ حَدَّ بَلَدِهِ وَانْقَطَعَ عَنْهُ، وَمَعْنَى الْفَصْلِ الْقَطْعُ، يُقَالُ: قَوْلٌ فَصْلٌ، إِذَا كَانَ يَقْطَعُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَفَصَلْتُ اللحم عن

الْعَظْمِ فَصْلًا وَفَاصَلَ الرَّجُلِ شَرِيكَهُ وَامْرَأَتَهُ فِصَالًا، وَيُقَالُ لِلْفِطَامِ فِصَالٌ، لِأَنَّهُ يَقْطَعُ عَنِ الرَّضَاعِ، وَفَصَلَ عَنِ الْمَكَانِ قَطَعَهُ بِالْمُجَاوَزَةِ عَنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ [يُوسُفَ: 94] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَوْلُهُ: فَصَلَ عَنْ مَوْضِعِ كَذَا أَصْلُهُ فَصَلَ نَفْسَهُ، ثُمَّ لِأَجْلِ الْكَثْرَةِ فِي الِاسْتِعْمَالِ حَذَفُوا الْمَفْعُولَ حَتَّى صَارَ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي كَمَا يُقَالُ انْفَصَلَ وَالْجُنُودُ جَمْعُ جُنْدٍ وَكُلُّ صِنْفٍ مِنَ الْخَلْقِ جُنْدٌ عَلَى حِدَةٍ، يُقَالُ لِلْجَرَادِ الْكَثِيرَةِ إِنَّهَا جُنُودُ اللَّهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّ طَالُوتَ قَالَ لِقَوْمِهِ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ مَعِي رَجُلٌ يَبْنِي بِنَاءً لَمْ يَفْرُغْ مِنْهُ وَلَا تَاجِرٌ مُشْتَغِلٌ بِالتِّجَارَةِ، وَلَا مُتَزَوِّجٌ بِامْرَأَةٍ لَمْ يَبْنِ عَلَيْهَا وَلَا أَبْغِي إِلَّا الشَّابَّ النَّشِيطَ الْفَارِغَ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِمَّنِ اخْتَارَ ثَمَانُونَ أَلْفًا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ مَنْ كَانَ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّهُ هُوَ طَالُوتُ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُسْنَدًا إِلَى مَذْكُورٍ سَابِقٍ، وَالْمَذْكُورُ السَّابِقُ هُوَ طَالُوتُ، ثُمَّ عَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ مِنْ طَالُوتَ لَكِنَّهُ تَحَمَّلَهُ مِنْ نَبِيِّ الْوَقْتِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ طَالُوتُ نَبِيًّا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ وَحْيٍ أَتَاهُ عَنْ رَبِّهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَعَ الْمُلْكِ كَانَ نَبِيًّا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ النَّبِيُّ الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ وَنَبِيُّ ذَلِكَ الْوَقْتِ هُوَ أَشْمُوِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي حِكْمَةِ هَذَا الِابْتِلَاءِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَاضِي: كَانَ مَشْهُورًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُلُوكَ مَعَ ظُهُورِ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى إِظْهَارَ عَلَامَةٍ قَبْلَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ يَتَمَيَّزُ بِهَا مَنْ يَصْبِرُ عَلَى الْحَرْبِ مِمَّنْ لَا يَصْبِرُ لِأَنَّ الرُّجُوعَ قَبْلَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ لَا يُؤَثِّرُ كَتَأْثِيرِهِ حَالَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا هُوَ الصَّلَاحَ قَبْلَ مُقَاتَلَةِ الْعَدُوِّ لَا جَرَمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ابْتَلَاهُمْ لِيَتَعَوَّدُوا الصَّبْرَ عَلَى الشَّدَائِدِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي النَّهَرِ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ، أَنَّهُ نَهَرٌ بَيْنَ الْأُرْدُنِ وَفِلَسْطِينَ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّهُ نَهَرُ فِلَسْطِينَ، قَالَ الْقَاضِي: وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ النَّهَرَ الْمُمْتَدَّ مِنْ بَلَدٍ قَدْ يُضَافُ إِلَى أَحَدِ الْبَلَدَيْنِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَنَّ الْوَقْتَ كَانَ قَيْظًا فَسَلَكُوا مَفَازَةً فَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُجْرِيَ لَهُمْ نَهَرًا فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِمَا اقْتَرَحْتُمُوهُ مِنَ النَّهَرِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ أَيْ مُمْتَحِنُكُمُ امْتِحَانَ الْعَبْدِ كَمَا قَالَ: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ [الْإِنْسَانِ: 2] وَلَمَّا كَانَ الِابْتِلَاءُ بَيْنَ النَّاسِ إِنَّمَا يَكُونُ لِظُهُورِ الشَّيْءِ، وثبت أن الله تعالى لا يثبت، وَلَا يُعَاقِبُ عَلَى عِلْمِهِ، إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِظُهُورِ الْأَفْعَالِ بَيْنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالتَّكْلِيفِ لَا جَرَمَ سُمِّيَ التَّكْلِيفُ ابْتِلَاءً، وَفِيهِ لُغَتَانِ بَلَا يَبْلُو، وَابْتَلَى يَبْتَلِي، قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَقَدْ بَلَوْتُكَ وَابْتَلَيْتُ خَلِيفَتِي ... وَلَقَدْ كَفَاكَ مَوَدَّتِي بِتَأَدُّبِ فَجَاءَ بِاللُّغَتَيْنِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: نَهْرٌ وَنَهَرٌ بِتَسْكِينِ الْهَاءِ وَتَحْرِيكِهَا لُغَتَانِ، وَكُلُّ ثُلَاثِيٍّ حَشْوُهُ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْحَلْقِ فَإِنَّهُ يَجِيءُ عَلَى هَذَيْنِ، كَقَوْلِكَ: صَخْرٌ وَصَخَرٌ، وَشَعْرٌ وَشَعَرٌ، وَقَالُوا: بَحْرٌ وَبَحَرٌ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: كَأَنَّمَا خُلِقَتْ كَفَّاهُ مِنْ حَجَرٍ ... فَلَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالنَّدَى عَمَلُ يَرَى التَّيَمُّمَ فِي بَرٍّ وَفِي بَحَرٍ ... مَخَافَةَ أَنْ يُرَى فِي كَفِّهِ بَلَلُ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَلَيْسَ مِنِّي كَالزَّجْرِ، يَعْنِي لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينِي وَطَاعَتِي، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ثُمَّ قَالَ قَبْلَ هَذَا: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَأَيْضًا نَظِيرُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَلَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» أَيْ لَيْسَ عَلَى دِينِنَا وَمَذْهَبِنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ لَمْ يَطْعَمْهُ أَيْ لَمْ يَذُقْهُ، وَهُوَ مِنَ الطَّعْمِ، وَهُوَ يَقَعُ عَلَى الطَّعَامِ/ وَالشَّرَابِ هَذَا مَا قَالَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَعِنْدِي إِنَّمَا اخْتِيرَ هَذَا اللَّفْظُ لِوَجْهَيْنِ مِنَ الْفَائِدَةِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَطِشَ جِدًّا، ثُمَّ شَرِبَ الْمَاءَ وَأَرَادَ وَصْفَ ذَلِكَ الْمَاءِ بِالطِّيبِ وَاللَّذَّةِ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْمَاءَ كَأَنَّهُ الْجُلَّابُ، وَكَأَنَّهُ عَسَلٌ فَيَصِفُهُ بِالطُّعُومِ اللَّذِيذَةِ، فَقَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَإِنْ بَلَغَ بِهِ الْعَطَشُ إِلَى حَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَاءُ فِي فَمِهِ كَالْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الطُّعُومِ الطَّيِّبَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَأَنْ لَا يَشْرَبَهُ وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ جَعَلَ الْمَاءَ فِي فَمِهِ وَتَمَضْمَضَ بِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنَ الْفَمِ، فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ ذَاقَهُ وَطَعِمَهُ، وَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ شَرِبَهُ، فَلَوْ قَالَ: وَمَنْ لَمْ يَشْرَبْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي كَانَ الْمَنْعُ مَقْصُورًا عَلَى الشُّرْبِ، أَمَّا لَمَّا قَالَ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ كَانَ الْمَنْعُ حَاصِلًا فِي الشُّرْبِ وَفِي الْمَضْمَضَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ أَشَقُّ، وَأَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ إِذَا تَمَضْمَضَ بِهِ وَجَدَ نَوْعَ خِفَّةٍ وَرَاحَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْ مِنْهُ لِيَكُونَ آخِرُ الْآيَةِ مُطَابِقًا أَوَّلَهَا، إِلَّا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ اللَّفْظَ، وَاخْتِيرَ هَذَا لِفَائِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا النَّهَرِ كَيْفَ يَحْنَثُ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَحْنَثُ إِلَّا إِذَا كَرَعَ مِنَ النَّهْرِ، حَتَّى لَوِ اغْتَرَفَ بِالْكُوزِ مَاءً مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ وَشَرِبَهُ لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّ الشُّرْبَ مِنَ الشَّيْءِ هُوَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ شُرْبِهِ مُتَّصِلًا بِذَلِكَ الشَّيْءِ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِأَنْ يَشْرَبَ مِنَ النَّهْرِ، وَقَالَ الْبَاقُونَ إِذَا اغْتَرَفَ الْمَاءَ بِالْكُوزِ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ وَشَرِبَهُ يَحْنَثُ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَجَازًا إِلَّا أَنَّهُ مَجَازٌ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مَقْصُورًا عَلَى الشُّرْبِ مِنَ النَّهْرِ، حَتَّى لَوْ أَخَذَهُ بِالْكُوزِ وَشَرِبَهُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ النَّهْيِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الِاحْتِمَالُ قَائِمًا فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ ذَكَرَ فِي اللَّفْظِ الثَّانِي مَا يُزِيلُ هَذَا الْإِبْهَامَ، فَقَالَ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي أَضَافَ الطَّعْمَ وَالشُّرْبَ إِلَى الْمَاءِ لَا إِلَى النَّهْرِ إِزَالَةً لِذَلِكَ الْإِبْهَامِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو غُرْفَةً بِفَتْحِ الْغَيْنِ، وَكَذَلِكَ يَعْقُوبُ وَخَلَفٌ، وقرأ عاصم

وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالضَّمِّ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْغُرْفَةُ بِالضَّمِّ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ الَّذِي يَحْصُلُ فِي الْكَفِّ، وَالْغَرْفَةُ بِالْفَتْحِ الْفِعْلُ، وَهُوَ الِاغْتِرَافُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمِثْلُهُ الْأُكْلَةُ وَالْأَكْلَةُ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَأْكُلُ فِي النَّهَارِ أَكْلَةً وَاحِدَةً، وَمَا أَكَلْتُ عِنْدَهُمْ إِلَّا أُكْلَةً بِالضَّمِّ أَيْ شَيْئًا قَلِيلًا كَاللُّقْمَةِ، وَيُقَالُ: الْحُزَّةُ مِنَ اللَّحْمِ بِالضَّمِّ لِلْقِطْعَةِ الْيَسِيرَةِ مِنْهُ، وَحَزَزْتُ اللَّحْمَ حَزَّةً أَيْ قَطَعْتُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَنَحْوُهُ: الْخُطْوَةُ وَالْخَطْوَةُ بِالضَّمِّ مِقْدَارُ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ، وَالْخَطْوَةِ أَنْ يَخْطُوَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: غَرْفَةٌ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ يَقَعُ عَلَى قَلِيلِ مَا فِي يَدِهِ وَكَثِيرِهِ وَالْغُرْفَةُ بِالضَّمِّ اسْمُ مِلْءِ/ الْكَفِّ أَوْ مَا اغْتُرِفَ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي حُكْمِ الْمُتَّصِلَةِ بِالِاسْتِثْنَاءِ، إِلَّا أَنَّهَا قُدِّمَتْ فِي الذِّكْرِ لِلْعِنَايَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَتِ الْغُرْفَةُ يَشْرَبُ مِنْهَا هُوَ وَدَوَابُّهُ وَخَدَمُهُ، وَيَحْمِلُ مِنْهَا. وَأَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ مَأْذُونًا أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمَاءِ مَا شَاءَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، بِغُرْفَةٍ وَاحِدَةٍ، بِحَيْثُ كَانَ الْمَأْخُوذُ فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ يَكْفِيهِ وَلِدَوَابِّهِ وَخَدَمِهِ، وَلِأَنْ يَحْمِلَهُ مَعَ نَفْسِهِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْقَلِيلَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْعَلُ الْبَرَكَةَ فِيهِ حَتَّى يَكْفِيَ لِكُلِّ هَؤُلَاءِ، وَهَذَا كَانَ مُعْجِزَةً لِنَبِيِّ ذَلِكَ الزَّمَانِ، كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ يَرْوِي الْخَلْقَ الْعَظِيمَ مِنَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أُبَيٌّ وَالْأَعْمَشُ إِلَّا قَلِيلٌ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَهَذَا بِسَبَبِ مَيْلِهِمْ إِلَى الْمَعْنَى، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ اللَّفْظِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَشَرِبُوا مِنْهُ فِي مَعْنَى: فَلَمْ يُطِيعُوهُ، لَا جَرَمَ حَمَلَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَمْ يُطِيعُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الِابْتِلَاءِ أَنْ يَتَمَيَّزَ الصِّدِّيقُ عَنِ الزِّنْدِيقِ، وَالْمُوَافِقُ عَنِ الْمُخَالِفِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ يَكُونُونَ أَهْلًا لِهَذَا الْقِتَالِ هُمُ الَّذِينَ لَا يَشْرَبُونَ مِنْ هَذَا النَّهْرِ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَأْذُونًا فِي هَذَا الْقِتَالِ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِمْ نَفْرَةٌ شَدِيدَةٌ عَنْ ذَلِكَ الْقِتَالِ، لَا جَرَمَ أَقْدَمُوا عَلَى الشُّرْبِ، فَتَمَيَّزَ الْمُوَافِقُ عَنِ الْمُخَالِفِ، وَالصَّدِيقُ عَنِ الْعَدُوِّ، وَيُرْوَى أَنَّ أَصْحَابَ طَالُوتَ لَمَّا هَجَمُوا عَلَى النَّهْرِ بَعْدَ عَطَشٍ شَدِيدٍ، وَقَعَ أَكْثَرُهُمْ فِي النَّهْرِ، وَأَكْثَرُوا الشُّرْبَ، وَأَطَاعَ قَوْمُ قَلِيلٌ مِنْهُمْ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى الِاغْتِرَافِ، وَأَمَّا الَّذِينَ شَرِبُوا وَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ فَاسْوَدَّتْ شِفَاهُهُمْ وَغَلَبَهُمُ الْعَطَشُ وَلَمْ يُرْوَوْا، وَبَقُوا عَلَى شَطِّ النَّهْرِ، وَجَبُنُوا عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَأَمَّا الَّذِينَ أَطَاعُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَوِيَ قَلْبُهُمْ وَصَحَّ إِيمَانُهُمْ، وَعَبَرُوا النَّهْرَ سَالِمِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَلِيلُ الَّذِي لَمْ يَشْرَبْ قِيلَ: إِنَّهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَالْمَشْهُورُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى عَدَدِ أَهْلِ بَدْرٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ: أَنْتُمُ الْيَوْمَ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ حِينَ عَبَرُوا النَّهَرَ وَمَا جَازَ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: وَكُنَّا يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا.

أَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الَّذِينَ عَصَوُا اللَّهَ وَشَرِبُوا مِنَ النَّهْرِ رَجَعُوا إِلَى بَلَدِهِمْ وَلَمْ يَتَوَجَّهْ مَعَهُ إِلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ إِلَّا مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى فِي بَابِ الشُّرْبِ مِنَ النَّهْرِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ رُجُوعَهُمْ إِلَى بَلَدِهِمْ كَانَ قَبْلَ عُبُورِ النَّهْرِ أَوْ بَعْدَهُ، وَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَا عَبَرَ مَعَهُ إِلَّا الْمُطِيعُ، وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِلُ بِأُمُورٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ الَّذِينَ وَافَقُوهُ فِي تِلْكَ الطَّاعَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ الْعَسْكَرِ، ثُمَّ خَصَّ الْمُطِيعِينَ بِأَنَّهُمْ عَبَرُوا النَّهْرَ، عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا عَبَرَ النَّهْرَ أَحَدٌ إِلَّا الْمُطِيعِينَ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ طَالُوتَ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي أَيْ لَيْسَ مِنْ أَصْحَابِي فِي سَفَرِي، كَالرَّجُلِ الَّذِي يَقُولُ لِغَيْرِهِ: لَسْتَ أَنْتَ مِنَّا فِي هَذَا الْأَمْرِ، قَالَ: وَمَعْنَى فَشَرِبُوا مِنْهُ أَيْ لِيَتَسَبَّبُوا بِهِ إِلَى الرُّجُوعِ، وَذَلِكَ لِفَسَادِ دِينِهِمْ وَقَلْبِهِمْ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الِابْتِلَاءِ أَنْ يَتَمَيَّزَ الْمُطِيعُ عَنِ الْعَاصِي وَالْمُتَمَرِّدِ، حَتَّى يَصْرِفَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ وَيَرُدَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدُّوا عِنْدَ حُضُورِ الْعَدُوِّ، وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِابْتِلَاءِ لَيْسَ إِلَّا هَذَا الْمَعْنَى كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ صَرَفَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَمَا أَذِنَ لَهُمْ فِي عُبُورِ النَّهْرِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ اسْتَصْحَبَ كُلَّ جُنُودِهِ وَكُلُّهُمْ عَبَرُوا النَّهْرَ وَاعْتَمَدُوا فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ طَالُوتَ قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِ الْمُنْقَادِ لِأَمْرِ رَبِّهِ، بَلْ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنِ الْمُنَافِقِ أَوِ الْفَاسِقِ، وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ، وَبَيَانُ ضَعْفِهَا مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ طَالُوتَ لَمَّا عَزَمَ عَلَى مُجَاوَزَةِ النَّهْرِ وَتَخَلَّفَ الْأَكْثَرُونَ ذَكَرَ الْمُتَخَلِّفُونَ أَنَّ عُذْرَنَا فِي هَذَا التَّخَلُّفِ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ فَنَحْنُ مَعْذُورُونَ فِي هَذَا التَّخَلُّفِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا جاوَزَهُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ الْمُجَاوَزَةِ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ طَالُوتَ وَالْمُؤْمِنِينَ لَمَّا جَاوَزُوا النَّهْرَ وَرَأَوُا الْقَوْمَ تَخَلَّفُوا وَمَا جَاوَزُوهُ، سَأَلَهُمْ عَنْ سَبَبِ التَّخَلُّفِ فَذَكَرُوا ذَلِكَ، وَمَا كَانَ النَّهْرُ فِي الْعِظَمِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ مِنَ الْمُكَالَمَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمُجَاوَزَةِ قُرْبَ حُصُولِ الْمُجَاوَزَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْإِشْكَالُ أَيْضًا زَائِلٌ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَبَرُوا النَّهْرَ كَانُوا فَرِيقَيْنِ: بَعْضُهُمْ مِمَّنْ يُحِبُّ الْحَيَاةَ وَيَكْرَهُ الْمَوْتَ وَكَانَ الْخَوْفُ وَالْجَزَعُ غَالِبًا عَلَى طَبْعِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ شُجَاعًا قَوِيَّ الْقَلْبِ لَا يُبَالِي بِالْمَوْتِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: هُمُ الَّذِينَ قَالُوا: لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: هُمُ الَّذِينَ أَجَابُوا بِقَوْلِهِمْ: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا شَاهَدُوا قِلَّةَ عَسْكَرِهِمْ قَالُوا: / لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ نُوَطِّنَ أَنْفُسَنَا عَلَى الْقَتْلِ، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْفِرَارِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي قَالُوا: لَا نُوَطِّنُ أَنْفُسَنَا بَلْ نَرْجُو مِنَ اللَّهِ الْفَتْحَ وَالظَّفَرَ، فَكَانَ غَرَضُ الْأَوَّلِينَ التَّرْغِيبَ فِي الشهادة والفوز

بِالْجَنَّةِ، وَغَرَضُ الْفَرِيقِ الثَّانِي التَّرْغِيبَ فِي طَلَبِ الْفَتْحِ وَالنُّصْرَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ مَا يَنْقُضُ الْآخَرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الطَّاقَةُ مَصْدَرٌ بِمَنْزِلَةِ الْإِطَاقَةِ، يُقَالُ: أَطَقْتُ الشَّيْءَ إِطَاقَةً وَطَاقَةً، وَمِثْلُهَا أَطَاعَ إِطَاعَةً، وَالِاسْمُ الطَّاعَةُ، وَأَغَارَ يُغِيرُ إِغَارَةً وَالِاسْمُ الْغَارَةُ، وَأَجَابَ يُجِيبُ إِجَابَةً وَالِاسْمُ الْجَابَةُ وَفِي الْمَثَلِ: أَسَاءَ سَمْعًا فَأَسَاءَ جَابَةً، أَيْ جَوَابًا. أَمَّا قوله تعالى: قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ فَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لِمَ جَعَلَهُمْ ظَانِّينَ وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ حَازِمِينَ؟ وَجَوَابُهُ: أَنَّ السَّبَبَ فِيهِ أُمُورٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ الْمَوْتُ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» وَهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ لَمَّا وَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْقَتْلِ، وَغَلَبَ عَلَى ظُنُونِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَتَخَلَّصُونَ مِنَ الْمَوْتِ، لَا جَرَمَ قِيلَ في صفتهم: إنهم يظنون أنهم ملاقوا الله الثاني: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ أي ملاقوا ثَوَابِ اللَّهِ بِسَبَبِ هَذِهِ الطَّاعَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَعْلَمُ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ظَانًّا رَاجِيًا وَإِنْ بَلَغَ فِي الطَّاعَةِ أَبْلَغَ الْأَمْرِ، إِلَّا مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ بِعَاقِبَةِ أَمْرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ وَهُوَ حَسَنٌ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: قَالَ الذين يظنون أنهم ملاقوا طَاعَةِ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ قَاطِعًا بِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ الَّذِي عَمِلَهُ طَاعَةٌ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَتَى فِيهِ بِشَيْءٍ مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَلَا يَكُونُ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ الْفِعْلُ طَاعَةً، إِنَّمَا الْمُمْكِنُ فِيهِ أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ أَتَى بِهِ عَلَى نَعْتِ الطَّاعَةِ وَالْإِخْلَاصِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّا ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّكِينَةِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ كَانَ فِي التَّابُوتِ كُتُبٌ إِلَهِيَّةٌ نَازِلَةٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، دَالَّةٌ عَلَى حُصُولِ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ لِطَالُوتَ وَجُنُودِهِ، وَلَكِنَّهُ مَا كَانَ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ أَنَّ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ يَحْصُلُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى أَوْ بعدها، فقوله: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ يعني الذين يظنون أنهم ملاقوا وَعْدِ اللَّهِ بِالظَّفَرِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ ظَنًّا لَا يَقِينًا لِأَنَّ حُصُولَهُ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ قَطْعًا إِلَّا أَنَّ حُصُولَهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى مَا كَانَ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ حُسْنِ الظَّنِّ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بقوله: يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ وَيُوقِنُونَ، إِلَّا أَنَّهُ أَطْلَقَ لَفْظَ الظَّنِّ عَلَى الْيَقِينِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِمَا بَيْنَ الظَّنِّ وَالْيَقِينِ مِنَ الْمُشَابَهَةِ فِي تَأَكُّدِ الِاعْتِقَادِ. أَمَّا قَوْلُهُ: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ مِنْهُ تَقْوِيَةُ قُلُوبِ الَّذِينَ قَالُوا: لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ إِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِالتَّأْيِيدِ الْإِلَهِيِّ، وَالنَّصْرِ السَّمَاوِيِّ، فَإِذَا جَاءَتِ الدَّوْلَةُ فَلَا مَضَرَّةَ فِي الْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَإِذَا جَاءَتِ الْمِحْنَةُ فَلَا مَنْفَعَةَ فِي كَثْرَةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفِئَةُ: الْجَمَاعَةُ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ فَاءَ إِلَى بَعْضٍ فَصَارُوا جَمَاعَةً، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُ الْفِئَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَأَوْتُ رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ، وَفَأَيْتُ إِذَا قَطَعْتَ، فَالْفِئَةُ الْفِرْقَةُ مِنَ النَّاسِ، كَأَنَّهَا قِطْعَةٌ مِنْهُمْ.

[سورة البقرة (2) : آية 250]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: لَوْ أُلْغِيَتْ مِنْ هاهنا جَازَ فِي فِئَةٍ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ وَالْخَفْضُ، أَمَّا النَّصْبُ فَلِأَنَّ (كَمْ) بِمَنْزِلَةِ عَدَدٍ فَنَصْبُ مَا بَعْدَهُ نَحْوُ عِشْرِينَ رَجُلًا، وَأَمَّا الْخَفْضُ فَبِتَقْدِيرِ دُخُولِ حَرْفِ (مِنْ) عَلَيْهِ، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى نِيَّةِ تَقْدِيمِ الْفِعْلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَمْ غَلَبَتْ فِئَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فَلَا شُبْهَةَ أَنَّ الْمُرَادَ الْمَعُونَةُ وَالنُّصْرَةُ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلًا لِلَّذِينِ قَالُوا: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَظْهَرَ. [سورة البقرة (2) : آية 250] وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُبَارَزَةُ فِي الْحُرُوبِ، هِيَ أَنْ يَبْرُزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِصَاحِبِهِ وَقْتَ الْقِتَالِ، وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنَّ الْأَرْضَ الْفَضَاءَ الَّتِي لَا حِجَابَ فِيهَا يُقَالُ لَهَا الْبَرَازُ، فَكَانَ الْبُرُوزُ عِبَارَةً عَنْ حُصُولِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْأَرْضِ الْمُسَمَّاةِ بِالْبَرَازِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَيْثُ يَرَى صَاحِبَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَالْأَقْوِيَاءَ مِنْ عَسْكَرِ طَالُوتَ لَمَّا قَرَّرُوا مَعَ الْعَوَامِّ وَالضُّعَفَاءِ أَنَّهُ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَأَوْضَحُوا أَنَّ الْفَتْحَ وَالنُّصْرَةَ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ، لَا جَرَمَ لَمَّا بَرَزَ عَسْكَرُ طَالُوتَ إِلَى عَسْكَرِ جَالُوتَ وَرَأَوُا الْقِلَّةَ فِي جَانِبِهِمْ، وَالْكَثْرَةَ فِي جَانِبِ عَدُوِّهِمْ، لَا جَرَمَ اشْتَغَلُوا بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، فَقَالُوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَنَظِيرُهُ مَا حَكَى اللَّهُ عَنْ قَوْمٍ آخَرِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا حِينَ الِالْتِقَاءِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آلِ عِمْرَانَ: 146] / إِلَى قَوْلِهِ: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 147] وَهَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ الْمَوَاطِنِ، وَرُوِيَ عَنْهُ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَزَلْ يُصَلِّي وَيَسْتَنْجِزُ مِنَ اللَّهِ وَعْدَهُ، وَكَانَ مَتَى لَقِيَ عَدُوًّا قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ وَأَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ» وَكَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ بِكَ أَصُولُ وَبِكَ أَجُولُ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْإِفْرَاغُ الصَّبُّ، يُقَالُ: أَفْرَغْتُ الْإِنَاءَ إِذَا صَبَبْتَ مَا فِيهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَرَاغِ، يُقَالُ: فُلَانٌ فَارِغٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ خَالٍ مِمَّا يَشْغَلُهُ، وَالْإِفْرَاغُ إِخْلَاءُ الْإِنَاءِ مِمَّا فِيهِ، وَإِنَّمَا يَخْلُو بِصَبِّ كُلِّ مَا فِيهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ: أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي طَلَبِ الصَّبْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا صَبَّ الشَّيْءَ فِي الشَّيْءِ فَقَدْ أَثْبَتَ فِيهِ بِحَيْثُ لَا يَزُولُ عَنْهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى التَّأْكِيدِ وَالثَّانِي: أَنَّ إِفْرَاغَ الْإِنَاءِ هُوَ إِخْلَاؤُهُ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِصَبِّ كُلِّ مَا فِيهِ، فَمَعْنَى: أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا: أَيِ اصْبُبْ عَلَيْنَا أَتَمَّ صَبٍّ وَأَبْلَغَهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْأُمُورَ الْمَطْلُوبَةَ عِنْدَ الْمُحَارَبَةِ مَجْمُوعُ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ فَأَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ صَبُورًا عَلَى مُشَاهَدَةِ الْمَخَاوِفِ وَالْأُمُورِ الْهَائِلَةِ، وَهَذَا هُوَ الرُّكْنُ الْأَعْلَى لِلْمُحَارِبِ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ جَبَانًا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَقْصُودٌ أَصْلًا وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ وَجَدَ مِنَ الْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ وَالِاتِّفَاقَاتِ الْحَسَنَةِ مِمَّا يُمَكِّنُهُ أَنْ يَقِفَ وَيَثْبُتَ وَلَا يَصِيرَ مُلْجَأً إِلَى الْفِرَارِ وَثَالِثُهَا: أَنْ تَزْدَادَ قُوَّتُهُ عَلَى قُوَّةِ عَدُوِّهِ حَتَّى يُمْكِنَهُ أَنْ يَقْهَرَ العدو.

[سورة البقرة (2) : آية 251]

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: هِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَالثَّانِيَةُ: هِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَالثَّالِثَةُ: هِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلصَّبْرِ إِلَّا الْقَصْدُ عَلَى الثَّبَاتِ، وَلَا مَعْنَى لِلثَّبَاتِ إِلَّا السُّكُونُ وَالِاسْتِقْرَارُ وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَصْدَ الْمُسَمَّى بِالصَّبْرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَعَلَى أَنَّ الثَّبَاتَ وَالسُّكُونَ الْحَاصِلَ عِنْدَ ذَلِكَ الْقَصْدِ أَيْضًا بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْإِرَادَةَ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ وَبِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الصَّبْرِ وَتَثْبِيتِ الْقَدَمِ تَحْصِيلُ أَسْبَابِ الصَّبْرِ، وَأَسْبَابِ ثَبَاتِ الْقَدَمِ، وَتِلْكَ الْأَسْبَابُ أُمُورٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَجْعَلَ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمُ الرُّعْبَ وَالْجُبْنَ مِنْهُمْ فَيَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنْهُمُ الِاضْطِرَابُ فَيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِجَرَاءَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وَيَصِيرَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى الصَّبْرِ عَلَى الْقِتَالِ وَتَرْكِ الِانْهِزَامِ، وَثَانِيهَا: أَنْ يَلْطُفَ بِبَعْضِ أَعْدَائِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ بُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ فَيَقَعَ بَيْنَهُمُ الِاخْتِلَافُ وَالتَّفَرُّقُ وَيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِجَرَاءَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ وَثَالِثُهَا: أَنْ يُحْدِثَ تَعَالَى فِيهِمْ وَفِي دِيَارِهِمْ وَأَهَالِيهِمْ مِنَ/ الْبَلَاءِ مِثْلَ الْمَوْتِ وَالْوَبَاءِ، وَمَا يَكُونُ سَبَبًا لِاشْتِغَالِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَتَفَرَّغُونَ حِينَئِذٍ لِلْمُحَارَبَةِ فَيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِجَرَاءَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ وَرَابِعُهَا: أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ بِمَرَضٍ وَضَعْفٍ يَعُمُّهُمْ أَوْ يَعُمُّ أَكْثَرَهُمْ، أَوْ يَمُوتَ رَئِيسُهُمْ وَمَنْ يُدَبِّرُ أَمْرَهُمْ فَيَعْرِفَ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ فَيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِقُوَّةِ قُلُوبِهِمْ، وَمُوجِبًا لِأَنْ يَحْصُلَ لَهُمُ الصَّبْرُ وَالثَّبَاتُ، هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الصَّبْرَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَصْدِ إِلَى السُّكُوتِ وَالثَّبَاتَ عِبَارَةٌ عَنِ السُّكُونِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ الْعَبْدِ وَمُرَادَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَكُمْ وَأَنْتُمْ تَصْرِفُونَ الْكَلَامَ عَنْ ظَاهِرِهِ وَتَحْمِلُونَهُ عَلَى أَسْبَابِ الصَّبْرِ وَثَبَاتِ الْأَقْدَامِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَرْكَ الظَّاهِرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لَا يَجُوزُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ الَّتِي سَلَّمْتُمْ أَنَّهَا بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا حَصَلَتْ وَوُجِدَتْ فَهَلْ لَهَا أَثَرٌ فِي التَّرْجِيحِ الدَّاعِي أَوْ لَيْسَ لَهَا أَثَرٌ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَثَرٌ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِطَلَبِهَا مِنَ اللَّهِ فَائِدَةٌ وَإِنْ كَانَ لَهَا أَثَرٌ فِي التَّرْجِيحِ فَعِنْدَ صُدُورِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الْمُرَجَّحَةِ مِنَ اللَّهِ يَحْصُلُ الرُّجْحَانُ، وَعِنْدَ حُصُولِ الرُّجْحَانِ يَمْتَنِعُ الطَّرَفُ الْمَرْجُوحُ، فَيَجِبُ حُصُولُ الطَّرَفِ الرَّاجِحِ، لِأَنَّهُ لَا خُرُوجَ عَنْ طَرَفَيِ النقيض وهو المطلوب والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 251] فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ، وَأَفْرَغَ الصَّبْرَ عَلَيْهِمْ، وَثَبَّتَ أَقْدَامَهُمْ، وَنَصَرَهُمْ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ: جَالُوتَ وَجُنُودِهِ وَحَقَّقَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ ظَنَّ مَنْ قَالَ: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وفَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَصْلُ الْهَزْمِ فِي اللُّغَةِ الْكَسْرُ، يُقَالُ سِقَاءٌ مُنْهَزِمٌ إِذَا تَشَقَّقَ مَعَ جَفَافٍ، وَهَزَمْتُ الْعَظْمَ أَوِ الْقَصَبَةَ هَزْمًا، وَالْهَزْمَةُ نُقْرَةٌ فِي الْجَبَلِ، أَوْ فِي الصَّخْرَةِ، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي زَمْزَمَ: هِيَ هَزْمَةُ جِبْرِيلَ يُرِيدُ هَزَمَهَا بِرِجْلِهِ فَخَرَجَ الْمَاءُ، وَيُقَالُ: سَمِعْتُ هَزْمَةَ/ الرَّعْدِ كَأَنَّهُ صَوْتٌ فِيهِ تَشَقُّقٌ، وَيُقَالُ لِلسَّحَابِ: هَزِيمٌ، لِأَنَّهُ يَتَشَقَّقُ بِالْمَطَرِ، وَهَزَمَ الضَّرْعَ وَهَزْمُهُ مَا يُكْسَرُ مِنْهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ تِلْكَ الْهَزِيمَةَ كَانَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَبِإِعَانَتِهِ وتوفيقه

وَتَيْسِيرِهِ، وَأَنَّهُ لَوْلَا إِعَانَتُهُ وَتَيْسِيرُهُ لَمَا حَصَلَ الْبَتَّةَ ثُمَّ قَالَ: وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ رَاعِيًا وَلَهُ سَبْعَةُ إِخْوَةٍ مَعَ طَالُوتَ فَلَمَّا أَبْطَأَ خَبَرُ إِخْوَتِهِ عَلَى أَبِيهِمْ إِيشَا أَرْسَلَ ابْنَهُ دَاوُدَ إِلَيْهِمْ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِهِمْ، فَأَتَاهُمْ وَهُمْ فِي الْمَصَافِّ وَبَدَرَ جَالُوتُ الْجَبَّارُ وَكَانَ مِنْ قَوْمِ عَادٍ إِلَى الْبَرَازِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِ أَحَدٌ فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ لَوْ كُنْتُمْ عَلَى حَقٍّ لَبَارَزَنِي بَعْضُكُمْ فَقَالَ دَاوُدُ لِإِخْوَتِهِ أَمَا فِيكُمْ مَنْ يَخْرُجُ إِلَى هَذَا الْأَقْلَفِ؟ فَسَكَتُوا، فَذَهَبَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الصَّفِّ لَيْسَ فِيهَا إِخْوَتُهُ فَمَرَّ بِهِ طَالُوتُ وَهُوَ يُحَرِّضُ النَّاسَ، فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ: مَا تَصْنَعُونَ بِمَنْ يَقْتُلُ هَذَا الْأَقْلَفَ؟ فَقَالَ طَالُوتُ: أُنْكِحُهُ ابْنَتِي وَأُعْطِيهِ نِصْفَ مُلْكِي فَقَالَ دَاوُدُ: فَأَنَا خَارِجٌ إِلَيْهِ وَكَانَ عَادَتُهُ أَنْ يُقَاتِلَ بِالْمِقْلَاعِ الذِّئْبَ وَالْأَسَدَ فِي الرَّعْيِ، وَكَانَ طَالُوتُ عَارِفًا بِجَلَادَتِهِ، فَلَمَّا هَمَّ دَاوُدُ بِأَنْ يَخْرُجَ رَمَاهُ فَأَصَابَهُ فِي صَدْرِهِ، وَنَفَذَ الْحَجَرُ فِيهِ، وَقَتَلَ بَعْدَهُ نَاسًا كَثِيرًا، فَهَزَمَ اللَّهُ جُنُودَ جَالُوتَ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ فَحَسَدَهُ طَالُوتُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ مَمْلَكَتِهِ، وَلَمْ يَفِ لَهُ بِوَعْدِهِ، ثُمَّ نَدِمَ فَذَهَبَ يَطْلُبُهُ إِلَى أَنْ قُتِلَ، وَمَلَكَ دَاوُدُ وَحَصَلَتْ لَهُ النُّبُوَّةُ، وَلَمْ يَجْتَمِعْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمُلْكُ وَالنُّبُوَّةُ إِلَّا لَهُ. اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَزِيمَةَ عَسْكَرِ جَالُوتَ كَانَتْ مِنْ طَالُوتَ وَإِنْ كَانَ قَتْلُ جَالُوتَ مَا كَانَ إِلَّا مِنْ دَاوُدَ وَلَا دَلَالَةَ فِي الظَّاهِرِ عَلَى أَنَّ انْهِزَامَ الْعَسْكَرِ كَانَ قَبْلَ قَتْلِ جَالُوتَ أَوْ بَعْدَهُ، لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالنُّبُوَّةَ جَزَاءً عَلَى مَا فَعَلَ مِنَ الطَّاعَةِ الْعَظِيمَةِ، وَبَذْلِ النَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ صَالِحٌ لِتَحَمُّلِ أَمْرِ النُّبُوَّةِ، وَالنُّبُوَّةُ لَا يَمْتَنِعُ جَعْلُهَا جَزَاءً عَلَى الطَّاعَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ مَا فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ [الدُّخَانِ: 32، 33] وَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَامِ: 124] وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ دَاوُدَ أَنَّهُ قَتَلَ جَالُوتَ، قَالَ بَعْدَهُ: وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَالسُّلْطَانُ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى بَعْضِ عَبِيدِهِ الَّذِينَ قَامُوا بِخِدْمَةٍ شَاقَّةٍ، يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْعَامَ لِأَجْلِ تِلْكَ الْخِدْمَةِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّ النُّبُوَّةَ لَا يَجُوزُ جَعْلُهَا جَزَاءً عَلَى الْأَعْمَالِ، بَلْ ذَلِكَ مَحْضُ التَّفَضُّلِ وَالْإِنْعَامِ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الْحَجِّ: 75] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَاوُدَ حِينَ قَتَلَ جَالُوتَ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالنُّبُوَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ إِيتَاءَ الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ عَقِيبَ ذِكْرِهِ لِقَتْلِ دَاوُدَ جَالُوتَ، وَتَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَبَيَانُ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ/ لَمَّا قَتَلَ مِثْلَ ذَلِكَ الْخَصْمِ الْعَظِيمِ بِالْمِقْلَاعِ وَالْحَجَرِ، كَانَ ذَلِكَ مُعْجِزًا، لَا سِيَّمَا وَقَدْ تَعَلَّقَتِ الْأَحْجَارُ مَعَهُ وَقَالَتْ: خُذْنَا فَإِنَّكَ تَقْتُلُ جَالُوتَ بِنَا، فَظُهُورُ الْمُعْجِزِ يَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ، وَأَمَّا الْمُلْكُ فَلِأَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا شَاهَدُوا مِنْهُ قَهْرَ ذَلِكَ الْعَدُوِّ الْعَظِيمِ الْمَهِيبِ بِذَلِكَ الْعَمَلِ الْقَلِيلِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ النُّفُوسَ تَمِيلُ إِلَيْهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي حُصُولَ الْمُلْكِ لَهُ ظَاهِرًا، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّ حُصُولَ الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ لَهُ تَأَخَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِسَبْعِ سِنِينَ عَلَى مَا قَالَهُ الضَّحَّاكُ، قَالُوا وَالرِّوَايَاتُ وَرَدَتْ بِذَلِكَ، قَالُوا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ عَيَّنَ طَالُوتَ لِلْمُلْكِ فَيَبْعُدُ أَنْ يَعْزِلَهُ عَنِ الْمُلْكِ حَالَ حَيَاتِهِ، وَالْمَشْهُورُ فِي أَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ نَبِيُّ ذَلِكَ الزَّمَانِ أَشْمُويِلَ، وَمَلِكُ ذَلِكَ الزَّمَانِ طَالُوتَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَشْمُويِلُ أَعْطَى اللَّهُ تَعَالَى النُّبُوَّةَ

لِدَاوُدَ، وَلَمَّا مَاتَ طَالُوتُ أَعْطَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُلْكَ لِدَاوُدَ، فَاجْتَمَعَ الْمُلْكُ وَالنُّبُوَّةُ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْحِكْمَةُ هِيَ وَضْعُ الْأُمُورِ مَوَاضِعَهَا عَلَى الصَّوَابِ وَالصَّلَاحِ، وَكَمَالُ هَذَا الْمَعْنَى إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالنُّبُوَّةِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْحِكْمَةِ هاهنا النُّبُوَّةَ، قَالَ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النِّسَاءِ: 54] وَقَالَ فِيمَا بَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 146] . فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْحِكْمَةِ النُّبُوَّةَ، فَلِمَ قَدَّمَ الْمُلْكَ عَلَى الْحِكْمَةِ؟ مَعَ أَنَّ الْمُلْكَ أَدْوَنُ حَالًا مِنَ النُّبُوَّةِ. قُلْنَا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَيْفِيَّةَ تَرَقِّي دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْمَرَاتِبِ الْعَالِيَةِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ الْمُتَكَلِّمُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّرَقِّي، فَكُلُّ مَا كَانَ أَكْثَرَ تَأَخُّرًا فِي الذِّكْرِ كَانَ أَعْلَى حَالًا وَأَعْظَمَ رُتْبَةً. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: 80] وَقَالَ: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سَبَأٍ: 10، 11] وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ كَلَامُ الطَّيْرِ وَالنَّمْلِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النَّمْلِ: 16] وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحَ الدُّنْيَا وَضَبْطِ الْمُلْكِ، فَإِنَّهُ مَا وَرِثَ الْمُلْكَ مِنْ آبَائِهِ، لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُلُوكًا بَلْ كَانُوا رُعَاةً وَرَابِعُهَا: عِلْمُ الدِّينِ، قَالَ تَعَالَى: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [النِّسَاءِ: 163] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ حَاكِمًا بَيْنَ النَّاسِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ وَخَامِسُهَا: الْأَلْحَانُ الطَّيِّبَةُ، وَلَا يَبْعُدُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْكُلِّ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ آتَاهُ الْحِكْمَةَ، وَكَانَ الْمُرَادُ بِالْحِكْمَةِ النُّبُوَّةَ، فَقَدْ دَخَلَ الْعِلْمُ فِي ذلك، فلم ذكر بعده عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ. قُلْنَا: الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ قَطُّ لَا يَنْتَهِي إِلَى حَالَةٍ يَسْتَغْنِي عَنِ التَّعَلُّمِ، سَوَاءٌ كَانَ نَبِيًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْفَسَادَ الْوَاقِعَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ زَالَ بِمَا كَانَ مِنْ طَالُوتَ وَجُنُودِهِ، وَبِمَا كَانَ مِنْ دَاوُدَ مِنْ قَتْلِ جَالُوتَ بَيَّنَ عَقِيبَ ذَلِكَ جُمْلَةً تَشْتَمِلُ كُلَّ تَفْصِيلٍ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَدْفَعُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِكَيْ لَا تَفْسُدَ الْأَرْضُ، فَقَالَ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ [الْحَجِّ: 40] وقرءا جميعا إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج: 38] بِغَيْرِ أَلِفٍ وَوَافَقَهُمَا عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ الْيَحْصَبِيُّ عَلَى دَفْعِ اللَّهِ بِغَيْرِ أَلِفٍ إِلَّا أَنَّهُمْ قَرَءُوا إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْأَلِفِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَلَوْلَا دِفَاعُ الله وإِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ بِالْأَلِفِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فَنَقُولُ: أَمَّا مَنْ قَرَأَ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ فَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا مَنْ

قَرَأَ: وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا فَوَجْهُ الْإِشْكَالِ فِيهِ أَنَّ الْمُدَافَعَةَ مُفَاعَلَةٌ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُدَافِعِينَ دَافِعًا لِصَاحِبِهِ وَمَانِعًا لَهُ مِنْ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ مِنَ الْعَبْدِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، وَجَوَابُهُ أَنَّ لِأَهْلِ اللُّغَةِ فِي لَفْظِ دِفَاعٍ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِدَفَعَ، تَقُولُ: دَفَعْتُهُ دَفْعًا وَدِفَاعًا، كَمَا تَقُولُ: كتبته كتبا وكتابا، قالوا: وفعال كثيرا يَجِيءُ مَصْدَرًا لِلثُّلَاثِيِّ مِنْ فَعَلَ وَفَعِلَ، تَقُولُ: جَمَحَ جِمَاحًا، وَطَمَحَ طِمَاحًا، وَتَقُولُ: لَقِيتُهُ لِقَاءً، وَقُمْتُ قِيَامًا، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ كَانَ قَوْلُهُ: وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ مَعْنَاهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ جَعَلَ دِفَاعُ مِنْ دَافَعَ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا يَكُفُّ الظَّلَمَةَ وَالْعُصَاةَ عَنْ ظُلْمِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَيْدِي أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَأَئِمَّةِ دِينِهِ وَكَانَ يَقَعُ بَيْنَ أُولَئِكَ الْمُحِقِّينَ وَأُولَئِكَ الْمُبْطِلِينَ مُدَافَعَاتٌ وَمُكَافَحَاتٌ، فَحَسُنَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمُدَافَعَةِ، كَمَا قَالَ: يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة: 33] ، واقُّوا اللَّهَ [الْأَنْفَالِ: 13] وَكَمَا قَالَ: قاتَلَهُمُ اللَّهُ [التَّوْبَةِ: 30] وَنَظَائِرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَدْفُوعَ وَالْمَدْفُوعَ بِهِ، فَقَوْلُهُ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَدْفُوعِ، وَقَوْلُهُ: بِبَعْضٍ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَدْفُوعِ بِهِ، فَأَمَّا الْمَدْفُوعُ عَنْهُ فَغَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ عَنْهُ الشُّرُورَ فِي الدِّينِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ عَنْهُ الشُّرُورَ فِي الدُّنْيَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعَهُمَا. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ عَنْهُ الشُّرُورَ فِي الدِّينِ، فَتِلْكَ الشُّرُورُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَرْجِعُ بِهَا إِلَى الْكُفْرِ، أَوْ إِلَى الْفِسْقِ، أَوْ إِلَيْهِمَا، فَلْنَذْكُرْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ. الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ بَعْضَ النَّاسِ عَنِ الْكُفْرِ بِسَبَبِ الْبَعْضِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالدَّافِعُونَ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَأَئِمَّةُ الْهُدَى فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ النَّاسَ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْكُفْرِ بِإِظْهَارِ الدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ وَالْبَيِّنَاتِ قَالَ تَعَالَى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [إِبْرَاهِيمَ: 1] . وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ بَعْضَ النَّاسِ عَنِ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ بِسَبَبِ الْبَعْضِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالدَّافِعُونَ هُمُ الْقَائِمُونَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آلِ عِمْرَانَ: 110] وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ: الْأَئِمَّةُ الْمَنْصُوبُونَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَجْلِ إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَإِظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [المؤمنون: 96] وفي موضع آخر: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ [الرَّعْدِ: 22] . الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ بَعْضَ النَّاسِ عَنِ الْهَرْجِ وَالْمَرْجِ وَإِثَارَةِ الْفِتَنِ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ الْبَعْضِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّافِعِينَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، ثُمَّ الْأَئِمَّةُ وَالْمُلُوكُ الذَّابُّونَ عَنْ شَرَائِعِهِمْ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ الْوَاحِدَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعِيشَ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَخْبِزْ هَذَا لِذَاكَ وَلَا يَطْحَنُ ذَاكَ لِهَذَا، وَلَا يَبْنِي هَذَا لِذَاكَ، وَلَا يَنْسِجُ ذَاكَ لِهَذَا، لَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ، وَلَا تَتِمُّ إِلَّا عِنْدَ اجْتِمَاعِ جَمْعٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَلِهَذَا قِيلَ: الْإِنْسَانُ مَدَّنِيٌّ بِالطَّبْعِ، ثُمَّ إِنَّ الِاجْتِمَاعَ بِسَبَبِ الْمُنَازَعَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْمُخَاصَمَةِ أَوَّلًا، وَالْمُقَاتَلَةِ ثَانِيًا، فَلَا بُدَّ فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ مِنْ وَضْعِ شَرِيعَةٍ بَيْنَ الْخَلْقِ، لِتَكُونَ الشَّرِيعَةُ قَاطِعَةً لِلْخُصُومَاتِ وَالْمُنَازَعَاتِ، فَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الَّذِينَ أُوتُوا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِهَذِهِ الشَّرَائِعِ هُمُ الَّذِينَ دفع الله بسببهم وبسبب شريعهم الْآفَاتِ عَنِ الْخَلْقِ

فَإِنَّ الْخَلْقَ مَا دَامُوا يَبْقَوْنَ مُتَمَسِّكِينَ بِالشَّرَائِعِ لَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ خِصَامٌ وَلَا نِزَاعٌ، فَالْمُلُوكُ وَالْأَئِمَّةُ مَتَى كَانُوا يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الشَّرَائِعِ كَانَتِ الْفِتَنُ زَائِلَةً، وَالْمَصَالِحُ حَاصِلَةً فَظَهَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَدْفَعُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْوَاعَ شُرُورِ الدُّنْيَا بِسَبَبِ بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا لَا بُدَّ فِي قَطْعِ الْخُصُومَاتِ وَالْمُنَازَعَاتِ مِنَ الشَّرِيعَةِ فَكَذَا لَا بُدَّ فِي تَنْفِيذِ الشَّرِيعَةِ مِنَ الْمُلْكِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام «الإسلام والسلطان أخوان توأمان» وَقَالَ أَيْضًا: «الْإِسْلَامُ أَمِيرٌ، وَالسُّلْطَانُ حَارِسٌ، فَمَا لَا أَمِيرَ لَهُ فَهُوَ مُنْهَزِمٌ، وَمَا لَا حَارِسَ لَهُ فَهُوَ ضَائِعٌ» وَلِهَذَا يَدْفَعُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُسْلِمِينَ أَنْوَاعَ شُرُورِ الدُّنْيَا بِسَبَبِ وَضْعِ الشَّرَائِعِ وَبِسَبَبِ نَصْبِ الْمُلُوكِ وَتَقْوِيَتِهِمْ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ أَيْ لَغَلَبَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ الْقَتْلُ وَالْمَعَاصِي، وَذَلِكَ يُسَمَّى فَسَادًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَةِ: 205] وَقَالَ: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ [الْقَصَصِ: 19] وَقَالَ: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ [غَافِرٍ: 26] وَقَالَ: أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [الْأَعْرَافِ: 127] وَقَالَ: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الرُّومِ: 41] وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ [الْحَجِّ: 40] . الِاحْتِمَالُ الرَّابِعُ: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ بِالْمُؤْمِنِينَ وَالْأَبْرَارِ عَنِ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ، لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَهَلَكَتْ بِمَنْ فِيهَا، وَتَصْدِيقُ هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُدْفَعُ بِمَنْ يُصَلِّي مِنْ/ أُمَّتِي عَمَّنْ لَا يُصَلِّي، وَبِمَنْ يُزَكِّي عَمَّنْ لَا يُزَكِّي، وَبِمَنْ يَصُومُ عَمَّنْ لَا يَصُومُ، وَبِمَنْ يَحُجُّ عَمَّنْ لَا يَحُجُّ، وَبِمَنْ يُجَاهِدُ عَمَّنْ لَا يُجَاهِدُ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى تَرْكِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَمَا أَنْظَرَهُمُ اللَّهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ» ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً [الْكَهْفِ: 82] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ [الْفَتْحِ: 25] إِلَى قَوْلِهِ: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً [الْفَتْحِ: 25] وَقَالَ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَالِ: 33] وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ أَيْ لَأَهْلَكَ اللَّهُ أَهْلَهَا لِكَثْرَةِ الْكُفَّارِ وَالْعُصَاةِ. وَالِاحْتِمَالُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَحْمُولًا عَلَى الْكُلِّ، لِأَنَّ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَهُوَ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ، فَإِذَا حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَيْهِ دَخَلَتِ الْأَقْسَامُ بِأَسْرِهَا فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْجَبْرِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْفَسَادُ مِنْ خَلْقِهِ فَكَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى قَوْلِهِمْ لِدِفَاعِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ تَأْثِيرٌ فِي زَوَالِ الْفَسَادِ وَذَلِكَ لِأَنَّ عَلَى قَوْلِهِمُ الْفَسَادَ إِنَّمَا لَا يَقَعُ بِسَبَبِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَخْلُقُهُ لَا لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِوُقُوعِ الْفَسَادِ، فَإِذَا صَحَّ مَعَ ذَلِكَ الْعِلْمِ أَنْ لَا يَفْعَلَ الْفَسَادَ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنَ الْعَبْدِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ عَدَمِ الْفَسَادِ وَبَيْنَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الْفَسَادِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَهُوَ مُحَالٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ دَفْعَ الْفَسَادِ بِهَذَا الطَّرِيقِ إِنْعَامٌ يعم الناس

[سورة البقرة (2) : آية 252]

كُلَّهُمْ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالُوا: لَوْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُ الْعَبْدِ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى، لَمْ يكن دفع المحققين شَرَّ الْمُبْطِلِينَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا لِأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لِذَلِكَ الدَّفْعِ إِذَا كَانَ هُوَ الْعَبْدَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَبِاخْتِيَارِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلَّهِ تَعَالَى وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ عَقِيبَ قَوْلِهِ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الدَّفْعِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الدَّفْعَ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُمْ هُوَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ تَقْدِيرِهِ. فَإِنْ قَالُوا: يُحْمَلُ هَذَا عَلَى الْبَيَانِ وَالْإِرْشَادِ وَالْأَمْرِ. قُلْنَا: كُلُّ ذَلِكَ قَائِمٌ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ الدَّفْعُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ وَنِعْمَتَهُ عَلَيْنَا إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ نَفْسِ ذَلِكَ الدَّفْعِ وذلك يوجب قولنا والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 252] تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقِصَصِ الَّتِي ذَكَرَهَا مِنْ حَدِيثِ الْأُلُوفِ وَإِمَاتَتِهِمْ وَإِحْيَائِهِمْ وَتَمْلِيكِ طَالُوتَ، وَإِظْهَارِ الْآيَةِ الَّتِي هِيَ نُزُولُ التَّابُوتِ مِنَ السَّمَاءِ، وَغَلَبِ الْجَبَابِرَةِ عَلَى يَدِ دَاوُدَ وَهُوَ صَبِيٌّ فَقِيرٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ آيَاتٌ بَاهِرَةٌ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ: تِلْكَ وَلَمْ يَقُلْ: (هَذِهِ) مَعَ أَنَّ تِلْكَ يُشَارُ بِهَا إِلَى غَائِبٍ لَا إِلَى حَاضِرٍ؟. قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَةِ: 2] أَنَّ تِلْكَ وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى هَذِهِ وَهَذَا، وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْقِصَصُ لَمَّا ذُكِرَتْ صَارَتْ بَعْدَ ذِكْرِهَا كَالشَّيْءِ الَّذِي انْقَضَى وَمَضَى، فَكَانَتْ فِي حُكْمِ الْغَائِبِ فَلِهَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ: تِلْكَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: نَتْلُوها يَعْنِي يَتْلُوهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ لَكِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ تِلَاوَةَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تِلَاوَةً لِنَفْسِهِ، وَهَذَا تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْحِ: 10] . أَمَّا قَوْلُهُ: بِالْحَقِّ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَصِ أَنْ يَعْتَبِرَ بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَعْتَبِرَ بِهَا أُمَّتُهُ فِي احْتِمَالِ الشَّدَائِدِ فِي الْجِهَادِ، كَمَا احْتَمَلَهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَثَانِيهَا: بِالْحَقِّ أَيْ بِالْيَقِينِ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ، لِأَنَّهُ فِي كُتُبِهِمْ، كَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ أَصْلًا وَثَالِثُهَا: إِنَّا أَنْزَلَنَا هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى وَجْهٍ تَكُونُ دَالَّةً فِي نُبُوَّتِكَ بِسَبَبِ مَا فِيهَا مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَرَابِعُهَا: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أَيْ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَيْكَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ بِسَبَبِ إِلْقَاءِ الشَّيَاطِينِ، وَلَا بِسَبَبِ تَحْرِيفِ الْكَهَنَةِ وَالسَّحَرَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا عَقِيبَ مَا تَقَدَّمَ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّكَ أَخْبَرْتَ عَنْ هَذِهِ الْأَقَاصِيصِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ وَلَا دِرَاسَةٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا ذَكَرَهَا وَعَرَفَهَا بِسَبَبِ الْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَثَانِيهَا: أَنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مَا جَرَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْخَوْفِ عَلَيْهِمْ وَالرَّدِّ لِقَوْلِهِمْ، فَلَا يَعْظُمَنَّ عَلَيْكَ كُفْرُ مَنْ كَفَرَ بِكَ، وَخِلَافُ مَنْ خَالَفَ عَلَيْكَ، لِأَنَّكَ مِثْلُهُمْ، وَإِنَّمَا بَعَثَ الْكُلَّ لِتَأْدِيَةِ الرِّسَالَةِ وَلِامْتِثَالِ الْأَمْرِ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ وَالتَّطَوُّعِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَاهِ، فَلَا عُتْبَ عَلَيْكَ فِي

[سورة البقرة (2) : آية 253]

خِلَافِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَالْوَبَالُ فِي ذَلِكَ يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ فَيَكُونُ تَسْلِيَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَظْهَرُ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ كالتنبيه على ذلك. [سورة البقرة (2) : آية 253] تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تِلْكَ ابْتِدَاءٌ، وَإِنَّمَا قَالَ: تِلْكَ وَلَمْ يَقُلْ أُولَئِكَ الرُّسُلُ، لِأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الْجَمَاعَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: تِلْكَ الْجَمَاعَةُ الرُّسُلُ بِالرَّفْعِ، لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِتِلْكَ وَخَبَرُ الِابْتِدَاءِ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: تِلْكَ الرُّسُلُ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ: مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي الْقُرْآنِ، كَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَمُوسَى وَغَيْرِهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَأَشْمُوِيلَ وَدَاوُدَ وَطَالُوتَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُهُ نَبِيًّا وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ: تِلْكَ الرُّسُلُ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ لِدَفْعِ الْفَسَادِ، الَّذِينَ إِلَيْهِمُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة: 251] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَجْهُ تَعْلِيقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْبَأَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمِينَ مَعَ قَوْمِهِمْ، كَسُؤَالِ قَوْمِ مُوسَى أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النِّسَاءِ: 153] وَقَوْلِهِمْ: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الْأَعْرَافِ: 138] وَكَقَوْمِ عِيسَى بَعْدَ أَنْ شَاهَدُوا مِنْهُ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءَ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ بِإِذْنِ اللَّهِ فَكَذَّبُوهُ وَرَامُوا قَتْلَهُ، ثُمَّ أَقَامَ فَرِيقٌ عَلَى الْكُفْرِ بِهِ وَهُمُ الْيَهُودُ، وَفَرِيقٌ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ وَادَّعَتْ عَلَى الْيَهُودِ مَنْ قَتَلَهُ وَصَلَبَهُ مَا كَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ كَالْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَسَدُوا طَالُوتَ وَدَفَعُوا مُلْكَهُ بَعْدَ الْمَسْأَلَةِ، وَكَذَلِكَ مَا جَرَى مَنْ أَمْرِ النَّهْرِ، فَعَزَّى اللَّهُ رَسُولَهُ عَمَّا/ رَأَى مِنْ قَوْمِهِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالْحَسَدِ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الرُّسُلُ الَّذِينَ كَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَهُمْ، وَرَفَعَ الْبَاقِينَ دَرَجَاتٍ وَأَيَّدَ عِيسَى بِرُوحِ الْقُدُسِ، قَدْ نَالَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ مَا ذَكَرْنَاهُ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ الْمُعْجِزَاتِ، وَأَنْتَ رَسُولٌ مِثْلُهُمْ فَلَا تَحْزَنْ عَلَى مَا تَرَى مِنْ قَوْمِكَ، فَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ تَخْتَلِفُوا أَنْتُمْ وَأُولَئِكَ، وَلَكِنْ مَا قَضَى اللَّهُ فَهُوَ كَائِنٌ، وَمَا قَدَّرَهُ فَهُوَ وَاقِعٌ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِيذَاءِ قَوْمِهِ لَهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَجْمَعْتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَعَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنَ الْكُلِّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 107] فَلَمَّا كَانَ رَحْمَةً لِكُلِّ الْعَالَمِينَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ الْعَالَمِينَ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ فَقِيلَ فِيهِ لِأَنَّهُ قَرَنَ ذِكْرَ مُحَمَّدٍ بِذِكْرِهِ فِي كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ وَفِي الْأَذَانِ وَفِي التَّشَهُّدِ وَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ كَذَلِكَ.

الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَرَنَ طَاعَتَهُ بِطَاعَتِهِ، فَقَالَ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النِّسَاءِ: 80] وَبَيْعَتَهُ بِبَيْعَتِهِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الْفَتْحِ: 10] وَعِزَّتَهُ بِعِزَّتِهِ فَقَالَ: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ [الْمُنَافِقُونَ: 8] وَرِضَاهُ بِرِضَاهُ فَقَالَ: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] وإجابته بإجابته فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَالِ: 24] . الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ مُحَمَّدًا بِأَنْ يَتَحَدَّى بِكُلِّ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَةِ: 23] وَأَقْصَرُ السُّوَرِ سُورَةُ الْكَوْثَرِ وَهِيَ ثَلَاثُ آيَاتٍ، وَكَانَ اللَّهُ تَحَدَّاهُمْ بكل ثلاثة آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَمَّا كَانَ كُلُّ الْقُرْآنِ سِتَّةَ آلَافِ آيَةٍ، وَكَذَا آيَةٍ، لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ مُعْجِزُ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا وَاحِدًا بَلْ يَكُونُ أَلْفَيْ مُعْجِزَةٍ وَأَزْيَدَ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ تَشْرِيفَ مُوسَى بِتِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، فَلِأَنْ يَحْصُلَ التَّشْرِيفُ لِمُحَمَّدٍ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ كَانَ أَوْلَى. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ مُعْجِزَةَ رَسُولِنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ مُعْجِزَاتِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَسُولُنَا أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ. بَيَانُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْقُرْآنُ فِي الْكَلَامِ كَآدَمَ فِي الْمَوْجُودَاتِ» . بَيَانُ الثَّانِي أَنَّ الْخِلْعَةَ كُلَّمَا كَانَتْ أَشْرَفَ كَانَ صَاحِبُهَا أَكْرَمَ عِنْدَ الْمَلِكِ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ مُعْجِزَتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هِيَ الْقُرْآنُ وَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَهِيَ أَعْرَاضٌ غَيْرُ بَاقِيَةٍ وَسَائِرُ مُعْجِزَاتِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ جِنْسِ الْأُمُورِ الْبَاقِيَةِ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ مُعْجِزَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاقِيَةً إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، وَمُعْجِزَاتِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فَانِيَةً مُنْقَضِيَةً. الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ مَا حَكَى أَحْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ/ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَامِ: 90] فَأَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ قَبْلَهُ، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ تَقْلِيدٌ، أَوْ فِي فُرُوعِ الدِّينِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ شَرْعَهُ نَسَخَ سَائِرَ الشَّرَائِعِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: إِنَّا أَطْلَعْنَاكَ عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَسِيَرِهِمْ، فَاخْتَرْ أَنْتَ مِنْهَا أَجْوَدَهَا وَأَحْسَنَهَا وَكُنْ مُقْتَدِيًا بِهِمْ فِي كُلِّهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ مِنَ الْخِصَالِ الْمَرْضِيَّةِ مَا كَانَ مُتَفَرِّقًا فِيهِمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْهُمْ. الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بُعِثَ إِلَى كُلِّ الْخَلْقِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مَشَقَّتُهُ أَكْثَرَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ، أَمَّا إِنَّهُ بُعِثَ إِلَى كُلِّ الْخَلْقِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سَبَأٍ: 28] وَأَمَّا إِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مَشَقَّتُهُ أَكْثَرَ فَلِأَنَّهُ كَانَ إِنْسَانًا فَرْدًا مِنْ غَيْرِ مَالٍ وَلَا أَعْوَانٍ وَأَنْصَارٍ، فَإِذَا قَالَ لِجَمِيعِ الْعَالَمِينَ: يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ صَارَ الْكُلُّ أَعْدَاءً لَهُ، وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ خَائِفًا مِنَ الْكُلِّ، فَكَانَتِ الْمَشَقَّةُ عَظِيمَةً، وَكَذَلِكَ فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بُعِثَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَهُوَ مَا كَانَ يَخَافُ أَحَدًا إِلَّا مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْكُلُّ كَانُوا أَعْدَاءً لَهُ، يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ إِنْسَانًا لَوْ قِيلَ لَهُ: هَذَا الْبَلَدُ الْخَالِي عَنِ الصَّدِيقِ وَالرَّفِيقِ فِيهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ ذُو قُوَّةٍ وَسِلَاحٍ فَاذْهَبْ إِلَيْهِ الْيَوْمَ وَحِيدًا وَبَلِّغْ إِلَيْهِ خبرا يوحشه ويؤذيه، فإنه قلما مسحت نَفْسُهُ بِذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ إِنْسَانٌ

وَاحِدٌ، وَلَوْ قِيلَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى بَادِيَةٍ بعيدة ليس فيها أنس وَلَا صَدِيقٌ، وَبَلِّغْ إِلَى صَاحِبِ الْبَادِيَةِ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُوحِشَةِ لَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْإِنْسَانِ، أَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِأَنْ يَذْهَبَ طُولَ لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ فِي كُلِّ عُمُرِهِ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ الَّذِينَ لَا عَهْدَ لَهُ بِهِمْ، بَلِ الْمُعْتَادُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُعَادُونَهُ وَيُؤْذُونَهُ وَيَسْتَخِفُّونَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَمَلَّ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ وَلَمْ يَتَلَكَّأْ، بَلْ سَارَعَ إِلَيْهَا سَامِعًا مُطِيعًا، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَحَمَّلَ فِي إِظْهَارِ دِينِ اللَّهِ أَعْظَمَ الْمَشَاقِّ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ [الْحَدِيدِ: 10] وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ الْبَلَاءَ كَانَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا عَظُمَ فَضْلُ الصَّحَابَةِ بِسَبَبِ تِلْكَ الشِّدَّةِ فَمَا ظَنُّكَ بِالرَّسُولِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَشَقَّتَهُ أَعْظَمُ مِنْ مَشَقَّةِ غَيْرِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَضْلُهُ أَكْثَرَ مِنْ فَضْلِ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ أَحَمَزُهَا» . الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلُ الْأَدْيَانِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الْأَنْبِيَاءِ، بَيَانُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْإِسْلَامَ نَاسِخًا لِسَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَالنَّاسِخُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فَلَمَّا كَانَ هَذَا الدِّينُ أَفْضَلَ وَأَكْثَرَ ثَوَابًا، كَانَ وَاضِعُهُ أَكْثَرَ ثَوَابًا مِنْ وَاضِعِي سَائِرِ الْأَدْيَانِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ. الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْأُمَمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ أَفْضَلَ الْأَنْبِيَاءِ، بَيَانُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آلِ عِمْرَانَ: 110] بَيَانُ الثَّانِي أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ إِنَّمَا/ نَالَتْ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ لِمُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: 31] وَفَضِيلَةُ التَّابِعِ تُوجِبُ فَضِيلَةَ الْمَتْبُوعِ، وَأَيْضًا إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ ثَوَابًا لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثَوَابُهُ أَكْثَرَ، لِأَنَّ لِكَثْرَةِ الْمُسْتَجِيبِينَ أَثَرًا فِي عُلُوِّ شَأْنِ الْمَتْبُوعِ. الْحُجَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاتَمُ الرُّسُلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ، لِأَنَّ نَسْخَ الْفَاضِلِ بِالْمَفْضُولِ قَبِيحٌ فِي الْمَعْقُولِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ تَفْضِيلَ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى بَعْضٍ يَكُونُ لِأُمُورٍ مِنْهَا: كَثْرَةُ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي هِيَ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِهِمْ وَمُوجِبَةٌ لِتَشْرِيفِهِمْ، وَقَدْ حَصَلَ فِي حَقِّ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يَفْضُلُ عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَهِيَ بِالْجُمْلَةِ عَلَى أَقْسَامٍ، مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُدْرَةِ، كَإِشْبَاعِ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ مِنَ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ، وَإِرْوَائِهِمْ مِنَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعُلُومِ كَالْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ، وَفَصَاحَةِ الْقُرْآنِ، وَمِنْهَا اخْتِصَاصُهُ فِي ذَاتِهِ بِالْفَضَائِلِ، نَحْوُ كَوْنِهِ أَشْرَفَ نَسَبًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ، وَأَيْضًا كَانَ فِي غَايَةِ الشَّجَاعَةِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ مُحَارَبَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعَمْرِو بْنِ وُدٍّ: كَيْفَ وَجَدْتَ نَفْسَكَ يَا عَلِيُّ، قَالَ: وَجَدْتُهَا لَوْ كَانَ كُلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي جَانِبٍ وَأَنَا فِي جَانِبٍ لَقَدَرْتُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: تَأَهَّبْ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْوَادِي فَتًى يُقَاتِلُكَ، الْحَدِيثَ إِلَى آخِرِهِ وَهُوَ مَشْهُورٌ، وَمِنْهَا فِي خُلُقِهِ وَحِلْمِهِ وَوَفَائِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَسَخَائِهِ، وَكُتُبُ الْحَدِيثِ نَاطِقَةٌ بِتَفْصِيلِ هَذِهِ الْأَبْوَابِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ آدَمَ وَمِنْ كُلِّ أَوْلَادِهِ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ مِنَ النَّبِيِّينَ حَتَّى أَدْخُلَهَا أَنَا، وَلَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتِي» وَرَوَى أنس قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا، وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا وَفَدُوا، وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أَيِسُوا، لِوَاءُ الْحَمْدِ بِيَدِي، وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى

رَبِّي وَلَا فَخْرَ» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَلَسَ نَاسٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يَتَذَاكَرُونَ فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَجَبًا إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَقَالَ آخَرُ: مَاذَا بِأَعْجَبَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا، وَقَالَ آخَرُ: فَعِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحُهُ، وَقَالَ آخَرُ: آدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ وَحُجَّتَكُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمُوسَى نَجِيُّ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَعِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَآدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ كَذَلِكَ، أَلَا وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَنَا أَوَّلُ مُشَفَّعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حَلْقَةَ الْجَنَّةِ فَيُفْتَحُ لِي فَأَدْخُلُهَا وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَلَا فَخْرَ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي «فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ» أَنَّهُ ظَهَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ بَعِيدٍ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَذَا سَيِّدُ الْعَرَبِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَلَسْتَ أَنْتَ سَيِّدُ الْعَرَبِ؟ فَقَالَ أَنَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ وَهُوَ سَيِّدُ الْعَرَبِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: رَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا فَخْرَ، بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَكَانَ النَّبِيُّ قَبْلِي يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ أَمَامِي مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَكُنْ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ فَادَّخَرْتُهَا لِأُمَّتِي، فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا» وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ فَضَّلَهُ بِهَذِهِ الْفَضَائِلِ عَلَى غَيْرِهِ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى: إِنَّ كُلَّ أَمِيرٍ فَإِنَّهُ تَكُونُ مُؤْنَتُهُ عَلَى قَدْرِ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي تَكُونُ إِمَارَتُهُ عَلَى قَرْيَةٍ تَكُونُ مُؤْنَتُهُ بِقَدْرِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ، وَمَنْ مَلَكَ الشَّرْقَ وَالْغَرْبَ احْتَاجَ إِلَى أَمْوَالٍ وَذَخَائِرَ أَكْثَرَ مِنْ أَمْوَالِ أَمِيرِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ فَكَذَلِكَ كُلُّ رَسُولٍ بُعِثَ إِلَى قَوْمِهِ فَأُعْطِيَ مِنْ كُنُوزِ التَّوْحِيدِ وَجَوَاهِرِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى قَدْرِ مَا حَمَلَ مِنَ الرِّسَالَةِ، فَالْمُرْسَلُ إِلَى قَوْمِهِ فِي طَرَفٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الْأَرْضِ إِنَّمَا يُعْطَى مِنْ هَذِهِ الْكُنُوزِ الرُّوحَانِيَّةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَالْمُرْسَلُ إِلَى كُلِّ أَهْلِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ إِنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يُعْطَى مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِقَدْرِ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُومَ بِسَعْيِهِ بِأُمُورِ أَهْلِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ نِسْبَةُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نُبُوَّةِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ كَنِسْبَةِ كُلِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِلَى مُلْكِ بَعْضِ الْبِلَادِ الْمَخْصُوصَةِ، وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ أُعْطِيَ مِنْ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ قَبْلَهُ، فَلَا جَرَمَ بَلَغَ فِي الْعِلْمِ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِ: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى [النَّجْمِ: 10] وَفِي الْفَصَاحَةِ إِلَى أَنْ قَالَ: «أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ» وَصَارَ كِتَابُهُ مُهَيْمِنًا عَلَى الْكُتُبِ وَصَارَتْ أُمَّتُهُ خَيْرَ الْأُمَمِ. الْحُجَّةُ السَّابِعَةَ عشرة: روى محمد بن الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ «النَّوَادِرِ» : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَمُوسَى نَجِيًّا، وَاتَّخَذَنِي حَبِيبًا، ثُمَّ قَالَ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُوثِرَنَّ حَبِيبِي عَلَى خَلِيلِي وَنَجِيِّي» . الْحُجَّةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ ابْتَنَى بُيُوتًا فَأَحْسَنَهَا وَأَجْمَلَهَا وَأَكْمَلَهَا إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا،

فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيُعْجِبُهُمُ الْبُنْيَانُ فَيَقُولُونَ: ألا وضعت هاهنا لَبِنَةً فَيَتِمَّ بِنَاؤُكَ؟ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: كُنْتُ أَنَا تِلْكَ اللَّبِنَةَ» . الْحُجَّةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كُلَّمَا نَادَى نَبِيًّا فِي الْقُرْآنِ نَادَاهُ باسمه يا آدَمُ اسْكُنْ [البقرة: 35] ، وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ [الصافات: 104] ، يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه: 10، 11] وَأَمَّا النَّبِيُّ عَلَيْهِ السلام فإنه ناداه بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ، يا أَيُّهَا الرَّسُولُ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْفَضْلَ. وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ، فَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَسْجُودًا لِلْمَلَائِكَةِ، وَمَا كَانَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَلِكَ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُلْقِيَ فِي النِّيرَانِ الْعَظِيمَةِ فَانْقَلَبَتْ رَوْحًا وَرَيْحَانًا عَلَيْهِ، وَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أُوتِيَ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الْعَظِيمَةَ، وَمُحَمَّدٌ مَا كَانَ لَهُ مِثْلُهَا، وَدَاوُدُ لَانَ لَهُ الْحَدِيدُ فِي يَدِهِ، وَسُلَيْمَانُ كَانَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالطَّيْرُ وَالْوَحْشُ وَالرِّيَاحُ مُسَخَّرِينَ لَهُ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ حَاصِلًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِيسَى أَنْطَقَهُ اللَّهُ فِي الطُّفُولِيَّةِ وَأَقْدَرَهُ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَمَا كَانَ ذَلِكَ حَاصِلًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى إِبْرَاهِيمَ فِي كِتَابِهِ خَلِيلًا، فَقَالَ: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [النِّسَاءِ: 125] وَقَالَ فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النِّسَاءِ: 164] وَقَالَ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [التَّحْرِيمِ: 12] وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْهُ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنَ مَتَّى» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ» . الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنَّا فِي الْمَسْجِدِ نَتَذَاكَرُ فَضْلَ الْأَنْبِيَاءِ فَذَكَرْنَا نُوحًا بِطُولِ عِبَادَتِهِ، وَإِبْرَاهِيمَ بِخُلَّتِهِ، وَمُوسَى بِتَكْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ، وَعِيسَى بِرَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَقُلْنَا رَسُولُ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْهُمْ، بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَغُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَهُوَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: فِيمَ أَنْتُمْ؟ فَذَكَرْنَا لَهُ فَقَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا» وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ سَيِّئَةً قَطُّ وَلَمْ يَهُمَّ بِهَا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ كَوْنَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَسْجُودًا لِلْمَلَائِكَةِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَقَالَ: «كُنْتُ نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ» وَنُقِلَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَذَ بِرِكَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَهَذَا أَعْظَمُ مِنَ السُّجُودِ، وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى صَلَّى بِنَفْسِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ سُجُودِ الْمَلَائِكَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِسُجُودِ آدَمَ تَأْدِيبًا، وَأَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْرِيبًا وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَائِمَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَمَّا سُجُودُ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً الثَّالِثُ: أَنَّ السُّجُودَ لِآدَمَ إِنَّمَا تَوَلَّاهُ الْمَلَائِكَةُ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّمَا تَوَلَّاهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا الْمَلَائِكَةَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أُمِرُوا بِالسُّجُودِ/ لِآدَمَ لِأَجْلِ أَنَّ نُورَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي جَبْهَةِ آدَمَ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ آدَمَ بِالْعِلْمِ، فَقَالَ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَةِ: 31] وَأَمَّا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ فِي حَقِّهِ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشُّورَى: 52] وَقَالَ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضُّحَى: 7] وَأَيْضًا فَمُعَلِّمُ آدَمَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ وَمُعَلِّمُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ جِبْرِيلُ

عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْلِهِ: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النَّجْمِ: 5] . وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي عِلْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النِّسَاءِ: 113] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي» وَقَالَ تَعَالَى: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرَّحْمَنِ: 2] وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: (أَرِنَا الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ) وَقَالَ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُ وبين قوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى فَذَاكَ بِحَسَبِ التَّلْقِينِ، وَأَمَّا التَّعْلِيمُ فَمِنَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السَّجْدَةِ: 11] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزُّمَرِ: 42] . فَإِنْ قِيلَ: قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاءِ: 114] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الْأَنْعَامِ: 52] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خُلُقَ نُوحٍ أَحْسَنُ. قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [نُوحٍ: 1] فَكَانَ أَوَّلُ أَمْرِهِ الْعَذَابَ، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقِيلَ فِيهِ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 107] ، لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَةِ: 128] إِلَى قوله: رَؤُفٌ رَحِيمٌ فَكَانَ عَاقِبَةُ نُوحٍ أَنْ قَالَ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نُوحٍ: 26] وَعَاقِبَةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ الشَّفَاعَةَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الْإِسْرَاءِ: 79] وَأَمَّا سَائِرُ الْمُعْجِزَاتِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي «كُتُبِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ» فِي مُقَابَلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُعْجِزَةٌ أَفْضَلُ مِنْهَا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا الْكِتَابُ لَا يَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ففيه مسائل: المسألة الأولى: المراد منه مَنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْهَاءُ تُحْذَفُ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزُّخْرُفِ: 71] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ كَلَّمَ اللَّهَ بِالنَّصْبِ، وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَدَلُّ عَلَى الْفَضْلِ، لِأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ فَإِنَّهُ يُكَلِّمُ اللَّهَ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُصَلِّي مُنَاجٍ رَبَّهُ» إِنَّمَا الشَّرَفُ فِي أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَرَأَ اليماني: كالم الله من المكالمة، ويدل على قَوْلُهُمْ: كَلِيمُ اللَّهِ بِمَعْنَى مُكَالِمُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ مَنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ فَالْمَسْمُوعُ هُوَ الْكَلَامُ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ، الَّذِي لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ أَمْ غَيْرُهُ؟ فَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ وَأَتْبَاعُهُ: الْمَسْمُوعُ هُوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ رُؤْيَةُ مَا لَيْسَ بِمُكَيَّفٍ، فَكَذَا لَا يُسْتَبْعَدُ سَمَاعُ مَا لَيْسَ بِمُكَيَّفٍ، وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: سَمَاعُ ذَلِكَ الْكَلَامِ مُحَالٌ، وَإِنَّمَا الْمَسْمُوعُ هُوَ الْحَرْفُ وَالصَّوْتُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُرَادٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ قَالُوا وَقَدْ سَمِعَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى السَبْعُونَ الْمُخْتَارُونَ وَهُمُ الَّذِينَ أَرَادَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [الْأَعْرَافِ: 155] وَهَلْ سَمِعَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نَعَمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى [النَّجْمِ: 10] . فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ غَايَةِ مَنْقَبَةِ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَلَّمَ اللَّهُ

تَعَالَى، وَلِهَذَا السَّبَبِ لَمَّا بَالَغَ فِي تَعْظِيمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً ثُمَّ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مُكَالَمَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ إِبْلِيسَ، حَيْثُ قَالَ: فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [ص: 79- 81] إِلَى آخِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى مُكَالَمَةٍ كَثِيرَةٍ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ إِبْلِيسَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ غَايَةَ الشَّرَفِ فَكَيْفَ حَصَلَ لِإِبْلِيسَ الذَّمُّ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ شَرَفًا فَكَيْفَ ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ التَّشْرِيفِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً؟. وَالْجَوَابُ: أَنَّ قِصَّةَ إِبْلِيسَ لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ تِلْكَ الْجَوَابَاتِ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ فَلَعَلَّ الْوَاسِطَةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ مَرَاتِبَ الرُّسُلِ مُتَفَاوِتَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِثْلَهُ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ، وَجَمَعَ لِدَاوُدَ الْمُلْكَ وَالنُّبُوَّةَ وَلَمْ يَحْصُلْ هَذَا لِغَيْرِهِ، وَسَخَّرَ لِسُلَيْمَانَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَالطَّيْرَ وَالرِّيحَ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا حَاصِلًا لِأَبِيهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَخْصُوصٌ بِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَبِأَنَّ شَرْعَهُ نَاسِخٌ لِكُلِّ الشَّرَائِعِ، وَهَذَا إِنْ حَمَلْنَا الدَّرَجَاتِ عَلَى الْمَنَاصِبِ وَالْمَرَاتِبِ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهَا عَلَى الْمُعْجِزَاتِ فَفِيهِ أَيْضًا وَجْهٌ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أُوتِيَ نَوْعًا آخَرَ مِنَ الْمُعْجِزَةِ لَائِقًا بِزَمَانِهِ فَمُعْجِزَاتُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهِيَ قَلْبُ الْعَصَا حَيَّةً، وَالْيَدُ الْبَيْضَاءُ، وَفَلْقُ الْبَحْرِ، كَانَ كَالشَّبِيهِ بِمَا كَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الْعَصْرِ مُتَقَدِّمِينَ فِيهِ وَهُوَ السِّحْرُ، وَمُعْجِزَاتُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ إِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَإِحْيَاءُ الْمَوْتَى، كَانَتْ كَالشَّبِيهِ بِمَا كَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الْعَصْرِ مُتَقَدِّمِينَ فِيهِ، وَهُوَ الطِّبُّ، وَمُعْجِزَةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهِيَ الْقُرْآنُ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ وَالْخُطَبِ وَالْأَشْعَارِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُعْجِزَاتُ مُتَفَاوِتَةٌ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَبِالْبَقَاءِ وَعَدَمِ الْبَقَاءِ، وَبِالْقُوَّةِ وَعَدَمِ الْقُوَّةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِتَفَاوُتِ الدَّرَجَاتِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَهُوَ كَثْرَةُ الْأُمَّةِ وَالصَّحَابَةِ وَقُوَّةُ الدَّوْلَةِ، فَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ عَلِمْتَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُسْتَجْمِعًا لِلْكُلِّ فَمَنْصِبُهُ أَعْلَى وَمُعْجِزَاتُهُ أَبْقَى وَأَقْوَى وَقَوْمُهُ أَكْثَرُ وَدَوْلَتُهُ أَعْظَمُ وَأَوْفَرُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُفَضَّلُ عَلَى الْكُلِّ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ وَالرَّمْزِ كَمَنْ فَعَلَ فِعْلًا عَظِيمًا فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ فَعَلَ هَذَا/ فَيَقُولُ أَحَدُكُمْ أَوْ بَعْضُكُمْ وَيُرِيدُ بِهِ نَفْسَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَفْخَمَ مِنَ التَّصْرِيحِ بِهِ، وَسُئِلَ الْحُطَيْئَةُ عَنْ أَشْعَرِ النَّاسِ، فَذَكَرَ زُهَيْرًا وَالنَّابِغَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ شِئْتُ لَذَكَرْتُ الثَّالِثَ أَرَادَ نَفْسَهُ، وَلَوْ قَالَ: وَلَوْ شِئْتُ لَذَكَرْتُ نَفْسِي لَمْ يَبْقَ فِيهِ فَخَامَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّكْرِيرِ؟ وَأَيْضًا قَوْلُهُ: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ كَلَامٌ كُلِّيٌّ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ شُرُوعٌ فِي تفضيل تِلْكَ الْجُمْلَةِ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ إِعَادَةٌ لِذَلِكَ الْكُلِّيِّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِعَادَةَ الْكَلَامِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي تَفْصِيلِ جُزْئِيَّاتِهِ يَكُونُ مُسْتَدْرَكًا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ تَفْضِيلِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، فَأَمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّفْضِيلَ حَصَلَ بِدَرَجَاتٍ كَثِيرَةٍ أَوْ بِدَرَجَاتٍ قَلِيلَةٍ فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ فَكَانَ قَوْلُهُ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ فِيهِ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ فلم يكن تكريرا.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ثُمَّ عَدَلَ عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْكَلَامِ إِلَى الْمُغَايَبَةِ فَقَالَ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ ثُمَّ عَدَلَ مِنَ الْمُغَايَبَةِ إِلَى النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَقَالَ: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي الْعُدُولِ عَنِ الْمُخَاطَبَةِ إِلَى الْمُغَايَبَةِ ثُمَّ عَنْهَا إِلَى الْمُخَاطَبَةِ مَرَّةً أُخْرَى؟. وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ أَهْيَبُ وَأَكْثَرُ وَقْعًا مِنْ أَنْ يُقَالَ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمْنَا، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً فَلِهَذَا الْمَقْصُودِ اخْتَارَ لَفْظَةَ الْغَيْبَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ فَإِنَّمَا اخْتَارَ لَفْظَ الْمُخَاطَبَةِ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَآتَيْنا ضَمِيرُ التَّعْظِيمِ وَتَعْظِيمُ الْمُؤْتَى يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ الْإِيتَاءِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ خَصَّ مُوسَى وَعِيسَى مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ بِالذِّكْرِ؟ وَهَلْ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمَا؟. وَالْجَوَابُ: سَبَبُ التَّخْصِيصِ أَنَّ مُعْجِزَاتِهِمَا أَبَرُّ وَأَقْوَى مِنْ مُعْجِزَاتِ غَيْرِهِمَا وَأَيْضًا فَأُمَّتُهُمَا مَوْجُودُونَ حَاضِرُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَأُمَمُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ لَيْسُوا مَوْجُودِينَ فَتَخْصِيصُهُمَا بِالذِّكْرِ تَنْبِيهٌ عَلَى الطَّعْنِ فِي أُمَّتِهِمَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: هَذَانِ الرَّسُولَانِ مَعَ عُلُوِّ دَرَجَتِهِمَا وَكَثْرَةِ مُعْجِزَاتِهِمَا لَمْ يَحْصُلِ الِانْقِيَادُ مِنْ أُمَّتِهِمَا، بَلْ نَازَعُوا وَخَالَفُوا، وَعَنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ فِي طَاعَتِهِمَا أعرضوا. السؤال الثالث: تخصيص عيسى بن مَرْيَمَ بِإِيتَاءِ الْبَيِّنَاتِ، يَدُلُّ أَوْ يُوهِمُ أَنَّ إِيتَاءَ الْبَيِّنَاتِ مَا حَصَلَ فِي غَيْرِهِ، وَمَعْلُومٌ أن ذلك غير جائز فإن قلتم: إِنَّمَا خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ تِلْكَ الْبَيِّنَاتِ/ أَقْوَى؟ فَنَقُولُ: إِنَّ بَيِّنَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ أَقْوَى مِنْ بَيِّنَاتِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَقْوَى فَلَا أَقَلَّ مِنَ الْمُسَاوَاةِ. الْجَوَابُ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى قُبْحِ أَفْعَالِ الْيَهُودِ، حَيْثُ أَنْكَرُوا نُبُوَّةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ اللَّائِحَةِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: الْبَيِّنَاتُ جَمْعُ قِلَّةٍ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَقَامِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ جَمْعُ قِلَّةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقُدُسُ تُثَقِّلُهُ أَهْلُ الْحِجَازِ وَتَخَفِّفُهُ تَمِيمٌ. المسألة الثانية: في تفسيره أقوال لأول: قَالَ الْحَسَنُ: الْقُدُسُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَرُوحُهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْإِضَافَةُ لِلتَّشْرِيفِ، وَالْمَعْنَى أَعَنَّاهُ بِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ وَفِي وَسَطِهِ وَفِي آخِرِهِ، أَمَّا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فلقوله: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [التحريم: 12] وَأَمَّا فِي وَسَطِهِ فَلِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَّمَهُ الْعُلُومَ، وَحَفِظَهُ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَأَمَّا فِي آخِرِ الْأَمْرِ فَحِينَ أَرَادَتِ الْيَهُودُ قَتْلَهُ أَعَانَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ [النحل: 102] .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ هُوَ الِاسْمُ الَّذِي كَانَ يُحْيِي بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَوْتَى. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ: أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ الَّذِي أُيِّدَ بِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرُّوحَ الطَّاهِرَةَ الَّتِي نَفَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، وَأَبَانَهُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ خُلِقَ مِنِ اجْتِمَاعِ نُطْفَتَيِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَعَلُّقُ هَذِهِ بِمَا قَبْلَهَا هو أن الرسل بعد ما جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ، وَوَضَحَتْ لَهُمُ الدَّلَائِلُ وَالْبَرَاهِينُ، اخْتَلَفَتْ أَقْوَامُهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ تَقَاتَلُوا وَتَحَارَبُوا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ كُلَّ الْحَوَادِثِ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا يَقْتَتِلُوا لَمْ يَقْتَتِلُوا، وَالْمَعْنَى أَنَّ عَدَمَ الِاقْتِتَالِ لَازِمٌ لِمَشِيئَةِ عَدَمِ الِاقْتِتَالِ، وَعَدَمُ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَلْزُومِ، فَحَيْثُ وُجِدَ الِاقْتِتَالُ عَلِمْنَا أَنَّ مَشِيئَةَ عَدَمِ الِاقْتِتَالِ مَفْقُودَةٌ، بَلْ كَانَ الْحَاصِلُ هُوَ مَشِيئَةَ الِاقْتِتَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الِاقْتِتَالَ مَعْصِيَةٌ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ وَالْعِصْيَانَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَعَلَى أَنَّ قَتْلَ الْكُفَّارِ وَقِتَالَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ أَجَابُوا عَنِ الِاسْتِدْلَالِ، وَقَالُوا: الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا قَتَلُوا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِغَلَبَةٍ مِنْهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَأَهْلَكَهُمْ وَأَبَادَهُمْ أَوْ يُقَالُ: لَوْ شَاءَ لَسَلَبَ الْقُوَى وَالْقُدَرَ مِنْهُمْ أَوْ يُقَالُ: لَوْ شَاءَ لَمَنَعَهُمْ مِنَ الْقِتَالِ جَبْرًا وَقَسْرًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ الْمُرَادُ مِنْهُ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ مِنَ الْمَشِيئَةِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: لَوْ شَاءَ الْإِمَامُ لَمْ يَعْبُدِ الْمَجُوسُ النَّارَ فِي مَمْلَكَتِهِ، وَلَمْ تَشْرَبِ النَّصَارَى الْخَمْرَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمَشِيئَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَكَذَا هاهنا، ثُمَّ أَكَّدَ الْقَاضِي هَذِهِ الْأَجْوِبَةَ وَقَالَ: إِذَا كَانَتِ الْمَشِيئَةُ تَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ وَتَنْتَفِي عَلَى وُجُوهٍ لَمْ يَكُنْ فِي الظَّاهِرِ دَلَالَةٌ عَلَى الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ، لَا سِيَّمَا وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ مِنَ الْمَشِيئَةِ مُتَبَايِنَةٌ مُتَنَافِيَةٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ أَنْوَاعَ الْمَشِيئَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ وَتَبَايَنَتْ إِلَّا أَنَّهَا مُشْتَرِكَةٌ فِي عُمُومِ كَوْنِهَا مَشِيئَةً، وَالْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ هُوَ الْمَشِيئَةُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَشِيئَةٌ، لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَشِيئَةٌ خَاصَّةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُسَمَّى حَاصِلًا، وَتَخْصِيصُ الْمَشِيئَةِ بِمَشِيئَةٍ خَاصَّةٍ، وَهِيَ إِمَّا مَشِيئَةُ الْهَلَاكِ، أَوْ مَشِيئَةُ سَلْبِ الْقُوَى وَالْقُدَرِ، أَوْ مَشِيئَةُ الْقَهْرِ وَالْإِجْبَارِ، تَقْيِيدٌ لِلْمُطْلَقِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَكَمَا أَنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ فَهُوَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا كَانَ عَالِمًا بِوُقُوعِ الِاقْتِتَالِ، وَالْعِلْمُ بِوُقُوعِ الِاقْتِتَالِ حَالَ عَدَمِ وُقُوعِ الِاقْتِتَالِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَبَيْنَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ، فَحَالُ حُصُولِ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الِاقْتِتَالِ لَوْ أَرَادَ عَدَمَ الِاقْتِتَالِ لَكَانَ قَدْ أَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ عَلَى ضِدِّ قَوْلِهِمْ، وَالْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ عَلَى ضِدِّ قَوْلِهِمْ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. ثُمَّ قَالَ: وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ أَنَّ الْمَعْنَى: وَلَوْ شَاءَ لَمْ يَخْتَلِفُوا، وَإِذَا لَمْ يَخْتَلِفُوا لَمْ يَقْتَتِلُوا، وَإِذَا اخْتَلَفُوا فَلَا جَرَمَ اقْتَتَلُوا، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ الدَّاعِي، لِأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ يَسْتَلْزِمُ التَّقَاتُلَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِي الدِّينِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْمُقَاتَلَةِ،

[سورة البقرة (2) : آية 254]

وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُقَاتَلَةَ لَا تَقَعُ إِلَّا لِهَذَا الدَّاعِي، وَعَلَى أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ هَذَا الدَّاعِي وَقَعَتِ الْمُقَاتَلَةُ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ عِنْدَ عَدَمِ الدَّاعِي، وَوَاجِبٌ عِنْدَ حُصُولِ الدَّاعِي، وَمَتَى ثَبَتَ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ الْكُلَّ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، لِأَنَّ الدَّوَاعِيَ تَسْتَنِدُ لَا مَحَالَةَ إِلَى دَاعِيَةٍ يَخْلُقُهَا اللَّهُ فِي الْعَبْدِ دَفْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، فَكَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً أَيْضًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا. ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّكْرِيرِ؟. قُلْنَا: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّمَا كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا لِلْكَلَامِ وَتَكْذِيبًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَجْرِ بِهِ قَضَاءٌ وَلَا قَدَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ فَيُوَفِّقُ مَنْ يَشَاءُ وَيَخْذُلُ مَنْ يَشَاءُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ/ وَاحْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالُوا: لِأَنَّ الْخَصْمَ يُسَاعِدُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْإِيمَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَفْعَلُ كُلَّ مَا يُرِيدُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ لِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى، وَأَيْضًا لِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَفْعَلُ كُلَّ مَا يُرِيدُ فَلَوْ كَانَ يُرِيدُ الْإِيمَانَ مِنَ الْكُفَّارِ لَفَعَلَ فِيهِمُ الْإِيمَانَ، وَلَكَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ الْإِيمَانَ مِنْهُمْ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَعْمَالِ، وَعَلَى مَسْأَلَةِ إِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ وَالْمُعْتَزِلَةُ يُقَيِّدُونَ الْمُطْلَقَ وَيَقُولُونَ: الْمُرَادُ يَفْعَلُ كُلَّ مَا يُرِيدُ مِنْ أَفْعَالِ نَفْسِهِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَقْيِيدٌ لِلْمُطْلَقِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْيِيدِ تَصِيرُ الْآيَةُ بَيَانًا لِلْوَاضِحَاتِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ الثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ فِي وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى كَمَالِ قدرته وعلو مرتبته والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 254] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اعْلَمْ أَنَّ أَصْعَبَ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْإِنْسَانِ بَذْلُ النَّفْسِ فِي الْقِتَالِ، وَبَذْلُ الْمَالِ فِي الْإِنْفَاقِ فَلَمَّا قَدَّمَ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ أَعْقَبَهُ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ، وَأَيْضًا فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْقِتَالِ فِيمَا سَبَقَ بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 244] ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْبَقَرَةِ: 245] وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي الْجِهَادِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَرَّةً ثَانِيَةً أَكَّدَ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ وَذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ طَالُوتَ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِالْأَمْرِ بالإنفاق في الجهاد، وهو قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا. إِذَا عَرَفْتَ وَجْهَ النَّظْمِ فَنَقُولُ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ لَا يَكُونُ إِلَّا حَلَالًا بِقَوْلِهِ: أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ فَنَقُولُ: اللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ رِزْقًا بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا مَا كَانَ حَرَامًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِنْفَاقُهُ، وَهَذَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِأَنَّ الرِّزْقَ لَا يَكُونُ حَرَامًا، وَالْأَصْحَابُ قَالُوا: ظَاهِرُ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِإِنْفَاقِ كُلِّ مَا كَانَ رِزْقًا إِلَّا أَنَّا نُخَصِّصُ هَذَا الْأَمْرَ بِإِنْفَاقِ كُلِّ مَا كَانَ رِزْقًا حَلَالًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْفِقُوا مُخْتَصٌّ بِالْإِنْفَاقِ الْوَاجِبِ كَالزَّكَاةِ أَمْ هُوَ عَامٌّ/ فِي كُلِّ الْإِنْفَاقَاتِ سَوَاءٌ كَانَتْ وَاجِبَةً أَوْ مَنْدُوبَةً، فَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا الْأَمْرُ مُخْتَصٌّ بِالزَّكَاةِ، قَالَ لِأَنَّ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ

يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ كَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَّا عَلَى الْوَاجِبِ وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هَذَا الْأَمْرُ يَتَنَاوَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ وَعِيدٌ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: حَصِّلُوا مَنَافِعَ الْآخِرَةِ حِينَ تَكُونُونَ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّكُمْ إِذَا خَرَجْتُمْ مِنَ الدُّنْيَا لَا يُمْكِنُكُمْ تَحْصِيلُهَا وَاكْتِسَابُهَا فِي الْآخِرَةِ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْإِنْفَاقُ فِي الْجِهَادِ: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَذْكُورٌ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِنْفَاقَ فِي الْجِهَادِ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَصَمِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو لَا بَيْعَ، وَلَا خُلَّةَ، وَلَا شَفَاعَةَ بِالنَّصْبِ، وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ [إِبْرَاهِيمَ: 31] وَفِي الطُّورِ لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ [الطُّورِ: 23] وَالْبَاقُونَ جَمِيعًا بِالرَّفْعِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّصْبِ وَالرَّفْعِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلُهُ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ [الْبَقَرَةِ: 197] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَجِيءُ وَحْدَهُ، وَلَا يَكُونُ مَعَهُ شَيْءٌ مِمَّا حَصَّلَهُ فِي الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [الْأَنْعَامِ: 94] وَقَالَ: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً [مَرْيَمَ: 80] . أَمَّا قَوْلُهُ: لَا بَيْعٌ فِيهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أن البيع هاهنا بِمَعْنَى الْفِدْيَةِ، كَمَا قَالَ: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ [الْحَدِيدِ: 15] وَقَالَ: وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ [الْبَقَرَةِ: 123] وَقَالَ: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها [الْأَنْعَامِ: 7] فَكَأَنَّهُ قَالَ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا تِجَارَةَ فِيهِ فَتَكْتَسِبَ مَا تَفْتَدِي بِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنَ الْمَالِ الَّذِي هُوَ فِي مِلْكِكُمْ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْيَوْمُ الَّذِي لَا يَكُونُ فِيهِ تِجَارَةٌ وَلَا مُبَايَعَةٌ حَتَّى يُكْتَسَبَ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا خُلَّةٌ فَالْمُرَادُ الْمَوَدَّةُ، وَنَظِيرُهُ مِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزُّخْرُفِ: 67] وَقَالَ: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ [البقرة: 166] وقال: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الْعَنْكَبُوتِ: 25] وَقَالَ حِكَايَةً عَنِ الْكُفَّارِ: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشُّعَرَاءِ: 100] وَقَالَ: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [الْبَقَرَةِ: 270] وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا شَفاعَةٌ يَقْتَضِي نَفْيَ كُلِّ الشَّفَاعَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ عَامٌّ فِي الْكُلِّ، إِلَّا أَنَّ سَائِرَ الدَّلَائِلِ دَلَّتْ عَلَى ثُبُوتِ الْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَى ثُبُوتِ الشَّفَاعَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 281] لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ [الْبَقَرَةِ: 48] . وَاعْلَمْ أَنَّ السَّبَبَ فِي عَدَمِ الْخُلَّةِ وَالشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمُورٌ أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَكُونُ مَشْغُولًا بِنَفْسِهِ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عَبَسَ: 37] وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَوْفَ الشَّدِيدَ غَالِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، عَلَى مَا قَالَ: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى [الْحَجِّ: 2] وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا نَزَلَ الْعَذَابُ بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ صَارَ/ مُبَغِّضًا لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَإِذَا صَارَ مُبَغِّضًا لَهُمَا صَارَ مُبَغِّضًا لِمَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهِمَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ فَنُقِلَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَالَ:

وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَلَمْ يُقِلِ الظَّالِمُونَ هُمُ الْكَافِرُونَ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ أَوْهَمَ ذَلِكَ نَفْيَ الْخُلَّةِ وَالشَّفَاعَةِ مُطْلَقًا، فَذَكَرَ تَعَالَى عَقِيبَهُ: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ النَّفْيَ مُخْتَصٌّ بِالْكَافِرِينَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَصِيرُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ فِي حَقِّ الْفُسَّاقِ، قَالَ الْقَاضِي: هَذَا التَّأْوِيلُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ فَلَمْ يَجِبْ تَعْلِيقُهُ بِمَا تَقَدَّمَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّا لَوْ جَعَلْنَا هَذَا الْكَلَامَ مُبْتَدَأً تَطَرَّقَ الْخُلْفُ إِلَى كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، لَأَنَّ غَيْرَ الْكَافِرِينَ قَدْ يَكُونُ ظَالِمًا، أَمَّا إِذَا عَلَّقْنَاهُ بِمَا تَقَدَّمَ زَالَ الْإِشْكَالُ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى تَعْلِيقِهِ بِمَا قَبْلَهُ. التأويل الثاني: أن الكافرون إِذَا دَخَلُوا النَّارَ عَجَزُوا عَنِ التَّخَلُّصِ عَنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ، فَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَظْلِمْهُمْ بِذَلِكَ الْعَذَابِ، بَلْ هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ اخْتَارُوا الْكُفْرَ وَالْفِسْقَ حَتَّى صَارُوا مُسْتَحِقِّينَ لِهَذَا الْعَذَابِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الْكَهْفِ: 49] . وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْكَافِرِينَ هُمُ الظَّالِمُونَ حَيْثُ تَرَكُوا تَقْدِيمَ الْخَيْرَاتِ لِيَوْمِ فَاقَتِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْحَاضِرُونَ لَا تَقْتَدُوا بِهِمْ فِي هَذَا الِاخْتِيَارِ الرَّدِيءِ، وَلَكِنْ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مَا تَجْعَلُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِدْيَةً لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَالتَّأْوِيلُ الرَّابِعُ: الْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِوَضْعِ الْأُمُورِ فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، لِتَوَقُّعِهِمُ الشَّفَاعَةَ مِمَّنْ لَا يَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ في الأوثان: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] ، وَقَالُوا أَيْضًا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] فَمَنْ عَبَدَ جَمَادًا وَتَوَقَّعَ أَنْ يَكُونَ شَفِيعًا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ حَيْثُ توقع الخبر مِمَّنْ لَا يَجُوزُ التَّوَقُّعُ مِنْهُ. وَالتَّأْوِيلُ الْخَامِسُ: الْمُرَادُ مِنَ الظُّلْمِ تَرْكُ الْإِنْفَاقِ، قَالَ تَعَالَى: آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الْكَهْفِ: 33] أَيْ أَعْطَتْ وَلَمْ تَمْنَعْ فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ وَالْكَافِرُونَ التَّارِكُونَ لِلْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ شَيْئًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ. وَالتَّأْوِيلُ السَّادِسُ: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَيْ هُمُ الْكَامِلُونَ فِي الظُّلْمِ الْبَالِغُونَ الْمَبْلَغَ الْعَظِيمَ فِيهِ كَمَا يُقَالُ: الْعُلَمَاءُ هُمُ الْمُتَكَلِّمُونَ أَيْ هُمُ الْكَامِلُونَ فِي الْعِلْمِ فَكَذَا هاهنا، وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْوُجُوهِ قَدْ ذَكَرَهَا الْقَفَّالُ رَحِمَهُ الله والله أعلم. تم الجزء السادس، ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السابع، وأوله قَوْلُهُ تَعَالَى اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ أعان الله على إكماله

الجزء السابع

الجزء السابع [تتمة سورة البقرة] بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم [سورة البقرة (2) : آية 255] اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) اعْلَمْ أَنَّ مِنْ عَادَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ أَنَّهُ يَخْلِطُ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ بَعْضَهَا بِالْبَعْضِ، أَعْنِي عِلْمَ التَّوْحِيدِ، وَعِلْمَ الْأَحْكَامِ، وَعِلْمَ الْقَصَصِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الْقَصَصِ إِمَّا تَقْرِيرُ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَإِمَّا الْمُبَالَغَةُ فِي إِلْزَامِ الْأَحْكَامِ وَالتَّكَالِيفِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ هُوَ الطَّرِيقُ الْأَحْسَنُ لَا إِبْقَاءُ الْإِنْسَانِ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْمَلَالَ، فَأَمَّا إِذَا انْتَقَلَ مِنْ نَوْعٍ مِنَ الْعُلُومِ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ فَكَأَنَّهُ يَشْرَحُ بِهِ الصَّدْرَ وَيُفْرِحُ بِهِ الْقَلْبَ، فَكَأَنَّهُ سَافَرَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ وَانْتَقَلَ مِنْ بُسْتَانٍ إِلَى بُسْتَانٍ آخَرَ، وَانْتَقَلَ مِنْ تَنَاوُلِ طَعَامٍ لَذِيذٍ إِلَى تَنَاوُلِ نَوْعٍ آخَرَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَكُونُ أَلَذَّ وَأَشْهَى، وَلَمَّا ذَكَرَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ عِلْمِ الْأَحْكَامِ وَمِنْ عِلْمِ الْقَصَصِ مَا رَآهُ مَصْلَحَةً ذَكَرَ الْآنَ مَا يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ التَّوْحِيدِ، فَقَالَ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي فَضَائِلِ هَذِهِ الْآيَةِ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: / «مَا قُرِئَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي دَارٍ إِلَّا اهْتَجَرَتْهَا الشَّيَاطِينُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَا يَدْخُلُهَا سَاحِرٌ وَلَا سَاحِرَةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ عَلَى أَعْوَادِ الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا الْمَوْتُ، وَلَا يُوَاظِبُ عَلَيْهَا إِلَّا صِدِّيقٌ أَوْ عَابِدٌ، وَمَنْ قَرَأَهَا إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ أَمَّنَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ وَجَارِهِ وَجَارِ جَارِهِ وَالْأَبْيَاتِ الَّتِي حَوْلَهُ» وَتَذَاكَرَ الصَّحَابَةُ أَفْضَلَ مَا فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ لَهُمْ عَلِيٌّ: أَيْنَ أَنْتُمْ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَلِيُّ سَيِّدُ الْبَشَرِ آدَمُ، وَسَيِّدُ الْعَرَبِ مُحَمَّدٌ وَلَا فَخْرَ، وَسَيِّدُ الْكَلَامِ الْقُرْآنُ، وَسَيِّدُ الْقُرْآنِ الْبَقَرَةُ، وَسَيِّدُ الْبَقَرَةِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ» وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَاتَلْتُ ثُمَّ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُ، قَالَ فَجِئْتُ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى الْقِتَالِ ثُمَّ جِئْتُ وَهُوَ يَقُولُ ذَلِكَ، فَلَا أَزَالُ أَذْهَبُ وَأَرْجِعُ وَأَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَكَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ فَتَحَ اللَّهُ لَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الذِّكْرَ وَالْعِلْمَ يَتْبَعَانِ الْمَذْكُورَ وَالْمَعْلُومَ فَكُلَّمَا كَانَ الْمَذْكُورُ وَالْمَعْلُومُ أَشْرَفَ كَانَ الذِّكْرُ وَالْعِلْمُ أَشْرَفَ، وَأَشْرَفُ الْمَذْكُورَاتِ وَالْمَعْلُومَاتِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَلْ هُوَ مُتَعَالٍ عَنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي نَوْعَ مُجَانَسَةٍ وَمُشَاكَلَةٍ، وَهُوَ مُقَدَّسٌ عَنْ مُجَانَسَةِ مَا سِوَاهُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كُلُّ كَلَامٍ اشْتَمَلَ عَلَى نُعُوتِ جَلَالِهِ وَصِفَاتِ كِبْرِيَائِهِ، كَانَ ذَلِكَ الْكَلَامُ فِي نِهَايَةِ الْجَلَالِ وَالشَّرَفِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَالِغَةً فِي الشَّرَفِ إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ وَأَبْلَغِ النِّهَايَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ تَفْسِيرَ لَفْظَةِ اللَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ قَدْ تَقَدَّمَ

فِي قَوْلِهِ وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [البقرة: 163] بقي هاهنا أَنْ نَتَكَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَعْظَمُ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَمَا رَوَيْنَا أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مَا كَانَ يَزِيدُ عَلَى ذِكْرِهِ فِي السُّجُودِ يَوْمَ بَدْرٍ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ هَذَا الِاسْمِ وَالْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّتِهِ وَتَقْرِيرُهُ، وَمِنَ اللَّهِ التَّوْفِيقُ: أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي وُجُودِ الْمَوْجُودَاتِ فَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِأَسْرِهَا مُمْكِنَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِأَسْرِهَا وَاجِبَةً وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بَعْضُهَا مُمْكِنَةً وَبَعْضُهَا وَاجِبَةً لَا جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ بِأَسْرِهَا مُمْكِنَةً، لِأَنَّ كُلَّ مَجْمُوعٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الْمَجْمُوعِ مُمْكِنٌ وَالْمُفْتَقِرُ إِلَى الْمُمْكِنِ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ، فَهَذَا الْمَجْمُوعُ مُمْكِنٌ بِذَاتِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ مُمْكِنٌ فَإِنَّهُ لَا يَتَرَجَّحُ وَجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ إِلَّا لِمُرَجَّحٍ مُغَايِرٍ لَهُ، فَهَذَا الْمَجْمُوعُ مُفْتَقِرٌ بِحَسَبِ كَوْنِهِ مَجْمُوعًا وَبِحَسَبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ إلى مرجح مغاير له وكل وما كَانَ مُغَايِرًا لِكُلِّ الْمُمْكِنَاتِ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا فَقَدْ وُجِدَ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِمُمْكِنٍ، فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مُمْكِنٌ وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْمَوْجُودَاتُ بِأَسْرِهَا وَاجِبَةٌ فَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ. لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ/ وُجُودَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ لَكَانَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي الْوُجُوبِ بِالذَّاتِ وَمُتَغَايِرَيْنِ بِالنَّفْيِ، وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ مُغَايِرٌ لِمَا بِهِ الْمُمَايَزَةُ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَكَّبًا فِي الْوُجُوبِ الَّذِي بِهِ الْمُشَارَكَةُ، وَمِنَ الْغَيْرِ الَّذِي بِهِ الْمُمَايَزَةُ، وَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جُزْئِهِ وَجُزْءِ غَيْرِهِ، وَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ، وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، فَلَوْ كَانَ وَاجِبُ الْوُجُودِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ لَمَا كَانَ شَيْءٌ مِنْهَا وَاجِبَ الْوُجُودِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَانِ الْقِسْمَانِ ثَبَتَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي مَجْمُوعِ الْمَوْجُودَاتِ مَوْجُودٌ وَاحِدٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَأَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ مَوْجُودٌ بِإِيجَادِ ذَلِكَ الْمَوْجُودِ الَّذِي هُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَانِ فَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ مَوْجُودٌ لِذَاتِهِ وَبِذَاتِهِ، وَمُسْتَغْنٍ فِي وُجُودِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَأَمَّا كُلُّ مَا سِوَاهُ فَمُفْتَقِرٌ فِي وُجُودِهِ وَمَاهِيَّتِهِ إِلَى إِيجَادِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، فَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ قَائِمٌ بِذَاتِهِ وَسَبَبٌ لِتَقَوُّمِ كُلِّ مَا سِوَاهُ فِي مَاهِيَّتِهِ وَفِي وَجُودِهِ، فَهُوَ الْقَيُّومُ الْحَيُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ الْمَوْجُودَاتِ، فَالْقَيُّومُ هُوَ الْمُتَقَوِّمُ بِذَاتِهِ، الْمُقَوِّمُ لِكُلِّ مَا عَدَاهُ فِي مَاهِيَّتِهِ وَوُجُودِهِ، وَلَمَّا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ كَانَ هُوَ الْقَيُّومَ الْحَقَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُلِّ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْغَيْرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا عَلَى سَبِيلِ الْعِلْيَةِ وَالْإِيجَابِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا عَلَى سَبِيلِ الْفِعْلِ وَالِاخْتِيَارِ: لَا جَرَمَ أَزَالَ وَهْمَ كَوْنِهِ مُؤَثِّرًا بِالْعِلْيَةِ وَالْإِيجَابِ بِقَوْلِهِ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فَإِنَّ الْحَيَّ هُوَ الدَّرَّاكُ الْفَعَّالُ، فَبِقَوْلِهِ الْحَيُّ دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا قَادِرًا، وَبِقَوْلِهِ الْقَيُّومُ دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ قَائِمًا بِذَاتِهِ وَمُقَوِّمًا لِكُلِّ مَا عَدَاهُ، وَمِنْ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ تَتَشَعَّبُ جَمِيعُ الْمَسَائِلِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي عِلْمِ التَّوْحِيدِ. فَأَوَّلُهَا: أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَاحِدٌ بِمَعْنَى أَنَّ مَاهِيَّتَهُ غَيْرُ مُرَكَّبَةٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ، وَبُرْهَانُهُ أَنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ فَإِنَّهُ مُفْتَقِرٌ فِي تَحَقُّقُهُ إِلَى تَحَقُّقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ وَجُزْؤُهُ غَيْرُهُ، وَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُتَقَوِّمٌ بِغَيْرِهِ، وَالْمُتَقَوِّمُ بِغَيْرِهِ لَا يَكُونُ مُتَقَوِّمًا بِذَاتِهِ، فَلَا يَكُونُ قَيُّومًا، وَقَدْ بَيَّنَّا بِالْبُرْهَانِ أَنَّهُ قَيُّومٌ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ وَاحِدٌ، فهذا الأصل له لازمان أحدها: أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَاحِدٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ شَيْئَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ إِذْ لَوْ فُرِضَ ذَلِكَ لَاشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ وَتَبَايَنَا فِي التَّعَيُّنِ، وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُبَايَنَةُ، فَيَلْزَمُ كَوْنُ كُلِّ واحد منهما في ذاته مركباً من جز أين، وَقَدْ بَيَّنَّا بَيَانَ أَنَّهُ مُحَالٌ. اللَّازِمُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ فِي حَقِيقَتِهِ أَنْ تَكُونَ مُرَكَّبَةً مِنْ جُزْأَيْنِ امْتَنَعَ كَوْنُهُ مُتَحَيِّزًا، لِأَنَّ كُلَّ مُتَحَيِّزٍ فَهُوَ

مُنْقَسِمٌ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ التَّرْكِيبَ عَلَيْهِ مُمْتَنِعٌ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ امْتَنَعَ كَوْنُهُ فِي الْجِهَةِ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْمُتَحَيِّزِ إِلَّا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ إِشَارَةً حِسِّيَّةً، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ وَلَيْسَ فِي الْجِهَةِ، امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَعْضَاءٌ وَحَرَكَةٌ وَسُكُونٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَيُّومًا كَانَ قائماً بذاته، وكونه قائماً بذاته يستلزم أمور: اللَّازِمُ الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَكُونَ عَرَضًا فِي مَوْضُوعٍ، وَلَا صُورَةً فِي مَادَّةٍ، وَلَا حَالًا فِي مَحَلٍّ أَصْلًا لِأَنَّ الْحَالَ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْمَحَلِّ وَالْمُفْتَقِرُ إِلَى الْغَيْرِ لَا يَكُونُ قَيُّومًا بِذَاتِهِ. وَاللَّازِمُ الثَّانِي: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا مَعْنَى لِلْعِلْمِ إِلَّا حُضُورُ حَقِيقَةِ الْمَعْلُومِ لِلْعَالِمِ، فَإِذَا كَانَ قَيُّومًا بِمَعْنَى كَوْنِهِ قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ كَانَتْ حَقِيقَتُهُ حَاضِرَةً عِنْدَ ذَاتِهِ، وَإِذَا كَانَ لَا مَعْنَى لِلْعِلْمِ إِلَّا هَذَا الْحُضُورُ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَتُهُ مَعْلُومَةً لِذَاتِهِ فَإِذَنْ ذَاتُهُ مَعْلُومَةٌ لِذَاتِهِ، وَكُلُّ مَا عَدَاهُ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِتَأْثِيرِهِ، وَلِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ قَيُّومٌ بِمَعْنَى كَوْنِهِ مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ التَّأْثِيرُ إِنْ كَانَ بِالِاخْتِيَارِ فَالْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ شُعُورٌ بِفِعْلِهِ وَإِنْ كَانَ بِالْإِيجَابِ لَزِمَ أَيْضًا كَوْنُهُ عَالِمًا بِكُلِّ مَا سِوَاهُ لِأَنَّ ذَاتَهُ مُوجِبَةٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ، وَقَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ قَائِمًا بِالنَّفْسِ لِذَاتِهِ كَوْنُهُ عَالِمًا بِذَاتِهِ، وَالْعِلْمُ بِالْعِلَّةِ عِلَّةٌ لِلْعِلْمِ بِالْمَعْلُولِ، فَعَلَى التَّقْدِيرَاتِ كُلِّهَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ قَيُّومًا كَوْنُهُ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ. وَثَالِثُهَا: لَمَّا كَانَ قَيُّومًا لِكُلِّ مَا سِوَاهُ كَانَ كُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْدَثًا، لِأَنَّ تَأْثِيرَهُ فِي تَقْوِيمِ ذَلِكَ الْغَيْرِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حَالَ بَقَاءِ ذَلِكَ الْغَيْرِ لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ فَهُوَ إِمَّا حَالُ عَدَمِهِ وَإِمَّا حَالُ حُدُوثِهِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ مُحْدَثًا. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَيُّومًا لِكُلِّ الْمُمْكِنَاتِ اسْتَنَدَتْ كُلُّ الْمُمْكِنَاتِ إِلَيْهِ إِمَّا بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ كَانَ الْقَوْلُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ حَقًّا، وَهَذَا مِمَّا قَدْ فَصَّلْنَاهُ وَأَوْضَحْنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ فَأَنْتَ إِنْ سَاعَدَكَ التَّوْفِيقُ وَتَأَمَّلْتَ فِي هَذِهِ الْمَعَاقِدِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْإِحَاطَةِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ إِلَّا بِوَاسِطَةِ كَوْنِهِ تَعَالَى حَيًّا قَيُّومًا فَلَا جَرَمَ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ هُوَ هَذَا، وَأَمَّا سَائِرُ الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، كَقَوْلِهِ وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [الْبَقَرَةِ: 163] وَقَوْلِهِ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آلِ عِمْرَانَ: 18] فَفِيهِ بَيَانُ التَّوْحِيدِ بِمَعْنَى نَفْيِ الضِّدِّ وَالنِّدِّ، وَأَمَّا قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الصمد: 1] فَفِيهِ بَيَانُ التَّوْحِيدِ بِمَعْنَى نَفْيِ الضِّدِّ وَالنِّدِّ، وَبِمَعْنَى أَنَّ حَقِيقَتَهُ غَيْرُ مُرَكَّبَةٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَعْرَافِ: 54] فَفِيهِ بَيَانُ صِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ وَحْدَةِ الْحَقِيقَةِ، أَمَّا قَوْلُهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْكُلِّ لِأَنَّ كَوْنَهُ قَيُّومًا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَائِمًا بِذَاتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ وَكَوْنُهُ قَائِمًا بِذَاتِهِ يَقْتَضِي الْوَحْدَةَ بِمَعْنَى نَفْيِ الْكَثْرَةِ فِي حَقِيقَتِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْوَحْدَةَ بِمَعْنَى نَفْيِ الضِّدِّ وَالنِّدِّ وَيَقْتَضِي نَفْيَ التَّحَيُّزِ وَبِوَاسِطَتِهِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْجِهَةِ، وَأَيْضًا كَوْنُهُ قَيُّومًا بِمَعْنَى كَوْنِهِ مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ يَقْتَضِي حُدُوثَ كُلِّ مَا سِوَاهُ جِسْمًا كَانَ أَوْ رُوحًا عَقْلًا كَانَ أَوْ نَفْسًا، وَيَقْتَضِي اسْتِنَادَ الْكُلِّ إِلَيْهِ وَانْتِهَاءَ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَوْلَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ فَظَهَرَ أَنَّ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ كَالْمُحِيطَيْنِ بِجَمِيعِ مَبَاحِثِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ، فَلَا جَرَمَ بَلَغَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الشَّرَفِ إِلَى الْمَقْصِدِ الْأَقْصَى وَاسْتَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ حَيٌّ قَيُّومٌ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَغْفُلُ عَنْ تَدْبِيرِ الْخَلْقِ، لِأَنَّ الْقَيِّمَ بِأَمْرِ الطِّفْلِ لَوْ غَفَلَ عَنْهُ سَاعَةً لَاخْتَلَّ أَمْرُ الطِّفْلِ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ قَيِّمُ جَمِيعِ الْمُحْدَثَاتِ، وَقَيُّومُ الْمُمْكِنَاتِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَغْفُلَ عَنْ تَدْبِيرِهِمْ، فَقَوْلُهُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ كَالتَّأْكِيدِ لِبَيَانِ كَوْنِهِ تَعَالَى قَائِمًا، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ ضَيَّعَ وَأَهْمَلَ: إِنَّكَ لو سنان نَائِمٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَوْنَهُ قَيُّومًا بِمَعْنَى كَوْنِهِ قَائِمًا بِذَاتِهِ، مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ، رَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمًا وَهُوَ قَوْلُهُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ كُلُّ مَا سِوَاهُ إِنَّمَا تَقَوَّمَتْ مَاهِيَّتُهُ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ وُجُودُهُ بِتَقْوِيمِهِ وَتَكْوِينِهِ وَتَخْلِيقِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا سِوَاهُ مُلْكًا لَهُ وَمِلْكًا لَهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ثُمَّ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ هُوَ الْمَلِكُ وَالْمَالِكُ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ، ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَهُ فِي الْكُلِّ جَارٍ لَيْسَ لِغَيْرِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ حُكْمٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَأَمْرِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مَالِكًا لِلْكُلِّ، أَنْ لَا يَكُونَ لِغَيْرِهِ فِي مُلْكِهِ تَصَرُّفٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، بَيَّنَ أَيْضًا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ عَالِمًا بِالْكُلِّ وَكَوْنِ غَيْرِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْكُلِّ، أَنْ لَا يَكُونَ لِغَيْرِهِ فِي مُلْكِهِ تَصَرُّفٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ عَالِمًا بِالْكُلِّ، ثُمَّ قَالَ: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِ غَيْرِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ لما بيّن كمال ملكه وحكمه في السموات وَفِي الْأَرْضِ، بَيَّنَ أَنَّ مُلْكَهُ فِيمَا وَرَاءَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَصِلُ إِلَيْهِ أَوْهَامُ الْمُتَوَهِّمِينَ وَيَنْقَطِعُ دُونَ الارتقاء إلى أدنى درجة من درجاتها الْمُتَخَيِّلِينَ، فَقَالَ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ نَفَاذَ حُكْمِهِ وَمُلْكِهِ فِي الْكُلِّ عَلَى نَعْتٍ وَاحِدٍ، وَصُورَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ كَوْنَهُ قَيُّومًا بِمَعْنَى كَوْنِهِ مُقَوِّمًا لِلْمُحْدَثَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ وَالْمَخْلُوقَاتِ، بَيَّنَ كَوْنَهُ قَيُّومًا بِمَعْنَى قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَذَاتِهِ، مُنَزَّهًا عَنِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى غَيْرِهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، فَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى مَكَانٍ، أَوْ مُتَغَيِّرًا حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى زَمَانٍ، فَقَالَ: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْعُلُوُّ وَالْعَظَمَةُ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَلَا يُنْسَبُ غَيْرِهِ فِي صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ وَلَا فِي نَعْتٍ مِنَ النُّعُوتِ، فَقَالَ: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ إِشَارَةً إِلَى مَا بَدَأَ بِهِ فِي الْآيَةِ مِنْ كَوْنِهِ قَيُّومًا بِمَعْنَى كَوْنِهِ قَائِمًا بِذَاتِهِ مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ، وَمَنْ أَحَاطَ عَقْلُهُ بِمَا ذَكَرْنَا عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَ الْعُقُولِ الْبَشَرِيَّةِ مِنَ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ كَلَامٌ أَكْمَلَ، وَلَا بُرْهَانٌ أَوْضَحَ مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْأَسْرَارَ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى ظَاهِرِ التَّفْسِيرِ. أَمَّا قَوْلُهُ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّهُ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِلَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ، وَهُوَ خَطَأٌ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ إِلَهًا فِي الْأَزَلِ، وَمَا كَانَ مَعْبُودًا وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ مَعْبُودًا سِوَاهُ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْأَنْبِيَاءِ: 98] بَلِ الْإِلَهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى مَا إِذَا فَعَلَهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ الْحَيُّ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْحَيُّ أَصْلُهُ حَيِيٌ كَقَوْلِهِ: حَذِرٌ وَطَمِعٌ فَأُدْغِمَتِ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَصْلُهُ الْحَيْوُ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْيَاءُ وَالْوَاوُ ثم كان السابق ساكناً فجعلنا ياء مشددة.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ الْحَيُّ كُلُّ ذَاتٍ يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ وَيَقْدِرَ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ صِفَةٌ مَوْجُودَةٌ أَمْ لَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الشَّيْءِ بِحَيْثُ لَا يَمْتَنِعُ أَنَّهُ يَعْلَمُ وَيَقْدِرُ، وَعَدَمُ الِامْتِنَاعِ لَا يَكُونُ صِفَةً مَوْجُودَةً، وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: وَلَمَّا كَانَتِ الْحَيَاةُ عِبَارَةً عَنْ عَدَمِ الِامْتِنَاعِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الِامْتِنَاعَ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ، إِذْ لَوْ كَانَ وَصْفًا مَوْجُودًا لَكَانَ الْمَوْصُوفُ بِهِ مَوْجُودًا، فَيَكُونُ مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ مَوْجُودًا وَهُوَ مُحَالٌ، وَثَبَتَ أَنَّ الِامْتِنَاعَ عَدَمٌ، وَثَبَتَ أَنَّ الْحَيَاةَ عَدَمُ هَذَا الِامْتِنَاعِ، وَثَبَتَ أَنَّ عَدَمَ الْعَدَمِ وُجُودٌ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمَفْهُومُ مِنَ الْحَيَاةِ صِفَةً مَوْجُودَةً وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا كَانَ مَعْنَى الْحَيِّ هُوَ أَنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ وَيَقْدِرَ، وَهَذَا الْقَدْرُ حَاصِلٌ لِجَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ أَنْ يَمْدَحَ اللَّهُ نَفْسَهُ بِصِفَةٍ يُشَارِكُهُ فِيهَا أَخَسُّ الْحَيَوَانَاتِ. وَالَّذِي عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْحَيَّ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ هَذِهِ الصِّحَّةِ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ كَامِلًا فِي جِنْسِهِ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى حَيًّا، أَلَا تَرَى أَنَّ عِمَارَةَ الْأَرْضِ الْخَرِبَةِ تُسَمَّى: إِحْيَاءَ الْمَوَاتِ، وَقَالَ تعالى: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الرُّومِ: 50] وَقَالَ: إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ [فَاطِرٍ: 9] وَالصِّفَةُ الْمُسَمَّاةُ فِي عُرْفِ الْمُتَكَلِّمِينَ، إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِالْحَيَاةِ لِأَنَّ كَمَالَ حَالِ الْجِسْمِ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَلَا جَرَمَ سُمِّيَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ حَيَاةً وكمال حال الأشجار أن لا تَكُونَ مُورِقَةً خَضِرَةً فَلَا جَرَمَ سُمِّيَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ حَيَاةً وَكَمَالُ الْأَرْضِ أَنْ تَكُونَ مَعْمُورَةً فَلَا جَرَمَ سُمِّيَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ حَيَاةً فَثَبَتَ أَنَّ الْمَفْهُومَ الْأَصْلِيَّ مِنْ لَفْظِ الْحَيِّ كَوْنُهُ وَاقِعًا عَلَى أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ وَصِفَاتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ زَالَ الْإِشْكَالُ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْحَيِّ هُوَ الْكَامِلُ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُقَيَّدًا بِأَنَّهُ كَامِلٌ فِي هَذَا دُونَ ذَاكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَامِلٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَقَوْلُهُ الْحَيُّ يُفِيدُ كَوْنَهُ كَامِلًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْكَامِلُ هُوَ أَنْ لَا يَكُونَ قَابِلًا لِلْعَدَمِ، لَا في ذاته ولا في صفاته الحقيقة وَلَا فِي صِفَاتِهِ النِّسْبِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ، ثُمَّ عِنْدَ هَذَا إِنْ خَصَّصْنَا الْقَيُّومَ بِكَوْنِهِ سَبَبًا لِتَقْوِيمِ غَيْرِهِ فَقَدْ زَالَ الْإِشْكَالُ، لِأَنَّ كَوْنَهُ سَبَبًا لِتَقْوِيمِ غَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُتَقَوِّمًا بِذَاتِهِ، وَكَوْنِهِ قَيُّومًا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ، وَإِنْ جَعَلْنَا الْقَيُّومَ اسْمًا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ/ يَتَنَاوَلُ الْمُتَقَوِّمَ بِذَاتِهِ وَالْمُقَوِّمَ لِغَيْرِهِ كَانَ لَفْظُ الْقَيُّومِ مُفِيدًا فَائِدَةَ لَفْظِ الْحَيِّ مَعَ زِيَادَةٍ، فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الْقَيُّومُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَيُّومُ فِي اللُّغَةِ مُبَالَغَةٌ فِي الْقَائِمِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْيَاءُ وَالْوَاوُ ثُمَّ كَانَ السَّابِقُ سَاكِنًا جُعِلَتَا يَاءً مُشَدَّدَةً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى فَعُّولٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَا لَكَانَ قَوُّومًا، وَفِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ: قَيُّومٌ، وَقَيَّامٌ وَقَيِّمٌ، وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ: الْحَيُّ الْقَيَّامُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ هَذِهِ اللَّفْظَةُ عِبْرِيَّةٌ لَا عَرَبِيَّةٌ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: حَيًّا قَيُّومًا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ لَهُ وَجْهًا صَحِيحًا فِي اللُّغَةِ، وَمِثْلُهُ مَا فِي الدَّارِ دَيَّارٌ وَدَيُّورٌ، وَدَيِّرٌ، وَهُوَ مِنَ الدَّوَرَانِ، أَيْ مَا بِهَا خَلْقٌ يَدُورُ، يَعْنِي: يَجِيءُ وَيَذْهَبُ، وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ: قَدَّرَهَا الْمُهَيْمِنُ الْقَيُّومُ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذَا الْبَابِ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْقَيُّومُ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ قَائِمٌ بِتَدْبِيرِ أَمْرِ الْخَلْقِ فِي إِيجَادِهِمْ، وَفِي أَرْزَاقِهِمْ، وَنَظِيرُهُ مِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ

عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرَّعْدِ: 33] وَقَالَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران: 18] إلى قوله قائِماً بِالْقِسْطِ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فَاطِرٍ: 41] وَهَذَا الْقَوْلُ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى كَوْنِهِ مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْقَيُّومُ الدَّائِمُ الْوُجُودِ الَّذِي يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ، وَأَقُولُ: هَذَا الْقَوْلُ يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى كَوْنِهِ قَائِمًا بِنَفْسِهِ فِي ذَاتِهِ وَفِي وُجُودِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَيُّومُ الَّذِي لَا يَنَامُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ بِعِيدٌ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَوْلَهُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ. أَمَّا قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: السِّنَةُ مَا يَتَقَدَّمُ مِنَ الْفُتُورِ الَّذِي يُسَمَّى النعاس. فإن قيل: إذ كَانَتِ السِّنَةُ عِبَارَةً عَنْ مُقَدِّمَةِ النُّوَّمِ، فَإِذَا قَالَ: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ فَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَأْخُذُهُ نَوْمٌ بِطْرِيقِ الْأَوْلَى، وَكَانَ ذِكْرُ النَّوْمِ تَكْرِيرًا. قُلْنَا: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَأْخُذَهُ النَّوْمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّوْمَ وَالسَّهْوَ وَالْغَفْلَةَ مُحَالَاتٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ عِبَارَاتٍ عَنْ عَدَمِ الْعِلْمِ، أَوْ عَنْ أَضْدَادِ الْعِلْمِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَجَوَازُ طَرَيَانِهَا يَقْتَضِي جَوَازَ زَوَالِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ ذَاتُهُ تَعَالَى بِحَيْثُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا، وَيَصِحُّ أَنْ لَا يَكُونَ عَالِمًا، فَحِينَئِذٍ يَفْتَقِرُ حُصُولُ صِفَةِ الْعِلْمِ لَهُ إِلَى الْفَاعِلِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ وَالتَّسَلْسُلُ مُحَالٌ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى مَنْ يَكُونُ عِلْمُهُ صِفَةً وَاجِبَةَ الثُّبُوتِ مُمْتَنِعَةَ الزَّوَالِ، / وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ النَّوْمُ وَالْغَفْلَةُ وَالسَّهْوُ عَلَيْهِ مُحَالًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُرْوَى عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَكَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ: هَلْ يَنَامُ اللَّهُ تَعَالَى أَمْ لَا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا فَأَرَّقَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَعْطَاهُ قَارُورَتَيْنِ فِي كُلِّ يَدٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَرَهُ بِالِاحْتِفَاظِ بِهِمَا، وَكَانَ يَتَحَرَّزُ بِجُهْدِهِ إِلَى أَنْ نَامَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ فَاصْطَفَقَتْ يَدَاهُ فَانْكَسَرَتِ الْقَارُورَتَانِ، فَضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ مَثَلًا لَهُ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَنَامُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى حفظ السموات وَالْأَرْضِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُمْكِنُ نِسْبَتُهُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ مَنْ جَوَّزَ النَّوْمَ عَلَى اللَّهِ أَوْ كَانَ شَاكًّا فِي جَوَازِهِ كَانَ كَافِرًا، فَكَيْفَ يَجُوزُ نِسْبَةُ هَذَا إِلَى مُوسَى، بَلْ إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ،. فَالْوَاجِبُ نِسْبَةُ هَذَا السُّؤَالِ إِلَى جُهَّالِ قَوْمِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْإِضَافَةِ إِضَافَةُ الْخَلْقِ وَالْمُلْكِ، وَتَقْدِيرُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَاجِبُ الْوُجُودِ وَاحِدًا كَانَ مَا عَدَاهُ مُمْكِنَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَلَهُ مُؤَثِّرٌ، وَكُلُّ مَا لَهُ مُؤَثِّرٌ فَهُوَ مُحْدَثٌ فَإِذَنْ كُلُّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُحْدَثٌ بِإِحْدَاثِهِ مُبْدَعٌ بِإِبْدَاعِهِ فَكَانَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ إِضَافَةَ الْمُلْكِ وَالْإِيجَادِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَلَمْ يَقُلْ: لَهُ مَنْ في السموات؟. قُلْنَا: لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ إِضَافَةَ مَا سِوَاهُ إِلَيْهِ بِالْمَخْلُوقِيَّةِ، وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ مَا لَا يَعْقِلُ أَجْرَى الْغَالِبَ مَجْرَى الْكُلِّ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ مَا وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ إِنَّمَا أُسْنِدَتْ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ، وَهِيَ مِنْ حيث إنها

مَخْلُوقَةٌ غَيْرُ عَاقِلَةٍ، فَعَبَّرَ عَنْهَا بِلَفْظِ مَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْإِضَافَةِ إِلَيْهِ الْإِضَافَةُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْحَابَ قَدِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، قَالُوا: لِأَنَّ قَوْلُهُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يتناول كل ما في السموات وَالْأَرْضِ، وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي السموات وَالْأَرْضِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُنْتَسِبَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى انْتِسَابَ الْمِلْكِ وَالْخَلْقِ، وَكَمَا أَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَالْعَقْلُ يُؤَكِّدُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يَتَرَجَّحُ إِلَّا بِتَأْثِيرٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ تَرَجُّحُ الْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجَّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ مَنْ ذَا الَّذِي اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ وَالنَّفْيُ، أَيْ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِأَمْرِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَشْفَعُ لَهُمْ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزُّمَرِ: 3] وَقَوْلُهُمْ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُسَ: 18] ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى/ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ هَذَا الْمَطْلُوبَ. فَقَالَ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ [يُونُسَ: 18] فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا شَفَاعَةَ عِنْدَهُ لِأَحَدٍ إِلَّا مَنِ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النَّبَأِ: 38] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَأْذَنُ فِي الشَّفَاعَةِ لِغَيْرِ الْمُطِيعِينَ، إِذْ كَانَ لَا يَجُوزُ فِي حِكْمَتِهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ أَهْلِ الطَّاعَةِ وَأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَطَوَّلَ فِي تَقْرِيرِهِ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْقَفَّالَ عَظِيمُ الرَّغْبَةِ فِي الِاعْتِزَالِ حَسَنُ الِاعْتِقَادِ فِي كَلِمَاتِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ كَانَ قَلِيلَ الْإِحَاطَةِ بِأُصُولِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ مِنْهُمْ أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ حَسَنٌ فِي الْعُقُولِ، إِلَّا أَنَّ السَّمْعَ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ الْعَقْلِيُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الشَّفَاعَةِ فِي حَقِّ الْعُصَاةِ خَطَأً عَلَى قَوْلِهِمْ، بَلْ عَلَى مَذْهَبِ الْكَعْبِيِّ أَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْمَعَاصِي قَبِيحٌ عَقْلًا، فَإِنْ كَانَ الْقَفَّالُ عَلَى مَذْهَبِ الْكَعْبِيِّ، فَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ، إِلَّا أَنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ يَرُدُّ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعِقَابَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الثَّوَابِ فَإِنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَلَا يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُسْقِطَهُ، وَهَذَا الْفَرْقُ ذَكَرَهُ الْبَصْرِيُّونَ فِي الْجَوَابِ عَنْ شُبْهَةِ الْكَعْبِيِّ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَجُوزُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي إِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ فَهُوَ جَهْلٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْخَلْقِ وَالْحَيَاةِ وَالرِّزْقِ وَإِطْعَامِ الطَّيِّبَاتِ، وَالتَّمْكِينِ مِنَ الْمُرَادَاتِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ الْأُمُورِ فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ، فَكَيْفَ لَا يَقُولُ ذَلِكَ وَالْمُطِيعُ لَا يَكُونُ لَهُ جَزَعٌ، وَلَا يَكُونُ خَائِفًا مِنَ الْعِقَابِ، وَالْمُذْنِبُ يَكُونُ فِي غَايَةِ الْخَوْفِ وَرُبَّمَا يَدْخُلُ النَّارَ وَيَتَأَلَّمُ مُدَّةً، ثُمَّ يُخَلِّصُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ بِشَفَاعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَفَّالَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ حَسَنَ الْكَلَامِ فِي التَّفْسِيرِ دَقِيقَ النَّظَرِ فِي تَأْوِيلَاتِ الْأَلْفَاظِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ عَظِيمَ الْمُبَالَغَةِ فِي تَقْرِيرِ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ قَلِيلَ الْحَظِّ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ قَلِيلَ النَّصِيبِ مِنْ مَعْرِفَةِ كَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الضمير لما في السموات وَالْأَرْضِ، لِأَنَّ فِيهِمُ الْعُقَلَاءَ، أَوْ لِمَا

دَلَّ عَلَيْهِ مَنْ ذَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَالسُّدِّيُّ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَا كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَما خَلْفَهُمْ مَا يَكُونُ بَعْدَهُمْ مَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَالثَّانِي: قَالَ الضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَعْنِي الْآخِرَةَ لِأَنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَيْهَا وَما خَلْفَهُمْ الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ يَخْلُفُونَهَا وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَالثَّالِثُ: قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَما خَلْفَهُمْ يُرِيدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالرَّابِعُ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أَيْ مَا كَانَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَخْلُقَهُمْ وَالْخَامِسُ: مَا فَعَلُوا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَمَا يَفْعَلُونَهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِأَحْوَالِ الشَّافِعِ وَالْمَشْفُوعِ لَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ وَالثَّوَابِ، لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَالشُّفَعَاءُ لَا يَعْلَمُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّ لَهُمْ مِنَ الطَّاعَةِ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ الْعَظِيمَةَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هَلْ أَذِنَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الشَّفَاعَةِ وَأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْمَقْتَ وَالزَّجْرَ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلَائِقِ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الشَّفَاعَةِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُمُ الْمَلَائِكَةَ، وَسَائِرَ مَنْ يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. أَمَّا قَوْلُهُ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الأولى: المراد بالعلم هاهنا كَمَا يُقَالُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا عِلْمَكَ فِينَا، أَيْ مَعْلُومَكَ وَإِذَا ظَهَرَتْ آيَةٌ عَظِيمَةٌ، قِيلَ: هَذِهِ قُدْرَةُ اللَّهِ، أَيْ مَقْدُورُهُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَحَدًا لَا يُحِيطُ بِمَعْلُومَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ بَعْضُ الْأَصْحَابِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ صِفَةِ الْعِلْمِ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ كَلِمَةَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ، وَهِيَ داخلة هاهنا عَلَى الْعِلْمِ. فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْعِلْمِ نَفْسَ الصِّفَةِ لَزِمَ دُخُولُ التَّبْعِيضِ فِي صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُحَالٌ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ بِما شاءَ لَا يَأْتِي فِي الْعِلْمِ إِنَّمَا يَأْتِي فِي الْمَعْلُومِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا وقع هاهنا فِي الْمَعْلُومَاتِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، وَالْخَلْقُ لَا يَعْلَمُونَ كُلَّ الْمَعْلُومَاتِ، بَلْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيلَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ أَحْرَزَ شَيْئًا، أَوْ بَلَغَ عِلْمُهُ أَقْصَاهُ قَدْ أَحَاطَ بِهِ، وذلك لأنه عَلِمَ بِأَوَّلِ الشَّيْءِ وَآخِرِهِ بِتَمَامِهِ صَارَ الْعِلْمُ كَالْمُحِيطِ بِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ إِلَّا بِما شاءَ ففيه قولان أحدها: أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنْ مَعْلُومَاتِهِ إِلَّا مَا شَاءَ هُوَ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ كَمَا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ إِلَّا عِنْدَ إِطْلَاعِ اللَّهِ بَعْضَ أَنْبِيَائِهِ عَلَى بَعْضِ الْغَيْبِ، كما قَالَ: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يُقَالُ: وَسِعَ فَلَانًا الشَّيْءُ يَسَعُهُ سَعَةً إِذَا احْتَمَلَهُ وَأَطَاقَهُ وَأَمْكَنَهُ الْقِيَامُ بِهِ، ولا يسعك هذا، أي لا تطبقه وَلَا تَحْتَمِلُهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي» أَيْ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ وَأَمَّا الْكُرْسِيُّ فَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنْ تَرَكُّبِ الشَّيْءِ بَعْضِهِ على

بَعْضٍ، وَالْكِرْسُ أَبْوَالُ الدَّوَابِّ وَأَبْعَارُهَا يَتَلَبَّدُ بَعْضُهَا فَوْقَ/ بَعْضٍ، وَأَكْرَسَتِ الدَّارُ إِذَا كَثُرَتْ فِيهَا الْأَبْعَارُ وَالْأَبْوَالُ وَتَلَبَّدَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَتَكَارَسَ الشَّيْءُ إِذَا تَرَكَّبَ، وَمِنْهُ الْكُرَّاسَةُ لِتَرَكُّبِ بَعْضِ أَوْرَاقِهَا عَلَى بَعْضٍ وَالْكُرْسِيُّ هُوَ هَذَا الشَّيْءُ الْمَعْرُوفُ لِتَرَكُّبِ خَشَبَاتِهِ بَعْضِهَا فَوْقَ بَعْضٍ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ جِسْمٌ عظيم يسع السموات وَالْأَرْضَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ الْحَسَنُ الْكُرْسِيُّ هُوَ نَفْسُ الْعَرْشِ، لِأَنَّ السَّرِيرَ قَدْ يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَرْشٌ، وَبِأَنَّهُ كُرْسِيٌّ، لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَيْثُ يَصِحُّ التَّمَكُّنُ عَلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْكُرْسِيُّ غَيْرُ الْعَرْشِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ دُونَ الْعَرْشِ وَفَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّهُ تَحْتَ الْأَرْضِ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ السُّدِّيِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْكُرْسِيِّ وَرَدَ فِي الْآيَةِ وَجَاءَ فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ جِسْمٌ عَظِيمٌ تَحْتَ الْعَرْشِ وَفَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَلَا امْتِنَاعَ فِي الْقَوْلِ بِهِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِاتِّبَاعِهِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَمِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يَقُولَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مَوْضِعُ قَدَمَيِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَنِ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلَائِلَ الْكَثِيرَةَ عَلَى نَفْيِ الْجِسْمِيَّةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، فَوَجَبَ رَدُّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَوْ حَمْلُهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْكُرْسِيَّ مَوْضِعُ قَدَمَيِ الرُّوحِ الْأَعْظَمِ أَوْ مَلَكٍ آخَرَ عَظِيمِ الْقَدْرِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكُرْسِيِّ السُّلْطَانُ وَالْقُدْرَةُ وَالْمُلْكُ، ثُمَّ تَارَةً يُقَالُ: الْإِلَهِيَّةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالْقُدْرَةِ وَالْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، وَالْعَرَبُ يُسَمُّونَ أَصْلَ كُلِّ شَيْءٍ الْكُرْسِيَّ وَتَارَةً يُسَمَّى الْمُلْكُ بِالْكُرْسِيِّ، لِأَنَّ الْمَلِكَ يَجْلِسُ عَلَى الْكُرْسِيِّ، فَيُسَمَّى الْمَلِكُ بَاسِمِ مَكَانِ الْمُلْكِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْكُرْسِيَّ هُوَ الْعِلْمُ، لِأَنَّ الْعِلْمَ مَوْضِعُ الْعَالِمِ، وَهُوَ الْكُرْسِيُّ فَسَمِّيَتْ صِفَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَكَانِ ذَلِكَ الشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْأَمْرُ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَالْكُرْسِيُّ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْعُلَمَاءِ: كَرَاسِي، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ كَمَا يُقَالُ لَهُمْ: أَوْتَادُ الْأَرْضِ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: مَا اخْتَارَهُ الْقَفَّالُ، وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَصْوِيرُ عَظَمَةِ اللَّهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ الْخَلْقَ فِي تَعْرِيفِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ بِمَا اعْتَادُوهُ فِي مُلُوكِهِمْ وَعُظَمَائِهِمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ الْكَعْبَةَ بَيْتًا لَهُ يَطُوفُ النَّاسُ بِهِ كَمَا يَطُوفُونَ بِبِيُوتِ مُلُوكِهِمْ وَأَمَرَ النَّاسَ بِزِيَارَتِهِ كَمَا يَزُورُ النَّاسُ بُيُوتَ مُلُوكِهِمْ وَذَكَرَ فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ يَمِينُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ ثُمَّ جَعَلَهُ مَوْضِعًا لِلتَّقْبِيلِ كَمَا يُقَبِّلُ النَّاسُ أَيْدِي مُلُوكِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَ فِي مُحَاسَبَةِ الْعِبَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ حُضُورِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَوَضْعِ الْمَوَازِينِ، فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ عَرْشًا، فَقَالَ الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] ثُمَّ وَصَفَ عَرْشَهُ فَقَالَ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هُودٍ: 7] ثُمَّ قَالَ: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ/ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الزُّمَرِ: 75] وَقَالَ: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الْحَاقَّةِ: 17] وَقَالَ: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ [غَافِرٍ: 7] ثُمَّ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ كُرْسِيًّا فَقَالَ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: كُلُّ مَا جَاءَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُوهِمَةِ لِلتَّشْبِيهِ فِي الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ، فَقَدْ وَرَدَ مِثْلُهَا بَلْ أَقْوَى مِنْهَا فِي الْكَعْبَةِ وَالطَّوَافِ وَتَقْبِيلِ الحجر، ولما توافقنا هاهنا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْرِيفُ عَظَمَةِ اللَّهِ وَكِبْرِيَائِهِ مع

الْقَطْعِ بِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْكَعْبَةِ، فَكَذَا الْكَلَامُ فِي الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ، وَهَذَا جَوَابٌ مُبِينٌ إِلَّا أَنَّ الْمُعْتَمَدَ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ تَرْكَ الظَّاهِرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لَا يَجُوزُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قوله تعالى: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما فاعلم أنه يقال: آده يؤده: إِذَا أَثْقَلَهُ وَأَجْهَدَهُ، وَأُدْتُ الْعُودَ أَوْدًا، وَذَلِكَ إِذَا اعْتَمَدْتَ عَلَيْهِ بِالثِّقْلِ حَتَّى أَمَلْتَهُ، وَالْمَعْنَى: لَا يَثْقُلُهُ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ حِفْظُهُمَا أَيْ حفظ السموات وَالْأَرْضِ. ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعُلُوَّ بِالْجِهَةِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى ذَلِكَ بِوُجُوهٍ كثيرة، ونزيد هاهنا وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ عُلُوُّهُ بِسَبَبِ الْمَكَانِ، لَكَانَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيًا فِي جِهَةِ فَوْقٍ، أَوْ غَيْرَ مُتَنَاهٍ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُتَنَاهِيًا فِي جِهَةِ فَوْقٍ، كَانَ الْجُزْءُ الْمَفْرُوضُ فَوْقَهُ أَعْلَى مِنْهُ، فَلَا يَكُونُ هُوَ أَعْلَى مِنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ، بَلْ يَكُونُ غَيْرُهُ أَعْلَى مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ فَهَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّ الْقَوْلَ بِإِثْبَاتِ بُعْدٍ لَا نِهَايَةَ لَهُ بَاطِلٌ بِالْبَرَاهِينِ الْيَقِينِيَّةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّا إِذَا قَدَّرْنَا بُعْدًا لَا نِهَايَةَ لَهُ، لَافْتُرِضَ فِي ذَلِكَ الْبُعْدِ نُقَطٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ فِي تِلْكَ النُّقَطِ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يُفْتَرَضُ فَوْقَهَا نُقْطَةٌ أُخْرَى، وَإِمَّا أَنْ لَا يَحْصُلَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَتِ النُّقْطَةُ طَرَفًا لِذَلِكَ الْبُعْدِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْبُعْدُ مُتَنَاهِيًا، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ غَيْرَ مُتَنَاهٍ هَذَا خُلْفٌ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا نُقْطَةٌ إِلَّا وَفَوْقَهَا نُقْطَةٌ أُخْرَى كَانَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ النُّقَطِ الْمُفْتَرَضَةِ فِي ذَلِكَ الْبُعْدِ سُفْلًا، وَلَا يَكُونُ فِيهَا مَا يَكُونُ فَوْقًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِشَيْءٍ مِنَ النفقات الْمُفْتَرَضَةِ فِي ذَلِكَ الْبُعْدِ عُلُوٌّ مُطْلَقٌ الْبَتَّةَ وَذَلِكَ يَنْفِي صِفَةَ الْعُلْوِيَّةِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْعَالَمَ كُرَةٌ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكُلُّ جَانِبٍ يَفْرِضُ عُلُوًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحَدِ وَجْهَيِ الْأَرْضِ يَكُونُ سُفْلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، فَيَنْقَلِبُ غَايَةُ الْعُلُوِّ غَايَةَ السُّفْلِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ كُلَّ وَصْفٍ يَكُونُ ثُبُوتُهُ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِذَاتِهِ، وَلِلْآخَرِ بِتَبَعِيَّةِ الْأَوَّلِ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الذَّاتِيِّ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، وَفِي الْعَرَضِيِّ أَقَلَّ وَأَضْعَفَ، فَلَوْ كَانَ عُلُوُّ اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ الْمَكَانِ لَكَانَ عُلُوُّ الْمَكَانِ الَّذِي بِسَبَبِهِ حَصَلَ هَذَا الْعُلُوُّ لِلَّهِ تَعَالَى صِفَةً ذَاتِيَّةً، وَلَكَانَ حُصُولُ هَذَا الْعُلُوِّ لِلَّهِ تَعَالَى حُصُولًا بِتَبَعِيَّةِ حُصُولِهِ فِي الْمَكَانِ، فَكَانَ عُلُوُّ الْمَكَانِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ مِنْ عُلُوِّ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ عُلُوُّ اللَّهِ نَاقِصًا وَعُلُوُّ غَيْرِهِ كَامِلًا وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ قَاطِعَةٌ فِي أَنَّ عُلُوَّ اللَّهِ تَعَالَى يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بِالْجِهَةِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ أَبُو مُسْلِمِ بْنُ بَحْرٍ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الْأَنْعَامِ: 12] قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَكَانَ وَالْمَكَانِيَّاتِ بِأَسْرِهَا مِلْكُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَلَكُوتُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الْأَنْعَامِ: 13] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّمَانَ وَالزَّمَانِيَّاتِ بِأَسْرِهَا مِلْكُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَلَكُوتُهُ، فَتَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَنْ أَنْ يَكُونَ عُلُوُّهُ بِسَبَبِ الْمَكَانِ وَأَمَّا عَظَمَتُهُ فَهِيَ أَيْضًا بِالْمَهَابَةِ وَالْقَهْرِ وَالْكِبْرِيَاءِ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ بِسَبَبِ الْمِقْدَارِ وَالْحَجْمِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ فِي كُلِّ الْجِهَاتِ أَوْ فِي بَعْضِ الْجِهَاتِ فَهُوَ مُحَالٌ لِمَا ثَبَتَ بِالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ عَدَمُ إِثْبَاتِ أَبْعَادٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ، وَإِنْ كَانَ مُتَنَاهِيًا مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ كَانَتِ الْأَحْيَازُ الْمُحِيطَةُ بِذَلِكَ الْمُتَنَاهِي أَعْظَمَ مِنْهُ، فَلَا يَكُونُ مِثْلُ هَذَا الشَّيْءِ عَظِيمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَالْحَقُّ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَى وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَجْسَامِ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظالمون علواً كبيراً.

[سورة البقرة (2) : آية 256]

[سورة البقرة (2) : آية 256] لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) [في قوله تعالى لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ] فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّامُ فِي الدِّينِ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَامُ الْعَهْدِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْإِضَافَةِ، كَقَوْلِهِ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النَّازِعَاتِ: 41] أَيْ مَأْوَاهُ، وَالْمُرَادُ فِي دِينِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ وَالْقَفَّالِ وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِأُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى مَا بَنَى أَمْرَ الْإِيمَانِ عَلَى الْإِجْبَارِ وَالْقَسْرِ، وَإِنَّمَا بَنَاهُ عَلَى التَّمَكُّنِ وَالِاخْتِيَارِ، ثُمَّ احْتَجَّ الْقَفَّالُ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ بَيَانًا شَافِيًا قَاطِعًا لِلْعُذْرِ، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ إِيضَاحِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ لِلْكَافِرِ عُذْرٌ فِي الْإِقَامَةِ عَلَى الْكُفْرِ إِلَّا أَنْ يَقْسِرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَيُجْبِرَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِي دَارِ الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ دَارُ الِابْتِلَاءِ، إِذْ فِي الْقَهْرِ وَالْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ بُطْلَانُ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الْكَهْفِ: 29] وَقَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 3، 4] وَقَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا/ الْقَوْلَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ يَعْنِي ظَهَرَتِ الدَّلَائِلُ، وَوَضَحَتِ الْبَيِّنَاتُ، وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَهَا إِلَّا طَرِيقُ الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ وَالْإِكْرَاهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ يُنَافِي التَّكْلِيفَ فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذَا التَّأْوِيلِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ هُوَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ أَنْ يَقُولَ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ: إِنْ آمَنَتْ وَإِلَّا قَتَلْتُكَ فَقَالَ تَعَالَى: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ أَمَّا فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ وَفِي حَقِّ الْمَجُوسِ، فَلِأَنَّهُمْ إِذَا قَبِلُوا الْجِزْيَةَ سَقَطَ الْقَتْلُ عَنْهُمْ، وَأَمَّا سَائِرُ الْكُفَّارِ فَإِذَا تَهَوَّدُوا أَوْ تَنَصَّرُوا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ يُقَرُّ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْقَتْلُ إِذَا قَبِلَ الْجِزْيَةَ، وَعَلَى مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ كَانَ قَوْلُهُ لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ عَامًّا فِي كُلِّ الْكُفَّارِ، أَمَّا مَنْ يَقُولُ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ سَائِرَ الْكُفَّارِ إِذَا تَهَوَّدُوا أَوْ تَنَصَّرُوا فَإِنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ عَلَيْهِ، فَعَلَى قَوْلِهِ يَصِحُّ الْإِكْرَاهُ فِي حَقِّهِمْ، وَكَانَ قَوْلُهُ لَا إِكْراهَ مَخْصُوصًا بِأَهْلِ الْكِتَابِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: لَا تَقُولُوا لِمَنْ دَخَلَ فِي الدِّينِ بَعْدَ الْحَرْبِ إِنَّهُ دَخَلَ مُكْرَهًا، لِأَنَّهُ إِذَا رَضِيَ بَعْدَ الْحَرْبِ وَصَحَّ إِسْلَامُهُ فَلَيْسَ بِمُكْرَهٍ، وَمَعْنَاهُ لَا تَنْسِبُوهُمْ إِلَى الْإِكْرَاهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النِّسَاءِ: 94] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: بَانَ الشَّيْءُ وَاسْتَبَانَ وَتَبَيَّنَ إِذَا ظَهَرَ وَوَضَحَ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ: قَدْ تَبَيَّنَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ، وَعِنْدِي أَنَّ الْإِيضَاحَ وَالتَّعْرِيفَ إِنَّمَا سُمِّيَ بَيَانًا لِأَنَّهُ يُوقِعُ الْفَصْلَ وَالْبَيْنُونَةَ بَيْنَ الْمَقْصُودِ وَغَيْرِهِ، وَالرُّشْدُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ إِصَابَةُ الْخَيْرِ، وَفِيهِ لُغَتَانِ: رُشْدٌ وَرَشَدٌ وَالرَّشَادُ مَصْدَرٌ أَيْضًا كَالرُّشْدِ، وَالْغَيُّ نَقِيضُ الرُّشْدِ، يُقَالُ غَوَى يَغْوِي غَيًّا وَغَوَايَةً، إِذَا سَلَكَ غَيْرَ طَرِيقِ الرُّشْدِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ أَيْ تَمَيَّزَ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْإِيمَانُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْهُدَى مِنَ الضَّلَالَةِ بِكَثْرَةِ الْحُجَجِ وَالْآيَاتِ الدَّالَّةِ، قَالَ الْقَاضِي: وَمَعْنَى قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ أَيْ أَنَّهُ قَدِ اتَّضَحَ وَانْجَلَى بِالْأَدِلَّةِ لَا أَنَّ كَلَّ مُكَلَّفٍ تَنَبَّهَ لِأَنَّ الْمَعْلُومَ ذَلِكَ وَأَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى تَبَيَّنَ انْفَصَلَ وَامْتَازَ، فَكَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ حَصَلَتِ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَ الرُّشْدِ وَالْغَيِّ بِسَبَبِ قُوَّةِ الدَّلَائِلِ وَتَأْكِيدِ الْبَرَاهِينِ، وَعَلَى هَذَا كَانَ اللَّفْظُ مُجْرَى عَلَى ظَاهِرِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ فَقَدْ قَالَ النَّحْوِيُّونَ: الطَّاغُوتُ وَزْنُهُ فَعَلُوتُ، نَحْوُ جَبَرُوتٍ، وَالتَّاءُ زَائِدَةٌ وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ طَغَا، وَتَقْدِيرُهُ طَغَوُوتُ، إِلَّا أَنَّ لَامَ الْفِعْلِ قُلِبَتْ إِلَى مَوْضِعِ الْعَيْنِ كَعَادَتِهِمْ فِي الْقَلْبِ، نَحْوَ: الصَّاقِعَةُ وَالصَّاعِقَةُ، ثُمَّ قُلِبَتِ الْوَاوُ أَلِفًا لِوُقُوعِهَا فِي مَوْضِعِ حَرَكَةِ وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، قَالَ الْمُبَرِّدُ فِي الطَّاغُوتِ: الْأَصْوَبُ عِنْدِي أَنَّهُ جَمْعٌ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَلَيْسَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا كَذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّاغُوتَ مَصْدَرٌ كَالرَّغَبُوتِ وَالرَّهَبُوتِ وَالْمَلَكُوتِ، فَكَمَا/ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ آحَادٌ كَذَلِكَ هَذَا الِاسْمُ مُفْرَدٌ وَلَيْسَ بِجَمْعٍ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مصدر مفرد قوله أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ فَأُفْرِدَ فِي مَوْضِعِ الْجَمْعِ، كَمَا يُقَالُ: هُمْ رضاهم عَدْلٌ، قَالُوا: وَهَذَا اللَّفْظُ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمْعِ، أَمَّا فِي الْوَاحِدِ فَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ [النِّسَاءِ: 60] وَأَمَّا فِي الْجَمْعِ فَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [الْبَقَرَةِ: 257] وَقَالُوا: الْأَصْلُ فِيهِ التَّذْكِيرُ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها [الزُّمَرِ: 17] فَإِنَّمَا أُنِّثَتْ إِرَادَةُ الْآلِهَةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ خَمْسَةَ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: قَالَ عُمَرُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ هُوَ الشَّيْطَانُ الثَّانِي: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْكَاهِنُ الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هُوَ السَّاحِرُ الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُهُمْ الْأَصْنَامُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ مَرَدَةُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَكُلُّ مَا يَطْغَى، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ الطُّغْيَانُ عِنْدَ الِاتِّصَالِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ جُعِلَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَسْبَابًا لِلطُّغْيَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إِبْرَاهِيمَ: 36] . أَمَّا قَوْلُهُ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْكَافِرِ مِنْ أَنْ يَتُوبَ أَوَّلًا عَنِ الْكُفْرِ، ثُمَّ يُؤْمِنَ بَعْدَ ذَلِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى فَاعْلَمْ أَنَّهُ يُقَالُ: اسْتَمْسَكَ بِالشَّيْءِ إِذَا تَمَسَّكَ بِهِ وَالْعُرْوَةُ جَمْعُهَا عُرًا نَحْوَ عُرْوَةِ الدَّلْوِ وَالْكُوزِ وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْعُرْوَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي يُتَعَلَّقُ بِهِ وَالْوُثْقَى تَأْنِيثُ الْأَوْثَقِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ اسْتِعَارَةِ الْمَحْسُوسِ لِلْمَعْقُولِ، لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ إِمْسَاكَ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِعُرْوَتِهِ، فَكَذَا هاهنا مَنْ أَرَادَ إِمْسَاكَ هَذَا الدِّينِ تَعَلَّقَ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَتْ دَلَائِلُ الْإِسْلَامِ أَقْوَى الدَّلَائِلِ وَأَوْضَحَهَا، لَا جَرَمَ وَصَفَهَا بِأَنَّهَا الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى. أَمَّا قَوْلُهُ لَا انْفِصامَ لَها فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفَصْمُ كَسْرُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ إِبَانَةٍ، وَالِانْفِصَامُ مُطَاوِعُ الْفَصْمِ فَصَمْتُهُ فَانْفَصَمَ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ الْمُبَالَغَةُ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا انْفِصَامٌ، فَأَنْ لَا يَكُونَ لَهَا انْقِطَاعٌ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ النَّحْوِيُّونَ: نَظْمُ الْآيَةِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا، وَالْعَرَبُ تُضْمِرُ (الَّتِي) وَ (الَّذِي) وَ (مَنْ) وَتَكْتَفِي بِصَلَاتِهَا مِنْهَا، قَالَ سَلَامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ: وَالْعَادِيَاتُ أَسَامِي لِلدِّمَاءِ بِهَا ... كَأَنَّ أَعْنَاقَهَا أنصاب ترحيب

[سورة البقرة (2) : آية 257]

يُرِيدُ الْعَادِيَاتُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصَّافَّاتِ: 164] أَيْ مَنْ لَهُ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى يَسْمَعُ قَوْلَ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَقَوْلَ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْكُفْرِ، وَيَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الِاعْتِقَادِ الطَّاهِرِ، وَمَا فِي قَلْبِ الْكَافِرِ مِنَ الِاعْتِقَادِ الْخَبِيثِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ إِسْلَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى ذَلِكَ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، فَمَعْنَى قَوْلِهِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ لِدُعَائِكَ يَا مُحَمَّدُ بِحِرْصِكَ عَلَيْهِ واجتهادك. [سورة البقرة (2) : آية 257] اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257) [فِي قوله تعالى اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا] فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَلِيُّ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَلِيَ فُلَانٌ الشَّيْءَ يَلِيهِ وِلَايَةً فَهُوَ وَالٍ وَوَلِيٌّ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْوَلْيِ الَّذِي هُوَ الْقُرْبُ، قَالَ الْهُذَلِيُّ: وَعَدَتْ عَوَادٍ دون وليك تشغب وَمِنْهُ يُقَالُ: دَارِي تَلِي دَارَهَا، أَيْ تَقْرُبُ مِنْهَا، وَمِنْهُ يُقَالُ: لِلْمُحِبِّ الْمُعَاوِنِ: وَلِيٌّ لِأَنَّهُ يَقْرُبُ مِنْكَ بِالْمَحَبَّةِ وَالنُّصْرَةِ وَلَا يُفَارِقُكَ، وَمِنْهُ الْوَالِي، لِأَنَّهُ يَلِي الْقَوْمَ بِالتَّدْبِيرِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَمِنْهُ الْمَوْلَى وَمِنْ ثَمَّ قَالُوا فِي خِلَافِ الْوِلَايَةِ: الْعَدَاوَةُ مِنْ عَدَّا الشَّيْءَ إِذَا جَاوَزَهُ، فَلِأَجْلِ هَذَا كَانَتِ الْوِلَايَةُ خِلَافَ الْعَدَاوَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أَلْطَافَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُؤْمِنَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ أَكْثَرُ مِنْ أَلْطَافِهِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، بِأَنْ قَالُوا: الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى التَّعْيِينِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَلِيَّ لِلشَّيْءِ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِمَا يَكُونُ سَبَبًا لِصَلَاحِ الْإِنْسَانِ وَاسْتِقَامَةِ أَمْرِهِ فِي الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ وَلِأَجْلِهِ قَالَ تَعَالَى: يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الْأَنْفَالِ: 34] فَجَعَلَ الْقَيِّمَ بِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ وَلِيًّا لَهُ وَنَفَى فِي الْكُفَّارِ أَنْ يَكُونُوا أَوْلِيَاءَهُ، فَلَمَّا كَانَ مَعْنَى الْوَلِيِّ الْمُتَكَفِّلَ بِالْمَصَالِحِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ نَفْسَهُ وَلِيًّا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى التَّخْصِيصِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى تَكَفَّلَ بِمَصَالِحِهِمْ فَوْقَ مَا تَكَفَّلَ بِمَصَالِحِ الْكُفَّارِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ تَعَالَى سَوَّى بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْأَلْطَافِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُبْطِلَةً لِقَوْلِهِمْ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذَا التَّخْصِيصُ مَحْمُولٌ عَلَى/ أَحَدِ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى زِيَادَةِ الْأَلْطَافِ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [مُحَمَّدٍ: 17] وَتَقْرِيرُهُ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلُ أَنَّ الْخَيْرَ وَالطَّاعَةَ يَدْعُو بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَ مَجْلِسًا يَجْرِي فِيهِ الْوَعْظُ، فَإِنَّهُ يَلْحَقُ قَلْبَهُ خُشُوعٌ وَخُضُوعٌ وَانْكِسَارٌ، وَيَكُونُ حَالُهُ مُفَارِقًا لِحَالِ مَنْ قَسَا قَلْبُهُ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ فِي الْمُؤْمِنِ مِنَ الْأَلْطَافِ مَا لَا يَصِحُّ فِي غَيْرِهِ، فَكَانَ تَخْصِيصُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ تَعَالَى وَلِيُّهُمْ مَحْمُولًا عَلَى ذَلِكَ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى يُثِيبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَيَخُصُّهُمْ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالْإِكْرَامِ الْعَظِيمِ فَكَانَ التَّخْصِيصُ مَحْمُولًا عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ وَلِيًّا لِلْكُلِّ بِمَعْنَى كَوْنِهِ مُتَكَفِّلًا بِمَصَالِحِ الْكُلِّ عَلَى السَّوِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ الْمُنْتَفِعَ بِتِلْكَ الْوِلَايَةِ هُوَ الْمُؤْمِنُ، فَصَحَّ تَخْصِيصُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: 2] . الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يُحِبُّ تَعْظِيمَهُمْ. أَجَابَ الْأَصْحَابُ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ زِيَادَةَ الْأَلْطَافِ مَتَى أُمْكِنَتْ وَجَبَتْ عِنْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ إِلَّا أَدَاءُ الْوَاجِبِ، وَهَذَا الْمَعْنَى بِتَمَامِهِ حَاصِلٌ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، بَلِ الْمُؤْمِنُ فَعَلَ مَا لِأَجْلِهِ اسْتَوْجَبَ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ الْمَزِيدَ مِنَ اللُّطْفِ. أَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُثِيبُهُ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ أَيْضًا بَعِيدٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ الثَّوَابَ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَوَلِيُّ الْمُؤْمِنِ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ مُسْتَحِقًّا عَلَى اللَّهِ ذَلِكَ الثَّوَابَ، فَيَكُونُ وَلِيُّهُ هُوَ نَفْسَهُ وَلَا يَكُونُ اللَّهُ هُوَ وَلِيًّا لَهُ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الْمُنْتَفِعَ بِوِلَايَةِ اللَّهِ هُوَ الْمُؤْمِنُ، فَنَقُولُ: هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي امْتَازَ بِهِ الْمُؤْمِنُ عَنِ الْكَافِرِ فِي بَابِ الْوِلَايَةِ صَدَرَ مِنَ الْعَبْدِ لَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ وَلِيُّ الْعَبْدِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ هُوَ الْعَبْدَ نَفْسَهُ لَا غَيْرَ. وَأَمَّا السؤال الرابع: وهو أن الولاية هاهنا مَعْنَاهَا الْمَحَبَّةُ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمَحَبَّةَ مَعْنَاهَا إِعْطَاءُ الثَّوَابِ، وَذَلِكَ هُوَ السُّؤَالُ الثَّانِي، وَقَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هاهنا مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ: الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ فَتَكُونُ الْآيَةُ صَرِيحَةً فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الْإِنْسَانَ مِنَ الْكُفْرِ وَأَدْخَلَهُ فِي الْإِيمَانِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ بِخَلْقِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ بِخَلْقِ الْعَبْدِ لَكَانَ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْآيَةِ. أَجَابَتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِخْرَاجَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ مَحْمُولٌ عَلَى نَصْبِ/ الدَّلَائِلِ، وَإِرْسَالِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، وَالتَّرْغِيبِ فِي الْإِيمَانِ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ، وَالتَّحْذِيرِ عَنِ الْكُفْرِ بِأَقْصَى الْوُجُوهِ، وَقَالَ الْقَاضِي: قَدْ نَسَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِضْلَالَ إِلَى الصَّنَمِ فِي قَوْلِهِ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إِبْرَاهِيمَ: 36] لِأَجْلِ أَنَّ الْأَصْنَامَ سَبَبٌ بِوَجْهٍ ما لضالهم، فَأَنْ يُضَافَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ قُوَّةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي فَعَلَهَا بِمَنْ يُؤْمِنُ كَانَ أَوْلَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْدِلُ بِهِمْ مِنَ النَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ قَالَ الْقَاضِي: هَذَا أَدْخَلُ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ مَا يَقَعُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ مِنْ فِعْلِهِ تَعَالَى فَكَأَنَّهُ فَعَلَهُ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هذه الإضافة حقيقة في الفعل، مجاز فِي الْحَثِّ وَالتَّرْغِيبِ، وَالْأَصْلُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ التَّرْغِيبَاتِ إِنْ كَانَتْ مُؤَثِّرَةً فِي تَرْجِيحِ الدَّاعِيَةِ صَارَ الرَّاجِحُ وَاجِبًا، وَالْمَرْجُوحُ مُمْتَنِعًا، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَثَرٌ فِي التَّرْجِيحِ لَمْ يَصِحَّ تَسْمِيَتُهَا بِالْإِخْرَاجِ.

وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: وَهُوَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْعُدُولِ بِهِمْ مِنَ النَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ فَهُوَ أَيْضًا مَدْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاقِدِيُّ: كُلُّ مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ فَإِنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ، غَيْرَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: 1] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَقَالَ: وَجَعَلَ الْكُفْرَ ظُلْمَةً، لِأَنَّهُ كَالظُّلْمَةِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْإِدْرَاكِ، وَجَعَلَ الْإِيمَانَ نُورًا لِأَنَّهُ كَالسَّبَبِ فِي حُصُولِ الْإِدْرَاكِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْعُدُولَ بِالْمُؤْمِنَ مِنَ النَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ أَمْرٌ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْكُفْرِ ثُمَّ أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، ثم هاهنا قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُجْرَى اللَّفْظُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ كَانَ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ ذكروا في سبب النزول روايات أحدهما: قَالَ مُجَاهِدٌ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ آمَنُوا بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْمٍ كَفَرُوا بِهِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمَنَ بِهِ مَنْ كَفَرَ بِعِيسَى، وَكَفَرَ بِهِ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَثَانِيَتُهَا: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ آمَنُوا بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى طَرِيقَةِ النَّصَارَى، ثُمَّ آمَنُوا بَعْدَهُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ كَانَ إِيمَانُهُمْ بِعِيسَى حِينَ آمَنُوا بِهِ ظُلْمَةً وَكُفْرًا، لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالِاتِّحَادِ كُفْرٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَهُمْ مِنْ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ إِلَى نُورِ الْإِسْلَامِ وَثَالِثَتُهَا: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي كُلِّ كَافِرٍ أَسْلَمَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ اللَّفْظُ عَلَى كُلَّ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ/ الْإِيمَانُ بَعْدَ الْكُفْرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فِي الظُّلُمَاتِ الْبَتَّةَ، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ: الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ وَالْعُرْفُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [آلِ عِمْرَانَ: 103] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا قَطُّ فِي النَّارِ وَقَالَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ [يُونُسَ: 98] وَلَمْ يَكُنْ نَزَلَ بِهِمْ عَذَابٌ الْبَتَّةَ، وَقَالَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [يُوسُفَ: 37] وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا قَطُّ، وَقَالَ: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [النَّحْلِ: 70] وَمَا كَانُوا فِيهِ قَطُّ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ إِنْسَانًا قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَلَمَّا قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ خَرَجَ مِنَ النَّارِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا كَانَ فِيهَا، وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: تَتَهَافَتُونَ فِي النَّارِ تَهَافُتَ الْجَرَادِ، وَهَا أَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُتَهَافِتِينَ فِي النَّارِ، وَأَمَّا الْعُرْفُ فَهُوَ أَنَّ الْأَبَ إِذَا أَنْفَقَ كُلَّ مَالِهِ فَالِابْنُ قَدْ يَقُولُ لَهُ: أَخْرَجْتَنِي مِنْ مَالِكَ أَيْ لَمْ تَجْعَلْ لِي فِيهِ شَيْئًا، لَا أَنَّهُ كَانَ فِيهِ ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْهُ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ خَلَا عَنْ تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى لَوَقَعَ فِي الظُّلُمَاتِ. فَصَارَ تَوْفِيقُهُ تَعَالَى سَبَبًا لِدَفْعِ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ عَنْهُ، وَبَيْنَ الدَّفْعِ والرفع مشابهة، فهذا الطَّرِيقِ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْإِخْرَاجِ وَالْإِبْعَادِ فِي مَعْنَى الدَّفْعِ وَالرَّفْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَرَأَ الْحَسَنُ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّوَاغِيتُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ يُخْرِجُونَهُمْ إِلَّا أَنَّهُ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِلْمُصْحَفِ وَأَيْضًا قَدْ بَيَّنَّا فِي اشْتِقَاقِ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ مُفْرَدٌ لَا جَمْعٌ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 258 إلى 259]

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ فَقَدِ اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَهُ إِلَى الطَّاغُوتِ مَجَازًا بِاتِّفَاقٍ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الطَّاغُوتِ عَلَى أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ هُوَ الصَّنَمُ وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إِبْرَاهِيمَ: 36] فَأَضَافَ الْإِضْلَالَ إِلَى الصَّنَمِ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَجَازًا، خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ ذَلِكَ إِلَى الْكُفَّارِ فَقَطْ، وَيُحْتَمَلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفَّارِ وَالطَّوَاغِيتِ مَعًا، فَيَكُونُ زَجْرًا لِلْكُلِّ وَوَعِيدًا، لِأَنَّ لَفْظَ أُولئِكَ إِذَا كَانَ جَمْعًا وَصَحَّ رُجُوعُهُ إِلَى كِلَا الْمَذْكُورَيْنِ، وَجَبَ رُجُوعُهُ إِلَيْهِمَا مَعًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [سورة البقرة (2) : الآيات 258 الى 259] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) [القصة الاول] اعلم إنه تعالى ذكر هاهنا قِصَصًا ثَلَاثَةً: الْأُولَى: مِنْهَا فِي بَيَانِ إِثْبَاتِ الْعِلْمِ بِالصَّانِعِ، وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ: فِي إِثْبَاتِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْبَعْثِ، وَالْقِصَّةُ الْأُولَى مُنَاظَرَةُ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَلِكِ زَمَانِهِ وَهِيَ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا فَنَقُولُ: أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ فَهِيَ كَلِمَةٌ يُوقَفُ بِهَا الْمُخَاطَبُ عَلَى تَعَجُّبٍ مِنْهَا، وَلَفْظُهَا لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ وَهِيَ كَمَا يُقَالُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى فُلَانٍ كَيْفَ يَصْنَعُ، مَعْنَاهُ: هَلْ رَأَيْتَ كَفُلَانٍ فِي صُنْعِهِ كَذَا. أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ فَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ نَمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ/ تَجَبَّرَ وَادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ هَذِهِ الْمُحَاجَّةِ قِيلَ: إِنَّهُ عِنْدَ كَسْرِ الْأَصْنَامِ قَبْلَ الْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ عَنْ مُقَاتِلٍ، وَقِيلَ: بَعْدَ إِلْقَائِهِ فِي النَّارِ، وَالْمُحَاجَّةُ الْمُغَالَبَةُ، يُقَالُ: حَاجَجْتُهُ فَحَجَجْتُهُ، أَيْ غَالَبْتُهُ فَغَلَبْتُهُ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فِي رَبِّهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الطَّاعِنِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، كَمَا قَالَ: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ [الْأَنْعَامِ: 80] وَالْمَعْنَى وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ فِي رَبِّهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ قَوْلَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْهَاءَ فِي آتَاهُ عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى آتَى إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُلْكَ، وَاحْتَجُّوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النِّسَاءِ: 54] أَيْ سُلْطَانًا بِالنُّبُوَّةِ، وَالْقِيَامِ بِدِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّانِي: أنه

تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْتِيَ الْمُلْكَ الْكُفَّارَ، وَيَدَّعِيَ الرُّبُوبِيَّةَ لِنَفْسِهِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورِينَ وَاجِبٌ، وَإِبْرَاهِيمُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ إِلَى هَذَا الضَّمِيرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَيْهِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى ذَلِكَ الْإِنْسَانِ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ. وَأَجَابُوا عَنِ الْحُجَّةِ الْأُولَى بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى حُصُولِ الْمُلْكِ لِآلِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى حُصُولِ الْمُلْكِ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَعَنِ الْحُجَّةِ الثانية بأن المراد من الملك هاهنا التَّمَكُّنُ وَالْقُدْرَةُ وَالْبَسْطَةُ فِي الدُّنْيَا، وَالْحِسُّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يُعْطِي الْكَافِرَ هَذَا الْمَعْنَى، وَأَيْضًا فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَعْطَاهُ الْمُلْكَ حَالَ مَا كَانَ مُؤْمِنًا، ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَفَرَ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَعَنِ الْحُجَّةِ الثَّالِثَةِ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ الْمَذْكُورِينَ إِلَّا أَنَّ الرِّوَايَاتِ الْكَثِيرَةَ وَارِدَةٌ بِأَنَّ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ هُوَ الْمَلِكَ، فَعَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ أَوْلَى مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، ثُمَّ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ يَحْتَمِلُ تَأْوِيلَاتٍ ثَلَاثَةً، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا قُلْنَا: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمُلْكِ لَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَحَدُ تِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ لِأَجْلِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ إِيتَاءَ الْمُلْكِ أَبْطَرَهُ وَأَوْرَثَهُ الْكِبَرَ وَالْعُتُوَّ فَحَاجَّ لِذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْمَلِكِ الْعَاتِي، وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَ مُحَاجَّتَهُ فِي رَبِّهِ شُكْرًا عَلَى أَنْ آتَاهُ رَبُّهُ الْمُلْكَ، كَمَا يُقَالُ: عَادَانِي فُلَانٌ لِأَنِّي أَحْسَنْتُ إِلَيْهِ، يُرِيدُ أَنَّهُ عَكَسَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُوَالَاةِ لِأَجْلِ الْإِحْسَانِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَةِ: 82] وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَيْضًا لَا يَلِيقُ بِالنَّبِيِّ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إِظْهَارُ الْمُحَاجَّةِ قَبْلَ حُصُولِ الْمُلْكِ وَبَعْدَهُ أَمَّا الْمَلِكُ الْعَاتِي فَإِنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ إِظْهَارُ هَذَا الْعُتُوِّ الشَّدِيدِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَحْصُلَ الْمُلْكُ الْعَظِيمُ لَهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ لِقَوْلِهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ مَعْنًى وَتَأْوِيلٌ إِلَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمَلِكِ الْعَاتِي. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ كَمَالِ حَالِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِظْهَارِ الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَمَتَى كَانَ الْكَافِرُ سُلْطَانًا مَهِيبًا، وَإِبْرَاهِيمُ مَا كَانَ مَلِكًا، كَانَ هَذَا الْمَعْنَى أَتَمَّ مِمَّا إِذَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ مَلِكًا، وَلَمَّا كَانَ الْكَافِرُ مَلِكًا، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى مَا ذَكَرْنَا. الْحُجَّةُ الثانية: مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ، وَهُوَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ هُوَ الْمَلِكَ لَمَا قَدَرَ الْكَافِرُ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ وَيَسْتَبْقِيَ الْآخَرَ، بَلْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْنَعُهُ مِنْهُ أَشَدَّ مَنْعٍ، بَلْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَالْمَلْجَأِ إِلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ، قَالَ الْقَاضِي هَذَا الِاسْتِدْلَالُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَلِكًا وَسُلْطَانًا فِي الدِّينِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ إِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ، وَذَلِكَ الْكَافِرُ كَانَ مَلِكًا مُسَلَّطًا قَادِرًا عَلَى الظُّلْمِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَمْكَنَهُ قَتْلُ أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ، وَأَيْضًا فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّمَا قَتَلَ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ قَوْدًا، وَكَانَ الِاخْتِيَارُ إِلَيْهِ، وَاسْتَبْقَى الْآخَرَ، إِمَّا لِأَنَّهُ لَا قَتْلَ عَلَيْهِ أَوْ بَذَلَ الدِّيَةَ وَاسْتَبْقَاهُ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ خبر ووعد، ولا دليلي فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَهُ، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ سَابِقٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بُعِثُوا لِلدَّعْوَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَتَى ادَّعَى الرِّسَالَةَ، فَإِنَّ الْمُنْكِرَ يُطَالِبُهُ بِإِثْبَاتِ أَنَّ لِلْعَالَمِ إِلَهًا، أَلَا تَرَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السلام لما قال: إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الزخرف: 46] قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: 23] فَاحْتَجَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى إِثْبَاتِ الْإِلَهِيَّةِ بِقَوْلِهِ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فكذا هاهنا الظَّاهِرُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ ادَّعَى الرِّسَالَةَ، فَقَالَ نَمْرُوذُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةَ حُذِفَتْ، لِأَنَّ الْوَاقِعَةَ تَدُلُّ عَلَيْهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلِيلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ، وَذَلِكَ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِوَاسِطَةِ أَفْعَالِهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْقَادِرِينَ، وَالْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْخَلْقَ عَاجِزُونَ عَنْهُمَا، وَالْعِلْمُ بَعْدَ الِاخْتِيَارِ ضَرُورِيٌّ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُؤَثِّرٍ آخَرَ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الْقَادِرِينَ الَّذِينَ تَرَاهُمْ، وَذَلِكَ الْمُؤَثِّرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوجَبًا أَوْ مُخْتَارًا، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ دَوَامِهِ دَوَامُ الْأَثَرِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَتَبَدَّلَ الْإِحْيَاءُ بِالْإِمَاتَةِ، وَأَنْ لَا تَتَبَدَّلَ الْإِمَاتَةُ بِالْإِحْيَاءِ، وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّا نَرَى فِي الْحَيَوَانِ أَعْضَاءً مُخْتَلِفَةً فِي الشَّكْلِ وَالصِّفَةِ وَالطَّبِيعَةِ وَالْخَاصِّيَّةِ، وَتَأْثِيرُ الْمُؤَثِّرِ الْمُوجِبِ بِالذَّاتِ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ مِنْ وُجُودٍ آخَرَ يُؤَثِّرُ عَلَى سَبِيلِ الْقُدْرَةِ، وَالِاخْتِيَارِ فِي إِحْيَاءِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ وَفِي إِمَاتَتِهَا، وَذَلِكَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُوَ دَلِيلٌ مَتِينٌ قَوِيٌّ ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي مَوَاضِعَ فِي كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ/ طِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 12] إِلَى آخِرِهِ، وَقَوْلِهِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التِّينِ: 4، 5] وَقَالَ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: 2] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ الْمَوْتَ عَلَى الْحَيَاةِ فِي آيَاتٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [الْبَقَرَةِ: 28] وَقَالَ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: 2] وَحُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ فِي ثَنَائِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى: وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشُّعَرَاءِ: 81] فَلِأَيِّ سَبَبٍ قُدِّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ الْحَيَاةِ عَلَى الْمَوْتِ، حَيْثُ قَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. وَالْجَوَابُ: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ الدَّلِيلِ إِذَا كَانَ هُوَ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَجَائِبَ الْخِلْقَةِ حَالَ الْحَيَاةِ أَكْثَرُ، وَاطِّلَاعَ الْإِنْسَانِ عَلَيْهَا أَتَمُّ، فَلَا جَرَمَ وَجَبَ تقديم الحياة هاهنا فِي الذِّكْرِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُرْوَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا احْتَجَّ بِتِلْكَ الْحُجَّةِ، دَعَا ذَلِكَ الْمَلِكُ الْكَافِرُ شَخْصَيْنِ، وَقَتَلَ أَحَدَهُمَا، وَاسْتَبْقَى الْآخَرَ، وَقَالَ: أَنَا أَيْضًا أُحْيِي وَأُمِيتُ، هَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ فِي التَّفْسِيرِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ بَعِيدٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ شَرَحَ حَقِيقَةَ الْإِحْيَاءِ وَحَقِيقَةَ الْإِمَاتَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَخَّصْنَاهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ، وَمَتَى شرحه على ذلك الوجه الممتنع أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَى الْعَاقِلِ الْإِمَاتَةُ وَالْإِحْيَاءُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ بِالْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءُ بِمَعْنَى الْقَتْلِ وَتَرْكِهِ، وَيَبْعُدُ فِي الْجَمْعِ الْعَظِيمِ أَنْ يَكُونُوا فِي الْحَمَاقَةِ بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُونَ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ

الْفَرْقِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا احْتَجَّ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ مِنَ اللَّهِ قَالَ الْمُنْكِرُ، تَدَّعِي الْإِحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ مِنَ اللَّهِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ الْأَسْبَابِ الْأَرْضِيَّةِ وَالْأَسْبَابِ السَّمَاوِيَّةِ، أَوْ تَدَّعِي صُدُورَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِوَاسِطَةِ الْأَسْبَابِ الْأَرْضِيَّةِ وَالْأَسْبَابِ السَّمَاوِيَّةِ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا يَقْدِرُ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ بِوَاسِطَةِ سَائِرِ الْأَسْبَابِ، فَإِنَّ الْجِمَاعَ قَدْ يُفْضِي إِلَى الْوَلَدِ الْحَيِّ بِوَاسِطَةِ الْأَسْبَابِ الْأَرْضِيَّةِ وَالسَّمَاوِيَّةِ، وَتَنَاوُلُ السُّمِّ قَدْ يُفْضِي إِلَى الْمَوْتِ، فَلَمَّا ذَكَرَ نَمْرُوذُ هَذَا السُّؤَالَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَجَابَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ قَالَ: هَبْ أَنَّ الْإِحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ حَصَلَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِوَاسِطَةِ الِاتِّصَالَاتِ الْفَلَكِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِتِلْكَ الِاتِّصَالَاتِ وَالْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةِ مِنْ فَاعِلٍ مُدَبِّرٍ، فَإِذَا كَانَ الْمُدَبِّرُ لِتِلْكَ الْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، كَانَ الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ الْحَاصِلَانِ بِوَاسِطَةِ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةِ أَيْضًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ الصَّادِرَانِ عَلَى الْبَشَرِ بِوَاسِطَةِ الْأَسْبَابِ الْفَلَكِيَّةِ وَالْعُنْصُرِيَّةِ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِلْبَشَرِ عَلَى الِاتِّصَالَاتِ الْفَلَكِيَّةِ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ لَيْسَ دَلِيلًا آخَرَ، بَلْ تَمَامُ الدَّلِيلِ/ الْأَوَّلِ: وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ مِنَ اللَّهِ بِوَاسِطَةِ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ، إِلَّا أَنَّ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ مِنَ اللَّهِ فَكَانَ الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ أَيْضًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الْبَشَرُ فَإِنَّهُ وَإِنْ صَدَرَ مِنْهُ الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ بِوَاسِطَةِ الِاسْتِعَانَةِ بِالْأَسْبَابِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ إِلَّا أَنَّ الْأَسْبَابَ لَيْسَتْ وَاقِعَةً بِقُدْرَتِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ الصَّادِرَيْنِ عَنِ الْبَشَرِ لَيْسَتْ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ نَقْضًا عَلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَعْتَقِدُهُ فِي كَيْفِيَّةِ جَرَيَانِ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ، لَا مَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْكُلِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى إِسْقَاطِ أَلِفِ أَنَا فِي الْوَصْلِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ مِنْ إِثْبَاتِهِ عِنْدَ اسْتِقْبَالِ الْهَمْزَةِ، وَالصَّحِيحُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، لِأَنَّ ضَمِيرَ الْمُتَكَلِّمِ هُوَ (أَنَ) وَهُوَ الْهَمْزَةُ وَالنُّونُ، فَأَمَّا الْأَلِفُ فَإِنَّمَا تَلْحَقُهَا فِي الْوَقْفِ كَمَا تَلْحَقُ الْهَاءَ فِي سُكُوتِهِ لِلْوَقْفِ، وَكَمَا أَنَّ هَذِهِ الْهَاءَ تَسْقُطُ عِنْدَ الْوَصْلِ، فَكَذَا هَذِهِ الْأَلِفُ تَسْقُطُ عِنْدَ الْوَصْلِ، لِأَنَّ مَا يَتَّصِلُ بِهِ يَقُومُ مَقَامَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ هَمْزَةَ الْوَصْلِ إِذَا اتَّصَلَتِ الْكَلِمَةُ الَّتِي هِيَ فِيهَا بِشَيْءٍ سَقَطَتْ وَلَمْ تَثْبُتْ، لِأَنَّ مَا يَتَّصِلُ بِهِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى النُّطْقِ بِمَا بَعْدَ الْهَمْزَةِ فَلَا تَثْبُتُ الْهَمْزَةُ فَكَذَا الْأَلِفُ فِي أَنَا وَالْهَاءُ الَّتِي فِي الْوَقْفِ يَجِبُ سُقُوطُهَا عِنْدَ الْوَصْلِ كَمَا يَجِبُ سُقُوطُ الْهَمْزَةِ عِنْدَ الْوَصْلِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَاعْلَمْ أَنَّ لِلنَّاسِ فِي هذه الْمَقَامِ طَرِيقَيْنِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ طَرِيقَةُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَأَى مِنْ نَمْرُوذَ أَنَّهُ أَلْقَى تِلْكَ الشُّبْهَةَ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ أَوْضَحَ مِنْهُ، فَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَزَعَمَ أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ أَوْضَحَ مِنْهُ جَائِزٌ لِلْمُسْتَدِلِّ. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا قَالَ نَمْرُوذُ: فَلْيَأْتِ رَبُّكَ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ؟. قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْمُحَاجَّةَ كَانَتْ مَعَ إِبْرَاهِيمَ بَعْدَ إِلْقَائِهِ فِي النَّارِ وَخُرُوجِهِ مِنْهَا سَالِمًا، فَعَلِمَ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى حِفْظِ إِبْرَاهِيمَ فِي تِلْكَ النَّارِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الِاحْتِرَاقِ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ خَذَلَهُ وَأَنْسَاهُ إِيرَادَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ نُصْرَةً لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي قَالَ بِهِ الْمُحَقِّقُونَ: أَنَّ هَذَا مَا كَانَ انْتِقَالًا مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ بَلِ الدَّلِيلُ وَاحِدٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَهُوَ أَنَّا نَرَى حُدُوثَ أَشْيَاءَ لَا يَقْدِرُ الْخَلْقُ عَلَى إِحْدَاثِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ قَادِرٍ آخَرَ يَتَوَلَّى إِحْدَاثَهَا وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَنَا: نَرَى حُدُوثَ أَشْيَاءَ لَا يَقْدِرُ الْخَلْقُ عَلَى إِحْدَاثِهَا لَهُ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا: الْإِحْيَاءُ، وَالْإِمَاتَةُ، وَمِنْهَا السَّحَابُ، وَالرَّعْدُ، وَالْبَرْقُ، وَمِنْهَا حَرَكَاتُ/ الْأَفْلَاكِ، وَالْكَوَاكِبِ، وَالْمُسْتَدِلُّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ، لَكِنْ إِذَا ذَكَرَ لِإِيضَاحِ كَلَامٍ مِثَالًا فَلَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ الْمِثَالِ إِلَى مِثَالٍ آخَرَ، فَكَانَ مَا فَعَلَهُ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بَابِ مَا يَكُونُ الدَّلِيلُ وَاحِدًا إِلَّا أَنَّهُ يَقَعُ الِانْتِقَالُ عِنْدَ إِيضَاحِهِ مِنْ مِثَالٍ إِلَى مِثَالٍ آخَرَ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ مَا يَقَعُ الِانْتِقَالُ مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ مِنَ الْأَوَّلِ وَأَلْيَقُ بِكَلَامِ أَهْلِ التَّحْقِيقِ مِنْهُ، وَالْإِشْكَالُ عَلَيْهِمَا مِنْ وُجُوهٍ: الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ صَاحِبَ الشُّبْهَةِ إِذَا ذَكَرَ الشُّبْهَةَ، وَوَقَعَتْ تِلْكَ الشُّبْهَةُ فِي الْأَسْمَاعِ، وَجَبَ عَلَى الْمُحِقِّ الْقَادِرِ عَلَى الْجَوَابِ أَنْ يَذْكُرَ الْجَوَابَ فِي الْحَالِ إِزَالَةً لِذَلِكَ التَّلْبِيسِ وَالْجَهْلِ عَنِ الْعُقُولِ، فَلَمَّا طَعَنَ الْمَلِكُ الْكَافِرُ فِي الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ، أَوْ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ بِتِلْكَ الشُّبْهَةِ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِإِزَالَةِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ وَاجِبًا مُضَيِّقًا، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْمَعْصُومِ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ الْوَاجِبَ. وَالْإِشْكَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا أَوْرَدَ الْمُبْطِلُ ذَلِكَ السُّؤَالَ، فَإِذَا تَرَكَ الْمُحِقُّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ وَانْتَقَلَ إِلَى كَلَامٍ آخَرَ، أَوْهَمَ أَنَّ كَلَامَهُ الْأَوَّلَ كَانَ ضَعِيفًا سَاقِطًا، وَأَنَّهُ مَا كَانَ عَالِمًا بِضَعْفِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْمُبْطِلَ عَلِمَ وَجْهَ ضَعْفِهِ وكونه ساقطاً، وأنه كأنه عَالِمًا بِضَعْفِهِ فَنَبَّهَ عَلَيْهِ، وَهَذَا رُبَّمَا يُوجِبُ سُقُوطَ وَقْعِ الرَّسُولِ وَحَقَارَةَ شَأْنِهِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَالْإِشْكَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الِانْتِقَالَ مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ، أَوْ مِنْ مِثَالٍ إِلَى مِثَالٍ، لَكِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يكون المنتقل إليه أوضح وأقرب، وهاهنا لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ جِنْسَ الْإِحْيَاءِ لَا قُدْرَةَ لِلْخَلْقِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا جِنْسُ تَحْرِيكِ الْأَجْسَامِ، فَلِلْخَلْقِ قُدْرَةٌ عَلَيْهِ، وَلَا يَبْعُدُ فِي الْعَقْلِ وُجُودُ مَلِكٍ عَظِيمٍ فِي الْجُثَّةِ أَعْظَمُ مِنَ السموات، وأنه هو الذي يكون محركاً للسموات، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الِاسْتِدْلَالُ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ أَظْهَرُ وَأَقْوَى مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالنَّبِيِّ الْمَعْصُومِ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنَ الدَّلِيلِ الْأَوْضَحِ الْأَظْهَرِ إِلَى الدَّلِيلِ الْخَفِيِّ الَّذِي لَا يَكُونُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَوِيًّا. وَالْإِشْكَالُ الرَّابِعُ: أَنَّ دَلَالَةَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ طُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لِأَنَّا نَرَى فِي ذَاتِ الْإِنْسَانِ وَصِفَاتِهِ تَبْدِيلَاتٍ وَاخْتِلَافَاتٍ وَالتَّبَدُّلُ قَوِيُّ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحَاجَةِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ الْقَادِرِ، أَمَّا الشَّمْسُ فَلَا نَرَى فِي ذَاتِهَا تَبَدُّلًا، وَلَا فِي صِفَاتِهَا تَبَدُّلًا، وَلَا فِي مَنْهَجِ حَرَكَاتِهَا تَبَدُّلًا الْبَتَّةَ، فَكَانَتْ دَلَالَةُ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ عَلَى الصَّانِعِ أَقْوَى، فَكَانَ الْعُدُولُ مِنْهُ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ انْتِقَالًا مِنَ الْأَقْوَى الْأَجْلَى إِلَى الْأَخْفَى الْأَضْعَفِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. الْإِشْكَالُ الْخَامِسُ: أَنْ نَمْرُوذَ لَمَّا لَمْ يَسْتَحِ مِنْ مُعَارَضَةِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ الصَّادِرَيْنِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقَتْلِ وَالتَّخْلِيَةِ، فَكَيْفَ يُؤْمَنُ مِنْهُ عِنْدَ اسْتِدْلَالِ إِبْرَاهِيمَ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ أَنْ يَقُولَ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ مِنِّي فَإِنْ كَانَ لَكَ إِلَهٌ فَقُلْ لَهُ حَتَّى يُطْلِعَهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ الْتَزَمَ الْمُحَقِّقُونَ/ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ذَلِكَ فَقَالُوا: إِنَّهُ لَوْ أَوْرَدَ هَذَا السُّؤَالَ لَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنَ الْمَغْرِبِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِإِظْهَارِ فَسَادِ سُؤَالِهِ

فِي الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ أَسْهَلُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْتِزَامِ إِطْلَاعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ، فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَحْصُلَ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ، إِلَّا أَنَّهُ يَكُونُ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ هُوَ طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ، وَلَا يَكُونُ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ دَلِيلُهُ الثَّانِي ضَائِعًا كَمَا صَارَ دَلِيلَهُ الْأَوَّلُ ضَائِعًا، وَأَيْضًا فَمَا الدَّلِيلُ الَّذِي حَمَلَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَنْ تَرَكَ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ الرَّكِيكِ وَالْتَزَمَ الِانْقِطَاعَ، وَاعْتَرَفَ بِالْحَاجَةِ إِلَى الِانْتِقَالِ إِلَى تَمَسُّكٍ بِدَلِيلٍ لَا يُمْكِنُهُ تَمْشِيَتُهُ إِلَّا بِالْتِزَامِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَأْتِيَ بِإِطْلَاعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ فَإِنَّهُ يَضِيعُ دَلِيلُهُ الثَّانِي كَمَا ضَاعَ الْأَوَّلُ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْتِزَامَ هَذِهِ الْمَحْذُورَاتِ لَا يَلِيقُ بِأَقَلِّ النَّاسِ عِلْمًا فَضْلًا عَنْ أَفْضَلِ الْعُقَلَاءِ وَأَعْلَمِ الْعُلَمَاءِ، فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ الَّذِي أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَيْهِ ضَعِيفٌ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْإِشْكَالَاتِ، لِأَنَّا نَقُولُ: لَمَّا احْتَجَّ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ أَوْرَدَ الْخَصْمُ عَلَيْهِ سُؤَالًا لَا يَلِيقُ بِالْعُقَلَاءِ، وَهُوَ أَنَّكَ إِذَا ادَّعَيْتَ الْإِحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ لَا بِوَاسِطَةٍ، فَذَلِكَ لَا تَجِدُ إِلَى إِثْبَاتِهِ سَبِيلًا، وَإِنِ ادَّعَيْتَ حُصُولَهُمَا بِوَاسِطَةِ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ فَنَظِيرُهُ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ حَاصِلٌ لِلْبَشَرِ، فَأَجَابَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ الْإِحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ وَإِنْ حَصَلَا بِوَاسِطَةِ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ، لَكِنَّ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ حَصَلَتْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ الْخَلْقِ فَإِنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى تَحْرِيكَاتِ الْأَفْلَاكِ فَلَا جَرَمَ لَا يَكُونُ الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ صَادِرَيْنِ مِنْهُمْ، وَمَتَى حَمَلْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنَ الْمَحْذُورَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَازِمًا عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ كَلَامِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ فَالْمَعْنَى: فَبَقِيَ مَغْلُوبًا لا يجد مقالًا، ولا للمسألة جوابه، وَهُوَ كَقَوْلِهِ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها [الْأَنْبِيَاءِ: 40] قَالَ الْوَاحِدِيُّ، وَفِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ: بُهِتَ الرَّجُلُ فَهُوَ مَبْهُوتٌ، وَبَهَتَ وَبَهِتَ، قَالَ عُرْوَةُ الْعُذْرِيُّ: فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ أُرَاهَا فُجَاءَةً ... فَأُبْهَتُ حَتَّى مَا أَكَادُ أُجِيبُ أَيْ أَتَحَيَّرُ وَأَسْكُتُ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَتَأْوِيلُهُ عَلَى قَوْلِنَا ظَاهِرٌ، أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: مِنْهَا أَنَّهُ لَا يَهْدِيهِمْ لِظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ لِلْحِجَاجِ وَلِلْحَقِّ كَمَا يَهْدِي الْمُؤْمِنَ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْكَافِرِ مِنْ أَنْ يَعْجِزَ وَيَنْقَطِعَ. وَأَقُولُ: هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يَهْدِيهِمْ لِلْحِجَاجِ، إِنَّمَا يَصِحُّ حَيْثُ يَكُونُ الْحِجَاجُ مَوْجُودًا وَلَا حِجَاجَ عَلَى الْكُفْرِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَهْدِيهِ إِلَيْهِ، قَالَ الْقَاضِي: وَمِنْهَا/ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَهْدِيهِمْ لِزِيَادَاتِ الْأَلْطَافِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ بِالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ سَدُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَرِيقَ الِانْتِفَاعِ بِهِ. وَأَقُولُ: هَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَاتِ إِذَا كَانَتْ فِي حَقِّهِمْ مُمْتَنِعَةً عَقْلًا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَهْدِيهِمْ، كَمَا لَا يُقَالُ: إِنَّهُ تَعَالَى يَجْمَعُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ فَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ قَالَ الْقَاضِي: وَمِنْهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ. وَأَقُولُ: هَذَا أيضاً ضعيف، لأن المذكور هاهنا أَمْرُ الِاسْتِدْلَالِ وَتَحْصِيلُ الْمَعْرِفَةِ وَلَمْ يَجْرِ لِلْجَنَّةِ ذِكْرٌ، فَيَبْعُدُ صَرْفُ اللَّفْظِ إِلَى الْجَنَّةِ، بَلْ أَقُولُ: اللَّائِقُ بِسِيَاقِ الْآيَةِ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الدَّلِيلَ كَانَ قَدْ بَلَغَ فِي الظُّهُورِ

القصة الثانية

وَالْحُجَّةِ إِلَى حَيْثُ صَارَ الْمُبْطِلُ كَالْمَبْهُوتِ عِنْدَ سَمَاعِهِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ الِاهْتِدَاءَ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ الدَّلِيلُ الظَّاهِرُ، وَنَظِيرُ هَذَا التَّفْسِيرِ قَوْلُهُ وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْأَنْعَامِ: 111] . الْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا إِثْبَاتُ الْمَعَادِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي إِدْخَالِ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ أَوْ كَالَّذِي وَذَكَرُوا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ [البقرة: 258] فِي مَعْنَى (أَلَمْ تَرَ كَالَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ) وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مَعْطُوفَةً عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَرَأَيْتَ كَالَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ، أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ، فَيَكُونُ هَذَا عَطْفًا عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَأَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ قَالُوا: وَنَظِيرُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [الْمُؤْمِنُونَ: 84، 85] ثُمَّ قَالَ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [الْمُؤْمِنُونَ: 85، 86] فَهَذَا عَطْفٌ عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ معناه: لمن السموات؟ فَقِيلَ لِلَّهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: مُعَاوِيَ إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ ... فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا فَحُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى وَتَرْكِ اللَّفْظِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَخْفَشِ: أَنَّ الْكَافَ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ وَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُبَرِّدِ: أَنَّا نُضْمِرُ فِي الْآيَةِ زِيَادَةً، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ، وَأَلَمْ تَرَ إِلَى مَنْ كَانَ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الَّذِي مَرَّ بِالْقَرْيَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ رَجُلًا كَافِرًا شَاكًّا فِي الْبَعْثِ/ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَالَ الْبَاقُونَ: إِنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا، ثُمَّ قَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَاكُ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ عُزَيْرٌ، وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ أَرْمِيَاءُ، ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَرْمِيَاءَ هُوَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ سِبْطِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِنَّ أرمياء هو النبي الذي بعثه الله عند ما خَرَّبَ بُخْتَنَصَّرُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَحْرَقَ التَّوْرَاةَ، حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْمَارَّ كَانَ كَافِرًا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها وَهَذَا كَلَامُ مَنْ يَسْتَبْعِدُ مِنَ اللَّهِ الْإِحْيَاءَ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ وَذَلِكَ كُفْرٌ. فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ. قُلْنَا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ مِنَ اللَّهِ تعالى أن يعجب رسوله منه إذا الصَّبِيُّ لَا يُتَعَجَّبُ مِنْ شَكِّهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِبْعَادَ مَا كَانَ بِسَبَبِ الشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ، بَلْ

كَانَ بِسَبَبِ اطِّرَادِ الْعَادَاتِ فِي أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الْخَرَابِ قَلَّمَا يُصَيِّرُهُ اللَّهُ مَعْمُورًا وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا يُشِيرُ إِلَى جَبَلٍ، فَيَقُولُ: مَتَى يَقْلِبُهُ اللَّهُ ذَهَبًا، أَوْ يَاقُوتًا، لَا أَنَّ مُرَادَهُ مِنْهُ الشَّكُّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ وَلَا يَحْصُلُ في مطرد العادات، فكذا هاهنا. الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّهِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّبَيُّنُ حَاصِلًا لَهُ وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّ تَبَيُّنَ الْإِحْيَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاهَدَةِ مَا كَانَ حَاصِلًا لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَمَّا أَنَّ تَبَيُّنَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ مَا كَانَ حَاصِلًا فَهُوَ مَمْنُوعٌ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهَذَا يَدُلُّ على أن هذا العالم إِنَّمَا حَصَلَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأَنَّهُ كَانَ خَالِيًا عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْعِلْمِ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّ تِلْكَ الْمُشَاهَدَةَ لَا شَكَّ أَنَّهَا أَفَادَتْ نَوْعَ تَوْكِيدٍ وَطُمَأْنِينَةٍ وَوُثُوقٍ، وَذَلِكَ الْقَدْرُ مِنَ التَّأْكِيدِ إِنَّمَا حَصَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْعِلْمِ مَا كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ ذَلِكَ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: لَهُمْ أَنَّ هَذَا الْمَارَّ كَانَ كَافِرًا لِانْتِظَامِهِ مَعَ نَمْرُوذَ فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّ قَبْلَهُ وَإِنْ كَانَ قِصَّةَ نَمْرُوذَ، وَلَكِنَّ بَعْدَهُ قِصَّةَ سُؤَالِ إِبْرَاهِيمَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مِنْ جِنْسِ إِبْرَاهِيمَ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا وَكَانَ نَبِيًّا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِاللَّهِ، وَعَلَى أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ تَعَالَى يَصِحُّ مِنْهُ الْإِحْيَاءُ فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ تَخْصِيصَ هَذَا الشَّيْءِ بِاسْتِبْعَادِ الْإِحْيَاءِ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ حَصَلَ الِاعْتِرَافُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْإِحْيَاءِ فِي الْجُمْلَةِ فَأَمَّا مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْإِحْيَاءِ مُمْتَنِعَةٌ لَمْ يُبْقِ لِهَذَا التَّخْصِيصِ فَائِدَةً. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ كَمْ لَبِثْتَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَائِلٍ وَالْمَذْكُورُ السَّابِقُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَصَارَ التَّقْدِيرُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَمْ لَبِثْتَ فَقَالَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ وَمِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهُ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى جَعْلِهِ آيَةً لِلنَّاسِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها، ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً وَلَا شَكَّ أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ عَلَى أَنَّهُ تَكَلَّمَ مَعَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِحَالِ هَذَا الْكَافِرِ. فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّهُ تَعَالَى بَعْثَ إِلَيْهِ رَسُولًا أَوْ مَلَكًا حَتَّى قَالَ لَهُ هَذَا الْقَوْلَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْنَا: ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَائِلَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَعَهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَصَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ إِلَى الْمَجَازِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ يُوجِبُهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَالْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ إِعَادَتَهُ حَيًّا وَإِبْقَاءَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عَلَى حَالِهِمَا، وَإِعَادَةَ الحمار حياً بعد ما صَارَ رَمِيمًا مَعَ كَوْنِهِ مُشَاهِدًا لِإِعَادَةِ أَجْزَاءِ الْحِمَارِ إِلَى التَّرْكِيبِ وَإِلَى الْحَيَاةِ إِكْرَامٌ عَظِيمٌ وَتَشْرِيفٌ كَرِيمٌ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحَالِ الْكَافِرِ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا أَدْخَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْوُجُودِ إِكْرَامًا لِإِنْسَانٍ آخَرَ كَانَ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ.

قُلْنَا: لَمْ يَجْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ هَذَا النَّبِيِّ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ حَالَةٌ مُشْعِرَةٌ بِوُجُودِ النَّبِيِّ أَصْلًا فَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِظْهَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِكْرَامَ ذَلِكَ النَّبِيِّ وَتَأْيِيدَ رِسَالَتِهِ بِالْمُعْجِزَةِ لَكَانَ تَرْكُ ذِكْرِ ذَلِكَ الرَّسُولِ إِهْمَالًا لِمَا هُوَ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الْكَلَامِ وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ الشَّخْصَ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ ادَّعَى النُّبُوَّةَ مِنْ قَبْلِ الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ أَوْ بَعْدَهُمَا، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ، لِأَنَّ إِرْسَالَ النَّبِيِّ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ يَكُونُ لِمَصْلَحَةٍ تَعُودُ عَلَى الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ، وَإِنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ فَالْمُعْجِزُ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَى الدَّعْوَى، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٌ. قُلْنَا: إِظْهَارُ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَى يَدِ مَنْ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ سَيَصِيرُ رَسُولًا جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ زَالَ السُّؤَالُ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ هَذَا الشَّخْصِ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَهَذَا اللَّفْظُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 91] فَكَانَ هَذَا وَعْدًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَجْعَلُهُ نَبِيًّا، وَأَيْضًا فَهَذَا الْكَلَامُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى النُّبُوَّةِ بِصَرِيحِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُفِيدُ التَّشْرِيفَ الْعَظِيمَ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحَالِ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ وَعَلَى الشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ جَعْلِهِ آيَةً أَنَّ مَنْ عَرَفَهُ مِنَ النَّاسِ شَابًّا كَامِلًا إِذَا شَاهَدُوهُ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ عَلَى شَبَابِهِ وَقَدْ شَاخُوا أَوْ هَرِمُوا، أَوْ سَمِعُوا بِالْخَبَرِ أَنَّهُ كَانَ مَاتَ مُنْذُ زَمَانٍ/ وَقَدْ عَادَ شَابًّا صَحَّ أَنْ يُقَالَ لِأَجْلِ ذَلِكَ إِنَّهُ آيَةٌ لِلنَّاسِ لِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ بِذَلِكَ وَيَعْرِفُونَ بِهِ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَنُبُوَّةَ نَبِيِّ ذَلِكَ الزَّمَانِ. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً إِخْبَارٌ عَنْ أَنَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُهُ آيَةً، وَهَذَا الْإِخْبَارُ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ أَنْ أَحْيَاهُ اللَّهُ، وَتَكَلَّمَ مَعَهُ، وَالْمَجْعُولُ لَا يُجْعَلُ ثَانِيًا، فَوَجَبَ حَمْلُ قَوْلِهِ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ عَلَى أَمْرٍ زَائِدٍ عَنْ هَذَا الْإِحْيَاءِ، وَأَنْتُمْ تَحْمِلُونَهُ عَلَى نَفْسِ هَذَا الْإِحْيَاءِ فَكَانَ بَاطِلًا والثاني: أنه وَجْهَ التَّمَسُّكِ أَنَّ قَوْلَهُ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ يَدُلُّ عَلَى التَّشْرِيفِ الْعَظِيمِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحَالِ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ وَالشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ قَالَ: إِنَّ بُخْتَنَصَّرَ غَزَا بني إسرائيل فسبى منهم الكثيرون، وَمِنْهُمْ عُزَيْرٌ وَكَانَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، فَجَاءَ بِهِمْ إلى بابل، فدخل عزيز يَوْمًا تِلْكَ الْقَرْيَةَ وَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَهُوَ عَلَى حِمَارٍ، فَرَبَطَ حِمَارَهُ وَطَافَ فِي الْقَرْيَةِ فَلَمْ يَرَ فِيهَا أَحَدًا فَعَجِبَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها لَا عَلَى سَبِيلِ الشَّكِّ فِي الْقُدْرَةِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ بِحَسَبِ الْعَادَةِ، وَكَانَتِ الْأَشْجَارُ مُثْمِرَةً، فَتَنَاوَلَ مِنَ الْفَاكِهَةِ التِّينَ وَالْعِنَبَ، وَشَرِبَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَنَامَ، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَنَامِهِ مِائَةَ عَامٍ وَهُوَ شَابٌّ، ثُمَّ أَعْمَى عَنْ مَوْتِهِ أَيْضًا الْإِنْسَ وَالسِّبَاعَ وَالطَّيْرَ، ثُمَّ أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ الْمِائَةِ وَنُودِيَ من السماء: يا عزيز كَمْ لَبِثْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَقَالَ يَوْماً فَأَبْصَرَ مِنَ الشَّمْسِ بَقِيَّةً فَقَالَ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ مِنَ التِّينِ وَالْعِنَبِ وَشَرَابِكَ مِنَ الْعَصِيرِ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُمَا، فَنَظَرَ فَإِذَا التِّينُ وَالْعِنَبُ كَمَا شَاهَدَهُمَا ثُمَّ قَالَ: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ فَنَظَرَ فَإِذَا هُوَ عِظَامٌ بِيضٌ تَلُوحُ وَقَدْ تَفَرَّقَتْ أَوْصَالُهُ وَسَمِعَ صَوْتًا أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ إِنِّي جَاعِلٌ فِيكِ رُوحًا فَانْضَمَّ أَجْزَاءُ الْعِظَامِ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ الْتَصَقَ

كُلُّ عُضْوٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ الضِّلْعُ إِلَى الضِّلْعِ وَالذِّرَاعُ إِلَى مَكَانِهِ ثُمَّ جَاءَ الرَّأْسُ إِلَى مَكَانِهِ ثُمَّ الْعَصَبُ وَالْعُرُوقُ ثُمَّ أَنْبَتَ طَرَاءُ اللَّحْمِ عَلَيْهِ، ثُمَّ انْبَسَطَ الْجِلْدُ عَلَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَتِ الشُّعُورُ عَنِ الْجِلْدِ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ يَنْهَقُ فَخَرَّ عُزَيْرٌ سَاجِدًا، وَقَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ثُمَّ إِنَّهُ دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَقَالَ الْقَوْمُ: حَدَّثَنَا آبَاؤُنَا أَنَّ عُزَيْرَ بْنَ شَرْخَيَاءَ مَاتَ بِبَابِلَ، وَقَدْ كَانَ بُخْتَنَصَّرُ قَتَلَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِمَّنْ قَرَأَ التَّوْرَاةَ وَكَانَ فِيهِمْ عُزَيْرٌ، وَالْقَوْمُ مَا عَرَفُوا أَنَّهُ يَقْرَأُ التَّوْرَاةَ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ بَعْدَ مِائَةِ عَامٍ جَدَّدَ لَهُمُ التَّوْرَاةَ وَأَمْلَاهَا عَلَيْهِمْ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ لَمْ يَخْرِمْ مِنْهَا حَرْفًا، وَكَانَتِ التَّوْرَاةُ قَدْ دُفِنَتْ فِي مَوْضِعٍ فَأُخْرِجَتْ وَعُورِضَ بِمَا أَمْلَاهُ فَمَا اخْتَلَفَا فِي حَرْفٍ، فَعِنْدَ ذلك قالوا: عزيز ابْنُ اللَّهِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مَشْهُورَةٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَارَّ كَانَ نَبِيًّا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْقَرْيَةِ فَقَالَ وَهْبٌ وَقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وَالرَّبِيعُ: إِيلِيَاءُ وَهِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ الْقَرْيَةُ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا الْأُلُوفُ حَذَرَ الْمَوْتِ. / أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: خَوَى الْبَيْتُ فَهُوَ يَخْوِي خَوَاءً ممدود إِذَا مَا خَلَا مِنْ أَهْلِهِ، وَالْخَوَا: خُلُوُّ الْبَطْنِ مِنَ الطَّعَامِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ خَوَّى» أَيْ خَلَّى مَا بَيْنَ عَضُدَيْهِ وَجَنْبَيْهِ، وَبَطْنِهِ وَفَخْذَيْهِ، وَخَوَّى الْفَرَسُ مَا بَيْنَ قَوَائِمِهِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْبَيْتِ إِذَا انْهَدَمَ: خَوَى لِأَنَّهُ بِتَهَدُّمِهِ يَخْلُو مِنْ أَهْلِهِ، وَكَذَلِكَ: خَوَتِ النُّجُومُ وَأَخْوَتْ إِذَا سَقَطَتْ وَلَمْ تُمْطِرْ لِأَنَّهَا خَلَتْ عَنِ الْمَطَرِ، وَالْعَرْشُ سَقْفُ الْبَيْتِ، وَالْعُرُوشُ الْأَبْنِيَةُ، وَالسُّقُوفُ مِنَ الْخَشَبِ يُقَالُ: عَرَشَ الرَّجُلُ يَعْرِشُ وَيَعْرُشُ إِذَا بَنَى وَسَقَّفَ بِخَشَبٍ، فَقَوْلُهُ: وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أَيْ مُنْهَدِمَةٌ سَاقِطَةٌ خَرَابٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ حِيطَانَهَا كَانَتْ قَائِمَةً وَقَدْ تَهَدَّمَتْ سُقُوفُهَا، ثُمَّ انْقَعَرَتِ الْحِيطَانُ مِنْ قَوَاعِدِهَا فَتَسَاقَطَتْ عَلَى السُّقُوفِ الْمُنْهَدِمَةِ، وَمَعْنَى الْخَاوِيَةِ الْمُنْقَلِعَةِ وَهِيَ الْمُنْقَلِعَةُ مِنْ أُصُولِهَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: 7] وَمَوْضِعٌ آخَرُ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [الْقَمَرِ: 20] وَهَذِهِ الصِّفَةُ فِي خَرَابِ الْمَنَازِلِ مِنْ أَحْسَنِ مَا يُوصَفُ بِهِ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أَيْ خَاوِيَةٌ عَنْ عُرُوشِهَا، جَعَلَ (عَلَى) بِمَعْنَى (عَنْ) كَقَوْلِهِ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ [الْمُطَفِّفِينَ: 2] أَيْ عَنْهُمْ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْقَرْيَةَ خَاوِيَةٌ مَعَ كَوْنِ أَشْجَارِهَا مَعْرُوشَةً فَكَانَ التَّعَجُّبُ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرَ، لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الْقَرْيَةِ الْخَالِيَةِ الْخَاوِيَةِ أَنْ يَبْطُلَ مَا فِيهَا مِنْ عُرُوشِ الْفَاكِهَةِ، فَلَمَّا خَرِبَتِ الْقَرْيَةُ مَعَ بَقَاءِ عُرُوشِهَا كَانَ التَّعَجُّبُ أَكْثَرَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ قَالَ: الْمَارُّ كَانَ كَافِرًا حَمَلَهُ عَلَى الشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ قَالَ كَانَ نَبِيًّا حَمَلَهُ عَلَى الِاسْتِبْعَادِ بِحَسَبِ مَجَارِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ أَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ طَلَبَ زِيَادَةِ الدَّلَائِلِ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [الْبَقَرَةِ: 260] وَقَوْلُهُ أَنَّى أَيْ مِنْ أَيْنَ كَقَوْلِهِ أَنَّى لَكِ هَذَا [آلِ عِمْرَانَ: 37] وَالْمُرَادُ بِإِحْيَاءِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ عِمَارَتُهَا، أَيْ مَتَى يَفْعَلُ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ فَأَحَبَّ اللَّهُ أَنْ يُرِيَهُ فِي نَفْسِهِ، وَفِي إِحْيَاءِ الْقَرْيَةِ آيَةً فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْقِصَّةَ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي إِمَاتَةِ اللَّهِ لَهُ مِائَةَ عَامٍ، مَعَ أن الاستدلال بالإحياء يوم أو بَعْضِ يَوْمٍ حَاصِلٌ. قُلْنَا: لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ بَعْدَ تَرَاخِي الْمُدَّةِ أَبْعَدُ فِي الْعُقُولِ مِنَ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ قُرْبِ الْمُدَّةِ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ بَعْدَ تَرَاخِي الْمُدَّةِ مَا يُشَاهَدُ مِنْهُ، وَيُشَاهِدُ هُوَ مِنْ غيره أعجب.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ بَعَثَهُ فَالْمَعْنَى: ثُمَّ أَحْيَاهُ، وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ يُسَمَّى يَوْمَ الْبَعْثِ لِأَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَأَصْلُهُ مِنْ بَعَثْتُ النَّاقَةَ إِذَا أَقَمْتُهَا مِنْ مَكَانِهَا، وَإِنَّمَا قَالَ ثُمَّ بَعَثَهُ وَلَمْ يَقُلْ: ثُمَّ أَحْيَاهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ بَعَثَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَادَ كَمَا كَانَ أَوَّلًا حَيًّا عَاقِلًا فَهِمًا مُسْتَعِدًّا لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَوْ قَالَ: ثُمَّ أَحْيَاهُ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الْفَوَائِدُ. / أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ كَمْ لَبِثْتَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ الْقِرَاءَةِ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْإِدْغَامِ وَالْبَاقُونَ بِالْإِظْهَارِ، فَمَنْ أَدْغَمَ فَلِقُرْبِ الْمَخْرَجَيْنِ وَمَنْ أَظْهَرَ فَلِتَبَايُنِ الْمَخْرَجَيْنِ وَإِنْ كَانَا قَرِيبَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنَّمَا عُرِفَ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ ذَلِكَ الْخِطَابَ كَانَ مَقْرُونًا بِالْمُعْجِزِ، وَلِأَنَّهُ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ شَاهَدَ مِنْ أَحْوَالِ حِمَارِهِ وَظُهُورِ الْبِلَى فِي عِظَامِهِ مَا عَرَفَ بِهِ أَنَّ تِلْكَ الْخَوَارِقَ لَمْ تَصْدُرْ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا وَكَانَ عَالِمًا بِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُمْكِنُهُ بَعْدَ أَنْ صَارَ حَيًّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مُدَّةَ مَوْتِهِ كَانَتْ طَوِيلَةً أَمْ قَصِيرَةً، فَمَعَ ذَلِكَ لِأَيِّ حِكْمَةٍ سَأَلَهُ عَنْ مِقْدَارِ تِلْكَ الْمُدَّةِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ التَّنْبِيهُ عَلَى حُدُوثِ مَا حَدَثَ مِنَ الْخَوَارِقِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ ذَكَرَ هَذَا التَّرْدِيدَ؟. الْجَوَابُ: أَنَّ الْمَيِّتَ طَالَتْ مُدَّةُ مَوْتِهِ أَوْ قَصُرَتْ فَالْحَالُ وَاحِدَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ فَأَجَابَ بِأَقَلِّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا لِأَنَّهُ الْيَقِينُ، وَفِي التَّفْسِيرِ أَنَّ إِمَاتَتَهُ كَانَتْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَقَالَ يَوْماً ثُمَّ لَمَّا نَظَرَ إِلَى ضَوْءِ الشَّمْسِ بَاقِيًا على رؤوس الْجُدْرَانِ فَقَالَ: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ اللُّبْثُ مِائَةَ عَامٍ، ثُمَّ قَالَ: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أَلَيْسَ هَذَا يَكُونُ كَذِبًا؟. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الظَّنِّ، وَلَا يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِهَذَا الْكَذِبِ، وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ قَالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الْكَهْفِ: 19] عَلَى مَا تَوَهَّمُوهُ وَوَقَعَ عِنْدَهُمْ، وأيضا قال أخوة يوسف عليه السلام: يَا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا [يُوسُفَ: 81] وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْأَمَارَةِ مِنْ إِخْرَاجِ الصُّوَاعِ مِنْ رَحْلِهِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَلْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ اللُّبْثَ كَانَ بِسَبَبِ الْمَوْتِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ بَلْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ اللُّبْثَ بِسَبَبِ الْمَوْتِ. الْجَوَابُ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ اللُّبْثَ كَانَ بِسَبَبِ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَصْلِيَّ فِي إِمَاتَتِهِ ثُمَّ إِحْيَائِهِ بَعْدَ مِائَةِ عَامٍ أَنْ يُشَاهِدَ الْإِحْيَاءَ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ اللُّبْثَ كَانَ بِسَبَبِ الْمَوْتِ، وَهُوَ أَيْضًا قَدْ شَاهَدَ إِمَّا فِي نَفْسِهِ، أَوْ فِي حِمَارِهِ أَحْوَالًا دَالَّةً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ اللُّبْثَ كَانَ بِسَبَبِ الموت.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ، وَقِيلَ: الْعَامُ أَصْلُهُ مِنَ الْعَوْمِ الَّذِي هُوَ السِّبَاحَةُ، لِأَنَّ فِيهِ سَبْحًا طَوِيلًا لَا يُمْكِّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي إِثْبَاتِ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَتَسَنَّهْ واقْتَدِهْ ومالِيَهْ وسُلْطانِيَهْ وما هِيَهْ بَعْدَ أَنِ اتَّفَقُوا عَلَى إِثْبَاتِهَا فِي الْوَقْفِ، فَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ هَذِهِ الْحُرُوفَ كُلَّهَا بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ، وَكَانَ حَمْزَةُ يَحْذِفُهُنَّ فِي الْوَصْلِ وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَحْذِفُ الْهَاءَ فِي الْوَصْلِ مِنْ قوله لَمْ يَتَسَنَّهْ واقْتَدِهْ وَيُثْبِتُهَا فِي الْوَصْلِ فِي الْبَاقِي وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي قَوْلِهِ لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ [الْحَاقَّةِ: 25، 26] أَنَّهَا بِالْهَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا الْحَذْفُ ففيه وجوه أحدهما: أن اشتقاق قوله يَتَسَنَّهْ من السنة وزعم كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ أَصْلَ السَّنَةِ سَنَوَةٌ، قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الِاشْتِقَاقِ مِنْهَا أَسَنَّتِ الْقَوْمَ إِذَا أَصَابَتْهُمِ السَّنَةُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَرِجَالُ مَكَّةَ مِسْنِتُونَ عِجَافُ وَيَقُولُونَ فِي جَمْعِهَا: سَنَوَاتٌ وَفِي الْفِعْلِ مِنْهَا: سَانَيْتُ الرَّجُلَ مُسَانَاةً إِذَا عَامَلَهُ سَنَةً سَنَةً، وَفِي التَّصْغِيرِ: سُنَيَّةٌ إِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ لَمْ يَتَسَنَّهْ لِلسَّكْتِ لَا لِلْأَصْلِ وَثَانِيهَا: نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَصْلُ سَنَةٍ سَنَنَةً، لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِي تَصْغِيرِهَا: سُنَيْنَةٌ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَلِيلًا، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَتَسَنَّهْ أَصْلُهُ لَمْ يَتَسَنَّنْ، ثُمَّ أُسْقِطَتِ النُّونُ الْأَخِيرَةُ ثم أدخل عليها هاء السكت عن الْوَقْفِ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ أَصْلَ لَمْ يَتَقَضَّ الْبَازِيُّ لَمْ يَتَقَضَّضِ الْبَازِيُّ ثُمَّ أُسْقِطَتِ الضَّادُ الْأَخِيرَةُ، ثُمَّ أُدْخِلَ عَلَيْهِ هَاءُ السَّكْتِ عِنْدَ الْوَقْفِ، فَيُقَالُ: لَمْ يَتَقَضَّهْ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ لَمْ يَتَسَنَّهْ مَأْخُوذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الْحِجْرِ: 26] وَالسِّنُّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الصَّبُّ، هَكَذَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، فَقَوْلُهُ: لَمْ يَتَسَنَّنْ. أَيِ الشَّرَابُ بَقِيَ بِحَالِهِ لَمْ يَنْضُبْ، وَقَدْ أَتَى عَلَيْهِ مِائَةُ عَامٍ، ثُمَّ أنه حذفت النون الأخيرة وأبدلت بها السَّكْتِ عِنْدَ الْوَقْفِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ لِبَيَانِ الْحَذْفِ، وَأَمَّا بَيَانُ الْإِثْبَاتِ فَهُوَ أَنَّ لَمْ يَتَسَنَّهْ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّنَةِ، وَالسَّنَةُ أَصْلُهَا سَنْهَةٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقَالُ فِي تَصْغِيرِهَا: سُنَيْهَةٌ، وَيُقَالُ: سَانَهَتِ النَّخْلَةُ بِمَعْنَى عَاوَمَتْ، وَآجَرْتُ الدَّارَ مُسَانَهَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْهَاءُ فِي لَمْ يَتَسَنَّهْ لَامُ الْفِعْلِ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يُحْذَفِ الْبَتَّةَ لَا عِنْدَ الْوَصْلِ وَلَا عِنْدَ الْوَقْفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَتَسَنَّهْ أَيْ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَأَصْلُ مَعْنَى لَمْ يَتَسَنَّهْ أَيْ لَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ السُّنُونَ لِأَنَّ مَرَّ السِّنِينَ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ فَكَأَنَّهَا لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ، وَنَقَلْنَا عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ: لَمْ يَتَسَنَّنْ أَيْ لَمْ يَنْضُبِ الشَّرَابُ، بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ: / السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَذْكُرَ عَقِيبَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَقَوْلُهُ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَبِثَ مِائَةَ عَامٍ بَلْ يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ لَبِثَ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ الشُّبْهَةُ أَقْوَى مَعَ عِلْمِ الْإِنْسَانِ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّهَا شُبْهَةٌ كَانَ سَمَاعُ الدَّلِيلِ الْمُزِيلِ لِتِلْكَ الشُّبْهَةِ آكَدَ وَوُقُوعُهُ فِي الْعَمَلِ أَكْمَلَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ قَالَ: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُؤَكِّدُ قَوْلَكَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَحِينَئِذٍ يَعْظُمُ اشْتِيَاقُكَ إِلَى الدَّلِيلِ الَّذِي يَكْشِفُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ فَرَأَى الْحِمَارَ صَارَ رَمِيمًا وَعِظَامًا نَخِرَةً فَعَظُمَ تَعَجُّبُهُ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ يُسْرِعُ التَّغَيُّرُ فِيهِمَا، وَالْحِمَارُ رُبَّمَا بَقِيَ دَهْرًا طَوِيلًا وَزَمَانًا عَظِيمًا، فَرَأَى مَا لَا يَبْقَى بَاقِيًا، وَهُوَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ، وَمَا يَبْقَى غَيْرَ بَاقٍ وَهُوَ الْعِظَامُ، فَعَظُمَ تَعَجُّبُهُ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَمَكُّنُ وُقُوعِ هَذِهِ الْحُجَّةِ فِي عَقْلِهِ وَفِي قَلْبِهِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، وَقَوْلُهُ لَمْ يَتَسَنَّهْ رَاجِعٌ إِلَى الشَّرَابِ لَا إِلَى الطَّعَامِ. وَالْجَوَابُ: كَمَا يُوصَفُ الشَّرَابُ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ، كَذَلِكَ يُوصَفُ الطَّعَامُ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الطَّعَامُ لَطِيفًا يَتَسَارَعُ الْفَسَادُ إِلَيْهِ، وَالْمَرْوِيُّ أَنَّ طَعَامَهُ كَانَ التِّينَ وَالْعِنَبَ، وَشَرَابُهُ كَانَ عَصِيرَ الْعِنَبِ وَاللَّبَنَ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَهَذَا شَرَابُكَ لَمْ يَتَسَنَّنْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ عرف طُولَ مُدَّةَ مَوْتِهِ بِأَنْ شَاهَدَ عِظَامَ حِمَارِهِ نَخِرَةً رَمِيمَةً، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَدُلُّ بِذَاتِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا شَاهَدَ انْقِلَابَ الْعِظَامِ النَّخِرَةِ حَيًّا فِي الْحَالِ عَلِمَ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى ذَلِكَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمِيتَ الْحِمَارَ فِي الْحَالِ وَيَجْعَلَ عِظَامَهُ رَمِيمَةً نَخِرَةً فِي الْحَالِ، وَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِعِظَامِ الْحِمَارِ عَلَى طُولِ مُدَّةِ الْمَوْتِ، بَلِ انْقِلَابُ عِظَامِ الْحِمَارِ إِلَى الْحَيَاةِ مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ مَا سُمِعَ مِنْ قَوْلِهِ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ قَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَى قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا أُحْيِيَ بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الْبَعْثِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ آيَةً لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَاهُ شَابًّا أَسْوَدَ الرَّأْسِ، وَبَنُو بَنِيهِ شُيُوخٌ بيض اللحى والرؤوس. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّشْرِيفُ وَالتَّعْظِيمُ وَالْوَعْدُ بِالدَّرَجَةِ الْعَالِيَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِمَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ وَالشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: مَا فَائِدَةُ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ وَلِنَجْعَلَكَ قُلْنَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: دَخَلَتِ الْوَاوُ لِأَنَّهُ فَعَلَ بَعْدَهَا مُضْمَرٌ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً، كَانَ النَّظَرُ إِلَى الْحِمَارِ شَرْطًا، وَجَعْلُهُ آيَةً جَزَاءً، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَطْلُوبٍ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، أَمَّا لَمَّا قَالَ: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً كَانَ الْمَعْنَى: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً فَعَلْنَا مَا فَعَلْنَا مِنَ الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ [الْأَنْعَامِ: 105] وَالْمَعْنَى: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ صَرَّفْنَا الْآيَاتِ وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الْأَنْعَامِ: 75] أَيْ وَنُرِيَهُ الْمَلَكُوتَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِظَامِ عِظَامُ حِمَارِهِ، فَإِنَّ اللَّامَ فِيهِ بَدَلُ الْكِنَايَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ أَرَادُوا بِهِ عِظَامَ هَذَا الرَّجُلِ نَفْسِهِ، قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى أَحْيَا رَأْسَهُ وَعَيْنَيْهِ، وَكَانَتْ بَقِيَّةُ بَدَنِهِ عِظَامًا نَخِرَةً، فَكَانَ يَنْظُرُ إِلَى أَجْزَاءِ عِظَامِ نَفْسِهِ فَرَآهَا تَجْتَمِعُ وَيَنْضَمُّ الْبَعْضُ إِلَى الْبَعْضِ، وَكَانَ يَرَى حِمَارَهُ وَاقِفًا كَمَا رَبَطَهُ حِينَ كَانَ حَيًّا لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ مِائَةَ عَامٍ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: وَانْظُرْ إِلَى عِظَامِكَ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ وَابْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ عِنْدِي ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ إِنَّمَا يَلِيقُ

بِمَنْ لَا يَرَى أَثَرَ التَّغَيُّرِ فِي نَفْسِهِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ كَانَ نَائِمًا فِي بَعْضِ يَوْمٍ، أَمَّا مَنْ شَاهَدَ أَجْزَاءَ بَدَنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَعِظَامَ بَدَنَةٍ رَمِيمَةٍ نَخِرَةٍ، فَلَا يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ القول وثانيها: أنه تعالى حكي عنه أن خَاطَبَهُ وَأَجَابَ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُجِيبُ هُوَ الَّذِي أَمَاتَهُ اللَّهُ، فَإِذَا كَانَتِ الْإِمَاتَةُ رَاجِعَةً إِلَى كُلِّهِ، فَالْمُجِيبُ أَيْضًا الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةَ الشَّخْصِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلِهِ فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ أَحْيَاهَا وَبَعَثَهَا. أَمَّا قَوْلُهُ كَيْفَ نُنْشِرُهَا فَالْمُرَادُ يُحْيِيهَا، يُقَالُ: أَنْشَرَ اللَّهُ الْمَيِّتَ وَنَشَرَهُ، قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ الْعِظَامَ بِالْإِحْيَاءِ فِي قَوْلِهِ تعالى: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا [يس: 78، 79] وَقُرِئَ نَنْشُرُهَا بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الشِّينِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: كَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى النَّشْرِ بَعْدَ الطَّيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ بِالْحَيَاةِ يَكُونُ الِانْبِسَاطُ فِي التَّصَرُّفِ، فَهُوَ كَأَنَّهُ مَطْوِيٌّ مَا دَامَ مَيِّتًا، فَإِذَا عَادَ صَارَ كَأَنَّهُ نُشِرَ بَعْدَ الطَّيِّ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ نُنْشِزُها بِالزَّايِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ، وَالْمَعْنَى نَرْفَعُ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَإِنْشَازُ الشَّيْءِ رَفْعُهُ، يُقَالُ أَنَشَزْتُهُ فَنَشَزَ، أَيْ رَفَعْتُهُ فَارْتَفَعَ، وَيُقَالُ لِمَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ نَشَزَ، وَمِنْهُ نُشُوزُ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ أَنْ تَرْتَفِعَ عَنْ حَدِّ رِضَا الزَّوْجِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: كَيْفَ نرفعها من الأرض فتردها إِلَى أَمَاكِنِهَا مِنَ الْجَسَدِ وَنُرَكِّبَ بَعْضَهَا عَلَى الْبَعْضِ، وَرُوِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ نُنْشِزُها بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الشِّينِ وَالزَّايِ وَوَجْهُهُ مَا قَالَ الْأَخْفَشُ أَنَّهُ يُقَالُ: نَشَزْتُهُ وَأَنْشَزْتُهُ أَيْ رَفَعْتُهُ، وَالْمَعْنَى مِنْ جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ أَنَّهُ تَعَالَى رَكَّبَ الْعِظَامَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ حَتَّى اتَّصَلَتْ عَلَى نِظَامٍ، ثُمَّ بَسَطَ اللَّحْمَ عَلَيْهَا، وَنَشَرَ الْعُرُوقَ وَالْأَعْصَابَ وَاللُّحُومَ وَالْجُلُودَ عَلَيْهَا، وَرَفَعَ بَعْضَهُ إِلَى جَنْبِ الْبَعْضِ، فَيَكُونُ كُلُّ الْقِرَاءَاتِ دَاخِلًا فِي ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها/ وَالْمَعْنَى فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ وُقُوعُ مَا كَانَ يَسْتَبْعِدُ وُقُوعَهُ وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فَاعِلُ تَبَيَّنَ لَهُ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَحُذِفَ الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدِي فِيهِ تَعَسُّفٌ، بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَمْرُ الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاهَدَةِ قَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَتَأْوِيلُهُ: أَنِّي قَدْ عَلِمْتُ مُشَاهَدَةَ مَا كُنْتُ أَعْلَمُهُ قَبْلَ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ قالَ أَعْلَمُ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عِنْدَ التَّبَيُّنِ أَمَرَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ، قَالَ الْأَعْشَى: وَدِّعْ أُمَامَةَ إِنَّ الرَّكْبَ قَدْ رَحَلُوا وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْأَعْمَشِ: قِيلَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [الْبَقَرَةِ: 260] ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 260] قال القاضي: والقراءة الأولى وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ إِنَّمَا يَحْسُنُ عِنْدَ عدم المأمور به، وهاهنا الْعِلْمُ حَاصِلٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ فَكَانَ الْأَمْرُ بِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرَ جَائِزٍ، أَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْ أَنَّهُ حَصَلَ كَانَ جائزاً.

[سورة البقرة (2) : آية 260]

[سورة البقرة (2) : آية 260] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) الْقِصَّةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ أَيْضًا دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ البعث: في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي عَامِلِ إِذْ قَوْلَانِ قَالَ الزَّجَّاجُ التَّقْدِيرُ: اذْكُرْ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ، وَقَالَ غَيْرُهُ إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ أَلَمْ تَرَ إِذْ حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ، وأ لم تَرَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تحيي الْمَوْتَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُسَمِّ عُزَيْرًا حِينَ قَالَ: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ [البقرة: 259] وسمى هاهنا إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَحْثِ فِي كِلْتَا الْقِصَّتَيْنِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَالسَّبَبُ أَنَّ عُزَيْرًا لم يحفظ الأدب، بل قَالَ: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها وَإِبْرَاهِيمُ حَفِظَ الْأَدَبَ فَإِنَّهُ أَثْنَى عَلَى اللَّهِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ رَبِّ ثُمَّ دَعَا حَيْثُ قَالَ: أَرِنِي وَأَيْضًا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا رَاعَى الْأَدَبَ جَعَلَ الْإِحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ فِي الطُّيُورِ، وَعُزَيْرًا لَمَّا لَمْ يُرَاعِ الْأَدَبَ جَعَلَ الْإِحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ فِي نَفْسِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ سُؤَالِ إِبْرَاهِيمَ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ وَالضِّحَاكُ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: إِنَّهُ رَأَى جِيفَةً مَطْرُوحَةً فِي شَطِّ الْبَحْرِ فَإِذَا مَدَّ الْبَحْرُ أَكَلَ مِنْهَا دَوَابُّ الْبَحْرِ، وَإِذَا جَزَرَ الْبَحْرُ جَاءَتِ السِّبَاعُ فَأَكَلَتْ، وَإِذَا ذَهَبَتِ السِّبَاعُ جَاءَتِ الطُّيُورُ فَأَكَلَتْ وَطَارَتْ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تَجْمَعُ أَجْزَاءَ الْحَيَوَانِ مِنْ بُطُونِ السِّبَاعِ وَالطُّيُورِ ودواب البحر، فقيل: أو لم تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ السُّؤَالِ أَنْ يَصِيرَ الْعِلْمُ بِالِاسْتِدْلَالِ ضَرُورِيًّا. الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالْقَاضِي: سَبَبُ السُّؤَالِ أَنَّهُ مَعَ مُنَاظَرَتِهِ مَعَ نَمْرُوذَ لَمَّا قَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ فَأَطْلَقَ مَحْبُوسًا وَقَتَلَ رَجُلًا قَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَيْسَ هَذَا بِإِحْيَاءٍ وَإِمَاتَةٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى لِتَنْكَشِفَ هَذِهِ المسألة عند نمروذ وأتباعه، وروي عن نمرود أَنَّهُ قَالَ: قُلْ لِرَبِّكَ حَتَّى يُحْيِيَ وَإِلَّا قَتَلْتُكَ، فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِنَجَاتِي مِنَ الْقَتْلِ أَوْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِقُوَّةِ حُجَّتِي وَبُرْهَانِي، وَأَنَّ عُدُولِي مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا مَا كَانَ بِسَبَبِ ضَعْفِ تِلْكَ الْحُجَّةِ، بَلْ كَانَ بِسَبَبِ جَهْلِ الْمُسْتَمِعِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ إِنِّي مُتَّخِذٌ بَشَرًا خَلِيلًا: فَاسْتَعْظَمَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ إِلَهِي مَا عَلَامَاتُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: عَلَامَتُهُ أَنَّهُ يُحْيِي الْمَيِّتَ بِدُعَائِهِ، فَلَمَّا عَظُمَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دَرَجَاتِ الْعُبُودِيَّةِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ، خَطَرَ بِبَالِهِ: إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَكُونَ ذَلِكَ الْخَلِيلَ، فَسَأَلَ إِحْيَاءَ الْمَيِّتِ فَقَالَ اللَّهُ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي عَلَى أَنَّنِي خليل لك.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما سأل ذلك لقومه وذلك أَتْبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا يُطَالِبُونَهُمْ بِأَشْيَاءَ تَارَةً بَاطِلَةً وَتَارَةً حَقَّةً، كَقَوْلِهِمْ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الْأَعْرَافِ: 138] فَسَأَلَ إِبْرَاهِيمُ ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُشَاهِدَهُ فَيَزُولَ الْإِنْكَارُ عَنْ قُلُوبِهِمْ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: مَا خَطَرَ بِبَالِي فَقُلْتُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْأُمَّةَ كَمَا يَحْتَاجُونَ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّ الرَّسُولَ صَادِقٌ فِي ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ إِلَى مُعْجِزٍ يَظْهَرُ عَلَى يَدِهِ فَكَذَلِكَ الرَّسُولُ عِنْدَ وُصُولِ الْمَلَكِ إِلَيْهِ وَإِخْبَارِهِ إِيَّاهُ بِأَنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ رَسُولًا يَحْتَاجُ إِلَى مُعْجِزٍ يَظْهَرُ عَلَى يَدِ ذَلِكَ الْمَلَكِ لِيَعْلَمَ الرَّسُولُ أَنَّ ذَلِكَ الْوَاصِلَ مَلَكٌ كَرِيمٌ لَا شَيْطَانٌ رَجِيمٌ وَكَذَا إِذَا سَمِعَ الْمَلَكُ كَلَامَ اللَّهِ احْتَاجَ إِلَى مُعْجِزٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ/ الْكَلَامَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى لَا كَلَامُ غَيْرِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا جَاءَ الْمَلَكُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَخْبَرَهُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَكَ رَسُولًا إِلَى الْخَلْقِ طَلَبَ الْمُعْجِزَ فَقَالَ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي عَلَى أَنَّ الْآتِيَ مَلَكٌ كَرِيمٌ لَا شَيْطَانٌ رَجِيمٌ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: وَهُوَ عَلَى لِسَانِ أَهْلِ التَّصَوُّفِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَوْتَى الْقُلُوبُ الْمَحْجُوبَةُ عَنْ أَنْوَارِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّجَلِّي، وَالْإِحْيَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ حُصُولِ ذَلِكَ التَّجَلِّي وَالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ فَقَوْلُهُ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى طَلَبٌ لِذَلِكَ التَّجَلِّي وَالْمُكَاشَفَاتِ فَقَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى أُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ الْغَيْبِ، وَلَكِنْ أَطْلُبُ حُصُولَهَا لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِسَبَبِ حُصُولِ ذَلِكَ التَّجَلِّي، وَعَلَى قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ: الْعِلْمُ الِاسْتِدْلَالِيُّ مِمَّا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الشُّبُهَاتُ وَالشُّكُوكُ فَطَلَبَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا يَسْتَقِرُّ الْقَلْبُ مَعَهُ اسْتِقْرَارًا لَا يَتَخَالَجُهُ شَيْءٌ مِنَ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: لَعَلَّهُ طَالَعَ فِي الصُّحُفِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَنَّهُ يُشَرِّفُ وَلَدَهُ عِيسَى بِأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى بِدُعَائِهِ فَطَلَبَ ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي عَلَى أَنِّي لَسْتُ أَقَلَّ مَنْزِلَةً فِي حَضْرَتِكَ مِنْ وَلَدِي عِيسَى. الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ بِذَبْحِ الْوَلَدِ فَسَارَعَ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَرْتَنِي أَنْ أَجْعَلَ ذَا رُوحِ بِلَا رُوحٍ فَفَعَلْتُ، وَأَنَا أَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ غَيْرَ ذِي رُوحٍ رُوحَانِيًّا، فَقَالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي عَلَى أَنَّكَ اتَّخَذْتَنِي خَلِيلًا. الْوَجْهُ التَّاسِعُ: نَظَرَ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَلْبِهِ فَرَآهُ مَيِّتًا بِحُبِّ وَلَدِهِ فَاسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ وَقَالَ: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى أَيِ الْقَلْبَ إِذَا مَاتَ بِسَبَبِ الْغَفْلَةِ كَيْفَ يَكُونُ إِحْيَاؤُهُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى. الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ يُشَاهِدُونَ الْحَشْرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَرِنِي ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، فقال: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي عَلَى أَنْ خَصَصْتَنِي فِي الدُّنْيَا بِمَزِيدِ هَذَا التَّشْرِيفِ. الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: لَمْ يَكُنْ قَصْدُ إِبْرَاهِيمَ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى، بَلْ كَانَ قَصْدُهُ سَمَاعَ الْكَلَامِ بِلَا وَاسِطَةٍ. الثَّانِيَ عَشَرَ: مَا قَالَهُ قَوْمٌ مِنَ الْجُهَّالِ، وَهُوَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ شَاكًّا فِي مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ وَفِي مَعْرِفَةِ الْمَعَادِ، أَمَّا شَكُّهُ في معرفة المبدأ فقوله هذا رَبِّي وَقَوْلُهُ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الْأَنْعَامِ: 77] وَأَمَّا شَكُّهُ فِي الْمَعَادِ فَهُوَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ سَخِيفٌ، بَلْ كُفْرٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى كَافِرٌ، فَمَنْ نَسَبَ النَّبِيَّ الْمَعْصُومَ إِلَى ذَلِكَ فَقَدْ كَفَّرَ النَّبِيَّ الْمَعْصُومَ، فَكَانَ هَذَا بِالْكُفْرِ أَوْلَى،

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ ذَلِكَ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي وَلَوْ كَانَ شَاكًّا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي وَذَلِكَ كَلَامُ عَارِفٍ طَالِبٍ لِمَزِيدِ الْيَقِينِ، وَمِنْهَا أَنَّ الشَّكَّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى يُوجِبُ الشَّكَّ فِي النُّبُوَّةِ فَكَيْفَ يَعْرِفُ نُبُوَّةَ نَفْسِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ وَالثَّانِي: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ أَنْ يُجِيبَ بِمَا أَجَابَ بِهِ لِيَعْلَمَ السَّامِعُونَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُؤْمِنًا بِذَلِكَ عَارِفًا بِهِ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ شَيْءٌ آخَرُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّامَ فِي لِيَطْمَئِنَّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: سَأَلْتُ ذَلِكَ إِرَادَةَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ، قَالُوا. وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ الْخَوَاطِرُ الَّتِي تَعْرِضُ لِلْمُسْتَدِلِّ وَإِلَّا فَالْيَقِينُ حَاصِلٌ عَلَى كلتا الحالتين. وهاهنا بَحْثٌ عَقْلِيٌّ وَهُوَ أَنَّ التَّفْسِيرَ مُفَرَّعٌ عَلَى أَنَّ الْعُلُومَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ، وَفِيهِ سُؤَالٌ صَعْبٌ، وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ حَالَ حُصُولِ الْعِلْمِ لَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُجَوِّزًا لِنَقِيضِهِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ جَوَّزَ نَقِيضَهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَذَاكَ ظَنٌّ قَوِيٌّ لَا اعْتِقَادٌ جَازِمٌ، وَإِنْ لَمْ يُجَوِّزْ نَقِيضَهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ امْتَنَعَ وُقُوعُ التَّفَاوُتِ فِي الْعُلُومِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِذَا قُلْنَا الْمَطْلُوبُ هُوَ حُصُولُ الطُّمَأْنِينَةِ فِي اعْتِقَادِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْإِحْيَاءِ، أَمَّا لَوْ قُلْنَا: الْمَقْصُودُ شَيْءٌ آخَرُ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَخَذَ طَاوُسًا وَنَسْرًا وَغُرَابًا وَدِيكًا، وَفِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَابْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: حمامة بدل النسر، وهاهنا أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا خَصَّ الطَّيْرَ مِنْ جُمْلَةِ الْحَيَوَانَاتِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ ذَكَرُوا فِيهِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الطَّيَرَانَ فِي السَّمَاءِ، وَالِارْتِفَاعَ فِي الْهَوَاءِ، وَالْخَلِيلُ كَانَتْ هِمَّتُهُ الْعُلُوَّ وَالْوُصُولَ إِلَى الْمَلَكُوتِ فَجُعِلَتْ مُعْجِزَتُهُ مُشَاكِلَةً لِهِمَّتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَبَحَ الطُّيُورَ وَجَعَلَهَا قِطْعَةً قِطْعَةً، وَوَضَعَ عَلَى رَأْسِ كُلِّ جَبَلٍ قِطَعًا مُخْتَلِطَةً، ثُمَّ دَعَاهَا طَارَ كُلُّ جُزْءٍ إِلَى مُشَاكِلِهِ، فَقِيلَ لَهُ كَمَا طَارَ كُلُّ جُزْءٍ إِلَى مُشَاكِلِهِ كَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَطِيرُ كُلُّ جُزْءٍ إِلَى مُشَاكِلِهِ حَتَّى تتألف الأبدان وتتصل بها الْأَرْوَاحُ، وَيُقَرِّرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ [الْقَمَرِ: 7] . الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ كَانَ حَاصِلًا بِحَيَوَانٍ وَاحِدٍ، فَلِمَ أَمَرَ بِأَخْذِ أَرْبَعِ حَيَوَانَاتٍ، وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّكَ سَأَلْتَ وَاحِدًا عَلَى قَدْرِ الْعُبُودِيَّةِ وَأَنَا أُعْطِي أَرْبَعًا عَلَى قَدْرِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالثَّانِي: أَنَّ الطُّيُورَ الْأَرْبَعَةَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي مِنْهَا تَرْكِيبُ أَبْدَانِ الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ وَالْإِشَارَةُ فِيهِ أَنَّكَ مَا لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ هَذِهِ الطُّيُورِ الْأَرْبَعَةِ لَا يَقْدِرُ طَيْرُ الرُّوحِ عَلَى الِارْتِفَاعِ إِلَى هَوَاءِ الرُّبُوبِيَّةِ وَصَفَاءِ عَالَمِ الْقُدْسِ.

الْبَحْثُ الثَّالِثُ: إِنَّمَا خَصَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ لِأَنَّ الطَّاوُسَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ حُبِّ/ الزِّينَةِ وَالْجَاهِ وَالتَّرَفُّعِ، قَالَ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ [آلِ عِمْرَانَ: 14] وَالنَّسْرُ إِشَارَةٌ إِلَى شَدَّةِ الشَّغَفِ بِالْأَكْلِ وَالدِّيكُ إِشَارَةٌ إِلَى شِدَّةِ الشَّغَفِ بِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ مِنَ الْفَرْجِ وَالْغُرَابُ إِشَارَةٌ إِلَى شِدَّةِ الْحِرْصِ عَلَى الْجَمْعِ وَالطَّلَبِ، فَإِنَّ مِنْ حِرْصِ الْغُرَابِ أَنَّهُ يَطِيرُ بِاللَّيْلِ وَيَخْرُجُ بِالنَّهَارِ فِي غَايَةِ الْبَرْدِ لِلطَّلَبِ، وَالْإِشَارَةُ فِيهِ إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَسْعَ فِي قَتْلِ شَهْوَةِ النَّفْسِ وَالْفَرْجِ وَفِي إِبْطَالِ الْحِرْصِ وَإِبْطَالِ التَّزَيُّنِ لِلْخَلْقِ لَمْ يَجِدْ فِي قَلْبِهِ رَوْحًا وَرَاحَةً مِنْ نُورِ جَلَالِ اللَّهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ بِكَسْرِ الصَّادِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الصَّادِ، أَمَّا الضَّمُّ فَفِيهِ قولان الأول: أن مِنْ صِرْتُ الشَّيْءَ أَصُورُهُ إِذَا أَمَلْتَهُ إِلَيْهِ وَرَجُلٌ أَصْوَرُ أَيْ مَائِلُ الْعُنُقِ، وَيُقَالُ: صَارَ فُلَانٌ إِلَى كَذَا إِذَا قَالَ بِهِ وَمَالَ إِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَحْصُلُ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَمِلْهُنَّ إِلَيْكَ وَقَطِّعْهُنَّ، ثُمَّ اجعل على كل جبل منهن جزأ، فَحَذَفَ الْجُمْلَةَ الَّتِي هِيَ قَطِّعْهُنَّ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ عَلَى مَعْنَى: فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ لِأَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً يَدُلُّ عَلَى التَّقْطِيعِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي أَمْرِهِ بِضَمِّهَا إِلَى نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ يَأْخُذَهَا؟. قُلْنَا: الْفَائِدَةُ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِيهَا وَيَعْرِفَ أَشْكَالَهَا وَهَيْآتِهَا لِئَلَّا تَلْتَبِسَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ، وَلَا يَتَوَهَّمَ أَنَّهَا غَيْرُ تِلْكَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ مَعْنَاهُ قَطِّعْهُنَّ، يُقَالُ: صَارَ الشَّيْءَ يَصُورُهُ صَوْرًا، إِذَا قَطَعَهُ، قَالَ رُؤْبَةُ يَصِفُ خَصْمًا أَلَدَّ: صِرْنَاهُ بِالْحُكْمِ، أَيْ قَطَعْنَاهُ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِضْمَارِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ بِكَسْرِ الصَّادِ، فَقَدْ فَسَّرَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ أَيْضًا تَارَةً بِالْإِمَالَةِ، وَأُخْرَى بِالتَّقْطِيعِ، أَمَّا الْإِمَالَةُ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: هَذِهِ لُغَةُ هُذَيْلٍ وَسُلَيْمٍ: صَارَهُ يَصِيرُهُ إِذَا أَمَاتَهُ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ وغيره فصرهن بِكَسْرِ الصَّادِ: قَطِّعْهُنَّ. يُقَالُ: صَارَهُ يَصِيرُهُ إِذَا قَطَعَهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: أَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ مَقْلُوبٌ مِنْ صَرَى يَصْرِي إِذَا قَطَعَ، فَقُدِّمَتْ يَاؤُهَا، كَمَا قَالُوا: عَثَا وَعَاثَ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ مُسْتَقِلٌّ بِذَاتِهِ، فَلَا يَجُوزُ جَعْلُ أَحَدِهِمَا فَرْعًا عَنِ الْآخَرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ: قَطِّعْهُنَّ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَطَعَ أَعْضَاءَهَا وَلُحُومَهَا وَرِيشَهَا وَدِمَاءَهَا، وَخَلَطَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، غَيْرَ أَبِي مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا طَلَبَ إِحْيَاءَ الْمَيِّتِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِثَالًا قَرَّبَ بِهِ الْأَمْرَ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِصُرْهُنَّ إِلَيْكَ الْإِمَالَةُ وَالتَّمْرِينُ عَلَى الْإِجَابَةِ، أَيْ فَعَوَّدَ الطُّيُورَ الْأَرْبَعَةَ أَنْ تَصِيرَ بِحَيْثُ إِذَا دَعَوْتَهَا أَجَابَتْكَ وَأَتَتْكَ، فَإِذَا صَارَتْ كَذَلِكَ، فَاجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ وَاحِدًا حَالَ حَيَاتِهِ، ثُمَّ ادْعُهُنَّ/ يَأْتِينَكَ سَعْيًا، وَالْغَرَضُ مِنْهُ ذِكْرُ مِثَالٍ مَحْسُوسٍ فِي عَوْدِ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَادِ عَلَى سَبِيلِ السُّهُولَةِ وَأَنْكَرَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ: فَقَطِّعْهُنَّ. وَاحْتَجَّ على بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي اللُّغَةِ فِي قَوْلِهِ فَصُرْهُنَّ أَمِلْهُنَّ وَأَمَّا التَّقْطِيعُ وَالذَّبْحُ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَكَانَ إِدْرَاجُهُ فِي الْآيَةِ إِلْحَاقًا لِزِيَادَةٍ بِالْآيَةِ لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِصُرْهُنَّ قَطِّعْهُنَّ لَمْ يَقُلْ إليك،

فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَعَدَّى بِإِلَى وَإِنَّمَا يَتَعَدَّى بِهَذَا الْحَرْفِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْإِمَالَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَخُذْ إِلَيْكَ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ. قُلْنَا: الْتِزَامُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مُلْجِئٌ إِلَى الْتِزَامِهِ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ ادْعُهُنَّ عَائِدٌ إِلَيْهَا لَا إِلَى أَجْزَائِهَا، وَإِذَا كَانَتِ الْأَجْزَاءُ مُتَفَرِّقَةً مُتَفَاصِلَةً وَكَانَ الْمَوْضُوعُ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ بَعْضَ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ لَا إِلَيْهَا، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَأَيْضًا الضَّمِيرُ فِي قوله يَأْتِينَكَ سَعْياً عائدا إلى أجزائها لَا إِلَى أَجْزَائِهَا، وَعَلَى قَوْلِكُمْ إِذَا سَعَى بَعْضُ الْأَجْزَاءِ إِلَى بَعْضٍ كَانَ الضَّمِيرُ فِي يَأْتِينَكَ عَائِدًا إِلَى أَجْزَائِهَا لَا إِلَيْهَا، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْمَشْهُورِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ أَبِي مُسْلِمٍ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ ذَبْحُ تِلْكَ الطُّيُورِ وَتَقْطِيعُ أَجْزَائِهَا، فَيَكُونُ إِنْكَارُ ذَلِكَ إِنْكَارًا لِلْإِجْمَاعِ وَالثَّانِي: أَنَّ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَكُونُ لَهُ فِيهِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْغَيْرِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَرَادَ أَنْ يُرِيَهُ اللَّهُ كَيْفَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ لَا تَحْصُلُ الْإِجَابَةُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً يَدُلُّ عَلَى أن تلك الطيور جعلت جزأ جزأ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّهُ أَضَافَ الْجُزْءَ إِلَى الْأَرْبَعَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْجُزْءِ هُوَ الْوَاحِدُ مِنْ تِلْكَ الْأَرْبَعَةِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَا ذَكَرْتَهُ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا إِلَّا أَنَّ حَمْلَ الْجُزْءِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَظْهَرُ وَالتَّقْدِيرُ: فَاجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا أَوْ بَعْضًا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ظَاهِرُ قَوْلِهِ عَلى كُلِّ جَبَلٍ جَمِيعُ جِبَالِ الدُّنْيَا، فَذَهَبَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَاكُ إِلَى الْعُمُومِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَرِّقْهَا عَلَى كُلِّ جَبَلٍ يُمْكِنُكَ التَّفْرِقَةُ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ أَرْبَعَةُ جِبَالٍ عَلَى حَسَبِ الطُّيُورِ الْأَرْبَعَةِ وَعَلَى حَسَبِ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعَةِ أَيْضًا أَعْنِي الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ وَالشَّمَالَ وَالْجَنُوبَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ: سَبْعَةٌ مِنَ الْجِبَالِ لِأَنَّ الْمُرَادَ كُلُّ جَبَلٍ يُشَاهِدُهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى يَصِحَّ مِنْهُ دُعَاءُ الطَّيْرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْمُشَاهَدَةِ، وَالْجِبَالُ الَّتِي كَانَ يُشَاهِدُهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَبْعَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ بِذَبْحِهَا وَنَتْفِ رِيشِهَا وَتَقْطِيعِهَا جُزْءًا جُزْءًا وَخَلْطِ دِمَائِهَا ولحومها، وأن يمسك رؤوسها، ثُمَّ أُمِرَ بِأَنْ يَجْعَلَ أَجْزَاءَهَا عَلَى الْجِبَالِ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ رُبْعًا مِنْ كُلِّ طَائِرٍ، ثُمَّ يَصِيحُ بِهَا: تَعَالَيْنَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ أَخَذَ كُلُّ جُزْءٍ يَطِيرُ إِلَى الْآخَرِ حَتَّى تَكَامَلَتِ الْجُثَثُ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ كُلُّ جُثَّةٍ إِلَى رَأْسِهَا وَانْضَمَّ كُلُّ رَأْسٍ إِلَى جُثَّتِهِ، وَصَارَ الْكُلُّ أَحْيَاءً بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَالْفَضْلِ جُزْءاً مُثَقَّلًا مَهْمُوزًا حَيْثُ وَقَعَ، وَالْبَاقُونَ مُهَمَّزًا مُخَفَّفًا وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً فَقِيلَ عَدْوًا وَمَشْيًا عَلَى أَرْجُلِهِنَّ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْحُجَّةِ، وَقِيلَ طَيَرَانًا وَلَيْسَ يَصِحُّ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلطَّيْرِ إِذَا طَارَ: سَعَى، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ السَّعْيَ هُوَ الِاشْتِدَادُ فِي الْحَرَكَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْحَرَكَةُ طَيَرَانًا فَالسَّعْيُ فِيهَا هُوَ الِاشْتِدَادُ فِي تِلْكَ الْحَرَكَةِ. وَقَدِ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْبِنْيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْحَيَاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ كُلَّ

[سورة البقرة (2) : آية 261]

وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ حَيًّا فَاهِمًا لِلنِّدَاءِ، قَادِرًا عَلَى السَّعْيِ وَالْعَدْوِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْبِنْيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْحَيَاةِ قَالَ الْقَاضِي: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْبِنْيَةِ مِنْ حَيْثُ أَوْجَبَ التَّقْطِيعُ بُطْلَانَ حَيَاتِهَا. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ حُصُولَ الْمُقَارَنَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْمُقَارَنَةِ، أَمَّا الِانْفِكَاكُ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُقَارَنَةَ حَيْثُ حَصَلَتْ مَا كَانَتْ وَاجِبَةً، وَلَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى حُصُولِ فَهْمِ النِّدَاءِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى السَّعْيِ لِتِلْكَ الْأَجْزَاءِ حَالَ تَفَرُّقِهَا، كَانَ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى أَنَّ الْبِنْيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْحَيَاةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ غَالِبٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ حَكِيمٌ أَيْ عَلِيمٌ بعواقب الأمور وغايات الأشياء. [سورة البقرة (2) : آية 261] مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) [الحكم الْأَوَّلُ فِي بَيَانِ التَّكَالِيفِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي إِنْفَاقِ الأموال] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ مِنْ بَيَانِ أُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمَبْدَأِ وَبِالْمَعَادِ وَمِنْ دَلَائِلِ صِحَّتِهِمَا مَا أَرَادَ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَيَانِ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَالتَّكَالِيفِ. فَالْحُكْمُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ التَّكَالِيفِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي إِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَجْمَلَ فِي قَوْلِهِ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً فَصَّلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تِلْكَ الْأَضْعَافَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ الْأَدِلَّةَ عَلَى قُدْرَتِهِ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ مِنْ حَيْثُ لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَحْسُنِ التَّكْلِيفُ بِالْإِنْفَاقِ، لِأَنَّهُ لَوْلَا وُجُودُ الْإِلَهِ الْمُثِيبُ الْمُعَاقِبُ، لَكَانَ الْإِنْفَاقُ فِي سَائِرِ الطَّاعَاتِ عَبَثًا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِمَنْ رَغَّبَهُ فِي الْإِنْفَاقِ قَدْ عَرَفْتَ أَنِّي خَلَقْتُكَ وَأَكْمَلْتُ نِعْمَتِي عَلَيْكَ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِقْدَارِ وَقَدْ عَلِمْتَ قُدْرَتِي عَلَى الْمُجَازَاةِ وَالْإِثَابَةِ، فَلْيَكُنْ عِلْمُكَ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ دَاعِيًا إِلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ، فَإِنَّهُ يُجَازِي الْقَلِيلَ بِالْكَثِيرِ، ثُمَّ ضَرَبَ لِذَلِكَ الْكَثِيرِ مَثَلًا، وَهُوَ أَنَّ مَنْ بَذَرَ حَبَّةً أَخْرَجَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، فَصَارَتِ الْوَاحِدَةُ سَبْعَمِائَةٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ النَّظْمِ مَا ذَكَرَهُ الْأَصَمُّ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى ضَرَبَ هَذَا الْمَثَلَ بَعْدَ أَنِ احْتَجَّ عَلَى الْكُلِّ بِمَا يُوجِبُ تَصْدِيقَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَرْغَبُوا فِي الْمُجَاهَدَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ فِي نُصْرَتِهِ وَإِعْلَاءِ شَرِيعَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ بَيَّنَ مَثَلَ مَا يُنْفِقُ الْمُؤْمِنُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا يُنْفِقُ الْكَافِرُ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَثَلُ صَدَقَاتِ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ كَمَثَلِ حَبَّةٍ وَقِيلَ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ كَمَثَلِ زَارِعِ حَبَّةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْنَى يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَعْنِي فِي دِينِهِ، قِيلَ: أَرَادَ النَّفَقَةَ فِي الْجِهَادِ خَاصَّةً، وَقِيلَ: جَمِيعُ أَبْوَابِ الْبِرِّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْوَاجِبُ وَالنَّفْلُ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي الْهِجْرَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنَ الْإِنْفَاقِ فِي الْجِهَادِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْغَيْرِ، وَمِنْ صَرْفِ الْمَالِ إِلَى الصَّدَقَاتِ، وَمِنْ إِنْفَاقِهَا فِي الْمَصَالِحِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَعْدُودٌ فِي السَّبِيلِ الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّهِ وَطَرِيقَتُهُ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إِنْفَاقٌ فِي سَبِيلِ الله گ.

[سورة البقرة (2) : آية 262]

فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ رَأَيْتَ سُنْبُلَةً فِيهَا مِائَةُ حَبَّةٍ حَتَّى يُضْرَبَ الْمَثَلُ بِهَا؟. قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ إِنْسَانٌ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ وَالرِّبْحَ أَنَّهُ إِذَا بَذَرَ حَبَّةً وَاحِدَةً أَخْرَجَتْ لَهُ سَبْعَمِائَةِ حَبَّةٍ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ تَرْكُ ذَلِكَ وَلَا التَّقْصِيرُ فِيهِ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِمَنْ طَلَبَ الْأَجْرَ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ لَا يَتْرُكَهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ عَلَى الْوَاحِدَةِ عَشْرَةٌ وَمِائَةٌ، وَسَبْعُمِائَةٍ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَعْقُولًا سَوَاءٌ وُجِدَ فِي الدُّنْيَا سُنْبُلَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَوْ لَمْ يُوجَدْ كَانَ الْمَعْنَى حَاصِلًا مُسْتَقِيمًا، وَهَذَا قَوْلُ الْقَفَّالِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ حَسَنٌ جِدًّا. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ شُوهِدَ ذَلِكَ فِي سُنْبُلَةِ الْجَاوَرْسِ، وَهَذَا الْجَوَابُ فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: كَانَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يُدْغِمُونَ التَّاءَ فِي السِّينِ فِي قَوْلِهِ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ لِأَنَّهُمَا حَرْفَانِ مَهْمُوسَانِ، وَالْبَاقُونَ بِالْإِظْهَارِ عَلَى الْأَصْلِ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ كَمِّيَّةِ تِلْكَ الْمُضَاعَفَةِ، وَلَا بَيَانُ مَنْ يُشَرِّفُهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْمُضَاعَفَةِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ أَنَّهُ تَعَالَى يُضَاعِفُ لِكُلِّ الْمُتَّقِينَ، وَيَجُوزَ أَنْ يُضَاعِفَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ حَيْثُ يَكُونُ إِنْفَاقُهُ أَدْخَلَ فِي الْإِخْلَاصِ، أَوْ لِأَنَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ يَجْعَلُ طَاعَتَهُ مَقْرُونَةً بِمَزِيدِ الْقَبُولِ وَالثَّوَابِ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ واسِعٌ أَيْ وَاسِعُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُجَازَاةِ عَلَى الْجُودِ وَالْإِفْضَالِ عَلَيْهِمْ، بِمَقَادِيرِ الْإِنْفَاقَاتِ، وَكَيْفِيَّةِ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَصِرْ عَمَلُ الْعَامِلِ ضَائِعًا عند الله تعالى. [سورة البقرة (2) : آية 262] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَظُمَ أَمْرُ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ الْأُمُورِ الَّتِي يَجِبُ تَحْصِيلُهَا حَتَّى يَبْقَى ذَلِكَ الثَّوَابُ، مِنْهَا تَرْكُ الْمَنِّ وَالْأَذَى ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَمَّا عُثْمَانُ فَجَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بِأَلْفِ بَعِيرٍ بِأَقْتَابِهَا وَأَلْفِ دِينَارٍ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ يَقُولُ: يَا رَبِّ عُثْمَانُ رَضِيتُ عَنْهُ فَارْضَ عَنْهُ، وَأَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَإِنَّهُ تَصَدَّقَ بِنِصْفِ مَالِهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِينَارٍ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ بِمَنْ أَنْفَقَ عَلَى غَيْرِهِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْغَيْرِ إِنَّمَا يُوجِبُ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ إِذَا لَمْ يُتْبِعْهُ بِمَنٍّ وَلَا أَذَى قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّرْطُ مُعْتَبَرًا أَيْضًا فِيمَنْ أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ هُوَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ وَيَحْضُرَ الْجِهَادَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ ابْتِغَاءً لِمَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَمُنَّ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يُؤْذِيَ أَحَدًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: لَوْ لَمْ أَحْضُرْ لَمَا تَمَّ هَذَا الْأَمْرُ، وَيَقُولَ لِغَيْرِهِ: أَنْتَ ضَعِيفٌ بَطَّالٌ لَا مَنْفَعَةَ مِنْكَ فِي الْجِهَادِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَنُّ فِي اللُّغَةِ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: بِمَعْنَى الْإِنْعَامِ، يُقَالُ: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى فُلَانٍ، إِذَا أَنْعَمَ، أَوْ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِنَّةٌ، وَأَنْشَدَ ابْنُ الأنباري:

فَمُنِّي عَلَيْنَا بِالسَّلَامِ فَإِنَّمَا ... كَلَامُكِ يَاقُوتٌ وَدُرٌّ مُنَظَّمُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنُّ عَلَيْنَا فِي صُحْبَتِهِ وَلَا ذَاتِ يَدِهِ مِنِ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ» يُرِيدُ أَكْثَرَ إِنْعَامًا بِمَالِهِ، وَأَيْضًا اللَّهُ تَعَالَى يُوصَفُ بِأَنَّهُ مَنَّانٌ أَيْ مُنْعِمٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّفْسِيرِ الْمَنُّ النَّقْصُ مِنَ الْحَقِّ وَالْبَخْسُ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ وَغَيْرَ مَمْنُوعٍ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمَوْتُ: مَنُونًا لِأَنَّهُ يُنْقِصُ الْأَعْمَارَ، وَيَقْطَعُ الْأَعْذَارَ: ومن هذا الباب المنة المذمومة، لأن يُنْقِصُ النِّعْمَةَ، وَيُكَدِّرُهَا، وَالْعَرَبُ يَمْتَدِحُونَ بِتَرْكِ الْمَنِّ بِالنِّعْمَةِ، قَالَ قَائِلَهُمْ: زَادَ مَعْرُوفَكَ عِنْدِي عِظَمًا ... أَنَّهُ عِنْدِيَ مَسْتُورٌ حَقِيرُ تَتَنَاسَاهُ كَأَنْ لَمْ تَأْتِهِ ... وَهْوَ فِي الْعَالَمِ مَشْهُورٌ كَثِيرُ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَنُّ هُوَ إِظْهَارُ الِاصْطِنَاعِ إِلَيْهِمْ، وَالْأَذَى شِكَايَتُهُ مِنْهُمْ بِسَبَبِ مَا أَعْطَاهُمْ وَإِنَّمَا كَانَ الْمَنُّ مَذْمُومًا لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفَقِيرَ الْآخِذَ لِلصَّدَقَةِ مُنْكَسِرُ الْقَلْبِ لِأَجْلِ حَاجَتِهِ إِلَى صَدَقَةٍ غَيْرُ مُعْتَرِفٍ بِالْيَدِ الْعُلْيَا لِلْمُعْطِي، فَإِذَا أَضَافَ الْمُعْطِي إِلَى ذَلِكَ إِظْهَارَ ذَلِكَ الْإِنْعَامِ، زَادَ ذَلِكَ فِي انْكِسَارِ قَلْبِهِ، فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَضَرَّةِ بَعْدَ الْمَنْفَعَةِ، وَفِي حُكْمِ الْمُسِيءِ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ وَالثَّانِي: إِظْهَارُ الْمَنِّ يُبْعِدُ أَهْلَ الْحَاجَةِ عَنِ الرَّغْبَةِ فِي صَدَقَتِهِ إِذَا اشْتُهِرَ مِنْ طَرِيقِهِ ذَلِكَ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُعْطِيَ يَجِبُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ نِعَمًا عَظِيمَةً حَيْثُ وَفَّقَهُ لِهَذَا الْعَمَلِ، وَأَنْ يَخَافَ أَنَّهُ هَلْ قَرَنَ بِهَذَا الْإِنْعَامِ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ قَبُولِ اللَّهِ إِيَّاهُ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنَّةً عَلَى الْغَيْرِ الرَّابِعُ: وَهُوَ السِّرُّ الْأَصْلِيُّ أَنَّهُ إِنْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْإِعْطَاءَ إِنَّمَا تَيَسَّرَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هَيَّأَ لَهُ أَسْبَابَ الْإِعْطَاءِ وَأَزَالَ أَسْبَابَ الْمَنْعِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ الْمُعْطِي هُوَ اللَّهَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا الْعَبْدَ، فَالْعَبْدُ إِذَا كَانَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ كَانَ قَلْبُهُ مُسْتَنِيرًا بِنُورِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ كَانَ مَشْغُولًا بِالْأَسْبَابِ الْجُسْمَانِيَّةِ الظَّاهِرَةِ وَكَانَ مَحْرُومًا عن مطالعة الأسباب الربانية الحقيقة فَكَانَ فِي دَرَجَةِ الْبَهَائِمِ الَّذِينَ لَا يَتَرَقَّى نَظَرُهُمْ عَنِ الْمَحْسُوسِ إِلَى الْمَعْقُولِ وَعَنِ الْآثَارِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، وَأَمَّا الْأَذَى فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي أَذَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْمَنِّ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِلْفَقِيرِ: أَنْتَ أَبَدًا تَجِيئُنِي بِالْإِيلَامِ وَفَرَّجَ اللَّهُ عَنِّي مِنْكَ وَبَاعَدَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ مَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ ثُمَّ إِنَّهُ لَا يُتْبِعُهُ الْمَنَّ وَالْأَذَى فَلَهُ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ. فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنَّهُمَا بِمَجْمُوعِهِمَا يُبْطِلَانِ الْأَجْرَ فَيَلْزَمُ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الثَّانِي/ لَا يَبْطُلُ الْأَجْرُ. قُلْنَا: بَلِ الشَّرْطُ أَنْ لَا يُوجَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً يَقْتَضِي أَنْ لَا يَقَعَ مِنْهُ لَا هَذَا وَلَا ذَاكَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْكَبَائِرَ تُحْبِطُ ثَوَابَ فَاعِلِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الثَّوَابَ إِنَّمَا يَبْقَى إِذَا لَمْ يُوجَدِ الْمَنُّ وَالْأَذَى، لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ مَعَ فَقْدِهِمَا وَمَعَ وُجُودِهِمَا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الِاشْتِرَاطِ فَائِدَةٌ. أَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ حُصُولَ الْمَنِّ وَالْأَذَى يُخْرِجَانِ الْإِنْفَاقَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَجْرٌ وَثَوَابٌ

[سورة البقرة (2) : الآيات 263 إلى 265]

أَصْلًا، مِنْ حَيْثُ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْفَقَ لِكَيْ يَمُنَّ، وَلَمْ يُنْفِقْ لِطَلَبِ رِضْوَانِ اللَّهِ، وَلَا عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالْعِبَادَةِ، فَلَا جَرَمَ بَطَلَ الْأَجْرُ، طَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْجَوَابِ فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الانفاق قد صح، ولذلك قال: ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا وَكَلِمَةُ (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي، وَمَا يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْإِنْفَاقِ مُوجِبٌ لِلثَّوَابِ، لِأَنَّ شَرْطَ الْمُتَأَثِّرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا حَالَ حُصُولِ الْمُؤَثِّرِ لَا بَعْدَهُ. أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ ذِكْرَ الْمَنِّ وَالْأَذَى وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْإِنْفَاقِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الذِّكْرَ الْمُتَأَخِّرَ يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى أَنَّهُ حِينَ أَنْفَقَ مَا كَانَ إِنْفَاقُهُ لِوَجْهِ اللَّهِ، بَلْ لِأَجْلِ التَّرَفُّعِ عَلَى النَّاسِ وَطَلَبِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ إِنْفَاقُهُ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلثَّوَابِ وَالثَّانِي: هَبْ أَنَّ هذا الشرط متأخر، ولكن لم يجوز أَنْ يُقَالَ: إِنَّ تَأْثِيرَ الْمُؤَثِّرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ لَا يُوجَدَ بَعْدَهُ مَا يُضَادُّهُ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِ الْمُوَافَاةِ، وَتَقْرِيرُهُ مَعْلُومٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْآيَةُ دَلَّتْ أَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى مِنَ الْكَبَائِرِ، حَيْثُ تَخْرُجُ هَذِهِ الطَّاعَةُ الْعَظِيمَةُ بِسَبَبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ أَنْ تُفِيدَ ذَلِكَ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ. أَمَّا قَوْلُهُ لَهُمْ أَجْرُهُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ يُوجِبُ الْأَجْرَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَصْحَابُنَا يَقُولُونَ: حُصُولُ الْأَجْرِ بِسَبَبِ الْوَعْدِ لَا بِسَبَبِ نَفْسِ الْعَمَلِ لِأَنَّ الْعَمَلَ وَاجِبٌ عَلَى الْعَبْدِ وَأَدَاءَ الْوَاجِبِ لَا يُوجِبُ الْأَجْرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى نَفْيِ الْإِحْبَاطِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَجْرَ حَاصِلٌ لَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَجْرُ حَاصِلًا لَهُمْ بَعْدَ فِعْلِ الْكَبَائِرِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالْإِحْبَاطِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ مَشْرُوطٌ بِأَنْ لَا يُوجَدَ مِنْهُ الْكُفْرُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّكَلُّمُ بِالْعَامِّ لِإِرَادَةِ الْخَاصِّ، وَمَتَى جَازَ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ/ لَمْ تَكُنْ دَلَالَةُ اللَّفْظِ الْعَامِّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً، وَذَلِكَ يُوجِبُ سُقُوطَ دَلَائِلِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي التَّمَسُّكِ بِالْعُمُومَاتِ عَلَى الْقَطْعِ بِالْوَعِيدِ. أَمَّا قَوْلُهُ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ إِنْفَاقَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَضِيعُ، بَلْ ثَوَابُهُ مُوَفَّرٌ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَخَافُونَ مِنْ أَنْ لَا يُوجَدَ، وَلَا يَحْزَنُونَ بِسَبَبِ أَنْ لَا يُوجَدَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً [طه: 112] وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْبَتَّةَ، كَمَا قَالَ: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النَّمْلِ: 89] وَقَالَ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 103] . [سورة البقرة (2) : الآيات 263 الى 265] قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ] أَمَّا الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ، فَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي تَقْبَلُهُ القلوب ولا تنكره، والمراد منه هاهنا أَنْ يَرُدَّ/ السَّائِلَ بِطَرِيقِ جَمِيلٍ حَسَنٍ، وَقَالَ عطاء: عدة حَسَنَةٌ، أَمَّا الْمَغْفِرَةُ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْفَقِيرَ إِذَا رُدَّ بِغَيْرِ مَقْصُودِهِ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَرُبَّمَا حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى بَذَاءَةِ اللِّسَانِ، فَأَمَرَ بِالْعَفْوِ عَنْ بَذَاءَةِ الْفَقِيرِ وَالصَّفْحِ عَنْ إِسَاءَتِهِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَنَيْلُ مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ بِسَبَبِ الرَّدِّ الْجَمِيلِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ أَنْ يَسْتُرَ حَاجَةَ الْفَقِيرِ وَلَا يَهْتِكَ سِتْرَهُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ رَدُّهُ بِأَحْسَنِ الطُّرُقِ وَبِالْمَغْفِرَةِ أَنْ لَا يَهْتِكَ سِتْرَهُ بِأَنْ يَذْكُرَ حَالَهُ عِنْدَ مَنْ يَكْرَهُ الْفَقِيرُ وُقُوفَهُ عَلَى حَالِهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ قوله قَوْلٌ مَعْرُوفٌ خطاب مع المسؤول بِأَنْ يَرُدَّ السَّائِلَ بِأَحْسَنِ الطُّرُقِ، وَقَوْلُهُ وَمَغْفِرَةٌ خطاب مع السائل بأن يعذر المسؤول فِي ذَلِكَ الرَّدِّ، فَرُبَّمَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ فِعْلَ الرَّجُلِ لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى، وَسَبَبُ هَذَا التَّرْجِيحِ أَنَّهُ إِذَا أَعْطَى، ثُمَّ أَتْبَعَ الْإِعْطَاءَ بِالْإِيذَاءِ، فَهُنَاكَ جَمْعٌ بَيْنَ الْإِنْفَاعِ وَالْإِضْرَارِ، وَرُبَّمَا لَمْ يَفِ ثَوَابُ الْإِنْفَاعِ بِعِقَابِ الْإِضْرَارِ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ فَفِيهِ إِنْفَاعٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِيصَالَ السُّرُورِ إِلَى قَلْبِ الْمُسْلِمِ وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الْإِضْرَارُ، فَكَانَ هَذَا خَيْرًا مِنَ الْأَوَّلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي التَّطَوُّعِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ، وَلَا رَدُّ السَّائِلِ مِنْهُ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْوَاجِبُ، وَقَدْ يَعْدِلُ بِهِ عَنْ سَائِلٍ إِلَى سَائِلٍ وَعَنْ فَقِيرٍ إِلَى فَقِيرٍ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ الْعِبَادِ فَإِنَّمَا أَمَرَكُمْ بِهَا لِيُثِيبَكُمْ عليها حَلِيمٌ إذا لَمْ يُعَجِّلْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى مَنْ يَمُنُّ وَيُؤْذِي بِصَدَقَتِهِ، وَهَذَا سُخْطٌ مِنْهُ وَوَعِيدٌ لَهُ ثُمَّ إنه تعالى وصف هذين النوعين على الْإِنْفَاقِ أَحَدَهُمَا: الَّذِي يَتْبَعُهُ الْمَنُّ وَالْأَذَى وَالثَّانِيَ: الَّذِي لَا يَتْبَعُهُ الْمَنُّ وَالْأَذَى، فَشَرَحَ حَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَضَرَبَ مَثَلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَقَالَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: الَّذِي يَتْبَعُهُ المن والأذى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ، الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ النَّهْيَ عَنْ إِبْطَالِ الصَّدَقَةِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى وَأَزَالَ كُلَّ شُبْهَةٍ لِلْمُرْجِئَةِ بِأَنْ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى يُبْطِلَانِ الصَّدَقَةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّدَقَةَ قَدْ وَقَعَتْ وَتَقَدَّمَتْ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَبْطُلَ فَالْمُرَادُ إِبْطَالُ أَجْرِهَا وَثَوَابِهَا، لِأَنَّ الْأَجْرَ لَمْ يَحْصُلْ بَعْدُ وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ فَيَصِحُّ إِبْطَالُهُ بِمَا يَأْتِيهِ مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ لِكَيْفِيَّةِ إِبْطَالِ أَجْرِ الصَّدَقَةِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى مَثَلَيْنِ، فَمَثَّلَهُ أَوَّلًا: بِمَنْ يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كَافِرٌ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، لِأَنَّ بُطْلَانَ أَجْرِ نَفَقَةِ هَذَا الْمُرَائِي الْكَافِرِ أَظْهَرُ مِنْ بُطْلَانِ أَجْرِ صَدَقَةِ مَنْ يُتْبِعُهَا الْمَنَّ وَالْأَذَى، ثُمَّ مَثَّلَهُ ثَانِيًا: بِالصَّفْوَانِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ تُرَابٌ وَغُبَارٌ، ثُمَّ أَصَابَهُ الْمَطَرُ الْقَوِيُّ، فَيُزِيلُ ذَلِكَ الْغُبَارَ عَنْهُ حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ مَا كَانَ عَلَيْهِ غُبَارٌ وَلَا تُرَابٌ أَصْلًا، فَالْكَافِرُ كَالصَّفْوَانِ، وَالتُّرَابُ مِثْلُ ذَلِكَ الْإِنْفَاقِ وَالْوَابِلُ كَالْكُفْرِ الَّذِي يُحْبِطُ عَمَلَ/ الْكَافِرِ، وَكَالْمَنِّ وَالْأَذَى اللَّذَيْنِ يُحْبِطَانِ عَمَلَ هَذَا الْمُنْفِقِ،

قَالَ: فَكَمَا أَنَّ الْوَابِلَ أَزَالَ التُّرَابَ الَّذِي وَقَعَ عَلَى الصَّفْوَانِ، فَكَذَا الْمَنُّ وَالْأَذَى يُوجِبُ أَنْ يَكُونَا مُبْطِلَيْنِ لِأَجْرِ الْإِنْفَاقِ بَعْدَ حُصُولِهِ، وذلك صريح في القول بالإحباط والتفكير، قَالَ الْجُبَّائِيُّ: وَكَمَا دَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا فَالْعَقْلُ دَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ أَطَاعَ وَعَصَى، فَلَوِ اسْتَحَقَّ ثَوَابَ طَاعَتِهِ وَعِقَابَ مَعْصِيَتِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ النَّقِيضَيْنِ، لِأَنَّ شَرْطَ الثَّوَابِ أَنْ يَكُونَ مَنْفَعَةً خَالِصَةً دَائِمَةً مَقْرُونَةً بِالْإِجْلَالِ، وَشَرْطَ الْعِقَابِ أَنْ يَكُونَ مَضَرَّةً خَالِصَةً دَائِمَةً مَقْرُونَةً بِالْإِذْلَالِ فَلَوْ لَمْ تَقَعِ الْمُحَابَطَةُ لَحَصَلَ اسْتِحْقَاقُ النَّقِيضَيْنِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَلِأَنَّهُ حِينَ يُعَاقِبُهُ فَقَدْ مَنَعَهُ الْإِثَابَةَ وَمَنْعُ الْإِثَابَةِ ظُلْمٌ، وَهَذَا الْعِقَابُ عَدْلٌ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعِقَابُ عَدْلًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ حَقُّهُ، وَأَنْ يَكُونَ ظُلْمًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَنَعَ الْإِثَابَةَ، فَيَكُونُ ظَالِمًا بِنَفْسِ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ عَادِلٌ فِيهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَصَحَّ بِهَذَا قولنا في الإحباط والتفكير بِهَذَا النَّصِّ وَبِدَلَالَةِ الْعَقْلِ، هَذَا كَلَامُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَا تُبْطِلُوا النَّهْيَ عَنْ إِزَالَةِ هَذَا الثَّوَابِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بَلِ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهَذَا الْعَمَلِ بَاطِلًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا قَصَدَ بِهِ غَيْرَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ أَتَى بِهِ مِنَ الِابْتِدَاءِ عَلَى نَعْتِ الْبُطْلَانِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ بِوُجُوهٍ مِنَ الدَّلَائِلِ: أَوَّلُهَا: أَنَّ النَّافِيَ وَالطَّارِئَ إِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ طَرَيَانِ الطَّارِئِ زَوَالُ النَّافِي، وَإِنْ حَصَلَتْ بَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ لَمْ يَكُنِ انْدِفَاعُ الطَّارِئِ أَوْلَى مِنْ زَوَالِ النَّافِي، بَلْ رُبَّمَا كَانَ هَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الدَّفْعَ أَسْهَلُ مِنَ الرَّفْعِ. ثَانِيهَا: أَنَّ الطَّارِئَ لَوْ أَبْطَلَ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يُبْطِلَ مَا دَخَلَ مِنْهُ فِي الْوُجُودِ فِي الْمَاضِي وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّ الْمَاضِيَ انْقَضَى وَلَمْ يَبْقَ فِي الْحَالِ وَإِعْدَامُ الْمَعْدُومِ مُحَالٌ وَإِمَّا أَنْ يَبْطُلَ مَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْحَالِ وَهُوَ أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ فِي الْحَالِ لَوْ أَعْدَمَهُ فِي الْحَالِ لَزِمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعَدَمِ وَالْوُجُودِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِمَّا أَنْ يُبْطِلَ مَا سَيُوجَدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ الَّذِي سَيُوجَدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ وَإِعْدَامُ مَا لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ مُحَالٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ شَرْطَ طَرَيَانِ الطَّارِئِ زَوَالُ النَّافِي فَلَوْ جَعَلْنَا زَوَالَ النَّافِي مُعَلَّلًا بِطَرَيَانِ الطَّارِئِ لَزِمَ الدَّوْرُ وَهُوَ مُحَالٌ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الطَّارِئَ إِذَا طَرَأَ وَأَعْدَمَ الثَّوَابَ السَّابِقَ فَالثَّوَابُ السَّابِقُ إِمَّا أَنْ يَعْدَمَ مِنْ هَذَا الطَّارِئِ شَيْئًا أَوْ لَا يَعْدَمَ مِنْهُ شَيْئًا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُوَازَنَةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هَاشِمٍ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِعَدَمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُجُودُ الْآخَرِ فَلَوْ حَصَلَ الْعَدَمَانِ مَعًا اللَّذَانِ هَمَّا مَعْلُولَانِ لَزِمَ حُصُولُ الْوُجُودَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا عِلَّتَانِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْجُودًا حَالَ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْدُومًا وَهُوَ مُحَالٌ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ فَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْعِقَابَ الطَّارِئَ لَمَّا أَزَالَ الثَّوَابَ السَّابِقَ، وَذَلِكَ الثَّوَابُ السَّابِقُ لَيْسَ لَهُ أَثَرٌ الْبَتَّةَ فِي إِزَالَةِ الشَّيْءِ مِنْ هَذَا الْعِقَابِ الطَّارِئِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي أَوْجَبَ الثَّوَابَ السَّابِقَ فَائِدَةٌ أَصْلًا لَا فِي جَلْبِ ثَوَابٍ وَلَا فِي دَفْعِ عِقَابٍ وَذَلِكَ عَلَى مُضَادَّةِ النَّصِّ الصَّرِيحِ فِي قَوْلِهِ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7] وَلِأَنَّهُ خِلَافُ الْعَدْلِ حَيْثُ يَحْمِلُ الْعَبْدُ مَشَقَّةَ الطَّاعَةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مِنْهَا أَثَرٌ لَا فِي جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَلَا فِي دَفْعِ الْمَضَرَّةِ. وَخَامِسُهَا: وَهُوَ أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: الصَّغِيرَةُ تُحْبِطُ بَعْضَ أَجْزَاءِ الثَّوَابِ دُونَ الْبَعْضِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ مِنَ الْقَوْلِ، لِأَنَّ أَجْزَاءَ الِاسْتِحْقَاقَاتِ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْمَاهِيَّةِ، فَالصَّغِيرَةُ الطَّارِئَةُ إِذَا انْصَرَفَ تَأْثِيرُهَا إِلَى بَعْضِ تِلْكَ الِاسْتِحْقَاقَاتِ

دُونَ الْبَعْضِ مَعَ اسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي الْمَاهِيَّةِ كَانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لِلْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الصَّغِيرَةَ الطَّارِئَةَ تُزِيلُ كُلَّ تِلْكَ الِاسْتِحْقَاقَاتِ وهو باطل بالاتفاق، أو لا نزيل شَيْئًا مِنْهَا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَسَادِسُهَا: وَهُوَ أَنَّ عِقَابَ الْكَبِيرَةِ إِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَوَابِ الْعَمَلِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي إِبْطَالِ الثَّوَابِ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْعِقَابِ الطَّارِئِ أَوْ كُلُّهَا وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّ اخْتِصَاصَ بَعْضِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ بِالْمُؤَثِّرِيَّةِ دُونَ الْبَعْضِ مَعَ اسْتِوَاءِ كُلِّهَا فِي الْمَاهِيَّةِ تَرْجِيحٌ لِلْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجَّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَجْتَمِعُ عَلَى إِبْطَالِ الْجُزْءِ الْوَاحِدِ مِنَ الثواب جزآن مِنَ الْعِقَابِ مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ ذَيْنِكَ الْجُزْأَيْنِ مُسْتَقِلٌّ بِإِبْطَالِ ذَلِكَ الثَّوَابِ، فَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَى الْأَثَرِ الْوَاحِدِ مُؤَثِّرَانِ مُسْتَقِلَّانِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ يَسْتَغْنِي بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَكُونُ غَنِيًّا عَنْهُمَا مَعًا حَالَ كَوْنِهِ مُحْتَاجًا إِلَيْهِمَا مَعًا وَهُوَ مُحَالٌ. وَسَابِعُهَا: وَهُوَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَيْنِ الِاسْتِحْقَاقَيْنِ لِأَنَّ السَّيِّدَ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: احْفَظِ الْمَتَاعَ لِئَلَّا يَسْرِقَهُ السَّارِقُ، ثُمَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ جَاءَ الْعَدُوُّ وَقَصَدَ قَتْلَ السَّيِّدِ، فَاشْتَغَلَ الْعَبْدُ بِمُحَارَبَةِ ذَلِكَ الْعَدُوِّ وَقَتْلِهِ فَذَلِكَ الْفِعْلُ مِنَ الْعَبْدِ يَسْتَوْجِبُ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ حَيْثُ دَفَعَ الْقَتْلَ عَنْ سَيِّدِهِ، وَيُوجِبُ اسْتِحْقَاقَهُ لِلذَّمِّ حَيْثُ عَرَّضَ مَالَهُ لِلسَّرِقَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الِاسْتِحْقَاقَيْنِ ثَابِتٌ، وَالْعُقَلَاءُ يَرْجِعُونَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ إِلَى التَّرْجِيحِ أَوْ إِلَى الْمُهَايَأَةِ، فَأَمَّا أَنْ يَحْكُمُوا بِانْتِفَاءِ أَحَدِ الِاسْتِحْقَاقَيْنِ وَزَوَالِهِ فَذَلِكَ مَدْفُوعٌ فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ. وَثَامِنُهَا: أَنَّ الْمُوجِبَ لِحُصُولِ هَذَا الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الْفِعْلُ الْمُتَقَدِّمُ فَهَذَا الطَّارِئُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَثَرٌ فِي جِهَةِ اقْتِضَاءِ ذَلِكَ الْفِعْلِ لِذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقِ أَوْ لَا يَكُونَ، وَالْأَوَّلُ: مُحَالٌ لِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ إِنَّمَا يَكُونُ مَوْجُودًا فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، فَلَوْ كَانَ لِهَذَا الطَّارِئِ أَثَرٌ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَاضِي لَكَانَ هَذَا إِيقَاعًا لِلتَّأْثِيرِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلطَّارِئِ أَثَرٌ فِي اقْتِضَاءِ ذَلِكَ الْفِعْلِ السَّابِقِ لِذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقِ وَجَبَ أَنْ يَبْقَى ذَلِكَ الِاقْتِضَاءُ كَمَا كَانَ وَأَنْ لَا يَزُولَ وَلَا يُقَالُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا/ الطَّارِئُ مَانِعًا مِنْ ظُهُورِ الْأَثَرِ عَلَى ذَلِكَ السَّابِقِ، لِأَنَّا نَقُولُ: إِذَا كَانَ هَذَا الطَّارِئُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْمَلَ بِجِهَةِ اقْتِضَاءِ ذَلِكَ الْفِعْلِ السَّابِقِ أَصْلًا وَالْبَتَّةَ مِنْ حَيْثُ إِيقَاعُ الْأَثَرِ فِي الْمَاضِي مُحَالٌ، وَانْدِفَاعُ أَثَرِ هَذَا الطَّارِئِ مُمْكِنٌ فِي الْجُمْلَةِ كَانَ الْمَاضِي عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَقْوَى مِنْ هَذَا الْحَادِثِ فَكَانَ الْمَاضِي بِدَفْعِ هَذَا الْحَادِثِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ. وَتَاسِعُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةَ يَقُولُونَ: إِنَّ شُرْبَ جُرْعَةٍ مِنَ الْخَمْرِ يُحْبِطُ ثَوَابَ الْإِيمَانِ وَطَاعَةَ سَبْعِينَ سَنَةً عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ. لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ ثَوَابَ هَذِهِ الطَّاعَاتِ أَكْثَرُ مِنْ عِقَابِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ الْوَاحِدَةِ، وَالْأَعْظَمُ لَا يُحِيطُ بِالْأَقَلِّ، قَالَ الْجُبَّائِيُّ: إِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْكَبِيرَةُ الْوَاحِدَةُ أَعْظَمَ مِنْ كُلِّ طَاعَةٍ، لِأَنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ تَعْظُمُ عَلَى قَدْرِ كَثْرَةِ نِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ، كَمَا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ قِيَامِ الرَّبَّانِيَّةِ وَقَدْ رَبَّاهُ وَمَلَّكَهُ وَبَلَّغَهُ إِلَى النِّهَايَةِ الْعَظِيمَةِ أَعْظَمُ مِنْ قِيَامِهِ بِحَقِّهِ لِكَثْرَةِ نِعَمِهِ، فَإِذَا كَانَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ بِحَيْثُ لَا تُضْبَطُ عِظَمًا وَكَثْرَةً لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَسْتَحِقَّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ الْوَاحِدَةِ الْعِقَابَ الْعَظِيمَ الَّذِي يُوَافِي عَلَى ثَوَابِ جُمْلَةِ الطَّاعَاتِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْعُذْرَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا عَظُمَتْ نِعَمُهُ عَلَى عَبْدِهِ ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْعَبْدَ قَامَ بِحَقِّ عُبُودِيَّتِهِ خَمْسِينَ سَنَةً ثُمَّ إِنَّهُ كَسَرَ رَأْسَ قَلَمِ ذَلِكَ الْمَلِكِ قَصْدًا، فَلَوْ أَحْبَطَ الْمَلِكُ جَمِيعَ طَاعَاتِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْجُرْمِ فَكُلُّ أَحَدٍ يَذُمُّهُ وَيَنْسُبُهُ إِلَى تَرْكِ الْإِنْصَافِ وَالْقَسْوَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَمِيعَ الْمَعَاصِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى أَقَلُّ مِنْ كَسْرِ رَأْسِ الْقَلَمِ، فَظَهَرَ أَنَّ مَا قَالُوهُ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ الْعُقُولِ.

وَعَاشِرُهَا: أَنَّ إِيمَانَ سَاعَةٍ يَهْدِمُ كُفْرَ سَبْعِينَ سَنَةً، فَالْإِيمَانُ سَبْعِينَ سَنَةً كَيْفَ يُهْدَمُ بِفِسْقِ سَاعَةٍ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ بِالْمُحَابَطَةِ، فِي تَمَسُّكِ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فنقول: قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى يِحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: لَا تَأْتُوا بِهِ بَاطِلًا، وَذَلِكَ أَنْ يَنْوِيَ بِالصَّدَقَةِ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ، فَتَكُونُ هَذِهِ الصَّدَقَةُ حِينَ وُجِدَتْ حَصَلَتْ بَاطِلَةً، وَهَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَضُرُّنَا الْبَتَّةَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِبْطَالِ أَنْ يُؤْتَى بِهَا عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الثَّوَابَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أُتْبِعَتْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى صَارَ عِقَابُ الْمَنِّ وَالْأَذَى مُزِيلًا لِثَوَابِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَنْفَعُهُمُ التَّمَسُّكُ بِالْآيَةِ، فَلِمَ كَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي أَوْلَى مَنْ حَمْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ لِذَلِكَ مَثَلَيْنِ أَحَدُهُمَا: يُطَابِقُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ قَوْلُهُ كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِهِ عَمَلَ هَذَا بَاطِلًا أَنَّهُ دَخَلَ فِي الْوُجُودِ بَاطِلًا، لَا أَنَّهُ دَخَلَ صَحِيحًا، ثُمَّ يَزُولُ، لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ هَذَا الْعَمَلِ هُوَ الْكُفْرُ، وَالْكُفْرُ مُقَارِنٌ لَهُ، فَيَمْتَنِعُ دُخُولُهُ صَحِيحًا فِي الْوُجُودِ، فَهَذَا الْمَثَلُ يَشْهَدُ لِمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَأَمَّا الْمَثَلُ الثَّانِي وَهُوَ الصَّفْوَانُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ غُبَارٌ وَتُرَابٌ ثُمَّ أَصَابَهُ وَابِلٌ، فَهَذَا يَشْهَدُ لِتَأْوِيلِهِمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ/ الْوَابِلَ مُزِيلًا لِذَلِكَ الْغُبَارِ بَعْدَ وُقُوعِ الْغُبَارِ عَلَى الصَّفْوَانِ فَكَذَا هاهنا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَنُّ وَالْأَذَى مُزِيلَيْنِ لِلْأَجْرِ وَالثَّوَابِ بَعْدَ حُصُولِ اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ، إِلَّا أَنَّ لَنَا أَنْ نَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِوُقُوعِ الْغُبَارِ عَلَى الصَّفْوَانِ حُصُولُ الْأَجْرِ لِلْكَافِرِ، بَلِ الْمُشَبَّهُ بِذَلِكَ صُدُورُ هَذَا الْعَمَلِ الَّذِي لَوْلَا كَوْنُهُ مَقْرُونًا بِالنِّيَّةِ الْفَاسِدَةِ لَكَانَ مُوجِبًا لِحُصُولِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، فَالْمُشَبَّهُ بِالتُّرَابِ الْوَاقِعِ عَلَى الصَّفْوَانِ هُوَ ذَلِكَ الْعَمَلُ الصَّادِرُ مِنْهُ، وَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْغُبَارَ إِذَا وَقَعَ عَلَى الصَّفْوَانِ لَمْ يَكُنْ مُلْتَصِقًا بِهِ وَلَا غَائِصًا فِيهِ الْبَتَّةَ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ الِاتِّصَالُ كَالِانْفِصَالِ، فَهُوَ فِي مَرْأَى الْعَيْنِ مُتَّصِلٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ غَيْرُ مُتَّصِلٍ، فَكَذَا الْإِنْفَاقُ الْمَقْرُونُ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، يُرَى فِي الظَّاهِرِ أَنَّهُ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَظَهَرَ أَنَّ اسْتِدْلَالَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ ضَعِيفٌ، وَأَمَّا الْحُجَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الِاسْتِحْقَاقَيْنِ، وَأَنَّ مُقْتَضَى ذَلِكَ الْجَمْعِ إِمَّا التَّرْجِيحُ وَإِمَّا الْمُهَايَأَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ عَلَى اللَّهِ بِسَبَبِ صَدَقَتِكُمْ، وَبِالْأَذَى لِذَلِكَ السَّائِلِ، وَقَالَ الْبَاقُونَ: بِالْمَنِّ عَلَى الْفَقِيرِ، وَبِالْأَذَى لِلْفَقِيرِ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مُحْتَمَلٌ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَنْفَقَ مُتَبَجِّحًا بِفِعْلِهِ، وَلَمْ يَسْلُكْ طَرِيقَةَ التَّوَاضُعِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ، وَالِاعْتِرَافِ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَإِحْسَانِهِ فَكَانَ كَالْمَانِّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ الثَّانِي أَظْهَرَ لَهُ. أَمَّا قَوْلُهُ كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكَافُ فِي قَوْلِهِ كَالَّذِي فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَإِبْطَالِ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى يُبْطِلَانِ الصَّدَقَةَ، كَمَا أَنَّ النِّفَاقَ وَالرِّيَاءَ يُبْطِلَانِهَا، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ الْمُنَافِقَ وَالْمُرَائِيَ يَأْتِيَانِ بِالصَّدَقَةِ لَا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ يَقْرِنُ الصَّدَقَةَ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، فَقَدْ أَتَى بِتِلْكَ الصَّدَقَةِ لَا لِوَجْهِ اللَّهِ أَيْضًا إِذْ لَوْ كَانَ غَرَضُهُ مِنْ تِلْكَ الصَّدَقَةِ مَرْضَاةَ اللَّهِ تَعَالَى لَمَا مَنَّ عَلَى الْفَقِيرِ وَلَا آذَاهُ، فَثَبَتَ اشْتِرَاكُ الصُّورَتَيْنِ فِي كَوْنِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ مَا أَتَى بِهَا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا يُحَقِّقُ مَا قُلْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِبْطَالِ الْإِتْيَانُ بِهِ بَاطِلًا، لَا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِتْيَانُ بِهِ صَحِيحًا، ثم إزالته

وَإِحْبَاطُهُ بِسَبَبِ الْمَنِّ وَالْأَذَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْكَافُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، أَيْ لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ مُمَاثِلِينَ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الرِّيَاءُ مَصْدَرٌ، كالمراءاة يقال: راأيته رِيَاءً وَمُرَاءَاةً، مِثْلَ: رَاعَيْتُهُ مُرَاعَاةً وَرِعَاءً، وَهُوَ أَنْ تُرَائِيَ بِعَمَلِكَ غَيْرَكَ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي الرِّيَاءِ قَدْ تَقَدَّمَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْمَثَلَ أَتْبَعَهُ بِالْمَثَلِ الثَّانِي، فَقَالَ فَمَثَلُهُ وَفِي هَذَا الضَّمِيرِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمُنَافِقِ، فَيَكُونُ/ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَبَّهَ الْمَانَّ وَالْمُؤْذِيَ بِالْمُنَافِقِ، ثُمَّ شَبَّهَ الْمُنَافِقَ بِالْحَجَرِ، ثُمَّ قَالَ: كَمَثَلِ صَفْوانٍ وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّ الصَّفْوَانَ وَالصَّفَا وَالصَّفْوَا وَاحِدٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَقْصُورٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الصَّفْوَانُ جَمْعُ صَفْوَانَةَ، كَمَرْجَانَ وَمَرْجَانَةَ، وَسَعْدَانَ وَسَعْدَانَةَ، ثُمَّ قَالَ: فَأَصابَهُ وابِلٌ الْوَابِلُ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ، يُقَالُ: وَبَلَتِ السَّمَاءُ تَبِلُ وَبِلًا، وَأَرْضٌ مَوْبُولَةٌ، أَيْ أَصَابَهَا وَابِلٌ، ثُمَّ قال: فَتَرَكَهُ صَلْداً الصلد الأمس الْيَابِسُ، يُقَالُ: حَجَرٌ صَلْدٌ، وَجَبَلٌ صَلْدٌ إِذَا كَانَ بَرَّاقًا أَمْلَسَ وَأَرْضٌ صَلْدَةٌ، أَيْ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا كَالْحَجَرِ الصَّلْدِ وَصَلَدَ الزَّنْدُ إِذَا لَمْ يُورِ نَارًا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِعَمَلِ الْمَانِّ الْمُؤْذِي، وَلِعَمَلِ الْمُنَافِقِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَرَوْنَ فِي الظَّاهِرِ أَنَّ لِهَؤُلَاءِ أَعْمَالًا، كَمَا يُرَى التُّرَابُ عَلَى هَذَا الصَّفْوَانِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اضْمَحَلَّ كُلُّهُ وَبَطَلَ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ مَا كَانَتْ لِلَّهِ تَعَالَى، كَمَا أَذْهَبَ الْوَابِلُ مَا كَانَ عَلَى الصَّفْوَانِ مِنَ التُّرَابِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ أَوْجَبَتِ الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ، ثُمَّ إِنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى أَزَالَا ذَلِكَ الْأَجْرَ، كَمَا يُزِيلُ الْوَابِلُ التُّرَابَ عَنْ وَجْهِ الصَّفْوَانِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّشْبِيهِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَمَلَ الظاهر كالتراب، والمان والأذى والمنافق كالصفوان ويوم القيامة كالوابل هَذَا عَلَى قَوْلِنَا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَالْمَنُّ وَالْأَذَى كَالْوَابِلِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّشْبِيهِ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ ذَخَائِرُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ عَمِلَ بِإِخْلَاصٍ فَكَأَنَّهُ طَرَحَ بَذْرًا فِي أَرْضٍ فَهُوَ يُضَاعَفُ لَهُ وَيَنْمُو حَتَّى يَحْصُدَهُ فِي وَقْتِهِ، وَيَجِدَهُ وَقْتَ حَاجَتِهِ، وَالصَّفْوَانُ محَلُّ بَذْرِ الْمُنَافِقِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَنْمُو فِيهِ شَيْءٌ وَلَا يَكُونُ فِيهِ قَبُولٌ لِلْبَذْرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ عَمَلَ الْمَانِّ وَالْمُؤْذِي وَالْمُنَافِقِ يُشْبِهُ إِذَا طَرَحَ بَذْرًا فِي صَفْوَانٍ صَلْدٍ عَلَيْهِ غُبَارٌ قَلِيلٌ، فَإِذَا أَصَابَهُ مَطَرُ جُودٍ بَقِيَ مُسْتَوْدِعًا بَذْرَهُ خَالِيًا لَا شَيْءَ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى ضَرَبَ مَثَلَ الْمُخْلِصِ بجنة فوق ربوة، والجنة ما يكون فيه أَشْجَارٌ وَنَخِيلٌ، فَمَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ تَعَالَى كَانَ كَمَنْ غَرَسَ بُسْتَانًا فِي رَبْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَهُوَ يَجْنِي ثَمَرَ غِرَاسِهِ فِي أَوَجَّاتِ الْحَاجَةِ وَهِيَ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا مُتَضَاعِفَةً زَائِدَةً، وَأَمَّا عَمَلُ الْمَانِّ وَالْمُؤْذِي وَالْمُنَافِقِ، فَهُوَ كَمَنْ بَذَرَ فِي الصَّفْوَانِ الَّذِي عَلَيْهِ تُرَابٌ، فَعِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الزَّرْعِ لَا يَجِدُ فِيهِ شَيْئًا، وَمِنَ الْمُلْحِدَةِ مَنْ طَعَنَ فِي التَّشْبِيهِ، فَقَالَ: إِنَّ الْوَابِلَ إِذَا أَصَابَ الصَّفْوَانَ جَعَلَهُ طَاهِرًا نَقِيًّا نَظِيفًا عَنِ الْغُبَارِ وَالتُّرَابِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُشَبِّهَ اللَّهُ بِهِ عَمَلَ الْمُنَافِقِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ وَجْهَ التَّشْبِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَا يُعْتَبَرُ بِاخْتِلَافِهَا فِيمَا وَرَاءَهُ، قَالَ الْقَاضِي: وَأَيْضًا فَوَقْعُ التُّرَابِ عَلَى الصَّفْوَانِ يُفِيدُ مَنَافِعَ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَصْلَحُ فِي الِاسْتِقْرَارِ عليه وثانيها: الانتفاع بها فِي التَّيَمُّمِ وَثَالِثُهَا: الِانْتِفَاعُ بِهِ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالنَّبَاتِ، وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْأَوَّلِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا فَاعْلَمْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ لَا يَقْدِرُونَ إِلَى/مَاذَا يَرْجِعُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ، أَيْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى ذَلِكَ الْبَذْرِ الْمُلْقَى فِي ذَلِكَ التُّرَابِ الَّذِي كَانَ عَلَى ذَلِكَ الصَّفْوَانِ، لِأَنَّهُ زَالَ ذَلِكَ التُّرَابَ وَذَلِكَ مَا كَانَ فِيهِ، فَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ قُدْرَةٌ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ الْبَذْرِ، وَهَذَا يُقَوِّي الْوَجْهَ الثَّانِيَ فِي التَّشْبِيهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَا الْمَانُّ وَالْمُؤْذِي وَالْمُنَافِقُ لَا يَنْتَفِعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِعَمَلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ وَخَرَجَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ إِنَّمَا أُشِيرَ بِهِ إِلَى الْجِنْسِ، وَالْجِنْسُ فِي حُكْمِ الْعَامِّ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَرْدُودًا عَلَى قَوْلِهِ لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبْتُمْ، فَرَجَعَ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَائِبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: 22] . ثم قال: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ وَمَعْنَاهُ عَلَى قَوْلِهِمْ: سَلْبُ الْإِيمَانِ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّهُ تَعَالَى يُضِلُّهُمْ عَنِ الثَّوَابِ وَطَرِيقِ الْجَنَّةِ بِسُوءِ اختيارهم. في قوله تعالى وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ إلى قوله وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَثَلَ الْمُنْفِقِ الَّذِي يَكُونُ مَانًّا وَمُؤْذِيًا ذَكَرَ مَثَلَ الْمُنْفِقِ الَّذِي لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ غَرَضَ هَؤُلَاءِ الْمُنْفِقِينَ مِنْ هَذَا الْإِنْفَاقِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: طَلَبُ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالِابْتِغَاءُ افْتِعَالٌ مِنْ بَغَيْتُ أَيْ طَلَبْتُ، وَسَوَاءٌ قَوْلُكَ: بَغَيْتُ وَابْتَغَيْتُ. وَالْغَرَضُ الثَّانِي: هُوَ تَثْبِيتُ النَّفْسِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ يُوَطِّنُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى حِفْظِ هَذِهِ الطَّاعَةِ وَتَرْكِ مَا يُفْسِدُهَا، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ تَرْكُ إِتْبَاعِهَا بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي وَثَانِيهَا: وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا صَادِقَةٌ فِي الْإِيمَانِ مُخْلِصَةٌ فِيهِ، وَيُعَضِّدُهُ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ وَتَثْبِيتًا مِنْ بَعْضِ أَنْفُسِهِمْ وَثَالِثُهَا: أَنَّ النَّفْسَ لَا ثَبَاتَ لَهَا فِي مَوْقِفِ الْعُبُودِيَّةِ، إِلَّا إِذَا صَارَتْ مَقْهُورَةً بِالْمُجَاهَدَةِ، وَمَعْشُوقُهَا أَمْرَانِ: الْحَيَاةُ الْعَاجِلَةُ وَالْمَالُ، فَإِذَا كُلِّفَتْ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فَقَدْ صَارَتْ مقهورة من بعض الوجوه، وإذا كلفت يبذل الرُّوحِ فَقَدْ صَارَتْ مَقْهُورَةً مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَلَا جَرَمَ حَصَلَ بَعْضُ التَّثْبِيتِ، فَلِهَذَا دَخَلَ فيه (من) التي هي التبعيض، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ بَذَلَ مَالَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ فَقَدْ ثَبَّتَ بَعْضَ نَفْسِهِ، وَمَنْ بَذَلَ مَالَهُ وَرُوحَهُ مَعًا فَهُوَ الَّذِي ثَبَّتَهَا كُلَّهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [الصَّفِ: 11] وَهَذَا الْوَجْهُ ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ وَتَفْسِيرٌ لَطِيفٌ وَرَابِعُهَا: وَهُوَ الَّذِي خَطَرَ بِبَالِي وَقْتَ كِتَابَةِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّ ثَبَاتَ الْقَلْبِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ عَلَى مَا قَالَ: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْدِ: 28] فَمَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ اطْمِئْنَانُ الْقَلْبِ فِي مَقَامِ التَّجَلِّي، إِلَّا إِذَا كَانَ إِنْفَاقُهُ لِمَحْضِ غَرَضِ/ الْعُبُودِيَّةِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي إِنْفَاقِهِ إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً [الْإِنْسَانِ: 9] وَوَصَفَ إِنْفَاقَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى، إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ، الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى [اللَّيْلِ: 19، 20، 21] فَإِذَا كَانَ إِنْفَاقُ الْعَبْدِ لِأَجْلِ، عُبُودِيَّةِ الْحَقِّ لَا لِأَجْلِ غَرَضِ النَّفْسِ وَطَلَبِ الْحَضِّ. فَهُنَاكَ اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ، وَاسْتَقَرَّتْ نَفْسُهُ، وَلَمْ يَحْصُلْ لِنَفْسِهِ مُنَازَعَةٌ مَعَ قَلْبِهِ، وَلِهَذَا قَالَ أَوَّلًا فِي هَذَا الْإِنْفَاقِ إِنَّهُ لطلب مرضات الله، ثم

أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ، أَنَّ تَكْرِيرَ الْأَفْعَالِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْمَلَكَاتِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ مَنْ يُوَاظِبُ عَلَى الْإِنْفَاقِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ حَصَلَ لَهُ مِنْ تِلْكَ الْمُوَاظَبَةِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: حُصُولُ هَذَا الْمَعْنَى وَالثَّانِي: صَيْرُورَةُ هَذَا الِابْتِغَاءِ وَالطَّلَبِ مَلَكَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فِي النَّفْسِ، حَتَّى يَصِيرَ الْقَلْبُ بِحَيْثُ لَوْ صَدَرَ عَنْهُ فِعْلٌ عَلَى سَبِيلِ الْغَفْلَةِ وَالِاتِّفَاقِ رَجَعَ الْقَلْبُ فِي الْحَالِ إِلَى جَنَابِ الْقُدْسِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ تِلْكَ الْعِبَادَةَ صَارَتْ كَالْعَادَةِ وَالْخَلْقِ لِلرُّوحِ، فَإِتْيَانُ الْعَبْدِ بِالطَّاعَةِ لِلَّهِ، وَلِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ، يُفِيدُ هَذِهِ الْمَلَكَةَ الْمُسْتَقِرَّةَ، الَّتِي وَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْهَا فِي الْقُرْآنِ بِتَثْبِيتِ النَّفْسِ، وَهُوَ الْمُرَادُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعِنْدَ حُصُولِ هَذَا التَّثْبِيتِ تَصِيرُ الرُّوحُ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ جَوْهَرِ الْمَلَائِكَةِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْجَوَاهِرِ الْقُدْسِيَّةِ، فَصَارَ الْعَبْدُ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: غَائِبًا حَاضِرًا، ظَاعِنًا مُقِيمًا وَسَادِسُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ مِنَ التَّثْبِيتِ أَنَّهُمْ يُنْفِقُونَهَا جَازِمِينَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُضَيِّعُ عَمَلَهُمْ، وَلَا يُخَيِّبُ رَجَاءَهُمْ، لِأَنَّهَا مَقْرُونَةٌ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالنُّشُورِ بِخِلَافِ الْمُنَافِقِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَنْفَقَ عُدَّ ذَلِكَ الْإِنْفَاقُ ضَائِعًا، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِالثَّوَابِ، فَهَذَا الْجَزْمُ هُوَ الْمُرَادُ بِالتَّثْبِيتِ وَسَابِعُهَا: قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: الْمُرَادُ أَنَّ الْمُنْفِقَ يَتَثَبَّتُ فِي إِعْطَاءِ الصَّدَقَةِ فَيَضَعُهَا فِي أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْعَفَافِ، قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ تَثَبَّتَ، فَإِذَا كَانَ لِلَّهِ أَعْطَى، وَإِنْ خَالَطَهُ أَمْسَكَ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يكون التثبيت، بمعنى التثبيت، لِأَنَّهُمْ ثَبَّتُوا أَنْفُسَهُمْ فِي طَلَبِ الْمُسْتَحِقِّ، وَصَرْفِ الْمَالِ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ شَرَحَ أَنَّ غَرَضَهُمْ مِنَ الْإِنْفَاقِ هَذَانِ الْأَمْرَانِ ضَرَبَ لِإِنْفَاقِهِمْ مَثَلًا، فَقَالَ: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِرَبْوَةٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَفِي الْمُؤْمِنِينَ إِلى رَبْوَةٍ وَهُوَ لُغَةُ تَمِيمٍ، والباقون بضم الراء فيهما، وهو أن أَشْهَرُ اللُّغَاتِ وَلُغَةُ قُرَيْشٍ، وَفِيهِ سَبْعُ لُغَاتٍ (رَبْوَةٌ) بِتَعَاقُبِ الْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ عَلَى الرَّاءِ، وَ (رَبَاوَةٌ) بِالْأَلْفِ بِتَعَاقُبِ الْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ عَلَى الرَّاءِ، وَ (رَبْوٌ) وَالرَّبْوَةُ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، قَالَ الْأَخْفَشُ: وَالَّذِي أَخْتَارُهُ (رُبْوَةٌ) بِالضَّمِّ، لِأَنَّ جَمْعَهَا الرُّبَى، وَأَصْلُهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو إِذَا ازْدَادَ وَارْتَفَعَ، وَمِنْهُ الرَّابِيَةُ، لِأَنَّ أَجْزَاءَهَا ارْتَفَعَتْ، وَمِنْهُ الرَّبْوُ إِذَا أَصَابَهُ نَفَسٌ فِي جَوْفِهِ زَائِدٌ، وَمِنْهُ الرِّبَا، لِأَنَّهُ يَأْخُذُ الزِّيَادَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: الْبُسْتَانُ إِذَا كَانَ فِي رَبْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ كَانَ أَحْسَنَ وَأَكْثَرَ رَيْعًا. وَلِي فِيهِ إِشْكَالٌ: وَهُوَ أَنَّ الْبُسْتَانَ إِذَا كَانَ فِي مُرْتَفَعٍ مِنَ الْأَرْضِ كَانَ فَوْقَ الْمَاءِ وَلَا تَرْتَفِعُ إِلَيْهِ أَنْهَارٌ وَتَضْرِبُهُ الرِّيَاحُ كَثِيرًا فَلَا يَحْسُنُ رَيْعُهُ، وَإِذَا كَانَ فِي وَهْدَةٍ مِنَ الْأَرْضِ انْصَبَّتْ مِيَاهُ الْأَنْهَارِ، وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ إِثَارَةُ الرِّيَاحِ فَلَا يَحْسُنُ أَيْضًا رَيْعُهُ، فَإِذَنِ الْبُسْتَانُ إِنَّمَا يَحْسُنُ رَيْعُهُ إِذَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ الْمُسْتَوِيَةِ الَّتِي لَا تَكُونُ رَبْوَةً وَلَا وَهْدَةً، فَإِذَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الرَّبْوَةِ مَا ذَكَرُوهُ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ كَوْنُ الْأَرْضِ طِينًا حُرًّا، بِحَيْثُ إِذَا نَزَلَ الْمَطَرُ عَلَيْهِ انْتَفَخَ وَرَبَا وَنَمَا، فَإِنَّ الْأَرْضَ متى كانت على هذه الصفة يكثر ربعها، وَتَكْمُلُ الْأَشْجَارُ فِيهَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ مُتَأَكَّدٌ بِدَلِيلَيْنِ أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الْحَجِّ: 5] وَالْمُرَادُ مِنْ رَبْوِهَا مَا ذَكَرْنَا فَكَذَا هاهنا وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا الْمَثَلَ فِي مُقَابَلَةِ الْمَثَلِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ كَانَ الْمَثَلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّفْوَانَ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْمَطَرُ، وَلَا يَرْبُو، وَلَا يَنْمُو بِسَبَبِ نُزُولِ الْمَطَرِ عَلَيْهِ، فَكَانَ الْمُرَادُ

[سورة البقرة (2) : آية 266]

بِالرَّبْوَةِ فِي هَذَا الْمَثَلِ كَوْنَ الْأَرْضِ بِحَيْثُ تَرْبُو وَتَنْمُو، فَهَذَا مَا خَطَرَ بِبَالِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو أُكُلَها بِالتَّخْفِيفِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّثْقِيلِ، وَهُوَ الْأَصْلُ، وَالْأُكُلُ بِالضَّمِّ الطَّعَامُ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُؤْكَلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها [إِبْرَاهِيمَ: 25] أَيْ ثَمَرَتَهَا وَمَا يُؤْكَلُ مِنْهَا، فَالْأَكْلُ فِي الْمَعْنَى مِثْلُ الطُّعْمَةِ، وَأَنْشَدَ الْأَخْفَشُ: فَمَا أَكْلَةٌ إِنْ نِلْتَهَا بِغَنِيمَةٍ ... وَلَا جَوْعَةٌ إِنْ جُعْتَهَا بِقِرَامِ وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: يُقَالُ إِنَّهُ لَذُو أَكْلٍ إِذَا كَانَ لَهُ حَظٌّ مِنَ الدُّنْيَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ يَعْنِي مِثْلَيْنِ لِأَنَّ ضِعْفَ الشَّيْءِ مِثْلُهُ زَائِدًا عَلَيْهِ، وَقِيلَ ضِعْفُ الشَّيْءِ مِثْلَاهُ قَالَ عَطَاءٌ: حَمَلَتْ فِي سَنَةٍ مِنَ الرَّيْعِ مَا يَحْمِلُ غَيْرُهَا فِي سَنَتَيْنِ، وَقَالَ الْأَصَمُّ: ضِعْفُ مَا يَكُونُ فِي غَيْرِهَا، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: مِثْلَيْ مَا كَانَ يُعْهَدُ مِنْهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ الطل: مطر صغير الفطر، ثُمَّ فِي الْمَعْنَى وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْجَنَّةَ إِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَيُصِيبُهَا مَطَرٌ دُونَ الْوَابِلِ، إِلَّا أَنَّ ثَمَرَتَهَا بَاقِيَةٌ بِحَالِهَا عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَنْقُصُ بِسَبَبِ انْتِقَاصِ الْمَطَرِ وَذَلِكَ بِسَبَبِ كَرَمِ الْمَنْبَتِ الثَّانِي: مَعْنَى الْآيَةِ إِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ حَتَّى تُضَاعَفَ ثَمَرَتُهَا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُصِيبَهَا طَلٌّ يُعْطِي ثَمَرًا دُونَ ثَمَرِ الْوَابِلِ، فَهِيَ عَلَى جَمِيعِ الأحوال لا تخلوا مِنْ أَنْ تُثْمِرَ، فَكَذَلِكَ مَنْ أَخْرَجَ صَدَقَةً لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَضِيعُ كَسْبُهُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالْمُرَادُ مِنَ الْبَصِيرِ الْعَلِيمُ، أَيْ هُوَ تَعَالَى عَالِمٌ بِكَمِّيَّةِ النَّفَقَاتِ وَكَيْفِيَّتِهَا، وَالْأُمُورِ الْبَاعِثَةِ عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ تَعَالَى مُجَازٍ بِهَا إِنْ خيراً فخير وإن شرًّا فشر. [سورة البقرة (2) : آية 266] أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مَثَلٌ آخَرُ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ مَنْ يُتْبِعُ إِنْفَاقَهُ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَالْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ جَنَّةً فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالنِّهَايَةِ، كَثِيرَةَ النَّفْعِ، وَكَانَ الْإِنْسَانُ فِي غَايَةِ الْعَجْزِ عَنِ الْكَسْبِ وَفِي غَايَةِ شِدَّةِ الْحَاجَةِ، وَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ كَذَلِكَ فَلَهُ ذُرِّيَّةٌ أَيْضًا فِي غَايَةِ الْحَاجَةِ، وَفِي غَايَةِ الْعَجْزِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَهُ مُحْتَاجًا أَوْ عَاجِزًا مَظِنَّةُ الشَّدَّةِ وَالْمِحْنَةِ، وَتَعَلُّقُ جَمْعٍ مِنَ الْمُحْتَاجِينَ الْعَاجِزِينَ بِهِ زِيَادَةُ مِحْنَةٍ عَلَى مِحْنَةٍ، فَإِذَا أَصْبَحَ الْإِنْسَانُ وَشَاهَدَ تِلْكَ الْجَنَّةَ مُحْرَقَةً بِالْكُلِّيَّةِ، فَانْظُرْ كَمْ يَكُونُ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْغَمِّ وَالْحَسْرَةِ، وَالْمِحْنَةِ وَالْبَلِيَّةِ تَارَةً بِسَبَبِ أَنَّهُ ضَاعَ مِثْلُ ذَلِكَ الْمَمْلُوكِ الشَّرِيفِ النَّفِيسِ، وَثَانِيًا: بِسَبَبِ أَنَّهُ بَقِيَ فِي الْحَاجَةِ وَالشِّدَّةِ مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الِاكْتِسَابِ وَالْيَأْسِ عَنْ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ أَحَدٌ شَيْئًا، وَثَالِثًا: بِسَبَبِ تَعَلُّقِ غَيْرِهِ بِهِ، وَمُطَالَبَتِهِمْ إِيَّاهُ بِوُجُوهِ النَّفَقَةِ، فَكَذَلِكَ مَنْ أَنْفَقَ لِأَجْلِ اللَّهِ، كَانَ ذَلِكَ نَظِيرًا لِلْجَنَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، كَذَلِكَ الشَّخْصُ الْعَاجِزُ الَّذِي يَكُونُ كُلُّ اعْتِمَادِهِ فِي وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ عَلَى تِلْكَ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا إِذَا أَعْقَبَ إِنْفَاقَهُ بِالْمَنِّ أَوْ بِالْأَذَى كَانَ ذَلِكَ كَالْإِعْصَارِ الَّذِي يحرق تلك الجنّة،

الْحَسْرَةُ وَالْحَيْرَةُ وَالنَّدَامَةُ فَكَذَا هَذَا الْمَالُ الْمُؤْذِي إِذَا قُدِّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَانَ فِي غَايَةِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِثَوَابِ عَمَلِهِ، لَمْ يَجِدْ هُنَاكَ شَيْئًا فَيَبْقَى لَا مَحَالَةَ فِي أَعْظَمِ غَمٍّ، وَفِي أَكْمَلِ حَسْرَةٍ وَحَيْرَةٍ، وَهَذَا الْمَثَلُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَنِهَايَةِ الْكَمَالِ، وَلْنَذْكُرْ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَلْفَاظِ الْآيَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ فيه مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوِدُّ، هُوَ الْمَحَبَّةُ الْكَامِلَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْهَمْزَةُ فِي أَيَوَدُّ اسْتِفْهَامٌ لِأَجْلِ الْإِنْكَارِ، وَإِنَّمَا قَالَ: أَيَوَدُّ وَلَمْ يَقُلْ أَيُرِيدُ لِأَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَوَدَّةَ هِيَ الْمَحَبَّةُ التَّامَّةُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَحَبَّةَ كُلِّ أَحَدٍ لِعَدَمِ هَذِهِ الْحَالَةِ مَحَبَّةٌ كَامِلَةٌ تَامَّةٌ فَلَمَّا كَانَ الْحَاصِلُ هُوَ مَوَدَّةَ عَدَمِ هَذِهِ الْحَالَةِ ذَكَرَ هَذَا اللَّفْظَ فِي جَانِبِ الثُّبُوتِ فَقَالَ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ حُصُولُ مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ تَنْبِيهًا عَلَى الْإِنْكَارِ التَّامِّ، وَالنَّفْرَةِ الْبَالِغَةِ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي لَا مَرْتَبَةَ فَوْقَهُ. أَمَّا قَوْلُهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ هَذِهِ الجنة بصفات ثلاث: الصفة الأول كَوْنُهَا مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَنَّةَ تَكُونُ مُحْتَوِيَةً عَلَى النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، وَلَا تَكُونُ الْجَنَّةُ مِنَ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ إِلَّا أَنَّ بِسَبَبِ كَثْرَةِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، صَارَ كَأَنَّ الْجَنَّةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِنَ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، وَإِنَّمَا خَصَّ النَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا أَشْرَفُ الْفَوَاكِهِ وَلِأَنَّهُمَا أَحْسَنُ الْفَوَاكِهِ مَنَاظِرَ حِينَ تَكُونُ بَاقِيَةً عَلَى أَشْجَارِهَا. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا سَبَبٌ لِزِيَادَةِ الْحُسْنِ في هذه الجنة. الصفة الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا يَكُونُ سَبَبًا لِكَمَالِ حَالِ هَذَا الْبُسْتَانِ فَهَذِهِ هِيَ الصِّفَاتُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْجَنَّةَ بِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْجَنَّةَ تَكُونُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، لِأَنَّهَا مَعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ حَسَنَةُ الرُّؤْيَةِ وَالْمَنْظَرِ كَثِيرَةُ النَّفْعِ وَالرَّيْعِ، وَلَا تُمْكِنُ الزيادة في الحسن الْجَنَّةِ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذلك شرع شَرَعَ فِي بَيَانِ شِدَّةِ حَاجَةِ الْمَالِكِ إِلَى هَذِهِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا صَارَ كَبِيرًا، وَعَجَزَ عَنِ الِاكْتِسَابِ كَثُرَتْ جِهَاتُ حَاجَاتِهِ فِي مَطْعَمِهِ، وَمَلْبَسِهِ، وَمَسْكَنِهِ، وَمَنْ يَقُومُ بِخِدْمَتِهِ، وَتَحْصِيلِ مَصَالِحِهِ، فَإِذَا تَزَايَدَتْ جِهَاتُ الْحَاجَاتِ وَتَنَاقَصَتْ جِهَاتُ الدَّخْلِ وَالْكَسْبِ، إِلَّا مِنْ تِلْكَ الْجَنَّةِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِي نِهَايَةِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى تِلْكَ الْجَنَّةِ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ عَطَفَ وَأَصابَهُ عَلَى أَيَوَدُّ وَكَيْفَ يَجُوزُ عَطْفُ الْمَاضِي عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ. قُلْنَا الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» (الْوَاوُ) لِلْحَالِ لَا لِلْعَطْفِ، وَمَعْنَاهُ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ حَالَ مَا أَصَابَهُ الْكِبَرُ ثُمَّ إِنَّهَا تُحْرَقُ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي قَالَ الْفَرَّاءُ: وَدِدْتُ أَنْ يَكُونَ كَذَا وَوَدِدْتُ لَوْ كَانَ كَذَا فَحَمَلَ الْعَطْفَ عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قِيلَ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أن تكون له جنة إِنْ كَانَ لَهُ جَنَّةٌ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى زَادَ فِي بَيَانِ احْتِيَاجِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ إِلَى تِلْكَ الْجَنَّةِ فَقَالَ: وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ وَالْمُرَادُ مِنْ ضَعْفِ الذُّرِّيَّةِ: الضَّعْفُ بِسَبَبِ الصِّغَرِ وَالطُّفُولِيَّةِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ كَانَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ

[سورة البقرة (2) : آية 267]

إِلَى تِلْكَ الْجَنَّةِ بِسَبَبِ الشَّيْخُوخَةِ وَالْكِبَرِ، وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ بِسَبَبِ الطُّفُولِيَّةِ وَالصِّغَرِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ وَالْإِعْصَارُ رِيحٌ تَرْتَفِعُ وَتَسْتَدِيرُ نَحْوَ السَّمَاءِ/ كَأَنَّهَا عَمُودٌ، وَهِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا النَّاسُ الزَّوْبَعَةَ، وَهِيَ رِيحٌ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ وَمِنْهُ قول شاعر: إِنْ كُنْتَ رِيحًا فَقَدْ لَاقَيْتَ إِعْصَارَا وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْمَثَلِ بَيَانُ أَنَّهُ يَحْصُلُ فِي قَلْبِ هَذَا الْإِنْسَانِ مِنَ الْغَمِّ وَالْمِحْنَةِ وَالْحَسْرَةِ وَالْحَيْرَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَكَذَلِكَ مَنْ أَتَى بِالْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، بَلْ يَقْرِنُ بِهَا أُمُورًا تُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا مُوجِبَةً لِلثَّوَابِ، فَحِينَ يَقْدُمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ حِينَئِذٍ فِي غَايَةِ الْحَاجَةِ وَنِهَايَةِ الْعَجْزِ عَنِ الِاكْتِسَابِ عَظُمَتْ حَسْرَتُهُ وَتَنَاهَتْ حَيْرَتُهُ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزُّمَرِ: 47] وَقَوْلُهُ وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الْفُرْقَانِ: 23] . ثُمَّ قَالَ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أَيْ كَمَا بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَدَلَائِلَهُ فِي هَذَا الْبَابِ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَدَلَائِلَهُ فِي سَائِرِ أُمُورِ الدِّينِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ. وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ: لَعَلَّ، لِلتَّرَجِّي وَهُوَ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ تَمَسَّكُوا بِهِ فِي أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنَ الْكُلِّ الْإِيمَانَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مراراً. [سورة البقرة (2) : آية 267] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ اعلم أنه رَغَّبَ فِي الْإِنْفَاقِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُ مَا يَتْبَعُهُ الْمَنُّ وَالْأَذَى، وَمِنْهُ مَا لَا يَتْبَعُهُ ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى شَرَحَ مَا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، وَضَرَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَثَلًا يَكْشِفُ عَنِ الْمَعْنَى وَيُوَضِّحُ الْمَقْصُودَ مِنْهُ عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمَالَ الَّذِي أَمَرَ بِإِنْفَاقِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَقَالَ: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ أَنْفِقُوا الْمُرَادُ مِنْهُ مَاذَا فَقَالَ الْحَسَنُ/ الْمُرَادُ مِنْهُ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ مِنْهُ التَّطَوُّعُ وَقَالَ ثَالِثٌ: إِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ، حُجَّةُ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ مِنْهُ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ أَنَّ قَوْلَهُ أَنْفِقُوا أَمْرٌ وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَالْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ لَيْسَ إِلَّا الزَّكَاةَ وَسَائِرَ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ، حُجَّةُ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَصَدَّقُونَ بِشِرَارِ ثِمَارِهِمْ وَرَدِيءِ أَمْوَالِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: جَاءَ رَجُلٌ ذَاتَ يَوْمٍ بِعِذْقِ حَشَفٍ فَوَضَعَهُ فِي الصَّدَقَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِئْسَ مَا صَنَعَ صَاحِبُ هَذَا» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، حُجَّةُ مَنْ قَالَ الْفَرْضُ وَالنَّفْلُ دَاخِلَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْأَمْرِ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْفِعْلِ عَلَى

جَانِبِ التَّرْكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّرْكُ أَوْ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَا دَاخِلَيْنِ تَحْتَ الْأَمْرِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ فَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ مَالٍ يَكْتَسِبُهُ الْإِنْسَانُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ، وَزَكَاةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَزَكَاةُ النَّعَمِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُكْتَسَبٌ، وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ، عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاسْتِدْلَالُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ ظَاهِرٌ جِدًّا، إِلَّا أَنَّ مُخَالِفِيهِ خَصَّصُوا هَذَا الْعُمُومَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فِي الْخُضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ» وَأَيْضًا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ مِنْ كُلِّ مَا أَنْبَتَتْهُ الْأَرْضُ وَاجِبٌ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ إِلَّا أَنَّ مُخَالِفِيهِ خَصَّصُوا هَذَا الْعُمُومَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالطَّيِّبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْجَيِّدُ مِنَ الْمَالِ دُونَ الرَّدِيءِ، فَأَطْلَقَ لَفْظَ الطَّيِّبِ عَلَى الْجَيِّدِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَالْمُرَادُ مِنَ الْخَبِيثِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الرَّدِيءُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّ الطَّيِّبَ هُوَ الْحَلَّالُ، وَالْخَبِيثَ هُوَ الْحَرَامُ حُجَّةُ الْأَوَّلِ وُجُوهٌ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّا ذَكَرْنَا فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَنَّهُمْ يَتَصَدَّقُونَ بِرَدِيءِ أَمْوَالِهِمْ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الطَّيِّبِ الْجَيِّدُ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمُحَرَّمَ لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ لَا بِإِغْمَاضٍ وَلَا بِغَيْرِ إِغْمَاضٍ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَبِيثَ يَجُوزُ أَخْذُهُ بِالْإِغْمَاضِ قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِغْمَاضِ الْمُسَامَحَةُ وَتَرْكُ الِاسْتِقْصَاءِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إِلَّا أَنْ تُرَخِّصُوا لِأَنْفُسِكُمْ أَخْذَ الْحَرَامِ، وَلَا تُبَالُوا مِنْ أَيِّ وَجْهٍ أَخَذْتُمُ الْمَالَ، أَمِنْ حَلَالِهِ أَوْ مِنْ حَرَامِهِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُتَأَيِّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آلِ عِمْرَانَ: 92] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّيِّبَاتِ الْأَشْيَاءُ النَّفِيسَةُ الَّتِي يُسْتَطَابُ مِلْكُهَا، لَا الْأَشْيَاءُ الْخَسِيسَةُ الَّتِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ دَفْعُهَا عَنْ نَفْسِهِ وَإِخْرَاجُهَا عَنْ بَيْتِهِ، وَاحْتَجَّ الْقَاضِي لِلْقَوْلِ الثَّانِي فَقَالَ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الطَّيِّبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِمَّا الْجَيِّدُ وَإِمَّا الْحَلَالُ، فَإِذَا بَطَلَ الْأَوَّلُ تَعَيَّنَ الثَّانِي، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ بَطَلَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْمُرَادَ لَوْ كَانَ هُوَ الْجَيِّدَ لَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا بِإِنْفَاقِ مُطْلَقِ الْجَيِّدِ سَوَاءٌ كَانَ حَرَامًا أَوْ حَلَالًا وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وَالْتِزَامُ التَّخْصِيصِ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ هُوَ الْجَيِّدَ بَلِ الْحَلَالَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُذْكَرَ فِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ المراد من الطيب هاهنا مَا يَكُونُ طَيِّبًا مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ فَيَكُونُ طَيِّبًا بِمَعْنَى الْحَلَالِ، وَيَكُونُ طَيِّبًا بِمَعْنَى الْجَوْدَةِ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ حَمْلُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَفْهُومَيْهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّا نَقُولُ الْحَلَالُ إِنَّمَا سُمِّيَ طَيِّبًا لِأَنَّهُ يَسْتَطِيبُهُ الْعَقْلُ وَالدِّينُ، وَالْجَيِّدُ إِنَّمَا يُسَمَّى طَيِّبًا لِأَنَّهُ يَسْتَطِيبُهُ الْمَيْلُ وَالشَّهْوَةُ، فَمَعْنَى الِاسْتِطَابَةِ مَفْهُومٌ وَاحِدٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، فَكَانَ اللَّفْظُ مَحْمُولًا عَلَيْهِ إِذَا أُثْبِتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجَيِّدُ الْحَلَالُ فَنَقُولُ: الْأَمْوَالُ الزَّكَاتِيَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ

كُلُّهَا شَرِيفَةً أَوْ كُلُّهَا خَسِيسَةً أَوْ تَكُونَ مُتَوَسِّطَةً أَوْ تَكُونَ مُخْتَلِطَةً، فَإِنْ كَانَ الْكُلُّ شَرِيفًا كَانَ الْمَأْخُوذُ بِحِسَابِ الزَّكَاةِ كَذَلِكَ، وَإِنْ كان الكل خسيساً كان الزَّكَاةُ أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ الْخَسِيسِ وَلَا يَكُونُ خِلَافًا لِلْآيَةِ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَكُونُ خَسِيسًا مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ بَلْ إِنْ كَانَ فِي الْمَالِ جَيِّدٌ وَرَدِيءٌ، فَحِينَئِذٍ يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ لَا تَجْعَلِ الزَّكَاةَ مِنْ رَدِيءِ مَالِكَ وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَالُ مُخْتَلِطًا فَالْوَاجِبُ هُوَ الْوَسَطُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ «أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتَرُدُّ إِلَى فُقَرَائِهِمْ وَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ» هَذَا كُلُّهُ إِذَا قُلْنَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، أَوْ قُلْنَا الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ وَالتَّطَوُّعُ، فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَدَبَهُمْ إِلَى أَنْ يَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِأَفْضَلِ مَا يَمْلِكُونَهُ، كَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَى السُّلْطَانِ الْكَبِيرِ بِتُحْفَةٍ وَهَدِيَّةٍ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ تِلْكَ التُّحْفَةُ أَفْضَلَ مَا فِي مُلْكِهِ وَأَشْرَفَهَا، فَكَذَا هاهنا، بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ مَا الْفَائِدَةُ فِي كَلِمَةِ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ. وَجَوَابُهُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ، وَأَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، إِلَّا أَنَّ ذِكْرَ الطَّيِّبَاتِ لَمَّا حَصَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً حُذِفَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ لِدَلَالَةِ الْمَرَّةِ الْأُولَى عَلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: أَمَمْتُهُ، وَيَمَّمْتُهُ، وَتَأَمَّمْتُهُ، كُلُّهُ بِمَعْنَى قَصَدْتُهُ قَالَ الْأَعْشَى: تَيَمَّمْتُ قَيْسًا وَكَمْ دُونَهُ ... مِنَ الْأَرْضِ مِنْ مَهْمَهٍ ذِي شَرَفِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحْدَهُ وَلا تَيَمَّمُوا بِتَشْدِيدِ التَّاءِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَصْلِ تَاءَانِ تَاءُ الْمُخَاطَبَةِ، وَتَاءُ الْفِعْلِ فَأُدْغِمَ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ مُخَفَّفَةً وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ فِي أَخَوَاتِهَا، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ مَوْضِعًا: لَا تَفَرَّقُوا، تَوَفَّاهُمُ، تَعَاوَنُوا، فَتَفَرَّقَ بِكُمْ، تَلْقَفُ، تَوَلَّوْا، تَنَازَعُوا، تَرَبَّصُونَ، فَإِنْ تَوَلَّوْا، لَا تَكَلَّمُ، تَلَقَّوْنَهُ، تَبَرَّجْنَ، تَبَدَّلَ، تَنَاصَرُونَ، تَجَسَّسُوا، تَنَابَزُوا، لِتَعَارَفُوا، تَمَيَّزُ، تَخَيَّرُونَ، تلهى، تلظى، تنزل الملائكة، وهاهنا بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا الْإِدْغَامُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الْمُدْغَمَ يُسَكَّنُ وَإِذَا سُكِّنَ لَزِمَ أَنْ تُجْلَبَ هَمْزَةُ الْوَصْلِ عِنْدَ الِابْتِدَاءِ بِهِ، كَمَا جُلِبَتْ فِي أَمْثِلَةِ الْمَاضِي نَحْوَ: ادَّارَأْتُمْ، وَارْتَبْتُمْ وَاطَّيَّرْنَا، لَكِنْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَمْزَةَ الْوَصْلِ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي التَّاءِ الْمَحْذُوفَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ التَّاءُ الْأُولَى وَسِيبَوَيْهِ لَا يُسْقِطُ إِلَّا الثَّانِيَةَ، وَالْفَرَّاءُ يَقُولُ: أَيُّهُمَا أُسْقِطَتْ جَازَ لِنِيَابَةِ الْبَاقِيَةِ عَنْهَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْهُ تُنْفِقُونَ. فَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ نَظْمِ الْآيَةِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ ثُمَّ ابْتَدَأَ، فَقَالَ: مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ فَقَوْلُهُ مِنْهُ تُنْفِقُونَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَالْمَعْنَى: أَمِنَهُ تُنْفِقُونَ مَعَ أَنَّكُمْ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا مَعَ الْإِغْمَاضِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَتِمُّ عِنْدَ قَوْلِهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَيَكُونُ الَّذِي مُضْمَرًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ الَّذِي تُنْفِقُونَهُ وَلَسْتُمْ بآخذيه إلا

[سورة البقرة (2) : آية 268]

بالإغماض فِيهِ، وَنَظِيرُهُ إِضْمَارُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها [الْبَقَرَةِ: 256] وَالْمَعْنَى الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْإِغْمَاضُ فِي اللُّغَةِ غَضُّ الْبَصَرِ، وَإِطْبَاقُ جَفْنٍ عَلَى جَفْنٍ وَأَصْلُهُ مِنَ الْغُمُوضِ، وَهُوَ الْخَفَاءُ يُقَالُ: هَذَا الْكَلَامُ غَامِضٌ أَيْ خَفِيُّ الْإِدْرَاكِ وَالْغَمْضُ الْمُتَطَامِنُ الْخَفِيُّ مِنَ الْأَرْضِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَعْنَى الْإِغْمَاضِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أن المراد بالإغماض هاهنا الْمُسَاهَلَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ أَغْمَضَ عَيْنَيْهِ لِئَلَّا يَرَى ذَلِكَ ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ حَتَّى جُعِلَ كُلُّ تَجَاوُزٍ وَمُسَاهَلَةٍ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ إِغْمَاضًا، فَقَوْلُهُ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ يَقُولُ لَوْ أَهْدِيَ إِلَيْكُمْ مِثْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَمَا أَخَذْتُمُوهَا إِلَّا عَلَى اسْتِحْيَاءٍ وَإِغْمَاضٍ، فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ لِي مَا لَا تَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِكُمْ وَالثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ الْإِغْمَاضُ عَلَى الْمُتَعَدِّي كَمَا تَقُولُ: أَغْمَضْتُ بَصَرَ الْمَيِّتِ وَغَمَّضْتُهُ وَالْمَعْنَى وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا إِذَا أَغْمَضْتُمْ بَصَرَ الْبَائِعِ يَعْنِي أَمَرْتُمُوهُ بِالْإِغْمَاضِ وَالْحَطِّ مِنَ الثَّمَنِ. ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ صَدَقَاتِكُمْ، وَمَعْنَى حَمِيدٌ، أَيْ/ مَحْمُودٌ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِالْبَيَانِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ غَنِيٌّ كَالتَّهْدِيدِ عَلَى إِعْطَاءِ الْأَشْيَاءِ الرَّدِيئَةِ في الصدقات وحَمِيدٌ بِمَعْنَى حَامِدٍ أَيْ أَنَا أَحْمَدُكُمْ عَلَى مَا تَفْعَلُونَهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. [سورة البقرة (2) : آية 268] الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا رَغَّبَ الْإِنْسَانَ فِي إِنْفَاقِ أَجْوَدِ مَا يَمْلِكُهُ حَذَرَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فَقَالَ: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ أَيْ يُقَالُ إِنْ أَنْفَقْتَ الْأَجْوَدَ صِرْتَ فَقِيرًا فَلَا تُبَالِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ الرَّحْمَنَ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الشَّيْطَانِ فَقِيلَ إِبْلِيسُ وَقِيلَ سَائِرُ الشَّيَاطِينِ وَقِيلَ شَيَاطِينُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَقِيلَ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَعْدُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْحَجِّ: 72] وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَحْمُولًا عَلَى التَّهَكُّمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْفَقْرُ وَالْفُقْرُ لُغَتَانِ، وَهُوَ الضَّعِيفُ بِسَبَبِ قِلَّةِ الْمَالِ وَأَصْلُ الْفَقْرِ فِي اللُّغَةِ كَسْرُ الْفَقَارِ، يُقَالُ: رَجُلٌ فَقِرٌ وَفَقِيرٌ إِذَا كَانَ مَكْسُورَ الْفَقَارِ، قَالَ طَرفَةُ. إِنَّنِي لَسْتُ بمرهون فقر قال صاحب «الكشاف» : قريء الْفُقْرُ بِالضَّمِّ وَالْفَقَرُ بِفَتْحَتَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَمَّا الْكَلَامُ فِي حَقِيقَةِ الْوَسْوَسَةِ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فِي تَفْسِيرِ (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ

الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً وَهِيَ الْإِيعَادُ بِالشَّرِّ، وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً وَهِيَ الْوَعْدُ بِالْخَيْرِ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ وَجَدَ الْأَوَّلَ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَوَى الْحَسَنُ، قَالَ بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَعْلَمَ مَكَانَ الشَّيْطَانِ مِنْهُ فَلْيَتَأَمَّلْ مَوْضِعَهُ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي مِنْهُ يَجِدُ الرَّغْبَةَ فِي فِعْلِ الْمُنْكَرِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفَحْشَاءَ هِيَ الْبُخْلُ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ أَيْ وَيُغْرِيكُمْ عَلَى الْبُخْلِ إِغْرَاءَ الْآمِرِ لِلْمَأْمُورِ وَالْفَاحِشُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْبَخِيلُ، قَالَ طَرَفَةُ: / أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ وَيَعْتَامُ مَنْقُولٌ مَنْ عَامَ فُلَانٌ إِلَى اللَّبَنِ إِذَا اشْتَهَاهُ وَأَرَادَ بِالْفَاحِشِ الْبَخِيلَ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [الْعَادِيَاتِ: 8] وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى لَطِيفَةٍ وَهِيَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُهُ أَوَّلًا بِالْفَقْرِ ثُمَّ يَتَوَصَّلُ بِهَذَا التَّخْوِيفِ إِلَى أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْفَحْشَاءِ وَيُغْرِيَهُ بِالْبُخْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبُخْلَ صِفَةٌ مَذْمُومَةٌ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ فَالشَّيْطَانُ لَا يُمْكِنُهُ تَحْسِينُ الْبُخْلِ فِي عَيْنِهِ إِلَّا بِتَقْدِيمِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ، وَهِيَ التَّخْوِيفُ مِنَ الْفَقْرِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْفَحْشَاءِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَقُولُ: لَا تُنْفِقِ الْجَيِّدَ مِنْ مَالِكَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ لِئَلَّا تَصِيرَ فَقِيرًا، فَإِذَا أَطَاعَ الرَّجُلُ الشَّيْطَانَ فِي ذَلِكَ زَادَ الشَّيْطَانُ، فَيَمْنَعُهُ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي الْكُلِّيَّةِ حَتَّى لَا يُعْطِيَ لَا الْجَيِّدَ وَلَا الرَّدِيءَ وَحَتَّى يَمْنَعَ الْحُقُوقَ الْوَاجِبَةَ، فَلَا يُؤَدِّي الزَّكَاةَ وَلَا يَصِلُ الرَّحِمَ وَلَا يَرُدُّ الْوَدِيعَةَ، فَإِذَا صَارَ هَكَذَا سَقَطَ وَقْعُ الذُّنُوبِ عَنْ قَلْبِهِ وَيَصِيرُ غَيْرَ مُبَالٍ بِارْتِكَابِهَا، وَهُنَاكَ يَتَّسِعُ الْخَرْقُ وَيَصِيرُ مِقْدَامًا عَلَى كُلِّ الذُّنُوبِ، وَذَلِكَ هُوَ الْفَحْشَاءُ وَتَحْقِيقُهُ أَنْ لِكُلِّ خَلْقٍ طَرَفَيْنِ وَوَسَطًا فَالطَّرَفُ الْكَامِلُ هُوَ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَبْذُلُ كُلَّ مَا يَمْلِكُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْجَيِّدَ وَالرَّدِيءَ وَالطَّرَفُ الْفَاحِشُ النَّاقِصُ لَا يُنْفِقُ شَيْئًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا الْجَيِّدَ وَلَا الرَّدِيءَ وَالْأَمْرُ الْمُتَوَسِّطُ أَنْ يَبْخَلَ بِالْجَيِّدِ وَيُنْفِقَ الرَّدِيءَ، فَالشَّيْطَانُ إِذَا أَرَادَ نَقْلَهُ مِنَ الطَّرَفِ الْفَاضِلِ إِلَى الطَّرَفِ الْفَاحِشِ، لَا يُمْكِنُهُ إِلَّا بِأَنْ يَجُرَّهُ إِلَى الْوَسَطِ، فَإِنْ عَصَى الْإِنْسَانُ الشَّيْطَانَ فِي هَذَا الْمَقَامِ انْقَطَعَ طَمَعُهُ عَنْهُ، وَإِنْ أَطَاعَهُ فِيهِ طَمِعَ فِي أَنْ يَجُرَّهُ مِنَ الْوَسَطِ إِلَى الطَّرَفِ الْفَاحِشِ، فَالْوَسَطُ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَالطَّرْفُ الْفَاحِشُ قَوْلُهُ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دَرَجَاتِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ أَرْدَفَهَا بِذِكْرِ إِلْهَامَاتِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا فَالْمَغْفِرَةُ إِشَارَةٌ إِلَى مَنَافِعِ الْآخِرَةِ، وَالْفَضْلُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخَلْقِ، وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمَلَكَ يُنَادِي كُلَّ لَيْلَةٍ «اللَّهُمَّ أَعْطِ كُلَّ مُنْفِقٍ خَلَفًا وَكُلَّ مُمْسِكٍ تَلَفًا» . وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَعِدُكَ الْفَقْرَ فِي غَدِ دُنْيَاكَ، وَالرَّحْمَنُ يَعِدُكَ الْمَغْفِرَةَ فِي غَدِ عُقْبَاكَ، وَوَعْدُ الرَّحْمَنِ فِي غَدِ الْعُقْبَى أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ وِجْدَانَ غَدِ الدُّنْيَا مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَوِجْدَانَ غَدِ الْعُقْبَى مُتَيَقِّنٌ مَقْطُوعٌ بِهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ وِجْدَانِ غَدِ الدُّنْيَا، فَقَدْ يَبْقَى الْمَالُ الْمَبْخُولُ بِهِ، وَقَدْ لَا يَبْقَى وَعِنْدَ وِجْدَانِ غَدِ الْعُقْبَى لَا بُدَّ مِنْ وِجْدَانِ الْمَغْفِرَةِ الْمَوْعُودِ بِهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ الصَّادِقُ الَّذِي يَمْتَنِعُ وُجُودُ الْكَذِبِ فِي كَلَامِهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ بَقَاءِ الْمَالِ الْمَبْخُولِ بِهِ فِي غَدِ الدُّنْيَا، فَقَدْ يَتَمَكَّنُ الْإِنْسَانُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَقَدْ لَا يَتَمَكَّنُ إِمَّا بِسَبَبِ خَوْفٍ أَوْ مَرَضٍ أَوِ اشْتِغَالٍ بِمُهِمٍّ آخَرَ وَعِنْدَ وِجْدَانِ غَدِ الْعُقْبَى الِانْتِفَاعُ حَاصِلٌ بِمَغْفِرَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ حُصُولِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَالِ الْمَبْخُولِ بِهِ في غَدِ الدُّنْيَا لَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الِانْتِفَاعَ/ يَنْقَطِعُ وَلَا يَبْقَى، وَأَمَّا الِانْتِفَاعُ بِمَغْفِرَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ فَهُوَ الْبَاقِي الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ وَلَا يَزُولُ، وَخَامِسُهَا: أَنَّ

[سورة البقرة (2) : آية 269]

الِانْتِفَاعَ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا مَشُوبٌ بِالْمَضَارِّ، فَلَا تَرَى شَيْئًا مِنَ اللَّذَّاتِ إِلَّا وَيَكُونُ سَبَبًا لِلْمِحْنَةِ مَنْ أَلْفِ وَجْهٍ بِخِلَافِ مَنَافِعِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهَا خَالِصَةٌ عَنِ الشَّوَائِبِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ عَلِمَ أَنَّ الِانْقِيَادَ لِوَعْدِ الرَّحْمَنِ بِالْفَضْلِ وَالْمَغْفِرَةِ أَوْلَى مِنَ الِانْقِيَادِ لِوَعْدِ الشَّيْطَانِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُرَادُ بِالْمَغْفِرَةِ تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ كَمَا قَالَ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التَّوْبَةِ: 103] وَفِي الْآيَةِ لَفْظَانِ يَدُلَّانِ عَلَى كَمَالِ هَذِهِ الْمَغْفِرَةِ أَحَدُهَا: التَّنْكِيرُ فِي لَفْظَةِ الْمَغْفِرَةِ، وَالْمَعْنَى مَغْفِرَةً أَيَّ مَغْفِرَةٍ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ مَغْفِرَةً مِنْهُ فَقَوْلُهُ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ حَالِ هَذِهِ الْمَغْفِرَةِ لِأَنَّ كَمَالَ كَرَمِهِ وَنِهَايَةَ جُودِهِ مَعْلُومٌ لِجَمِيعِ الْعُقَلَاءِ وَكَوْنُ الْمَغْفِرَةِ مِنْهُ مَعْلُومٌ أَيْضًا لِكُلِّ أَحَدٍ فَلَمَّا خَصَّ هَذِهِ الْمَغْفِرَةَ بِأَنَّهَا مِنْهُ عُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ حَالِ هَذِهِ الْمَغْفِرَةِ، لِأَنَّ عِظَمَ الْمُعْطِي يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ الْعَطِيَّةِ، وَكَمَالُ هَذِهِ الْمَغْفِرَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا قَالَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الْفُرْقَانِ: 70] وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَهُ شَفِيعًا فِي غُفْرَانِ ذُنُوبِ سَائِرِ الْمُذْنِبِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَمَالُ تِلْكَ الْمَغْفِرَةِ أَمْرًا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ عَقْلُنَا مَا دُمْنَا فِي دَارِ الدُّنْيَا فَإِنَّ تَفَاصِيلَ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ أَكْثَرُهَا مَحْجُوبَةٌ عَنَّا مَا دُمْنَا فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا مَعْنَى الْفَضْلِ فَهُوَ الْخَلْفُ الْمُعَجَّلُ فِي الدُّنْيَا، وهذا الفضل يحتمل عندي وجوهاًأحدها: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْفَضْلِ الْفَضِيلَةُ الْحَاصِلَةُ لِلنَّفْسِ وَهِيَ فَضِيلَةُ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَرَاتِبَ السَّعَادَةِ ثَلَاثٌ: نَفْسَانِيَّةٌ، وَبَدَنِيَّةٌ، وَخَارِجِيَّةٌ، وَمِلْكُ الْمَالِ مِنَ الْفَضَائِلِ الْخَارِجِيَّةِ وَحُصُولُ خَلْقِ الْجُودِ وَالسَّخَاوَةِ مِنَ الْفَضَائِلِ النَّفْسَانِيَّةِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أَشْرَفَ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ: السِّعَادَاتُ النَّفْسَانِيَّةُ، وَأَخَسَّهَا السِّعَادَاتُ الْخَارِجِيَّةُ فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ إِنْفَاقُ الْمَالِ كَانَتِ السَّعَادَةُ الْخَارِجِيَّةُ حَاصِلَةً وَالنَّقِيضَةُ النَّفْسَانِيَّةُ مَعَهَا حاصلها وَمَتَى حَصَلَ الْإِنْفَاقُ حَصَلَ الْكَمَالُ النَّفْسَانِيُّ وَالنُّقْصَانُ الْخَارِجِيُّ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ أَكْمَلُ، فَثَبَتَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِنْفَاقِ يَقْتَضِي حُصُولَ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ مِنْ حُصُولِ الْفَضْلِ وَالثَّانِيَ: وهو أنه متى حصل مَلَكَةُ الْإِنْفَاقِ زَالَتْ عَنِ الرُّوحِ هَيْئَةُ الِاشْتِغَالِ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَالتَّهَالُكُ فِي مَطَالِبِهَا، وَلَا مَانِعَ لِلرُّوحِ مِنْ تَجَلِّي نُورِ جَلَالِ اللَّهِ لَهَا إِلَّا حُبَّ الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوْلَا أَنَّ الشَّيَاطِينَ يُوحُونَ إِلَى قُلُوبِ بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات» وَإِذَا زَالَ عَنْ وَجْهِ الْقَلْبِ غُبَارُ حُبِّ الدُّنْيَا اسْتَنَارَ بِأَنْوَارِ عَالَمِ الْقُدْسِ وَصَارَ كَالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ وَالْتَحَقَ بِأَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ، وَهَذَا هُوَ الْفَضْلُ لَا غَيْرَ وَالثَّالِثَ: وَهُوَ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ: أَنَّهُ مَهْمَا عُرِفَ مِنَ الْإِنْسَانِ كَوْنُهُ مُنْفِقًا لِأَمْوَالِهِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ مَالَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ فَلَا يُضَايِقُونَهُ فِي مَطَالِبِهِ، فَحِينَئِذٍ تَنْفَتِحُ عَلَيْهِ أَبْوَابُ الدُّنْيَا، وَلِأَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْفَقَ مَالَهُ عَلَيْهِمْ يُعِينُونَهُ بِالدُّعَاءِ وَالْهِمَّةِ فَيَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَبْوَابَ الْخَيْرِ. ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أَيْ أَنَّهُ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ، قَادِرٌ عَلَى إِغْنَائِكُمْ، وَإِخْلَافِ/ مَا تُنْفِقُونَهُ وَهُوَ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا تُنْفِقُونَ، فَهُوَ يُخْلِفُهُ عَلَيْكُمْ. [سورة البقرة (2) : آية 269] يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ المتقدمة أن الشيطان يعد بالفقر وَيَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَأَنَّ الرَّحْمَنَ يَعِدُ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْفَضْلِ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي لِأَجْلِهِ وَجَبَ تَرْجِيحُ وَعْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى وَعْدِ الشَّيْطَانِ هُوَ أن وعد

الرَّحْمَنِ تُرَجِّحُهُ الْحِكْمَةُ وَالْعَقْلُ، وَوَعْدَ الشَّيْطَانِ تُرَجِّحُهُ الشَّهْوَةُ وَالنَّفْسُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمَا يَأْمُرَانِ بِتَحْصِيلِ اللَّذَّةِ الْحَاضِرَةِ وَاتِّبَاعِ أَحْكَامِ الْخَيَالِ وَالْوَهْمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حُكْمَ الْحِكْمَةِ وَالْعَقْلِ هُوَ الْحَكَمُ الصَّادِقُ الْمُبَرَّأُ عَنِ الزَّيْغِ وَالْخَلَلِ، وَحُكْمَ الْحِسِّ وَالشَّهْوَةِ وَالنَّفْسِ تُوقِعُ الْإِنْسَانَ فِي الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ، فَكَانَ حُكْمُ الْحِكْمَةِ وَالْعَقْلِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ، فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى وَجْهِ النَّظْمِ. بَقِيَ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ مِنَ الْحِكْمَةِ إِمَّا الْعِلْمُ وَإِمَّا فِعْلُ الصَّوَابِ يُرْوَى عَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّهُ قَالَ: تَفْسِيرُ الْحِكْمَةِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: مَوَاعِظُ الْقُرْآنِ، قَالَ فِي الْبَقَرَةِ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [الْبَقَرَةِ: 231] يَعْنِي مَوَاعِظَ الْقُرْآنِ وفي النساء وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعْنِي الْمَوَاعِظَ، وَمِثْلُهَا فِي آلِ عِمْرَانَ وَثَانِيهَا: الْحِكْمَةُ بِمَعْنَى الْفَهْمِ وَالْعِلْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مَرْيَمَ: 12] وَفِي لُقْمَانَ وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ [لُقْمَانَ: 12] يَعْنِي الْفَهْمَ وَالْعِلْمَ وَفِي الْأَنْعَامِ أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ [الْأَنْعَامِ: 89] وَثَالِثُهَا: الْحِكْمَةُ بِمَعْنَى النُّبُوَّةِ فِي النِّسَاءِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [النِّسَاءِ: 54] يَعْنِي النُّبُوَّةَ، وَفِي ص وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ [ص: 20] يَعْنِي النُّبُوَّةَ، وَفِي الْبَقَرَةِ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ [الْبَقَرَةِ: 251] وَرَابِعُهَا: الْقُرْآنُ بِمَا فِيهِ مِنْ عَجَائِبِ الْأَسْرَارِ فِي النَّحْلِ ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [النَّحْلِ: 125] وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَجَمِيعُ هَذِهِ الْوُجُوهِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ تَرْجِعُ إِلَى الْعِلْمِ، ثُمَّ تَأْمَّلْ أَيُّهَا الْمِسْكِينُ فَإِنَّهُ تَعَالَى مَا أَعْطَى إِلَّا الْقَلِيلَ مِنَ الْعِلْمِ، قَالَ تَعَالَى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 85] وَسَمَّى الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا قَلِيلًا، فَقَالَ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ [النِّسَاءِ: 77] وَانْظُرْ كَمْ مِقْدَارُ هَذَا الْقَلِيلِ حَتَّى تَعْرِفَ عَظَمَةَ ذَلِكَ الْكَثِيرِ، وَالْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ أَيْضًا يُطَابِقُهُ لِأَنَّ الدُّنْيَا مُتَنَاهِيَةُ الْمِقْدَارِ، مُتَنَاهِيَةُ الْمُدَّةِ، وَالْعُلُومُ لَا نِهَايَةَ لِمَرَاتِبِهَا وَعَدَدِهَا وَمُدَّةِ بَقَائِهَا، وَالسَّعَادَةِ/ الْحَاصِلَةِ مِنْهَا، وَذَلِكَ يُنْبِئُكَ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ قَدْ مَرَّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَةِ: 31] وَأَمَّا الْحِكْمَةُ بِمَعْنَى فِعْلِ الصَّوَابِ فَقِيلَ فِي حَدِّهَا: إِنَّهَا التَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ، ومداد هَذَا الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ تَعَالَى» وَاعْلَمْ أَنَّ الْحِكْمَةَ لَا يُمْكِنُ خُرُوجُهَا عَنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَمَالَ الْإِنْسَانِ فِي شَيْئَيْنِ: أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ، وَالْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، فَالْمَرْجِعُ بِالْأَوَّلِ: إِلَى الْعِلْمِ وَالْإِدْرَاكِ الْمُطَابِقِ، وَبِالثَّانِي: إِلَى فِعْلِ الْعَدْلِ وَالصَّوَابِ، فَحُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً [الشُّعَرَاءِ: 83] وَهُوَ الْحِكْمَةُ النَّظَرِيَّةُ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشُّعَرَاءِ: 83] الْحِكْمَةُ الْعَمَلِيَّةُ، وَنَادَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا وهو الحكمة النظرية، ثم قال: فَاعْبُدْنِي وَهُوَ الْحِكْمَةُ الْعَمَلِيَّةُ، وَقَالَ عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مَرْيَمَ: 30] الْآيَةَ، وَكُلُّ ذَلِكَ لِلْحِكْمَةِ النَّظَرِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مَرْيَمَ: 31] وَهُوَ الْحِكْمَةُ الْعَمَلِيَّةُ، وَقَالَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [مُحَمَّدٍ: 19] وَهُوَ الْحِكْمَةُ النَّظَرِيَّةُ، ثم قال: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر: 55] [مُحَمَّدٍ: 19] وَهُوَ الْحِكْمَةُ الْعَمَلِيَّةُ، وَقَالَ فِي جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا [النَّحْلِ: 2] وَهُوَ الْحِكْمَةُ النظرية: ثم قال: فَاتَّقُونِ وَهُوَ الْحِكْمَةُ الْعَمَلِيَّةُ، وَالْقُرْآنُ هُوَ مِنَ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ كَمَالَ حَالِ الْإِنْسَانِ لَيْسَ إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الْقُوَّتَيْنِ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْحِكْمَةُ فِعْلَةٌ مِنَ الْحُكْمِ، وَهِيَ كَالنَّحْلَةِ مِنَ النَّحْلِ، وَرَجُلٌ حَكِيمُ إِذَا كَانَ ذَا حِجًى

[سورة البقرة (2) : آية 270]

وَلُبٍّ وَإِصَابَةِ رَأْيٍ، وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي مَعْنَى الْفَاعِلِ وَيُقَالُ: أَمْرٌ حَكِيمٌ، أَيْ مُحْكَمٌ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدُّخَانِ: 4] وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ مِنَ اشْتِقَاقِ اللُّغَةِ يُطَابِقُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَعْنَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ وَمَنْ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ بِمَعْنَى: وَمَنْ يُؤْتِهِ اللَّهُ الْحِكْمَةَ، وَهَكَذَا قَرَأَ الْأَعْمَشُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ إِنْ فَسَّرْنَاهَا بِالْعِلْمِ لَمْ تَكُنْ مُفَسَّرَةً بِالْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ، لِأَنَّهَا حَاصِلَةٌ لِلْبَهَائِمِ وَالْمَجَانِينِ وَالْأَطْفَالِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا حِكَمٌ، فَهِيَ مُفَسَّرَةٌ بِالْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهَا بِالْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حُصُولُ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ وَالْأَفْعَالِ الحسية ثابتاً من غيرهم، وبتقدير مقدر غَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى بِالِاتِّفَاقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقٌ لِلَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحِكْمَةِ النُّبُوَّةَ وَالْقُرْآنَ، أَوْ قُوَّةَ الْفَهْمِ وَالْحِسِّيَّةَ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ. قُلْنَا: الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَدْفَعُ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ ثَبَتَ أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ/ لَفْظُ الْحَكِيمِ فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَتَكُونُ الْحِكْمَةُ مُغَايِرَةً لِلنُّبُوَّةِ وَالْقُرْآنِ، بَلْ هِيَ مُفَسَّرَةٌ إِمَّا بِمَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، أَوْ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ الصَّائِبَةِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ، فَإِنْ حَاوَلَتِ الْمُعْتَزِلَةُ حَمْلَ الْإِيتَاءِ عَلَى التَّوْفِيقِ وَالْإِعَانَةِ وَالْأَلْطَافِ، قُلْنَا: كُلُّ مَا فَعَلَهُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ فَعَلَ مَثَلَهُ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْمَدْحَ الْعَظِيمَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْحِكْمَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ آخَرُ سِوَى فِعْلِ الْأَلْطَافِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ وَالْمُرَادُ بِهِ عِنْدِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَأَى الْحِكَمَ وَالْمَعَارِفَ حَاصِلَةً فِي قَلْبِهِ، ثُمَّ تَأَمَّلَ وَتَدَبَّرَ وَعَرَفَ أَنَّهَا لَمْ تَحْصُلْ إِلَّا بِإِيتَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَيْسِيرِهِ، كَانَ مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عِنْدَ الْمُسَبِّبَاتِ، بَلْ تَرَقَّى مِنْهَا إِلَى أَسْبَابِهَا، فَهَذَا الِانْتِقَالُ مِنَ الْمُسَبِّبِ إِلَى السَّبَبِ هُوَ التَّذَكُّرُ الَّذِي لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَأَمَّا مَنْ أَضَافَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ إِلَى نَفْسِهِ، وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ فِي حُصُولِهَا وَتَحْصِيلِهَا، كَانَ مِنَ الظَّاهِرِيِّينَ الَّذِينَ عَجَزُوا عَنِ الِانْتِقَالِ مِنَ الْمُسَبِّبَاتِ إِلَى الْأَسْبَابِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ لَمَّا فَسَّرُوا الْحِكْمَةَ بِقُوَّةِ الْفَهْمِ وَوَضْعِ الدَّلَائِلِ، قَالُوا: هَذِهِ الْحِكْمَةُ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بها المرء بأن يتدبر ويتفكر، فيعرف ماله وَمَا عَلَيْهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَقْدُمُ أَوْ يَحْجِمُ. [سورة البقرة (2) : آية 270] وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْإِنْفَاقَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْوَدِ الْمَالِ، ثُمَّ حَثَّ أَوَّلًا: بِقَوْلِهِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ [البقرة: 267] وثانياً: بقوله الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [البقرة: 268] حيث عَلَيْهِ ثَالِثًا: بِقَوْلِهِ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ عَلَى اخْتِصَارِهِ، يُفِيدُ الْوَعْدَ الْعَظِيمَ لِلْمُطِيعِينَ، وَالْوَعِيدَ الشَّدِيدَ لِلْمُتَمَرِّدِينَ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا فِي قَلْبِ الْمُتَصَدِّقِ مِنْ نِيَّةِ الْإِخْلَاصِ وَالْعُبُودِيَّةِ أَوْ مِنْ نِيَّةِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ عِلْمَهُ بِكَيْفِيَّةِ نِيَّةِ الْمُتَصَدِّقِ يُوجِبُ قَبُولَ تِلْكَ الطَّاعَاتِ، كَمَا قَالَ: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الْمَائِدَةِ: 27] وَقَوْلُهُ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7، 8] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْقَدْرَ الْمُسْتَحَقَّ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى تِلْكَ الدَّوَاعِي وَالنِّيَّاتِ فَلَا يُهْمِلُ شَيْئًا مِنْهَا، وَلَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَلَمْ يَقُلْ: يَعْلَمُهَا، لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْأَخِيرِ، كَقَوْلِهِ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً وَهَذَا قَوْلُ الْأَخْفَشِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْكِتَابَةَ عَادَتْ إِلَى مَا فِي قَوْلِهِ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ لِأَنَّهَا اسْمٌ كَقَوْلِهِ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [الْبَقَرَةِ: 231] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: النَّذْرُ مَا يَلْتَزِمُهُ الْإِنْسَانُ بِإِيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ يُقَالُ: نَذَرَ يَنْذُرُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْخَوْفِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَعْقِدُ عَلَى نَفْسِهِ خَوْفَ التَّقْصِيرِ فِي الْأَمْرِ الْمُهِمِّ عِنْدَهُ، وَأَنْذَرْتُ الْقَوْمَ إِنْذَارًا بِالتَّخْوِيفِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُفَسَّرٍ وَغَيْرِ مُفَسَّرٍ، فَالْمُفَسَّرُ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ، وَلِلَّهِ عَلَيَّ حَجٌّ، فَهَهُنَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلَا يَجْزِيهِ غَيْرُهُ وَغَيْرُ الْمُفَسَّرِ أَنْ يَقُولَ: نَذَرْتُ لِلَّهِ أَنْ لَا أَفْعَلَ كَذَا ثُمَّ يَفْعَلُهُ، أَوْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ فَيَلْزَمُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَسَمَّى فَعَلَيْهِ مَا سَمَّى، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِلظَّالِمِينَ، وَهُوَ قِسْمَانِ، أَمَّا ظُلْمُهُ نَفْسَهُ فَذَاكَ حَاصِلٌ فِي كُلِّ الْمَعَاصِي، وَأَمَّا ظُلْمُهُ غَيْرَهُ فَبِأَنْ لَا يُنْفِقَ أَوْ يَصْرِفَ الْإِنْفَاقَ عَنِ الْمُسْتَحِقِّ إِلَى غَيْرِهِ، أَوْ يَكُونَ نِيَّتُهُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ، أَوْ يُفْسِدَهَا بِالْمَعَاصِي، وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ الْأَخِيرَانِ لَيْسَا مِنْ بَابِ الظُّلْمِ عَلَى الْغَيْرِ، بَلْ مِنْ بَابِ الظُّلْمِ عَلَى النَّفْسِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي نَفْيِ الشَّفَاعَةِ عَنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ، قَالُوا: لِأَنَّ نَاصِرَ الْإِنْسَانِ مَنْ يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْهُ فَلَوِ انْدَفَعَتِ الْعُقُوبَةُ عَنْهُمْ بِشَفَاعَةِ الشُّفَعَاءِ لَكَانَ أُولَئِكَ أَنْصَارًا لَهُمْ وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُرْفَ لَا يُسَمِّي الشَّفِيعَ نَاصِرًا، بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [الْبَقَرَةِ: 48] فَفَرَّقَ تَعَالَى بَيْنَ الشَّفِيعِ وَالنَّاصِرِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَنْصَارِ نَفْيُ الشُّفَعَاءِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: لَيْسَ لِمَجْمُوعِ الظَّالِمِينَ أَنْصَارٌ، فَلِمَ قُلْتُمْ لَيْسَ لِبَعْضِ الظَّالِمِينَ أَنْصَارٌ. فَإِنْ قِيلَ: لَفْظُ الظَّالِمِينَ وَلَفْظُ الْأَنْصَارِ جَمْعٍ، وَالْجَمْعُ إِذَا قُوبِلَ بِالْجَمْعِ تَوَزَّعَ الْفَرْدُ عَلَى الْفَرْدِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الظَّالِمِينَ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْصَارِ.

[سورة البقرة (2) : آية 271]

قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُقَابَلَةَ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ تُوجِبُ تَوَزُّعَ الْفَرْدِ عَلَى الْفَرْدِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُقَابَلَةَ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ فَقَطْ لَا مُقَابَلَةَ الْفَرْدِ بِالْفَرْدِ. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ النَّافِيَ لِلشَّفَاعَةِ عَامٌّ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَفِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، وَالدَّلِيلُ الْمُثْبِتُ لِلشَّفَاعَةِ خَاصٌّ فِي حَقِّ الْبَعْضِ وَفِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ واللَّه أَعْلَمُ. وَالْجَوَابُ الرَّابِعُ: مَا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ لَا يَكُونُ قَاطِعًا فِي الِاسْتِغْرَاقِ، بَلْ ظَاهِرًا عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ الْقَوِيِّ فَصَارَ الدَّلِيلُ ظَنِّيًّا، وَالْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ ظَنِّيَّةً، فَكَانَ التَّمَسُّكُ بِهَا سَاقِطًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَنْصَارُ جَمْعُ نَصِيرٍ، كَأَشْرَافٍ وَشَرِيفٍ، وَأَحْبَابٍ وَحَبِيبٍ. [سورة البقرة (2) : آية 271] إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَوَّلًا: أَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنْهُ مَا يَتْبَعُهُ الْمَنُّ وَالْأَذَى، وَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَذَكَرَ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ ثَانِيًا: أَنَّ الْإِنْفَاقَ قَدْ يَكُونُ مِنْ جَيِّدٍ وَمِنْ رَدِيءٍ، وَذَكَرَ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْفَاقَ قَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا وَقَدْ يَكُونُ خَفِيًّا، وَذَكَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ، فَقَالَ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَةُ السِّرِّ أَفْضَلُ أَمْ صَدَقَةُ الْعَلَانِيَةِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الصَّدَقَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ قَالَ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ [التَّوْبَةِ: 103] وقال: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَفَقَةُ الْمَرْءِ عَلَى عِيَالِهِ صَدَقَةٌ» وَالزَّكَاةُ لَا تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْفَرْضِ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَصْلُ الصَّدَقَةِ «ص د ق» عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ مَوْضُوعٌ لِلصِّحَّةِ وَالْكَمَالِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رَجُلٌ صَدْقُ النَّظَرِ، وَصَدْقُ اللِّقَاءِ، وَصَدَقُوهُمُ الْقِتَالَ، وَفُلَانٌ صَادِقُ الْمَوَدَّةِ، وَهَذَا خَلٌّ صَادِقُ الْحُمُوضَةِ، وَشَيْءٌ صَادِقُ الْحَلَاوَةِ، وَصَدَقَ فُلَانٌ فِي خَبَرِهِ إِذَا أَخْبَرَ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ صَحِيحًا كَامِلًا، وَالصَّدِيقُ يُسَمَّى صَدِيقًا لِصِدْقِهِ فِي الْمَوَدَّةِ، وَالصَّدَاقُ سُمِّيَ صَدَاقًا لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ بِهِ يَتِمُّ وَيَكْمُلُ، وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى الزَّكَاةَ صَدَقَةً لِأَنَّ الْمَالَ بِهَا يَصِحُّ وَيَكْمُلُ، فَهِيَ سَبَبٌ إِمَّا لِكَمَالِ الْمَالِ وَبَقَائِهِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى صِدْقِ الْعَبْدِ فِي إِيمَانِهِ وَكَمَالِهِ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَصْلُ فِي قَوْلِهِ فَنِعِمَّا نِعْمَ مَا، إِلَّا أَنَّهُ أُدْغِمَ أَحَدُ الْمِيمَيْنِ فِي الْآخَرِ، ثُمَّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجَهٍ مِنَ الْقِرَاءَةِ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَقَالُونُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ فَنِعِمَّا بِكَسْرِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: لِأَنَّهَا لُغَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: «نِعْمَا بِالْمَالِ الصَّالِحِ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» هَكَذَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ بِسُكُونِ الْعَيْنِ، وَالنَّحْوِيُّونَ قَالُوا: هَذَا يَقْتَضِي/ الْجَمْعَ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ إِلَّا فِيمَا يَكُونُ الْحَرْفُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا حَرْفَ الْمَدِّ وَاللِّينِ، نَحْوَ: دَابَّةٍ وَشَابَّةٍ، لِأَنَّ مَا فِي الْحَرْفِ مِنَ الْمَدِّ يَصِيرُ عِوَضًا عَنِ الْحَرَكَةِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلِأَنَّهُ لَمَّا دَلَّ الْحِسُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ السَّاكِنَيْنِ عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَكَلَّمَ بِهِ أَوْقَعَ فِي الْعَيْنِ حَرَكَةً خَفِيفَةً عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِلَاسِ وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ بِرِوَايَةِ ورش وعاصم

فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ فَنِعِمَّا هِيَ بِكَسْرِ النُّونِ وَالْعَيْنِ وَفِي تَقْرِيرِهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَمَّا احْتَاجُوا إِلَى تَحْرِيكِ الْعَيْنِ حَرَّكُوهَا مِثْلَ حَرَكَةِ مَا قَبْلَهَا وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ (نِعِمْ) بِكَسْرِ النُّونِ وَالْعَيْنِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ، الْقِرَاءَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ قِرَاءَةُ سَائِرِ الْقُرَّاءِ فَنِعِمَّا هِيَ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ، وَمَنْ قَرَأَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَقَدْ أَتَى بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى أَصْلِهَا وَهِيَ (نَعِمْ) قال طرفة: نعم الساعون في الأمر المير الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَا فِي تَأْوِيلِ الشَّيْءِ، أَيْ نِعْمَ الشَّيْءُ هُوَ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيِّدُ: فِي تَمْثِيلِ هَذَا أَنْ يُقَالَ: ما في تأويل شيء، لأن ما هاهنا نَكِرَةٌ، فَتَمْثِيلُهُ بِالنَّكِرَةِ أَبْيَنُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ما نكرة هاهنا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَعْرِفَةً فَلَا بُدَّ لَهَا من الصلة، وليس هاهنا مَا يُوصَلُ بِهِ، لِأَنَّ الْمَوْجُودَ بَعْدَ مَا هُوَ هِيَ، وَكَلِمَةُ هِيَ مُفْرَدَةٌ وَالْمُفْرَدُ لَا يَكُونُ صِلَةً لِمَا وَإِذَا بَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ فَنَقُولُ: مَا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَالتَّقْدِيرُ: نِعْمَ شَيْئًا هِيَ إِبْدَاءُ الصَّدَقَاتِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّدَقَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: التَّطَوُّعُ، أَوِ الْوَاجِبُ، أَوْ مَجْمُوعُهُمَا. فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، قَالُوا: لِأَنَّ الْإِخْفَاءَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ، وَالْإِظْهَارَ فِي الزَّكَاةِ أَفْضَلُ، وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي إِعْطَاءِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ إِخْفَاؤُهُ، أَوْ إِظْهَارُهُ، فَلْنَذْكُرْ أَوَّلًا الْوُجُوهَ الدالة على إِخْفَاءَهُ أَفْضَلُ فَالْأَوَّلُ: أَنَّهَا تَكُونُ أَبْعَدَ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يقبل الله مُسْمِعٍ وَلَا مُرَاءٍ وَلَا مَنَّانٍ» وَالْمُتَحَدِّثُ بِصَدَقَتِهِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَطْلُبُ السُّمْعَةَ وَالْمُعْطِي فِي مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ يَطْلُبُ الرِّيَاءَ، وَالْإِخْفَاءُ وَالسُّكُوتُ هُوَ الْمُخَلِّصُ مِنْهُمَا، وَقَدْ بَالَغَ قَوْمٌ فِي قَصْدِ الْإِخْفَاءِ، وَاجْتَهَدُوا أَنْ لَا يَعْرِفَهُمُ الْآخِذُ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُلْقِيهِ فِي يَدِ أَعْمَى، وَبَعْضُهُمْ يُلْقِيهِ فِي طَرِيقِ الْفَقِيرِ، وَفِي مَوْضِعِ جُلُوسِهِ حَيْثُ يَرَاهُ وَلَا يَرَى الْمُعْطِيَ، وَبَعْضُهُمْ كَانَ يَشُدُّهُ فِي أَثْوَابِ الْفَقِيرِ وَهُوَ نَائِمٌ، وَبَعْضُهُمْ كَانَ يُوصِلُ إِلَى يَدِ الْفَقِيرِ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ، وَالْمَقْصُودُ عَنِ الْكُلِّ الِاحْتِرَازُ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْمِنَّةِ، لِأَنَّ الْفَقِيرَ إِذَا عَرَفَ الْمُعْطِيَ فَقَدْ حَصَلَ الرِّيَاءُ وَالْمِنَّةَ مَعًا وَلَيْسَ فِي مَعْرِفَةِ الْمُتَوَسِّطِ الرِّيَاءُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ إِذَا أَخْفَى صَدَقَتَهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بَيْنَ النَّاسِ شُهْرَةٌ وَمَدْحٌ وَتَعْظِيمٌ، فَكَانَ/ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَكْثَرَ ثَوَابًا وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ الْمُقِلِّ إِلَى الْفَقِيرِ فِي سِرٍّ» وَقَالَ أَيْضًا «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ عَمَلًا فِي السِّرِّ يَكْتُبُهُ اللَّهُ لَهُ سِرًّا فَإِنْ أَظْهَرَهُ نُقِلَ مِنَ السِّرِّ وَكُتِبَ فِي الْعَلَانِيَةِ، فَإِنْ تَحَدَّثَ بِهِ نُقِلَ مِنَ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَكُتِبَ فِي الرِّيَاءِ» وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: أَحَدُهُمْ رَجُلٌ تَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ فَلَمْ تَعْلَمْ شِمَالُهُ بِمَا أَعْطَاهُ يَمِينُهُ» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ» وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْإِظْهَارَ يُوجِبُ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْآخِذِ مِنْ وُجُوهٍ، وَالْإِخْفَاءَ لَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِخْفَاءُ أَوْلَى، وَبَيَانُ تِلْكَ الْمَضَارِّ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي الْإِظْهَارِ هَتْكَ عِرْضِ الْفَقِيرِ وَإِظْهَارَ فَقْرِهِ، وَرُبَّمَا لَا يَرْضَى الْفَقِيرُ بِذَلِكَ وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الْإِظْهَارِ إِخْرَاجَ الْفَقِيرِ مِنْ هَيْئَةِ التَّعَفُّفِ وَعَدَمِ السُّؤَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مَدَحَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الَّتِي تَأْتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً [الْبَقَرَةِ: 273] وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّاسَ رُبَّمَا أَنْكَرُوا عَلَى الْفَقِيرِ أَخْذَ تِلْكَ الصَّدَقَةِ، وَيَظُنُّونَ

أَنَّهُ أَخَذَهَا مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا، فَيَقَعُ الْفَقِيرُ فِي الْمَذَمَّةِ وَالنَّاسُ فِي الْغَيْبَةِ وَالرَّابِعُ: أَنَّ فِي إِظْهَارِ الْإِعْطَاءِ إِذْلَالًا لِلْآخِذِ وَإِهَانَةً لَهُ وَإِزْلَالُ الْمُؤْمِنِ غَيْرُ جَائِزٍ وَالْخَامِسُ: أَنَّ الصَّدَقَةَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْهَدِيَّةِ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ هَدِيَّةٌ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ فَهُمْ شُرَكَاؤُهُ فِيهَا» وَرُبَّمَا لَا يَدْفَعُ الْفَقِيرُ مِنْ تِلْكَ الصَّدَقَةِ شَيْئًا إِلَى شُرَكَائِهِ الْحَاضِرِينَ فَيَقَعُ الْفَقِيرُ بِسَبَبِ إِظْهَارِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ فِي فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْوُجُوهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ إِخْفَاءَ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ أَوْلَى. وَأَمَّا الْوَجْهُ فِي جَوَازِ إِظْهَارِ الصَّدَقَةِ، فَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا أَظْهَرَهَا، صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاقْتِدَاءِ الْخَلْقِ بِهِ فِي إِعْطَاءِ الصَّدَقَاتِ، فَيَنْتَفِعُ الْفُقَرَاءُ بِهَا فَلَا يَمْتَنِعُ، وَالْحَالُ هَذِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِظْهَارُ أَفْضَلَ، وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «السِّرُّ أَفْضَلُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ، وَالْعَلَانِيَةُ أَفْضَلُ لِمَنْ أَرَادَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ» قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْحِكِيمُ التَّرْمِذِيُّ: الْإِنْسَانُ إِذَا أَتَى بِعَمَلٍ وَهُوَ يُخْفِيهِ عَنِ الْخَلْقِ وَفِي نَفْسِهِ شَهْوَةٌ أَنْ يَرَى الْخَلْقُ مِنْهُ ذَلِكَ وَهُوَ يَدْفَعُ تِلْكَ الشَّهْوَةَ فَهَهُنَا الشَّيْطَانُ يُورِدُ عَلَيْهِ ذِكْرَ رُؤْيَةِ الْخَلْقِ، وَالْقَلْبُ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَدْفَعُهُ، فَهَذَا الْإِنْسَانُ فِي مُحَارَبَةِ الشَّيْطَانِ فَضُوعِفَ الْعَمَلُ سَبْعِينَ ضِعْفًا عَلَى الْعَلَانِيَةِ، ثُمَّ إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا رَاضُوا أَنْفُسَهُمْ حَتَّى مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنْوَاعِ هِدَايَتِهِ فَتَرَاكَمَتْ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَنْوَارُ الْمَعْرِفَةِ، وَذَهَبَتْ عَنْهُمْ وَسَاوِسُ النَّفْسِ، لِأَنَّ الشَّهَوَاتِ قَدْ مَاتَتْ مِنْهُمْ وَوَقَعَتْ قُلُوبُهُمْ فِي بِحَارِ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا عَمِلَ عَمَلًا عَلَانِيَةً لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يُجَاهِدَ، لِأَنَّ شَهْوَةَ النَّفْسِ قَدْ بَطَلَتْ، وَمُنَازَعَةَ النَّفْسِ قَدِ اضْمَحَلَّتْ، فَإِذَا أَعْلَنَ بِهِ فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ غَيْرُهُ فَهَذَا عَبْدٌ كَمُلَتْ ذَاتُهُ فَسَعَى فِي تَكْمِيلِ غَيْرِهِ لِيَكُونَ تَامًّا وَفَوْقَ التَّمَامِ، أَلَا تَرَى أن لله تَعَالَى أَثْنَى عَلَى قَوْمٍ فِي تَنْزِيلِهِ وَسَمَّاهُمْ عِبَادَ الرَّحْمَنِ، وَأَوْجَبَ لَهُمْ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ/ الْغُرْفَةَ [الْفُرْقَانِ: 75] ثُمَّ ذَكَرَ مِنَ الْخِصَالِ الَّتِي طَلَبُوهَا بِالدُّعَاءِ أَنْ قَالُوا وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [الْفُرْقَانِ: 74] وَمَدَحَ أُمَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الْأَعْرَافِ: 159] وَمَدَحَ أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آلِ عِمْرَانَ: 110] ثُمَّ أَبْهَمَ الْمُنْكَرَ فَقَالَ: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الْأَعْرَافِ: 181] فَهَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْهُدَى وَأَعْلَامُ الدِّينِ وَسَادَةُ الْخَلْقِ بِهِمْ يَهْتَدُونَ فِي الذَّهَابِ إِلَى اللَّهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ فَلِمَ رَجَّحَ الْإِخْفَاءَ عَلَى الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: لا نسلم قَوْلَهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يُفِيدُ التَّرْجِيحَ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ إِعْطَاءَ الصَّدَقَةِ حَالَ الْإِخْفَاءِ خَيْرٌ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَطَاعَةٌ مِنْ جُمْلَةِ الطَّاعَاتِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانَ كَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ خَيْرًا وَطَاعَةً، لَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ بَيَانُ التَّرْجِيحِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّرْجِيحُ، لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْحَالُ وَاحِدَةً فِي الْإِبْدَاءِ وَالْإِخْفَاءِ، فَالْأَفْضَلُ هُوَ الْإِخْفَاءُ، فَأَمَّا إِذَا حَصَلَ فِي الْإِبْدَاءِ أَمْرٌ آخَرُ لَمْ يَبْعُدْ تَرْجِيحُ الْإِبْدَاءِ عَلَى الْإِخْفَاءِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِظْهَارَ فِي إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ أَفْضَلُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْأَئِمَّةَ بتوجيه السعادة لِطَلَبِ الزَّكَاةِ، وَفِي دَفْعِهَا إِلَى السُّعَاةِ إِظْهَارُهَا وَثَانِيهَا: أَنَّ فِي إِظْهَارِهَا نَفْيَ التُّهْمَةِ، رُوِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَكْثَرَ صَلَاتِهِ فِي الْبَيْتِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ فَإِذَا اخْتَلَفَ حُكْمُ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَنَفْلِهَا فِي الْإِظْهَارِ وَالْإِخْفَاءِ لنفي

التُّهْمَةِ، فَكَذَا فِي الزَّكَاةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ إِظْهَارَهَا يَتَضَمَّنُ الْمُسَارَعَةَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكْلِيفِهِ، وَإِخْفَاءَهَا يُوهِمُ تَرْكَ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ فَكَانَ الْإِظْهَارُ أَوْلَى، هَذَا كُلُّهُ فِي بَيَانِ قَوْلِ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِالصَّدَقَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَقَطْ. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ اللَّفْظَ مُتَنَاوِلٌ لِلْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ، وَأَجَابَ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: الْإِظْهَارُ فِي الْوَاجِبِ أَوْلَى مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ إِظْهَارَ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ تُوجِبُ إِظْهَارَ قَدْرِ الْمَالِ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلضَّرَرِ، بِأَنْ يُطْمِعَ الظَّلَمَةَ فِي مَالِهِ، أَوْ بِكَثْرَةِ حُسَّادِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَفْضَلُ لَهُ إِخْفَاءَ مَالِهِ لَزِمَ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ أَنْ يَكُونَ إِخْفَاءُ الزَّكَاةِ أَوْلَى وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَيَّامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةُ مَا كَانُوا مُتَّهَمِينَ فِي تَرْكِ الزَّكَاةِ فَلَا جَرَمَ كَانَ إِخْفَاءُ الزَّكَاةِ أَوْلَى لَهُمْ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ أَمَّا الْآنَ فَلَمَّا حَصَلَتِ التُّهْمَةُ كَانَ الْإِظْهَارُ أَوْلَى بِسَبَبِ حصول التهمة الثالث: أن لَا نُسَلِّمُ دَلَالَةَ قَوْلِهِ فَهُوَ خَيْرٌ عَلَى التَّرْجِيحِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فَالْإِخْفَاءُ نَقِيضُ الْإِظْهَارِ وَقَوْلُهُ/ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِخْفَاءِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيِ الْإِخْفَاءُ خَيْرٌ لَكُمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ خَيْرٌ لَكُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ خَيْرٌ مِنَ الْخَيْرَاتِ، كَمَا يُقَالُ: الثَّرِيدُ خَيْرٌ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّرْجِيحُ، وَإِنَّمَا شَرَطَ تَعَالَى فِي كَوْنِ الْإِخْفَاءِ أَفْضَلَ أَنْ تُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ لِأَنَّ عِنْدَ الْإِخْفَاءِ الْأَقْرَبَ أَنْ يَعْدِلَ بِالزَّكَاةِ عَنِ الْفُقَرَاءِ، إِلَى الْأَحْبَابِ وَالْأَصْدِقَاءِ الَّذِينَ لَا يَكُونُونَ مُسْتَحِقِّينَ لِلزَّكَاةِ، وَلِذَلِكَ شَرَطَ فِي الْإِخْفَاءِ أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ إِيتَاءُ الْفُقَرَاءِ، وَالْمَقْصُودُ بَعْثُ الْمُتَصَدِّقِ عَلَى أَنْ يَتَحَرَّى مَوْضِعَ الصَّدَقَةِ، فَيَصِيرُ عَالِمًا بِالْفُقَرَاءِ، فَيُمَيِّزُهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ، فَإِذَا تَقَدَّمَ مِنْهُ هَذَا الِاسْتِظْهَارُ ثُمَّ أَخْفَاهَا حَصَلَتِ الْفَضِيلَةُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّكْفِيرُ فِي اللُّغَةِ التَّغْطِيَةُ وَالسَّتْرُ، وَرَجُلٌ مُكَفَّرٌ فِي السِّلَاحِ مُغَطًّى فِيهِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، أَيْ سَتَرَ ذَنْبَ الْحِنْثِ بِمَا بَذَلَ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَالْكَفَّارَةُ سِتَارَةٌ لِمَا حَصَلَ مِنَ الذَّنْبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ نُكَفِّرُ بِالنُّونِ وَرَفْعِ الرَّاءِ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ وَنَحْنُ نُكَفِّرُ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ جُمْلَةٌ مِنْ فِعْلٍ وَفَاعِلٍ مُبْتَدَأٍ بِمُسْتَأْنِفَةٍ مُنْقَطِعَةٍ عَمَّا قَبْلَهَا، وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَنَافِعٍ وَالْكِسَائِيِّ بِالنُّونِ وَالْجَزْمِ، وَوَجْهُهُ أَنْ يُحْمَلَ الْكَلَامُ عَلَى مَوْضِعِ قَوْلِهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فَإِنَّ مَوْضِعَهُ جَزْمٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَإِنْ تُخْفُوهَا تَكُنْ أَعْظَمَ لِثَوَابِكُمْ، لَجَزَمَ فَيَظْهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ خَيْرٌ لَكُمْ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ، وَمِثْلُهُ فِي الْحَمْلِ عَلَى مَوْضِعِ الْجَزْمِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ [الْأَعْرَافِ: 186] بِالْجَزْمِ، وَالْقِرَاءَةُ الثَّالِثَةُ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ يُكَفِّرُ بِالْيَاءِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَرَفْعِ الرَّاءِ، وَالْمَعْنَى: يُكَفِّرُ اللَّهُ أَوْ يُكَفِّرُ الْإِخْفَاءُ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ مَا بَعْدَهُ عَلَى لَفْظِ الْإِفْرَادِ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَقَوْلُهُ يُكَفِّرُ يَكُونُ أَشْبَهَ بِمَا بَعْدَهُ، وَالْأَوَّلُونَ أَجَابُوا وَقَالُوا لَا بَأْسَ بِأَنْ يَذْكُرَ لَفْظَ الْجَمْعِ أَوَّلًا ثُمَّ لَفْظَ الْإِفْرَادِ ثَانِيًا كَمَا أَتَى بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ أَوَّلًا وَالْجَمْعِ ثَانِيًا فِي قَوْلِهِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الْإِسْرَاءِ: 1] ثُمَّ قَالَ: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْإِسْرَاءِ: 2] وَنَقَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قِرَاءَةً رَابِعَةً وَتُكَفِّرْ بِالتَّاءِ مَرْفُوعًا وَمَجْزُومًا وَالْفَاعِلُ الصَّدَقَاتُ، وَقِرَاءَةً خَامِسَةً وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ بِالتَّاءِ وَالنَّصْبِ بِإِضْمَارِ (أَنْ) وَمَعْنَاهَا إن تخفوها يكن خير لَكُمْ، وَأَنْ نُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لكم.

[سورة البقرة (2) : آية 272]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي دُخُولِ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ: وَنُكَفِّرُ عَنْكُمْ بَعْضَ سَيِّئَاتِكُمْ لِأَنَّ السَّيِّئَاتِ كُلَّهَا لَا تُكَفَّرُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُكَفَّرُ بَعْضُهَا ثُمَّ أَبْهَمَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ لِأَنَّ بَيَانَهُ كَالْإِغْوَاءِ بِارْتِكَابِهَا إِذَا عَلِمَ أَنَّهَا مُكَفَّرَةٌ، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ/ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْإِبْهَامِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ (مِنْ) بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِ، وَالْمَعْنَى: وَنُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ أَجْلِ ذُنُوبِكُمْ، كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُكَ مِنْ سُوءِ خُلُقِكَ أَيْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا صِلَةٌ زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [محمد: 15] وَالتَّقْدِيرُ: وَنُكَفِّرُ عَنْكُمْ جَمِيعَ سَيِّئَاتِكُمْ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَهُوَ الْأَصَحُّ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَفْضِيلِ صَدَقَةِ السِّرِّ عَلَى الْعَلَانِيَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَأَنْتُمْ إِنَّمَا تُرِيدُونَ بِالصَّدَقَةِ طَلَبَ مَرْضَاتِهِ، فَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُكُمْ فِي السِّرِّ، فَمَا مَعْنَى الْإِبْدَاءِ، فَكَأَنَّهُمْ نُدِبُوا بِهَذَا الْكَلَامِ إِلَى الْإِخْفَاءِ ليكون أبعد من الرياء. [سورة البقرة (2) : آية 272] لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) [في قوله تعالى لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ] هَذَا هُوَ الْحُكْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَحْكَامِ الْإِنْفَاقِ، وَهُوَ بَيَانُ أَنَّ الَّذِي يَجُوزُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي بَيَانِ سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ حِينَ جَاءَتْ نُتَيْلَةُ أُمُّ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ إِلَيْهَا تَسْأَلُهَا، وَكَذَلِكَ جَدَّتُهَا وَهُمَا مُشْرِكَتَانِ، أَتَيَا أَسْمَاءَ يَسْأَلَانِهَا شَيْئًا فَقَالَتْ لَا أُعْطِيكُمَا حَتَّى أَسْتَأْمِرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّكُمَا لَسْتُمَا عَلَى دِينِي، فَاسْتَأْمَرَتْهُ فِي ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمَا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَ أُنَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَهُمْ قَرَابَةٌ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَكَانُوا لَا يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَقُولُونَ مَا لَمْ تُسْلِمُوا لَا نُعْطِيكُمْ شَيْئًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَتَصَدَّقُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ وَالْمَعْنَى عَلَى جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَى مَنْ خَالَفَكَ حَتَّى تَمْنَعَهُمُ الصَّدَقَةَ لِأَجْلِ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، فَتَصَدَّقْ عَلَيْهِمْ لِوَجْهِ اللَّهِ، وَلَا تُوقِفْ ذَلِكَ عَلَى إِسْلَامِهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ [الْمُمْتَحَنَةِ: 8] فَرَخَّصَ فِي صِلَةِ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ شَدِيدَ الْحِرْصِ عَلَى إِيمَانِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الْكَهْفِ: 6] لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاءِ: 3] وَقَالَ: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يُونُسَ: 99] وَقَالَ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ [التَّوْبَةِ: 128] فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَهُ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا وَمُبَيِّنًا لِلدَّلَائِلِ، فَأَمَّا كَوْنُهُمْ مُهْتَدِينَ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْكَ وَلَا بِكَ، فالهدى هاهنا بِمَعْنَى الِاهْتِدَاءِ، فَسَوَاءٌ اهْتَدَوْا أَوْ لَمْ يَهْتَدُوا فَلَا تَقْطَعْ مَعُونَتَكَ وَبِرَّكَ وَصَدَقَتَكَ عَنْهُمْ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: لَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تُلْجِئَهُمْ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِوَاسِطَةِ أَنْ تُوقِفَ صَدَقَتَكَ عَنْهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِيمَانِ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، بَلِ الْإِيمَانُ

الْمَطْلُوبُ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ عَلَى سَبِيلِ التَّطَوُّعِ وَالِاخْتِيَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ خِطَابٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُوَ وَأُمَّتُهُ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ [الْبَقَرَةِ: 271] وَهَذَا خِطَابٌ عَامٌّ، ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ خَاصٌّ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَهَذَا عَامٌّ فَيُفْهَمُ مِنْ عُمُومِ مَا قَبْلَ الْآيَةِ وَعُمُومُ مَا بَعْدَهَا عُمُومُهَا أَيْضًا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَقَدِ احْتَجَّ بِهِ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ هِدَايَةَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ عَامَّةٍ، بَلْ هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِثْبَاتٌ لِلْهِدَايَةِ الَّتِي نَفَاهَا بِقَوْلِهِ لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ لَكِنَّ الْمَنْفِيَّ بِقَوْلِهِ لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ هُوَ حُصُولُ الِاهْتِدَاءِ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ، فَكَانَ قَوْلُهُ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ عِبَارَةً عَنْ حُصُولِ الِاهْتِدَاءِ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الِاهْتِدَاءُ الْحَاصِلُ بِالِاخْتِيَارِ وَاقِعًا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ يحتمل وجوهاًأحدها: أَنَّهُ يَهْدِي بِالْإِثَابَةِ وَالْمُجَازَاةِ مَنْ يَشَاءُ مِمَّنِ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ وَثَانِيهَا: يَهْدِي بِالْأَلْطَافِ وَزِيَادَاتِ الْهُدَى من يشاءوا ثالثها: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي بِالْإِكْرَاهِ مَنْ يَشَاءُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ يَهْدِي بِالِاسْمِ وَالْحُكْمِ مَنْ يَشَاءُ، فَمَنِ اهْتَدَى اسْتَحَقَّ أَنْ يُمْدَحَ بِذَلِكَ. أَجَابَ الْأَصْحَابُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ بِأَسْرِهَا أَنَّ الْمُثْبَتَ فِي قَوْلِهِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هُوَ الْمَنْفِيُّ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْمَنْفِيِّ بِقَوْلِهِ أَوَّلًا: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ هُوَ الِاهْتِدَاءُ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ، فَالْمُثْبَتُ بِقَوْلِهِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الِاهْتِدَاءَ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يُسْقِطُ كُلَّ الْوُجُوهِ. ثُمَّ قَالَ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ فَالْمَعْنَى: وَكُلُّ نَفَقَةٍ تُنْفِقُونَهَا مِنْ نَفَقَاتِ الْخَيْرِ فَإِنَّمَا هُوَ لِأَنْفُسِكُمْ أَيْ لِيَحْصُلَ لِأَنْفُسِكُمْ ثَوَابُهُ فَلَيْسَ يَضُرُّكُمْ كُفْرُهُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَسْتُمْ فِي صَدَقَتِكُمْ عَلَى أَقَارِبِكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَقْصِدُونَ إِلَّا وَجْهَ اللَّهِ، فَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ هَذَا مِنْ قُلُوبِكُمْ، فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِمْ إِذَا كُنْتُمْ إِنَّمَا تَبْتَغُونَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ فِي صِلَةِ رَحِمٍ وَسَدِّ خَلَّةِ مُضْطَرٍّ وَلَيْسَ عَلَيْكُمُ اهْتِدَاؤُهُمْ حَتَّى يَمْنَعَكُمْ ذَلِكَ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ خَبَرًا إِلَّا أَنَّ مَعْنَاهُ نَهْيٌ، أَيْ وَلَا تُنْفِقُوا إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَوَرَدَ الْخَبَرُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَثِيرًا قَالَ تعالى: الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ [الْبَقَرَةِ: 233] وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ [الْبَقَرَةِ: 228] الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَما تُنْفِقُونَ أَيْ وَلَا تَكُونُوا مُنْفِقِينَ مُسْتَحِقِّينَ لِهَذَا الِاسْمِ الَّذِي يُفِيدُ الْمَدْحَ حَتَّى تَبْتَغُوا بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذُكِرَ فِي الْوَجْهِ فِي قَوْلِهِ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: فَعَلْتُهُ لِوَجْهِ زَيْدٍ فَهُوَ أَشْرَفُ فِي الذِّكْرِ مِنْ قَوْلِكَ: فَعَلْتُهُ لَهُ لِأَنَّ وَجْهَ الشَّيْءِ أَشْرَفُ مَا فِيهِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى صَارَ يُعَبَّرُ عَنِ الشَّرَفِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَالثَّانِي: أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: فَعَلْتُ هَذَا الْفِعْلَ لَهُ فَهَهُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: فَعَلْتَهُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ أَيْضًا، أَمَّا إِذَا قُلْتَ

[سورة البقرة (2) : آية 273]

فَعَلْتُ هَذَا الْفِعْلَ لِوَجْهِهِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّكَ فَعَلْتَ الْفِعْلَ لَهُ فَقَطْ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ فِيهِ شَرِكَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إِلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُخْتَصَّةً بِصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَرْفَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَأَبَاهُ غَيْرُهُ، وَعَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: لَوْ كَانَ شَرَّ خَلْقِ اللَّهِ لَكَانَ لَكَ ثَوَابُ نَفَقَتِكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أَيْ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ جَزَاؤُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا حَسُنَ قَوْلُهُ إِلَيْكُمْ مَعَ التَّوْفِيَةِ لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى التَّأْدِيَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ أَيْ لَا تُنْقَصُونَ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الكهف: 33] يريد لم تنقص. [سورة البقرة (2) : آية 273] لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إِلَى أَيِّ فَقِيرٍ كَانَ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الَّذِي يَكُونُ أَشَدَّ النَّاسِ اسْتِحْقَاقًا بِصَرْفِ الصَّدَقَةِ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلْفُقَراءِ مُتَعَلِّقٌ بِمَاذَا فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: لَمَّا تَقَدَّمَتِ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ فِي الْحَثِّ عَلَى الْإِنْفَاقِ، قَالَ بَعْدَهَا لِلْفُقَراءِ أَيْ ذَلِكَ الْإِنْفَاقُ الْمَحْثُوثُ عَلَيْهِ لِلْفُقَرَاءِ، وَهَذَا كَمَا إِذَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ رَجُلٍ فَتَقُولُ: عَاقِلٌ لَبِيبٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي مَرَّ وَصْفُهُ عَاقِلٌ لَبِيبٌ، وَكَذَلِكَ النَّاسُ يَكْتُبُونَ عَلَى الْكِيسِ الَّذِي يَجْعَلُونَ فِيهِ الذَّهَبَ وَالدَّرَاهِمَ: أَلْفَانِ وَمِائَتَانِ أَيْ ذَلِكَ الَّذِي فِي الْكِيسِ أَلْفَانِ وَمِائَتَانِ هَذَا أَحْسَنُ الْوُجُوهِ الثَّانِي: أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ اعْمَدُوا لِلْفُقَرَاءِ وَاجْعَلُوا مَا تنفقون للقراء الثالث: يجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوف وَالتَّقْدِيرُ وَصَدَقَاتُكُمْ لِلْفُقَرَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَزَلَتْ فِي فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، وَكَانُوا نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةٍ، وَهُمْ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَسْكَنٌ وَلَا عَشَائِرُ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانُوا مُلَازِمِينَ الْمَسْجِدَ، وَيَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ، وَيَصُومُونَ وَيَخْرُجُونَ فِي كُلِّ غَزْوَةٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا عَلَى أَصْحَابِ الصُّفَّةِ فَرَأَى فَقْرَهُمْ وَجَدَّهُمْ فَطَيَّبَ قُلُوبَهُمْ، فَقَالَ: (أَبْشِرُوا يَا أَصْحَابَ الصُّفَّةِ فَمَنْ لَقِيَنِي مِنْ أُمَّتِي عَلَى النَّعْتِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ رَاضِيًا بِمَا فِيهِ فَإِنَّهُ مِنْ رِفَاقِي) . وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءَ بِصِفَاتٍ خَمْسٍ: الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 273] فَنَقُولُ: الْإِحْصَارُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَعْرِضَ لِلرَّجُلِ مَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَفَرِهِ، مِنْ مَرَضٍ أَوْ كِبَرٍ أَوْ عَدُوٍّ أَوْ ذَهَابِ نَفَقَةٍ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، يُقَالُ: أُحْصِرَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُحْصَرٌ، وَمَضَى الْكَلَامُ فِي مَعْنَى الْإِحْصَارِ عند قوله فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ بما يعني عَنِ الْإِعَادَةِ، أَمَّا التَّفْسِيرُ فَقَدْ فُسِّرَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِجَمِيعِ الْأَعْدَادِ الْمُمْكِنَةِ فِي مَعْنَى الْإِحْصَارِ فَالْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ

حَصَرُوا أَنْفُسَهُمْ وَوَقَفُوهَا عَلَى الْجِهَادِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُخْتَصٌّ بِالْجِهَادِ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ، وَلِأَنَّ الْجِهَادَ كَانَ وَاجِبًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَكَانَ تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إِلَى مَنْ يَحْبِسُ نَفْسَهُ لِلْمُجَاهَدَةِ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ مُسْتَعِدًّا لِذَلِكَ، مَتَى مَسَّتِ الْحَاجَةُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ أَنَّهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ يَكُونُ وَضْعُ الصَّدَقَةِ فِيهِمْ يُفِيدُ وُجُوهًا مِنَ الْخَيْرِ أَحَدُهَا: إِزَالَةُ عَيْلَتِهِمْ وَالثَّانِي: تَقْوِيَةُ قَلْبِهِمْ لِمَا انْتَصَبُوا إِلَيْهِ وَثَالِثُهَا: تَقْوِيَةُ الْإِسْلَامِ بِتَقْوِيَةِ الْمُجَاهِدِينَ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ جِدًّا مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُظْهِرُونَ حَاجَتَهُمْ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ: مَنَعُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ فِي التِّجَارَةِ لِلْمَعَاشِ خَوْفَ الْعَدُوِّ مِنَ الْكُفَّارِ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، وَكَانُوا مَتَى وَجَدُوهُمْ قَتَلُوهُمْ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَاخْتِيَارُ الْكِسَائِيِّ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ أَصَابَتْهُمْ جِرَاحَاتٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَارُوا زَمْنَى، فَأَحْصَرَهُمُ الْمَرَضُ وَالزَّمَانَةُ عَنِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حَبَسَهُمُ الْفَقْرُ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَعَذَرَهُمُ اللَّهُ. وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَانُوا مُشْتَغِلِينَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، وَكَانَتْ شِدَّةُ اسْتِغْرَاقِهِمْ فِي تِلْكَ الطَّاعَةِ أَحْصَرَتْهُمْ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِسَائِرِ الْمُهِمَّاتِ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ لِهَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يُقَالُ ضَرَبْتُ فِي الْأَرْضِ ضَرْبًا إِذَا سِرْتَ فِيهَا، ثُمَّ عَدَمُ الِاسْتِطَاعَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَنَّ اشْتِغَالَهُمْ بِصَلَاحِ الدِّينِ وَبِأَمْرِ الْجِهَادِ، يَمْنَعُهُمْ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّ خَوْفَهُمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ يَمْنَعُهُمْ مِنَ السَّفَرِ، وَإِمَّا لِأَنَّ مَرَضَهُمْ وَعَجْزَهُمْ يَمْنَعُهُمْ مِنْهُ، وَعَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَلَا شَكَّ فِي شِدَّةِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى مَنْ يَكُونُ مُعِينًا لَهُمْ عَلَى مُهِمَّاتِهِمْ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ لَهُمْ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ يَحْسَبُهُمُ بِفَتْحِ السِّينِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا وَهُمَا اللَّتَانِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَقُرِئَ فِي الْقُرْآنِ مَا كَانَ مِنَ الْحُسْبَانِ بِاللُّغَتَيْنِ جَمِيعًا الْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَالْفَتْحُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَقْيَسُ، لِأَنَّ الْمَاضِيَ إِذَا كَانَ عَلَى فَعِلَ، نَحْوُ حَسِبَ كَانَ الْمُضَارِعُ عَلَى يَفْعَلُ، مِثْلُ فَرِقَ يَفْرَقُ وَشَرِبَ يَشْرَبُ، وَشَذَّ حَسِبَ يَحْسِبُ فَجَاءَ عَلَى يَفْعِلُ مَعَ كَلِمَاتٍ أُخَرَ، وَالْكَسْرُ حَسَنٌ لِمَجِيءِ السَّمْعِ بِهِ وَإِنْ كَانَ شَاذًّا عَنِ الْقِيَاسِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْحُسْبَانُ هُوَ الظَّنُّ، وَقَوْلُهُ الْجاهِلُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْجَهْلَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْعَقْلِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْجَهْلَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الِاخْتِبَارِ، يَقُولُ: يَحْسَبُهُمْ مَنْ لَمْ يَخْتَبِرْ أَمْرَهُمْ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، وَهُوَ تَفَعُّلٌ مِنَ الْعِفَّةِ وَمَعْنَى الْعِفَّةِ فِي اللُّغَةِ تَرْكُ الشَّيْءِ وَالْكَفُّ عَنْهُ وَأَرَادَ مِنَ التَّعَفُّفِ عَنِ السُّؤَالِ فَتَرَكَهُ لِلْعِلْمِ، وَإِنَّمَا يَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ لِإِظْهَارِهِمُ التَّجَمُّلَ وَتَرْكِهِمُ الْمَسْأَلَةَ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ لِهَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ السِّيمَا وَالسِّيمِيَا الْعَلَامَةُ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا الشَّيْءُ، وَأَصْلُهَا مِنَ السِّمَةِ الَّتِي هِيَ الْعَلَامَةُ، قُلِبَتِ الْوَاوُ إِلَى مَوْضِعِ الْعَيْنِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وزنه يكون فعلا، كَمَا قَالُوا: لَهُ جَاهٌ عِنْدَ النَّاسِ أَيْ وَجْهٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: السِّيمَا الِارْتِفَاعُ لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ وُضِعَتْ لِلظُّهُورِ، قَالَ مُجَاهِدٌ

سِيمَاهُمْ التَّخَشُّعُ وَالتَّوَاضُعُ، قَالَ الرَّبِيعُ وَالسُّدِّيُّ: أَثَرُ الْجَهْدِ مِنَ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ وَقَالَ الضَّحَّاكُ صُفْرَةُ أَلْوَانِهِمْ مِنَ الْجُوعِ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ رَثَاثَةُ ثِيَابِهِمْ وَالْجُوعُ خَفِيٌ وَعِنْدِي أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرُوهُ عَلَامَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى حُصُولِ الْفَقْرِ وَذَلِكَ يُنَاقِضُهُ قَوْلُهُ يَحْسَبُهُمُ/ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ بَلِ الْمُرَادُ شَيْءٌ آخَرُ هُوَ أَنَّ لِعِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلِصِينَ هَيْبَةً وَوَقْعًا فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، كُلُّ مَنْ رَآهُمْ تَأَثَّرَ مِنْهُمْ وَتَوَاضَعَ لَهُمْ وَذَلِكَ إِدْرَاكَاتٌ رُوحَانِيَّةٌ، لَا عِلَّاتٌ جُسْمَانِيَّةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَسَدَ إِذَا مَرَّ هَابَتْهُ سَائِرُ السِّبَاعِ بِطِبَاعِهَا لَا بِالتَّجْرِبَةِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ تِلْكَ التَّجْرِبَةَ مَا وَقَعَتْ، وَالْبَازِيُّ إِذَا طَارَ تَهْرُبُ مِنْهُ الطُّيُورُ الضَّعِيفَةُ، وَكُلُّ ذَلِكَ إِدْرَاكَاتٌ رُوحَانِيَّةٌ لَا جسمانية، فكذا هاهنا، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ آثَارُ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الْفَتْحِ: 29] وَأَيْضًا ظُهُورُ آثَارِ الْفِكْرِ، رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ اللَّيْلَ لِلتَّهَجُّدِ وَيَحْتَطِبُونَ بِالنَّهَارِ لِلتَّعَفُّفِ. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ لِهَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ: قَوْلُهُ تعالى: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَفِيفَ الْمُتَعَفِّفَ، وَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ السَّائِلَ الْمُلْحِفَ الَّذِي إِنْ أُعْطِيَ كَثِيرًا أَفْرَطَ فِي الْمَدْحِ، وَإِنْ أُعْطِيَ قَلِيلًا أَفْرَطَ فِي الذَّمِّ، وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَفْتَحُ أَحَدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ تَعَالَى، لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلًا يَحْتَطِبُ فَيَبِيعُهُ بِمُدٍّ مِنْ تَمْرٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ» . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْكِلَةٌ، وَذَكَرُوا فِي تَأْوِيلِهَا وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِلْحَافَ هُوَ الْإِلْحَاحُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ سَأَلُوا بِتَلَطُّفٍ وَلَمْ يُلِحُّوا، وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِالتَّعَفُّفِ عَنِ السُّؤَالِ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَالَ: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ وَذَلِكَ يُنَافِي صُدُورَ السُّؤَالِ عَنْهُمْ وَالثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي خَطَرَ بِبَالِي عِنْدَ كِتَابَةِ هَذَا الْمَوْضُوعِ: أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَصْفَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ يَتَعَفَّفُونَ عَنِ السُّؤَالِ، وَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ الْبَتَّةَ فَقَدْ عُلِمَ أَيْضًا أَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ إِلْحَافًا، بَلِ الْمُرَادُ التَّنْبِيهُ عَلَى سُوءِ طَرِيقَةِ مَنْ يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا، وَمِثَالُهُ إِذَا حَضَرَ عِنْدَكَ رَجُلَانِ أَحَدَهُمَا عَاقِلٌ وَقُورٌ ثَابِتٌ، وَالْآخَرُ طَيَّاشٌ مِهْذَارٌ سَفِيهٌ، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَمْدَحَ أَحَدَهُمَا وَتُعَرِّضَ بِذَمِّ الْآخَرِ قُلْتَ فُلَانٌ رَجُلٌ عَاقِلٌ وَقُورٌ قَلِيلُ الْكَلَامِ، لَا يَخُوضُ فِي التُّرَّهَاتِ، وَلَا يَشْرَعُ فِي السَّفَاهَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ غَرَضُكَ مِنْ قَوْلِكَ، لَا يَخُوضُ فِي التُّرَّهَاتِ وَالسَّفَاهَاتِ وَصْفَهُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَوْصَافِ الْحَسَنَةِ يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ، بَلْ غَرَضُكَ التَّنْبِيهُ عَلَى مَذَمَّةِ الثَّانِي وَكَذَا هاهنا قوله لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً بَعْدَ قَوْلِهِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ الْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَنْ يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا وَبَيَانُ مُبَايَنَةِ أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ عَنِ الْآخَرِ فِي اسْتِيجَابِ الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ السَّائِلَ الْمُلْحِفَ الْمُلِحَّ هُوَ الَّذِي يستخرج المال بكثرة تلطفه، فقوله لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ بِالرِّفْقِ وَالتَّلَطُّفِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدِ السُّؤَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَبِأَنْ لَا يُوجَدَ عَلَى وَجْهِ الْعُنْفِ أَوْلَى فَإِذَا امْتَنَعَ الْقِسْمَانِ فَقَدِ امْتَنَعَ حُصُولُ السُّؤَالِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ لَا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً كَالْمُوجِبِ لِعَدَمِ صُدُورِ السُّؤَالِ مِنْهُمْ أَصْلًا. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: هُوَ الَّذِي خَطَرَ بِبَالِي أَيْضًا فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِيمَا تَقَدَّمَ شِدَّةَ حَاجَةِ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ، وَمَنِ اشْتَدَّتْ حَاجَتُهُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَرْكُ السُّؤَالِ إِلَّا بِإِلْحَاحٍ شَدِيدٍ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَكَانُوا لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ

[سورة البقرة (2) : آية 274]

وإنما أمكنهم ترك السؤال عند ما أَلَحُّوا عَلَى النَّفْسِ وَمَنَعُوهَا بِالتَّكْلِيفِ الشَّدِيدِ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: وَلِي نَفْسٌ أَقُولُ لَهَا إِذَا مَا ... تُنَازِعُنِي لَعَلِّي أَوْ عَسَانِي الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ سَأَلَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُلِحَّ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، لِأَنَّهُ إِذَا سَأَلَ فَقَدْ أَرَاقَ مَاءَ وَجْهِهِ، وَيَحْمِلُ الذِّلَّةَ فِي إِظْهَارِ ذَلِكَ السُّؤَالِ، فَيَقُولُ: لَمَّا تَحَمَّلْتُ هَذِهِ الْمَشَاقَّ فَلَا أَرْجِعُ بِغَيْرِ مَقْصُودٍ، فَهَذَا الْخَاطِرُ يَحْمِلُهُ عَلَى الْإِلْحَافِ وَالْإِلْحَاحِ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَأَلَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُقْدِمَ عَلَى الْإِلْحَاحِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَكَانَ نَفْيُ الْإِلْحَاحِ عَنْهُمْ مُطْلَقًا مُوجِبًا لِنَفْيِ السُّؤَالِ عَنْهُمْ مُطْلَقًا. الْوَجْهُ السَّادِسُ: وَهُوَ أَيْضًا خَطَرَ بِبَالِي فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ مِنْ نَفْسِهِ آثَارَ الْفَقْرِ وَالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ، ثُمَّ سَكَتَ عَنِ السُّؤَالِ، فَكَأَنَّهُ أَتَى بِالسُّؤَالِ الْمُلِحِّ الْمُلْحِفِ، لِأَنَّ ظُهُورَ أَمَارَاتِ الْحَاجَةِ تَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ وَسُكُوتُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَدْفَعُ بِهِ تِلْكَ الْحَاجَةَ وَمَتَى تَصَوَّرَ الْإِنْسَانُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ رَقَّ قَلْبُهُ جِدًّا، وَصَارَ حَامِلًا لَهُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا، فَكَانَ إِظْهَارُ هَذِهِ الْحَالَةِ هُوَ السؤال على سبيل الإلحاف، فقوله لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ سَكَتُوا عَنِ السُّؤَالِ لَكِنَّهُمْ لَا يَضُمُّونَ إِلَى ذَلِكَ السُّكُوتِ مِنْ رَثَاثَةِ الْحَالِ وَإِظْهَارِ الِانْكِسَارِ مَا يَقُومُ مَقَامَ السُّؤَالِ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْحَافِ بَلْ يُزَيِّنُونَ أَنْفُسَهُمْ عِنْدَ النَّاسِ وَيَتَجَمَّلُونَ بِهَذَا الْخُلُقِ وَيَجْعَلُونَ فَقْرَهُمْ وَحَاجَتَهُمْ بِحَيْثُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا الْخَالِقُ، فَهَذَا الْوَجْهُ أَيْضًا مُنَاسِبٌ مَعْقُولٌ وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ وَلِلنَّاسِ فِيهَا كَلِمَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ لَاحَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَقْتَ كُتِبَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ صِفَاتِ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة: 273] وَهُوَ نَظِيرُ مَا ذَكَرَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [البقرة: 272] وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّكْرَارِ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَكَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ تَوْفِيَةَ الْأَجْرِ مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ وَنُقْصَانٍ لَا يُمْكِنُ إِلَّا عِنْدَ الْعِلْمِ بِمِقْدَارِ الْعَمَلِ وَكَيْفِيَّةِ جِهَاتِهِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ لَا جَرَمَ قَرَّرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِمَقَادِيرِ الْأَعْمَالِ وَكَيْفِيَّاتِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا رَغِبَ فِي التَّصَدُّقِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، قَالَ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ بَيَّنَ أَنَّ أَجْرَهُ وَاصِلٌ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ لَمَّا رَغَّبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي التَّصَدُّقِ عَلَى الْفُقَرَاءِ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الْكَامِلَةِ، وَكَانَ هَذَا الْإِنْفَاقُ أَعْظَمَ وُجُوهِ الْإِنْفَاقَاتِ، لَا جَرَمَ/ أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ ثَوَابِهِ فَقَالَ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ وَهُوَ يَجْرِي مَجْرَى مَا إِذَا قَالَ السُّلْطَانُ الْعَظِيمُ لِعَبْدِهِ الَّذِي اسْتَحْسَنَ خدمته: ما يكفيك بأن يكون علي شَاهِدًا بِكَيْفِيَّةِ طَاعَتِكَ وَحُسْنِ خِدْمَتِكَ، فَإِنَّ هَذَا أَعْظَمُ وَقْعًا مِمَّا إِذَا قَالَ لَهُ: إِنَّ أجرك واصل إليك. [سورة البقرة (2) : آية 274] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) [في قَوْلُهُ تَعَالَى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

[سورة البقرة (2) : آية 275]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: لَمَّا بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ أَكْمَلَ مَنْ تُصْرَفُ إِلَيْهِ النَّفَقَةُ مَنْ هُوَ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَكْمَلَ وُجُوهِ الْإِنْفَاقِ كَيْفَ هُوَ، فَقَالَ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ لِتَأْكِيدِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ [الْبَقَرَةِ: 271] وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ آخِرُ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَحْكَامِ الْإِنْفَاقِ، فَلَا جَرَمَ أَرْشَدَ الْخَلْقَ إِلَى أَكْمَلِ وُجُوهِ الْإِنْفَاقَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بعت عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إِلَى أَصْحَابِ الصُّفَّةِ بِدَنَانِيرَ، وَبَعَثَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِوَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ لَيْلًا، فَكَانَ أَحَبُّ الصَّدَقَتَيْنِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى صَدَقَتَهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَصَدَقَةُ اللَّيْلِ كَانَتْ أَكْمَلَ وَالثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَمْلِكُ غَيْرَ أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، فَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ لَيْلًا، وَبِدِرْهَمٍ نَهَارًا، وَبِدِرْهَمٍ سِرًّا، وَبِدِرْهَمٍ عَلَانِيَةً، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ: أَنْ أَسْتَوْجِبَ مَا وَعَدَنِي رَبِّي، فَقَالَ: لَكَ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَالثَّالِثُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ تَصَدَّقَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ: عَشَرَةٌ بِاللَّيْلِ، وَعَشَرَةٌ بِالنَّهَارِ، وَعَشَرَةٌ فِي السِّرِّ، وَعَشَرَةٌ فِي الْعَلَانِيَةِ وَالرَّابِعُ: نَزَلَتْ فِي عَلَفِ الْخَيْلِ وَارْتِبَاطِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِذَا مَرَّ بِفَرَسٍ سَمِينٍ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ الْخَامِسُ: أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الَّذِينَ يَعُمُّونَ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالَ بِالصَّدَقَةِ تُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْخَيْرِ، فَكُلَّمَا نَزَلَتْ بِهِمْ حَاجَةُ مُحْتَاجٍ عَجَّلُوا قَضَاءَهَا وَلَمْ يُؤَخِّرُوهَا وَلَمْ يُعَلِّقُوهَا بِوَقْتٍ وَلَا حَالٍ، وَهَذَا هُوَ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ هَذَا آخِرُ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِنْفَاقَاتِ فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ فِيهَا أَكْمَلَ وُجُوهِ الْإِنْفَاقَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ الَّذِينَ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَجَازَ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ مِنْ قَوْلِهِ فَلَهُمْ جَوَابَ الَّذِينَ لِأَنَّهَا تَأْتِي بِمَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ: مَنْ أَنْفَقَ فَلَا يَضِيعُ أَجْرُهُ، وَتَقْدِيرُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: الَّذِي أَكْرَمَنِي لَهُ دِرْهَمٌ لَمْ يُفِدْ أَنَّ الدِّرْهَمَ بِسَبَبِ الْإِكْرَامِ، أَمَّا لَوْ قَالَ: الَّذِي أَكْرَمَنِي فَلَهُ دِرْهَمٌ يُفِيدُ أَنَّ الدِّرْهَمَ بِسَبَبِ الْإِكْرَامِ، فَهَهُنَا الْفَاءُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْأَجْرِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ الْإِنْفَاقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ أَفْضَلُ مِنْ صَدَقَةِ الْعَلَانِيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدَّمَ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ، وَالسِّرَّ عَلَى الْعَلَانِيَةِ فِي الذِّكْرِ. ثُمَّ قَالَ فِي خَاتِمَةِ الْآيَةِ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالْمَعْنَى مَعْلُومٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الثَّوَابِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الْأَنْبِيَاءِ: 103] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذَا مَشْرُوطٌ عِنْدَ الْكُلِّ بِأَنْ لَا يَحْصُلَ عَقِيبَهُ الْكُفْرُ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنْ لَا يَحْصُلَ عَقِيبَهُ كبيرة محبطة، وقد أحكمنا هذه المسألة، وهاهنا آخِرُ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْإِنْفَاقِ. [سورة البقرة (2) : آية 275] الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) الْحُكْمُ الثَّانِي: مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ حُكْمُ الرِّبَا:

اعْلَمْ أَنَّ بَيْنَ الرِّبَا وَبَيْنَ الصَّدَقَةِ مُنَاسَبَةٌ مِنْ جِهَةِ التَّضَادِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عِبَارَةٌ عَنْ تَنْقِيصِ/ الْمَالِ بِسَبَبِ أَمْرِ اللَّهِ بِذَلِكَ، وَالرِّبَا عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمَالِ مَعَ نَهْيِ اللَّهِ عَنْهُ، فَكَانَا مُتَضَادَّيْنِ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ فَلَمَّا حَصَلَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ، لَا جَرَمَ ذَكَرَ عَقِيبَ حُكْمِ الصَّدَقَاتِ حُكْمَ الرِّبَا. أَمَّا قَوْلُهُ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا فَالْمُرَادُ الَّذِينَ يُعَامِلُونَ بِهِ، وَخَصَّ الْأَكْلَ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ الْأَمْرِ، كَمَا قَالَ: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النِّسَاءِ: 10] وَكَمَا لَا يَجُوزُ أَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ لَا يَجُوزُ إِتْلَافُهُ، وَلَكِنَّهُ نَبَّهَ بِالْأَكْلِ عَلَى مَا سِوَاهُ وَكَذَلِكَ قوله وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: 188] وَأَيْضًا فَلِأَنَّ نَفْسَ الرِّبَا الَّذِي هُوَ الزِّيَادَةُ فِي الْمَالِ عَلَى مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُؤْكَلُ، إِنَّمَا يُصْرَفُ فِي الْمَأْكُولِ فَيُؤْكَلُ، وَالْمُرَادُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، فَمَنَعَ اللَّهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الرِّبَا بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَعِيدِ، وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَهُ وَكَاتِبَهُ وَالْمُحَلِّلَ لَهُ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْحُرْمَةَ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِالْآكِلِ، وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ، أَنَّ مَا يَحْرُمُ لَا يُوقَفُ تَحْرِيمُهُ عَلَى الْأَكْلِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ أَكْلِ الرِّبَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ التَّصَرُّفُ فِي الرِّبَا، وَأَمَّا الرِّبَا فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الرِّبَا فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الزِّيَادَةِ يُقَالُ: رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو وَمِنْهُ قَوْلُهُ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الْحَجِّ: 5] أَيْ زَادَتْ، وَأَرْبَى الرَّجُلُ إِذَا عَامَلَ فِي الرِّبَا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «مَنْ أَجَبَى فَقَدْ أَرْبَى» أَيْ عَامَلَ بِالرِّبَا، وَالْإِجْبَاءُ بَيْعُ الزَّرْعِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، هَذَا مَعْنَى الرِّبَا فِي اللُّغَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ الرِّبَا بِالْإِمَالَةِ لِمَكَانِ كَسْرَةِ الرَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّفْخِيمِ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَهِيَ فِي الْمَصَاحِفِ مَكْتُوبَةٌ بِالْوَاوِ، وَأَنْتَ مُخَيَّرٌ فِي كِتَابَتِهَا بِالْأَلِفِ وَالْوَاوِ وَالْيَاءِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الرِّبَا كُتِبَتْ بِالْوَاوِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يُفَخِّمُ كَمَا كُتِبَتِ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَزِيدَتِ الْأَلِفُ بَعْدَهَا تَشْبِيهًا بِوَاوِ الْجَمْعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الرِّبَا قِسْمَانِ: رِبَا النَّسِيئَةِ، وَرِبَا الْفَضْلِ. أَمَّا رِبَا النَّسِيئَةِ فَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي كَانَ مَشْهُورًا مُتَعَارَفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْفَعُونَ الْمَالَ عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا كُلَّ شَهْرٍ قَدْرًا مُعَيَّنًا، وَيَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ بَاقِيًا، ثُمَّ إِذَا حَلَّ الدَّيْنُ طَالَبُوا الْمَدْيُونَ بِرَأْسِ الْمَالِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ زَادُوا فِي الْحَقِّ وَالْأَجَلِ، فَهَذَا هُوَ الرِّبَا الَّذِي كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَامَلُونَ بِهِ. وَأَمَّا رِبَا النَّقْدِ فَهُوَ أن يباع مِنَ الْحِنْطَةِ بِمَنَوَيْنِ مِنْهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يُحَرِّمُ إِلَّا الْقِسْمَ الْأَوَّلَ فَكَانَ يَقُولُ: لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ، وَكَانَ يُجَوِّزُ بِالنَّقْدِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: شَهِدْتُ مَا لَمْ تَشْهَدْ، أَوْ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ تَسْمَعْ ثُمَّ رُوِيَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: كُنَّا فِي/ بَيْتٍ وَمَعَنَا عِكْرِمَةُ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا عكرمة ما

تَذْكُرُ وَنَحْنُ فِي بَيْتِ فُلَانٍ وَمَعَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: إِنَّمَا كُنْتُ اسْتَحْلَلْتُ التَّصَرُّفَ بِرَأْيِي، ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَهُ، فَاشْهَدُوا أَنِّي حَرَّمْتُهُ وَبَرِئْتُ مِنْهُ إِلَى اللَّهِ، وَحُجَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يَتَنَاوَلُ بَيْعَ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ نَقْدًا، وَقَوْلُهُ وَحَرَّمَ الرِّبا لَا يَتَنَاوَلُهُ لِأَنَّ الرِّبَا عِبَارَةٌ عَنِ الزِّيَادَةِ، وَلَيْسَتْ كُلُّ زِيَادَةٍ مُحَرَّمَةً، بَلْ قَوْلُهُ وَحَرَّمَ الرِّبا إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ الْمَخْصُوصَ الَّذِي كَانَ مُسَمًّى فِيمَا بَيْنَهُمْ بِأَنَّهُ رِبًا. وَذَلِكَ هُوَ رِبَا النَّسِيئَةِ، فَكَانَ قَوْلُهُ وَحَرَّمَ الرِّبا مَخْصُوصًا بِالنَّسِيئَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يَتَنَاوَلُ رِبَا النَّقْدِ، وَقَوْلَهُ وَحَرَّمَ الرِّبا لَا يَتَنَاوَلُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَى الْحِلِّ، وَلَا يُمْكِنَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا يُحَرِّمُهُ بِالْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَهَذَا هُوَ عُرْفُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَقِيقَتُهُ رَاجِعَةٌ إِلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟. وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُجْتَهِدِينَ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْقِسْمَيْنِ، أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَبِالْقُرْآنِ، وَأَمَّا رِبَا النَّقْدِ فَبِالْخَبَرِ، ثُمَّ إِنَّ الْخَبَرَ دَلَّ عَلَى حُرْمَةِ رِبَا النَّقْدِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ: حُرْمَةُ التَّفَاضُلِ غَيْرُ مَقْصُورَةٍ عَلَى هَذِهِ السِّتَّةِ، بَلْ ثَابِتَةٌ فِي غَيْرِهَا، وَقَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ: بَلِ الْحُرْمَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهَا وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ مِنْ وُجُوهٍ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الشَّارِعَ خَصَّ مِنَ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَطْعُومَاتِ وَالْأَقْوَاتِ أَشْيَاءَ أَرْبَعَةً، فَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي كُلِّ الْمَكِيلَاتِ أَوْ فِي كُلِّ الْمَطْعُومَاتِ لَقَالَ: لَا تَبِيعُوا الْمَكِيلَ بِالْمَكِيلِ مُتَفَاضِلًا، أَوْ قَالَ: لَا تَبِيعُوا الْمَطْعُومَ بِالْمَطْعُومِ مُتَفَاضِلًا، فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَكُونُ أَشَدَّ اخْتِصَارًا، وَأَكْثَرَ فَائِدَةً، فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ بَلْ عَدَّ الْأَرْبَعَةَ، عَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَ الْحُرْمَةِ مَقْصُورٌ عليها فقط. الحجة الثانية: أنا أن في قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يَقْتَضِي حِلَّ رِبَا النَّقْدِ فَأَنْتُمْ أَخْرَجْتُمْ رِبَا النَّقْدِ مِنْ تَحْتِ هَذَا الْعُمُومِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، ثُمَّ أَثْبَتُّمُ الْحُرْمَةَ فِي غَيْرِهَا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهَا، فَكَانَ هَذَا تَخْصِيصًا لِعُمُومِ نَصِّ الْقُرْآنِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَفِي غَيْرِهَا بالقياس على الأشياء الستة، ثَبَتَ الْحُكْمُ فِيهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَمِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ يَكُونُ أَضْعَفَ بِكَثِيرٍ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ أَضْعَفُ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، فَكَانَ هَذَا تَرْجِيحًا لِلْأَضْعَفِ عَلَى الْأَقْوَى، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ التَّعْدِيَةَ مِنْ مَحَلِّ النَّصِّ إِلَى غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ، لَا تُمْكِنُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَعْلِيلَ حُكْمِ اللَّهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ، وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ الْحُكْمَ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ مَعْلُومٌ، وَاللُّغَةُ مَظْنُونَةٌ وَرَبْطُ الْمَعْلُومِ بِالْمَظْنُونِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَأَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ رِبَا النَّقْدِ غَيْرُ مَقْصُورَةٍ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، بَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ فِي غَيْرِهَا، ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ عَنْ مَحَلِّ النَّصِّ إِلَى/ غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ إِلَّا بِتَعْلِيلِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ فِي مَحَلِّ النَّصِّ بِعِلَّةٍ حَاصِلَةٍ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ فَلِهَذَا الْمَعْنَى اخْتَلَفُوا فِي الْعِلَّةِ عَلَى مَذَاهِبَ. فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ الْعِلَّةَ فِي حُرْمَةِ الرِّبَا الطَّعْمُ فِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَاشْتِرَاطُ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَفِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ النَّقْدِيَّةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُقَدَّرًا فَفِيهِ الرِّبَا، وَالْعِلَّةُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْوَزْنُ، وَفِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْكَيْلُ وَاتِّحَادُ الْجِنْسِ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَوْلُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْعِلَّةَ هُوَ الْقُوتُ أَوْ مَا يَصْلُحُ بِهِ الْقُوتُ، وَهُوَ الْمِلْحُ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ: أَنَّ كُلَّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ فَفِيهِ الرِّبَا، فَهَذَا ضَبْطُ مَذَاهِبِ النَّاسِ فِي حُكْمِ الرِّبَا، وَالْكَلَامُ فِي تَفَارِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَا يَلِيقُ بِالتَّفْسِيرِ. الْمَسْأَلَةُ الرابعة: ذكروا في سبب تحريم الربا وجوهاًأحدها: الرِّبَا يَقْتَضِي أَخْذَ مَالِ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، لِأَنَّ مَنْ يَبِيعُ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً فَيَحْصُلُ لَهُ زِيَادَةُ دِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَمَالُ الْإِنْسَانِ مُتَعَلَّقُ حَاجَتِهِ وَلَهُ حُرْمَةٌ عَظِيمَةٌ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُرْمَةُ مَالِ الْإِنْسَانِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ» فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَخْذُ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ مُحَرَّمًا. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِبَقَاءِ رَأْسِ الْمَالِ فِي يَدِهِ مُدَّةً مَدِيدَةً عِوَضًا عَنِ الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَوْ بَقِيَ فِي يَدِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ لَكَانَ يُمْكِنُ الْمَالِكُ أَنْ يَتَّجِرَ فِيهِ وَيَسْتَفِيدَ بِسَبَبِ تِلْكَ التِّجَارَةِ رِبْحًا فَلَمَّا تَرَكَهُ فِي يَدِ الْمَدْيُونِ وَانْتَفَعَ بِهِ الْمَدْيُونُ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى رَبِّ الْمَالِ ذَلِكَ الدِّرْهَمَ الزَّائِدَ عِوَضًا عَنِ انْتِفَاعِهِ بِمَالِهِ. قُلْنَا: إِنَّ هَذَا الِانْتِفَاعَ الَّذِي ذَكَرْتُمْ أَمْرٌ مَوْهُومٌ قَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ، وَأَخْذُ الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ أَمْرٌ مُتَيَقَّنٌ، فَتَفْوِيتُ الْمُتَيَقَّنِ لِأَجْلِ الْأَمْرِ الْمَوْهُومِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ نَوْعِ ضَرَرٍ وَثَانِيهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: اللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا حَرَّمَ الرِّبَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَمْنَعُ النَّاسَ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْمَكَاسِبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ صَاحِبَ الدِّرْهَمِ إِذَا تَمَكَّنَ بِوَاسِطَةِ عَقْدِ الرِّبَا مِنْ تَحْصِيلِ الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ نَقْدًا كَانَ أَوْ نَسِيئَةً خَفَّ عَلَيْهِ اكْتِسَابُ وَجْهِ الْمَعِيشَةِ، فَلَا يَكَادُ يَتَحَمَّلُ مَشَقَّةَ الْكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَاتِ الشَّاقَّةِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى انْقِطَاعِ مَنَافِعِ الْخَلْقِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَصَالِحَ الْعَالَمِ لَا تَنْتَظِمُ إِلَّا بِالتِّجَارَاتِ وَالْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْعِمَارَاتِ وَثَالِثُهَا: قِيلَ: السَّبَبُ فِي تَحْرِيمِ عَقْدِ الرِّبَا، أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى انْقِطَاعِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ الْقَرْضِ، لِأَنَّ الرِّبَا إِذَا طَابَتِ النُّفُوسُ بِقَرْضِ الدِّرْهَمِ وَاسْتِرْجَاعِ مِثْلِهِ، وَلَوْ حَلَّ الرِّبَا لَكَانَتْ حَاجَةُ الْمُحْتَاجِ تَحْمِلُهُ عَلَى أَخْذِ الدِّرْهَمِ بِدِرْهَمَيْنِ، فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى انْقِطَاعِ الْمُوَاسَاةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ وَرَابِعُهَا: هُوَ أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمُقْرِضَ يَكُونُ غَنِيًّا، وَالْمُسْتَقْرِضَ يَكُونُ فَقِيرًا، فَالْقَوْلُ/ بِتَجْوِيزِ عَقْدِ الرِّبَا تَمْكِينٌ لِلْغَنِيِّ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الفقير الضعيف ما لا زَائِدًا، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ بِرَحْمَةِ الرَّحِيمِ وَخَامِسُهَا: أَنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا قَدْ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حِكَمُ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ مَعْلُومَةً لِلْخَلْقِ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِحُرْمَةِ عَقْدِ الرِّبَا، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُ الْوَجْهَ فِيهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَقُومُونَ فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: الْمُرَادُ مِنْهُ الْقِيَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْقِيَامُ مِنَ الْقَبْرِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِمَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّخَبُّطُ مَعْنَاهُ الضَّرْبُ عَلَى غَيْرِ اسْتِوَاءٍ، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي أَمْرٍ وَلَا يَهْتَدِي فِيهِ: إِنَّهُ يَخْبِطُ خَبْطَ عَشْوَاءَ، وَخَبَطَ الْبَعِيرُ لِلْأَرْضِ بِأَخْفَافِهِ، وَتَخَبَّطَهُ الشَّيْطَانُ إِذَا مَسَّهُ بِخَبَلٍ أَوْ جُنُونٍ لِأَنَّهُ كَالضَّرْبِ عَلَى غَيْرِ الِاسْتِوَاءِ فِي الْإِدْهَاشِ، وَتُسَمَّى إِصَابَةُ الشَّيْطَانِ بِالْجُنُونِ وَالْخَبَلِ خَبْطَةً، وَيُقَالُ: بِهِ خَبْطَةٌ مِنْ جُنُونِ، وَالْمَسُّ الْجُنُونُ، يُقَالُ: مُسَّ الرَّجُلُ فَهُوَ مَمْسُوسٌ وَبِهِ مَسٌّ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَسِّ بِالْيَدِ، كَأَنَّ الشيطان يمس

الْإِنْسَانَ فَيُجِنَّهُ، ثُمَّ سُمِّيَ الْجُنُونُ مَسًّا، كَمَا أَنَّ الشَّيْطَانَ يَتَخَبَّطُهُ وَيَطَؤُهُ بِرِجْلِهِ فَيُخَبِّلَهُ، فَسُمِّيَ الْجُنُونُ خَبْطَةً، فَالتَّخَبُّطُ بِالرِّجْلِ وَالْمَسُّ بِالْيَدِ، ثُمَّ فِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: التَّخَبُّطُ تَفَعُّلٌ، فَكَيْفَ يكون متعديا؟. الجواب: تفعل بمعنى فعل كثير، نَحْوُ تَقَسَّمَهُ بِمَعْنَى قَسَمَهُ، وَتَقَطَّعَهُ بِمَعْنَى قَطَعَهُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: بِمَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ مِنَ الْمَسِّ. قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: بِقَوْلِهِ لَا يَقُومُونَ وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَقُومُونَ مِنَ الْمَسِّ الَّذِي لَهُمْ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يَقُومُ وَالتَّقْدِيرُ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الْمُتَخَبِّطُ بِسَبَبِ الْمَسِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: النَّاسُ يَقُولُونَ الْمَصْرُوعُ إِنَّمَا حَدَثَتْ بِهِ تِلْكَ الْحَالَةُ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَمَسُّهُ وَيَصْرَعُهُ وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ ضَعِيفٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى صَرْعِ النَّاسِ وَقَتْلِهِمْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الشَّيْطَانِ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إِبْرَاهِيمَ: 22] وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ قُدْرَةٌ عَلَى الصَّرْعِ وَالْقَتْلِ وَالْإِيذَاءِ وَالثَّانِي: الشَّيْطَانُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَثِيفُ الْجِسْمِ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُ مِنَ الْأَجْسَامِ اللَّطِيفَةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وَجَبَ أَنْ يُرَى وَيُشَاهَدَ، إِذْ لَوْ جَازَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ كَثِيفًا وَيَحْضُرَ ثُمَّ لَا يُرَى لَجَازَ أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِنَا شُمُوسٌ وَرُعُودٌ وَبُرُوقٌ وَجِبَالٌ وَنَحْنُ لَا نَرَاهَا، وَذَلِكَ جَهَالَةٌ عَظِيمَةٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جِسْمًا كَثِيفًا فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي بَاطِنِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ جِسْمًا لَطِيفًا كَالْهَوَاءِ، فَمِثْلُ هَذَا يَمْتَنِعُ/ أَنْ يَكُونَ فِيهِ صَلَابَةٌ وَقُوَّةٌ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَصْرَعَ الْإِنْسَانَ وَيَقْتُلَهُ الثَّالِثُ: لَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَصْرَعَ وَيَقْتُلَ لَصَحَّ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَذَلِكَ يَجُرُّ إِلَى الطَّعْنِ فِي النُّبُوَّةِ الرَّابِعُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَوْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَصْرَعُ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِمَ لَا يَخْبِطُهُمْ مَعَ شِدَّةِ عَدَاوَتِهِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَلِمَ لَا يَغْصِبُ أَمْوَالَهُمْ، وَيُفْسِدُ أَحْوَالَهُمْ، وَيُفْشِي أَسْرَارَهُمْ، وَيُزِيلُ عُقُولَهُمْ؟ وَكُلُّ ذَلِكَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَقْدِرُ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: مَا رُوِيَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ فِي زَمَانِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَانُوا يَعْمَلُونَ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ عَلَى مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِي وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَلَّفَهُمْ فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَدَرُوا عَلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ صَرِيحٌ فِي أَنْ يَتَخَبَّطَهُ الشَّيْطَانُ بِسَبَبِ مَسِّهِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ يَمَسُّهُ بِوَسْوَسَتِهِ الْمُؤْذِيَةِ الَّتِي يَحْدُثُ عِنْدَهَا الصَّرَعُ، وَهُوَ كَقَوْلِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ [ص: 41] وَإِنَّمَا يَحْدُثُ الصَّرَعُ عِنْدَ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ مِنْ ضَعْفِ الطِّبَاعِ، وَغَلَبَةِ السَّوْدَاءِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَخَافُ عِنْدَ الْوَسْوَسَةِ فَلَا يَجْتَرِئُ فَيُصْرَعَ عِنْدَ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ، كَمَا يُصْرَعُ الْجَبَانُ مِنَ الْمَوْضِعِ الْخَالِي، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ هَذَا الْخَبْطُ فِي الْفُضَلَاءِ الْكَامِلِينَ، وَأَهْلِ الْحَزْمِ وَالْعَقْلِ وَإِنَّمَا يُوجَدُ فِيمَنْ بِهِ نَقْصٌ فِي الْمِزَاجِ وَخَلَلٌ فِي الدِّمَاغِ فَهَذَا جُمْلَةُ كَلَامِ الْجُبَّائِيِّ في هذا

الباب، وذكر القفال فيه وجه آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ يُضِيفُونَ الصَّرَعَ إِلَى الشَّيْطَانِ وَإِلَى الْجِنِّ، فَخُوطِبُوا عَلَى مَا تَعَارَفُوهُ مِنْ هَذَا، وَأَيْضًا مِنْ عَادَةِ النَّاسِ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا تَقْبِيحَ شَيْءٍ أَنْ يُضِيفُوهُ إِلَى الشَّيْطَانِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ [الصَّافَّاتِ: 65] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ آكِلَ الرِّبَا يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا وَذَلِكَ كَالْعَلَامَةِ الْمَخْصُوصَةِ بِآكِلِ الرِّبَا، فَعَرَفَهُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ لِتِلْكَ الْعَلَامَةِ أَنَّهُ آكِلُ الرِّبَا فِي الدُّنْيَا، فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَجَانِينَ، كَمَنْ أَصَابَهُ الشَّيْطَانُ بِجُنُونٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ ابْنُ مُنَبِّهٍ: يُرِيدُ إِذَا بُعِثَ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ خَرَجُوا مُسْرِعِينَ لِقَوْلِهِ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً [الْمَعَارِجِ: 43] إِلَّا أَكَلَةَ الرِّبَا فَإِنَّهُمْ يَقُومُونَ وَيَسْقُطُونَ، كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَكَلُوا الرِّبَا فِي الدُّنْيَا، فَأَرْبَاهُ اللَّهُ فِي بُطُونِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى أَثْقَلَهُمْ فَهُمْ يَنْهَضُونَ، وَيَسْقُطُونَ، وَيُرِيدُونَ الْإِسْرَاعَ، وَلَا يَقْدِرُونَ، وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ أَكَلَةَ الرِّبَا لَا يُمْكِنُهُمُ الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ بِسَبَبِ ثِقَلِ الْبَطْنِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنَ الْجُنُونِ فِي شَيْءٍ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الْقَوْلُ بِمَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْطَلَقَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى/ رِجَالٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَالْبَيْتِ الضَّخْمِ، يَقُومُ أَحَدُهُمْ فَتَمِيلُ بِهِ بَطْنُهُ فَيُصْرَعُ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الْأَعْرَافِ: 201] وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَدْعُو إِلَى طَلَبِ اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ وَالِاشْتِغَالِ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا مُتَخَبِّطًا، فَتَارَةً الشَّيْطَانُ يَجُرُّهُ إِلَى النَّفْسِ وَالْهَوَى، وَتَارَةً الْمَلَكُ يَجُرُّهُ إِلَى الدِّينِ وَالتَّقْوَى، فَحَدَثَتْ هُنَاكَ حَرَكَاتٌ مُضْطَرِبَةٌ، وَأَفْعَالٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَهَذَا هُوَ الْخَبْطُ الْحَاصِلُ بِفِعْلِ الشَّيْطَانِ وَآكِلُ الرِّبَا لَا شَكَّ أَنَّهُ يَكُونُ مُفْرِطًا فِي حُبِّ الدُّنْيَا مُتَهَالِكًا فِيهَا، فَإِذَا مَاتَ عَلَى ذَلِكَ الْحُبِّ صَارَ ذَلِكَ الْحُبُّ حِجَابًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَالْخَبْطُ الَّذِي كَانَ حَاصِلًا فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ حُبِّ الْمَالِ أَوْرَثَهُ الْخَبْطَ فِي الآخرة، وأوقعه في ذلك الْحِجَابِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَقْرَبُ عِنْدِي مِنَ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ نَقَلْنَاهُمَا عَمَّنْ نَقَلْنَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَوْمُ كَانُوا فِي تَحْلِيلِ الرِّبَا عَلَى هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَهِيَ أَنَّ مَنِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ بِأَحَدَ عَشَرَ فَهَذَا حَلَالٌ، فَكَذَا إِذَا بَاعَ الْعَشَرَةَ بأحد عشرة يجب أن يكون حلال، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْعَقْلِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَهَذَا فِي رِبَا النَّقْدِ، وَأَمَّا فِي رِبَا النَّسِيئَةِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَ الثَّوْبَ الَّذِي يُسَاوِي عَشَرَةً فِي الْحَالِ بِأَحَدَ عَشَرَ إِلَى شَهْرٍ جَازَ فَكَذَا إِذَا أَعْطَى الْعَشَرَةَ بِأَحَدَ عَشَرَ إِلَى شَهْرٍ، وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْعَقْلِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا جَازَ هُنَاكَ، لِأَنَّهُ حَصَلَ التراضي من الجانبين، فكذا هاهنا لَمَّا حَصَلَ التَّرَاضِي مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ أَيْضًا، فَالْبِيَاعَاتُ إِنَّمَا شُرِّعَتْ لِدَفْعِ الْحَاجَاتِ، ولعلل الْإِنْسَانَ أَنْ يَكُونَ صِفْرَ الْيَدِ فِي الْحَالِ شَدِيدَ الْحَاجَةِ، وَيَكُونَ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الزَّمَانِ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، فَإِذَا لَمْ يَجُزِ الرِّبَا لَمْ يُعْطِهِ رَبُّ الْمَالِ شَيْئًا فَيَبْقَى الْإِنْسَانُ فِي الشِّدَّةِ وَالْحَاجَةِ، إِمَّا بِتَقْدِيرِ جَوَازِ الرِّبَا فَيُعْطِيهِ رَبُّ الْمَالِ طَمَعًا فِي الزِّيَادَةِ، وَالْمَدْيُونُ يَرُدُّهُ عِنْدَ وِجْدَانِ الْمَالِ، وَإِعْطَاءُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ عِنْدَ وِجْدَانِ الْمَالِ أَسْهَلُ عَلَيْهِ مِنَ الْبَقَاءِ فِي الْحَاجَةِ قَبْلَ وِجْدَانِ الْمَالِ، فَهَذَا

يَقْتَضِي حِلَّ الرِّبَا كَمَا حَكَمْنَا بِحِلِّ سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ لِأَجْلِ دَفْعِ الْحَاجَةِ، فَهَذَا هُوَ شُبْهَةُ الْقَوْمِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْهُ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا وَوَجْهُ الْجَوَابِ أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ مُعَارَضَةٌ لِلنَّصِّ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ مِنْ عَمَلِ إِبْلِيسَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَارَضَ النَّصَّ بِالْقِيَاسِ، فَقَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12] [ص: 76] وَاعْلَمْ أَنَّ نُفَاةَ الْقِيَاسِ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذَا الْحَرْفِ، فَقَالُوا: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالْقِيَاسِ لَكَانَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ لَازِمَةً، فَلَمَّا كَانَتْ مَدْفُوعَةً عَلِمْنَا أَنَّ الدِّينَ بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ، وَذَكَرَ الْقَفَّالُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ، فَقَالَ: مَنْ بَاعَ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةً بِعِشْرِينَ فَقَدْ جَعَلَ ذَاتَ/ الثَّوْبِ مُقَابِلًا بِالْعِشْرِينِ، فَلَمَّا حَصَلَ التَّرَاضِي عَلَى هَذَا التَّقَابُلِ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَابِلًا لِلْآخَرِ فِي الْمَالِيَّةِ عِنْدَهُمَا، فَلَمْ يَكُنْ أَخَذَ مِنْ صَاحِبِهِ شَيْئًا بِغَيْرِ عِوَضٍ، أَمَّا إِذَا بَاعَ الْعَشَرَةَ بِالْعَشَرَةِ فَقَدْ أَخَذَ الْعَشَرَةَ الزَّائِدَةَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ غَرَضَهُ هُوَ الْإِمْهَالُ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ، لِأَنَّ الْإِمْهَالَ لَيْسَ مَالًا أَوْ شَيْئًا يُشَارُ إِلَيْهِ حَتَّى يَجْعَلَهُ عِوَضًا عَنِ الْعَشَرَةِ الزَّائِدَةِ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِاسْتِحْلَالِهِمُ الرِّبَا دُونَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، وَأَكْلِهِ مَعَ التَّحْرِيمِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَثْبُتُ بِهَذِهِ الْآيَةِ كَوْنُ الرِّبَا مِنَ الْكَبَائِرِ. فَإِنْ قِيلَ: مُقَدِّمَةُ الْآيَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِيَامَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَخَبِّطِينَ كَانَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ أَكَلُوا الرِّبَا. قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعِلَّةَ لِذَلِكَ التَّخَبُّطِ هُوَ هَذَا الْقَوْلُ وَالِاعْتِقَادُ فَقَطْ، وَعِنْدَ هَذَا يَجِبُ تَأْوِيلُ مُقَدِّمَةِ الْآيَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَكْلِ نَفْسَ الْأَكْلِ، وَذَكَرْنَا عَلَيْهِ وُجُوهًا مِنَ الدَّلَائِلِ، فَأَنْتُمْ حَمَلْتُمُوهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الرِّبَا، وَنَحْنُ نَحْمِلُهُ عَلَى اسْتِحْلَالِ الرِّبَا وَاسْتَطَابَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَكْلَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الِاسْتِحْلَالِ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَأْكُلُ مَالَ اللَّهِ قَضْمًا خصما، أَيْ يَسْتَحِلُّ التَّصَرُّفَ فِيهِ، وَإِذَا حَمَلْنَا الْأَكْلَ عَلَى الِاسْتِحْلَالِ، صَارَتْ مُقَدِّمَةُ الْآيَةِ مُطَابِقَةً لِمُؤَخِّرَتِهَا، فَهَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْآيَةِ، إِلَّا أَنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى وَعِيدِ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ الرِّبَا، لَا عَلَى وَعِيدِ مَنْ يَسْتَحِلُّ هَذَا الْعَقْدَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لِمَ لَمْ يَقُلْ: إِنَّمَا الرِّبَا مِثْلُ الْبَيْعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حِلَّ الْبَيْعِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَقِيسُوا عَلَيْهِ الرِّبَا، وَمِنْ حَقِّ الْقِيَاسِ أَنْ يُشَبَّهَ مَحَلُّ الْخِلَافِ بِمَحَلِّ الْوِفَاقِ، فَكَانَ نَظْمُ الْآيَةِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا الرِّبَا مِثْلُ الْبَيْعِ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي أَنْ قَلَبَ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ، فَقَالَ: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُ الْقَوْمِ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِنَظْمِ الْقِيَاسِ، بَلْ كَانَ غَرَضُهُمْ أَنَّ الرِّبَا وَالْبَيْعَ مُتَمَاثِلَانِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ الْمَطْلُوبَةِ فَكَيْفَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ بِالْحِلِّ وَالثَّانِي بِالْحُرْمَةِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَأَيُّهُمَا قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ جَازَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الْكُفَّارِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَالُوا: الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، ثُمَّ إِنَّكُمْ تَقُولُونَ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَكَيْفَ يُعْقَلُ هَذَا؟ يَعْنِي أَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا مُتَمَاثِلَيْنِ فَلَوْ حَلَّ أَحَدُهُمَا وَحَرُمَ الْآخَرُ لَكَانَ ذَلِكَ إِيقَاعًا لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمِثْلَيْنِ، وَذَلِكَ غَيْرُ لائق بحكمة الحكيم فقوله أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ

الرِّبا ذَكَرَهُ الْكُفَّارُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ، وَأَمَّا/ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَلَامَ الْكُفَّارِ انْقَطَعَ عِنْدَ قَوْلِهِ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وأما قوله أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَنَصُّهُ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ ذَكَرَهُ إِبْطَالًا لِقَوْلِ الْكُفَّارِ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، وَالْحُجَّةُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهٌ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: هَذَا كَلَامُ الْكُفَّارِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِإِضْمَارِ زِيَادَاتٍ بِأَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، أَوْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَةِ مِنْ قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِضْمَارَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَأَمَّا إِذَا جَعَلْنَاهُ كَلَامَ اللَّهِ ابْتِدَاءً لَمْ يُحْتَجْ فِيهِ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَبَدًا كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الْبَيْعِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَوْلَا أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ الْكُفَّارِ، وَإِلَّا لَمَا جَازَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَدِلُّوا بِهِ، وَفِي هَذِهِ الْحُجَّةِ كَلَامٌ سَيَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَقِيبَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ قَوْلَهُ فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمَّا تَمَسَّكُوا بِتِلْكَ الشُّبْهَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا فَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ كَشَفَ عَنْ فَسَادِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ وَعَنْ ضَعْفِهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا كَلَامَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ جَوَابُ تلك الشبهة مذكورا فلم يكن قوله فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَائِقًا بِهَذَا الْمَوْضِعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا مِنَ الْمُجْمَلَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهَا، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدِي، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الِاسْمَ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِلَامِ التَّعْرِيفِ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ الْبَتَّةَ، بَلْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا تَعْرِيفُ الْمَاهِيَّةِ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ كَفَى الْعَمَلُ بِهِ فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّا إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّهُ يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَلَكِنَّا لَا نَشُكُّ أَنَّ إِفَادَتَهُ الْعُمُومَ أَضْعَفُ مِنْ إِفَادَةِ أَلْفَاظِ الْجَمْعِ لِلْعُمُومِ، مَثَلًا قَوْلُهُ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَإِنْ أَفَادَ الِاسْتِغْرَاقَ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَاتِ أَقْوَى فِي إِفَادَةِ الِاسْتِغْرَاقِ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ لَا يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ إِلَّا إِفَادَةً ضَعِيفَةً، ثُمَّ تَقْدِيرُ الْعُمُومِ لَا بُدَّ وَأَنْ يطرق إِلَيْهَا تَخْصِيصَاتٌ كَثِيرَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْحَصْرِ وَالضَّبْطِ، وَمِثْلُ هَذَا الْعُمُومِ لَا يَلِيقُ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، فَأَمَّا الْعَامُّ الَّذِي يَكُونُ مَوْضِعُ التَّخْصِيصِ مِنْهُ قَلِيلًا جِدًّا فَذَلِكَ جَائِزٌ لِأَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الِاسْتِغْرَاقِ عَلَى الْأَغْلَبِ عُرْفٌ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَثَبَتَ أَنَّ حَمْلَ هَذَا عَلَى الْعُمُومِ غَيْرُ جَائِزٍ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا سَأَلْنَاهُ عَنِ الرِّبَا، وَلَوْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ مُفِيدًا لِلْعُمُومِ لَمَا قَالَ ذَلِكَ فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْمُجْمَلَاتِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ بَيْعٍ حَلَالًا، وَقَوْلُهُ وَحَرَّمَ الرِّبا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ رِبًا حَرَامًا، لِأَنَّ الرِّبَا هُوَ الزِّيَادَةُ وَلَا بَيْعَ إِلَّا وَيُقْصَدُ بِهِ الزِّيَادَةُ، فَأَوَّلُ الْآيَةِ أَبَاحَ جَمِيعَ الْبُيُوعِ، وَآخِرُهَا حَرَّمَ الْجَمِيعَ، فَلَا يُعْرَفُ الْحَلَالُ مِنَ الْحَرَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَكَانَتْ مُجْمَلَةً، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ إِلَى بَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

أَمَّا قَوْلُهُ فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ ذَكَّرَ فِعْلَ الْمَوْعِظَةِ لِأَنَّ تَأْنِيثَهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ وَلِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْوَعْظِ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَالْحَسَنُ فَمَنْ جَاءَتْهُ مَوْعِظَةٌ ثُمَّ قَالَ: فَانْتَهى أَيْ فَامْتَنَعَ، ثُمَّ قَالَ: فَلَهُ مَا سَلَفَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي التَّأْوِيلِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ صَفَحَ لَهُ عَمَّا مَضَى مِنْ ذَنْبِهِ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الْأَنْفَالِ: 38] وَهَذَا التَّأْوِيلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ فِي التَّحْرِيمِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَرَامًا وَلَا ذَنْبًا، فَكَيْفَ يُقَالُ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الصَّفْحُ عَنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ مَعَ أَنَّهُ مَا كَانَ هُنَاكَ ذَنْبٌ، وَالنَّهْيُ الْمُتَأَخِّرُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمِ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ ذَلِكَ إِلَيْهِ بِلَامِ التَّمْلِيكِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فَلَهُ مَا سَلَفَ فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ ذَنْبًا الثَّانِي: قَالَ السُّدِّيُّ: لَهُ مَا سَلَفَ أَيْ لَهُ مَا أَكَلَ مِنَ الرِّبَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا سلف، فأما من لمن يَقْضِ بَعْدُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ، وَإِنَّمَا لَهُ رَأْسُ مَالِهِ فَقَطْ كَمَا بَيَّنَهُ بَعْدَ ذلك بقوله وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 279] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: السَّلَفُ الْمُتَقَدِّمُ، وَكُلُّ شَيْءٍ قَدَّمْتَهُ أَمَامَكَ فَهُوَ سَلَفٌ، وَمِنْهُ الْأُمَّةُ السَّالِفَةُ، وَالسَّالِفَةُ الْعُنُقُ لِتَقَدُّمِهِ فِي جِهَةِ الْعُلُوِّ، وَالسُّلْفَةُ مَا يُقَدَّمُ قَبْلَ الطَّعَامِ، وَسُلَافَةُ الْخَمْرِ صَفْوَتُهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَصِيرِهَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ فَفِيهِ وُجُوهٌ لِلْمُفَسِّرِينَ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي أَقُولُهُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ تَرَكَ اسْتِحْلَالَ الرِّبَا مِنْ غَيْرِ بَيَانِ أَنَّهُ تَرَكَ أَكْلَ الرِّبَا، أَوْ لَمْ يَتْرُكْ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مُقَدِّمَةُ الْآيَةِ وَمُؤَخِّرَتُهَا. أَمَّا مُقَدِّمَةُ الْآيَةِ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى ليس فيه بيان أنه انتهي عما ذا فَلَا بُدَّ وَأَنُ يَصْرِفَ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ إِلَى السَّابِقِ، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَا حَكَى اللَّهُ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، فَكَانَ قَوْلُهُ فَانْتَهى عَائِدًا إِلَيْهِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: فَانْتَهَى عَنْ هَذَا الْقَوْلِ. وَأَمَّا مُؤَخِّرَةُ الْآيَةِ فَقَوْلُهُ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ومعناه: عَادَ إِلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ اسْتِحْلَالُ الرِّبَا وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ هَذَا الْإِنْسَانُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَمَا انْتَهَى/ عَنِ اسْتِحْلَالِ الرِّبَا انْتَهَى أَيْضًا عَنْ أَكْلِ الرِّبَا، أَوْ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ هَذَا الشَّخْصُ مُقِرًّا بِدِينِ اللَّهِ عَالِمًا بِتَكْلِيفِ اللَّهِ، فَحِينَئِذٍ يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ وَالتَّعْظِيمَ وَالْإِكْرَامَ، لَكِنَّ قَوْلَهُ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ تَعَالَى إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَلِيقُ بِالْكَافِرِ وَلَا بِالْمُؤْمِنِ الْمُطِيعِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِمَنْ أَقَرَّ بِحُرْمَةِ الرِّبَا ثُمَّ أَكَلَ الرِّبَا فَهَهُنَا أَمْرُهُ لِلَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا ظَاهِرًا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا أَنَّ الْعَفْوَ مِنَ اللَّهِ مَرْجُوٌّ. أَمَّا قَوْلُهُ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فَالْمَعْنَى: وَمَنْ عَادَ إِلَى اسْتِحْلَالِ الرِّبَا حَتَّى يَصِيرَ كَافِرًا. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ فِي أَنَّ الْخُلُودَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْكَافِرِ لأن قوله فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ يُفِيدُ الْحَصْرَ فِيمَنْ عَادَ إِلَى قَوْلِ الْكَافِرِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ هُمْ فِيها خالِدُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ صَاحِبَ النَّارِ، وَكَوْنَهُ خَالِدًا فِي النَّارِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي الْكُفَّارِ أَقْصَى مَا فِي الباب

[سورة البقرة (2) : آية 276]

أَنَّا خَالَفْنَا هَذَا الظَّاهِرَ وَأَدْخَلْنَا سَائِرَ الْكُفَّارِ فِيهِ، لَكِنَّهُ يَبْقَى عَلَى ظَاهِرِهِ فِي صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ فَتَأَمَّلْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ إِذَا كَانَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يَجُوزُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَاقِبَهُ اللَّهُ وَأَمْرُهُ فِي الْبَابَيْنِ مُوكَلٌ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يُعَاقِبَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ بَلْ يُخْرِجُهُ مِنْهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ صِحَّةَ هَذَا الْمَذْهَبِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِقَوْلِهِ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ عَلَى جَوَازِ الْعَفْوِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. ثُمَّ قوله فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يُدْخِلَهُ اللَّهُ النَّارَ لَكِنَّهُ لَا يُخَلِّدُهُ فِيهَا لِأَنَّ الْخُلُودَ مُخْتَصٌّ بِالْكُفَّارِ لَا بِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَهَذَا بَيَانٌ شريف وتفسير حسن. [سورة البقرة (2) : آية 276] يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) [في قَوْلُهُ تَعَالَى يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي الزَّجْرِ عَنِ الرِّبَا، وَكَانَ قَدْ بَالَغَ فِي الْآيَاتِ المتقدمة في الأمر بالصدقات، ذكر هاهنا مَا يَجْرِي مَجْرَى الدُّعَاءِ إِلَى تَرْكِ الصَّدَقَاتِ وَفِعْلِ الرِّبَا، وَكَشَفَ عَنْ فَسَادِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى فِعْلِ الرِّبَا تَحْصِيلُ الْمَزِيدِ فِي الْخَيْرَاتِ، وَالصَّارِفَ عَنِ الصَّدَقَاتِ الِاحْتِرَازُ عَنْ نُقْصَانِ الْخَيْرِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الرِّبَا وَإِنْ كَانَ زِيَادَةٍ فِي الْحَالِ، إِلَّا أَنَّهُ نُقْصَانٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّ الصَّدَقَةَ وَإِنْ كَانَتْ نُقْصَانًا فِي الصُّورَةِ، إِلَّا أَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ اللَّائِقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى مَا يَقْضِي بِهِ الطَّبْعُ وَالْحِسُّ مِنَ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ، بَلْ يُعَوِّلُ عَلَى مَا نَدَبَهُ الشَّرْعُ إِلَيْهِ مِنَ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ فَهَذَا وَجْهُ النَّظْمِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَحْقُ نُقْصَانُ الشَّيْءِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَمِنْهُ الْمَحَاقُ فِي الْهِلَالِ يُقَالُ: مَحَقَهُ اللَّهُ فانمحق وامتحق، ويقال: هجير ما حق إِذَا نَقَصَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَرَارَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَحْقَ الرِّبَا وَإِرْبَاءَ الصَّدَقَاتِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَنَقُولُ: مَحْقُ الرِّبَا فِي الدُّنْيَا مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْمُرَابِي وَإِنْ كَثُرَ مَالُهُ أَنَّهُ تؤل عَاقِبَتُهُ إِلَى الْفَقْرِ، وَتَزُولُ الْبَرَكَةُ عَنْ مَالِهِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِلَى قُلٍّ» وَثَانِيهَا: إِنْ لَمْ يَنْقُصْ مَالُهُ فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ الذَّمُّ، وَالنَّقْصُ، وَسُقُوطُ الْعَدَالَةِ، وَزَوَالُ الْأَمَانَةِ، وَحُصُولُ اسْمِ الْفِسْقِ وَالْقَسْوَةِ وَالْغِلْظَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْفُقَرَاءَ الَّذِينَ يُشَاهِدُونَ أَنَّهُ أَخَذَ أَمْوَالَهُمْ بِسَبَبِ الرِّبَا يَلْعَنُونَهُ وَيُبْغِضُونَهُ وَيَدْعُونَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ سَبَبًا لِزَوَالِ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ عَنْهُ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ مَتَى اشْتُهِرَ بَيْنَ الْخَلْقِ أَنَّهُ إِنَّمَا جَمَعَ مَالَهُ مِنَ الرِّبَا تَوَجَّهَتْ إِلَيْه الْأَطْمَاعُ، وَقَصَدَهُ كُلُّ ظَالِمٍ وَمَارِقٍ وَطَمَّاعٍ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ الْمَالَ لَيْسَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا يُتْرَكُ فِي يَدِهِ، وَأَمَّا أَنَّ الرِّبَا سَبَبٌ لِلْمَحْقِ فِي الْآخِرَةِ فَلِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَعْنَى هَذَا الْمَحْقِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْهُ صَدَقَةً وَلَا جِهَادًا، وَلَا حَجًّا، وَلَا صِلَةَ رَحِمٍ وَثَانِيهَا: أَنَّ مَالَ الدُّنْيَا لَا يَبْقَى عِنْدَ الْمَوْتِ، وَيَبْقَى التَّبِعَةُ وَالْعُقُوبَةُ، وَذَلِكَ هُوَ الْخَسَارُ الْأَكْبَرُ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَغْنِيَاءَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بَعْدَ الْفُقَرَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ، فَإِذَا كَانَ الْغَنِيُّ مِنَ الْوَجْهِ الْحَلَالِ كَذَلِكَ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْغَنِيِّ مِنَ الْوَجْهِ الْحَرَامِ الْمَقْطُوعِ بِحُرْمَتِهِ كَيْفَ يَكُونُ، فذلك هو المحق والنقصان. وأما أرباب الصَّدَقَاتِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِي الْآخِرَةِ. أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَمِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ كَانَ اللَّهُ لَهُ، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مَعَ فَقْرِهِ وَحَاجَتِهِ يُحْسِنُ إِلَى

[سورة البقرة (2) : آية 277]

عَبِيدِ اللَّهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَتْرُكُهُ ضَائِعًا فِي الدُّنْيَا، وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَلَكَ يُنَادِي كُلَّ يَوْمٍ «اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِكُلِّ مُنْفِقٍ خَلَفًا وَلِمُمْسِكٍ تَلَفًا» وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَزْدَادُ كُلَّ يَوْمٍ فِي جَاهِهِ وَذِكْرِهِ الْجَمِيلِ، وَمَيْلِ الْقُلُوبِ إِلَيْهِ وَسُكُونِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَذَلِكَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَالِ مَعَ أَضْدَادِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْفُقَرَاءَ يُعِينُونَهُ بِالدَّعَوَاتِ الصَّالِحَةِ وَرَابِعُهَا: الْأَطْمَاعُ تَنْقَطِعُ عَنْهُ فَإِنَّهُ مَتَى اشْتُهِرَ أَنَّهُ مُتَشَمِّرٌ لِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِ الْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، فَكُلُّ أَحَدٍ يَحْتَرِزُ عَنْ مُنَازَعَتِهِ، وَكُلُّ ظَالِمٍ، وَكُلُّ طَمَّاعٍ لَا يَجُوزُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا نَادِرًا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِإِرْبَاءِ الصَّدَقَاتِ فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا إِرْبَاؤُهَا فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن اللَّهَ تَعَالَى يَقْبَلُ الصَّدَقَاتِ وَلَا يَقْبَلُ مِنْهَا إِلَّا الطَّيِّبَ، وَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ أَوْ فَلُوَّهُ حَتَّى أَنَّ اللُّقْمَةَ تَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ» وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ بَيِّنٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ [التَّوْبَةِ: 104] يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ [البقرة: 276] قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: / وَنَظِيرُ قَوْلِهِ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ بِصَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا، وَنَظِيرُ قَوْلِهِ وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَهُ اللَّهُ بِحَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ. أَمَّا قَوْلُهُ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ فَاعْلَمْ أَنَّ الْكَفَّارَ فَعَّالٌ مِنَ الْكُفْرِ، وَمَعْنَاهُ مَنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَادَةً، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمُقِيمَ عَلَى الشَّيْءِ بِهَذَا، فَتَقُولُ: فُلَانٌ فَعَّالٌ لِلْخَيْرِ أَمَّارٌ بِهِ، وَالْأَثِيمُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَهُوَ الْآثِمُ، وَهُوَ أَيْضًا مُبَالَغَةٌ فِي الِاسْتِمْرَارِ عَلَى اكْتِسَابِ الْآثَامِ وَالتَّمَادِي فِيهِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ يُنْكِرُ تَحْرِيمَ الرِّبَا فَيَكُونُ جَاحِدًا، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْكَفَّارُ رَاجِعًا إِلَى الْمُسْتَحِيلِ وَالْأَثِيمُ يَكُونُ رَاجِعًا إِلَى مَنْ يَفْعَلُهُ مَعَ اعْتِقَادِ التَّحْرِيمِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ جَامِعَةً للفريقين. [سورة البقرة (2) : آية 277] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) اعْلَمْ أَنَّ عَادَةَ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ مُطَّرِدَةٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى مَهْمَا ذَكَرَ وَعِيدًا ذَكَرَ بَعْدَهُ وَعْدًا فَلَمَّا بالغ هاهنا فِي وَعِيدِ الْمُرَابِي أَتْبَعَهُ بِهَذَا الْوَعْدِ، وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ خَارِجٌ عَنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَعَطَفَ عَمَلَ الصَّالِحَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَجَابَ عَنْهُ أَلَيْسَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ مَعَ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ دَاخِلَانِ تَحْتَ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَكَذَا فِيمَا ذَكَرْتُمْ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [محمد: 34] وقال: الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا [الْبَقَرَةِ: 239] . وَلِلْمُسْتَدِلِّ الْأَوَّلِ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَصْلَ حَمْلُ كُلِّ لَفْظَةٍ عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَ التَّعَذُّرِ، فَيَبْقَى فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التَّعَذُّرِ عَلَى الأصل. المسألة الثانية: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَقْوَى مِنْ قَوْلِهِ: عَلَى رَبِّهِمْ أَجْرُهُمْ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَجْرِي مَجْرَى ما

[سورة البقرة (2) : الآيات 278 إلى 281]

إِذَا بَاعَ بِالنَّقْدِ، فَذَاكَ النَّقْدُ هُنَاكَ حَاضِرٌ مَتَى شَاءَ الْبَائِعُ أَخَذَهُ، وَقَوْلُهُ: أَجْرُهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ. يَجْرِي مَجْرَى مَا إِذَا بَاعَ بِالنَّسِيئَةِ فِي الذِّمَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَفْضَلُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُهُمْ مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ بِسَبَبِ مَا تَرَكُوهُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْمُنْتَقِلَ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى فَوْقَهَا رُبَّمَا يَحْزَنُ عَلَى بَعْضِ مَا فَاتَهُ مِنَ الْأَحْوَالِ السَّالِفَةِ، وَإِنْ كَانَ مُغْتَبِطًا بِالثَّانِيَةِ لِأَجْلِ إِلْفِهِ وَعَادَتِهِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْغُصَّةِ لَا يَلْحَقُ أَهْلَ الثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ، وَقَالَ الْأَصَمُّ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنَّا فِي الدُّنْيَا طَاعَةٌ أَزْيَدُ مِمَّا صَدَرَ حَتَّى صِرْنَا مُسْتَحِقِّينَ لِثَوَابٍ أَزْيَدَ مِمَّا وَجَدْنَاهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْخَوَاطِرَ لَا تُوجَدُ فِي الْآخِرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِشْكَالٌ هُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتْ عَارِفَةً بِاللَّهِ وَكَمَا بَلَغَتْ حَاضَتْ، ثُمَّ عِنْدَ انْقِطَاعِ حَيْضِهَا مَاتَتْ، أَوِ الرَّجُلَ بَلَغَ عَارِفًا بِاللَّهِ، وَقَبْلَ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ مَاتَ، فَهُمَا بِالِاتِّفَاقِ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ الْأَعْمَالِ، وَأَيْضًا مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُثِيبُ الْمُؤْمِنَ الْفَاسِقَ الْخَالِيَ عَنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، وَإِذَا كَانَ كذلك، فكيف وقف الله هاهنا حُصُولَ الْأَجْرِ عَلَى حُصُولِ الْأَعْمَالِ؟. الْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْخِصَالَ لَا لِأَجْلِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ مَشْرُوطٌ بِهَذَا، بَلْ لِأَجْلِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثَرًا فِي جَلْبِ الثَّوَابِ، كَمَا قَالَ فِي ضِدِّ هَذَا وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الْفُرْقَانِ: 68] ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [الْفُرْقَانِ: 68] وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنِ ادَّعَى مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا يَحْتَاجُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ الْعَذَابَ إِلَى عَمَلٍ آخَرَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَمَعَ الزِّنَا وَقَتْلَ النَّفْسِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْلَالِ مَعَ دُعَاءِ غَيْرِ اللَّهِ إِلَهًا لِبَيَانِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من هذه الخصال يوجب العقوبة. [سورة البقرة (2) : الآيات 278 الى 281] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) [الآية في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلى قوله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ مَنِ انْتَهَى عَنِ الرِّبَا فَلَهُ مَا سَلَفَ فَقَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَقْبُوضِ مِنْهُ وَبَيْنَ الْبَاقِي فِي ذِمَّةِ الْقَوْمِ، فَقَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا وَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُقْبَضْ، فَالزِّيَادَةُ تَحْرُمُ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا إِلَّا رؤوس أموالهم،

وَإِنَّمَا شَدَّدَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ مَنِ انْتَظَرَ مُدَّةً طَوِيلَةً فِي حُلُولِ الْأَجَلِ، ثُمَّ حَضَرَ الْوَقْتُ وَظَنَّ نَفْسَهُ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ، فَيَحْتَاجُ فِي مَنْعِهِ عَنْهُ إِلَى تَشْدِيدٍ عَظِيمٍ، فَقَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ وَاتِّقَاؤُهُ مَا نَهَى عَنْهُ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا يَعْنِي إِنْ كُنْتُمْ قَدْ قَبَضْتُمْ شَيْئًا فَيَعْفُو عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ تَقْبِضُوهُ، أَوْ لَمْ تَقْبِضُوا بَعْضَهُ، فَذَلِكَ الَّذِي لَمْ تَقْبِضُوهُ كلا كان، أو بعضاً فإنه محرم قَبْضُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي أَحْكَامِ الْكُفَّارِ إِذَا أَسْلَمُوا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا مَضَى فِي وَقْتِ الْكُفْرِ فَإِنَّهُ يَبْقَى ولا ينقص، وَلَا يُفْسَخُ، وَمَا لَا يُوجَدُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي حَالِ الْكُفْرِ فَحُكْمُهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَإِذَا تَنَاكَحُوا عَلَى مَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ وَلَا يَجُوزُ فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ عَفْوٌ لَا يُتَعَقَّبُ، وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ وَقَعَ عَلَى مُحَرَّمٍ فَقَبَضَتْهُ الْمَرْأَةُ فَقَدْ مَضَى، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَقْبِضْهُ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا دُونَ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: كيف قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا مِثْلُ مَا يُقَالُ: إِنْ كُنْتَ أَخًا فَأَكْرِمْنِي، مَعْنَاهُ: إِنَّ مَنْ كَانَ أَخًا أَكْرَمَ أَخَاهُ وَالثَّانِي: قِيلَ: مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَبْلَهُ الثَّالِثُ: إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ اسْتِدَامَةَ الْحُكْمِ لَكُمْ بِالْإِيمَانِ الرَّابِعُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِلِسَانِهِمْ ذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِقُلُوبِكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ رِوَايَاتٌ: الرِّوَايَةُ الْأُولَى: أَنَّهَا خِطَابٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا يُرَابُونَ فَلَمَّا أَسْلَمُوا عِنْدَ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ/ تَعَالَى أَنْ يأخذوا رؤوس أَمْوَالِهِمْ دُونَ الزِّيَادَةِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَرْبَعَةِ إِخْوَةٍ مِنْ ثقيف: مسعود، وعبد يا ليل، وَحَبِيبٌ، وَرَبِيعَةُ، بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيِّ كَانُوا يُدَايِنُونَ بَنِي الْمُغِيرَةِ، فَلَمَّا ظَهَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الطَّائِفِ أَسْلَمَ الْإِخْوَةُ، ثُمَّ طَالَبُوا بِرِبَاهُمْ بَنِي الْمُغِيرَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: نَزَلَتْ فِي الْعَبَّاسِ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَكَانَا أَسْلَفَا فِي التَّمْرِ، فَلَمَّا حَضَرَ الجداد قَبَضَا بَعْضًا، وَزَادَ فِي الْبَاقِي فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ. الرِّوَايَةُ الرَّابِعَةُ: نَزَلَتْ فِي الْعَبَّاسِ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَكَانَا يُسْلِفَانِ فِي الرِّبَا، وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَكَامَلُ إِذَا أَصَرَّ الْإِنْسَانُ عَلَى كَبِيرَةٍ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُؤْمِنًا بِالْإِطْلَاقِ إِذَا اجْتَنَبَ كُلَّ الْكَبَائِرِ. وَالْجَوَابُ: لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَةِ: 3] عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ خَارِجٌ عَنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَحْمُولَةً عَلَى كَمَالِ الْإِيمَانِ وَشَرَائِعِهِ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ: إِنْ كُنْتُمْ عَامِلِينَ بِمُقْتَضَى شَرَائِعِ الْإِيمَانِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ تَرْكًا لِلظَّاهِرِ لَكِنَّا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ لِتِلْكَ الدَّلَائِلِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ (فَآذِنُوا) مَفْتُوحَةَ الْأَلِفِ مَمْدُودَةً مَكْسُورَةَ الذَّالِ عَلَى مِثَالِ فَآمِنُوا وَالْبَاقُونَ فَأْذَنُوا بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ مَفْتُوحَةَ الذَّالِ مَقْصُورَةً، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عنه أنهما

قرءا كَذَلِكَ (فَآذِنُوا) مَمْدُودَةً، أَيْ فَأَعْلِمُوا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ [الْأَنْبِيَاءِ: 109] وَمَفْعُولُ الْإِيذَانِ مَحْذُوفٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَعْلِمُوا مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنِ الرِّبَا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِذَا أُمِرُوا بِإِعْلَامِ غَيْرِهِمْ فَهُمْ أَيْضًا قَدْ عَلِمُوا ذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَ فِي عِلْمِهِمْ دَلَالَةٌ عَلَى إِعْلَامِ غَيْرِهِمْ، فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ فِي الْبَلَاغَةِ آكَدٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ مِنَ الْإِذْنِ، أَيْ كُونُوا عَلَى عِلْمٍ وَإِذْنٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ (فَأَيْقِنُوا) وَهُوَ دَلِيلٌ لِقِرَاءَةِ الْعَامَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ خِطَابٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصِرِّينَ عَلَى مُعَامَلَةِ الرِّبَا، أَوْ هُوَ خِطَابٌ مَعَ الْكُفَّارِ الْمُسْتَحِلِّينَ لِلرِّبَا، الَّذِينَ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، قَالَ الْقَاضِي: وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ فَأْذَنُوا خِطَابٌ مَعَ قَوْمٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وهم المخاطبون بقوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَمَرَ بِالْمُحَارَبَةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ؟ قُلْنَا: هَذِهِ اللَّفْظَةُ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى مَنْ عَصَى اللَّهَ غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ «مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ» وَعَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَدَعِ الْمُخَابَرَةَ فَلْيَأْذَنْ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» وَقَدْ جَعَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْمَائِدَةِ: 33] أَصْلًا فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَثَبَتَ أَنَّ ذِكْرَ هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّهْدِيدِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَارِدٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَفِي سُنَّةِ رَسُولِهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّهْدِيدِ دُونَ نَفْسِ الْحَرْبِ وَالثَّانِي: الْمُرَادُ نَفْسُ الْحَرْبِ وَفِيهِ تَفْصِيلٌ، فَنَقُولُ: الْإِصْرَارُ عَلَى عَمَلِ الرِّبَا إِنْ كَانَ مِنْ شَخْصٍ وَقَدَرَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ قَبَضَ عَلَيْهِ وَأَجْرَى فيه حكم الله من التعزيز وَالْحَبْسِ إِلَى أَنْ تَظْهَرَ مِنْهُ التَّوْبَةُ، وَإِنْ وَقَعَ مِمَّنْ يَكُونُ لَهُ عَسْكَرٌ وَشَوْكَةٌ، حَارَبَهُ الْإِمَامُ كَمَا يُحَارِبُ الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ وَكَمَا حَارَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَكَذَا الْقَوْمُ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى تَرْكِ الْأَذَانِ، وَتَرْكِ دَفْنِ الْمَوْتَى، فَإِنَّهُ يَفْعَلُ بِهِمْ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَنْ عَامَلَ بِالرِّبَا يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَ عُنُقُهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي هَذِهِ الْآيَةِ أن قوله فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا [البقرة: 279] خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ، وَأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة: 278] مُعْتَرِفِينَ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أَيْ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا مُعْتَرِفِينَ بِتَحْرِيمِهِ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ قَالَ: إِنَّ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِشَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كَانَ كَافِرًا، كَمَا لَوْ كَفَرَ بِجَمِيعِ شَرَائِعِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تُبْتُمْ وَالْمَعْنَى عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ تُبْتُمْ مِنْ مُعَامَلَةِ الرِّبَا، وَعَلَى القول الثاني من استحلال الربا فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ أَيْ لَا تَظْلِمُونَ الْغَرِيمَ بِطَلَبِ الزِّيَادَةِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَلَا تُظْلَمُونَ أَيْ بِنُقْصَانِ رَأْسِ الْمَالِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ النَّحْوِيُّونَ (كَانَ) كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ حَدَثَ وَوَقَعَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قَدْ كَانَ الْأَمْرُ، أَيْ وُجِدَ، وَحِينَئِذٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى خَبَرٍ وَالثَّانِي: أَنْ يُخْلَعَ مِنْهُ مَعْنَى الْحَدَثِ، فَتَبْقَى

الْكَلِمَةُ مُجَرَّدَةً لِلزَّمَانِ، وَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ إِلَى الْخَبَرِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: كَانَ زَيْدٌ ذَاهِبًا. وَاعْلَمْ أَنِّي حِينَ كُنْتُ مُقِيمًا بِخُوَارَزْمَ، وَكَانَ هُنَاكَ جَمْعٌ مِنْ أَكَابِرِ الْأُدَبَاءِ، أَوْرَدْتُ عَلَيْهِمْ إِشْكَالًا فِي هَذَا الْبَابِ فَقُلْتُ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ إِنَّ (كَانَ) إِذَا كَانَتْ نَاقِصَةً إِنَّهَا تَكُونُ فِعْلًا وَهَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّ الْفِعْلُ مَا دَلَّ عَلَى اقْتِرَانِ حَدَثٍ بِزَمَانٍ، فَقَوْلُكَ (كَانَ) يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ مَعْنَى الْكَوْنِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَإِذَا أَفَادَ هَذَا الْمَعْنَى كَانَتْ تَامَّةً لَا نَاقِصَةً، فَهَذَا الدَّلِيلُ يَقْتَضِي أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ فِعْلًا كَانَتْ/ تَامَّةً لَا نَاقِصَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَامَّةً لَمْ تَكُنْ فِعْلًا الْبَتَّةَ بَلْ كَانَتْ حَرْفًا، وَأَنْتُمْ تُنْكِرُونَ ذَلِكَ، فَبَقُوا فِي هَذَا الْإِشْكَالِ زَمَانًا طَوِيلًا، وَصَنَّفُوا فِي الْجَوَابِ عَنْهُ كُتُبًا، وَمَا أَفْلَحُوا فِيهِ ثُمَّ انْكَشَفَ لِي فِيهِ سر أذكره هاهنا وَهُوَ أَنَّ كَانَ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا حَدَثَ وَوَقَعَ وَوُجِدَ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَكَ وُجِدَ وحدث على قسمين أحدها: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وُجِدَ وَحَدَثَ الشَّيْءُ كَقَوْلِكَ: وُجِدَ الْجَوْهَرُ وَحَدَثَ الْعَرَضُ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وُجِدَ وَحَدَثَ مَوْصُوفِيَّةُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، فَإِذَا قُلْتَ: كَانَ زَيْدٌ عَالِمًا فَمَعْنَاهُ حَدَثَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي مَوْصُوفِيَّةُ زَيْدٍ بِالْعِلْمِ، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُسَمَّى بَكَانِ التَّامَّةِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي هُوَ الْمُسَمَّى بِالنَّاقِصَةِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ فَالْمَفْهُومُ مِنْ (كَانَ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ الْحُدُوثُ وَالْوُقُوعُ، إِلَّا أَنَّ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الْمُرَادِ حُدُوثُ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الِاسْمُ الْوَاحِدُ كَافِيًا، وَالْمُرَادُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي حُدُوثُ مَوْصُوفِيَّةُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَكُنِ الِاسْمُ الْوَاحِدُ كَافِيًا، بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الِاسْمَيْنِ حَتَّى يُمْكِنَهُ أَنْ يُشِيرَ إِلَى مَوْصُوفِيَّةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَهَذَا مِنْ لَطَائِفِ الْأَبْحَاثِ، فَأَمَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ فِعْلٌ كَانَ دَالًّا عَلَى وُقُوعِ الْمَصْدَرِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ تَامَّةً لَا نَاقِصَةً، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِفِعْلٍ بَلْ حَرْفٌ فَكَيْفَ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلُ وَالْأَمْرُ، وَجَمِيعُ خَوَاصِّ الْأَفْعَالِ، وَإِذَا حُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ فِعْلٌ وَزَالَ الْإِشْكَالُ بِالْكُلِّيَّةِ. الْمَفْهُومُ الثَّالِثُ: لِكَانَ يَكُونُ بِمَعْنَى صَارَ، وَأَنْشَدُوا: بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا ... قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخًا بُيُوضُهَا وعندي أن هذا اللفظ هاهنا مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّ مَعْنَى صَارَ أَنَّهُ حَدَثَ مَوْصُوفِيَّةُ الذَّاتِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ بَعْدَ أَنَّهَا مَا كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِذَلِكَ، فَيَكُونُ هُنَا بِمَعْنَى حَدَثَ وَوَقَعَ، إِلَّا أَنَّهُ حُدُوثٌ مَخْصُوصٌ، وَهُوَ أَنَّهُ حَدَثَ مَوْصُوفِيَّةُ الذَّاتِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْحَاصِلُ مَوْصُوفِيَّةَ الذَّاتِ بِصِفَةٍ أُخْرَى. الْمَفْهُومُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً وَأَنْشِدُوا: سراة بني أبي بكر تسامى ... عَلَى كَانَ الْمُسَوَّمَةِ الْجِيَادِ إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ فَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ فَنَقُولُ: فِي كانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا بِمَعْنَى وَقَعَ وَحَدَثَ، وَالْمَعْنَى: وَإِنْ وُجِدَ ذُو عُسْرَةٍ، وَنَظِيرُهَ قَوْلُهُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى: وَإِنْ وَقَعَتْ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ، وَمَقْصُودُ الْآيَةِ إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ لَكَانَ الْمَعْنَى: وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي ذَا عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ، فَتَكُونُ النَّظِرَةُ مَقْصُورَةً عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ وَغَيْرَهُ إِذَا كَانَ ذَا عُسْرَةٍ فَلَهُ النَّظِرَةُ إِلَى الْمَيْسَرَةِ الثَّانِي: أَنَّهَا نَاقِصَةٌ عَلَى حَذْفِ الْخَبَرِ، تَقْدِيرُهُ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ غَرِيمًا لَكُمْ، وَقَرَأَ عُثْمَانُ (ذَا عُسْرَةٍ) وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كَانَ الْغَرِيمُ ذَا عُسْرَةٍ، وَقُرِئَ (وَمَنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ) . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعُسْرَةُ اسْمٌ مِنَ الْإِعْسَارِ، وَهُوَ تَعَذُّرُ الْمَوْجُودِ مِنَ الْمَالِ يُقَالُ: أَعْسَرَ الرَّجُلُ، إِذَا صار

إِلَى حَالَةِ الْعُسْرَةِ، وَهِيَ الْحَالَةُ الَّتِي يَتَعَسَّرُ فِيهَا وُجُودُ الْمَالِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَالْحُكْمُ أَوْ فَالْأَمْرُ نَظِرَةٌ، أَوْ فَالَّذِي تُعَامِلُونَهُ نَظِرَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَظِرَةٌ أَيْ تَأْخِيرٌ، وَالنَّظِرَةُ الِاسْمُ مِنَ الْإِنْظَارِ، وَهُوَ الْإِمْهَالُ، تَقُولُ: بِعْتُهُ الشَّيْءَ بِنَظِرَةٍ وَبِإِنْظَارٍ، قَالَ تَعَالَى: قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [الحجر: 36، 37، 38] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ فَنَظِرَةٌ بِسُكُونِ الظَّاءِ، وَقَرَأَ عَطَاءٌ (فَنَاظِرُهُ) أَيْ فَصَاحِبُ الْحَقِّ أَيْ مُنْتَظِرُهُ، أَوْ صَاحِبُ نَظِرَتِهِ، عَلَى طَرِيقِ النَّسَبِ، كَقَوْلِهِمْ: مَكَانٌ عَاشِبٌ وَبَاقِلٌ، أَيْ ذُو عُشْبٍ وَذُو بَقْلٍ، وَعَنْهُ فَنَاظِرْهُ عَلَى الْأَمْرِ أَيْ فَسَامِحْهُ بِالنَّظِرَةِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمَيْسَرَةُ مَفْعَلَةٌ مِنَ الْيُسْرِ وَالْيَسَارِ، الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْإِعْسَارِ، وَهُوَ تَيَسُّرُ الْمَوْجُودِ مِنَ الْمَالِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: أَيْسَرَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُوسِرٌ، أَيْ صَارَ إِلَى الْيُسْرِ، فَالْمَيْسَرَةُ وَالْيُسْرُ وَالْمَيْسُورُ الْغِنَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ مَيْسَرَةٍ بِضَمِّ السِّينِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ كَالْمَقْبَرَةِ، وَالْمَشْرَفَةِ، وَالْمَشْرَبَةِ، وَالْمَسْرَبَةِ، وَالْفَتْحُ أَشْهَرُ اللُّغَتَيْنِ، لِأَنَّهُ جَاءَ فِي كَلَامِهِمْ كَثِيرًا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ حُكْمَ الْإِنْظَارِ مُخْتَصٌّ بِالرِّبَا أَوْ عَامٌّ فِي الْكُلِّ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٌ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَإِبْرَاهِيمُ: الْآيَةُ فِي الرِّبَا، وَذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ أَمَرَ بِحَبْسِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فَقِيلَ: إِنَّهُ مُعْسِرٌ، فَقَالَ شُرَيْحٌ: إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الرِّبَا، وَاللَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النِّسَاءِ: 58] وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَتِ الْإِخْوَةُ الْأَرْبَعَةُ الَّذِينَ كَانُوا يُعَامِلُونَ بِالرِّبَا: بَلْ نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا طَاقَةَ لَنَا بِحَرْبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَرَضُوا بِرَأْسِ الْمَالِ وَطَلَبُوا بَنِي الْمُغِيرَةِ بِذَلِكَ، فَشَكَا بنو المغيرة العسرة، وَقَالُوا: أَخِّرُونَا إِلَى أَنْ تُدْرِكَ الْغَلَّاتُ، فَأَبَوْا أَنْ يُؤَخِّرُوهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ دَيْنٍ، وَاحْتَجُّوا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ وَلَمْ يَقُلْ: وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ، لِيَكُونَ الْحُكْمُ عَامًّا فِي كُلِّ الْمُفَسِّرِينَ، قَالَ الْقَاضِي: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ في الآية المتقدمة وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ وَلَا نَقْصٍ، ثُمَّ قاتل فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَإِنْ كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْمَالُ مُعْسِرًا وَجَبَ إِنْظَارُهُ إِلَى وَقْتِ الْقُدْرَةِ، لِأَنَّ النَّظِرَةَ يُرَادُ بِهَا التَّأَخُّرُ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَقٍّ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ حَتَّى يَلْزَمَ التَّأَخُّرُ، بَلْ لَمَّا ثَبَتَ وُجُوبُ الْإِنْظَارِ فِي هَذِهِ بِحُكْمِ النَّصِّ، ثَبَتَ وُجُوبُهُ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ ضَرُورَةَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ أَدَاءِ الْمَالِ لَا يَجُوزُ تَكْلِيفُهُ بِهِ، وهذا قول أكثر الفقهاء كأبي حنفية وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَفْسِيرِ الْإِعْسَارِ، فَنَقُولُ: الْإِعْسَارُ هُوَ أَنْ لَا يَجِدَ فِي مِلْكِهِ مَا يُؤَدِّيهِ بِعَيْنِهِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ مَا لَوْ بَاعَهُ لَأَمْكَنَهُ أَدَاءَ الدَّيْنِ مِنْ ثمنه، فلهذا قلنا: من وحد دَارًا وَثِيَابًا لَا يُعَدُّ فِي ذَوِي الْعُسْرَةِ إِذَا مَا أَمْكَنَهُ بَيْعَهَا وَأَدَاءَ ثَمَنِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْبِسَ إِلَّا قُوتَ يَوْمٍ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، وَمَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ كُسْوَةٍ

لِصَلَاتِهِمْ وَدَفْعِ الْبَرْدِ وَالْحَرِّ عَنْهُمْ، وَاخْتَلَفُوا إِذَا كَانَ قَوِيًّا هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ أَوْ غَيْرِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، كَمَا يَلْزَمُهُ إِذَا احْتَاجَ لِنَفْسِهِ وَلِعِيَالِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا إِذَا كَانَ مُعْسِرًا، وَقَدْ بَذَلَ غَيْرُهُ مَا يُؤَدِّيهِ، هَلْ يَلْزَمُهُ الْقَبُولُ وَالْأَدَاءُ أَوْ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا مَنْ لَهُ بِضَاعَةٌ كَسَدَتْ عَلَيْهِ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهَا بِالنُّقْصَانِ إِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا ذَلِكَ، وَيُؤَدِّيهِ فِي الدَّيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إِذَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ أَنَّ غَرِيمَهُ مُعْسِرٌ حَرُمَ عَلَيْهِ حَبْسُهُ، وَأَنْ يُطَالِبَهُ بِمَا لَهُ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ الْإِنْظَارُ إِلَى وَقْتِ الْيَسَارِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لَهُ رِيبَةٌ فِي إِعْسَارِهِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ إِلَى وَقْتِ ظُهُورِ الْإِعْسَارِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى الْإِعْسَارَ وكذبه للغريم، فَهَذَا الدَّيْنُ الَّذِي لَزِمَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ عِوَضٍ حَصَلَ لَهُ كَالْبَيْعِ وَالْقَرْضِ، أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَفِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعِوَضَ قَدْ هَلَكَ، وَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ لَا بِعِوَضٍ، مِثْلُ إِتْلَافٍ أَوْ صَدَاقٍ أَوْ ضَمَانٍ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَعَلَى الْغُرَمَاءِ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْفَقْرُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ تَصَدَّقُوا بِتَخْفِيفِ الصَّادِ وَالْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ: أَنْ تَتَصَدَّقُوا بِتَاءَيْنِ، فَمَنْ خَفَّفَ حَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا، وَمَنْ شَدَّدَ أَدْغَمَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي التَّصَدُّقِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ: وَأَنْ تَصَدَّقُوا عَلَى الْمُعْسِرِ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ إِذْ لَا يَصِحُّ التَّصَدُّقُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا جَازَ هَذَا الْحَذْفُ لِلْعِلْمِ بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ جَرَى ذِكْرُ الْمُعْسِرِ وَذِكْرُ رَأْسِ الْمَالِ فَعُلِمَ أَنَّ التَّصَدُّقَ رَاجِعٌ إِلَيْهِمَا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْبَقَرَةِ: 237] وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّصَدُّقِ الْإِنْظَارُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا يَحِلُّ دَيْنُ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فَيُؤَخِّرُهُ إِلَّا كَانَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ» وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْإِنْظَارَ ثَبَتَ وَجُوبُهُ بِالْآيَةِ الْأُولَى، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ خَيْرٌ لَكُمْ لَا يَلِيقُ بِالْوَاجِبِ بَلْ بِالْمَنْدُوبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ بِالْخَيْرِ حُصُولُ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ الْجَزِيلِ فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا التَّصَدُّقَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ، فَجَعَلَ الْعَمَلَ مِنْ لَوَازِمِ الْعِلْمِ، وَفِيهِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ عَلَى الْعُصَاةِ وَالثَّانِي: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَضْلَ التَّصَدُّقِ عَلَى الْإِنْظَارِ وَالْقَبْضِ وَالثَّالِثُ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ أَصْلَحُ لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْعُظَمَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يُعَامِلُونَ بِالرِّبَا وَكَانُوا أَصْحَابَ ثَرْوَةٍ وَجَلَالٍ وَأَنْصَارٍ وَأَعْوَانٍ وَكَانَ قَدْ يَجْرِي مِنْهُمُ التَّغَلُّبُ عَلَى النَّاسِ بِسَبَبِ ثَرْوَتِهِمْ، فَاحْتَاجُوا إِلَى مَزِيدِ زَجْرٍ وَوَعِيدٍ وَتَهْدِيدٍ، حَتَّى يَمْتَنِعُوا عَنِ الرِّبَا، وَعَنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، فَلَا جَرَمَ تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَخَوَّفَهُمْ عَلَى أَعْظَمِ الْوُجُوهِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْآيَةُ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا حَجَّ نَزَلَتْ يَسْتَفْتُونَكَ [النِّسَاءِ: 127] وَهِيَ آيَةُ الْكَلَالَةِ، ثُمَّ نَزَلَ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [الْمَائِدَةِ: 3] ثُمَّ نَزَلَ وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [الْبَقَرَةِ:

281] فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا مُحَمَّدُ ضَعْهَا عَلَى رَأْسِ ثَمَانِينَ آيَةً وَمِائَتَيْ آيَةٍ مِنَ الْبَقَرَةٍ، وَعَاشَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهَا أَحَدًا وَثَمَانِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ: أَحَدًا وَعِشْرِينَ وَقِيلَ: سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: ثَلَاثَ سَاعَاتٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو تُرْجَعُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَاعْلَمْ أَنَّ الرُّجُوعَ لَازِمٌ، وَالرَّجْعَ مُتَعَدٍّ، وَعَلَيْهِ تُخَرَّجُ الْقِرَاءَتَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: انْتَصَبَ يَوْماً عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، لَا عَلَى الظَّرْفِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَعْنَى: وَاتَّقُوا فِي هَذَا الْيَوْمِ، لَكِنَّ الْمَعْنَى تَأَهَّبُوا لِلِقَائِهِ بِمَا تُقَدِّمُونَ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً [الْمُزَّمِّلُ: 17] أَيْ كَيْفَ تَتَّقُونَ هَذَا الْيَوْمَ الَّذِي هَذَا وَصْفُهُ مَعَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْقَاضِي: الْيَوْمَ عِبَارَةٌ عَنْ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، وَذَلِكَ لَا يُتَّقَى، وَإِنَّمَا يُتَّقَى مَا يَحْدُثُ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْأَهْوَالِ وَاتِّقَاءُ تِلْكَ الْأَهْوَالِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا فِي دَارِ الدُّنْيَا بِمُجَانَبَةِ الْمَعَاصِي الْوَاجِبَاتِ، فَصَارَ قَوْلُهُ وَاتَّقُوا يَوْماً يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِجَمِيعِ أَقْسَامِ التَّكَالِيفِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ، الْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الرُّجُوعَ إِلَى عِلْمِهِ وَحِفْظِهِ، فَإِنَّهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا لَكِنْ كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ تُرْجَعُونَ (فِيهِ) إِلَى اللَّهِ لَهُ مَعْنَيَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ أَحْوَالٌ ثَلَاثَةٌ عَلَى التَّرْتِيبِ. فَالْحَالَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، ثُمَّ لَا يَمْلِكُونَ نَفْعَهُمْ وَلَا ضَرَّهُمْ، بَلِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ/ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُمْ بَعْدَ الْبُرُوزِ عَنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَهُنَاكَ يَكُونُ الْمُتَكَفِّلُ بِإِصْلَاحِ أَحْوَالِهِمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ الْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَصَرَّفُ بَعْضُهُمْ فِي الْبَعْضِ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُنَاكَ لَا يَكُونُ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ ظَاهِرًا فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّهَ سُبْحَانَهُ، فَكَأَنَّهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ عَنِ الدُّنْيَا عَادَ إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الدُّنْيَا، فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يَرْجِعُونَ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ، وَكِلَا التَّأْوِيلَيْنِ حَسَنٌ مُطَابِقٌ لِلَّفْظِ. ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مُكَلَّفٍ فَهُوَ عِنْدُ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ جَزَاءُ عَمَلِهِ بِالتَّمَامِ، كَمَا قَالَ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7، 8] وَقَالَ: إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [لقمان: 16] وَقَالَ: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 47] وَفِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ مَا كَسَبَتْ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ فِيهِ حَذْفًا وَالتَّقْدِيرُ جَزَاءُ مَا كَسَبَتْ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُكْتَسَبَ هُوَ ذَلِكَ الْجَزَاءُ، لأن ما يحصله الرَّجُلُ بِتِجَارَتِهِ مِنَ الْمَالِ فَإِنَّهُ يُوصَفُ فِي اللُّغَةِ بِأَنَّهُ مُكْتَسَبُهُ، فَقَوْلُهُ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ أَيْ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسِ مُكْتَسَبَهَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ مَهْمَا أَمْكَنَ تَفْسِيرُ الْكَلَامِ بِحَيْثُ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْإِضْمَارِ كَانَ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَعِيدِيَّةُ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْقَطْعِ بِوَعِيدِ الْفُسَّاقِ، وَأَصْحَابُنَا يَتَمَسَّكُونَ بها في

[سورة البقرة (2) : آية 282]

الْقَطْعِ بِعَدَمِ الْخُلُودِ، لِأَنَّهُ لَمَّا آمَنَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَصِلَ ثَوَابُ الْإِيمَانِ إِلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إِلَّا بِأَنْ يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ. ثُمَّ قَالَ: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا أَنَّهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، فَكَانَ ذَلِكَ تَكْرِيرًا. وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى إِيصَالِ الْعَذَابِ إِلَى الْفُسَّاقِ وَالْكُفَّارِ، فَكَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ يَلِيقُ بِكَرَمِ أَكْرَمِ الْأَكْرَمِينَ أَنْ يُعَذِّبَ عَبِيدَهُ فَأَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي تِلْكَ الْوَرْطَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَكَّنَهُ وَأَزَاحَ عُذْرَهُ، وَسَهَّلَ عَلَيْهِ طَرِيقَ الِاسْتِدْلَالِ، وَأَمْهَلَهُ فَمَنْ قَصَّرَ فَهُوَ الَّذِي أَسَاءَ إِلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا الْجَوَابُ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا عَلَى أُصُولِ أَصْحَابِنَا فَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَالِكُ الْخَلْقِ، وَالْمَالِكُ إِذَا تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا، فَكَانَ قَوْلُهُ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ بَعْدَ ذِكْرِ الوعيد إشارة إلى ما ذكرناه. [سورة البقرة (2) : آية 282] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) الْحُكْمُ الثَّالِثُ: مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ آيَةُ الْمُدَايَنَةِ. [في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا الْحُكْمِ نَوْعَيْنِ مِنَ الْحُكْمِ أَحَدُهُمَا: الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ يُوجِبُ تَنْقِيصَ الْمَالِ وَالثَّانِي: تَرْكُ الرِّبَا، وَهُوَ أَيْضًا سَبَبٌ لِتَنْقِيصِ الْمَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ ذَيْنِكَ الْحُكْمَيْنِ بِالتَّهْدِيدِ الْعَظِيمِ، فَقَالَ: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ وَالتَّقْوَى تَسُدُّ عَلَى الْإِنْسَانِ أَكْثَرَ أَبْوَابِ الْمَكَاسِبِ وَالْمَنَافِعِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِأَنْ نَدَبَهُ إِلَى كَيْفِيَّةِ حِفْظِ الْمَالِ الْحَلَالِ وَصَوْنِهِ عَنِ الْفَسَادِ وَالْبَوَارِ فَإِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَلَى تَرْكِ الرِّبَا، وَعَلَى مُلَازَمَةِ التَّقْوَى لَا يَتِمُّ وَلَا يَكْمُلُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الْمَالِ، ثم إنه تعال لِأَجْلِ هَذِهِ الدَّقِيقَةِ بَالَغَ فِي الْوَصِيَّةِ بِحِفْظِ الْمَالِ الْحَلَالِ عَنْ وُجُوهِ التَّوَى وَالتَّلَفِ، وَقَدْ وَرَدَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً [النساء: 5]

فَحَثَّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فِي أَمْرِ الْأَمْوَالِ لِكَوْنِهَا سَبَبًا لِمَصَالِحِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ جَارِيَةٌ فِي الْأَكْثَرِ عَلَى الِاخْتِصَارِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَسْطٌ شَدِيدٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ثُمَّ قَالَ ثَانِيًا: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ ثُمَّ قَالَ ثَالِثًا: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَكَانَ هَذَا كَالتَّكْرَارِ لِقَوْلِهِ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ لِأَنَّ الْعَدْلَ هُوَ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ رَابِعًا: فَلْيَكْتُبْ وَهَذَا إِعَادَةُ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ خَامِسًا: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَفِي قَوْلِهِ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ كِفَايَةٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ لِأَنَّ الْكَاتِبَ بِالْعَدْلِ إِنَّمَا يَكْتُبُ مَا يُمْلَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ سَادِسًا: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَهَذَا تَأْكِيدٌ، ثُمَّ قَالَ سَابِعًا: وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَهَذَا كَالْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ثم قال ثامناً: وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ وَهُوَ أَيْضًا تَأْكِيدٌ لِمَا مَضَى، ثُمَّ قَالَ تَاسِعًا: ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا فَذَكَرَ هَذِهِ الْفَوَائِدَ الثَّلَاثَةَ لِتِلْكَ التَّأْكِيدَاتِ السَّالِفَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا حَثَّ عَلَى مَا يَجْرِي مَجْرَى سَبَبِ تَنْقِيصِ الْمَالِ فِي الْحُكْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بَالَغَ فِي هَذَا الْحُكْمِ فِي الْوَصِيَّةِ بِحِفْظِ الْمَالِ الْحَلَالِ، وَصَوْنِهِ/ عَنِ الْهَلَاكِ وَالْبَوَارِ لِيَتَمَكَّنَ الْإِنْسَانُ بِوَاسِطَتِهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ مَسَاخِطِ اللَّهِ مِنَ الرِّبَا وَغَيْرِهِ، وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ فَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ وُجُوهِ النَّظْمِ، وَهُوَ حَسَنٌ لَطِيفٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: الْمُرَادُ بِالْمُدَايَنَةِ السَّلَمُ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا مَنَعَ الرِّبَا فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَذِنَ فِي السَّلَمِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَنَافِعِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الرِّبَا حَاصِلَةٌ فِي السَّلَمِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا لَذَّةَ وَلَا مَنْفَعَةَ يُوصَلُ إِلَيْهَا بِالطَّرِيقِ الْحَرَامِ إِلَّا وَضَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِتَحْصِيلِ مِثْلِ ذَلِكَ اللَّذَّةِ طَرِيقًا حَلَالًا وَسَبِيلًا مَشْرُوعًا فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِوَجْهِ النَّظْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: التَّدَايُنُ تَفَاعُلٌ مِنَ الدَّيْنِ، وَمَعْنَاهُ دَايَنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَتَدَايَنْتُمْ تَبَايَعْتُمْ بَدَيْنٍ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْقَرْضُ غَيْرُ الدَّيْنِ، لِأَنَّ الْقَرْضَ أَنْ يُقْرِضَ الْإِنْسَانُ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ، أَوْ حَبًّا، أَوْ تَمْرًا، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْأَجَلُ وَالدَّيْنُ يَجُوزُ فِيهِ الْأَجَلُ، وَيُقَالُ مِنَ الدَّيْنِ ادَّانَ إِذَا بَاعَ سِلْعَتَهُ بِثَمَنٍ إِلَى أَجَلٍ، وَدَانَ يُدِينُ إِذَا أَقْرَضَ، وَدَانَ إِذَا اسْتَقْرَضَ وَأَنْشَدَ الْأَحْمَرُ: نَدِينُ وَيَقْضِي اللَّهُ عَنَّا وَقَدْ نَرَى ... مَصَارِعَ قَوْمٍ لَا يَدِينُونَ ضُيَّقَا إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْمُدَايَنَةِ أَقْوَالٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي السَّلَفِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي التَّمْرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَرَّفَ الْمُكَلَّفِينَ وَجْهَ الِاحْتِيَاطِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالْأَجَلِ، فَقَالَ: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ الْقَرْضُ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْقَرْضَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ الْأَجَلُ وَالدَّيْنُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ قَدِ اشْتُرِطَ فِيهِ الْأَجَلُ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ الْبِيَاعَاتِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: بَيْعُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُدَايَنَةٍ الْبَتَّةَ وَالثَّانِي: بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ بَاطِلٌ، فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ، بَقِيَ هُنَا قِسْمَانِ: بَيْعُ

الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ مَا إِذَا بَاعَ شَيْئًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ وَبَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالسَّلَمِ، وَكِلَاهُمَا دَاخِلَانِ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْمُدَايَنَةُ مُفَاعَلَةٌ، وَحَقِيقَتُهَا أَنْ يَحْصُلَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ، وَذَلِكَ هُوَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَدَايَنْتُمْ تَعَامَلْتُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا تَعَامَلْتُمْ بِمَا فِيهِ دَيْنٌ. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَدايَنْتُمْ يَدُلُّ عَلَى الدَّيْنِ فَمَا الْفَائِدَةُ بِقَوْلِهِ بِدَيْنٍ. الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: التَّدَايُنُ يَكُونُ لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: التَّدَايُنُ/ بِالْمَالِ، وَالْآخَرُ التَّدَايُنُ بِمَعْنَى الْمُجَازَاةِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: كَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَالدَّيْنُ الْجَزَاءُ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الدَّيْنَ لِتَخْصِيصِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّمَا ذَكَرَ الدَّيْنَ لِيَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ فَاكْتُبُوهُ إِذْ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: فَاكْتُبُوا الدَّيْنَ، فَلَمْ يَكُنِ النَّظْمُ بِذَلِكَ الْحَسَنَ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ لِلتَّأْكِيدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر: 30] [ص: 73] وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَامِ: 38] الرَّابِعُ: فَإِذَا تَدَايَنْتُمْ أَيَّ دَيْنٍ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، مِنْ قَرْضٍ أَوْ سَلَمٍ أَوْ بَيْعِ عَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ الْخَامِسُ: مَا خَطَرَ بِبَالِي أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُدَايَنَةَ مُفَاعَلَةٌ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ بَيْعَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ بَاطِلٌ، فَلَوْ قَالَ: إِذَا تَدَايَنْتُمْ لَبَقِيَ النَّصُّ مَقْصُورًا عَلَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ بَاطِلٌ، أَمَّا لَمَّا قَالَ: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ كَانَ الْمَعْنَى: إِذَا تَدَايَنْتُمْ تَدَايُنًا يَحْصُلُ فِيهِ دَيْنٌ وَاحِدٌ، وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ عَنِ النَّصِّ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَيَبْقَى بَيْعُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ، أَوْ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ فَإِنَّ الْحَاصِلَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ وَاحِدٌ لَا غَيْرَ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ: كُلَّمَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ فَاكْتُبُوهُ، وَكَلِمَةُ (إِذَا) لَا تُفِيدُ الْعُمُومَ فَلِمَ قَالَ: تَدايَنْتُمْ وَلَمْ يَقُلْ كُلَّمَا تَدَايَنْتُمْ. الْجَوَابُ: أَنَّ كَلِمَةَ (إِذَا) وَإِنْ كَانَتْ لَا تَقْتَضِي الْعُمُومَ، إِلَّا أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ مِنَ الْعُمُومِ وهاهنا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْعُمُومُ، لأنه تعالى بيّن العلة في الأمر بالكتبة فِي آخِرِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا وَالْمَعْنَى إِذَا وَقَعَتِ الْمُعَامَلَةُ بِالدَّيْنِ وَلَمْ يُكْتَبْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تُنْسَى الْكَيْفِيَّةُ، فَرُبَّمَا تَوَهَّمَ الزِّيَادَةَ، فَطَلَبَ الزِّيَادَةَ وَهُوَ ظُلْمٌ، وَرُبَّمَا تَوَهَّمَ النُّقْصَانَ فَتَرَكَ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ حَمْدٍ وَلَا أَجْرٍ، فَأَمَّا إِذَا كَتَبَ كَيْفِيَّةَ الْوَاقِعَةِ أَمِنَ مِنْ هَذِهِ الْمَحْذُورَاتِ فَلَمَّا دَلَّ النَّصُّ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْعِلَّةُ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ قَائِمَةٌ فِي الْكُلِّ، كَانَ الْحُكْمُ أَيْضًا حَاصِلًا فِي الْكُلِّ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْأَجَلُ؟. الْجَوَابُ: الْأَجَلُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ لِانْقِضَاءِ الْأَمَدِ، وَأَجَلُ الْإِنْسَانِ هُوَ الْوَقْتُ لِانْقِضَاءِ عُمْرِهِ، وَأَجَلُ الدَّيْنِ لِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَصْلُهُ مِنَ التَّأْخِيرِ، يُقَالُ: أَجِلَ الشَّيْءُ يَأْجِلُ أُجُولًا إِذَا تَأَخَّرَ، وَالْآجِلُ نَقِيضُ الْعَاجِلِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: الْمُدَايَنَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مُؤَجَّلَةً فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الْأَجَلِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُدَايَنَةِ؟.

الْجَوَابُ: إِنَّمَا ذَكَرَ الْأَجَلَ لِيُمْكِنَهُ أَنْ يَصِفَهُ بِقَوْلِهِ مُسَمًّى وَالْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ مُسَمًّى لِيُعْلَمَ أَنَّ مِنْ حَقِّ الْأَجَلِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، كَالتَّوْقِيتِ بِالسَّنَةِ وَالشَّهْرِ وَالْأَيَّامِ، وَلَوْ قَالَ: إِلَى الْحَصَادِ، أَوْ إِلَى الدِّيَاسِ، أَوْ إِلَى قُدُومِ الْحَاجِّ، لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاكْتُبُوهُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ فِي المداينة بأمرين أحدهما: الكتبة وهي قوله هاهنا فَاكْتُبُوهُ الثَّانِي: الْإِشْهَادُ وَهُوَ قَوْلُهُ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَائِدَةُ الكتبة وَالْإِشْهَادِ أَنَّ مَا يَدْخُلُ فِيهِ الْأَجَلُ، تَتَأَخَّرُ فِيهِ الْمُطَالَبَةُ وَيَتَخَلَّلُهُ النِّسْيَانُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْجَحْدُ، فَصَارَتِ الْكِتَابَةُ كَالسَّبَبِ لِحِفْظِ الْمَالِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ حَقَّهُ قَدْ قُيِّدَ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ يَحْذَرُ مِنْ طَلَبِ الزِّيَادَةِ، وَمِنْ تَقْدِيمِ الْمُطَالَبَةِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ إِذَا عَرَفَ ذَلِكَ يَحْذَرُ عَنِ الْجُحُودِ، وَيَأْخُذُ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَائِهِ وَقْتَ حُلُولِ الدَّيْنِ، فَلَمَّا حَصَلَ فِي الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ هَذِهِ الْفَوَائِدُ لَا جَرَمَ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلنَّدْبِ لَا إِشْكَالَ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ ظَاهِرَهُ لِلْوُجُوبِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ قَوْمٌ بِالْوُجُوبِ وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ وَالنَّخَعِيِّ وَاخْتِيَارُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ يُشْهِدُ وَلَوْ عَلَى دَسْتَجَةِ بَقْلٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا الْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّا نَرَى جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ دِيَارِ الْإِسْلَامِ يَبِيعُونَ بِالْأَثْمَانِ الْمُؤَجَّلَةِ مِنْ غَيْرِ كِتَابَةٍ وَلَا إِشْهَادٍ، وَذَلِكَ إِجْمَاعٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِمَا، وَلِأَنَّ فِي إِيجَابِهِمَا أَعْظَمَ التَّشْدِيدِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ» وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ كَانَتْ وَاجِبَةً، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ صَارَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ [الْبَقَرَةِ: 283] وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَكَمِ وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَقَالَ التَّيْمِيُّ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْهَا فَقَالَ: إِنْ شَاءَ أَشْهَدَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُشْهِدْ، أَلَا تَسْمَعُ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بكتب هذه المداينة اعتبر في تلك الكتبة شَرْطَيْنِ: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْكَاتِبُ عَدْلًا وَهُوَ قَوْلُهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَاكْتُبُوهُ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَكْتُبَ، لَكِنْ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَقَدْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ كَاتِبًا، فَصَارَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَاكْتُبُوهُ أَيْ لا بد من حصول هذه الكتبة، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً [الْمَائِدَةِ: 38] فَإِنَّ ظَاهِرَهُ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي خِطَابَ الْكُلِّ بِهَذَا الْفِعْلِ، إِلَّا أَنَّا عَلِمْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ قَطْعِ الْيَدِ مِنْ إِنْسَانٍ وَاحِدٍ، إِمَّا الإمام أو نائبه أو المولى، فكذا هاهنا ثُمَّ تَأَكَّدَ هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ على أن المقصود حصول هذه الكتبة مِنْ أَيِّ شَخْصٍ كَانَ. أَمَّا قَوْلُهُ بِالْعَدْلِ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكْتُبَ بِحَيْثُ لَا يَزِيدُ فِي الدَّيْنِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ، وَيَكْتُبُهُ بِحَيْثُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ الثَّانِي: إِذَا كَانَ فَقِيهًا وَجَبَ أَنْ يَكْتُبَ بِحَيْثُ لَا يَخُصُّ أَحَدَهُمَا بِالِاحْتِيَاطِ دُونَ الْآخَرِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكْتُبَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ/ آمِنًا مِنْ تَمَكُّنِ الْآخَرِ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّهِ الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الْعَدْلُ أَنْ يَكُونَ مَا يَكْتُبُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا يَكُونُ بِحَيْثُ يَجِدُ قَاضٍ

مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ سَبِيلًا إِلَى إِبْطَالِهِ عَلَى مَذْهَبِ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ الرَّابِعُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ الَّتِي يَقَعُ النِّزَاعُ فِي الْمُرَادِ بِهَا، وَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لَا يُمْكِنُ رِعَايَتُهَا إِلَّا إِذَا كَانَ الْكَاتِبُ فَقِيهًا عَارِفًا بِمَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَأَنْ يَكُونَ أَدِيبًا مُمَيِّزًا بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَشَابِهَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ نَهْيٌ لِكُلِّ من كان كاتباً عن الامتناع عن الكتبة، وإيجاب الكتبة عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ كَاتِبًا، وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْإِرْشَادِ إِلَى الْأَوْلَى لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الله تعالى لما علمه الكتبة، وَشَرَّفَهُ بِمَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكْتُبَ تَحْصِيلًا لِمُهِمِّ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ شُكْرًا لِتِلْكَ النِّعْمَةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [الْقَصَصِ: 77] فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ النَّاسُ بِكِتَابَتِهِ كَمَا نَفَعَهُ اللَّهُ بِتَعْلِيمِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ: أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أحداً يكتب إلا ذلك الواحد وجب الكتبة عَلَيْهِ، فَإِنْ وَجَدَ أَقْوَامًا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكْتُبَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْكَاتِبِ، ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْإِيجَابِ هُوَ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، يَعْنِي أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكْتُبَ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَأَنْ لَا يُخِلَّ بِشَرْطٍ مِنَ الشَّرَائِطِ، وَلَا يُدْرِجُ فِيهِ قَيْدًا يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْإِنْسَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَتَبَهُ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ هَذِهِ الشُّرُوطِ اخْتَلَّ مَقْصُودُ الْإِنْسَانِ، وَضَاعَ مَالُهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ تَكْتُبُ فَاكْتُبْهُ عَنِ الْعَدْلِ، وَاعْتِبَارِ كُلِّ الشَّرَائِطِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فِيهِ احْتِمَالَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ متعلقاً بما قبله، وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ عَنِ الْكِتَابَةِ الَّتِي عَلَّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ غَيْرَ الْكِتَابَةِ الَّتِي عَلَّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَلْيَكْتُبْ تِلْكَ الْكِتَابَةَ الَّتِي عَلَّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا. وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَا بَعْدَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يكتب، وهاهنا تَمَّ الْكَلَامُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ أَمْرًا بِالْكِتَابَةِ مُطْلَقًا ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِالْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ الَّتِي عَلَّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، وَالْوَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا الزَّجَّاجُ. الشَّرْطُ الثَّانِي فِي الْكِتَابَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْكِتَابَةَ وَإِنْ وَجَبَ أَنْ يُخْتَارَ لَهَا الْعَالِمُ بِكَيْفِيَّةِ كَتْبِ الشُّرُوطِ وَالسِّجِلَّاتِ لَكِنْ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِإِمْلَاءِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ فَلْيُدْخِلْ فِي جُمْلَةِ إِمْلَائِهِ اعْتِرَافَهُ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ فِي قَدْرِهِ/ وَجِنْسِهِ وَصِفَتِهِ وَأَجَلِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِمْلَالُ وَالْإِمْلَاءُ لُغَتَانِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: أَمْلَلْتُ عَلَيْهِ الْكِتَابَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَبَنِي أَسَدٍ، وَأَمْلَيْتُ لُغَةَ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِاللُّغَتَيْنِ قَالَ تَعَالَى فِي اللُّغَةِ الثَّانِيَةِ فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْفُرْقَانِ: 5] . ثُمَّ قَالَ: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً وَهَذَا أَمْرٌ لِهَذَا الْمُمْلِي الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ بِأَنْ يُقِرَّ بِمَبْلَغِ الْمَالِ

الَّذِي عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُصَ مِنْهُ شَيْئًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنَ إِذَا لَمْ يَكُنْ إِقْرَارُهُ مُعْتَبَرًا فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ إِقْرَارُ وَلَيِّهِ. ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِدْخَالُ حَرْفِ (أَوْ) بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ، أَعْنِي السَّفِيهَ، وَالضَّعِيفَ، وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ يَقْتَضِي كَوْنَهَا أُمُورًا مُتَغَايِرَةً، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِإِحْدَى هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ، فَيَجِبُ فِي الثَّلَاثَةِ أَنْ تَكُونَ مُتَغَايِرَةً، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ حَمْلُ السَّفِيهِ عَلَى الضَّعِيفِ الرَّأْيِ نَاقِصِ الْعَقْلِ مِنَ الْبَالِغِينَ، وَالضَّعِيفِ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالشَّيْخِ الْخَرِفِ، وَهُمُ الَّذِينَ فَقَدُوا الْعَقْلَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالَّذِي لا يستطيع لأن يُمِلَّ مَنْ يَضْعُفُ لِسَانُهُ عَنِ الْإِمْلَاءِ لِخَرَسٍ، أَوْ جَهْلِهِ بِمَالِهِ وَمَا عَلَيْهِ، فَكُلُّ هَؤُلَاءِ لَا يَصِحُّ مِنْهُمُ الْإِمْلَاءُ وَالْإِقْرَارُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقُومَ غَيْرُهُمْ مَقَامَهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَالْمُرَادُ وَلِيُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ وَلِيَّ الْمَحْجُورِ السَّفِيهِ، وَوَلِيَّ الصَّبِيِّ: هُوَ الَّذِي يُقِرُّ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ، كما يقرب بِسَائِرِ أُمُورِهِ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ وَالرَّبِيعُ: الْمُرَادُ بِوَلِيِّهِ وَلِيُّ الدَّيْنِ يَعْنِي أَنَّ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ يُمْلِي وَهَذَا بِعِيدٌ، لِأَنَّهُ كَيْفَ يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ مُعْتَبَرًا، فَأَيُّ حَاجَةٍ بِنَا إِلَى الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُدَايَنَةِ الْإِشْهَادُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكِتَابَةِ هُوَ الِاسْتِشْهَادُ لِكَيْ يُتَمَكَّنَ بِالشُّهُودِ عِنْدَ الْجُحُودِ مِنَ التَّوَصُّلِ إِلَى تَحْصِيلِ الْحَقِّ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اسْتَشْهِدُوا أَيْ أَشْهِدُوا يُقَالُ: أَشْهَدْتُ الرَّجُلَ وَاسْتَشْهَدْتُهُ، بِمَعْنًى: وَالشَّهِيدَانِ هُمَا الشَّاهِدَانِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ مِنْ رِجالِكُمْ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: يَعْنِي مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَالثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي الْأَحْرَارَ وَالثَّالِثُ: مِنْ رِجالِكُمْ الَّذِينَ تَعْتَدُّونَهُمْ لِلشَّهَادَةِ بِسَبَبِ الْعَدَالَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ كَثِيرَةٌ مذكورة في كتب الفقه، ونذكر هاهنا مَسْأَلَةً وَاحِدَةً وَهِيَ أَنَّ عِنْدَ شُرَيْحٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَأَحْمَدَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا تَجُوزُ، حُجَّةُ شُرَيْحٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْعَبِيدَ وَغَيْرَهُمْ، وَالْمَعْنَى الْمُسْتَفَادُ مِنَ النَّصِّ أَيْضًا دَالٌّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَقْلَ الْإِنْسَانِ وَدِينَهُ وَعَدَالَتَهُ تَمْنَعُهُ مِنَ الْكَذِبِ، فَإِذَا شَهِدَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ تَأَكَّدَ بِهِ قَوْلُ الْمُدَّعِي، فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي إِحْيَاءِ حَقِّهِ، وَالْعَقْلُ وَالدِّينُ وَالْعَدَالَةُ لَا تَخْتَلِفُ بِسَبِبِ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ الْعَبِيدِ مَقْبُولَةً، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ شَاهِدًا الذَّهَابُ إِلَى مَوْضِعِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ عَدَمُ الذَّهَابِ إِلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَلَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ شَاهِدًا وَجَبَ عَلَيْهِ الذَّهَابُ وَالْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الذَّهَابُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْعَبْدُ شَاهِدًا، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ حَسَنٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمُ الَّذِينَ تَعْتَدُّونَهُمْ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلِمَ قُلْتُمْ أَنَّ الْعَبِيدَ كَذَلِكَ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ وَفِي ارْتِفَاعِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: فَلْيَكُنَّ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَالثَّانِي: فَلْيَشْهَدْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَالثَّالِثُ: فَالشَّاهِدُ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَالرَّابِعُ: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ يَشْهَدُونَ كُلُّ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ جَائِزٌ حَسَنٌ، ذَكَرَهَا عَلِيُّ بْنُ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الطَّلَاقِ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطَّلَاقِ: 2] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ صَالِحًا لِلشَّهَادَةِ وَالْفُقَهَاءُ قَالُوا: شَرَائِطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ عَشَرَةٌ أَنْ يَكُونَ حُرًّا بَالِغًا مُسْلِمًا عَدْلًا عَالِمًا بِمَا شَهِدَ بِهِ وَلَمْ يَجُرَّ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ مَنْفَعَةً إِلَى نَفْسِهِ وَلَا يَدْفَعُ بِهَا مَضَرَّةً عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا يَكُونُ مَعْرُوفًا بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ، وَلَا بترك المروأة، وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ عَدَاوَةٌ. ثُمَّ قَالَ: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَالْمَعْنَى أَنَّ النِّسْيَانَ غَالِبُ طِبَاعِ النِّسَاءِ لِكَثْرَةِ الْبَرْدِ وَالرُّطُوبَةِ فِي أَمْزِجَتِهِنَّ وَاجْتِمَاعُ الْمَرْأَتَيْنِ عَلَى النِّسْيَانِ أَبْعَدُ فِي الْعَقْلِ مِنْ صُدُورِ النِّسْيَانِ عَلَى الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فَأُقِيمَتِ الْمَرْأَتَانِ مَقَامَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ حَتَّى إِنَّ إِحْدَاهُمَا لَوْ نَسِيَتْ ذَكَّرَتْهَا الْأُخْرَى فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ ثُمَّ فِيهَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ أَنْ تَضِلَّ بِكَسْرِ إِنْ فَتُذَكِّرَ بِالرَّفْعِ وَالتَّشْدِيدِ، وَمَعْنَاهُ: الْجَزَاءُ مَوْضِعُ تَضِلَّ جَزْمٌ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَبَيَّنُ فِي التَّضْعِيفِ فَتُذَكِّرَ رُفِعَ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْجَزَاءِ مُبْتَدَأٌ/ وَأَمَّا سَائِرُ الْقُرَّاءِ فَقَرَءُوا بِنَصْبِ (أَنْ) وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: التَّقْدِيرُ: لِأَنْ تَضِلَّ، فَحُذِفَ مِنْهُ الْخَافِضُ وَالثَّانِي: عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ إِرَادَةُ أَنْ تَضِلَّ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْكَلَامُ والإشهاد للاذكار لا الإضلال. قلنا: هاهنا غَرَضَانِ أَحَدُهُمَا: حُصُولُ الْإِشْهَادِ، وَذَلِكَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِتَذْكِيرِ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ الثَّانِيَةَ وَالثَّانِي: بَيَانُ تَفْضِيلِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ حَتَّى يُبَيِّنَ أَنَّ إِقَامَةَ الْمَرْأَتَيْنِ مَقَامَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ هُوَ الْعَدْلُ فِي الْقَضِيَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَأْتِي إِلَّا فِي ضَلَالِ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ، فَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي الْإِشْهَادَ، وَبَيَانَ فَضْلِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ مَقْصُودًا، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا بِضَلَالِ إِحْدَاهُمَا وَتَذَكُّرِ الْأُخْرَى، لَا جَرَمَ صَارَ هَذَانِ الْأَمْرَانِ مَطْلُوبَيْنِ، هَذَا مَا خَطَرَ بِبَالِي مِنَ الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ وقت كتبه هَذَا الْمَوْضِعِ وَلِلنَّحْوِيِّينَ أَجْوِبَةٌ أُخْرَى مَا اسْتَحْسَنْتُهَا وَالْكُتُبُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّلَالُ فِي قَوْلِهِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى النِّسْيَانِ، قَالَ تَعَالَى: وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ ذَهَبَ عَنْهُمْ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ ضَلَّ فِي الطَّرِيقِ إِذَا لَمْ يَهْتَدِ لَهُ، وَالْوَجْهَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: أَصْلُ الضَّلَالِ فِي اللُّغَةِ الْغَيْبُوبَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ فَتُذَكِّرَ بِالتَّشْدِيدِ وَالنَّصْبِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِالتَّشْدِيدِ وَالرَّفْعِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالتَّخْفِيفِ وَالنَّصْبِ، وَهُمَا لُغَتَانِ ذَكَّرَ وَأَذْكَرَ نَحْوُ نَزَّلَ وَأَنْزَلَ، وَالتَّشْدِيدُ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا، قَالَ تَعَالَى: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الْغَاشِيَةِ: 21] وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ فَقَدْ جَعَلَ الْفِعْلَ مُتَعَدِّيًا بِهَمْزَةِ الْأَفْعَالِ، وَعَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّذْكِيرَ وَالْإِذْكَارَ مِنَ النِّسْيَانِ إِلَّا مَا يُرْوَى عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى أَنْ تَجْعَلَهَا ذَكَرًا يَعْنِي أَنَّ مَجْمُوعَ شَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ مِثْلُ شَهَادَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، قَالَ: إِذَا شَهِدَتِ الْمَرْأَةُ ثُمَّ جَاءَتِ الْأُخْرَى فَشَهِدَتْ مَعَهَا أَذْكَرَتْهَا، لِأَنَّهُمَا يَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَهَذَا الْوَجْهُ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ، وَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ ووجهان الْأَوَّلُ: أَنَّ النِّسَاءَ لَوْ بَلَغْنَ مَا بَلَغْنَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُنَّ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَرْأَةُ الثَّانِيَةُ مَا ذَكَّرَتِ الأولى.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ فَتُذَكِّرَ مُقَابِلٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَلَمَّا كان الضلال مفسر بِالنِّسْيَانِ كَانَ الْإِذْكَارُ مُفَسَّرًا بِمَا يُقَابِلُ النِّسْيَانَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ: أَنَّهُ نَهَى الشَّاهِدَ عَنِ الِامْتِنَاعِ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ احْتِيَاجِ صَاحِبِ الْحَقِّ إِلَيْهَا وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، / وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَاخْتِيَارُ الْقَفَّالِ، قَالَ: كَمَا أَمَرَ الْكَاتِبَ أَنْ لَا يَأْبَى الْكِتَابَةَ، كَذَلِكَ أَمَرَ الشَّاهِدَ أَنْ لَا يَأْبَى عَنْ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخَرِ، وَفِي عَدَمِهِمَا ضَيَاعُ الْحُقُوقِ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ التَّحَمُّلُ أَوَّلًا، وَالْأَدَاءُ ثَانِيًا، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا يَقْتَضِي تَقْدِيمَ كَوْنِهِمْ شُهَدَاءَ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إِلَّا عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَأَمَّا وَقْتُ التَّحَمُّلِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذَلِكَ الْوَقْتَ كَوْنُهُمْ شُهَدَاءَ. فَإِنْ قِيلَ: يُشْكِلُ هَذَا بِقَوْلِهِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ وَكَذَلِكَ سَمَّاهُ كَاتِبًا قَبْلَ أَنْ يَكْتُبَ. قُلْنَا: الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ صَارَ مَتْرُوكًا بِالضَّرُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ نَتْرُكَهُ لِعِلَّةِ ضَرُورَةٍ فِي تِلْكَ الْآيَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا النَّهْيُ عَنِ الِامْتِنَاعِ، وَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ، وَذَلِكَ لِلْوُجُوبِ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّحَمُّلَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْكُلِّ، فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْأَدَاءُ بَعْدَ التَّحَمُّلِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْكُلِّ، وَمُتَأَكِّدٌ بقوله تعالى: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ فَكَانَ هَذَا أَوْلَى الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِشْهَادِ يُفِيدُ أَمْرَ الشَّاهِدِ بِالتَّحَمُّلِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، فَصَارَ الْأَمْرُ بِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَكَانَ صَرْفُ قَوْلِهِ وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا إِلَى الْأَمْرِ بِالْأَدَاءِ حَمْلًا لَهُ عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، فَقَدْ ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ مِنْ إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ إِذَا دُعِيَ إِلَيْهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّاهِدَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَيِّنًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ كَثْرَةٌ، فَإِنْ كَانَ مُتَعَيِّنًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ كَثْرَةٌ صَارَ ذَلِكَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ شَرَحْنَا دَلَالَةَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فَلَا نُعِيدُهُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَجُوزُ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عِنْدَ عَدَمِ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ شَهَادَةَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا الِاكْتِفَاءَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لِبَطَلَ ذَلِكَ التَّعْيِينُ، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي خِلَافِيَّاتِ الْفِقْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ عِنْدَ الْمُدَايَنَةِ بالكتبة أَوَّلًا، ثُمَّ بِالْإِشْهَادِ ثَانِيًا، أَعَادَ ذَلِكَ مَرَّةً أخرى على سبيل التأكيد، فأمر بالكتبة، فقال: وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: السَّآمَةُ الْمَلَالُ وَالضَّجَرُ، يُقَالُ: سَئِمْتُ الشَّيْءَ سَأَمًا وَسَآمَةً، وَالْمَقْصُودُ مِنَ/ الْآيَةِ الْبَعْثُ عَلَى الْكِتَابَةِ قَلَّ الْمَالُ أَوْ كَثُرَ، فَإِنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْمَالِ فِي هَذَا الِاحْتِيَاطِ كَالْكَثِيرِ، فَإِنَّ النِّزَاعَ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ الْقَلِيلِ مِنَ الْمَالِ رُبَّمَا أَدَّى إِلَى فَسَادٍ عَظِيمٍ وَلَجَاجٍ شَدِيدٍ، فَأَمَرَ تَعَالَى فِي الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ بالكتابة، فقال: وَلا تَسْئَمُوا أَيْ وَلَا تَمَلُّوا فَتَتْرُكُوا ثُمَّ تَنْدَمُوا.

فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ تَدْخُلُ الْحَبَّةُ وَالْقِيرَاطُ فِي هَذَا الْأَمْرِ؟. قُلْنَا: لَا لِأَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْعَادَةِ، لَيْسَ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَكْتُبُوا التَّافِهَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: (أَنْ) فِي مَحَلِّ النَّصْبِ لِوَجْهَيْنِ: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ مَعَ الْفِعْلِ مَصْدَرًا فَتَقْدِيرُهُ: وَلَا تَسْأَمُوا كِتَابَتَهُ، وَإِنْ شِئْتَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ تَقْدِيرُهُ: وَلَا تَسْأَمُوا مِنْ أَنْ تَكْتُبُوهُ إِلَى أَجَلِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ أَنْ تَكْتُبُوهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَعُودَ إِلَى المذكور سابقاً، وهو هاهنا إِمَّا الدَّيْنُ وَإِمَّا الْحَقُّ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُرِئَ (وَلَا يَسْأَمُوا أَنْ يَكْتُبُوهُ) بِالْيَاءِ فِيهِمَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تعالى بيّن أن الكتبة مُشْتَمِلَةٌ عَلَى هَذِهِ الْفَوَائِدِ الثَّلَاثِ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَفِي قَوْلِهِ ذلِكُمْ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ أَنْ تَكْتُبُوهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ، أَيْ ذَلِكَ الْكَتْبُ أَقْسَطُ وَالثَّانِي: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: ذَلِكُمُ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْكَتْبِ وَالْإِشْهَادِ لِأَهْلِ الرِّضَا وَمَعْنَى أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أَعْدَلُ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْقِسْطُ اسْمٌ، وَالْإِقْسَاطُ مَصْدَرٌ، يُقَالُ: أَقْسَطَ فُلَانٌ فِي الْحُكْمِ يُقْسِطُ إِقْسَاطًا إِذَا عَدَلَ فَهُوَ مُقْسِطٌ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة: 8] [الحجرات: 9] وَيُقَالُ: هُوَ قَاسِطٌ إِذَا جَارَ، قَالَ تَعَالَى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [الْجِنِّ: 15] وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أَعْدَلَ عِنْدَ اللَّهِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَكْتُوبًا كَانَ إِلَى الْيَقِينِ وَالصِّدْقِ أَقْرَبَ، وَعَنِ الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ أَبْعَدَ، فَكَانَ أَعْدَلَ عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الْأَحْزَابِ: 5] أَيْ أَعْدَلُ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ أَنْ تَنْسِبُوهُمْ إِلَى غير آبائهم. والفائدة الثانية: قوله أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ مَعْنَى أَقْوَمُ أَبْلَغُ فِي الِاسْتِقَامَةِ، الَّتِي هِيَ ضِدُّ الِاعْوِجَاجِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنْتَصِبَ الْقَائِمَ، ضِدُّ الْمُنْحَنِي الْمُعْوَجِّ. فَإِنْ قِيلَ: مِمَّ بُنِيَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ؟ أَعْنِي: أَقْسَطُ وَأَقْوَمُ. قُلْنَا: يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهَ أَنْ يَكُونَا مَبْنِيَّيْنِ مِنْ أَقْسَطَ وَأَقَامَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَقْسَطُ مِنْ قَاسِطٍ، وَأَقْوَمُ مِنْ قَوِيمٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكِتَابَةَ إِنَّمَا كَانَتْ أَقْوَمَ لِلشَّهَادَةِ، لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِلْحِفْظِ وَالذِّكْرِ، فَكَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَائِدَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ أَنَّ الْأُولَى: تَتَعَلَّقُ بِتَحْصِيلِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالثَّانِيَةَ: / بِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا قُدِّمَتِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ إِشْعَارًا بِأَنَّ الدِّينَ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الدُّنْيَا. وَالْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: هِيَ قَوْلُهُ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا يَعْنِي أَقْرَبُ إِلَى زَوَالِ الشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ عَنْ قُلُوبِ الْمُتَدَايِنِينَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَهَذَا الثَّالِثِ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يُشِيرَانِ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ، فَالْأَوَّلُ: إِشَارَةٌ إِلَى تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الدِّينِ، وَالثَّانِي: إِشَارَةٌ إِلَى تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الدُّنْيَا وَهَذَا الثَّالِثُ: إِشَارَةٌ إِلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ وَعَنِ الْغَيْرِ، أَمَّا عَنِ النَّفْسِ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِي الْفِكْرِ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ كَيْفَ كَانَ، وَهَذَا الَّذِي قُلْتُ هَلْ كَانَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا، وَأَمَّا دفع الضرر عَنِ الْغَيْرِ فَلِأَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ رُبَّمَا نَسَبَهُ إِلَى الْكَذِبِ وَالتَّقْصِيرِ فَيَقَعُ فِي عِقَابِ الْغِيبَةِ وَالْبُهْتَانِ، فَمَا أَحْسَنَ هَذِهِ الْفَوَائِدَ وَمَا أَدْخَلَهَا فِي الْقِسْطِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا فِيهَا مِنَ الترتيب.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَلَّا فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِالدَّيْنِ قَدْ يَكُونُ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ، وَقَدْ يَكُونُ إِلَى أَجَلٍ بَعِيدٍ، فَلَمَّا أمر بالكتبة عِنْدَ الْمُدَايَنَةِ، اسْتَثْنَى عَنْهَا مَا إِذَا كَانَ الْأَجَلُ قَرِيبًا، وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ قَرِيبًا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ وَالثَّانِي: أن هذا استثناء من قوله وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ هَذَا اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا فَالتَّقْدِيرُ: لَكِنَّهُ إِذَا كَانَتِ التِّجَارَةُ حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ لَا تَكْتُبُوهَا، فَهَذَا يَكُونُ كَلَامًا مستأنفاً، وإنما رخص تعالى في ترك الكتبة وَالْإِشْهَادِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ التِّجَارَةِ، لِكَثْرَةِ مَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ، فَلَوْ تَكَلَّفَ فِيهَا الكتبة وَالْإِشْهَادَ لَشَقَّ الْأَمْرُ عَلَى الْخَلْقِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَامِلَيْنِ حَقَّهُ مِنْ صَاحِبِهِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ خَوْفُ التَّجَاحُدِ، فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَاجَةٌ إِلَى الكتبة وَالْإِشْهَادِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ أَنْ تَكُونَ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْكَوْنِ بِمَعْنَى الْحُدُوثِ وَالْوُقُوعِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ وَالثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنْ شِئْتَ جعلت كانَ هاهنا نَاقِصَةً عَلَى أَنَّ الِاسْمَ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ، وَالْخَبَرَ تُدِيرُونَهَا، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ دَائِرَةً بَيْنَكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ عَاصِمٌ تِجارَةً بِالنَّصْبِ، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ، أَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ فَعَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِضْمَارِ الِاسْمِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: التَّقْدِيرُ: إِلَّا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كتبة الْكِتَابِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: بَنِي أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلَاءَنَا ... إِذَا كَانَ يَوْمًا ذَا كَوَاكِبَ أَشْهَبَا أَيْ إِذَا كَانَ الْيَوْمَ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ وَالشَّأْنُ تِجَارَةً وَثَالِثُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمُدَايَنَةُ تِجَارَةً حَاضِرَةً، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الْمُدَايَنَةَ لَا تَكُونُ تِجَارَةً حَاضِرَةً، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بأن المداين إِذَا كَانَتْ إِلَى أَجَلِ سَاعَةٍ، صَحَّ تَسْمِيَتُهَا بِالتِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ، فَإِنَّ مَنْ بَاعَ ثَوْبًا بِدِرْهَمٍ فِي الذِّمَّةِ بِشَرْطِ أَنْ تُؤَدَّى الدِّرْهَمُ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ كَانَ ذَلِكَ مُدَايَنَةً وَتِجَارَةً حَاضِرَةً، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ، فَالْوَجْهُ فِيهَا مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: التِّجَارَةُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَوْ فِي الذِّمَّةِ لِطَلَبِ الرِّبْحِ، يُقَالُ: تَجَرَ الرَّجُلَ يَتْجَرُ تِجَارَةً فَهُوَ تَاجِرٌ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سَوَاءٌ كَانَتِ الْمُبَايَعَةُ بِدَيْنٍ أَوْ بِعَيْنٍ، فَالتِّجَارَةُ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ، فَقَوْلُهُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنَ التِّجَارَةِ مَا يُتَّجَرُ فِيهِ مِنَ الْإِبْدَالِ، وَمَعْنَى إِدَارَتِهَا بَيْنَهُمْ مُعَامَلَتُهُمْ فِيهَا يَدًا بِيَدٍ، ثُمَّ قَالَ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها [البقرة: 282] مَعْنَاهُ: لَا مَضَرَّةَ عَلَيْكُمْ فِي تَرْكِ الْكِتَابَةِ، وَلَمْ يُرِدِ الْإِثْمَ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْإِثْمَ لَكَانَتِ الْكِتَابَةُ الْمَذْكُورَةُ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ، وَيَأْثَمُ صَاحِبُ الْحَقِّ بِتَرْكِهَا، وَقَدْ ثَبَتَ خِلَافُ ذَلِكَ وَبَيَانُ أَنَّهُ لَا مَضَرَّةَ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِهَا مَا قَدَّمْنَاهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: الْمُرَادُ أَنَّ الْكِتَابَةَ وَإِنْ رُفِعَتْ عَنْهُمْ فِي التِّجَارَةِ إِلَّا أَنَّ الْإِشْهَادَ مَا رُفِعَ عَنْهُمْ، لِأَنَّ الْإِشْهَادَ بِلَا كِتَابَةٍ أَخَفُّ مُؤْنَةً، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إِذَا وَقَعَتْ إِلَيْهَا لَا يُخَافُ فِيهَا النِّسْيَانُ.

[سورة البقرة (2) : آية 283]

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْإِرْشَادُ إِلَى طَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا نَهْيًا لِلْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ عَنْ إِضْرَارِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، أَمَّا الْكَاتِبُ فَبِأَنْ يَزِيدَ أَوْ يَنْقُصَ أَوْ يَتْرُكَ الِاحْتِيَاطَ، وَأَمَّا الشَّهِيدُ فَبِأَنْ لَا يَشْهَدَ أَوْ يُشْهِدَ بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ مَعَهُ نَفْعٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَهْيًا لِصَاحِبِ الْحَقِّ عَنْ إِضْرَارِ الْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ، بِأَنْ يَضُرَّهُمَا أَوْ يَمْنَعَهُمَا عَنْ مُهِمَّاتِهِمَا وَالْأَوَّلُ: قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْحَسَنِ وَطَاوُسٍ وَقَتَادَةَ، وَالثَّانِي: قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ كِلَا الْوَجْهَيْنِ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ بِسَبَبِ الْإِدْغَامِ الْوَاقِعِ فِي لَا يُضَارَّ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ لَا يُضَارِرْ، بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى، فَيَكُونُ الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ هُمَا الْفَاعِلَانِ لِلضِّرَارِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ لَا يُضَارَرْ بِفَتْحِ الرَّاءِ الْأُولَى، فَيَكُونُ هُمَا الْمَفْعُولَ بِهِمَا الضِّرَارُ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَقَدْ أَحْكَمْنَا بَيَانَ هَذَا اللَّفْظِ هُنَاكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنِ احْتِمَالِ الْوَجْهَيْنِ قِرَاءَةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (وَلَا يُضَارِرْ) بِالْإِظْهَارِ وَالْكَسْرِ، وَقِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ (وَلَا يُضَارَرْ) بِالْإِظْهَارِ وَالْفَتْحِ، وَاخْتَارَ الزَّجَّاجُ الْقَوْلَ/ الْأَوَّلَ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ قَالَ: وَذَلِكَ لِأَنَّ اسْمَ الْفِسْقِ بِمَنْ يُحَرِّفُ الْكِتَابَةَ، وَبِمَنْ يَمْتَنِعُ عَنِ الشَّهَادَةِ حَتَّى يُبْطِلَ الْحَقَّ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْلَى مِنْهُ بِمَنْ أَضَرَّ الْكَاتِبَ وَالشَّهِيدَ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِيمَنْ يَمْتَنِعُ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [الْبَقَرَةِ: 283] وَالْآثِمُ وَالْفَاسِقُ مُتَقَارِبَانِ، وَاحْتَجَّ مَنْ نَصَرَ الْقَوْلَ الثَّانِي بِأَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ خِطَابًا لِلْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ لَقِيلَ: وَإِنْ تَفْعَلَا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ، وَإِذَا كَانَ هَذَا خِطَابًا لِلَّذِينَ يُقْدِمُونَ عَلَى الْمُدَايَنَةِ فَالْمَنْهِيُّونَ عَنِ الضِّرَارِ هُمْ واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ خَاصَّةً وَالْمَعْنَى: فَإِنْ تَفْعَلُوا مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ مِنَ الضِّرَارِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ التَّكْلِيفِ، وَالْمَعْنَى: وَإِنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا مِمَّا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ أَوْ تَتْرُكُوا شَيْئًا مِمَّا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ، أَيْ خُرُوجٌ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَتِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ يَعْنِي فِيمَا حَذَّرَ مِنْهُ هاهنا، وَهُوَ الْمُضَارَّةُ، أَوْ يَكُونُ عَامًّا، وَالْمَعْنَى اتَّقُوا اللَّهَ فِي جَمِيعِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ. ثُمَّ قَالَ: وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُعَلِّمُكُمْ مَا يَكُونُ إِرْشَادًا وَاحْتِيَاطًا فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، كَمَا يُعَلِّمُكُمْ مَا يَكُونُ إِرْشَادًا فِي أَمْرِ الدِّينِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى عالماً بجميع مصالح الدنيا والآخرة. [سورة البقرة (2) : آية 283] وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْبِيَاعَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: بَيْعٌ بِكِتَابٍ وَشُهُودٍ، وَبَيْعٌ بِرِهَانٍ مَقْبُوضَةٍ، وَبَيْعُ الْأَمَانَةِ، وَلَمَّا أَمَرَ في آخر الآية المتقدمة بالكتبة وَالْإِشْهَادِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ رُبَّمَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ إِمَّا بِأَنْ لَا يُوجَدَ الْكَاتِبُ، أَوْ إِنْ وُجِدَ لَكِنَّهُ لَا تُوجَدُ آلَاتُ الْكِتَابَةِ ذَكَرَ نَوْعًا/ آخَرَ مِنَ الِاسْتِيثَاقِ وَهُوَ أَخْذُ الرَّهْنِ فَهَذَا وَجْهُ النَّظْمِ وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الاحتياط من الكتبة وَالْإِشْهَادِ ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

المسألة الأولى: ذكرنا اشتقاق في السَّفَرِ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [الْبَقَرَةِ: 184] ونعيده هاهنا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: تَرْكِيبُ هَذِهِ الْحُرُوفِ لِلظُّهُورِ وَالْكَشْفِ فَالسَّفَرُ هُوَ الْكِتَابُ، لِأَنَّهُ يُبَيِّنُ الشَّيْءَ وَيُوَضِّحُهُ، وَسُمِّيَ السَّفَرُ سَفَرًا، لِأَنَّهُ يُسْفِرُ عَنْ أَخْلَاقِ الرِّجَالِ، أَيْ يَكْشِفُ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْكِنِّ إِلَى الصَّحْرَاءِ فَقَدِ انْكَشَفَ لِلنَّاسِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ إِلَى الصَّحْرَاءِ، فَقَدْ صَارَتْ أَرْضُ الْبَيْتِ مُنْكَشِفَةً خَالِيَةً، وَأَسْفَرَ الصُّبْحُ إِذَا ظَهَرَ، وَأَسْفَرَتِ الْمَرْأَةُ عَنْ وَجْهِهَا، أَيْ كَشَفَتْ وَسَفَرْتُ عَنِ الْقَوْمِ أُسْفِرُ سِفَارَةً إِذَا كَشَفْتَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَسَفَرْتُ أُسْفِرُ إِذَا كَنَسْتَ، وَالسَّفْرُ الْكَنْسُ، وَذَلِكَ لِأَنَّكَ إِذَا كَنَسْتَ، فَقَدْ أَظْهَرْتَ مَا كَانَ تَحْتَ الْغُبَارِ وَالسَّفْرُ مِنَ الْوَرَقِ مَا سَفَرَ بِهِ الرِّيحُ، وَيُقَالُ لِبَقِيَّةِ بَيَاضِ النَّهَارِ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ سَفَرٌ لِوُضُوحِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَصْلُ الرَّهْنِ مِنَ الدَّوَامِ، يُقَالُ: رَهُنَ الشَّيْءُ إِذَا دَامَ وَثَبَتَ، وَنِعْمَةٌ رَاهِنَةٌ أَيْ دَائِمَةٌ ثَابِتَةٌ. إِذَا عَرَفْتَ أَصْلَ الْمَعْنَى فَنَقُولُ: أَصْلُ الرَّهْنِ مَصْدَرٌ. يُقَالُ: رَهَنْتُ عِنْدَ الرَّجُلِ أَرْهَنُهُ رَهْنًا إِذَا وَضَعْتَ عِنْدَهُ، قَالَ الشَّاعِرُ: يُرَاهِنُنِي فَيُرْهِنُنِي بَنِيهِ ... وَأُرْهِنُهُ بَنِيَّ بِمَا أَقُولُ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ الْمَصَادِرَ قَدْ تُنْقَلُ فَتُجْعَلُ أَسْمَاءً وَيَزُولُ عَنْهَا عَمَلُ الْفِعْلِ، فَإِذَا قَالَ: رَهَنْتُ عِنْدَ زَيْدٍ رَهْنًا لَمْ يَكُنِ انْتِصَابُهُ انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ، لَكِنِ انْتِصَابُ الْمَفْعُولِ بِهِ كَمَا تَقُولُ: رَهَنْتُ عِنْدَ زَيْدٍ ثَوْبًا، وَلَمَّا جُعِلَ اسْمًا بِهَذَا الطَّرِيقِ جُمِعَ كَمَا تُجْعَلُ الْأَسْمَاءُ وَلَهُ جَمْعَانِ: رُهُنٌ وَرِهَانٌ، وَمِمَّا جَاءَ عَلَى رُهُنٍ قَوْلُ الْأَعْشَى: آلَيْتُ لَا أُعْطِيهِ مِنْ أَبْنَائِنَا ... رُهُنًا فَيُفْسِدَهُمْ كَمَنْ قَدْ أَفْسَدَا وَقَالَ بُعَيْثٌ: بَانَتْ سُعَادُ وَأَمْسَى دُونَهَا عَدَنُ ... وَغَلِقَتْ عِنْدَهَا مِنْ قَبْلِكَ الرُّهُنُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُنَا: رَهْنٌ وَرُهُنٌ، سَقْفٌ وَسُقُفٌ، وَنَشْرٌ وَنُشُرٌ، وَخَلْقٌ وَخُلُقٌ، قال الزجاج: فعل وفعلى قَلِيلٌ، وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الرَّهْنَ جَمْعُهُ رِهَانٌ، ثُمَّ الرِّهَانُ جَمْعُهُ رُهُنٌ فَيَكُونُ رُهُنٌ جَمْعَ الْجَمْعِ وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ ثِمَارٌ وَثُمُرٌ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ عَكَسَ هَذَا فَقَالَ: الرُّهُنُ جَمْعُهُ رَهْنٌ، وَالرَّهْنُ جَمْعُهُ رِهَانٌ، وَاعْلَمْ أَنَّهُمَا لَمَّا تَعَارَضَا تَسَاقَطَا لَا سِيَّمَا وَسِيبَوَيْهِ لَا يَرَى جَمْعَ الْجَمْعِ مُطَّرِدًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقَالَ بِهِ إِلَّا عِنْدَ الِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا أَنَّ الرِّهَانَ جَمْعُ رَهْنٍ فَهُوَ قِيَاسٌ ظَاهِرٌ، مِثْلُ نَعْلٍ وَنِعَالٍ، وَكَبْشٍ وَكِبَاشٍ/ وَكَعْبٍ وَكِعَابٍ، وَكَلْبٍ وَكِلَابٍ. الْمَسْأَلَةُ الثالثة: قرأ ابن كثير أبو عَمْرٍو فَرُهُنٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْهَاءِ، وَرُوِيَ عَنْهُمَا أَيْضًا فَرُهْنٌ بِرَفْعِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ وَالْبَاقُونَ فَرِهانٌ قَالَ أَبُو عَمْرٍو: لَا أَعْرِفُ الرِّهَانَ إلا في الخليل، فَقَرَأْتُ فَرُهُنٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الرِّهَانِ فِي الْخَيْلِ وَبَيْنَ جَمْعِ الرَّهْنِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، فَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّهَا قَبِيحَةٌ لِأَنَّ فَعْلًا لَا يُجْمَعُ عَلَى فُعُلٍ إِلَّا قَلِيلًا شَاذًّا كَمَا يُقَالُ: سُقْفٌ وَسُقُفٌ تارة بضم القاف وأخرى بتسكينها، وَقُلُبٌ لِلنَّخْلِ وَلُحْدٌ وَلُحُدٌ وَبُسْطٌ وَبُسُطٌ وَفُرْسٌ وُرْدٌ، وَخَيْلٌ وُرُدٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْآيَةِ حَذْفٌ فَإِنْ شِئْنَا جَعَلْنَاهُ مُبْتَدَأً وَأَضْمَرْنَا الْخَبَرَ، وَالتَّقْدِيرُ: فَرَهْنٌ مَقْبُوضَةٌ بَدَلٌ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا، أَوْ فَعَلَيْهِ رَهْنٌ مَقْبُوضَةٌ، وَإِنْ شِئْنَا جَعَلْنَاهُ خَبَرًا وَأَضْمَرْنَا الْمُبْتَدَأَ، وَالتَّقْدِيرُ: فَالْوَثِيقَةُ رَهْنٌ مَقْبُوضَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اتَّفَقَتِ الْفُقَهَاءُ الْيَوْمَ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ سَوَاءٌ فِي حَالِ وُجُودِ الْكَاتِبِ

وَعَدَمِهِ، وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي السَّفَرِ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَلَا يُعْمَلُ بِقَوْلِهِ الْيَوْمَ وَإِنَّمَا تَقَيَّدَتِ الْآيَةُ بِذِكْرِ السَّفَرِ عَلَى سَبِيلِ الْغَالِبِ، كَقَوْلِهِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ [النِّسَاءِ: 101] وَلَيْسَ الْخَوْفُ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ الْقَصْرِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَسَائِلُ الرَّهْنِ كَثِيرَةٌ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ رَهْنَ الْمَشَاعِ لَا يَجُوزُ بِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا وَالْعَقْلُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الرَّهْنِ اسْتِيثَاقُ جَانِبِ صَاحِبِ الْحَقِّ بِمَنْعِ الْجُحُودِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْقَبْضِ وَالْمَشَاعُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا فَوَجَبَ أَلَّا يَصِحَّ رَهْنُ الْمَشَاعِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الْبِيَاعَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ بَيْعُ الْأَمَانَةِ، أَعْنِي مَا لَا يَكُونُ فِيهِ كِتَابَةٌ وَلَا شُهُودٌ وَلَا يَكُونُ فِيهِ رَهْنٌ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمِنَ فُلَانٌ غَيْرَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ خَائِفًا مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ [يُوسُفَ: 64] فَقَوْلُهُ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيْ لَمْ يَخَفْ خِيَانَتَهُ وَجُحُودَهُ فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ أَيْ فَلْيُؤَدِّ الْمَدْيُونُ الَّذِي كَانَ أَمِينًا وَمُؤْتَمَنًا فِي ظَنِّ الدَّائِنِ، فَلَا يُخْلِفُ ظَنَّهُ فِي أَدَاءِ أَمَانَتِهِ وَحَقِّهِ إِلَيْهِ، يُقَالُ: أَمِنْتُهُ وَائْتَمَنْتُهُ فَهُوَ مَأْمُونٌ وَمُؤْتَمَنٌ. ثُمَّ قَالَ: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ أَيْ هَذَا الْمَدْيُونُ يَجِبُ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ وَلَا يَجْحَدَ، لِأَنَّ الدَّائِنَ لَمَّا عَامَلَهُ الْمُعَامَلَةَ الْحَسَنَةَ حَيْثُ عَوَّلَ عَلَى أَمَانَتِهِ وَلَمْ يُطَالِبْهُ بِالْوَثَائِقِ مِنَ الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ وَالرَّهْنِ فَيَنْبَغِي لِهَذَا الْمَدْيُونِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ وَيُعَامِلَهُ بِالْمُعَامَلَةِ الْحَسَنَةِ فِي أَنْ لَا يُنْكِرَ ذَلِكَ الْحَقَّ، وَفِي أَنْ يُؤَدِّيَهُ إِلَيْهِ عِنْدَ/ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُرْتَهِنِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الرَّهْنَ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَالِ فَإِنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، وَالْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِلْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ وَأَخْذِ الرَّهْنِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْتِزَامَ وُقُوعِ النَّسْخِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ يُلْجِئُ إِلَيْهِ خَطَأٌ، بَلْ تِلْكَ الْأَوَامِرُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْإِرْشَادِ وَرِعَايَةِ الِاحْتِيَاطِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الرُّخْصَةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي آيَةِ الْمُدَايَنَةِ نَسْخٌ، ثُمَّ قَالَ: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَفِي التَّأْوِيلِ وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَبَاحَ تَرْكَ الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ وَالرَّهْنِ عِنْدَ اعْتِقَادِ كَوْنِ الْمَدْيُونِ أَمِينًا، ثُمَّ كَانَ مِنَ الْجَائِزِ فِي هَذَا الْمَدْيُونِ أَنْ يُخْلِفَ هَذَا الظَّنَّ، وَأَنْ يَخْرُجَ خَائِنًا جَاحِدًا لِلْحَقِّ، إِلَّا أَنَّهُ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النَّاسُ مُطَّلِعًا عَلَى أَحْوَالِهِمْ، فَهَهُنَا نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْإِنْسَانَ إِلَى أَنْ يَسْعَى فِي إِحْيَاءِ ذَلِكَ الْحَقِّ، وَأَنْ يَشْهَدَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ بِحَقِّهِ، وَمَنَعَهُ مِنْ كِتْمَانِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ سَوَاءٌ عَرَفَ صَاحِبُ الْحَقِّ تِلْكَ الشَّهَادَةَ، أَوْ لَمْ يَعْرِفْ وَشَدَّدَ فِيهِ بِأَنْ جَعَلَهُ آثِمَ الْقَلْبِ لَوْ تَرَكَهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرٌ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ «خَيْرُ الشُّهُودِ مَنْ شَهِدَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ» . الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ أَنْ يُنْكَرَ الْعِلْمَ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 140] وَالْمُرَادُ الْجُحُودُ وَإِنْكَارُ الْعِلْمِ.

[سورة البقرة (2) : آية 284]

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَائِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى إِقَامَتِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا [الْبَقَرَةِ: 282] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَتَى امْتَنَعَ عَنْ إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ فَقَدْ بَطَلَ حَقُّهُ، وَكَانَ هُوَ بِالِامْتِنَاعِ مِنَ الشَّهَادَةِ كَالْمُبْطِلِ لِحَقِّهِ، وَحُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ، فَهَذَا بَالِغٌ فِي الْوَعِيدِ. ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآثِمُ الْفَاجِرُ، رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُعَلِّمُ أَعْرَابِيًّا إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدُّخَانِ: 43، 44] فَكَانَ يَقُولُ: طَعَامُ الْيَتِيمِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: طَعَامُ الْفَاجِرِ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِثْمَ بِمَعْنَى الْفُجُورِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : آثِمٌ خَبَرُ إِنَّ وَقَلْبُهُ رُفِعَ بِآثِمٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ فَإِنَّهُ يَأْثَمُ قَلْبُهُ وَقُرِئَ قَلْبَهُ بِالْفَتْحِ كَقَوْلِهِ سَفِهَ نَفْسَهُ [الْبَقَرَةِ: 130] وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ أَثَّمَ قَلْبَهُ أَيْ جَعَلَهُ آثِمًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ قَالُوا: إِنَّ الْفَاعِلَ وَالْعَارِفَ وَالْمَأْمُورَ وَالْمَنْهِيَّ هُوَ الْقَلْبُ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: 193، 194] وَذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ [الْبَقَرَةِ: 97] وَهَؤُلَاءِ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْآثِمَ إِلَى الْقَلْبِ فَلَوْلَا أَنَّ الْقَلْبَ هُوَ الْفَاعِلُ وَإِلَّا لَمَا كَانَ آثِمًا. وَأَجَابَ مَنْ خَالَفَ فِي هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ إِضَافَةَ الْفِعْلِ إِلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَجْلِ أَنَّ أَعْظَمَ أَسْبَابِ الْإِعَانَةِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ الْعُضْوِ، فَيُقَالُ: هَذَا مِمَّا أَبْصَرَتْهُ عَيْنِي وَسَمِعَتْهُ أُذُنِي وَعَرَفَهُ قَلْبِي، وَيُقَالُ: فُلَانٌ خَبِيثُ الْفَرْجِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَفْعَالَ الْجَوَارِحِ تَابِعَةٌ لِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَمُتَوَلِّدَةٌ مِمَّا يَحْدُثُ فِي الْقُلُوبِ مِنَ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ، فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلِهَذَا السَّبَبِ أُضِيفَ الآثم هاهنا إِلَى الْقَلْبِ. ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَهُوَ تَحْذِيرٌ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى هَذَا الْكِتْمَانِ، لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ ضَمِيرُ قَلْبِهِ كَانَ خَائِفًا حَذِرًا مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَالَى يُحَاسِبُهُ عَلَى كُلِّ تِلْكَ الْأَفْعَالِ، وَيُجَازِيهِ عَلَيْهَا إِنْ خيراً فخيراً، وإن شرًّا فشراً. [سورة البقرة (2) : آية 284] لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) [في قَوْلُهُ تَعَالَى لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَصَمُّ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا جَمَعَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ، وَهُوَ دَلِيلُ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ بِبَيَانِ الشَّرَائِعِ وَالتَّكَالِيفِ، وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْقِصَاصِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، وَالْحَيْضِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ، وَالصَّدَاقِ، وَالْخُلْعِ، وَالْإِيلَاءِ، وَالرَّضَاعِ، وَالْبَيْعِ، وَالرِّبَا، وَكَيْفِيَّةِ الْمُدَايَنَةِ خَتَمَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ. وَأَقُولُ إِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ كِمَالَاتٌ حَقِيقِيَّةٌ لَيْسَتْ إِلَّا الْقُدْرَةَ وَالْعِلْمَ، فَعَبَّرَ سُبْحَانَهُ عَنْ كَمَالِ

الْقُدْرَةِ بِقَوْلِهِ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مُلْكًا وَمِلْكًا، وَعَبَّرَ عَنْ كَمَالِ الْعِلْمِ الْمُحِيطِ بِالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ بِقَوْلِهِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ وَإِذَا حَصَلَ كَمَالُ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ، فَكَانَ كل من في السموات وَالْأَرْضِ عَبِيدًا مَرْبُوبِينَ وُجِدُوا بِتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ كَانَ ذَلِكَ غَايَةَ الْوَعْدِ لِلْمُطِيعِينَ، وَنِهَايَةَ الْوَعِيدِ لِلْمُذْنِبِينَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَتَمَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [الْبَقَرَةِ: 283] ذَكَرَ عَقِيبَهُ مَا يَجْرِي مَجْرَى الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ فَقَالَ: لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَمَعْنَى هَذَا الْمِلْكِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَمَّا كَانَتْ مُحْدَثَةً فَقَدْ وُجِدَتْ بِتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ وَإِبْدَاعِهِ وَمَنْ كَانَ فَاعِلًا لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمُحْكَمَةِ الْمُتْقَنَةِ الْعَجِيبَةِ الْغَرِيبَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْحِكَمِ الْمُتَكَاثِرَةِ وَالْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهَا إِذْ مِنَ الْمُحَالِ صُدُورُ الْفِعْلِ الْمُحْكَمِ الْمُتْقَنِ عَنِ الْجَاهِلِ بِهِ، فَكَأَنَّ اللَّهَ تعالى احتج بخلقه السموات وَالْأَرْضَ مَعَ مَا فِيهِمَا مِنْ وُجُوهِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِهَا مُحِيطًا بِأَجْزَائِهَا وَجُزْئِيَّاتِهَا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ، قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِهَذِهِ الوثائق أعني الكتبة وَالْإِشْهَادَ وَالرَّهْنَ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ بِهَا صِيَانَةَ الْأَمْوَالِ، وَالِاحْتِيَاطَ فِي حِفْظِهَا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا الْمَقْصُودُ لِمَنْفَعَةٍ تَرْجِعُ إِلَى الْخَلْقِ لَا لِمَنْفَعَةٍ تَعُودُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِنْهَا فإنه له ملك السموات وَالْأَرْضِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَالَ الشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ وأوعد عليه بيّن أنه له ملك السموات وَالْأَرْضِ فَيُجَازِي عَلَى الْكِتْمَانِ وَالْإِظْهَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِقَوْلِهِ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا في السموات وَالْأَرْضِ بِدَلِيلِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلَّهِ لَيْسَ لَامَ الْغَرَضِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ غَرَضُ الْفَاسِقِ مِنْ فِسْقِهِ طَاعَةَ اللَّهِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ لَامَ الْمُلْكِ وَالتَّخْلِيقِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ ما في السموات وَالْأَرْضِ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ وَمَاهِيَّاتِهَا فَهِيَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَإِنَّمَا تَكُونُ الْحَقَائِقُ وَالْمَاهِيَّاتُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ لَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى تَحْقِيقِ تِلْكَ الْحَقَائِقِ، وَتَكْوِينِ تِلْكَ الْمَاهِيَّاتِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى مُكَوِّنَةً لِلذَّوَاتِ، وَمُحَقِّقَةً لِلْحَقَائِقِ، فَكَانَ القول بأن المعدوم شيئاً بَاطِلًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَمُعَاذٌ وَنَاسٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا نُطِيقُ إِنَّ أَحَدَنَا لَيُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِمَا لَا يُحِبُّ أَنْ يَثْبُتَ فِي قَلْبِهِ، وَإِنَّ لَهُ الدُّنْيَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَعَلَّكُمْ تَقُولُونَ كَمَا قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، فَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَمَكَثُوا فِي ذَلِكَ حَوْلًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَةِ: 286] فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ مَا لَمْ يَعْمَلُوا أَوْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ مَحَلَّ الْبَحْثِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ يَتَنَاوَلُ

حَدِيثَ النَّفْسِ، وَالْخَوَاطِرَ الْفَاسِدَةَ الَّتِي تَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِهَا، فَالْمُؤَاخَذَةُ بِهَا تَجْرِي مَجْرَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَالْعُلَمَاءُ أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخَوَاطِرَ الْحَاصِلَةَ فِي الْقَلْبِ عَلَى قِسْمَيْنِ، فَمِنْهَا مَا يُوَطِّنُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ عَلَيْهِ وَيَعْزِمُ عَلَى إِدْخَالِهِ فِي الْوُجُودِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ بَلْ تَكُونُ أُمُورًا خَاطِرَةً بِالْبَالِ مَعَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكْرَهُهَا وَلَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا عَنِ النَّفْسِ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِهِ، وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [الْبَقَرَةِ: 225] وَقَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الْبَقَرَةِ: 286] وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا [النُّورِ: 19] هَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ فِي الْقَلْبِ مِمَّا لَا يَدْخُلُ فِي الْعَمَلِ، فَهُوَ فِي مَحَلِّ الْعَفْوِ وَقَوْلُهُ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ يُدْخِلُ ذَلِكَ الْعَمَلَ فِي الْوُجُودِ إِمَّا ظَاهِرًا وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَأَمَّا مَا وُجِدَ فِي الْقَلْبِ مِنَ الْعَزَائِمِ وَالْإِرَادَاتِ وَلَمْ يَتَّصِلْ بِالْعَمَلِ فَكُلُّ ذَلِكَ فِي مَحَلِّ الْعَفْوِ وَهَذَا الْجَوَابُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمُؤَاخِذَاتِ إِنَّمَا تَكُونُ بِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ أَلَا تَرَى أَنَّ اعْتِقَادَ الْكُفْرِ وَالْبِدَعِ لَيْسَ إِلَّا مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ: وَأَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا فَأَفْعَالُ الْجَوَارِحِ إِذَا خَلَتْ عَنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا عِقَابٌ كَأَفْعَالِ النَّائِمِ وَالسَّاهِي فَثَبَتَ ضَعْفُ هَذَا الْجَوَابِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُؤَاخِذُهُ بِهَا لَكِنْ مُؤَاخَذَتُهَا هِيَ الْغُمُومُ وَالْهُمُومُ فِي الدُّنْيَا، رَوَى الضَّحَّاكُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَا حَدَّثَ الْعَبْدُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ شَرٍّ كَانَتْ مُحَاسَبَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِغَمٍّ يَبْتَلِيهِ بِهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ حُزْنٍ أَوْ أَذًى، فَإِذَا جَاءَتِ الْآخِرَةُ لَمْ يُسْأَلْ عَنْهُ وَلَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ، وَرَوَتْ أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَأَجَابَهَا بِمَا هَذَا مَعْنَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُؤَاخَذَةُ كَيْفَ تَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [غَافِرٍ: 17] . قُلْنَا: هَذَا خَاصٌّ فَيَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى ذَلِكَ الْعَامِّ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ وَلَمْ يَقُلْ: يُؤَاخِذْكُمْ بِهِ اللَّهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مَعْنَى كَوْنِهِ حَسِيبًا وَمُحَاسِبًا وُجُوهًا كَثِيرَةً، وَذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ تَفَاسِيرِهِ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِهَا، فَرَجَعَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِكُلِّ مَا فِي الضَّمَائِرِ وَالسَّرَائِرِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا جَمَعَ الْخَلَائِقَ يُخْبِرُهُمْ بِمَا كَانَ فِي نُفُوسِهِمْ، فَالْمُؤْمِنُ يُخْبِرُهُ ثُمَّ يَعْفُو عَنْهُ، وَأَهْلُ الذُّنُوبِ يُخْبِرُهُمْ بِمَا أَخْفَوْا من التكذيب والذنب. الوجه السابع فِي الْجَوَابِ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ فَيَكُونُ الْغُفْرَانُ نَصِيبًا لِمَنْ كَانَ كَارِهًا لِوُرُودِ تِلْكَ الْخَوَاطِرِ، وَالْعَذَابُ يَكُونُ نَصِيبًا لِمَنْ يَكُونُ مُصِرًّا عَلَى تِلْكَ الْخَوَاطِرِ مُسْتَحْسِنًا لَهَا. الْوَجْهُ السَّادِسُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ كِتْمَانُ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ، وإن كان واراه عَقِيبَ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ لَا يَلْزَمُ قَصْرُهُ عَلَيْهِ.

[سورة البقرة (2) : آية 285]

الْوَجْهُ السَّابِعُ فِي الْجَوَابِ: مَا رَوَيْنَا عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَةِ: 286] وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا النَّسْخَ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ قُلْنَا: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ هَذَا النَّسْخِ مَأْمُورِينَ بِالِاحْتِرَازِ عَنْ تِلْكَ الْخَوَاطِرِ الَّتِي كَانُوا عَاجِزِينَ عَنْ دَفْعِهَا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ قَطُّ مَا وَرَدَ إِلَّا بِمَا فِي الْقُدْرَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ» وَالثَّانِي: أَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لَوْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى حُصُولِ الْعِقَابِ عَلَى تِلْكَ الْخَوَاطِرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَالثَّالِثُ: أَنَّ نَسْخَ الْخَبَرِ لَا يَجُوزُ إِنَّمَا الْجَائِزُ هو نسخ الأوامر والنواهي. واعلم أن الناس اخْتِلَافًا فِي أَنَّ الْخَبَرَ هَلْ يُنْسَخُ أَمْ لا؟ وقد ذكرنا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأَصْحَابُ قَدِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ غُفْرَانِ ذُنُوبِ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُطِيعَ مَقْطُوعٌ بِأَنَّهُ يُثَابُ وَلَا يُعَاقَبُ، وَالْكَافِرُ مَقْطُوعٌ بِأَنَّهُ يُعَاقَبُ وَلَا يُثَابُ، وَقَوْلُهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ رفع للقطع واحد مِنَ الْأَمْرَيْنِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَصِيبًا لِلْمُؤْمِنِ يَرِثُهُ الْمُذْنِبُ بِأَعْمَالِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثانية: قرأ عاصم وابن عامر فَيَغْفِرُ، ... يُعَذِّبُ بِرَفْعِ الرَّاءِ وَالْبَاءِ، وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَبِالْجَزْمِ أَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَهُوَ يَغْفِرُ، وَأَمَّا الْجَزْمُ فَبِالْعَطْفِ عَلَى يُحَاسِبْكُمْ وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ أَدْغَمَ الرَّاءَ فِي اللَّامِ فِي قوله فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّهُ لَحْنُ وَنِسْبَتُهُ إِلَى أَبِي عَمْرٍو كَذِبٌ، وَكَيْفَ يَلِيقُ مِثْلُ هَذَا اللَّحْنِ بِأَعْلَمِ النَّاسِ بِالْعَرَبِيَّةِ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَقَدْ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَنَّهُ كَامِلُ الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، وَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ أَنَّهُ كَامِلُ الْعِلْمِ وَالْإِحَاطَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أنه كامل القدرة مستولي عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ بِالْقَهْرِ وَالْقُدْرَةِ وَالتَّكْوِينِ وَالْإِعْدَامِ وَلَا كَمَالَ أَعْلَى وَأَعْظَمَ مِنْ حُصُولِ الْكَمَالِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ وَالْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الْكَمَالَاتِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا مُنْقَادًا لَهُ، خَاضِعًا لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ مُحْتَرِزًا عَنْ سَخَطِهِ ونواهيه، وبالله التوفيق. [سورة البقرة (2) : آية 285] آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) [فِي قَوْلُهُ تَعَالَى آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَمَالَ الْمُلْكِ، وَكَمَالَ الْعِلْمِ، وَكَمَالَ الْقُدْرَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ يُوجِبُ كَمَالَ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِأَنْ بَيَّنَ كَوْنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي نِهَايَةِ الِانْقِيَادِ وَالطَّاعَةِ وَالْخُضُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ هُوَ كَمَالُ الْعُبُودِيَّةِ وَإِذَا ظَهَرَ لَنَا كَمَالُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنَّا كَمَالُ الْعُبُودِيَّةِ، فَالْمَرْجُوُّ مِنْ عَمِيمِ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ أَنْ يُظْهِرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي حَقِّنَا كَمَالَ الْعِنَايَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ اللَّهُمَّ حَقِّقْ هَذَا الْأَمَلَ.

الْوَجْهُ الثَّانِي فِي النَّظْمِ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة: 284] بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ سِرِّنَا وَجَهْرِنَا وَبَاطِنِنَا وَظَاهِرِنَا شَيْءٌ الْبَتَّةَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَقِيبَ ذَلِكَ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْمَدْحِ لَنَا وَالثَّنَاءِ عَلَيْنَا، فَقَالَ: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كَأَنَّهُ بِفَضْلِهِ يَقُولُ عَبْدِي أَنَا وَإِنْ كُنْتُ أَعْلَمُ جَمِيعَ أَحْوَالِكَ، فَلَا أُظْهِرُ مِنْ أَحْوَالِكَ، وَلَا أَذْكُرُ مِنْهَا إِلَّا مَا يَكُونُ مَدْحًا لَكَ وَثَنَاءً عَلَيْكَ، حَتَّى تَعْلَمَ أَنِّي كَمَا أَنَا الْكَامِلُ فِي الْمُلْكِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، فَأَنَا الْكَامِلُ فِي الْجُودِ وَالرَّحْمَةِ، وَفِي إِظْهَارِ الْحَسَنَاتِ، وَفِي السَّتْرِ عَلَى السَّيِّئَاتِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ بَدَأَ فِي السُّورَةِ بِمَدْحِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ/ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَبَيَّنَ فِي آخِرِ السُّورَةِ أَنَّ الَّذِينَ مَدَحَهُمْ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَةِ: 3] . ثُمَّ قال هاهنا وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 3] . ثم قال هاهنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [الْبَقَرَةِ: 4] ثم حكى عنهم هاهنا كَيْفِيَّةَ تَضَرُّعِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ فِي قَوْلِهِمْ رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [الْبَقَرَةِ: 286] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَةِ: 5] فَانْظُرْ كَيْفَ حَصَلَتِ الْمُوَافَقَةُ بَيْنَ أَوَّلِ السُّورَةِ وَآخِرِهَا. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ الرَّسُولَ إِذَا جَاءَهُ الْمَلَكُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَكَ رَسُولًا إِلَى الْخَلْقِ، فَهَهُنَا الرَّسُولُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْرِفَ صِدْقَ ذَلِكَ الْمَلَكِ إِلَّا بِمُعْجِزَةٍ يُظْهِرُهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى صِدْقِ ذَلِكَ الْمَلَكِ فِي دَعَوَاهُ وَلَوْلَا ذَلِكَ الْمُعْجِزُ لَجَوَّزَ الرَّسُولُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُخْبِرُ شَيْطَانًا ضَالًّا مُضِلًّا، وَذَلِكَ الْمَلَكُ أَيْضًا إِذَا سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى افْتَقَرَ إِلَى مُعْجِزٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسْمُوعَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى لَا غَيْرَ، وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ مُعْتَبَرَةٌ أَوَّلُهَا: قِيَامُ الْمُعْجِزِ عَلَى أَنَّ الْمَسْمُوعَ كَلَامُ اللَّهِ لَا غَيْرَهُ، فَيَعْرِفُ الْمَلَكُ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْمُعْجِزِ أَنَّهُ سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَثَانِيهَا: قِيَامُ الْمُعْجِزَةِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَلَكَ صَادِقٌ فِي دَعْوَاهُ، وَأَنَّهُ مَلَكٌ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَيْسَ بِشَيْطَانٍ وَثَالِثُهَا: أَنْ تَقُومَ الْمُعْجِزَةُ عَلَى يَدِ الرَّسُولِ عِنْدَ الْأُمَّةِ حَتَّى تَسْتَدِلَّ الْأُمَّةُ بِهَا عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ صَادِقٌ فِي دَعْوَاهُ فَإِذَنْ لَمَّا لَمْ يَعْرِفِ الرَّسُولُ كَوْنَهُ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا تَتَمَكَّنُ الْأُمَّةُ مِنْ أَنْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَنْوَاعَ الشَّرَائِعِ وَأَقْسَامَ الْأَحْكَامِ، قَالَ: آمَنَ الرَّسُولُ فَبَيَّنَ أَنَّ الرَّسُولَ عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وُصِفَ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ مَلَكٌ مَبْعُوثٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى مَعْصُومٌ مِنَ التَّحْرِيفِ، وَلَيْسَ بِشَيْطَانٍ مُضِلٍّ، ثُمَّ ذَكَرَ إِيمَانَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَهُوَ الْمَرْتَبَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَذَكَرَ عَقِيبَهُ إِيمَانَ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ وَهُوَ الْمَرْتَبَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ، فَقَالَ: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي لَطَائِفِ نَظْمِ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي بَدَائِعِ تَرْتِيبِهَا عَلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَمَا أَنَّهُ مُعْجِزٌ بِحَسَبِ فَصَاحَةِ أَلْفَاظِهِ وَشَرَفِ مَعَانِيهِ، فَهُوَ أَيْضًا مُعْجِزٌ بِحَسَبِ تَرْتِيبِهِ وَنَظْمِ آيَاتِهِ وَلَعَلَّ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ مُعْجِزٌ بِحَسَبِ أُسْلُوبِهِ أَرَادُوا ذَلِكَ إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ مُعْرِضِينَ عَنْ هَذِهِ اللَّطَائِفِ غَيْرَ مُتَنَبِّهِينَ لِهَذِهِ الْأُمُورِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا قِيلَ:

وَالنَّجْمُ تَسْتَصْغِرُ الْأَبْصَارُ رُؤْيَتَهُ ... وَالذَّنَبُ لِلطَّرْفِ لَا لِلنَّجْمِ فِي الصِّغَرِ وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَنْفَعَنَا بِمَا عَلَّمَنَا، وَيُعَلِّمَنَا مَا يَنْفَعُنَا بِهِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ عَرَفَ بِالدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ وَالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ وَجُمْلَةَ مَا فِيهِ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ إِلْقَاءِ الشَّيَاطِينِ، وَلَا مِنْ نَوْعِ السِّحْرِ وَالْكَهَانَةِ وَالشَّعْبَذَةِ، وَإِنَّمَا عَرَفَ الرسول لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِمَا ظَهَرَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ عَلَى يَدِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَأَمَّا قَوْلُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ فَفِيهِ احْتِمَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتِمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: آمَنَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، ثُمَّ ابْتَدَأَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْمَعْنَى: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَذْكُورِينَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهُمُ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ آمَنَ بِاللَّهِ. الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَتِمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ثُمَّ يَبْتَدِئُ مِنْ قَوْلِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ الرَّسُولَ آمَنَ بِكُلِّ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّهُمْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا كَانَ مؤمناً بربه، ثم صار مؤمناً بربه وَيُحْتَمَلُ عَدَمُ الْإِيمَانِ عَلَى وَقْتِ الِاسْتِدْلَالِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يُشْعِرُ اللَّفْظُ بِأَنَّ الَّذِي حَدَثَ هُوَ إِيمَانُهُ بِالشَّرَائِعِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشُّورَى: 52] وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكِتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ عَلَى الْإِجْمَالِ، فَقَدْ كَانَ حَاصِلًا مُنْذُ خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ انْفَصَلَ عَنْ أُمِّهِ قَالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ، فَإِذَا لَمْ يَبْعُدْ أَنَّ عِيسَى عليه السلام رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حِينَ كَانَ طِفْلًا، فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يُقَالَ: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَارِفًا بِرَبِّهِ مِنْ أَوَّلِ مَا خُلِقَ كَامِلَ الْعَقْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ آمَنَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَإِنَّمَا خُصَّ الرَّسُولُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ قَدْ يكون كلاماً متلواً يسمه الْغَيْرُ وَيَعْرِفُهُ وَيُمْكِنُهُ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ وَحْيًا لَا يَعْلَمُهُ سِوَاهُ، فَيَكُونُ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْتَصًّا بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ غَيْرُهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ الرَّسُولُ مُخْتَصًّا فِي بَابِ الْإِيمَانِ بِمَا لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ فِي غَيْرِهِ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ ضَرُورَاتِ الْإِيمَانِ. فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: هِيَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ لِلْعَالَمِ صَانِعًا قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ، عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، غَنِيًّا عَنْ كُلِّ الْحَاجَاتِ، لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ صِدْقِ/ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَانَتْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ الْأَصْلُ، فَلِذَلِكَ قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ فِي الذِّكْرِ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا يُوحِي إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَقَالَ: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [النَّحْلِ: 2] وَقَالَ: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ [الشُّورَى: 51] وَقَالَ: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى

قَلْبِكَ [الْبَقَرَةِ: 97] وَقَالَ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: 193، 194] وَقَالَ: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النَّجْمِ: 5] فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وَحْيَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا يَصِلُ إِلَى الْبَشَرِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ فَالْمَلَائِكَةُ يَكُونُونَ كَالْوَاسِطَةِ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْبَشَرِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ جَعَلَ ذِكْرَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ، وَلِهَذَا السِّرِّ قَالَ أَيْضًا: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ [آلِ عِمْرَانَ: 18] . وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: الْكُتُبُ، وَهُوَ الْوَحْيُ الَّذِي يَتَلَقَّفُهُ الْمَلَكُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَيُوصِلُهُ إِلَى الْبَشَرِ وَذَلِكَ فِي ضَرْبِ الْمِثَالِ يَجْرِي مَجْرَى اسْتِنَارَةِ سَطْحِ الْقَمَرِ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ فَذَاتُ الْمَلَكِ كَالْقَمَرِ وَذَاتُ الْوَحْيِ كَاسْتِنَارَةِ الْقَمَرِ فَكَمَا أَنَّ ذَاتَ الْقَمَرِ مُقَدَّمَةٌ فِي الرُّتْبَةِ عَلَى اسْتِنَارَتِهِ فَكَذَلِكَ ذَاتُ الْمَلَكِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى حُصُولِ ذَلِكَ الْوَحْيِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِهَذِهِ الْكُتُبِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَتِ الْكُتُبُ مُتَأَخِّرَةً فِي الرُّتْبَةِ عَنِ الْمَلَائِكَةِ، فَلَا جَرَمَ أَخَّرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَ الْكُتُبِ عَنْ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ. وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: الرُّسُلُ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقْتَبِسُونَ أَنْوَارَ الْوَحْيِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَيَكُونُونَ مُتَأَخِّرِينَ فِي الدَّرَجَةِ عَنِ الْكُتُبِ فَلِهَذَا السَّبَبِ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَ الرُّسُلِ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ، وَاعْلَمْ أن تَرْتِيبِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أسرار غَامِضَةً، وَحِكَمًا عَظِيمَةً لَا يَحْسُنُ إِيدَاعُهَا فِي الْكُتُبِ وَالْقَدْرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كَافٍ فِي التَّشْرِيفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيمَانِ بِوُجُودِهِ، وَبِصِفَاتِهِ، وَبِأَفْعَالِهِ، وَبِأَحْكَامِهِ، وَبِأَسْمَائِهِ. أَمَّا الْإِيمَانُ بِوُجُودِهِ، فَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ وَرَاءَ الْمُتَحَيِّزَاتِ مَوْجُودًا خَالِقًا لَهَا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمُجَسِّمُ لَا يَكُونُ مُقِرًّا بِوُجُودِ الْإِلَهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يُثْبِتُ مَا وَرَاءَ الْمُتَحَيِّزَاتِ شَيْئًا آخَرَ فَيَكُونُ اخْتِلَافُهُ مَعَنَا فِي إِثْبَاتِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَمَّا الْفَلَاسِفَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِإِثْبَاتِ مَوْجُودٍ سِوَى الْمُتَحَيِّزَاتِ مُوجِدٌ لَهَا، فَيَكُونُ الْخِلَافُ مَعَهُمْ لَا فِي الذَّاتِ بَلْ فِي الصِّفَاتِ. وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِصِفَاتِهِ، فَالصِّفَاتُ إِمَّا سَلْبِيَّةٌ، وَإِمَّا ثُبُوتِيَّةٌ. فَأَمَّا السَّلْبِيَّةُ: فَهِيَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ فَرْدٌ مُنَزَّهٌ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ التَّرْكِيبِ، فَإِنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ مُفْتَقِرٌ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ غَيْرُهُ، فَهُوَ مُرَكَّبٌ، فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، فَإِذَنْ كُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ، بَلْ كَانَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ امْتَنَعَ أَنْ/ يَكُونَ مُرَكَّبًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، بَلْ كَانَ فَرْدًا مُطْلَقًا، وَإِذَا كَانَ فَرْدًا فِي ذَاتِهِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ مُتَحَيِّزًا، وَلَا جِسْمًا، وَلَا جَوْهَرًا، وَلَا فِي مَكَانٍ، وَلَا حَالًّا، وَلَا فِي مَحَلٍّ، وَلَا مُتَغَيِّرًا، وَلَا مُحْتَاجًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الْبَتَّةَ. وَأَمَّا الصِّفَاتُ الثُّبُوتِيَّةُ: فَبِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِذَاتِهِ نِسْبَتُهُ إِلَى بَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ كَنِسْبَتِهِ إِلَى الْبَوَاقِي، فَلَمَّا رَأَيْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَقَعَتْ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ وُقُوعُهَا عَلَى خِلَافِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ، عَلِمْنَا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِيهَا قَادِرٌ مُخْتَارٌ لَا مُوجِبٌ بِالذَّاتِ، ثُمَّ يَسْتَدِلُّ بِمَا فِي أَفْعَالِهِ مِنَ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ عَلَى كَمَالِ عِلْمِهِ، فَحِينَئِذٍ يَعْرِفُهُ قَادِرًا عَالِمًا حَيًّا سَمِيعًا بَصِيرًا مَوْصُوفًا مَنْعُوتًا بِالْجَلَالِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [الْبَقَرَةِ: 255] .

وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِأَفْعَالِهِ، فَبِأَنْ تَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ مُحْدَثٌ، وَتَعْلَمَ بِبَدِيهَةِ عَقْلِكَ أَنَّ الْمُمْكِنَ الْمُحْدِثَ لَا يُوجَدُ بِذَاتِهِ، بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ يُوجِدُهُ وَهُوَ الْقَدِيمُ، وَهَذَا الدَّلِيلُ يَحْمِلُكَ عَلَى أَنْ تَجْزِمَ بِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَإِنَّمَا حَصَلَ بِتَخْلِيقِهِ وَإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ إِلَّا أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْبَيْنِ عُقْدَةٌ وَهِيَ الْحَوَادِثُ الَّتِي هِيَ الْأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ لِلْحَيَوَانَاتِ، فَالْحُكْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّهَا مُمْكِنَةٌ مُحْدَثَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ إِسْنَادِهَا إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ مُطَّرِدٌ فِيهَا. فَإِنْ قُلْتَ: إِنِّي أَجِدُ مِنْ نَفْسِي أَنِّي إِنْ شِئْتُ أَنْ أَتَحَرَّكَ تَحَرَّكْتُ، وَإِنْ شِئْتُ أَنْ لَا أَتَحَرَّكَ لَمْ أَتَحَرَّكْ فَكَانَتْ حَرَكَاتِي وَسَكَنَاتِي بِي لَا بِغَيْرِي. فَنَقُولُ: قَدْ عَلَّقْتَ حَرَكَتَكَ بِمَشِيئَتِكَ لِحَرَكَتِكَ، وَسُكُونَكَ بِمَشِيئَتِكَ لِسُكُونِكَ، فَقَبْلَ حُصُولِ مَشِيئَةِ الْحَرَكَةِ لَا تَتَحَرَّكُ وَقَبْلَ حُصُولِ مَشِيئَةِ السُّكُونِ لَا تَسْكُنُ، وَعِنْدَ حُصُولِ مَشِيئَةِ الْحَرَكَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَتَحَرَّكَ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذِهِ الْمَشِيئَةُ كَيْفَ حَدَثَتْ فَإِنَّ حُدُوثَهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَا بِمُحْدِثٍ أَصْلًا أَوْ يَكُونَ بِمُحْدِثٍ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمُحْدِثُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعَبْدَ أَوِ اللَّهَ تَعَالَى، فَإِنْ حَدَثَتْ لَا بِمُحْدِثٍ فَقَدْ لَزِمَ نَفْيُ الصَّانِعِ، وَإِنْ كَانَ مُحْدِثُهَا هُوَ الْعَبْدَ افْتَقَرَ فِي إِحْدَاثِهَا إِلَى مَشِيئَةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، فَثَبَتَ أَنَّ مُحْدِثَهَا هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا اخْتِيَارَ لِلْإِنْسَانِ فِي حُدُوثِ تِلْكَ الْمَشِيئَةِ، وَبَعْدَ حُدُوثِهَا فَلَا اخْتِيَارَ لَهُ فِي تَرَتُّبِ الفعل عليها إلا المشيئة به، ولا حصول الفعل بَعْدَ الْمَشِيئَةِ، فَالْإِنْسَانُ مُضْطَرٌّ فِي صُورَةِ مُخْتَارٍ، فَهَذَا كَلَامٌ قَاهِرٌ قَوِيٌّ، وَفِي مُعَارَضَتِهِ إِشْكَالَانِ أَحَدُهُمَا: كَيْفَ يَلِيقُ بِكَمَالِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِيجَادُ هَذِهِ الْقَبَائِحِ وَالْفَوَاحِشِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْكُلُّ بِتَخْلِيقِهِ فَكَيْفَ تَوَجَّهَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَالْمَدْحُ وَالذَّمُّ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى الْعَبْدِ، فَهَذَا هُوَ الْحَرْفُ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مِنْ/ جَانِبِ الْخَصْمِ، إِلَّا أَنَّهُ وَارِدٌ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي الْعِلْمِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ عِدَّةٍ. وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ: فَهِيَ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِهِ، وَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ فِي أَحْكَامِهِ أُمُورًا أَرْبَعَةً أَحَدُهَا: أَنَّهَا غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ بِعِلَّةٍ أَصْلًا، لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ كَانَ صَاحِبُهُ نَاقِصًا بِذَاتِهِ، كَامِلًا بِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ عَلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ مُحَالٌ وَثَانِيهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِهَا مَنْفَعَةٌ عَائِدَةٌ إِلَى الْعَبْدِ لَا إِلَى الْحَقِّ، فَإِنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ، وَدَفْعِ الْمَضَارِّ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ لَهُ الْإِلْزَامَ وَالْحُكْمَ فِي الدُّنْيَا كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِأَحَدٍ عَلَى الْحَقِّ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِ وَأَفْعَالِهِ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْآخِرَةِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ بِفَضْلِهِ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ بِعَدْلِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُقَبَّحُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، لِأَنَّ الْكُلَّ مِلْكُهُ وَمُلْكُهُ، وَالْمَمْلُوكَ الْمُجَازَى لَا حَقَّ لَهُ عَلَى الْمَالِكِ الْمُجَازِي، فَكَيْفَ الْمَمْلُوكُ الْحَقِيقِيُّ مَعَ الْمَالِكِ الْحَقِيقِيِّ. وأما المرتبة الْخَامِسَةُ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ: فَمَعْرِفَةُ أَسْمَائِهِ قَالَ فِي الْأَعْرَافِ وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الْأَعْرَافِ: 180] وَقَالَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الْإِسْرَاءِ: 110] وَقَالَ فِي طه اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [طه: 8] وَقَالَ فِي آخِرِ الْحَشْرِ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْحَشْرِ: 24] وَالْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى هِيَ الْأَسْمَاءُ الْوَارِدَةُ فِي كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ الْمَعْصُومِينَ، وَهَذِهِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَعَاقِدِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ.

وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ، فَهُوَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أَوَّلُهَا: الْإِيمَانُ بِوُجُودِهَا، وَالْبَحْثُ عَنْ أَنَّهَا رُوحَانِيَّةٌ مَحْضَةٌ، أَوْ جُسْمَانِيَّةٌ، أَوْ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْقِسْمَيْنِ، وَبِتَقْدِيرِ كَوْنِهَا جُسْمَانِيَّةً فَهِيَ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ أَوْ كَثِيفَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ لَطِيفَةً فَهِيَ أَجْسَامٌ نُورَانِيَّةٌ، أَوْ هَوَائِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَعَ لَطَافَةِ أَجْسَامِهَا بَالِغَةً فِي الْقُوَّةِ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى، فَذَاكَ مَقَامُ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ فِي عُلُومِ الْحِكْمَةِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْبُرْهَانِيَّةِ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ: الْعِلْمُ بِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مُطَهَّرُونَ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النَّحْلِ: 50] لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 19] فَإِنَّ لَذَّتَهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، وَأُنْسَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ، وَكَمَا أَنَّ حَيَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا بِنَفَسِهِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِنْشَاقِ الْهَوَاءِ، فَكَذَلِكَ حَيَاتُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَتِهِ وَطَاعَتِهِ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ وَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْبَشَرِ، فَكُلُّ قِسْمٍ مِنْهُمْ مُتَوَكَّلٌ عَلَى قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِ هَذَا الْعَالَمِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً [الصَّافَّاتِ: 1، 2] وَقَالَ: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً [الذَّارِيَاتِ: 1، 2] وَقَالَ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً [الْمُرْسَلَاتِ: 1، 2] وَقَالَ: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً [النَّازِعَاتِ: 1، 2] وَلَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَسْرَارًا مَخْفِيَّةً، إِذَا طَالَعَهَا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَقَفُوا عَلَيْهَا. وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ كُتُبَ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةَ إِنَّمَا وَصَلَتْ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التَّكْوِيرِ: 19، 20، 21] فَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي حُصُولِ الْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ، فَكُلَّمَا كَانَ غَوْصُ الْعَقْلِ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ أَشَدَّ كَانَ إِيمَانُهُ بِالْمَلَائِكَةِ أَتَمَّ. وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالْكُتُبِ: فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ أَوَّلُهَا: أَنَّ يَعْلَمَ أَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى رَسُولِهِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْكِهَانَةِ، وَلَا مِنْ بَابِ السِّحْرِ، وَلَا مِنْ بَابِ إِلْقَاءِ الشَّيَاطِينِ وَالْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْوَحْيَ بِهَذِهِ الْكُتُبِ وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمَلَائِكَةِ الْمُطَهَّرِينَ، فَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُمَكِّنْ أَحَدًا مِنَ الشَّيَاطِينِ مِنْ إِلْقَاءِ شَيْءٍ مِنْ ضَلَالَاتِهِمْ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْوَحْيِ الطَّاهِرِ، وَعِنْدَ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى قَوْلَهُ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا فِي أَثْنَاءِ الْوَحْيِ، فَقَدْ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا، وَطَرَقَ الطَّعْنَ وَالتُّهْمَةَ إِلَى الْقُرْآنِ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَمْ يُغَيَّرْ وَلَمْ يُحَرَّفْ، وَدَخَلَ فِيهِ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ تَرْتِيبَ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ شَيْءٌ فَعَلَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ أَخْرَجَ الْقُرْآنَ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً. وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، وَأَنَّ مُحْكَمَهُ يَكْشِفُ عَنْ مُتَشَابِهِهِ. وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ: فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: أَنَّ يَعْلَمَ كَوْنَهُمْ مَعْصُومِينَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَقَدْ أَحْكَمْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ [الْبَقَرَةِ: 36] وَجَمِيعُ الْآيَاتِ الَّتِي يَتَمَسَّكُ بِهَا الْمُخَالِفُونَ قَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ تَأْوِيلَاتِهَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ بِعَوْنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وتعالى.

وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ بِهِمْ: أَنَّ يَعْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ أَفْضَلُ مِمَّنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ، وَمِنَ الصُّوفِيَّةِ مَنْ يُنَازِعُ فِي هَذَا الْبَابِ. والمرتبة الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ السَّمَاوِيَّةَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ، وَهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْأَرْضِيَّةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْبَقَرَةِ: 34] وَلِأَرْبَابِ الْمُكَاشَفَاتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُبَاحَثَاتٌ غَامِضَةٌ. الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْبَعْضِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْبَقَرَةِ: 253] وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَتَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الْبَقَرَةِ: 285] . وَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذَا كَانُوا حَاضِرِينَ هُوَ ظُهُورُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى وَفْقِ دَعَاوِيهِمْ، فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الطَّرِيقَ، وَجَبَ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ ظَهَرَتِ الْمُعْجِزَةُ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الطَّرِيقُ وَجَبَ أَنْ لَا يَدُلَّ فِي حَقِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى صِحَّةِ رِسَالَتِهِ، فَأَمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى رِسَالَةِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَقَوْلٌ فَاسِدٌ مُتَنَاقِضٌ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَزْيِيفُ طَرِيقَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ مُوسَى وَعِيسَى، وَيُكَذِّبُونَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ لَا مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ أَفْضَلَ مِنَ الْبَعْضِ فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى أُصُولِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَكِتَابِهِ عَلَى الْوَاحِدِ، وَالْبَاقُونَ كُتُبِهِ عَلَى الْجَمْعِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْقُرْآنُ ثُمَّ الْإِيمَانُ بِهِ وَيَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالثَّانِي: عَلَى مَعْنَى الْجِنْسِ فَيُوَافِقُ مَعْنَى الْجَمْعَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [الْبَقَرَةِ: 213] . فَإِنْ قِيلَ: اسْمُ الْجِنْسِ إِنَّمَا يُفِيدُ الْعُمُومَ إِذَا كَانَ مَقْرُونًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَهَذِهِ مُضَافَةٌ. قُلْنَا: قَدْ جَاءَ الْمُضَافُ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَنَعْنِي بِهِ الْكَثْرَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: 34] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 187] وَهَذَا الْإِحْلَالُ شَائِعٌ فِي جَمِيعِ الصِّيَامِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْقِرَاءَةُ بِالْجَمْعِ أَفْضَلُ لِمُشَاكَلَةٍ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ لَفْظِ الْجَمْعِ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقُرَّاءَ أَجْمَعُوا فِي قَوْلِهِ وَرُسُلِهِ عَلَى ضَمِّ السِّينِ، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو سُكُونُهَا، وَعَنْ نَافِعٍ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ مُخَفَّفِينَ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ عَلَى فُعُلٍ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَحُجَّةُ أَبِي عَمْرٍو هِيَ أَنْ لَا تَتَوَالَى أَرْبَعُ مُتَحَرِّكَاتٍ، لِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمْ تَتَوَالَ هَذِهِ الْحَرَكَاتُ فِي شِعْرٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُزَاحِفًا، وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ أَمَّا فِي الْكَلِمَتَيْنِ فَلَا بِدَلِيلِ أَنَّ الْإِدْغَامَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي وَجَعَلَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ تَوَالَى فِيهِ خَمْسُ مُتَحَرِّكَاتٍ، وَالْكَلِمَةُ إِذَا اتَّصَلَ بِهَا ضَمِيرٌ فَهِيَ كَلِمَتَانِ لَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ فِيهِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: يَقُولُونَ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ كَقَوْلِهِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا [الْأَنْعَامِ: 93] مَعْنَاهُ يَقُولُونَ: أَخْرِجُوا وَقَالَ: وَالَّذِينَ

اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ [الزُّمَرِ: 3] أَيْ قَالُوا هَذَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو يُفْرَقُ بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لِكُلٍّ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ لَا يُفَرِّقُونَ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَحَدٍ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، كَقَوْلِهِ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الْحَاقَّةِ: 47] وَالتَّقْدِيرُ: / لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ جَمِيعِ رُسُلِهِ، هَذَا هُوَ الَّذِي قَالُوهُ، وَعِنْدِي أَنَّهُ لا يجوز أن يكون أحد هاهنا فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ جَمِيعِ رُسُلِهِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَهُمْ مُفَرِّقِينَ بَيْنَ بَعْضِ الرُّسُلِ وَالْمَقْصُودُ بِالنَّفْيِ هُوَ هَذَا، لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مَا كَانُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ كُلِّ الرُّسُلِ، بَلْ بَيْنَ الْبَعْضِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَثَبَتَ أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرُوهُ بَاطِلٌ، بَلْ مَعْنَى الْآيَةِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنَ الرُّسُلِ، وبين غيره في النبوّة، فإذا فسرنا بِهَذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكَلَامُ فِي نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ كَمَالُ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ، وَالْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَاسْتِكْمَالُ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ بِالْعِلْمِ، وَاسْتِكْمَالُ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ بِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَالْقُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ أَشْرَفُ مِنَ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ ذِكْرِهِمَا بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ الْقُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ مُقَدَّمَةً عَلَى الْعَمَلِيَّةِ قَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشُّعَرَاءِ: 83] فَالْحُكْمُ كَمَالُ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ كَمَالُ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَقَدْ أَطْنَبْنَا فِي شَوَاهِدَ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْقُرْآنِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا كَذَلِكَ، فَقَوْلُهُ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِكْمَالِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ بِهَذِهِ الْمَعَارِفِ الشَّرِيفَةِ وَقَوْلُهُ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِكْمَالِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ الْفَاضِلَةِ الْكَامِلَةِ، وَمَنْ وَقَفَ عَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ عَلِمَ اشْتِمَالَ الْقُرْآنِ عَلَى أَسْرَارٍ عَجِيبَةٍ غَفَلَ عَنْهَا الْأَكْثَرُونَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ النَّظْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَيَّامًا ثَلَاثَةً: الْأَمْسُ وَالْبَحْثُ عَنْهُ يُسَمَّى بِمَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ وَالْيَوْمُ الْحَاضِرُ، وَالْبَحْثُ عَنْهُ يُسَمَّى بِعِلْمِ الْوَسَطِ، وَالْغَدُ وَالْبَحْثُ عَنْهُ يُسَمَّى بِعِلْمِ الْمَعَادِ وَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى رِعَايَةِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ هُودٍ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [هُودٍ: 123] وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ وَلَمَّا كَانَتِ الْكَمَالَاتُ الْحَقِيقِيَّةُ لَيْسَتْ إِلَّا الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ، لَا جَرَمَ ذَكَرَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلُهُ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْعِلْمِ، وَقَوْلُهُ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى عِلْمِ الْمَبْدَأِ، وَأَمَّا عِلْمُ الْوَسَطِ وَهُوَ عِلْمُ مَا يَجِبُ الْيَوْمَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِهِ، فَلَهُ أَيْضًا مَرْتَبَتَانِ: الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ أَمَّا الْبِدَايَةُ فَالِاشْتِغَالُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَأَمَّا النِّهَايَةُ فَقَطْعُ النَّظَرِ عَنِ الْأَسْبَابِ، وَتَفْوِيضُ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَى مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُسَمَّى بِالتَّوَكُّلِ، فَذَكَرَ هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ، فَقَالَ: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هُودٍ: 123] وَأَمَّا عِلْمُ الْمَعَادِ فَهُوَ قَوْلُهُ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [الْأَنْعَامِ: 132] أَيْ فَيَوْمُكَ غَدًا سَيَصِلُ فِيهِ نَتَائِجُ أَعْمَالِكَ إِلَيْكَ، فَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى كَمَالِ مَا يَبْحَثُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ، وَنَظِيرُهَا أَيْضًا قَوْلُهُ/ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصَّافَّاتِ: 180] وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى

عِلْمِ الْمَبْدَأِ، ثُمَّ قَالَ: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصَّافَّاتُ: 181] وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِ الْوَسَطِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الصَّافَّاتِ: 182] وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِ الْمَعَادِ عَلَى مَا قَالَ فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُسَ: 100] . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: تَعْرِيفُ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ مَذْكُورٌ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَقَوْلُهُ آمَنَ الرَّسُولُ إِلَى قَوْلُهُ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ، وَقَوْلُهُ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِ الْوَسَطِ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ عَالِمًا مُشْتَغِلًا بِهَا، مَا دَامَ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِ الْمَعَادِ، وَالْوُقُوفُ عَلَى هَذِهِ الْأَسْرَارِ يُنَوِّرُ الْقَلْبَ وَيَجْذِبُهُ مِنْ ضِيقِ عَالَمِ الْأَجْسَامِ إِلَى فُسْحَةِ عالم الأفلاك، وأنوار بهجة السموات. الْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي النَّظْمِ: أَنَّ الْمَطَالِبَ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا: الْبَحْثُ عَنْ حَقَائِقِ الْمَوْجُودَاتِ وَالثَّانِي: الْبَحْثُ عَنْ أَحْكَامِ الْأَفْعَالِ فِي الْوُجُوبِ وَالْجَوَازِ وَالْحَظْرِ، أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَمُسْتَفَادٌ مِنَ الْعَقْلِ وَالثَّانِي مُسْتَفَادٌ مِنَ السَّمْعِ وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ سَمِعْنا وَأَطَعْنا أَيْ سَمْعِنَا قَوْلَهُ وَأَطَعْنَا أَمْرَهُ، إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الْمَفْعُولَ، لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ دَلِيلًا عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ مُدِحُوا بِهِ. وَأَقُولُ: هَذَا مِنَ الْبَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ النَّحْوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حَذْفَ الْمَفْعُولِ فِيهِ ظَاهِرًا وَتَقْدِيرًا أَوْلَى لِأَنَّكَ إِذَا جَعَلْتَ التَّقْدِيرَ: سَمِعْنَا قوله، وأطعنا أمره، فإذن هاهنا قَوْلٌ آخَرُ غَيْرُ قَوْلِهِ، وَأَمْرٌ آخَرُ يُطَاعُ سِوَى أَمْرِهِ، فَإِذَا لَمْ يُقَدَّرْ فِيهِ ذَلِكَ الْمَفْعُولُ أَفَادَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ قَوْلٌ يَجِبُ سَمْعُهُ إِلَّا قَوْلَهُ وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ أَمْرٌ يُقَالُ فِي مُقَابَلَتِهِ: أَطَعْنَا إِلَّا أَمْرَهُ فَكَانَ حَذْفُ الْمَفْعُولِ صُورَةً وَمَعْنًى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ إِيمَانَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَصَفَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، فَقَوْلُهُ سَمِعْنا لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ السَّمَاعَ الظَّاهِرَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ الْمَدْحَ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّا سَمِعْنَاهُ بِآذَانِ عُقُولِنَا، أَيْ عَقَلْنَاهُ وَعَلِمْنَا صِحَّتَهُ، وَتَيَقَّنَّا أَنَّ كُلَّ تَكْلِيفٍ وَرَدَ عَلَى لِسَانِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَيْنَا فَهُوَ حَقٌّ صَحِيحٌ وَاجِبُ الْقَبُولِ وَالسَّمْعُ بِمَعْنَى الْقَبُولِ وَالْفَهْمِ وَارِدٌ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37] وَالْمَعْنَى: لِمَنْ سَمِعَ الذِّكْرَى بِفَهْمٍ حَاضِرٍ، وَعَكْسُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً [لُقْمَانَ: 7] ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَطَعْنا فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ كَمَا صَحَّ اعْتِقَادُهُمْ فِي هَذِهِ التَّكَالِيفِ فَهُمْ مَا أَخَلُّوا بِشَيْءٍ مِنْهَا فَجَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَبْوَابِ التَّكْلِيفِ عِلْمًا وَعَمَلًا. ثُمَّ حَكَىَ عَنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا قَبِلُوا التَّكَالِيفَ وَعَمِلُوا بِهَا، فَأَيُّ حَاجَةٍ بِهِمْ إِلَى طَلَبِهِمُ الْمَغْفِرَةَ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ وَإِنَّ بَذَلُوا مَجْهُودَهُمْ فِي أَدَاءِ هَذِهِ التَّكَالِيفِ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا خَائِفِينَ مِنْ تَقْصِيرٍ يَصْدُرُ عَنْهُمْ، فَلَمَّا جَوَّزُوا ذَلِكَ قَالُوا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَلْتَمِسُونَ مِنْ قَبْلِهِ الْغُفْرَانَ فِيمَا يَخَافُونَ

مِنْ تَقْصِيرِهِمْ فِيمَا يَأْتُونَ وَيَذَرُونَ وَالثَّانِي: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً» فَذَكَرُوا لِهَذَا الْحَدِيثِ تَأْوِيلَاتٍ مَنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ فِي التَّرَقِّي فِي دَرَجَاتِ الْعُبُودِيَّةِ فَكَانَ كُلَّمَا تَرَقَّى مِنْ مَقَامٍ إِلَى مَقَامٍ أَعْلَى مِنَ الْأَوَّلِ رَأَى الْأَوَّلَ حَقِيرًا، فَكَانَ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهُ، فَحَمْلُ طَلَبِ الْغُفْرَانِ فِي الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ وَالثَّالِثُ: أَنَّ جَمِيعَ الطاعات في مقابلة حقوق إلهيته جِنَايَاتٌ، وَكُلُّ أَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَ الْخَلْقِ فِي مُقَابَلَةِ أَنْوَارِ كِبْرِيَائِهِ تَقْصِيرٌ وَقُصُورٌ وَجَهْلٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الْأَنْعَامِ: 91] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْعَبْدُ فِي أَيِّ مَقَامٍ كَانَ مِنْ مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا جِدًّا إِذَا قُوبِلَ ذَلِكَ بِجَلَالِ كِبْرِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى صَارَ عَيْنَ التَّقْصِيرِ الَّذِي يَجِبُ الِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [مُحَمَّدٍ: 19] فَإِنَّ مَقَامَاتِ عُبُودِيَّتِهِ وَإِنْ كَانَتْ عَالِيَةً إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَنْكَشِفُ لَهُ فِي دَرَجَاتِ مُكَاشَفَاتِهِ أَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَلِيقُ بِالْحَضْرَةِ الصَّمَدِيَّةِ عَنِ التَّقْصِيرِ، فَكَانَ يَسْتَغْفِرُ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ حَكَىَ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَلَامَهُمْ فَقَالَ دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [يُونُسَ: 10] فَسُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ إِشَارَةٌ إِلَى التَّنْزِيهِ. ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُسَ: 10] يَعْنِي أَنَّ كُلَّ الْحَمْدِ لِلَّهِ وَإِنْ كُنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى فَهْمِ ذَلِكَ الْحَمْدِ بِعُقُولِنَا وَلَا عَلَى ذِكْرِهِ بِأَلْسِنَتِنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ غُفْرانَكَ تَقْدِيرُهُ: اغْفِرْ غُفْرَانَكَ، وَيُسْتَغْنَى بِالْمَصْدَرِ عَنِ الْفِعْلِ فِي الدُّعَاءِ نَحْوَ سُقْيًا وَرَعْيًا، قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَصْدَرٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الْأَمْرِ فَنُصِبَ، وَمِثْلُهُ الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَالْأَسَدَ الْأَسَدَ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: نَسْأَلُكَ غُفْرَانَكَ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَمَّا كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِهَذَا الْمَعْنَى ابْتِدَاءً كَانَتْ أَدَلَّ عَلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُكُ: حَمْدًا حَمْدًا، وَشُكْرًا شُكْرًا، أَيْ أَحْمَدُ حَمْدًا، وأشكر شكر. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ طَلَبَ هَذَا الْغُفْرَانِ مَقْرُونٌ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ غُفْرانَكَ وَالثَّانِي: أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ رَبَّنا وَهَذَانَ الْقَيْدَانِ يَتَضَمَّنَانِ فَوَائِدَ إِحْدَاهَا: أَنْتَ الْكَامِلُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ، فَأَنْتَ غَافِرُ الذَّنْبِ، وَأَنْتَ غَفُورٌ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ [الْكَهْفِ: 58] وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [الْبُرُوجِ: 14] وَأَنْتَ/ الْغَفَّارُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً [نُوحٍ: 10] يَعْنِي أنه ليست غفاريته من هذا لوقت، بَلْ كَانَ قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ غَفَّارَ الذُّنُوبِ، فهذه الغفارية كالحرفة له، فقوله هاهنا غُفْرانَكَ يَعْنِي أَطْلُبُ الْغُفْرَانَ مِنْكَ وَأَنْتَ الْكَامِلُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ، وَالْمَطْمُوعُ مِنَ الْكَامِلِ فِي صِفَةٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً كَامِلَةً، فَقَوْلُهُ غُفْرانَكَ طَلَبٌ لِغُفْرَانٍ كَامِلٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِأَنْ يَغْفِرَ جَمِيعَ الذُّنُوبِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَيُبَدِّلَهَا بِالْحَسَنَاتِ، كَمَا قَالَ: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الْفُرْقَانِ: 70] وَثَانِيهَا: رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ جُزْءٍ مِنَ الرَّحْمَةِ قَسَّمَ جُزْءًا وَاحِدًا مِنْهَا عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَجَمِيعِ الحيوانات، فيها يَتَرَاحَمُونَ، وَادَّخَرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ» فَأَظُنُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ غُفْرانَكَ هُوَ ذَلِكَ الْغُفْرَانُ الْكَبِيرُ، كَانَ الْعَبْدُ يَقُولُ: هَبْ أَنَّ جُرْمِي كَبِيرٌ لَكِنَّ غُفْرَانَكَ أَعْظَمُ مِنْ جُرْمِي وَثَالِثُهَا: كَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: كُلُّ صِفَةٍ من صفات جلالك وإلهيتك، فَإِنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي مَحَلٍّ مُعَيَّنٍ، فَلَوْلَا الْوُجُودُ بَعْدَ الْعَدَمِ لَمَا ظَهَرَتْ آثَارُ قُدْرَتِكَ، وَلَوْلَا التَّرْتِيبُ الْعَجِيبُ وَالتَّأْلِيفُ الْأَنِيقُ لَمَا ظَهَرَتْ آثَارُ عِلْمِكَ، فَكَذَا لَوْلَا جُرْمُ الْعَبْدِ وَجِنَايَتُهُ، وَعَجْزُهُ وَحَاجَتُهُ، لَمَا ظَهَرَتْ آثَارُ غُفْرَانِكَ، فَقَوْلُهُ غُفْرانَكَ مَعْنَاهُ طَلَبُ الْغُفْرَانِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ ظُهُورُ أَثَرِهِ إِلَّا فِي حَقِّي، وَفِي حَقِّ أَمْثَالِي مِنَ الْمُجْرِمِينَ.

[سورة البقرة (2) : آية 286]

وَأَمَّا الْقَيْدُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ رَبَّنا فَفِيهِ فَوَائِدُ أَوَّلُهَا: رَبَّيْتَنِي حِينَ مَا لَمْ أَذْكُرْكَ بالتوحيد، فكيف يليق بكرمك أن لا تريني عند ما أَفْنَيْتُ عُمْرِي فِي تَوْحِيدِكَ وَثَانِيهَا: رَبَّيْتَنِي حِينَ كُنْتُ مَعْدُومًا، وَلَوْ لَمْ تُرَبِّنِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمَا تَضَرَّرْتُ بِهِ، لِأَنِّي كُنْتُ أَبْقَى حِينَئِذٍ فِي الْعَدَمِ، وَأَمَّا الْآنَ فَلَوْ لَمْ تُرَبِّنِي وَقَعْتُ فِي الضَّرَرِ الشَّدِيدِ، فَأَسْأَلُكَ أَنْ لا تهملي وَثَالِثُهَا: رَبَّيْتَنِي فِي الْمَاضِي فَاجْعَلْ لِي فِي الْمَاضِي شَفِيعِي إِلَيْكَ فِي أَنْ تُرَبِّيَنِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَرَابِعُهَا: رَبَّيْتَنِي فِي الْمَاضِي فَإِتْمَامُ الْمَعْرُوفِ خَيْرٌ مِنِ ابْتِدَائِهِ، فَتَمِّمْ هَذِهِ التَّرْبِيَةَ بِفَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ وَفِيهِ فَائِدَتَانِ إِحْدَاهُمَا: بَيَانُ أَنَّهُمْ كَمَا أَقَرُّوا بِالْمَبْدَأِ فَكَذَلِكَ أَقَرُّوا بِالْمَعَادِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْمَبْدَأِ أَصْلُ الْإِيمَانِ بِالْمَعَادِ، فَإِنَّ مَنْ أَقَرَّ أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِالْجُزْئِيَّاتِ، وَقَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يُقِرَّ بِالْمَعَادِ وَالثَّانِيَةُ: بَيَانُ أَنَّ الْعَبْدَ مَتَى عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَيْهِ، وَالذَّهَابِ إِلَى حَيْثُ لَا حُكْمَ إِلَّا حُكْمُ اللَّهِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَشْفَعَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، كَانَ إِخْلَاصُهُ فِي الطَّاعَاتِ أَتَمَّ، وَاحْتِرَازُهُ عَنِ السَّيِّئَاتِ أَكْمَلَ، وهاهنا آخِرُ مَا شَرَحَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إِيمَانِ المؤمنين. [سورة البقرة (2) : آية 286] لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا/ إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قوله لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ خَبَرٍ مِنَ اللَّهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً عَنِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى نَسَقِ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285] وَقَالُوا لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا أَرْدَفَهُ مِنْ قَوْلِهِ رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا فَكَأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ طَرِيقَتَهُمْ فِي التَّمَسُّكِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَحَكَى عَنْهُمْ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ وَصَفُوا رَبَّهُمْ بِأَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ: إِنْ قُلْنَا إِنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْمُؤْمِنِينَ فَوَجْهُ النَّظْمِ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: كَيْفَ لَا نَسْمَعُ وَلَا نُطِيعُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُنَا إِلَّا مَا فِي وُسْعِنَا وَطَاقَتِنَا، فَإِذَا كَانَ هُوَ تَعَالَى بِحُكْمِ الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ لَا يُطَالِبُنَا إِلَّا بِالشَّيْءِ السَّهْلِ الْهَيِّنِ، فَكَذَلِكَ نَحْنُ بِحُكْمِ الْعُبُودِيَّةِ وَجَبَ أَنْ نَكُونَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجْهُ النَّظْمِ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا ثُمَّ قَالُوا بَعْدَهُ غُفْرانَكَ رَبَّنا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ غُفْرانَكَ طَلَبًا لِلْمَغْفِرَةِ فِيمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنْ وُجُوهِ التَّقْصِيرِ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْعَمْدِ فَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُمْ: غُفْرانَكَ طَلَبًا لِلْمَغْفِرَةِ فِي ذَلِكَ التَّقْصِيرِ، لَا جَرَمَ خَفَّفَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ذَلِكَ وَقَالَ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ إِذَا سَمِعْتُمْ وَأَطَعْتُمْ، وَمَا تَعَمَّدْتُمُ التَّقْصِيرَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَوْ وَقَعَ مِنْكُمْ نَوْعُ تَقْصِيرٍ عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ فَلَا تَكُونُوا خَائِفِينَ مِنْهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا إِجَابَةٌ لَهُمْ فِي دُعَائِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ غُفْرانَكَ رَبَّنا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُقَالُ: كَلَّفْتُهُ الشَّيْءَ فَتَكَلَّفَ، وَالْكَلَفُ اسْمٌ مِنْهُ، وَالْوُسْعُ مَا يَسَعُ الْإِنْسَانَ وَلَا يَضِيقُ عَلَيْهِ وَلَا يُحْرَجُ فِيهِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ اسْمٌ كَالْوُجْدِ وَالْجُهْدُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْوُسْعُ دُونَ الْمَجْهُودِ فِي الْمَشَقَّةِ، وَهُوَ مَا يَتَّسِعُ لَهُ قُدْرَةُ الْإِنْسَانِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ عَوَّلُوا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ الْعَبْدَ مَا لَا يُطِيقُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] وقوله يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النِّسَاءِ: 28] وَقَوْلُهُ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [الْبَقَرَةِ: 185] وَقَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي نَفْيِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، قَالُوا: وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهَهُنَا أَصْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَبْدَ مُوجِدٌ لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُوجِدُهَا هُوَ اللَّهَ تَعَالَى، لَكَانَ تَكْلِيفُ الْعَبْدِ بِالْفِعْلِ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا خَلَقَ الْفِعْلَ وَقَعَ لَا مَحَالَةَ وَلَا قُدْرَةَ الْبَتَّةَ لِلْعَبْدِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَلَا عَلَى تَرْكِهِ، إِمَّا إِنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْفِعْلِ فَلِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ/ وُجِدَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَوْجُودُ لَا يُوجَدُ ثانياً، وأما إنه لا قدر لَهُ عَلَى الدَّفْعِ فَلِأَنَّ قُدْرَتَهُ أَضْعَفُ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَيْفَ تَقْوَى قُدْرَتُهُ عَلَى دَفْعِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ الْفِعْلَ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ لِلْعَبْدِ قُدْرَةٌ عَلَى التَّحْصِيلِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُوجِدُ لِفِعْلِ الْعَبْدِ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى لَكَانَ تَكْلِيفُ الْعَبْدِ بِالْفِعْلِ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَبْلَ الْفِعْلِ وَإِلَّا لَكَانَ الْكَافِرُ الْمَأْمُورُ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْإِيمَانِ، فَكَانَ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ هَذَا تَمَامُ اسْتِدْلَالِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. أَمَّا الْأَصْحَابُ فَقَالُوا: دَلَّتِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ عَلَى وُقُوعِ التَّكْلِيفِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ يُنْبِئُ مَوْتُهُ عَلَى الْكُفْرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا فِي الْأَزَلِ بِأَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ وَلَا يُؤْمِنُ قَطُّ، فَكَانَ الْعِلْمُ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ مَوْجُودًا، وَالْعِلْمُ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ يُنَافِي وُجُودَ الْإِيمَانِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ في مواضع، وهو أيضاً مقدم بَيِّنَةٌ بِنَفْسِهَا، فَكَانَ تَكْلِيفُهُ بِالْإِيمَانِ مَعَ حُصُولِ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ تَكْلِيفًا بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَهَذِهِ الْحُجَّةُ كَمَا أَنَّهَا جَارِيَةٌ فِي الْعِلْمِ، فَهِيَ أَيْضًا جَارِيَةٌ فِي الْجَبْرِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ صُدُورَ الْفِعْلِ عَنِ الْعَبْدِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّاعِي، وَتِلْكَ الدَّاعِيَةُ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ لَازِمًا، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ صُدُورَ الْفِعْلِ عَنِ الْعَبْدِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّاعِي، لِأَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ لَمَّا كَانَتْ صَالِحَةً لِلْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَلَوْ تَرَجَّحَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ لَزِمَ وُقُوعُ الْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ وَهُوَ نَفْيُ الصَّانِعِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ تِلْكَ الدَّاعِيَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنَ الْعَبْدِ لَافْتَقَرَ إِيجَادُهَا إِلَى دَاعِيَةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ مَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ الْجَبْرَ، لِأَنَّ عِنْدَ حُصُولِ الدَّاعِيَةِ الْمُرَجِّحَةِ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ صَارَ الطَّرَفُ الْآخَرُ مَرْجُوحًا، وَالْمَرْجُوحُ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ، وَإِذَا كَانَ الْمَرْجُوحُ ممتنعاً كان الراجح واجباً ضرورة أنه لَا خُرُوجَ عَنِ النَّقِيضَيْنِ، فَإِذَنْ صُدُورُ الْإِيمَانِ مِنَ الْكَافِرِ يَكُونُ مُمْتَنِعًا وَهُوَ مُكَلَّفٌ بِهِ، فَكَانَ التَّكْلِيفُ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ التَّكْلِيفَ إِمَّا أَنْ يَتَوَجَّهَ عَلَى الْعَبْدِ حَالَ اسْتِوَاءِ الدَّاعِيَيْنِ، أَوْ حَالَ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ يُنَاقِضُ الرُّجْحَانَ، فَإِذَا كُلِّفَ حَالَ حُصُولِ الِاسْتِوَاءِ بِالرُّجْحَانِ،

فَقَدْ كُلِّفَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالرَّاجِحُ وَاجِبٌ، وَالْمَرْجُوحُ مُمْتَنِعٌ، وَإِنْ وَقَعَ التَّكْلِيفُ بِالرَّاجِحِ فَقَدْ وَقَعَ بِالْوَاجِبِ، وَإِنْ وَقَعَ بِالْمَرْجُوحِ فَقَدْ وَقَعَ بِالْمُمْتَنِعِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تعالى كلف أبا لهب الإيمان، وَالْإِيمَانُ تَصْدِيقُ اللَّهِ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ/ عَنْهُ، وَهُوَ مِمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، فَقَدْ صَارَ أَبُو لَهَبٍ مُكَلَّفًا بِأَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، وَذَلِكَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: الْعَبْدُ غَيْرُ عَالِمٍ بِتَفَاصِيلِ فِعْلِهِ، لِأَنَّ مَنْ حَرَّكَ أُصْبُعَهُ لَمْ يَعْرِفْ عَدَدَ الْأَحْيَانِ الَّتِي حَرَّكَ أُصْبُعَهُ فِيهَا، لِأَنَّ الْحَرَكَةَ الْبَطِيئَةَ عِبَارَةٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَنْ حَرَكَاتٍ مُخْتَلِطَةٍ بِسَكَنَاتٍ، وَالْعَبْدُ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ أَنَّهُ يَتَحَرَّكُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَيَسْكُنُ فِي بَعْضِهَا، وَأَنَّهُ أَيْنَ تَحَرَّكَ وَأَيْنَ سَكَنَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِتَفَاصِيلِ فِعْلِهِ لَمْ يَكُنْ مُوجِدًا لَهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إِيجَادَ ذَلِكَ الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ مِنَ الْأَفْعَالِ، فَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ الْعَدَدَ دُونَ الْأَزْيَدِ وَدُونَ الْأَنْقَصِ فَقَدْ تَرَجَّحَ الْمُمْكِنُ لَا لِمُرَجِّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُوجِدٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُوجِدًا كَانَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ لَازِمًا عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ عَقْلِيَّةٌ قَطْعِيَّةٌ يَقِينِيَّةٌ فِي هَذَا الْبَابِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْآيَةِ مِنَ التَّأْوِيلِ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَصْوَبُ: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ التَّعَارُضُ مِنَ الْقَاطِعِ الْعَقْلِيِّ، وَالظَّاهِرِ السَّمْعِيِّ، فَإِمَّا أَنْ يُصَدِّقَهُمَا وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يُكَذِّبَهُمَا وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ إِبْطَالُ النَّقِيضَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يُكَذِّبَ الْقَاطِعَ الْعَقْلِيَّ، وَيُرَجِّحَ الظَّاهِرَ السَّمْعِيَّ، وَذَلِكَ يُوجِبُ تَطَرُّقَ الطَّعْنِ فِي الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ بَطَلَ التَّوْحِيدُ وَالنُّبُوَّةُ وَالْقُرْآنُ، وَتَرْجِيحُ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ يُوجِبُ الْقَدْحَ فِي الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ وَالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ مَعًا، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَقْطَعَ بِصِحَّةِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَيَحْمِلَ الظَّاهِرَ السَّمْعِيَّ عَلَى التَّأْوِيلِ، وَهَذَا الْكَلَامُ هُوَ الَّذِي تُعَوِّلُ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَيْهِ أَبَدًا فِي دَفْعِ الظَّوَاهِرِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا أَهْلُ التَّشْبِيهِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ عَلِمْنَا أَنَّ لِهَذِهِ الْآيَةِ تَأْوِيلًا فِي الْجُمْلَةِ، سَوَاءٌ عَرَفْنَاهُ أَوْ لَمْ نَعْرِفْهُ، وَحِينَئِذٍ لَا يُحْتَاجُ إِلَى الْخَوْضِ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ. الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: هُوَ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلتَّكْلِيفِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَّا الْإِعْلَامُ بِأَنَّهُ مَتَى فَعَلَ كَذَا فَإِنَّهُ يُثَابُ، وَمَتَى لَمْ يَفْعَلْ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ، فَإِذَا وُجِدَ ظَاهِرُ الْأَمْرِ فَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مُمْكِنًا كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا وَتَكْلِيفًا فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ تَكْلِيفًا، بَلْ كَانَ إِعْلَامًا بِنُزُولِ الْعِقَابِ بِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَإِشْعَارًا بِأَنَّهُ إِنَّمَا خُلِقَ لِلنَّارِ. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ لَمْ يَمُتْ، وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ أَوْ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَنَحْنُ شَاكُّونَ فِي قِيَامِ الْمَانِعِ، فَلَا جَرَمَ نَأْمُرُهُ بِالْإِيمَانِ وَنَحُثُّهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ عَلِمْنَا بَعْدَ مَوْتِهِ أَنَّ الْمَانِعَ كَانَ قَائِمًا فِي حَقِّهِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ شَرْطَ التَّكْلِيفِ كَانَ زَائِلًا عَنْهُ حَالَ حَيَاتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ قُدَمَاءِ أَهْلِ الْجَبْرِ. الْجَوَابُ الرَّابِعُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَيْسَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ هُوَ قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً، إِلَّا أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ لَهُمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، فَبِسَبَبِ هَذَا الْكَلَامِ وَجَبَ أَنَّ يَكُونُوا صَادِقِينَ فِي هَذَا الْكَلَامِ، / إِذْ لَوْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِيهِ لَمَا جَازَ تَعْظِيمُهُمْ بِسَبَبِهِ، فَهَذَا أَقْصَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَرْحَمَ عَجْزَنَا وَقُصُورَ فَهْمِنَا، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْ خَطَايَانَا، فَإِنَّا لَا نَطْلُبُ إِلَّا الْحَقَّ، وَلَا نَرُومُ إِلَّا الصِّدْقَ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ فِي اللُّغَةِ فَرْقٌ بَيْنَ الْكَسْبِ وَالِاكْتِسَابِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الصَّحِيحُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْكَسْبَ وَالِاكْتِسَابَ وَاحِدٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: أَلْفَى أَبَاهُ بِذَاكَ الْكَسْبِ يَكْتَسِبُ وَالْقُرْآنُ أَيْضًا نَاطِقٌ بِذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [الْمُدَّثِّرِ: 38] وَقَالَ: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها [الْأَنْعَامِ: 164] وَقَالَ: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [الْبَقَرَةِ: 81] وَقَالَ: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا [الْأَحْزَابِ: 58] فَدَلَّ هَذَا عَلَى إِقَامَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ مَقَامَ الْآخَرِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ سَلَّمَ الْفَرْقَ، ثُمَّ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاكْتِسَابَ أَخَصُّ مِنَ الْكَسْبِ، لِأَنَّ الْكَسْبَ يَنْقَسِمُ إِلَى كَسْبِهِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، وَالِاكْتِسَابُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَا يَكْتَسِبُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً يُقَالُ فُلَانٌ كَاسِبٌ لِأَهْلِهِ، وَلَا يُقَالُ مُكْتَسِبٌ لِأَهْلِهِ وَالثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّمَا خُصَّ الْخَيْرُ بِالْكَسْبِ، وَالشَّرُّ بِالِاكْتِسَابِ، لِأَنَّ الِاكْتِسَابَ اعْتِمَالٌ، فَلَمَّا كَانَ الشَّرُّ مِمَّا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ، وَهِيَ مُنْجَذِبَةٌ إِلَيْهِ، وَأَمَّارَةٌ بِهِ كَانَتْ فِي تَحْصِيلِهِ أَعْمَلَ وَأَجَدَّ، فَجُعِلَتْ لِهَذَا الْمَعْنَى مُكْتَسِبَةً فِيهِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِي بَابِ الْخَيْرِ وُصِفَتْ بِمَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الِاعْتِمَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ بِإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ، قَالُوا لِأَنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي إِضَافَةِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ إِلَيْهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى لَبَطَلَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ وَيَجْرِي صُدُورُ أَفْعَالِهِ مِنْهُ مَجْرَى لَوْنِهِ وَطُولِهِ وَشَكْلِهِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهَا الْبَتَّةَ وَالْكَلَامُ فِيهِ مَعْلُومٌ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، قَالَ الْقَاضِي: لَوْ كَانَ خَالِقًا أَفْعَالَهُمْ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّكْلِيفِ، وَأَمَّا الْوَجْهُ فِي أَنْ يَسْأَلُوهُ أَنْ لَا يُثْقِلَ عَلَيْهِمْ وَالثَّقِيلُ عَلَى قَوْلِهِمْ كَالْخَفِيفِ فِي أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُهُ فِيهِمْ وَلَيْسَ يَلْحَقُهُمْ بِهِ نَصَبٌ وَلَا لُغُوبٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ بِالْمُحَابَطَةِ قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ، فَبَيَّنَ أَنَّ لَهَا ثَوَابَ مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا عِقَابَ مَا اكْتَسَبَتْ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ هَذَيْنِ الِاسْتِحْقَاقَيْنِ يَجْتَمِعَانِ، وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ طَرَيَانِ أَحَدِهِمَا زَوَالُ الْآخَرِ، قَالَ الْجُبَّائِيُّ: ظَاهِرُ الْآيَةِ وَإِنْ دَلَّ عَلَى الْإِطْلَاقِ إِلَّا أَنَّهُ مَشْرُوطٌ وَالتَّقْدِيرُ: لَهَا مَا كَسَبَتْ مِنْ ثَوَابِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ إِذَا لَمْ تُبْطِلْهُ، وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ مِنَ الْعِقَابِ إِذَا لَمْ تُكَفِّرْهُ بِالتَّوْبَةِ، وَإِنَّمَا صِرْنَا إِلَى إِضْمَارِ هَذَا/ الشَّرْطِ لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ الثَّوَابَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنْفَعَةً خَالِصَةً دَائِمَةً وَأَنَّ الْعِقَابَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَضَرَّةً خَالِصَةً دَائِمَةً، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ فِي الْعُقُولِ، فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ اسْتِحْقَاقَيْهِمَا أَيْضًا مُحَالًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَرَّ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَةِ: 264] فَلَا نُعِيدُهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ الْأَطْفَالَ بِذُنُوبِ آبَائِهِمْ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ ظَاهِرٌ فِيهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الْأَنْعَامِ: 164] . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْفُقَهَاءُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِمْسَاكِ الْبَقَاءُ وَالِاسْتِمْرَارُ، لِأَنَّ

اللَّامَ فِي قَوْلِهِ لَها مَا كَسَبَتْ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الِاخْتِصَاصِ، وَتَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ امْرِئٍ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَسَائِرِ النَّاسِ أَجْمَعِينَ» وَإِذَا تَمَهَّدَ هَذَا الْأَصْلُ خَرَجَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ. مِنْهَا أَنَّ الْمَضْمُونَاتِ لَا تُمْلَكُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ، لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ قَائِمٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَها مَا كَسَبَتْ وَالْعَارِضُ الْمَوْجُودُ، إِمَّا الْغَضَبُ، وَإِمَّا الضَّمَانُ، وَهُمَا لَا يُوجِبَانِ زَوَالَ الْمِلْكِ بِدَلِيلِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ إِذَا غَصَبَ سَاحَةً وَأَدْرَجَهَا فِي بِنَائِهِ، أَوْ غَصَبَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا لَا يَزُولُ الْمِلْكُ لِقَوْلِهِ لَها مَا كَسَبَتْ. وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لِلْجَارِ، لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ قَائِمٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ لَها مَا كَسَبَتْ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرِيكِ وَالْجَارِ ظَاهِرٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْجَارَ لَا يُقَدَّمُ عَلَى الشَّرِيكِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ الِاسْتِوَاءِ وَلِأَنَّ التَّضَرُّرَ بِمُخَالَطَةِ الْجَارِ أَقَلُّ وَلِأَنَّ فِي الشَّرِكَةِ يُحْتَاجُ إِلَى تَحَمُّلِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَفْقُودٌ فِي الْجَارِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ، لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ قَائِمٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ لَها مَا كَسَبَتْ وَالْقَطْعُ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَسْرُوقَ مَتَى كَانَ بَاقِيًا قَائِمًا، فَإِنَّهُ يَجِبُ رَدُّهُ عَلَى الْمَالِكِ، وَلَا يَكُونُ الْقَطْعُ مُقْتَضِيًا زَوَالَ مِلْكِهِ عَنْهُ. وَمِنْهَا أَنَّ مُنْكِرِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ احْتَجُّوا بِهِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الدَّلَائِلَ الْمُوجِبَةَ لِلزَّكَاةِ أَخَصُّ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي فُرُوعِ الْفِقْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ دُعَاءَهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» لِأَنَّ الدَّاعِيَ يُشَاهِدُ نَفْسَهُ فِي مقام الفقر والحاجة والذالة وَالْمَسْكَنَةِ وَيُشَاهِدُ جَلَالَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَرَمَهُ وَعِزَّتَهُ وَعَظَمَتَهُ بِنَعْتِ الِاسْتِغْنَاءِ وَالتَّعَالِي، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ فَلِهَذَا السَّبَبِ خَتَمَ هَذِهِ السُّورَةَ الشَّرِيفَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى هَذِهِ الْعُلُومِ الْعَظِيمَةِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ وَالْكَلَامُ/ فِي حَقَائِقِ الدُّعَاءِ ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [الْبَقَرَةِ: 186] فَقَالَ: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الدُّعَاءِ، وَذَكَرَ فِي مَطْلَعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا قَوْلَهُ رَبَّنا إِلَّا فِي النَّوْعِ الرَّابِعِ مِنَ الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ حَذَفَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَنْهَا وَهُوَ قَوْلُهُ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا. أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ قَوْلُهُ رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا تُؤَاخِذْنَا أَيْ لَا تُعَاقِبْنَا، وَإِنَّمَا جَاءَ بِلَفْظِ الْمُفَاعَلَةِ وَهُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ، لِأَنَّ النَّاسِيَ قَدْ أَمْكَنَ مِنْ نَفْسِهِ، وَطَرَقَ السَّبِيلَ إِلَيْهَا بِفِعْلِهِ، فَصَارَ مَنْ يُعَاقِبُهُ بِذَنْبِهِ كَالْمُعِينِ لِنَفْسِهِ فِي إِيذَاءِ نَفْسِهِ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ يَأْخُذُ الْمُذْنِبَ بِالْعُقُوبَةِ، فَالْمُذْنِبُ كَأَنَّهُ يَأْخُذُ رَبَّهُ بِالْمُطَالَبَةِ بِالْعَفْوِ وَالْكَرَمِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ مَنْ يُخَلِّصُهُ مِنْ عَذَابِهِ إِلَّا هُوَ، فَلِهَذَا يَتَمَسَّكُ الْعَبْدُ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْهُ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَأْخُذُ الْآخَرَ عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمُؤَاخَذَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: في النسيان ووجهان الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هُوَ النِّسْيَانُ نَفْسُهُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الذِّكْرِ.

فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ فِعْلَ النَّاسِي فِي مَحَلِّ الْعَفْوِ بِحُكْمِ دَلِيلِ الْعَقْلِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ وَبِدَلِيلِ السَّمْعِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ النِّسْيَانُ فِي مَحَلِّ الْعَفْوِ قَطْعًا فَمَا مَعْنَى طَلَبِ الْعَفْوِ عَنْهُ فِي الدُّعَاءِ» . وَالْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ النِّسْيَانَ مِنْهُ مَا يُعْذَرُ فِيهِ صَاحِبُهُ، وَمِنْهُ مَا لَا يُعْذَرُ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ رَأَى فِي ثَوْبِهِ دَمًا فَأَخَّرَ إِزَالَتَهُ إِلَى أَنْ نَسِيَ فَصَلَّى وَهُوَ عَلَى ثَوْبِهِ عُدَّ مُقَصِّرًا، إذ كان يلزمه المبادر إِلَى إِزَالَتِهِ وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَرَهُ فِي ثَوْبِهِ فَإِنَّهُ يُعْذَرُ فِيهِ، وَمَنْ رَمَى صَيْدًا فِي مَوْضِعٍ فَأَصَابَ إِنْسَانًا فَقَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ الرَّامِي أَنَّهُ يُصِيبُ ذَلِكَ الصَّيْدَ أَوْ غَيْرَهُ فَإِذَا رَمَى وَلَمْ يَتَحَرَّزْ كَانَ مَلُومًا أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ أَمَارَاتُ الْغَلَطِ ظاهرة ثم رمى وأصاب إنساناً كان هاهنا مَعْذُورًا، وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ إِذَا تَغَافَلَ عَنِ الدَّرْسِ وَالتَّكْرَارِ حَتَّى نَسِيَ الْقُرْآنَ يَكُونُ مَلُومًا، وَأَمَّا إِذَا وَاظَبَ عَلَى الْقِرَاءَةِ، لَكِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ نَسِيَ فَهَهُنَا يَكُونُ مَعْذُورًا، فَثَبَتَ أَنَّ النِّسْيَانَ عَلَى قِسْمَيْنِ، مِنْهُ مَا يَكُونُ مَعْذُورًا، وَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ مَعْذُورًا، وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ حَاجَتَهُ شَدَّ خَيْطًا فِي أُصْبُعِهِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّاسِيَ قَدْ لَا يَكُونُ مَعْذُورًا، وَذَلِكَ مَا إِذَا تَرَكَ التَّحَفُّظَ وَأَعْرَضَ عَنْ أَسْبَابِ التَّذَكُّرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ طَلَبُ غُفْرَانِهِ بِالدُّعَاءِ. الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: أَنْ يَكُونَ هَذَا دُعَاءٌ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ ذَكَرُوا هَذَا الدُّعَاءَ كَانُوا مُتَّقِينَ لِلَّهِ حَقَّ تُقَاتِهِ، فَمَا كَانَ يَصْدُرُ عَنْهُمْ مَا لَا يَنْبَغِي إِلَّا عَلَى وَجْهِ/ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ، فَكَانَ وَصْفُهُمْ بِالدُّعَاءِ بِذَلِكَ إِشْعَارًا بِبَرَاءَةِ سَاحَتِهِمْ عَمَّا يُؤَاخَذُونَ بِهِ كَأَنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ النِّسْيَانُ مِمَّا تَجُوزُ الْمُؤَاخَذَةُ بِهِ فَلَا تُؤَاخِذُنَا بِهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الدُّعَاءِ إِظْهَارُ التَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَا طَلَبُ الْفِعْلِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الدَّاعِيَ كَثِيرًا مَا يَدْعُو بِمَا يَقْطَعُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُهُ سَوَاءٌ دَعَا أَوْ لَمْ يَدْعُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ [الْأَنْبِيَاءِ: 112] وَقَالَ: رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ [آلِ عِمْرَانَ: 194] وَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي دُعَائِهِمْ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [غَافِرٍ: 7] فَكَذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعِلْمُ بِأَنَّ النِّسْيَانَ مَغْفُورٌ لَا يَمْنَعُ مِنْ حُسْنِ طَلَبِهِ فِي الدُّعَاءِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّ مُؤَاخَذَةَ النَّاسِي غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ عَقْلًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ بَعْدَ النِّسْيَانِ يَكُونُ مُؤَاخَذًا فَإِنَّهُ بِخَوْفِ الْمُؤَاخَذَةِ يَسْتَدِيمُ الذِّكْرُ، فَحِينَئِذٍ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا أَنَّ اسْتِدَامَةَ ذَلِكَ التَّذَكُّرِ فِعْلٌ شَاقٌّ عَلَى النَّفْسِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي الْعُقُولِ، لَا جَرَمَ حَسُنَ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ مِنْهُ بِالدُّعَاءِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ أَصْحَابَنَا الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا النَّاسِي غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الِاحْتِرَازِ عَنِ الْفِعْلِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ جَائِزٌ عَقْلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُعَاقِبَ عَلَيْهِ لَمَا طَلَبَ بِالدُّعَاءِ تَرْكَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ النِّسْيَانِ، أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّرْكِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] وَقَالَ تَعَالَى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التَّوْبَةِ: 67] أَيْ تَرَكُوا الْعَمَلَ لِلَّهِ فَتَرَكَهُمْ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: لَا تَنْسَنِي مِنْ عَطِيَّتِكَ، أَيْ لَا تَتْرُكْنِي، فَالْمُرَادُ بِهَذَا النِّسْيَانِ أَنْ يَتْرُكَ الْفِعْلَ لتأويل فاسد، والمراد بالخطإ، أن يفعل لتأويل فاسد.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: عُلِمَ أَنَّ النِّسْيَانَ وَالْخَطَأَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَا مُفَسَّرَيْنِ بِتَفْسِيرٍ يَنْبَغِي فِيهِ الْقَصْدُ إِلَى فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي، أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا كَذَلِكَ دُونَ الْآخَرِ، فَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْعَفْوِ لِأَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، لِأَنَّ الْعَمْدَ إِلَى الْمَعْصِيَةِ لَمَّا كَانَ حَاصِلًا فِي النِّسْيَانِ وَفِي الْخَطَأِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَدْعُوهُ بِقَوْلِهِمْ لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا فَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ بِأَنْ يَطْلُبُوا مِنَ اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي، وَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِطَلَبِ ذَلِكَ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُعْطِيهِمْ هَذَا الْمَطْلُوبَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْعَفْوِ لِأَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَبَاطِلَانِ لِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى ذَلِكَ قَبِيحَةٌ عِنْدَ الْخَصْمِ، وَمَا يُقَبَّحُ فِعْلُهُ مِنَ اللَّهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يُطْلَبَ بِالدُّعَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: النَّاسِي قَدْ يُؤَاخَذُ فِي تَرْكِ التَّحَفُّظِ قَصْدًا وَعَمْدًا عَلَى مَا قَرَّرْتُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. قُلْنَا: فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُؤَاخَذٌ بِتَرْكِ التَّحَفُّظِ قَصْدًا وَعَمْدًا، فَالْمُؤَاخَذَةُ إِنَّمَا حَصَلَتْ عَلَى مَا تَرَكَهُ/ عَمْدًا، وَظَاهِرُ مَا ذَكَرْنَا دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى رَجَاءِ الْعَفْوِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا. اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الدُّعَاءِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْإِصْرُ فِي اللُّغَةِ: الثِّقَلُ وَالشِّدَّةُ، قَالَ النَّابِغَةُ: يَا مَانِعَ الضَّيْمِ أَنْ يُغْشَى سُرَاتُهُمُ ... وَالْحَامِلَ الْإِصْرَ عَنْهُمْ بَعْدَ مَا عَرَفُوا ثُمَّ سُمِّيَ الْعَهْدُ إِصْرًا لِأَنَّهُ ثَقِيلٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي [آلِ عِمْرَانَ: 81] أَيْ عَهْدِي وَمِيثَاقِي وَالْإِصْرُ الْعَطْفُ، يُقَالُ: مَا يَأْصِرُنِي عَلَيْهِ آصِرَةٌ، أَيْ رَحِمٌ وَقَرَابَةٌ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْعَطْفُ إِصْرًا لِأَنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِ يَثْقُلُ عَلَى قَلْبِكَ كُلُّ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَكَارِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِيهِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: لَا تُشَدِّدُ عَلَيْنَا فِي التَّكَالِيفِ كَمَا شَدَدْتَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا مِنَ الْيَهُودِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ صَلَاةً، وَأَمَرَهُمْ بِأَدَاءِ رُبُعِ أَمْوَالِهِمْ فِي الزَّكَاةِ، وَمَنْ أَصَابَ ثَوْبَهُ نَجَاسَةٌ أُمِرَ بِقَطْعِهَا، وَكَانُوا إِذَا نَسُوا شَيْئًا عُجِّلَتْ لَهُمُ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا، وَكَانُوا إِذَا أَتَوْا بِخَطِيئَةٍ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الطَّعَامِ بَعْضُ مَا كَانَ حَلَالًا لَهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ [النِّسَاءِ: 160] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النِّسَاءِ: 66] وَقَدْ حُرِّمَ عَلَى الْمُسَافِرِينَ مِنْ قَوْمِ طَالُوتَ الشُّرْبُ مِنَ النَّهْرِ، وَكَانَ عَذَابُهُمْ مُعَجَّلًا فِي الدُّنْيَا، كَمَا قال: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً [النساء: 47] وَكَانُوا يُمْسَخُونَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَمَنْ نَظَرَ فِي السِّفْرِ الْخَامِسِ مِنَ التَّوْرَاةِ الَّتِي تَدَّعِيهَا هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ وَقَفَ عَلَى مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنْ غِلَظِ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، وَرَأَى الْأَعَاجِيبَ الْكَثِيرَةَ، فَالْمُؤْمِنُونَ سَأَلُوا رَبَّهُمْ أَنَّ يَصُونَهُمْ عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ التَّغْلِيظَاتِ، وَهُوَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ قَدْ أَزَالَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الْأَعْرَافِ: 157] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْمَسْخُ وَالْخَسْفُ وَالْغَرَقُ» وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: 33] وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ» وَالْمُؤْمِنُونَ إِنَّمَا طَلَبُوا هَذَا التَّخْفِيفَ لِأَنَّ التشديد مظنة

التَّقْصِيرِ، وَالتَّقْصِيرُ مُوجِبٌ لِلْعُقُوبَةِ، وَلَا طَاقَةَ لَهُمْ بِعَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا جَرَمَ طَلَبُوا السُّهُولَةَ فِي التَّكَالِيفِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا عَهْدًا وَمِيثَاقًا يُشْبِهُ مِيثَاقَ مَنْ قَبْلَنَا فِي الْغِلَظِ وَالشِّدَّةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ فِي الْحَقِيقَةِ لَكِنْ بِإِضْمَارِ شَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى الْمَلْفُوظِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: دَلَّتِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ وَالسَّمْعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَمَا السَّبَبُ فِي أَنْ شَدَّدَ التَّكْلِيفَ عَلَى الْيَهُودِ حَتَّى أَدَّى ذَلِكَ إِلَى وُقُوعِهِمْ فِي الْمُخَالَفَاتِ وَالتَّمَرُّدِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَصْلَحَةً فِي حَقِّ إِنْسَانٍ، مَفْسَدَةً فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَالْيَهُودُ كَانَتِ الْفَظَاظَةُ وَالْغِلْظَةُ غَالِبَةً عَلَى طِبَاعِهِمْ، فَمَا كَانُوا يَنْصَلِحُونَ إِلَّا بِالتَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ وَالشِّدَّةِ، وَهَذِهِ الْأُمَّةُ كَانَتِ الرِّقَّةُ وَكَرَمُ الْخُلُقِ غَالِبًا عَلَى طِبَاعِهِمْ، فَكَانَتْ مَصْلَحَتُهُمْ فِي التَّخْفِيفِ وَتَرْكِ التَّغْلِيظِ. أَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ السُّؤَالَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ نَنْقُلُهُ إِلَى الْمَقَامِ الثَّانِي فَنَقُولُ: وَلِمَاذَا خَصَّ الْيَهُودَ بِغِلْظَةِ الطَّبْعِ، وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ وَدَنَاءَةِ الْهِمَّةِ، حَتَّى احْتَاجُوا إِلَى التَّشْدِيدَاتِ الْعَظِيمَةِ فِي التَّكَالِيفِ وَلِمَاذَا خَصَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِلَطَافَةِ الطَّبْعِ وَكَرَمِ الْخُلُقِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ حَتَّى صَارَ يَكْفِيهِمُ التَّكَالِيفُ السَّهْلَةُ فِي حُصُولِ مَصَالِحِهِمْ. وَمَنْ تَأَمَّلَ وَأَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ التَّعْلِيلَاتِ عَلِيلَةٌ فَجَلَّ جَنَابُ الْجَلَالِ عَنْ أَنْ يُوزَنَ بِمِيزَانِ الِاعْتِزَالِ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: 23] . قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ. اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الطَّاقَةُ اسْمٌ مِنَ الْإِطَاقَةِ، كَالطَّاعَةِ مِنَ الْإِطَاعَةِ، وَالْجَابَةِ مِنَ الْإِجَابَةِ وَهِيَ تُوضَعُ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ فِي أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ جَائِزٌ إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَمَا حَسُنَ طَلَبُهُ بِالدُّعَاءِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. أَجَابَ الْمُعْتَزِلَةَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ أَيْ يَشُقُّ فِعْلُهُ مَشَقَّةً عَظِيمَةً وَهُوَ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى فُلَانٍ إِذَا كَانَ مُسْتَثْقِلًا لَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: إِنَّكَ إِنْ كَلَّفْتَنِي مَا لَمْ أُطِقْ ... سَاءَكَ مَا سَرَّكَ مِنِّي مِنْ خُلُقْ وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْمَمْلُوكِ: «لَهُ طَعَامُهُ وَكُسْوَتُهُ وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُ» أَيْ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَرَوَى عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمَرِيضُ يُصَلِّي جَالِسًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» فَقَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ لَيْسَ مَعْنَاهُ عَدَمَ الْقُوَّةِ عَلَى الْجُلُوسِ، بَلْ كُلُّ الْفُقَهَاءِ يَقُولُونَ: الْمُرَادُ مِنْهُ إِذَا كَانَ يَلْحَقُهُ فِي الْجُلُوسِ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ شَدِيدَةٌ، / وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْكُفَّارِ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ [هُودٍ: 20] أَيْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: لَا تُكَلِّفْنَا مَا لَا طَاقَةَ لنا به، بل قال: لا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ وَالتَّحْمِيلُ هُوَ أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ مَا لَا طَاقَةَ له بِتَحَمُّلِهِ فَيَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَذَابَ وَالْمَعْنَى لَا تُحَمِّلْنَا عَذَابَكَ الَّذِي لَا

نُطِيقُ احْتِمَالَهُ فَلَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ كان قوله لا تُحَمِّلْنا حَقِيقَةً فِيهِ وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى التَّكْلِيفِ كان قوله لا تُحَمِّلْنا مَجَازًا فِيهِ، فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: هَبْ أَنَّهُمْ سَأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ لَا يُكَلِّفَهُمْ بِمَا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَفْعَلَ خِلَافَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ لَدَلَّ قَوْلُهُ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ [الْأَنْبِيَاءِ: 112] عَلَى جَوَازِ أَنْ يَحْكُمَ بِبَاطِلٍ، وَكَذَلِكَ يَدُلُّ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشُّعَرَاءِ: 87] عَلَى جَوَازِ أَنْ يُخْزِيَ الْأَنْبِيَاءَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَابِ: 48] وَلَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى جَوَازِ أَنْ يُطِيعَ الرَّسُولُ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَكَذَا الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: 65] هَذَا جُمْلَةُ أَجْوِبَةِ الْمُعْتَزِلَةِ. أَجَابَ الْأَصْحَابُ فَقَالُوا: أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَمَدْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ مَحْمُولًا عَلَى أَنْ لَا يُشَدِّدَ عَلَيْهِمْ فِي التَّكْلِيفِ لَكَانَ مَعْنَاهُ وَمَعْنَى الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا وَاحِدًا فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ تَكْرَارًا مَحْضًا وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ الثَّانِي: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الطَّاقَةَ هِيَ الْإِطَاقَةُ والقدرة، فقوله لا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ ظَاهِرُهُ لَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا قُدْرَةَ لَنَا عَلَيْهِ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ جَاءَ هَذَا اللَّفْظُ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ فِي بَعْضِ وُجُوهِ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ إِلَّا أَنَّ الْأَصْلَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَجَوَابُهُ أَنَّ التَّحَمُّلَ مَخْصُوصٌ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ بِالتَّكْلِيفِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ [الْأَحْزَابِ: 72] إِلَى قَوْلِهِ وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الْأَحْزَابِ: 72] ثُمَّ هَبْ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْعُرْفُ إلا أن قوله لا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ عَامٌّ فِي الْعَذَابِ وَفِي التَّكْلِيفِ فَوَجَبَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ أَمَّا التَّخْصِيصُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَجَوَابُهُ أَنَّ فِعْلَ الشَّيْءِ إِذَا كَانَ مُمْتَنِعًا لَمْ يَجُزْ طَلَبُ الِامْتِنَاعِ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَيَصِيرُ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى مَنْ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ وَتَضَرُّعِهِ: رَبَّنَا لَا تَجْمَعْ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَلَا تَقْلِبِ الْقَدِيمَ مُحْدَثًا، كَمَا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَكَذَا مَا ذَكَرْتُمْ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فَإِذَا صَارَ ذَلِكَ مَتْرُوكًا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لِدَلِيلٍ مُفَصَّلٍ لَمْ يَجِبْ تَرْكُهُ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ في الآية الأولى لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لا تُحَمِّلْنا خَصَّ ذَلِكَ بِالْحَمْلِ وَهَذَا بِالتَّحْمِيلِ. الْجَوَابُ: أَنَّ الشَّاقَّ يُمْكِنُ حَمْلُهُ أَمَّا مَا لَا يَكُونُ مَقْدُورًا لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ، فَالْحَاصِلُ فِيمَا لَا يُطَاقُ هُوَ التَّحْمِيلُ فَقَطْ أَمَّا الْحَمْلُ فَغَيْرُ مُمْكِنٍ وَأَمَّا الشَّاقُّ فَالْحَمْلُ وَالتَّحْمِيلُ يُمْكِنَانِ فِيهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَصَّ الْآيَةَ الْأَخِيرَةَ بِالتَّحْمِيلِ.

السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ أَنْ لَا يكلفه بالفعل الشاق قوله لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَانَ مِنْ لَوَازِمِهِ أَنْ لَا يُكَلِّفَهُ مَا لَا يُطَاقُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ كَانَ عَكْسُ هَذَا التَّرْتِيبِ أَوْلَى. وَالْجَوَابُ: الَّذِي أَتَخَيَّلُهُ فِيهِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ لِلْعَبْدِ مَقَامَيْنِ أَحَدُهُمَا: قِيَامُهُ بِظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ وَالثَّانِي: شُرُوعُهُ فِي بَدْءِ الْمُكَاشَفَاتِ، وَذَلِكَ هُوَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَخِدْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَشُكْرِ نِعْمَتِهِ فَفِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ طَلَبَ تَرْكَ التَّشْدِيدِ، وَفِي الْمَقَامِ الثَّانِي قَالَ: لَا تَطْلُبْ مِنِّي حَمْدًا يَلِيقُ بِجَلَالِكَ، وَلَا شُكْرًا يَلِيقُ بِآلَائِكَ وَنَعْمَائِكَ، وَلَا مَعْرِفَةً تَلِيقُ بِقُدْسِ عَظَمَتِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِذِكْرِي وَشُكْرِي وَفِكْرِي وَلَا طَاقَةَ لِي بِذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَتِ الشَّرِيعَةُ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا جَرَمَ كَانَ قَوْلُهُ وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً مُقَدَّمًا فِي الذَّكْرِ عَلَى قوله لا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْأَدْعِيَةَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ... وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ... وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذِهِ الْجَمْعِيَّةِ وَقْتَ الدُّعَاءِ؟ وَالْجَوَابُ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ قَبُولَ الدُّعَاءِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ أَكْمَلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ لِلْهِمَمِ تَأْثِيرَاتٍ فَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْأَرْوَاحُ وَالدَّوَاعِي عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ كان حصوله أكمل. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. اعْلَمْ أَنَّ تِلْكَ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ مِنَ الْأَدْعِيَةِ كَانَ الْمَطْلُوبُ فِيهَا التَّرْكَ وَكَانَتْ مَقْرُونَةً بِلَفْظِ رَبَّنا وَأَمَّا هَذَا الدُّعَاءُ الرَّابِعُ، فَقَدْ حُذِفَ مِنْهُ لَفْظُ رَبَّنا وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ فَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ لَمْ يُذْكَرْ هَاهُنَا لَفْظُ رَبَّنَا؟. الْجَوَابُ: النِّدَاءُ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْبُعْدِ، أَمَّا عِنْدَ الْقُرْبِ فَلَا وَإِنَّمَا حُذِفَ النِّدَاءُ إِشْعَارًا/ بِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا وَاظَبَ عَلَى التَّضَرُّعِ نَالَ الْقُرْبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا سِرٌّ عَظِيمٌ يَطَّلِعُ مِنْهُ عَلَى أَسْرَارٍ أُخَرَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ؟. الْجَوَابُ: أَنَّ الْعَفْوَ أَنْ يُسْقِطَ عَنْهُ الْعِقَابَ، وَالْمَغْفِرَةَ أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِ جُرْمَهُ صَوْنًا لَهُ مِنْ عَذَابِ التَّخْجِيلِ وَالْفَضِيحَةِ، كَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: أَطْلُبُ مِنْكَ الْعَفْوَ وَإِذَا عَفَوْتَ عَنِّي فَاسْتُرْهُ عَلَيَّ فَإِنَّ الْخَلَاصَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ إِنَّمَا يَطِيبُ إِذَا حَصَلَ عَقِيبَهُ الْخَلَاصُ مِنْ عَذَابِ الْفَضِيحَةِ، وَالْأَوَّلُ: هُوَ الْعَذَابُ الْجُسْمَانِيُّ، وَالثَّانِي: هُوَ الْعَذَابُ الرُّوحَانِيُّ، فَلَمَّا تَخَلَّصَ مِنْهُمَا أَقْبَلَ عَلَى طَلَبِ الثَّوَابِ، وَهُوَ أَيْضًا قِسْمَانِ: ثَوَابٌ جُسْمَانِيٌّ وَهُوَ نَعِيمُ الْجَنَّةِ وَلَذَّاتُهَا وَطَيِّبَاتُهَا، وَثَوَابٌ رُوحَانِيٌّ وَغَايَتُهُ أَنْ يَتَجَلَّى لَهُ نُورُ جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَنْكَشِفَ لَهُ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ عُلُوُّ كِبْرِيَاءِ اللَّهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَصِيرَ غَائِبًا عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، مُسْتَغْرِقًا بِالْكُلِّيَّةِ فِي نُورِ حُضُورِ جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَوْلُهُ وَارْحَمْنا طَلَبٌ لِلثَّوَابِ الْجُسْمَانِيِّ وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْتَ مَوْلانا طَلَبٌ لِلثَّوَابِ الرُّوحَانِيِّ، وَلِأَنْ يَصِيرَ الْعَبْدُ مُقْبِلًا بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ تعالى لأن قوله أَنْتَ مَوْلانا خطاب الحاضرين، وَلَعَلَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ يَسْتَبْعِدُونَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهَا مِنْ بَابِ الطَّاعَاتِ، وَلَقَدْ صَدَقُوا فِيمَا يَقُولُونَ، فَذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى [النَّجْمِ: 30] .

وَفِي قَوْلِهِ أَنْتَ مَوْلانا فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ وَالِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِكُلِّ نِعْمَةٍ يَصِلُونَ إِلَيْهَا، وَهُوَ الْمُعْطِي لِكُلِّ مَكْرُمَةٍ يَفُوزُونَ بِهَا فَلَا جَرَمَ أَظْهَرُوا عِنْدَ الدُّعَاءِ أَنَّهُمْ فِي كَوْنِهِمْ مُتَكَلِّمِينَ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ بِمَنْزِلَةِ الطِّفْلِ الَّذِي لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُ إِلَّا بِتَدْبِيرِ قَيِّمِهِ، وَالْعَبْدِ الَّذِي لَا يَنْتَظِمُ شَمْلُ مُهِمَّاتِهِ إِلَّا بِإِصْلَاحِ مَوْلَاهُ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَيُّومُ السموات وَالْأَرْضِ، وَالْقَائِمُ بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِ الْكُلِّ، وَهُوَ الْمُتَوَلِّي فِي الْحَقِيقَةِ لِلْكُلِّ، عَلَى مَا قَالَ: نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الْأَنْفَالِ: 40] وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَةِ: 257] أَيْ نَاصِرُهُمْ، وَقَوْلُهُ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ [التَّحْرِيمِ: 4] أَيْ نَاصِرُهُ، وَقَوْلُهُ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّدٍ: 11] . ثُمَّ قَالَ: فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أَيِ انْصُرْنَا عَلَيْهِمْ فِي مُحَارَبَتِنَا مَعَهُمْ، وَفِي مُنَاظَرَتِنَا بِالْحُجَّةِ مَعَهُمْ، وَفِي إِعْلَاءِ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ عَلَى دَوْلَتِهِمْ عَلَى مَا قَالَ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التَّوْبَةِ: 33] وَمِنَ الْمُحَقِّقِينَ مَنْ قَالَ: فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِعَانَةُ اللَّهِ بِالْقُوَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ الْمَلَكِيَّةِ عَلَى قَهْرِ الْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى مَا سِوَى اللَّهِ، وَهَذَا آخِرُ السُّورَةِ. وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاءِ أُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَكْرَمَكَ بِحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْكَ بِقَوْلِهِ آمَنَ الرَّسُولُ فَسَلْهُ وَارْغَبْ إِلَيْهِ، فَعَلَّمَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَيْفَ يَدْعُو، / فَقَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» فَقَالَ: لَا تُؤاخِذْنا فَقَالَ اللَّهُ: «لَا أُؤَاخِذُكُمْ» فَقَالَ: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً فَقَالَ: «لَا أشدد عليكم» فقال محمد لا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ فَقَالَ: «لَا أُحَمِّلُكُمْ ذَلِكَ» فَقَالَ مُحَمَّدٌ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «قَدْ عَفَوْتُ عَنْكُمْ وَغَفَرْتُ لَكُمْ وَرَحِمْتُكُمْ وَأَنْصُرُكُمْ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَذْكُرُ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ، وَالْمَلَائِكَةُ كَانُوا يَقُولُونَ آمِينَ. وَهَذَا الْمِسْكِينُ الْبَائِسُ الْفَقِيرُ كَاتِبُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ يَقُولُ: إِلَهِي وَسَيِّدِي كُلُّ مَا طَلَبْتُهُ وَكَتَبْتُهُ مَا أَرَدْتُ بِهِ إِلَّا وَجْهَكَ وَمَرْضَاتَكَ، فَإِنْ أَصَبْتُ فَبِتَوْفِيقِكَ أَصَبْتُ فَاقْبَلْهُ مِنْ هَذَا الْمُكْدِي بِفَضْلِكَ وَإِنْ أَخْطَأْتُ فَتَجَاوَزْ عَنِّي بِفَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ يَا مَنْ لَا يُبْرِمُهُ إِلْحَاحُ الْمُلِحِّينَ، وَلَا يَشْغَلُهُ سُؤَالُ السَّائِلِينَ وَهَذَا آخِرُ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ والسورة الحمد لِلَّهِ ربِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ.

سورة آل عمران

سورة آل عمران مائتا آية مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) أَمَّا تَفْسِيرُ الم فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ الم، اللَّهُ بِسُكُونِ الْمِيمِ، وَنَصْبِ هَمْزَةِ: أَللَّهُ، وَالْبَاقُونَ مَوْصُولًا بِفَتْحِ الْمِيمِ، أَمَّا قراءة عاصم فلها ووجهان الْأَوَّلُ: نِيَّةُ الْوَقْفِ ثُمَّ إِظْهَارُ الْهَمْزَةِ لِأَجْلِ الِابْتِدَاءِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقْطَعُ أَلِفَ الْوَصْلِ، فَمَنْ فَصَلَ وَأَظْهَرَ الْهَمْزَةَ فَلِلتَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، وَأَمَّا مَنْ نَصَبَ الْمِيمَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَاخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ أَسْمَاءَ الْحُرُوفِ مَوْقُوفَةُ الْأَوَاخِرِ، يَقُولُ: أَلِفٌ، لَامٌ، مِيمٌ، كَمَا تَقُولُ: وَاحِدٌ، اثْنَانِ، ثَلَاثَةْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَجَبَ الِابْتِدَاءُ بِقَوْلِهِ: أَللَّهُ، فَإِذَا ابْتَدَأْنَا بِهِ نُثْبِتُ الْهَمْزَةَ مُتَحَرِّكَةً، إِلَّا أَنَّهُمْ أَسْقَطُوا الْهَمْزَةَ لِلتَّخْفِيفِ، ثُمَّ أُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى الْمِيمِ لِتَدُلَّ حَرَكَتُهَا عَلَى أَنَّهَا فِي حُكْمِ الْمُبْقَاةِ بِسَبَبِ كَوْنِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ مُبْتَدَأً بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ التَّقْدِيرُ فَصْلَ إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى امْتَنَعَ إِسْقَاطُ الْهَمْزَةِ، وَإِنْ كَانَ التَّقْدِيرُ هُوَ الْوَصْلَ امْتَنَعَ بَقَاءُ الْهَمْزَةِ مَعَ حَرَكَتِهَا، وَإِذَا امْتَنَعَ بَقَاؤُهَا امْتَنَعَتْ حَرَكَتُهَا، وَامْتَنَعَ إِلْقَاءُ حَرَكَتِهَا، عَلَى الْمِيمِ. قُلْنَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَاقِطًا بِصُورَتِهِ بَاقِيًا بِمَعْنَاهُ فَأُبْقِيَتْ حَرَكَتُهَا لِتَدُلَّ عَلَى بَقَائِهَا فِي الْمَعْنَى هَذَا تَمَامُ تَقْرِيرِ قَوْلِ الْفَرَّاءِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ السَّبَبَ فِي حَرَكَةِ الْمِيمِ الْتِقَاءُ السَّاكِنَيْنِ، وَهَذَا الْقَوْلُ رَدَّهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَفِيهِ دِقَّةٌ وَلُطْفٌ، وَالْكَلَامُ فِي تَلْخِيصِهِ طَوِيلٌ. وَأَقُولُ: فِيهِ بَحْثَانِ أَحَدُهُمَا: سَبَبُ أَصْلِ الْحَرَكَةِ وَالثَّانِي: كَوْنُ تِلْكَ الْحَرَكَةِ فَتْحَةً. أَمَّا الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ: الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: أَنَّ السَّاكِنَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا فَإِنْ كَانَ السَّابِقُ مِنْهُمَا حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ لم يجب

التَّحْرِيكُ، لِأَنَّهُ يَسْهُلُ النُّطْقُ بِمِثْلِ هَذَيْنِ السَّاكِنَيْنِ، كَقَوْلِكَ: هَذَا إِبْرَاهِيمْ وَإِسْحَاقْ وَيَعْقُوبْ مَوْقُوفَةُ الْأَوَاخِرِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَجَبَ التَّحْرِيكُ لِأَنَّهُ لَا يَسْهُلُ النُّطْقُ بِمِثْلِ هَذَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ النُّطْقُ إِلَّا بِالْحَرَكَةِ. الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ حَرْفَ التَّعْرِيفِ هِيَ اللَّامُ، وَهِيَ سَاكِنَةٌ، وَالسَّاكِنُ لَا يُمْكِنُ الِابْتِدَاءُ بِهِ فَقَدَّمُوا عَلَيْهَا هَمْزَةَ الْوَصْلِ وَحَرَّكُوهَا لِيَتَوَصَّلُوا بِهَا إِلَى النُّطْقِ بِاللَّامِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ وَجَدُوا قَبْلَ لَامِ التَّعْرِيفَ حَرْفًا آخَرَ فَإِنْ كَانَ مُتَحَرِّكًا تَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى النُّطْقِ بِهَذِهِ اللَّامِ السَّاكِنَةِ وَإِنْ كَانَ سَاكِنًا حَرَّكُوهُ وَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى النُّطْقِ بِهَذِهِ اللَّامِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَحْصُلُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ هَمْزَةِ الْوَصْلِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهَا أَنْ يُتَوَصَّلَ بِحَرَكَتِهَا إِلَى النُّطْقِ بِاللَّامِ، فَإِذَا حَصَلَ حَرْفٌ آخَرُ تَوَصَّلُوا بِحَرَكَتِهِ إِلَى النُّطْقِ بِهَذِهِ اللَّامِ، فَتُحْذَفُ هَذِهِ الْهَمْزَةُ صُورَةً وَمَعْنًى، حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ: أُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى الْمِيمِ لِتَدُلَّ تلك الحركة عل كَوْنِهَا بَاقِيَةً حُكْمًا، لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ حَيْثُ يَتَعَلَّقُ بِوُجُودِهِ حُكْمٌ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَوْ أَثَرٌ مِنَ الْآثَارِ، لَكِنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَعَلِمْنَا أَنَّ تِلْكَ الْهَمْزَةَ سَقَطَتْ بِذَاتِهَا وَبِآثَارِهَا سُقُوطًا كُلِّيًّا، وَبِهَذَا يَبْطُلُ قَوْلُ الْفَرَّاءِ. الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ: أَسْمَاءُ هَذِهِ الْحُرُوفِ مَوْقُوفَةُ الْأَوَاخِرِ، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ فَنَقُولُ: الْمِيمُ مِنْ قَوْلِنَا الم سَاكِنٌ وَلَامُ التَّعْرِيفِ مِنْ قَوْلِنَا اللَّهُ سَاكِنٌ، وَقَدِ اجْتَمَعَا فَوَجَبَ تَحْرِيكُ الْمِيمِ، وَلَزِمَ سُقُوطُ الْهَمْزَةِ بِالْكُلِّيَّةِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَصَحَّ بِهَذَا الْبَيَانِ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، وَبَطَلَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ. أَمَّا الْبَحْثُ الثَّانِي: فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: السَّاكِنُ إِذَا حُرِّكَ حُرِّكَ إِلَى الْكَسْرِ، فَلِمَ اخْتِيرَ الْفَتْحُ/ هَاهُنَا، قَالَ الزَّجَّاجُ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ: الْكَسْرُ هَاهُنَا لَا يَلِيقُ، لِأَنَّ الْمِيمَ مِنْ قَوْلِنَا الم مَسْبُوقَةٌ بِالْيَاءِ فَلَوْ جَعَلْتَ الْمِيمَ مَكْسُورَةً لَاجْتَمَعَتِ الْكَسْرَةُ مَعَ الْيَاءِ وَذَلِكَ ثَقِيلٌ، فَتُرِكَتِ الْكَسْرَةُ وَاخْتِيرَتِ الْفَتْحَةُ، وَطَعَنَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي كَلَامِ الزَّجَّاجِ، وَقَالَ: يَنْتَقِضُ قَوْلُهُ بِقَوْلِنَا: جَيْرِ، فَإِنَّ الرَّاءَ مَكْسُورَةٌ مَعَ أَنَّهَا مَسْبُوقَةٌ بِالْيَاءِ، وَهَذَا الطَّعْنُ عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْكَسْرَةَ حَرَكَةٌ فِيهَا بَعْضُ الثِّقَلِ وَالْيَاءُ أُخْتُهَا، فَإِذَا اجْتَمَعَا عَظُمَ الثِّقِلُ، ثُمَّ يَحْصُلُ الِانْتِقَالُ مِنْهُ إِلَى النُّطْقِ بِالْأَلِفِ فِي قَوْلِكَ اللَّهُ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْخِفَّةِ، فَيَصِيرُ اللِّسَانُ مُنْتَقِلًا مِنْ أَثْقَلِ الْحَرَكَاتِ إِلَى أَخَفِّ الْحَرَكَاتِ، وَالِانْتِقَالُ مِنَ الضِّدِّ إِلَى الضِّدِّ دَفْعَةً وَاحِدَةً صَعْبٌ عَلَى اللِّسَانِ، أَمَّا إِذَا جَعَلْنَا الْمِيمَ مَفْتُوحَةً، انْتَقَلَ اللِّسَانُ مِنْ فَتْحَةِ الْمِيمِ إِلَى الْأَلِفِ فِي قَوْلِنَا اللَّهُ فَكَانَ النُّطْقُ بِهِ سَهْلًا، فَهَذَا وَجْهُ تَقْرِيرِ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ: أَنَّ بَعْضَ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي الْيَهُودِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الم، ذلِكَ الْكِتابُ [الْبَقَرَةِ: 1، 2] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مِنِ ابْتِدَاءِ السُّورَةِ إِلَى آيَةِ الْمُبَاهَلَةِ فِي النَّصَارَى، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ نَجْرَانَ سِتُّونَ رَاكِبًا فِيهِمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ كَانُوا أَكَابِرَ الْقَوْمِ، أَحَدُهُمْ: أَمِيرُهُمْ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الْمَسِيحِ، وَالثَّانِي: مُشِيرُهُمْ وَذُو رَأْيِهِمْ، وَكَانُوا يَقُولُونَ لَهُ: السَّيِّدُ، وَاسْمُهُ الْأَيْهَمُ، وَالثَّالِثُ: حبرهم وأسقفهم وصاحب مدارسهم، يُقَالُ لَهُ أَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ أَحَدُ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ،

وَمُلُوكُ الرُّومِ كَانُوا شَرَّفُوهُ وَمَوَّلُوهُ وَأَكْرَمُوهُ لِمَا بَلَغَهُمْ عَنْهُ مِنْ عِلْمِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي دِينِهِمْ، فلما قدموا من بحران رَكِبَ أَبُو حَارِثَةَ بَغْلَتَهُ، وَكَانَ إِلَى جَنْبِهِ أَخُوهُ كُرْزُ بْنُ عَلْقَمَةَ، فَبَيْنَا بَغْلَةُ أَبِي حَارِثَةَ تَسِيرُ إِذْ عَثَرَتْ، فَقَالَ كُرْزٌ أَخُوهُ: تَعِسَ الْأَبْعَدُ يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو حَارِثَةَ: بَلْ تَعِسَتْ أُمُّكَ، فَقَالَ: وَلِمَ يَا أَخِي؟ فَقَالَ: إِنَّهُ وَاللَّهِ النَّبِيُّ الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِرُهُ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ كُرْزٌ: فَمَا يَمْنَعُكَ مِنْهُ وَأَنْتَ تَعْلَمُ هَذَا، قَالَ: لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُلُوكَ أَعْطَوْنَا أَمْوَالًا كَثِيرَةً وَأَكْرَمُونَا، فَلَوْ آمَنَّا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَخَذُوا مِنَّا كُلَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَوَقَعَ ذَلِكَ فِي قَلْبِ أَخِيهِ كُرْزٍ، وَكَانَ يُضْمِرُهُ إِلَى أَنْ أَسْلَمَ فَكَانَ يُحَدِّثُ بِذَلِكَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ: الْأَمِيرُ، وَالسَّيِّدُ وَالْحَبْرُ، مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْ أَدْيَانِهِمْ، فَتَارَةً يَقُولُونَ عِيسَى هُوَ اللَّهُ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: هُوَ ابْنُ اللَّهِ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَيَحْتَجُّونَ لِقَوْلِهِمْ: هُوَ اللَّهُ، بِأَنَّهُ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُبْرِئُ الْأَسْقَامَ، وَيُخْبِرُ بِالْغُيُوبِ، وَيَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَيَنْفُخُ فِيهِ فَيَطِيرُ، وَيَحْتَجُّونَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ وَلَدُ اللَّهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ يُعْلَمُ، وَيَحْتَجُّونَ عَلَى ثَالِثِ ثَلَاثَةٍ بُقُولِ اللَّهِ تَعَالَى: فَعَلْنَا وَجَعَلْنَا، وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا لَقَالَ فَعَلْتُ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسْلِمُوا، فَقَالُوا: قَدْ أَسْلَمْنَا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ كَذَبْتُمْ كَيْفَ يَصِحُّ إِسْلَامُكُمْ وَأَنْتُمْ تُثْبِتُونَ لِلَّهِ وَلَدًا، وَتَعْبُدُونَ الصَّلِيبَ، وَتَأْكُلُونَ الْخِنْزِيرَ، قَالُوا: فَمَنْ أَبُوهُ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ أَوَّلَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَى بِضْعٍ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنْهَا. ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاظِرُ مَعَهُمْ، فَقَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَأَنَّ عِيسَى يَأْتِي عَلَيْهِ الْفَنَاءُ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَلَدٌ إِلَّا وَيُشْبِهُ أَبَاهُ؟ قَالُوا بَلَى، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا قَيِّمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَكْلَؤُهُ وَيَحْفَظُهُ وَيَرْزُقُهُ، فَهَلْ يَمْلِكُ عِيسَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، فَهَلْ يَعْلَمُ عِيسَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا عَلِمَ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ فَإِنَّ رَبَّنَا صَوَّرَ عِيسَى فِي الرَّحِمِ كَيْفَ شَاءَ، فَهَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا لَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَلَا يَشْرَبُ الشَّرَابَ وَلَا يُحْدِثُ الْحَدَثَ وَتَعْلَمُونَ أَنَّ عِيسَى حَمَلَتْهُ امْرَأَةٌ كَحَمْلِ الْمَرْأَةِ وَوَضَعَتْهُ كَمَا تَضَعُ الْمَرْأَةُ، ثُمَّ كَانَ يَطْعَمُ الطَّعَامَ وَيَشْرَبُ الشَّرَابَ، وَيُحْدِثُ الْحَدَثَ قَالُوا: بَلَى فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَكَيْفَ يَكُونُ كَمَا زَعَمْتُمْ؟ فَعَرَفُوا ثُمَّ أَبَوْا إِلَّا جُحُودًا، ثُمَّ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَلَسْتَ تَزَعُمُ أَنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحٌ مِنْهُ؟ قَالَ: بَلَى» ، قَالُوا: فَحَسْبُنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ [آل عمران: 7] الْآيَةَ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُلَاعَنَتِهِمْ إِذْ رَدُّوا عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْمُلَاعَنَةِ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ دَعْنَا نَنْظُرْ فِي أَمْرِنَا، ثُمَّ نَأْتِيكَ بِمَا تُرِيدُ أَنْ نَفْعَلَ، فَانْصَرَفُوا ثُمَّ قَالَ بَعْضُ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةِ لِبَعْضٍ: مَا تَرَى؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا مَعْشَرَ النَّصَارَى لَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْفَصْلِ مِنْ خَبَرِ صَاحِبِكُمْ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا لَاعَنَ قَوْمٌ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا وَفَّى كَبِيرَهُمْ وَصَغِيرَهُمْ، وَإِنَّهُ الِاسْتِئْصَالُ مِنْكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ، وَأَنْتُمْ قَدْ أَبَيْتُمْ إِلَّا دِينَكُمْ وَالْإِقَامَةَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، فَوَادِعُوا الرَّجُلَ وَانْصَرِفُوا إِلَى بِلَادِكُمْ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ قَدْ رَأَيْنَا أَنْ لَا نُلَاعِنَكَ وَأَنْ نَتْرُكَكَ عَلَى دِينِكَ، وَنَرْجِعَ نَحْنُ عَلَى دِينِنَا، فَابْعَثْ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ مَعَنَا يَحْكُمُ بَيْنَنَا فِي أَشْيَاءَ قَدِ اخْتَلَفْنَا فِيهَا مِنْ أَمْوَالِنَا، فَإِنَّكُمْ عِنْدَنَا رِضًا، فقال عليه السلام: آتوني الْعَشِيَّةَ أَبْعَثْ مَعَكُمُ الْحَكَمَ الْقَوِيَّ الْأَمِينَ وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: مَا أَحْبَبْتُ الْإِمَارَةَ قَطُّ إِلَّا يَوْمَئِذٍ رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ صَاحِبَهَا، فَلَمَّا صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ سَلَّمَ ثُمَّ نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، وَجَعَلْتُ أَتَطَاوَلُ لَهُ لِيَرَانِي، فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُ بَصَرَهُ حَتَّى

رَأَى أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، فَدَعَاهُ فَقَالَ: اخْرُجْ مَعَهُمْ وَاقْضِ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، قَالَ عُمَرُ: فَذَهَبَ بِهَا أَبُو عُبَيْدَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُنَاظَرَةَ فِي تَقْرِيرِ الدِّينِ وَإِزَالَةِ الشُّبَهَاتِ حِرْفَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّ مَذْهَبَ الْحَشْوِيَّةِ فِي إِنْكَارِ الْبَحْثِ وَالنَّظَرِ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَطْلَعَ هَذِهِ السُّورَةِ لَهُ نَظْمٌ لَطِيفٌ عَجِيبٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أُولَئِكَ النَّصَارَى/ الَّذِينَ نَازَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: إِمَّا أَنْ تُنَازِعُوهُ فِي مَعْرِفَةِ الْإِلَهِ، أَوْ فِي النُّبُوَّةِ، فَإِنْ كَانَ النِّزَاعُ فِي مَعْرِفَةِ الْإِلَهِ وَهُوَ أَنَّكُمْ تُثْبِتُونَ لَهُ وَلَدًا وَأَنَّ مُحَمَّدًا لَا يُثْبِتُ لَهُ وَلَدًا فَالْحَقُّ مَعَهُ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ أَنَّهُ حَيٌّ قَيُّومٌ، وَالْحَيُّ الْقَيُّومُ يَسْتَحِيلُ عَقْلًا أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ وَإِنْ كَانَ النِّزَاعُ فِي النُّبُوَّةِ، فَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ بِالطَّرِيقِ الَّذِي عَرَفْتُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ عَلَى مُوسَى وَعِيسَى فَهُوَ بِعَيْنِهِ قَائِمٌ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِالْمُعْجِزَةِ وَهُوَ حَاصِلٌ هَاهُنَا، فَكَيْفَ يُمْكِنُ مُنَازَعَتُهُ فِي صِحَّةِ النُّبُوَّةِ، فَهَذَا هُوَ وَجْهُ النَّظْمِ وَهُوَ مَضْبُوطٌ حَسَنٌ جِدًّا فَلْنَنْظُرْ هَاهُنَا إِلَى بَحْثَيْنِ. الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِلَهِيَّاتِ فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى حَيٌّ قَيُّومٌ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيًّا قَيُّومًا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ حَيٌّ قَيُّومٌ، لِأَنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَإِنَّهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ مُحْدَثٌ حَصَلَ تَكْوِينُهُ وَتَخْلِيقُهُ وَإِيجَادُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا كُلَّ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَإِذَا كَانَ الْكُلُّ مُحْدَثًا مَخْلُوقًا امْتَنَعَ كَوْنُ شَيْءٍ مِنْهَا وَلَدًا لَهُ وَإِلَهًا، كَمَا قَالَ: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مَرْيَمَ: 93] وَأَيْضًا لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْإِلَهَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَيًّا قَيُّومًا، وَثَبَتَ أَنَّ عِيسَى مَا كَانَ حَيًّا قَيُّومًا لِأَنَّهُ وُلِدَ، وَكَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيُحْدِثُ، وَالنَّصَارَى زَعَمُوا أَنَّهُ قُتِلَ وَمَا قَدَرَ عَلَى دَفْعِ الْقَتْلِ عَنْ نَفْسِهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ مَا كَانَ حَيًّا قَيُّومًا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْقَطْعَ وَالْجَزْمَ بِأَنَّهُ مَا كَانَ إِلَهًا، فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ وُجُوهِ الدَّلَائِلِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ النَّصَارَى فِي التَّثْلِيثِ. وَأَمَّا الْبَحْثُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنُّبُوَّةِ، فَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَاهُنَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَنِهَايَةِ الْجَوْدَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [آلِ عِمْرَانَ: 3] وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى الدَّعْوَى، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَى، فَقَالَ: وَافَقْتُمُونَا أَيُّهَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ، فَإِنَّمَا عَرَفْتُمْ أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ كِتَابَانِ إِلَهِيَّانِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَرَنَ بِإِنْزَالِهِمَا الْمُعْجِزَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ قَوْلِ الْمُحِقِّ وَقَوْلِ الْمُبْطِلِ وَالْمُعْجِزُ لَمَّا حَصَلَ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الدَّعْوَى الصَّادِقَةِ وَالدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ كَانَ فَرْقًا لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ إِنَّ الْفُرْقَانَ الَّذِي هُوَ الْمُعْجِزُ كَمَا حَصَلَ فِي كَوْنِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ نَازِلَيْنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَكَذَلِكَ حَصَلَ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ نَازِلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِذَا كَانَ الطَّرِيقُ مُشْتَرَكًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ تَكْذِيبَ الْكُلِّ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ الْبَرَاهِمَةِ، أَوْ تَصْدِيقَ الْكُلِّ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا قَبُولُ الْبَعْضِ وَرَدُّ الْبَعْضِ فَذَلِكَ جَهْلٌ وَتَقْلِيدٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا هُوَ الْعُمْدَةُ فِي مَعْرِفَةِ الْإِلَهِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَا هُوَ الْعُمْدَةُ فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ عُذْرٌ لِمَنْ يُنَازِعُهُ فِي دِينِهِ فَلَا جَرَمَ أَرْدَفَهُ بِالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ [آلِ عِمْرَانَ: 4] فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ/ أَنْ يَكُونَ كَلَامٌ أَقْرَبَ إِلَى الضَّبْطِ، وَإِلَى حُسْنِ التَّرْتِيبِ وَجَوْدَةِ التَّأْلِيفِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا هَدَى هَذَا

[سورة آل عمران (3) : آية 3]

الْمِسْكِينَ إِلَيْهِ، وَلَهُ الشُّكْرُ عَلَى نِعَمِهِ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا وَلَا حَصْرَ. وَلَمَّا لَخَّصْنَا مَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْكُلِّيُّ مِنَ الْكَلَامِ فَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَلْفَاظِ. أَمَّا قَوْلُهُ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهُوَ رَدٌّ عَلَى النَّصَارَى لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِعِبَادَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سِوَاهُ. ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ فَقَالَ: الْحَيُّ الْقَيُّومُ فَأَمَّا الْحَيُّ فَهُوَ الْفَعَّالُ الدَّرَّاكُ وَأَمَّا الْقَيُّومُ فَهُوَ الْقَائِمُ بِذَاتِهِ، وَالْقَائِمُ بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ وَالْمَصَالِحِ لِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي مَعَاشِهِمْ، مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَالرِّيَاحِ وَالْأَمْطَارِ، وَالنِّعَمِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا سِوَاهُ، وَلَا يُحْصِيهَا غَيْرُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: 34] وَقَرَأَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ! قَالَ قَتَادَةُ، الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَالْقَيُّومُ الْقَائِمُ عَلَى خَلْقِهِ بِأَعْمَالِهِمْ، وَآجَالِهِمْ، وَأَرْزَاقِهِمْ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: الْحَيُّ قَبْلَ كُلِّ حَيٍّ، وَالْقَيُّومُ الَّذِي لَا نِدَّ لَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ قَوْلَنَا: الْحَيُّ الْقَيُّومُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمَعْبُودَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَيًّا قَيُّومًا وَدَلَّتِ البديهة والحسن عَلَى أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ حَيًّا قَيُّومًا، وَكَيْفَ وَهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّهُ قُتِلَ وَأَظْهَرَ الْجَزَعَ مِنَ الْمَوْتِ عَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّ عِيسَى مَا كَانَ إِلَهًا، وَلَا وَلَدًا لِلْإِلَهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. [سورة آل عمران (3) : آية 3] نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) [في قَوْلُهُ تَعَالَى نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ] فَاعْلَمْ أَنَّ الْكِتَابَ هَاهُنَا هُوَ الْقُرْآنُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ اشْتِقَاقَهُ، وَإِنَّمَا خُصَّ الْقُرْآنُ بِالتَّنْزِيلِ، وَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ بِالْإِنْزَالِ، لِأَنَّ التَّنْزِيلَ لِلتَّكْثِيرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى نَزَّلَ الْقُرْآنَ نَجْمًا نَجْمًا، فَكَانَ مَعْنَى التَّكْثِيرِ حَاصِلًا فِيهِ، وَأَمَّا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَهُمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَلِهَذَا خَصَّهُمَا بِالْإِنْزَالِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا يُشْكِلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الْكَهْفِ: 1] وَبِقَوْلِهِ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [الْإِسْرَاءِ: 105] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ بِوَصْفَيْنِ: الْوَصْفُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ بِالْحَقِّ قال أبو مسلم: إنه يحتمل وجوهاًأحدها: أَنَّهُ صَدَقَ فِيمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ يَحْمِلُ الْمُكَلَّفَ عَلَى مُلَازَمَةِ الطَّرِيقِ الْحَقِّ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ، وَيَمْنَعُهُ عَنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ الْبَاطِلِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ/ حَقٌّ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَوْلٌ فَصْلٌ، وَلَيْسَ بِالْهَزْلِ وَرَابِعُهَا: قَالَ الْأَصَمُّ: الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَهُ بِالْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ لَهُ عَلَى خَلْقِهِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، وَشُكْرِ النِّعْمَةِ، وَإِظْهَارِ الْخُضُوعِ، وَمَا يَجِبُ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَخَامِسُهَا: أَنْزَلَهُ بِالْحَقِّ لَا بِالْمَعَانِي الْفَاسِدَةِ الْمُتَنَاقِضَةِ، كَمَا قَالَ: أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً وَقَالَ: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاءِ: 82] . وَالْوَصْفُ الثَّانِي: لِهَذَا الْكِتَابِ قَوْلُهُ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلِمَا أُخْبِرُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وجلّ، ثم في الآية ووجهان الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى دَلَّ بِذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لِسَائِرِ الْكُتُبِ، لِأَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا لَمْ يَخْتَلِطْ بِأَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، ولا

تَتَلْمَذَ لِأَحَدٍ، وَلَا قَرَأَ عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا، وَالْمُفْتَرِي إِذَا كَانَ هَكَذَا امْتَنَعَ أَنْ يَسْلَمَ عَنِ الْكَذِبِ وَالتَّحْرِيفِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ إِنَّمَا عَرَفَ هَذِهِ الْقَصَصَ بِوَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى الثَّانِي: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا بِالدُّعَاءِ إِلَى تَوْحِيدِهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَالْأَمْرِ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَبِالشَّرَائِعِ الَّتِي هِيَ صَلَاحُ كُلِّ زَمَانٍ، فَالْقُرْآنُ مُصَدِّقٌ لِتِلْكَ الْكُتُبِ فِي كُلِّ ذَلِكَ، بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ سَمَّى مَا مَضَى بِأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ تِلْكَ الْأَخْبَارَ لِغَايَةِ ظُهُورِهَا سَمَّاهَا بِهَذَا الِاسْمِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ يَكُونُ مُصَدِّقًا لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْكُتُبِ، مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَاسِخٌ لِأَكْثَرِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ؟. وَالْجَوَابُ: إِذَا كَانَتِ الْكُتُبُ مُبَشِّرَةً بِالْقُرْآنِ وَبِالرَّسُولِ، وَدَالَّةً عَلَى أَنَّ أَحْكَامَهَا تَثْبُتُ إِلَى حِينِ بَعْثِهِ، وَأَنَّهَا تَصِيرُ مَنْسُوخَةً عِنْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، كَانَتْ مُوَافِقَةً لِلْقُرْآنِ، فَكَانَ الْقُرْآنُ مُصَدِّقًا لَهَا، وَأَمَّا فِيمَا عَدَا الْأَحْكَامَ فَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ مُصَدِّقٌ لَهَا، لِأَنَّ دَلَائِلَ الْمَبَاحِثِ الْإِلَهِيَّةِ لَا تَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ مُصَدِّقٌ لَهَا فِي الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ، وَالِاشْتِغَالُ بِاشْتِقَاقِهِمَا غَيْرُ مُفِيدٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَنْجِيلَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْعَجَمِيَّةِ، لِأَنَّ أَفْعِيلَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَعْدُومٌ فِي أَوْزَانِ الْعَرَبِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَنَنْقُلُ كَلَامَ الْأُدَبَاءِ فِيهِ. أَمَّا لَفْظُ التَّوْراةَ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ ثَلَاثَةٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي اشْتِقَاقِهِ، قَالَ الْفَرَّاءُ التَّوْرَاةِ مَعْنَاهَا الضِّيَاءُ وَالنُّورُ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ وَرَى الزَّنْدُ يَرِي إِذَا قَدَحَ وَظَهَرَتِ النَّارُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَالْمُورِياتِ قَدْحاً [الْعَادِيَاتِ: 2] وَيَقُولُونَ: وَرَيْتُ بِكَ زِنَادِي، وَمَعْنَاهُ: ظَهَرَ بِكَ الْخَيْرُ لِي، فَالتَّوْرَاةُ سُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ لِظُهُورِ الْحَقِّ بِهَا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً [الْأَنْبِيَاءِ: 48] . الْبَحْثُ الثَّانِي: لَهُمْ فِي وَزْنِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: أَصْلُ التَّوْرَاةِ تَوْرَيَةٌ تَفْعَلَةٌ بِفَتْحِ التَّاءِ، وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ وَالْيَاءِ، إِلَّا أَنَّهُ صَارَتِ الْيَاءُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا. الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَفْعِلَةً عَلَى وَزْنِ تَوْفِيَةٍ وَتَوْصِيَةٍ، فَيَكُونُ أَصْلُهَا تَوْرِيَةً، إِلَّا أَنَّ الرَّاءَ نُقِلَتْ مِنَ الْكَسْرِ إِلَى الْفَتْحِ عَلَى لُغَةِ طَيِّئٍ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي جَارِيَةٍ: جَارَاةٌ، وَفِي نَاصِيَةٍ: ناصاة، قال الشاعر: فما الدنيا بباقية لِحَيٍّ ... وَمَا حَيٌّ عَلَى الدُّنْيَا بِبَاقِ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ وَالْبَصْرِيِّينَ: إِنَّ أَصْلَهَا: وَوْرِيَةٌ، فَوْعِلَةٌ، ثُمَّ قُلِبَتِ الْوَاوُ الْأُولَى تَاءً، وَهَذَا الْقَلْبُ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ، نَحْوَ: تُجَاهٍ، وَتُرَاثٍ، وَتُخَمَةٍ، وَتُكْلَانٍ، ثُمَّ قُلِبَتِ الْيَاءُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا

[سورة آل عمران (3) : آية 4]

قَبْلَهَا، فَصَارَتْ تَوْرَاةً وَكُتِبَتْ بِالْيَاءِ عَلَى أَصْلِ الْكَلِمَةِ، ثُمَّ طَعَنُوا فِي قَوْلِ الْفَرَّاءِ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَالُوا: هَذَا الْبِنَاءُ نَادِرٌ، وَأَمَّا فَوْعَلَةٌ فَكَثِيرٌ، نَحْوَ: صَوْمَعَةٍ، وَحَوْصَلَةٍ، وَدَوْسَرَةٍ وَالْحَمْلُ عَلَى الْأَكْثَرِ أَوْلَى، وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِحَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى لُغَةِ طَيِّئٍ، وَالْقُرْآنُ مَا نَزَلَ بِهَا الْبَتَّةَ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي التَّوْرَاةِ قِرَاءَتَانِ: الْإِمَالَةُ وَالتَّفْخِيمُ، فَمَنْ فَخَّمَ فَلِأَنَّ الرَّاءَ حَرْفٌ يَمْنَعُ الْإِمَالَةَ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكْرِيرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْإِنْجِيلُ فَفِيهِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ إِفْعِيلٌ مِنَ النَّجْلِ، وَهُوَ الْأَصْلُ، يُقَالُ: لَعَنَ اللَّهُ نَاجِلَيْهِ، أَيْ والديه، فسمي ذلك الكتاب بهذا الاسم، لأن الْأَصْلُ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الدِّينِ وَالثَّانِي: قَالَ قَوْمٌ: الْإِنْجِيلُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: نَجَلْتُ الشَّيْءَ إِذَا اسْتَخْرَجْتَهُ وَأَظْهَرْتَهُ وَيُقَالُ لِلْمَاءِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْبِئْرِ: نَجْلٌ، وَيُقَالُ: قَدِ اسْتَنْجَلَ الْوَادِي، إِذَا خَرَجَ الْمَاءُ مِنَ النَّزِّ فَسُمِّيَ الْإِنْجِيلُ إِنْجِيلًا لِأَنَّهُ تَعَالَى أَظْهَرَ الْحَقَّ بِوَاسِطَتِهِ وَالثَّالِثُ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ: التَّنَاجُلُ التَّنَازُعُ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْكِتَابُ بِالْإِنْجِيلِ لِأَنَّ الْقَوْمَ تَنَازَعُوا فِيهِ وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ مِنَ النَّجْلِ الَّذِي هُوَ سَعَةُ الْعَيْنِ، وَمِنْهُ طَعْنَةٌ نَجْلَاءُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ سَعَةٌ وَنُورٌ وَضِيَاءٌ أَخْرَجَهُ لَهُمْ. وَأَقُولُ: أَمْرُ هَؤُلَاءِ الْأُدَبَاءِ عَجِيبٌ كَأَنَّهُمْ أَوْجَبُوا فِي كُلِّ لَفْظٍ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ شَيْءٍ آخَرَ، / وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ إِمَّا التَّسَلْسُلُ وَإِمَّا الدَّوْرُ، وَلَمَّا كَانَا بَاطِلَيْنِ وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَلْفَاظٍ مَوْضُوعَةٍ وضعاًأولا: حَتَّى يَجْعَلَ سَائِرَ الْأَلْفَاظِ مُشْتَقَّةً مِنْهَا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ فِي هَذَا اللَّفْظِ الَّذِي جَعَلُوهُ مُشْتَقًّا مِنْ ذَلِكَ الْآخَرِ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ هُوَ هَذَا، وَالْفَرْعُ هُوَ ذَاكَ الْآخَرَ وَمَنِ الَّذِي أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ هَذَا فَرْعٌ وَذَاكَ أَصْلٌ، وَرُبَّمَا كَانَ هَذَا الَّذِي يَجْعَلُونَهُ فَرْعًا وَمُشْتَقًّا فِي غَايَةِ الشُّهْرَةِ، وَذَاكَ الَّذِي يَجْعَلُونَهُ أَصْلًا فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ، وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَتِ التَّوْرَاةُ إِنَّمَا سُمِّيَتْ تَوْرَاةٌ لِظُهُورِهَا، وَالْإِنْجِيلُ إِنَّمَا سُمِّيَ إِنْجِيلًا لِكَوْنِهِ أَصْلًا وَجَبَ فِي كُلِّ مَا ظَهَرَ أَنْ يُسَمَّى بِالتَّوْرَاةِ فَوَجَبَ تَسْمِيَةُ كُلِّ الْحَوَادِثِ بِالتَّوْرَاةِ، وَوَجَبَ فِي كُلِّ مَا كَانَ أَصْلًا لِشَيْءٍ آخَرَ أَنْ يُسَمَّى بِالْإِنْجِيلِ، وَالطِّينُ أَصْلُ الْكُوزِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطِّينُ إِنْجِيلًا وَالذَّهَبُ أَصْلُ الْخَاتَمِ وَالْغَزْلُ أَصْلُ الثَّوْبِ فَوَجَبَ تَسْمِيَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالْإِنْجِيلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ عِنْدَ إِيرَادِ هَذِهِ الْإِلْزَامَاتِ عَلَيْهِمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَمَسَّكُوا بِالْوَضْعِ، وَيَقُولُوا: الْعَرَبُ خَصَّصُوا هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ بِهَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْوَضْعِ، وَإِذَا كَانَ لَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى وَضْعِ اللُّغَةِ، فَلِمَ لَا نَتَمَسَّكُ بِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَنُرِيحُ أَنْفُسَنَا مِنَ الْخَوْضِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَأَيْضًا فَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ أَحَدُهُمَا بِالْعِبْرِيَّةِ وَالْآخَرُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِتَطْبِيقِهَا عَلَى أَوْزَانِ لُغَةِ الْعَرَبِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْأَوْلَى بِالْعَاقِلِ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى هَذِهِ الْمَبَاحِثِ وَاللَّهُ أعلم. [سورة آل عمران (3) : آية 4] مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ. فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ قَبْلَ أَنْ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْزَلَهُمَا هُدًى لِلنَّاسِ، قَالَ الْكَعْبِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْقُرْآنَ عَمًى عَلَى الْكَافِرِينَ وَلَيْسَ بِهُدًى لَهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فُصِّلَتْ: 44] أَنَّ عِنْدَ نُزُولِهِ اخْتَارُوا الْعَمَى عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، كَقَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نُوحٍ: 6] لَمَّا فَرُّوا عِنْدَهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ هُدىً لِلنَّاسِ فِيهِ احْتِمَالَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَائِدًا إِلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَقَطْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ قَدْ وَصَفَ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ حَقٌّ، وَوَصَفَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ بِأَنَّهُمَا هَدًى وَالْوَصْفَانِ مُتَقَارِبَانِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ وَصَفَ الْقُرْآنَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِأَنَّهُ هَدًى لِلْمُتَّقِينَ، فَلِمَ لَمْ يَصِفْهُ هَاهُنَا بِهِ؟. قُلْنَا: فِيهِ لَطِيفَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّا ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: 2] لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ، فَصَارَ مِنَ الْوَجْهِ هُدًى لَهُمْ لَا لِغَيْرِهِمْ، أَمَّا هَاهُنَا فَالْمُنَاظَرَةُ كَانَتْ مَعَ النَّصَارَى، وَهُمْ/ لَا يَهْتَدُونَ بِالْقُرْآنِ فَلَا جَرَمَ لَمْ يَقُلْ هَاهُنَا فِي الْقُرْآنِ إِنَّهُ هَدًى بَلْ قَالَ: إِنَّهُ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ سَوَاءٌ قَبِلُوهُ أَوْ لَمْ يَقْبَلُوهُ، وَأَمَّا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فَهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِي صِحَّتِهِمَا وَيَدَّعُونَ بِأَنَّا إِنَّمَا نَتَقَوَّلُ فِي دِينِنَا عَلَيْهِمَا فَلَا جَرَمَ وَصَفَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَجْلِ هَذَا التَّأْوِيلِ بِأَنَّهُمَا هَدًى، فَهَذَا مَا خَطَرَ بِالْبَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْكُتُبَ الثَّلَاثَةَ بِأَنَّهَا هُدًى، فَهَذَا الْوَصْفُ عَائِدٌ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ وَغَيْرُ مَخْصُوصٍ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ. وَلِجُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الزَّبُورُ، كَمَا قَالَ: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [النِّسَاءِ: 163] وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْقُرْآنُ، وَإِنَّمَا أَعَادَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ وَمَدْحًا بِكَوْنِهِ فَارِقًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُ تَعَالَى أَعَادَ ذِكْرَهُ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ بَعْدَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ لِيَجْعَلَهُ فَرْقًا بَيْنَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا تَكْرَارَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا جَعَلَ الْكُتُبَ الثَّلَاثَةَ هُدًى وَدَلَالَةً، فَقَدْ جَعَلَهَا فَارِقَةً بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَسَائِرِ الشَّرَائِعِ، فَصَارَ هَذَا الْكَلَامُ دَالًّا عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ بِهَذِهِ الْكُتُبِ مَا يَلْزَمُ عَقْلًا وَسَمْعًا، هَذَا جُمْلَةُ مَا قَالَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ عِنْدِي مُشْكِلَةٌ أَمَّا حَمْلُهُ عَلَى الزَّبُورِ فَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الزَّبُورَ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ، بَلْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْمَوَاعِظُ، وَوَصْفُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مَعَ اشْتِمَالِهِمَا عَلَى الدَّلَائِلِ، وَبَيَانِ الْأَحْكَامِ بِالْفُرْقَانِ أَوْلَى مِنْ وَصْفِ الزَّبُورِ بِذَلِكَ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ حَمْلُهُ عَلَى الْقُرْآنِ فَبَعِيدٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ قَوْلَهُ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالْقُرْآنُ مَذْكُورٌ قَبْلَ هَذَا فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفُرْقَانُ مُغَايِرًا لِلْقُرْآنِ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ يَظْهَرُ ضَعْفُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ، لِأَنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْكُتُبِ فَارِقَةً بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ صِفَةٌ لِهَذِهِ الْكُتُبِ وَعَطْفُ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَشْعَارِ النَّادِرَةِ إِلَّا أَنَّهُ ضَعِيفٌ بَعِيدٌ عَنْ وَجْهِ الْفَصَاحَةِ اللَّائِقَةِ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَجْهٌ رَابِعٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْفُرْقَانِ الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي قَرَنَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِإِنْزَالِ هَذِهِ الْكُتُبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَتَوْا بِهَذِهِ الْكُتُبِ وَادَّعَوْا أَنَّهَا كُتُبٌ نَازِلَةٌ عَلَيْهِمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى افْتَقَرُوا فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ الدَّعْوَى إِلَى دَلِيلٍ حَتَّى يَحْصُلَ الْفَرْقُ بَيْنَ دَعْوَاهُمْ وَبَيْنَ دَعْوَى الْكَذَّابِينَ، فَلَمَّا أَظْهَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُمْ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ حَصَلَتِ الْمُفَارَقَةُ بَيْنَ/ دَعْوَى الصَّادِقِ وَبَيْنَ دَعْوَى الْكَاذِبِ، فَالْمُعْجِزَةُ هِيَ الْفُرْقَانُ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ، وَأَنَّهُ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ مَعَهَا مَا هُوَ الْفُرْقَانُ الْحَقُّ، وَهُوَ الْمُعْجِزُ الْقَاهِرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا، وَيُفِيدُ الْفَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْكُتُبِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَهَذَا هُوَ مَا عِنْدِي فِي تَفْسِيرِ هذه

[سورة آل عمران (3) : الآيات 5 إلى 6]

الْآيَةِ، وَهَبْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَا ذَكَرَهُ إِلَّا أَنَّ حَمْلَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ يُفِيدُ قُوَّةَ الْمَعْنَى، وَجَزَالَةَ اللَّفْظِ، وَاسْتِقَامَةَ التَّرْتِيبِ وَالنَّظْمِ، وَالْوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرُوهَا تُنَافِي كُلَّ ذَلِكَ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْقَلِيلَةِ جَمِيعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَةِ الْإِلَهِ، وَجَمِيعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَقْرِيرِ النُّبُوَّةِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ زَجْرًا لِلْمُعْرِضِينَ عَنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الْبَاهِرَةِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ خَصَّصَ ذَلِكَ بِالنَّصَارَى، فَقَصَرَ اللَّفْظَ الْعَامَّ عَلَى سَبَبِ نُزُولِهِ، وَالْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: خُصُوصُ السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ عُمُومَ اللَّفْظِ، فَهُوَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ دَلَائِلَ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ. وَالْعَزِيزُ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يُغْلَبُ وَالِانْتِقَامُ الْعُقُوبَةُ، يُقَالُ انْتَقَمَ مِنْهُ انْتِقَامًا أَيْ عَاقَبَهُ، وَقَالَ اللَّيْثُ يُقَالُ: لَمْ أَرْضَ عَنْهُ حَتَّى نَقَمْتُ مِنْهُ وَانْتَقَمْتُ إِذَا كافأه عقوب بِمَا صَنَعَ، وَالْعَزِيزُ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ عَلَى الْعِقَابِ، وَذُو الِانْتِقَامِ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ فَاعِلًا لِلْعِقَابِ، فَالْأَوَّلُ: صِفَةُ الذَّاتِ، وَالثَّانِي: صِفَةُ الفعل، والله أعلم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 5 الى 6] إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ قَيُّومٌ، وَالْقَيُّومُ هُوَ الْقَائِمُ بِإِصْلَاحِ مَصَالِحِ الْخَلْقِ وَمُهِمَّاتِهِمْ، وَكَوْنُهُ كَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِمَجْمُوعِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِحَاجَاتِهِمْ عَلَى جَمِيعِ وُجُوهِ الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ مَتَى عَلِمَ جِهَاتِ حَاجَاتِهِمْ قَدَرَ عَلَى دَفْعِهَا، / وَالْأَوَّلُ: لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَالثَّانِي: لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، فَقَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ عِلْمِهِ الْمُتَعَلِّقِ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ عَالِمًا لَا مَحَالَةَ مَقَادِيرَ الْحَاجَاتِ وَمَرَاتِبَ الضَّرُورَاتِ، لَا يَشْغَلُهُ سُؤَالٌ عَنْ سُؤَالٍ، وَلَا يَشْتَبِهُ الْأَمْرُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ أَسْئِلَةِ السَّائِلِينَ ثُمَّ قَوْلُهُ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِ مَصَالِحِ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَمَنَافِعِهِمْ، وَعِنْدَ حُصُولِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ يَظْهَرُ كَوْنُهُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ قَيُّومًا بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ وَالْكَائِنَاتِ، ثُمَّ فِيهِ لَطِيفَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ قَوْلَهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ، وَالطَّرِيقُ إِلَى إِثْبَاتِ كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّمْعَ، لِأَنَّ مَعْرِفَةَ صِحَّةِ السَّمْعِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، بَلِ الطَّرِيقُ إِلَيْهِ لَيْسَ إِلَّا الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ، وَذَلِكَ هُوَ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى مُحْكَمَةٌ مُتْقَنَةٌ، وَالْفِعْلُ الْمُحْكَمُ الْمُتْقَنُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ فَاعِلِهِ عَالِمًا، فَلَمَّا كَانَ دَلِيلُ كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا هُوَ مَا ذَكَرْنَا، فَحِينَ ادَّعَى كَوْنَهُ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أَتْبَعَهُ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الدَّالِّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي صَوَّرَ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ هَذِهِ الْبِنْيَةَ الْعَجِيبَةَ، وَالتَّرْكِيبَ الْغَرِيبَ، وَرَكَّبَهُ مِنْ أَعْضَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الشَّكْلِ وَالطَّبْعِ وَالصِّفَةِ، فَبَعْضُهَا عِظَامٌ، وبعضها غضاريف، وبعضها شرايين، وبعضها أردة، وَبَعْضُهَا عَضَلَاتٌ، ثُمَّ

إِنَّهُ ضَمَّ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ عَلَى التَّرْكِيبِ الْأَحْسَنِ، وَالتَّأْلِيفِ الْأَكْمَلِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ حَيْثُ قَدَرَ أَنْ يَخْلُقَ مِنْ قَطْرَةٍ مِنَ النُّطْفَةِ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ فِي الطَّبَائِعِ وَالشَّكْلِ وَاللَّوْنِ، وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْفِعْلَ الْمُحْكَمَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنِ الْعَالِمِ، فَكَانَ قَوْلُهُ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ دَالًّا عَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، وَدَالًّا عَلَى صِحَّةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَقَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، ثَبَتَ أَنَّهُ قَيُّومُ الْمُحْدَثَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا كَالتَّقْرِيرِ لِمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى أَوَّلًا مِنْ أَنَّهُ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَمَنْ تَأْمَّلَ فِي هَذِهِ اللَّطَائِفِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ كَلَامٌ أَكْثَرُ فَائِدَةً، وَلَا أَحْسَنُ تَرْتِيبًا، وَلَا أَكْثَرُ تَأْثِيرًا فِي الْقُلُوبِ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ. وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ تُنَزَّلَ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى سَبَبِ نُزُولِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّصَارَى ادَّعَوْا إِلَهِيَّةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَوَّلُوا فِي ذَلِكَ عَلَى نَوْعَيْنِ مِنَ الشُّبَهِ، أَحَدُ النَّوْعَيْنِ شُبَهٌ مُسْتَخْرَجَةٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ مُشَاهَدَةٍ، وَالنَّوْعُ الثَّانِي: شُبَهٌ مُسْتَخْرَجَةٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ إِلْزَامِيَّةٍ. أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنَ الشُّبَهِ: فَاعْتِمَادُهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: يَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ وَالثَّانِي: يَتَعَلَّقُ بِالْقُدْرَةِ. أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ فَهُوَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُخْبِرُ عَنِ الْغُيُوبِ، وَكَانَ يَقُولُ لِهَذَا: أَنْتَ أَكَلْتَ فِي دَارِكَ كَذَا، وَيَقُولُ لِذَاكَ: إِنَّكَ صَنَعْتَ فِي دَارِكَ كَذَا، فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ شُبَهِ النَّصَارَى يَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ. وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي مِنْ شُبَهِهِمْ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْقُدْرَةِ، وَهُوَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَيَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ شُبَهِ النَّصَارَى يَتَعَلَّقُ بِالْقُدْرَةِ، وَلَيْسَ لِلنَّصَارَى شُبَهٌ فِي الْمَسْأَلَةِ سِوَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا اسْتَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ فِي إِلَهِيَّةِ عِيسَى وَفِي التَّثْلِيثِ بِقَوْلِهِ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران: 2] يَعْنِي الْإِلَهَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَيًّا قَيُّومًا، وَعِيسَى مَا كَانَ حَيًّا قَيُّومًا، لَزِمَ الْقَطْعُ أَنَّهُ مَا كَانَ إِلَهًا، فَأَتْبَعَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِيُقَرِّرَ فِيهَا مَا يَكُونُ جَوَابًا عَنْ هَاتَيْنِ الشُّبْهَتَيْنِ: أَمَّا الشُّبْهَةُ الْأُولَى: وَهِيَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعِلْمِ، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ الْغُيُوبِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا، فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ عَالِمًا بِبَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ إِنَّمَا عَلِمَ ذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ، وَتَعْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ ذَلِكَ، لَكِنَّ عَدَمَ إِحَاطَتِهِ بِبَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ يَدُلُّ دَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِإِلَهٍ لِأَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ خَالِقًا، وَالْخَالِقُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَخْلُوقِهِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَالْمُغَيَّبَاتِ، فَكَيْفَ وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ: إِنَّهُ أَظْهَرَ الْجَزَعَ مِنَ الْمَوْتِ فَلَوْ كَانَ عَالِمًا بِالْغَيْبِ كُلِّهِ، لِعَلِمَ أَنَّ الْقَوْمَ يُرِيدُونَ أَخْذَهُ وَقَتْلَهُ، وَأَنَّهُ يَتَأَذَّى بِذَلِكَ وَيَتَأَلَّمُ، فَكَانَ يَفِرُّ مِنْهُمْ قَبْلَ وُصُولِهِمْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا لَمْ يَعْلَمْ هَذَا الْغَيْبَ ظَهَرَ أَنَّهُ مَا كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَالْمُغَيَّبَاتِ وَالْإِلَهُ هُوَ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ إِلَهًا فَثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِمَعْرِفَةِ بَعْضِ الْغَيْبِ لَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَمَّا الْجَهْلُ بِبَعْضِ الْغَيْبِ يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى عَدَمِ الْإِلَهِيَّةِ، فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنَ الشُّبَهِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعِلْمِ. أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الشُّبَهِ، وَهُوَ الشُّبْهَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقُدْرَةِ فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا بِقَوْلِهِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ

فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ وَالْمَعْنَى أَنَّ حُصُولَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ عَلَى وَفْقِ قَوْلِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ إِلَهًا، لِاحْتِمَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْرَمَهُ بِذَلِكَ الْإِحْيَاءِ إِظْهَارًا لِمُعْجِزَتِهِ وَإِكْرَامًا لَهُ. أَمَّا الْعَجْزُ عَنِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْإِلَهِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُصَوِّرَ فِي الْأَرْحَامِ مِنْ قَطْرَةٍ صَغِيرَةٍ مِنَ النُّطْفَةِ هَذَا التَّرْكِيبَ الْعَجِيبَ، / وَالتَّأْلِيفَ الْغَرِيبَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَكَيْفَ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ لَأَمَاتَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَخَذُوهُ عَلَى زَعْمِ النَّصَارَى وَقَتَلُوهُ، فَثَبَتَ أَنَّ حُصُولَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ عَلَى وَفْقِ قَوْلِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ إِلَهًا، أَمَّا عَدَمُ حُصُولِهِمَا عَلَى وَفْقِ مُرَادِهِ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ إِلَهًا، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ الثَّانِيَةَ أَيْضًا سَاقِطَةٌ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الشُّبَهِ: فَهِيَ الشُّبَهُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ إِلْزَامِيَّةٍ، وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إِلَى نَوْعَيْنِ. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَنْتُمْ تُوَافِقُونَنَا عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ لَهُ أَبٌ مِنَ الْبَشَرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ابْنًا لَهُ فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لِأَنَّ هَذَا التَّصْوِيرَ لَمَّا كَانَ مِنْهُ فَإِنْ شَاءَ صَوَّرَهُ مِنْ نُطْفَةِ الْأَبِ وَإِنْ شَاءَ صَوَّرَهُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ الْأَبِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: أَنَّ النَّصَارَى قَالُوا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَسْتَ تَقُولُ: إِنَّ عِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا إِلْزَامٌ لَفْظِيٌّ، وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، فَإِذَا وَرَدَ اللَّفْظُ بِحَيْثُ يَكُونُ ظَاهِرُهُ مُخَالِفًا لِلدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ كَانَ مِنْ بَابِ الْمُتَشَابِهَاتِ، فَوَجَبَ رَدُّهُ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آلِ عِمْرَانَ: 7] فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسِيحَ لَيْسَ بإله ولا ابن لَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ فَهُوَ جَوَابٌ عَنِ الشُّبْهَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعِلْمِ، وَقَوْلُهُ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَعَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِأَنَّهُ مَا كَانَ لَهُ أَبٌ مِنَ الْبَشَرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ابْنًا لِلَّهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ [آلِ عِمْرَانَ: 7] فَهُوَ جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ عِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، وَمَنْ أَحَاطَ عِلْمًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ وَلَخَّصْنَاهُ عَلِمَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى اخْتِصَارِهِ أَكْثَرُ تَحْصِيلًا مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ حُجَّةٌ وَلَا شُبْهَةٌ وَلَا سُؤَالٌ وَلَا جَوَابٌ إِلَّا وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْهِ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ، وَأَمَّا كَلَامُ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ فَلَمْ نَذْكُرْهُ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ طَالَعَ الْكُتُبَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَجَابَ عَنْ شُبَهِهِمْ أَعَادَ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ زَجْرًا لِلنَّصَارَى عَنْ قَوْلِهِمْ بِالتَّثْلِيثِ، فَقَالَ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَالْعَزِيزُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْحَكِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْعِلْمِ، وَهُوَ تَقْرِيرٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ عِلْمَ الْمَسِيحِ بِبَعْضِ الْغُيُوبِ، وَقُدْرَتَهُ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لَا يَكْفِي فِي كَوْنِهِ إِلَهًا فَإِنَّ الْإِلَهَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ كَامِلَ الْقُدْرَةِ/ وَهُوَ الْعَزِيزُ، وَكَامِلَ الْعِلْمِ وَهُوَ الْحَكِيمُ، وَبَقِيَ فِي الْآيَةِ أَبْحَاثٌ لَطِيفَةٌ، أَمَّا قَوْلُهُ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ كَانَ أَبْلَغَ.

[سورة آل عمران (3) : آية 7]

قُلْنَا: الْغَرَضُ بِذَلِكَ إِفْهَامُ الْعِبَادِ كَمَالَ عِلْمِهِ، وفهمهم هذا المعنى عند ذكر السموات وَالْأَرْضِ أَقْوَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحِسَّ يَرَى عَظَمَةَ السموات وَالْأَرْضِ، فَيُعِينُ الْعَقْلَ عَلَى مَعْرِفَةِ عَظَمَةِ عِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْحِسُّ مَتَى أَعَانَ الْعَقْلَ عَلَى الْمَطْلُوبِ كَانَ الْفَهْمُ أَتَمَّ وَالْإِدْرَاكُ أَكْمَلَ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةَ إِذَا أُرِيدَ إِيضَاحُهَا ذُكِرَ لَهَا مِثَالٌ، فَإِنَّ الْمِثَالَ يُعِينُ عَلَى الْفَهْمِ. أَمَّا قَوْلُهُ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: التَّصْوِيرُ جَعْلُ الشَّيْءِ عَلَى صُورَةٍ، وَالصُّورَةُ هَيْئَةٌ حَاصِلَةٌ لِلشَّيْءِ عِنْدَ إِيقَاعِ التَّأْلِيفِ بَيْنَ أَجْزَائِهِ وَأَصْلُهُ مِنْ صَارَهُ يَصُورُهُ إِذَا أَمَالَهُ، فَهِيَ صُورَةٌ لِأَنَّهَا مَائِلَةٌ إِلَى شَكْلِ أَبَوَيْهِ وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [الْبَقَرَةِ: 260] وَأَمَّا الْأَرْحَامِ فَهِيَ جَمْعُ رَحِمٍ وَأَصْلُهَا مِنَ الرَّحْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الرَّحِمِ يُوجِبُ الرَّحْمَةَ وَالْعَطْفَ، فَلِهَذَا سُمِّيَ ذلك العضو رحماً والله أعلم. [سورة آل عمران (3) : آية 7] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ ذَكَرْنَا فِي اتِّصَالِ قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ بِمَا قَبْلَهُ احْتِمَالَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ كَالتَّقْرِيرِ لِكَوْنِهِ قَيُّومًا وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ شُبَهِ النَّصَارَى، فَأَمَّا عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ قَيُّومٌ وَقَائِمٌ بِمَصَالِحِ/ الْخَلْقِ وَمَصَالِحُ الْخَلْقِ قِسْمَانِ: جُسْمَانِيَّةٌ وَرُوحَانِيَّةٌ، أَمَّا الْجُسْمَانِيَّةُ فَأَشْرَفُهَا تَعْدِيلُ الْبِنْيَةِ، وَتَسْوِيَةُ الْمِزَاجِ عَلَى أَحْسَنِ الصُّوَرِ وَأَكْمَلِ الْأَشْكَالِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ [آلِ عِمْرَانَ: 6] وَأَمَّا الرُّوحَانِيَّةُ فَأَشْرَفُهَا الْعِلْمُ الَّذِي تَصِيرُ الرُّوحُ مَعَهُ كَالْمِرْآةِ الْمَجْلُوَّةِ الَّتِي تَجَلَّتْ صُوَرُ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ فِيهَا وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَأَمَّا عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ شُبَهِ النَّصَارَى تَمَسُّكُهُمْ بِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُحْكَمٍ وَعَلَى مُتَشَابِهٍ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْمُتَشَابِهَاتِ غَيْرُ جَائِزٍ فَهَذَا مَا يتعلق بكيفية النظم، وهو فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالِاسْتِقَامَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ مُحْكَمٌ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ مُتَشَابِهٌ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُ مُحْكَمٌ، وَبَعْضَهُ مُتَشَابِهٌ. أَمَّا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ مُحْكَمٌ، فَهُوَ قَوْلُهُ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ [يُونُسَ: 1] الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هُودٍ: 1] فَذَكَرَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ جَمِيعَهُ مُحْكَمٌ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْمُحْكَمِ بِهَذَا الْمَعْنَى كَوْنُهُ كَلَامًا حَقًّا فَصِيحَ الْأَلْفَاظِ صَحِيحَ الْمَعَانِي وَكُلُّ قَوْلٍ وَكَلَامٍ يُوجَدُ كَانَ الْقُرْآنُ أَفْضَلَ مِنْهُ فِي فَصَاحَةِ اللَّفْظِ وَقُوَّةِ الْمَعْنَى وَلَا يَتْمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ إِتْيَانِ كَلَامٍ يُسَاوِي الْقُرْآنَ فِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي الْبِنَاءِ الْوَثِيقِ وَالْعَقْدِ الْوَثِيقِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ حَلُّهُ: مُحْكَمٌ، فَهَذَا مَعْنَى وَصْفِ جَمِيعِهِ بأنه محكم.

وَأَمَّا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ مُتَشَابِهٌ، فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزُّمَرِ: 23] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْحُسْنِ وَيُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاءِ: 82] أَيْ لَكَانَ بَعْضُهُ وَارِدًا عَلَى نَقِيضِ الْآخَرِ، وَلَتَفَاوَتَ نَسَقُ الْكَلَامِ فِي الْفَصَاحَةِ وَالرَّكَاكَةِ. وَأَمَّا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُ مُحْكَمٌ وَبَعْضَهُ مُتَشَابِهٌ، فَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَلَا بُدَّ لَنَا مِنْ تَفْسِيرِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ، ثُمَّ مِنْ تَفْسِيرِهِمَا فِي عُرْفِ الشَّرِيعَةِ: أَمَّا الْمُحْكَمُ فَالْعَرَبُ تَقُولُ: حَاكَمْتُ وَحَكَّمْتُ وَأَحْكَمْتُ بِمَعْنَى رَدَدْتُ، وَمَنَعْتُ، وَالْحَاكِمُ يَمْنَعُ الظَّالِمَ عَنِ الظُّلْمِ وَحَكَمَةُ اللِّجَامِ الَّتِي هِيَ تَمْنَعُ الْفَرَسَ عَنِ الِاضْطِرَابِ، وَفِي حَدِيثِ النَّخَعِيِّ: أَحْكِمِ الْيَتِيمَ كَمَا تُحَكِّمُ وَلَدَكَ أَيِ امْنَعْهُ عَنِ الْفَسَادِ، وَقَالَ جَرِيرٌ: أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ، أَيِ امْنَعُوهُمْ، وَبِنَاءٌ مُحْكَمٌ أَيْ وَثِيقٌ يَمْنَعُ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ، وَسُمِّيَتِ الْحِكْمَةُ حِكْمَةً لِأَنَّهَا تَمْنَعُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي، وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ مُشَابِهًا لِلْآخَرِ بِحَيْثُ يَعْجِزُ الذِّهْنُ عَنِ التَّمْيِيزِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا [الْبَقَرَةِ: 70] وَقَالَ فِي وَصْفِ ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً [الْبَقَرَةِ: 25] أَيْ مُتَّفِقَ الْمَنْظَرِ مُخْتَلِفَ الطُّعُومِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [الْبَقَرَةِ: 118] وَمِنْهُ يُقَالُ: اشْتَبَهَ عَلَيَّ الْأَمْرَانِ إِذَا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا، وَيُقَالُ لِأَصْحَابِ الْمَخَارِيقِ: أَصْحَابُ الشُّبَهِ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُتَشَابِهَاتٌ» وَفِي رِوَايَةٍ/ أُخْرَى مُشْتَبِهَاتٌ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُتَشَابِهَيْنِ عَجْزُ الْإِنْسَانِ عَنِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا سُمِّيَ كُلُّ مَا لَا يَهْتَدِي الْإِنْسَانُ إِلَيْهِ بِالْمُتَشَابِهِ، إِطْلَاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ، وَنَظِيرُهُ الْمُشْكِلُ سُمِّيَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ أَشْكَلَ، أَيْ دَخَلَ فِي شَكْلِ غَيْرِهِ فَأَشْبَهَهُ وَشَابَهَهُ، ثُمَّ يُقَالُ لِكُلِّ مَا غَمُضَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غُمُوضُهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مُشْكِلٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ الَّذِي لَا يَعْرِفُ أَنَّ الْحَقَّ ثُبُوتُهُ أَوْ عَدَمُهُ، وَكَانَ الْحُكْمُ بِثُبُوتِهِ مُسَاوِيًا لِلْحُكْمِ بِعَدَمِهِ فِي الْعَقْلِ وَالذِّهْنِ، وَمُشَابِهًا لَهُ، وَغَيْرَ مُتَمَيِّزٍ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ بِمَزِيدِ رُجْحَانٍ، فَلَا جَرَمَ سُمِّيَ غَيْرُ الْمَعْلُومِ بِأَنَّهُ مُتَشَابِهٌ، فَهَذَا تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ، فَنَقُولُ: النَّاسُ قَدْ أَكْثَرُوا مِنَ الْوُجُوهِ فِي تَفْسِيرِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْوَجْهَ الْمُلَخَّصَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ، ثُمَّ نَذْكُرُ عَقِيبَهُ أَقْوَالَ النَّاسِ فِيهِ فَنَقُولُ: اللَّفْظُ الَّذِي جُعِلَ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِغَيْرِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى وَلَا يَكُونُ مُحْتَمِلًا لِغَيْرِهِ فَهَذَا هُوَ النَّصُّ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِغَيْرِهِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ احْتِمَالُهُ لِأَحَدِهِمَا رَاجِحًا عَلَى الْآخَرِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ بَلْ يَكُونُ احْتِمَالُهُ لَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، فَإِنْ كَانَ احْتِمَالُهُ لِأَحَدِهِمَا رَاجِحًا عَلَى الْآخَرِ سُمِّيَ ذَلِكَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّاجِحِ ظَاهِرًا، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرْجُوحِ مُؤَوَّلًا، وَأَمَّا إِنْ كَانَ احْتِمَالُهُ لَهُمَا عَلَى السَّوِيَّةِ كَانَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا مَعًا مُشْتَرِكًا، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى التَّعْيِينِ مُجْمَلًا، فَقَدْ خَرَجَ مِنَ التَّقْسِيمِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ اللَّفْظَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَصًّا، أَوْ ظَاهِرًا، أَوْ مُؤَوَّلًا، أَوْ مُشْتَرِكًا، أَوْ مُجْمَلًا، أَمَّا النَّصُّ وَالظَّاهِرُ فَيَشْتَرِكَانِ فِي حُصُولِ التَّرْجِيحِ، إِلَّا أَنَّ النَّصَّ رَاجِحٌ مَانِعٌ مِنَ الْغَيْرِ، وَالظَّاهِرُ رَاجِحٌ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ الْغَيْرِ، فَهَذَا الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ المسمى بالمحكم.

وَأَمَّا الْمُجْمَلُ وَالْمُؤَوَّلُ فَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَيْهِ غَيْرُ رَاجِحَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَاجِحًا لَكِنَّهُ غَيْرُ مَرْجُوحٍ، وَالْمُؤَوَّلُ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ رَاجِحٍ فَهُوَ مَرْجُوحٌ لَا بِحَسَبَ الدَّلِيلِ الْمُنْفَرِدِ، فَهَذَا الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ الْمُسَمَّى المتشابه، لِأَنَّ عَدَمَ الْفَهْمِ حَاصِلٌ فِي الْقِسْمَيْنِ جَمِيعًا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى مُتَشَابِهًا إِمَّا لِأَنَّ الَّذِي لَا يُعْلَمُ يَكُونُ النَّفْيُ فِيهِ مُشَابِهًا لِلْإِثْبَاتِ فِي الذِّهْنِ، وَإِمَّا لِأَجْلِ أَنَّ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ التَّشَابُهُ يَصِيرُ غَيْرَ مَعْلُومٍ، فَأُطْلِقَ لَفْظُ الْمُتَشَابِهِ عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ إِطْلَاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْمُحَصَّلُ فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَفْهُومَيْنِ على السوية، فههنا يَتَوَقَّفُ الذِّهْنُ، مِثْلَ: الْقُرْءِ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، إِنَّمَا الْمُشْكِلُ بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ بِأَصْلِ وَضْعِهِ رَاجِحًا فِي أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَمَرْجُوحًا فِي الْآخَرِ، ثُمَّ كَانَ الرَّاجِحُ بَاطِلًا، وَالْمَرْجُوحُ حَقًّا، وَمِثَالُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ [الْإِسْرَاءِ: 16] فَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُمْ يُؤْمَرُونَ بِأَنْ يَفْسُقُوا، وَمُحْكَمُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ/ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الْأَعْرَافِ: 28] رَدًّا عَلَى الْكُفَّارِ فِيمَا حُكِيَ عَنْهُمْ وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الْأَعْرَافِ: 28] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التَّوْبَةِ: 67] وَظَاهِرُ النِّسْيَانِ مَا يَكُونُ ضِدًّا لِلْعِلْمِ، وَمَرْجُوحُهُ التَّرْكُ وَالْآيَةُ الْمُحْكَمَةُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مَرْيَمَ: 64] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى [طه: 52] . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مَوْضِعٌ عَظِيمٌ فَنَقُولُ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ يَدَّعِي أَنَّ الْآيَاتِ الْمُوَافِقَةَ لِمَذْهَبِهِ مَحْكَمَةٌ، وَأَنَّ الْآيَاتِ الْمُوَافِقَةَ لِقَوْلِ خَصْمِهِ مُتَشَابِهَةٌ، فَالْمُعْتَزِلِيُّ يَقُولُ قَوْلُهُ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الْكَهْفِ: 29] مُحْكَمٌ، وقوله وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [التَّكْوِيرِ: 29] مُتَشَابِهٌ وَالسُّنِّيُّ يَقْلِبُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ فَلَا بُدَّ هَاهُنَا مِنْ قَانُونٍ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ فَنَقُولُ: اللَّفْظُ إِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِمَعْنَيَيْنِ وَكَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحَدِهِمَا رَاجِحًا، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخَرِ مَرْجُوحًا، فَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الرَّاجِحِ وَلَمْ نَحْمِلْهُ عَلَى الْمَرْجُوحِ، فَهَذَا هُوَ الْمُحْكَمُ وَأَمَّا إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمَرْجُوحِ وَلَمْ نَحْمِلْهُ عَلَى الرَّاجِحِ، فَهَذَا هُوَ الْمُتَشَابِهُ فَنَقُولُ: صَرْفُ اللَّفْظِ عَنِ الرَّاجِحِ إِلَى الْمَرْجُوحِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَذَلِكَ الدَّلِيلُ الْمُنْفَصِلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظِيًّا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَقْلِيًّا. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ: هَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا حَصَلَ بَيْنَ ذَيْنِكَ الدَّلِيلَيْنِ اللَّفْظِيَّيْنِ تَعَارُضٌ وَإِذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ تَرْكُ ظَاهِرِ أَحَدِهِمَا رِعَايَةً لِظَاهِرِ الْآخَرِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَحَدَهُمَا قَاطِعٌ فِي دَلَالَتِهِ وَالْآخِرَ غَيْرُ قَاطِعٍ فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الرُّجْحَانُ، أَوْ يُقَالُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ رَاجِحًا إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا يَكُونُ أَرْجَحَ، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الرُّجْحَانُ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّ الدَّلَائِلَ اللَّفْظِيَّةَ لَا تَكُونُ قَاطِعَةً الْبَتَّةَ، لِأَنَّ كُلَّ دَلِيلٍ لَفْظِيٍّ فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى نَقْلِ اللُّغَاتِ، وَنَقْلِ وُجُوهِ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ، وَمَوْقُوفٌ عَلَى عَدَمِ الِاشْتِرَاكِ وَعَدَمِ الْمَجَازِ، وَعَدَمِ التَّخْصِيصِ، وَعَدَمِ الْإِضْمَارِ، وَعَدَمِ الْمُعَارِضِ النَّقْلِيِّ وَالْعَقْلِيِّ، وَكَانَ ذَلِكَ مَظْنُونٌ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْمَظْنُونِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَظْنُونًا، فَثَبَتَ أَنَّ شَيْئًا مِنَ الدَّلَائِلِ اللَّفْظِيَّةِ لَا يَكُونُ قَاطِعًا. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ أَقْوَى مِنَ الدَّلِيلِ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الِاحْتِمَالِ قَائِمًا فِيهِمَا مَعًا، فَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَكِنْ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ صَرْفُ الدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى الْمَعْنَى الْمَرْجُوحِ ظَنِّيًّا، وَمِثْلُ

هَذَا لَا يَجُوزُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ، بَلْ يَجُوزُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي الْمَسَائِلِ الْفَقِهِيَّةِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الرَّاجِحِ إِلَى مَعْنَاهُ الْمَرْجُوحِ فِي الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ لَا يَجُوزُ إِلَّا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ الْعَقْلِيِّ عَلَى أَنَّ مَا أَشْعَرَ بِهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ مُحَالٌ، وَقَدْ عَلِمْنَا فِي الْجُمْلَةِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي مَعْنَاهُ الْمَرْجُوحِ جَائِزٌ عِنْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَعِنْدَ هَذَا يَتَعَيَّنُ/ التَّأْوِيلُ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الرَّاجِحِ إِلَى مَعْنَاهُ الْمَرْجُوحِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ الرَّاجِحَ مُحَالٌ عَقْلًا ثُمَّ إِذَا أَقَامَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ وَعَرَفَ الْمُكَلَّفُ أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا اللَّفْظِ مَا أَشْعَرَ بِهِ ظَاهِرُهُ، فَعِنْدَ هَذَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَرْجُوحَ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ مَاذَا لِأَنَّ السَّبِيلَ إِلَى ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِتَرْجِيحِ مَجَازٍ عَلَى مَجَازٍ وَتَرْجِيحِ تَأْوِيلٍ عَلَى تَأْوِيلٍ، وَذَلِكَ التَّرْجِيحُ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالدَّلَائِلِ اللَّفْظِيَّةِ وَالدَّلَائِلُ اللَّفْظِيَّةُ عَلَى مَا بَيَّنَّا ظَنِّيَّةٌ لَا سِيَّمَا الدَّلَائِلَ الْمُسْتَعْمَلَةَ فِي تَرْجِيحِ مَرْجُوحٍ عَلَى مَرْجُوحٍ آخَرَ يَكُونُ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، وَكُلُّ هَذَا لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ الضَّعِيفَ وَالتَّعْوِيلُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ فِي الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ مُحَالٌ فَلِهَذَا التحقيق المتين مذهباً أَنَّ بَعْدَ إِقَامَةِ الدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ عَلَى أَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى الظَّاهِرِ مُحَالٌ لَا يَجُوزُ الْخَوْضُ فِي تَعْيِينِ التَّأْوِيلِ، فَهَذَا مُنْتَهَى مَا حَصَّلْنَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْهِدَايَةِ وَالرَّشَادِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي حِكَايَةِ أَقْوَالِ النَّاسِ فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ فَالْأَوَّلُ: مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: الْمُحْكَمَاتُ هِيَ الثَّلَاثُ آيَاتٍ الَّتِي فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ قُلْ تَعالَوْا [الْأَنْعَامِ: 151] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ، وَالْمُتَشَابِهَاتُ هِيَ الَّتِي تَشَابَهَتْ عَلَى الْيَهُودِ، وهي أسماء حروف الهجاء المذكور فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَوَّلُوهَا عَلَى حِسَابِ الْجُمَّلِ فَطَلَبُوا أَنْ يَسْتَخْرِجُوا مِنْهَا مُدَّةَ بَقَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَاخْتَلَطَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ وَاشْتَبَهَ، وَأَقُولُ: التَّكَالِيفُ الْوَارِدَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَغَيَّرَ بِشَرْعٍ وَشَرْعٍ، وَذَلِكَ كَالْأَمْرِ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَالْجَهْلِ وَقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمِنْهَا مَا يَخْتَلِفُ بِشَرْعٍ وَشَرْعٍ كَأَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ وَمَقَادِيرِ الزَّكَوَاتِ وَشَرَائِطِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْمُحْكَمِ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى هَذَا الْقِسْمِ. وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ فَهُوَ الَّذِي سَمَّيْنَاهُ بِالْمُجْمَلِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ دَلَالَةَ اللَّفْظِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَإِلَى غَيْرِهِ عَلَى السَّوِيَّةِ، فَإِنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ الَّتِي تُفَسِّرُ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ بِهَا عَلَى السَّوِيَّةِ لَا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ عَلَى مَا لَخَّصْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الْمُحْكَمَ هُوَ النَّاسِخُ، وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ الْمَنْسُوخُ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ الْأَصَمُّ: الْمُحْكَمُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ دَلِيلُهُ وَاضِحًا لَائِحًا، مِثْلَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ إنشاء الخلق في قوله تعالى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً [الْمُؤْمِنُونَ: 14] وَقَوْلِهِ وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الْأَنْبِيَاءِ: 30] وَقَوْلِهِ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 22] وَالْمُتَشَابِهُ مَا يُحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهِ إِلَى التَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ نَحْوَ الْحُكْمِ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَبْعَثُهُمْ بَعْدَ أَنْ صَارُوا تُرَابًا وَلَوْ تَأَمَّلُوا لَصَارَ الْمُتَشَابِهُ عِنْدَهُمْ مُحْكَمًا لِأَنَّ مَنْ قدر على الإنشاء أو لا قَدَرَ عَلَى الْإِعَادَةِ ثَانِيًا. وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الْأَصَمِّ غَيْرُ مُلَخَّصٍ، فَإِنَّهُ إِنْ عَنَى بِقَوْلِهِ: الْمُحْكَمُ مَا يَكُونُ دَلَائِلُهُ وَاضِحَةً أَنَّ الْمُحْكَمَ هو

الَّذِي يَكُونُ دَلَالَةَ لَفْظِهِ عَلَى مَعْنَاهُ مُتَعَيِّنَةً رَاجِحَةً، وَالْمُتَشَابِهُ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَهُوَ إِمَّا الْمُجْمَلُ الْمُتَسَاوِي، أَوِ الْمُؤَوَّلُ الْمَرْجُوحُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، وَإِنْ عَنَى بِهِ أَنَّ الْمُحْكَمَ هُوَ الَّذِي يُعْرَفُ صِحَّةُ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَيَصِيرُ الْمُحْكَمُ عَلَى قَوْلِهِ مَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، وَعَلَى هَذَا يَصِيرُ جُمْلَةُ الْقُرْآنِ مُتَشَابِهًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أَمْرٌ يَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَةِ صِحَّتِهِ إِلَى الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَإِنَّ أَهْلَ الطَّبِيعَةِ يَقُولُونَ: السَّبَبُ فِي ذَلِكَ الطَّبَائِعُ وَالْفُصُولُ، أَوْ تَأْثِيرَاتُ الْكَوَاكِبِ، وَتَرْكِيبَاتُ الْعَنَاصِرِ وَامْتِزَاجَاتُهَا، فَكَمَا أَنَّ إِثْبَاتَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ مُفْتَقِرٌ إِلَى الدَّلِيلِ، فَكَذَلِكَ إِسْنَادُ هَذِهِ الْحَوَادِثِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مُفْتَقِرٌ إِلَى الدَّلِيلِ، وَلَعَلَّ الْأَصَمَّ يَقُولُ: هَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا مُفْتَقِرَةً إِلَى الدَّلِيلِ، إِلَّا أَنَّهَا تَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَكُونُ الدَّلِيلُ فِيهِ ظَاهِرًا بِحَيْثُ تَكُونُ مُقَدِّمَاتُهُ قَلِيلَةً مَرَتَّبَةً مُبَيَّنَةً يُؤْمَنُ الْغَلَطُ مَعَهَا إِلَّا نَادِرًا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ الدَّلِيلُ فِيهِ خَفِيًّا كَثِيرَ الْمُقَدِّمَاتِ غَيْرَ مُرَتَّبَةٍ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: هُوَ الْمُحْكَمُ وَالثَّانِي: هُوَ الْمُتَشَابِهُ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ كُلَّ مَا أَمْكَنَ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ جَلِيٍّ، أَوْ بِدَلِيلٍ خَفِيٍّ، فَذَاكَ هُوَ الْمُحْكَمُ، وَكُلُّ مَا لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ فَذَاكَ هُوَ الْمُتَشَابِهُ، وَذَلِكَ كَالْعِلْمِ بِوَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَالْعِلْمِ بِمَقَادِيرِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها [الأعراف: 187] [النازعات: 42] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْفَوَائِدِ الَّتِي لِأَجْلِهَا جُعِلَ بَعْضُ الْقُرْآنِ مُحْكَمًا وَبَعْضُهُ مُتَشَابِهًا. اعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمُلْحِدَةِ مَنْ طَعَنَ فِي الْقُرْآنِ لِأَجْلِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْمُتَشَابِهَاتِ، وَقَالَ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ إِنَّ تَكَالِيفَ الْخَلْقِ مُرْتَبِطَةٌ بِهَذَا الْقُرْآنِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، ثُمَّ إِنَّا نَرَاهُ بِحَيْثُ يَتَمَسَّكُ بِهِ كُلُّ صَاحِبِ مَذْهَبٍ عَلَى مَذْهَبِهِ، فَالْجَبْرِيُّ يَتَمَسَّكُ بِآيَاتِ الْجَبْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الْأَنْعَامِ: 25] وَالْقَدَرِيُّ يَقُولُ: بَلْ هَذَا مَذْهَبُ الْكُفَّارِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى ذَلِكَ عَنِ الْكُفَّارِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فُصِّلَتْ: 5] وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ [الْبَقَرَةِ: 88] وَأَيْضًا مُثْبِتُ الرُّؤْيَةِ يَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [الْقِيَامَةِ: 22، 23] وَالنَّافِي يَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الْأَنْعَامِ: 103] وَمُثْبِتُ الْجِهَةِ يَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النَّحْلِ: 50] وَبِقَوْلِهِ الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] وَالنَّافِي يَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: 11] ثُمَّ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُسَمِّي الْآيَاتِ الْمُوَافِقَةَ لِمَذْهَبِهِ: مُحْكَمَةً، وَالْآيَاتِ الْمُخَالِفَةَ لِمَذْهَبِهِ: مُتَشَابِهَةً وَرُبَّمَا آلَ الْأَمْرُ فِي تَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ إِلَى تَرْجِيحَاتٍ خَفِيَّةٍ، وَوُجُوهٍ ضَعِيفَةٍ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ أَنْ يَجْعَلَ الْكِتَابَ الَّذِي هُوَ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ الدِّينِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ هَكَذَا، أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَهُ ظَاهِرًا جَلِيًّا نَقِيًّا عَنْ هَذِهِ الْمُتَشَابِهَاتِ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى حُصُولِ الْغَرَضِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا في فوائد المتشابهات وجوهاً: لوجه الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَتَى كَانَتِ الْمُتَشَابِهَاتُ مَوْجُودَةً، كَانَ الْوُصُولُ إِلَى الْحَقِّ أَصْعَبَ وَأَشَقَّ وَزِيَادَةُ الْمَشَقَّةِ تُوجِبُ مَزِيدَ الثَّوَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 142] .

الْوَجْهُ الثَّانِي: لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ مُحْكَمًا بِالْكُلِّيَّةِ لَمَا كَانَ مُطَابِقًا إِلَّا لِمَذْهَبٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ تَصْرِيحُهُ مُبْطِلًا لِكُلِّ مَا سِوَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُنَفِّرُ أَرْبَابَ الْمَذَاهِبِ عَنْ قَبُولِهِ وَعَنِ النَّظَرِ فِيهِ، فَالِانْتِفَاعُ بِهِ إِنَّمَا حَصَلَ لَمَّا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُحْكَمِ وَعَلَى الْمُتَشَابِهِ، فَحِينَئِذٍ يَطْمَعُ صَاحِبُ كُلِّ مَذْهَبٍ أَنْ يَجِدَ فِيهِ مَا يُقَوِّي مَذْهَبَهُ، وَيُؤْثِرُ مَقَالَتَهُ، فَحِينَئِذٍ يَنْظُرُ فِيهِ جَمِيعُ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ، وَيَجْتَهِدُ فِي التَّأَمُّلِ فِيهِ كُلُّ صَاحِبِ مَذْهَبٍ، فَإِذَا بَالَغُوا فِي ذَلِكَ صَارَتِ الْمُحْكَمَاتُ مُفَسِّرَةً لِلْمُتَشَابِهَاتِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَتَخَلَّصُ الْمُبْطِلُ عَنْ بَاطِلِهِ وَيَصِلُ إِلَى الْحَقِّ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْقُرْآنَ إِذَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ افْتَقَرَ النَّاظِرُ فِيهِ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، وَحِينَئِذٍ يَتَخَلَّصُ عَنْ ظُلْمَةِ التَّقْلِيدِ، وَيَصِلُ إِلَى ضِيَاءِ الِاسْتِدْلَالِ وَالْبَيِّنَةِ، أَمَّا لَوْ كَانَ كُلُّهُ مُحْكَمًا لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى التَّمَسُّكِ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ فَحِينَئِذٍ كَانَ يَبْقَى فِي الْجَهْلِ وَالتَّقْلِيدِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، افْتَقَرُوا إِلَى تَعَلُّمِ طُرُقِ التَّأْوِيلَاتِ وَتَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَافْتَقَرَ تَعَلُّمُ ذَلِكَ إِلَى تَحْصِيلِ عُلُومٍ كَثِيرَةٍ مِنْ عِلْمِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَعِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ مَا كَانَ يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَى تَحْصِيلِ هَذِهِ الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ، فَكَانَ إِيرَادُ هَذِهِ الْمُتَشَابِهَاتِ لِأَجْلِ هَذِهِ الْفَوَائِدِ الْكَثِيرَةِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: وَهُوَ السَّبَبُ الْأَقْوَى فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى دَعْوَةِ الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَطَبَائِعُ الْعَوَامِّ تَنْبُو فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ، فَمَنْ سَمِعَ مِنَ الْعَوَامِّ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ إِثْبَاتَ مَوْجُودٍ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا بِمُتَحَيِّزٍ وَلَا مُشَارٍ إِلَيْهِ، ظَنَّ أَنَّ هَذَا عَدَمٌ وَنَفْيٌ فَوَقَعَ فِي التَّعْطِيلِ، فَكَانَ الْأَصْلَحُ أَنْ يُخَاطَبُوا بِأَلْفَاظٍ دَالَّةٍ عَلَى بَعْضِ مَا يُنَاسِبُ مَا يَتَوَهَّمُونَهُ وَيَتَخَيَّلُونَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مَخْلُوطًا بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ الصَّرِيحِ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي يُخَاطَبُونَ بِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي يُكْشَفُ لَهُمْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ هُوَ الْمُحْكَمَاتُ، فَهَذَا مَا حَضَرَنَا فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمَبَاحِثَ فَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ فَالْمُرَادُ بِهِ هُوَ الْقُرْآنُ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ مَدْلُولَاتُهَا مُتَأَكَّدَةً إِمَّا بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ وَذَلِكَ فِي الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ، أَوْ يَكُونُ مَدْلُولَاتُهَا خَالِيَةً عَنْ مُعَارَضَاتٍ أَقْوَى مِنْهَا. ثُمَّ قَالَ: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا مَعْنَى كَوْنِ الْمُحْكَمِ أُمًّا لِلْمُتَشَابِهِ؟ الْجَوَابُ: الْأُمُّ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ الْأَصْلُ الَّذِي مِنْهُ يَكُونُ الشَّيْءُ، فَلَمَّا كَانَتِ الْمُحْكَمَاتُ مَفْهُومَةً بِذَوَاتِهَا، وَالْمُتَشَابِهَاتُ إِنَّمَا تَصِيرُ مَفْهُومَةً بِإِعَانَةِ الْمُحْكَمَاتِ، لَا جَرَمَ صَارَتِ الْمُحْكَمَاتُ كَالْأُمِّ للمتشابهات وقيل: أن ما ثَبَتَتْ إِلَى أَنْ يَبْعَثَهَا، فَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِلَفْظِ الْأَبِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَبَ هُوَ الَّذِي حَصَلَ مِنْهُ تَكْوِينُ الِابْنِ، ثُمَّ وَقَعَ فِي التَّرْجَمَةِ مَا أَوْهَمَ الْأُبُوَّةَ الْوَاقِعَةَ مِنْ جِهَةِ الْوِلَادَةِ، فَكَانَ قَوْلُهُ مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مَرْيَمَ: 35]

مُحْكَمًا لِأَنَّ مَعْنَاهُ مُتَأَكَّدٌ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، وَكَانَ قَوْلُهُ: عِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي يَجِبُ رَدُّهَا إِلَى ذَلِكَ الْمُحْكَمِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ: أُمُّ الْكِتابِ وَلَمْ يَقُلْ: أُمَّهَاتُ الْكِتَابِ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ مَجْمُوعَ الْمُحْكَمَاتِ فِي تَقْدِيرِ شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَمَجْمُوعَ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي تَقْدِيرِ شَيْءٍ آخَرَ وَأَحَدُهُمَا أُمُّ الْآخَرِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [الْمُؤْمِنُونَ: 50] وَلَمْ يَقُلْ آيَتَيْنِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَجْمُوعَهُمَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. ثُمَّ قَالَ: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ وَقَدْ عَرَفْتَ حَقِيقَةَ الْمُتَشَابِهَاتِ، قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: إِنَّ أُخَرُ فارقت أخواتها في حكم واحد، وذلك أن أُخَرَ جَمْعُ أُخْرَى وَأُخْرَى تَأْنِيثُ آخَرَ وَآخَرُ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ وَمَا كَانَ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ مَعَ مِنْ أَوْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَيُقَالُ: زَيْدٌ أَفْضَلُ مِنْ عَمْرٍو، وَزَيْدٌ الْأَفْضَلُ فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ مُعَقِّبَتَانِ لِمِنْ فِي بَابِ أَفْعَلَ، فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ: زَيْدٌ آخَرُ مِنْ عَمْرٍو، أَوْ يُقَالُ: زَيْدٌ الْآخَرُ إِلَّا أَنَّهُمْ حَذَفُوا مِنْهُ لَفْظَ مِنْ لِأَنَّ لَفْظَهُ اقْتَضَى مَعْنَى مِنْ فَأَسْقَطُوهَا اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ مُعَاقِبَتَانِ لِمِنْ، فَسَقَطَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ أَيْضًا فَلَمَّا جَازَ اسْتِعْمَالُهُ بِغَيْرِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ صَارَ أُخَرَ فَأُخَرُ جَمْعُهُ، فَصَارَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مَعْدُولَةً عَنْ حُكْمِ نَظَائِرِهَا فِي سُقُوطِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَنْ جَمْعِهَا وَوُحْدَانِهَا. ثُمَّ قَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْكِتَابَ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُ مُحْكَمٌ وَمِنْهُ مُتَشَابِهٌ، بَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ الزَّيْغِ لَا يَتَمَسَّكُونَ إِلَّا بِالْمُتَشَابِهِ، وَالزَّيْغُ الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ، يُقَالُ: زَاغَ زَيْغًا: أَيْ مَالَ مَيْلًا وَاخْتَلَفُوا فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُرِيدُوا بِقَوْلِهِ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَقَالَ الرَّبِيعُ: هُمْ وَفْدُ نَجْرَانَ لَمَّا حَاجُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسِيحِ فَقَالُوا: أَلَيْسَ هُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحٌ مِنْهُ قَالَ: بَلَى. فَقَالُوا: حَسْبُنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، ثُمَّ أَنْزَلَ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آلِ عِمْرَانَ: 59] وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمُ الْيَهُودُ طَلَبُوا عِلْمَ مُدَّةِ بَقَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَاسْتِخْرَاجِهِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ وَقَالَ قَتَادَةُ وَالزَّجَّاجُ: هُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ وَما يَعْلَمُ/ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَمَا ذَاكَ إِلَّا وَقْتَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْفَاهُ عَنْ كُلِّ الْخَلْقِ حَتَّى عَنِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إِنَّ هَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ الْمُبْطِلِينَ، وَكُلَّ مَنِ احْتَجَّ لِبَاطِلِهِ بِالْمُتَشَابِهِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ، وَخُصُوصُ السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ عُمُومَ اللَّفْظِ وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا فِيهِ لَبْسٌ وَاشْتِبَاهٌ وَمِنْ جُمْلَتِهِ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الرَّسُولَ مِنَ النُّصْرَةِ وَمَا أَوْعَدَ الْكُفَّارَ مِنَ النِّقْمَةِ ويقولون ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ [العنكبوت: 29] لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ [سبأ: 3] لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ [الْحِجْرِ: 7] فَمَوَّهُوا الْأَمْرَ عَلَى الضَّعَفَةِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ اسْتِدْلَالُ الْمُشَبِّهَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] فَإِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُخْتَصًّا بِالْحَيِّزِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الصِّغَرِ كَالْجُزْءِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ فَيَكُونُ مُنْقَسِمًا مُرَكَّبًا وَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَإِنَّهُ مُمْكِنٌ وَمُحْدَثٌ، فَبِهَذَا الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ فِي مَكَانٍ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى مُتَشَابِهًا، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ كَانَ مُتَمَسِّكًا بِالْمُتَشَابِهَاتِ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِالظَّوَاهِرِ الدَّالَّةِ عَلَى تَفْوِيضِ الْفِعْلِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ صُدُورَ الْفِعْلِ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ الدَّاعِي، وَثَبَتَ أَنَّ حُصُولَ ذَلِكَ الدَّاعِي مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وثبت مَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ حُصُولُ الْفِعْلِ عند تلك

الدَّاعِيَةِ وَاجِبًا، وَعَدَمُهُ عِنْدَ عَدَمِ هَذِهِ الدَّاعِيَةِ وَاجِبًا، فَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ ذَلِكَ التَّفْوِيضُ، وَثَبَتَ أَنَّ الْكُلَّ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَيَصِيرُ اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِتِلْكَ الظَّوَاهِرِ وَإِنْ كَثُرَتِ اسْتِدْلَالًا بِالْمُتَشَابِهَاتِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كُلِّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُعْرِضُونَ عَنِ الدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ وَيَقْتَصِرُونَ عَلَى الظَّوَاهِرِ الْمُوهِمَةِ أَنَّهُمْ يَتَمَسَّكُونَ بِالْمُتَشَابِهَاتِ لِأَجْلِ أَنَّ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغًا عَنِ الْحَقِّ وَطَلَبًا لِتَقْرِيرِ الْبَاطِلِ. وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَا تَرَى طَائِفَةً فِي الدُّنْيَا إِلَّا وَتُسَمِّي الْآيَاتِ الْمُطَابِقَةَ لِمَذْهَبِهِمْ مُحْكَمَةً، وَالْآيَاتِ الْمُطَابِقَةَ لِمَذْهَبِ خَصْمِهِمْ مُتَشَابِهَةً ثُمَّ هُوَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ أَلَا تَرَى إِلَى الْجُبَّائِيِّ فإنه يقوله: الْمُجْبِرَةُ الَّذِينَ يُضِيفُونَ الظُّلْمَ وَالْكَذِبَ، وَتَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى هُمُ الْمُتَمَسِّكُونَ بِالْمُتَشَابِهَاتِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: الزَّائِغُ الطَّالِبُ لِلْفِتْنَةِ هُوَ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِآيَاتِ الضَّلَالِ، وَلَا يَتَأَوَّلُهُ عَلَى الْمُحْكَمِ الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [طه: 85] وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [طه: 79] وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [الْبَقَرَةِ: 26] وَفَسَّرُوا أَيْضًا قَوْلَهُ وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها [الْإِسْرَاءِ: 16] عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَهْلَكَهُمْ وَأَرَادَ فِسْقَهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَطْلُبُ الْعِلَلَ عَلَى خَلْقِهِ لِيُهْلِكَهُمْ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: 185] ويُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ [النِّسَاءِ: 26] وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ [النَّمْلِ: 4] عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى زَيَّنَ لَهُمُ النِّعْمَةَ وَنَقَضُوا بِذَلِكَ مَا فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرَّعْدِ: 11] وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ [الْقَصَصِ: 59] وَقَالَ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فُصِّلَتْ: 17] وَقَالَ: فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [يُونُسَ: 108] وَقَالَ: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ/ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 7] فَكَيْفَ يُزَيِّنُ النِّعْمَةَ؟ فَهَذَا مَا قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، وَلَيْتَ شِعْرِي لِمَ حَكَمَ عَلَى الْآيَاتِ الْمُوَافِقَةِ لِمَذْهَبِهِ بِأَنَّهَا مُحْكَمَاتٌ، وَعَلَى الْآيَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِمَذْهَبِهِ بِأَنَّهَا مُتَشَابِهَاتٌ؟ وَلِمَ أَوْجَبَ في تلك الآيات المطابقة لمذهبه إجرائها عَلَى الظَّاهِرِ، وَفِي الْآيَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِمَذْهَبِهِ صَرْفَهَا عَنِ الظَّاهِرِ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْبَاهِرَةِ، فَإِذَا دَلَّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ، فَإِنَّ مَذْهَبَهُمْ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا قُلْنَا بِأَنَّهُ صَدَرَ عَنْ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ دُونَ الثَّانِي مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ الصَّانِعِ، وَلَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا قُلْنَا بِأَنَّ صُدُورَ الْفِعْلِ الْمُحْكَمِ الْمُتْقَنِ عَنِ الْعَبْدِ لَا يَدُلُّ عَلَى عِلْمِ فَاعِلِهِ بِهِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَدْ تَخَصَّصَ ذَلِكَ الْعَدَدُ بِالْوُقُوعِ دُونَ الْأَزْيَدِ وَالْأَنْقَصِ لَا لِمُخَصَّصٍ، وَذَلِكَ نَفْيٌ لِلصَّانِعِ، وَلَزِمَ مِنْهُ أَيْضًا أَنْ لَا يَدُلَّ صُدُورُ الْفِعْلِ الْمُحْكَمِ عَلَى كَوْنِ الْفَاعِلِ عَالِمًا وَحِينَئِذٍ يَنْسَدُّ بَابُ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْكَامِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كَوْنِ فاعلها عالماً، ولو أن أهل السموات وَالْأَرْضِ اجْتَمَعُوا عَلَى هَذِهِ الدَّلَائِلِ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى دَفْعِهَا، فَإِذَا لَاحَتْ هَذِهِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ الْبَاهِرَةُ فَكَيْفَ يَجُوزُ لِعَاقِلٍ أَنْ يُسَمِّيَ الْآيَاتِ الدالة على القضاء والقدر بالمتشابه، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْقَانُونَ الْمُسْتَمِرَّ عِنْدَ جُمْهُورِ النَّاسِ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ تُوَافِقُ مَذْهَبَهُمْ فَهِيَ الْمُحْكَمَةُ وَكُلَّ آيَةٍ تُخَالِفُهُمْ فَهِيَ الْمُتَشَابِهَةُ. وَأَمَّا الْمُحَقِّقُ الْمُنْصِفُ، فَإِنَّهُ يَحْمِلُ الْأَمْرَ فِي الْآيَاتِ عَلَى أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا: مَا يَتَأَكَّدُ ظَاهِرُهَا بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، فَذَاكَ هُوَ الْمُحْكَمُ حَقًّا وَثَانِيهَا: الَّذِي قَامَتِ الدَّلَائِلُ الْقَاطِعَةُ عَلَى امْتِنَاعِ ظَوَاهِرِهَا، فَذَاكَ هُوَ الَّذِي يُحْكَمُ فِيهِ بِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ ظَاهِرِهِ وَثَالِثُهَا: الَّذِي لَا يُوجَدُ مِثْلُ هَذِهِ الدَّلَائِلِ عَلَى طَرَفَيْ ثُبُوتِهِ وَانْتِفَائِهِ، فَيَكُونُ مِنْ

حَقِّهِ التَّوَقُّفُ فِيهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مُتَشَابِهًا بِمَعْنَى أَنَّ الْأَمْرَ اشْتَبَهَ فِيهِ، وَلَمْ يَتَمَيَّزْ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، إِلَّا أَنَّ الظَّنَّ الرَّاجِحَ حَاصِلٌ فِي إِجْرَائِهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الزَّائِغِينَ يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ، بَيَّنَ أَنَّ لَهُمْ فِيهِ غَرَضَيْنِ، فَالْأَوَّلُ: هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَالثَّانِي: هُوَ قَوْلُهُ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَاعْلَمْ أَنَّ الْفِتْنَةَ فِي اللُّغَةِ الِاسْتِهْتَارُ بِالشَّيْءِ وَالْغُلُوُّ فِيهِ، يُقَالُ: فُلَانٌ مَفْتُونٌ بِطَلَبِ الدُّنْيَا، أَيْ قَدْ غَلَا فِي طَلَبِهَا وَتَجَاوَزَ الْقَدْرَ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ وُجُوهًا: أَوَّلُهَا: قَالَ الْأَصَمُّ: إِنَّهُمْ مَتَى أَوْقَعُوا تِلْكَ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي الدِّينِ، صَارَ بَعْضُهُمْ مُخَالِفًا لِلْبَعْضِ فِي الدِّينِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى التَّقَاتُلِ وَالْهَرْجِ وَالْمَرْجِ فَذَاكَ هُوَ الْفِتْنَةُ وَثَانِيهَا: أَنَّ التَّمَسُّكَ بِذَلِكَ الْمُتَشَابِهِ يُقَرِّرُ الْبِدْعَةَ وَالْبَاطِلَ فِي قَلْبِهِ فَيَصِيرُ مفتوناً بذلك الباطل عاكفاً عليه لا ينقطع عَنْهُ بِحِيلَةٍ الْبَتَّةَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْفِتْنَةَ فِي الدِّينِ هُوَ الضَّلَالُ عَنْهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا فِتْنَةَ وَلَا فَسَادَ أَعْظَمُ مِنَ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ وَالْفَسَادِ فِيهِ. وَأَمَّا الْغَرَضُ الثَّانِي لَهُمْ: وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ فَاعْلَمْ أَنَّ التَّأْوِيلَ هُوَ التَّفْسِيرُ وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْمَرْجِعُ وَالْمَصِيرُ، مِنْ قَوْلِكَ آلَ الْأَمْرُ إِلَى كَذَا إِذَا صَارَ إِلَيْهِ، وَأَوَّلْتُهُ تَأْوِيلًا إِذَا صَيَّرْتَهُ إِلَيْهِ، هَذَا مَعْنَى التَّأْوِيلِ فِي اللُّغَةِ، ثُمَّ يُسَمَّى التَّفْسِيرُ تَأْوِيلًا، قَالَ تَعَالَى: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الْكَهْفِ: 78] وَقَالَ تَعَالَى: وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النِّسَاءِ: 59] وَذَلِكَ أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَمَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِ اللَّفْظُ مِنَ الْمَعْنَى، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ التَّأْوِيلَ الَّذِي لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَلَا بَيَانٌ، مِثْلُ طَلَبِهِمْ أَنَّ السَّاعَةَ مَتَى تَقُومُ؟ وَأَنَّ مَقَادِيرَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لِكُلِّ مُطِيعٍ وَعَاصٍ كَمْ تَكُونُ؟ قَالَ الْقَاضِي: هَؤُلَاءِ الزَّائِغُونَ قَدِ ابْتَغَوُا الْمُتَشَابِهَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْمِلُوهُ على غير الحق: وهـ والمراد مِنْ قَوْلِهِ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَالثَّانِي: أَنْ يَحْكُمُوا بِحُكْمٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا دَلِيلَ فِيهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا يَكُونُ زِيَادَةً فِي ذَمِّ طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ الزَّائِغِينَ فَقَالَ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: تَمَّ الْكَلَامُ هَاهُنَا، ثُمَّ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَاوُ الِابْتِدَاءِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: لَا يَعْلَمُ الْمُتَشَابِهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ، وَمِنَ الْمُعْتَزِلَةِ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَتِمُّ عِنْدَ قَوْلِهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْعِلْمُ بِالْمُتَشَابِهِ حَاصِلًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وُجُوهٌ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا كَانَ لَهُ مَعْنًى رَاجِحٌ، ثُمَّ دَلَّ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ، عَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بَعْضُ مَجَازَاتِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، وَفِي الْمَجَازَاتِ كَثْرَةٌ، وَتَرْجِيحُ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّرْجِيحَاتِ اللُّغَوِيَّةِ، وَالتَّرْجِيحَاتُ اللُّغَوِيَّةُ لَا تُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ الضَّعِيفَ، فَإِذَا كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةً يَقِينِيَّةً، كَانَ الْقَوْلُ فِيهَا بِالدَّلَائِلِ الظَّنِّيَّةِ الضَّعِيفَةِ غَيْرُ جَائِزٍ، مِثَالُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] ثم قال الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّكْلِيفِ قَدْ وُجِدَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْبَرَاهِينِ الْخَمْسَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَعَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِ اللَّفْظِ إِلَى بَعْضِ

الْمَجَازَاتِ، وَفِي الْمَجَازَاتِ كَثْرَةٌ وَتَرْجِيحُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّرْجِيحَاتِ اللُّغَوِيَّةِ، وَأَنَّهَا لَا تُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ الضَّعِيفَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنَ الْمَسَائِلِ الظَّنِّيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِيهَا بِالدَّلَائِلِ الظَّنِّيَّةِ بَاطِلًا، وَأَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ فِي الْمَكَانِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا أَشْعَرَ بِهِ ظَاهِرُهَا، إِلَّا أَنَّ فِي مَجَازَاتِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ كَثْرَةٌ فَصَرْفُ اللَّفْظِ إِلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّرْجِيحَاتِ اللُّغَوِيَّةِ الظَّنِّيَّةِ، وَالْقَوْلُ بِالظَّنِّ فِي/ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ غَيْرُ جَائِزٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ وَالْقَلْبُ الْخَالِي عَنِ التَّعَصُّبِ يَمِيلُ إِلَيْهِ، وَالْفِطْرَةُ الْأَصْلِيَّةُ تَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَلَبَ تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ مَذْمُومٌ، حَيْثُ قَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَلَوْ كَانَ طَلَبُ تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ جَائِزًا لَمَا ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ طَلَبَ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، كَمَا فِي قوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي [الْأَعْرَافِ: 178] وَأَيْضًا طَلَبَ مَقَادِيرِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَطَلَبَ ظُهُورِ الْفَتْحِ وَالنُّصْرَةِ كَمَا قَالُوا لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ [الْحِجْرِ: 7] . قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَسَّمَ الْكِتَابَ إِلَى قِسْمَيْنِ مُحْكَمٍ وَمُتَشَابِهٍ، وَدَلَّ الْعَقْلُ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْقِسْمَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنَاهُ الرَّاجِحِ هُوَ الْمُحْكَمُ، وَحَمْلَهُ عَلَى مَعْنَاهُ الَّذِي لَيْسَ بِرَاجِحٍ هُوَ الْمُتَشَابِهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ طَرِيقَةَ مَنْ طَلَبَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ كَانَ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِبَعْضِ الْمُتَشَابِهَاتِ دُونَ الْبَعْضِ تَرْكًا لِلظَّاهِرِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللَّهَ مَدَحَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، وَقَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ فَهَؤُلَاءِ الرَّاسِخُونَ لَوْ كَانُوا عَالِمِينَ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ الْمُتَشَابِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ لِمَا كَانَ لَهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِهِ مَدْحٌ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ عَرَفَ شَيْئًا عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُؤْمِنَ بِهِ، إِنَّمَا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ عَلِمُوا بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْمَعْلُومَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَعَلِمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِالْبَاطِلِ وَالْعَبَثِ، فَإِذَا سَمِعُوا آيَةً وَدَلَّتِ الدَّلَائِلُ الْقَطْعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهَا مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ مُرَادُهُ مِنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ الظَّاهِرِ، ثُمَّ فَوَّضُوا تَعْيِينَ ذَلِكَ الْمُرَادِ إِلَى عِلْمِهِ، وَقَطَعُوا بِأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى أَيَّ شَيْءٍ كَانَ فَهُوَ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ بِاللَّهِ حَيْثُ لَمْ يُزَعْزِعْهُمْ قَطْعُهُمْ بِتَرْكِ الظَّاهِرِ، وَلَا عَدَمُ عِلْمِهِمْ بِالْمُرَادِ عَلَى التَّعْيِينِ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْجَزْمِ بِصِحَّةِ الْقُرْآنِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: لَوْ كَانَ قَوْلُهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ إِلَّا اللَّهُ لَصَارَ قَوْلُهُ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ابْتِدَاءً، وَأَنَّهُ بَعِيدٌ عَنْ ذَوْقِ الْفَصَاحَةِ، بَلْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: وَهُمْ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، أَوْ يُقَالَ: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فِي تَصْحِيحِهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ يَقُولُونَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ، وَالتَّقْدِيرُ: هَؤُلَاءِ الْعَالِمُونَ بِالتَّأْوِيلِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ يَقُولُونَ حَالًا مِنَ الرَّاسِخِينَ.

قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَدْفُوعٌ، لِأَنَّ تَفْسِيرَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى الْإِضْمَارِ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهِ بِمَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى الْإِضْمَارِ وَالثَّانِي: أَنَّ ذَا الْحَالِ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهَاهُنَا قَدْ تَقَدَّمَ/ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَذِكْرُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حَالًا مِنَ الرَّاسِخِينَ لَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَرْكًا لِلظَّاهِرِ، فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَذْهَبَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْعُدُولِ عَنِ الظَّاهِرِ وَمَذْهَبُنَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا يَعْنِي أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا عَرَفُوهُ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَبِمَا لَمْ يَعْرِفُوا تَفْصِيلَهُ وَتَأْوِيلَهُ، فَلَوْ كَانُوا عَالِمِينَ بِالتَّفْصِيلِ فِي الْكُلِّ لَمْ يَبْقَ لِهَذَا الْكَلَامِ فَائِدَةٌ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: تَفْسِيرٌ لَا يَسَعُ أَحَدًا جَهْلُهُ، وَتَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا، وَتَفْسِيرٌ تَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ، وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَسُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنِ الِاسْتِوَاءِ، فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفِيَّةُ مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عند بِدْعَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَإِذَا ضُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ هَاهُنَا إِلَى مَا ذَكَرْنَا هُنَاكَ تَمَّ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الرُّسُوخُ فِي اللُّغَةِ الثُّبُوتُ فِي الشَّيْءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخَ فِي الْعِلْمِ هُوَ الَّذِي عَرَفَ ذَاتَ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ بِالدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، وَعَرَفَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى بِالدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا مُتَشَابِهًا، وَدَلَّ الْقَطْعِيُّ عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ لَيْسَ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى، عَلِمَ حِينَئِذٍ قَطْعًا أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ شَيْءٌ آخَرُ سِوَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْمُرَادَ حَقٌّ، وَلَا يَصِيرُ كَوْنُ ظَاهِرِهِ مَرْدُودًا شُبْهَةً فِي الطَّعْنِ فِي صِحَّةِ الْقُرْآنِ. ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ أَيْضًا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَالْمَعْنَى: أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَوْ قَالَ: كُلٌّ مِنْ رَبِّنَا كَانَ صَحِيحًا، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي لَفْظِ عِنْدِ؟. الْجَوَابُ، الْإِيمَانُ بِالْمُتَشَابِهِ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى مَزِيدِ التَّأْكِيدِ، فَذَكَرَ كَلِمَةَ عِنْدِ لِمَزِيدِ التَّأْكِيدِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ جَازَ حَذْفُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مِنْ كُلٌّ؟. الْجَوَابُ: لِأَنَّ دَلَالَةَ الْمُضَافِ عَلَيْهِ قَوِيَّةٌ، فَبَعْدَ الْحَذْفِ الْأَمْنُ مِنَ اللَّبْسِ حَاصِلٌ. ثم قال: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ وَهَذَا ثَنَاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِهِ، وَمَعْنَاهُ: مَا يَتَّعِظُ بِمَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا ذَوُو الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ، فَصَارَ هَذَا اللَّفْظُ كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ، فَيَعْلَمُونَ الَّذِي يُطَابِقُ ظَاهِرُهُ دَلَائِلَ الْعُقُولِ فَيَكُونُ مُحْكَمًا، وَأَمَّا الَّذِي يُخَالِفُ ظَاهِرُهُ دَلَائِلَ الْعُقُولِ فَيَكُونُ مُتَشَابِهًا، ثُمَّ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكُلَّ كَلَامُ مَنْ لَا يَجُوزُ فِي كَلَامِهِ التَّنَاقُضُ وَالْبَاطِلُ، فَيَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ الْمُتَشَابِهَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ/ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى عُلُوِّ شَأْنِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يَبْحَثُونَ عَنِ الدلائل

[سورة آل عمران (3) : آية 8]

الْعَقْلِيَّةِ، وَيَتَوَسَّلُونَ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَلَا يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ إِلَّا بما يطابق دلائل العقول، وتوافق اللُّغَةَ وَالْإِعْرَابَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا كَانَ أَشْرَفَ كَانَ ضِدُّهُ أَخَسَّ، فَكَذَلِكَ مُفَسِّرُ الْقُرْآنِ مَتَى كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَتْ دَرَجَتُهُ هَذِهِ الدَّرَجَةَ الْعُظْمَى الَّتِي عَظَّمَ اللَّهُ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ، وَمَتَى تَكَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُتَبَحِّرًا فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَفِي عِلْمِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ كَانَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ فَسَّرَ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مقعده من النار» . [سورة آل عمران (3) : آية 8] رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا حَكَى عَنِ الرَّاسِخِينَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا وَحَذْفُ (يَقُولُونَ) لِدَلَالَةَ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا [آلِ عِمْرَانَ: 191] وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ اخْتَلَفَ كَلَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَكَلَامُ الْمُعْتَزِلَةِ. أَمَّا كَلَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ فَظَاهِرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَلْبَ صَالِحٌ لِأَنْ يَمِيلَ إِلَى الْإِيمَانِ، وَصَالِحٌ لِأَنْ يَمِيلَ إِلَى الْكُفْرِ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَمِيلَ إِلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ إِلَّا عِنْدَ حُدُوثِ دَاعِيَةٍ وَإِرَادَةٍ يُحْدِثُهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الدَّاعِيَةُ دَاعِيَةَ الْكُفْرِ، فَهِيَ الْخِذْلَانُ، وَالْإِزَاغَةُ، وَالصَّدُّ، وَالْخَتْمُ، وَالطَّبْعُ، وَالرَّيْنُ، وَالْقَسْوَةُ، وَالْوَقْرُ، وَالْكِنَانُ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الدَّاعِيَةُ دَاعِيَةَ الْإِيمَانِ فَهِيَ: التَّوْفِيقُ، وَالرَّشَادُ، وَالْهِدَايَةُ، وَالتَّسْدِيدُ، وَالتَّثْبِيتُ، وَالْعِصْمَةُ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ» وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَيْنِ الْأُصْبُعَيْنِ الدَّاعِيَتَانِ، فَكَمَا أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ أُصْبُعَيِ الْإِنْسَانِ يَتَقَلَّبُ كَمَا يُقَلِّبُهُ الْإِنْسَانُ بِوَاسِطَةِ ذَيْنِكَ الْأُصْبُعَيْنِ، فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ لِكَوْنِهِ بَيْنَ الدَّاعِيَتَيْنِ يَتَقَلَّبُ كَمَا يُقَلِّبُهُ الْحَقُّ بِوَاسِطَةِ تَيْنِكَ الدَّاعِيَتَيْنِ، وَمَنْ أَنْصَفَ وَلَمْ يَتَعَسَّفْ، وَجَرَّبَ نَفْسَهُ وَجَدَ هَذَا الْمَعْنَى كَالشَّيْءِ الْمَحْسُوسِ، وَلَوْ جَوَّزَ حُدُوثَ إِحْدَى الدَّاعِيَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُحْدِثٍ وَمُؤَثِّرٍ لَزِمَهُ نَفْيُ الصَّانِعِ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» وَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَا/ فَلَمَّا آمَنَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ بِكُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمُحْكَمَاتِ وَالْمُتَشَابِهَاتِ تَضَرَّعُوا إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي أَنْ لَا يَجْعَلَ قُلُوبَهُمْ مَائِلَةً إِلَى الْبَاطِلِ بَعْدَ أَنْ جَعَلَهَا مَائِلَةً إِلَى الْحَقِّ، فَهَذَا كَلَامٌ بُرْهَانِيٌّ مُتَأَكَّدٌ بِتَحْقِيقٍ قُرْآنِيٍّ. وَمِمَّا يُؤَكِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَاتِ، بَلْ يُؤْمِنُونَ بِهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، وَتَرْكِ الْخَوْضِ فِيهَا فَيَبْعُدُ مِنْهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِالْمُتَشَابِهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُوا قد تكلموا بهذا الدعاء لاعتقادهم أن مِنَ الْمُحْكَمَاتِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ لَهُمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَقْوَى الْمُحْكَمَاتِ، وَهَذَا كَلَامٌ مَتِينٌ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ قَالُوا: لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّ الزَّيْغَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَجَبَ صَرْفُ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى التَّأْوِيلِ، فَأَمَّا دَلَائِلُهُمْ فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَةِ: 6] . وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ خَاصَّةً قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصَّفِّ: 5] وَهُوَ صَرِيحٌ

فِي أَنَّ ابْتِدَاءَ الزَّيْغِ مِنْهُمْ، وَأَمَّا تَأْوِيلَاتُهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَمِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ الْجُبَّائِيُّ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ لَا تُزِغْ قُلُوبَنا يَعْنِي لَا تَمْنَعْهَا الْأَلْطَافَ الَّتِي مَعَهَا يَسْتَمِرُّ قَلْبُهُمْ عَلَى صِفَةِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَنَعَهُمْ أَلْطَافَهُ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِمْ مَنْعَ ذَلِكَ جَازَ أَنْ يُقَالَ: أَزَاغَهُمْ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] وَالثَّانِي: قَالَ الْأَصَمُّ: لَا تُبْلِنَا بِبَلْوَى تَزِيغُ عِنْدَهَا قُلُوبُنَا فَهُوَ كَقَوْلِهِ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النِّسَاءِ: 66] وَقَالَ: لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ [الزُّخْرُفِ: 33] وَالْمَعْنَى لَا تُكَلِّفْنَا مِنَ الْعِبَادَاتِ مَا لَا نَأْمَنُ مَعَهُ الزَّيْغَ، وَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ: لَا تَحْمِلْنِي عَلَى إِيذَائِكَ أَيْ لَا تَفْعَلْ مَا أَصِيرُ عِنْدَهُ مُؤْذِيًا لَكَ الثَّالِثُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ لَا تُزِغْ قُلُوبَنا أَيْ لَا تُسَمِّنَا بِاسْمِ الزَّائِغِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يُكَفِّرُ فُلَانًا إِذَا سَمَّاهُ كَافِرًا، وَالرَّابِعُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: أَيْ لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا عَنْ جَنَّتِكَ وَثَوَابِكَ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فِي الْحَالِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ إِلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لَكَفَرَ، فَقَوْلُهُ لَا تُزِغْ قُلُوبَنا مَحْمُولٌ عَلَى أَنْ يُمِيتَهُ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ كَافِرًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِبْقَاءَهُ حَيًّا إِلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ يَجْرِي مَجْرَى مَا إِذَا أَزَاغَهُ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ الْخَامِسُ: قَالَ الْأَصَمُّ لَا تُزِغْ قُلُوبَنا عَنْ كَمَالِ الْعَقْلِ بِالْجُنُونِ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا بِنُورِ الْعَقْلِ السَّادِسُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: احْرُسْنَا مِنَ الشَّيْطَانِ وَمِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا حتى لا نزيغ، فهذا جمل مَا ذَكَرُوهُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ بأسرها ضعيفة. أما الأول: فلأن من مذهبم أَنَّ كُلَّ مَا صَحَّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ فِي حَقِّهِمْ لُطْفًا/ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وُجُوبًا لَوْ تَرَكَهُ لَبَطَلَتْ إِلَهِيَّتُهُ، وَلَصَارَ جَاهِلًا وَمُحْتَاجًا وَالشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى الدُّعَاءِ فِي طَلَبِهِ بَلْ هَذَا الْقَوْلُ يَسْتَمِرُّ عَلَى قَوْلِ بِشْرِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ لَا يُوجِبُونَ عَلَى اللَّهِ فِعْلَ جَمِيعِ الْأَلْطَافِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَضَعِيفٌ، لِأَنَّ التَّشْدِيدَ فِي التَّكْلِيفِ إِنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَثَرًا فِي حَمْلِ الْمُكَلَّفِ عَلَى الْقَبِيحِ قَبُحَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ الْبَتَّةَ فِي حَمْلِ الْمُكَلَّفِ عَلَى فِعْلِ الْقَبِيحِ كَانَ وَجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى كَوْنِ الْعَبْدِ مُطِيعًا وَعَاصِيًا، فَلَا فَائِدَةَ فِي صَرْفِ الدُّعَاءِ إِلَيْهِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَهُوَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ بِالزَّيْغِ وَالْكُفْرِ دَائِرٌ مَعَ الْكُفْرِ وَجُودًا وَعَدَمًا وَالْكُفْرُ وَالزَّيْغُ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي قَوْلِهِ لَا تُسَمِّنَا بِاسْمِ الزَّيْغِ وَالْكُفْرِ. وَأَمَّا الرَّابِعُ: فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِلْمُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَكْفُرُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، يُوجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُمِيتَهُ لَكَانَ عِلْمُهُ بِأَنْ لَا يُؤْمِنَ قَطُّ وَيَكْفُرَ طُولَ عُمُرِهِ يُوجِبُ عَلَيْهِ لَا يَخْلُقُهُ. وَأَمَّا الْخَامِسُ: وَهُوَ حَمْلُهُ عَلَى إِبْقَاءِ الْعَقْلِ فَضَعِيفٌ، لِأَنَّ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الآية فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران: 7] . وَأَمَّا السَّادِسُ: وَهُوَ أَنَّ الْحِرَاسَةَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَمِنْ شُرُورِ النَّفْسِ إِنْ كَانَ مَقْدُورًا وَجَبَ فِعْلُهُ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الدُّعَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا تَعَذَّرَ فِعْلُهُ فَلَا فَائِدَةَ فِي الدُّعَاءِ، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا سُقُوطُ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَأَنَّ الْحَقَّ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ كَيْفَ الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] .

[سورة آل عمران (3) : آية 9]

قُلْنَا: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُزِيغُهُمُ ابْتِدَاءً فَعِنْدَ ذَلِكَ يَزِيغُونَ، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الزَّيْغِ إِزَاغَةٌ أُخْرَى سِوَى الْأُولَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ ذَلِكَ لَا مُنَافَاةَ فِيهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا أَيْ بَعْدَ أَنْ جَعَلْتَنَا مُهْتَدِينَ، وَهَذَا أَيْضًا صَرِيحٌ فِي أَنَّ حُصُولَ الْهِدَايَةِ فِي الْقَلْبِ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ: وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَاعْلَمْ أَنَّ تَطْهِيرَ الْقَلْبِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي مُقَدَّمٌ عَلَى تَنْوِيرِهِ مِمَّا يَنْبَغِي، فَهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ سَأَلُوا رَبَّهُمْ أَوَّلًا أَنْ لَا يَجْعَلَ قُلُوبَهُمْ مَائِلَةً إِلَى الْبَاطِلِ والعقائد الفاسدة، ثم أنهم ابتغوا ذَلِكَ بِأَنْ طَلَبُوا مِنْ رَبِّهِمْ أَنْ يُنَوِّرَ قلوبهم بأنوار المعرفة، وجوارحهم وأعضائهم بِزِينَةِ الطَّاعَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: رَحْمَةً لِيَكُونَ ذَلِكَ شَامِلًا لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ، فَأَوَّلُهَا: أَنْ يَحْصُلَ فِي الْقَلْبِ نُورُ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَثَانِيهَا: أَنْ يَحْصُلَ فِي الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ نُورُ الطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْخِدْمَةِ، وَثَالِثُهَا: أَنْ يَحْصُلَ فِي الدُّنْيَا سُهُولَةُ أَسْبَابِ الْمَعِيشَةِ مِنَ الْأَمْنِ وَالصِّحَّةِ وَالْكِفَايَةِ وَرَابِعُهَا: أَنْ يَحْصُلَ عِنْدَ الْمَوْتِ سُهُولَةُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَخَامِسُهَا: أَنْ يَحْصُلَ فِي الْقَبْرِ سُهُولَةُ السُّؤَالِ، وَسُهُولَةُ ظُلْمَةِ الْقَبْرِ. وَسَادِسُهَا: أَنْ يَحْصُلَ فِي الْقِيَامَةِ سُهُولَةُ الْعُقَابِ وَالْخِطَابِ وَغُفْرَانُ السَّيِّئَاتِ وَتَرْجِيحُ الْحَسَنَاتِ فَقَوْلُهُ مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَلَمَّا ثَبَتَ بِالْبَرَاهِينِ الْبَاهِرَةِ الْقَاهِرَةِ أَنَّهُ لَا رَحِيمَ إِلَّا هُوَ، وَلَا كَرِيمَ إِلَّا هُوَ، لَا جَرَمَ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ مِنْ لَدُنْكَ تَنْبِيهًا لِلْعَقْلِ وَالْقَلْبِ وَالرُّوحِ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَطْلُوبُ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَبْدِ لَا جَرَمَ ذَكَرَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَطْلُبُ رَحْمَةً وَأَيَّةُ رَحْمَةٍ، أَطْلُبُ رَحْمَةً مِنْ لَدُنْكَ، وَتَلِيقُ بِكَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ غَايَةَ الْعَظَمَةِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ كَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: إِلَهِي هَذَا الَّذِي طَلَبْتُهُ مِنْكَ فِي هَذَا الدُّعَاءِ عَظِيمٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيَّ، لَكِنَّهُ حَقِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَمَالِ كَرَمِكَ، وَغَايَةِ جُودِكَ وَرَحْمَتِكَ، فَأَنْتَ الْوَهَّابُ الَّذِي مِنْ هِبَتِكَ حَصَلَتْ حَقَائِقُ الْأَشْيَاءِ وَذَوَاتُهَا وَمَاهِيَّاتُهَا وَوُجُودَاتُهَا فَكُلُّ مَا سِوَاكَ فَمِنْ جُودِكَ وَإِحْسَانِكَ وَكَرَمِكَ، يَا دَائِمَ الْمَعْرُوفِ، يَا قَدِيمَ الْإِحْسَانِ، لَا تُخَيِّبْ رَجَاءَ هَذَا الْمِسْكِينِ، وَلَا تَرُدَّ دُعَاءَهُ، وَاجْعَلْهُ بِفَضْلِكَ أَهْلًا لِرَحْمَتِكَ يَا أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. [سورة آل عمران (3) : آية 9] رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَصُونَهُمْ عَنِ الزَّيْغِ، وَأَنْ يَخُصَّهُمْ بِالْهِدَايَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: لَيْسَ الْغَرَضُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا مُنْقَضِيَةٌ مُنْقَرِضَةٌ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ الْأَعْظَمُ مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ يَا إِلَهَنَا جَامِعُ النَّاسِ لِلْجَزَاءِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَنَعْلَمُ أَنَّ وَعْدَكَ لَا يَكُونُ خُلْفًا وَكَلَامَكَ لَا يَكُونُ كَذِبًا، فَمَنْ زَاغَ قَلْبُهُ بَقِيَ هُنَاكَ فِي الْعَذَابِ أَبَدَ الْآبَادِ، وَمَنْ أَعْطَيْتَهُ التَّوْفِيقَ وَالْهِدَايَةَ وَالرَّحْمَةَ وَجَعَلْتَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَقِيَ هُنَاكَ فِي السَّعَادَةِ وَالْكَرَامَةِ أَبَدَ الْآبَادِ، فَالْغَرَضُ الْأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الدُّعَاءِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ، بَقِيَ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ تَقْدِيرُهُ: جَامِعُ النَّاسِ لِلْجَزَاءِ فِي يَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، فَحُذِفَ لِكَوْنِ الْمُرَادِ ظَاهِرًا.

المسألة الثانية: إِنَّ كَلَامَ الْمُؤْمِنِينَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَأَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا قَالُوا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ صَدَقَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ وَأَيَّدَ كَلَامَهُمْ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ كَمَا قَالَ حِكَايَةً عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ/ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ [آلِ عِمْرَانَ: 194] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَا يَبْعُدُ وُرُودُ هَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الْعُدُولِ فِي الْكَلَامِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ، وَمِثْلُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَثِيرٌ، قَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يُونُسَ: 22] . فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قَالُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ وَقَالُوا فِي تِلْكَ الْآيَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ. قُلْتُ: الْفَرْقُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي مَقَامِ الْهَيْبَةِ، يَعْنِي أَنَّ الْإِلَهِيَّةَ تَقْتَضِي الحشر والنشر لينتصف المظلومين مِنَ الظَّالِمِينَ، فَكَانَ ذِكْرُهُ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ أَوْلَى فِي هَذَا الْمَقَامِ، أَمَّا قَوْلُهُ فِي آخِرِ السورة إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ [آل عمران: 194] فَذَاكَ الْمَقَامُ مَقَامُ طَلَبِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُنْعِمَ عَلَيْهِ بِفَضْلِهِ، وَأَنْ يَتَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِهِ فَلَمْ يَكُنِ الْمَقَامُ مَقَامَ الْهَيْبَةِ، فَلَا جَرَمَ قَالَ: إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْقَطْعِ بِوَعِيدِ الْفُسَّاقِ، قَالَ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَعِيدَ دَاخِلٌ تَحْتِ لَفْظِ الْوَعْدِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [الْأَعْرَافِ: 44] وَالْوَعْدُ وَالْمَوْعِدُ وَالْمِيعَادُ وَاحِدٌ، وَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَكَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُخْلِفُ فِي الْوَعِيدِ. وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَعَالَى يُوعِدُ الْفُسَّاقَ مُطْلَقًا، بَلْ ذَلِكَ الْوَعِيدُ عِنْدَنَا مَشْرُوطٌ بِشَرْطِ عَدَمِ الْعَفْوِ، كَمَا أَنَّهُ بِالِاتِّفَاقِ مَشْرُوطٌ بِشَرْطِ عَدَمِ التَّوْبَةِ، فَكَمَا أَنَّكُمْ أَثْبَتُّمْ ذَلِكَ الشَّرْطَ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، فَكَذَا نَحْنُ أَثْبَتْنَا شَرْطَ عَدَمِ الْعَفْوِ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ يُوعِدُهُمْ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوَعِيدَ دَاخِلٌ تَحْتِ لَفْظِ الْوَعْدِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا. قُلْنَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آلِ عِمْرَانَ: 21] وَقَوْلِهِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدُّخَانِ: 49] وَأَيْضًا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَقَّعُونَ مِنْ أَوْثَانِهِمْ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْوَعْدِ تِلْكَ الْمَنَافِعَ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي مَسْأَلَةِ الْوَعِيدِ قَدْ مَرَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: 81] وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ طَرِيقَةً أُخْرَى، فَقَالَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى مِيعَادِ الْأَوْلِيَاءِ، دُونَ وَعِيدِ الْأَعْدَاءِ، لِأَنَّ خُلْفَ الْوَعِيدِ كَرَمٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ يَمْدَحُونَ بِذَلِكَ، قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا وَعَدَ السَّرَّاءَ أَنْجَزَ وَعْدَهُ ... وَإِنْ أَوْعَدَ الضَّرَّاءَ فَالْعَفْوُ مَانِعُهْ وَرَوَى الْمُنَاظَرَةَ الَّتِي دَارَتْ بَيْنَ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، وَبَيْنَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ: مَا تَقُولُ فِي أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ؟ قَالَ: أَقُولُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَ وَعْدًا، وَأَوْعَدَ إِيعَادًا، فَهُوَ مُنْجِزٌ إِيعَادَهُ، كَمَا هُوَ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ، فَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ: إِنَّكَ رَجُلٌ أَعْجَمُ، لَا أَقُولُ أَعْجَمُ/ اللِّسَانِ وَلَكِنْ أَعْجَمُ الْقَلْبِ،

[سورة آل عمران (3) : آية 10]

إِنَّ الْعَرَبَ تَعُدُّ الرُّجُوعَ عَنِ الْوَعْدِ لُؤْمًا وَعَنِ الْإِيعَادِ كَرَمًا وَأَنْشَدَ: وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُكْذِبُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ حَكَوْا أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ لَمَّا قَالَ هَذَا الْكَلَامَ قَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: يَا أَبَا عَمْرٍو فَهَلْ يُسَمَّى اللَّهُ مُكَذِّبَ نَفْسِهِ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: فَقَدْ سَقَطَتْ حُجَّتُكَ، قَالُوا: فَانْقَطَعَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ. وَعِنْدِي أَنَّهُ كَانَ لِأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ أَنْ يُجِيبَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فَيَقُولُ: إِنَّكَ قِسْتَ الْوَعِيدَ عَلَى الْوَعْدِ وَأَنَا إِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَعْدَ حَقٌّ عَلَيْهِ وَالْوَعِيدَ حَقٌّ لَهُ، وَمَنْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فَقَدْ أَتَى بِالْجُودِ وَالْكَرَمِ، وَمَنْ أَسْقَطَ حَقَّ غَيْرِهِ فَذَلِكَ هُوَ اللُّؤْمُ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَبَطَلَ قِيَاسُكَ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا الشِّعْرَ لِإِيضَاحِ هَذَا الْفَرْقِ، فَأَمَّا قَوْلُكَ: لَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَصَارَ كَاذِبًا وَمُكَذِّبًا نَفْسَهُ، فَجَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ الْوَعِيدُ ثَابِتًا جَزْمًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَعِنْدِي جَمِيعُ الْوَعِيدَاتِ مَشْرُوطَةٌ بِعَدَمِ الْعَفْوِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِهِ دُخُولُ الْكَذِبِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْحِكَايَةِ وَاللَّهُ أعلم. [سورة آل عمران (3) : آية 10] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ دُعَاءَهُمْ وَتَضَرُّعَهُمْ، حَكَى كَيْفِيَّةَ حَالِ الْكَافِرِينَ وَشَدِيدَ عِقَابِهِمْ، فَهَذَا هُوَ وجه النظم، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِهِمْ وَفْدُ نَجْرَانَ، وَذَلِكَ لِأَنَّا رُوِّينَا فِي بَعْضِ قِصَّتِهِمْ أَنَّ أَبَا حَارِثَةَ بْنَ عَلْقَمَةَ قَالَ لِأَخِيهِ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا وَلَكِنَّنِي إِنْ أَظْهَرْتُ ذَلِكَ أَخَذَ مُلُوكُ الرُّومِ مِنِّي مَا أَعْطَوْنِي مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ لَا تَدْفَعُ عَنْهُمْ عَذَابَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ، وَخُصُوصُ السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ عُمُومَ اللَّفْظِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ كَمَالَ الْعَذَابِ هُوَ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ كُلُّ مَا كَانَ مُنْتَفِعًا بِهِ، ثُمَّ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ/ جَمِيعُ الْأَسْبَابِ الْمُؤْلِمَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْءَ عِنْدَ الْخُطُوبِ وَالنَّوَائِبِ فِي الدُّنْيَا يَفْزَعُ إِلَى الْمَالِ وَالْوَلَدِ، فَهُمَا أَقْرَبُ الْأُمُورِ الَّتِي يَفْزَعُ الْمَرْءُ إِلَيْهَا فِي دَفْعِ الْخُطُوبِ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ صِفَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ مُخَالِفَةٌ لِصِفَةِ الدُّنْيَا لِأَنَّ أَقْرَبَ الطُّرُقِ إِلَى دَفْعِ الْمَضَارِّ إِذَا لَمْ يَتَأَتَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَمَا عَدَاهُ بِالتَّعَذُّرِ أَوْلَى، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشُّعَرَاءِ: 88، 89] وَقَوْلُهُ الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً [الْكَهْفِ: 46] وَقَوْلُهُ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً [مَرْيَمَ: 80] وَقَوْلُهُ وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [الْأَنْعَامِ: 94] . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: مِنْ أَسْبَابِ كَمَالِ الْعَذَابِ، فَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَيْهِ الْأَسْبَابُ الْمُؤْلِمَةُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ

[سورة آل عمران (3) : آية 11]

تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ وَهَذَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي شَرْحِ الْعَذَابِ فَإِنَّهُ لَا عَذَابَ أَزْيَدُ مِنْ أَنْ تَشْتَعِلَ النَّارُ فِيهِمْ كَاشْتِعَالِهَا فِي الْحَطَبِ الْيَابِسِ، وَالْوَقُودُ بِفَتْحِ الْوَاوِ الْحَطَبُ الَّذِي تُوقَدُ بِهِ النَّارُ، وَبِالضَّمِّ هُوَ مَصْدَرُ وَقَدَتِ النَّارُ وُقُودًا كَقَوْلِهِ: وَرَدَتْ وُرُودًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ مِنَ اللَّهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: التَّقْدِيرُ: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فَحَذَفَ الْمُضَافَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَالثَّانِي: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ (مِنْ) بِمَعْنَى عِنْدَ، وَالْمَعْنَى لَنْ تُغْنِيَ عِنْدَ اللَّهِ شَيْئًا. [سورة آل عمران (3) : آية 11] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) يقال: دأبت الشيء أدأب دأبا ودؤبا إِذَا أَجْهَدْتُ فِي الشَّيْءِ وَتَعِبْتُ فِيهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً [يُوسُفَ: 47] أَيْ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ وَدَوَامٍ، وَيُقَالُ: سَارَ فُلَانٌ يَوْمًا دَائِبًا، إِذَا أَجْهَدَ فِي السَّيْرِ يَوْمَهُ كُلَّهُ، هَذَا مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ، ثُمَّ صَارَ الدَّأْبُ عِبَارَةً عَنِ الشَّأْنِ وَالْأَمْرِ وَالْعَادَةِ، يُقَالُ: هَذَا دأب فلان أي عادته، وقال بعضهم: الدؤب وَالدَّأْبُ الدَّوَامُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي كَيْفِيَّةِ التَّشْبِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنْ يُفَسَّرَ الدَّأْبُ بِالِاجْتِهَادِ، كَمَا هُوَ مَعْنَاهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَصَمِّ وَالزَّجَّاجِ، وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّ دَأْبَ الْكُفَّارِ، أَيْ جِدَّهُمْ/ وَاجْتِهَادَهُمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُفْرِهِمْ بِدِينِهِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ إِنَّا أَهْلَكَنَا أُولَئِكَ بِذُنُوبِهِمْ، فَكَذَا نُهْلِكُ هَؤُلَاءِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُفَسَّرَ الدَّأْبُ بِالشَّأْنِ وَالصُّنْعِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ أَيْ شَأْنُ هَؤُلَاءِ وَصُنْعُهُمْ فِي تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَشَأْنِ آلِ فِرْعَوْنَ فِي التَّكْذِيبِ بِمُوسَى، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ إِلَّا أَنَّا حَمَلْنَا اللَّفْظَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَلَى الِاجْتِهَادِ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ عَلَى الصُّنْعِ وَالْعَادَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَجْعَلُهُمُ اللَّهُ وَقُودَ النَّارِ كَعَادَتِهِ وَصُنْعِهِ فِي آلِ فِرْعَوْنَ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ أَخَذَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَالْمَصْدَرُ تَارَةً يُضَافُ إِلَى الْفَاعِلِ، وَتَارَةً إِلَى الْمَفْعُولِ، وَالْمُرَادُ هَاهُنَا، كَدَأْبِ اللَّهِ فِي آلِ فِرْعَوْنَ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا كَذَّبُوا بِرَسُولِهِمْ أَخَذَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 165] أَيْ كَحُبِّهِمُ اللَّهَ وَقَالَ: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا [الْإِسْرَاءِ: 77] وَالْمَعْنَى: سُنَّتِي فِيمَنْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ وَالثَّالِثُ: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ جَامِعَةً لِلْعَادَةِ الْمُضَافَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْعَادَةِ الْمُضَافَةِ إِلَى الْكُفَّارِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ عَادَةَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ وَمَذْهَبَهُمْ فِي إِيذَاءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعَادَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي إِيذَاءِ رُسُلِهِمْ، وَعَادَتَنَا أَيْضًا فِي إِهْلَاكِ هَؤُلَاءِ، كَعَادَتِنَا فِي إِهْلَاكِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالْمَقْصُودُ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ نَصْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِيذَاءِ الْكَفَرَةِ وَبِشَارَتُهُ بِأَنَّ اللَّهَ سَيَنْتَقِمُ مِنْهُمْ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ الدَّأْبِ والدؤب، وَهُوَ اللُّبْثُ وَالدَّوَامُ وَطُولُ الْبَقَاءِ فِي الشَّيْءِ، وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ، وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ كَدَأْبِ آل فرعون، أي دؤبهم في النار كدؤب آلِ فِرْعَوْنَ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الدَّأْبَ هُوَ الِاجْتِهَادُ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ لِيَكُونَ الْمَعْنَى وَمِشْقَتُهُمْ وَتَعَبُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ كَمَشَقَّةِ آلِ فِرْعَوْنَ بِالْعَذَابِ وَتَعَبِهِمْ بِهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ عَذَابَهُمْ حَصَلَ فِي غَايَةِ

[سورة آل عمران (3) : آية 12]

الْقُرْبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نُوحٍ: 25] وَفِي غَايَةِ الشِّدَّةِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غَافِرٍ: 46] . الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمُشَبَّهَ هُوَ أَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ لَا تَنْفَعُهُمْ فِي إِزَالَةِ الْعَذَابِ، فَكَانَ التَّشْبِيهُ بِآلِ فِرْعَوْنَ حَاصِلًا فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمْ مَا حَلَّ بِآلِ فِرْعَوْنَ وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ مِنَ الْعَذَابِ الْمُعَجَّلِ الَّذِي عِنْدَهُ لَمْ يَنْفَعْهُمْ مَالٌ وَلَا وَلَدٌ، بَلْ صَارُوا مُضْطَرِّينَ إِلَى مَا نَزَلَ بِهِمْ فَكَذَلِكَ حَالُكُمْ أَيُّهَا الْكُفَّارُ الْمُكَذِّبُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنَّهُ يَنْزِلُ بِكُمْ مِثْلُ مَا نَزَلَ بِالْقَوْمِ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ وَلَا تُغْنِي عَنْكُمُ الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّهُ كَمَا نَزَلَ بِمَنْ تَقَدَّمَ الْعَذَابُ الْمُعَجَّلُ بِالِاسْتِئْصَالِ فَكَذَلِكَ يَنْزِلُ بِكُمْ أَيُّهَا الْكُفَّارُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ/ وَسَلْبِ الْأَمْوَالِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ [آلِ عمران: 12] كَالدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ كَمَا نَزَلَ بِالْقَوْمِ الْعَذَابُ الْمُعَجَّلُ، ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى دَوَامِ الْعَذَابِ، فَسَيَنْزِلُ بِمَنْ كَذَّبَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: الْمِحَنُ الْمُعَجَّلَةُ وَهِيَ الْقَتْلُ وَالسَّبْيُ وَالْإِذْلَالُ، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُ الْمَصِيرُ إِلَى الْعَذَابِ الْأَلِيمِ الدَّائِمِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ الْأَخِيرَانِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَالْمَعْنَى: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ، وَقَوْلُهُ كَذَّبُوا بِآياتِنا الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ الْمُعْجِزَاتُ وَمَتَى كَذَّبُوا بِهَا فَقَدْ كَذَّبُوا لَا مَحَالَةَ بِالْأَنْبِيَاءِ. ثُمَّ قَالَ: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَ فِيهِ الْأَخْذَ لِأَنَّ مَنْ يَنْزِلُ بِهِ الْعِقَابُ يَصِيرُ كَالْمَأْخُوذِ الْمَأْسُورِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ وَهُوَ ظَاهِرٌ. [سورة آل عمران (3) : آية 12] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ بِالْيَاءِ فِيهِمَا، وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ فَوْقُ فِيهِمَا، فَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ تَحْتُ، فَالْمَعْنَى: بَلِّغْهُمْ أَنَّهُمْ سَيُغْلَبُونَ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْيَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية: 14] وقُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا [النُّورِ: 30] وَلَمْ يَقُلْ غُضُّوا، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَلِلْمُخَاطَبَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى حُسْنِ التَّاءِ قَوْلُهُ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ [آلِ عِمْرَانَ: 81] وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالتَّاءِ أَمْرٌ بِأَنْ يُخْبِرَهُمْ بِمَا سَيَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ الْغَلَبَةِ وَالْحَشْرِ إِلَى جَهَنَّمَ، وَالْقِرَاءَةُ بِالْيَاءِ أَمْرٌ بِأَنْ يَحْكِيَ لَهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا يَوْمَ بَدْرٍ وَقِدَمَ الْمَدِينَةِ، جَمَعَ يَهُودَ فِي سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ أَسْلِمُوا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قُرَيْشًا، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ لَا تَغُرَّنَّكَ نَفْسُكَ أَنْ قَتَلْتَ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ لَا يَعْرِفُونَ الْقِتَالَ، لَوْ قَاتَلْتَنَا لَعَرَفْتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.

[سورة آل عمران (3) : آية 13]

الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ يَهُودَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمَّا شَاهَدُوا وَقْعَةَ أَهْلِ بَدْرٍ، قَالُوا: وَاللَّهِ هُوَ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الَّذِي بَشَّرَنَا بِهِ مُوسَى فِي التَّوْرَاةِ، وَنَعَتَهُ وَأَنَّهُ لَا تُرَدُّ لَهُ رَايَةٌ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تَعْجَلُوا فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَنَكَبَ أَصْحَابُهُ قَالُوا: لَيْسَ هَذَا هُوَ ذَاكَ، وَغَلَبَ الشَّقَاءُ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يُسْلِمُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَالرِّوَايَةُ الثالثة: أن هذا الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي جَمْعٍ مِنَ الْكُفَّارِ بِأَعْيَانِهِمْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَنْ هُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ تِلْكَ الْفِرْقَةِ مِنَ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ، فَلَوْ آمنوا وأطاعوا لا نقلب هَذَا الْخَبَرُ كَذِبًا وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَمُسْتَلْزَمُ الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَكَانَ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ مُحَالًا مِنْهُمْ، وَقَدْ أُمِرُوا بِهِ، فَقَدْ أُمِرُوا بِالْمُحَالِ وَبِمَا لَا يُطَاقُ، وَتَمَامُ تَقْرِيرِهِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَةِ: 6] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ سَتُغْلَبُونَ إِخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ يَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدْ وَقَعَ مُخْبِرُهُ عَلَى مُوَافَقَتِهِ، فَكَانَ هَذَا إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ وَهُوَ مُعْجِزٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الرُّومِ: 2، 3] الْآيَةَ، وَنَظِيرُهُ فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 49] . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى حُصُولِ الْبَعْثِ فِي الْقِيَامَةِ، وَحُصُولِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَأَنَّ مَرَدَّ الْكَافِرِينَ إِلَى النَّارِ. ثُمَّ قَالَ: وَبِئْسَ الْمِهادُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَشْرَهُمْ إِلَى جهنم وصفه فقال: بِئْسَ الْمِهادُ وَالْمِهَادُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يُتَمَهَّدُ فِيهِ وَيُنَامُ عَلَيْهِ كَالْفِرَاشِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ [الذَّارِيَاتِ: 48] فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَصِيرَ الْكَافِرِينَ إِلَى جَهَنَّمَ أَخْبَرَ عَنْهَا بِالشَّرِّ لِأَنَّ بِئْسَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْبَأْسَاءِ هُوَ الشَّرُّ وَالشِّدَّةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ [الْأَعْرَافِ: 165] أَيْ شَدِيدٍ وَجَهَنَّمُ مَعْرُوفَةٌ أعاذنا الله منها بفضله. [سورة آل عمران (3) : آية 13] قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) [في قوله تعالى قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَمْ يَقُلْ: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ آيَةٌ، بَلْ قَالَ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، وَالْمُرَادُ: قَدْ كَانَ لَكُمْ إِتْيَانُ هَذَا آيَةً. وَالثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا ذُكِرَ لِلْفَصْلِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُهُ لَكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَجْهُ النَّظْمِ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ أَظْهَرُوا التَّمَرُّدَ وَقَالُوا أَلَسْنَا أَمْثَالَ قُرَيْشٍ فِي الضَّعْفِ وَقِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ بِالْقِتَالِ بَلْ مَعَنَا مِنَ الشَّوْكَةِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْقِتَالِ مَا يَغْلِبُ كُلَّ مَنْ يُنَازِعُنَا فَاللَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُمْ إِنَّكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ

أَقْوِيَاءَ وَأَرْبَابَ الْعُدَّةِ وَالْعِدَّةِ فَإِنَّكُمْ سَتُغْلَبُونَ ثُمَّ ذكر الله تعالى ما يجري الدلالة على صحة ذلك الْحِكَمِ، فَقَالَ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ يَعْنِي وَاقِعَةَ بَدْرٍ كَانَتْ كَالدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْكَثْرَةَ وَالْعُدَّةَ كَانَتْ مِنْ جَانِبِ الْكُفَّارِ وَالْقِلَّةَ وَعَدَمَ السِّلَاحِ مِنْ جَانِبِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَهَرَ الْكُفَّارَ وَجَعَلَ الْمُسْلِمِينَ مُظَفَّرِينَ مَنْصُورِينَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْغَلَبَةَ كَانَتْ بِتَأْيِيدِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَالِبًا لِجَمِيعِ الْخُصُومِ، سَوَاءٌ كَانُوا أَقْوِيَاءَ أَوْ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ فَهَذَا مَا يَجْرِي مَجْرَى الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَهْزِمُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ وَيَقْهَرُهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَرْبَابَ السِّلَاحِ وَالْقُوَّةِ، فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَالدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ الْآيَةَ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي وَجْهِ النَّظْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (الْفِئَةُ) الْجَمَاعَةُ، وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِئَتَيْنِ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَمُشْرِكُو مَكَّةَ رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَانُوا تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا، وَفِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ وَأَبُو جَهْلٍ، وَقَادُوا مِائَةَ فَرَسٍ، وَكَانَتْ مَعَهُمْ مِنَ الْإِبِلِ سَبْعَمِائَةِ بَعِيرٍ، وَأَهْلُ الْخَيْلِ كُلُّهُمْ كَانُوا دَارِعِينَ وَهُمْ مِائَةُ نَفَرٍ، وَكَانَ فِي الرِّجَالِ دُرُوعٌ سِوَى ذَلِكَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ ثلاثمائة وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا بَيْنَ كُلِّ أَرْبَعَةٍ مِنْهُمْ بَعِيرٌ، وَمَعَهُمْ مِنَ الدُّرُوعِ سِتَّةٌ، وَمِنَ الْخَيْلِ فَرَسَانِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي غَلَبَةِ الْمُسْلِمِينَ لِلْكُفَّارِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ آيَةً بَيِّنَةً وَمُعْجِزَةً قَاهِرَةً. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ كَوْنِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ آيَةً بَيِّنَةً وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانَ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِمْ مِنْ أسباب الضعف عن المقاومة أمور، منها: قل الْعَدَدِ، وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ خَرَجُوا غَيْرَ قَاصِدِينَ لِلْحَرْبِ فَلَمْ يَتَأَهَّبُوا، وَمِنْهَا قِلَّةُ السِّلَاحِ وَالْفَرَسِ، وَمِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ ابْتِدَاءُ غَارَةٍ فِي الْحَرْبِ لِأَنَّهَا أَوَّلُ غَزَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ قَدْ حَصَلَ لِلْمُشْرِكِينَ أَضْدَادُ هَذِهِ الْمَعَانِي مِنْهَا: كَثْرَةُ الْعَدَدِ، وَمِنْهَا أَنَّهُمْ خَرَجُوا مُتَأَهِّبِينَ لِلْحَرْبِ، وَمِنْهَا كَثْرَةُ سِلَاحِهِمْ وَخَيْلِهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ كَانُوا مُمَارِسِينَ لِلْمُحَارَبَةِ، وَالْمُقَاتَلَةِ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ أَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْعَدَدِ فِي الْقِلَّةِ وَالضَّعْفِ وَعَدَمِ السِّلَاحِ وَقِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ بِأَمْرِ الْمُحَارَبَةِ يَغْلِبُونَ مِثْلَ ذَلِكَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مَعَ كَثْرَةِ سِلَاحِهِمْ وَتَأَهُّبِهِمْ لِلْمُحَارَبَةِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ خَارِجًا عَنِ الْعَادَةِ كَانَ مُعْجِزًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي كَوْنِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ آيَةً أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ قَدْ أَخْبَرَ قَوْمَهُ بِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُ عَلَى قُرَيْشٍ بِقَوْلِهِ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ [الْأَنْفَالِ: 7] يَعْنِي جَمْعَ قُرَيْشٍ أَوْ عِيرَ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَ قَدْ أُخْبِرَ قَبْلَ الْحَرْبِ بِأَنَّ هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، فَلَمَّا وُجِدَ مُخْبَرُ خَبَرِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى وَفْقِ خَبَرِهِ كَانَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ، فَكَانَ مُعْجِزًا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي بَيَانِ كَوْنِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ آيَةً مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَالْأَصَحُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الرَّائِينَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمَرْئِيِّينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَرَوْنَ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ قَرِيبًا مِنْ أَلْفَيْنِ، أَوْ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ سِتُّمِائَةٍ، وَذَلِكَ مُعْجِزٌ. فَإِنْ قِيلَ: تَجْوِيزُ رُؤْيَةِ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ يُفْضِي إِلَى السَّفْسَطَةِ.

قُلْنَا: نَحْمِلُ الرُّؤْيَةَ عَلَى الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنِ اشْتَدَّ خَوْفُهُ قَدْ يَظُنُّ فِي الْجَمْعِ الْقَلِيلِ أَنَّهُمْ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، وَإِمَّا أَنْ نَقُولَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ حَتَّى صَارَ عَسْكَرُ الْمُسْلِمِينَ كَثِيرِينَ وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مُقْتَصِرٌ عَلَى الْفِئَتَيْنِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِمَا قِصَّةُ الْمَلَائِكَةِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي بَيَانِ كَوْنِ هَذِهِ الْقِصَّةَ آيَةً، قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَدَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُ قَالَ: فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ [الْأَنْفَالِ: 9] وَقَالَ: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [آلِ عِمْرَانَ: 125] وَالْأَلْفُ مَعَ الْأَرْبَعَةِ آلَافِ: خَمْسَةُ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَكَانَ سِيمَاهُمْ هُوَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى أَذْنَابِ خُيُولِهِمْ وَنَوَاصِيهَا صُوفٌ أَبْيَضُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بَقَوْلِهِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ فِئَةٌ بِالرَّفْعِ، وَكَذَا قَوْلُهُ وَأُخْرى كافِرَةٌ وقرئ فئة فقاتل وَأُخْرَى كَافِرَةٍ بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ فِئَتَيْنِ، وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ إِمَّا عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَوْ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْتَقَتَا، قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالرَّفْعُ هُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّ الْمَعْنَى إِحْدَاهُمَا تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ رَفْعٌ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْكَلَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِالْفِئَةِ الَّتِي تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هُمُ الْمُسْلِمُونَ، لِأَنَّهُمْ قَاتَلُوا لِنُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ وَأُخْرى كافِرَةٌ الْمُرَادُ بِهَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبَانُ عَنْ عَاصِمٍ تَرَوْنَهُمْ بِالتَّاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ فَوْقُ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ فَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَلِأَنَّ مَا قَبْلَهُ خِطَابٌ لِلْيَهُودِ، وَالْمَعْنَى تَرَوْنَ أَيُّهَا الْيَهُودُ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْ مَا كَانُوا، أَوْ مِثْلَيِ/ الْفِئَةِ الْكَافِرَةِ، أَوْ تَكُونُ الْآيَةُ خِطَابًا مَعَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَالْمَعْنَى: تَرَوْنَ يَا مُشْرِكِي قُرَيْشٍ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَيْ فِئَتِكُمُ الْكَافِرَةِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ فَلِلْمُغَالَبَةِ الَّتِي جَاءَتْ بَعْدَ الْخِطَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ فَقَوْلُهُ يَرَوْنَهُمْ يَعُودُ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ الْفِئَةِ الْكَافِرَةِ وَذِكْرُ الْفِئَةِ الْمُسْلِمَةِ فَقَوْلُهُ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الراؤن هُمُ الْفِئَةَ الْكَافِرَةَ، وَالْمَرْئِيُّونَ هُمُ الْفِئَةَ الْمُسْلِمَةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَانِ احْتِمَالَانِ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ مِثْلَيْهِمْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِثْلَيِ الرَّائِينَ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِثْلَيِ المرئين فَإِذَنْ هَذِهِ الْآيَةُ تَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَرْبَعَةً الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْفِئَةَ الْكَافِرَةَ رَأَتِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ قَرِيبًا مِنْ أَلْفَيْنِ. وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنَّ الْفِئَةَ الْكَافِرَةَ رَأَتِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ سِتِّمِائَةٍ وَنَيِّفًا وَعِشْرِينَ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى كَثَّرَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ قِلَّتِهِمْ لِيَهَابُوهُمْ فَيَحْتَرِزُوا عَنْ قِتَالِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُتَنَاقِضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الْأَنْفَالِ: 44] .

فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ كَانَ التَّقْلِيلُ وَالتَّكْثِيرُ فِي حَالَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَقُلِّلُوا أَوَّلًا فِي أَعْيُنِهِمْ حَتَّى اجْتَرَءُوا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا تَلَاقَوْا كَثَّرَهُمُ اللَّهُ فِي أَعْيُنِهِمْ حَتَّى صَارُوا مَغْلُوبِينَ، ثُمَّ إِنَّ تَقْلِيلَهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَتَكْثِيرَهُمْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، أَبْلَغُ فِي الْقُدْرَةِ وَإِظْهَارِ الْآيَةِ. وَالِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ الرَّائِينَ هُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَالْمَرْئِيِّينَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَالْمُسْلِمُونَ رَأَوُا الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيِ الْمُسْلِمِينَ سِتَّمِائَةٍ وَأَزْيَدَ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُسْلِمَ الْوَاحِدَ بِمُقَاوَمَةِ الْكَافِرِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الْأَنْفَالِ: 66] . فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ، وَكَانُوا ثَلَاثَةَ أَمْثَالِهِمْ؟. الْجَوَابُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَظْهَرَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ الْقَدْرَ الَّذِي عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ يَغْلِبُونَهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ فَأَظْهَرَ ذَلِكَ الْعَدَدَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ تَقْوِيَةً لِقُلُوبِهِمْ، وَإِزَالَةً لِلْخَوْفِ عَنْ صُدُورِهِمْ. وَالِاحْتِمَالُ الرَّابِعُ: أَنَّ الرَّائِينَ هُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَأَنَّهُمْ رَأَوُا الْمُشْرِكِينَ عَلَى الضِّعْفِ مِنْ عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ فَهَذَا قَوْلٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ بِهِ أَحَدٌ، لِأَنَّ هَذَا يُوجِبُ نُصْرَةَ الْمُشْرِكِينَ بِإِيقَاعِ الْخَوْفِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْآيَةُ تُنَافِي ذَلِكَ، وَفِي الْآيَةِ احْتِمَالٌ خَامِسٌ، وَهُوَ أَنَّا أَوَّلَ الْآيَةِ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْخِطَابَ مَعَ الْيَهُودِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ تَرَوْنَ أَيُّهَا الْيَهُودُ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْقُوَّةِ وَالشَّوْكَةِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ رَأَوْهُمْ مثليهم فقد كَانُوا ثَلَاثَةَ أَمْثَالِهِمْ فَقَدْ سَبَقَ الْجَوَابُ عَنْهُ. بَقِيَ مِنْ مَبَاحِثِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَمْرَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَعْدُومَ صَارَ مَرْئِيًّا، وَالِاحْتِمَالَ/ الثَّالِثَ يَقْتَضِي أَنَّ مَا وُجِدَ وَحَضَرَ لَمْ يَصِرْ مَرْئِيًّا أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ مُحَالٌ عَقْلًا، لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُرَى، فَلَا جَرَمَ وَجَبَ حَمْلُ الرُّؤْيَةِ عَلَى الظَّنِّ الْقَوِيِّ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، لِأَنَّ عِنْدَنَا مَعَ حُصُولِ الشَّرَائِطِ وَصِحَّةِ الْحَاسِدِ يَكُونُ الْإِدْرَاكُ جَائِزًا لَا وَاجِبًا، وَكَانَ ذَلِكَ الزَّمَانُ زَمَانَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَلَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَصَلَ ذَلِكَ الْمُعْجِزُ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَعِنْدَهُمُ الْإِدْرَاكُ وَاجِبُ الْحُصُولِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الشَّرَائِطِ وَسَلَامَةِ الْحَاسِدِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى اعْتَذَرَ الْقَاضِي عَنْ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِالْمُحَارَبَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ قَدْ لَا يَتَفَرَّغُ الْإِنْسَانُ لِأَنْ يُدِيرَ حَدَقَتَهُ حَوْلَ الْعَسْكَرِ وَيَنْظُرَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّأَمُّلِ التَّامِّ، فَلَا جَرَمَ يَرَى الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ وَثَانِيهَا: لَعَلَّهُ يَحْدُثُ عِنْدَ الْمُحَارَبَةِ مِنَ الْغُبَارِ مَا يَصِيرُ مَانِعًا عَنْ إِدْرَاكِ الْبَعْضِ وَثَالِثُهَا: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِي الْهَوَاءِ مَا صَارَ مَانِعًا عَنْ إِدْرَاكِ ثُلُثِ الْعَسْكَرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ. الْبَحْثُ الثَّانِي: اللَّفْظُ وَإِنِ احتمل أن يكون الراؤن هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَنْ يَكُونَ هُمُ الْمُسْلِمُونَ فَأَيُّ الِاحْتِمَالَيْنِ أَظْهَرُ فَقِيلَ: إِنَّ كَوْنَ الْمُشْرِكِ رَائِيًا أَوْلَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ تَعَلُّقَ الْفِعْلِ بِالْفَاعِلِ أَشَدُّ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِالْمَفْعُولِ، فَجَعْلُ أَقْرَبِ الْمَذْكُورَيْنِ السَّابِقَيْنِ فَاعِلًا، وَأَبْعَدِهُمَا مَفْعُولًا أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورَيْنِ هُوَ قَوْلُهُ وَأُخْرى كافِرَةٌ وَالثَّانِي: أَنَّ مُقَدِّمَةَ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ خِطَابٌ مَعَ الْكُفَّارِ فَقِرَاءَةُ نَافِعٍ بِالتَّاءِ يَكُونُ خِطَابًا مَعَ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ وَالْمَعْنَى تَرَوْنَ يَا مُشْرِكِي قُرَيْشٍ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْهِمْ، فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ

[سورة آل عمران (3) : آية 14]

لَا تُسَاعِدُ إِلَّا عَلَى كَوْنِ الرَّائِي مُشْرِكًا الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ هَذِهِ الْحَالَةَ آية الكفار، حَيْثُ قَالَ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْحَالَةُ مِمَّا يُشَاهِدُهَا الْكَافِرُ حَتَّى تَكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِ، أَمَّا لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ حَاصِلَةً لِلْمُؤْمِنِ لم يصح جعلها حجة الكافر والله أعلم. واحتج من قال: الراؤن هُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّائِينَ لَوْ كَانُوا هُمُ الْمُشْرِكِينَ لَزِمَ رُؤْيَةُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وهو محال، ولو كان الراؤن هُمُ الْمُؤْمِنُونَ لَزِمَ أَنْ لَا يُرَى مَا هُوَ مَوْجُودٌ وَهَذَا لَيْسَ بِمُحَالٍ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ: رَأْيَ الْعَيْنِ يُقَالُ: رَأَيْتُهُ رَأْيًا وَرُؤْيَةً، وَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ رُؤْيَا حَسَنَةً، فَالرُّؤْيَةُ مُخْتَصٌّ بِالْمَنَامِ، وَيَقُولُ: هُوَ مِنِّي مَرْأَى الْعَيْنِ حَيْثُ يَقَعُ عَلَيْهِ بَصَرِي، فَقَوْلُهُ رَأْيَ الْعَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلْمَكَانِ، كَمَا تَقُولُ: تَرَوْنَهُمْ أَمَامَكُمْ، وَمِثْلُهُ: هُوَ مِنِّي مَنَاطَ الْعُنُقِ وَمَزْجَرَ الْكَلْبِ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ نَصْرُ اللَّهِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهَيْنِ: نَصْرٌ بِالْغَلَبَةِ كَنَصْرِ يَوْمِ بَدْرٍ، وَنَصْرٌ بِالْحُجَّةِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ هُزِمَ قَوْمٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: هُمُ الْمَنْصُورُونَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمَنْصُورُونَ بِالْحُجَّةِ، وَبِالْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ إِنَّمَا يَحْصُلَانِ/ بِتَأْيِيدِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ، لَا بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَالشَّوْكَةِ وَالسِّلَاحِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً وَالْعِبْرَةُ الِاعْتِبَارُ وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي يُعْبَرُ بِهَا مِنْ مَنْزِلَةِ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ وَأَصْلُهُ مِنَ الْعُبُورِ وَهُوَ النُّفُوذُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ إلى الآخر، ومنه العبارة وهي كلام الَّذِي يَعْبُرُ بِالْمَعْنَى إِلَى الْمُخَاطَبِ، وَعِبَارَةُ الرُّؤْيَا مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهَا تَعْبِيرٌ لَهَا، وَقَوْلُهُ لِأُولِي الْأَبْصارِ أَيْ لِأُولِي الْعُقُولِ، كَمَا يُقَالُ: لِفُلَانٍ بَصَرٌ بِهَذَا الْأَمْرِ، أَيْ عِلْمٌ وَمَعْرِفَةٌ، وَاللَّهُ أعلم. [سورة آل عمران (3) : آية 14] زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) [في قوله تعالى زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِصَّةِ فَإِنَّا رُوِّينَا أَنَّ أَبَا حَارِثَةَ بْنَ عَلْقَمَةَ النَّصْرَانِيَّ اعْتَرَفَ لِأَخِيهِ بِأَنَّهُ يَعْرِفُ صِدْقَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُقِرُّ بِذَلِكَ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مُلُوكُ الرُّومِ الْمَالَ وَالْجَاهَ، وَأَيْضًا رُوِّينَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا دَعَا الْيَهُودَ إِلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ أَظْهَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمُ الْقُوَّةَ وَالشِّدَّةَ وَالِاسْتِظْهَارَ بِالْمَالِ وَالسِّلَاحِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَغَيْرَهَا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا زَائِلَةٌ بَاطِلَةٌ، وَأَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ وَأَبْقَى. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ عَلَى التَّأْوِيلِ الْعَامِّ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ ذَكَرَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ مَا هُوَ كَالشَّرْحِ وَالْبَيَانِ لِتِلْكَ الْعِبْرَةِ وَذَلِكَ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ زَيَّنَ لِلنَّاسِ حُبَّ الشَّهَوَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَاللَّذَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةَ، ثُمَّ إِنَّهَا فَانِيَةٌ مُنْقَضِيَةٌ تَذْهَبُ لَذَّاتُهَا، وَتَبْقَى تَبِعَاتُهَا، ثُمَّ

إِنَّهُ تَعَالَى حَثَّ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ بقوله قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ [آل عمران: 15] ثم بيّن طَيِّبَاتِ الْآخِرَةِ مُعَدَّةٌ لِمَنْ وَاظَبَ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ مِنَ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ زُيِّنَ لِلنَّاسِ مَنِ الَّذِي زَيَّنَ ذَلِكَ؟ أَمَّا أَصْحَابُنَا فَقَوْلُهُمْ/ فِيهِ ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ خَالِقُ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَيْضًا قَالُوا: لَوْ كَانَ الْمُزَيِّنُ الشَّيْطَانَ فَمَنِ الَّذِي زَيَّنَ الْكُفْرَ وَالْبِدْعَةَ لِلشَّيْطَانِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَيْطَانًا آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ ذَلِكَ الشَّيْطَانِ فِي الْإِنْسَانِ فَلْيَكُنْ كَذَلِكَ الْإِنْسَانُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْحَقُّ فَلْيَكُنْ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ كَذَلِكَ، وَفِي الْقُرْآنِ إِشَارَةٌ إِلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ فِي قَوْلِهِ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَصِ: 63] يَعْنِي إِنِ اعْتَقَدَ أَحَدٌ أَنَّا أَغْوَيْنَاهُمْ فَمَنِ الَّذِي أَغْوَانَا، وَهَذَا الْكَلَامُ ظَاهِرٌ جِدًّا. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَالْقَاضِي نَقَلَ عَنْهُمْ ثلاثة أقوال: لقول الْأَوَّلُ: حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: الشَّيْطَانُ زَيَّنَ لَهُمْ، وَكَانَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ بِاللَّهِ، وَاحْتَجَّ الْقَاضِي لَهُمْ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَطْلَقَ حُبَّ الشَّهَوَاتِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الشَّهَوَاتُ الْمُحَرَّمَةُ وَمُزَيِّنُ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ هُوَ الشَّيْطَانُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْقَنَاطِيرَ الْمُقَنْطَرَةَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَحُبُّ هَذَا الْمَالِ الْكَثِيرِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ جَعَلَ الدُّنْيَا قِبْلَةَ طَلَبِهِ، وَمُنْتَهَى مَقْصُودِهِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ يَكْتَفُونَ بِالْغَلَبَةِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لِلدُّنْيَا وَالذَّمُّ لِلشَّيْءِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُزَيِّنًا لَهُ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ بعد هذه الآية قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ [آل عمران: 15] وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ صَرْفُ الْعَبْدِ عَنِ الدُّنْيَا وَتَقْبِيحُهَا فِي عَيْنِهِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِمَنْ يُزَيِّنُ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ قَوْمٍ آخَرِينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْمُزَيِّنَ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ هُوَ اللَّهُ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا رَغَّبَ فِي منافع الآخر فَقَدْ خَلَقَ مَلَاذَّ الدُّنْيَا وَأَبَاحَهَا لِعَبِيدِهِ، وَإِبَاحَتُهَا لِلْعَبِيدِ تَزْيِينٌ لَهَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى إِذَا خَلَقَ الشَّهْوَةَ وَالْمُشْتَهَى، وَخَلَقَ لِلْمُشْتَهِي عِلْمًا بِمَا فِي تَنَاوُلِ الْمُشْتَهَى مِنَ اللَّذَّةِ، ثُمَّ أَبَاحَ لَهُ ذَلِكَ التَّنَاوُلَ كَانَ تَعَالَى مُزَيِّنًا لَهَا وَثَانِيهَا: أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَذِهِ الْمُشْتَهَيَاتِ وَسَائِلُ إِلَى مَنَافِعِ الْآخِرَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ نَدَبَ إِلَيْهَا، فَكَانَ مُزَيِّنًا لَهَا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا وَسَائِلُ إِلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا وَالثَّانِي: أَنْ يَتَقَوَّى بِهَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا انْتَفَعَ بِهَا وَعَلِمَ أَنَّ تِلْكَ الْمَنَافِعَ إِنَّمَا تَيَسَّرَتْ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعَانَتِهِ صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاشْتِغَالِ الْعَبْدِ بِالشُّكْرِ الْعَظِيمِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الصَّاحِبُ ابْنُ عَبَّادٍ يَقُولُ: شُرْبُ الْمَاءِ الْبَارِدِ فِي الصَّيْفِ يَسْتَخْرِجُ الْحَمْدَ مِنْ أَقْصَى الْقَلْبِ وَذَكَرَ شِعْرًا هَذَا مَعْنَاهُ وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى التَّمَتُّعِ بِهَذِهِ اللَّذَّاتِ وَالطَّيِّبَاتِ إِذَا تَرَكَهَا وَاشْتَغَلَ بِالْعُبُودِيَّةِ وَتَحَمَّلَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ كَانَ أَكْثَرَ ثَوَابًا، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الِانْتِفَاعَ بهذه الطيبات وسائل إلى ثواب الآخر وَالْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَةِ: 29] وَقَالَ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الْأَعْرَافِ: 32] وَقَالَ: إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها [الْكَهْفِ: 7] وَقَالَ: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الْأَعْرَافِ: 31] وَقَالَ/ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 22] وَقَالَ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً [الْبَقَرَةِ: 168] وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّزْيِينَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ زُيِّنَ لِلنَّاسِ عَلَى تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ وَالْقَاضِي وَهُوَ التَّفْصِيلُ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا كَانَ التَّزْيِينُ فِيهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ مَا كَانَ حَرَامًا كَانَ التَّزْيِينُ فِيهِ مِنَ الشَّيْطَانِ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَبَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ وَهُوَ الْمُبَاحُ الَّذِي لَا يَكُونُ فِي فِعْلِهِ وَلَا فِي تَرْكِهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ وَالْقَاضِي مَا ذَكَرَ هَذَا الْقِسْمَ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَذْكُرَهُ وَيُبَيِّنَ أَنَّ التَّزْيِينَ فِيهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ مِنَ الشَّيْطَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ حُبُّ الشَّهَواتِ فِيهِ أَبْحَاثٌ ثَلَاثَةٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الشَّهَوَاتِ هَاهُنَا هِيَ الْأَشْيَاءُ الْمُشْتَهَيَاتُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ لِلتَّعَلُّقِ وَالِاتِّصَالِ، كَمَا يُقَالُ لِلْمَقْدُورِ قُدْرَةٌ، وَلِلْمَرْجُوِّ رَجَاءٌ وَلِلْمَعْلُومِ عِلْمٌ، وَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي اللُّغَةِ، يُقَالُ: هَذِهِ شَهْوَةُ فُلَانٍ، أَيْ مُشْتَهَاهُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَفِي تَسْمِيَتِهَا بِهَذَا الِاسْمِ فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَ الْأَعْيَانَ الَّتِي ذَكَرَهَا شَهَوَاتٍ مُبَالَغَةً فِي كَوْنِهَا مُشْتَهَاةً مَحْرُوصًا عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الشَّهْوَةَ صِفَةٌ مُسْتَرْذَلَةٌ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ مَذْمُومَةٌ مَنِ اتَّبَعَهَا شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ بِالْبَهِيمِيَّةِ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا اللَّفْظِ التَّنْفِيرَ عَنْهَا. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْحُبَّ غَيْرُ الشَّهْوَةِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْحُبَّ إِلَى الشَّهْوَةِ وَالْمُضَافُ غَيْرُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالشَّهْوَةُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَحَبَّةُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانُ كُلَّ غَرَضِهِ وَعَيْشِهِ فِي طَلَبِ اللَّذَّاتِ وَالطَّيِّبَاتِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ الْحُكَمَاءُ: الْإِنْسَانُ قَدْ يُحِبُّ شَيْئًا وَلَكِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ لَا يُحِبَّهُ مِثْلَ الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ قَدْ يَمِيلُ طَبْعُهُ إِلَى بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ لَكِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ لَا يُحِبَّ، وَأَمَّا مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا وَأَحَبَّ أَنْ يُحِبَّهُ فَذَاكَ هُوَ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي جَانِبِ الْخَيْرِ فَهُوَ كَمَالُ السَّعَادَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ [ص: 32] وَمَعْنَاهُ أُحِبُّ الْخَيْرَ وَأُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مُحِبًّا لِلْخَيْرِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي جَانِبِ الشَّرِّ، فَهُوَ كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ يَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ مُرَتَّبَةٍ أَوَّلُهَا: أَنَّهُ يَشْتَهِي أَنْوَاعَ الْمُشْتَهَيَاتِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يُحِبُّ شَهْوَتَهُ لَهَا وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ تِلْكَ الْمَحَبَّةَ حَسَنَةٌ وَفَضِيلَةٌ، وَلَمَّا اجْتَمَعَتْ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الدَّرَجَاتُ الثَّلَاثَةُ بَلَغَتِ الْغَايَةَ الْقُصْوَى فِي الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَلَا يَكَادُ يَنْحَلُّ إِلَّا بِتَوْفِيقٍ عَظِيمٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى النَّاسِ، وَهُوَ لَفْظٌ عَامٌّ دَخَلَهُ حَرْفُ التَّعْرِيفِ فَيُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ، فَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَالْعَقْلُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ لَذِيذًا وَنَافِعًا فَهُوَ مَحْبُوبٌ/ وَمَطْلُوبٌ لِذَاتِهِ وَاللَّذِيذُ النَّافِعُ قِسْمَانِ: جُسْمَانِيٌّ وَرُوحَانِيٌّ، وَالْقِسْمُ الْجُسْمَانِيُّ حَاصِلٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الرُّوحَانِيُّ فَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ، ثُمَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ تِلْكَ اللَّذَّةُ الرُّوحَانِيَّةُ بَعْدَ اسْتِئْنَاسِ النَّفْسِ بِاللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَيَكُونُ انْجِذَابُ النَّفْسِ إِلَى اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ كَالْمَلَكَةِ الْمُسْتَقِرَّةِ الْمُتَأَكَّدَةِ، وَانْجِذَابُهَا إِلَى اللَّذَّاتِ الرُّوحَانِيَّةِ كَالْحَالَةِ الطَّارِئَةِ الَّتِي تَزُولُ بِأَدْنَى سَبَبٍ فَلَا جَرَمَ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْخَلْقِ إِنَّمَا هُوَ الْمَيْلُ الشَّدِيدُ إِلَى اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَأَمَّا الْمَيْلُ إِلَى طَلَبِ اللَّذَّاتِ الرُّوحَانِيَّةِ فَذَاكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِلشَّخْصِ النَّادِرِ، ثُمَّ حُصُولُهُ لِذَلِكَ النَّادِرِ لَا يَتَّفِقُ إِلَّا فِي أَوْقَاتٍ نَادِرَةٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ عَمَّ اللَّهُ هَذَا الْحُكْمَ فَقَالَ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ فَفِيهِ بَحْثَانِ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الْحَجِّ: 30] فَكَمَا أَنَّ الْمَعْنَى فَاجْتَنِبُوا الْأَوْثَانَ الَّتِي هِيَ رِجْسٌ فَكَذَا أَيْضًا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حَبُّ النِّسَاءِ وَكَذَا وَكَذَا الَّتِي هِيَ مُشْتَهَاةٌ. الْبَحْثُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى عَدَّدَ هَاهُنَا مِنَ الْمُشْتَهَيَاتِ أُمُورًا سَبْعَةً أَوَّلُهَا: النِّسَاءُ وَإِنَّمَا قَدَّمَهُنَّ عَلَى الْكُلِّ لِأَنَّ الِالْتِذَاذَ بِهِنَّ أَكْثَرُ وَالِاسْتِئْنَاسَ بِهِنَّ أَتَمُّ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الرُّومِ: 21] وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْعِشْقَ الشَّدِيدَ الْمُفْلِقَ الْمُهْلِكَ لَا يَتَّفِقُ إِلَّا فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الشَّهْوَةِ. الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: حُبُّ الْوَلَدِ: وَلَمَّا كَانَ حُبُّ الْوَلَدِ الذَّكَرِ أَكْثَرَ مِنْ حُبِّ الْأُنْثَى، لَا جَرَمَ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالذِّكْرِ، وَوَجْهُ التَّمَتُّعِ بِهِمْ ظَاهِرٌ مِنْ حَيْثُ السُّرُورُ وَالتَّكَثُّرُ بِهِمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الله تَعَالَى فِي إِيجَادِ حُبِّ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ حِكْمَةً بَالِغَةً، فَإِنَّهُ لَوْلَا هَذَا الْحُبُّ لَمَا حَصَلَ التَّوَالُدُ وَالتَّنَاسُلُ وَلَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى انْقِطَاعِ النَّسْلِ، وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ كَأَنَّهَا حَالَةٌ غَرِيزِيَّةٌ وَلِذَلِكَ فَإِنَّهَا حَاصِلَةٌ لِجَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ بَقَاءِ النَّسْلِ. الْمَرْتَبَةُ الثالثة والرابعة: الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْقِنْطَارُ مَأْخُوذٌ مِنْ عَقْدِ الشَّيْءِ وَإِحْكَامِهِ، وَالْقَنْطَرَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ ذَلِكَ لِتَوَثُّقِهَا بِعَقْدِ الطَّاقِ، فَالْقِنْطَارُ مَالٌ كَثِيرٌ يَتَوَثَّقُ الْإِنْسَانُ بِهِ فِي دَفْعِ أَصْنَافِ النَّوَائِبِ، وَحَكَى أَبُو عبيد عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ وَزْنٌ لَا يُحَدُّ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَاوَلَ تَحْدِيدَهُ، وَفِيهِ رِوَايَاتٌ: فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْقِنْطَارُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ أُوقِيَّةً» وَرَوَى أَنَسٌ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْقِنْطَارَ أَلْفُ دِينَارٍ، وَرَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: الْقِنْطَارُ أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةً وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْقِنْطَارُ أَلْفُ دِينَارٍ أَوِ اثْنَا عَشَرَ/ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَهُوَ مِقْدَارُ الدِّيَةِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْقِنْطَارُ بِلِسَانِ الرُّومِ مَلْءُ مِسْكِ ثَوْرٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ سِوَى مَا ذَكَرْنَا لَكِنَّا تركناها لأنها غير مقصودة بِحُجَّةٍ الْبَتَّةَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: الْمُقَنْطَرَةِ مُنْفَعِلَةٌ مِنَ الْقِنْطَارِ، وَهُوَ لِلتَّأْكِيدِ، كَقَوْلِهِمْ: أَلْفٌ مُؤَلَّفَةٌ، وَبَدْرَةٌ مُبَدَّرَةٌ، وَإِبِلٌ مُؤَبَّلَةٌ، وَدَرَاهِمُ مُدَرْهَمَةٌ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْقَنَاطِيرُ ثَلَاثَةٌ، وَالْمُقَنْطَرَةُ الْمُضَاعَفَةُ، فَكَانَ الْمَجْمُوعُ سِتَّةً. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ إِنَّمَا كَانَا مَحْبُوبَيْنِ لِأَنَّهُمَا جَعَلَا ثَمَنَ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، فَمَالِكُهُمَا كَالْمَالِكِ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَصِفَةُ الْمَالِكِيَّةِ هِيَ الْقُدْرَةُ، وَالْقُدْرَةُ صِفَةُ كَمَالٍ، وَالْكَمَالِ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ، فَلَمَّا كَانَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ أَكْمَلَ الْوَسَائِلِ إِلَى تَحْصِيلِ هَذَا الْكَمَالِ الَّذِي هُوَ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ وَمَا لَا يُوجَدُ الْمَحْبُوبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ مَحْبُوبٌ، لَا جرم كانا محبوبين. المرتبة الخامسة: الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْخَيْلُ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، كَالْقَوْمِ وَالنِّسَاءِ وَالرَّهْطِ، وَسُمِّيَتِ الْأَفْرَاسُ خَيْلًا لِخُيَلَائِهَا فِي مَشْيِهَا، وَسُمِّيَتْ حَرَكَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَلَانِ اخْتِيَالًا، وَسُمِّيَ الْخَيَالُ خَيَالًا، وَالتَّخَيُّلَ تَخَيُّلًا، لِجَوَلَانِ هَذِهِ الْقُوَّةِ فِي اسْتِحْضَارِ تِلْكَ الصُّورَةِ، وَالْأَخْيَلُ الشَّقِرَّاقُ، لِأَنَّهُ يُتَخَيَّلُ تَارَةً أَخْضَرَ، وَتَارَةً أَحْمَرَ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْمُسَوَّمَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الرَّاعِيَةُ، يقال:

[سورة آل عمران (3) : آية 15]

أَسَمْتُ الدَّابَّةَ وَسَوَّمْتُهَا إِذَا أَرْسَلْتَهَا فِي مُرُوجِهَا لِلرَّعْيِ، كَمَا يُقَالُ: أَقَمْتُ الشَّيْءَ وَقَوَّمْتُهُ، وَأَجَدْتُهُ وَجَوَّدْتُهُ، وَأَنَمْتُهُ وَنَوَّمْتُهُ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهَا إِذَا رَعَتِ ازْدَادَتْ حُسْنًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيهِ تُسِيمُونَ [النَّحْلِ: 10] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُسَوَّمَةُ الْمُعَلَّمَةُ قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ السِّيمَا بِالْقَصْرِ وَالسِّيمَاءِ بِالْمَدِّ، وَمَعْنَاهُ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْهَيْئَةُ الْحَسَنَةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الْفَتْحِ: 29] ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْعَلَامَةِ، فَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ الْأَوْضَاحُ وَالْغُرَرُ الَّتِي تَكُونُ فِي الْخَيْلِ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ الْأَفْرَاسُ غُرًّا مُحَجَّلَةً، وَقَالَ الْأَصَمُّ: إِنَّمَا هِيَ الْبَلَقُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الشِّيَةُ، وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ: الْكَيُّ، وَقَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ أَحْسَنُ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى شَرَائِفِ الْأَمْوَالِ، وَذَلِكَ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْفَرَسُ أَغَرَّ مُحَجَّلًا، وَأَمَّا سَائِرُ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرُوهَا فَإِنَّهَا لَا تُفِيدُ شَرَفًا فِي الْفَرَسِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ: أَنَّهَا الْخَيْلُ الْمُطَهَّمَةُ الْحِسَانُ، قَالَ الْقَفَّالُ: الْمُطَهَّمَةُ الْمَرْأَةُ الْجَمِيلَةُ. الْمَرْتَبَةُ السَّادِسَةُ: الْأَنْعامِ وَهِيَ جَمْعُ نَعَمٍ، وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَلَا يُقَالُ لِلْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْهَا: نَعَمٌ إِلَّا لِلْإِبِلِ خَاصَّةً فإنها غلبت عليها. المرتبة السابعة: الْحَرْثِ وَقَدْ ذَكَرْنَا اشْتِقَاقَهُ فِي قَوْلِهِ وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ [الْبَقَرَةِ: 205] . ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَدَّدَ هَذِهِ السَّبْعَةَ قَالَ: ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا قَالَ الْقَاضِي: وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَتَاعَهَا إِنَّمَا خُلِقَ لِيُسْتَمْتَعَ بِهِ فَكَيْفَ يُقَالُ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِضَافَةُ التَّزْيِينِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِمَتَاعِ الدُّنْيَا وُجُوهٌ: مِنْهَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ مَنْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ النِّعَمِ فَيَكُونُ مَذْمُومًا وَمِنْهَا أَنْ يَتْرُكَ الِانْتِفَاعَ بِهِ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فَيَكُونَ أَيْضًا مَذْمُومًا، وَمِنْهَا أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فِي وَجْهٍ مُبَاحٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إِلَى مَصَالِحِ الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ لَا مَمْدُوحٌ وَلَا مَذْمُومٌ، وَمِنْهَا أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ عَلَى وَجْهٍ يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَصَالِحِ الْآخِرَةِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَمْدُوحُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ اعْلَمْ أَنَّ الْمَآبَ فِي اللُّغَةِ الْمَرْجِعُ، يُقَالُ: آبَ الرَّجُلُ إياباً وأوبة وأبية وَمَآبًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ بَيَانُ أَنَّ مَنْ آتَاهُ اللَّهُ الدُّنْيَا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَهَا إِلَى مَا يَكُونُ فِيهِ عِمَارَةٌ لِمَعَادِهِ وَيَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى سَعَادَةِ آخِرَتِهِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْغَرَضُ التَّرْغِيبَ فِي الْمَآبِ وَصَفَ الْمَآبَ بالحسن. فإن قيل: المآب قسما: الْجَنَّةُ وَهِيَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَالنَّارُ وَهِيَ خَالِيَةٌ عَنِ الْحُسْنِ، فَكَيْفَ وَصَفَ الْمَآبَ الْمُطْلَقَ بِالْحُسْنِ. قُلْنَا: الْمَآبُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ هُوَ الْجَنَّةُ، فَأَمَّا النَّارُ فَهِيَ الْمَقْصُودُ بِالْغَرَضِ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِلرَّحْمَةِ لَا لِلْعَذَابِ، كَمَا قَالَ: سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي، وَهَذَا سِرٌّ يُطَّلَعُ مِنْهُ على أسرار غامضة. [سورة آل عمران (3) : آية 15] قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) [في قوله تعالى قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ والكسائي أَأُنَبِّئُكُمْ بِهَمْزَتَيْنِ وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ نَافِعٍ وَأَبِي عَمْرٍو. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي مُتَعَلِّقِ الِاسْتِفْهَامِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ، ثُمَّ يُبْتَدَأُ فَيُقَالُ: لِلَّذِينَ اتقوا عند ربهم كذا وكذاو الثاني: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ/ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، ثُمَّ يُبْتَدَأُ فَيُقَالُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي وَالثَّالِثُ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتقوا عند ربهم، ثم يبتدئ فَيُقَالُ: جَنَّاتٌ تَجْرِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي وَجْهِ النَّظْمِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران: 14] بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَآبَ، كَمَا أَنَّهُ حَسَنٌ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ أَحْسَنُ وأفضل من هذه الدنيا، فقال قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ والثاني: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَدَّدَ نِعَمَ الدُّنْيَا بَيَّنَ أَنَّ مَنَافِعَ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِنْهَا كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الْأَعْلَى: 17] الثَّالِثُ: كَأَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى أَنَّ أَمْرَكَ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ حَسَنًا مُنْتَظِمًا إِلَّا أَنَّ أَمْرَكَ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَأَفْضَلُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّهُ كَمَا أَنَّ الدُّنْيَا أَطْيَبُ وَأَوْسَعُ وَأَفْسَحُ مِنْ بَطْنِ الْأُمِّ، فَكَذَلِكَ الْآخِرَةُ أَطْيَبُ وَأَوْسَعُ وَأَفْسَحُ مِنَ الدُّنْيَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ نِعَمَ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا مَشُوبَةٌ بِالْمَضَرَّةِ، وَنِعَمَ الْآخِرَةِ خَالِيَةٌ عَنْ شَوْبِ الْمَضَارِّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَيْضًا فَنِعَمُ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَنِعَمُ الْآخِرَةِ بَاقِيَةٌ لَا مَحَالَةَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا فَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: 2] أَنَّ التَّقْوَى مَا هِيَ وَبِالْجُمْلَةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ مُتَّقِيًا إِلَّا إِذَا كَانَ آتِيًا بِالْوَاجِبَاتِ، متحرزاً عن المحظورات، وقال بعض أصحابنا: التوقي عِبَارَةٌ عَنِ اتِّقَاءِ الشِّرْكِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّقْوَى صَارَتْ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ مُخْتَصَّةً بِالْإِيمَانِ، قَالَ تَعَالَى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [الْفَتْحِ: 26] وَظَاهِرُ اللَّفْظِ أَيْضًا مُطَابِقٌ لَهُ، لِأَنَّ الِاتِّقَاءَ عَنِ الشِّرْكِ أَعَمُّ مِنَ الِاتِّقَاءِ عَنْ جَمِيعِ الْمَحْظُورَاتِ، وَمِنَ الِاتِّقَاءِ عَنْ بَعْضِ الْمَحْظُورَاتِ، لِأَنَّ مَاهِيَّةَ الِاشْتِرَاكِ لَا تَدُلُّ عَلَى مَاهِيَّةِ الِامْتِيَازِ، فَحَقِيقَةُ التَّقْوَى وَمَاهِيَّتُهَا حَاصِلَةٌ عِنْدَ حُصُولِ الِاتِّقَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، وَعُرْفُ الْقُرْآنِ مُطَابِقٌ لِذَلِكَ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ فَكَانَ قَوْلُهُ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَحْمُولًا عَلَى كُلِّ مَنِ اتَّقَى الْكُفْرَ بِاللَّهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ فَفِيهِ احْتِمَالَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صِفَةً لِلْخَيْرِ، وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ عِنْدُ رَبِّهِمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صِفَةً لِلَّذِينَ اتَّقَوْا وَالتَّقْدِيرُ: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ خَيْرٌ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَيَكُونُ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ هَذَا الثَّوَابَ الْعَظِيمَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ كَانَ مُتَّقِيًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَخْرُجُ عَنْهُ الْمُنَافِقُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا فِي عِلْمِ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ جَنَّاتٌ فَالتَّقْدِيرُ: هُوَ جَنَّاتٌ، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ جَنَّاتٍ بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ خَيْرٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَصْفٌ لِطِيبِ الْجَنَّةِ وَدَخَلَ تَحْتَهُ جَمِيعُ النِّعَمِ الْمَوْجُودَةِ فِيهَا مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَفْرَشِ وَالْمَنْظَرِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْجَنَّةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَطَالِبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزُّخْرِفِ: 71] . ثُمَّ قَالَ: خالِدِينَ فِيها وَالْمُرَادُ كَوْنُ تِلْكَ النِّعَمِ دائمة.

[سورة آل عمران (3) : آية 16]

ثُمَّ قَالَ: وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا لَطَائِفَهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ [الْبَقَرَةِ: 25] وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ النِّعْمَةَ وَإِنْ عَظُمَتْ فَلَنْ تَتَكَامَلَ إِلَّا بِالْأَزْوَاجِ اللَّوَاتِي لَا يَحْصُلُ الْأُنْسُ إِلَّا بِهِنَّ، ثُمَّ وَصَفَ الْأَزْوَاجَ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ جَامِعَةٍ لِكُلِّ مَطْلُوبٍ، فَقَالَ مُطَهَّرَةٌ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَسَائِرِ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَظْهَرُ عَنِ النِّسَاءِ فِي الدُّنْيَا مِمَّا يَنْفِرُ عَنْهُ الطَّبْعُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كَوْنُهُنَّ مُطَهَّرَاتٍ مِنَ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَمِنَ الْقُبْحِ وَتَشْوِيهِ الْخِلْقَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كَوْنُهُنَّ مُطَهَّرَاتٍ مِنْ سُوءِ الْعِشْرَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَرِضْوانٌ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، أَمَّا الضَّمُّ فَهُوَ لُغَةُ قَيْسٍ وَتَمِيمٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ رَضِيتُ رضا ورضوانا، ومثل الراضون بِالْكَسْرِ الْحِرْمَانُ وَالْقِرْبَانُ وَبِالضَّمِّ الطُّغْيَانُ وَالرُّجْحَانُ وَالْكُفْرَانُ وَالشُّكْرَانُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: الثَّوَابُ لَهُ رُكْنَانِ أَحَدُهُمَا: الْمَنْفَعَةُ، وَهِيَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَالثَّانِي: التَّعْظِيمُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالرِّضْوَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَعَ هَذَا النَّعِيمِ الْمُقِيمِ بِأَنَّهُ تَعَالَى رَاضٍ عَنْهُمْ، حَامِدٌ لَهُمْ، مُثْنٍ عَلَيْهِمْ، أَزْيَدُ فِي إِيجَابِ السُّرُورِ مِنْ تِلْكَ الْمَنَافِعِ، وَأَمَّا الْحُكَمَاءُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْجَنَّاتُ بِمَا فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى الْجَنَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَالرِّضْوَانُ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْجَنَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ وَأَعْلَى الْمَقَامَاتِ إِنَّمَا هُوَ الْجَنَّةُ الرُّوحَانِيَّةُ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَجَلِّي نُورِ جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى فِي رُوحِ الْعَبْدِ وَاسْتِغْرَاقِ الْعَبْدِ فِي مَعْرِفَتِهِ، ثُمَّ يَصِيرُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ رَاضِيًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي آخرها مرضياً عند الله تعالى، والله الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً [الْفَجْرِ: 28] وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التَّوْبَةِ: 72] . ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أَيْ عَالِمٌ بِمَصَالِحِهِمْ، فَيَجِبُ أَنْ يَرْضَوْا لِأَنْفُسِهِمْ مَا اخْتَارَهُ لَهُمْ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَأَنْ يَزْهَدُوا فِيمَا زهدهم فيه من أمور الدنيا. [سورة آل عمران (3) : آية 16] الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي إِعْرَابِ مَوْضِعِ الَّذِينَ يَقُولُونَ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خَفْضٌ صِفَةٌ/ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: لِلَّذِينَ اتَّقَوُا الَّذِينَ يَقُولُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْعِبَادِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ لَهُمْ عِنْدَ ربهم جنّات هم الذين يقولون كذا وكذاو الثاني: أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى الْمَدْحِ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى التَّخْصِيصِ، وَالتَّقْدِيرُ: هُمُ الَّذِينَ يقول كَذَا وَكَذَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا ثُمَّ إِنَّهُمْ قَالُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ تَوَسَّلُوا بِمُجَرَّدِ الْإِيمَانِ إِلَى طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى حَكَى ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ لَهُمْ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ بِمُجَرَّدِ الْإِيمَانِ يَسْتَوْجِبُ الرَّحْمَةَ وَالْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ قَالُوا: الْإِيمَانُ عِبَارَةٌ عَنْ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ أَبْطَلْنَا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِالدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي تَفْسِيرِ قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَأَيْضًا فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَتَابَ عَنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ، كَانَ إِدْخَالُهُ النَّارَ قَبِيحًا مِنَ اللَّهِ

[سورة آل عمران (3) : آية 17]

عِنْدَهُمْ، وَالْقَبِيحُ هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ مَنْ فَعَلَهُ، إِمَّا الْجَهْلُ، وَإِمَّا الْحَاجَةُ فَهُمَا مُحَالَانِ، وَمُسْتَلْزَمُ الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَإِدْخَالُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمُ النَّارَ مُحَالٌ، وَمَا كَانَ مُحَالَ الْوُقُوعِ عَقْلًا كَانَ الدُّعَاءُ وَالتَّضَرُّعُ فِي أَنْ لَا يَفْعَلَهُ اللَّهُ عَبَثًا وَقَبِيحًا، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ [آلِ عِمْرَانَ: 193] . فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى اعْتَبَرَ جُمْلَةَ الطَّاعَاتِ فِي حُصُولِ الْمَغْفِرَةِ حَيْثُ أَتْبَعَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 17] . قُلْنَا: تَأْوِيلُ هَذِهِ الآية مَا ذَكَرْنَاهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مُجَرَّدَ الْإِيمَانِ وَسِيلَةً إِلَى طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهَا صِفَاتِ الْمُطِيعِينَ وَهِيَ كَوْنُهُمْ صَابِرِينَ صَادِقِينَ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ شَرَائِطَ لِحُصُولِ هَذِهِ الْمَغْفِرَةِ لَكَانَ ذِكْرُهَا قَبْلَ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ أَوْلَى، فَلَمَّا رَتَّبَ طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِيمَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ هَذِهِ الصِّفَاتِ، عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي حُصُولِ أَصْلِ الْمَغْفِرَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي حُصُولِ كمال الدرجات. [سورة آل عمران (3) : آية 17] الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الصَّابِرِينَ قِيلَ نَصْبٌ عَلَى الْمَدْحِ بِتَقْدِيرِ: أَعْنِي الصَّابِرِينَ، وَقِيلَ: الصَّابِرِينَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الَّذِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَاهُنَا صِفَاتٍ خَمْسَةً: الصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُمْ صَابِرِينَ، وَالْمُرَادُ كَوْنُهُمْ صَابِرِينَ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ، وَفِي تَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ وَكَوْنُهُمْ صَابِرِينَ فِي كُلِّ مَا يَنْزِلُ بِهِمْ مِنَ الْمِحَنِ وَالشَّدَائِدِ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَجْزَعُوا بَلْ يَكُونُوا رَاضِينَ فِي قُلُوبِهِمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [الْبَقَرَةِ: 156] قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا [السَّجْدَةِ: 24] إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا اسْتَحَقُّوا تِلْكَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ الصَّبْرِ، وَيُرْوَى أَنَّهُ وَقَفَ رَجُلٌ على الشلبي، فَقَالَ: أَيُّ صَبْرٍ أَشَدُّ عَلَى الصَّابِرِينَ؟ فَقَالَ الصَّبْرُ فِي اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ لَا، فَقَالَ: الصَّبْرُ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَالَ لَا فَقَالَ: الصَّبْرُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ لَا قَالَ فَأَيْشِ؟ قَالَ: الصَّبْرُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَصَرَخَ الشِّبْلِيُّ صَرْخَةً كَادَتْ رُوحُهُ تَتْلَفُ. وَقَدْ كَثُرَ مَدْحُ اللَّهِ تَعَالَى لِلصَّابِرِينَ، فَقَالَ: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ [الْبَقَرَةِ: 177] . الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُمْ صَادِقِينَ، اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الصِّدْقِ قَدْ يَجْرِي عَلَى الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالنِّيَّةِ، فَالصِّدْقُ فِي الْقَوْلِ مَشْهُورٌ، وَهُوَ مُجَانَبَةُ الْكَذِبِ وَالصِّدْقُ فِي الْفِعْلِ الْإِتْيَانُ بِهِ وَتَرْكُ الِانْصِرَافِ عَنْهُ قَبْلَ تَمَامِهِ، يُقَالُ: صَدَقَ فُلَانٌ فِي الْقِتَالِ وَصَدَقَ فِي الحملة، وَيُقَالُ فِي ضِدِّهِ: كَذَبَ فِي الْقِتَالِ، وَكَذَبَ في الحملة، وَالصِّدْقُ فِي النِّيَّةِ إِمْضَاءُ الْعَزْمِ وَالْإِقَامَةُ عَلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْفِعْلَ.

الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: كَوْنُهُمْ قَانِتِينَ، وَقَدْ فَسَّرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [الْبَقَرَةِ: 238] وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الدَّوَامِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: كَوْنُهُمْ مُنْفِقِينَ وَيَدْخُلُ فِيهِ إِنْفَاقُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ وَصِلَةِ رَحِمِهِ وَفِي الزَّكَاةِ وَالْجِهَادِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الْبِرِّ. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: كَوْنُهُمْ مُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ، وَالسَّحَرُ الْوَقْتُ الَّذِي قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَتَسَحَّرَ إِذَا أَكَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَنْ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثُمَّ يُتْبِعُهُ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالدُّعَاءِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَشْتَغِلُ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ صَلَّى قَبْلَ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ صَلَّوْا بِاللَّيْلِ وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ بِالسَّحَرِ لَهُ مَزِيدُ أَثَرٍ فِي قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَفِي كَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي وَقْتِ السَّحَرِ يَطْلُعُ نُورُ الصُّبْحِ بَعْدَ أَنْ كَانَتِ الظُّلْمَةُ شَامِلَةً لِلْكُلِّ، وَبِسَبَبِ طُلُوعِ نُورِ الصُّبْحِ كَأَنَّ الْأَمْوَاتَ يَصِيرُونَ أَحْيَاءً، فَهُنَاكَ وَقْتُ الْجُودِ الْعَامِّ وَالْفَيْضِ التَّامِّ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ طُلُوعِ صُبْحِ الْعَالِمِ الْكَبِيرِ يَطْلُعُ صُبْحُ العالم الصغير، وهو ظهور نور جلال الصَّغِيرِ، وَهُوَ ظُهُورُ نُورُ جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقَلْبِ وَالثَّانِي: أَنَّ وَقْتَ السَّحَرِ أَطْيَبُ أَوْقَاتِ النَّوْمِ، فَإِذَا أَعْرَضَ الْعَبْدُ عَنْ تِلْكَ اللَّذَّةِ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ، كَانَتِ الطَّاعَةُ أَكْمَلَ وَالثَّالِثُ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ يُرِيدُ الْمُصَلِّينَ صَلَاةَ الصُّبْحِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ أَكْمَلُ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَصْبِرُونَ وَيَصْدُقُونَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ الصَّابِرِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى عَادَتُهُمْ وَخُلُقُهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَنْوَاعًا مِنَ التَّكْلِيفِ، وَالصَّابِرُ هُوَ مَنْ يَصْبِرُ عَلَى أَدَاءِ جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا، ثُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَلْتَزِمُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ أَنْوَاعًا أُخَرَ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَإِمَّا بِسَبَبِ الشُّرُوعِ فِيهِ، وَكَمَالُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ أَنَّهُ إِذَا الْتَزَمَ طَاعَةً أَنْ يُصَدِّقَ نَفْسَهُ فِي الْتِزَامِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَأْتِيَ بِذَلِكَ لِلْمُلْتَزِمِ مِنْ غَيْرِ خَلَلٍ الْبَتَّةَ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ مُتَأَخِّرَةً عَنِ الْأُولَى، لَا جَرَمَ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الصَّابِرِينَ أَوَّلًا ثُمَّ قَالَ: الصَّادِقِينَ ثَانِيًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَدَبَ إِلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الطَّاعَةِ، فَقَالَ: وَالْقانِتِينَ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْمُوَاظَبَةِ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ذَكَرَ الطَّاعَاتِ الْمُعَيَّنَةَ، وَكَانَ أَعْظَمَ الطَّاعَاتِ قَدْرًا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: الْخِدْمَةُ بِالْمَالِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ الله» فذكر هُنَا بِقَوْلِهِ وَالْمُنْفِقِينَ وَالثَّانِيَةُ: الْخِدْمَةُ بِالنَّفْسِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ «التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ» فَذَكَرَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ» . فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قَدَّمَ هَاهُنَا ذِكْرَ الْمُنْفِقِينَ عَلَى ذِكْرِ الْمُسْتَغْفِرِينَ، وَأَخَّرَ فِي قَوْلِهِ «التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ» . قُلْنَا: لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي شَرْحِ عُرُوجِ الْعَبْدِ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَشْرَفِ، فَلَا جَرَمَ وَقَعَ الْخَتْمُ بِذِكْرِ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ، وَقَوْلِهِ «التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ» فِي شَرْحِ نُزُولِ الْعَبْدِ مِنَ الْأَشْرَفِ إِلَى الْأَدْنَى، فَلَا جَرَمَ كَانَ التَّرْتِيبُ بِالْعَكْسِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَذِهِ الْخَمْسَةُ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْدِيدِ الصِّفَاتِ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ الْوَاجِبُ حَذْفَ وَاوِ

[سورة آل عمران (3) : آية 18]

الْعَطْفِ عَنْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ [الْحَشْرِ: 24] إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ هَاهُنَا وَاوَ الْعَطْفِ وَأَظُنُّ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ وَاحِدَةٌ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ دَخَلَ تَحْتَ الْمَدْحِ الْعَظِيمِ وَاسْتَوْجَبَ هذا الثواب الجزيل والله أعلم. [سورة آل عمران (3) : آية 18] شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) [في قَوْلُهُ تَعَالَى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ والملائكة وأولوا العلم] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَدَحَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا [آل عمران: 16] أَرْدَفَهُ بِأَنْ بَيَّنَ/ أَنَّ دَلَائِلَ الْإِيمَانِ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ، فَقَالَ: شَهِدَ اللَّهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَوَقَّفُ الْعِلْمُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ أَمَّا مَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ، وَفِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ، وَفِي حَقِّ أُولِي الْعِلْمِ، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدًا فَلَا جَرَمَ يَجُوزُ إِثْبَاتُ كَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدًا بِمُجَرَّدِ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّهَادَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْ أُولِي الْعِلْمِ بِمَعْنًى واحد والثاني: أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فَيُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَجْعَلَ الشَّهَادَةَ عِبَارَةً عَنِ الْإِخْبَارِ الْمَقْرُونِ بِالْعِلْمِ، فَهَذَا الْمَعْنَى مَفْهُومٌ وَاحِدٌ وَهُوَ حَاصِلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ، وَفِي حَقِّ أُولِي الْعِلْمِ، أَمَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ أَخْبَرَ فِي الْقُرْآنِ عَنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا لَا إليه مَعَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالدَّلَالَةِ السَّمْعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ جَائِزٌ، وَأَمَّا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ فَكُلُّهُمْ أَخْبَرُوا أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَثَبَتَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الشَّهَادَةِ مَعْنًى وَاحِدٌ فِي حَقِّ اللَّهِ، وَفِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ، وَفِي حَقِّ أُولِي الْعِلْمِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نَجْعَلَ الشَّهَادَةَ عِبَارَةً عَنِ الْإِظْهَارِ وَالْبَيَانِ، ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى أَظْهَرَ ذَلِكَ وَبَيَّنَهُ بِأَنْ خَلَقَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، أَمَّا الْمَلَائِكَةُ وأولوا الْعِلْمِ فَقَدْ أَظْهَرُوا ذَلِكَ، وَبَيَّنُوهُ بِتَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ، أَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَقَدْ بَيَّنُوا ذَلِكَ لِلرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالرُّسُلُ لِلْعُلَمَاءِ، وَالْعُلَمَاءُ لِعَامَّةِ الْخَلْقِ، فَالتَّفَاوُتُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي الشَّيْءِ الَّذِي بِهِ حَصَلَ الْإِظْهَارُ وَالْبَيَانُ، فَالْمَفْهُومُ الْإِظْهَارُ وَالْبَيَانُ فَهُوَ مَفْهُومٌ وَاحِدٌ فِي حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَفِي حَقِّ أُولِي الْعِلْمِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الشَّهَادَةِ وَاحِدٌ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ كَأَنَّهُ يَقُولُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرٌ قَدْ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَشَهَادَةِ جَمِيعِ الْمُعْتَبَرِينَ مِنْ خَلْقِهِ، وَمِثْلُ هَذَا الدِّينِ الْمَتِينِ وَالْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ، لَا يَضْعُفُ بِخِلَافِ بَعْضِ الْجُهَّالِ مِنَ النَّصَارَى وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَاثْبُتْ أَنْتَ وَقَوْمُكَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ هُوَ الْإِسْلَامُ وَالدِّينُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ الْإِسْلَامُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: شَهَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى تَوْحِيدِهِ، عِبَارَةٌ عَنْ أَنَّهُ خَلَقَ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى تَوْحِيدِهِ، وَشَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ عِبَارَةٌ عَنْ إِقْرَارِهِمْ بِذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ يُسَمَّى شَهَادَةً، لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْكُلِّ فِي اللَّفْظِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الْأَحْزَابِ: 56] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّهِ غَيْرُ الصَّلَاةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ غَيْرُ الصَّلَاةِ مِنَ النَّاسِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ جَمَعَهُمْ فِي اللَّفْظِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُدَّعِي لِلْوَحْدَانِيَّةِ هُوَ اللَّهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْمُدَّعِي شَاهِدًا؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ الشَّاهِدَ الْحَقِيقِيَّ لَيْسَ إِلَّا اللَّهَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْأَشْيَاءَ وَجَعَلَهَا دَلَائِلَ عَلَى تَوْحِيدِهِ، وَلَوْلَا تِلْكَ الدَّلَائِلُ لَمَا صَحَّتِ الشَّهَادَةُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نَصْبُ تِلْكَ الدَّلَائِلِ هُوَ الَّذِي وَفَّقَ الْعُلَمَاءَ لِمَعْرِفَةِ تِلْكَ الدَّلَائِلِ، وَلَوْلَا تِلْكَ الدَّلَائِلُ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَهَدَى إِلَيْهَا لَعَجَزُوا عَنِ التَّوَصُّلِ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ الشَّاهِدُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ [الْأَنْعَامِ: 19] . الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ هُوَ الْمَوْجُودُ أَزَلًا وَأَبَدًا، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقَدْ كَانَ فِي الْأَزَلِ عَدَمًا صِرْفًا، وَنَفْيًا مَحْضًا، وَالْعَدَمُ يُشْبِهُ الْغَائِبَ، وَالْمَوْجُودُ يُشْبِهُ الْحَاضِرَ، فَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقَدْ كَانَ غَائِبًا، وَبِشَهَادَةِ الْحَقِّ صَارَ شَاهِدًا، فَكَانَ الحق شاهدا عل الْكُلِّ، فَلِهَذَا قَالَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الشَّهَادَةِ، إِلَّا أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْإِقْرَارِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ سِوَاهُ، كَانَ الْكُلُّ عَبِيدًا لَهُ، وَالْمَوْلَى الْكَرِيمُ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ لَا يُخِلَّ بِمَصَالِحِ الْعَبِيدِ، فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ جَارِيًا مَجْرَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ يَجِبُ وُجُوبَ الْكَرِيمِ عَلَيْهِ أَنْ يُصْلِحَ جِهَاتِ جَمِيعِ الْخَلْقِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي الْجَوَابِ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ بِكَسْرِ (إِنَّهُ) ثُمَّ قَرَأَ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آلِ عِمْرَانَ: 19] بِفَتْحِ (أَنَّ) فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَعْنَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَيَكُونُ قَوْلُهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ اعْتِرَاضًا في الكلام، واعلم أن الجواب لا يعتمد عليه، أن هَذِهِ الْقِرَاءَةَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَبِتَقْدِيرِ (أَنْ) تَكُونَ مَقْبُولَةً لَكِنَّ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، فَالْإِشْكَالُ الْوَارِدُ عَلَيْهَا لَا يَنْدَفِعُ بِسَبَبِ القراءة الأخرى. المسألة الثانية: المراد من أولي الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّذِينَ عَرَفُوا وَحْدَانِيَّتَهُ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مَقْبُولَةً، إِذَا كَانَ الْإِخْبَارُ مَقْرُونًا بِالْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الدرجة العالية والمرتبة الشريفة ليست إلا العلماء الْأُصُولِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قائِماً بِالْقِسْطِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قائِماً بِالْقِسْطِ مُنْتَصِبٌ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: التَّقْدِيرُ: شَهِدَ اللَّهُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ وَثَانِيهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ هُوَ تَقْدِيرُهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ، وَيُسَمَّى هَذَا حَالًا مُؤَكِّدَةً كَقَوْلِكَ: أَتَانَا عَبْدُ اللَّهِ شُجَاعًا، وَكَقَوْلِكَ: لَا رَجُلَ إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ شُجَاعًا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ صِفَةَ الْمَنْفِيِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا إِلَهَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ إِلَّا هُوَ، وَهَذَا غَيْرُ بَعِيدٍ لِأَنَّهُمْ يَفْصِلُونَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ.

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى الْمَدْحِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ مِنْ حَقِّ الْمَدْحِ أَنْ يَكُونَ مَعْرِفَةً، كَقَوْلِكَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الْحَمِيدِ. قُلْنَا: وَقَدْ جَاءَ نَكِرَةً أَيْضًا، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: وَيَأْوِي إِلَى نِسْوَةٍ عُطَّلٍ ... وَشُعْثًا مَرَاضِعَ مِثْلَ السَّعَالِي الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ قائِماً بِالْقِسْطِ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالتَّقْدِيرُ: وَأُولُو الْعِلْمِ حَالٌ كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَائِمًا بِالْقِسْطِ فِي أَدَاءِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ حَالٌ مِنْ شَهِدَ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْنَى كَوْنِهِ قائِماً بِالْقِسْطِ قَائِمًا بِالْعَدْلِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ قَائِمٌ بِالتَّدْبِيرِ، أَيْ يُجْرِيهِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْعَدْلَ مِنْهُ مَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِبَابِ الدُّنْيَا، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِبَابِ الدِّينِ، أَمَّا الْمُتَّصِلُ بِالدِّينِ، فَانْظُرْ أَوَّلًا فِي كَيْفِيَّةِ خِلْقَةِ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ، حَتَّى تَعْرِفَ عَدْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْخَلْقِ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ وَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ، وطول العمر وقصره واللذة والآلام واقطع أن كُلَّ ذَلِكَ عَدْلٌ مِنَ اللَّهِ وَحِكْمَةٌ وَصَوَابٌ ثُمَّ انْظُرْ فِي كَيْفِيَّةِ خَلْقِهِ الْعَنَاصِرَ وَأَجْرَامَ الْأَفْلَاكِ، وَتَقْدِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ وَخَاصِّيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَاقْطَعْ بِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ، أَمَّا مَا يَتَّصِلُ بِأَمْرِ الدِّينِ، فَانْظُرْ إِلَى اخْتِلَافِ الْخَلْقِ فِي الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، وَالْفَطَانَةِ وَالْبَلَادَةِ وَالْهِدَايَةِ وَالْغَوَايَةِ، وَاقْطَعْ بِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عَدْلٌ وَقِسْطٌ، وَلَقَدْ خَاضَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» هَاهُنَا فِي التَّعَصُّبِ لِلِاعْتِزَالِ وَزَعَمَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْعَدْلُ وَالتَّوْحِيدُ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمِسْكِينُ بَعِيدًا عَنْ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إلا أنه فضولي كثيرا الْخَوْضِ فِيمَا لَا يَعْرِفُ، وَزَعَمَ أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنْ أَجَازَ الرُّؤْيَةَ، أَوْ ذَهَبَ إِلَى الْجَبْرِ لَمْ يَكُنْ عَلَى دِينِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ، وَالْعَجَبُ أَنَّ أَكَابِرَ الْمُعْتَزِلَةِ وَعُظَمَاءَهُمْ أَفْنَوْا أَعْمَارَهُمْ فِي طَلَبِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَرْئِيًّا لَكَانَ جِسْمًا، وَمَا وَجَدُوا فِيهِ سِوَى الرُّجُوعِ إِلَى الشَّاهِدِ مِنْ غَيْرِ جَامِعٍ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ، فَهَذَا الْمِسْكِينُ الَّذِي مَا شَمَّ رَائِحَةَ الْعِلْمِ مِنْ أَيْنَ وَجَدَ ذَلِكَ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْجَبْرِ فَالْخَوْضُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْمِسْكِينِ خَوْضٌ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا اعْتَرَفَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ، وَاعْتَرَفَ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْلِبَ عِلْمَ اللَّهِ جَهْلًا، فَقَدِ اعْتَرَفَ بِهَذَا الْجَبْرِ، فَمِنْ أَيْنَ هُوَ وَالْخَوْضُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْفَائِدَةُ فِي إِعَادَتِهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَإِذَا شَهِدَ بِذَلِكَ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الدَّلِيلُ دَلَّ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ الْقَوْلُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ شَهِدَ أَنَّهُ لا إله إلا هو وشهدت الملائكة وأولوا الْعِلْمِ بِذَلِكَ صَارَ التَّقْدِيرُ، كَأَنَّهُ قَالَ: / يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ فَقُولُوا أَنْتُمْ عَلَى وَفْقِ شَهَادَةِ اللَّهِ وَشَهَادَةِ الْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَكَانَ الْغَرَضُ مِنَ الْإِعَادَةِ الْأَمْرَ بِذِكْرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى وَفْقِ تِلْكَ الشَّهَادَاتِ الثَّالِثُ: فَائِدَةُ هَذَا التَّكْرِيرِ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَبَدًا فِي تَكْرِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَإِنَّ أَشْرَفَ كَلِمَةٍ يَذْكُرُهَا الْإِنْسَانُ هِيَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ، فَإِذَا كَانَ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ مُشْتَغِلًا بِذِكْرِهَا وَبِتَكْرِيرِهَا كَانَ مُشْتَغِلًا بِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ

[سورة آل عمران (3) : آية 19]

الْعِبَادَاتِ، فَكَانَ الْغَرَضُ مِنَ التَّكْرِيرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَثُّ الْعِبَادِ عَلَى تَكْرِيرِهَا الرَّابِعُ: ذَكَرَ قَوْلَهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أَوَّلًا: لِيُعْلِمَ أَنَّهُ لَا تَحِقُّ الْعِبَادَةُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَهَا ثَانِيًا: لِيُعْلِمَ أَنَّهُ الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ لَا يجوز وَلَا يَظْلِمُ. أَمَّا قَوْلُهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَالْعَزِيزُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَالْحَكِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْعِلْمِ، وَهُمَا الصِّفَتَانِ اللَّتَانِ يَمْتَنِعُ حُصُولُ الْإِلَهِيَّةِ إِلَّا مَعَهُمَا لِأَنَّ كَوْنَهُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِمَقَادِيرِ الْحَاجَاتِ، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِ الْمُهِمَّاتِ، وَقَدَّمَ الْعَزِيزَ عَلَى الْحَكِيمِ فِي الذِّكْرِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ عَالِمًا فِي طَرِيقِ الْمَعْرِفَةِ الِاسْتِدْلَالِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ مُقَدَّمًا فِي الْمَعْرِفَةِ الِاسْتِدْلَالِيَّةِ، وَكَانَ هَذَا الْخِطَابُ مَعَ الْمُسْتَدِلِّينَ، لَا جَرَمَ قَدَّمَ تَعَالَى ذِكْرَ العزيز على الحكيم. [سورة آل عمران (3) : آية 19] إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى كَسْرِ (إِنَّ) إِلَّا الْكِسَائِيَّ فَإِنَّهُ فَتَحَ (أَنَّ) وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي قَبْلَهُ قَدْ تَمَّ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْكِسَائِيِّ فَالنَّحْوِيُّونَ ذَكَرُوا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّقْدِيرَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَذَلِكَ لِأَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى وَاحِدًا مُوجِبٌ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ الْحَقُّ هُوَ الْإِسْلَامُ لِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ الْمُشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالثَّانِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ يُجْعَلَ الثَّانِي بَدَلًا مِنَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ إِنْ قُلْنَا بِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّوْحِيدِ نَفْسِهِ كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ قَوْلِكَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا نَفْسَهُ، وَإِنْ قُلْنَا: دِينُ الْإِسْلَامِ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّوْحِيدِ كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا رَأْسَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَجَبَ أَنْ لَا يُحْسَبَ إِعَادَةُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يُقَالُ: ضَرَبْتُ زَيْدًا رَأْسَ زَيْدٍ. قُلْنَا: قَدْ يظهرون الاسم في موضع الكناية، قَالَ الشَّاعِرُ: لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شي وَأَمْثَالُهُ كَثِيرَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ مَنْ قَرَأَ أَنَّ الدِّينَ بِفَتْحِ (أَنَّ) كَانَ التَّقْدِيرُ: شَهِدَ اللَّهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ إِذَا كَانَ هُوَ الدِّينَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَاللَّهُ تَعَالَى شَهِدَ بِهَذِهِ الْوَحْدَانِيَّةِ كَانَ اللَّازِمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامَ، وَمَنْ قَرَأَ إِنَّ الدِّينَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، فَوَجْهُ الِاتِّصَالِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ التَّوْحِيدَ أَمْرٌ شَهِدَ اللَّهُ بِصِحَّتِهِ، وشهد به الملائكة وأولوا الْعِلْمِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَصْلُ الدِّينِ فِي اللُّغَةِ الْجَزَاءُ، ثُمَّ الطَّاعَةُ تُسَمَّى دِينًا لِأَنَّهَا سَبَبُ الْجَزَاءِ، وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَفِي مَعْنَاهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ أَوْجُهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ أَيْ فِي الِانْقِيَادِ وَالْمُتَابَعَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ [النِّسَاءِ: 94] أَيْ لِمَنْ صَارَ مُنْقَادًا لَكُمْ وَمُتَابِعًا لَكُمْ وَالثَّانِي: مَنْ أَسْلَمَ أَيْ دَخَلَ

فِي السَّلْمِ، كَقَوْلِهِمْ: أَسْنَى وَأَقْحَطَ وَأَصْلُ السَّلْمِ السَّلَامَةُ الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمُسْلِمُ مَعْنَاهُ الْمُخْلِصُ لِلَّهِ عِبَادَتَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: سَلِمَ الشَّيْءُ لِفُلَانٍ، أَيْ خَلُصَ لَهُ فَالْإِسْلَامُ مَعْنَاهُ إِخْلَاصُ الدِّينِ وَالْعَقِيدَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِتَفْسِيرِ لَفْظِ الْإِسْلَامِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، أَمَّا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ فَالْإِسْلَامُ هُوَ الْإِيمَانُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّ قَوْلَهُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الدِّينُ الْمَقْبُولُ عِنْدَ اللَّهِ لَيْسَ إِلَّا الْإِسْلَامَ، فَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ غَيْرَ الْإِسْلَامِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْإِيمَانُ دِينًا مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ بَاطِلٌ الثَّانِي: قوله تَعَالَى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آلِ عِمْرَانَ: 85] فَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ غَيْرَ الْإِسْلَامِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْإِيمَانُ دِينًا مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الْحُجُرَاتِ: 14] هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ مُغَايِرٌ لِلْإِيمَانِ. قُلْنَا: الْإِسْلَامُ عِبَارَةٌ عَنْ الِانْقِيَادِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالْمُنَافِقُونَ انْقَادُوا فِي الظَّاهِرِ مِنْ خَوْفِ السَّيْفِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الْإِسْلَامُ حَاصِلًا فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ، وَالْإِيمَانُ كَانَ أَيْضًا حَاصِلًا فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [الْبَقَرَةِ: 221] وَالْإِيمَانُ الَّذِي يُمْكِنُ إِدَارَةُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ هُوَ الْإِقْرَارُ الظَّاهِرُ، فَعَلَى هَذَا الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ تَارَةً يُعْتَبَرَانِ فِي الظَّاهِرِ، وَتَارَةً فِي الْحَقِيقَةِ، وَالْمُنَافِقُ حَصَلَ لَهُ الْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْإِسْلَامُ الْبَاطِنُ، لِأَنَّ بَاطِنَهُ غَيْرُ مُنْقَادٍ لِدِينِ اللَّهِ، فَكَانَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَمْ تُسْلِمُوا فِي الْقَلْبِ وَالْبَاطِنِ، وَلَكِنْ قُولُوا: أَسْلَمْنَا فِي الظَّاهِرِ، وَاللَّهُ أعلم. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْغَرَضُ مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْضَحَ الدَّلَائِلَ، وَأَزَالَ الشُّبُهَاتِ وَالْقَوْمُ مَا كَفَرُوا إِلَّا لِأَجْلِ التَّقْصِيرِ، فَقَوْلُهُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْيَهُودُ، وَاخْتِلَافُهُمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَرُبَتْ وَفَاتُهُ سَلَّمَ التَّوْرَاةَ إِلَى سَبْعِينَ حَبْرًا، وَجَعَلَهُمْ أُمَنَاءَ عَلَيْهَا وَاسْتَخْلَفَ يُوشَعَ، فَلَمَّا مَضَى قَرْنٌ بَعْدَ قَرْنٍ اخْتَلَفَ أَبْنَاءُ السَّبْعِينَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ فِي التَّوْرَاةِ بَغْيًا بَيْنَهُمْ، وَتَحَاسَدُوا فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَالثَّانِي: الْمُرَادُ النَّصَارَى وَاخْتِلَافُهُمْ فِي أَمْرِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بعد ما جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَالثَّالِثُ: الْمُرَادُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَاخْتِلَافُهُمْ هُوَ أَنَّهُ قَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَأَنْكَرُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا: نَحْنُ أَحَقُّ بِالنُّبُوَّةِ مِنْ قُرَيْشٍ، لِأَنَّهُمْ أُمِّيُّونَ وَنَحْنُ أَهْلُ الْكِتَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ الْمُرَادُ مِنْهُ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الدَّلَائِلُ الَّتِي لَوْ نَظَرُوا فِيهَا لَحَصَلَ لَهُمُ الْعِلْمُ، لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعِلْمِ لَصَارُوا مُعَانِدِينَ وَالْعِنَادُ عَلَى الْجَمْعِ الْعَظِيمِ لَا يَصِحُّ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَرَدَتْ فِي كُلِّ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمْ جَمْعٌ عَظِيمٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ بَغْياً وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَوْلُ الْأَخْفَشِ إِنَّهُ انْتَصَبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ أَيْ لِلْبَغْيِ كَقَوْلِكَ: جِئْتُكَ طَلَبَ الْخَيْرِ وَمَنْعَ الشَّرِّ وَالثَّانِي: قَوْلُ الزَّجَّاجِ إِنَّهُ انْتَصَبَ عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ قَوْلَهُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قَائِمٌ مَقَامَ قَوْلِهِ: وَمَا بَغَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَجَعَلَ بَغْياً

[سورة آل عمران (3) : آية 20]

مَصْدَرًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَفْعُولِ لَهُ وَبَيْنَ الْمَصْدَرِ أَنَّ الْمَفْعُولَ لَهُ غَرَضٌ لِلْفِعْلِ، وَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَهُوَ الْمَفْعُولُ الْمُطْلَقُ الَّذِي أَحْدَثَهُ الْفَاعِلُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْأَخْفَشُ قَوْلُهُ بَغْياً بَيْنَهُمْ مِنْ صِلَةِ قَوْلِهِ اخْتَلَفَ وَالْمَعْنَى: وَمَا اخْتَلَفُوا بَغِيًا بَيْنَهُمْ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمَعْنَى وَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِلَّا لِلْبَغْيِ بَيْنَهُمْ، فَيَكُونُ هَذَا إِخْبَارًا عَنْ أَنَّهُمْ إِنَّمَا اخْتَلَفُوا لِلْبَغْيِ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: وَهَذَا أَجْوَدُ مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ: يُوهِمُ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا بِسَبَبِ مَا جَاءَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، وَالثَّانِي: يُفِيدُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا اخْتَلَفُوا لِأَجْلِ الْحَسَدِ وَالْبَغْيِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ وَهَذَا تَهْدِيدٌ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى فَإِنَّهُ سَيَصِيرُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى سَرِيعًا فَيُحَاسِبُهُ أَيْ يَجْزِيهِ عَلَى كُفْرِهِ وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ/ تَعَالَى سَيُعْلِمُهُ بِأَعْمَالِهِ وَمَعَاصِيهِ وَأَنْوَاعِ كفره بإحصاء سريع مع كثرة الأعمال. [سورة آل عمران (3) : آية 20] فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ، وَأَنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ مَعَ ذَلِكَ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَقُولُهُ فِي مُحَاجَّتِهِمْ، فَقَالَ: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَفِي كَيْفِيَّةِ إِيرَادِ هَذَا الْكَلَامِ طَرِيقَانِ: الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا إِعْرَاضٌ عَنِ الْمُحَاجَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ أَظْهَرَ لَهُمُ الْحُجَّةَ عَلَى صِدْقِهِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِرَارًا وَأَطْوَارًا، فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ، وَكَانَ قَدْ أَظْهَرَ لَهُمُ الْمُعْجِزَاتِ بِالْقُرْآنِ، وَدُعَاءِ الشَّجَرَةِ وَكَلَامِ الذِّئْبِ وَغَيْرِهَا، وَأَيْضًا قَدْ ذَكَرَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ آيَاتٍ دَالَّةً عَلَى صِحَّةِ دِينِهِ، فَأَوَّلُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْحُجَّةَ بِقَوْلِهِ الْحَيُّ الْقَيُّومُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ النَّصَارَى فِي إِلَهِيَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِقَوْلِهِ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [آلِ عِمْرَانَ: 3] عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ، وَذَكَرَ شُبَهَ الْقَوْمِ، وَأَجَابَ عَنْهَا بِأَسْرِهَا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمْ مُعْجِزَةً أُخْرَى، وَهِيَ الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي شَاهَدُوهَا يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا [آلِ عِمْرَانَ: 13] ثُمَّ بَيَّنَ صِحَّةَ الْقَوْلِ بِالتَّوْحِيدِ، وَنَفَى الضِّدَّ وَالنِّدَّ وَالصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ بِقَوْلِهِ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آلِ عِمْرَانَ: 18] ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَهَابَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَنِ الْحَقِّ، وَاخْتِلَافَهُمْ فِي الدِّينِ، إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ، وَذَلِكَ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الِانْقِيَادِ لِلْحَقِّ وَالتَّأَمُّلِ فِي الدَّلَائِلِ لَوْ كَانُوا مُخْلِصِينَ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَسْبَابِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى فِرَقِ الْكُفَّارِ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ حَصَلَ، فَبَعْدَ هَذَا قَالَ: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ يَعْنِي إِنَّا بَالَغْنَا فِي تَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ، وَإِيضَاحِ الْبَيِّنَاتِ، فَإِنْ تَرَكْتُمُ الْأَنَفَ وَالْحَسَدَ، وَتَمَسَّكْتُمْ بِهَا كُنْتُمْ أَنْتُمُ الْمُهْتَدِينَ، وَإِنْ أَعْرَضْتُمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ وَرَاءِ مُجَازَاتِكُمْ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ طَرِيقٌ مُعْتَادٌ فِي الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْمُحِقَّ إِذَا ابْتُلِيَ بِالْمُبْطِلِ اللَّجُوجِ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ الْحُجَّةَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، فَقَدْ يَقُولُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ: أَمَّا أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي فَمُنْقَادُونَ لِلْحَقِّ، مُسْتَسْلِمُونَ لَهُ، / مُقْبِلُونَ عَلَى عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ وَافَقْتُمْ وَاتَّبَعْتُمُ الْحَقَّ الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ بَعْدَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا فَقَدِ اهْتَدَيْتُمْ، وَإِنْ أَعْرَضْتُمْ فَإِنَّ اللَّهَ بِالْمِرْصَادِ، فَهَذَا الطَّرِيقُ قَدْ يَذْكُرُهُ الْمُحْتَجُّ الْمُحِقُّ مَعَ الْمُبْطِلِ الْمُصِرِّ فِي آخِرِ كلامه.

الطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ قَوْلَهُ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ مُحَاجَّةٌ، وَإِظْهَارٌ لِلدَّلِيلِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِوُجُودِ الصَّانِعِ، وَكَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ، فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِلْقَوْمِ: هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْكُلِّ فَأَنَا مُسْتَمْسِكٌ بِهَذَا الْقَدْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَدَاعٍ لِلْخَلْقِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أُمُورٍ وَرَاءَ ذَلِكَ وَأَنْتُمُ الْمُدَّعُونَ فَعَلَيْكُمُ الْإِثْبَاتُ، فَإِنَّ الْيَهُودَ يَدَّعُونَ التَّشْبِيهَ وَالْجِسْمِيَّةَ، وَالنَّصَارَى يَدَّعُونَ إِلَهِيَّةَ عِيسَى، وَالْمُشْرِكِينَ يَدَّعُونَ وُجُوبَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُدَّعُونَ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَعَلَيْهِمْ إِثْبَاتُهَا، وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَدَّعِي إِلَّا وُجُوبَ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعُبُودِيَّتَهُ، وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عليه، ونظيره هذه الآية قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً [آلِ عِمْرَانَ: 64] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ، وَهُوَ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَعَبَدَةَ الْأَوْثَانِ كَانُوا مُقِرِّينَ بِتَعْظِيمِ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَالْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ كَانَ مُحِقًّا فِي قَوْلِهِ صَادِقًا فِي دِينِهِ، إِلَّا فِي زِيَادَاتٍ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَتَّبِعَ مِلَّتَهُ فَقَالَ: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النَّحْلِ: 123] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ يَقُولَ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَامِ: 79] فَقَوْلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَجَّهْتُ وَجْهِيَ أي اعترضت عَنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَصَدْتُهُ بِالْعِبَادَةِ وَأَخْلَصْتُ لَهُ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِنْ نَازَعُوكَ يَا مُحَمَّدُ فِي هَذِهِ التَّفَاصِيلِ فَقُلْ: أَنَا مُسْتَمْسِكٌ بِطَرِيقَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنْتُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ طَرِيقَتَهُ حَقَّةٌ، بَعِيدَةٌ عَنْ كُلِّ شُبْهَةٍ وَتُهْمَةٍ، فَكَانَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّمَسُّكِ بِالْإِلْزَامَاتِ، وَدَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْلِ: 125] . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ مَا خَطَرَ بِبَالِي عِنْدَ كَتْبَةِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ أَنَّهُ ادَّعَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ لَا غَيْرَ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ حَاجُّوكَ يَعْنِي فَإِنْ نَازَعُوكَ فِي قولك إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آلِ عِمْرَانَ: 19] فَقُلِ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنِّي أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الدِّينِ إِنَّمَا هُوَ الْوَفَاءُ بِلَوَازِمِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَإِذَا أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فَلَا أَعْبُدُ غَيْرَهُ وَلَا أَتَوَقَّعُ الْخَيْرَ إِلَّا مِنْهُ وَلَا أَخَافُ إِلَّا مِنْ قَهْرِهِ وَسَطْوَتِهِ، وَلَا أُشْرِكُ بِهِ غَيْرَهُ، كَانَ هَذَا هُوَ تَمَامُ الْوَفَاءِ بِلَوَازِمِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، فَصَحَّ أَنَّ الدِّينَ الْكَامِلَ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَهَذَا الْوَجْهُ يُنَاسِبُ الْآيَةَ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ، مَا خَطَرَ بِبَالِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُنَاسِبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مَرْيَمَ: 42] يَعْنِي لَا تَجُوزُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لِمَنْ يَكُونُ نَافِعًا ضَارًّا، وَيَكُونُ أَمْرِي فِي يَدَيْهِ، وَحُكْمِي فِي قَبْضَةِ قُدْرَتِهِ، فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَعْلَمُ أَنَّ عِيسَى مَا كَانَ قَادِرًا عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ امْتَنَعَ فِي الْعَقْلِ أَنْ أُسْلِمَ لَهُ، وَأَنْ أَنْقَادَ لَهُ، وَإِنَّمَا أُسْلِمُ وَجْهِيَ لِلَّذِي مِنْهُ الْخَيْرُ، وَالشَّرُّ، وَالنَّفْعُ، وَالضُّرُّ، وَالتَّدْبِيرُ، وَالتَّقْدِيرُ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: يَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ إِشَارَةً إِلَى طَرِيقَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي قَوْلِهِ إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْبَقَرَةِ: 131] وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَمَّا قَوْلُهُ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ أَسَلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ، أَيْ أَخْلَصْتُ عَمَلِي لِلَّهِ

يُقَالُ أَسَلَمْتُ الشَّيْءَ لِفُلَانٍ أَيْ أَخْلَصْتُهُ لَهُ، وَلَمْ يُشَارِكْهُ غَيْرُهُ قَالَ: وَيَعْنِي بِالْوَجْهِ هَاهُنَا العمل كقوله يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف: 28] أَيْ عِبَادَتَهُ، وَيُقَالُ: هَذَا وَجْهُ الْأَمْرِ أَيْ خَالِصُ الْأَمْرِ وَإِذَا قَصَدَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ لِحَاجَةٍ يَقُولُ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ إِلَيْكَ، وَيُقَالُ لِلْمُنْهَمِكِ فِي الشَّيْءِ الَّذِي لَا يَرْجِعُ عَنْهُ: مَرَّ عَلَى وَجْهِهِ الثَّانِي: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ أَيْ أَسَلَمْتُ وَجْهَ عَمَلِي لِلَّهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَا يَصْدُرُ مِنِّي مِنَ الْأَعْمَالِ فَالْوَجْهُ فِي الْإِتْيَانِ بِهَا هُوَ عُبُودِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى وَالِانْقِيَادُ لِإِلَهِيَّتِهِ وَحُكْمِهِ الثَّالِثُ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ أَيْ أَسْلَمْتُ نَفَسِي لِلَّهِ وَلَيْسَ فِي الْعِبَادَةِ مَقَامٌ أَعْلَى مِنْ إِسْلَامِ النَّفْسِ لِلَّهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عِبَادَتِهِ، عَادِلٌ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَمَنِ اتَّبَعَنِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: حَذَفَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، الْيَاءَ مِنِ اتَّبَعَنِ اجْتِزَاءً بِالْكَسْرِ وَاتِّبَاعًا لِلْمُصْحَفِ، وَأَثْبَتَهُ الْآخَرُونَ عَلَى الْأَصْلِ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَنِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى التَّاءِ فِي قَوْلِهِ أَسْلَمْتُ أي ومعنى اتَّبَعَنِي أَسْلَمَ أَيْضًا. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ أَسْلَمْتُ وَمَنِ اتَّبَعَنِ، وَلَمْ يَقُلْ: أَسْلَمْتُ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِ. قُلْنَا: إِنَّ الْكَلَامَ طَالَ بِقَوْلِهِ وَجْهِيَ لِلَّهِ فَصَارَ عِوَضًا مِنْ تَأْكِيدِ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ، وَلَوْ قِيلَ أَسْلَمْتُ وَزَيْدٌ لَمْ يَحْسُنْ حَتَّى يُقَالَ: أَسْلَمْتُ أَنَا وَزَيْدٌ وَلَوْ قَالَ أَسْلَمْتُ الْيَوْمَ بِانْشِرَاحِ صَدْرٍ، وَمَنْ جَاءَ مَعِي جَازَ وَحَسُنَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ مُتَنَاوِلَةٌ لِجَمِيعِ الْمُخَالِفِينَ لِدِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، سَوَاءٌ كَانَ مُحِقًّا فِي تِلْكَ الدَّعْوَى كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ كَانَ كَاذِبًا فِيهِ كَالْمَجُوسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا وَصَفَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِأَنَّهُمْ أُمِّيُّونَ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَدَّعُوا الْكِتَابَ الْإِلَهِيَّ وُصِفُوا بِأَنَّهُمْ أُمِّيُّونَ تَشْبِيهًا بِمَنْ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ فَهَذِهِ كَانَتْ صِفَةَ عَامَّتِهِمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَكْتُبُ فَنَادِرٌ مِنْ بَيْنِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فَإِنْ حَاجُّوكَ عَامٌّ فِي كُلِّ الْكُفَّارِ، لِأَنَّهُ دَخَلَ كُلُّ مَنْ يَدَّعِي الكتاب تحت قوله لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَدَخَلَ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ تَحْتَ قَوْلِهِ الْأُمِّيِّينَ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَأَسْلَمْتُمْ فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْرِضِ التَّقْرِيرِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْأَمْرُ قَالَ النَّحْوِيُّونَ: إِنَّمَا جَاءَ بِالْأَمْرِ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ فِي طَلَبِ الْفِعْلِ وَالِاسْتِدْعَاءِ إِلَيْهِ إِلَّا أَنَّ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ مَعْنَى الْأَمْرِ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ، وَهِيَ التَّعْبِيرُ بِكَوْنِ الْمُخَاطَبِ مُعَانِدًا بَعِيدًا عَنِ الْإِنْصَافِ، لِأَنَّ الْمُنْصِفَ إِذَا ظَهَرَتْ لَهُ الْحُجَّةُ لَمْ يَتَوَقَّفْ بَلْ فِي الْحَالِ يَقْبَلُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ لِمَنْ لَخَّصْتَ لَهُ الْمَسْأَلَةَ فِي غَايَةِ التَّلْخِيصِ وَالْكَشْفِ وَالْبَيَانِ هَلْ فَهِمْتَهَا؟ فَإِنَّ فِيهِ الْإِشَارَةَ إِلَى كَوْنِ الْمُخَاطَبِ بَلِيدًا قَلِيلَ الْفَهْمِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةِ الْخَمْرِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [الْمَائِدَةِ: 91] وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّقَاعُدِ عَنِ الِانْتِهَاءِ وَالْحِرْصِ الشَّدِيدِ عَلَى تَعَاطِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ تَمَسُّكٌ بِمَا هَدَى إِلَيْهِ، وَالْمُتَمَسِّكُ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 21 إلى 22]

بِهِدَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ مُهْتَدِيًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ: فَقَدِ اهْتَدَوْا لِلْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ إِنْ ثَبَتُوا عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ تَوَلَّوْا عَنِ الْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْرِيفُهُ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ لَيْسَ إِلَّا إِبْلَاغُ الْأَدِلَّةِ وَإِظْهَارُ الْحُجَّةِ فَإِذَا بَلَّغَ مَا جَاءَ بِهِ فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَبُولُهُمْ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْوَعْدَ والوعيد، وهو ظاهر. [سورة آل عمران (3) : الآيات 21 الى 22] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ حَالَ مَنْ يُعْرِضُ وَيَتَوَلَّى بِقَوْلِهِ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أَرْدَفَهُ بِصِفَةِ هَذَا الْمُتَوَلِّي فَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الصِّفَاتِ: الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ. فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ كَافِرِينَ بِجَمِيعِ آيَاتِ اللَّهِ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مَا كَانُوا كَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَالْمَعَادِ. قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنْ نَصْرِفَ آيَاتِ اللَّهِ إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّانِي: أَنْ نَحْمِلَهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَنَقُولَ إِنَّ مَنْ كَذَّبَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُكَذِّبَ بِجَمِيعِ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ مَنْ تَنَاقَضَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِشَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ إِذْ لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا بِشَيْءٍ مِنْهَا لَآمَنَ بِالْجَمِيعِ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْحَسَنُ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَهُوَ لِلْمُبَالَغَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحَ أَنَّهُ قَالَ: قَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ رَجُلًا أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا عُبَيْدَةَ قَتَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَامَ مِائَةُ رَجُلٍ وَاثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَمَرُوا مَنْ قَتَلَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ فَقُتِلُوا جَمِيعًا مِنْ آخِرِ النَّهَارِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَيْضًا القوم قتلوا يحيى بن ذكريا، وزعموا أنهم قتلوا عيسى بن مَرْيَمَ فَعَلَى قَوْلِهِمْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ. وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: إِذَا كَانَ قَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ فِي حُكْمِ الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّهُ وَعِيدٌ لِمَنْ كَانَ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا الْقَائِمِينَ بِالْقِسْطِ فكيف يصح ذلك؟. والجواب مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ لَمَّا كَانَتْ طَرِيقَةَ أَسْلَافِهِمْ صَحَّتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِمْ، إِذْ كَانُوا مُصَوِّبِينَ وَبِطَرِيقَتِهِمْ رَاضِينَ، فَإِنَّ صُنْعَ الْأَبِ قَدْ يُضَافُ إِلَى الِابْنِ إِذَا كَانَ رَاضِيًا بِهِ وَجَارِيًا عَلَى طَرِيقَتِهِ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يُرِيدُونَ قَتْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقتل المؤمنين إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى عَصَمَهُ مِنْهُمْ، فَلَمَّا كَانُوا في غاية

الرَّغْبَةِ فِي ذَلِكَ صَحَّ إِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، كَمَا يُقَالُ: النَّارُ مُحْرِقَةٌ، وَالسُّمُّ قَاتِلٌ، أَيْ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِمَا إِذَا وُجِدَ الْقَابِلُ، فَكَذَا هَاهُنَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إِلَّا كَذَلِكَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ. وَالْجَوَابُ: ذَكَرْنَا وُجُوهَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ شَرْحُ عِظَمِ ذَنْبِهِمْ، وَأَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ قَصَدُوا بِطَرِيقَةِ الظُّلْمِ فِي قَتْلِهِمْ طَرِيقَةَ الْعَدْلِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ ظَاهِرُهُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ قَتَلُوا الْكُلَّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ مَا قَتَلُوا الْكُلَّ وَلَا الْأَكْثَرَ وَلَا النِّصْفَ. وَالْجَوَابُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ مَحْمُولَانِ عَلَى الْمَعْهُودِ لَا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ وَيُقَاتِلُونَ بِالْأَلِفِ وَالْبَاقُونَ وَيَقْتُلُونَ وَهُمَا سَوَاءٌ، لِأَنَّهُمْ قَدْ يُقَاتِلُونَ فَيَقْتُلُونَ بِالْقِتَالِ، وَقَدْ يَقْتُلُونَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ وَالَّذِينَ يَأْمُرُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْحَسَنُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَائِمَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عِنْدَ الْخَوْفِ، تَلِي مَنْزِلَتُهُ فِي الْعِظَمِ مَنْزِلَةَ الْأَنْبِيَاءِ، وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» . وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا وَصَفَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ، فَقَدْ ذَكَرَ وَعِيدَهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا دَخَلَتِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَبَشِّرْهُمْ مع أنه خبران، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَزَاءِ وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ يَكْفُرْ فَبَشِّرْهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ، وَهُوَ أَنَّ إِنْذَارَ هَؤُلَاءِ بِالْعَذَابِ قَائِمٌ مَقَامَ بُشْرَى الْمُحْسِنِينَ بِالنَّعِيمِ، وَالْكَلَامُ فِي حَقِيقَةِ الْبِشَارَةِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْبَقَرَةِ: 25] . النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْوَعِيدِ: قَوْلُهُ أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ مَحَاسِنَ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ مُحْبَطَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أما الدنيا فإبدال الْمَدْحِ بِالذَّمِّ وَالثَّنَاءِ بِاللَّعْنِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا يَنْزِلُ بِهِمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ مِنْهُمْ غَنِيمَةً وَالِاسْتِرْقَاقِ لَهُمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الذُّلِّ الظَّاهِرِ فِيهِمْ، وَأَمَّا حُبُوطُهَا فِي الْآخِرَةِ فَبِإِزَالَةِ الثَّوَابِ إِلَى الْعِقَابِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ وَعِيدِهِمْ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بِالنَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنَ الْوَعِيدِ اجْتِمَاعَ أَسْبَابِ الْآلَامِ وَالْمَكْرُوهَاتِ فِي حَقِّهِمْ وَبَيَّنَ بِالنَّوْعِ الثَّانِي زَوَالَ أَسْبَابِ الْمَنَافِعِ عَنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ وَبَيَّنَ بِهَذَا الْوَجْهِ الثَّالِثِ لُزُومَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ عَلَى وَجْهٍ/ لَا يَكُونُ لهم ناصر ولا دافع والله أعلم.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 إلى 25]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 25] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) [فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَبَّهَ عَلَى عِنَادِ الْقَوْمِ بِقَوْلِهِ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمران: 20] بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَايَةَ عِنَادِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ إِلَى الْكِتَابِ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ ثُمَّ إِنَّهُمْ يَتَمَرَّدُونَ، وَيَتَوَلَّوْنَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ عِنَادِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ظَاهِرُ قَوْلِهِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَتَنَاوَلُ كُلَّهُمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مَذْكُورٌ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ دَلَّ دَلِيلٌ آخَرُ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ أَهْلِ الْكِتَابِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 113] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ الْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْكِتَابَ إِلَى الْكُفَّارِ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْكِتَابِ الَّذِي كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّهُ حَقٌّ، وَمِنْ عِنْدِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذكروا في سبب النزول وجوهاًأحدها: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَةً مِنَ الْيَهُودِ زَنَيَا، وَكَانَا ذَوَيْ شَرَفٍ، وَكَانَ فِي كِتَابِهِمُ الرَّجْمُ، فَكَرِهُوا رَجْمَهُمَا لِشَرَفِهِمَا، فَرَجَعُوا فِي أَمْرِهِمَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ رُخْصَةٌ فِي تَرْكِ الرَّجْمِ فَحَكَمَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّجْمِ فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ التَّوْرَاةُ فَإِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ فَمَنْ أَعْلَمُكُمْ؟ قَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَا الْفَدَكِيُّ فَأَتَوْا بِهِ وَأَحْضَرُوا التَّوْرَاةَ، فَلَمَّا أَتَى/ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا، فَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: قَدْ جَاوَزَ مَوْضِعَهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَرَفَعَ كَفَّهُ عَنْهَا فَوَجَدُوا آيَةَ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمَا فَرُجِمَا، فَغَضِبَتِ الْيَهُودُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ لِذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَدْرَسَةَ الْيَهُودِ، وَكَانَ فِيهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالُوا: عَلَى أَيِّ دِينٍ أَنْتَ؟ فَقَالَ: عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالُوا: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلُمُّوا إِلَى التَّوْرَاةِ، فَأَبَوْا ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ عَلَامَاتِ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَذْكُورَةٌ فِي التَّوْرَاةِ، وَالدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ مَوْجُودَةٌ فِيهَا، فَدَعَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى التَّوْرَاةِ، وَإِلَى تِلْكَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ فَأَبَوْا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِذَا أَبَوْا أَنْ يُجِيبُوا إِلَى التَّحَاكُمِ إِلَى كِتَابِهِمْ، فَلَا تَعْجَبْ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ كِتَابَكَ فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 93] وَهَذِهِ الْآيَةُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ وُجِدَ فِي التَّوْرَاةِ دَلَائِلُ صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، إِذْ لَوْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ لَسَارَعُوا إِلَى بَيَانِ مَا فِيهَا وَلَكِنَّهُمْ أَسَرُّوا ذَلِكَ.

وَالرِّوَايَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ عَامٌّ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَكَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى حُكْمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَكَانُوا يَأْبَوْنَ. أَمَّا قَوْلُهُ نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ نَصِيبًا مِنْ عِلْمِ الْكِتَابِ، لِأَنَّا لَوْ أَجْرَيْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فُهِمَ أَنَّهُمْ قَدْ أُوتُوا كُلَّ الْكِتَابِ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ يُدْعَوْنَ إِلَى الْكِتَابِ، لِأَنَّ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِذَلِكَ لَا يُدْعَى إِلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْحَسَنِ أَنَّهُ الْقُرْآنُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ دُعُوا إِلَى حُكْمِ كِتَابٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ؟. قُلْنَا: إِنَّهُمْ إِنَّمَا دُعُوا إِلَيْهِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَجِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ التَّوْرَاةُ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى التَّوْرَاةِ فَكَانُوا يَأْبَوْنَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى عَجَّبَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَمَرُّدِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ، وَالتَّعَجُّبُ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا تَمَرَّدُوا عَنْ حُكْمِ الْكِتَابِ الَّذِي يَعْتَقِدُونَ في صحته، ويقرون بحقيته الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا قَبْلَ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الْبَلَاغُ، وَصَبَّرَهُ عَلَى مَا قَالُوهُ فِي تَكْذِيبِهِ مَعَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ بَيَّنَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا اسْتَعْمَلُوا طَرِيقَ الْمُكَابَرَةِ فِي نَفْسِ كِتَابِهِمُ الَّذِي أَقَرُّوا بِصِحَّتِهِ فَسَتَرُوا/ مَا فِيهِ مِنَ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فِي غَايَةِ التَّعَصُّبِ. وَالْبُعْدِ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فَالْمَعْنَى: لِيَحْكُمَ الْكِتَابُ بَيْنَهُمْ، وَإِضَافَةُ الْحُكْمِ إِلَى الْكِتَابِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ، وَقُرِئَ لِيَحْكُمَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقَوْلُهُ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ وَاقِعًا فِيمَا بَيْنَهُمْ، لَا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمُ الرُّؤَسَاءُ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ هُمُ الْعُلَمَاءُ. ثُمَّ قَالَ: وَهُمْ مُعْرِضُونَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُتَوَلُّونَ هُمُ الرُّؤَسَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْمُعْرِضُونَ الْبَاقُونَ مِنْهُمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: ثُمَّ يَتَوَلَّى الْعُلَمَاءُ وَالْأَتْبَاعُ مُعْرِضُونَ عَنِ الْقَبُولِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِ تَوَلِّي عُلَمَائِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ وَالْمُعْرِضَ هُوَ ذَلِكَ الْفَرِيقُ، وَالْمَعْنَى أنه متولي عَنِ اسْتِمَاعِ الْحُجَّةِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ وَمُعْرِضٌ عَنِ اسْتِمَاعِ سَائِرِ الْحُجَجِ فِي سَائِرِ الْمَسَائِلِ وَالْمَطَالِبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَظُنَّ أَنَّهُ تَوَلَّى عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَلْ هُوَ مُعْرِضٌ عَنِ الْكُلِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [آلِ عمران: 24] فَالْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِهِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَوَجْهُ النَّظْمِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ذَلِكَ التَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضُ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا

مَعْدُودَاتٍ، قَالَ الْجُبَّائِيُّ: وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ أَهْلَ النَّارِ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ لَصَحَّ فِي سَائِرِ الْأُمَمِ، وَلَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأُمَمِ لَمَا كان المخبر بِذَلِكَ كَاذِبًا، وَلَمَا اسْتَحَقَّ الذَّمَّ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ عَلِمْنَا أَنَّ الْقَوْلَ بِخُرُوجِ أَهْلِ النَّارِ قَوْلٌ بَاطِلٌ. وَأَقُولُ: كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ لَا يَذْكُرَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الْعَفْوَ حَسَنٌ جَائِزٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ حُصُولِ الْعَفْوِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ حُصُولُهُ فِي سَائِرِ الْأُمَمِ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَلْزَمُ ذَلِكَ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ الْفَاسِقَ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ بَلْ هَاهُنَا وُجُوهٌ أُخَرُ الْأَوَّلُ: لِعِلْمِهِمُ اسْتَوْجَبُوا الذَّمَّ عَلَى أَنَّهُمْ قَطَعُوا بِأَنَّ مُدَّةَ عَذَابِ الْفَاسِقِ قَصِيرَةٌ قَلِيلَةٌ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: مُدَّةُ عَذَابِنَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً عَلَى قَدْرِ مُدَّةِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَسَاهَلُونَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَيَقُولُونَ بِتَقْدِيرِ وُقُوعِ الْخَطَأِ مِنَّا فَإِنَّ عَذَابَنَا قَلِيلٌ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ عِنْدَنَا الْمُخْطِئَ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ عَذَابُهُ دَائِمٌ، لِأَنَّهُ كَافِرٌ، وَالْكَافِرُ عَذَابُهُ دَائِمٌ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَقَدِ اسْتَحْقَرُوا تَكْذِيبَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي تَغْلِيظِ/ الْعِقَابِ فَكَانَ ذَلِكَ تَصْرِيحًا بِتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ كُفْرٌ وَالْكَافِرُ الْمُصِرُّ عَلَى كُفْرِهِ لَا شَكَّ أَنَّ عَذَابَهُ مُخَلَّدٌ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ثَبَتَ أَنَّ احْتِجَاجَ الْجُبَّائِيِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ ضَعِيفٌ وَتَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ فَاعْلَمْ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ فَقِيلَ: هُوَ قَوْلُهُمْ نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَةِ: 18] وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُهُمْ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَقِيلَ: غَرَّهُمْ قَوْلُهُمْ: نَحْنُ عَلَى الْحَقِّ وَأَنْتَ عَلَى الْبَاطِلِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمُ اغْتِرَارَهُمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْجَهْلِ بَيَّنَ أَنَّهُ سَيَجِيءُ يَوْمٌ يَزُولُ فِيهِ ذَلِكَ الْجَهْلُ، وَيُكْشَفُ فِيهِ ذَلِكَ الْغُرُورُ فَقَالَ فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَكَيْفَ صُورَتُهُمْ وَحَالُهُمْ وَيُحْذَفُ الْحَالُ كَثِيرًا مَعَ كَيْفَ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهَا تَقُولُ: كُنْتُ أُكْرِمُهُ وَهُوَ لَمْ يَزُرْنِي، فَكَيْفَ لَوْ زَارَنِي أَيْ كَيْفَ حَالُهُ إِذَا زَارَنِي، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَذْفَ يُوجِبُ مَزِيدَ الْبَلَاغَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْرِيكِ النَّفْسِ عَلَى اسْتِحْضَارِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَرَامَةِ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: لَوْ زَارَنِي وَكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ وَلَمْ يَقُلْ فِي يَوْمٍ، لِأَنَّ الْمُرَادَ: لِجَزَاءِ يَوْمٍ أَوْ لِحِسَابِ يَوْمٍ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَدَلَّتِ اللَّامُ عَلَيْهِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: اللَّامُ لِفِعْلٍ مُضْمَرٍ إِذَا قُلْتَ: جُمِعُوا لِيَوْمِ الْخَمِيسِ، كَانَ الْمَعْنَى جُمِعُوا لِفِعْلٍ يُوجَدُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ وَإِذَا قُلْتَ: جُمِعُوا فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لَمْ تُضْمِرْ فِعْلًا وَأَيْضًا فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ إِلَّا الْمُجَازَاةُ وَإِظْهَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُثَابِ وَالْمُعَاقَبِ، وَقَوْلُهُ لَا رَيْبَ فِيهِ أَيْ لَا شَكَّ فِيهِ. ثُمَّ قَالَ: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ فَإِنْ حَمَلْتَ مَا كَسَبَتْ عَلَى عَمَلِ الْعَبْدِ جُعِلَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ جَزَاءَ مَا كَسَبَتْ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ، وَإِنْ حَمَلْتَ مَا كَسَبَتْ عَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ اسْتَغْنَيْتَ عَنْ هذا الإضمار.

ثُمَّ قَالَ: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فَلَا يُنْقَصُ مِنْ ثَوَابِ الطَّاعَاتِ، وَلَا يُزَادُ عَلَى عِقَابِ السَّيِّئَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ يَسْتَدِلُّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْوَعِيدِ، وَيَسْتَدِلُّ بِهِ أَصْحَابُنَا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ، أَمَّا الْأَوَّلُونَ قَالُوا: لِأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَا شَكَّ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ الْعِقَابَ بِتِلْكَ الْكَبِيرَةِ، وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ تُوَفَّى عَمَلَهَا وَمَا كَسَبَتْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي وَصُولَ الْعِقَابِ إِلَى صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ. وَجَوَابُنَا: أَنَّ هَذَا مِنَ الْعُمُومَاتِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي تَمَسُّكِ الْمُعْتَزِلَةِ بِالْعُمُومَاتِ. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ اسْتَحَقَّ ثَوَابَ الْإِيمَانِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُوَفَّى عَلَيْهِ ذَلِكَ/ الثَّوَابُ لِقَوْلِهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ فَإِمَّا أَنْ يُثَابَ فِي الْجَنَّةِ ثُمَّ يُنْقَلَ إِلَى دَارِ الْعِقَابِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: يُعَاقَبُ بِالنَّارِ ثُمَّ يُنْقَلُ إِلَى دَارِ الثَّوَابِ أَبَدًا مُخَلَّدًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ثَوَابَ إِيمَانِهِمْ يُحْبَطُ بِعِقَابِ مَعْصِيَتِهِمْ؟. قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمُحَابَطَةِ مُحَالٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ ثَوَابَ تَوْحِيدِ سَبْعِينَ سَنَةً أَزْيَدُ مِنْ عِقَابِ شُرْبِ جَرْعَةٍ مِنَ الْخَمْرِ، وَالْمُنَازِعُ فِيهِ مُكَابِرٌ، فَبِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْمُحَابَطَةِ يَمْتَنِعُ سُقُوطُ كُلِّ ثَوَابِ الْإِيمَانِ بِعِقَابِ شُرْبِ جَرْعَةٍ مِنَ الْخَمْرِ، وَكَانَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقُولُ: ثَوَابُ إِيمَانِ لَحْظَةٍ، يُسْقِطُ كُفْرَ سَبْعِينَ سَنَةً، فَثَوَابُ إِيمَانِ سَبْعِينَ سَنَةً كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُحْبَطَ بِعِقَابِ ذَنْبِ لَحْظَةٍ، وَلَا شَكَّ أنه كلام ظاهر. تمّ الجزء السابع، ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثامن، وأوله قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ أعان الله تعالى على إكماله

الجزء الثامن

الجزء الثامن [تتمة سورة آل عمران] بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم [سورة آل عمران (3) : الآيات 26 الى 27] قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، وَصِحَّةِ دِينِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِهِ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمران: 20] ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ صِفَاتِ الْمُخَالِفِينَ كُفْرَهُمْ بِاللَّهِ، وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَذَكَرَ شِدَّةَ عِنَادِهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ فِي قَوْلِهِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ [آل عمران: 23] ثُمَّ ذَكَرَ شِدَّةَ غُرُورِهِمْ بِقَوْلِهِ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [آلِ عمران: 24] ثُمَّ ذَكَرَ وَعِيدَهُمْ بِقَوْلِهِ فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ [آل عمران: 25] أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُعَاءٍ وَتَمْجِيدٍ يَدُلُّ عَلَى مُبَايَنَةِ طَرِيقِهِ وَطَرِيقِ أَتْبَاعِهِ، لِطَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ الْمُعَانِدِينَ الْمُعْرِضِينَ، فَقَالَ مُعَلِّمًا نَبِيَّهُ كَيْفَ يُمَجِّدُ وَيُعَظِّمُ وَيَدْعُو وَيَطْلُبُ قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي قَوْلِهِ اللَّهُمَّ فَقَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ اللَّهُمَّ مَعْنَاهُ: يَا أَللَّهُ، وَالْمِيمُ الْمُشَدَّدَةُ عِوَضٌ مِنْ: يَا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَ أَصْلُهَا، يَا أَللَّهُ أُمَّ بِخَيْرٍ: فَلَمَّا كَثُرَ فِي الْكَلَامِ حَذَفُوا حَرْفَ النِّدَاءِ، وَحَذَفُوا الهمرة مِنْ: أُمَّ، فَصَارَ اللَّهُمَّ وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: هَلُمَّ، وَالْأَصْلُ: هَلْ، فَضُمَّ: أُمَّ إِلَيْهَا، حُجَّةُ الْأَوَّلِينَ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْفَرَّاءِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ لَمَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ: اللَّهُمَّ افْعَلْ كَذَا إِلَّا بِحَرْفِ الْعَطْفِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: / يَا أَللَّهُ أُمَّنَا وَاغْفِرْ لَنَا، وَلَمْ نَجِدْ أَحَدًا يَذْكُرُ هَذَا الْحَرْفَ الْعَاطِفَ وَالثَّانِي: وَهُوَ حُجَّةُ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ، لَجَازَ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِهِ عَلَى أَصْلِهِ، فَيُقَالُ (اللَّهُ أُمَّ) كَمَا يُقَالُ (وَيْلَمَّ) ثُمَّ يُتَكَلَّمُ بِهِ عَلَى الْأَصْلِ فَيُقَالُ (وَيْلَ أُمِّهِ) الثَّالِثُ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ لَكَانَ حَرْفُ النِّدَاءِ مَحْذُوفًا، فَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَا اللَّهُمَّ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا جَائِزًا عَلِمْنَا فَسَادَ قَوْلِ الْفَرَّاءِ بَلْ نَقُولُ: كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَرْفُ النِّدَاءِ لَازِمًا، كَمَا يُقَالُ: يَا اللَّهُ اغْفِرْ لِي، وَأَجَابَ الْفَرَّاءُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَقَالَ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ (يَا أَللَّهُ أُمَّ) مَعْنَاهُ: يَا أَللَّهُ اقْصِدْ، فَلَوْ قَالَ: وَاغْفِرْ لَكَانَ الْمَعْطُوفُ مُغَايِرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ السُّؤَالُ سُؤَالَيْنِ أحدهما: قوله فَآمَنَّا والثاني: قوله فَاغْفِرْ لَنا [الْبَقَرَةِ: 286] أَمَّا إِذَا حَذَفْنَا الْعَطْفَ صَارَ قَوْلُهُ: اغْفِرْ لَنَا تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: أُمَّنَا. فَكَانَ الْمَطْلُوبُ فِي الْحَالَيْنِ شَيْئًا وَاحِدًا فَكَانَ ذَلِكَ آكَدَ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّ أَصْلَهُ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ: يَا أَللَّهُ أُمَّنَا. وَمَنِ الَّذِي يُنْكِرُ جَوَازَ التَّكَلُّمِ بِذَلِكَ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَلْفَاظِ لَا يَجُوزُ فِيهَا إِقَامَةُ الْفَرْعِ مَقَامَ الْأَصْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَذْهَبَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا أَكْرَمَهُ، مَعْنَاهُ أَيُّ شَيْءٍ أَكْرَمَهُ ثُمَّ إِنَّهُ قَطُّ لَا يُسْتَعْمَلُ

هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُ الْأَصْلُ فِي مَعْرِضِ التَّعَجُّبِ فَكَذَا هَاهُنَا، وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَمَنِ الَّذِي سَلَّمَ لَكُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَا أَللَّهُمَّ وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: وَأَمَّا عَلَيْكِ أَنْ تَقُولِي كُلَّمَا ... سَبَّحْتِ أَوْ صَلَّيْتِ يَا اللَّهُمَّا وَقَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ: إِنَّ هَذَا الشِّعْرَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، فَحَاصِلُهُ تَكْذِيبُ النَّقْلِ، وَلَوْ فَتَحْنَا هَذَا الْبَابَ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنَ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ سَلِيمًا عَنِ الطَّعْنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ حَرْفِ النِّدَاءِ لَازِمًا فَجَوَابُهُ أَنَّهُ قَدْ يُحْذَفُ حَرْفُ النِّدَاءِ كَقَوْلِهِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا [يُوسُفَ: 46] فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْتَصَّ هَذَا الِاسْمُ بِإِلْزَامِ هَذَا الْحَذْفِ، ثُمَّ احْتَجَّ الْفَرَّاءُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّا لَوْ جَعَلْنَا الْمِيمَ قَائِمًا مَقَامَ حَرْفِ النِّدَاءِ لَكُنَّا قَدْ أَخَّرْنَا النِّدَاءَ عَنْ ذِكْرِ الْمُنَادَى، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ الْبَتَّةَ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ الْبَتَّةَ (اللَّهُ يَا) وَعَلَى قَوْلِكُمْ يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ الثَّانِي: لَوْ كَانَ هَذَا الْحَرْفُ قَائِمًا مَقَامَ النِّدَاءِ لَجَازَ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ، حَتَّى يُقَالَ: زَيْدُمَّ وَبَكْرُمَّ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَا زَيْدُ وَيَا بَكْرُ وَالثَّالِثُ: لَوْ كَانَ الْمِيمُ بَدَلًا عَنْ حَرْفِ النِّدَاءِ لَمَا اجْتَمَعَا، لَكِنَّهُمَا اجْتَمَعَا فِي الشِّعْرِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ الرَّابِعُ: لَمْ نَجِدِ الْعَرَبَ يَزِيدُونَ هَذِهِ الْمِيمَ فِي الْأَسْمَاءِ التَّامَّةِ لِإِفَادَةِ مَعْنَى بَعْضِ الْحُرُوفِ الْمُبَايِنَةِ لِلْكَلِمَةِ الدَّاخِلَةِ عَلَيْهَا، فَكَانَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ الْوَاحِدَةِ حُكْمًا عَلَى خِلَافِ الِاسْتِقْرَاءِ الْعَامِّ فِي اللُّغَةِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مالِكَ الْمُلْكِ فِي نَصْبِهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ منصوب على النداء، وكذلك قوله قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الزُّمَرِ: 46] وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِقَوْلِهِ اللَّهُمَّ لِأَنَّ قَوْلَنَا اللَّهُمَّ مَجْمُوعُ الِاسْمِ وَالْحَرْفِ، وَهَذَا الْمَجْمُوعُ لَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ وَالثَّانِي: وَهُوَ/ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ وَالزَّجَّاجِ أَنَّ مالِكَ وَصْفٌ لِلْمُنَادَى الْمُفْرَدِ، لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ وَمَعَهُ الْمِيمُ بِمَنْزِلَتِهِ وَمَعَهُ (يَا) وَلَا يَمْتَنِعُ الصِّفَةُ مَعَ الْمِيمِ، كَمَا لَا يَمْتَنِعُ مَعَ الْيَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ مَكَّةَ وَعَدَ أُمَّتَهُ مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ وَالْيَهُودُ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ مِنْ أَيْنَ لِمُحَمَّدٍ مُلْكُ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَهُمْ أَعَزُّ وَأَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا خَطَّ الْخَنْدَقَ عَامَ الْأَحْزَابِ، وَقَطَعَ لِكُلِّ عَشَرَةٍ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، وَأَخَذُوا يَحْفِرُونَ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ الْخَنْدَقِ صَخْرَةٌ كَالتَّلِّ الْعَظِيمِ لَمْ تَعْمَلْ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، فَوَجَّهُوا سَلْمَانَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَبَّرَهُ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ مِنْ سَلْمَانَ فَلَمَّا ضَرَبَهَا ضَرْبَةً صَدَّعَهَا وَبَرَقَ مِنْهَا بَرْقٌ أَضَاءَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا كَأَنَّهُ مِصْبَاحٌ فِي جَوْفِ لَيْلٍ مُظْلِمٍ، فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَضَاءَتْ لِي مِنْهَا قُصُورُ الْحِيرَةِ كَأَنَّهَا أَنْيَابُ الْكِلَابِ» ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: «أَضَاءَتْ لِي مِنْهَا الْقُصُورُ الْحُمْرُ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ» ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: «أَضَاءَتْ لِي مِنْهَا قُصُورُ صَنْعَاءَ وَأَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَى كُلِّهَا فَأَبْشِرُوا» فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ نَبِيِّكُمْ يَعِدُكُمُ الْبَاطِلَ وَيُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ يُبْصِرُ مِنْ يَثْرِبَ قُصُورَ الْحِيرَةِ وَمَدَايِنَ كِسْرَى، وَأَنَّهَا تُفْتَحُ لَكُمْ وَأَنْتُمْ تَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ مِنَ الْخَوْفِ لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَخْرُجُوا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَالَ الْحَسَنُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ وَيَرُدَّ ذُلَّ الْعَرَبِ عَلَيْهِمَا، وَأَمْرُهُ بِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَجِيبُ لَهُ هَذَا الدُّعَاءَ، وَهَكَذَا مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذَا أُمِرُوا بِدُعَاءٍ اسْتُجِيبَ دعاءهم. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُلْكِ هُوَ الْقُدْرَةُ، وَالْمَالِكُ هُوَ الْقَادِرُ، فَقَوْلُهُ مالِكَ الْمُلْكِ مَعْنَاهُ الْقَادِرُ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَالْمَعْنَى إِنَّ قُدْرَةَ الْخَلْقِ عَلَى كُلِّ ما يقدرون عليه ليست بِإِقْدَارِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الَّذِي يُقْدِرُ كُلَّ قَادِرٍ عَلَى مَقْدُورِهِ،

وَيُمْلِكُ كُلَّ مَالِكٍ مَمْلُوكَهُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مالِكَ الْمُلْكِ أَيْ يَمْلِكُ جِنْسَ الْمُلْكِ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ فِيمَا يَمْلِكُونَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَوْنَهُ مالِكَ الْمُلْكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَصَّلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَذَكَرَ أَنْوَاعًا خَمْسَةً: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ: مُلْكُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النِّسَاءِ: 54] وَالنُّبُوَّةُ أَعْظَمُ مَرَاتِبِ الْمُلْكِ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ لَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ عَلَى بَوَاطِنِ الْخَلْقِ وَالْجَبَابِرَةُ لَهُمْ أَمْرٌ عَلَى ظَوَاهِرِ الْخَلْقِ وَالْأَنْبِيَاءُ أَمْرُهُمْ نَافِذٌ فِي الْبَوَاطِنِ وَالظَّوَاهِرِ، فَأَمَّا عَلَى الْبَوَاطِنِ فَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَقْبَلَ دِينَهُمْ وَشَرِيعَتَهُمْ، وَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ، وَأَمَّا عَلَى الظَّوَاهِرِ فَلِأَنَّهُمْ لَوْ تَمَرَّدُوا وَاسْتَكْبَرُوا لَاسْتَوْجَبُوا الْقَتْلَ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَسْتَبْعِدُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَشَرًا رَسُولًا فَحَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ قَوْلَهُمْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: 94] وَقَالَ اللَّهُ/ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الْأَنْعَامِ: 9] وَقَوْمٌ آخَرُونَ جَوَّزُوا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا مِنَ الْبَشَرِ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا فَقِيرٌ يَتِيمٌ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ هَذَا الْمَنْصِبُ الْعَظِيمُ عَلَى مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزُّخْرُفِ: 31] وَأَمَّا الْيَهُودُ فَكَانُوا يَقُولُونَ النُّبُوَّةُ كَانَتْ فِي آبَائِنَا وَأَسْلَافِنَا، وَأَمَّا قُرَيْشٌ فَهُمْ مَا كَانُوا أَهْلَ النُّبُوَّةِ وَالْكِتَابِ فَكَيْفَ يَلِيقُ النُّبُوَّةُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَكَانُوا يَحْسُدُونَهُ عَلَى النُّبُوَّةِ، عَلَى مَا حَكَى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاءِ: 37] . وَأَيْضًا فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ [آلِ عِمْرَانَ: 12] أَنَّ الْيَهُودَ تَكَبَّرُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ وَشِدَّتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى رَدَّ عَلَى جَمِيعِ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ بِأَنْ بَيَّنَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ مَالِكُ الْمُلْكِ فَيُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ، فَقَالَ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا حَمَلْتُمْ قَوْلَهُ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ عَلَى إِيتَاءِ مُلْكِ النُّبُوَّةِ، وَجَبَ أَنْ تَحْمِلُوا قَوْلَهُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَعْزِلُ عَنِ النُّبُوَّةِ مَنْ جَعَلَهُ نَبِيًّا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا جَعَلَ النُّبُوَّةَ فِي نَسْلِ رَجُلٍ، فَإِذَا أَخْرَجَهَا اللَّهُ مِنْ نَسْلِهِ، وَشَرَّفَ بِهَا إِنْسَانًا آخَرَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ النَّسْلِ، صَحَّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى نَزَعَهَا مِنْهُمْ، وَالْيَهُودُ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ أَنَّ النُّبُوَّةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا شَرَّفَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَنْزِعُ مُلْكَ النُّبُوَّةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الْعَرَبِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ أَيْ تَحْرِمُهُمْ وَلَا تُعْطِيهِمْ هَذَا الْمُلْكَ لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَسْلُبُهُ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الْبَقَرَةِ: 257] مَعَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَتَنَاوَلُ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي ظُلْمَةِ الْكُفْرِ قَطُّ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الْأَعْرَافِ: 88] وَأُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءُ قَالُوا وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْأَعْرَافِ: 89] مَعَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا فِيهَا قَطُّ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ قَوْلَهَ تَعَالَى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ بِمُلْكِ النُّبُوَّةِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمُلْكِ، مَا يُسَمَّى مُلْكًا فِي الْعُرْفِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا: تَكْثِيرُ الْمَالِ وَالْجَاهِ، أَمَّا تَكْثِيرُ الْمَالِ فَيَدْخُلُ فِيهِ مُلْكُ الصَّامِتِ وَالنَّاطِقِ وَالدُّورِ وَالضِّيَاعِ، وَالْحَرْثُ، وَالنَّسْلُ، وَأَمَّا تَكْثِيرُ الجاه فهو أن يكون مهيبا عند النَّاسِ، مَقْبُولَ الْقَوْلِ، مُطَاعًا فِي الْخَلْقِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ فِي طَاعَتِهِ، وَتَحْتَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَوْ نَازَعَهُ فِي مُلْكِهِ أَحَدٌ، قَدَرَ عَلَى قَهْرِ ذَلِكَ الْمُنَازِعِ، وَعَلَى غَلَبَتِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا تَكْثِيرُ الْمَالِ فَقَدْ نَرَى جَمْعًا فِي غَايَةِ الْكِيَاسَةِ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ/ مَعَ الْكَدِّ الشَّدِيدِ، وَالْعَنَاءِ الْعَظِيمِ قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ، وَنَرَى الْأَبْلَهَ الْغَافِلَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا يَعْلَمُ كَمِّيَّتَهُ، وَأَمَّا الْجَاهُ فَالْأَمْرُ أَظْهَرُ، فَإِنَّا رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنَ الْمُلُوكِ بَذَلُوا الْأَمْوَالَ الْعَظِيمَةَ لِأَجْلِ الْجَاهِ، وَكَانُوا كُلَّ يَوْمٍ أَكْثَرَ حَقَارَةً وَمَهَانَةً فِي أَعْيُنِ الرَّعِيَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُعَظَّمًا فِي الْعَقَائِدِ مَهِيبًا فِي الْقُلُوبِ، يَنْقَادُ لَهُ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَيَتَوَاضَعُ لَهُ الْقَاصِي وَالدَّانِي، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ كَوْنُهُ وَاجِبَ الطَّاعَةِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا تَشْرِيفٌ يُشَرِّفُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بَعْضَ عِبَادِهِ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ، وَهُوَ حُصُولُ النصرة والظفر فمعلوم أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَمْ شَاهَدْنَا مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ صِحَّةُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْمُعْتَزِلَةِ هَاهُنَا بَحْثًا قَالَ الْكَعْبِيُّ قوله تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْمُخْتَارِيَّةِ، وَلَكِنْ بِالِاسْتِحْقَاقِ فَيُؤْتِيهِ مَنْ يَقُومُ بِهِ، وَلَا يَنْزِعُهُ إِلَّا مِمَّنْ فَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: 124] وَقَالَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ الصَّالِحِ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [الْبَقَرَةِ: 247] فَجَعَلَهَ سَبَبًا لِلْمُلْكِ، وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذَا الْحُكْمُ مُخْتَصٌّ بِمُلُوكِ الْعَدْلِ، فَأَمَّا مُلُوكُ الظُّلْمِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُلْكُهُمْ بِإِيتَاءِ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِإِيتَاءِ اللَّهِ، وَقَدْ أَلْزَمَهُمْ أَنْ لَا يَتَمَلَّكُوهُ، وَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ فَصَحَّ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُلُوكَ الْعَادِلِينَ هُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى آتَاهُمْ ذَلِكَ الْمُلْكَ، فَأَمَّا الظَّالِمُونَ فَلَا، قَالُوا: وَنَظِيرُ هَذَا مَا قُلْنَاهُ فِي الرِّزْقِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْحَرَامُ الَّذِي زَجَرَهُ اللَّهُ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَرُدَّهُ عَلَى مَالِكِهِ فَكَذَا هَاهُنَا، قَالُوا: وَأَمَّا النَّزْعُ فَبِخِلَافِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَمَا يُنْزَعُ الْمُلْكُ مِنَ الْمُلُوكِ الْعَادِلِينَ لِمَصْلَحَةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ فَقَدْ يُنْزَعُ الْمُلْكُ عَنِ الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ وَنَزْعُ الْمُلْكِ يَكُونُ بِوُجُوهٍ: مِنْهَا بِالْمَوْتِ، وإزالة العقل، وإزالة القوى، والقدر وَالْحَوَاسِّ، وَمِنْهَا بِوُرُودِ الْهَلَاكِ وَالتَّلَفِ عَنِ الْأَمْوَالِ، وَمِنْهَا أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُحِقَّ بِأَنْ يَسْلُبَ الْمُلْكَ الَّذِي فِي يَدِ الْمُتَغَلِّبِ الْمُبْطِلِ وَيُؤْتِيَهُ الْقُوَّةَ وَالنُّصْرَةَ، فَإِذَا حَارَبَهُ الْمُحِقُّ وَقَهَرَهُ وَسَلَبَ مُلْكَهُ جَازَ أَنْ يُضَافَ هَذَا السَّلْبُ وَالنَّزْعُ إِلَيْهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ وَقَعَ عَنْ أَمْرِهِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ نَزَعَ اللَّهُ تَعَالَى مُلْكَ فَارِسَ عَلَى يَدِ الرَّسُولِ، هَذَا جُمْلَةُ كَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ مَقَامُ بَحْثٍ مُهِمٍّ وَذَلِكَ لِأَنَّ حُصُولَ الْمُلْكِ لِلظَّالِمِ، إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ وَقَعَ لَا عَنْ فَاعِلٍ وَإِنَّمَا حَصَلَ بِفِعْلِ ذَلِكَ الْمُتَغَلِّبِ، أَوْ إِنَّمَا حَصَلَ بِالْأَسْبَابِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَالْأَوَّلُ: نَفْيٌ لِلصَّانِعِ وَالثَّانِي: بَاطِلٌ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُرِيدُ تَحْصِيلَ الْمُلْكِ وَالدَّوْلَةِ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَتَيَسَّرُ لَهُ الْبَتَّةَ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ مُلْكَ الظَّالِمِينَ إِنَّمَا حَصَلَ بِإِيتَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْكَلَامُ ظَاهِرٌ وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ تَهَابُهُ النُّفُوسُ، وَتَمِيلُ إِلَيْهِ الْقُلُوبُ، وَيَكُونُ النَّصْرُ قَرِينًا لَهُ وَالظَّفَرُ جَلِيسًا مَعَهُ فَأَيْنَمَا تَوَجَّهَ حَصَلَ مَقْصُودُهُ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي كَيْفِيَّةِ أَحْوَالِ الْمُلُوكِ/ اضْطُرَّ إِلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ قَالَ حَكِيمُ الشُّعَرَاءِ:

لَوْ كَانَ بِالْحِيَلِ الْغِنَى لَوَجَدْتَنِي ... بِأَجَلِّ أَسْبَابِ السَّمَاءِ تَعَلُّقِي لَكِنَّ مَنْ رُزِقَ الْحِجَا حُرِمَ الْغِنَى ... ضِدَّانِ مُفْتَرِقَانِ أَيَّ تَفَرُّقٍ وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى الْقَضَاءِ وَكَوْنِهِ ... بُؤْسُ اللَّبِيبِ وَطِيبُ عَيْشِ الْأَحْمَقِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ مَحْمُولٌ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمُلْكِ فَيَدْخُلُ فِيهِ مُلْكُ النُّبُوَّةِ، وَمُلْكُ الْعِلْمِ، وَمُلْكُ الْعَقْلِ، وَالصِّحَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ، وَمُلْكُ النَّفَاذِ وَالْقُدْرَةِ وَمُلْكُ الْمَحَبَّةِ، وَمُلْكُ الْأَمْوَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فَالتَّخْصِيصُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعِزَّةَ قَدْ تَكُونُ فِي الدِّينِ، وَقَدْ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا، أَمَّا فِي الدِّينِ فَأَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْعِزَّةِ الْإِيمَانُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [الْمُنَافِقُونَ: 8] إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمَّا كَانَ أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِزَّةِ هُوَ الْإِيمَانَ، وَأَذَلُّ الْأَشْيَاءِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَذَلَّةِ هُوَ الْكُفْرَ، فَلَوْ كَانَ حُصُولُ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ بِمُجَرَّدِ مَشِيئَةِ الْعَبْدِ، لَكَانَ إِعْزَازُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ بِالْإِيمَانِ وَإِذْلَالُهُ نَفْسَهُ بِالْكُفْرِ أَعْظَمَ مِنْ إِعْزَازِ اللَّهِ عَبْدَهُ بِكُلِّ مَا أَعَزَّهُ بِهِ، وَمِنْ إِذْلَالِ اللَّهِ عَبْدَهُ بِكُلِّ مَا أَذَلَّهُ بِهِ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ حَظُّ الْعَبْدِ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ مِنْ حَظِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْإِعْزَازَ بِالْإِيمَانِ وَالْحَقِّ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ، وَالْإِذْلَالَ بِالْكُفْرِ وَالْبَاطِلِ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا وَجْهٌ قَوِيٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، قَالَ الْقَاضِي: الْإِعْزَازُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ تَعَالَى قَدْ يَكُونُ فِي الدِّينِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا أَمَّا الَّذِي فِي الدِّينِ فَهُوَ أَنَّ الثَّوَابَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُشْتَمِلًا عَلَى التَّعْظِيمِ وَالْمَدْحِ وَالْكَرَامَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ تَعَالَى يَمُدُّهُمْ بِمَزِيدِ الْأَلْطَافِ وَيُعْلِيهِمْ عَلَى الْأَعْدَاءِ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا فَبِإِعْطَاءِ الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ مِنَ النَّاطِقِ وَالصَّامِتِ وَتَكْثِيرِ الْحَرْثِ وَتَكْثِيرِ النِّتَاجِ فِي الدَّوَابِّ، وَإِلْقَاءِ الْهَيْبَةِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَنَا يَأْبَى ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ التَّعْظِيمِ فِي بَابِ الثَّوَابِ فَهُوَ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَوْ لم يفعله لا نعزل عَنِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ إِلَهًا لِلْخَلْقِ فَهُوَ تَعَالَى بِإِعْطَاءِ هَذِهِ التَّعْظِيمَاتِ يَحْفَظُ إِلَهِيَّةَ نَفْسِهِ عَنِ الزَّوَالِ فَأَمَّا الْعَبْدُ، فَلَمَّا خَصَّ نَفْسَهُ بِالْإِيمَانِ الَّذِي يُوجِبُ هَذِهِ التَّعْظِيمَاتِ فَهُوَ الَّذِي أَعَزَّ نَفْسَهُ فَكَانَ إِعْزَازُهُ لِنَفْسِهِ أَعْظَمَ مِنْ إِعْزَازِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ لَازِمٌ عَلَى الْقَوْمِ. أَمَّا قَوْلُهُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» : إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُذِلُّ أَعْدَاءَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَا يُذِلُّ أَحَدًا مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَإِنْ أَفْقَرَهُمْ وَأَمْرَضَهُمْ وَأَحْوَجَهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِيُعِزَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ، إِمَّا بِالثَّوَابِ، وَإِمَّا بِالْعِوَضِ فَصَارَ ذَلِكَ كَالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ فَإِنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا يُؤْلِمَانِ فِي الْحَالِ إِلَّا أَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا يَسْتَعْقِبَانِ نَفْعًا عَظِيمًا لَا جَرَمَ لَا يُقَالُ فِيهِمَا: إِنَّهُمَا تَعْذِيبٌ، / قَالَ وَإِذَا وُصِفَ الْفَقْرُ بِأَنَّهُ ذُلٌّ فَعَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ كَمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى لِينَ الْمُؤْمِنِينَ ذُلًّا بِقَوْلِهِ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الْمَائِدَةِ: 54] . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذْلَالُ اللَّهِ تَعَالَى عَبْدَهُ الْمُبْطِلَ إِنَّمَا يَكُونُ بِوُجُوهٍ مِنْهَا بِالذَّمِّ وَاللَّعْنِ وَمِنْهَا بِأَنْ يَخْذُلَهُمْ بِالْحُجَّةِ وَالنُّصْرَةِ، وَمِنْهَا بِأَنْ يَجْعَلَهُمْ خَوَلًا لِأَهْلِ دِينِهِ، وَيَجْعَلَ مَالَهُمْ غَنِيمَةً لَهُمْ وَمِنْهَا بِالْعُقُوبَةِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هَذَا جُمْلَةُ كَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ تَعَالَى يُعِزُّ الْبَعْضَ بِالْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَيُذِلُّ الْبَعْضَ بِالْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ، وَأَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْإِعْزَازِ وَالْإِذْلَالِ هُوَ هَذَا وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ عِزَّ الْإِسْلَامِ وَذُلَّ الْكُفْرِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ فَاعِلٍ وَذَلِكَ

الْفَاعِلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعَبْدَ أَوِ اللَّهَ تَعَالَى وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَخْتَارُ الْكُفْرَ لِنَفْسِهِ، بَلْ إِنَّمَا يُرِيدُ الْإِيمَانَ وَالْمَعْرِفَةَ وَالْهِدَايَةَ فَلَمَّا أَرَادَ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ بَلْ حَصَلَ لَهُ الْجَهْلُ، عَلِمْنَا أَنَّ حُصُولَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنَ الْعَبْدِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْجَهْلَ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِوَاسِطَةِ شُبْهَةٍ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ ابْتِدَاءً، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ إِذْ لَوْ كَانَ كُلُّ جَهْلٍ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِجَهْلٍ آخَرَ يَسْبِقُهُ وَيَتَقَدَّمُهُ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، فَبَقِيَ أَنْ يُقَالَ: تِلْكَ الْجِهَاتُ تَنْتَهِي إِلَى جَهْلٍ يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبْقِ مُوجِبٍ الْبَتَّةَ لَكِنَّا نَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يَصِيرَ عَلَى الْجَهْلِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ فَعَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ بِإِذْلَالِ اللَّهِ عَبْدَهُ وَبِخِذْلَانِهِ إِيَّاهُ الثَّالِثُ: مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْفِعْلَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الدَّاعِي وَالْمُرَجِّحِ، وَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ يَكُونُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ فِي طَرَفِ الْخَيْرِ كَانَ إِعْزَازًا، وَإِنْ كَانَ فِي طَرَفِ الْجَهْلِ وَالشَّرِّ وَالضَّلَالَةِ كَانَ إِذْلَالًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُعِزَّ وَالْمُذِلَّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِيَدِكَ الْخَيْرُ. فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْيَدِ هُوَ الْقُدْرَةُ، وَالْمَعْنَى بِقُدْرَتِكَ الْخَيْرُ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْخَيْرِ يُوجِبَانِ الْعُمُومَ، فَالْمَعْنَى بِقُدْرَتِكَ تَحْصُلُ كُلُّ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ يُفِيدُ الْحَصْرَ كَأَنَّهُ قَالَ بِيَدِكَ الْخَيْرُ لَا بِيَدِ غَيْرِكِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرين: 6] أَيْ لَكُمْ دِينُكُمْ أَيْ لَا لِغَيْرِكُمْ وَذَلِكَ الْحَصْرُ يُنَافِي حُصُولَ الْخَيْرِ بِيَدِ غَيْرِهِ، فَثَبَتَ دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْخَيْرَاتِ مِنْهُ، وَبِتَكْوِينِهِ وَتَخْلِيقِهِ وَإِيجَادِهِ وَإِبْدَاعِهِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَفْضَلُ الْخَيْرَاتِ هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَتُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْخَيْرُ مِنْ تَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ تَخْلِيقِ الْعَبْدِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ ظَاهِرٌ وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ زَادَ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَالَ: كُلُّ فَاعِلَيْنِ فِعْلُ أَحَدِهِمَا أَشْرَفُ وَأَفْضَلُ مِنْ فِعْلِ الْآخَرِ كَانَ ذَلِكَ الْفَاعِلُ أَشْرَفَ وَأَكْمَلَ مِنَ الْآخَرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ أَفْضَلُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمِنْ كُلِّ مَا سِوَى الْإِيمَانِ فَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ بِخَلْقِ الْعَبْدِ لَا بِخَلْقِ اللَّهِ لَوَجَبَ كَوْنُ الْعَبْدِ زَائِدًا فِي الْخَيْرِيَّةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ، وَذَلِكَ كُفْرٌ قَبِيحٌ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: بِيَدِكَ الْخَيْرُ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِيَدِكَ إِلَّا الْخَيْرُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الْكُفْرُ وَالْمَعْصِيَةُ وَاقِعَيْنِ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ يُفِيدُ أَنَّ بِيَدِهِ الْخَيْرَ لَا بِيَدِ غَيْرِهِ، وَهَذَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ بِيَدِ غَيْرِهِ وَلَكِنْ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَبِيَدِهِ مَا سِوَى الْخَيْرِ إِلَّا أَنَّهُ خَصَّ الْخَيْرَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ الْأَمْرُ الْمُنْتَفَعُ بِهِ فَوَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ لِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْقَاضِي: كُلُّ خَيْرٍ حَصَلَ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ فَلَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى أَقْدَرَهُمْ عَلَيْهِ وَهَدَاهُمْ إِلَيْهِ لَمَا تَمَكَّنُوا مِنْهُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ بَعْضُ الْخَيْرِ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَصِيرُ أَشْرَفُ الْخَيْرَاتِ مُضَافًا إِلَى الْعَبْدِ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ هَذَا النَّصِّ. أَمَّا قَوْلُهُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَهَذَا كَالتَّأْكِيدِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهِ مَالِكًا لِإِيتَاءِ الْمُلْكِ وَنَزْعِهِ وَالْإِعْزَازِ وَالْإِذْلَالِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَجْعَلَ اللَّيْلَ قَصِيرًا وَيَجْعَلَ ذَلِكَ الْقَدْرَ الزَّائِدَ دَاخِلًا فِي النَّهَارِ وَتَارَةً عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا فَعَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَّقَ

[سورة آل عمران (3) : آية 28]

قِوَامَ الْعَالَمِ وَنِظَامَهُ بِذَلِكَ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَأْتِي بِاللَّيْلِ عَقِيبَ النَّهَارِ، فَيُلْبِسُ الدُّنْيَا ظُلْمَةً بَعْدَ أَنْ كَانَ فِيهَا ضَوْءُ النَّهَارِ، ثُمَّ يَأْتِي بِالنَّهَارِ عَقِيبَ اللَّيْلِ فَيُلْبِسُ الدُّنْيَا ضَوْءَهُ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ إِيلَاجِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ إِيجَادَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقِيبَ الْآخَرِ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ النَّهَارُ طَوِيلًا فَجَعَلَ مَا نَقَصَ مِنْهُ زِيَادَةً فِي اللَّيْلِ كَانَ مَا نَقَصَ مِنْهُ دَاخِلًا فِي اللَّيْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ الْمَيِّتِ بِالتَّشْدِيدِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَجْمَعَ الْبَصْرِيُّونَ عَلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَأَنْشَدُوا: إِنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: هَيِّنٌ وَهَيْنٌ، وَلَيِّنٌ وَلَيْنٌ، وَقَدْ ذَهَبَ ذَاهِبُونَ إِلَى أَنَّ الْمَيْتَ مَنْ قَدْ مَاتَ، وَالْمَيِّتَ مَنْ لَمْ يَمُتْ. الْمَسْأَلَةُ الثانية: ذكر المفسرون فيه وجوهاًأحدها: يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ كَإِبْرَاهِيمَ مِنْ آزَرَ، وَالْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ مِثْلُ كَنْعَانَ مِنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالثَّانِي: يُخْرِجُ الطَّيِّبَ مِنَ الْخَبِيثِ وَبِالْعَكْسِ وَالثَّالِثُ: يُخْرِجُ الْحَيَوَانَ مِنَ النُّطْفَةِ، وَالطَّيْرَ مِنَ الْبَيْضَةِ وَبِالْعَكْسِ وَالرَّابِعُ: يُخْرِجُ السُّنْبُلَةَ مِنَ الْحَبَّةِ وَبِالْعَكْسِ، وَالنَّخْلَةَ مِنَ النَّوَاةِ وَبِالْعَكْسِ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْكَلِمَةُ مُحْتَمِلَةٌ/ لِلْكُلِّ أَمَّا الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ فَقَالَ تَعَالَى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الْأَنْعَامِ: 122] يُرِيدُ كَانَ كَافِرًا فَهَدَيْنَاهُ فَجَعَلَ الْمَوْتَ كُفْرًا وَالْحَيَاةَ إِيمَانًا، وَسَمَّى إِخْرَاجَ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ إِحْيَاءً، وَجَعَلَ قَبْلَ ذَلِكَ مَيْتَةً فقال يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الرُّومِ: 19] وَقَالَ: فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [فَاطِرٍ: 9] وَقَالَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الْبَقَرَةِ: 28] . أَمَّا قَوْلُهُ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ مَا يَشَاءُ لَا يُحَاسِبُهُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ، إِذْ لَيْسَ فَوْقَهُ مَلِكٌ يُحَاسِبُهُ بَلْ هُوَ الْمَلِكُ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَالثَّانِي: تَرْزُقُ من تشاء غَيْرَ مَقْدُورٍ وَلَا مَحْدُودٍ، بَلْ تَبْسُطُهُ لَهُ وَتُوَسِّعُهُ عَلَيْهِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يُنْفِقُ بِغَيْرِ حِسَابٍ إِذَا وُصِفَ عَطَاؤُهُ بِالْكَثْرَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ فِي تَكْثِيرِ مَالِ الْإِنْسَانِ: عِنْدَهُ مَالٌ لَا يُحْصَى وَالثَّالِثُ: تَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، يَعْنِي عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ لِأَنَّ مَنْ أَعْطَى عَلَى قَدْرِ الِاسْتِحْقَاقِ فَقَدْ أَعْطَى بِحِسَابٍ، وَقَالَ بَعْضُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى: إِنَّكَ لَا تَرْزُقُ عِبَادَكَ عَلَى مقادير أعمالهم والله أعلم. [سورة آل عمران (3) : آية 28] لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) [فِي قَوْلُهُ تَعَالَى لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ] فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ عَلَيْهِ فِي تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ عَلَيْهِ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَ النَّاسِ، لِأَنَّ كَمَالَ الْأَمْرِ لَيْسَ إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ: التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ قَالَ: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ الثَّانِي: لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى مَالِكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بَيَّنَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الرَّغْبَةُ فِيمَا عِنْدَهُ، وَعِنْدَ أَوْلِيَائِهِ دُونَ أَعْدَائِهِ.

وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: جَاءَ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ إلى قوم الْمُسْلِمِينَ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ فَقَالَ رِفَاعَةُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ، وَسَعِيدُ بْنُ خَيْثَمَةَ لِأُولَئِكَ النَّفَرِ/ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: اجْتَنِبُوا هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ، وَاحْذَرُوا أَنْ يَفْتِنُوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالثَّانِي: قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَغَيْرِهِ، وَكَانُوا يَتَوَلَّوْنَ الْيَهُودَ وَالْمُشْرِكِينَ وَيُخْبِرُونَهُمْ بِالْأَخْبَارِ وَيَرْجُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الظَّفَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَكَانَ لَهُ حُلَفَاءُ مِنَ الْيَهُودِ، فَفِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ قَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ مَعِيَ خَمْسَمِائَةٍ مِنَ الْيَهُودِ وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ يَخْرُجُوا مَعِي فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وَهَذِهِ صِفَةُ الْكَافِرِ. قُلْنَا: مَعْنَى الْآيَةِ فَلَيْسَ مِنْ وَلَايَةِ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ فِي تَحْرِيمِ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ آيَاتٍ كَثِيرَةً فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 118] وَقَوْلُهُ لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْمُجَادَلَةِ: 22] وَقَوْلُهُ لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ وقوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الْمُمْتَحِنَةِ: 1] وَقَالَ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التَّوْبَةِ: 71] . وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْمُؤْمِنِ مُوَالِيًا لِلْكَافِرِ يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِكُفْرِهِ وَيَتَوَلَّاهُ لِأَجْلِهِ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ مِنْهُ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُصَوِّبًا لَهُ فِي ذَلِكَ الدِّينِ، وَتَصْوِيبُ الْكُفْرِ كُفْرٌ وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَبْقَى مُؤْمِنًا مَعَ كَوْنِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ تعالى قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ خِطَابًا فِي شَيْءٍ يبقى المؤمن معه مؤمناو ثانيها: الْمُعَاشَرَةُ الْجَمِيلَةُ فِي الدُّنْيَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ كَالْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ هُوَ أَنَّ مُوَالَاةَ الْكُفَّارِ بِمَعْنَى الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ وَالْمَعُونَةِ، وَالْمُظَاهَرَةِ، وَالنُّصْرَةِ إِمَّا بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ، أَوْ بِسَبَبِ الْمَحَبَّةِ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ دِينَهُ بَاطِلٌ فَهَذَا لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ إِلَّا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ بِهَذَا الْمَعْنَى قَدْ تَجُرُّهُ إِلَى اسْتِحْسَانِ طَرِيقَتِهِ وَالرِّضَا بِدِينِهِ، وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَلَا جَرَمَ هَدَّدَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ فَقَالَ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ النَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ بِمَعْنَى أَنْ يَتَوَلَّوْهُمْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَمَّا إِذَا تَوَلَّوْهُمْ وَتَوَلَّوُا الْمُؤْمِنِينَ مَعَهُمْ فَذَلِكَ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ فِيهِ زِيَادَةُ مَزِيَّةٍ، لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يُوَالِي غَيْرَهُ وَلَا يَتَّخِذُهُ مُوَالِيًا فَالنَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِهِ مُوَالِيًا لَا يُوجِبُ النَّهْيَ عَنْ أَصْلِ مولاته. قُلْنَا: هَذَانِ الِاحْتِمَالَانِ وَإِنْ قَامَا فِي الْآيَةِ إِلَّا أَنَّ سَائِرَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ مُوَالَاتُهُمْ دَلَّتْ عَلَى سُقُوطِ هَذَيْنِ الاحتمالين.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا كُسِرَتِ الذَّالُ مِنْ يَتَّخِذِ لِأَنَّهَا مَجْزُومٌ لِلنَّهْيِ، وَحُرِّكَتْ لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَوْ رُفِعَ عَلَى الْخَبَرِ لَجَازَ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى الرَّفْعِ أَنَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّخِذَ الْكَافِرَ وَلِيًّا. وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى النَّهْيِ وَمَعْنَى الْخَبَرِ يَتَقَارَبَانِ لِأَنَّهُ مَتَّى كَانَتْ صِفَةُ الْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يُوَالِيَ الْكَافِرَ كَانَ لَا مَحَالَةَ مَنْهِيًّا عَنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِ، وَمَتَى كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ ذَلِكَ، كَانَ لَا مَحَالَةَ مِنْ شَأْنِهِ وَطَرِيقَتِهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ كَقَوْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 23] أَيْ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ دُونَ مُخْتَصٌّ بِالْمَكَانِ، تَقُولُ: زَيْدٌ جَلَسَ دُونَ عَمْرٍو أَيْ فِي مَكَانٍ أَسْفَلَ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ مَنْ كَانَ مُبَايِنًا لِغَيْرِهِ فِي الْمَكَانِ فَهُوَ مُغَايِرٌ لَهُ فَجُعِلَ لَفْظُ دُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى غَيْرِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وَفِيهِ حَذْفٌ، وَالْمَعْنَى فَلَيْسَ مِنْ وَلَايَةِ اللَّهِ فِي شَيْءٍ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْوَلَايَةِ يَعْنِي أَنَّهُ مُنْسَلِخٌ مِنْ وَلَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى رَأْسًا، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْقُولٌ فَإِنَّ مُوَالَاةَ الْوَلِيِّ، وَمُوَالَاةَ عَدُوِّهِ ضِدَّانِ قَالَ الشَّاعِرُ: تُوِدُّ عَدُوِّي ثُمَّ تَزْعُمُ أَنَّنِي ... صَدِيقُكَ لَيْسَ النَّوْكُ عَنْكَ بِعَازِبٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَلَيْسَ مِنْ دِينِ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وَهَذَا أَبْلَغُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْكِسَائِيُّ: تُقَاةً بِالْإِمَالَةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ: بَيْنَ التَّفْخِيمِ وَالْإِمَالَةِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّفْخِيمِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ تَقِيَّةً وَإِنَّمَا جَازَتِ الْإِمَالَةُ لِتُؤْذِنَ أَنَّ الْأَلِفَ مِنَ الْيَاءِ، وَتُقَاةً وَزْنُهَا فُعْلَةً نَحْوَ تُؤْدَةٍ وَتُخْمَةٍ، وَمَنْ فَخَّمَ فَلِأَجْلِ الْحَرْفِ الْمُسْتَعْلِي وَهُوَ الْقَافُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: تَقَيْتُهُ تُقَاةً، وَتُقًى، وَتُقْيَةً، وَتَقْوَى، فَإِذَا قُلْتَ اتَّقَيْتُ كان مصدره الأتقياء، وَإِنَّمَا قَالَ تَتَّقُوا ثُمَّ قَالَ تُقَاةً وَلَمْ يَقُلِ اتِّقَاءً اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ، كَمَا يُقَالُ: جَلَسَ جَلْسَةً، وَرَكِبَ رَكْبَةً، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً [آلِ عِمْرَانَ: 37] وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرِّتَاعَا فَأَجْرَاهُ مَجْرَى الْإِعْطَاءِ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ تُقَاةً هَاهُنَا مِثْلَ رُمَاةٍ فَيَكُونُ حَالًا مُؤَكِّدَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْحَسَنُ أَخَذَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ نَعَمْ نَعَمْ، فَقَالَ: أَفَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ / قَالَ: نَعَمْ، وَكَانَ مُسَيْلِمَةُ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ بَنِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ قُرَيْشٍ، فَتَرَكَهُ وَدَعَا الْآخَرَ فَقَالَ أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَفَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَصَمُّ ثَلَاثًا، فَقَدَّمَهُ وَقَتَلَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فقال: أَمَّا هَذَا الْمَقْتُولُ فَمَضَى عَلَى يَقِينِهِ وَصِدْقِهِ فَهَنِيئًا لَهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَقَبِلَ رُخْصَةَ اللَّهِ فَلَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ نَظِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النَّحْلِ: 106] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ لِلتَّقِيَّةِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً وَنَحْنُ نَذْكُرُ بَعْضَهَا. الْحُكْمُ الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّقِيَّةَ إِنَّمَا تَكُونُ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ فِي قَوْمٍ كُفَّارٍ، وَيَخَافُ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ فَيُدَارِيهِمْ بِاللِّسَانِ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يُظْهِرَ الْعَدَاوَةَ بِاللِّسَانِ، بَلْ يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُظْهِرَ الْكَلَامَ الْمُوهِمَ لِلْمَحَبَّةِ وَالْمُوَالَاةِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ

[سورة آل عمران (3) : آية 29]

أَنْ يُضْمِرَ خِلَافَهُ، وَأَنْ يُعَرِّضَ فِي كُلِّ مَا يَقُولُ، فَإِنَّ التَّقِيَّةَ تَأْثِيرُهَا فِي الظَّاهِرِ لَا فِي أَحْوَالِ الْقُلُوبِ. الْحُكْمُ الثَّانِي لِلتَّقِيَّةِ: هُوَ أَنَّهُ لَوْ أَفْصَحَ بِالْإِيمَانِ وَالْحَقِّ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ التَّقِيَّةُ كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ، وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قِصَّةِ مُسَيْلِمَةَ. الْحُكْمُ الثَّالِثُ لِلتَّقِيَّةِ: أَنَّهَا إِنَّمَا تَجُوزُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ الْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ، وَقَدْ تَجُوزُ أَيْضًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ الدِّينِ فَأَمَّا مَا يَرْجِعُ ضَرَرُهُ إِلَى الْغَيْرِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَغَصْبِ الْأَمْوَالِ وَالشَّهَادَةِ بِالزُّورِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ وَإِطْلَاعِ الْكُفَّارِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ الْبَتَّةَ. الْحُكْمُ الرَّابِعُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ أَنَّ التَّقِيَّةَ إِنَّمَا تَحِلُّ مَعَ الْكُفَّارِ الْغَالِبِينَ إِلَّا أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْحَالَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا شَاكَلَتِ الْحَالَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ حَلَّتِ التَّقِيَّةُ مُحَامَاةً عَلَى النَّفْسِ. الْحُكْمُ الْخَامِسُ: التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِصَوْنِ النَّفْسِ، وَهَلْ هِيَ جَائِزَةٌ لِصَوْنِ الْمَالِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهَا بِالْجَوَازِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ» وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْمَالِ شَدِيدَةٌ وَالْمَاءُ إِذَا بِيعَ بِالْغَبْنِ سَقَطَ فَرْضُ الْوُضُوءِ، وَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى التَّيَمُّمِ دَفْعًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ نُقْصَانِ الْمَالِ، فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ هَاهُنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحُكْمُ السَّادِسُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا الْحُكْمُ كَانَ ثَابِتًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِأَجْلِ ضَعْفِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَمَّا بَعْدَ قُوَّةِ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ فَلَا، وَرَوَى عَوْفٌ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ قَالَ التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى، لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ فِيهِ مَحْذُوفًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ عِقَابَ نَفْسِهِ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْمَعْنَى وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أَنْ تَعْصُوهُ فَتَسْتَحِقُّوا عِقَابَهُ/ وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ النَّفْسِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ فَهَذَا لَا يُفِيدُ أَنَّ الَّذِي أُرِيدَ التَّحْذِيرُ مِنْهُ هُوَ عِقَابٌ يَصْدُرُ مِنَ اللَّهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَمَّا ذَكَرَ النَّفْسَ زَالَ هَذَا الِاشْتِبَاهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِقَابَ الصَّادِرَ عَنْهُ يَكُونُ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ لِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَى دَفْعِهِ وَمَنْعِهِ مِمَّا أَرَادَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ النَّفْسَ هَاهُنَا تَعُودُ إِلَى اتِّخَاذِ الْأَوْلِيَاءِ مِنَ الْكُفَّارِ، أَيْ يَنْهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ نَفْسِ هَذَا الْفِعْلِ. ثُمَّ قَالَ: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ وَالْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ يُحَذِّرُكُمْ عِقَابَهُ عِنْدَ مصيركم إلى الله. [سورة آل عمران (3) : آية 29] قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَاسْتَثْنَى عَنْهُ التَّقِيَّةَ فِي الظَّاهِرِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى أَنْ يَصِيرَ الْبَاطِنُ مُوَافِقًا لِلظَّاهِرِ فِي وَقْتِ التَّقِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عِنْدَ التَّقِيَّةِ عَلَى إِظْهَارِ الْمُوَالَاةِ، فَقَدْ يَصِيرُ إِقْدَامُهُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ سَبَبًا لِحُصُولِ تِلْكَ الْمُوَالَاةِ فِي الْبَاطِنِ، فَلَا جَرَمَ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِالْبَوَاطِنِ كَعِلْمِهِ بِالظَّوَاهِرِ، فَيَعْلَمُ الْعَبْدُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُجَازِيَهُ عَلَى كُلِّ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ فِي قَلْبِهِ، وَفِي الآية سؤالات:

[سورة آل عمران (3) : آية 30]

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هَذِهِ الْآيَةُ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ فَقَوْلُهُ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ شَرْطٌ وَقَوْلُهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ جَزَاءٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَزَاءَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الشَّرْطِ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ، فَهَذَا يَقْتَضِي حُدُوثَ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْجَوَابُ: أَنَّ تَعَلُّقَ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ حَصَلَ الْآنَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِهِ الْآنَ، ثم أن هذه التَّبَدُّلَ وَالتَّجَدُّدَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي النِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ وَالتَّعْلِيقَاتِ لَا فِي حَقِيقَةِ الْعِلْمِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا غَوْرٌ عَظِيمٌ وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَحَلُّ الْبَوَاعِثِ وَالضَّمَائِرِ هُوَ الْقَلْبُ، فَلِمَ قَالَ: إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلَمْ يَقُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي قُلُوبِكُمْ؟. الْجَوَابُ: لِأَنَّ الْقَلْبَ فِي الصَّدْرِ، فَجَازَ إِقَامَةُ الصَّدْرِ مَقَامَ الْقَلْبِ كَمَا قَالَ: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ/ النَّاسِ [النَّاسِ: 5] وَقَالَ: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الْحَجِّ: 46] . السُّؤَالُ الثَّالِثُ: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَعِيدًا عَلَى كُلِّ مَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ فَهُوَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ. الْجَوَابُ: ذَكَرْنَا تفصيل هذه الْكَلَامِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [الْبَقَرَةِ: 284] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ رُفِعَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ [التَّوْبَةِ: 14] جُزِمَ الْأَفَاعِيلُ، ثُمَّ قال: وَيَتُوبُ اللَّهُ فَرُفِعَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ [الشُّورَى: 24] رَفْعًا، وَفِي قَوْلِهِ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ غَايَةُ التَّحْذِيرِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِيهِمَا فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَيْهِ الضَّمِيرُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِتْمَامًا لِلتَّحْذِيرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ كَانَ عَالِمًا بِمَا فِي قَلْبِهِ، وَكَانَ عَالِمًا بِمَقَادِيرِ اسْتِحْقَاقِهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ، فَكَانَ لَا مَحَالَةَ قَادِرًا عَلَى إِيصَالِ حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ فِي هَذَا تَمَامُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، والترغيب والترهيب. [سورة آل عمران (3) : آية 30] يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) [في قوله تعالى يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ] اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ بَابِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَمِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الَّذِي تَقَدَّمَ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي الْعَامِلِ فِي قَوْلِهِ يَوْمَ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْيَوْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَصِيرِ وَالتَّقْدِيرُ: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ يَوْمَ تَجِدُ الثَّانِي: الْعَامِلُ فِيهِ قَوْلُهُ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الثَّالِثُ: الْعَامِلُ فِيهِ قَوْلُهُ/ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ قَدِيرٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا، وَخُصَّ هَذَا الْيَوْمُ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ مِنَ الْأَيَّامِ بِمَنْزِلَتِهِ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ

تَعَالَى تَفْضِيلًا لَهُ لِعِظَمَ شَأْنِهِ كَقَوْلِهِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَةِ: 4] الرَّابِعُ: أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَوَدُّ وَالْمَعْنَى: تَوَدُّ كُلُّ نَفْسٍ كَذَا وَكَذَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْخَامِسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا بِمُضْمَرٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَاذْكُرْ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَبْقَى، وَلَا يُمْكِنُ وِجْدَانُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجِدُ صَحَائِفَ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الْجَاثِيَةِ: 29] وَقَالَ: فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [الْمُجَادَلَةِ: 6] والثاني: أَنَّهُ يَجِدُ جَزَاءَ الْأَعْمَالِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مُحْضَراً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ تِلْكَ الصَّحَائِفَ تَكُونُ مُحْضَرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّ جَزَاءَ الْعَمَلِ يَكُونُ مَحْضَرًا، كَقَوْلِهِ وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً [الكهف: 49] وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ، فَالتَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ حَاصِلَانِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُجْعَلَ مَا هَاهُنَا بِمَنْزِلَةِ الَّذِي، وَيَكُونُ عَمِلَتْ صِلَةً لَهَا، وَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى مَا الْأَوَّلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا شَرْطِيَّةً، وَإِلَّا كَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَنْصِبَ تَوَدُّ أَوْ يَخْفِضَهُ، وَلَمْ يَقْرَأْهُ أَحَدٌ إِلَّا بِالرَّفْعِ، فَكَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا هَاهُنَا بِمَعْنَى الَّذِي. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ، وَدَّتْ. قُلْنَا: لَا كَلَامَ فِي صِحَّتِهِ لَكِنَّ الْحَمْلَ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ أَوْقَعُ، لِأَنَّهُ حِكَايَةُ حَالِ الْكَافِرِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَكْثَرُ مُوَافَقَةً لِلْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ: الْوَاوُ وَاوُ الْعَطْفِ، وَالتَّقْدِيرُ: تَجِدُ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ صِفَةٌ لِلسُّوءِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ الَّذِي تَوَدُّ أَنْ يَبْعُدَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَالتَّقْدِيرُ: يَوْمَ تَجِدُ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ مُحْضَرًا حَالَ مَا تَوَدُّ بُعْدَهُ عَنْهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَاوَ لِلِاسْتِئْنَافِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا تَكُونُ الْآيَةُ دَلِيلًا عَلَى الْقَطْعِ بِوَعِيدِ الْمُذْنِبِينَ، وَمَوْضِعُ الْكَرَمِ وَاللُّطْفِ هَذَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَصَّ فِي جَانِبِ الثَّوَابِ عَلَى كَوْنِهِ مُحْضَرًا وَأَمَّا فِي جَانِبِ الْعِقَابِ فَلَمْ يَنُصَّ عَلَى الْحُضُورِ، بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ يَوَدُّونَ الْفِرَارَ مِنْهُ، وَالْبُعْدَ عَنْهُ، وَذَلِكَ يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الْوَعْدِ أَوْلَى بِالْوُقُوعِ مِنْ جَانِبِ الْوَعِيدِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَمَدُ، الْغَايَةُ الَّتِي ينتهي إليها، ونظيره قوله تعالى: يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزُّخْرُفِ: 38] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا التَّمَنِّي مَعْلُومٌ، سَوَاءٌ حَمَلْنَا لَفْظَ الْأَمَدِ عَلَى الزَّمَانِ أَوْ عَلَى الْمَكَانِ، إِذِ الْمَقْصُودُ تَمَنِّي بُعْدَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَهُوَ لِتَأْكِيدِ الْوَعِيدِ. ثم قال: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رَؤُوفٌ بِهِمْ حَيْثُ حَذَّرَهُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَعَرَّفَهُمْ كَمَالَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَأَنَّهُ يُمْهِلُ وَلَا يُهْمِلُ، وَرَغَّبَهُمْ فِي اسْتِيجَابِ رَحْمَتِهِ، وَحَذَّرَهُمْ مِنِ اسْتِحْقَاقِ غَضَبِهِ، قَالَ الْحَسَنُ: وَمِنْ رَأْفَتِهِ بِهِمْ أَنْ حَذَّرَهُمْ نَفْسَهُ الثَّانِي: أَنَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ حَيْثُ أَمْهَلَهُمْ لِلتَّوْبَةِ وَالتَّدَارُكِ وَالتَّلَافِي الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَهُوَ لِلْوَعِيدِ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ

[سورة آل عمران (3) : آية 31]

رَؤُفٌ بِالْعِبادِ وَهُوَ الْمَوْعِدُ لِيَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ وَعْدَهُ وَرَحْمَتَهُ، غَالِبٌ عَلَى وَعِيدِهِ وَسَخَطِهِ وَالرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ لَفْظَ الْعِبَادِ فِي الْقُرْآنِ مُخْتَصٌّ، قَالَ تَعَالَى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الْفُرْقَانِ: 63] وَقَالَ تَعَالَى: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الْإِنْسَانِ: 6] فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ ذَكَرَ وَعْدَ أَهْلِ الطاعة فقال: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ أَيْ كَمَا هُوَ مُنْتَقِمٌ مِنَ الْفُسَّاقِ، فهو رؤوف بالمطيعين والمحسنين. [سورة آل عمران (3) : آية 31] قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا دَعَا الْقَوْمَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، وَالْإِيمَانِ بِرُسُلِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَةِ: 18] فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَيُرْوَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى قُرَيْشٍ وَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَسْجُدُونَ لِلْأَصْنَامِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ لَقَدْ خَالَفْتُمْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّمَا نَعْبُدُ هَذِهِ حُبًّا لِلَّهِ تَعَالَى لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَيُرْوَى أَنَّ النَّصَارَى قَالُوا: إِنَّمَا نُعَظِّمُ الْمَسِيحَ حُبًّا لِلَّهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ فِرَقِ الْعُقَلَاءِ يَدَّعِي أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ، وَيَطْلُبُ رِضَاهُ وَطَاعَتَهُ فَقَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي ادِّعَاءِ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكُونُوا مُنْقَادِينَ لِأَوَامِرِهِ مُحْتَرِزِينَ عَنْ مُخَالَفَتِهِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أَنَّ مَنْ كَانَ مُحِبًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِي غَايَةِ الْحَذَرِ مِمَّا يُوجِبُ سَخَطَهُ، وَإِذَا قَامَتِ الدَّلَالَةُ الْقَاطِعَةُ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَتْ مُتَابَعَتُهُ، فَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الْمُتَابَعَةُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْمَحَبَّةَ مَا حَصَلَتْ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمَّا الْكَلَامُ الْمُسْتَقْصَى فِي الْمَحَبَّةِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ/ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [الْبَقَرَةِ: 165] وَالْمُتَكَلِّمُونَ مُصِرُّونَ عَلَى أَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنْ مَحَبَّةِ إِعْظَامِهِ وَإِجْلَالِهِ، أَوْ مَحَبَّةِ طَاعَتِهِ، أَوْ مَحَبَّةِ ثَوَابِهِ، قَالُوا: لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَادَةِ، وَالْإِرَادَةُ لَا تَعَلُّقَ لَهَا إِلَّا بِالْحَوَادِثِ وَإِلَّا بِالْمَنَافِعِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ مَحْبُوبًا لِأَجْلِ مَعْنًى آخَرَ وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَالدَّوْرُ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى شَيْءٍ يَكُونُ مَحْبُوبًا بِالذَّاتِ، كَمَا أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّذَّةَ مَحْبُوبَةٌ لِذَاتِهَا، فَكَذَلِكَ نَعْلَمُ أَنَّ الْكَمَالَ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ، وَكَذَلِكَ أَنَّا إِذَا سَمِعْنَا أَخْبَارَ رُسْتَمَ وَاسْفَنْدَيَارَ فِي شَجَاعَتِهِمَا مَالَ الْقَلْبُ إِلَيْهِمَا مَعَ أَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَنَا فِي ذَلِكَ الْمَيْلِ، بَلْ رُبَّمَا نَعْتَقِدُ أَنَّ تِلْكَ الْمَحَبَّةَ مَعْصِيَةٌ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُصِرَّ عَلَيْهَا، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْكَمَالَ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ، كَمَا أَنَّ اللَّذَّةَ مَحْبُوبَةٌ لِذَاتِهَا، وَكَمَالُ الْكَمَالِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَكَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مَحْبُوبًا لِذَاتِهِ مِنْ ذَاتِهِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَهُ الَّذِينَ تَجَلَّى لَهُمْ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ كَمَالِهِ وَجَلَالِهِ قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: وَأَمَّا مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ إِرَادَتِهِ تَعَالَى إِيصَالَ الْخَيْرَاتِ وَالْمَنَافِعِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا إِلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَوْمُ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُحِبِّينَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَانُوا يُظْهِرُونَ الرَّغْبَةَ فِي أَنْ يُحِبَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِلْزَامَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي، لِأَنَّ الْمُعْجِزَاتِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْكُمْ مُتَابَعَتِي الثَّانِي: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ أَنْ يُحِبَّكُمُ اللَّهُ فَاتَّبِعُونِي لِأَنَّكُمْ إِذَا اتَّبَعْتُمُونِي فَقَدْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ كُلَّ مَنْ أَطَاعَهُ، وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي مُتَابَعَتِي إِلَّا أَنِّي دَعَوْتُكُمْ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمِهِ وَتَرْكِ تَعْظِيمِ غَيْرِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ كَانَ رَاغِبًا فِيهِ، لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ تُوجِبُ الْإِقْبَالَ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى الْمَحْبُوبِ، وَالْإِعْرَاضَ بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ غَيْرِ الْمَحْبُوبِ.

[سورة آل عمران (3) : آية 32]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: خَاضَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي هَذَا الْمَقَامِ فِي الطَّعْنِ فِي أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَتَبَ هَاهُنَا مَا لَا يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَكْتُبَ مِثْلَهُ فِي كُتُبِ الْفُحْشِ فَهَبْ أَنَّهُ اجْتَرَأَ عَلَى الطَّعْنِ فِي أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ اجْتَرَأَ عَلَى كَتْبِهِ مِثْلَ ذَلِكَ الْكَلَامِ الْفَاحِشِ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعِصْمَةَ وَالْهِدَايَةَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالْمُرَادُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ إِعْطَاؤُهُ الثَّوَابَ، وَمِنْ غُفْرَانِ ذَنْبِهِ إِزَالَةُ الْعِقَابِ، وَهَذَا غَايَةُ مَا يَطْلُبُهُ كُلُّ عَاقِلٍ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَعْنِي غَفُورٌ فِي الدُّنْيَا يَسْتُرُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْوَاعَ الْمَعَاصِي رحيم في الآخرة بفضله وكرمه. [سورة آل عمران (3) : آية 32] قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) يُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ الْآيَةَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَجْعَلُ طَاعَتَهُ كَطَاعَةِ اللَّهِ، وَيَأْمُرُنَا أَنَّ نُحِبَّهُ كَمَا أَحَبَّتِ النَّصَارَى عِيسَى، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى لَمَّا اقْتَضَتْ وُجُوبَ مُتَابَعَتِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُنَافِقَ أَلْقَى شُبْهَةً فِي الدِّينِ، وَهِيَ أَنَّ مُحَمَّدًا يَدَّعِي لنفسه مثل مَا يَقُولُهُ النَّصَارَى فِي عِيسَى، ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ إِزَالَةً لِتِلْكَ الشُّبْهَةِ، فَقَالَ: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ يَعْنِي إِنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مُتَابَعَتِي لَا كَمَا تَقُولُ النَّصَارَى فِي عِيسَى بَلْ لِكَوْنِي رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَمَّا كَانَ مُبَلِّغُ التَّكَالِيفِ عَنِ اللَّهِ هُوَ الرَّسُولَ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ طَاعَتُهُ وَاجِبَةً فَكَانَ إِيجَابُ الْمُتَابَعَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى لَا لِأَجْلِ الشبهة الَّتِي أَلْقَاهَا الْمُنَافِقُ فِي الدِّينِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ يَعْنِي إِنْ أَعْرَضُوا فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ مَحَبَّةُ اللَّهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَوْجَبَ الثَّنَاءَ وَالْمَدْحَ لِمَنْ أَطَاعَهُ، وَمَنْ كَفَرَ اسْتَوْجَبَ الذِّلَّةَ وَالْإِهَانَةَ، وَذَلِكَ ضِدُّ الْمَحَبَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 34] إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ مَحَبَّتَهُ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِمُتَابَعَةِ الرُّسُلِ بَيَّنَ عُلُوَّ دَرَجَاتِ الرُّسُلِ وَشَرَفَ مَنَاصِبِهِمْ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى قِسْمَيْنِ: الْمُكَلَّفُ وَغَيْرُ الْمُكَلَّفِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَصْنَافَ الْمُكَلَّفِ أَرْبَعَةٌ: الْمَلَائِكَةُ، وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ، وَالشَّيَاطِينُ، أَمَّا الْمَلَائِكَةُ، فَقَدْ رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُمْ مِنَ الرِّيحِ وَمِنْهُمْ مَنِ احْتَجَّ بِوُجُوهٍ عَقْلِيَّةٍ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ فَالْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ لِهَذَا السَّبَبِ قَدَرُوا عَلَى الطَّيَرَانِ عَلَى أَسْرَعِ الْوُجُوهِ وَالثَّانِي: لِهَذَا السَّبَبِ قَدَرُوا عَلَى حَمْلِ الْعَرْشِ، لِأَنَّ الرِّيحَ تَقُومُ بِحَمْلِ الْأَشْيَاءِ الثَّالِثُ: لِهَذَا السَّبَبِ سُمُّوا رُوحَانِيِّينَ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنَ النُّورِ، وَلِهَذَا صَفَتْ وَأَخْلَصَتْ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْأَوْلَى أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فَنَقُولُ: أَبْدَانُهُمْ مِنَ الرِّيحِ وَأَرْوَاحُهُمْ مِنَ النُّورِ فَهَؤُلَاءِ هُمْ سُكَّانُ عالم السموات، أَمَّا الشَّيَاطِينُ فَهُمْ كَفَرَةٌ أَمَّا إِبْلِيسُ فَكُفْرُهُ ظَاهِرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ [الْبَقَرَةِ: 34] وَأَمَّا سَائِرُ الشَّيَاطِينِ فَهُمْ أَيْضًا كَفَرَةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الْأَنْعَامِ: 121] وَمِنْ خَوَاصِّ الشَّيَاطِينِ أَنَّهُمْ بِأَسْرِهَا أَعْدَاءٌ لِلْبَشَرِ قَالَ تَعَالَى: فَفَسَقَ/ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ

أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الْكَهْفِ: 50] وَقَالَ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الْأَنْعَامِ: 112] وَمِنْ خَوَاصِّ الشَّيَاطِينِ كَوْنُهُمْ مَخْلُوقِينَ مِنَ النَّارِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْلِيسَ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الْأَعْرَافِ: 12] وَقَالَ: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ [الْحِجْرِ: 27] فَأَمَّا الْجِنُّ فَمِنْهُمْ كَافِرٌ وَمِنْهُمْ مُؤْمِنٌ، قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً [الجن: 14] وأما الْإِنْسُ فَلَا شَكَّ أَنَّ لَهُمْ وَالِدًا هُوَ وَالِدُهُمُ الْأَوَّلُ، وَإِلَّا لَذَهَبَ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ وَالْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْأَوَّلَ هُوَ آدَمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النِّسَاءِ: 1] . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْبَشَرَ أَفْضَلُ مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْبَشَرَ أَفْضَلُ أَمِ الْمَلَائِكَةَ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا [الأعراف: 11] وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْبَشَرَ أَفْضَلُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاصْطِفَاءَ يَدُلُّ عَلَى مَزِيدِ الْكَرَامَةِ وَعُلُوِّ الدَّرَجَةِ، فَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ اصْطَفَى آدَمَ وَأَوْلَادَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِكَوْنِهِمْ مِنَ الْعَالَمِينَ. فَإِنْ قِيلَ: إِنْ حَمَلْنَا هَذِهِ الآية على تفضيل المذكورين فيها عَلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ أَدَّى إِلَى التَّنَاقُضِ لِأَنَّ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ إِذَا وُصِفُوا بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منهم أفضل من كل العالمين يلزم كون كل واحد منهم أفضل من كل العالمين يلزم كون كل واحد منهم أفضل من الْآخَرِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى كَوْنِهِ أَفْضَلَ عَالَمِي زَمَانِهِ أَوْ عَالَمِي جِنْسِهِ لَمْ يَلْزَمِ التَّنَاقُضُ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [الْبَقَرَةِ: 47] وَلَا يُلْزِمُ كَوْنُهُمْ أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ قُلْنَا الْمُرَادُ بِهِ عَالَمُو زَمَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَالْجَوَابُ ظَاهِرٌ فِي قَوْلِهِ: اصْطَفَى آدَمَ عَلَى الْعَالَمِينَ، يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ يَصِحُّ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْعَالَمِ عَلَيْهِ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْمَلَكُ، غَايَةُ مَا فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ تُرِكَ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لِدَلِيلٍ قَامَ عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ نَتْرُكَهُ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اصْطَفى فِي اللُّغَةِ اخْتَارَ، فَمَعْنَى: اصْطَفَاهُمْ، أَيْ جَعَلَهُمْ صَفْوَةَ خَلْقِهِ، تَمْثِيلًا بِمَا يُشَاهَدُ مِنَ الشَّيْءِ الَّذِي يُصَفَّى وَيُنَقَّى مِنَ الْكُدُورَةِ، وَيُقَالُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: صَفْوَةٌ، وَصُفْوَةٌ وَصِفْوَةٌ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ لِمُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي [الْأَعْرَافِ: 144] وَقَالَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ [ص: 47] . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ. فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ اصْطَفَى دِينَ آدَمَ وَدِينَ نُوحٍ فَيَكُونُ الِاصْطِفَاءُ رَاجِعًا إِلَى دِينِهِمْ وَشَرْعِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ، وَيَكُونُ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُمْ، أَيْ صَفَّاهُمْ مِنَ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ، وَزَيَّنَهُمْ بِالْخِصَالِ/ الْحَمِيدَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّا لَا نَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْإِضْمَارِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ أعلم حيث يجعل رسالاته [الْأَنْعَامِ: 124] وَذَكَرَ الْحَلِيمِيُّ فِي كِتَابِ «الْمِنْهَاجِ» أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُوا مُخَالِفِينَ لِغَيْرِهِمْ فِي الْقُوَى الْجِسْمَانِيَّةِ، وَالْقُوَى الرُّوحَانِيَّةِ، أَمَّا الْقُوَى الْجِسْمَانِيَّةُ، فَهِيَ إِمَّا مُدْرِكَةٌ، وَإِمَّا مُحَرِّكَةٌ. أَمَّا الْمُدْرِكَةُ: فَهِيَ إِمَّا الْحَوَاسُّ الظَّاهِرَةُ، وَإِمَّا الْحَوَاسُّ الْبَاطِنَةُ، أَمَّا الْحَوَاسُّ الظَّاهِرَةُ فَهِيَ خَمْسَةٌ أَحَدُهَا: الْقُوَّةُ

الْبَاصِرَةُ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا بِكَمَالِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ووجهان الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زُوِيَتْ لِيَ الْأَرْضُ فَأُرِيتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا» وَالثَّانِي: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي» وَنَظِيرُ هَذِهِ الْقُوَّةِ مَا حَصَلَ لِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْعَامِ: 75] ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَوَّى بَصَرَهُ حَتَّى شَاهَدَ جَمِيعَ الْمَلَكُوتِ مِنَ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ قَالَ الْحَلِيمِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ لِأَنَّ الْبُصَرَاءَ يَتَفَاوَتُونَ فَرُوِيَ أَنَّ زَرْقَاءَ الْيَمَامَةِ كَانَتْ تُبْصِرُ الشَّيْءَ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ بَصَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَى مِنْ بَصَرِهَا وَثَانِيهَا: الْقُوَّةُ السَّامِعَةُ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم أقوى النأي فِي هَذِهِ الْقُوَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ قَدَمٍ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ لِلَّهِ تَعَالَى» فَسَمِعَ أَطِيطَ السَّمَاءِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ سَمِعَ دَوِيًّا وَذَكَرَ أَنَّهُ هُوِيُّ صَخْرَةٍ قُذِفَتْ فِي جَهَنَّمَ فَلَمْ تَبْلُغْ قَعْرَهَا إِلَى الْآنِ، قَالَ الْحَلِيمِيُّ: وَلَا سَبِيلَ لِلْفَلَاسِفَةِ إِلَى اسْتِبْعَادِ هَذَا، فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ فِيثَاغُورْثَ رَاضَ نَفْسَهُ حَتَّى سَمِعَ خَفِيفَ الْفَلَكِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْقُوَّةِ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السلام في قصة النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النَّمْلِ: 18] فَاللَّهُ تَعَالَى أَسْمَعَ سُلَيْمَانَ كَلَامَ النَّمْلِ وَأَوْقَفَهُ عَلَى مَعْنَاهُ وَهَذَا دَاخِلٌ أَيْضًا فِي بَابِ تَقْوِيَةِ الْفَهْمِ، وَكَانَ ذَلِكَ حَاصِلًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَكَلَّمَ مَعَ الذِّئْبِ وَمَعَ الْبَعِيرِ ثَالِثُهَا: تَقْوِيَةُ قُوَّةِ الشَّمِّ، كَمَا فِي حَقِّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَمَرَ بِحَمْلِ قَمِيصِهِ إِلَيْهِ وَإِلْقَائِهِ عَلَى وَجْهِهِ، فَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ يَعْقُوبُ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ [يُوسُفَ: 94] فَأَحَسَّ بِهَا مِنْ مَسِيرَةِ أَيَّامٍ وَرَابِعُهَا: تَقْوِيَةُ قُوَّةِ الذَّوْقِ، كَمَا فِي حَقِّ رَسُولِنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ: «إِنَّ هَذَا الذِّرَاعَ يُخْبِرُنِي أَنَّهُ مَسْمُومٌ» وَخَامِسُهَا: تَقْوِيَةُ الْقُوَّةِ اللَّامِسَةِ كَمَا فِي حَقِّ الْخَلِيلِ حَيْثُ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى النَّارَ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ هَذَا وَيُشَاهَدُ مِثْلُهُ فِي السَّمَنْدَلِ وَالنَّعَامَةِ، وَأَمَّا الْحَوَاسُّ الْبَاطِنَةُ فَمِنْهَا قُوَّةُ الْحِفْظِ، قَالَ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الْأَعْلَى: 6] وَمِنْهَا قُوَّةُ الذَّكَاءِ قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْفَ بَابٍ مِنَ الْعِلْمِ وَاسْتَنْبَطْتُ مِنْ كُلِّ بَابٍ أَلْفَ بَابٍ» فَإِذَا كَانَ حَالُ الْوَلِيِّ هَكَذَا، فَكَيْفَ حَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا الْقُوَى الْمُحَرِّكَةُ: فَمِثْلُ عُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمِعْرَاجِ، وَعُرُوجِ عِيسَى حَيًّا/ إِلَى السَّمَاءِ، وَرَفْعِ إِدْرِيسَ وَإِلْيَاسَ عَلَى مَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النَّمْلِ: 40] . وَأَمَّا الْقُوَى الرُّوحَانِيَّةُ الْعَقْلِيَّةُ: فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ، وَنِهَايَةِ الصَّفَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَمَامَ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ النَّفْسَ الْقُدْسِيَّةَ النَّبَوِيَّةَ مُخَالِفَةٌ بِمَاهِيَّتِهَا لِسَائِرِ النُّفُوسِ، وَمِنْ لَوَازِمِ تِلْكَ النَّفْسِ الْكَمَالُ فِي الذَّكَاءِ، وَالْفِطْنَةِ، وَالْحُرِّيَّةِ، وَالِاسْتِعْلَاءُ، وَالتَّرَفُّعُ عَنِ الْجِسْمَانِيَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ، فَإِذَا كَانَتِ الرُّوحُ فِي غَايَةِ الصَّفَاءِ وَالشَّرَفِ، وَكَانَ الْبَدَنُ فِي غَايَةِ النقاء والطهارة كانت هذه القوى المحركة والمدركة فِي غَايَةِ الْكَمَالِ لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى أَنْوَارٍ فَائِضَةٍ مِنْ جَوْهَرِ الرُّوحِ وَاصِلَةٌ إِلَى الْبَدَنِ، وَمَتَى كَانَ الْفَاعِلُ وَالْقَابِلُ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ كَانَتِ الْآثَارُ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَالشَّرَفِ وَالصَّفَاءِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً مَعْنَاهُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اصْطَفَى آدَمَ إِمَّا مِنْ سُكَّانِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الْمَلَكُ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ، أَوْ مِنْ سُكَّانِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الْبَشَرُ أَشْرَفُ الْمَخْلُوقَاتِ، ثُمَّ وَضَعَ كَمَالَ الْقُوَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ فِي شُعْبَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، هُمْ شِيثٌ وَأَوْلَادُهُ، إِلَى إِدْرِيسَ، ثُمَّ إِلَى نُوحٍ، ثُمَّ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ حَصَلَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ شُعْبَتَانِ: إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ، فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلَ مَبْدَأً

لِظُهُورِ الرُّوحِ الْقُدْسِيَّةِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ إِسْحَاقَ مَبْدَأً لِشُعْبَتَيْنِ: يَعْقُوبَ وَعِيصُو، فَوَضَعَ النُّبُوَّةَ فِي نَسْلِ يَعْقُوبَ، وَوَضَعَ الْمُلْكَ فِي نَسْلِ عِيصُو، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا ظَهَرَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُقِلَ نُورُ النُّبُوَّةِ وَنُورُ الْمُلْكِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَقِيَا أَعْنِي الدِّينَ وَالْمُلْكَ لِأَتْبَاعِهِ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي هَذَا الْبَابِ وَصَلَ إِلَى أَسْرَارٍ عَجِيبَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ. الْمُرَادُ بِآلِ إِبْرَاهِيمَ المؤمنون، كما في قوله أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ [غَافِرٍ: 46] وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الْأَوْلَادُ، وَهُمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: 124] وَأَمَّا آلُ عِمْرَانَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فيه، فمنهم من قال المراد عمران ولد مُوسَى وَهَارُونَ، وَهُوَ عِمْرَانَ بْنِ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثَ بْنِ لَاوِيَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ آلِ عِمْرَانَ مُوسَى وَهَارُونَ وَأَتْبَاعَهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْمُرَادُ: عِمْرَانُ بْنُ مَاثَانَ وَالِدُ مَرْيَمَ، وَكَانَ هُوَ مِنْ نَسْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ إِيشَا، وَكَانُوا مَنْ نَسْلِ يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَالُوا وَبَيْنَ الْعِمْرَانَيْنِ أَلْفٌ وَثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ عَلَى صِحَّتِهِ بِأُمُورٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَذْكُورَ عَقِيبَ قَوْلِهِ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ هُوَ عِمْرَانُ بْنُ مَاثَانَ جَدُّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ، فَكَانَ صَرْفُ الْكَلَامِ إِلَيْهِ أَوْلَى وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكَلَامِ أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا يحتجون على إلهية عيس بِالْخَوَارِقِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّمَا ظَهَرَتْ عَلَى يَدِهِ إِكْرَامًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ/ تَعَالَى اصْطَفَاهُ عَلَى الْعَالَمِينَ وَخَصَّهُ بِالْكَرَامَاتِ الْعَظِيمَةِ، فَكَانَ حَمْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى عِمْرَانَ بْنِ مَاثَانَ أَوْلَى فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى عِمْرَانَ وَالِدِ مُوسَى وَهَارُونَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ شَدِيدُ الْمُطَابَقَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 91] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ لَيْسَتْ دَلَائِلَ قَوِيَّةً، بَلْ هِيَ أُمُورٌ ظَنِّيَّةٌ، وَأَصْلُ الِاحْتِمَالِ قَائِمٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي نَصْبِ قَوْلِهِ ذُرِّيَّةً وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى الْحَالِ، أَيِ اصْطَفَاهُمْ فِي حَالِ كَوْنِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: ذَرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فِي التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَالطَّاعَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [التَّوْبَةِ: 67] وَذَلِكَ بِسَبَبِ اشْتِرَاكِهِمْ فِي النِّفَاقِ وَالثَّانِي: ذَرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ بِمَعْنَى أَنَّ غَيْرَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانُوا مُتَوَلِّدِينَ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالذُّرِّيَّةِ مَنْ سِوَى آدَمَ. أما قوله تعالى: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَقَالَ الْقَفَّالُ: الْمَعْنَى وَاللَّهُ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ الْعِبَادِ، عَلِيمٌ بِضَمَائِرِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يَصْطَفِي مِنْ خَلْقِهِ مَنْ يَعْلَمُ اسْتِقَامَتَهُ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته [الْأَنْعَامِ: 124] وَقَوْلُهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 90] وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ وَمِنْ آلِ عِمْرَانَ، فَنَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَالنَّصَارَى كَانُوا يَقُولُونَ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ عَالِمًا بِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ بَاطِلٌ، إِلَّا أَنَّهُ لِتَطْيِيبِ قُلُوبِ الْعَوَامِّ بَقِيَ مُصِرًّا عَلَيْهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ مِنْكُمْ، عَلِيمٌ بِأَغْرَاضِكُمُ الْفَاسِدَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا، فَكَانَ أَوَّلُ الْآيَةِ بَيَانًا لِشَرَفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَآخِرُهَا تَهْدِيدًا لِهَؤُلَاءِ الْكَاذِبِينَ الَّذِينَ يزعمون أنهم مستقرون على أديانهم.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 35 إلى 37]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 35 الى 37] إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ قِصَصًا كَثِيرَةً: الْقِصَّةُ الْأُولَى وَاقِعَةُ حَنَّةَ أُمِّ مريم عليهما السلام [في قوله تعالى إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَوْضِعِ إِذْ مِنَ الْإِعْرَابِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّهَا زَائِدَةٌ لَغْوًا، وَالْمَعْنَى: قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ، وَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: لَمْ يَصْنَعْ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي هَذَا شَيْئًا، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلْغَاءُ حَرْفٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ حَرْفٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةً وَالثَّانِي: قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْمُبَرِّدُ: التَّقْدِيرُ اذْكُرْ إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ وَمِثْلُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَثِيرٌ الثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ، التَّقْدِيرُ: وَاصْطَفَى آلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ، وَطَعَنَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِيهِ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ اصْطِفَاءَ آلِ عِمْرَانَ بِاصْطِفَاءِ آدَمَ وَنُوحٍ، وَلَمَّا كَانَ اصْطِفَاؤُهُ تَعَالَى آدَمَ وَنُوحًا قَبْلَ قَوْلِ امْرَأَةِ عِمْرَانَ اسْتَحَالَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا الِاصْطِفَاءَ مُقَيَّدٌ بِذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ هَذَا الْكَلَامَ فِيهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ أَثَرَ اصْطِفَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ إِنَّمَا ظَهَرَ عِنْدَ وُجُودِهِ، وَظُهُورِ طَاعَاتِهِ، فَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ عِنْدَ وجوده، ونوحاً عند وجوده، وآل عمران عند ما قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ هَذَا الْكَلَامَ الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَاللَّهُ سميع عليم إذا قَالَتِ امْرَأَةُ/ عِمْرَانَ هَذَا الْقَوْلَ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ قَبْلَ أَنْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ هَذَا الْقَوْلَ، فَمَا مَعْنَى هَذَا التَّقْيِيدِ؟ قُلْنَا: إِنَّ سَمْعَهُ تَعَالَى لِذَلِكَ الْكَلَامِ مُقَيَّدٌ بِوُجُودِ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَعِلْمُهُ تَعَالَى بِأَنَّهَا تَذْكُرُ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِذِكْرِهَا لِذَلِكَ وَالتَّغَيُّرُ فِي الْعِلْمِ وَالسَّمْعِ إِنَّمَا يَقَعُ فِي النِّسَبِ وَالْمُتَعَلِّقَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ زَكَرِيَّا بْنَ آذَنَ، وَعِمْرَانَ بْنَ مَاثَانَ، كَانَا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ، وَامْرَأَةُ عِمْرَانَ حَنَّةُ بِنْتُ فَاقُوذَ، وَقَدْ تَزَوَّجَ زَكَرِيَّا بِابْنَتِهِ إِيشَاعَ أُخْتِ مَرْيَمَ، وَكَانَ يَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ابْنَيْ خَالَةٍ، ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا النَّذْرِ رِوَايَاتٌ: الرِّوَايَةُ الْأُولَى: قَالَ عِكْرِمَةُ. إِنَّهَا كَانَتْ عَاقِرًا لَا تَلِدُ، وَكَانَتْ تَغْبِطُ النِّسَاءَ بِالْأَوْلَادِ، ثُمَّ قَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنَّ لَكَ عَلَيَّ نَذْرًا إِنْ رَزَقْتَنِي وَلَدًا أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِيَكُونَ مِنْ سَدَنَتِهِ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّ أُمَّ مَرْيَمَ مَا كَانَ يَحْصُلُ لَهَا وَلَدٌ حَتَّى شَاخَتْ، وَكَانَتْ يَوْمًا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فَرَأَتْ طَائِرًا يُطْعِمُ فَرْخًا لَهُ فَتَحَرَّكَتْ نَفْسُهَا لِلْوَلَدِ، فَدَعَتْ رَبَّهَا أَنْ يَهَبَ لَهَا وَلَدًا فَحَمَلَتْ بِمَرْيَمَ، وَهَلَكَ عِمْرَانُ، فَلَمَّا عَرَفَتْ جَعَلَتْهُ لِلَّهِ مُحَرَّرًا، أَيْ خَادِمًا لِلْمَسْجِدِ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّهَا إِنَّمَا فَعَلَتْ ذَلِكَ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ وَلَوْلَاهُ مَا فَعَلَتْ كَمَا رَأَى إِبْرَاهِيمُ ذَبْحَ ابْنِهِ فِي الْمَنَامِ فَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ وَحْيِ، وَكَمَا أَلْهَمَ اللَّهُ أُمَّ مُوسَى فَقَذَفَتْهُ فِي الْيَمِّ وَلَيْسَ بِوَحْيٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُحَرَّرُ الَّذِي يُجْعَلُ حُرًّا خَالِصًا، يُقَالُ: حَرَّرْتُ الْعَبْدَ إِذَا خَلَّصْتَهُ عَنِ الرِّقِّ، وَحَرَّرْتُ الْكِتَابَ إِذَا أَصْلَحْتَهُ، وَخَلَّصْتَهُ فَلَمْ تُبْقِ فِيهِ شَيْئًا مِنْ وُجُوهِ الْغَلَطِ، وَرَجُلٌ حُرٌّ إِذَا كَانَ خَالِصًا لِنَفْسِهِ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ تَعَلُّقٌ، وَالطِّينُ الْحُرُّ الْخَالِصُ عَنِ الرَّمْلِ وَالْحِجَارَةِ وَالْحَمْأَةِ وَالْعُيُوبِ أَمَّا التَّفْسِيرُ فَقِيلَ مُخْلِصًا لِلْعِبَادَةِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَقِيلَ: خَادِمًا لِلْبِيعَةِ، وَقِيلَ: عَتِيقًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا لِطَاعَةِ اللَّهِ، وَقِيلَ: خَادِمًا لِمَنْ يُدَرِّسُ الْكِتَابَ، وَيُعَلِّمُ فِي الْبِيَعِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا نَذَرَتْ أَنْ تَجْعَلَ ذَلِكَ الْوَلَدَ وَقْفًا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، قَالَ الْأَصَمُّ: لَمْ يَكُنْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ غَنِيمَةٌ وَلَا سَبْيٌ، فَكَانَ تَحْرِيرُهُمْ جَعْلَهُمْ أَوْلَادَهُمْ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ الْأَمْرُ فِي دِينِهِمْ أَنَّ الْوَلَدَ إِذَا صَارَ بِحَيْثُ يُمْكِنُ اسْتِخْدَامُهُ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ خِدْمَةُ الْأَبَوَيْنِ، فَكَانُوا بِالنَّذْرِ يَتْرُكُونَ ذَلِكَ النَّوْعَ مِنَ الِانْتِفَاعِ، وَيَجْعَلُونَهُمْ مُحَرَّرِينَ لِخِدْمَةِ الْمَسْجِدِ وَطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: كَانَ الْمُحَرَّرُ يُجْعَلُ فِي الْكَنِيسَةِ يَقُومُ بِخِدْمَتِهَا حَتَّى يَبْلُغَ الْحُلُمَ، ثُمَّ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالذَّهَابِ، فَإِنْ أَبَى الْمُقَامَ وَأَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ ذَهَبَ، وَإِنِ اخْتَارَ الْمُقَامَ فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ خِيَارٌ، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ إِلَّا وَمِنْ نَسْلِهِ مُحَرَّرٌ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذَا التَّحْرِيرُ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا إِلَّا فِي الْغِلْمَانِ أَمَّا الْجَارِيَةُ فَكَانَتْ لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ لِمَا يُصِيبُهَا مِنَ الْحَيْضِ وَالْأَذَى، ثُمَّ إِنَّ حَنَّةَ نَذَرَتْ مُطْلَقًا إِمَّا لِأَنَّهَا بَنَتِ الْأَمْرَ عَلَى التَّقْدِيرِ، أَوْ لِأَنَّهَا جَعَلَتْ ذَلِكَ النَّذْرَ وَسِيلَةً إِلَى طَلَبِ الذَّكَرِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ مُحَرَّراً وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ مَا وَتَقْدِيرُهُ: نَذَرْتُ لَكَ الَّذِي فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ أَنَّ الْمَعْنَى نَذَرْتُ لَكَ أَنْ أَجْعَلَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْهَا: فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ التَّقَبُّلُ: أَخْذُ الشَّيْءِ عَلَى الرِّضَا، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَأَصْلُهُ مِنَ الْمُقَابَلَةِ لِأَنَّهُ يُقْبَلُ بِالْجَزَاءِ، وَهَذَا كَلَامُ مَنْ لَا يُرِيدُ بِمَا فَعَلَهُ إِلَّا الطَّلَبَ لِرِضَا اللَّهِ تعالى والإخلاص في عبادته، ثم قالت إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لِتَضَرُّعِي وَدُعَائِي وَنِدَائِي، الْعَلِيمُ بِمَا فِي ضَمِيرِي وَقَلْبِي وَنِيَّتِي. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ النَّذْرِ كَانَ فِي شَرْعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي شَرْعِنَا، وَالشَّرَائِعُ لَا يَمْتَنِعُ اخْتِلَافُهَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ. قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا وَضَعَتْها وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الضَّمِيرَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْأُنْثَى الَّتِي كَانَتْ فِي بَطْنِهَا وَكَانَ عَالِمًا بِأَنَّهَا كَانَتْ أُنْثَى أَوْ يُقَالُ: إِنَّهَا عَادَتْ إِلَى النَّفْسِ وَالنَّسَمَةِ أَوْ يُقَالُ: عَادَتْ إِلَى الْمَنْذُورَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ تَقَدَّمَ مِنْهَا النَّذْرُ فِي تَحْرِيرِ مَا فِي بَطْنِهَا، وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى ظَنِّهَا أَنَّهُ ذَكَرٌ فَلَمْ تَشْتَرِطْ ذَلِكَ فِي كَلَامِهَا، وَكَانَتِ الْعَادَةُ عِنْدَهُمْ أن الذي

يُحَرَّرُ وَيُفَرَّغُ لِخِدْمَةِ الْمَسْجِدِ وَطَاعَةِ اللَّهِ هُوَ الذَّكَرُ دُونَ الْأُنْثَى فَقَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى خَائِفَةً أَنَّ نَذْرَهَا لَمْ يَقَعِ الْمَوْقِعَ الَّذِي يُعْتَمَدُ بِهِ وَمُعْتَذِرَةً مِنْ إِطْلَاقِهَا النَّذْرَ المتقدم فذكرت ذلك لان عَلَى سَبِيلِ الْإِعْلَامِ لِلَّهِ تَعَالَى، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى إِعْلَامِهَا، بَلْ ذَكَرَتْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِذَارِ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَضَعَتْ بِرَفْعِ التَّاءِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا حِكَايَةُ كَلَامِهَا، وَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهَا لَمَّا قَالَتْ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى خَافَتْ أَنْ يُظَنَّ بِهَا أَنَّهَا تُخْبِرُ اللَّهَ تَعَالَى، فَأَزَالَتِ الشُّبْهَةَ بِقَوْلِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَثَبَتَ أَنَّهَا إِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ لِلِاعْتِذَارِ لَا لِلْإِعْلَامِ، وَالْبَاقُونَ بِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ تَعْظِيمًا لِوَلَدِهَا، وَتَجْهِيلًا لَهَا بِقَدْرِ ذَلِكَ الْوَلَدِ، وَمَعْنَاهُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالشَّيْءِ الَّذِي وَضَعَتْ وَبِمَا عَلَّقَ بِهِ مِنْ عَظَائِمِ الْأُمُورِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ وَوَلَدَهُ آيَةً لِلْعَالَمِينَ، وَهِيَ جَاهِلَةٌ بِذَلِكَ لَا تَعْلَمُ مِنْهُ شَيْئًا فَلِذَلِكَ تَحَسَّرَتْ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ عَلَى خِطَابِ اللَّهِ لَهَا، أَيْ: إِنَّكِ لَا تَعْلَمِينَ قَدْرَ هَذَا الْمَوْهُوبِ وَاللَّهُ هُوَ الْعَالِمُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْآيَاتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهَا وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ مُرَادَهَا تَفْضِيلُ الْوَلَدِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى، وَسَبَبُ هَذَا التَّفْضِيلِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ شَرْعَهُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَحْرِيرُ الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ وَالثَّانِي: أَنَّ الذَّكَرَ يَصِحُّ أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى خِدْمَةِ مَوْضِعِ الْعِبَادَةِ، وَلَا يَصِحُّ/ ذَلِكَ فِي الْأُنْثَى لِمَكَانِ الْحَيْضِ وَسَائِرِ عَوَارِضِ النِّسْوَانِ وَالثَّالِثُ: الذَّكَرُ يَصْلُحُ لِقُوَّتِهِ وَشِدَّتِهِ لِلْخِدْمَةِ دُونَ الْأُنْثَى فَإِنَّهَا ضَعِيفَةٌ لَا تَقْوَى عَلَى الْخِدْمَةِ وَالرَّابِعُ: أَنَّ الذَّكَرَ لَا يَلْحَقُهُ عَيْبٌ فِي الْخِدْمَةِ وَالِاخْتِلَاطِ بِالنَّاسِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأُنْثَى وَالْخَامِسُ: أَنَّ الذَّكَرَ لَا يَلْحَقُهُ مِنَ التُّهْمَةِ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ مَا يَلْحَقُ الْأُنْثَى فَهَذِهِ الْوُجُوهُ تَقْتَضِي فَضْلَ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَرْجِيحُ هَذِهِ الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ، كَأَنَّهَا قَالَتِ الذَّكَرُ مَطْلُوبِي وَهَذِهِ الْأُنْثَى مَوْهُوبَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ الذَّكَرُ الَّذِي يَكُونُ مَطْلُوبِي كَالْأُنْثَى الَّتِي هِيَ مَوْهُوبَةٌ لِلَّهِ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْمَرْأَةَ كَانَتْ مُسْتَغْرِقَةً فِي مَعْرِفَةِ جَلَالِ اللَّهِ عَالِمَةً بِأَنَّ مَا يَفْعَلُهُ الرَّبُّ بِالْعَبْدِ خَيْرٌ مِمَّا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْهَا كَلَامًا ثَانِيًا وَهُوَ قَوْلُهَا وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: البحث الأولى: أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى مَا حَكَيْنَا مِنْ أَنَّ عِمْرَانَ كَانَ قَدْ مَاتَ فِي حَالِ حَمْلِ حَنَّةَ بِمَرْيَمَ، فَلِذَلِكَ تَوَلَّتِ الْأُمُّ تَسْمِيَتَهَا، لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ ذَلِكَ يَتَوَلَّاهُ الْآبَاءُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ مَرْيَمَ فِي لُغَتِهِمْ: الْعَابِدَةُ، فَأَرَادَتْ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَنْ تَطْلُبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَعْصِمَهَا مِنْ آفَاتِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا قَوْلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ مَعْنَاهُ: وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا بِهَذَا اللَّفْظِ أَيْ جَعَلْتُ هَذَا اللَّفْظَ اسْمًا لَهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ وَالْمُسَمَّى وَالتَّسْمِيَةَ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ مُتَغَايِرَةٌ. ثُمَّ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا كَلَامًا ثَالِثًا وَهُوَ قَوْلُهَا وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا فَاتَهَا مَا كَانَتْ تُرِيدُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا خَادِمًا لِلْمَسْجِدِ تَضَرَّعَتْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ يَحْفَظَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ

الرَّجِيمِ، وَأَنْ يَجْعَلَهَا مِنَ الصَّالِحَاتِ الْقَانِتَاتِ، وَتَفْسِيرُ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ. وَلَمَّا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ حَنَّةَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ قَالَ: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا قَالَ فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَلَمْ يَقُلْ: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِتَقَبُّلٍ لِأَنَّ الْقَبُولَ وَالتَّقَبُّلَ مُتَقَارِبَانِ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نُوحٍ: 17] أَيْ إِنْبَاتًا، وَالْقَبُولُ مَصْدَرُ قَوْلِهِمْ: قَبِلَ فُلَانٌ الشَّيْءَ قَبُولًا إِذَا رَضِيَهُ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: خَمْسَةُ مَصَادِرَ جَاءَتْ عَلَى فَعُولٍ: قَبُولٌ وَطَهُورٌ وَوَضُوءٌ وَوَقُودٌ وَوَلُوغٌ، إِلَّا أَنَّ الْأَكْثَرَ فِي الْوَقُودِ إِذَا كَانَ مَصْدَرًا الضَّمُّ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: قُبُولًا بِالضَّمِّ، وَرَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ يُقَالُ: قَبِلْتُهُ قَبُولًا وَقُبُولًا، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ اعْتِنَاءِ ذَلِكَ الْفَاعِلِ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ الْفِعْلِ كَالتَّصَبُّرِ وَالتَّجَلُّدِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهُمَا يُفِيدَانِ الْجِدِّ فِي إِظْهَارِ الصَّبْرِ وَالْجَلَادَةِ، فَكَذَا هَاهُنَا التَّقَبُّلُ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي إِظْهَارِ الْقَبُولِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَقُلْ: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِتَقَبُّلٍ حَسَنٍ حَتَّى صَارَتِ الْمُبَالَغَةُ أَكْمَلَ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ لَفْظَ التَّقَبُّلِ وَإِنْ أَفَادَ مَا ذَكَرْنَا إِلَّا أَنَّهُ يُفِيدُ نَوْعَ تَكَلُّفٍ عَلَى خِلَافِ الطَّبْعِ، أَمَّا الْقَبُولُ فَإِنَّهُ يُفِيدُ مَعْنَى الْقَبُولِ عَلَى وَفْقِ الطَّبْعِ فَذَكَرَ التَّقَبُّلَ لِيُفِيدَ الْجِدَّ وَالْمُبَالَغَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْقَبُولَ لِيُفِيدَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى خِلَافِ الطَّبْعِ، بَلْ عَلَى وَفْقِ الطَّبْعِ، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ وَإِنْ كَانَتْ مُمْتَنِعَةً فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، إِلَّا أَنَّهَا تَدُلُّ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِعَارَةُ عَلَى حُصُولِ الْعِنَايَةِ الْعَظِيمَةِ فِي تَرْبِيَتِهَا، وَهَذَا الْوَجْهُ مُنَاسِبٌ مَعْقُولٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ الْقَبُولِ الْحَسَنِ وُجُوهًا: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى عَصَمَهَا وَعَصَمَ وَلَدَهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا» ثُمَّ قَالَ أَبُو هريرة: اقرؤا إِنْ شِئْتُمْ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ طَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْخَبَرِ وَقَالَ: إِنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ فَوَجَبَ رَدُّهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يَدْعُو إِلَى الشر من يعرف الخير والشر والصبي وليس كَذَلِكَ وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ هَذَا النَّخْسِ لَفَعَلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ إِهْلَاكِ الصَّالِحِينَ وَإِفْسَادِ أَحْوَالِهِمْ وَالثَّالِثُ: لِمَ خُصَّ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مَرْيَمُ وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ دُونَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الرَّابِعُ: أَنَّ ذَلِكَ النَّخْسَ لَوْ وُجِدَ بَقِيَ أَثَرُهُ، وَلَوْ بَقِيَ أَثَرُهُ لَدَامَ الصُّرَاخُ وَالْبُكَاءُ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا بُطْلَانَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ مُحْتَمَلَةٌ، وَبِأَمْثَالِهَا لَا يَجُوزُ دَفْعُ الْخَبَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَقَبَّلَهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ، مَا رُوِيَ أَنَّ حَنَّةَ حِينَ وَلَدَتْ مَرْيَمَ لَفَّتْهَا فِي خِرْقَةٍ وَحَمَلَتْهَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَوَضَعَتْهَا عِنْدَ الْأَحْبَارِ أَبْنَاءِ هَارُونَ، وَهُمْ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَالْحَجَبَةِ فِي الْكَعْبَةِ، وَقَالَتْ: خُذُوا هَذِهِ النَّذِيرَةَ، فَتَنَافَسُوا فِيهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ بِنْتَ إِمَامِهِمْ، وَكَانَتْ بَنُو مَاثَانَ رُؤُوسَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَحْبَارَهُمْ وَمُلُوكَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ زَكَرِيَّا: أَنَا أَحَقُّ بِهَا عِنْدِي خَالَتُهَا فَقَالُوا لَا حَتَّى نَقْتَرِعَ عَلَيْهَا، فَانْطَلَقُوا وَكَانُوا سَبْعَةً وَعِشْرِينَ إِلَى نَهْرٍ فَأَلْقَوْا فِيهِ أَقْلَامَهُمُ الَّتِي كَانُوا يَكْتُبُونَ الْوَحْيَ بِهَا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنِ ارْتَفَعَ قَلَمُهُ فَهُوَ الرَّاجِحُ، ثُمَّ أَلْقَوْا أَقْلَامَهُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَفِي كُلِّ مَرَّةٍ كَانَ يَرْتَفِعُ قَلَمُ زَكَرِيَّا فَوْقَ الْمَاءِ وَتَرْسُبُ أَقْلَامُهُمْ فأخذها زكريا.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: رَوَى الْقَفَّالُ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مَرْيَمَ تَكَلَّمَتْ فِي صِبَاهَا كَمَا تَكَلَّمَ الْمَسِيحُ وَلَمْ تَلْتَقِمْ ثَدْيًا قَطُّ، وَإِنَّ رِزْقَهَا كَانَ يَأْتِيهَا مِنَ الْجَنَّةِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي تَفْسِيرِ الْقَبُولِ الْحَسَنِ أَنَّ الْمُعْتَادَ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ أَنَّ التَّحْرِيرَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي حَقِّ الْغُلَامِ حِينَ يَصِيرُ عَاقِلًا قَادِرًا عَلَى خِدْمَةِ الْمَسْجِدِ، وَهَاهُنَا لَمَّا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى تَضَرُّعَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ/ قَبِلَ تِلْكَ الْجَارِيَةَ حَالَ صِغَرِهَا وَعَدَمِ قُدْرَتِهَا عَلَى خِدْمَةِ الْمَسْجِدِ، فَهَذَا كُلُّهُ هُوَ الْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ فِي تَفْسِيرِ الْقَبُولِ الْحَسَنِ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: التَّقْدِيرُ أَنْبَتَهَا فَنَبَتَتْ هِيَ نَبَاتًا حَسَنًا ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ صَرَفَ هَذَا النَّبَاتَ الْحَسَنَ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَمِنْهُمْ مَنْ صَرَفَهُ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَالُوا: الْمَعْنَى أَنَّهَا كَانَتْ تَنْبُتُ فِي الْيَوْمِ مِثْلَ مَا يَنْبُتُ الْمَوْلُودُ فِي عَامٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا فِي الدِّينِ فَلِأَنَّهَا نَبَتَتْ فِي الصَّلَاحِ وَالسَّدَادِ وَالْعِفَّةِ وَالطَّاعَةِ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: كَفَلَ يَكْفُلُ كَفَالَةً وَكَفْلًا فَهُوَ كَافِلٌ، وَهُوَ الَّذِي يُنْفِقُ عَلَى إِنْسَانٍ وَيَهْتَمُّ بِإِصْلَاحِ مَصَالِحِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَا وَكَافِلُ اليتيم كهاتين» وقال الله تعالى: أَكْفِلْنِيها. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (وَكَفَّلَهَا) بِالتَّشْدِيدِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي زَكَرِيَّا فَقَرَأَ عَاصِمٌ بِالْمَدِّ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْقَصْرِ عَلَى مَعْنَى ضَمَّهَا اللَّهُ تَعَالَى إِلَى زَكَرِيَّا، فَمَنْ قَرَأَ (زَكَرِيَّاءَ) بِالْمَدِّ أَظْهَرَ النَّصْبَ وَمَنْ قَرَأَ بِالْقَصْرِ كَانَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا بِالْمَدِّ وَالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى ضَمَّهَا زَكَرِيَّاءُ إِلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ الِاخْتِيَارُ، لِأَنَّ هَذَا مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَعَنِ ابْنِ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةٍ كَفَّلَها بِكَسْرِ الْفَاءِ، وَأَمَّا الْقَصْرُ وَالْمَدُّ فِي زَكَرِيَّا فَهُمَا لُغَتَانِ، كَالْهَيْجَاءِ وَالْهَيْجَا، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ فَتَقَبَّلَها رَبُّها، ... وَأَنْبَتَها، ... وَكَفَّلَها عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ فِي الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ، وَنَصْبِ رَبُّها كَأَنَّهَا كَانَتْ تَدْعُو اللَّهَ فَقَالَتْ: اقْبَلْهَا يَا رَبَّهَا، وَأَنْبِتْهَا يَا رَبَّهَا، وَاجْعَلْ زَكَرِيَّا كَافِلًا لَهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي كَفَالَةِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِيَّاهَا مَتَى كَانَتْ، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: كَانَ ذَلِكَ حَالَ طُفُولِيَّتِهَا، وَبِهِ جَاءَتِ الرِّوَايَاتُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ إِنَّمَا كَفَلَهَا بَعْدَ أَنْ فُطِمَتْ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً ثُمَّ قَالَ: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا وَهَذَا يُوهِمُ أَنَّ تِلْكَ الْكَفَالَةَ بَعْدَ ذَلِكَ النَّبَاتِ الْحَسَنِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ قَدْ فَارَقَتِ الرَّضَاعَ وَقْتَ تِلْكَ الْكَفَالَةِ، وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَجَابُوا بِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ، فَلَعَلَّ الْإِنْبَاتَ الْحَسَنَ وَكَفَالَةَ زَكَرِيَّاءَ حَصَلَا مَعًا. وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: فَلَعَلَّ دُخُولَهُ عَلَيْهَا وَسُؤَالَهُ مِنْهَا هَذَا السُّؤَالَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي آخِرِ زَمَانِ الْكَفَالَةِ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمِحْرابَ الْمَوْضِعَ الْعَالِيَ الشَّرِيفَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: رَبَّةُ مِحْرَابٍ إِذَا جِئْتُهَا ... لَمْ أَدْنُ حَتَّى أَرْتَقِيَ سُلَّمَا

وَاحْتَجَّ الْأَصْمَعِيُّ عَلَى أَنَّ الْمِحْرَابَ هُوَ الْغُرْفَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ [ص: 21] وَالتَّسَوُّرُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عُلُوٍّ، وَقِيلَ: الْمِحْرَابُ أَشْرَفُ الْمَجَالِسِ وَأَرْفَعُهَا، يُرْوَى أَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ شَابَّةً بَنَى زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهَا غُرْفَةً فِي الْمَسْجِدِ، وَجَعَلَ بَابَهَا فِي وَسَطِهِ لَا يُصْعَدُ إِلَيْهِ إِلَّا بِسُلَّمٍ، وَكَانَ إِذَا خَرَجَ أَغْلَقَ عَلَيْهَا سَبْعَةَ أَبْوَابٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِكَرَامَةِ الْأَوْلِيَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنْ زَكَرِيَّاءَ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ: أَنَّى لَكِ هَذَا؟ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَحُصُولُ ذَلِكَ الرِّزْقِ عِنْدَهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَارِقًا لِلْعَادَةِ، أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ غَيْرُ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ فَهُوَ بَاطِلٌ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ حُصُولُ ذَلِكَ الرِّزْقِ عِنْدَ مَرْيَمَ دَلِيلًا عَلَى عُلُوِّ شَأْنِهَا وَشَرَفِ دَرَجَتِهَا وَامْتِيَازِهَا عَنْ سَائِرِ النَّاسِ بِتِلْكَ الْخَاصِّيَّةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ هَذَا الْمَعْنَى وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً وَالْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ آيِسًا مِنَ الْوَلَدِ بِسَبَبِ شَيْخُوخَتِهِ وَشَيْخُوخَةِ زَوْجَتِهِ، فَلَمَّا رَأَى انْخِرَاقَ الْعَادَةِ فِي حَقِّ مَرْيَمَ طَمِعَ فِي حُصُولِ الْوَلَدِ فَيَسْتَقِيمُ قَوْلُهُ هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ أَمَّا لَوْ كَانَ الَّذِي شَاهَدَهُ فِي حَقِّ مَرْيَمَ لَمْ يَكُنْ خَارِقًا لِلْعَادَةِ لَمْ تَكُنْ مُشَاهَدَةُ ذَلِكَ سَبَبًا لِطَمَعِهِ فِي انْخِرَاقِ الْعَادَةِ بِحُصُولِ الْوَلَدِ مِنَ الْمَرْأَةِ الشَّيْخَةِ الْعَاقِرِ الثَّالِثُ: أَنَّ التَّنَكُّرَ فِي قَوْلِهِ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ حَالِ ذَلِكَ الرِّزْقِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: رِزْقًا. أَيْ رِزْقٌ غَرِيبٌ عَجِيبٌ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يُفِيدُ الْغَرَضَ اللَّائِقَ لِسِيَاقِ هَذِهِ الْآيَةِ لَوْ كَانَ خَارِقًا لِلْعَادَةِ الرَّابِعُ: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 91] وَلَوْلَا أَنَّهُ ظَهَرَ عَلَيْهِمَا مِنَ الْخَوَارِقِ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ لَهَا وَلَدًا مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ؟ قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا بِآيَةٍ، بَلْ يَحْتَاجُ تَصْحِيحُهُ إِلَى آيَةٍ، فَكَيْفَ نَحْمِلُ الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهَا وَطَهَارَتِهَا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِظُهُورِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَى يَدِهَا كَمَا ظَهَرَتْ عَلَى يَدِ وَلَدِهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْخَامِسُ: مَا تَوَاتَرَتِ الرِّوَايَاتُ بِهِ أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَفَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، فَثَبَتَ أَنَّ الَّذِي ظَهَرَ فِي حَقِّ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ كَانَ فِعْلًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ، فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ مُعْجِزَةً لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ مَا كَانَ كَذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ الْمَوْجُودَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ هُوَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لَهُ لَكَانَ هُوَ عَالِمًا بِحَالِهِ وَشَأْنِهِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَشْتَبِهَ أَمْرُهُ عَلَيْهِ وَأَنْ لَا يَقُولَ لِمَرْيَمَ أَنَّى لَكِ هَذَا وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهَا عَنْ أَمْرِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ ثُمَّ إِنَّهَا ذَكَرَتْ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُنَالِكَ طَمِعَ فِي انْخِرَاقِ الْعَادَةِ فِي حُصُولِ الْوَلَدِ مِنَ/ الْمَرْأَةِ الْعَقِيمَةِ الشَّيْخَةِ الْعَاقِرِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا وقف على تلك الأحوال إِلَّا بِإِخْبَارِ مَرْيَمَ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الْخَوَارِقَ مَا كَانَتْ مُعْجِزَةً لِزَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا كَانَتْ كَرَامَةً لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ كَانَتْ كَرَامَةً لِمَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ، فَهَذَا هُوَ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُقُوعِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ. اعْتَرَضَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَقَالَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ تِلْكَ الْخَوَارِقَ كَانَتْ مِنْ مُعْجِزَاتِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا لَهَا عَلَى الْإِجْمَالِ أَنْ يُوَصِّلَ اللَّهُ إِلَيْهَا رِزْقًا، وأنه ربما

[سورة آل عمران (3) : آية 38]

كَانَ غَافِلًا عَنْ تَفَاصِيلِ مَا يَأْتِيهَا مِنَ الْأَرْزَاقِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا بِعَيْنِهِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ قَالَ لَهَا أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَظْهَرَ بِدُعَائِهِ تِلْكَ الْمُعْجِزَةَ وَالثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ زَكَرِيَّا يُشَاهِدُ عِنْدَ مَرْيَمَ رِزْقًا مُعْتَادًا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَأْتِيهَا مِنَ السَّمَاءِ، وَكَانَ زَكَرِيَّا يَسْأَلُهَا عَنْ ذَلِكَ حَذَرًا مِنْ أَنْ يَكُونَ يَأْتِيهَا مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ يَبْعَثُهُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ. الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ ظَهَرَ عَلَى مَرْيَمَ شَيْءٌ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، بَلْ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ سَبَّبَ لَهَا رِزْقًا عَلَى أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَرْغَبُونَ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الزَّاهِدَاتِ الْعَابِدَاتِ، فَكَانَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا رَأَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ خَافَ أَنَّهُ رُبَّمَا أَتَاهَا ذَلِكَ الرِّزْقُ مِنْ وَجْهٍ لَا يَنْبَغِي، فَكَانَ يَسْأَلُهَا عَنْ كَيْفِيَّةِ الْحَالِ، هَذَا مَجْمُوعُ مَا قَالَهُ الْجُبَّائِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَهُوَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُعْجِزًا لِزَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى فِي طَلَبِ ذَلِكَ، وَمَتَى كَانَ مَأْذُونًا فِي ذَلِكَ الطَّلَبِ كَانَ عَالِمًا قَطْعًا بِأَنَّهُ يَحْصُلُ، وَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهَا كَيْفِيَّةَ الْحَالِ، وَلَمْ يَبْقَ أَيْضًا لِقَوْلِهِ هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ فَائِدَةٌ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ بِعَيْنِهِ عَنِ الْوَجْهِ الثاني. وأما سؤاله الثالث ففي غاية الركالة لِأَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ لَا يَبْقَى فِيهِ وَجْهُ اخْتِصَاصٍ لِمَرْيَمَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ احْتِمَالٌ أَنَّهُ رُبَّمَا أَتَاهَا هَذَا الرِّزْقُ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي فَبِمُجَرَّدِ إِخْبَارِهَا كَيْفَ يُعْقَلُ زَوَالُ تِلْكَ التُّهْمَةِ فَعَلِمْنَا سُقُوطَ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى امْتِنَاعِ الْكَرَامَاتِ بِأَنَّهَا دَلَالَاتُ صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ، وَدَلِيلُ النُّبُوَّةِ لَا يُوجَدُ مَعَ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا أَنَّ الْفِعْلَ الْمُحْكَمَ لَمَّا كَانَ دَلِيلًا عَلَى الْعِلْمِ لَا جَرَمَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَالِمِ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ ظُهُورَ الْفِعْلِ الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي، فَإِنِ ادَّعَى صَاحِبُهُ النُّبُوَّةَ فَذَاكَ الْفِعْلُ الْخَارِقُ لِلْعَادَةِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ نَبِيًّا، وَإِنِ ادَّعَى الْوِلَايَةَ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ وَلِيًّا وَالثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمُ: الْأَنْبِيَاءُ مَأْمُورُونَ بِإِظْهَارِهَا، وَالْأَوْلِيَاءُ مَأْمُورُونَ/ بِإِخْفَائِهَا وَالثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ يَدَّعِي الْمُعْجِزَ وَيَقْطَعُ بِهِ، وَالْوَلِيُّ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْطَعَ بِهِ وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمُعْجِزَةَ يَجِبُ انْفِكَاكُهَا عَنِ الْمُعَارَضَةِ، وَالْكَرَامَةُ لَا يَجِبُ انْفِكَاكُهَا عَنِ الْمُعَارَضَةِ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ مَرْيَمَ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَقَوْلُهُ بِغَيْرِ حِسابٍ أَيْ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ لِكَثْرَتِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ سَأَلَهَا عَلَى سَبِيلٍ يُنَاسِبُ حُصُولَهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطَّلَاقِ: 3] وَهَاهُنَا آخِرُ الكلام في قصة حنة. [سورة آل عمران (3) : آية 38] هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) القصة الثانية واقعة زكريا عليه السلام [في قوله تعالى هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَنَا: ثُمَّ، وَهُنَاكَ، وَهُنَالِكَ، يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَكَانِ، وَلَفْظَةُ: عِنْدَ، وَحِينَ يُسْتَعْمَلَانِ فِي الزَّمَانِ، قَالَ تَعَالَى: فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ [الْأَعْرَافِ: 119] وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَكَانِ الذي كانوا فيه، وقال تعالى: إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً [الْفُرْقَانِ: 13] أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الضَّيِّقِ، ثُمَّ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لَفْظَةُ هُنالِكَ فِي الزَّمَانِ أَيْضًا، قَالَ تَعَالَى: هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ [الْكَهْفِ: 44] فَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالِ وَالزَّمَانِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمَكَانِ فَهُوَ جَائِزٌ، أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ قَاعِدًا فِيهِ عِنْدَ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَشَاهَدَ تِلْكَ الْكَرَامَاتِ دَعَا رَبَّهُ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الزَّمَانِ فَهُوَ أَيْضًا جَائِزٌ، يَعْنِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دَعَا رَبَّهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ هُنالِكَ دَعا يَقْتَضِي أَنَّهُ دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ عِنْدَ أَمْرٍ عَرَفَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَهُ تَعَلُّقٌ بِهَذَا الدُّعَاءِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: هُوَ أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى عِنْدَ مَرْيَمَ مِنْ فَاكِهَةِ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَمِنْ فَاكِهَةِ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، فَلَمَّا رَأَى خَوَارِقَ الْعَادَاتِ عِنْدَهَا، طَمِعَ فِي أَنْ يَخْرِقَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِ أَيْضًا فَيَرْزُقَهُ الْوَلَدَ/ مِنَ الزَّوْجَةِ الشَّيْخَةِ الْعَاقِرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَإِرْهَاصَاتِ الْأَنْبِيَاءِ قَالُوا: إِنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَأَى آثَارَ الصَّلَاحِ وَالْعَفَافِ وَالتَّقْوَى مُجْتَمِعَةً فِي حَقِّ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ اشْتَهَى الْوَلَدَ وَتَمَنَّاهُ فَدَعَا عِنْدَ ذَلِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ حُصُولَ الزُّهْدِ وَالْعَفَافِ وَالسِّيرَةِ الْمُرْضِيَّةِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْخِرَاقِ الْعَادَاتِ، فَرُؤْيَةُ ذَلِكَ لَا يَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى طَلَبِ مَا يَخْرِقُ الْعَادَةَ، وَأَمَّا رُؤْيَةُ مَا يَخْرِقُ الْعَادَةَ قَدْ يُطْمِعُهُ فِي أَنْ يَطْلُبَ أَيْضًا فِعْلًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُدُوثَ الْوَلَدِ مِنَ الشَّيْخِ الْهَرَمِ، وَالزَّوْجَةِ الْعَاقِرِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَكَانَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: إِنْ قُلْتُمْ إِنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَعْلَمُ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَرْقِ العادات إلا عند ما شَاهَدَ تِلْكَ الْكَرَامَاتِ عِنْدَ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ كَانَ فِي هَذَا نِسْبَةَ الشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى ذلك لمن تَكُنْ مُشَاهَدَةُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ سَبَبًا لِزِيَادَةِ عِلْمِهِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَكُنْ لِمُشَاهَدَةِ تِلْكَ الْكَرَامَاتِ أَثَرٌ فِي ذَلِكَ، فَلَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ هُنَالِكَ أَثَرٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ عَالِمًا بِالْجَوَازِ، فَأَمَّا أَنَّهُ هَلْ يَقَعُ أَمْ لَا فَلَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ، فَلَمَّا شَاهَدَ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ كَرَامَةٌ لِوَلِيٍّ، فَبِأَنْ يَجُوزَ وُقُوعُ مُعْجِزَةٍ لِنَبِيٍّ كَانَ أَوْلَى، فَلَا جَرَمَ قَوِيَ طَمَعُهُ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ تِلْكَ الْكَرَامَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّ دُعَاءَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْإِذْنِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا تَكُونَ الْإِجَابَةُ مَصْلَحَةً، فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ دَعْوَتُهُ مَرْدُودَةً، وَذَلِكَ نُقْصَانٌ فِي مَنْصِبِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، هَكَذَا قَالَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ، وَعِنْدِي فِيهِ بَحْثٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَذِنَ فِي الدُّعَاءِ مُطْلَقًا، وَبَيَّنَ أَنَّهُ تَارَةً يُجِيبُ وَأُخْرَى لَا يُجِيبُ، فَلِلرَّسُولِ أَنْ يَدْعُوَ كُلَّمَا شَاءَ وَأَرَادَ مِمَّا لَا يَكُونُ مَعْصِيَةً، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى تَارَةً يُجِيبُ وَأُخْرَى لَا يُجِيبُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ نُقْصَانًا بِمَنْصِبِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّهُمْ عَلَى بَابِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى سَائِلُونَ فَإِنْ أَجَابَهُمْ فَبِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَإِنْ لَمْ يُجِبْهُمْ فَمِنَ الْمَخْلُوقِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ مَنْصِبٌ عَلَى بَابِ الْخَالِقِ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 39 إلى 40]

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمَّا الْكَلَامُ فِي لَفْظَةِ (لَدُنْ) فَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهِ هَاهُنَا أَنَّ حُصُولَ الْوَلَدِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَهُ أَسْبَابٌ مَخْصُوصَةٌ فَلَمَّا طَلَبَ الْوَلَدَ مَعَ فُقْدَانِ تِلْكَ الْأَسْبَابِ كَانَ الْمَعْنَى: أُرِيدُ مِنْكَ إِلَهِي أَنْ تَعْزِلَ الْأَسْبَابَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ وَأَنْ تُحْدِثَ هَذَا الْوَلَدَ بِمَحْضِ قُدْرَتِكَ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأسباب. المسألة الثانية: لذرية النَّسْلُ، وَهُوَ لَفْظٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ، وَالْجَمْعِ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هَاهُنَا: وَلَدٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مَرْيَمَ: 5] قَالَ الْفَرَّاءُ: وَأَنَّثَ طَيِّبَةً لِتَأْنِيثِ الذُّرِّيَّةِ فِي الظَّاهِرِ، فَالتَّأْنِيثُ وَالتَّذْكِيرُ تَارَةً يَجِيءُ عَلَى اللَّفْظِ، وَتَارَةً عَلَى الْمَعْنَى، وَهَذَا إِنَّمَا نَقُولُهُ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، أَمَّا فِي أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ فَلَا، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ جَاءَتْ طَلْحَةُ، لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَعْلَامِ لَا تُفِيدُ إِلَّا ذَلِكَ الشَّخْصَ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الشَّخْصُ مُذَكَّرًا لَمْ يَجُزْ فِيهَا إِلَّا التَّذْكِيرُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَسْمَعَ صَوْتَ الدُّعَاءِ فَذَلِكَ مَعْلُومٌ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يُجِيبَ دُعَاءَهُ وَلَا يُخَيِّبَ رَجَاءَهُ، وَهُوَ كَقَوْلِ الْمُصَلِّينَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، يُرِيدُونَ قَبِلَ حَمْدَ مَنْ حَمِدَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا مُتَأَكِّدٌ بِمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم: 4] [سورة آل عمران (3) : الآيات 39 الى 40] فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) [في قوله تعالى فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ] وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: فَنَادَاهُ الْمَلَائِكَةُ، عَلَى التَّذْكِيرِ وَالْإِمَالَةِ، وَالْبَاقُونَ عَلَى التَّأْنِيثِ عَلَى اللَّفْظِ، وَقِيلَ: مَنْ ذَكَّرَ فَلِأَنَّ الْفِعْلَ قَبْلَ الِاسْمِ، وَمَنْ أَنَّثَ فَلِأَنَّ الْفِعْلَ لِلْمَلَائِكَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ الْمِحْرَابَ بِالْإِمَالَةِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّفْخِيمِ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَنَادَاهُ جِبْرِيلُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّدَاءَ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا فِي التَّشْرِيفِ أَعْظَمُ، فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ مُنْفَصِلٌ أَنَّ الْمُنَادِيَ كَانَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَطْ صِرْنَا إِلَيْهِ. وَحَمَلْنَا هَذَا اللَّفْظَ عَلَى التَّأْوِيلِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: فُلَانٌ يَأْكُلُ الْأَطْعِمَةَ الطَّيِّبَةَ، وَيَلْبَسُ الثِّيَابَ النَّفِيسَةَ، أَيْ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَيَلْبَسُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، مَعَ أَنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ جَمِيعَ الْأَطْعِمَةِ، وَلَمْ يَلْبَسْ جَمِيعَ الْأَثْوَابِ، فَكَذَا هَاهُنَا، وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آلِ عِمْرَانَ: 173] وَهُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ/ إِنَّ النَّاسَ: يَعْنِي أَبَا سُفْيَانَ، قَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ: إِذَا كَانَ الْقَائِلُ رَئِيسًا جَازَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِالْجَمْعِ لِاجْتِمَاعِ أَصْحَابِهِ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ جِبْرِيلُ رَئِيسَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَلَّمَا يُبْعَثُ إِلَّا وَمَعَهُ جَمْعٌ صَحَّ ذَلِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ مَشْرُوعَةً فِي دِينِهِمْ، وَالْمِحْرَابُ قَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَاهُ.

أَمَّا قَوْلُهُ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمَّا الْبِشَارَةُ فَقَدْ فَسَّرْنَاهَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْبَقَرَةِ: 25] وَفِي قَوْلِهِ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَدْ عَرَّفَ زَكَرِيَّا أَنَّهُ سَيَكُونُ فِي الْأَنْبِيَاءِ رَجُلٌ اسْمُهُ يَحْيَى وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ عَالِيَةٌ، فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ النَّبِيَّ الْمُسَمَّى بِيَحْيَى هُوَ وَلَدُكَ كَانَ ذَلِكَ بِشَارَةً لَهُ بِيَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِوَلَدٍ اسْمُهُ يَحْيَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ (إِنَّ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، أَمَّا الْكَسْرُ فَعَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ، أَوْ لِأَنَّ النِّدَاءَ نَوْعٌ مِنَ الْقَوْلِ، وَأَمَّا الْفَتْحُ فَتَقْدِيرُهُ: فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِأَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَبْشُرُكَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْبَاءِ وَضَمِّ الشِّينِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يُبَشِّرُكَ وَقُرِئَ أَيْضًا يُبْشِرُكَ قَالَ أَبُو زَيْدٍ يُقَالُ: بَشَرَ يَبْشُرُ بِشْرًا، وَبَشَّرَ يُبَشِّرُ تَبْشِيرًا، وَأَبْشَرَ يُبْشِرُ ثَلَاثُ لُغَاتٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَحْيَى بِالْإِمَالَةِ لِأَجْلِ الْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّفْخِيمِ، وَأَمَّا أَنَّهُ لِمَ سُمِّيَ يَحْيَى فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ صِفَاتِ يَحْيَى ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ: الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ قَوْلُهُ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ، وَيَحْيَى مَعْرِفَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ: أَنَّهَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِمْ: أَنْشَدَ فُلَانٌ كَلِمَةً، وَالْمُرَادُ بِهِ الْقَصِيدَةُ الطَّوِيلَةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ هُوَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ السُّدِّيُّ: لَقِيَتْ أُمُّ عِيسَى أُمَّ يَحْيَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَهَذِهِ حَامِلٌ بِيَحْيَى وَتِلْكَ بِعِيسَى، فَقَالَتْ: يَا مَرْيَمُ أَشَعَرْتِ أَنِّي حُبْلَى؟ فَقَالَتْ مَرْيَمُ: وَأَنَا أَيْضًا حُبْلَى، قَالَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ يَحْيَى كَانَ أَكْبَرَ سِنًّا مِنْ عِيسَى بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَ يَحْيَى أَوَّلَ مَنْ آمَنَ وَصَدَّقَ بِأَنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحُهُ، ثُمَّ قُتِلَ يَحْيَى قَبْلَ رَفْعِ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ سُمِّيَ عِيسَى كَلِمَةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ [النِّسَاءِ: 171] قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خُلِقَ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ كُنْ/ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ الْأَبِ، فَلَمَّا كَانَ تَكْوِينُهُ بِمَحْضِ قَوْلِ اللَّهِ كُنْ وَبِمَحْضِ تَكْوِينِهِ وَتَخْلِيقِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ الْأَبِ وَالْبَذْرِ، لَا جَرَمَ سُمِّيَ: كَلِمَةً، كَمَا يُسَمَّى الْمَخْلُوقُ خَلْقًا، وَالْمَقْدُورُ قُدْرَةً، وَالْمَرْجُوُّ رَجَاءً، وَالْمُشْتَهَى شَهْوَةً، وَهَذَا بَابٌ مَشْهُورٌ فِي اللُّغَةِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي الطُّفُولِيَّةِ، وَآتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ فِي زَمَانِ الطُّفُولِيَّةِ، فَكَانَ فِي كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا بَالِغًا مَبْلَغًا عَظِيمًا، فَسُمِّيَ كَلِمَةً بِهَذَا التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِثْلُ مَا يُقَالُ: فُلَانٌ جُودٌ وَإِقْبَالٌ إِذَا كَانَ كَامِلًا فِيهِمَا وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْكَلِمَةَ كَمَا أَنَّهَا تُفِيدُ الْمَعَانِيَ وَالْحَقَائِقَ، كَذَلِكَ عِيسَى كَانَ يُرْشِدُ إِلَى الْحَقَائِقِ وَالْأَسْرَارِ الْإِلَهِيَّةِ، فَسُمِّيَ: كَلِمَةً، بِهَذَا التَّأْوِيلِ، وَهُوَ مِثْلُ تَسْمِيَتِهِ رُوحًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَا بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ كَمَا يَحْيَا الْإِنْسَانُ بِالرُّوحِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْقُرْآنَ رُوحًا فَقَالَ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا

إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشُّورَى: 52] وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ وَرَدَتِ الْبِشَارَةُ بِهِ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ، فَلَمَّا جَاءَ قِيلَ: هَذَا هُوَ تِلْكَ الْكَلِمَةُ، فَسُمِّيَ كَلِمَةً بِهَذَا التَّأْوِيلِ قَالُوا: وَوَجْهُ الْمَجَازِ فِيهِ أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ حُدُوثِ أَمْرٍ فَإِذَا حَدَثَ ذَلِكَ الْأَمْرُ قَالَ: قَدْ جَاءَ قَوْلِي وَجَاءَ كَلَامِي، أَيْ مَا كُنْتُ أَقُولُ وَأَتَكَلَّمُ بِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ [غَافِرٍ: 6] وَقَالَ: وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ [الزُّمَرِ: 71] الْخَامِسُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُسَمَّى بِفَضْلِ اللَّهِ وَلُطْفِ اللَّهِ، فَكَذَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ اسْمُهُ الْعَلَمُ: كَلِمَةَ اللَّهِ، وَرُوحَ اللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ هِيَ كَلَامُهُ، وَكَلَامُهُ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَصْوَاتٌ يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي جِسْمٍ مَخْصُوصٍ دَالَّةٌ بِالْوَضْعِ عَلَى مَعَانٍ مَخْصُوصَةٍ، وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلٌ بِأَنَّ الصِّفَةَ الْقَدِيمَةَ أَوِ الْأَصْوَاتِ الَّتِي هِيَ أَعْرَاضٌ غَيْرُ بَاقِيَةٍ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُقَالَ: أَنَّهَا هِيَ ذَاتُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ لَمْ يَبْقَ إِلَّا التَّأْوِيلُ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: لِيَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلُهُ وَسَيِّداً وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السَّيِّدُ الْحَلِيمُ، وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: إِنَّهُ كَانَ سَيِّدًا لِلْمُؤْمِنِينَ، رَئِيسًا لَهُمْ فِي الدِّينِ، أَعْنِي فِي الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ وَالْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْكَرِيمُ عَلَى اللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: الْفَقِيهُ الْعَالِمُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ الَّذِي لَا يَغْلِبُهُ الْغَضَبُ، قَالَ الْقَاضِي: السَّيِّدُ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ سَيِّدًا فِي الدِّينِ كَانَ مَرْجُوعًا إِلَيْهِ فِي الدِّينِ وَقُدْوَةً فِي الدِّينِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ وَالْكَرَمِ وَالْعِفَّةِ وَالزُّهْدِ وَالْوَرَعِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ وَحَصُوراً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ الْحَصُورِ وَالْحَصْرُ فِي اللُّغَةِ الْحَبْسُ، يُقَالُ حَصَرَهُ يَحْصُرُهُ حَصْرًا وَحُصِرَ الرَّجُلُ: أَيِ اعْتُقِلَ بَطْنُهُ، وَالْحَصُورُ الَّذِي يَكْتُمُ السِّرَّ وَيَحْبِسُهُ، وَالْحَصُورُ الضَّيِّقُ الْبَخِيلُ، وَأَمَّا الْمُفَسِّرُونَ: فَلَهُمْ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ عَاجِزًا عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ كَانَ ذَلِكَ لِصِغَرِ الْآلَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ الْإِنْزَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ، / فَعَلَى هَذَا الْحَصُورُ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَأَنَّهُ قَالَ مَحْصُورٌ عَنْهُنَّ، أَيْ مَحْبُوسٌ، وَمِثْلُهُ رَكُوبٌ بِمَعْنَى مَرْكُوبٍ وَحَلُوبٌ بِمَعْنَى مَحْلُوبٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدَنَا فَاسِدٌ لِأَنَّ هَذَا مِنْ صِفَاتِ النُّقْصَانِ وَذِكْرُ صِفَةِ النُّقْصَانِ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ لَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ ثَوَابًا وَلَا تَعْظِيمًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ لَا لِلْعَجْزِ بَلْ لِلْعِفَّةِ وَالزُّهْدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَصُورَ هُوَ الَّذِي يَكْثُرُ مِنْهُ حَصْرُ النَّفْسِ وَمَنْعُهَا كَالْأَكُولِ الَّذِي يَكْثُرُ مِنْهُ الْأَكْلُ وَكَذَا الشَّرُوبُ، وَالظَّلُومُ، وَالْغَشُومُ، وَالْمَنْعُ إِنَّمَا يَحْصُلُ أَنْ لَوْ كَانَ الْمُقْتَضِي قَائِمًا، فَلَوْلَا أَنَّ الْقُدْرَةَ وَالدَّاعِيَةَ كَانَتَا مَوْجُودَتَيْنِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ حَاصِرًا لِنَفْسِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ حَصُورًا، لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى تَكْثِيرِ الْحَصْرِ وَالدَّفْعِ إِنَّمَا تَحْصُلُ عِنْدَ قُوَّةِ الرَّغْبَةِ وَالدَّاعِيَةِ وَالْقُدْرَةِ، وَعَلَى هَذَا الْحَصُورُ بِمَعْنَى الْحَاصِرِ فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ تَرْكَ النِّكَاحِ أَفْضَلُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَهُ بِتَرْكِ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ النِّكَاحِ أَفْضَلُ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّرْكَ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ أَفْضَلُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَامِ: 90] وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الثَّابِتِ بَقَاؤُهُ عَلَى مَا كَانَ وَالنَّسْخُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ.

الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ وَنَبِيًّا وَاعْلَمْ أَنَّ السِّيَادَةَ إِشَارَةٌ إِلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: قُدْرَتُهُ عَلَى ضَبْطِ مَصَالِحِ الْخَلْقِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى تَعْلِيمِ الدِّينِ وَالثَّانِي: ضَبْطُ مَصَالِحِهِمْ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى التَّأْدِيبِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَمَّا الْحَصُورُ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الزُّهْدِ التَّامِّ فَلَمَّا اجْتَمَعَا حَصَلَتِ النُّبُوَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَهُمَا إِلَّا النُّبُوَّةُ. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ مِنْ أَوْلَادِ الصَّالِحِينَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَيْرٌ كَمَا يُقَالُ فِي الرَّجُلِ الْخَيِّرِ (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) وَالثَّالِثُ: أَنَّ صَلَاحَهُ كَانَ أَتَمَّ مِنْ صَلَاحِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ عَصَى، أَوْ هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ غَيْرَ يَحْيَى فَإِنَّهُ لَمْ يَعْصِ وَلَمْ يَهِمَّ» . فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ مَنْصِبُ النُّبُوَّةِ أَعْلَى مِنْ مَنْصِبِ الصَّلَاحِ فَلِمَا وَصَفَهُ بِالنُّبُوَّةِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي وَصْفِهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِالصَّلَاحِ؟ قُلْنَا: أَلَيْسَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ حُصُولِ النُّبُوَّةِ قَالَ: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النَّمْلِ: 19] وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ: أَنَّ لِلْأَنْبِيَاءِ قَدْرًا مِنَ الصَّلَاحِ لَوِ انْتَقَصَ لَانْتَفَتِ النُّبُوَّةُ، فَذَلِكَ الْقَدْرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ يَجْرِي مَجْرَى حِفْظِ الْوَاجِبَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا، ثُمَّ بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمْ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ تَتَفَاوَتُ دَرَجَاتُهُمْ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ نَصِيبًا مِنْهُ كَانَ أَعْلَى قَدْرًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ رَبِّ خِطَابٌ مَعَ اللَّهِ أَوْ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا مَعَ اللَّهِ، لِأَنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ نَادَوْهُ هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَهَذَا الْكَلَامُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا مَعَ ذَلِكَ الْمُنَادِي لَا مَعَ غَيْرِهِ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا مَعَ الْمَلَكِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقُولَ لِلْمَلَكِ: يَا رَبِّ. وَالْجَوَابُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا نَادَوْهُ بِذَلِكَ وَبَشَّرُوهُ بِهِ تَعَجَّبَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَجَعَ فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ التَّعَجُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْمَلَائِكَةِ وَالرَّبُّ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُرَبِّي، وَيَجُوزُ وَصْفُ الْمَخْلُوقِ بِهِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: فُلَانٌ يُرَبِّينِي وَيُحْسِنُ إِلَيَّ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لَمَّا كَانَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي سَأَلَ الْوَلَدَ، ثُمَّ أَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ فَلِمَ تَعَجَّبَ مِنْهُ وَلِمَ اسْتَبْعَدَهُ؟ الْجَوَابُ: لَمْ يَكُنْ هَذَا الْكَلَامُ لِأَجْلِ أَنَّهُ كَانَ شَاكًّا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ خَلْقَ الْوَلَدِ مِنَ النُّطْفَةِ إِنَّمَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَا نُطْفَةَ إِلَّا مِنْ خَلْقٍ، وَلَا خَلْقَ إِلَّا مِنْ نُطْفَةٍ، لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَلَزِمَ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ فِي الْأَزَلِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى مَخْلُوقٍ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا مِنْ نُطْفَةٍ أَوْ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَا مِنْ إِنْسَانٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُحَالًا مُمْتَنِعًا لَمَا طَلَبَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ قَوْلَهُ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ لَيْسَ لِلِاسْتِبْعَادِ، بَلْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ وُجُوهًا الأول: أنه قَوْلَهُ أَنَّى مَعْنَاهُ: مِنْ أَيْنَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: كَيْفَ تُعْطِي وَلَدًا عَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَمْ عَلَى الْقِسْمِ الثَّانِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ حُدُوثَ الْوَلَدِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعِيدَ اللَّهُ شَبَابَهُ ثُمَّ يُعْطِيَهُ الْوَلَدَ مَعَ

شَيْخُوخَتِهِ، فَقَوْلُهُ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ مَعْنَاهُ: كَيْفَ تُعْطِي الْوَلَدَ عَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَمْ عَلَى الْقِسْمِ الثَّانِي؟ فَقِيلَ لَهُ كَذَلِكَ، أَيْ عَلَى هَذَا الْحَالِ وَاللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَهَذَا الْقَوْلُ ذَكَرَهُ الْحَسَنُ وَالْأَصَمُّ وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ كَانَ آيِسًا مِنَ الشَّيْءِ مُسْتَبْعِدًا لِحُصُولِهِ وَوُقُوعِهِ إِذَا اتَّفَقَ أَنْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ فَرُبَّمَا صَارَ كَالْمَدْهُوشِ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ فَيَقُولُ: كَيْفَ حَصَلَ هَذَا، وَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ هَذَا كَمَنْ يَرَى إِنْسَانًا وَهَبَهُ أَمْوَالًا عَظِيمَةً، يَقُولُ كَيْفَ وَهَبْتَ هَذِهِ الْأَمْوَالَ، وَمِنْ أَيْنَ سَمَحَتْ نَفْسُكَ بِهِبَتِهَا؟ فَكَذَا هَاهُنَا لَمَّا كَانَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ مُسْتَبْعِدًا لِذَلِكَ، ثُمَّ اتَّفَقَ إِجَابَةُ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِ، صَارَ مِنْ عِظَمِ فَرَحِهِ وَسُرُورِهِ قَالَ ذَلِكَ الْكَلَامَ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا بَشَّرُوهُ بِيَحْيَى لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يُرْزَقُ الْوَلَدَ مِنْ جِهَةِ أُنْثَى أَوْ مِنْ صُلْبِهِ، فَذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ الرَّابِعُ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ فِي غَايَةِ الِاشْتِيَاقِ إِلَى شَيْءٍ فَطَلَبَهُ مِنَ السَّيِّدِ، ثُمَّ إِنَّ/ السَّيِّدَ يَعِدُهُ بِأَنَّهُ سَيُعْطِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَالْتَذَّ السَّائِلُ بِسَمَاعِ ذَلِكَ الْكَلَامِ، فَرُبَّمَا أَعَادَ السُّؤَالَ لِيُعِيدَ ذَلِكَ الْجَوَابَ فَحِينَئِذٍ يَلْتَذُّ بِسَمَاعِ تِلْكَ الْإِجَابَةِ مَرَّةً أُخْرَى، فَالسَّبَبُ فِي إِعَادَةِ زَكَرِيَّا هَذَا الْكَلَامَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا الْبَابِ الْخَامِسُ: نَقَلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ دُعَاؤُهُ قَبْلَ الْبِشَارَةِ بِسِتِّينَ سَنَةً حَتَّى كَانَ قَدْ نُسِّيَ ذَلِكَ السُّؤَالَ وَقْتَ الْبِشَارَةِ فَلَمَّا سَمِعَ الْبِشَارَةَ زَمَانَ الشَّيْخُوخَةِ لَا جَرَمَ اسْتَبْعَدَ ذَلِكَ عَلَى مَجْرَى الْعَادَةِ لَا شَكًّا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ مَا قَالَ السَّادِسُ: نُقِلَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ جَاءَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ سَمَاعِ الْبِشَارَةِ فَقَالَ إِنَّ هَذَا الصَّوْتَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ سَخِرَ مِنْكَ فَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ عَلَى زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَ مَقْصُودُهُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يُرِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى آيَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ مِنَ الْوَحْيِ وَالْمَلَائِكَةِ لَا مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ قَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَبِهَ كَلَامُ الْمَلَائِكَةِ بِكَلَامِ الشَّيْطَانِ عِنْدَ الْوَحْيِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذْ لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَارْتَفَعَ الْوُثُوقُ عَنْ كُلِّ الشَّرَائِعِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا قَامَتِ الْمُعْجِزَاتُ عَلَى صِدْقِ الْوَحْيِ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ لَا جَرَمَ حَصَلَ الْوُثُوقُ هُنَاكَ بِأَنَّ الْوَحْيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ وَلَا مَدْخَلَ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ، أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَبِالْوَلَدِ فَرُبَّمَا لَمْ يَتَأَكَّدْ ذَلِكَ الْمُعْجِزُ فَلَا جَرَمَ بَقِيَ احْتِمَالُ كَوْنِ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ فَلَا جَرَمَ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ يُزِيلَ عَنْ خَاطِرِهِ ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكِبَرُ مَصْدَرُ كَبِرَ الرَّجُلُ يَكْبَرُ إِذَا أَسَنَّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ يَوْمَ بُشِّرَ بِالْوَلَدِ ابْنَ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ بِنْتَ تِسْعِينَ وَثَمَانٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: كُلُّ شَيْءٍ صَادَفْتَهُ وَبَلَغْتَهُ فَقَدْ صَادَفَكَ وَبَلَغَكَ، وَكُلَّمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ: بَلَغْتُ الْكِبَرَ جَازَ أَنْ يَقُولَ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْعَرَبِ: لَقِيتُ الْحَائِطَ، وَتَلَقَّانِي الْحَائِطُ. فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ بَلَغَنِيَ الْبَلَدُ فِي مَوْضِعِ بَلَغْتُ الْبَلَدَ، قُلْنَا: هَذَا لَا يَجُوزُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّ الْكِبَرَ كَالشَّيْءِ الطَّالِبِ لِلْإِنْسَانِ فَهُوَ يَأْتِيهِ بِحُدُوثِهِ فِيهِ، وَالْإِنْسَانُ أَيْضًا يَأْتِيهِ بِمُرُورِ السِّنِينَ عَلَيْهِ، أَمَّا الْبَلَدُ فَلَيْسَ كَالطَّالِبِ لِلْإِنْسَانِ الذَّاهِبِ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ. أَمَّا قَوْلُهُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ. اعْلَمْ أَنَّ الْعَاقِرَ مِنَ النِّسَاءِ الَّتِي لَا تَلِدُ، يُقَالُ: عَقَرَ يَعْقِرُ عَقْرًا، وَيُقَالُ أَيْضًا عَقَرَ الرَّجُلُ، وَعَقُرَ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثَةِ فِي الْقَافِ إِذَا لَمْ يُحْمَلْ لَهُ، وَرَمْلٌ عَاقِرٌ: لَا يُنْبِتُ شَيْئًا، وَاعْلَمْ أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ كِبَرَ نَفْسِهِ مَعَ

[سورة آل عمران (3) : آية 41]

كَوْنِ زَوْجَتِهِ عَاقِرًا لِتَأْكِيدِ حَالِ الِاسْتِبْعَادِ. أَمَّا قَوْلُهُ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ فَفِيهِ بَحْثَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ قالَ عَائِدٌ إِلَى مَذْكُورٍ/ سَابِقٍ، وَهُوَ الرَّبُّ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى، وَأَنْ يَكُونَ هُوَ جِبْرِيلَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» كَذلِكَ اللَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ أَيْ عَلَى نَحْوِ هَذِهِ الصِّفَةِ اللَّهُ، وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ بَيَانٌ لَهُ، أَيْ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ مِنَ الْأَفَاعِيلِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ. [سورة آل عمران (3) : آية 41] قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) [في قَوْلُهُ تَعَالَى قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ] وَاعْلَمْ أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفَرْطِ سُرُورِهِ بِمَا بُشِّرِ بِهِ وَثِقَتِهِ بِكَرَمِ رَبِّهِ، وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ أَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ عَلَامَةً تَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْعُلُوقِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعُلُوقَ لَا يَظْهَرُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَقَالَ: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَفِيهِ مسائل: المسألة الأولى: ذكره هَاهُنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَذَكَرَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ ثلاثة ليالي فَدَلَّ مَجْمُوعُ الْآيَتَيْنِ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ مَعَ لَيَالِيهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وجوهاًأحدها: أَنَّهُ تَعَالَى حَبَسَ لِسَانَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُكَلِّمَ النَّاسَ إِلَّا رَمْزًا، وَفِيهِ فَائِدَتَانِ إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ آيَةً عَلَى عُلُوقِ الْوَلَدِ وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَبَسَ لِسَانَهُ عَنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَأَقْدَرَهُ عَلَى الذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ، لِيَكُونَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ مُشْتَغِلًا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِالطَّاعَةِ وَالشُّكْرِ عَلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ الْجَسِيمَةِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ عَلَامَةً عَلَى الْمَقْصُودِ، وَأَدَاءً لِشُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ، فَيَكُونُ جَامِعًا لِكُلِّ الْمَقَاصِدِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْمُعْجِزِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ قُدْرَتَهُ عَلَى التَّكَلُّمِ بِالتَّسْبِيحِ وَالذِّكْرِ، وَعَجْزَهُ عَنِ التَّكَلُّمِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُعْجِزَاتِ وَثَانِيهَا: أَنَّ حُصُولَ ذَلِكَ الْمُعْجِزِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الْمَقْدُورَةِ مَعَ سَلَامَةِ الْبِنْيَةِ وَاعْتِدَالِ الْمِزَاجِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُعْجِزَاتِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ إِخْبَارَهُ بِأَنَّهُ مَتَى حَصَلَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ فَقَدْ حَصَلَ الْوَلَدُ، ثُمَّ إِنَّ الْأَمْرَ خَرَجَ عَلَى وَفْقِ هَذَا الْخَبَرِ يَكُونُ أَيْضًا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ. الْقَوْلُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى آيَةً تَدُلُّهُ عَلَى حُصُولِ الْعُلُوقِ، قَالَ آيَتُكَ أَنْ لَا تُكَلِّمَ، أَيْ تَصِيرُ مَأْمُورًا بِأَنْ/ لَا تَتَكَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا مَعَ الْخَلْقِ، أَيْ تَكُونُ مُشْتَغِلًا بِالذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ مُعْرِضًا عن الخلق والدنيا شاكراً لله تَعَالَى عَلَى إِعْطَاءِ مِثْلِ هَذِهِ الْمَوْهِبَةِ، فَإِنْ كَانَتْ لَكَ حَاجَةٌ دُلَّ عَلَيْهَا بِالرَّمْزِ فَإِذَا أُمِرْتَ بِهَذِهِ الطَّاعَةِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي حَسَنٌ مَعْقُولٌ، وَأَبُو مُسْلِمٍ حَسَنُ الْكَلَامِ فِي التَّفْسِيرِ كَثِيرُ الْغَوْصِ عَلَى الدَّقَائِقِ، وَاللَّطَائِفِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عُوقِبَ بِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ سَأَلَ الْآيَةَ بَعْدَ بِشَارَةِ الْمَلَائِكَةِ فَأُخِذَ لِسَانُهُ وَصُيِّرَ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الكلام.

أَمَّا قَوْلُهُ إِلَّا رَمْزاً فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَصْلُ الرَّمْزِ الْحَرَكَةُ، يُقَالُ: ارْتَمَزَ إِذَا تَحَرَّكَ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْبَحْرِ: الرَّامُوزُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالرَّمْزِ هَاهُنَا عَلَى أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِشَارَةِ كَيْفَ كَانَتْ بِالْيَدِ، أَوِ الرَّأْسِ، أَوِ الْحَاجِبِ، أَوِ الْعَيْنِ، أَوِ الشَّفَةِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَحْرِيكِ الشَّفَتَيْنِ بِاللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ وَصَوْتٍ قَالُوا: وَحَمْلُ الرَّمْزِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِالشَّفَتَيْنِ يُمْكِنُ وُقُوعُهَا بِحَيْثُ تَكُونُ حَرَكَاتُ الشَّفَتَيْنِ وَقْتَ الرَّمْزِ مُطَابِقَةً لِحَرَكَاتِهِمَا عِنْدَ النُّطْقِ فَيَكُونُ الِاسْتِدْلَالُ بِتِلْكَ الْحَرَكَاتِ عَلَى الْمَعَانِي الذِّهْنِيَّةِ أَسْهَلَ وَالثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْكَلَامِ الْخَفِيِّ، وَأَمَّا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْكَلَامِ فَكَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: الرَّمْزُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ فَكَيْفَ اسْتُثْنِيَ مِنْهُ؟. قُلْنَا: لَمَّا أَدَّى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ سُمِّيَ كَلَامًا، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا فَأَمَّا إِنْ حَمَلْنَا الرَّمْزَ عَلَى الْكَلَامِ الْخَفِيِّ فَإِنَّ الْإِشْكَالَ زَائِلٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ إِلَّا رَمْزاً بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ رَمُوزٍ، كَرَسُولٍ وَرُسُلٍ، وَقُرِئَ رَمْزاً بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمِيمِ جَمْعُ رَامِزٍ، كَخَادِمٍ وَخَدَمٍ، وَهُوَ حَالٌ مِنْهُ وَمِنَ النَّاسِ، وَمَعْنَى إِلَّا رَمْزاً إِلَّا مُتَرَامِزِينَ، كَمَا يَتَكَلَّمُ النَّاسُ مَعَ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ وَيُكَلِّمُهُمْ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى حَبَسَ لِسَانَهُ عَنْ أُمُورِ الدُّنْيَا إِلَّا رَمْزاً فَأَمَّا فِي الذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ، فَقَدْ كَانَ لِسَانُهُ جَيِّدًا، وَكَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالثَّانِي: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَغْرِقِينَ فِي بِحَارِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَادَتُهُمْ فِي الْأَوَّلِ أَنْ يُوَاظِبُوا عَلَى الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ مُدَّةً فَإِذَا امْتَلَأَ الْقَلْبُ مِنْ نُورِ ذِكْرِ اللَّهِ سَكَتَ اللِّسَانُ وَبَقِيَ الذِّكْرُ فِي الْقَلْبِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: مَنْ عَرَفَ اللَّهَ كَلَّ لِسَانُهُ، فَكَأَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ أُمِرَ بِالسُّكُوتِ وَاسْتِحْضَارِ مَعَانِي الذِّكْرِ والمعرفة واستدامتها. وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: (الْعَشِيِّ) مِنْ حِينِ نُزُولِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَا الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ ... وَلَا الْفَيْءُ مِنْ بَرْدِ الْعَشِيِّ تَذُوقُ وَالْفَيْءُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ حِينِ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ يَتَنَاهَى غُرُوبُهَا، وَأَمَّا الْإِبْكَارُ فَهُوَ مَصْدَرُ بَكَّرَ يُبَكِّرُ إِذَا خَرَجَ لِلْأَمْرِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَمِثْلُهُ بَكَرَ وَابْتَكَرَ وَبَكَّرَ، وَمِنْهُ الْبَاكُورَةُ لِأَوَّلِ الثَّمَرَةِ، هَذَا هُوَ أَصْلُ اللُّغَةِ، ثُمَّ سُمِّيَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى الضُّحَى: إِبْكَارًا، كَمَا سُمِّيَ إِصْبَاحًا، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ (وَالْأَبْكَارِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، جَمْعُ بَكَرٍ كَسَحَرٍ وَأَسْحَارٍ، وَيُقَالُ: أَتَيْتُهُ بَكَرًا بِفَتْحَتَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ وَسَبِّحْ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ مِنْهُ: وَصَلِّ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُسَمَّى تَسْبِيحًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَأَيْضًا الصَّلَاةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى التَّسْبِيحِ، فَجَازَ تَسْمِيَةُ الصَّلَاةِ بِالتَّسْبِيحِ، وَهَاهُنَا الدَّلِيلُ دَلَّ عَلَى وُقُوعِ هَذَا الْمُحْتَمَلِ وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ لَمْ يَبْقَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَهُوَ قَوْلُهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فَرْقٌ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ لِأَنَّ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ غَيْرُ جَائِزٍ وَالثَّانِي:

[سورة آل عمران (3) : الآيات 42 إلى 43]

وهو أنه شديد الموافقة لقوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ قَوْلَهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ مَحْمُولٌ عَلَى الذكر باللسان. [سورة آل عمران (3) : الآيات 42 الى 43] وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) الْقِصَّةُ الثَّالِثَةُ وَصْفُهُ طَهَارَةَ مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليها [في قوله تعالى وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: عَامِلُ الْإِعْرَابِ هَاهُنَا فِي إِذْ هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ [آل عمران: 35] من قوله السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ وَاذْكُرْ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا الْمُرَادُ بِالْمَلَائِكَةِ هَاهُنَا جِبْرِيلُ وَحْدَهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [النَّحْلِ: 2] يَعْنِي جِبْرِيلَ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ عُدُولًا عَنِ الظَّاهِرِ إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ/ سُورَةَ مَرْيَمَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَعَ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ قَوْلُهُ فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا [مَرْيَمَ: 17] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ مَا كَانَتْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [يُوسُفَ: 109] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ إِرْسَالُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَيْهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَرَامَةً لَهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَنْ يُجَوِّزُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، أَوْ إِرْهَاصًا لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الْكَعْبِيِّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، أَوْ مُعْجِزَةً لِزَكَرِيَّاءُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ النَّفْثِ فِي الرُّوعِ وَالْإِلْهَامِ وَالْإِلْقَاءِ فِي الْقَلْبِ، كَمَا كَانَ فِي حَقِّ أُمِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى [الْقَصَصِ: 7] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوَّلًا: هُوَ الِاصْطِفَاءُ، وَثَانِيًا: التَّطْهِيرُ، وَثَالِثًا: الِاصْطِفَاءُ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاصْطِفَاءُ أَوَّلًا مِنْ الِاصْطِفَاءِ الثَّانِي، لَمَّا أَنَّ التَّصْرِيحَ بِالتَّكْرِيرِ غَيْرُ لَائِقٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِ الِاصْطِفَاءِ الْأَوَّلِ إِلَى مَا اتَّفَقَ لَهَا مِنَ الْأُمُورِ الْحَسَنَةِ فِي أَوَّلِ عُمُرِهَا، وَالِاصْطِفَاءُ الثَّانِي إِلَى مَا اتَّفَقَ لَهَا فِي آخِرِ عُمُرِهَا. النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنَ الِاصْطِفَاءِ: فَهُوَ أُمُورٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَبِلَ تَحْرِيرَهَا مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ أُنْثَى وَلَمْ يَحْصُلْ مِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى لِغَيْرِهَا مِنَ الْإِنَاثِ وَثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ أُمَّهَا لَمَّا وَضَعَتْهَا مَا غَذَّتْهَا طَرْفَةَ عَيْنٍ، بَلْ أَلْقَتْهَا إِلَى زَكَرِيَّا، وَكَانَ رِزْقُهَا يَأْتِيهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى فَرَّغَهَا لِعِبَادَتِهِ، وَخَصَّهَا فِي هَذَا الْمَعْنَى بِأَنْوَاعِ اللُّطْفِ وَالْهِدَايَةِ وَالْعِصْمَةِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ كَفَاهَا أَمْرَ مَعِيشَتِهَا، فَكَانَ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَسْمَعَهَا كَلَامَ الْمَلَائِكَةِ شِفَاهًا، وَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ لِأُنْثَى غَيْرِهَا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الِاصْطِفَاءِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا التَّطْهِيرُ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى طَهَّرَهَا عَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الْأَحْزَابِ: 33] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى طَهَّرَهَا عَنْ مَسِيسِ الرِّجَالِ وَثَالِثُهَا: طَهَّرَهَا عَنِ الْحَيْضِ، قَالُوا: كَانَتْ مَرْيَمُ لَا تَحِيضُ وَرَابِعُهَا: وَطَهَّرَكِ مِنَ الْأَفْعَالِ الذَّمِيمَةِ، وَالْعَادَاتِ الْقَبِيحَةِ وَخَامِسُهَا: وَطَهَّرَكِ عَنْ مَقَالَةِ الْيَهُودِ وَتُهْمَتِهِمْ وَكَذِبِهِمْ. وَأَمَّا الِاصْطِفَاءُ الثَّانِي: فَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى وَهَبَ لَهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَأَنْطَقَ عِيسَى حَالَ انْفِصَالِهِ مِنْهَا حَتَّى شَهِدَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى بَرَاءَتِهَا عَنِ التُّهْمَةِ، وَجَعَلَهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ أَرْبَعٌ: مَرْيَمُ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ، وَفَاطِمَةُ عَلَيْهِنَّ السَّلَامُ» فَقِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَ أفضل من النساء، وهذه الآي دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ أَفْضَلُ مِنَ الْكُلِّ، وَقَوْلُ مَنْ/ قَالَ الْمُرَادُ إِنَّهَا مُصْطَفَاةٌ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهَا، فَهَذَا تَرَكَ الظَّاهِرَ. ثم قال تعالى: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْقُنُوتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [الْبَقَرَةِ: 238] وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِمَزِيدِ الْمَوَاهِبِ وَالْعَطَايَا مِنَ اللَّهِ أَوْجَبَ عَلَيْهَا مَزِيدَ الطَّاعَاتِ، شُكْرًا لِتِلْكَ النِّعَمِ السَّنِيَّةِ، وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قُدِّمَ ذِكْرُ السُّجُودِ عَلَى ذِكْرِ الرُّكُوعِ؟. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَاوَ تُفِيدُ الِاشْتِرَاكَ وَلَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ الثَّانِي: أَنَّ غَايَةَ قُرْبِ الْعَبْدِ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ سَاجِدًا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ إِذَا سَجَدَ» فَلَمَّا كَانَ السُّجُودُ مُخْتَصًّا بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الرُّتْبَةِ وَالْفَضِيلَةِ لَا جَرَمَ قَدَّمَهُ عَلَى سَائِرِ الطَّاعَاتِ. ثُمَّ قَالَ: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُهَا بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى السُّجُودِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَإِنَّهَا تَأْتِي بِهَا فِي أَوْقَاتِهَا الْمُعَيَّنَةِ لَهَا وَالثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: اقْنُتِي أَمْرٌ بِالْعِبَادَةِ على العموم، ثم قال بعد ذلك اسْجُدِي وَارْكَعِي يَعْنِي اسْتَعْمِلِي السُّجُودَ فِي وَقْتِهِ اللَّائِقِ بِهِ، وَاسْتَعْمِلِي الرُّكُوعَ فِي وَقْتِهِ اللَّائِقِ بِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يُقَدَّمُ السُّجُودُ عَلَى الرُّكُوعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الرَّابِعُ: أَنَّ الصَّلَاةَ تُسَمَّى سُجُودًا كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ وَأَدْبارَ السُّجُودِ [ق: 40] وَفِي الْحَدِيثِ «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» وَأَيْضًا الْمَسْجِدُ سُمِّيَ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ مِنَ السُّجُودِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ، وَأَيْضًا أَشْرَفُ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ السُّجُودُ وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بَاسْمِ أَشْرَفِ أَجْزَائِهِ نَوْعٌ مَشْهُورٌ فِي المجاز. إذا ثبت هذا فنقول قوله يا مَرْيَمُ اقْنُتِي مَعْنَاهُ: يَا مَرْيَمُ قُومِي، وَقَوْلُهُ وَاسْجُدِي أَيْ صَلِّي فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا السُّجُودِ الصَّلَاةَ، ثُمَّ قَالَ: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لَهَا بِالصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ وَاسْجُدِي أَمْرًا بِالصَّلَاةِ حَالَ الِانْفِرَادِ، وَقَوْلُهُ وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ أَمْرًا بِالصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الرُّكُوعِ التَّوَاضُعَ وَيَكُونُ قَوْلُهُ وَاسْجُدِي أَمْرًا ظَاهِرًا بِالصَّلَاةِ، وَقَوْلُهُ وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ

[سورة آل عمران (3) : آية 44]

أَمْرًا بِالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ بِالْقَلْبِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ فِي الْجَوَابِ: لَعَلَّهُ كَانَ السُّجُودُ فِي ذَلِكَ الدِّينِ مُتَقَدِّمًا عَلَى الرُّكُوعِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَمَّا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ. وَالْجَوَابُ: قِيلَ مَعْنَاهُ: افْعَلِي كَفِعْلِهِمْ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ كَانَتْ مَأْمُورَةً بِأَنْ تُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَعَ الْمُجَاوِرِينَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَخْتَلِطُ بِهِمْ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعَاتِ؟ وَالْجَوَابُ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِالرِّجَالِ حَالَ الِاخْتِفَاءِ مِنَ الرِّجَالِ أَفْضَلُ مِنَ الِاقْتِدَاءِ بِالنِّسَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: لَمَّا ذَكَرَتِ الْمَلَائِكَةُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مَعَ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ شِفَاهًا، / قَامَتْ مَرْيَمُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى وَرِمَتْ قَدَمَاهَا وَسَالَ الدَّمُ وَالْقَيْحُ مِنْ قَدَمَيْهَا. [سورة آل عمران (3) : آية 44] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) [قَوْلُهُ تَعَالَى ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي مَضَى ذِكْرُهُ من حديث حنة وزكريا ويحيى وعيسى ابن مَرْيَمَ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ إِخْبَارِ الْغَيْبِ فَلَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَعْلَمَهُ إِلَّا بِالْوَحْيِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ نُفِيَتْ هَذِهِ الْمُشَاهَدَةُ، وَانْتِفَاؤُهَا مَعْلُومٌ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ، وَتُرِكَ نَفْيُ اسْتِمَاعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ حُفَّاظِهَا وَهُوَ مَوْهُومٌ؟. قُلْنَا: كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ عِلْمًا يَقِينِيًّا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ السَّمَاعِ وَالْقِرَاءَةِ، وَكَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْوَحْيِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُشَاهَدَةُ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ فِي غَايَةِ الِاسْتِبْعَادِ إِلَّا أَنَّهَا نُفِيَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِالْمُنْكِرِينَ لِلْوَحْيِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ لَا سَمَاعٌ وَلَا قِرَاءَةٌ، وَنَظِيرُهُ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ [الْقَصَصِ: 44] ، وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ [الْقَصَصِ: 46] وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ [يُوسُفَ: 102] وما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هُودٍ: 49] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِنْبَاءُ: الْإِخْبَارُ عَمَّا غَابَ عَنْكَ، وَأَمَّا الْإِيحَاءُ فَقَدْ وَرَدَ الْكِتَابُ بِهِ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، يَجْمَعُهَا تَعْرِيفُ الْمُوحَى إِلَيْهِ بِأَمْرٍ خَفِيٍّ مِنْ إِشَارَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يُعَدُّ الْإِلْهَامُ وَحْيًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النَّحْلِ: 68] وَقَالَ في الشياطين لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ [الأنعام: 121] وَقَالَ: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مَرْيَمَ: 11] فَلَمَّا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَلْقَى هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِحَيْثُ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ سَمَّاهُ وَحْيًا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تِلْكَ الْأَقْلَامِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِالْأَقْلَامِ الَّتِي كَانُوا يَكْتُبُونَ بِهَا التَّوْرَاةَ وَسَائِرَ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ الْقِرَاعُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ جَرَى قَلَمُهُ عَلَى عَكْسِ جَرْيِ الْمَاءِ فَالْحَقُّ مَعَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ صَارَ قَلَمُ زَكَرِيَّا كَذَلِكَ فَسَلَّمُوا الْأَمْرَ لَهُ وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَلْقَوْا عِصِيَّهُمْ فِي الْمَاءِ الْجَارِي جَرَتْ عَصَا زكريا على

[سورة آل عمران (3) : الآيات 45 إلى 46]

ضد جرية الماء فغلبهم، هذا قَوْلُ الرَّبِيعِ وَالثَّالِثُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: مَعْنَى يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ مِمَّا كَانَتِ الْأُمَمُ تَفْعَلُهُ مِنَ الْمُسَاهَمَةِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فَيَطْرَحُونَ مِنْهَا مَا يَكْتُبُونَ عَلَيْهَا أَسْمَاءَهُمْ فَمَنْ خَرَجَ لَهُ السَّهْمُ سُلِّمَ لَهُ الْأَمْرُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَساهَمَ/ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصَّافَّاتِ: 141] وَهُوَ شَبِيهٌ بِأَمْرِ الْقِدَاحِ الَّتِي تَتَقَاسَمُ بِهَا الْعَرَبُ لَحْمَ الْجَزُورِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ هَذِهِ السِّهَامُ أَقْلَامًا لِأَنَّهَا تُقَلَّمُ وَتُبْرَى، وَكُلُّ مَا قَطَعْتَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَقَدْ قَلَّمْتَهُ، وَلِهَذَا السَّبَبِ يُسَمَّى مَا يُكْتَبُ بِهِ قَلَمًا. قَالَ الْقَاضِي: وُقُوعُ لَفْظِ الْقَلَمِ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا نَظَرًا إِلَى أَصْلِ الِاشْتِقَاقِ، إِلَّا أَنَّ الْعُرْفَ أَوْجَبَ اخْتِصَاصَ الْقَلَمِ بِهَذَا الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ، فَوَجَبَ حَمْلُ لَفْظِ الْقَلَمِ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ فِي شَيْءٍ عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ بِهِ امْتِيَازُ بَعْضِهِمْ عَنِ الْبَعْضِ فِي اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ، وَإِمَّا لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ الْإِلْقَاءِ، إِلَّا أَنَّهُ رُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُلْقُونَهَا فِي الْمَاءِ بِشَرْطِ أَنَّ مَنْ جَرَى قَلَمُهُ عَلَى خِلَافِ جَرْيِ الْمَاءِ فَالْيَدُ لَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ حَصَلَ هَذَا الْمَعْنَى لِزَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَا جَرَمَ صَارَ هُوَ أَوْلَى بِكَفَالَتِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ رَغِبُوا فِي كَفَالَتِهَا حَتَّى أَدَّتْهُمْ تِلْكَ الرَّغْبَةُ إِلَى الْمُنَازَعَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ عِمْرَانَ أَبَاهَا كَانَ رَئِيسًا لَهُمْ وَمُقَدَّمًا عَلَيْهِمْ، فَلِأَجْلِ حَقِّ أَبِيهَا رَغِبُوا فِي كَفَالَتِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ أُمَّهَا حَرَّرَتْهَا لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِخِدْمَةِ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ حَرَصُوا عَلَى التَّكَفُّلِ بِهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ لِأَنَّ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ كَانَ بَيَانُ أَمْرِهَا وَأَمْرِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَاصِلًا فَتَقَرَّبُوا لِهَذَا السَّبَبِ حَتَّى اخْتَصَمُوا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ أُولَئِكَ الْمُخْتَصِمِينَ مَنْ كَانُوا؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانُوا هُمْ خَدَمَةَ الْبَيْتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْعُلَمَاءُ وَالْأَحْبَارُ وَكُتَّابُ الْوَحْيِ، وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا مِنَ الْخَوَاصِّ وَأَهْلِ الْفَضْلِ فِي الدِّينِ وَالرَّغْبَةِ فِي الطَّرِيقِ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ فَفِيهِ حَذْفٌ وَالتَّقْدِيرُ: يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ لِيَنْظُرُوا أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَإِنَّمَا حَسُنَ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا. أَمَّا قَوْلُهُ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ فَالْمَعْنَى وَمَا كُنْتَ هُنَاكَ إِذْ يَتَقَارَعُونَ عَلَى التَّكَفُّلِ بِهَا وَإِذْ يَخْتَصِمُونَ بِسَبَبِهَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا الِاخْتِصَامِ مَا كَانَ قَبْلَ الْإِقْرَاعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اخْتِصَامًا آخَرَ حَصَلَ بَعْدَ الْإِقْرَاعِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ شِدَّةُ رَغْبَتِهِمْ فِي التَّكَفُّلِ بِشَأْنِهَا، وَالْقِيَامِ بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِهَا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِدُعَاءِ أُمِّهَا حَيْثُ قَالَتْ فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آلِ عِمْرَانَ: 35] وَقَالَتْ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [آلِ عمران: 36] . [سورة آل عمران (3) : الآيات 45 الى 46] إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ حَالَ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، فِي أَوَّلِ أَمْرِهَا وَفِي آخِرِ أَمْرِهَا وَشَرَحَ كَيْفِيَّةَ وِلَادَتِهَا لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الْعَامِلِ فِي إِذْ قِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ. وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: يَخْتَصِمُونَ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى إِذْ الْأُولَى فِي قوله إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: إِنَّ مَا وَصَفْتُهُ مِنْ أُمُورِ زَكَرِيَّا، وَهِبَةِ اللَّهِ لَهُ يَحْيَى كَانَ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ، وَأَمَّا أَبُو عُبَيْدَةَ: فَإِنَّهُ يَجْرِي فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى مَذْهَبٍ لَهُ مَعْرُوفٍ، وَهُوَ أَنَّ (إِذْ) صِلَةٌ فِي الْكَلَامِ وَزِيَادَةٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فِيهِمَا بَعْضُ الضَّعْفِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَرْيَمَ حَالَ مَا كَانُوا يُلْقُونَ الْأَقْلَامَ وَحَالَ مَا كَانُوا يَخْتَصِمُونَ مَا بَلَغَتِ الْجِدَّ الَّذِي تُبَشَّرُ فِيهِ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَّا قَوْلَ الْحَسَنِ: فَإِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا كَانَتْ عَاقِلَةً فِي حَالِ الصِّغَرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ كَرَامَاتِهَا، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ جَازَ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَنْ يَرِدَ عَلَيْهَا الْبُشْرَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ مِنْ تَأَخُّرِ هَذِهِ الْبُشْرَى إِلَى حِينِ الْعَقْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَكَلَّفَ الْجَوَابَ، فَقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الِاخْتِصَامُ وَالْبُشْرَى وَقَعَا فِي زَمَانٍ وَاسِعٍ، كَمَا تَقُولُ لَقِيتُهُ فِي سَنَةِ كَذَا، وَهَذَا الْجَوَابُ بَعِيدٌ وَالْأَصْوَبُ هُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ، وَالرَّابِعُ، أَمَّا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ: فَقَدْ عَرَفْتَ ضَعْفَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يُفِيدُ الْجَمْعَ إِلَّا أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ ذَلِكَ الْمُنَادِي كَانَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الْبِشَارَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْبَقَرَةِ: 25] . وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِكَلِمَةٍ مِنْهُ فَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ الْكَلِمَةِ مِنْ وُجُوهٍ وَأَلْيَقُهَا بِهَذَا الْمَوْضِعِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ عُلُوقٍ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا بِوَاسِطَةِ الْكَلِمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ كُنْ إِلَّا أَنَّ مَا هُوَ السَّبَبُ الْمُتَعَارَفُ كَانَ مَفْقُودًا فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ الْأَبُ، فَلَا جَرَمَ كَانَ إِضَافَةُ حُدُوثِهِ إلى الكلمة أكل وَأَتَمَّ فَجُعِلَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ كَأَنَّهُ نَفْسُ الْكَلِمَةِ كَمَا أَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ وَالْإِقْبَالُ يُقَالُ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ إِنَّهُ نَفْسُ الْجُودِ، وَمَحْضُ الْكَرَمِ، وَصَرِيحُ الْإِقْبَالِ، فَكَذَا هَاهُنَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ السُّلْطَانَ الْعَادِلَ قَدْ يُوصَفُ بِأَنَّهُ ظِلُّ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَبِأَنَّهُ نُورُ اللَّهِ لِمَا/ أَنَّهُ سَبَبٌ لِظُهُورِ ظِلِّ الْعَدْلِ، وَنُورِ الْإِحْسَانِ، فَكَذَلِكَ كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَبَبًا لِظُهُورِ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِسَبَبِ كَثْرَةِ بَيَانَاتِهِ وَإِزَالَةِ الشُّبَهَاتِ وَالتَّحْرِيفَاتِ عَنْهُ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُسَمَّى بِكَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ حُدُوثَ الشَّخْصِ مِنْ غَيْرِ نُطْفَةِ الْأَبِ مُمْكِنٌ قُلْنَا: أَمَّا عَلَى أُصُولِ الْمُسْلِمِينَ فَالْأَمْرُ فِيهِ ظَاهِرٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ تَرْكِيبَ الْأَجْسَامِ وَتَأْلِيفَهَا عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ فِيهَا الْحَيَاةُ وَالْفَهْمُ، وَالنُّطْقُ أَمْرٌ مُمْكِنٌ، وَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى الْمُمْكِنَاتِ بِأَسْرِهَا، وَكَانَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَادِرًا عَلَى إِيجَادِ الشَّخْصِ، لَا مِنْ نُطْفَةِ الْأَبِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْإِمْكَانُ، ثُمَّ إِنَّ الْمُعْجِزَ قَامَ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ وُقُوعِ ذَلِكَ الْمُمْكِنِ، وَالصَّادِقُ إِذَا أَخْبَرَ عَنْ وُقُوعِ الْمُمْكِنِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِكَوْنِهِ كَذَلِكَ، فَثَبَتَ صِحَّةُ مَا ذَكَرْنَاهُ الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آلِ عِمْرَانَ: 59] فَلَمَّا لَمْ يَبْعُدْ تَخْلِيقُ آدَمَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ فَلَأَنْ لَا يَبْعُدَ تَخْلِيقُ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ كَانَ أَوْلَى وَهَذِهِ حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا عَلَى أُصُولِ الْفَلَاسِفَةِ فَالْأَمْرُ فِي تَجْوِيزِهِ ظَاهِرٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ حُدُوثُ الْإِنْسَانِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَالُدِ مِنْ غَيْرِ تَوَلُّدٍ قَالُوا: لِأَنَّ بَدَنَ الْإِنْسَانِ إِنَّمَا اسْتَعَدَّ لِقَبُولِ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ الَّتِي تُدَبَّرُ بِوَاسِطَةِ حُصُولِ الْمِزَاجِ الْمَخْصُوصِ فِي ذَلِكَ الْبَدَنِ، وَذَلِكَ الْمِزَاجُ إِنَّمَا جُعِلَ لِامْتِزَاجِ الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى قَدْرٍ مُعَيَّنٍ فِي مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَحُصُولُ أَجْزَاءِ الْعَنَاصِرِ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي يُنَاسِبُ بَدَنَ الْإِنْسَانِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَامْتِزَاجُهَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، فَامْتِزَاجُهَا يَكُونُ عِنْدَ حُدُوثِ الْكَيْفِيَّةِ الْمِزَاجِيَّةِ

وَاجِبًا، وَعِنْدَ حُدُوثِ الْكَيْفِيَّةِ الْمِزَاجِيَّةِ يَكُونُ تَعَلُّقُ النَّفْسِ بِذَلِكَ الْبَدَنِ وَاجِبًا، فَثَبَتَ أَنَّ حُدُوثَ الْإِنْسَانِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَلُّدِ مَعْقُولٌ مُمْكِنٌ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَحُدُوثُ الْإِنْسَانِ لَا عَنِ الْأَبِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ وَالْإِمْكَانِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّا نُشَاهِدُ حُدُوثَ كَثِيرٍ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَلُّدِ، كَتَوَلُّدِ الْفَأْرِ عَنِ الْمَدَرِ، وَالْحَيَّاتِ عَنِ الشَّعْرِ، وَالْعَقَارِبِ عَنِ الْبَاذَرُوجِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَوَلُّدُ الْوَلَدِ لَا عَنِ الْأَبِ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مُمْتَنِعًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ التَّخَيُّلَاتِ الذِّهْنِيَّةَ كَثِيرًا مَا تَكُونُ أَسْبَابًا لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ الْكَثِيرَةِ لَيْسَ أَنَّ تَصَوُّرَ الْمُنَافِي يُوجِبُ حُصُولَ كَيْفِيَّةِ الْغَضَبِ، وَيُوجِبُ حُصُولَ السُّخُونَةِ الشَّدِيدَةِ فِي الْبَدَنِ أَلَيْسَ اللَّوْحُ الطَّوِيلُ إِذَا كَانَ مَوْضُوعًا عَلَى الْأَرْضِ قَدَرَ الْإِنْسَانُ عَلَى الْمَشْيِ عَلَيْهِ وَلَوْ جُعِلَ كَالْقَنْطَرَةِ عَلَى وَهْدَةٍ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَشْيِ عَلَيْهِ، بَلْ كُلَّمَا مَشَى عَلَيْهِ يَسْقُطُ وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ تَصَوُّرَ السُّقُوطِ يُوجِبُ حُصُولَ السُّقُوطِ، وَقَدْ ذَكَرُوا فِي «كُتُبِ الْفَلْسَفَةِ» أَمْثِلَةً كَثِيرَةً لِهَذَا الْبَابِ، وَجَعَلُوهَا كَالْأَصْلِ فِي بَيَانِ جَوَازِ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ، فَمَا الْمَانِعُ مِنْ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَمَّا تَخَيَّلَتْ صُورَتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَفَى ذَلِكَ فِي عُلُوقِ الْوَلَدِ فِي رَحِمِهَا. وَإِذَا كَانَ كُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ مُمْكِنًا مُحْتَمَلًا كَانَ الْقَوْلُ/ بِحُدُوثِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ الْأَبِ قَوْلًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ، وَلَوْ أَنَّكَ طَالَبْتَ جَمِيعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مِنْ أَرْبَابِ الطَّبَائِعِ وَالطِّبِّ وَالْفَلْسَفَةِ عَلَى إِقَامَةِ حُجَّةٍ إِقْنَاعِيَّةٍ فِي امْتِنَاعِ حُدُوثِ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ الْأَبِ لَمْ يَجِدُوا إِلَيْهِ سبيلًا إلا الرجوع إلا اسْتِقْرَاءِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَقَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِقْرَاءِ لَا يُفِيدُ الظَّنَّ الْقَوِيَّ فَضْلًا عَنِ الْعِلْمِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مُمْكِنٌ فَلَمَّا أُخْبِرَ الْعِبَادُ عَنْ وُقُوعِهِ وَجَبَ الْجَزْمُ بِهِ وَالْقَطْعُ بِصِحَّتِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِكَلِمَةٍ مِنْهُ فَلَفْظَةُ (مِنْ) لَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ هَاهُنَا إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَجَزِّئًا مُتَبَعِّضًا مُتَحَمِّلًا لِلِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْ كَلِمَةِ (مِنْ) هَاهُنَا ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا لَمْ تَكُنْ وَاسِطَةُ الْأَبِ مَوْجُودَةً صَارَ تَأْثِيرُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَكْوِينِهِ وَتَخْلِيقِهِ أَكْمَلَ وَأَظْهَرَ فَكَانَ كَوْنُهُ كَلِمَةَ اللَّهَ مَبْدَأً لِظُهُورِهِ وَلِحُدُوثِهِ أَكْمَلَ فَكَانَ الْمَعْنَى لَفْظَ مَا ذَكَرْنَاهُ لَا مَا يَتَوَهَّمُهُ النَّصَارَى وَالْحُلُولِيَّةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْمَسِيحُ: هَلْ هُوَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ، أَوْ مَوْضُوعٌ؟. وَالْجَوَابُ: فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَاللَّيْثُ: أَصْلُهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَشِيحًا، فَعَرَّبَتْهُ الْعَرَبُ وَغَيَّرُوا لَفْظَهُ، وَعِيسَى: أَصْلُهُ يَشُوعُ كَمَا قَالُوا فِي مُوسَى: أَصْلُهُ مُوشَى، أَوْ مِيشَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَكُونُ لَهُ اشْتِقَاقٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُشْتَقٌّ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَسِيحًا، لِأَنَّهُ مَا كان يمسح بيده ذا عاهة، إلا برىء مِنْ مَرَضِهِ الثَّانِي: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: سُمِّيَ مَسِيحًا لِأَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ الْأَرْضَ أَيْ يَقْطَعُهَا، وَمِنْهُ مِسَاحَةُ أَقْسَامِ الْأَرْضِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لِعِيسَى مَسِّيحٌ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ فَسِّيقٌ وَشَرِّيبٌ الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ مَسِيحًا، لِأَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ رَأْسَ الْيَتَامَى لِلَّهِ تَعَالَى، فَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ: هُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى: فَاعِلٍ، كَرَحِيمٍ بِمَعْنَى: رَاحِمٍ الرَّابِعُ: أَنَّهُ مُسِحَ مِنَ الْأَوْزَارِ وَالْآثَامِ وَالْخَامِسُ: سُمِّيَ مَسِيحًا لِأَنَّهُ مَا كَانَ فِي قَدَمِهِ خَمْصٌ، فَكَانَ مَمْسُوحَ الْقَدَمَيْنِ وَالسَّادِسُ: سُمِّيَ مَسِيحًا لِأَنَّهُ كَانَ مَمْسُوحًا بِدُهْنٍ طَاهِرٍ مُبَارَكٍ يُمْسَحُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَلَا يُمْسَحُ بِهِ غَيْرُهُمْ، ثُمَّ قَالُوا: وَهَذَا الدُّهْنُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تعالى

جَعَلَهُ عَلَامَةً حَتَّى تَعْرِفَ الْمَلَائِكَةُ أَنَّ كُلَّ مَنْ مُسِحَ بِهِ وَقْتَ الْوِلَادَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ نبياًالسابع: سُمِّيَ مَسِيحًا لِأَنَّهُ مَسَحَهُ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَنَاحِهِ وَقْتَ وِلَادَتِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ صَوْنًا لَهُ عَنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ الثَّامِنُ: سُمِّيَ مَسِيحًا لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَمْسُوحًا بِالدُّهْنِ، وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَكُونُ الْمَسِيحُ، بِمَعْنَى: الْمَمْسُوحِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى: مَفْعُولٍ. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ الْمَسِيحُ: الْمَلَكُ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: الْمَسِيحُ الصِّدِّيقُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَعَلَّهُمَا قَالَا ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَدْحًا/ لَا لِدَلَالَةِ اللُّغَةِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ فَإِنَّمَا سُمِّيَ مَسِيحًا لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُ مَمْسُوحُ أَحَدِ الْعَيْنَيْنِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَمْسَحُ الْأَرْضَ أَيْ: يَقْطَعُهَا فِي الْمُدَّةِ الْقَلِيلَةِ، قَالُوا: وَلِهَذَا قِيلَ لَهُ: دَجَّالٌ لِضَرْبِهِ فِي الْأَرْضِ، وَقَطْعِهِ أَكْثَرَ نَوَاحِيهَا، يُقَالُ: قَدْ دَجَلَ الدَّجَّالُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ، وَقِيلَ: سُمِّيَ دَجَّالًا مِنْ قَوْلِهِ: دَجَّلَ الرَّجُلُ إِذَا مَوَّهَ وَلَبَّسَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: الْمَسِيحُ كَانَ كَاللَّقَبِ لَهُ، وَعِيسَى كَالِاسْمِ فَلِمَ قُدِّمَ اللَّقَبُ عَلَى الِاسْمِ؟. الْجَوَابُ: أَنَّ الْمَسِيحَ كَاللَّقَبِ الَّذِي يُفِيدُ كَوْنَهُ شَرِيفًا رَفِيعَ الدَّرَجَةِ، مِثْلَ الصِّدِّيقِ وَالْفَارُوقِ فَذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوَّلًا بِلَقَبِهِ لِيُفِيدَ عُلُوَّ دَرَجَتِهِ، ثُمَّ ذَكَرَهُ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَالْخِطَابُ مَعَ مَرْيَمَ؟. الْجَوَابُ: لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يُنْسَبُونَ إِلَى الْآبَاءِ لَا إِلَى الْأُمَّهَاتِ، فَلَمَّا نَسَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْأُمِّ دُونَ الْأَبِ، كَانَ ذَلِكَ إِعْلَامًا لَهَا بِأَنَّهُ مُحْدَثٌ بِغَيْرِ الْأَبِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِزِيَادَةِ فَضْلِهِ وَعُلُوِّ دَرَجَتِهِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: اسْمُهُ عَائِدٌ إِلَى الْكَلِمَةِ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ فَلِمَ ذُكِّرَ الضَّمِيرُ؟. الْجَوَابُ: لِأَنَّ الْمُسَمَّى بِهَا مُذَكَّرٌ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: لِمَ قَالَ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ؟ وَالِاسْمُ لَيْسَ إِلَّا عِيسَى، وَأَمَّا الْمَسِيحُ فَهُوَ لَقَبٌ، وَأَمَّا ابْنُ مَرْيَمَ فَهُوَ صِفَةٌ. الْجَوَابُ: الِاسْمُ عَلَامَةُ الْمُسَمَّى وَمُعَرِّفٌ لَهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ هُوَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى الْوَجِيهِ: ذُو الْجَاهِ وَالشَّرَفِ وَالْقَدْرِ، يقال: وجه الرجل، يوجه وجاهة هو وَجِيهٌ، إِذَا صَارَتْ لَهُ مَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ عِنْدَ النَّاسِ وَالسُّلْطَانِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: الْوَجِيهُ: هُوَ الْكَرِيمُ، لِأَنَّ أَشْرَفَ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ وَجْهُهُ فَجُعِلَ الْوَجْهُ اسْتِعَارَةً عَنِ الْكَرَمِ وَالْكَمَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ كَانَ وَجِيهًا قَالَ اللَّهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الْأَحْزَابِ: 69] ثُمَّ لِلْمُفَسِّرِينَ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ النُّبُوَّةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِسَبَبِ عُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَجِيهٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَهُوَ وَجِيهٌ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ أَنَّهُ يُسْتَجَابُ دُعَاؤُهُ وَيُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِسَبَبِ دُعَائِهِ، وَوَجِيهٌ فِي الْآخِرَةِ بِسَبَبِ أَنَّهُ يَجْعَلُهُ شَفِيعَ أُمَّتِهِ الْمُحِقِّينَ وَيَقْبَلُ شَفَاعَتَهُمْ فِيهِمْ كَمَا يَقْبَلُ شَفَاعَةَ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ وَجَّهَهُ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَ مُبَرَّأً مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي وَصَفَهُ الْيَهُودُ بِهَا، وَوَجِيهٌ فِي الْآخِرَةِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ ثَوَابِهِ وَعُلُوِّ دَرَجَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تعالى.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ كَانَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْيَهُودُ عَامَلُوهُ بِمَا عَامَلُوهُ، قُلْنَا: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْوَجِيهِ مَعَ أَنَّ الْيَهُودَ طَعَنُوا فِيهِ، وَآذَوْهُ إِلَى أَنْ بَرَّأَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِمَّا قَالُوا، وَذَلِكَ لَمْ يَقْدَحْ فِي وَجَاهَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَذَا هَاهُنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ وَجِيهاً مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِهَذَا الْوَلَدِ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْفَرَّاءُ يُسَمِّي هَذَا قَطْعًا كَأَنَّهُ قَالَ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الْوَجِيهُ فَقُطِعَ مِنْهُ التَّعْرِيفُ. أَمَّا قَوْلُهُ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ ذَلِكَ كَالْمَدْحِ الْعَظِيمِ لِلْمَلَائِكَةِ فَأَلْحَقَهُ بِمِثْلِ مَنْزِلَتِهِمْ وَدَرَجَتِهِمْ بِوَاسِطَةِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَيُرْفَعُ إِلَى السَّمَاءِ وَتُصَاحِبُهُ الْمَلَائِكَةُ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ وَجِيهٍ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ مُقَرَّبًا لِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ عَلَى مَنَازِلَ وَدَرَجَاتٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً إِلَى قَوْلِهِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الْوَاقِعَةِ: 7- 11] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ وَجِيهاً وَالتَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَجِيهًا وَمُكَلِّمًا لِلنَّاسِ وَهَذَا عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّ عَطْفَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ عَلَى الِاسْمِيَّةِ غَيْرُ جَائِزٍ إِلَّا لِلضَّرُورَةِ، أَوِ الْفَائِدَةِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الْوَجِيهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْمَعْدُودُ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، وَهَذَا الْمَجْمُوعُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ قَالَ: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فَقَوْلُهُ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمَهْدِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حِجْرُ أُمِّهِ وَالثَّانِي: هُوَ هَذَا الشَّيْءُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي هُوَ مَضْجَعُ الصَّبِيِّ وقت الرضاع، وكيف كان المراد مِنْهُ: فَإِنَّهُ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْحَالَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ الصَّبِيُّ فِيهَا إِلَى الْمَهْدِ، وَلَا يَخْتَلِفُ هَذَا الْمَقْصُودُ سَوَاءٌ كَانَ فِي حِجْرِ أُمِّهِ أَوْ كَانَ فِي الْمَهْدِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ وَكَهْلًا عُطِفَ عَلَى الظَّرْفِ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْمَهْدِ كَأَنَّهُ قِيلَ: يُكَلِّمُ النَّاسَ صَغِيرًا وَكَهْلًا وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْكَهْلُ؟. الْجَوَابُ: الْكَهْلُ فِي اللُّغَةِ مَا اجْتَمَعَ قُوَّتُهُ وَكَمُلَ شَبَابُهُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ اكْتَهَلَ النَّبَاتُ إِذَا قَوِيَ وَتَمَّ قَالَ الْأَعْشَى: يُضَاحِكُ الشمس منها كوكب شرق ... مؤزر بحميم النَّبْتِ مُكْتَهِلُ أَرَادَ بِالْمُكْتَهِلِ الْمُتَنَاهِي فِي الْحُسْنِ وَالْكَمَالِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ تَكَلُّمَهُ حَالَ كَوْنِهِ فِي الْمَهْدِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، فَأَمَّا تَكَلُّمُهُ حَالَ الْكُهُولَةِ فَلَيْسَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهِ؟. وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ بَيَانُ كَوْنِهِ مُتَقَلِّبًا فِي الْأَحْوَالِ مِنَ الصِّبَا إِلَى الْكُهُولَةِ وَالتَّغَيُّرُ عَلَى الْإِلَهِ تَعَالَى مُحَالٌ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَى وَفْدِ نَجْرَانَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ عِيسَى كَانَ إِلَهًا وَالثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ

يُكَلِّمَ النَّاسَ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الْمَهْدِ لِإِظْهَارِ طَهَارَةِ أُمِّهِ، ثُمَّ عِنْدَ الْكُهُولَةِ يَتَكَلَّمُ بِالْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ وَالثَّالِثُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُكَلِّمُ حَالَ كَوْنِهِ فِي الْمَهْدِ، وَحَالَ كَوْنِهِ كَهْلًا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ وَصِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَذَلِكَ لَا شَكَّ أَنَّهُ غَايَةٌ فِي الْمُعْجِزِ الرَّابِعُ: قَالَ الْأَصَمُّ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ يَبْلُغُ حَالَ الْكُهُولَةِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: نُقِلَ أَنَّ عُمُرَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنْ رُفِعَ كَانَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَهُوَ مَا بَلَغَ الْكُهُولَةَ. وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: بَيَّنَّا أَنَّ الْكَهْلَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْكَامِلِ التَّامِّ، وَأَكْمَلُ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ إِذَا كَانَ بَيْنَ الثَّلَاثِينَ وَالْأَرْبَعِينَ، فَصَحَّ وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ كَهْلًا فِي هَذَا الْوَقْتِ وَالثَّانِي: هُوَ قَوْلُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ الْبَجَلِيِّ: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ وَكَهْلًا أَنْ يَكُونَ كَهْلًا بَعْدَ أَنْ يَنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَيُكَلِّمَ النَّاسَ، وَيَقْتُلَ الدَّجَّالَ، قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ نَصٌّ فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَيَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْكَرَتِ النَّصَارَى كَلَامَ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمَهْدِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ كَلَامَهُ فِي الْمَهْدِ مِنْ أَعْجَبِ الْأُمُورِ وَأَغْرَبِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ لَوْ وَقَعَتْ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُقُوعُهَا فِي حُضُورِ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ الَّذِي يَحْصُلُ الْقَطْعُ وَالْيَقِينُ بِقَوْلِهِمْ، لِأَنَّ تَخْصِيصَ مِثْلِ هَذَا الْمُعْجِزِ بِالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ لَا يَجُوزُ، وَمَتَى حَدَثَتِ الْوَاقِعَةُ الْعَجِيبَةُ جَدًّا عِنْدَ حُضُورِ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَتَوَفَّرَ الدَّوَاعِي عَلَى النَّقْلِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ بَالِغًا حَدَّ التَّوَاتُرِ، وَإِخْفَاءُ مَا يَكُونُ بَالِغًا إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ مُمْتَنِعٌ، وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ الْإِخْفَاءُ هَاهُنَا مُمْتَنِعًا لِأَنَّ النَّصَارَى بَالَغُوا فِي إِفْرَاطِ مَحَبَّتِهِ إِلَى حَيْثُ قَالُوا إِنَّهُ كَانَ إِلَهًا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَسْعَى فِي إِخْفَاءِ مَنَاقِبِهِ وَفَضَائِلِهِ بَلْ رُبَّمَا يَجْعَلُ الْوَاحِدَ أَلْفًا فَثَبَتَ أَنْ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ مَوْجُودَةً لَكَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَعْرِفَتِهَا النَّصَارَى، وَلَمَّا أَطْبَقُوا عَلَى إِنْكَارِهَا عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا كَانَ مَوْجُودًا الْبَتَّةَ. أَجَابَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَقَالُوا: إِنَّ كَلَامَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمَهْدِ إِنَّمَا كَانَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى بَرَاءَةِ حَالِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ مِنَ الْفَاحِشَةِ، وَكَانَ الْحَاضِرُونَ جَمْعًا قَلِيلِينَ، فَالسَّامِعُونَ لِذَلِكَ الْكَلَامِ، كَانَ جَمْعًا قَلِيلًا، وَلَا يَبْعُدُ فِي مِثْلِهِ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْإِخْفَاءِ، وَبِتَقْدِيرِ: أَنْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُكَذِّبُونَهُمْ فِي ذَلِكَ وَيَنْسُبُونَهُمْ إِلَى الْبُهْتِ، فَهُمْ أَيْضًا قَدْ سَكَتُوا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ فَلِأَجْلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ بَقِيَ الْأَمْرُ مَكْتُومًا مَخْفِيًّا إِلَى أَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَأَيْضًا فَلَيْسَ كُلُّ النَّصَارَى يُنْكِرُونَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ نُقِلَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: لَمَّا قَرَأَ عَلَى النَّجَاشِيِّ/ سُورَةَ مَرْيَمَ، قَالَ النَّجَاشِيُّ: لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ وَاقِعَةِ عِيسَى، وَبَيْنَ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْكَلَامِ بِذَرَّةٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ الصَّالِحِينَ. فَإِنْ قِيلَ: كَوْنُ عِيسَى كَلِمَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَوْنُهُ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكَوْنُهُ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَوْنُهُ مُكَلِّمًا لِلنَّاسِ فِي الْمَهْدِ، وَفِي الْكُهُولَةِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَعْظَمُ وَأَشْرَفُ مِنْ كَوْنِهِ صَالِحًا فَلِمَ خَتَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْصَافَ عِيسَى بِقَوْلِهِ وَمِنَ الصَّالِحِينَ؟. قُلْنَا: إِنَّهُ لَا رُتْبَةَ أَعْظَمُ مِنْ كَوْنِ الْمَرْءِ صَالِحًا لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا وَيَكُونُ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ مُوَاظِبًا عَلَى النَّهْجِ الْأَصْلَحِ، وَالطَّرِيقِ الْأَكْمَلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَقَامَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ فِي

[سورة آل عمران (3) : الآيات 47 إلى 48]

أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، وَفِي أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَ التَّفَاصِيلِ أَرْدَفَهُ بِهَذَا الْكَلَامِ الذي يدل على أرفع الدرجات. [سورة آل عمران (3) : الآيات 47 الى 48] قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) [في قَوْلُهُ تَعَالَى قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ إلى قوله تعالى كُنْ فَيَكُونُ] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهَا إِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّبْشِيرَ بِهِ يَقْتَضِي التَّعَجُّبَ مِمَّا وَقَعَ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ وَقَدْ قَرَّرْنَا مِثْلَهُ فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَوْلُهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ وَيُعَلِّمُهُ بِالْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بالنون، أما الياء فعطف على قوله يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَقَالَ الْمُبَرِّدُ عُطِفَ عَلَى يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ، وَكَذَا وَكَذَا وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَمَنْ قَرَأَ بِالنُّونِ قَالَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ أَنَّهَا: قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ فَقَالَ لَهَا اللَّهُ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَهَذَا وَإِنْ كَانَ إِخْبَارًا عَلَى وَجْهِ الْمُغَايَبَةِ، فَقَالَ (وَنُعَلِّمُهُ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ مَعْنَاهُ: كَذَلِكَ نَحْنُ نَخْلُقُ مَا نَشَاءُ وَنُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ مَعْطُوفٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ تَعْلِيمُ الْخَطِّ وَالْكِتَابَةِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْحِكْمَةِ تَعْلِيمُ الْعُلُومِ وَتَهْذِيبُ الْأَخْلَاقِ لِأَنَّ كَمَالُ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ وَالْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ وَمَجْمُوعُهُمَا هُوَ الْمُسَمَّى بِالْحِكْمَةِ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ صَارَ عَالِمًا بِالْخَطِّ وَالْكِتَابَةِ، وَمُحِيطًا بِالْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ، يُعَلِّمُهُ التَّوْرَاةَ، وَإِنَّمَا أُخِّرَ تَعْلِيمُ التَّوْرَاةِ عَنْ تَعْلِيمِ الْخَطِّ وَالْحِكْمَةِ، لِأَنَّ التَّوْرَاةَ كِتَابٌ إِلَهِيٌّ، وَفِيهِ أَسْرَارٌ عَظِيمَةٌ، وَالْإِنْسَانُ مَا لَمْ يَتَعَلَّمِ الْعُلُومَ الْكَثِيرَةَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخُوضَ فِي الْبَحْثِ عَلَى أَسْرَارِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ وَالْإِنْجِيلَ، وَإِنَّمَا أُخِّرَ ذِكْرُ الْإِنْجِيلِ عَنْ ذِكْرِ التَّوْرَاةِ لِأَنَّ مَنْ تَعَلَّمَ الْخَطَّ، ثُمَّ تَعَلَّمَ عُلُومَ الْحَقِّ، ثُمَّ أَحَاطَ بِأَسْرَارِ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ عَظُمَتْ دَرَجَتُهُ فِي الْعِلْمِ فَإِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ كِتَابًا آخَرَ وَأَوْقَفَهُ عَلَى أَسْرَارِهِ فَذَلِكَ هُوَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى، وَالْمَرْتَبَةُ الْعُلْيَا فِي الْعِلْمِ، وَالْفَهْمِ وَالْإِحَاطَةِ بِالْأَسْرَارِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ، وَالِاطْلَاعِ عَلَى الْحِكَمِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ، فَهَذَا مَا عِنْدِي في ترتيب هذه الألفاظ الأربعة. [سورة آل عمران (3) : آية 49] وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وفيه مسائل:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَنُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَنَبْعَثُهُ رَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَائِلًا أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَالْحَذْفُ حَسَنٌ إِذَا لَمْ يُفْضِ إِلَى الِاشْتِبَاهِ الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: الِاخْتِيَارُ عِنْدِي أَنَّ تَقْدِيرَهُ: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ رَسُولًا، وَإِنَّمَا أَضْمَرْنَا ذَلِكَ لِقَوْلِهِ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ وَالْمَعْنَى: وَيُكَلِّمُهُمْ رَسُولًا بِأَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ، الثَّالِثُ: قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الْوَاوَ زَائِدَةً، وَالتَّقْدِيرُ: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ، وَالْإِنْجِيلَ رسولا إلى بني إسرائيل، قائلا: أنى قد جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ رَسُولًا إِلَى كُلِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِخِلَافِ قَوْلِ بَعْضِ الْيَهُودِ إِنَّهُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ مِنْهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْجِنْسُ لَا الْفَرْدُ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَدَّدَ هَاهُنَا أَنْوَاعًا مِنَ الْآيَاتِ، وَهِيَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ الْجِنْسَ لَا الْفَرْدَ. ثُمَّ قَالَ: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى هَاهُنَا خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ مِنْ مُعْجِزَاتِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ مَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ أَنِّي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فَمَنْ فَتَحَ أَنِّي فَقَدْ جَعَلَهَا بَدَلًا مِنْ آيَةٍ كَأَنَّهُ قَالَ: وَجِئْتُكُمْ بِأَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ، وَمَنْ كَسَرَ فَلَهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الِاسْتِئْنَافُ وَقَطْعُ الْكَلَامِ مِمَّا قَبْلَهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَسَّرَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يُفَسِّرَ الْجُمْلَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ بِمَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الِابْتِدَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الفتح: 29] ثم فسّر الموعود بقوله لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَقَالَ: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آلِ عِمْرَانَ: 59] ثُمَّ فَسَّرَ الْمَثَلَ بِقَوْلِهِ. خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آلِ عِمْرَانَ: 59] وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى كَقِرَاءَةِ مَنْ فَتَحَ أَنِّي عَلَى جَعْلِهِ بَدَلًا مِنْ آيَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ أَيْ أُقَدِّرُ وَأُصَوِّرُ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 21] أَنَّ الْخَلْقَ هُوَ التَّقْدِيرُ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ نَذْكُرَهُ هَاهُنَا أَيْضًا فَنَقُولُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالشِّعْرُ وَالِاسْتِشْهَادُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَآيَاتٌ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 14] أَيِ الْمُقَدِّرِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَكُونُ خَالِقًا بِمَعْنَى التَّكْوِينِ وَالْإِبْدَاعِ فَوَجَبَ تَفْسِيرُ كَوْنِهِ خَالِقًا بِالتَّقْدِيرِ وَالتَّسْوِيَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ لَفْظَ الْخَلْقِ يُطْلَقُ عَلَى الْكَذِبِ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ [الشُّعَرَاءِ: 137] وَفِي الْعَنْكَبُوتِ وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً [الْعَنْكَبُوتِ: 17] وَفِي سُورَةِ ص إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص: 7] وَالْكَاذِبُ إِنَّمَا سُمِّيَ خَالِقًا لِأَنَّهُ يُقَدِّرُ الْكَذِبَ فِي خَاطِرِهِ وَيُصَوِّرُهُ وَثَالِثُهَا: هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ أَيْ أُصَوِّرُ وَأُقَدِّرُ وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمَائِدَةِ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [الْمَائِدَةِ: 110] وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ هُوَ التَّصْوِيرُ وَالتَّقْدِيرُ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَةِ: 29] وَقَوْلُهُ خَلَقَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَاضِي، فَلَوْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ خَلَقَ عَلَى الْإِيجَادِ

وَالْإِبْدَاعِ، لَكَانَ الْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْأَرْضِ فَهُوَ تَعَالَى قَدْ أَوْجَدَهُ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِذَنْ وَجَبَ حَمْلُ الْخَلْقِ عَلَى التَّقْدِيرِ حَتَّى يَصِحَّ الْكَلَامُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ فِي الْمَاضِي كُلَّ مَا وُجِدَ الْآنَ فِي الْأَرْضِ، وَأَمَّا الشِّعْرُ فَقَوْلُهُ: ولأنت تفري ما خلقت وبعض ... الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي وَقَوْلُهُ: وَلَا يعطي بِأَيْدِي الْخَالِقِينَ وَلَا ... أَيْدِي الْخَوَالِقِ إِلَّا جَيِّدُ الْأُدُمِ وَأَمَّا الِاسْتِشْهَادُ: فَهُوَ أَنَّهُ يُقَالُ: خَلَقَ النَّعْلَ إِذَا قَدَّرَهَا وَسَوَّاهَا بِالْقِيَاسِ وَالْخَلَاقُ الْمِقْدَارُ مِنَ الْخَيْرِ، وَفُلَانٌ خَلِيقٌ بِكَذَا، أَيْ لَهُ هَذَا الْمِقْدَارُ مِنَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَالصَّخْرَةُ الْخَلْقَاءُ الْمَلْسَاءُ، لِأَنَّ الْمَلَاسَةَ اسْتِوَاءٌ، وَفِي الْخُشُونَةِ اخْتِلَافٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْخَلْقَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ وَالتَّسْوِيَةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي لَفْظِ الْخالِقُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ وَالتَّسْوِيَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْخَالِقُ، لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرَّعْدِ: 16] وَمِنْهُمْ مَنِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ [فَاطِرٍ: 3] وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ [فَاطِرٍ: 3] فَالْمَعْنَى هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ مَوْصُوفٌ بِوَصْفِ كَوْنِهِ رَازِقًا مِنَ السَّمَاءِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِدْقِ قَوْلِنَا الْخَالِقُ الَّذِي يَكُونُ هَذَا شَأْنَهُ، لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ، صِدْقُ قَوْلِنَا إِنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَجَابُوا عَنْ كَلَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ وَالتَّسْوِيَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ لَكِنَّ الظَّنَّ وَإِنْ كَانَ مُحَالًا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَالْعِلْمُ ثَابِتٌ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ مَعْنَاهُ: أُصَوِّرُ وَأُقَدِّرُ وَقَوْلُهُ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَالْهَيْئَةُ الصُّورَةُ الْمُهَيَّئَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ هَيَّأْتُ الشيء إذا قَدَّرْتَهُ وَقَوْلُهُ فَأَنْفُخُ فِيهِ أَيْ فِي ذَلِكَ الطِّينِ الْمُصَوَّرِ وَقَوْلُهُ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ فَيَكُونُ طَائِرًا بِالْأَلِفِ عَلَى الْوَاحِدِ، وَالْبَاقُونَ طَيْراً عَلَى الْجَمْعِ، وَكَذَلِكَ فِي الْمَائِدَةِ وَالطَّيْرُ اسْمُ الْجِنْسِ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمْعِ. يُرْوَى أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَأَظْهَرَ الْمُعْجِزَاتِ أَخَذُوا يَتَعَنَّتُونَ عَلَيْهِ وَطَالَبُوهُ بِخَلْقِ خُفَّاشٍ، فَأَخَذَ طِينًا وَصَوَّرَهُ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ، فَإِذَا هُوَ يَطِيرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، قَالَ وَهْبٌ: كَانَ يَطِيرُ مَا دَامَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَإِذَا غَابَ عَنْ أَعْيُنِهِمْ سَقَطَ مَيِّتًا، ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ غَيْرَ الْخُفَّاشِ، وَكَانَتْ قِرَاءَةُ نَافِعٍ عَلَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ خَلَقَ أَنْوَاعًا مِنَ الطَّيْرِ وَكَانَتْ قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ جِسْمٌ رَقِيقٌ كَالرِّيحِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهَا بِالْفَتْحِ، ثُمَّ هَاهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي نَفْسِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاصِّيَّةً، بِحَيْثُ مَتَى نَفَخَ فِي شَيْءٍ كَانَ نَفْخُهُ فِيهِ مُوجِبًا لِصَيْرُورَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ حَيًّا، أَوْ يُقَالُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلِ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ يَخْلُقُ الْحَيَاةَ فِي ذَلِكَ الْجِسْمِ بِقُدْرَتِهِ عِنْدَ نَفْخَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ إِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ، وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْحَقُّ لِقَوْلِهِ

تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: 2] وَحُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ فِي مُنَاظَرَتِهِ مَعَ الْمَلِكِ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [الْبَقَرَةِ: 258] فَلَوْ حَصَلَ لِغَيْرِهِ، هَذِهِ الصِّفَةُ لَبَطَلَ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا تَوَلَّدَ مِنْ نَفْخِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَرْيَمَ وَجِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُوحٌ مَحْضٌ وَرُوحَانِيٌّ مَحْضٌ فَلَا جَرَمَ كَانَتْ نَفْخَةُ عِيسَى/ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْحَيَاةِ وَالرُّوحِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ بِإِذْنِ اللَّهِ مَعْنَاهُ بِتَكْوِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَخْلِيقِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 154] أَيْ إِلَّا بِأَنْ يُوجِدَ اللَّهُ الْمَوْتَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا الْقَيْدَ إِزَالَةً لِلشُّبْهَةِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنِّي أَعْمَلُ هَذَا التَّصْوِيرَ، فَأَمَّا خَلْقُ الْحَيَاةِ فَهُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ إِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى يَدِ الرُّسُلِ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي والثالث والرابع من المعجزات فهو قوله: وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ. ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ إِلَى أَنَّ الْأَكْمَهَ هُوَ الَّذِي وُلِدَ أَعْمَى، وَقَالَ الْخَلِيلُ وَغَيْرُهُ هُوَ الَّذِي عَمِيَ بَعْدَ أَنْ كَانَ بَصِيرًا، وَعَنْ مُجَاهِدٍ هُوَ الَّذِي لَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْمَهُ غَيْرَ قَتَادَةَ بْنِ دِعَامَةَ السَّدُوسَيِّ صَاحِبِ «التَّفْسِيرِ» ، وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رُبَّمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَمْسُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَرْضَى مَنْ أَطَاقَ مِنْهُمْ أَتَاهُ، وَمَنْ لَمْ يُطِقْ أَتَاهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا كَانَتْ مُدَاوَاتُهُ إِلَّا بِالدُّعَاءِ وَحْدَهُ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُحْيِي الْأَمْوَاتَ بِيَا حي يا قيوم وأحيا عاذر، وَكَانَ صَدِيقًا لَهُ، وَدَعَا سَامَ بْنَ نُوحٍ مِنْ قَبْرِهِ، فَخَرَجَ حَيًّا، وَمَرَّ عَلَى ابْنٍ مَيِّتٍ لِعَجُوزٍ فَدَعَا اللَّهَ، فَنَزَلَ عَنْ سَرِيرِهِ حَيًّا، وَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ وَوُلِدَ لَهُ، وَقَوْلُهُ بِإِذْنِ اللَّهِ رَفْعٌ لِتَوَهُّمِ مَنِ اعْتَقَدَ فِيهِ الإلهية. وأما النوع الخامس مِنَ الْمُعْجِزَاتِ إِخْبَارُهُ عَنِ الْغُيُوبِ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مِنْ أَوَّلِ مَرَّةٍ يُخْبِرُ عَنِ الْغُيُوبِ، رَوَى السُّدِّيُّ: أَنَّهُ كَانَ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، ثُمَّ يُخْبِرُهُمْ بِأَفْعَالِ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَكَانَ يُخْبِرُ الصَّبِيَّ بِأَنَّ أُمَّكَ قَدْ خَبَأَتْ لَكَ كَذَا فَيَرْجِعُ الصَّبِيُّ إِلَى أَهْلِهِ وَيَبْكِي إِلَى أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ الشَّيْءَ ثُمَّ قَالُوا لِصِبْيَانِهِمْ: لَا تَلْعَبُوا مَعَ هَذَا السَّاحِرِ، وَجَمَعُوهُمْ فِي بَيْتٍ، فَجَاءَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَطْلُبُهُمْ، / فَقَالُوا لَهُ، لَيْسُوا فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ: فَمَنْ فِي هَذَا الْبَيْتِ، قَالُوا: خَنَازِيرُ قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَلِكَ يَكُونُونَ فَإِذَا هُمْ خَنَازِيرُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْغُيُوبِ إِنَّمَا ظَهَرَ وَقْتَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ نُهُوا عَنِ الِادِّخَارِ، فَكَانُوا يُخَزِّنُونَ وَيَدَّخِرُونَ، فَكَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُخْبِرُهُمْ بِذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِخْبَارُ عَنِ الْغُيُوبِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُعْجِزَةٌ، وذلك لأن المنجمين الذين يدعون استخراج الخير لَا يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ سُؤَالٍ يَتَقَدَّمُ ثُمَّ يَسْتَعِينُونَ عِنْدَ ذَلِكَ بِآلَةٍ وَيَتَوَصَّلُونَ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الْكَوَاكِبِ، ثُمَّ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 50 إلى 51]

يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ يَغْلَطُونَ كَثِيرًا، فَأَمَّا الْإِخْبَارُ عَنِ الْغَيْبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِعَانَةٍ بِآلَةٍ، وَلَا تَقَدُّمِ مَسْأَلَةٍ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ تعالى. ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَتَمَ كَلَامَهُ بِقَوْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَالْمَعْنَى إِنَّ فِي هَذِهِ الْخَمْسَةِ لَمُعْجِزَةً قَاهِرَةً قَوِيَّةً دَالَّةً عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي لِكُلِّ مَنْ آمَنَ بِدَلَائِلَ الْمُعْجِزَةِ فِي الْحَمْلِ عَلَى الصدق، بلى مَنْ أَنْكَرَ دَلَالَةَ أَصْلِ الْمُعْجِزِ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي، وَهُمُ الْبَرَاهِمَةُ، فَإِنَّهُ لَا يَكْفِيهِ ظُهُورُ هَذِهِ الْآيَاتِ، أَمَّا مَنْ آمَنَ بِدَلَالَةِ الْمُعْجِزِ عَلَى الصِّدْقِ لَا يَبْقَى لَهُ فِي هَذِهِ المعجزات كلام ألبتة. [سورة آل عمران (3) : الآيات 50 الى 51] وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) اعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَيَّنَ بِهَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ كَوْنَهُ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ بِمَاذَا أُرْسِلَ وَهُوَ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ. وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ [آل عمران: 49] أَنَّ تَقْدِيرَهُ وَأَبْعَثُهُ رَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَائِلًا أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ فَقَوْلُهُ وَمُصَدِّقاً مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ وَالتَّقْدِيرُ: / وَأَبْعَثُهُ رَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَائِلًا أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ، وَإِنِّي بُعِثْتُ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَإِنَّمَا حَسُنَ حَذْفُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى ثُبُوتِ نُبُوَّتِهِمْ هُوَ الْمُعْجِزَةُ، فَكُلُّ مَنْ حَصَلَ لَهُ الْمُعْجِزُ، وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِنُبُوَّتِهِ، فَلِهَذَا قُلْنَا: بِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا لِمُوسَى بِالتَّوْرَاةِ، وَلَعَلَّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَغْرَاضِ فِي بَعْثَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَيْهِمْ تَقْرِيرُ التَّوْرَاةِ وَإِزَالَةُ شُبُهَاتِ الْمُنْكِرِينَ وَتَحْرِيفَاتِ الْجَاهِلِينَ. وَأَمَّا الْمَقْصُودُ الثَّانِي: مِنْ بَعْثَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلُهُ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ. وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّهُ يُقَالُ: هَذِهِ الْآيَةُ الْأَخِيرَةُ مُنَاقِضَةٌ لِمَا قَبْلَهَا لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْأَخِيرَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ جَاءَ لِيُحِلَّ بَعْضَ الَّذِي كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ فِي التَّوْرَاةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ بِخِلَافِ حُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ. وَالْجَوَابُ: إِنَّهُ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ بِالتَّوْرَاةِ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا اعْتِقَادُ أَنَّ كُلَّ مَا فِيهَا فَهُوَ حَقٌّ وَصَوَابٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الثَّانِي مَذْكُورًا فِي التَّوْرَاةِ لَمْ يَكُنْ حُكْمُ عِيسَى بِتَحْلِيلِ مَا كَانَ مُحَرَّمًا فِيهَا، مُنَاقِضًا لِكَوْنِهِ مُصَدِّقًا بِالتَّوْرَاةِ، وَأَيْضًا إِذَا كَانَتِ الْبِشَارَةُ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَوْجُودَةً فِي التَّوْرَاةِ لَمْ يَكُنْ مَجِيءُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَشَرْعِهِ مُنَاقِضًا لِلتَّوْرَاةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا غَيَّرَ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، قَالَ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 52 إلى 54]

وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُقَرِّرُ السَّبْتَ وَيَسْتَقْبِلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ إِنَّهُ فَسَّرَ قَوْلَهُ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَحْبَارَ كَانُوا قَدْ وَضَعُوا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ شَرَائِعَ بَاطِلَةً وَنَسَبُوهَا إِلَى مُوسَى، فَجَاءَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَفَعَهَا وَأَبْطَلَهَا وَأَعَادَ الْأَمْرَ إِلَى مَا كَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ حَرَّمَ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْيَهُودِ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى بَعْضِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْجِنَايَاتِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النِّسَاءِ: 160] ثُمَّ بَقِيَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ مُسْتَمِرًّا عَلَى الْيَهُودِ فَجَاءَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَفَعَ تِلْكَ التَّشْدِيدَاتِ عَنْهُمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَفَعَ كَثِيرًا مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَادِحًا فِي كَوْنِهِ مُصَدِّقًا بِالتَّوْرَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَرَفَعَ السَّبْتَ وَوَضَعَ الْأَحَدَ قَائِمًا مَقَامَهُ وَكَانَ مُحِقًّا فِي كُلِّ مَا عَمِلَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ كِلَاهُمَا حَقٌّ وَصِدْقٌ. ثُمَّ قَالَ: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنَّمَا أَعَادَهُ لِأَنَّ إِخْرَاجَ الْإِنْسَانِ عَنِ الْمَأْلُوفِ الْمُعْتَادِ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ عَسِرٌ فَأَعَادَ ذِكْرَ الْمُعْجِزَاتِ لِيَصِيرَ كَلَامُهُ نَاجِعًا فِي قُلُوبِهِمْ وَمُؤَثِّرًا فِي طِبَاعِهِمْ، ثُمَّ خَوَّفَهُمْ فَقَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ لِأَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ مِنْ لَوَازِمِ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى فَبَيَّنَ أَنَّهُ إِذَا لَزِمَكُمْ أَنْ تَتَّقُوا اللَّهَ لَزِمَكُمْ أَنْ تُطِيعُونِي فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ عَنْ رَبِّي، ثُمَّ إِنَّهُ خَتَمَ كَلَامَهُ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ/ وَمَقْصُودُهُ إِظْهَارُ الْخُضُوعِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْعُبُودِيَّةِ لِكَيْلَا يتقولوا عليه الباطل فيقولون: إنه إليه وَابْنُ إِلَهٍ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ لِلَّهِ بِالْعُبُودِيَّةِ يَمْنَعُ مَا تَدَّعِيهِ جُهَّالُ النَّصَارَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: فَاعْبُدُوهُ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ رَبَّ الْخَلَائِقِ بِأَسْرِهِمْ وَجَبَ عَلَى الْكُلِّ أَنْ يَعْبُدُوهُ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 54] فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى بِشَارَةَ مَرْيَمَ بِوَلَدٍ مِثْلِ عِيسَى وَاسْتَقْصَى فِي بَيَانِ صِفَاتِهِ وَشَرْحِ مُعْجِزَاتِهِ وَتَرَكَ هَاهُنَا قِصَّةَ وِلَادَتِهِ، وَقَدْ ذَكَرَهَا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ، شَرَعَ فِي بَيَانِ أَنَّ عِيسَى لَمَّا شَرَحَ لَهُمْ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ، وَأَظْهَرَ لَهُمْ تِلْكَ الدَّلَائِلَ فَهُمْ بِمَاذَا عَامَلُوهُ فَقَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْإِحْسَاسُ عِبَارَةٌ عَنْ وِجْدَانِ الشَّيْءِ بِالْحَاسَّةِ وَهَاهُنَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُجْرَى اللَّفْظُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا بِالْكُفْرِ، فَأَحَسَّ ذَلِكَ بِأُذُنِهِ وَالثَّانِي: أَنْ نَحْمِلَهُ عَلَى التَّأْوِيلِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ عَرَفَ مِنْهُمْ إِصْرَارَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَعَزْمَهُمْ عَلَى قَتْلِهِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ عِلْمًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ، مِثْلَ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ مِنَ الْحَوَاسِّ، لَا جَرَمَ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ الإحساس. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي بِهِ ظَهَرَ كُفْرُهُمْ عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ جَاءَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ فَتَمَرَّدُوا وَعَصَوْا فَخَافَهُمْ وَاخْتَفَى عَنْهُمْ، وَكَانَ أَمْرُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْمِهِ كَأَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ فَكَانَ مُسْتَضْعَفًا، وَكَانَ يَخْتَفِي مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا اخْتَفَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي

الْغَارِ، وَفِي مَنَازِلِ مَنْ آمَنَ بِهِ لَمَّا أَرَادُوا قَتْلَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَرَجَ مَعَ أُمِّهِ يَسِيحَانِ فِي الْأَرْضِ، فَاتُّفِقَ أَنَّهُ/ نَزَلَ فِي قَرْيَةٍ عَلَى رَجُلٍ فَأَحْسَنَ ذَلِكَ الرَّجُلُ ضِيَافَتَهُ وَكَانَ فِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ مَلِكٌ جَبَّارٌ فَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ يَوْمًا حَزِينًا، فَسَأَلَهُ عِيسَى عَنِ السَّبَبِ فَقَالَ: مَلِكُ هَذِهِ الْمَدِينَةِ رَجُلٌ جَبَّارٌ وَمِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ جَعَلَ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا يَوْمًا يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ هُوَ وَجُنُودَهُ، وَهَذَا الْيَوْمُ نَوْبَتِي وَالْأَمْرُ مُتَعَذِّرٌ عَلَيَّ، فَلَمَّا سَمِعَتْ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ ذَلِكَ، قَالَتْ: يَا بُنَيَّ ادْعُ اللَّهَ لِيَكْفِيَ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا أُمَّاهُ إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ كَانَ شر، فَقَالَتْ: قَدْ أَحْسَنَ وَأَكْرَمَ وَلَا بُدَّ مِنْ إِكْرَامِهِ فَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِذَا قَرُبَ مَجِيءُ الْمَلِكِ فَامْلَأْ قُدُورَكَ وَخَوَابِيَكَ مَاءً ثُمَّ أَعْلِمْنِي، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى فَتَحَوَّلَ مَا فِي الْقُدُورِ طَبِيخًا، وَمَا فِي الْخَوَابِي خَمْرًا، فَلَمَّا جَاءَهُ الْمَلِكُ أَكَلَ وَشَرِبَ وَسَأَلَهُ مِنْ أَيْنَ هَذَا الْخَمْرُ؟ فَتَعَلَّلَ الرَّجُلُ فِي الْجَوَابِ فَلَمْ يَزَلِ الْمَلِكُ يُطَالِبُهُ بِذَلِكَ حَتَّى أَخْبَرَهُ بِالْوَاقِعَةِ فَقَالَ: إِنَّ مَنْ دَعَا اللَّهَ حَتَّى جَعَلَ الْمَاءَ خَمْرًا إِذَا دَعَا أَنْ يُحْيِيَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَدِي لَا بُدَّ وَأَنْ يُجَابَ، وَكَانَ ابْنُهُ قَدْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ، فَدَعَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَطَلَبَ منه ذلك، فقال عيسى: لا نفعل، فَإِنَّهُ إِنْ عَاشَ كَانَ شَرًّا، فَقَالَ: مَا أُبَالِي مَا كَانَ إِذَا رَأَيْتُهُ، وَإِنْ أَحْيَيْتَهُ تَرَكْتُكَ عَلَى مَا تَفْعَلُ، فَدَعَا اللَّهَ عِيسَى، فَعَاشَ الْغُلَامُ، فَلَمَّا رَآهُ أَهْلُ مَمْلَكَتِهِ قَدْ عَاشَ تَبَادَرُوا بِالسِّلَاحِ وَاقْتَتَلُوا، وَصَارَ أَمْرُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَشْهُورًا فِي الْخَلْقِ، وَقَصَدَ الْيَهُودُ قَتْلَهُ، وَأَظْهَرُوا الطَّعْنَ فِيهِ وَالْكُفْرَ بِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا عَارِفِينَ بِأَنَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ الْمُبَشَّرُ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ، وَأَنَّهُ يَنْسَخُ دِينَهُمْ، فَكَانُوا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ طَاعِنِينَ فِيهِ، طَالِبِينَ قَتْلَهُ، فَلَمَّا أَظْهَرَ الدَّعْوَةَ اشْتَدَّ غَضَبُهُمْ، وَأَخَذُوا فِي إِيذَائِهِ وَإِيحَاشِهِ وَطَلَبُوا قَتْلَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ظَنَّ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ أَنَّهُمْ لَا يؤمنون به وأن دعوته لا تنجح فِيهِمْ فَأَحَبَّ أَنْ يَمْتَحِنَهُمْ لِيَتَحَقَّقَ مَا ظَنَّهُ بِهِمْ فَقَالَ لَهُمْ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ فَمَا أَجَابَهُ إِلَّا الْحَوَارِيُّونَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَحَسَّ بِأَنَّ مَنْ سِوَى الْحَوَارِيِّينَ كَافِرُونَ مُصِرُّونَ عَلَى إِنْكَارِ دِينِهِ وَطَلَبِ قَتْلِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَعَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الدِّينِ، وَتَمَرَّدُوا عَلَيْهِ فَرَّ مِنْهُمْ وَأَخَذَ يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ فَمَرَّ بِجَمَاعَةٍ مِنْ صَيَّادِي السَّمَكِ، وَكَانَ فِيهِمْ شَمْعُونُ وَيَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا ابْنَا زَيْدِي وَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْحَوَارِيِّينَ الِاثْنَيْ عَشَرَ فَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: الْآنَ تَصِيدُ السَّمَكَ، فَإِنْ تَبِعْتَنِي صِرْتَ بِحَيْثُ تَصِيدُ النَّاسُ لِحَيَاةِ الْأَبَدِ، فَطَلَبُوا مِنْهُ الْمُعْجِزَةَ، وَكَانَ شَمْعُونُ قَدْ رَمَى شَبَكَتَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الْمَاءِ فَمَا اصْطَادَ شَيْئًا فَأَمَرَهُ عِيسَى بِإِلْقَاءِ شَبَكَتِهِ فِي الْمَاءِ مَرَّةً أُخْرَى، فَاجْتَمَعَ فِي تِلْكَ الشَّبَكَةِ مِنَ السَّمَكِ مَا كَادَتْ تَتَمَزَّقُ مِنْهُ، وَاسْتَعَانُوا بأهل سفينة أخرى، وملئوا السَّفِينَتَيْنِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ آمَنُوا بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ فِي آخِرِ أَمْرِهِ حِينَ اجْتَمَعَ الْيَهُودُ عَلَيْهِ طَلَبًا لِقَتْلِهِ، ثُمَّ هَاهُنَا احْتِمَالَاتٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا طَلَبُوهُ لِلْقَتْلِ وَكَانَ هُوَ فِي الْهَرَبِ عَنْهُمْ قَالَ لِأُولَئِكَ الِاثْنَيْ عَشَرَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ: أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ عَلَى أَنْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلَ مَكَانِي؟. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَفِيمَا تَذْكُرُهُ النَّصَارَى فِي إِنْجِيلِهِمْ: أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا أَخَذُوا عِيسَى سَلَّ شَمْعُونُ سَيْفَهُ فَضَرَبَ بِهِ عَبْدًا كَانَ فِيهِمْ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَحْبَارِ عَظِيمٍ فَرَمَى بِأُذُنِهِ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: حَسْبُكَ ثُمَّ أَخَذَ أُذُنَ الْعَبْدِ فَرَدَّهَا إِلَى مَوْضِعِهَا، فَصَارَتْ كَمَا كَانَتْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ طَلَبِ النُّصْرَةِ إِقْدَامُهُمْ عَلَى دَفْعِ الشَّرِّ عنه.

وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى الْقِتَالِ مَعَ الْقَوْمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةٍ أُخْرَى فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ [الصَّفِّ: 14] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ إِلَى اللَّهِ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ: مَنْ أَنْصَارِي حَالَ ذَهَابِي إِلَى اللَّهِ أَوْ حَالَ الْتِجَائِي إِلَى اللَّهِ وَالثَّانِي: التَّقْدِيرُ: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى أَنْ أُبَيِّنَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَى أَنْ أُظْهِرَ دِينَهُ وَيَكُونُ إِلَى هَاهُنَا غَايَةً كَأَنَّهُ أَرَادَ مَنْ يَثْبُتُ عَلَى نُصْرَتِي إِلَى أَنْ تَتِمَّ دَعْوَتِي، وَيَظْهَرَ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى الثَّالِثُ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ إِلَى هَاهُنَا بِمَعْنَى مَعَ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النِّسَاءِ: 2] أَيْ مَعَهَا، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الذَّوْدُ إِلَى الذَّوْدِ إِبِلٌ» أَيْ مَعَ الذَّوْدِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: كَلِمَةُ إِلَى لَيْسَتْ بِمَعْنَى مَعَ فَإِنَّكَ لَوْ قُلْتَ ذَهَبَ زَيْدٌ إِلَى عَمْرٍو لَمْ يَجُزْ أَنْ تَقُولَ: ذَهَبَ زَيْدٌ مَعَ عَمْرٍو لِأَنَّ (إِلَى) تُفِيدُ الْغَايَةَ وَ (مَعَ) تُفِيدُ ضَمَّ الشَّيْءِ إِلَى الشَّيْءِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا إِنَّ (إِلَى) هَاهُنَا بِمَعْنَى (مَعَ) هُوَ أَنَّهُ يُفِيدُ فَائِدَتَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُرَادَ مَنْ يُضِيفُ نُصْرَتَهُ إِلَى نُصْرَةِ اللَّهِ إِيَّايَ وَكَذَلِكَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النِّسَاءِ: 2] أَيْ لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ مَضْمُومَةً إِلَى أَمْوَالِكُمْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الذَّوْدُ إِلَى الذَّوْدِ إِبِلٌ» مَعْنَاهُ: الذَّوْدُ مَضْمُومًا إِلَى الذَّوْدِ إِبِلٌ وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَنْ أَنْصَارِي فِيمَا يَكُونُ قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ وَوَسِيلَةً إِلَيْهِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِذَا ضَحَّى «اللَّهُمَّ مِنْكَ وَإِلَيْكَ» أَيْ تَقَرُّبًا إِلَيْكَ، وَيَقُولَ الرجل لغيره عند دعائه إياته (إِلَيَّ) أَيِ انْضَمَّ إِلَيَّ، فَكَذَا هَاهُنَا الْمَعْنَى مَنْ أَنْصَارِي فِيمَا يَكُونُ قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ (إِلَى) بِمَعْنَى اللَّامِ كَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَنْصَارِي لِلَّهِ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ [يُونُسَ: 35] وَالسَّادِسُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: مَنْ أَنْصَارِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَ (إِلَى) بِمَعْنَى (فِي) جَائِزٌ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي لَفْظِ (الْحَوَارِيِّ) وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَوَارِيَّ اسْمٌ مَوْضُوعٌ/ لِخَاصَّةِ الرَّجُلِ، وَخَالِصَتِهِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلدَّقِيقِ حُوَّارَى، لِأَنَّهُ هُوَ الْخَالِصُ مِنْهُ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ: «إِنَّهُ ابْنُ عَمَّتِي، وَحَوَارِيَّ مِنْ أُمَّتِي» وَالْحَوَارِيَّاتُ مِنَ النساء النفيات الْأَلْوَانِ وَالْجُلُودِ، فَعَلَى هَذَا الْحَوَارِيُّونَ هُمْ صَفْوَةُ الأنبياء الذي خَلَصُوا وَأَخْلَصُوا فِي التَّصْدِيقِ بِهِمْ وَفِي نُصْرَتِهِمْ. الْقَوْلُ الثَّانِي: الْحَوَارِيُّ أَصْلُهُ مِنَ الْحَوَرِ، وَهُوَ شِدَّةُ الْبَيَاضِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلدَّقِيقِ حُوَّارَى، وَمِنْهُ الْأَحْوَرُ، وَالْحَوَرُ نَقَاءُ بَيَاضِ الْعَيْنِ، وَحَوَّرْتُ الثِّيَابَ: بَيَّضْتُهَا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ أُولَئِكَ لِمَ سُمُّوا بِهَذَا الِاسْمِ؟ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لِبَيَاضِ ثِيَابِهِمْ، وَقِيلَ كَانُوا قَصَّارِينَ، يُبَيِّضُونَ الثِّيَابَ، وَقِيلَ لِأَنَّ قُلُوبَهُمْ كَانَتْ نَقِيَّةً طَاهِرَةً مِنْ كُلِّ نِفَاقٍ وَرِيبَةٍ فَسُمُّوا بِذَلِكَ مَدْحًا لَهُمْ، وَإِشَارَةً إِلَى نَقَاءِ قُلُوبِهِمْ، كَالثَّوْبِ الْأَبْيَضِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ نَقِيُّ الْجَيْبِ، طَاهِرُ الذَّيْلِ، إِذَا كَانَ بَعِيدًا عَنِ الْأَفْعَالِ الذَّمِيمَةِ، وَفُلَانٌ دَنِسُ الثِّيَابِ: إِذَا كَانَ مُقْدِمًا عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ الضَّحَّاكُ: مَرَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْمٍ مِنَ الَّذِينَ كَانُوا يَغْسِلُونَ الثِّيَابَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ فَآمَنُوا، وَالَّذِي يَغْسِلُ الثِّيَابَ يُسَمَّى بِلُغَةِ النَّبْطِ هَوَارِيَّ، وَهُوَ الْقَصَّارُ فَعُرِّبَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فَصَارَتْ حواري، وقال

مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: الْحَوَارِيُّونَ: هُمُ الْقَصَّارُونَ، وَإِذَا عَرَفْتَ أَصْلَ هَذَا اللَّفْظِ فَقَدْ صَارَ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ دَلِيلًا عَلَى خَوَاصِّ الرَّجُلِ وَبِطَانَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الْحَوَارِيِّينَ مَنْ كَانُوا؟. فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِهِمْ وَهُمْ يَصْطَادُونَ السَّمَكَ فَقَالَ لَهُمْ «تَعَالَوْا نَصْطَادُ النَّاسَ» قَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: «أَنَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» فَطَلَبُوا مِنْهُ الْمُعْجِزَ عَلَى مَا قَالَ فَلَمَّا أَظْهَرَ الْمُعْجِزَ آمَنُوا بِهِ، فَهُمُ الْحَوَارِيُّونَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالُوا: سَلَّمَتْهُ أُمُّهُ إِلَى صَبَّاغٍ، فَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَهُ شَيْئًا كَانَ هُوَ أَعْلَمَ بِهِ مِنْهُ وَأَرَادَ الصَّبَّاغُ أَنْ يَغِيبَ لِبَعْضِ مُهِمَّاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: هَاهُنَا ثِيَابٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَقَدْ عَلَّمْتُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ عَلَامَةً مُعَيَّنَةً، فَاصْبُغْهَا بِتِلْكَ الْأَلْوَانِ، بِحَيْثُ يَتِمُّ الْمَقْصُودُ عِنْدَ رُجُوعِي، ثُمَّ غَابَ فَطَبَخَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جُبًّا وَاحِدًا، وَجَعَلَ الْجَمِيعَ فِيهِ وَقَالَ: «كُونِي بِإِذْنِ اللَّهِ كَمَا أُرِيدُ» فَرَجَعَ الصَّبَّاغُ فَأَخْبَرَهُ بِمَا فَعَلَ فَقَالَ: قَدْ أَفْسَدْتَ عَلَيَّ الثِّيَابَ، قَالَ: «قُمْ فَانْظُرْ» فَكَانَ يُخْرِجُ ثَوْبًا أَحْمَرَ، وَثَوْبًا أَخْضَرَ، وَثَوْبًا أَصْفَرَ كَمَا كَانَ يُرِيدُ، إِلَى أَنْ أَخْرَجَ الْجَمِيعَ عَلَى الْأَلْوَانِ الَّتِي أَرَادَهَا، فَتَعَجَّبَ الْحَاضِرُونَ مِنْهُ، وَآمَنُوا بِهِ فَهُمُ الْحَوَارِيُّونَ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: كَانُوا الْحَوَارِيُّونَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا اتَّبَعُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانُوا إِذَا قَالُوا: يَا رُوحَ اللَّهِ جُعْنَا، فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ، فَيَخْرُجُ لِكُلِّ وَاحِدٍ رَغِيفَانِ، وَإِذَا عَطِشُوا قَالُوا يَا رُوحَ اللَّهِ: عَطِشْنَا، فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ، فَيَخْرُجُ الْمَاءُ فَيَشْرَبُونَ، فَقَالُوا: مَنْ أَفْضَلُ مِنَّا إِذَا شِئْنَا أَطْعَمْتَنَا، وَإِذَا شِئْنَا سَقَيْتَنَا، وَقَدْ آمَنَّا بِكَ فَقَالَ: «أَفْضَلُ مِنْكُمْ مَنْ يَعْمَلُ بِيَدِهِ، وَيَأْكُلُ مِنْ/ كَسْبِهِ» فَصَارُوا يَغْسِلُونَ الثِّيَابَ بِالْكِرَاءِ، فَسُمُّوا حَوَارِيِّينَ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ كَانُوا مُلُوكًا قَالُوا وَذَلِكَ أَنَّ وَاحِدًا مِنَ الْمُلُوكِ صَنَعَ طَعَامًا، وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَكَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى قَصْعَةٍ مِنْهَا، فَكَانَتِ الْقَصْعَةُ لَا تَنْقُصُ، فَذَكَرُوا هَذِهِ الْوَاقِعَةَ لِذَلِكَ الْمَلِكَ، فَقَالَ: تَعْرِفُونَهُ، قَالُوا: نَعَمْ، فَذَهَبُوا بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، قَالَ فَإِنِّي أَتْرُكُ مُلْكِي وَأَتْبَعُكَ فَتَبِعَهُ ذَلِكَ الْمَلِكُ مَعَ أَقَارِبِهِ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْحَوَارِيُّونَ قَالَ الْقَفَّالُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْحَوَارِيِّينَ الِاثْنَيْ عَشَرَ مِنَ الْمُلُوكِ، وَبَعْضُهُمْ مِنْ صَيَّادِي السَّمَكِ، وَبَعْضُهُمْ مِنَ الْقَصَّارِينَ، وَالْكُلُّ سُمُّوا بِالْحَوَارِيِّينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَنْصَارَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَعْوَانَهُ، وَالْمُخْلِصِينَ فِي مَحَبَّتِهِ، وَطَاعَتِهِ، وَخِدْمَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أَيْ نَحْنُ أَنْصَارُ دِينِ اللَّهِ وَأَنْصَارُ أَنْبِيَائِهِ، لِأَنَّ نُصْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَقِيقَةِ مُحَالٌ، فَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. أَمَّا قَوْلُهُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى ذِكْرِ الْعِلَّةِ، وَالْمَعْنَى يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ مِنْ أَنْصَارِ اللَّهِ، لِأَجْلِ أَنَّا آمَنَّا بِاللَّهِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ يُوجِبُ نُصْرَةَ دِينِ اللَّهِ، وَالذَّبَّ عَنْ أَوْلِيَائِهِ، وَالْمُحَارَبَةَ مَعَ أَعْدَائِهِ. ثُمَّ قَالُوا: وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّ إِشْهَادَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، إِشْهَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَيْضًا، ثُمَّ فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ وَاشْهَدْ أَنَّا مُنْقَادُونَ لِمَا تُرِيدُهُ مِنَّا فِي نُصْرَتِكَ، وَالذَّبِّ عَنْكَ، مُسْتَسْلِمُونَ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ إِقْرَارٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ دِينَهُمُ الْإِسْلَامُ، وَأَنَّهُ دِينُ كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا أَشْهَدُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَعَلَى إِسْلَامِهِمْ تَضَرَّعُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالُوا:

رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ آمَنُوا بِاللَّهِ حِينَ قَالُوا: فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ آمَنَّا بِاللَّهِ ثُمَّ آمَنُوا بِكُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ قَالُوا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَآمَنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ حَيْثُ، قَالُوا وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَعِنْدَ ذَلِكَ طَلَبُوا الزُّلْفَةَ وَالثَّوَابَ، فَقَالُوا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلشَّاهِدِينَ فَضْلٌ يَزِيدُ عَلَى فَضْلِ الْحَوَارِيِّينَ، وَيَفْضُلُ عَلَى دَرَجَتِهِ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمَخْصُوصُونَ بِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [الْبَقَرَةِ: 143] الثَّانِي: وَهُوَ مَنْقُولٌ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أَيِ اكْتُبْنَا فِي زُمْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ كُلَّ نبي شاهد لقومه قال الله تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: 6] . وقد أجاب الله دُعَاءَهُمْ وَجَعَلَهُمْ أَنْبِيَاءَ وَرُسُلًا، فَأَحْيَوُا الْمَوْتَى، وَصَنَعُوا كُلَّ مَا صَنَعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أَيِ اكْتُبْنَا فِي جُمْلَةِ مَنْ شَهِدَ لَكَ بِالتَّوْحِيدِ وَلِأَنْبِيَائِكَ بِالتَّصْدِيقِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ لَمَّا أَشْهَدُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى إِسْلَامِ أَنْفُسِهِمْ، حَيْثُ قَالُوا وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ فَقَدْ أَشْهَدُوا اللَّهَ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ، وَتَقْوِيَةً لَهُ، وَأَيْضًا طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ مِثْلَ ثَوَابِ كُلِّ مُؤْمِنٍ شَهِدَ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ وَلِأَنْبِيَائِهِ بِالنُّبُوَّةِ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: إِنَّ قَوْلَهُ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ إِشَارَةٌ إِلَى أن كتاب الأبرار إنما يكون في السموات مَعَ الْمَلَائِكَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [الْمُطَفِّفِينَ: 18] فَإِذَا كَتَبَ اللَّهُ ذِكْرَهُمْ مَعَ الشَّاهِدِينَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ ذِكْرُهُمْ مَشْهُورًا فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَعِنْدَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آل عمران: 18] فجعل أولو الْعِلْمِ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَقَرَنَ ذِكْرَهُمْ بِذِكْرِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ دَرَجَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمَرْتَبَةٌ عَالِيَةٌ، فَقَالُوا: فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أَيِ اجْعَلْنَا مِنْ تِلْكَ الْفِرْقَةِ الَّذِينَ قَرَنْتَ ذِكْرَهُمْ بِذِكْرِكَ. وَالْقَوْلُ السَّادِسُ: إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَأَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِحْسَانِ فَقَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» وَهَذَا غَايَةُ دَرَجَةِ الْعَبْدِ فِي الِاشْتِغَالِ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي مَقَامِ الشُّهُودِ، لَا فِي مَقَامِ الْغَيْبَةِ، فَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ لَمَّا صَارُوا كَامِلِينَ فِي دَرَجَةِ الِاسْتِدْلَالِ أَرَادُوا التَّرَقِّيَ مِنْ مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ، إِلَى مَقَامِ الشُّهُودِ وَالْمُكَاشَفَةِ، فَقَالُوا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ. الْقَوْلُ السَّابِعُ: إِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ فِي مَقَامِ شُهُودِ الْحَقِّ لَمْ يُبَالِ بِمَا يَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَشَاقِّ وَالْآلَامِ، فَلَمَّا قَبِلُوا مِنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَكُونُوا نَاصِرِينَ لَهُ، ذَابِّينَ عَنْهُ، قَالُوا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أَيِ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَكُونُ فِي شُهُودِ جَلَالِكَ، حَتَّى نَصِيرَ مُسْتَحْقِرِينَ لِكُلِّ مَا يَصِلُ إِلَيْنَا مِنَ الْمَشَاقِّ وَالْمَتَاعِبِ فَحِينَئِذٍ يَسْهُلُ عَلَيْنَا الْوَفَاءُ بِمَا الْتَزَمْنَاهُ مِنْ نُصْرَةِ رَسُولِكَ وَنَبِيِّكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَصْلُ الْمَكْرِ فِي اللُّغَةِ، السَّعْيُ بِالْفَسَادِ فِي خُفْيَةٍ وَمُدَاجَاةٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ مَكْرُ اللَّيْلِ، وَأَمْكَرَ إِذَا أَظْلَمَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْفَالِ: 30] وَقَالَ: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [يُوسُفَ: 102] وَقِيلَ أَصْلُهُ مِنَ اجْتِمَاعِ الْأَمْرِ وَإِحْكَامِهِ، وَمِنْهُ امْرَأَةٌ مَمْكُورَةٌ أَيْ مُجْتَمِعَةُ

الْخَلْقِ وَإِحْكَامُ الرَّأْيِ يُقَالُ لَهُ الْإِجْمَاعُ وَالْجَمْعُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ [يُونُسَ: 71] فَلَمَّا كَانَ الْمَكْرُ رَأْيًا مُحْكَمًا قَوِيًّا مَصُونًا عَنْ جِهَاتِ النَّقْصِ وَالْفُتُورِ، لَا جَرَمَ سُمِّيَ مَكْرًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا مَكْرُهُمْ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَهُوَ أَنَّهُمْ هَمُّوا بِقَتْلِهِ، وَأَمَّا مَكْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ، فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَكْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ هُوَ أَنَّهُ رَفَعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى السَّمَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ يَهُودَا مَلِكَ الْيَهُودِ، أَرَادَ قَتْلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا يُفَارِقُهُ سَاعَةً، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ/ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [الْبَقَرَةِ: 87] فَلَمَّا أَرَادُوا ذَلِكَ أَمَرَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتًا فِيهِ رَوْزَنَةٌ، فَلَمَّا دَخَلُوا الْبَيْتَ أَخْرَجَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ تِلْكَ الرَّوْزَنَةِ، وَكَانَ قَدْ أَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَأُخِذَ وَصُلِبَ فَتَفَرَّقَ الْحَاضِرُونَ ثَلَاثَ فِرَقٍ، فِرْقَةٌ قَالَتْ: كَانَ اللَّهَ فِينَا فَذَهَبَ، وَأُخْرَى قَالَتْ: كَانَ ابْنَ اللَّهِ، وَالْأُخْرَى قَالَتْ: كَانَ عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ، فَأَكْرَمَهُ بِأَنْ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَصَارَ لِكُلِّ فِرْقَةٍ جَمْعٌ فَظَهَرَتِ الْكَافِرَتَانِ عَلَى الْفِرْقَةِ الْمُؤْمِنَةِ إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الْجُمْلَةِ، فَالْمُرَادُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ بِهِمْ أَنْ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَمَا مَكَّنَهُمْ مِنْ إِيصَالِ الشَّرِّ إِلَيْهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَوَارِيِّينَ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ، وَكَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِي بَيْتٍ فَنَافَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَدَلَّ الْيَهُودَ عَلَيْهِ، فَأَلْقَى اللَّهُ شَبَهَهُ عَلَيْهِ وَرَفَعَ عِيسَى، فَأَخَذُوا ذَلِكَ الْمُنَافِقَ الَّذِي كَانَ فِيهِمْ، وَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ مَكْرَ اللَّهِ بِهِمْ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ الْيَهُودَ عَذَّبُوا الْحَوَارِيِّينَ بَعْدَ أَنْ رُفِعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَشَمَّسُوهُمْ وَعَذَّبُوهُمْ، فَلَقُوا مِنْهُمُ الْجَهْدَ فَبَلَغَ ذَلِكَ مَلِكَ الرُّومِ، وَكَانَ مَلِكُ الْيَهُودِ مِنْ رَعِيَّتِهِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِمَّنْ تَحْتَ أَمْرِكَ كَانَ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَرَاهُمْ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءَ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ فَقُتِلَ، فَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ ذَلِكَ لَحُلْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ، فَانْتَزَعَهُمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَسَأَلَهُمْ عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَخْبَرُوهُ فَتَابَعَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَأَنْزَلَ الْمَصْلُوبَ فَغَيَّبَهُ، وَأَخَذَ الْخَشَبَةَ فَأَكْرَمَهَا وَصَانَهَا، ثُمَّ غَزَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا عَظِيمًا وَمِنْهُ ظَهَرَ أَصْلُ النَّصْرَانِيَّةِ فِي الرُّومِ، وَكَانَ اسْمُ هَذَا الْمَلِكِ طَبَارِيسَ، وَهُوَ صَارَ نَصْرَانِيًّا، إِلَّا أَنَّهُ مَا أَظْهَرَ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ جَاءَ بَعْدَهُ مَلِكٌ آخَرُ، يُقَالُ لَهُ: مَطْلِيسُ، وَغَزَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ ارْتِفَاعِ عِيسَى بِنَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَقَتَلَ وَسَبَى وَلَمْ يَتْرُكْ فِي مَدِينَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَجَرًا عَلَى حَجَرٍ فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ إِلَى الْحِجَازِ فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا جَازَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى تَكْذِيبِ الْمَسِيحِ وَالْهَمِّ بِقَتْلِهِ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَلِكَ فَارِسَ حَتَّى قَتَلَهُمْ وَسَبَاهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الْإِسْرَاءِ: 5] فَهَذَا هُوَ مَكْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ مَكَرُوا فِي إِخْفَاءِ أَمْرِهِ، وَإِبْطَالِ دِينِهِ وَمَكَرَ اللَّهُ بِهِمْ حَيْثُ أَعْلَى دِينَهُ وَأَظْهَرَ شَرِيعَتَهُ وَقَهَرَ بِالذُّلِّ وَالدَّنَاءَةِ أَعْدَاءَهُ وَهُمُ الْيَهُودُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَكْرُ عِبَارَةٌ عَنِ الِاحْتِيَالِ فِي إِيصَالِ الشَّرِّ، وَالِاحْتِيَالُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ فَصَارَ لَفْظُ الْمَكْرِ فِي حَقِّهِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ وذكروا في تأويله وجوهاًأحدها: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى جَزَاءَ الْمَكْرِ بِالْمَكْرِ، كَقَوْلِهِ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] وَسَمَّى جَزَاءَ الْمُخَادَعَةِ بِالْمُخَادَعَةِ، وَجَزَاءَ الِاسْتِهْزَاءِ بِالِاسْتِهْزَاءِ وَالثَّانِي: أَنَّ مُعَامَلَةَ اللَّهِ مَعَهُمْ كَانَتْ شَبِيهَةً بِالْمَكْرِ فَسُمِّيَ بِذَلِكَ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَيْسَ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ، لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّدْبِيرِ الْمُحْكَمِ الْكَامِلِ ثُمَّ اخْتَصَّ فِي الْعُرْفِ بِالتَّدْبِيرِ فِي إِيصَالِ/ الشَّرِّ إِلَى الْغَيْرِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تعالى غير ممتنع والله أعلم.

[سورة آل عمران (3) : آية 55]

[سورة آل عمران (3) : آية 55] إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) [في قوله تعالى إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ إلى قوله تعالى يَوْمِ الْقِيامَةِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَامِلُ فِي إِذْ قَوْلُهُ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أَيْ وُجِدَ هَذَا الْمَكْرُ إِذْ قَالَ اللَّهُ هَذَا الْقَوْلَ، وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: ذَاكَ إِذْ قَالَ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْتَرَفُوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَّفَ عِيسَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِصِفَاتٍ: الصِّفَةُ الْأُولَى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [الْمَائِدَةِ: 117] وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى طَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا: إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ، وَلَا تَأْخِيرٍ فِيهَا وَالثَّانِي: فَرْضُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِيهَا، أَمَّا الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ فَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: مَعْنَى قَوْلِهِ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أَيْ مُتَمِّمٌ عُمُرَكَ، فَحِينَئِذٍ أَتَوَفَّاكَ، فَلَا أَتْرُكُهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوكَ، بَلْ أَنَا رَافِعُكَ إِلَى سَمَائِي، وَمُقَرِّبُكَ بِمَلَائِكَتِي، وَأَصُونُكَ عَنْ أَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ قَتْلِكَ وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ وَالثَّانِي: مُتَوَفِّيكَ أَيْ مُمِيتُكَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالُوا: وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يَصِلَ أَعْدَاؤُهُ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى قَتْلِهِ ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَكْرَمَهُ بِأَنْ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: قَالَ وَهْبٌ: تُوُفِّيَ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، ثُمَّ رُفِعَ وَثَانِيهَا: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: تُوُفِّيَ سَبْعَ سَاعَاتٍ، ثُمَّ أَحْيَاهُ اللَّهُ وَرَفَعَهُ الثَّالِثُ: قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: إِنَّهُ تَعَالَى تَوَفَّاهُ حِينَ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزُّمَرِ: 42] . الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ تُفِيدُ التَّرْتِيبَ فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ بِهِ هَذِهِ الْأَفْعَالَ، فَأَمَّا كَيْفَ يَفْعَلُ، وَمَتَى يَفْعَلُ، فَالْأَمْرُ فِيهِ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ، وَقَدْ ثَبَتَ الدَّلِيلُ أَنَّهُ حَيٌّ وَوَرَدَ الْخَبَرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ سَيَنْزِلُ وَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ» ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَتَوَفَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: فِي التَّأْوِيلِ مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْوَاسِطِيُّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ عَنْ شَهَوَاتِكَ وَحُظُوظِ نَفْسِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَصِرْ فَانِيًا عَمَّا سِوَى اللَّهِ لَا يَكُونُ لَهُ وُصُولٌ إِلَى مَقَامِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَأَيْضًا فَعِيسَى لَمَّا رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ صَارَ حَالُهُ كَحَالِ الْمَلَائِكَةِ فِي زَوَالِ الشَّهْوَةِ، وَالْغَضَبِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ. وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ التَّوَفِّيَ أَخْذُ الشَّيْءِ وَافِيًا، وَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَخْطُرُ بِبَالِهِ أَنَّ الَّذِي رَفَعَهُ اللَّهُ هُوَ رُوحُهُ لَا جَسَدُهُ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رُفِعَ بِتَمَامِهِ إِلَى السَّمَاءِ بِرُوحِهِ وَبِجَسَدِهِ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ [النِّسَاءِ: 113] . وَالْوَجْهُ السَّابِعُ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أَيْ أَجْعَلُكَ كَالْمُتَوَفَّى لِأَنَّهُ إِذَا رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ وَأَثَرُهُ عَنِ الْأَرْضِ كَانَ كَالْمُتَوَفَّى، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الشَّيْءِ عَلَى مَا يُشَابِهُهُ فِي أَكْثَرِ خَوَاصِّهِ وَصِفَاتِهِ جَائِزٌ حَسَنٌ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ التَّوَفِّيَ هُوَ الْقَبْضُ يُقَالُ: وَفَّانِي فُلَانٌ دَرَاهِمِي وَأَوْفَانِي وَتَوَفَّيْتُهَا مِنْهُ، كَمَا يُقَالُ: سَلَّمَ فُلَانٌ دَرَاهِمِي إِلَيَّ وَتَسَلَّمْتُهَا مِنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا تُوُفِّيَ بِمَعْنَى اسْتَوْفَى وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ كَانَ إِخْرَاجُهُ مِنَ

الْأَرْضِ وَإِصْعَادُهُ إِلَى السَّمَاءِ تَوَفِّيًا لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ التَّوَفِّي عَيْنَ الرَّفْعِ إِلَيْهِ فَيَصِيرُ قَوْلُهُ وَرافِعُكَ إِلَيَّ تَكْرَارًا. قُلْنَا: قَوْلُهُ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ التَّوَفِّي وَهُوَ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ بَعْضُهَا بِالْمَوْتِ وَبَعْضُهَا بِالْإِصْعَادِ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا قَالَ بَعْدَهُ وَرافِعُكَ إِلَيَّ كَانَ هَذَا تَعْيِينًا لِلنَّوْعِ وَلَمْ يَكُنْ تَكْرَارًا. الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنْ يُقَدَّرَ فِيهِ حَذْفُ الْمُضَافِ وَالتَّقْدِيرُ: مُتَوَفِّي عَمَلِكَ بِمَعْنَى مُسْتَوْفِي عَمَلِكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ أَيْ وَرَافِعُ عَمَلِكَ إِلَيَّ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فَاطِرٍ: 10] وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى بَشَّرَهُ بِقَبُولِ طَاعَتِهِ وَأَعْمَالِهِ، وَعَرَّفَهُ أَنَّ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَتَاعِبِ وَالْمَشَاقِّ فِي تَمْشِيَةِ دِينِهِ وَإِظْهَارِ شَرِيعَتِهِ مِنَ الْأَعْدَاءِ فَهُوَ لَا يُضِيعُ أَجْرَهُ وَلَا يَهْدِمُ ثَوَابَهُ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجْرِي الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا. الطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَا بُدَّ فِي الْآيَةِ مِنْ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْتَاجَ فِيهَا إِلَى تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ، قَالُوا إِنَّ قَوْلَهُ وَرافِعُكَ إِلَيَّ يَقْتَضِي أَنَّهُ رَفَعَهُ حَيًّا، وَالْوَاوُ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَقُولَ فِيهَا تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى: أَنِّي رَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمُتَوَفِّيكَ بَعْدَ إِنْزَالِي إِيَّاكَ فِي الدُّنْيَا، وَمِثْلُهُ مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوُجُوهَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا تُغْنِي عَنِ الْتِزَامِ مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمُشَبِّهَةُ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ المكان لله تعالى وأنه في المساء، وَقَدْ دَلَّلْنَا فِي الْمَوَاضِعِ الْكَثِيرَةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ تَعَالَى فِي الْمَكَانِ فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ/ عَلَى التَّأْوِيلِ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ إِلَى مَحَلِّ كَرَامَتِي، وَجَعَلَ ذَلِكَ رَفْعًا إِلَيْهِ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصَّافَّاتِ: 99] وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ وَقَدْ يَقُولُ السُّلْطَانُ: ارْفَعُوا هَذَا الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي، وَقَدْ يُسَمَّى الْحُجَّاجُ زُوَّارَ اللَّهِ، وَيُسَمَّى الْمُجَاوِرُونَ جِيرَانَ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ التَّفْخِيمُ وَالتَّعْظِيمُ فَكَذَا هَاهُنَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَرافِعُكَ إِلَيَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُرْفَعُ إِلَى مَكَانٍ لَا يَمْلِكُ الْحُكْمَ عَلَيْهِ فِيهِ غَيْرُ اللَّهِ لِأَنَّ فِي الْأَرْضِ قد يتولى الخلق أنواع الأحكام فأما السموات فَلَا حَاكِمَ هُنَاكَ فِي الْحَقِيقَةِ وَفِي الظَّاهِرِ إِلَّا اللَّهُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ فِي مَكَانٍ لَمْ يَكُنِ ارْتِفَاعُ عِيسَى إِلَى ذَلِكَ سَبَبًا لِانْتِفَاعِهِ وَفَرَحِهِ بَلْ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ لَوْ وَجَدَ هُنَاكَ مَطْلُوبَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالرَّوْحِ وَالرَّاحَةِ وَالرَّيْحَانِ، فَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: وَرَافِعُكَ إِلَى مَحَلِّ ثَوَابِكَ وَمُجَازَاتِكَ، وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ مَا ذَكَرْنَاهُ لَمْ يَبْقَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْمَكَانِ لِلَّهِ تَعَالَى. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ صِفَاتِ عِيسَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالْمَعْنَى مُخْرِجُكَ مِنْ بَيْنِهِمْ وَمُفَرِّقٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، وَكَمَا عَظَّمَ شَأْنَهُ بِلَفْظِ الرَّفْعِ إِلَيْهِ أَخْبَرَ عَنْ مَعْنَى التَّخْلِيصِ بِلَفْظِ التَّطْهِيرِ وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي إِعْلَاءِ شَأْنِهِ وَتَعْظِيمِ مَنْصِبِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى: الَّذِينَ اتَّبَعُوا دِينَ عِيسَى يَكُونُونَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ، وَهُمُ الْيَهُودُ بِالْقَهْرِ وَالسُّلْطَانِ وَالِاسْتِعْلَاءِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إخباراً عن ذل اليهود وإنهم يكونوا مَقْهُورِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَأَمَّا الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَأَمَّا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَهُمْ وَإِنْ أَظْهَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ مُوَافَقَتَهُ فَهُمْ يُخَالِفُونَهُ أَشَدَّ الْمُخَالَفَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ صَرِيحَ الْعَقْلِ يَشْهَدُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَرْضَى بِشَيْءٍ مِمَّا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّا نَرَى أَنَّ دَوْلَةَ النَّصَارَى فِي الدُّنْيَا أَعْظَمُ وَأَقْوَى مِنْ أَمْرِ الْيَهُودِ فَلَا نَرَى فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ الدُّنْيَا مُلْكًا يَهُودِيًّا وَلَا بَلْدَةً مَمْلُوءَةً مِنَ الْيَهُودِ بَلْ يَكُونُونَ أَيْنَ كَانُوا بالذلة والمسكنة وَأَمَّا النَّصَارَى فَأَمْرُهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْفَوْقِيَّةِ الْفَوْقِيَّةُ بِالْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَفْعَهُ فِي قَوْلِهِ وَرافِعُكَ إِلَيَّ هُوَ الرِّفْعَةُ بِالدَّرَجَةِ وَالْمَنْقَبَةِ، لَا بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ، كَمَا أَنَّ الْفَوْقِيَّةَ فِي هَذِهِ لَيْسَتْ بِالْمَكَانِ بَلْ بِالدَّرَجَةِ وَالرِّفْعَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى بَشَّرَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ يُعْطِيهِ فِي الدُّنْيَا تِلْكَ الْخَوَاصَّ الشَّرِيفَةَ، وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةَ الْعَالِيَةَ، وَأَمَّا فِي الْقِيَامَةِ/ فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَبَيْنَ الْجَاحِدِينَ بِرِسَالَتِهِ، وَكَيْفِيَّةُ ذَلِكَ الْحُكْمِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَقِيَ مِنْ مَبَاحِثِ هَذِهِ الْآيَةِ مَوْضِعٌ مُشْكِلٌ وَهُوَ أَنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى حِينَ رَفَعَهُ أَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى غَيْرِهِ عَلَى مَا قَالَ: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النِّسَاءِ: 157] وَالْأَخْبَارُ أَيْضًا وَارِدَةٌ بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الرِّوَايَاتِ اخْتَلَفَتْ، فَتَارَةً يُرْوَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْدَاءِ الَّذِينَ دَلُّوا الْيَهُودَ عَلَى مَكَانِهِ حَتَّى قَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ، وَتَارَةً يُرْوَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَغَّبَ بَعْضَ خَوَاصِّ أَصْحَابِهِ فِي أن يلقي شبهه حَتَّى يُقْتَلَ مَكَانَهُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَكَيْفَمَا كَانَ فَفِي إِلْقَاءِ شَبَهِهِ عَلَى الْغَيْرِ إِشْكَالَاتٌ: الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا إِلْقَاءَ شَبَهِ إِنْسَانٍ عَلَى إِنْسَانٍ آخَرَ لَزِمَ السَّفْسَطَةُ، فَإِنِّي إِذَا رَأَيْتُ وَلَدِي ثُمَّ رَأَيْتُهُ ثَانِيًا فَحِينَئِذٍ أُجَوِّزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الَّذِي رَأَيْتُهُ ثَانِيًا لَيْسَ بِوَلَدِي بَلْ هُوَ إِنْسَانٌ أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَيْهِ وَحِينَئِذٍ يَرْتَفِعُ الْأَمَانُ عَلَى الْمَحْسُوسَاتِ، وَأَيْضًا فَالصَّحَابَةُ الَّذِينَ رَأَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ وَجَبَ أَنْ لَا يَعْرِفُوا أَنَّهُ مُحَمَّدٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى سُقُوطِ الشَّرَائِعِ، وَأَيْضًا فَمَدَارُ الْأَمْرِ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ الْأَوَّلُ إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنِ الْمَحْسُوسِ، فَإِذَا جَازَ وُقُوعُ الْغَلَطِ فِي الْمُبْصَرَاتِ كَانَ سُقُوطُ خَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ أَوْلَى وَبِالْجُمْلَةِ فَفَتْحُ هَذَا الْبَابِ أَوَّلُهُ سَفْسَطَةٌ وَآخِرُهُ إِبْطَالُ النُّبُوَّاتِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَالْإِشْكَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ أَمَرَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يَكُونَ مَعَهُ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ، هَكَذَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ [الْمَائِدَةِ: 110] ثُمَّ إِنَّ طَرَفَ جَنَاحٍ وَاحِدٍ مِنْ أَجْنِحَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَكْفِي الْعَالَمَ مِنَ الْبَشَرِ فَكَيْفَ لَمْ يَكْفِ فِي مَنْعِ أُولَئِكَ الْيَهُودِ عَنْهُ؟ وَأَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، فَكَيْفَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِمَاتَةِ أُولَئِكَ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَصَدُوهُ بِالسُّوءِ وَعَلَى إِسْقَامِهِمْ وَإِلْقَاءِ الزَّمَانَةِ وَالْفَلَجِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَصِيرُوا عَاجِزِينَ عَنِ التَّعَرُّضِ لَهُ؟. وَالْإِشْكَالُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَادِرًا عَلَى تَخْلِيصِهِ مِنْ أُولَئِكَ الْأَعْدَاءِ بِأَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَمَا الْفَائِدَةُ

[سورة آل عمران (3) : آية 56]

فِي إِلْقَاءِ شَبَهِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَهَلْ فِيهِ إِلَّا إِلْقَاءُ مِسْكِينٍ فِي الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ إِلَيْهِ؟. وَالْإِشْكَالُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ إِذَا أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَى غَيْرِهِ ثُمَّ إِنَّهُ رُفِعَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى السَّمَاءِ فَالْقَوْمُ اعْتَقَدُوا فِيهِ أَنَّهُ هُوَ عِيسَى مَعَ أَنَّهُ مَا كَانَ عِيسَى، فَهَذَا كَانَ إِلْقَاءً لَهُمْ فِي الْجَهْلِ وَالتَّلْبِيسِ، وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْإِشْكَالُ الْخَامِسُ: أَنَّ النَّصَارَى عَلَى كَثْرَتِهِمْ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا وَشِدَّةِ مَحَبَّتِهِمْ لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَغُلُوِّهِمْ فِي أَمْرِهِ أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ شَاهَدُوهُ مَقْتُولًا مَصْلُوبًا، فَلَوْ أَنْكَرْنَا ذَلِكَ كَانَ طَعْنًا فِيمَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ، وَالطَّعْنُ فِي التَّوَاتُرِ يُوجِبُ الطَّعْنَ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنُبُوَّةِ عِيسَى، بَلْ فِي وُجُودِهِمَا، وَوُجُودِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ. وَالْإِشْكَالُ السَّادِسُ: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ الْمَصْلُوبَ بَقِيَ حَيًّا زَمَانًا طَوِيلًا، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِيسَى بَلْ كَانَ غَيْرَهُ لَأَظْهَرَ الْجَزَعَ، وَلَقَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِعِيسَى بَلْ إِنَّمَا أَنَا غَيْرُهُ، وَلَبَالَغَ فِي تَعْرِيفِ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَوْ ذُكِرَ ذَلِكَ لَاشْتَهَرَ عِنْدَ الْخَلْقِ هَذَا الْمَعْنَى، فَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عَلِمْنَا أَنْ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا فِي الْمَوْضِعِ مِنَ السُّؤَالَاتِ: وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ كُلَّ مَنْ أَثْبَتَ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ، سَلَّمَ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ إِنْسَانًا آخَرَ عَلَى صُورَةِ زَيْدٍ مَثَلًا، ثُمَّ إِنَّ هَذَا التَّصْوِيرَ لَا يُوجِبُ الشَّكَّ الْمَذْكُورَ، فَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا ذَكَرْتُمْ: وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوْ دَفَعَ الْأَعْدَاءَ عَنْهُ أَوْ أَقْدَرَ اللَّهُ تَعَالَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى دَفْعِ الْأَعْدَاءِ عَنْ نَفْسِهِ لَبَلَغَتْ مُعْجِزَتُهُ إِلَى حَدِّ الْإِلْجَاءِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الثَّالِثِ: فَإِنَّهُ تَعَالَى لَوْ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَمَا أَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى الْغَيْرِ لَبَلَغَتْ تِلْكَ الْمُعْجِزَةُ إِلَى حَدِّ الْإِلْجَاءِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الرَّابِعِ: أَنَّ تَلَامِذَةَ عِيسَى كَانُوا حَاضِرِينَ، وَكَانُوا عَالِمِينَ بِكَيْفِيَّةِ الْوَاقِعَةِ، وَهُمْ كَانُوا يُزِيلُونَ ذَلِكَ التَّلْبِيسَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْخَامِسِ: أَنَّ الْحَاضِرِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانُوا قَلِيلِينَ وَدُخُولُ الشُّبْهَةِ عَلَى الْجَمْعِ الْقَلِيلِ جَائِزٌ وَالتَّوَاتُرُ إِذَا انْتَهَى فِي آخِرِ الْأَمْرِ إِلَى الْجَمْعِ الْقَلِيلِ لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ. وَالْجَوَابُ عَنِ السَّادِسِ: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي أُلْقِيَ شَبَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ كَانَ مُسْلِمًا وَقَبْلَ ذَلِكَ عَنْ عِيسَى جَائِزٌ أَنْ يَسْكُتَ عَنْ تَعْرِيفِ حَقِيقَةِ الْحَالِ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَسْئِلَةُ الَّتِي ذَكَرُوهَا أُمُورٌ تَتَطَرَّقُ الِاحْتِمَالَاتُ إِلَيْهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَلَمَّا ثَبَتَ بِالْمُعْجِزِ الْقَاطِعِ صِدْقُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ امْتَنَعَ صَيْرُورَةُ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ الْمُحْتَمَلَةِ مُعَارِضَةً لِلنَّصِّ القاطع، والله ولي الهداية. [سورة آل عمران (3) : آية 56] فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [آل عمران: 55] بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا مَا فِي ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ، أَمَّا الِاخْتِلَافُ فَهُوَ أَنْ كَفَرَ قَوْمٌ وَآمَنَ آخَرُونَ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فِيمَنْ كَفَرَ فَهُوَ/ أَنْ يُعَذِّبَهُ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فِيمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ، فَهُوَ أَنْ يُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

[سورة آل عمران (3) : آية 57]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمَّا عَذَابُ الْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْقَتْلُ وَالسَّبْيُ وَمَا شَاكَلَهُ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْكُفْرَ لَمْ يَحْسُنْ إِيقَاعُهُ بِهِ، فَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا وَالثَّانِي: مَا يَلْحَقُ الْكَافِرَ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْمَصَائِبِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ هَلْ هُوَ عِقَابٌ أَمْ لَا؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ عِقَابٌ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، وَإِذَا وَقَعَ مِثْلُهُ لِلْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ عِقَابًا بَلْ يَكُونُ ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا، وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا إِذَا وَقَعَ لِلْكَافِرِ لَا يَكُونُ عِقَابًا بَلْ يَكُونُ أَيْضًا ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا، وَيَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى الْحُدُودِ التي تقام على النائب، فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ عِقَابًا بَلِ امْتِحَانًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى يَعِدُ الْكُلَّ بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا وَالرِّضَا بِهَا وَالتَّسْلِيمِ لَهَا وَمَا هَذَا حَالُهُ لَا يَكُونُ عِقَابًا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ سَلَّمْتُمْ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ عَذَابٌ لِلْكَافِرِ عَلَى كُفْرِهِ، وَهَذَا عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ [النَّحْلِ: 61] وَكَلِمَةُ (لَوْ) تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تُوجَدَ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الدُّنْيَا، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [غَافِرٍ: 17] وَذَلِكَ يَقْتَضِي حُصُولَ الْمُجَازَاةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، لَا فِي الدُّنْيَا، قُلْنَا: الْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى حُصُولِ الْعِقَابِ فِي الدُّنْيَا خَاصَّةٌ، وَالْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا عَامَّةٌ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ وَصْفُ الْعَذَابِ بِالشِّدَّةِ، يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عِقَابُ الْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا أَشَدَّ، وَلَسْنَا نَجِدُ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْأَمْرَ تَارَةً يَكُونُ عَلَى الْكُفَّارِ وَأُخْرَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا نَجِدُ بَيْنَ النَّاسِ تَفَاوُتًا. قُلْنَا: بَلِ التَّفَاوُتُ مَوْجُودٌ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ الْآيَةَ فِي بَيَانِ أَمْرِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنَرَى الذِّلَّةَ وَالْمَسْكَنَةَ لَازِمَةً لَهُمْ، فَزَالَ الْإِشْكَالُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَصَفَ تَعَالَى هَذَا الْعَذَابَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مَنْ يَنْصُرُهُمْ وَيَدْفَعُ ذَلِكَ الْعَذَابَ عَنْهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ يَمْتَنِعُ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَالْمُؤْمِنِينَ قَتْلُ الْكُفَّارِ بِسَبَبِ الْعَهْدِ وَعَقْدِ الذِّمَّةِ. قُلْنَا: الْمَانِعُ هُوَ الْعَهْدُ، وَلِذَلِكَ إِذَا زال العهد حل قتله. [سورة آل عمران (3) : آية 57] وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ فَيُوَفِّيهِمْ بِالْيَاءِ، يَعْنِي فَيُوَفِّيهِمُ اللَّهُ، وَالْبَاقُونَ بِالنُّونِ حَمْلًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ فَأَحْكُمُ، ... فَأُعَذِّبُهُمْ وَهُوَ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ نَسَقُ الْكَلَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ الَّذِينَ آمَنُوا، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ خَارِجٌ عَنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ مِرَارًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْعَمَلَ عِلَّةٌ لِلْجَزَاءِ بِقَوْلِهِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ فَشَبَّهَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ لِأَجْلِ طَلَبِ الثَّوَابِ بِالْمُسْتَأْجِرِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ أَيْضًا قَدْ تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ، قَالُوا: لِأَنَّ مُرِيدَ الشَّيْءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لَهُ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَإِنَّمَا تُخَالِفُ الْمَحَبَّةُ الْإِرَادَةَ إِذَا عُلِّقَتَا بِالْأَشْخَاصِ، فَقَدْ يُقَالُ: أُحِبُّ زَيْدًا، وَلَا يُقَالُ: أُرِيدُهُ، وَأَمَّا إِذَا عَلِقَتَا بِالْأَفْعَالِ: فَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ إِذَا اسْتُعْمِلَتَا

[سورة آل عمران (3) : آية 58]

عَلَى حَقِيقَةِ اللُّغَةِ، فَصَارَ قَوْلُهُ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ (لَا يُرِيدُ ظُلْمَ الظَّالِمِينَ) «1» هَكَذَا قَرَّرَهُ الْقَاضِي، وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمَحَبَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ إِرَادَةِ إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَيْهِ فَهُوَ تَعَالَى وَإِنْ أَرَادَ كُفْرَ الْكَافِرِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُرِيدُ إِيصَالَ الثَّوَابِ إِلَيْهِ، وَهَذِهِ المسألة قد ذكرناها مراراً وأطواراً. [سورة آل عمران (3) : آية 58] ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ نَبَأِ عِيسَى وَزَكَرِيَّا وَغَيْرِهِمَا، وهو مبتدأ، خبره نَتْلُوهُ ومِنَ الْآياتِ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمَعْنَى الَّذِي، ونَتْلُوهُ صلته، ومِنَ الْآياتِ الْخَبَرُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: التِّلَاوَةُ وَالْقَصَصُ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى شَيْءٍ يُذْكَرُ بَعْضُهُ عَلَى إِثْرِ بَعْضٍ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ التِّلَاوَةَ إِلَى نَفْسِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى [الْقَصَصِ: 3] وَأَضَافَ الْقَصَصَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يُوسُفَ: 3] وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ تِلَاوَةَ الْمَلَكِ جَارِيَةً مَجْرَى تِلَاوَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهَذَا تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لِلْمَلَكِ، وَإِنَّمَا حَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّ تِلَاوَةَ جِبْرِيلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ بِأَمْرِهِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ أَصْلًا أُضِيفَ ذَلِكَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ مِنَ الْآياتِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ، أَنَّ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ مِنَ الْعَلَامَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ثُبُوتِ رِسَالَتِكَ، لِأَنَّهَا أَخْبَارٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا/ قَارِئٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ مَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، فَظَاهِرٌ أَنَّكَ لَا تَكْتُبُ وَلَا تَقْرَأُ، فَبَقِيَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْوَحْيِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْقُرْآنُ وَفِي وَصْفِ الْقُرْآنِ بِكَوْنِهِ ذِكْرًا حَكِيمًا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بِمَعْنَى الْحَاكِمِ مِثْلُ الْقَدِيرِ وَالْعَلِيمِ، وَالْقُرْآنُ حَاكِمٌ بِمَعْنَى أَنَّ الْأَحْكَامَ تُسْتَفَادُ مِنْهُ وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ ذُو الْحِكْمَةِ فِي تَأْلِيفِهِ وَنَظْمِهِ وَكَثْرَةِ عُلُومِهِ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُحْكَمِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعَلٍ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَهُوَ شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ، لِأَنَّ حَكَمْتُ يَجْرِي مَجْرَى أَحْكَمْتُ فِي الْمَعْنَى، فَرُدَّ إِلَى الْأَصْلِ، وَمَعْنَى الْمُحْكَمِ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ أُحْكِمَ عَنْ تَطَرُّقِ وُجُوهِ الْخَلَلِ إِلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هُودٍ: 1] وَالرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ الْقُرْآنُ لِكَثْرَةِ حِكَمِهِ إِنَّهُ يَنْطِقُ بِالْحِكْمَةِ، فَوُصِفَ بِكَوْنِهِ حَكِيمًا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الْحَكِيمِ هَاهُنَا غَيْرُ الْقُرْآنِ، وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الَّذِي مِنْهُ نُقِلَتْ جَمِيعُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، أَخْبَرَ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا الْقَصَصَ مِمَّا كُتِبَ هُنَالِكَ، وَاللَّهُ أعلم بالصواب. [سورة آل عمران (3) : آية 59] إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نزلت عند حضور وقد نَجْرَانَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ شُبَهِهِمْ أَنْ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، لَمَّا سَلَّمْتَ أَنَّهُ لَا أَبَ لَهُ مِنَ الْبَشَرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ: إِنَّ آدَمَ مَا كَانَ لَهُ أَبٌ وَلَا أُمٌّ وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ ابْنًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَكَذَا الْقَوْلُ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، هَذَا حَاصِلُ الْكَلَامِ، وَأَيْضًا إذا جاز أن

_ (1) ليست هذه آية إنما المثبت في المصحف وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ [غافر: 31] .

يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ مِنَ التُّرَابِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ عِيسَى مِنْ دَمِ مَرْيَمَ؟ بَلْ هَذَا أَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ، فَإِنَّ تَوَلُّدَ الْحَيَوَانِ مِنَ الدَّمِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِي رَحِمِ الْأُمِّ أَقْرَبُ مِنْ تَوَلُّدِهِ مِنَ التُّرَابِ الْيَابِسِ، هَذَا تَلْخِيصُ الْكَلَامِ. ثُمَّ هَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ أَيْ صِفَتُهُ كَصِفَةِ آدَمَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرَّعْدِ: 35] أَيْ صِفَةُ الْجَنَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ لَيْسَ بِصِلَةٍ لِآدَمَ وَلَا صِفَةٍ وَلَكِنَّهُ خَبَرٌ مُسْتَأْنَفٌ عَلَى جِهَةِ التَّفْسِيرِ بِحَالِ آدَمَ، قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا كَمَا تَقُولُ فِي الْكَلَامِ مَثَلُكَ كَمَثَلِ زَيْدٍ، تُرِيدُ أَنْ تُشَبِّهَهُ بِهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، ثُمَّ تُخْبِرُ بِقِصَّةِ زَيْدٍ فَتَقُولُ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ وَالِدٍ أَوَّلَ، وإلا لزم أن يكون كل ولد مسبوق بِوَالِدٍ لَا إِلَى أَوَّلَ وَهُوَ مُحَالٌ، وَالْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَالِدَ الْأَوَّلَ هُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النِّسَاءِ: 1] وَقَالَ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الْأَعْرَافِ: 189] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي كَيْفِيَّةِ خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وُجُوهًا كَثِيرَةً أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ التُّرَابِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ الْمَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً [الْفُرْقَانِ: 54] وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ الطِّينِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السَّجْدَةِ: 7، 8] وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 12، 13] الْخَامِسُ: أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ [الصَّافَّاتِ: 11] السَّادِسُ: أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ صَلْصَالٍ قَالَ تَعَالَى: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الْحِجْرِ: 28] السَّابِعُ: أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ عَجَلٍ، قَالَ تَعَالَى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الْأَنْبِيَاءِ: 37] الثَّامِنُ: قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ [الْبَلَدِ: 4] أَمَّا الْحُكَمَاءُ فَقَالُوا: إِنَّمَا خُلِقَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ تُرَابٍ لوجوه: الأول: ليكون متواضعاً الثاني: ليكون ستاراًالثالث: لِيَكُونَ أَشَدَّ الْتِصَاقًا بِالْأَرْضِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا خُلِقَ لِخِلَافَةِ أَهْلِ الْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَةِ: 30] الرَّابِعُ: أَرَادَ إِظْهَارَ الْقُدْرَةِ فَخَلَقَ الشَّيَاطِينَ مِنَ النَّارِ الَّتِي هِيَ أَضْوَأُ الْأَجْرَامِ وَابْتَلَاهُمْ بِظُلُمَاتِ الضَّلَالَةِ، وَخَلَقَ الْمَلَائِكَةَ مِنَ الْهَوَاءِ الَّذِي هُوَ أَلْطَفُ الْأَجْرَامِ وَأَعْطَاهُمْ كَمَالَ الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَخَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ التُّرَابِ الَّذِي هُوَ أَكْثَفُ الْأَجْرَامِ، ثُمَّ أَعْطَاهُ الْمَحَبَّةَ وَالْمَعْرِفَةَ وَالنُّورَ وَالْهِدَايَةَ، وَخَلَقَ السموات مِنْ أَمْوَاجِ مِيَاهِ الْبِحَارِ وَأَبْقَاهَا مُعَلَّقَةً فِي الْهَوَاءِ حَتَّى يَكُونَ خَلْقُهُ هَذِهِ الْأَجْرَامَ بُرْهَانًا بَاهِرًا وَدَلِيلًا ظَاهِرًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُدَبِّرُ بِغَيْرِ احْتِيَاجٍ، وَالْخَالِقُ بِلَا مِزَاجٍ وَعِلَاجٍ الْخَامِسُ: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ تُرَابٍ لِيَكُونَ مُطْفِئًا لِنَارِ الشَّهْوَةِ، وَالْغَضَبِ، وَالْحِرْصِ، فَإِنَّ هَذِهِ النِّيرَانَ لَا تُطْفَأُ إِلَّا بِالتُّرَابِ وَإِنَّمَا خَلَقَهُ مِنَ الْمَاءِ لِيَكُونَ صَافِيًا تَتَجَلَّى فِيهِ صُوَرُ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى مَزَجَ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ لِيَمْتَزِجَ الْكَثِيفُ فَيَصِيرَ طِينًا وَهُوَ قَوْلُهُ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ثُمَّ إِنَّهُ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ قَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ وَالسُّلَالَةُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولَةِ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُسَلُّ مِنْ أَلْطَفِ أَجْزَاءِ الطِّينِ، ثُمَّ إِنَّهُ فِي الْمَرْتَبَةِ السَّادِسَةِ أَثْبَتَ لَهُ مِنَ الصِّفَاتِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ:

[سورة آل عمران (3) : آية 60]

أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِنْ صَلْصَالٍ وَالصَّلْصَالُ: الْيَابِسُ الَّذِي إِذَا حُرِّكَ تَصَلْصَلَ كَالْخَزَفِ الَّذِي يُسْمَعُ مِنْ دَاخِلِهِ صَوْتٌ. وَالثَّانِي: الْحَمَأُ وَهُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ فِي الْمَاءِ مُدَّةً، وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ إِلَى السَّوَادِ. وَالثَّالِثُ: تَغَيُّرُ رَائِحَتِهِ قَالَ تَعَالَى: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ [الْبَقَرَةِ: 259] أَيْ لَمْ يَتَغَيَّرْ. فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ خَلْقُ آدَمَ مُتَقَدِّمًا عَلَى قَوْلِ اللَّهِ لَهُ كُنْ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَأَجَابَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْخَلْقَ هُوَ التَّقْدِيرُ وَالتَّسْوِيَةُ، وَيَرْجِعُ مَعْنَاهُ إلى علم الله تعالى بكيفية وقوعه وإرادته لِإِيقَاعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ وَكُلُّ ذَلِكَ مُتَقَدِّمٌ على وجود آدم عليه السلام تقديماً مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ كُنْ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِدْخَالِهِ فِي الْوُجُودِ فَثَبَتَ أَنَّ خَلْقَ آدَمَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى قَوْلِهِ كُنْ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُ مِنَ الطِّينِ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ أَيْ أَحْيَاهُ كَمَا قَالَ: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَإِنْ قِيلَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ خَلَقَهُ رَاجِعٌ إِلَى آدَمَ وَحِينَ كَانَ تُرَابًا لَمْ يَكُنْ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَوْجُودًا. أَجَابَ الْقَاضِي وَقَالَ: بَلْ كَانَ مَوْجُودًا وَإِنَّمَا وُجِدَ بَعْدَ حَيَاتِهِ، وَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ نَفْسَ آدَمَ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ مُجَرَّدِ الْأَجْسَامِ الْمُشَكَّلَةِ بِالشَّكْلِ الْمَخْصُوصِ، بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ هُوِيَّةٍ أُخْرَى مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ: إِمَّا الْمِزَاجُ الْمُعْتَدِلُ، أَوِ النَّفْسُ، وَيَنْجَرُّ الْكَلَامُ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ إِلَى أَنَّ النَّفْسَ مَا هِيَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا مِنْ أَغْمَضِ الْمَسَائِلِ. الْجَوَابُ: الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْهَيْكَلُ بِحَيْثُ سَيَصِيرُ آدَمُ عَنْ قَرِيبٍ سَمَّاهُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ ذَلِكَ، تَسْمِيَةً لِمَا سَيَقَعُ بِالْوَاقِعِ. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يُفِيدُ تَرَاخِيَ هَذَا الْخَبَرِ عَنْ ذَلِكَ الْخَبَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد: 17] وَيَقُولُ الْقَائِلُ: أَعْطَيْتُ زَيْدًا الْيَوْمَ أَلْفًا ثُمَّ أَعْطَيْتُهُ أَمْسِ أَلْفَيْنِ، وَمُرَادُهُ: أَعْطَيْتُهُ الْيَوْمَ أَلْفًا، ثُمَّ أَنَا أُخْبِرُكُمْ أَنِّي أَعْطَيْتُهُ أَمْسِ أَلْفَيْنِ فَكَذَا قَوْلُهُ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ أَيْ صَيَّرَهُ خَلْقًا سَوِيًّا ثُمَّ إِنَّهُ يُخْبِرُكُمْ أَنِّي إِنَّمَا خَلَقْتُهُ بِأَنْ قُلْتُ لَهُ كُنْ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَكَانَ فَلَمْ يَقُلْ كَذَلِكَ بَلْ قَالَ: كُنْ فَيَكُونُ. وَالْجَوَابُ: تَأْوِيلُ الْكَلَامِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَكَانَ. وَاعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ مَا قَالَ لَهُ رَبُّكَ كُنْ فَإِنَّهُ يَكُونُ لا محالة. [سورة آل عمران (3) : آية 60] الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) وفيه مسائل:

[سورة آل عمران (3) : آية 61]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْفَرَّاءُ، وَالزَّجَّاجُ قَوْلُهُ الْحَقُّ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْمَعْنَى: الَّذِي أَنْبَأْتُكَ مِنْ قِصَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ ذَلِكَ النَّبَأُ فِي أَمْرِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْحَقُّ فَحُذِفَ لِكَوْنِهِ/ مَعْلُومًا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ هُوَ اسْتِئْنَافٌ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْكَلَامِ، وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ مِنْ رَبِّكَ وَهَذَا كَمَا تَقُولُ الْحَقُّ مِنَ اللَّهِ، وَالْبَاطِلُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْحَقُّ، رُفِعَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ جَاءَكَ الْحَقُّ. وَقِيلَ: أَيْضًا إِنَّهُ مَرْفُوعٌ بِالصِّفَةِ وَفِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ فَلَا تَكُنْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الِامْتِرَاءُ الشَّكُّ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ مَرَيْتُ النَّاقَةَ وَالشَّاةَ إِذَا حَلَبْتَهَا فَكَأَنَّ الشَّاكَّ يَجْتَذِبُ بِشَكِّهِ مِرَاءً كَاللَّبَنِ الَّذِي يُجْتَذَبُ عِنْدَ الْحَلْبِ، يُقَالُ قَدْ مَارَى فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا جَادَلَهُ، كَأَنَّهُ يَسْتَخْرِجُ غَضَبَهُ، وَمِنْهُ قِيلُ الشُّكْرُ يَمْتَرِي الْمَزِيدَ أَيْ يَجْلِبُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْحَقِّ تَأْوِيلَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا الَّذِي أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ خَبَرِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا مَا قَالَتِ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ، فَالنَّصَارَى قَالُوا: إِنَّ مَرْيَمَ وَلَدَتْ إِلَهًا، وَالْيَهُودُ رَمَوْا مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ بِالْإِفْكِ وَنَسَبُوهَا إِلَى يُوسُفَ النَّجَّارِ، فَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الَّذِي أُنْزِلَ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْحَقُّ ثُمَّ نَهَى عَنِ الشَّكِّ فِيهِ، وَمَعْنَى مُمْتَرِي مُفْتَعِلٌ مِنَ الْمِرْيَةِ وَهِيَ الشَّكُّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْحَقَّ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَثَلِ وَهُوَ قِصَّةُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ لَا بَيَانَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا بُرْهَانَ أَقْوَى مِنَ التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ خِطَابٌ فِي الظَّاهِرِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ شَاكًّا فِي صِحَّةِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَّا أَنَّهُ فِي الْمَعْنَى مَعَ الْأُمَّةِ قَالَ تَعَالَى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطَّلَاقِ: 1] وَالثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمَعْنَى: فَدُمْ عَلَى يَقِينِكَ، وَعَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ ترك الامتراء. [سورة آل عمران (3) : آية 61] فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وُجُوهًا مِنَ الدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ النَّصَارَى/ بِالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ، وَأَتْبَعَهَا بِذِكْرِ الْجَوَابِ عَنْ جَمِيعِ شُبَهِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ التَّامِّ، وَخَتَمَ الْكَلَامَ بِهَذِهِ النُّكْتَةِ الْقَاطِعَةِ لِفَسَادِ كَلَامِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ الْأَبِ وَالْأُمِّ الْبَشَرِيَّيْنِ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَكُونَ ابْنًا لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ الْأَبِ الْبَشَرِيِّ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَكُونَ ابْنًا لِلَّهِ، تعالى الله عَنْ ذَلِكَ وَلَمَّا لَمْ يَبْعُدِ انْخِلَاقُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ التُّرَابِ لَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا انْخِلَاقُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الدَّمِ الَّذِي كَانَ يَجْتَمِعُ فِي رَحِمِ أُمِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَنْ أَنْصَفَ وَطَلَبَ الْحَقَّ، عَلِمَ أَنَّ الْبَيَانَ قَدْ بَلَغَ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ حَاجَّكَ بَعْدَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ وَالْجَوَابَاتِ اللَّائِحَةِ فَاقْطَعِ الْكَلَامَ مَعَهُمْ وَعَامِلْهُمْ بِمَا يُعَامَلُ بِهِ الْمُعَانِدُ، وَهُوَ أَنْ تَدْعُوَهُمْ إِلَى الْمُلَاعَنَةِ فَقَالَ: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، ثُمَّ هَاهُنَا مسائل:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اتَّفَقَ أَنِّي حِينَ كُنْتُ بِخُوَارَزْمَ، أُخْبِرْتُ أَنَّهُ جَاءَ نَصْرَانِيٌّ يَدَّعِي التَّحْقِيقَ وَالتَّعَمُّقَ فِي مَذْهَبِهِمْ، فَذَهَبْتُ إِلَيْهِ وَشَرَعْنَا فِي الْحَدِيثِ وَقَالَ لِي: مَا الدَّلِيلُ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ لَهُ كَمَا نُقِلَ إِلَيْنَا ظُهُورُ الْخَوَارِقِ عَلَى يَدِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، نُقِلَ إِلَيْنَا ظُهُورُ الْخَوَارِقِ عَلَى يَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ رَدَدْنَا التَّوَاتُرَ، أَوْ قَبِلْنَاهُ لَكِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمُعْجِزَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ، فَحِينَئِذٍ بَطَلَتْ نُبُوَّةُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَإِنِ اعْتَرَفْنَا بِصِحَّةِ التَّوَاتُرِ، وَاعْتَرَفْنَا بِدَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ، ثُمَّ إِنَّهُمَا حَاصِلَانِ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ وَجَبَ الِاعْتِرَافُ قَطْعًا بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ضَرُورَةَ أَنَّ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي الدَّلِيلِ لَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِوَاءِ فِي حُصُولِ الْمَدْلُولِ، فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: أَنَا لَا أَقُولُ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّهُ كَانَ نَبِيًّا بَلْ أَقُولُ إِنَّهُ كَانَ إِلَهًا، فَقُلْتُ لَهُ الْكَلَامُ فِي النُّبُوَّةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِمَعْرِفَةِ الْإِلَهِ وَهَذَا الَّذِي تَقُولُهُ بَاطِلٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِلَهَ عِبَارَةٌ عَنْ مَوْجُودٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ جِسْمًا وَلَا مُتَحَيِّزًا وَلَا عَرَضًا وَعِيسَى عِبَارَةٌ عَنْ هَذَا الشَّخْصِ الْبَشَرِيِّ الْجُسْمَانِيِّ الَّذِي وُجِدَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَعْدُومًا وَقُتِلَ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَيًّا عَلَى قَوْلِكُمْ وَكَانَ طِفْلًا أَوَّلًا، ثُمَّ صَارَ مُتَرَعْرِعًا، ثُمَّ صَارَ شَابًّا، وَكَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيُحْدِثُ وَيَنَامُ وَيَسْتَيْقِظُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ أَنَّ الْمُحْدَثَ لَا يَكُونُ قَدِيمًا وَالْمُحْتَاجَ لَا يَكُونُ غَنِيًّا وَالْمُمْكِنَ لَا يَكُونُ وَاجِبًا وَالْمُتَغَيِّرَ لَا يَكُونُ دَائِمًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي إِبْطَالِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنَّكُمْ تَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْيَهُودَ أَخَذُوهُ وَصَلَبُوهُ وَتَرَكُوهُ حَيًّا عَلَى الْخَشَبَةِ، وَقَدْ مَزَّقُوا ضِلَعَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ يَحْتَالُ فِي الْهَرَبِ مِنْهُمْ، وَفِي الِاخْتِفَاءِ عَنْهُمْ، وَحِينَ عَامَلُوهُ بِتِلْكَ الْمُعَامَلَاتِ أَظْهَرَ الْجَزَعَ الشَّدِيدَ، فَإِنْ كَانَ إِلَهًا أَوْ كَانَ الْإِلَهُ حَالًّا فِيهِ أو كان جزءا من الإله حاك فِيهِ، فَلِمَ لَمْ يَدْفَعْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ؟ وَلِمَ لَمْ يُهْلِكْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ؟ وَأَيُّ حَاجَةٍ بِهِ إِلَى إِظْهَارِ الْجَزَعِ مِنْهُمْ وَالِاحْتِيَالِ فِي الْفِرَارِ مِنْهُمْ! وَبِاللَّهِ إِنَّنِي لَأَتَعَجَّبُ جِدًّا! إِنَّ الْعَاقِلَ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ وَيَعْتَقِدَ صِحَّتَهُ، فَتَكَادُ أَنْ تَكُونَ بَدِيهَةُ الْعَقْلِ شَاهِدَةً بِفَسَادِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ: إِمَّا أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الْإِلَهَ هُوَ هَذَا الشَّخْصُ الْجُسْمَانِيُّ الْمُشَاهَدُ، أَوْ يُقَالَ حَلَّ الْإِلَهُ بِكُلِّيَّتِهِ فِيهِ، أَوْ حَلَّ بَعْضُ الْإِلَهِ وَجُزْءٌ مِنْهُ فِيهِ وَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ بَاطِلَةٌ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ لَوْ كَانَ هُوَ ذَلِكَ الْجِسْمَ، فَحِينَ قَتَلَهُ الْيَهُودُ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا بِأَنَّ الْيَهُودَ قَتَلُوا إِلَهَ الْعَالَمِ، فَكَيْفَ بَقِيَ الْعَالَمُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِلَهٍ! ثُمَّ إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ ذُلًّا وَدَنَاءَةً الْيَهُودُ، فَالْإِلَهُ الَّذِي تَقْتُلُهُ الْيَهُودُ إِلَهٌ فِي غَايَةِ الْعَجْزِ! وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْإِلَهَ بِكُلِّيَّتِهِ حَلَّ فِي هَذَا الْجِسْمِ، فَهُوَ أَيْضًا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْإِلَهَ لَمْ يَكُنْ جِسْمًا وَلَا عَرَضًا امْتَنَعَ حُلُولُهُ فِي الْجِسْمِ، وَإِنْ كَانَ جِسْمًا، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ حُلُولُهُ في جسم آخر عبارة عن اختلاط أجزاءه بِأَجْزَاءِ ذَلِكَ الْجِسْمِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ وُقُوعَ التَّفَرُّقِ فِي أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْإِلَهِ، وَإِنْ كَانَ عَرَضًا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الْمَحَلِّ، وَكَانَ الْإِلَهُ مُحْتَاجًا إِلَى غَيْرِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ سُخْفٌ، وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ حَلَّ فِيهِ بَعْضٌ مِنْ أَبْعَاضِ الْإِلَهِ، وَجُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، فَذَلِكَ أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ إِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الْإِلَهِيَّةِ، فَعِنْدَ انْفِصَالِهِ عَنِ الْإِلَهِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَبْقَى الْإِلَهُ إِلَهًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ معتبر في تحقق الإلهية، لم يكن جزأ مِنَ الْإِلَهِ، فَثَبَتَ فَسَادُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، فَكَانَ قَوْلُ النَّصَارَى بَاطِلًا. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي بُطْلَانِ قَوْلِ النَّصَارَى مَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَظِيمَ الرَّغْبَةِ فِي الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَ إِلَهًا لَاسْتَحَالَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِلَهَ لَا يَعْبُدُ نَفْسَهُ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ فِي غَايَةِ الْجَلَاءِ وَالظُّهُورِ، دَالَّةٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ، ثُمَّ قُلْتُ لِلنَّصْرَانِيِّ: وَمَا الَّذِي دَلَّكَ عَلَى كَوْنِهِ إِلَهًا؟ فَقَالَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ ظُهُورُ الْعَجَائِبِ عَلَيْهِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ إِلَّا بِقُدْرَةِ الْإِلَهِ تَعَالَى، فَقُلْتُ لَهُ هَلْ تُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ

مِنْ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَدَمُ الْمَدْلُولِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ تُسَلِّمْ لَزِمَكَ مِنْ نَفْيِ الْعَالِمِ فِي الْأَزَلِ نَفْيُ الصَّانِعِ، وَإِنْ سَلَّمْتَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَدَمُ الْمَدْلُولِ، فأقول: لما جَوَّزْتَ حُلُولَ الْإِلَهِ فِي بَدَنِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَيْفَ عَرَفْتَ أَنَّ الْإِلَهَ مَا حَلَّ فِي بَدَنِي وَبَدَنِكَ وَفِي بَدَنِ كُلِّ حَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ وَجَمَادٍ؟ فَقَالَ: الْفَرْقُ ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ لِأَنِّي إِنَّمَا حَكَمْتُ بِذَلِكَ الْحُلُولِ، لِأَنَّهُ ظَهَرَتْ تِلْكَ الْأَفْعَالُ الْعَجِيبَةُ عَلَيْهِ، وَالْأَفْعَالُ الْعَجِيبَةُ مَا ظَهَرَتْ عَلَى يَدِي وَلَا عَلَى يَدِكَ، فَعَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْحُلُولَ مَفْقُودٌ هَاهُنَا، فَقُلْتُ لَهُ: تَبَيَّنَ الْآنَ أَنَّكَ مَا عَرَفْتَ مَعْنَى قَوْلِي إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَدَمُ الْمَدْلُولِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ظُهُورَ تِلْكَ الْخَوَارِقِ دَالَّةٌ عَلَى حُلُولِ الْإِلَهِ فِي بَدَنِ عِيسَى: فَعَدَمُ ظُهُورِ تِلْكَ الْخَوَارِقِ مِنِّي وَمِنْكَ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الدَّلِيلُ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَدَمُ الْمَدْلُولِ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ظُهُورِ تِلْكَ الْخَوَارِقِ مِنِّي وَمِنْكَ عَدَمُ الْحُلُولِ فِي حَقِّي وَفِي حَقِّكَ، وَفِي حَقِّ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ وَالْفَأْرِ ثُمَّ قُلْتُ: إِنَّ مَذْهَبًا يُؤَدِّي الْقَوْلُ بِهِ إِلَى تَجْوِيزِ حُلُولِ ذَاتِ اللَّهِ فِي بَدَنِ الْكَلْبِ وَالذُّبَابِ لَفِي غَايَةِ الْخِسَّةِ وَالرَّكَاكَةِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ قَلْبَ الْعَصَا حَيَّةً، أَبْعَدُ فِي الْعَقْلِ مِنْ إِعَادَةِ الْمَيِّتِ حَيًّا، لِأَنَّ الْمُشَاكَلَةَ/ بَيْنَ بَدَنِ الْحَيِّ وَبَدَنِ الْمَيِّتِ أَكْثَرُ مِنَ الْمُشَاكَلَةِ بَيْنَ الْخَشَبَةِ وَبَيْنَ بَدَنِ الثُّعْبَانِ، فَإِذَا لَمْ يُوجِبْ قَلْبُ الْعَصَا حَيَّةً كَوْنَ مُوسَى إِلَهًا وَلَا ابْنًا لِلْإِلَهِ، فَبِأَنْ لَا يَدُلَّ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى عَلَى الْإِلَهِيَّةِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَعِنْدَ هَذَا انْقَطَعَ النَّصْرَانِيُّ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ كَلَامٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَوْرَدَ الدَّلَائِلَ عَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى جَهْلِهِمْ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي إِنْ لَمْ تَقْبَلُوا الْحُجَّةَ أَنْ أُبَاهِلَكُمْ» فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، بَلْ نَرْجِعُ فَنَنْظُرُ فِي أَمْرِنَا ثُمَّ نَأْتِيكَ فَلَمَّا رَجَعُوا قَالُوا لِلْعَاقِبِ: وَكَانَ ذَا رَأْيَهُمْ، يَا عَبْدَ الْمَسِيحِ مَا تَرَى، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُمْ يَا مَعْشَرَ النَّصَارَى أَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْكَلَامِ الْحَقِّ فِي أَمْرِ صَاحِبِكُمْ، وَاللَّهِ مَا بَاهَلَ قَوْمٌ نَبِيًّا قَطُّ فَعَاشَ كَبِيرُهُمْ وَلَا نَبَتَ صَغِيرُهُمْ وَلَئِنْ فَعَلْتُمْ لَكَانَ الِاسْتِئْصَالُ فَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا الْإِصْرَارَ عَلَى دِينِكُمْ وَالْإِقَامَةَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، فَوَادِعُوا الرَّجُلَ وَانْصَرِفُوا إِلَى بِلَادِكُمْ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ، وَكَانَ قَدِ احْتَضَنَ الْحُسَيْنَ وَأَخَذَ بِيَدِ الْحَسَنِ، وَفَاطِمَةُ تَمْشِي خَلْفَهُ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَلْفَهَا، وَهُوَ يَقُولُ، إِذَا دَعَوْتُ فَأَمِّنُوا، فَقَالَ أُسْقُفُّ نَجْرَانَ: يَا مَعْشَرَ النَّصَارَى، إِنِّي لَأَرَى وُجُوهًا لَوْ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُزِيلَ جَبَلًا مِنْ مَكَانِهِ لَأَزَالَهُ بِهَا، فَلَا تَبَاهَلُوا فَتَهْلِكُوا وَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ نَصْرَانِيٌّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، رَأَيْنَا أَنْ لَا نُبَاهِلَكَ وَأَنْ نُقِرَّكَ عَلَى دِينِكَ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: فَإِذَا أَبَيْتُمُ الْمُبَاهَلَةَ فَأَسْلِمُوا، يَكُنْ لَكُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَبَوْا، فَقَالَ: فَإِنِّي أُنَاجِزُكُمُ الْقِتَالَ، فَقَالُوا مَا لَنَا بِحَرْبِ الْعَرَبِ طَاقَةٌ، وَلَكِنْ نُصَالِحُكَ عَلَى أَنْ لَا تَغْزُوَنَا وَلَا تَرُدَّنَا عَنْ دِينِنَا، عَلَى أَنْ نُؤَدِّيَ إِلَيْكَ فِي كُلِّ عَامٍ أَلْفَيْ حُلَّةٍ: أَلْفًا فِي صَفَرٍ، وَأَلْفًا فِي رَجَبٍ، وَثَلَاثِينَ دِرْعًا عَادِيَّةً مِنْ حَدِيدٍ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الْهَلَاكَ قَدْ تَدَلَّى عَلَى أَهْلِ نَجْرَانَ، ولو لاعنوا لَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَلَاضْطَرَمَ عَلَيْهِمُ الْوَادِي نَارًا، وَلَاسْتَأْصَلَ اللَّهُ نَجْرَانَ وَأَهْلَهُ، حَتَّى الطَّيْرَ عَلَى رؤوس الشَّجَرِ، وَلَمَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى النَّصَارَى كُلِّهِمْ حَتَّى يَهْلِكُوا، وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا خَرَجَ فِي الْمِرْطِ الْأَسْوَدِ، فَجَاءَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَدْخَلَهُ ثُمَّ فَاطِمَةُ، ثُمَّ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ثُمَّ قَالَ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الْأَحْزَابِ: 33] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ كَالْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهَا بَيْنَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ أَيْ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ: الْهَاءُ تَعُودُ إِلَى الْحَقِّ، في قوله الْحَقُّ

مِنْ رَبِّكَ [هود: 17] مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [البقرة: 145] بِأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ هَاهُنَا بِالْعِلْمِ نَفْسَ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ لَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ مَا ذَكَرَهُ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالدَّلَائِلِ الْوَاصِلَةِ إِلَيْهِ بِالْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ، فَقُلْ تَعَالَوْا: أَصْلُهُ تَعَالَيُوا، لِأَنَّهُ تَفَاعَلُوا مِنَ الْعُلُوِّ، فَاسْتُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ عَلَى الْيَاءِ، فَسُكِّنَتْ، ثُمَّ حُذِفَتْ لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ، وَأَصْلُهُ الْعُلُوُّ وَالِارْتِفَاعُ، / فَمَعْنَى تَعَالَى ارْتَفَعَ، إِلَّا أَنَّهُ كَثُرَ فِي الِاسْتِعْمَالِ حَتَّى صَارَ لِكُلِّ مَجِيءٍ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ هَلُمَّ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَانَا ابْنَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَدَ أَنْ يَدْعُوَ أَبْنَاءَهُ، فَدَعَا الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَا ابْنَيْهِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ [الْأَنْعَامِ: 84] إِلَى قَوْلِهِ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى [الْأَنْعَامِ: 85] وَمَعْلُومٌ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا انْتَسَبَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْأُمِّ لَا بِالْأَبِ، فَثَبَتَ أَنَّ ابْنَ الْبِنْتِ قَدْ يُسَمَّى ابْنًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: كَانَ فِي الرَّيِّ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: مَحْمُودُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِمْصِيُّ، وَكَانَ مُعَلِّمَ الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةَ، وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ سِوَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَأَنْفُسَنا نَفْسَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَدْعُو نَفْسَهُ بَلِ الْمُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ كَانَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ نَفْسَ عَلِيٍّ هِيَ نَفْسُ مُحَمَّدٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ، أَنَّ هَذِهِ النَّفْسَ هِيَ عَيْنُ تِلْكَ النَّفْسِ، فَالْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ النَّفْسَ مِثْلُ تِلْكَ النَّفْسِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الِاسْتِوَاءَ فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهَذَا الْعُمُومِ فِي حَقِّ النُّبُوَّةِ، وَفِي حَقِّ الْفَضْلِ لِقِيَامِ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ نَبِيًّا وَمَا كَانَ عَلِيٌّ كَذَلِكَ، وَلِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَيَبْقَى فِيمَا وَرَاءَهُ مَعْمُولًا بِهِ، ثُمَّ الْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَلِيٌّ أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَهَذَا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَيُؤَيِّدُ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، الْحَدِيثُ الْمَقْبُولُ عِنْدَ الْمُوَافِقِ وَالْمُخَالِفِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَرَى آدَمَ فِي عِلْمِهِ، وَنُوحًا فِي طَاعَتِهِ، وَإِبْرَاهِيمَ فِي خُلَّتِهِ، وَمُوسَى فِي هَيْبَتِهِ، وَعِيسَى فِي صَفْوَتِهِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ» فَالْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ مَا كَانَ مُتَفَرِّقًا فِيهِمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ سِوَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا سَائِرُ الشِّيعَةِ فَقَدْ كَانُوا قَدِيمًا وَحَدِيثًا يَسْتَدِلُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ نَفْسِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا فِيمَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَكَانَ نَفْسُ مُحَمَّدِ أَفْضَلَ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَفْسُ عَلِيٍّ أَفْضَلَ أَيْضًا مِنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ، هَذَا تَقْدِيرُ كَلَامِ الشِّيعَةِ، وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ كَمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلُ مِنْ عَلِيٍّ، فَكَذَلِكَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بَيْنَهُمْ قَبْلَ ظُهُورِ هَذَا الْإِنْسَانِ، عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ أَفْضَلُ مِمَّنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا كَانَ نَبِيًّا، فَلَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ كَمَا أَنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَذَلِكَ مَخْصُوصٌ فِي حَقِّ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ ثُمَّ نَبْتَهِلْ أَيْ نَتَبَاهَلُ، كَمَا يُقَالُ اقْتَتَلَ الْقَوْمُ وَتَقَاتَلُوا وَاصْطَحَبُوا وَتَصَاحَبُوا، وَالِابْتِهَالُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِابْتِهَالَ هُوَ الِاجْتِهَادُ فِي الدُّعَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِاللَّعْنِ، وَلَا يُقَالُ: ابْتَهَلَ فِي الدُّعَاءِ إِلَّا إِذَا كَانَ هُنَاكَ اجْتِهَادٌ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ عَلَيْهِ بَهْلَةُ اللَّهِ، أَيْ لَعْنَتُهُ وَأَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِمَّا يَرْجِعُ

إِلَى مَعْنَى اللَّعْنِ، لِأَنَّ مَعْنَى اللَّعْنِ هُوَ الْإِبْعَادُ وَالطَّرْدُ وَبَهَلَهُ اللَّهُ، أَيْ لَعَنَهُ وَأَبْعَدَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ مِنْ قَوْلِكَ أَبْهَلَهُ إِذَا أَهْمَلَهُ وَنَاقَةٌ بَاهِلٌ لَا صِرَارَ عَلَيْهَا، بَلْ هِيَ مُرْسَلَةٌ مُخَلَّاةٌ، كَالرَّجُلِ الطَّرِيدِ الْمَنْفِيِّ، وَتَحْقِيقُ مَعْنَى الْكَلِمَةِ: أَنَّ الْبَهْلَ إِذَا كَانَ هُوَ الْإِرْسَالَ وَالتَّخْلِيَةَ فَكَانَ مَنْ بَهَلَهُ اللَّهُ فَقَدْ خَلَّاهُ اللَّهُ وَوَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ وَمَنْ وَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ فَهُوَ هَالِكٌ لَا شَكَّ فِيهِ فَمَنْ بَاهَلَ إِنْسَانًا، فَقَالَ: عَلَيَّ بَهْلَةُ اللَّهِ إِنْ كَانَ كَذَا، يَقُولُ: وَكَلَنِي اللَّهُ إِلَى نَفْسِي، وَفَرَضَنِي إِلَى حَوْلِي وَقُوَّتِي، أَيْ مِنْ كِلَاءَتِهِ وَحِفْظِهِ، كَالنَّاقَةِ الْبَاهِلِ الَّتِي لَا حَافِظَ لَهَا فِي ضَرْعِهَا، فَكُلُّ مَنْ شَاءَ حَلَبَهَا وَأَخَذَ لَبَنَهَا لَا قُوَّةَ لَهَا فِي الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهَا، وَيُقَالُ أَيْضًا: رَجُلٌ بَاهِلٌ، إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَصًا، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ مَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ يَكُونُ قَوْلُهُ ثُمَّ نَبْتَهِلْ أَيْ ثُمَّ نَجْتَهِدْ فِي الدُّعَاءِ، وَنَجْعَلِ اللَّعْنَةَ عَلَى الْكَاذِبِ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: ثُمَّ نبتهل، أي ثم نلتعن فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ وَهِيَ تَكْرَارٌ، بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ أَرْبَعٌ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْأَوْلَادُ إِذَا كَانُوا صِغَارًا لَمْ يَجُزْ نُزُولُ الْعَذَابِ بِهِمْ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَدْخَلَ فِي الْمُبَاهَلَةِ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟. وَالْجَوَابُ: أَنَّ عَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى جَارِيَةٌ بِأَنَّ عُقُوبَةَ الِاسْتِئْصَالِ إِذَا نَزَلَتْ بِقَوْمٍ هَلَكَتْ مَعَهُمُ الْأَوْلَادُ وَالنِّسَاءُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْبَالِغِينَ عِقَابًا، وَفِي حَقِّ الصِّبْيَانِ لَا يَكُونُ عِقَابًا، بَلْ يَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى إِمَاتَتِهِمْ وَإِيصَالِ الْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ إِلَيْهِمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَفَقَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَهْلِهِ شَدِيدَةٌ جِدًّا فَرُبَّمَا جَعَلَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فِدَاءً لَهُمْ وَجُنَّةً لَهُمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحْضَرَ صِبْيَانَهُ وَنِسَاءَهُ مَعَ نَفْسِهِ وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَفْعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الزَّجْرِ وَأَقْوَى فِي تَخْوِيفِ الْخَصْمِ، وَأَدَلَّ عَلَى وُثُوقِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ بِأَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ دَلَّتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟. الْجَوَابُ: أَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَوَّفَهُمْ بِنُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَاثِقًا بِذَلِكَ، لَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ سَعْيًا فِي إِظْهَارِ كَذِبِ نَفْسِهِ لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ: أَنْ يَرْغَبُوا فِي مُبَاهَلَتِهِ، ثُمَّ لَا يَنْزِلُ الْعَذَابُ، فَحِينَئِذٍ كَانَ يَظْهَرُ كَذِبُهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ أَعْقَلِ النَّاسِ، فَلَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا يُفْضِي إِلَى ظُهُورِ كَذِبِهِ فَلَمَّا أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ إِنَّمَا أَصَرَّ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ وَاثِقًا بِنُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا تَرَكُوا مُبَاهَلَتَهُ، فَلَوْلَا أَنَّهُمْ عَرَفُوا مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَإِلَّا لَمَا/ أَحْجَمُوا عَنْ مُبَاهَلَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا شَاكِّينَ، فَتَرَكُوا مُبَاهَلَتَهُ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فَيَنْزِلَ بِهِمْ مَا ذَكَرَ مِنَ الْعَذَابِ؟. قُلْنَا هَذَا مَدْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ القوم كانوا يبذلونه النُّفُوسَ وَالْأَمْوَالَ فِي الْمُنَازَعَةِ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَوْ كَانُوا شَاكِّينَ لَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ أُولَئِكَ النَّصَارَى أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ وَاللَّهِ هُوَ النَّبِيُّ الْمُبَشَّرُ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَإِنَّكُمْ لَوْ بَاهَلْتُمُوهُ لَحَصَلَ الِاسْتِئْصَالُ فَكَانَ ذَلِكَ تَصْرِيحًا مِنْهُمْ بِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنِ الْمُبَاهَلَةِ كَانَ لِأَجْلِ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَلَيْسَ أَنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ اشْتَغَلُوا بِالْمُبَاهَلَةِ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ حَيْثُ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 62 إلى 63]

الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الْأَنْفَالِ: 32] ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يُنْزِلِ الْعَذَابَ بِهِمُ الْبَتَّةَ، فَكَذَا هَاهُنَا، وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ نُزُولِ الْعَذَابِ، كَانَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَالِ: 33] . وَالْجَوَابُ: الْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، فَلَمَّا أَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنُزُولِ الْعَذَابِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى التَّعْيِينِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ هَلْ هُوَ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ أَمْ لَا؟. وَالْجَوَابُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ وَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ الْكاذِبِينَ وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ كَانَ حَقُّ (إِنَّ) أَنْ تَكُونَ مَفْتُوحَةً، إِلَّا أَنَّهَا كُسِرَتْ لِدُخُولِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ لَهُوَ كَمَا فِي قَوْلِهِ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ [الْعَادِيَاتِ: 11] وَقَالَ الْبَاقُونَ: الْكَلَامُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ عَلَى الْكاذِبِينَ وَمَا بَعْدَهُ جُمْلَةٌ أُخْرَى مُسْتَقِلَّةٌ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِمَا قَبْلَهَا وَاللَّهُ أعلم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 62 الى 63] إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ إِنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الدَّلَائِلِ، وَمِنَ الدُّعَاءِ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَالْقَصَصُ هُوَ مَجْمُوعُ الْكَلَامِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَا يَهْدِي إِلَى الدِّينِ، وَيُرْشِدُ/ إِلَى الْحَقِّ وَيَأْمُرُ بِطَلَبِ النَّجَاةِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ هُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ لِيَكُونَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ أَمْرِهِ، وَالْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ فَالْمُرَادُ بِهِ الْكُلُّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: (هُوَ) فِي قَوْلِهِ لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فَصْلًا وَعِمَادًا، وَيَكُونَ خَبَرُ إِنَّ هُوَ قَوْلُهُ الْقَصَصُ الْحَقُّ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ جَازَ دُخُولُ اللَّامِ عَلَى الْفَصْلِ؟. قُلْنَا: إِذَا جَازَ دُخُولُهَا عَلَى الْخَبَرِ كَانَ دُخُولُهَا عَلَى الْفَصْلِ أَجْوَدَ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْمُبْتَدَأِ مِنْهُ، وَأَصْلُهَا أَنْ تَدَخُلَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَالْقَصَصُ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ لَهُوَ بِتَحْرِيكِ الْهَاءِ عَلَى الْأَصْلِ، وَبِالسُّكُونِ لِأَنَّ اللَّامَ يَنْزِلُ مِنْ (هُوَ) مَنْزِلَةَ بَعْضِهِ فَخُفِّفَ كَمَا خُفِّفَ عَضُدٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يُقَالُ: قَصَّ فُلَانٌ الْحَدِيثَ يَقُصُّهُ قَصًّا وَقَصَصًا، وَأَصْلُهُ اتِّبَاعُ الْأَثَرِ، يُقَالُ: خَرَجَ فُلَانٌ قَصَصًا، فِي أَثَرِ فُلَانٍ، وَقَصًّا، وَذَلِكَ إِذَا اقْتَصَّ أَثَرَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ [الْقَصَصِ: 11] وَقِيلَ لِلْقَاصِّ إِنَّهُ قَاصٌّ لِإِتْبَاعِهِ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرِ، وَسَوْقِهِ الْكَلَامَ سَوْقًا، فَمَعْنَى الْقَصَصِ الْخَبَرُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْمَعَانِي الْمُتَتَابِعَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَهَذَا يُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ، لِأَنَّكَ لَوْ قُلْتَ عِنْدِي مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ، أَفَادَ أَنَّ عِنْدَكَ بَعْضَ النَّاسِ، فَإِذَا قُلْتَ مَا عِنْدِي مِنَ النَّاسِ مِنْ أَحَدٍ، أَفَادَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَكَ بَعْضُهُمْ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَكَ بَعْضُهُمْ، فَبِأَنْ

[سورة آل عمران (3) : آية 64]

لَا يَكُونَ عِنْدَكَ كُلُّهُمْ أَوْلَى فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ مُبَالَغَةٌ فِي أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ شُبُهَاتِ النَّصَارَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ اعْتِمَادَهُمْ عَلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: هَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْقُدْرَةِ لَا يَكْفِي فِي الْإِلَهِيَّةِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَزِيزًا غَالِبًا لَا يُدْفَعُ وَلَا يُمْنَعُ، وَأَنْتُمْ قَدِ اعْتَرَفْتُمْ بِأَنَّ عِيسَى مَا كَانَ كَذَلِكَ، وَكَيْفَ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ الْيَهُودَ قَتَلُوهُ؟ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ كَانَ يُخْبِرُ عَنِ الْغُيُوبِ وَغَيْرِهَا، فَيَكُونُ إِلَهًا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: هَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْعِلْمِ لَا يَكْفِي فِي الْإِلَهِيَّةِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ حَكِيمًا، أَيْ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَبِجَمِيعِ عَوَاقِبِ الْأُمُورِ، فَذِكْرُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هَاهُنَا إِشَارَةٌ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ هَاتَيْنِ الشُّبْهَتَيْنِ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آلِ عِمْرَانَ: 6] . ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ وَالْمَعْنَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا عَمَّا وَصَفْتُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ/ الْوَاحِدُ، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَزِيزًا غَالِبًا قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ، حَكِيمًا عَالِمًا بِالْعَوَاقِبِ وَالنِّهَايَاتِ مَعَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ عَزِيزًا غَالِبًا، وَمَا كَانَ حَكِيمًا عَالِمًا بِالْعَوَاقِبِ وَالنِّهَايَاتِ. فَاعْلَمْ أَنَّ تَوَلِّيَهُمْ وَإِعْرَاضَهُمْ لَيْسَ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْعِنَادِ فَاقْطَعْ كَلَامَكَ عَنْهُمْ وَفَوِّضْ أَمْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِفَسَادِ الْمُفْسِدِينَ، مُطَّلِعٌ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْأَغْرَاضِ الْفَاسِدَةِ، قَادِرٌ عَلَى مُجَازَاتِهِمْ. [سورة آل عمران (3) : آية 64] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) وَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَوْرَدَ عَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ أَنْوَاعَ الدَّلَائِلِ وَانْقَطَعُوا، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ فَخَافُوا وَمَا شَرَعُوا فِيهَا وَقَبِلُوا الصَّغَارَ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَرِيصًا عَلَى إِيمَانِهِمْ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ اتْرُكْ ذَلِكَ الْمَنْهَجَ مِنَ الْكَلَامِ وَاعْدِلْ إِلَى مَنْهَجٍ آخَرَ يَشْهَدُ كُلُّ عَقْلٍ سَلِيمٍ وَطَبْعٍ مُسْتَقِيمٍ أَنَّهُ كَلَامٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِنْصَافِ وترك الجدال، وقُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَيْ هَلُمُّوا إِلَى كَلِمَةٍ فِيهَا إِنْصَافٌ مِنْ بَعْضِنَا لِبَعْضٍ، وَلَا مَيْلَ فِيهِ لِأَحَدٍ عَلَى صَاحِبِهِ، وَهِيَ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْكَلَامِ وَلْنَذْكُرِ الْآنَ تَفْسِيرَ الْأَلْفَاظِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يا أَهْلَ الْكِتابِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ نَصَارَى نَجْرَانَ وَالثَّانِي: الْمُرَادُ يَهُودُ الْمَدِينَةِ وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَتَنَاوَلُهُمَا وَالثَّانِي: رُوِيَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصلاة والسلام، ما تريد إِلَّا أَنْ نَتَّخِذَكَ رَبًّا كَمَا اتَّخَذَتِ النَّصَارَى عِيسَى! وَقَالَتِ النَّصَارَى: يَا مُحَمَّدُ مَا تُرِيدُ إِلَّا أَنْ نَقُولَ فِيكَ مَا قَالَتِ الْيَهُودُ في عزيز! فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَعِنْدِي أَنَّ الْأَقْرَبَ حَمْلُهُ عَلَى النَّصَارَى، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَمَّا أَوْرَدَ الدَّلَائِلَ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا، ثُمَّ بَاهَلَهُمْ ثَانِيًا، فَعَدَلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِلَى الْكَلَامِ الْمَبْنِيِّ عَلَى رِعَايَةِ الْإِنْصَافِ، وَتَرْكِ الْمُجَادَلَةِ، وَطَلَبِ الْإِفْحَامِ وَالْإِلْزَامِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ، أَنَّهُ خَاطَبَهُمْ هاهنا بقوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ وَهَذَا الِاسْمُ مِنْ أَحْسَنِ الْأَسْمَاءِ وَأَكْمَلِ الْأَلْقَابِ حَيْثُ جَعَلَهُمْ أَهْلًا/ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَنَظِيرُهُ،

مَا يُقَالُ لِحَافِظِ الْقُرْآنِ يَا حَامِلَ كِتَابِ اللَّهِ، وَلِلْمُفَسِّرِ يَا مُفَسِّرَ كَلَامِ اللَّهِ، فَإِنَّ هذا اللقب يدل على أن قاتله أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي تَعْظِيمِ الْمُخَاطَبِ وَفِي تَطْيِيبِ قَلْبِهِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يُقَالُ عِنْدَ عُدُولِ الْإِنْسَانِ مَعَ خَصْمِهِ عَنْ طَرِيقَةِ اللَّجَاجِ وَالنِّزَاعِ إِلَى طَرِيقَةِ طَلَبِ الْإِنْصَافِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تَعالَوْا فَالْمُرَادُ تَعْيِينُ مَا دَعَوْا إِلَيْهِ وَالتَّوَجُّهُ إِلَى النَّظَرِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ انْتِقَالًا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ لِأَنَّ أَصْلَ اللَّفْظِ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّعَالِي وَهُوَ الِارْتِفَاعُ مِنْ مَوْضِعٍ هَابِطٍ إِلَى مَكَانٍ عَالٍ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ حَتَّى صَارَ دَالًّا عَلَى طَلَبِ التَّوَجُّهِ إِلَى حَيْثُ يُدْعَى إِلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا فَالْمَعْنَى هَلُمُّوا إِلَى كَلِمَةٍ فِيهَا إِنْصَافٌ مِنْ بَعْضِنَا لِبَعْضٍ، لَا مَيْلَ فِيهِ لِأَحَدٍ عَلَى صَاحِبِهِ، وَالسَّوَاءُ هُوَ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِنْصَافِ، إِعْطَاءُ النُّصْفِ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِي الْعُقُولِ تَرْكُ الظُّلْمِ عَلَى النَّفْسِ وَعَلَى الْغَيْرِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِإِعْطَاءِ النُّصْفِ، فَإِذَا أَنْصَفَ وَتَرَكَ ظُلْمَهُ أَعْطَاهُ النُّصْفَ فَقَدْ سَوَّى بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَحَصَلَ الِاعْتِدَالُ، وَإِذَا ظَلَمَ وَأَخَذَ أَكَثَرَ مِمَّا أَعْطَى زَالَ الِاعْتِدَالُ فَلَمَّا كَانَ مِنْ لَوَازِمِ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ التَّسْوِيَةُ جُعِلَ لَفْظُ التَّسْوِيَةِ عِبَارَةً عَنِ الْعَدْلِ. ثُمَّ قَالَ الزَّجَّاجُ سَواءٍ نَعْتٌ لِلْكَلِمَةِ يُرِيدُ: ذَاتِ سَوَاءٍ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ كَلِمَةٍ سَواءٍ أَيْ كَلِمَةٍ عَادِلَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ مُسْتَوِيَةٍ، فَإِذَا آمَنَّا بِهَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ كُنَّا عَلَى السَّوَاءِ وَالِاسْتِقَامَةِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَحَلُّ (أَنْ) فِي قوله أَلَّا نَعْبُدَ، فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رُفِعَ بِإِضْمَارِ، هِيَ: كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: مَا تِلْكَ الْكَلِمَةُ؟ فَقِيلَ هِيَ أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَالثَّانِي: خُفِضَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ: كَلِمَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ أَوَّلُهَا: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وثانيها: أن لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وثالثها: أن لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ لِأَنَّ النَّصَارَى جَمَعُوا بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَيَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَهُوَ الْمَسِيحُ، وَيُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنه ثلاثة: أب وابن وروح القدس، فأثبتوا ذوات ثَلَاثَةً قَدِيمَةً سَوَاءً، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُمْ أَثْبَتُوا ذوات ثَلَاثَةً قَدِيمَةً، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ أُقْنُومَ الْكَلِمَةِ تَدَرَّعَتْ بِنَاسُوتِ الْمَسِيحِ، وَأُقْنُومَ رُوحِ الْقُدُسِ تَدَرَّعَتْ بِنَاسُوتِ مَرْيَمَ، وَلَوْلَا كَوْنُ هَذَيْنِ الْأُقْنُومَيْنِ ذَاتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ وَإِلَّا لَمَا جَازَتْ عَلَيْهِمَا مُفَارَقَةُ ذَاتِ الْأَبِ وَالتَّدَرُّعُ بِنَاسُوتِ عِيسَى وَمَرْيَمَ، وَلَمَّا أَثْبَتُوا ذوات ثَلَاثَةً مُسْتَقِلَّةً فَقَدْ أَشْرَكُوا، وَأَمَّا أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يُطِيعُونَهُمْ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْجُدُونَ لِأَحْبَارِهِمْ وَالثَّالِثُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: مِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ مَنْ صَارَ كَامِلًا فِي الرِّيَاضَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ حُلُولِ اللَّاهُوتِ، فَيَقْدِرُ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، فَهُمْ وَإِنْ لَمْ يُطْلِقُوا عَلَيْهِ لَفْظَ الرَّبِّ/ إِلَّا أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا فِي حَقِّهِ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالرَّابِعُ: هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُطِيعُونَ أَحْبَارَهُمْ فِي الْمَعَاصِي، وَلَا مَعْنَى لِلرُّبُوبِيَّةِ إِلَّا ذَلِكَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الْجَاثِيَةِ: 23] فَثَبَتَ أَنَّ النَّصَارَى جَمَعُوا بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَكَانَ الْقَوْلُ بِبُطْلَانِ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ كَالْأَمْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ وَذَلِكَ، لِأَنَّ قَبْلَ الْمَسِيحِ مَا كَانَ الْمَعْبُودُ إِلَّا اللَّهَ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى الْأَمْرُ بَعْدَ ظُهُورِ الْمَسِيحِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَأَيْضًا الْقَوْلُ بِالشَّرِكَةِ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْكُلِّ، وَأَيْضًا إِذَا كَانَ الْخَالِقُ وَالْمُنْعِمُ بِجَمِيعِ النِّعَمِ هُوَ اللَّهَ، وَجَبَ أَنْ لَا يُرْجَعَ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالِانْقِيَادِ وَالطَّاعَةِ إِلَّا إِلَيْهِ، دُونَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ، فَهَذَا هُوَ شَرْحُ هَذِهِ الأمور الثلاثة.

[سورة آل عمران (3) : آية 65]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ وَالْمَعْنَى إِنْ أَبَوْا إِلَّا الْإِصْرَارَ، فَقُولُوا إِنَّا مُسْلِمُونَ، يَعْنِي أَظْهِرُوا أَنَّكُمْ عَلَى هذا الدين، لا تَكُونُوا فِي قَيْدِ أَنْ تَحْمِلُوا غَيْرَكُمْ عَلَيْهِ. [سورة آل عمران (3) : آية 65] يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) اعْلَمْ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَلَى دِينِنَا، وَالنَّصَارَى كَانُوا يَقُولُونَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى دِينِنَا، فَأَبْطَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِأَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مَا أُنْزِلَا إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا؟. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا أَيْضًا لَازِمٌ عَلَيْكُمْ لِأَنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالْإِسْلَامُ إِنَّمَا أُنْزِلَ بَعْدَهُ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ، فَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ فِي أُصُولِ الدِّينِ عَلَى الْمَذْهَبِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الْآنَ، فَنَقُولُ: فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ تَقُولَ الْيَهُودُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى الدِّينِ الَّذِي عَلَيْهِ الْيَهُودُ، وَتَقُولُ النَّصَارَى إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ نَصْرَانِيًّا بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى الدِّينِ الَّذِي عَلَيْهِ النَّصَارَى، فَكَوْنُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ نَازِلَيْنِ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا بِهَذَا التَّفْسِيرِ، كَمَا أَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ نَازِلًا بَعْدَهُ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مُسْلِمًا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقُرْآنَ أَخْبَرَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا، وَلَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، فَظَهَرَ الْفَرْقُ، ثُمَّ نَقُولُ: أَمَّا أَنَّ النَّصَارَى لَيْسُوا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَالْأَمْرُ فِيهِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْمَسِيحَ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ، فَمَا كَانَتْ عِبَادَتُهُ مَشْرُوعَةً فِي زَمَنِ/ إِبْرَاهِيمَ لَا مَحَالَةَ، فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَةِ الْمَسِيحِ مُخَالِفَةً لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ لَا مَحَالَةَ، وَأَمَّا أَنَّ الْيَهُودَ لَيْسُوا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَكَالِيفُ عَلَى الْخَلْقِ قَبْلَ مَجِيءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُوَصِّلَ لِتِلْكَ التَّكَالِيفِ إِلَى الْخَلْقِ وَاحِدٌ مِنَ الْبَشَرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ قَدْ كَانَ مُؤَيَّدًا بِالْمُعْجِزَاتِ، وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْخَلْقِ قَبُولُ تِلْكَ التَّكَالِيفِ مِنْهُ فَإِذَنْ قَدْ كَانَ قَبْلَ مَجِيءِ مُوسَى أَنْبِيَاءُ، وَكَانَتْ لَهُمْ شَرَائِعُ مُعَيَّنَةٌ، فَإِذَا جَاءَ مُوسَى فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ جَاءَ بِتَقْرِيرِ تِلْكَ الشَّرَائِعِ، أَوْ بِغَيْرِهِمَا فَإِنْ جَاءَ بِتَقْرِيرِهَا لَمْ يَكُنْ مُوسَى صَاحِبَ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، بَلْ كَانَ كَالْفَقِيهِ الْمُقَرِّرِ لِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ، وَالْيَهُودُ لَا يَرْضَوْنَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ بِشَرْعٍ آخَرَ سِوَى شَرْعِ مَنْ تَقَدَّمَهُ فَقَدْ قَالَ بِالنَّسْخِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ دِينُ كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ جَوَازَ الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ وَالْيَهُودُ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْيَهُودَ لَيْسُوا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَبَطَلَ قَوْلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ من الآية والله أعلم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 66 الى 68] هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) [في قَوْلُهُ تَعَالَى هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ هَا أَنْتُمْ بِالْمَدِّ وَالْهَمْزَةِ وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو بِغَيْرِ هَمْزٍ وَلَا مَدٍّ، إِلَّا بِقَدْرِ خُرُوجِ الْأَلِفِ السَّاكِنَةِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِالْهَمْزِ وَالْقَصْرِ عَلَى وَزْنِ صَنَعْتُمْ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالْمَدِّ دُونَ

الْهَمْزِ، فَمَنْ حَقَّقَ فَعَلَى الْأَصْلِ، لِأَنَّهُمَا حَرْفَانِ (هَا) وَ (أَنْتُمْ) وَمَنْ لَمْ/ يَمُدَّ وَلَمْ يَهْمِزْ فَلِلتَّخْفِيفِ مِنْ غَيْرِ إِخْلَالٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَصْلِ هَا أَنْتُمْ فَقِيلَ هَا تَنْبِيهٌ وَالْأَصْلُ أَنْتُمْ وَقِيلَ أَصْلُهُ (أَأَنْتُمْ) فَقُلِبَتِ الْهَمْزَةُ الْأُولَى هَاءً كَقَوْلِهِمْ هَرَقْتُ الْمَاءَ وَأَرَقْتُ وهؤُلاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَسْرِ وَأَصْلُهُ أُولَاءِ دَخَلَتْ عَلَيْهِ هَا التَّنْبِيهِ، وَفِيهِ لُغَتَانِ: الْقَصْرُ وَالْمَدُّ، فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ خَبَرُ أَنْتُمْ فِي قَوْلِهِ هَا أَنْتُمْ؟ قُلْنَا فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ صاحب «الكشاف» ها للتنبيه وأَنْتُمْ مبتدأ وهؤُلاءِ خبره وحاجَجْتُمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى بِمَعْنَى: أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ الْأَشْخَاصُ الْحَمْقَى وَبَيَانُ حَمَاقَتِكُمْ وَقِلَّةِ عُقُولِكُمْ أَنَّكُمْ وَإِنْ جَادَلْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ؟ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَنْتُمْ مُبْتَدَأً، وَخَبَرُ هؤُلاءِ بِمَعْنَى أُولَاءِ عَلَى مَعْنَى الَّذِي وَمَا بَعْدَهُ صِلَةٌ لَهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَنْتُمْ مُبْتَدَأً وهؤُلاءِ عَطْفَ بَيَانٍ وحاجَجْتُمْ خَبَرَهُ وَتَقْدِيرُهُ: أَنْتُمْ يَا هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ هُوَ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مُخَالِفَةٌ لِشَرِيعَةِ الْقُرْآنِ فَكَيْفَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَا عِلْمَ لَكُمْ بِهِ وَهُوَ ادِّعَاؤُكُمْ أَنَّ شَرِيعَةَ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟. ثُمَّ يُحْتَمَلُ فِي قَوْلِهِ هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ أَنَّهُ لَمْ يَصِفْهُمْ فِي الْعِلْمِ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّكُمْ تَسْتَجِيزُونَ مُحَاجَّتَهُ فِيمَا تَدَّعُونَ عِلْمَهُ، فَكَيْفَ تُحَاجُّونَهُ فِيمَا لَا عِلْمَ لَكُمْ بِهِ الْبَتَّةَ؟. ثُمَّ حَقَّقَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ كَيْفَ كَانَتْ حَالُ هَذِهِ الشَّرَائِعِ فِي الْمُخَالَفَةِ وَالْمُوَافَقَةِ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الْأَحْوَالِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ مُفَصَّلًا فَقَالَ: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا فَكَذَّبَهُمْ فِيمَا ادَّعَوْهُ مِنْ مُوَافَقَةٍ لَهُمَا. ثُمَّ قَالَ: وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُ الْحَنِيفِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِكَوْنِ النَّصَارَى مُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِمْ بِإِلَهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَبِكَوْنِ الْيَهُودِ مُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِمْ بِالتَّشْبِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُكُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ أَتُرِيدُونَ بِهِ الْمُوَافَقَةَ فِي الْأُصُولِ أَوْ فِي الْفُرُوعِ؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ مُخْتَصًّا بِدِينِ الْإِسْلَامِ بَلْ نَقْطَعُ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَيْضًا عَلَى دِينِ الْيَهُودِ، أَعْنِي ذَلِكَ الدِّينَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى، فَكَانَ أَيْضًا عَلَى دِينِ النَّصَارَى، أَعْنِي تِلْكَ النَّصْرَانِيَّةَ الَّتِي جَاءَ بِهَا عِيسَى فَإِنَّ أَدْيَانَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُخْتَلِفَةً فِي الْأُصُولِ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِهِ الْمُوَافَقَةَ فِي الْفُرُوعِ، فَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَاحِبَ الشَّرْعِ الْبَتَّةَ، بَلْ كَانَ كَالْمُقَرِّرِ لِدِينِ غَيْرِهِ، وَأَيْضًا مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ التَّعَبُّدَ بِالْقُرْآنِ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَانِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ مشروعة في صلاتنا وغير مَشْرُوعَةٍ فِي صَلَاتِهِمْ. قُلْنَا: جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُوَافَقَةَ فِي الْأُصُولِ وَالْغَرَضُ/ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّهُ مَا كَانَ مُوَافِقًا فِي أُصُولِ الدِّينِ لِمَذْهَبِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي زَمَانِنَا هَذَا، وَجَازَ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِهِ الْفُرُوعُ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ نَسَخَ تِلْكَ الْفُرُوعَ بِشَرْعِ مُوسَى، ثُمَّ فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسَخَ شَرْعُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الشَّرِيعَةَ الَّتِي كَانَتْ ثَابِتَةً فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَاحِبَ الشَّرِيعَةِ ثُمَّ لَمَّا كَانَ غَالِبُ شَرْعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُوَافِقًا لِشَرْعِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَوْ وقعت المخالفة

[سورة آل عمران (3) : آية 69]

فِي الْقَلِيلِ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي حُصُولِ الْمُوَافَقَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ فَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا: مَنِ اتَّبَعَهُ مِمَّنْ تَقَدَّمَ وَالْآخَرُ: النَّبِيُّ وَسَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ بِالنُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْإِعْظَامِ وَالْإِكْرَامِ. [سورة آل عمران (3) : آية 69] وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعُدُولَ عَنِ الْحَقِّ، وَالْإِعْرَاضَ عَنْ قَبُولِ الْحُجَّةِ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ، بَلْ يَجْتَهِدُونَ فِي إِضْلَالِ مَنْ آمَنَ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ مُقِرٌّ بِمُوسَى وَعِيسَى وَيَدَّعِي لِنَفْسِهِ النُّبُوَّةَ، وَأَيْضًا إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَ فِي التَّوْرَاةِ بِأَنَّ شَرْعَهُ لَا يَزُولُ، وَأَيْضًا الْقَوْلُ بِالنَّسْخِ يُفْضِي إِلَى الْبَدَاءِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَنْبِيهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنْ لَا يَغْتَرُّوا بِكَلَامِ الْيَهُودِ، وَنَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 109] وَقَوْلُهُ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً [النِّسَاءِ: 89] . وَاعْلَمْ أَنَّ (مِنْ) هَاهُنَا لِلتَّبْعِيضِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ بَعْضَهُمْ وَلَمْ يَعُمَّهُمْ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ [الْمَائِدَةِ: 66] ومِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ [آلِ عِمْرَانَ: 113] وَقِيلَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مُعَاذٍ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَحُذَيْفَةَ دَعَاهُمُ الْيَهُودُ إِلَى دِينِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَلَمْ يَقُلْ أَنْ يُضِلُّوكُمْ، لِأَنَّ (لَوْ) لِلتَّمَنِّي فَإِنَّ قَوْلَكَ لَوْ كَانَ كَذَا يُفِيدُ التَّمَنِّيَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [الْبَقَرَةِ: 96] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا مِنْهَا إِهْلَاكُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ عَلَى قَصْدِهِمْ إِضْلَالَ الْغَيْرِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [الْبَقَرَةِ: 57] وَقَوْلِهِ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: 13] لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ/ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ [النَّحْلِ: 25] وَمِنْهَا إِخْرَاجُهُمْ أَنْفُسَهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ الْهُدَى وَالْحَقِّ لِأَنَّ الذَّاهِبَ عَنِ الِاهْتِدَاءِ يُوصَفُ بِأَنَّهُ ضَالٌّ وَمِنْهَا أَنَّهُمْ لَمَّا اجْتَهَدُوا فِي إِضْلَالِ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ فَهُمْ قَدْ صَارُوا خَائِبِينَ خَاسِرِينَ، حَيْثُ اعْتَقَدُوا شَيْئًا وَلَاحَ لَهُمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا تَصَوَّرُوهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يَشْعُرُونَ أَيْ ما يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَضُرُّ الْمُؤْمِنِينَ. [سورة آل عمران (3) : آية 70] يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَا تَشْعُرُ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ دَلَالَةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيَّنَ أَيْضًا حَالَ الطَّائِفَةِ الْعَارِفَةِ بذلك من أحبارهم. فقال: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِمَ أَصْلُهَا لِمَا، لِأَنَّهَا: مَا، الَّتِي لِلِاسْتِفْهَامِ، دَخَلَتْ عَلَيْهَا اللَّامُ فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ لِطَلَبِ الْخِفَّةِ، وَلِأَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ صَارَ كَالْعِوَضِ عَنْهَا وَلِأَنَّهَا وَقَعَتْ طَرَفًا وَيَدُلُّ عَلَيْهَا الْفَتْحَةُ وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ عَمَّ يَتَساءَلُونَ [النبأ: 1] وفَبِمَ تُبَشِّرُونَ [الْحِجْرِ: 54] وَالْوَقْفُ عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ يَكُونُ بِالْهَاءِ نَحْوَ: فَبِمَهْ، وَلِمَهْ.

[سورة آل عمران (3) : آية 71]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ بِآياتِ اللَّهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا الْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: مَا فِي هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ مِنَ الْبِشَارَةِ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنْهَا مَا فِي هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ، أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا، وَمِنْهَا أَنَّ فِيهِمَا أَنَّ الدِّينَ هُوَ الْإِسْلَامُ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمُحْتَمِلِ لِهَذِهِ الْوُجُوهِ نَقُولُ: إِنَّ الْكُفْرَ بِالْآيَاتِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ مَا كَانُوا كَافِرِينَ بِالتَّوْرَاةِ بَلْ كَانُوا كَافِرِينَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ فَأَطْلَقَ اسْمَ الدَّلِيلِ عَلَى الْمَدْلُولِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ بِنَفْسِ التَّوْرَاةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّفُونَهَا وَكَانُوا يُنْكِرُونَ وُجُودَ تِلْكَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُمْ عِنْدَ حُضُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَعِنْدَ حُضُورِ عَوَامِّهِمْ، كَانُوا يُنْكِرُونَ اشْتِمَالَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ شَهِدُوا بِصِحَّتِهَا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ [آلِ عِمْرَانَ: 99] . وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِهَذَا الْقَوْلِ، يَدُلُّ عَلَى اشْتِمَالِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْبَرَهُمْ بِمَا يَكْتُمُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَيُظْهِرُونَ غَيْرَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ/ الْغَيْبِ مُعْجِزٌ. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ اللَّهِ أَنَّهَا هِيَ الْقُرْآنُ وَقَوْلُهُ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يَعْنِي أَنَّكُمْ تُنْكِرُونَ عِنْدَ الْعَوَامِّ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا ثُمَّ تَشْهَدُونَ بِقُلُوبِكُمْ وَعُقُولِكُمْ كَوْنَهُ مُعْجِزًا. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِآيَاتِ اللَّهِ جُمْلَةُ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ مَعْنَاهُ أَنَّكُمْ إِنَّمَا اعْتَرَفْتُمْ بِدَلَالَةِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُعْجِزَ قَائِمٌ مَقَامَ التَّصْدِيقِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا شَهِدْتُمْ بِأَنَّ الْمُعْجِزَ إِنَّمَا دَلَّ عَلَى صِدْقِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ حُصُولَ هَذَا الْوَجْهِ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إصرار كم على إنكار نبوته ورسالته مناقضاً لما شهدتهم بِحَقِّيَّتِهِ مِنْ دَلَالَةِ مُعْجِزَاتِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصلاة والسلام على صدقهم. [سورة آل عمران (3) : آية 71] يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) اعْلَمْ أَنَّ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَانَتْ لَهُمْ حِرْفَتَانِ إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ بِقُلُوبِهِمْ أَنَّهُ رَسُولُ حَقٍّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ تَعَالَى نَهَاهُمْ عَنْ هَذِهِ الْحِرْفَةِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَثَانِيَتُهُمَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْتَهِدُونَ فِي إِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ، وَفِي إِخْفَاءِ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ وَاللَّهُ تَعَالَى نَهَاهُمْ عَنْ هَذِهِ الْحِرْفَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، فَالْمَقَامُ الْأَوَّلُ مَقَامُ الْغِوَايَةِ وَالضَّلَالَةِ وَالْمَقَامُ الثَّانِي مَقَامُ الْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ تَلْبِسُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ تَلْبِسُونَ بِفَتْحِ الْبَاءِ، أَيْ تَلْبَسُونَ الْحَقَّ مَعَ الْبَاطِلِ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» وَقَوْلِهِ إِذَا هُوَ بِالْمَجْدِ ارْتَدَى وَتَأَزَّرَا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ السَّاعِيَ فِي إِخْفَاءِ الْحَقِّ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِإِلْقَاءِ شُبْهَةٍ تَدُلُّ

[سورة آل عمران (3) : آية 72]

عَلَى الْبَاطِلِ، وَإِمَّا بِإِخْفَاءِ الدَّلِيلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ، فَقَوْلُهُ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَقَامِ الْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَقَامِ الثَّانِي أَمَّا لَبْسُ الْحَقِّ بالباطل فإنه يحتمل هاهنا وجوهاًأحدها: تَحْرِيفُ التَّوْرَاةِ، فَيَخْلِطُونَ الْمُنَزَّلَ بِالْمُحَرَّفِ، عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ زَيْدٍ وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ تَوَاضَعُوا عَلَى إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ أَوَّلَ النَّهَارِ، ثُمَّ الرُّجُوعِ عَنْهُ فِي آخِرِ النَّهَارِ، / تَشْكِيكًا لِلنَّاسِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي التَّوْرَاةِ مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْبِشَارَةِ وَالنَّعْتِ وَالصِّفَةِ وَيَكُونُ فِي التَّوْرَاةِ أَيْضًا مَا يُوهِمُ خِلَافَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ كَالْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ فَيُلَبِّسُونَ عَلَى الضُّعَفَاءِ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُشَبِّهَةِ، وَهَذَا قَوْلُ القاضي ورابعها: أنهم كانوا يقولون محمداً مُعْتَرِفٌ بِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَقٌّ، ثُمَّ إِنَّ التَّوْرَاةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُنْسَخُ وَكُلُّ ذَلِكَ إِلْقَاءٌ لِلشُّبُهَاتِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ فَالْمُرَادُ أَنَّ الْآيَاتِ الْمَوْجُودَةَ فِي التَّوْرَاةِ الدَّالَّةَ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا مُفْتَقِرًا إِلَى التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ، وَالْقَوْمُ كَانُوا يَجْتَهِدُونَ فِي إِخْفَاءِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي كَانَ بِمَجْمُوعِهَا يَتِمُّ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ مِثْلَ مَا أَنَّ أَهْلَ الْبِدْعَةِ فِي زَمَانِنَا يَسْعَوْنَ فِي أَنْ لَا يَصِلَ إِلَى عَوَامِّهِمْ دَلَائِلُ الْمُحَقِّقِينَ. أَمَّا قَوْلُهُ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ إِنَّمَا تَفْعَلُونَ ذَلِكَ عِنَادًا وَحَسَدًا وَثَانِيهَا: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ أَنْتُمْ أَرْبَابُ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ لَا أَرْبَابُ الْجَهْلِ وَالْخُرَافَةِ وَثَالِثُهَا: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عِقَابَ مَنْ يَفْعَلُ مِثْلَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ عَظِيمٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي: قوله تعالى: لِمَ تَكْفُرُونَ ولِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِعْلُهُمْ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَهُ فِيهِمْ، ثُمَّ يَقُولَ: لِمَ فَعَلْتُمْ؟ وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْفِعْلَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّاعِيَةِ فَتِلْكَ الدَّاعِيَةُ إِنْ حَدَثَتْ لَا لِمُحْدِثٍ لَزِمَ نَفْيُ الصَّانِعِ، وَإِنْ كَانَ مُحْدِثُهَا هُوَ الْعَبْدَ افْتَقَرَ إِلَى إِرَادَةٍ أُخْرَى وَإِنْ كَانَ مُحْدِثُهَا هُوَ اللَّهَ تَعَالَى لَزِمَكُمْ ما ألزمتموه علينا والله أعلم. [سورة آل عمران (3) : آية 72] وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِأَنْ حَكَى عَنْهُمْ نَوْعًا وَاحِدًا مِنْ أَنْوَاعِ تَلْبِيسَاتِهِمْ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كُلَّ مَا أُنْزِلَ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَعْضَ مَا أُنْزِلَ. أما الاحتمال الأول: ففيه وجوه الأول: أن الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اسْتَخْرَجُوا حِيلَةً فِي/ تَشْكِيكِ ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي صِحَّةِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرُوا تَصْدِيقَ مَا يَنْزِلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّرَائِعِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، ثُمَّ يُظْهِرُوا بَعْدَ ذَلِكَ تَكْذِيبَهُ، فَإِنَّ النَّاسَ مَتَى شَاهَدُوا هَذَا التَّكْذِيبَ، قَالُوا: هَذَا التَّكْذِيبُ لَيْسَ لِأَجْلِ الْحَسَدِ وَالْعِنَادِ، وَإِلَّا لَمَا آمَنُوا بِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا التَّكْذِيبُ لِأَجْلِ الْحَسَدِ وَالْعِنَادِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَقَدْ تَفَكَّرُوا فِي أَمْرِهِ وَاسْتَقْصَوْا فِي الْبَحْثِ عَنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ فَلَاحَ لَهُمْ بَعْدَ التَّأَمُّلِ التَّامِّ، وَالْبَحْثِ الْوَافِي أَنَّهُ كَذَّابٌ، فَيَصِيرُ هَذَا الطَّرِيقُ شُبْهَةً لِضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَقِيلَ: تَوَاطَأَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَحْبَارِ يَهُودِ خَيْبَرَ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ.

وَقَوْلُهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ مَعْنَاهُ أَنَّا مَتَى أَلْقَيْنَا هَذِهِ الشُّبْهَةَ فَلَعَلَّ أَصْحَابَهُ يَرْجِعُونَ عَنْ دِينِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ نَافِقُوا وَأَظْهِرُوا الْوِفَاقَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَثْبُتُوا عَلَى دِينِكُمْ إِذَا خَلَوْتُمْ بِإِخْوَانِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّ أَمْرَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي اضْطِرَابٍ فَزُجُّوا الْأَيَّامَ مَعَهُمْ بِالنِّفَاقِ فَرُبَّمَا ضَعُفَ أَمْرُهُمْ وَاضْمَحَلَّ دِينُهُمْ وَيَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [النِّسَاءِ: 137] أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ [النِّسَاءِ: 138] وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [الْبَقَرَةِ: 14] الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَتْبَعَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ نَهَوْا عَنْ غَيْرِ دِينِهِمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ فَكَانَ قَوْلُهُمْ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ أَمْرٌ بِالنِّفَاقِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ الْأَصَمُّ: قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِنْ كَذَّبْتُمُوهُ فِي جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ فَإِنَّ عَوَامَّكُمْ يَعْلَمُونَ كَذِبَكُمْ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّا جَاءَ بِهِ حَقٌّ وَلَكِنْ صَدِّقُوهُ فِي بَعْضٍ وَكَذِّبُوهُ فِي بَعْضٍ حَتَّى يَحْمِلَ النَّاسُ تَكْذِيبَكُمْ لَهُ عَلَى الْإِنْصَافِ لَا عَلَى الْعِنَادِ فَيَقْبَلُوا قَوْلَكُمْ. الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ بَعْضَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ حَمَلُوهُ عَلَى أَمْرِ الْقِبْلَةِ وَذَكَرُوا فِيهِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَجْهُ النَّهَارِ أَوَّلُهُ، وَهُوَ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ: يَعْنِي صَلَاةَ الظُّهْرِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ أَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَفَرِحَ الْيَهُودُ بِذَلِكَ وَطَمِعُوا أَنْ يَكُونَ منهم، فلما حوله الله إلى الكعبة كان ذَلِكَ عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ قَالَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَغَيْرُهُ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ يَعْنِي آمِنُوا بِالْقِبْلَةِ الَّتِي صَلَّى إِلَيْهَا صَلَاةَ الصُّبْحِ فَهِيَ الْحَقُّ، وَاكْفُرُوا بِالْقِبْلَةِ الَّتِي صَلَّى إِلَيْهَا صَلَاةَ الظُّهْرِ، وَهِيَ آخِرُ النَّهَارِ، وَهِيَ الْكُفْرُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَمَّا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ صَلُّوا إِلَى الْكَعْبَةِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، ثُمَّ اكْفُرُوا بِهَذِهِ الْقِبْلَةِ فِي آخِرِ النَّهَارِ وَصَلُّوا إِلَى الصَّخْرَةِ لَعَلَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ أَصْحَابُ/ الْعِلْمِ فَلَوْلَا أَنَّهُمْ عَرَفُوا بُطْلَانَ هَذِهِ الْقِبْلَةِ لَمَا تَرَكُوهَا فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُونَ عَنْ هَذِهِ الْقِبْلَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفَائِدَةُ فِي إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ تَوَاضُعِهِمْ عَلَى هَذِهِ الْحِيلَةِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ كَانَتْ مَخْفِيَّةً فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَمَا أَطْلَعُوا عَلَيْهَا أَحَدًا مِنَ الْأَجَانِبِ، فَلَمَّا أَخْبَرَ الرَّسُولُ عَنْهَا كَانَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ، فَيَكُونُ معجزاًالثاني: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَطْلَعَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى تَوَاطُئِهِمْ عَلَى هَذِهِ الْحِيلَةِ لَمْ يَحْصُلْ لِهَذِهِ الْحِيلَةِ أَثَرٌ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَوْلَا هَذَا الْإِعْلَانُ لَكَانَ رُبَّمَا أَثَّرَتْ هَذِهِ الْحِيلَةُ فِي قَلْبِ بَعْضِ مَنْ كَانَ فِي إِيمَانِهِ ضَعْفٌ الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا افْتَضَحُوا فِي هَذِهِ الْحِيلَةِ صَارَ ذَلِكَ رَادِعًا لَهُمْ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى أَمْثَالِهَا مِنَ الْحِيَلِ وَالتَّلْبِيسِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَجْهُ النَّهَارِ هُوَ أَوَّلُهُ، وَالْوَجْهُ فِي اللُّغَةِ هُوَ مُسْتَقْبَلُ كُلِّ شَيْءٍ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يُوَاجَهُ مِنْهُ، كَمَا يُقَالُ لِأَوَّلِ الثَّوْبِ وَجْهُ الثَّوْبِ، رَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: أَتَيْتُهُ بِوَجْهِ نَهَارٍ وَصَدْرِ نَهَارٍ، وَشَبَابِ نَهَارٍ، أَيْ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَأَنْشَدَ الرَّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ فَقَالَ:

[سورة آل عمران (3) : الآيات 73 إلى 74]

مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِكٍ ... فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بوجه نهار [سورة آل عمران (3) : الآيات 73 الى 74] وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا بَقِيَّةُ كَلَامِ الْيَهُودِ، وَفِيهِ ووجهان الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى: وَلَا تُصَدِّقُوا إِلَّا نَبِيًّا يُقَرِّرُ شَرَائِعَ التَّوْرَاةِ، فَأَمَّا مَنْ جَاءَ بِتَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ فَلَا تُصَدِّقُوهُ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْيَهُودِ إِلَى الْيَوْمِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ تَكُونُ (اللَّامُ) فِي قَوْلِهِ إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ صِلَةً زَائِدَةً فَإِنَّهُ يُقَالُ صَدَّقْتُ فُلَانًا. وَلَا يُقَالُ صَدَّقْتُ لِفُلَانٍ، وَكَوْنُ هَذِهِ اللَّامِ صِلَةً زَائِدَةً جَائِزٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَدِفَ لَكُمْ [النَّمْلِ: 72] وَالْمُرَادُ رَدِفَكُمْ وَالثَّانِي: أَنَّهُ ذَكَرَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ. ثم قال في هذه الآية: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ أَيْ لَا تَأْتُوا بِذَلِكَ الْإِيمَانِ إِلَّا لِأَجْلِ مَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ. كَأَنَّهُمْ قَالُوا: لَيْسَ الْغَرَضُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِذَلِكَ التَّلْبِيسِ إِلَّا بَقَاءَ أَتْبَاعِكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَالْمَعْنَى وَلَا تَأْتُوا بِذَلِكَ الْإِيمَانِ إِلَّا لِأَجْلِ مَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، فَإِنَّ مَقْصُودَ كُلِّ وَاحِدٍ حِفْظُ أَتْبَاعِهِ وَأَشْيَاعِهِ عَلَى مُتَابَعَتِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. مَعْنَاهُ: الدِّينُ دِينُ اللَّهِ وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى [الْبَقَرَةِ: 120] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَنَّهُ كَيْفَ صَارَ هَذَا الْكَلَامُ جَوَابًا عَمَّا حَكَاهُ عَنْهُمْ؟ فَنَقُولُ: أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ لَا دِينَ إِلَّا مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَهَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا صَلَحَ جَوَابًا عَنْهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ إِنَّمَا ثَبَتَ دِينًا مِنْ جِهَةِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ وَأَرْشَدَ إِلَيْهِ وَأَوْجَبَ الِانْقِيَادَ لَهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَمَتَى أَمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِهِ، وَأَرْشَدَ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَوْجَبَ الِانْقِيَادَ إِلَى غَيْرِهِ كَانَ نَبِيًّا يَجِبُ أَنْ يُتَّبَعَ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِمَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ الدِّينَ إِنَّمَا صَارَ دِينًا بِحُكْمِهِ وَهِدَايَتِهِ، فَحَيْثُمَا كَانَ حُكْمُهُ وَجَبَتْ مُتَابَعَتُهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى جَوَابًا لَهُمْ عَنْ قَوْلِهِمْ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [الْبَقَرَةِ: 142] يَعْنِي الْجِهَاتُ كُلُّهَا لِلَّهِ، فَلَهُ أَنْ يُحَوِّلَ الْقِبْلَةَ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَالْمَعْنَى أَنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ، وَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهِ فَلَنْ يَنْفَعَكُمْ فِي دَفْعِهِ هَذَا الْكَيْدُ الضَّعِيفُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ الصَّعْبَةِ، فَنَقُولُ هَذَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ الْيَهُودِ، وَمِنْ تَتِمَّةِ قَوْلِهِمْ وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ قوم من المفسرين. وأما الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ (أَنْ يُؤْتَى) بِمَدِّ الْأَلِفِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْأَلِفِ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ وَلَا اسْتِفْهَامٍ، فَإِنْ أَخَذْنَا بِقِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، فَالْوَجْهُ ظَاهِرٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّوْبِيخِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْقَلَمِ: 14، 15] وَالْمَعْنَى أَمِنْ أَجْلِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ شَرَائِعَ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ الشَّرَائِعِ يُنْكِرُونَ اتِّبَاعَهُ؟ ثُمَّ حُذِفَ الْجَوَابُ لِلِاخْتِصَارِ، وَهَذَا الْحَذْفُ كثير يقول

الرَّجُلُ بَعْدَ طُولِ الْعِتَابِ لِصَاحِبِهِ، وَتَعْدِيدِهِ عَلَيْهِ ذُنُوبَهُ بَعْدَ كَثْرَةِ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ أَمِنْ قِلَّةِ إِحْسَانِي إِلَيْكَ أَمِنْ إِهَانَتِي لَكَ؟ وَالْمَعْنَى أَمِنْ أَجْلِ هَذَا فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ؟ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزُّمَرِ: 9] وَهَذَا الْوَجْهُ مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِيسَى بْنِ عُمَرَ. أَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِقَصْرِ الْأَلِفِ مِنْ (أَنْ) فَقَدْ يُمْكِنُ أَيْضًا حَمْلُهَا عَلَى مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ كَمَا قُرِئَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [الْبَقَرَةِ: 6] بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، وَكَذَا قَوْلُهُ أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ قُرِئَ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أَمْ تَبْتَكِرْ؟ ... وَمَاذَا عَلَيْكَ وَلَمْ تنتظر أراد أروح مِنَ الْحَيِّ؟ فَحَذَفَ أَلِفَ الِاسْتِفْهَامِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ كَانَ التَّقْدِيرُ مَا شَرَحْنَاهُ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُولَى. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ أُولَئِكَ لَمَّا قَالُوا لِأَتْبَاعِهِمْ: لَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ فَلَا تُنْكِرُوا أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ سِوَاكُمْ مِنَ الْهُدَى مثل ما أوتيتموه أَوْ يُحاجُّوكُمْ يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ عِنْدَ رَبِّكُمْ إِنْ لَمْ تَقْبَلُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ يَفْتَقِرُ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ إِلَى إِضْمَارِ قَوْلِهِ فَلَا تُنْكِرُوا لِأَنَّ عَلَيْهِ دَلِيلًا وَهُوَ قَوْلُهُ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ فإنه لما كان الهدى اللَّهِ كَانَ لَهُ تَعَالَى أَنْ يُؤْتِيَهُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ تَرْكُ الْإِنْكَارِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْهُدَى اسْمٌ لِلْبَيَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فُصِّلَتْ: 17] فَقَوْلُهُ إِنَّ الْهُدى مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ هُدَى اللَّهِ بَدَلٌ مِنْهُ وَقَوْلُهُ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ خَبَرٌ بِإِضْمَارِ حَرْفِ لَا، وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لَا شَكَّ أَنَّ بَيَانَ اللَّهِ هُوَ أَنْ لَا يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْأَدْيَانِ وَأَنْ لَا يُحَاجُّوكُمْ يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ عِنْدَ رَبِّكُمْ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ يُظْهِرُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَنَّكُمْ مُحِقُّونَ وَأَنَّهُمْ مُضِلُّونَ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ حَرْفِ (لَا) وَهُوَ جَائِزٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: أَنْ تَضِلُّوا [النِّسَاءِ: 44] أَيْ أَنْ لَا تَضِلُّوا. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: الْهُدى اسم وهُدَى اللَّهِ بدل منه وأَنْ يُؤْتى أَحَدٌ خَبَرُهُ وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَقَوْلُهُ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِضْمَارٍ، وَالتَّقْدِيرُ: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ فَيُقْضَى لَكُمْ عَلَيْهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْهُدَى هُوَ مَا هَدَيْتُكُمْ بِهِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي مَنْ حَاجَّكُمْ بِهِ عِنْدِي قَضَيْتُ لَكُمْ عَلَيْهِ، وَفِي قَوْلِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْإِضْمَارِ وَلِأَنَّ حُكْمَهُ بِكَوْنِهِ رَبًّا لَهُمْ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ رَاضِيًا عَنْهُمْ وَذَلِكَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ يَحْكُمُ لَهُمْ وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ. وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ مِنْ تَتِمَّةِ كَلَامِ الْيَهُودِ، وَفِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ، وَإِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ، قَالُوا، وَالْمَعْنَى لَا تُظْهِرُوا إِيمَانَكُمْ بِأَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ إِلَّا لِأَهْلِ دِينِكُمْ، وَأَسِرُّوا تَصْدِيقَكُمْ، بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أُوتُوا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، وَلَا تُفْشُوهُ إِلَّا إِلَى أَشْيَاعِكُمْ وَحْدَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يَزِيدَهُمْ ثَبَاتًا وَدُونَ الْمُشْرِكِينَ لِئَلَّا يَدْعُوَهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْإِسْلَامِ. أَمَّا قَوْلُهُ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى أَنْ يُؤْتَى، وَالضَّمِيرُ فِي يُحَاجُّوكُمْ لِأَحَدٍ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى

الْجَمْعِ بِمَعْنَى وَلَا تُؤْمِنُوا لِغَيْرِ أَتْبَاعِكُمْ، إِنَّ الْمُسْلِمِينَ يُحَاجُّونَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْحَقِّ وَيُغَالِبُونَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بِالْحُجَّةِ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ ضَعِيفٌ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ جِدَّ الْقَوْمِ فِي حِفْظِ أَتْبَاعِهِمْ عَنْ قَبُولِ دِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَعْظَمَ مِنْ جِدِّهِمْ فِي حِفْظِ غَيْرِ أَتْبَاعِهِمْ وَأَشْيَاعِهِمْ عَنْهُ، فَكَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يُوصِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْإِقْرَارِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أَتْبَاعِهِمْ وَأَشْيَاعِهِمْ، وَأَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَجَانِبِ؟ هَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ الثَّانِي: أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَخْتَلُّ النَّظْمُ وَيَقَعُ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ لَا يَلِيقُ بِكَلَامِ الْفُصَحَاءِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا بُدَّ مِنَ الْحَذْفِ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ وَإِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفِ (قُلْ) فِي قَوْلِهِ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ الرَّابِعُ: أَنَّهُ كَيْفَ وَقَعَ قَوْلُهُ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ فِيمَا بَيْنَ جُزْأَيْ كَلَامٍ وَاحِدٍ؟ فَإِنَّ هَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ الْكَلَامِ الْمُسْتَقِيمِ، قَالَ الْقَفَّالُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ كلام أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَهُ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْحِكَايَةِ عَنِ الْيَهُودِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلًا بَاطِلًا لَا جَرَمَ أَدَّبَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُقَابِلَهُ بِقَوْلٍ حَقٍّ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى حِكَايَةِ تَمَامِ كَلَامِهِمْ كَمَا إِذَا حَكَى الْمُسْلِمُ عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ قَوْلًا فِيهِ كُفْرٌ، فَيَقُولُ: عِنْدَ بُلُوغِهِ إِلَى تِلْكَ الْكَلِمَةِ آمَنْتُ بِاللَّهِ، أَوْ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَوْ يَقُولُ تَعَالَى اللَّهُ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى تَمَامِ الْحِكَايَةِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، ثُمَّ أَتَى بَعْدَهُ بِتَمَامِ قَوْلِ الْيَهُودِ إِلَى قَوْلِهِ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ ثُمَّ أَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُحَاجَّتِهِمْ فِي هَذَا وَتَنْبِيهِهِمْ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ، فَقِيلَ لَهُ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. الْإِشْكَالُ الْخَامِسُ: فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ: أَنَّ الْإِيمَانَ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمُصَدِّقِ بِحَرْفِ اللَّامِ لَا يُقَالُ صَدَّقْتُ لِزَيْدٍ بَلْ يُقَالُ: صَدَّقْتُ زَيْدًا، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا مَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَحْتَاجُ إِلَى حَذْفِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ وَيَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ الْبَاءِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي قَوْلِهِ أَنْ يُؤْتى لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَلَا تُصَدِّقُوا إِلَّا مَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، بِأَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، فَقَدِ اجْتَمَعَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ الْحَذْفُ وَالْإِضْمَارُ وَسُوءُ النَّظْمِ وَفَسَادُ الْمَعْنَى، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُحْمَلَ الْإِيمَانُ عَلَى الْإِقْرَارِ فَيَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَا تُقِرُّوا بِأَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا تَكُونُ اللَّامُ زَائِدَةً، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ حَرْفِ الْبَاءِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَهَذَا مُحَصِّلُ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْيَهُودِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُؤْمِنُوا وَجْهَ النَّهَارِ، وَيَكْفُرُوا آخِرَهُ، / لِيَصِيرَ ذَلِكَ شُبْهَةً لِلْمُسْلِمِينَ فِي صِحَّةِ الْإِسْلَامِ. فَأَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَعَ كَمَالِ هِدَايَةِ اللَّهِ وَقُوَّةِ بَيَانِهِ لَا يَكُونُ لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ الرَّكِيكَةِ قُوَّةٌ وَلَا أَثَرٌ وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمُ اسْتَنْكَرُوا أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتُوا مِنَ الْكِتَابِ وَالْحُكْمِ وَالنُّبُوَّةِ. فَأَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَالْمُرَادُ بِالْفَضْلِ الرِّسَالَةُ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الزِّيَادَةِ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي زِيَادَةِ الْإِحْسَانِ، وَالْفَاضِلِ الزَّائِدِ عَلَى غَيْرِهِ فِي خِصَالِ الْخَيْرِ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ الْفَضْلِ لِكُلِّ نَفْعٍ قَصَدَ بِهِ فَاعِلُهُ الْإِحْسَانَ إِلَى الْغَيْرِ وَقَوْلُهُ بِيَدِ اللَّهِ أَيْ إِنَّهُ مَالِكٌ لَهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أَيْ هُوَ تَفَضُّلٌ مَوْقُوفٌ عَلَى مَشِيئَتِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النُّبُوَّةَ تَحْصُلُ بِالتَّفَضُّلِ لَا بِالِاسْتِحْقَاقِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا مِنْ بَابِ الْفَضْلِ الَّذِي لِفَاعِلِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَأَنْ لَا يَفْعَلَهُ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَحِقِّ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ وَقَوْلُهُ وَاللَّهُ واسِعٌ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 75 إلى 76]

عَلِيمٌ مُؤَكِّدٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ كَوْنَهُ وَاسِعًا، يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَكَوْنَهُ عَلِيمًا عَلَى كَمَالِ الْعِلْمِ، فَيَصِحُّ مِنْهُ لِمَكَانِ الْقُدْرَةِ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَى أَيِّ عَبْدٍ شَاءَ بِأَيِّ تَفَضُّلٍ شَاءَ، وَيَصِحُّ مِنْهُ لِمَكَانِ كَمَالِ الْعِلْمِ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِهِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ. ثُمَّ قَالَ: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَهَذَا كَالتَّأْكِيدِ لِمَا تَقَدَّمَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا أَنَّ الْفَضْلَ عِبَارَةٌ عَنِ الزِّيَادَةِ، ثُمَّ إِنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ جِنْسِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، فَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُؤْتِيَ بَعْضَ عِبَادِهِ مِثْلَ مَا آتَاهُمْ مِنَ الْمَنَاصِبِ الْعَالِيَةِ وَيَزِيدَ عَلَيْهَا مِنْ جِنْسِهَا، ثُمَّ قَالَ: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَالرَّحْمَةُ الْمُضَافَةُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَمْرٌ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ الْفَضْلِ، فَإِنَّ هَذِهِ الرَّحْمَةَ رُبَّمَا بَلَغَتْ فِي الشَّرَفِ وَعُلُوِّ الرُّتْبَةِ إِلَى أَنْ لَا تَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَا آتَاهُمْ، بَلْ تَكُونُ أَعْلَى وَأَجَلَّ مِنْ أَنْ تُقَاسَ إِلَى مَا آتَاهُمْ، وَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ أَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِمَرَاتِبِ إِعْزَازِ اللَّهِ وَإِكْرَامِهِ لِعِبَادِهِ، وَأَنَّ قَصْرَ إِنْعَامِهِ وَإِكْرَامِهِ عَلَى مَرَاتِبَ مُعَيَّنَةٍ، وَعَلَى أَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ جَهْلٌ بِكَمَالِ الله في القدرة والحكمة. [سورة آل عمران (3) : الآيات 75 الى 76] وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ] اعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ أُوتُوا مِنَ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ، مَا لَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ مِثْلَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْخِيَانَةَ مُسْتَقْبَحَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ أَرْبَابِ الْأَدْيَانِ، وَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَيْهَا، فَدَلَّ هَذَا عَلَى كَذِبِهِمْ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَبَائِحَ أَحْوَالِهِمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَدْيَانِ وَهُوَ أنهم قالوا لا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 73] حَكَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ قَبَائِحِ أَحْوَالِهِمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَامَلَةِ النَّاسِ، وَهُوَ إِصْرَارُهُمْ عَلَى الْخِيَانَةِ وَالظُّلْمِ وَأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ فِي الْقَلِيلِ. وَالْكَثِيرِ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى انْقِسَامِهِمْ إِلَى قِسْمَيْنِ: بَعْضُهُمْ أَهْلُ الْأَمَانَةِ، وَبَعْضُهُمْ أَهْلُ الْخِيَانَةِ وَفِيهِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَهْلَ الْأَمَانَةِ مِنْهُمْ هُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا، أَمَّا الَّذِينَ بَقُوا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ فَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى الخيانة لأن مذهبهم أنه يَحِلَّ لَهُمْ قَتْلُ كُلِّ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْذُ أَمْوَالِهِمْ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 113] مَعَ قَوْلِهِ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 110] الثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ الْأَمَانَةِ هُمُ النَّصَارَى، وَأَهْلَ الْخِيَانَةِ هُمُ الْيَهُودُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا، أَنَّ مَذْهَبَ الْيَهُودِ أَنَّهُ يُحِلُّ قَتْلَ الْمُخَالِفِ وَيُحِلُّ أَخْذَ مَالِهِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْدَعَ رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ أَلْفًا وَمِائَتَيْ أُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَأَدَّى إِلَيْهِ، وَأَوْدَعَ آخَرُ فِنْحَاصَ بْنَ عَازُورَاءَ دِينَارًا فَخَانَهُ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُقَالُ أَمِنْتُهُ بِكَذَا وَعَلَى كَذَا، كَمَا يُقَالُ مَرَرْتُ بِهِ وَعَلَيْهِ، فَمَعْنَى الْبَاءِ إِلْصَاقُ الْأَمَانَةِ، وَمَعْنَى: عَلَى اسْتِعْلَاءُ الْأَمَانَةِ، فَمَنِ اؤْتُمِنَ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ صَارَ ذَلِكَ الشَّيْءُ فِي مَعْنَى الْمُلْتَصِقِ بِهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، وَاتِّصَالِهِ بِحِفْظِهِ وَحِيَاطَتِهِ، وَأَيْضًا صَارَ الْمُودَعُ كَالْمُسْتَعْلِي عَلَى تِلْكَ الْأَمَانَةِ وَالْمُسْتَوْلِي عَلَيْهَا، فَلِهَذَا حَسُنَ التَّعْبِيرُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى

بِكِلْتَا الْعِبَارَتَيْنِ، وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَى قَوْلِكَ أَمِنْتُكَ بِدِينَارٍ أَيْ وَثِقْتُ بِكَ فِيهِ، وَقَوْلُكَ أَمِنْتُكَ عَلَيْهِ، أَيْ جَعَلْتُكَ أَمِينًا عَلَيْهِ وَحَافِظًا لَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِ الْقِنْطَارِ وَالدِّينَارِ هَاهُنَا الْعَدَدُ الْكَثِيرُ وَالْعَدَدُ الْقَلِيلُ، يَعْنِي أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ فِي غَايَةِ الْأَمَانَةِ حَتَّى لَوِ اؤْتُمِنَ عَلَى الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ أَدَّى الْأَمَانَةَ فِيهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي غَايَةِ الْخِيَانَةِ حَتَّى لَوِ اؤْتُمِنَ عَلَى الشَّيْءِ الْقَلِيلِ، فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ فِيهِ الْخِيَانَةَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [النِّسَاءِ: 20] وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، / فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى ذِكْرِ مِقْدَارِ الْقِنْطَارِ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقِنْطَارَ أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ قَالُوا: لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ حِينَ اسْتَوْدَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَلْفًا وَمِائَتَيْ أُوقِيَّةٍ مِنَ الذَّهَبِ فَرَدَّهُ وَلَمْ يَخُنْ فِيهِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْقِنْطَارِ هُوَ ذَلِكَ الْمِقْدَارُ الثَّانِي: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مِلْءُ جِلْدِ ثَوْرٍ مِنَ الْمَالِ الثَّالِثُ: قِيلَ الْقِنْطَارُ هُوَ أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ أَوْ أَلْفُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ الْقِنْطَارِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ يُؤَدِّهْ بِسُكُونِ الْهَاءِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا غَلَطٌ مِنَ الرَّاوِي عَنْ أَبِي عَمْرٍو كَمَا غَلِطَ فِي بارِئِكُمْ بِإِسْكَانِ الْهَمْزَةِ وَإِنَّمَا كَانَ أَبُو عَمْرٍو يَخْتَلِسُ الْحَرَكَةَ، وَاحْتَجَّ الزَّجَّاجُ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِأَنْ قَالَ: الْجَزَاءُ لَيْسَ فِي الْهَاءِ وَإِنَّمَا هُوَ فِيمَا قَبْلَ الْهَاءِ وَالْهَاءُ اسْمُ الْمُكَنَّى وَالْأَسْمَاءُ لَا تُجْزَمُ فِي الْوَصْلِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْزِمُ الْهَاءَ إِذَا تَحَرَّكَ مَا قَبْلَهَا. فَيَقُولُ: ضَرَبْتُهْ ضَرْبًا شَدِيدًا كَمَا يُسَكِّنُونَ (مِيمَ) أَنْتُمْ وَقُمْتُمْ وَأَصْلُهَا الرَّفْعُ، وَأَنْشَدَ: لَمَّا رَأَى أَنْ لَا دَعَهْ وَلَا شِبَعُ وَقُرِئَ أَيْضًا بِاخْتِلَاسِ حَرَكَةِ الْهَاءِ اكْتِفَاءً بِالْكَسْرَةِ مِنَ الْيَاءِ، وَقُرِئَ بِإِشْبَاعِ الْكَسْرَةِ فِي الْهَاءِ وَهُوَ الْأَصْلُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي لَفْظِ (الْقَائِمِ) وَجْهَانِ: مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي إِلَّا مَا دُمْتَ قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ بِالِاجْتِمَاعِ مَعَهُ وَالْمُلَازَمَةِ لَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ مُعْتَرِفًا بِمَا دَفَعْتَ إِلَيْهِ مَا دُمْتَ قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ، فَإِنْ أَنْظَرْتَ وَأَخَّرْتَ أَنْكَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ لَفْظَ (الْقَائِمِ) عَلَى مَجَازِهِ ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْقِيَامِ الْإِلْحَاحُ وَالْخُصُومَةُ وَالتَّقَاضِي وَالْمُطَالَبَةُ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَصْلُهُ أَنَّ الْمُطَالِبَ لِلشَّيْءِ يَقُومُ فِيهِ وَالتَّارِكَ لَهُ يَقْعُدُ عنه، دليل قوله تعالى: أُمَّةٌ قائِمَةٌ [آل عمران: 113] أَيْ عَامِلَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ غَيْرُ تَارِكَةٍ، ثُمَّ قِيلَ: لِكُلِّ مَنْ وَاظَبَ عَلَى مُطَالَبَةِ أَمْرٍ أَنَّهُ قَامَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ قِيَامٌ الثَّانِي: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْقِيَامُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ، وَذَكَرْنَا ذَلِكَ في قوله تعالى: يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [البقرة: 3] ومنه قوله دِيناً قِيَماً [الأنعام: 161] أَيْ دَائِمًا ثَابِتًا لَا يُنْسَخُ فَمَعْنَى قَوْلِهِ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً أَيْ دَائِمًا ثَابِتًا فِي مُطَالَبَتِكَ إِيَّاهُ بِذَلِكَ الْمَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ وبِدِينارٍ الْعَيْنُ وَالدَّيْنُ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَأْتَمِنُ غَيْرَهُ عَلَى الْوَدِيعَةِ وَعَلَى الْمُبَايَعَةِ وَعَلَى الْمُقَارَضَةِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْيِينِ وَالْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى الْمُبَايَعَةِ، فَقَالَ مِنْهُمْ مَنْ تُبَايِعُهُ بِثَمَنِ الْقِنْطَارِ فَيُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ تُبَايِعُهُ بِثَمَنِ الدِّينَارِ فَلَا

يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَنَقَلْنَا أَيْضًا أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَنَّ رَجُلًا أَوْدَعَ مَالًا كَثِيرًا/ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَمَالًا قَلِيلًا عِنْدَ فِنْحَاصِ بْنِ عَازُورَاءَ، فَخَانَ هَذَا الْيَهُودِيُّ فِي الْقَلِيلِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ أَدَّى الْأَمَانَةَ، فَثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ الْأَقْسَامِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِحْلَالَ وَالْخِيَانَةَ هُوَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَيْسَ عَلَيْنَا فِيمَا أَصَبْنَا مِنْ أَمْوَالِ الْعَرَبِ سَبِيلٌ. وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ اعْتَقَدَ الْيَهُودُ هَذَا الِاسْتِحْلَالَ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ مُبَالِغُونَ فِي التَّعَصُّبِ لِدِينِهِمْ، فَلَا جَرَمَ يَقُولُونَ: يَحِلُّ قَتْلُ الْمُخَالِفِ وَيَحِلُّ أَخْذُ مَالِهِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ وَرُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كَذَبَ أَعْدَاءُ اللَّهِ مَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا وَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ، إِلَّا الْأَمَانَةَ فَإِنَّهَا مُؤَدَّاةٌ إِلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ» الثَّانِي: أن الْيَهُودُ قَالُوا نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَةِ: 18] وَالْخَلْقُ لَنَا عَبِيدٌ فَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْنَا إِذَا أَكَلْنَا أَمْوَالَ عَبِيدِنَا الثَّالِثُ: أَنَّ الْيَهُودَ إِنَّمَا ذَكَرُوا هَذَا الْكَلَامَ لَا مُطْلَقًا لِكُلِّ مَنْ خَالَفَهُمْ، بَلْ لِلْعَرَبِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ بَايَعُوا رِجَالًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا أَسْلَمُوا طَالَبُوهُمْ بِالْأَمْوَالِ فَقَالُوا: لَيْسَ لَكُمْ عَلَيْنَا حَقٌّ لِأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ دِينَكُمْ، وَأَقُولُ: مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ مَذْهَبِ الْيَهُودِ أَنَّ مَنِ انْتَقَلَ مِنْ دِينٍ بَاطِلٍ إِلَى دِينٍ آخَرَ بَاطِلٍ كَانَ فِي حُكْمِ الْمُرْتَدِّ، فَهُمْ وَإِنِ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْعَرَبَ كُفَّارٌ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَقَدُوا فِي الْإِسْلَامِ أَنَّهُ كُفْرٌ حَكَمُوا عَلَى الْعَرَبِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا بِالرِّدَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَفْيُ السَّبِيلِ الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْيُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُطَالَبَةِ وَالْإِلْزَامِ. قَالَ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التَّوْبَةِ: 91] وَقَالَ: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النِّسَاءِ: 141] وَقَالَ: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ [الشُّورَى: 41، 42] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (الْأُمِّيُّ) مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمِّ، وَسُمِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيًّا قِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَكْتُبُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُمَّ أَصْلُ الشَّيْءِ فَمَنْ لَا يَكْتُبُ فَقَدْ بَقِيَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنْ لَا يَكْتُبَ، وَقِيلَ: نُسِبَ إِلَى مَكَّةَ وَهِيَ أُمُّ الْقُرَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ جَوَازَ الْخِيَانَةِ مَعَ الْمُخَالِفِ مَذْكُورٌ فِي التَّوْرَاةِ وَكَانُوا كَاذِبِينَ فِي ذَلِكَ وَعَالِمِينَ بِكَوْنِهِمْ كَاذِبِينَ فِيهِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ خِيَانَتُهُ أَعْظَمَ وَجُرْمُهُ أَفْحَشَ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ كَوْنَ الْخِيَانَةِ مُحَرَّمَةً الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا عَلَى الْخَائِنِ مِنَ الْإِثْمِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. اعْلَمْ أَنَّ فِي بَلى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِمُجَرَّدِ نَفْيِ مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ بَلى عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ فِي ذَلِكَ وَهَذَا اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ، قَالَ: وَعِنْدِي وَقْفُ التَّمَامِ عَلَى (بَلَى) وَبَعْدَهُ اسْتِئْنَافٌ وَالثَّانِي: أَنَّ كَلِمَةَ (بَلَى) كَلِمَةٌ تُذْكَرُ ابْتِدَاءً لِكَلَامٍ آخَرَ/ يُذْكَرُ بَعْدَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِيمَا نَفْعَلُ جُنَاحٌ قَائِمٌ مَقَامَ قَوْلِهِمْ: نَحْنُ أَحِبَّاءُ اللَّهِ تَعَالَى، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ أَهْلَ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَالتُّقَى هُمُ الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لَا غَيْرَهُمْ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّهُ لَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى (بَلَى) وَقَوْلُهُ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مَضَى الْكَلَامُ فِي مَعْنَى الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَالضَّمِيرُ فِي بِعَهْدِهِ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى اسْمِ اللَّهَ فِي قَوْلِهِ

[سورة آل عمران (3) : آية 77]

وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى (مَنْ) لِأَنَّ الْعَهْدَ مَصْدَرٌ فَيُضَافُ إِلَى الْمَفْعُولِ وَإِلَى الْفَاعِلِ وَهَاهُنَا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: بِتَقْدِيرِ (أَنْ) يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْفَاعِلِ وَهُوَ (مَنْ) فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَوْ وَفَّى أَهْلُ الْكِتَابِ بِعُهُودِهِمْ وَتَرَكُوا الْخِيَانَةَ، فَإِنَّهُمْ يَكْتَسِبُونَ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى. الْجَوَابُ: الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ إِذَا أَوْفَوْا بِالْعُهُودِ أَوْفَوْا أَوَّلَ كُلِّ شَيْءٍ بِالْعَهْدِ الْأَعْظَمِ، وَهُوَ مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوِ اتَّقَوُا اللَّهَ فِي تَرْكِ الْخِيَانَةِ، لَاتَّقَوْهُ فِي تَرْكِ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ، وَفِي تَرْكِ تَحْرِيفِ التَّوْرَاةِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَيْنَ الضَّمِيرُ الرَّاجِعُ مِنَ الْجَزَاءِ إِلَى (مَنْ) ؟. الْجَوَابُ: عُمُومُ الْمُتَّقِينَ قَامَ مَقَامَ رُجُوعِ الضَّمِيرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى تَعْظِيمِ أَمْرِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّاعَاتِ مَحْصُورَةٌ فِي أَمْرَيْنِ التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، فَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِمَا مَعًا، لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِمَنْفَعَةِ الْخَلْقِ، فَهُوَ شَفَقَةٌ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، كَانَ الْوَفَاءُ بِهِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ اللَّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْعِبَارَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، كَمَا يُمْكِنُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ يُمْكِنُ أَيْضًا فِي حَقِّ النَّفْسِ لِأَنَّ الْوَافِيَ بِعَهْدِ النَّفْسِ هُوَ الْآتِي بِالطَّاعَاتِ وَالتَّارِكُ لِلْمُحَرَّمَاتِ، لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَفُوزُ النَّفْسُ بِالثَّوَابِ وَتَبْعُدُ عَنِ العقاب. [سورة آل عمران (3) : آية 77] إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) اعْلَمْ أَنَّ فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْيَهُودَ بِالْخِيَانَةِ فِي/ أَمْوَالِ النَّاسِ، ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْخِيَانَةَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ لَا تَتَمَشَّى إِلَّا بِالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ لَا جَرَمَ ذَكَرَ عَقِيبَ تِلْكَ الْآيَةِ هَذِهِ الْآيَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى وَعِيدِ مَنْ يُقْدِمُ عَلَى الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ الثَّانِي: أَنَّهُ تعالى لما حكى عنهم أنهم يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 75] وَلَا شَكَّ أَنَّ عَهْدَ اللَّهِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ لَا يَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ وَلَا يَخُونَ فِي دِينِهِ، لَا جَرَمَ ذَكَرَ هَذَا الْوَعِيدَ عَقِيبَ ذَلِكَ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ خِيَانَتَهُمْ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خِيَانَتَهُمْ فِي عَهْدِ اللَّهِ وَخِيَانَتَهُمْ فِي تَعْظِيمِ أَسْمَائِهِ حِينَ يَحْلِفُونَ بِهَا كَذِبًا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فِي الْمَنْعِ عَنِ الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَالرِّوَايَاتِ الْكَثِيرَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَقْوَامٍ أَقْدَمُوا عَلَى الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ اعْتِقَادُ كَوْنِ هَذَا الْوَعِيدِ عَامًّا فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِالْيَهُودِ. وَفِي الآية مسائل: المسألة الأولى: اختلف الرِّوَايَاتُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، فَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّهَا بِالْيَهُودِ الَّذِينَ شَرَحَ اللَّهُ أَحْوَالَهُمْ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّهَا بِغَيْرِهِمْ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ عِكْرِمَةُ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَحْبَارِ الْيَهُودِ، كَتَمُوا مَا عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ

أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ غَيْرَهُ وَحَلَفُوا بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِئَلَّا يَفُوتَهُمُ الرِّشَا، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى في سورة البقرة أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 40] الثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ادِّعَائِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آلِ عِمْرَانَ: 75] كَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ كِتَابًا فِي ذَلِكَ وَحَلَفُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَخَصْمٍ لَهُ فِي أَرْضٍ، اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِلرَّجُلِ: «أَقِمْ بَيِّنَتَكَ» فَقَالَ الرَّجُلُ: لَيْسَ لِي بَيِّنَةٌ فَقَالَ لِلْأَشْعَثِ «فَعَلَيْكَ الْيَمِينُ» فَهَمَّ الْأَشْعَثُ بِالْيَمِينِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ فَنَكَلَ الْأَشْعَثُ عَنِ الْيَمِينِ وَرَدَّ الْأَرْضَ إِلَى الْخَصْمِ وَاعْتَرَفَ بِالْحَقِّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ حَلَفَ يَمِينًا فَاجِرَةً فِي تَنْفِيقِ سِلْعَتِهِ الثَّالِثُ: نَزَلَتْ فِي عَبْدَانَ وَامْرِئِ الْقَيْسِ اخْتَصَمَا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْضٍ، فَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ عَلَى امْرِئِ الْقَيْسِ، فَقَالَ: أَنْظِرْنِي إِلَى الْغَدِ، ثُمَّ جَاءَ مِنَ الْغَدِ وَأَقَرَّ لَهُ بِالْأَرْضِ، وَالْأَقْرَبُ الْحَمْلُ عَلَى الْكُلِّ. فَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا نُصِبَ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَوَاثِيقُ الْمَأْخُوذَةُ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا يُلْزِمُ الرَّجُلُ نَفْسَهُ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ عَهْدِ اللَّهِ الَّذِي يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ. قَالَ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ [التَّوْبَةِ: 75] الْآيَةَ وَقَالَ: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ/ كانَ مَسْؤُلًا [الْإِسْرَاءِ: 34] وَقَالَ: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الْإِنْسَانِ: 7] وَقَالَ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الْأَحْزَابِ: 23] وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَعْنَى الشِّرَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَأْخُذُ شَيْئًا وَيُعْطِي شَيْئًا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُعْطَى وَالْمَأْخُوذِ ثَمَنٌ لِلْآخَرِ، وَأَمَّا الْأَيْمَانُ فَحَالُهَا مَعْلُومٌ وَهِيَ الْحَلِفُ الَّتِي يُؤَكِّدُ بِهَا الْإِنْسَانُ خَبَرَهُ مِنْ وَعْدٍ، أَوْ وَعِيدٍ، أَوْ إِنْكَارٍ، أَوْ إِثْبَاتٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ الشَّرْطِ وَهُوَ الشِّرَاءُ بِعَهْدِ اللَّهِ وَالْأَيْمَانِ ثَمَنًا قَلِيلًا، خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْجَزَاءِ أَرْبَعَةٌ مِنْهَا فِي بَيَانِ صَيْرُورَتِهِمْ مَحْرُومِينَ عَنِ الثَّوَابِ وَالْخَامِسُ فِي بَيَانِ وُقُوعِهِمْ فِي أَشَدِّ الْعَذَابِ، أَمَّا الْمَنْعُ مِنَ الثَّوَابِ فَاعْلَمْ أَنَّ الثَّوَابَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَنْفَعَةِ الْخَالِصَةِ الْمَقْرُونَةِ بِالتَّعْظِيمِ. فَالْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُهُ أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِشَارَةٌ إِلَى حِرْمَانِهِمْ عَنْ مَنَافِعِ الْآخِرَةِ. وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الباقية: وهي قوله لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ... وَلا يُزَكِّيهِمْ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى حِرْمَانِهِمْ عَنِ التَّعْظِيمِ وَالْإِعْزَازِ. وَأَمَّا الْخَامِسُ: وَهُوَ قَوْلُهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعِقَابِ، وَلَمَّا نَبَّهْتُ لِهَذَا التَّرْتِيبِ فَلْنَتَكَلَّمْ فِي شَرْحِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ: أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُهُ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَالْمَعْنَى لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِي خَيْرِ الْآخِرَةِ وَنَعِيمِهَا وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَشْرُوطٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ، فَإِنَّهُ إِنْ تَابَ عَنْهَا سَقَطَ الْوَعِيدُ بِالْإِجْمَاعِ وَعَلَى مَذْهَبِنَا مَشْرُوطٌ أَيْضًا بِعَدَمِ الْعَفْوِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] . وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ فَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أنه تعالى قال: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92، 93] وقال: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الْأَعْرَافِ: 6] فَكَيْفَ

[سورة آل عمران (3) : آية 78]

الْجَمْعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَبَيْنَ تِلْكَ الْآيَةِ؟ قَالَ الْقَفَّالُ فِي الْجَوَابِ: الْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ بَيَانُ شِدَّةِ سُخْطِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَنْ مَنَعَ غَيْرَهُ كَلَامَهُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّمَا ذَلِكَ بِسُخْطِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِذَا سَخِطَ إِنْسَانٌ عَلَى آخَرَ، قَالَ لَهُ لَا أُكَلِّمُكَ، وَقَدْ يَأْمُرُ بِحَجْبِهِ عَنْهُ وَيَقُولُ لَا أَرَى وَجْهَ فُلَانٍ، وَإِذَا جَرَى ذِكْرُهُ لَمْ يَذْكُرْهُ بِالْجَمِيلِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ كِنَايَاتٌ عَنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُ. وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ إِسْمَاعُ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ أَوْلِيَاءَهُ كَلَامَهُ بِغَيْرِ سَفِيرٍ تَشْرِيفًا عَالِيًا يَخْتَصُّ بِهِ أَوْلِيَاءَهُ، وَلَا يُكَلِّمُ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةَ وَالْفُسَّاقَ، وَتَكُونُ الْمُحَاسَبَةُ مَعَهُمْ بِكَلَامِ الْمَلَائِكَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُكَلِّمُهُمْ بِكَلَامٍ يَسُرُّهُمْ وَيَنْفَعُهُمْ وَالْمُعْتَدُّ هُوَ الْجَوَابُ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ بِالْإِحْسَانِ، يُقَالُ فُلَانٌ لَا يَنْظُرُ إِلَى فُلَانٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الِاعْتِدَادِ بِهِ وَتَرْكُ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَالسَّبَبُ لِهَذَا الْمَجَازِ أَنَّ مَنِ اعْتَدَّ بِالْإِنْسَانِ الْتَفَتَ إِلَيْهِ وَأَعَادَ نَظَرَهُ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَلِهَذَا السَّبَبِ صَارَ نَظَرُ اللَّهِ عِبَارَةً عَنِ الِاعْتِدَادِ وَالْإِحْسَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ نَظَرٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا النَّظَرِ الرُّؤْيَةَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى يَرَاهُمْ كَمَا يَرَى غَيْرَهُمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ النَّظَرِ تَقْلِيبَ الْحَدَقَةِ إِلَى جَانِبِ الْمَرْئِيِّ الْتِمَاسًا لِرُؤْيَتِهِ لِأَنَّ هَذَا مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، وَتَعَالَى إِلَهُنَا عَنْ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا، وَقَدِ احْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ الْمَقْرُونَ بِحَرْفِ (إِلَى) لَيْسَ لِلرُّؤْيَةِ وَإِلَّا لَزِمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى رَائِيًا لَهُمْ وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَأَمَّا الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُهُ وَلا يُزَكِّيهِمْ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يُطَهِّرَهُمْ مِنْ دَنَسِ ذُنُوبِهِمْ بِالْمَغْفِرَةِ بَلْ يُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهَا وَالثَّانِي: لَا يُزَكِّيهِمْ أَيْ لَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ كَمَا يُثْنِي عَلَى أَوْلِيَائِهِ الْأَزْكِيَاءِ وَالتَّزْكِيَةُ مِنَ الْمُزَكِّي لِلشَّاهِدِ مَدْحٌ مِنْهُ لَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَزْكِيَةَ اللَّهِ عِبَادَهُ قَدْ تَكُونُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمَلَائِكَةِ كَمَا قَالَ: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْدِ: 23، 24] وَقَالَ: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء: 103] نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ [فصلت: 21] وَقَدْ تَكُونُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَكَقَوْلِهِ التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ [التَّوْبَةِ: 112] وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَكَقَوْلِهِ سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] . وَأَمَّا الْخَامِسُ: وَهُوَ قَوْلُهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حِرْمَانَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ بَيَّنَ كَوْنَهُمْ فِي الْعِقَابِ الشَّدِيدِ الْمُؤْلِمِ. [سورة آل عمران (3) : آية 78] وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ نَازِلَةٌ فِي الْيَهُودِ بِلَا شَكٍّ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَازِلَةٌ فِي حَقِّ الْيَهُودِ وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ تِلْكَ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ نَازِلَةً فِي الْيَهُودِ أَيْضًا/ وَاعْلَمْ أَنَّ (اللَّيَّ) عِبَارَةٌ عَنْ عَطْفِ الشَّيْءِ وَرَدِّهِ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ إِلَى الِاعْوِجَاجِ، يُقَالُ: لَوَيْتُ يَدَهُ، وَالْتَوَى الشَّيْءُ إِذَا انْحَرَفَ وَالْتَوَى فُلَانٌ عَلَيَّ إِذَا غَيَّرَ أَخْلَاقَهُ عَنِ الِاسْتِوَاءِ إِلَى ضِدِّهِ، وَلَوَى لِسَانَهُ عَنْ كَذَا إِذَا غَيَّرَهُ، وَلَوَى فُلَانًا عَنْ رَأْيِهِ إِذَا أَمَالَهُ عَنْهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «لَيُّ الْوَاجِدِ ظُلْمٌ» وَقَالَ تَعَالَى: وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ [النِّسَاءِ: 46] .

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فَفِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ مَعْنَاهُ وَأَنْ يَعْمِدُوا إِلَى اللَّفْظَةِ فَيُحَرِّفُونَهَا فِي حَرَكَاتِ الْإِعْرَابِ تَحْرِيفًا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْمَعْنَى، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ فَلَا يَبْعُدُ مِثْلُهُ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ، فَلَمَّا فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ التَّوْرَاةِ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ وَهَذَا تَأْوِيلٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ الثَّانِي: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ النَّفَرَ الَّذِينَ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ كَتَبُوا كِتَابًا شَوَّشُوا فِيهِ نَعْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَلَطُوهُ بِالْكِتَابِ الَّذِي كَانَ فِيهِ نَعْتُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالُوا هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ لَيَّ اللِّسَانِ تَثَنِّيهِ بِالتَّشَدُّقِ وَالتَّنَطُّعِ وَالتَّكَلُّفِ وَذَلِكَ مَذْمُومٌ فَعَبَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قِرَاءَتِهِمْ لِذَلِكَ الْكِتَابِ الْبَاطِلِ بِلَيِّ اللِّسَانِ ذَمًّا لَهُمْ وَعَيْبًا وَلَمْ يُعَبِّرْ عَنْهَا بِالْقِرَاءَةِ، وَالْعَرَبُ تُفَرِّقُ بَيْنَ أَلْفَاظِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، فَيَقُولُونَ فِي الْمَدْحِ: خَطِيبٌ مُصْقِعٌ، وَفِي الذَّمِّ: مِكْثَارٌ ثَرْثَارٌ. فَقَوْلُهُ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ الْمُرَادُ قِرَاءَةُ ذَلِكَ الْكِتَابِ الْبَاطِلِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 79] ثُمَّ قَالَ: وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ أَيْ وَمَا هُوَ الْكِتَابُ الْحَقُّ الْمُنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بَقِيَ هَاهُنَا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: إِلَى مَا يَرْجِعُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ لِتَحْسَبُوهُ؟. الْجَوَابُ: إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ وَهُوَ الْمُحَرَّفُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ يُمْكِنُ إِدْخَالُ التَّحْرِيفِ فِي التَّوْرَاةِ مَعَ شُهْرَتِهَا الْعَظِيمَةِ بَيْنَ النَّاسِ؟. الْجَوَابُ: لَعَلَّهُ صَدَرَ هَذَا الْعَمَلُ عَنْ نَفَرٍ قَلِيلٍ، يَجُوزُ عَلَيْهِمُ التَّوَاطُؤُ عَلَى التَّحْرِيفِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ عَرَضُوا ذَلِكَ الْمُحَرَّفَ عَلَى بَعْضِ الْعَوَامِّ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ هَذَا التَّحْرِيفُ مُمْكِنًا، وَالْأَصْوَبُ عِنْدِي فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى تَدْقِيقِ النَّظَرِ وَتَأَمُّلِ الْقَلْبِ، وَالْقَوْمُ كَانُوا يُورِدُونَ عَلَيْهَا الْأَسْئِلَةَ الْمُشَوَّشَةَ وَالِاعْتِرَاضَاتِ الْمُظْلِمَةَ فَكَانَتْ تَصِيرُ تِلْكَ الدَّلَائِلُ مُشْتَبِهَةً عَلَى السَّامِعِينَ، وَالْيَهُودُ كَانُوا يَقُولُونَ: مُرَادُ اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا ذَكَرْنَاهُ لَا مَا ذَكَرْتُمْ، فَكَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ بِالتَّحْرِيفِ وَبِلَيِّ الْأَلْسِنَةِ وَهَذَا مِثْلُ مَا أَنَّ الْمُحِقَّ فِي زَمَانِنَا إِذَا اسْتَدَلَّ بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالْمُبْطِلُ يُورِدُ عَلَيْهِ الْأَسْئِلَةَ وَالشُّبُهَاتِ وَيَقُولُ: لَيْسَ/ مُرَادُ اللَّهِ مَا ذَكَرْتَ، فَكَذَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران: 78] وَكُرِّرَ هَذَا الْكَلَامُ بِلَفْظَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ، أَمَّا الْمُحَقِّقُونَ فَقَالُوا: الْمُغَايَرَةُ حَاصِلَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ لَمْ يَكُنْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ قَدْ ثَبَتَ تَارَةً بِالْكِتَابِ، وَتَارَةً بِالسُّنَّةِ، وَتَارَةً بِالْإِجْمَاعِ، وَتَارَةً بِالْقِيَاسِ وَالْكُلُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فَقَوْلُهُ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ هَذَا نَفْيٌ خَاصٌّ، ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ النَّفْيُ الْعَامُّ فَقَالَ: وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ التَّوْرَاةَ، وَيَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِثْلِ أَشْعِيَاءَ، وَأَرْمِيَاءَ، وحيقوق،

[سورة آل عمران (3) : الآيات 79 إلى 80]

وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ فِي نِسْبَةِ ذَلِكَ التَّحْرِيفِ إِلَى اللَّهِ كَانُوا مُتَحَيِّرِينَ، فَإِنْ وَجَدُوا قَوْمًا مِنَ الْأَغْمَارِ وَالْبُلْهِ الْجَاهِلِينَ بِالتَّوْرَاةِ نَسَبُوا ذَلِكَ الْمُحَرَّفَ إِلَى أَنَّهُ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَإِنْ وَجَدُوا قوما عقلاء أَذْكِيَاءَ زَعَمُوا أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاحْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ وَالْكَعْبِيُّ بِهِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَالَا: لَوْ كَانَ لَيُّ اللِّسَانِ بِالتَّحْرِيفِ وَالْكَذِبِ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى لَصَدَقَ الْيَهُودُ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَزِمَ الْكَذِبُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَضَافُوا إِلَى اللَّهِ مَا هُوَ مِنْ عِنْدِهِ، وَاللَّهُ يَنْفِي عَنْ نَفْسِهِ مَا هُوَ مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَكَفَى خِزْيًا لِقَوْمٍ يَجْعَلُونَ الْيَهُودَ أَوْلَى بِالصِّدْقِ مِنَ اللَّهِ قَالَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَرْقٌ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ الْفَرْقُ لَمْ يَحْسُنِ الْعَطْفُ، وَأَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ كَوْنَ الْمَخْلُوقِ مِنْ عِنْدِ الْخَالِقِ أَوْكَدَ مِنْ كَوْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ عِنْدِ الْآمِرِ بِهِ، وَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَقْوَى أَوْلَى وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ نَفْيٌ مُطْلَقٌ لِكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهَذَا يَنْفِي كَوْنَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ عِنْدِهِ لَا بِالْخَلْقِ وَلَا بِالْحُكْمِ. وَالْجَوَابُ: أَمَّا قَوْلُ الْجُبَّائِيِّ لَوْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ لَزِمَ التَّكْرَارُ، فَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْكِتَابِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى ثَابِتًا بِقَوْلِ الرَّسُولِ أَوْ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَلَمَّا قَالَ: وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثَبَتَ نَفْيُ كَوْنِهِ حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ زَالَ التَّكْرَارُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: مِنَ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْكَعْبِيُّ فَجَوَابُهُ، أَنَّ الْجَوَابَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُنْطَبِقًا عَلَى السُّؤَالِ، وَالْقَوْمُ مَا كَانُوا فِي ادِّعَاءِ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ وَفَعَلُوهُ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ كَانُوا/ يَدَّعُونَ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ وَنَازِلٌ فِي كِتَابِهِ. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَائِدًا إِلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَظْهَرُ فَسَادُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَتَعَمَّدُونَ ذَلِكَ الْكَذِبَ مَعَ الْعِلْمِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ التَّحْرِيفِ تَغْيِيرَ أَلْفَاظِ التَّوْرَاةِ، وَإِعْرَابَ أَلْفَاظِهَا، فَالْمُقْدِمُونَ عَلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا طَائِفَةً يَسِيرَةً يَجُوزُ التَّوَاطُؤُ مِنْهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَشْوِيشَ دَلَالَةِ تِلْكَ الْآيَاتِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ إِلْقَاءِ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ فِي وُجُوهِ الِاسْتِدْلَالَاتِ لَمْ يَبْعُدْ إِطْبَاقُ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أعلم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 79 الى 80] مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) [في قَوْلُهُ تَعَالَى مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ عَادَةَ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ التَّحْرِيفُ وَالتَّبْدِيلُ أَتْبَعَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا حَرَّفُوهُ مَا زَعَمُوا أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ، وَأَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ قَوْمَهُ بِعِبَادَتِهِ فَلِهَذَا قَالَ: مَا كانَ لِبَشَرٍ الْآيَةَ، وَهَاهُنَا مسائل:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا قَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَتِ النَّصَارَى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الثَّانِي: قِيلَ إِنَّ أَبَا رَافِعٍ الْقُرَظِيَّ مِنَ الْيَهُودِ وَرَئِيسَ وَفْدِ نَجْرَانَ مِنَ النَّصَارَى قَالَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُرِيدُ أَنْ نَعْبُدَكَ وَنَتَّخِذَكَ رَبًّا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ أَوْ أَنْ نَأْمُرَ بِغَيْرِ عِبَادَةِ اللَّهِ/ فَمَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي وَلَا بِذَلِكَ أَمَرَنِي» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الثَّالِثُ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ كَمَا يُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، أَفَلَا نَسْجُدُ لَكَ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَكْرِمُوا نَبِيَّكُمْ وَاعْرِفُوا الْحَقَّ لِأَهْلِهِ» الرَّابِعُ: أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا ادَّعَوْا أَنَّ أَحَدًا لَا يَنَالُ مِنْ دَرَجَاتِ الْفَضْلِ وَالْمَنْزِلَةِ مَا نَالُوهُ، فَاللَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُمْ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُمْ، وَجَبَ أَنْ لَا تَشْتَغِلُوا بِاسْتِعْبَادِ النَّاسِ وَاسْتِخْدَامِهِمْ وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ تَأْمُرُوا النَّاسَ بِالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَالِانْقِيَادِ لِتَكَالِيفِهِ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُكُمْ أَنْ تَحُثُّوا النَّاسَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ ظُهُورَ الْمُعْجِزَاتِ عَلَيْهِ يُوجِبُ ذَلِكَ، وَهَذَا الْوَجْهُ يَحْتَمِلُهُ لَفْظُ الْآيَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ مِثْلُ قَوْلِهِ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 31] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَصَمُّ: مَعْنَاهُ، أَنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ لَمَنَعَهُمُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [الحاقة: 44، 45] قال: لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ [الْإِسْرَاءِ: 74، 75] الثَّانِي: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَوْصُوفُونَ بِصِفَاتٍ لَا يَحْسُنُ مَعَ تِلْكَ الصِّفَاتِ ادِّعَاءُ الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ مِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى آتَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْوَحْيَ وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِي النُّفُوسِ الطَّاهِرَةِ وَالْأَرْوَاحِ الطَّيِّبَةِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته [الْأَنْعَامِ: 124] وَقَالَ: وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ [الدُّخَانِ: 32] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الْحَجِّ: 75] وَالنَّفْسُ الطَّاهِرَةُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهَا هَذِهِ الدَّعْوَى، وَمِنْهَا أَنَّ إِيتَاءَ النُّبُوَّةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ كَمَالِ الْعِلْمِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَبِالْجُمْلَةِ فَلِلْإِنْسَانِ قُوَّتَانِ: نَظَرِيَّةٌ وَعَمَلِيَّةٌ، وَمَا لَمْ تَكُنِ الْقُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ كَامِلَةً بِالْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ وَلَمْ تَكُنِ الْقُوَّةُ الْعَمَلِيَّةُ مُطَهَّرَةً عَنِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ لَا تَكُونُ النَّفْسُ مُسْتَعِدَّةً لِقَبُولِ الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ، وَحُصُولُ الْكَمَالَاتِ فِي الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ يَمْنَعُ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ، الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُشَرِّفُ عَبْدَهُ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ إِلَّا إِذَا عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَقُولُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ الرَّابِعُ: أَنَّ الرَّسُولَ ادَّعَى أَنَّهُ يُبَلِّغُ الْأَحْكَامَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاحْتَجَّ عَلَى صِدْقِهِ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى فَلَوْ أَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ نَفْسِهِ فَحِينَئِذٍ تَبْطُلُ دَلَالَةُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى كَوْنِهِ صَادِقًا، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ مَا كانَ لِبَشَرٍ ذَلِكَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَى كُلِّ الْخَلْقِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ آتَاهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّحْرِيمَ لَمَا كَانَ ذَلِكَ تَكْذِيبًا لِلنَّصَارَى فِي ادِّعَائِهِمْ ذَلِكَ عَلَى الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ مَنِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ فِعْلًا فقيل له إن فلان لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ تَكْذِيبًا لَهُ فِيمَا ادَّعَى عَلَيْهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ فِي ادِّعَائِهِمْ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُمُ: اتَّخِذُونِي إِلَهًا/ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَالْمُرَادُ إِذَنْ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مَرْيَمَ: 35] عَلَى سَبِيلِ النَّفْيِ لِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، لَا عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيمِ وَالْحَظْرِ، وَكَذَا قَوْلُهُ تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آلِ عِمْرَانَ: 161] وَالْمُرَادُ النَّفْيُ لَا النَّهْيُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ إِشَارَةٌ إِلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ ذَكَرَهَا على ترتب فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكِتَابَ السَّمَاوِيَّ يَنْزِلُ أَوَّلًا ثُمَّ إِنَّهُ يَحْصُلُ فِي عَقْلِ النَّبِيِّ فَهْمُ ذَلِكَ الْكِتَابِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِالْحُكْمِ، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ هُوَ الْعِلْمُ، قَالَ تَعَالَى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مَرْيَمَ: 12] يَعْنِي الْعِلْمَ وَالْفَهْمَ، ثُمَّ إِذَا حَصَلَ فَهْمُ الْكِتَابِ، فَحِينَئِذٍ يُبَلِّغُ ذَلِكَ إِلَى الْخَلْقِ وَهُوَ النُّبُوَّةُ فَمَا أَحْسَنَ هَذَا التَّرْتِيبَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقِرَاءَةُ الظَّاهِرَةُ، ثُمَّ يَقُولَ بِنَصْبِ اللَّامِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِرَفْعِهَا، أَمَّا النَّصْبُ فَعَلَى تَقْدِيرِ: لَا تَجْتَمِعُ النُّبُوَّةُ وَهَذَا الْقَوْلُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ (أَنْ) وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ بِمَعْنَى ثُمَّ أَنْ يَقُولَ وَأَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى الِاسْتِئْنَافِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُونُوا عِباداً لِي أَنَّهُ لُغَةُ مُزَيْنَةَ يَقُولُونَ لِلْعَبِيدِ عِبَادًا. ثُمَّ قَالَ: وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِضْمَارٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ يَقُولُ لَهُمْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ فَأَضْمَرَ الْقَوْلَ عَلَى حَسَبِ مَذْهَبِ الْعَرَبِ فِي جَوَازِ الْإِضْمَارِ إِذَا كَانَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 106] أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ. المسألة الثانية: ذكروا في تفسير (الرباني) أقولًا الْأَوَّلُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: الرَّبَّانِيُّ الْمَنْسُوبُ إِلَى الرَّبِّ، بِمَعْنَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِهِ، وَمُوَاظِبًا عَلَى طَاعَتِهِ، كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ إِلَهِيٌّ إِذَا كَانَ مُقْبِلًا عَلَى مَعْرِفَةِ الْإِلَهِ وَطَاعَتِهِ وَزِيَادَةُ الْأَلِفِ وَالنُّونِ فِيهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ هَذِهِ الصِّفَةِ، كَمَا قَالُوا: شَعْرَانِيٌّ وَلِحْيَانِيٌّ وَرَقَبَانِيٌّ إِذَا وُصِفَ بِكَثْرَةِ الشَّعْرِ وَطُولِ اللِّحْيَةِ وَغِلَظِ الرَّقَبَةِ، فَإِذَا نَسَبُوا إِلَى الشَّعْرِ قَالُوا: شَعْرِيٌّ وَإِلَى الرَّقَبَةِ رَقَبِيٌّ وَإِلَى اللِّحْيَةِ لِحْيِيٌّ وَالثَّانِي: قَالَ الْمُبَرِّدُ (الرَّبَّانِيُّونَ) أَرْبَابُ الْعِلْمِ وَاحِدُهُمْ رَبَّانِيٌّ، وَهُوَ الَّذِي يَرُبُّ الْعِلْمَ وَيَرُبُّ النَّاسَ أَيْ: يُعَلِّمُهُمْ وَيُصْلِحُهُمْ وَيَقُومُ بأمرهم، فالألف والنون للمبالغة كما قالوا: ربان وَعَطْشَانُ وَشَبْعَانُ وَعُرْيَانٌ، ثُمَّ ضُمَّتْ إِلَيْهِ يَاءُ النِّسْبَةِ كَمَا قِيلَ: لِحْيَانِيٌّ وَرَقَبَانِيٌّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَعَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ الرَّبَّانِيُّ: مَنْسُوبٌ إِلَى الرَّبِّ عَلَى مَعْنَى التَّخْصِيصِ بِمَعْرِفَةِ الرَّبِّ وَبِطَاعَتِهِ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُبَرِّدِ (الرَّبَّانِيُّ) مَأْخُوذٌ مِنَ التَّرْبِيَةِ الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الرَّبَّانِيُّ. هُوَ الَّذِي يَرُبُّ النَّاسَ، فَالرَّبَّانِيُّونَ هُمْ وُلَاةُ الْأُمَّةِ وَالْعُلَمَاءُ، وَذَكَرَ هَذَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْلا يَنْهاهُمُ/ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ [الْمَائِدَةِ: 63] أَيِ الْوُلَاةُ وَالْعُلَمَاءُ وَهُمَا الْفَرِيقَانِ اللَّذَانِ يُطَاعَانِ وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: لَا أَدْعُوكُمْ إِلَى أَنْ تَكُونُوا عِبَادًا لِي، وَلَكِنْ أَدْعُوكُمْ إِلَى أَنْ تَكُونُوا مُلُوكًا وَعُلَمَاءَ بِاسْتِعْمَالِكُمْ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَمُوَاظَبَتِكُمْ عَلَى طَاعَتِهِ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْوَالِي سُمِّيَ رَبَّانِيًّا، لِأَنَّهُ يُطَاعُ كَالرَّبِّ تَعَالَى، فَنُسِبَ إِلَيْهِ الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَحْسَبُ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لَيْسَتْ بِعَرَبِيَّةٍ إِنَّمَا هِيَ عِبْرَانِيَّةٌ، أَوْ سُرْيَانِيَّةٌ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ عَرَبِيَّةً أَوْ عِبْرَانِيَّةً، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الْإِنْسَانِ الَّذِي عَلِمَ وَعَمِلَ بِمَا عَلِمَ، وَاشْتَغَلَ بِتَعْلِيمِ طُرُقِ الْخَيْرِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ قِرَاءَتَانِ إِحْدَاهُمَا: تَعْلَمُونَ مِنَ الْعِلْمِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَنَافِعٍ وَالثَّانِيَةُ: تُعَلِّمُونَ مِنَ التَّعْلِيمِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ مِنَ السَّبْعَةِ وَكِلَاهُمَا صَوَابٌ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَيُعَلِّمُونَهُ غَيْرَهُمْ، وَاحْتَجَّ أَبُو عَمْرٍو عَلَى أَنَّ قِرَاءَتَهُ أَرْجَحُ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أنه قال: تَدْرُسُونَ ولم يقل تدرسون بِالتَّشْدِيدِ الثَّانِي: أَنَّ التَّشْدِيدَ يَقْتَضِي مَفْعُولَيْنِ وَالْمَفْعُولُ هَاهُنَا وَاحِدٌ، وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا بِالتَّشْدِيدِ فَزَعَمُوا أَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ النَّاسَ الْكِتَابَ، أَوْ غَيْرَكُمُ الْكِتَابَ وَحُذِفَ، لِأَنَّ الْمَفْعُولَ بِهِ قَدْ يُحْذَفُ مِنَ الْكَلَامِ كَثِيرًا، ثُمَّ احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ التَّشْدِيدَ أَوْلَى بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّعْلِيمَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْعِلْمِ وَلَا يَنْعَكِسُ فَكَانَ التَّعْلِيمُ أَوْلَى الثَّانِي: أَنَّ الرَّبَّانِيِّينَ لَا يَكْتَفُونَ بِالْعِلْمِ حَتَّى يَضُمُّوا إِلَيْهِ التَّعْلِيمَ لِلَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النَّحْلِ: 125] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ مُرَّةَ بْنِ شَرَاحِيلَ: كَانَ عَلْقَمَةُ مِنَ الرَّبَّانِيِّينَ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ الْقُرْآنَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَقَلَ ابْنُ جِنِّي فِي «الْمُحْتَسَبِ» ، عَنْ أَبِي حَيْوَةَ أَنَّهُ قَرَأَ تُدْرِسُونَ بِضَمِّ التَّاءِ سَاكِنَةِ الدَّالِ مَكْسُورَةِ الرَّاءِ، قَالَ ابْنُ جِنِّي: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا مَنْقُولًا مِنْ دَرَسَ هُوَ، أَوْ دَرَّسَ غَيْرَهُ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ وَأَقْرَأَ غَيْرَهُ، وَأَكْثَرُ الْعَرَبِ عَلَى دَرَسَ وَدَرَّسَ، وَعَلَيْهِ جَاءَ الْمَصْدَرُ عَلَى التَّدْرِيسِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (مَا) فِي الْقِرَاءَتَيْنِ، هِيَ الَّتِي بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ مَعَ الْفِعْلِ، وَالتَّقْدِيرُ: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِسَبَبِ كَوْنِكُمْ عَالِمِينَ وَمُعَلِّمِينَ وَبِسَبَبِ دِرَاسَتِكُمُ الْكِتَابَ، وَمِثْلُ هَذَا مِنْ كَوْنِ (مَا) مَعَ الْفِعْلِ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا [الْأَعْرَافِ: 51] وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْعِلْمَ وَالتَّعْلِيمَ وَالدِّرَاسَةَ تُوجِبُ عَلَى صَاحِبِهَا كَوْنَهُ رَبَّانِيًّا وَالسَّبَبُ لَا مَحَالَةَ مُغَايِرٌ لِلْمُسَبِّبِ، فهذا يقتضي أن يكون كونه ربانياً، وأمراً مُغَايِرًا لِكَوْنِهِ عَالِمًا، وَمُعَلِّمًا، وَمُوَاظِبًا عَلَى الدِّرَاسَةِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَكُونُ تَعَلُّمُهُ لِلَّهِ، وَتَعْلِيمُهُ وَدِرَاسَتُهُ لِلَّهِ، وَبِالْجُمْلَةِ أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي لَهُ إِلَى جَمِيعِ/ الْأَفْعَالِ طَلَبَ مَرْضَاةِ اللَّهِ، وَالصَّارِفُ لَهُ عَنْ كُلِّ الْأَفْعَالِ الْهَرَبَ عَنْ عِقَابِ اللَّهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّسُولَ يَأْمُرُ جَمِيعَ الْخَلْقِ بِهَذَا الْمَعْنَى ثَبَتَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْهُ أَنْ يَأْمُرَ الْخَلْقَ بِعِبَادَتِهِ، وَحَاصِلُ الْحَرْفِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُنْتَهَى جَهْدِهِ وَجِدِّهِ صَرْفَ الْأَرْوَاحِ وَالْقُلُوبِ عَنِ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ، فَمِثْلُ هَذَا الْإِنْسَانِ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَصْرِفَ عُقُولَ الْخَلْقِ عَنْ طَاعَةِ الْحَقِّ إِلَى طَاعَةِ نَفْسِهِ. وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِعِبَادَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ وَالتَّعْلِيمَ وَالدِّرَاسَةَ تُوجِبُ كَوْنَ الْإِنْسَانِ رَبَّانِيًّا، فَمَنِ اشْتَغَلَ بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ لَا لِهَذَا الْمَقْصُودِ ضَاعَ سَعْيُهُ وَخَابَ عَمَلُهُ وَكَانَ مِثْلُهُ مِثْلَ مَنْ غَرَسَ شَجَرَةً حَسْنَاءَ مُونِقَةً بِمَنْظَرِهَا وَلَا مَنْفَعَةَ بِثَمَرِهَا وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ» . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَابْنُ عَامِرٍ وَلا يَأْمُرَكُمْ بِنَصْبِ الرَّاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ أَمَّا النَّصْبُ فَوَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى ثُمَّ يَقُولَ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تُجْعَلَ (لَا) مَزِيدَةً وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 81 إلى 82]

وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا، كَمَا تَقُولُ: مَا كَانَ لِزَيْدٍ أَنْ أُكْرِمَهُ ثُمَّ يُهِينَنِي وَيَسْتَخِفَّ بِي وَالثَّانِي: أَنْ تُجْعَلَ (لَا) غَيْرَ مَزِيدَةٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْهَى قُرَيْشًا عَنْ عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَنْ عِبَادَةِ عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ، فَلَمَّا قَالُوا: أَتُرِيدُ أَنْ نَتَّخِذَكَ رَبًّا؟ قِيلَ لَهُمْ: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يَجْعَلَهُ اللَّهُ نَبِيًّا ثُمَّ يَأْمُرَ النَّاسَ بِعِبَادَةِ نَفْسِهِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْآيَةِ وَتَمَامِ الْكَلَامِ، وَمِمَّا يدل على الانقطاع عن الأولى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ وَلَنْ يَأْمُرَكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَا يَأْمُرُكُمُ اللَّهُ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لَا يَأْمُرُكُمْ مُحَمَّدٌ، وَقِيلَ: لَا يَأْمُرُكُمُ الْأَنْبِيَاءُ بِأَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ أَرْبَابًا كَمَا فَعَلَتْهُ قُرَيْشٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا خَصَّ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الَّذِينَ وُصِفُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ لَمْ يُحْكَ عَنْهُمْ إِلَّا عِبَادَةُ الْمَلَائِكَةِ وَعِبَادَةُ الْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وفيه ومسائل: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْهَمْزَةُ فِي أَيَأْمُرُكُمْ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَيْ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَوْلُهُ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَأْذَنُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ يَسْجُدُوا لَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الْكُفْرُ بِاللَّهِ هُوَ الْجَهْلُ بِهِ وَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِكُفْرِ هَؤُلَاءِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا عَارِفِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وظاهر هذا يدل على معرفتهم بِاللَّهِ فَلَمَّا حَصَلَ الْكُفْرُ هَاهُنَا مَعَ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِهِ لَيْسَ هُوَ الْمَعْرِفَةَ وَالْكُفْرَ بِهِ تَعَالَى لَيْسَ هُوَ الْجَهْلَ بِهِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَنَا الْكُفْرُ بِاللَّهِ هُوَ الْجَهْلُ بِهِ لَا نَعْنِي بِهِ مُجَرَّدَ الْجَهْلِ بِكَوْنِهِ مَوْجُودًا بَلْ نَعْنِي بِهِ الْجَهْلَ بِذَاتِهِ وَبِصِفَاتِهِ السَّلْبِيَّةِ وَصِفَاتِهِ الْإِضَافِيَّةِ أَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْمَعْبُودِيَّةِ، فَلَمَّا جَهِلَ هذا فقد جهل بعض صفاته. [سورة آل عمران (3) : الآيات 81 الى 82] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَعْدِيدُ تَقْرِيرِ الْأَشْيَاءِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطْعًا لِعُذْرِهِمْ وَإِظْهَارًا لِعِنَادِهِمْ وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ آتَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ بِأَنَّهُمْ كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ آمَنُوا بِهِ وَنَصَرُوهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ قَبِلُوا ذَلِكَ وَحَكَمَ تَعَالَى بِأَنَّ مَنْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ مِنَ الْفَاسِقِينَ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ فَحَصَلَ الْكَلَامُ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ الْإِيمَانَ بِكُلِّ رَسُولٍ جَاءَ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَكْفِي فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ

مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَضُمَّ إِلَيْهَا مُقَدِّمَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ جَاءَ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ، وَعِنْدَ هَذَا لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا إِثْبَاتٌ لِلشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ إِثْبَاتٌ لِكَوْنِهِ رَسُولًا بِكَوْنِهِ رَسُولًا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِهِ رَسُولًا ظُهُورُ الْمُعْجِزِ عَلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ هَذَا السُّؤَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ الْأَلْفَاظِ: أَمَّا قَوْلُهُ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَاهُ وَاذْكُرُوا يَا أَهْلَ الْكِتَابِ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَاذْكُرْ يَا محمد في القرآن إذ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ. أَمَّا قَوْلُهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَصْدَرَ يَجُوزُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْفَاعِلِ وَإِلَى الْمَفْعُولِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمِيثَاقُ مَأْخُوذًا مِنْهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا لَهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنْهُمْ فِي أَنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَطَاوُسٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمِيثَاقَ هَذَا مُخْتَصٌّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ يُشْعِرُ بِأَنَّ آخِذَ الْمِيثَاقِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمَأْخُوذَ مِنْهُمْ هُمُ النَّبِيُّونَ، فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الْأُمَّةِ، فَلَمْ يَحْسُنْ صَرْفُ الْمِيثَاقِ إِلَى الْأُمَّةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عنه من وجوه الأول: أن على الوجوه الَّذِي قُلْتُمْ يَكُونُ الْمِيثَاقُ مُضَافًا إِلَى الْمُوثَقِ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا يَكُونُ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِمْ إِضَافَةَ الْفِعْلِ إِلَى الْفَاعِلِ، وَهُوَ الْمُوثَقُ لَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِضَافَةَ الْفِعْلِ إِلَى الْفَاعِلِ أَقْوَى مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْمَفْعُولِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا أَقَلَّ مِنَ الْمُسَاوَاةِ، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ مِيثَاقُ اللَّهِ وَعَهْدُهُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ الَّذِي وَثَّقَهُ اللَّهُ للأنبياء على أممهم الثاني: أن يراد ميثاق أولاد النبيّين، وهو بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: فَعَلَ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ كَذَا، وَفَعَلَ مَعَدُّ بْنُ عَدْنَانَ كَذَا، وَالْمُرَادُ أَوْلَادُهُمْ وَقَوْمُهُمْ، فَكَذَا هَاهُنَا الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّينَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَأُطْلِقَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَيْهِمْ تَهَكُّمًا بِهِمْ عَلَى زَعْمِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ أَوْلَى بِالنُّبُوَّةِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّا أَهْلُ الْكِتَابِ وَمِنَّا كَانَ النَّبِيُّونَ الرَّابِعُ: أَنَّهُ كَثِيرًا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ لَفْظُ النَّبِيِّ وَالْمُرَادُ مِنْهُ أُمَّتُهُ قَالَ تَعَالَى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطَّلَاقِ: 1] . الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: لِأَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ: مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً أَمَا وَاللَّهِ لَوْ كَانَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي» . الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: مَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا بَعَثَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ، فَهَذَا يُمْكِنُ نُصْرَةُ هَذَا الْقَوْلِ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانُوا يَأْخُذُونَ/ الْمِيثَاقَ مِنْ أُمَمِهِمْ بِأَنَّهُ إِذَا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَأَنْ يَنْصُرُوهُ، وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لَهُ وَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى صِحَّتِهِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ فَقَالَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ

أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَبْعَثِهِ، وَكُلُّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَكُونُونَ عِنْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زُمْرَةِ الْأَمْوَاتِ، وَالْمَيِّتُ لَا يَكُونُ مُكَلَّفًا فَلَمَّا كَانَ الَّذِينَ أُخِذَ الْمِيثَاقُ عَلَيْهِمْ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ مَبْعَثِهِ وَلَا يُمْكِنُ إِيجَابُ الْإِيمَانِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلِمْنَا أَنَّ الَّذِينَ أُخِذَ الْمِيثَاقُ عَلَيْهِمْ لَيْسُوا هُمُ النَّبِيِّينَ بَلْ هُمْ أُمَمُ النَّبِيِّينَ قَالَ: وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى الَّذِينَ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ أَنَّهُمْ لَوْ تَوَلَّوْا لَكَانُوا فَاسِقِينَ وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَإِنَّمَا يَلِيقُ بِالْأُمَمِ، أَجَابَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَوْ كَانُوا فِي الْحَيَاةِ لَوَجَبَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: 65] وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُشْرِكُ قَطُّ وَلَكِنْ خَرَجَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ وَالْفَرْضِ فَكَذَا هَاهُنَا، وَقَالَ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الْحَاقَّةِ: 44، 45، 46] وَقَالَ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 29] مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَبِأَنَّهُمْ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَكُلُّ ذَلِكَ خَرَجَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرُ فَكَذَا هَاهُنَا، وَنَقُولُ إِنَّهُ سَمَّاهُمْ فَاسِقِينَ عَلَى تَقْدِيرِ التَّوَلِّي فَإِنَّ اسْمَ الْفِسْقِ لَيْسَ أَقْبَحَ مِنِ اسْمِ الشِّرْكِ، وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] فَكَذَا هَاهُنَا. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُؤْمِنَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا كَانَ الْمِيثَاقُ مَأْخُوذًا عَلَيْهِمْ كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْمَقْصُودِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ دَرَجَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، أَعْلَى وَأَشْرَفُ مِنْ دَرَجَاتِ الْأُمَمِ، فَإِذَا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوْ كَانُوا فِي الْأَحْيَاءِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا ذَلِكَ لَصَارُوا مِنْ زُمْرَةِ الْفَاسِقِينَ فَلَأَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبًا عَلَى أُمَمِهِمْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، فَكَانَ صَرْفُ هَذَا الْمِيثَاقِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ أَقْوَى فِي تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قيل له إن أصحاب عبد الله يقرؤن وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَنَحْنُ نَقْرَأُ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّمَا أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ عَلَى قَوْمِهِمْ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ مُتَأَكِّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي/ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آلِ عِمْرَانَ: 187] فَهَذَا جُمْلَةُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْجُمْهُورُ لَما بِفَتْحِ اللَّامِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لَمَّا مُشَدَّدَةً، أَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْفَتْحِ فَلَهَا وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ (مَا) اسْمٌ مَوْصُولٌ وَالَّذِي بَعْدَهُ صِلَةٌ لَهُ وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَالتَّقْدِيرُ: لَلَّذِي آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ، ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ (مَا) رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالرَّاجِعُ إلى لفظة (ما) وموصولتها مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: لَمَا آتَيْتُكُمُوهُ فَحُذِفَ الرَّاجِعُ كَمَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِهِ أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الْفُرْقَانِ: 41] وَعَلَيْهِ سُؤَالَانِ:

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: إِذَا كَانَتْ (مَا) مَوْصُولَةً لَزِمَ أَنْ يَرْجِعَ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَى الصِّلَةِ ذِكْرٌ إِلَى الْمَوْصُولِ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: الَّذِي قَامَ أَبُوهُ ثُمَّ انْطَلَقَ زَيْدٌ لَمْ يَجُزْ. وَقَوْلُهُ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَيْسَ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى الْمَوْصُولِ، قُلْنَا: يَجُوزُ إِقَامَةُ الْمُظْهَرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ عِنْدَ الْأَخْفَشِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يُوسُفَ: 90] وَلَمْ يَقُلْ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَهُ، وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الْكَهْفِ: 30] وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُظْهَرَ الْمَذْكُورَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُضْمَرِ فَكَذَا هَاهُنَا. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا فَائِدَةُ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ لَما قُلْنَا: هَذِهِ اللَّامُ هِيَ لَامُ الِابْتِدَاءِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: لَزَيْدٌ أَفْضَلُ مِنْ عَمْرٍو، وَيَحْسُنُ إِدْخَالُهَا عَلَى مَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ بِمَنْزِلَةِ الْقَسَمِ وَالْمَعْنَى اسْتَحْلَفَهُمْ، وَهَذِهِ اللَّامُ الْمُتَلَقِّيَةُ لِلْقَسَمِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ سِيبَوَيْهِ وَالْمَازِنِيِّ وَالزَّجَّاجِ أَنَّ (مَا) هَاهُنَا هِيَ الْمُتَضَمِّنَةُ لِمَعْنَى الشَّرْطِ وَالتَّقْدِيرُ مَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ، فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ هِيَ الْمُتَلَقِّيَةُ لِلْقَسَمِ، أَمَّا اللَّامُ فِي لَما هِيَ لَامٌ تُحْذَفُ تَارَةً، وَتُذْكَرُ أُخْرَى، وَلَا يَتَفَاوَتُ الْمَعْنَى وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ: وَاللَّهِ لَوْ أَنْ فَعَلْتَ، فَعَلْتُ فَلَفْظَةُ (أَنْ) لَا يَتَفَاوَتُ الْحَالُ بَيْنَ ذِكْرِهَا وَحَذْفِهَا فَكَذَا هَاهُنَا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ كَانَتْ (مَا) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِآتَيْتُكُمْ وَجاءَكُمُ جُزِمَ بِالْعَطْفِ عَلَى آتَيْتُكُمْ ولَتُؤْمِنُنَّ بِهِ هُوَ الْجَزَاءُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَرْضَ سِيبَوَيْهِ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا يَرَى إِقَامَةَ الْمُظْهَرِ مُقَامَ الْمُضْمَرِ، وَأَمَّا الْوَجْهُ فِي قِرَاءَةِ لِمَا بِكَسْرِ اللَّامِ فَهُوَ أَنَّ هَذَا لَامُ التَّعْلِيلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ لِهَذَا لِأَنَّ مَنْ يُؤْتَى الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ فَإِنَّ اخْتِصَاصَهُ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ يُوجِبُ عَلَيْهِ تَصْدِيقَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَمَا عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَكُونُ مَوْصُولَةً، وَتَمَامُ/ الْبَحْثِ فِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ لَمَّا بِالتَّشْدِيدِ فَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِيهِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى: حِينَ آتَيْتُكُمْ بَعْضَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لَهُ، وَجَبَ عَلَيْكُمُ الْإِيمَانُ بِهِ وَنُصْرَتُهُ وَالثَّانِي: أَنَّ أَصْلَ (لِمَا) لِمَنْ مَا فَاسْتَثْقَلُوا اجْتِمَاعَ ثَلَاثِ مِيمَاتٍ، وَهِيَ الْمِيمَانِ وَالنُّونُ الْمُنْقَلِبَةُ مِيمًا بِإِدْغَامِهَا فِي الْمِيمِ فَحَذَفُوا إِحْدَاهَا فَصَارَتْ (لِمَا) وَمَعْنَاهُ: لَمِنْ أَجْلِ مَا آتَيْتُكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ فِي الْمَعْنَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ آتَيْنَاكُمْ بِالنُّونِ عَلَى التَّفْخِيمِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى التَّوْحِيدِ، حُجَّةُ نَافِعٍ قَوْلُهُ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [النِّسَاءِ: 163] وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مَرْيَمَ: 12] وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ [الصَّافَّاتِ: 117] وَلِأَنَّ هَذَا أَدَلُّ عَلَى الْعَظَمَةِ فَكَانَ أَكْثَرَ هَيْبَةً فِي قَلْبِ السَّامِعِ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ يَلِيقُ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ [الحديد: 9] والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الْكَهْفِ: 1] وَأَيْضًا هَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَشْبَهُ بِمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبِمَا بَعْدَهَا لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ وَقَالَ بَعْدَهَا إِصْرِي وَأَجَابَ نَافِعٌ عَنْهُ بِأَنَّ أَحَدَ أَبْوَابِ الْفَصَاحَةِ تَغْيِيرُ الْعِبَارَةِ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْجَمْعِ وَمِنَ الْجَمْعِ إِلَى الْوَاحِدِ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي [الْإِسْرَاءِ: 2] وَلَمْ يَقُلْ مِنْ دُونِنَا كَمَا قَالَ: وَجَعَلْناهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ النَّبِيِّينَ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَايَبَةِ ثُمَّ قَالَ: آتَيْتُكُمْ وَهُوَ مُخَاطَبَةُ إِضْمَارٍ وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ فَقَالَ مُخَاطِبًا لَهُمْ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ، وَالْإِضْمَارُ بَابٌ وَاسِعٌ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنِ الْتَزَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِضْمَارًا آخَرَ وَأَرَاحَ نَفْسَهُ عَنْ تِلْكَ التَّكَلُّفَاتِ الَّتِي حَكَيْنَاهَا عَنِ النَّحْوِيِّينَ فَقَالَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَتُبَلِّغُنَّ النَّاسَ مَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ، قَالَ إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ لَتُبَلِّغُنَّ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ لِأَنَّ لَامَ الْقَسَمِ إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْفِعْلِ فَلَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ اللَّامُ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ لَا جَرَمَ حَذَفَهُ اخْتِصَارًا ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْتَقِيمُ النَّظْمُ وَلَا يَحْتَاجُ إلى تكليف تِلْكَ التَّعَسُّفَاتِ، وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنِ الْتِزَامِ الْإِضْمَارِ فَهَذَا الْإِضْمَارُ الَّذِي بِهِ يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ نَظْمًا بَيِّنًا جَلِيًّا أَوْلَى مِنْ تِلْكَ التَّكَلُّفَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ مَعَ الْأُمَمِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ فَجَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ مَا أُوتُوا الْكِتَابَ، وَإِنَّمَا أُوتِيَ بَعْضُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَعَ الْأُمَمِ، فَالْإِشْكَالُ أَظْهَرُ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أُوتُوا الْكِتَابَ، بِمَعْنَى كَوْنِهِ مُهْتَدِيًا بِهِ دَاعِيًا إِلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ وَالثَّانِي: أَنَّ أَشْرَفَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ هُمُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، فَوَصَفَ الْكُلَّ بِوَصْفِ أَشْرَفِ الْأَنْوَاعِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْكِتَابُ هُوَ الْمُنَزَّلُ الْمَقْرُوءُ وَالْحِكْمَةُ هِيَ الْوَحْيُ الْوَارِدُ بِالتَّكَالِيفِ الْمُفَصَّلَةِ الَّتِي لَمْ يَشْتَمِلِ الْكِتَابُ عَلَيْهَا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: كَلِمَةُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْ كِتابٍ دَخَلَتْ تَبْيِينًا لِمَا كَقَوْلِكَ: مَا عِنْدِي مِنَ الْوَرَقِ دَانِقَانِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا وَجْهُ قَوْلِهِ ثُمَّ جاءَكُمْ وَالرَّسُولُ لَا يَجِيءُ إِلَى النَّبِيِّينَ وَإِنَّمَا يَجِيءُ إِلَى الْأُمَمِ؟. وَالْجَوَابُ: إِنْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ عَلَى أَخْذِ مِيثَاقِ أُمَمِهِمْ فَقَدْ زَالَ السُّؤَالُ وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى أَخْذِ مِيثَاقِ النَّبِيِّينَ أَنْفُسِهِمْ كَانَ قَوْلُهُ ثُمَّ جاءَكُمْ أَيْ جَاءَ فِي زَمَانِكُمْ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ يَكُونُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ مَعَ مُخَالَفَةِ شَرْعِهِ لِشَرْعِهِمْ، قُلْنَا: الْمُرَادُ بِهِ حُصُولُ الْمُوَافَقَةِ فِي التَّوْحِيدِ، وَالنُّبُوَّاتِ، وَأُصُولِ الشَّرَائِعِ، فَأَمَّا تَفَاصِيلُهَا وَإِنْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهَا فَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِخِلَافٍ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي زَمَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ إِلَّا شَرْعَهُ وَأَنَّ الْحَقَّ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ إِلَّا شَرْعَهُ، فَهَذَا وَإِنْ كَانَ يُوهِمُ الْخِلَافَ، إِلَّا أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ وِفَاقٌ، وَأَيْضًا فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ هُوَ أَنَّ وَصْفَهُ وَكَيْفِيَّةَ أَحْوَالِهِ مَذْكُورَةٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَلَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَحْوَالٍ مُطَابِقَةٍ لِمَا كَانَ مَذْكُورًا فِي تِلْكَ الْكُتُبِ، كَانَ نَفْسُ مَجِيئِهِ تَصْدِيقًا لِمَا كَانَ مَعَهُمْ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: حَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِكُلِّ رَسُولٍ يَجِيءُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ فَمَا مَعْنَى ذَلِكَ الْمِيثَاقِ.

وَالْجَوَابُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمِيثَاقُ مَا قُرِّرَ فِي عُقُولِهِمْ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الِانْقِيَادَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَاجِبٌ، فَإِذَا جَاءَ الرَّسُولُ فَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ رَسُولًا عِنْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ فَإِذَا أَخْبَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْخَلْقَ بِالْإِيمَانِ بِهِ عَرَفُوا عِنْدَ ذَلِكَ وَجُوبَهَ، فَتَقْدِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ فِي عُقُولِهِمْ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ أَخْذِ الْمِيثَاقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ أَخْذِ الْمِيثَاقِ أَنَّهُ تَعَالَى شَرَحَ صِفَاتِهِ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَإِذَا صَارَتْ أَحْوَالُهُ مُطَابِقَةً لِمَا جَاءَ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَجَبَ الِانْقِيَادُ لَهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ يَدُلُّ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَقَوْلُهُ رَسُولٌ وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، فَقَوْلُهُ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ فَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الْإِيمَانَ بِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ/ الِاشْتِغَالَ بِنُصْرَتِهِ ثَانِيًا، وَاللَّامُ فِي لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ لَامُ الْقَسَمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَاللَّهِ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنْ فَسَّرْنَا قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَخَذَ الْمَوَاثِيقَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى أَأَقْرَرْتُمْ مَعْنَاهُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلنَّبِيِّينَ أَأَقْرَرْتُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالنُّصْرَةِ لَهُ وَإِنْ فَسَّرْنَا أَخْذَ الْمِيثَاقِ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخَذُوا الْمَوَاثِيقَ عَلَى الْأُمَمِ كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ أَيْ قَالَ كُلُّ نَبِيٍّ لِأُمَّتِهِ أَأَقْرَرْتُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ أَخْذَ الْمِيثَاقِ إِلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّونَ أَخَذُوهُ عَلَى الْأُمَمِ، فَكَذَلِكَ طَلَبُ هَذَا الْإِقْرَارِ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ وَإِنْ وَقَعَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ بَالَغُوا فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْمَعْنَى وَتَأْكِيدِهِ، فَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَى الْأُمَمِ، بَلْ طَالَبُوهُمْ بِالْإِقْرَارِ بِالْقَوْلِ، وَأَكَّدُوا ذَلِكَ بِالْإِشْهَادِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِقْرَارُ فِي اللُّغَةِ مَنْقُولٌ بِالْأَلِفِ مِنْ قَرَّ الشَّيْءُ يَقِرُّ، إِذَا ثَبَتَ وَلَزِمَ مَكَانَهُ وَأَقَرَّهُ غَيْرُهُ وَالْمُقِرُّ بِالشَّيْءِ يُقِرُّهُ عَلَى نَفْسِهِ أَيْ يُثْبِتُهُ. أما قوله تعالى: وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي أَيْ قَبِلْتُمْ عَهْدِي، وَالْأَخْذُ بِمَعْنَى الْقَبُولِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ قَالَ تَعَالَى: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ [الْبَقَرَةِ: 48] أَيْ يُقْبَلُ مِنْهَا فِدْيَةٌ وَقَالَ: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ [التَّوْبَةِ: 104] أَيْ يَقْبَلُهَا وَالْإِصْرُ هُوَ الَّذِي يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ لِأَجْلِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ عَمَلٍ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً [الْبَقَرَةِ: 286] فَسَمَّى الْعَهْدَ إِصْرًا لِهَذَا الْمَعْنَى، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : سُمِّيَ الْعَهْدُ إِصْرًا لِأَنَّهُ مِمَّا يُؤْصَرُ أَيْ يُشَدُّ وَيُعْقَدُ، وَمِنْهُ الْإِصَارُ الَّذِي يُعْقَدُ بِهِ وَقُرِئَ إِصْرِي وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لُغَةً فِي إِصْرٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ فَاشْهَدُوا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: فَلْيَشْهَدْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْإِقْرَارِ، وَأَنَا عَلَى إِقْرَارِكُمْ وَإِشْهَادِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا مِنَ الشَّاهِدِينَ وَهَذَا تَوْكِيدٌ عَلَيْهِمْ وَتَحْذِيرٌ مِنَ الرُّجُوعِ إِذَا عَلِمُوا شَهَادَةَ اللَّهِ وَشَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ فَاشْهَدُوا خِطَابٌ لِلْمَلَائِكَةِ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ فَاشْهَدُوا أَيْ لِيَجْعَلْ كُلُّ أَحَدٍ نَفْسَهُ شَاهِدًا عَلَى نَفْسِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا [الْأَعْرَافِ: 172] عَلَى أَنْفُسِنَا وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ الرَّابِعُ: فَاشْهَدُوا أَيْ بَيِّنُوا هَذَا الْمِيثَاقَ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ، لِكَيْ لَا يَبْقَى لِأَحَدٍ عُذْرٌ فِي الْجَهْلِ بِهِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ

[سورة آل عمران (3) : آية 83]

الشَّاهِدَ هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ صِدْقَ الدَّعْوَى الْخَامِسُ: فَاشْهَدُوا أَيْ فَاسْتَيْقِنُوا مَا قَرَّرْتُهُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْمِيثَاقِ، وَكُونُوا فِيهِ كَالْمُشَاهِدِ لِلشَّيْءِ الْمُعَايِنِ لَهُ السَّادِسُ: إِذَا قُلْنَا إِنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ كَانَ مِنَ الْأُمَمِ فَقَوْلُهُ فَاشْهَدُوا خِطَابٌ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِأَنْ يَكُونُوا شَاهِدِينَ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَهُوَ لِلتَّأْكِيدِ وَتَقْوِيَةِ الْإِلْزَامِ، وَفِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ أَشْهَدَ غَيْرَهُ، فَلَيْسَ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ الْإِشْهَادِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ لَكِنْ/ لِضَرْبٍ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ضَمَّ إِلَيْهِ تَأْكِيدًا آخَرَ فَقَالَ: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ يَعْنِي مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَذَا الرَّسُولِ وَبِنُصْرَتِهِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ كَانَ مِنَ الْفَاسِقِينَ وَوَعِيدُ الْفَاسِقِ مَعْلُومٌ، وَقَوْلُهُ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ هَذَا شَرْطٌ، وَالْفِعْلُ الْمَاضِي يَنْقَلِبُ مُسْتَقْبَلًا فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة آل عمران (3) : آية 83] أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَرْعٌ شَرَعَهُ اللَّهُ وَأَوْجَبَهُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ مَضَى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ، لَزِمَ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ طَالِبًا دِينًا غَيْرَ دِينِ اللَّهِ، فَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ يَبْغُونَ ويُرْجَعُونَ بِالْيَاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ تَحْتِهَا، لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: رَدًّا لِهَذَا إِلَى قَوْلِهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 82] وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ حِكَايَةَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ حَتَّى يُبَيِّنَ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يَلْزَمُهُمُ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَصَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ قَالَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِنْكَارِ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو تَبْغُونَ بِالتَّاءِ خِطَابًا لِلْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الكافر ويُرْجَعُونَ بِالْيَاءِ لِيَرْجِعَ إِلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ فِيهِمَا بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، لِأَنَّ ما قبله خطاب كقوله أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ [آل عمران: 81] وأيضاً فلا يبعد أن يقال للمسلم والكفار وَلِكُلِّ أَحَدٍ: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ تَبْغُونَ مَعَ علمكم بأنه أسلم له من في السموات وَالْأَرْضِ، وَأَنَّ مَرْجِعَكُمْ إِلَيْهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آلِ عِمْرَانَ: 101] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَالْمُرَادُ اسْتِنْكَارُ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ أَوْ تَقْرِيرُ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ، وَمَوْضِعُ الْهَمْزَةِ هُوَ لَفْظَةُ يَبْغُونَ تَقْدِيرُهُ: أَيَبْغُونَ غَيْرَ دِينِ اللَّهِ؟ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ إِنَّمَا يَكُونُ عَنِ الْأَفْعَالِ وَالْحَوَادِثِ، إِلَّا أَنَّهُ تعالى قدم المفعول الذي هو فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ عَلَى فِعْلِهِ، لِأَنَّهُ أَهَمُّ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِنْكَارَ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْهَمْزَةِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْمَعْبُودِ الْبَاطِلِ وَأَمَّا الْفَاءُ فَلِعَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: التَّقْدِيرُ: فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ. واعلم أنه لو قيل أو غير دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ جَازَ إِلَّا أَنَّ فِي الْفَاءِ فَائِدَةً زَائِدَةً كَأَنَّهُ قِيلَ: أَفَبَعْدَ أَخْذِ هَذَا الْمِيثَاقِ الْمُؤَكَّدِ بِهَذِهِ التَّأْكِيدَاتِ الْبَلِيغَةِ تَبْغُونَ؟. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رُوِيَ أَنَّ فَرِيقَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ اخْتَصَمُوا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ

عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ ادَّعَى أَنَّهُ أَوْلَى بِهِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بَرِيءٌ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالُوا: مَا نَرْضَى بِقَضَائِكَ وَلَا نَأْخُذُ بِدِينِكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَيَبْعُدُ عِنْدِي حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا السَّبَبِ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُنْقَطِعَةً عَمَّا قَبْلَهَا، وَالِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ يَقْتَضِي تَعَلُّقَهَا بِمَا قَبْلَهَا، فَالْوَجْهُ فِي الْآيَةِ أَنَّ هَذَا الْمِيثَاقَ لَمَّا كَانَ مَذْكُورًا فِي كُتُبِهِمْ وَهُمْ كَانُوا عَارِفِينَ بِذَلِكَ فَقَدْ كَانُوا عَالِمِينَ بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النُّبُوَّةِ فَلَمْ يَبْقَ لِكُفْرِهِمْ سَبَبٌ إِلَّا مُجَرَّدَ الْعَدَاوَةِ وَالْحَسَدِ فَصَارُوا كَإِبْلِيسَ الَّذِي دَعَاهُ الْحَسَدُ إِلَى الْكُفْرِ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَتَى كَانُوا طَالِبِينَ دِينًا غَيْرَ دِينِ اللَّهِ، وَمَعْبُودًا سِوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ التَّمَرُّدَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِعْرَاضَ عَنْ حُكْمِهِ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِالْعُقَلَاءِ فَقَالَ: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وإليه ترجعون وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْإِسْلَامُ، هُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ وَالْخُضُوعُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَفِي خُضُوعِ كل من في السموات وَالْأَرْضِ لِلَّهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَكُلُّ مُمْكِنٍ لِذَاتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِإِيجَادِهِ وَلَا يُعْدَمُ إِلَّا بِإِعْدَامِهِ فَإِذَنْ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ فَهُوَ مُنْقَادٌ خَاضِعٌ لِجَلَالِ اللَّهِ فِي طَرَفَيْ وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ، وَهَذَا هُوَ نِهَايَةُ الِانْقِيَادِ وَالْخُضُوعِ، ثُمَّ إِنَّ فِي هَذَا الْوَجْهِ لَطِيفَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَهُ أَسْلَمَ يُفِيدُ الْحَصْرَ أَيْ وَلَهُ أَسْلَمَ كل من في السموات وَالْأَرْضِ لَا لِغَيْرِهِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تُفِيدُ أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَاحِدٌ وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِتَكْوِينِهِ وَلَا يَفْنَى إِلَّا بِإِفْنَائِهِ سَوَاءٌ كَانَ عَقْلًا أَوْ نَفْسًا أَوْ رُوحًا أَوْ جِسْمًا أَوْ جَوْهَرًا أَوْ عَرَضًا أَوْ فَاعِلًا أَوْ فِعْلًا، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرَّعْدِ: 15] وَقَوْلُهُ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 44] . الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إِلَى الِامْتِنَاعِ عَلَيْهِ فِي مُرَادِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَنْزِلُوا عَلَيْهِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، فَالْمُسْلِمُونَ الصَّالِحُونَ يَنْقَادُونَ لِلَّهِ طَوْعًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، وَيَنْقَادُونَ لَهُ كَرْهًا فِيمَا يُخَالِفُ طِبَاعَهُمْ مِنَ الْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَالْمَوْتِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْكَافِرُونَ فَهُمْ يَنْقَادُونَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ حَالٍ كَرْهًا لِأَنَّهُمْ لَا يَنْقَادُونَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مُسْتَسْلِمُونَ لَهُ سُبْحَانَهُ كَرْهًا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُمْ دَفْعُ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ الثَّالِثُ: أَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ طَوْعًا، وَالْكَافِرُونَ عِنْدَ مَوْتِهِمْ كَرْهًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غَافِرٍ: 85] الرَّابِعُ: أَنَّ كُلَّ الْخَلْقِ مُنْقَادُونَ لِإِلَهِيَّتِهِ طَوْعًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: 25] وَمُنْقَادُونَ/ لِتَكَالِيفِهِ وإيجاده للآلام كرهاًالخامس: أَنَّ انْقِيَادَ الْكُلِّ إِنَّمَا حَصَلَ وَقْتَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَافِ: 172] [السادس:] قال الحسن: الطوع لأهل السموات خَاصَّةً، وَأَمَّا أَهْلُ الْأَرْضِ فَبَعْضُهُمْ بِالطَّوْعِ وَبَعْضُهُمْ بِالْكُرْهِ، وَأَقُولُ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي تَخْلِيقِ السموات وَالْأَرْضِ هَذَا وَهُوَ قَوْلُهُ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فُصِّلَتْ: 11] وَفِيهِ أَسْرَارٌ عَجِيبَةٌ. أَمَّا قَوْلُهُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ خَالَفَهُ فِي الْعَاجِلِ فَسَيَكُونُ مَرْجِعُهُ إِلَيْهِ، وَالْمُرَادُ إِلَى حَيْثُ لَا يملك الضر والنفع سواه هذا وَعِيدٌ عَظِيمٌ لِمَنْ خَالَفَ الدِّينَ الْحَقَّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الطَّوْعُ الِانْقِيَادُ، يُقَالُ: طَاعَهُ يَطُوعُهُ طَوْعًا إِذَا انْقَادَ لَهُ وَخَضَعَ، وَإِذَا مَضَى لِأَمْرِهِ فَقَدْ أَطَاعَهُ، وَإِذَا وَافَقَهُ فَقَدْ طَاوَعَهُ، قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ طَاعَ لَهُ وَأَطَاعَ، فَانْتَصَبَ طَوْعًا وَكَرْهًا عَلَى

[سورة آل عمران (3) : آية 84]

أَنَّهُ مَصْدَرٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الْحَالِ، وَتَقْدِيرُهُ طَائِعًا وَكَارِهًا، كَقَوْلِكَ أَتَانِي رَاكِضًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَتَانِي كَلَامًا أَيْ مُتَكَلِّمًا، لِأَنَّ الْكَلَامَ ليس يضرب للإتيان والله أعلم. [سورة آل عمران (3) : آية 84] قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذكره فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي تَصْدِيقِ الرَّسُولِ الَّذِي يَأْتِي مصدق لِمَا مَعَهُمْ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَوْنَهُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ فَقَالَ: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وُحِّدَ الضَّمِيرُ فِي قُلْ وَجُمِعَ فِي آمَنَّا وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حِينَ خَاطَبَهُ، إِنَّمَا خَاطَبَهُ بِلَفْظِ الْوُحْدَانِ، وَعَلَّمَهُ أَنَّهُ حِينَ يُخَاطِبُ الْقَوْمَ يُخَاطِبُهُمْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ عَلَى وجه التعظيم والتفخيم، مثل ما يَتَكَلَّمُ الْمُلُوكُ وَالْعُظَمَاءُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَاطَبَهُ أَوَّلًا بخطاب الوجدان لِيَدُلَّ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُ لَا مُبَلِّغَ لِهَذَا التَّكْلِيفِ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْخَلْقِ إِلَّا هُوَ، ثُمَّ قَالَ: آمَنَّا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ حِينَ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ فَإِنَّ أَصْحَابَهُ يُوَافِقُونَهُ عَلَيْهِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى عَيَّنَهُ فِي هَذَا التَّكْلِيفِ بِقَوْلِهِ/ قُلْ لِيُظْهِرَ بِهِ كَوْنَهُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ثُمَّ قَالَ آمَنَّا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ لَيْسَ مِنْ خَوَاصِّهِ بَلْ هُوَ لَازِمٌ لِكُلِّ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الْبَقَرَةِ: 285] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدَّمَ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ أَصْلُ الْإِيمَانِ بِالنُّبُوَّةِ، وَفِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ ذَكَرَ الْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ كُتُبَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ حَرَّفُوهَا وَبَدَّلُوهَا فَلَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ أَحْوَالِهَا إِلَّا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ مَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ كَالْأَصْلِ لِمَا أُنْزِلَ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فَلِهَذَا قَدَّمَهُ عَلَيْهِ، وَفِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ ذَكَرَ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ يَعْتَرِفُ أَهْلُ الْكِتَابِ بِوُجُودِهِمْ، وَيَخْتَلِفُونَ فِي نُبُوَّتِهِمْ وَالْأَسْباطِ هُمْ أَسْبَاطُ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهَ أُمَمَهُمُ الِاثْنَيْ عَشَرَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِقْرَارَ بِنُبُوَّةِ كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِفَوَائِدَ إِحْدَاهَا: إِثْبَاتُ كَوْنِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُصَدِّقًا لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي أَخْذِ الْمِيثَاقِ وَثَانِيهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مَذَاهِبَ أَهْلِ الْكِتَابِ مُتَنَاقِضَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُصَدِّقُونَ النَّبِيَّ الَّذِي يُصَدِّقُونَهُ لِمَكَانِ ظُهُورِ الْمُعْجِزَةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ ظَهَرَتِ الْمُعْجِزَةُ عَلَيْهِ كَانَ نَبِيًّا، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَخْصِيصُ الْبَعْضِ بِالتَّصْدِيقِ وَالْبَعْضِ بِالتَّكْذِيبِ مُتَنَاقِضًا، بَلِ الْحَقُّ تَصْدِيقُ الْكُلِّ وَالِاعْتِرَافُ بِنُبُوَّةِ الْكُلِّ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آلِ عمران: 83] وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ إِصْرَارَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ إِعْرَاضٌ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَمُنَازَعَةٌ مع الله، فههنا أَظْهَرَ الْإِيمَانَ بِنُبُوَّةِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، لِيَزُولَ عَنْهُ وَعَنْ أُمَّتِهِ مَا وَصَفَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِهِ مِنْ مُنَازَعَةِ اللَّهِ فِي الْحُكْمِ وَالتَّكْلِيفِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ فِي الْآيَةِ الْأُولَى ذَكَرَ أَنَّهُ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ، أَنْ يُؤْمِنُوا بِكُلِّ مَنْ أَتَى بَعْدَهُمْ مِنَ الرُّسُلِ، وَهَاهُنَا أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِكُلِّ مَنْ أَتَى قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَلَمْ يَأْخُذْ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ مِنَ الرُّسُلِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ الْبَتَّةَ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ عَدَّى أُنْزِلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ مِثْلِهَا بِحَرْفِ الِانْتِهَاءِ؟ قُلْنَا: لِوُجُودِ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّ الْوَحْيَ يَنْزِلُ مِنْ فَوْقَ وَيَنْتَهِي إِلَى الرُّسُلِ، فَجَاءَ تَارَةً بِأَحَدِ

[سورة آل عمران (3) : آية 85]

الْمَعْنَيَيْنِ وَأُخْرَى بِالْآخَرِ، وَقِيلَ أَيْضًا إِنَّمَا قِيلَ عَلَيْنا فِي حَقِّ الرَّسُولِ، لِأَنَّ الْوَحْيَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ وَإِلَيْنَا فِي حَقِّ الْأُمَّةِ لِأَنَّ الْوَحْيَ يَأْتِيهِمْ مِنَ الرَّسُولِ عَلَى وَجْهِ الِانْتِهَاءِ وَهَذَا تَعَسُّفٌ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [البقرة: 4] وَأَنْزَلَ إِلَيْكَ الْكِتَابَ وَإِلَى قَوْلِهِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران: 72] . المسألة الثالثة: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ بِهَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا وَنُسِخَتْ شَرَائِعُهُمْ كَيْفَ يَكُونُ؟ وَحَقِيقَةُ الْخِلَافِ، أَنَّ شَرْعَهُ لَمَّا صَارَ مَنْسُوخًا، فَهَلْ تَصِيرُ نُبُوَّتُهُ/ مَنْسُوخَةً؟ فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا تَصِيرُ مَنْسُوخَةً قَالَ: نُؤْمِنُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ وَرُسُلًا، وَلَا نُؤْمِنُ بِأَنَّهُمُ الْآنَ أَنْبِيَاءُ وَرُسُلٌ، وَمَنْ قَالَ إِنَّ نَسْخَ الشَّرِيعَةِ لَا يَقْتَضِي نَسْخَ النُّبُوَّةِ قَالَ: نُؤْمِنُ أَنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ وَرُسُلٌ فِي الْحَالِ فَتَنَبَّهْ لِهَذَا الْمَوْضِعِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَصَمُّ: التَّفَرُّقُ قَدْ يَكُونُ بِتَفْضِيلِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، وَقَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا عَلَى سَبِيلٍ وَاحِدٍ فِي الطَّاعَةِ لِلَّهِ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَعْنِي: نُقِرُّ بِأَنَّهُمْ كَانُوا بِأَسْرِهِمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَفِي الِانْقِيَادِ لِتَكَالِيفِ اللَّهِ الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمُ الْمُرَادُ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِأَنْ نُؤْمِنَ بِبَعْضٍ دُونِ بَعْضٍ كَمَا تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَيْ لَا نُفَرِّقُ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آلِ عِمْرَانَ: 103] وَذَمَّ قَوْمًا وَصَفَهُمْ بِالتَّفَرُّقِ فَقَالَ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْأَنْعَامِ: 94] . أَمَّا قَوْلُهُ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: إِنَّ إِقْرَارَنَا بِنُبُوَّةِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ كَوْنِنَا مُنْقَادِينَ لِلَّهِ تَعَالَى مُسْتَسْلِمِينَ لِحُكْمِهِ وَأَمْرِهِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ حَالَهُ عَلَى خِلَافِ الَّذِينَ خَاطَبَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالثَّانِي: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أَيْ مُسْتَسْلِمُونَ لِأَمْرِ اللَّهِ بِالرِّضَا وَتَرْكِ الْمُخَالَفَةِ وَتِلْكَ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَهُمْ أَهْلُ السِّلْمِ وَالْكَافِرُونَ يُوصَفُونَ بِالْمُحَارَبَةِ لِلَّهِ كَمَا قَالَ: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْمَائِدَةِ: 33] الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَالتَّقْدِيرُ: لَهُ أَسْلَمْنَا لَا لِغَرَضٍ آخَرَ مِنْ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ وَطَلَبِ مَالٍ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ حَالَهُمْ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ وَلَا يَقُولُونَ إِلَّا لِلسُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ وَطَلَبِ الْأَمْوَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة آل عمران (3) : آية 85] وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) اعْلَمْ إنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 84] أَتْبَعَهُ بِأَنْ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الدِّينَ لَيْسَ إِلَّا الْإِسْلَامُ، وَأَنَّ كُلَّ دِينٍ سِوَى الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَ اللَّهِ، لِأَنَّ الْقَبُولَ لِلْعَمَلِ هُوَ أَنْ يَرْضَى اللَّهُ ذَلِكَ الْعَمَلَ، وَيَرْضَى عَنْ فَاعِلِهِ وَيُثِيبَهُ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الْمَائِدَةِ: 27] ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ دِينٌ سِوَى الْإِسْلَامِ فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وَالْخُسْرَانُ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ بِحِرْمَانِ الثَّوَابِ، وَحُصُولِ الْعِقَابِ، / وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا يَلْحَقُهُ مِنَ التَّأَسُّفِ وَالتَّحَسُّرِ عَلَى مَا فَاتَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَعَلَى مَا تَحَمَّلَهُ مِنَ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ فِي الدُّنْيَا فِي تَقْرِيرِهِ ذَلِكَ الدِّينَ الْبَاطِلَ وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِسْلَامُ إذ لو كان الإيمان غير الإسلام رجب أَنْ لَا يَكُونَ الْإِيمَانُ مَقْبُولًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الْحُجُرَاتِ: 14] يَقْتَضِي كَوْنَ الْإِسْلَامِ مُغَايِرًا لِلْإِيمَانِ وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا أَنْ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 86 إلى 89]

تُحْمَلَ الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ، وَالْآيَةُ الثانية على الوضع اللغوي. [سورة آل عمران (3) : الآيات 86 الى 89] كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَظَّمَ أَمْرَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ [آل عمران: 85] أَكَّدَ ذَلِكَ التَّعْظِيمَ بِأَنْ بَيَّنَ وَعِيدَ مَنْ تَرَكَ الْإِسْلَامَ، فَقَالَ: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَشَرَةِ رَهْطٍ كَانُوا آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا وَلَحِقُوا بِمَكَّةَ ثُمَّ أَخَذُوا يَتَرَبَّصُونَ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ تَابَ فَاسْتَثْنَى التَّائِبَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا الثَّانِي: نُقِلَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي يَهُودِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ كَفَرُوا/ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، وَكَانُوا يَشْهَدُونَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ، فَلَمَّا بُعِثَ وَجَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ كَفَرُوا بَغْيًا وَحَسَدًا وَالثَّالِثُ: نَزَلَتْ فِي الْحَرْثِ بْنِ سُوَيْدٍ وَهُوَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حِينَ ندم على ردته فأرسل إلى قوله أَنِ اسْأَلُوا لِي هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَخُوهُ بِالْآيَةِ، فَأَقْبَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَابَ عَلَى يَدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبِلَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْبَتَهُ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّ قوله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً [آل عمران: 85] وَمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ [آل عمران: 86- 90] نَزَلَ جَمِيعُ ذَلِكَ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ ابْتِدَاءَ الْقِصَّةِ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [آل عمران: 90] ثُمَّ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَفِيهَا أَيْضًا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَالثَّانِي: أَنَّهَا فِي قَوْمٍ مُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْعُقَلَاءُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: إِنَّ أُصُولَنَا تَشْهَدُ بِأَنَّهُ تَعَالَى هَدَى جَمِيعَ الْخَلْقِ إِلَى الدِّينِ بِمَعْنَى التَّعْرِيفِ، وَوَضْعِ الدَّلَائِلِ وَفِعْلِ الْأَلْطَافِ، إِذْ لَوْ يَعُمُّ الْكُلَّ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَصَارَ الْكَافِرُ وَالضَّالُّ مَعْذُورًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّهُ لَمْ يَهْدِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ بِشَيْءٍ آخَرَ سِوَى نَصْبِ الدَّلَائِلِ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْعُ الْأَلْطَافِ الَّتِي يُؤْتِيهَا الْمُؤْمِنِينَ ثَوَابًا لَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [الْعَنْكَبُوتِ: 69] وَقَالَ تَعَالَى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً [مَرْيَمَ: 76] وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [مُحَمَّدٍ: 17] وَقَالَ: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ [الْمَائِدَةِ: 16] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ الْمُهْتَدِيَ قَدْ يَزِيدُهُ اللَّهُ هُدًى الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ [النساء: 168،

169] وَقَالَ: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ [يُونُسَ: 9] وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْهِدَايَةِ خَلْقَ الْمَعْرِفَةِ فِيهِ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا خَلَقَ الْمَعْرِفَةَ كَانَ مُؤْمِنًا مُهْتَدِيًا، وَإِذَا لَمْ يَخْلُقْهَا كَانَ كَافِرًا ضَالًّا، وَلَوْ كَانَ الْكُفْرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَذُمَّهُمُ اللَّهُ عَلَى الْكُفْرِ وَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يُضَافَ الْكُفْرُ إِلَيْهِمْ، لَكِنَّ الْآيَةَ نَاطِقَةٌ بِكَوْنِهِمْ مَذْمُومِينَ بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَكَوْنِهِمْ فَاعِلِينَ لِلْكُفْرِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ فضاف الْكُفْرَ إِلَيْهِمْ وَذَمَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ فَهَذَا جُمْلَةُ أَقْوَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَقَالُوا: الْمُرَادُ مِنَ الْهِدَايَةِ خَلْقُ الْمَعْرِفَةِ، قَالُوا: وَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ يَقْصِدُ الْعَبْدُ إِلَى تَحْصِيلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُهُ عَقِيبَ قَصْدِ الْعَبْدِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: كَيْفَ يَخْلُقُ اللَّهُ فِيهِمُ الْمَعْرِفَةَ وَهُمْ قَصَدُوا تَحْصِيلَ الْكُفْرِ أَوْ أرادوه والله أعلم. المسألة الثالثة: قوله وَشَهِدُوا فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَطْفٌ وَالتَّقْدِيرُ بَعْدَ أَنْ آمَنُوا وَبَعْدَ أَنْ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ، لِأَنَّ عَطْفَ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ لَا يَجُوزُ فَهُوَ فِي الظَّاهِرِ وَإِنِ اقْتَضَى عَطْفَ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ لَكِنَّهُ فِي الْمَعْنَى عَطَفَ الْفِعْلَ عَلَى الْفِعْلِ الثَّانِي: أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ بِإِضْمَارِ (قَدْ) وَالتَّقْدِيرُ: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ حَالَ مَا شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَبَعْدَ الشَّهَادَةِ بِأَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ، وَقَدْ جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ، فَعَطَفَ الشَّهَادَةَ بِأَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ، عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيَلْزَمُ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِأَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ مُغَايِرٌ لِلْإِيمَانِ وَجَوَابُهُ: أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، وَالشَّهَادَةَ هو الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ دَالَّةً عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ مُغَايِرٌ لِلْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ وَأَنَّهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِالْقَلْبِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَعْظَمَ كُفْرَ الْقَوْمِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ حَصَلَ بَعْدَ خِصَالٍ ثَلَاثٍ أَحَدُهَا: بَعْدَ الْإِيمَانِ وَثَانِيهَا: بَعْدَ شَهَادَةِ كَوْنِ الرَّسُولِ حَقًّا وَثَالِثُهَا: بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ الْكُفْرُ صَلَاحًا بَعْدَ الْبَصِيرَةِ وَبَعْدَ إِظْهَارِ الشَّهَادَةِ، فَيَكُونُ الْكُفْرُ بَعْدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَقْبَحَ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكُفْرِ يَكُونُ كَالْمُعَانَدَةِ وَالْجُحُودِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَلَّةَ الْعَالِمِ أَقْبَحُ مِنْ زَلَّةِ الْجَاهِلِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً وَقَالَ فِي آخِرِهَا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَهَذَا تَكْرَارٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمُرْتَدِّينَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَمَّمَ ذَلِكَ الْحُكْمَ فِي الْمُرْتَدِّ وَفِي الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ فَقَالَ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ سُمِّيَ الْكَافِرُ ظَالِمًا؟. الْجَوَابُ: قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْكَافِرَ أَوْرَدَ نَفْسَهُ مَوَارِدَ الْبَلَاءِ وَالْعِقَابِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْكُفْرِ، فَكَانَ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها وَالْمَعْنَى أَنَّهُ

[سورة آل عمران (3) : آية 90]

تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ يَمْنَعُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ هِدَايَتِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَيْهِ، بَلْ كَمَا لَا يَهْدِيهِمْ فِي الدُّنْيَا يَلْعَنُهُمُ اللَّعْنَ الْعَظِيمَ وَيُعَذِّبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ وَالْخُلُودِ. وَاعْلَمْ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ، مُخَالِفَةٌ لِلَعْنَةِ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ لَعْنَتَهُ بِالْإِبْعَادِ مِنَ الْجَنَّةِ وَإِنْزَالِ الْعُقُوبَةِ وَالْعَذَابِ وَاللَّعْنَةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ هِيَ بِالْقَوْلِ، وَكَذَلِكَ مِنَ النَّاسِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُسْتَحِقٌّ لَهُمْ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ/ فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ جَزَاءً لِذَلِكَ وَهَاهُنَا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ عَمَّ جَمِيعَ النَّاسِ وَمَنْ يُوَافِقُهُ لَا يَلْعَنُهُ؟. قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ لَهُ أَنْ يَلْعَنَهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَلْعَنُهُ الثَّانِي: أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَالَ تَعَالَى: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الْأَعْرَافِ: 38] وَقَالَ: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الْعَنْكَبُوتِ: 25] وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَدْ حَصَلَ اللَّعْنُ لِلْكُفَّارِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالثَّالِثُ: كَأَنَّ النَّاسَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَالْكُفَّارَ لَيْسُوا مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ لَعْنَ الثَّلَاثِ قَالَ: أَجْمَعِينَ الرَّابِعُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ يَلْعَنُونَ الْمُبْطِلَ وَالْكَافِرَ، وَلَكِنَّهُ يَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُبْطِلٍ وَلَا بِكَافِرٍ، فَإِذَا لَعَنَ الْكَافِرَ وَكَانَ هُوَ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَافِرًا، فَقَدْ لَعَنَ نَفْسَهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ خالِدِينَ فِيها أَيْ خَالِدِينَ فِي اللَّعْنَةِ، فَمَا خُلُودُ اللَّعْنَةِ؟. قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّخْلِيدَ فِي اللَّعْنَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزَالُ يَلْعَنُهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَمَنْ مَعَهُمْ فِي النَّارِ فَلَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، مِنْ أَنْ يَلْعَنَهُمْ لَاعِنٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِخُلُودِ اللَّعْنِ خُلُودُ أَثَرِ اللَّعْنِ، لِأَنَّ اللَّعْنَ يُوجِبُ الْعِقَابَ، فَعُبِّرَ عَنْ خُلُودِ أَثَرِ اللَّعْنِ بِخُلُودِ اللَّعْنِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً خالِدِينَ فِيهِ [طه: 100، 101] الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ خالِدِينَ فِيها أَيْ فِي جَهَنَّمَ فَعَلَى هَذَا الْكِنَايَةُ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ خالِدِينَ فِيها نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِمَّا قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ مَعْنَى الْإِنْظَارِ التَّأْخِيرُ قَالَ تَعَالَى: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [الْبَقَرَةِ: 280] فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ عَذَابَهُمْ أَخَفَّ وَلَا يُؤَخِّرُ الْعِقَابَ مِنْ وَقْتٍ إِلَى وَقْتٍ وَهَذَا تَحْقِيقُ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ الْعَذَابَ الْمُلْحِقَ بِالْكَافِرِ مَضَرَّةٌ خَالِصَةٌ عَنْ شَوَائِبِ الْمَنَافِعِ دَائِمَةٌ غَيْرُ مُنْقَطِعَةٍ، نَعُوذُ مِنْهُ بِاللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَالْمَعْنَى إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْهُ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ التَّوْبَةَ وَحْدَهَا لَا تَكْفِي حَتَّى يَنْضَافَ إِلَيْهَا الْعَمَلُ الصَّالِحُ فَقَالَ: وَأَصْلَحُوا أَيْ أَصْلَحُوا بَاطِنَهُمْ مَعَ الْحَقِّ بِالْمُرَاقَبَاتِ وَظَاهِرَهُمْ مَعَ الخلق بالعبادات، وذلك بأن يلعنوا بِأَنَّا كُنَّا عَلَى الْبَاطِلِ حَتَّى أَنَّهُ لَوِ اغْتَرَّ بِطَرِيقَتِهِمُ الْفَاسِدَةِ مُغْتَرٌّ رَجَعَ عَنْهَا. ثُمَّ قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: غَفُورٌ لِقَبَائِحِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِالسَّتْرِ، رَحِيمٌ فِي الْآخِرَةِ بِالْعَفْوِ الثَّانِي: غَفُورٌ بِإِزَالَةِ الْعِقَابِ، رَحِيمٌ بِإِعْطَاءِ الثَّوَابِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الْأَنْفَالِ: 38] وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِأَنَّهُ الْجَزَاءُ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إِنْ تَابُوا فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ. [سورة آل عمران (3) : آية 90] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِيمَا بِهِ يَزْدَادُ الْكُفْرُ، وَالضَّابِطُ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يَكُونُ فَاعِلًا لِلزِّيَادَةِ بِأَنْ يُقِيمَ وَيُصِرَّ فَيَكُونَ الْإِصْرَارُ كَالزِّيَادَةِ، وَقَدْ يَكُونُ فَاعِلًا لِلزِّيَادَةِ بِأَنْ يَضُمَّ إِلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ كُفْرًا آخَرَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الثَّانِي ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، ثُمَّ كَفَرُوا بِهِ عِنْدَ الْمَبْعَثِ، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِسَبَبِ طَعْنِهِمْ فِيهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُ، وَفِتْنَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْكَارِهِمْ لِكُلِّ مُعْجِزَةٍ تَظْهَرُ الثَّانِي: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ كَفَرُوا بِسَبَبِ إِنْكَارِهِمْ عِيسَى وَالْإِنْجِيلَ، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا، بِسَبَبِ إِنْكَارِهِمْ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْقُرْآنَ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ ارْتَدُّوا وَذَهَبُوا إِلَى مَكَّةَ، وَازْدِيَادُهُمُ الْكُفْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: نُقِيمُ بِمَكَّةَ نَتَرَبَّصُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَيْبَ الْمَنُونِ الرَّابِعُ: الْمُرَادُ فِرْقَةٌ ارْتَدُّوا، ثُمَّ عَزَمُوا عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْإِسْلَامِ عَلَى سَبِيلِ النِّفَاقِ، فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ النِّفَاقَ كُفْرًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى بِقَبُولِ تَوْبَةِ الْمُرْتَدِّينَ، وَحَكَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِعَدَمِ قَبُولِهَا وَهُوَ يُوهِمُ التَّنَاقُضَ، وَأَيْضًا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ مَتَى وُجِدَتِ التَّوْبَةُ بِشُرُوطِهَا فَإِنَّهَا تَكُونُ مَقْبُولَةً لَا مَحَالَةَ، فَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ: السَّبَبُ أَنَّهُمْ لَا يَتُوبُونَ إِلَّا عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [النِّسَاءِ: 18] الثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى مَا إِذَا تَابُوا بِاللِّسَانِ وَلَمْ يَحْصُلْ فِي قُلُوبِهِمْ إِخْلَاصٌ الثَّالِثُ: قَالَ الْقَاضِي وَالْقَفَّالُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَهْلُ اللَّعْنَةِ، إِلَّا أَنْ يَتُوبَ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَوْ كَفَرَ مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ تِلْكَ التَّوْبَةِ فَإِنَّ التَّوْبَةَ الْأُولَى تَصِيرُ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ وَتَصِيرُ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، قَالَ وَهَذَا الْوَجْهُ أَلْيَقُ بِالْآيَةِ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فَإِنْ كَانُوا كَذَلِكَ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ، الرَّابِعُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ جُعِلَ كِنَايَةً عَنِ الْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ، لِأَنَّ الَّذِي لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ مِنَ الْكُفَّارِ هُوَ الَّذِي يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ إِنَّ الْيَهُودَ وَالْمُرْتَدِّينَ/ الَّذِينَ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا مَائِتُونَ عَلَى الْكُفْرِ دَاخِلُونَ فِي جُمْلَةِ مَنْ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ الْخَامِسُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ مَا إِذَا تَابُوا عَنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فَقَطْ فَإِنَّ التَّوْبَةَ عَنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ لَا تَصِيرُ مَقْبُولَةً مَا لَمْ تَحْصُلِ التَّوْبَةُ عَنِ الْأَصْلِ، وَأَقُولُ: جُمْلَةُ هَذِهِ الْجَوَابَاتِ إِنَّمَا تَتَمَشَّى عَلَى مَا إِذَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ لَا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ وَإِلَّا فَكَمْ مِنْ مُرْتَدٍّ تَابَ عَنِ ارْتِدَادِهِ تَوْبَةً صَحِيحَةً مَقْرُونَةً بِالْإِخْلَاصِ فِي زَمَانِ التَّكْلِيفِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنِ الْقَفَّالِ وَالْقَاضِي فَهُوَ جَوَابٌ مُطَّرِدٌ سَوَاءٌ حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ أَوْ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ. أَمَّا قَوْلُهُ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ فَفِيهِ سُؤَالَانِ الْأَوَّلُ: وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ يَنْفِي كَوْنَ غَيْرِهِمْ ضَالًّا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ كُلَّ كَافِرٍ فَهُوَ ضَالٌّ سَوَاءٌ كَفَرَ بَعْدَ الْإِيمَانِ أَوْ كَانَ كَافِرًا فِي الْأَصْلِ وَالْجَوَابُ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ هُمُ الضَّالُّونَ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: وَصَفَهُمْ أَوَّلًا بِالتَّمَادِي عَلَى الْكُفْرِ وَالْغُلُوِّ فِيهِ وَالْكُفْرُ أَقْبَحُ أَنْوَاعِ الضَّلَالِ وَالْوَصْفُ إِنَّمَا يُرَادُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَالْمُبَالَغَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِوَصْفِ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ أَقْوَى حَالًا مِنْهُ لَا بِمَا هُوَ أَضْعَفُ حَالًا مِنْهُ وَالْجَوَابُ: قَدْ ذَكَرْنَا أن المراد أنهم هم الضَّالُّونَ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تحصل المبالغة.

[سورة آل عمران (3) : آية 91]

[سورة آل عمران (3) : آية 91] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) اعْلَمْ أَنَّ الْكَافِرَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: الَّذِي يَتُوبُ عَنِ الْكُفْرِ تَوْبَةً صَحِيحَةً مَقْبُولَةً وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 89] وثانيهما: الَّذِي يَتُوبُ عَنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ تَوْبَةً فَاسِدَةً وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وقال: إنه لن تقبل توبته وثالثهما: الَّذِي يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ الْبَتَّةَ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ هَؤُلَاءِ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ مِلْءُ الشَّيْءِ قَدْرُ مَا يَمْلَؤُهُ وَانْتَصَبَ ذَهَباً عَلَى التَّفْسِيرِ، وَمَعْنَى التَّفْسِيرِ: أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ تَامًّا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُبْهَمًا كَقَوْلِهِ: عِنْدِي عِشْرُونَ، فَالْعَدَدُ مَعْلُومٌ، وَالْمَعْدُودُ مُبْهَمٌ، فَإِذَا قُلْتَ: دِرْهَمًا فَسَّرْتَ/ الْعَدَدَ، وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ: هُوَ أَحْسَنُ النَّاسِ فَقَدْ أَخْبَرْتَ عَنْ حُسْنِهِ، وَلَمْ تُبَيِّنْ فِي مَاذَا، فَإِذَا قُلْتَ وَجْهًا أَوْ فِعْلًا فَقَدْ بَيَّنْتَهُ وَنَصَبْتَهُ عَلَى التَّفْسِيرِ وَإِنَّمَا نَصَبْتَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَا يَخْفِضُهُ وَلَا مَا يَرْفَعُهُ فَلَمَّا خَلَا مِنْ هَذَيْنِ نُصِبَ لِأَنَّ النَّصْبَ أَخَفُّ الْحَرَكَاتِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَا عَامِلَ فِيهِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ ذَهَبٌ بِالرَّفْعِ رَدًّا عَلَى مِلْءِ كَمَا يُقَالُ: عِنْدِي عِشْرُونَ نَفْسًا رِجَالٌ. وَهَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَسْئِلَةٍ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قِيلَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَنْ تُقْبَلَ بِغَيْرِ فَاءٍ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ فَلَنْ يُقْبَلَ بِالْفَاءِ؟. الْجَوَابُ: أَنَّ دُخُولَ الْفَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَعِنْدَ عَدَمِ الْفَاءِ لَمْ يُفْهَمْ مِنَ الْكَلَامِ كَوْنُهُ شَرْطًا وَجَزَاءً، تَقُولُ: الَّذِي جَاءَنِي لَهُ دِرْهَمٌ، فَهَذَا لَا يُفِيدُ أَنَّ الدِّرْهَمَ حَصَلَ لَهُ بِسَبَبِ الْمَجِيءِ، وَإِذَا قُلْتَ: الَّذِي جَاءَنِي فَلَهُ دِرْهَمٌ، فَهَذَا لَا يُفِيدُ أَنَّ الدِّرْهَمَ حَصَلَ لَهُ بِسَبَبِ الْمَجِيءِ فَذِكْرُ الفاء في هذا الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَدَمَ قَبُولِ الْفِدْيَةِ مُعَلَّلٌ بِالْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا فَائِدَةُ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ وَلَوِ افْتَدى بِهِ؟. الْجَوَابُ: ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهَا لِلْعَطْفِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ تَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ بِمَلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ مَعَ كُفْرِهِ، وَلَوِ افْتَدَى مِنَ الْعَذَابِ بِمَلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ قَالَ: وَهَذَا أَوْكَدُ فِي التَّغْلِيظِ، لِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ الْقَبُولِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ الثَّانِي: الْوَاوُ دَخَلَتْ لِبَيَانِ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً يَحْتَمِلُ الْوُجُوهَ الْكَثِيرَةَ، فَنَصَّ عَلَى نَفْيِ الْقَبُولِ بِجِهَةِ الْفِدْيَةِ الثَّالِثُ: وَهُوَ وَجْهٌ خَطَرَ بِبَالِي، وَهُوَ أَنَّ مَنْ غَضِبَ عَلَى بَعْضِ عَبِيدِهِ، فَإِذَا أَتْحَفَهُ ذَلِكَ الْعَبْدُ بِتُحْفَةٍ وَهَدِيَّةٍ لَمْ يَقْبَلْهَا الْبَتَّةَ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَقْبَلُ مِنْهُ الْفِدْيَةَ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ الْفِدْيَةَ أَيْضًا كَانَ ذَلِكَ غَايَةَ الْغَضَبِ، وَالْمُبَالَغَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِتِلْكَ الْمَرْتَبَةِ الَّتِي هِيَ الغاية، فحكم تعالى بأنه لا يَقْبَلْ مِنْهُ الْفِدْيَةَ أَيْضًا كَانَ ذَلِكَ غَايَةَ الْغَضَبِ، وَالْمُبَالَغَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِتِلْكَ الْمَرْتَبَةِ الَّتِي هِيَ الْغَايَةُ، فَحَكَمَ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ كَانَ وَاقِعًا عَلَى سَبِيلِ الْفِدَاءِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا بِهَذَا الطَّرِيقِ، فَبِأَنْ لَا يَكُونَ مَقْبُولًا مِنْهُ بِسَائِرِ الطُّرُقِ أَوْلَى. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَمْلِكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَقِيرًا وَلَا قِطْمِيرًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَمْلِكَ الذَّهَبَ فَلَا يَنْفَعُ الذَّهَبُ الْبَتَّةَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَمَا فَائِدَةُ قوله فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً.

[سورة آل عمران (3) : آية 92]

الْجَوَابُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ فَلَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَنْفَقُوا فِي الدُّنْيَا مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَنْ يَقْبَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ مِنْهُمْ، لِأَنَّ الطَّاعَةَ مَعَ الْكُفْرِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ وقع على سبيل الفرض، والتقدير: فَالذَّهَبُ كِنَايَةٌ عَنْ أَعَزِّ الْأَشْيَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ أَنَّ/ الْكَافِرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدَرَ عَلَى أَعَزِّ الْأَشْيَاءِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى بَذْلِهِ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ لَعَجَزَ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِذَلِكَ إِلَى تَخْلِيصِ نَفْسِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ آيِسُونَ مِنْ تَخْلِيصِ النَّفْسِ مِنَ الْعِقَابِ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُمْكِنُهُ تَخْلِيصُ النَّفْسِ مِنَ الْعَذَابِ، أَرْدَفَهُ بِصِفَةِ ذَلِكَ الْعَذَابِ، فَقَالَ: لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ مُؤْلِمٌ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الْوَعِيدِ قَوْلُهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا خَلَاصَ لَهُمْ عَنْ هَذَا الْعَذَابِ الْأَلِيمِ بسبب الفدية، بيّن أيضا أنه تَعَالَى خَتَمَ تَعْدِيدَ وَعِيدِ الْكُفَّارِ بِعَدَمِ النُّصْرَةِ وَالشَّفَاعَةِ فَلَوْ حَصَلَ هَذَا الْمَعْنَى فِي حَقِّ غَيْرِ الْكَافِرِ بَطَلَ تَخْصِيصُ هَذَا الْوَعِيدِ بِالْكُفْرِ، والله أعلم. [سورة آل عمران (3) : آية 92] لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْإِنْفَاقَ لَا يَنْفَعُ الْكَافِرَ الْبَتَّةَ عَلَّمَ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفِيَّةَ الْإِنْفَاقِ الَّذِي يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَقَالَ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ أَنْفَقَ مِمَّا أَحَبَّ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَبْرَارِ، ثُمَّ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ [المطففين: 22] وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً [الْإِنْسَانِ: 5] وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: 22، 26] وَقَالَ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الْبَقَرَةِ: 177] فَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا فَصَّلَ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ كَيْفِيَّةَ ثَوَابِ الْأَبْرَارِ اكْتَفَى هَاهُنَا بِأَنْ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ أَنْفَقَ مَا أَحَبَّ نَالَ الْبِرَّ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ أُخْرَى. وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَكْثَرَ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، وَسَمَّاهُ الْبِرَّ ثُمَّ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ وَإِنْ أَتَيْتُمْ بِكُلِّ تِلْكَ الْخَيْرَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ فَإِنَّكُمْ لَا تَفُوزُونَ بِفَضِيلَةِ الْبِرِّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَنْفَقَ مَا يُحِبُّهُ كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ الطَّاعَاتِ، وَهَاهُنَا بَحْثٌ وَهُوَ: أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ كَلِمَةُ حَتَّى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ فَقَوْلُهُ لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ أَنْفَقَ مِمَّا أَحَبَّ فَقَدْ نَالَ الْبِرَّ وَمَنْ نَالَ الْبِرَّ دَخَلَ تَحْتَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عِظَمِ الثَّوَابِ لِلْأَبْرَارِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ/ أَنْفَقَ مَا أَحَبَّ وَصَلَ إِلَى الثَّوَابِ الْعَظِيمِ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِسَائِرِ الطَّاعَاتِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَجَوَابُ هَذَا الْإِشْكَالِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُنْفِقَ مَحْبُوبَهُ إِلَّا إِذَا تَوَسَّلَ بِإِنْفَاقِ ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ إِلَى وِجْدَانِ مَحْبُوبٍ أَشْرَفَ مِنَ الْأَوَّلِ، فَعَلَى هَذَا الْإِنْسَانُ لَا يمكنه أن ينفق الدُّنْيَا إِلَّا إِذَا تَيَقَّنَ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْتَرِفَ بِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ إِلَّا إِذَا أَقَرَّ بِوُجُودِ الصَّانِعِ الْعَالِمِ الْقَادِرِ، وَأَقَرَّ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الِانْقِيَادُ لِتَكَالِيفِهِ وَأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، فَإِذَا تَأَمَّلْتَ عَلِمْتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ إِنْفَاقُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا إِذَا كَانَ مُسْتَجْمِعًا لِجَمِيعِ الخصال

الْمَحْمُودَةِ فِي الدُّنْيَا، وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ فَنَقُولُ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَانَ السَّلَفُ إِذَا أَحَبُّوا شَيْئًا جَعَلُوهُ لِلَّهِ، رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِي حَائِطٌ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ أَحَبُّ أَمْوَالِي إِلَيَّ أَفَأَتَصَدَّقُ بِهِ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «بَخٍ بَخٍ ذَاكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ» فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَّمَهَا فِي أَقَارِبِهِ، وَيُرْوَى أَنَّهُ جَعَلَهَا بَيْنَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَرُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بِفَرَسٍ لَهُ كَانَ يُحِبُّهُ وَجَعَلَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَحَمَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ، فَوَجَدَ زَيْدٌ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ قَبِلَهَا وَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ جَارِيَةً أَعْجَبَتْهُ فَأَعْتَقَهَا فَقِيلَ لَهُ: لِمَ أَعْتَقْتَهَا وَلَمْ تُصِبْ مِنْهَا؟ فَقَالَ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ الْبِرِّ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: مَا بِهِ يَصِيرُونَ أَبْرَارًا حَتَّى يَدْخُلُوا فِي قوله إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْبِرِّ مَا يَحْصُلُ مِنْهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمَقْبُولَةِ وَالثَّانِي: الثَّوَابُ وَالْجَنَّةُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَنْ تَنَالُوا هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ إِلَّا بِالْإِنْفَاقِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. أَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْبِرَّ هُوَ التَّقْوَى وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الْبَقَرَةِ: 177] وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: إِنَّ الْبِرَّ هُوَ الْخَيْرُ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: الْبِرُّ هُوَ الْجَنَّةُ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ أَيْ لَنْ تَنَالُوا ثَوَابَ الْبِرِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِرُّ اللَّهِ أَوْلِيَاءَهُ وَإِكْرَامُهُ إِيَّاهُمْ وَتَفَضُّلُهُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِ النَّاسِ: بَرَّنِي فُلَانٌ بِكَذَا، وَبِرُّ فُلَانٍ لَا يَنْقَطِعُ عَنِّي، وَقَالَ تَعَالَى: لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ إِلَى قول: أَنْ تَبَرُّوهُمْ [الْمُمْتَحَنَةِ: 8] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ مِمَّا تُحِبُّونَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ نَفْسُ الْمَالِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [الْعَادِيَّاتِ: 8] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَنْ تَكُونَ الْهِبَةُ رَفِيعَةً جَيِّدَةً، قَالَ تَعَالَى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ [الْبَقَرَةِ: 267] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَا يَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى / حُبِّهِ مِسْكِيناً [الْإِنْسَانِ: 8] أَحَدُ تَفَاسِيرِ الْحُبِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَقَالَ: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الْحَشْرِ: 9] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَصَدَّقْتَ بِهِ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَأْمُلُ الْعَيْشَ وَتَخْشَى الْفَقْرَ» وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: كُلُّ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ فِي بَابِ الْفَضْلِ وَكَثْرَةِ الثَّوَابِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّ هَذَا الْإِنْفَاقَ، هَلْ هُوَ الزَّكَاةُ أَوْ غَيْرُهَا؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ بِهِ الزَّكَاةَ، يَعْنِي حَتَّى تُخْرِجُوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَقَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ شَيْءٍ أَنْفَقَهُ الْمُسْلِمُ مِنْ مَالِهِ طَلَبَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ فَإِنَّهُ مِنَ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ حَتَّى التَّمْرَةَ، وَالْقَاضِي اخْتَارَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ هَذَا الْإِنْفَاقَ، وَقَفَ اللَّهُ عَلَيْهِ كَوْنَ الْمُكَلَّفِ مِنَ الْأَبْرَارِ، وَالْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ، بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْإِنْفَاقُ، لَمْ يَصِرِ الْعَبْدُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا الْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ، وَأَقُولُ: لَوْ خَصَّصْنَا الْآيَةَ بِغَيْرِ الزَّكَاةِ لَكَانَ أَوْلَى لِأَنَّ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِإِيتَاءِ الْأَحَبِّ، وَالزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ لَيْسَ فِيهَا إِيتَاءُ الْأَحَبِّ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُزَكِّي أَنْ يُخْرِجَ أَشْرَفَ أَمْوَالِهِ وَأَكْرَمَهَا، بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِإِيتَاءِ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الندب.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 إلى 95]

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْكَلْبِيِّ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الزَّكَاةِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِأَنَّ إِيجَابَ الزَّكَاةِ كَيْفَ يُنَافِي التَّرْغِيبَ فِي بَذْلِ الْمَحْبُوبِ لِوَجْهِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ كَلِمَةُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِمَّا تُحِبُّونَ لِلتَّبْعِيضِ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ حَتَّى تُنْفِقُوا بَعْضَ مَا تُحِبُّونَ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِنْفَاقَ الْكُلِّ لَا يَجُوزُ ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً [الفرقان: 67] وقال آخرون: إنها للتبيين. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ. فَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: قِيلَ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ عَلَى جِهَةِ جَوَابِ الشَّرْطِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْجَزَاءِ تَقْدِيرُهُ: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ يُجَازِيكُمْ قَلَّ أَمْ كَثُرَ، لِأَنَّهُ عَلِيمٌ بِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ، فَجَعَلَ كَوْنَهُ عَالِمًا بِذَلِكَ الْإِنْفَاقِ كِنَايَةً عَنْ إِعْطَاءِ الثَّوَابِ، وَالتَّعْرِيضُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ يَكُونُ أَبْلَغَ مِنَ التَّصْرِيحِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْوَجْهَ الَّذِي لِأَجْلِهِ يَفْعَلُونَهُ وَيَعْلَمُ أَنَّ الدَّاعِيَ إِلَيْهِ أَهْوَ الْإِخْلَاصُ أَمِ الرِّيَاءُ وَيَعْلَمُ أَنَّكُمْ تُنْفِقُونَ الْأَحَبَّ الْأَجْوَدَ، أَمِ الْأَخَسَّ الْأَرْذَلَ. وَاعْلَمْ أَنَّ نَظِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَقَوْلُهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [الْبَقَرَةِ: 270] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْ شَيْءٍ لِتَبْيِينِ مَا يُنْفِقُونَهُ أَيْ مِنْ شَيْءٍ كَانَ طَيِّبًا تُحِبُّونَهُ أَوْ خَبِيثًا تَكْرَهُونَهُ فَإِنَّ اللَّهَ به عليم يجازيكم على قدره. [سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 95] كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) اعْلَمْ أَنَّ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ كَانَتْ فِي تَقْرِيرِ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي تَوْجِيهِ الْإِلْزَامَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَهِيَ فِي بَيَانِ الْجَوَابِ عَنْ شُبُهَاتِ الْقَوْمِ فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدَّعِي أَنَّ كُلَّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا ثُمَّ صَارَ الْبَعْضُ حَرَامًا بَعْدَ أَنْ كَانَ حِلًّا وَالْقَوْمُ نَازَعُوهُ فِي ذَلِكَ وَزَعَمُوا أَنَّ الَّذِي هُوَ الْآنَ حَرَامٌ كَانَ حَرَامًا أَبَدًا. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْآيَةُ تَحْتَمِلُ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُعَوِّلُونَ فِي إِنْكَارِ شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِنْكَارِ النَّسْخِ، فَأَبْطَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِأَنَّ كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ فَذَاكَ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، كَانَ حَلَالًا ثُمَّ صَارَ حَرَامًا عَلَيْهِ وَعَلَى أَوْلَادِهِ فَقَدْ حَصَلَ النَّسْخُ، فَبَطَلَ قَوْلُكُمْ: النَّسْخُ غَيْرُ جَائِزٍ، ثُمَّ إِنَّ الْيَهُودَ لَمَّا تَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ هَذَا السُّؤَالُ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ حُرْمَةُ ذَلِكَ الطَّعَامِ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ بِسَبَبِ أَنَّ إِسْرَائِيلَ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، بَلْ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حَرَامًا مِنْ لَدُنْ زَمَانِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى هَذَا الزَّمَانِ، فَعِنْدَ هَذَا طَلَبَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُمْ أَنْ يُحْضِرُوا التَّوْرَاةَ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ بَعْضَ أَنْوَاعِ الطَّعَامِ إِنَّمَا حُرِّمَ بِسَبَبِ أَنَّ إِسْرَائِيلَ

حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَخَافُوا مِنَ الْفَضِيحَةِ وَامْتَنَعُوا مِنْ إِحْضَارِ التَّوْرَاةِ، فَحَصَلَ عِنْدَ ذَلِكَ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ تُقَوِّي دَلَائِلِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ قَدْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ فِي إِنْكَارِ النَّسْخِ، وَهُوَ لَازِمٌ لَا مَحِيصَ عَنْهُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ ظَهَرَ لِلنَّاسِ كَذِبُهُمْ وَأَنَّهُمْ يَنْسُبُونَ إِلَى التَّوْرَاةِ مَا لَيْسَ فِيهَا تَارَةً، وَيَمْتَنِعُونَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِمَا هُوَ فِيهَا أُخْرَى وَثَالِثُهَا: أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ رَجُلًا أُمِّيًّا لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ فَامْتَنَعَ أَنْ يَعْرِفَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْغَامِضَةَ مِنْ عُلُومِ التَّوْرَاةِ إِلَّا بِخَبَرِ السَّمَاءِ فَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ عِلْمِيٌّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَبَيَانِ النَّظْمِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لَهُ: إِنَّكَ تَدَّعِي أَنَّكَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَيْفَ تَأْكُلُ لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا مَعَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حَرَامًا فِي دِينِ إِبْرَاهِيمَ فَجَعَلُوا هَذَا الْكَلَامَ شُبْهَةً طَاعِنَةً فِي صِحَّةِ دَعَوَاهُ، فَأَجَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِأَنْ قَالَ: ذَلِكَ كَانَ حِلًّا لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، إِلَّا أَنَّ يَعْقُوبَ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ وَبَقِيَتْ تِلْكَ الْحُرْمَةُ فِي أَوْلَادِهِ فَأَنْكَرَ الْيَهُودُ ذَلِكَ، فَأَمَرَهُمُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِحْضَارِ التَّوْرَاةِ وَطَالَبَهُمْ بِأَنْ يَسْتَخْرِجُوا مِنْهَا آيَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ وَافْتَضَحُوا فَظَهَرَ عِنْدَ هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِي ادِّعَاءِ حُرْمَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ قَوْلَهُ وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ [الْأَنْعَامِ: 146] وَقَالَ أَيْضًا: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النِّسَاءِ: 160] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَى الْيَهُودِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى بَغْيِهِمْ وَظُلْمِهِمْ وَقَبِيحِ فِعْلِهِمْ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنَ الطَّعَامِ حَرَامًا غَيْرَ الطَّعَامِ الْوَاحِدِ الَّذِي حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْيَهُودِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ على أن تلك الأشياء حرمت بعد أنت كَانَتْ مُبَاحَةً، وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُقُوعَ النَّسْخِ وَهُمْ يُنْكِرُونَهُ وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِقَبَائِحِ الْأَفْعَالِ، فَلَمَّا حَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْكَرُوا كَوْنَ حُرْمَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُتَجَدِّدَةً، بَلْ زَعَمُوا أَنَّهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً أَبَدًا، فَطَالَبَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِآيَةٍ مِنَ التَّوْرَاةِ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فَعَجَزُوا عَنْهُ فَافْتَضَحُوا، فَهَذَا وَجْهُ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَكُلُّهُ حَسَنٌ مُسْتَقِيمٌ، وَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ الْأَلْفَاظِ. أَمَّا قَوْلُهُ كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» كُلُّ الطَّعامِ أَيْ كُلُّ الْمَطْعُومَاتِ أَوْ كُلُّ أَنْوَاعِ الطَّعَامِ وَأَقُولُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ اللَّفْظَ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ هَلْ يُفِيدُ الْعُمُومَ أَمْ لَا؟ ذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُدَبَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُفِيدُهُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَدْخَلَ لَفْظَ كُلُّ عَلَى لَفْظِ الطَّعَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَوْلَا أَنَّ لَفْظَ الطَّعَامِ قَائِمٌ مَقَامَ لَفْظِ الْمَطْعُومَاتِ وَإِلَّا لَمَا جَازَ ذَلِكَ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ اسْتَثْنَى عَنْهُ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ/ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ، فَلَوْلَا دُخُولُ كُلِّ الْأَقْسَامِ تَحْتَ لَفْظِ الطَّعَامِ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ وَأَكَّدُوا هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [الْعَصْرِ: 2، 3] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذَا اللَّفْظَ الْمُفْرَدَ بِمَا يُوصَفُ بِهِ لَفْظُ الْجَمْعِ، فَقَالَ: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ [ق: 10، 11] فَعَلَى هَذَا مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِضْمَارِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، أَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّ الِاسْمَ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَهُوَ الَّذِي نَظَّرْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ

احْتَاجَ إِلَى الْإِضْمَارِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الطَّعَامُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُطْعَمُ وَيُؤْكَلُ، وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ اسْمٌ لِلْبُرِّ خَاصَّةً، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى ضَعْفِ هَذَا الْوَجْهِ، لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ لَفْظِ الطَّعَامِ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْمُفَسِّرُونَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ شَيْئًا سِوَى الْحِنْطَةِ، وَسِوَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهَا وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمَاءِ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [الْبَقَرَةِ: 249] وَقَالَ تَعَالَى: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [الْمَائِدَةِ: 5] وَأَرَادَ الذَّبَائِحَ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا الْأَسْوَدَانِ، وَالْمُرَادُ التَّمْرُ وَالْمَاءُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَطْعُومَاتِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ قَالَ الْقَفَّالُ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ كَانَتِ الْمَيْتَةُ مُبَاحَةً لَهُمْ مَعَ أَنَّهَا طَعَامٌ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْخِنْزِيرِ، ثُمَّ قَالَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى الْأَطْعِمَةِ الَّتِي كَانَ يَدَّعِي الْيَهُودُ فِي وَقْتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا تَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي لَفْظِ الطَّعَامِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، بَلْ لِلْعَهْدِ السَّابِقِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [الْأَنْعَامِ: 145] فَإِنَّهُ إِنَّمَا خَرَجَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَشْيَاءَ سَأَلُوا عَنْهَا فَعَرَفُوا أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْهَا كَذَا وَكَذَا دُونَ غَيْرِهِ فَكَذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْحِلُّ مَصْدَرٌ يُقَالُ: حَلَّ الشَّيْءُ حِلًّا كَقَوْلِكَ: ذَلَّتِ الدَّابَّةُ ذِلًّا وَعَزَّ الرَّجُلُ عِزًّا، وَلِذَلِكَ اسْتَوَى فِي الْوَصْفِ بِهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ قَالَ تَعَالَى: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ [الممتحنة: 10] والوصف بالمصدر يفيد المبالغة فههنا الْحِلُّ وَالْمُحَلَّلُ وَاحِدٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي زَمْزَمَ هِيَ حِلٌّ وَبِلٌّ رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فَسُئِلَ سُفْيَانُ: مَا حِلٌّ؟ فَقَالَ مُحَلَّلٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الشَّيْءِ الَّذِي حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: رَوَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ يَعْقُوبَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا فَنَذَرَ لَئِنْ عَافَاهُ اللَّهُ لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحْمَانُ الْإِبِلَ وَأَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانُهَا» وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَعَطَاءٍ وَمُقَاتِلٍ وَالثَّانِي: قِيلَ إِنَّهُ كان به عرق النساء، فَنَذَرَ إِنْ شَفَاهُ/ اللَّهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ شَيْئًا مِنَ الْعُرُوقِ الثَّالِثُ: جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ زَوَائِدُ الْكَبِدِ وَالشَّحْمُ إِلَّا مَا عَلَى الظَّهْرِ، وَنَقَلَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ تَرْجَمَةِ التَّوْرَاةِ، أَنَّ يَعْقُوبَ لَمَّا خَرَجَ مِنْ حَرَّانَ إِلَى كَنْعَانَ بعث برداً إِلَى عَيْصُو أَخِيهِ إِلَى أَرْضِ سَاعِيرَ، فَانْصَرَفَ الرَّسُولُ إِلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّ عَيْصُو هُوَ ذَا يَتَلَقَّاكَ وَمَعَهُ أَرْبَعُمِائَةِ رَجُلٍ، فَذُعِرَ يَعْقُوبُ وَحَزِنَ جِدًّا وَصَلَّى وَدَعَا وَقَدَّمَ هَدَايًا لِأَخِيهِ وَذَكَرَ الْقِصَّةَ إِلَى أَنْ ذَكَرَ الْمَلِكَ الَّذِي لَقِيَهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ، فَدَنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ وَوَضَعَ أُصْبُعَهُ عَلَى مَوْضِعِ عِرْقِ النَّسَا، فَخُدِّرَتْ تِلْكَ الْعَصَبَةُ وَجَفَّتْ فَمِنْ أَجْلِ هَذَا لَا يَأْكُلُ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْعُرُوقَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِسْرَائِيلَ حَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِخِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَيْفَ صَارَ تَحْرِيمُ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَبَبًا لِحُصُولِهِ الْحُرْمَةَ. أَجَابَ الْمُفَسِّرُونَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحَرِّمُهُ عَلَيْهِ أَلَا

تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يُحَرِّمُ امْرَأَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالطَّلَاقِ، وَيُحَرِّمُ جَارِيَتَهُ بِالْعِتْقِ، فَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى إِنْ حَرَّمْتَ شَيْئًا عَلَى نَفْسِكَ فَأَنَا أَيْضًا أُحَرِّمُهُ عَلَيْكَ الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رُبَّمَا اجْتَهَدَ فَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى التَّحْرِيمِ، فَقَالَ بِحُرْمَتِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الِاجْتِهَادَ جَائِزٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الْحَشْرِ: 2] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رُؤَسَاءُ أُولِي الْأَبْصَارِ وَالثَّانِي: قَالَ: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النِّسَاءِ: 83] مَدَحَ الْمُسْتَنْبِطِينَ وَالْأَنْبِيَاءُ أَوْلَى بِهَذَا الْمَدْحِ وَالثَّالِثُ: قَالَ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: 43] فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْإِذْنُ بِالنَّصِّ، لَمْ يَقُلْ: لِمَ أَذِنْتَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِالِاجْتِهَادِ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا طاعة إلا وَلِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهَا أَعْظَمُ نَصِيبٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ اسْتِنْبَاطَ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ طَاعَةٌ عَظِيمَةٌ شَاقَّةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهَا نَصِيبٌ لَا سِيَّمَا وَمَعَارِفُهُمْ أَكْثَرُ وَعُقُولُهُمْ أَنْوَرُ وَأَذْهَانُهُمْ أَصْفَى وَتَوْفِيقُ اللَّهِ وَتَسْدِيدُهُ مَعَهُمْ أَكْثَرُ، ثُمَّ إِذَا حَكَمُوا بِحُكْمٍ بِسَبَبِ الِاجْتِهَادِ يَحْرُمُ عَلَى الْأُمَّةِ مُخَالَفَتُهُمْ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ كَمَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ إِذَا انْعَقَدَ عَلَى الِاجْتِهَادِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ وَالْأَظْهَرُ الْأَقْوَى أَنَّ إِسْرَائِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنَّمَا حَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ الِاجْتِهَادِ إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ بِالنَّصِّ لَقَالَ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا أَضَافَ التَّحْرِيمَ إِلَى إِسْرَائِيلَ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالِاجْتِهَادِ وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: الشافعي يحلل لهم الْخَيْلِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُحَرِّمُهُ بِمَعْنَى أَنَّ اجْتِهَادَهُ أَدَّى إِلَيْهِ فَكَذَا هَاهُنَا. الثَّالِثُ: يُحْتَمَلُ أَنَّ التَّحْرِيمَ فِي شَرْعِهِ كَالنَّذْرِ فِي شَرْعِنَا، فَكَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا الْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ كَانَ يَجِبُ فِي شَرْعِهِ الْوَفَاءُ بِالتَّحْرِيمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ فَإِنَّهُ كَانَ مُخْتَصًّا بِشَرْعِهِ أَمَّا فِي شرعنا فهو غير ثابت قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ/ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التَّحْرِيمِ: 1] الرَّابِعُ: قَالَ الْأَصَمُّ: لَعَلَّ نَفْسَهُ كَانَتْ مَائِلَةً إِلَى أَكْلِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ فَامْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهَا قَهْرًا لِلنَّفْسِ وَطَلَبًا لِمَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، كما يفعله كثير من الزهاد فعبر من ذَلِكَ الِامْتِنَاعِ بِالتَّحْرِيمِ الْخَامِسُ: قَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ إِنَّهُ يَجُوزُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ: احْكُمْ فَإِنَّكَ لَا تَحْكُمُ إِلَّا بِالصَّوَابِ فَلَعَلَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ كَانَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَلِلْمُتَكَلِّمِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُنَازَعَاتٌ كَثِيرَةٌ ذَكَرْنَاهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ فَقَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ فَحَكَمَ بِحِلِّ كُلِّ أَنْوَاعِ الْمَطْعُومَاتِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ اسْتَثْنَى عَنْهُ مَا حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ، فَوَجَبَ بِحُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَرَامًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ فَالْمَعْنَى أَنَّ قَبْلَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ كُلُّ أَنْوَاعِ الْمَطْعُومَاتِ سِوَى مَا حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ، أَمَّا بَعْدَ التَّوْرَاةِ فَلَمْ يَبْقَ كَذَلِكَ بَلْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً، رُوِيَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا إِذَا أَتَوْا بِذَنْبٍ عَظِيمٍ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الطَّعَامِ، أَوْ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا لِهَلَاكٍ أَوْ مَضَرَّةٍ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النِّسَاءِ: 160] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ نَازَعُوا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا لِأَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَانَ مَوْجُودًا مِنْ لَدُنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى هَذَا الزَّمَانِ، فَكَذَّبَهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذَلِكَ، وَإِمَّا لِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادَّعَى كَوْنَ هَذِهِ الْمَطْعُومَاتِ مُبَاحَةً فِي الزمان القديم، وأنها إنها حُرِّمَتْ بِسَبَبِ أَنَّ إِسْرَائِيلَ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ، فَنَازَعُوهُ فِي ذَلِكَ، فَطَلَبَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِحْضَارَ التَّوْرَاةِ لِيَسْتَخْرِجَ مِنْهَا الْمُسْلِمُونَ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 96 إلى 97]

مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ آيَةً مُوَافِقَةً لِقَوْلِ الرَّسُولِ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ، فَالتَّفْسِيرُ ظَاهِرٌ، وَلِمُنْكِرِيِ الْقِيَاسِ أَنْ يَحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَالَبَهُمْ فِيمَا ادَّعَوْهُ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حُجَّةً لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ هَذَا الْحُكْمِ فِي التَّوْرَاةِ عَدَمُهُ، لِأَنَّا نُثْبِتُهُ بِالْقِيَاسِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ النِّزَاعَ مَا وَقَعَ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ، هَلْ كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَانِ إِبْرَاهِيمَ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَمْ لَا؟ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ إِلَّا بِالنَّصِّ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى طَالَبَهُمُ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، بِنَصِّ التَّوْرَاةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ الِافْتِرَاءُ اخْتِلَاقُ الْكَذِبِ، وَالْفِرْيَةُ الْكَذِبُ وَالْقَذْفُ، وَأَصْلُهُ مِنْ فَرْيِ الْأَدِيمِ، وَهُوَ قَطْعُهُ، فَقِيلَ لِلْكَذِبِ افْتِرَاءٌ، لِأَنَّ الْكَاذِبَ يَقْطَعُ بِهِ فِي/ الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ فِي الْوُجُودِ. ثُمَّ قَالَ: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أَيْ مِنْ بَعْدِ ظُهُورِ الْحُجَّةِ بِأَنَّ التَّحْرِيمَ إِنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ يَعْقُوبَ، وَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا قَبْلَهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الْمُسْتَحِقُّونَ لِعَذَابِ اللَّهِ لِأَنَّ كُفْرَهُمْ ظُلْمٌ مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِمَنْ أَضَلُّوهُ عَنِ الدِّينِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ويحتمل وجوهاًأحدها: قُلْ صَدَقَ فِي أَنَّ ذَلِكَ النَّوْعَ مِنَ الطَّعَامِ صَارَ حَرَامًا عَلَى إِسْرَائِيلَ وَأَوْلَادِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَلَالًا لَهُمْ، فَصَحَّ الْقَوْلُ بِالنَّسْخِ، وَبَطَلَتْ شُبْهَةُ الْيَهُودِ وَثَانِيهَا: صَدَقَ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ إِنَّ لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا كَانَتْ مُحَلَّلَةً لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّ إِسْرَائِيلَ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَفْتَى بِحِلِّ لُحُومِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا، فَقَدْ أَفْتَى بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَثَالِثُهَا: صَدَقَ اللَّهُ فِي أَنَّ سَائِرَ الْأَطْعِمَةِ كَانَتْ مُحَلَّلَةً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنَّهَا إِنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَى الْيَهُودِ جَزَاءً عَلَى قَبَائِحِ أَفْعَالِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أَيِ اتَّبِعُوا مَا يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَسَوَاءٌ قَالَ: مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، أَوْ قَالَ: مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِ لِأَنَّ الْحَالَ وَالصِّفَةَ سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى. ثُمَّ قَالَ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَيْ لَمْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَلَا عَبَدَ سِوَاهُ، كَمَا فَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ عِبَادَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، أَوْ كَمَا فَعَلَهُ الْعَرَبُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، أَوْ كَمَا فَعَلَهُ الْيَهُودُ من ادعاء أن عزير ابْنُ اللَّهِ، وَكَمَا فَعَلَهُ النَّصَارَى مِنَ ادِّعَاءِ أَنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ. أَمَّا في الفروع، فلما ثبت أن الحكم بِحِلِّهِ كَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ حَكَمَ بِحِلِّهِ أَيْضًا، وَأَمَّا فِي الْأُصُولِ فَلِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لَا يَدْعُو إِلَّا إِلَى التَّوْحِيدِ، وَالْبَرَاءَةِ عَنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ إلا على هذا الدين. [سورة آل عمران (3) : الآيات 96 الى 97] إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) [قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ] قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ، فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً فِي اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجَوَابُ عَنْ شُبْهَةٍ أُخْرَى مِنْ شُبَهِ الْيَهُودِ فِي إِنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا حَوَّلَ الْقِبْلَةَ إِلَى الْكَعْبَةِ طَعَنَ الْيَهُودُ فِي نُبُوَّتِهِ،

وَقَالُوا إِنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَفْضَلُ مِنَ الْكَعْبَةِ وَأَحَقُّ/ بِالِاسْتِقْبَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وُضِعَ قَبْلَ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ، وَقِبْلَةُ جُمْلَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ مِنْهُ إِلَى الْكَعْبَةِ بَاطِلًا، فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْكَعْبَةَ أَفْضَلُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَشْرَفُ، فَكَانَ جَعْلُهَا قِبْلَةً أَوْلَى وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بَيَانُ أَنَّ النَّسْخَ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ بِأَنَّ الْأَطْعِمَةَ كَانَتْ مُبَاحَةً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ بَعْضَهَا، وَالْقَوْمُ نَازَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، وَأَعْظَمُ الْأُمُورِ الَّتِي أَظْهَرَ رَسُولُ اللَّهِ نَسْخَهَا هُوَ الْقِبْلَةُ، لَا جَرَمَ ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانَ مَا لِأَجْلِهِ حُوِّلَتِ الْكَعْبَةُ، وَهُوَ كَوْنُ الْكَعْبَةِ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهَا الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 95] وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ شِعَارِ مِلَّةٍ إِبْرَاهِيمَ الْحَجُّ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَضِيلَةَ الْبَيْتِ، لِيُفَرِّعَ عَلَيْهِ إِيجَابَ الْحَجِّ الرَّابِعُ: أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى زَعَمَ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ كَذِبَهُمْ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ حَجَّ الْكَعْبَةِ كَانَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَا يَحُجُّونَ، فَيَدُلُّ هَذَا عَلَى كَذِبِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ الْأَوَّلُ: هُوَ الْفَرْدُ السَّابِقُ، فَإِذَا قَالَ: أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ فَلَوِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى لَمْ يُعْتَقْ أَحَدٌ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْفَرْدُ، ثُمَّ لَوِ اشْتَرَى فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ عَبْدًا وَاحِدًا لَمْ يُعْتَقْ، لِأَنَّ شَرْطَ الْأَوَّلِ كَوْنُهُ سَابِقًا فَثَبَتَ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْفَرْدُ السَّابِقُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ ظَهَرَ فِي الْأَرْضِ، بَلْ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، وَكَوْنُهُ مَوْضُوعًا لِلنَّاسِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُشْتَرَكًا فِيهِ بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ، فَأَمَّا سَائِرُ الْبُيُوتِ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُخْتَصًّا بِوَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنَ الْبُيُوتِ مَوْضُوعًا لِلنَّاسِ، وَكَوْنُ الْبَيْتِ مُشْتَرَكًا فِيهِ بَيْنَ كُلِّ النَّاسِ، لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْبَيْتُ مَوْضُوعًا لِلطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَقِبْلَةً لِلْخَلْقِ، فَدَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ وَضَعَهُ اللَّهُ مَوْضِعًا لِلطَّاعَاتِ وَالْخَيْرَاتِ وَالْعِبَادَاتِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كَوْنُ هَذَا الْبَيْتِ قِبْلَةً لِلصَّلَوَاتِ، وَمَوْضِعًا لِلْحَجِّ، وَمَكَانًا يَزْدَادُ ثَوَابُ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَوْنُهُ أَوَّلًا فِي هَذَا الْوَصْفِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَانٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ يُشَارِكُهُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي مِنْهَا وُجُوبُ حَجِّهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ الْأَوَّلِ: فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي يُوجَدُ ابْتِدَاءً، سَوَاءٌ حَصَلَ عَقِيبَهُ شَيْءٌ آخَرُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ، يُقَالُ: هَذَا أَوَّلُ قُدُومِي مَكَّةَ، وَهَذَا أَوَّلُ مَالٍ أَصَبْتُهُ/ وَلَوْ قَالَ: أَوَّلُ عَبْدٍ مَلَكْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ فَمَلَكَ عَبْدًا عُتِقَ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ بَعْدَهُ عَبْدًا آخَرَ، فَكَذَا هُنَا، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ أَيْ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِطَاعَاتِ النَّاسِ وَعِبَادَاتِهِمْ وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ يُشَارِكُهُ فِي كَوْنِهِ بَيْتًا مَوْضُوعًا لِلطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا» فَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي فِي صِدْقِ كَوْنِ الْكَعْبَةِ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ مُشَارِكًا لَهُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ حَتَّى فِي وُجُوبِ الْحَجِّ، فَهَذَا غَيْرُ لَازِمٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَوْنَهُ أَوَّلًا

فِي الْوَضْعِ وَالْبِنَاءِ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَوْنَهُ أَوَّلًا فِي كَوْنِهِ مُبَارَكًا وَهُدًى فَحَصَلَ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَوَّلٌ فِي الْبِنَاءِ وَالْوَضْعِ، وَالذَّاهِبُونَ إِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ لَهُمْ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا: مَا رَوَى الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي «الْبَسِيطِ» بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْبَيْتَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا مِنَ الْأَرَضِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: خَلَقَ اللَّهُ مَوْضِعَ هَذَا الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، وَإِنَّ قَوَاعِدَهُ لَفِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مَلَائِكَتَهُ فَقَالَ ابْنُوا لِي فِي الْأَرْضِ بَيْتًا عَلَى مِثَالِ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَطُوفُوا بِهِ كَمَا يَطُوفُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَهَذَا كَانَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ» . وَأَيْضًا وَرَدَ فِي سَائِرِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ عِنْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَقَدْ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ عَامٍ وَكَانَ زُبْدَةً بَيْضَاءَ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ دُحِيَتِ الْأَرْضُ تَحْتَهُ، قَالَ الْقَفَّالُ فِي «تَفْسِيرِهِ» : رَوَى حَبِيبُ بْنُ ثَابِتٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: وُجِدَ فِي كِتَابٍ فِي الْمَقَامِ أَوْ تَحْتَ الْمَقَامِ «أَنَا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ وَضَعْتُهَا يَوْمَ وَضَعْتُ الشَّمْسَ والقمر، وحرمتها يوم وضعت هذين الحجرين، وحففتها بِسَبْعَةِ أَمْلَاكٍ حُنَفَاءَ» وَثَانِيهَا: أَنَّ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ لَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ شَكَا الْوَحْشَةَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ وَطَافَ بِهَا، وَبَقِيَ ذَلِكَ إِلَى زَمَانِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى الطُّوفَانَ، رَفَعَ الْبَيْتَ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ حِيَالَ الْكَعْبَةِ، يَتَعَبَّدُ عِنْدَهُ الْمَلَائِكَةُ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ سِوَى مَنْ دَخَلَ مِنْ قَبْلُ فِيهِ، ثُمَّ بَعْدَ الطُّوفَانِ انْدَرَسَ مَوْضِعُ الْكَعْبَةِ، وَبَقِيَ مُخْتَفِيًا إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَدَلَّهُ عَلَى مَكَانِ الْبَيْتِ، وَأَمَرَهُ بِعِمَارَتِهِ، فَكَانَ الْمُهَنْدِسُ جِبْرِيلَ وَالْبَنَّاءُ إِبْرَاهِيمَ وَالْمُعِينُ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ الْكَعْبَةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي زَمَانِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذَا/ هُوَ الْأَصْوَبُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ تَكْلِيفَ الصَّلَاةِ كَانَ لَازِمًا فِي دِينِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا [مَرْيَمَ: 58] فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَانُوا يَسْجُدُونَ لِلَّهِ وَالسَّجْدَةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ قِبْلَةٍ، فَلَوْ كَانَتْ قِبْلَةُ شِيثٍ وَإِدْرِيسَ وَنُوحٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَوْضِعًا آخَرَ سِوَى الْقِبْلَةِ لَبَطَلَ قَوْلُهُ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قِبْلَةَ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ هِيَ الْكَعْبَةُ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْجِهَةَ كَانَتْ أَبَدًا مُشَرَّفَةً مُكَرَّمَةً الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى مَكَّةَ أُمَّ الْقُرَى، وَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا كَانَتْ سَابِقَةً عَلَى سَائِرِ الْبِقَاعِ فِي الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ مُنْذُ كَانَتْ مَوْجُودَةً الثَّالِثُ: رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ «أَلَا إِنَّ الله قد حرم مكة يوم خلق السموات وَالْأَرْضَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» وَتَحْرِيمُ مَكَّةَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ مَكَّةَ الرَّابِعُ: أَنَّ الْآثَارَ الَّتِي حَكَيْنَاهَا عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ زَمَانِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَنْ يَحْتَجَّ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ» وَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَكَّةَ بِنَاءُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ الْبَيْتُ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ وَمَا كَانَ مُحَرَّمًا ثُمَّ حَرَّمَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الثَّانِي: تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ [الْبَقَرَةِ: 127] وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَعَلَّ الْبَيْتَ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ انْهَدَمَ، ثُمَّ أَمَرَ

اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ بِرَفْعِ قَوَاعِدِهِ وَهَذَا هُوَ الْوَارِدُ فِي أَكْثَرِ الْأَخْبَارِ الثَّالِثُ: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّ الَّذِي يُقَالُ مِنْ أَنَّهُ رُفِعَ زَمَانَ الطُّوفَانِ إِلَى السَّمَاءِ بَعِيدٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الشَّرِيفَ هُوَ تِلْكَ الْجِهَةُ الْمُعَيَّنَةُ، وَالْجِهَةُ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهَا إِلَى السَّمَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَعْبَةَ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى لَوِ انْهَدَمَتْ وَنُقِلَ الْأَحْجَارُ وَالْخَشَبُ وَالتُّرَابُ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرَفٌ أَلْبَتَّةَ، وَيَكُونُ شَرَفُ تِلْكَ الْجِهَةِ بَاقِيًا بَعْدَ الِانْهِدَامِ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى تِلْكَ الْجِهَةِ بِعَيْنِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي نَقْلِ تِلْكَ الْجُدْرَانِ إِلَى السَّمَاءِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا صَارَتْ تِلْكَ الْأَجْسَامُ فِي الْعِزَّةِ إِلَى حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ بِنَقْلِهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا حَصَلَتْ لَهَا هَذِهِ الْعِزَّةُ بِسَبَبِ أَنَّهَا كَانَتْ حَاصِلَةً فِي تِلْكَ الْجِهَةِ، فَصَارَ نَقْلُهَا إِلَى السَّمَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى غَايَةِ تَعْظِيمِ تِلْكَ الْجِهَةِ وَإِعْزَازِهَا، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ: الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْأَوَّلِيَّةِ كَوْنُ هَذَا الْبَيْتِ أَوَّلًا فِي كَوْنِهِ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْخَلْقِ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ثُمَّ بَيْتُ الْمَقْدِسِ» فَقِيلَ كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً» وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ/ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: أَهُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ؟ قَالَ: لَا قَدْ كَانَ قَبْلَهُ بُيُوتٌ وَلَكِنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ مُبَارَكًا فِيهِ الْهُدَى وَالرَّحْمَةُ وَالْبَرَكَةُ أَوَّلُ مَنْ بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ بَنَاهُ قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ جُرْهُمٍ، ثُمَّ هُدِمَ فَبَنَاهُ الْعَمَالِقَةُ، وَهُمْ مُلُوكٌ مِنْ أَوْلَادِ عِمْلِيقِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، ثُمَّ هُدِمَ فَبَنَاهُ قُرَيْشٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى الْأَوَّلِيَّةِ فِي الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَوَّلِيَّةِ بَيَانُ الْفَضِيلَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَرْجِيحُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ بِالْأَوَّلِيَّةِ فِي الْفَضِيلَةِ وَالشَّرَفِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْأَوَّلِيَّةِ فِي الْبِنَاءِ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ، إِلَّا أَنَّ ثُبُوتَ الْأَوَّلِيَّةِ بِسَبَبِ الْفَضِيلَةِ لَا يُنَافِي ثُبُوتَ الْأَوَّلِيَّةِ فِي الْبِنَاءِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْأَوَّلِيَّةِ زِيَادَةُ الْفَضِيلَةِ وَالْمَنْقَبَةِ فَلْنَذْكُرْ هَاهُنَا وُجُوهَ فَضِيلَةِ الْبَيْتِ: الْفَضِيلَةُ الْأُولَى: اتَّفَقَتِ الْأُمَمُ عَلَى أَنَّ بَانِيَ هَذَا الْبَيْتِ هُوَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَانِيَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَلِيلَ أَعْظَمُ دَرَجَةً وَأَكْثَرُ مَنْقَبَةً مِنْ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْكَعْبَةُ أَشْرَفَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعِمَارَةِ هَذَا الْبَيْتِ، فَقَالَ: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الْحَجِّ: 26] وَالْمُبَلِّغُ لِهَذَا التَّكْلِيفِ هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلِهَذَا قِيلَ: لَيْسَ فِي الْعَالَمِ بِنَاءٌ أَشْرَفَ مِنَ الْكَعْبَةِ، فَالْآمِرُ هُوَ الْمَلِكُ الْجَلِيلُ وَالْمُهَنْدِسُ هُوَ جِبْرِيلُ، وَالْبَانِي هُوَ الْخَلِيلُ، وَالتِّلْمِيذُ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. الْفَضِيلَةُ الثَّانِيَةُ: مَقامُ إِبْراهِيمَ وَهُوَ الْحَجَرُ الَّذِي وَضَعَ إِبْرَاهِيمُ قَدَمَهُ عَلَيْهِ فَجَعَلَ اللَّهُ مَا تَحْتَ قَدَمِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ ذَلِكَ الْحَجَرِ دُونَ سَائِرِ أَجْزَائِهِ كَالطِّينِ حَتَّى غَاصَ فِيهِ قَدَمُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ وَلَا يُظْهِرُهُ إِلَّا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ لَمَّا رَفَعَ إِبْرَاهِيمُ قَدَمَهُ عَنْهُ خَلَقَ فِيهِ الصَّلَابَةَ الْحَجَرِيَّةَ مَرَّةً أُخْرَى، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَبْقَى ذَلِكَ الْحَجَرَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِمْرَارِ وَالدَّوَامِ فَهَذِهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْآيَاتِ الْعَجِيبَةِ وَالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ أَظْهَرَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ الْحَجَرِ.

الْفَضِيلَةُ الثَّالِثَةُ: قِلَّةُ مَا يَجْتَمِعُ فِيهِ مِنْ حصى الجمار، فإنه منذ آلاف سَنَةٍ وَقَدْ يَبْلُغُ مَنْ يَرْمِي فِي كُلِّ سَنَةٍ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَبْعِينَ حَصَاةٍ، ثُمَّ لَا يُرَى هُنَاكَ إِلَّا مَا لَوِ اجْتَمَعَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ لَكَانَ غَيْرَ كَثِيرٍ وَلَيْسَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تُرْمَى إِلَيْهِ الْجَمَرَاتُ مَسِيلَ مَاءٍ وَلَا مَهَبَّ رِيَاحٍ شَدِيدَةٍ وَقَدْ جَاءَ فِي الْآثَارِ أَنَّ مَنْ كَانَتْ حَجَّتُهُ مَقْبُولَةً رُفِعَتْ حِجَارَةُ جَمَرَاتِهِ إِلَى السَّمَاءِ. الْفَضِيلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الطُّيُورَ تَتْرُكُ الْمُرُورَ فَوْقَ الْكَعْبَةِ عِنْدَ طَيَرَانِهَا فِي الْهَوَاءِ بَلْ تَنْحَرِفُ عَنْهَا إِذَا مَا وَصَلَتْ إِلَى فَوْقِهَا. الْفَضِيلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ عِنْدَهُ يَجْتَمِعُ الْوَحْشُ لَا يُؤْذِي بَعْضُهَا بَعْضًا كَالْكِلَابِ وَالظِّبَاءِ، وَلَا/ يُصْطَادُ فِيهِ الْكِلَابُ وَالْوُحُوشُ وَتِلْكَ خَاصِّيَّةٌ عَجِيبَةٌ وَأَيْضًا كُلُّ مَنْ سَكَنَ مَكَّةَ أَمِنَ مِنَ النَّهْبِ وَالْغَارَةِ وَهُوَ بَرَكَةُ دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً [الْبَقَرَةِ: 126] وَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ أَمْنِهِ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: 67] وَقَالَ: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قُرَيْشٍ: 3، 4] وَلَمْ يُنْقَلْ أَلْبَتَّةَ أَنَّ ظَالِمًا هَدَمَ الْكَعْبَةَ وَخَرَّبَ مَكَّةَ بِالْكُلِّيَّةِ وَأَمَّا بَيْتُ الْمَقْدِسِ فَقَدْ هَدَمَهُ بُخْتُنَصَّرُ بِالْكُلِّيَّةِ. الْفَضِيلَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ صَاحِبَ الْفِيلِ وَهُوَ أَبَرْهَةُ الْأَشْرَمُ لَمَّا قَادَ الْجُيُوشَ وَالْفِيلَ إِلَى مَكَّةَ لِتَخْرِيبِ الْكَعْبَةِ وَعَجَزَ قُرَيْشٌ عَنْ مُقَاوَمَةِ أُولَئِكَ الْجُيُوشِ وَفَارَقُوا مَكَّةَ وَتَرَكُوا لَهُ الْكَعْبَةَ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، وَالْأَبَابِيلُ هُمُ الْجَمَاعَةُ مِنَ الطَّيْرِ بَعْدَ الْجَمَاعَةِ، وَكَانَتْ صِغَارًا تَحْمِلُ أَحْجَارًا تَرْمِيهِمْ بِهَا فَهَلَكَ الْمَلِكُ وَهَلَكَ الْعَسْكَرُ بِتِلْكَ الْأَحْجَارِ مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ، وَهَذِهِ آيَةٌ بَاهِرَةٌ دَالَّةٌ عَلَى شَرَفِ الْكَعْبَةِ وَإِرْهَاصٌ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ كُلَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ طِلَسْمٍ مَوْضُوعٍ هُنَاكَ بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِي تَرْكِيبِ الطَّلْسَمَاتِ مَشْهُورٌ. قُلْنَا: لَوْ كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ الطَّلْسَمَاتِ لَكَانَ هَذَا طَلْسَمًا مُخَالِفًا لِسَائِرِ الطَّلْسَمَاتِ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لِشَيْءٍ سِوَى الْكَعْبَةِ مِثْلُ هَذَا الْبَقَاءِ الطَّوِيلِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْهَا سِوَى الْأَنْبِيَاءِ. الْفَضِيلَةُ السَّابِعَةُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَهَا بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، وَالْحِكْمَةُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَطَعَ بِذَلِكَ رَجَاءَ أَهْلِ حَرَمِهِ وَسَدَنَةِ بَيْتِهِ عَمَّنْ سِوَاهُ حَتَّى لَا يَتَوَكَّلُوا إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَا يَسْكُنُهَا أَحَدٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَالْأَكَاسِرَةِ فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا فَإِذَا لَمْ يَجِدُوهَا هُنَاكَ تَرَكُوا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، فَالْمَقْصُودُ تَنْزِيهُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عَنْ لَوْثِ وُجُودِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَقْصِدَهَا أَحَدٌ لِلتِّجَارَةِ بل يكون ذلك لمحض العبادة والزيارة فقطو رابعها: أَظْهَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ شَرَفَ الْفَقْرِ حَيْثُ وَضَعَ أَشْرَفَ الْبُيُوتِ فِي أَقَلِّ الْمَوَاضِعِ نَصِيبًا مِنَ الدُّنْيَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: جَعَلْتُ الْفُقَرَاءَ فِي الدُّنْيَا أَهْلَ الْبَلَدِ الْأَمِينِ، فَكَذَلِكَ أَجْعَلُهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَهْلَ الْمَقَامِ الْأَمِينِ، لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بَيْتُ الْأَمْنِ وَفِي الْآخِرَةِ دَارُ الْأَمْنِ وَخَامِسُهَا: كَأَنَّهُ قَالَ: لَمَّا لَمْ أَجْعَلِ الْكَعْبَةَ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ خَالٍ عَنْ جَمِيعِ نِعَمِ الدُّنْيَا فَكَذَا لَا أَجْعَلُ كَعْبَةَ الْمَعْرِفَةِ إِلَّا فِي كُلِّ قَلْبٍ خَالٍ عَنْ مَحَبَّةِ الدُّنْيَا، فَهَذَا ما يتعلق

بِفَضَائِلِ الْكَعْبَةِ، وَعِنْدَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ فِي أَنْوَاعِ الْفَضَائِلِ وَالْمَنَاقِبِ، وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا بَطَلَ قَوْلُ الْيَهُودِ: إِنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَشْرَفُ مِنَ الْكَعْبَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَلَّذِي بِبَكَّةَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا شَكَّ أَنَّ المراد من بِبَكَّةَ هُوَ مَكَّةُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَكَّةُ وَمَكَّةُ/ اسْمَانِ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْبَاءَ وَالْمِيمَ حَرْفَانِ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَخْرَجِ فَيُقَامُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ فَيُقَالُ: هَذِهِ ضَرْبَةُ لَازِمٍ، وَضَرْبَةُ لَازِبٍ، وَيُقَالُ: هَذَا دَائِمٌ وَدَائِبٌ، وَيُقَالُ: رَاتِبٌ وَرَاتِمٌ، وَيُقَالُ: سَمَدَ رَأْسَهَ، وَسَبَدَهُ، وَفِي اشْتِقَاقِ بَكَّةَ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنَ الْبَكِّ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ دَفْعِ الْبَعْضِ بَعْضًا، يُقَالُ: بَكَّهُ يَبُكُّهُ بَكًّا إِذَا دَفَعَهُ وَزَحَمَهُ، وَتَبَاكَّ الْقَوْمُ إِذَا ازْدَحَمُوا فَلِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: سُمِّيَتْ مَكَّةُ بَكَّةَ لِأَنَّهُمْ يَتَبَاكُّونَ فِيهَا أَيْ يَزْدَحِمُونَ فِي الطَّوَافِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ قَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ الْبَاقِرَ يُصَلِّي فَمَرَّتِ امْرَأَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَذَهَبْتُ أَدْفَعُهَا فَقَالَ: دَعْهَا فَإِنَّهَا سُمِّيَتْ بَكَّةَ لِأَنَّهُ يَبُكُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، تَمُرُّ الْمَرْأَةُ بَيْنَ يَدَيِ الرَّجُلِ وَهُوَ يُصَلِّي، وَالرَّجُلُ بَيْنَ يَدَيِ الْمَرْأَةِ وَهِيَ تُصَلِّي لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي هَذَا الْمَكَانِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: سُمِّيَتْ بَكَّةَ لِأَنَّهَا تَبُكُّ أَعْنَاقَ الْجَبَابِرَةِ لَا يُرِيدُهَا جَبَّارٌ بِسُوءٍ إِلَّا انْدَقَّتْ عُنُقُهُ قَالَ قُطْرُبٌ: تَقُولُ الْعَرَبُ بَكَكْتُ عُنُقَهُ أَبُكُّهُ بَكًّا إِذَا وَضَعْتَ مِنْهُ وَرَدَدْتَ نَخْوَتَهُ. وَأَمَّا مَكَّةُ فَفِي اشْتِقَاقِهَا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ اشْتِقَاقَهَا مِنْ أَنَّهَا تَمُكُّ الذُّنُوبَ أَيْ تُزِيلُهَا كُلَّهَا، مِنْ قَوْلِكَ: امْتَكَّ الْفَصِيلُ ضَرْعَ أُمِّهِ، إِذَا امْتَصَّ مَا فِيهِ الثَّانِي: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِلَابِهَا النَّاسَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنَ الْأَرْضِ، يُقَالُ امْتَكَّ الْفَصِيلُ، إِذَا اسْتَقْصَى مَا فِي الضَّرْعِ، وَيُقَالُ تَمَكَّكْتُ الْعَظْمَ، إِذَا اسْتَقْصَيْتَ مَا فِيهِ الثَّالِثُ: سُمِّيَتْ مَكَّةَ، لِقِلَّةِ مَائِهَا، كَأَنَّ أَرْضَهَا امْتَكَّتْ مَاءَهَا الرَّابِعُ: قِيلَ: إِنَّ مَكَّةَ وَسَطَ الْأَرْضِ، وَالْعُيُونُ وَالْمِيَاهُ تَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ مَكَّةَ، فَالْأَرْضُ كُلُّهَا تَمُكُّ مِنْ مَاءِ مَكَّةَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَكَّةَ وَبَكَّةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ بَكَّةَ اسْمٌ لِلْمَسْجِدِ خَاصَّةً، وَأَمَّا مَكَّةُ، فَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ الْبَلَدِ، قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اشْتِقَاقَ بَكَّةَ مِنَ الِازْدِحَامِ وَالْمُدَافَعَةِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الطَّوَافِ، لَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: مَكَّةُ اسْمٌ لِلْمَسْجِدِ وَالْمَطَافِ. وَبَكَّةُ اسْمُ الْبَلَدِ، والدليل عليه أن قوله تعالى: لَلَّذِي بِبَكَّةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَيْتَ حَاصِلٌ فِي بَكَّةَ وَمَظْرُوفٌ فِي بَكَّةَ فَلَوْ كَانَ بَكَّةُ اسْمًا لِلْبَيْتِ لَبَطَلَ كَوْنُ بَكَّةَ ظَرْفًا لِلْبَيْتِ، أَمَّا إِذَا جَعَلْنَا بَكَّةَ اسْمًا لِلْبَلَدِ، اسْتَقَامَ هَذَا الْكَلَامُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِمَكَّةَ أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «تَفْسِيرِهِ» : مَكَّةُ وَبَكَّةُ وَأُمُّ رَحِمٍ وَكُوَيْسَاءُ وَالْبَشَاشَةُ وَالْحَاطِمَةُ تَحْطِمُ مَنِ اسْتَخَفَّ بِهَا، وَأُمُّ الْقُرَى قَالَ تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الأنعام: 92] وَسُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّهَا أَصْلُ كُلِّ بَلْدَةٍ وَمِنْهَا دُحِيَتِ الْأَرْضُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى يُزَارُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنْ جَمِيعِ نَوَاحِي الْأَرْضِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِلْكَعْبَةِ أَسْمَاءٌ أَحَدُهَا: الْكَعْبَةُ قَالَ تَعَالَى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ [الْمَائِدَةِ: 97] وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ يَدُلُّ عَلَى الْإِشْرَافِ وَالِارْتِفَاعِ، وَسُمِّيَ الْكَعْبُ كَعْبًا لِإِشْرَافِهِ وَارْتِفَاعِهِ عَلَى الرُّسْغِ، وسميت المرأة الناهدة الثديين كاعباً، لارتفاع ثديها، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْبَيْتُ أَشْرَفَ بُيُوتِ/ الْأَرْضِ وَأَقْدَمَهَا زَمَانًا، وَأَكْثَرَهَا فَضِيلَةً سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ وَثَانِيهَا: الْبَيْتُ الْعَتِيقُ: قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ

الْعَتِيقِ [الْحَجِّ: 33] وَقَالَ: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الْحَجِّ: 29] وَفِي اشْتِقَاقِهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: الْعَتِيقُ هُوَ الْقَدِيمُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ أَقْدَمُ بُيُوتِ الْأَرْضِ بَلْ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ قَبْلَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ أَعْتَقَهُ مِنَ الْغَرَقِ حَيْثُ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثُ: مِنْ عَتِقَ الطَّائِرُ إِذَا قَوِيَ فِي وَكْرِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ فِي الْقُوَّةِ إِلَى حَيْثُ أَنَّ كُلَّ مَنْ قصد تخريبه أهلكه الله سمي عتيقاًالرابع: أَنَّ اللَّهَ أَعْتَقَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِأَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ الْخَامِسُ: أَنَّهُ عَتِيقٌ بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَنْ زَارَهُ أَعْتَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى من النار وثالثها: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قَالَ سُبْحَانَهُ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الْإِسْرَاءِ: 1] وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ حَرَامًا سَيَجِيءُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [الْحَجِّ: 26] فَأَضَافَهُ مَرَّةً إِلَى نَفْسِهِ وَمَرَّةً إِلَى النَّاسِ. وَالْجَوَابُ: كَأَنَّهُ قِيلَ: الْبَيْتُ لِي وَلَكِنْ وَضَعْتُهُ لَا لِأَجْلِ مَنْفَعَتِي فَإِنِّي مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَاجَةِ وَلَكِنْ وَضَعْتُهُ لَكَ لِيَكُونَ قِبْلَةً لِدُعَائِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى: وَصَفَ هَذَا الْبَيْتَ بِأَنْوَاعِ الْفَضَائِلِ فَأَوَّلُهَا: أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى كَوْنِهِ أَوَّلًا فِي الْفَضْلِ وَنَزِيدُ هَاهُنَا وُجُوهًا أُخَرَ الْأَوَّلُ: قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ خُصَّ بِالْبَرَكَةِ، وَبِأَنَّ مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ عُبِدَ اللَّهُ فِيهِ فِي الْأَرْضِ وَقَالَ مُطَرِّفٌ. أَوَّلُ بَيْتٍ جُعِلَ قِبْلَةً وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ مُبَارَكًا، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: انْتَصَبَ مُبارَكاً عَلَى الْحَالِ وَالتَّقْدِيرُ الَّذِي اسْتَقَرَّ هُوَ بِبَكَّةَ مُبَارَكًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْبَرَكَةُ لَهَا مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا: النُّمُوُّ وَالتَّزَايُدُ وَالثَّانِي: الْبَقَاءُ وَالدَّوَامُ، يُقَالُ تَبَارَكَ اللَّهُ، لِثُبُوتِهِ لَمْ يَزُلْ، وَالْبِرْكَةُ شِبْهُ الْحَوْضِ لِثُبُوتِ الْمَاءِ فِيهَا، وَبَرَكَ الْبَعِيرُ إِذَا وَضَعَ صَدْرَهُ عَلَى الْأَرْضِ وَثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ، فَإِنْ فَسَّرْنَا الْبَرَكَةَ بِالتَّزَايُدِ وَالنُّمُوِّ فَهَذَا الْبَيْتُ مُبَارَكٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الطَّاعَاتِ إِذَا أُتِيَ بِهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ ازْدَادَ ثَوَابُهَا. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَضْلُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى مَسْجِدِي، كَفَضْلِ مَسْجِدِي عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ» ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ» فَهَذَا فِي الصَّلَاةِ، وَأَمَّا الْحَجُّ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ» وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا أَكْثَرُ بَرَكَةً مِمَّا يَجْلِبُ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ وَثَانِيهَا: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَرَكَتُهُ مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص: 57] فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ [الْإِسْرَاءِ: 1] / وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْعَاقِلَ يَجِبُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ فِي ذِهْنِهِ أَنَّ الْكَعْبَةَ كَالنُّقْطَةِ وَلْيَتَصَوَّرْ أَنَّ صُفُوفَ الْمُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهَا فِي الصَّلَوَاتِ كَالدَّوَائِرِ الْمُحِيطَةِ بِالْمَرْكَزِ، وَلْيَتَأَمَّلْ كَمْ عَدَدُ الصُّفُوفِ الْمُحِيطَةِ بِهَذِهِ الدَّائِرَةِ حَالَ اشْتِغَالِهِمْ بِالصَّلَاةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَحْصُلُ فِيمَا بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُصَلِّينَ أَشْخَاصٌ أَرْوَاحُهُمْ عُلْوِيَّةٌ، وَقُلُوبُهُمْ قُدْسِيَّةٌ وَأَسْرَارُهُمْ نُورَانِيَّةٌ وَضَمَائِرُهُمْ رَبَّانِيَّةٌ ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ الصَّافِيَةَ إِذَا تَوَجَّهَتْ إِلَى كَعْبَةِ الْمَعْرِفَةِ وَأَجْسَادُهُمْ تَوَجَّهَتْ إِلَى هَذِهِ الْكَعْبَةِ الْحِسِّيَّةِ فَمَنْ كَانَ فِي الْكَعْبَةِ يَتَّصِلُ أَنْوَارُ أَرْوَاحِ أُولَئِكَ الْمُتَوَجِّهِينَ

بِنُورِ رُوحِهِ، فَتَزْدَادُ الْأَنْوَارُ الْإِلَهِيَّةُ فِي قَلْبِهِ، وَيَعْظُمُ لَمَعَانُ الْأَضْوَاءِ الرُّوحَانِيَّةِ فِي سِرِّهِ وَهَذَا بَحْرٌ عَظِيمٌ وَمَقَامٌ شَرِيفٌ، وَهُوَ يُنَبِّهُكَ عَلَى مَعْنَى كَوْنِهِ مُبَارَكًا. وَأَمَّا إِنْ فَسَّرْنَا الْبَرَكَةَ بِالدَّوَامِ فَهُوَ أَيْضًا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا تَنْفَكُّ الْكَعْبَةُ مِنَ الطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَأَيْضًا الْأَرْضُ كُرَةٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ وَقْتٍ يُمْكِنُ أَنْ يُفْرَضَ فَهُوَ صُبْحٌ لِقَوْمٍ، وَظُهْرٌ لِثَانٍ وَعَصْرٌ لِثَالِثٍ، وَمَغْرِبٌ لِرَابِعٍ وَعِشَاءٌ لِخَامِسٍ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنِ الْكَعْبَةُ مُنْفَكَّةً قَطُّ عَنْ تَوَجُّهِ قَوْمٍ إِلَيْهَا مِنْ طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ الْعَالَمِ لِأَدَاءِ فَرْضِ الصَّلَاةِ، فَكَانَ الدَّوَامُ حَاصِلًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَأَيْضًا بَقَاءُ الْكَعْبَةِ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ أُلُوفًا مِنَ السِّنِينَ دَوَامٌ أَيْضًا فَثَبَتَ كَوْنُهُ مُبَارَكًا مِنَ الْوَجْهَيْنِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ صِفَاتِ هَذَا الْبَيْتِ كونه هُدىً لِلْعالَمِينَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ قِبْلَةٌ لِلْعَالَمِينَ يَهْتَدُونَ بِهِ إِلَى جِهَةِ صَلَاتِهِمْ، وَقِيلَ: هُدًى لِلْعَالَمِينَ أَيْ دَلَالَةً عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ، وَصِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النُّبُوَّةِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَالْعَجَائِبِ الَّتِي حَكَيْنَاهَا فَإِنَّ كُلَّ مَا يَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ فَهُوَ بِعَيْنِهِ يَدُلُّ أَوَّلًا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَجَمِيعِ صِفَاتِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ، وَقِيلَ: هُدًى لِلْعَالَمِينَ إِلَى الْجَنَّةِ لِأَنَّ مَنْ أَدَّى الصَّلَوَاتِ الْوَاجِبَةَ إِلَيْهَا اسْتَوْجَبَ الْجَنَّةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى وَذَا هُدًى لِلْعَالَمِينَ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَهُدىً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى مَعْنَى وَهُوَ هُدًى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ فَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهِ وَهِيَ: أَمْنُ الْخَائِفِ، وَانْمِحَاقُ الْجِمَارِ عَلَى كَثْرَةِ الرَّمْيِ، وَامْتِنَاعُ الطَّيْرِ مِنَ الْعُلُوِّ عَلَيْهِ وَاسْتِشْفَاءُ الْمَرِيضِ بِهِ وَتَعْجِيلُ الْعُقُوبَةِ لِمَنِ انْتَهَكَ فِيهِ حُرْمَةً، وَإِهْلَاكُ أَصْحَابِ الْفِيلِ لَمَّا قَصَدُوا تَخْرِيبَهُ فَعَلَى هَذَا تَفْسِيرُ الْآيَاتِ وَبَيَانُهَا غَيْرُ مَذْكُورٍ. وَقَوْلُهُ مَقامُ إِبْراهِيمَ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِقَوْلِهِ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَقَرُّهُ وَالْمَوْضِعُ الَّذِي اخْتَارَهُ وَعَبَدَ اللَّهَ فِيهِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنَ الْخِلَالِ الَّتِي بِهَا يُشَرَّفُ وَيُعَظَّمُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ مَذْكُورٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ مَقامُ إِبْراهِيمَ أَيْ: هِيَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ. فَإِنْ قِيلَ: الْآيَاتُ جَمَاعَةٌ وَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُهَا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ بِمَنْزِلَةِ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، لِأَنَّ مَا كَانَ مُعْجِزَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَحَيَاتِهِ، وَكَوْنِهِ غَنِيًّا مُنَزَّهًا مُقَدَّسًا عَنْ مُشَابَهَةِ الْمُحْدَثَاتِ فَمَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا وَاحِدًا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ فِيهِ هَذِهِ الْوُجُوهُ الْكَثِيرَةُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الدَّلَائِلِ كَقَوْلِهِ إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً [النَّحْلِ: 120] الثَّانِي: أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ اشْتَمَلَ عَلَى الْآيَاتِ، لِأَنَّ أَثَرَ الْقَدَمِ فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ آيَةٌ، وَغَوْصَهُ فِيهَا إِلَى الْكَعْبَيْنِ آيَةٌ، وَإِلَانَةَ بَعْضِ الصَّخْرَةِ دُونَ بَعْضٍ آيَةٌ، لِأَنَّهُ لَانَ مِنَ الصَّخْرَةِ مَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ فَقَطْ، وَإِبْقَاؤُهُ دُونَ سَائِرِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ آيَةٌ خَاصَّةٌ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحِفْظُهُ مَعَ كَثْرَةِ أَعْدَائِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُلْحِدِينَ أُلُوفَ سِنِينَ فَثَبَتَ أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ الثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ إِنَّ قَوْلَهُ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً مِنْ بَقِيَّةِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَأَمْنُ مَنْ دَخَلَهُ، وَلَفْظُ الْجَمْعِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الِاثْنَيْنِ، قَالَ

تَعَالَى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيمِ: 4] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» وَمِنْهُمْ مَنْ تَمَّمَ الثَّلَاثَةَ فَقَالَ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّ مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، وَأَنَّ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجَّهُ، ثُمَّ حَذَفَ (أَنْ) اخْتِصَارًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ [الْأَعْرَافِ: 29] أَيْ أَمَرَ رَبِّي بِأَنْ تُقْسِطُوا الرَّابِعُ: يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ هَاتَانِ الْآيَتَانِ وَيُطْوَى ذِكْرُ غَيْرِهِمَا دَلَالَةً عَلَى تَكَاثُرِ الْآيَاتِ، كَأَنَّهُ قِيلَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَمْنُ مَنْ دَخَلَهَ، وَكَثِيرٌ سِوَاهُمَا الْخَامِسُ: قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ آيَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى التَّوْحِيدِ السَّادِسُ: قَالَ الْمُبَرِّدُ مَقامُ مَصْدَرٌ فَلَمْ يُجْمَعْ كَمَا قال: وَعَلى سَمْعِهِمْ وَالْمُرَادُ مَقَامَاتُ إِبْرَاهِيمَ، وَهِيَ مَا أَقَامَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أُمُورِ الْحَجِّ وَأَعْمَالِ الْمَنَاسِكِ وَلَا شَكَّ أَنَّهَا كَثِيرَةٌ وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ شَعَائِرُ الْحَجِّ كَمَا قَالَ: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ [الْحَجِّ: 32] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَقامُ إِبْراهِيمَ وَفِيهِ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا ارْتَفَعَ بُنْيَانُ الْكَعْبَةِ، وَضَعُفَ إِبْرَاهِيمُ عَنْ رَفْعِ الْحِجَارَةِ قَامَ عَلَى هَذَا الْحَجَرِ فَغَاصَتْ فِيهِ قَدَمَاهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَاءَ زَائِرًا مِنَ الشَّامِ إِلَى مَكَّةَ، وَكَانَ قَدْ حَلَفَ لِامْرَأَتِهِ أَنْ لَا يَنْزِلَ بِمَكَّةَ حَتَّى يَرْجِعَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مَكَّةَ قَالَتْ لَهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ: انْزِلْ حَتَّى نَغْسِلَ رَأْسَكَ، فَلَمْ يَنْزِلْ، فَجَاءَتْهُ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَتْهُ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، فَوَضَعَ قَدَمَهُ عَلَيْهِ حَتَّى غَسَلَتْ أَحَدَ جَانِبَيْ رَأْسِهِ، ثُمَّ حَوَّلَتْهُ إِلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، حَتَّى غَسَلَتِ الْجَانِبَ الْآخَرَ، فَبَقِيَ أَثَرُ قَدَمَيْهِ عَلَيْهِ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي قَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَذَانِ بِالْحَجِّ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ قَامَ عَلَى ذَلِكَ الْحَجَرِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِهَذِهِ الْآيَةِ نَظَائِرُ: مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ/ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [الْبَقَرَةِ: 125] وَقَوْلُهُ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً [الْعَنْكَبُوتِ: 67] وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً [إبراهيم: 35] وقال تعالى: أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قُرَيْشٍ: 4] قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: لَمَّا كَانَتِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ عَقِيبَ قَوْلِهِ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ مَوْجُودَةً فِي الْحَرَمِ ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ جَمِيعَ الْحَرَمِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّهُ يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَرَمَ لَا يُفِيدُ الْأَمَانَ فِيمَا سِوَى النَّفْسِ، إِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ خَارِجَ الْحَرَمِ فَالْتَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ فَهَلْ يُسْتَوْفَى مِنْهُ الْقِصَاصُ فِي الْحَرَمِ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسْتَوْفَى، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُسْتَوْفَى، بَلْ يُمْنَعُ مِنْهُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْكَلَامُ حَتَّى يَخْرُجَ، ثُمَّ يُسْتَوْفَى مِنْهُ الْقِصَاصُ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِهِ آمِنًا، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ إِذْ قَدْ لَا يَصِيرُ آمِنًا فَيَقَعُ الْخُلْفُ فِي الْخَبَرِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْأَمْرِ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْجِنَايَاتِ الَّتِي دُونَ النَّفْسِ، لِأَنَّ الضَّرَرَ فِيهَا أَخَفُّ مِنَ الضَّرَرِ فِي الْقَتْلِ، وَفِيمَا إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِجِنَايَةٍ أَتَى بِهَا فِي الْحَرَمِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي هَتَكَ حُرْمَةَ الْحَرَمِ، فَيَبْقَى فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْآيَةِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ كانَ آمِناً إِثْبَاتٌ لِمُسَمَّى الْأَمْنِ، وَيَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِهِ إِثْبَاتُ الْأَمْنِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ دَخَلَهُ لِلنُّسُكِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَ آمِنًا مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ مَاتَ فِي أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آمِنًا» وَقَالَ أَيْضًا: «مَنْ صَبَرَ عَلَى

حَرِّ مَكَّةَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ تَبَاعَدَتْ عَنْهُ جَهَنَّمُ مَسِيرَةَ مِائَتَيْ عَامٍ» وَقَالَ: «مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» وَالثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى كُلِّ مَنِ الْتَجَأَ إِلَيْهِ وَدَفَعَ الْمَكْرُوهَ عَنْهُ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ وَاقِعًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي الْأَكْثَرِ أَخْبَرَ بِوُقُوعِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُطْلَقًا وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قَالُوهُ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا نَجْعَلُ الْخَبَرَ قَائِمًا مَقَامَ الْأَمْرِ وَهُمْ جَعَلُوهُ قَائِمًا مَقَامَ الْأَمْرِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِبَيَانِ فَضِيلَةِ الْبَيْتِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِشَيْءٍ كَانَ مَعْلُومًا لِلْقَوْمِ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى فَضِيلَةِ الْبَيْتِ، فَأَمَّا الْحُكْمُ الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ فِي شَرْعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي إِثْبَاتِ فَضِيلَةِ الْكَعْبَةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ: أَنَّ الْمَعْنَى مَنْ دَخَلَهُ عَامَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ آمِنًا لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الْفَتْحِ: 27] الرَّابِعُ: قَالَ الضَّحَّاكُ: مَنْ حَجَّ حَجَّةً كَانَ آمِنًا مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي اكْتَسَبَهَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ طُرُقَ الْكَلَامِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ كانَ آمِناً حُكْمٌ/ بِثُبُوتِ الْأَمْنِ وَذَلِكَ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِهِ إِثْبَاتُ الْأَمْنِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَفِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَقَدْ عَمِلْنَا بِمُقْتَضَى هَذَا النَّصِّ فَلَا يَبْقَى لِلنَّصِّ دَلَالَةٌ عَلَى مَا قَالُوهُ، ثُمَّ يَتَأَكَّدُ ذَلِكَ بِأَنَّ حَمْلَ النَّصِّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُفْضِي إِلَى تَخْصِيصِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَحَمْلُهُ عَلَى مَا قَالُوهُ يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ فكان قولنا أولى والله أعلم. قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فَضَائِلَ الْبَيْتِ وَمَنَاقِبَهُ، أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ إِيجَابِ الْحَجِّ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ حِجُّ الْبَيْتِ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، قِيلَ الْفَتْحُ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَالْكَسْرُ لُغَةُ نَجْدٍ وَهُمَا وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى، وَقِيلَ هُمَا جَائِزَانِ مُطْلَقًا فِي اللُّغَةِ، مِثْلُ رَطْلٍ وَرِطْلٍ، وَبَزْرٍ وَبِزْرٍ، وَقِيلَ الْمَكْسُورَةُ اسْمٌ لِلْعَمَلِ وَالْمَفْتُوحَةُ مَصْدَرٌ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَكْسُورَةُ أَيْضًا مَصْدَرًا، كَالذِّكْرِ وَالْعِلْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَوْضِعُ (مَنْ) خَفْضٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ (النَّاسِ) وَالْمَعْنَى: وَلِلَّهِ عَلَى مَنِ اسْتَطَاعَ مِنَ النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ الثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ إِنْ نَوَيْتَ الِاسْتِئْنَافَ بِمَنْ كَانَتْ شَرْطًا وَأُسْقِطَ الْجَزَاءُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَى الْحَجِّ سَبِيلًا فَلِلَّهِ عَلَيْهِ حَجُّ الْبَيْتِ الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (مَنْ) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى مَعْنَى التَّرْجَمَةِ لِلنَّاسِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنِ النَّاسُ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ لِلَّهِ حَجُّ الْبَيْتِ؟ فَقِيلَ هُمْ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ شَرْطَانِ لِحُصُولِ الِاسْتِطَاعَةِ، رَوَى جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَسَّرَ اسْتِطَاعَةَ السَّبِيلِ إِلَى الْحَجِّ بِوُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَرَوَى الْقَفَّالُ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَ شَابًّا صَحِيحًا لَيْسَ لَهُ مَالٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: أَكَلَّفَ اللَّهُ النَّاسَ أَنْ يَمْشُوا إِلَى الْبَيْتِ؟ فَقَالَ: لَوْ كَانَ لِبَعْضِهِمْ مِيرَاثٌ بِمَكَّةَ أَكَانَ يَتْرُكُهُ؟ قَالَ: لَا بَلْ يَنْطَلِقُ إِلَيْهِ وَلَوْ

حَبْوًا، قَالَ: فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ حَجُّ الْبَيْتِ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: الِاسْتِطَاعَةُ هِيَ صِحَّةُ الْبَدَنِ، وَإِمْكَانُ الْمَشْيِ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَا يَرْكَبُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ إِذَا لَمْ يجد ما يركب فإن يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ لِذَلِكَ الْفِعْلِ، فَتَخْصِيصُ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةِ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ تَرْكٌ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَلَا يُمْكِنُ التَّعْوِيلُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ لِأَنَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ فَلَا يُتْرَكُ لِأَجْلِهَا ظَاهِرُ الْكِتَابِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ طَعَنَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي رُوَاةِ تِلْكَ الْأَخْبَارِ، وَطَعَنَ فِيهَا/ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ حُصُولَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لَا يَكْفِي فِي حُصُولِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي حُصُولِ الِاسْتِطَاعَةِ صِحَّةُ الْبَدَنِ وَعَدَمُ الْخَوْفِ فِي الطَّرِيقِ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا، فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ مَطْعُونًا فِيهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بَلْ يَجِبُ أَنْ يُعَوَّلَ فِي ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَجِّ: 78] وَقَوْلِهِ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: 185] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ قَالُوا لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ يَعُمُّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ وَعَدَمُ الْإِيمَانِ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا وَمُخَصِّصًا لِهَذَا الْعُمُومِ، لِأَنَّ الدَّهْرِيَّ مُكَلَّفٌ بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَيْرُ حَاصِلٍ وَالْمُحْدِثُ مُكَلَّفٌ بِالصَّلَاةِ مَعَ أَنَّ الْوُضُوءَ الَّذِي هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ غَيْرُ حَاصِلٍ، فَلَمْ يَكُنْ عَدَمُ الشَّرْطِ مَانِعًا مِنْ كَوْنِهِ مُكَلَّفًا بِالْمَشْرُوطِ، فَكَذَا هَاهُنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَبْلَ الْفِعْلِ، فَقَالُوا: لَوْ كَانَتْ الِاسْتِطَاعَةُ مَعَ الْفِعْلِ لَكَانَ مَنْ لَمْ يَحُجَّ مُسْتَطِيعًا لِلْحَجِّ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَطِيعًا لِلْحَجِّ لَا يَتَنَاوَلُهُ التَّكْلِيفُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَيَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَحُجَّ أَنْ لَا يَصِيرَ مَأْمُورًا بِالْحَجِّ بِسَبَبِ هَذِهِ الْآيَةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ. أَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ هَذَا أَيْضًا لَازِمٌ لَهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَادِرَ إِمَّا أَنْ يَصِيرَ مَأْمُورًا بِالْفِعْلِ قَبْلَ حُصُولِ الدَّاعِي إِلَى الْفِعْلِ أَوْ بَعْدَ حُصُولِهِ أَمَّا قَبْلَ حُصُولِ الدَّاعِي فَمُحَالٌ، لِأَنَّ قَبْلَ حُصُولِ الدَّاعِي يَمْتَنِعُ حُصُولُ الْفِعْلِ، فَيَكُونُ التَّكْلِيفُ بِهِ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ، وَأَمَّا بَعْدَ حُصُولِ الدَّاعِي فَالْفِعْلُ يَصِيرُ وَاجِبَ الْحُصُولِ، فَلَا يَكُونُ فِي التَّكْلِيفِ بِهِ فَائِدَةٌ، وَإِذَا كَانَتْ الِاسْتِطَاعَةُ مُنْتَفِيَةً فِي الْحَالَيْنِ وَجَبَ أَنْ لَا يَتَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَحَدٍ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكُتِبَ الْحَجُّ عَلَيْنَا فِي كُلِّ عَامٍ، ذَكَرُوا ذَلِكَ ثَلَاثًا، فَسَكَتَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: «لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمْتُمْ بِهَا وَلَوْ لَمْ تَقُومُوا بِهَا لَكَفَرْتُمْ أَلَا فَوَادِعُونِي مَا وَادَعْتُكُمْ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ أَمْرٍ فَانْتَهُوا عَنْهُ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ اخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» ، ثُمَّ احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذَا الْخَبَرِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَا يُفِيدُ التَّكْرَارَ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَمْرَ وَرَدَ بِالْحَجِّ وَلَمْ يُفِدِ التَّكْرَارَ وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّحَابَةَ اسْتَفْهَمُوا أَنَّهُ هَلْ يُوجِبُ التَّكْرَارَ أَمْ لَا؟ وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الصِّيغَةُ تُفِيدُ التَّكْرَارَ لَمَا احْتَاجُوا إِلَى الِاسْتِفْهَامِ مَعَ كَوْنِهِمْ عَالِمِينَ بِاللُّغَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اسْتِطَاعَةُ السَّبِيلِ إِلَى الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنْ إِمْكَانِ الْوُصُولِ، قَالَ تَعَالَى: فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ

مِنْ سَبِيلٍ [غَافِرٍ: 11] وَقَالَ: هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشُّورَى: 44] وَقَالَ: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التَّوْبَةِ: 91] فَيُعْتَبَرُ فِي حُصُولِ هَذَا الْإِمْكَانِ صِحَّةُ الْبَدَنِ، وَزَوَالُ خَوْفِ التَّلَفِ مِنَ السَّبُعِ أَوِ الْعَدُوِّ، وَفِقْدَانِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْمَالِ الَّذِي يُشْتَرَى بِهِ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ وَأَنْ يَقْضِيَ جَمِيعَ الدُّيُونِ وَيَرُدَّ جَمِيعَ الْوَدَائِعِ، وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ عَلَى أَحَدٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ إِلَّا إِذَا تَرَكَ مِنَ الْمَالِ مَا يَكْفِيهِمْ فِي الْمَجِيءِ وَالذَّهَابِ وَتَفَاصِيلُ هَذَا الْبَابِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ وَاللَّهُ أعلم. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ وَوَعِيدٌ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى تَارِكِ الْحَجِّ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَ الْحَجِّ، أَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوهُ عَلَى تَارِكِ الْحَجِّ فَقَدْ عَوَّلُوا فِيهِ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ الْأَمْرُ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ وَمَنْ كَفَرَ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ هَذَا الْكُفْرَ لَيْسَ إِلَّا تَرْكَ مَا تَقَدَّمَ الْأَمْرُ بِهِ ثُمَّ إِنَّهُمْ أَكَّدُوا هَذَا الْوَجْهَ بِالْأَخْبَارِ، رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا» وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَلَمْ تَمْنَعْهُ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ فَلْيَمُتْ عَلَى أَيِّ حَالٍ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: لَوْ مَاتَ جَارٌ لِي وَلَهُ مَيْسَرَةٌ وَلَمْ يَحُجَّ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ بِسَبَبِ تَرْكِ الْحَجِّ؟ أَجَابَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّغْلِيظَ، أَيْ قَدْ قَارَبَ الْكُفْرَ وَعَمِلَ مَا يَعْمَلُهُ مَنْ كَفَرَ بِالْحَجِّ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الْأَحْزَابِ: 10] أَيْ كَادَتْ تَبْلُغُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ تَرَكَ صَلَاةً مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ» وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَتَى امْرَأَةً حَائِضًا أَوْ فِي دُبُرِهَا فَقَدْ كَفَرَ» وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ: فَهُمُ الَّذِينَ حَمَلُوا هَذَا الْوَعِيدَ عَلَى مَنْ تَرَكَ اعْتِقَادَ وُجُوبِ الْحَجِّ، قَالَ الضَّحَّاكُ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحَجِّ جَمَعَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الْأَدْيَانِ السِّتَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالنَّصَارَى وَالْيَهُودَ وَالصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسَ وَالْمُشْرِكِينَ فَخَطَبَهُمْ وَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا» فَآمَنَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَكَفَرَتْ بِهِ الْمِلَلُ الْخَمْسُ، وَقَالُوا: لَا نُؤْمِنُ/ بِهِ، وَلَا نُصَلِّي إِلَيْهِ، وَلَا نَحُجُّهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَقْوَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ تَكْلِيفَ الشَّرْعِ فِي الْعِبَادَاتِ قِسْمَانِ، مِنْهَا مَا يَكُونُ أَصْلُهُ مَعْقُولًا إِلَّا أَنَّ تَفَاصِيلَهُ لَا تَكُونُ مَعْقُولَةً مِثْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّ أَصْلَهَا مَعْقُولٌ وَهُوَ تَعْظِيمُ اللَّهِ أَمَّا كَيْفِيَّةُ الصَّلَاةِ فَغَيْرُ مَعْقُولَةٍ، وَكَذَا الزَّكَاةُ أَصْلُهَا دَفْعُ حَاجَةِ الْفَقِيرِ وَكَيْفِيَّتُهَا غَيْرُ مَعْقُولَةٍ، وَالصَّوْمُ أَصْلُهُ مَعْقُولٌ، وَهُوَ قَهْرُ النَّفْسِ وَكَيْفِيَّتُهُ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ، أَمَّا الْحَجُّ فَهُوَ سَفَرٌ إِلَى مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ عَلَى كَيْفِيَّاتٍ مَخْصُوصَةٍ، فَالْحِكْمَةُ فِي كَيْفِيَّاتِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ وَأَصْلُهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ إِنَّ الْإِتْيَانَ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعِبَادَةِ أَدَلُّ عَلَى كَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْخُضُوعِ وَالِانْقِيَادِ مِنَ الْإِتْيَانِ بِالنَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآتِيَ بِالنَّوْعِ الْأَوَّلِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِهِ لَمَّا عَرَفَ بِعَقْلِهِ مِنْ وُجُوهِ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 98 إلى 99]

الْمَنَافِعِ فِيهِ، أَمَّا الْآتِي بِالنَّوْعِ الثَّانِي فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي بِهِ إِلَّا لِمُجَرَّدِ الِانْقِيَادِ وَالطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، فَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى اشْتَمَلَ الْأَمْرُ بِالْحَجِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّوْكِيدِ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لِكَوْنِهِ إِلَهًا أَلْزَمَ عَبِيدَهُ هَذِهِ الطَّاعَةَ فَيَجِبُ الِانْقِيَادُ سَوَاءٌ عَرَفُوا وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِيهَا أَوْ لَمْ يَعْرِفُوا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ ذَكَرَ النَّاسِ ثُمَّ أَبْدَلَ مِنْهُ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَفِيهِ ضَرْبَانِ مِنَ التَّأْكِيدِ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْإِبْدَالَ تَثْنِيَةٌ لِلْمُرَادِ وَتَكْرِيرٌ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الْعِنَايَةِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ أَجْمَلَ أَوَّلًا وَفَصَّلَ ثَانِيًا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْوُجُوبِ بِعِبَارَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: لَامُ الْمِلْكِ فِي قَوْلِهِ وَلِلَّهِ وَثَانِيَتُهُمَا: كَلِمَةُ (عَلَى) وَهِيَ لِلْوُجُوبِ فِي قَوْلِهِ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي إِيجَابَهُ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ يَسْتَطِيعُهُ، وَتَعْمِيمُ التَّكْلِيفِ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ مَكَانَ، وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ وَهَذَا تَغْلِيظٌ شَدِيدٌ فِي حَقِّ تَارِكِ الْحَجِّ وَسَادِسُهَا: ذِكْرُ الِاسْتِغْنَاءِ وَذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمَقْتِ وَالسُّخْطِ وَالْخِذْلَانِ وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ عَنِ الْعالَمِينَ وَلَمْ يَقُلْ عَنْهُ لِأَنَّ الْمُسْتَغْنِيَ عَنْ كُلِّ الْعَالَمِينَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ وَعَنْ طَاعَتِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَدَلُّ عَلَى السُّخْطِ وَثَامِنُهَا: أَنَّ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ قَالَ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْإِيجَابَ كَانَ لِمُجَرَّدِ عِزَّةِ الْإِلَهِيَّةِ وَكِبْرِيَاءِ الرُّبُوبِيَّةِ، لَا لِجَرِّ نَفْعٍ وَلَا لِدَفْعِ ضُرٍّ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا فِي آخِرِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وَمِمَّا يَدُلُّ مِنَ الْأَخْبَارِ عَلَى تَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِالْحَجِّ، قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «حُجُّوا قَبْلَ أَنْ لَا تَحُجُّوا فَإِنَّهُ قَدْ هُدِمَ الْبَيْتُ مَرَّتَيْنِ وَيُرْفَعُ فِي الثَّالِثِ» وَرُوِيَ «حُجُّوا قَبْلَ أَنْ لَا تَحُجُّوا حُجُّوا قَبْلَ أَنْ يَمْنَعَ الْبَرُّ جَانِبَهُ» قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْكُمُ السَّفَرُ فِي الْبَرِّ فِي مَكَّةَ لِعَدَمِ الْأَمْنِ أَوْ غَيْرِهِ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «حُجُّوا هَذَا الْبَيْتَ قَبْلَ أَنْ تَنْبُتَ فِي الْبَادِيَةِ شَجَرَةٌ لا تأكل منها دابة إلا هلكت» . [سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 99] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) [في قوله تعالى يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ] اعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَوْفَقُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْرَدَ الدَّلَائِلَ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِمَّا وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ الْبِشَارَةِ بِمَقْدِمِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَ ذَلِكَ شُبُهَاتِ الْقَوْمِ. فَالشُّبْهَةُ الْأُولَى: مَا يَتَعَلَّقُ بِإِنْكَارِ النَّسْخِ. وَأَجَابَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ [آلِ عِمْرَانَ: 93] . وَالشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَعْبَةِ وَوُجُوبِ اسْتِقْبَالِهَا فِي الصَّلَاةِ وَوُجُوبِ حَجِّهَا. وَأَجَابَ عَنْهَا بقوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ [آل عمران: 96] إِلَى آخِرِهَا، فَعِنْدَ هَذَا تَمَّتْ وَظِيفَةُ الِاسْتِدْلَالِ وَكَمُلَ الْجَوَابُ عَنْ شُبُهَاتِ أَرْبَابِ الضَّلَالِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ خَاطَبَهُمْ بِالْكَلَامِ اللَّيِّنِ وَقَالَ: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ بَعْدَ ظُهُورِ الْبَيِّنَاتِ وَزَوَالِ الشُّبُهَاتِ، وَهَذَا هُوَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى فِي تَرْتِيبِ الْكَلَامِ وَحُسْنِ نَظْمِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فَضَائِلَ الْكَعْبَةِ وَوُجُوبَ الْحَجِّ، وَالْقَوْمُ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الدِّينُ الْحَقُّ وَالْمِلَّةُ الصَّحِيحَةُ قَالَ لَهُمْ: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ عَلِمْتُمْ كَوْنَهَا حَقَّةً صَحِيحَةً.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُبْطِلَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَالًّا فَقَطْ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ كَوْنِهِ ضَالًّا يَكُونُ مُضِلًّا، وَالْقَوْمُ كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا فَبَدَأَ تَعَالَى بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ فِي الصِّفَةِ الْأُولَى عَلَى سَبِيلِ الرِّفْقِ وَاللُّطْفِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: المسألة الأولى: قوله يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَنِ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ الْحَسَنُ: هُمْ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ عَلِمُوا صِحَّةَ نُبُوَّتِهِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْمُرَادُ كُلُّ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا فَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ عَلَيْهِمْ فَكَأَنَّهُمْ بِتَرْكِ الِاسْتِدْلَالِ وَالْعُدُولِ إِلَى التَّقْلِيدِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَلِمَ ثُمَّ أَنْكَرَ. فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ خُصَّ أَهْلُ الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ دُونَ سَائِرِ الْكُفَّارِ؟. قُلْنَا لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَوْرَدَ الدَّلِيلَ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْ شُبَهِهِمْ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا تَمَّ ذلك خاطبهم فقال: يا أَهْلَ الْكِتابِ فَهَذَا التَّرْتِيبُ الصَّحِيحُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ أَقْوَى لِتَقَدُّمِ اعْتِرَافِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ وَأَصْلِ النُّبُوَّةِ، وَلِمَعْرِفَتِهِمْ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الشَّهَادَةِ بِصِدْقِ الرَّسُولِ وَالْبِشَارَةِ بِنُبُوَّتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ مِنْ قِبَلِهِمْ حَتَّى يَصِحَّ هَذَا التَّوْبِيخُ وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ تَوْبِيخُهُمْ عَلَى طَوْلِهِمْ وَصِحَّتِهِمْ وَمَرَضِهِمْ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: الْمُعَارَضَةُ بِالْعِلْمِ وَالدَّاعِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الْآيَاتُ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْمُرَادُ بِكُفْرِهِمْ بِهَا كُفْرُهُمْ بِدَلَالَتِهَا عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ وَالْمَعْنَى: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ الَّتِي دَلَّتْكُمْ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْحَالُ أَنَّ اللَّهَ شَهِيدٌ عَلَى أَعْمَالِكُمْ وَمُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا وَهَذِهِ الْحَالُ توجب أن لا تجترؤا عَلَى الْكُفْرِ بِآيَاتِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ فِي ضَلَالِهِمْ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ فِي إِضْلَالِهِمْ لِضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ صَدَدْتُهُ أَصُدُّهُ صَدًّا وَأَصْدَدْتُهُ إِصْدَادًا، وَقَرَأَ الْحَسَنُ تُصِدُّونَ بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ أَصَدَّهُ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَكَانَ صَدُّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِإِلْقَاءِ الشُّبَهِ وَالشُّكُوكِ فِي قُلُوبِ الضَّعَفَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانُوا يُنْكِرُونَ كَوْنَ صِفَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: تَبْغُونَها عِوَجاً الْعِوَجُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمَيْلُ عَنْ الِاسْتِوَاءِ فِي كُلِّ مَا لَا يُرَى، وَهُوَ الدِّينُ وَالْقَوْلُ، فَأَمَّا الشَّيْءُ الَّذِي يُرَى فَيُقَالُ فِيهِ: عَوَجٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ كَالْحَائِطِ وَالْقَنَاةِ وَالشَّجَرَةِ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْبَغْيُ يُقْتَصَرُ لَهُ عَلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ اللَّامُ كَقَوْلِكَ: بَغَيْتُ الْمَالَ وَالْأَجْرَ وَالثَّوَابَ وَأُرِيدَ هَاهُنَا: تَبْغُونَ لَهَا عِوَجًا، ثُمَّ أُسْقِطَتِ اللَّامُ كَمَا قَالُوا: وَهَبْتُكَ دِرْهَمًا أَيْ وَهَبْتُ لَكَ دِرْهَمًا، وَمِثْلُهُ صِدْتُ لَكَ ظَبْيًا وَأَنْشَدَ: فَتَوَلَّى غُلَامُهُمْ ثُمَّ نَادَى ... أَظَلِيمًا أَصِيدُكُمْ أَمْ حِمَارًا

[سورة آل عمران (3) : الآيات 100 إلى 101]

أَرَادَ أَصِيدُ لَكُمْ وَالْهَاءُ فِي تَبْغُونَها عَائِدَةٌ إلى السبيل لأن السبيل يؤنث ويذكر والعوج يَعْنِي بِهِ الزَّيْغَ وَالتَّحْرِيفَ، أَيْ تَلْتَمِسُونَ لِسَبِيلِهِ الزَّيْغَ وَالتَّحْرِيفَ بِالشُّبَهِ الَّتِي تُورِدُونَهَا عَلَى الضَّعَفَةِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: النَّسْخُ يَدُلُّ عَلَى الْبَدَاءِ وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُ وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَاقِيَةٌ إِلَى الْأَبَدِ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِوَجاً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْمَعْنَى: تَبْغُونَهَا ضَالِّينَ/ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَأَنَّهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَسَبِيلِهِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّكُمْ تَبْغُونَ سَبِيلَ اللَّهِ ضَالِّينَ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يُحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ اللَّامِ فِي تَبْغُونَهَا. ثُمَّ قَالَ: وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَعْنِي أَنْتُمْ شُهَدَاءُ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ دِينَ اللَّهِ الَّذِي لَا يُقْبَلُ غَيْرُهُ هُوَ الْإِسْلَامُ الثَّانِي: وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ عَلَى ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّالِثُ: وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الرَّابِعُ: وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ بَيْنَ أَهْلِ دِينِكُمْ عُدُولٌ يَثِقُونَ بِأَقْوَالِكُمْ وَيُعَوِّلُونَ عَلَى شَهَادَتِكُمْ فِي عِظَامِ الْأُمُورِ وَهُمُ الْأَحْبَارُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ الْإِصْرَارُ عَلَى الْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ وَالضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ. ثُمَّ قَالَ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَالْمُرَادُ التَّهْدِيدُ، وَهُوَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِعَبْدِهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ طَرِيقَهُ لَا يَخْفَى عَلَيَّ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ وَلَسْتُ غَافِلًا عَنْ أَمْرِكَ وَإِنَّمَا خَتَمَ الْآيَةَ الْأُولَى بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ وَهَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْكُفْرَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا كَانُوا يُظْهِرُونَ إِلْقَاءَ الشُّبَهِ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ كَانُوا يَحْتَالُونَ فِي ذَلِكَ بِوُجُوهِ الْحِيَلِ فَلَا جَرَمَ قَالَ فِيمَا أَظْهَرُوهُ وَاللَّهُ شَهِيدٌ وَفِيمَا أَضْمَرُوهُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَإِنَّمَا كرر في الآيتين قوله قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّوْبِيخُ عَلَى أَلْطَفِ الْوُجُوهِ، وَتَكْرِيرُ هَذَا الْخِطَابِ اللَّطِيفِ أَقْرَبُ إِلَى التَّلَطُّفِ فِي صَرْفِهِمْ عَنْ طَرِيقَتِهِمْ فِي الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ وَأَدَلُّ عَلَى النُّصْحِ لَهُمْ فِي الدِّينِ وَالْإِشْفَاقِ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 100 الى 101] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) [في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَذَّرَ الْفَرِيقَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَنِ الْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ حَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ إِغْوَائِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ وَمَنْعِهِمْ عَنْ الِالْتِفَاتِ إِلَى قَوْلِهِمْ، رُوِيَ أَنْ شَاسَ بْنَ قَيْسٍ الْيَهُودِيَّ كَانَ عَظِيمَ الْكُفْرِ شَدِيدَ الطَّعْنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ شَدِيدَ الْحَسَدِ، فَاتُّفِقَ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فَرَآهُمْ فِي مَجْلِسٍ لَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ، وَكَانَ قَدْ زَالَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْعَدَاوَةِ بِبَرَكَةِ الْإِسْلَامِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْيَهُودِيِّ فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ وَذَكَّرَهُمْ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْحُرُوبِ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ بَعْضَ مَا قِيلَ فِي تِلْكَ الْحُرُوبِ مِنَ الْأَشْعَارِ فَتَنَازَعَ الْقَوْمُ وَتَغَاضَبُوا وَقَالُوا: السِّلَاحَ السِّلَاحَ، فَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَقَالَ: أَتَرْجِعُونَ إِلَى أَحْوَالِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، وَقَدْ أَكْرَمَكُمُ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَعَرَفَ الْقَوْمُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَمِنْ كَيْدِ ذَلِكَ الْيَهُودِيِّ، فَأَلْقَوُا السِّلَاحَ وَعَانَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا كَانَ يَوْمٌ أَقْبَحَ أَوَّلًا وَأَحْسَنَ آخِرًا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ فَقَوْلُهُ إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هَذِهِ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 102 إلى 103]

الْوَاقِعَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جَمِيعَ مَا يُحَاوِلُونَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِضْلَالِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ لَانُوا وَقَبِلُوا مِنْهُمْ قَوْلَهُمْ أَدَّى ذَلِكَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ إِلَى أَنْ يَعُودُوا كُفَّارًا، وَالْكُفْرُ يُوجِبُ الْهَلَاكَ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَبِوُقُوعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَهَيَجَانِ الْفِتْنَةِ وَثَوَرَانِ الْمُحَارَبَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَأَمَّا فِي الدِّينِ فَظَاهِرٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَكَلِمَةُ (كَيْفَ) تَعَجُّبٌ، وَالتَّعَجُّبُ إِنَّمَا يَلِيقُ بِمَنْ لَا يَعْلَمُ السَّبَبَ، وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمَنْعُ وَالتَّغْلِيظُ وَذَلِكَ لِأَنَّ تِلَاوَةَ آيَاتِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ حَالًا بَعْدَ حَالٍ مَعَ كَوْنِ الرَّسُولِ فِيهِمُ الَّذِي يُزِيلُ كُلَّ شُبْهَةٍ وَيُقَرِّرُ كُلَّ حُجَّةٍ، كَالْمَانِعِ مِنْ وُقُوعِهِمْ فِي الْكُفْرِ، فَكَانَ صُدُورُ الْكُفْرِ عَلَى الَّذِينَ كَانُوا بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ أَبْعَدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَقَوْلُهُ إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَقْصَى لِهَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ أَنْ يَرُدُّوا الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَرْشَدَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَلْتَفِتُوا إِلَى قَوْلِهِمْ، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَرْجِعُوا عِنْدَ كُلِّ شُبْهَةٍ يَسْمَعُونَهَا مِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى يَكْشِفَ عَنْهَا وَيُزِيلَ وَجْهَ الشُّبْهَةِ فِيهَا. ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ أَرْدَفَهُ بِهَذَا الْوَعْدِ، وَالْمَعْنَى: وَمَنْ يَتَمَسَّكْ بِدِينِ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَثًّا لَهُمْ عَلَى الِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ فِي دَفْعِ شُرُورِ الْكُفَّارِ وَالِاعْتِصَامُ فِي اللُّغَةِ الِاسْتِمْسَاكُ بِالشَّيْءِ وَأَصْلُهُ مِنَ الْعِصْمَةِ، وَالْعِصْمَةُ الْمَنْعُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَالْعَاصِمُ الْمَانِعُ، وَاعْتَصَمَ فُلَانٌ بِالشَّيْءِ إِذَا تَمَسَّكَ بِالشَّيْءِ فِي مَنْعِ نَفْسِهِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي آفَةٍ، / وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ [يُوسُفَ: 32] قَالَ قَتَادَةُ: ذَكَرَ فِي الْآيَةِ أَمْرَيْنِ يَمْنَعَانِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْكُفْرِ أَحَدُهُمَا: تِلَاوَةُ كِتَابِ اللَّهِ وَالثَّانِي: كَوْنُ الرَّسُولِ فِيهِمْ، أَمَّا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ مَضَى إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْكِتَابُ فَبَاقٍ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فَقَدِ احْتَجَّ بِهِ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، قَالُوا: لِأَنَّهُ جَعَلَ اعْتِصَامَهُمْ هِدَايَةً مِنَ اللَّهِ، فَلَمَّا جُعِلَ ذَلِكَ الِاعْتِصَامُ فِعْلًا لَهُمْ وَهِدَايَةً مِنَ اللَّهِ ثَبَتَ مَا قُلْنَاهُ، أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ الزِّيَادَةُ فِي الْأَلْطَافِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى أَدَاءِ الطَّاعَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ [الْمَائِدَةِ: 16] وَهَذَا اخْتَارَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالثَّانِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَنِعْمَ مَا فَعَلَ فَإِنَّهُ إِنَّمَا هُدِيَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ الثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ يَعْتَصِمُ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ وَالرَّابِعُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فَقَدْ هُدِيَ أَيْ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْهُدَى لَا مَحَالَةَ، كَمَا تَقُولُ: إِذَا جِئْتَ فُلَانًا فَقَدْ أَفْلَحْتَ، كَأَنَّ الْهُدَى قَدْ حَصَلَ فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ حَاصِلًا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعْتَصِمَ بِاللَّهِ مُتَوَقِّعٌ لِلْهُدَى كَمَا أَنَّ قَاصِدَ الْكَرِيمِ مُتَوَقِّعٌ لِلْفَلَاحِ عنده. [سورة آل عمران (3) : الآيات 102 الى 103] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إِضْلَالِ الْكُفَّارِ وَمِنْ تَلْبِيسَاتِهِمْ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَجَامِعِ الطَّاعَاتِ، وَمَعَاقِدِ الْخَيْرَاتِ، فَأَمَرَهُمْ أَوَّلًا: بِتَقْوَى اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ اتَّقُوا اللَّهَ/ وَثَانِيًا: بِالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ وَثَالِثًا: بِذِكْرِ نِعَمِ اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَالسَّبَبُ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّ فِعْلَ الْإِنْسَانِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُعَلَّلًا، إِمَّا بِالرَّهْبَةِ وَإِمَّا بِالرَّغْبَةِ، وَالرَّهْبَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الرَّغْبَةِ، لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ النَّفْعِ، فَقَوْلُهُ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّخْوِيفِ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ جَعَلَهُ سَبَبًا لِلْأَمْرِ بِالتَّمَسُّكِ بِدِينِ اللَّهِ وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِالرَّغْبَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ: خَوْفُ عِقَابِ اللَّهِ يُوجِبُ ذَلِكَ، وَكَثْرَةُ نِعَمِ اللَّهِ تُوجِبُ ذَلِكَ فَلَمْ تَبْقَ جِهَةٌ مِنَ الْجِهَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْفِعْلِ إِلَّا وَهِيَ حَاصِلَةٌ فِي وُجُوبِ انْقِيَادِكُمْ لِأَمْرِ اللَّهِ وَوُجُوبِ طَاعَتِكُمْ لِحُكْمِ اللَّهِ، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُرَتَّبَةٌ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ: أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ وَذَلِكَ لِمَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ حَقَّ تُقَاتِهِ: أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَنْ يُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرُ، وَأَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَالْعِبَادُ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ هذه فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَوَّلَهَا وَلَمْ يُنْسَخْ آخِرُهَا وَهُوَ قَوْلُهُ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَزَعَمَ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ الْقَوْلَ بِهَذَا النَّسْخِ بَاطِلٌ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُ: «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: هُوَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ أَيْ كَمَا يَحِقُّ أَنْ يُتَّقَى، وَذَلِكَ بِأَنْ يُجْتَنَبَ جَمِيعُ مَعَاصِيهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنَّ يُنْسَخَ لِأَنَّهُ إِبَاحَةٌ لِبَعْضِ الْمَعَاصِي، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ مَعْنَى هَذَا وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التَّغَابُنِ: 16] وَاحِدًا لِأَنَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ فَقَدِ اتَّقَاهُ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ حَقَّ تُقاتِهِ مَا لَا يُسْتَطَاعُ مِنَ التَّقْوَى، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَالْوُسْعُ دُونَ الطَّاقَةِ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ [الْحَجِّ: 78] . فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الْأَنْعَامِ: 91] . قُلْنَا: سَنُبَيِّنُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا جاءت في القرآن في ثلاثة مواضع كلها فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ لَا فِي صِفَةِ الْمُسْلِمِينَ أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ هُوَ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى فَهَذَا صَحِيحٌ وَالَّذِي يَصْدُرُ عَنِ الْإِنْسَانِ عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ فَغَيْرُ قَادِحٍ فِيهِ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ مَرْفُوعٌ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَنْ يُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرُ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ عِنْدَ خُطُورِ نِعَمِ اللَّهِ بِالْبَالِ، فَأَمَّا عِنْدَ السَّهْوِ فَلَا يَجِبُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ الدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُطَاقُ، فَلَا وَجْهَ لِمَا ظَنُّوهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَقُولُ: لِلْأَوَّلِينَ أَنْ يُقَرِّرُوا قَوْلَهُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ كُنْهَ الْإِلَهِيَّةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْخَلْقِ، فَلَا يَكُونُ كَمَالُ قَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِزَّتِهِ مَعْلُومًا لِلْخَلْقِ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْعِلْمُ بِذَلِكَ لَمْ يَحْصُلِ الْخَوْفُ اللَّائِقُ بِذَلِكَ فَلَمْ يَحْصُلْ الِاتِّقَاءُ اللَّائِقُ بِهِ الثَّانِي: أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالِاتِّقَاءِ الْمُغَلَّظِ وَالْمُخَفَّفِ مَعًا فَنُسِخَ الْمُغَلَّظُ وَبَقِيَ الْمُخَفَّفُ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ مَا أَمْكَنَ وَالنَّسْخُ إِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْوَاجِبَاتِ لَا فِي النَّفْيِ،

لِأَنَّهُ يُوجِبُ رَفْعَ الْحَجْرِ عَمَّا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مَحْجُورًا عَنْهُ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: حَقَّ تُقاتِهِ أَيْ كَمَا يَجِبُ أَنْ يُتَّقَى يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَقُّ الْيَقِينِ [الْوَاقِعَةِ: 95] وَيُقَالُ: هُوَ الرَّجُلُ حَقًّا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا عَلِيٌّ لَا كَذِبَ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَالْتُّقَى اسْمُ الْفِعْلِ مِنْ قَوْلِكَ اتَّقَيْتُ، كَمَا أَنَّ الْهُدَى اسْمُ الْفِعْلِ مِنْ قَوْلِكَ اهْتَدَيْتُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَلَفْظُ النَّهْيِ وَاقِعٌ عَلَى الْمَوْتِ، لَكِنَّ الْمَقْصُودَ الْأَمْرُ بِالْإِقَامَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يُمْكِنُهُمُ الثَّبَاتُ عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى إِذَا أَتَاهُمُ الْمَوْتُ أَتَاهُمْ وَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، صَارَ الْمَوْتُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِمَنْزِلَةِ مَا قَدْ دَخَلَ فِي إِمْكَانِهِمْ، وَمَضَى الْكَلَامُ فِي هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَةِ: 132] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالِاتِّقَاءِ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ أَمَرَهُمْ بِالتَّمَسُّكِ بِالِاعْتِصَامِ بِمَا هُوَ كَالْأَصْلِ لِجَمِيعِ الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ، وَهُوَ الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَمْشِي عَلَى طَرِيقٍ دَقِيقٍ يَخَافُ أَنْ تَزْلَقَ رِجْلُهُ، فَإِذَا تَمَسَّكَ بِحَبْلٍ مَشْدُودِ الطَّرَفَيْنِ بِجَانِبَيْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ أَمِنَ مِنَ الْخَوْفِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ طَرِيقٌ دَقِيقٌ، وَقَدِ انْزَلَقَ رِجْلُ الْكَثِيرِ مِنَ الْخَلْقِ عَنْهُ، فَمَنِ اعْتَصَمَ بِدَلِيلِ اللَّهِ وَبَيِّنَاتِهِ فَإِنَّهُ يَأْمَنُ مِنْ ذَلِكَ الْخَوْفِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْحَبْلِ هَاهُنَا كُلَّ شَيْءٍ يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِهِ إِلَى الْحَقِّ فِي طَرِيقِ الدِّينِ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ، فَذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَاحِدًا مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْمُرَادُ بِالْحَبْلِ هَاهُنَا الْعَهْدُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 40] وَقَالَ: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آلِ عِمْرَانَ: 112] أَيْ بِعَهْدٍ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْعَهْدُ حَبْلًا لِأَنَّهُ يُزِيلُ عَنْهُ الْخَوْفَ مِنَ الذَّهَابِ إِلَى أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ، وَكَانَ كَالْحَبْلِ الَّذِي مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ زَالَ عَنْهُ الْخَوْفُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الْقُرْآنُ، رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَمَا إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ» قِيلَ: فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا؟ قَالَ: «كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَنْ قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَنْ بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ» وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «هَذَا الْقُرْآنُ حَبْلُ اللَّهِ» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي» وَقِيلَ: إِنَّهُ دِينُ اللَّهِ، وَقِيلَ: هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ، وَقِيلَ: هُوَ إِخْلَاصُ التَّوْبَةِ، وَقِيلَ: الْجَمَاعَةُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَقِيبَ ذَلِكَ قَوْلَهُ وَلا تَفَرَّقُوا وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَالتَّحْقِيقُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّازِلُ فِي الْبِئْرِ يَعْتَصِمُ بِحَبْلٍ تَحَرُّزًا مِنَ السُّقُوطِ فِيهَا، وَكَانَ كِتَابُ اللَّهِ وَعَهْدُهُ وَدِينُهُ وَطَاعَتُهُ وَمُوَافَقَتُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ حِرْزًا لِصَاحِبِهِ مِنَ السُّقُوطِ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ جَعَلَ ذَلِكَ حَبْلًا لِلَّهِ، وَأُمِرُوا بِالِاعْتِصَامِ بِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَفَرَّقُوا وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي التَّأْوِيلِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نُهِيَ عَنْ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَكُونُ إِلَّا وَاحِدًا، وَمَا عَدَاهُ يَكُونُ جَهْلًا وَضَلَالًا، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ

بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يُونُسَ: 32] وَالثَّانِي: أَنَّهُ نُهِيَ عَنِ الْمُعَادَاةِ وَالْمُخَاصَمَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مُوَاظِبِينَ عَلَى الْمُحَارَبَةِ وَالْمُنَازَعَةِ فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهَا الثَّالِثُ: أَنَّهُ نُهِيَ عَمَّا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ وَيُزِيلُ الْأُلْفَةَ وَالْمَحَبَّةَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً النَّاجِي مِنْهُمْ وَاحِدٌ وَالْبَاقِي فِي النَّارِ فَقِيلَ: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ الْجَمَاعَةُ» وَرُوِيَ «السَّوَادُ الْأَعْظَمُ» وَرُوِيَ «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» وَالْوَجْهُ الْمَعْقُولُ فِيهِ: أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الِاخْتِلَافِ وَالْأَمْرَ بِالِاتِّفَاقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ لَا يَكُونُ إِلَّا وَاحِدًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ النَّاجِي وَاحِدًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّتْ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالُوا: الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ نَصَبَ عَلَيْهَا دَلَائِلَ يَقِينِيَّةً أَوْ نَصَبَ عَلَيْهَا دَلَائِلَ ظَنِّيَّةً، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ امْتَنَعَ الِاكْتِفَاءُ فِيهَا بِالْقِيَاسِ الَّذِي يُفِيدُ الظَّنَّ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ الظَّنِّيَّ لَا يُكْتَفَى بِهِ فِي الْمَوْضِعِ الْيَقِينِيِّ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَانَ الْأَمْرُ بِالرُّجُوعِ إِلَى تِلْكَ الدَّلَائِلِ الظَّنِّيَّةِ يَتَضَمَّنُ وُقُوعَ الِاخْتِلَافِ وَوُقُوعَ النِّزَاعِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ التَّفَرُّقُ وَالتَّنَازُعُ مَنْهِيًّا عَنْهُ، لَكِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَفَرَّقُوا وقوله وَلا تَنازَعُوا وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ تَكُونُ مُخَصِّصَةً لِعُمُومِ قَوْلِهِ وَلا تَفَرَّقُوا ولعموم قوله وَلا تَنازَعُوا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَى الْخَلْقِ إِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ وَإِمَّا أُخْرَوِيَّةٌ وَإِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَمَّا النِّعْمَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ الْيَهُودِيَّ لَمَّا أَلْقَى الْفِتْنَةَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَهَمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُحَارَبَةِ صَاحِبِهِ، فَخَرَجَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَزَلْ يَرْفُقُ بِهِمْ حَتَّى سَكَنَتِ الْفِتْنَةُ وَكَانَ/ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ أَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَوَقَعَتْ بَيْنَهُمَا الْعَدَاوَةُ، وَتَطَاوَلَتِ الْحُرُوبُ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً إِلَى أَنْ أَطْفَأَ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ، فَالْآيَةُ إِشَارَةٌ إِلَيْهِمْ وَإِلَى أَحْوَالِهِمْ، فَإِنَّهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَانَ يُحَارِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَبْغُضُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمَّا أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ صَارُوا إِخْوَانًا مُتَرَاحِمِينَ مُتَنَاصِحِينَ وَصَارُوا إِخْوَةً فِي اللَّهِ: وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الْأَنْفَالِ: 63] . وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ وَجْهُهُ إِلَى الدُّنْيَا كَانَ مُعَادِيًا لِأَكْثَرِ الْخَلْقِ، وَمَنْ كَانَ وَجْهُهُ إِلَى خِدْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ مُعَادِيًا لِأَحَدٍ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ يَنْظُرُ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْخَلْقِ فَيَرَى الْكُلَّ أَسِيرًا فِي قَبْضَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فَلَا يُعَادِي أَحَدًا، وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّ الْعَارِفَ إِذَا أَمَرَ أَمَرَ بِرِفْقٍ وَيَكُونُ نَاصِحًا لَا يُعَنِّفُ وَيُعَيِّرُ فَهُوَ مُسْتَبْصِرٌ بِسِرِّ اللَّهِ فِي الْقَدَرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُ الْأَخِ فِي اللُّغَةِ مِنَ التَّوَخِّي وَهُوَ الطَّلَبُ فَالْأَخُ مَقْصِدُهُ مَقْصِدُ أَخِيهِ، وَالصَّدِيقُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَنْ يَصْدُقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّدِيقَيْنِ صَاحِبَهُ مَا فِي قَلْبِهِ، وَلَا يُخْفِي عَنْهُ شَيْئًا وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ قَالَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ: الْإِخْوَةُ فِي النَّسَبِ وَالْإِخْوَانُ فِي الصَّدَاقَةِ، قَالَ وَهَذَا غَلَطٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الْحُجُرَاتِ: 10] وَلَمْ يَعْنِ النَّسَبَ، وَقَالَ: أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ [النُّورِ: 61] وَهَذَا فِي النَّسَبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعَامَلَاتِ الْحَسَنَةَ الْجَارِيَةَ بَيْنَهُمْ بَعْدَ الإسلام

إِنَّمَا حَصَلَتْ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ فِي قُلُوبِهِمْ وَكَانَتْ تِلْكَ الدَّاعِيَةُ نِعْمَةً مِنَ اللَّهِ مُسْتَلْزِمَةً لِحُصُولِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي خَلْقِ الْأَفْعَالِ، قَالَ الْكَعْبِيُّ: إِنَّ ذَلِكَ بِالْهِدَايَةِ وَالْبَيَانِ وَالتَّحْذِيرِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْأَلْطَافِ. قُلْنَا: كُلُّ هَذَا كَانَ حَاصِلًا فِي زَمَانِ حُصُولِ الْمُحَارِبَاتِ وَالْمُقَاتِلَاتِ، فَاخْتِصَاصُ أَحَدِ الزَّمَانَيْنِ بِحُصُولِ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِأَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ النِّعْمَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ ذَكَرَ بَعْدَهَا النِّعْمَةَ الْأُخْرَوِيَّةَ، وَهِيَ مَا ذَكَرَهُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى أَنَّكُمْ كُنْتُمْ مُشْرِفِينَ بِكُفْرِكُمْ عَلَى جَهَنَّمَ، لِأَنَّ جَهَنَّمَ مُشْبِهَةٌ بِالْحُفْرَةِ الَّتِي فِيهَا النَّارُ فَجَعَلَ اسْتِحْقَاقَهُمْ لِلنَّارِ بِكُفْرِهِمْ كَالْإِشْرَافِ مِنْهُمْ عَلَى النَّارِ، وَالْمَصِيرِ مِنْهُمْ إِلَى حُفْرَتِهَا، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْقَذَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْحُفْرَةِ، وَقَدْ قَرُبُوا مِنَ الْوُقُوعِ فِيهَا. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَطُفَ بِهِمْ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَائِرِ أَلْطَافِهِ حَتَّى آمَنُوا قَالَ أَصْحَابُنَا: جَمِيعُ الْأَلْطَافِ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَلَوْ كَانَ فَاعِلُ الْإِيمَانِ وَمُوجِدُهُ هُوَ الْعَبْدُ لَكَانَ الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي أَنْقَذَ نَفْسَهُ مِنَ النَّارِ، وَاللَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْقَذَهُمْ مِنَ النَّارِ، / فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ خَالِقَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: شَفَا الشَّيْءِ حَرْفُهُ مَقْصُورٌ، مِثْلُ شَفَا الْبِئْرِ وَالْجَمْعُ الْأَشْفَاءُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: أَشْفَى عَلَى الشَّيْءِ إِذَا أَشْرَفَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ بَلَغَ شَفَاهُ، أَيْ حَدَّهُ وَحَرْفَهُ وَقَوْلُهُ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: يُقَالُ نَقَذْتُهُ وَأَنْقَذْتُهُ وَاسْتَنْقَذْتُهُ، أَيْ خَلَّصْتُهُ وَنَجَّيْتُهُ. وَفِي قَوْلِهِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها سُؤَالٌ وَهُوَ: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُنْقِذُهُمْ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ وَهُمْ كَانُوا عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ، وَشَفَا الْحُفْرَةِ مُذَكَّرٌ فَكَيْفَ قَالَ مِنْهَا؟. وَأَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْحُفْرَةِ وَلَمَّا أَنْقَذَهُمْ مِنَ الْحُفْرَةِ فَقَدْ أَنْقَذَهُمْ مِنْ شَفَا الْحُفْرَةِ لِأَنَّ شَفَاهَا مِنْهَا وَالثَّانِي: أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى النَّارِ، لِأَنَّ الْقَصْدَ الْإِنْجَاءُ مِنَ النَّارِ لَا مِنْ شَفَا الْحُفْرَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ الثَّالِثُ: أَنَّ شَفَا الْحُفْرَةِ، وَشَفَتُهَا طَرَفُهَا، فَجَازَ أَنْ يُخْبِرَ عَنْهُ بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ لَوْ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ لَوَقَعُوا فِي النَّارِ، فَمُثِّلَتْ حَيَاتُهُمُ الَّتِي يُتَوَقَّعُ بَعْدَهَا الْوُقُوعُ فِي النَّارِ بِالْقُعُودِ عَلَى حَرْفِهَا، وَهَذَا فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَحْقِيرِ مُدَّةِ الْحَيَاةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَبَيْنَ الْمَوْتِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْوُقُوعِ فِي الْحُفْرَةِ إِلَّا مَا بَيْنَ طَرَفِ الشَّيْءِ، وَبَيْنَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، ثُمَّ قَالَ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ مِثْلُ الْبَيَانِ الْمَذْكُورِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ سَائِرَ الْآيَاتِ لِكَيْ تَهْتَدُوا بِهَا، قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ مِنْهُمُ الِاهْتِدَاءَ، أَجَابَ الْوَاحِدِيُّ عَنْهُ فِي «الْبَسِيطِ» فَقَالَ: بَلِ الْمَعْنَى لِتَكُونُوا عَلَى رَجَاءِ هِدَايَةٍ. وَأَقُولُ: وَهَذَا الْجَوَابُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَلْزَمُ أَنْ يُرِيدَ اللَّهُ مِنْهُمْ ذَلِكَ الرَّجَاءَ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ عَلَى مَذْهَبِنَا قَدْ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ الرَّجَاءَ، فَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ كَلِمَةُ (لَعَلَّ) لِلتَّرَجِّي، وَالْمَعْنَى أَنَّا فَعَلْنَا فِعْلًا يُشْبِهُ فِعْلَ مَنْ يَتَرَجَّى ذلك والله أعلم.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 104 إلى 109]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 104 الى 109] وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَابَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَابَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، فقال: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 70] ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَابَهُمْ عَلَى سَعْيِهِمْ فِي إِلْقَاءِ الْغَيْرِ في الكفر، فقال: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 99] فَلَمَّا انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مُخَاطَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَهُمْ أَوَّلًا بِالتَّقْوَى وَالْإِيمَانِ، فَقَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً [آل عمران: 102، 103] ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالسَّعْيِ فِي إِلْقَاءِ الْغَيْرِ فِي الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، فَقَالَ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَهَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الْحَسَنُ الْمُوَافِقُ لِلْعَقْلِ، وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ مِنْكُمْ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ (مِنْ) هَاهُنَا لَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ لِدَلِيلَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى كُلِّ الْأُمَّةِ فِي قَوْلِهِ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آلِ عِمْرَانَ: 110] وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ لَا مُكَلَّفَ إِلَّا وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، إِمَّا بِيَدِهِ، أَوْ بِلِسَانِهِ، أَوْ بِقَلْبِهِ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ كُونُوا أُمَّةً دُعَاةً إِلَى الْخَيْرِ آمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ نَاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَمَّا كَلِمَةُ (مِنْ) فَهِيَ هُنَا لِلتَّبْيِينِ لَا لِلتَّبْعِيضِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الْحَجِّ: 30] وَيُقَالُ أَيْضًا: لِفُلَانٍ مِنْ أَوْلَادِهِ جُنْدٌ وَلِلْأَمِيرِ مِنْ غِلْمَانِهِ عَسْكَرٌ يُرِيدُ بِذَلِكَ/ جَمِيعَ أَوْلَادِهِ وَغِلْمَانِهِ لَا بَعْضَهُمْ، كَذَا هَاهُنَا، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْكُلِّ إِلَّا أَنَّهُ مَتَى قَامَ بِهِ قَوْمٌ سَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا [التَّوْبَةِ: 41] وَقَوْلُهُ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً [التَّوْبَةِ: 39] فَالْأَمْرُ عَامٌّ، ثُمَّ إِذَا قَامَتْ بِهِ طَائِفَةٌ وَقَعَتِ الْكِفَايَةُ وَزَالَ التَّكْلِيفُ عَنِ الْبَاقِينَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ (مِنْ) هَاهُنَا لِلتَّبْعِيضِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا أَيْضًا عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ فَائِدَةَ كَلِمَةِ (مِنْ) هِيَ أَنَّ فِي الْقَوْمِ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الدَّعْوَةِ وَلَا عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مِثْلُ النِّسَاءِ وَالْمَرْضَى وَالْعَاجِزِينَ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ مُخْتَصٌّ بِالْعُلَمَاءِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الدَّعْوَةُ إِلَى الْخَيْرِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ مَشْرُوطَةٌ بِالْعِلْمِ بِالْخَيْرِ وَبِالْمَعْرُوفِ وَبِالْمُنْكَرِ، فَإِنَّ الْجَاهِلَ رُبَّمَا عَادَ إِلَى الْبَاطِلِ وَأَمَرَ بِالْمُنْكَرِ وَنَهَى عَنِ المعروف، وربما

عَرَفَ الْحُكْمَ فِي مَذْهَبِهِ وَجَهِلَهُ فِي مَذْهَبِ صَاحِبِهِ فَنَهَاهُ عَنْ غَيْرِ مُنْكَرٍ، وَقَدْ يُغْلِظُ فِي مَوْضِعِ اللِّينِ وَيَلِينُ فِي مَوْضِعِ الْغِلْظَةِ، وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ لَا يَزِيدُهُ إِنْكَارُهُ إِلَّا تَمَادِيًا، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ [التوبة: 122] والثاني: أنا جمعنا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَتَى قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْمَعْنَى لِيَقُمْ بِذَلِكَ بَعْضُكُمْ، فَكَانَ فِي الْحَقِيقَةِ هَذَا إِيجَابًا عَلَى الْبَعْضِ لَا عَلَى الْكُلِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ قَوْلٌ رَابِعٌ: وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيُعَلِّمُونَ النَّاسَ، وَالتَّأْوِيلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كُونُوا أُمَّةً مُجْتَمِعِينَ عَلَى حِفْظِ سُنَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعَلُّمِ الدِّينِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ اشْتَمَلَتْ عَلَى التَّكْلِيفِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، أَوَّلُهَا: الدَّعْوَةُ إِلَى الْخَيْرِ ثُمَّ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، ثُمَّ النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلِأَجْلِ الْعَطْفِ يَجِبُ كَوْنُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مُتَغَايِرَةً، فَنَقُولُ: أَمَّا الدَّعْوَةُ إِلَى الْخَيْرِ فَأَفْضَلُهَا الدَّعْوَةُ إِلَى إِثْبَاتِ ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَتَقْدِيسِهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمُمْكِنَاتِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ تَشْتَمِلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [النَّحْلِ: 125] وقوله تعالى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يُوسُفَ: 108] . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الدَّعْوَةُ إِلَى الْخَيْرِ جِنْسٌ تَحْتَهُ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا: التَّرْغِيبُ فِي فِعْلِ مَا يَنْبَغِي وَهُوَ بِالْمَعْرُوفِ وَالثَّانِي: التَّرْغِيبُ فِي تَرْكِ مَا لَا يَنْبَغِي وَهُوَ النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فَذَكَرَ الْجِنْسَ أَوَّلًا ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِنَوْعَيْهِ مُبَالَغَةً فِي الْبَيَانِ، وَأَمَّا شَرَائِطُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَمَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مِنْهُمْ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، قَالَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، وَالْفَاسِقُ لَيْسَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ بِالْمَعْرُوفِ لَيْسَ بِفَاسِقٍ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ الْغَالِبِ فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ لَمْ يَشْرَعْ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ صَلَاحِ أَحْوَالِ نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ يُقَدِّمُ مُهِمَّ نَفْسِهِ عَلَى مُهِمِّ الْغَيْرِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَكَّدُوا هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [التوبة: 44] وبقوله لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفِّ: 2، 3] وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ لِمَنْ يَزْنِي بِامْرَأَةٍ أَنْ يَأْمُرَهَا بِالْمَعْرُوفِ فِي أَنَّهَا لِمَ كَشَفَتْ وَجْهَهَا؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ، وَالْعُلَمَاءُ قَالُوا: الْفَاسِقُ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ تَرْكُ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ، فَبِأَنَّ تَرْكَ أَحَدِ الْوَاجِبَيْنِ لَا يُلْزِمُهُ تَرْكَ الْوَاجِبِ الْآخَرِ، وَعَنِ السَّلَفِ: مُرُوا بِالْخَيْرِ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا، وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ سَمِعَ مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: لَا أَقُولُ مَا لَا أَفْعَلُ، فَقَالَ: وَأَيُّنَا يَفْعَلُ مَا يَقُولُ؟ وَدَّ الشَّيْطَانُ لَوْ ظَفِرَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْكُمْ فَلَا يَأْمُرُ أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ وَلَا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ كَانَ خَلِيفَةَ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَخَلِيفَةَ

رَسُولِهِ وَخَلِيفَةَ كِتَابِهِ» وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَفْضَلُ الْجِهَادِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ لَمْ يَعْرِفْ بِقَلْبِهِ مَعْرُوفًا وَلَمْ يُنْكِرْ مُنْكَرًا نُكِّسَ وَجُعِلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْتَهُوا عَنِ الْمُنْكَرِ تَعِيشُوا بِخَيْرٍ، وَعَنِ الثَّوْرِيِّ: إِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُحَبَّبًا فِي جِيرَانِهِ مَحْمُودًا عِنْدَ إِخْوَانِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مُدَاهِنٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ [الْحُجُرَاتِ: 9] قُدِّمَ الْإِصْلَاحُ عَلَى الْقِتَالِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُبْدَأَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْأَرْفَقِ مُتَرَقِّيًا إِلَى الْأَغْلَظِ فَالْأَغْلَظِ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النِّسَاءِ: 34] يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ إِذَا لَمْ يَتِمَّ الْأَمْرُ بِالتَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَهْرُ بِالْيَدِ، فَإِنْ عَجَزَ فَبِاللِّسَانِ، فَإِنْ عَجَزَ فَبِالْقَلْبِ، وَأَحْوَالُ النَّاسِ مُخْتَلِفَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي النَّظْمِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ بَيَّنَ فِي/ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ حَسَدُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحْتَالُوا فِي إِلْقَاءِ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ فِي تِلْكَ النُّصُوصِ الظَّاهِرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِأَنْ حَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مِثْلِ فِعْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُوَ إِلْقَاءُ الشُّبُهَاتِ فِي هَذِهِ النُّصُوصِ وَاسْتِخْرَاجُ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ الرَّافِعَةِ لِدَلَالَةِ هَذِهِ النُّصُوصِ فَقَالَ: وَلا تَكُونُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ سَمَاعِ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ تِلْكَ النُّصُوصُ الظَّاهِرَةُ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ الْآيَةُ مِنْ تَتِمَّةِ جُمْلَةِ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَ الْآمِرُ بِالْمَعْرُوفِ قَادِرًا عَلَى تَنْفِيذِ هَذَا التَّكْلِيفِ عَلَى الظَّلَمَةِ وَالْمُتَغَالِينَ، وَلَا تَحْصُلُ هَذِهِ الْقُدْرَةُ إِلَّا إِذَا حَصَلَتِ الْأُلْفَةُ وَالْمَحَبَّةُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالدِّينِ، لَا جَرَمَ حَذَّرَهُمْ تَعَالَى مِنَ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ لِكَيْ لَا يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِعَجْزِهِمْ عَنِ الْقِيَامِ بِهَذَا التَّكْلِيفِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ تَتِمَّةِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَقَطْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا بِسَبَبِ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَطَاعَةِ النَّفْسِ وَالْحَسَدِ، كَمَا أَنَّ إِبْلِيسَ تَرَكَ نَصَّ اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ حَسَدِهِ لِآدَمَ الثَّانِي: تَفَرَّقُوا حَتَّى صَارَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ يُصَدِّقُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، فَصَارُوا بِذَلِكَ إِلَى الْعَدَاوَةِ وَالْفُرْقَةِ الثَّالِثُ: صَارُوا مِثْلَ مُبْتَدِعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، مِثْلَ الْمُشَبِّهَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْحَشْوِيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَذَكَرَهُمَا لِلتَّأْكِيدِ وَقِيلَ: بَلْ مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: تَفَرَّقُوا بِالْعَدَاوَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي الدِّينِ، وَقِيلَ: تَفَرَّقُوا بِسَبَبِ اسْتِخْرَاجِ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ مِنْ تِلْكَ النُّصُوصِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بِأَنْ حَاوَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نُصْرَةَ قَوْلِهِ وَمَذْهَبِهِ وَالثَّالِثُ: تَفَرَّقُوا بِأَبْدَانِهِمْ

بِأَنْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ الْأَحْبَارِ رَئِيسًا فِي بَلَدٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بِأَنْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ صَاحِبَهُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَأَقُولُ: إِنَّكَ إِذَا أَنْصَفْتَ عَلِمْتَ أَنَّ أَكْثَرَ عُلَمَاءِ هَذَا الزَّمَانِ صَارُوا مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالرَّحْمَةَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا قَالَ: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَلَمْ يَقُلْ (جَاءَتْهُمْ) لِجَوَازِ حَذْفِ عَلَامَةٍ مِنَ الْفِعْلِ إِذَا كَانَ فِعْلُ الْمُؤَنَّثِ مُتَقَدِّمًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يَعْنِي الَّذِينَ تَفَرَّقُوا لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي الْآخِرَةِ بِسَبَبِ تَفَرُّقِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ زَجْرًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَنِ التَّفَرُّقِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْيَهُودَ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَنَهَاهُمْ عَنْ بَعْضٍ، ثُمَّ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَعْضِ وَنَهَاهُمْ عَنِ الْبَعْضِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ، تَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي نَصْبِ يَوْمَ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ فَائِدَتَانِ إِحْدَاهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَالْأُخْرَى أَنَّ مِنْ حُكْمِ هَذَا الْيَوْمِ أَنْ تَبْيَضَّ فِيهِ وُجُوهٌ وَتَسْوَدَّ وُجُوهٌ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ (اذْكُرْ) . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ لَهَا نَظَائِرُ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزُّمَرِ: 60] وَمِنْهَا قَوْلُهُ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ [يُونُسَ: 26] وَمِنْهَا قَوْلُهُ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عَبَسَ: 38- 41] وَمِنْهَا قَوْلُهُ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ [الْقِيَامَةِ: 22- 25] وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [الْمُطَفِّفِينَ: 24] وَمِنْهَا قَوْلُهُ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ [الرَّحْمَنِ: 41] . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي هَذَا الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ وَالْغَبَرَةِ وَالْقَتَرَةِ وَالنَّضْرَةِ لِلْمُفَسِّرِينَ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيَاضَ مَجَازٌ عَنِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، وَالسَّوَادَ عَنِ الْغَمِّ، وَهَذَا مَجَازٌ مُسْتَعْمَلٌ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [النَّحْلِ: 58] وَيُقَالُ: لِفُلَانٍ عِنْدِي يَدٌ بَيْضَاءُ، أَيْ جَلِيَّةٌ سَارَّةٌ، وَلَمَّا سَلَّمَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْأَمْرَ لِمُعَاوِيَةَ قَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِبَعْضِهِمْ فِي الشَّيْبِ. يَا بَيَاضَ الْقُرُونِ سَوَّدْتَ وَجْهِي ... عِنْدَ بِيضِ الْوُجُوهِ سُودِ الْقُرُونِ فَلَعَمْرِي لَأُخْفِيَنَّكَ جَهْدِي ... عَنْ عِيَانِي وَعَنْ عِيَانِ الْعُيُونِ بِسَوَادٍ فِيهِ بَيَاضٌ لِوَجْهِي ... وَسَوَادٌ لِوَجْهِكَ الْمَلْعُونِ وَتَقُولُ الْعَرَبُ لِمَنْ نَالَ بُغْيَتَهُ وَفَازَ بِمَطْلُوبِهِ: ابْيَضَّ وَجْهُهُ وَمَعْنَاهُ الِاسْتِبْشَارُ وَالتَّهَلُّلُ وَعِنْدَ التَّهْنِئَةِ بِالسُّرُورِ يَقُولُونَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَيَّضَ وَجْهَكَ، وَيُقَالُ لِمَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ مَكْرُوهٌ: ارْبَدَّ وَجْهُهُ وَاغْبَرَّ لَوْنُهُ وَتَبَدَّلَتْ صُورَتُهُ، فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَرِدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْحَسَنَاتِ ابيض وجهه

بِمَعْنَى اسْتَبْشَرَ بِنِعَمِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ، وَعَلَى ضِدِّ ذَلِكَ إِذَا رَأَى الْكَافِرُ أَعْمَالَهُ الْقَبِيحَةَ مُحْصَاةً اسْوَدَّ وَجْهُهُ بِمَعْنَى شِدَّةِ الْحُزْنِ وَالْغَمِّ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي مُسْلِمِ الْأَصْفَهَانِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ هَذَا الْبَيَاضَ وَالسَّوَادَ يَحْصُلَانِ فِي وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا، وَلَا دَلِيلَ يُوجِبُ تَرْكَ الْحَقِيقَةِ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، قُلْتُ: وَلِأَبِي مُسْلِمٍ أَنْ يَقُولَ: الدَّلِيلُ دَلَّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ فَجَعَلَ الْغَبَرَةَ وَالْقَتَرَةَ فِي مُقَابَلَةِ الضَّحِكِ وَالِاسْتِبْشَارِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ بِالْغَبَرَةِ وَالْقَتَرَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَجَازِ لَمَا صَحَّ جَعْلُهُ مُقَابِلًا، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْغَبَرَةِ وَالْقَتَرَةِ الْغَمُّ وَالْحُزْنُ حَتَّى يَصِحَّ هَذَا التَّقَابُلُ، ثُمَّ قَالَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ/ الْمَوْقِفِ إِذَا رَأَوُا الْبَيَاضَ فِي وَجْهِ إِنْسَانٍ عَرَفُوا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ فَزَادُوا فِي تَعْظِيمِهِ فَيَحْصُلُ لَهُ الْفَرَحُ بِذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّعِيدَ يَفْرَحُ بِأَنْ يُعْلِمَ قَوْمَهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ، قَالَ تعالى مخبراً عنهم يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس: 26، 27] الثَّانِي: أَنَّهُمْ إِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ خَصُّوهُ بِمَزِيدِ التَّعْظِيمِ فَثَبَتَ أَنَّ ظُهُورَ الْبَيَاضِ فِي وَجْهِ الْمُكَلَّفِ سَبَبٌ لِمَزِيدِ سُرُورِهِ فِي الْآخِرَةِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَكُونُ ظُهُورُ السَّوَادِ فِي وَجْهِ الْكُفَّارِ سَبَبًا لِمَزِيدِ غَمِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ، فَهَذَا وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَالْمُكَلَّفُ حِينَ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا إِذَا عَرَفَ حُصُولَ هَذِهِ الْحَالَةِ فِي الْآخِرَةِ صَارَ ذَلِكَ مُرَغِّبًا لَهُ فِي الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ لِكَيْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ قَبِيلِ مَنْ يَبْيَضُّ وَجْهُهُ لَا مِنْ قَبِيلِ مَنْ يَسْوَدُّ وَجْهُهُ، فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِمَّا مُؤْمِنٌ وَإِمَّا كَافِرٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا مَنْزِلَةٌ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ كَمَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ، فَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى قَسَمَ أَهْلَ الْقِيَامَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ يَبْيَضُّ وَجْهُهُ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْوَدُّ وَجْهُهُ وَهُمُ الْكَافِرُونَ وَلَمْ يَذْكُرِ الثَّالِثَ، فَلَوْ كَانَ هَاهُنَا قِسْمٌ ثَالِثٌ لَذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالُوا وَهَذَا أَيْضًا مُتَأَكِّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عَبَسَ: 38- 42] . أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ بِأَنَّ عَدَمَ ذِكْرِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ، يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا قَالَ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَذَكَرَهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ، وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَأَيْضًا الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْمُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ الْإِيمَانِ وَلَا شُبْهَةَ أَنَّ الْكَافِرَ الْأَصْلِيَّ مِنْ أَهْلِ النَّارِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتِ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، فَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْفُسَّاقِ. وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ هُوَ أَنَّا نَقُولُ: الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ مَا كَانَتْ إِلَّا فِي التَّرْغِيبِ فِي الْإِيمَانِ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَفِي الزَّجْرِ عَنِ الْكُفْرِ بِهِمَا ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَتْبَعَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَظَاهِرُهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ابْيِضَاضُ الْوَجْهِ نَصِيبًا لِمَنْ آمَنَ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، وَاسْوِدَادُ الْوَجْهِ يَكُونُ نَصِيبًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، ثُمَّ دَلَّ مَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْبَيَاضِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَصَاحِبَ السَّوَادِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ نَفْيُ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ يُشْكِلُ هَذَا بِالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ فَجَوَابُنَا عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ أَسْلَمَ وَقْتَ اسْتِخْرَاجِ الذُّرِّيَّةِ مِنْ صُلْبِ آدَمَ؟ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْكُلُّ دَاخِلًا فِيهِ وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فَجَعَلَ مُوجِبَ الْعَذَابِ هُوَ الْكُفْرُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كُفْرٌ لا الكفر

مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَإِذَا وَقَعَ التَّعْلِيلُ بِمُطْلَقِ الْكُفْرِ دَخَلَ كُلُّ الْكُفَّارِ فِيهِ سَوَاءٌ كَفَرَ بَعْدَ الْإِيمَانِ، أَوْ كَانَ كَافِرًا أَصْلِيًّا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْقِسْمَيْنِ أَوَّلًا فَقَالَ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَقَدَّمَ الْبَيَاضَ عَلَى السَّوَادِ فِي اللَّفْظِ، ثُمَّ لَمَّا شَرَعَ فِي حُكْمِ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ قَدَّمَ حُكْمَ السَّوَادِ، وَكَانَ حَقُّ التَّرْتِيبِ أَنْ يُقَدَّمَ حُكْمُ الْبَيَاضِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَا لِلتَّرْتِيبِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْخَلْقِ إِيصَالُ الرَّحْمَةِ لَا إِيصَالُ الْعَذَابِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَاكِيًا عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ سُبْحَانَهُ: «خَلَقْتُهُمْ لِيَرْبَحُوا عَلَيَّ لَا لِأَرْبَحَ عَلَيْهِمْ» وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ تَعَالَى ابْتَدَأَ بِذِكْرِ أَهْلِ الثَّوَابِ وَهُمْ أَهْلُ الْبَيَاضِ، لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْأَشْرَفِ عَلَى الْأَخَسِّ فِي الذِّكْرِ أَحْسَنُ، ثُمَّ خَتَمَ بِذِكْرِهِمْ أَيْضًا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ الرَّحْمَةِ أَكْثَرُ مِنْ إِرَادَةِ الْغَضَبِ كَمَا قَالَ: «سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي» وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْفُصَحَاءَ وَالشُّعَرَاءَ قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَطْلَعُ الْكَلَامِ وَمَقْطَعُهُ شَيْئًا يُسِرُّ الطَّبْعَ وَيَشْرَحُ الصَّدْرَ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذِكْرَ رَحْمَةِ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ فَلَا جَرَمَ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ أَهِلِ الثَّوَابِ وَالِاخْتِتَامِ بِذِكْرِهِمْ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَيْنَ جَوَابُ (أَمَا) ؟. وَالْجَوَابُ: هُوَ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ، وَإِنَّمَا حَسُنَ الْحَذْفُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَمِثْلُهُ فِي التَّنْزِيلِ كَثِيرٌ قَالَ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرَّعْدِ: 23، 24] وَقَالَ: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا [الْبَقَرَةِ: 127] وَقَالَ: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا [السَّجْدَةِ: 12] . السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَنِ الْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ؟. وَالْجَوَابُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا: قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: الْكُلُّ آمَنُوا حَالَ مَا اسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكُلُّ مَنْ كَفَرَ فِي الدُّنْيَا، فَقَدْ كَفَرَ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَرَوَاهُ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» بِإِسْنَادِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ مَا ظَهَرَ لَكُمْ مَا يُوجِبُ الْإِيمَانَ وَهُوَ الدَّلَائِلُ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ، قَوْلُهُ تَعَالَى فيما قبل هذه الآية يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 70] فَذَمَّهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ وُضُوحِ الْآيَاتِ، وَقَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ [آل عمران: 105] . ثُمَّ قَالَ هَاهُنَا أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَكَانَ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ حَتَّى تَصِيرَ هَذِهِ الْآيَةُ مُقَرِّرَةً لِمَا قَبْلَهَا، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ تَكُونُ الْآيَةُ عَامَّةً فِي حَقِّ كُلِّ الْكُفَّارِ، وَأَمَّا الَّذِينَ خَصَّصُوا هَذِهِ الْآيَةَ بِبَعْضِ الْكُفَّارِ فَلَهُمْ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ عِكْرِمَةُ وَالْأَصَمُّ وَالزَّجَّاجُ الْمُرَادُ أَهْلُ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ، فَلَمَّا بُعِثَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرُوا بِهِ الثَّانِي: قَالَ قَتَادَةُ: الْمُرَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ الْإِيمَانِ بِسَبَبِ الِارْتِدَادِ الثَّالِثُ: قَالَ الْحَسَنُ: الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ الْإِيمَانِ بِالنِّفَاقِ الرَّابِعُ: قِيلَ هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْخَامِسُ: قِيلَ هُمُ

الْخَوَارِجُ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِيهِمْ: «إِنَّهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ الْأَخِيرَانِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِأَنَّهُمَا لَا يَلِيقَانِ بِمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَلِأَنَّ الْخُرُوجَ عَلَى الْإِمَامِ لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ أَلْبَتَّةَ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ أَكَفَرْتُمْ؟. الْجَوَابُ: هَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِمَا ذُكِرَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وهو قوله قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 98، 99] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. وَفِيهِ فَوَائِدُ الْأُولَى: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُذْكَرْ ذَلِكَ لَكَانَ الْوَعِيدُ مُخْتَصًّا بِمَنْ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ، فَلَمَّا ذُكِرَ هَذَا ثَبَتَ الْوَعِيدُ لِمَنْ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ ولمن كان كافراً أصلياًالثانية: قَالَ الْقَاضِي قَوْلُهُ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ مِنْهُ لَا مِنَ اللَّهِ وَكَذَا قَوْلُهُ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُرْجِئَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَقَعَ مُعَلَّلًا بِالْكُفْرِ، وَهَذَا يَنْفِي حُصُولَ الْعَذَابِ لِغَيْرِ الْكَافِرِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْمُرَادُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ؟ الْجَوَابُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ الْجَنَّةُ، وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ وَإِنْ كَثُرَتْ طَاعَتُهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَكَيْفَ لَا نَقُولُ ذَلِكَ وَالْعَبْدُ مَا دَامَتْ دَاعِيَتُهُ إِلَى الْفِعْلِ وَإِلَى التَّرْكِ عَلَى السَّوِيَّةِ يَمْتَنِعُ مِنْهُ الْفِعْلُ؟ فَإِذَنْ مَا لَمْ يَحْصُلْ رُجْحَانُ دَاعِيَةِ الطَّاعَةِ امْتَنَعَ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ الطَّاعَةُ وَذَلِكَ الرُّجْحَانُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَنْ صُدُورُ تِلْكَ الطَّاعَةِ مِنَ الْعَبْدِ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَكَيْفَ يَصِيرُ ذَلِكَ مُوجِبًا عَلَى اللَّهِ شَيْئًا، فَثَبَتَ أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ وَبِكَرَمِهِ لَا بِاسْتِحْقَاقِنَا. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ بعد قوله فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ. الْجَوَابُ: كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُونَ فِيهَا؟ فَقِيلَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا وَلَا يَمُوتُونَ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: الْكُفَّارُ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ كَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مُخَلَّدُونَ فِي الْجَنَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَنُصَّ عَلَى خُلُودِ أَهْلِ النَّارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى خُلُودِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيهَا فَمَا الْفَائِدَةُ؟. وَالْجَوَابُ: كُلُّ ذَلِكَ إِشْعَارَاتٌ بِأَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ أَغْلَبُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ابْتَدَأَ فِي الذِّكْرِ بِأَهْلِ الرَّحْمَةِ وَخَتَمَ بِأَهْلِ الرَّحْمَةِ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْعَذَابَ مَا أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ، بَلْ قَالَ: فَذُوقُوا الْعَذابَ مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ/ الرَّحْمَةَ مُضَافَةً إلى نفسه حيث قال: فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ وَلَمَّا ذَكَرَ الْعَذَابَ مَا نَصَّ عَلَى الْخُلُودِ مَعَ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى الْخُلُودِ فِي جَانِبِ الثَّوَابِ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْعَذَابَ عَلَّلَهُ بِفِعْلِهِمْ فَقَالَ: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَلَمَّا ذكر الثواب علله برحمته فقال: فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ وَهَذَا جَارٍ مَجْرَى الِاعْتِذَارِ عَنِ الْوَعِيدِ بِالْعِقَابِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُشْعِرُ بِأَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ مُغَلَّبٌ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ لَا تَحْرِمْنَا مِنْ بَرْدِ رَحْمَتِكَ وَمِنْ كَرَامَةِ غُفْرَانِكَ وَإِحْسَانِكَ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَقَوْلُهُ تِلْكَ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا هِيَ دَلَائِلُ اللَّهِ، وَإِنَّمَا جَازَ إِقَامَةُ تِلْكَ مَقَامَ (هَذِهِ) لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ قَدِ انْقَضَتْ بَعْدَ الذِّكْرِ، فَصَارَ كَأَنَّهَا بَعُدَتْ فَقِيلَ فِيهَا تِلْكَ وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِ كِتَابًا مُشْتَمِلًا عَلَى كُلِّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الدِّينِ، فَلَمَّا أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَاتِ قَالَ: تِلْكَ الْآيَاتُ الْمَوْعُودَةُ هِيَ الَّتِي نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ في تفسير قوله ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة: 2] وَقَوْلُهُ بِالْحَقِّ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَيْ مُلْتَبِسَةٌ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ مِنْ إِجْزَاءِ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ بِمَا يَسْتَوْجِبَانِهِ الثَّانِي: بِالْحَقِّ، أَيْ بِالْمَعْنَى الْحَقِّ، لِأَنَّ مَعْنَى التَّلْوِ حَقٌّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا حَسُنَ ذِكْرُ الظُّلْمِ هَاهُنَا لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْعُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَعْتَذِرُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ إِنَّهُمْ مَا وَقَعُوا فِيهِ إِلَّا بِسَبَبِ أَفْعَالِهِمُ الْمُنْكَرَةِ، فَإِنَّ مَصَالِحَ الْعَالَمِ لَا تَسْتَقِيمُ إِلَّا بِتَهْدِيدِ الْمُذْنِبِينَ، وَإِذَا حَصَلَ هَذَا التَّهْدِيدُ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّحْقِيقِ دَفْعًا لِلْكَذِبِ، فَصَارَ هَذَا الِاعْتِذَارُ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ، عَلَى أَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ غَالِبٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ (عَمَّ) بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ وَعِيدَ الْكُفَّارِ إِنَّهُمْ كانُوا لَا يَرْجُونَ حِساباً وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً [النَّبَأِ: 27، 28] أَيْ هَذَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُرِيدُ شَيْئًا مِنَ الْقَبَائِحِ لَا مِنْ أَفْعَالِهِ وَلَا مِنْ أَفْعَالِ عِبَادِهِ، وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَبَيَانُهُ: وَهُوَ أَنَّ الظُّلْمَ إِمَّا أَنْ يُفْرَضَ صُدُورُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ مِنَ الْعَبْدِ، وَبِتَقْدِيرِ صُدُورِهِ مِنَ الْعَبْدِ، فَإِمَّا أَنْ يَظْلِمَ نَفْسَهُ وَذَلِكَ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْمَعَاصِي أَوْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ، فَأَقْسَامُ الظُّلْمِ هِيَ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُرِيدَ شَيْئًا مِمَّا يَكُونُ ظُلْمًا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ صَادِرًا عَنْهُ أَوْ صَادِرًا عَنْ غَيْرِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ فَاعِلًا لِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ فَاعِلًا لِلظُّلْمِ أَصْلًا وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ فَاعِلًا لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ، لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَعْمَالِهِمْ ظُلْمُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَظُلْمُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى غَيْرَ فَاعِلٍ لِلظُّلْمِ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُرِيدٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا، / وَلَوْ كَانَ فَاعِلًا لِشَيْءٍ مِنْ أَقْسَامِ الظُّلْمِ لَكَانَ مُرِيدًا لَهَا، وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ، قَالُوا: فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ فَاعِلٍ لِلظُّلْمِ، وَغَيْرُ فَاعِلٍ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ، وَغَيْرُ مُرِيدٍ لِلْقَبَائِحِ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى تَمَدَّحَ بِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ، وَالتَّمَدُّحُ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ صَحَّ مِنْهُ فِعْلُ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَصَحَّ مِنْهُ كَوْنُهُ مُرِيدًا لَهُ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى الظُّلْمِ وَعِنْدَ هَذَا تَبَجَّحُوا وَقَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ الْوَاحِدَةُ وَافِيَةٌ بِتَقْرِيرِ جَمِيعِ أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسَائِلِ الْعَدْلِ، ثُمَّ قَالُوا: وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الظُّلْمَ وَلَا يَفْعَلُ الظُّلْمَ قَالَ بَعْدَهُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ عَقِيبَ مَا تَقَدَّمَ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الظُّلْمَ وَالْقَبَائِحَ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ فَاعِلَ الْقَبِيحِ إِنَّمَا يَفْعَلُ الْقَبِيحَ إِمَّا لِلْجَهْلِ، أَوِ الْعَجْزِ، أَوِ الْحَاجَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لكل ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَهَذِهِ الْمَالِكِيَّةُ تُنَافِي الْجَهْلَ وَالْعَجْزَ وَالْحَاجَةَ، وَإِذَا امْتَنَعَ ثُبُوتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى امْتَنَعَ كَوْنُهُ فَاعِلًا لِلْقَبِيحِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ

لَا يُرِيدُ الظُّلْمَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ كَانَ لقائل أن يقول: إنما نُشَاهِدُ وُجُودَ الظُّلْمِ فِي الْعَالَمِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وُقُوعُهُ بِإِرَادَتِهِ كَانَ عَلَى خِلَافِ إِرَادَتِهِ، فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ ضَعِيفًا عَاجِزًا مَغْلُوبًا وَذَلِكَ مُحَالٌ. فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَمْنَعَ الظَّلَمَةَ مِنَ الظُّلْمِ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ وَالْقَهْرِ، وَلَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ عَاجِزًا ضَعِيفًا لَا أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْهُمْ تَرْكَ الْمَعْصِيَةِ اخْتِيَارًا وَطَوْعًا لِيَصِيرُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ مُسْتَحِقِّينَ لِلثَّوَابِ فَلَوْ قَهَرَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ لَبَطَلَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ، فَهَذَا تَلْخِيصُ كَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَرُبَّمَا أَوْرَدُوا هَذَا الْكَلَامَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَقَالُوا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَظْلِمَهُمْ أَوْ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ مِنْهُمْ أَنْ يَظْلِمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِكُمْ، لِأَنَّ مَذْهَبَكُمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ عَذَّبَ الْبَرِيءَ عَنِ الذَّنْبِ بِأَشَدِّ الْعَذَابِ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا، بَلْ كَانَ عَادِلًا، لَأَنَّ الظُّلْمَ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَهُوَ تَعَالَى إِنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَاسْتَحَالَ كَوْنُهُ ظَالِمًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنْ يَظْلِمَ الْخَلْقَ وَإِنْ حَمَلْتُمُ الْآيَةَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنْ يَظْلِمَ بَعْضُ الْعِبَادِ بَعْضًا، فَهَذَا أَيْضًا لَا يَتِمُّ عَلَى قَوْلِكُمْ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَتَكْوِينِهِ عَلَى قَوْلِكُمْ، فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى مَذْهَبِكُمْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ وَالْجَوَابُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا مِنْ عِبَادِهِ؟ قَوْلُهُ الظُّلْمُ مِنْهُ مُحَالٌ عَلَى مَذْهَبِكُمْ فَامْتَنَعَ التَّمَدُّحُ بِهِ قُلْنَا: الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى تَمَدَّحَ بِقَوْلِهِ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [الْبَقَرَةِ: 255] وَبِقَوْلِهِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الْأَنْعَامِ: 14] وَلَا يلزم من ذلك صحة النوع وَالْأَكْلِ عَلَيْهِ فَكَذَا هَاهُنَا الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى إِنْ عَذَّبَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلْعَذَابِ فَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ فِي صُوَرِ الظُّلْمِ، وَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ أَحَدِ الْمُتَشَابِهَيْنِ عَلَى الْآخَرِ كَقَوْلِهِ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ هَذَا تَمَامُ/ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ عَلَى كَوْنِهِ خَالِقًا لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ، فَقَالُوا لَا شَكَّ أَنَّ أَفْعَالَ العباد من جملة ما في السموات وَالْأَرْضِ، فَوَجَبَ كَوْنُهَا لَهُ بِقَوْلِهِ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ قَوْلُنَا: إِنَّهَا لَهُ لَوْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً لَهُ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ. أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ لِلَّهِ إِضَافَةُ مِلْكٍ لَا إِضَافَةُ فِعْلٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: هَذَا الْبِنَاءُ لِفُلَانٍ فَيُرِيدُونَ أَنَّهُ مَمْلُوكُهُ لَا أَنَّهُ مَفْعُولُهُ، وَأَيْضًا الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ تَعْظِيمُ اللَّهِ لِنَفْسِهِ وَمَدْحُهُ لِإِلَهِيَّةِ نَفْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَدَّحَ بِأَنْ يَنْسِبَ إِلَى نَفْسِهِ الْفَوَاحِشَ وَالْقَبَائِحَ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا كان مظروفاً في السموات وَالْأَرْضِ وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ لَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ أَعْرَاضٌ. أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ بِأَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ إِضَافَةُ الْفِعْلِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْقَبِيحِ وَالْحَسَنِ لَا يُرَجِّحُ الْحَسَنَ عَلَى الْقَبِيحِ إِلَّا إِذَا حَصَلَ فِي قَلْبِهِ مَا يَدْعُوهُ إِلَى فِعْلِ الْحَسَنِ، وَتِلْكَ الدَّاعِيَةُ حَاصِلَةٌ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى دَفْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، وَإِذَا كَانَ الْمُؤَثِّرُ فِي حُصُولِ فِعْلِ الْعَبْدِ هُوَ مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِيَةِ، وَثَبَتَ أَنَّ مَجْمُوعَ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِيَةِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى ثَبَتَ أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مُسْتَنِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى خَلْقًا وَتَكْوِينًا بِوَاسِطَةِ فِعْلِ السَّبَبِ، فَهَذَا تَمَامُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 110 إلى 111]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ زَعَمَتِ الْفَلَاسِفَةُ أَنَّهُ إنما قدم ذكر ما في السموات عَلَى ذِكْرِ مَا فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ الْأَحْوَالَ السَّمَاوِيَّةَ أَسْبَابٌ لِلْأَحْوَالِ الْأَرْضِيَّةِ، فَقُدِّمَ السَّبَبُ عَلَى الْمُسَبَّبِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ الْأَرْضِيَّةِ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى الْأَحْوَالِ السَّمَاوِيَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَحْوَالَ السَّمَاوِيَّةَ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى خَلْقِ اللَّهِ وَتَكْوِينِهِ فَيَكُونُ الْجَبْرُ لَازِمًا أَيْضًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فَأَعَادَ ذِكْرَ اللَّهِ فِي أَوَّلِ الْآيَتَيْنِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَأْكِيدُ التَّعْظِيمِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِنْهُ مَبْدَأَ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِلَيْهِ مَعَادَهُمْ، فَقَوْلُهُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْأَوَّلُ وَقَوْلُهُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الآخر، وذلك يدل إِحَاطَةِ حُكْمِهِ وَتَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِهِ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَأَنَّ الْأَسْبَابَ مُنْتَسِبَةٌ إِلَيْهِ وَأَنَّ الْحَاجَاتِ مُنْقَطِعَةٌ عِنْدَهُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: كَلِمَةُ (إِلَى) فِي قَوْلِهِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ لَا تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى فِي مَكَانِ وُجْهَةٍ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ رُجُوعَ الْخَلْقِ إِلَى مَوْضِعٍ لَا يَنْفُذُ فِيهِ حُكْمُ أَحَدٍ إِلَّا حُكْمُهُ وَلَا يَجْرِي فِيهِ قضاء أحد إلا قضاؤه. [سورة آل عمران (3) : الآيات 110 الى 111] كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) فِي النَّظْمِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَنَهَاهُمْ عَنْ بَعْضِهَا وَحَذَّرَهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي التَّمَرُّدِ وَالْعِصْيَانِ، وَذَكَرَ عَقِيبَهُ ثَوَابَ الْمُطِيعِينَ وَعِقَابَ الْكَافِرِينَ، كَانَ الْغَرَضُ مِنْ كُلِّ هَذِهِ الْآيَاتِ حَمْلَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى الِانْقِيَادِ وَالطَّاعَةِ وَمَنْعَهُمْ عَنِ التَّمَرُّدِ وَالْمَعْصِيَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَرْدَفَ ذَلِكَ بِطَرِيقٍ آخَرَ يَقْتَضِي حَمْلَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الِانْقِيَادِ وَالطَّاعَةِ فَقَالَ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ خَيْرَ الْأُمَمِ وَأَفْضَلَهُمْ، فَاللَّائِقُ بِهَذَا أَنْ لَا تُبْطِلُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ، وَأَنْ لَا تُزِيلُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ هَذِهِ الْخَصْلَةَ الْمَحْمُودَةَ، وَأَنْ تَكُونُوا مُنْقَادِينَ مُطِيعِينَ فِي كُلِّ مَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ التَّكَالِيفِ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ كَمَالَ حَالِ الْأَشْقِيَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آل عمران: 106] وَكَمَالَ حَالِ السُّعَدَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ [آل عمران: 107] نَبَّهَ عَلَى مَا هُوَ السَّبَبُ لِوَعِيدِ الْأَشْقِيَاءِ بقوله وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 108] يَعْنِي أَنَّهُمْ إِنَّمَا اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ بِأَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، ثُمَّ نَبَّهَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا هُوَ السَّبَبُ لِوَعْدِ السُّعَدَاءِ بِقَوْلِهِ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أَيْ تِلْكَ السَّعَادَاتُ وَالْكَمَالَاتُ وَالْكَرَامَاتُ إِنَّمَا فَازُوا بِهَا فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَفْظَةُ (كَانَ) قَدْ تَكُونُ تَامَّةً وَنَاقِصَةً وَزَائِدَةً عَلَى مَا هُوَ مَشْرُوحٌ فِي النَّحْوِ وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ كُنْتُمْ عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ (كَانَ) هَاهُنَا تَامَّةٌ بِمَعْنَى الْوُقُوعِ وَالْحُدُوثِ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى خَبَرٍ، وَالْمَعْنَى: حَدَثْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ وَوُجِدْتُمْ وَخُلِقْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ خَيْرَ أُمَّةٍ بِمَعْنَى الْحَالِ وَهَذَا قَوْلُ جَمْعٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الثَّانِي: أَنَّ (كَانَ) هَاهُنَا نَاقِصَةٌ وَفِيهِ سُؤَالٌ: / وَهُوَ أَنَّ هَذَا يُوهِمُ أَنَّهُمْ كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَأَنَّهُمْ مَا بَقُوا الْآنَ عليها.

وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ قَوْلَهُ (كَانَ) عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِ الشَّيْءِ فِي زَمَانٍ مَاضٍ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْهَامِ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى انْقِطَاعٍ طَارِئٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً [نوح: 10] قوله وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفتح: 14] إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِلْمُفَسِّرِينَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا: كُنْتُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ خَيْرَ أُمَّةٍ وَثَانِيهَا: كُنْتُمْ فِي الْأُمَمِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَكُمْ مَذْكُورِينَ بِأَنَّكُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ وَهُوَ كَقَوْلِهِ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الْفَتْحِ: 29] إِلَى قَوْلِهِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ [الْفَتْحِ: 29] فَشِدَّتُهُمْ عَلَى الْكُفَّارِ أَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَثَالِثُهَا: كُنْتُمْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَوْصُوفِينَ بِأَنَّكُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ وَرَابِعُهَا: كُنْتُمْ مُنْذُ آمَنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وَخَامِسُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ قَوْلُهُ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ تَابِعٌ لِقَوْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ [آل عمران: 107] وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ عِنْدَ الْخُلُودِ فِي الْجَنَّةِ: كُنْتُمْ فِي دُنْيَاكُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ فَاسْتَحَقَّيْتُمْ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَبَيَاضِ الْوَجْهِ بِسَبَبِهِ، وَيَكُونُ مَا عُرِضَ بَيْنَ أَوَّلِ الْقِصَّةِ وَآخِرِهَا كَمَا لَا يَزَالُ يُعْرَضُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ مِثْلِهِ وَسَادِسُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَقَالَ (أَنْتُمْ) وَكَانَ هَذَا التَّشْرِيفُ حَاصِلًا لِكُلِّنَا وَلَكِنَّ قَوْلَهُ كُنْتُمْ مَخْصُوصٌ بِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ مِنْ أَصْحَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمُ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ، وَمَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعُوا وَسَابِعُهَا: كُنْتُمْ مُذْ آمَنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مُذْ كَانُوا. الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ (كَانَ) هَاهُنَا زَائِدَةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ قَوْلُهُ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ هُوَ كَقَوْلِهِ وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ [الْأَعْرَافِ: 86] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ [الْأَنْفَالِ: 26] وَإِضْمَارُ كَانَ وَإِظْهَارُهَا سَوَاءٌ إِلَّا أَنَّهَا تُذْكَرُ لِلتَّأْكِيدِ وَوُقُوعِ الْأَمْرِ لَا مَحَالَةَ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: هَذَا الْقَوْلُ ظَاهِرُ الِاخْتِلَالِ، لِأَنَّ (كَانَ) تُلْغَى مُتَوَسِّطَةً وَمُؤَخَّرَةً، وَلَا تُلْغَى مُتَقَدِّمَةً، تَقُولُ الْعَرَبُ: عَبْدُ اللَّهِ كَانَ قَائِمٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ قَائِمٌ كَانَ عَلَى أَنَّ كَانَ مُلْغَاةٌ، وَلَا يَقُولُونَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ قَائِمٌ عَلَى إِلْغَائِهَا، لِأَنَّ سبيلهم أن يبدؤا بِمَا تَنْصَرِفُ الْعِنَايَةُ إِلَيْهِ، وَالْمُلْغَى لَا يَكُونُ فِي مَحَلِّ الْعِنَايَةِ، وَأَيْضًا لَا يَجُوزُ إِلْغَاءُ الْكَوْنِ فِي الْآيَةِ لِانْتِصَابِ خَبَرِهِ، وَإِذَا عَمِلَ الْكَوْنُ فِي الْخَبَرِ فَنَصَبَهُ لَمْ يَكُنْ مُلْغًى. الِاحْتِمَالُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ (كَانَ) بِمَعْنَى صَارَ، فَقَوْلُهُ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ مَعْنَاهُ صِرْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَيْ صِرْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ بِسَبَبِ كَوْنِكُمْ آمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ يَعْنِي كَمَا أَنَّكُمُ اكْتَسَبْتُمْ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْخِصَالِ، فَأَهْلُ الْكِتَابِ لَوْ آمَنُوا لَحَصَلَتْ لَهُمْ أَيْضًا صِفَةُ الْخَيْرِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ [الْأَعْرَافِ: 159] ثُمَّ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ فَوَجَبَ/ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ أَفْضَلَ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ مِنْ قَوْمِ مُوسَى، وَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ أَفْضَلَ مِنْهُمْ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأُمَّةُ لَا تَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ إِذْ لَوْ جَازَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ تَحْكُمَ بِمَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَامْتَنَعَ كَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَفْضَلَ مِنَ الْأُمَّةِ الَّتِي تُهْدِي بِالْحَقِّ، لِأَنَّ الْمُبْطِلَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِنَ الْمُحِقِّ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَا تَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ إجماعهم حجة.

الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ (أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ) فِي لفظ بِالْمَعْرُوفِ وَلَفْظِ الْمُنْكَرِ يُفِيدَانِ الِاسْتِغْرَاقَ، وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ آمِرِينَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ، وَنَاهِينَ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ وَمَتَى كَانُوا كَذَلِكَ كَانَ إِجْمَاعُهُمْ حَقًّا وَصِدْقًا لَا مَحَالَةَ فَكَانَ حُجَّةً، وَالْمَبَاحِثُ الْكَثِيرَةُ فِيهِ ذَكَرْنَاهَا فِي الْأُصُولِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: قَوْلُهُ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ظَاهِرُ الْخِطَابِ فِيهِ مَعَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ الْأُمَّةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَةِ: 183] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [الْبَقَرَةِ: 178] فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ خِطَابٌ مَعَ الْحَاضِرِينَ بِحَسَبِ اللَّفْظِ، وَلَكِنَّهُ عَامٌّ فِي حَقِّ الْكُلِّ كَذَا هَاهُنَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَصْلُ الْأُمَّةِ الطَّائِفَةُ الْمُجْتَمِعَةُ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَأُمَّةُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمُ الْجَمَاعَةُ الْمَوْصُوفُونَ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالْإِقْرَارِ بِنُبُوَّتِهِ، وَقَدْ يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ جَمَعَتْهُمْ دَعْوَتُهُ أَنَّهُمْ أُمَّتُهُ إِلَّا أَنَّ لَفْظَ الْأُمَّةِ إِذَا أُطْلِقَتْ وَحْدَهَا وَقَعَ عَلَى الْأَوَّلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا قِيلَ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى كَذَا فُهِمَ مِنْهُ الْأَوَّلُ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ» وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ «أُمَّتِي أُمَّتِي» فَلَفْظُ الْأُمَّةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَأَشْبَاهِهَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْمُقِرُّونَ بِنُبُوَّتِهِ، فَأَمَّا أَهْلُ دَعْوَتِهِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ لَهُمْ: إِنَّهُمْ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ وَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ إِلَّا لَفْظُ الْأُمَّةِ بِهَذَا الشَّرْطِ. أَمَّا قَوْلُهُ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ فَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى كُنْتُمْ خَيْرَ الْأُمَمِ الْمُخْرَجَةِ لِلنَّاسِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ، فَقَوْلُهُ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أَيْ أُظْهِرَتْ لِلنَّاسِ حَتَّى تَمَيَّزَتْ وَعُرِفَتْ وَفُصِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ لِلنَّاسِ مِنْ تَمَامِ قَوْلِهِ كُنْتُمْ وَالتَّقْدِيرُ: كُنْتُمْ لِلنَّاسِ خَيْرَ أُمَّةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أُخْرِجَتْ صِلَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ لِلنَّاسِ. ثُمَّ قَالَ: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ عِلَّةِ تِلْكَ الْخَيْرِيَّةِ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ كَرِيمٌ يُطْعِمُ النَّاسَ وَيَكْسُوهُمْ وَيَقُومُ بِمَا يُصْلِحُهُمْ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ ذِكْرَ الْحُكْمِ مَقْرُونًا بِالْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ لَهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ، فههنا حَكَمَ تَعَالَى بِثُبُوتِ وَصْفِ الْخَيْرِيَّةِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ هَذَا الْحُكْمَ وَهَذِهِ الطَّاعَاتِ، أَعْنِي الْأَمْرَ/ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْإِيمَانَ، فَوَجَبَ كَوْنُ تِلْكَ الْخَيْرِيَّةِ مُعَلَّلَةً بِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ. وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مِنْ أَيِّ وَجْهٍ يَقْتَضِي الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ كَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ خَيْرَ الْأُمَمِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةَ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي سَائِرِ الْأُمَمِ؟. وَالْجَوَابُ: قَالَ الْقَفَّالُ: تَفْضِيلُهُمْ عَلَى الْأُمَمِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ إِنَّمَا حَصَلَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِآكَدِ الْوُجُوهِ وَهُوَ الْقِتَالُ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ قَدْ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَبِاللِّسَانِ وَبِالْيَدِ، وَأَقْوَاهَا مَا يَكُونُ بِالْقِتَالِ، لِأَنَّهُ إِلْقَاءُ النَّفْسِ فِي خَطَرِ الْقَتْلِ وَأَعْرَفُ الْمَعْرُوفَاتِ الدِّينُ الْحَقُّ وَالْإِيمَانُ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، وَأَنْكَرُ الْمُنْكَرَاتِ: الْكُفْرُ بِاللَّهِ، فَكَانَ الْجِهَادُ فِي الدِّينِ مَحْمَلًا لِأَعْظَمِ الْمَضَارِّ لِغَرَضِ إِيصَالِ الْغَيْرِ إِلَى أَعْظَمِ الْمَنَافِعِ، وَتَخْلِيصِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَضَارِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجِهَادُ أَعْظَمَ الْعِبَادَاتِ، وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ الْجِهَادِ فِي شَرْعِنَا أَقْوَى مِنْهُ في

سَائِرِ الشَّرَائِعِ، لَا جَرَمَ صَارَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِفَضْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: قَوْلُهُ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيُقِرُّوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَتُقَاتِلُونَهُمْ عَلَيْهِ وَ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» أَعْظَمُ الْمَعْرُوفِ، وَالتَّكْذِيبُ هُوَ أَنْكَرُ الْمُنْكَرِ. ثُمَّ قَالَ الْقَفَّالُ: فَائِدَةُ الْقِتَالِ عَلَى الدِّينِ لَا يُنْكِرُهُ مُنْصِفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يُحِبُّونَ أَدْيَانَهُمْ بِسَبَبِ الْأُلْفِ وَالْعَادَةِ، وَلَا يَتَأَمَّلُونَ فِي الدَّلَائِلِ الَّتِي تُورَدُ عَلَيْهِمْ فَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى الدُّخُولِ فِي الدِّينِ بِالتَّخْوِيفِ بِالْقَتْلِ دَخَلَ فِيهِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَضْعُفُ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ حُبِّ الدِّينِ الْبَاطِلِ، وَلَا يَزَالُ يَقْوَى فِي قَلْبِهِ حُبُّ الدِّينِ الْحَقِّ إِلَى أَنْ يَنْتَقِلَ مِنَ الْبَاطِلِ إِلَى الْحَقِّ، وَمِنَ اسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ الدَّائِمِ إِلَى اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ الدَّائِمِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قُدِّمَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ فِي الذِّكْرِ مَعَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى كُلِّ الطَّاعَاتِ؟. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأُمَمِ الْمُحِقَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى فَضَّلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ الْمُحِقَّةِ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ فِي حُصُولِ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةِ هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْكُلِّ، بَلِ الْمُؤَثِّرُ فِي حُصُولِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ هُوَ كَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَقْوَى حَالًا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ، فَإِذَنِ الْمُؤَثِّرُ فِي حُصُولِ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةِ هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ فَهُوَ شَرْطٌ لِتَأْثِيرِ هَذَا الْمُؤَثِّرِ فِي هَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُوجَدِ الْإِيمَانُ لَمْ يَصِرْ شَيْءٌ مِنَ الطَّاعَاتِ مُؤَثِّرًا فِي صِفَةِ الْخَيْرِيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِهَذِهِ الْخَيْرِيَّةِ هُوَ كَوْنُهُمْ آمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ نَاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَمَّا إِيمَانُهُمْ فَذَاكَ شَرْطُ التَّأْثِيرِ، وَالْمُؤَثِّرُ أَلْصَقُ/ بِالْأَثَرِ مِنْ شَرْطِ التَّأْثِيرِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى ذِكْرِ الْإِيمَانِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ اكْتَفَى بِذِكْرِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِيمَانَ بِالنُّبُوَّةِ مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَالْجَوَابُ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِالنُّبُوَّةِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا حَصَلَ الْإِيمَانُ بِكَوْنِهِ صَادِقًا، وَالْإِيمَانُ بِكَوْنِهِ صَادِقًا لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا كَانَ الَّذِي أَظْهَرَ الْمُعْجِزَ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ صَادِقًا لِأَنَّ الْمُعْجِزَ قَائِمٌ مَقَامَ التَّصْدِيقِ بِالْقَوْلِ، فَلَمَّا شَاهَدْنَا ظُهُورَ الْمُعْجِزِ عَلَى وَفْقِ دَعْوَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ الْإِيمَانُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَنْبِيهًا عَلَى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي لِأَجْلِهِ حَصَلَتْ صِفَةُ الْخَيْرِيَّةِ لِأَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَحَصَلَتْ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةُ أَيْضًا لَهُمْ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَرْغِيبُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي هَذَا الدِّينِ الثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إِنَّمَا آثَرُوا دِينَهُمْ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ حُبًّا لِلرِّيَاسَةِ وَاسْتِتْبَاعِ الْعُلُومِ وَلَوْ آمَنُوا لَحَصَلَتْ لَهُمْ هَذِهِ الرِّيَاسَةُ فِي الدُّنْيَا مَعَ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ فِي الْآخِرَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُمْ مِمَّا قَنِعُوا بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَتْبَعَ هَذَا الْكَلَامَ بِجُمْلَتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ مِنْ غَيْرِ عَاطِفٍ إِحْدَاهُمَا: قَوْلُهُ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمران: 110] وَثَانِيَتُهُمَا: قَوْلُهُ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هُمَا كَلَامَانِ وَارِدَانِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِطْرَادِ عِنْدَ إِجْرَاءِ ذِكْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: وَعَلَى ذِكْرِ فُلَانٍ فَإِنَّ مِنْ شَأْنِهِ كَيْتُ وَكَيْتُ، وَلِذَلِكَ جَاءَ آمَنَ غَيْرَ عاطف.

أَمَّا قَوْلُهُ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ فَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ الْمُؤْمِنُونَ لِلِاسْتِغْرَاقِ أَوْ لِلْمَعْهُودِ السَّابِقِ؟. وَالْجَوَابُ: بَلْ لِلْمَعْهُودِ السَّابِقِ، وَالْمُرَادُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَرَهْطُهُ مِنَ الْيَهُودِ، وَالنَّجَاشِيُّ وَرَهْطُهُ مِنَ النَّصَارَى. السُّؤَالُ الثَّانِي: الْوَصْفُ إِنَّمَا يُذْكَرُ لِلْمُبَالَغَةِ فَأَيُّ مُبَالَغَةٍ تَحْصُلُ فِي وَصْفِ الْكَافِرِ بِأَنَّهُ فَاسِقٌ. وَالْجَوَابُ: الْكَافِرُ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا فِي دِينِهِ وَقَدْ يَكُونُ فَاسِقًا فِي دِينِهِ فَيَكُونُ مَرْدُودًا عِنْدَ الطَّوَائِفِ كُلِّهِمْ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَقْبَلُونَهُ لِكُفْرِهِ، وَالْكُفَّارُ لَا يَقْبَلُونَهُ لِكَوْنِهِ فَاسِقًا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ أَهْلُ الْكِتَابِ فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ، وَالَّذِينَ مَا آمَنُوا فَهُمْ فَاسِقُونَ فِي أَدْيَانِهِمْ، فَلَيْسُوا مِمَّنْ يَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمُ الْبَتَّةَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا رَغَّبَ الْمُؤْمِنِينَ فِي التَّصَلُّبِ فِي إِيمَانِهِمْ/ وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَقْوَالِ الْكُفَّارِ وَأَفْعَالِهِمْ بِقَوْلِهِ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ رَغَّبَهُمْ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِينَ إِلَّا بِالْقَلِيلِ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ صَارُوا مُنْهَزِمِينَ مَخْذُولِينَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجِبْ الِالْتِفَاتُ إِلَى أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَقْرِيرٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [آلِ عِمْرَانَ: 100] فَهَذَا وَجْهُ النَّظْمِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ ضَرَرٌ وَإِنَّمَا مُنْتَهَى أَمْرِهِمْ أَنْ يُؤْذُوكُمْ بِاللِّسَانِ، إِمَّا بِالطَّعْنِ في محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وإنما بِإِظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، كَقَوْلِهِمْ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] والْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] واللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ [الْمَائِدَةِ: 73] وَإِمَّا بِتَحْرِيفِ نُصُوصِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَإِمَّا بِإِلْقَاءِ الشُّبَهِ فِي الْأَسْمَاعِ، وَإِمَّا بِتَخْوِيفِ الضَّعَفَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ إِلَّا أَذىً اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ كُلَّ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ يُوجِبُ وُقُوعَ الْغَمِّ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَالْغَمُّ ضَرَرٌ، فَالتَّقْدِيرُ لَا يَضُرُّوكُمْ إِلَّا الضَّرَرَ الَّذِي هُوَ الْأَذَى، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ صَحِيحٌ، وَالْمَعْنَى لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا ضَرَرًا يَسِيرًا، وَالْأَذَى وَقَعَ مَوْقِعَ الضَّرَرِ، وَالْأَذَى مَصْدَرُ أَذَيْتُ الشَّيْءَ أَذًى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ وَهُوَ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُمْ لَوْ قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ لَصَارُوا مُنْهَزِمِينَ مَخْذُولِينَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ أَيْ أَنَّهُمْ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِمْ مُنْهَزِمِينَ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ شَوْكَةٌ وَلَا قُوَّةٌ أَلْبَتَّةَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ [الْحَشْرِ: 12] وَقَوْلُهُ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ [آلِ عِمْرَانَ: 12] وَقَوْلُهُ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [الْقَمَرِ: 44، 45] وَكُلُّ ذَلِكَ وَعْدٌ بِالْفَتْحِ وَالنُّصْرَةِ وَالظَّفَرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ غُيُوبٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ آمِنُونَ مِنْ ضَرَرِهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّهُمْ لَوْ قَاتَلُوا الْمُؤْمِنِينَ لَانْهَزَمُوا، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ قُوَّةٌ وَشَوْكَةٌ بَعْدَ الِانْهِزَامِ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَقَعَتْ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهَا، فَإِنَّ الْيَهُودَ لَمْ يُقَاتِلُوا إِلَّا انْهَزَمُوا، وَمَا أَقْدَمُوا على محاربة وطلب رئاسة إِلَّا خُذِلُوا، وَكُلُّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هَبْ أَنَّ الْيَهُودَ كَذَلِكَ، لَكِنَّ النَّصَارَى لَيْسُوا كَذَلِكَ فَهَذَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الْآيَاتِ قُلْنَا: هذه

[سورة آل عمران (3) : آية 112]

الْآيَاتُ مَخْصُوصَةٌ بِالْيَهُودِ، وَأَسْبَابُ النُّزُولِ عَلَى ذَلِكَ فَزَالَ هَذَا الْإِشْكَالُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلَّا جُزِمَ قَوْلُهُ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ. قُلْنَا: عَدَلَ بِهِ عَنْ حُكْمِ الْجَزَاءِ إِلَى حُكْمِ الْإِخْبَارِ ابْتِدَاءً كَأَنَّهُ قِيلَ أُخْبِرُكُمْ أَنَّهُمْ لَا يُنْصَرُونَ، وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ جُزِمَ لَكَانَ نَفْيُ النَّصْرِ مُقَيَّدًا بِمُقَاتَلَتِهِمْ كَتَوْلِيَةِ الْأَدْبَارِ، وَحِينَ رُفِعَ كَانَ نَفْيُ النَّصْرِ وَعْدًا مُطْلَقًا كَأَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ شَأْنُهُمْ وَقِصَّتُهُمُ الَّتِي أُخْبِرُكُمْ عَنْهَا وَأُبَشِّرُكُمْ بِهَا بَعْدَ التَّوْلِيَةِ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ النُّصْرَةَ بَعْدَ ذَلِكَ قَطُّ بَلْ يَبْقَوْنَ فِي الذِّلَّةِ وَالْمَهَانَةِ أَبَدًا دَائِمًا. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الَّذِي عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ؟. الْجَوَابُ: هُوَ جُمْلَةُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أُخْبِرُكُمْ أَنَّهُمْ إِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يَنْهَزِمُوا، ثُمَّ أُخْبِرُكُمْ أَنَّهُمْ لَا يُنْصَرُونَ وَإِنَّمَا ذُكِرَ لَفْظُ (ثُمَّ) لِإِفَادَةِ مَعْنَى التَّرَاخِي فِي الْمَرْتَبَةِ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِتَسْلِيطِ الْخِذْلَانِ عليهم أعظم من الاخبار بتوليتهم الأدبار. [سورة آل عمران (3) : آية 112] ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112) [في قَوْلُهُ تَعَالَى ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ إِنْ قَاتَلُوا رَجَعُوا مَخْذُولِينَ غَيْرَ مَنْصُورِينَ ذَكَرَ أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ قَدْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْمَعْنَى جُعِلَتِ الذلة ملصقة ربهم كَالشَّيْءِ يُضْرَبُ عَلَى الشَّيْءِ فَيَلْصِقُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: مَا هَذَا عَلَيَّ بِضَرْبَةِ لَازِبٍ، وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ الْخَرَاجِ ضَرِيبَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الذِّلَّةُ هِيَ الذُّلُّ، وَفِي الْمُرَادِ بِهَذَا الذُّلِّ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَقْوَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يُحَارَبُوا وَيُقْتَلُوا وَتُغْنَمَ أَمْوَالُهُمْ وَتُسْبَى ذَرَارِيهِمْ وَتُمْلَكَ أَرَاضِيهِمْ فَهُوَ كقوله تعالى: اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [الْبَقَرَةِ: 191] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَالْمُرَادُ إِلَّا بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ وَعِصْمَةٍ وَذِمَامٍ مِنَ اللَّهِ وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَزُولُ الْأَحْكَامُ، فَلَا قَتْلَ وَلَا غَنِيمَةَ وَلَا سَبْيَ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الذِّلَّةَ هِيَ الْجِزْيَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ضَرْبَ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ يُوجِبُ الذِّلَّةَ وَالصَّغَارَ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الذِّلَّةِ أَنَّكَ لَا تَرَى فِيهِمْ مَلِكًا قَاهِرًا وَلَا رَئِيسًا مُعْتَبَرًا، بَلْ هُمْ مُسْتَخَفُّونَ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ ذَلِيلُونَ مَهِينُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنَ الذِّلَّةِ هِيَ الْجِزْيَةُ فَقَطْ أَوْ هَذِهِ الْمَهَانَةُ فقط لأن قول إِلَّا/ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ يَقْتَضِي زَوَالَ تِلْكَ الذِّلَّةِ عِنْدَ حُصُولِ هَذَا الْحَبْلِ وَالْجِزْيَةُ وَالصَّغَارُ وَالدَّنَاءَةُ لَا يَزُولُ شَيْءٌ مِنْهَا عِنْدَ حُصُولِ هَذَا الْحَبْلِ، فَامْتَنَعَ حَمْلُ الذِّلَّةِ عَلَى الْجِزْيَةِ فَقَطْ، وَبَعْضُ مَنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ، أَجَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، فَقَالَ: الْيَهُودُ قَدْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ، سَوَاءٌ كَانُوا عَلَى عَهْدٍ مِنَ اللَّهِ أَوْ لَمْ يَكُونُوا فَلَا يَخْرُجُونَ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الذِّلَّةِ إِلَى الْعِزَّةِ، فَقَوْلُهُ إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ تَقْدِيرُهُ لَكِنْ قَدْ يَعْتَصِمُونَ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ حَمْلَ لَفْظِ (إِلَّا) عَلَى (لَكِنْ) خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَأَيْضًا إِذَا

حَمَلْنَا الْكَلَامَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: لَكِنْ قَدْ يَعْتَصِمُونَ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ لَمْ يَتِمَّ هَذَا الْقَدْرُ فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ الشَّيْءِ الَّذِي يَعْتَصِمُونَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِأَجْلِ الْحَذَرِ عَنْهُ وَالْإِضْمَارُ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَلَا يُصَارُ إِلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَإِذَا كَانَ لَا ضَرُورَةَ هَاهُنَا إِلَى ذَلِكَ كَانَ المصير إليه غير جائز، بل هاهنا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ الذِّلَّةُ عَلَى كُلِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَعْنِي: الْقَتْلَ، وَالْأَسْرَ، وَسَبْيَ الذَّرَارِيِّ، وَأَخْذَ الْمَالِ، وَإِلْحَاقَ الصَّغَارِ، وَالْمَهَانَةَ، وَيَكُونُ فَائِدَةُ الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ أَنَّهُ لَا يَبْقَى مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي بَقَاءَ بَعْضِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ أَخْذُ الْقَلِيلِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الَّذِي هُوَ مُسَمًّى بِالْجِزْيَةِ، وَبَقَاءُ الْمَهَانَةِ وَالْحَقَارَةِ وَالصَّغَارِ فِيهِمْ، فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَوْلُهُ أَيْنَما ثُقِفُوا أَيْ وُجِدُوا وَصُودِفُوا، يُقَالُ: ثَقِفْتُ فُلَانًا فِي الْحَرْبِ أَيْ أَدْرَكْتُهُ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [الْبَقَرَةِ: 191] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: التَّقْدِيرُ إِلَّا أَنْ يَعْتَصِمُوا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ، وَأَنْشَدَ عَلَى ذَلِكَ: رَأَتْنِي بِحَبْلِهَا فَصَدَّتْ مَخَافَةً ... وَفِي الْحَبْلِ رَوْعَاءُ الْفُؤَادِ فَرُوقُ وَاعْتَرَضُوا عَلَيْهِ، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ حَذْفُ الْمَوْصُولِ وَإِبْقَاءُ صِلَتِهِ، لِأَنَّ الْمَوْصُولَ هُوَ الْأَصْلُ وَالصِّلَةُ فَرْعٌ فَيَجُوزُ حَذْفُ الْفَرْعِ لِدَلَالَةِ الْأَصْلِ عَلَيْهِ، أَمَّا حَذْفُ الْأَصْلِ وَإِبْقَاءُ الْفَرْعِ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ وَاقِعٌ عَلَى طَرِيقِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَى ضَرْبِ الذِّلَّةِ لُزُومُهَا إِيَّاهُمْ عَلَى أَشَدِّ الْوُجُوهِ بِحَيْثُ لَا تُفَارِقُهُمْ وَلَا تَنْفَكُّ عَنْهُمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَنْفَكُّ عَنْهُمُ الذِّلَّةُ، وَلَنْ يَتَخَلَّصُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ بِمَعْنَى (مَعَ) كَقَوْلِهِمْ: اخْرُجْ بِنَا نَفْعَلْ كَذَا، أَيْ مَعَنَا، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا مَعَ حَبْلٍ مِنَ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُرَادُ مِنْ حَبْلِ اللَّهِ عَهْدُهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْعَهْدَ إِنَّمَا سُمِّيَ بِالْحَبْلِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَمَّا كَانَ قَبْلَ الْعَهْدِ خَائِفًا، صَارَ ذَلِكَ الْخَوْفُ مَانِعًا لَهُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى مَطْلُوبِهِ، فَإِذَا حَصَلَ الْعَهْدُ تَوَصَّلَ بِذَلِكَ الْعَهْدِ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى مَطْلُوبِهِ، فَصَارَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِالْحَبْلِ الَّذِي مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ تَخَلَّصَ مِنْ خَوْفِ الضَّرَرِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ عَطَفَ عَلَى حَبْلِ اللَّهِ حَبْلًا مِنَ النَّاسِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ فَكَيْفَ هَذِهِ الْمُغَايَرَةُ؟ قُلْنَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: حَبْلُ اللَّهِ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَحَبْلُ النَّاسِ هُوَ الْعَهْدُ وَالذِّمَّةُ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَقَالَ: أَوْ حبل من الناس، وقال آخرون: المراد بكلام الْحَبْلَيْنِ الْعَهْدُ وَالذِّمَّةُ وَالْأَمَانُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ تَعَالَى الْحَبْلَيْنِ لِأَنَّ الْأَمَانَ الْمَأْخُوذَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الْأَمَانُ الْمَأْخُوذُ بِإِذْنِ اللَّهِ وَهَذَا عِنْدِي أَيْضًا ضَعِيفٌ، وَالَّذِي عِنْدِي فِيهِ أَنَّ الْأَمَانَ الْحَاصِلَ لِلذِّمِّيِّ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا: الَّذِي نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وهو أخد الْجِزْيَةِ وَالثَّانِي: الَّذِي فُوِّضَ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فَيُزِيدُ فِيهِ تَارَةً وَيُنْقِصُ بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ فَالْأَوَّلُ: هُوَ الْمُسَمَّى بِحَبْلِ اللَّهِ وَالثَّانِي: هُوَ الْمُسَمَّى بحبل المؤمنين والله أعلم. ثم قال: وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ مَكَثُوا، وَلَبِثُوا وَدَامُوا فِي غَضَبِ اللَّهِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْبَوْءِ وَهُوَ الْمَكَانُ، وَمِنْهُ: تَبَوَّأَ فُلَانٌ مَنْزِلَ كَذَا وَبَوَّأْتُهُ إِيَّاهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مَكَثُوا فِي غَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَحَلُّوا فِيهِ، وَسَوَاءٌ قَوْلُكَ: حَلَّ بِهِمُ الْغَضَبُ وَحَلُّوا بِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ وَالْأَكْثَرُونَ حَمَلُوا الْمَسْكَنَةَ عَلَى الْجِزْيَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ قَالَ وَذَلِكَ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 إلى 115]

لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ الْمَسْكَنَةَ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَيْهِمْ غَيْرُ زَائِلَةٍ عَنْهُمْ، وَالْبَاقِي عَلَيْهِمْ لَيْسَ إِلَّا الْجِزْيَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِالْمَسْكَنَةِ أَنَّ الْيَهُودِيَّ يُظْهِرُ مِنْ نَفْسِهِ الْفَقْرَ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا مُوسِرًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ جَعَلَ الْيَهُودَ أَرْزَاقًا لِلْمُسْلِمِينَ فَيَصِيرُونَ مَسَاكِينَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ مِنَ الْوَعِيدِ قَالَ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَلْصَقَ بِالْيَهُودِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ أَوَّلُهَا: جَعَلَ الذِّلَّةَ لَازِمَةً لَهُمْ وَثَانِيهَا: جَعَلَ غَضَبَ اللَّهِ لَازِمًا لَهُمْ وَثَالِثُهَا: جَعَلَ الْمَسْكَنَةَ لَازِمَةً لَهُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْعِلَّةَ لِإِلْصَاقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَكْرُوهَةِ بِهِمْ هِيَ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هَذِهِ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ إِنَّمَا الْتَصَقَتْ بِالْيَهُودِ بَعْدَ ظُهُورِ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ، وَالَّذِينَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَدْوَارٍ وَأَعْصَارٍ، فَعَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي حَصَلَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ وَهُوَ قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الْمَعْلُولُ الَّذِي هُوَ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ هَذَا الْمَعْلُولُ لَمْ تَحْصُلْ فِيهِ الْعِلَّةُ، فَكَانَ الْإِشْكَالُ لَازِمًا. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمْ قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَكِنَّهُمْ كَانُوا رَاضِينَ بِذَلِكَ، فَإِنَّ أَسْلَافَهُمْ هُمُ الَّذِينَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ وَهَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ كَانُوا رَاضِينَ بِفِعْلِ أَسْلَافِهِمْ، فَنَسَبَ ذَلِكَ الْفِعْلَ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ الْقَبِيحُ فِعْلًا لِآبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُصَوِّبِينَ لِأَسْلَافِهِمْ فِي تِلْكَ الْأَفْعَالِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ كُرِّرَ قَوْلُهُ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ التَّكْرِيرُ/ لِلتَّأْكِيدِ، لِأَنَّ التَّأْكِيدَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِشَيْءٍ أَقْوَى مِنَ الْمُؤَكَّدِ، وَالْعِصْيَانُ أَقَلُّ حَالًا مِنَ الْكُفْرِ فَلَمْ يَجُزْ تَأْكِيدُ الْكُفْرِ بِالْعِصْيَانِ؟. وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ عِلَّةَ الذِّلَّةِ وَالْغَضَبِ وَالْمَسْكَنَةِ هِيَ الْكُفْرُ وَقَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ، وَعِلَّةُ الْكُفْرِ وَقَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ هِيَ الْمَعْصِيَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا تَوَغَّلُوا فِي الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ فَكَانَتْ ظُلُمَاتُ الْمَعَاصِي تَتَزَايَدُ حَالًا فَحَالًا، وَنُورُ الْإِيمَانِ يَضْعُفُ حَالًا فَحَالًا، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ بَطَلَ نُورُ الْإِيمَانِ وَحَصَلَتْ ظُلْمَةُ الْكُفْرِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: 14] فَقَوْلُهُ ذلِكَ بِما عَصَوْا إِشَارَةٌ إِلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ أَرْبَابُ الْمُعَامَلَاتِ، مَنِ ابْتُلِيَ بِتَرْكِ الْآدَابِ وَقَعَ فِي تَرْكِ السُّنَنِ، وَمَنِ ابْتُلِيَ بِتَرْكِ السُّنَنِ وَقَعَ فِي تَرْكِ الْفَرِيضَةِ، وَمَنِ ابْتُلِيَ بِتَرْكِ الْفَرِيضَةِ وَقَعَ فِي اسْتِحْقَارِ الشَّرِيعَةِ، وَمَنِ ابْتُلِيَ بِذَلِكَ وَقَعَ فِي الْكُفْرِ الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ، وَيُرِيدَ بِقَوْلِهِ ذلِكَ بِما عَصَوْا مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ عِلَّةَ عُقُوبَةِ مَنْ تَقَدَّمَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ تَأَخَّرَ لَمَّا تَبِعَ مَنْ تَقَدَّمَ كَانَ لِأَجْلِ مَعْصِيَتِهِ وَعَدَاوَتِهِ مُسْتَوْجِبًا لِمِثْلِ عُقُوبَتِهِمْ حَتَّى يَظْهَرَ لِلْخَلْقِ أَنَّ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ لَيْسَ إِلَّا من باب العدل والحكمة. [سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 115] لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) [في قَوْلُهُ تَعَالَى لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إلى قوله تعالى وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ]

فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ لَيْسُوا سَواءً قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسُوا سَواءً كَلَامٌ تَامٌّ، وَقَوْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ قَوْلِهِ لَيْسُوا سَواءً كَمَا وَقَعَ قَوْلُهُ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ [آل عمران: 110] بياناً لقوله كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران: 110] وَالْمَعْنَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ/ لَيْسُوا سَوَاءً، وَهُوَ تَقْرِيرٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ احْتِمَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ وكان تَمَامُ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: وَمِنْهُمْ أُمَّةٌ مَذْمُومَةٌ، إِلَّا أَنَّهُ أَضْمَرَ ذِكْرَ الْأُمَّةِ الْمَذْمُومَةِ عَلَى مَذْهَبِ الْعَرَبِ مِنْ أَنَّ ذِكْرَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ الضِّدِّ الْآخَرِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الضِّدَّيْنِ يُعْلَمَانِ مَعًا، فَذِكْرُ أَحَدِهِمَا يَسْتَقِلُّ بِإِفَادَةِ الْعِلْمِ بِهِمَا، فَلَا جَرَمَ يَحْسُنُ إِهْمَالُ الضِّدِّ الْآخَرِ. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ: دَعَانِي إِلَيْهَا الْقَلْبُ إِنِّيَ لَامْرُؤٌ ... مُطِيعٌ فَلَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا أَرَادَ (أَمْ غَيٌّ) فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الرُّشْدِ عَنْ ذِكْرِ الْغَيِّ، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَا حَاجَةَ إِلَى إِضْمَارِ الْأُمَّةِ الْمَذْمُومَةِ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْأُمَّةِ الْمَذْمُومَةِ قَدْ جَرَى فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِضْمَارِهَا مَرَّةً أُخْرَى، لِأَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِالضِّدَّيْنِ مَعًا كَانَ ذِكْرُ أَحَدِهِمَا مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ الْآخَرِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ زَيْدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ لَا يَسْتَوِيَانِ زَيْدٌ عاقل دين زكي، فيغني هذا عن أَنْ يُقَالَ: وَعَبْدُ اللَّهِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَكَذَا هاهنا لَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ لَيْسُوا سَواءً أَغْنَى ذَلِكَ عَنِ الْإِضْمَارِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسُوا سَواءً كلام غير تام ولا يجوز الوقت عِنْدَهُ، بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ وَأُمَّةٌ مَذْمُومَةٌ، فَأُمَّةٌ رُفِعَ بِلَيْسَ وَإِنَّمَا قِيلَ لَيْسُوا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ الْأُمَّةِ الْمَذْمُومَةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدَةَ إِلَّا أَنَّ أَكْثَرَ النَّحْوِيِّينَ أَنْكَرُوا هَذَا الْقَوْلَ لِاتِّفَاقِ الْأَكْثَرِينَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ وَأَمْثَالُهَا لُغَةٌ رَكِيكَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُقَالُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ سَوَاءٌ، أَيْ مُتَسَاوِيَانِ وَقَوْمٌ سَوَاءٌ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ وَمَضَى الْكَلَامُ فِي سَواءً فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْمُرَادِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ قَالَ لَهُمْ بَعْضُ كِبَارِ الْيَهُودِ: لَقَدْ كَفَرْتُمْ وَخَسِرْتُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِبَيَانِ فَضْلِهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِالصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ لِبَيَانِ أَنَّ كُلَّ أَهْلِ الْكِتَابِ لَيْسُوا كَذَلِكَ، بَلْ فِيهِمْ مَنْ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِالصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ وَالْخِصَالِ الْمَرْضِيَّةِ، قَالَ الثَّوْرِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يُصَلُّونَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَعَنْ عَطَاءٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَرْبَعِينَ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ وَاثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِنَ الْحَبَشَةِ وَثَلَاثَةٍ مِنَ الرُّومِ كَانُوا عَلَى دِينِ عِيسَى وَصَدَّقُوا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ كُلُّ مَنْ أُوتِيَ الْكِتَابَ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ

الْمُسْلِمُونَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا [فَاطِرٍ: 32] وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا رَوَى ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ، فَقَالَ: «أَمَّا إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ أَحَدٌ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرُكُمْ» وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: أُولَئِكَ الْحَاضِرُونَ كَانُوا نَفَرًا مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقِيلَ لَيْسَ يَسْتَوِي مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَامُوا صَلَاةَ الْعَتْمَةِ فِي السَّاعَةِ الَّتِي يَنَامُ فِيهَا غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَلَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ كُلَّ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمَّاهُمُ اللَّهُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ بِأَهْلِ الْكِتَابِ حَالُهُمْ وَصِفَتُهُمْ تِلْكَ الْخِصَالُ الذَّمِيمَةُ وَالْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللَّهُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ حَالُهُمْ وَصِفَتُهُمْ هَكَذَا، يَسْتَوِيَانِ؟ فَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَقْرِيرَ فَضِيلَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ تَأْكِيدًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قوله كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران: 110] وَهُوَ كَقَوْلِهِ أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ [السَّجْدَةِ: 18] . ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَ الْأُمَّةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِصِفَاتٍ ثَمَانِيَةٍ. الصِّفَةُ الْأُولَى: أَنَّهَا قَائِمَةٌ وَفِيهَا أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا قَائِمَةٌ فِي الصَّلَاةِ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ فَعَبَّرَ عَنْ تَهَجُّدِهِمْ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً [الْفُرْقَانِ: 64] وَقَوْلِهِ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ [الْمُزَّمِّلِ: 20] وَقَوْلِهِ قُمِ اللَّيْلَ [الْمُزَّمِّلِ: 2] وَقَوْلِهِ وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [الْبَقَرَةِ: 238] وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ قَوْلُهُ وَهُمْ يَسْجُدُونَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّجْدَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الصَّلَاةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ كَوْنِهَا قَائِمَةً: أَنَّهَا ثَابِتَةٌ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالدِّينِ الْحَقِّ مُلَازِمَةٌ لَهُ غَيْرُ مُضْطَرِبَةٍ فِي التَّمَسُّكِ بِهِ كَقَوْلِهِ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً [آلِ عِمْرَانَ: 75] أَيْ مُلَازِمًا لِلِاقْتِضَاءِ ثَابِتًا عَلَى الْمُطَالَبَةِ مُسْتَقْصِيًا فِيهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قائِماً بِالْقِسْطِ [آلِ عِمْرَانَ: 18] . وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى كَوْنِ الْمُسْلِمِ قَائِمًا بحق العبودية وقوله قائِماً بِالْقِسْطِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَوْلَى قَائِمٌ بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ فِي الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ فَتَمَّتِ الْمُعَاهَدَةُ بِفَضْلِ اللَّهِ تعالى كما قال: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 40] وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنْ أُنَاسًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يُحَدِّثُونَنَا بِمَا يُعْجِبُنَا فَلَوْ كَتَبْنَاهُ، فَغَضِبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: أَمُتَهَوِّكُونَ أَنْتُمْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ كَمَا تَهَوَّكَتِ الْيَهُودُ، قَالَ الْحَسَنُ: مُتَحَيِّرُونَ مُتَرَدِّدُونَ «أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ أَتَيْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: «إِنَّكُمْ لَمْ تُكَلَّفُوا أَنْ تَعْمَلُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَإِنَّمَا أُمِرْتُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِمَا وَتُفَوِّضُوا عِلْمَهُمَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلِّفْتُمْ/ أَنْ تُؤْمِنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِي هَذَا الْوَحْيِ غُدْوَةً وَعَشِيًّا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَدْرَكَنِي إِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى لَآمَنُوا بِي وَاتَّبَعُونِي» فَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّبَاتَ عَلَى هَذَا الدِّينِ وَاجِبٌ وَعَدَمَ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِهِ وَاجِبٌ، فَلَا جَرَمَ مَدَحَهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِذَلِكَ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أُمَّةٌ قائِمَةٌ أَيْ مُسْتَقِيمَةٌ عَادِلَةٌ مِنْ قَوْلِكَ: أَقَمْتُ الْعُودَ فَقَامَ بِمَعْنَى اسْتَقَامَ، وَهَذَا كَالتَّقْرِيرِ لِقَوْلِهِ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: (يَتْلُونَ وَيُؤْمِنُونَ) فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ صِفَتَانِ لِقَوْلِهِ أُمَّةٌ أَيْ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ تَالُونَ مُؤْمِنُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: التِّلَاوَةُ الْقِرَاءَةُ وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الِاتِّبَاعِ فَكَأَنَّ التِّلَاوَةَ هِيَ اتِّبَاعُ اللَّفْظِ اللَّفْظَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: آيَاتُ اللَّهِ قَدْ يُرَادُ بِهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهَا أَصْنَافُ مَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي هِيَ دَالَّةٌ عَلَى ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَالْمُرَادُ هَاهُنَا الْأُولَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: آناءَ اللَّيْلِ أصلها في اللغة الأوقات والساعات وواحدها إنا، مِثْلُ: مِعَى وَأَمْعَاءٍ وَإِنْيٌ مِثْلُ نِحْيٍ وَأَنْحَاءِ، مَكْسُورُ الْأَوَّلِ سَاكِنُ الثَّانِي، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ، كَأَنَّ الثَّانِي مَأْخُوذٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ انْتِظَارُ السَّاعَاتِ وَالْأَوْقَاتِ، وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي أَخَّرَ الْمَجِيءَ إِلَى الْجُمُعَةِ «آذَيْتَ وَآنَيْتَ» أَيْ دَافَعْتَ الْأَوْقَاتَ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ يَسْجُدُونَ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا من التلاوة كأنهم يقرؤن الْقُرْآنَ فِي السَّجْدَةِ مُبَالَغَةً فِي الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ إِلَّا أَنَّ الْقَفَّالَ رَحِمَهُ اللَّهُ رَوَى فِي «تَفْسِيرِهِ» حَدِيثًا: أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَلَا إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا» الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَقُومُونَ تَارَةً يَبْتَغُونَ الْفَضْلَ وَالرَّحْمَةَ بِأَنْوَاعِ مَا يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الْخُضُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً [الْفُرْقَانِ: 64] وَقَوْلِهِ أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزُّمَرِ: 9] قَالَ الْحَسَنُ: يُرِيحُ رَأْسَهُ بِقَدَمَيْهِ وَقَدَمَيْهِ بِرَأْسِهِ، وَهَذَا عَلَى مَعْنَى إِرَادَةِ الرَّاحَةِ وَإِزَالَةِ التَّعَبِ وَإِحْدَاثِ النَّشَاطِ الثَّالِثُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ وَصَفَهُمْ بِالتَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ وَالصَّلَاةُ تُسَمَّى سُجُودًا وَسَجْدَةً وَرُكُوعًا وَرَكْعَةً وَتَسْبِيحًا وَتَسْبِيحَةً، قَالَ تَعَالَى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [الْبَقَرَةِ: 43] أَيْ صَلُّوا وَقَالَ: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الرُّومِ: 17] وَالْمُرَادُ الصَّلَاةُ الرَّابِعُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ أَيْ يَخْضَعُونَ وَيَخْشَعُونَ لِلَّهِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْخُشُوعَ سُجُودًا كَقَوْلِهِ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [النحل: 49] وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ ذَكَرَهَا الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا أَيْضًا يَقُومُونَ/ فِي اللَّيَالِي لِلتَّهَجُّدِ وَقِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ، فَلَمَّا مَدَحَ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّهَجُّدِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَالْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يَسْتَلْزِمُ الْحَذَرَ مِنَ الْمَعَاصِي، وَهَؤُلَاءِ الْيَهُودُ يُنْكِرُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ وَلَا يَحْتَرِزُونَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ، فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمُ الْإِيمَانُ بِالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَمَالَ الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ، وَالْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الصَّلَاةُ وَأَفْضَلُ الْأَذْكَارِ ذِكْرُ اللَّهِ، وَأَفْضَلُ الْمَعَارِفِ مَعْرِفَةُ الْمَبْدَأِ وَمَعْرِفَةُ الْمَعَادِ، فَقَوْلُهُ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الصَّادِرَةِ عَنْهُمْ وَقَوْلُهُ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِشَارَةٌ إِلَى فَضْلِ الْمَعَارِفِ الْحَاصِلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ فَكَانَ هَذَا إِشَارَةً إِلَى كَمَالِ حَالِهِمْ فِي الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ وَفِي الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، وَذَلِكَ أَكْمَلُ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ، وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: إِنَّهَا آخِرُ دَرَجَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَأَوَّلُ دَرَجَاتِ الْمَلَكِيَّةِ. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ. الصِّفَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَايَةَ الْقُصْوَى فِي الْكَمَالِ أَنْ يَكُونَ تَامًّا وَفَوْقَ التَّمَامِ فَكَوْنُ الْإِنْسَانِ تَامًّا لَيْسَ إِلَّا فِي كَمَالِ قُوَّتِهِ الْعَمَلِيَّةِ وَالنَّظَرِيَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَكَوْنُهُ فَوْقَ التَّمَامِ أَنْ يَسْعَى فِي تَكْمِيلِ

النَّاقِصِينَ، وَذَلِكَ بِطَرِيقَيْنِ، إِمَّا بِإِرْشَادِهِمْ إِلَى مَا ينبغي وهو الأمر بالمعروف، أو بمنعهم عَمَّا لَا يَنْبَغِي وَهُوَ النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَبِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ أَيْ يَنْهَوْنَ عَنِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَعَنْ إِنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ مُطْلَقٌ فَلَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَهُوَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَعْرُوفٍ وَكُلَّ مُنْكَرٍ. الصِّفَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ يَتَبَادَرُونَ إِلَيْهَا خَوْفَ الْفَوْتِ بِالْمَوْتِ، وَالْآخَرُ: يَعْمَلُونَهَا غَيْرَ مُتَثَاقِلِينَ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ الْعَجَلَةَ مَذْمُومَةٌ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ وَالتَّأَنِّي مِنَ الرَّحْمَنِ» فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ السُّرْعَةِ وَبَيْنَ الْعَجَلَةِ؟ قُلْنَا: السُّرْعَةُ مَخْصُوصَةٌ بِأَنْ يُقَدَّمَ مَا يَنْبَغِي تقديمه، والعجلة ومخصوصة بِأَنْ يُقَدَّمَ مَا لَا يَنْبَغِي تَقْدِيمُهُ، فَالْمُسَارَعَةُ مَخْصُوصَةٌ بِفَرْطِ الرَّغْبَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، لِأَنَّ مَنْ رَغِبَ فِي الْأَمْرِ، آثَرَ الْفَوْرَ عَلَى التَّرَاخِي، قَالَ تَعَالَى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 133] وَأَيْضًا الْعَجَلَةُ لَيْسَتْ مَذْمُومَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى [طَهَ: 84] . الصِّفَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَالْمَعْنَى وَأُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا وُصِفُوا بِهِ مِنْ جُمْلَةِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ صَلَحَتْ أَحْوَالُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَضِيَهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَصْفَ بِذَلِكَ غَايَةُ الْمَدْحِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا الْقُرْآنُ، فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ بِهَذَا الْوَصْفِ أَكَابِرَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ/ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ: بَعْدَ ذِكْرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذِي الْكِفْلِ وَغَيْرِهِمْ وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 86] وَذَكَرَ حِكَايَةً عَنْ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النَّمْلِ: 19] وَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ [التَّحْرِيمِ: 4] وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الصَّلَاحَ ضِدُّ الْفَسَادِ، وَكُلُّ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَهُوَ فَسَادٌ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْعَقَائِدِ، أَوْ فِي الْأَعْمَالِ، فَإِذَا كَانَ كُلُّ مَا حَصَلَ مِنْ بَابِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ، فَقَدْ حَصَلَ الصَّلَاحُ، فَكَانَ الصَّلَاحُ دَالًّا عَلَى أَكْمَلِ الدَّرَجَاتِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّمَانِيَةَ قَالَ: وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ بِالْيَاءِ عَلَى الْمُغَايَبَةِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، يَتْلُونَ وَيَسْجُدُونَ وَيُؤْمِنُونَ وَيَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ ويسارعون، ولن يضيع لهم ما يعلمون، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ جُهَّالَ الْيَهُودِ لَمَّا قَالُوا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ إِنَّكُمْ خَسِرْتُمْ بِسَبَبِ هَذَا الْإِيمَانِ، قَالَ تَعَالَى بَلْ فَازُوا بِالدَّرَجَاتِ الْعُظْمَى، فَكَانَ الْمَقْصُودُ تَعْظِيمَهُمْ لِيَزُولَ عَنْ قَلْبِهِمْ أَثَرُ كَلَامِ أُولَئِكَ الْجُهَّالِ، ثُمَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ بِحَسَبِ اللَّفْظِ يَرْجِعُ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّ سَائِرَ الْخَلْقِ يَدْخُلُونَ فِيهِ نَظَرًا إِلَى الْعِلَّةِ. وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَإِنَّهُمْ قَرَءُوا بِالتَّاءِ عَلَى سَبِيلِ الْمُخَاطَبَةِ فَهُوَ ابْتِدَاءُ خِطَابٍ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ أَفْعَالَ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ ذُكِرَتْ، ثُمَّ قَالَ: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مِنْ جُمْلَتِكُمْ هَؤُلَاءِ، فَلَنْ تُكْفَرُوهُ، وَالْفَائِدَةُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ عَامًّا بِحَسَبِ اللَّفْظِ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ نَظَائِرَ هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَتْ مُخَاطِبَةً لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ كَقَوْلِهِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ

[سورة آل عمران (3) : آية 116]

[الْبَقَرَةِ: 197] وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ «1» وما تفعلوا من خير تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ «2» وَأَمَّا أَبُو عَمْرٍو فَالْمَنْقُولُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ بِالْقِرَاءَتَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَلَنْ تكفروه أَيْ لَنْ تُمْنَعُوا ثَوَابَهُ وَجَزَاءَهُ وَإِنَّمَا سُمِّيَ منع الجزاء كفر لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى إِيصَالَ الثَّوَابِ شُكْرًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ [الْبَقَرَةِ: 158] وَقَالَ: فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الْإِسْرَاءِ: 19] فَلَمَّا سَمَّى إِيصَالَ الْجَزَاءِ شُكْرًا سَمَّى مَنْعَهُ كُفْرًا وَالثَّانِي: أَنَّ الْكُفْرَ فِي اللُّغَةِ هُوَ السَّتْرُ فَسُمِّيَ مَنْعُ الْجَزَاءِ كُفْرًا، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَحْدِ وَالسَّتْرِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ: فلن تكفروه فَعَدَّاهُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ مَعَ أَنَّ شَكَرَ وَكَفَرَ لَا يَتَعَدَّيَانِ إِلَّا إِلَى وَاحِدٍ يُقَالُ شَكَرَ النِّعْمَةَ وَكَفَرَهَا. قُلْنَا: لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى الْكُفْرِ هَاهُنَا هُوَ الْمَنْعُ وَالْحِرْمَانُ، فَكَانَ كَأَنَّهُ قَالَ: فَلَنْ تُحْرَمُوهُ، وَلَنْ/ تُمْنَعُوا جَزَاءَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْمُوَازَنَةِ مِنَ الذَّاهِبِينَ إِلَى الْإِحْبَاطِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: صَرِيحُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُصُولِ أَثَرِ فِعْلِ الْعَبْدِ إِلَيْهِ، فَلَوِ انْحَبَطَ وَلَمْ يَنْحَبِطْ مِنَ الْمُحْبَطِ بِمِقْدَارِهِ شَيْءٌ لَبَطَلَ مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7، 8] . ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ عَدَمِ الْحِرْمَانِ وَالْجَزَاءِ أَقَامَ مَا يَجْرِي مَجْرَى الدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ عَدَمَ إِيصَالِ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلسَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ وَذَلِكَ مُحَالٌ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ عَلِيمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْعَجْزِ وَالْبُخْلِ وَالْحَاجَةِ وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ إِلَهُ جَمِيعِ الْمُحْدَثَاتِ، فَاسْمُ اللَّهِ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْعَجْزِ وَالْبُخْلِ وَالْحَاجَةِ، وَقَوْلُهُ عَلِيمٌ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْجَهْلِ، وَإِذَا انْتَفَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ امْتَنَعَ الْمَنْعُ مِنَ الْجَزَاءِ، لِأَنَّ مَنْعَ الْحَقِّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، إِنَّمَا قَالَ: عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ مَعَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِالْكُلِّ بِشَارَةً لِلْمُتَّقِينَ بِجَزِيلِ الثَّوَابِ وَدَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ لَا يَفُوزُ عِنْدَهُ إِلَّا أَهْلُ التقوى. [سورة آل عمران (3) : آية 116] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَرَّةً أَحْوَالَ الْكَافِرِينَ فِي كَيْفِيَّةِ الْعِقَابِ، وَأُخْرَى أَحْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الثَّوَابِ جَامِعًا بَيْنَ الزَّجْرِ وَالتَّرْغِيبِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَلَمَّا وَصَفَ مَنْ آمَنَ مِنَ الْكُفَّارِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ أَتْبَعَهُ تَعَالَى بِوَعِيدِ الْكُفَّارِ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ بَعْضُ الْكُفَّارِ ثُمَّ القائلون بهذا القول ذكروا وجوهاًأحدها: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَقْصُودَ رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ فِي مُعَانَدَةِ الرَّسُولِ مَا كَانَ إِلَّا الْمَالَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [الْبَقَرَةِ: 41] وَثَانِيهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، فَإِنَّ أَبَا جَهْلٍ كَانَ كَثِيرَ الِافْتِخَارِ بِمَالِهِ وَلِهَذَا السَّبَبِ نَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ

_ (1) ليست هذه آية إنما المثبت في المصحف وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 272] . (2) ليست هذه آية إنما المثبت في المصحف وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة: 110] . [.....]

[سورة آل عمران (3) : آية 117]

وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً [مَرْيَمَ: 74] / وَقَوْلُهُ فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [الْعَلَقِ: 17، 18] وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ، فَإِنَّهُ أَنْفَقَ مَالًا كَثِيرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ فِي عَدَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ كَانُوا يَتَعَزَّزُونَ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ، وَكَانُوا يُعَيِّرُونَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتْبَاعَهُ بِالْفَقْرِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ شُبَهِهِمْ أَنْ قَالُوا: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ عَلَى الْحَقِّ لَمَا تَرَكَهُ رَبُّهُ فِي هَذَا الْفَقْرِ وَالشِّدَّةِ وَلِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ، وَلَا دَلِيلَ يُوجِبُ التَّخْصِيصَ فَوَجَبَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِلْأَوَّلِينَ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الآيةثَلُ ما يُنْفِقُونَ [آل عمران: 177] فالضمير في قوله نْفِقُونَ عَائِدٌ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ قَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ثم إن قوله نْفِقُونَ مَخْصُوصٌ بِبَعْضِ الْكُفَّارِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَيْضًا مَخْصُوصًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا خَصَّ تَعَالَى الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ أَنْفَعَ الْجَمَادَاتِ هُوَ الْأَمْوَالُ وَأَنْفَعَ الْحَيَوَانَاتِ هُوَ الْوَلَدُ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَنْتَفِعُ بِهِمَا أَلْبَتَّةَ فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ انْتِفَاعِهِ بِسَائِرِ الْأَشْيَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشُّعَرَاءِ: 88، 89] وَقَوْلُهُ وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [الْبَقَرَةِ: 48] الْآيَةَ وَقَوْلُهُ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ [آلِ عِمْرَانَ: 91] وَقَوْلُهُ وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى [سَبَأٍ: 37] وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا انْتِفَاعَ لَهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَلَا بِأَوْلَادِهِمْ، قَالَ: وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ فُسَّاقَ أَهْلِ الصَّلَاةِ لَا يَبْقَوْنَ فِي النَّارِ أَبَدًا فَقَالُوا قَوْلُهُ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ كَلِمَةٌ تُفِيدُ الْحَصْرَ فَإِنَّهُ يُقَالُ: أُولَئِكَ أَصْحَابُ زَيْدٍ لَا غَيْرُهُمْ وَهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ لَا غَيْرُهُمْ وَلَمَّا أَفَادَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ مَعْنَى الْحَصْرِ ثَبَتَ أَنَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ لَيْسَ إِلَّا لِلْكَافِرِ. [سورة آل عمران (3) : آية 117] مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) [في قوله تعالى ثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ أَمْوَالَ الْكُفَّارِ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا، ثُمَّ إِنَّهُمْ رُبَّمَا أَنْفَقُوا أَمْوَالَهُمْ/ فِي وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ، فَيَخْطُرُ بِبَالِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ، فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ تِلْكَ الشُّبْهَةَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِتِلْكَ الْإِنْفَاقَاتِ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ قَصَدُوا بِهَا وَجْهَ اللَّهِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَثَلُ الشَّبَهُ الَّذِي يَصِيرُ كَالْعَلَمِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِيمَا يُشَبَّهُ بِهِ وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ كُفْرَهُمْ يُبْطِلُ ثَوَابَ نَفَقَتِهِمْ، كَمَا أَنَّ الرِّيحَ الْبَارِدَةَ تُهْلِكُ الزَّرْعَ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مَثَلُ إِنْفَاقِهِمْ هُوَ الْحَرْثُ الَّذِي هَلَكَ، فَكَيْفَ شَبَّهَ الْإِنْفَاقَ بِالرِّيحِ الْبَارِدَةِ الْمُهْلِكَةِ. قُلْنَا: الْمَثَلُ قِسْمَانِ مِنْهُ مَا حَصَلَتْ فِيهِ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ وَإِنْ لَمْ تَحْصُلِ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْجُمْلَتَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى بِالتَّشْبِيهِ الْمُرَكَّبِ، وَمِنْهُ مَا حَصَلَتِ الْمُشَابَهَةُ فِيهِ بَيْنَ الْمَقْصُودِ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ، وَبَيْنَ أَجْزَاءِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَإِذَا جَعَلْنَا هَذَا الْمَثَلَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ زَالَ السُّؤَالُ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مِنَ

الْقِسْمِ الثَّانِي فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: مَثَلُ الْكُفْرِ فِي إِهْلَاكِ مَا يُنْفِقُونَ، كَمَثَلِ الرِّيحِ الْمُهْلِكَةِ لِلْحَرْثِ الثَّانِي: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ، كَمَثَلِ مُهْلَكِ رِيحٍ، وَهُوَ الْحَرْثُ الثالث: لعلّ الإشارة في قوله ثَلُ مَا يُنْفِقُونَ إِلَى مَا أَنْفَقُوا فِي إِيذَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في جَمْعِ الْعَسَاكِرِ عَلَيْهِ، وَكَانَ هَذَا الْإِنْفَاقُ مُهْلِكًا لِجَمِيعِ مَا أَتَوْا بِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ وَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ التَّشْبِيهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى إِضْمَارٍ وَتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ، وَالتَّقْدِيرُ: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي كَوْنِهِ مُبْطِلًا لِمَا أَتَوْا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ فِي كَوْنِهَا مُبْطِلَةً لِلْحَرْثِ، وَهَذَا الْوَجْهُ خَطَرَ بِبَالِي عِنْدَ كِتَابَتِي عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِنَّ إِنْفَاقَهُمْ فِي إِيذَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَمِنْ أَشَدِّهَا تَأْثِيرًا فِي إِبْطَالِ آثَارِ أَعْمَالِ الْبِرِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْإِنْفَاقِ عَلَى قَوْلَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْفَاقِ هَاهُنَا هُوَ جَمِيعُ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَرْجُونَ الِانْتِفَاعَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ سَمَّاهُ اللَّهُ إِنْفَاقًا كَمَا سَمَّى ذَلِكَ بَيْعًا وَشِرَاءً فِي قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ [التَّوْبَةِ: 111] إِلَى قَوْلِهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ [التَّوْبَةِ: 111] وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آلِ عِمْرَانَ: 92] وَالْمُرَادُ بِهِ جَمِيعُ أَعْمَالِ الخير وقوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [الْبَقَرَةِ: 188] وَالْمُرَادُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الِانْتِفَاعَاتِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَشْبَهُ أَنَّ الْمُرَادَ إِنْفَاقُ الْأَمْوَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ [آل عمران: 10] . المسألة الثالثة: قوله ثَلُ مَا يُنْفِقُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ جَمِيعُ الْكُفَّارِ أَوْ بَعْضُهُمْ، فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِالْإِخْبَارِ عَنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِنْفَاقَهُمْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَنَافِعِ الدُّنْيَا أَوْ لِمَنَافِعِ الْآخِرَةِ فَإِنْ كَانَ لِمَنَافِعِ الدُّنْيَا لَمْ يَبْقَ مِنْهُ أَثَرٌ أَلْبَتَّةَ فِي الْآخِرَةِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَضْلًا عَنِ الْكَافِرِ وَإِنْ كَانَ/ لِمَنَافِعِ الْآخِرَةِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْكُفْرَ مَانِعٌ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ نَفَقَاتِ الْكُفَّارِ لَا فَائِدَةَ فِيهَا فِي الْآخِرَةِ، وَلَعَلَّهُمْ أَنْفَقُوا أَمْوَالَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ نَحْوَ بِنَاءِ الرِّبَاطَاتِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الضُّعَفَاءِ وَالْأَيْتَامِ وَالْأَرَامِلِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمُنْفِقُ يَرْجُو مِنْ ذَلِكَ الْإِنْفَاقِ خَيْرًا كَثِيرًا فَإِذَا قَدِمَ الْآخِرَةَ رَأَى كُفْرَهُ مُبْطِلًا لِآثَارِ الْخَيْرَاتِ، فَكَانَ كَمَنْ زَرَعَ زَرْعًا وَتَوَقَّعَ مِنْهُ نَفْعًا كَثِيرًا فَأَصَابَتْهُ رِيحٌ فَأَحْرَقَتْهُ فَلَا يَبْقَى مَعَهُ إِلَّا الْحُزْنُ وَالْأَسَفُ، هَذَا إِذَا أَنْفَقُوا الْأَمْوَالَ فِي وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ أَمَّا إِذَا أَنْفَقُوهَا فِيمَا ظَنُّوهُ أَنَّهُ الْخَيْرَاتُ لَكِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمَعَاصِي مِثْلَ إِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِي إِيذَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ وَتَخْرِيبِ دِيَارِهِمْ، فَالَّذِي قُلْنَاهُ فِيهِ أَسَدُّ وَأَشَدُّ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الْفُرْقَانِ: 23] وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً [الْأَنْفَالِ: 36] وَقَوْلُهُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ [النُّورِ: 39] فَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ على الْحَسَنَاتِ مِنَ الْكُفَّارِ لَا تَسْتَعْقِبُ الثَّوَابَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَجْمُوعٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الْمَائِدَةِ: 27] وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَقْوَى وَالْأَصَحُّ. وَاعْلَمْ أَنَّا إِنَّمَا فَسَّرْنَا الْآيَةَ بِخَيْبَةِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا تَفْسِيرُهَا بِخَيْبَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُمْ أَنْفَقُوا الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ فِي جَمْعِ الْعَسَاكِرِ وَتَحَمَّلُوا الْمَشَاقَّ ثُمَّ انْقَلَبَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ، وَأَظْهَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَقَوَّاهُ فَلَمْ يَبْقَ مَعَ الْكُفَّارِ مِنْ ذَلِكَ الْإِنْفَاقِ إِلَّا الْخَيْبَةُ وَالْحَسْرَةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِخْبَارُ عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِي الْآيَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ

كَانُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى سَبِيلِ الْمُدَارَاةِ لَهُمْ فَالْآيَةُ فِيهُمْ الثَّانِي: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ يَوْمَ بدر عند تظاهر هم عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الثَّالِثُ: نَزَلَتْ فِي إِنْفَاقِ سَفَلَةِ الْيَهُودِ عَلَى أَحْبَارِهِمْ لِأَجْلِ التَّحْرِيفِ وَالرَّابِعُ: الْمُرَادُ مَا يُنْفِقُونَ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُ تَقَرُّبٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. المسألة الرابعة: اختلفوا في (الضر) عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلُ اللُّغَةِ: الصِّرُّ الْبَرْدُ الشَّدِيدُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ وَالثَّانِي: أَنَّ الصِّرَّ: هُوَ السَّمُومُ الْحَارَّةُ وَالنَّارُ الَّتِي تَغْلِي، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَنْبَارِيِّ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَإِنَّمَا وُصِفَتِ النار بأنهارٌّ لِتَصْوِيتِهَا عِنْدَ الِالْتِهَابِ، وَمِنْهُ صَرِيرُ الْبَابِ، وَالصَّرْصَرُ مَشْهُورٌ، وَالصَّرَّةُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ [الذَّارِيَاتِ: 29] وَرَوَى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي يها صِرٌّ قَالَ فِيهَا نَارٌ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْبِيهِ حَاصِلٌ، لِأَنَّهُ سَوَاءٌ كَانَ بَرْدًا مُهْلِكًا أَوْ حَرًّا مُحْرِقًا فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُبْطِلًا لِلْحَرْثِ وَالزَّرْعِ فَيَصِحُّ التَّشْبِيهُ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْإِحْبَاطِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَمَا أَنَّ هَذِهِ الرِّيحَ تُهْلِكُ الْحَرْثَ فَكَذَلِكَ الْكُفْرُ يُهْلِكُ الْإِنْفَاقَ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَوْلَا الْكُفْرُ/ لَكَانَ ذَلِكَ الْإِنْفَاقُ مُوجِبًا لِمَنَافِعِ الْآخِرَةِ وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِالْإِحْبَاطِ، وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ بِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يَسْتَلْزِمُ الثَّوَابَ إِلَّا بِحُكْمِ الْوَعْدِ، وَالْوَعْدُ مِنَ اللَّهِ مَشْرُوطٌ بِحُصُولِ الْإِيمَانِ، فَإِذَا حَصَلَ الْكُفْرُ فَاتَ الْمَشْرُوطُ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ لِأَنَّ الْكُفْرَ أَزَالَهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَدَلَائِلُ بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِالْإِحْبَاطِ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. ثُمَّ قال تعالى: صابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لِمَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى قَوْلِهِ صابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ وما الفائدة في قوله لَمُوا أَنْفُسَهُمْ. قلنا: في تفسير قوله لَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ عَصَوُا اللَّهَ فَاسْتَحَقُّوا هَلَاكَ حَرْثِهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهِ هِيَ أَنَّ الْغَرَضَ تَشْبِيهُ مَا يُنْفِقُونَ بِشَيْءٍ يَذْهَبُ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ، وَحَرْثُ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ هُوَ الَّذِي يَذْهَبُ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَنْفَعَةٌ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، فَأَمَّا حَرْثُ الْمُسْلِمِ الْمُؤْمِنِ فَلَا يَذْهَبُ بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَذْهَبُ صُورَةً فَلَا يَذْهَبُ مَعْنًى، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَزِيدُ فِي ثَوَابِهِ لِأَجْلِ وُصُولِ تِلْكَ الْأَحْزَانِ إِلَيْهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ لَمُوا أَنْفُسَهُمْ هُوَ أَنَّهُمْ زَرَعُوا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الزَّرْعِ أَوْ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، لِأَنَّ الظُّلْمَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَتَأَكَّدُ وَجْهُ التَّشْبِيهِ، فَإِنْ مَنْ زَرَعَ لَا فِي مَوْضِعِهِ وَلَا فِي وَقْتِهِ يَضِيعُ، ثُمَّ إِذَا أَصَابَتْهُ الرِّيحُ الْبَارِدَةُ كَانَ أَوْلَى بِأَنْ يَصِيرَ ضَائِعًا، فَكَذَا هَاهُنَا الْكُفَّارُ لَمَّا أَتَوْا بِالْإِنْفَاقِ لَا فِي مَوْضِعِهِ وَلَا فِي وَقْتِهِ ثُمَّ أَصَابَهُ شُؤْمُ كُفْرِهِمُ امْتَنَعَ أَنْ لَا يَصِيرَ ضَائِعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تعالى: ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا ظَلَمَهُمْ حَيْثُ لَمْ يَقْبَلْ نَفَقَاتِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ أَتَوْا بِهَا مَقْرُونَةً بِالْوُجُوهِ الْمَانِعَةِ مِنْ كَوْنِهَا مَقْبُولَةً لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ وَلَكِنَّ بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنَى وَلَكِنَّ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ، وَلَكِنَّهُ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ عَلَى إِسْقَاطِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ.

[سورة آل عمران (3) : آية 118]

[سورة آل عمران (3) : آية 118] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) [في قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ شَرَعَ فِي تَحْذِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُخَالَطَةِ الْكَافِرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الَّذِينَ نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ مَنْ هُمْ؟ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ هُمُ الْيَهُودُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُشَاوِرُونَهُمْ فِي أُمُورِهِمْ وَيُؤَانِسُونَهُمْ لِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الرَّضَاعِ وَالْحِلْفِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي الدِّينِ فَهُمْ يَنْصَحُونَ لَهُمْ فِي أَسْبَابِ الْمَعَاشِ فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنْهُ، وَحُجَّةُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا مُخَاطَبَةٌ مَعَ الْيَهُودِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا كَذَلِكَ الثَّانِي: أَنَّهُمْ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَغْتَرُّونَ بِظَاهِرِ أَقْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ صَادِقُونَ فَيُفْشُونَ إِلَيْهِمُ الْأَسْرَارَ وَيُطْلِعُونَهُمْ عَلَى الْأَحْوَالِ الْخَفِيَّةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى مَنَعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَحُجَّةُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ مَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [آلِ عِمْرَانَ: 119] وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِالْيَهُودِ بَلْ هُوَ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [الْبَقَرَةِ: 14] الثَّالِثُ: الْمُرَادُ بِهِ جَمِيعُ أَصْنَافِ الْكُفَّارِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ فَمَنَعَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونُ ذَلِكَ نَهْيًا عَنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الْمُمْتَحِنَةِ: 1] وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَاهُنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْحَيْرَةِ نَصْرَانِيٌّ لَا يُعْرَفُ أَقْوَى حِفْظًا وَلَا أَحْسَنُ خَطًّا مِنْهُ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَتَّخِذَهُ كَاتِبًا، فَامْتَنَعَ عُمَرُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: إِذَنِ اتَّخَذْتُ بِطَانَةً مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ جَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلًا عَلَى النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ، وَأَمَّا مَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ أَنَّ مَا بَعْدَ الْآيَةِ مُخْتَصٌّ بِالْمُنَافِقِينَ فَهَذَا لَا يَمْنَعُ عُمُومَ أَوَّلِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ إِذَا كَانَ عَامًّا وَآخِرَهَا إِذَا كَانَ خَاصًّا لَمْ يَكُنْ خُصُوصُ آخِرِ الْآيَةِ مَانِعًا مِنْ عُمُومِ أَوَّلِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو حَاتِمٍ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ: بَطَنَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ يُبْطِنُ بِهِ بُطُونًا وَبِطَانَةً، إِذَا كَانَ خَاصًّا بِهِ دَاخِلًا فِي أَمْرِهِ، فَالْبِطَانَةُ مَصْدَرٌ يُسَمَّى بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، وَبِطَانَةُ الرَّجُلِ خَاصَّتُهُ الَّذِينَ يُبْطِنُونَ أَمْرَهُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْبَطْنِ خِلَافُ الظَّهْرِ، وَمِنْهُ بِطَانَةُ الثَّوْبِ خِلَافُ ظِهَارَتِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِي يَخُصُّهُ الْإِنْسَانُ بِمَزِيدِ التَّقْرِيبِ يُسَمَّى بِطَانَةً لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا يَلِي بَطْنَهُ فِي شِدَّةِ الْقُرْبِ مِنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيُفِيدُ الْعُمُومَ. أَمَّا قَوْلُهُ مِنْ دُونِكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مِنْ دُونِكُمْ أَيْ مِنْ دُونِ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ وَلَفْظُ مِنْ دُونِكُمْ يَحْسُنُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: قَدْ أَحْسَنْتُمْ إِلَيْنَا وَأَنْعَمْتُمْ عَلَيْنَا، وَهُوَ يُرِيدُ أَحْسَنْتُمْ إِلَى/ إِخْوَانِنَا، وَقَالَ تَعَالَى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آلِ عِمْرَانَ: 21] أَيْ آبَاؤُهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ مِنْ دُونِكُمْ احْتِمَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ لَا تَتَّخِذُوا أَيْ لَا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِكُمْ بِطَانَةً وَالثَّانِي: أَنْ يُجْعَلَ وَصْفًا لِلْبِطَانَةِ وَالتَّقْدِيرُ: بِطَانَةً كَائِنَاتٍ مِنْ دُونِكُمْ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: لَا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِكُمْ بِطَانَةً، وَبَيْنَ قَوْلِهِ لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ؟. قُلْنَا: قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ وَالَّذِي هُمْ بِشَأْنِهِ أَعْنَى وَهَاهُنَا لَيْسَ الْمَقْصُودُ اتِّخَاذَ الْبِطَانَةِ إِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْهُمْ بِطَانَةً فَكَانَ قَوْلُهُ: لَا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِكُمْ بِطَانَةً أَقْوَى فِي إِفَادَةِ الْمَقْصُودِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قِيلَ مِنْ زَائِدَةٌ، وَقِيلَ لِلنَّبِيِّينَ: لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ مُصَاحَبَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَقَالَ تَعَالَى: لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ [الْمُمْتَحِنَةِ: 8] إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ [الْمُمْتَحِنَةِ: 9] فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْنَا: لَا شَكَّ أَنَّ الْخَاصَّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَنَعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْ يَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنَ الْكَافِرِينَ ذَكَرَ عِلَّةَ هَذَا النَّهْيِ وَهِيَ أُمُورٌ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يُقَالُ (أَلَا) فِي الأمر يألوا إِذَا قَصَّرَ فِيهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مُعَدًى إِلَى مَفْعُولَيْنِ فِي قَوْلِهِمْ: لَا آلُوكَ نُصْحًا، وَلَا آلُوكَ جُهْدًا عَلَى التَّضْمِينِ، وَالْمَعْنَى لَا أَمْنَعُكَ نُصْحًا وَلَا أَنْقُصُكَ جُهْدًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْخَبَالُ الْفَسَادُ وَالنُّقْصَانُ، وَأَنْشَدُوا: لَسْتُمْ بِيَدٍ إِلَّا يَدًا أبدا مَخْبُولَةَ الْعَضُدِ أَيْ فَاسِدَةَ الْعَضُدِ مَنْقُوضَتَهَا، وَمِنْهُ قِيلَ: رَجُلٌ مَخْبُولٌ وَمُخْبَلٌ وَمُخْتَبَلٌ لِمَنْ كَانَ نَاقِصَ الْعَقْلِ، وَقَالَ تَعَالَى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا [التَّوْبَةِ: 47] أَيْ فَسَادًا وَضَرَرًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا أَيْ لَا يَدَعُونَ جُهْدَهُمْ فِي مَضَرَّتِكُمْ وَفَسَادِكُمْ، يُقَالُ: مَا أَلَوْتُهُ نُصْحًا، أَيْ مَا قَصَّرْتُ فِي نَصِيحَتِهِ، وَمَا أَلَوْتُهُ شَرًّا مِثْلُهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: انْتَصَبَ الْخَبَالُ بِلَا يَأْلُونَكُمْ لِأَنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ شِئْتَ نَصَبْتَهُ عَلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا لَا يَخْبِلُونَكُمْ خَبَالًا وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ وَدِدْتُ كَذَا، أَيْ أَحْبَبْتُهُ وَ (الْعَنَتُ) شِدَّةُ الضَّرَرِ وَالْمَشَقَّةُ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 220] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ كَقَوْلِهِ ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما/ كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ [غَافِرٍ: 75] أَيْ بِفَرَحِكُمْ وَمَرَحِكُمْ وَكَقَوْلِهِ وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها [الشَّمْسِ: 5، 6] أَيْ بِنَائِهِ إِيَّاهَا وَطَحْيِهِ إِيَّاهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَحَبُّوا أَنْ يَضُرُّوكُمْ فِي دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ أَشَدَّ الضَّرَرِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا مَحَلَّ لِقَوْلِهِ وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ لِأَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ بِالْجُمْلَةِ وقيل: إنه

[سورة آل عمران (3) : آية 119]

صِفَةٌ لِبِطَانَةٍ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا لِأَنَّ الْبِطَانَةَ قَدْ وُصِفَتْ بِقَوْلِهِ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا فَلَوْ كَانَ هَذَا صِفَةً أَيْضًا لَوَجَبَ إِدْخَالُ حَرْفِ الْعَطْفِ بَيْنَهُمَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ فِي الْمَعْنَى مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: لَا يُقَصِّرُونَ فِي إِفْسَادِ دِينِكُمْ، فَإِنْ عَجَزُوا عَنْهُ وَدُّوا إِلْقَاءَكُمْ فِي أَشَدِّ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ الثَّانِي: لَا يُقَصِّرُونَ فِي إِفْسَادِ أُمُورِكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا عَجَزُوا عَنْهُ لَمْ يَزُلْ عَنْ قُلُوبِهِمْ حُبُّ إِعْنَاتِكُمْ وَالثَّالِثُ: لَا يُقَصِّرُونَ فِي إِفْسَادِ أُمُورِكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لِمَانِعٍ مِنْ خَارِجٍ، فَحُبُّ ذَلِكَ غَيْرُ زَائِلٍ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْبَغْضَاءُ أَشَدُّ الْبُغْضِ، فَالْبُغْضُ مَعَ الْبَغْضَاءِ كَالضُّرِّ مَعَ الضَّرَّاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَفْوَاهُ جَمْعُ الْفَمِ وَالْفَمُ أَصْلُهُ فَوْهٌ بِدَلِيلِ أَنَّ جَمْعَهُ أَفْوَاهٌ، يُقَالُ: فَوْهٌ وَأَفْوَاهٌ كَسَوْطٍ وَأَسْوَاطٍ، وَطَوْقٍ وَأَطْوَاقٍ، وَيُقَالُ رَجُلٌ مُفَوَّهٌ إِذَا أَجَادَ الْقَوْلَ، وَأَفْوَهُ إِذَا كَانَ واسع الفم، فَثَبَتَ أَنَّ أَصْلَ الْفَمِ فَوْهٌ بِوَزْنِ سَوْطٍ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَاءُ تَخْفِيفًا ثُمَّ أُقِيمَ الْمِيمُ مَقَامَ الْوَاوِ لِأَنَّهُمَا حَرْفَانِ شَفَوِيَّانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فَفِي تَفْسِيرِهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْمُنَافِقِ مِنْ أَنْ يَجْرِيَ فِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى نِفَاقِهِ ومفارقة لِطَرِيقِ الْمُخَالَصَةِ فِي الْوُدِّ وَالنَّصِيحَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [مُحَمَّدٍ: 30] الثَّانِي: قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ لِأَوْلِيَائِهِمْ مِنَ المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضاً عَلَى ذَلِكَ، أَمَّا إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْيَهُودِ فَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ فَهُوَ أَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ تَكْذِيبَ نَبِيِّكُمْ وَكِتَابِكُمْ وَيَنْسِبُونَكُمْ إِلَى الْجَهْلِ وَالْحُمْقِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ فِي غَيْرِهِ الْإِصْرَارَ عَلَى الْجَهْلِ وَالْحُمْقِ امْتَنَعَ أَنْ يُحِبَّهُ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَبْغَضَهُ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ يَعْنِي الَّذِي يَظْهَرُ عَلَى لِسَانِ الْمُنَافِقِ مِنْ عَلَامَاتِ الْبَغْضَاءِ أَقَلُّ مِمَّا فِي قَلْبِهِ مِنَ النَّفْرَةِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ عَلَامَاتِ الْحِقْدِ عَلَى لِسَانِهِ أَقَلُّ مِمَّا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْحِقْدِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ إِظْهَارَ هَذِهِ الْأَسْرَارِ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أَيْ مِنْ أَهْلِ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَالدِّرَايَةِ، وَقِيلَ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ الْفَصْلَ بَيْنَ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْعَدُوُّ وَالْوَلِيُّ، وَالْمَقْصُودُ بَعْثُهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ فِي تَأَمُّلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَتَدَبُّرِ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة آل عمران (3) : آية 119] هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) [في قَوْلُهُ تَعَالَى هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ إلى قوله عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ تَحْذِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُخَالَطَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ السَّيِّدُ السَّرَخْسِيُّ سَلَّمَهُ اللَّهُ هَا للتنبيه وأَنْتُمْ مبتدأ وأُولاءِ خبره وتُحِبُّونَهُمْ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أُولاءِ بِمَعْنَى الَّذِينَ وتُحِبُّونَهُمْ صِلَةٌ لَهُ، وَالْمَوْصُولُ مَعَ الصِّلَةِ خَبَرُ أَنْتُمْ وقال الفرّاء أُولاءِ خبر وتُحِبُّونَهُمْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أُمُورًا ثَلَاثَةً، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّخِذَ غَيْرَ

الْمُؤْمِنِ بِطَانَةً لِنَفْسِهِ فَالْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَالَ الْمُفَضَّلُ تُحِبُّونَهُمْ تُرِيدُونَ لَهُمُ الْإِسْلَامَ وَهُوَ خَيْرُ الْأَشْيَاءِ وَلا يُحِبُّونَكُمْ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بَقَاءَكُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُوجِبُ الْهَلَاكَ الثَّانِي: تُحِبُّونَهُمْ بِسَبَبِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَالْمُصَاهَرَةِ وَلا يُحِبُّونَكُمْ بِسَبَبِ كَوْنِكُمْ مُسْلِمِينَ الثَّالِثُ: تُحِبُّونَهُمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا لَكُمُ الْإِيمَانَ وَلا يُحِبُّونَكُمْ بِسَبَبِ أَنَّ الْكُفْرَ مُسْتَقِرٌّ فِي بَاطِنِهِمْ الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ تُحِبُّونَهُمْ بِمَعْنَى أَنَّكُمْ لَا تُرِيدُونَ إِلْقَاءَهُمْ فِي الْآفَاتِ وَالْمِحَنِ وَلا يُحِبُّونَكُمْ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ إِلْقَاءَكُمْ فِي الْآفَاتِ وَالْمِحَنِ وَيَتَرَبَّصُونَ بِكُمُ الدَّوَائِرَ الْخَامِسُ: تُحِبُّونَهُمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ لَكُمْ مَحَبَّةَ الرَّسُولِ وَمُحِبُّ الْمَحْبُوبِ مَحْبُوبٌ وَلا يُحِبُّونَكُمْ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ تُحِبُّونَ الرَّسُولَ وَهُمْ يُبْغِضُونَ الرَّسُولَ وَمُحِبُّ الْمَبْغُوضِ مَبْغُوضٌ السَّادِسُ: تُحِبُّونَهُمْ أَيْ تُخَالِطُونَهُمْ، وَتُفْشُونَ إِلَيْهِمْ أَسْرَارَكُمْ فِي أُمُورِ دِينِكُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ أَيْ لَا يَفْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ بِكُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا إِشَارَةٌ إِلَى الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِكَوْنِ الْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّونَهُمْ وَلِكَوْنِهِمْ يُبْغِضُونَ الْمُؤْمِنِينَ، فَالْكُلُّ دَاخِلٌ تَحْتِ الْآيَةِ، وَلَمَّا عَرَّفَهُمْ تَعَالَى كَوْنَهُمْ مُبْغِضِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَعَرَّفَهُمْ أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ فِي ذَلِكَ الْبُغْضِ صَارَ ذَلِكَ دَاعِيًا مِنْ حَيْثُ الطَّبْعِ، وَمِنْ حَيْثُ الشَّرْعِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ الْمُؤْمِنُونَ مُبْغِضِينَ لهؤلاء المنافقين. والسبب الثاني لذلك: لِذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَحَسُنَ الْحَذْفُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الضِّدَّيْنِ يُعْلَمَانِ مَعًا فَكَانَ ذِكْرُ أَحَدِهِمَا مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ الْآخَرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ (الْكِتَابَ) بِلَفْظِ الْوَاحِدِ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ ذَهَبَ بِهِ مَذْهَبَ الْجِنْسِ كَقَوْلِهِمْ: كَثُرَ الدِّرْهَمُ فِي أَيْدِي النَّاسِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يُجْمَعُ إِلَّا عَلَى التَّأْوِيلِ، فَلِهَذَا لَمْ يَقُلِ الْكُتُبَ بَدَلًا مِنَ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ قَالَهُ لَجَازَ تَوَسُّعًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أَنَّكُمْ تُؤْمِنُونَ بِكُتُبِهِمْ كُلِّهَا وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُبْغِضُونَكُمْ فَمَا بَالُكُمْ مَعَ ذَلِكَ تُحِبُّونَهُمْ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِشَيْءٍ مِنْ كِتَابِكُمْ، وَفِيهِ تَوْبِيخٌ شَدِيدٌ بِأَنَّهُمْ فِي بَاطِلِهِمْ أَصْلَبُ مِنْكُمْ فِي حَقِّكُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ [النِّسَاءِ: 104] . السَّبَبُ الثَّالِثُ لِقُبْحِ هَذِهِ الْمُخَالَطَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ أَظْهَرُوا شِدَّةَ الْعَدَاوَةِ، وَشِدَّةَ الْغَيْظِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى تَبْلُغَ تِلْكَ الشِّدَّةُ إِلَى عَضِّ الْأَنَامِلِ، كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدُنَا إِذَا اشْتَدَّ غَيْظُهُ وَعَظُمَ حُزْنُهُ عَلَى فَوَاتِ مَطْلُوبِهِ، وَلَمَّا كَثُرَ هَذَا الْفِعْلُ مِنَ الْغَضْبَانِ، صَارَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ الْغَضَبِ حَتَّى يُقَالَ فِي الْغَضْبَانِ: إِنَّهُ يَعَضُّ يَدَهُ غَيْظًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَضٌّ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُمْ هَذَا الْغَيْظُ الشَّدِيدُ لِمَا رَأَوْا مِنَ ائْتِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ وَاجْتِمَاعِ كَلِمَتِهِمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ وَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَزْدَادَ غَيْظُهُمْ حَتَّى يَهْلَكُوا بِهِ، وَالْمُرَادُ مِنَ ازْدِيَادِ الْغَيْظِ ازْدِيَادُ مَا يُوجِبُ لَهُمْ ذَلِكَ الْغَيْظَ مِنْ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَعِزَّةِ أَهْلِهِ وَمَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الذُّلِّ وَالْخِزْيِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ أَمْرٌ لَهُمْ بِالْإِقَامَةِ عَلَى الْغَيْظِ، وَذَلِكَ الْغَيْظُ كُفْرٌ، فَكَانَ هَذَا أَمْرًا بِالْإِقَامَةِ عَلَى الْكُفْرِ وَذَلِكَ غير جائز.

[سورة آل عمران (3) : آية 120]

قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ دُعَاءٌ بِازْدِيَادِ مَا يُوجِبُ هَذَا الْغَيْظَ وَهُوَ قُوَّةُ الْإِسْلَامِ فَسَقَطَ السُّؤَالُ: وَأَيْضًا فَإِنَّهُ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِالْمَوْتِ قَبْلَ بُلُوغِ مَا يَتَمَنَّوْنَ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: (ذَاتُ) كَلِمَةٌ وُضِعَتْ لِنِسْبَةِ الْمُؤَنَّثِ كَمَا أَنَّ (ذُو) كَلِمَةٌ وُضِعَتْ لِنِسْبَةِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُرَادُ بِذَاتِ الصُّدُورِ الْخَوَاطِرُ الْقَائِمَةُ بِالْقَلْبِ وَالدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفُ الْمَوْجُودَةُ فِيهِ وَهِيَ لِكَوْنِهَا حَالَّةً فِي الْقَلْبِ مُنْتَسِبَةً إِلَيْهِ فَكَانَتْ ذَاتَ الصُّدُورِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ مَا حَصَلَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنَ الْخَوَاطِرِ وَالْبَوَاعِثِ وَالصَّوَارِفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ دَاخِلَةً فِي جُمْلَةِ الْمَقُولِ/ وَأَنْ لَا تَكُونَ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالتَّقْدِيرُ: أَخْبِرْهُمْ بِمَا يُسِرُّونَهُ مِنْ عَضِّهِمُ الْأَنَامِلَ غَيْظًا إِذَا خَلَوْا وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا هُوَ أَخْفَى مِمَّا تُسِرُّونَهُ بَيْنَكُمْ، وَهُوَ مُضْمَرَاتُ الصُّدُورِ، فَلَا تَظُنُّوا أَنَّ شَيْئًا مِنْ أَسْرَارِكُمْ يَخْفَى عَلَيْهِ أَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْمَقُولِ فَمَعْنَاهُ: قُلْ لَهُمْ ذَلِكَ يَا مُحَمَّدُ وَلَا تَتَعَجَّبْ مِنْ إِطْلَاعِي إِيَّاكَ عَلَى مَا يُسِرُّونَ، فَإِنِّي أَعْلَمُ مَا هُوَ أَخْفَى مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مَا أَضْمَرُوهُ فِي صُدُورِهِمْ وَلَمْ يُظْهِرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ، ثُمَّ قَوْلُ وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ أَمْرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطِيبِ النَّفْسِ وَقُوَّةِ الرَّجَاءِ وَالِاسْتِبْشَارِ بِوَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهُ أَنَّهُمْ يَهْلَكُونَ غَيْظًا بِإِعْزَازِ الْإِسْلَامِ وَإِذْلَالِهِمْ بِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: حَدِّثْ نَفْسَكَ بِذَلِكَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [سورة آل عمران (3) : آية 120] إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ تَمَامِ وَصْفِ الْمُنَافِقِينَ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ مَا لَهُمْ مِنَ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ وَالْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ مُتَرَقِّبُونَ نُزُولَ نَوْعٍ مِنَ الْمِحْنَةِ وَالْبَلَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَسُّ أَصْلُهُ بِالْيَدِ ثُمَّ يُسَمَّى كُلُّ مَا يَصِلُ إِلَى الشَّيْءِ (مَاسًّا) عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ فَيُقَالُ: فُلَانٌ مَسَّهُ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ، قَالَ تَعَالَى: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ [ق: 38] وَقَالَ: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ [الْإِسْرَاءِ: 67] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْمَسُّ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْإِصَابَةِ، قَالَ تَعَالَى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ [التَّوْبَةِ: 50] وَقَوْلُهُ مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النِّسَاءِ: 79] وَقَالَ: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [الْمَعَارِجِ: 20، 21] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْحَسَنَةِ هَاهُنَا مَنْفَعَةُ الدُّنْيَا عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا، فَمِنْهَا صِحَّةُ الْبَدَنِ وَحُصُولُ الْخِصْبِ وَالْفَوْزُ بِالْغَنِيمَةِ وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَحُصُولُ الْمَحَبَّةِ وَالْأُلْفَةِ بَيْنَ الْأَحْبَابِ وَالْمُرَادُ بِالسَّيِّئَةِ أَضْدَادُهَا، وَهِيَ الْمَرَضُ وَالْفَقْرُ وَالْهَزِيمَةُ وَالِانْهِزَامُ مِنَ الْعَدُوِّ وَحُصُولُ التَّفَرُّقِ بَيْنَ الْأَقَارِبِ، وَالْقَتْلُ وَالنَّهْبُ وَالْغَارَةُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَحْزَنُونَ وَيَغْتَمُّونَ بِحُصُولِ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَسَنَةِ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَفْرَحُونَ بِحُصُولِ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ السَّيِّئَةِ لَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يقال ساء الشيء يسوء فهو سيء، وَالْأُنْثَى سَيِّئَةٌ أَيْ قَبُحَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ساءَ مَا يَعْمَلُونَ [الْمَائِدَةِ: 66] وَالسَّوْأَى ضِدُّ الْحُسْنَى. ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ تَصْبِرُوا يَعْنِي عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعَلَى مَا يَنَالُكُمْ فِيهَا مِنْ شِدَّةٍ وَغَمٍّ وَتَتَّقُوا كُلَّ مَا نَهَاكُمْ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 إلى 122]

عَنْهُ وَتَتَوَكَّلُوا فِي أُمُورِكُمْ عَلَى اللَّهِ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو لَا يَضِرْكُمْ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَهُوَ مِنْ ضَارَهُ يَضِيرُهُ، وَيَضُورُهُ ضَوْرًا إِذَا ضَرَّهُ، وَالْبَاقُونَ لَا يَضُرُّكُمْ بِضَمِّ الضَّادِ وَالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَهُوَ مِنَ الضُّرِّ، وَأَصْلُهُ يَضْرُرْكُمْ جَزْمًا، فَأُدْغِمَتِ الرَّاءُ فِي الرَّاءِ وَنُقِلَتْ ضَمَّةُ الرَّاءِ الأولى إلى الضاد وضمت الراء الآخرة، اتِّبَاعًا لِأَقْرَبِ الْحَرَكَاتِ وَهِيَ ضَمَّةُ الضَّادِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ تَقْدِيرُهُ: وَلَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَرَوَى الْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ لَا يَضُرَّكُمْ بِفَتْحِ الرَّاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْكَيْدُ هُوَ أَنْ يَحْتَالَ الْإِنْسَانُ لِيُوقِعَ غَيْرَهُ فِي مَكْرُوهٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فَسَّرَ الْكَيْدَ هَاهُنَا بِالْعَدَاوَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: شَيْئاً نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ شَيْئًا مِنَ الضُّرِّ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ كُلَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى أَدَاءِ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَاتَّقَى كُلَّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ كَانَ فِي حِفْظِ اللَّهِ فَلَا يَضُرُّهُ كَيْدُ الْكَافِرِينَ وَلَا حِيَلُ الْمُحْتَالِينَ. وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ هُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِلْعُبُودِيَّةِ كَمَا قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] فَمَنْ وَفَى بِعَهْدِ الْعُبُودِيَّةِ فِي ذَلِكَ فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ لَا يَفِيَ بِعَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ فِي حِفْظِهِ عَنِ الْآفَاتِ وَالْمَخَافَاتِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطَّلَاقِ: 2، 3] إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يُوَصِّلُ إِلَيْهِ كُلَّ مَا يَسُرُّهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَكْبِتَ مَنْ يَحْسُدُ فَاجْتَهِدْ فِي اكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ بِمَا يَعْمَلُونَ بِالْيَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَايَبَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ فِي مُعَادَاتِكُمْ فَيُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ عَلَى سَبِيلِ الْمُخَاطَبَةِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ عَالِمٌ مُحِيطٌ بِمَا تَعْمَلُونَ مِنَ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى فَيَفْعَلُ بِكُمْ مَا أَنْتُمْ أَهْلُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِطْلَاقُ لَفْظِ الْمُحِيطِ عَلَى اللَّهِ مَجَازٌ، لِأَنَّ الْمُحِيطَ بِالشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يُحِيطُ بِهِ مِنْ كُلِّ جَوَانِبِهِ، وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، لَكِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِكُلِّ الْأَشْيَاءِ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، جَازَ فِي مَجَازِ اللُّغَةِ أَنَّهُ مُحِيطٌ بِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ [الْبُرُوجِ: 20] وَقَالَ: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ [الْبَقَرَةِ: 19] وَقَالَ: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طَهَ: 110] وَقَالَ: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [الْجِنِّ: 28] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ اللَّهَ مُحِيطٌ بِمَا يَعْمَلُونَ لِأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ وَالَّذِي هُمْ بِشَأْنِهِ، أَعْنَى وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هَاهُنَا بَيَانَ كَوْنِهِ تَعَالَى عالما، بَيَّنَّا أَنَّ/ جَمِيعَ أَعْمَالِهِمْ مَعْلُومَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَمُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا فَلَا جَرَمَ قَدْ ذَكَرَ الْعَمَلَ والله أعلم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 122] وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ]

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران: 120] أَتْبَعَهُ بِمَا يَدُلُّهُمْ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ فِي بَابِ النُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ وَدَفْعِ مَضَارِّ الْعَدُوِّ إِذَا هُمْ صَبَرُوا وَاتَّقَوْا، وَخِلَافُ ذَلِكَ فِيهِمْ إِذَا لَمْ يَصْبِرُوا فَقَالَ: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ يَعْنِي أَنَّهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ كَانُوا كَثِيرِينَ لِلْقِتَالِ، فَلَمَّا خَالَفُوا أَمْرَ الرَّسُولِ انْهَزَمُوا، وَيَوْمَ بَدْرٍ كَانُوا قَلِيلِينَ غَيْرَ مُسْتَعِدِّينَ لِلْقِتَالِ فَلَمَّا أَطَاعُوا أَمْرَ الرَّسُولِ غَلَبُوا وَاسْتَوْلَوْا عَلَى خُصُومِهِمْ، وَذَلِكَ يُؤَكِّدُ قَوْلَنَا، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الِانْكِسَارَ يَوْمَ أُحُدٍ إِنَّمَا حَصَلَ بسبب تخلف عبد الله بن أبي بن سَلُولَ الْمُنَافِقِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ بِطَانَةً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: تَقْدِيرُهُ وَاذْكُرْ إِذْ غَدَوْتَ وَالثَّانِي: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: هَذَا كَلَامٌ مَعْطُوفٌ بِالْوَاوِ عَلَى قَوْلِهِ قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ [آلِ عِمْرَانَ: 13] يَقُولُ: قَدْ كَانَ لَكُمْ فِي نَصْرِ اللَّهِ تِلْكَ الطَّائِفَةَ الْقَلِيلَةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الطَّائِفَةِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْكَافِرِينَ مَوْضِعُ اعْتِبَارٍ لِتَعْرِفُوا بِهِ أَنَّ اللَّهَ نَاصِرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ لَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَةِ إِذْ غَدَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَالثَّالِثُ: الْعَامِلُ فِيهِ مُحِيطٌ: تَقْدِيرُهُ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ محيط وإذ غَدَوْتَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ أَيُّ يَوْمٍ هُوَ؟ فَالْأَكْثَرُونَ: أَنَّهُ يَوْمُ أُحُدٍ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ إِسْحَاقَ وَالرَّبِيعِ وَالْأَصَمِّ وَأَبِي مُسْلِمٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَوْمُ بَدْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَقِيلَ إِنَّهُ يَوْمُ الْأَحْزَابِ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلٍ، حُجَّةُ مَنْ قَالَ هَذَا الْيَوْمُ هُوَ يَوْمُ أُحُدٍ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ بِالْمَغَازِي زَعَمُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ [آلِ عِمْرَانَ: 123] وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، / وَمِنْ حَقِّ الْمَعْطُوفِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا يَوْمُ الْأَحْزَابِ، فَالْقَوْمُ إِنَّمَا خَالَفُوا أَمْرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ لَا يَوْمَ الْأَحْزَابِ، فَكَانَتْ قِصَّةُ أُحُدٍ أَلْيَقَ بِهَذَا الْكَلَامِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ تَقْرِيرُ قَوْلِهِ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ هُوَ يَوْمُ أُحُدٍ الثَّالِثُ: أَنَّ الِانْكِسَارَ وَاسْتِيلَاءَ الْعَدُوِّ كَانَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ لِأَنَّ فِي يَوْمِ أُحُدٍ قَتَلُوا جَمْعًا كَثِيرًا مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ فَكَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى يَوْمِ أُحُدٍ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ نَزَلُوا بِأُحُدٍ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ فَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَدَعَا عبد الله بن أبي بن سَلُولَ وَلَمْ يَدْعُهُ قَطُّ قَبْلَهَا فَاسْتَشَارَهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَكْثَرُ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِمْ بِالْمَدِينَةِ وَلَا تَخْرُجْ إِلَيْهِمْ وَاللَّهِ مَا خَرَجْنَا مِنْهَا إِلَى عَدُوٍّ قَطُّ إِلَّا أَصَابَ مِنَّا وَلَا دَخَلَ عَدُوٌّ عَلَيْنَا إِلَّا أَصَبْنَا مِنْهُ، فَكَيْفَ وَأَنْتَ فِينَا؟ فَدَعْهُمْ فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرِّ مَوْضِعٍ وَإِنْ دَخَلُوا قَتَلَهُمُ الرِّجَالُ فِي وُجُوهِهِمْ، وَرَمَاهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ بِالْحِجَارَةِ، وَإِنْ رَجَعُوا رَجَعُوا خَائِبِينَ وَقَالَ آخَرُونَ: اخْرُجْ بِنَا إِلَى هَؤُلَاءِ الْأَكْلُبِ لِئَلَّا يَظُنُّوا أَنَّا قَدْ خِفْنَاهُمْ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ فِي مَنَامِي بَقَرًا تُذْبَحُ حَوْلِي فَأَوَّلْتُهَا خيرا ورأيت في ذباب سيفي ثلما فأوليه هَزِيمَةً وَرَأَيْتُ كَأَنِّي أَدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُقِيمُوا بِالْمَدِينَةِ وَتَدَعُوهُمْ» فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الَّذِينَ فَاتَتْهُمْ (بَدْرٌ) وَأَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ يَوْمَ أُحُدٍ اخْرُجْ بِنَا إِلَى أَعْدَائِنَا فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى دَخَلَ فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ، فَلَمَّا لَبِسَ نَدِمَ الْقَوْمُ، وَقَالُوا: بِئْسَمَا صَنَعْنَا نُشِيرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَالْوَحْيُ يَأْتِيهِ، فَقَالُوا لَهُ اصْنَعْ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْتَ، فَقَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَلْبَسَ لَأْمَتَهُ فَيَضَعُهَا حَتَّى يقاتل» فخرج يوم الْجُمُعَةِ وَأَصْبَحَ بِالشِّعْبِ مِنْ أُحُدٍ يَوْمَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ، فَمَشَى عَلَى رِجْلَيْهِ وَجَعَلَ يَصُفُّ أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ كَأَنَّمَا يُقَوِّمُ بِهِمُ الْقِدْحَ إِنْ رَأَى صَدْرًا خَارِجًا قَالَ

لَهُ تَأَخَّرْ، وَكَانَ نُزُولُهُ فِي جَانِبِ الْوَادِي، وَجَعَلَ ظَهْرَهُ وَعَسْكَرَهُ إِلَى أُحُدٍ وَأَمَّرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ عَلَى الرُّمَاةِ، وَقَالَ: ادْفَعُوا عَنَّا بِالنَّبْلِ حَتَّى لَا يَأْتُونَا مِنْ وَرَائِنَا، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَصْحَابِهِ: اثْبُتُوا فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَإِذَا عَايَنُوكُمْ وَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ، فَلَا تَطْلُبُوا الْمُدْبِرِينَ وَلَا تَخْرُجُوا مِنْ هَذَا الْمَقَامِ، ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامَ لَمَّا خَالَفَ رَأْيَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَقَالَ: أَطَاعَ الْوِلْدَانَ وَعَصَانِي، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ مُحَمَّدًا إِنَّمَا يَظْفَرُ بِعَدُوِّهِ بِكُمْ، وَقَدْ وَعَدَ أَصْحَابَهُ أَنَّ أَعْدَاءَهُمْ إِذَا عَايَنُوهُمُ انْهَزَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ أَعْدَاءَهُمْ فَانْهَزِمُوا فَيَتْبَعُوكُمْ، فَيَصِيرُ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا الْتَقَى الْفَرِيقَانِ انْهَزَمَ عَبْدُ اللَّهِ بِالْمُنَافِقِينَ، وَكَانَ جُمْلَةُ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ أَلْفًا، فَانْهَزَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ مَعَ ثَلَاثِمِائَةٍ، فَبَقِيَتْ سَبْعُمِائَةٍ، ثُمَّ قَوَّاهُمُ اللَّهُ مَعَ ذَلِكَ حَتَّى هَزَمُوا الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ انْهِزَامَ الْقَوْمِ، وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى بَشَّرَهُمْ بِذَلِكَ، طَمِعُوا أَنْ/ تَكُونَ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ كَوَاقِعَةِ بَدْرٍ، فَطَلَبُوا الْمُدْبِرِينَ وَتَرَكُوا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، وَخَالَفُوا أَمْرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ أَرَاهُمْ مَا يُحِبُّونَ، فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَفْطِمَهُمْ عَنْ هَذَا الْفِعْلِ لِئَلَّا يُقْدِمُوا عَلَى مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ ظَفَرَهُمْ إِنَّمَا حصل يوم بدو بِبَرَكَةِ طَاعَتِهِمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَمَتَى تَرَكَهُمُ اللَّهُ مَعَ عَدُوِّهِمْ لَمْ يَقُومُوا لَهُمْ فَنَزَعَ اللَّهُ الرُّعْبَ مِنْ قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، فَكَثُرَ عَلَيْهِمُ الْمُشْرِكُونَ وَتَفَرَّقَ الْعَسْكَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 153] وَشُجَّ وَجْهُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَشُلَّتْ يَدُ طَلْحَةَ دُونَهُ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ وَسَعْدٌ، وَوَقَعَتِ الصَّيْحَةُ فِي الْعَسْكَرِ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، وَكَانَ رَجُلٌ يُكَنَّى أَبَا سُفْيَانَ مِنَ الْأَنْصَارِ نَادَى الْأَنْصَارَ وَقَالَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَكَانَ قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ وَكَثُرَ فِيهِمُ الْجِرَاحُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا ذَبَّ عَنْ إِخْوَانِهِ» وَشَدَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَنْ مَعَهُ حَتَّى كَشَفَهُمْ عَنِ الْقَتْلَى وَالْجَرْحَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْقِصَّةِ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَالْمُسْلِمُونَ كَانُوا أَلْفًا وَأَقَلَّ، ثُمَّ رَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ مَعَ ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَبَقِيَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ سَبْعِمِائَةٍ، فَأَعَانَهُمُ اللَّهُ حَتَّى هَزَمُوا الْكُفَّارَ، ثُمَّ لَمَّا خَالَفُوا أَمْرَ الرَّسُولِ وَاشْتَغَلُوا بِطَلَبِ الْغَنَائِمِ انْقَلَبَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ وَانْهَزَمُوا وَوَقَعَ مَا وَقَعَ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُؤَكِّدُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران: 120] وَأَنَّ الْمُقْبِلَ مَنْ أَعَانَهُ اللَّهُ، وَالْمُدْبِرَ مَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يُقَالُ: بَوَّأْتُهُ مَنْزِلًا وَبَوَّأْتُ لَهُ مَنْزِلًا أَيْ أَنْزَلْتُهُ فِيهِ، وَالْمَبَاءَةُ وَالْبَاءَةُ الْمَنْزِلُ وَقَوْلُهُ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ أَيْ مَوَاطِنَ وَمَوَاضِعَ، وَقَدِ اتَّسَعُوا فِي اسْتِعْمَالِ الْمَقْعَدِ وَالْمَقَامِ بِمَعْنَى الْمَكَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ [الْقَمَرِ: 55] وَقَالَ: قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ [النَّمْلِ: 39] أَيْ مِنْ مَجْلِسِكَ وَمَوْضِعِ حُكْمِكَ وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ الْأَمْكِنَةِ هَاهُنَا بِالْمَقَاعِدِ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَثْبُتُوا فِي مَقَاعِدِهِمْ لَا يَنْتَقِلُوا عَنْهَا، وَالْقَاعِدُ فِي مَكَانٍ لَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ فَسَمَّى تِلْكَ الْأَمْكِنَةَ بِالْمَقَاعِدِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِأَنْ يَثْبُتُوا فِيهَا وَلَا يَنْتَقِلُوا عَنْهَا أَلْبَتَّةَ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُقَاتِلِينَ قَدْ يَقْعُدُونَ فِي الْأَمْكِنَةِ الْمُعَيَّنَةِ إِلَى أَنْ يُلَاقِيَهُمُ الْعَدُوُّ فَيَقُومُوا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الْمُحَارَبَةِ فَسُمِّيَتْ تِلْكَ الْأَمْكِنَةُ بِالْمَقَاعِدِ لِهَذَا الْوَجْهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ يُرْوَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَدَا مِنْ مَنْزِلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَمَشَى عَلَى رِجْلَيْهِ إِلَى أُحُدٍ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْوَاقِدِيِّ، فَدَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ أَهْلًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ تعالى: الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ [النُّورِ: 26] فَدَلَّ هَذَا النَّصُّ

عَلَى أَنَّهَا مُطَهَّرَةٌ مُبَرَّأَةٌ عَنْ كُلِّ قَبِيحٍ، / أَلَا تَرَى أَنَّ وَلَدَ نُوحٍ لَمَّا كَانَ كَافِرًا قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هُودٍ: 46] وَكَذَلِكَ امْرَأَةُ لُوطٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِكُمْ عَلِيمٌ بِضَمَائِرِكُمْ وَنِيَّاتِكُمْ، فَإِنَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَاوَرَ أصحابه في ذلك الْحَرْبِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَهُ: أَقِمْ بِالْمَدِينَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: اخْرُجْ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ لِكُلِّ أَحَدٍ غَرَضٌ آخَرُ فِيمَا يَقُولُ، فَمِنْ مُوَافِقٍ، وَمِنْ مُخَالِفٍ فَقَالَ تَعَالَى: أَنَا سَمِيعٌ لِمَا يَقُولُونَ عَلِيمٌ بِمَا يُضْمِرُونَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَامِلُ فِي قَوْلِهِ إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْعَامِلُ فِيهِ التَّبْوِئَةُ، وَالْمَعْنَى كَانَتِ التَّبْوِئَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الثَّانِي: الْعَامِلُ فِيهِ قَوْلُهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ الثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ إِذْ غَدَوْتَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الطَّائِفَتَانِ حَيَّانِ مِنَ الْأَنْصَارِ: بَنُو سَلَمَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ وَبَنُو حَارِثَةَ مِنَ الْأَوْسِ لَمَّا انْهَزَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ هَمَّتِ الطَّائِفَتَانِ بِاتِّبَاعِهِ، فَعَصَمَهُمُ اللَّهُ، فَثَبَتُوا مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْهَمَ ذِكْرَهُمَا وَسَتَرَ عَلَيْهِمَا، فَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَهْتِكَ ذَلِكَ السِّتْرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْفَشَلُ الْجُبْنُ وَالْخَوَرُ، فَإِنْ قِيلَ: الْهَمُّ بِالشَّيْءِ هُوَ الْعَزْمُ، فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ عَزَمَتَا عَلَى الْفَشَلِ وَالتَّرْكِ وَذَلِكَ مَعْصِيَةٌ فَكَيْفَ بِهِمَا أَنْ يُقَالَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا؟. وَالْجَوَابُ: الْهَمُّ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْعَزْمُ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْفِكْرُ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ حَدِيثُ النَّفْسِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يَظْهَرُ مِنَ الْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَى قُوَّةِ الْعَدُوِّ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِ وَوُفُورِ عُدَدِهِ، لِأَنَّ أَيَّ شَيْءٍ ظَهَرَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ صَحَّ أَنْ يُوصَفَ مَنْ ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْهُ بِأَنَّهُ هَمَّ بِأَنْ يَفْشَلَ مِنْ حَيْثُ ظَهَرَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ ضَعْفَ الْقَلْبِ، فَكَانَ قَوْلُهُ إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْصِيَةً وَقَعَتْ مِنْهُمَا، وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ لَكِنَّهَا مِنْ بَابِ الصَّغَائِرِ لَا مِنْ بَابِ الْكَبَائِرِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما فَإِنَّ ذَلِكَ الْهَمَّ لَوْ كَانَ مِنْ بَابِ الْكَبَائِرِ لَمَا بَقِيَتْ وِلَايَةُ اللَّهِ لَهُمَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عبد الله وَاللَّهُ وَلِيُّهُما كَقَوْلِهِ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الْحُجُرَاتِ: 9] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمَعْنَى وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ الْهَمَّ مَا أَخْرَجَهُمَا عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى الثَّانِي: كَأَنَّهُ قِيلَ: اللَّهُ تَعَالَى نَاصِرُهُمَا وَمُتَوَلِّي أَمْرِهِمَا فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِمَا هَذَا الْفَشَلُ وَتَرْكُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ الثَّالِثُ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفَشَلَ إِنَّمَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْوُجُودِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَلِيُّهُمَا فَأَمَدَّهُمَا بِالتَّوْفِيقِ وَالْعِصْمَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّهُ لَوْلَا تَوْفِيقُهُ سُبْحَانَهُ وَتَسْدِيدُهُ لَمَا تَخَلَّصَ أَحَدٌ عَنْ ظُلُمَاتِ الْمَعَاصِي، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى بعده هَذِهِ الْآيَةِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ مَا يَسُرُّنَا أَنَّا لَمْ نَهُمَّ بِمَا هَمَّتِ الطَّائِفَتَانِ بِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ وَلِيُّهُمَا؟. قُلْنَا: مَعْنَى ذَلِكَ فَرْطُ الِاسْتِبْشَارِ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الشَّرَفِ بِثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْزَالِهِ فِيهِمْ آيَةً نَاطِقَةً بِصِحَّةِ

[سورة آل عمران (3) : آية 123]

الْوِلَايَةِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْهَمَّةَ مَا أَخْرَجَتْهُمْ عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ التَّوَكُّلُ: تَفْعُّلُ، مِنْ وَكَلَ أَمْرَهُ إِلَى فُلَانٍ إِذَا اعْتَمَدَ فِيهِ كِفَايَتَهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتَوَلَّهُ بِنَفْسِهِ، وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَدْفَعَ الْإِنْسَانُ مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ مَكْرُوهٍ وَآفَةٍ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، وَأَنْ يَصْرِفَ الْجَزَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ التَّوَكُّلِ. [سورة آل عمران (3) : آية 123] وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لما ذكر قصة أحد أتبعها بذلك قِصَّةِ بَدْرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَانُوا فِي غَايَةِ الْفَقْرِ وَالْعَجْزِ، وَالْكُفَّارَ كَانُوا فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى سَلَّطَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَ يَجِبُ أَنْ لَا يَتَوَسَّلَ إِلَى تَحْصِيلِ غَرَضِهِ وَمَطْلُوبِهِ إِلَّا بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ تَأْكِيدُ قَوْلِهِ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران: 120] وتأكيد قوله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: 122] الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهُمَا هَمَّتَا بِالْفَشَلِ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يَعْنِي مَنْ كَانَ اللَّهُ نَاصِرًا لَهُ وَمُعِينًا لَهُ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ هَذَا الْفَشَلُ وَالْجُبْنُ وَالضَّعْفُ؟ ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقِصَّةِ بَدْرٍ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ اللَّهُ نَاصِرًا لَهُمْ فَازُوا بِمَطْلُوبِهِمْ وَقَهَرُوا خُصُومَهُمْ فَكَذَا هَاهُنَا، فَهَذَا تَقْرِيرُ وَجْهِ النَّظْمِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي بَدْرٍ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: بَدْرٌ اسْمُ بِئْرٍ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ بَدْرٌ فَسُمِّيَتِ الْبِئْرُ بِاسْمِ صَاحِبِهَا هَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ الثَّانِي: أَنَّهُ اسْمٌ لِلْبِئْرِ كَمَا يُسَمَّى الْبَلَدُ بِاسْمٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَلَ إِلَيْهِ اسْمُ صَاحِبِهِ وَهَذَا قَوْلُ الْوَاقِدِيِّ وَشُيُوخِهِ، وَأَنْكَرُوا قَوْلَ الشَّعْبِيِّ وَهُوَ مَاءٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَذِلَّةٌ جَمْعُ ذَلِيلٍ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْأَصْلُ فِي الْفَعِيلِ إِذَا كَانَ صِفَةً أَنْ يُجْمَعَ عَلَى فُعَلَاءَ كَظَرِيفٍ وَظُرَفَاءَ وَكَثِيرٍ وَكُثَرَاءَ وَشَرِيكٍ وَشُرَكَاءَ إِلَّا أَنَّ لَفْظَ فُعَلَاءَ اجْتَنَبُوهُ فِي التَّضْعِيفِ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا: قَلِيلٌ وَقُلَلَاءُ وَخَلِيلٌ وَخُلَلَاءُ لَاجْتَمَعَ حَرْفَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَعُدِلَ إِلَى أَفْعِلَةٍ لِأَنَّ مِنْ جُمُوعِ الْفَعِيلِ: الْأَفْعِلَةَ، كَجَرِيبٍ وَأَجْرِبَةٍ، وَقَفِيزٍ وَأَقْفِزَةٍ فَجَعَلُوهُ جَمْعَ ذَلِيلٍ أَذِلَّةً، قَالَ صَاحِبُ/ «الْكَشَّافِ» : الْأَذِلَّةُ جَمْعُ قِلَّةٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ جَمْعَ الْقِلَّةِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُمْ مَعَ ذُلِّهِمْ كَانُوا قَلِيلِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَإِنَّمَا كَانُوا أَذِلَّةً لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [الْمُنَافِقُونَ: 8] فَلَا بُدَّ مِنْ تَفْسِيرِ هَذَا الذُّلِّ بِمَعْنًى لَا يُنَافِي مَدْلُولَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ هُوَ تَفْسِيرُهُ بِقِلَّةِ الْعَدَدِ وَضَعْفِ الْحَالِ وَقِلَّةِ السِّلَاحِ وَالْمَالِ وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى مُقَاوَمَةِ الْعَدُوِّ وَمَعْنَى الذُّلِّ الضَّعْفُ عَنِ الْمُقَاوَمَةِ وَنَقِيضُهُ الْعِزُّ وَهُوَ الْقُوَّةُ وَالْغَلَبَةُ، رُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ، وَمَا كَانَ فِيهِمْ إِلَّا فَرَسٌ وَاحِدٌ، وَأَكْثَرُهُمْ كَانُوا رَجَّالَةً، وَرُبَّمَا كَانَ الْجَمْعُ مِنْهُمْ يَرْكَبُ جَمَلًا وَاحِدًا، وَالْكُفَّارُ قَرِيبِينَ مِنْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ وَمَعَهُمْ مِائَةُ فَرَسٍ مَعَ الْأَسْلِحَةِ الْكَثِيرَةِ وَالْعُدَّةِ الْكَامِلَةِ الثَّانِي: لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَذِلَّةً فِي زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ وَاعْتِقَادِهِمْ لِأَجْلِ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ، وَهُوَ مِثْلُ مَا حَكَى اللَّهُ عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [الْمُنَافِقُونَ: 8] الثَّالِثُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ شَاهَدُوا الْكُفَّارَ فِي مَكَّةَ فِي الْقُوَّةِ وَالثَّرْوَةِ وَإِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا اتَّفَقَ لَهُمُ اسْتِيلَاءٌ عَلَى أُولَئِكَ

[سورة آل عمران (3) : آية 124]

الْكُفَّارِ، فَكَانَتْ هَيْبَتُهُمْ بَاقِيَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاسْتِعْظَامُهُمْ مُقَرَّرًا فِي نُفُوسِهِمْ فَكَانُوا لِهَذَا السَّبَبِ يَهَابُونَهُمْ وَيَخَافُونَ مِنْهُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ أَيْ فِي الثَّبَاتِ مَعَ رَسُولِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ بِتَقْوَاكُمْ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ نُصْرَتِهِ أَوْ لَعَلَّ اللَّهَ يُنْعِمُ عَلَيْكُمْ نِعْمَةً أُخْرَى تَشْكُرُونَهَا، فَوَضَعَ الشُّكْرَ مَوْضِعَ الْإِنْعَامِ، لِأَنَّهُ سَبَبٌ له. ثم قال تعالى: [سورة آل عمران (3) : آية 124] إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّ هَذَا الْوَعْدَ حَصَلَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَوْ يَوْمَ أُحُدٍ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ بَيَانُ الْعَامِلِ فِي إِذْ فَإِنْ قُلْنَا هَذَا الْوَعْدُ حَصَلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ الْعَامِلُ فِي إِذْ قَوْلَهُ نَصَرَكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 123] وَالتَّقْدِيرُ: إِذْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ حَصَلَ يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ ذَلِكَ بَدَلًا ثَانِيًا مِنْ قَوْلِهِ وَإِذْ غَدَوْتَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَوْمُ أُحُدٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيِّ وَالْوَاقِدِيِّ وَمُقَاتِلٍ/ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ يَوْمَ بَدْرٍ إِنَّمَا أُمِدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [الْأَنْفَالِ: 9] فَكَيْفَ يَلِيقُ مَا ذُكِرَ فِيهِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَخَمْسَةُ آلَافٍ بِيَوْمِ بَدْرٍ؟. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ أَلْفًا أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ وَالْمُسْلِمُونَ كَانُوا عَلَى الثُّلُثِ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ بَدْرٍ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَصَارَ عَدَدُ الْكُفَّارِ مُقَابَلًا بِعَدَدِ الْمَلَائِكَةِ مَعَ زِيَادَةِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا جَرَمَ وَقَعَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْكُفَّارِ فَكَذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ أَلْفًا، وَعَدَدُ الْكُفَّارِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، فَكَانَ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ عَدَدِ الْكُفَّارِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، كَمَا فِي يَوْمِ بَدْرٍ، فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَنْ يُنَزِّلَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِيَصِيرَ عَدَدُ الْكُفَّارِ مُقَابَلًا بِعَدَدِ الْمَلَائِكَةِ مَعَ زِيَادَةِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَهْزِمُونَهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ كَمَا هَزَمُوهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ جَعَلَ الثَّلَاثَةَ آلَافٍ خَمْسَةَ آلَافٍ لِتَزْدَادَ قُوَّةُ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَيَزُولَ الْخَوْفُ عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا قُلْنَا إِنَّ هَذَا الْوَعْدَ إِنَّمَا حَصَلَ يَوْمَ أُحُدٍ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 125] وَالْمُرَادُ وَيَأْتُوكُمْ أَعْدَاؤُكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ، وَيَوْمُ أُحُدٍ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانَ يَأْتِيهِمُ الْأَعْدَاءُ، فَأَمَّا يَوْمُ بَدْرٍ فَالْأَعْدَاءُ مَا أَتَوْهُمْ، بَلْ هُمْ ذَهَبُوا إِلَى الْأَعْدَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ جَرَى قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ فِي يَوْمِ أُحُدٍ، ثُمَّ إِنَّهُ مَا حَصَلَ هَذَا الْإِمْدَادُ لَزِمَ الْكَذِبُ.

وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ إِنْزَالَهُ خَمْسَةَ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَانَ مَشْرُوطًا بِشَرْطِ أَنْ يَصْبِرُوا وَيَتَّقُوا فِي الْمَغَانِمِ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمْ يَصْبِرُوا وَلَمْ يَتَّقُوا فِي الْمَغَانِمِ بَلْ خَالَفُوا أَمْرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا فَاتَ الشَّرْطُ لَا جَرَمَ فَاتَ الْمَشْرُوطُ وَأَمَّا إِنْزَالُ ثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّمَا وَعَدَ الرَّسُولُ بِذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَوَّأَهُمْ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَأَمَرَهُمْ بِالسُّكُونِ وَالثَّبَاتِ فِي تِلْكَ الْمَقَاعِدِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا وَعَدَهُمْ بِهَذَا الْوَعْدِ بِشَرْطِ أَنْ يَثْبُتُوا فِي تِلْكَ الْمَقَاعِدِ، فَلَمَّا أَهْمَلُوا هَذَا الشَّرْطَ لَا جَرَمَ لَمْ يَحْصُلِ الْمَشْرُوطُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَا نَزَلَتْ، رَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: حَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ أُحُدٍ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا، وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى اللواء معصب بْنَ عُمَيْرٍ فَقُتِلَ مُصْعَبٌ فَأَخَذَهُ مَلَكٌ فِي صُورَةِ مُصْعَبٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقَدَّمْ يَا مُصْعَبُ فَقَالَ الْمَلَكُ لَسْتُ بِمُصْعَبٍ فَعَرَفَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَلَكٌ أُمِدَّ/ بِهِ، وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَرْمِي السَّهْمَ يَوْمَئِذٍ فَيَرُدُّهُ عَلَيَّ رَجُلٌ أَبْيَضُ حَسَنُ الْوَجْهِ وَمَا كُنْتُ أَعْرِفُهُ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَلَكٌ، فَهَذَا مَا نَقُولُهُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْوَجْهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: نَظْمُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قِصَّةَ أُحُدٍ، ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أَيْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَوَكُّلُهُمْ عَلَى اللَّهِ لَا عَلَى كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ فَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَكَذَلِكَ هُوَ قَادِرٌ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ النُّصْرَةِ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا أَعَادَ الْكَلَامَ إِلَى قِصَّةِ أُحُدٍ فَقَالَ: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْوَعْدَ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَاحْتَجُّوا عَلَى صِحَّتِهِ بِوُجُوهٍ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران: 123] ، إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ كَذَا وَكَذَا، فَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَرَهُمْ بِبَدْرٍ حِينَمَا قَالَ الرَّسُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ هَذَا الْكَلَامَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ يَوْمَ بَدْرٍ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ قِلَّةَ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ كَانَتْ يَوْمَ بَدْرٍ أَكْثَرَ وَكَانَ الِاحْتِيَاجُ إِلَى تَقْوِيَةِ الْقَلْبِ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَكْثَرَ، فَكَانَ صَرْفُ هَذَا الْكَلَامِ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْلَى. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْوَعْدَ بِإِنْزَالِ ثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَانَ مُطْلَقًا غَيْرَ مَشْرُوطٍ بِشَرْطٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ، وَهُوَ إِنَّمَا حَصَلَ يَوْمَ بَدْرٍ لَا يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُمْ نَزَلُوا لَكِنَّهُمْ مَا قَاتَلُوا لِأَنَّ الْوَعْدَ كَانَ بِالْإِمْدَادِ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَبِمُجَرَّدِ الْإِنْزَالِ لَا يَحْصُلُ الْإِمْدَادُ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْإِعَانَةِ، وَالْإِعَانَةُ حَصَلَتْ يَوْمَ بَدْرٍ وَلَمْ تَحْصُلْ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَجَابُوا عَنْ دَلَائِلِ الأولين فقالوا: ما الْحُجَّةُ الْأُولَى: وَهِيَ قَوْلُكُمْ: الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أُمِدَّ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. فَالْجَوَابُ عَنْهَا: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَدَّ أَصْحَابَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْفٍ ثُمَّ زَادَ فِيهِمْ أَلْفَيْنِ فَصَارُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ، ثُمَّ زَادَ أَلْفَيْنِ آخَرَيْنِ فَصَارُوا خَمْسَةَ آلَافٍ، فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لَهُمْ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَالُوا بَلَى، ثُمَّ قَالَ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ فَقَالُوا بَلَى، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ، وَهُوَ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «أَيَسُرُّكُمْ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالُوا نَعَمْ قَالَ أَيَسُرُّكُمْ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ» .

الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: أَنَّ أَهْلَ بَدْرٍ إِنَّمَا أُمِدُّوا بِأَلْفٍ عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ/ الْأَنْفَالِ، ثُمَّ بَلَغَهُمْ أَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ يُرِيدُ إِمْدَادَ قُرَيْشٍ بِعَدَدٍ كَثِيرٍ فَخَافُوا وَشَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ لِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّ الْكُفَّارَ إِنْ جَاءَهُمْ مَدَدٌ فَأَنَا أُمِدُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَأْتِ قُرَيْشًا ذَلِكَ الْمَدَدُ، بَلِ انْصَرَفُوا حِينَ بَلَغَهُمْ هَزِيمَةُ قُرَيْشٍ، فَاسْتَغْنَى عَنْ إِمْدَادِ الْمُسْلِمِينَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْأَلْفِ. وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ قَوْلُكُمْ: إِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ أَلْفًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَيَوْمَ أُحُدٍ ثَلَاثَةَ آلَافٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ. فَالْجَوَابُ: إِنَّهُ تَقْرِيبٌ حَسَنٌ، وَلَكِنَّهُ لَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلِ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ يُزِيدُ وَقَدْ يُنْقِصُ فِي الْعَدَدِ بِحَسَبِ مَا يُرِيدُ. وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ التَّمَسُّكُ بقوله وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ [آل عمران: 125] . فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا سَمِعُوا أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ قَدْ تَعَرَّضُوا لِلْعِيرِ ثَارَ الْغَضَبُ فِي قُلُوبِهِمْ وَاجْتَمَعُوا وَقَصَدُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ خَافُوا فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّهُمْ إِنْ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَهَذَا حَاصِلُ مَا قِيلَ فِي تَقْرِيرِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْمَلَائِكَةِ، وَضَبْطُ الْأَقْوَالِ فِيهَا أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ ضَمَّ الْعَدَدَ النَّاقِصَ إِلَى الْعَدَدِ الزَّائِدِ، فَقَالُوا: لِأَنَّ الْوَعْدَ بِإِمْدَادِ الثَّلَاثَةِ لَا شَرْطَ فِيهِ، وَالْوَعْدُ بِإِمْدَادِ الْخَمْسَةِ مَشْرُوطٌ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى وَمَجِيءِ الْكُفَّارِ مِنْ فَوْرِهِمْ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّغَايُرِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْخَمْسَةِ مَشْرُوطَةً بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ الثَّلَاثَةُ الَّتِي جَزَّؤُهَا مَشْرُوطَةً بِذَلِكَ الشَّرْطِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَدْخَلَ الْعَدَدَ النَّاقِصَ فِي الْعَدَدِ الزَّائِدِ، أَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ الْأَوَّلِ: فَإِنْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى قِصَّةِ بَدْرٍ كَانَ عَدَدُ الْمَلَائِكَةِ تِسْعَةَ آلاف لأنه تعالى ذلك الْأَلْفَ، وَذَكَرَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَذَكَرَ خَمْسَةَ آلَافٍ، وَالْمَجْمُوعُ تِسْعَةُ آلَافٍ، وَإِنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى قِصَّةِ أحد، فليس فيها ذلك الْأَلْفِ، بَلْ فِيهَا ذِكْرُ ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَخَمْسَةِ آلَافٍ، وَالْمَجْمُوعُ: ثَمَانِيَةُ آلَافٍ، وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي: وَهُوَ إِدْخَالُ النَّاقِصِ فِي الزَّائِدِ فَقَالُوا: عَدَدُ الْمَلَائِكَةِ خَمْسَةُ آلَافٍ، ثُمَّ ضُمَّ إِلَيْهَا أَلْفَانِ آخَرَانِ، فَلَا جَرَمَ وُعِدُوا بِالْأَلْفِ ثُمَّ ضُمَّ إِلَيْهِ أَلْفَانِ فَلَا جَرَمَ وُعِدُوا بِثَلَاثَةِ آلاف، ثم ضم إليها ألفان آخران فلام جر وُعِدُوا بِخَمْسَةِ آلَافٍ، وَقَدْ حَكَيْنَا عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ أُمِدَّ أَهْلُ بَدْرٍ بِأَلْفٍ فَقِيلَ: إِنَّ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ الْمُحَارِبِيَّ يُرِيدُ أَنْ يُمِدَّ الْمُشْرِكِينَ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ يَعْنِي بِتَقْدِيرِ أَنْ يَجِيءَ الْمُشْرِكِينَ مَدَدٌ فَاللَّهُ تَعَالَى يُمِدُّكُمْ أَيْضًا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ وَخَمْسَةِ آلَافٍ، ثُمَّ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ مَا جَاءَهُمُ الْمَدَدُ، فَكَذَا هَاهُنَا الزَّائِدُ عَلَى الْأَلْفِ مَا جَاءَ الْمُسْلِمِينَ فَهَذِهِ وُجُوهٌ كُلُّهَا مُحْتَمَلَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَالسِّيَرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَنَّهُمْ قَاتَلُوا الْكُفَّارَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمْ تُقَاتِلِ الْمَلَائِكَةُ سِوَى يَوْمِ بَدْرٍ وَفِيمَا سِوَاهُ كَانُوا عَدَدًا وَمَدَدًا لَا يُقَاتِلُونَ وَلَا يَضْرِبُونَ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ، فَإِنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: إِنَّ الْمَلَكَ الْوَاحِدَ يَكْفِي فِي إِهْلَاكِ الْأَرْضِ، وَمِنَ الْمَشْهُورِ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَدْخَلَ جَنَاحَهُ تَحْتَ الْمَدَائِنِ الْأَرْبَعِ لِقَوْمِ لُوطٍ وَبَلَغَ جَنَاحُهُ إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، ثُمَّ رَفَعَهَا إِلَى السَّمَاءِ وقلب عاليها

سَافِلَهَا، فَإِذَا حَضَرَ هُوَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى مُقَاتَلَةِ النَّاسِ مَعَ الْكُفَّارِ؟ ثُمَّ بِتَقْدِيرِ حُضُورِهِ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي إِرْسَالِ سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ؟. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ أَكَابِرَ الْكُفَّارِ كَانُوا مَشْهُورِينَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُقَابِلُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْلُومٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ إِسْنَادُ قَتْلِهِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: الْمَلَائِكَةُ لَوْ قَاتَلُوا لَكَانُوا إِمَّا أَنْ يَصِيرُوا بِحَيْثُ يَرَاهُمُ النَّاسُ أَوْ لَا يَرَاهُمُ النَّاسُ فَإِنْ رَآهُمُ النَّاسُ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ رَأَوْهُمْ فِي صُورَةِ النَّاسِ أَوْ فِي غَيْرِ صُورَةِ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ صَارَ الْمُشَاهَدُ مِنْ عَسْكَرِ الرَّسُولِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، أَوْ أَكْثَرَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ هَذَا عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الْأَنْفَالِ: 44] وَإِنْ شَاهَدُوهُمْ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُوَرِ النَّاسِ لَزِمَ وُقُوعُ الرُّعْبِ الشَّدِيدِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ فَإِنَّ مَنْ شَاهَدَ الْجِنَّ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَشْتَدُّ فَزَعُهُ وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ مَا رَأَوُا الْمَلَائِكَةَ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: إِذَا حَارَبُوا وَحَزُّوا الرؤوس، وَمَزَّقُوا الْبُطُونَ وَأَسْقَطُوا الْكُفَّارَ عَنِ الْأَفْرَاسِ، فَحِينَئِذٍ النَّاسُ كَانُوا يُشَاهِدُونَ حُصُولَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مَعَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا شَاهَدُوا أَحَدًا مِنَ الْفَاعِلِينَ، وَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعْجِزَاتِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَصِيرَ الْجَاحِدُ لِمِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ كَافِرًا مُتَمَرِّدًا، وَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عُرِفَ فَسَادُ هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ نَزَلُوا، إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا أَجْسَامًا كَثِيفَةً أَوْ لَطِيفَةً، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وَجَبَ أَنْ يَرَاهُمُ الْكُلُّ وَأَنْ تَكُونَ رُؤْيَتُهُمْ كَرُؤْيَةِ غَيْرِهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْرَ مَا كَانَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا أَجْسَامًا لَطِيفَةً دَقِيقَةً مِثْلَ الْهَوَاءِ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ صَلَابَةٌ وَقُوَّةٌ، وَيَمْتَنِعُ كَوْنُهُمْ رَاكِبِينَ عَلَى الْخُيُولِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا تَرَوْنَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ إِنَّمَا تَلِيقُ بِمَنْ يُنْكِرُ الْقُرْآنَ وَالنُّبُوَّةَ، فَأَمَّا مَنْ يُقِرُّ بِهِمَا فَلَا يَلِيقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، فَمَا كَانَ يَلِيقُ بِأَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ إِنْكَارُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَعَ أَنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ نَاطِقٌ بِهَا وَوُرُودُهَا فِي الْأَخْبَارِ قَرِيبٌ مِنَ التَّوَاتُرِ، رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ لَمَّا رَجَعَتْ قُرَيْشٌ مِنْ أُحُدٍ/ جَعَلُوا يَتَحَدَّثُونَ فِي أَنْدِيَتِهِمْ بِمَا ظَفِرُوا، وَيَقُولُونَ: لَمْ نَرَ الْخَيْلَ الْبُلْقَ وَلَا الرِّجَالَ الْبِيضَ الَّذِينَ كُنَّا نَرَاهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَالشُّبْهَةُ الْمَذْكُورَةُ إِذَا قَابَلْنَاهَا بِكَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى زَالَتْ وَطَاحَتْ فَإِنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ لِكَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الْحَاجَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ نُصْرَةِ الْمَلَائِكَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: بِالْقِتَالِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ بِتَقْوِيَةِ نُفُوسِهِمْ وَإِشْعَارِهِمْ بِأَنَّ النُّصْرَةَ لَهُمْ وَبِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ، وَالظَّاهِرُ فِي الْمَدَدِ أَنَّهُمْ يُشْرِكُونَ الْجَيْشَ فِي الْقِتَالِ إِنْ وَقَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَقَعَ الْحَاجَةُ إِلَيْهِمْ فِي نَفْسِ الْقِتَالِ وَأَنْ يَكُونَ مُجَرَّدُ حُضُورِهِمْ كَافِيًا فِي تَقْوِيَةِ الْقَلْبِ، وَزَعَمَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ قَاتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَلَمْ يُقَاتِلُوا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ مَعْنَى الْكِفَايَةِ هُوَ سَدُّ الْخَلَّةِ وَالْقِيَامُ بِالْأَمْرِ، يُقَالُ كَفَاهُ أَمْرَ كَذَا إِذَا سَدَّ خَلَّتَهُ، وَمَعْنَى الْإِمْدَادِ إِعْطَاءُ الشَّيْءِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ قَالَ الْمُفَضَّلُ: مَا كَانَ عَلَى جِهَةِ الْقُوَّةِ وَالْإِعَانَةِ قِيلَ

[سورة آل عمران (3) : آية 125]

فِيهِ أَمَدَّهُ يُمِدُّهُ، وَمَا كَانَ عَلَى جِهَةِ الزِّيَادَةِ قِيلَ فِيهِ: مَدَّهُ يَمُدُّهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ [لُقْمَانِ: 27] . الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ مُنَزَّلِينَ مُشَدَّدَ الزَّايِ مَفْتُوحَةً عَلَى التَّكْثِيرِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الزَّايِ مُخَفَّفَةً وَهُمَا لُغَتَانِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّمَا قَدَّمَ لَهُمُ الْوَعْدَ بِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ لِتَقْوَى قُلُوبُهُمْ وَيَعْزِمُوا عَلَى الثَّبَاتِ وَيَثِقُوا بِنَصْرِ اللَّهِ وَمَعْنَى أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ إِنْكَارُ أَنْ لَا يَكْفِيَكُمُ الْإِمْدَادُ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَإِنَّمَا جِيءَ بِلَنِ الَّتِي هِيَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا لِقِلَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وكثرة عددهم كالآيسين من النصر. ثم قال تعالى: [سورة آل عمران (3) : آية 125] بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وفي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: بَلَى: إِيجَابٌ لِمَا بَعْدَ (لَنْ) يَعْنِي بَلْ يَكْفِيكُمُ الْإِمْدَادُ فَأَوْجَبَ الْكِفَايَةَ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يَعْنِي وَالْمُشْرِكُونَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ وَهُوَ خَمْسَةُ آلَافٍ، فَجَعَلَ مَجِيءَ خَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَشْرُوطَةً بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، الصَّبْرُ وَالتَّقْوَى وَمَجِيءُ الْكُفَّارِ عَلَى الْفَوْرِ، فَلَمَّا لَمْ تُوجَدْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ لَا جَرَمَ/ لَمْ يُوجَدِ الْمَشْرُوطُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفَوْرُ مَصْدَرٌ مِنْ: فَارَتِ الْقِدْرُ إِذَا غَلَتْ، قَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ [هُودٍ: 40] قِيلَ إِنَّهُ أَوَّلُ ارْتِفَاعِ الْمَاءِ مِنْهُ ثُمَّ جَعَلُوا هَذِهِ اللَّفْظَةَ اسْتِعَارَةً فِي السُّرْعَةِ، يُقَالُ جَاءَ فُلَانٌ وَرَجَعَ مِنْ فَوْرِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ الْأَمْرُ لِلْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي، وَالْمَعْنَى حِدَّةُ مَجِيءِ الْعَدُوِّ وَحَرَارَتُهُ وَسُرْعَتُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ مُسَوِّمِينَ بِكَسْرِ الْوَاوِ أَيْ مُعَلِّمِينَ عَلَّمُوا أَنْفُسَهُمْ بِعَلَامَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَأَكْثَرُ الْأَخْبَارِ أَنَّهُمْ سَوَّمُوا خُيُولَهُمْ بِعَلَامَاتٍ جَعَلُوهَا عَلَيْهَا، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْوَاوِ، أَيْ سَوَّمَهُمُ اللَّهُ أَوْ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ سَوَّمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَكَانَ فِي الْمُرَادِ مِنَ التَّسْوِيمِ فِي قَوْلِهِ مُسَوِّمِينَ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: السُّومَةُ الْعَلَامَةُ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا الشَّيْءُ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَضَى شَرْحُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ [آلِ عِمْرَانَ: 14] وَهَذِهِ الْعَلَامَةُ يُعَلَّمُهَا الْفَارِسُ يَوْمَ اللِّقَاءِ لِيُعْرَفَ بِهَا، وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: «سَوِّمُوا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ سَوَّمَتْ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ قَدْ سَوَّمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْعَمَائِمِ الصُّفْرِ، وَخُيُولَهُمْ وَكَانُوا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ، بِأَنْ عَلَّقُوا الصُّوفَ الْأَبْيَضَ فِي نَوَاصِيهَا وَأَذْنَابِهَا، وَرُوِيَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَانَ يُعَلَّمُ بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ، وَأَنَّ عَلِيًّا كَانَ يُعَلَّمُ بِصُوفَةٍ بيضاء وأو الزُّبَيْرَ كَانَ يَتَعَصَّبُ بِعِصَابَةٍ صَفْرَاءَ وَأَنَّ أَبَا دُجَانَةَ كَانَ يُعَلَّمُ بِعِصَابَةٍ حَمْرَاءَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْمُسَوَّمِينَ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُرْسَلِينَ مَأْخُوذًا مِنَ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ الْمُرْسَلَةِ فِي الرَّعْيِ، تَقُولُ أَسَمْتُ الْإِبِلَ إِذَا أَرْسَلْتَهَا، وَيُقَالُ فِي التَّكْثِيرِ سَوَّمْتُ كَمَا تَقُولُ أَكْرَمْتُ وَكَرَّمْتُ، فَمَنْ قَرَأَ مُسَوِّمِينَ بِكَسْرِ الْوَاوِ فَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَرْسَلَتْ خَيْلَهَا عَلَى الْكُفَّارِ لِقَتْلِهِمْ وَأَسْرِهِمْ، وَمَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ الْوَاوِ فَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِيُهْلِكُوهُمْ كَمَا تُهْلِكُ الْمَاشِيَةُ النَّبَاتَ والحشيش. [سورة آل عمران (3) : الآيات 126 الى 127] وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ]

الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ وَما جَعَلَهُ اللَّهُ عَائِدَةٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا جَعَلَ اللَّهُ الْمَدَدَ وَالْإِمْدَادَ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ بِأَنَّكُمْ تُنْصَرُونَ فَدَلَّ يُمْدِدْكُمْ عَلَى الْإِمْدَادِ فَكَنَّى عَنْهُ، كَمَا قَالَ: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الْأَنْعَامِ: 121] مَعْنَاهُ: وَإِنَّ أَكْلَهُ لَفِسْقٌ فَدَلَّ تَأْكُلُوا عَلَى الْأَكْلِ فَكَنَّى عَنْهُ وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَما جَعَلَهُ اللَّهُ أَيْ ذِكْرَ الْمَدَدِ إِلَّا بُشْرى وَالْبُشْرَى اسْمٌ مِنَ الْإِبْشَارِ وَمَضَى الْكَلَامُ فِي مَعْنَى التَّبْشِيرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَةِ: 25] . ثُمَّ قَالَ: وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ وَلِتَطْمَئِنَّ فِعْلٌ وَقَوْلُهُ إِلَّا بُشْرى اسْمٌ وَعَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ مُسْتَنْكَرٌ، فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَاطْمِئْنَانًا، أَوْ يُقَالُ إِلَّا لِيُبَشِّرَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ فَلِمَ تَرَكَ ذَلِكَ وَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: فِي ذِكْرِ الْإِمْدَادِ مَطْلُوبَانِ، وَأَحَدُهُمَا أَقْوَى فِي الْمَطْلُوبِيَّةِ مِنَ الْآخَرِ، فَأَحَدُهُمَا إِدْخَالُ السُّرُورِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ إِلَّا بُشْرى وَالثَّانِي: حُصُولُ الطُّمَأْنِينَةِ عَلَى أَنَّ إِعَانَةَ اللَّهِ وَنُصْرَتَهُ مَعَهُمْ فَلَا يَجْبُنُوا عَنِ الْمُحَارَبَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ فَفَرَّقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْعِبَارَتَيْنِ تَنْبِيهًا عَلَى حُصُولِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي الْمَطْلُوبِيَّةِ فَكَوْنُهُ بُشْرَى مَطْلُوبٌ وَلَكِنَّ الْمَطْلُوبَ الْأَقْوَى حُصُولُ الطُّمَأْنِينَةِ، فَلِهَذَا أَدْخَلَ حَرْفَ التَّعْلِيلِ عَلَى فِعْلِ الطُّمَأْنِينَةِ، فَقَالَ: وَلِتَطْمَئِنَّ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [النَّحْلِ: 8] وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ هُوَ الرُّكُوبُ أَدْخَلَ حَرْفَ التَّعْلِيلِ عَلَيْهَا، فَكَذَا هَاهُنَا الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْجَوَابِ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ. ثُمَّ قَالَ: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ تَوَكُّلُهُمْ عَلَى اللَّهِ لَا عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ إِيمَانَ الْعَبْدِ لَا يَكْمُلُ إِلَّا عِنْدَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْأَسْبَابِ وَالْإِقْبَالِ بِالْكُلِّيَّةِ على مسبب الأسباب أو قَوْلُهُ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فَالْعَزِيزُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَالْحَكِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ عِلْمِهِ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَاجَاتُ الْعِبَادِ وَلَا يَعْجِزُ عَنْ إِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُتَوَقَّعِ النَّصْرُ إِلَّا مِنْ رَحْمَتِهِ وَلَا الْإِعَانَةُ إِلَّا مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ. ثُمَّ قَالَ: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّامُ فِي لِيَقْطَعَ طَرَفاً مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ نَصْرِكُمْ بِوَاسِطَةِ إِمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ هُوَ أَنْ يَقْطَعُوا طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ يُهْلِكُوا طَائِفَةً مِنْهُمْ وَيَقْتُلُوا قِطْعَةً مِنْهُمْ، قِيلَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ، لِيَقْطَعَ طَرَفاً وَلَكِنَّهُ ذُكِرَ بِغَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْبَعْضُ قَرِيبًا مِنَ الْبَعْضِ جَازَ حَذْفُ الْعَاطِفِ، وَهُوَ كَمَا يَقُولُ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: أَكْرَمْتُكَ لِتَخْدِمَنِي لِتُعِينَنِي لِتَقُومَ بِخِدْمَتِي حُذِفَ الْعَاطِفُ، لِأَنَّ الْبَعْضَ يَقْرُبُ مِنَ الْبَعْضِ، فَكَذَا هَاهُنَا، وَقَوْلُهُ طَرَفاً أَيْ طَائِفَةً/ وَقِطْعَةً وَإِنَّمَا حَسُنَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ذِكْرُ الطَّرَفِ وَلَمْ يَحْسُنْ ذِكْرُ الْوَسَطِ لِأَنَّهُ لَا وُصُولَ إِلَى الْوَسَطِ إِلَّا بَعْدَ الْأَخْذِ مِنَ الطَّرَفِ، وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَهُ تَعَالَى: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ [التَّوْبَةِ: 123] وَقَوْلُهُ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الرعد: 41] .

[سورة آل عمران (3) : آية 128]

ثُمَّ قَالَ: أَوْ يَكْبِتَهُمْ الْكَبْتُ فِي اللُّغَةِ صَرْعُ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِهِ، يُقَالُ: كَبَتُّهُ فَانْكَبَتَ هَذَا تَفْسِيرُهُ، ثُمَّ قَدْ يُذْكَرُ وَالْمُرَادُ بِهِ الاخزاء والإهلاك واللعن والهزيمة والغيظ، والإذلال، فَكُلُّ ذَلِكَ ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْكَبْتِ، وَقَوْلُهُ خائِبِينَ الْخَيْبَةُ هِيَ الْحِرْمَانُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَيْبَةِ وَبَيْنَ الْيَأْسِ أَنَّ الْخَيْبَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ التَّوَقُّعِ، وَأَمَّا الْيَأْسُ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بَعْدَ التَّوَقُّعِ وَقَبْلَهُ، فَنَقِيضُ الْيَأْسِ الرَّجَاءُ، ونقيض الخيبة الظفر، والله أعلم. [سورة آل عمران (3) : آية 128] لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) [في قَوْلُهُ تَعَالَى لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى الْكُفَّارِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا ذَكَرُوا احْتِمَالَاتٍ أَحَدُهَا: رُوِيَ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ شَجَّهُ وَكَسَرَ رَبَاعِيَتَهُ فَجَعَلَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ يَغْسِلُ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: «كَيْفَ يَفْلَحُ قَوْمٌ خَضَّبُوا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ بِالدَّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ» ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَثَانِيهَا: مَا رَوَى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ أَقْوَامًا فَقَالَ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ أَبَا سُفْيَانَ، اللَّهُمَّ الْعَنِ الْحَرْثَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ الْعَنْ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ فَتَابَ اللَّهُ عَلَى هَؤُلَاءِ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَآهُ وَرَأَى مَا فَعَلُوا بِهِ مِنَ الْمُثْلَةِ قَالَ: «لَأُمَثِّلَنَّ مِنْهُمْ بِثَلَاثِينَ» ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَصَلَتْ يَوْمَ أُحُدٍ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَ الْكُلِّ فَلَا يَمْتَنِعُ حَمْلُهَا عَلَى كُلِّ الِاحْتِمَالَاتِ الثَّانِي: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَلْعَنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ خَالَفُوا أَمْرَهُ وَالَّذِينَ انْهَزَمُوا فَمَنَعَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ انْهَزَمُوا وَخَالَفُوا أَمْرَهُ وَيَدْعُوَ عَلَيْهِمْ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَهَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ وَالْوُجُوهُ كُلُّهَا مُفَرَّعَةٌ عَلَى قَوْلِنَا إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَاقِعَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ جَمْعًا مِنْ خِيَارِ أَصْحَابِهِ إِلَى أَهْلِ بئر معونة ليعلموهن الْقُرْآنَ فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ مَعَ عَسْكَرِهِ وَأَخَذَهُمْ وَقَتَلَهُمْ فَجَزِعَ مِنْ ذَلِكَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَزَعًا شَدِيدًا وَدَعَا عَلَى الْكُفَّارِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، هَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ، وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَإِلْقَاءُ قِصَّةٍ أَجْنَبِيَّةٍ عَنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ وَآخِرِهِ غَيْرُ لَائِقٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي أَمْرٍ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ فِيهِ فِعْلًا، وَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَالْمَنْعِ مِنْهُ، وَعِنْدَ هَذَا يَتَوَجَّهُ الْإِشْكَالُ، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ إِنْ كَانَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَيْفَ مَنَعَهُ اللَّهُ مِنْهُ؟ وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ مَا كَانَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِإِذْنِهِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النَّجْمِ: 3] وَأَيْضًا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَالْأَمْرُ الْمَمْنُوعُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنْ كَانَ حَسَنًا فَلِمَ مَنَعَهُ اللَّهُ؟ وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا، فَكَيْفَ يَكُونُ فَاعِلُهُ مَعْصُومًا؟. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْفِعْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْهُ كَانَ مُشْتَغِلًا بِهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: 65] وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا أَشْرَكَ قط وقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ

اتَّقِ اللَّهَ [الْأَحْزَابِ: 1] فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ يَتَّقِي اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَطَاعَهُمْ، وَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا الْمَنْعِ أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ مَا يُوجِبُ الْغَمَّ الشَّدِيدَ، وَالْغَضَبَ الْعَظِيمَ، وَهُوَ مُثْلَةُ عَمِّهِ حَمْزَةَ، وَقَتْلُ الْمُسْلِمِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْغَضَبَ يَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَلِأَجْلِ أَنْ لَا تُؤَدِّيَ مُشَاهَدَةُ تِلْكَ الْمَكَارِهِ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمَنْعِ تَقْوِيَةً لِعِصْمَتِهِ وَتَأْكِيدًا لِطَهَارَتِهِ وَالثَّانِي: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنْ فَعَلَ لَكِنَّهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى، فَلَا جَرَمَ أَرْشَدَهُ اللَّهُ إِلَى اخْتِيَارِ الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النَّحْلِ: 126، 127] كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنْ كُنْتَ تُعَاقِبُ ذَلِكَ الظَّالِمَ فَاكْتَفِ بِالْمِثْلِ، ثُمَّ قَالَ ثَانِيًا: وَإِنْ تَرَكْتَهُ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، ثُمَّ أَمَرَهُ أَمْرًا جَازِمًا بِتَرْكِهِ، فَقَالَ: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ: لَعَلَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَالَ قَلْبُهُ إِلَى اللَّعْنِ عَلَيْهِمُ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِيهِ، فَنَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَدُلُّ هَذَا النَّهْيُ عَلَى الْقَدْحِ فِي الْعِصْمَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَاهُ لَيْسَ لَكَ مِنْ قِصَّةِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ وَمِنْ شَأْنِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ شَيْءٌ وَعَلَى هَذَا فَنُقِلَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ عِبَارَاتٌ أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَكَ مِنْ مَصَالِحِ عِبَادِي شَيْءٌ إِلَّا مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ وَثَانِيهَا: لَيْسَ لَكَ مِنْ مَسْأَلَةِ إِهْلَاكِهِمْ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْمَصَالِحِ فَرُبَّمَا تَابَ عَلَيْهِمْ وَثَالِثُهَا: لَيْسَ لَكَ فِي أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلَا فِي أَنْ يُعَذِّبَهُمْ شَيْءٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي يُضَادُّ النَّهْيَ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ لَكَ مِنْ أَمْرِ خَلْقِي شَيْءٌ إِلَّا إِذَا كَانَ عَلَى وَفْقِ أَمْرِي، وَهُوَ كَقَوْلِهِ أَلا لَهُ الْحُكْمُ [الْأَنْعَامِ: 62] وَقَوْلِهِ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الرُّومِ: 4] وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ مَنْعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ وَقَوْلٍ إِلَّا مَا كَانَ بِإِذْنِهِ وَأَمْرِهِ وَهَذَا هُوَ الْإِرْشَادُ إِلَى أَكْمَلِ دَرَجَاتِ الْعُبُودِيَّةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ اللَّعْنِ لِأَيِّ مَعْنًى كَانَ؟ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى رُبَّمَا عَلِمَ مِنْ حَالِ بَعْضِ الْكُفَّارِ أَنَّهُ يَتُوبُ، أَوْ إِنْ لَمْ يَتُبْ لَكِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ سَيُولَدُ مِنْهُ وَلَدٌ يَكُونُ مُسْلِمًا بَرًّا تَقِيًّا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّائِقَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُمْهِلَهُ فِي الدُّنْيَا وَأَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ الْآفَاتِ إِلَى أَنْ يَتُوبَ أَوْ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ الْوَلَدُ فَإِذَا حَصَلَ دُعَاءُ الرَّسُولِ عَلَيْهِمْ بِالْإِهْلَاكِ، فَإِنْ قُبِلَتْ دَعْوَتُهُ فَاتَ هَذَا الْمَقْصُودُ، وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَتُهُ كَانَ ذَلِكَ كَالِاسْتِخْفَافِ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى مَنَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ اللَّعْنِ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُفَوِّضَ الْكُلَّ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِظْهَارُ عَجْزِ الْعُبُودِيَّةِ وَأَنْ لَا يَخُوضَ الْعَبْدُ فِي أَسْرَارِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مُلْكِهِ وَمَلَكُوتِهِ، هَذَا هُوَ الْأَحْسَنُ عِنْدِي وَالْأَوْفَقُ لِمَعْرِفَةِ الْأُصُولِ الدَّالَّةِ عَلَى حَقِيقَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ عُطِفَ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَوْ يَكْبِتَهُمْ، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ كَالْكَلَامِ الْأَجْنَبِيِّ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ زَيْدًا، فَأَعْلِمْ ذَلِكَ عَمْرًا، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى أَوْ هَاهُنَا مَعْنَى حَتَّى، أَوْ إِلَّا أَنْ كَقَوْلِكَ: لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تُعْطِيَنِي حَقِّي وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ

[سورة آل عمران (3) : آية 129]

تُعْطِيَنِي أَوْ حَتَّى تُعْطِيَنِي، وَمَعْنَى الْآيَةِ لَيْسَ ذلك مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَتَفْرَحَ بِحَالِهِمْ، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَتَتَشَفَّى مِنْهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ مُفَسَّرٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا بِخَلْقِ التَّوْبَةِ فِيهِمْ وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ النَّدَمِ فِيهِمْ عَلَى مَا مَضَى، وَخَلْقِ الْعَزْمِ فِيهِمْ عَلَى أَنْ لَا يَفْعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَأَكِّدٌ بِبُرْهَانِ الْعَقْلِ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّدَمَ عِبَارَةٌ عَنْ حُصُولِ إِرَادَةٍ فِي الْمُضِيِّ/ مُتَعَلِّقَةٍ بِتَرْكِ فِعْلٍ مِنْ الْأَفْعَالِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَحُصُولُ الْإِرَادَاتِ وَالْكَرَاهَاتِ فِي الْقَلْبِ لَا يَكُونُ بِفِعْلِ الْعَبْدِ، لِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَسْبُوقٌ بِالْإِرَادَةِ، فَلَوْ كَانَتِ الْإِرَادَاتُ فِعْلًا لِلْعَبْدِ لَافْتَقَرَ الْعَبْدُ فِي فِعْلِ تِلْكَ الْإِرَادَةِ إِلَى إِرَادَةٍ أُخْرَى وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ حُصُولَ الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَاتِ فِي الْقَلْبِ لَيْسَ إِلَّا بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكْوِينِهِ ابْتِدَاءً، وَلَمَّا كَانَتِ التَّوْبَةُ عِبَارَةً عَنِ النَّدَمِ وَالْعَزْمِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَادَاتِ وَالْكَرَاهَاتِ، عَلِمْنَا أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَحْصُلُ لِلْعَبْدِ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَصَارَ هَذَا الْبُرْهَانُ مُطَابِقًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ فَسَّرُوا قَوْلَهُ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِمَّا بِفِعْلِ الْأَلْطَافِ أَوْ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنْ كَانَ الْغَرَضُ مِنَ الْآيَةِ مَنْعَهُ من الدعاء على الكفر صَحَّ الْكَلَامُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُمْ ظَالِمِينَ، لِأَنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] وَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ مِنْهَا مَنْعَهُ مِنَ الدُّعَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ خَالَفُوا أَمْرَهُ صَحَّ الْكَلَامُ أَيْضًا، لِأَنَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَذَابِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَذَابَ الدُّنْيَا، وَهُوَ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ وَأَنْ يَكُونَ عَذَابَ الْآخِرَةِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَعِلْمُ ذَلِكَ مُفَوَّضٌ إِلَى اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِهَا تَعْلِيلُ حُسْنِ التَّعْذِيبِ، وَالْمَعْنَى: أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُ إِنْ عَذَّبَهُمْ إِنَّمَا يُعَذِّبُهُمْ لأنهم ظالمون. [سورة آل عمران (3) : آية 129] وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ] فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا تَأْكِيدُ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا مِنْ قَوْلِهِ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [آلِ عِمْرَانَ: 128] وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَمْرَ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ لَهُ الملك، وملك السموات والأرض وليس إلا لله تعالى فالأمر في السموات وَالْأَرْضِ لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ، وَهَذَا بُرْهَانٌ قَاطِعٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قَالَ: مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يَقُلْ (مَنْ) لِأَنَّ الْمُرَادَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَقَائِقِ وَالْمَاهِيَّاتِ، فَدَخَلَ فِيهِ الْكُلُّ. أَمَّا قَوْلُهُ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ فَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا يَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ بِحُكْمِ إِلَهِيَّتِهِ جَمِيعَ الْكُفَّارِ وَالْمَرَدَةِ، وَلَهُ أَنْ يُدْخِلَ النَّارَ بِحُكْمِ إِلَهِيَّتِهِ جَمِيعَ الْمُقَرَّبِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَأَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي فِعْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَدَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى ظَاهِرَةٌ وَالْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَذَلِكَ أن

فِعْلَ الْعَبْدِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِرَادَةِ وَتِلْكَ الْإِرَادَةُ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ تِلْكَ الْإِرَادَةَ أَطَاعَ، وَإِذَا خَلَقَ النَّوْعَ الْآخَرَ مِنَ الْإِرَادَةِ عَصَى، فَطَاعَةُ الْعَبْدِ مِنَ اللَّهِ وَمَعْصِيَتُهُ أَيْضًا مِنَ اللَّهِ، وَفِعْلُ اللَّهِ لَا يُوجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ، فَلَا الطَّاعَةُ تُوجِبُ الثَّوَابَ، وَلَا الْمَعْصِيَةُ تُوجِبُ الْعِقَابَ، بَلِ الْكُلُّ مِنَ اللَّهِ بِحُكْمِ إِلَهِيَّتِهِ وَقَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ، فَصَحَّ ما ادعيناه أنه لو شاء يُعَذِّبَ جَمِيعَ الْمُقَرَّبِينَ حَسُنَ مِنْهُ، وَلَوْ شَاءَ يَرْحَمَ جَمِيعَ الْفَرَاعِنَةِ حَسُنَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَهَذَا الْبُرْهَانُ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لِلْكُفَّارِ وَلَا يُعَذِّبُ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ. قُلْنَا: مَدْلُولُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ لَفَعَلَ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَفْعَلُ أَوْ لَا يَفْعَلُ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ. ثُمَّ خَتَمَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّهُ وَإِنْ حَسُنَ كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُ إِلَّا أَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ غَالِبٌ لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ بَلْ على سبيل الفضل والإحسان. تم الجزء الثامن، ويليه إن شاء الله تعالى الجزء التاسع، وأوله قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أعان الله تعالى على إكماله

الجزء التاسع

الجزء التاسع [تتمة سورة آل عمران] [سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 132] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا] اعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ عَظِيمَ نِعَمِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِرْشَادِهِمْ إِلَى الْأَصْلَحِ لَهُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَفِي أَمْرِ الْجِهَادِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يَدْخُلُ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّحْذِيرِ فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا، وَقَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ إِنَّمَا أَنْفَقُوا عَلَى تِلْكَ الْعَسَاكِرِ أَمْوَالًا جَمَعُوهَا بِسَبَبِ الرِّبَا، فَلَعَلَّ ذَلِكَ يَصِيرُ دَاعِيًا لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الرِّبَا حَتَّى يَجْمَعُوا الْمَالَ وَيُنْفِقُوهُ عَلَى الْعَسْكَرِ فَيَتَمَكَّنُونَ مِنَ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، فَلَا جَرَمَ نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَفِي قَوْلِهِ: أَضْعافاً مُضاعَفَةً مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَ لَهُ عَلَى إِنْسَانٍ مِائَةُ دِرْهَمٍ إِلَى أَجَلٍ، فَإِذَا جَاءَ الْأَجَلُ وَلَمْ يَكُنِ الْمَدْيُونُ وَاجِدًا لِذَلِكَ الْمَالِ قَالَ زِدْ فِي الْمَالِ حَتَّى أَزِيدَ فِي الْأَجَلِ فَرُبَّمَا جَعَلَهُ مِائَتَيْنِ، ثُمَّ إِذَا حَلَّ الأجل الثاني فعل مثل ذَلِكَ، ثُمَّ إِلَى آجَالٍ كَثِيرَةٍ، فَيَأْخُذُ بِسَبَبِ تِلْكَ الْمِائَةِ أَضْعَافَهَا فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَضْعافاً مُضاعَفَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: انْتَصَبَ أَضْعافاً عَلَى الْحَالِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. اعْلَمْ أَنَّ اتِّقَاءَ اللَّهِ فِي هَذَا النَّهْيِ وَاجِبٌ، وَأَنَّ الْفَلَاحَ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، فَلَوْ أَكَلَ وَلَمْ يَتَّقِ زَالَ الْفَلَاحُ/ وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الرِّبَا مِنَ الْكَبَائِرِ لَا مِنَ الصَّغَائِرِ وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَةِ: 21] وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي الرِّبَا أَيْضًا مَرَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ تَكُونُ بِقَدْرِ كُفْرِهِمْ وَذَلِكَ أَزْيَدُ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْمُسْلِمُ بِفِسْقِهِ، فَكَيْفَ قَالَ: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ. وَالْجَوَابُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: اتَّقُوا أَنْ تَجْحَدُوا تَحْرِيمَ الرِّبَا فَتَصِيرُوا كَافِرِينَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ يَقْتَضِي أَنَّهَا مَا أُعِدَّتْ إِلَّا لِلْكَافِرِينَ، وَهَذَا يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَدْخُلُ النَّارَ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ سَائِرِ الْآيَاتِ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي النَّارِ دَرَكَاتٌ أُعِدَّ بَعْضُهَا لِلْكُفَّارِ وَبَعْضُهَا لِلْفُسَّاقِ فَقَوْلُهُ: النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ إِشَارَةٌ إِلَى تِلْكَ الدَّرَكَاتِ الْمَخْصُوصَةِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ، وَهَذَا لَا

[سورة آل عمران (3) : آية 133]

يَمْنَعُ ثُبُوتَ دَرَكَاتٍ أُخْرَى فِي النَّارِ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِغَيْرِ الْكَافِرِينَ. الثَّانِي: أَنَّ كَوْنَ النَّارِ مُعَدَّةً لِلْكَافِرِينَ، لَا يَمْنَعُ دُخُولَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ هُمُ الْكُفَّارَ فَلِأَجْلِ الْغَلَبَةِ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا مُعَدَّةٌ لَهُمْ، كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ لِدَابَّةٍ رَكِبَهَا لِحَاجَةٍ مِنَ الْحَوَائِجِ، إِنَّمَا أَعْدَدْتُ هَذِهِ الدَّابَّةَ لِلِقَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَيَكُونُ صَادِقًا فِي ذلك وإن كان هو قدر رَكِبَهَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ لِغَرَضٍ آخَرَ فَكَذَا هَاهُنَا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ: أَنَّ الْقُرْآنَ كَالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ فَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ النَّارَ مُعَدَّةٌ لِلْكَافِرِينَ وَسَائِرُ الْآيَاتِ دَالَّةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِمَنْ سَرَقَ وَقَتَلَ وَزَنَى وَقَذَفَ، وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الْمُلْكِ: 8] وَلَيْسَ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ يُقَالُ ذَلِكَ، وَأَيْضًا قَالَ تعالى: فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ [الشعرا: 94] الى قوله: إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ [الشعرا: 98] وَلَيْسَ هَذَا صِفَةَ جَمِيعِهِمْ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ مَذْكُورَةً فِي سَائِرِ السُّوَرِ، كَانَتْ كَالْمَذْكُورَةِ هَاهُنَا، فَكَذَا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ إِثْبَاتُ كَوْنِهَا مُعَدَّةً لَهُمْ وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْجَنَّةِ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 133] لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا سِوَاهُمْ مِنَ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينَ وَالْحُورِ الْعِينِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ وَصْفِ النَّارِ بِأَنَّهَا أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ تَعْظِيمُ الزَّجْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِاتِّقَاءِ الْمَعَاصِي إِذَا عَلِمُوا بِأَنَّهُمْ مَتَى فَارَقُوا التَّقْوَى أُدْخِلُوا النَّارَ الْمُعَدَّةَ لِلْكَافِرِينَ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عُقُولِهِمْ عِظَمُ عُقُوبَةِ الْكُفَّارِ، كَانَ انْزِجَارُهُمْ عَنِ الْمَعَاصِي أَتَمَّ، / وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُخَوِّفَ الْوَالِدُ وَلَدَهُ بِأَنَّكَ إِنْ عَصَيْتَنِي أَدْخَلْتُكَ دَارَ السِّبَاعِ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الدَّارَ لَا يَدْخُلُهَا غَيْرُهُمْ فَكَذَا هَاهُنَا. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَلْ تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ النَّارَ مَخْلُوقَةٌ الْآنَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أُعِدَّتْ إِخْبَارٌ عَنِ الْمَاضِي فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ ذَلِكَ الشَّيْءُ فِي الْوُجُودِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَلَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ ذَكَرَ الْوَعْدَ بَعْدَهُ عَلَى مَا هُوَ الْعَادَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ هَذِهِ الْآيَةُ مُعَاتَبَةٌ لِلَّذِينِ عَصَوُا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَمَرَهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الرَّحْمَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا عَامٌّ فَيَدُلُّ الظَّاهِرُ عَلَى أَنَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلرَّحْمَةِ وذلك يدل على قول أصحاب الوعيد. [سورة آل عمران (3) : آية 133] وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ سارِعُوا بِغَيْرِ وَاوٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، وَالْبَاقُونَ بِالْوَاوِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِ مَكَّةَ وَالْعِرَاقِ وَمُصْحَفِ عُثْمَانَ، فَمَنْ قَرَأَ بِالْوَاوِ عَطَفَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا وَالتَّقْدِيرُ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَسَارِعُوا، وَمَنْ تَرَكَ الْوَاوَ فَلِأَنَّهُ جَعَلَ قوله: سارِعُوا وقوله: أَطِيعُوا اللَّهَ [آلِ عِمْرَانَ: 132] كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَلِقُرْبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنَ الْآخَرِ فِي الْمَعْنَى أَسْقَطَ الْعَاطِفَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ الإمالة في سارِعُوا وأُولئِكَ يُسارِعُونَ [المؤمنون: 61]

ونُسارِعُ [المؤمنون: 56] وذلك جائز لمكان الراء المكسورة، ويمنع كما المفتوحة الإمالة، كذلك المكسورة يُمِيلُهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالُوا فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَالْمَعْنَى: وَسَارِعُوا إِلَى مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةً مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْمَغْفِرَةِ لَيْسَ إِلَّا فِعْلَ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكَ الْمَنْهِيَّاتِ، فَكَانَ هَذَا أَمْرًا بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَتَمَسَّكَ كَثِيرٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ يُوجِبُ الْفَوْرَ وَيَمْنَعُ مِنَ التَّرَاخِي وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ كَلِمَاتٌ: إِحْدَاهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْإِسْلَامُ/ أَقُولُ وَجْهُهُ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمَغْفِرَةَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ، والمراد منه المغفرة العظيمة المتناهية في العظيم وَذَلِكَ هُوَ الْمَغْفِرَةُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ. الثَّانِي: رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ فَيَجِبُ أَنْ يَعُمَّ الْكُلَّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الْإِخْلَاصُ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ الْإِخْلَاصُ، كَمَا قَالَ: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الْبَيِّنَةِ: 5] الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هُوَ الْهِجْرَةُ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ الْجِهَادُ وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: لِأَنَّ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ [آلِ عِمْرَانَ: 121] إِلَى تَمَامِ سِتِّينَ آيَةً نَزَلَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ فَكَانَ كُلُّ هَذِهِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي مُخْتَصَّةً بِمَا يَتَعَلَّقُ بِبَابِ الْجِهَادِ. السَّادِسُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّهَا التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى. وَالسَّابِعُ: قَالَ عُثْمَانُ: إِنَّهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. وَالثَّامِنُ: قَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّهَا جَمِيعُ الطَّاعَاتِ. لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ. وَالتَّاسِعُ: قَالَ الْأَصَمُّ: سَارِعُوا، أَيْ بَادِرُوا إِلَى التَّوْبَةِ مِنَ الرِّبَا وَالذُّنُوبِ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى أَوَّلًا عَنِ الرِّبَا، ثُمَّ قَالَ: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُسَارَعَةُ فِي تَرْكِ مَا تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَالْأَوْلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ وُجُوبِ حَمْلِهِ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَالتَّوْبَةِ عَنْ جَمِيعِ الْمَحْظُورَاتِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فَلَا وَجْهَ فِي تَخْصِيصِهِ، ثُمَّ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ كَمَا تَجِبُ الْمُسَارَعَةُ إِلَى الْمَغْفِرَةِ فَكَذَلِكَ تَجِبُ الْمُسَارَعَةُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا فُصِلَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْغُفْرَانَ مَعْنَاهُ إِزَالَةُ الْعُقَابِ، وَالْجَنَّةُ مَعْنَاهَا إيصال الثواب، فجميع بَيْنَهُمَا لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُكَلَّفِ مِنْ تَحْصِيلِ الْأَمْرَيْنِ، فَأَمَّا وَصْفُ الْجَنَّةِ بِأَنَّ عَرْضَهَا السموات فَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ لِأَنَّ نَفْسَ السموات لا تكون عرضا للجنة، فالمراد كعرض السموات وَالْأَرْضِ وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا مَعْنَى أن عرضها مثل عرض السموات وَالْأَرْضِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ لَوْ جعلت السموات وَالْأَرَضُونَ طَبَقًا طَبَقًا بِحَيْثُ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الطَّبَقَاتِ سَطْحًا مُؤَلَّفًا مِنْ أَجْزَاءٍ لَا تَتَجَزَّأُ، ثُمَّ وُصِلَ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ طَبَقًا وَاحِدًا لَكَانَ ذَلِكَ مِثْلَ عَرْضِ الْجَنَّةِ، وَهَذَا غَايَةٌ فِي السَّعَةِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي يَكُونُ عَرْضُهَا مِثْلَ عرض السموات وَالْأَرْضِ إِنَّمَا تَكُونُ لِلرَّجُلِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَرْغَبُ فِيمَا يَصِيرُ مُلْكًا، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ الْجَنَّةُ الْمَمْلُوكَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِقْدَارُهَا هَذَا. الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: وَفِيهِ وَجْهٌ آخر وهو أن الجنة لو عرضت بالسموات وَالْأَرْضِ عَلَى سَبِيلِ الْبَيْعِ لَكَانَتَا ثَمَنًا لِلْجَنَّةِ، تَقُولُ إِذَا بِعْتَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ الْآخَرِ عَرَضْتُهُ عَلَيْهِ وَعَارَضْتُهُ بِهِ، فَصَارَ الْعَرْضُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فِي الْقَدْرِ، وَكَذَا أَيْضًا مَعْنَى الْقِيمَةِ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ مُقَاوَمَةِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ حَتَّى يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا/ مِثْلًا لِلْآخَرِ. الرَّابِعُ: الْمَقْصُودُ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِ سَعَةِ الْجَنَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ عِنْدَنَا أَعْرَضُ مِنْهُمَا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [هُودٍ: 107] فَإِنَّ أَطْوَلَ الْأَشْيَاءِ بَقَاءً عندنا هو السموات وَالْأَرْضُ، فَخُوطِبْنَا عَلَى وَفْقِ مَا عَرَفْنَاهُ، فَكَذَا هَاهُنَا. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ خُصَّ الْعَرْضُ بِالذِّكْرِ.

[سورة آل عمران (3) : آية 134]

وَالْجَوَابُ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعَرْضُ ذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الطُّولَ يَكُونُ أَعْظَمَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [الرَّحْمَنِ: 54] وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْبَطَائِنَ لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهَا تَكُونُ أَقَلَّ حَالًا مِنَ الظِّهَارَةِ، فَإِذَا كَانَتِ الْبِطَانَةُ هَكَذَا فَكَيْفَ الظِّهَارَةُ؟ فَكَذَا هَاهُنَا إِذَا كَانَ الْعَرْضُ هَكَذَا فَكَيْفَ الطُّولُ وَالثَّانِي: قَالَ الْقَفَّالُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْعَرْضِ هَاهُنَا مَا هُوَ خِلَافُ الطُّولِ، بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ السَّعَةِ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: بِلَادٌ عَرِيضَةٌ، وَيُقَالُ هَذِهِ دَعْوَى عَرِيضَةٌ، أَيْ وَاسِعَةٌ عَظِيمَةٌ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَا اتَّسَعَ عَرْضُهُ لَمْ يَضِقْ، وَمَا ضَاقَ عَرْضُهُ دَقَّ، فَجُعِلَ الْعَرْضُ كِنَايَةً عَنِ السَّعَةِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ: الْجَنَّةُ فِي السَّمَاءِ فَكَيْفَ يَكُونُ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِنَا إِنَّهَا فوق السموات وَتَحْتَ الْعَرْشِ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فِي صِفَةِ الْفِرْدَوْسِ «سَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ» وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ هِرَقَلَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنَّكَ تدعو الى جنة عرضها السموات وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ فَأَيْنَ النَّارُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سُبْحَانَ اللَّهِ فَأَيْنَ اللَّيْلُ إِذَا جَاءَ النَّهَارُ. وَالْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا دَارَ الْفَلَكُ حَصَلَ النَّهَارُ فِي جَانِبٍ مِنَ الْعَالَمِ وَاللَّيْلُ فِي ضِدِّ ذَلِكَ الْجَانِبِ، فَكَذَا الْجَنَّةُ فِي جِهَةِ الْعُلُوِّ وَالنَّارُ فِي جِهَةِ السُّفْلِ، وَسُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ الْجَنَّةِ أَفِي الْأَرْضِ أَمْ فِي السَّمَاءِ؟ فَقَالَ: وَأَيُّ أَرْضٍ وَسَمَاءٍ تَسَعُ الْجَنَّةَ، قِيلَ فأين هي؟ قال: فوق السموات السَّبْعِ تَحْتَ الْعَرْشِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ غَيْرُ مَخْلُوقَتَيْنِ الْآنَ، بَلِ اللَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُهُمَا بَعْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الْجَنَّةُ مخلوقة في مكان السموات وَالنَّارُ فِي مَكَانِ الْأَرْضِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ فَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ الْآنَ وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ ذلك. [سورة آل عمران (3) : آية 134] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْجَنَّةَ مُعَدَّةٌ لِلْمُتَّقِينَ ذَكَرَ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْإِنْسَانُ مِنَ اكْتِسَابِ الْجَنَّةِ بِوَاسِطَةِ اكْتِسَابِ تِلْكَ الصِّفَاتِ. فَالصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ فِي حَالِ الرَّخَاءِ وَالْيُسْرِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعُسْرِ لَا يَتْرُكُونَ الْإِنْفَاقَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالسَّرَّاءُ هُوَ الْغِنَى، وَالضَّرَّاءُ هُوَ الْفَقْرُ. يُحْكَى عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ رُبَّمَا تَصَدَّقَ بِبَصَلَةٍ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا تَصَدَّقَتْ بِحَبَّةِ عِنَبٍ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ سَوَاءٌ كَانُوا فِي سُرُورٍ أَوْ فِي حُزْنٍ أَوْ فِي عُسْرٍ أَوْ فِي يُسْرٍ فَإِنَّهُمْ لَا يَدَعُونَ الْإِحْسَانَ إِلَى النَّاسِ، الثَّالِثُ: الْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِحْسَانَ وَالْإِنْفَاقَ سَوَاءٌ سَرَّهُمْ بِأَنْ كَانَ عَلَى وَفْقِ طَبْعِهِمْ، أَوْ سَاءَهُمْ بِأَنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ طَبْعِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَهُ، وَإِنَّمَا افْتَتَحَ اللَّهُ بِذِكْرِ الْإِنْفَاقِ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ شَاقَّةٌ وَلِأَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَشْرَفَ الطَّاعَاتِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي مُجَاهَدَةِ الْعَدُوِّ وَمُوَاسَاةِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: كَظَمَ غَيْظَهُ إِذَا سَكَتَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُظْهِرْهُ لَا بِقَوْلٍ وَلَا بِفِعْلٍ قَالَ الْمُبَرِّدُ: تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَتَمَ عَلَى امْتِلَائِهِ مِنْهُ، يُقَالُ: كَظَمْتُ السِّقَاءَ إِذَا مَلَأْتَهُ وَسَدَدْتَ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ لَا يَكْظِمُ عَلَى جَرَّتِهِ إِذَا كان لا

[سورة آل عمران (3) : الآيات 135 إلى 136]

يَحْتَمِلُ شَيْئًا، وَكُلُّ مَا سَدَدْتَ مِنْ مَجْرَى مَاءٍ أَوْ بَابٍ أَوْ طَرِيقٍ فَهُوَ كَظْمٌ، وَالَّذِي يُسَدُّ بِهِ يُقَالُ لَهُ الْكِظَامَةُ وَالسِّدَادَةُ، وَيُقَالُ لِلْقَنَاةِ الَّتِي تَجْرِي فِي بَطْنِ الْأَرْضِ كظامة، لا لِامْتِلَائِهَا بِالْمَاءِ كَامْتِلَاءِ الْقِرَبِ الْمَكْظُومَةِ، وَيُقَالُ: أَخَذَ فُلَانٌ بِكَظْمِ فُلَانٍ إِذَا أَخَذَ بِمَجْرَى نَفَسِهِ، لأنه موضع الامتلاء بالنفس، وكظم البعير كظم الْبَعِيرُ كُظُومًا إِذَا أَمْسَكَ عَلَى مَا فِي جَوْفِهِ وَلَمْ يَجْتَرَّ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ الذين يكفون غيظهم عن الإمضاء ويردون غَيْظَهُمْ فِي أَجْوَافِهِمْ، وَهَذَا الْوَصْفُ مِنْ أَقْسَامِ الصَّبْرِ وَالْحِلْمِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشُّورَى: 37] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْفَاذِهِ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا» وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَصْحَابِهِ «تَصَدَّقُوا» فَتَصَدَّقُوا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالطَّعَامِ، وَأَتَاهُ الرَّجُلُ بِقُشُورِ التَّمْرِ فَتَصَدَّقَ بِهِ، وَجَاءَهُ آخَرُ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا عِنْدِي مَا أَتَصَدَّقُ بِهِ، وَلَكِنْ أَتَصَدَّقُ بِعِرْضِي فَلَا أُعَاقِبُ أَحَدًا بِمَا يَقُولُهُ فِي حَدِيثِهِ، فَوَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْمِ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَفْدٌ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَقَدْ تَصَدَّقَ مِنْكُمْ رَجُلٌ بِصَدَقَةٍ وَلَقَدْ قَبِلَهَا اللَّهُ مِنْهُ تَصَدَّقَ بِعِرْضِهِ» وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْفِذَهُ زَوَّجَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ حَيْثُ يَشَاءُ» وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا مِنْ جَرْعَتَيْنِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ جَرْعَةٍ مُوجِعَةٍ يَجْرَعُهَا صَاحِبُهَا بِصَبْرٍ وَحُسْنِ/ عَزَاءٍ وَمِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا» وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ لَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» . الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا رَاجِعًا إِلَى مَا ذُمَّ مِنْ فِعْلِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَكْلِ الرِّبَا، فَنُهِيَ الْمُؤْمِنُونَ عَنْ ذَلِكَ وَنُدِبُوا إِلَى الْعَفْوِ عَنِ الْمُعْسِرِينَ. قَالَ تَعَالَى عَقِيبَ قِصَّةِ الرِّبَا وَالتَّدَايُنِ وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 280] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ فِي الدِّيَةِ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [الْبَقَرَةِ: 178] إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 280] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا بِسَبَبِ غَضَبِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ مَثَّلُوا بِحَمْزَةَ وَقَالَ: «لَأُمَثِّلَنَّ بِهِمْ» فَنُدِبَ إِلَى كَظْمِ هَذَا الْغَيْظِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ وَالْكَفِّ عَنْ فِعْلِ مَا ذَكَرَ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ مِنَ الْمُثْلَةِ، فَكَانَ تَرْكُهُ فِعْلَ ذَلِكَ عَفْوًا، قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النَّحْلِ: 126] قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَكُونُ الْعَبْدُ ذَا فَضْلٍ حَتَّى يَصِلَ مَنْ قَطَعَهُ وَيَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَيُعْطِيَ مَنْ حَرَمَهُ» وَرُوِيَ عَنْ عِيسَى بن مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: لَيْسَ الْإِحْسَانُ أَنْ تُحْسِنَ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ ذَلِكَ مُكَافَأَةٌ إِنَّمَا الْإِحْسَانُ أَنْ تُحْسِنَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلْجِنْسِ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مُحْسِنٍ وَيَدْخُلُ تَحْتَهُ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ، وَأَنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ فَيَكُونَ إِشَارَةً إِلَى هَؤُلَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْغَيْرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِيصَالِ النَّفْعِ إِلَيْهِ أَوْ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ. أَمَّا إِيصَالُ النَّفْعِ إِلَيْهِ فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَيَدْخُلُ فِيهِ إِنْفَاقُ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَشْتَغِلَ بِتَعْلِيمِ الْجَاهِلِينَ وَهِدَايَةِ الضَّالِّينَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَأَمَّا دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ الْغَيْرِ فَهُوَ إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَهُوَ أن لا يشتغل بمقابلة تلك الإساءة أُخْرَى، وَهُوَ الْمُرَادُ بِكَظْمِ الْغَيْظِ، وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ أَنْ يُبَرِّئَ ذِمَّتَهُ عَنِ التَّبِعَاتِ وَالْمُطَالَبَاتِ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ دَالَّةً عَلَى جَمِيعِ جِهَاتِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْغَيْرِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ مُشْتَرِكَةً فِي كَوْنِهَا إِحْسَانًا إِلَى الْغَيْرِ ذَكَرَ ثَوَابَهَا فَقَالَ: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فَإِنَّ مَحَبَّةَ الله للعبد أعم درجات الثواب. [سورة آل عمران (3) : الآيات 135 الى 136] وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ]

وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ النَّظْمِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْجَنَّةَ بِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلْمُتَّقِينَ بَيَّنَ أَنَّ الْمُتَّقِينَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِينَ أَقْبَلُوا عَلَى الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، وَهُمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِالْإِنْفَاقِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَالْعَفْوِ عَنِ النَّاسِ. وَثَانِيهُمَا: الَّذِينَ أَذْنَبُوا ثُمَّ تَابُوا وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الْفِرْقَةَ كَالْفِرْقَةِ الْأُولَى فِي كَوْنِهَا مُتَّقِيَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُذْنِبَ إِذَا تَابَ عَنِ الذَّنْبِ صَارَ حَالُهُ كَحَالِ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ قَطُّ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَنْزِلَةِ وَالْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى نَدَبَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْغَيْرِ، وَنَدَبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الْإِحْسَانِ إِلَى النَّفْسِ، فَإِنَّ الْمُذْنِبَ الْعَاصِيَ إِذَا تَابَ كَانَتْ تِلْكَ التَّوْبَةُ إِحْسَانًا مِنْهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ، أَنْصَارِيٍّ وَثَقَفِيٍّ، وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ آخَى بَيْنَهُمَا، وَكَانَا لَا يَفْتَرِقَانِ فِي أَحْوَالِهِمَا، فَخَرَجَ الثَّقَفِيُّ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْعَةِ فِي السَّفَرِ، وَخَلَّفَ الْأَنْصَارِيَّ عَلَى أَهْلِهِ لِيَتَعَاهَدَهُمْ، فَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثُمَّ قَامَ إِلَى امْرَأَتِهِ لِيُقَبِّلَهَا فَوَضَعَتْ كَفَّهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَنَدِمَ الرَّجُلُ، فَلَمَّا وَافَى الثَّقَفِيُّ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرَ الْأَنْصَارِيَّ، وَكَانَ قَدْ هَامَ فِي الْجِبَالِ لِلتَّوْبَةِ، فَلَمَّا عَرَفَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكَتَ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: قَالَ الْمُؤْمِنُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَّا، فَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا أَصْبَحَتْ كَفَّارَةُ ذَنْبِهِ مَكْتُوبَةً عَلَى عَتَبَةِ دَارِهِ: اجْدَعْ أَنْفَكَ، افْعَلْ كَذَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ حَيْثُ جَعَلَ كَفَّارَةَ ذَنْبِهِمُ الِاسْتِغْفَارَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفَاحِشَةُ هَاهُنَا نَعْتٌ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: فَعَلُوا فِعْلَةً فَاحِشَةً، وَذَكَرُوا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَاحِشَةِ وَبَيْنَ ظُلْمِ النَّفْسِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْفَاحِشَةُ مَا يَكُونُ فِعْلُهُ/ كَامِلًا فِي الْقُبْحِ، وَظُلْمُ النَّفْسِ: هُوَ أَيُّ ذَنْبٍ كَانَ مِمَّا يُؤَاخَذُ الْإِنْسَانُ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْفَاحِشَةَ هِيَ الْكَبِيرَةُ، وَظُلْمُ النَّفْسِ. هِيَ الصَّغِيرَةُ، وَالصَّغِيرَةُ يَجِبُ الِاسْتِغْفَارُ مِنْهَا، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَأْمُورًا بِالِاسْتِغْفَارِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [مُحَمَّدٍ: 19] وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُهُ دَالًّا عَلَى الصَّغَائِرِ بَلْ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ. الثَّالِثُ: الْفَاحِشَةُ: هِيَ الزِّنَا، وَظُلْمُ النَّفْسِ: هِيَ الْقُبْلَةُ وَاللَّمْسَةُ وَالنَّظْرَةُ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى الزِّنَا فَاحِشَةً، فَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً [الْإِسْرَاءِ: 32] . أَمَّا قَوْلُهُ: ذَكَرُوا اللَّهَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى ذَكَرُوا وَعِيدَ اللَّهِ أَوْ عِقَابَهُ أَوْ جَلَالَهُ الْمُوجِبَ لِلْخَشْيَةِ وَالْحَيَاءِ مِنْهُ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَالذِّكْرُ هَاهُنَا هُوَ الَّذِي ضِدُّ النِّسْيَانِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الضَّحَّاكِ، وَمُقَاتِلٍ، وَالْوَاقِدِيِّ، فَإِنَّ الضَّحَّاكَ قَالَ: ذَكَرُوا الْعَرْضَ الْأَكْبَرَ عَلَى اللَّهِ، ومقاتل، والواقدي قال: تَفَكَّرُوا أَنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ كَالْأَثَرِ، وَالنَّتِيجَةِ لِذَلِكَ الذِّكْرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الذِّكْرَ الَّذِي يُوجِبُ الِاسْتِغْفَارَ لَيْسَ إِلَّا ذِكْرَ عِقَابِ اللَّهِ، وَنَهْيِهِ وَوَعِيدِهِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 137 إلى 138]

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الذِّكْرِ ذِكْرُ اللَّهِ بِالثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ مَسْأَلَةً، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَدِّمَ عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ، فَهُنَا لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ الِاسْتِغْفَارَ مِنَ الذُّنُوبِ قَدَّمُوا عَلَيْهِ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ اشْتَغَلُوا بِالِاسْتِغْفَارِ عَنِ الذُّنُوبِ. ثُمَّ قَالَ: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْإِتْيَانُ بِالتَّوْبَةِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ النَّدَمُ عَلَى فِعْلِ مَا مَضَى مع العز عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ، فَأَمَّا الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ، فَذَاكَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي إِزَالَةِ الذَّنْبِ، بَلْ يَجِبُ إِظْهَارُ هَذَا الِاسْتِغْفَارِ لِإِزَالَةِ التُّهْمَةِ، وَلِإِظْهَارِ كَوْنِهِ مُنْقَطِعًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: لِذُنُوبِهِمْ أَيْ لِأَجْلِ ذُنُوبِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ لَا يَطْلُبَ الْعَبْدُ الْمَغْفِرَةَ إِلَّا مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَادِرُ عَلَى عِقَابِ الْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَكَانَ هُوَ الْقَادِرَ عَلَى إِزَالَةِ ذَلِكَ الْعِقَابِ عَنْهُ، فَصَحَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ طَلَبُ الِاسْتِغْفَارِ إِلَّا مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا. وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حَالٌ مِنْ فِعْلِ الْإِصْرَارِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَمْ يُصِرُّوا/ عَلَى مَا فَعَلُوا مِنَ الذُّنُوبِ حَالَ مَا كَانُوا عَالِمِينَ بِكَوْنِهَا مَحْظُورَةً مُحَرَّمَةً لِأَنَّهُ قَدْ يُعْذَرُ مَنْ لَا يَعْلَمُ حُرْمَةَ الْفِعْلِ، أَمَّا الْعَالِمُ بِحُرْمَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُعْذَرُ فِي فِعْلِهِ أَلْبَتَّةَ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَقْلَ وَالتَّمْيِيزَ وَالتَّمْكِينَ مِنَ الِاحْتِرَازِ مِنَ الْفَوَاحِشِ فَيَجْرِي مَجْرَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ» . ثُمَّ قَالَ: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: الْأَمْنُ مِنَ الْعِقَابِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَالثَّانِي: إِيصَالُ الثواب اليه وهو المراد بقوله: جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْغُفْرَانُ وَالْجَنَّاتُ يَكُونُ أَجْرًا لِعَمَلِهِمْ وَجَزَاءً عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّ الثَّوَابَ تَفَضُّلٌ مِنَ اللَّهِ وَلَيْسَ بِجَزَاءٍ على عملهم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 138] قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ الْغُفْرَانَ وَالْجَنَّاتِ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ وَعَلَى التَّوْبَةِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَهُوَ تَأَمُّلُ أَحْوَالِ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْمُطِيعِينَ وَالْعَاصِينَ فَقَالَ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَصْلُ الْخُلُوِّ فِي اللُّغَةِ الِانْفِرَادُ وَالْمَكَانُ الْخَالِي هُوَ الْمُنْفَرِدُ عَمَّنْ يَسْكُنُ فِيهِ وَيُسْتَعْمَلُ أَيْضًا فِي الزَّمَانِ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ لِأَنَّ مَا مَضَى انْفَرَدَ عَنِ الْوُجُودِ وَخَلَا عَنْهُ، وَكَذَا الْأُمَمُ الْخَالِيَةُ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ وَالْمِثَالُ الْمُتَّبَعُ، وَفِي اشْتِقَاقِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا فُعْلَةٌ مِنْ سَنَّ الْمَاءَ يَسُنُّهُ إِذَا وَالَى صَبَّهُ، وَالسَّنُّ الصَّبُّ لِلْمَاءِ، وَالْعَرَبُ شَبَّهَتِ الطَّرِيقَةَ الْمُسْتَقِيمَةَ بِالْمَاءِ الْمَصْبُوبِ فَإِنَّهُ لِتَوَالِي أَجْزَاءِ الْمَاءِ فِيهِ عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ يَكُونُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَالسُّنَّةُ فُعْلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَثَانِيهَا: أَنْ تَكُونَ مِنْ سَنَنْتُ

النَّصْلَ وَالسِّنَانَ أَسُنُّهُ سَنًّا فَهُوَ مَسْنُونٌ إِذَا حَدَدْتَهُ عَلَى الْمِسَنِّ، فَالْفِعْلُ الْمَنْسُوبُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُمِّيَ سُنَّةً عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مَسْنُونٌ، وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ: سَنَّ الْإِبِلَ إِذَا أَحْسَنَ الرَّعْيَ، وَالْفِعْلُ الَّذِي دَاوَمَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُمِّيَ سُنَّةً بِمَعْنَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَحْسَنَ رِعَايَتَهُ وَإِدَامَتَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ: قَدِ انْقَضَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَاخْتَلَفُوا/ فِي ذَلِكَ، فَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ سُنَنُ الْهَلَاكِ وَالِاسْتِئْصَالِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ لِلْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا وَطَلَبِ لَذَّاتِهَا، ثُمَّ انْقَرَضُوا وَلَمْ يَبْقَ مِنْ دُنْيَاهُمْ أَثَرٌ وَبَقِيَ اللَّعْنُ فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَابُ فِي الْآخِرَةِ عَلَيْهِمْ، فَرَغَّبَ اللَّهُ تَعَالَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَأَمُّلِ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الْمَاضِينَ لِيَصِيرَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الرِّيَاسَةِ فِي الدُّنْيَا وَطَلَبِ الْجَاهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَلِ الْمُرَادُ سُنَنُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ الدُّنْيَا مَا بَقِيَتْ لَا مَعَ الْمُؤْمِنِ وَلَا مَعَ الْكَافِرِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ يَبْقَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ الْجَزِيلِ فِي الْعُقْبَى، وَالْكَافِرُ بَقِيَ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَابُ فِي الْعُقْبَى ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ لِأَنَّ التَّأَمُّلَ فِي حَالِ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ يَكْفِي فِي مَعْرِفَةِ حَالِ الْقِسْمِ الْآخَرِ، وَأَيْضًا يُقَالُ الْغَرَضُ مِنْهُ زَجْرُ الْكُفَّارِ عَنْ كُفْرِهِمْ وَذَلِكَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِتَأَمُّلِ أَحْوَالِ الْمُكَذِّبِينَ وَالْمُعَانِدِينَ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات: 171- 173] وقوله: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128، القصص: 83] وَقَوْلُهُ: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 105] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا الْأَمْرَ بِذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، بَلِ الْمَقْصُودُ تَعَرُّفُ أَحْوَالِهِمْ، فَإِنْ حَصَلَتْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ بِغَيْرِ الْمَسِيرِ فِي الْأَرْضِ كَانَ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا: إِنَّ لِمُشَاهَدَةِ آثَارِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَثَرًا أَقْوَى مِنْ أَثَرِ السَّمَاعِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إِنَّ آثَارَنَا تَدُلُّ عَلَيْنَا ... فَانْظُرُوا بَعْدَنَا إِلَى الْآثَارِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: هَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَذِكْرِهِ لِأَنْوَاعِ الْبَيِّنَاتِ وَالْآيَاتِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَيَانِ وَبَيْنَ الْهُدَى وَبَيْنَ الْمَوْعِظَةِ، لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ فَنَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْبَيَانَ هُوَ الدَّلَالَةُ الَّتِي تُفِيدُ إِزَالَةَ الشُّبْهَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَتِ الشُّبْهَةُ حَاصِلَةً، فَالْفَرْقُ أَنَّ الْبَيَانَ عَامٌّ فِي أَيِّ مَعْنًى كَانَ، وَأَمَّا الْهُدَى فَهُوَ بَيَانٌ لِطَرِيقِ الرُّشْدِ لِيُسْلَكَ دُونَ طَرِيقِ الْغَيِّ. وَأَمَّا الْمَوْعِظَةُ فَهِيَ الْكَلَامُ الَّذِي يُفِيدُ الزَّجْرَ عَمَّا لَا يَنْبَغِي فِي طَرِيقِ الدِّينِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْبَيَانَ جِنْسٌ تَحْتَهُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الْكَلَامُ الْهَادِي إِلَى مَا يَنْبَغِي فِي الدِّينِ وَهُوَ الْهُدَى. الثَّانِي: الْكَلَامُ الزَّاجِرُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي فِي الدِّينِ وَهُوَ الْمَوْعِظَةُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَيَانَ هُوَ الدَّلَالَةُ، وَأَمَّا الْهُدَى فَهُوَ الدَّلَالَةُ بِشَرْطِ كَوْنِهَا مُفْضِيَةً إِلَى الِاهْتِدَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْبَحْثُ فِي تفسير قوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَخْصِيصِ هَذَا الْبَيَانِ وَالْهُدَى وَالْمَوْعِظَةِ لِلْمُتَّقِينَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ/ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُتَّقِينَ كَالْمَعْدُومَةِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النَّازِعَاتِ: 45] إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [يس: 11] إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: 28] وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ

[سورة آل عمران (3) : آية 139]

كَلَامٌ عَامٌّ ثُمَّ قَوْلَهُ: وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ مخصوص بالمتقين، لأن الهدى اسم للدلالة بشرط كونها موصلة إلى البغية، ولا شك أن هذا المعنى لا يحصل إِلَّا فِي حَقِّ الْمُتَّقِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [سورة آل عمران (3) : آية 139] وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي قَدَّمَهُ مِنْ قوله: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران: 137] وقوله: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ [آل عمران: 138] كَالْمُقَدَّمَةِ لِقَوْلِهِ: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا كَأَنَّهُ قَالَ إِذَا بَحَثْتُمْ عَنْ أَحْوَالِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ عَلِمْتُمْ أَنَّ أَهْلَ الْبَاطِلِ وَإِنِ اتَّفَقَتْ لَهُمُ الصَّوْلَةُ، لَكِنْ كَانَ مَآلُ الْأَمْرِ إِلَى الضَّعْفِ وَالْفُتُورِ، وَصَارَتْ دَوْلَةُ أَهْلِ الْحَقِّ عَالِيَةً، وَصَوْلَةُ أَهْلِ الْبَاطِلِ مُنْدَرِسَةً، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَصِيرَ صَوْلَةُ الْكُفَّارِ عَلَيْكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ سَبَبًا لِضَعْفِ قَلْبِكُمْ وَلِجُبْنِكُمْ وَعَجْزِكُمْ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَقْوَى قَلْبُكُمْ فَإِنَّ الِاسْتِعْلَاءَ سَيَحْصُلُ لَكُمْ وَالْقُوَّةُ وَالدَّوْلَةُ رَاجِعَةٌ إِلَيْكُمْ. ثُمَّ نَقُولُ قَوْلُهُ: وَلا تَهِنُوا أَيْ لَا تَضْعُفُوا عَنِ الْجِهَادِ، وَالْوَهْنُ الضَّعْفُ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مَرْيَمَ: 4] وَقَوْلُهُ: وَلا تَحْزَنُوا أَيْ عَلَى مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ أَوْ جُرِحَ وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ حَالَكُمْ أَعْلَى مِنْ حَالِهِمْ فِي الْقَتْلِ لِأَنَّكُمْ أَصَبْتُمْ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ أَكْثَرَ مِمَّا أَصَابُوا مِنْكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آلِ عِمْرَانَ: 165] أَوْ لِأَنَّ قِتَالَكُمْ لِلَّهِ وَقِتَالَهُمْ لِلشَّيْطَانِ، أَوْ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لِلدِّينِ الْبَاطِلِ وَقِتَالَكُمْ لِلدِّينِ الْحَقِّ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَكُمْ أَعْلَى حَالًا مِنْهُمْ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ بِالْحُجَّةِ وَالتَّمَسُّكِ بِالدِّينِ وَالْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ مِنْ حَيْثُ أَنَّكُمْ فِي الْعَاقِبَةِ تَظْفَرُونَ بِهِمْ وَتَسْتَوْلُونَ عَلَيْهِمْ وَهَذَا شَدِيدُ الْمُنَاسَبَةِ لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ الْقَوْمَ انْكَسَرَتْ قُلُوبُهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْوَهْنِ فَهُمْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى مَا يُفِيدُهُمْ قُوَّةً فِي الْقَلْبِ، وَفَرَحًا فِي النَّفْسِ، فَبَشَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ بَقِيتُمْ عَلَى إِيمَانِكُمْ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا تَكَفَّلَ بِإِعْلَاءِ دَرَجَتِهِمْ لِأَجْلِ تَمَسُّكِهِمْ بِدِينِ الْإِسْلَامِ. الثَّانِي: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ فَكُونُوا مُصَدِّقِينَ لِهَذِهِ الْبِشَارَةِ إِنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِينَ بِمَا يَعِدُكُمُ اللَّهُ وَيُبَشِّرُكُمْ بِهِ مِنَ الْغَلَبَةِ. وَالثَّالِثُ: التَّقْدِيرُ: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ بِنُصْرَةِ هَذَا الدِّينِ، فَإِنْ كُنْتُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِمْتُمْ أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ لَا تَبْقَى بِحَالِهَا، وَأَنَّ الدَّوْلَةَ تَصِيرُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْعَدُوِّ يَحْصُلُ لَهُمْ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 140 الى 141] إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ قَوْلِهِ: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ [آل عمران: 139] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي يُصِيبُهُمْ مِنَ الْقَرْحِ لَا يَجِبُ أَنْ يُزِيلَ جِدَّهُمْ وَاجْتِهَادَهُمْ فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَمَا أَصَابَهُمْ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ عَدُوَّهُمْ مِثْلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانُوا مَعَ بَاطِلِهِمْ، وَسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ لَمْ يَفْتُرُوا لِأَجْلِ ذَلِكَ فِي الْحَرْبِ، فَبِأَنْ لَا يَلْحَقَكُمُ الْفُتُورُ مَعَ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْحَقِّ أَوْلَى، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ قَرْحٌ بِضَمِّ الْقَافِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ [آلِ عِمْرَانَ: 172] وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْقَافِ فِيهِمَا وَاخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ: فَالْأَوَّلُ: مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ،

وَهُمَا لُغَتَانِ: كَالْجُهْدِ وَالْجَهْدِ، وَالْوُجْدِ وَالْوَجْدِ، وَالضُّعْفِ وَالضَّعْفِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْفَتْحَ لُغَةُ تِهَامَةَ وَالْحِجَازِ وَالضَّمَّ لُغَةُ نَجْدٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ وَبِالضَّمِّ اسْمٌ. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ الْجِرَاحَةُ بِعَيْنِهَا وَبِالضَّمِّ أَلَمُ الْجِرَاحَةِ. وَالْخَامِسُ: قَالَ ابْنُ مِقْسَمٍ: هُمَا لُغَتَانِ إِلَّا أَنَّ الْمَفْتُوحَةَ تُوِهِمُ أَنَّهَا جَمْعُ قُرْحَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ مَسَّهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آلِ عِمْرَانَ: 165] وَالثَّانِي: أَنَّ الْكُفَّارَ قَدْ نَالَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِثْلُ ما نالكم من الجرح وَالْقَتْلِ، لِأَنَّهُ قُتِلَ مِنْهُمْ نَيِّفٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا، وَقُتِلَ صَاحِبُ لِوَائِهِمْ وَالْجِرَاحَاتُ كَثُرَتْ فِيهِمْ وَعُقِرَ عَامَّةُ خَيْلِهِمْ بِالنَّبْلِ، وَقَدْ كَانَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَيْهِمْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ: قَرْحٌ مِثْلُهُ وَمَا كَانَ قَرْحُهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِثْلَ قَرْحِ الْمُشْرِكِينَ؟ قُلْنَا: يَجِبُ أَنَّ يُفَسَّرَ الْقَرْحُ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ بِمُجَرَّدِ الِانْهِزَامِ لَا بِكَثْرَةِ الْقَتْلَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تِلْكَ مبتدأ والْأَيَّامُ صفة ونُداوِلُها خَبَرُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: تِلْكَ الْأَيَّامُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ كَمَا تَقُولُ: هِيَ الْأَيَّامُ تُبْلِي كُلَّ جديد، فقوله: تِلْكَ الْأَيَّامُ إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ أَيَّامِ الْوَقَائِعِ الْعَجِيبَةِ، فَبَيَّنَ أَنَّهَا دُوَلٌ تَكُونُ عَلَى الرَّجُلِ حِينًا وَلَهُ حِينًا وَالْحَرْبُ سِجَالٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: الْمُدَاوَلَةُ نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى آخَرَ، يُقَالُ: تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي إِذَا تَنَاقَلَتْهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ [الْحَشْرِ: 7] أَيْ تَتَدَاوَلُونَهَا وَلَا تَجْعَلُونَ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهَا نَصِيبًا، وَيُقَالُ: الدُّنْيَا دُوَلٌ، أَيْ تَنْتَقِلُ مِنْ قَوْمٍ إِلَى آخَرِينَ، ثُمَّ عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَيُقَالُ: دَالَ لَهُ الدَّهْرُ بِكَذَا إِذَا انْتَقَلَ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَيَّامَ الدُّنْيَا هِيَ دُوَلٌ بَيْنَ النَّاسِ لَا يَدُومُ مَسَارُّهَا وَلَا مَضَارُّهَا، فَيَوْمٌ يَحْصُلُ فِيهِ السُّرُورُ لَهُ وَالْغَمُّ لِعَدُوِّهِ، وَيَوْمٌ آخَرُ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِهَا وَلَا يَسْتَقِرُّ أَثَرٌ مِنْ آثَارِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْمُدَاوَلَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَارَةً يَنْصُرُ الْمُؤْمِنِينَ وَأُخْرَى يَنْصُرُ الْكَافِرِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ نُصْرَةَ اللَّهِ مَنْصِبٌ شَرِيفٌ وَإِعْزَازٌ عَظِيمٌ، فَلَا يَلِيقُ بِالْكَافِرِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْمُدَاوَلَةِ أَنَّهُ تَارَةً يُشَدِّدُ الْمِحْنَةَ عَلَى الْكُفَّارِ وَأُخْرَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْفَائِدَةُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَدَّدَ الْمِحْنَةَ عَلَى الْكُفَّارِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَأَزَالَهَا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ لَحَصَلَ الْعِلْمُ الِاضْطِرَارِيُّ بِأَنَّ الْإِيمَانَ حَقٌّ وَمَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ التَّكْلِيفُ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فَلِهَذَا الْمَعْنَى تَارَةً يُسَلِّطُ اللَّهُ الْمِحْنَةَ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَأُخْرَى عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ لِتَكُونَ الشُّبَهَاتُ بَاقِيَةً وَالْمُكَلَّفُ يَدْفَعُهَا بِوَاسِطَةِ النَّظَرِ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْإِسْلَامِ فَيَعْظُمُ ثَوَابُهُ عِنْدَ اللَّهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يُقْدِمُ عَلَى بَعْضِ الْمَعَاصِي، فَيَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ تَشْدِيدُ الْمِحْنَةِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَدَبًا لَهُ وَأَمَّا تَشْدِيدُ الْمِحْنَةِ عَلَى الْكَافِرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَضَبًا مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَآلَامَهَا غَيْرُ بَاقِيَةٍ وَأَحْوَالُهَا غَيْرُ مُسْتَمِرَّةٍ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ السَّعَادَاتُ الْمُسْتَمِرَّةُ فِي دَارِ الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ تَعَالَى يُمِيتُ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ، وَيُسْقِمُ بَعْدَ الصِّحَّةِ، فَإِذَا حَسُنَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُبَدِّلَ السَّرَّاءَ بِالضَّرَّاءِ، وَالْقُدْرَةَ بِالْعَجْزِ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ صَعِدَ الْجَبَلَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ أَيْنَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ أَيْنَ ابْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا أَبُو بَكْرٍ، وَهَا أَنَا عُمَرُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمٍ وَالْأَيَّامُ دُوَلٌ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا سَوَاءَ، قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ كَمَا تَزْعُمُونَ، فَقَدْ خِبْنَا إِذَنْ وخسرنا.

وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فَفِيهِ مَسَائِلُ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، إِمَّا بَعْدَهُ أَوْ قَبْلَهُ، أَمَّا الْإِضْمَارُ بَعْدَهُ فَعَلَى تَقْدِيرِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فَعَلْنَا هَذِهِ الْمُدَاوَلَةَ، وَأَمَّا الْإِضْمَارُ قَبْلَهُ فَعَلَى تَقْدِيرِ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ لِأُمُورٍ، مِنْهَا لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَمِنْهَا لِيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ، وَمِنْهَا لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَمِنْهَا لِيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، فَكُلُّ ذَلِكَ كَالسَّبَبِ وَالْعِلَّةِ فِي تِلْكَ الْمُدَاوَلَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا نَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الْأَنْعَامِ: 75] وَقَالَ تَعَالَى: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَامِ: 113] وَالتَّقْدِيرُ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ لِيَكُونَ كَيْتَ وَكَيْتَ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ، وَإِنَّمَا حُذِفَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي هَذِهِ الْمُدَاوَلَةِ لَيْسَتْ بِوَاحِدَةٍ، لِيُسَلِّيَهُمْ عَمَّا جَرَى، وَلِيُعَرِّفَهُمْ أَنَّ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ وَأَنَّ شَأْنَهُمْ فِيهَا، فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ مَا لَوْ عَرَفُوهُ لَسَرَّهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا فَعَلَ تِلْكَ الْمُدَاوَلَةَ لِيَكْتَسِبَ هَذَا الْعِلْمَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْإِشْكَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 142] وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: 3] وَقَوْلُهُ: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً [الْكَهْفِ: 12] وَقَوْلُهُ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [مُحَمَّدٍ: 31] وَقَوْلُهُ: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ [الْبَقَرَةِ: 143] وقوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7، الملك: 2] وَقَدِ احْتَجَّ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ إِلَّا عِنْدَ وُقُوعِهَا، فَقَالَ: كُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا صَارَ عَالِمًا بِحُدُوثِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ حُدُوثِهَا. أَجَابَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَنْهُ بِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْحَوَادِثَ قَبْلَ وُقُوعِهَا، فَثَبَتَ أَنَّ التَّغْيِيرَ فِي الْعِلْمِ مُحَالٌ إِلَّا أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْعِلْمِ عَلَى الْمَعْلُومِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَقْدُورِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ، يُقَالُ: هَذَا عِلْمُ فُلَانٍ وَالْمُرَادُ مَعْلُومُهُ، وَهَذِهِ قُدْرَةُ فُلَانٍ وَالْمُرَادُ مَقْدُورُهُ، فَكُلُّ آيَةٍ يُشْعِرُ ظَاهِرُهَا بِتَجَدُّدِ الْعِلْمِ، فَالْمُرَادُ تَجَدُّدُ الْمَعْلُومِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَنَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: لِيَظْهَرَ الْإِخْلَاصُ مِنَ النِّفَاقِ وَالْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ. وَالثَّانِي: لِيَعْلَمَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، فَأَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ تَفْخِيمًا. وَثَالِثُهَا: لِيَحْكُمَ بِالِامْتِيَازِ، فَوَضَعَ الْعِلْمَ مَكَانَ الْحُكْمِ بِالِامْتِيَازِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالِامْتِيَازِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ. وَرَابِعُهَا: لِيَعْلَمَ ذَلِكَ وَاقِعًا مِنْهُمْ كَمَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقَعُ، لِأَنَّ الْمُجَازَاةَ تَقَعُ عَلَى الْوَاقِعِ دُونَ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْعِلْمُ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يُكْتَفَى فِيهِ بِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ، كَمَا يُقَالُ: عَلِمْتُ زَيْدًا، أَيْ عَلِمْتُ ذَاتَهُ وَعَرَفْتُهُ، وَقَدْ يَفْتَقِرُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، كَمَا يُقَالُ: عَلِمْتُ زَيْدًا كَرِيمًا، وَالْمُرَادُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي، إِلَّا أَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مُتَمَيِّزِينَ بِالْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِهِمْ، أَيِ الْحِكْمَةُ فِي هَذِهِ الْمُدَاوَلَةِ أَنْ يَصِيرَ الَّذِينَ آمَنُوا مُتَمَيِّزِينَ عَمَّنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ هَاهُنَا مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، بِمَعْنَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ، وَالْمَعْنَى وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا يَظْهَرُ مِنْ صَبْرِهِمْ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ، أَيْ لِيَعْرِفَهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ إِلَّا أَنَّ سَبَبَ حُدُوثِ هَذَا الْعِلْمِ، وَهُوَ ظُهُورُ الصَّبْرِ حُذِفَ هَاهُنَا.

أَمَّا قَوْلُهُ: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ فَالْمُرَادُ مِنْهُ ذِكْرُ الْحِكْمَةِ الثَّانِيَةِ فِي تِلْكَ الْمُدَاوَلَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: يَتَّخِذُ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ بِمَا صَدَرَ مِنْهُمْ مَنِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، فَإِنَّ كَوْنَهُمْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ مَنْصِبٌ عَالٍ وَدَرَجَةٌ عَالِيَةٌ. وَالثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهُ وَلِيُكْرِمَ قَوْمًا بِالشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْمًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَاتَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَ لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ يَوْمٌ كَيَوْمِ بَدْرٍ يُقَاتِلُونَ فِيهِ الْعَدُوَّ وَيَلْتَمِسُونَ فِيهِ الشَّهَادَةَ، وَأَيْضًا الْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ تَعْظِيمِ حَالِ الشُّهَدَاءِ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 169] وَقَالَ: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ [الزُّمَرِ: 69] وَقَالَ: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النِّسَاءِ: 69] فَكَانَتْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ هِيَ الْمَنْزِلَةُ الثَّالِثَةُ لِلنُّبُوَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْفَوَائِدِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ تِلْكَ الْمُدَاوَلَةِ حُصُولُ هَذَا الْمَنْصِبِ الْعَظِيمِ لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا: مَنْصِبُ الشَّهَادَةِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ، فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا بِدُونِ تَسْلِيطِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَبْقَ لِحُسْنِ التَّعْلِيلِ وَجْهٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَتْلُ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ لَوَازِمِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ، فَإِذَا كَانَ تَحْصِيلُ تِلْكَ الشَّهَادَةِ لِلْعَبْدِ مَطْلُوبًا لِلَّهِ تَعَالَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَتْلُ مَطْلُوبًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ مَا بِهِ حَصَلَتْ تِلْكَ الشَّهَادَةُ هُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الشُّهَدَاءُ جَمْعُ شَهِيدٍ كَالْكُرَمَاءِ وَالظُّرَفَاءِ، وَالْمَقْتُولُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِسَيْفِ الكفار شهيداً، وَفِي تَعْلِيلِ هَذَا الِاسْمِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الشُّهَدَاءُ أَحْيَاءُ لِقَوْلِهِ: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 169] فَأَرْوَاحُهُمْ حَيَّةٌ وَقَدْ حَضَرَتْ دَارَ السَّلَامِ، وَأَرْوَاحُ غَيْرِهِمْ لَا تَشْهَدُهَا، الثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَمَلَائِكَتَهُ شَهِدُوا لَهُ بِالْجَنَّةِ، فَالشَّهِيدُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، الثَّالِثُ: سُمُّوا شُهَدَاءَ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ/ عَلَى النَّاسِ [الْبَقَرَةِ: 143] الرَّابِعُ: سُمُّوا شُهَدَاءَ لِأَنَّهُمْ كَمَا قُتِلُوا أُدْخِلُوا الْجَنَّةَ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْكُفَّارَ كَمَا مَاتُوا أُدْخِلُوا النَّارَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نُوحٍ: 25] فَكَذَا هَاهُنَا يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا مَاتُوا دَخَلُوا الْجَنَّةَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَيِ الْمُشْرِكِينَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ بَعْضِ التَّعْلِيلِ وَبَعْضٍ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ مَنْ لَا يَكُونُ ثَابِتًا عَلَى الْإِيمَانِ صَابِرًا عَلَى الْجِهَادِ. الثَّانِي: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُؤَيِّدُ الْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِمَا ذَكَرَ مِنَ الْفَوَائِدِ، لَا لِأَنَّهُ يُحِبُّهُمْ. ثُمَّ قَالَ: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ لِيُطَهِّرَهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَيُزِيلَهَا عَنْهُمْ، وَالْمَحْصُ فِي اللُّغَةِ التَّنْقِيَةُ، وَالْمَحْقُ فِي اللُّغَةِ النُّقْصَانُ، وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: هُوَ أَنْ يَذْهَبَ الشَّيْءُ كُلُّهُ حَتَّى لَا يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا [الْبَقَرَةِ: 276] أَيْ يَسْتَأْصِلُهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْأَيَّامَ مُدَاوَلَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ، فَإِنْ حَصَلَتِ الْغَلَبَةُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَانَ الْمُرَادُ تَمْحِيصَ ذُنُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ كَانَ الْمُرَادُ مَحْقَ آثَارِ الْكَافِرِينَ وَمَحْوَهُمْ، فَقَابَلَ تَمْحِيصَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَحْقِ الْكَافِرِينَ، لِأَنَّ تَمْحِيصَ هَؤُلَاءِ بِإِهْلَاكِ ذُنُوبِهِمْ نَظِيرُ مَحْقِ أُولَئِكَ بِإِهْلَاكِ أنفسهم، وهذه

[سورة آل عمران (3) : الآيات 142 إلى 143]

مُقَابَلَةٌ لَطِيفَةٌ فِي الْمَعْنَى. وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَافِرِينَ هَاهُنَا طَائِفَةٌ مَخْصُوصَةٌ مِنْهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ حَارَبُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِعِلْمِنَا بِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَمْحَقْ كُلَّ الْكُفَّارِ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بقي على كفره والله أعلم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 143] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى الْوُجُوهَ الَّتِي هِيَ الْمُوجِبَاتُ وَالْمُؤَثِّرَاتُ فِي مُدَاوَلَةِ الْأَيَّامِ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا هُوَ السَّبَبُ الْأَصْلِيُّ لِذَلِكَ، فَقَالَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِدُونِ تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمْ: مُنْقَطِعَةٌ، وَتَفْسِيرُ كَوْنِهَا مُنْقَطِعَةً تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: فِي أَمْ حَسِبْتُمْ إِنَّهُ نَهْيٌ وَقَعَ بِحَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يَأْتِي لِلتَّبْكِيتِ، وَتَلْخِيصُهُ: لَا تَحْسَبُوا أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمْ يَقَعْ مِنْكُمُ الْجِهَادُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: 1، 2] وَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِذِكْرِ أَمْ الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ مَا تَأْتِي فِي كَلَامِهِمْ وَاقِعَةً بَيْنَ ضَرْبَيْنِ يُشَكُّ فِي أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ، يَقُولُونَ: أَزَيْدًا ضَرَبْتَ أَمْ عَمْرًا، مَعَ تَيَقُّنِ وُقُوعِ الضَّرْبِ بِأَحَدِهِمَا، قَالَ: وَعَادَةُ الْعَرَبِ يَأْتُونَ بِهَذَا الْجِنْسِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ تَوْكِيدًا، فَلَمَّا قَالَ: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا [آلِ عِمْرَانَ: 139] كَأَنَّهُ قَالَ: أَفَتَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَمَا تُؤْمَرُونَ بِهِ، أَمْ تَحْسَبُونَ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ مُجَاهِدَةٍ وَصَبْرٍ، وَإِنَّمَا اسْتُبْعِدَ هَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْجِهَادَ قَبْلَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَأَوْجَبَ الصَّبْرَ عَلَى تَحَمُّلِ مَتَاعِبِهَا، وَبَيَّنَ وُجُوهَ الْمَصَالِحِ فِيهَا فِي الدِّينِ وَفِي الدُّنْيَا، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ، فَمِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يَصِلَ الْإِنْسَانُ إِلَى السَّعَادَةِ وَالْجَنَّةِ مَعَ إِهْمَالِ هَذِهِ الطَّاعَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِذَا قِيلَ فَعَلَ فُلَانٌ، فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ، وَإِذَا قِيلَ قَدْ فَعَلَ فُلَانٌ، فَجَوَابُهُ لَمَّا يَفْعَلْ. لِأَنَّهُ لَمَّا أُكِّدَ فِي جَانِبِ الثُّبُوتِ بِقَدْ، لَا جَرَمَ أُكِّدَ فِي جَانِبِ النَّفْيِ بِكَلِمَةِ لَمَّا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ النَّفْيِ عَلَى الْعِلْمِ، وَالْمُرَادُ وُقُوعُهُ عَلَى نَفْيِ الْمَعْلُومِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَصْدُرِ الْجِهَادُ عَنْكُمْ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعِلْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْلُومِ، كَمَا هُوَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا حَصَلَتْ هَذِهِ الْمُطَابَقَةُ لَا جَرَمَ. حَسُنَ إِقَامَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ قَدْ تَقَدَّمَ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَرَأَ الْحَسَنُ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ وَأَمَّا النَّصْبُ فَبِإِضْمَارِ أَنْ، وَهَذِهِ الْوَاوُ تُسَمَّى وَاوَ الصَّرْفِ، كَقَوْلِكَ: لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ، أَيْ لَا تَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَا هَاهُنَا الْمُرَادُ أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ وَتَرْكَ الْمُصَابَرَةِ عَلَى الْجِهَادِ مِمَّا لَا يَجْتَمِعَانِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْلَمَ بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ. كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَمَّا تُجَاهِدُوا وَأَنْتُمْ صَابِرُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ الْكَلَامِ أَنَّ حُبَّ الدُّنْيَا لَا يَجْتَمِعُ مَعَ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَبِقَدْرِ مَا يَزْدَادُ أَحَدَهُمَا يَنْتَقِصُ الْآخَرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَعَادَةَ الدُّنْيَا لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِاشْتِغَالِ الْقَلْبِ بِطَلَبِ الدُّنْيَا، وَالسَّعَادَةُ فِي الْآخِرَةِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِفَرَاغِ الْقَلْبِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ وَامْتِلَائِهِ مِنْ حُبِّ اللَّهِ، وَهَذَانَ الْأَمْرَانِ مِمَّا لَا يَجْتَمِعَانِ، فَلِهَذَا السِّرِّ وَقَعَ الِاسْتِبْعَادُ الشَّدِيدُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ اجْتِمَاعِهِمَا، وَأَيْضًا حُبُّ اللَّهِ وَحُبُّ الْآخِرَةِ لَا يَتِمُّ بِالدَّعْوَى، فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَقَرَّ بِدِينِ اللَّهِ كَانَ صَادِقًا، وَلَكِنَّ الْفَصْلَ فِيهِ تَسْلِيطُ/ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمَحْبُوبَاتِ، فَإِنَّ الْحُبَّ هو الذي لا ينقص

[سورة آل عمران (3) : آية 144]

بِالْجَفَاءِ وَلَا يَزْدَادُ بِالْوَفَاءِ، فَإِنْ بَقِيَ الْحُبُّ عِنْدَ تَسْلِيطِ أَسْبَابِ الْبَلَاءِ ظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْحُبَّ كَانَ حَقِيقِيًّا، فَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ قَالَ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمُجَرَّدِ تَصْدِيقِكُمُ الرَّسُولَ قَبْلَ أَنْ يَبْتَلِيَكُمُ اللَّهُ بِالْجِهَادِ وَتَشْدِيدِ الْمِحْنَةِ والله أعلم. [سورة آل عمران (3) : آية 144] وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ] فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: لَمَّا نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُحُدٍ أَمَرَ الرُّمَاةَ أَنْ يَلْزَمُوا أَصْلَ الْجَبَلِ، وَأَنْ لَا يَنْتَقِلُوا عَنْ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ لَهُمْ أَوْ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا وَقَفُوا وَحَمَلُوا عَلَى الْكُفَّارِ وَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلَ عَلِيٌّ طَلْحَةَ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ صَاحِبَ لِوَائِهِمْ، وَالزُّبَيْرُ وَالْمِقْدَادُ شَدَّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ حَمَلَ الرَّسُولُ مَعَ أَصْحَابِهِ فَهَزَمُوا أَبَا سُفْيَانَ، ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ الْقَوْمِ لَمَّا أَنْ رَأَوُا انْهِزَامَ الْكُفَّارِ بَادَرَ قَوْمٌ مِنَ الرُّمَاةِ إِلَى الْغَنِيمَةِ وَكَانَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ صَاحِبُ مَيْمَنَةِ الْكُفَّارِ، فَلَمَّا رَأَى تَفَرُّقَ الرُّمَاةِ حَمَلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهَزَمَهُمْ وَفَرَّقَ جمعهم وكثر القتل في المسملين، وَرَمَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَمِيئَةَ الْحَارِثِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجَرٍ فَكَسَرَ رَبَاعِيَتَهُ وَشَجَّ وَجْهَهُ، وَأَقْبَلَ يُرِيدُ قَتْلَهُ، فَذَبَّ عَنْهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ صَاحِبُ الرَّايَةِ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمِ أُحُدٍ حَتَّى قَتَلَهُ ابْنُ قَمِيئَةَ، فَظَنَّ أَنَّهُ قَتَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ قَدْ قَتَلْتُ مُحَمَّدًا، وصرخ صارح أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، وَكَانَ الصَّارِخُ الشَّيْطَانَ، فَفَشَا فِي النَّاسِ خَبَرُ قَتْلِهِ، فَهُنَالِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: لَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَأْخُذُ لَنَا أَمَانًا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَمَا قُتِلَ، ارْجِعُوا إِلَى إِخْوَانِكُمْ وَإِلَى دِينِكُمْ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: يَا قَوْمُ إِنْ كَانَ قَدْ قُتِلَ مُحَمَّدٌ فَإِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ حَيٌّ لَا يَمُوتُ وَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَاتِلُوا عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ وَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ، ثُمَّ سَلَّ سَيْفَهُ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَرَّ بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ بِأَنْصَارِيٍّ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ، فَقَالَ: يَا فُلَانُ أَشْعَرْتَ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَقَالَ: إِنْ/ كَانَ قَدْ قُتِلَ فَقَدْ بَلَّغَ، قَاتِلُوا عَلَى دِينِكُمْ، وَلَمَّا شَجَّ ذَلِكَ الْكَافِرُ وَجْهَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَسَرَ رَبَاعِيَتَهُ، احْتَمَلَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَدَافَعَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَنَفَرٌ آخَرُونَ مَعَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يُنَادِي وَيَقُولُ: إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ حَتَّى انْحَازَتْ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَلَامَهُمْ عَلَى هَزِيمَتِهِمْ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، أَتَانَا خَبَرُ قَتْلِكَ فَاسْتَوْلَى الرُّعْبُ عَلَى قُلُوبِنَا فَوَلَّيْنَا مُدْبِرِينَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ فَسَيَخْلُو كَمَا خَلَوْا، وَكَمَا أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ بَقُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِهِمْ بَعْدَ خُلُوِّهِمْ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَتَمَسَّكُوا بِدِينِهِ بَعْدَ خُلُوِّهِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ بِعْثَةِ الرُّسُلِ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ وَإِلْزَامُ الْحُجَّةِ، لَا وُجُودُهُمْ بَيْنَ أَظْهُرِ قَوْمِهِمْ أَبَدًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الرَّسُولُ جَاءَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُرَادُ بِهِ الْمُرْسَلُ، وَالْآخَرُ الرِّسَالَةُ، وَهَاهُنَا الْمُرَادُ بِهِ الْمُرْسَلُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [البقرة: 252] وقوله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ [الْمَائِدَةِ: 67] وَفَعُولٌ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ، كَالرَّكُوبِ وَالْحَلُوبِ لِمَا يُرْكَبُ وَيُحْلَبُ وَالرَّسُولُ بِمَعْنَى الرِّسَالَةِ كَقَوْلِهِ: لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا فُهْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ وَلَا أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ أَيْ بِرِسَالَةٍ، قَالَ: وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ [طه: 47] وَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ

[سورة آل عمران (3) : آية 145]

تَعَالَى ثُمَّ قَالَ: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ دَخَلَ عَلَى الشَّرْطِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ دَاخِلٌ عَلَى الْجَزَاءِ، وَالْمَعْنَى أَتَنْقَلِبُونَ عَلَى أَعْقَابِكُمْ إِنْ مَاتَ مُحَمَّدٌ أَوْ قُتِلَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: هَلْ زَيْدٌ قَائِمٌ، فَأَنْتَ إِنَّمَا تَسْتَخْبِرُ عَنْ قِيَامِهِ، إِلَّا أَنَّكَ أَدْخَلْتَ هَلْ عَلَى الِاسْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُقْتَلُ قَالَ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزُّمَرِ: 30] وَقَالَ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [الْمَائِدَةِ: 67] وقال: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الصف: 9] فَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ فَلِمَ قَالَ أَوْ قُتِلَ؟ فَإِنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ صِدْقَ الْقَضِيَّةِ الشَّرْطِيَّةِ لَا يَقْتَضِي صِدْقَ جُزْأَيْهَا، فَإِنَّكَ تَقُولُ: إِنْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ زَوْجًا كَانَتْ مُنْقَسِمَةً بِمُتَسَاوِيَيْنِ، فالشرطية صادقة وجزاءاها كَاذِبَانِ، وَقَالَ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] فَهَذَا حَقٌّ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا آلِهَةٌ، وَلَيْسَ فِيهِمَا فَسَادٌ، فَكَذَا هَاهُنَا. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ، فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَاتَ وَلَمْ تَرْجِعْ أُمَّتُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَالنَّصَارَى زَعَمُوا أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قُتِلَ وَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَنْ دِينِهِ، فَكَذَا هَاهُنَا، وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَوْتَ لَا يُوجِبُ رُجُوعَ الْأُمَّةِ عَنْ دِينِهِ، فَكَذَا الْقَتْلُ وَجَبَ أَنْ لَا يُوجِبَ الرُّجُوعَ عَنْ دِينِهِ، لِأَنَّهُ فَارَقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الرَّدَّ عَلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ شَكُّوا فِي صِحَّةِ الدِّينِ وَهَمُّوا بِالِارْتِدَادِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أَيْ صِرْتُمْ كُفَّارًا بَعْدَ إِيمَانِكُمْ، يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ عَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ رَجَعَ وَرَاءَهُ وَانْقَلَبَ عَلَى عَقِبِهِ وَنَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا لِضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قُتِلَ فَالْحَقُوا بِدِينِكُمْ، فَقَالَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قُتِلَ فَإِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ لَمْ يُقْتَلْ، فَقَاتِلُوا عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تعالى بين أنه قلته لَا يُوجِبُ ضَعْفًا فِي دِينِهِ بِدَلِيلَيْنِ: الْأَوَّلُ: بِالْقِيَاسِ عَلَى مَوْتِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَتْلِهِمْ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الرَّسُولِ لِتَبْلِيغِ الدِّينِ وَبَعْدَ ذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ قَتْلِهِ فَسَادُ الدِّينِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَهُ: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ شَكٌّ وَهُوَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ، فَإِنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ سَوَاءٌ وَقَعَ هَذَا أَوْ ذَاكَ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي ضَعْفِ الدِّينِ وَوُجُوبِ الِارْتِدَادِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَأْكِيدُ الْوَعِيدِ، لِأَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَضُرُّهُ كُفْرُ الْكَافِرِينَ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، وَهَذَا كَمَا إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِوَلَدِهِ عِنْدَ الْعِتَابِ: إِنَّ هَذَا الَّذِي تَأْتِي بِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ لَا يَضُرُّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ، وَيُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ يَعُودُ ضَرَرُهُ عَلَيْهِ فَكَذَا هَاهُنَا، ثُمَّ أَتْبَعَ الْوَعِيدَ بِالْوَعْدِ فَقَالَ: وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَتِ الشُّبْهَةُ فِي قُلُوبِ بَعْضِهِمْ بِسَبَبِ تِلْكَ الْهَزِيمَةِ وَلَمْ تَقَعِ الشُّبْهَةُ فِي قُلُوبِ الْعُلَمَاءِ الْأَقْوِيَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُمْ شَكَرُوا اللَّهَ عَلَى ثَبَاتِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَشِدَّةِ تَمَسُّكِهِمْ بِهِ، فَلَا جَرَمَ مَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الشَّاكِرِينَ وَهُوَ مِنْ أَحِبَّاءِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. [سورة آل عمران (3) : آية 145] وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) [قَوْلُهُ تَعَالَى وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ]

فيه مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِ هَذِهِ الآية بما قبله وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ أَرَجَفُوا أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ، فَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّهُ لَا تَمُوتُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، / فَكَانَ قَتْلُهُ مِثْلَ مَوْتِهِ فِي أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ الْمُعَيَّنِ، فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ مَاتَ فِي دَارِهِ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى فَسَادِ دِينِهِ، فَكَذَا إِذَا قُتِلَ وَجَبَ أَنْ لَا يُؤَثِّرَ ذَلِكَ فِي فَسَادِ دِينِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إِبْطَالُ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ لِضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ إِنَّهُ لَمَّا قُتِلَ مُحَمَّدٌ فَارْجِعُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَدْيَانِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَحْرِيضَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْجِهَادِ بِإِعْلَامِهِمْ أَنَّ الْحَذَرَ لَا يَدْفَعُ الْقَدَرَ، وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَمُوتُ قَبْلَ الْأَجَلِ وَإِذَا جَاءَ الْأَجَلُ لَا يَنْدَفِعُ الْمَوْتُ بِشَيْءٍ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْجُبْنِ وَالْخَوْفِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حِفْظَ اللَّهِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَخْلِيصَهُ مِنْ تِلْكَ الْمَعْرَكَةِ الْمُخَوِّفَةِ، فَإِنَّ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ مَا بَقِيَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ إِلَّا وَقَدْ حَصَلَ فِيهَا، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى حَافِظًا وَنَاصِرًا مَا ضَرَّهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَهُ قَصَّرُوا فِي الذَّبِّ عَنْهُ. وَالرَّابِعُ: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، فَلَيْسَ فِي إِرْجَافِ مَنْ أَرْجَفَ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُحَقِّقُ ذَلِكَ فِيهِ أَوْ يُعِينُ فِي تَقْوِيَةِ الْكُفْرِ، بَلْ يُبْقِيهِ اللَّهُ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ الْمُنَافِقُونَ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا رَجَعُوا وَقَدْ قُتِلَ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ قَالُوا: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمَوْتَ وَالْقَتْلَ كِلَاهُمَا لَا يَكُونَانِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَحُضُورِ الْأَجَلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْإِذْنِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْإِذْنُ هُوَ الْأَمْرُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُ مَلَكَ الْمَوْتِ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ فَلَا يَمُوتُ أَحَدٌ إِلَّا بِهَذَا الْأَمْرِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْإِذْنِ مَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ: 40] وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ إِنَّمَا هُوَ التَّكْوِينُ وَالتَّخْلِيقُ وَالْإِيجَادُ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، فَإِذَنِ الْمُرَادُ: أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِمَا أَمَاتَهَا اللَّهُ تَعَالَى. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْإِذْنُ هُوَ التَّخْلِيَةُ وَالْإِطْلَاقُ وَتَرْكُ الْمَنْعِ بِالْقَهْرِ وَالْإِجْبَارِ، وَبِهِ فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 102] أَيْ بِتَخْلِيَتِهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ بِالْقَهْرِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: مَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ بِتَخَلِّي اللَّهِ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يَحْفَظُ نَبِيَّهُ وَيَجْعَلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيُتِمَّ عَلَى يَدَيْهِ بَلَاغَ مَا أَرْسَلَهُ بِهِ، وَلَا يُخَلِّي بَيْنَ أَحَدٍ وَبَيْنَ قَتْلِهِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي كَتَبَهُ اللَّهُ لَهُ، فَلَا تَنْكَسِرُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي غَزَوَاتِكُمْ بِأَنْ يُرْجِفَ مُرْجِفٌ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْإِذْنُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ نَفَسًا لَنْ تَمُوتَ إِلَّا فِي الْوَقْتِ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ مَوْتَهَا فِيهِ، وَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ لَزِمَ الْمَوْتُ، كَمَا قَالَ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النَّحْلِ: 61] الْخَامِسُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِذْنُ هُوَ قَضَاءُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَحْدُثُ شَيْءٌ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، كَأَنَّهُ فِعْلٌ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ: اللَّامُ فِي وَما كانَ لِنَفْسٍ مَعْنَاهَا النَّفْيُ، وَالتَّقْدِيرُ وَمَا كَانَتْ نَفْسٌ لِتَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ، وَأَنَّ تَغْيِيرَ الْآجَالِ مُمْتَنِعٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كِتاباً مُؤَجَّلًا فيه مسائل:

[سورة آل عمران (3) : آية 146]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: كِتاباً مُؤَجَّلًا مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ قَامَ مَقَامَ أَنْ يُقَالَ: كَتَبَ اللَّهُ، فَالتَّقْدِيرُ كَتَبَ اللَّهُ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النِّسَاءِ: 24] لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاءِ: 23] دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ كَتَبَ هذا التحريم عليكم ومثله: صُنْعَ اللَّهِ [النمل: 88] ، ووَعَدَ اللَّهُ [الزمر: 20] ، وفِطْرَتَ اللَّهِ [الروم: 30] ، وصِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة: 138] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمُؤَجَّلِ الْكِتَابُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْآجَالِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، كَمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِلْقَلَمِ «اكْتُبْ فَكَتَبَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً لِلَّهِ تَعَالَى، وَجَمِيعَ حَوَادِثِ هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْأَجَلِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَكْتُوبَةً فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَلَوْ وَقَعَتْ بِخِلَافِ عِلْمِ الله لانقلب علمه جهلًا، ولا نقلب ذَلِكَ الْكِتَابُ كَذِبًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْكُلَّ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَكَّدَهُ بِحَدِيثِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، وَبِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى» قَالَ الْقَاضِي: أَمَّا الْأَجَلُ وَالرِّزْقُ فَهُمَا مُضَافَانِ إِلَى اللَّهِ، وَأَمَّا الْكُفْرُ وَالْفِسْقُ وَالْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ فَكُلُّ ذَلِكَ مُضَافٌ إِلَى الْعَبْدِ، فَإِذَا كَتَبَ تَعَالَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَكْتُبُ بِعِلْمِهِ مِنَ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ لَا يُخْرِجُ الْعَبْدَ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَذْمُومَ أَوِ الْمَمْدُوحَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَا كَانَ مِنْ حَقِّ الْقَاضِي أَنْ يَتَغَافَلَ عَنْ مَوْضِعِ الْإِشْكَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ: إِذَا عَلِمَ اللَّهُ مِنَ الْعَبْدِ الْكُفْرَ وَكَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مِنْهُ الْكُفْرَ، فَلَوْ أَتَى بِالْإِيمَانِ لَكَانَ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْكَفْرِ وَالْخَبَرَ الصِّدْقَ عَنِ الْكُفْرِ مَعَ عَدَمِ الْكُفْرِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ مَوْضِعُ الْإِلْزَامِ هُوَ هَذَا فَأَنَّى يَنْفَعُهُ الْفِرَارُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْكَلِمَاتِ الْأَجْنَبِيَّةِ عَنْ هَذَا الْإِلْزَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ. فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ حَضَرُوا يَوْمَ أُحُدٍ كَانُوا فَرِيقَيْنِ، مِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ/ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا بَعْدُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، فَالَّذِينَ حَضَرُوا الْقِتَالَ لِلدُّنْيَا، هُمُ الَّذِينَ حَضَرُوا لِطَلَبِ الْغَنَائِمِ وَالذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ، وَهَؤُلَاءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْهَزِمُوا، وَالَّذِينَ حَضَرُوا لِلدِّينِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ لَا يَنْهَزِمُوا ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِلَ إِلَى بَعْضِ مَقْصُودِهِ وَمَنْ طَلَبَ الْآخِرَةَ فَكَذَلِكَ، وَتَقْرِيرُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَإِنْ وَرَدَتْ فِي الْجِهَادِ خَاصَّةً، لَكِنَّهَا عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي جَلْبِ الثَّوَابِ، وَالْعِقَابِ الْمَقْصُودُ وَالدَّوَاعِي لَا ظَوَاهِرُ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ مَنْ وَضَعَ الْجَبْهَةَ عَلَى الْأَرْضِ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالشَّمْسُ قُدَّامَهُ، فَإِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ السُّجُودِ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ عِبَادَةَ الشَّمْسِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ دَعَائِمِ الْكُفْرِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمُقَاتِلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «فِي مَاذَا قُتِلْتَ فَيَقُولُ أُمِرْتُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ فَيَقُولُ تَعَالَى: كَذَبْتَ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ مُحَارِبٌ وَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ» ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُ بِهِ الى النار. [سورة آل عمران (3) : آية 146] وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى مِنْ تَمَامِ تَأْدِيبِهِ قَالَ لِلْمُنْهَزِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ: إِنَّ لَكُمْ بِالْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ أُسْوَةً حَسَنَةً، فَلَمَّا كَانَتْ طَرِيقَةُ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ الصَّبْرَ عَلَى الْجِهَادِ وَتَرْكَ الْفِرَارِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِكُمْ هَذَا الْفِرَارُ وَالِانْهِزَامُ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ «وَكَائِنْ» عَلَى وَزْنِ كَاعِنٍ مَمْدُودًا مَهْمُوزًا مُخَفَّفًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «كَأَيِّنْ» مَشْدُودًا بِوَزْنٍ كَعَيِّنٍ وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَمِنَ اللُّغَةِ الْأُولَى قَوْلُ جَرِيرٍ: وَكَائِنْ بِالْأَبَاطِحِ مِنْ صَدِيقٍ ... يَرَانِي لَوْ أُصِيبُ هُوَ الْمُصَابُ وَأَنْشَدَ الْمُفَضَّلُ: وَكَائِنْ تَرَى فِي الْحَيِّ مِنْ ذِي قَرَابَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو قُتِلَ مَعَهُ وَالْبَاقُونَ قاتَلَ مَعَهُ فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قُتِلُوا وَالَّذِينَ بَقَوْا بَعْدَهُمْ مَا وَهَنُوا فِي دِينِهِمْ، بَلِ اسْتَمَرُّوا/ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ وَنُصْرَةِ دِينِهِمْ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَالُكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ هَكَذَا. قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْوَقْفُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ عَلَى قَوْلِهِ: (قُتِلَ) وَقَوْلُهُ: (مَعَهُ رِبِّيُّونَ) حَالٌ بِمَعْنَى قُتِلَ حَالَ مَا كَانَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ، أَوْ يَكُونُ عَلَى مَعْنَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أَيْ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ قُتِلَ فَمَا وَهَنَ الرِّبِّيُّونَ عَلَى كَثْرَتِهِمْ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وكأين من نبي قتل ممن كان معه وعلى دينه ربيون كثير فما ضعف الباقون ولا استكانوا لقتل من قُتِلَ مِنْ إِخْوَانِهِمْ، بَلْ مَضَوْا عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ، فَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَالُكُمْ كَذَلِكَ، وَحُجَّةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حِكَايَةُ مَا جَرَى لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ لِتَقْتَدِيَ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِهِمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [آل عمران: 144] فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ قَتْلَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ لَا قِتَالَهُمْ، وَمَنْ قَرَأَ قاتَلَ مَعَهُ فَالْمَعْنَى: وَكَمْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَصَابَهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ قَرْحٌ فَمَا وَهَنُوا، لِأَنَّ الَّذِي أَصَابَهُمْ إِنَّمَا هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ وَنُصْرَةِ رَسُولِهِ، فَكَذَلِكَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ. وَحُجَّةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَرْغِيبُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِتَالِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ هُوَ الْقِتَالَ. وَأَيْضًا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا سَمِعْنَا بِنَبِيٍّ قُتِلَ فِي الْقِتَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَعْنَى «كَأَيِّنْ» كَمْ، وَتَأْوِيلُهَا التَّكْثِيرُ لِعَدَدِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَتُهُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [الْحَجِّ: 45] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها [الحج: 48] والكافي فِي «كَأَيِّنْ» كَافُ التَّشْبِيهِ دَخَلَتْ عَلَى «أَيِّ» الَّتِي هِيَ لِلِاسْتِفْهَامِ كَمَا دَخَلَتْ عَلَى «ذَا» مِنْ «كَذَا» وَ «أَنَّ» مِنْ كَأَنَّ، وَلَا مَعْنَى لِلتَّشْبِيهِ فِيهِ كَمَا لَا مَعْنَى لِلتَّشْبِيهِ فِي كَذَا، تَقُولُ: لِي عَلَيْهِ كَذَا وَكَذَا: مَعْنَاهُ لِي عَلَيْهِ عَدَدٌ مَا، فَلَا مَعْنَى لِلتَّشْبِيهِ، إِلَّا أَنَّهَا زِيَادَةٌ لَازِمَةٌ لَا يَجُوزُ حَذْفُهَا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ لِلتَّنْوِينِ صُورَةٌ فِي الْخَطِّ إِلَّا فِي هَذَا الْحَرْفِ خَاصَّةً، وَكَذَا اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَصَارَتْ كَلِمَةً وَاحِدَةً مَوْضُوعَةً لِلتَّكْثِيرِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الرِّبِّيُّونَ الرَّبَّانِيُّونَ، وَقُرِئَ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ وَالْفَتْحِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَالضَّمُّ وَالْكَسْرُ مِنْ تَغْيِيرَاتِ النِّسَبِ. وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ قَالَ: الرِّبِّيُّونَ: الْأَوَّلُونَ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُمُ الْجَمَاعَاتُ الْكَثِيرَةُ، الْوَاحِدُ رِبِّيٌّ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَصْلُهُ مِنَ الرِّبَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، يُقَالُ: رِبِّيٌّ كَأَنَّهُ نُسِبَ إِلَى الرِّبَّةِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الرِّبِّيُّونَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الرَّبَّ، وَطَعَنَ فِيهِ ثَعْلَبٌ، وَقَالَ: كَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: رَبِّيٌّ لِيَكُونَ مَنْسُوبًا إِلَى الرَّبِّ، وَأَجَابَ مَنْ نَصَرَ الْأَخْفَشَ وَقَالَ: الْعَرَبُ إِذَا نَسَبَتْ شَيْئًا إِلَى شَيْءٍ غَيَّرَتْ حَرَكَتَهُ، كَمَا يُقَالُ: بِصْرِيٌّ فِي النَّسَبِ إِلَى الْبَصْرَةِ، / وَدُهْرِيٌّ فِي النِّسْبَةِ إِلَى الدَّهْرِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الرَّبَّانِيُّونَ الْأَئِمَّةُ

[سورة آل عمران (3) : آية 147]

وَالْوُلَاةُ، وَالرِّبِّيُّونَ الرَّعِيَّةُ، وَهُمُ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى الرَّبِّ. واعلم أنه تعالى مدح هؤلاء الربيون نوعين: أَوَّلًا بِصِفَاتِ النَّفْيِ، وَثَانِيًا بِصِفَاتِ الْإِثْبَاتِ، أَمَّا الْمَدْحُ بِصِفَاتِ النَّفْيِ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَلَا بُدَّ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مَا وَهَنُوا عِنْدَ قَتْلِ النَّبِيِّ وَمَا ضَعُفُوا عَنِ الْجِهَادِ بَعْدَهُ وَمَا اسْتَكَانُوا لِلْعَدُوِّ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْوَهْنِ وَالِانْكِسَارِ، عِنْدَ الْإِرْجَافِ بِقَتْلِ رَسُولِهِمْ، وَبِضَعْفِهِمْ عِنْدَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهَدَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَاسْتِكَانَتِهِمْ لِلْكَفَّارِ حَتَّى أَرَادُوا أَنْ يَعْتَضِدُوا بِالْمُنَافِقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَطَلَبِ الْأَمَانِ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يُفَسَّرَ الْوَهْنُ بِاسْتِيلَاءِ الْخَوْفِ عَلَيْهِمْ، وَيُفَسَّرَ الضَّعْفُ بِأَنْ يَضْعُفَ إِيمَانُهُمْ، وَتَقَعَ الشُّكُوكُ وَالشُّبُهَاتُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَالِاسْتِكَانَةُ هِيَ الِانْتِقَالُ مِنْ دِينِهِمْ إِلَى دِينِ عَدُوِّهِمْ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ الْوَهْنَ ضَعْفٌ يَلْحَقُ الْقَلْبَ. وَالضَّعْفُ الْمُطْلَقُ هُوَ اخْتِلَالُ الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ بِالْجِسْمِ، وَالِاسْتِكَانَةُ هِيَ إِظْهَارُ ذَلِكَ الْعَجْزِ وَذَلِكَ الضَّعْفِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ حَسَنَةٌ مُحْتَمَلَةٌ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الِاسْتِكَانَةُ الْخُضُوعُ، وَهُوَ أَنْ يَسْكُنَ لِصَاحِبِهِ لِيَفْعَلَ بِهِ مَا يُرِيدُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى تَحَمُّلِ الشَّدَائِدِ فِي طَرِيقِ اللَّهِ وَلَمْ يُظْهِرِ الْجَزَعَ وَالْعَجْزَ وَالْهَلَعَ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ عِبَارَةٌ عَنْ إِرَادَةِ إِكْرَامِهِ وَإِعْزَازِهِ وَتَعْظِيمِهِ، وَالْحُكْمِ لَهُ بِالثَّوَابِ وَالْجَنَّةِ، وَذَلِكَ نِهَايَةُ الْمَطْلُوبِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَتْبَعَ ذَلِكَ بِأَنْ مَدَحَهُمْ بِصِفَاتِ الثبوت فقال: [سورة آل عمران (3) : آية 147] وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُعْتَزِلَةُ يَحْمِلُونَهُ عَلَى فِعْلِ الْأَلْطَافِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَعِدِّينَ عِنْدَ ذَلِكَ التَّصَبُّرِ وَالتَّجَلُّدِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ بِطَلَبِ/ الْإِمْدَادِ وَالْإِعَانَةِ مِنَ اللَّهِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ مَنْ عَوَّلَ فِي تَحْصِيلِ مُهِمَّاتِهِ عَلَى نَفْسِهِ ذَلَّ، وَمَنِ اعْتَصَمَ بِاللَّهِ فَازَ بِالْمَطْلُوبِ، قَالَ الْقَاضِي: إِنَّمَا قَدَّمُوا قَوْلَهُمْ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ضَمِنَ النُّصْرَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَإِذَا لَمْ تَحْصُلِ النُّصْرَةُ وَظَهَرَ أَمَارَاتُ اسْتِيلَاءِ الْعَدُوِّ، دَلَّ ذَلِكَ ظَاهِرًا عَلَى صُدُورِ ذَنْبٍ وَتَقْصِيرٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلِهَذَا الْمَعْنَى يَجِبُ عَلَيْهِمْ تَقْدِيمُ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ عَلَى طَلَبِ النُّصْرَةِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ بَدَءُوا بِالتَّوْبَةِ عَنْ كُلِّ الْمَعَاصِي وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا فَدَخَلَ فِيهِ كُلُّ الذُّنُوبِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الصَّغَائِرِ أَوْ مِنَ الْكَبَائِرِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ خَصُّوا الذُّنُوبَ الْعَظِيمَةَ الْكَبِيرَةَ مِنْهَا بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذَلِكَ لِعِظَمِهَا وَعِظَمِ عِقَابِهَا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا لِأَنَّ الْإِسْرَافَ فِي كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الإفراط فيه، قال تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزُّمَرِ: 53] وَقَالَ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [الإسراء: 33] وقال: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الْأَعْرَافِ: 31] وَيُقَالُ: فُلَانٌ مُسْرِفٌ إِذَا كَانَ مُكْثِرًا فِي النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمَّا فَرَغُوا مِنْ ذَلِكَ سَأَلُوا رَبَّهُمْ أَنْ يُثَبِّتَ أَقْدَامَهُمْ، وَذَلِكَ بِإِزَالَةِ الْخَوْفِ عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِزَالَةِ الْخَوَاطِرِ

[سورة آل عمران (3) : آية 148]

الْفَاسِدَةِ عَنْ صُدُورِهِمْ، ثُمَّ سَأَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَنْصُرَهُمْ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، لِأَنَّ هَذِهِ النُّصْرَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ أُمُورٍ زَائِدَةٍ عَلَى ثَبَاتِ أَقْدَامِهِمْ، وَهُوَ كَالرُّعْبِ الَّذِي يُلْقِيهِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَإِحْدَاثِ أَحْوَالٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ أَرْضِيَّةٍ تُوجِبُ انْهِزَامَهُمْ، مِثْلَ هُبُوبِ رِيَاحٍ تُثِيرُ الْغُبَارَ فِي وُجُوهِهِمْ، وَمِثْلَ جَرَيَانِ سَيْلٍ فِي مَوْضِعِ وُقُوفِهِمْ، ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا تَأْدِيبٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي كَيْفِيَّةِ الطَّلَبِ بِالْأَدْعِيَةِ عِنْدَ النَّوَائِبِ وَالْمِحَنِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْجِهَادِ أَوْ غيره. [سورة آل عمران (3) : آية 148] فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ طَرِيقَةَ الرِّبِّيِّينَ فِي الصَّبْرِ، وَطَرِيقَتَهُمْ فِي الدُّعَاءِ ذَكَرَ أَيْضًا مَا ضَمِنَ لَهُمْ فِي مُقَابَلَةٍ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَقَالَ: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَآتاهُمُ اللَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَاهُمُ الْأَمْرَيْنِ، أَمَّا ثَوَابُ الدُّنْيَا فَهُوَ النُّصْرَةُ وَالْغَنِيمَةُ وَقَهْرُ الْعَدُوِّ وَالثَّنَاءُ الْجَمِيلُ، وَانْشِرَاحُ الصَّدْرِ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَزَوَالُ ظُلُمَاتِ الشُّبُهَاتِ وَكَفَّارَةُ الْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ، وَأَمَّا ثَوَابُ الْآخِرَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ هُوَ الْجَنَّةُ وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَاللَّذَّاتِ وَأَنْوَاعِ السُّرُورِ وَالتَّعْظِيمِ، وَذَلِكَ غَيْرُ حَاصِلٍ فِي الْحَالِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ لَهُمْ بِحُصُولِهَا فِي الْآخِرَةِ، فَأَقَامَ حُكْمَ اللَّهِ بِذَلِكَ مَقَامَ نَفْسِ الْحُصُولِ، كَمَا أَنَّ الْكَذِبَ فِي وَعْدِ اللَّهِ وَالظُّلْمَ فِي عَدْلِهِ مُحَالٌ، أَوْ يُحْمَلُ قَوْلُهُ: فَآتاهُمُ عَلَى أَنَّهُ سَيُؤْتِيهِمْ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْلِ: 1] أَيْ سَيَأْتِي أَمْرُ اللَّهِ. قَالَ/ الْقَاضِي: وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مُخْتَصَّةً بِالشُّهَدَاءِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَيَكُونُ حَالُ هَؤُلَاءِ الرِّبِّيِّينَ أَيْضًا كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى فِي حَالِ إِنْزَالِ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ قَدْ آتَاهُمْ حُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ فِي جِنَانِ السَّمَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: خَصَّ تَعَالَى ثَوَابَ الْآخِرَةِ بِالْحُسْنِ تَنْبِيهًا عَلَى جَلَالَةِ ثَوَابِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ثَوَابَ الْآخِرَةِ كُلَّهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، فَمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ حَسَنٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فَانْظُرْ كَيْفَ يَكُونُ حُسْنُهُ، وَلَمْ يَصِفْ ثَوَابَ الدُّنْيَا بِذَلِكَ لِقِلَّتِهَا وَامْتِزَاجِهَا بِالْمَضَارِّ وَكَوْنِهَا، مُنْقَطِعَةً زَائِلَةً، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحُسْنُ هُوَ الْحَسَنَ كَقَوْلِهِ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [الْبَقَرَةِ: 83] أَيْ حَسَنًا، وَالْغَرَضُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ كَأَنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الْحَسَنَةَ لِكَوْنِهَا عَظِيمَةً فِي الْحُسْنِ صَارَتْ نَفْسَ الْحُسْنِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ جُودٌ وَكَرَمٌ، إِذَا كَانَ فِي غَايَةِ الْجُودِ وَالْكَرَمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ فِيمَا تَقَدَّمَ: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها [آلِ عِمْرَانَ: 145] فَذَكَرَ لَفْظَةَ (مِنْ) الدَّالَّةِ عَلَى التَّبْعِيضِ فَقَالَ فِي الْآيَةِ: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ كَلِمَةَ (مِنْ) وَالْفَرْقُ: أَنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ ثَوَابَ الْآخِرَةِ إِنَّمَا اشْتَغَلُوا بِالْعُبُودِيَّةِ لِطَلَبِ الثَّوَابِ، فَكَانَتْ مَرْتَبَتُهُمْ فِي الْعُبُودِيَّةِ نَازِلَةً، وَأَمَّا الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ إِلَّا الذَّنْبَ وَالْقُصُورَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا [آلِ عِمْرَانَ: 147] وَلَمْ يَرَوُا التَّدْبِيرَ وَالنُّصْرَةَ وَالْإِعَانَةَ إِلَّا مِنْ رَبِّهِمْ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 147] فَكَانَ مَقَامُ هَؤُلَاءِ فِي الْعُبُودِيَّةِ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ، فَلَا جَرَمَ أُولَئِكَ فَازُوا بِبَعْضِ الثَّوَابِ، وَهَؤُلَاءِ فَازُوا بِالْكُلِّ، وَأَيْضًا أُولَئِكَ أَرَادُوا الثَّوَابَ، وَهَؤُلَاءِ مَا أَرَادُوا الثَّوَابَ. وَإِنَّمَا أَرَادُوا خِدْمَةَ مَوْلَاهُمْ فَلَا جَرَمَ أُولَئِكَ حُرِمُوا وَهَؤُلَاءِ أُعْطُوا، لِيُعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَقْبَلَ عَلَى خِدْمَةِ اللَّهِ أَقْبَلَ عَلَى خِدْمَتِهِ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَفِيهِ دَقِيقَةٌ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ هَؤُلَاءِ اعْتَرَفُوا بِكَوْنِهِمْ مُسِيئِينَ حَيْثُ قَالُوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا فَلَمَّا اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ سَمَّاهُمُ اللَّهُ مُحْسِنِينَ، كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يقول لهم:

[سورة آل عمران (3) : الآيات 149 إلى 150]

إِذَا اعْتَرَفْتَ بِإِسَاءَتِكَ وَعَجْزِكَ فَأَنَا أَصِفُكَ بِالْإِحْسَانِ وَأَجْعَلُكَ حَبِيبًا لِنَفْسِي، حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْعَبْدِ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى حَضْرَةِ اللَّهِ إِلَّا بِإِظْهَارِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْعَجْزِ وَأَيْضًا إِنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا الْإِقْدَامَ عَلَى الْجِهَادِ طَلَبُوا تَثْبِيتَ أَقْدَامِهِمْ فِي دِينِهِ وَنُصْرَتَهُمْ عَلَى الْعَدُوِّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَعِنْدَ ذَلِكَ سَمَّاهُمْ بِالْمُحْسِنِينَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِالْفِعْلِ الْحَسَنِ، إِلَّا إِذَا أَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ الْفِعْلَ/ الْحَسَنَ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرَّحْمَنِ: 60] وَقَالَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُسَ: 26] وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يُعْطِي الْفِعْلَ الْحَسَنَ لِلْعَبْدِ، ثُمَّ إِنَّهُ يُثِيبُهُ عَلَيْهِ لِيَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ وبإعانة الله. [سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 150] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا أَرْجَفُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ، وَدَعَا الْمُنَافِقُونَ بَعْضَ ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْكُفْرِ، مَنَعَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى كَلَامِ أولئك المنافقين فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قِيلَ: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُرَادُ أَبُو سُفْيَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ كَبِيرَ الْقَوْمِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، قَالَ السُّدِّيُّ: الْمُرَادُ أَبُو سُفْيَانَ لِأَنَّهُ كَانَ شَجَرَةَ الْفِتَنِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَتْبَاعُهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَلْقَوُا الشُّبُهَاتِ فِي قُلُوبِ الضَّعَفَةِ وَقَالُوا لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ رَسُولَ اللَّهِ مَا وَقَعَتْ لَهُ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ، وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ كَسَائِرِ النَّاسِ، يوماً له ويوماً عَلَيْهِ، فَارْجِعُوا إِلَى دِينِكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ فِيهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ الْيَهُودُ لِأَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَكَانُوا يُلْقُونَ الشُّبْهَةَ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ وُقُوعِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ الْكُفَّارِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَخُصُوصُ السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى طَاعَتِهِمْ فِي كُلِّ مَا يَقُولُونَهُ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّخْصِيصِ فَقِيلَ: إِنْ تُطِيعُوهُمْ فِيمَا أَمَرُوكُمْ بِهِ يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ تَرْكِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: إِنْ تُطِيعُوهُمْ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُونَكُمْ مِنَ الضَّلَالِ، وَقِيلَ فِي الْمَشُورَةِ، وَقِيلَ فِي تَرْكِ الْمُحَارَبَةِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا [آل عمران: 156] . ثُمَّ قَالَ: يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ يَعْنِي يَرُدُّوكُمْ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ قَبُولَ قَوْلِهِمْ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْكُفْرِ كُفْرٌ. ثُمَّ قَالَ: فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّفْظَ لَمَّا كَانَ عَامًّا وَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ خُسْرَانُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا خُسْرَانُ الدُّنْيَا فَلِأَنَّ أَشَقَّ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْعُقَلَاءِ فِي الدُّنْيَا الِانْقِيَادُ لِلْعَدُوِّ وَالتَّذَلُّلُ لَهُ وَإِظْهَارُ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا خُسْرَانُ الْآخِرَةِ فَالْحِرْمَانُ عَنِ الثَّوَابِ الْمُؤَبَّدِ وَالْوُقُوعُ فِي الْعِقَابِ الْمُخَلَّدِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ إِنَّمَا تُطِيعُونَ الكفار لينصروكم

[سورة آل عمران (3) : آية 151]

وَيُعِينُوكُمْ عَلَى مَطَالِبِكُمْ وَهَذَا جَهْلٌ، لِأَنَّهُمْ عَاجِزُونَ مُتَحَيِّرُونَ، وَالْعَاقِلُ يَطْلُبُ النُّصْرَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْصُرُكُمْ عَلَى الْعَدُوِّ وَيَدْفَعُ عَنْكُمْ كَيْدَهُ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ خَيْرُ النَّاصِرِينَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ النُّصْرَةَ، لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُتْبِعَهُ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَإِنَّمَا كَانَ تَعَالَى خَيْرَ النَّاصِرِينَ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَادِرُ عَلَى نُصْرَتِكَ فِي كُلِّ مَا تُرِيدُ، وَالْعَالِمُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ دُعَاؤُكَ وَتَضَرُّعُكَ، وَالْكَرِيمُ الَّذِي لَا يَبْخَلُ فِي جُودِهِ، وَنُصْرَةُ الْعَبِيدِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِخِلَافِ ذَلِكَ فِي كُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَنْصُرُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَغَيْرُهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَنْصُرُكَ قَبْلَ سُؤَالِكَ وَمَعْرِفَتِكَ بِالْحَاجَةِ، كَمَا قَالَ: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الْأَنْبِيَاءِ: 42] وَغَيْرُهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ سَائِرِ النَّاصِرِينَ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ وَرَدَ الْكَلَامُ عَلَى حَسَبِ تَعَارُفِهِمْ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: 27] . [سورة آل عمران (3) : آية 151] سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) [في قَوْلُهُ تَعَالَى سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ تَمَامِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ وُجُوهًا كَثِيرَةً فِي التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِالْكُفَّارِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى يُلْقِي الْخَوْفَ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ اسْتِيلَاءَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الْوَعْدَ هَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِيَوْمِ أُحُدٍ، أَوْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ؟ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهَذَا الْيَوْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَمِيعَ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِنَّمَا/ وَرَدَتْ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا فِي كَيْفِيَّةِ إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا اسْتَوْلَوْا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهَزَمُوهُمْ أَوْقَعَ اللَّهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَتَرَكُوهُمْ وَفَرُّوا مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ صَعِدَ الْجَبَلَ، وَقَالَ: أَيْنَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ، وَأَيْنَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، وَأَيْنَ ابْنُ الْخَطَّابِ، فَأَجَابَهُ عُمَرُ، وَدَارَتْ بَيْنَهُمَا كَلِمَاتٌ، وَمَا تَجَاسَرَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى النُّزُولِ مِنَ الْجَبَلِ وَالذَّهَابِ إِلَيْهِمْ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا ذَهَبُوا إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا كَانُوا فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ قَالُوا: مَا صَنَعْنَا شَيْئًا، قَتَلْنَا الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ، ثُمَّ تَرَكْنَاهُمْ وَنَحْنُ قَاهِرُونَ، ارْجِعُوا حَتَّى نَسْتَأْصِلَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَمَّا عَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ أَلْقَى اللَّهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْوَعْدَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِيَوْمِ أُحُدٍ، بَلْ هُوَ عَامٌّ. قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَأَنَّهُ قِيلَ إِنَّهُ وَإِنْ وَقَعَتْ لَكُمْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ فِي يَوْمِ أُحُدٍ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُلْقِي الرُّعْبَ مِنْكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِ الْكَافِرِينَ حَتَّى يَقْهَرَ الْكُفَّارَ، وَيُظْهِرَ دِينَكُمْ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ. وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ دِينُ الْإِسْلَامِ قَاهِرًا لِجَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ الرُّعْبَ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَالْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِهَا فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ: رَعَبْتُهُ رُعْبًا وَرُعُبًا وَهُوَ مَرْعُوبٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرُّعْبُ مَصْدَرًا، وَالرُّعُبُ اسْمٌ مِنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الرُّعْبُ: الْخَوْفُ الَّذِي يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ، وَأَصْلُ الرُّعْبِ الْمَلْءُ، يُقَالُ سَيْلٌ رَاعِبٌ إِذَا مَلَأَ الْأَوْدِيَةَ وَالْأَنْهَارَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْفَزَعُ رُعْبًا لِأَنَّهُ يَمْلَأُ الْقَلْبَ خَوْفًا.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ يَقْتَضِي وُقُوعَ الرُّعْبِ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ، فَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى إِجْرَاءِ هَذَا الْعُمُومِ عَلَى ظَاهِرِهِ، لِأَنَّهُ لَا أَحَدَ يُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ إِلَّا وَفِي قَلْبِهِ ضَرْبٌ مِنَ الرُّعْبِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، إِمَّا فِي الْحَرْبِ، وَإِمَّا عِنْدَ الْمُحَاجَّةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ لَا يَقْتَضِي وُقُوعَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ، إِنَّمَا يَقْتَضِي وُقُوعَ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَذَهَبَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِأُولَئِكَ الْكُفَّارِ. أَمَّا قَوْلُهُ: بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ فَاعْلَمْ أَنَّ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: بِسَبَبِ إِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ هَذَا بِالْوَجْهِ الْمَعْقُولِ هُوَ أَنَّ الدُّعَاءَ إِنَّمَا يَصِيرُ فِي مَحَلِّ الْإِجَابَةِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ كَمَا قَالَ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النحل: 62] وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الِاضْطِرَارُ، لِأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ كَانَ هَذَا الْمَعْبُودُ لَا يَنْصُرُنِي، فَذَاكَ الْآخَرُ يَنْصُرُنِي، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ فِي قَلْبِهِ الِاضْطِرَارُ لَمْ تَحْصُلِ الْإِجَابَةُ وَلَا النُّصْرَةُ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ الرُّعْبُ وَالْخَوْفُ فِي قَلْبِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ يُوجِبُ الرُّعْبَ. أَمَّا قَوْلُهُ: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: السُّلْطَانُ هَاهُنَا هُوَ الْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ، وَفِي اشْتِقَاقِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ مِنَ السَّلِيطِ وَهُوَ الَّذِي يُضَاءُ بِهِ السِّرَاجُ، وَقِيلَ لِلْأُمَرَاءِ سَلَاطِينُ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ بِهِمْ يَتَوَصَّلُ النَّاسُ إِلَى تَحْصِيلِ الْحُقُوقِ. الثَّانِي: أَنَّ السُّلْطَانَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْحُجَّةُ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْأَمِيرِ سُلْطَانٌ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ ذُو الْحُجَّةِ. الثَّالِثُ: قَالَ اللَّيْثُ: السُّلْطَانُ الْقُدْرَةُ، لِأَنَّ أَصْلَ بِنَائِهِ مِنَ التَّسْلِيطِ وَعَلَى هَذَا سُلْطَانُ الْمَلِكِ: قُوَّتُهُ وَقُدْرَتُهُ، وَيُسَمَّى الْبُرْهَانُ سُلْطَانًا لِقُوَّتِهِ عَلَى دَفْعِ الْبَاطِلِ. الرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: سُلْطَانُ كُلِّ شَيْءٍ حِدَّتُهُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ اللِّسَانِ السَّلِيطِ، وَالسَّلَاطَةُ بِمَعْنَى الْحِدَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً يُوهِمُ أَنَّ فِيهِ سُلْطَانًا إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَنْزَلَهُ وَمَا أَظْهَرَهُ، إِلَّا أَنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَأَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ سُلْطَانًا، فَلَمَّا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَجَبَ عَدَمُهُ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِيهِ مَا يَقُولُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ: أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ إِثْبَاتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُبَالِغُ فَيَقُولُ: لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَيَجِبُ نَفْيُهُ، وَمِنْهُمْ مَنِ احْتَجَّ بِهَذَا الْحَرْفِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الصَّانِعِ، فَقَالَ: لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ إِلَّا بِاحْتِيَاجِ الْمُحْدَثَاتِ إِلَيْهِ، وَيَكْفِي فِي دَفْعِ هَذِهِ الْحَاجَةِ إِثْبَاتُ الصَّانِعِ الْوَاحِدِ، فَمَا زَادَ عَلَيْهِ لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِهِ فَلَمْ يَجُزْ إِثْبَاتُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى فَسَادِ التَّقْلِيدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِهِ بَاطِلًا، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ الْقَوْلُ بِإِثْبَاتِ مَا لَا دَلِيلَ عَلَى ثُبُوتِهِ يَكُونُ بَاطِلًا، فَيَلْزَمُ فَسَادُ الْقَوْلِ بِالتَّقْلِيدِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَأْواهُمُ النَّارُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ أَحْوَالَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا هُوَ وُقُوعُ الْخَوْفِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَبَيَّنَ أَحْوَالَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَهِيَ أَنَّ مَأْوَاهُمْ وَمَسْكَنَهُمُ النَّارُ. ثُمَّ قَالَ: وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ الْمَثْوَى: الْمَكَانُ الَّذِي يَكُونُ مَقَرَّ الْإِنْسَانِ وَمَأْوَاهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَوَى يَثْوِي ثويا، وجمع المثوى مثاوي.

[سورة آل عمران (3) : آية 152]

[سورة آل عمران (3) : آية 152] وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) اعْلَمْ أَنَّ اتِّصَالَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَدْ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ بِأُحُدٍ، قَالَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: مِنْ أَيْنَ أَصَابَنَا هَذَا وَقَدْ وَعَدَنَا اللَّهُ النَّصْرَ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ يَذْبَحُ كَبْشًا فَصَدَقَ اللَّهُ رُؤْيَاهُ بِقَتْلِ طَلْحَةَ بْنِ عُثْمَانَ صَاحِبِ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقُتِلَ بَعْدَهُ تِسْعَةُ نَفَرٍ عَلَى اللِّوَاءِ فَذَاكَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ يُرِيدُ تَصْدِيقَ رُؤْيَا الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَعْدُ مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 125] إِلَّا أَنَّ هَذَا كَانَ مَشْرُوطًا بِشَرْطِ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى. وَالرَّابِعُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَعْدُ هو قوله: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [الحج: 40] إِلَّا أَنَّ هَذَا أَيْضًا مَشْرُوطٌ بِشَرْطٍ. وَالْخَامِسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَعْدُ هُوَ قَوْلَهُ: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آلِ عِمْرَانَ: 151] وَالسَّادِسُ: قِيلَ: الْوَعْدُ هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلرُّمَاةِ: «لَا تَبْرَحُوا مِنْ هَذَا الْمَكَانِ، فَإِنَّا لَا نَزَالُ غَالِبِينَ مَا دُمْتُمْ فِي هَذَا الْمَكَانِ» السَّابِعِ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: لَمَّا وَعَدَهُمُ اللَّهُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِلْقَاءَ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ ذَكَّرَهُمْ مَا أَنْجَزَهُمْ مِنَ الْوَعْدِ بِالنَّصْرِ فِي وَاقِعَةِ أُحُدٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا وَعَدَهُمْ بِالنُّصْرَةِ بِشَرْطِ أَنْ يَتَّقُوا وَيَصْبِرُوا فَحِينَ أَتَوْا بِذَلِكَ الشَّرْطِ لَا جَرَمَ، وَفَّى اللَّهُ تَعَالَى بِالْمَشْرُوطِ وَأَعْطَاهُمُ النُّصْرَةَ، فَلَمَّا تَرَكُوا الشَّرْطَ لَا جرم فاتهم المشروط. [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] إِذَا عَرَفْتَ وَجْهَ النَّظْمِ فَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الصِّدْقُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، تَقُولُ: صَدَقْتُهُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي قِصَّةِ أُحُدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ أُحُدًا خَلْفَ ظَهْرِهِ/ وَاسْتَقْبَلَ الْمَدِينَةَ وَأَقَامَ الرُّمَاةَ عِنْدَ الْجَبَلِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَثْبُتُوا هُنَاكَ وَلَا يَبْرَحُوا، سَوَاءٌ كَانَتِ النُّصْرَةُ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ جَعَلَ الرُّمَاةُ يَرْشُقُونَ نَبْلَهُمْ وَالْبَاقُونَ يَضْرِبُونَهُمْ بِالسُّيُوفِ حَتَّى انْهَزَمُوا، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى آثَارِهِمْ يَحُسُّونَهُمْ، قَالَ اللَّيْثُ: الْحَسُّ: الْقَتْلُ الذَّرِيعُ، تَحُسُّونَهُمْ: أَيْ تَقْتُلُونَهُمْ قَتْلًا كَثِيرًا، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَالزَّجَّاجُ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ: الْحَسُّ: الِاسْتِئْصَالُ بِالْقَتْلِ، يُقَالُ: جَرَادٌ مَحْسُوسٌ. إِذَا قَتَلَهُ الْبَرْدُ. وَسَنَةٌ حَسُوسٌ: إِذَا أَتَتْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَمَعْنَى تَحُسُّونَهُمْ أَيْ تَسْتَأْصِلُونَهُمْ قَتْلًا، قَالَ أَصْحَابُ الِاشْتِقَاقِ: «حَسَّهُ» إِذَا قَتَلَهُ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ حِسَّهُ بِالْقَتْلِ، كَمَا يُقَالُ: بَطَنَهُ إِذَا أَصَابَ بَطْنَهُ، وَرَأَسَهُ، إِذَا أَصَابَ رَأْسَهُ، وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِهِ أَيْ بِعِلْمِهِ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَكُمُ النَّصْرَ بِشَرْطِ التَّقْوَى وَالصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَةِ فَمَا دُمْتُمْ وَافِينَ بِهَذَا الشَّرْطِ أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَكُمْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ، فَلَمَّا تَرَكْتُمُ الشَّرْطَ وَعَصَيْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ لَا جَرَمَ زَالَتْ تِلْكَ النُّصْرَةُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْجَوَابِ فَأَيْنَ جَوَابُهُ؟

وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ هَاهُنَا طَرِيقَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، بَلِ الْمَعْنَى، وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ، أَيْ قَدْ نَصَرَكُمْ إِلَى أَنْ كَانَ مِنْكُمُ الْفَشَلُ وَالتَّنَازُعُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى كَانَ إِنَّمَا وَعَدَهُمْ بِالنُّصْرَةِ بِشَرْطِ التَّقْوَى وَالصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَةِ، فَلَمَّا فَشِلُوا وَعَصَوُا انْتَهَى النَّصْرُ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ كَلِمَةُ حَتَّى غَايَةً بِمَعْنَى «إِلَى» فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا إِلَى أَنْ، أَوْ إِلَى حِينِ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يُسَاعِدَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ شَرْطٌ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي الْجَوَابِ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ جَوَابَهُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مَنَعَكُمُ اللَّهُ نَصْرَهُ، وَإِنَّمَا حَسُنَ حَذْفُ هَذَا الْجَوَابِ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ عَلَيْهِ، وَنَظَائِرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ، قَالَ تَعَالَى: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ [الْأَنْعَامِ: 35] وَالتَّقْدِيرُ: فَافْعَلْ، ثُمَّ أُسْقِطَ هَذَا الْجَوَابُ لِدَلَالَةِ هَذَا الْكَلَامِ عليه، وقال: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ [الزُّمَرِ: 9] وَالتَّقْدِيرُ: أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ كَمَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ؟ الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ أَنَّ جَوَابَهُ هُوَ قَوْلُهُ: وَعَصَيْتُمْ وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ كَمَا قَالَ: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ [الصَّافَّاتِ: 103- 104] وَالْمَعْنَى نَادَيْنَاهُ، كَذَا هَاهُنَا، الْفَشَلُ وَالتَّنَازُعُ صَارَ مُوجِبًا لِلْعِصْيَانِ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ عَصَيْتُمْ، فَالْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَبَعْضُ/ مَنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ زَعَمَ أَنَّ مِنْ مَذْهَبِ الْعَرَبِ إِدْخَالَ الْوَاوِ فِي جَوَابِ حَتَّى إِذا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها [الزمر: 1 [الزُّمَرِ: 71] وَالتَّقْدِيرُ: أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ كَمَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ؟ الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ أَنَّ جَوَابَهُ هُوَ قَوْلُهُ: وَعَصَيْتُمْ وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ كَمَا قَالَ: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ [الصَّافَّاتِ: 103- 104] وَالْمَعْنَى نَادَيْنَاهُ، كَذَا هَاهُنَا، الْفَشَلُ وَالتَّنَازُعُ صَارَ مُوجِبًا لِلْعِصْيَانِ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ عَصَيْتُمْ، فَالْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَبَعْضُ/ مَنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ زَعَمَ أَنَّ مِنْ مَذْهَبِ الْعَرَبِ إِدْخَالَ الْوَاوِ فِي جَوَابِ «حَتَّى إِذَا» بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها [الزُّمَرِ: 71] وَالتَّقْدِيرُ حتى إذا جاؤها فُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُهَا. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ مَعْصِيَةٌ، فَلَوْ جَعَلْنَا الْفَشَلَ وَالتَّنَازُعَ عِلَّةً لِلْمَعْصِيَةِ لَزِمَ كَوْنُ الشَّيْءِ عِلَّةً لِنَفْسِهِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ. قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنَ الْعِصْيَانِ هَاهُنَا خُرُوجُهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفَشَلَ وَالتَّنَازُعَ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ خُرُوجَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَلَمْ يَلْزَمْ تَعْلِيلُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَصْرِيِّينَ إِنَّمَا لَمْ يَقْبَلُوا هَذَا الْجَوَابَ لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ جَعْلُ الْوَاوِ زَائِدَةً. الْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ: أَنْ يُقَالَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ، صِرْتُمْ فَرِيقَيْنِ، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ. فَالْجَوَابُ: هُوَ قَوْلُهُ: صِرْتُمْ فَرِيقَيْنِ، إِلَّا أَنَّهُ أُسْقِطَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يُفِيدُ فَائِدَتَهُ وَيُؤَدِّي مَعْنَاهُ، لِأَنَّ كَلِمَةَ «مَنْ» لِلتَّبْعِيضِ فَهِيَ تُفِيدُ هَذَا الِانْقِسَامَ، وَهَذَا احْتِمَالٌ خَطَرَ بِبَالِي. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: جَوَابُ قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ هُوَ قَوْلُهُ: صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ وَالتَّقْدِيرُ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَكَذَا وَكَذَا صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَكَلِمَةُ «ثُمَّ» هَاهُنَا كَالسَّاقِطَةِ وَهَذَا الْوَجْهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أمورا ثلاثة: أولها: الفشل وهو الضعيف، وَقِيلَ الْفَشَلُ هُوَ الْجُبْنُ، وَهَذَا بَاطِلٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا [الْأَنْفَالِ: 46] أَيْ فَتَضْعُفُوا، لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَتَجْبُنُوا. ثَانِيهَا: التَّنَازُعُ فِي الْأَمْرِ وَفِيهِ بَحْثَانِ. الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنَ التَّنَازُعِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ الرُّمَاةَ بِأَنْ لَا يَبْرَحُوا عَنْ مَكَانِهِمْ أَلْبَتَّةَ،

وَجَعَلَ أَمِيرَهُمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ فَلَمَّا ظَهَرَ الْمُشْرِكُونَ أَقْبَلَ الرُّمَاةُ عَلَيْهِمْ بِالرَّمْيِ الْكَثِيرِ حَتَّى انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ، ثُمَّ إِنَّ الرُّمَاةَ رَأَوْا نِسَاءَ الْمُشْرِكِينَ صَعِدْنَ الْجَبَلَ وَكَشَفْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ بِحَيْثُ بَدَتْ خَلَاخِيلُهُنَّ، فَقَالُوا الْغَنِيمَةَ الْغَنِيمَةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: عَهِدَ الرَّسُولُ إِلَيْنَا أَنْ لَا نَبْرَحَ عَنْ هَذَا الْمَكَانِ فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَذَهَبُوا إِلَى طَلَبِ الْغَنِيمَةِ، وَبَقِيَ عَبْدُ اللَّهِ مَعَ طَائِفَةٍ قَلِيلَةٍ دُونَ الْعَشَرَةِ إِلَى أَنْ قَتَلَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَهَذَا هُوَ التَّنَازُعُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: فِي الْأَمْرِ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَمْرَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الشَّأْنِ وَالْقِصَّةِ، أَيْ تَنَازَعْتُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الشَّأْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي يُضَادُّهُ النَّهْيُ. وَالْمَعْنَى: وَتَنَازَعْتُمْ فِيمَا أَمَرَكُمُ/ الرَّسُولُ بِهِ مِنْ مُلَازَمَةِ ذَلِكَ الْمَكَانِ. وَثَالِثُهَا: وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ، وَالْمُرَادُ عَصَيْتُمْ بِتَرْكِ مُلَازَمَةِ ذَلِكَ الْمَكَانِ. بَقِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: لِمَ قَدَّمَ ذِكْرَ الْفَشَلِ عَلَى ذِكْرِ التَّنَازُعِ وَالْمَعْصِيَةِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا رَأَوْا هَزِيمَةَ الْكُفَّارِ وَطَمِعُوا فِي الْغَنِيمَةِ فَشِلُوا فِي أَنْفُسِهِمْ عَنِ الثَّبَاتِ طَمَعًا فِي الْغَنِيمَةِ، ثُمَّ تَنَازَعُوا بِطَرِيقِ الْقَوْلِ فِي أَنَّا: هَلْ نَذْهَبُ لِطَلَبِ الْغَنِيمَةِ أَمْ لَا؟ ثُمَّ اشْتَغَلُوا بِطَلَبِ الْغَنِيمَةِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لَمَّا كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ بِمُفَارَقَةِ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ خَاصَّةً بِالْبَعْضِ فَلِمَ جَاءَ هَذَا الْعِتَابُ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ؟ وَالْجَوَابُ: هَذَا اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ عَامًّا إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ الْمُخَصِّصُ بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا شَاهَدُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْرَمَهُمْ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ كَانَ مِنْ حَقِّهِمْ أَنْ يَمْتَنِعُوا عَنِ الْمَعْصِيَةِ، فَلَمَّا أَقْدَمُوا عَلَيْهَا لَا جَرَمَ سَلَبَهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ الْإِكْرَامَ وَأَذَاقَهُمْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ صَرْفَهُمْ عَنِ الْكُفَّارِ مَعْصِيَةٌ، فَكَيْفَ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ؟ أَمَّا أَصْحَابُنَا فَهَذَا الْإِشْكَالُ غَيْرُ وَارِدٍ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَتَخْلِيقِهِ، فَعَلَى هَذَا قَالُوا مَعْنَى هَذَا الصَّرْفِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَدَّ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْكُفَّارِ، وَأَلْقَى الْهَزِيمَةَ عَلَيْهِمْ وَسَلَّطَ الْكُفَّارَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذَا التَّأْوِيلُ غَيْرُ جَائِزٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْعَقْلُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آلِ عِمْرَانَ: 155] فَأَضَافَ مَا كَانَ مِنْهُمْ إِلَى فِعْلِ الشَّيْطَانِ، فَكَيْفَ يُضِيفُهُ بَعْدَ هَذَا إِلَى نَفْسِهِ؟ وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى عَاتَبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الِانْصِرَافِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِفِعْلِ اللَّهِ لَمْ يَجُزْ مُعَاتَبَةُ الْقَوْمِ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ مُعَاتَبَتُهُمْ عَلَى طُولِهِمْ وَقِصَرِهِمْ وَصِحَّتِهِمْ وَمَرَضِهِمْ، ثُمَّ عِنْدَ هَذَا ذَكَرُوا وُجُوهًا مِنَ التَّأْوِيلِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْجِبَائِيُّ: إِنَّ الرُّمَاةَ كَانُوا فَرِيقَيْنِ، بَعْضُهُمْ فَارَقُوا الْمَكَانَ أَوَّلًا لِطَلَبِ الْغَنَائِمِ، وَبَعْضُهُمْ بَقُوا هُنَاكَ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَقُوا أَحَاطَ بِهِمُ الْعَدُوُّ، فَلَوِ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْمُكْثِ هُنَاكَ لَقَتَلَهُمُ الْعَدُوُّ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ أَصْلًا، فَلِهَذَا السَّبَبِ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَتَنَحَّوْا عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إِلَى مَوْضِعٍ يَتَحَرَّزُونَ فِيهِ عَنِ الْعَدُوِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ/ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ إِلَى الْجَبَلِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَتَحَصَّنُوا بِهِ وَلَمْ يَكُونُوا عُصَاةً بِذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الِانْصِرَافُ جَائِزًا أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ بِأَمْرِهِ وَإِذْنِهِ، ثُمَّ قَالَ: لِيَبْتَلِيَكُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا صَرَفَهُمْ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ وَتَحَصَّنُوا بِهِ أَمَرَهُمْ هُنَاكَ بِالْجِهَادِ وَالذَّبِّ عَنْ بَقِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ

[سورة آل عمران (3) : آية 153]

الْإِقْدَامَ عَلَى الْجِهَادِ بَعْدَ الِانْهِزَامِ، وَبَعْدَ أَنْ شَاهَدُوا فِي تِلْكَ الْمَعْرَكَةِ قَتْلَ أَقْرِبَائِهِمْ وَأَحِبَّائِهِمْ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الِابْتِلَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ صَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنِ الْكُفَّارِ مَا كَانُوا مُذْنِبِينَ، فَلِمَ قَالَ: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ. قُلْنَا: الْآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْرِ مَنْ كَانَ مَعْذُورًا فِي الِانْصِرَافِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ، وَهُمُ الَّذِينَ بَدَءُوا بِالْهَزِيمَةِ فَمَضَوْا وَعَصَوْا فَقَوْلُهُ: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ رَاجِعٌ إِلَى الْمَعْذُورِينَ، لِأَنَّ الْآيَةَ لَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَى قِسْمَيْنِ وَعَلَى حُكْمَيْنِ رَجَعَ كُلُّ حُكْمٍ إِلَى الْقِسْمِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ [التَّوْبَةِ: 40] وَالْمُرَادُ الَّذِي قَالَ لَهُ: لَا تَحْزَنْ وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ، لِأَنَّهُ كَانَ خَائِفًا قَبْلَ هَذَا الْقَوْلِ، فَلَمَّا سَمِعَ هَذَا سَكَنَ، ثُمَّ قَالَ: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها [التَّوْبَةِ: 40] وَعَنَى بِذَلِكَ الرَّسُولَ دُونَ أَبِي بَكْرٍ، لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ جَرَى ذِكْرُهُمَا جَمِيعًا، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا ذَكَرَهُ الْجِبَائِيُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَزَالَ مَا كَانَ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ مِنَ الرُّعْبِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عُقُوبَةً مِنْهُ عَلَى عِصْيَانِهِمْ وَفَشَلِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: لِيَبْتَلِيَكُمْ أَيْ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ الصَّرْفَ مِحْنَةً عَلَيْكُمْ لِتَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ وَتَرْجِعُوا إِلَيْهِ وَتَسْتَغْفِرُوهُ فِيمَا خَالَفْتُمْ فِيهِ أَمْرَهُ وَمِلْتُمْ فِيهِ إِلَى الْغَنِيمَةِ، ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ عَفَا عَنْهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ بِأَنْ لَمْ يَأْمُرْكُمْ بِمُعَاوَدَتِهِمْ مِنْ فَوْرِهِمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ بِكَثْرَةِ الْإِنْعَامِ عَلَيْكُمْ وَالتَّخْفِيفِ عَنْكُمْ، فَهَذَا مَا قِيلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي تَقَدُّمَ ذَنْبٍ مِنْهُمْ. قَالَ الْقَاضِي: إِنْ كَانَ ذَلِكَ الذَّنْبُ مِنَ الصَّغَائِرِ صَحَّ أَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ عَفَا عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الْكَبَائِرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ تَوْبَتِهِمْ لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ إِذَا لَمْ يَتُبْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الذَّنْبَ لَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ كَبِيرَةً، لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا صَرِيحَ نَصِّ الرَّسُولِ، وَصَارَتْ تِلْكَ الْمُخَالَفَةُ سَبَبًا لِانْهِزَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَتْلِ جَمْعٍ عَظِيمٍ مِنْ أَكَابِرِهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْكَبَائِرِ وَأَيْضًا: ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [الْأَنْفَالِ: 16] يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَبِيرَةً، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ خَاصٌّ/ فِي بَدْرٍ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ، وَلَا تَفَاوُتَ فِي الْمَقْصُودِ، فَكَانَ التَّخْصِيصُ مُمْتَنِعًا، ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَفَا عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ، فَصَارَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَعْفُو عَنْ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، وَأَمَّا دَلِيلُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْمَنْعِ عَنْ ذَلِكَ، فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ نِعَمِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالنَّصْرِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِالْعَفْوِ عَنِ الْمُذْنِبِينَ ثَانِيًا. وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الذَّنْبَ كَانَ مِنَ الْكَبَائِرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُمُ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ بِخِلَافِ مَا تقوله المعتزلة، والله أعلم. [سورة آل عمران (3) : آية 153] إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا مَا أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ]

فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ قَالَ وَعَفَا عَنْكُمْ إِذْ تُصْعِدُونَ، لِأَنَّ عَفْوَهُ عَنْهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِأَمْرٍ اقْتَرَفُوهُ، وَذَلِكَ الْأَمْرُ هُوَ مَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: إِذْ تُصْعِدُونَ وَالْمُرَادُ بِهِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالْأَخْذِ فِي الْوَادِي كَالْمُنْهَزِمِينَ لَا يَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَثَانِيهَا: التَّقْدِيرُ: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ إِذْ تُصْعِدُونَ. وَثَالِثُهَا: التَّقْدِيرُ: لِيَبْتَلِيَكُمْ إِذْ تُصْعِدُونَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: اذْكُرْ إِذْ تُصْعِدُونَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَرَأَ الْحَسَنُ إِذْ تُصْعِدُونَ فِي الْجَبَلِ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ إِذْ تُصْعِدُونَ فِي الواد وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ إِذْ تَصَعَّدُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْعَيْنِ، مِنْ تَصَعَّدَ فِي السُّلَّمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِصْعَادُ: الذَّهَابُ فِي الْأَرْضِ وَالْإِبْعَادُ فِيهِ، يُقَالُ صَعِدَ فِي الْجَبَلِ، وَأَصْعَدَ فِي/ الْأَرْضِ، وَيُقَالُ أَصْعَدْنَا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ أَبُو مُعَاذٍ النَّحْوِيُّ: كُلُّ شَيْءٍ لَهُ أَسْفَلُ وَأَعْلَى مِثْلَ الْوَادِي وَالنَّهَرِ وَالْأَزِقَّةِ، فَإِنَّكَ تَقُولُ: صَعَّدَ فُلَانٌ يُصَعِّدُ فِي الْوَادِي إِذَا أَخَذَ مِنْ أَسْفَلِهِ إِلَى أَعْلَاهُ، وَأَمَّا مَا ارْتَفَعَ كَالسُّلَّمِ فَإِنَّهُ يُقَالُ صَعِدْتُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ: أَيْ لَا تَلْتَفِتُونَ إِلَى أَحَدٍ مِنْ شَدَّةِ الْهَرَبِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمُعَرِّجَ عَلَى الشَّيْءِ يَلْوِي إِلَيْهِ عُنُقَهُ أَوْ عِنَانَ دَابَّتِهِ، فَإِذَا مَضَى وَلَمْ يُعَرِّجْ قِيلَ لَمْ يَلْوِهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ اللَّيُّ فِي تَرْكِ التَّعْرِيجِ عَلَى الشَّيْءِ وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الشَّيْءِ، يُقَالُ: فُلَانٌ لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ، أَيْ لَا يَعْطِفُ عَلَيْهِ وَلَا يُبَالِي بِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ كَانَ يَقُولُ: «إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَنْ كَرَّ فَلَهُ الْجَنَّةُ» فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهُ، وَلَا يَتَفَرَّقُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْمُحَارَبَةِ مَعَ الْعَدُوِّ. ثُمَّ قَالَ: فِي أُخْراكُمْ أَيْ آخِرِكُمْ، يُقَالُ: جِئْتُ فِي آخِرِ النَّاسِ وَأُخْرَاهُمْ، كَمَا يُقَالُ: فِي أَوَّلِهِمْ وَأُولَاهُمْ، وَيُقَالُ: جَاءَ فُلَانٌ فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، أَيْ آخِرِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَدْعُوهُمْ وَهُوَ وَاقِفٌ فِي آخِرِهِمْ، لِأَنَّ الْقَوْمَ بِسَبَبِ الْهَزِيمَةِ قَدْ تَقَدَّمُوهُ. ثُمَّ قَالَ: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَفْظُ الثَّوَابِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَغْلَبِ إِلَّا فِي الْخَيْرِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا اسْتِعْمَالُهُ فِي الشَّرِّ، لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَابَ إِلَيْهِ عَقْلُهُ، أَيْ رَجَعَ إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ [الْبَقَرَةِ: 125] وَالْمَرْأَةُ تُسَمَّى ثَيِّبًا لِأَنَّ الْوَاطِئَ عَائِدٌ إِلَيْهَا، وَأَصْلُ الثَّوَابِ كُلُّ مَا يَعُودُ إِلَى الْفَاعِلِ مِنْ جَزَاءِ فِعْلِهِ سَوَاءٌ كَانَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، إِلَّا أَنَّهُ بِحَسْبِ الْعُرْفِ اخْتُصَّ لَفْظُ الثَّوَابِ بِالْخَيْرِ، فَإِنْ حَمَلْنَا لَفْظَ الثَّوَابِ هَاهُنَا عَلَى أَصْلِ اللُّغَةِ اسْتَقَامَ الْكَلَامُ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مُقْتَضَى الْعُرْفِ كَانَ ذَلِكَ وَارِدًا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، كَمَا يُقَالُ: تَحِيَّتُكَ الضَّرْبُ، وَعِتَابُكَ السَّيْفُ، أَيْ جَعَلَ الْغَمَّ مَكَانَ مَا يَرْجُونَ مِنَ الثَّوَابِ قَالَ تَعَالَى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [التوبة: 34] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: غَمًّا بِغَمٍّ يحتمل أن تكون بمعنى المعارضة، كَمَا يُقَالُ: هَذَا بِهَذَا أَيْ هَذَا عِوَضٌ عَنْ ذَاكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى «مَعَ» وَالتَّقْدِيرُ: أَثَابَهُمْ غَمًّا مَعَ غَمٍّ، أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ أَنَّكُمْ لَمَّا أَذَقْتُمُ الرَّسُولَ غَمًّا بِسَبَبِ أَنْ عَصَيْتُمْ أَمْرَهُ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَذَاقَكُمْ هَذَا الْغَمَّ، وَهُوَ الْغَمُّ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ بِسَبَبِ الِانْهِزَامِ وَقَتْلِ الْأَحْبَابِ، وَالْمَعْنَى جَازَاكُمْ مِنْ ذَلِكَ الْغَمِّ بِهَذَا الْغَمِّ. الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ: يُرِيدُ غَمَّ يَوْمِ أُحُدٍ لِلْمُسْلِمِينَ بِغَمِّ يَوْمِ/ بَدْرٍ لِلْمُشْرِكِينَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ لَا يَبْقَى فِي قَلْبِكُمُ الْتِفَاتٌ إِلَى الدُّنْيَا، فَلَا تَفْرَحُوا بِإِقْبَالِهَا ولا تحزنوا بإدبارها، وهو المعنى بقوله: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ فِي وَاقِعَةِ أُحُدٍ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ [الْحَدِيدِ: 23] فِي وَاقِعَةِ بَدْرٍ، طَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْوَجْهِ وَقَالَ: إِنَّ غَمَّهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ إِنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ كُفْرٌ وَمَعْصِيَةٌ، فَكَيْفَ يُضِيفُهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِي تَسْلِيطِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نَوْعَ مَصْلَحَةٍ، وَهُوَ أَنْ لَا يَفْرَحُوا بِإِقْبَالِ الدُّنْيَا وَلَا يَحْزَنُوا بِإِدْبَارِهَا، فَلَا يَبْقَى فِي قُلُوبِهِمِ اشْتِغَالٌ بِغَيْرِ اللَّهِ. الثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فَأَثابَكُمْ يَعُودُ لِلرَّسُولِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُجَّ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَقُتِلَ عَمُّهُ، اغْتَمُّوا لِأَجْلِهِ، وَالرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ عَصَوْا رَبَّهُمْ لِطَلَبِ الْغَنِيمَةِ ثُمَّ بَقُوا مَحْرُومِينَ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَقُتِلَ أَقَارِبُهُمُ اغْتَمَّ لِأَجْلِهِمْ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ هُوَ هَذَا، أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: غَمًّا بِغَمٍّ بِمَعْنَى «مَعَ» أَيْ غَمًّا مَعَ غَمٍّ، أَوْ غَمًّا عَلَى غَمٍّ، فَهَذَا جَائِزٌ لِأَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يُقَامُ بَعْضُهَا مُقَامَ بَعْضٍ، تَقُولُ: مَا زِلْتُ بِهِ حَتَّى فَعَلَ، وَمَا زِلْتُ مَعَهُ حَتَّى فَعَلَ، وَتَقُولُ: نَزَلْتُ بِبَنِي فُلَانٍ، وَعَلَى بَنِي فُلَانٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْغُمُومَ هُنَاكَ كَانَتْ كَثِيرَةً: فأحدها: غَمُّهُمْ بِمَا نَالَهُمْ مِنَ الْعَدُوِّ فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ. وَثَانِيهَا: غَمُّهُمْ بِمَا لَحِقَ سَائِرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذَلِكَ، وَثَالِثُهَا: غَمُّهُمْ بِمَا وَصَلَ إِلَى الرَّسُولِ مِنَ الشَّجَّةِ وَكَسْرِ الرَّبَاعِيَةِ، وَرَابِعُهَا: مَا أُرْجِفَ بِهِ مِنْ قَتْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَامِسُهَا: بِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مَنِ الْمَعْصِيَةِ وَمَا يَخَافُونَ مِنْ عِقَابِهَا، وَسَادِسُهَا: غَمُّهُمْ بِسَبَبِ التَّوْبَةِ الَّتِي صَارَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِذَا تَابُوا عَنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ لَمْ تَتِمَّ تَوْبَتُهُمْ إِلَّا بِتَرْكِ الْهَزِيمَةِ وَالْعَوْدِ إِلَى الْمُحَارَبَةِ بَعْدَ الِانْهِزَامِ، وَذَلِكَ مِنْ أَشَقِّ الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ مُنْهَزِمًا يَصِيرُ ضَعِيفَ الْقَلْبِ جَبَانًا، فَإِذَا أُمِرَ بِالْمُعَاوَدَةِ، فَإِنْ فَعَلَ خَافَ الْقَتْلَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ خَافَ الْكُفْرَ أَوْ عِقَابَ الْآخِرَةِ، وَهَذَا الْغَمُّ لَا شَكَّ أَنَّهُ أَعْظَمُ الْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَنَحْنُ نَعُدُّهَا: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْغَمَّ الْأَوَّلَ مَا أَصَابَهُمْ عِنْدَ الْفَشَلِ وَالتَّنَازُعِ، وَالْغَمَّ الثَّانِي مَا حَصَلَ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْغَمَّ الْأَوَّلَ مَا حَصَلَ بِسَبَبِ فَوْتِ الْغَنَائِمِ، وَالْغَمَّ الثَّانِي مَا حَصَلَ بِسَبَبِ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ اطَّلَعَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمْعًا عَظِيمًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْغَمَّ الْأَوَّلَ مَا كَانَ عِنْدَ تَوَجُّهِ أَبِي سُفْيَانَ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ وَالْغَمَّ الثَّانِي هُوَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا رَجَعُوا خَافَ الْبَاقُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنَّهُمْ لَوْ رَجَعُوا لَقَتَلُوا/ الْكُلَّ فَصَارَ هَذَا الْغَمُّ بِحَيْثُ أَذْهَلَهُمْ عَنِ الْغَمِّ الْأَوَّلِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْغَمَّ الْأَوَّلَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ بِسَبَبِ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَالْغَمَّ الثَّانِي مَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ بِسَبَبِ الْإِرْجَافِ بِقَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ اخْتَارَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَعِنْدَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أراد

[سورة آل عمران (3) : آية 154]

بِقَوْلِهِ: غَمًّا بِغَمٍّ اثْنَيْنِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مُوَاصَلَةَ الْغُمُومِ وَطُولَهَا، أَيْ أَنَّ اللَّهَ عَاقَبَكُمْ بِغُمُومٍ كَثِيرَةٍ، مِثْلَ قَتْلِ إِخْوَانِكُمْ وَأَقَارِبِكُمْ، وَنُزُولِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ فَوْقِ الْجَبَلِ عَلَيْكُمْ بِحَيْثُ لَمْ تَأْمَنُوا أَنْ يَهْلَكَ أَكْثَرُكُمْ، وَمِثْلَ إِقْدَامِكُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَثَابَكُمْ هَذِهِ الْغُمُومَ الْمُتَعَاقِبَةَ لِيَصِيرَ ذَلِكَ زَاجِرًا لَكُمْ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِمَا يُخَالِفُ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَثَابَهُمْ غَمًّا بِغَمٍّ: أَنَّهُ خَلَقَ الْغَمَّ فِيهِمْ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهَذَا لَا يَلِيقُ بِأُصُولِهِمْ، فَذَكَرُوا فِي عِلَّةِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا أَرَجَفُوا أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ قُتِلَ وَلَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ تَعَالَى كَذِبَ ذَلِكَ الْقَائِلِ، صَارَ كَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ الْغَمَّ، وَهَذَا كَالرَّجُلِ الَّذِي يَبْلُغُهُ الْخَبَرُ الَّذِي يَغُمُّهُ وَيَكُونُ مَعَهُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْخَبَرَ كَذِبٌ، فَإِذَا لَمْ يَكْشِفْهُ لَهُ سَرِيعًا وَتَرَكَهُ يَتَفَكَّرُ فِيهِ ثُمَّ أَعْلَمُهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ لَهُ: لَقَدْ غَمَّمْتَنِي وَأَطَلْتَ حُزْنِي وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ سَكَتَ وَكَفَّ عَنْ إِعْلَامِهِ، فَكَذَا هَاهُنَا. الثَّانِي: أَنَّ الْغَمَّ وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِ البعد فَسَبَبُهُ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ اللَّهَ طَبَعَ الْعِبَادَ طَبْعًا يَغْتَمُّونَ بِالْمَصَائِبِ الَّتِي تَنَالُهُمْ وَهُمْ لَا يُحْمَدُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُذَمُّونَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى الْغَمَّ فِي قَلْبِ بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ لِرِعَايَةِ بَعْضِ المصالح. ثم قال تعالى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا [إلى آخر الآية] وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ [آل عمران: 152] كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا، لِأَنَّ فِي عَفْوِهِ تَعَالَى مَا يُزِيلُ كُلَّ غَمٍّ وَحُزْنٍ، وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّامَ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ: فَأَثابَكُمْ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَثَابَكُمْ غَمَّ الْهَزِيمَةِ مِنْ غَمِّكُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِ، لِيَكُونَ غَمُّكُمْ بِأَنْ خَالَفْتُمُوهُ فَقَطْ، لَا بِأَنْ فَاتَتْكُمُ الْغَنِيمَةُ وَأَصَابَتْكُمُ الْهَزِيمَةُ، وَذَلِكَ لَأَنَّ الْغَمَّ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ يُنْسِي الْغَمَّ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ مَصَائِبِ الدُّنْيَا. الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ: جَعَلَكُمْ مَغْمُومِينَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي مُقَابَلَةِ مَا جَعَلْتُمُوهُمْ مَغْمُومِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، لِأَجْلِ أَنْ يَسْهُلَ أَمْرُ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِكُمْ فَلَا تَحْزَنُوا بِفَوَاتِهَا وَلَا تَفْرَحُوا بِإِقْبَالِهَا، وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ مُفَرَّعَانِ عَلَى قَوْلِنَا الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: غَمًّا بِغَمٍّ لِلْمُجَازَاةِ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّهَا بِمَعْنَى «مَعَ» فَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ قُلْتُمْ لَوْ بَقِينَا فِي هَذَا الْمَكَانِ وَامْتَثَلْنَا أَمْرَ الرَّسُولِ لَوَقَعْنَا فِي غَمِّ فَوَاتِ الْغَنِيمَةِ، فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ/ لَمَّا خَالَفْتُمْ أَمْرَ الرَّسُولِ وَطَلَبْتُمُ الْغَنِيمَةَ وَقَعْتُمْ فِي هَذِهِ الْغُمُومِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الْغَمِّ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، وَالْعَاقِلُ إِذَا تَعَارَضَ عِنْدَهُ الضَّرَرَانِ، وَجَبَ أَنْ يَخُصَّ أَعْظَمَهُمَا بِالدَّفْعِ، فَصَارَتْ إِثَابَةُ الْغَمِّ عَلَى الْغَمِّ مَانِعًا لَكُمْ مِنْ أَنْ تَحْزَنُوا بِسَبَبِ فَوَاتِ الْغَنِيمَةِ، وَزَاجِرًا لَكُمْ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ كَمَا زَجَرَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ بِهَذَا الزَّجْرِ الْحَاصِلِ فِي الدُّنْيَا، زَجَرَهُمْ عَنْهَا بِسَبَبِ الزَّوَاجِرِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْغَنِيمَةِ فَقَالَ: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ وَقُصُودِكُمْ وَدَوَاعِيكُمْ، قَادِرٌ عَلَى مُجَازَاتِهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الزَّوَاجِرِ لِلْعَبْدِ عَنِ الاقدام على المعصية والله أعلم. [سورة آل عمران (3) : آية 154] ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154)

فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ نَصْرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَهَذَا النَّصْرُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِإِزَالَةِ الْخَوْفِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى أَزَالَ الْخَوْفَ عَنْهُمْ/ لِيَصِيرَ ذَلِكَ كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُنْجِزُ وَعْدَهُ فِي نَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ نَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوَّلًا، فَلَمَّا عَصَى بَعْضُهُمْ سَلَّطَ الْخَوْفَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ أَزَالَ ذَلِكَ الْخَوْفَ عَنْ قَلْبِ مَنْ كَانَ صَادِقًا فِي إِيمَانِهِ مُسْتَقِرًّا عَلَى دِينِهِ بِحَيْثُ غَلَبَ النُّعَاسُ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ فَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِينَ كَانُوا جَازِمِينَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَبِيٌّ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، وَكَانُوا قَدْ سَمِعُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ الله تَعَالَى يَنْصُرُ هَذَا الدِّينَ وَيُظْهِرُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، فَكَانُوا قَاطِعِينَ بِأَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ لَا تُؤَدِّي إِلَى الِاسْتِئْصَالِ، فَلَا جَرَمَ كَانُوا آمِنِينَ، وَبَلَغَ ذَلِكَ الْأَمْنُ إِلَى حَيْثُ غَشِيَهُمُ النُّعَاسُ، فَإِنَّ النَّوْمَ لَا يَجِيءُ مَعَ الْخَوْفِ، فَمَجِيءُ النَّوْمِ يَدُلُّ عَلَى زَوَالِ الْخَوْفِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَقَالَ هَاهُنَا فِي قِصَّةِ أُحُدٍ فِي هَؤُلَاءِ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً وَقَالَ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الْأَنْفَالِ: 11] فَفِي قِصَّةِ أُحُدٍ قَدَّمَ الْأَمَنَةَ عَلَى النُّعَاسِ، وَفِي قِصَّةِ بَدْرٍ قَدَّمَ النُّعَاسَ عَلَى الْأَمَنَةِ، وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ كَانُوا شَاكِّينَ فِي نَبُّوتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَا حَضَرُوا إِلَّا لِطَلَبِ الْغَنِيمَةِ، فَهَؤُلَاءِ اشْتَدَّ جَزَعُهُمْ وَعَظُمَ خَوْفُهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ حَالَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ، فَقَالَ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: «الْأَمَنَةُ» مَصْدَرٌ كَالْأَمْنِ، وَمِثْلُهُ مِنَ الْمَصَادِرِ: الْعَظَمَةُ وَالْغَلَبَةُ، وَقَالَ الْجِبَائِيُّ: يُقَالُ: أَمِنَ فُلَانٌ يَأْمَنُ أَمْنًا وَأَمَانًا. المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف: قريء (أَمْنَةً) بِسُكُونِ الْمِيمِ، لِأَنَّهَا الْمَرَّةُ مِنَ الْأَمْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نُعاساً وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ أَمَنَةٍ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي قَوْلِهِ: أَمَنَةً وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنْهُ مُقَدَّمَةً عَلَيْهِ، كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ رَاكِبًا رَجُلًا، وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ بِمَعْنَى نَعَسْتُمْ أَمَنَةً، وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمُخَاطَبِينَ بِمَعْنَى ذَوِي أَمَنَةٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى الْبَصِيرَةِ فِي إِيمَانِهِمْ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ، غَشِيَنَا النُّعَاسُ وَنَحْنُ فِي مَصَافِّنَا، فَكَانَ السَّيْفُ يَسْقُطُ مِنْ يَدِ أَحَدِنَا فَيَأْخُذُهُ. ثُمَّ يَسْقُطُ فَيَأْخُذُهُ، وَعَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اشْتَدَّ الْخَوْفُ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْنَا النَّوْمَ، وَإِنِّي لَأَسْمَعُ قَوْلَ مُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ وَالنُّعَاسُ يَغْشَانِي يَقُولُ: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا/ هَاهُنَا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أُلْقِيَ النَّوْمُ عَلَيْنَا يَوْمَ أُحُدٍ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: النُّعَاسُ فِي الْقِتَالِ أَمَنَةٌ، وَالنُّعَاسُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي الْقِتَالِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ غَايَةِ الْوُثُوقِ بِاللَّهِ وَالْفَرَاغِ عَنِ الدُّنْيَا، وَلَا يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا مِنْ غَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ اللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ النُّعَاسَ فِيهِ فَوَائِدُ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَقَعَ عَلَى كَافَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لَا عَلَى الْحَدِّ الْمُعْتَادِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً ظَاهِرَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مَتَى شَاهَدُوا تِلْكَ الْمُعْجِزَةَ الْجَدِيدَةَ ازْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ، وَمَتَى صَارُوا كَذَلِكَ ازْدَادَ جِدُّهُمْ فِي مُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ وَوُثُوقِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَرَقَ وَالسَّهَرَ

يُوجِبَانِ الضَّعْفَ وَالْكَلَالَ، وَالنَّوْمَ يُفِيدُ عَوْدَ الْقُوَّةِ وَالنَّشَاطِ وَاشْتِدَادَ الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا اشْتَغَلُوا بِقَتْلِ الْمُسْلِمِينَ أَلْقَى اللَّهُ النَّوْمَ عَلَى عَيْنِ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ لِئَلَّا يُشَاهِدُوا قَتْلَ أَعِزَّتِهِمْ، فَيَشْتَدَّ الْخَوْفُ وَالْجُبْنُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْأَعْدَاءَ كَانُوا فِي غَايَةِ الْحِرْصِ عَلَى قَتْلِهِمْ، فَبَقَاؤُهُمْ فِي النَّوْمِ مَعَ السَّلَامَةِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمَعْرَكَةِ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ حِفْظَ اللَّهِ وَعِصْمَتَهُ مَعَهُمْ، وَذَلِكَ مِمَّا يُزِيلُ الْخَوْفَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَيُورِثُهُمْ مَزِيدَ الْوُثُوقِ بِوَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: ذِكْرُ النُّعَاسِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كِنَايَةٌ عَنْ غَايَةِ الْأَمْنِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ لَا يَجُوزُ إِلَّا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ تَرْكُ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ مَعَ اشْتِمَالِهَا عَلَى هَذِهِ الْفَوَائِدِ وَالْحِكَمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ تَغْشى بِالتَّاءِ رَدًّا إِلَى الْأَمَنَةِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ رَدًّا، إِلَى النُّعَاسِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَاتِمٍ وَخَلَفٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمَنَةَ وَالنُّعَاسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْآخَرِ، فَلَا جَرَمَ يَحْسُنُ رَدُّ الْكِنَايَةِ إِلَى أَيِّهِمَا شِئْتَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ [الدُّخَانِ: 43- 45] وَتَغْلِي، إِذَا عَرَفْتَ جَوَازَهُمَا فَنَقُولُ: مِمَّا يُقَوِّي الْقِرَاءَةَ بِالتَّاءِ أَنَّ الْأَصْلَ الْأَمَنَةُ، وَالنُّعَاسُ بَدَلٌ، وَرَدُّ الْكِنَايَةِ إِلَى الْأَصْلِ أَحْسَنُ، وَأَيْضًا الْأَمَنَةُ هِيَ الْمَقْصُودُ، وَإِذَا حَصَلَتِ الْأَمَنَةُ حَصَلَ النُّعَاسُ لِأَنَّهَا سَبَبُهُ، فَإِنَّ الْخَائِفَ لَا يَكَادُ يَنْعَسُ، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ فَحُجَّتُهُ أَنَّ النُّعَاسَ هُوَ الْغَاشِي، فَإِنَّ الْعَرَبَ يَقُولُونَ غَشِيَنَا النُّعَاسُ، وَقَلَّمَا يَقُولُونَ غَشِيَنِي مِنَ النُّعَاسِ أَمَنَةٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ النُّعَاسَ مَذْكُورٌ بِالْغَشَيَانِ فِي قَوْلِهِ: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الْأَنْفَالِ: 11] وَأَيْضًا: النُّعَاسُ يَلِي الْفِعْلَ، وَهُوَ أَقْرَبُ فِي اللَّفْظِ إِلَى ذِكْرِ الْغَشَيَانِ مِنَ الْأَمَنَةِ فَالتَّذْكِيرُ أَوْلَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَمُعَتَّبُ بْنُ قُشَيْرٍ وَأَصْحَابُهُمَا، كَانَ هَمُّهُمْ/ خَلَاصَ أَنْفُسِهِمْ، يُقَالُ: هَمَّنِي الشَّيْءُ أَيْ كَانَ مِنْ هَمِّي وَقَصْدِي، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنْ يَقُولُوا لِمَنْ خَافَ، قَدْ أَهَمَّتْهُ نَفْسُهُ، فَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ لِشِدَّةِ خَوْفِهِمْ مِنَ الْقَتْلِ طَارَ النَّوْمُ عَنْهُمْ، وَقِيلَ الْمُؤْمِنُونَ، كَانَ هَمَّهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِخْوَانَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُنَافِقُونَ كَانَ هَمُّهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اشْتَدَّ اشْتِغَالُهُ بِالشَّيْءِ وَاسْتِغْرَاقُهُ فِيهِ، صَارَ غَافِلًا عَمَّا سِوَاهُ، فَلَمَّا كَانَ أَحَبُّ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ، فَعِنْدَ الْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ يَصِيرُ ذَاهِلًا عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهَا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْخَوْفِ وَهِيَ قَصْدُ الْأَعْدَاءِ كَانَتْ حَاصِلَةً وَالدَّافِعُ لِذَلِكَ وَهُوَ الْوُثُوقُ بِوَعْدِ اللَّهِ وَوَعْدِ رَسُولِهِ مَا كَانَ مُعْتَبَرًا عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِالرَّسُولِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَلَا جَرَمَ عَظُمَ الْخَوْفُ فِي قلوبهم. المسألة الثانية: «طائفة» رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ «يَظُنُّونَ» وَقِيلَ خَبَرُهُ «أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ» ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذِهِ الطَّائِفَةَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الصِّفَاتِ. الصِّفَةُ الْأُولَى: مِنْ صِفَاتِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذَا الظَّنِّ احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ: هُوَ أَنَّ ذَلِكَ الظَّنَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ مُحِقًّا فِي دَعْوَاهُ لَمَا سُلِّطَ الْكُفَّارُ عَلَيْهِ وَهَذَا ظَنٌّ فَاسِدٌ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ لَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، فَإِنَّ النُّبُوَّةَ خِلْعَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يُشَرِّفُ عَبْدَهُ بِهَا، وَلَيْسَ يَجِبُ فِي الْعَقْلِ أَنَّ الْمَوْلَى إِذَا شَرَّفَ عَبْدَهُ بِخِلْعَةٍ أَنْ يُشَرِّفَهُ بِخِلْعَةٍ أُخْرَى، بَلْ لَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ كَيْفَ

شَاءَ بِحُكْمِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَعْتَبِرُ الْمَصَالِحَ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ، بِحَيْثُ يَقْهَرُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، حِكَمٌ خَفِيَّةٌ وَأَلْطَافٌ مَرْعِيَّةٌ، فَإِنَّ الدُّنْيَا دَارُ الِامْتِحَانِ وَالِابْتِلَاءِ، وَوُجُوهُ الْمَصَالِحِ مَسْتُورَةٌ عَنِ الْعُقُولِ، فَرُبَّمَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ حَتَّى يَقْهَرَ الْكَافِرُ الْمُؤْمِنَ، وَرُبَّمَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي تَسْلِيطِ الْفَقْرِ وَالزِّمَانَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الْقَفَّالُ: لَوْ كَانَ كَوْنُ الْمُؤْمِنِ مُحِقًّا يُوجِبُ زَوَالَ هَذِهِ الْمَعَانِي لَوَجَبَ أَنْ يُضْطَرَّ النَّاسُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُحِقِّ بِالْجَبْرِ، وَذَلِكَ يُنَافِي التَّكْلِيفَ وَاسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، بَلِ الْإِنْسَانُ إِنَّمَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ مُحِقًّا بِمَا مَعَهُ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ، فَأَمَّا الْقَهْرُ فَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْمُبْطِلِ لِلْمُحِقِّ، وَمِنَ الْمُحِقِّ لِلْمُبْطِلِ، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ كَافِيَةٌ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِالدَّوْلَةِ وَالشَّوْكَةِ وَوُفُورِ الْقُوَّةِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهَا عَلَى الْحَقِّ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الظَّنَّ هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ إِلَهَ الْعَالَمِ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ الْقَادِرَ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ، وَيُنْكِرُونَ النُّبُوَّةَ وَالْبَعْثَ، فَلَا جَرَمَ مَا وَثِقُوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنَّ اللَّهَ يُقَوِّيهِمْ وَيَنْصُرُهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: غَيْرَ الْحَقِّ فِي حُكْمِ الْمَصْدَرِ، وَمَعْنَاهُ: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الظَّنِّ الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ وظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ بَدَلٌ مِنْهُ، وَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّ غَيْرَ الْحَقِّ: أَدْيَانٌ كَثِيرَةٌ، وَأَقْبَحُهَا مَقَالَاتُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا أَنَّهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الظَّنِّ الْحَقِّ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمُ اخْتَارُوا مِنْ أَقْسَامِ الْأَدْيَانِ الَّتِي غَيْرُ حَقَّةٍ أَرَكَّهَا وَأَكْثَرَهَا بُطْلَانًا، وَهُوَ ظَنُّ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ دِينُهُ لَيْسَ بِحَقٍّ، دِينُهُ دِينُ الْمَلَاحِدَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَقَوْلِكَ: حَاتِمُ الْجُودِ، وَعُمَرُ الْعَدْلِ، يُرِيدُ الظَّنَّ الْمُخْتَصَّ بِالْمِلَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالثَّانِي: الْمُرَادُ ظَنَّ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قوله هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ حِكَايَةٌ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي تَمَسَّكَ أَهْلُ النِّفَاقِ بِهَا، وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا شَاوَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ أَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَخْرُجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ إِنَّ الصَّحَابَةَ أَلَحُّوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ عَصَانِي وَأَطَاعَ الْوِلْدَانَ، ثُمَّ لَمَّا كَثُرَ الْقَتْلُ فِي بَنِي الْخَزْرَجِ وَرَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ قِيلَ لَهُ: قُتِلَ بَنُو الْخَزْرَجِ، فَقَالَ: هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ، يَعْنِي أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَقْبَلْ قَوْلِي حِينَ أَمَرْتُهُ بِأَنْ يَسْكُنَ فِي الْمَدِينَةِ وَلَا يَخْرُجَ مِنْهَا، وَنَظِيرُهُ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا [آلِ عِمْرَانَ: 168] وَالْمَعْنَى: هَلْ لَنَا مِنْ أَمْرٍ يُطَاعُ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ. الْوَجْهُ الثَّانِي فِي التَّأْوِيلِ: أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الدَّوْلَةُ لِعَدُوِّهِ قَالُوا: عَلَيْهِ الْأَمْرُ، فَقَوْلُهُ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ أَيْ هَلْ لَنَا مِنَ الشَّيْءِ الَّذِي كَانَ يَعِدُنَا بِهِ مُحَمَّدٌ، وَهُوَ النُّصْرَةُ وَالْقُوَّةُ شَيْءٌ وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَكَانَ غَرَضُهُمْ مِنْهُ الِاسْتِدْلَالَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَاذِبًا فِي ادِّعَاءِ النُّصْرَةِ وَالْعِصْمَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأُمَّتِهِ، وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَنَطْمَعُ أَنْ تَكُونَ لَنَا الْغَلَبَةُ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَصْبِيرُ الْمُسْلِمِينَ فِي التَّشْدِيدِ فِي الْجِهَادِ وَالْحَرْبِ مَعَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو (كُلُّهِ) بِرَفْعِ اللَّامِ، وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ، أَمَّا وَجْهُ الرَّفْعِ فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: (كُلُّهُ)

مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: (لِلَّهِ) خَبَرُهُ، ثُمَّ صَارَتْ هَذِهِ الجملة خبراً لإن، وَأَمَّا النَّصْبُ فَلِأَنَّ لَفْظَةَ «كُلٍّ» لِلتَّأْكِيدِ، فَكَانَتْ كَلَفْظَةِ أَجْمَعَ، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ الْأَمْرَ أَجْمَعَ، لَمْ يَكُنْ إِلَّا النَّصْبُ، فَكَذَا إِذَا قَالَ «كُلَّهُ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَجْهُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْجَوَابِ مَا بَيَّنَّا: أَنَّا إِذَا قُلْنَا بِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ لَمْ يَكُنْ عَلَى اللَّهِ اعْتِرَاضٌ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ فِي الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ، وَالْفَقْرِ وَالْإِغْنَاءِ وَالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَإِنْ قُلْنَا بِمَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ، فَوُجُوهُ الْمَصَالِحِ مَخْفِيَّةٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، فَرُبَّمَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي إِيصَالِ السُّرُورِ وَاللَّذَّةِ، وَرُبَّمَا كَانَتْ فِي تَسْلِيطِ الْأَحْزَانِ وَالْآلَامِ، فَقَدِ انْدَفَعَتْ شُبْهَةُ الْمُنَافِقِينَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمُحْدَثَاتِ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا لَوْ قَبِلَ مِنَّا رَأْيَنَا وَنُصْحَنَا، لَمَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمِحْنَةِ، فَأَجَابَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَهَذَا الْجَوَابُ: إِنَّمَا يَنْتَظِمُ لَوْ كَانَتْ أَفْعَالُ الْعِبَادِ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ إِذْ لَوْ كَانَتْ خَارِجَةً عَنْ مَشِيئَتِهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْجَوَابُ دَافِعًا لِشُبْهَةِ الْمُنَافِقِينَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَأَيْضًا فَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ مُطَابِقٌ لِلْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ، إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ أَوْ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يَتَرَجَّحُ وُجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ إِلَّا عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَنِدٌ إِلَى إِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ لَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِمُحْدَثٍ دُونَ مُحْدَثٍ، أَوْ مُمْكِنٍ دُونَ مُمْكِنٍ، فَتَدْخُلُ فِيهِ أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَحَرَكَاتُهُمْ وَسَكَنَاتُهُمْ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَهَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِلْإِنْصَافِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ [إلى آخر الآية] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ، وَهَذَا الْكَلَامُ مُحْتَمَلٌ، فَلَعَلَّ قَائِلَهُ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُحِقِّينَ، وَكَانَ غَرَضُهُ مِنْهُ إِظْهَارَ الشَّفَقَةِ، وَإِنَّهُ مَتَى يَكُونُ الْفَرَجُ؟ وَمِنْ أَيْنَ تَحْصُلُ النُّصْرَةُ؟ وَلَعَلَّهُ كَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَإِنَّمَا قَالَهُ طَعْنًا فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْإِسْلَامِ فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ غَرَضَ هَؤُلَاءِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ هَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي، وَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّنْبِيهِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَحَرِّزًا عَنْ مَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي حَكَى اللَّهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، قَوْلُهُمْ: لَوْ كان لنا من الأمر شيء ما قلنا هَاهُنَا. وَفِيهِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْكَلَامِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ قَوْلَهُمْ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ فَأَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَاحْتَجَّ الْمُنَافِقُونَ عَلَى الطَّعْنِ فِي هَذَا الْجَوَابِ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ لَمَا خَرَجْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ وَمَا قُتِلْنَا هَاهُنَا، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُمْ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَهَذَا هُوَ بِعَيْنِهِ الْمُنَاظَرَةُ الدَّائِرَةُ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الِاعْتِزَالِ/ فَإِنَّ السُّنِّيَّ يَقُولُ: الْأَمْرُ كُلُّهُ فِي الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ بِيَدِ اللَّهِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَزِلِيُّ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مُخْتَارٌ مُسْتَقِلٌّ بِالْفِعْلِ، إِنْ شَاءَ آمَنَ، وَإِنْ شَاءَ كَفَرَ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ شُبْهَةً مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا، بَلْ يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهُ الطَّعْنَ فِيمَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى جَوَابًا عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ هُوَ أَنَّهُ هَلْ لَنَا مِنَ النُّصْرَةِ الَّتِي وَعَدَنَا بِهَا مُحَمَّدٌ شَيْءٌ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا هُوَ مَا كَانَ يَقُولُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ مِنْ أَنَّ مُحَمَّدًا لَوْ أَطَاعَنِي وَمَا خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أوجه:

[سورة آل عمران (3) : آية 155]

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنَ الْجَوَابِ: قَوْلُهُ: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحَذَرَ لَا يَدْفَعُ الْقَدَرَ، وَالتَّدْبِيرَ لَا يُقَاوِمُ التَّقْدِيرَ، فَالَّذِينَ قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ لَا بُدَّ وَأَنْ يُقْتَلُوا عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ يُقْتَلُ، فَلَوْ لَمْ يُقْتَلْ لَانْقَلَبَ عِلْمُهُ جَهْلًا وَقَدْ بَيَّنَّا أَيْضًا أَنَّهُ مُمْكِنٌ فَلَا بُدَّ مِنَ انْتِهَائِهِ إِلَى إِيجَادِ الله تعالى، فلو لم يوجد لَانْقَلَبَتْ قُدْرَتُهُ عَجْزًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ الْوُجُوبِ كَمَا قَرَّرْنَا قَوْلُهُ: الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ وهذا الْكَلِمَةُ تُفِيدُ الْوُجُوبَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فِي قَوْلُهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَةِ: 183] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [الْبَقَرَةِ: 178] تُفِيدُ وُجُوبَ الْفِعْلِ، وَهَاهُنَا لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى وُجُوبِ الْفِعْلِ، فَوَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى وُجُوبِ الْوُجُودِ وَهَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ لِمَنْ أَيَّدَهُ اللَّهُ بِالتَّوْفِيقِ. ثُمَّ نَقُولُ لِلْمُفَسِّرِينَ: فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: لَوْ جَلَسْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَخَرَجَ مِنْكُمْ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَمَصَارِعِهِمْ حَتَّى يُوجَدَ مَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يُوجَدُ، وَالثَّانِي: كَأَنَّهُ قِيلَ لِلْمُنَافِقِينَ لَوْ جَلَسْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَتَخَلَّفْتُمْ عَنِ الْجِهَادِ لَخَرَجَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ قِتَالُ الْكُفَّارِ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَلَمْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ هَذِهِ الطَّاعَةِ بِسَبَبِ تَخَلُّفِكُمْ. الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ: قَوْلُهُ: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ زَعَمُوا أَنَّ الْخُرُوجَ إِلَى تِلْكَ الْمُقَاتَلَةِ كَانَ مَفْسَدَةً، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ إِلَيْهِمْ، لَمَا خَرَجُوا إِلَيْهَا، فَقَالَ تَعَالَى: بَلْ هَذِهِ الْمُقَاتَلَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى نَوْعَيْنِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ: أَنْ يَتَمَيَّزَ الْمُوَافِقُ مِنَ الْمُنَافِقِ، وَفِي الْمَثَلِ الْمَشْهُورِ: لَا تَكْرَهُوا الْفِتَنَ فَإِنَّهَا حَصَادُ الْمُنَافِقِينَ، وَمَعْنَى الِابْتِلَاءِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ مِرَارًا كَثِيرَةً. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ ذَكَرَ الِابْتِلَاءَ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ في قَوْلِهِ: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 152] . قُلْنَا: لَمَّا طَالَ الْكَلَامُ أَعَادَ ذِكْرَهُ، وَقِيلَ الِابْتِلَاءُ الْأَوَّلُ هَزِيمَةُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالثَّانِي سَائِرُ الْأَحْوَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ: قَوْلُهُ: وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ/ الْوَاقِعَةَ تُمَحِّصُ قُلُوبَكُمْ عَنِ الْوَسَاوِسِ وَالشُّبُهَاتِ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَصِيرُ كَفَّارَةً لِذُنُوبِكُمْ فُتُمَحِّصُكُمْ عَنْ تَبِعَاتِ الْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ، وَذَكَرَ فِي الِابْتِلَاءِ الصُّدُورَ، وَفِي التَّمْحِيصِ الْقُلُوبَ، وَفِيهِ بَحْثٌ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. وَاعْلَمْ أَنَّ ذَاتَ الصُّدُورِ هِيَ الْأَشْيَاءُ الْمَوْجُودَةُ فِي الصُّدُورِ، وَهِيَ الْأَسْرَارُ وَالضَّمَائِرُ، وَهِيَ ذَاتُ الصُّدُورِ، لِأَنَّهَا حَالَةٌ فِيهَا مُصَاحِبَةٌ لَهَا، وَصَاحِبُ الشَّيْءِ ذُوهُ وَصَاحِبَتُهُ ذَاتُهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِيَدُلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ ابْتِلَاءَهُ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهُ يَخْفَى عَلَيْهِ مَا فِي الصُّدُورِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَإِنَّمَا ابْتَلَاهُمْ إِمَّا لِمَحْضِ الْإِلَهِيَّةِ، أو للاستصلاح. [سورة آل عمران (3) : آية 155] إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ تَوَلَّوْا يَوْمَ أُحُدٍ عِنْدَ الْتِقَاءِ الْجَمْعَيْنِ وَفَارَقُوا الْمَكَانَ وَانْهَزَمُوا قَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَتِ الْأَخْبَارُ فِيمَنْ ثَبَتَ ذلك اليوم وفيمن، فَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ ثُلْثَ

النَّاسِ كَانُوا مَجْرُوحِينَ، وَثُلْثَهُمُ انْهَزَمُوا، وَثُلْثَهُمْ ثَبَتُوا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُنْهَزِمِينَ، فَقِيلَ: إِنَّ بَعْضَهُمْ وَرَدَ الْمَدِينَةَ وَأَخْبَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ، وَهُوَ سَعْدُ بْنُ عُثْمَانَ، ثُمَّ وَرَدَ بَعْدَهُ رِجَالٌ دَخَلُوا عَلَى نِسَائِهِمْ، وَجَعَلَ النِّسَاءُ يَقُلْنَ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفِرُّونَ! وَكُنَّ يَحْثِينَ التُّرَابَ فِي وُجُوهِهِمْ وَيَقُلْنَ: هَاكَ الْمِغْزَلَ اغْزِلْ بِهِ، وَمِنْهُمْ قَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَعْدُوا الْجَبَلَ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَالَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّ نَفَرًا مِنْهُمْ تَوَلَّوْا وَأَبْعَدُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى سَائِرِ الْجَوَانِبِ، وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَإِنَّهُمْ نَزَلُوا عِنْدَ الْجَبَلِ وَاجْتَمَعُوا هُنَاكَ. وَمِنَ الْمُنْهَزِمِينَ عُمَرُ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي أَوَائِلِ الْمُنْهَزِمِينَ وَلَمْ يَبْعُدْ، بَلْ ثَبَتَ عَلَى الْجَبَلِ إِلَى أَنْ صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهُمْ أَيْضًا عُثْمَانُ انْهَزَمَ مَعَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُمَا سَعْدٌ وَعُقْبَةُ، انْهَزَمُوا حَتَّى بَلَغُوا مَوْضِعًا بَعِيدًا ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَقَدْ ذَهَبْتُمْ فِيهَا عَرِيضَةً» وَقَالَتْ فَاطِمَةُ لِعَلِيٍّ: مَا فَعَلَ عُثْمَانُ؟ فَنَقَّصَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَلِيُّ أَعْيَانِي أَزْوَاجُ الْأَخَوَاتِ/ أَنْ يَتَحَابُّوا» وَأَمَّا الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، سَبْعَةً مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَسَبْعَةً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ، وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَطِلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَمِنَ الْأَنْصَارِ الْخَبَّابُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو دُجَانَةَ وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ وَالْحَرْثُ بْنُ الصِّمَّةِ وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَذَكَرَ أَنَّ ثَمَانِيَةً مِنْ هَؤُلَاءِ كَانُوا بَايَعُوهُ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمَوْتِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ: عَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، وَخَمْسَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَبُو دُجَانَةَ وَالْحَرْثُ بْنُ الصِّمَّةِ وَخَبَّابُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، ثُمَّ لَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ أُصِيبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِينَ كُلُّهُمْ يَجِيءُ وَيَجْثُو بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَقُولُ: وَجْهِي لِوَجْهِكَ الْفِدَاءُ، وَنَفْسِي لِنَفْسِكَ الْفِدَاءُ، وَعَلَيْكَ السَّلَامُ غَيْرَ مُوَدَّعٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ هَذَا خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً يَعْنِي الَّذِينَ انْهَزَمُوا يَوْمَ أُحُدٍ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ أَيْ حَمَلَهُمْ عَلَى الزِّلَّةِ. وَأَزَلَّ وَاسْتَزَلَّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، قَالَ تَعَالَى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها [البقرة: 36] وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: اسْتَزَلَّهُمْ طَلَبَ زِلَّتَهُمْ، كَمَا يُقَالُ اسْتَعْجَلْتُهُ أَيْ طَلَبْتُ عَجَلَتَهُ، وَاسْتَعْمَلْتُهُ طَلَبْتُ عَمَلَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ لَا تُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى نَسَبَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الشَّيْطَانِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [القصص: 15] وكقوله يُوسُفَ. مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [يوسف: 100] وَكَقَوْلِ صَاحِبِ مُوسَى: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ [الْكَهْفِ: 63] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ الشَّيْطَانَ فِي أَيِّ شَيْءٍ اسْتَزَلَّهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعَ الْعَفْوِ لَا حَاجَةَ إِلَى تَعْيِينِ الْمَعْصِيَةِ، لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ تَحَوُّلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، بِأَنْ يَكُونَ رَغْبَتُهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ، وَأَنْ يَكُونَ فَشَلُهُمْ فِي الْجِهَادِ وَعَدُولُهُمْ عَنِ الْإِخْلَاصِ، وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ، فَقَدْ صَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفَا عَنْهُمْ. وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ عُوتِبَ فِي هَزِيمَتِهِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ إِنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ خَطَأً لَكِنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ كَقَوْلِكَ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَقَطَعْتُ بِالسِّكِّينِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَدَرَتْ عَنْهُمْ جِنَايَاتٌ، فَبِوَاسِطَةِ تِلْكَ الْجِنَايَاتِ قَدِرَ الشَّيْطَانُ عَلَى اسْتِزْلَالِهِمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ وُجُوهٌ، الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَتَوَلَّوْا عَلَى جِهَةِ الْمُعَانَدَةِ وَلَا عَلَى جِهَةِ الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ رَغْبَةً مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا ذَكَّرَهُمُ الشَّيْطَانُ ذُنُوبًا كَانَتْ لَهُمْ، فَكَرِهُوا لِقَاءَ اللَّهِ إِلَّا عَلَى حَالٍ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 156 إلى 158]

يَرْضَوْنَهَا، وَإِلَّا بَعْدَ الْإِخْلَاصِ فِي التَّوْبَةِ، فَهَذَا/ خَاطِرٌ خَطَرَ بِبَالِهِمْ وَكَانُوا مُخْطِئِينَ فِيهِ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمَّا أَذْنَبُوا بِسَبَبِ مُفَارَقَةِ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِشُؤْمِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ وَأَوْقَعَهُمْ فِي الْهَزِيمَةِ، لِأَنَّ الذَّنْبَ يَجُرُّ إِلَى الذَّنْبِ، كَمَا أَنَّ الطَّاعَةَ تَجُرُّ إِلَى الطَّاعَةِ. وَيَكُونُ لُطْفًا فِيهَا. الثَّالِثُ: لَمَّا أَذْنَبُوا بِسَبَبِ الْفَشَلِ وَمُنَازَعَةِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَقَعُوا فِي ذَلِكَ الذَّنْبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ فِي بَعْضِ مَا كَسَبُوا، لَا فِي كُلِّ مَا كَسَبُوا، وَالْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّهُمْ مَا كَفَرُوا وَمَا تَرَكُوا دِينَهُمْ، بَلْ هَذِهِ زَلَّةٌ وَقَعَتْ لَهُمْ فِي بَعْضِ أَعْمَالِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الزَّلَّةَ مَا كَانَتْ بِسَبَبِ الْكُفْرِ، فَإِنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْكُفْرِ لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] ثُمَّ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: ذَلِكَ الذَّنْبُ إِنْ كَانَ مِنَ الصَّغَائِرِ جَازَ الْعَفْوُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْكَبَائِرِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا مَعَ التوبة، فههنا لَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ التَّوْبَةِ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ، قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَقْرَبُ أَنَّ ذَلِكَ الذَّنْبَ كَانَ مِنَ الصَّغَائِرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يَكَادُ فِي الْكَبَائِرِ يُقَالُ إِنَّهَا زَلَّةٌ، إِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الصَّغَائِرِ. الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْمَ ظَنُّوا أَنَّ الْهَزِيمَةَ لَمَّا وَقَعَتْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَبْقَ إِلَى ثَبَاتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ حَاجَةٌ، فَلَا جَرَمَ انْتَقَلُوا عَنْهُ وَتَحَوَّلُوا لِطَلَبِ الْغَنِيمَةِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الصَّغَائِرِ لِأَنَّ لِلِاجْتِهَادِ فِي مِثْلِهِ مَدْخَلًا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا فَالْعَفْوُ عَنِ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ جَائِزٌ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذِهِ التَّكَلُّفَاتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ أَيْ غَفُورٌ لِمَنْ تَابَ وَأَنَابَ، حَلِيمٌ لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ. وَقَدِ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الذَّنْبَ كَانَ مِنَ الْكَبَائِرِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنَ الصَّغَائِرِ لَوَجَبَ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ الْعَفْوُ عَنْهُ وَاجِبًا لَمَا حَسُنَ التَّمَدُّحُ بِهِ، لِأَنَّ مَنْ يَظْلِمُ إِنْسَانًا فَإِنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يَتَمَدَّحَ بِأَنَّهُ عَفَا عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ، فَلَمَّا ذَكَرَ هَذَا التَّمَدُّحَ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الذَّنْبَ كَانَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَلَمَّا عَفَا عَنْهُ عَلِمْنَا أَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْكَبَائِرِ وَاقِعٌ والله أعلم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 156 الى 158] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) [في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلى قوله لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا] اعْلَمْ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُعَيِّرُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجِهَادِ مَعَ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ عَنْ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ فُتُورٌ وَفَشَلٌ فِي الْجِهَادِ حَتَّى وَقَعَ يَوْمَ أُحُدٍ مَا وَقَعَ وَعَفَا اللَّهُ بِفَضْلِهِ عَنْهُمْ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَ مَقَالَتِهِمْ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا لِمَنْ يُرِيدُ الْخُرُوجَ إِلَى الْجِهَادِ لَوْ لَمْ تَخْرُجُوا لَمَا مُتُّمْ وَمَا قُتِلْتُمْ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُحْيِي وَالْمُمِيتُ، فَمَنْ قُدِّرَ لَهُ الْبَقَاءُ لَمْ يُقْتَلْ فِي الْجِهَادِ، وَمَنْ قُدِّرَ لَهُ الْمَوْتُ لَمْ يَبْقَ وَإِنْ لَمْ يُجَاهِدْ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَأَيْضًا الَّذِي قُتِلَ فِي الْجِهَادِ، لَوْ أَنَّهُ مَا خَرَجَ إِلَى الْجِهَادِ لَكَانَ يَمُوتُ لَا مَحَالَةَ، فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنَ

الْمَوْتِ فَلَأَنْ يُقْتَلَ فِي الْجِهَادِ حَتَّى يَسْتَوْجِبَ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ، كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُوتَ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: كَالَّذِينَ كَفَرُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ كَافِرٍ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ سَوَاءٌ كَانَ مُنَافِقًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْمُنَافِقِينَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا مُخْتَصَّةٌ بِشَرْحِ أَحْوَالِهِمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا مُخْتَصٌّ بعبد الله بن أبي بن سَلُولَ، وَمُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ، وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ، كَمَا تَقُولُ الكرامية إذا لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْمُنَافِقُ مُؤْمِنًا، وَلَوْ كَانَ مُؤْمِنًا لَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ كَافِرًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ أَيْ لِأَجْلِ إِخْرَاجِهِمْ كَقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ [الْأَحْقَافِ: 11] وَأَقُولُ: تَقْرِيرُ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُمْ/ لَمَّا قَالُوا لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الْإِخْوَانَ كَانُوا مَيِّتِينَ وَمَقْتُولِينَ عِنْدَ هَذَا الْقَوْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ هُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ لِأَجْلِ إِخْوَانِهِمْ، وَلَا يَكُونُ الْمُرَادُ هُوَ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا هَذَا القول مع إخوانهم. المسألة الثالثة: قوله: (إخوانهم) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْأُخُوَّةَ فِي النَّسَبِ وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [الْأَعْرَافِ: 65] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً [الْأَعْرَافِ: 73] فَإِنَّ الْأُخُوَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أُخُوَّةُ النَّسَبِ لَا أُخُوَّةُ الدِّينِ، فَلَعَلَّ أُولَئِكَ الْمَقْتُولِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مِنْ أَقَارِبِ الْمُنَافِقِينَ، فَالْمُنَافِقُونَ ذَكَرُوا هَذَا الْكَلَامَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْأُخُوَّةِ الْمُشَاكَلَةَ فِي الدِّينِ، وَاتَّفَقَ إِلَى أَنْ صَارَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ مَقْتُولًا فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ فَالَّذِينَ بَقُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُنَافِقُونَ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ الْخَارِجَ مِنْهُمْ لِسَفَرٍ بَعِيدٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ وَالْخَارِجَ إِلَى الْغَزْوِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَوْ كانُوا غُزًّى إِذَا نَالَهُمْ مَوْتٌ أَوْ قَتْلٌ فَذَلِكَ إِنَّمَا نَالَهُمْ بِسَبَبِ السَّفَرِ وَالْغَزْوِ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ سَبَبًا لِتَنْفِيرِ النَّاسِ عَنِ الْجِهَادِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي الطِّبَاعِ مَحَبَّةَ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ وَالْقَتْلِ، فَإِذَا قِيلَ لِلْمَرْءِ: إِنْ تَحَرَّزْتَ مِنَ السَّفَرِ وَالْجِهَادِ فَأَنْتَ سَلِيمٌ طَيِّبُ الْعَيْشِ، وَإِنْ تَقَحَّمْتَ أَحَدَهُمَا وَصَلْتَ إِلَى الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ، فَالْغَالِبُ أَنَّهُ يَنْفِرُ طَبْعُهُ عَنْ ذَلِكَ وَيَرْغَبُ فِي مُلَازَمَةِ الْبَيْتِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ مَكَايِدِ الْمُنَافِقِينَ فِي تَنْفِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْجِهَادِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَاذَا ذكر بعض الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ الْغَزْوَ وَهُوَ دَاخِلٌ فِيهِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الضَّرْبَ فِي الْأَرْضِ يُرَادُ بِهِ الْإِبْعَادُ فِي السَّفَرِ، لَا مَا يَقْرُبُ مِنْهُ، وَفِي الْغَزْوِ لَا فَرْقَ بَيْنَ بَعِيدِهِ وَقَرِيبِهِ، إِذِ الْخَارِجُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى جَبَلِ أُحُدٍ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ ضَارِبٌ فِي الْأَرْضِ مَعَ قُرْبِ الْمَسَافَةِ وَإِنْ كَانَ غَازِيًا، فَهَذَا فَائِدَةُ إِفْرَادِ الْغَزْوِ عَنِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ يَدُلُّ عَلَى الْمَاضِي، وَقَوْلَهُ: إِذا ضَرَبُوا يَدُلُّ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ بَلْ لَوْ قَالَ: وَقَالُوا لِإِخْوَانُهُمْ إِذْ ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ، أَيْ حِينَ ضَرَبُوا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِشْكَالٌ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أن قوله: قالُوا تَقْدِيرُهُ: يَقُولُونَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَكُونُوا كَالَّذِينِ كفروا

وَيَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمْ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِفَائِدَتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَكُونُ لَازِمَ الْحُصُولِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ حَدَثَ أَوْ هُوَ حَادِثٌ قال تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل: 1] وَقَالَ: إِنَّكَ مَيِّتٌ [الزُّمَرِ: 30] فَهُنَا لَوْ وَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمُسْتَقِلِّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُبَالَغَةٌ أَمَّا لَمَّا وَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ جِدَّهُمْ وَاجْتِهَادَهُمْ فِي تَقْرِيرِ الشُّبْهَةِ قَدْ بَلَغَ/ الْغَايَةَ، وَصَارَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْجِدِّ هَذَا الْمُسْتَقْبَلُ كَالْكَائِنِ الْوَاقِعِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَبَّرَ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ الْإِخْبَارَ عَنْ صُدُورِ هَذَا الْكَلَامِ، بَلِ الْمَقْصُودُ الْإِخْبَارُ عَنْ جِدِّهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ عِنْدِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: أَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ عَلَى سَبِيلِ حِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ إِخْوَانَهُمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ، فَالْكَافِرُونَ يَقُولُونَ لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا، فَمَنْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقُولَ: قَالُوا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِنَا: خَرَجَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى سَبِيلِ حِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ قطرب: كلمة «إذا» وإذا، يَجُوزُ إِقَامَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَقَامَ الْأُخْرَى، وَأَقُولُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ قُطْرُبٌ كَلَامٌ حَسَنٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا جَوَّزْنَا إِثْبَاتَ اللُّغَةِ بِشِعْرٍ مَجْهُولٍ مَنْقُولٍ عَنْ قَائِلٍ مَجْهُولٍ، فَلَأَنْ يَجُوزُ إِثْبَاتُهَا بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ «إذ» حقيقة في المستقبل، ولكن لم لا يحوز اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَاضِي عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَلِمَةِ «إِذْ» مِنَ الْمُشَابَهَةِ الشَّدِيدَةِ؟ وَكَثِيرًا أَرَى النَّحْوِيِّينَ يَتَحَيَّرُونَ فِي تَقْرِيرِ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ، فَإِذَا اسْتَشْهَدُوا فِي تَقْرِيرِهِ بِبَيْتٍ مَجْهُولٍ فَرِحُوا بِهِ، وَأَنَا شَدِيدُ التَّعَجُّبِ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ إِذَا جَعَلُوا وُرُودَ ذَلِكَ الْبَيْتِ الْمَجْهُولِ عَلَى وَفْقِهِ دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهِ، فَلِأَنْ يَجْعَلُوا وُرُودَ الْقُرْآنِ بِهِ دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهِ كَانَ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: غُزًّى جَمْعُ غَازٍ، كَالْقُوَّلِ وَالرُّكَّعِ وَالسُّجَّدِ، جَمْعِ قَائِلٍ وَرَاكِعٍ وَسَاجِدٍ، وَمِثْلُهُ مِنَ النَّاقِصِ «عَفَا» وَيَجُوزُ أَيْضًا: غُزَاةٌ، مِثْلَ قُضَاةٍ وَرُمَاةٍ فِي جَمْعِ الْقَاضِي وَالرَّامِي، وَمَعْنَى الْغَزْوِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَصْدُ الْعَدُوِّ، وَالْمَغْزَى الْمَقْصِدُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ فَمَاتُوا أَوْ كَانُوا غُزَاةً فَقُتِلُوا، لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا، فَقَوْلُهُ: مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا يَدُلُّ عَلَى مَوْتِهِمْ وَقَتْلِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ الْكَلَامَ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْكَلَامَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ، مِثْلَ مَا يُقَالُ: رَبَّيْتُهُ لِيُؤْذِيَنِي وَنَصَرْتُهُ لِيَقْهَرَنِي وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَصِ: 8] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: ذَكَرُوا فِي بَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ كَيْفَ اسْتَعْقَبَ حُصُولَ الْحَسْرَةِ فِي قُلُوبِهِمْ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَقَارِبَ ذَلِكَ الْمَقْتُولِ إِذَا سَمِعُوا هَذَا الْكَلَامَ ازْدَادَتِ الْحَسْرَةُ فِي قُلُوبِهِمْ، لِأَنَّ أَحَدَهُمْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَوْ بَالَغَ فِي مَنْعِهِ عَنْ ذَلِكَ السَّفَرِ وَعَنْ ذَلِكَ الْغَزْوِ لَبَقِيَ، فَذَلِكَ الشَّخْصُ إِنَّمَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ بِسَبَبِ أَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ قَصَّرَ فِي/ مَنْعِهِ، فَيَعْتَقِدُ السَّامِعُ لِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَسَبَّبَ إِلَى مَوْتِ ذَلِكَ الشَّخْصِ الْعَزِيزِ عَلَيْهِ أَوْ قَتَلَهُ، وَمَتَى اعْتَقَدَ فِي نَفْسِهِ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَزْدَادُ حَسْرَتُهُ وَتَلَهُّفُهُ، أَمَّا الْمُسْلِمُ الْمُعْتَقِدُ فِي أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ، لَمْ يَحْصُلْ أَلْبَتَّةَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا

النَّوْعِ مِنَ الْحَسْرَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الشُّبْهَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُنَافِقُونَ لَا تُفِيدُهُمْ إِلَّا زِيَادَةَ الْحَسْرَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ إِذَا أَلْقَوْا هَذِهِ الشُّبْهَةَ إِلَى إِخْوَانِهِمْ تَثَبَّطُوا عَنِ الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ وَتَخَلَّفُوا عَنْهُ، فَإِذَا اشْتَغَلَ الْمُسْلِمُونَ بِالْجِهَادِ وَالْغَزْوِ، وَوَصَلُوا بِسَبَبِهِ إِلَى الْغَنَائِمِ الْعَظِيمَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَالْفَوْزِ بِالْأَمَانِيِّ، بَقِيَ ذَلِكَ الْمُتَخَلِّفُ عِنْدَ ذَلِكَ فِي الْخَيْبَةِ وَالْحَسْرَةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْحَسْرَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ إِذَا رَأَوْا تَخْصِيصَ اللَّهِ الْمُجَاهِدِينَ بِمَزِيدِ الْكَرَامَاتِ وَإِعْلَاءِ الدَّرَجَاتِ، وَتَخْصِيصَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ بِمَزِيدِ الْخِزْيِ وَاللَّعْنِ وَالْعِقَابِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ إِذَا أَوْرَدُوا هَذِهِ الشُّبْهَةُ عَلَى ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ وَوَجَدُوا مِنْهُمْ قَبُولًا لَهَا، فَرِحُوا بِذَلِكَ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رَاجَ كَيْدُهُمْ وَمَكْرُهُمْ عَلَى أُولَئِكَ الضَّعَفَةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّهُ سَيَصِيرُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِذَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْبَاطِلِ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ جِدَّهُمْ وَاجْتِهَادَهُمْ فِي تَكْثِيرِ الشُّبُهَاتِ وَإِلْقَاءِ الضَّلَالَاتِ يُعْمِي قُلُوبَهُمْ فَيَقَعُونَ عِنْدَ ذَلِكَ فِي الْحَيْرَةِ وَالْخَيْبَةِ وَضِيقِ الصَّدْرِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَسْرَةِ، كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الْأَنْعَامِ: 125] . الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُمْ مَتَى أَلْقَوْا هَذِهِ الشُّبْهَةَ عَلَى أَقْوِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ فَيَضِيعُ سَعْيُهُمْ وَيَبْطُلُ كَيْدُهُمْ فَتَحْصُلُ الْحَسْرَةُ فِي قُلُوبِهِمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لِيَجْعَلَ اللَّهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّهْيُ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَكُونُوا مِثْلَهُمْ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ انْتِفَاءَ كَوْنِكُمْ مِثْلَهُمْ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ، لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ وَيَعْتَقِدُونَ وَمُضَادَّتَهُمْ مِمَّا يَغِيظُهُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ بَيَانُ الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمُحْيِيَ وَالْمُمِيتَ هُوَ اللَّهُ، وَلَا تَأْثِيرَ لِشَيْءٍ آخَرَ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَا يَتَغَيَّرُ، وَأَنَّ حُكْمَهُ لَا يَنْقَلِبُ، وَأَنَّ قَضَاءَهُ لَا يَتَبَدَّلُ، فَكَيْفَ يَنْفَعُ الْجُلُوسُ فِي الْبَيْتِ مِنَ الْمَوْتِ؟ فَإِنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ الْقَوْلُ بِأَنَّ قَضَاءَ اللَّهِ لَا يَتَبَدَّلُ يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِ الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ مُفِيدًا فِي الْحَذَرِ عَنِ الْقَتْلِ وَالْمَوْتِ، فَكَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ قَضَاءَ اللَّهِ لَا يَتَبَدَّلُ وَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ كَوْنِ الْعَمَلِ مُفِيدًا فِي/ الِاحْتِرَازِ عَنْ عِقَابِ الْآخِرَةِ، وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ لُزُومِ التَّكْلِيفِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَقْرِيرُ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ وَالتَّكْلِيفِ، وَإِذَا كَانَ الْجَوَابُ يُفْضِي بِالْآخِرَةِ إِلَى سُقُوطِ التَّكْلِيفِ كان هذا الكلام يفضي ثُبُوتُهُ إِلَى نَفْيِهِ فَيَكُونُ بَاطِلًا. الْجَوَابُ: أَنَّ حُسْنَ التَّكْلِيفِ عِنْدَنَا غَيْرُ مُعَلَّلٍ بِعِلَّةٍ وَرِعَايَةِ مَصْلَحَةٍ، بَلْ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ: أَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ الْجَوَابَ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَقُولُوا مِثْلَ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ، قَالَ: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ يُرِيدُ: يُحْيِي قُلُوبَ أَوْلِيَائِهِ وَأَهِلِ طَاعَتِهِ بِالنُّورِ وَالْفُرْقَانِ، وَيُمِيتُ قُلُوبَ أَعْدَائِهِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ طَرِيقَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَطَرِيقَةِ المنافقين.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَعْمَلُونَ كِنَايَةً عَنِ الْغَائِبِينَ، وَالتَّقْدِيرُ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ لِيَكُونَ وَفْقًا لِمَا قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَلِمَا بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مما تجمعون. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ الثَّانِي عَنْ شُبْهَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ هَذَا الْمَوْتَ لَا بُدَّ وَاقِعٌ وَلَا مَحِيصَ لِلْإِنْسَانِ مِنْ أَنْ يُقْتَلَ أَوْ يَمُوتَ، فَإِذَا وَقَعَ هَذَا الْمَوْتُ أَوِ الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي طَلَبِ رِضْوَانِهِ، فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا الَّتِي لَا يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ بِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا جَوَابٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالْقُوَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى الْجِهَادِ أَعْرَضَ قَلَبُهُ عَنِ الدُّنْيَا وَأَقْبَلَ عَلَى الْآخِرَةِ، فَإِذَا مَاتَ فَكَأَنَّهُ تَخَلَّصَ عَنِ الْعَدُوِّ وَوَصَلَ إِلَى الْمَحْبُوبِ، وَإِذَا جَلَسَ فِي بَيْتِهِ خَائِفًا مِنَ الْمَوْتِ حَرِيصًا عَلَى جَمْعِ الدُّنْيَا، فَإِذَا مَاتَ فَكَأَنَّهُ حُجِبَ عَنِ الْمَعْشُوقِ وَأُلْقِي فِي دَارِ الْغُرْبَةِ، وَلَا شَكَّ فِي كَمَالِ سَعَادَةِ الْأَوَّلِ، وَكَمَالِ شَقَاوَةِ الثَّانِي. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (مِتُّمْ) بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَالْأَوَّلُونَ أَخَذُوهُ مِنْ: مَاتَ يَمَاتُ مِتُّ، مِثْلَ هَابَ يَهَابُ هِبْتُ، وَخَافَ يَخَافُ خِفْتُ، وَرَوَى الْمُبَرِّدُ هَذِهِ اللُّغَةَ فَإِنْ صَحَّ فَقَدْ صَحَّتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ، مَاتَ يَمُوتُ مُتُّ: مِثْلَ قَالَ يَقُولُ قُلْتُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ لام القسم، بتقدير الله لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَدَالٌّ عَلَى أَنَّ مَا هُوَ دَاخِلٌ عَلَيْهِ جَزَاءٌ، وَالْأَصْوَبُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ اللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى إِنْ وَجَبَ أَنْ تَمُوتُوا وَتُقْتَلُوا فِي سَفَرِكُمْ وَغَزْوِكُمْ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَفُوزُوا بِالْمَغْفِرَةِ أَيْضًا، فَلِمَاذَا تَحْتَرِزُونَ عَنْهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الْمَوْتَ وَالْقَتْلَ غَيْرُ لَازِمِ الْحُصُولِ، ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا فَإِنَّهُ يَسْتَعْقِبُ لُزُومَ الْمَغْفِرَةِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْهُ؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ (يَجْمَعُونَ) بِالْيَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْغَيْبَةِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ، أَمَّا وَجْهُ الْغَيْبَةِ فَالْمَعْنَى أَنَّ مَغْفِرَةَ اللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُهُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْحُطَامِ الْفَانِي، وَأَمَّا وَجْهُ الْخِطَابِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى كَأَنَّهُ يُخَاطِبُ الْمُؤْمِنِينَ فَيَقُولُ لَهُمْ مَغْفِرَةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي تَجْمَعُونَهَا فِي الدُّنْيَا. الْمَسْأَلَةَ الرَّابِعَةَ: إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ وَمَغْفِرَتَهُ خَيْرٌ مِنْ نُعَيْمِ الدُّنْيَا لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ يَطْلُبُ المال فهو في نعب مِنْ ذَلِكَ الطَّلَبِ فِي الْحَالِ، وَلَعَلَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ غَدًا لِأَنَّهُ يَمُوتُ قَبْلَ الْغَدِ وَأَمَّا طَلَبُ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، وَقَدْ قَالَ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7] وَثَانِيهَا: هَبْ أَنَّهُ بَقِيَ إِلَى الْغَدِ لَكِنْ لَعَلَّ ذَلِكَ الْمَالَ لَا يَبْقَى إِلَى الْغَدِ، فَكَمْ مِنَ إِنْسَانٍ أَصْبَحَ أَمِيرًا وَأَمْسَى أَسِيرًا، وَخَيْرَاتُ الْآخِرَةِ لَا تَزُولُ لِقَوْلِهِ: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ [الْكَهْفِ: 46] وَلِقَوْلِهِ: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ [النَّحْلِ: 96] وَثَالِثُهَا: بِتَقْدِيرِ أَنْ يَبْقَى إِلَى الْغَدِ وَيَبْقَى الْمَالُ إِلَى الْغَدِ، لَكِنْ لَعَلَّهُ يَحْدُثُ حَادِثٌ يَمْنَعُكَ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهِ مِثْلَ مَرَضٍ وَأَلَمٍ وَغَيْرِهِمَا، وَمَنَافِعُ الْآخِرَةِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. وَرَابِعُهَا: بِتَقْدِيرِ أَنَّهُ فِي الْغَدِ يُمْكِنُكَ الِانْتِفَاعُ بِذَلِكَ الْمَالِ، وَلَكِنْ لَذَّاتُ الدُّنْيَا مَشُوبَةٌ بِالْآلَامِ وَمَنَافِعُهَا مَخْلُوطَةٌ بِالْمَضَارِّ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْفَى، وَأَمَّا مَنَافِعُ الْآخِرَةِ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ. وَخَامِسُهَا: هَبْ أَنَّ تِلْكَ الْمَنَافِعَ تَحْصُلُ فِي الْغَدِ خَالِصَةً عن الشوائب

وَلَكِنَّهَا لَا تَدُومُ وَلَا تَسْتَمِرُّ، بَلْ تَنْقَطِعُ وَتَفْنَى، وَكُلَّمَا كَانَتِ اللَّذَّةُ أَقْوَى وَأَكْمَلَ، كَانَ التَّأَسُّفُ وَالتَّحَسُّرُ عِنْدَ فَوَاتِهَا أَشَدَّ وَأَعْظَمَ، وَمَنَافِعُ الْآخِرَةِ مَصُونَةٌ عَنِ الِانْقِطَاعِ وَالزَّوَالِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ مَنَافِعَ الدُّنْيَا حِسِّيَّةٌ وَمَنَافِعَ الْآخِرَةِ عَقْلِيَّةٌ، وَالْحِسِّيَّةُ خَسِيسَةٌ، وَالْعَقْلِيَّةُ شَرِيفَةٌ، أَتَرَى أَنَّ انْتِفَاعَ الْحِمَارِ بِلَذَّةِ بَطْنِهِ وَفَرْجِهِ يُسَاوِي ابْتِهَاجَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ إِشْرَاقِهَا بِالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ، فَهَذِهِ الْمَعَاقِدُ السِّتَّةُ تُنَبِّهُكَ عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهَا مِنَ الْوُجُوهِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَكُونُ الْمَغْفِرَةُ مَوْصُوفَةً بِأَنَّهَا خَيْرٌ مِمَّا تَجْمَعُونَ، وَلَا خَيْرَ فِيمَا تَجْمَعُونَ أَصْلًا. قُلْنَا: إِنَّ الَّذِي تَجْمَعُونَهُ فِي الدُّنْيَا قَدْ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْحَلَالِ الَّذِي يُعَدُّ خَيْرًا، وَأَيْضًا هَذَا وَارِدٌ عَلَى حَسَبِ قَوْلِهِمْ وَمُعْتَقَدِهِمْ أَنَّ تِلْكَ الْأَمْوَالَ خَيْرَاتٌ، فَقِيلَ: الْمَغْفِرَةُ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَظُنُّونَهَا خَيْرَاتٍ. ثُمَّ قَالَ: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَغَّبَ الْمُجَاهِدِينَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِالْحَشْرِ إِلَى مَغْفِرَةِ اللَّهِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ زَادَ فِي إِعْلَاءِ الدَّرَجَاتِ فَرَغَّبَهُمْ هَاهُنَا بِالْحَشْرِ إِلَى اللَّهِ، يُرْوَى أن عيسى بن مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ مَرَّ بِأَقْوَامٍ نَحِفَتْ أَبْدَانُهُمْ وَاصْفَرَّتْ وُجُوهُهُمْ، وَرَأَى عَلَيْهِمْ آثَارَ الْعِبَادَةِ، فَقَالَ مَاذَا تَطْلُبُونَ؟ فَقَالُوا: نَخْشَى عَذَابَ اللَّهِ، فَقَالَ: هُوَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ لَا يُخَلِّصَكُمْ مِنْ عَذَابِهِ، ثُمَّ مَرَّ بِأَقْوَامٍ آخَرِينَ فَرَأَى عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْآثَارَ فَسَأَلَهُمْ، فَقَالُوا: نَطْلُبُ الْجَنَّةَ وَالرَّحْمَةَ، فَقَالَ: هُوَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَمْنَحَكُمْ رَحْمَتَهُ ثُمَّ مَرَّ بِقَوْمٍ ثَالِثٍ وَرَأَى آثَارَ الْعُبُودِيَّةِ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ، فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: نَعْبُدُهُ لِأَنَّهُ إِلَهُنَا، وَنَحْنُ عَبِيدُهُ لَا لِرَغْبَةٍ وَلَا لِرَهْبَةٍ، فَقَالَ: أَنْتُمُ الْعَبِيدُ الْمُخْلِصُونَ وَالْمُتَعَبِّدُونَ الْمُحِقُّونَ، فَانْظُرْ فِي تَرْتِيبِ هَذِهِ الْآيَاتِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ يَعْبُدُهُ خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ، ثُمَّ قَالَ وَرَحْمَةٌ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ يَعْبُدُهُ لِطَلَبِ ثَوَابِهِ، ثُمَّ قَالَ فِي خَاتِمَةِ الْآيَةِ: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ لِمُجَرَّدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَهَذَا أَعْلَى الْمَقَامَاتِ وَأَبْعَدُ النِّهَايَاتِ فِي الْعُبُودِيَّةِ فِي عُلُوِّ الدَّرَجَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا شَرَّفَ الْمَلَائِكَةَ قَالَ: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الْأَنْبِيَاءِ: 19] وَقَالَ لِلْمُقَرَّبِينَ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَرِ: 55] فَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَبْدَانَهُمْ فِي طَاعَتِهِ وَمُجَاهَدَةِ عَدُوِّهِ يَكُونُ حَشْرُهُمْ إِلَيْهِ، وَاسْتِئْنَاسُهُمْ بِكَرَمِهِ، وَتَمَتُّعُهُمْ بِشُرُوقِ نُورِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَهَذَا مَقَامٌ فِيهِ إِطْنَابٌ، وَالْمُسْتَبْصِرُ يُرْشِدُهُ الْقَدْرُ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ. وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ: كَأَنَّهُ قِيلَ إِنْ تَرَكْتُمُ الْجِهَادَ وَاحْتَرَزْتُمْ عَنِ الْقَتْلِ وَالْمَوْتِ بَقِيتُمْ أَيَّامًا قَلِيلَةً فِي الدُّنْيَا مَعَ تِلْكَ اللَّذَّاتِ الْخَسِيسَةِ، ثُمَّ تَتْرُكُونَهَا لَا مَحَالَةَ، فَتَكُونُ لَذَّاتُهَا لِغَيْرِكُمْ وَتَبِعَاتُهَا عَلَيْكُمْ، أَمَّا لَوْ أَعْرَضْتُمْ عَنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا، وَبَذَلْتُمُ النَّفْسَ وَالْمَالَ لِلْمَوْلَى يَكُونُ حَشْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ، وَوُقُوفُكُمْ عَلَى عَتَبَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَتَلَذُّذُكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الدَّرَجَتَيْنِ وَالْمَنْزِلَتَيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ دَقَائِقَ: أَحُدُهَا: أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: تُحْشَرُونَ إِلَى اللَّهِ بَلْ قَالَ: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ، وَهَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ، مَعْنَاهُ إِلَى اللَّهِ يُحْشَرُ الْعَالَمُونَ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا حَاكِمَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا ضَارَّ وَلَا نَافِعَ إِلَّا هُوَ، قَالَ تَعَالَى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غَافِرٍ: 16] وَقَالَ تَعَالَى: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الِانْفِطَارِ: 19] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ ذَكَرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ هَذَا الِاسْمَ، وَهَذَا الِاسْمُ أَعْظَمُ الْأَسْمَاءِ وَهُوَ دَالٌّ/ عَلَى كَمَالِ الرَّحْمَةِ وَكَمَالِ الْقَهْرِ، فَهُوَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى كَمَالِ الرَّحْمَةِ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْوَعْدِ، وَلِدَلَالَتِهِ عَلَى كَمَالِ الْقَهْرِ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْوَعِيدِ. وَثَالِثُهَا: إِدْخَالُ لَامِ التَّأْكِيدِ فِي اسْمِ اللَّهِ حَيْثُ قَالَ: لَإِلَى اللَّهِ وَهَذَا يُنَبِّهُكَ عَلَى أَنَّ

[سورة آل عمران (3) : آية 159]

الْإِلَهِيَّةَ تَقْتَضِي هَذَا الْحَشْرَ وَالنَّشْرَ، كَمَا قَالَ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه: 15] وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: تُحْشَرُونَ فِعْلُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، مَعَ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ الْحَشْرِ هُوَ اللَّهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقَعِ التَّصْرِيحُ بِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَظِيمُ الْكَبِيرُ الَّذِي، شَهِدَتِ الْعُقُولُ بِأَنَّهُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي يُبْدِئُ وَيُعِيدُ، وَمِنْهُ الْإِنْشَاءُ وَالْإِعَادَةُ، فَتَرْكُ التَّصْرِيحِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَدَلُّ على العظيمة، ونظيره قوله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ [هُودٍ: 44] وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ أَضَافَ حَشْرَهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ يُنَبِّهُ الْعَقْلَ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ مُضْطَرُّونَ فِي قَبْضَةِ الْقُدْرَةِ وَنَفَاذِ الْمَشِيئَةِ، فَهُمْ سَوَاءٌ كَانُوا أَحْيَاءً أَمْ أَمْوَاتًا لَا يَخْرُجُونَ عَنْ قَهْرِ الرُّبُوبِيَّةِ وَكِبْرِيَاءِ الْإِلَهِيَّةِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: تُحْشَرُونَ خِطَابٌ مَعَ الْكُلِّ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْعَالَمِينَ يُحْشَرُونَ وَيُوقَفُونَ فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ وَبِسَاطِ الْعَدْلِ، فَيَجْتَمِعُ الْمَظْلُومُ مَعَ الظَّالِمِ، وَالْمَقْتُولُ مَعَ الْقَاتِلِ، وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَحْكُمُ بَيْنَ عَبِيدِهِ بِالْعَدْلِ الْمُبَرَّأِ عَنِ الْجَوْرِ، كَمَا قَالَ: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الْأَنْبِيَاءِ: 47] فَمَنْ تَأَمَّلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ وَسَاعَدَهُ التَّوْفِيقُ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْفَوَائِدَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا كَالْقَطْرَةِ مِنْ بِحَارِ الْأَسْرَارِ الْمُودَعَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَمَسَّكَ الْقَاضِي بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَقْتُولَ لَيْسَ بِمَيِّتٍ، قَالَ: لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ يَقْتَضِي عَطْفَ الْمَقْتُولِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَعَطْفُ الشيء على نفسه ممتنع. [سورة آل عمران (3) : آية 159] فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا انْهَزَمُوا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمَّ عَادُوا لَمْ يُخَاطِبْهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى الله عليه وسلم بالتغليط وَالتَّشْدِيدِ، وَإِنَّمَا خَاطَبَهُمْ بِالْكَلَامِ اللَّيِّنِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَرْشَدَهُمْ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِلَى مَا يَنْفَعُهُمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنْ عَفَا عَنْهُمْ، زَادَ/ فِي الْفَضْلِ وَالَإِحْسَانِ بِأَنْ مَدَحَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَفْوِهِ عَنْهُمْ، وَتَرْكِهِ التَّغْلِيظَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَمَنْ أَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّ هَذَا تَرْتِيبٌ حَسَنٌ فِي الْكَلَامِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ لِينَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْقَوْمِ عِبَارَةٌ عَنْ حُسْنِ خُلُقِهِ مَعَ الْقَوْمِ قَالَ تَعَالَى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاءِ: 215] وَقَالَ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ، وَقَالَ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [الْقَلَمِ: 4] وَقَالَ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التَّوْبَةِ: 128] وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا حِلْمَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حِلْمِ إِمَامٍ وَرِفْقِهِ وَلَا جَهْلَ أَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ مِنْ جَهْلِ إِمَامٍ وَخَرَقِهِ» فَلَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِمَامَ الْعَالَمِينَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَهُمْ حِلْمًا وَأَحْسَنَهُمْ خُلُقًا. وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةَ عُثْمَانَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ النَّبِيُّ وَعَلِيٌّ يَغْسِلَانِ السِّلَاحَ، فَقَالَتْ: مَا فَعَلَ ابْنُ عَفَّانَ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَا تَجِدُونَهُ أَمَامَ الْقَوْمِ، فَقَالَ لَهَا عَلِيٌّ: أَلَا إِنَّ عُثْمَانَ فَضَحَ الزَّمَانَ الْيَوْمَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَهْ» وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ حِينَئِذٍ: أَعْيَانِي أَزْوَاجُ الْأَخَوَاتِ أَنْ يَتَحَابُّوا، وَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ مَعَ صَاحِبَيْهِ مَا زَادَ عَلَى أَنْ قَالَ: «لَقَدْ ذَهَبْتُمْ فِيهَا عَرِيضَةً» وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْنَا كُلَّ الْإِحْسَانِ، كُنَّا مُشْرِكِينَ، فَلَوْ جَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ بِهَذَا الدِّينِ جُمْلَةً، وَبِالْقُرْآنِ دُفْعَةً لَثَقُلَتْ هَذِهِ التَّكَالِيفُ عَلَيْنَا، فَمَا كُنَّا نَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّهُ دَعَانَا إِلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمَّا قَبِلْنَاهَا وَعَرَفْنَا حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، قَبِلْنَا مَا وَرَاءَهَا كَلِمَةً بَعْدَ كَلِمَةٍ عَلَى سَبِيلِ الرِّفْقِ إِلَى أَنْ تَمَّ الدِّينُ وَكَمُلَتِ الشَّرِيعَةُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ فَإِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْغَائِطِ فَلَا يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا» وَاعْلَمْ أَنَّ سِرَّ الْأَمْرِ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ

أَمْرَانِ: اعْتِبَارُ حَالِ الْقَائِلِ، وَاعْتِبَارُ حَالِ الْفَاعِلِ، أَمَّا اعْتِبَارُ حَالِ الْقَائِلِ فَلِأَنَّ جَوَاهِرَ النُّفُوسِ مُخْتَلِفَةٌ بِالْمَاهِيَّةِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ» وَقَالَ: «النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» وَكَمَا أَنَّهَا فِي جَانِبِ النُّقْصَانِ تَنْتَهِي إِلَى غَايَةِ الْبَلَادَةِ وَالْمَهَانَةِ وَالنَّذَالَةِ، وَاسْتِيلَاءِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ عَلَيْهَا وَاسْتِيلَاءِ حُبِّ الْمَالِ وَاللَّذَّاتِ، فَكَذَلِكَ فِي جَانِبِ الْكَمَالِ قَدْ تَنْتَهِي إِلَى غَايَةِ الْقُوَّةِ وَالْجَلَالَةِ، أَمَّا فِي الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ فَيَكُونُ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: نُورٌ عَلى نُورٍ [النُّورِ: 35] وَقَوْلِهِ: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النِّسَاءِ: 113] وَأَمَّا فِي الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، فَكَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ كَأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ أَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ، فَلَا تَنْقَادُ لِلشَّهْوَةِ وَلَا تَمِيلُ لِدَوَاعِي الْغَضَبِ، وَلَا تَتَأَثَّرُ مِنْ حُبِّ الْمَالِ وَالْجَاهِ، فَإِنَّ مَنْ تَأَثَّرَ عَنْ شَيْءٍ كَانَ الْمُتَأَثِّرُ أَضْعَفَ مِنَ الْمُؤَثِّرِ، فَالنَّفْسُ إِذَا مَالَتْ إِلَى هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ/ كَانَتْ رُوحَانِيَّاتُهَا أَضْعَفَ مِنَ الْجُسْمَانِيَّاتِ، وَإِذَا لَمْ تَمِلْ إِلَيْهَا وَلَمْ تَلْتَفِتْ إِلَيْهَا كَانَتْ رُوحَانِيَّاتُهَا مُسْتَعْلِيَةً عَلَى الْجُسْمَانِيَّاتِ، وَهَذِهِ الْخَوَاصُّ نَظَرِيَّةٌ، وَكَانَتْ نَفْسُهُ الْمُقَدَّسَةُ فِي غَايَةِ الْجَلَالَةِ وَالْكَمَالِ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ. وَأَمَّا اعْتِبَارُ حَالِ الْفَاعِلِ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ عَرَفَ سِرَّ اللَّهِ فِي الْقَدَرِ هَانَتْ عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ» فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْحَوَادِثَ الْأَرْضِيَّةَ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى الْأَسْبَابِ الْإِلَهِيَّةِ، فَيَعْلَمُ أَنَّ الْحَذَرَ لَا يَدْفَعُ الْقَدَرَ، فَلَا جَرَمَ إِذَا فَاتَهُ مَطْلُوبٌ لَمْ يَغْضَبْ، وَإِذَا حَصَلَ لَهُ مَحْبُوبٌ لَمْ يَأْنَسْ بِهِ، لِأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى الرُّوحَانِيَّاتِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ مِنْ هَذِهِ الْجُسْمَانِيَّاتِ، فَلَا يُنَازِعُ أَحَدًا مِنْ هَذَا الْعَالَمِ فِي طَلَبِ شَيْءٍ مِنْ لَذَّاتِهَا وَطَيِّبَاتِهَا، وَلَا يَغْضَبُ عَلَى أَحَدٍ بِسَبَبِ فَوْتِ شَيْءٍ مِنْ مَطَالِبِهَا، وَمَتَى كَانَ الْإِنْسَانُ كَذَلِكَ كَانَ حَسَنَ الْخُلُقِ، طَيِّبَ الْعِشْرَةِ مَعَ الْخَلْقِ، وَلَمَّا كَانَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَكْمَلَ الْبَشَرِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِحُسْنِ الْخُلُقِ، لَا جَرَمَ كَانَ أَكْمَلَ الْخَلْقِ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ بِقَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ حُسْنَ خُلُقِهِ مَعَ الْخَلْقِ، إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَنَقُولُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ عَامَّةٌ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ، فَكُلُّ مَا فَعَلَهُ مَعَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْهِدَايَةِ وَالدَّعْوَةِ وَالْبَيَانِ وَالْإِرْشَادِ، فَقَدْ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ مَعَ إِبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأَبِي جَهْلٍ وَأَبِي لَهَبٍ، فَإِذَا كَانَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كُلُّ مَا فَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ الْمُكَلَّفِينَ فِي هَذَا الْبَابِ مُشْتَرِكًا فِيهِ بَيْنَ أَصْفَى الْأَصْفِيَاءِ، وَبَيْنَ أَشْقَى الْأَشْقِيَاءِ لَمْ يَكُنِ اخْتِصَاصُ بَعْضِهِمْ بِحُسْنِ الْخُلُقِ وَكَمَالِ الطَّرِيقَةِ مُسْتَفَادًا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَكَانَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَعْلِيلُ حُسْنِ خُلُقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ بَاطِلًا، وَلَمَّا كَانَ هَذَا بَاطِلًا عَلِمْنَا أَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَبِقَدْرِهِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ يَحْمِلُونَ هَذَا عَلَى زِيَادَةِ الْأَلْطَافِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُمْكِنًا مِنَ الْأَلْطَافِ، فَقَدْ فَعَلَهُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ، وَالَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْمُكَلَّفُ بِنَاءً عَلَى طَاعَتِهِ مِنْ مَزِيدِ الْأَلْطَافِ، فَذَاكَ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا اكْتَسَبَهُ مِنْ نَفْسِهِ لَا مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّهُ مَتَى فَعَلَ الطَّاعَةَ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ الْمَزِيدَ مِنَ اللُّطْفِ، وَوَجَبَ إِيصَالُهُ إِلَيْهِ، وَمَتَى لَمْ يَفْعَلِ امْتَنَعَ إِيصَالُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ لَا مِنَ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ (مَا) فِي قَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ صِلَةٌ زَائِدَةٌ وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، كَقَوْلِهِ: عَمَّا قَلِيلٍ وجُنْدٌ ما هُنالِكَ [ص: 11] فَبِما نَقْضِهِمْ [النساء: 155، المائدة: 13] مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ [نوح: 25] قَالُوا: وَالْعَرَبُ قَدْ تَزِيدُ فِي الْكَلَامِ لِلتَّأْكِيدِ عَلَى مَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ، قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ [يُوسُفَ: 96] أَرَادَ فَلَمَّا جَاءَ، فَأَكَّدَ بِأَنْ، وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: دُخُولُ اللَّفْظِ الْمُهْمَلِ الضَّائِعِ فِي كَلَامِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ غَيْرُ جَائِرٍ، وَهَاهُنَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مَا) اسْتِفْهَامًا لِلتَّعَجُّبِ تَقْدِيرُهُ: فَبِأَيِّ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جِنَايَتَهُمْ لَمَّا كَانَتْ عَظِيمَةً/ ثُمَّ إِنَّهُ مَا أَظْهَرَ أَلْبَتَّةَ، تَغْلِيظًا فِي الْقَوْلِ، وَلَا خُشُونَةً فِي الْكَلَامِ،

عَلِمُوا أَنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِتَأْيِيدٍ رَبَّانِيٍّ وَتَسْدِيدٍ إِلَهِيٍّ، فَكَانَ ذَلِكَ مَوْضِعَ التَّعَجُّبِ مِنْ كَمَالِ ذَلِكَ التَّأْيِيدِ وَالتَّسْدِيدِ، فَقِيلَ: فَبِأَيِّ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْوَبُ عِنْدِي. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ هِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي صَيْرُورَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَحِيمًا بِالْأُمَّةِ، فَإِذَا تَأَمَّلْتَ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْآيَةِ عَرَفْتَ دَلَالَتَهَا عَلَى أَنَّهُ لَا رَحْمَةَ إِلَّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالَّذِي يُقَرِّرُ ذَلِكَ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَلْقَى فِي قَلْبِ عَبْدِهِ دَاعِيَةَ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ وَاللُّطْفِ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا أَلْقَى فِي قَلْبِهِ هَذِهِ الدَّاعِيَةَ فَعَلَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَا مَحَالَةَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا رَحْمَةَ إِلَّا لِلَّهِ: وثانيها: إِنَّ كُلَّ رَحِيمٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَسْتَفِيدُ بِرَحْمَتِهِ عِوَضًا، إِمَّا هَرَبًا مِنَ الْعِقَابِ، أَوْ طَلَبًا لِلثَّوَابِ، أَوْ طَلَبًا لِلذِّكْرِ الْجَمِيلِ، فَإِذَا فَرَضْنَا صُورَةً خَالِيَةً عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ كَانَ السَّبَبُ هُوَ الرِّقَّةَ الْجِنْسِيَّةَ، فَإِنَّ مَنْ رَأَى حَيَوَانًا فِي الْأَلَمِ رَقَّ قَلْبُهُ، وَتَأَلَّمَ بِسَبَبِ مُشَاهَدَتِهِ إِيَّاهُ فِي الْأَلَمِ، فَيُخَلِّصُهُ عَنْ ذَلِكَ الْأَلَمِ دَفْعًا لِتِلْكَ الرِّقَّةِ عَنْ قَلْبِهِ، فَلَوْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَعْرَاضِ لَمْ يَرْحَمْ أَلْبَتَّةَ، أَمَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَهُوَ الَّذِي يَرْحَمُ لَا لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ، فَلَا رَحْمَةَ إِلَّا لِلَّهِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ رَحِمَ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَرْحَمُهُ بِأَنْ يُعْطِيَهُ مَالًا، أَوْ يُبْعِدَ عَنْهُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْمَكْرُوهِ وَالْبَلَاءِ، إِلَّا أَنَّ الْمَرْحُومَ لَا ينتفع بذلك المال معه سلامة الأعضاء، وهي ليس إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا رَحْمَةَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَكُلُّ مَنْ أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَى الرَّحْمَةِ سُمِّيَ رَحِيمًا، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ» وَقَالَ في صفة محمد عليه السلام: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التَّوْبَةِ: 128] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَمَالَ رَحْمَةِ اللَّهِ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ عَرَّفَهُ مَفَاسِدَ الْفَظَاظَةِ وَالْغِلْظَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْفَظُّ، الْغَلِيظُ الْجَانِبِ السَّيِّءُ الْخُلُقِ، يُقَالُ: فَظِظْتَ تَفَظُّ فَظَاظَةً فَأَنْتَ فَظٌّ، وَأَصْلُهُ فَظِظَ، كَقَوْلِهِ: حَذِرَ مِنْ حَذِرْتُ، وَفَرِقَ مِنْ فَرِقْتُ، إِلَّا أَنَّ مَا كَانَ من المضاعف على هذا الوزن يدغم نحن رَجُلٍ صَبٍّ، وَأَصْلُهُ صَبَبٌ، وَأَمَّا «الْفَضُّ» بِالضَّادِ فَهُوَ تَفْرِيقُ الشَّيْءِ، وَانْفَضَّ الْقَوْمُ تَفَرَّقُوا، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الْجُمُعَةِ: 11] وَمِنْهُ: فَضَضَتُ الْكِتَابَ، وَمِنْهُ يُقَالُ: لَا يَفْضُضِ اللَّهُ فَاكَ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَظِّ وَبَيْنَ غَلِيظِ الْقَلْبِ؟ قُلْنَا: الْفَظُّ الَّذِي يَكُونُ سَيِّءَ الْخُلُقِ، وَغَلِيظُ الْقَلْبِ هُوَ الَّذِي لَا يَتَأَثَّرُ قَلْبُهُ عَنْ شَيْءٍ، فَقَدْ/ لَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ سَيِّءَ الْخُلُقِ وَلَا يُؤْذِي أَحَدًا وَلَكِنَّهُ لَا يَرِقُّ لَهُمْ وَلَا يَرْحَمُهُمْ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبِعْثَةِ أَنْ يُبَلِّغَ الرَّسُولُ تَكَالِيفَ اللَّهِ إِلَى الْخَلْقِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا مَالَتْ قُلُوبُهُمْ إِلَيْهِ وَسَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ لَدَيْهِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَ رَحِيمًا كَرِيمًا، يَتَجَاوَزُ عَنْ ذَنْبِهِمْ، وَيَعْفُو عَنْ إِسَاءَتِهِمْ، وَيَخُصُّهُمْ بِوُجُوهِ الْبِرِّ وَالْمَكْرُمَةِ وَالشَّفَقَةِ، فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مُبَرَّأً عَنْ سُوءِ الْخُلُقِ، وَكَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ غَلِيظِ الْقَلْبِ، بَلْ يَكُونُ كَثِيرَ الْمَيْلِ إِلَى إِعَانَةِ الضُّعَفَاءِ، كَثِيرَ الْقِيَامِ بِإِعَانَةِ الْفُقَرَاءِ، كَثِيرَ التَّجَاوُزِ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ، كَثِيرَ الصَّفْحِ عَنْ زَلَّاتِهِمْ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ وَلَوِ انْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاتَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْبَعْثَةِ وَالرِّسَالَةِ. وَحَمَلَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى وَاقِعَةِ أُحُدٍ قَالَ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ عَادُوا إِلَيْكَ بَعْدَ الِانْهِزَامِ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ وَشَافَهْتَهُمْ بِالْمَلَامَةِ عَلَى ذلك الانهزام لا نفضوا مِنْ حَوْلِكَ، هَيْبَةً مِنْكَ وَحَيَاءً بِسَبَبِ مَا

كَانَ مِنْهُمْ مَنِ الِانْهِزَامِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُطْمِعُ الْعَدُوَّ فِيكَ وَفِيهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اللِّينُ وَالرِّفْقُ إِنَّمَا يَجُوزُ إِذَا لَمْ يُفْضِ إِلَى إِهْمَالِ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، فَأَمَّا إِذَا أَدَّى إِلَى ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، قَالَ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَةِ: 73] وَقَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي إِقَامَةِ حَدِّ الزِّنَا: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النُّورِ: 2] . وَهَاهُنَا دَقِيقَةٌ أُخْرَى: وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى مَنْعَهُ مِنَ الْغِلْظَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَمَرَهُ بِالْغِلْظَةِ في قوله: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ فههنا نَهَاهُ عَنِ الْغِلْظَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَهُنَاكَ أَمَرَهُ بِالْغِلْظَةِ مَعَ الْكَافِرِينَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [الْمَائِدَةِ: 54] وَقَوْلِهِ: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الْفَتْحِ: 29] وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ مَذْمُومَانِ، وَالْفَضِيلَةُ فِي الْوَسَطِ، فَوُرُودُ الْأَمْرِ بِالتَّغْلِيظِ تَارَةً، وَأُخْرَى بِالنَّهْيِ عَنْهُ، إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنْ يَتَبَاعَدَ عَنِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، فَيَبْقَى عَلَى الْوَسَطِ الَّذِي هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، فَلِهَذَا السِّرِّ مَدَحَ اللَّهُ الْوَسَطَ فَقَالَ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَةِ: 143] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ كَمَالَ حَالِ الْعَبْدِ لَيْسَ إِلَّا فِي أَنْ يَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ» ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَفَا عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَمَرَ الرَّسُولَ أَيْضًا أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ لِيَحْصُلَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَضِيلَةُ التَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : (فَاعْفُ عَنْهُمْ) فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّكَ (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْفُ عَنْهُمْ يَدُلُّ عَلَى التَّعْقِيبِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ فِي الْحَالِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ حَيْثُ عَفَا هُوَ عَنْهُمْ، ثُمَّ أَوْجَبَ عَلَى رَسُولِهِ أَنْ يَعْفُوَ فِي الْحَالِ عَنْهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَاعْفُ عَنْهُمْ إِيجَابٌ لِلْعَفْوِ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمَّا آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْأُمَّةِ لَمْ يُوجِبْهُ عَلَيْهِمْ، بَلْ نَدَبَهُمْ إِلَيْهِ فَقَالَ تَعَالَى: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران: 134] لِيَعْلَمَ أَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْفُو عَنْ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِانْهِزَامَ فِي وَقْتِ الْمُحَارَبَةِ كَبِيرَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَى قَوْلِهِ: فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [الْأَنْفَالِ: 16] فَثَبَتَ أَنَّ انْهِزَامَ أَهْلِ أُحُدٍ كَانَ مِنَ الْكَبَائِرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَصَّ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى أَنَّهُ عَفَا عَنْهُمْ وَأَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، وَذَلِكَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَمْرٌ لَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لِأَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، وَإِذَا أَمَرَهُ بِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ لَا يُجِيبَهُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْكَرِيمِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُشَفِّعُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، فَبِأَنْ يُشَفِّعَهُ فِي حَقِّهِمْ فِي الْقِيَامَةِ كَانَ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَفَا عَنْهُمْ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 155] ثُمَّ أَمَرَ

مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَلِأَجْلِهِمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُمْ، وَاعْفُ عَنْهُمْ فَإِنِّي قَدْ عَفَوْتُ عَنْهُمْ قَبْلَ عَفْوِكَ عَنْهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ رَحْمَةِ اللَّهِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: شَاوَرَهُمْ مُشَاوَرَةً وَشِوَارًا وَمَشُورَةً، وَالْقَوْمُ شُورَى، وَهِيَ مَصْدَرٌ سُمِّي الْقَوْمُ بِهَا كَقَوْلِهِ: وَإِذْ هُمْ نَجْوى [الْإِسْرَاءِ: 47] قِيلَ: الْمُشَاوَرَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: شُرْتُ الْعَسَلَ أَشُورُهُ إِذَا أَخَذْتَهُ مِنْ مَوْضِعِهِ وَاسْتَخْرَجْتَهُ، وَقِيلَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: شُرْتُ الدَّابَّةَ شَوْرًا إِذَا عَرَضْتَهَا، وَالْمَكَانُ الَّذِي يُعْرَضُ فِيهِ الدَّوَابُّ يُسَمَّى مِشْوَارًا، كَأَنَّهُ بِالْعَرْضِ يُعْلَمُ خَيْرُهُ وَشَرُّهُ، فَكَذَلِكَ بِالْمُشَاوَرَةِ يُعْلَمُ خَيْرُ الْأُمُورِ وَشَرُّهًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفَائِدَةُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الرَّسُولَ بِمُشَاوَرَتِهِمْ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُشَاوَرَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ تُوجِبُ عُلُوَّ شَأْنِهِمْ وَرِفْعَةَ دَرَجَتِهِمْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي شِدَّةَ مَحَبَّتِهِمْ لَهُ وَخُلُوصَهُمْ فِي طَاعَتِهِ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ إِهَانَةً بِهِمْ فَيَحْصُلُ سُوءُ الْخُلُقِ وَالْفَظَاظَةُ. الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَانَ أَكْمَلَ النَّاسِ عَقَلًا إِلَّا أَنَّ عُلُومَ الْخَلْقِ مُتَنَاهِيَةٌ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِ إِنْسَانٍ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ مَا لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ، لَا سِيَّمَا فِيمَا يَفْعَلُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «أَنْتُمْ أَعْرَفُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ وَأَنَا أَعْرَفُ بِأُمُورِ دِينِكُمْ» وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ قَطُّ إِلَّا هُدُوا لِأَرْشَدِ أَمْرِهِمْ» الثَّالِثُ: قَالَ الْحَسَنُ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ إِنَّمَا أُمِرَ بِذَلِكَ لِيَقْتَدِيَ بِهِ غَيْرُهُ فِي الْمُشَاوَرَةِ وَيَصِيرَ سُنَّةً فِي أُمَّتِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَاوَرَهُمْ فِي وَاقِعَةِ أُحُدٍ فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ، وَكَانَ مَيْلُهُ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ، فَلَمَّا خَرَجَ وَقَعَ مَا وَقَعَ، فَلَوْ تَرَكَ مُشَاوَرَتَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَقِيَ فِي قَلْبِهِ مِنْهُمْ بِسَبَبِ مُشَاوَرَتِهِمْ بَقِيَّةُ أَثَرٍ. فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ بِأَنْ يُشَاوِرَهُمْ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ أَثَرٌ مِنْ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ. الْخَامِسُ: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، لَا لِتَسْتَفِيدَ مِنْهُمْ رَأْيًا وَعِلْمًا، لَكِنْ لِكَيْ تَعْلَمَ مَقَادِيرَ عُقُولِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ وَمَقَادِيرَ حُبِّهِمْ لَكَ وَإِخْلَاصِهِمْ فِي طَاعَتِكَ فَحِينَئِذٍ يَتَمَيَّزُ عِنْدَكَ الْفَاضِلُ مِنَ الْمَفْضُولِ فَبَيِّنْ لَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَنَازِلِهِمْ. السَّادِسُ: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ لَا لِأَنَّكَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِمْ، وَلَكِنْ لِأَجْلِ أَنَّكَ إِذَا شَاوَرْتَهُمْ فِي الْأَمْرِ اجْتَهَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي اسْتِخْرَاجِ الْوَجْهِ الْأَصْلَحِ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، فَتَصِيرُ الْأَرْوَاحُ مُتَطَابِقَةً مُتَوَافِقَةً عَلَى تَحْصِيلِ أَصْلَحِ الْوُجُوهِ فِيهَا، وَتَطَابُقُ الْأَرْوَاحِ الطَّاهِرَةِ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مِمَّا يُعِينُ عَلَى حُصُولِهِ، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ فِي الصَّلَوَاتِ. وَهُوَ السِّرُّ فِي أَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ. السَّابِعُ: لَمَّا أمر الله محمدا عليه السلام بمشاورتهم ذل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرًا وَقِيمَةً، فَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ لَهُمْ قَدْرًا عِنْدَ اللَّهِ وَقَدْرًا عِنْدَ الرَّسُولِ وَقَدْرًا عِنْدَ الْخَلْقِ. الثَّامِنُ: الْمَلِكُ الْعَظِيمُ لَا يُشَاوِرُ فِي الْمُهِمَّاتِ الْعَظِيمَةِ إِلَّا خَوَاصَّهُ وَالْمُقَرَّبِينَ عِنْدَهُ، فَهَؤُلَاءِ لَمَّا أَذْنَبُوا عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ، فَرُبَّمَا خَطَرَ بِبَالِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَإِنْ عَفَا عَنَّا بِفَضْلِهِ إِلَّا أَنَّهُ مَا بَقِيَتْ لَنَا تِلْكَ الدَّرَجَةُ الْعَظِيمَةُ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ تِلْكَ الدَّرَجَةَ مَا انْتُقِصَتْ بَعْدَ التَّوْبَةِ، بَلْ أَنَا أَزِيدُ فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّ قَبْلَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مَا أَمَرْتُ رَسُولِي بِمُشَاوَرَتِكُمْ، وَبَعْدَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ أَمَرْتُهُ بِمُشَاوَرَتِكُمْ، لِتَعْلَمُوا أَنَّكُمُ الْآنَ أَعْظَمُ حَالًا مِمَّا كُنْتُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّكُمْ قَبْلَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ كُنْتُمْ تُعَوِّلُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ وَطَاعَتِكُمْ، وَالْآنَ تُعَوِّلُونَ عَلَى فَضْلِي وَعَفْوِي، فَيَجِبُ أَنْ تَصِيرَ دَرَجَتُكُمْ وَمَنْزِلَتُكُمُ الْآنَ أَعْظُمَ مِمَّا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، لِتَعْلَمُوا أَنَّ عَفْوِي أَعْظَمُ مِنْ عَمَلِكُمْ وَكَرَمِي أَكْثَرُ مِنْ طَاعَتِكُمْ. وَالْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ مَذْكُورَةٌ، وَالْبَقِيَّةُ مِمَّا خَطَرَ بِبَالِي عِنْدَ هَذَا الْمَوْضِعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ وَأَسْرَارِ كِتَابِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا نَزَلَ فِيهِ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَمْ يَجُزْ لِلرَّسُولِ أَنْ يُشَاوِرَ فِيهِ الْأُمَّةَ، لِأَنَّهُ إِذَا جَاءَ النَّصُّ بَطَلَ الرَّأْيُ وَالْقِيَاسُ، فَأَمَّا مَا لَا نَصَّ فِيهِ فَهَلْ تَجُوزُ الْمُشَاوَرَةُ فِيهِ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ أَمْ لَا؟ قَالَ

الْكَلْبِيُّ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: هَذَا الْأَمْرُ مَخْصُوصٌ بِالْمُشَاوَرَةِ فِي الْحُرُوبِ وَحُجَّتُهُ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي لَفْظِ «الْأَمْرِ» لَيْسَا لِلِاسْتِغْرَاقِ، لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْوَحْيُ لَا تَجُوزُ الْمُشَاوَرَةُ فِيهِ، فَوَجَبَ حَمْلُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ هَاهُنَا عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ، وَالْمَعْهُودُ السَّابِقُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَرْبِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ مُخْتَصًّا بِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ: قَدْ أَشَارَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنُّزُولِ عَلَى الْمَاءِ فَقَبِلَ مِنْهُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ السَّعْدَانُ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، يَوْمَ الْخَنْدَقِ بِتَرْكِ مُصَالَحَةِ غَطَفَانَ عَلَى بَعْضِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ لِيَنْصَرِفُوا، فَقَبِلَ مِنْهُمَا وَخَرَّقَ الصَّحِيفَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: اللَّفْظُ عَامٌّ خُصَّ عَنْهُ مَا نَزَلَ فِيهِ وَحْيٌ فَتَبْقَى حُجَّتُهُ فِي الْبَاقِي، وَالتَّحْقِيقُ فِي الْقَوْلِ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ أُولِي الْأَبْصَارِ بالاعتبار فقال: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الْحَشْرِ: 2] وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَيِّدَ أُولِي الْأَبْصَارِ، وَمَدَحَ الْمُسْتَنْبِطِينَ فَقَالَ: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النِّسَاءِ: 83] وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ عَقْلًا وَذَكَاءً، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِالِاجْتِهَادِ إِذَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، وَالِاجْتِهَادُ يَتَقَوَّى بِالْمُنَاظَرَةِ وَالْمُبَاحَثَةِ فَلِهَذَا كَانَ مَأْمُورًا بِالْمُشَاوَرَةِ. وَقَدْ شَاوَرَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الْأُسَارَى وَكَانَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ أَنَّ النَّصَّ كَانَ لِعَامَّةِ الْمَلَائِكَةِ فِي سُجُودِ آدَمَ، ثُمَّ إِنَّ إِبْلِيسَ خَصَّ نَفْسَهُ بِالْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُهُ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الْأَعْرَافِ: 12] فَصَارَ مَلْعُونًا، فَلَوْ كَانَ تَخْصِيصُ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ جَائِزًا لَمَا اسْتَحَقَّ اللَّعْنَ بِهَذَا السَّبَبِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ فَقَوْلُهُ: وَشاوِرْهُمْ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى النَّدْبِ فَقَالَ هَذَا كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا» وَلَوْ أَكْرَهَهَا الْأَبُ عَلَى النِّكَاحِ جَازَ، لَكِنَّ الْأَوْلَى ذَلِكَ تَطْيِيبًا لِنَفْسِهَا فَكَذَا هَاهُنَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي الْوَسِيطِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُشَاوَرَتِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعِنْدِي فِيهِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الَّذِينَ أَمَرَهُ بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ وَهُمُ الْمُنْهَزِمُونَ، فَهَبْ أَنَّ عُمَرَ كَانَ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ فَدَخَلَ تَحْتَ الْآيَةِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ مَا كَانَ مِنْهُمْ فَكَيْفَ يَدْخُلُ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ الرَّأْيُ الْمُتَأَكَّدُ بِالْمَشُورَةِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَقَعَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ/ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِمَادُ عَلَى إِعَانَةِ اللَّهِ وَتَسْدِيدِهِ وَعِصْمَتِهِ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْعَبْدِ اعْتِمَادٌ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ التَّوَكُّلُ أَنْ يُهْمِلَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ، وَإِلَّا لَكَانَ الْأَمْرُ بِالْمُشَاوَرَةِ مُنَافِيًا لِلْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ، بَلِ التَّوَكُّلُ هُوَ أَنْ يُرَاعِيَ الْإِنْسَانُ الْأَسْبَابَ الظَّاهِرَةَ، وَلَكِنْ لَا يُعَوِّلُ بِقَلْبِهِ عَلَيْهَا، بَلْ يُعَوِّلُ عَلَى عِصْمَةِ الْحَقِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حُكِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَرَأَ فَإِذا عَزَمْتَ بِضَمِّ التَّاءِ، كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلرَّسُولِ إِذَا عَزَمْتُ أَنَا فَتَوَكَّلْ، وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: وَصْفُ اللَّهِ بِالْعَزْمِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْعَزْمُ بِمَعْنَى الْإِيجَابِ وَالْإِلْزَامِ، وَالْمَعْنَى وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذَا عَزَمْتُ لَكَ عَلَى شَيْءٍ وَأَرْشَدْتُكَ إِلَيْهِ. فَتَوَكَّلْ عَلَيَّ، وَلَا تُشَاوِرْ بَعْدَ ذَلِكَ أَحَدًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقِرَاءَةَ الَّتِي لَمْ يَقْرَأْ بِهَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ لَا يَجُوزُ إِلْحَاقُهَا بِالْقُرْآنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة آل عمران (3) : آية 160]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَرْغِيبُ الْمُكَلَّفِينَ فِي الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِعْرَاضِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى الله. [سورة آل عمران (3) : آية 160] إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ كَمَا نَصَرَكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَلَا يَغْلِبْكُمْ أَحَدٌ، وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ كَمَا خَذَلَكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ لَمْ يَنْصُرْكُمْ أَحَدٌ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قِيلَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ التَّرْغِيبُ فِي الطَّاعَةِ، وَالتَّحْذِيرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَنِ اتَّقَى مَعَاصِيَ اللَّهِ تَعَالَى نَصَرَهُ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [آلِ عِمْرَانَ: 125] ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ نَصَرَهُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَهُ، فَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، أَنَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ فَقَدْ فَازَ بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّهُ يَفُوزُ بِسَعَادَةٍ لَا شَقَاوَةَ مَعَهَا وَبِعِزٍّ لَا ذُلَّ مَعَهُ، وَيَصِيرُ غَالِبًا لَا يَغْلِبُهُ أَحَدٌ، وَأَمَّا مَنْ أَتَى بِالْمَعْصِيَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَخْذُلُهُ، وَمَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ فَقَدْ وَقَعَ فِي شَقَاوَةٍ لَا سَعَادَةَ مَعَهَا، وَذُلٍّ لَا عِزَّ مَعَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ، وَالْكَفْرُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِخِذْلَانِهِ، وَالْوَجْهُ فِيهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ مِنْ أَخْذَلَهُ إِذَا جَعَلَهُ مَخْذُولًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِهِ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: يَعْنِي مِنْ بَعْدِ خِذْلَانِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِثْلُ قَوْلِكَ: لَيْسَ لَكَ مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْكَ مِنْ بَعْدِ فُلَانٍ. ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يَعْنِي لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ وَلَا دَافِعَ لِحُكْمِهِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَتَوَكَّلَ الْمُؤْمِنُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ لَا عَلَى غيره. [سورة آل عمران (3) : آية 161] وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي الْحَثِّ عَلَى الْجِهَادِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ أَحْكَامِ الْجِهَادِ. وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْمَنْعُ مِنَ الْغُلُولِ، فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَفِيهَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْغُلُولُ هُوَ الْخِيَانَةُ، وَأَصْلُهُ أَخْذُ الشَّيْءِ فِي الْخُفْيَةِ، يُقَالُ أَغَلَّ الْجَازِرُ وَالسَّالِخُ إِذَا أَبْقَى فِي الْجِلْدِ شَيْئًا مِنَ اللَّحْمِ عَلَى طَرِيقِ الْخِيَانَةِ، وَالْغِلُّ الْحِقْدُ الْكَامِنُ فِي الصَّدْرِ. وَالْغِلَالَةُ الثَّوْبُ الَّذِي يُلْبَسُ تَحْتَ الثِّيَابِ، وَالْغَلَلُ الْمَاءُ الَّذِي يَجْرِي فِي أُصُولِ الشَّجَرَةِ لِأَنَّهُ مُسْتَتِرٌ بِالْأَشْجَارِ وَتَغَلَّلَ الشَّيْءُ إِذَا تَخَلَّلَ وَخَفِيَ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ بَعَثْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَغَلَّ شَيْئًا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ» وَقَالَ: «هَدَايَا الْوُلَاةِ غُلُولٌ» وَقَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ» وَقَالَ: «لَا إِغْلَالَ وَلَا إِسْلَالَ» وَأَيْضًا يُقَالُ: أَغَلَّهُ إِذَا وَجَدَهُ غَالًّا، كَقَوْلِكَ: أَبْخَلْتُهُ وَأَفْحَمْتُهُ. أَيْ وَجَدْتُهُ كذلك.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو (يَغُلَّ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْغَيْنِ، أَيْ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَخُونَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ «يَغُلَّ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ، أَيْ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يُخَانَ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، فَبَعْضُهَا يُوَافِقُ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى. وَبَعْضُهَا يُوَافِقُ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ. أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فَفِيهِ رِوَايَاتٌ: الْأُولَى: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَنِمَ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ وَجَمَعَ الْغَنَائِمَ، وَتَأَخَّرَتِ الْقِسْمَةُ لِبَعْضِ الْمَوَانِعِ، فَجَاءَ قَوْمٌ وَقَالُوا: أَلَا تُقَسِّمُ غَنَائِمَنَا؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوْ كَانَ لَكُمْ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا حَبَسْتُ عَنْكُمْ مِنْهُ دِرْهَمًا أَتَحْسَبُونَ أَنِّي أَغُلُّكُمْ مَغْنَمَكُمْ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَدَاءِ الْوَحْيِ، كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَفِيهِ عَيْبُ دِينِهِمْ وسب آلهتهم، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَتْرَكَ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الثَّالِثُ: رَوَى عِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ فُقِدَتْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ بَعْضُ الْجُهَّالِ لَعَلَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الرَّابِعُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ أَنَّ أَشْرَافَ النَّاسِ طَمِعُوا أَنْ يَخُصَّهُمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْغَنَائِمِ بِشَيْءٍ زَائِدٍ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الْخَامِسُ: رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعَثَ طَلَائِعَ فَغَنِمُوا غَنَائِمَ فَقَسَّمَهَا وَلَمْ يُقَسِّمْ لِلطَّلَائِعِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. السَّادِسُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حِينَ تَرَكَ الرُّمَاةُ الْمَرْكَزَ يَوْمَ أُحُدٍ طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ وَقَالُوا: نَخْشَى أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ وَأَنْ لَا يُقَسِّمُ الْغَنَائِمَ كَمَا لَمْ يُقَسِّمْهَا يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ظَنَنْتُمْ أَنَّا نَغُلُّ فَلَا نَقْسِمُ لَكُمْ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَكْتُمَ الرَّسُولُ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ عَنْ أَصْحَابِهِ لِنَفْسِهِ، وَعَلَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثَةِ يَكُونُ الْمَقْصُودُ نَهْيَهُ عَنِ الْغُلُولِ، بِأَنْ يُعْطَى لِلْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ. وَأَمَّا مَا يُوَافِقُ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ: فَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَقَعَتْ غَنَائِمُ هَوَازِنَ فِي يَدِهِ يَوْمَ حُنَيْنٍ، غَلَّ رَجُلٌ بِمِخْيَطٍ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَظَّمَ أَمْرَ الْغُلُولِ وَجَعَلَهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ فَارَقَ رُوحُهُ جَسَدَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ثَلَاثٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ الْكِبَرِ وَالْغُلُولِ وَالدَّيْنِ» وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ رَجُلًا كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُقَالُ لَهُ: كَرْكَرَةُ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ فِي النَّارِ، فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ فَوَجَدُوا عَلَيْهِ كِسَاءً وَعَبَاءَةً قَدْ غَلَّهُمَا، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ فَإِنَّهُ عَارٌ وَنَارٌ وَشَنَارٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَرَوَى رُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَرْكَبَ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا وَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا حَتَّى إِذَا أَخْلَقَهُ رَدَّهُ» وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ سَلْمَانَ عَلَى الْغَنِيمَةِ فَجَاءَهُ رَجُلٌ وَقَالَ يَا سَلْمَانُ/ كَانَ فِي ثَوْبِي خَرْقٌ فَأَخَذْتُ خَيْطًا مِنْ هَذَا الْمَتَاعِ فَخِطْتُهُ بِهِ، فَهَلْ عَلَيَّ جَنَاحٌ؟ فَقَالَ سَلْمَانُ: كُلُّ شَيْءٍ بِقَدْرِهِ فَسَلَّ الرَّجُلُ الْخَيْطَ مِنْ ثَوْبِهِ ثُمَّ أَلْقَاهُ فِي الْمَتَاعِ، وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَقَالَ أَصَبْتُ هَذَا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ» وَرُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فِي خَيْبَرَ، فَقَالَ الْقَوْمُ لَمَّا مَاتَ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كَلَّا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنَ الْغَنَائِمِ قَبْلَ قِسْمَتِهَا لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارًا» وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُسْتَثْنَى عَنْ هَذَا النَّهْيِ حَالَتَانِ. الْحَالَةُ الْأُولَى: أَخْذُ الطَّعَامِ وَأَخْذُ عَلْفِ الدَّابَّةِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى: أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي فَيَأْخُذُ مِنْهُ قَدْرَ الْكِفَايَةِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ، وَعَنْ سَلْمَانَ أَنَّهُ أَصَابَ يَوْمَ الْمَدَائِنِ أَرْغِفَةً وَجُبْنًا وَسِكِّينًا، فَجَعَلَ يَقْطَعُ مِنَ الْجُبْنِ وَيَقُولُ: كُلُوا عَلَى اسْمِ الله.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ، رُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ ضَرَبَ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فَوَقَعَ عَلَى قَفَاهُ فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَقَتَلَهُ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَّا الْقِرَاءَةُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْغَيْنِ، بِمَعْنَى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَخُونَ، فَلَهُ تَأْوِيلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ النُّبُوَّةَ وَالْخِيَانَةَ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخِيَانَةَ سَبَبٌ لِلْعَارِ فِي الدُّنْيَا وَالنَّارِ فِي الْآخِرَةِ، فَالنَّفْسُ الرَّاغِبَةُ فِيهَا تَكُونُ فِي نِهَايَةِ الدَّنَاءَةِ، وَالنُّبُوَّةُ أَعْلَى الْمَنَاصِبِ الْإِنْسَانِيَّةِ فَلَا تَلِيقُ إِلَّا بِالنَّفْسِ الَّتِي تَكُونُ فِي غَايَةِ الْجَلَالَةِ وَالشَّرَفِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ فِي النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ مُمْتَنِعٌ، فَثَبَتَ أَنَّ النُّبُوَّةَ وَالْخِيَانَةَ لَا تَجْتَمِعَانِ، فَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مَرْيَمَ: 35] يَعْنِي: الْإِلَهِيَّةُ وَاتِّخَاذُ الْوَلَدِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَقِيلَ: اللَّامُ مَنْقُولَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا كَانَ النَّبِيُّ لِيَغُلَّ، كَقَوْلِهِ: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ أَيْ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَتَّخِذَ وَلَدًا. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ قَدِ الْتَمَسُوا مِنْهُ أَنْ يَخُصَّهُمْ بِحِصَّةٍ زَائِدَةٍ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ ذلك غلو لا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ مُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: 65] وَقَوْلُهُ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [الْحَاقَّةِ: 44، 45] فَقَوْلُهُ: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أَيْ مَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا [النُّورِ: 16] أَيْ مَا يَحِلُّ لَنَا. وَإِذَا عَرَفْتَ تَأْوِيلَ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَنَقُولُ: حُجَّةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ نَسَبُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْغُلُولِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ الْخَصْلَةَ لَا تَلِيقُ بِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ مَا هُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِي التَّنْزِيلِ أُسْنِدَ الْفِعْلُ فِيهِ/ إِلَى الْفَاعِلِ كَقَوْلِهِ: مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ [يوسف: 38] وما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ [يُوسُفَ: 76] وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 145] وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ [التوبة: 115] وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آلِ عِمْرَانَ: 179] وَقَلَّ أَنْ يُقَالَ: مَا كَانَ زَيْدٌ لِيُضْرَبَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ إِلْحَاقُ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ، وَيُؤَكِّدُهُ مَا حَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ يُونُسَ أَنَّهُ كَانَ يَخْتَارُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَقَالَ: لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا كَانَ لَكَ أَنْ تُضْرَبَ، بِضَمِّ التَّاءِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَقِيلَ لَهُ إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ (يَغُلَّ) فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيُّ يَقْصِدُونَ قَتْلَهُ، فَكَيْفَ لَا يَنْسُبُونَهُ إِلَى الْخِيَانَةِ؟ وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ (يَغُلَّ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ فَفِي تَأْوِيلِهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يُخَانَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِيَانَةَ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ مُحَرَّمَةٌ، وَتَخْصِيصُ النَّبِيِّ بِهَذِهِ الْحُرْمَةِ فِيهِ فَوَائِدُ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ كُلَّمَا كَانَ أَشْرَفَ وَأَعْظَمَ دَرَجَةً كَانَتِ الْخِيَانَةُ فِي حَقِّهِ أَفْحَشَ، وَالرَّسُولُ أَفْضَلُ الْبَشَرِ فَكَانَتِ الْخِيَانَةُ فِي حَقِّهِ أَفْحَشَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَأْتِيهِ حَالًا فَحَالًا، فَمَنْ خَانَهُ فَرُبَّمَا نَزَلَ الْوَحْيُ فِيهِ فَيَحْصُلُ لَهُ مَعَ عَذَابِ الْآخِرَةِ فَضِيحَةُ الدُّنْيَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي غَايَةِ الْفَقْرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَكَانَتْ تِلْكَ الْخِيَانَةُ هُنَاكَ أَفْحَشَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ: أن يكون من الإغلال: أن يخونه أَيْ يُنْسَبَ إِلَى الْخِيَانَةِ، قَالَ الْمُبَرِّدُ تَقُولُ الْعَرَبُ: أَكْفَرْتُ الرَّجُلَ جَعَلْتُهُ كَافِرًا وَنَسَبْتُهُ إِلَى الْكُفْرِ، قَالَ الْعُتْبِيُّ: لَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ لَقِيلَ: يُغَلَّلُ، كَمَا قِيلَ: يُفَسَّقُ وَيُفَجَّرُ وَيُكَفَّرُ، وَالْأَوْلَى: أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مِنْ أَغْلَلْتُهُ، أَيْ وَجَدْتُهُ غَالًّا، كَمَا يُقَالُ أَبْخَلْتُهُ وَأَفْحَمْتُهُ، أَيْ وَجَدْتُهُ كَذَلِكَ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ يَقْرُبُ مَعْنَاهَا مِنْ مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، لِأَنَّ

هَذَا الْمَعْنَى لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ هُوَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُوجَدَ النَّبِيُّ غَالًّا، لِأَنَّهُ يُوجَدُ غَالًّا إِلَّا إِذَا كَانَ غَالًّا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْغُلُولَ هُوَ الْخِيَانَةُ، إِلَّا أَنَّهُ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ صَارَ مَخْصُوصًا بِالْخِيَانَةِ فِي الْغَنِيمَةِ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا أَيْضًا فِي غَيْرِ الْغَنِيمَةِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُنَبِّئَكُمْ بِأَكْبَرِ الْغُلُولِ الرَّجُلَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا الدَّارُ وَالْأَرْضُ فَإِنِ اقْتَطَعَ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ مَوْضِعَ حَصَاةٍ طُوِّقَهَا مِنَ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ» وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ الْمَعْنَى كَوْنُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مُبَرَّأً عَنْ جَمِيعِ الْخِيَانَاتِ، وَكَيْفَ لَا نَقُولُ ذَلِكَ وَالْكَفَّارُ كَانُوا يَبْذُلُونَ لَهُ الْأَمْوَالَ الْعَظِيمَةَ لِتَرْكِ ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِمَنْ كَانَ كَذَلِكَ وَكَانَ أَمِينًا لِلَّهِ فِي الوحي النازل اليه من فوق سبع سموات أَنْ يَخُونَ النَّاسَ! ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ/ الْمُفَسِّرِينَ إِجْرَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا، قَالُوا: وَهِيَ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي مَانِعِ الزَّكَاةِ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا [التَّوْبَةِ: 35] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «لَا أُلْفَيَنَّ أَحَدُكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ فَيُنَادِي يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ بَلَّغْتُكَ» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: يُمَثَّلُ لَهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: انْزِلْ إِلَيْهِ فَخُذْهُ فَيَنْزِلُ إِلَيْهِ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ حَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ. قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى رَقَبَتِهِ ذَلِكَ الْغُلُولُ ازْدَادَتْ فَضِيحَتُهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ ظَاهِرَهُ، بَلِ الْمَقْصُودُ تَشْدِيدُ الْوَعِيدِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَالتَّصْوِيرِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [لُقْمَانَ: 16] فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ نَفْسَ هَذَا الظَّاهِرِ: بَلِ الْمَقْصُودُ إِثْبَاتُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ وَعَنْ حِفْظِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، فَكَذَا هَاهُنَا الْمَقْصُودُ تَشْدِيدُ الْوَعِيدِ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْفَظُ عَلَيْهِ هَذَا الْغُلُولَ وَيُعَزِّرُهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُجَازِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ. الثَّانِي: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْكَعْبِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يَشْتَهِرُ بِذَلِكَ مِثْلَ اشْتِهَارِ مَنْ يَحْمِلُ ذَلِكَ الشَّيْءَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ يُحْتَمَلُ إِلَّا أَنَّ الْأَصْلَ الْمُعْتَبَرَ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ يَجِبُ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِلَّا إِذَا قَامَ دَلِيلٌ يَمْنَعُ مِنْهُ، وَهَاهُنَا لَا مَانِعَ مِنْ هَذَا الظَّاهِرِ، فَوَجَبَ إِثْبَاتُهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هَلَّا قِيلَ ثُمَّ يُوَفَّى مَا كَسَبَ لِيَتَّصِلَ بِمَا قَبْلَهُ؟ وَالْجَوَابُ: الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا الْعُمُومِ أَنَّ صَاحِبَ الْغُلُولِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ هَاهُنَا مُجَازِيًا يُجَازِي كُلَّ أَحَدٍ عَلَى عَمَلِهِ سَوَاءٌ كَانَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَخَلِّصٍ مِنْ بَيْنِهِمْ مَعَ عِظَمِ مَا اكْتَسَبَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: الْمُعْتَزِلَةُ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذَا فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ الْعَبْدِ فَاعِلًا، وَفِي إِثْبَاتِ وَعِيدِ الْفُسَّاقِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ الْجَزَاءَ عَلَى كَسْبِهِ، فَلَوْ كَانَ كَسْبُهُ خَلْقًا لِلَّهِ لَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى يُجَازِيهِ عَلَى مَا خَلَقَهُ فِيهِ. وأما الثاني: فلأنه تعالى قال في القائل الْمُتَعَمِّدِ: فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ [النِّسَاءِ: 93] وَأَثْبَتَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ عَامِلٍ يَصِلُ إِلَيْهِ جَزَاؤُهُ فَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ الْقَطْعُ بِوَعِيدِ الْفُسَّاقِ.

[سورة آل عمران (3) : آية 162]

أَمَّا سُؤَالُ الْفِعْلِ فَجَوَابُهُ الْمُعَارَضَةُ بِالْعِلْمِ، وَأَمَّا سُؤَالُ الْوَعِيدِ فَهَذَا الْعُمُومُ مَخْصُوصٌ/ فِي صُورَةِ التَّوْبَةِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا فِي صُورَةِ الْعَفْوِ لِلدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَفْوِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ قَالَ الْقَاضِيَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الظُّلْمَ مُمْكِنٌ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْقُصَ مِنَ الثَّوَابِ أَوْ يَزِيدَ فِي الْعِقَابِ، قَالَ: وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إِلَّا عَلَى قَوْلِنَا دُونَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ مِنَ الْمُجْبِرَةِ: إِنَّ أَيَّ شَيْءٍ فَعَلَهُ تَعَالَى فَهُوَ عَدْلٌ وَحِكْمَةٌ لِأَنَّهُ الْمَالِكُ. الْجَوَابُ: نَفْيُ الظُّلْمِ عَنْهُ لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ قَوْلِهِ: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [الْبَقَرَةِ: 255] لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِمَا عليه. [سورة آل عمران (3) : آية 162] أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ [آل عمران: 161] أَتْبَعَهُ بِتَفْصِيلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ جَزَاءَ الْمُطِيعِينَ مَا هُوَ، وَجَزَاءَ الْمُسِيئِينَ مَا هُوَ، فَقَالَ: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ فِي تَرْكِ الْغُلُولِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ فِي فِعْلِ الْغُلُولِ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَالضَّحَّاكِ. الثَّانِي: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ بِالْكُفْرِ بِهِ وَالِاشْتِغَالِ بِمَعْصِيَتِهِ، الثَّالِثُ: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ وَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ، كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، الرَّابِعُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: لَمَّا حَمَلَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ إِلَى أَنْ يَحْمِلُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَفَعَلَهُ بَعْضُهُمْ وَتَرَكَهُ آخَرُونَ. فَقَالَ: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ وَهُمُ الَّذِينَ امْتَثَلُوا أَمْرَهُ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَقْبَلُوا قَوْلَهُ، وَقَالَ الْقَاضِي: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ قصر اللفظ عليه لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْكُلَّ. لأن كل من أقدم على الطاعة فهو داخل تحت قوله أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ وَكُلُّ مَنْ أَخْلَدَ إِلَى مُتَابَعَةِ النَّفْسِ وَالشَّهْوَةِ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْآيَةَ نَازِلَةٌ فِي وَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، لَكِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ لَا يَبْطُلُ لِأَجْلِ خُصُوصِ السَّبَبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أَفَمَنِ اتَّبَعَ الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: أَمِنَ اتَّقَى فَاتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: باءَ بِسَخَطٍ أَيِ احْتَمَلَهُ وَرَجَعَ بِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: رُضْوَانَ اللَّهِ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ وَهُمَا مَصْدَرَانِ، فَالضَّمُّ كَالْكُفْرَانِ، وَالْكَسْرُ كَالْحِسْبَانِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ مِنْ صِلَةِ مَا قَبْلَهُ وَالتَّقْدِيرُ: كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَكَانَ مَأْوَاهُ جَهَنَّمَ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ فَمُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ وَهُوَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ، كَأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ جَهَنَّمَ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ صِفَتِهَا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ [الْجَاثِيَةِ: 21] وَقَوْلُهُ: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ [السَّجْدَةِ: 18] وَقَوْلُهُ: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] وَاحْتَجَّ الْقَوْمُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُدْخِلَ الْمُطِيعِينَ فِي

[سورة آل عمران (3) : آية 163]

النَّارِ، وَأَنْ يُدْخِلَ الْمُذْنِبِينَ الْجَنَّةَ، وَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فِي الْعُقُولِ، وَإِلَّا لَمَا حَسُنَ هَذَا الِاسْتِبْعَادُ، وَأَكَّدَ الْقَفَّالُ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ فِي الْحِكْمَةِ أَنْ يُسَوَّى الْمُسِيءُ بِالْمُحْسِنِ، فَإِنَّ فِيهِ إِغْرَاءً بِالْمَعَاصِي وَإِبَاحَةً لَهَا وَإِهْمَالًا للطاعات. [سورة آل عمران (3) : آية 163] هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) [في قوله تَعَالَى هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ] وَفِيهِ مَسَائِلُ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ، إِلَّا أَنَّهُ حَسُنَ هَذَا الْحَذْفُ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ أَعْمَالِهِمْ قَدْ صَيَّرَتْهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي ذَوَاتِهَا. فَكَانَ هَذَا الْمَجَازُ أَبْلَغَ مِنَ الْحَقِيقَةِ وَالْحُكَمَاءُ يَقُولُونَ: إِنَّ النُّفُوسَ الْإِنْسَانِيَّةَ مُخْتَلِفَةٌ بِالْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ، فَبَعْضُهَا ذَكِيَّةٌ وَبَعْضُهَا بَلِيدَةٌ، وَبَعْضُهَا مُشْرِقَةٌ نُورَانِيَّةٌ، وَبَعْضُهَا كَدِرَةٌ ظُلْمَانِيَّةٌ، وَبَعْضُهَا خَيِّرَةٌ وَبَعْضُهَا نَذِلَةٌ، وَاخْتِلَافُ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَيْسَ لِاخْتِلَافِ الْأَمْزِجَةِ الْبَدَنِيَّةِ، بَلْ لِاخْتِلَافِ مَاهِيَّاتِ النُّفُوسِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» وَقَالَ: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ» وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ النَّاسَ فِي أَنْفُسِهِمْ دَرَجَاتٌ، لَا أَنَّ لَهُمْ دَرَجَاتٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هُمْ عَائِدٌ إِلَى لَفْظِ «مَنْ» فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ [آل عمران: 162] وَلَفْظُ «مَنْ» يُفِيدُ الْجَمْعَ فِي الْمَعْنَى، فَلِهَذَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: هُمْ عَائِدًا إِلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ فَإِنَّ قَوْلَهُ: يَسْتَوُونَ صِيغَةُ الْجَمْعِ وَهُوَ عَائِدٌ إِلَى «مَنْ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هُمْ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى شَيْءٍ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ وَذِكْرُ مَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ، فَهَذَا الضَّمِيرُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْأَوَّلِ، أَوْ إِلَى الثَّانِي، أَوْ إِلَيْهِمَا مَعًا، وَالِاحْتِمَالَاتُ لَيْسَتْ إِلَّا هَذِهِ الثَّلَاثَةَ. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أن يكون عائدا الى فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ وَتَقْدِيرُهُ: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ سَوَاءٌ، لَا بَلْ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِهِمْ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى مَنِ اتَّبَعَ الرِّضْوَانَ وَأَنَّهُ أَوْلَى، وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْعُرْفِ اسْتِعْمَالُ الدَّرَجَاتِ فِي أَهْلِ الثَّوَابِ، وَالدَّرَكَاتِ فِي أَهْلِ الْعِقَابِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ مَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ أَنَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: هُمْ دَرَجاتٌ وَصْفًا لِمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ عَادَةَ الْقُرْآنِ فِي الْأَكْثَرِ جَارِيَةٌ بِأَنَّ مَا كَانَ مِنَ الثَّوَابِ وَالرَّحْمَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِيفُهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْعِقَابِ لَا يُضِيفُهُ إِلَى نَفْسِهِ، قَالَ تَعَالَى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَقَالَ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [الْبَقَرَةِ: 178] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [البقرة: 183] فما أَضَافَ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ إِلَى نَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ صِفَةُ أَهْلِ الثَّوَابِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ مُتَأَكِّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 21] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: هُمْ دَرَجاتٌ عَائِدًا عَلَى كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَالْحُجَّةُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْأَقْرَبِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، قَالَ: وَالْمُرَادُ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ مُتَفَاوِتُونَ فِي مَرَاتِبِ الْعَذَابِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأحقاف: 19] وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِيهَا ضَحْضَاحًا وَغَمْرًا وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَبُو طَالِبٍ فِي ضَحْضَاحِهَا» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ يُحْذَى لَهُ نَعْلَانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْ حَرِّهِمَا دِمَاغُهُ يُنَادِي يَا رَبِّ وَهَلْ أَحَدٌ يُعَذَّبُ عَذَابِي» . الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: هُمْ عَائِدًا إِلَى الْكُلِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ دَرَجَاتِ أَهْلِ الثَّوَابِ مُتَفَاوِتَةٌ، وَدَرَجَاتِ أَهْلِ الْعُقَابِ أَيْضًا مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِ أَعْمَالِ الْخَلْقِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ

[سورة آل عمران (3) : آية 164]

وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7، 8] فَلَمَّا تَفَاوَتَتْ مَرَاتِبُ الْخَلْقِ فِي أَعْمَالِ الْمَعَاصِي وَالطَّاعَاتِ وَجَبَ أَنْ تَتَفَاوَتَ مَرَاتِبُهُمْ فِي دَرَجَاتِ الْعِقَابِ وَالثَّوَابِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: عِنْدَ اللَّهِ أَيْ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ، فَهُوَ كَمَا يُقَالُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَذَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَذَا، وَبِهَذَا يَظْهَرُ فَسَادُ اسْتِدْلَالِ الْمُشَبِّهَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 19] وَقَوْلِهِ: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَرِ: 55] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يُوَفِّي لِكُلِّ أَحَدٍ بقدر عمله جزاء، وَهَذَا لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْخَالِي عَنِ الظَّنِّ وَالرَّيْبِ وَالْحُسْبَانِ، أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ كَوْنِهِ عَالِمًا بِالْكُلِّ تَأْكِيدًا لِذَلِكَ الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ صَاحِبُ الْمَغَازِي فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران: 161] وَجْهًا آخَرَ فَقَالَ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أَيْ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكْتُمَ النَّاسَ مَا بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ إِلَيْهِمْ رَغْبَةً فِي النَّاسِ أَوْ رَهْبَةً عَنْهُمْ ثُمَّ قَالَ: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ يَعْنِي رَجَّحَ رِضْوَانَ اللَّهِ عَلَى رِضْوَانِ الْخَلْقِ، وَسَخَطَ اللَّهِ عَلَى سَخَطِ الْخَلْقِ، كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ فَرَجَّحَ سَخَطَ الْخَلْقِ عَلَى سَخَطِ اللَّهِ، وَرِضْوَانَ الْخَلْقِ عَلَى رِضْوَانِ اللَّهِ، وَوَجْهُ النَّظْمِ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159] بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا إِذَا كَانَ عَلَى وَفْقِ الدِّينِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ الدِّينِ فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَبَيْنَ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ الْخَلْقِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُحْتَمَلٌ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْغُلُولَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخِيَانَةِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ، وَأَمَّا أَنَّ اخْتِصَاصَ هَذَا اللَّفْظِ بِالْخِيَانَةِ فِي الْغَنِيمَةِ فهو عرف حادث. [سورة آل عمران (3) : آية 164] لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) اعْلَمْ أَنَّ فِي وَجْهِ النَّظْمِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ خَطَأَ مَنْ نَسَبَهُ إِلَى الْغُلُولِ وَالْخِيَانَةِ أَكَّدَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الرَّسُولَ وُلِدَ فِي بَلَدِهِمْ وَنَشَأَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ طُولَ عُمُرِهِ إِلَّا الصِّدْقُ وَالْأَمَانَةُ وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِمَنْ هَذَا حَالُهُ الْخِيَانَةُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ خَطَأَهُمْ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى الْخِيَانَةِ وَالْغُلُولِ قَالَ: لَا أَقْنَعُ بِذَلِكَ وَلَا أَكْتَفِي فِي حَقِّهِ بِأَنْ أُبَيِّنَ بَرَاءَتَهُ عَنِ الْخِيَانَةِ وَالْغُلُولِ، وَلَكِنِّي أَقُولُ: إِنَّ وُجُودَهُ فِيكُمْ مِنْ أَعْظَمِ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فَإِنَّهُ يُزَكِّيكُمْ عَنِ الطَّرِيقِ الْبَاطِلَةِ، وَيُعَلِّمُكُمُ الْعُلُومَ النَّافِعَةَ لَكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وَفِي دِينِكُمْ، فَأَيُّ عَاقِلٍ يَخْطُرُ بِبَالِهِ أَنْ يَنْسُبَ مِثْلَ هَذَا الْإِنْسَانِ إِلَى الْخِيَانَةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّهُ مِنْكُمْ وَمِنْ أَهْلِ بَلَدِكُمْ وَمِنْ أَقَارِبِكُمْ، وَأَنْتُمْ أَرْبَابُ الْخُمُولِ/ وَالدَّنَاءَةِ، فَإِذَا شَرَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَخَصَّهُ بِمَزَايَا الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ مِنْ جَمِيعِ الْعَالَمِينَ، حَصَلَ لَكُمْ شَرَفٌ عَظِيمٌ بِسَبَبِ كَوْنِهِ فِيكُمْ، فَطَعْنُكُمْ فِيهِ وَاجْتِهَادُكُمْ فِي نِسْبَةِ الْقَبَائِحِ إِلَيْهِ عَلَى خِلَافِ الْعَقْلِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الشَّرَفِ وَالْمَنْقَبَةِ بِحَيْثُ يَمُنُّ اللَّهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يُعِينَهُ بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحَارِبُوا أَعْدَاءَهُ وَأَنْ تَكُونُوا مَعَهُ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ وَالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْعَوْدُ إِلَى تَرْغِيبِ الْمُسْلِمِينَ فِي مُجَاهَدَةِ الكفار [في قَوْلُهُ تَعَالَى لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لِلْمَنِّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: الَّذِي يَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى [الْبَقَرَةِ: 57] وَثَانِيهَا: أَنْ تَمُنَّ بِمَا أَعْطَيْتَ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَةِ: 264] وَثَالِثُهَا: الْقَطْعُ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [فُصِّلَتْ: 8] وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ [القلم: 3] وَرَابِعُهَا: الْإِنْعَامُ وَالْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ لَا تَطْلُبُ الْجَزَاءَ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: هَذَا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ [ص: 39] وَقَوْلُهُ: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَالْمَنَّانُ فِي صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى: الْمُعْطِي ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ عِوَضًا وَقَوْلُهُ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَيْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ بِبَعْثِهِ هَذَا الرَّسُولَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ بِعْثَةَ الرَّسُولِ إِحْسَانٌ إِلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وَجْهَ الْإِحْسَانِ فِي بِعْثَتِهِ كَوْنُهُ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى مَا يُخَلِّصُهُمْ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ وَيُوَصِّلُهُمْ إِلَى ثَوَابِ اللَّهِ، وَهَذَا عَامٌّ فِي حَقِّ الْعَالَمِينَ، لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سَبَأٍ: 28] إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَذَا الْإِنْعَامِ إِلَّا أَهْلُ الْإِسْلَامِ، فَلِهَذَا التَّأْوِيلِ خَصَّ تَعَالَى هَذِهِ الْمِنَّةَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: 2] مَعَ أَنَّهُ هُدًى لِلْكُلِّ، كَمَا قَالَ: هُدىً لِلنَّاسِ [الْبَقَرَةِ: 185] وَقَوْلُهُ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النَّازِعَاتِ: 45] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ بَعْثَةَ الرَّسُولِ إِحْسَانٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْخَلْقِ ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِالرَّسُولِ أَكْثَرَ كَانَ وَجْهُ الْإِنْعَامِ فِي بَعْثَةِ الرُّسُلِ أَكْثَرَ، وَبَعْثَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمَنَافِعُ الْحَاصِلَةُ مِنْ أَصْلِ الْبَعْثَةِ، وَالثَّانِي: الْمَنَافِعُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِ مَا فِيهِ مِنَ الْخِصَالِ الَّتِي مَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي غَيْرِهِ. أَمَّا الْمَنْفَعَةُ بِسَبَبِ أَصْلِ الْبَعْثَةِ فَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النِّسَاءِ: 165] قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيُّ: وَجْهُ الِانْتِفَاعِ بِبَعْثَةِ الرُّسُلِ لَيْسَ إِلَّا فِي طَرِيقِ الدِّينِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخَلْقَ جُبِلُوا عَلَى النُّقْصَانِ وَقِلَّةِ الْفَهْمِ وَعَدَمِ الدِّرَايَةِ، فَهُوَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَوْرَدَ عَلَيْهِمْ وُجُوهَ الدَّلَائِلِ وَنَقَّحَهَا، وَكُلَّمَا خَطَرَ بِبَالِهِمْ شَكٌّ أَوْ شُبْهَةٌ أَزَالَهَا وَأَجَابَ عَنْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَلْقَ وَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ خِدْمَةِ مَوْلَاهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ مَا كَانُوا عَارِفِينَ بِكَيْفِيَّةِ تِلْكَ الْخِدْمَةِ، فَهُوَ شَرَحَ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةَ لَهُمْ حَتَّى يُقْدِمُوا عَلَى الْخِدْمَةِ آمَنِينَ مِنَ/ الْغَلَطِ وَمِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْخَلْقَ جُبِلُوا عَلَى الْكَسَلِ وَالْغَفْلَةِ وَالتَّوَانِي وَالْمَلَالَةِ فَهُوَ يُورِدُ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعَ التَّرْغِيبَاتِ وَالتَّرْهِيبَاتِ حَتَّى إِنَّهُ كُلَّمَا عَرَضَ لَهُمْ كَسَلٌ أَوْ فُتُورٌ نَشَّطَهُمْ لِلطَّاعَةِ وَرَغَّبَهُمْ فِيهَا. الرَّابِعُ: أَنَّ أَنْوَارَ عُقُولِ الْخَلْقِ تَجْرِي مَجْرَى أَنْوَارِ الْبَصَرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِنُورِ الْبَصَرِ لَا يَكْمُلُ إِلَّا عِنْدَ سُطُوعِ نُورِ الشَّمْسِ، وَنُورُهُ عَقْلِيٌّ إِلَهِيٌّ يَجْرِي مَجْرَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَيُقَوِّي الْعُقُولَ بِنُورِ عَقْلِهِ، وَيَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ لَوَائِحِ الْغَيْبِ مَا كَانَ مُسْتَتِرًا عَنْهُمْ قَبْلَ ظُهُورِهِ، فَهَذَا إِشَارَةٌ حَقِيقِيَّةٌ إِلَى فَوَائِدِ أَصْلِ الْبَعْثَةِ. وَأَمَّا الْمَنَافِعُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِ مَا كَانَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصِّفَاتِ، فَأُمُورٌ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوَّلُهَا قَوْلُهُ: مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الِانْتِفَاعِ بِهَذَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وُلِدَ فِي بَلَدِهِمْ وَنَشَأَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَهُمْ كَانُوا عَارِفِينَ بِأَحْوَالِهِ مُطَّلِعِينَ عَلَى جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، فَمَا شَاهَدُوا مِنْهُ مِنْ أَوَّلِ عُمُرِهِ إِلَى آخِرِهِ إِلَّا الصِّدْقَ وَالْعَفَافَ، وَعَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الدُّنْيَا وَالْبُعْدِ عَنِ الْكَذِبِ، وَالْمُلَازَمَةِ عَلَى الصِّدْقِ، وَمَنْ عَرَفَ مِنْ أَحْوَالِهِ مِنْ أَوَّلِ الْعُمُرِ إِلَى آخِرِهِ مُلَازَمَتَهُ الصِّدْقَ وَالْأَمَانَةَ، وَبُعْدَهُ عَنِ الْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ، ثُمَّ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ الَّتِي يَكُونُ

الْكَذِبُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى أَقْبَحَ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ، يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى. الثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّهُ لَمْ يُتَلْمَذْ لِأَحَدٍ وَلَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا وَلَمْ يُمَارِسْ دَرْسًا وَلَا تَكْرَارًا، وَأَنَّهُ إِلَى تَمَامِ الْأَرْبَعِينَ لَمْ يَنْطِقِ الْبَتَّةَ بِحَدِيثِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ ادَّعَى الرِّسَالَةَ وَظَهَرَ عَلَى لِسَانِهِ مِنَ الْعُلُومِ مَا لَمْ يَظْهَرْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ إِنَّهُ يَذْكُرُ قِصَصَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَحْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ الْمَاضِينَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا فِي كُتُبِهِمْ، فَكُلُّ مَنْ لَهُ عَقْلٌ سَلِيمٌ عَلِمَ أَنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِالْوَحْيِ السَّمَاوِيِّ وَالْإِلْهَامِ الْإِلَهِيِّ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ بَعْدَ ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ عَرَضُوا عَلَيْهِ الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ وَالْأَزْوَاجَ لِيَتْرُكَ هَذِهِ الدَّعْوَى فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ قَنِعَ بِالْفَقْرِ وَصَبَرَ عَلَى الْمَشَقَّةِ، وَلَمَّا عَلَا أَمْرُهُ وَعَظُمَ شَأْنُهُ وَأَخَذَ الْبِلَادَ وَعَظُمَتِ الْغَنَائِمُ لَمْ يُغَيِّرْ طَرِيقَهُ فِي الْبُعْدِ عَنِ الدُّنْيَا وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَالْكَاذِبُ إِنَّمَا يُقْدِمُ عَلَى الْكَذِبِ لِيَجِدَ الدُّنْيَا، فَإِذَا وَجَدَهَا تَمَتَّعَ بِهَا وَتَوَسَّعَ فِيهَا، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ صَادِقًا. الرَّابِعُ: أَنَّ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا تَقْرِيرُ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوَّةِ وَإِثْبَاتُ الْمَعَادِ وَشَرْحُ الْعِبَادَاتِ وَتَقْرِيرُ الطَّاعَاتِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَمَالُ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ، وَالْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ كِتَابُهُ لَيْسَ إِلَّا فِي تَقْرِيرِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عَلِمَ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا يَقُولُهُ. الْخَامِسُ: أَنَّ قَبْلَ مَجِيئِهِ كَانَ دِينُ الْعَرَبِ أَرْذَلَ الْأَدْيَانِ وَهُوَ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ، / وَأَخْلَاقُهُمْ أَرْذَلَ الْأَخْلَاقِ وَهُوَ الْغَارَةُ وَالنَّهْبُ وَالْقَتْلُ وَأَكْلُ الْأَطْعِمَةِ الرَّدِيئَةِ. ثُمَّ لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقَلَهُمُ اللَّهُ بِبَرَكَةِ مَقْدَمِهِ مِنْ تِلْكَ الدَّرَجَةِ الَّتِي هِيَ أَخَسُّ الدَّرَجَاتِ إِلَى أَنْ صَارُوا أَفْضَلَ الْأُمَمِ فِي الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وعدم الالتفات إلى الدنيا وطياتها وَلَا شَكَّ أَنَّ فِيهِ أَعْظَمَ الْمِنَّةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْوُجُوهَ فَنَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وُلِدَ فِيهِمْ وَنَشَأَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَكَانُوا مُشَاهِدِينَ لِهَذِهِ الْأَحْوَالِ، مُطَّلِعِينَ عَلَى هَذِهِ الدَّلَائِلِ، فَكَانَ إِيمَانُهُمْ مَعَ مُشَاهَدَةِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَسْهَلَ مِمَّا إِذَا لَمْ يَكُونُوا مُطَّلِعِينَ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ. فَلِهَذِهِ الْمَعَانِي مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِكَوْنِهِ مَبْعُوثًا مِنْهُمْ فَقَالَ: إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ مِنَ المنة وذلك لأنه صار شرفا للعرب وفخر لَهُمْ، كَمَا قَالَ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزُّخْرُفِ: 44] وَذَلِكَ لِأَنَّ الِافْتِخَارَ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُشْتَرَكًا فِيهِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْعَرَبِ. ثُمَّ إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِمُوسَى وَعِيسَى وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَمَا كَانَ لِلْعَرَبِ مَا يُقَابِلُ ذَلِكَ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنْزَلَ الْقُرْآنَ صَارَ شَرَفُ الْعَرَبِ بِذَلِكَ زَائِدًا عَلَى شَرَفِ جَمِيعِ الْأُمَمِ، فَهَذَا هُوَ وَجْهُ الْفَائِدَةِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَنْفُسِهِمْ. ثُمَّ قال بعد ذلك: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَمَالَ حَالِ الْإِنْسَانِ فِي أَمْرَيْنِ: فِي أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ، وَالْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: لِلنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ قُوَّتَانِ، نَظَرِيَّةٌ وَعَمَلِيَّةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَكُونَ سَبَبًا لِتَكْمِيلِ الْخَلْقِ فِي هاتين القوتين، فقوله: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ مُبَلِّغًا لِذَلِكَ الْوَحْيِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَى الْخَلْقِ، وَقَوْلُهُ: وَيُزَكِّيهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى تَكْمِيلِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ بِحُصُولِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ والْكِتابَ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ التَّأْوِيلِ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى الْكِتابَ إِشَارَةٌ إِلَى ظَوَاهِرِ الشَّرِيعَةِ وَالْحِكْمَةَ إِشَارَةٌ إِلَى مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَأَسْرَارِهَا وَعِلَلِهَا وَمَنَافِعِهَا، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا تَتَكَمَّلُ بِهِ هَذِهِ النِّعْمَةُ وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، لِأَنَّ النِّعْمَةَ إِذَا وَرَدَتْ بَعْدَ الْمِحْنَةِ كَانَ تَوَقُّعُهَا أَعْظَمَ، فَإِذَا كَانَ وَجْهُ النِّعْمَةِ الْعِلْمَ وَالْإِعْلَامَ، وَوَرَدَا عَقِيبَ الْجَهْلِ وَالذَّهَابِ عَنِ الدِّينِ، كَانَ أَعْظَمَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضحى: 7] .

[سورة آل عمران (3) : آية 165]

[سورة آل عمران (3) : آية 165] أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) [في قَوْلُهُ تَعَالَى أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ طَعَنُوا فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ نَسَبُوهُ إِلَى الْغُلُولِ وَالْخِيَانَةِ، حَكَى عَنْهُمْ شُبْهَةً أُخْرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَمَا انْهَزَمَ عَسْكَرُهُ مِنَ الْكُفَّارِ فِي يَوْمِ أُحُدٍ: وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَنَّى هَذَا، وَأَجَابَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أَيْ هَذَا الِانْهِزَامُ إِنَّمَا حَصَلَ بِشُؤْمِ عِصْيَانِكُمْ فَهَذَا بَيَانُ وَجْهِ النَّظْمِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَقْرِيرُ الْآيَةِ: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ الْمُرَادُ مِنْهَا وَاقِعَةُ أُحُدٍ، وَفِي قَوْلِهِ: قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ مَعْنَاهُ قَدْ أَصَبْتُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعِينَ، وَقَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ هَزَمُوا الْكُفَّارَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهَزَمُوهُمْ أَيْضًا فِي الْأَوَّلِ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ لَمَّا عَصَوْا هَزَمَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَانْهِزَامُ الْمُشْرِكِينَ حَصَلَ مَرَّتَيْنِ، وَانْهِزَامُ الْمُسْلِمِينَ حَصَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهَذَا اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ: وَطَعَنَ الْوَاحِدِيُّ فِي هَذَا الْوَجْهِ فَقَالَ: كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ نَالُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَكَذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ نَالُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَكِنَّهُمْ مَا هَزَمُوا الْمُسْلِمِينَ الْبَتَّةَ، أَمَّا يَوْمَ أُحُدٍ فَالْمُسْلِمُونَ هَزَمُوا الْمُشْرِكِينَ أَوَّلًا ثُمَّ انْقَلَبَ الْأَمْرُ. المسألة الثانية: الفائدة في قوله: قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ أُمُورَ الدُّنْيَا لَا تَبْقَى عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا هَزَمْتُمُوهُمْ مَرَّتَيْنِ فَأَيُّ اسْتِبْعَادٍ فِي أَنْ يَهْزِمُوكُمْ مَرَّةً وَاحِدَةً، أَمَّا قَوْلُهُ: قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: سَبَبُ تَعَجُّبِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا نَحْنُ نَنْصُرُ الْإِسْلَامَ الَّذِي هُوَ دِينُ الْحَقِّ، وَمَعَنَا الرَّسُولُ، وَهُمْ يَنْصُرُونَ دِينَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَالْكُفْرَ، فَكَيْفَ صَارُوا مَنْصُورِينَ عَلَيْنَا! وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا أَدْرَجَهُ عِنْدَ حِكَايَةِ السُّؤَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها يَعْنِي أَنَّ أَحْوَالَ الدُّنْيَا لَا تَبْقَى عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا أَصَبْتُمْ مِنْهُمْ مِثْلَيْ هَذِهِ/ الْوَاقِعَةِ فَكَيْفَ تَسْتَبْعِدُونَ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ؟ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ قُلْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّكُمْ إِنَّمَا وَقَعْتُمْ فِي هَذِهِ الْمُصِيبَةِ بِشُؤْمِ مَعْصِيَتِكُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَصَوُا الرَّسُولَ فِي أُمُورٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: الْمَصْلَحَةُ فِي أَنْ لَا نَخْرُجَ مِنَ الْمَدِينَةِ بَلْ نَبْقَى هاهنا، وَهُمْ أَبَوْا إِلَّا الْخُرُوجَ، فَلَمَّا خَالَفُوهُ تَوَجَّهَ إِلَى أُحُدٍ. وَثَانِيهَا: مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ فَشَلِهِمْ. وَثَالِثُهَا: مَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُنَازَعَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمْ فَارَقُوا الْمَكَانَ وَفَرَّقُوا الْجَمْعَ. وَخَامِسُهَا: اشْتِغَالُهُمْ بِطَلَبِ الْغَنِيمَةِ وَإِعْرَاضُهُمْ عَنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ، فَهَذِهِ الوجوه كلها ذنوب ومعاصي، وَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا وَعَدَهُمُ النَّصْرَ بِشَرْطِ تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، كَمَا قَالَ: إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 125] فَلَمَّا فَاتَ الشَّرْطُ لَا جَرَمَ فَاتَ الْمَشْرُوطُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ: مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَرِهَ مَا صَنَعَ قَوْمُكَ فِي أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ مِنَ الْأُسَارَى، وَقَدْ أَمَرَكَ أن تخيرهم

[سورة آل عمران (3) : الآيات 166 إلى 167]

بَيْنَ أَنْ يُقَدِّمُوا الْأُسَارَى فَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوا الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ تُقْتَلَ مِنْهُمْ عِدَّتُهُمْ، فَذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لِقَوْمِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَشَائِرُنَا وَإِخْوَانُنَا نَأْخُذُ الْفِدَاءَ مِنْهُمْ، فَنَتَقَوَّى بِهِ عَلَى قِتَالِ الْعَدُوِّ، وَنَرْضَى أَنْ يُسْتَشْهَدَ مِنَّا بِعَدَدِهِمْ، فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ رَجُلًا عَدَدُ أُسَارَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أَيْ بِأَخْذِ الْفِدَاءِ وَاخْتِيَارِكُمُ الْقَتْلَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَاصِلًا بِخَلْقِ اللَّهِ وَلَا تَأْثِيرَ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فِيهِ، كَانَ قَوْلُهُ: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ كَذِبًا، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقَوْمَ تَعَجَّبُوا أَنَّ اللَّهَ كَيْفَ يُسَلِّطُ الْكَافِرَ عَلَى الْمُؤْمِنِ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَزَالَ التَّعَجُّبَ بِأَنْ ذَكَرَ أَنَّكُمْ إِنَّمَا وَقَعْتُمْ فِي هَذَا الْمَكْرُوهِ بِسَبَبِ شُؤْمِ فِعْلِكُمْ، فَلَوْ كَانَ فِعْلُهُمْ خَلْقًا لِلَّهِ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْجَوَابُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا: أَنَّى هَذَا، أَيْ مِنْ أَيْنَ هَذَا فَهَذَا طَلَبٌ لِسَبَبِ الْحُدُوثِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمُحْدِثُ لَهَا هُوَ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنِ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِ أَفْعَالِ الْعَبْدِ بِإِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ أَيْ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى نَصْرِكُمْ لَوْ ثَبَتُّمْ وَصَبَرْتُمْ، كَمَا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى التَّخْلِيَةِ إِذَا خالفتم وعصيتم، وأحج أَصْحَابُنَا بِهَذَا عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى قَالُوا: إِنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ شَيْءٌ فَيَكُونُ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى قَادِرًا عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِهِ، فَلَوْ أَوْجَدَهُ الْعَبْدُ امْتَنَعَ كَوْنُهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى إِيجَادِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْجَدَهُ الْعَبْدُ امْتَنَعَ مِنَ اللَّهِ إِيجَادُهُ، لِأَنَّ إِيجَادَ الْمَوْجُودِ مُحَالٌ/ فَلَمَّا كَانَ كَوْنُ الْعَبْدِ مُوجِدًا لَهُ يُفْضِي إِلَى هَذَا الْمُحَالِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْعَبْدُ مُوجِدًا له والله أعلم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 166 الى 167] وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قوله: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [آل عمران: 165] فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهَا أَصَابَتْهُمْ بِذَنْبِهِمْ وَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا أَصَابَتْهُمْ لِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَتَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُ عَنِ الْمُنَافِقِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ الْمُرَادُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَالْجَمْعَانِ: أَحَدُهُمَا: جَمْعُ الْمُسْلِمِينَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالثَّانِي: جَمْعُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ أَبِي سُفْيَانَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: فَبِإِذْنِ اللَّهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِذْنَ اللَّهِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّخْلِيَةِ وَتَرْكِ الْمُدَافَعَةِ، اسْتَعَارَ الْإِذْنَ لِتَخْلِيَةِ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْهُمْ لِيَبْتَلِيَهُمْ، لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي الشَّيْءِ لَا يَدْفَعُ الْمَأْذُونَ عَنْ مُرَادِهِ، فَلَمَّا كَانَ ترك المدافعة من لوازم الاذن أطلق لفظ الاذن عَلَى تَرْكِ الْمُدَافِعَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فَبِإِذْنِ اللَّهِ: أَيْ بِعِلْمِهِ كَقَوْلِهِ: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 3] أَيْ إِعْلَامٌ، وَكَقَوْلِهِ: آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ [فُصِّلَتْ: 47] وَقَوْلِهِ: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 279] وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنَى العلم. طعن

الْوَاحِدِيُّ فِيهِ فَقَالَ: الْآيَةُ تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِمَّا أَصَابَهُمْ وَلَا تَقَعُ التَّسْلِيَةُ إِلَّا إِذَا كَانَ وَاقِعًا بِعِلْمِهِ، لِأَنَّ عِلْمَهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فَاطِرٍ: 11] . الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِذْنِ الْأَمْرُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 152] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ/ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْمُحَارَبَةِ، ثُمَّ صَارَتْ تِلْكَ الْمُحَارَبَةُ مُؤَدِّيَةً إِلَى ذَلِكَ الِانْهِزَامِ، صَحَّ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ أَنْ يُقَالَ حَصَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِهِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِذْنِ قَضَاءُ اللَّهِ بِذَلِكَ وَحُكْمُهُ بِهِ وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الْآيَةَ تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِمَّا أَصَابَهُمْ، وَالتَّسْلِيَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ إِذَا قِيلَ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، فَحِينَئِذٍ يَرْضَوْنَ بِمَا قَضَى اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَالْمَعْنَى لِيُمَيِّزَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُقَالُ: نَافَقَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُنَافِقٌ إِذَا أَظْهَرَ كَلِمَةَ الْإِيمَانِ وَأَضْمَرَ خِلَافَهَا، وَالنِّفَاقُ اسْمٌ إِسْلَامِيٌّ اخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهِ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ مِنْ نَافِقَاءِ الْيَرْبُوعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جُحْرَ الْيَرْبُوعِ لَهُ بَابَانِ: الْقَاصِعَاءُ وَالنَّافِقَاءُ، فَإِذَا طُلِبَ مِنْ أَيِّهِمَا كَانَ خَرَجَ مِنَ الْآخَرِ فَقِيلَ لِلْمُنَافِقِ إِنَّهُ مُنَافِقٌ، لِأَنَّهُ وَضَعَ لِنَفْسِهِ طَرِيقَيْنِ، إِظْهَارَ الْإِسْلَامِ وَإِضْمَارَ الْكُفْرِ، فَمِنْ أَيِّهِمَا طَلَبْتَهُ خَرَجَ مِنَ الْآخَرِ: الثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمُنَافِقُ مِنَ النَّفَقِ وَهُوَ السِّرْبُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَتَسَتَّرُ بِالْإِسْلَامِ كَمَا يَتَسَتَّرُ الرَّجُلُ فِي السِّرْبِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّافِقَاءِ، لَكِنْ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَهُوَ أَنَّ النَّافِقَاءَ جُحْرٌ يَحْفِرُهُ الْيَرْبُوعُ فِي داخل الأرض، ثم إنه يرقق بما فَوْقَ الْجُحْرِ، حَتَّى إِذَا رَابَهُ رَيْبٌ دَفَعَ التُّرَابَ بِرَأْسِهِ وَخَرَجَ، فَقِيلَ لِلْمُنَافِقِ مُنَافِقٌ لِأَنَّهُ يُضْمِرُ الْكُفْرَ فِي بَاطِنِهِ، فَإِذَا فَتَّشَتْهُ رَمَى عَنْهُ ذَلِكَ الْكُفْرَ وَتَمَسَّكَ بِالْإِسْلَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرُهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لِأَجْلِ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ هَذَا الْعِلْمُ أَذِنَ فِي تِلْكَ الْمُصِيبَةِ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِتَجَدُّدِ عِلْمِ اللَّهِ، وَهَذَا مُحَالٌ فِي حَقِّ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فالمراد هاهنا مِنَ الْعِلْمِ الْمَعْلُومُ، وَالتَّقْدِيرُ: لِيَتَبَيَّنَ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْمُنَافِقِ، وَلِيَتَمَيَّزَ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ حَصَلَ الْإِذْنُ فِي تِلْكَ الْمُصِيبَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ: وَلِيَعْلَمَ إِيمَانَ الْمُؤْمِنِينَ وَنِفَاقَ الْمُنَافِقِينَ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَلَمْ يَقُلْ: وَلِيَعْلَمَ الْمُنَافِقِينَ. قُلْنَا: الِاسْمُ يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَالْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى تَجَدُّدِهِ، وَقَوْلُهُ: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ مُسْتَقِرِّينَ عَلَى إِيمَانِهِمْ مُتَثَبِّتِينَ فِيهِ، وَأَمَّا نافَقُوا فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ إِنَّمَا شَرَعُوا فِي الْأَعْمَالِ اللَّائِقَةِ بِالنِّفَاقِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ مَنْ هُوَ؟ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَصَمُّ: إِنَّهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْقِتَالِ. الثَّانِي: رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الله بن أبي بن سَلُولٍ لَمَّا خَرَجَ بِعَسْكَرِهِ إِلَى أُحُدٍ قَالُوا: لِمَ نُلْقِي أَنْفُسَنَا فِي الْقَتْلِ، فَرَجَعُوا وَكَانُوا ثَلَاثُمِائَةً مِنْ جُمْلَةِ الْأَلْفِ الَّذِينَ خَرَجَ بِهِمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم عبد الله

ابن عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَبُو جَابِرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ: أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ أَنْ تَخْذُلُوا نَبِيَّكُمْ وَقَوْمَكُمْ عِنْدَ حُضُورِ الْعَدُوِّ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقِيلَ لَهُمْ يَعْنِي قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ هَذَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا يَعْنِي إِنْ كَانَ فِي قَلْبِكُمْ حُبُّ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ فَقَاتِلُوا لِلدِّينِ وَالْإِسْلَامِ، وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا كَذَلِكَ، فَقَاتِلُوا دَفْعًا عَنْ أَنْفُسِكُمْ وَأَهْلِيكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، يَعْنِي كُونُوا إِمَّا مِنْ رِجَالِ الدِّينِ، أَوْ مِنْ رِجَالِ الدُّنْيَا. قَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ: ادْفَعُوا عَنَّا الْعَدُوَّ بِتَكْثِيرِ سَوَادِنَا إِنْ لَمْ تُقَاتِلُوا مَعَنَا، قَالُوا: لِأَنَّ الْكَثْرَةَ أَحَدُ أَسْبَابِ الْهَيْبَةِ وَالْعَظَمَةِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُمْ قَدَّمُوا طَلَبَ الدِّينِ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا بُدَّ وَأَنْ يُقَدِّمَ الدِّينَ عَلَى الدُّنْيَا فِي كُلِّ الْمُهِمَّاتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُنَافِقُونَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ لَا يَقْتَتِلَانِ الْبَتَّةَ، فَلِهَذَا رَجَعْنَا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَوْ نَعْلَمُ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُسَمَّى قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ، يَعْنِي أَنَّ الَّذِي يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ لَا يُقَالُ لَهُ قِتَالٌ، وَإِنَّمَا هُوَ إِلْقَاءُ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ لِأَنَّ رَأْيَ عَبْدِ اللَّهِ كَانَ فِي الْإِقَامَةِ بِالْمَدِينَةِ، وَمَا كَانَ يَسْتَصْوِبُ الْخُرُوجَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الظَّنَّ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا قَائِمٌ مَقَامَ الْعِلْمِ، وَأَمَارَاتُ حُصُولِ الْقِتَالِ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَوْ قِيلَ لِهَذَا الْمُنَافِقِ الَّذِي ذَكَرَ هَذَا الْجَوَابَ: فَيَنْبَغِي لَكَ لَوْ شَاهَدْتَ مَنْ شَهَرَ سَيْفَهُ فِي الْحَرْبِ أَنْ لَا تَقْدَمَ عَلَى مُقَاتَلَتِهِ لِأَنَّكَ لَا تَعْلَمُ مِنْهُ قِتَالًا، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْجِهَادَ وَاجِبٌ عِنْدَ ظُهُورِ أَمَارَاتِ الْمُحَارَبَةِ، وَلَا أَمَارَاتِ أَقْوَى مِنْ قُرْبِهِمْ مِنَ الْمَدِينَةِ عِنْدَ جَبَلِ أُحُدٍ، فَدَلَّ ذِكْرُ هَذَا الْجَوَابِ عَلَى غَايَةِ الْخِزْيِ وَالنِّفَاقِ، وَأَنَّهُ كَانَ غَرَضُهُمْ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْجَوَابِ إِمَّا التَّلْبِيسَ، وَإِمَّا الِاسْتِهْزَاءَ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مُرَادُ الْمُنَافِقِ هُوَ الْوَجْهَ الثَّانِيَ فَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَهُمْ بِالنُّصْرَةِ وَالْإِعَانَةِ لَمْ يَكُنِ الخروج إلى ذلك القتال إلقاء للنفس في التهلكة. ثم إنه بين حالهم عند ما ذَكَرُوا هَذَا الْجَوَابَ فَقَالَ: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي التَّأْوِيلِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمَا ظَهَرَتْ مِنْهُمْ أَمَارَةٌ تَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَلَمَّا رَجَعُوا عَنْ عَسْكَرِ الْمُؤْمِنِينَ تَبَاعَدُوا بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ كَوْنُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ رُجُوعَهُمْ عَنْ مُعَاوَنَةِ الْمُسْلِمِينَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَيْضًا قَوْلُهُمْ: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَدُلُّ إِمَّا عَلَى السُّخْرِيَةِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَإِمَّا عَلَى عَدَمِ الْوُثُوقِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كُفْرٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لِأَهْلِ الْكُفْرِ أَقْرَبُ نُصْرَةً مِنْهُمْ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ تَقْلِيلَهُمْ سَوَادَ الْمُسْلِمِينَ بِالِانْعِزَالِ يَجُرُّ إِلَى تَقْوِيَةِ الْمُشْرِكِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ هَذَا تَنْصِيصٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُمْ كُفَّارٌ، قَالَ الْحَسَنُ إِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَقْرَبُ فَهُوَ الْيَقِينُ بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ، وَهُوَ مِثْلُ قوله: مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَا شَكَّ فِيهَا،

[سورة آل عمران (3) : آية 168]

وَأَيْضًا الْمُكَلَّفُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْفَكَّ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، فَلَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى الْقُرْبِ لَزِمَ حُصُولُ الْكُفْرِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» : هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَى بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ لَمْ يَكْفُرْ وَلَمْ يُطْلَقِ الْقَوْلُ بِتَكْفِيرِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُطْلِقِ الْقَوْلَ بِكُفْرِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ، لِإِظْهَارِهِمُ الْقَوْلَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَالْمُرَادُ أَنَّ لِسَانَهُمْ مُخَالِفٌ لِقَلْبِهِمْ، فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ بِاللِّسَانِ لَكِنَّهُمْ يُضْمِرُونَ فِي قُلُوبِهِمُ الْكُفْرَ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمَعْلُومَ إِذَا عَلِمَهُ عَالِمَانِ لَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَعْلَمَ بِهِ مِنَ الْآخَرِ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ. قُلْنَا: الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ مِنْ تَفَاصِيلِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ مَا لَا يعلمه غيره. [سورة آل عمران (3) : آية 168] الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) اعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ [آل عمران: 167] وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ كَمَا قَعَدُوا وَاحْتَجُّوا لِقُعُودِهِمْ، فَكَذَلِكَ ثَبَّطُوا غَيْرَهُمْ وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ، فَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِنَّ الْخَارِجِينَ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا، فَخَوَّفُوا مَنْ مُرَادُهُ مُوَافَقَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُحَارَبَةِ الْكُفَّارِ بِالْقَتْلِ لَمَّا عَرَفُوا مَا جَرَى يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْقَتْلِ، لِأَنَّ الْمَعْلُومَ مِنَ الطِّبَاعِ مَحَبَّةُ الْحَيَاةِ فَكَانَ وُقُوعُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي الْقُلُوبِ يَجْرِي مَجْرَى مَا يُورِدُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْوَسْوَاسِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَحَلِّ الَّذِينَ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: النَّصْبُ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الَّذِينَ نافَقُوا [آل عمران: 167] وَثَانِيهَا: الرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَكْتُمُونَ [آل عمران: 167] وَثَالِثُهَا: الرَّفْعُ عَلَى خَبَرِ الِابْتِدَاءِ بِتَقْدِيرِ: هُمُ الَّذِينَ، وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى الذَّمِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ (بِالَّذِينَ قَالُوا) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ، وَقَالَ الْأَصَمُّ: هَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجِهَادِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ فَهُوَ وَاقِعٌ فِيمَنْ قَدْ تَخَلَّفَ لِأَنَّهُ قَالَ: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا أَيْ فِي الْقُعُودِ مَا قُتِلُوا فَهُوَ كَلَامٌ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْجِهَادِ، قَالَهُ لِمَنْ خَرَجَ إِلَى الْجِهَادِ وَلِمَنْ هُوَ قَوِيُّ النِّيَّةِ فِي ذَلِكَ لِيَجْعَلَهُ شُبْهَةً فِيمَا بَعْدَهُ صَارِفًا لَهُمْ عَنِ الْجِهَادِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ: أَيْ قَالُوا لِأَجْلِ إِخْوَانِهِمْ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْمُرَادِ مِنْ هَذِهِ الْأُخُوَّةِ، الْأُخُوَّةِ فِي النَّسَبِ، أَوِ الْأُخُوَّةِ بِسَبَبِ الْمُشَارَكَةِ فِي الدَّارِ، أَوْ فِي عَدَاوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَقَعَدُوا لِلْحَالِ وَمَعْنَى هَذَا الْقُعُودِ الْقُعُودُ عَنِ الْجِهَادِ يَعْنِي مَنْ قُتِلَ بِأُحُدٍ لَوْ قَعَدُوا كَمَا قَعَدْنَا وَفَعَلُوا كَمَا فَعَلْنَا لَسَلِمُوا وَلَمْ يُقْتَلُوا، ثُمَّ أَجَابَ اللَّهُ عن ذلك بقوله: قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْفَرْقَ ظَاهِرٌ فَإِنَّ التَّحَرُّزَ عَنِ الْقَتْلِ مُمْكِنٌ، أَمَّا التَّحَرُّزُ عَنِ الْمَوْتِ فَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ ألبتة؟

[سورة آل عمران (3) : الآيات 169 إلى 170]

وَالْجَوَابُ: هَذَا الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَتَمَشَّى إِلَّا إِذَا اعْتَرَفْنَا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا قُلْنَا لَا يَدْخُلُ الشَّيْءُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، اعْتَرَفْنَا بِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَقْتُلُ الْمُسْلِمَ إِلَّا بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى بَيْنَ الْقَتْلِ وَبَيْنَ الْمَوْتِ فَرْقٌ، فَيَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ أَمَّا إِذَا قُلْنَا بِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَيْسَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ، كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْقَتْلِ ظَاهِرًا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ، فَتُفْضِي إِلَى فَسَادِ الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُفْضِيَ إِلَى ذَلِكَ يَكُونُ بَاطِلًا، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ بِقَضَاءِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يَعْنِي: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي كَوْنِكُمْ مُشْتَغِلِينَ بِالْحَذَرِ عَنِ الْمَكَارِهِ والوصول إلى المطالب. [سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 170] وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) [وقوله تَعَالَى وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ] اعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا ثَبَّطُوا الرَّاغِبِينَ فِي الْجِهَادِ بِأَنْ قَالُوا: الْجِهَادُ يُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ، كَمَا قَالُوا فِي حَقِّ مَنْ خَرَجَ إِلَى الْجِهَادِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَالْقَتْلُ شَيْءٌ مَكْرُوهٌ، فَوَجَبَ الْحَذَرُ عَنِ الْجِهَادِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بين أن قولهم: الجهاد يقضي إِلَى الْقَتْلِ بَاطِلٌ، بِأَنَّ الْقَتْلَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ كَمَا أَنَّ الْمَوْتَ يَحْصُلُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، فَمَنْ قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ الْقَتْلَ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَمَنْ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ الْقَتْلَ لَا خَوْفَ عَلَيْهِ مِنَ الْقَتْلِ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِجَوَابٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ شَيْءٌ مَكْرُوهٌ، وَكَيْفَ يُقَالُ ذَلِكَ وَالْمَقْتُولُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحْيَاهُ اللَّهُ بَعْدَ الْقَتْلِ وَخَصَّهُ بِدَرَجَاتِ الْقُرْبَةِ وَالْكَرَامَةِ، وَأَعْطَاهُ أَفْضَلَ أَنْوَاعِ الرِّزْقِ وَأَوْصَلَهُ إِلَى أَجَلِّ مَرَاتِبِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ؟ فَأَيُّ عَاقِلٍ يَقُولُ إِنَّ مِثْلَ هَذَا الْقَتْلِ يَكُونُ مَكْرُوهًا، فَهَذَا وَجْهُ النَّظْمِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ وَارِدَةٌ فِي شُهَدَاءِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، لِأَنَّ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الشُّهَدَاءِ إِلَّا مَنْ قُتِلَ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ الْمَشْهُورَيْنِ، وَالْمُنَافِقُونَ إِنَّمَا يُنَفِّرُونَ الْمُجَاهِدِينَ عَنِ الْجِهَادِ لِئَلَّا يَصِيرُوا مَقْتُولِينَ مِثْلَ مَنْ قُتِلَ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فَضَائِلَ مَنْ قُتِلَ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ دَاعِيًا لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى التَّشَبُّهِ بِمَنْ جَاهَدَ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ وَقُتِلَ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْجِهَادَ فَرُبَّمَا وَصَلَ إِلَى نَعِيمِ الدُّنْيَا وَرُبَّمَا لَمْ يَصِلْ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ فَهُوَ حَقِيرٌ وَقَلِيلٌ، وَمَنْ أَقْبَلَ عَلَى الْجِهَادِ فَازَ بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ قَطْعًا وَهُوَ نَعِيمٌ عَظِيمٌ، وَمَعَ كَوْنِهِ عَظِيمًا فَهُوَ دَائِمٌ مُقِيمٌ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ الْإِقْبَالَ عَلَى الْجِهَادِ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ هَؤُلَاءِ الْمَقْتُولِينَ أَحْيَاءً، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ هُوَ الْحَقِيقَةَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ سَيَصِيرُونَ فِي الْآخِرَةِ أَحْيَاءً، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي الْحَالِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِثْبَاتَ الْحَيَاةِ الرُّوحَانِيَّةِ أَوْ إِثْبَاتَ الْحَيَاةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَهَذَا ضَبْطُ الْوُجُوهِ الَّتِي يُمْكِنُ ذِكْرُهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِأَنَّهُمْ سَيَصِيرُونَ فِي الْآخِرَةِ أَحْيَاءً، قَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ مُتَكَلِّمِي الْمُعْتَزِلَةِ، مِنْهُمْ أَبُو الْقَاسِمِ الْكَعْبِيُّ قَالَ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ مَا حَكَى، كَانُوا يَقُولُونَ: أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَرِّضُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْقَتْلِ فَيُقْتَلُونَ وَيَخْسَرُونَ الْحَيَاةَ وَلَا يَصِلُونَ إِلَى خَيْرٍ، وَإِنَّمَا كانوا يقولون

ذَلِكَ لِجَحْدِهِمُ الْبَعْثَ وَالْمِيعَادَ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ وَيُرْزَقُونَ وَيُوصَلُ إليهم أنواع الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ وَالْبِشَارَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ عِنْدَنَا بَاطِلٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ قَوْلَهُ: بَلْ أَحْياءٌ ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ أَحْيَاءً عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، فَحَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُمْ سَيَصِيرُونَ أَحْيَاءً بَعْدَ ذَلِكَ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ أَرْجَحُ مِنْ جَانِبِ الْعَذَابِ وَالْعُقُوبَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي أَهْلِ الْعَذَابِ أَنَّهُ أَحْيَاهُمْ قَبْلَ الْقِيَامَةِ لِأَجْلِ التَّعْذِيبِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [25: نُوحٍ] وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، وَالتَّعْذِيبُ مَشْرُوطٌ بِالْحَيَاةِ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غَافِرٍ: 46] وَإِذَا جَعَلَ اللَّهُ أَهْلَ الْعَذَابِ أَحْيَاءً قَبْلَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ لِأَجْلِ التَّعْذِيبِ، فَلِأَنْ يَجْعَلَ أَهْلَ الثَّوَابِ أَحْيَاءً قَبْلَ الْقِيَامَةِ لِأَجْلِ الْإِحْسَانِ وَالْإِثَابَةِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنَّهُ سَيَجْعَلُهُمْ أَحْيَاءً عِنْدَ الْبَعْثِ فِي الْجَنَّةِ لَمَا قَالَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ/ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَلا تَحْسَبَنَّ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى ثَوَابِ الْقَبْرِ حَسُنَ قَوْلُهُ: وَلا تَحْسَبَنَّ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَعَلَّهُ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَالَى يُشَرِّفُ الْمُطِيعِينَ وَالْمُخْلِصِينَ بِهَذَا التَّشْرِيفِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُحْيِيهِمْ قَبْلَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ لِأَجْلِ إِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَيْهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُمْ سَيَصِيرُونَ أَحْيَاءً عِنْدَ رَبِّهِمْ عِنْدَ الْبَعْثِ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَجَازَ أَنْ يُبَشِّرَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُمْ سَيَصِيرُونَ أَحْيَاءً وَيَصِلُونَ إِلَى الثَّوَابِ وَالسُّرُورِ. قُلْنَا: قَوْلُهُ: وَلا تَحْسَبَنَّ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمَوْتَ لِأَنَّهُ قَالَ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً فَالَّذِي يُزِيلُ هَذَا الْحُسْبَانَ هُوَ كَوْنُهُمْ أَحْيَاءً فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ لَا حُسْبَانَ هُنَاكَ فِي صَيْرُورَتِهِمْ أَحْيَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَوْلُهُ: يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ فَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِذَلِكَ الْحُسْبَانِ فَزَالَ هَذَا السُّؤَالُ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ وَالْقَوْمُ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُوا فِي الدُّنْيَا، فَاسْتِبْشَارُهُمْ بِمَنْ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَبْلَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَالِاسْتِبْشَارُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعَ الْحَيَاةِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى كَوْنِهِمْ أَحْيَاءً قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بَحْثٌ سَيَأْتِي ذِكْرُهُ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي صِفَةِ الشُّهَدَاءِ: «إِنَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ وَإِنَّهَا تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَسْرَحُ حَيْثُ شَاءَتْ وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ تَحْتَ الْعَرْشِ فَلَمَّا رَأَوْا طِيبَ مَسْكَنِهِمْ وَمَطْعَمِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ قَالُوا: يَا لَيْتَ قَوْمَنَا يَعْلَمُونَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ وَمَا صَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِنَا كَيْ يَرْغَبُوا فِي الْجِهَادِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا مُخْبِرٌ عَنْكُمْ وَمُبَلِّغٌ إِخْوَانَكُمْ فَفَرِحُوا بِذَلِكَ وَاسْتَبْشَرُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ» وَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: سَأَلْنَا عَنْهَا فَقِيلَ لَنَا إِنَّ الشُّهَدَاءَ عَلَى نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُبَشِّرُكَ أَنَّ أَبَاكَ حَيْثُ أُصِيبَ بِأُحُدٍ أَحْيَاهُ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ: مَا تُرِيدُ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَنْ أَفْعَلَ بِكَ فَقَالَ يَا رَبِّ أُحِبُّ أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فأقتل فيها مَرَّةً أُخْرَى» وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَأَنَّهَا بَلَغَتْ حَدَّ التَّوَاتُرِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ إِنْكَارُهَا؟ طَعَنَ الْكَعْبِيُّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَقَالَ: إِنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ لَا تَتَنَعَّمُ، وَإِنَّمَا يَتَنَعَّمُ الْجِسْمُ إِذَا كَانَ فِيهِ رَوْحٌ لَا الرُّوحُ، وَمَنْزِلَةُ الرُّوحِ مِنَ الْبَدَنِ مَنْزِلَةُ الْقُوَّةِ، وَأَيْضًا: الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ

الْأَرْوَاحَ/ فِي حَوَاصِلِ الطَّيْرِ، وَأَيْضًا ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهَا تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَسْرَحُ، وَهَذَا يُنَاقِضُ كَوْنَهَا فِي حَوَاصِلِ الطَّيْرِ. وَالْجَوَابُ: أَمَّا الطَّعْنُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ عَرَضٌ قَائِمٌ بِالْجِسْمِ، وَسَنُبَيِّنُ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا الطَّعْنُ الثَّانِي: فَهُوَ مَدْفُوعٌ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْكِنَايَاتُ عَنْ حُصُولِ الرَّاحَاتِ وَالْمَسَرَّاتِ وَزَوَالِ الْمَخَافَاتِ وَالْآفَاتِ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الِاحْتِمَالِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْوُجُوهِ الْمُحْتَمَلَةِ فِي هذه الآية هو أن المراد أَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ فِي الْحَالِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ هَذِهِ الْحَيَاةَ لِلرُّوحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهَا لِلْبَدَنِ، وَقَبْلَ الْخَوْضِ فِي هَذَا الْبَابِ يَجِبُ تَقْدِيمُ مُقَدِّمَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْبِنْيَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَجْزَاءَ هَذِهِ الْبِنْيَةِ فِي الذَّوَبَانِ وَالِانْحِلَالِ، وَالتَّبَدُّلِ، وَالْإِنْسَانُ الْمَخْصُوصُ شَيْءٌ بَاقٍ مِنْ أَوَّلِ عُمُرِهِ إِلَى آخِرِهِ، وَالْبَاقِي مُغَايِرٌ لِلْمُتَبَدِّلِ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ مَا قُلْنَاهُ: أَنَّهُ تَارَةً يَصِيرُ سَمِينًا وَأُخْرَى هَزِيلًا، وَأَنَّهُ يَكُونُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ صَغِيرَ الْجُثَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَكْبُرُ وَيَنْمُو، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ مِنْ أَوَّلِ عُمُرِهِ إِلَى آخِرِهِ فَصَحَّ مَا قُلْنَاهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ عَالِمًا بِنَفْسِهِ حَالَ مَا يَكُونُ غَافِلًا عَنْ جَمِيعِ أَعْضَائِهِ وَأَجْزَائِهِ، وَالْمَعْلُومُ مُغَايِرٌ لِمَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ شَيْءٌ مُغَايِرٌ لِهَذَا الْبَدَنِ الْمَحْسُوسِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا مَخْصُوصًا سَارِيًا فِي هَذِهِ الْجُثَّةِ سَرَيَانَ النَّارِ فِي الْفَحْمِ وَالدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ، وَمَاءِ الْوَرْدِ فِي الْوَرْدِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا حَالٍّ فِي الْجِسْمِ، وَعَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ الْبَدَنُ انْفَصَلَ ذَلِكَ الشَّيْءُ حَيًّا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ أَمَاتَهُ اللَّهُ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى يُعِيدُ الْحَيَاةَ إِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَزُولُ الشُّبُهَاتُ بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ ثَوَابِ الْقَبْرِ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَعَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نُوحٍ: 25] فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي ذَلِكَ، فَظَاهِرُ الْآيَةِ دَالٌّ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ الْقُرْآنُ والحديث والعقل. أما القرآن فآيات: إحداها: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي [الْفَجْرِ: 27- 30] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ الْمَوْتُ. ثُمَّ قَالَ: فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَفَاءُ التَّعْقِيبِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ عَقِيبَ الْمَوْتِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَثَانِيهَا: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ [الْأَنْعَامِ: 61] وَهَذَا عِبَارَةٌ عَنْ مَوْتِ الْبَدَنِ. ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [الْأَنْعَامِ: 62] فَقَوْلُهُ: رُدُّوا ضَمِيرٌ عَنْهُ. وَإِنَّمَا هُوَ بِحَيَاتِهِ وَذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ بَاقٍ بَعْدَ مَوْتِ الْبَدَنِ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ/ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ [الْوَاقِعَةِ: 88، 89] وَفَاءُ التَّعْقِيبِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الرَّوْحَ وَالرَّيْحَانَ وَالْجَنَّةَ حَاصِلٌ عَقِيبَ الْمَوْتِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ» وَالْفَاءُ فَاءُ التَّعْقِيبِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِيَامَةَ كُلِّ أَحَدٍ حَاصِلَةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَأَمَّا الْقِيَامَةُ الْكُبْرَى فَهِيَ حَاصِلَةٌ فِي الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ» وَأَيْضًا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ يُنَادِي الْمَقْتُولِينَ وَيَقُولُ: «هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا» فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ أَمْوَاتٌ، فَكَيْفَ تُنَادِيهِمْ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّهُمْ أَسْمَعُ مِنْكُمْ» أَوْ لَفْظًا هَذَا مَعْنَاهُ، وَأَيْضًا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَوْلِيَاءُ اللَّهِ لَا يَمُوتُونَ وَلَكِنْ يُنْقَلُونَ مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ» وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النُّفُوسَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ مَوْتِ الْجَسَدِ.

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ وَقْتَ النَّوْمِ يُضْعِفُ الْبَدَنَ، وَضَعْفُهُ لَا يَقْتَضِي ضَعْفَ النَّفْسِ، بَلِ النَّفْسُ تَقْوَى وَقْتَ النَّوْمِ فَتُشَاهِدُ الْأَحْوَالَ وَتَطَّلِعُ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ، فَإِذَا كَانَ ضَعْفُ الْبَدَنِ لَا يُوجِبُ ضَعْفَ النَّفْسِ، فَهَذَا يُقَوِّي الظَّنَّ فِي أَنَّ مَوْتَ الْبَدَنِ لَا يَسْتَعْقِبُ مَوْتَ النَّفْسِ. الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَفْكَارِ سَبَبٌ لِجَفَافِ الدِّمَاغِ، وَجَفَافُهُ يُؤَدِّي إِلَى الْمَوْتِ، وَهَذِهِ الْأَفْكَارُ سَبَبٌ لِاسْتِكْمَالِ النَّفْسِ بِالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ غَايَةُ كَمَالِ النَّفْسِ، فَمَا هُوَ سَبَبٌ فِي كَمَالِ النَّفْسِ فَهُوَ سَبَبٌ لِنُقْصَانِ الْبَدَنِ، وَهَذَا يُقَوِّي الظَّنَّ فِي أَنَّ النَّفْسَ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ الْبَدَنِ. الثَّالِثُ: أَنَّ أَحْوَالَ النَّفْسِ عَلَى ضِدِّ أَحْوَالِ الْبَدَنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّفْسَ إِنَّمَا تَفْرَحُ وَتَبْتَهِجُ بِالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْدِ: 28] وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ لَيْسَ إِلَّا عِبَارَةً عَنِ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالِاسْتِنَارَةِ بِأَنْوَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ وَأَيْضًا، فَإِنَّا نَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِبْشَارُ بِخِدْمَةِ سُلْطَانٍ، أَوْ بِالْفَوْزِ بِمَنْصِبٍ، أَوْ بِالْوُصُولِ إِلَى مَعْشُوقِهِ، قَدْ يَنْسَى الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، بَلْ يَصِيرُ بِحَيْثُ لَوْ دُعِيَ إِلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَوَجَدَ مِنْ قَلْبِهِ نَفْرَةً شَدِيدَةً مِنْهُ، وَالْعَارِفُونَ الْمُتَوَغِّلُونَ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ يَجِدُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا لَاحَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْأَنْوَارِ، وَانْكَشَفَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْأَسْرَارِ، لَمْ يَحُسُّوا الْبَتَّةَ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَبِالْجُمْلَةِ فَالسَّعَادَةُ النَّفْسَانِيَّةُ كَالْمُضَادَّةِ لِلسَّعَادَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ النَّفْسَ مُسْتَقِلَّةٌ بِذَاتِهَا وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْبَدَنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا تَمُوتَ النَّفْسُ بِمَوْتِ الْبَدَنِ، وَلْتَكُنْ هَذِهِ الْإِقْنَاعِيَّاتُ كَافِيَةً فِي هَذَا الْمُقَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَتَى تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ زَالَتِ الْإِشْكَالَاتُ وَالشُّبُهَاتُ عَنْ كُلِّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ثَوَابِ الْقَبْرِ وَعَذَابِهِ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ فَنَقُولُ: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ أَحْيَاءٌ/ وَهِيَ تَرْكَعُ وَتَسْجُدُ كُلَّ لَيْلَةٍ تَحْتَ الْعَرْشِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا نَامَ الْعَبْدُ فِي سُجُودِهِ بَاهَى اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَلَائِكَتَهُ وَيَقُولُ انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي رُوحُهُ عِنْدِي وَجَسَدُهُ فِي خِدْمَتِي. وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى ذَلِكَ وَهِيَ قَوْلُهُ: أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَفْظُ «عند» فكما أنه مذكور هاهنا فَكَذَا فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ مَذْكُورٌ وَهُوَ قَوْلِهِ: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الْأَنْبِيَاءِ: 19] فَإِذَا فَهِمْتَ السَّعَادَةَ الْحَاصِلَةَ لِلْمَلَائِكَةِ بِكَوْنِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ، فَهِمْتَ السَّعَادَةَ الْحَاصِلَةَ لِلشُّهَدَاءِ بِكَوْنِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذِهِ كَلِمَاتٌ تَفْتَحُ عَلَى الْعَقْلِ أَبْوَابَ مَعَارِفِ الْآخِرَةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُ هَذِهِ الْحَيَاةَ لِلْأَجْسَادِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ تعالى يصعد أجساد هؤلاء الشهداء إلى السموات وَإِلَى قَنَادِيلَ تَحْتَ الْعَرْشِ وَيُوصِلُ أَنْوَاعَ السَّعَادَةِ وَالْكَرَامَاتِ إِلَيْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَتْرُكُهَا فِي الْأَرْضِ وَيُحْيِيهَا وَيُوصِلُ هَذِهِ السَّعَادَاتِ إِلَيْهَا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ طَعَنَ فِيهِ وَقَالَ: إِنَّا نَرَى أَجْسَادَ هَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءِ قَدْ تَأْكُلُهَا السِّبَاعُ، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِيهَا حَالَ كَوْنِهَا فِي بُطُونِ هَذِهِ السِّبَاعِ وَيُوَصِّلُ الثَّوَابَ إِلَيْهَا، أَوْ يُقَالُ: إِنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ بَعْدَ انْفِصَالِهَا مِنْ بُطُونِ السِّبَاعِ يُرَكِّبُهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَيُؤَلِّفُهَا وَيَرُدُّ الْحَيَاةَ إِلَيْهَا وَيُوصِّلُ الثَّوَابَ إِلَيْهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُسْتَبْعَدٌ، وَلِأَنَّا قَدْ نَرَى الْمَيِّتَ الْمَقْتُولَ بَاقِيًا أَيَّامًا إِلَى أَنْ تَنْفَسِخَ أَعْضَاؤُهُ وَيَنْفَصِلَ الْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ، فَإِنْ جَوَّزْنَا كَوْنَهَا حَيَّةً مُتَنَعِّمَةً عَاقِلَةً عَارِفَةً لَزِمَ الْقَوْلُ بِالسَّفْسَطَةِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ نَقُولَ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهَا أَحْيَاءً حُصُولَ الْحَيَاةِ فِيهِمْ، بَلِ الْمُرَادُ بَعْضُ الْمَجَازَاتِ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَصَمُّ الْبَلْخِيُّ: إِنَّ الْمَيِّتَ إِذَا كَانَ عَظِيمَ الْمَنْزِلَةِ فِي الدِّينِ،

وَكَانَتْ عَاقِبَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْبَهْجَةَ وَالسَّعَادَةَ وَالْكَرَامَةَ، صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَيٌّ وَلَيْسَ بِمَيِّتٍ، كَمَا يُقَالُ فِي الْجَاهِلِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ نفسه ولا ينتقع بِهِ أَحَدٌ إِنَّهُ مَيِّتٌ وَلَيْسَ بِحَيٍّ، وَكَمَا يُقَالُ لِلْبَلِيدِ، إِنَّهُ حِمَارٌ، وَلِلْمُؤْذِي إِنَّهُ سَبُعٌ، وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ لَمَّا رَأَى الزُّهْرِيَّ وَعَلِمَ فِقْهَهُ وَتَحْقِيقَهُ قَالَ لَهُ: مَا مَاتَ مَنْ خَلَّفَ مِثْلَكَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَاتَ وَخَلَّفَ ثَنَاءً جَمِيلًا وَذِكْرًا حَسَنًا، فَإِنَّهُ يُقَالُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ إِنَّهُ مَا مَاتَ بَلْ هُوَ حَيٌّ. الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ مَجَازُ هَذِهِ الْحَيَاةِ أَنَّ أَجْسَادَهُمْ بَاقِيَةٌ فِي قُبُورِهِمْ، وَأَنَّهَا لَا تَبْلَى تَحْتَ الْأَرْضِ الْبَتَّةَ. وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ مُعَاوِيَةُ أَنْ يُجْرِيَ الْعَيْنَ عَلَى قُبُورِ الشُّهَدَاءِ، أَمَرَ بِأَنْ يُنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ قَتِيلٌ فَلْيُخْرِجْهُ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ، قَالَ جَابِرٌ: فَخَرَجْنَا إِلَيْهِمْ فَأَخْرَجْنَاهُمْ رِطَابَ الْأَبْدَانِ، فَأَصَابَتِ الْمِسْحَاةُ أُصْبُعَ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَقَطَرَتْ دَمًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِهِمْ أَحْيَاءً أَنَّهُمْ لَا يُغَسَّلُونَ كَمَا تُغَسَّلُ الْأَمْوَاتُ، فَهَذَا/ مَجْمُوعُ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَسْرَارِ الْمَخْلُوقَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَلا تَحْسَبَنَّ الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِكُلِّ أَحَدٍ وَقُرِئَ بِالْيَاءِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: وَلَا يَحْسَبَنَّ رَسُولُ اللَّهِ. وَالثَّانِي: وَلَا يَحْسَبَنَّ حَاسِبٌ، وَالثَّالِثُ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا أَنْفُسَهُمْ أَمْوَاتًا قَالَ: وَقُرِئَ تَحْسَبَنَّ بِفَتْحِ السِّينِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ قُتِّلُوا بِالتَّشْدِيدِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: بَلْ أَحْياءٌ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: التَّقْدِيرُ: بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ، قَالَ صَاحِبُ «الكشاف» : قرئ أحياء بالنصب على معنى بل أحسبهم أحياء. وَأَقُولُ: إِنَّ الزَّجَّاجَ قَالَ: وَلَوْ قُرِئَ أَحْيَاءً بالنصب لجاز على معنى بل أحسبهم أحياء، وَطَعَنَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِيهِ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالشَّكِّ وَالْأَمْرُ بِالشَّكِّ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى اللَّهِ، وَلَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ الْحُسْبَانِ بِالْعِلْمِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَلِلزَّجَّاجِ أَنْ يُجِيبَ فَيَقُولَ: الْحُسْبَانُ ظَنٌّ لَا شَكٌّ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِالظَّنِّ، أَلَيْسَ أَنَّ تَكْلِيفَهُ فِي جَمِيعِ الْمُجْتَهَدَاتِ لَيْسَ إِلَّا بِالظَّنِّ. وَأَقُولُ: هَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ مِنَ الزَّجَّاجِ وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ما قرئ أحياء بِالنَّصْبِ بَلِ الزَّجَّاجُ كَانَ يَدَّعِي أَنَّ لَهَا وَجْهًا فِي اللُّغَةِ، وَالْفَارِسِيُّ نَازَعَهُ فِيهِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا لَهُ وَجْهٌ فِي الْإِعْرَابِ جَازَتِ الْقِرَاءَةُ بِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: عِنْدَ رَبِّهِمْ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ أَحَدٌ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَالثَّانِي: هُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، أَيْ هُمْ أَحْيَاءٌ فِي عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ، كَمَا يُقَالُ: هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَذَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِخِلَافِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ عِنْدَ مَعْنَاهُ الْقُرْبُ وَالْإِكْرَامُ، كَقَوْلِهِ: وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ [الأنبياء: 19] وقوله: الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [الأعراف: 206] . أَمَّا قَوْلُهُ: يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ قَالُوا الثَّوَابُ مَنْفَعَةٌ خَالِصَةٌ دَائِمَةٌ مَقْرُونَةٌ بِالتَّعْظِيمِ، فَقَوْلُهُ: يُرْزَقُونَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَنْفَعَةِ، وَقَوْلُهُ: فَرِحِينَ إِشَارَةٌ إِلَى الْفَرَحِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّعْظِيمِ، وَأَمَّا الْحُكَمَاءُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا أَشْرَقَتْ جَوَاهِرُ الْأَرْوَاحِ الْقُدُسِيَّةِ بِالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ كَانَتْ مُبْتَهِجَةً مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ ذَوَاتُهَا مُنِيرَةً مُشْرِقَةً مُتَلَأْلِئَةً بِتِلْكَ الْجَلَايَا الْقُدُسِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ. وَالثَّانِي: بِكَوْنِهَا نَاظِرَةً إِلَى يَنْبُوعِ النُّورِ وَمَصْدَرِ الرَّحْمَةِ وَالْجَلَالَةِ، قَالُوا: وَابْتِهَاجُهَا بِهَذَا الْقِسْمِ الثَّانِي أَتَمُّ مِنِ ابْتِهَاجِهَا بِالْأَوَّلِ، فَقَوْلُهُ: يُرْزَقُونَ إِشَارَةٌ إِلَى الدَّرَجَةِ الْأُولَى وَقَوْلُهُ: فَرِحِينَ إِشَارَةٌ إِلَى الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يَعْنِي أَنَّ فَرَحَهُمْ لَيْسَ بِالرِّزْقِ، بَلْ بِإِيتَاءِ الرِّزْقِ لِأَنَّ الْمَشْغُولَ بِالرِّزْقِ مَشْغُولٌ

[سورة آل عمران (3) : آية 171]

بِنَفْسِهِ، وَالنَّاظِرُ إِلَى إِيتَاءِ الرِّزْقِ مَشْغُولٌ بِالرَّازِقِ، وَمَنْ/ طَلَبَ الْحَقَّ لِغَيْرِهِ فَهُوَ مَحْجُوبٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: أَلَّا خَوْفٌ فِي مَحَلِّ الْخَفْضِ بَدَلٌ مِنَ (الَّذِينَ) وَالتَّقْدِيرُ: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِأَنْ لَا خَوْفٌ وَلَا حُزْنٌ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الِاسْتِبْشَارُ السُّرُورُ الْحَاصِلُ بِالْبِشَارَةِ، وَأَصْلُ الِاسْتِفْعَالِ طَلَبُ الْفِعْلِ، فَالْمُسْتَبْشِرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ طَلَبَ السُّرُورَ فَوَجَدَهُ بِالْبِشَارَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ سَلَّمُوا كَوْنَ الشُّهَدَاءِ أَحْيَاءً قَبْلَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ ذَكَرُوا لِهَذِهِ الْآيَةِ تَأْوِيلَاتٍ أُخَرَ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنْ يُقَالَ: أَنَّ الشُّهَدَاءَ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَرَكْنَا إِخْوَانَنَا فُلَانًا وَفُلَانًا فِي صَفِّ الْمُقَاتِلَةِ مَعَ الْكُفَّارِ فَيُقْتَلُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَيُصِيبُونَ مِنَ الرِّزْقِ وَالْكَرَامَةِ مَا أَصَبْنَا، فَهُوَ قَوْلُهُ: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الشُّهَدَاءَ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ بَعْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ هُمْ إِخْوَانُهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مِثْلُ دَرَجَةِ الشُّهَدَاءِ، لِأَنَّ الشُّهَدَاءَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَهُمْ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً [النِّسَاءِ: 95، 96] فَيَفْرَحُونَ بِمَا يَرَوْنَ مِنْ مَأْوَى الْمُؤْمِنِينَ وَالنَّعِيمِ الْمُعَدِّ لَهُمْ، وَبِمَا يَرْجُونَهُ مِنَ الِاجْتِمَاعِ بِهِمْ وَتَقَرُّ بِذَلِكَ أَعْيُنُهُمْ، هَذَا اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ وَالزَّجَّاجِ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّأْوِيلَ الْأَوَّلَ أَقْوَى مِنَ الثَّانِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَاصِلَ الثَّانِي يَرْجِعُ إِلَى اسْتِبْشَارِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ بِبَعْضٍ بِسَبَبِ اجْتِمَاعِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، وَهَذَا أَمْرٌ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ الشُّهَدَاءِ بِذَلِكَ، وَأَيْضًا: فَهُمْ كَمَا يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَكَذَلِكَ يَسْتَبْشِرُونَ بِمَنْ تَقَدَّمَهُمْ فِي الدُّخُولِ، لِأَنَّ مَنَازِلَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ فَوْقَ مَنَازِلِ الشُّهَدَاءِ، قَالَ تَعَالَى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النِّسَاءِ: 69] وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَبْقَى فَائِدَةٌ فِي التَّخْصِيصِ. أَمَّا إِذَا فَسَّرْنَا الْآيَةَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَفِي تَخْصِيصِ الْمُجَاهِدِينَ بِهَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْخَوْفُ يَكُونُ بِسَبَبِ تَوَقُّعِ الْمَكْرُوهِ النَّازِلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْحُزْنُ يَكُونُ بِسَبَبِ فَوَاتِ الْمَنَافِعِ الَّتِي كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْمَاضِي، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا سَيَأْتِيهِمْ/ مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ، وَلَا حُزْنٌ لَهُمْ فيما فاتهم من نعيم الدنيا. [سورة آل عمران (3) : آية 171] يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) [في قَوْلُهُ تَعَالَى يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ كَمَا يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرَ فَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِمَا رُزِقُوا مِنَ النَّعِيمِ، وَإِنَّمَا أَعَادَ لَفْظَ يَسْتَبْشِرُونَ لِأَنَّ الِاسْتِبْشَارَ الْأَوَّلَ كَانَ بِأَحْوَالِ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَالِاسْتِبْشَارُ الثَّانِي كَانَ بِأَحْوَالِ أَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ ذَكَرَ فَرَحَهُمْ بِأَحْوَالِ أَنْفُسِهِمْ وَالْفَرَحُ عَيْنُ الِاسْتِبْشَارِ؟

[سورة آل عمران (3) : آية 172]

قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاسْتِبْشَارَ هُوَ الْفَرَحُ التَّامُّ فَلَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ. وَالثَّانِي: لَعَلَّ الْمُرَادَ حُصُولُ الْفَرَحِ بِمَا حَصَلَ فِي الْحَالِ، وَحُصُولُ الِاسْتِبْشَارِ بِمَا عَرَفُوا أَنَّ النِّعْمَةَ الْعَظِيمَةَ تَحْصُلُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ النِّعْمَةُ هِيَ الثَّوَابُ وَالْفَضْلُ هُوَ التَّفَضُّلُ الزَّائِدُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِبْشَارَهُمْ بِسَعَادَةِ إِخْوَانِهِمْ أَتَمُّ مِنِ اسْتِبْشَارِهِمْ بِسَعَادَةِ أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ الِاسْتِبْشَارَ الْأَوَّلَ فِي الذِّكْرِ هُوَ بِأَحْوَالِ الْإِخْوَانِ، وَهَذَا، تَنْبِيهٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّ فَرَحَ الْإِنْسَانِ بِصَلَاحِ أَحْوَالِ إِخْوَانِهِ وَمُتَعَلِّقِيهِ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ مِنْ فَرَحِهِ بِصَلَاحِ أَحْوَالِ نَفْسِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَإِنَّ اللَّهَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا عَلَى مَعْنَى: وَبِأَنَّ اللَّهَ، وَالتَّقْدِيرُ: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَبِأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَتَمُّ وَأَكْمَلُ لِأَنَّ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ الِاسْتِبْشَارُ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَقَطْ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ الِاسْتِبْشَارُ بِالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ وَطَلَبِ الْأَجْرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَقَامَ الْأَوَّلَ أَكْمَلُ لِأَنَّ كَوْنَ الْعَبْدِ مُشْتَغِلًا بِطَلَبِ اللَّهِ أَتَمُّ مِنِ اشْتِغَالِهِ بِطَلَبِ أَجْرِ عَمَلِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ إِيصَالِ الثَّوَابِ وَالسُّرُورِ الْعَظِيمِ إِلَى الشُّهَدَاءِ لَيْسَ حُكْمًا مَخْصُوصًا بِهِمْ، بَلْ كُلُّ مُؤْمِنٍ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُوصِلُ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ وَلَا يُضِيعُهُ أَلْبَتَّةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ عِنْدَنَا دَالَّةٌ عَلَى الْعَفْوِ عَنْ فُسَّاقِ أَهْلِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ بِإِيمَانِهِ اسْتَحَقَّ الْجَنَّةَ/ فَلَوْ بَقِيَ بِسَبَبِ فِسْقِهِ فِي النَّارِ مُؤَبَّدًا مُخَلَّدًا لَمَا وَصَلَ إِلَيْهِ أَجْرُ إِيمَانِهِ، فَحِينَئِذٍ يَضِيعُ أَجْرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى إِيمَانِهِمْ وذلك خلاف الآية. [سورة آل عمران (3) : آية 172] الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) [في قَوْلُهُ تَعَالَى الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ] اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى غَزْوَتَيْنِ، تُعْرَفُ إِحْدَاهُمَا بِغَزْوَةِ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، وَالثَّانِيَةُ بِغَزْوَةِ بَدْرٍ الصُّغْرَى، وَكِلَاهُمَا مُتَّصِلَةٌ بِغَزْوَةِ أُحُدٍ، أَمَّا غَزْوَةُ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ فَهِيَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَحَلِّ الَّذِينَ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ إِلَى آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ هُوَ الْخَفْضَ عَلَى النَّعْتِ لِلْمُؤْمِنِينَ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى الْمَدْحِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ لَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ أُحُدٍ وَبَلَغُوا الرَّوْحَاءَ نَدِمُوا، وَقَالُوا إِنَّا قَتَلْنَا أَكْثَرَهُمْ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ فَلِمَ تَرَكْنَاهُمْ؟ بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ نَرْجِعَ وَنَسْتَأْصِلَهُمْ، فَهَمُّوا بِالرُّجُوعِ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرَادَ أَنْ يُرْهِبَ الْكُفَّارَ وَيُرِيَهُمْ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ أَصْحَابِهِ قُوَّةً، فَنَدَبَ أَصْحَابَهُ إِلَى الْخُرُوجِ فِي طَلَبِ أَبِي سُفْيَانَ وَقَالَ: لَا أُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ الْآنَ مَعِي إِلَّا مَنْ كَانَ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 173 إلى 174]

مَعِي فِي الْقِتَالِ، فَخَرَجَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، قِيلَ كَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا حَتَّى بَلَغُوا حَمْرَاءَ الْأَسَدِ وَهُوَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، فَأَلْقَى اللَّهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ فَانْهَزَمُوا، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى عُنُقِهِ سَاعَةً، ثُمَّ كَانَ الْمَحْمُولُ يَحْمِلُ الْحَامِلَ سَاعَةً أُخْرَى، وَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ لِإِثْخَانِ الْجِرَاحَاتِ فِيهِمْ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَتَوَكَّأُ عَلَى صَاحِبِهِ سَاعَةً، وَيَتَوَكَّأُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ سَاعَةً. وَالثَّانِي: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي يَوْمِ أُحُدٍ لَمَّا رَجَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ فَشَدَّ بِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ حَتَّى كَشَفَهُمْ، وَكَانُوا قَدْ هَمُّوا بِالْمُثْلَةِ فَدَفَعَهُمْ عَنْهَا بَعْدَ أَنْ مَثَّلُوا بِحَمْزَةَ، فَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَانْهَزَمُوا، وَصَلَّى عَلَيْهِمْ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَفَنَهُمْ بِدِمَائِهِمْ، وَذَكَرُوا/ أَنَّ صَفِيَّةَ جَاءَتْ لِتَنْظُرَ إِلَى أَخِيهَا حَمْزَةَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلزُّبَيْرِ: رُدَّهَا لِئَلَّا تَجْزَعَ مِنْ مُثْلَةِ أَخِيهَا، فَقَالَتْ: قَدْ بَلَغَنِي مَا فُعِلَ بِهِ وَذَلِكَ يَسِيرٌ فِي جَنْبِ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ لِلزُّبَيْرِ: فَدَعْهَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ خَيْرًا وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ. وَجَاءَتِ امْرَأَةٌ قَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا وَأَبُوهَا وَأَخُوهَا وَابْنُهَا فَلَمَّا رَأَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حَيٌّ قَالَتْ: إِنَّ كُلَّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ هَدَرٌ، فَهَذَا مَا قِيلَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اسْتَجَابَ: بِمَعْنَى أَجَابَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي [البقرة: 186] وَقِيلَ: أَجَابَ، فَعَلَ الْإِجَابَةَ وَاسْتَجَابَ طَلَبَ أَنْ يَفْعَلَ الْإِجَابَةَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِفْعَالِ طَلَبُ الْفِعْلِ، وَالْمَعْنَى أَجَابُوا وَأَطَاعُوا اللَّهَ فِي أَوَامِرِهِ وَأَطَاعُوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْجِرَاحَاتُ الْقَوِيَّةُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَحْسَنُوا دَخَلَ تَحْتَهُ الِائْتِمَارُ بِجَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ، وَقَوْلُهُ: وَاتَّقَوْا دَخَلَ تَحْتَهُ الِانْتِهَاءُ عَنْ جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَالْمُكَلَّفُ عِنْدَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ. الثَّانِي: أَحْسَنُوا فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَاتَّقَوُا اللَّهَ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الرَّسُولِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُمُ الِاسْتِجَابَةُ لِلرَّسُولِ وَإِنْ بَلَغَ الْأَمْرُ بِهِمْ فِي الْجِرَاحَاتِ مَا بَلَغَ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَتَمَكَّنُوا مَعَهُ مِنَ النُّهُوضِ. الثَّالِثُ: أَحْسَنُوا: فِيمَا أَتَوْا بِهِ مِنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتَّقَوُا ارْتِكَابَ شَيْءٍ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ بَعْدَ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ لِلتَّبْيِينِ لِأَنَّ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ قَدْ أَحْسَنُوا واتقوا كلهم لا بعضهم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 173 الى 174] الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) [في قَوْلُهُ تَعَالَى الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الصُّغْرَى، رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمَّا عَزَمَ عَلَى أَنْ يَنْصَرِفَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ نَادَى: يَا مُحَمَّدُ مَوْعِدُنَا مَوْسِمَ بَدْرٍ الصُّغْرَى فَنَقْتَتِلُ بِهَا إِنْ شِئْتَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعُمَرَ: قُلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَمَّا حَضَرَ الْأَجَلُ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ مَعَ قَوْمِهِ حَتَّى نَزَلَ بِمَرِّ

الظَّهْرَانِ، وَأَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى الرُّعْبَ فِي قَلْبِهِ، فَبَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ، فَلَقِيَ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيَّ وَقَدْ قَدِمَ نُعَيْمٌ مُعْتَمِرًا، فَقَالَ: يَا نُعَيْمُ إِنِّي وَعَدْتُ مُحَمَّدًا أَنْ نَلْتَقِيَ بِمَوْسِمِ بَدْرٍ، وَإِنَّ هَذَا عَامُ جَدْبٍ وَلَا يُصْلِحُنَا إِلَّا عَامٌ نَرْعَى فِيهِ الشَّجَرَ وَنَشْرَبُ فِيهِ اللَّبَنَ، وَقَدْ بَدَا لِي أَنْ أَرْجِعَ، وَلَكِنْ إِنْ خَرَجَ مُحَمَّدٌ وَلَمْ أَخْرُجْ زَادَ بِذَلِكَ جَرَاءَةً، فَاذْهَبْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَثَبِّطْهُمْ وَلَكَ عِنْدِي عَشَرَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، فَخَرَجَ نُعَيْمٌ فَوَجَدَ الْمُسْلِمِينَ يَتَجَهَّزُونَ فَقَالَ لَهُمْ: مَا هَذَا بِالرَّأْيِ، أتوكم في دياركم وقتلوا أكثرهم فَإِنْ ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لَمْ يَرْجِعْ مِنْكُمْ أَحَدٌ، فَوَقَعَ هَذَا الْكَلَامُ فِي قُلُوبِ قَوْمٍ مِنْهُمْ، فَلَمَّا عَرَفَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَخْرُجَنَّ إِلَيْهِمْ وَلَوْ وَحْدِي» ثُمَّ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، ومعه نحو من سَبْعِينَ رَجُلًا فِيهِمُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَذَهَبُوا إِلَى أَنْ وَصَلُوا إِلَى بَدْرٍ الصُّغْرَى، وَهِيَ مَاءٌ لِبَنِي كِنَانَةَ، وَكَانَتْ مَوْضِعَ سُوقٍ لَهُمْ يَجْتَمِعُونَ فِيهَا كُلَّ عَامٍ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَلَمْ يَلْقَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ أَحَدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَوَافَقُوا السُّوقَ، وَكَانَتْ مَعَهُمْ نَفَقَاتٌ وَتِجَارَاتٌ، فَبَاعُوا وَاشْتَرَوْا أُدْمًا وَزَبِيبًا وَرَبِحُوا وَأَصَابُوا بِالدِّرْهَمِ دِرْهَمَيْنِ، وَانْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ سَالِمِينَ غَانِمِينَ، وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى مَكَّةَ فَسَمَّى أَهْلُ مَكَّةَ جَيْشَهُ جَيْشَ السَّوِيقِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتَشْرَبُوا السَّوِيقَ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَحَلِّ الَّذِينَ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَرٌّ، صِفَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِتَقْدِيرِ: وَاللَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ. الثَّانِي: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الثَّالِثُ: أَنَّهُ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ فَزادَهُمْ إِيماناً. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، وَفِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: قالَ لَهُمُ النَّاسُ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ هُوَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا جَازَ إِطْلَاقُ لَفْظِ النَّاسِ عَلَى الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ الْوَاحِدُ قَوْلًا وَلَهُ أَتْبَاعٌ يَقُولُونَ مِثْلَ قَوْلِهِ أَوْ يَرْضَوْنَ بِقَوْلِهِ، حَسُنَ حِينَئِذٍ إِضَافَةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ إِلَى الْكُلِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها [الْبَقَرَةِ: 72] وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [الْبَقَرَةِ: 55] وَهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَإِنَّمَا فَعَلَهُ أَسْلَافُهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ أُضِيفَ إِلَيْهِمْ لِمُتَابَعَتِهِمْ لَهُمْ على تصويبهم في تلك الأفعال/ فكذا هاهنا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ الْقَوْلُ إِلَى الْجَمَاعَةِ الرَّاضِينَ بِقَوْلِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ. الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: أَنَّ رَكْبًا مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ مَرُّوا بِأَبِي سُفْيَانَ، فَدَسَّهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ لِيُجَبِّنُوهُمْ وَضَمِنَ لَهُمْ عَلَيْهِ جُعْلًا. الثَّالِثُ: قَالَ السُّدِّيُّ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ، قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ حِينَ تجهزوا للمسير إلى بعد لِمِيعَادِ أَبِي سُفْيَانَ: الْقَوْمُ قَدْ أَتَوْكُمْ فِي دِيَارِكُمْ، فَقَتَلُوا الْأَكْثَرِينَ مِنْكُمْ، فَإِنْ ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لَمْ يَبْقَ مِنْكُمْ أَحَدٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُوَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ وَرُؤَسَاءُ عَسْكَرِهِ، وَقَوْلُهُ: قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ أَيْ جَمَعُوا لَكُمُ الْجُمُوعَ، فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْجَيْشَ جَمْعًا وَيَجْمَعُونَهُ جُمُوعًا، وَقَوْلُهُ: فَاخْشَوْهُمْ أَيْ فَكُونُوا خَائِفِينَ مِنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا سَمِعُوا هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ وَلَمْ يُقِيمُوا لَهُ وَزْنًا، فَقَالَ تَعَالَى: فَزادَهُمْ إِيماناً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَزادَهُمْ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ ذَكَرُوا هَذِهِ التَّخْوِيفَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى نَفْسِ قَوْلِهِمْ، وَالتَّقْدِيرُ: فَزَادَهُمْ ذَلِكَ الْقَوْلُ إِيمَانًا، وَإِنَّمَا حَسُنَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي الْإِيمَانِ لَمَّا حَصَلَتْ عِنْدَ سَمَاعِ هَذَا الْقَوْلِ حَسُنَتْ إِضَافَتُهَا إِلَى هَذَا الْقَوْلِ وَإِلَى هَذَا

الْقَائِلِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نُوحٍ: 6] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [فَاطِرٍ: 42] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِالزِّيَادَةِ فِي الْإِيمَانِ أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا هَذَا الْكَلَامَ الْمُخَوِّفَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، بَلْ حَدَثَ فِي قُلُوبِهِمْ عَزْمٌ مُتَأَكِّدٌ عَلَى مُحَارَبَةِ الْكُفَّارِ، وَعَلَى طَاعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ ثَقُلَ ذَلِكَ أَوْ خَفَّ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ بِهِ جِرَاحَاتٌ عَظِيمَةٌ، وَكَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى الْمُدَاوَاةِ، وَحَدَثَ فِي قُلُوبِهِمْ وُثُوقٌ بِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَيُؤَيِّدُهُمْ فِي هَذِهِ الْمُحَارَبَةِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَزادَهُمْ إِيماناً. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ لَا عَنِ التَّصْدِيقِ بَلْ عَنِ الطَّاعَاتِ، وَإِنَّهُ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى وُقُوعِ الزِّيَادَةِ، وَالَّذِينَ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ قَالُوا: الزِّيَادَةُ إِنَّمَا وَقَعَتْ فِي مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ وَفِي شَعَائِرِهِ، فَصَحَّ الْقَوْلُ بِوُقُوعِ الزِّيَادَةِ فِي الْإِيمَانِ مَجَازًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذِهِ الْوَاقِعَةُ تَدُلُّ دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى أَنَّ الْكُلَّ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَدِ انْهَزَمُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِأَنَّهُ إِذَا انْهَزَمَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ عَنِ/ الْآخَرِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ فِي قَلْبِ الْغَالِبِ قُوَّةٌ وَشِدَّةُ اسْتِيلَاءٍ، وَفِي قَلْبِ الْمَغْلُوبِ انْكِسَارٌ وَضَعْفٌ، ثُمَّ إِنَّهُ سبحانه قلب القضية هاهنا، فَأَوْدَعَ قُلُوبَ الْغَالِبِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الْخَوْفَ وَالرُّعْبَ، وَأَوْدَعَ قُلُوبَ الْمَغْلُوبِينَ الْقُوَّةَ وَالْحَمِيَّةَ وَالصَّلَابَةَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّوَاعِيَ وَالصَّوَارِفَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهَا مَتَى حَدَثَتْ فِي الْقُلُوبِ وَقَعَتِ الْأَفْعَالُ عَلَى وَفْقِهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ كُلَّمَا ازْدَادُوا إِيمَانًا فِي قُلُوبِهِمْ أَظْهَرُوا مَا يُطَابِقُهُ فَقَالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: حَسْبُنَا اللَّهُ أَيْ كَافِينَا اللَّهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَحَسْبُكَ مِنْ غِنًى شِبَعٌ وَرِيٌّ أَيْ يَكْفِيكَ الشِّبَعُ وَالرِّيُّ، وَأَمَّا (الْوَكِيلُ) فَفِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْكَفِيلُ. قَالَ الشَّاعِرُ: ذَكَرْتُ أَبَا أَرْوَى فَبِتُّ كَأَنَّنِي ... بِرَدِّ الْأُمُورِ الْمَاضِيَاتِ وَكِيلُ أَرَادَ كَأَنَّنِي بِرَدِّ الْأُمُورِ كَفِيلٌ. الثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْوَكِيلُ: الْكَافِي، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ «نِعْمَ» سَبِيلُهَا أَنْ يَكُونَ الَّذِي بَعْدَهَا مُوَافِقًا لِلَّذِي قَبْلَهَا، تَقُولُ: رَازِقُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الرَّازِقُ، وَخَالِقُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْخَالِقُ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ مَنْ يقول: خالقنا الله ونعم الرازق، فكذا هاهنا تَقْدِيرُ الْآيَةِ: يَكْفِينَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْكَافِي. الثَّالِثُ: الوكيل، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَهُوَ الْمَوْكُولُ إِلَيْهِ، وَالْكَافِي وَالْكَفِيلُ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى وَكِيلًا، لِأَنَّ الْكَافِيَ يَكُونُ الْأَمْرُ مَوْكُولًا إِلَيْهِ، وَكَذَا الْكَفِيلُ يَكُونُ الْأَمْرُ مَوْكُولًا إِلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ [إلى آخر الآية] وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَالْمَعْنَى: وَخَرَجُوا فَانْقَلَبُوا، فَحَذَفَ الْخُرُوجَ لِأَنَّ الِانْقِلَابَ يَدُلُّ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشُّعَرَاءِ: 63] أَيْ فَضُرِبَ فَانْفَلَقَ، وَقَوْلُهُ: بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: النعمة هاهنا الْعَافِيَةُ، وَالْفَضْلُ التِّجَارَةُ، وَقِيلَ: النِّعْمَةُ مَنَافِعُ الدُّنْيَا، وَالْفَضْلُ ثَوَابُ الْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ: لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ لَمْ يُصِبْهُمْ قَتْلٌ وَلَا جِرَاحٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ فِي طَاعَةِ رَسُولِهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ قَدْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْفِيقِ فِيمَا فَعَلُوا، وَفِي ذَلِكَ إِلْقَاءُ الْحَسْرَةِ في قلوب المتخلفين عنهم إظهار لِخَطَأِ رَأْيِهِمْ حَيْثُ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِمَّا فَازَ به هؤلاء،

[سورة آل عمران (3) : آية 175]

وَرُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: هَلْ يَكُونُ هَذَا غَزْوًا، فَأَعْطَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الْغَزْوِ وَرَضِيَ عَنْهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْمَغَازِي اخْتَلَفُوا، فَذَهَبَ الْوَاقِدِيُّ إِلَى تَخْصِيصِ الْآيَةِ الْأُولَى بِوَاقِعَةِ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ بِبَدْرٍ الصُّغْرَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْآيَتَيْنِ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ الصُّغْرَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ كَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى قُرْبِ عَهْدٍ بِالْقَرْحِ، فَالْمَدْحُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ الْمَدْحِ/ عَلَى الْخُرُوجِ عَلَى الْعَدُوِّ مِنْ وَقْتِ إِصَابَةِ الْقَرْحِ لِمَسِّهِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ. وَالْقَرْحُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجِبُ أَنْ يُفَسَّرَ بِالْهَزِيمَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الَّذِينَ انْهَزَمُوا ثُمَّ أَحْسَنُوا الْأَعْمَالَ بِالتَّوْبَةِ وَاتَّقَوُا اللَّهَ فِي سَائِرِ أُمُورِهِمْ، ثُمَّ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ عَازِمِينَ عَلَى الثَّوَابِ مُوَطِّنِينَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ، بِحَيْثُ لَمَّا بَلَغَهُمْ كَثْرَةُ جُمُوعِهِمْ لَمْ يَفْتَرُوا وَلَمْ يَفْشَلُوا، وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ وَرَضُوا بِهِ كَافِيًا وَمُعِينًا فَلَهُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ لَا يَحْجُبُهُمْ عَنْهُ مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ إِذْ كَانُوا قَدْ تَابُوا عَنْهَا وَاللَّهُ أعلم. [سورة آل عمران (3) : آية 175] إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: الشَّيْطانُ خَبَرُ ذلِكُمُ بِمَعْنَى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الْمُثَبِّطُ هو الشيطان ويُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانٌ لِتَثْبِيطِهِ، أَوِ الشَّيْطانُ صفة لاسم الإشارة ويُخَوِّفُ الْخَبَرُ، وَالْمُرَادُ بِالشَّيْطَانِ الرَّكْبُ، وَقِيلَ: نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَسُمِّيَ شَيْطَانًا لِعُتُوِّهِ وَتَمَرُّدِهِ فِي الْكُفْرِ، كَقَوْلِهِ: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الْأَنْعَامِ: 112] وَقِيلَ: هُوَ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ بِالْوَسْوَسَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللَّهُ بِالشَّيْطَانِ إِنَّمَا خَوَّفُوا الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ، فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي وَحُذِفَ الْجَارُّ، وَمِثَالُ حَذْفِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [الْقَصَصِ: 7] أَيْ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فِرْعَوْنَ، وَمِثَالُ حَذْفِ الْجَارِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً [الْكَهْفِ: 2] مَعْنَاهُ: لِيُنْذِرَكُمْ بِبَأْسٍ وَقَوْلُهُ: لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ [غَافِرٍ: 15] أَيْ لِيُنْذِرَكُمْ بِيَوْمِ التَّلَاقِ، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَالزَّجَّاجِ، وَأَبِي عَلِيٍّ. قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِ: خَوَّفْتُ زَيْدًا عَمْرًا، وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ، فَحَذَفَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ، كَمَا تَقُولُ: أَعْطَيْتُ الْأَمْوَالَ، أَيْ أَعْطَيْتُ الْقَوْمَ الْأَمْوَالَ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا أَوْلَى مِنِ ادِّعَاءٍ جَارٍ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ: لِيُنْذِرَ بَأْساً أَيْ لِيُنْذِرَكُمْ بَأْسًا وَقَوْلُهُ: لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ أَيْ لِيُنْذِرَكُمْ يَوْمَ التَّلَاقِ وَالتَّخْوِيفُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ مِنْ غَيْرِ حَرْفِ جَرٍّ تَقُولُ: خَافَ زَيْدٌ الْقِتَالَ، وَخَوَّفْتُهُ الْقِتَالَ وَهَذَا الْوَجْهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ الْمُنَافِقِينَ لِيَقْعُدُوا عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَالْمَعْنَى الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ الَّذِينَ يُطِيعُونَهُ وَيُؤْثِرُونَ أَمْرَهُ، فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَخَافُونَهُ إِذَا خَوَّفَهُمْ وَلَا يَنْقَادُونَ لِأَمْرِهِ وَمُرَادِهِ مِنْهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ، فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ فِيهِ مَحْذُوفَانِ، وَالثَّانِي فِيهِ مَحْذُوفٌ وَاحِدٌ، وَالثَّالِثُ لَا حَذْفَ فِيهِ. وَأَمَّا الْأَوْلِيَاءُ فَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْكُفَّارُ، وَقَوْلُهُ: فَلا تَخافُوهُمْ الْكِنَايَةُ فِي الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ عَائِدَةٌ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ. وَفِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ عَائِدَةٌ إِلَى النَّاسُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 173] فَلا تَخافُوهُمْ فتقعدوا عن القتال وتجنبوا وَخافُونِ فَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِي وَسَارِعُوا إِلَى مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يَعْنِي أَنَّ الْإِيمَانَ يَقْتَضِي أَنْ تُؤْثِرُوا خَوْفَ اللَّهِ عَلَى خوف الناس.

[سورة آل عمران (3) : آية 176]

[سورة آل عمران (3) : آية 176] وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ] فيه مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ يُحْزِنْكَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ، وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا قَوْلَهُ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الْأَنْبِيَاءِ: 103] فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُ فَتَحَ الْيَاءَ وَضَمَّ الزَّايَ، وَالْبَاقُونَ كُلُّهُمْ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: اللُّغَةُ الْجَيِّدَةُ: حَزَنَهُ يَحْزُنُهُ عَلَى مَا قَرَأَ بِهِ أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ، وَحُجَّةُ نَافِعٍ أَنَّهُمَا لُغَتَانِ يُقَالُ: حَزَنَ يَحْزُنُ كَنَصَرَ يَنْصُرُ، وَأَحْزَنَ يُحْزِنُ كَأَكْرَمَ يُكْرِمُ لُغَتَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ رَسُولَهُ آمِنًا مِنْ شَرِّهِمْ، وَالْمَعْنَى: لَا يَحْزُنْكَ مَنْ يُسَارِعُ فِي الْكُفْرِ بِأَنْ يَقْصِدَ جَمْعَ الْعَسَاكِرِ لِمُحَارَبَتِكَ، فَإِنَّهُمْ بِهَذَا الصَّنِيعِ إِنَّمَا يَضُرُّونَ أَنْفُسَهُمْ وَلَا يَضُرُّونَ اللَّهَ، وَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا النَّبِيَّ وَأَصْحَابَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ضَرَرٍ مَخْصُوصٍ، لِأَنَّ مِنَ الْمَشْهُورِ أَنَّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَلْحَقُوا أَنْوَاعًا مِنَ الضَّرَرِ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّ مَقْصُودَهُمْ مِنْ جَمْعِ الْعَسَاكِرِ إِبْطَالُ هَذَا الدِّينِ وَإِزَالَةُ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ، بَلْ يَضْمَحِلُّ أَمْرُهُمْ وَتَزُولُ شَوْكَتُهُمْ، وَيَعْظُمُ أَمْرُكَ وَيَعْلُو شَأْنُكَ. الثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَمُسَارَعَتُهُمْ هِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُخَوِّفُونَ الْمُؤْمِنِينَ/ بِسَبَبِ وَقْعَةِ أُحُدٍ وَيُؤَيِّسُونَهُمْ مِنَ النُّصْرَةِ وَالظَّفَرِ، أَوْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ مُحَمَّدًا طَالِبُ مُلْكٍ، فَتَارَةً يَكُونُ الْأَمْرُ لَهُ، وَتَارَةً عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مَا غُلِبَ، وَهَذَا كَانَ يُنَفِّرُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ الرَّسُولُ يَحْزَنُ بِسَبَبِهِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ قَوْمًا مِنَ الْكُفَّارِ أَسْلَمُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا خَوْفًا مِنْ قُرَيْشٍ فَوَقَعَ الْغَمُّ فِي قَلْبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ السَّبَبِ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ظَنَّ أَنَّهُمْ بِسَبَبِ تِلْكَ الرِّدَّةِ يُلْحِقُونَ بِهِ مَضَرَّةً فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ رِدَّتَهُمْ لَا تُؤَثِّرُ فِي لُحُوقِ ضَرَرٍ بِكَ قَالَ الْقَاضِي: وَيُمْكِنُ أَنْ يَقْوَى هَذَا الْوَجْهُ بِأُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُسْتَمِرَّ عَلَى الْكُفْرِ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ يُسَارِعُ فِي الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِذَلِكَ مَنْ يَكْفُرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ. الثَّانِي: أَنَّ إِرَادَتَهُ تَعَالَى أَنْ لَا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ قَدْ آمَنَ، فَاسْتَوْجَبَ ذَلِكَ، ثُمَّ أُحْبِطَ الثَّالِثُ: أَنَّ الْحُزْنَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى فَوَاتِ أَمْرٍ مَقْصُودٍ، فَلَمَّا قَدَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِانْتِفَاعَ بِإِيمَانِهِمْ، ثُمَّ كَفَرُوا حَزِنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ لِفَوَاتِ التَّكْثِيرِ بِهِمْ، فَآمَنُهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ وَعَرَّفَهُ أَنَّ وُجُودَ إِيمَانِهِمْ كَعَدَمِهِ فِي أَنَّ أَحْوَالَهُ لَا تَتَغَيَّرُ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ رُؤَسَاءُ الْيَهُودِ: كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ كَتَمُوا صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَتَاعِ الدُّنْيَا. قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَا يَبْعُدُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ أصناف الكفار بدليل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِلَى قَوْلِهِ: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا [الْمَائِدَةِ: 41] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ حُزْنَهُ كَانَ حَاصِلًا مِنْ كُلِّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ الْحُزْنَ عَلَى كُفْرِ الْكَافِرِ وَمَعْصِيَةِ الْعَاصِي طَاعَةٌ، فَكَيْفَ نَهَى اللَّهُ عَنِ الطَّاعَةِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ يُفَرِّطُ وَيُسْرِفُ فِي الْحُزْنِ عَلَى كُفْرِ قَوْمِهِ حَتَّى كَادَ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى

[سورة آل عمران (3) : آية 177]

لُحُوقِ الضَّرَرِ بِهِ، فَنَهَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْإِسْرَافِ فِيهِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فَاطِرٍ: 8] الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى لَا يُحْزِنُوكَ بِخَوْفِ أَنْ يَضُرُّوكَ وَيُعِينُوا عَلَيْكَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَضُرُّونَ بِمُسَارَعَتِهِمْ فِي الْكُفْرِ غَيْرَ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَعُودُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِمْ أَلْبَتَّةَ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا النَّبِيَّ وَأَصْحَابَهُ شَيْئًا، وَقَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ: لَنْ يَضُرُّوا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ شَيْئًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَتَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْإِخْبَارَ بِذَلِكَ وَالْحُكْمَ بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ، وَالثَّانِي: بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ، لَكِنَّ الْإِتْيَانَ بِضِدِّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ وَحَكَمَ بِهِ مُحَالٌ فَيَعُودُ الْإِشْكَالُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْإِرَادَةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَدَمِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا ذَلِكَ جَائِزٌ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا لِأَنَّهُ قَالَ: يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ فَبَيَّنَ أَنَّ إِرَادَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَذَا الْعَدَمِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَرَادَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ: وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: 185] قُلْنَا: هَذَا عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّكِرَةَ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ تَعُمُّ، إِذْ لَوْ لَمْ يَحْصُلِ الْعُمُومُ لَمْ يَحْصُلْ تَهْدِيدُ الْكُفَّارِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ قَالَ: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وَهَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَمَا لَا حَظَّ لَهُمُ الْبَتَّةَ مِنْ مَنَافِعِ الْآخِرَةِ فَلَهُمُ الحظ العظيم من مضار الآخرة. [سورة آل عمران (3) : آية 177] إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) اعْلَمْ أَنَّا لَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ الْأُولَى عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ، وَحَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ لَا يَبْعُدُ أَيْضًا حَمْلُ الْآيَةِ الْأُولَى عَلَى الْمُرْتَدِّينَ، وَحَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْيَهُودِ، وَمَعْنَى اشْتِرَاءِ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ مِنْهُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ وَيَسْتَنْصِرُونَ بِهِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، فَلَمَّا بُعِثَ كَفَرُوا بِهِ وَتَرَكُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُمْ أَعْطَوُا الْإِيمَانَ وَأَخَذُوا الْكُفْرَ بَدَلًا عَنْهُ كَمَا يَفْعَلُ الْمُشْتَرِي مِنْ إِعْطَاءِ شَيْءٍ وَأَخْذِ غَيْرِهِ بَدَلًا عَنْهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مَتَى كَانُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ، فَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ كَفَرُوا وَتَرَكُوا الْإِيمَانَ، فَكَانَ ذَلِكَ كَأَنَّهُمُ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً [آل عمران: 176] وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّكْرَارِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ أَوَّلًا، ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الِاضْطِرَابِ وَضَعْفِ الرَّأْيِ وَقِلَّةِ الثَّبَاتِ، وَمِثْلُ هَذَا الْإِنْسَانِ لَا خَوْفَ مِنْهُ وَلَا هَيْبَةَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ الْبَتَّةَ عَلَى إِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ أَمْرَ الدِّينِ أَهَمُّ/ الْأُمُورِ وَأَعْظَمُهَا، وَمِثْلُ هَذَا مِمَّا لَا يُقْدِمُ الْإِنْسَانُ فِيهِ

[سورة آل عمران (3) : آية 178]

عَلَى الْفِعْلِ أَوْ عَلَى التَّرْكِ إِلَّا بَعْدَ إِمْعَانِ النَّظَرِ وَكَثْرَةِ الْفِكْرِ، وَهَؤُلَاءِ يُقْدِمُونَ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ عَلَى التَّرْكِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمُهِمِّ الْعَظِيمِ بِأَهْوَنِ الْأَسْبَابِ وَأَضْعَفِ الْمُوجِبَاتِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ عَقْلِهِمْ وَشِدَّةِ حَمَاقَتِهِمْ، فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ لَا يَلْتَفِتُ الْعَاقِلُ إِلَيْهِمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَكْثَرَهُمْ إِنَّمَا يُنَازِعُونَكَ فِي الدِّينِ، لَا بِنَاءً عَلَى الشُّبُهَاتِ، بَلْ بِنَاءً عَلَى الْحَسَدِ وَالْمُنَازَعَةِ فِي مَنْصِبِ الدُّنْيَا، وَمَنْ كَانَ عَقْلُهُ هَذَا الْقَدْرَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَبِيعُ بِالْقَلِيلِ مِنَ الدُّنْيَا السَّعَادَةَ الْعَظِيمَةَ فِي الْآخِرَةِ كَانَ فِي غَايَةِ الْحَمَاقَةِ، وَمِثْلُهُ لَا يَقْدِرُ فِي إِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ، فَهَذَا هُوَ الْفَائِدَةُ فِي إِعَادَةِ هَذِهِ الآية والله أعلم بمراده. [سورة آل عمران (3) : آية 178] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى الْمَدِينَةِ لِتَثْبِيطِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا ثَبَّطُوهُمْ لِأَنَّهُمْ خَوَّفُوهُمْ بِأَنْ يُقْتَلُوا كَمَا قُتِلَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ أَقْوَالَ هَؤُلَاءِ الشَّيَاطِينِ لَا يَقْبَلُهَا الْمُؤْمِنُ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ بَقَاءَ هَؤُلَاءِ الْمُتَخَلِّفِينَ لَيْسَ خَيْرًا مِنْ قَتْلِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قُتِلُوا بِأُحُدٍ، لِأَنَّ هَذَا الْبَقَاءَ صَارَ وَسِيلَةً إِلَى الْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَابِ الدَّائِمِ فِي الْقِيَامَةِ، وَقَتْلُ أُولَئِكَ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ أُحُدٍ صَارَ وَسِيلَةً إِلَى الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ الْجَزِيلِ فِي الْآخِرَةِ، فَتَرْغِيبُ أُولَئِكَ الْمُثَبِّطِينَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَيَاةِ وَتَنْفِيرُهُمْ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْقَتْلِ لَا يَقْبَلُهُ إِلَّا جَاهِلٌ. فَهَذَا بَيَانُ وَجْهِ النَّظْمِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَلَا تَحْسَبُنَّ الَّذِينَ كفروا ولا تحسبن الذين يبخلون [آل عمران: 180] لا تحسبن الذين يفرحون ... فلا تحسبنهم [آل عمران: 188] فِي الْأَرْبَعَةِ بِالتَّاءِ وَضَمَّ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: تَحْسَبُنَّهُمْ وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِالْيَاءِ إِلَّا قوله: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ فَإِنَّهُ بِالتَّاءِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ كُلَّهَا بِالتَّاءِ، وَاخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي فَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، أَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا بِالْيَاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ تَحْتُ: فَقَوْلُهُ: يَحْسَبَنَّ فِعْلٌ، وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا فَاعِلٌ يَقْتَضِي مَفْعُولَيْنِ أَوْ مَفْعُولًا يَسُدُّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْنِ نَحْوُ حَسِبْتُ، وَقَوْلُهُ: حَسِبْتُ أَنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ، وَحَسِبْتُ أَنْ يَقُومَ عَمْرٌو، فَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ: أَنَّما نُمْلِي/ لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ يَسُدُّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ [الْفُرْقَانِ: 44] وَأَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ بِالتَّاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ فَوْقُ فَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا نصب بأنه المفعول الاول، وأَنَّما نُمْلِي لَهُمْ بدل عنه. وخَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ إِمْلَاءَ الَّذِينَ كَفَرُوا خَيْرًا لَهُمْ. وَمِثْلُهُ مِمَّا جَعَلَ «أَنَّ» مَعَ الْفِعْلِ بَدَلًا مِنَ الْمَفْعُولِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ [الْأَنْفَالِ: 7] فَقَوْلُهُ: أَنَّها لَكُمْ بَدَلٌ مِنْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: «مَا» فِي قَوْلِهِ: أَنَّما يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ الَّذِي نُمْلِيهِ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، وَحَذَفَ الْهَاءَ مِنْ «نُمْلِي» لِأَنَّهُ يَجُوزُ حَذْفُ الْهَاءِ مِنْ صِلَةِ الَّذِي كَقَوْلِكَ: الَّذِي رَأَيْتُ زَيْدٌ، وَالْآخَرُ: أَنْ يُقَالَ: «مَا» مَعَ مَا بَعْدَهَا فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ إِمْلَائِي لَهُمْ خَيْرٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : «مَا» مَصْدَرِيَّةٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَانَ حَقُّهَا فِي قِيَاسِ عِلْمِ الْخَطِّ أَنْ

تُكْتَبَ مَفْصُولَةً وَلَكِنَّهَا وَقَعَتْ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ مُتَّصِلَةً، وَاتِّبَاعُ خَطِّ الْمَصَاحِفِ لِذَلِكَ الْمُصْحَفِ وَاجِبٌ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ فَهَهُنَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً لِأَنَّهَا كَافَّةٌ بِخِلَافِ الأولى. المسألة الرابعة: معنى نُمْلِي لَهُمْ فَهَهُنَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً لِأَنَّهَا كَافَّةٌ بِخِلَافِ الْأُولَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَعْنَى «نُمْلِي» نُطِيلُ وَنُؤَخِّرُ، وَالْإِمْلَاءُ الْإِمْهَالُ وَالتَّأْخِيرُ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْمَلْوَةِ وَهِيَ الْمُدَّةُ مِنَ الزَّمَانِ، يُقَالُ: مَلَوْتُ مِنَ الدَّهْرِ مَلْوَةً وَمُلْوَةً وَمِلَاوَةً وَمُلَاوَةً بِمَعْنًى وَاحِدٍ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ: أَمْلَى عَلَيْهِ الزَّمَانُ أَيْ طَالَ، وَأَمْلَى لَهُ أَيْ طَوَّلَ لَهُ وَأَمْهَلَهُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَمِنْهُ الْمَلَا لِلْأَرْضِ الْوَاسِعَةِ الطَّوِيلَةِ وَالْمَلَوَانِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْإِمْلَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ إِطَالَةِ الْمُدَّةِ، وَهِيَ لَا شَكَّ أَنَّهَا مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي بَيَانِ أَنَّ هَذَا الْإِمْلَاءَ لَيْسَ بِخَيْرٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَاعِلُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هذا الإملاء هو أن يزدادوا الْإِثْمِ وَالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أَيْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلِيَكُونَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا خَيْرَ لَهُمْ فِي هَذَا الْإِمْلَاءِ، أنهم لَا يَحْصُلُونَ إِلَّا عَلَى ازْدِيَادِ الْبَغْيِ وَالطُّغْيَانِ، وَالْإِتْيَانُ بِخِلَافِ مُخْبَرِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ بَقَاءِ ذَلِكَ الْخَيْرِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُونُوا قَادِرِينَ مَعَ ذَلِكَ الْإِمْلَاءِ عَلَى الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ مَعَ أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِذَلِكَ لَزِمَ فِي نَفْسِهِ بُطْلَانُ مَذْهَبِ الْقَوْمِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا الْإِمْلَاءَ لَيْسَ بِخَيْرٍ، إِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا الْإِمْلَاءَ لَيْسَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَنْ يَمُوتُوا كَمَا مَاتَ الشُّهَدَاءُ يَوْمَ أُحُدٍ، لِأَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي شَأْنِ أُحُدٍ وَفِي تَثْبِيطِ الْمُنَافِقِينَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْجِهَادِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ إِبْقَاءَ الْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا وَإِمْلَاءَهُ لَهُمْ لَيْسَ بِخَيْرٍ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَمُوتُوا كَمَوْتِ الشُّهَدَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ كَوْنِ هَذَا الْإِمْلَاءِ أَكْثَرَ خَيْرِيَّةً مِنْ ذَلِكَ الْقَتْلِ، أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا الْإِمْلَاءُ فِي نَفْسِهِ خَيْرًا. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَقَدْ قَالُوا: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْإِمْلَاءِ إِقْدَامُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] وَقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النِّسَاءِ: 64] بَلِ الْآيَةُ تَحْتَمِلُ وُجُوهًا مِنَ التَّأْوِيلِ: أَحَدُهَا: أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ اللَّامُ عَلَى لَامِ الْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَصِ: 8] وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ [الْأَعْرَافِ: 179] وَقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ [إِبْرَاهِيمَ: 30] وَهُمْ مَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِطَلَبِ الْإِضْلَالِ، بَلْ لِطَلَبِ الِاهْتِدَاءِ، وَيُقَالُ: مَا كَانَتْ مَوْعِظَتِي لَكَ إِلَّا لِزِيَادَةٍ فِي تَمَادِيكَ فِي الْفِسْقِ إِذَا كَانَتْ عَاقِبَةُ الْمَوْعِظَةِ ذَلِكَ، وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمْهَلَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ لَا يَزْدَادُونَ عِنْدَ هَذَا الْإِمْهَالِ إِلَّا تَمَادِيًا فِي الْغَيِّ وَالطُّغْيَانِ، أَشْبَهَ هَذَا حَالَ مَنْ فَعَلَ الْإِمْلَاءَ لِهَذَا الْغَرَضِ وَالْمُشَابَهَةُ أَحَدُ أَسْبَابِ حُسْنِ الْمَجَازِ. وَرَابِعُهَا: وَهُوَ السُّؤَالُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ لِلْقَوْمِ وَهُوَ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لِيَزْدادُوا إِثْماً غَيْرُ مَحْمُولٍ عَلَى الْغَرَضِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَلِأَنَّهُمْ يُحِيلُونَ تَعْلِيلَ أَفْعَالِ اللَّهِ بِالْأَغْرَاضِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا فَلِأَنَّا لَا نَقُولُ بِأَنَّ فِعْلَ اللَّهِ مُعَلَّلٌ بِغَرَضِ التَّعَبِ وَالْإِيلَامِ، بَلْ عِنْدَنَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَفْعَلْ فِعْلًا إِلَّا لِغَرَضِ الْإِحْسَانِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّامَ غَيْرُ مَحْمُولَةٍ عَلَى التَّعْلِيلِ وَالْغَرَضِ، وَعِنْدَ هَذَا يَسْقُطُ مَا

ذَكَرْتُمْ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا: قَوْلُ الْقَائِلِ: مَا الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ اللَّامِ غَيْرَ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إِنَّمَا بَنَى اسْتِدْلَالَهُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّامَ لِلتَّعْلِيلِ، فَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ سَقَطَ اسْتِدْلَالُهُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْإِخْبَارُ وَالْعِلْمُ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِأَنَّ هَذَا لَوْ مَنَعَ الْعَبْدَ مِنَ الْفِعْلِ لَمَنَعَ اللَّهُ مِنْهُ، وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُوجِبًا لَا مُخْتَارًا، وَهُوَ بِالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ مَعْنَاهُ نَفْيُ الْخَيْرِيَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ خَيْرًا مِنْ شَيْءٍ آخَرَ، لِأَنَّ بِنَاءَ الْمُبَالَغَةِ لَا يَجُوزُ ذِكْرُهُ إِلَّا عِنْدَ ذِكْرِ الرَّاجِحِ وَالْمَرْجُوحِ، فَلَمَّا لم يذكر الله هاهنا إِلَّا أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لِنَفْيِ الْخَيْرِيَّةِ/ لَا لِنَفْيِ كَوْنِهِ خَيْرًا مِنْ شَيْءٍ آخَرَ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: وَهُوَ تَمَسُّكُهُمْ بِقَوْلِهِ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ [النِّسَاءِ: 64] . فَجَوَابُهُ: أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي تَمَسَّكْنَا بِهَا خَاصٌّ، وَالْآيَةَ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا عَامٌّ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ حَمْلُ اللَّامِ عَلَى لَامِ الْعَاقِبَةِ فَهُوَ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْبُرْهَانَ الْعَقْلِيَّ يُبْطِلُهُ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِيرُوا مَوْصُوفِينَ بِازْدِيَادِ الْغَيِّ وَالطُّغْيَانِ، كَانَ ذَلِكَ وَاجِبَ الْحُصُولِ لِأَنَّ حُصُولَ مَعْلُومِ اللَّهِ وَاجِبٌ، وَعَدَمُ حُصُولِهِ مُحَالٌ، وَإِرَادَةُ الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدَ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ، وَيَجِبُ أَنْ يُرِيدَ مِنْهُمُ ازْدِيَادَ الْغَيِّ وَالطُّغْيَانِ، وَحِينَئِذٍ ثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّعْلِيلُ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَى لَامِ الْعَاقِبَةِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الرَّابِعُ: وَهُوَ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ. وَثَانِيهَا: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا إِنَّمَا يَحْسُنُ لَوْ جَازَتْ قِرَاءَةُ أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ بِكَسْرِ «إِنَّمَا» وَقِرَاءَةُ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً بِالْفَتْحِ. وَلَمْ تُوجَدْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ الْبَتَّةَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّا بَيَّنَّا بِالْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ الْعَقْلِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ اللَّهِ مِنْ هَذَا الْإِمْلَاءِ حُصُولَ الطُّغْيَانِ لَا حُصُولَ الْإِيمَانِ، فَالْقَوْلُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ وَالْتِزَامٌ لِمَا هُوَ عَلَى خِلَافِ الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الْخَامِسُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: هَذِهِ اللَّامُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى التَّعْلِيلِ. فَجَوَابُهُ أَنَّ عِنْدَنَا يَمْتَنِعُ تَعْلِيلُ أَفْعَالِ اللَّهِ لِغَرَضٍ يَصْدُرُ مِنَ الْعِبَادِ، فَأَمَّا أَنْ يَفْعَلَ تَعَالَى فِعْلًا لِيَحْصُلَ مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ فَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْإِمْلَاءِ إِيصَالَ الْخَيْرِ لَهُمْ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ، وَالْقَوْمُ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ، فَتَصِيرُ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّادِسُ: وَهُوَ الْمُعَارَضَةُ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى. فَالْجَوَابُ: أَنَّ تَأْثِيرَ قُدْرَةِ اللَّهِ فِي إِيجَادِ الْمُحْدَثَاتِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى تَعَلُّقِ عِلْمِهِ بِعَدَمِهِ، فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ مَانِعًا عَنِ الْقُدْرَةِ. أَمَّا فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَتَأْثِيرُ قُدْرَتِهِ فِي إِيجَادِ الْفِعْلِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِعَدَمِهِ، فَصَلَحَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعِلْمُ مَانِعًا لِلْعَبْدِ عَنِ الْفِعْلِ، فَهَذَا تَمَامُ الْمُنَاظَرَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.

[سورة آل عمران (3) : آية 179]

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكَافِرِ شَيْءٌ مِنَ النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ، وَهَلْ لَهُ فِي حَقِّهِ شَيْءٌ مِنَ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ، اخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ أَصْحَابِنَا، فَالَّذِينَ قَالُوا لَيْسَ لَهُ فِي حَقِّهِ شَيْءٌ مِنَ/ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ إِطَالَةَ الْعُمُرِ وَإِيصَالَهُ إِلَى مُرَادَاتِهِ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا نِعْمَةً، لِأَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِخَيْرٍ، وَالْعَقْلُ أَيْضًا يُقَرِّرُهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ أَطْعَمَ إِنْسَانًا خَبِيصًا مَسْمُومًا فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ ذَلِكَ الْإِطْعَامُ إِنْعَامًا، فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِعْطَاءِ نِعَمِ الدُّنْيَا عِقَابَ الآخرة لم يكن شيء منها نعمة حقيقة، وَأَمَّا الْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي تَكْثِيرِ النِّعَمِ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا يَكُونُ نِعَمًا فِي الظَّاهِرِ، وَأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ تِلْكَ الْآيَاتِ إِلَّا أَنْ نَقُولَ: تِلْكَ النِّعَمُ نِعَمٌ فِي الظَّاهِرِ وَلَكِنَّهَا نِقَمٌ وَآفَاتٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَاللَّهُ أعلم. [سورة آل عمران (3) : آية 179] مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) [في قَوْلُهُ تَعَالَى مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ] اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْأَحْوَالَ الَّتِي وَقَعَتْ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ مِنَ الْقَتْلِ وَالْهَزِيمَةِ، ثُمَّ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ مَعَ مَا كَانَ بِهِمْ مِنَ الْجِرَاحَاتِ إِلَى الْخُرُوجِ لِطَلَبِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ دُعَائِهِ إِيَّاهُمْ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى بَدْرٍ الصُّغْرَى لِمَوْعِدِ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ صَارَ دَلِيلًا عَلَى امْتِيَازِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْمُنَافِقِ، لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ خَافُوا وَرَجَعُوا وَشَمَتُوا بِكَثْرَةِ الْقَتْلَى مِنْكُمْ، ثُمَّ ثَبَّطُوا وَزَهَّدُوا الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْعَوْدِ إِلَى الْجِهَادِ، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي حِكْمَتِهِ أَنْ يَذَرَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ اخْتِلَاطِ الْمُنَافِقِينَ بِكُمْ وَإِظْهَارِهِمْ أَنَّهُمْ مِنْكُمْ وَمِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بَلْ كَانَ يَجِبُ فِي حِكْمَتِهِ إِلْقَاءُ هَذِهِ الْحَوَادِثِ وَالْوَقَائِعِ حَتَّى يَحْصُلَ هَذَا الِامْتِيَازُ، فَهَذَا وَجْهُ النَّظْمِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ بِالتَّشْدِيدِ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ وَالْبَاقُونَ يَمِيزَ بِالتَّخْفِيفِ وَفَتْحِ الْيَاءِ الْأُولَى وَكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْيَاءِ الْأَخِيرَةِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُمَا لُغَتَانِ يُقَالُ مِزْتُ الشَّيْءَ بَعْضَهُ مِنْ بَعْضٍ فَأَنَا أُمَيِّزُهُ مَيْزًا أَوْ أُمَيِّزُهُ تَمْيِيزًا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «مَنْ مَازَ أَذًى عَنْ طَرِيقٍ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ» وَحُجَّةُ من قرأ بالتخفيف وفتح الباء أَنَّ الْمَيْزَ يُفِيدُ فَائِدَةَ التَّمْيِيزِ وَهُوَ أَخَفُّ/ فِي اللَّفْظِ فَكَانَ أَوْلَى، وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: التَّشْدِيدُ لِلْكَثْرَةِ، فَأَمَّا وَاحِدٌ مِنْ وَاحِدٍ فَيَمِيزُ بِالتَّخْفِيفِ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَالَ: حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ فَذَكَرَ شَيْئَيْنِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْفَرْقِ وَالتَّفْرِيقِ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: وَامْتازُوا الْيَوْمَ [يس: 59] وَهُوَ مُطَاوِعُ الْمَيْزِ، وَحُجَّةُ مَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ: أَنَّ التَّشْدِيدَ لِلتَّكْثِيرِ وَالْمُبَالَغَةِ، وَفِي المؤمنين والمنافقين كثرة، فلفظ التمييز هاهنا أَوْلَى، وَلَفْظُ الطَّيِّبِ وَالْخَبِيثِ وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا إِلَّا أَنَّهُ لِلْجِنْسِ، فَالْمُرَادُ بِهِمَا جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ لَا اثْنَانِ مِنْهُمَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ اخْتِلَاطِ الْمُؤْمِنِ بِالْمُنَافِقِ وَأَشْبَاهِهِ حَتَّى يُمَيِّزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، أَيِ الْمُنَافِقَ مِنَ الْمُؤْمِنِ. وَاخْتَلَفُوا بِأَيِّ شَيْءٍ مَيَّزَ بَيْنَهُمْ وَذَكَرُوا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: بِإِلْقَاءِ الْمِحَنِ وَالْمَصَائِبِ وَالْقَتْلِ وَالْهَزِيمَةِ، فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا ثَبَتَ عَلَى إِيمَانِهِ وَعَلَى

[سورة آل عمران (3) : آية 180]

تَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ كَانَ مُنَافِقًا ظَهَرَ نِفَاقُهُ وَكُفْرُهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ وَعَدَ بِنُصْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِذْلَالِ الْكَافِرِينَ، فَلَمَّا قَوِيَ الْإِسْلَامُ عَظُمَتْ دَوْلَتُهُ وَذَلَّ الْكُفْرُ وَأَهْلُهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ حَصَلَ هَذَا الِامْتِيَازُ وَثَالِثُهَا: الْقَرَائِنُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ، مِثْلُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَفْرَحُونَ بِنُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَقُوَّتِهِ، وَالْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَغْتَمُّونَ بسبب ذلك. المسألة الثالثة: هاهنا سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا التَّمْيِيزَ إِنْ ظَهَرَ وَانْكَشَفَ فَقَدْ ظَهَرَ كُفْرُ الْمُنَافِقِينَ، وَظُهُورُ الْكُفْرِ مِنْهُمْ يَنْفِي كَوْنَهُمْ مُنَافِقِينَ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَمْ يَحْصُلْ مَوْعُودُ اللَّهِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ ظَهَرَ بِحَيْثُ يُفِيدُ الِامْتِيَازَ الظَّنِّيَّ، لَا الِامْتِيَازَ الْقَطْعِيَّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَمَ بِأَنْ يَظْهَرَ هَذَا التَّمْيِيزُ، ثُمَّ بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ التَّمْيِيزُ بِأَنْ يُطْلِعَكُمُ اللَّهُ عَلَى غَيْبِهِ فَيَقُولُ: إِنَّ فُلَانًا مُنَافِقٌ وَفُلَانًا مُؤْمِنٌ، وَفُلَانًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَفُلَانًا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَإِنَّ سُنَّةَ اللَّهِ جَارِيَةٌ بِأَنَّهُ لَا يَطَّلِعُ عَوَامُّ النَّاسِ عَلَى غَيْبِهِ، بَلْ لَا سَبِيلَ لَكُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الِامْتِيَازِ إِلَّا بِالِامْتِحَانَاتِ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُقُوعِ الْمِحَنِ وَالْآفَاتِ، حَتَّى يَتَمَيَّزَ عِنْدَهَا الْمُوَافِقُ مِنَ الْمُنَافِقِ، فَأَمَّا مَعْرِفَةُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاطِّلَاعِ مِنَ الْغَيْبِ فَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْأَنْبِيَاءِ، فَلِهَذَا قَالَ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ أَيْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَصْطَفِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَخَصَّهُمْ بِإِعْلَامِهِمْ أَنَّ هَذَا مُؤْمِنٌ وَهَذَا مُنَافِقٌ. وَيُحْتَمَلُ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَيَمْتَحِنُ خَلْقَهُ بِالشَّرَائِعِ عَلَى أَيْدِيهِمْ حَتَّى يَتَمَيَّزَ الْفَرِيقَانِ بِالِامْتِحَانِ، وَيُحْتَمَلَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَجْعَلَكُمْ كُلَّكُمْ عَالِمِينَ بِالْغَيْبِ مِنْ حَيْثُ يُعْلِمُ الرَّسُولَ حَتَّى تَصِيرُوا مُسْتَغْنِينَ عَنِ الرَّسُولِ، بَلِ اللَّهُ يَخُصُّ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِالرِّسَالَةِ، ثُمَّ يُكَلِّفُ الْبَاقِينَ طَاعَةَ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ. ثُمَّ قَالَ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ طَعَنُوا فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوُقُوعِ/ الْحَوَادِثِ الْمَكْرُوهَةِ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ فِيهَا مَصَالِحُ مِنْهَا تَمْيِيزُ الْخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ، فَلَمَّا أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا قَالَ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ يَعْنِي لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا فِي الطَّعْنِ فِي نُبُوَّتِهِ فَقَدْ أَجَبْنَا عَنْهَا، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَرُسُلِهِ وَلَمْ يَقُلْ: وَرَسُولِهِ لِدَقِيقَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الطَّرِيقَ الَّذِي بِهِ يُتَوَصَّلُ إِلَى الْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَيْسَ إِلَّا الْمُعْجِزُ وَهُوَ حَاصِلٌ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَبَ الْإِقْرَارُ بِنُبُوَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَلِهَذِهِ الدَّقِيقَةِ قَالَ: وَرُسُلِهِ وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ طَرِيقَ إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ، فَمَنْ أَقَرَّ بِنُبُوَّةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَزِمَهُ الْإِقْرَارُ بِنُبُوَّةِ الْكُلِّ، وَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ قَرَنَ بِهِ الْوَعْدَ بِالثَّوَابِ فَقَالَ: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ وهو ظاهر. [سورة آل عمران (3) : آية 180] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى بَذْلِ النَّفْسِ فِي الْجِهَادِ فِي الْآيَاتِ المتقدمة شرع هاهنا فِي التَّحْرِيضِ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فِي الْجِهَادِ، وَبَيَّنَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ لِمَنْ يَبْخَلُ بِبَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَلَا تَحْسَبَنَّ بِالتَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، أَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ بِالتَّاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ فَوْقُ فَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ وَلَا تَحْسَبَنَّ بُخْلَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ خَيْرًا لَهُمْ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ لِدَلَالَةِ يَبْخَلُونَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ تَحْتُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ يَحْسَبَنَّ ضَمِيرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ ضَمِيرَ أَحَدٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا يَحْسَبَنَّ رَسُولُ اللَّهِ أَوْ لَا يَحْسَبَنَّ أحد بخل الذين يبخلون خيراً لهم. الثاني: أن يكون فاعل يَحْسَبَنَّ هم الذين يبخلون، وعلى هذا التقدير يكون المفعول محذوفا، وتقديره: ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم هو خَيْرًا لَهُمْ، وَإِنَّمَا جَازَ حَذْفُهُ لِدَلَالَةِ يَبْخَلُونَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: مَنْ كَذَبَ كَانَ شَرًّا لَهُ، أَيِ الْكَذِبُ، وَمِثْلُهُ: إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ أَيِ السَّفَهُ وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ هُمُ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ هُمُ ... وَالْآخِذُونَ بِهِ وَالسَّادَةُ الْأُوَلُ فَقَوْلُهُ بِهِ: يُرِيدُ بِالْمُلْكِ وَلَكِنَّهُ اكْتَفَى عَنْهُ بِذِكْرِ الْمُلُوكِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هُوَ فِي قَوْلِهِ: هُوَ خَيْراً لَهُمْ تُسَمِّيهِ الْبَصْرِيُّونَ فَصْلًا، وَالْكُوفِيُّونَ عِمَادًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ «يَبْخَلُونَ» فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا إِذَا ذَكَرَ الْبُخْلَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ الْبُخْلَ خَيْرًا لَهُمْ، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ لِلْمُبْتَدَأِ حَقِيقَةً، وَلِلْخَبَرِ حَقِيقَةً، وَكَوْنُ حَقِيقَةُ الْمُبْتَدَأِ مَوْصُوفًا بِحَقِيقَةِ الْخَبَرِ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْمُبْتَدَأِ وَحَقِيقَةِ الْخَبَرِ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَوْصُوفِيَّةُ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى الذَّاتَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ صِيغَةٍ ثَالِثَةٍ دَالَّةٍ عَلَى هَذِهِ الْمَوْصُوفِيَّةِ وَهِيَ كَلِمَةُ «هُوَ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى ذَمِّ الْبُخْلِ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالْمَنَافِعِ، وَذَلِكَ الْخَيْرُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَالًا، وَأَنْ يَكُونَ عِلْمًا. فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّ هَذَا الْوَعِيدَ وَرَدَ عَلَى الْبُخْلِ بِالْمَالِ، وَالْمَعْنَى: لَا يَتَوَهَّمَنَّ هَؤُلَاءِ الْبُخَلَاءُ أَنَّ بُخْلَهُمْ هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَبْقَى عِقَابُ بُخْلِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا تَبْقَى تِلْكَ الْأَمْوَالُ عَلَيْهِمْ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْبُخْلِ: الْبُخْلُ بِالْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَكْتُمُونَ نَعْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَتَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ الْكِتْمَانُ بُخْلًا، يُقَالُ فُلَانٌ يَبْخَلُ بِعِلْمِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِلْمَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النِّسَاءِ: 113] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَلَّمَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَإِذَا كَتَمُوا مَا فِي هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ مِنَ الْبِشَارَةِ بِمَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ ذَلِكَ بُخْلًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ وَلَوْ فَسَّرْنَا الْآيَةَ بِالْعِلْمِ احْتَجْنَا إِلَى تَحَمُّلِ الْمَجَازِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَوْ فَسَّرْنَاهَا بِالْمَالِ لَمْ نَحْتَجْ إِلَى الْمَجَازِ فَكَانَ هَذَا أَوْلَى. الثَّانِي: أَنَّا لَوْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمَالِ كَانَ ذَلِكَ تَرْغِيبًا فِي بَذْلِ الْمَالِ فِي الْجِهَادِ فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ لِهَذِهِ الْآيَةِ مَعَ مَا قَبْلَهَا نَظْمٌ حَسَنٌ، وَلَوْ حَمَلْنَاهَا عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ كَتَمُوا مَا عَرَفُوهُ مِنَ التَّوْرَاةِ انْقَطَعَ النَّظْمُ، إِلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّكَلُّفِ، فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْبُخْلَ عِبَارَةٌ عَنْ مَنْعِ الْوَاجِبِ، وَأَنَّ مَنْعَ التَّطَوُّعِ/ لَا يَكُونُ بُخْلًا، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِي البخل، والوعيد لا يليق إلا الْوَاجِبِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ الْبُخْلَ وَعَابَهُ، وَمَنْعُ التَّطَوُّعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُذَمَّ فَاعِلُهُ وَأَنْ يُعَابَ بِهِ. وَثَالِثُهَا: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَنْفَكُّ عَنْ تَرْكِ التَّفَضُّلِ لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِمَقْدُورَاتِهِ فِي التَّفَضُّلِ، وَكُلُّ مَا يَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ فَهُوَ مُتَنَاهٍ، فَيَكُونُ لَا مَحَالَةَ تَارِكًا التَّفَضُّلَ، فَلَوْ كَانَ تَرْكُ التَّفَضُّلِ بُخْلًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفًا بِالْبُخْلِ لَا مَحَالَةَ، تَعَالَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَرَابِعُهَا: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنَ الْبُخْلِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَارِكَ التَّطَوُّعِ لَا يَلِيقُ بِهِ هَذَا الْوَصْفُ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ تَارِكُ التَّفَضُّلِ بَخِيلًا لَوَجَبَ فِيمَنْ يَمْلِكُ الْمَالَ كُلَّهُ الْعَظِيمَ أَنْ لَا يَتَخَلَّصُ مِنَ الْبُخْلِ إِلَّا بِإِخْرَاجِ الْكُلِّ. وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [الْبَقَرَةِ: 3] وَكَلِمَةُ «مِنْ» لِلتَّبْعِيضِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ بَعْضَ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَتِهِمْ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَةِ: 5] فَوَصَفَهُمْ بِالْهُدَى وَالْفَلَاحِ، وَلَوْ كَانَ تَارِكُ التَّطَوُّعِ بَخِيلًا مَذْمُومًا لَمَا صَحَّ ذَلِكَ. فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْبُخْلَ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ الْوَاجِبِ، إِلَّا أَنَّ الْإِنْفَاقَ الْوَاجِبَ أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا إِنْفَاقُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى أَقَارِبِهِ الَّذِينَ يَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُمْ، وَمِنْهَا مَا يَتَّصِلُ بِأَبْوَابِ الزَّكَاةِ، وَمِنْهَا مَا إِذَا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى دَفْعِ عَدُوٍّ يَقْصِدُ قَتْلَهُمْ وَمَالَهُمْ، فَهَهُنَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ إِنْفَاقُ الْأَمْوَالِ عَلَى مَنْ يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ، وَمِنْهَا إِذَا صَارَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُضْطَرًّا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ مِقْدَارَ مَا يَسْتَبْقِي بِهِ رَمَقَهُ، فَكُلُّ هَذِهِ الاتفاقات مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكُهُ مِنْ بَابِ الْبُخْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْوَعِيدِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُطَوِّقُهُمْ بِطَوْقٍ يَكُونُ سَبَبًا لِعَذَابِهِمْ. قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى يُصَيِّرُ تِلْكَ الْأَمْوَالَ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَيَّاةً تَكُونُ لَهُمْ كَالْأَطْوَاقِ تَلْتَوِي فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ تَلْتَوِيَ تِلْكَ الْحَيَّاتُ فِي سَائِرِ أَبْدَانِهِمْ، فَأَمَّا مَا يَصِيرُ مِنْ ذَلِكَ فِي أَعْنَاقِهِمْ فَعَلَى جِهَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا الْتَزَمُوا أَدَاءَ الزَّكَاةِ ثُمَّ امْتَنَعُوا عَنْهَا، وَأَمَّا مَا يَلْتَوِي مِنْهَا فِي سَائِرِ أَبْدَانِهِمْ فَعَلَى جِهَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَضُمُّونَ تِلْكَ الْأَمْوَالَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، فَعُوِّضُوا مِنْهَا بِأَنْ جُعِلَتْ حَيَّاتٌ الْتَوَتْ عَلَيْهِمْ كَأَنَّهُمْ قَدِ الْتَزَمُوهَا وَضَمُّوهَا إِلَى أَنْفُسِهِمْ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الطَّوْقُ طَوْقًا مِنْ نَارٍ يُجْعَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ [التَّوْبَةِ: 35] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: تُجْعَلُ تِلْكَ الزَّكَاةُ الْمَمْنُوعَةُ فِي عُنُقِهِمْ كَهَيْئَةِ الطَّوْقِ شُجَاعًا ذَا زَبِيبَتَيْنِ يَلْدَغُ بِهِمَا خَدَّيْهِ وَيَقُولُ: أَنَا الزَّكَاةُ الَّتِي بَخِلْتَ فِي الدُّنْيَا بِي. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: سَيُطَوَّقُونَ قَالَ مُجَاهِدٌ: سَيُكَلَّفُونَ أَنْ يَأْتُوا بِمَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنَظِيرُهُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ وَعَلَى الذين يطوقونه فدية [البقرة: 184] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يُكَلَّفُونَهُ وَلَا يُطِيقُونَهُ، فَكَذَا قَوْلُهُ: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَيْ يُؤْمَرُونَ بِأَدَاءِ مَا مَنَعُوا حِينَ لَا يُمْكِنُهُمُ الْإِتْيَانُ بِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَوْبِيخًا عَلَى مَعْنَى: هَلَّا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ حِينَ كَانَ مُمْكِنًا. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ أَيْ سَيَلْزَمُونَ إِثْمَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا عَلَى طريق

[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 إلى 182]

التَّمْثِيلِ لَا عَلَى أَنَّ ثَمَّ أَطْوَاقًا، يُقَالُ مِنْهُ: فُلَانٌ كَالطَّوْقِ فِي رَقَبَةِ فُلَانٍ، وَالْعَرَبُ يُعَبِّرُونَ عَنْ تَأْكِيدِ إِلْزَامِ الشَّيْءِ بِتَصْيِيرِهِ فِي الْعُنُقِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: قَلَّدْتُكَ هَذَا الْأَمْرَ، وَجَعَلْتُ هَذَا الْأَمْرَ فِي عُنُقِكَ قَالَ تَعَالَى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الْإِسْرَاءِ: 13] . الْقَوْلُ الرَّابِعُ: إِذَا فَسَّرْنَا هَذَا الْبُخْلَ بِالْبُخْلِ بِالْعِلْمِ كَانَ مَعْنَى سَيُطَوَّقُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْعَلُ فِي رِقَابِهِمْ طَوْقًا مِنْ نَارٍ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ عُوقِبُوا فِي أَفْوَاهِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ بِهَذَا اللِّجَامِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْطِقُوا بِأَفْوَاهِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْسِيرَ هَذَا الْبُخْلِ بِكِتْمَانِ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ بَعِيدٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مَوْصُوفُونَ بِالْبُخْلِ فِي الْقُرْآنِ مَذْمُومُونَ بِهِ. قَالَ تَعَالَى فِي صِفَتِهِمْ: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً [النِّسَاءِ: 53] وَقَالَ أَيْضًا فِيهِمْ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النِّسَاءِ: 37] وَأَيْضًا ذَكَرَ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آلِ عِمْرَانَ: 181] وَذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ الْيَهُودِ، وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ عَامَّةً فِي الْبُخْلِ بِالْعِلْمِ، وَفِي الْبُخْلِ بِالْمَالِ، وَيَكُونُ الْوَعِيدُ حَاصِلًا عَلَيْهِمَا مَعًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى الْقَطْعِ بِوَعِيدِ الْفُسَّاقِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَلْزَمُهُ هَذِهِ الْحُقُوقُ وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ هُوَ الْمُصَدِّقُ بِالرَّسُولِ وَبِالشَّرِيعَةِ، أَمَّا قَوْلُهُ: بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ فَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى حِرْمَانِ الثَّوَابِ وَحُصُولِ النَّارِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَهُوَ صَرِيحٌ بِالْوَعِيدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَلَهُ مَا فِيهَا مِمَّا يَتَوَارَثُهُ أَهْلُهُمَا مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ فَمَا لَهُمْ يَبْخَلُونَ عَلَيْهِ بِمِلْكِهِ وَلَا يُنْفِقُونَهُ فِي سَبِيلِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الْحَدِيدِ: 7] وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يَفْنَى أهل/ السموات وَالْأَرْضِ وَتَبْقَى الْأَمْلَاكُ وَلَا مَالِكَ لَهَا إِلَّا اللَّهُ، فَجَرَى هَذَا مَجْرَى الْوِرَاثَةِ إِذْ كَانَ الْخَلْقُ يَدَعُونَ الْأَمْلَاكَ، فَلَمَّا مَاتُوا عَنْهَا وَلَمْ يُخْلِفُوا أَحَدًا كَانَ هُوَ الْوَارِثَ لَهَا، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ يَبْطُلُ مِلْكُ جَمْعِ الْمَالِكِينَ إِلَّا مِلْكَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَيَصِيرُ كَالْمِيرَاثِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يُقَالُ: وَرِثَ فُلَانٌ عِلْمَ فُلَانٍ إِذَا انْفَرَدَ بِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُشَارِكًا فِيهِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النَّمْلِ: 16] وَكَانَ الْمَعْنَى انْفِرَادَهُ بِذَلِكَ الْأَمْرِ بَعْدَ أَنْ كَانَ دَاوُدُ مُشَارِكًا لَهُ فِيهِ وَغَالِبًا عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِمَا يَعْمَلُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْمُغَايَبَةِ كِنَايَةً عَنِ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، وَالْمَعْنَى وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ مِنْ مَنْعِهِمُ الْحُقُوقَ فَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ، وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ خِطَابٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 179] وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ، وَالْغَيْبَةُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْخِطَابِ قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: الْيَاءُ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ وَهِيَ أَبْلَغُ فِي الوعيد. [سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 182] لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ مَا قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) [في قوله تَعَالَى لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ]

اعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمُكَلَّفِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِبَذْلِ النَّفْسِ وَبَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَبَالَغَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ، شَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حِكَايَةِ شُبُهَاتِ الْقَوْمِ فِي الطَّعْنِ فِي نُبُوَّتِهِ. فَالشُّبْهَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِي سَبِيلِهِ قَالَتِ الْكُفَّارُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَوْ طَلَبَ الْإِنْفَاقَ فِي تَحْصِيلِ مَطْلُوبِهِ لَكَانَ فَقِيرًا عَاجِزًا، لَأَنَّ الَّذِي يَطْلُبُ الْمَالَ مِنْ غَيْرِهِ يَكُونُ فَقِيرًا، وَلَمَّا كَانَ الْفَقْرُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالًا، كَانَ كَوْنُهُ طَالِبًا لِلْمَالِ مِنْ عَبِيدِهِ مُحَالًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا كَاذِبٌ فِي إِسْنَادِ هَذَا الطَّلَبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي طَرِيقِ النَّظْمِ أَنَّ أُمَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا التَّقَرُّبَ بِأَمْوَالِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَتْ تَجِيءُ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُحْرِقُهَا، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا طَلَبَ مِنْهُمْ بَذْلَ الْأَمْوَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالُوا لَهُ لَوْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمَا طَلَبْتَ الْأَمْوَالَ لِهَذَا الْغَرَضِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِفَقِيرٍ حَتَّى يَحْتَاجَ فِي إِصْلَاحِ دِينِهِ إِلَى أَمْوَالِنَا، بَلْ لَوْ كُنْتَ نَبِيًّا لَكُنْتَ تَطْلُبُ أَمْوَالَنَا لِأَجْلِ أَنْ تَجِيئَهَا نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُحْرِقُهَا، فَلَمَّا لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ عَرَفْنَا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، فَهَذَا هُوَ وَجْهُ النَّظْمِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ يَبْعُدُ مِنَ الْعَاقِلِ أَنْ يَقُولَ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ، بَلِ الْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ إِنَّمَا صَدَرَ عَنِ الْيَهُودِ، رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَأَنْ يُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا، فَقَالَ فِنْحَاصُ الْيَهُودِيُّ: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ حَتَّى سَأَلَنَا الْقَرْضَ، فَلَطَمَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي وَجْهِهِ وَقَالَ: لَوْلَا الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْعَهْدِ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ، فَشَكَاهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَحَدَ مَا قَالَهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَصْدِيقًا لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [الْبَقَرَةِ: 245] قَالَتِ الْيَهُودُ: نَرَى إِلَهَ مُحَمَّدٍ يَسْتَقْرِضُ مِنَّا، فَنَحْنُ إِذَنْ أَغْنِيَاءُ وَهُوَ فَقِيرٌ، وَهُوَ يَنْهَانَا عَنِ الرِّبَا ثُمَّ يُعْطِينَا الرِّبَا، وَأَرَادُوا قَوْلَهُ: فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَعْيِينُ هَذَا الْقَائِلِ، إِلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ نَسَبُوا هَذَا الْقَوْلَ إِلَى الْيَهُودِ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ يَدَ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ: يَعْنُونَ أَنَّهُ بَخِيلٌ بِالْعَطَاءِ وَذَلِكَ الْجَهْلُ مُنَاسِبٌ لِلْجَهْلِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَثَانِيهَا: مَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا بِذَلِكَ عَلَى مَا رَوَيْنَاهُ فِي قِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّشْبِيهِ غَالِبٌ عَلَى الْيَهُودِ، وَمَنْ قَالَ بِالتَّشْبِيهِ لَا يُمْكِنُهُ إِثْبَاتَ كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ، وَإِذَا عَجَزَ عَنْ إِثْبَاتِ هَذَا الْأَصْلِ عَجَزَ عَنْ بَيَانِ أَنَّهُ غَنِيٌّ وَلَيْسَ بِفَقِيرٍ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يُوَافِقُوهُ فِي مجاهدة الأعداء قالوا: اذهب أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ. فَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا طَلَبَ مِنْهُمُ الْجِهَادَ بِالنَّفْسِ قَالُوا: لَمَّا كَانَ الْإِلَهُ قَادِرًا فَأَيُّ حَاجَةٍ به الى جهادنا، وكذا هاهنا أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا طَلَبَ مِنْهُمُ الْجِهَادَ بِبَذْلِ الْمَالِ قَالُوا: لَمَّا كَانَ الْإِلَهُ غَنِيًّا فَأَيُّ حَاجَةٍ بِهِ إِلَى أَمْوَالِنَا فَكَانَ إِسْنَادُهُمْ هَذِهِ الشُّبْهَةَ إِلَى الْيَهُودِ لَائِقًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُمْ مِنَ الْجُهَّالِ قَدْ قَالَ ذَلِكَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ قَالُوهُ عَلَى سَبِيلِ الطَّعْنِ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي لَوْ صَدَقَ مُحَمَّدٌ فِي/ أَنَّ الْإِلَهَ يَطْلُبُ الْمَالَ مِنْ عَبِيدِهِ لَكَانَ فَقِيرًا، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُحَالًا ثَبَتَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي هذه الْإِخْبَارِ، أَوْ ذَكَرُوهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ، فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ الْعَاقِلُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ عَنِ اعْتِقَادٍ فَهُوَ بَعِيدٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى سَمِيعٌ لِلْأَقْوَالِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ [الْمُجَادَلَةِ: 1] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ كَانُوا جَمَاعَةً، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: الَّذِينَ قالُوا وظاهر هذا القول يفيد الجميع. وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ فِنْحَاصُ الْيَهُودِيُّ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، فَلَمَّا شَهِدَ الْكِتَابُ أَنَّ الْقَائِلِينَ كَانُوا جَمَاعَةً وَجَبَ الْقَطْعُ بِذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سَنَكْتُبُ مَا قالُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ سَيُكْتَبُ بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَقَتْلُهُمُ الْأَنْبِيَاءِ بِرَفْعِ اللَّامِ عَلَى مَعْنَى سَيُكْتَبُ قَتْلُهُمْ، وَالْبَاقُونَ بِالنُّونِ وَفَتْحِ اللَّامِ إِضَافَةً إِلَيْهِ تَعَالَى. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ سَيَكْتُبُ بِالْيَاءِ وَتَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا وَعِيدٌ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ كَتْبِهِ عَلَيْهِمْ إِثْبَاتَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَأَنْ لَا يُلْغَى وَلَا يُطْرَحَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ إِذَا أَرَادُوا إِثْبَاتَ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَزُولُ وَلَا يُنْسَى وَلَا يَتَغَيَّرُ كَتَبُوهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْكَتْبَةَ مَجَازًا عَنْ إِثْبَاتِ حُكْمِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. الثَّانِي: سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا فِي الْكُتُبِ الَّتِي تُكْتَبُ فِيهَا أعمالهم ليقرؤا ذَلِكَ فِي جَرَائِدِ أَعْمَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالثَّالِثُ: عِنْدِي فِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ: سَنَكْتُبُ عَنْهُمْ هَذَا الْجَهْلَ فِي الْقُرْآنِ حَتَّى يَعْلَمَ الْخَلْقُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ شِدَّةَ تَعَنُّتِ هَؤُلَاءِ وَجَهْلَهُمْ وَجُهْدَهُمْ فِي الطَّعْنِ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُلِّ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ أَيْ وَنَكْتُبُ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفَائِدَةُ فِي ضَمِّ أَنَّهُمْ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ إِلَى أَنَّهُمْ وَصَفُوا اللَّهَ تَعَالَى بِالْفَقْرِ، هِيَ بَيَانُ أَنَّ جَهْلَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِهَذَا الْوَقْتِ، بَلْ هُمْ مُنْذُ كَانُوا، مُصِرُّونَ عَلَى الْجَهَالَاتِ وَالْحَمَاقَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي إِضَافَةِ قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى هَؤُلَاءِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: سَنَكْتُبُ مَا قَالَ هَؤُلَاءِ وَنَكْتُبُ مَا فَعَلَهُ أَسْلَافُهُمْ فَنُجَازِي الْفَرِيقَيْنِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، كقوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً أَيْ قَتَلَهَا أَسْلَافُكُمْ وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [الْبَقَرَةِ: 49] وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [الْبَقَرَةِ: 50] وَالْفَاعِلُ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ هُوَ أَسْلَافُهُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَيَحْفَظُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ مَعًا أَقْوَالَهُمْ وَأَفْعَالَهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: سَنَكْتُبُ عَلَى هَؤُلَاءِ مَا قَالُوا بِأَنْفُسِهِمْ، وَنَكْتُبُ عَلَيْهِمْ رِضَاهُمْ بِقَتْلِ آبَائِهِمُ/ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ أَنْ رَجُلًا ذَكَرَ عِنْدَهُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَحَسَّنَ قَتْلَهُ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: صِرْتَ شَرِيكًا فِي دَمِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الشَّعْبِيُّ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 183] فَنَسَبَ لِهَؤُلَاءِ قَتْلَهُمْ وَكَانَ بَيْنَهُمَا قَرِيبٌ مِنْ سَبْعُمِائَةِ سَنَةٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ سَيُكْتَبُ عَلَى لَفْظِ مَا لم يسم فاعله وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ برفع اللام وَيَقُولُ ذُوقُوا بِالْيَاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ تَحْتُ، وَالْبَاقُونَ سَنَكْتُبُ ونَقُولُ بِالنُّونِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى يَنْتَقِمُ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ ذُقْ عَذَابَ الْحَرِيقِ، كَمَا أَذَقْتَ الْمُسْلِمِينَ الْغُصَصَ، وَالْحَرِيقُ هُوَ الْمُحْرِقُ كَالْأَلِيمِ بِمَعْنَى الْمُؤْلِمِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ لَهُ هَذَا الْقَوْلُ عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ عِنْدَ الْحَشْرِ أَوْ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كِنَايَةً عَنْ حُصُولِ الْوَعِيدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَوْلٌ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُمْ أَوْرَدُوا سُؤَالًا وَهُوَ أَنَّ مَنْ يَطْلُبُ الْمَالَ مِنْ غَيْرِهِ كَانَ فَقِيرًا مُحْتَاجًا، فَلَوْ طَلَبَ اللَّهُ الْمَالَ مِنْ عَبِيدِهِ لَكَانَ فَقِيرًا وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَطْلُبِ الْمَالَ مِنْ عَبِيدِهِ، وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي كَوْنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَادِقًا فِي ادعاء النبوة فهو هُوَ شُبْهَةُ الْقَوْمِ فَأَيْنَ الْجَوَابُ عَنْهَا؟ وَكَيْفَ يَحْسُنُ ذِكْرُ الْوَعِيدِ عَلَى ذِكْرِهَا قَبْلَ ذِكْرِ الْجَوَابِ عَنْهَا؟ فَنَقُولُ: إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ قُلْنَا: يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى عَبِيدَهُ بِبَذْلِ الْأَمْوَالِ مَعَ كَوْنِهِ تَعَالَى أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ. وَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّهُ تَعَالَى يُرَاعِي الْمَصَالِحَ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا التَّكْلِيفِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَائِدَةِ إِلَى الْعِبَادِ: مِنْهَا: أَنَّ إِنْفَاقَ الْمَالِ يُوجِبُ زَوَالَ حُبِّ الْمَالِ عَنِ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَافِعِ، فَإِنَّهُ إِذَا مَاتَ فَلَوْ بَقِيَ فِي قَلْبِهِ حُبُّ الْمَالِ مَعَ أَنَّهُ تَرَكَ الْمَالَ لَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَأَلُّمِ رُوحِهِ بِتِلْكَ الْمُفَارَقَةِ، وَمِنْهَا: أَنْ يَتَوَسَّلَ بِذَلِكَ الْإِنْفَاقِ إِلَى الثَّوَابِ الْمُخَلَّدِ الْمُؤَبَّدِ، وَمِنْهَا: أَنَّ بِسَبَبِ الْإِنْفَاقِ يَصِيرُ الْقَلْبُ فَارِغًا عَنْ حُبِّ مَا سِوَى اللَّهِ، وَبِقَدْرِ مَا يَزُولُ عَنِ الْقَلْبِ حُبُّ غَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَقْوَى فِي حُبِّ اللَّهِ، وَذَلِكَ رَأْسُ السَّعَادَاتِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ قَدْ ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ وَبَيَّنَهَا مِرَارًا وَأَطْوَارًا، كَمَا قَالَ: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً [الْكَهْفِ: 46] وَقَالَ: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الْأَعْلَى: 17] وَقَالَ: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَةِ: 72] وَقَالَ: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يُونُسَ: 58] فَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ كَانَ إِيرَادُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بَعْدَ تَقَدُّمِ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ مَحْضَ التَّعَنُّتِ، فَلِهَذَا اقْتَصَرَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِهَا عَلَى مُجَرَّدِ الْوَعِيدِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ ذَكَرَ سَبَبَهُ فَقَالَ: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أَيْ هَذَا الْعَذَابُ الْمُحْرِقُ جَزَاءُ فِعْلِكُمْ حَيْثُ وَصَفْتُمُ اللَّهَ وَأَقْدَمْتُمْ عَلَى قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، فَيَكُونُ هَذَا الْعِقَابُ عَدْلًا لَا جَوْرًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعِقَابِ بِهِمْ كَانَ يَكُونُ ظُلْمًا بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَقَعَ مِنْهُمْ تِلْكَ الذُّنُوبُ، وَفِيهِ بُطْلَانُ قَوْلِ الْمُجَبِّرَةِ: إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الْأَطْفَالَ بِغَيْرِ جُرْمٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَ الْبَالِغِينَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ، وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْعَبْدِ فَاعِلًا، وَإِلَّا لَكَانَ الظُّلْمُ حَاصِلًا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ مُعَارَضٌ بِمَسْأَلَةِ الدَّاعِي وَمَسْأَلَةِ الْعِلْمِ عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ مِرَارًا وَأَطْوَارًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فُصِّلَتْ: 46] يُفِيدُ نَفْيَ كَوْنِهِ ظَلَّامًا، وَنَفْيُ الصِّفَةِ يُوهِمُ بَقَاءَ الْأَصْلِ، فَهَذَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ أَصْلِ الظُّلْمِ. أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ بِأَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي تَوَعَّدَ بِأَنْ يَفْعَلَهُ بِهِمْ لَوْ كَانَ ظُلْمًا لَكَانَ عَظِيمًا، فَنَفَاهُ عَلَى حَدِّ عِظَمِهِ لَوْ كَانَ ثَابِتًا، وَهَذَا يُؤَكِّدُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ إِيصَالَ الْعِقَابِ إِلَيْهِمْ يَكُونُ ظُلْمًا لَوْ لَمْ يَكُونُوا مُذْنِبِينَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَ الْأَيْدِي عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، لِأَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ الْإِنْسَانُ لَا الْيَدُ، إِلَّا أَنَّ الْيَدَ لَمَّا كَانَتْ آلَةَ الْفِعْلِ حَسُنَ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، ثُمَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَ الْيَدَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فقال: بِما

[سورة آل عمران (3) : آية 183]

قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَفِي آيَةٍ أُخْرَى ذُكِرَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ فَقَالَ: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ [الْحَجِّ: 10] والكل حسن متعارف في اللغة. [سورة آل عمران (3) : آية 183] الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) [في قَوْلُهُ تَعَالَى الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ] اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ لِلْكُفَّارِ فِي الطَّعْنِ فِي نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وتقريرها أنهم قالوا: إن الله عهد إلينا أَنْ لَا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ، وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ مَا فَعَلْتَ ذَلِكَ/ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَهَذَا بَيَانُ وَجْهِ النَّظْمِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ وَمَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ، وَوَهْبِ بْنِ يَهُوذَا، وزيد بن التابوب، وَفِنْحَاصَ بْنِ عَازُورَاءَ وَغَيْرِهِمْ، أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ تَزْعُمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ عليك كتاباً، وقد عهد الله إِلَيْنَا فِي التَّوْرَاةِ أَنْ لَا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ، وَيَكُونُ لَهَا دَوِيٌّ خَفِيفٌ، تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، فَإِنْ جِئْتَنَا بِهَذَا صَدَّقْنَاكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ عَطَاءٌ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَذْبَحُونَ لِلَّهِ، فَيَأْخُذُونَ الثُّرُوبَ وَأَطَايِبَ اللَّحْمِ فَيَضَعُونَهَا فِي وَسَطِ بَيْتٍ، وَالسَّقْفُ مَكْشُوفٌ فَيَقُومُ النَّبِيُّ فِي الْبَيْتِ وَيُنَاجِي رَبَّهُ، وَبَنُو إِسْرَائِيلَ خَارِجُونَ وَاقِفُونَ حَوْلَ الْبَيْتِ فَتَنْزِلُ نَارٌ بَيْضَاءُ لَهَا دَوِيٌّ خَفِيفٌ وَلَا دُخَانَ لَهَا فَتَأْكُلُ كُلَّ ذَلِكَ الْقُرْبَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِيمَا ادَّعَاهُ الْيَهُودُ قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ: أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَكِنَّهُ مَعَ شَرْطٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي التَّوْرَاةِ: مَنْ جَاءَكُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَلَا تُصَدِّقُوهُ حَتَّى يَأْتِيَكُمْ بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ إِلَّا الْمَسِيحَ وَمُحَمَّدًا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. فَإِنَّهُمَا إِذَا أَتَيَا فَآمِنُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا يَأْتِيَانِ بِغَيْرِ قُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ. قَالَ: وَكَانَتْ هَذِهِ الْعَادَةُ بَاقِيَةً إِلَى مَبْعَثِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ارْتَفَعَتْ وَزَالَتْ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ ادِّعَاءَ هَذَا الشَّرْطِ كَذِبٌ عَلَى التَّوْرَاةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا لَكَانَتْ مُعْجِزَاتُ كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ هَذَا الْقُرْبَانَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مُعْجِزَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ فِرْعَوْنَ كَانَتْ أَشْيَاءَ سِوَى هَذَا الْقُرْبَانِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ النَّارِ وَأَكْلَهَا لِلْقُرْبَانِ مُعْجِزَةٌ فَكَانَتْ هِيَ وَسَائِرُ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى السَّوَاءِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ وَتَخْصِيصِهَا فَائِدَةٌ، بَلْ لَمَّا ظَهَرَتِ الْمُعْجِزَةُ الْقَاهِرَةُ عَلَى يَدِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَجَبَ الْقَطْعُ بِنُبُوَّتِهِ سَوَاءٌ ظَهَرَتْ هَذِهِ الْمُعْجِزَةُ أَوْ لَمْ تَظْهَرْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مُدَّعِيَ النُّبُوَّةِ وَإِنْ جَاءَ بِجَمِيعِ الْمُعْجِزَاتِ فَلَا تَقْبَلُوا قَوْلَهُ إِلَّا أَنْ يَجِيءَ بِهَذِهِ الْمُعْجِزَةِ الْمُعَيَّنَةِ، أَوْ يُقَالَ جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مُدَّعِيَ النُّبُوَّةِ يُطَالِبُ بِالْمُعْجِزَةِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْمُعْجِزَةُ هِيَ مَجِيءَ النَّارِ، أَوْ شَيْءٌ آخَرُ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَكُنِ الْإِتْيَانُ بِسَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ دَالًّا عَلَى الصِّدْقِ، وَإِذَا جَازَ الطَّعْنُ فِي سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ جَازَ الطَّعْنُ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ الْمُعَيَّنَةِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَوْقِيتَ الصِّدْقِ عَلَى ظُهُورِ مُطْلَقِ الْمُعْجِزَةِ، لَا عَلَى ظُهُورِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ الْمُعَيَّنَةِ، فَكَانَ اعْتِبَارُ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ عَبَثًا وَلَغْوًا، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا سُقُوطُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 184 إلى 185]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَحَلِّ الَّذِينَ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُّ: الْجَرُّ، وَهَذَا نَعْتُ الْعَبِيدِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ الَّذِينَ قَالُوا كَذَا وَكَذَا. وَثَانِيهَا: أَنَّ التَّقْدِيرَ: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ، وَقَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ رَفْعًا بِالِابْتِدَاءِ وَالتَّقْدِيرُ: هُمُ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْقُرْبَانُ الْبِرُّ الَّذِي يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ، وَأَصْلُهُ الْمَصْدَرُ مِنْ قَوْلِكَ قَرُبَ قُرْبَانًا، كَالْكُفْرَانِ وَالرُّجْحَانِ وَالْخُسْرَانِ، ثُمَّ سَمَّى بِهِ نَفْسَ الْمُتَقَرَّبِ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ «يَا كَعْبُ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّلَاةُ قُرْبَانٌ» أَيْ بِهَا يُتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ وَيُسْتَشْفَعُ فِي الْحَاجَةِ لَدَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فَقَالَ: قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ هَذِهِ الْمُعْجِزَةَ لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِرْشَادِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَسْلَافَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ طَلَبُوا هَذَا الْمُعْجِزَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِثْلِ زَكَرِيَّا وَعِيسَى وَيَحْيَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَهُمْ أَظْهَرُوا هَذَا الْمُعْجِزَ، ثُمَّ إِنَّ الْيَهُودَ سَعَوْا فِي قَتْلِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ قَتَلُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْضًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ إِنَّمَا طَلَبُوا هَذَا الْمُعْجِزَ مِنْ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى سبيل التعنت، إذ لو لم يكون كَذَلِكَ لَمَا سَعَوْا فِي قَتْلِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ رَاضُونَ بِأَفْعَالِ أُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَمُصَوِّبُونَ لَهُمْ فِي كُلِّ مَا فَعَلُوهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ هَؤُلَاءِ فِي طَلَبِ هَذَا الْمُعْجِزِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُتَعَنِّتِينَ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ طَلَبَهُمْ لِهَذَا الْمُعْجِزِ وَقَعَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِرْشَادِ، لَمْ يَجِبْ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ إِسْعَافُهُمْ بِذَلِكَ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْمُعْجِزَاتُ الْكَثِيرَةُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا الْجَوَابُ شَافٍ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قَالَ: قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي وَلَمْ يَقُلْ جَاءَتْكُمْ رُسُلٌ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُؤَنَّثِ يُذَكَّرُ إِذَا تَقَدَّمَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَبِالَّذِي قُلْتُمْ هُوَ مَا طَلَبُوهُ مِنْهُ، وَهُوَ الْقُرْبَانُ الَّذِي تَأْكُلُهُ النَّارُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالَّذِي قُلْتُمْ، بَلْ قَالَ: قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ وَالْفَائِدَةُ: أَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَقَّفَ التَّصْدِيقَ بِالنُّبُوَّةِ عَلَى ظُهُورِ الْقُرْبَانِ الَّذِي تَأْكُلُهُ النَّارُ، فَلَوْ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ أَتَوْا/ بِهَذَا الْقُرْبَانِ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ وُجُوبُ الِاعْتِرَافِ بِنُبُوَّتِهِمْ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِهَذَا الْقُرْبَانِ شَرْطٌ لِلنُّبُوَّةِ لَا مُوجِبٌ لَهَا، وَالشَّرْطُ هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ عِنْدَ عَدَمِهِ عَدَمُ الْمَشْرُوطِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ عِنْدَ وُجُودِهِ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَوِ اكْتَفَى بِهَذَا الْقَدْرِ لَمَا كَانَ الْإِلْزَامُ وَارِدًا، أَمَّا لَمَّا قَالَ: قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ كَانَ الْإِلْزَامُ وَارِدًا، لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَتَوْا بِالْبَيِّنَاتِ فَقَدْ أَتَوْا بِالْمُوجِبِ لِلتَّصْدِيقِ، وَلَمَّا أَتَوْا بِهَذَا الْقُرْبَانِ فَقَدْ أَتَوْا بِالشَّرْطِ، وَعِنْدَ الْإِتْيَانِ بِهِمَا كَانَ الْإِقْرَارُ بِالنُّبُوَّةِ وَاجِبًا، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَوْلَا قَوْلُهُ: جاءَكُمْ ... بِالْبَيِّناتِ لَمْ يَكُنِ الْإِلْزَامُ وَارِدًا على القوم والله أعلم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 184 الى 185] فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) [فِي قَوْلُهُ تَعَالَى فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ]

فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كَذَّبُوكَ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فِي قَوْلِكَ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ جَاءُوا إِلَى هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ بِالْقُرْبَانِ الَّذِي تَأْكُلُهُ النَّارُ فَكَذَّبُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ، فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ: نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَشُعَيْبٌ وَغَيْرُهُمْ. وَالثَّانِي: ان المراد: فان كَذَّبُوكَ فِي أَصْلِ النُّبُوَّةِ وَالشَّرِيعَةِ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، وَلَعَلَّ هَذَا الْوَجْهَ أَوْجَهُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُخَصِّصْ، وَلِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ فِي أَصْلِ النُّبُوَّةِ أَعْظَمُ، وَلِأَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَهُ التَّكْذِيبُ فِي ذَلِكَ الْحِجَاجِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَسْلِيَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَيَانُ أَنَّ هَذَا التَّكْذِيبَ لَيْسَ أَمْرًا مُخْتَصًّا بِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، بَلْ شَأْنُ جَمِيعِ الْكُفَّارِ تَكْذِيبُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالطَّعْنُ فِيهِمْ، مَعَ أَنَّ حَالَهُمْ فِي ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَيْهِمْ وَفِي نُزُولِ الْكُتُبِ إِلَيْهِمْ كَحَالِكَ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُمْ صَبَرُوا عَلَى مَا نَالَهُمْ مِنْ أُولَئِكَ الْأُمَمِ وَاحْتَمَلُوا إِيذَاءَهُمْ فِي جَنْبِ تَأْدِيَةِ الرِّسَالَةِ، فَكُنْ مُتَأَسِّيًا بِهِمْ سَالِكًا مِثْلَ طَرِيقَتِهِمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا صَارَ ذَلِكَ تَسْلِيَةً لِأَنَّ الْمُصِيبَةَ إِذَا عَمَّتْ طَابَتْ وَخَفَّتْ، فَأَمَّا الْبَيِّنَاتُ فَهِيَ الْحُجَجُ وَالْمُعْجِزَاتُ، وَأَمَّا الزُّبُرُ فَهِيَ الْكُتُبُ، وَهِيَ جَمْعُ زَبُورٍ، وَالزَّبُورُ الْكِتَابُ، بِمَعْنَى الْمَزْبُورِ أَيِ الْمَكْتُوبَ، يُقَالُ: زَبَرْتُ الْكِتَابَ/ أَيْ كَتَبْتُهُ، وَكُلُّ كِتَابٍ زَبُورٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الزَّبُورُ كُلُّ كِتَابٍ ذِي حِكْمَةٍ، وَعَلَى هَذَا: الْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الزَّبُورِ مِنَ الزَّبْرِ الَّذِي هُوَ الزَّجْرُ، يُقَالُ: زَبَرْتُ الرَّجُلَ إِذَا زَجَرْتَهُ عَنِ الْبَاطِلِ، وَسُمِّيَ الْكِتَابُ زَبُورًا لِمَا فِيهِ مِنَ الزَّبْرِ عَنْ خِلَافِ الْحَقِّ، وَبِهِ سُمِّيَ زَبُورُ دَاوُدَ لِكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ الزَّوَاجِرِ وَالْمَوَاعِظِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَبِالزُّبُرِ أَعَادَ الْبَاءَ لِلتَّأْكِيدِ وَأَمَّا «الْمُنِيرِ» فَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ أَنَرْتُ الشَّيْءَ أَيْ أَوْضَحْتُهُ، وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ الْمُعْجِزَاتُ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا الزُّبُرَ وَالْكِتَابَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ إِنَّ مُعْجِزَاتِهِمْ كَانَتْ مُغَايِرَةً لِكُتُبِهِمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا كَانَتْ كُتُبُهُمْ مُعْجِزَةً لَهُمْ، فَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالصُّحُفُ مَا كَانَ شَيْءٌ مِنْهَا مُعْجِزَةً، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ وَحْدَهُ كِتَابٌ وَمُعْجِزَةٌ، وَهَذَا أَحَدُ خَوَاصِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عَطْفُ «الْكِتَابِ الْمُنِيرِ» عَلَى «الزُّبُرِ» مَعَ أَنَّ الْكِتَابَ الْمُنِيرَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الزُّبُرِ، وَإِنَّمَا حَسُنَ هَذَا الْعَطْفُ لِأَنَّ الْكِتَابَ الْمُنِيرَ أَشْرَفُ الْكُتُبِ وَأَحْسَنُ الزُّبُرِ، فَحَسُنَ الْعَطْفُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الْأَحْزَابِ: 7] وَقَالَ: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: 98] وَوَجْهُ زِيَادَةِ الشَّرَفِ فِيهِ إِمَّا كَوْنُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى جَمِيعِ الشَّرِيعَةِ، أَوْ كَوْنُهُ بَاقِيًا عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالزُّبُرِ: الصُّحُفَ، وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ. اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَأْكِيدُ تَسْلِيَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي إِزَالَةِ الْحُزْنِ مِنْ قَلْبِهِ وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَاقِبَةَ الْكُلِّ الْمَوْتُ، وَهَذِهِ الْغُمُومُ وَالْأَحْزَانُ تَذْهَبُ وَتَزُولُ وَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْهَا، وَالْحُزْنُ مَتَى كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْتَفِتِ الْعَاقِلُ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ بَعْدَ هَذِهِ الدَّارِ دَارٌ يَتَمَيَّزُ فِيهَا الْمُحْسِنُ عَنِ الْمُسِيءِ، وَيَتَوَفَّرُ عَلَى عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْجَزَاءِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ فِي إِزَالَةِ الْحُزْنِ وَالْغَمِّ عَنْ قُلُوبِ الْعُقَلَاءِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُسَمَّى بِالنَّفْسِ قَالَ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة: 116] وَأَيْضًا النَّفْسُ وَالذَّاتُ وَاحِدٌ فَعَلَى هَذَا يَدْخُلُ الْجَمَادَاتُ تَحْتَ اسْمِ النَّفْسِ، وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا عُمُومُ الْمَوْتِ فِي الْجَمَادَاتِ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ

وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزُّمَرِ: 68] وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَمُوتَ الدَّاخِلُونَ فِي هَذَا/ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهَذَا الْعُمُومُ يَقْتَضِي مَوْتَ الْكُلِّ، وَأَيْضًا يَقْتَضِي وُقُوعَ الْمَوْتِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَلِأَهْلِ النَّارِ لِأَنَّ كُلَّهُمْ نُفُوسٌ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الْمُكَلَّفُونَ الْحَاضِرُونَ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَأَتَّى إِلَّا فِيهِمْ، وَأَيْضًا الْعَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ يَبْقَى حُجَّةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذائِقَةُ فَاعِلَةٌ مِنَ الذَّوْقِ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى اسْمٍ وَأُرِيدَ بِهِ الْمَاضِي لَمْ يَجُزْ فِيهِ إِلَّا الْجَرُّ، كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ ضَارِبُ عَمْرٍو أَمْسِ، فَإِنْ أَرَدْتَ بِهِ الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ جَازَ الْجَرُّ وَالنَّصْبُ تَقُولُ: هُوَ ضَارِبُ زَيْدٍ غَدًا، وَضَارِبٌ زِيدًا غَدًا، قَالَ تعالى: هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ [الزمر: 38] قُرِئَ بِالْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ لِلِاسْتِقْبَالِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَ ذائِقَةُ الْمَوْتِ بِالتَّنْوِينِ وَنَصْبِ «الْمَوْتَ» وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ ذائِقَةُ الْمَوْتِ بِطَرْحِ التَّنْوِينِ مَعَ النَّصْبِ كَقَوْلِهِ: وَلَا ذَاكِرَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَأْتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النساء: 97] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: زَعَمَتِ الْفَلَاسِفَةُ أَنَّ الْمَوْتَ وَاجِبُ الْحُصُولِ عِنْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الْجُسْمَانِيَّةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالرُّطُوبَةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَالْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ تُؤَثِّرُ فِي تَحْلِيلِ الرُّطُوبَةِ الْغَرِيزِيَّةِ، وَلَا تَزَالُ تَسْتَمِرُّ هَذِهِ الْحَالَةُ إِلَى أَنْ تَفْنَى الرُّطُوبَةُ الْأَصْلِيَّةُ فَتَنْطَفِئَ الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ وَيَحْصُلَ الْمَوْتُ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ كَانَ الْمَوْتُ ضَرُورِيًّا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ. قَالُوا وَقَوْلُهُ: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النُّفُوسَ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ الْبَدَنِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ النَّفْسَ ذَائِقَةَ الْمَوْتِ، وَالذَّائِقُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بَاقِيًا حَالَ حُصُولِ الذَّوْقِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ مَوْتِ الْبَدَنِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ غَيْرُ الْبَدَنِ، وَعَلَى أَنَّ النَّفْسَ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ الْبَدَنِ، وَأَيْضًا: لَفْظُ النَّفْسِ مُخْتَصٌّ بِالْأَجْسَامِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ ضَرُورَةَ الْمَوْتِ مُخْتَصَّةٌ بِالْحَيَاةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَأَمَّا الْأَرْوَاحُ الْمُجَرَّدَةُ فَلَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الرِّوَايَاتِ مَا هُوَ خِلَافُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرَّحْمَنِ: 26] قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ مَاتَ أَهْلُ الْأَرْضِ، وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ مُتْنَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْتُولَ يُسَمَّى بِالْمَيِّتِ وَإِنَّمَا لَا يُسَمَّى الْمُذَكَّى بِالْمَيِّتِ بِسَبَبِ التَّخْصِيصِ بِالْعُرْفِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ تَمَامَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ لَا يَصِلُ إِلَى الْمُكَلَّفِ إِلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْفَعَةٍ تَصِلُ إِلَى الْمُكَلَّفِ فِي الدُّنْيَا فَهِيَ مُكَدَّرَةٌ بِالْغُمُومِ وَالْهُمُومِ وَبِخَوْفِ الِانْقِطَاعِ وَالزَّوَالِ، وَالْأَجْرُ التَّامُّ وَالثَّوَابُ الْكَامِلُ إِنَّمَا يَصِلُ إِلَى الْمُكَلَّفِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ يَحْصُلُ السُّرُورُ بِلَا غَمٍّ، وَالْأَمْنُ بِلَا خَوْفٍ، وَاللَّذَّةُ بِلَا أَلَمٍ وَالسَّعَادَةُ بِلَا خَوْفِ الِانْقِطَاعِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَانِبِ الْعِقَابِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا أَلَمٌ خَالِصٌ عَنْ شَوَائِبِ اللَّذَّةِ، بَلْ يَمْتَزِجُ بِهِ رَاحَاتٌ وَتَخْفِيفَاتٌ، وَإِنَّمَا الْأَلَمُ التَّامُّ الْخَالِصُ الْبَاقِي هُوَ الَّذِي يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ الزَّحْزَحَةُ التَّنْحِيَةُ وَالْإِبْعَادُ، وَهُوَ تَكْرِيرُ

[سورة آل عمران (3) : آية 186]

الزَّحِّ، وَالزَّحُّ هُوَ الْجَذْبُ بِعَجَلَةٍ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ حِينَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّهُ كَانَ فِي النَّارِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِكَثْرَةِ آفَاتِهَا وَشِدَّةِ بَلِيَّاتِهَا، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ» . وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا مَقْصُودَ لِلْإِنْسَانِ وَرَاءَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، الْخَلَاصِ عَنِ الْعَذَابِ، وَالْوُصُولِ إِلَى الثَّوَابِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ وَصَلَ إِلَى هَذَيْنِ الْمَطْلُوبَيْنِ فَقَدْ فَازَ بِالْمَقْصِدِ الْأَقْصَى وَالْغَايَةِ الَّتِي لَا مَطْلُوبَ بَعْدَهَا. وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» وَقَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتُدْرِكْهُ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيُؤْتِ إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ» . ثُمَّ قَالَ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ الْغُرُورُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكَ: غَرَّرْتُ فُلَانًا غُرُورًا شَبَّهَ اللَّهُ الدُّنْيَا بِالْمَتَاعِ الَّذِي يُدَلَّسُ بِهِ عَلَى الْمُسْتَامِ وَيُغَرُّ عَلَيْهِ حَتَّى يَشْتَرِيَهُ ثُمَّ يَظْهَرُ لَهُ فَسَادُهُ وَرَدَاءَتُهُ وَالشَّيْطَانُ هُوَ الْمُدَلِّسُ الْغَرُورُ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ هَذَا فِي حَقِّ مَنْ آثَرَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَأَمَّا مَنْ طَلَبَ الْآخِرَةَ بِهَا فَإِنَّهَا نِعْمَ الْمَتَاعُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ فَسَادَ الدُّنْيَا مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ لِلْإِنْسَانِ جَمِيعُ مُرَادَاتِهِ لَكَانَ غَمُّهُ وَهَمُّهُ أَزْيَدَ مِنْ سُرُورِهِ، لِأَجْلِ قِصَرِ وَقْتِهِ وَقِلَّةِ الْوُثُوقِ بِهِ وَعَدَمِ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ هَلْ يَنْتَفِعُ بِهِ أَمْ لَا، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ كُلَّمَا كَانَ وِجْدَانُهُ بِمُرَادَاتِ الدُّنْيَا أَكْثَرَ كَانَ حصره في طلبها أكثر، ولكما كَانَ الْحِرْصُ أَكْثَرَ كَانَ تَأَلُّمُ الْقَلْبِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْحِرْصِ أَشَدَّ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ إِذَا فَازَ بِمَقْصُودِهِ سَكَنَتْ نَفْسُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يَزْدَادُ طَلَبُهُ وَحِرْصُهُ وَرَغْبَتُهُ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ بِقَدْرِ مَا يَجِدُ مِنَ الدُّنْيَا يَبْقَى مَحْرُومًا عَنِ الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ السَّعَادَاتِ وَالْخَيْرَاتِ، وَمَتَى عَرَفْتَ هَذِهِ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ/ عَلِمْتَ أَنَّ الدُّنْيَا مَتَاعُ الْغُرُورِ، وَأَنَّهَا كَمَا وَصَفَهَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: لِينُ مَسِّهَا قَاتِلُ سُمِّهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الدُّنْيَا ظَاهِرُهَا مَطِيَّةُ السُّرُورِ، وباطنها مطية الشرور. [سورة آل عمران (3) : آية 186] لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا سَلَّى الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] زَادَ فِي تَسْلِيَتِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْكُفَّارَ بَعْدَ أَنْ آذَوُا الرَّسُولَ وَالْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَسَيُؤْذُونَهُمْ أَيْضًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِكُلِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُهُمْ، مِنَ الْإِيذَاءِ بِالنَّفْسِ وَالْإِيذَاءِ بِالْمَالِ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْإِعْلَامِ أَنْ يُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ وَتَرْكِ الْجَزَعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ نُزُولَ الْبَلَاءِ عَلَيْهِ فَإِذَا أُنْزِلَ الْبَلَاءُ عَلَيْهِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ سَيَنْزِلُ، فَإِذَا نَزَلَ لَمْ يَعْظُمْ وَقْعُهُ عَلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: اللَّامُ لَامُ الْقَسَمِ، وَالنُّونُ دَخَلَتْ مُؤَكِّدَةً وَضُمَّتِ الْوَاوُ لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ النُّونِ، وَلَمْ تُكْسَرْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ لِأَنَّهَا وَاوُ جَمْعٍ فَحُرِّكَتْ بِمَا كَانَ يَجِبُ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الضَّمِّ، وَمِثْلُهُ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ [الْبَقَرَةِ: 16] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَتُبْلَوُنَّ لَتُخْتَبَرُنَّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى الِاخْتِبَارُ لِأَنَّهُ طَلَبَ الْمَعْرِفَةَ لِيَعْرِفَ الْجَيِّدَ مِنَ الرَّدِيءِ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ فِي وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يُعَامِلُ الْعَبْدَ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبَرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى هَذَا الِابْتِلَاءِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مَا يَنَالُهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْفَقْرِ وَمَا يَنَالُهُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ وَالْهَزِيمَةِ مِنْ جِهَةِ الْكُفَّارِ، وَمِنْ حَيْثُ أُلْزِمُوا الصَّبْرَ فِي الْجِهَادِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ بِهِ التَّكَالِيفُ الشَّدِيدَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْبَدَنِ وَالْمَالِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالْجِهَادُ. قَالَ الْقَاضِي: وَالظَّاهِرُ يَحْتَمِلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فَلَا يَمْتَنِعُ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً فَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنْوَاعُ الْإِيذَاءِ الْحَاصِلَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَالْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَكَانُوا يَطْعَنُونَ فِي الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، وَلَقَدْ هَجَاهُ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَكَانُوا يُحَرِّضُونَ النَّاسَ عَلَى مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَهُمْ كَانُوا يُحَرِّضُونَ النَّاسَ عَلَى مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَجْمَعُونَ الْعَسَاكِرَ عَلَى مُحَارَبَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُثَبِّطُونَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ نُصْرَتِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَحْمُولًا عَلَى الْكُلِّ إِذْ لَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الثاني. ثم قال عَطْفًا عَلَى الْأَمْرَيْنِ: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: بَعَثَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ إِلَى فِنْحَاصَ الْيَهُودِيِّ يَسْتَمِدُّهُ، فَقَالَ فِنْحَاصُ قَدِ احْتَاجَ رَبُّكَ إِلَى أَنْ نُمِدَّهُ، فَهَمَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَضْرِبَهُ بِالسَّيْفِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ حِينَ بَعَثَهُ: لَا تَغْلِبَنَّ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَيَّ، فَتَذَكَّرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ وَكَفَّ عَنِ الضَّرْبِ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِلْآيَةِ تَأْوِيلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَمْرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُصَابَرَةِ عَلَى الِابْتِلَاءِ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَالْمُصَابَرَةِ عَلَى تَحَمُّلِ الْأَذَى وَتَرْكِ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُقَابَلَةِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى دُخُولِ الْمُخَالِفِ فِي الدِّينِ، كَمَا قَالَ: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] وَقَالَ: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الْجَاثِيَةِ: 14] وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْغُفْرَانِ الصَّبْرُ وَتَرْكُ الِانْتِقَامِ وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفُرْقَانِ: 72] وَقَالَ: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَافِ: 35] وَقَالَ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فُصِّلَتْ: 34] قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ هَذَا قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ السَّيْفِ. قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الَّذِي عِنْدِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَقِيبَ قِصَّةِ أُحُدٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يُؤْذُونَ بِهِ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ الْأَقْوَالِ الْجَارِيَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَاسْتِعْمَالِ مُدَارَاتِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْأَمْرُ بِالْقِتَالِ لَا يُنَافِي الْأَمْرَ بِالْمُصَابَرَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِيِّ ضَعِيفٌ، وَالْقَوْلُ مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ. الْوَجْهُ الثَّانِي فِي التَّأْوِيلِ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى: الصَّبْرَ عَلَى مُجَاهَدَةِ الْكُفَّارِ وَمُنَابَذَتَهُمْ وَالْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ، فَأُمِرُوا بِالصَّبْرِ عَلَى مَشَاقِّ الْجِهَادِ، وَالْجَرْيَ عَلَى نَهْجِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْيَهُودِ وَالِاتِّقَاءَ عَنِ الْمُدَاهَنَةِ مَعَ الْكُفَّارِ، وَالسُّكُوتِ عَنْ إِظْهَارِ الْإِنْكَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الصَّبْرُ عِبَارَةٌ عَنِ احْتِمَالِ الْمَكْرُوهِ، وَالتَّقْوَى عِبَارَةٌ عَنِ الِاحْتِرَازِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي/ فَقَدَّمَ ذِكْرَ الصَّبْرِ ثُمَّ ذَكَرَ عَقِبَهُ التَّقْوَى، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يُقْدِمُ عَلَى الصَّبْرِ لِأَجْلِ أَنَّهُ يُرِيدُ الِاتِّقَاءَ عَمَّا لَا يَنْبَغِي، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الصَّبْرِ هُوَ أَنَّ مُقَابَلَةَ الْإِسَاءَةِ بِالْإِسَاءَةِ تُفْضِي إِلَى ازْدِيَادِ الْإِسَاءَةِ، فَأُمِرَ بِالصَّبْرِ تَقْلِيلًا

[سورة آل عمران (3) : آية 187]

لمضار الدنيا، وامر بالتقوى تقليلا تَقْلِيلًا لِمَضَارِّ الْآخِرَةِ، فَكَانَتِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ جَامِعَةً لِآدَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أَيْ مِنْ صَوَابِ التَّدْبِيرِ الَّذِي لَا شَكَّ فِي ظُهُورِ الرُّشْدِ فِيهِ، وَهُوَ مِمَّا يَنْبَغِي لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَعْزِمَ عَلَيْهِ، فَتَأْخُذُ نَفْسُهُ لَا مَحَالَةَ بِهِ، وَالْعَزْمُ كَأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَزْمِ وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، أَيْ أَلْزَمْتُهُ إِيَّاكَ لَا مَحَالَةَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ التَّرَخُّصُ فِي تَرْكِهِ، فَمَا كَانَ مِنَ الْأُمُورِ حَمِيدَ الْعَاقِبَةِ مَعْرُوفًا بِالرُّشْدِ وَالصَّوَابِ فَهُوَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَجُوزُ لِعَاقِلٍ أَنْ يَتَرَخَّصَ فِي تَرْكِهِ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ عُزِمَ عَلَيْكُمْ فِيهِ أي ألزمتم الأخذ به والله أعلم. [سورة آل عمران (3) : آية 187] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) اعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْيَهُودِ شُبُهًا طَاعِنَةً فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَجَابَ عَنْهُ أَتْبَعَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى أُمَّةِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، أَنْ يَشْرَحُوا مَا فِي هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ دِينِهِ وَصِدْقِ نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّعَجُّبُ مِنْ حَالِهِمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ يَلِيقُ بِكُمْ إِيرَادُ الطَّعْنِ فِي نُبُوَّتِهِ وَدِينِهِ مَعَ أَنَّ كُتُبَكُمْ نَاطِقَةٌ وَدَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْكُمْ ذِكْرُ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ نبوته وذينه. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتِمَالَ الْأَذَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ إِيذَائِهِمْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُمُونَ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ، فَكَانُوا يُحَرِّفُونَهَا وَيَذْكُرُونَ لَهَا تَأْوِيلَاتٍ فَاسِدَةً، فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الصَّبْرُ [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو لَيُبَيِّنُنَّهُ وَلَا يَكْتُمُونَهُ بِالْيَاءِ فِيهِمَا/ كِنَايَةً عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا عَلَى الْخِطَابِ الَّذِي كَانَ حَاصِلًا فِي وَقْتِ أَخْذِ الْمِيثَاقِ، أَيْ فَقَالَ لَهُمْ: لَتُبَيِّنُنَّهُ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [الْبَقَرَةِ: 83] بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ وَأَيْضًا قَوْلُهُ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ [الْإِسْرَاءِ: 4] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ أَخْذِ الْمِيثَاقِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْرَدُوا الدَّلَائِلَ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ التَّكَالِيفِ وَأَلْزَمُوهُمْ قَبُولَهَا، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنْهُمْ عَلَى لِسَانِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَذَلِكَ التَّوْكِيدُ وَالْإِلْزَامُ هُوَ الْمُرَادُ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: قُلْتُ لِابْنِ عباس: إن أصحاب عبد الله يقرؤن وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ [آل عمران: 81] فَقَالَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ عَلَى قَوْمِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ إِلْزَامَ هَذَا الْإِظْهَارِ لَا شَكَّ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِعُلَمَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ مَا فِي الْكِتَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ عَائِدٌ إِلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى مَعْلُومٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: يَعُودُ إِلَى الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ: أُوتُوا الْكِتابَ أَيْ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ بِأَنْ يُبَيِّنُوا لِلنَّاسِ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 188 إلى 189]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اللَّامُ لَامُ التَّأْكِيدِ يَدْخُلُ عَلَى الْيَمِينِ، تَقْدِيرُهُ: اسْتَحْلَفَهُمْ لَيُبَيِّنُنَّهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِنَّمَا قَالَ: وَلَا تَكْتُمُونَهُ وَلَمْ يَقُلْ: وَلَا تَكْتُمْنَهُ، لِأَنَّ الْوَاوَ وَاوُ الْحَالِ دُونَ وَاوِ الْعَطْفِ، وَالْمَعْنَى لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ غَيْرَ كَاتِمِينَ. فَإِنْ قِيلَ: الْبَيَانُ يُضَادُّ الْكِتْمَانَ، فَلَمَّا أَمَرَ بِالْبَيَانِ كَانَ الْأَمْرُ بِهِ نَهْيًا عَنِ الْكِتْمَانِ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ النَّهْيِ عَنِ الْكِتْمَانِ؟ قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنَ الْبَيَانِ ذِكْرُ تِلْكَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَالْمُرَادُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْكِتْمَانِ أَنْ لَا يُلْقُوا فِيهَا التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةَ وَالشُّبُهَاتِ الْمُعَطِّلَةَ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ مُخْتَصًّا بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَإِنَّهُ لا يبعد أيضاً دخول المسلمين فيه، لأنه أَهْلُ الْقُرْآنِ وَهُوَ أَشْرَفُ الْكُتُبِ. حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ أَرْسَلَ إِلَى الْحَسَنِ وَقَالَ: مَا الَّذِي بَلَغَنِي عَنْكَ؟ فَقَالَ: مَا كُلُّ الَّذِي بَلَغَكَ عَنِّي قُلْتُهُ: وَلَا كُلُّ مَا قُلْتُهُ بَلَغَكَ، قَالَ: أَنْتَ الَّذِي قُلْتَ: إِنَّ النِّفَاقَ كَانَ مَقْمُوعًا فَأَصْبَحَ قَدْ تَعَمَّمَ وَتَقَلَّدَ سَيْفًا، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: وَمَا الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى هَذَا وَنَحْنُ نَكْرَهُهُ، قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ أَخَذَ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَثَلُ عِلْمٍ لَا يُقَالُ بِهِ كَمَثَلِ كَنْزٍ لَا يُنْفَقُ مِنْهُ، وَمَثَلُ حِكْمَةٍ لَا تَخْرُجُ كَمَثَلِ/ صَنَمٍ قَائِمٍ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، وَكَانَ يَقُولُ: طُوبَى لِعَالِمٍ نَاطِقٍ، وَلِمُسْتَمِعٍ وَاعٍ، هَذَا عَلِمَ عِلْمًا فَبَذَلَهُ، وَهَذَا سمع خيرا فوعاه، قال عليه الصلاة السلام: «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا عَنْ أَهْلِهِ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمْ يُرَاعُوهُ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، وَالنَّبْذُ وَرَاءَ الظَّهْرِ مِثْلُ الطَّرْحِ وَتَرْكِ الِاعْتِدَادِ، وَنَقِيضُهُ: جَعْلُهُ نُصْبَ عَيْنِهِ وَإِلْقَاؤُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَقَوْلُهُ: وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ أَخْفَوُا الْحَقَّ لِيَتَوَسَّلُوا بِهِ إِلَى وِجْدَانِ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا، فَكُلُّ مَنْ لَمْ يُبَيِّنِ الْحَقَّ لِلنَّاسِ وَكَتَمَ شَيْئًا مِنْهُ لِغَرَضٍ فَاسِدٍ، مِنْ تَسْهِيلٍ عَلَى الظَّلَمَةِ وَتَطْيِيبٍ لِقُلُوبِهِمْ، أَوْ لِجَرِّ مَنْفَعَةٍ، أَوْ لِتَقِيَّةٍ وَخَوْفٍ، أَوْ لِبُخْلٍ بِالْعِلْمِ دخل تحت هذا الوعيد. [سورة آل عمران (3) : الآيات 188 الى 189] لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً [آلِ عِمْرَانَ: 186] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَنْوَاعِ هَذَا الْأَذَى أَنَّهُمْ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَبَثِ وَالتَّلْبِيسِ عَلَى ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالصِّدْقِ وَالدِّيَانَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَأَذَّى بِمُشَاهَدَةِ مثل هذه الأحوال، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بِالْمُصَابَرَةِ عَلَيْهَا، وَبَيَّنَ مَا لَهُمْ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ فَوْقُ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ بِالْيَاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ تَحْتُ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ أَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقْرَأَ كِلَاهُمَا بِفَتْحِ الْبَاءِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُقْرَأَ كِلَاهُمَا بِضَمِّ الْبَاءِ، فَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ وَفَتَحَ الْبَاءَ فِيهِمَا جَعَلَ التَّقْدِيرَ: لا

تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ، أَوْ أَيُّهَا السَّامِعُ، وَمَنْ ضَمَّ الْبَاءَ فِيهِمَا جَعَلَ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ: وَجَعَلَ أَحَدَ الْمَفْعُولَيْنِ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ، وَالثَّانِي: بِمَفَازَةٍ وَقَوْلُهُ: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ تَأْكِيدٌ/ لِلْأَوَّلِ وَحَسُنَتْ إِعَادَتُهُ لِطُولِ الْكَلَامِ، كَقَوْلِكَ: لَا تَظُنَّ زَيْدًا إِذَا جَاءَكَ وَكَلَّمَكَ فِي كَذَا وَكَذَا فَلَا تَظُنَّهُ صَادِقًا، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ بِالْيَاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ تَحْتُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَحْسَبَنَّ فَفِيهَا أَيْضًا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: بِفَتْحِ الْبَاءِ وَبِضَمِّهَا فِيهِمَا جَعَلَ الْفِعْلَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْبَاقِي كَمَا عَلِمْتَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: بِفَتْحِ الْبَاءِ فِي الْأَوَّلِ وَضَمِّهَا فِي الثَّانِي وَهُوَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْفِعْلَ لِلَّذِينَ يَفْرَحُونَ وَلَمْ يَذْكُرْ وَاحِدًا مِنْ مَفْعُولَيْهِ، ثُمَّ أَعَادَ قَوْلَهُ: فَلا تَحْسَبَنَّ بِضَمِّ الْبَاءِ وَقَوْلُهُ: (هُمْ) رُفِعَ بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَيْهِ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَحْسَبَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ أَنْفُسَهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ بِأَنَّهُمْ يَفْرَحُونَ بِفِعْلِهِمْ وَيُحِبُّونَ أَيْضًا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ يُحَرِّفُونَ نُصُوصَ التَّوْرَاةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِتَفْسِيرَاتٍ بَاطِلَةٍ وَيُرَوِّجُونَهَا عَلَى الْأَغْمَارِ مِنَ النَّاسِ، وَيَفْرَحُونَ بِهَذَا الصُّنْعِ ثُمَّ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الدِّينِ وَالدِّيَانَةِ وَالْعَفَافِ وَالصِّدْقِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْكَذِبِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنْتَ إِذَا أَنْصَفْتَ عَرَفْتَ أَنَّ أَحْوَالَ أَكْثَرِ الْخَلْقِ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ بِجَمِيعِ وُجُوهِ الْحِيَلِ فِي تَحْصِيلِ الدُّنْيَا وَيَفْرَحُونَ بِوِجْدَانِ مَطْلُوبِهِمْ، ثُمَّ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْعَفَافِ وَالصِّدْقِ وَالدِّينِ وَالثَّانِي: رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَأَلَ الْيَهُودَ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ فَكَتَمُوا الْحَقَّ وَأَخْبَرُوا بِخِلَافِهِ، وَأَرَوْهُ أَنَّهُمْ قَدْ صَدَّقُوهُ وَفَرِحُوا بِذَلِكَ التَّلْبِيسِ، وَطَلَبُوا مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ يُثْنِيَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى هَذَا السِّرِّ. وَالْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ فَرِحُوا بِمَا فَعَلُوا مِنَ التَّلْبِيسِ وَتَوَقَّعُوا منك أن تثني عليهم بالصدق والوفاء. والثالث: يَفْرَحُونَ بِمَا فَعَلُوا مِنْ كِتْمَانِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا مِنَ اتِّبَاعِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ، حَيْثُ ادَّعَوْا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ وَأَنَّهُمْ عَلَى دِينِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ نَزَلَ فِي الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُمْ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا مِنْ إِظْهَارِ الْإِيمَانِ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى سَبِيلِ النِّفَاقِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَصَّلُونَ بِذَلِكَ إِلَى تَحْصِيلِ مَصَالِحِهِمْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ كَانُوا يَتَوَقَّعُونَ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَحْمَدَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ الَّذِي مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي قُلُوبِهِمْ. الْخَامِسُ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ نَزَلَتْ فِي رِجَالٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَتَخَلَّفُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَزْوِ، وَيَفْرَحُونَ بِقُعُودِهِمْ عَنْهُ فَإِذَا قَدِمَ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ فَيَقْبَلُ عُذْرَهُمْ، ثُمَّ طَمِعُوا أَنْ يُثْنِيَ عَلَيْهِمْ كَمَا كَانَ يُثْنِي عن الْمُسْلِمِينَ الْمُجَاهِدِينَ. السَّادِسُ: الْمُرَادُ مِنْهُ كِتْمَانُهُمْ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ بِالِاعْتِرَافِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، / وَبِالْإِقْرَارِ بِنُبُوَّتِهِ وَدِينِهِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ فَرِحُوا بِكِتْمَانِهِمْ لِذَلِكَ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ نُصُوصِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَقَالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْكُلِّ، لِأَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأُمُورِ مُشْتَرِكَةٌ فِي قَدْرٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْتِي بِالْفِعْلِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي وَيَفْرَحُ بِهِ، ثُمَّ يَتَوَقَّعُ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَصِفُوهُ بِسَدَادِ السِّيرَةِ وَاسْتِقَامَةِ الطَّرِيقَةِ وَالزُّهْدِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: بِما أَتَوْا بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: قَوْلُهُ: بِما أَتَوْا يريد فعلوه كقوله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ [النِّسَاءِ: 16] وَقَوْلِهِ: لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا [مَرْيَمَ: 27] أَيْ فَعَلْتِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَتَى وَجَاءَ، يُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنَى فَعَلَ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا [مَرْيَمَ: 61] لَقَدْ جِئْتِ

[سورة آل عمران (3) : آية 190]

شَيْئاً فَرِيًّا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ يَفْرَحُونَ بِمَا فَعَلُوا. الْبَحْثُ الثَّانِي: قُرِئَ آتَوْا بِمَعْنَى أَعْطَوْا، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِما أُوتُوا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ أَيْ بِمَنْجَاةٍ مِنْهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: فَازَ فُلَانٌ إِذَا نَجَا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ بِبُعْدٍ مِنَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ الْفَوْزَ مَعْنَاهُ التَّبَاعُدُ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ في قوله: فَقَدْ فازَ ثُمَّ حَقَّقَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَلَا شُبْهَةَ أَنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ. ثُمَّ قَالَ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ مِمَّنْ له ملك السموات وَالْأَرْضِ، فَكَيْفَ يَرْجُو النَّجَاةَ مَنْ كَانَ مُعَذِّبُهُ هذا القادر الغالب. [سورة آل عمران (3) : آية 190] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ جَذْبُ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْخَلْقِ إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، فَلَمَّا طَالَ الْكَلَامُ فِي تَقْرِيرِ الْأَحْكَامِ وَالْجَوَابِ عَنْ شُبُهَاتِ الْمُبْطِلِينَ عَادَ إِلَى إِنَارَةِ الْقُلُوبِ بِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِلَهِيَّةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْجَلَالِ، فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَخْبِرِينِي بِأَعْجَبِ مَا رَأَيْتِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَكَتْ وَأَطَالَتْ ثُمَّ قَالَتْ: كُلُّ أَمْرِهِ عَجَبٌ، أَتَانِي فِي لَيْلَتِي فَدَخَلَ فِي لِحَافِي حَتَّى أَلْصَقَ جِلْدَهُ بِجِلْدِي، / ثُمَّ قَالَ لِي: يَا عَائِشَةُ هَلْ لَكِ أَنْ تَأْذَنِي لِي اللَّيْلَةَ فِي عِبَادَةِ رَبِّي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ وَأُحِبُّ مُرَادَكَ قَدْ أَذِنْتُ لَكَ. فَقَامَ إِلَى قِرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ فِي الْبَيْتِ فَتَوَضَّأَ وَلَمْ يُكْثِرْ مِنْ صَبِّ الْمَاءِ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَقَرَأَ مِنَ الْقُرْآنِ وَجَعَلَ يَبْكِي، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَبْكِي حَتَّى رَأَيْتُ دُمُوعَهُ قَدْ بَلَّتِ الْأَرْضَ، فَأَتَاهُ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِصَلَاةِ الْغَدَاةِ فَرَآهُ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ: يَا بِلَالُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، ثُمَّ قَالَ: مَا لِي لَا أَبْكِي وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ قَالَ: وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا. وَرُوِيَ: وَيْلٌ لِمَنْ لَاكَهَا بَيْنَ فَكَّيْهِ وَلَمْ يَتَأَمَّلْ فِيهَا. وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَسَوَّكُ ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ وَيَقُولُ: إن في خلق السموات وَالْأَرْضِ. وَحُكِيَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ إِذَا عَبَدَ اللَّهَ ثَلَاثِينَ سَنَةً أَظَلَّتْهُ سَحَابَةٌ فَعَبَدَهَا فَتًى مِنْ فِتْيَانِهِمْ فَمَا أَظَلَّتْهُ السَّحَابَةُ، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: لَعَلَّ فَرْطَةً صَدَرَتْ مِنْكَ فِي مُدَّتِكَ، قَالَ: مَا أَذْكُرُ، قَالَتْ: لَعَلَّكَ نَظَرْتَ مَرَّةً إِلَى السَّمَاءِ وَلَمْ تَعْتَبِرْ قَالَ نَعَمْ، قَالَتْ: فَمَا أُتِيتَ إِلَّا مِنْ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَذَكَرَهَا هُنَا أَيْضًا، وَخَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164] وختمها هاهنا بِقَوْلِهِ: لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ وَذَكَرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَعَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الثَّلَاثَةِ خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ أُخْرَى، حَتَّى كَانَ الْمَجْمُوعُ ثَمَانِيَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الدلائل، وهاهنا اكتفى بذكر هذه الأنواع الثلاثة: وهي السموات وَالْأَرْضُ، وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، فَهَذِهِ أَسْئِلَةٌ ثَلَاثَةٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي إِعَادَةِ الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي سُورَتَيْنِ؟ وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ اكتفى هاهنا بِإِعَادَةِ ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الدَّلَائِلِ وَحَذَفَ الْخَمْسَةَ الْبَاقِيَةَ؟ وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ هُنَاكَ: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164] وقال هاهنا: لِأُولِي الْأَلْبابِ. فَأَقُولُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَسْرَارِ كِتَابِهِ: إِنَّ سُوَيْدَاءَ الْبَصِيرَةِ تَجْرِي مَجْرَى سَوَادِ الْبَصَرِ فَكَمَا أَنَّ سَوَادَ الْبَصَرِ لَا يَقْدِرُ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 191 إلى 192]

أَنْ يَسْتَقْصِيَ فِي النَّظَرِ إِلَى شَيْئَيْنِ، بَلْ إِذَا حَدَّقَ بَصَرَهُ نَحْوَ شَيْءٍ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ تَحْدِيقُ الْبَصَرِ نَحْوَ شَيْءٍ آخر، فكذلك هاهنا إِذَا حَدَّقَ الْإِنْسَانُ حَدَقَةَ عَقْلِهِ نَحْوَ مُلَاحَظَةِ معقول امتنع عليه في تلك الحالة الْحَالَةِ تَحْدِيقُ حَدَقَةِ الْعَقْلِ نَحْوَ مَعْقُولٍ آخَرَ، فَعَلَى هَذَا كُلَّمَا كَانَ اشْتِغَالُ الْعَقْلِ بِالِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعْقُولَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ أَكْثَرَ، كَانَ حِرْمَانُهُ عَنِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي تِلْكَ التَّعَقُّلَاتِ وَالْإِدْرَاكَاتِ أَكْثَرَ، فَعَلَى هَذَا: السَّالِكُ إِلَى اللَّهِ لَا بُدَّ لَهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مِنْ تَكْثِيرِ الدَّلَائِلِ، فَإِذَا اسْتَنَارَ الْقَلْبُ بِنُورِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ صَارَ اشْتِغَالُهُ بِتِلْكَ الدَّلَائِلِ كَالْحِجَابِ لَهُ عَنِ اسْتِغْرَاقِ الْقَلْبِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ، فَالسَّالِكُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ كَانَ طَالِبًا لِتَكْثِيرِ الدَّلَائِلِ، فَعِنْدَ وُقُوعِ هَذَا النُّورِ فِي الْقَلْبِ يَصِيرُ طَالِبًا لِتَقْلِيلِ الدَّلَائِلِ، حَتَّى إِذَا زَالَتِ/ الظُّلْمَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنَ اشْتِغَالِ الْقَلْبِ بِغَيْرِ اللَّهِ كَمُلَ فِيهِ تَجَلِّي أَنْوَارِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً [طه: 12] وَالنَّعْلَانِ هُمَا الْمُقَدِّمَتَانِ اللَّتَانِ بِهِمَا يَتَوَصَّلُ الْعَقْلُ إِلَى الْمَعْرِفَةِ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْمَعْرِفَةِ أُمِرَ بِخَلْعِهِمَا، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَضَعَ قَدَمَيْكَ فِي وَادِي قُدُسِ الْوَحْدَانِيَّةِ فَاتْرُكِ الِاشْتِغَالَ بِالدَّلَائِلِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ، فَذَكَرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثَمَانِيَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الدَّلَائِلِ، ثُمَّ أَعَادَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنْهَا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعَارِفَ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ عَارِفًا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَقْلِيلِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الدَّلَائِلِ لِيَكْمُلَ لَهُ الِاسْتِغْرَاقُ فِي مَعْرِفَةِ الْمَدْلُولِ، فَكَانَ الْغَرَضُ مِنْ إِعَادَةِ ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الدَّلَائِلِ وَحَذْفِ الْبَقِيَّةِ، التَّنْبِيهَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى اسْتَقْصَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَائِلَ السَّمَاوِيَّةَ وَحَذَفَ الدَّلَائِلَ الْخَمْسَةَ الْبَاقِيَةَ، الَّتِي هِيَ الدَّلَائِلُ الْأَرْضِيَّةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ السَّمَاوِيَّةَ أَقْهَرُ وَأَبْهَرُ، وَالْعَجَائِبُ فِيهَا أَكْثَرُ، وَانْتِقَالُ الْقَلْبِ مِنْهَا إِلَى عَظَمَةِ اللَّهِ وَكِبْرِيَائِهِ أَشَدُّ، ثُمَّ خَتَمَ تِلْكَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَخَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: لِأُولِي الْأَلْبابِ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَهُ ظَاهِرٌ وَلَهُ لُبٌّ، فَفِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يَكُونُ عَقْلًا، وَفِي كَمَالِ الْحَالِ يَكُونُ لُبًّا، وَهَذَا أَيْضًا يُقَوِّي مَا ذَكَرْنَاهُ، فَهَذَا مَا خَطَرَ بِالْبَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَسْرَارِ كَلَامِهِ العظيم الكريم الحكيم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 191 الى 192] الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) [فِي قَوْلُهُ تَعَالَى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ دَلَائِلَ الْإِلَهِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَهُوَ مَا يَتَّصِلُ بِتَقْرِيرِ الرُّبُوبِيَّةِ ذَكَرَ بَعْدَهَا مَا يَتَّصِلُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَأَصْنَافُ الْعُبُودِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالْعَمَلُ بِالْجَوَارِحِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِشَارَةٌ إِلَى عُبُودِيَّةِ اللِّسَانِ، وَقَوْلُهُ: قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى عُبُودِيَّةِ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ، وَقَوْلُهُ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ/ وَالْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى عُبُودِيَّةِ الْقَلْبِ وَالْفِكْرِ وَالرُّوحِ، وَالْإِنْسَانُ لَيْسَ إِلَّا هَذَا الْمَجْمُوعَ، فَإِذَا كَانَ اللِّسَانُ مُسْتَغْرِقًا فِي الذِّكْرِ، وَالْأَرْكَانُ فِي الشُّكْرِ، وَالْجِنَانُ فِي الْفِكْرِ، كَانَ هَذَا الْعَبْدُ مُسْتَغْرِقًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ فِي الْعُبُودِيَّةِ، فَالْآيَةُ الْأُولَى دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ، فَمَا أَحْسَنَ هَذَا التَّرْتِيبَ فِي جَذْبِ الْأَرْوَاحِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ، وَفِي نَقْلِ الْأَسْرَارِ مِنْ جَانِبِ عَالَمِ الْغُرُورِ إِلَى جَنَابِ الْمَلِكِ الْغَفُورِ، وَنَقُولُ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِلْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ كَوْنَ الْإِنْسَانِ دَائِمَ الذِّكْرِ لِرَبِّهِ، فَإِنَّ الْأَحْوَالَ لَيْسَتْ إِلَّا هَذِهِ الثَّلَاثَةُ، ثُمَّ لَمَّا وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ ذَاكِرِينَ فِيهَا كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِمْ مُوَاظِبِينَ عَلَى الذِّكْرِ غَيْرَ فَاتِرِينَ عنه ألبتة.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الذِّكْرِ الصَّلَاةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ فِي حَالِ الْقِيَامِ، فَإِنْ عَجَزُوا فَفِي حَالِ الْقُعُودِ، فَإِنْ عَجَزُوا فَفِي حَالِ الِاضْطِجَاعِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ الصَّلَاةَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى لِأَنَّ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ نَاطِقَةٌ بِفَضِيلَةِ الذِّكْرِ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْتَعَ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ فَلْيُكْثِرْ ذِكْرَ اللَّهِ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا الذِّكْرِ هُوَ الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الذِّكْرَ بِالْقَلْبِ، وَالْأَكْمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا صَلَّى الْمَرِيضُ مُضْطَجِعًا وَجَبَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى جَنْبِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بَلْ يُصَلِّي مُسْتَلْقِيًا حَتَّى إِذَا وَجَدَ خِفَّةً قَعَدَ، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَ مَنْ ذَكَرَهُ عَلَى حَالِ الِاضْطِجَاعِ عَلَى الْجَنْبِ، فَكَانَ هَذَا الْوَضْعُ أَوْلَى. وَاعْلَمْ أَنَّ فِيهِ دَقِيقَةً طِبِّيَّةً وَهُوَ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْمَبَاحِثِ الطِّبِّيَّةِ أَنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِكْمَالِ الْفِكْرِ وَالتَّدَبُّرِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مُضْطَجِعًا عَلَى الْجَنْبِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْهُ، وَهَذَا الْمَقَامُ يُرَادُ فِيهِ التَّدَبُّرُ وَالتَّفَكُّرُ، وَلِأَنَّ الِاضْطِجَاعَ عَلَى الْجَنْبِ يَمْنَعُ مِنَ النَّوْمِ الْمُغْرِقِ، فَكَانَ هَذَا الْوَضْعُ أَوْلَى، لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى الْيَقَظَةِ، وَإِلَى الِاشْتِغَالِ بِالذِّكْرِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَحَلُّ عَلى جُنُوبِهِمْ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: قِيَامًا وَقُعُودًا وَمُضْطَجِعِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَهُمْ بِالذِّكْرِ وَثَبَتَ أَنَّ الذِّكْرَ لَا يَكْمُلُ إِلَّا مَعَ الْفِكْرِ، لَا جَرَمَ قَالَ بَعْدَهُ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى رَغَّبَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ، وَلَمَّا آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْفِكْرِ لَمْ يُرَغِّبْ فِي الْفِكْرِ فِي اللَّهِ، بَلْ رغب في الفكر في أحوال السموات وَالْأَرْضِ، وَعَلَى وَفْقِ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَفَكَّرُوا فِي الْخَلْقِ وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي الْخَالِقِ» وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْخَلْقِ عَلَى الْخَالِقِ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ عَلَى نَعْتِ الْمُمَاثَلَةِ، إِنَّمَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ عَلَى نَعْتِ الْمُخَالَفَةِ، فَإِذَنْ نَسْتَدِلُّ بِحُدُوثِ هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ عَلَى قِدَمِ خَالِقِهَا، وَبِكَمِّيَّتِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا وَشَكْلِهَا عَلَى بَرَاءَةِ خَالِقِهَا عَنِ الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَالشَّكْلِ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ» مَعْنَاهُ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْحُدُوثِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْقِدَمِ، وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْإِمْكَانِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْوُجُوبِ، وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْحَاجَةِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالِاسْتِغْنَاءِ، فَكَانَ التَّفَكُّرُ فِي الْخَلْقِ مُمْكِنًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، أَمَّا التَّفَكُّرُ فِي الْخَالِقِ فَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ الْبَتَّةَ، فَإِذَنْ لَا يُتَصَوَّرُ حَقِيقَتُهُ إِلَّا بِالسُّلُوبِ فَنَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِجَوْهَرٍ وَلَا عَرَضٍ، وَلَا مُرَكَّبٍ وَلَا مُؤَلَّفٍ، وَلَا فِي الْجِهَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حَقِيقَتَهُ الْمَخْصُوصَةَ مُغَايِرَةٌ لِهَذِهِ السُّلُوبِ، وَتِلْكَ الْحَقِيقَةُ الْمَخْصُوصَةُ لَا سَبِيلَ لِلْعَقْلِ إِلَى مَعْرِفَتِهَا فَيَصِيرُ الْعَقْلُ كَالْوَالِهِ الْمَدْهُوشِ الْمُتَحَيِّرِ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ فَلِهَذَا السَّبَبِ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي اللَّهِ، وَأَمَرَ بِالتَّفَكُّرِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، فَلِهَذِهِ الدَّقِيقَةِ أَمَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِذِكْرِهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْفِكْرَ لَمْ يَأْمُرْ بِالتَّفَكُّرِ فِيهِ، بَلْ أَمَرَ بِالْفِكْرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِحَقِيقَتِهِ الْمَخْصُوصَةِ إِنَّمَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِآثَارِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَكُلَّمَا كَانَتْ أَفْعَالُهُ أَشْرَفَ وَأَعْلَى كَانَ وُقُوفُ الْعَقْلِ عَلَى كَمَالِ ذَلِكَ الْفَاعِلِ أَكْمَلَ، وَلِذَلِكَ إِنَّ الْعَامِّيَّ يَعْظُمُ اعْتِقَادُهُ فِي الْقُرْآنِ وَلَكِنَّهُ يَكُونُ اعْتِقَادًا تَقْلِيدِيًّا إِجْمَالِيًّا، أَمَّا الْمُفَسِّرُ الْمُحَقِّقُ الَّذِي لَا يَزَالُ يَطَّلِعُ فِي كُلِّ آيَةٍ

عَلَى أَسْرَارٍ عَجِيبَةٍ، وَدَقَائِقَ لَطِيفَةٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ اعْتِقَادُهُ فِي عَظَمَةِ الْقُرْآنِ أَكْمَلَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: دَلَائِلُ التَّوْحِيدِ مَحْصُورَةٌ فِي قِسْمَيْنِ: دَلَائِلِ الْآفَاقِ، وَدَلَائِلِ الْأَنْفُسِ وَلَا شَكَّ أَنَّ دَلَائِلَ الْآفَاقِ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غَافِرٍ: 57] وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْفِكْرِ فِي خَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ لِأَنَّ دَلَالَتَهَا أَعْجَبُ وَشَوَاهِدَهَا أَعْظَمُ، وَكَيْفَ لَا نَقُولُ ذَلِكَ وَلَوْ أَنَّ الْإِنْسَانَ نَظَرَ إِلَى وَرَقَةٍ صَغِيرَةٍ مِنْ أَوْرَاقِ شَجَرَةٍ، رَأَى فِي تِلْكَ الْوَرَقَةِ عِرْقًا وَاحِدًا مُمْتَدًّا فِي وَسَطِهَا، ثُمَّ يَتَشَعَّبُ مِنْ ذَلِكَ الْعِرْقِ عُرُوقٌ كَثِيرَةٌ إِلَى الْجَانِبَيْنِ، ثُمَّ يَتَشَعَّبُ مِنْهَا عُرُوقٌ دَقِيقَةٌ. وَلَا يَزَالُ يَتَشَعَّبُ مِنْ كُلِّ عِرْقٍ عُرُوقٌ أُخَرُ حَتَّى تَصِيرَ فِي الدِّقَّةِ بِحَيْثُ لَا يَرَاهَا الْبَصَرُ، وَعِنْدَ هَذَا يَعْلَمُ أَنَّ لِلْخَالِقِ فِي تَدْبِيرِ تِلْكَ الْوَرَقَةِ عَلَى هَذِهِ/ الْخِلْقَةِ حِكَمًا بَالِغَةً وَأَسْرَارًا عَجِيبَةً، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْدَعَ فِيهَا قُوًى جَاذِبَةً لِغِذَائِهَا مِنْ قَعْرِ الْأَرْضِ ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْغِذَاءَ يَجْرِي فِي تِلْكَ الْعُرُوقِ حَتَّى يَتَوَزَّعَ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ تِلْكَ الْوَرَقَةِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْغِذَاءِ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَلَوْ أَرَادَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَعْرِفَ كَيْفِيَّةَ خِلْقَةِ تِلْكَ الْوَرَقَةِ وَكَيْفِيَّةَ التَّدْبِيرِ فِي إِيجَادِهَا وَإِيدَاعِ الْقُوَى الْغَاذِيَةِ وَالنَّامِيَةِ فِيهَا لَعَجَزَ عَنْهُ، فَإِذَا عَرَفَ أَنَّ عَقْلَهُ قَاصِرٌ عَنِ الْوُقُوفِ عَلَى كَيْفِيَّةِ خِلْقَةِ تِلْكَ الْوَرَقَةِ الصَّغِيرَةِ، فَحِينَئِذٍ يَقِيسُ تِلْكَ الورقة إلى السموات مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ، وَإِلَى الْأَرْضِ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْبِحَارِ وَالْجِبَالِ وَالْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، عَرَفَ أَنَّ تِلْكَ الْوَرَقَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَالْعَدَمِ، فَإِذَا عَرَفَ قُصُورَ عَقْلِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْحَقِيرِ عَرَفَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ الْبَتَّةَ إِلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى عَجَائِبِ حِكْمَةِ اللَّهِ فِي خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَإِذَا عَرَفَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ النَّيِّرِ قُصُورَ عَقْلِهِ وَفَهْمِهِ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِهَذَا الْمَقَامِ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِأَنَّ الْخَالِقَ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ وَصْفُ الْوَاصِفِينَ وَمَعَارِفُ الْعَارِفِينَ، بَلْ يُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ فَفِيهِ حِكَمٌ بَالِغَةٌ وَأَسْرَارٌ عَظِيمَةٌ وَإِنْ كَانَ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا، فَعِنْدَ هَذَا يَقُولُ: سُبْحَانَكَ! وَالْمُرَادُ مِنْهُ اشْتِغَالُهُ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّعْظِيمِ، ثُمَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَشْتَغِلُ بِالدُّعَاءِ فَيَقُولُ: فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ مُسْتَلْقٍ عَلَى فِرَاشِهِ إِذْ رَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَى النُّجُومِ وَإِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ لَكِ رَبًّا وَخَالِقًا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي فَنَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ فَغَفَرَ لَهُ» وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا عِبَادَةَ كَالتَّفَكُّرِ» وَقِيلَ: الْفِكْرَةُ تُذْهِبُ الْغَفْلَةَ وَتَجْذِبُ لِلْقَلْبِ الْخَشْيَةَ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الزَّرْعَ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى فَإِنَّهُ كَانَ يُرْفَعُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلُ عَمَلِ أَهْلِ الْأَرْضِ» قَالُوا: وَكَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ هُوَ التَّفَكُّرَ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ بِجَوَارِحِهِ مِثْلَ عَمَلِ أَهْلِ الْأَرْضِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَعْلَى مَرَاتِبِ الصِّدِّيقِينَ التَّفَكُّرُ فِي دَلَائِلِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَأَنَّ التَّقْلِيدَ أَمْرٌ بَاطِلٌ لَا عِبْرَةَ بِهِ وَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْعِبَادِ الصَّالِحِينَ الْمُوَاظِبِينَ عَلَى الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الدُّعَاءِ. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ وَفِيهِ وَجْهَانِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: التَّقْدِيرُ: يَقُولُونَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّهُ فِي مَحَالِّ الْحَالِ بِمَعْنَى يَتَفَكَّرُونَ قَائِلِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا: فِي قَوْلِهِ: مَا خَلَقْتَ هَذَا كِنَايَةٌ عَنِ الْمَخْلُوقِ، يَعْنِي مَا خَلَقْتَ هَذَا الْمَخْلُوقَ/ الْعَجِيبَ بَاطِلًا، وَفِي كَلِمَةِ هَذَا ضَرْبٌ مِنَ التَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الْإِسْرَاءِ: 9] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي نَصْبِ قَوْلِهِ باطِلًا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ خَلْقًا بَاطِلًا. الثَّانِي: أَنَّهُ بِنَزْعِ الْخَافِضِ تَقْدِيرُهُ: بِالْبَاطِلِ أَوْ لِلْبَاطِلِ. الثَّالِثُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «بَاطِلًا» حَالًا مِنْ «هَذَا» . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ إِنَّمَا يَفْعَلُهُ لِغَرَضِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْعَبِيدِ وَلِأَجْلِ الْحِكْمَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا رِعَايَةُ مَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ تعالى لو لم يخلق السموات وَالْأَرْضَ لِغَرَضٍ لَكَانَ قَدْ خَلَقَهَا بَاطِلًا، وَذَلِكَ ضِدُّ هَذِهِ الْآيَةِ قَالُوا: وَظَهَرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الَّذِي تَقُولُهُ الْمُجَبِّرَةُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أراد بخلق السموات وَالْأَرْضِ صُدُورَ الظُّلْمِ وَالْبَاطِلِ مِنْ أَكْثَرِ عِبَادِهِ وَلِيَكْفُرُوا بِخَالِقِهَا، وَذَلِكَ رَدٌّ لِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالُوا: وَقَوْلُهُ: سُبْحانَكَ تَنْزِيهٌ لَهُ عَنْ خَلْقِهِ لَهُمَا بَاطِلًا، وَعَنْ كُلِّ قَبِيحٍ، وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ كَلَامًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فَقَالَ: الْبَاطِلُ عِبَارَةٌ عَنِ الزَّائِلِ الذَّاهِبِ الَّذِي لَا يَكُونُ لَهُ قُوَّةٌ وَلَا صَلَابَةٌ وَلَا بقاء، وخلق السموات وَالْأَرْضِ خَلْقٌ مُتْقَنٌ مُحْكَمٌ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلُهُ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الْمُلْكِ: 3] وَقَالَ: وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً [النَّبَأِ: 12] فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا هَذَا الْمَعْنَى، لَا مَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَزِلَةُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْوَجْهُ مَدْفُوعٌ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْبَاطِلِ الرَّخْوَ الْمُتَلَاشِيَ لَكَانَ قَوْلُهُ: سُبْحانَكَ تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَ هَذَا الْخَلْقِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا يَحْسُنُ وَصْلُ قَوْلِهِ: فَقِنا عَذابَ النَّارِ بِهِ إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: مَا خَلَقْتَهُ بَاطِلًا بِغَيْرِ حِكْمَةٍ بَلْ خَلَقْتَهُ بِحِكْمَةٍ عَظِيمَةٍ، وَهِيَ أَنْ تَجْعَلَهَا مَسَاكِنَ لِلْمُكَلَّفِينَ الَّذِينَ اشْتَغَلُوا بِطَاعَتِكَ وَتَحَرَّزُوا عَنْ مَعْصِيَتِكَ، فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، لِأَنَّهُ جَزَاءُ مَنْ عَصَى وَلَمْ يُطِعْ، فَثَبَتَ أَنَّا إِذَا فَسَّرْنَا قَوْلَهُ: مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا بِمَا ذَكَرْنَا حَسُنَ هَذَا النَّظْمُ، أَمَّا إِذَا فَسَّرْنَاهُ بِأَنَّكَ خَلَقْتَهُ مُحْكَمًا شَدِيدَ التَّرْكِيبِ لَمْ يَحْسُنْ هَذَا النَّظْمُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا فِي آيَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص: 27] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدُّخَانِ: 38، 39] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدُّخَانِ: 38، 39] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً إِلَى قَوْلِهِ: فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [الْمُؤْمِنُونَ: 115، 116] أي فتعالى الملك كالحق عَنْ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ عَبَثًا، وَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ عَبَثًا فَبِأَنْ يَمْتَنِعَ كَوْنُهُ بَاطِلًا أَوْلَى. وَالْجَوَابُ: اعْلَمْ أَنَّ بَدِيهَةَ الْعَقْلِ شَاهِدَةٌ بِأَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ، وَإِمَّا مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَشَاهِدُهُ/ أَنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ لِذَاتِهِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْتَهِيَ فِي رُجْحَانِهِ إِلَى الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ تَخْصِيصٌ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْمُمْكِنُ مُغَايِرًا لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ، بَلْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ عَلَى عُمُومِهَا قَضِيَّةٌ يَشْهَدُ الْعَقْلُ بِصِحَّتِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ بِقَضَاءِ اللَّهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَعْلِيلَ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَصَالِحِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ مَا حَكَيْنَاهُ عَنِ الْوَاحِدِيِّ: قَوْلُهُ: وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ قَوْلُهُ: سُبْحانَكَ تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ فِعْلِ مَا لَا شِدَّةَ فِيهِ وَلَا صَلَابَةَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ. قُلْنَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا رَخْوًا فَاسِدَ التَّرْكِيبِ بَلْ خَلَقْتَهُ صُلْبًا مُحْكَمًا، وَقَوْلُهُ: سُبْحانَكَ مَعْنَاهُ أَنَّكَ وَإِنْ خَلَقْتَ السموات وَالْأَرْضَ صُلْبَةً شَدِيدَةً بَاقِيَةً فَأَنْتَ مُنَزَّهٌ عَنِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: سُبْحانَكَ مَعْنَاهُ هَذَا. قَوْلُهُ ثَانِيًا: إِنَّمَا حَسُنَ وَصْلُ قَوْلِهِ: فَقِنا عَذابَ النَّارِ بِهِ إِذَا فَسَّرْنَاهُ بِقَوْلِنَا، قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ بَلْ وَجْهُ النَّظْمِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: سُبْحانَكَ اعْتَرَفَ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عن كل ما سواه، فعند ما وَصَفَهُ بِالْغِنَى أَقَرَّ

لِنَفْسِهِ بِالْعَجْزِ وَالْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَقَالَ: فَقِنا عَذابَ النَّارِ وَهَذَا الْوَجْهُ فِي حُسْنِ النَّظْمِ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَحْسَنَ مِمَّا ذَكَرْتُمْ لَمْ يَكُنْ أَقَلَّ مِنْهُ، وَأَمَّا سَائِرُ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَهُ مُنَزَّهَةٌ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَوْصُوفَةً بِكَوْنِهَا عَبَثًا وَلَعِبًا وَبَاطِلًا، وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ، وَإِنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ كُلَّهَا حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لا يتصرف إلا في ملكه وملكه، فَكَانَ حُكْمُهُ صَوَابًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَهَذَا مَا فِي هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ حُكَمَاءُ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ هَذِهِ الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ وَأَوْدَعَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا قُوًى مَخْصُوصَةً، وَجَعَلَهَا بِحَيْثُ يَحْصُلُ مِنْ حَرَكَاتِهَا وَاتِّصَالِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مَصَالِحُ هَذَا الْعَالَمِ وَمَنَافِعُ سُكَّانِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ الْأَرْضِيَّةِ، قَالُوا: لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَكَانَتْ بَاطِلَةً، وَذَلِكَ رَدٌّ لِلْآيَةِ. قَالُوا: وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْفَائِدَةُ فِيهَا الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ كُرَاتِ الْهَوَاءِ وَالْمَاءِ يُشَارِكُ الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِخُصُوصِ كَوْنِهِ فَلَكًا وَشَمْسًا وَقَمَرًا فَائِدَةٌ، فَيَكُونُ بَاطِلًا وَهُوَ خِلَافُ هَذَا النَّصِّ. أَجَابَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَنْهُ: بِأَنْ قَالُوا: لِمَ لَا يَكْفِي فِي هَذَا الْمَعْنَى كَوْنُهَا أَسْبَابًا عَلَى مَجْرَى الْعَادَةِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: سُبْحانَكَ فقيه مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا إِقْرَارٌ بِعَجْزِ الْعُقُولِ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِآثَارِ حِكْمَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِ السموات/ وَالْأَرْضِ، يَعْنِي: أَنَّ الْخَلْقَ إِذَا تَفَكَّرُوا فِي هَذِهِ الْأَجْسَامِ الْعَظِيمَةِ لَمْ يَعْرِفُوا مِنْهَا إِلَّا هَذَا الْقَدْرَ، وَهُوَ أَنَّ خَالِقَهَا مَا خَلَقَهَا بَاطِلًا، بَلْ خَلَقَهَا لِحِكَمٍ عَجِيبَةٍ، وَأَسْرَارٍ عَظِيمَةٍ، وَإِنْ كَانَتِ الْعُقُولُ قَاصِرَةً عَنْ مَعْرِفَتِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَعْلِيمُ اللَّهِ عِبَادَهُ كَيْفِيَّةَ الدُّعَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ الدُّعَاءَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُقَدِّمَ الثَّنَاءَ ثُمَّ يَذْكُرُ بَعْدَهُ الدُّعَاءَ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقِنا عَذابَ النَّارِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْعِبَادِ الْمُخْلِصِينَ أَنَّ أَلْسِنَتَهُمْ مُسْتَغْرِقَةٌ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَبْدَانَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَقُلُوبَهُمْ فِي التَّفَكُّرِ فِي دَلَائِلِ عَظَمَةِ اللَّهِ، ذَكَرَ أَنَّهُمْ مَعَ هَذِهِ الطَّاعَاتِ يَطْلُبُونَ مِنَ اللَّهِ أَنَّ يَقِيَهُمْ عَذَابَ النَّارِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ تَعْذِيبُهُمْ وَإِلَّا لَكَانَ هَذَا الدُّعَاءُ عَبَثًا، فَإِنْ كَانَ الْمُعْتَزِلَةُ ظَنُّوا أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ حُجَّةٌ لَهُمْ، فَلْيَعْلَمُوا أَنَّ آخِرَ هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّةٌ لَنَا فِي أَنَّهُ لَا يَقْبُحُ مِنَ اللَّهِ شَيْءٌ أَصْلًا، وَمِثْلُ هَذَا التَّضَرُّعِ مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشُّعَرَاءِ: 82] . النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ دَعَوَاتِهِمْ: قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا رَبَّهُمْ أَنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ النَّارِ أَتْبَعُوا ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ ذَلِكَ الْعِقَابِ وَشِدَّتِهِ وَهُوَ الْخِزْيُ، لِيَكُونَ مَوْقِعُ السُّؤَالِ أَعْظَمَ، لِأَنَّ مَنْ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا أَوْ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ، إِذَا شَرَحَ عِظَمَ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ وَقُوَّتَهُ كَانَتْ دَاعِيَتُهُ فِي ذَلِكَ الدُّعَاءِ أَكْمَلَ وَإِخْلَاصُهُ فِي طَلَبِهِ أَشَدَّ، وَالدُّعَاءُ لَا يَتَّصِلُ بِالْإِجَابَةِ إلا إذا كان مقروناً بالإخلاص، فَهَذَا تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ عِبَادَهُ فِي كَيْفِيَّةِ إِيرَادِ الدُّعَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْإِخْزَاءُ فِي اللُّغَةِ يَرِدُ عَلَى مَعَانٍ يَقْرُبُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ:

أَخْزَى اللَّهُ الْعَدُوَّ، أَيْ أَبْعَدَهُ وَقَالَ غَيْرُهُ: أَخْزَاهُ اللَّهُ أَيْ أَهَانَهُ، وَقَالَ شَمِرُ بْنُ حَمْدَوَيْهِ أَخْزَاهُ اللَّهُ أَيْ فَضَحَهُ اللَّهُ، وَفِي القرآن وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي [هُودٍ: 78] وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: أَخْزَاهُ اللَّهُ أَيْ أَهْلَكَهُ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْخِزْيُ فِي اللُّغَةِ الْهَلَاكُ بِتَلَفٍ أَوِ انْقِطَاعِ حُجَّةٍ أَوْ بِوُقُوعٍ فِي بَلَاءٍ، وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ مُتَقَارِبَةٌ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أَيْ قَدْ أَبْلَغْتَ فِي إِخْزَائِهِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا يُقَالُ: مَنْ سَبَقَ فُلَانًا فَقَدْ سَبَقَ، وَمَنْ تَعَلَّمَ مِنْ فُلَانٍ فَقَدْ تَعَلَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ إِذَا دَخَلَ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَاهُ اللَّهُ لِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْمُؤْمِنُ/ لَا يَخْزَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فَوَجَبَ مِنْ مَجْمُوعِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنْ لَا يَكُونَ صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنًا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التحريم: 8] لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْإِخْزَاءِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَحْصُلَ الْإِخْزَاءُ حَالَ مَا يَكُونُ مَعَ النَّبِيِّ، وَهَذَا النَّفْيُ لَا يُنَاقِضُهُ إِثْبَاتُ الْإِخْزَاءِ فِي الْجُمْلَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ الْإِثْبَاتُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، هَذَا هُوَ الَّذِي صَحَّ عِنْدِي فِي الْجَوَابِ، وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ أَجْوِبَةً ثَلَاثَةً سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ نَقَلَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالثَّوْرِيِّ وَقَتَادَةَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ مَخْصُوصٌ بِمَنْ يَدْخُلُ النَّارَ لِلْخُلُودِ، وَهَذَا الْجَوَابُ عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ كُلَّ فَاسِقٍ دَخَلَ النَّارَ فَإِنَّمَا دَخَلَهَا لِلْخُلُودِ، فَهَذَا لَا يَكُونُ سُؤَالًا عَنْهُمْ. ثَانِيهَا: قَالَ: الْمُدْخَلُ فِي النَّارِ مَخْزِيٌّ فِي حَالِ دُخُولِهِ وَإِنْ كَانَتْ عَاقِبَتُهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا لِأَنَّ مَوْضِعَ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ قَوْلَهُ: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التَّحْرِيمِ: 8] يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْخِزْيِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى حُصُولِ الْخِزْيِ لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ، فَحَصَلَ بِحُكْمِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بَيْنَ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ كَافِرًا مِمَّنْ يَدْخُلُ النَّارَ مُنَافَاةٌ، وَثَالِثُهَا: قَالَ: الْإِخْزَاءُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْإِهَانَةُ وَالْإِهْلَاكُ، وَالثَّانِي: التَّخْجِيلُ، يُقَالُ: خَزِيَ خِزَايَةً إِذَا اسْتَحْيَا، وَأَخْزَاهُ غَيْرُهُ إِذَا عَمِلَ بِهِ عَمَلًا يُخْجِلُهُ وَيَسْتَحْيِي مِنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ هَذَا الْجَوَابِ: أَنَّ لَفْظَ الْإِخْزَاءِ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ التَّخْجِيلِ وَبَيْنَ الْإِهْلَاكِ، وَاللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ فِي طَرَفَيِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ جَمِيعًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْفِيُّ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ غَيْرَ الْمُثْبَتِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ إِنَّمَا يَتَمَشَّى إِذَا كَانَ لَفْظُ الْإِخْزَاءِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ، أَمَّا إِذَا كَانَ لَفْظًا مُتَوَاطِئًا مُفِيدًا لِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَكَانَ الْمَعْنَيَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْوَاحِدِيُّ نَوْعَيْنِ تَحْتَ جِنْسٍ وَاحِدٍ، سَقَطَ هذا الجواب لأن قوله: لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ لِنَفْيِ الْجِنْسِ وَقَوْلَهُ: فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ لِإِثْبَاتِ النَّوْعِ، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ بَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّتِ الْمُرْجِئَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقَطْعِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يُخْزَى وَكُلُّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ فَإِنَّهُ يَخْزَى، فَيَلْزَمُ الْقَطْعُ بِأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يَدْخُلُ النَّارَ، إِنَّمَا قُلْنَا صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يُخْزَى لِأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، وَالْمُؤْمِنُ لَا يَخْزَى. إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ مُؤْمِنٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ [الْحُجُرَاتِ: 9] سُمِّيَ الْبَاغِي حَالَ كَوْنِهِ بَاغِيًا مُؤْمِنًا، وَالْبَغْيُ مِنَ الْكَبَائِرِ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَيْضًا/ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [الْبَقَرَةِ: 178] سُمِّيَ الْقَاتِلُ بِالْعَمْدِ الْعُدْوَانِ مُؤْمِنًا، فَثَبَتَ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ

مُؤْمِنٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُخْزَى لِقَوْلِهِ: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التَّحْرِيمِ: 8] وَلِقَوْلِهِ: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ [آلِ عِمْرَانَ: 194] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ [آل عمران: 195] وَهَذِهِ الِاسْتِجَابَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُخْزِي الْمُؤْمِنِينَ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يَخْزَى بِالنَّارِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ كُلَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ فَإِنَّهُ يَخْزَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَحِينَئِذٍ يَتَوَلَّدُ مِنْ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ الْقَطْعُ بِأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يَدْخُلُ النَّارَ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ: أَنَّ قَوْلَهُ: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التَّحْرِيمِ: 8] لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْإِخْزَاءِ مُطْلَقًا، بَلْ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْإِخْزَاءِ حَالَ كَوْنِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي حُصُولَ الْإِخْزَاءِ فِي وَقْتٍ آخَرَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ عَامٌّ دَخَلَهُ الْخُصُوصُ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مَرْيَمَ: 71، 72] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ، وَأَهْلُ الثَّوَابِ يُصَانُونَ عَنِ الْخِزْيِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ يَكُونُونَ فِي النَّارِ، وَهُمْ أَيْضًا يُصَانُونَ عَنِ الْخِزْيِ. قَالَ تَعَالَى: عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ [التَّحْرِيمِ: 6] . الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: احْتَجَّ حُكَمَاءُ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ الرُّوحَانِيَّ أَشَدُّ وَأَقْوَى مِنَ الْعَذَابِ الْجُسْمَانِيِّ، قَالُوا: لِأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى التَّهْدِيدِ بَعْدَ عَذَابِ النَّارِ بِالْخِزْيِ، وَالْخِزْيُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّخْجِيلِ وَهُوَ عَذَابٌ رُوحَانِيٌّ، فَلَوْلَا أَنَّ الْعَذَابَ الرُّوحَانِيَّ أَقْوَى مِنَ الْعَذَابِ الْجُسْمَانِيِّ وَإِلَّا لَمَا حَسُنَ تَهْدِيدُ مَنْ عُذِّبَ بِالنَّارِ بِعَذَابِ الْخِزْيِ وَالْخَجَالَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: احْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْفُسَّاقَ الَّذِينَ دَخَلُوا النَّارَ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا بَلْ يَبْقُونَ هُنَاكَ مُخَلَّدِينَ، وَقَالُوا: الْخِزْيُ هُوَ الْهَلَاكُ، فَقَوْلُهُ: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ مَعْنَاهُ فَقَدْ أَهْلَكْتَهُ، وَلَوْ كَانُوا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ لَمَا صَحَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ فَقَدْ هَلَكَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّا لَا نُفَسِّرُ الْخِزْيَ بِالْإِهْلَاكِ بَلْ نُفَسِّرُهُ بِالْإِهَانَةِ وَالتَّخْجِيلِ، وَعِنْدَ هَذَا يَزُولُ كَلَامُكُمْ. أَمَّا قوله تعالى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ وفيه مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُعْتَزِلَةُ تَمَسَّكُوا بِهِ فِي نَفْيِ الشَّفَاعَةِ لِلْفُسَّاقِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ نَوْعُ نُصْرَةٍ، وَنَفْيُ الْجِنْسِ يَقْتَضِي نَفْيَ النَّوْعِ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الظَّالِمَ بِالْإِطْلَاقِ هُوَ الْكَافِرُ، قَالَ تَعَالَى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الْبَقَرَةِ: 254] وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ خَصَّصُوا أَنْفُسَهُمْ بِنَفْيِ الشُّفَعَاءِ وَالْأَنْصَارِ حَيْثُ قَالُوا: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعرا: 101] وَثَانِيهَا: أَنَّ الشَّفِيعَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَشْفَعَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَةِ: 255] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الشَّفِيعُ قَادِرًا عَلَى النُّصْرَةِ إِلَّا بَعْدَ الْإِذْنِ، وَإِذَا حَصَلَ الْإِذْنُ لَمْ يَكُنْ فِي شَفَاعَتِهِ فَائِدَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّ الْعَفْوَ إِنَّمَا حَصَلَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَتِلْكَ الشَّفَاعَةُ مَا كَانَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَيْسَ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، فَقَوْلُهُ: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ كَمَا قَالَ: أَلا لَهُ الْحُكْمُ [الْأَنْعَامِ: 62] وَقَالَ:

[سورة آل عمران (3) : آية 193]

وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الِانْفِطَارِ: 19] لَا يُقَالُ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَبْقَى لِتَخْصِيصِ الظَّالِمِينَ بِهَذَا الْحُكْمِ فَائِدَةٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: بَلْ فِيهِ فَائِدَةٌ لِأَنَّهُ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ فِي الدُّنْيَا بِالْفَوْزِ بِالثَّوَابِ وَالنَّجَاةِ مِنَ الْعِقَابِ، فَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَذِهِ الْحُجَّةُ. أَمَّا الْفُسَّاقُ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، فَصَحَّ تَخْصِيصُهُمْ بِنَفْيِ الْأَنْصَارِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ وَوَارِدَةٌ بِثُبُوتِ الشَّفَاعَةِ خاصة وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ تَمَسَّكُوا فِي أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ، قَالُوا: لَوْ خَرَجَ مِنَ النَّارِ لَكَانَ مَنْ أَخْرَجَهُ مِنْهَا نَاصِرًا لَهُ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا نَاصِرَ لَهُ الْبَتَّةَ. وَالْجَوَابُ: الْمُعَارَضَةُ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَفْوِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. النَّوْعُ الثالث: من دعواتهم. [سورة آل عمران (3) : آية 193] رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) [فِي قَوْلُهُ تَعَالَى رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمُنَادِي قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ [النَّحْلِ: 125] وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ [الأحزاب: 46] أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ [يُوسُفَ: 108] وَالثَّانِي: أَنَّهُ هُوَ الْقُرْآنُ، قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ مُؤْمِنِي الْإِنْسِ ذَلِكَ كَمَا حَكَى عَنْ مُؤْمِنِي الْجِنِّ قَوْلَهُ: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ [الْجِنِّ: 1، 2] قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِهَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَكُلُّ أَحَدٍ سَمِعَهُ وَفَهِمَهُ، قَالُوا: وَهَذَا/ وَإِنْ كَانَ مَجَازًا إِلَّا أَنَّهُ مَجَازٌ مُتَعَارَفٌ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الرُّشْدِ، وَكَانَ كُلُّ مَنْ تَأَمَّلَهُ وَصَلَ بِهِ إِلَى الْهُدَى إِذَا وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِذَلِكَ، فَصَارَ كَأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى نَفْسِهِ وَيُنَادِي بِمَا فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّلَائِلِ، كَمَا قِيلَ فِي جَهَنَّمَ: تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى [الْمَعَارِجِ: 17] إِذْ كَانَ مَصِيرُهُمْ إِلَيْهَا، وَالْفُصَحَاءُ وَالشُّعَرَاءُ يَصِفُونَ الدَّهْرَ بِأَنَّهُ يُنَادِي وَيَعِظُ، وَمُرَادُهُمْ مِنْهَا دَلَالَةُ تَصَارِيفِ الزَّمَانِ، قَالَ الشَّاعِرُ: يَا وَاضِعَ الْمَيِّتَ فِي قَبْرِهِ ... خَاطَبَكَ الدَّهْرُ فَلَمْ تَسْمَعْ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: يُنادِي لِلْإِيمانِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى «إِلَى» كَقَوْلِهِ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ [الْمُجَادَلَةِ: 8] ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا [الْمُجَادَلَةِ: 3] بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزَّلْزَلَةِ: 5] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الْأَعْرَافِ: 43] وَيُقَالُ: دَعَاهُ لِكَذَا وَإِلَى كَذَا، وَنَدَبَهُ لَهُ وَإِلَيْهِ، وَنَادَاهُ لَهُ وَإِلَيْهِ، وَهَدَاهُ لِلطَّرِيقِ وَإِلَيْهِ، وَالسَّبَبُ فِي إِقَامَةِ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ اللَّفْظَتَيْنِ مَقَامَ الْأُخْرَى: أَنَّ مَعْنَى انْتِهَاءِ الْغَايَةِ وَمَعْنَى الِاخْتِصَاصِ حَاصِلَانِ جَمِيعًا. الثَّانِي: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذَا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أَيْ سَمِعْنَا مُنَادِيًا لِلْإِيمَانِ يُنَادِي بِأَنْ آمِنُوا، كَمَا يُقَالُ: جَاءَنَا مُنَادِي الْأَمِيرِ يُنَادِي بِكَذَا وَكَذَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ اللَّامَ لَامُ الْأَجَلِ وَالْمَعْنَى: سَمِعْنَا مُنَادِيًا كَانَ نِدَاؤُهُ لِيُؤْمِنَ النَّاسُ، أَيْ كَانَ الْمُنَادِي يُنَادِي لِهَذَا الْغَرَضِ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ: أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ أَيْ لِتُؤْمِنَ النَّاسُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النِّسَاءِ: 64] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي نَظِيرُهُ قَوْلُكَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ كَذَا، وَسَمِعْتُ زَيْدًا يَتَكَلَّمُ، فَيُوقَعُ الْفِعْلُ عَلَى الرَّجُلِ وَيُحْذَفُ الْمَسْمُوعُ، لِأَنَّكَ وَصَفْتَهُ بِمَا يَسْمَعُ وَجَعَلْتَهُ حَالًا عَنْهُ فَأَغْنَاكَ عَنْ ذِكْرِهِ،

وَلِأَنَّ الْوَصْفَ أَوِ الْحَالَ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْهُ، وَأَنَّهُ يُقَالُ: سَمِعْتُ كَلَامَ فُلَانٍ أَوْ قوله. المسألة الرابعة: هاهنا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُنَادِي وَيُنَادِي؟ وَجَوَابُهُ: ذُكِرَ النِّدَاءُ مُطْلَقًا ثَمَّ مُقَيَّدًا بِالْإِيمَانِ تَفْخِيمًا لِشَأْنِ الْمُنَادِي، لِأَنَّهُ لَا مُنَادِيَ أَعْظَمُ مِنْ مُنَادٍ يُنَادِي لِلْإِيمَانِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ: مَرَرْتُ بِهَادٍ يَهْدِي لِلْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنَادِيَ إِذَا أُطْلِقَ ذَهَبَ الْوَهْمُ إِلَى مُنَادٍ لِلْحَرْبِ، أَوْ لِإِطْفَاءِ النَّائِرَةِ، أَوْ لِإِغَاثَةِ الْمَكْرُوبِ، أَوِ الْكِفَايَةِ لِبَعْضِ النَّوَازِلِ، وَكَذَلِكَ الهادي، وقد يُطْلَقُ عَلَى مَنْ يَهْدِي لِلطَّرِيقِ، وَيَهْدِي لِسَدَادِ الرَّأْيِ، فَإِذَا قُلْتَ يُنَادِي لِلْإِيمَانِ وَيَهْدِي لِلْإِسْلَامِ فَقَدْ رَفَعْتَ مِنْ شَأْنِ الْمُنَادِي وَالْهَادِي وَفَخَّمْتَهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: أَنْ آمِنُوا فِيهِ حَذْفٌ أَوْ إِضْمَارٌ، وَالتَّقْدِيرُ: آمِنُوا أَوْ بِأَنْ آمِنُوا، ثُمَّ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا بَعْدَ ذَلِكَ: فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الدُّعَاءِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: غُفْرَانُ الذُّنُوبِ، وَثَانِيهَا: تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ، وَثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ وَفَاتُهُمْ مَعَ الْأَبْرَارِ. أَمَّا الْغُفْرَانُ فَهُوَ السَّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ، وَالتَّكْفِيرُ أَيْضًا هُوَ التَّغْطِيَةُ، يُقَالُ: رَجُلٌ مُكَفَّرٌ بِالسِّلَاحِ، أَيْ مُغَطًّى بِهِ، وَالْكُفْرُ مِنْهُ أَيْضًا، وَقَالَ لَبِيدٌ: فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ ظَلَامُهَا إِذَا عَرَفْتَ هَذَا: فَالْمَغْفِرَةُ وَالتَّكْفِيرُ بِحَسَبِ اللُّغَةِ مَعْنَاهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ. أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا أُعِيدَ ذَلِكَ لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ الْإِلْحَاحَ فِي الدُّعَاءِ وَالْمُبَالَغَةَ فِيهِ مَنْدُوبٌ، وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَبِالثَّانِي الْمُسْتَأْنَفُ، وَثَالِثُهَا: أَنْ يُرِيدَ بِالْغُفْرَانِ مَا يَزُولُ بِالتَّوْبَةِ، وَبِالْكُفْرَانِ مَا تُكَفِّرُهُ الطَّاعَةُ الْعَظِيمَةُ، وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ مَا أَتَى بِهِ الْإِنْسَانُ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ مَعْصِيَةً وَذَنْبًا، وَبِالثَّانِي: مَا أَتَى بِهِ الْإِنْسَانُ مَعَ جَهْلِهِ بِكَوْنِهِ مَعْصِيَةً وَذَنْبًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَبْرَارَ جَمْعُ بَرٍّ أَوْ بَارٍّ، كَرَبٍّ وَأَرْبَابٍ، وَصَاحِبٍ وَأَصْحَابٍ، الثَّانِي: ذَكَرَ الْقَفَّالُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْمَعِيَّةِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ وَفَاتَهُمْ مَعَهُمْ هِيَ أَنْ يَمُوتُوا عَلَى مِثْلِ أَعْمَالِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا فِي دَرَجَاتِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ أَنَا مَعَ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَيُرِيدُ بِهِ كَوْنَهُ مُسَاوِيًا لَهُ فِي ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ، وَالثَّانِي: يُقَالُ فُلَانٌ فِي الْعَطَاءِ مَعَ أَصْحَابِ الْأُلُوفِ، أَيْ هُوَ مُشَارِكٌ لَهُمْ فِي أَنَّهُ يُعْطِي أَلْفًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ كَوْنَهُمْ فِي جُمْلَةِ أَتْبَاعِ الْأَبْرَارِ وَأَشْيَاعِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النِّسَاءِ: 69] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى حُصُولِ الْعَفْوِ بِدُونِ التَّوْبَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ طَلَبُوا غُفْرَانَ الذُّنُوبِ وَلَمْ يَكُنْ لِلتَّوْبَةِ فِيهِ ذِكْرٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ طَلَبُوا الْمَغْفِرَةَ مُطْلَقًا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَهُمْ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 195] . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَعْفُو عَنِ الذَّنْبِ وَإِنْ لَمْ تُوجَدِ التَّوْبَةُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمَّا أَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا، فَعِنْدَ هَذَا قَالُوا: فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاغْفِرْ فَاءُ الْجَزَاءِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِيمَانِ سَبَبٌ لِحُسْنِ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ مِنَ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَهُمْ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِيمَانِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْغُفْرَانِ، إِمَّا مِنَ الِابْتِدَاءِ وَهُوَ بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَلَا يُدْخِلَهُمُ النَّارَ أَوْ بِأَنْ يُدْخِلَهُمُ النَّارَ وَيُعَذِّبَهُمْ مُدَّةً ثُمَّ يَعْفُو عَنْهُمْ

[سورة آل عمران (3) : آية 194]

وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ، فَثَبَتَ دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ/ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى حُصُولِ الْعَفْوِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ مَقْبُولَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ غُفْرَانَ الذُّنُوبِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ، فَأَجَابَ اللَّهُ قَوْلَهُمْ وَأَعْطَاهُمْ مَطْلُوبَهُمْ فَإِذَا قَبِلَ شَفَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْعَفْوِ عَنِ الذَّنْبِ، فَلِأَنْ يَقْبَلَ شَفَاعَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ كان أولى. النوع الرابع: من دعائهم: [سورة آل عمران (3) : آية 194] رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ فِيهِ حَذْفُ الْمُضَافِ ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِكَ. وَثَانِيهَا: وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى تَصْدِيقِ رُسُلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَذْكُورَةٌ عَقِيبَ ذِكْرِ الْمُنَادِي لِلْإِيمَانِ وَهُوَ، الرَّسُولُ وَعَقِيبَ قَوْلِهِ: فَآمَنَّا وَهُوَ التَّصْدِيقُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هاهنا سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ الْخُلْفَ فِي وَعْدِ اللَّهِ مُحَالٌ، فَكَيْفَ طَلَبُوا بِالدُّعَاءِ مَا عَلِمُوا أَنَّهُ لَا مَحَالَةَ وَاقِعٌ؟ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الدُّعَاءِ طَلَبَ الْفِعْلِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِظْهَارُ الْخُضُوعِ وَالذِّلَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَقَدْ أَمَرَنَا بِالدُّعَاءِ فِي أَشْيَاءَ نَعْلَمُ قطعا أنها توجد لا محالة، كقوله: قل رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ [الْأَنْبِيَاءِ: 112] وَقَوْلِهِ: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [غَافِرٍ: 7] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ لَا يَتَنَاوَلُ آحَادَ الْأُمَّةِ بِأَعْيَانِهِمْ، بَلْ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُهُمْ بِحَسَبِ أَوْصَافِهِمْ، فَإِنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ الْمُتَّقِينَ بِالثَّوَابِ، وَوَعَدَ الْفُسَّاقَ بِالْعِقَابِ، فَقَوْلُهُ: وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا مَعْنَاهُ: وَفِّقْنَا لِلْأَعْمَالِ الَّتِي بِهَا نَصِيرُ أَهْلًا لِوَعْدِكَ، وَاعْصِمْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي نَصِيرُ بِهَا أَهْلًا لِلْعِقَابِ/ وَالْخِزْيِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ طَلَبَ التَّوْفِيقِ لِلطَّاعَةِ وَالْعِصْمَةِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَنْصُرَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَيَقْهَرَ عَدُوَّهُمْ، فَهُمْ طَلَبُوا تَعْجِيلَ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا طَلَبُوا مَنَافِعَ الْآخِرَةِ بِحُكْمِ الْوَعْدِ لَا بِحُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ، وَفِي آخِرِ الْكَلَامِ قَالُوا: إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِحُصُولِ مَنَافِعِ الْآخِرَةِ هُوَ الوعد لا الاستحقاق. المسألة الرابعة: هاهنا سُؤَالٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الثَّوَابُ كَانَ انْدِفَاعُ الْعِقَابِ لَازِمًا لَا مَحَالَةَ، فَقَوْلُهُ: آتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ طَلَبٌ لِلثَّوَابِ، فَبَعْدَ طَلَبِ الثَّوَابِ كَيْفَ طُلِبَ تَرْكُ الْعِقَابِ؟ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ بَلْ لَوْ طُلِبَ تَرْكُ الْعِقَابِ أَوَّلًا ثُمَّ طُلِبَ إِيصَالُ الثَّوَابِ كَانَ الْكَلَامُ مُسْتَقِيمًا. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الثَّوَابَ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مَنْفَعَةً مَقْرُونَةً بِالتَّعْظِيمِ والسرور فقوله: آتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَنَافِعُ، وَقَوْلُهُ: وَلا تُخْزِنا الْمُرَادُ مِنْهُ التَّعْظِيمُ، الثَّانِي: أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ

[سورة آل عمران (3) : آية 195]

الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ طَلَبُ التَّوْفِيقِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِصْمَةِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَحْسُنُ النَّظْمُ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَفِّقْنَا لِلطَّاعَاتِ، وَإِذَا وَفَّقْتَنَا لَهَا فَاعْصِمْنَا عَمَّا يُبْطِلُهَا وَيُزِيلُهَا وَيُوقِعُنَا فِي الْخِزْيِ وَالْهَلَاكِ، وَالْحَاصِلُ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَفِّقْنَا لِطَاعَتِكَ فَإِنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ إِلَّا بِتَوْفِيقِكَ، وَإِذَا وَفَّقْتَ لِفِعْلِهَا فَوَفِّقْنَا لِاسْتِبْقَائِهَا فَإِنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى اسْتِبْقَائِهَا وَاسْتِدَامَتِهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِكَ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْكِنُهُ عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَلَا فِعْلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَلَا لَمْحَةٌ وَلَا حَرَكَةٌ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزُّمَرِ: 47] فَإِنَّهُ رُبَّمَا ظَنَّ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ عَلَى الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَظْهَرُ لَهُ أَنَّ اعْتِقَادَهُ كَانَ ضَلَالًا وَعَمَلَهُ كَانَ ذَنْبًا، فَهُنَاكَ تَحْصُلُ الْخَجَالَةُ الْعَظِيمَةُ وَالْحَسْرَةُ الْكَامِلَةُ وَالْأَسَفُ الشَّدِيدُ، ثُمَّ قَالَ حُكَمَاءُ الْإِسْلَامِ: وَذَلِكَ هُوَ الْعَذَابُ الرُّوحَانِيُّ. قَالُوا: وَهَذَا الْعَذَابُ أَشَدُّ مِنَ الْعَذَابِ الْجُسْمَانِيِّ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هذا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْعِبَادِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ طَلَبُوا فِي هَذَا الدُّعَاءِ أَشْيَاءَ فَأَوَّلُ مَطَالِبِهِمُ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْعَذَابِ الْجُسْمَانِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَقِنا عَذابَ النَّارِ [آل عمران: 191] وَآخِرُهَا الِاحْتِرَازُ عَنِ الْعَذَابِ الرُّوحَانِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ الرُّوحَانِيَّ أَشَدُّ مِنَ الْعَذَابِ الْجُسْمَانِيِّ. [سورة آل عمران (3) : آية 195] فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ عَرَفُوا اللَّهَ بِالدَّلِيلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ [آل عمران: 190] ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ مُوَاظَبَتَهُمْ عَلَى الذِّكْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَعَلَى التَّفَكُّرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَثْنَوْا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُهُمْ: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا سُبْحانَكَ [آلِ عمران: 191] ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ بَعْدَ الثَّنَاءِ اشْتَغَلُوا بِالدُّعَاءِ وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَقِنا عَذابَ النَّارِ [آل عمران: 191- 194] إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ اسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ فَقَالَ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ اسْتِجَابَةَ الدُّعَاءِ مَشْرُوطَةٌ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، فَلَمَّا كَانَ حُصُولُ هَذِهِ الشَّرَائِطِ عَزِيزًا، لَا جَرَمَ كَانَ الشَّخْصُ الَّذِي يَكُونُ مُجَابَ الدُّعَاءِ عَزِيزًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: يُقَالُ اسْتَجَابَهُ وَاسْتَجَابَ لَهُ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النِّدَا ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَالِ: 34] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنِّي لَا أُضِيعُ: قُرِئَ بِالْفَتْحِ، وَالتَّقْدِيرُ: بِأَنِّي لَا أُضِيعُ، وَبِالْكَسْرِ عَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ، وَقُرِئَ لَا أُضِيعُ بِالتَّشْدِيدِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ: فِي قَوْلِهِ: مِنْ ذَكَرٍ قِيلَ لِلتَّبْيِينِ كَقَوْلِهِ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الْحَجِّ: 30] وَقِيلَ: إِنَّهَا مُؤَكِّدَةٌ لِلنَّفْيِ بِمَعْنَى: عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ ذِكْرٍ أو أنثى.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُضِيعُ نَفْسَ الْعَمَلِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ كُلَّمَا وُجِدَ تَلَاشَى وَفَنِيَ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُضِيعُ ثَوَابَ الْعَمَلِ، وَالْإِضَاعَةُ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ الْإِثَابَةِ فَقَوْلُهُ: لَا أُضِيعُ نَفْيٌ لِلنَّفْيِ فَيَكُونُ إِثْبَاتًا، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: أَنِّي أُوصِلُ ثَوَابَ جَمِيعِ أعمالهم إِلَيْكُمْ، إِذَا ثَبَتَ مَا قُلْنَا فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَبْقَى فِي النَّارِ مُخَلَّدًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بِإِيمَانِهِ اسْتَحَقَّ ثَوَابًا، وَبِمَعْصِيَتِهِ اسْتَحَقَّ عِقَابًا، فَلَا بُدَّ مِنْ وُصُولِهِمَا إِلَيْهِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ، فَإِمَّا أَنْ يُقَدِّمَ الثَّوَابَ ثُمَّ يَنْقُلُهُ إِلَى الْعِقَابِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ يُقَدِّمَ الْعِقَابَ ثُمَّ يَنْقُلُهُ إِلَى الثَّوَابِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ فَسَّرُوا الْآيَةَ بِأَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّهُ تَعَالَى قَبِلَ مِنْهُمْ أَنَّهُ يُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَطَاعَاتِهِمْ وَيُوصِلُ ثَوَابَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ إِلَيْهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: الْقَوْمُ أَوَّلًا طَلَبُوا غُفْرَانَ الذُّنُوبِ، وَثَانِيًا إِعْطَاءَ الثَّوَابِ فَقَوْلُهُ: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ إِجَابَةٌ لَهُمْ فِي إِعْطَاءِ الثَّوَابِ، فَأَيْنَ الْإِجَابَةُ فِي طَلَبِ غُفْرَانِ الذُّنُوبِ؟ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِسْقَاطِ الْعَذَابِ حُصُولُ الثَّوَابِ، لَكِنْ يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ الثَّوَابِ سُقُوطُ الْعِقَابِ فَصَارَ قَوْلُهُ: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ إِجَابَةً لِدُعَائِهِمْ فِي الْمَطْلُوبِينَ. وَعِنْدِي فِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ دُعَاءَكُمْ، وَعَدَمُ إِضَاعَةِ الدُّعَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ حَصَلَتْ إِجَابَةُ دُعَائِكُمْ فِي كُلِّ مَا طَلَبْتُمُوهُ وَسَأَلْتُمُوهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ فِي الْإِجَابَةِ وَفِي الثَّوَابِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى إِذَا كَانَا جَمِيعًا فِي التَّمَسُّكِ بِالطَّاعَةِ عَلَى السَّوِيَّةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَضْلَ فِي بَابِ الدِّينِ بِالْأَعْمَالِ، لَا بِسَائِرِ صِفَاتِ الْعَامِلِينَ، لِأَنَّ كَوْنَ بَعْضِهِمْ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، أَوْ مِنْ نَسَبٍ خَسِيسٍ أَوْ شَرِيفٍ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النِّسَاءِ: 123] وَرُوِيَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَسْمَعُ اللَّهَ يَذْكُرُ الرِّجَالَ فِي الْهِجْرَةِ وَلَا يَذْكُرُ النِّسَاءَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحْسَنُهَا أَنْ يُقَالَ: مِنْ بِمَعْنَى الْكَافِ أَيْ بَعْضُكُمْ كَبَعْضٍ، وَمِثْلُ بَعْضٍ فِي الثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. قَالَ الْقَفَّالُ: هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ مِنِّي أَيْ عَلَى خُلُقِي وَسِيرَتِي، قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [الْبَقَرَةِ: 249] وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَقَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ» فَقَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أَيْ بَعْضُكُمْ شَبَهُ بَعْضٍ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ إِدْخَالُ التَّفَاوُتِ فِيهِ؟ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَالَّذِينَ هاجَرُوا الَّذِينَ اخْتَارُوا الْمُهَاجَرَةَ مِنْ أَوْطَانِهِمْ فِي خِدْمَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمراد من الذين أخرجوا مِنْ دِيَارِهِمْ الَّذِينَ أَلْجَأَهُمُ الْكُفَّارُ إِلَى الْخُرُوجِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ رُتْبَةَ الْأَوَّلِينَ أَفْضَلُ لِأَنَّهُمُ اخْتَارُوا خِدْمَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُلَازَمَتَهُ عَلَى الِاخْتِيَارِ، فَكَانُوا أَفْضَلَ وَقَوْلُهُ: وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أَيْ مِنْ أَجْلِهِ وَسَبَبِهِ وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لِأَنَّ الْمُقَاتَلَةَ تَكُونُ قَبْلَ الْقِتَالِ، قَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَقاتَلُوا بِالْأَلِفِ أَوَّلًا وَقُتِلُوا مُخَفَّفَةً، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَاتَلُوا مَعَهُ حَتَّى قُتِلُوا، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَقاتَلُوا أَوَّلًا وَقُتِّلُوا مُشَدَّدَةً قِيلَ: التَّشْدِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ وَتَكَرُّرِ الْقَتْلِ فِيهِمْ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 196 إلى 197]

كَقَوْلِهِ: مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [ص: 50] وَقِيلَ: قُطِعُوا عَنِ الْحَسَنِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَقُتِلُوا بِغَيْرِ أَلِفٍ أَوَّلًا وَقَاتَلُوا بِالْأَلِفِ بَعْدَهُ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَاوَ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ كَمَا في قوله: وَاسْجُدِي وَارْكَعِي [آل عمران: 43] وَالثَّانِي: عَلَى قَوْلِهِمْ: قَتَلْنَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، إِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْقَتْلِ، أَوْ إِذَا قُتِلَ قَوْمُهُ وَعَشَائِرُهُ. وَالثَّالِثُ: بِإِضْمَارِ «قَدْ» أَيْ قُتِّلُوا وَقَدْ قَاتَلُوا. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهَا: مَحْوُ السَّيِّئَاتِ وَغُفْرَانُ الذُّنُوبِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وذلك هو الذي طلبوه بقولهم: فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا [آلِ عمران: 193] وَثَانِيهَا إِعْطَاءُ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَهُوَ الَّذِي طَلَبُوهُ بِقَوْلِهِمْ: وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ، وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الثَّوَابُ ثَوَابًا عَظِيمًا مَقْرُونًا بِالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ الَّذِي قَالُوهُ: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لِعَظَمَتِهِ، وَإِذَا قَالَ السُّلْطَانُ الْعَظِيمُ لِعَبْدِهِ: إِنِّي أَخْلَعُ عَلَيْكَ خِلْعَةً مِنْ عِنْدِي دَلَّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ تِلْكَ الْخِلْعَةِ فِي نِهَايَةِ الشَّرَفِ وَقَوْلُهُ: ثَواباً مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَأُثِيبَنَّهُمْ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَيْ لَأُثِيبَنَّهُمْ إِثَابَةً أَوْ تَثْوِيبًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ فِي مَعْنَى لَأُثِيبَنَّهُمْ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِيَكُونَ ذَلِكَ الثَّوَابُ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ، عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، غَنِيًّا عَنِ الْحَاجَاتِ، كَانَ لَا مَحَالَةَ فِي غَايَةِ الْكَرَمِ وَالْجُودِ وَالْإِحْسَانِ، فَكَانَ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ. رُوِيَ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ حَزَبَهُ أَمْرٌ فَقَالَ خَمْسَ مَرَّاتٍ: رَبَّنَا، أَنْجَاهُ اللَّهُ مِمَّا يَخَافُ وَأَعْطَاهُ مَا أَرَادَ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا خَمْسَ مَرَّاتٍ: رَبَّنَا، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ اسْتَجَابَ لَهُمْ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 197] لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَكَانُوا فِي الدُّنْيَا فِي نِهَايَةِ الْفَقْرِ وَالشِّدَّةِ، وَالْكُفَّارُ كَانُوا فِي النِّعَمِ، ذَكَرَ اللَّهُ تعالى هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُسَلِّيهِمْ وَيُصَبِّرُهُمْ عَلَى تِلْكَ الشِّدَّةِ، فَقَالَ: لَا يَغُرَّنَّكَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْغُرُورَ مَصْدَرُ قَوْلِكَ: غَرَّرْتُ الرَّجُلَ بِمَا يَسْتَحْسِنُهُ فِي الظَّاهِرِ ثُمَّ يَجِدُهُ عِنْدَ التَّفْتِيشِ عَلَى خِلَافِ مَا يُحِبُّهُ، فَيَقُولُ: غَرَّنِي ظَاهِرُهُ أَيْ قَبِلْتُهُ عَلَى غَفْلَةٍ عَنِ امْتِحَانِهِ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ فِي الثَّوَابِ إِذَا نُشِرَ ثُمَّ أُعِيدَ إِلَى طَيِّهِ: رَدَدْتُهُ عَلَى غِرَّةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُخَاطَبُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَغُرَّنَّكَ مَنْ هُوَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْأُمَّةُ. قَالَ قَتَادَةُ: وَاللَّهِ مَا غَرُّوا نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، وَالْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ لَهُ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: السَّبَبُ لِعَدَمِ إِغْرَارِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ هُوَ تَوَاتُرُ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 74] فَسَقَطَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ [هُودٍ: 42] وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 14] وفَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [الْقَلَمِ: 8] وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَغُرَّنَّكَ أَيُّهَا السَّامِعُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ، فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ كَانُوا يَتْجُرُونَ وَيَتَنَعَّمُونَ فَقَالَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ أَعْدَاءَ اللَّهِ فِيمَا نَرَى مِنَ الْخَيْرِ وَقَدْ هَلَكْنَا مِنَ الْجُوعِ وَالْجُهْدِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ.

[سورة آل عمران (3) : آية 198]

وَالثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ فَتُصِيبُ الْأَمْوَالَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالْمُرَادُ بِتَقَلُّبِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ، تَصَرُّفُهُمْ فِي التِّجَارَاتِ وَالْمَكَاسِبِ، أَيْ لَا يَغُرَّنَّكُمْ أَمْنُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَتَصَرُّفُهُمْ فِي الْبِلَادِ كَيْفَ شَاءُوا، وَأَنْتُمْ معاشر المؤمنين خائفون محضورون، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَبْقَى إِلَّا مُدَّةً قَلِيلَةً ثُمَّ يَنْتَقِلُونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَتاعٌ قَلِيلٌ قِيلَ: أَيْ تَقَلُّبُهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: ذَلِكَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: ذَلِكَ الْكَسْبُ وَالرِّبْحُ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقِلَّةِ لِأَنَّ نَعِيمَ الدُّنْيَا مَشُوبٌ/ بِالْآفَاتِ وَالْحَسَرَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ بِالْعَاقِبَةِ يَنْقَطِعُ وَيَنْقَضِي، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ قَلِيلًا وَقَدْ كَانَ مَعْدُومًا مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْآنِ، وَسَيَصِيرُ مَعْدُومًا مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ، فَإِذَا قَابَلْتَ زَمَانَ الْوُجُودِ بِمَا مَضَى وَمَا يَأْتِي وَهُوَ الْأَزَلُ وَالْأَبَدُ، كَانَ أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَجُوزَ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ قَلِيلٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ يَعْنِي أَنَّهُ مَعَ قِلَّتِهِ يُسَبِّبُ الْوُقُوعَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ أَبَدَ الْآبَادِ وَالنِّعْمَةُ الْقَلِيلَةُ إِذَا كَانَتْ سَبَبًا لِلْمَضَرَّةِ الْعَظِيمَةِ لَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ نِعْمَةً، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آلِ عِمْرَانَ: 178] وَقَوْلِهِ: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الْأَعْرَافِ: 183] . ثُمَّ قَالَ: وَبِئْسَ الْمِهادُ أَيِ الْفِرَاشُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ بِئْسَ الْمِهَادُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزُّمَرِ: 16] فَهُمْ بَيْنَ أَطْبَاقِ النِّيرَانِ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ يَأْكُلُونَ النار ويشربون النار. [سورة آل عمران (3) : آية 198] لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ أَتْبَعَهُ بِالْوَعْدِ بِالنُّزُلِ، وَالنُّزُلُ مَا يُهَيَّأُ لِلضَّيْفِ وَقَوْلُهُ: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ، لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي التَّقْوَى الِاحْتِرَازُ عَنِ الْمَنْهِيَّاتِ، وعن ترك المأمورات. واحتج بعض أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْجَنَّةُ بِكُلِّيَّتِهَا نُزُلًا، فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّؤْيَةِ لِتَكُونَ خِلْعَةً، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الْكَهْفِ: 107] وَقَوْلُهُ: نُزُلًا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ جَنَّاتٌ لِتَخْصِيصِهَا بِالْوَصْفِ، وَالْعَامِلُ اللَّامُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مَصْدَرٍ مُؤَكَّدٍ، لِأَنَّ خُلُودَهُمْ فِيهَا إِنْزَالُهُمْ فِيهَا أَوْ نُزُولُهُمْ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ نُصِبَ عَلَى التَّفْسِيرِ كَمَا تَقُولُ: هُوَ لَكَ هِبَةً وَبَيْعًا وَصَدَقَةً ثُمَّ قَالَ: وَما عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْكَثِيرِ الدَّائِمِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ مِمَّا يَتَقَلَّبُ فِيهِ الْفُجَّارُ مِنَ الْقَلِيلِ الزَّائِلِ، وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ وَالْأَعْمَشُ نُزْلًا بِسُكُونِ الزَّايِ، وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ لَكِنَّ الذين اتقوا بالتشديد. [سورة آل عمران (3) : الآيات 199 الى 200] وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ حَالَ الْكُفَّارِ مِنْ قَبْلُ، بِأَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى النَّارِ بَيِّنٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ كَانَ دَاخِلًا فِي صِفَةِ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَقَالَ: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَاخْتَلَفُوا فِي نُزُولِهَا،

فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَقَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ حِينَ مَاتَ وَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّهُ يُصَلِّي عَلَى نَصْرَانِيٍّ لَمْ يَرَهُ قَطُّ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَرْبَعِينَ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ، وَاثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَثَمَانِيَةٍ مِنَ الرُّومِ كَانُوا عَلَى دِينِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَسْلَمُوا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ كُلِّهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْكُفَّارَ بِأَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى الْعِقَابِ، بَيَّنَ فِيمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِأَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى الثَّوَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِصِفَاتٍ: أَوَّلُهَا: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَثَانِيهَا: الْإِيمَانُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَثَالِثُهَا: الْإِيمَانُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَرَابِعُهَا: كَوْنُهُمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ وَهُوَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يُؤْمِنُ لِأَنَّ مَنْ يُؤْمِنُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُمْ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ مِمَّنْ كَانَ يَكْتُمُ أَمْرَ الرَّسُولِ وَصِحَّةَ نُبُوَّتِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَتِهِمْ: أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ وَالْفَائِدَةُ فِي كَوْنِهِ سَرِيعَ الْحِسَابِ كَوْنُهُ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فَيَعْلَمُ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنْ عُلُومِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، أَمَّا الْأُصُولُ فَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، وَأَمَّا الْفُرُوعُ فَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ نَحْوُ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِهِمَا، خَتَمَ هَذِهِ السُّورَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى جَمِيعِ الْآدَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحْوَالَ الْإِنْسَانِ قِسْمَانِ: مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَحْدَهُ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الصَّبْرِ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْمُصَابَرَةِ. أَمَّا الصَّبْرُ فَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ: أَوَّلُهَا: أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَشَقَّةِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي مَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، وَعَلَى مَشَقَّةِ اسْتِنْبَاطِ الْجَوَابِ عَنْ شُبُهَاتِ الْمُخَالِفِينَ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَشَقَّةِ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنِ الْمَنْهِيَّاتِ. وَرَابِعُهَا: الصَّبْرُ عَلَى شَدَائِدِ الدُّنْيَا وَآفَاتِهَا مِنَ الْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَالْقَحْطِ وَالْخَوْفِ، فَقَوْلُهُ: اصْبِرُوا يَدْخُلُ تَحْتَهُ هَذِهِ الْأَقْسَامُ، وَتَحْتَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ أَنْوَاعٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَأَمَّا الْمُصَابَرَةُ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَحَمُّلِ الْمَكَارِهِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَيْرِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ تَحَمُّلُ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالْجِيرَانِ وَالْأَقَارِبِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ تَرْكُ الِانْتِقَامِ مِمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ كَمَا قَالَ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الْأَعْرَافِ: 199] وَقَالَ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفُرْقَانِ: 72] وَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِيثَارُ عَلَى الْغَيْرِ كَمَا قَالَ: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الْحَشْرِ: 9] وَيَدْخُلُ فِيهِ الْعَفْوُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ كَمَا قَالَ: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْبَقَرَةِ: 237] وَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنَّ الْمُقْدِمَ عَلَيْهِ رُبَّمَا وَصَلَ إِلَيْهِ بِسَبَبِهِ ضَرَرٌ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْجِهَادُ فَإِنَّهُ تَعْرِيضُ النَّفْسِ لِلْهَلَاكِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُصَابَرَةُ مَعَ الْمُبْطِلِينَ، وَحَلُّ شُكُوكِهِمْ وَالْجَوَابُ عَنْ شُبَهِهِمْ، وَالِاحْتِيَالُ فِي إِزَالَةِ تِلْكَ الْأَبَاطِيلِ عَنْ قُلُوبِهِمْ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ اصْبِرُوا تَنَاوَلَ كُلَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ وَحْدَهُ وَصابِرُوا تَنَاوَلَ كُلَّ مَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ تَكَلَّفَ الصَّبْرَ وَالْمُصَابَرَةَ إِلَّا أَنَّ فِيهِ أَخْلَاقًا ذَمِيمَةً تُحْمَلُ عَلَى أَضْدَادِهَا وَهِيَ الشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ وَالْحِرْصُ، وَالْإِنْسَانُ مَا لَمْ يَكُنْ مُشْتَغِلًا طُولَ عُمُرِهِ بِمُجَاهَدَتِهَا وَقَهْرِهَا لَا يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِالصَّبْرِ وَالْمُصَابَرَةِ، فَلِهَذَا قَالَ: وَرابِطُوا وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمُجَاهَدَةُ فِعْلًا مِنَ الْأَفْعَالِ وَلَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ فِي كُلِّ فعل

يَفْعَلُهُ مِنْ دَاعِيَةٍ وَغَرَضٍ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْمُجَاهَدَةِ غَرَضٌ وَبَاعِثٌ، وَذَلِكَ هُوَ تَقْوَى اللَّهِ لِنَيْلِ الْفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ، فَلِهَذَا قَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَتَمَامُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أَنَّ الْأَفْعَالَ مَصْدَرُهَا هُوَ الْقُوَى، فَهُوَ تَعَالَى أَمَرَ بِالصَّبْرِ وَالْمُصَابَرَةِ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ، وَالِاحْتِرَازُ عَنِ الْأَفْعَالِ الذَّمِيمَةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْأَفْعَالُ صَادِرَةً عَنِ الْقُوَى أَمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُجَاهَدَةِ الْقُوَى الَّتِي هِيَ مَصَادِرُ الْأَفْعَالِ الذَّمِيمَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِالْمُرَابَطَةِ، ثُمَّ/ ذَكَرَ مَا بِهِ يَحْصُلُ دَفْعُ هَذِهِ الْقُوَى الدَّاعِيَةِ إِلَى الْقَبَائِحِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَذَلِكَ هُوَ تَقْوَى اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا لِأَجْلِهِ وَجَبَ تَرْجِيحُ تَقْوَى اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْقُوَى وَالْأَخْلَاقِ، وَهُوَ الْفَلَاحُ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي هِيَ خَاتِمَةٌ لِهَذِهِ السُّورَةِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كُنُوزِ الْحِكَمِ وَالْأَسْرَارِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَأَنَّهَا عَلَى اخْتِصَارِهَا كَالْمُتَمِّمِ لِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ عُلُومِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فَهَذَا مَا عِنْدِي فِيهِ. وَلْنَذْكُرْ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ: قَالَ الْحَسَنُ: اصْبِرُوا عَلَى دِينِكُمْ وَلَا تَتْرُكُوهُ بِسَبَبِ الْفَقْرِ وَالْجُوعِ، وَصَابِرُوا عَلَى عَدُوِّكُمْ وَلَا تَفْشَلُوا بِسَبَبِ وُقُوعِ الْهَزِيمَةِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: اصْبِرُوا مَعَ نَبِيِّكُمْ وَصَابِرُوا عَدُوَّكُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَصْبَرَ مِنْكُمْ، وَقَالَ الْأَصَمُّ: لَمَّا كَثُرَتْ تَكَالِيفُ اللَّهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا، وَلَمَّا كَثُرَ تَرْغِيبُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْجِهَادِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَمَرَهُمْ بِمُصَابَرَةِ الْأَعْدَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَرابِطُوا فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ يَرْبِطَ هَؤُلَاءِ خَيْلَهُمْ فِي الثُّغُورِ وَيَرْبِطَ أُولَئِكَ خَيْلَهُمْ أَيْضًا، بِحَيْثُ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ مُسْتَعِدًّا لِقِتَالِ الْآخَرِ، قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الْأَنْفَالِ: 60] وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ رَابَطَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ مِثْلَ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ لَا يُفْطِرُ وَلَا يَنْتَقِلُ عَنْ صَلَاتِهِ إِلَّا لِحَاجَةٍ» الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْمُرَابَطَةِ انْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: مَا روي عن أبي سلمة عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوٌ يُرَابَطُ فِيهِ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ. الثَّانِي: مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ حِينَ ذَكَرَ انْتِظَارَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ثُمَّ قَالَ: «فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْكُلِّ، وَأَصْلُ الرِّبَاطِ مِنَ الرَّبْطِ وَهُوَ الشَّدُّ، يُقَالُ: لِكُلِّ مَنْ صَبَرَ عَلَى أَمْرٍ رَبَطَ قَلْبَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الرِّبَاطُ هُوَ اللُّزُومُ وَالثَّبَاتُ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الصَّبْرِ وَرَبْطِ النَّفْسِ، ثُمَّ هَذَا الثَّبَاتُ وَالدَّوَامُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْجِهَادِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الصَّلَاةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ بِفَضْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ أَوَّلَ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ خمس وتسعين وخمسمائة.

سورة النساء

بسم الله الرّحمن الرّحيم سُورَةُ النِّسَاءِ مِائَةٌ وَسَبْعُونَ وَسِتُّ آيَاتٍ مَدَنِيَّةٍ بسم الله الرحمن الرحيم [سورة النساء (4) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّكَالِيفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ النَّاسَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِالتَّعَطُّفِ عَلَى الْأَوْلَادِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَيْتَامِ، وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ وَإِيصَالِ حُقُوقِهِمْ إِلَيْهِمْ وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى خُتِمَتِ السُّورَةُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النِّسَاءِ: 176] وَذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنْوَاعًا أُخَرَ مِنَ التَّكَالِيفِ، وَهِيَ الْأَمْرُ بِالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ التَّكَالِيفُ شَاقَّةً عَلَى النُّفُوسِ لِثِقَلِهَا عَلَى الطِّبَاعِ، لَا جَرَمَ افْتَتَحَ السُّورَةَ بِالْعِلَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا يَجِبُ حَمْلُ هَذِهِ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، وَهِيَ تَقْوَى الرَّبِّ الَّذِي خَلَقَنَا وَالْإِلَهِ الَّذِي أَوْجَدَنَا، فَلِهَذَا قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى الْوَاحِدِيُّ عن ابن عباس في قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لِأَهْلِ/ مَكَّةَ، وَأَمَّا الْأُصُولِيُّونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ لَفْظَ النَّاسِ جَمْعٌ دَخَلَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فَيُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّلَ الْأَمْرَ بِالِاتِّقَاءِ بِكَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقًا لَهُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ عَامَّةٌ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خُلِقُوا بِأَسْرِهِمْ، وَإِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ عَامَّةً كَانَ الْحُكْمُ عَامًّا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ التَّكْلِيفَ بِالتَّقْوَى غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِأَهْلِ مَكَّةَ، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْعَالَمِينَ، وَإِذَا كَانَ لَفْظُ النَّاسِ عَامًّا فِي الْكُلِّ، وَكَانَ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى عَامًّا فِي الْكُلِّ، وَكَانَتْ عِلَّةُ هَذَا التَّكْلِيفِ، وَهِيَ كَوْنُهُمْ خُلِقُوا مِنَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ عَامَّةً فِي حَقِّ الْكُلِّ، كَانَ الْقَوْلُ بِالتَّخْصِيصِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ. وَحُجَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ مُخْتَصٌّ بِالْعَرَبِ لِأَنَّ الْمُنَاشَدَةَ بِاللَّهِ وَبِالرَّحِمِ عَادَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِمْ. فَيَقُولُونَ أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ وَبِالرَّحِمِ، وَأَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ مُخْتَصًّا بِالْعَرَبِ، فَكَانَ أَوَّلُ الْآيَةِ وهو قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ مُخْتَصًّا بِهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ وَقَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ وَرَدَا مُتَوَجِّهَيْنِ إِلَى مُخَاطَبٍ وَاحِدٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ خُصُوصُ آخَرِ الْآيَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ أولها،

فكان قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ عَامَّا فِي الْكُلِّ، وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ. خَاصًّا بِالْعَرَبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ هَذَا الْمَطْلِعَ مَطْلِعًا لِسُورَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ: إِحْدَاهُمَا: هَذِهِ السُّورَةُ وَهِيَ السُّورَةُ الرَّابِعَةُ مِنَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ الْقُرْآنِ. وَالثَّانِيَةُ: سُورَةُ الْحَجِّ، وَهِيَ أَيْضًا السُّورَةُ الرَّابِعَةُ مِنَ النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَلَّلَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ الْخَالِقِ وَكَمَالِ عِلْمِهِ وَكَمَالِ حِكْمَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَعَلَّلَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ مَعْرِفَةِ الْمَعَادِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الْحَجِّ: 1] فَجَعَلَ صَدْرَ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ دَلَالَةً عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ وَمَعْرِفَةِ الْمَعَادِ، ثُمَّ قَدَّمَ السُّورَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْمَبْدَأِ عَلَى السُّورَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعَادِ، وَتَحْتَ هَذَا الْبَحْثِ أَسْرَارٌ كَثِيرَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعلم أنه تعالى أمرنا بالتقوى وذكر عقبيه أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَنَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى مُعَلَّلٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَنَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ هَذَا الْحُكْمِ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْوَصْفِ، فَنَقُولُ: قَوْلُنَا إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَنَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُشْتَمِلٌ عَلَى قَيْدَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَنَا، وَالثَّانِي: كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ التَّخْلِيقِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَنَا مِنْ نَفْسٍ/ وَاحِدَةٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ أَثَرٌ فِي وُجُوبِ التَّقْوَى. أَمَّا الْقَيْدُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَنَا، فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى عِلَّةٌ لِأَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا الِانْقِيَادُ لِتَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْخُضُوعُ لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ خَالِقًا لَنَا وَمُوجِدًا لِذَوَاتِنَا وَصِفَاتِنَا فَنَحْنُ عَبِيدُهُ وَهُوَ مَوْلًى لَنَا، وَالرُّبُوبِيَّةُ تُوجِبُ نَفَاذَ أَوَامِرِهِ عَلَى عَبِيدِهِ، وَالْعُبُودِيَّةُ تُوجِبُ الِانْقِيَادَ لِلرَّبِّ وَالْمُوجِدِ وَالْخَالِقِ، الثَّانِي: أَنَّ الْإِيجَادَ غَايَةُ الْإِنْعَامِ وَنِهَايَةُ الْإِحْسَانِ، فَإِنَّكَ كُنْتَ مَعْدُومًا فَأَوْجَدَكَ، وَمَيِّتًا فَأَحْيَاكَ، وَعَاجِزًا فَأَقْدَرَكَ. وَجَاهِلًا فَعَلَّمَكَ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [الشُّعَرَاءِ: 78، 79] فَلَمَّا كَانَتِ النِّعَمُ بِأَسْرِهَا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُقَابِلَ تِلْكَ النِّعَمَ بِإِظْهَارِ الْخُضُوعِ وَالِانْقِيَادِ، وَتَرْكِ التَّمَرُّدِ وَالْعِنَادِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الْبَقَرَةِ: 28] الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ كَوْنُهُ مُوجِدًا وَخَالِقًا وَإِلَهًا وَرَبًّا لَنَا وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَشْتَغِلَ بِعُبُودِيَّتِهِ وَأَنْ نَتَّقِيَ كُلَّ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ عَنْهُ، وَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مُوجِبًا ثَوَابًا الْبَتَّةَ، لِأَنَّ هَذِهِ الطَّاعَاتِ لَمَّا وَجَبَتْ فِي مُقَابَلَةِ النِّعَمِ السَّالِفَةِ امْتَنَعَ أَنْ تَصِيرَ مُوجِبَةً لِلثَّوَابِ، لِأَنَّ أَدَاءَ الْحَقِّ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ لَا يُوجِبُ شَيْئًا آخَرَ، هَذَا إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ الْعَبْدَ أَتَى بِتِلْكَ الطَّاعَاتِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ ابْتِدَاءً، فَكَيْفَ وَهَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّ فِعْلَ الطَّاعَاتِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا خَلَقَ اللَّهُ الْقُدْرَةَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَخَلَقَ الدَّاعِيَةَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَمَتَى حَصَلَتِ الْقُدْرَةُ وَالدَّاعِي كَانَ مَجْمُوعُهُمَا مُوجِبًا لِصُدُورِ الطَّاعَةِ عَنِ الْعَبْدِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ تِلْكَ الطَّاعَةُ إِنْعَامًا مِنَ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَالْمَوْلَى إِذَا خَصَّ عَبْدَهُ بِإِنْعَامٍ لَمْ يَصِرْ ذَلِكَ الْإِنْعَامُ مُوجِبًا عَلَيْهِ إِنْعَامًا آخَرَ، فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى بَيَانِ أَنَّ كَوْنَهُ خَالِقًا لَنَا يُوجِبُ عَلَيْنَا عُبُودِيَّتَهُ وَالِاحْتِرَازَ عَنْ مَنَاهِيهِ. وَأَمَّا الْقَيْدُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ خُصُوصَ كَوْنِهِ خَالِقًا لَنَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ يُوجِبُ عَلَيْنَا الطَّاعَةَ وَالِاحْتِرَازَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، فَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ خَلْقَ جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ الْإِنْسَانِيَّةِ مِنَ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ أَدَلُّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالطَّبِيعَةِ وَالْخَاصِّيَّةِ لَكَانَ الْمُتَوَلَّدُ مِنَ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ، لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَشْيَاءَ مُتَشَاكِلَةً فِي الصِّفَةِ مُتَشَابِهَةً فِي الْخِلْقَةِ وَالطَّبِيعَةِ، فَلَمَّا رَأَيْنَا فِي أَشْخَاصِ النَّاسِ الْأَبْيَضَ وَالْأَسْوَدَ وَالْأَحْمَرَ

وَالْأَسْمَرَ وَالْحَسَنَ وَالْقَبِيحَ وَالطَّوِيلَ وَالْقَصِيرَ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُدَبِّرَهَا وَخَالِقَهَا فَاعِلٌ مُخْتَارٌ، لَا طَبِيعَةٌ مُؤَثِّرَةٌ، وَلَا عِلَّةٌ مُوجِبَةٌ، وَلَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الدَّقِيقَةُ عَلَى أَنَّ مُدَبِّرَ الْعَالَمِ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ الِانْقِيَادُ لِتَكَالِيفِهِ وَأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، فَكَانَ ارْتِبَاطُ قَوْلِهِ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ بِقَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالِانْتِظَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى ذَكَرَ عَقِيبَهُ الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، وَكَوْنُ الْخَلْقِ بِأَسْرِهِمْ مَخْلُوقِينَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ لَهُ أَثَرٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَقَارِبَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ نَوْعُ مُوَاصَلَةٍ وَمُخَالَطَةٍ تُوجِبُ مَزِيدَ الْمَحَبَّةِ، وَلِذَلِكَ إِنَّ الْإِنْسَانَ يَفْرَحُ بِمَدْحِ أَقَارِبِهِ وَأَسْلَافِهِ، وَيَحْزَنُ بِذَمِّهِمْ وَالطَّعْنِ فِيهِمْ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يُؤْذِينِي مَا يُؤْذِيهَا» وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِزِيَادَةِ شَفَقَةِ الْخَلْقِ بَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّاسَ إِذَا عَرَفُوا كَوْنَ الْكُلِّ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ تَرَكُوا الْمُفَاخَرَةَ وَالتَّكَبُّرَ وَأَظْهَرُوا التَّوَاضُعَ وَحُسْنَ الْخُلُقِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعَادِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُخْرِجَ مِنْ صُلْبِ شَخْصٍ وَاحِدٍ أَشْخَاصًا مُخْتَلِفِينَ، وَأَنْ يَخْلُقَ مِنْ قَطْرَةٍ مِنَ النُّطْفَةِ شَخْصًا عَجِيبَ التَّرْكِيبِ لَطِيفَ الصُّورَةِ، فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ إِحْيَاءُ الْأَمْوَاتِ وَبَعْثُهُمْ وَنَشُورُهُمْ، فَتَكُونُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى الْمَعَادِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النَّجْمِ: 31] . الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَالَ الْأَصَمُّ: الْفَائِدَةُ فِيهِ: أَنَّ الْعَقْلَ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا مَخْلُوقِينَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ ذَلِكَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيًّا مَا قَرَأَ كِتَابًا وَلَا تَلْمَذَ لِأُسْتَاذٍ، فَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ فَكَانَ مُعْجِزًا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ: خَلَقَكُمْ دَلِيلٌ عَلَى مَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ، وَقَوْلَهُ: مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ دَلِيلٌ عَلَى مَعْرِفَةِ النُّبُوَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ أَجْمَعُ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَصِغَرِ تِلْكَ النَّفْسِ؟ قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ الْمُرَادَ بِذَلِكَ لِأَنَّ زَوْجَ آدَمَ إِذَا خُلِقَتْ مِنْ بَعْضِهِ، ثُمَّ حَصَلَ خَلْقُ أَوْلَادِهِ مِنْ نُطْفَتِهِمَا ثُمَّ كَذَلِكَ أَبَدًا، جَازَتْ إِضَافَةُ الْخَلْقِ أَجْمَعَ إِلَى آدَمَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ الواحدة هاهنا هُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَّا أَنَّهُ أَنَّثَ الْوَصْفَ عَلَى لَفْظِ النَّفْسِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ [الْكَهْفِ: 74] وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى ... فَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ قَالُوا فَهَذَا التَّأْنِيثُ عَلَى لَفْظِ الخليفة. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الزَّوْجِ هُوَ حَوَّاءُ، وَفِي كَوْنِ حَوَّاءَ مَخْلُوقَةً مِنْ آدَمَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ أَلْقَى عَلَيْهِ النَّوْمَ، ثُمَّ خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلَعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ الْيُسْرَى، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ رَآهَا وَمَالَ إِلَيْهَا وَأَلِفَهَا، لِأَنَّهَا كَانَتْ مَخْلُوقَةً مِنْ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ أَعْوَجَ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا وَإِنْ تَرَكْتَهَا وَفِيهَا عِوَجٌ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا» .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها أَيْ مِنْ جِنْسِهَا وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [النَّحْلِ: 72] وَكَقَوْلِهِ: إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 164] وَقَوْلِهِ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَةِ: 128] قَالَ الْقَاضِي: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْوَى، لِكَيْ يَصِحَّ قَوْلُهُ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ إِذْ لَوْ كَانَتْ حَوَّاءُ مَخْلُوقَةً ابْتِدَاءً لَكَانَ النَّاسُ مَخْلُوقِينَ مِنْ نَفْسَيْنِ، لَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ كَلِمَةَ «مِنْ» لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَلَمَّا كَانَ ابْتِدَاءُ التَّخْلِيقِ وَالْإِيجَادِ وَقَعَ بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَأَيْضًا فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ آدَمَ مِنَ التُّرَابِ كَانَ قَادِرًا أَيْضًا عَلَى خَلْقِ حَوَّاءَ مِنَ التُّرَابِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي خَلْقِهَا مِنْ ضِلَعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ آدَمُ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ كُلِّهَا أَحْمَرِهَا وَأَسْوَدِهَا وَطَيِّبِهَا وَخَبِيثِهَا فَلِذَلِكَ كَانَ فِي وَلَدِهِ الْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَالطَّيِّبُ وَالْخَبِيثُ وَالْمَرْأَةُ إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِحَوَّاءَ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ فَكَانَتْ مَخْلُوقَةً مِنْ شَيْءٍ حَيٍّ، فَلَا جَرَمَ سُمِّيَتْ بِحَوَّاءَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ جَمْعٌ مِنَ الطَّبَائِعِيِّينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مِنَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ، وَقَوْلُهُ: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَوْجَهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ فِي صِفَةِ آدَمَ: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آلِ عِمْرَانَ: 59] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ آدَمَ مَخْلُوقٌ مِنَ التُّرَابِ، ثُمَّ قَالَ فِي حَقِّ الْخَلَائِقِ: مِنْها خَلَقْناكُمْ [طه: 55] وَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْحَادِثَ لَا يَحْدُثُ إِلَّا عَنْ مَادَّةٍ سَابِقَةٍ يَصِيرُ الشَّيْءُ مَخْلُوقًا مِنْهَا، وَأَنَّ خَلْقَ الشَّيْءِ عَنِ الْعَدَمِ الْمَحْضِ وَالنَّفْيِ الصِّرْفِ مُحَالٌ. أَجَابَ الْمُتَكَلِّمُونَ فَقَالُوا: خَلْقُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ مُحَالٌ فِي الْعُقُولِ، لِأَنَّ هَذَا الْمَخْلُوقَ إِنْ كَانَ عَيْنَ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَخْلُوقًا الْبَتَّةَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا امْتَنَعَ كَوْنُهُ مَخْلُوقًا مِنْ شَيْءٍ آخَرَ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ هَذَا الْمَخْلُوقَ مُغَايِرٌ لِلَّذِي كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ هَذَا الْمَخْلُوقُ وَهَذَا الْمُحْدَثُ إِنَّمَا حَدَثَ وَحَصَلَ عَنِ الْعَدَمِ الْمَحْضِ، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مَخْلُوقًا مِنْ/ غَيْرِهِ مُحَالٌ فِي الْعُقُولِ، وَأَمَّا كَلِمَةُ (مِنْ) فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ مُفِيدٌ ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ ابْتِدَاءَ حُدُوثِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ لَا عَلَى وَجْهِ الْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ، بَلْ عَلَى وَجْهِ الْوُقُوعِ فَقَطْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ صاحب «الكشاف» : قرئ وخالق منها زوجها وبث مِنْهُمَا بِلَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ محذوف تقديره هو خالق. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: بَثَّ مِنْهُمَا: يُرِيدُ فَرَّقَ وَنَشَرَ، قَالَ ابْنُ الْمُظَفَّرِ: الْبَثُّ تَفْرِيقُكَ الْأَشْيَاءَ، يُقَالُ: بَثَّ الْخَيْلَ فِي الْغَارَةِ وَبَثَّ الصَّيَّادُ كِلَابَهُ، وَخَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَبَثَّهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَبَثَثْتُ الْبُسُطَ إِذَا نَشَرْتُهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ [الْغَاشِيَةِ: 16] قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ: أَبَثَّ اللَّهُ الْخَلْقَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمْ يَقُلْ: وَبَثَّ مِنْهُمَا الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَهُمَا مَبْثُوثِينَ عَنْ نَفْسِهِمَا وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَلِهَذَا عَدَلَ عَنْ هَذَا اللَّفْظِ إِلَى قَوْلِهِ: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً.

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً كَثِيرًا؟ وَلِمَ خَصَّصَ وَصْفَ الْكَثْرَةِ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ؟ قُلْنَا: السَّبَبُ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ شُهْرَةَ الرِّجَالِ أَتَمُّ، فَكَانَتْ كَثْرَتُهُمْ أَظْهَرَ، فَلَا جَرَمَ خُصُّوا بِوَصْفِ الْكَثْرَةِ، وَهَذَا كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ اللَّائِقَ بِحَالِ الرِّجَالِ الِاشْتِهَارُ وَالْخُرُوجُ وَالْبُرُوزُ، وَاللَّائِقُ بِحَالِ النِّسَاءِ الِاخْتِفَاءُ وَالْخُمُولُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ جَمِيعَ الْأَشْخَاصِ الْبَشَرِيَّةِ كَانُوا كَالذَّرِّ، وَكَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِي صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَمَلُوا قَوْلَهُ: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالَّذِينَ أَنْكَرُوا ذَلِكَ قَالُوا: الْمُرَادُ بَثَّ مِنْهُمَا أَوْلَادَهُمَا وَمِنْ أَوْلَادِهِمَا جَمْعًا آخَرِينَ، فَكَانَ الْكُلُّ مُضَافًا إِلَيْهِمَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً. فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: تَسائَلُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، فَمَنْ شَدَّدَ أَرَادَ: تَتَسَاءَلُونَ فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي السِّينِ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي أَنَّهُمَا مِنْ حُرُوفِ اللِّسَانِ وَأُصُولِ الثَّنَايَا وَاجْتِمَاعِهِمَا فِي الْهَمْسِ، وَمَنْ خَفَّفَ حَذَفَ تَاءَ تَتَفَاعَلُونَ لِاجْتِمَاعِ حُرُوفٍ مُتَقَارِبَةٍ، فَأَعَلَّهَا بِالْحَذْفِ كَمَا أَعَلَّهَا الْأَوَّلُونَ بِالْإِدْغَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُرُوفَ الْمُتَقَارِبَةَ إِذَا اجْتَمَعَتْ خُفِّفَتْ تَارَةً بِالْحَذْفِ وَأُخْرَى بِالْإِدْغَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ وَالْأَرْحامَ بِجَرِّ الْمِيمِ قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ رُوِيتُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ غَيْرِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا الْبَاقُونَ مِنَ الْقُرَّاءِ فَكُلُّهُمْ قَرَءُوا بِنَصْبِ الْمِيمِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ وَالْأَرْحامَ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ، أَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ فَقَدْ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّهَا فَاسِدَةٌ، قَالُوا: لِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي عَطْفَ الْمُظْهَرِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَاحْتَجُّوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ بِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْمُضْمَرُ الْمَجْرُورُ بِمَنْزِلَةِ الْحَرْفِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ عطف لمظهر عَلَيْهِ، إِنَّمَا قُلْنَا الْمُضْمَرُ الْمَجْرُورُ بِمَنْزِلَةِ الْحَرْفِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يَنْفَصِلُ الْبَتَّةَ كَمَا أَنَّ التَّنْوِينَ لَا يَنْفَصِلُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْهَاءَ وَالْكَافَ فِي قَوْلِهِ: بِهِ، وَبِكَ لَا تَرَى وَاحِدًا مُنْفَصِلًا عَنِ الْجَارِ الْبَتَّةَ فَصَارَ كَالتَّنْوِينِ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَحْذِفُونَ الْيَاءَ مِنَ الْمُنَادَى الْمُضَافِ فِي الِاخْتِيَارِ كَحَذْفِهِمُ التَّنْوِينَ مِنَ الْمُفْرَدِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: يَا غُلَامِ، فَكَانَ الْمُضْمَرُ الْمَجْرُورُ مُشَابِهًا لِلتَّنْوِينِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُضْمَرَ الْمَجْرُورَ بِمَنْزِلَةِ حَرْفِ التَّنْوِينَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ عَطْفُ الْمُظْهَرِ عَلَيْهِ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْعَطْفِ حُصُولَ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فإذا لم تحصل المشابهة هاهنا وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْعَطْفُ. وَثَانِيهَا: قَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: إِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحْسِنُوا عَطْفَ الْمُظْهَرِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَرْفُوعِ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: اذْهَبْ وَزَيْدٌ، وَذَهَبْتُ وَزَيْدٌ بَلْ يَقُولُونَ: اذْهَبْ أَنْتَ وَزَيْدٌ، وَذَهَبْتُ أَنَا وَزَيْدٌ. قَالَ تَعَالَى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [الْمَائِدَةِ: 24] مَعَ أَنَّ الْمُضْمَرَ الْمَرْفُوعَ قَدْ يَنْفَصِلُ، فَإِذَا لَمْ يجز عَطْفُ الْمُظْهَرِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ مَعَ أَنَّهُ أَقْوَى مِنَ الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ بِسَبَبِ أَنَّهُ قَدْ يَنْفَصِلُ، فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ عَطْفُ الْمُظْهَرِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ مَعَ أَنَّهُ الْبَتَّةَ لَا يَنْفَصِلُ كَانَ أَوْلَى. وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْمَازِنِيُّ: الْمَعْطُوفُ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُتَشَارِكَانِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ عَطْفُ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي لَوْ جَازَ عَطْفُ الثَّانِي على الأول، وهاهنا هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ حَاصِلٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّكَ لَا تقول: مررت بزيدوك، فَكَذَلِكَ لَا تَقُولُ مَرَرْتُ بِكَ وَزَيْدٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ لَيْسَتْ وُجُوهًا قَوِيَّةً فِي دَفْعِ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ فِي اللُّغَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ/ حَمْزَةَ أَحَدُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، بَلْ رَوَاهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِصِحَّةِ هَذِهِ اللُّغَةِ، وَالْقِيَاسُ يَتَضَاءَلُ عِنْدَ السَّمَاعِ لَا سِيَّمَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ الَّتِي هِيَ أَوْهَنُ مِنْ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، وَأَيْضًا فَلِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا عَلَى تَقْدِيرِ تَكْرِيرِ الْجَارِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ تَسَاءَلُونَ بِهِ وَبِالْأَرْحَامِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ وَرَدَ ذَلِكَ فِي الشِّعْرِ وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ فِي ذَلِكَ: فَالْيَوْمَ قَدْ بِتَّ تَهْجُونَا وَتَشْتُمُنَا ... فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ وَالْأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ وَأَنْشَدَ أَيْضًا: نُعَلِّقُ فِي مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفَنَا ... وَمَا بَيْنَهَا وَالْكَعْبِ غَوْطُ نَفَانِفِ وَالْعَجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ النُّحَاةِ أَنَّهُمْ يَسْتَحْسِنُونَ إِثْبَاتَ هَذِهِ اللُّغَةِ بِهَذَيْنَ الْبَيْتَيْنِ الْمَجْهُولَيْنِ وَلَا يَسْتَحْسِنُونَ إِثْبَاتَهَا بِقِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَمُجَاهِدٍ، مَعَ أَنَّهُمَا كَانَا مِنْ أَكَابِرِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ. وَاحْتَجَّ الزَّجَّاجُ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ» فَإِذَا عَطَفْتَ الْأَرْحَامَ عَلَى الْمُكَنَّى عَنِ اسْمِ اللَّهِ اقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَ الْحَلِفِ بِالْأَرْحَامِ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا حِكَايَةٌ عَنْ فِعْلٍ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ، وَحِكَايَةُ هَذَا الْفِعْلِ عَنْهُمْ فِي الْمَاضِي لَا تُنَافِي وُرُودَ النَّهْيِ عَنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَيْضًا فالحديث نهى عن الحلف بالآباء فقط، وهاهنا لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ حَلِفٌ بِاللَّهِ أَوَّلًا ثُمَّ يَقْرِنُ بِهِ بَعْدَهُ ذِكْرَ الرَّحِمِ، فَهَذَا لَا يُنَافِي مَدْلُولَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: وَالْأَرْحامَ بِالْجَرِّ. أَمَّا قِرَاءَتُهُ بِالنَّصْبِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَعَلِيِّ بْنِ عِيسَى أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَوْضِعِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ كَقَوْلِهِ: فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ زَيْدٍ وَالْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَنَصْبُ الْأَرْحَامِ بِالْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: اللَّهَ أَيِ: اتَّقُوا اللَّهَ وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَيِ اتَّقُوا حَقَّ الْأَرْحَامِ فَصِلُوهَا وَلَا تَقْطَعُوهَا قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِالْإِغْرَاءِ، أَيْ وَالْأَرْحَامَ فَاحْفَظُوهَا وَصِلُوهَا كَقَوْلِكَ: الْأَسَدَ الْأَسَدَ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ صِلَتِهَا. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَالْأَرْحَامُ كَذَلِكَ عَلَى مَعْنَى وَالْأَرْحَامُ مِمَّا يُتَّقَى، أَوْ وَالْأَرْحَامُ مِمَّا يُتَسَاءَلُ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَوَّلًا: اتَّقُوا رَبَّكُمُ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَفِي هَذَا التَّكْرِيرِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: تَأْكِيدُ الْأَمْرِ وَالْحَثُّ عَلَيْهِ كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ: اعْجَلِ اعْجَلْ فَيَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ قَوْلِكَ: اعْجَلْ/ الثَّانِي: أَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّقْوَى فِي الْأَوَّلِ لِمَكَانِ الْإِنْعَامِ بِالْخَلْقِ وَغَيْرِهِ، وَفِي الثَّانِي أَمْرٌ بِالتَّقْوَى لِمَكَانِ وُقُوعِ التَّسَاؤُلِ بِهِ فِيمَا يَلْتَمِسُ الْبَعْضُ مِنَ الْبَعْضِ. الثَّالِثُ: قَالَ أَوَّلًا: اتَّقُوا رَبَّكُمُ وَقَالَ ثَانِيًا: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَالرَّبُّ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْإِلَهُ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى الْقَهْرِ وَالْهَيْبَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى بِنَاءً عَلَى التَّرْغِيبِ، ثُمَّ أَعَادَ الْأَمْرَ بِهِ بِنَاءً عَلَى التَّرْهِيبِ كَمَا قَالَ: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السَّجْدَةِ: 16] وَقَالَ: وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً [الأنبياء: 90]

كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ رَبَّاكَ وَأَحْسَنَ إِلَيْكَ فَاتَّقِ مُخَالَفَتَهُ لِأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ عَظِيمُ السَّطْوَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّسَاؤُلَ بِاللَّهِ وَبِالْأَرْحَامِ قِيلَ هُوَ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: بِاللَّهِ أَسْأَلُكَ، وَبِاللَّهِ أَشْفَعُ إِلَيْكَ، وَبِاللَّهِ أَحْلِفُ عَلَيْكَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُؤَكِّدُ الْمَرْءُ بِهِ مُرَادَهُ بِمَسْأَلَةِ الْغَيْرِ، وَيَسْتَعْطِفُ ذَلِكَ الْغَيْرَ فِي الْتِمَاسِ حَقِّهِ مِنْهُ أَوْ نَوَالِهِ وَمَعُونَتِهِ وَنُصْرَتِهِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ فَهِي ظَاهِرَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ فِي الْعَرَبِ بِأَنَّ أَحَدَهُمْ قَدْ يَسْتَعْطِفُ غَيْرَهُ بِالرَّحِمِ فَيَقُولُ: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ، وَرُبَّمَا أَفْرَدَ ذَلِكَ فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِالرَّحِمِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْمُشْرِكُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نُنَاشِدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ أَنْ لَا تَبْعَثَ إِلَيْنَا فُلَانًا وَفُلَانًا، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ فَالْمَعْنَى يَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ الْمَعَانِيَ الْمُخْتَلِفَةَ، لِأَنَّ مَعْنَى تَقْوَى اللَّهِ مُخَالِفٌ لِمَعْنَى تَقْوَى الْأَرْحَامِ، فَتَقْوَى اللَّهِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْتِزَامِ طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، وَاتِّقَاءُ الْأَرْحَامِ بِأَنْ تُوصَلَ وَلَا تُقْطَعَ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْبِرِّ وَالْإِفْضَالِ وَالْإِحْسَانِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَعَلَّهُ تَكَلَّمَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ مَرَّتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: اسْمُ الرَّحِمِ مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّحْمَةِ الَّتِي هِيَ النِّعْمَةُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ اشْتَقَقْتُ اسْمَهَا مِنِ اسْمِي» وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّ لِمَكَانِ هَذِهِ الْحَالَةِ تَقَعُ الرَّحْمَةُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ لِبَعْضٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ اسْمُ الرَّحِمِ مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّحِمِ الَّذِي عِنْدَهُ يَقَعُ الْإِنْعَامُ وَأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ بِنَفْسِهِ، وَالنِّزَاعُ فِي مِثْلِ هَذَا قَرِيبٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ الْمَسْأَلَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى. رَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ» وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ: مِنْهَا إِبْرَارُ الْقَسَمِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَرْحامَ عَلَى تَعْظِيمِ حَقِّ الرَّحِمِ وَتَأْكِيدِ النَّهْيِ عَنْ قَطْعِهَا، قَالَ/ تَعَالَى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [مُحَمَّدٍ: 22] وَقَالَ: لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً قِيلَ فِي الْأَوَّلِ: إِنَّهُ الْقَرَابَةُ، وَقَالَ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْإِسْرَاءِ: 23] وَقَالَ: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ [النِّسَاءِ: 36] وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ اشْتَقَقْتُ اسْمَهَا مِنِ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا مِنْ شَيْءٍ أُطِيعَ اللَّهُ فِيهِ أَعْجَلَ ثَوَابًا مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ وَمَا مِنْ عَمَلٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ أَعْجَلَ عُقُوبَةً مِنَ الْبَغْيِ وَالْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ» وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ وَصِلَةَ الرَّحِمِ يَزِيدُ اللَّهُ بِهِمَا فِي الْعُمُرِ وَيَدْفَعُ بِهِمَا مِيتَةَ السُّوءِ وَيَدْفَعُ اللَّهُ بِهِمَا الْمَحْذُورَ وَالْمَكْرُوهَ» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ» قِيلَ الْكَاشِحُ الْعَدُوُّ، فَثَبَتَ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وُجُوبُ صِلَةِ الرَّحِمِ وَاسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ بِهَا، ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَنَوْا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَيْهِ مِثْلُ الْأَخِ وَالْأُخْتِ، وَالْعَمِّ وَالْخَالِ، قَالَ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ الْمِلْكُ لَحَلَّ الِاسْتِخْدَامُ بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنَّ الِاسْتِخْدَامَ إِيحَاشٌ يُورِثُ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْقَى الْمِلْكُ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْهِبَةَ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا لِأَنَّ ذَلِكَ الرُّجُوعَ إِيحَاشٌ يُورِثُ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ، وَالْكَلَامُ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ مَذْكُورٌ فِي الْخِلَافِيَّاتِ.

[سورة النساء (4) : آية 2]

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِمَا يَكُونُ كَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً وَالرَّقِيبُ هُوَ الْمُرَاقِبُ الَّذِي يَحْفَظُ عَلَيْكَ جَمِيعَ أَفْعَالِكَ. وَمَنْ هَذَا صِفَتُهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُخَافَ وَيُرْجَى، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ حَذِرًا خَائِفًا فِيمَا يَأْتِي وَيَتْرُكُ. [سورة النساء (4) : آية 2] وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) [في قوله تعالى وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ] اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا افْتَتَحَ السُّورَةَ بِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ مُنْقَادًا لِتَكَالِيفِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، مُحْتَرِزًا عَنْ مَسَاخِطِهِ، شَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي شَرْحِ أَقْسَامِ التَّكَالِيفِ. فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى وَصَّى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِالْأَرْحَامِ، فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَصَّى بِالْأَيْتَامِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا بِحَيْثُ لَا كَافِلَ لَهُمْ وَلَا مُشْفِقَ شَدِيدَ الْإِشْفَاقِ عَلَيْهِمْ، فَفَارَقَ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ لَهُ رَحِمٌ مَاسَّةٌ عَاطِفَةٌ عَلَيْهِ لِمَكَانِ الْوِلَادَةِ أَوْ لِمَكَانِ الرَّحِمِ فَقَالَ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْيَتَامَى الَّذِينَ مَاتَ آبَاؤُهُمْ فَانْفَرَدُوا عَنْهُمْ، وَالَيُتْمُ الِانْفِرَادُ، وَمِنْهُ الرَّمْلَةُ الْيَتِيمَةُ وَالدُّرَّةُ الْيَتِيمَةُ، وَقِيلَ: الْيُتْمُ فِي الْأَنَاسِيِّ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ، وَفِي الْبَهَائِمِ مِنْ قِبَلِ الْأُمَّهَاتِ. قَالَ: وَحَقُّ هَذَا الِاسْمِ أَنْ يَقَعَ عَلَى الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ لِبَقَاءِ الِانْفِرَادِ عَنِ الْآبَاءِ، إِلَّا أَنَّ فِي الْعُرْفِ اخْتَصَّ هَذَا الِاسْمُ بِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الرِّجَالِ، فَإِذَا صَارَ بِحَيْثُ يَسْتَغْنِي بِنَفْسِهِ فِي تَحْصِيلِ مَصَالِحِهِ عَنْ كَافِلٍ يَكْفُلُهُ وَقَيِّمٍ يَقُومُ بِأَمْرِهِ، زَالَ عَنْهُ هَذَا الِاسْمُ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَتِيمُ أَبِي طَالِبٍ، إِمَّا عَلَى الْقِيَاسِ، وَإِمَّا عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا حِينَ كَانَ صَغِيرًا نَاشِئًا فِي حِجْرِ عَمِّهِ تَوْضِيعًا لَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ» فَهُوَ تَعْلِيمُ الشَّرِيعَةِ لَا تَعْلِيمُ اللُّغَةِ، يَعْنِي إِذَا احْتَلَمَ فَإِنَّهُ لَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الصِّغَارِ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ أَنَّ جَدَّهُ كَتَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنِ الْيَتِيمِ مَتَى يَنْقَطِعُ يُتْمُهُ؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِذَا أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ انْقَطَعَ يُتْمُهُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: إِنَّ الرَّجُلَ لِيَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ وَلَمْ يَنْقَطِعْ عَنْهُ يُتْمُهُ بَعْدُ، فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ اسْمَ الْيَتِيمِ قَدْ يَلْزَمُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ إِذَا لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ، ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاسْمُ الْيَتِيمِ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُفْرَدَةِ عَنْ زَوْجِهَا، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ» وَهِيَ لَا تُسْتَأْمَرُ إِلَّا وَهِيَ بَالِغَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ: إِنَّ الْقُبُورَ تَنْكِحُ الْأَيَامَى ... النِّسْوَةَ الْأَرَامِلَ الْيَتَامَى فَالْحَاصِلُ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ اسْمَ الْيَتِيمِ بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ يَتَنَاوَلُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ، إِلَّا أَنَّهُ بِحَسَبَ الْعُرْفِ مختص بالصغير. المسألة الثانية: هاهنا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ جَمَعَ الْيَتِيمَ عَلَى يَتَامَى؟ وَالْيَتِيمُ فَعِيلٌ، وَالْفَعِيلُ يُجْمَعُ عَلَى فَعْلَى، كَمَرِيضٍ وَمَرْضَى وَقَتِيلٍ وَقَتْلَى وَجَرِيحٍ وَجَرْحَى، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: جَمْعُ الْيَتِيمِ يَتْمَى، ثُمَّ يُجْمَعُ فَعْلَى عَلَى فَعَالَى، كَأَسِيرٍ وَأَسْرَى وَأُسَارَى، وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: جَمْعُ يَتِيمٍ يَتَائِمُ، لِأَنَّ الْيَتِيمَ جَارٍ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ نَحْوُ صَاحِبٍ وَفَارِسٍ، ثُمَّ يُقْلَبُ/ الْيَتَائِمُ يَتَامَى. قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ يَتِيمٌ وَيَتَامَى، كَنَدِيمٍ وَنَدَامَى، وَيَجُوزُ أَيْضًا يَتِيمٌ وأيتام كشريف وأشراف. المسألة الثالثة: هاهنا سُؤَالٌ ثَانٍ: وَهُوَ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ اسْمَ الْيَتِيمِ مُخْتَصٌّ بِالصَّغِيرِ، فَمَا دَامَ يَتِيمًا لَا يَجُوزُ دَفْعُ مَالِهِ إِلَيْهِ، وَإِذَا صَارَ كَبِيرًا بِحَيْثُ يَجُوزُ دَفْعُ مَالِهِ إِلَيْهِ لَمْ يَبْقَ يَتِيمًا، فَكَيْفَ قَالَ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ

وَالْجَوَابُ عَنْهُ عَلَى طَرِيقَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ المراد من اليتامى الذين بلغوا او كبروا ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُمْ يَتَامَى عَلَى مُقْتَضَى أَصْلِ اللُّغَةِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُمْ بِالْيَتَامَى لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْيُتْمِ وَإِنْ كَانَ قَدْ زَالَ فِي هَذَا الْوَقْتِ كَقَوْلِهِ تعالى: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ [الأعراف: 120] أَيِ الَّذِينَ كَانُوا سَحَرَةً قَبْلَ السُّجُودِ، وَأَيْضًا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مُقَارَبَةَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، بُلُوغَ الْأَجَلِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ [الطَّلَاقِ: 2] وَالْمَعْنَى مُقَارَبَةُ الْبُلُوغِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْيَتَامَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْبَالِغُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ [النِّسَاءِ: 6] وَالْإِشْهَادُ لَا يَصِحُّ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ الْبُلُوغِ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: الْمُرَادُ بِالْيَتَامَى الصِّغَارُ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فَفِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَآتُوا أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمُسْتَقْبَلَ، فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ يَتَامَى فِي الْحَالِ آتُوهُمْ بَعْدَ زَوَالِ صِفَةِ الْيُتْمِ عَنْهُمْ أَمْوَالَهُمْ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ زَالَتِ الْمُنَاقَضَةُ. وَالثَّانِي: الْمُرَادُ: وَآتُوا الْيَتَامَى حَالَ كَوْنِهِمْ يَتَامَى مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ لِنَفَقَتِهِمْ وَكُسْوَتِهِمْ، وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِنْفَاقُ مَالِهِ عَلَيْهِ حَالَ كَوْنِهِ صَغِيرًا، فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَقَالَ: وَآتُوهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَلَمَّا أَوْجَبَ إِيتَاءَهُمْ كُلَّ أَمْوَالِهِمْ سَقَطَ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: نَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى كَرِهُوا أَنْ يُخَالِطُوهُمْ وَعَزَلُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى عَنْ أَمْوَالِهِمْ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [الْبَقَرَةِ: 220] قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: وَأَظُنُّ أَنَّهُ غَلَطٌ مِنَ الرَّاوِي، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِيتَاؤُهُمْ أَمْوَالَهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِنَّمَا غَلِطَ الرَّاوِي بِآيَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [البقرة: 152] وإِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النِّسَاءِ: 10] ذَهَبَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْيَتَامَى، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فَخَلَطُوا عِنْدَ ذَلِكَ طَعَامَهُمْ/ بِطَعَامِهِمْ وَشَرَابَهُمْ بِشَرَابِهِمْ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ غَطَفَانَ، كَانَ مَعَهُ مَالٌ كَثِيرٌ لِابْنِ أَخٍ لَهُ يَتِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ طَلَبَ الْمَالَ فَمَنَعَهُ عَمُّهُ، فَتَرَاجَعَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَلَمَّا سَمِعَهَا الْعَمُّ قَالَ: أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْحُوبِ الْكَبِيرِ، وَدَفَعَ مَالَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وَيُطِعْ رَبَّهُ هَكَذَا فَإِنَّهُ يَحُلُّ دَارَهُ» أَيْ جَنَّتَهُ، فَلَمَّا قَبَضَ الصَّبِيُّ مَالَهُ أَنْفَقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَبَتَ الْأَجْرُ وَبَقِيَ الْوِزْرُ» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ عَرَفْنَا أَنَّهُ ثَبَتَ الْأَجْرُ، فَكَيْفَ بَقِيَ الْوِزْرُ وَهُوَ يُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: ثَبَتَ أَجْرُ الْغُلَامِ وَبَقِيَ الْوِزْرُ عَلَى وَالِدِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ السَّفِيهَ، لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ، قَالَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ السَّفِيهَ أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ أَوْ لَمْ يُؤْنَسْ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ قَبْلَ الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ سَنَةً لِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ إِينَاسَ الرُّشْدِ قَبْلَ بُلُوغِ هَذَا السِّنِّ، شَرْطٌ فِي وُجُوبِ دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ، وَهَذَا الْإِجْمَاعُ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ هَذَا السِّنِّ، فَوَجَبَ إِجْرَاءُ الْأَمْرِ بَعْدَ هَذَا السِّنِّ عَلَى حُكْمِ ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ. أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ: بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْيَتَامَى فِيهَا جُمْلَةً، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَيَّزُوا بَعْدَ ذَلِكَ

بِقَوْلِهِ: وَابْتَلُوا الْيَتامى [النِّسَاءِ: 6] وَبِقَوْلِهِ: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ [النِّسَاءِ: 5] حَرَّمَ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ إِيتَاءَهُمْ أَمْوَالَهُمْ إِذَا كَانُوا سُفَهَاءَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَاصَّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَلَا تَتَبَدَّلُوا، أَيْ وَلَا تَسْتَبْدِلُوا، وَالتَّفَعُّلُ بِمَعْنَى الِاسْتِفْعَالِ غَيْرُ عَزِيزٍ، وَمِنْهُ التَّعَجُّلُ بِمَعْنَى الِاسْتِعْجَالِ، وَالتَّأَخُّرُ بِمَعْنَى الِاسْتِئْخَارِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُقَالُ: تَبَدَّلَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إِذَا أَخَذَهُ مَكَانَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ هَذَا التَّبَدُّلِ وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: لَا تَسْتَبْدِلُوا الْحَرَامَ وَهُوَ مَالُ الْيَتَامَى، بِالْحَلَالِ وَهُوَ مَالُكُمُ الَّذِي أُبِيحَ لَكُمْ مِنَ الْمَكَاسِبِ وَرِزْقِ اللَّهِ الْمَبْثُوثِ فِي الْأَرْضِ، فَتَأْكُلُوهُ مَكَانَهُ. الثَّانِي: لَا تَسْتَبْدِلُوا الْأَمْرَ الْخَبِيثَ، وَهُوَ اخْتِزَالُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، بِالْأَمْرِ الطَّيِّبِ وَهُوَ حِفْظُهَا وَالتَّوَرُّعُ مِنْهَا وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ إِنَّهُ كَانَ وَلِيَّ الْيَتِيمِ يَأْخُذُ الْجَيِّدَ مِنْ مَالِهِ وَيَجْعَلُ مَكَانَهُ الدُّونَ، يَجْعَلُ الزَّائِفَ بَدَلَ الْجَيِّدِ، وَالْمَهْزُولَ بَدَلَ السَّمِينِ، وَطَعَنَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي هَذَا الْوَجْهِ، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا بِتَبَدُّلٍ إِنَّمَا هُوَ تَبْدِيلٌ إِلَّا أَنْ يُكَارِمَ صَدِيقًا لَهُ فَيَأْخُذَ مِنْهُ عَجْفَاءَ مَكَانَ سَمِينَةٍ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ. الرَّابِعُ: / هُوَ أَنَّ هَذَا التَّبَدُّلَ مَعْنَاهُ: أَنْ يَأْكُلُوا مَالَ الْيَتِيمِ سَلَفًا مَعَ الْتِزَامِ بَدَلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا يَكُونُ مُتَبَدِّلًا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ وَلَا تَضُمُّوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ فِي الْإِنْفَاقِ حتى تفرقوا بين أموالكم وأموالهم في حل الِانْتِفَاعِ بِهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ «إِلَى» بِمَعْنَى «مَعَ» قَالَ تَعَالَى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 52] أَيْ مَعَ اللَّهِ، وَالْأَوَّلُ: أَصَحُّ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ ذَكَرَ الْأَكْلَ، فَالْمُرَادُ بِهِ التَّصَرُّفُ لِأَنَّ أَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ كَمَا يَحْرُمُ، فَكَذَا سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ الْمُهْلِكَةِ لِتِلْكَ الْأَمْوَالِ مُحَرَّمَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي الْمَالِ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُؤْكَلَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّصَرُّفُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْأَكْلَ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ مَا يَقَعُ لِأَجْلِهِ التَّصَرُّفُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى ظُلْمًا فِي الْآيَةِ الْأُولَى الْمُتَقَدِّمَةِ دَخَلَ فِيهَا أَكْلُهَا وَحْدَهَا وَأَكْلُهَا مَعَ غَيْرِهَا، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي إِعَادَةِ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِهَا مَعَ أَمْوَالِهِمْ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مُسْتَغْنِينَ عَنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِمَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنْ حَلَالٍ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَطْمَعُونَ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، كَانَ الْقُبْحُ أَبْلَغَ وَالذَّمُّ أَحَقَّ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى عَرَّفَ الْخَلْقَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ أَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ الْمُحَرَّمَةِ إِثْمٌ عَظِيمٌ فَقَالَ: إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْكِنَايَةُ تَعُودُ إِلَى الْأَكْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَأْكُلُوا دَلَّ عَلَى الْأَكْلِ وَالْحُوبُ الْإِثْمُ الْكَبِيرُ. قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ طَلَاقَ أَمِّ أَيُّوبَ لَحُوبٌ» وَكَذَلِكَ الْحَوْبُ وَالْحَابُ ثَلَاثُ لُغَاتٍ فِي الِاسْمِ وَالْمَصْدَرِ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْحَوْبُ لِأَهْلِ الْحِجَازِ، وَالْحَابُ لِتَمِيمٍ، وَمَعْنَاهُ الْإِثْمُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي وَاغْسِلْ حَوْبَتِي» قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْحَوْبُ وَالْحَابُ كَالْقَوْلِ وَالْقَالِ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَكَأَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ مِنَ التَّحَوُّبِ وَهُوَ التَّوَجُّعُ، فَالْحُوبُ هُوَ ارْتِكَابُ مَا يَتَوَجَّعُ الْمُرْتَكِبُ مِنْهُ، وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: الْحَوْبُ بِفَتْحِ الْحَاءِ مَصْدَرٌ، وَالْحُوبُ بِالضَّمِّ الِاسْمُ، وَالْحَوْبَةُ، الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ، ثُمَّ يَدْخُلُ

[سورة النساء (4) : آية 3]

بَعْضُهَا فِي الْبَعْضِ كَالْكَلَامِ فَإِنَّهُ اسْمٌ، ثُمَّ يُقَالُ: قَدْ كَلَّمْتُهُ كَلَامًا فَيَصِيرُ مَصْدَرًا. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَرَأَ الْحَسَنُ حَوْبًا، وَقُرِئَ: حَابًا. [سورة النساء (4) : آية 3] وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) [في قوله تَعَالَى وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ حُكْمُ الْأَنْكِحَةِ وَفِي/ الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْإِقْسَاطُ الْعَدْلُ، يُقَالُ أَقْسَطَ الرَّجُلُ إِذَا عَدَلَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الْحُجُرَاتِ: 9] وَالْقِسْطُ الْعَدْلُ وَالنَّصَفَةُ، قَالَ تَعَالَى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النِّسَاءِ: 135] قَالَ الزَّجَّاجُ: وَأَصْلُ قَسَطَ وَأَقْسَطَ جَمِيعًا مِنَ الْقِسْطِ وَهُوَ النَّصِيبُ، فَإِذَا قَالُوا: قَسَطَ بِمَعْنَى جَارَ أَرَادُوا أَنَّهُ ظَلَمَ صَاحِبَهُ فِي قِسْطِهِ الَّذِي يُصِيبُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا: قَاسَطْتُهُ إِذَا غَلَبْتَهُ عَلَى قِسْطِهِ، فَبُنِيَ قَسَطَ عَلَى بِنَاءِ ظَلَمَ وَجَارَ وَغَلَبَ، وَإِذَا قَالُوا أَقْسَطَ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ صَارَ ذَا قِسْطٍ عَدْلٍ، فَبُنِيَ عَلَى بِنَاءِ أَنْصَفَ إِذَا أَتَى بِالنِّصْفِ وَالْعَدْلِ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَقَسْمِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا شَرْطٌ وَقَوْلُهُ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ جَزَاءٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَنَّهُ كَيْفَ يَتَعَلَّقُ هَذَا الْجَزَاءُ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا، إِلَّا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْكِحَهَا بِأَدْنَى مِنْ صَدَاقِهَا، ثُمَّ إِذَا تَزَوَّجَ بِهَا عَامَلَهَا مُعَامَلَةً رَدِيئَةً لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا مَنْ يَذُبُّ عَنْهَا وَيَدْفَعُ شَرَّ ذَلِكَ الزَّوْجِ عَنْهَا، فَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ تَظْلِمُوا الْيَتَامَى عِنْدَ نِكَاحِهِنَّ فَانْكِحُوا مِنْ غَيْرِهِنَّ مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ قالت: وقوله تَعَالَى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ قَالَتْ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ [النِّسَاءِ: 127] الْمُرَادُ مِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي الْيَتَامَى وَمَا فِي أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ مِنَ الْحُوبِ الْكَبِيرِ، خَافَ الْأَوْلِيَاءُ أَنْ يَلْحَقَهُمُ الْحُوبُ بِتَرْكِ الْإِقْسَاطِ فِي حُقُوقِ الْيَتَامَى، فَتَحَرَّجُوا مِنْ وَلَايَتِهِمْ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ رُبَّمَا كَانَ تَحْتَهُ الْعَشْرُ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَأَكْثَرُ، فَلَا يَقُومُ بِحُقُوقِهِنَّ وَلَا يَعْدِلُ بَيْنَهُنَّ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنْ خِفْتُمْ تَرْكَ الْعَدْلِ فِي حُقُوقِ الْيَتَامَى فَتَحَرَّجْتُمْ مِنْهَا، فَكُونُوا خَائِفِينَ من ترك العدل من النساء، فقالوا عَدَدَ الْمَنْكُوحَاتِ، لِأَنَّ مَنْ تَحَرَّجَ مِنْ ذَنْبٍ أَوْ تَابَ عَنْهُ وَهُوَ مُرْتَكِبٌ لِمِثْلِهِ فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَحَرِّجٍ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي التَّأْوِيلِ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ وَلَايَةِ الْيَتَامَى فَقِيلَ: إِنْ خِفْتُمْ فِي حَقِّ الْيَتَامَى فَكُونُوا خَائِفِينَ مِنَ الزِّنَا، فَانْكِحُوا مَا حَلَّ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَلَا تَحُومُوا حَوْلَ الْمُحَرَّمَاتِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي التَّأْوِيلِ: مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ عِنْدَهُ النِّسْوَةُ وَيَكُونُ/ عِنْدَهُ الْأَيْتَامُ، فَإِذَا أَنْفَقَ مَالَ نَفْسِهِ عَلَى النِّسْوَةِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَالٌ وَصَارَ مُحْتَاجًا، أَخَذَ فِي إِنْفَاقِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى عَلَيْهِنَّ فَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ خفتم ألّا تقسطوا في أموال الْيَتَامَى عِنْدَ كَثْرَةِ الزَّوْجَاتِ فَقَدْ حَظَرْتُ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَنْكِحُوا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ

كَيْ يَزُولَ هَذَا الْخَوْفُ، فَإِنْ خِفْتُمْ فِي الْأَرْبَعِ أَيْضًا فَوَاحِدَةً، فَذَكَرَ الطَّرَفَ الزَّائِدَ وَهُوَ الْأَرْبَعُ، وَالنَّاقِصَ وَهُوَ الْوَاحِدَةُ، وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى مَا بَيْنَهُمَا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِنْ خِفْتُمْ مِنَ الْأَرْبَعِ فَثَلَاثٌ، فَإِنْ خِفْتُمْ فَاثْنَتَانِ، فَإِنْ خِفْتُمْ فَوَاحِدَةٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى خَوَّفَ مِنَ الْإِكْثَارِ مِنَ النِّكَاحِ بِمَا عَسَاهُ يَقَعُ مِنَ الْوَلِيِّ مِنَ التَّعَدِّي فِي مَالِ الْيَتِيمِ لِلْحَاجَةِ إِلَى الْإِنْفَاقِ الْكَثِيرِ عِنْدَ التَّزَوُّجِ بالعدد الكثير. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا. فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَصْحَابُ الظَّاهِرِ: النِّكَاحُ وَاجِبٌ وَتَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَانْكِحُوا أَمْرٌ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَتَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النِّسَاءِ: 25] إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ فَحَكَمَ تَعَالَى بِأَنَّ تَرْكَ النِّكَاحِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْدُوبٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ وَاجِبٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قَالَ: مَا طابَ وَلَمْ يَقُلْ: مَنْ طَابَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ تَقُولُ: مَا عِنْدَكَ؟ فَيَقُولُ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ، وَالْمَعْنَى مَا ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي عِنْدَكَ، وَمَا تِلْكَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي عِنْدَكَ، وَثَانِيهَا: أَنَّ (مَا) مَعَ مَا بَعْدَهُ فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ، وَتَقْدِيرُهُ: فَانْكِحُوا الطَّيِّبَ مِنَ النِّسَاءِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ «مَا» وَ «مَنْ» رُبَّمَا يَتَعَاقَبَانِ. قَالَ تَعَالَى: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشَّمْسِ: 5] وَقَالَ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الْكَافِرُونَ: 2] وَحَكَى أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: سُبْحَانَ مَا سَبَّحَ لَهُ الرَّعْدُ، وَقَالَ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ [النُّورِ: 45] وَرَابِعُهَا: إِنَّمَا ذَكَرَ «مَا» تَنْزِيلًا لِلْإِنَاثِ مَنْزِلَةَ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ. وَمِنْهُ: قَوْلُهُ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المعارج: 30] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ مَا طابَ لَكُمْ أَيْ مَا حَلَّ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ لِأَنَّ مِنْهُنَّ مَنْ يَحْرُمُ نِكَاحُهَا، وَهِيَ الْأَنْوَاعُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ [النِّسَاءِ: 23] وَهَذَا عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: فَانْكِحُوا أَمْرُ إِبَاحَةٍ. فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَا طابَ لَكُمْ أَيْ مَا حَلَّ لَكُمْ لَنَزَلَتِ الْآيَةُ مَنْزِلَةَ مَا يُقَالُ: أَبَحْنَا لَكُمْ نِكَاحَ مَنْ يَكُونُ نِكَاحُهَا مُبَاحًا لَكُمْ: وَذَلِكَ يُخْرِجُ الْآيَةَ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ تَصِيرُ الْآيَةُ مُجْمَلَةً، لِأَنَّ أَسْبَابَ الْحِلِّ وَالْإِبَاحَةِ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَذْكُورَةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ صَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً لَا مَحَالَةَ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَا الطَّيِّبَ عَلَى اسْتِطَابَةِ النَّفْسِ وَمَيْلِ الْقَلْبِ، كَانَتِ الْآيَةُ عَامًّا دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْإِجْمَالِ وَالتَّخْصِيصِ كَانَ رَفْعُ الْإِجْمَالِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ حُجَّةٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، وَالْمُجْمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً أَصْلًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ مَعْنَاهُ: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَأَرْبَعًا أَرْبَعًا، وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهَا أَمْرَانِ: الْعَدْلُ وَالْوَصْفُ، أَمَّا الْعَدْلُ فَلِأَنَّ الْعَدْلَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنَّكَ تَذْكُرُ كَلِمَةً وَتُرِيدُ بِهَا كَلِمَةً أُخْرَى، كَمَا تَقُولُ: عُمَرُ وزفر وتريد به عامراً وزافرا، فكذا هاهنا تُرِيدُ بِقَوْلِكَ: مَثْنَى: ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ فَكَانَ مَعْدُولًا، وَأَمَّا أَنَّهُ وَصْفٌ، فَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [فَاطِرٍ: 1] وَلَا شَكَّ أنه وصف.

الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ غَيْرُ مُنْصَرِفَةٍ أَنَّ فِيهَا عَدْلَيْنِ لِأَنَّهَا مَعْدُولَةٌ عَنْ أُصُولِهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَأَيْضًا أَنَّهَا مَعْدُولَةٌ عَنْ تَكَرُّرِهَا فَإِنَّكَ لَا تُرِيدُ بِقَوْلِكَ: مَثْنَى ثِنْتَيْنِ فَقَطْ، بَلْ ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ، فَإِذَا قُلْتَ: جَاءَنِي اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ كَانَ غَرَضُكَ الْإِخْبَارَ عَنْ مَجِيءِ هَذَا الْعَدَدِ فَقَطْ، أَمَّا إِذَا قُلْتَ: جَاءَنِي الْقَوْمُ مَثْنَى أَفَادَ أَنَّ تَرْتِيبَ مَجِيئِهِمْ وَقَعَ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ نَوْعَانِ مِنَ الْعَدَدِ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنَ الصَّرْفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي الِاسْمِ سَبَبَانِ أَوْجَبَ ذَلِكَ مَنْعُ الصَّرْفِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ لِأَجْلِ ذَلِكَ نَائِبًا مِنْ جِهَتَيْنِ فَيَصِيرُ مُشَابِهًا لِلْفِعْلِ فَيَمْتَنِعُ صَرْفُهُ، وَكَذَا إِذَا حَصَلَ فِيهِ الْعَدْلُ مِنْ جِهَتَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ صَرْفُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ لَا يَتَنَاوَلُ الْعَبِيدَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخِطَابَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ إِنْسَانًا مَتَى طَابَتْ لَهُ امْرَأَةٌ قَدَرَ عَلَى نِكَاحِهَا، وَالْعَبْدُ لَيْسَ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ النِّكَاحِ إِلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ [النَّحْلِ: 75] فَقَوْلُهُ: لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ يَنْفِي كَوْنَهُ مُسْتَقِلًّا بِالنِّكَاحِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ» فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ/ هَذِهِ الْآيَةَ لَا يَنْدَرِجُ فِيهَا الْعَبْدُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: ذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ نِكَاحَ الْأَرْبَعِ مَشْرُوعٌ لِلْأَحْرَارِ دُونَ الْعَبِيدِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَحِلُّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأَرْبَعِ وَتَمَسَّكَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْجَوَابُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ احْتَجَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَحْرَارِ بِوَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْأَحْرَارِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النِّسَاءِ: 4] وَالْعَبْدُ لَا يَأْكُلُ مَا طَابَتْ عَنْهُ نَفْسُ امْرَأَتِهِ مِنَ الْمَهْرِ، بَلْ يَكُونُ لِسَيِّدِهِ قَالَ مَالِكٌ: إِذَا وَرَدَ عُمُومَانِ مُسْتَقِلَّانِ، فَدُخُولُ التَّقْيِيدِ فِي الْأَخِيرِ لَا يُوجِبُ دُخُولَهُ فِي السَّابِقِ. أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذِهِ الْخِطَابَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَرَدَتْ مُتَوَالِيَةً عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ فَلَمَّا عُرِفَ فِي بَعْضِهَا اخْتِصَاصُهَا بِالْأَحْرَارِ عُرِفَ أَنَّ الْكُلَّ كَذَلِكَ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ عَلِمَ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَنَاوِلٌ لِلْعَبِيدِ إِلَّا أَنَّهُمْ خَصَّصُوا هَذَا الْعُمُومَ بِالْقِيَاسِ، قَالُوا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ لِلرِّقِّ تَأْثِيرًا فِي نُقْصَانِ حُقُوقِ النِّكَاحِ، كَالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَدَدُ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ لِلْعَبْدِ نِصْفُ مَا لِلْحُرِّ، وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَقْوَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ذَهَبَ قوم سدى إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِأَيِّ عَدَدٍ أُرِيدَ، وَاحْتَجُّوا بِالْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدْ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ إِطْلَاقٌ فِي جَمِيعِ الْأَعْدَادِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا عَدَدَ إِلَّا وَيَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ، وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَكَانَ دَاخِلًا. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لَا يَصْلُحُ تَخْصِيصًا لِذَلِكَ الْعُمُومِ، لِأَنَّ تَخْصِيصَ بَعْضِ الْأَعْدَادِ بِالذِّكْرِ لَا يَنْفِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْبَاقِي، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْأَعْدَادِ يَدُلُّ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ وَالْحَجْرِ مُطْلَقًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ لِوَلَدِهِ: افْعَلْ مَا شِئْتَ اذْهَبْ إِلَى السُّوقِ وَإِلَى الْمَدِينَةِ وَإِلَى الْبُسْتَانِ، كَانَ تَنْصِيصًا فِي تَفْوِيضِ زِمَامِ الْخِيَرَةِ إِلَيْهِ مُطْلَقًا، وَرَفْعِ الْحَجْرِ وَالْحَرَجِ عَنْهُ مُطْلَقًا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لِلْإِذْنِ بِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ، بَلْ كَانَ إذنا في المذكور وغيره فكذا هاهنا، وَأَيْضًا فَذِكْرُ جَمِيعِ الْأَعْدَادِ مُتَعَذَّرٌ، فَإِذَا ذَكَرَ بَعْضَ الْأَعْدَادِ بَعْدَ قَوْلِهِ:

فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ كَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى حُصُولِ الْإِذْنِ فِي جَمِيعِ الْأَعْدَادِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ فَقَوْلُهُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يُفِيدُ حِلَّ هَذَا الْمَجْمُوعِ، وَهُوَ يُفِيدُ تِسْعَةً، بَلِ الْحَقُّ أَنَّهُ يُفِيدُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَثْنَى لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ اثْنَيْنِ فَقَطْ، بَلْ عَنِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْبَقِيَّةِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ عَنْ/ تِسْعٍ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ فَقَالَ: فَاتَّبِعُوهُ وَأَقَلُّ مَرَاتِبِ الْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ. الثَّانِي: أَنَّ سُنَّةَ الرحل طَرِيقَتُهُ، وَكَانَ التَّزَوُّجُ بِالْأَكْثَرِ مِنَ الْأَرْبَعِ طَرِيقَةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَانَ ذَلِكَ سَنَةً لَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» فَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَقْتَضِي تَوَجُّهَ اللَّوْمِ عَلَى مَنْ تَرَكَ التَّزَوُّجَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْأَرْبَعَةِ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُثْبِتَ أَصْلَ الْجَوَازِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مُعْتَمَدَ الْفُقَهَاءِ فِي إِثْبَاتِ الْحَصْرِ عَلَى أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْخَبَرُ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ غَيْلَانَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ بَاقِيَهُنَّ، وَرُوِيَ أَنَّ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ خَمْسُ نِسْوَةٍ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ وَاحِدَةً» . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا دَلَّ عَلَى عَدَمِ الْحَصْرِ بِهَذَا الْخَبَرِ كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْخَبَرَ وَاقِعَةُ حَالٍ، فَلَعَلَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِإِمْسَاكِ أَرْبَعٍ وَمُفَارَقَةِ الْبَوَاقِي لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ وَبَيْنَ الْبَوَاقِي غَيْرُ جَائِزٍ، إِمَّا بِسَبَبِ النَّسَبِ، أَوْ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ، وبالجملة فلهذا الِاحْتِمَالُ قَائِمٌ فِي هَذَا الْخَبَرِ فَلَا يُمْكِنُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِمِثْلِهِ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ إِجْمَاعُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَفِيهِ سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ، فَكَيْفَ يُقَالُ: الْإِجْمَاعُ نَسَخَ هَذِهِ الْآيَةَ. الثَّانِي: أَنَّ فِي الْأُمَّةِ أَقْوَامًا شُذَّاذًا لَا يَقُولُونَ بِحُرْمَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَالْإِجْمَاعُ مَعَ مُخَالَفَةِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ لَا يَنْعَقِدُ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: الْإِجْمَاعُ يَكْشِفُ عَنْ حُصُولِ النَّاسِخِ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنِ الثَّانِي، أَنَّ مُخَالِفَ هَذَا الْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ فَلَا عِبْرَةَ بِمُخَالَفَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْتُمْ فَكَانَ الْأَوْلَى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: مَثْنَى أَوْ ثُلَاثَ أَوْ رُبَاعَ، فَلِمَ جَاءَ بِوَاوِ الْعَطْفِ دُونَ «أَوْ» ؟ قُلْنَا: لَوْ جَاءَ بِكَلِمَةِ «أَوْ» لَكَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، بِمَعْنَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يَأْتِي بِالتَّثْنِيَةِ، وَالْبَعْضَ الْآخَرَ بِالتَّثْلِيثِ وَالْفَرِيقَ الثَّالِثَ بِالتَّرْبِيعِ، فَلَمَّا ذَكَرَهُ بِحَرْفِ الْوَاوِ أَفَادَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ طَائِفَةٍ أَنْ يَخْتَارُوا قِسْمًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلَ لِلْجَمَاعَةِ: اقْتَسَمُوا هَذَا الْمَالَ وَهُوَ أَلْفٌ، دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَأْخُذَ دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وَلِبَعْضٍ/ آخَرِينَ أَنْ يَأْخُذُوا ثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَلِطَائِفَةٍ ثَالِثَةٍ أَنْ يَأْخُذُوا أَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، فَكَذَا هاهنا الْفَائِدَةُ فِي تَرْكِ «أَوْ» وَذِكْرِ الْوَاوِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ مَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ مِمَّا طَابَ، تَقْدِيرُهُ: فَانْكِحُوا الطَّيِّبَاتِ لَكُمْ مَعْدُودَاتٍ هَذَا الْعَدَدَ، ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَأَرْبَعًا أَرْبَعًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ. وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تَعْدِلُوا بَيْنَ هَذِهِ الْأَعْدَادِ كَمَا خِفْتُمْ تَرْكَ الْعَدْلِ فِيمَا فَوْقَهَا، فَاكْتَفُوا بِزَوْجَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِالْمَمْلُوكَةِ، سَوَّى فِي السُّهُولَةِ وَالْيُسْرِ بَيْنَ الْحُرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَبَيْنَ الْإِمَاءِ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ، وَلَعَمْرِي إنهن أقل تبعة وأخف مؤنة من المهائر، لا عليك أكثرت منهن أَمْ أَقْلَلْتَ، عَدَلْتَ بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ أَمْ لَمْ تَعْدِلْ، عَزَلْتَ عَنْهُنَّ أَمْ لَمْ تَعْزِلْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ فَواحِدَةً بِنَصْبِ التَّاءِ وَالْمَعْنَى: فَالْتَزِمُوا أَوْ فَاخْتَارُوا وَاحِدَةً وَذَرُوا الْجَمْعَ رَأْسًا، فَإِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ يَدُورُ مَعَ الْعَدْلِ، فَأَيْنَمَا وَجَدْتُمُ الْعَدْلَ فَعَلَيْكُمْ بِهِ، وَقُرِئَ فَواحِدَةً بِالرَّفْعِ وَالتَّقْدِيرُ: فَكَفَتْ وَاحِدَةٌ، أَوْ فَحَسْبُكُمْ وَاحِدَةٌ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ الِاشْتِغَالَ بِنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ أَفْضَلُ مِنَ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ التَّزَوُّجِ بِالْوَاحِدَةِ وَبَيْنَ التَّسَرِّي، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مُشْعِرٌ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ، كَمَا إِذَا قَالَ الطَّبِيبُ: كُلِ التُّفَّاحَ أَوِ الرُّمَّانَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمًا مُقَامَ الْآخَرِ فِي تَمَامِ الْغَرَضِ، وَكَمَا أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى هَذِهِ التَّسْوِيَةِ، فَكَذَلِكَ الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ السَّكَنُ وَالِازْدِوَاجُ وَتَحْصِينُ الدِّينِ وَمَصَالِحُ الْبَيْتِ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَاصِلٌ بِالطَّرِيقَيْنِ، وَأَيْضًا إِنْ فَرَضْنَا الْكَلَامَ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَمْلُوكَةً ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَ بِهَا، فَهَهُنَا يَظْهَرُ جِدًّا حُصُولُ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَ التَّزَوُّجِ وَبَيْنَ التَّسَرِّي، وَإِذَا ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ التَّزَوُّجَ وَالتَّسَرِّيَ مُتَسَاوِيَانِ. فَنَقُولُ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالنَّوَافِلِ أَفْضَلُ مِنَ التَّسَرِّي فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ النِّكَاحِ لِأَنَّ الزائد على أحد المتساويين يكون زائد عَلَى الْمُسَاوِي الثَّانِي لَا مَحَالَةَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ. المسألة الأولى: المراد من الأدنى هاهنا الْأَقْرَبُ، وَالتَّقْدِيرُ: ذَلِكَ أَقْرَبُ مِنْ أَنْ لَا تَعُولُوا وَحَسُنَ حَذْفُ «مِنْ» لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ أَلَّا تَعُولُوا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ: لَا تَجُورُوا وَلَا تَمِيلُوا، / وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا، رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا قَالَ: (لَا تَجُورُوا) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «أَنْ لَا تَمِيلُوا» قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كِلَا اللَّفْظَيْنِ مَرْوِيٌّ، وَأَصْلُ الْعَوْلِ الْمَيْلُ يُقَالُ: عَالَ الْمِيزَانُ عَوْلًا، إِذَا مَالَ، وَعَالَ الْحَاكِمُ فِي حُكْمِهِ إِذَا جَارَ، لِأَنَّهُ إِذَا جَارَ فَقَدْ مَالَ. وَأَنْشَدُوا لِأَبِي طَالِبٍ. بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يَغُلُّ شَعِيرَةً ... وَوَزَّانِ صِدْقٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ وَرُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا حَكَمَ عَلَيْهِ حَاكِمٌ، فَقَالَ لَهُ: أَتَعُولُ عَلَيَّ، وَيُقَالُ: عَالَتِ الْفَرِيضَةُ إِذَا زَادَتْ سِهَامُهَا، وَقَدْ أَعَلْتُهَا أَنَا إِذَا زِدْتَ فِي سِهَامِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا إِذَا زَادَتْ سِهَامُهَا فَقَدْ مَالَتْ عَنِ الِاعْتِدَالِ فَدَلَّتْ هَذِهِ الِاشْتِقَاقَاتُ عَلَى أَنَّ أَصْلَ هَذَا اللَّفْظِ الْمَيْلُ، ثُمَّ اخْتُصَّ بِحَسَبِ الْعُرْفِ بِالْمَيْلِ إِلَى الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ. فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ أَنْ لَا تَفْتَقِرُوا، يُقَالُ: رَجُلٌ عَائِلٌ أَيْ فَقِيرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا قَلَّ عِيَالُهُ قَلَّتْ نَفَقَاتُهُ، وَإِذَا قَلَّتْ نَفَقَاتُهُ لَمْ يَفْتَقِرْ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا مَعْنَاهُ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لَا تَكْثُرَ عِيَالُكُمْ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: وَقَدْ خَطَّأَهُ النَّاسُ فِي ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ وَكُلِّ مَنْ رَوَى تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنْ لَا تَمِيلُوا وَلَا تَجُورُوا، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ خَطَأٌ فِي اللُّغَةِ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لَا تُعِيلُوا لَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَقِيمًا، فَأَمَّا تَفْسِيرُ تَعُولُوا بِتُعِيلُوا فَإِنَّهُ خَطَأٌ فِي اللُّغَةِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الزَّوْجَةَ الْوَاحِدَةَ أَوْ مِلْكَ الْيَمِينِ وَالْإِمَاءَ فِي الْعِيَالِ. بِمَنْزِلَةِ النِّسَاءِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ مِنَ الْعَدَدِ مَنْ شَاءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ كَثْرَةَ الْعِيَالِ. وَزَادَ صَاحِبُ النَّظْمِ فِي الطَّعْنِ وَجْهًا رَابِعًا، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً وَلَمْ يَقُلْ أَنْ تَفْتَقِرُوا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مَعْطُوفًا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، وَلَا يَكُونُ جَوَابُهُ إِلَّا بِضِدِّ الْعَدْلِ، وَذَلِكَ هُوَ الْجَوْرُ لَا كَثْرَةُ الْعِيَالِ. وَأَنَا أَقُولُ: أَمَّا السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ طَعَنَ فِي قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنْ لَا تَجُورُوا وَلَا تَمِيلُوا، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ إِذَا ذَكَرُوا وَجْهًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنِ اسْتِخْرَاجِ وَجْهٍ آخَرَ فِي تَفْسِيرِهَا، وَلَوْلَا جَوَازُ ذَلِكَ وَإِلَّا لَصَارَتِ الدَّقَائِقُ الَّتِي اسْتَنْبَطَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ مَرْدُودَةً بَاطِلَةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقُولُهُ إِلَّا مُقَلِّدُ خَلَفٍ، وَأَيْضًا: فَمَنِ الَّذِي/ أَخْبَرَ الرَّازِيَّ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ لَمْ يَذْكُرْهُ وَاحِدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَكَيْفَ لَا نَقُولُ ذَلِكَ، وَمِنَ الْمَشْهُورِ أَنَّ طَاوُسًا كَانَ يَقْرَأُ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لَا تُعِيلُوا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانُوا قَدْ جَعَلُوا هَذَا الْوَجْهَ قِرَاءَةً، فَبِأَنْ يَجْعَلُوهُ تَفْسِيرًا كَانَ أَوْلَى، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ شِدَّةُ جَهْلِ الرَّازِيِّ فِي هَذَا الطَّعْنِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَنَقُولُ: إِنَّكَ نَقَلْتَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِي اللُّغَةِ عَنِ الْمُبَرِّدِ، لَكِنَّكَ بِجَهْلِكَ وَحِرْصِكَ عَلَى الطَّعْنِ فِي رُؤَسَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْأَعْلَامِ، وَشِدَّةِ بَلَادَتِكَ، مَا عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا الطَّعْنَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُبَرِّدُ فَاسِدٌ، وَبَيَانُ فَسَادِهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُقَالُ: عَالَتِ الْمَسْأَلَةُ إِذَا زَادَتْ سِهَامُهَا وكثرة، وَهَذَا الْمَعْنَى قَرِيبٌ مِنَ الْمَيْلِ لِأَنَّهُ إِذَا مَالَ فَقَدْ كَثُرَتْ جِهَاتُ الرَّغْبَةِ وَمُوجِبَاتُ الْإِرَادَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لَا تُكْثِرُوا، وَإِذَا لَمْ تُكْثِرُوا لَمْ يَقَعِ الْإِنْسَانُ فِي الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ لِأَنَّ مَطِيَّةَ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ هِيَ الْكَثْرَةُ وَالْمُخَالَطَةُ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَرْجِعُ هَذَا التَّفْسِيرُ إِلَى قَرِيبٍ مِنَ التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ الَّذِي اخْتَارَهُ الْجُمْهُورُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ: فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ كَثِيرُ الرَّمَادِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ مَا مَعْنَاهُ؟ حَسُنَ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ طَوِيلُ الْقَامَةِ كَثِيرُ الضِّيَافَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ تَفْسِيرَ طَوِيلُ النِّجَادِ هُوَ أَنَّهُ طَوِيلُ الْقَامَةِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ هُوَ هَذَا الْمَعْنَى. وَهَذَا الْكَلَامُ تُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ التَّعْبِيرَ عَنِ الشَّيْءِ بِالْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى الشَّيْءِ بِذِكْرِ لَوَازِمِهِ، فَهَهُنَا كَثْرَةُ الْعِيَالِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْمَيْلِ وَالْجَوْرِ، وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ كَثْرَةَ الْعِيَالِ كِنَايَةً عَنِ الْمَيْلِ وَالْجَوْرِ، لَمَّا أَنَّ كَثْرَةَ الْعِيَالِ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْمَيْلِ وَالْجَوْرِ، فَجَعَلَ هَذَا تَفْسِيرًا لَهُ لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُطَابَقَةِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ وَالِاسْتِلْزَامِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَالشَّافِعِيُّ لَمَّا كَانَ مُحِيطًا بِوُجُوهِ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ اسْتَحْسَنَ ذِكْرَ هَذَا الْكَلَامِ، فَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ لَمَّا كَانَ بَلِيدَ الطَّبْعِ بَعِيدًا عَنْ أَسَالِيبِ كَلَامِ الْعَرَبِ، لَا جَرَمَ لَمْ يَعْرِفِ الْوَجْهَ الْحَسَنَ فِيهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِكَ: عَالَ الرَّجُلُ عِيَالَهُ

[سورة النساء (4) : آية 4]

يَعُولُهُمْ كَقَوْلِهِمْ: مَانَهُمْ يَمُونُهُمْ إِذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَنْ كَثُرَ عِيَالُهُ لَزِمَهُ أَنْ يَعُولَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ مَا تَصْعُبُ عَلَيْهِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى حُدُودِ الْوَرَعِ وَكَسْبِ الْحَلَالِ وَالرِّزْقِ الطَّيِّبِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَأَنَّ الطَّعْنَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ كَثْرَةِ الْغَبَاوَةِ وَقِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ كَثْرَةَ الْعِيَالِ لَا تَخْتَلِفُ بِأَنْ تكون المرأة زوجة أو/ مملوكة فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الْجَوَارِيَ إِذَا كَثُرْنَ فَلَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُنَّ الْكَسْبَ، وَإِذَا اكْتَسَبْنَ أَنْفَقْنَ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ وَعَلَى مَوْلَاهُنَّ أَيْضًا، وَحِينَئِذٍ تَقِلُّ الْعِيَالُ أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ حُرَّةً لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً فَإِذَا عَجَزَ الْمَوْلَى عَنِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا بَاعَهَا وَتَخَلَّصَ مِنْهَا، أَمَّا إِذَا كَانَتْ حُرَّةً فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، وَالْعُرْفُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ مَا دَامَ يُمْسِكُ الزَّوْجَةَ فَإِنَّهَا لَا تُطَالِبُهُ بِالْمَهْرِ، فَإِذَا حَاوَلَ طَلَاقَهَا طَالَبَتْهُ بِالْمَهْرِ فَيَقَعُ الزَّوْجُ فِي الْمِحْنَةِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الرَّابِعُ: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُرْجَانِيُّ صَاحِبُ النَّظْمِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَهُوَ أَنَّ الْوَجْهَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَرْجَحُ، لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْجَوْرِ لَكَانَ تَكْرَارًا لِأَنَّهُ فُهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ لَمْ يَلْزَمِ التَّكْرَارُ فَكَانَ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْتُمْ لَكِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ التَّفْسِيرَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَاجِعٌ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إِلَى ذِكْرِ التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ زَالَ هَذَا السُّؤَالُ، فَهَذَا تَمَامُ الْبَحْثِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَبِاللَّهِ التوفيق. [سورة النساء (4) : آية 4] وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَآتُوا النِّساءَ خِطَابٌ لِمَنْ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِأَوْلِيَاءِ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا تُعْطِي النِّسَاءَ مِنْ مُهُورِهِنَّ شَيْئًا، وَلِذَلِكَ كَانُوا يَقُولُونَ لِمَنْ وُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ: هَنِيئًا لَكَ النَّافِجَةُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّكَ تَأْخُذُ مَهْرَهَا إِبِلًا فَتَضُمُّهَا إِلَى إِبِلِكَ فَتَنْفُجُ مَالَكَ أَيْ تُعَظِّمُهُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: النَّافِجَةُ مَا يَأْخُذُهُ الرَّجُلُ مِنَ الْحُلْوَانِ إِذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِدَفْعِ الْحَقِّ إِلَى أَهْلِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَأَبِي صَالِحٍ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَزْوَاجِ أُمِرُوا بِإِيتَاءِ النِّسَاءَ مُهُورَهُنَّ، وَهَذَا قَوْلُ: عَلْقَمَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَاخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ، قال لأنه لا ذكر للأولياء هاهنا، وَمَا قَبْلَ هَذَا خِطَابٌ لِلنَّاكِحِينَ وَهُمُ الْأَزْوَاجُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِيتَاءِ الْمُنَاوَلَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الِالْتِزَامَ، قَالَ تَعَالَى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ [التَّوْبَةِ: 29] وَالْمَعْنَى حَتَّى يُضَمَّنُوهَا وَيَلْتَزِمُوهَا، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِدَفْعِ الْمُهُورِ الَّتِي قَدْ سَمَّوْهَا لَهُنَّ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي: / كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ الْفُرُوجَ لَا تُسْتَبَاحُ إِلَّا بِعِوَضٍ يَلْزَمُ سَوَاءً سُمِّيَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُسَمَّ، إِلَّا مَا خُصَّ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَوْهُوبَةِ، ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ جَامِعًا لِلْوَجْهَيْنِ مَعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : صَدُقاتِهِنَّ مُهُورَهُنَّ، وَفِي حَدِيثِ شُرَيْحٍ: قَضَى ابْنُ عباس

لَهَا بِالصَّدُقَةِ وَقَرَأَ صَدْقَاتِهِنَّ بِفَتْحِ الصَّادِ وَسُكُونِ الدال على تخفيف صدقاتهن وصدقاتهن بِضَمِّ الصَّادِ وَسُكُونِ الدَّالِ جَمْعَ صُدْقَةٍ، وَقُرِئَ صُدُقَتَهُنَّ بِضَمِّ الصَّادِ وَالدَّالِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَهُوَ مُثَقَّلُ صُدْقَةٍ كَقَوْلِهِ فِي ظُلْمَةٍ: ظُلُمَةٌ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَوْضُوعُ ص د ق عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ لِلْكَمَالِ وَالصِّحَّةِ، فَسُمِّيَ الْمَهْرُ صَدَاقًا وَصَدُقَةً لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ بِهِ يَتِمُّ وَيَكْمُلُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَفْسِيرِ النِّحْلَةِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ زَيْدٍ: فَرِيضَةً، وَإِنَّمَا فَسَّرُوا النِّحْلَةَ بِالْفَرِيضَةِ، لِأَنَّ النِّحْلَةَ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهَا الدِّيَانَةُ وَالْمِلَّةُ وَالشِّرْعَةُ وَالْمَذْهَبُ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَنْتَحِلُ كَذَا إِذَا كَانَ يَتَدَيَّنُ بِهِ، وَنِحْلَتُهُ كَذَا أَيْ دِينُهُ وَمَذْهَبُهُ، فَقَوْلُهُ: آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً أَيْ آتُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ، فَإِنَّهَا نِحْلَةٌ أَيْ شَرِيعَةٌ وَدِينٌ وَمَذْهَبٌ وَمَا هُوَ دِينٌ وَمَذْهَبٌ فَهُوَ فَرِيضَةٌ. الثَّانِي: قَالَ الْكَلْبِيُّ: نِحْلَةٌ أَيْ عَطِيَّةٌ وَهِبَةٌ، يُقَالُ: نَحَلْتُ فُلَانًا شَيْئًا أَنْحَلُهُ نِحْلَةً وَنُحْلًا، قَالَ الْقَفَّالُ: وَأَصْلُهُ إضافة الشيء إلى غير من هوله، يُقَالُ: هَذَا شِعْرٌ مَنْحُولٌ، أَيْ مُضَافٌ إِلَى غَيْرِ قَائِلِهِ، وَانْتَحَلْتُ كَذَا إِذَا ادَّعَيْتَهُ وَأَضَفْتَهُ إِلَى نَفْسِكَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمَهْرُ عَطِيَّةٌ مِمَّنْ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَطِيَّةٌ مِنَ الزَّوْجِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ بَدَلَهُ شَيْئًا لِأَنَّ الْبُضْعَ فِي مِلْكِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ النِّكَاحِ كَهُوَ قَبْلَهُ، فَالزَّوْجُ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا عِوَضًا يَمْلِكُهُ، فَكَانَ فِي مَعْنَى النِّحْلَةِ الَّتِي لَيْسَ بِإِزَائِهَا بَدَلٌ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ مِنْهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ هُوَ الِاسْتِبَاحَةُ لَا الْمِلْكُ، وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مَنَافِعَ النِّكَاحِ مِنْ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَالتَّوَالُدِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، ثُمَّ أَمَرَ الزَّوْجَ بِأَنْ يُؤْتِيَ الزَّوْجَةَ الْمَهْرَ فَكَانَ ذَلِكَ عَطِيَّةً مِنَ اللَّهِ ابْتِدَاءً. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ النِّحْلَةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَى قَوْلِهِ نِحْلَةً أَيْ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النِّحْلَةَ فِي اللُّغَةِ الْعَطِيَّةُ مِنْ غَيْرِ أَخْذِ عِوَضٍ، كَمَا يَنْحَلُ الرَّجُلُ لِوَلَدِهِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، وَمَا أُعْطِيَ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ عِوَضٍ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ طِيبِ النَّفْسِ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِإِعْطَاءِ مُهُورِ النِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَةٍ مِنْهُنَّ وَلَا مُخَاصَمَةٍ، لِأَنَّ مَا يُؤْخَذُ بِالْمُحَاكَمَةِ لَا يُقَالُ لَهُ نِحْلَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِنْ حَمَلْنَا النِّحْلَةَ عَلَى الدِّيَانَةِ فَفِي انْتِصَابِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، وَالْمَعْنَى آتَوهُنَّ مُهُورَهُنَّ دِيَانَةً. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الصَّدُقَاتِ أَيْ دِينًا مِنَ اللَّهِ شَرَعَهُ وَفَرَضَهُ، وَأَمَّا إِنْ حَمَلْنَا النِّحْلَةَ عَلَى الْعَطِيَّةِ فَفِي انْتِصَابِهَا أَيْضًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَصْبٌ/ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النِّحْلَةَ وَالْإِيتَاءَ بِمَعْنَى الْإِعْطَاءِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَانْحَلُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً أَيْ أَعْطُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ عَنْ طِيبَةِ أَنْفُسِكُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ أَيْ آتُوهُنَّ صَدُقَاتِهِنَّ نَاحِلِينَ طَيِّبِي النُّفُوسِ بِالْإِعْطَاءِ. وَالثَّانِي: عَلَى الْحَالِ مِنَ الصَّدُقَاتِ، أَيْ مَنْحُولَةً مُعْطَاةً عَنْ طِيبَةِ الْأَنْفُسِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ تُقَرِّرُ الْمَهْرَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا تُقَرِّرُهُ احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا النَّصَّ يَقْتَضِي إِيجَابَ إِيتَاءِ الْمَهْرِ بِالْكُلِّيَّةِ مُطْلَقًا، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِيمَا إِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْمَسِيسُ وَلَا الْخَلْوَةُ، فَعِنْدَ حُصُولِهِمَا وَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَى مُقْتَضَى الْآيَةِ. أَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ هَذِهِ عَامَّةٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [الْبَقَرَةِ: 237] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهَا إِلَّا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَاصَّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِإِيتَائِهِنَّ صَدُقَاتِهِنَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ جَوَازِ قَبُولِ إِبْرَائِهَا وَهِبَتِهَا لَهُ، لِئَلَّا يَظُنَّ أَنَّ عَلَيْهِ إِيتَاءَهَا مَهْرَهَا وَإِنْ طَابَتْ نَفْسُهَا بِتَرْكِهِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نَفْسًا: نَصْبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ وَالْمَعْنَى: طَابَتْ أَنْفُسُهُنَّ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الصَّدَاقِ بِنَقْلِ الْفِعْلِ مِنَ الْأَنْفُسِ إِلَيْهِنَّ، فَخَرَجَتِ النَّفْسُ مُفَسِّرَةً كَمَا قَالُوا: أَنْتَ حَسَنٌ وَجْهًا، وَالْفِعْلُ فِي الْأَصْلِ لِلْوَجْهِ، فَلَمَّا حُوِّلَ إِلَى صَاحِبِ الْوَجْهِ خَرَجَ الْوَجْهُ مُفَسِّرًا لِمَوْقِعِ الْفِعْلِ، وَمِثْلُهُ: قَرَرْتُ بِهِ عَيْنًا وَضِقْتُ بِهِ ذَرْعًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا وَحَّدَ النَّفْسَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَيَانُ مَوْقِعِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْوَاحِدِ وَمِثْلُهُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَوْ جُمِعَتْ كَانَ صَوَابًا كَقَوْلِهِ: بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا [الْكَهْفِ: 103] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ: فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ لَيْسَ لِلتَّبْعِيضِ، بَلْ لِلتَّبْيِينِ وَالْمَعْنَى عَنْ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ الَّذِي هُوَ مَهْرٌ كَقَوْلِهِ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الْحَجِّ: 30] وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ طَابَتْ نَفْسُهَا عَنْ جَمِيعِ الْمَهْرِ حَلَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْكُلِّيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْهُ: أَيْ مِنَ الصَّدُقَاتِ أَوْ مِنْ ذلك وهو كقوله تعالى: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ/ ذلِكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 15] بَعْدَ ذِكْرِ الشَّهَوَاتِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ رُؤْبَةُ: فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ فَقِيلَ لَهُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ «كَأَنَّهُ» إِنْ عَادَ إِلَى الْخُطُوطِ كَانَ يَجِبُ أَنْ تَقُولَ: كَأَنَّهَا، وَإِنْ عَادَ إِلَى السَّوَادِ وَالْبَلَقِ كَانَ يَجِبُ أَنْ تَقُولَ: كَأَنَّهُمَا، فَقَالَ: أَرَدْتُ كَأَنَّ ذَاكَ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الصَّدُقَاتِ فِي مَعْنَى الصَّدَاقِ لِأَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدَاقَهُنَّ لَكَانَ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي تَذْكِيرِ الضَّمِيرِ أَنْ يَعُودَ ذَلِكَ إِلَى بَعْضِ الصَّدَاقِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَرْغِيبُهَا فِي أَنْ لَا تَهَبَ إِلَّا بَعْضَ الصَّدَاقِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: فَإِنْ وَهَبْنَ لَكُمْ شَيْئًا مِنَ الصَّدَاقِ عَنْ طِيبَةِ النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ فِيهِ شَكَاسَةُ أَخْلَاقِكُمْ مَعَهُنَّ، أَوْ سُوءُ مُعَاشَرَتِكُمْ مَعَهُنَّ، فَكُلُوهُ وَأَنْفِقُوهُ، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى ضِيقِ الْمَسْلَكِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَوُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ، حَيْثُ بَنَى الشَّرْطَ عَلَى طِيبِ النَّفْسِ فَقَالَ: فَإِنْ طِبْنَ وَلَمْ يَقُلْ: فَإِنْ وَهَبْنَ أَوْ سَمَحْنَ، إِعْلَامًا بِأَنَّ الْمُرَاعَى هُوَ تَجَافِي نَفْسِهَا عَنِ الْمَوْهُوبِ طَيِّبَةً. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْهَنِيءُ وَالْمَرِيءُ: صِفَتَانِ مِنْ هَنُؤَ الطَّعَامُ وَمَرُؤَ، إِذَا كَانَ سَائِغًا لَا تَنْغِيصَ فِيهِ، وَقِيلَ: الْهَنِيءُ مَا يَسْتَلِذُّهُ الْآكِلُ، وَالْمَرِيءُ مَا يَحْمَدُ عَاقِبَتَهُ، وَقِيلَ: مَا يَنْسَاغُ فِي مَجْرَاهُ، وَقِيلَ لِمَدْخَلِ الطَّعَامِ مِنَ الْحُلْقُومِ إِلَى فَمِ الْمَعِدَةِ: الْمَرِيءُ لِمُرُوءِ الطَّعَامِ فِيهِ وَهُوَ انْسِيَاغُهُ. وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ أَصْلَ الْهَنِيءِ مِنَ الْهَنَاءِ وَهُوَ مُعَالَجَةُ الْجَرَبِ بِالْقَطْرَانِ، فَالْهَنِيءُ شِفَاءٌ مِنَ الْجَرَبِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمَعْنَى أَنَّهُنَّ إِذَا وَهَبْنَ مُهُورَهُنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ عَنْ طِيبَةِ النَّفْسِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَزْوَاجِ فِي ذَلِكَ تَبِعَةٌ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّحْلِيلِ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْإِبَاحَةِ وَإِزَالَةِ التَّبِعَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: هَنِيئاً مَرِيئاً وَصْفٌ لِلْمَصْدَرِ، أَيْ أَكْلًا هَنِيئًا مَرِيئًا، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ أَيْ كُلُوهُ وَهُوَ هَنِيءٌ مَرِيءٌ، وَقَدْ يُوقَفُ عَلَى قَوْلِهِ: فَكُلُوهُ ثُمَّ يُبْتَدَأُ بِقَوْلِهِ: هَنِيئاً مَرِيئاً عَلَى الدُّعَاءِ وَعَلَى أَنَّهُمَا صِفَتَانِ أُقِيمَتَا مَقَامَ الْمَصْدَرَيْنِ كَأَنَّهُ قِيلَ: هَنَأَ مرأ.

[سورة النساء (4) : آية 5]

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أُمُورٍ: مِنْهَا: أَنَّ الْمَهْرَ لَهَا وَلَا حَقَّ لِلْوَلِيِّ فِيهِ، وَمِنْهَا جَوَازُ هِبَتِهَا الْمَهْرَ لِلزَّوْجِ، وَجَوَازُ أَنْ يَأْخُذَهُ الزَّوْجُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ، وَمِنْهَا جَوَازُ هِبَتِهَا الْمَهْرَ قَبْلَ الْقَبْضِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يفرق بين الحالتين. وهاهنا بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً يَتَنَاوَلُ مَا إِذَا كَانَ الْمَهْرُ عَيْنًا، أَمَّا إِذَا كَانَ دَيْنًا/ فَالْآيَةُ غَيْرُ مُتَنَاوِلَةٍ لَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَا فِي الذِّمَّةِ: كُلْهُ هَنِيئًا مَرِيئًا. قُلْنَا: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً لَيْسَ نَفْسَ الْأَكْلِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ حِلُّ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَكْلَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ مُعْظَمَ الْمَقْصُودِ مِنَ الْمَالِ إِنَّمَا هُوَ الْأَكْلُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النِّسَاءِ: 10] وَقَالَ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: 188] . الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنْ وَهَبَتْ ثُمَّ طَلَبَتْ بَعْدَ الْهِبَةِ عُلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَطِبْ عَنْهُ نَفْسًا، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ مَعَ زَوْجِهَا شُرَيْحًا فِي عَطِيَّةٍ أَعْطَتْهَا إِيَّاهُ وَهِيَ تَطْلُبُ الرُّجُوعَ فَقَالَ شُرَيْحٌ: رُدَّ عَلَيْهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ: لَوْ طَابَتْ نَفْسُهَا عَنْهُ لَمَا رَجَعَتْ فِيهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا: أُقِيلُهَا فِيمَا وَهَبَتْ وَلَا أُقِيلُهُ لِأَنَّهُنَّ يُخْدَعْنَ، وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ آلِ أَبِي مَعِيطٍ أَعْطَتْهُ امْرَأَتُهُ أَلْفَ دِينَارٍ صَدَاقًا كَانَ لَهَا عَلَيْهِ، فَلَبِثَ شَهْرًا ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَخَاصَمَتْهُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَعْطَتْنِي طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهَا، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: فَإِنَّ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَهَا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً ارْدُدْ عَلَيْهَا. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى قُضَاتِهِ: إِنَّ النِّسَاءَ يُعْطِينَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً، فَأَيُّمَا امْرَأَةٍ أَعْطَتْهُ ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تَرْجِعَ فَذَلِكَ لَهَا والله أعلم. [سورة النساء (4) : آية 5] وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) [في قوله تَعَالَى وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنِّي وَإِنْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ بِإِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَبِدَفْعِ صَدُقَاتِ النِّسَاءِ إِلَيْهِنَّ، فَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ إِذَا كَانُوا عَاقِلِينَ بَالِغِينَ مُتَمَكِّنِينَ مِنْ حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، فَأَمَّا إِذَا كَانُوا غَيْرَ بَالِغِينَ، أَوْ غَيْرَ عُقَلَاءَ، أَوْ إِنْ كَانُوا بَالِغِينَ عُقَلَاءَ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا سُفَهَاءَ مُسْرِفِينَ، فَلَا تَدْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَأَمْسِكُوهَا لِأَجْلِهِمْ إِلَى أَنْ يَزُولَ عَنْهُمُ السَّفَهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ الِاحْتِيَاطُ فِي حِفْظِ أَمْوَالِ الضُّعَفَاءِ وَالْعَاجِزِينَ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا خِطَابُ الْأَوْلِيَاءِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَيُّهَا الْأَوْلِيَاءُ لَا تُؤْتُوا الَّذِينَ يَكُونُونَ تَحْتَ وِلَايَتِكُمْ وَكَانُوا سُفَهَاءَ أَمْوَالَهُمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ خِطَابُ الْأَوْلِيَاءِ قَوْلُهُ: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَأَيْضًا فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَحْسُنُ تَعَلُّقُ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا كَمَا قَرَّرْنَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَهُمْ، فَلِمَ قَالَ أَمْوَالَكُمْ؟ قُلْنَا: فِي الْجَوَابِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْمَالَ إِلَيْهِمْ لَا لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهُ، لَكِنْ مِنْ حَيْثُ مَلَكُوا التَّصَرُّفَ فِيهِ، وَيَكْفِي فِي حُسْنِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، الثَّانِي: إِنَّمَا حَسُنَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ إِجْرَاءً لِلْوَحْدَةِ بِالنَّوْعِ مَجْرَى الْوَحْدَةِ بِالشَّخْصِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَةِ: 128] وَقَوْلِهِ: أَوْ ما

مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء: 36] وقوله: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 85] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ مَا كَانَ يَقْتُلُ نَفْسَهُ، وَلَكِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا، وَكَانَ الكل من نوع واحد، فكذا هاهنا الْمَالُ شَيْءٌ يَنْتَفِعُ بِهِ نَوْعُ الْإِنْسَانِ وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ. فَلِأَجْلِ هَذِهِ الْوَحْدَةِ النَّوْعِيَّةِ حَسُنَتْ إِضَافَةُ أَمْوَالِ السُّفَهَاءِ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خِطَابُ الْآبَاءِ فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا كَانَ أَوْلَادُهُمْ سُفَهَاءَ لَا يَسْتَقِلُّونَ بِحِفْظِ الْمَالِ وَإِصْلَاحِهِ أَنْ يَدْفَعُوا أَمْوَالَهُمْ أَوْ بَعْضَهَا إِلَيْهِمْ، لِمَا كَانَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِفْسَادِ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ إِضَافَةُ الْأَمْوَالِ إِلَيْهِمْ حَقِيقَةً، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْغَرَضُ مِنَ الْآيَةِ الْحَثَّ عَلَى حِفْظِ الْمَالِ وَالسَّعْيَ فِي أَنْ لَا يَضِيعَ وَلَا يَهْلِكَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ وَيُهْلِكَهَا، وَإِذَا قَرُبَ أَجَلُهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِمَالِهِ إِلَى أَمِينٍ يَحْفَظُ ذَلِكَ الْمَالَ عَلَى وَرَثَتِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَرْجَحُ لِوَجْهَيْنِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّرْجِيحِ أَنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَهَبَ مِنْ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَمِنَ النِّسْوَانِ مَا شَاءَ مِنْ مَالِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى السُّفَهَاءِ أَمْوَالَهُمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ بِالْأَيْتَامِ أَشْبَهُ، لِأَنَّ الْمَرْءَ مُشْفِقٌ بِطَبْعِهِ عَلَى وَلَدِهِ، فَلَا يَقُولُ لَهُ إِلَّا الْمَعْرُوفَ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذِهِ الْوَصِيَّةِ مَعَ الْأَيْتَامِ الْأَجَانِبِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي حَمْلَ قَوْلِهِ: أَمْوالَكُمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ جَمِيعًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: أَمْوالَكُمُ يُفِيدُ كَوْنَ تِلْكَ الْأَمْوَالِ مُخْتَصَّةً بِهِمُ اخْتِصَاصًا يُمْكِنُهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا، ثُمَّ إن هذا الِاخْتِصَاصَ حَاصِلٌ فِي الْمَالِ الَّذِي يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ، وَفِي الْمَالِ الَّذِي يَكُونُ مَمْلُوكًا لِلصَّبِيِّ، إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ تَصَرُّفُهُ، فَهَذَا التَّفَاوُتُ وَاقِعٌ فِي مَفْهُومٍ خَارِجٍ مِنَ الْمَفْهُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: / أَمْوالَكُمُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَبْعُدْ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّفْظَ أَفَادَ مَعْنًى وَاحِدًا مُشْتَرِكًا بَيْنَهُمَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي الْمُرَادِ بِالسُّفَهَاءِ أَوْجُهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ مجاهد وجويبر عن الضحاك السفهاء هاهنا النِّسَاءُ سَوَاءً كُنَّ أَزْوَاجًا أَوْ أُمَّهَاتٍ أَوْ بَنَاتٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا إِنَّمَا خُلِقَتِ النَّارُ لِلسُّفَهَاءِ يَقُولُهَا ثَلَاثًا أَلَا وَإِنَّ السُّفَهَاءَ النِّسَاءُ إِلَّا امْرَأَةً أَطَاعَتْ قَيِّمَهَا» . فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالسُّفَهَاءِ النِّسَاءَ لَقَالَ: السَّفَائِهَ أَوِ السَّفِيهَاتِ فِي جَمْعِ السَّفِيهَةِ نَحْوُ غَرَائِبَ وَغَرِيبَاتٍ فِي جَمْعِ الْغَرِيبَةِ. أَجَابَ الزَّجَّاجُ: بِأَنَّ السُّفَهَاءَ فِي جَمْعِ السَّفِيهَةِ جَائِزٌ كَمَا أَنَّ الْفُقَرَاءَ فِي جَمْعِ الْفَقِيرَةِ جَائِزٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ الزُّهْرِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: عَنَى بِالسُّفَهَاءِ هاهنا السُّفَهَاءَ مِنَ الْأَوْلَادِ، يَقُولُ: لَا تُعْطِ مَالَكَ الَّذِي هُوَ قِيَامُكَ، وَلَدَكَ السَّفِيهَ فَيُفْسِدَهُ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ بِالسُّفَهَاءِ هُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالُوا إِذَا عَلِمَ الرَّجُلُ أَنَّ امْرَأَتَهُ سَفِيهَةٌ مُفْسِدَةٌ، وَأَنَّ وَلَدَهُ سَفِيهٌ مُفْسِدٌ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُسَلِّطَ وَاحِدًا مِنْهُمَا عَلَى مَالِهِ فَيُفْسِدَهُ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّفَهَاءِ كُلُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَقْلٌ يَفِي بِحِفْظِ الْمَالِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْأَيْتَامُ وكل من كان موصوفاً بهذه الصدفة، وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي

سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ السَّفَهَ خِفَّةُ الْعَقْلِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْفَاسِقُ سَفِيهًا لِأَنَّهُ لَا وَزْنَ لَهُ عِنْدَ أَهْلِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ، وَيُسَمَّى النَّاقِصُ الْعَقْلِ سَفِيهًا لِخِفَّةِ عَقْلِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَيْسَ السَّفَهُ فِي هَؤُلَاءِ صِفَةَ ذَمٍّ، وَلَا يُفِيدُ مَعْنَى الْعِصْيَانِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا سُمُّوا سُفَهَاءَ لِخِفَّةِ عُقُولِهِمْ وَنُقْصَانِ تَمْيِيزِهِمْ عَنِ الْقِيَامِ بِحِفْظِ الْأَمْوَالِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُكَلَّفِينَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ بِحِفْظِ الْأَمْوَالِ، قَالَ تَعَالَى: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الْإِسْرَاءِ: 26، 27] وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً [الْإِسْرَاءِ: 29] وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الْفُرْقَانِ: 67] وَقَدْ رَغَّبَ اللَّهُ فِي حِفْظِ الْمَالِ فِي آيَةِ الْمُدَايَنَةِ حَيْثُ أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ وَالرَّهْنِ، وَالْعَقْلُ أَيْضًا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَكُنْ فَارِغَ الْبَالِ لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِتَحْصِيلِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا يَكُونُ فَارِغَ الْبَالِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الْمَالِ لِأَنَّ بِهِ يَتَمَكَّنُ مَنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، فَمَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا بِهَذَا الْغَرَضِ كَانَتِ الدُّنْيَا فِي حَقِّهِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ لَهُ عَلَى اكْتِسَابِ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ، أَمَّا/ مَنْ أَرَادَهَا لِنَفْسِهَا وَلِعَيْنِهَا كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعَوِّقَاتِ عَنْ كَسْبِ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ قِيَامُكُمْ وَلَا مَعَاشُكُمْ إِلَّا بِهَذَا الْمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْمَالُ سَبَبًا لِلْقِيَامِ وَالِاسْتِقْلَالِ سَمَّاهُ بِالْقِيَامِ إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، يَعْنِي كَانَ هَذَا الْمَالُ نَفْسَ قِيَامِكُمْ وَابْتِغَاءَ مَعَاشِكُمْ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَمًا وَقَدْ يُقَالُ: هَذَا قَيِّمٌ وَقِيَمٌ، كَمَا قَالَ: دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [الْأَنْعَامِ: 161] وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ (قِوَامًا) بِالْوَاوِ، وَقِوَامُ الشَّيْءِ مَا يُقَامُ بِهِ كَقَوْلِكَ: مِلَاكُ الْأَمْرِ لِمَا يُمْلَكُ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْبَالِغُ إِذَا كَانَ مُبَذِّرًا لِلْمَالِ مُفْسِدًا لَهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ سَفِيهٌ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ، إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ سَفِيهٌ، لِأَنَّ السَّفِيهَ فِي اللُّغَةِ، هُوَ مَنْ خَفَّ وَزْنُهُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ كَانَ مُبَذِّرًا لِلْمَالِ مُفْسِدًا لَهُ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ فِي الْقَلْبِ وَقْعٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، فَكَانَ خَفِيفَ الْوَزْنِ عِنْدَهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ يُسَمَّى بِالسَّفِيهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَزِمَ انْدِرَاجُهُ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنْ إِيتَاءِ الْمَالِ السَّفِيهَ أَمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: وَارْزُقُوهُمْ وَمَعْنَاهُ: وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِمْ وَمَعْنَى الرِّزْقِ مِنَ الْعِبَادِ هُوَ الْإِجْرَاءُ الْمُوَظَّفُ لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ يُقَالُ: فُلَانٌ رَزَقَ عِيَالَهُ أَيْ أَجْرَى عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: فِيها وَلَمْ يَقُلْ: مِنْهَا لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ أَمْرًا بِأَنْ يَجْعَلُوا بَعْضَ أَمْوَالِهِمْ رِزْقًا لَهُمْ، بَلْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا أَمْوَالَهُمْ مَكَانًا لِرِزْقِهِمْ بِأَنْ يَتَّجِرُوا فِيهَا وَيُثَمِّرُوهَا فَيَجْعَلُوا أَرْزَاقَهُمْ مِنَ الْأَرْبَاحِ لَا مِنْ أُصُولِ الْأَمْوَالِ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَاكْسُوهُمْ وَالْمُرَادُ ظَاهِرٌ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْلَ الْجَمِيلَ يُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ فَيُزِيلُ السَّفَهَ، أَمَّا خِلَافُ الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ يَزِيدُ السَّفِيهَ سَفَهًا وَنُقْصَانًا. وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمُجَاهِدٌ: إِنَّهُ الْعُدَّةُ الْجَمِيلَةُ مِنَ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: إِذَا رَبِحْتُ فِي سُفْرَتِي هَذِهِ فَعَلْتُ بِكَ مَا أَنْتَ أَهْلُهُ، وَإِنْ

[سورة النساء (4) : آية 6]

غَنِمْتُ فِي غَزَاتِي أَعْطَيْتُكَ، وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهُ الدُّعَاءُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: عَافَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ وَأَحَبَّتْهُ مِنْ قَوْلٍ وَعَمِلَ فَهُوَ مَعْرُوفٌ وَكُلُّ مَا أَنْكَرَتْهُ وَكَرِهَتْهُ وَنَفَرَتْ مِنْهُ فَهُوَ مُنْكَرٌ، وَثَالِثُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى عَلِّمُوهُمْ مَعَ إِطْعَامِكُمْ وَكُسْوَتِكُمْ إِيَّاهُمْ أَمْرَ دِينِهِمْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَرَابِعُهَا: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ/ هُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ صَبِيًّا، فَالْوَلِيُّ يُعَرِّفُهُ أَنَّ الْمَالَ مَالُهُ وَهُوَ خَازِنٌ لَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا زَالَ صِبَاهُ فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْمَالَ إِلَيْهِ، ونظيره هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضُّحَى: 9] مَعْنَاهُ لَا تُعَاشِرْهُ بِالتَّسَلُّطِ عَلَيْهِ كَمَا تُعَاشِرُ الْعَبِيدَ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً [الْإِسْرَاءِ: 28] وَإِنْ كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ سَفِيهًا وَعَظَهُ وَنَصَحَهُ وَحَثَّهُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَرَغَّبَهُ فِي تَرْكِ التَّبْذِيرِ وَالْإِسْرَافِ، وَعَرَّفَهُ أَنَّ عَاقِبَةَ التَّبْذِيرِ الْفَقْرُ وَالِاحْتِيَاجُ إِلَى الْخَلْقِ إِلَى مَا يُشْبِهُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْكَلَامِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أحسن من سائر الوجوه التي حكيناها. [سورة النساء (4) : آية 6] وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مِنْ قَبْلُ بِدَفْعِ مَالِ الْيَتِيمِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النساء: 2] بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَتَى يُؤْتِيهِمْ أَمْوَالَهُمْ، فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ وَشَرَطَ فِي دَفْعِ أَمْوَالِهِمْ إِلَيْهِمْ شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بُلُوغُ النِّكَاحِ، وَالثَّانِي: إِينَاسُ الرُّشْدِ، وَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِهِمَا حَتَّى يَجُوزَ دَفْعُ مَالِهِمْ إِلَيْهِمْ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: تَصَرُّفَاتُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ الْمُمَيِّزِ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ صَحِيحَةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: غَيْرُ صَحِيحَةٍ، احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى قَوْلِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الِابْتِلَاءَ إِنَّمَا يَحْصُلُ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الِابْتِلَاءِ اخْتِبَارُ حَالِهِ فِي أَنَّهُ هَلْ لَهُ تَصَرُّفٌ صَالِحٌ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَهَذَا الِاخْتِبَارُ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَعْنَى نَفْسَ الِاخْتِبَارِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الِاخْتِبَارِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، يُقَالُ: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى إِلَّا فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ/ لَدَخَلَ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَابْتَلُوا الْيَتامى أَمْرٌ لِلْأَوْلِيَاءِ بِأَنْ يَأْذَنُوا لَهُمْ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي صِحَّةَ تَصَرُّفَاتِهِمْ. أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَابْتَلُوا الْيَتامى الْإِذْنَ لَهُمْ فِي التَّصَرُّفِ حَالَ الصِّغَرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَإِنَّمَا أَمَرَ بِدَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِينَاسِ الرُّشْدِ، وَإِذَا ثَبَتَ بِمُوجِبِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ حَالَ الصِّغَرِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ تَصَرُّفُهُ حَالَ الصِّغَرِ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ، فَجَوَابُهُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الِابْتِلَاءِ اخْتِبَارُ عَقْلِهِ وَاسْتِبْرَاءُ حَالِهِ، فِي أَنَّهُ هَلْ لَهُ فَهْمٌ وَعَقْلٌ وَقُدْرَةٌ فِي مَعْرِفَةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَذَلِكَ إِذَا بَاعَ الْوَلِيَّ وَاشْتَرَى بِحُضُورِ الصَّبِيِّ، ثُمَّ يَسْتَكْشِفُ مِنَ الصَّبِيِّ أَحْوَالَ ذَلِكَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَلَا شَكَّ أَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ يَحْصُلُ الِاخْتِبَارُ وَالِابْتِلَاءُ، وَأَيْضًا: هَبْ أَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَدْفَعُ إِلَيْهِ شَيْئًا لِيَبِيعَ أَوْ يَشْتَرِيَ، فَلِمَ قُلْتَ إِنَّ هَذَا الْقَدْرَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، بَلْ إِذَا بَاعَ وَاشْتَرَى وَحَصَلَ بِهِ اخْتِبَارُ عَقْلِهِ، فَالْوَلِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ يُتَمِّمُ الْبَيْعَ وَذَلِكَ الشِّرَاءَ، وَهَذَا مُحْتَمَلٌ واللَّه أعلم.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنْ بُلُوغِ النِّكَاحِ هُوَ الِاحْتِلَامُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ [النور: 59] وَهُوَ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةٌ عَنِ الْبُلُوغِ مَبْلَغَ الرِّجَالِ الَّذِي عِنْدَهُ يَجْرِي عَلَى صَاحِبِهِ الْقَلَمُ وَيَلْزَمُهُ الْحُدُودُ وَالْأَحْكَامُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الِاحْتِلَامُ بُلُوغَ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ إِنْزَالُ الْمَاءِ الدَّافِقِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْجِمَاعِ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْبُلُوغِ عَلَامَاتٌ خَمْسَةٌ: مِنْهَا ثَلَاثَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَهُوَ الِاحْتِلَامُ وَالسِّنُّ الْمَخْصُوصُ، وَنَبَاتُ الشَّعْرِ الخشن على العانة، واثنان منها مُخْتَصَّانِ بِالنِّسَاءِ، وَهُمَا: الْحَيْضُ وَالْحَبَلُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَّا إِينَاسُ الرُّشْدِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَفْسِيرِ الْإِينَاسِ وَمِنْ تَفْسِيرِ الرُّشْدِ، أَمَّا الْإِينَاسُ فَقَوْلُهُ: آنَسْتُمْ أَيْ عَرَفْتُمْ وَقِيلَ: رَأَيْتُمْ، وَأَصْلُ الْإِينَاسِ فِي اللُّغَةِ الْإِبْصَارُ، وَمِنْهُ قَوْلِهِ: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَارًا [الْقَصَصِ: 29] وَأَمَّا الرُّشْدُ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الرُّشْدَ الَّذِي لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِصَلَاحِ مَالِهِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَادًا، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مُصْلِحٌ لِمَا لَهُ حَتَّى لَا يَقَعَ مِنْهُ إِسْرَافٌ وَلَا يَكُونَ بِحَيْثُ يَقْدِرُ الْغَيْرُ عَلَى خَدِيعَتِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُضَمُّ إِلَيْهِ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ؟ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: الرُّشْدُ هُوَ إِصَابَةُ الْخَيْرِ، وَالْمُفْسِدُ فِي دِينِهِ لَا يَكُونُ مُصِيبًا لِلْخَيْرِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الرُّشْدَ نَقِيضُ/ الْغَيِّ قَالَ تَعَالَى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [الْبَقَرَةِ: 256] والغني هُوَ الضَّلَالُ وَالْفَسَادُ وَقَالَ تَعَالَى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: 121] فَجَعَلَ الْعَاصِيَ غَوِيًّا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّشْدَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا مَعَ الصَّلَاحِ فِي الدِّينِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هُودٍ: 97] نَفْيُ الرُّشْدِ عَنْهُ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يُرَاعِي مَصَالِحَ الدِّينِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْفَاسِقِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَرَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ فَإِنَّهُ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ دُفِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ هَذَا السِّنَّ لِأَنَّ مُدَّةَ بُلُوغِ الذَّكَرِ عِنْدَهُ بِالسِّنِّ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَإِذَا زَادَ عَلَيْهِ سَبْعَ سِنِينَ وَهِيَ مُدَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي تَغَيُّرِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ» فَعِنْدَ ذَلِكَ تَمَّتِ الْمُدَّةُ الَّتِي يُمْكِنُ فِيهَا حُصُولُ تَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ، فَعِنْدَهَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ، أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ أَوْ لَمْ يُؤْنَسْ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ أَبَدًا إِلَّا بِإِينَاسِ الرُّشْدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: لَا شَكَّ أَنَّ اسْمَ الرُّشْدِ وَاقِعٌ عَلَى الْعَقْلِ فِي الْجُمْلَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى شَرَطَ رُشْدًا مُنَكَّرًا وَلَمْ يَشْتَرِطْ سَائِرَ ضُرُوبِ الرُّشْدِ، فَاقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ الْعَقْلُ فَقَدْ حَصَلَ مَا هُوَ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَيَلْزَمُ جَوَازَ دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْآيَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَابْتَلُوا الْيَتامى وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ ابْتِلَاؤُهُمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ حِفْظِ الْمَالِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فِي حِفْظِ الْمَالِ وَضَبْطِ مَصَالِحِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ ذَلِكَ تَفَكَّكَ النَّظْمُ وَلَمْ يَبْقَ لِلْبَعْضِ تَعَلُّقٌ بِالْبَعْضِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا عَلِمْنَا أَنَّ الشَّرْطَ الْمُعْتَبَرَ فِي الْآيَةِ هُوَ حُصُولُ الرُّشْدِ فِي رِعَايَةِ مَصَالِحِ الْمَالِ، وَعِنْدَ هَذَا سَقَطَ اسْتِدْلَالُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ، بَلْ تَنْقَلِبُ هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ رِعَايَةَ مَصَالِحِ الْمَالِ شَرْطًا فِي جَوَازِ دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الشَّرْطُ مَفْقُودًا بَعْدَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ

سَنَةً، وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ، وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ أَيْضًا يُقَوِّي الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا النَّصِّ، لِأَنَّ الصَّبِيَّ إِنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ الْمَالُ لِفِقْدَانِ الْعَقْلِ الْهَادِي إِلَى كَيْفِيَّةِ حِفْظِ الْمَالِ وَكَيْفِيَّةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى حَاصِلًا فِي الشَّبَابِ وَالشَّيْخِ كَانَ فِي حُكْمِ الصَّبِيِّ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ إِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً دُفِعُ إِلَيْهِ مَالُهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ تَغَيَّرَ وَصَارَ سَفِيهًا حُجِرَ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَدْ مَرَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً [النساء: 5] وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِ مَالُهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِ مَالُهُ لِئَلَّا يَصِيرَ الْمَالُ ضَائِعًا فَيَكُونَ بَاقِيًا مُرْصَدًا لِيَوْمِ حَاجَتِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ فِي السَّفَهِ الطَّارِئِ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْفَائِدَةُ فِي تَنْكِيرِ الرُّشْدِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الرُّشْدُ فِي التَّصَرُّفِ وَالتِّجَارَةِ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ حُصُولُ طَرَفٍ مِنَ الرُّشْدِ وَظُهُورِ أَثَرٍ مِنْ آثَارِهِ حَتَّى لَا يُنْتَظَرَ بِهِ تَمَامُ الرُّشْدِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَإِنْ أَحَسْتُمْ، بِمَعْنَى أَحْسَسْتُمْ قَالَ: أَحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إِلَيْهِ شُوسُ وَقُرِئَ رَشَدًا بِفَتْحَتَيْنِ وَرُشُدًا بِضَمَّتَيْنِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ الشَّرْطَيْنِ أَعْنِي الْبُلُوغَ وَإِينَاسَ الرُّشْدِ يَجِبُ دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ تَعَالَى مَعَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ كَمَالَ الْعَقْلِ، لِأَنَّ إِينَاسَ الرُّشْدِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْعَقْلِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْعَقْلِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا أَيْ مُسْرِفِينَ وَمُبَادِرِينَ كِبَرِهِمْ أَوْ لِإِسْرَافِكُمْ وَمُبَادَرَتِكُمْ كِبَرَهُمْ تُفَرِّطُونَ فِي إِنْفَاقِهَا وَتَقُولُونَ: نُنْفِقُ كَمَا نَشْتَهِي قَبْلَ أَنْ يَكْبُرَ الْيَتَامَى فَيَنْزِعُوهَا مِنْ أَيْدِينَا، ثُمَّ قَسَمَ الْأَمْرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَصِيُّ غَنِيًّا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا فَقَالَ: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: اسْتَعَفَّ عَنِ الشَّيْءِ وَعَفَّ إِذَا امْتَنَعَ مِنْهُ وَتَرَكَهُ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : اسْتَعَفَّ أَبْلَغُ مِنْ عَفَّ كَأَنَّهُ طَالَبَ زِيَادَةَ الْعِفَّةِ وَقَالَ: وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ الْوَصِيَّ هَلْ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَالِ الْيَتِيمِ؟ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ له أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ وَبِقَدْرِ أَجْرِ عَمَلِهِ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً مُشْعِرٌ بِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ بِقَدَرِ الْحَاجَةِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَقَوْلُهُ: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ نَهْيَ الْوَصِيِّ الْغَنِيِّ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِمَالِ نَفْسِهِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ نَهْيُهُ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِمَالِ الْيَتِيمِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ إِذْنًا لِلْوَصِيِّ فِي أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَالِ الْيَتِيمِ بِمِقْدَارِ الْحَاجَةِ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى / ظُلْماً [النِّسَاءِ: 10] وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَالَ الْيَتِيمِ قَدْ يُؤْكَلُ ظُلْمًا وَغَيْرَ ظُلْمٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً فَائِدَةٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْوَصِيِّ الْمُحْتَاجِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَرَابِعُهَا: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: إِنَّ تَحْتَ حِجْرِي يَتِيمًا أَآكُلُ مِنْ مَالِهِ؟ قَالَ: بِالْمَعْرُوفِ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا وَلَا وَاقٍ مَالَكَ بماله،

قَالَ: أَفَأَضْرِبُهُ؟ قَالَ: مِمَّا كُنْتَ ضَارِبًا مِنْهُ وَلَدَكَ، وَخَامِسُهَا: مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى عَمَّارٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي رَزَقْتُكُمْ كُلَّ يَوْمٍ شَاةً شَطْرُهَا لِعَمَّارٍ، وَرُبُعُهَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَرُبُعُهَا لِعُثْمَانَ، أَلَا وَإِنِّي قَدْ أَنْزَلْتُ نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ وَلِيِّ مَالِ الْيَتِيمِ: مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ، وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ وَلِيَّ يَتِيمٍ قَالَ لَهُ: أَفَأَشْرَبُ مِنْ لَبَنِ إِبِلِهِ؟ قَالَ: إِنْ كُنْتَ تَبْغِي ضَالَّتَهَا وَتَلُوطُ حَوْضَهَا وَتَهْنَأُ جَرْبَاهَا وَتَسْقِيهَا يَوْمَ وِرْدِهَا، فَاشْرَبْ غَيْرَ مُضِرٍّ بِنَسْلٍ، وَلَا نَاهِكٍ فِي الْحَلْبِ وَعَنْهُ أَيْضًا: يَضْرِبُ بِيَدِهِ مَعَ أَيْدِيهِمْ فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَلْبَسْ عِمَامَةً فَمَا فَوْقَهَا، وَسَادِسُهَا: أَنَّ الْوَصِيَّ لَمَّا تَكَفَّلَ بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِ الصَّبِيِّ وَجَبَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِ عَمَلِهِ قِيَاسًا عَلَى السَّاعِي فِي أَخْذِ الصَّدَقَاتِ وَجَمْعِهَا، فَإِنَّهُ يُضْرَبُ لَهُ فِي تلك الصدقات بسهم، فكذا هاهنا، فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الْقَوْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ له أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ قَرْضًا، ثُمَّ إِذَا أَيْسَرَ قَضَاهُ، وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقَضَاءِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ خَصَّ هَذَا الْإِقْرَاضَ بِأُصُولِ الْأَمْوَالِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهَا، فَأَمَّا التَّنَاوُلُ مِنْ أَلْبَانِ الْمَوَاشِي وَاسْتِخْدَامِ الْعَبِيدِ وَرُكُوبِ الدَّوَابِّ، فَمُبَاحٌ لَهُ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُضِرٍّ بِالْمَالِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَغَيْرِهِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَحَكَمَ فِي الْأَمْوَالِ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِمْ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: الَّذِي نَعْرِفُهُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ عَلَى سَبِيلِ الْقَرْضِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ، سَوَاءً كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا. وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِآيَاتٍ: مِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ إلى قوله: إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً [النساء: 2] وَمِنْهَا: قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النِّسَاءِ: 10] وَمِنْهَا: قَوْلُهُ: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ [النِّسَاءِ: 127] وَمِنْهَا: قَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [الْبَقَرَةِ: 188] قَالَ: فَهَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ حَاصِرَةٌ لِمَالِ الْيَتِيمِ عَلَى وَصِيِّهِ فِي حَالِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ مُتَشَابِهٌ مُحْتَمِلٌ فَوَجَبَ رَدُّهُ لِكَوْنِهِ مُتَشَابِهًا إلى تلك المحكمات، وعندي أن هذه الآيات لَا تَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبَ الرَّازِيُّ/ إِلَيْهِ. أما قوله: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ فَهُوَ عَامٌّ وَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا خَاصَّةٌ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً فَهُوَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ أَكْلَ الْوَصِيِّ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ بِالْمَعْرُوفِ ظُلْمٌ، وَهَلِ النِّزَاعُ إِلَّا فِيهِ، وَهُوَ الْجَوَابُ بِعَيْنِهِ عَنْ قوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ أما قوله: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ فَهُوَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْأَكْلَ لَيْسَ بِقِسْطٍ، وَالنِّزَاعُ لَيْسَ إِلَّا فِيهِ، فَثَبَتَ أَنَّ كَلَامَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ سَاقِطٌ رَكِيكٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّ إِذَا دَفَعَ الْمَالَ إِلَى الْيَتِيمِ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ بَالِغًا، فَإِنَّ الْأَوْلَى وَالْأَحْوَطَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْيَتِيمَ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِقَبْضِ الْمَالِ كَانَ أَبْعَدَ مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ مَا لَيْسَ لَهُ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْيَتِيمَ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى الدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ أَقَامَ الْوَصِيُّ الشَّهَادَةَ عَلَى أَنَّهُ دَفَعَ مَالَهُ إِلَيْهِ. ثَالِثُهَا: أَنْ تَظْهَرَ أَمَانَةُ الْوَصِيِّ وَبَرَاءَةُ سَاحَتِهِ، وَنَظِيرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ وَلَا يَكْتُمْ وَلَا يُغَيِّبْ» فَأَمَرَهُ بِالْإِشْهَادِ لِتَظْهَرَ أَمَانَتُهُ وَتَزُولَ التُّهْمَةُ عَنْهُ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ أَنَّ الْأَحْوَطَ هُوَ الْإِشْهَادُ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْوَصِيَّ إِذَا ادَّعَى بَعْدَ بُلُوغِ الْيَتِيمِ أَنَّهُ قَدْ دَفَعَ الْمَالَ إِلَيْهِ هَلْ هُوَ مُصَدَّقٌ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْفَقْتُ

عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ هَلْ هُوَ مُصَدَّقٌ؟ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُصَدَّقُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يُصَدَّقُ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ أَمْرٌ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، وَأَيْضًا قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقَيِّمُ غَيْرُ مُؤْتَمَنٍ مِنْ جِهَةِ الْيَتِيمِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُؤْتَمَنٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَطَعَنَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي هَذَا الْكَلَامِ مَعَ السَّفَاهَةِ الشَّدِيدَةِ وَقَالَ: لَوْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ عِلَّةً لَنَفْيِ التَّصْدِيقِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُصَدَّقَ الْقَاضِي إِذَا قَالَ لِلْيَتِيمِ: قَدْ دَفَعْتُ إِلَيْكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ، وَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ فِي الْأَبِ إِذَا قَالَ بَعْدَ بُلُوغِ الصَّبِيِّ: قَدْ دَفَعْتُ مَالَكَ إِلَيْكَ أَنْ لَا يُصَدَّقَ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ، وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا أَنْ يُوجِبَ الضَّمَانَ عَلَيْهِمْ إِذَا تَصَادَقُوا بَعْدَ الْبُلُوغِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ لِأَنَّهُ أَمْسَكَ مَالَهُ مِنْ غَيْرِ ائْتِمَانٍ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّ قَوْلَكَ هَذَا لَبَعِيدٌ عَنْ مَعَانِي الْفِقْهِ، أَمَّا النَّقْضُ بِالْقَاضِي فَبَعِيدٌ، لِأَنَّ الْقَاضِيَ حَاكِمٌ فَيَجِبُ إِزَالَةُ التُّهْمَةِ عَنْهُ لِيَصِيرَ قَضَاؤُهُ نَافِذًا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَتَمَكَّنَ كُلُّ مَنْ قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِأَنْ يَنْسُبَهُ إِلَى الْكَذِبِ وَالْمَيْلِ وَالْمُدَاهَنَةِ، وَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ الْقَاضِي إِلَى قَاضٍ آخَرَ، وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي وَصِيِّ الْيَتِيمِ، وَأَمَّا الْأَبُ فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ شَفَقَتَهُ أَتَمُّ مِنْ شَفَقَةِ الْأَجْنَبِيِّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قِلَّةِ التُّهْمَةِ فِي حَقِّ الْأَبِ قِلَّتُهَا فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ، وَأَمَّا إِذَا تَصَادَقُوا بَعْدَ/ الْبُلُوغِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ فَنَقُولُ: إِنْ كَانَ قَدِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ هَلَكَ لِسَبَبِ تَقْصِيرِهِ فَهَهُنَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ، أَمَّا إِذَا اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ هَلَكَ لَا بِتَقْصِيرِهِ، فَهَهُنَا يَجِبُ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ، وَإِلَّا لَصَارَ ذَلِكَ مَانِعًا لِلنَّاسِ مِنْ قَبُولِ الْوَصَايَةِ، فَيَقَعُ الْخَلَلُ فِي هَذَا الْمُهِمِّ الْعَظِيمِ، فَأَمَّا الْإِشْهَادُ عِنْدَ الرَّدِّ إِلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَإِنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الْفَرْقَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَتِيمَ حَصَلَ فِي حَقِّهِ مَا يُوجِبُ التُّهْمَةَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَرَيَانِ الْعَادَةِ بِكَثْرَةِ إِقْدَامِ الْوَلِيِّ عَلَى ظُلْمِ الْأَيْتَامِ وَالصِّبْيَانِ، وَإِذَنْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَأَكُّدِ مُوجِبَاتِ التُّهْمَةِ فِي حَقِّ وَلِيِّ الْيَتِيمِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا أَشْعَرَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ رِعَايَةُ جَانِبِ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنِ ادِّعَاءِ دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ حُضُورِ الشَّاهِدِ، صَارَ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُ مِنَ الظُّلْمِ وَالْبَخْسِ وَالنُّقْصَانِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: فَأَشْهِدُوا كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ لِظَاهِرِ الْإِيجَابِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنَّ الْقَرَائِنَ وَالْمَصَالِحَ تَقْتَضِي الْإِيجَابَ، ثُمَّ قَالَ هَذَا الرَّازِيُّ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِيهِ بِغَيْرِ إِشْهَادٍ، اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهِ وَإِمْسَاكِهِ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ حَتَّى يُوصِلَهُ إِلَى الْيَتِيمِ فِي وَقْتِ اسْتِحْقَاقِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَدَائِعِ وَالْمُضَارِبَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُصَدَّقًا عَلَى الرَّدِّ كَمَا يُصَدَّقُ عَلَى رَدِّ الْوَدِيعَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَصُورَةِ الْوَدِيعَةِ فَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَاعْتِرَاضُكَ عَلَى ذَلِكَ الْفَرْقِ قَدْ سَبَقَ إِبْطَالُهُ، وَأَيْضًا فَعَادَتُكَ تَرْكُ الِالْتِفَاتِ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِقِيَاسٍ رَكِيكٍ تَتَخَيَّلُهُ، وَمِثْلُ هَذَا الْفِقْهِ مُسَلَّمٌ لَكَ، وَلَا يَجِبُ الْمُشَارَكَةُ فِيهِ مَعَكَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَالْأَزْهَرِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْحَسِيبُ بِمَعْنَى الْمُحَاسِبِ، وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْكَافِي، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُمْ لِلرَّجُلِ لِلتَّهْدِيدِ: حَسْبُهُ اللَّهُ وَمَعْنَاهُ يُحَاسِبُهُ اللَّهُ عَلَى مَا يَفْعَلُ مِنَ الظُّلْمِ، وَنَظِيرُ قَوْلِنَا الْحَسِيبُ بِمَعْنَى الْمُحَاسِبِ، قَوْلُنَا الشَّرِيبُ بِمَعْنَى الْمُشَارِبِ، وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُمْ: حَسِيبُكَ اللَّهُ أَيْ كَافِيكَ اللَّهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا وَعِيدٌ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَإِعْلَامٌ لَهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ بَاطِنَهُ كَمَا يَعْلَمُ ظَاهِرَهُ لِئَلَّا يَنْوِيَ أَوْ يَعْمَلَ فِي مَالِهِ مَا لَا يَحِلُّ، وَيَقُومَ بِالْأَمَانَةِ التَّامَّةِ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ مَالُهُ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ سَوَاءً فَسَّرْنَا الْحَسِيبَ بِالْمُحَاسِبِ أَوْ بِالْكَافِي.

[سورة النساء (4) : آية 7]

وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ وَكَفى بِرَبِّكَ [الْإِسْرَاءِ: 65] فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ زَائِدَةٌ، هكذا نقله الواحدي عن الزجاج وحَسِيباً نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ كَفَى اللَّهُ حَالَ كونه محاسبا، وحال كونه كافيا. [سورة النساء (4) : آية 7] لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوَارِيثِ وَالْفَرَائِضِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَوْسَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ تُوُفِّيَ عَنْ ثَلَاثِ بَنَاتٍ وَامْرَأَةٍ، فَجَاءَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَمِّهِ وَهُمَا وَصِيَّانِ لَهُ يُقَالُ لَهُمَا: سُوَيْدٌ، وَعَرْفَجَةُ وَأَخَذَا مَالَهُ. فَجَاءَتِ امْرَأَةُ أَوْسٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَتِ الْقِصَّةَ، وَذَكَرَتْ أَنَّ الْوَصِيَّيْنِ مَا دَفَعَا إِلَيَّ بَنَاتِهِ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ارْجِعِي إِلَى بَيْتِكَ حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُحْدِثُ اللَّهُ فِي أَمْرِكِ» فَنَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ لِلرِّجَالِ نَصِيبًا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبًا، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنِ الْمِقْدَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَأَرْسَلَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْوَصِيَّيْنِ وَقَالَ: «لَا تَقْرَبَا مِنْ مَالِ أَوْسٍ شَيْئًا» ثُمَّ نَزَلَ بَعْدُ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النِّسَاءِ: 11] وَنَزَلَ فَرْضُ الزَّوْجِ وَفَرْضُ الْمَرْأَةِ، فَأَمَرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْوَصِيَّيْنِ أَنْ يَدْفَعَا إِلَى الْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَيُمْسِكَا نَصِيبَ الْبَنَاتِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ أَرْسَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَيْهِمَا أَنِ ادْفَعَا نَصِيبَ بَنَاتِهَا إِلَيْهَا فَدَفَعَاهُ إِلَيْهَا، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، وَيَقُولُونَ لَا يَرِثُ إِلَّا مَنْ طَاعَنَ بِالرِّمَاحِ وَذَادَ عَنِ الْحَوْزَةِ وَحَازَ الْغَنِيمَةَ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْإِرْثَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالرِّجَالِ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَذَا الْقَدْرَ، ثُمَّ ذَكَرَ التَّفْصِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَمْتَنِعُ إِذَا كَانَ لِلْقَوْمِ عَادَةٌ فِي تَوْرِيثِ الْكِبَارِ دُونَ الصِّغَارِ وَدُونَ النِّسَاءِ، أَنْ يَنْقُلَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ تِلْكَ الْعَادَةِ قَلِيلًا قَلِيلًا عَلَى التَّدْرِيجِ، لِأَنَّ الِانْتِقَالَ عَنِ الْعَادَةِ شَاقٌّ ثَقِيلٌ عَلَى الطَّبْعِ، فَإِذَا كَانَ دُفْعَةً عَظُمَ وَقْعُهُ عَلَى الْقَلْبِ، وَإِذَا كَانَ عَلَى التَّدْرِيجِ سَهُلَ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمُجْمَلَ أَوَّلًا، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِالتَّفْصِيلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ قَالَ: / لِأَنَّ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ والأخوال وَأَوْلَادَ الْبَنَاتِ مِنَ الْأَقْرَبِينَ، فَوَجَبَ دُخُولُهُمْ تَحْتَ قَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ قَدْرَ ذَلِكَ النَّصِيبِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَّا أَنَّا نُثْبِتُ كَوْنَهُمْ مُسْتَحِقِّينَ لِأَصِلِ النَّصِيبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَمَّا الْمِقْدَارُ فَنَسْتَفِيدُهُ مِنْ سَائِرِ الدَّلَائِلِ. وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ نَصِيباً مَفْرُوضاً أَيْ نَصِيبًا مُقَدَّرًا، وَبِالْإِجْمَاعِ لَيْسَ لِذَوِي الْأَرْحَامِ نَصِيبٌ مُقَدَّرٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا دَاخِلِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَقْرَبِينَ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْأَقْرَبِينَ؟ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَقْرَبِينَ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي دُخُولَ أَكْثَرِ الْخَلْقِ فِيهِ، لِأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ لَهُ نَسَبٌ مَعَ غَيْرِهِ إِمَّا بِوَجْهٍ قَرِيبٍ أَوْ بِوَجْهٍ بَعِيدٍ، وَهُوَ الِانْتِسَابُ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السلام،

[سورة النساء (4) : آية 8]

وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ هُوَ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ، فَيَلْزَمُ دُخُولُ كُلِّ الْخَلْقِ فِي هَذَا النَّصِّ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا الِاحْتِمَالُ وَجَبَ حَمْلُ النَّصِّ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَقْرَبِينَ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا الْوَالِدَانِ وَالْأَوْلَادُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا النَّصَّ لَا يَدْخُلُ فِيهِ ذَوُو الْأَرْحَامِ، لَا يُقَالُ: لَوْ حَمَلْنَا الْأَقْرَبِينَ عَلَى الْوَالِدَيْنِ لَزِمَ التَّكْرَارُ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْأَقْرَبُ جِنْسٌ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ نَوْعَانِ: الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْوَالِدَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَقْرَبِينَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ ذَكَرَ النَّوْعَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْجِنْسَ فَلَمْ يَلْزَمِ التَّكْرَارُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: نَصِيباً فِي نَصْبِهِ وَجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ نَصْبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِمَعْنَى أَعْنِي نَصِيبًا مَفْرُوضًا مَقْطُوعًا وَاجِبًا، وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ النَّصِيبَ اسْمٌ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ قِيلَ: قَسَمًا وَاجِبًا، كَقَوْلِهِ: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [التوبة: 60، النِّسَاءِ: 11] أَيْ قِسْمَةً مَفْرُوضَةً. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَصْلُ الْفَرْضِ الْحَزُّ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْحَزُّ الَّذِي فِي سِيَةِ الْقَوْسِ فَرْضًا، وَالْحَزُّ الَّذِي فِي الْقِدَاحِ يُسَمَّى أَيْضًا فَرْضًا، وَهُوَ عَلَامَةٌ لَهَا تُمَيِّزُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا، وَالْفُرْضَةُ الْعَلَامَةُ فِي مَقْسِمِ الْمَاءِ، يَعْرِفُ بِهَا كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنَ الشُّرْبِ، فَهَذَا هُوَ أَصْلُ الْفَرْضِ فِي اللُّغَةِ، ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ خَصَّصُوا لَفْظَ الْفَرْضِ بِمَا عُرِفَ وَجُوبُهُ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ، وَاسْمَ الْوُجُوبِ بِمَا عُرِفَ وَجُوبُهُ بِدَلِيلٍ مَظْنُونٍ، قَالُوا: لِأَنَّ الْفَرْضَ عِبَارَةٌ عَنِ الْحَزِّ وَالْقَطْعِ، وَأَمَّا الْوُجُوبُ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ السُّقُوطِ، يُقَالُ: وَجَبَتِ الشَّمْسُ إِذَا سَقَطَتْ، وَوَجَبَ الْحَائِطُ إِذَا سَقَطَ، وَسَمِعْتُ وَجْبَةً يَعْنِي سَقْطَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها [الْحَجِّ: 36] يَعْنِي سَقَطَتْ، فَثَبَتَ أَنَّ الْفَرْضَ عِبَارَةٌ عَنِ الْحَزِّ وَالْقَطْعِ، وَأَنَّ الْوُجُوبَ عِبَارَةٌ عَنِ السُّقُوطِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَأْثِيرَ الْحَزِّ وَالْقَطْعِ أَقْوَى وَأَكْمَلُ مِنْ تَأْثِيرِ السُّقُوطِ. / فَلِهَذَا السَّبَبِ خَصَّصَ أَصْحَابُ أَبِي حنيفة لفظة الْفَرْضِ بِمَا عُرِفَ وَجُوبُهُ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ، وَلَفْظَ الْوُجُوبِ بِمَا عُرِفَ وَجُوبُهُ بِدَلِيلٍ مَظْنُونٍ. إِذَا عرفت هذا فنقول: هذا الذي قرروه يقتضي عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْآيَةَ مَا تَنَاوَلَتْ ذَوِي الْأَرْحَامِ لِأَنَّ تَوْرِيثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ لَيْسَ مِنْ بَابِ مَا عُرِفَ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ تَوْرِيثُهُمْ فَرْضًا، وَالْآيَةُ إِنَّمَا تَنَاوَلَتِ التَّوْرِيثَ الْمَفْرُوضَ، فَلَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَا تناولت ذوي الأرحام، والله أعلم. [سورة النساء (4) : آية 8] وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَيِّ قِسْمَةٍ هِيَ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى حصل لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ النِّسَاءَ أُسْوَةُ الرِّجَالِ فِي أَنَّ لَهُنَّ حَظًّا مِنَ الْمِيرَاثِ، وَعَلِمَ تَعَالَى أَنَّ فِي الْأَقَارِبِ مَنْ يَرِثُ وَمَنْ لَا يَرِثُ، وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ إِذَا حَضَرُوا وَقْتَ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ تُرِكُوا مَحْرُومِينَ بِالْكُلِّيَّةِ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَلَا جَرَمَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ عِنْدَ الْقِسْمَةِ حَتَّى يَحْصُلَ الْأَدَبُ الْجَمِيلُ وَحُسْنُ الْعِشْرَةِ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَنْدُوبٌ، أَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْوَارِثُ إِنْ كَانَ كَبِيرًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْضَخَ لِمَنْ حَضَرَ الْقِسْمَةَ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ بِقَدْرِ مَا تَطِيبُ نَفْسُهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا وَجَبَ عَلَى الْوَلِيِّ إِعْطَاؤُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَ الْوَارِثُ كَبِيرًا، وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِعْطَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ، وإن

كَانَ صَغِيرًا وَجَبَ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَعْتَذِرَ إِلَيْهِمْ، وَيَقُولَ: إِنِّي لَا أَمَلِكُ هَذَا الْمَالَ إِنَّمَا هُوَ لِهَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَقِّ، وَإِنْ يَكْبَرُوا فَسَيَعْرِفُونَ حَقَّكُمْ، فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ، وَثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: هَذَا الرَّضْخُ مُخْتَصٌّ بِقِسْمَةِ الْأَعْيَانِ، فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى قِسْمَةِ الْأَرَضِينَ وَالرَّقِيقِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، قَالَ لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: ارْجِعُوا بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ، وَثَالِثُهَا: قَالُوا: مِقْدَارُ مَا يَجِبُ فِيهِ الرَّضْخُ شَيْءٌ قَلِيلٌ، وَلَا تَقْدِيرَ/ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُوبِ هَذَا الْحُكْمِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالضَّحَّاكِ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ: الْآيَةُ مَحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَهَؤُلَاءِ كَانُوا يُعْطُونَ مَنْ حَضَرَ شَيْئًا مِنَ التَّرِكَةِ. رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَسَمَ مِيرَاثَ أَبِيهِ وَعَائِشَةُ حَيَّةٌ، فَلَمْ يَتْرُكْ فِي الدَّارِ أَحَدًا إِلَّا أَعْطَاهُ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، فَهَذَا كُلُّهُ تَفْصِيلُ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ ثَبَتَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ ثَبَتَ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالْإِيجَابِ، وَهَذَا النَّدْبُ أَيْضًا إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا كَانَتِ الْوَرَثَةُ كِبَارًا، أَمَّا إِذَا كَانُوا صِغَارًا فَلَيْسَ إِلَّا الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِهَؤُلَاءِ حَقٌّ مُعَيَّنٌ لَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْرَ ذَلِكَ الْحَقِّ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَحَيْثُ لَمْ يُبَيِّنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ لِشِدَّةِ حِرْصِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ عَلَى تَقْدِيرِهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَنُقِلَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاتُرِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِسْمَةِ الْوَصِيَّةُ، فَإِذَا حَضَرَهَا مَنْ لَا يَرِثُ مِنَ الْأَقْرِبَاءِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ نَصِيبًا مِنْ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ، وَيَقُولُ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ: قَوْلًا مَعْرُوفًا فِي الْوَقْتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُصُولِ السُّرُورِ إِلَيْهِمْ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذَكْرُ الْمِيرَاثِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ الْوَصِيَّةِ، وَيُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي الْوَصِيَّةِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى فَالْمُرَادُ مِنْ أُولِي الْقُرْبَى الَّذِينَ يَرِثُونَ والمراد من اليتامى وَالْمَسَاكِينُ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ. ثُمَّ قَالَ: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً فَقَوْلُهُ: فَارْزُقُوهُمْ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْبَى الَّذِينَ يَرِثُونَ وَقَوْلُهُ: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً رَاجِعٌ إِلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَحْكِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى مَا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمِيرَاثِ فَتَكُونُ الْكِنَايَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَائِدَةٌ إِلَى مَعْنَى الْقِسْمَةِ، لَا إِلَى لَفْظِهَا كَقَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ [يُوسُفَ: 76] وَالصُّوَاعُ مُذَكَّرٌ لَا يُكَنَّى عَنْهُ بالتأنيث، لكن ريد بِهِ الْمَشْرَبَةُ فَعَادَتِ الْكِنَايَةُ إِلَى الْمَعْنَى لَا إِلَى اللَّفْظِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ/ فَالْمُرَادُ بِالْقِسْمَةِ الْمَقْسُومُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ الرِّزْقُ مِنَ الْمَقْسُومِ لَا مِنْ نَفْسِ الْقِسْمَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَدَّمَ الْيَتَامَى عَلَى الْمَسَاكِينِ لِأَنَّ ضَعْفَ الْيَتَامَى أَكْثَرُ، وَحَاجَتَهُمْ أَشَدُّ، فَكَانَ وَضْعُ الصَّدَقَاتِ فِيهِمْ أَفْضَلَ وَأَعْظَمَ فِي الْأَجْرِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْأَشْبَهُ هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ أَنْ لَا يُتْبِعُ الْعَطِيَّةَ الْمَنَّ وَالْأَذَى بِالْقَوْلِ أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ الْوَعْدَ بِالزِّيَادَةِ وَالِاعْتِذَارَ لِمَنْ لَمْ يُعْطِهُ شيئا.

[سورة النساء (4) : آية 9]

[سورة النساء (4) : آية 9] وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ هِيَ صِلَةٌ لِقَوْلِهِ: الَّذِينَ وَالْمَعْنَى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ مِنْ صِفَتِهِمْ أَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ وَأَمَّا الَّذِي يُخْشَى عَلَيْهِ فَغَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَسَنَذْكُرُ وُجُوهَ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ يُوجِبُ الِاحْتِيَاطَ لِلذُّرِّيَّةِ الضِّعَافِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا خِطَابٌ مَعَ الَّذِينَ يَجْلِسُونَ عِنْدَ الْمَرِيضِ فَيَقُولُونَ: إِنَّ ذَرِّيَّتَكَ لَا يُغْنُونَ عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فَأَوْصِ بِمَالِكَ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَلَا يَزَالُونَ يَأْمُرُونَهُ بِالْوَصِيَّةِ إِلَى الْأَجَانِبِ إِلَى أَنْ لَا يَبْقَى مِنْ مَالِهِ لِلْوَرَثَةِ شَيْءٌ أَصْلًا، فَقِيلَ لَهُمْ: كَمَا أَنَّكُمْ تَكْرَهُونَ بَقَاءَ أَوْلَادِكُمْ فِي الضَّعْفِ وَالْجُوعِ مِنْ غَيْرِ مَالٍ، فَاخْشَوُا اللَّهَ وَلَا تَحْمِلُوا الْمَرِيضَ عَلَى أَنْ يَحْرِمَ أَوْلَادَهُ الضُّعَفَاءَ مِنْ مَالِهِ. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّكَ لَا تَرْضَى مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ لِنَفْسِكَ، فَلَا تَرْضَهُ لِأَخِيكَ الْمُسْلِمِ. عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: سَأَلْتُ مِقْسَمًا عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي يَحْضُرُهُ الْمَوْتُ وَيُرِيدُ الْوَصِيَّةَ لِلْأَجَانِبِ، فَيَقُولُ لَهُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ: اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَى وَلَدِكَ مَالَكَ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الإنسان يجب أَنْ يُوصَى لَهُ، فَفِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى نَهْيِ الْحَاضِرِينَ/ عَنِ التَّرْغِيبِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي مَحْمُولَةٌ عَلَى نَهْيِ الحاضرين عن النهي عن الوصية، والأولى أَوْلَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً أَشْبَهُ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَأَقْرَبُ إِلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ خِطَابًا لِمَنْ قَرُبَ أَجَلُهُ، وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ نَهْيَهُ عَنْ تَكْثِيرِ الْوَصِيَّةِ لِئَلَّا تَبْقَى وَرَثَتُهُ ضَائِعِينَ جَائِعِينَ بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ قَبْلَ تَقْدِيرِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ، كَانَ الْمُرَادُ مِنْهَا أَنْ لَا يَجْعَلَ التَّرِكَةَ مُسْتَغْرَقَةً بِالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ بَعْدَ تَقْدِيرِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ، كَانَ الْمُرَادُ مِنْهَا أَنْ يُوصِيَ أَيْضًا بِالثُّلُثِ، بَلْ يَنْقُصُ إِذَا خَافَ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ وَصَّوْا بِالْقَلِيلِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: الْخُمُسُ أَفْضَلُ مِنَ الرُّبُعِ، وَالرُّبُعُ أَفْضَلُ مِنَ الثُّلُثِ، وَخَبَرُ سَعْدٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ لَأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» . وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا أَمْرٌ لِأَوْلِيَاءِ الْيَتِيمِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلْيَخْشَ مَنْ يَخَافُ عَلَى وَلَدِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ يَضِيعَ مَالُ الْيَتِيمِ الضَّعِيفِ الَّذِي هُوَ ذُرِّيَّةُ غَيْرِهِ إِذَا كَانَ فِي حِجْرِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَبْعَثَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى حِفْظِ مَالِهِ، وَأَنْ يُتْرَكَ نَفْسَهُ فِي حِفْظِهِ وَالِاحْتِيَاطُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا يُحِبُّهُ مِنْ غَيْرِهِ فِي ذُرِّيَّتِهِ لَوْ خَلَفَهُمْ وَخَلَفَ لَهُمْ مَالًا. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا أَلْيَقُ بِمَا تَقَدَّمَ وَتَأَخَّرَ مِنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي بَابِ الْأَيْتَامِ، فَجَعَلَ تَعَالَى آخِرَ مَا دَعَاهُمْ إِلَى حِفْظِ مَالِ الْيَتِيمِ أَنْ يُنَبِّهَهُمْ عَلَى حَالِ أَنْفُسِهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ إِذَا تَصَوَّرُوهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ أَقْوَى الدَّوَاعِي وَالْبَوَاعِثِ فِي هَذَا المقصود.

[سورة النساء (4) : آية 10]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ ضُعَفَاءَ، وَضُعَافَى، وَضَعَافَى: نَحْوُ سُكَارَى وَسَكَارَى. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَرَأَ حَمْزَةُ ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ بِالْإِمَالَةِ فِيهِمَا ثُمَّ قَالَ: وَوَجْهُ إِمَالَةِ ضِعَافٍ أَنَّ مَا كَانَ عَلَى وَزْنِ فِعَالٍ، وَكَانَ أَوَّلُهُ حَرْفًا مُسْتَعْلِيًا مَكْسُورًا نَحْوُ ضِعَافٍ، وَغِلَابٍ، وَخِبَابٍ، يَحْسُنُ فِيهِ الْإِمَالَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَصَعَّدَ بِالْحَرْفِ الْمُسْتَعْلِي ثُمَّ انْحَدَرَ بِالْكَسْرَةِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَتَصَعَّدَ بِالتَّفْخِيمِ بَعْدَ الْكَسْرِ حَتَّى يُوجَدَ الصَّوْتُ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا الْإِمَالَةُ فِي خافُوا فَهِيَ حَسَنَةٌ لِأَنَّهَا تَطْلُبُ الْكَسْرَةَ الَّتِي فِي خِفْتُ، ثُمَّ قَالَ: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً وَهُوَ كَالتَّقْرِيرِ لِمَا تَقَدَّمَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَالِاحْتِيَاطُ فِيهِ، وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا إِذَا أَرَادُوا بَعْثَ غَيْرِهِمْ عَلَى فِعْلٍ وَعَمَلٍ، وَالْقَوْلُ السَّدِيدُ هُوَ الْعَدْلُ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْقَوْلُ السَّدِيدُ مِنَ الْأَوْصِيَاءِ أَنْ لَا يُؤْذُوا الْيَتَامَى، وَيُكَلِّمُوهُمْ كَمَا يُكَلِّمُونَ أَوْلَادَهُمْ بِالتَّرْحِيبِ وَإِذَا خَاطَبُوهُمْ قَالُوا يَا بُنَيَّ، يَا وَلَدِي، وَالْقَوْلُ السَّدِيدُ مِنَ الْجَالِسِينَ إِلَى الْمَرِيضِ أَنْ يَقُولُوا: إِذَا أَرَدْتَ الْوَصِيَّةَ لَا تُسْرِفْ فِي وَصِيَّتِكَ وَلَا تُجْحِفْ بِأَوْلَادِكَ، مِثْلُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ وَالْقَوْلُ السَّدِيدُ مِنَ الْوَرَثَةِ حَالَ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ لِلْحَاضِرِينَ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ، أَنْ يُلْطِفُوا الْقَوْلَ لَهُمْ وَيَخُصُّوهُمْ بالإكرام. [سورة النساء (4) : آية 10] إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ الْوَعِيدَ فِي أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ ظُلْمًا، وَقَدْ كَثُرَ الْوَعِيدُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى عَلَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً [النساء: 2] وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً [النساء: 9] ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهَا هَذِهِ الْآيَةَ مُفْرَدَةً فِي وَعِيدِ مَنْ يَأْكُلُ أَمْوَالَهُمْ، وَذَلِكَ كُلُّهُ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْيَتَامَى لِأَنَّهُمْ لِكَمَالِ ضَعْفِهِمْ وَعَجْزِهِمُ اسْتَحَقُّوا مِنَ اللَّهِ مَزِيدَ الْعِنَايَةِ وَالْكَرَامَةِ، وَمَا أَشَدَّ دَلَالَةَ هَذَا الْوَعِيدِ عَلَى سَعَةِ رَحْمَتِهِ وَكَثْرَةِ عَفْوِهِ وَفَضْلِهِ، لِأَنَّ الْيَتَامَى لَمَّا بَلَغُوا فِي الضَّعْفِ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى بَلَغَتْ عِنَايَةُ اللَّهِ بِهِمْ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَالَ الْيَتِيمِ قَدْ يُؤْكَلُ غَيْرَ ظُلْمٍ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ، وَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ لِلْوَلِيِّ الْمُحْتَاجِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُجْرَى ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ قَالَ السُّدِّيُّ: إِذَا أَكَلَ الرَّجُلُ مَالَ الْيَتِيمِ ظُلْمًا يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهَبُ النَّارِ يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ وَمَسَامِعِهِ وَأُذُنَيْهِ وَعَيْنَيْهِ، يَعْرِفُ كُلُّ مَنْ رَآهُ أَنَّهُ أَكَلَ مَالَ الْيَتِيمِ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رَأَيْتُ قَوْمًا لَهُمْ مَشَافِرُ كَمَشَافِرِ الْإِبِلِ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِمْ مَنْ يَأْخُذُ بِمَشَافِرِهِمْ ثُمَّ يَجْعَلُ فِي أَفْوَاهِهِمْ صَخْرًا مِنَ النَّارِ يَخْرُجُ مِنْ أَسَافِلِهِمْ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ: فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا» . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ ذَلِكَ تَوَسُّعٌ، وَالْمُرَادُ: إِنَّ أَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ جَارٍ مَجْرَى أَكْلِ النَّارِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُفْضِي إِلَيْهِ وَيَسْتَلْزِمُهُ، وَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ أَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: / وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا الْإِشَارَةُ فِيهِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى التَّوَسُّعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْأَكْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْبَطْنِ فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا.

وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ كَقَوْلِهِ: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 167] وَالْقَوْلُ لَا يَكُونُ إلا بالفهم، وَقَالَ: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الْحَجِّ: 46] وَالْقَلْبُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الصَّدْرِ، وَقَالَ: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَامِ: 38] وَالطَّيَرَانُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْجَنَاحِ، وَالْغَرَضُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ التَّأْكِيدُ وَالْمُبَالَغَةُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ ذَكَرَ الْأَكْلَ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كُلُّ أَنْوَاعِ الْإِتْلَافَاتِ، فَإِنَّ ضَرَرَ الْيَتِيمِ لَا يَخْتَلِفُ بِأَنْ يَكُونَ إِتْلَافُ مَالِهِ بِالْأَكْلِ، أَوْ بِطْرِيقٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْأَكْلَ وَأَرَادَ بِهِ كُلَّ التَّصَرُّفَاتِ الْمُتْلِفَةِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ عَامَّةَ مَالِ الْيَتِيمِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ هُوَ الْأَنْعَامُ الَّتِي يَأْكُلُ لُحُومَهَا وَيَشْرَبُ أَلْبَانَهَا. فَخَرَجَ الْكَلَامُ عَلَى عَادَتِهِمْ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ جَرَتِ الْعَادَةُ فِيمَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ فِي وُجُوهِ مُرَادَاتِهِ خَيْرًا كَانَتْ أَوْ شَرًّا، أَنَّهُ يُقَالُ: إِنَّهُ أَكَلَ مَالَهُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأَكْلَ هُوَ الْمُعَظَّمُ فِيمَا يُبْتَغَى مِنَ التَّصَرُّفَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وَعِيدِ كُلِّ مَنْ فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ، سَوَاءً كَانَ مُسْلِمًا أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الْكُلُّ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْقَطْعِ بِالْوَعِيدِ وَقَوْلُهُ: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً يُوجِبُ الْقَطْعَ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا عَلَى غَيْرِ تَوْبَةٍ يَصْلَوْنَ هَذَا السَّعِيرَ لَا مَحَالَةَ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ مُسْتَقْصًى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ نَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَعِيدُ مَخْصُوصًا بِالْكُفَّارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الْبَقَرَةِ: 254] ثُمَّ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ أَكْلُ الْيَسِيرِ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّ الْوَعِيدَ مَشْرُوطٌ بِأَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُ تَوْبَةٌ وَلَا طَاعَةٌ أَعْظَمُ مِنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالَّذِي يَقْطَعُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ مَنْ تَكُونُ مَعْصِيَتُهُ كَبِيرَةً وَلَا يَكُونُ مَعَهَا تَوْبَةٌ، فَلَا جَرَمَ وَجَبَ أَنْ يَطْلُبَ قَدْرَ مَا يَكُونُ كَثِيرًا مَنْ أُكِلَ مَالُهُ، فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ: قَدْرُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَدْرُ الَّذِي وَقَعَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ فِي آيَةِ الْكَنْزِ فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ، هَذَا جُمْلَةُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، فَيُقَالُ لَهُ: فَأَنْتَ قَدْ خَالَفْتَ ظَاهِرَ هَذَا الْعُمُومِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّكَ زِدْتَ فِيهِ شَرْطَ عَدَمِ التَّوْبَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّكَ زِدْتَ فِيهِ عَدَمَ كَوْنِهِ صَغِيرًا، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نزيد فِيهِ شَرْطَ عَدَمِ التَّوْبَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّكَ زِدْتَ فِيهِ عَدَمَ كَوْنِهِ صَغِيرًا، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَزِيدَ فِيهِ شَرْطَ عَدَمِ الْعَفْوِ؟ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: مَا وَجَدْنَا دَلِيلًا يَدُلُّ/ عَلَى حُصُولِ الْعَفْوِ، لَكِنَّا نُجِيبُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ دَلَائِلَ الْعَفْوِ، بَلْ هِيَ كَثِيرَةٌ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالثَّانِي: هَبْ أَنَّكُمْ مَا وَجَدْتُمُوهَا لَكِنَّ عَدَمَ الْوِجْدَانِ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِعَدَمِ الْوُجُودِ، بَلْ يَبْقَى الِاحْتِمَالُ، وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ إِفَادَةِ الْقَطْعِ وَالْجَزْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ وَعِيدَ مَانِعِي الزَّكَاةِ بِالْكَيِّ فَقَالَ: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ [التَّوْبَةِ: 35] وَذَكَرَ وَعِيدَ آكِلِ مَالِ الْيَتِيمِ بِامْتِلَاءِ الْبَطْنِ مِنَ النَّارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ أَشَدُّ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ فِي بَابِ الزَّكَاةِ الْفَقِيرَ غَيْرُ مَالِكٍ لِجُزْءٍ مِنَ النِّصَابِ، بَلْ يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ أَنْ يُمَلِّكَهُ جزأ من ماله، أما هاهنا الْيَتِيمُ مَالِكٌ لِذَلِكَ الْمَالِ فَكَانَ مَنْعُهُ مِنَ الْيَتِيمِ أَقْبَحَ، فَكَانَ الْوَعِيدُ أَشَدَّ، وَلِأَنَّ الْفَقِيرَ قَدْ يَكُونُ كَبِيرًا فَيَقْدِرُ عَلَى الِاكْتِسَابِ، أَمَّا الْيَتِيمُ فَإِنَّهُ لِصِغَرِهِ وَضَعْفِهِ عَاجِزٌ فَكَانَ الْوَعِيدُ فِي إِتْلَافِ مَالِهِ أَشَدَّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَسَيَصْلَوْنَ بِضَمِّ الْيَاءِ، أَيْ يُدْخَلُونَ النَّارَ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ قَالَ أَبُو زَيْدٍ يُقَالُ: صَلِيَ الرَّجُلُ النَّارَ يَصْلَاهَا صَلًى وَصِلَاءً، وَهُوَ صَالِي النَّارِ، وَقَوْمٌ صَالُونَ وصلاء قال تعالى: إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ [الصَّافَّاتِ: 163] وَقَالَ: أَوْلى بِها

[سورة النساء (4) : آية 11]

صِلِيًّا [مريم: 70] وقال: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها [إبراهيم: 29، ص: 56، المجادلة: 8] قال الفراء: الصلي: اسم الوقود وهو الصلاة إِذَا كَسَرْتَ مَدَتَّ، وَإِذَا فَتَحْتَ قَصَرْتَ، وَمَنْ ضَمَّ الْيَاءَ فَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَصْلَاهُ اللَّهُ حَرَّ النَّارِ إِصْلَاءً. قَالَ: فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [النِّسَاءِ: 30] وَقَالَ تَعَالَى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [الْمُدَّثِّرِ: 26] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ سَيَصْلَوْنَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: السَّعِيرُ: هُوَ النَّارُ الْمُسْتَعِرَةُ يُقَالُ: سَعَرْتُ النَّارَ أَسْعَرُهَا سَعْرًا فَهِي مَسْعُورَةٌ وَسَعِيرٌ، وَالسَّعِيرُ مَعْدُولٌ عَنْ مَسْعُورَةٍ كَمَا عُدِلَ كَفٌّ خَضِيبٌ عَنْ مَخْضُوبَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: سَعِيراً لِأَنَّ الْمُرَادَ نَارٌ مِنَ النِّيرَانِ مُبْهَمَةٌ لَا يَعْرِفُ غَايَةَ شِدَّتِهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ فَاحْتَرَزُوا عَنْ مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى بِالْكُلِّيَّةِ، فَصَعُبَ الْأَمْرُ عَلَى الْيَتَامَى فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [الْبَقَرَةِ: 220] وَمِنَ الْجُهَّالِ مَنْ قَالَ: صَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِتِلْكَ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْمَنْعِ مِنَ الظُّلْمِ وَهَذَا لَا يَصِيرُ مَنْسُوخًا، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّ مُخَالَطَةَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الظُّلْمِ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الْإِثْمِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّرْبِيَةِ وَالْإِحْسَانِ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الْبِرِّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ والله أعلم. [سورة النساء (4) : آية 11] يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) [في قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ إلى قوله تعالى فَلَهَا النِّصْفُ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: النَّسَبُ، وَالْآخَرُ الْعَهْدُ، أَمَّا النَّسَبُ فَهُمْ مَا كَانُوا يُوَرِّثُونَ الصِّغَارَ وَلَا الْإِنَاثَ. وَإِنَّمَا كَانُوا يُوَرِّثُونَ مِنَ الْأَقَارِبِ الرِّجَالَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْخَيْلِ وَيَأْخُذُونَ الْغَنِيمَةَ، وَأَمَّا الْعَهْدُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْحِلْفُ، كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُ لِغَيْرِهِ: دَمِي دَمُكَ، وَهَدْمِي هَدْمُكَ، وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ، وَتَطْلُبُ بِي وَأَطْلُبُ بِكَ، فَإِذَا تَعَاهَدُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَأَيُّهَمَا مَاتَ قَبْلَ صَاحِبِهِ كَانَ لِلْحَيِّ مَا اشْتَرَطَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، وَالثَّانِي: التَّبَنِّي، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَتَبَنَّى ابْنَ غَيْرِهِ فَيُنْسَبُ إِلَيْهِ دُونَ أَبِيهِ مِنَ النَّسَبِ وَيَرِثُهُ، وَهَذَا التَّبَنِّي نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُعَاهَدَةِ، وَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: بَلْ قَرَّرَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النِّسَاءِ: 33] وَالْمُرَادُ التَّوَارُثُ بِالنَّسَبِ. ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النِّسَاءِ: 33] وَالْمُرَادُ بِهِ التَّوَارُثُ بِالْعَهْدِ، وَالْأَوَّلُونَ قَالُوا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّصِيبَ مِنَ الْمَالِ، بَلِ الْمُرَادُ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ النُّصْرَةِ وَالنَّصِيحَةِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ، فَهَذَا شَرْحُ أَسْبَابِ التَّوَارُثِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

وَأَمَّا أَسْبَابُ التَّوَارُثِ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ قَرَّرَ الْحِلْفَ وَالتَّبَنِّيَ، وَزَادَ فِيهِ أَمْرَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْهِجْرَةُ، فَكَانَ الْمُهَاجِرُ يَرِثُ مِنَ الْمُهَاجِرِ. وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ، إِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخْتَصًّا بِالْآخَرِ بِمَزِيدِ الْمُخَالَطَةِ وَالْمُخَالَصَةِ، وَلَا يَرِثُهُ غَيْرُ الْمُهَاجِرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَقَارِبِهِ. وَالثَّانِي: الْمُؤَاخَاةُ، كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤَاخِي بَيْنَ كُلِّ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلتَّوَارُثِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَسَخَ كُلَّ هَذِهِ الأسباب بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الْأَحْزَابِ: 6] وَالَّذِي تَقَرَّرَ عَلَيْهِ دِينُ الْإِسْلَامِ أَنَّ أَسْبَابَ التَّوْرِيثِ ثَلَاثَةٌ: النَّسَبُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْوَلَاءُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى عَطَاءٌ قَالَ: اسْتُشْهِدَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ وَتَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَامْرَأَةً وَأَخًا، فَأَخَذَ/ الْأَخُ الْمَالَ كُلَّهُ، فَأَتَتِ الْمَرْأَةُ وَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدٍ، وَإِنَّ سَعْدًا قُتِلَ وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ارْجِعِي فَلَعَلَّ اللَّهَ سَيَقْضِي فِيهِ» ثُمَّ إِنَّهَا عَادَتْ بَعْدَ مُدَّةٍ وَبَكَتْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّهُمَا وَقَالَ: «أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأَمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ، فَهَذَا أَوَّلُ مِيرَاثٍ قُسِمَ فِي الْإِسْلَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْحُكْمَ فِي مَالِ الْأَيْتَامِ، وَمَا عَلَى الْأَوْلِيَاءِ فِيهِ، بَيَّنَ كَيْفَ يَمْلِكُ هَذَا الْيَتِيمُ الْمَالَ بِالْإِرْثِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلَّا بِبَيَانِ جُمْلَةِ أَحْكَامِ الْمِيرَاثِ، الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ حُكْمَ الْمِيرَاثِ بِالْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النِّسَاءِ: 7] فَذَكَرَ عَقِيبَ ذَلِكَ الْمُجْمَلِ، هَذَا الْمُفَصَّلَ فَقَالَ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: قَوْلُهُ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ أَيْ يَقُولُ اللَّهُ لَكُمْ قَوْلًا يُوصِلُكُمْ إِلَى إِيفَاءِ حُقُوقِ أَوْلَادِكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ، وَأَصْلُ الْإِيصَاءِ هُوَ الْإِيصَالُ يُقَالُ: وَصَى يَصِي إِذَا وَصَلَ، وَأَوْصَى يُوصِي إِذَا أَوْصَلَ، فَإِذَا قِيلَ: أَوْصَانِي فَمَعْنَاهُ أَوْصَلَنِي إِلَى عِلْمِ مَا أَحْتَاجُ إِلَى عِلْمِهِ، وَكَذَلِكَ وَصَّى وَهُوَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ قال الزجاج: معنى قوله هاهنا: يُوصِيكُمُ أَيْ يَفْرِضُ عَلَيْكُمْ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مِنَ اللَّهِ إِيجَابٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ وَلَا شَكَّ فِي كَوْنِ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْنَا. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يُقَالُ فِي اللُّغَةِ أوصيك لكذا فكيف قال هاهنا: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. قُلْنَا: لَمَّا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ قَوْلًا، لَا جَرَمَ ذَكَرَ بَعْدَ قَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ خَبَرًا مُسْتَأْنَفًا وَقَالَ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الْفَتْحِ: 29] أَيْ قَالَ اللَّهُ: لَهُمْ مَغْفِرَةً لِأَنَّ الْوَعْدَ قَوْلٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بِذِكْرِ مِيرَاثِ الْأَوْلَادِ وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْإِنْسَانِ بِوَلَدِهِ أَشَدُّ التَّعَلُّقَاتِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي» فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ اللَّهُ ذِكْرَ مِيرَاثِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْأَوْلَادِ حَالَ انْفِرَادٍ، وَحَالَ اجْتِمَاعٍ مَعَ الْوَالِدَيْنِ: أَمَّا حَالُ الِانْفِرَادِ فَثَلَاثَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَيِّتَ إِمَّا أَنْ يَخْلُفَ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ مَعًا، وَإِمَّا أَنْ يَخْلُفَ الْإِنَاثَ فَقَطْ، أَوِ الذُّكُورَ فَقَطْ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا إِذَا خَلَفَ الذُّكْرَانَ وَالْإِنَاثَ مَعًا، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ الْحُكْمَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.

واعلم أن هذا يفيد أحكاما: أحدهما: إِذَا خَلَفَ الْمَيِّتُ ذَكَرًا وَاحِدًا وَأُنْثَى وَاحِدَةً فَلِلذَّكَرِ سَهْمَانِ وَلِلْأُنْثَى سَهْمٌ، وَثَانِيهَا: إِذَا كَانَ الْوَارِثُ جَمَاعَةٌ مِنَ الذُّكُورِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْإِنَاثِ كَانَ لِكُلِّ ذَكَرٍ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ أُنْثَى سَهْمٌ. وَثَالِثُهَا: إِذَا حَصَلَ مَعَ الْأَوْلَادِ جَمْعٌ آخَرُونَ مِنَ الْوَارِثِينَ كَالْأَبَوَيْنِ وَالزَّوْجَيْنِ فَهُمْ يَأْخُذُونَ سِهَامَهُمْ، وَكَانَ الْبَاقِي بَعْدَ تِلْكَ السِّهَامِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُفِيدُ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الْكَثِيرَةَ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا إِذَا مَاتَ وَخَلَفَ الإناث فقط: بين تعالى أنهم إِنْ كُنَّ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ، فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ، وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ الْبِنْتَيْنِ بِالْقَوْلِ الصَّرِيحِ. وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الثُّلُثَانِ فَرْضُ الثَّلَاثِ مِنَ الْبَنَاتِ فَصَاعِدًا، وَأَمَّا فَرْضُ الْبِنْتَيْنِ فَهُوَ النِّصْفُ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَكَلِمَةُ «إِنْ» فِي اللُّغَةِ لِلِاشْتِرَاطِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَخْذَ الثُّلُثَيْنِ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِهِنَّ ثَلَاثًا فَصَاعِدًا، وَذَلِكَ يَنْفِي حُصُولَ الثُّلُثَيْنِ لِلْبِنْتَيْنِ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَازِمٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فَجَعَلَ حُصُولَ النِّصْفِ مَشْرُوطًا بِكَوْنِهَا وَاحِدَةً، وَذَلِكَ يَنْفِي حُصُولَ النِّصْفِ نَصِيبًا لِلْبِنْتَيْنِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنْ صَحَّ فَهُوَ يُبْطِلُ قَوْلَهُ. الثَّانِي: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كَلِمَةَ «إِنْ» تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْوَصْفِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ التَّنَاقُضُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ دَلَّ عَلَى أَنَّ نَصِيبَ الثِّنْتَيْنِ إِمَّا النِّصْفُ، وَإِمَّا الثُّلُثَانِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ كَلِمَةُ «إِنْ» لِلِاشْتِرَاطِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِفَسَادِهِمَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِكَلِمَةِ الِاشْتِرَاطِ يُفْضِي إِلَى الْبَاطِلِ فَكَانَ بَاطِلًا، ولأنه تعالى قال: وَإِنْ ... لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة: 283] وَقَالَ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ [النساء: 101] ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُفِيدَ مَعْنَى الِاشْتِرَاطِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ: هُوَ أَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنَّ كُنَّ نِسَاءً اثْنَتَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ، فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ حُجَّةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا سَائِرُ الْأُمَّةِ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، قَالُوا: وَإِنَّمَا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: عَرَفْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ مَاتَ وَخَلَفَ ابْنًا وَبِنْتًا فَهَهُنَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ الِابْنِ الثُّلُثَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِذَا كَانَ نَصِيبُ الذَّكَرِ مِثْلَ نَصِيبِ الْأُنْثَيَيْنِ، وَنَصِيبُ الذكر هاهنا هُوَ الثُّلُثَانِ، وَجَبَ لَا مَحَالَةَ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ الِابْنَتَيْنِ/ الثُّلُثَيْنِ، الثَّانِي: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: إِذَا مَاتَ وَخَلَفَ ابْنًا وَبِنْتًا فَهَهُنَا نَصِيبُ الْبِنْتِ الثُّلُثُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِذَا كَانَ نَصِيبُ الْبِنْتِ مَعَ الْوَلَدِ الذَّكَرِ هُوَ الثُّلُثَ، فَبِأَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُمَا مَعَ وَلَدٍ آخَرَ أُنْثَى هُوَ الثُّلُثَ كَانَ أَوْلَى، لِأَنَّ الذَّكَرَ أَقْوَى مِنَ الْأُنْثَى. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُفِيدُ أَنَّ حَظَّ الْأُنْثَيَيْنِ أَزْيَدُ مِنْ حَظِّ الْأُنْثَى الْوَاحِدَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ حَظُّ الذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَى الْوَاحِدَةِ وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَظَّ الْأُنْثَيَيْنِ أَزْيَدُ مِنْ حَظِّ الْوَاحِدَةِ فَنَقُولُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ الثُّلُثَانِ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، وَالرَّابِعُ: أَنَّا ذَكَرْنَا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْطَى بِنْتَيْ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الثُّلُثَيْنِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمَ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْبَنَاتِ وَحُكْمَ الثَّلَاثِ فَمَا فَوْقَهُنَّ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ الثِّنْتَيْنِ، وَقَالَ فِي شَرْحِ مِيرَاثِ الْأَخَوَاتِ: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ... فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ [النِّسَاءِ: 176] فَهَهُنَا ذَكَرَ مِيرَاثَ الْأُخْتِ الْوَاحِدَةِ وَالْأُخْتَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ مِيرَاثَ الْأَخَوَاتِ الْكَثِيرَةِ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مُجْمَلًا مِنْ وَجْهٍ وَمُبَيَّنًا مِنْ وَجْهٍ، فَنَقُولُ: لَمَّا كَانَ نَصِيبُ الْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ كَانَتِ الْبِنْتَانِ أَوْلَى بِذَلِكَ،

لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْمَيِّتِ مِنَ الْأُخْتَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ نَصِيبُ الْبَنَاتِ الْكَثِيرَةِ لَا يَزْدَادُ عَلَى الثُّلُثَيْنِ وَجَبَ أَنْ لَا يَزْدَادَ نَصِيبُ الْأَخَوَاتِ الْكَثِيرَةِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْبِنْتَ لَمَّا كَانَتْ أَشَدَّ اتِّصَالًا بِالْمَيِّتِ امْتَنَعَ جَعْلُ الْأَضْعَفِ زَائِدًا عَلَى الْأَقْوَى، فَهَذَا مَجْمُوعُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَالْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْآيَةِ، وَالرَّابِعُ: مَأْخُوذٌ مِنَ السُّنَّةِ، وَالْخَامِسُ: مِنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ. أَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ إِذَا مَاتَ وَخَلَفَ الْأَوْلَادَ الذُّكُورَ فَقَطْ فَنَقُولُ: أَمَّا الِابْنُ الْوَاحِدُ فَإِنَّهُ إِذَا انْفَرَدَ أَخَذَ كُلَّ الْمَالِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: مِنْ دَلَالَةِ قوله تعالى: فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 176] فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَصِيبَ الذَّكَرِ مِثْلُ نَصِيبِ الْأُنْثَيَيْنِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي الْبَنَاتِ: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فَلَزِمَ مِنْ مَجْمُوعِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ نَصِيبَ الِابْنِ الْمُفْرَدِ جَمِيعُ الْمَالِ. الثَّانِي: أَنَّا نَسْتَفِيدُ ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ وَهِيَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ما أبقت السهام فلا ولى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ» وَلَا نِزَاعَ أَنَّ الِابْنَ عَصَبَةٌ ذَكَرٌ، وَلَمَّا كَانَ الِابْنُ آخِذًا لِكُلِّ مَا بَقِيَ بَعْدَ السِّهَامِ وَجَبَ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ سِهَامٌ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ. الثَّالِثُ: إِنَّ أَقْرَبَ الْعَصِبَاتِ إِلَى الْمَيِّتِ هُوَ الِابْنُ، وَلَيْسَ لَهُ بِالْإِجْمَاعِ قَدْرٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْمِيرَاثِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ صَاحِبُ فَرْضٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرًا أَوْلَى مِنْهُ بِأَنْ يَأْخُذَ الزَّائِدَ، فَوَجَبَ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ. فَإِنْ قِيلَ: حَظُّ الْأُنْثَيَيْنِ هُوَ الثُّلُثَانِ فَقَوْلُهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَظُّ/ الذَّكَرِ مُطْلَقًا هُوَ الثُّلُثُ، وَذَلِكَ يَنْفِي أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ الْمَالِ. قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْهُ حَالَ الِاجْتِمَاعِ لَا حَالَ الِانْفِرَادِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ يَقْتَضِي حُصُولَ الْأَوْلَادِ، وَقَوْلُهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يَقْتَضِي حُصُولَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى هُنَاكَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَقِيبَهُ حَالَ الِانْفِرَادِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا مَاتَ وَخَلَفَ ابْنًا وَاحِدًا فَقَطْ، أَمَّا إِذَا مَاتَ وَخَلَفَ أَبْنَاءً كَانُوا مُتَشَارِكِينَ فِي جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَا رُجْحَانَ، فَوَجَبَ قِسْمَةُ الْمَالِ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمَرْأَةَ أَعْجَزُ مِنَ الرَّجُلِ لِوُجُوهٍ: أَمَّا أَوَّلًا فَلِعَجْزِهَا عَنِ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ، فَإِنَّ زَوْجَهَا وَأَقَارِبَهَا يَمْنَعُونَهَا مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِنُقْصَانِ عَقْلِهَا وَكَثْرَةِ اخْتِدَاعِهَا وَاغْتِرَارِهَا. وَأَمَّا ثَالِثًا: فَلِأَنَّهَا مَتَى خَالَطَتِ الرِّجَالَ صَارَتْ مُتَّهَمَةً، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَجْزَهَا أَكْمَلُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهَا مِنَ الْمِيرَاثِ أَكْثَرَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ فَلَا أَقَلَّ مِنَ الْمُسَاوَاةِ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ نَصِيبَهَا نِصْفَ نَصِيبِ الرَّجُلِ. وَالْجَوَابُ عنه من وجوه: الأول: أن خروج الْمَرْأَةِ أَقَلُّ، لِأَنَّ زَوْجَهَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا، وَخَرْجَ الرَّجُلِ أَكْثَرُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْفِقُ عَلَى زَوْجَتِهِ، ومن كان خروجه أَكْثَرَ فَهُوَ إِلَى الْمَالِ أَحْوَجُ. الثَّانِي: أَنَّ الرَّجُلَ أَكْمَلُ حَالًا مِنَ الْمَرْأَةِ فِي الْخِلْقَةِ وَفِي الْعَقْلِ وَفِي الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ، مِثْلُ صَلَاحِيَّةِ الْقَضَاءِ وَالْإِمَامَةِ، وَأَيْضًا شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ نِصْفُ شَهَادَةِ الرَّجُلِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْعَامُ عَلَيْهِ أَزَيْدَ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ قَلِيلَةُ الْعَقْلِ كَثِيرَةُ الشَّهْوَةِ، فَإِذَا انْضَافَ إِلَيْهَا الْمَالُ الْكَثِيرُ عَظُمَ الْفَسَادُ قَالَ الشَّاعِرُ: إِنَّ الْفَرَاغَ وَالشَّبَابَ وَالْجِدَهْ ... مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيَّ مَفْسَدَهْ وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [الْعَلَقِ: 6، 7] وَحَالُ الرَّجُلِ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الرَّجُلَ لِكَمَالِ عَقْلِهِ يَصْرِفُ الْمَالَ إِلَى مَا يُفِيدُهُ الثَّنَاءَ الْجَمِيلَ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابَ الْجَزِيلَ فِي الآخرة،

نَحْوُ بِنَاءِ الرِّبَاطَاتِ، وَإِعَانَةِ الْمَلْهُوفِينَ وَالنَّفَقَةِ عَلَى الْأَيْتَامِ وَالْأَرَامِلِ، وَإِنَّمَا يَقْدِرُ الرَّجُلُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُخَالِطُ النَّاسَ كَثِيرًا، وَالْمَرْأَةُ تَقِلُّ مُخَالَطَتُهَا مَعَ النَّاسِ فَلَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. الْخَامِسُ: روي أن جعفر الصَّادِقَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: إِنَّ حَوَّاءَ أَخَذَتْ حَفْنَةً مِنَ الْحِنْطَةِ وَأَكَلَتْهَا، وَأَخَذَتْ حَفْنَةً أُخْرَى وَخَبَّأَتْهَا، ثُمَّ أَخَذَتْ حَفْنَةً أُخْرَى وَدَفَعَتْهَا إِلَى آدَمَ، فَلَمَّا جَعَلَتْ نَصِيبَ نَفْسِهَا ضِعْفَ نَصِيبِ الرَّجُلِ قَلَبَ اللَّهُ الْأَمْرَ عَلَيْهَا، فجل نَصِيبَ الْمَرْأَةِ نِصْفَ نَصِيبِ الرَّجُلِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ لَمْ يَقُلْ: لِلْأُنْثَيَيْنِ مِثْلُ حَظِّ الذَّكَرِ، أَوْ لِلْأُنْثَى مَثَلًا نِصْفُ حَظِّ الذَّكَرِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: لَمَّا كَانَ الذَّكَرُ أَفْضَلَ مِنَ الْأُنْثَى قَدَّمَ ذِكْرَهُ عَلَى ذِكْرِ الْأُنْثَى، كَمَا جَعَلَ نَصِيبَهُ ضِعْفَ نَصِيبِ الْأُنْثَى. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الذَّكَرِ بِالْمُطَابَقَةِ وَعَلَى نَقْصِ الْأُنْثَى بِالِالْتِزَامِ، وَلَوْ قَالَ: كَمَا ذَكَرْتُمْ لَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى نَقْصِ الْأُنْثَى بِالْمُطَابَقَةِ وَفَضْلِ الذَّكَرِ بِالِالْتِزَامِ، فَرَجَحَ الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ السَّعْيَ فِي تَشْهِيرِ الْفَضَائِلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَاجِحًا عَلَى السَّعْيِ فِي تَشْهِيرِ الرَّذَائِلِ، وَلِهَذَا قَالَ: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: 7] فَذَكَرَ الْإِحْسَانَ مَرَّتَيْنِ وَالْإِسَاءَةَ مَرَّةً وَاحِدَةً. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُوَرِّثُونَ الذُّكُورَ دُونَ الْإِنَاثِ وَهُوَ السَّبَبُ لِوُرُودِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقِيلَ: كَفَى لِلذَّكَرِ أَنْ جَعَلَ نَصِيبَهُ ضِعْفَ نَصِيبِ الْأُنْثَى، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطْمَعَ فِي جَعْلِ الْأُنْثَى مَحْرُومَةً عَنِ الْمِيرَاثِ بِالْكُلِّيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ وَاقِعٌ عَلَى وَلَدِ الصُّلْبِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي وَلَدِ الِابْنِ قال تعالى: يا بَنِي آدَمَ [الْأَعْرَافِ: 26] وَقَالَ لِلَّذِينِ كَانُوا فِي زَمَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: يا بَنِي إِسْرائِيلَ [الْبَقَرَةِ: 40] إِلَّا أَنَّ الْبَحْثَ فِي أَنَّ لَفْظَ الْوَلَدِ يَقَعُ عَلَى وَلَدِ الِابْنِ مَجَازًا أَوْ حَقِيقَةً. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَجَازٌ فَنَقُولُ: ثبت لي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي حَقِيقَتِهِ وَفِي مَجَازِهِ مَعًا، فَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ وَلَدَ الصُّلْبِ وَوَلَدَ الِابْنِ مَعًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّرِيقَ فِي دَفْعِ هَذَا الْإِشْكَالِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّا لَا نَسْتَفِيدُ حُكْمَ وَلَدِ الِابْنِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَلْ مِنَ السُّنَّةِ وَمِنَ الْقِيَاسِ، وَأَمَّا إِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَسْتَفِيدَهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَنَقُولُ: الْوَلَدُ وَوَلَدُ الِابْنِ مَا صَارَا مُرَادَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَوْلَادَ الِابْنِ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْمِيرَاثَ إِلَّا فِي إِحْدَى حَالَتَيْنِ، إِمَّا عِنْدَ عَدَمِ وَلَدِ الصُّلْبِ رَأْسًا، وَإِمَّا عند ما لَا يَأْخُذُ وَلَدُ الصُّلْبِ كُلَّ الْمِيرَاثِ، فَحِينَئِذٍ يَقْتَسِمُونَ الْبَاقِيَ، وَأَمَّا أَنْ يَسْتَحِقَّ وَلَدُ الِابْنِ مَعَ وَلَدِ الصُّلْبِ عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ كَمَا يَسْتَحِقُّهُ أَوْلَادُ الصُّلْبِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْوَلَدِ وَعَلَى وَلَدِ الِابْنِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ حَقِيقَتُهُ وَمَجَازُهُ مَعًا، لِأَنَّهُ حِينَ أُرِيدَ بِهِ وَلَدُ الصُّلْبِ مَا أُرِيدَ بِهِ وَلَدُ الِابْنِ، وَحِينَ أُرِيدَ بِهِ وَلَدُ الِابْنِ مَا أُرِيدَ بِهِ وَلَدُ الصُّلْبِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَارَةً تَكُونُ خِطَابًا مَعَ وَلَدِ الصُّلْبِ وَأُخْرَى مَعَ وَلَدِ الِابْنِ، وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ شَيْئًا وَاحِدًا، أَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ وُقُوعَ اسْمِ الْوَلَدِ عَلَى وَلَدِ الصُّلْبِ وَعَلَى وَلَدِ الِابْنِ يَكُونُ حَقِيقَةً، فَإِنْ جَعْلَنَا اللَّفْظَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عَادَ الْإِشْكَالُ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ لِإِفَادَةِ مَعْنَيَيْهِ مَعًا، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَجْعَلَهُ مُتَوَاطِئًا فِيهِمَا كَالْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ/ وَالْفَرَسِ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النِّسَاءِ: 23] وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ ابْنُ الصلب وأولاد الابن، فعلمنا

أن لفظ الابن متواطئ بالنسبة إلى ولد الصلب وولد الِابْنِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَحْثَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي أَنَّ الِابْنَ هَلْ يَتَنَاوَلُ أَوْلَادَ الِابْنِ قَائِمٌ فِي أَنَّ لَفْظَ الْأَبِ وَالْأُمِّ هَلْ يَتَنَاوَلُ الْأَجْدَادَ وَالْجَدَّاتِ؟ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [الْبَقَرَةِ: 133] وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْجَدِّ حُكْمٌ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ، وَلَوْ كَانَ اسْمُ الْأَبِ يَتَنَاوَلُ الْجَدَّ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ عُمُومَ قَوْلُهُ تَعَالَى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ زَعَمُوا أَنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي صُوَرٍ أَرْبَعَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحُرَّ وَالْعَبْدَ لَا يَتَوَارَثَانِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقَاتِلَ عَلَى سَبِيلِ الْعَمْدِ لَا يَرِثُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ، وَهَذَا خَبَرٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَبَلَغَ حَدَّ الْمُسْتَفِيضِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ فَرْعَانِ. الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ مِنَ الْمُسْلِمِ، أَمَّا الْمُسْلِمُ فَهَلْ يَرِثُ مِنَ الْكَافِرِ؟ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ أَيْضًا لَا يَرِثُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ يَرِثُ قَالَ الشَّعْبِيُّ: قَضَى مُعَاوِيَةُ بِذَلِكَ وَكَتَبَ بِهِ إِلَى زِيَادٍ، فَأَرْسَلَ ذَلِكَ زِيَادٌ إِلَى شُرَيْحٍ الْقَاضِي وَأَمَرَهُ بِهِ، وَكَانَ شُرَيْحٌ قَبْلَ ذَلِكَ يَقْضِي بِعَدَمِ التَّوْرِيثِ، فَلَمَّا أَمَرَهُ زِيَادٌ بِذَلِكَ كَانَ يَقْضِي بِهِ وَيَقُولُ: هَكَذَا قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. حُجَّةُ الْأَوَّلِينَ عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ» وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي: مَا رُوِيَ أَنَّ مُعَاذًا كَانَ بِالْيَمَنِ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ يَهُودِيًّا مَاتَ وَتَرَكَ أَخًا مُسْلِمًا فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْإِسْلَامُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ» ثُمَّ أَكَّدُوا ذَلِكَ بِأَنْ قَالُوا إِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يَقْتَضِي تَوْرِيثَ الْكَافِرِ مِنَ الْمُسْلِمِ، وَالْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ، إِلَّا أَنَّا خَصَّصْنَاهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ» لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ الْآيَةِ، وَالْخَاصُّ مقدم على العام فكذا هاهنا قَوْلُهُ: «الْإِسْلَامُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ» أَخَصُّ مِنْ قَوْلِهِ: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ» فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ، بَلْ هَذَا التَّخْصِيصُ أَوْلَى، لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْخَبَرِ مُتَأَكَّدٌ بِعُمُومِ الْآيَةِ، وَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَقْصَى مَا قِيلَ فِي جَوَابِهِ: أَنَّ قَوْلَهُ: «الْإِسْلَامُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ» لَيْسَ نَصًّا فِي وَاقِعَةِ الْمِيرَاثِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَحْوَالِ. الْفَرْعُ الثَّانِي: الْمُسْلِمُ إِذَا ارْتَدَّ ثُمَّ مَاتَ أَوْ قُتِلَ، فَالْمَالُ الَّذِي اكْتَسَبَهُ فِي زَمَانِ الرِّدَّةِ أَجْمَعُوا/ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوَرَّثُ، بَلْ يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ، أَمَّا الْمَالُ الَّذِي اكْتَسَبَهُ حَالَ كَوْنِهِ مُسْلِمًا فَفِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُوَرَّثُ بَلْ يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى تَرْجِيحِ قوله عليه السلام: «لا يتوارث أهل المتين» عَلَى عُمُومِ قَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَالْمُرْتَدُّ وَوَرَثَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ التَّوَارُثُ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُرْتَدَّ زَالَ مِلْكُهُ فِي آخِرِ الْإِسْلَامِ وَانْتَقَلَ إِلَى الْوَارِثِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمُسْلِمُ إِنَّمَا وَرِثَ عَنِ الْمُسْلِمِ لَا عَنِ الْكَافِرِ. قُلْنَا: لَوْ وَرِثَ الْمُسْلِمُ مِنَ الْمُرْتَدِّ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَرِثَهُ حَالَ حَيَاةِ الْمُرْتَدِّ أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي تِلْكَ الْأَمْوَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [الْمُؤْمِنُونَ: 6] وَهُوَ بِالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ عِنْدَ مَمَاتِهِ كَافِرٌ فَيُفْضِي إِلَى حُصُولِ التَّوَارُثِ بَيْنَ أَهْلِ مِلَّتَيْنِ، وهو خلاف الخبر. ولا يبقى هاهنا إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَرِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُسْتَنِدًا إِلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ إِسْلَامِهِ، إلا أن

الْقَوْلَ بِالِاسْتِنَادِ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْمِلْكُ حَاصِلًا حَالَ حَيَاةِ الْمُرْتَدِّ، فَلَوْ حَصَلَ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى وَجْهٍ صَارَ حَاصِلًا فِي زَمَنِ حَيَاتِهِ لَزِمَ إِيقَاعُ التَّصَرُّفِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَذَلِكَ بَاطِلٌ فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ، وَإِنْ فُسِّرَ الِاسْتِنَادُ بِالتَّبْيِينِ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى أَنَّ الْوَارِثَ وَرِثَهُ مِنَ الْمُرْتَدِّ حَالَ حَيَاةِ الْمُرْتَدِّ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ: مِنْ تَخْصِيصَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا هُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْمُجْتَهِدِينَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَا يُوَرَّثُونَ، وَالشِّيعَةُ خَالَفُوا فِيهِ، رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ لَمَّا طَلَبَتِ الْمِيرَاثَ وَمَنَعُوهَا مِنْهُ، احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُوَرَّثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» فَعِنْدَ هَذَا احْتَجَّتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَكَأَنَّهَا أَشَارَتْ إِلَى أَنَّ عُمُومَ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ إِنَّ الشِّيعَةَ قَالُوا: بِتَقْدِيرِ أَنْ يَجُوزَ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إِلَّا أَنَّهُ غير جائز هاهنا، وَبَيَانُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مَرْيَمَ: 6] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النَّمْلِ: 16] قَالُوا: وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى وِرَاثَةِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ وِرَاثَةً فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ يَكُونُ كَسْبًا جَدِيدًا مُبْتَدَأً، إِنَّمَا التَّوْرِيثُ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا فِي الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُحْتَاجَ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا كَانَ إِلَّا فَاطِمَةُ وَعَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ وَهَؤُلَاءِ كَانُوا مِنْ أَكَابِرِ الزُّهَّادِ وَالْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الدِّينِ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَإِنَّهُ مَا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْبَتَّةَ، لأنه ما كان ممن يخطر بباله أنه يَرِثَ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُبَلِّغَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِلَى مَنْ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهَا وَلَا يُبَلِّغَهَا إِلَى مَنْ لَهُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا أَشَدُّ الْحَاجَّةِ، وَثَالِثُهَا: يُحْتَمَلُ أَنَّ قَوْلَهُ: «مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» صِلَةٌ لِقَوْلِهِ: «لَا نُوَرَّثُ» وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ، فَذَلِكَ الشَّيْءُ لَا يُوَرَّثُ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَبْقَى لِلرَّسُولِ خَاصِّيَّةٌ فِي ذَلِكَ. قُلْنَا: بَلْ تَبْقَى الْخَاصِّيَّةُ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ إِذَا عَزَمُوا عَلَى التَّصَدُّقِ بِشَيْءٍ فَبِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ يَخْرُجُ ذَلِكَ عَنْ مِلْكِهِمْ وَلَا يَرِثُهُ وَارِثٌ عَنْهُمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَفْقُودٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ رَضِيَتْ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ فَسَقَطَ هَذَا السُّؤَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ مَعْنَاهُ لِلذَّكَرِ مِنْهُمْ، فَحَذَفَ الرَّاجِعَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ، كَقَوْلِكَ: السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ الْمَعْنَى إِنْ كَانَتِ الْبَنَاتُ أَوِ الْمَوْلُودَاتُ نِسَاءً خُلْصًا لَيْسَ مَعَهُنَّ ابْنٌ، وَقَوْلُهُ: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا لِكَانَ، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: نِساءً أَيْ نساء زائدات على اثنتين. وهاهنا سُؤَالَاتٌ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَلَامٌ مَذْكُورٌ لِبَيَانِ حَظِّ الذَّكَرِ مِنَ الْأَوْلَادِ، لَا لِبَيَانِ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ إِرَادَتُهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ كُنَّ نِساءً وَهُوَ لِبَيَانِ حَظِّ الْإِنَاثِ. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ دَلَّ عَلَى أَنَّ حَظَّ الْأُنْثَيَيْنِ هُوَ الثُّلُثَانِ، فَلَمَّا ذَكَرَ مَا دَلَّ عَلَى حُكْمِ الْأُنْثَيَيْنِ قَالَ بَعْدَهُ: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ عَلَى مَعْنَى: فَإِنْ كُنَّ جَمَاعَةَ بَالِغَاتٍ مَا بَلَغْنَ مِنَ الْعَدَدِ، فلهن ما للثنتين وَهُوَ الثُّلُثَانِ، لِيُعْلَمَ أَنَّ حُكْمَ الْجَمَاعَةِ حُكْمُ الثنتين

بِغَيْرِ تَفَاوُتٍ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْعَطْفَ مُتَنَاسِبٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأُنْثَيَيْنِ، فَكَفَى هَذَا الْقَوْلُ فِي حُسْنِ هَذَا الْعَطْفِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرَانِ فِي «كُنَّ» وَ «كَانَتْ» مُبْهَمَيْنِ وَيَكُونَ «نِسَاءً» وَ «وَاحِدَةً» تَفْسِيرًا لَهُمَا عَلَى أَنَّ «كَانَ» تَامَّةٌ؟ الْجَوَابُ: ذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَنَّهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: النِّسَاءُ: جَمْعٌ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، فَالنِّسَاءُ يَجِبُ أَنْ يَكُنَّ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ؟ الْجَوَابُ: مَنْ يَقُولُ أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ فَهَذِهِ الْآيَةُ حُجَّتُهُ، وَمَنْ يَقُولُ: هُوَ ثَلَاثَةٌ قَالَ هَذَا لِلتَّأْكِيدِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: 10] وَقَوْلِهِ: لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [النَّحْلِ: 51] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فَنَقُولُ: قَرَأَ نَافِعٌ (وَاحِدَةٌ) بِالرَّفْعِ، وَالْبَاقُونَ/ بِالنَّصْبِ، أَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى كَانَ التَّامَّةِ، وَالِاخْتِيَارُ النَّصْبُ لِأَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا لَهَا خَبَرٌ مَنْصُوبٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِنْ كُنَّ نِساءً وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكَاتُ أَوِ الْوَارِثَاتُ نساء فكذا هاهنا، التَّقْدِيرُ: وَإِنْ كَانَتِ الْمَتْرُوكَةُ وَاحِدَةً، وَقَرَأَ زَيْدُ بن علي: النصف، بضم النون. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ مِيرَاثِ الْأَوْلَادِ ذَكَرَ بَعْدَهُ مِيرَاثَ الْأَبَوَيْنِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْحَسَنُ وَنُعَيْمُ بْنُ أَبِي ميسر السُّدُسُ بالتخفيف وكذلك الربع والثمن. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ لِلْأَبَوَيْنِ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ. الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُمَا وَلَدٌ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَهَذِهِ الْحَالَةُ يُمْكِنُ وُقُوعُهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَحْصُلَ مَعَ الْأَبَوَيْنِ وَلَدٌ ذَكَرٌ وَاحِدٌ، أَوْ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ، فَهَهُنَا الْأَبَوَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ. وَثَانِيهَا: أَنْ يحصل مع الأبوين بنتان أو أكثر، وهاهنا الْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَحْصُلَ مَعَ الْأَبَوَيْنِ بِنْتٌ وَاحِدَةٌ فَهَهُنَا لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَبِ السُّدُسُ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ. والسدس الباقي أيضا للأب بحكم التعصيب، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَا شَكَّ أَنَّ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْظَمُ مِنْ حَقِّ وَلَدِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَلَغَ حَقُّ الْوَالِدَيْنِ إِلَى أَنْ قَرَنَ اللَّهُ طَاعَتَهُ بِطَاعَتِهِمَا فَقَالَ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْإِسْرَاءِ: 23] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا السَّبَبُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ نَصِيبَ الْأَوْلَادِ أَكْثَرَ وَنَصِيبَ الْوَالِدَيْنِ أَقَلَّ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا فِي نِهَايَةِ الْحُسْنِ وَالْحِكْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَالِدَيْنِ مَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِمَا إِلَّا الْقَلِيلُ فَكَانَ احْتِيَاجُهُمَا إِلَى الْمَالِ قَلِيلًا، أَمَّا الْأَوْلَادُ فَهُمْ فِي زَمَنِ الصِّبَا فَكَانَ احْتِيَاجُهُمْ إِلَى الْمَالِ كَثِيرًا فَظَهَرَ الْفَرْقُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَلِأَبَوَيْهِ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ الْجَوَابُ: أَنَّهُ ضَمِيرٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَالْمُرَادُ: وَلِأَبَوَيِ الْمَيِّتِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا المراد بالأبوين؟

وَالْجَوَابُ: هُمَا الْأَبُ وَالْأُمُّ، وَالْأَصْلُ فِي الْأُمِّ أَنْ يُقَالَ لَهَا أَبَةٌ، فَأَبَوَانِ تَثْنِيَةُ أَبٍ وَأَبَةٍ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: كَيْفَ تَرْكِيبُ هَذِهِ الْآيَةِ. الْجَوَابُ: قَوْلُهُ: لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لِأَبَوَيْهِ بِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ، وَفَائِدَةُ هَذَا الْبَدَلِ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: وَلِأَبَوَيْهِ السُّدُسُ لَكَانَ ظَاهِرُهُ اشْتِرَاكَهُمَا فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قِيلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَبَوَيْهِ السُّدُسُ. قُلْنَا: لِأَنَّ فِي الْإِبْدَالِ وَالتَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ تَأْكِيدًا وَتَشْدِيدًا، وَالسُّدُسُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ: لِأَبَوَيْهِ، وَالْبَدَلُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُمَا لِلْبَيَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ. وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ أَحْوَالِ الْأَبَوَيْنِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَحْصُلَ مَعَهُمَا أَحَدٌ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَلَا يَكُونَ هُنَاكَ وَارِثٌ سِوَاهُمَا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَهَهُنَا لِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَذَلِكَ فَرْضٌ لَهَا، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ ظَاهِرُهُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ سِوَاهُمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَجْمُوعُ الْمَالِ لَهُمَا، فَإِذَا كَانَ نَصِيبُ الْأُمِّ هُوَ الثُّلُثَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي وَهُوَ الثُّلُثَانِ لِلْأَبِ، فَهَهُنَا يَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَمَا فِي حَقِّ الْأَوْلَادِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَرْعَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ السَّابِقَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْأَبِ هُوَ السُّدُسُ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَأْخُذُ الثُّلُثَيْنِ إِلَّا أَنَّهُ هاهنا يَأْخُذُ السُّدُسَ بِالْفَرِيضَةِ، وَالنِّصْفَ بِالتَّعْصِيبِ. الثَّانِي: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ يَأْخُذُ النِّصْفَ بِالتَّعْصِيبِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَبُ إِذَا انْفَرَدَ أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ الْمَالِ، لِأَنَّ خَاصِّيَّةَ الْعَصَبَةِ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ عِنْدَ الِانْفِرَادِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ سِوَى الْأَبَوَيْنِ، أَمَّا إِذَا وَرِثَهُ أَبَوَاهُ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَذَهَبَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ يَأْخُذُ نَصِيبَهُ ثُمَّ يُدْفَعُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ إِلَى الْأُمِّ، وَيُدْفَعُ الْبَاقِي إِلَى الْأَبِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُدْفَعُ إِلَى الزَّوْجِ نَصِيبُهُ، وَإِلَى الْأُمِّ الثُّلُثُ، وَيُدْفَعُ الْبَاقِي إِلَى الْأَبِ، وَقَالَ: لَا أَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ثُلُثَ مَا بَقِيَ، وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ وَافَقَ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي الزَّوْجَةِ وَالْأَبَوَيْنِ، وَخَالَفَهُ فِي الزَّوْجِ وَالْأَبَوَيْنِ، لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى أَنْ يَكُونَ لِلْأُنْثَى مِثْلُ حَظِّ الذَّكَرَيْنِ، وَأَمَّا فِي الزَّوْجَةِ فَإِنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَاعِدَةَ الْمِيرَاثِ أَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَانَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الِابْنَ مَعَ الْبِنْتِ كَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ/ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَأَيْضًا الْأَخُ مَعَ الْأُخْتِ كَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النِّسَاءِ: 176] وَأَيْضًا الْأُمُّ مَعَ الْأَبِ كَذَلِكَ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا وَارِثَ غَيْرُهُمَا فَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَلِلْأَبِ الثُّلُثَانِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا أَخَذَ الزَّوْجُ نَصِيبَهُ وَجَبَ أَنْ يُبْقَى الْبَاقِي بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ أَثْلَاثًا، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. الثَّانِي: أَنَّ الْأَبَوَيْنِ يُشْبِهَانِ شَرِيكَيْنِ بَيْنَهُمَا مَالٌ، فَإِذَا صَارَ شَيْءٌ مِنْهُ مُسْتَحَقًّا بَقِيَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الِاسْتِحْقَاقِ الْأَوَّلِ، الثَّالِثُ: أَنَّ الزَّوْجَ إِنَّمَا أَخَذَ سَهْمَهُ بِحُكْمِ عَقْدِ النِّكَاحِ لَا بِحُكْمِ الْقَرَابَةِ، فَأَشْبَهَ الْوَصِيَّةَ فِي قِسْمَةِ الْبَاقِي، الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا خَلَفَتْ زَوْجًا وَأَبَوَيْنِ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، فَلَوْ دَفَعْنَا الثُّلُثَ إِلَى الْأُمِّ وَالسُّدُسَ إِلَى الْأَبِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ لِلْأُنْثَى مِثْلُ حَظِّ الذَّكَرَيْنِ، وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ: يَرْجِعُ حَاصِلُهَا إِلَى تَخْصِيصِ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِالْقِيَاسِ.

وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِأَحَدِ الْعُمُومَيْنِ بِالْعُمُومِ الثَّانِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فَلِإِمِّهِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ وَشَرَطُوا فِي جَوَازِ هَذِهِ الْكَسْرَةِ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهَا حَرْفًا مَكْسُورًا أَوْ يَاءً. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَكَقَوْلِهِ: فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ [الزمر: 6] . وأما الثاني: فكقوله: فِي أُمِّها رَسُولًا [القصص: 59] وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ هَذَا الشَّرْطُ فَلَيْسَ إِلَّا الضَّمُّ كَقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [الْمُؤْمِنُونَ: 50] وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَإِنَّهُمْ قَرَءُوا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، أَمَّا وَجْهُ مَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوا الضَّمَّةَ بَعْدَ الْكَسْرَةِ فِي قَوْلِهِ: فَلِأُمِّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّامَ لِشِدَّةِ اتِّصَالِهَا بِالْأُمِّ صَارَ الْمَجْمُوعُ كَأَنَّهُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِعُلٌ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَضَمِّ الْعَيْنِ، فَلَا جَرَمَ جُعِلَتِ الضَّمَّةُ كَسْرَةً، وَأَمَّا وَجْهُ مَنْ قَرَأَ الْهَمْزَةَ بِالضَّمِّ فَهُوَ أَتَى بِهَا عَلَى الْأَصْلِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ اسْتِعْمَالُ فِعُلٍ لِأَنَّ اللَّامَ فِي حُكْمِ الْمُنْفَصِلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ. اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ أَحْوَالِ الْأَبَوَيْنِ وَهِيَ أَنْ يُوجَدَ مَعَهُمَا الْإِخْوَةُ، وَالْأَخَوَاتُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأُخْتَ الْوَاحِدَةَ لَا تَحْجُبُ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَةَ يَحْجُبُونَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأُخْتَيْنِ، فَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ/ الْحَجْبِ كَمَا فِي الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَحْجُبَانِ كَمَا فِي حَقِّ الْوَاحِدَةِ، حُجَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَجْبَ مَشْرُوطٌ بِوُجُودِ الْإِخْوَةِ، وَلَفْظُ الْإِخْوَةِ جَمْعٌ وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدِ الثَّلَاثَةُ لَمْ يَحْصُلْ شَرْطُ الْحَجْبِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْحَجْبُ. رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لِعُثْمَانَ: بِمَ صَارَ الْأَخَوَانِ يَرُدَّانِ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ؟ وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ وَالْأَخَوَانِ فِي لِسَانِ قَوْمِكَ لَيْسَا بِإِخْوَةٍ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ قَضَاءً قَضَى بِهِ مَنْ قَبْلِي وَمَضَى فِي الْأَمْصَارِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ذَكَرَ ذَلِكَ مَعَ عُثْمَانَ، وَعُثْمَانُ مَا أَنْكَرَهُ، وَهَمَا كَانَا مِنْ صَمِيمِ الْعَرَبِ، وَمِنْ عُلَمَاءِ اللِّسَانِ، فَكَانَ اتِّفَاقُهُمَا حُجَّةً فِي ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَاحْتَجُّوا فِيهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيمِ: 4] وَلَا يَكُونُ لِلْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ أَكْثَرُ مِنْ قَلْبٍ وَاحِدٍ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ وَالتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ إِنَّمَا يَحْسُنُ لَوْ كَانَ لَفْظُ النِّسَاءِ صَالِحًا لِلثِّنْتَيْنِ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ زَعَمُوا أَنَّ ظَاهِرَ الْكِتَابِ يُوجِبُ الْحَجْبَ بِالْأَخَوَيْنِ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي نَصَرْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَظَاهِرُ الْكِتَابِ لَا يُوجِبُ الْحَجْبَ بِالْأَخَوَيْنِ، وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ لِذَلِكَ هُوَ الْقِيَاسُ، وَتَقْرِيرُهُ أَنْ نَقُولَ: الْأُخْتَانِ يُوجِبَانِ الْحَجْبَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَخَوَانِ وَجَبَ أَنْ يَحْجُبَا أَيْضًا، إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْأُخْتَيْنِ يَحْجُبَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا رَأَيْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَزَّلَ الِاثْنَيْنِ مِنَ النِّسَاءِ مَنْزِلَةَ الثَّلَاثَةِ فِي بَابِ الْمِيرَاثِ، أَلَا تَرَى أَنَّ نَصِيبَ الْبِنْتَيْنِ وَنَصِيبَ الثَّلَاثَةِ هُوَ الثُّلُثَانِ، وَأَيْضًا نَصِيبَ الْأُخْتَيْنِ مِنَ الْأُمِّ وَنَصِيبَ الثَّلَاثَةِ هُوَ الثُّلُثُ، فَهَذَا الِاسْتِقْرَاءُ يُوجِبُ أَنْ يَحْصُلَ الْحَجْبُ بِالْأُخْتَيْنِ، كَمَا أَنَّهُ حَصَلَ بِالْأَخَوَاتِ الثَّلَاثَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأُخْتَيْنِ يَحْجُبَانِ،

وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأُخْتَيْنِ لَزِمَ ثُبُوتُهُ فِي الْأَخَوَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ إِجْرَاءَ الْقِيَاسِ فِي التَّقْدِيرَاتِ صَعْبٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُجَرَّدَ تَشْبِيهٍ مِنْ غَيْرِ جَامِعٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَا يُتَمَسَّكُ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ، بَلْ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِقْرَاءِ لِأَنَّ الْكَثْرَةَ أَمَارَةُ الْعُمُومِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَأَكَّدَ هَذَا بِإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ عَلَى سُقُوطِ مَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْأَصَحُّ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْحَاصِلَ عَقِيبَ الْخِلَافِ حُجَّةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِخْوَةُ إِذَا حَجَبُوا الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ فَهُمْ لَا يَرِثُونَ شَيْئًا الْبَتَّةَ، بَلْ/ يَأْخُذُ الْأَبُ كُلَّ الْبَاقِي وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ، سُدُسٌ بِالْفَرْضِ، وَالْبَاقِي بِالتَّعْصِيبِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِخْوَةُ يَأْخُذُونَ السُّدُسَ الَّذِي حَجَبُوا الْأُمَّ عَنْهُ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يَرِثُ لَا يَحْجُبُ، فَهَؤُلَاءِ الْإِخْوَةُ لَمَّا حَجَبُوا وَجَبَ أَنْ يَرِثُوا، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ عِنْدَ عَدَمِ الْإِخْوَةِ كَانَ الْمَالُ مِلْكًا لِلْأَبَوَيْنِ، وَعِنْدَ وُجُودِ الْإِخْوَةِ لَمْ يَذْكُرْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا بِأَنَّهُمْ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ حَاجِبًا كَوْنُهُ وَارِثًا، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى الْمَالُ بَعْدَ حُصُولِ هَذَا الْحَجْبِ عَلَى مَلْكِ الْأَبَوَيْنِ، كَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أعلم. قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ. اعْلَمْ أَنَّ مَسَائِلَ الْوَصَايَا تُذْكَرُ فِي خَاتِمَةِ هذه الآية وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنْصِبَاءَ الْأَوْلَادِ وَالْوَالِدَيْنِ، قَالَ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ أَيْ هَذِهِ الْأَنْصِبَاءُ إِنَّمَا تُدْفَعُ إِلَى هَؤُلَاءِ إِذَا فَضَلَ عَنِ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَوَّلَ مَا يُخْرَجُ مِنَ التَّرِكَةِ الدَّيْنُ، حَتَّى لَوِ اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ كُلَّ مَالِ الْمَيِّتِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ حَقٌّ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ دَيْنٌ، أَوْ كَانَ إِلَّا أَنَّهُ قُضِيَ وَفَضَلَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، فَإِنْ أَوْصَى الْمَيِّتُ بِوَصِيَّةٍ أُخْرِجَتِ الْوَصِيَّةُ مِنْ ثُلُثِ مَا فَضَلَ، ثُمَّ قُسِمَ الْبَاقِي مِيرَاثًا عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَقْرَءُونَ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ، وَإِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مُرَادَهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ التَّقْدِيمُ فِي الذِّكْرِ وَاللَّفْظِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْوَصِيَّةِ عَلَى الدَّيْنِ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ كَلِمَةَ «أَوْ» لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ الْبَتَّةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي تَقْدِيمِ الْوَصِيَّةِ عَلَى الدَّيْنِ فِي اللَّفْظِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ مَالٌ يُؤْخَذُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ إِخْرَاجُهَا شَاقًّا عَلَى الْوَرَثَةِ، فَكَانَ أَدَاؤُهَا مَظِنَّةً لِلتَّفْرِيطِ بِخِلَافِ الدَّيْنِ، فَإِنَّ نُفُوسَ الْوَرَثَةِ مُطْمَئِنَّةٌ إِلَى أَدَائِهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ اللَّهُ ذِكْرَ الْوَصِيَّةِ عَلَى ذِكْرِ الدَّيْنِ فِي اللَّفْظِ بَعْثًا عَلَى أَدَائِهَا وَتَرْغِيبًا فِي إِخْرَاجِهَا، ثُمَّ أَكَّدَ فِي ذَلِكَ التَّرْغِيبِ بِإِدْخَالِ كَلِمَةِ «أَوْ» عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمَا فِي وُجُوبِ الْإِخْرَاجِ عَلَى السَّوِيَّةِ. الثَّانِي: أَنَّ سِهَامَ الْمَوَارِيثِ كَمَا أَنَّهَا تُؤَخَّرُ عَنِ الدَّيْنِ فَكَذَا تُؤَخَّرُ عَنِ الْوَصِيَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ كَانَ سِهَامُ الْوَرَثَةِ مُعْتَبَرَةً بَعْدَ تَسْلِيمِ الثُّلُثِ إِلَى الْمُوصَى لَهُ، فَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ ذِكْرِ الدَّيْنِ وَذِكْرِ الْوَصِيَّةِ، لِيُعْلِمَنَا أَنَّ سِهَامَ الْمِيرَاثِ مُعْتَبَرَةٌ/ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ كَمَا هِيَ مُعْتَبَرَةٌ بَعْدَ الدَّيْنِ، بَلْ فَرَّقَ بَيْنَ الدَّيْنِ وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ مِنَ الْمَالِ شَيْءٌ دَخَلَ النُّقْصَانُ فِي أَنْصِبَاءِ أَصْحَابِ الْوَصَايَا وَفِي أَنْصِبَاءِ أَصْحَابِ الْإِرْثِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الدَّيْنُ، فانه لَوْ هَلَكَ مِنَ الْمَالِ شَيْءٌ دَخَلَ النُّقْصَانُ فِي أَنْصِبَاءِ أَصْحَابِ الْوَصَايَا وَفِي أَنْصِبَاءِ أَصْحَابِ الْإِرْثِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الدَّيْنُ، فَإِنَّهُ لَوْ هَلَكَ مِنَ الْمَالِ شَيْءٌ اسْتُوْفِيَ الدَّيْنُ كُلُّهُ مِنَ الْبَاقِي، وَإِنِ اسْتَغْرَقَهُ بَطَلَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ وَحَقُّ الْوَرَثَةِ جَمِيعًا، فَالْوَصِيَّةُ تُشْبِهُ الْإِرْثَ مِنْ وَجْهٍ، وَالدَّيْنَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، أَمَّا مُشَابَهَتُهَا بِالْإِرْثِ فَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَتَى هَلَكَ مِنَ الْمَالِ شَيْءٌ دَخَلَ النُّقْصَانُ فِي أَنْصِبَاءِ أَصْحَابِ الْوَصِيَّةِ وَالْإِرْثِ، وَأَمَّا مُشَابَهَتُهَا بِالدَّيْنِ فَلِأَنَّ سِهَامَ

أَهْلِ الْمَوَارِيثِ مُعْتَبَرَةٌ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ كَمَا أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ بَعْدَ الدَّيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لقائل أن يقول: ما معنى «أو» هاهنا وَهَلَّا قِيلَ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ، وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ «أَوْ» مَعْنَاهَا الْإِبَاحَةُ كَمَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ: جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَهْلٌ أَنْ يُجَالَسَ، فَإِنْ جَالَسْتَ الْحَسَنَ فَأَنْتَ مُصِيبٌ، أَوِ ابْنَ سِيرِينَ فَأَنْتَ مُصِيبٌ، وَإِنْ جَمَعْتَهُمَا فَأَنْتَ مُصِيبٌ، أَمَّا لَوْ قَالَ: جَالِسِ الرَّجُلَيْنِ فَجَالَسْتَ وَاحِدًا مِنْهُمَا وَتَرَكْتَ الْآخَرَ كنت غير موافق للأمر، فكذا هاهنا لَوْ قَالَ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ وَدَيْنٍ وَجَبَ فِي كُلِّ مَالٍ أَنْ يَحْصُلَ فِيهِ الْأَمْرَانِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَمَّا إِذَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِ «أَوْ» كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ أَحَدَهُمَا إِنْ كَانَ فَالْمِيرَاثُ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ كِلَاهُمَا. الثَّانِي: أَنَّ كَلِمَةَ «أَوْ» إِذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ صَارَتْ فِي مَعْنَى الْوَاوِ كَقَوْلِهِ: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الْإِنْسَانِ: 24] وَقَوْلِهِ: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [الْأَنْعَامِ: 146] فكانت «أو» هاهنا بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ لَمَّا كَانَ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ وَصِيَّةٌ أَوْ دَيْنٌ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بَعْدَهُمَا جَمِيعًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ يُوصَى بِفَتْحِ الصَّادِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الصَّادِ إِضَافَةً إِلَى الْمُوصِي وَهُوَ الِاخْتِيَارُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. اعْلَمْ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ ذِكْرِ الْوَارِثِينَ وَأَنْصِبَائِهِمْ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ حَقِّ/ الِاعْتِرَاضِ أَنْ يَكُونَ مَا اعْتَرَضَ مُؤَكِّدًا مَا اعْتَرَضَ بَيْنَهُ وَمُنَاسِبَهُ، فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنْصِبَاءَ الْأَوْلَادِ وَأَنْصِبَاءَ الْأَبَوَيْنِ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْأَنْصِبَاءُ مُخْتَلِفَةً وَالْعُقُولُ لَا تَهْتَدِي إِلَى كَمِّيَّةِ تِلْكَ التَّقْدِيرَاتِ، وَالْإِنْسَانُ رُبَّمَا خَطَرَ بِبَالِهِ أَنَّ الْقِسْمَةَ لَوْ وَقَعَتْ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ كَانَتْ أنفع وَأَصْلَحَ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ كَانَتْ قِسْمَةُ الْعَرَبِ لِلْمَوَارِيثِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُوَرِّثُونَ الرِّجَالَ الْأَقْوِيَاءَ، وَمَا كَانُوا يُوَرِّثُونَ الصِّبْيَانَ وَالنِّسْوَانِ وَالضُّعَفَاءَ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَزَالَ هَذِهِ الشُّبْهَةَ بِأَنْ قَالَ: إِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عُقُولَكُمْ لَا تُحِيطُ بِمَصَالِحِكُمْ، فَرُبَّمَا اعْتَقَدْتُمْ فِي شَيْءٍ أَنَّهُ صَالِحٌ لَكُمْ وَهُوَ عَيْنُ الْمَضَرَّةِ وَرُبَّمَا اعْتَقَدْتُمْ فِيهِ أَنَّهُ عَيْنُ الْمَضَرَّةِ وَيَكُونُ عَيْنَ الْمَصْلَحَةِ، وَأَمَّا الْإِلَهُ الْحَكِيمُ الرَّحِيمُ فَهُوَ الْعَالِمُ بِمُغَيَّبَاتِ الْأُمُورِ وَعَوَاقِبِهَا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتْرُكُوا تَقْدِيرَ الْمَوَارِيثِ بِالْمَقَادِيرِ الَّتِي تَسْتَحْسِنُهَا عُقُولُكُمْ، وَكُونُوا مُطِيعِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ فِي هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ الَّتِي قَدَّرَهَا لَكُمْ، فَقَوْلُهُ: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ الطَّبْعُ مِنْ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ عَلَى الْوَرَثَةِ، وَقَوْلُهُ: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى وُجُوبِ الِانْقِيَادِ لِهَذِهِ الْقِسْمَةِ الَّتِي قَدَّرَهَا الشَّرْعُ وَقَضَى بِهَا، وَذَكَرُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فِي الْآخِرَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ لَيُشَفِّعُ بَعْضَهُمْ فِي بَعْضٍ، فَأَطْوَعُكُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْأَبْنَاءِ وَالْآبَاءِ أَرْفَعُكُمْ دَرَجَةً فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْوَالِدُ أَرْفَعَ دَرَجَةً فِي الْجَنَّةِ مِنْ وَلَدِهِ رَفَعَ اللَّهُ إِلَيْهِ وَلَدَهُ بِمَسْأَلَتِهِ لِيُقِرَّ بِذَلِكَ عَيْنَهُ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ أَرْفَعَ دَرَجَةً مِنْ وَالِدَيْهِ رَفَعَ اللَّهُ إِلَيْهِ وَالِدَيْهِ، فَقَالَ: لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَعْرِفُ أَنَّ انْتِفَاعَهُ فِي الْجَنَّةِ بِهَذَا أَكْثَرُ أَمْ بِذَلِكَ. الثَّانِي: الْمُرَادُ كَيْفِيَّةُ انْتِفَاعِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فِي الدُّنْيَا مِنْ جِهَةِ مَا أَوْجَبَ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ وَالتَّرْبِيَةِ لَهُ وَالذَّبِّ عَنْهُ وَالثَّالِثُ: الْمُرَادُ جَوَازُ أَنْ يَمُوتَ هَذَا قَبْلَ ذَلِكَ فَيَرِثُهُ وَبِالضِّدِّ.

[سورة النساء (4) : آية 12]

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ هُوَ مَنْصُوبٌ نَصْبَ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ أَيْ فَرَضَ ذَلِكَ فَرْضًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَالْمَعْنَى أَنَّ قِسْمَةَ اللَّهِ لِهَذِهِ الْمَوَارِيثِ أَوْلَى مِنَ الْقِسْمَةِ الَّتِي تَمِيلُ إِلَيْهَا طِبَاعُكُمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فَيَكُونُ عَالِمًا بِمَا فِي قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَأَنَّهُ حَكِيمٌ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا هُوَ الْأَصْلَحُ الْأَحْسَنُ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَتْ قِسْمَتُهُ لِهَذِهِ الْمَوَارِيثِ أَوْلَى مِنَ الْقِسْمَةِ الَّتِي تُرِيدُونَهَا، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: 30] . فَإِنْ قِيلَ لِمَ قَالَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً مَعَ أَنَّهُ الْآنَ كَذَلِكَ. قُلْنَا: قَالَ الْخَلِيلُ: الْخَبَرُ عَنِ اللَّهِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ كَالْخَبَرِ بِالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الدُّخُولِ تَحْتَ الزَّمَانِ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: الْقَوْمُ لَمَّا شَاهَدُوا عِلْمًا وَحِكْمَةً وَفَضْلًا وَإِحْسَانًا تَعَجَّبُوا، فَقِيلَ/ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بهذه الصفات. [سورة النساء (4) : آية 12] وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إلى قوله مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْرَدَ أَقْسَامَ الْوَرَثَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَحْسَنِ التَّرْتِيبَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَارِثَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْمَيِّتِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ أَوْ بِوَاسِطَةٍ، فَإِنِ اتَّصَلَ بِهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَسَبَبُ الِاتِّصَالِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّسَبَ أَوِ الزَّوْجِيَّةَ، فَحَصَلَ هَاهُنَا أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ، أَشْرَفُهَا وَأَعْلَاهَا الِاتِّصَالُ الْحَاصِلُ ابْتِدَاءً مِنْ جِهَةِ النسب، وذلك هو قرابة الولاد، وَيَدْخُلُ فِيهَا الْأَوْلَادُ وَالْوَالِدَانِ فَاللَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ حُكْمَ هَذَا الْقِسْمِ. وَثَانِيهَا: الِاتِّصَالُ الْحَاصِلُ ابْتِدَاءً مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَهَذَا الْقِسْمُ مُتَأَخِّرٌ فِي الشَّرَفِ عَنِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ ذَاتِيٌّ وَهَذَا الثَّانِي عَرَضِيٌّ، وَالذَّاتِيُّ أَشْرَفُ مِنَ الْعَرَضِيِّ، وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ الْآنَ فِي تَفْسِيرِهَا. وَثَالِثُهَا: الِاتِّصَالُ الْحَاصِلُ بِوَاسِطَةِ الْغَيْرِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْكَلَالَةِ، وَهَذَا الْقِسْمُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَوْلَادَ وَالْوَالِدَيْنِ وَالْأَزْوَاجَ وَالزَّوْجَاتِ لَا يَعْرِضُ لَهُمُ السُّقُوطُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَمَّا الْكَلَالَةُ فَقَدْ يَعْرِضُ لَهُمُ السُّقُوطُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يُنْسَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى الْمَيِّتِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَالْكَلَالَةُ تُنْسَبُ إِلَى الْمَيِّتِ بِوَاسِطَةٍ وَالثَّابِتُ ابْتِدَاءً أَشْرَفُ مِنَ الثَّابِتِ بِوَاسِطَةٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُخَالَطَةَ الْإِنْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ وَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ أَكْثَرُ وَأَتَمُّ مِنْ مُخَالَطَتِهِ بِالْكَلَالَةِ. وَكَثْرَةُ الْمُخَالَطَةِ مَظِنَّةُ الْأُلْفَةِ وَالشَّفَقَةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ شِدَّةَ الِاهْتِمَامِ بِأَحْوَالِهِمْ، فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ وَأَشْبَاهِهَا أَخَّرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَ مَوَارِيثِ الْكَلَالَةِ عَنْ ذِكْرِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَمَا أَحْسَنَ هَذَا التَّرْتِيبَ وَمَا أَشَدَّ انْطِبَاقَهُ/ عَلَى قَوَانِينِ الْمَعْقُولَاتِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا جَعَلَ فِي الْمُوجِبِ النِّسْبِيِّ حَظَّ الرَّجُلِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَذَلِكَ جَعَلَ فِي الْمُوجِبِ السَّبَبِيِّ حَظَّ الرَّجُلِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاحِدَ وَالْجَمَاعَةَ سَوَاءٌ فِي الرُّبُعِ وَالثُّمُنِ، وَالْوَلَدُ مِنْ

ذَلِكَ الزَّوْجِ وَمِنْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي الرَّدِّ مِنَ النِّصْفِ إِلَى الرُّبُعِ أَوْ مِنَ الرُّبُعِ إِلَى الثُّمُنِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْوَلَدِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الِابْنِ وَبَيْنَ ابْنِ الِابْنِ وَلَا بَيْنَ الْبِنْتِ وَبَيْنَ بِنْتِ الِابْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ لِلزَّوْجِ غَسْلُ زَوْجَتِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا بَعْدَ الْمَوْتِ زَوْجَتُهُ فَيَحِلُّ لَهُ غَسْلُهَا، بَيَانُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ سَمَّاهَا زَوْجَةً حَالَ مَا أَثْبَتَ لِلزَّوْجِ نصف مالها عند موتها، وإنما ثَبَتَ لِلزَّوْجِ نِصْفُ مَالِهَا عِنْدَ مَوْتِهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لَهُ بَعْدَ مَوْتِهَا، إِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَحِلَّ لَهُ غَسْلُهَا لِأَنَّهُ قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ مَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ غَسْلُهَا، وَعِنْدَ حُصُولِ الزَّوْجِيَّةِ حَلَّ لَهُ غَسْلُهَا، وَالدَّوَرَانُ دَلِيلُ الْعِلِّيَّةِ ظَاهِرًا. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَتُهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ غَسْلُهَا: بَيَانُ عَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ لَحَلَّ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَطْؤُهَا لِقَوْلِهِ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ [الْمُؤْمِنُونَ: 6] وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ حِلُّ الْغَسْلِ، لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَثَبَتَ إِمَّا مَعَ حِلِّ النَّظَرِ وَهُوَ بَاطِلٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «غُضَّ بَصَرَكَ إِلَّا عَنْ زَوْجَتِكَ» أَوْ بِدُونِ حِلِّ النَّظَرِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَالْجَوَابُ: لَمَّا تَعَارَضَتِ الْآيَتَانِ فِي ثُبُوتِ الزَّوْجِيَّةِ وَعَدَمِهَا وَجَبَ التَّرْجِيحُ فَنَقُولُ: لَوْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً لَكَانَ قَوْلُهُ: نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ مَجَازًا، وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَةً مَعَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا لَزِمَ التَّخْصِيصُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ التَّخْصِيصَ أَوْلَى، فَكَانَ التَّرْجِيحُ مِنْ جَانِبِنَا، وَكَيْفَ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ حَصَلَتِ الزَّوْجِيَّةُ وَلَمْ يَحْصُلْ حِلُّ الْوَطْءِ مِثْلُ زَمَانِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَمِثْلُ نَهَارِ رَمَضَانَ، وَعِنْدَ اشْتِغَالِهَا بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالْحَجِّ الْمَفْرُوضِ، وَعِنْدَ كَوْنِهَا فِي الْعِدَّةِ عَنِ الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ، وَأَيْضًا فَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْخِلَافِيَّاتِ أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْكَثِيرَةِ، فَبَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمَصَالِحِ، فَعَادَ إِلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ، أَمَّا حِلُّ الْغَسْلِ فَإِنَّ ثُبُوتَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْشَأٌ لِلْمَصَالِحِ الْكَثِيرَةِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِبَقَائِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَيْثُ ذَكَرَ الرِّجَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُخَاطَبَةِ، وَحَيْثُ ذَكَرَ النِّسَاءَ ذَكَرَهُنَّ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَايَبَةِ، وَأَيْضًا/ خَاطَبَ اللَّهُ الرِّجَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَذَكَرَ النِّسَاءَ فِيهَا عَلَى سَبِيلِ الْغَيْبَةِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا رَاعَى هَذِهِ الدَّقِيقَةَ لِأَنَّهُ تَعَالَى فَضَّلَ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ فِي النَّصِيبِ، وَنَبَّهَ بِهَذِهِ الدَّقِيقَةِ على مزيد فضلهم عليهن. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ. اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي شَرْحِ تَوْرِيثِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَقْسَامِ الْوَرَثَةِ وَهُمُ الْكَلَالَةُ وَهُمُ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إِلَى الْمَيِّتِ بِوَاسِطَةٍ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَثُرَ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِ الْكَلَالَةِ، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَمَّنْ سِوَى الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ وَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ، وَأَمَّا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْكَلَالَةُ مِنْ سِوَى الْوَلَدِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا طُعِنَ قَالَ: كُنْتُ أَرَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لا ولد له، وأنا أستحيى أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ، الْكَلَالَةُ مَنْ عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ، وَعَنْ عُمَرَ فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى: وَهِيَ التَّوَقُّفُ، وَكَانَ يَقُولُ: ثَلَاثَةٌ، لَأَنْ يَكُونَ بَيَّنَهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: الْكَلَالَةُ، وَالْخِلَافَةُ، وَالرِّبَا. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: التَّمَسُّكُ بِاشْتِقَاقِ لَفْظِ الْكَلَالَةِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: يُقَالُ: كَلَّتِ الرَّحِمُ بَيْنَ فُلَانٍ

وَفُلَانٍ إِذَا تَبَاعَدَتِ الْقَرَابَةُ، وَحَمَلَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ، ثُمَّ كَلَّ عَنْهُ إِذَا تَبَاعَدَ. فَسُمِّيَتِ الْقَرَابَةُ الْبَعِيدَةُ كَلَالَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الثَّانِي: يُقَالُ: كَلَّ الرَّجُلُ يَكِلُّ كَلًّا وَكَلَالَةً إِذَا أَعْيَا وَذَهَبَتْ قُوَّتُهُ، ثُمَّ جَعَلُوا هَذَا اللَّفْظَ اسْتِعَارَةً مِنَ الْقَرَابَةِ الْحَاصِلَةِ لَا مِنْ جِهَةِ الْوِلَادَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْقَرَابَةَ حَاصِلَةٌ بِوَاسِطَةِ الْغَيْرِ فَيَكُونُ فِيهَا ضَعْفٌ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ يَبْعُدُ إِدْخَالُ الْوَالِدَيْنِ فِي الْكَلَالَةِ لِأَنَّ انْتِسَابَهُمَا إِلَى الْمَيِّتِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. الثَّالِثُ: الْكَلَالَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِحَاطَةِ، وَمِنْهُ الْإِكْلِيلُ لِإِحَاطَتِهِ/ بِالرَّأْسِ، وَمِنْهُ الْكُلُّ لِإِحَاطَتِهِ بِمَا يَدْخَلُ فِيهِ، وَيُقَالُ تَكَلَّلَ السَّحَابُ إِذَا صَارَ مُحِيطًا بِالْجَوَانِبِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَنْ عَدَا الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ إِنَّمَا سُمُّوا بِالْكَلَالَةِ، لِأَنَّهُمْ كَالدَّائِرَةِ الْمُحِيطَةِ بِالْإِنْسَانِ وَكَالْإِكْلِيلِ الْمُحِيطِ بِرَأْسِهِ: أما قرية الْوِلَادَةِ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ فَإِنَّ فِيهَا يَتَفَرَّعُ الْبَعْضُ عَنِ الْبَعْضِ: وَيَتَوَلَّدُ الْبَعْضُ مِنَ الْبَعْضِ، كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ الَّذِي يَتَزَايَدُ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ: نَسَبٌ تَتَابَعَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ ... كَالرُّمْحِ أُنْبُوبًا عَلَى أُنْبُوبِ فَأَمَّا الْقَرَابَةُ الْمُغَايِرَةُ لِقَرَابَةِ الْوِلَادَةِ، وَهِيَ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، فَإِنَّمَا يَحْصُلُ لِنَسَبِهِمُ اتِّصَالٌ وَإِحَاطَةٌ بِالْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الِاشْتِقَاقِيَّةِ أَنَّ الْكَلَالَةَ عِبَارَةٌ عَمَّنْ عَدَا الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى مَا ذَكَرَ لَفْظَ الْكَلَالَةِ فِي كِتَابِهِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ، فِي هَذِهِ السُّورَةِ: أَحَدُهُمَا: فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَالثَّانِي: فِي آخِرِ السُّورَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ [النِّسَاءِ: 176] وَاحْتَجَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ فَقَطْ، قَالَ: لِأَنَّ المذكور هاهنا فِي تَفْسِيرِ الْكَلَالَةِ: هُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِتَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ حَالَ كَوْنِ الْمَيِّتِ كَلَالَةً، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ لَا يَرِثُونَ حَالَ وُجُودِ الْأَبَوَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَيِّتُ كَلَالَةً حَالَ وُجُودِ الْأَبَوَيْنِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدَيْنِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِذِكْرِ الْكَلَالَةِ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْكَلَالَةُ مَنْ عَدَا الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: وَرِثْتُمْ قَنَاةَ الْمُلْكِ لَا عَنْ كَلَالَةٍ ... عَنِ ابْنَيْ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمِ دَلَّ هَذَا الْبَيْتُ عَلَى أَنَّهُمْ مَا وَرِثُوا الْمُلْكَ عَنِ الْكَلَالَةِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ وَرِثُوهَا عَنْ آبَائِهِمْ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَبُ دَاخِلًا فِي الْكَلَالَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْكَلَالَةُ قَدْ تُجْعَلُ وَصْفًا لِلْوَارِثِ وَلِلْمُوَرَّثِ، فَإِذَا جَعَلْنَاهَا وَصْفًا لِلْوَارِثِ فَالْمُرَادُ مَنْ سِوَى الْأَوْلَادِ وَالْوَالِدَيْنِ، وَإِذَا جَعَلْنَاهَا وَصْفًا لِلْمُوَرَّثِ، فَالْمُرَادُ الَّذِي يَرِثُهُ مَنْ سِوَى الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَارِثِ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: مَرِضْتُ مَرَضًا أُشْفِيتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَأَتَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ لَا يَرِثُنِي إِلَّا كَلَالَةٌ، وَأَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَالِدٌ وَلَا وَلَدٌ، وَأَمَّا أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُوَرَّثِ فَالْبَيْتُ الَّذِي/ رَوَيْنَاهُ عَنِ الْفَرَزْدَقِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّكُمْ مَا وَرِثْتُمُ الْمُلْكَ عَنِ الْأَعْمَامِ، بَلْ عَنِ الْآبَاءِ فَسَمَّى الْعَمَّ كلالة وهو هاهنا مُوَرِّثٌ لَا وَارِثٌ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُرَادُ مِنَ الْكَلَالَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَيِّتُ، الَّذِي لَا يَخْلُفُ الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدَ، لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ إِنَّمَا كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الْمَيِّتِ الَّذِي هُوَ الْمُوَرِّثُ لَا فِي الْوَارِثِ الَّذِي لَا يختلف حاله بسب أَنَّ لَهُ وَلَدًا أَوْ وَالِدًا أَمْ لَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُقَالُ رَجُلٌ كَلَالَةٌ، وَامْرَأَةٌ كَلَالَةٌ، وَقَوْمٌ كَلَالَةٌ، لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ كَالدَّلَالَةِ وَالْوَكَالَةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا جَعَلْنَاهَا صِفَةً لِلْوَارِثِ أَوِ الْمُوَرَّثِ كَانَ بِمَعْنَى ذِي كَلَالَةٍ، كَمَا يَقُولُ: فُلَانٌ مِنْ قَرَابَتِي يُرِيدُ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِي، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً كَالْهَجَاجَةِ وَالْفَقَاقَةِ لِلْأَحْمَقِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: يُورَثُ فِيهِ احْتِمَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنْ وَرِثَهُ الرَّجُلُ يَرِثُهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الرَّجُلُ هُوَ الْمَوْرُوثُ مِنْهُ، وَفِي انْتِصَابِ كَلَالَةً وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: يُورَثُ حَالَ كَوْنِهِ كَلَالَةً، وَالْكَلَالَةُ مَصْدَرٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الْحَالِ تَقْدِيرُهُ: يُورَثُ مُتَكَلِّلَ النَّسَبِ، وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ قوله: يُورَثُ صفة لرجل، وكَلالَةً خَبَرَ كَانَ، وَالتَّقْدِيرُ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ مِنْهُ كَلَالَةً، وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، أَيْ يُورَثُ لِأَجْلِ كَوْنِهِ كَلَالَةً. الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: فِي قَوْلِهِ: يُورَثُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنْ أَوْرَثَ يُورِثُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الرجل هو الوارب، وَانْتِصَابُ كَلَالَةً عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا يَكُونُ عَلَى الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: يُورِثُ وَيُوَرِّثُ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ عَلَى الْفَاعِلِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَفِيهِ مسألتان: المسألة الأولى: هاهنا سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ ثُمَّ قَالَ: وَلَهُ أَخٌ فَكَنَّى عَنِ الرَّجُلِ وَمَا كَنَّى عَنِ الْمَرْأَةِ فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟ وَالْجَوَابُ قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا جَائِزٌ فَإِنَّهُ إِذَا جَاءَ حَرْفَانِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ «بِأَوْ» جَازَ إِسْنَادُ التَّفْسِيرِ إِلَى أَيِّهِمَا أُرِيدَ، وَيَجُوزُ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِمَا أَيْضًا، تَقُولُ: مَنْ كَانَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلْيَصِلْهُ، يَذْهَبُ إِلَى الْأَخِ، أَوْ فَلْيَصِلْهَا يَذْهَبُ إِلَى الْأُخْتِ، وَإِنْ قُلْتَ فَلْيَصِلْهُمَا جَازَ أَيْضًا. المسألة الثانية: أجمع المفسرون هاهنا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ: الْأَخُ وَالْأُخْتُ مِنَ الْأُمِّ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي قاص يَقْرَأُ: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ، وَإِنَّمَا حَكَمُوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ/ فِي آخِرِ السُّورَةِ: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النِّسَاءِ: 176] فَأَثْبَتَ لِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، وَلِلْإِخْوَةِ كُلَّ الْمَالِ، وهاهنا أَثْبَتَ لِلْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ الثُّلُثَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ المراد من الاخوة والأخوات هاهنا غَيْرَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ، فَالْمُرَادُ هاهنا الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الْأُمِّ فَقَطْ، وَهُنَاكَ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ، أَوْ مِنَ الْأَبِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ [النساء: 11] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْوَصِيَّةِ بِكُلِّ الْمَالِ وَبِأَيِّ بَعْضٍ أُرِيدَ، وَمِمَّا يُوَافِقُ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْأَحَادِيثِ مَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ مَالٌ يُوصِي بِهِ ثُمَّ تَمْضِي عَلَيْهِ لَيْلَتَانِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» فَهَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي الْوَصِيَّةِ كَيْفَ أُرِيدَ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: هَذِهِ الْعُمُومَاتُ مَخْصُوصَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: فِي قَدْرِ الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِكُلِّ الْمَالِ بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمِيرَاثِ مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا، أَمَّا الْمُجْمَلُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النساء: 7] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِكُلِّ الْمَالِ تَقْتَضِي نَسْخَ هذا

النَّصِّ، وَأَمَّا الْمُفَصَّلُ فَهِيَ آيَاتُ الْمَوَارِيثِ كَقَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 11] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ [النساء: 9] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَهِيَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ إِنْ تَتْرُكْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَصِيَّةَ غَيْرُ جَائِزَةٍ فِي أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَوْلَى النُّقْصَانُ عَنِ الثُّلُثِ لِقَوْلِهِ: «وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ إِذَا تَرَكَ الْقَلِيلَ مِنَ الْمَالِ وَوَرَثَتُهُ فُقَرَاءُ فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ لَا يُوصِيَ بِشَيْءٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنْ تَتْرُكْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» وَرَابِعُهَا: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ لِأَجْلِ الْوَرَثَةِ، فَعِنْدَ عَدَمِهِمْ وَجَبَ الْجَوَازُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: تَخْصِيصُ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْمُوصَى لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: إِذَا أَخَّرَ الزَّكَاةَ وَالْحَجَّ حَتَّى مَاتَ يَجِبُ إِخْرَاجُهُمَا مِنَ التَّرِكَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَجِبُ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ وَالْحَجَّ الْوَاجِبَ/ دَيْنٌ فَيَجِبُ إِخْرَاجُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ دَيْنٌ، لِأَنَّ اللُّغَةَ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَالشَّرْعُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، أَمَّا اللُّغَةُ فَهُوَ أَنَّ الدَّيْنَ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَمْرِ الْمُوجِبِ لِلِانْقِيَادِ، قِيلَ فِي الدَّعَوَاتِ الْمَشْهُورَةِ يَا مَنْ دَانَتْ لَهُ الرِّقَابُ، أَيِ انْقَادَتْ، وَأَمَّا الشَّرْعُ فَلِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْخَثْعَمِيَّةَ لَمَّا سَأَلَتِ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحَجِّ الَّذِي كَانَ عَلَى أَبِيهَا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكَانَ يُجْزِئُ؟ فَقَالَتْ نَعَمْ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمِيرَاثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الدَّيْنُ الْمُطْلَقُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى الْحَجَّ دَيْنًا لِلَّهِ، وَالِاسْمُ الْمُطْلَقُ لَا يَتَنَاوَلُ الْمُقَيَّدَ. قُلْنَا: هَذَا فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا دَيْنٌ، وَثَبَتَ بِحُكْمِ الْآيَةِ أَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ لَزِمَ الْمَقْصُودُ لَا مَحَالَةَ، وَحَدِيثُ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ كَلَامٌ مُهْمَلٌ لَا يَقْدَحُ فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: غَيْرَ مُضَارٍّ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ يُوصِي بِهَا وَهُوَ غَيْرَ مُضَارٍّ لِوَرَثَتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الضِّرَارَ فِي الْوَصِيَّةِ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يُقِرَّ بِكُلِّ مَالِهِ أَوْ بِبَعْضِهِ لِأَجْنَبِيٍّ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ دَفْعًا لِلْمِيرَاثِ عَنِ الْوَرَثَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ قَدِ اسْتَوْفَاهُ وَوَصَلَ إِلَيْهِ. وَخَامِسُهَا: أَنْ يبيع شيئاً بثمن بخمس أَوْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا بِثَمَنٍ غَالٍ، كُلُّ ذَلِكَ لِغَرَضِ أَنْ لَا يَصِلَ الْمَالُ إِلَى الْوَرَثَةِ. وَسَادِسُهَا: أَنْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ لَا لِوَجْهِ اللَّهِ لَكِنْ لِغَرَضِ تَنْقِيصِ حُقُوقِ الْوَرَثَةِ، فَهَذَا هُوَ وَجْهُ الْإِضْرَارِ فِي الْوَصِيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: الْأَوْلَى أَنْ يُوصِيَ بِأَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ، قَالَ عَلِيٌّ: لَأَنْ أُوصِيَ بِالْخُمُسِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الرُّبُعِ. وَلَأَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالثُّلُثِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُوصِ، وَقُبِضَ أَبُو بَكْرٍ فَوَصَّى، فَإِنْ أَوْصَى الْإِنْسَانُ فَحَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ فَحَسَنٌ أَيْضًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَوْلَى بِالْإِنْسَانِ أَنْ يَنْظُرَ فِي قَدْرِ مَا يَخْلُفُ وَمَنْ يَخْلُفُ، ثُمَّ يَجْعَلُ وَصِيَّتَهُ بِحَسَبِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ

[سورة النساء (4) : الآيات 13 إلى 14]

مَالُهُ قَلِيلًا وَفِي الْوَرَثَةِ كَثْرَةٌ لَمْ يُوصِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ كَثْرَةٌ أَوْصَى بِحَسَبِ الْمَالِ وَبِحَسَبِ حَاجَتِهِمْ بَعْدَهُ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ/ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء: 13] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْوَصِيَّةِ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء: 14] قَالَ فِي الْوَصِيَّةِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ» وَعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً وَجَارَ فِي وَصِيَّتِهِ خُتِمَ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ النَّارَ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ قَطَعَ مِيرَاثًا فَرَضَهُ اللَّهُ قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنَ الْجَنَّةِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْوَصِيَّةِ قَطْعٌ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ مُخَالَفَةَ أَمْرِ اللَّهِ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ يَدُلُّ عَلَى جَرَاءَةٍ شَدِيدَةٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَتَمَرُّدٍ عَظِيمٍ عَنِ الِانْقِيَادِ لِتَكَالِيفِهِ، وَذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ انْتِصَابُ قَوْلِهِ: وَصِيَّةٍ. وَالْجَوَابُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أَيْ يُوصِيكُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وصية، كقوله: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [النساء: 11] الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً بِقَوْلِهِ: غَيْرَ مُضَارٍّ أَيْ لَا تُضَارُّ وَصِيَّةُ اللَّهِ فِي أَنَّ الْوَصِيَّةَ يَجِبُ أَنْ لَا تُزَادَ عَلَى الثُّلُثِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ بِالْأَوْلَادِ وَأَنْ لَا يَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ وُجُوهَ النَّاسِ بِسَبَبِ الْإِسْرَافِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَيَنْصُرُ هَذَا الْوَجْهَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ: غَيْرَ مُضَارِّ وَصِيَّةٍ بِالْإِضَافَةِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ جَعَلَ خَاتِمَةَ الْآيَةِ الْأُولَى: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَخَاتِمَةَ هَذِهِ الْآيَةِ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ. الْجَوَابُ: أَنَّ لَفْظَ الْفَرْضِ أَقْوَى وَآكَدُ مِنْ لَفْظِ الْوَصِيَّةِ، فَخَتَمَ شَرْحَ مِيرَاثِ الْأَوْلَادِ بِذِكْرِ الْفَرِيضَةِ، وَخَتَمَ شَرْحَ مِيرَاثِ الْكَلَالَةِ بِالْوَصِيَّةِ لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبَ الرِّعَايَةِ إِلَّا أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ وَهُوَ رِعَايَةُ حَالِ الْأَوْلَادِ أَوْلَى، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ أَيْ عَلِيمٌ بِمَنْ جَارَ أَوْ عَدَلَ فِي وَصِيَّتِهِ حَلِيمٌ عَلَى الْجَائِرِ لَا يُعَاجِلُهُ بِالْعُقُوبَةِ وَهَذَا وَعِيدٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة النساء (4) : الآيات 13 الى 14] تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ سِهَامِ الْمَوَارِيثِ ذَكَرَ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ تَرْغِيبًا فِي الطَّاعَةِ وَتَرْهِيبًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَقَالَ: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَفِيهِ بَحْثَانِ. الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَاذَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَحْوَالِ الْمَوَارِيثِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ مَا ذكره من أول السورة الى هاهنا مِنْ بَيَانِ أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَأَحْكَامِ الْأَنْكِحَةِ وَأَحْوَالِ الْمَوَارِيثِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ، حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ عَوْدَهُ إِلَى الْأَقْرَبِ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ عَوْدِهِ إِلَى الْأَبْعَدِ مَانِعٌ يُوجِبُ عَوْدَهُ إِلَى الْكُلِّ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِحُدُودِ اللَّهِ الْمُقَدَّرَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا وَبَيَّنَهَا، وَحَدُّ الشَّيْءِ طَرَفُهُ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ حُدُودُ الدَّارِ، وَالْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى حَقِيقَةِ الشَّيْءِ يُسَمَّى حَدًّا لَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ، وَغَيْرُهُ هُوَ كُلُّ مَا سِوَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مُخْتَصٌّ بِمَنْ أَطَاعَ أَوْ عَصَى فِي هَذِهِ التَّكَالِيفِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: بَلْ هُوَ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ هَذَا وَغَيْرُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْكُلَّ. أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ هَذَا الْعَامَّ إِنَّمَا ذُكِرَ عَقِيبَ تَكَالِيفَ خَاصَّةٍ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْعُمُومِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَالِدَ قَدْ يُقْبِلُ عَلَى وَلَدِهِ وَيُوَبِّخُهُ فِي أَمْرٍ مَخْصُوصٍ، ثُمَّ يَقُولُ: احْذَرْ مُخَالَفَتِي وَمَعْصِيَتِي وَيَكُونُ مَقْصُودُهُ مَنْعَهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ فِي جَمِيعِ الأمور، فكذا هاهنا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: نُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ ... نُدْخِلْهُ نَارًا بِالنُّونِ فِي الْحَرْفَيْنِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَعَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ ثم قال: سَنُلْقِي [آل عمران: 150- 151] بِالنُّونِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هاهنا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْوَاحِدِ ثُمَّ قَوْلُهُ بَعْدَ/ ذَلِكَ خالِدِينَ فِيها إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْجَمْعِ فَكَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا؟ الْجَوَابُ: أَنَّ كَلِمَةَ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ مُفْرَدٌ فِي اللَّفْظِ جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى فَلِهَذَا صَحَّ الْوَجْهَانِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: انْتَصَبَ «خَالِدِينَ» «وَخَالِدًا» عَلَى الْحَالِ مِنَ الْهَاءِ فِي «نُدْخِلْهُ» وَالتَّقْدِيرُ: نُدْخِلْهُ خَالِدًا فِي النَّارِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فُسَّاقَ أَهْلِ الصَّلَاةِ يَبْقَوْنَ مُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِمَنْ تَعَدَّى فِي الْحُدُودِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا وَهِيَ حُدُودُ الْمَوَارِيثِ، أَوْ يَدْخُلُ فِيهَا ذَلِكَ وَغَيْرُهُ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَلْزَمُ دُخُولُ مَنْ تَعَدَّى فِي الْمَوَارِيثِ فِي هَذَا الْوَعِيدِ، وَذَلِكَ عَامٌّ فِيمَنْ تَعَدَّى وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ أَوْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الْقَطْعِ بِالْوَعِيدِ، وَعَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ مُخَلِّدٌ، وَلَا يُقَالُ: هَذَا الْوَعِيدُ مُخْتَصٌّ بِمَنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا فِي حَقِّ الْكَافِرِ. فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي تَعَدَّى جَمِيعَ حُدُودِ اللَّهِ، فَإِنَّا نَقُولُ: هَذَا مَدْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا لَوْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى تَعَدِّي جَمِيعِ حُدُودِ اللَّهِ خَرَجَتِ الْآيَةُ عن الفائدة لأن الله تعالى ينهى عَنِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ، فَتَعَدِّي جَمِيعِ حُدُودِهِ هُوَ أَنْ يَتْرُكَ جَمِيعَ هَذِهِ النَّوَاهِي، وَتَرْكُهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يَأْتِيَ الْيَهُودِيَّةَ وَالْمَجُوسِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ مَعًا وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ تَعَدِّيَ جَمِيعِ حُدُودِ اللَّهِ مُحَالٌ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ ذَلِكَ لَخَرَجَتِ الْآيَةُ عَنْ كَوْنِهَا مُفِيدَةً، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَيُّ حَدٍّ كَانَ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ. الثَّانِي: هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَذْكُورَةٌ عَقِيبَ آيَاتِ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ فِي الْأُمُورِ

[سورة النساء (4) : آية 15]

الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ هَذَا السُّؤَالُ. هَذَا مُنْتَهَى تَقْرِيرِ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَلَا بَأْسَ بِأَنْ نُعِيدَ طَرَفًا مِنْهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَنَقُولَ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُخْتَصٌّ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ لِأَنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا حَصَلَتِ التَّوْبَةُ لَمْ يَبْقَ هَذَا الْوَعِيدُ، فَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الْعَفْوِ، فَإِنَّ بِتَقْدِيرِ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى حُصُولِ الْعَفْوِ امْتَنَعَ بَقَاءُ هَذَا الْوَعِيدِ عِنْدَ حُصُولِ الْعَفْوِ، وَنَحْنُ قَدْ ذَكَرْنَا الدَّلَائِلَ الْكَثِيرَةَ عَلَى حُصُولِ الْعَفْوِ، ثُمَّ نَقُولُ: هَذَا الْعُمُومُ مَخْصُوصٌ بِالْكَافِرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا إِذَا قُلْنَا لَكُمْ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ (مَنْ) فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ تُفِيدُ الْعُمُومَ؟ قُلْتُمْ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ فِيهِ، فَنَقُولُ: إِنْ صَحَّ هَذَا الدَّلِيلُ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مُخْتَصٌّ بِالْكَافِرِ: لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَعَاصِي يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهَا مِنْ هَذَا اللَّفْظِ فَيُقَالُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِلَّا فِي الْكُفْرِ، وَإِلَّا فِي الْفِسْقِ، وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ/ لَدَخَلَ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي وَالْقَبَائِحِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا فِي حَقِّ الْكَافِرِ، وَقَوْلُهُ: الْإِتْيَانُ بِجَمِيعِ الْمَعَاصِي مُحَالٌ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ مَعًا مُحَالٌ، فَنَقُولُ: ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ إِلَّا إِذَا قَامَ مُخَصِّصٌ عَقْلِيٌّ أَوْ شَرْعِيٌّ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ سُؤَالُهُمْ وَيَقْوَى مَا ذَكَرْنَاهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْكَافِرِ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُفِيدُ كَوْنَهُ فَاعِلًا لِلْمَعْصِيَةِ وَالذَّنْبِ، وَقَوْلُهُ: وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَيْنَ ذَلِكَ لَلَزِمَ التَّكْرَارُ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْكُفْرِ، وَقَوْلُهُ: بِأَنَّا نَحْمِلُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى تَعَدِّي الْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَوَارِيثِ. قُلْنَا: هَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ يَسْقُطُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ السُّؤَالِ بِهَذَا الْكَلَامِ، لِأَنَّ التَّعَدِّيَ فِي حُدُودِ الْمَوَارِيثِ تَارَةً يَكُونُ بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ تِلْكَ التَّكَالِيفَ وَالْأَحْكَامَ حَقٌّ وَوَاجِبَةُ الْقَبُولِ إِلَّا أَنَّهُ يَتْرُكُهَا، وَتَارَةً يَكُونُ بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ لَا عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ، فَيَكُونُ هَذَا هُوَ الْغَايَةَ فِي تَعَدِّي الْحُدُودِ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا يَكَادُ يُطْلَقُ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ، وَإِلَّا لَزِمَ وُقُوعُ التَّكْرَارِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُخْتَصٌّ بِالْكَافِرِ الَّذِي لَا يَرْضَى بِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ، فَهَذَا مَا يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمَبَاحِثِ، وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْأَسْئِلَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ والله أعلم. [سورة النساء (4) : آية 15] وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى النِّسَاءِ وَمُعَاشَرَتِهِنَّ بِالْجَمِيلِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِهَذَا الْبَابِ، ضَمَّ إِلَى ذَلِكَ التَّغْلِيظَ عَلَيْهِنَّ فِيمَا يَأْتِينَهُ مِنَ الْفَاحِشَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ إِحْسَانٌ إِلَيْهِنَّ وَنَظَرٌ لَهُنَّ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِنَّ، وَأَيْضًا فَفِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى: وَهُوَ أَنَ لَا يَجْعَلَ أَمْرُ اللَّهِ الرِّجَالَ/ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِنَّ سَبَبًا لِتَرْكِ إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِنَّ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوعِهِنَّ فِي أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ وَالْمَهَالِكِ، وَأَيْضًا فِيهِ فَائِدَةٌ ثَالِثَةٌ، وَهِيَ بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا يَسْتَوْفِي لِخَلْقِهِ فَكَذَلِكَ يَسْتَوْفِي عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي أَحْكَامِهِ مُحَابَاةٌ وَلَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدٍ قَرَابَةٌ، وَأَنَّ مَدَارَ هَذَا الشَّرْعِ الْإِنْصَافُ وَالِاحْتِرَازُ فِي كُلِّ بَابٍ عَنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، فَقَالَ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّاتِي: جَمْعُ الَّتِي، وَلِلْعَرَبِ فِي جَمْعِ «الَّتِي» لُغَاتٌ: اللَّاتِي وَاللَّاتِ وَاللَّوَاتِي وَاللَّوَاتِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: الْعَرَبُ تَقُولُ فِي الْجَمْعِ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ: الَّتِي، وَمِنَ الْحَيَوَانِ: اللاتي، كقوله:

أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً [النِّسَاءِ: 5] وَقَالَ فِي هَذِهِ: اللَّاتِي وَاللَّائِي، وَالْفَرْقُ هُوَ أَنَّ الْجَمْعَ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ سَبِيلُهُ سَبِيلُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَأَمَّا جَمْعُ الْحَيَوَانِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ عَنْ غَيْرِهَا بِخَوَاصٍّ وَصِفَاتٍ، فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الْبَابَيْنِ، فَيَقُولُ: مَا فَعَلَتِ الْهِنْدَاتُ الَّتِي مِنْ أَمْرِهَا كَذَا، وَمَا فَعَلَتِ الْأَثْوَابُ الَّتِي مِنْ قِصَّتِهِنَّ كَذَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُخْتَارُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ أَيْ يَفْعَلْنَهَا يُقَالُ: أَتَيْتُ أَمْرًا قَبِيحًا، أَيْ فَعَلْتُهُ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا [مَرْيَمَ: 27] وَقَالَ: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا [مَرْيَمَ: 89] وَفِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْفَوَاحِشِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَهَى الْمُكَلَّفَ عَنْ فِعْلِ هَذِهِ الْمَعَاصِي، فَهُوَ تَعَالَى لَا يُعِينُ الْمُكَلَّفَ عَلَى فِعْلِهَا، بَلِ الْمُكَلَّفُ كَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَيْهَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَاخْتَارَهَا بِمُجَرَّدِ طَبْعِهِ، فَلِهَذِهِ الْفَائِدَةِ يُقَالُ: إِنَّهُ جَاءَ إِلَى تِلْكَ الْفَاحِشَةِ وَذَهَبَ إِلَيْهَا، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الدَّقِيقَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: يَأْتِينَ بِالْفَاحِشَةِ، وَأَمَّا الْفَاحِشَةُ فَهِي الْفِعْلَةُ الْقَبِيحَةُ وَهِيَ مَصْدَرٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ كَالْعَاقِبَةِ يُقَالُ: فَحُشَ الرَّجُلُ يَفْحُشُ فُحْشًا وَفَاحِشَةً، وَأَفْحَشَ إِذَا جَاءَ بِالْقَبِيحِ مِنَ الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أن الفاحشة هاهنا الزِّنَا، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَى الزِّنَا اسْمُ الْفَاحِشَةِ لِزِيَادَتِهَا فِي الْقُبْحِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْقَبَائِحِ. فَإِنْ قِيلَ: الْكُفْرُ أَقْبَحُ مِنْهُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ أَقْبَحُ مِنْهُ، وَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ فَاحِشَةً. قُلْنَا: السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْقُوَى الْمُدَبِّرَةَ لِبَدَنِ الْإِنْسَانِ ثَلَاثَةٌ: الْقُوَّةُ النَّاطِقَةُ، وَالْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ وَالْقُوَّةُ الشَّهْوَانِيَّةُ، فَفَسَادُ الْقُوَّةِ النَّاطِقَةِ هُوَ الْكُفْرُ وَالْبِدْعَةُ وَمَا يُشْبِهُهُمَا، وَفَسَادُ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ هُوَ الْقَتْلُ وَالْغَضَبُ وَمَا يُشْبِهُهُمَا، وَفَسَادُ الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ هُوَ الزِّنَا وَاللِّوَاطُ وَالسَّحْقُ وَمَا أَشْبَهَهَا، وَأَخَسُّ هَذِهِ الْقُوَى الثَّلَاثَةِ: الْقُوَّةُ الشَّهْوَانِيَّةُ، فَلَا جَرَمَ كَانَ فَسَادُهَا أَخَسَّ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خُصَّ هَذَا الْعَمَلُ بِالْفَاحِشَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ/ مِنْهُ الزِّنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا نُسِبَتْ إِلَى الزِّنَا فَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا إِلَّا بِأَنْ يَشْهَدَ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ مُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهَا ارْتَكَبَتِ الزِّنَا، فَإِذَا شَهِدُوا عَلَيْهَا أُمْسِكَتْ فِي بَيْتٍ مَحْبُوسَةً إِلَى أَنْ تَمُوتَ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ السَّحَاقَاتُ، وَحَدُّهُنَّ الْحَبْسُ إلى الموت وبقوله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ [النِّسَاءِ: 16] أَهْلُ اللِّوَاطِ، وَحَدُّهُمَا الْأَذَى بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ النُّورِ: الزِّنَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَحَدُّهُ فِي الْبِكْرِ الْجَلْدُ، وَفِي الْمُحْصَنِ الرَّجْمُ، وَاحْتَجَّ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ مَخْصُوصٌ بِالنِّسْوَانِ، وَقَوْلَهُ: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ مخصوص بالرجال، لأن قوله: وَالَّذانِ تَثْنِيَةُ الذُّكُورِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المراد بقوله: وَالَّذانِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى إِلَّا أَنَّهُ غَلَّبَ لَفْظَ الْمُذَكَّرِ. قُلْنَا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا أَفْرَدَ ذِكْرَ النِّسَاءِ مِنْ قَبْلُ، فَلَمَّا أَفْرَدَ ذِكْرَهُنَّ ثُمَّ ذكر بعد قوله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ سَقَطَ هَذَا الِاحْتِمَالُ. الثَّانِي: هُوَ أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يُحْتَاجُ إِلَى الْتِزَامِ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ، بَلْ يَكُونُ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بَاقِيًا مُقَرَّرًا، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ يَحْتَاجُ إِلَى الْتِزَامِ النَّسْخِ، فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى. وَالثَّالِثُ: أَنَّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ يَكُونُ قَوْلُهُ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ في الزنا وقوله: وَالَّذانِ

يَأْتِيانِها مِنْكُمْ يَكُونُ أَيْضًا فِي الزِّنَا، فَيُفْضِي إِلَى تَكْرَارِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي الْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ مَرَّتَيْنِ وَإِنَّهُ قَبِيحٌ، وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَاهُ لَا يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ فَكَانَ أَوْلَى. الرَّابِعُ: أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الزِّنَا فَسَّرُوا قَوْلَهُ: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بِالرَّجْمِ وَالْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَكُونُ عَلَيْهِنَّ لَا لَهُنَّ. قَالَ تَعَالَى: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الْبَقَرَةِ: 286] وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّا نُفَسِّرُ ذَلِكَ بِأَنْ يُسَهِّلَ اللَّهُ لَهَا قَضَاءَ الشَّهْوَةِ بِطَرِيقِ النِّكَاحِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَتَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَهُمَا زَانِيَانِ وَإِذَا أَتَتِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَهُمَا زَانِيَتَانِ» وَاحْتَجُّوا عَلَى إِبْطَالِ كَلَامِ أَبِي مُسْلِمٍ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا قَوْلٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ فَكَانَ بَاطِلًا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الثَّيِّبُ تُرْجَمُ وَالْبِكْرُ تُجْلَدُ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَازِلَةٌ فِي حَقِّ الزُّنَاةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي أَحْكَامِ اللِّوَاطِ، وَلَمْ يَتَمَسَّكْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَعَدَمُ تَمَسُّكِهِمْ بِهَا مَعَ شِدَّةِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى نَصٍّ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ فِي اللِّوَاطَةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ هَذَا إِجْمَاعٌ مَمْنُوعٌ فَلَقَدْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مُجَاهِدٌ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَلِأَنَّا بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ اسْتِنْبَاطَ تَأْوِيلٍ جَدِيدٍ فِي الْآيَةِ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُتَقَدِّمُونَ جَائِزٌ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي نَسْخَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ مَطْلُوبَ الصَّحَابَةِ أنه هل يقام الحد على الوطي؟ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ، فَلِهَذَا لَمْ يَرْجِعُوا إِلَيْهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: زَعَمَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ: فَقَدْ بَنَوْا هَذَا عَلَى أَصْلِهِمْ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الزِّنَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَمْ يَبْقَ وَكَانَتِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا أَيْضًا عَلَى قَوْلَيْنِ: فَالْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِالْحَدِيثِ وَهُوَ مَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْبِكْرُ تُجْلَدُ وَتُنْفَى وَالثَّيِّبُ تُجْلَدَ وَتُرْجَمُ» ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَارَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النُّورِ: 2] وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَثْبُتُ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ وَأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ تُنْسَخُ بِالْقُرْآنِ خِلَافَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: لَا يُنْسَخُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ الْجَلْدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الرَّازِيَّ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى الطَّعْنِ فِي الشَّافِعِيِّ قَالَ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ آيَةَ الْجَلْدِ لَوْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى قَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي» لَمَا كَانَ لِقَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي» فَائِدَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: «خُذُوا عَنِّي» مُتَقَدِّمًا عَلَى آيَةِ الْجَلْدِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ آيَةُ الْحَبْسِ مَنْسُوخَةً بِالْحَدِيثِ وَيَكُونُ الْحَدِيثُ مَنْسُوخًا بِآيَةِ الْجَلْدِ، فَحِينَئِذٍ ثَبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ قَدْ يُنْسَخُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الرَّازِيِّ ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ فَقَالَ: لَمْ يَحْصُلِ النَّسْخُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْبَتَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِمْسَاكَهُنَّ فِي الْبُيُوتِ مَمْدُودٌ إِلَى غَايَةِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَذَلِكَ السَّبِيلُ كَانَ مُجْمَلًا، فَلَمَّا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَنِّي الثَّيِّبُ تُرْجَمُ وَالْبِكْرُ تُجْلَدُ وَتُنْفَى» صَارَ هَذَا الْحَدِيثُ بَيَانًا لِتِلْكَ الْآيَةِ لَا نَاسِخًا لَهَا وَصَارَ أَيْضًا مُخَصِّصًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما

مِائَةَ جَلْدَةٍ [النُّورِ: 2] وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ جَعْلَ هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانًا لِإِحْدَى الْآيَتَيْنِ وَمُخَصِّصًا لِلْآيَةِ الْأُخْرَى، أَوْلَى مِنَ الْحُكْمِ بِوُقُوعِ النَّسْخِ مِرَارًا، وَكَيْفَ وَآيَةُ الْحَبْسِ مُجْمَلَةٌ قَطْعًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السَّبِيلَ كَيْفَ هُوَ؟ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنَ الْمُبِيِنِ، وَآيَةُ الْجَلْدِ مَخْصُوصَةٌ وَلَا بُدَّ لَهَا مِنَ الْمُخَصِّصِ، فَنَحْنُ جَعَلْنَا هَذَا الْحَدِيثَ مُبَيِّنًا لِآيَةِ/ الْحَبْسِ مُخَصِّصًا لِآيَةِ الْجَلْدِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَدْ وَقَعَ النَّسْخُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: آيَةُ الْحَبْسِ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِدَلَائِلِ الرَّجْمِ، فَظَهَرَ أَنَّ الَّذِي قُلْنَاهُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي دَفْعِ كَلَامِ الرَّازِيِّ: إِنَّكَ تُثْبِتُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ آيَةُ الْجَلْدِ مُتَقَدِّمَةً عَلَى قَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي» فَلِمَ قُلْتَ إِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَأَخِّرَةً عَنْهُ؟ وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ذَكَرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ؟ وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ مَخْصُوصٌ بِالْإِجْمَاعِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ الْمُسْلِمِ، وَتَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُخَصِّصِ عَنِ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَكَ وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ، لِمَا أَنَّهُ يُوهِمُ التَّلْبِيسَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَثَبَتَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مُقَارِنًا لِنُزُولِ قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ سَقَطَ قَوْلُكَ: إِنَّ الْحَدِيثَ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى آيَةِ الْجَلْدِ. هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِ من يقول: هذا الْآيَةُ أَعْنِي آيَةَ الْحَبْسِ نَازِلَةٌ فِي حَقِّ الزُّنَاةِ، فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَمْ يُثْبِتِ الدَّلِيلُ كَوْنَهَا مَنْسُوخَةً، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ فَظَاهِرٌ أَنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَازِلَةٌ فِي الزِّنَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمْ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ نِسائِكُمْ؟ الْجَوَابُ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: الْمُرَادُ، مِنْ زَوْجَاتِكُمْ كَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ [الْمُجَادَلَةِ: 3] وَقَوْلُهُ: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النِّسَاءِ: 23] وَثَانِيهَا: مِنْ نِسَائِكُمْ، أَيْ مِنَ الْحَرَائِرِ كَقَوْلِهِ: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 282] وَالْغَرَضُ بَيَانُ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الْإِمَاءِ. وَثَالِثُهَا: مِنْ نِسَائِكُمْ، أَيْ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَرَابِعُهَا: مِنْ نِسَائِكُمْ، أَيْ مِنَ الثَّيِّبَاتِ دُونَ الْأَبْكَارِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ؟ الْجَوَابُ: فَخَلِّدُوهُنَّ مَحْبُوسَاتٍ فِي بُيُوتِكُمْ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِنَّمَا تَقَعُ فِي الزِّنَا عِنْدَ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ، فَإِذَا حُبِسَتْ فِي الْبَيْتِ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى الزِّنَا، وَإِذَا اسْتَمَرَّتْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ تَعَوَّدَتِ الْعَفَافَ وَالْفِرَارَ عَنِ الزِّنَا. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا مَعْنَى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ وَالْمَوْتُ وَالتَّوَفِّي بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَصَارَ فِي التَّقْدِيرِ: أَوْ يُمِيتُهُنَّ الْمَوْتُ؟ الْجَوَابُ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ مَلَائِكَةُ الْمَوْتِ، كَقَوْلِهِ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [النَّحْلِ: 38] قُلْ/ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السَّجْدَةِ: 11] أَوْ حَتَّى يَأْخُذَهُنَّ الْمَوْتُ وَيَسْتَوْفِيَ أَرْوَاحَهُنَّ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: إِنَّكُمْ تُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بِالْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ تُجْلَدُ وَالثَّيِّبُ تُرْجَمُ» وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ هَذَا السَّبِيلَ عَلَيْهَا لَا لَهَا، فَإِنَّ الرَّجْمَ لَا شَكَّ أَنَّهُ أَغْلَظُ مِنَ الْحَبْسِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَسَّرَ السَّبِيلَ بِذَلِكَ فَقَالَ: «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا

[سورة النساء (4) : آية 16]

الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» وَلَمَّا فَسَّرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّبِيلَ بِذَلِكَ وَجَبَ الْقَطْعُ بِصِحَّتِهِ، وَأَيْضًا: لَهُ وَجْهٌ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّ الْمُخَلِّصَ مِنَ الشَّيْءِ هُوَ سَبِيلٌ له، سواء كان أخف أو أثقل. [سورة النساء (4) : آية 16] وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) [فِي قوله تعالى وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كثير والذان وهذان [الحج: 19] مُشَدَّدَةَ النُّونِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَأَمَّا أَبُو عَمْرٍو فَإِنَّهُ وَافَقَ ابْنَ كَثِيرٍ فِي قَوْلِهِ: فَذانِكَ [القصص: 32] أَمَّا وَجْهُ التَّشْدِيدِ قَالَ ابْنُ مِقْسَمٍ: إِنَّمَا شَدَّدَ ابْنُ كَثِيرٍ هَذِهِ النُّونَاتِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْفَرْقُ بَيْنَ تَثْنِيَةِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَمَكِّنَةِ وَغَيْرِ الْمُتَمَكِّنَةِ، وَالْآخَرُ: أَنَّ «الَّذِي وَهَذَا» مَبْنِيَّانِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الذَّالُ، فَأَرَادُوا تَقْوِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْ زَادُوا عَلَى نُونِهَا نُونًا أُخْرَى مِنْ جِنْسِهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: سَبَبُ التَّشْدِيدِ فِيهَا أَنَّ النُّونَ فِيهَا لَيْسَتْ نُونَ التَّثْنِيَةِ، فَأَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ نُونِ التَّثْنِيَةِ، وَقِيلَ زَادُوا النُّونَ تَأْكِيدًا، كَمَا زَادُوا اللَّامَ، وَأَمَّا تَخْصِيصُ أَبِي عَمْرٍو التَّعْوِيضَ فِي الْمُبْهَمَةِ دُونَ الْمَوْصُولَةِ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَمَّا رَأَى مِنْ أَنَّ الْحَذْفَ لِلْمُبْهَمَةِ أَلْزَمُ، فَكَانَ اسْتِحْقَاقُهَا الْعِوَضَ أَشَدَّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ الْأُولَى فِي الزُّنَاةِ قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا فِي الزُّنَاةِ/ فَعِنْدَ هَذَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ مَا السَّبَبُ فِي هَذَا التَّكْرِيرِ وَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ [النساء: 15] المراد منه الزواني، والمراد من قوله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ الزُّنَاةُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْحَبْسَ فِي الْبَيْتِ بِالْمَرْأَةِ وَخَصَّ الْإِيذَاءَ بِالرَّجُلِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِنَّمَا تَقَعُ فِي الزِّنَا عِنْدَ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ، فَإِذَا حُبِسَتْ فِي الْبَيْتِ انْقَطَعَتْ مَادَّةُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَبْسُهُ فِي الْبَيْتِ، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْخُرُوجِ فِي إِصْلَاحِ مَعَاشِهِ وَتَرْتِيبِ مُهِمَّاتِهِ وَاكْتِسَابِ قُوتِ عِيَالِهِ، فَلَا جَرَمَ جُعِلَتْ عُقُوبَةُ الْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ الْحَبْسَ فِي الْبَيْتِ، وَجُعِلَتْ عُقُوبَةُ الرَّجُلِ الزَّانِي أَنْ يُؤْذَى، فَإِذَا تَابَ تُرِكَ إِيذَاؤُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْإِيذَاءَ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَالْحَبْسُ كَانَ مِنْ خَوَاصِّ الْمَرْأَةِ، فَإِذَا تَابَا أُزِيلَ الْإِيذَاءُ عَنْهُمَا وَبَقِيَ الْحَبْسُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ. الثَّانِي: قَالَ السُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بهذه الآية البكر من الرجل وَالنِّسَاءِ، وَبِالْآيَةِ الْأُولَى الثَّيِّبُ، وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ. قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَأَضَافَهُنَّ إِلَى الْأَزْوَاجِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ سَمَّاهُنَّ نِسَاءً وَهَذَا الِاسْمُ أَلْيَقُ بِالثَّيِّبِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأَذَى أَخَفُّ مِنَ الْحَبْسِ فِي الْبَيْتِ وَالْأَخَفُّ لِلْبِكْرِ دُونَ الثَّيِّبِ. وَالرَّابِعُ: قَالَ الْحَسَنُ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالتَّقْدِيرُ: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِ الْفَاحِشَةَ مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا. ثُمَّ نزل قوله: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ [النساء: 15] يَعْنِي إِنْ لَمْ يَتُوبَا وَأَصَرَّا عَلَى هَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَكُمْ أَحْوَالُهُنَّ، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ فَسَادَ التَّرْتِيبِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. الْخَامِسُ: مَا نَقَلْنَاهُ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى فِي السَّحَاقَاتِ، وَهَذِهِ فِي أَهْلِ اللِّوَاطِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ. وَالسَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى أَنَّ الشُّهَدَاءَ عَلَى الزِّنَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُوا أَرْبَعَةً، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا شَاهِدِينَ فَآذُوهُمَا وَخَوِّفُوهُمَا بِالرَّفْعِ إِلَى الْإِمَامِ وَالْحَدِّ، فَإِنْ تَابَا قَبْلَ الرَّفْعِ إِلَى الْإِمَامِ فَاتْرُكُوهُمَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْإِيذَاءِ مِنَ الْإِيذَاءِ بِاللِّسَانِ وَهُوَ التَّوْبِيخُ وَالتَّعْيِيرُ، مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: بِئْسَ مَا فَعَلْتُمَا، وَقَدْ تَعَرَّضْتُمَا لِعِقَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ، وَأَخْرَجْتُمَا أَنْفُسَكُمَا عَنِ اسْمِ الْعَدَالَةِ، وَأَبْطَلْتُمَا عَنْ أَنْفُسِكُمَا أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَدْخُلُ فِيهِ الضَّرْبُ؟ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُضْرَبُ بِالنِّعَالِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ مَدْلُولَ النَّصِّ إِنَّمَا هُوَ الْإِيذَاءُ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِمُجَرَّدِ/ الْإِيذَاءِ بِاللِّسَانِ، وَلَا يَكُونُ فِي النَّصِّ دَلَالَةٌ عَلَى الضَّرْبِ فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما يَعْنِي فَاتْرُكُوا إِيذَاءَهُمَا. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً مَعْنَى التَّوَّابِ: أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى عَبْدِهِ بِفَضْلِهِ وَمَغْفِرَتِهِ إِذَا تَابَ إِلَيْهِ مِنْ ذَنْبِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: كانَ تَوَّاباً فَقَدْ تَقَدَّمَ الوجه فيه. تم الجزء التاسع، ويليه إن شاء الله تعالى الجزء العاشر، وأوله قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ من سورة النساء. أعان الله تعالى على إكماله.

الجزء العاشر

الجزء العاشر [تتمة سورة النساء] بسم اللَّه الرحمن الرحيم [سورة النساء (4) : آية 17] إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الْمُرْتَكِبَيْنِ لِلْفَاحِشَةِ إِذَا تَابَا وَأَصْلَحَا زَالَ الْأَذَى عَنْهُمَا، وَأَخْبَرَ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَيْضًا أَنَّهُ تَوَّابٌ رَحِيمٌ، ذَكَرَ وَقْتَ التَّوْبَةِ وَشَرْطَهَا، وَرَغَّبَهُمْ فِي تَعْجِيلِهَا لِئَلَّا يَأْتِيَهِمُ الْمَوْتُ وَهُمْ مُصِرُّونَ فلا تنفعهم التوبة، [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمَّا حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ الْبَقَرَةِ: 54] وَاحْتَجَّ الْقَاضِي عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّه عَقْلًا قَبُولُ التَّوْبَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ «عَلَى» لِلْوُجُوبِ فَقَوْلُهُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّه عَقْلًا قَبُولُهَا. الثَّانِي: لَوْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْقَبُولِ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَرْقٌ لِأَنَّ هَذَا أَيْضًا إِخْبَارٌ عَنِ الْوُقُوعِ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْقَبُولِ وَهَذَا عَلَى الْوُقُوعِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَلَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ عَلَى اللَّه بَاطِلٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَازِمَةَ الْوُجُوبِ اسْتِحْقَاقُ الذَّمِّ عِنْدَ التَّرْكِ، فَهَذِهِ اللَّازِمَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُمْتَنِعَةَ الثُّبُوتِ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى، أَوْ غَيْرَ مُمْتَنِعَةٍ فِي حَقِّهِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ الْوَاجِبِ لَمَّا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِهَذَا الذَّمِّ، وَهَذَا الذَّمُّ مُحَالُ الثُّبُوتِ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّرْكُ مُمْتَنِعَ الثُّبُوتِ فِي حَقِّ اللَّه، وَإِذَا كَانَ التَّرْكُ مُمْتَنِعَ الثُّبُوتِ عَقْلًا كَانَ الْفِعْلُ وَاجِبَ الثُّبُوتِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ اللَّه تَعَالَى مُوجَبًا بِالذَّاتِ لَا فَاعِلًا بِالِاخْتِيَارِ/ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ اسْتِحْقَاقُ الذَّمِّ غَيْرَ مُمْتَنِعِ الْحُصُولِ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى، فَكُلُّ مَا كَانَ مُمْكِنًا لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ، فَيَلْزَمُ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ مَعَ كَوْنِهِ إِلَهًا يَكُونُ مَوْصُوفًا بِاسْتِحْقَاقِ الذَّمِّ وَذَلِكَ مُحَالٌ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَانِ الْقِسْمَانِ ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ عَلَى اللَّه تَعَالَى بَاطِلٌ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ قَادِرِيَّةَ الْعَبْدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فِعْلِ التَّوْبَةِ وَتَرْكِهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى السَّوِيَّةِ، أَوْ لَا يَكُونَ عَلَى السَّوِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى السَّوِيَّةِ لَمْ يَتَرَجَّحْ فِعْلُ التَّوْبَةِ عَلَى تَرْكِهَا إِلَّا لِمُرَجِّحٍ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ إِنْ حَدَثَ لَا عَنْ مُحْدِثٍ لَزِمَ نَفْيُ الصَّانِعِ، وَإِنْ حَدَثَ عَنِ الْعَبْدِ عَادَ التَّقْسِيمُ وَإِنْ حَدَثَ عَنِ اللَّه فَحِينَئِذٍ الْعَبْدُ إِنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى التَّوْبَةِ بِمَعُونَةِ اللَّه وَتَقْوِيَتِهِ، فَتَكُونُ تِلْكَ التَّوْبَةُ إِنْعَامًا مِنَ اللَّه تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ، وَإِنْعَامُ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْعِمَ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى، فَثَبَتَ أَنَّ صُدُورَ التَّوْبَةِ عَنِ الْعَبْدِ لَا يُوجِبُ عَلَى اللَّه الْقَبُولَ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ قَادِرِيَّةُ الْعَبْدِ لَا تَصْلُحُ لِلتَّرْكِ وَالْفِعْلِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْجَبْرُ أَلْزَمَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ أَظْهَرَ بطلانا وفسادا.

الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: التَّوْبَةُ عِبَارَةٌ عَنِ النَّدَمِ عَلَى مَا مَضَى وَالْعَزْمِ عَلَى التَّرْكِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالنَّدَمُ وَالْعَزْمُ مِنْ بَابِ الْكَرَاهَاتِ وَالْإِرَادَاتِ، وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِرَادَةُ لَا يَحْصُلَانِ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ، وَإِلَّا افْتَقَرَ فِي تَحْصِيلِهِمَا إِلَى إِرَادَةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حُصُولُ هَذَا النَّدَمِ وَهَذَا الْعَزْمِ بِمَحْضِ تَخْلِيقِ اللَّه تَعَالَى، وَفِعْلُ اللَّه لَا يُوجِبُ عَلَى اللَّه فِعْلًا آخَرَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ بَاطِلٌ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ التَّوْبَةَ فِعْلٌ يَحْصُلُ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ عَلَى قَوْلِهِمْ، فَلَوْ صَارَ ذَلِكَ عِلَّةً لِلْوُجُوبِ عَلَى اللَّه لَصَارَ فِعْلُ الْعَبْدِ مُؤَثِّرًا فِي ذَاتِ اللَّه وَفِي صِفَاتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجُّوا بِهِ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِذَا وَعَدَ اللَّه بِشَيْءٍ وَكَانَ الْخُلْفُ فِي وَعْدِهِ مُحَالًا كَانَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِالْوَاجِبِ، فَبِهَذَا التَّأْوِيلِ صَحَّ إِطْلَاقُ كَلِمَةِ «عَلَى» وَبِهَذَا الطَّرِيقِ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. إِنْ قِيلَ: فَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ وَكُلُّ مَا أَخْبَرَ اللَّه عَنْ وُقُوعِهِ كَانَ وَاجِبَ الْوُقُوعِ، فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ لَا يَكُونَ فَاعِلًا مُخْتَارًا. قُلْنَا: الْإِخْبَارُ عَنِ الْوُقُوعِ تَبَعٌ لِلْوُقُوعِ، وَالْوُقُوعُ تَبَعٌ لِلْإِيقَاعِ، وَالتَّبَعُ لَا يُغَيِّرُ الْأَصْلَ، فَكَانَ فَاعِلًا مُخْتَارًا فِي ذَلِكَ الْإِيقَاعِ. أَمَّا أَنْتُمْ تَقُولُونَ بِأَنَّ وُقُوعَ التَّوْبَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا هِيَ تُؤَثِّرُ فِي وُجُوبِ الْقَبُولِ عَلَى اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ قَبُولَ هَذِهِ التَّوْبَةِ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ/ السُّوءَ بِجَهالَةٍ وَفِيهِ سُؤَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ عَمِلَ ذَنْبًا وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ ذَنْبٌ لَمْ يَسْتَحِقَّ عِقَابًا، لِأَنَّ الْخَطَأَ مَرْفُوعٌ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَعَلَى هَذَا: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ فَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى التَّوْبَةِ، وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ كَلِمَةَ «إِنَّمَا» لِلْحَصْرِ، فَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى السُّوءِ مَعَ الْعِلْمِ بكونه سوأ أَنْ لَا تَكُونَ تَوْبَتُهُ مَقْبُولَةً، وَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْيَهُودِيَّ اخْتَارَ الْيَهُودِيَّةَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهَا ذَنْبًا مَعَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَيْهَا. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: أَنَّ مَنْ أَتَى بِالْمَعْصِيَةِ مَعَ الْجَهْلِ بِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً يَكُونُ حَالُهُ أَخَفَّ مِمَّنْ أَتَى بِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ خَصَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ بِوُجُوبِ قَبُولِ التَّوْبَةِ وُجُوبًا عَلَى سَبِيلِ الْوَعْدِ وَالْكَرَمِ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَلَمَّا كَانَ ذَنْبُهُمْ أَغْلَظَ لَا جَرَمَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِمْ هَذَا التَّأْكِيدَ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى اللَّه تَعَالَى. وَإِذَا عَرَفْتَ الْجَوَابَ عَنْ هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ فَلْنَذْكُرِ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْجَهَالَةِ. الْأَوَّلُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّه سُمِّيَ جَاهِلًا وَسُمِّيَ فِعْلُهُ جَهَالَةً، قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ [يُوسُفَ: 33] وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِإِخْوَتِهِ: هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ [يوسف: 89] وقال تعالى: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هُودٍ: 46]

وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [الْبَقَرَةِ: 67] وَقَدْ يَقُولُ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ حَالَ مَا يَذُمُّهُ عَلَى فِعْلٍ: يَا جَاهِلُ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا، وَالسَّبَبُ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْجَاهِلِ عَلَى الْعَاصِي لِرَبِّهِ أَنَّهُ لَوِ اسْتَعْمَلَ مَا مَعَهُ مِنَ الْعِلْمِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَمَا أَقْدَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَعْمِلْ ذَلِكَ الْعِلْمَ صَارَ كَأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ، فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ سُمِّيَ الْعَاصِي لِرَبِّهِ جَاهِلًا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَعْصِيَةُ سَوَاءٌ أَتَى بِهَا الْإِنْسَانُ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً أَوْ مَعَ الْجَهْلِ بِذَلِكَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْجَهَالَةِ: أَنْ يَأْتِيَ الْإِنْسَانُ بِالْمَعْصِيَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِقَدْرِ عِقَابِهِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي إِلَّا أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ مَا يَحْصُلُ فِي عَاقِبَتِهِ مِنَ الْآفَاتِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ: إِنَّهُ جَاهِلٌ بِفِعْلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَأْتِيَ الإنسان بالمعصية مع أنه لا يعلم كونه مَعْصِيَةً لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنَ العلم بكونه مَعْصِيَةً، فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ، وَلِهَذَا/ الْمَعْنَى أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْيَهُودِيَّ يَسْتَحِقُّ عَلَى يَهُودِيَّتِهِ الْعِقَابَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ كَوْنَ الْيَهُودِيَّةِ مَعْصِيَةً، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِكَوْنِ الْيَهُودِيَّةِ ذَنْبًا وَمَعْصِيَةً، كَفَى ذَلِكَ فِي ثُبُوتِ اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ، وَيَخْرُجُ عَمَّا ذَكَرْنَا النَّائِمُ وَالسَّاهِي، فَإِنَّهُ أَتَى بِالْقَبِيحِ وَلَكِنَّهُ مَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ قَبِيحًا، وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِحٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ لَفْظَ الْجَهَالَةِ فِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَجَازِ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْآيَةِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ الْقَبِيحَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ قُبْحَهُ، أَمَّا الْمُتَعَمِّدُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ حَالُهُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ التَّوْبَةُ عَلَى هَذَا الْجَاهِلِ وَاجِبَةً، فَلَأَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً عَلَى الْعَامِدِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي الشَّرْطِ الْأَوَّلِ مِنْ شَرَائِطِ التَّوْبَةِ، وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي فَهُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْقُرْبِ حُضُورُ زَمَانِ الْمَوْتِ وَمُعَايَنَةُ أَهْوَالِهِ، وَإِنَّمَا سَمَّى تَعَالَى هَذِهِ الْمُدَّةَ قَرِيبَةً لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَجَلَ آتٍ وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ. وَثَانِيهَا: لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ عُمْرِ الْإِنْسَانِ وَإِنْ طَالَتْ فَهِيَ قَلِيلَةٌ قَرِيبَةٌ فَإِنَّهَا مَحْفُوفَةٌ بِطَرَفَيِ الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ، فَإِذَا قَسَّمْتَ مُدَّةَ عُمْرِكَ إِلَى مَا عَلَى طَرَفَيْهَا صَارَ كَالْعَدَمِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَوَقَّعُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ نُزُولَ الْمَوْتِ بِهِ، وَمَا هَذَا حَالُهُ فَإِنَّهُ يُوصَفُ بِالْقُرْبِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَرِيبٍ. الْجَوَابُ: أَنَّهُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ يَجْعَلُ مُبْتَدَأَ تَوْبَتِهِ زَمَانًا قَرِيبًا مِنَ الْمَعْصِيَةِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي زُمْرَةِ الْمُصِرِّينَ، فَأَمَّا مَنْ تَابَ بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ بِزَمَانٍ بَعِيدٍ وَقَبْلَ الْمَوْتِ بِزَمَانٍ بَعِيدٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ خَارِجًا عَنِ الْمَخْصُوصِينَ بِكَرَامَةِ حَتْمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ عَلَى اللَّه بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ وَبِقَوْلِهِ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَمَنْ لَمْ تَقَعْ تَوْبَتُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوْعُودِينَ بِكَلِمَةِ «عَسَى» فِي قَوْلِهِ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَةِ: 102] وَلَا شَكَّ أَنَّ بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ مَا لَا يَخْفَى. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ التَّبْعِيضُ، أَيْ يَتُوبُونَ بَعْضَ زَمَانٍ قَرِيبٍ، كَأَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى مَا بَيْنَ وُجُودِ الْمَعْصِيَةِ وَبَيْنَ حُضُورِ الْمَوْتِ زَمَانًا قَرِيبًا، فَفِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الزَّمَانِ أَتَى بِالتَّوْبَةِ فَهُوَ تَائِبٌ مِنْ قَرِيبٍ، وَإِلَّا فَهُوَ تَائِبٌ مِنْ بَعِيدٍ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ قَالَ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.

[سورة النساء (4) : آية 18]

فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ قَوْلِهِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ. قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ إِعْلَامٌ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّه قَبُولُهَا، وُجُوبَ الْكَرَمِ وَالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، لَا وُجُوبَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَقَوْلُهُ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ/ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ سَيَفْعَلُ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ يَعْنِي إِنَّمَا الْهِدَايَةُ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِرْشَادُ إِلَيْهَا وَالْإِعَانَةُ عَلَيْهَا عَلَى اللَّه تَعَالَى فِي حَقِّ مَنْ أَتَى بِالذَّنْبِ عَلَى سَبِيلِ الْجَهَالَةِ ثُمَّ تَابَ عَنْهَا عَنْ قَرِيبٍ وَتَرَكَ الْإِصْرَارَ عَلَيْهَا وَأَتَى بِالِاسْتِغْفَارِ عَنْهَا. ثُمَّ قَالَ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يَعْنِي أَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ إِذَا أَتَى بِالتَّوْبَةِ قَبِلَهَا اللَّه مِنْهُ، فَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ التَّوْفِيقُ عَلَى التَّوْبَةِ، وَبِالثَّانِي قَبُولُ التَّوْبَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أَيْ وَكَانَ اللَّه عَلِيمًا بِأَنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِتِلْكَ الْمَعْصِيَةِ لِاسْتِيلَاءِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَالْجَهَالَةِ عَلَيْهِ، حَكِيمًا بِأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا كَانَ مِنْ صِفَتِهِ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَابَ عَنْهَا مِنْ قَرِيبٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ في الكرم قبول توبته. [سورة النساء (4) : آية 18] وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ شَرَائِطَ التَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ أَرْدَفَهَا بِشَرْحِ التَّوْبَةِ الَّتِي لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَشَاهَدَ أَهْوَالَهُ فَإِنَّ تَوْبَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى بَحْثَيْنِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوْبَةَ مَنْ وَصَفْنَا حَالَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: هَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي الْمَطْلُوبِ، الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غَافِرٍ: 85] الثَّالِثُ: قَالَ فِي صِفَةِ فِرْعَوْنَ: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يُونُسَ: 90، 91] فَلَمْ يَقْبَلِ اللَّه تَوْبَتَهُ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْعَذَابِ، وَلَوْ أَنَّهُ أَتَى بِذَلِكَ الْإِيمَانِ قَبْلَ تِلْكَ السَّاعَةِ بِلَحْظَةٍ لَكَانَ مَقْبُولًا، الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: 99، 100] الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى / أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها [الْمُنَافِقُونَ: 10، 11] فَأَخْبَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ. السَّادِسُ: رَوَى أَبُو أَيُّوبَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ، أَيْ مَا لَمْ تَتَرَدَّدِ الرُّوحُ فِي حَلْقِهِ، وَعَنْ عَطَاءٍ: وَلَوْ قَبْلَ مَوْتِهِ بِفُوَاقِ النَّاقَةِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ حِينَ أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ: وَعِزَّتِكَ لَا أفارق ابن آدم ما دام رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَقَالَ: وَعِزَّتِي لَا أُغْلِقُ عَلَيْهِ بَابَ التَّوْبَةِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ [النساء: 18] أَيْ عَلَامَاتُ نُزُولِ الْمَوْتِ وَقُرْبِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [البقرة: 180] .

الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: قُرْبُ الْمَوْتِ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ، بَلِ الْمَانِعُ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ مُشَاهَدَةُ الْأَحْوَالِ الَّتِي عِنْدَهَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ باللَّه تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الِاضْطِرَارِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ نَفْسَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمَاعَةً أَمَاتَهُمُ اللَّه تَعَالَى ثُمَّ أَحْيَاهُمْ مِثْلَ قَوْمٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمِثْلَ أَوْلَادِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَلَّفَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الْإِحْيَاءَ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ مُشَاهَدَةَ الْمَوْتِ لَا تُخِلُّ بِالتَّكْلِيفِ. الثَّانِي: أَنَّ الشَّدَائِدَ الَّتِي يَلْقَاهَا مَنْ يَقْرُبُ مَوْتُهُ تَكُونُ مِثْلَ الشَّدَائِدِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَ الْقُولَنْجِ، وَمِثْلَ الشَّدَائِدِ الَّتِي تَلْقَاهَا الْمَرْأَةُ عِنْدَ الطَّلْقِ أَوْ أَزْيَدَ مِنْهَا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الشَّدَائِدُ مَانِعَةً مِنْ بَقَاءِ التَّكْلِيفِ فَكَذَا الْقَوْلُ فِي تِلْكَ الشَّدَائِدِ. الثَّالِثُ: أَنَّ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ إِذَا عَظُمَتِ الْآلَامُ صَارَ اضْطِرَارُ الْعَبْدِ أَشَدَّ وَهُوَ تَعَالَى يَقُولُ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النَّمْلِ: 62] فَتَزَايُدُ الْآلَامِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِأَنْ يكون سببا لقبول التوبة أولى من أين يَكُونَ سَبَبًا لِعَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ نَفْسَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ وَنَفْسَ تَزَايُدِ الْآلَامِ وَالْمَشَاقِّ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ، وَنَقُولُ: الْمَانِعُ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ إِذَا شَاهَدَ أَحْوَالًا وَأَهْوَالًا صَارَتْ مَعْرِفَتُهُ باللَّه ضَرُورِيَّةً عِنْدَ مُشَاهَدَتِهِ تِلْكَ الْأَهْوَالَ، وَمَتَى صَارَتْ مَعْرِفَتُهُ باللَّه ضَرُورِيَّةً سَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ لَمَّا صَارَتْ مَعَارِفُهُمْ ضَرُورِيَّةً سَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَوْتٌ وَلَا عِقَابٌ، لِأَنَّ تَوْبَتَهُمْ عِنْدَ الْحَشْرِ وَالْحِسَابِ وَقَبْلَ دُخُولِ النَّارِ، لَا تكون مقبولة. واعلم أن هاهنا بَحْثًا عَمِيقًا أُصُولِيًّا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ لَا يُشَاهِدُونَ إِلَّا أَنَّهُمْ صَارُوا أَحْيَاءَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَمْوَاتًا، وَيُشَاهِدُونَ أَيْضًا النَّارَ الْعَظِيمَةَ وَأَصْنَافَ الْأَهْوَالِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ أَنْ يَصِيرَ الْعِلْمُ باللَّه ضَرُورِيًّا، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ حُصُولَ الْحَيَاةِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً يَحْتَاجُ إِلَى الْفَاعِلِ عِلْمٌ نَظَرِيٌّ عِنْدَ أَكْثَرِ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْعِلْمُ ضَرُورِيٌّ لَكِنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْإِحْيَاءَ لَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ اللَّه لَا شَكَّ أَنَّهُ نَظَرِيٌّ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِأَنَّ فَاعِلَ تِلْكَ النِّيرَانِ الْعَظِيمَةِ لَيْسَ إِلَّا اللَّه، فَهَذَا/ أَيْضًا اسْتِدْلَالِيٌّ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ ادِّعَاءُ أَنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ لِأَجْلِ مُشَاهَدَةِ أَهْوَالِهَا يَعْرِفُونَ اللَّه بِالضَّرُورَةِ ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، فَلِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّ الْعِلْمَ باللَّه إِذَا كَانَ ضَرُورِيًّا مَنَعَ مِنْ صِحَّةِ التَّكْلِيفِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ مَعَ عِلْمِهِ الضَّرُورِيِّ بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْمُثِيبِ الْمُعَاقِبِ قَدْ يُقْدِمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ كَرِيمٌ، وَأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ طَاعَةُ الْعَبْدِ وَلَا يَضُرُّهُ ذَنْبُهُ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَلِمَ قَالُوا: بِأَنَّ هَذَا يُوجِبُ زَوَالَ التَّكْلِيفِ وَأَيْضًا: فَهَذَا الَّذِي يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ أَنَّ الْعِلْمَ باللَّه فِي دَارِ التَّكْلِيفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نَظَرِيًّا، فَإِذَا صَارَ ضَرُورِيًّا سَقَطَ التَّكْلِيفُ: كَلَامٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مَنْ حَصَلَ فِي قَلْبِهِ الْعِلْمُ باللَّه إِنْ كَانَ تَجْوِيزُ نَقِيضِهِ قَائِمًا فِي قَلْبِهِ، فَهَذَا يَكُونُ ظَنًّا لَا عِلْمًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَجْوِيزُ نَقِيضِهِ قَائِمًا، امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ عِلْمٌ آخَرُ أَقْوَى مِنْهُ وَآكَدَ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَبْقَى الْبَتَّةَ فَرْقٌ بَيْنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ وَبَيْنَ الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تَذْكُرُهَا الْمُعْتَزِلَةُ كَلِمَاتٌ ضَعِيفَةٌ وَاهِيَةٌ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيُحْكِمُ مَا يُرِيدُ، فَهُوَ بِفَضْلِهِ وعد بقبول التوبة في بعض الأوقات، وبعد له أَخْبَرَ عَنْ عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَلَهُ أَنْ يَقْلِبَ الْأَمْرَ فَيَجْعَلَ الْمَقْبُولَ مردودا، والمردود مقبولا لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 23] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قِسْمَيْنِ، فَقَالَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ [النساء: 17] وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ وَاجِبٌ، وَقَالَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ فَهَذَا جَزْمٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ تَوْبَةَ هَؤُلَاءِ فَبَقِيَ بِحُكْمِ التَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ

قسم ثالث: وهم الذين لم يَجْزِمُ اللَّه تَعَالَى بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ، وَلَمْ يَجْزِمْ بِرَدِّ تَوْبَتِهِمْ. فَلَمَّا كَانَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: هُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي: هُمُ الَّذِينَ لَا يَتُوبُونَ إِلَّا عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْبَأْسِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقِسْمُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ: هُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ عَلَى سَبِيلِ الْعَمْدِ، ثُمَّ يَتُوبُونَ، فَهَؤُلَاءِ مَا أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُمْ أَنَّهُ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ، وَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُ يَرُدُّ تَوْبَتَهُمْ، بَلْ تَرَكَهُمْ فِي الْمَشِيئَةِ، كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى تَرَكَ مَغْفِرَتَهُمْ فِي الْمَشِيئَةِ حَيْثُ قَالَ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ مَنْ تَابَ عِنْدَ حُضُورِ عَلَامَاتِ الْمَوْتِ وَمُقَدِّمَاتِهِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ قَالَ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ الَّذِينَ قَرُبَ مَوْتُهُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَمَا أَنَّ التَّوْبَةَ عَنِ الْمَعَاصِي لَا تُقْبَلُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ، كَذَلِكَ الْإِيمَانُ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ. الثَّانِي: الْمُرَادُ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ فَلَوْ تَابُوا فِي الْآخِرَةِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَعَلَّقَتِ الْوَعِيدِيَّةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ/ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فَعَطَفَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ عَلَى الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ، وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى لَيْسُوا مِنَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ الْكُلِّ: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً فَهَذَا يَقْتَضِي شُمُولَ هَذَا الْوَعِيدِ لِلْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لَهُمْ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ، فَلَوْ كَانَ يَغْفِرُ لَهُمْ مَعَ تَرْكِ التَّوْبَةِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْإِعْلَامِ مَعْنًى. وَالْجَوَابُ: أَنَّا قَدْ جَمَعْنَا جُمْلَةَ الْعُمُومَاتِ الْوَعِيدِيَّةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: 81] وَأَجَبْنَا عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِهَا وَذَكَرْنَا وُجُوهًا كَثِيرَةً مِنَ الْأَجْوِبَةِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِعَادَتِهَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ، ثُمَّ نَقُولُ الضَّمِيرُ يَجِبُ أَنْ يَعُودَ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً هُوَ قَوْلُهُ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً عَائِدًا إِلَى الْكُفَّارِ فَقَطْ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الَّذِينَ لَا يَتُوبُونَ إِلَّا عِنْدَ الْمَوْتِ أَنَّ تَوْبَتَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْكَافِرِينَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَبَيَّنَ أَنَّ إِيمَانَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَافِرَ أَقْبَحُ فِعْلًا وَأَخَسُّ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّه مِنَ الْفَاسِقِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَخُصَّهُ بِمَزِيدِ إِذْلَالٍ وَإِهَانَةٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً مُخْتَصًّا بِالْكَافِرِينَ، بَيَانًا لِكَوْنِهِمْ مُخْتَصِّينَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِمَزِيدِ الْعُقُوبَةِ وَالْإِذْلَالِ. أَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: مِمَّا عَوَّلُوا عَلَيْهِ: فَهُوَ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ، وَإِذَا كَانَ لَا تَوْبَةَ حَصَلَ هُنَاكَ تَجْوِيزُ الْعِقَابِ وَتَجْوِيزُ الْمَغْفِرَةِ، وَهَذَا لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ تَخْوِيفٍ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] عَلَى أَنَّ هَذَا تَمَسُّكٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ لَا يَقُولُونَ بِهِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ عَلَى الَّذِينَ يَتُوبُونَ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْمَوْتِ، الْكُفَّارَ، وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ لَيْسَ بِكَافِرٍ، وَيَبْطُلُ بِهِ قَوْلُ الْخَوَارِجِ: إِنَّ الْفَاسِقَ كَافِرٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُنَافِقُ لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْمُنَافِقَ كَافِرٌ، قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [الْمُنَافِقُونَ: 1] واللَّه أَعْلَمُ.

[سورة النساء (4) : آية 19]

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَعْتَدْنَا: أَيْ أَعْدَدْنَا وَهَيَّأْنَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ نَارِ جَهَنَّمَ: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [الْبَقَرَةِ: 24] ، احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ النَّارَ مَخْلُوقَةٌ لِأَنَّ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ لَيْسَ إِلَّا نَارَ جَهَنَّمَ وَبَرْدَهُ، وَقَوْلُهُ: أَعْتَدْنا إِخْبَارٌ عَنِ الْمَاضِي، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ النَّارِ مخلوقة من هذا الوجه واللَّه أعلم. [سورة النساء (4) : آية 19] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ وَصْفِ التَّوْبَةِ عَادَ إِلَى أَحْكَامِ النِّسَاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُؤْذُونَ النِّسَاءَ بِأَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْإِيذَاءِ، وَيَظْلِمُونَهُنَّ بِضُرُوبٍ مِنَ الظُّلْمِ، فاللَّه تَعَالَى نَهَاهُمْ عَنْهَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا مَاتَ وَكَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ جَاءَ ابْنُهُ مِنْ غَيْرِهَا أَوْ بَعْضُ أَقَارِبِهِ فَأَلْقَى ثَوْبَهُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَقَالَ: وَرِثْتُ امْرَأَتَهُ كَمَا وَرِثْتُ مَالَهُ، فَصَارَ أَحَقَّ بِهَا مِنْ سَائِرِ النَّاسِ وَمِنْ نَفْسِهَا، فَإِنْ شَاءَ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ، إِلَّا الصَّدَاقَ الْأَوَّلَ الَّذِي أَصْدَقَهَا الْمَيِّتُ، وَإِنْ شَاءَ زَوَّجَهَا مِنْ إِنْسَانٍ آخَرَ وَأَخَذَ صَدَاقَهَا وَلَمْ يُعْطِهَا مِنْهُ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ وَأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَرِثُ امْرَأَةَ الْمَيِّتِ مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ عَيْنُ النِّسَاءِ، وَأَنَّهُنَّ لَا يُورَثْنَ مِنَ الْمَيِّتِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْوِرَاثَةَ تَعُودُ إِلَى الْمَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ وَارِثَ الْمَيِّتِ كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا من الأزواج حتى تموت فيرثها مَالَهَا، فَقَالَ تَعَالَى: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا أَمْوَالَهُنَّ وَهُنَّ كَارِهَاتٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ كُرْهًا بِضَمِّ الْكَافِ، وَفِي التَّوْبَةِ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [التَّوْبَةِ: 53] وَفِي الْأَحْقَافِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً [الْأَحْقَافِ: 15] كُلُّ ذَلِكَ بِالضَّمِّ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ فِي الْأَحْقَافِ بِالضَّمِّ، وَالْبَاقِي بِالْفَتْحِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالْفَتْحِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْكَرْهُ بِالْفَتْحِ الْإِكْرَاهُ، وَبِالضَّمِّ الْمَشَقَّةُ، فَمَا أُكْرِهَ/ عَلَيْهِ فَهُوَ كَرْهٌ بِالْفَتْحِ، وَمَا كَانَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَهُوَ كُرْهٌ بِالضَّمِّ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي نَهَى اللَّه عَنْهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنِّسَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَحَلِّ وَلا تَعْضُلُوهُنَّ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نُصِبَ بِالْعَطْفِ عَلَى حَرْفِ «أَنْ» تَقْدِيرُهُ: وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا أَنْ تَعْضُلُوهُنَّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّه، وَالثَّانِي: أَنَّهُ جُزِمَ بِالنَّهْيِ عَطْفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْدِيرُهُ، وَلَا تَرِثُوا وَلَا تَعْضُلُوا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعَضْلُ: الْمَنْعُ، وَمِنْهُ الدَّاءُ الْعُضَالُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهِ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ [الْبَقَرَةِ: 232] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُخَاطَبُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ مَنْ هُوَ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ قَدْ

كَانَ يَكْرَهُ زَوْجَتَهُ وَيُرِيدُ مُفَارَقَتَهَا، فَكَانَ يُسِيءُ الْعِشْرَةَ مَعَهَا وَيُضَيِّقُ عَلَيْهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ نَفْسَهَا بِمَهْرِهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا يَحِلُّ لَكُمُ التَّزَوُّجُ بِهِنَّ بِالْإِكْرَاهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَكُمْ بَعْدَ التَّزَوُّجِ بِهِنَّ الْعَضْلُ وَالْحَبْسُ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ. الثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْوَارِثِ بِأَنْ يَتْرُكَ مَنْعَهَا مِنَ التَّزَوُّجِ بِمَنْ شَاءَتْ وَأَرَادَتْ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَقَوْلُهُ: لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْبِسُونَ امْرَأَةَ الْمَيِّتِ وَغَرَضُهُمْ أَنْ تَبْذُلَ الْمَرْأَةُ مَا أَخَذَتْ مِنْ مِيرَاثِ الْمَيِّتِ، الثَّالِثُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ وَنَهْيٌ لَهُمْ عَنْ عَضْلِ الْمَرْأَةِ، الرَّابِعُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ. فَإِنَّهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُطَلِّقُونَ الْمَرْأَةَ وَكَانُوا يَعْضُلُونَهُنَّ عَنِ التَّزَوُّجِ وَيُضَيِّقُونَ الْأَمْرَ عَلَيْهِنَّ لِغَرَضِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُنَّ شَيْئًا، الْخَامِسُ: أَنَّهُ عَامٌّ فِي الْكُلِّ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا النُّشُوزُ وَشَكَاسَةُ الْخُلُقِ وَإِيذَاءُ الزَّوْجِ وَأَهْلِهِ، وَالْمَعْنَى إِلَّا أَنْ يَكُونَ سُوءُ الْعِشْرَةِ مِنْ جِهَتِهِنَّ فَقَدْ عُذِرْتُمْ فِي طَلَبِ الْخُلْعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِلَّا أَنْ يُفْحَشَ عَلَيْكُمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا الزِّنَا، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَأَبِي قِلَابَةَ وَالسُّدِّيِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مَاذَا؟ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَخْذِ الْأَمْوَالِ، يَعْنِي لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا ضِرَارًا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ إِلَّا إِذَا زَنَتْ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَقِيَ هَذَا الْحُكْمُ وَمَا نُسِخَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْجَلْدِ. الثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْحَبْسِ وَالْإِمْسَاكِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ [النساء: 15] وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ/ وَزَعَمَ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ. الثَّالِثُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِأَنَّ الْعَضْلَ هُوَ الْحَبْسُ فَدَخَلَ فِيهِ الْحَبْسُ فِي الْبَيْتِ، فَالْأَوْلِيَاءُ وَالْأَزْوَاجُ نُهُوا عَنْ حَبْسِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَحِلُّ لِلْأَوْلِيَاءِ وَالْأَزْوَاجِ حَبْسُهُنَّ فِي الْبُيُوتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو مُبَيِّنَةٍ بِكَسْرِ الْيَاءِ وآيات مبينات [النور: 34] بِفَتْحِ الْيَاءِ حَيْثُ كَانَ، قَالَ لِأَنَّ فِي قوله: مبينات قَصَدَ إِظْهَارَهَا، وَفِي قَوْلِهِ: بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ لَمْ يَقْصِدْ إِظْهَارَهَا، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْيَاءِ فِيهِمَا، أَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ فَلَهُ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفَاحِشَةَ وَالْآيَاتِ لَا فِعْلَ لَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ، إِنَّمَا اللَّه تَعَالَى هُوَ الَّذِي بَيَّنَهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْفَاحِشَةَ تَتَبَيَّنُ، فَإِنْ يَشْهَدْ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ صَارَتْ مُبَيَّنَةً، وَأَمَّا الْآيَاتُ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى بَيَّنَهَا، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَوَجْهُهُ أَنَّ الْآيَاتِ إِذَا تَبَيَّنَتْ وَظَهَرَتْ صَارَتْ أَسْبَابًا لِلْبَيَانِ وَإِذَا صَارَتْ أَسْبَابًا لِلْبَيَانِ جَازَ إِسْنَادُ الْبَيَانِ إِلَيْهَا، كَمَا أَنَّ الْأَصْنَامَ لَمَّا كَانَتْ أَسْبَابًا لِلضَّلَالِ حَسُنَ إِسْنَادُ الْإِضْلَالِ إِلَيْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إِبْرَاهِيمَ: 36] . النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ التَّكَالِيفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَحْوَالِ النِّسَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَكَانَ الْقَوْمُ يُسِيئُونَ مُعَاشَرَةَ النِّسَاءِ فَقِيلَ لَهُمْ: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ النَّصَفَةُ فِي الْمَبِيتِ وَالنَّفَقَةِ، وَالْإِجْمَالُ فِي الْقَوْلِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ أَيْ كَرِهْتُمْ عِشْرَتَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَصُحْبَتَهُنَّ، وَآثَرْتُمْ فِرَاقَهُنَّ فَعَسى أَنْ

[سورة النساء (4) : الآيات 20 إلى 21]

تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فِيهِ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى أَنَّكُمْ إِنْ كَرِهْتُمْ صُحْبَتَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ فِي صُحْبَتِهِنَّ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ فَتَارَةً فَسَّرَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ بِوَلَدٍ يَحْصُلُ فَتَنْقَلِبُ الْكَرَاهَةُ مَحَبَّةً، وَالنَّفْرَةُ رَغْبَةً وَتَارَةً بِأَنَّهُ لَمَّا كره صحبتها ثم إنه يحمل ذَلِكَ الْمَكْرُوهَ طَلَبًا لِثَوَابِ اللَّه، وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا عَلَى خِلَافِ الطَّبْعِ، اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ فِي الْعُقْبَى وَالثَّنَاءَ الْجَمِيلَ فِي الدُّنْيَا، الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ وَرَغِبْتُمْ فِي مُفَارَقَتِهِنَّ، فَرُبَّمَا جَعَلَ اللَّه فِي تِلْكَ المفارقة لهن خيرا كثيرا، ذلك بِأَنْ تَتَخَلَّصَ تِلْكَ الْمَرْأَةُ مِنْ هَذَا الزَّوْجِ وَتَجِدَ زَوْجًا خَيْرًا مِنْهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النِّسَاءِ: 130] وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَثَّ بِمَا ذَكَرَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الصُّحْبَةِ، فَكَيْفَ يُرِيدُ بذلك المفارقة. [سورة النساء (4) : الآيات 20 الى 21] وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) النوع الرابع: من التكاليف المتعلقة بالنساء. [في قوله تعالى وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً] / فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى لَمَّا أَذِنَ فِي مُضَارَّةِ الزَّوْجَاتِ إِذَا أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَحْرِيمَ الْمُضَارَّةِ فِي غَيْرِ حَالِ الْفَاحِشَةِ فَقَالَ: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ رُوِيَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ إِذَا مَالَ إِلَى التَّزَوُّجِ بِامْرَأَةٍ أُخْرَى رَمَى زَوْجَةَ نَفْسِهِ بِالْفَاحِشَةِ حَتَّى يُلْجِئَهَا إِلَى الِافْتِدَاءِ مِنْهُ بِمَا أَعْطَاهَا لِيَصْرِفَهُ إِلَى تَزَوُّجِ الْمَرْأَةِ الَّتِي يُرِيدُهَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ الْآيَةَ وَالْقِنْطَارُ الْمَالُ الْعَظِيمُ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [آل عمران: 14] . المسألة الثانية: قَالُوا: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمُغَالَاةِ فِي الْمَهْرِ، رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: أَلَا لَا تُغَالُوا فِي مُهُورِ نِسَائِكُمْ، فَقَامَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ اللَّه يُعْطِينَا وَأَنْتَ تَمْنَعُ وَتَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ، وَرَجَعَ عَنْ كَرَاهَةِ الْمُغَالَاةِ. وَعِنْدِي أَنَّ الْآيَةَ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى جَوَازِ الْمُغَالَاةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إِيتَاءِ الْقِنْطَارِ كَمَا أَنَّ قَوْلُهُ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] لَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْآلِهَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَعْلِ الشَّيْءِ شَرْطًا لِشَيْءٍ آخَرَ كَوْنُ ذَلِكَ الشَّرْطِ فِي نَفْسِهِ جَائِزَ الْوُقُوعِ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ» وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ جَوَازُ الْقَتْلِ، وَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ: لَوْ كَانَ الْإِلَهُ جِسْمًا لَكَانَ مُحْدَثًا، وَهَذَا حَقٌّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ قَوْلَنَا: الْإِلَهُ جِسْمٌ حَقٌّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ يَدْخُلُ فِيهَا مَا إِذَا آتَاهَا مَهْرَهَا وَمَا إِذَا لَمْ يُؤْتِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الْعَقْدَ عَلَى ذَلِكَ الصَّدَاقِ فِي حُكْمِ اللَّه، فَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ مَا إِذَا آتَاهَا الصَّدَاقَ حِسًّا، وَبَيْنَ مَا إِذَا لَمْ يُؤْتِهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ تُقَرِّرَ الْمَهْرَ، قَالَ وَذَلِكَ لأن اللَّه

تَعَالَى مَنَعَ الزَّوْجَ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا مِنَ الْمَهْرِ، وَهَذَا الْمَنْعُ مُطْلَقٌ تَرْكُ الْعَمَلِ/ بِهِ قَبْلَ الْخَلْوَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ بَعْدَ الْخَلْوَةِ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [الْبَقَرَةِ: 237] وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْمَسِيسِ فَقَالَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ: الْمُرَادُ مِنَ الْمَسِيسِ الْخَلْوَةُ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّه: هُوَ الْجِمَاعُ، وَإِذَا صَارَ مُخْتَلَفًا فِيهِ امْتَنَعَ جَعْلُهُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ هَذِهِ الآية. والجواب: إن هذه الآية المذكورة هاهنا مُخْتَصَّةٌ بِمَا بَعْدَ الْجِمَاعِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَإِفْضَاءُ بَعْضِهِمْ إِلَى الْبَعْضِ هُوَ الْجِمَاعُ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَسَنُقِيمُ الدَّلَائِلَ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ سُوءَ الْعِشْرَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ، فَإِنْ كَانَ من قبل الزوج كره له أنه يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ مَهْرِهَا لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً صَرِيحٌ فِي أَنَّ النُّشُوزَ إِذَا كَانَ مِنْ قِبَلِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَهْرِهَا شَيْئًا، ثُمَّ إِنْ وَقَعَتِ الْمُخَالَعَةُ مَلَكَ الزَّوْجُ بَدَلَ الْخُلْعِ، كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ وَقْتَ النِّدَاءِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ، وَإِذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ فَهَهُنَا يَحِلُّ أَخْذُ بَدَلِ الْخُلْعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء: 19] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْبُهْتَانُ فِي اللُّغَةِ الْكَذِبُ الَّذِي يُوَاجِهُ الْإِنْسَانُ بِهِ صَاحِبَهُ عَلَى جِهَةِ الْمُكَابَرَةِ، وَأَصْلُهُ مِنْ بُهِتَ الرَّجُلُ إِذَا تَحَيَّرَ، فَالْبُهْتَانُ كَذِبٌ يُحَيِّرُ الْإِنْسَانَ لِعَظَمَتِهِ، ثُمَّ جَعَلَ كُلَّ بَاطِلٍ يُتَحَيَّرُ مِنْ بُطْلَانِهِ بُهْتاناً، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «إِذَا وَاجَهْتَ أَخَاكَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي أَنَّهُ لِمَ انْتَصَبَ قَوْلُهُ: بُهْتاناً وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزجاج: البهتان هاهنا مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: أَتَأْخُذُونَهُ مُبَاهِتِينَ وَآثِمِينَ. الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يُحْتَمَلُ أَنَّهُ انْتَصَبَ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَرَضًا فِي الْحَقِيقَةِ، كَقَوْلِكَ: قَعَدَ عَنِ الْقِتَالِ جُبْنًا. الثَّالِثُ: انْتَصَبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ بِبُهْتَانٍ. الرَّابِعُ: فِيهِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ: تُصِيبُونَ بِهِ بُهْتَانًا وَإِثْمًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَسْمِيَةِ هَذَا الْأَخْذِ «بُهْتَانًا» وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى فَرَضَ لَهَا ذَلِكَ الْمَهْرَ فَمَنِ اسْتَرَدَّهُ كَانَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ بِفَرْضٍ فَيَكُونُ بُهْتَانًا. الثَّانِي: أَنَّهُ عِنْدَ الْعَقْدِ تَكَفَّلَ بِتَسْلِيمِ ذَلِكَ الْمَهْرِ إِلَيْهَا، وَأَنْ لَا يَأْخُذَهُ مِنْهَا، فَإِذَا أَخَذَهُ صَارَ ذَلِكَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بُهْتَانًا. الثَّالِثُ: أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ دَأْبِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا تَطْلِيقَ الزَّوْجَةِ رَمَوْهَا بِفَاحِشَةٍ حَتَّى تَخَافَ وَتَشْتَرِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ/ بِذَلِكَ الْمَهْرِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْأَمْرُ وَاقِعًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي الْأَغْلَبِ الْأَكْثَرِ، جُعِلَ كَأَنَّ أَحَدَهُمَا هُوَ الْآخَرُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ أَمْرَ اللَّه، فَإِذَا أَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا أَشْعَرَ ذَلِكَ بِأَنَّهَا قَدْ أَتَتْ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ صَحَّ وَصْفُ ذَلِكَ الْأَخْذِ بِأَنَّهُ بُهْتَانٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى إِتْيَانِهَا بِالْفَاحِشَةِ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَفِيهِ تَقْرِيرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ أَخْذَ الْمَالِ

طَعْنٌ فِي ذَاتِهَا وَأَخْذٌ لِمَالِهَا، فَهُوَ بُهْتَانٌ مِنْ وَجْهٍ وَظُلْمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَكَانَ ذَلِكَ مَعْصِيَةً عَظِيمَةً مِنْ أُمَّهَاتِ الْكَبَائِرِ، الْخَامِسُ: أَنَّ عِقَابَ الْبُهْتَانِ وَالْإِثْمِ الْمُبِينِ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ فَقَوْلُهُ: أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً مَعْنَاهُ أَتَأْخَذُونَ عِقَابَ الْبُهْتَانِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النِّسَاءِ: 10] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: أَتَأْخُذُونَهُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَالْإِعْظَامِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّكُمْ لَا تَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ مَعَ ظُهُورِ قبحه في الشرع والعقل. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي عِلَّةِ هَذَا المنع أمورا: أحدهما: أَنَّ هَذَا الْأَخْذَ يَتَضَمَّنُ نِسْبَتَهَا إِلَى الْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ بُهْتَانًا وَالْبُهْتَانُ مِنْ أُمَّهَاتِ الْكَبَائِرِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ إِثْمٌ مُبِينٌ لِأَنَّ هَذَا الْمَالَ حَقُّهَا فَمَنْ ضَيَّقَ الْأَمْرَ عَلَيْهَا لِيَتَوَسَّلَ بِذَلِكَ التَّشْدِيدِ وَالتَّضْيِيقِ وَهُوَ ظُلْمٌ، إِلَى أَخْذِ الْمَالِ وَهُوَ ظُلْمٌ آخَرُ، فَلَا شَكَّ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِظُلْمٍ إِلَى ظُلْمٍ آخَرَ يَكُونُ إِثْمًا مُبِينًا. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَصْلُ أَفْضَى مِنَ الْفَضَاءِ الَّذِي هُوَ السعة يقال: فضا يفضو وَفَضَاءً إِذَا اتَّسَعَ، قَالَ اللَّيْثُ: أَفْضَى فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ، أَيْ وَصَلَ إِلَيْهِ، وَأَصْلُهُ أَنَّهُ صَارَ فِي فُرْجَتِهِ وَفَضَائِهِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْإِفْضَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِفْضَاءَ هاهنا كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَاخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ عِنْدَهُ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي نِصْفِ الْمَهْرِ، وَإِنْ خَلَا بِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْإِفْضَاءِ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا وَإِنْ لَمْ يُجَامِعْهَا، قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْإِفْضَاءُ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ، جَامَعَهَا أَوْ لَمْ يُجَامِعْهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. لِأَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ تُقَرِّرُ الْمَهْرَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّيْثَ قَالَ: أَفْضَى فُلَانٌ إِلَى فُلَانَةَ/ أَيْ صَارَ فِي فُرْجَتِهَا وَفَضَائِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْجِمَاعِ، أَمَّا فِي غَيْرِ وَقْتِ الْجِمَاعِ فَهَذَا غَيْرُ حَاصِلٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا فِي مَعْرِضِ التَّعَجُّبِ، فَقَالَ: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَالتَّعَجُّبُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا كَانَ هَذَا الْإِفْضَاءُ سَبَبًا قَوِيًّا فِي حُصُولِ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَهُوَ الْجِمَاعُ لَا مُجَرَّدُ الْخَلْوَةِ، فَوَجَبَ حَمْلُ الْإِفْضَاءِ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الْإِفْضَاءَ إِلَيْهَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُفَسَّرًا بِفِعْلٍ مِنْهُ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، لِأَنَّ كَلِمَةَ «إِلَى» لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَمُجَرَّدُ الْخَلْوَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ عِنْدَ الْخَلْوَةِ الْمَحْضَةِ لَمْ يَصِلْ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ، فَامْتَنَعَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ بِمُجَرَّدِ الْخَلْوَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا اضْطَجَعَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ وَتَلَامَسَا فَقَدْ حَصَلَ الْإِفْضَاءُ مِنْ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَافِيًا. وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ. قُلْنَا: الْقَائِلُ قَائِلَانِ، قَائِلٌ يَقُولُ: الْمَهْرُ لَا يَتَقَرَّرُ إِلَّا بِالْجِمَاعِ، وَآخَرُ: إِنَّهُ يَتَقَرَّرُ بِمُجَرَّدِ الْخَلْوَةِ وَلَيْسَ فِي الْأُمَّةِ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ يَتَقَرَّرُ بِالْمُلَامَسَةِ وَالْمُضَاجَعَةِ، فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ بَاطِلًا بِالْإِجْمَاعِ، فَلَمْ يَبْقَ فِي تَفْسِيرِ إِفْضَاءِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ إِلَّا أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا الْجِمَاعُ، وَإِمَّا الْخَلْوَةُ، وَالْقَوْلُ بِالْخَلْوَةِ بَاطِلٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ، فَبَقِيَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِفْضَاءِ هُوَ الْجِمَاعُ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَهْرَ قَبْلَ الْخَلْوَةِ مَا كَانَ مُتَقَرِّرًا، وَالشَّرْعُ قَدْ عَلَّقَ تَقَرُّرَهُ عَلَى إِفْضَاءِ الْبَعْضِ إِلَى الْبَعْضِ، وَقَدِ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِفْضَاءِ، هُوَ الْخَلْوَةُ أَوِ الْجِمَاعُ، وَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ وَجَبَ بَقَاءُ مَا كَانَ

[سورة النساء (4) : آية 22]

عَلَى مَا كَانَ، وَهُوَ عَدَمُ التَّقْرِيرِ، فَبِهَذِهِ الْوُجُوهِ ظَهَرَ تَرْجِيحُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ كَلِمَةُ تَعَجُّبٍ، أَيْ لِأَيِّ وَجْهٍ وَلِأَيِّ مَعْنًى تَفْعَلُونَ هَذَا؟ فَإِنَّهَا بَذَلَتْ نَفْسَهَا لَكَ وَجَعَلَتْ ذَاتَهَا لَذَّتَكَ وَتَمَتُّعَكَ، وَحَصَلَتِ الْأُلْفَةُ التَّامَّةُ وَالْمَوَدَّةُ الْكَامِلَةُ بَيْنَكُمَا، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْهَا شَيْئًا بَذَلَهُ لَهَا بِطِيبَةِ نَفْسِهِ؟ إِنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ الْبَتَّةَ بِمَنْ لَهُ طَبْعٌ سَلِيمٌ وَذَوْقٌ مُسْتَقِيمٌ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّه مَانِعًا مِنَ اسْتِرْدَادِ الْمَهْرِ قَوْلُهُ: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْمِيثَاقِ الْغَلِيظِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ السُّدِّيُّ وَعِكْرِمَةُ وَالْفَرَّاءُ: هُوَ قَوْلُهُمْ زَوَّجْتُكَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ عَلَى مَا أَخَذَهُ اللَّه لِلنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ، مِنْ إِمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا أَلْجَأَهَا إِلَى أَنْ بَذَلَتِ الْمَهْرَ فَمَا سَرَّحَهَا بِالْإِحْسَانِ، بَلْ سَرَّحَهَا بِالْإِسَاءَةِ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: الْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ كَلِمَةُ النِّكَاحِ الْمَعْقُودَةُ عَلَى الصَّدَاقِ، وَتِلْكَ الْكَلِمَةُ كَلِمَةٌ تُسْتَحَلُّ بِهَا فُرُوجُ النِّسَاءِ، قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقُّوا اللَّه فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّه وَاسْتَحْلَلْتُمْ/ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّه. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أَيْ أَخَذْنَ مِنْكُمْ بِسَبَبِ إِفْضَاءِ بَعْضِكُمْ إِلَى بَعْضٍ مِيثَاقًا غَلِيظًا، وَصَفَهُ بِالْغِلْظَةِ لِقُوَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَقَالُوا: صُحْبَةُ عِشْرِينَ يَوْمًا قَرَابَةٌ، فَكَيْفَ بِمَا يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الِاتِّحَادِ والامتزاج. [سورة النساء (4) : آية 22] وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) النَّوْعُ الْخَامِسُ: مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي كَلَّفَ اللَّه تَعَالَى بِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْأُمُورِ المتعلقة بالنساء. فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَزَوَّجُونَ بِأَزْوَاجِ آبَائِهِمْ فَنَهَاهُمُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِمَزْنِيَّةِ أَبِيهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ: لَا يَحْرُمُ احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى نَهَى الرَّجُلَ أَنْ يَنْكِحَ مَنْكُوحَةَ أبيه، والنكاح عبارة عن الوطء فكان هذا نَهْيًا عَنْ نِكَاحِ مَوْطُوءَةِ أَبِيهِ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ النِّكَاحَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَطْءِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [الْبَقَرَةِ: 230] أَضَافَ هَذَا النِّكَاحَ إِلَى الزَّوْجِ، وَالنِّكَاحُ الْمُضَافُ إِلَى الزَّوْجِ هُوَ الْوَطْءُ لَا الْعَقْدُ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِزَوْجَةِ نَفْسِهِ لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْعَقْدَ لَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ التَّحْلِيلُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَحَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ هُوَ الْعَقْدَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْوَطْءَ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ [النساء: 6] والمراد من النكاح هاهنا الْوَطْءُ لَا الْعَقْدُ، لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْعَقْدِ كَانَتْ حَاصِلَةً أَبَدًا. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً [النُّورِ: 3] فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ هاهنا الْعَقْدَ لَزِمَ الْكَذِبُ. الرَّابِعُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «نَاكِحُ الْيَدِ مَلْعُونٌ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ هُوَ الْعَقْدَ بَلْ هُوَ الْوَطْءُ. فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ النِّكَاحَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَطْءِ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ أَيْ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا وَطِئَهُنَّ آبَاؤُكُمْ، وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَنْكُوحَةُ وَالْمَزْنِيَّةُ، لَا يُقَالُ: كَمَا أَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ وَرَدَ بِمَعْنَى الْوَطْءِ فَقَدْ وَرَدَ/ أَيْضًا بِمَعْنَى الْعَقْدِ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النُّورِ: 32] فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ: 3] إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ [الْأَحْزَابِ: 49] وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أُولَدْ مِنْ سِفَاحٍ» فَلِمَ كَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْوَطْءِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْعَقْدِ؟ أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكَرْخِيُّ وَهُوَ أَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ، بِدَلِيلِ أَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الضَّمِّ، وَمَعْنَى الضَّمِّ حَاصِلٌ فِي الْوَطْءِ لَا فِي الْعَقْدِ، فَكَانَ لَفْظُ النِّكَاحِ حَقِيقَةً فِي الْوَطْءِ. ثُمَّ إِنَّ الْعَقْدَ سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لَهُ أُطْلِقَ اسْمُ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، كَمَا أَنَّ الْعَقِيقَةَ اسْمٌ لِلشَّعْرِ الَّذِي يَكُونُ عَلَى رَأْسِ الصَّبِيِّ حَالَ مَا يُولَدُ، ثُمَّ تُسَمَّى الشَّاةُ الَّتِي تُذْبَحُ عِنْدَ حَلْقِ ذَلِكَ الشَّعْرِ عَقِيقَةً فَكَذَا هاهنا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ مَذْهَبُ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ بِالِاعْتِبَارِ الْوَاحِدِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعًا، فَلَا جَرَمَ كَانَ يَقُولُ: الْمُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمُ الْوَطْءِ، أَمَّا حُكْمُ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَدَلِيلٍ آخَرَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَفْهُومَيْهِ مَعًا فَهَذَا الْقَائِلُ قَالَ: دَلَّتِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ وَفِي الْعَقْدِ مَعًا، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ نَهْيًا عَنِ الْوَطْءِ وَعَنِ الْعَقْدِ مَعًا، حَمْلًا لِلَّفْظِ عَلَى كِلَا مَفْهُومَيْهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَفْهُومَيْهِ مَعًا، قَالُوا: ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ قَدِ اسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ فِي الْوَطْءِ تَارَةً وَفِي الْعَقْدِ أُخْرَى، وَالْقَوْلُ بِالِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَلَا بُدَّ مِنْ جَعْلِهِ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ مَعْنَى الضَّمِّ حَتَّى يَنْدَفِعَ الِاشْتِرَاكُ وَالْمَجَازُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ نَهْيًا عَنِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّزْوِيجِ يَكُونُ نَهْيًا عَنِ الْعَقْدِ وَعَنِ الْوَطْءِ مَعًا، فَهَذَا أَقْصَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ يَقَعُ عَلَى الْوَطْءِ، وَالْوُجُوهُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا عَلَى ذَلِكَ فَهِيَ مُعَارَضَةٌ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «النِّكَاحُ سُنَّتِي» وَلَا شَكَّ أَنَّ الوطء من حيث كونه وطأ لَيْسَ سُنَّةً لَهُ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ بِالسِّفَاحِ سُنَّةً لَهُ فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ النِّكَاحَ سُنَّةٌ، وَثَبَتَ أَنَّ الْوَطْءَ لَيْسَ سُنَّةً، ثَبَتَ أَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الْوَطْءِ، كَذَلِكَ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ: «تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا» وَلَوْ كَانَ الْوَطْءُ مُسَمًّى بِالنِّكَاحِ لَكَانَ هَذَا إِذْنًا فِي مُطْلَقِ الْوَطْءِ/ وَكَذَلِكَ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النُّورِ: 32] وَقَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ: 3] . لَا يُقَالُ: لَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ فَالتَّرْجِيحُ مَعَنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا: الْوَطْءُ مُسَمًّى بِالنِّكَاحِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ لَزِمَ دُخُولُ الْمَجَازِ فِي دَلَائِلِنَا، وَمَتَى وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْمَجَازِ وَالتَّخْصِيصِ كَانَ الْتِزَامُ التَّخْصِيصِ أَوْلَى.

لِأَنَّا نَقُولُ: أَنْتُمْ تُسَاعِدُونَ عَلَى أَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعَقْدِ، فَلَوْ قُلْنَا: إِنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ لَزِمَ دُخُولُ التَّخْصِيصِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَلَزِمَ الْقَوْلُ بِالْمَجَازِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ النِّكَاحُ فِيهَا بِمَعْنَى الْعَقْدِ، أَمَّا لَوْ قُلْنَا: إِنَّ النِّكَاحَ فِيهَا بِمَعْنَى الْوَطْءِ فَلَا يَلْزَمُنَا التَّخْصِيصُ، فَقَوْلُكُمْ يُوجِبُ الْمَجَازَ وَالتَّخْصِيصَ مَعًا، وَقَوْلُنَا يُوجِبُ الْمَجَازَ فَقَطْ، فَكَانَ قَوْلُنَا أَوْلَى. الْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْوُجُوهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ حَقِيقَةً فِي الْوَطْءِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أُولَدْ مِنْ سِفَاحٍ» أَثْبَتَ نَفْسَهُ مَوْلُودًا مِنَ النِّكَاحِ وَغَيْرَ مَوْلُودٍ مِنَ السِّفَاحِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ السِّفَاحُ نِكَاحًا، وَالسِّفَاحُ وَطْءٌ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الْوَطْءُ نِكَاحًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَنْ حَلَفَ فِي أَوْلَادِ الزِّنَا: أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَوْلَادَ النِّكَاحِ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ كَانَ الْوَطْءُ نِكَاحًا لَوَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ، وَهَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ لَيْسَ مُسَمًّى بِالنِّكَاحِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ. الثَّانِي: سَلَّمْنَا أَنَّ الْوَطْءَ مُسَمًّى بِالنِّكَاحِ، لَكِنَّ الْعَقْدَ أَيْضًا مُسَمًّى بِهِ، فَلِمَ كَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا؟ أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فَهُوَ فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ، وبيانه من وجهين: الأول: أو الوطء مسبب العقد، فكما يحسن إطلاق اسم الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ مَجَازًا فَكَذَلِكَ يَحْسُنُ إِطْلَاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ مَجَازًا. فَكَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: النِّكَاحُ اسْمٌ لِلْوَطْءِ ثُمَّ أُطْلِقَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْعَقْدِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْوَطْءِ، فَكَذَلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: النِّكَاحُ اسْمٌ لِلْعَقْدِ، ثُمَّ أُطْلِقَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْوَطْءِ لِكَوْنِ الْوَطْءِ مُسَبَّبًا لَهُ، فَلِمَ كَانَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ؟ بَلِ الِاحْتِمَالُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، لِأَنَّ اسْتِلْزَامَ السَّبَبِ لِلْمُسَبَّبِ أَتَمُّ مِنِ اسْتِلْزَامِ الْمُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِحُصُولِ الْحَقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ، كَالْمِلْكِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْإِرْثِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُلَازَمَةَ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْمَجَازِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ أَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النِّكَاحَ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْوَطْءِ مَجَازًا فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعًا، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ لَا تَكُونَ الْآيَةُ دَالَّةً/ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَدِ الْتَزَمَهُ الْكَرْخِيُّ لَكِنَّهُ مَدْفُوعٌ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ بِأَزْوَاجِ آبَائِهِمْ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ الْآيَةِ، بَلِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ غَيْرَهُ هَلْ يَدْخُلُ تحت الآية أم لا؟ وأما كون سبب النُّزُولِ دَاخِلًا فِيهَا فَذَاكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، فَإِذَا ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ، أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْعَقْدُ لَا الْوَطْءُ، وَثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُرَادًا، ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْعَقْدِ مُرَادٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَانَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ وَاقِعًا عَلَى مُضَادَّةِ هَذَا الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ، فَكَانَ فَاسِدًا مَرْدُودًا قَطْعًا. أَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: مِمَّا ذَكَرُوهُ وَهُوَ أَنَّا نَحْمِلُ لَفْظَ النِّكَاحِ عَلَى مَفْهُومَيْهِ، فَنَقُولُ: هَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ بُطْلَانِهِ فِي أُصُولِ الفقه. وأما الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَهُوَ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الضَّمَّ الحاصل في

الْوَطْءِ عِبَارَةٌ عَنْ تَجَاوُرِ الْأَجْسَامِ وَتَلَاصُقِهَا، وَالضَّمُّ الْحَاصِلُ فِي الْعَقْدِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ أَصْوَاتٌ غَيْرُ بَاقِيَةٍ، فَمَعْنَى الضَّمِّ وَالتَّلَاقِي وَالتَّجَاوُرِ فِيهَا مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْوَطْءِ وَبَيْنَ الْعَقْدِ مَفْهُومٌ مُشْتَرَكٌ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ حَقِيقَةٌ فِيهِ، فَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: لَفْظُ النِّكَاحِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَطْءِ وَبَيْنَ الْعَقْدِ، وَيُقَالَ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي أَحَدِهِمَا مَجَازٌ فِي الْآخَرِ، وَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ الْكَلَامُ إِلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْمُلَخَّصُ فِي هَذَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنْ نَقُولَ: سَلَّمْنَا أَنَّ النِّكَاحَ بِمَعْنَى الْوَطْءِ، وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ قَوْلَهُ: مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَنْكُوحَةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ «مَا» حَقِيقَةٌ فِي غير العقلاء، فلو كان المراد منه هاهنا الْمَنْكُوحَةَ لَزِمَ هَذَا الْمَجَازُ، وَإِنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ، بَلْ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ «مَا» مع بَعْدَهَا فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَلَا تَنْكِحُوا نِكَاحَ آبَائِكُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّهْيَ عَنْ أَنْ تَنْكِحُوا نِكَاحًا مِثْلَ نِكَاحِ آبَائِكُمْ، فَإِنَّ أَنَكِحَتَهُمْ كَانَتْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ولا شهود، وكانت موقتة، وَكَانَتْ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْإِلْجَاءِ، فاللَّه تَعَالَى نَهَاهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأَنْكِحَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مَنْقُولٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ الْمَنْكُوحَةُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَنْكِحُوا مَنْ نَكَحَ آبَاؤُكُمْ وَلَكِنَّ قَوْلَهُ: مَنْ نَكَحَ آبَاؤُكُمْ لَيْسَ صَرِيحًا فِي الْعُمُومِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ إِدْخَالُ لَفْظَيِ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ: وَلَا تَنْكِحُوا كُلَّ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ وَلَا تَنْكِحُوا بَعْضَ مَنْ نَكَحَ آبَاؤُكُمْ، وَلَوْ كَانَ هَذَا صَرِيحًا فِي الْعُمُومِ لَكَانَ إِدْخَالُ لَفْظِ/ الْكُلِّ عَلَيْهِ تَكْرِيرًا، وَإِدْخَالُ لَفْظِ الْبَعْضِ عَلَيْهِ نَقْصًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَإِذَا لَمْ يُفِدِ الْعُمُومَ لَمْ يَتَنَاوَلْ مَحَلَّ النِّزَاعِ. لَا يُقَالُ: لَوْ لَمْ يُفِدِ الْعُمُومَ لَمْ يَكُنْ صَرْفُهُ إِلَى بَعْضِ الْأَقْسَامِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إِلَى الْبَاقِي، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مُجْمَلًا غَيْرَ مُفِيدٍ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ. لِأَنَّا نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يُفِيدَ الْعُمُومَ لَمْ يَكُنْ صَرْفُهُ إِلَى الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهِ إِنَّمَا هُوَ التَّزَوُّجُ بِزَوْجَاتِ الْآبَاءِ، فَكَانَ صَرْفُهُ إِلَى هَذَا الْقِسْمِ أَوْلَى، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَلْزَمُ كَوْنُ الْآيَةِ مُجْمَلَةً، وَلَا يَلْزَمُ كَوْنُهَا مُتَنَاوِلَةً لِمَحَلِّ النِّزَاعِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا النَّهْيَ يَتَنَاوَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ يُفِيدُ التَّحْرِيمَ؟ أَلَيْسَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَقْسَامِ النَّهْيِ لَا يُفِيدُ التَّحْرِيمَ، بَلْ يُفِيدُ التَّنْزِيهَ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؟ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَلَكِنْ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ، وَسَنَذْكُرُ دَلَائِلَ صِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ هَبْ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هذا النكاح، إلا أن هاهنا مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: هَذَا النِّكَاحُ مُنْعَقِدٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، بَيَانُ أَنَّهُ مُنْعَقِدٌ أَنَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه

عَنْهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ مُنْعَقِدًا وَهَذَا هُوَ أَصْلُ مَذْهَبِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَصَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ، فَيَلْزَمُ مِنْ مَجْمُوعِ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ أَنْ يَكُونَ هَذَا النِّكَاحُ مُنْعَقِدًا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِذَا ثَبَتَ الْقَوْلُ بِالِانْعِقَادِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِالصِّحَّةِ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. فَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ مِنْ طَرِيقِ الْإِلْزَامِ عَلَيْهِمْ فِي صِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: عُمُومُ قوله تَعَالَى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [الْبَقَرَةِ: 221] نَهْيٌ عَنْ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ وَمَدَّ النَّهْيَ إِلَى غَايَةٍ وَهِيَ إِيمَانُهُنَّ، وَالْحُكْمُ الْمَمْدُودُ إِلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ حُصُولِ تِلْكَ الْغَايَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَهِيَ الْمَنْعُ مِنْ نِكَاحِهِنَّ عِنْدَ إِيمَانِهِنَّ، وَإِذَا انْتَهَى الْمَنْعُ حَصَلَ الْجَوَازُ، فَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ نِكَاحِهِنَّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومِ مَزْنِيَّةُ الْأَبِ وَغَيْرُهَا، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ فِي مَوَاضِعَ يَبْقَى حُجَّةً فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ. وَكَذَلِكَ نَسْتَدِلُّ بِجَمِيعِ الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى [النُّورِ: 32] وَقَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ: 3] وَأَيْضًا نَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: 24] وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَهُ: مَا وَراءَ ذلِكُمْ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ السَّابِقِ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَذْكُورِ السَّابِقِ قَوْلُهُ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ إِلَيْهِ هو من قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النساء: 23] فَكَانَ قَوْلُهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ عَائِدًا إِلَيْهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ قَوْلُهُ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ وَأَيْضًا نَتَمَسَّكُ بِعُمُومَاتِ الْأَحَادِيثِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ فَزَوِّجُوهُ» وَقَوْلِهِ: «زَوِّجُوا بَنَاتِكُمُ الْأَكْفَاءَ» فَكُلُّ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ يَتَنَاوَلُ: مَحَلَّ النِّزَاعِ. وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ التَّرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ جَائِزٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُمْ أَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ، فَلَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى الْعَقْدِ لَمْ يَلْزَمْنَا إِلَّا مَجَازٌ وَاحِدٌ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ نَحْمِلَ تِلْكَ الْآيَةَ عَلَى حُرْمَةِ النِّكَاحِ يَلْزَمُنَا هَذِهِ التَّخْصِيصَاتُ الْكَثِيرَةُ فَكَانَ التَّرْجِيحُ مِنْ جَانِبِنَا بِسَبَبِ كَثْرَةِ الدَّلَائِلِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ» أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَطْرَةً مِنَ الْخَمْرِ إِذَا وَقَعَتْ فِي كُوزٍ مِنَ الْمَاءِ فَهَهُنَا الْحَرَامُ حَرَّمَ الْحَلَالَ، وَإِذَا اخْتَلَطَتِ الْمَنْكُوحَةُ بِالْأَجْنَبِيَّاتِ وَاشْتَبَهَتْ بِهِنَّ، فَهَهُنَا الْحَرَامُ حَرَّمَ الْحَلَالَ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: دُخُولُ التَّخْصِيصِ فِيهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنْ نَقُولَ: الْمُقْتَضِي لِجَوَازِ النِّكَاحِ قَائِمٌ، وَالْفَارِقُ بَيْنَ مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ وَبَيْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ ظَاهِرٌ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ، أَمَّا الْمُقْتَضِي فَهُوَ أَنْ يَقِيسَ نِكَاحَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ عَلَى نِكَاحِ سَائِرِ النِّسْوَانِ عِنْدَ حُصُولِ الشَّرَائِطِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، بِجَامِعِ مَا فِي النِّكَاحِ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَأَمَّا الْفَارِقُ فَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْمَحْرَمِيَّةَ إِنَّمَا حَكَمَ الشَّرْعُ بِثُبُوتِهَا، سَعْيًا فِي إِبْقَاءِ الْوُصْلَةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِالزِّنَا. بَيَانُ الْمَقَامِ الْأَوَّلِ: مَنْ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ، فلو لم يدخل على المرأة أب الرَّجُلِ وَابْنُهُ. وَلَمْ تَدْخُلْ عَلَى الرَّجُلِ أُمُّ الْمَرْأَةِ وَبِنْتُهَا، لَبَقِيَتِ الْمَرْأَةُ كَالْمَحْبُوسَةِ فِي الْبَيْتِ، وَلَتَعَطَّلَ عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ أَكْثَرُ الْمَصَالِحِ وَلَوْ أَذِنَّا فِي هَذَا الدُّخُولِ وَلَمْ نَحْكُمْ بِالْمَحْرَمِيَّةِ فَرُبَّمَا امْتَدَّ عَيْنُ الْبَعْضِ إِلَى الْبَعْضِ وَحَصَلَ الْمَيْلُ وَالرَّغْبَةُ وَعِنْدَ حُصُولِ التَّزَوُّجِ بِأُمِّهَا أَوِ ابْنَتِهَا تَحْصُلُ النَّفْرَةُ الشَّدِيدَةُ بَيْنَهُنَّ، لِأَنَّ صُدُورَ الْإِيذَاءِ عَنِ الْأَقَارِبِ أَقْوَى وَقْعًا وَأَشَدُّ إِيلَامًا وتأثيرا،

وَعِنْدَ حُصُولِ النَّفْرَةِ الشَّدِيدَةِ يَحْصُلُ التَّطْلِيقُ وَالْفِرَاقُ، أَمَّا إِذَا حَصَلَتِ الْمَحْرَمِيَّةُ انْقَطَعَتِ الْأَطْمَاعُ وَانْحَبَسَتِ الشَّهْوَةُ، فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الضَّرَرُ، فَبَقِيَ النِّكَاحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ سَلِيمًا عَنْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حُكْمِ الشَّرْعِ بِهَذِهِ الْمَحْرَمِيَّةِ، السَّعْيُ فِي تَقْرِيرِ الِاتِّصَالِ الْحَاصِلِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الْمَحْرَمِيَّةِ إِبْقَاءَ ذَلِكَ الِاتِّصَالِ، فَمَعْلُومٌ/ أَنَّ الِاتِّصَالَ الْحَاصِلَ عِنْدَ النِّكَاحِ مَطْلُوبُ الْبَقَاءِ، فَيَتَنَاسَبُ حُكْمُ الشَّرْعِ بِإِثْبَاتِ هَذِهِ الْمَحْرَمِيَّةِ، وَأَمَّا الِاتِّصَالُ الْحَاصِلُ عِنْدَ الزِّنَا فَهُوَ غَيْرُ مَطْلُوبِ الْبَقَاءِ، فَلَمْ يَتَنَاسَبْ حُكْمُ الشَّرْعِ بِإِثْبَاتِ هَذِهِ الْمَحْرَمِيَّةِ، وَهَذَا وَجْهٌ مَقْبُولٌ مُنَاسِبٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ، وَهَذَا هُوَ مِنْ قَوْلِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عِنْدَ مُنَاظَرَتِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ حَيْثُ قَالَ: وَطْءٌ حُمِدْتَ بِهِ، وَوَطْءٌ رُجِمْتَ بِهِ، فَكَيْفَ يَشْتَبِهَانِ؟ وَلْنَكْتَفِ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ السبب في ذكر هذا الاستقصاء هاهنا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الرَّازِيَّ طَوَّلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي تَصْنِيفِهِ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ التَّطْوِيلُ إِلَّا تَطْوِيلًا فِي الْكَلِمَاتِ الْمُخْتَلِطَةِ وَالْوُجُوهِ الْفَاسِدَةِ الرَّكِيكَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْمُكَالَمَةِ مَعَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ أَسَاءَ فِي الْأَدَبِ وَتَعَدَّى طَوْرَهُ، وَخَاضَ فِي السَّفَاهَةِ وَتَعَامَى عَنْ تَقْرِيرِ دَلَائِلِهِ وَتَغَافَلَ عَنْ إِيرَادِ حُجَجِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ أَنْ كَتَبَ الْأَوْرَاقَ الْكَثِيرَةَ فِي التُّرَّهَاتِ الَّتِي لَا نَفْعَ لِمَذْهَبِهِ مِنْهَا وَلَا مَضَرَّةَ عَلَى خُصُومِهِ بِسَبَبِهَا، أَظْهَرَ الْقَدْحَ الشَّدِيدَ وَالتَّصَلُّفَ الْعَظِيمَ فِي كَثْرَةِ عُلُومِ أَصْحَابِهِ وَقِلَّةِ عُلُومِ مَنْ يُخَالِفُهُمْ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّحْصِيلِ لَبَكَى عَلَى نَفْسِهِ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي حَاوَلَ نُصْرَةَ قَوْلِهِ بِهَا، وَلَتَعَلَّمَ الدَّلَائِلَ مِمَّنْ كَانَ أَهْلًا لِمَعْرِفَتِهَا، وَمَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِنَا وَنَظَرَ فِي كِتَابِهِ وَأَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّا أَخَذْنَا مِنْهُ خَرَزَةً، ثُمَّ جَعَلْنَاهَا لُؤْلُؤَةً مِنْ شِدَّةِ التَّخْلِيصِ وَالتَّقْرِيرِ ثُمَّ أَجَبْنَا عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ عَلَى قَوَانِينِ الْأُصُولِ، مُنْطَبِقَةٍ عَلَى قَوَاعِدِ الْفِقْهِ، وَنَسْأَلُ اللَّه حُسْنَ الْخَاتِمَةِ وَدَوَامَ التَّوْفِيقِ وَالنُّصْرَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَحْسَنُهَا: مَا ذَكَرَهُ السَّيِّدُ صَاحِبُ حَلِّ الْمُقِلِّ فَقَالَ: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ عَلَى طَرِيقِ الْمَعْنَى لِأَنَّ قوله: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هَذَا كَمَا اسْتَثْنَى «غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ» مِنْ قَوْلِهِ: «وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ» يَعْنِي إِنْ أَمْكَنَكُمْ أَنْ تَنْكِحُوا مَا قَدْ سَلَفَ فَانْكِحُوهَ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكُمْ غَيْرُهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَالْغَرَضُ الْمُبَالَغَةُ فِي تَحْرِيمِهِ وَسَدُّ الطَّرِيقِ إِلَى إِبَاحَتِهِ، كَمَا يُقَالُ: حَتَّى يَبْيَضَّ الْقَارُ، وَحَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْمَاضِي مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْمَعْنَى: لَكِنَّ مَا قَدْ سَلَفَ فَإِنَّ اللَّه تَجَاوَزَ عَنْهُ. والرابع: «إلا» هاهنا بِمَعْنَى بَعْدَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدُّخَانِ: 56] أَيْ بَعْدَ الْمَوْتَةِ الْأُولَى. الْخَامِسُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ فَإِنَّكُمْ مُقِرُّونَ عَلَيْهِ، قَالُوا: إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِنَّ مُدَّةً ثُمَّ أَمَرَ بِمُفَارَقَتِهِنَّ. وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ إِخْرَاجُهُمْ عَنْ هَذِهِ الْعَادَةِ الرَّدِيئَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصلاة والسلام ما أقر أحد عَلَى نِكَاحِ امْرَأَةِ أَبِيهِ، / وَإِنْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. رَوَى الْبَرَاءُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا بُرْدَةَ إِلَى رَجُلٍ عَرَّسَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ لِيَقْتُلَهُ وَيَأْخُذَ مَالَهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى هَذَا النِّكَاحِ قَبْلَ النَّهْيِ، أَعْلَمَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ هَذَا الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ كَانَ لَمْ يَزَلْ مُنْكَرًا فِي قُلُوبِهِمْ مَمْقُوتًا عِنْدَهُمْ،

[سورة النساء (4) : آية 23]

وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ لِوَلَدِ الرَّجُلِ مِنِ امْرَأَةِ أَبِيهِ: مَقْتِيٌّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ زَوْجَةَ الْأَبِ تُشْبِهُ الْأُمَّ، وَكَانَ نِكَاحُ الْأُمَّهَاتِ مِنْ أَقْبَحِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا النِّكَاحُ يُشْبِهُ ذَلِكَ، لَا جَرَمَ كَانَ مُسْتَقْبَحًا عِنْدَهُمْ، فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ أَبَدًا كَانَ مَمْقُوتًا وَقَبِيحًا، الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى هَذَا النِّكَاحِ بَعْدَ النَّهْيِ، فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً فِي الْإِسْلَامِ وَمَقْتًا عِنْدَ اللَّه، وَإِنَّمَا قَالَ: كانَ لِبَيَانِ أَنَّهُ كَانَ فِي حُكْمِ اللَّه وَفِي عِلْمِهِ مَوْصُوفًا بِهَذَا الْوَصْفِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ فَاحِشَةٌ، وَإِنَّمَا وَصَفَ هَذَا النِّكَاحَ بِأَنَّهُ فَاحِشَةٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ زَوْجَةَ الْأَبِ تُشْبِهُ الْأُمَّ فَكَانَتْ مُبَاشَرَتُهَا مِنْ أَفْحَشِ الْفَوَاحِشِ، وَثَانِيهَا: الْمَقْتُ: وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ بُغْضٍ مَقْرُونٍ بِاسْتِحْقَارٍ، حَصَلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَمْرٍ قَبِيحٍ ارْتَكَبَهُ صَاحِبُهُ، وَهُوَ مِنَ اللَّه فِي حَقِّ الْعَبْدِ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الْخِزْيِ وَالْخَسَارِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَساءَ سَبِيلًا قَالَ اللَّيْثُ: «سَاءَ» فعل لا زم وَفَاعِلُهُ مُضْمَرٌ وَ «سَبِيلًا» مَنْصُوبٌ تَفْسِيرًا لِذَلِكَ الْفَاعِلِ، كَمَا قَالَ: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النِّسَاءِ: 69] وَاعْلَمْ أَنَّ مَرَاتِبَ الْقُبْحِ ثَلَاثَةٌ: الْقُبْحُ فِي الْعُقُولِ، وَفِي الشَّرَائِعِ وَفِي الْعَادَاتِ، فَقَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً إِشَارَةٌ إِلَى الْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ، وَقَوْلُهُ: وَمَقْتاً إِشَارَةٌ إِلَى الْقُبْحِ الشَّرْعِيِّ، وَقَوْلُهُ: وَساءَ سَبِيلًا إِشَارَةٌ إِلَى الْقُبْحِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَمَتَى اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْوُجُوهُ فَقَدْ بَلَغَ الغاية في القبح واللَّه أعلم. [سورة النساء (4) : آية 23] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) النَّوْعُ السَّادِسُ: مِنَ التَّكَالِيفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّسَاءِ الْمَذْكُورَةِ في هذه الآيات. قَوْلُهُ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ صِنْفًا مِنَ النِّسْوَانِ: سَبْعَةٌ مِنْهُنَّ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ، وَهُنَّ الْأُمَّهَاتُ وَالْبَنَاتُ وَالْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ. وَسَبْعَةٌ/ أُخْرَى لَا من جهة النسب: الْأُمَّهَاتُ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ النِّسَاءِ وَبَنَاتُ النِّسَاءِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِالنِّسَاءِ، وَأَزْوَاجُ الْأَبْنَاءِ وَالْآبَاءِ، إِلَّا أَنَّ أزواج الأبناء مذكورة هاهنا، وَأَزْوَاجُ الْآبَاءِ مَذْكُورَةٌ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَهَبَ الْكَرْخِيُّ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُجْمَلَةٌ قَالَ: لِأَنَّهُ أُضِيفَ التَّحْرِيمُ فِيهَا إِلَى الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ، وَالتَّحْرِيمُ لَا يُمْكِنُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْأَعْيَانِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْأَفْعَالِ، وَذَلِكَ الْفِعْلُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ، فَلَيْسَتْ إِضَافَةُ هَذَا التَّحْرِيمِ إِلَى بَعْضِ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ إِيقَاعُهَا فِي ذَوَاتِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ، أَوْلَى مِنْ

بَعْضٍ، فَصَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَقْدِيمَ قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ [النساء: 22] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ تَحْرِيمُ نِكَاحِهِنَّ. الثَّانِي: أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ تَحْرِيمُ نِكَاحِهِنَّ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْحُرْمَةَ وَالْإِبَاحَةَ إِذَا أُضِيفَتَا إِلَى الْأَعْيَانِ، فَالْمُرَادُ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ مِنْهَا فِي الْعُرْفِ، فَإِذَا قِيلَ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ، فَهِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الْمُرَادَ تَحْرِيمُ أَكْلِهِمَا، وَإِذَا قِيلَ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ، فَهِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الْمُرَادَ تَحْرِيمُ نِكَاحِهِنَّ، وَلَمَّا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا لِإِحْدَى مَعَانٍ ثَلَاثٍ» فَهِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الْمُرَادَ لَا يَحِلُّ إِرَاقَةُ دَمِهِ. وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ مَعْلُومَةً بِالضَّرُورَةِ كَانَ إِلْقَاءُ الشُّبُهَاتِ فِيهَا جَارِيًا مَجْرَى الْقَدْحِ فِي الْبَدِيهِيَّاتِ وَشِبْهِ السُّوفِسْطَائِيَّةِ، فَكَانَتْ فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ واللَّه أَعْلَمُ. بَلَى عِنْدِي فِيهِ بَحْثٌ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ مَذْكُورٌ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ فَاعِلَ هذا التَّحْرِيمِ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَمَا لَمْ يُثْبَتْ ذَلِكَ لَمْ تُفِدِ الْآيَةُ شَيْئًا آخَرَ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْإِجْمَاعِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ وَحْدَهَا لَا تُفِيدُ شَيْئًا، بَلْ لَا بُدَّ مَعَهَا مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ لَيْسَ نَصًّا فِي ثُبُوتِ التحريم على سبيل التأييد، فَإِنَّ الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ يُمْكِنُ تَقْسِيمُهُ إِلَى الْمُؤَبَّدِ، وَإِلَى الْمُؤَقَّتِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى تَارَةً قَالَ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ إِلَى الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ فَقَطْ، وَأُخْرَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ مُؤَبَّدًا مُخَلَّدًا، وَإِذَا كَانَ الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ صَالِحًا لِأَنْ يُجْعَلَ مَوْرِدًا لِلتَّقْسِيمِ بِهَذَيْنِ القسمين، لم يكن نصا في التأييد، فاذن هذا التأييد لَا يُسْتَفَادُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ، بَلْ مِنْ دَلَالَةٍ مُنْفَصِلَةٍ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ فَيُخَصَّصُ بِأُولَئِكَ الْحَاضِرِينَ، فَإِثْبَاتُ هَذَا التَّحْرِيمِ فِي حَقِّ الْكُلِّ إِنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنْ دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ إِخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ هَذَا/ التَّحْرِيمِ فِي الْمَاضِي، وَظَاهِرُ اللَّفْظِ غَيْرُ مُتَنَاوِلٍ لِلْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ/ فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَخَامِسُهَا: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدْ حَرَّمَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ جَمِيعَ أُمَّهَاتِهِمْ وَجَمِيعَ بَنَاتِهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى قَابَلَ الْجَمْعَ بِالْجَمْعِ، فَيَقْتَضِي مُقَابَلَةَ الْفَرْدِ بِالْفَرْدِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أُمَّهُ خَاصَّةً، وَبِنْتَهُ خَاصَّةً، وَهَذَا فِيهِ نَوْعُ عُدُولٍ عَنِ الظَّاهِرِ، وَسَادِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: حُرِّمَتْ يُشْعِرُ ظَاهِرُهُ بِسَبْقِ الْحِلِّ، إِذْ لَوْ كَانَ أَبَدًا مَوْصُوفًا بِالْحُرْمَةِ لَكَانَ قَوْلُهُ: حُرِّمَتْ تَحْرِيمًا لِمَا هُوَ فِي نَفْسِهِ حَرَامٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إِيجَادَ الْمَوْجُودِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ لَيْسَ تَجْدِيدَ التَّحْرِيمِ حَتَّى يَلْزَمَ الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ، بَلِ الْمُرَادُ الْإِخْبَارُ عَنْ حُصُولِ التَّحْرِيمِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ وَحْدَهُ غَيْرُ كَافٍ فِي إِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ حُرْمَةَ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ كَانَتْ ثَابِتَةً مِنْ زَمَنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى هَذَا الزَّمَانِ، وَلَمْ يَثْبُتْ حِلُّ نِكَاحِهِنَّ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ، بَلْ إِنَّ زِرَادِشْتَ رَسُولَ الْمَجُوسِ قَالَ بِحِلِّهِ، إِلَّا أَنَّ أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَذَّابًا. أَمَّا نِكَاحُ الْأَخَوَاتِ فَقَدْ نُقِلَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُبَاحًا فِي زَمَنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا حَكَمَ اللَّه بِإِبَاحَةِ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الضَّرُورَةِ، وَرَأَيْتُ بَعْضَ الْمَشَايِخِ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى كَانَ يَبْعَثُ الْحَوَارِيَ مِنَ الْجَنَّةِ لِيُزَوَّجَ بِهِنَّ أَبْنَاءُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ زَوْجَاتُ أَبْنَائِهِ وَأَزْوَاجُ بَنَاتِهِ مِنْ أَهْلِ

الْجَنَّةِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ هَذَا النَّسْلُ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ فَقَطْ، وَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ. وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ السَّبَبَ لِهَذَا التَّحْرِيمِ: أَنَّ الْوَطْءَ إِذْلَالٌ وَإِهَانَةٌ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَسْتَحِي مِنْ ذِكْرِهِ وَلَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ إِلَّا فِي الْمَوْضِعِ الْخَالِي، وَأَكْثَرُ أَنْوَاعِ الشَّتْمِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِذِكْرِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ صَوْنُ الْأُمَّهَاتِ عَنْهُ لِأَنَّ إِنْعَامَ الْأُمِّ عَلَى الْوَلَدِ أَعْظَمُ وُجُوهِ الْإِنْعَامِ، فَوَجَبَ صَوْنُهَا عَنْ هَذَا الْإِذْلَالِ، وَالْبِنْتُ بِمَنْزِلَةِ جُزْءٍ مِنَ الْإِنْسَانِ وَبَعْضٍ مِنْهُ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي» فَيَجِبُ صَوْنُهَا عَنْ هَذَا الْإِذْلَالِ، لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ مَعَهَا تَجْرِي مَجْرَى الْإِذْلَالِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْبَقِيَّةِ واللَّه أَعْلَمُ. وَلْنَشْرَعِ الْآنَ فِي التَّفَاصِيلِ فَنَقُولُ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ: الْأُمَّهَاتُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْأُمَّهَاتُ جَمْعُ الْأُمِّ وَالْأُمُّ فِي الْأَصْلِ أُمَّهَةٌ فَأُسْقِطَ الْهَاءُ فِي التَّوْحِيدِ قَالَ الشَّاعِرُ: أُمَّهَتِى خِنْدِفُ وَالْيَاسُ أَبِي وَقَدْ تُجْمَعُ الْأُمُّ عَلَى أُمَّاتٍ بِغَيْرِ هَاءٍ وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ قَالَ الرَّاعِي: / كَانَتْ نَجَائِبُ مُنْذِرٍ وَمُحَرِّقٍ ... أُمَّاتُهُنَّ وَطَرْقُهُنَّ فَحِيَلَا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كُلُّ امْرَأَةٍ رَجَعَ نَسَبُكَ إِلَيْهَا بِالْوِلَادَةِ مِنْ جِهَةِ أَبِيكَ أَوْ مِنْ جِهَةِ أُمِّكَ بِدَرَجَةٍ أَوْ بِدَرَجَاتٍ، بِإِنَاثٍ رَجَعْتَ إِلَيْهَا أَوْ بِذُكُورٍ فهي أمك. ثم هاهنا بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ لَفْظَ الْأُمِّ لَا شَكَّ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْأُمِّ الْأَصْلِيَّةِ، فَأَمَّا فِي الْجَدَّاتِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، فَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْأُمِّ حَقِيقَةً فِي الْأُمِّ الأصيلة وَفِي الْجَدَّاتِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظًا مُتَوَاطِئًا أَوْ مُشْتَرَكًا، فَإِنْ كَانَ لَفْظًا مُتَوَاطِئًا أَعْنِي أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأُمِّ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْأُمِّ الْأَصْلِيَّةِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْجَدَّاتِ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ نَصًّا فِي تَحْرِيمِ الْأُمِّ الْأَصْلِيَّةِ وَفِي تَحْرِيمِ جَمِيعِ الْجَدَّاتِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ لَفْظُ الْأُمِّ مُشْتَرَكًا فِي الْأُمِّ الْأَصْلِيَّةِ وَفِي الْجَدَّاتِ، فَهَذَا يَتَفَرَّعُ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ هَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِمَا مَعًا أم لا؟ فمن جوزه حمل اللفظ هاهنا عَلَى الْكُلِّ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَحْرِيمُ الْجَدَّاتِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، وَمَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ، فَالْقَائِلُونَ بِذَلِكَ لهم طريقا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَفْظَ الْأُمِّ لا شك أنه أريد به هاهنا الْأُمُّ الْأَصْلِيَّةُ، فَتَحْرِيمُ نِكَاحِهَا مُسْتَفَادٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَمَّا تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْجَدَّاتِ فَغَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنْ هَذَا النَّصِّ، بَلْ مِنَ الْإِجْمَاعِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَرَّتَيْنِ، يُرِيدُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مَفْهُومًا آخَرَ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا: لَفْظُ الْأُمِّ حَقِيقَةٌ فِي الْأُمِّ الْأَصْلِيَّةِ، مَجَازٌ فِي الْجَدَّاتِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ دَفْعَةً وَاحِدَةً فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعًا، وَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ الطَّرِيقَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِيمَا إِذَا كَانَ لَفْظُ الْأُمِّ حَقِيقَةً فِي الْأُمِّ الْأَصْلِيَّةِ، وَفِي الْجَدَّاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِأُمِّهِ وَدَخَلَ بِهَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه لَا يَلْزَمُهُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة، فَكَانَ هَذَا الْوَطْءُ زِنًا مَحْضًا فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النُّورِ: 2] إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ وُجُودَ هَذَا النِّكَاحِ وَعَدَمَهُ بِمَثَابَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَقَدْ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ مُرَادَ اللَّه تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: تَحْرِيمُ نِكَاحِهَا وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَوْجُودُ لَيْسَ إِلَّا صِيغَةَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَلَوْ حَصَلَ هَذَا الِانْعِقَادُ، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَصَلَ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ وَالْأَوَّلُ

بَاطِلٌ، لِأَنَّ صِيغَةَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَلَامٌ وَهُوَ عَرَضٌ لَا يَبْقَى، وَالْقَبُولُ لَا يُوجَدُ إِلَّا بَعْدَ الْإِيجَابِ، وَحُصُولُ الِانْعِقَادِ بَيْنَ الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ مُحَالٌ. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ، لِأَنَّ الشَّرْعَ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بُطْلَانَ هَذَا الْعَقْدِ قَطْعًا، وَمَعَ كَوْنِ هَذَا الْعَقْدِ بَاطِلًا قَطْعًا فِي حُكْمِ الشَّرْعِ، كَيْفَ يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مُنْعَقِدٌ شَرْعًا؟ فَثَبَتَ أَنَّ وُجُودَ هَذَا/ الْعَقْدِ وَعَدَمَهُ بِمَثَابَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَبَاقِي التَّفْرِيعِ وَالتَّقْرِيرِ مَا تَقَدَّمَ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ: الْبَنَاتُ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كُلُّ أُنْثَى يَرْجِعُ نَسَبُهَا إِلَيْكَ بِالْوِلَادَةِ بِدَرَجَةٍ أَوْ بِدَرَجَاتٍ، بِإِنَاثٍ أَوْ بِذُكُورٍ فَهِيَ بِنْتُكَ، وَأَمَّا بِنْتُ الِابْنِ وَبِنْتُ الْبِنْتِ فَهَلْ تُسَمَّى بِنْتًا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا؟ فَالْبَحْثُ فِيهِ عَيْنُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْأُمَّهَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْبِنْتُ الْمَخْلُوقَةُ مِنْ مَاءِ الزِّنَا لَا تَحْرُمُ عَلَى الزَّانِي. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَحْرُمُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتًا لَهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَحْرُمَ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتًا لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إِمَّا أَنْ يُثْبِتَ كَوْنَهَا بِنْتًا لَهُ بِنَاءً عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَهِيَ كَوْنُهَا مَخْلُوقَةً مِنْ مَائِهِ، أَوْ بِنَاءً عَلَى حُكْمِ الشَّرْعِ بِثُبُوتِ هَذَا النَّسَبِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ عَلَى مَذْهَبِهِ طَرْدًا وَعَكْسًا، أَمَّا الطَّرْدُ فَهُوَ أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً بِكْرًا وَافْتَضَّهَا وَحَبَسَهَا فِي دَارِهِ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ، فَهَذَا الْوَلَدُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِ مَعَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لَا يَثْبُتُ نَسَبُهَا إِلَّا عند الِاسْتِلْحَاقِ، وَلَوْ كَانَ السَّبَبُ هُوَ كَوْنَ الْوَلَدِ مُتَخَلِّقًا مِنْ مَائِهِ لَمَا تَوَقَّفَ فِي ثُبُوتِ هَذَا النَّسَبِ بِغَيْرِ الِاسْتِلْحَاقِ، وَأَمَّا الْعَكْسُ فَهُوَ أَنَّ الْمَشْرِقِيَّ إِذَا تَزَوَّجَ بِالْمَغْرِبِيَّةِ وَحَصَلَ هُنَاكَ وَلَدٌ، فَأَبُو حَنِيفَةَ أَثْبَتَ النَّسَبَ هُنَا مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْ مَائِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِجَعْلِ التَّخْلِيقِ مِنْ مَائِهِ سَبَبًا لِلنَّسَبِ بَاطِلٌ طَرْدًا وَعَكْسًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: النَّسَبُ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، فَهَهُنَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا نَسَبَ لِوَلَدِ الزِّنَا مِنَ الزَّانِي، وَلَوِ انْتَسَبَ إِلَى الزَّانِي لَوَجَبَ عَلَى الْقَاضِي مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ الِانْتِسَابِ، فَثَبَتَ أَنَّ انْتِسَابَهَا إِلَيْهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، لَا بِنَاءً عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا بِنَاءً عَلَى حُكْمِ الشَّرْعِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» فَقَوْلُهُ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ يَقْتَضِي حَصْرَ النَّسَبِ فِي الْفِرَاشِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: لَوْ كَانَتْ بِنْتًا لَهُ لَأَخَذَتِ الْمِيرَاثَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النِّسَاءِ: 11] وَلَثَبَتَتْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «زَوِّجُوا بَنَاتِكُمُ الْأَكْفَاءَ» وَلَوَجَبَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا وَحَضَانَتُهَا، وَلَحَلَّتِ الْخَلْوَةُ بِهَا، فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلِمْنَا انْتِفَاءَ الْبِنْتِيَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتًا لَهُ وَجَبَ أَنْ يَحِلَّ التَّزَوُّجُ بِهَا، لِأَنَّ حُرْمَةَ التَّزَوُّجِ بِهَا إِمَّا لِلْبِنْتِيَّةِ، أَوْ لِأَجْلِ أَنَّ الزِّنَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ، وَهَذَا الْحَصْرُ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَالْبِنْتِيَّةُ بَاطِلَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَحُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِسَبَبِ الزِّنَا أَيْضًا بَاطِلَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَثَبَتَ أَنَّهَا غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ عَلَى الزَّانِي واللَّه أَعْلَمُ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ: الْأَخَوَاتُ: وَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَخَوَاتُ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ مَعًا، / وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الْأَبِ فَقَطْ، وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الْأُمِّ فَقَطْ. النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ: الْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: كُلُّ ذَكَرٍ رَجَعَ نَسَبُكَ إِلَيْهِ فَأُخْتُهُ عَمَّتُكَ، وَقَدْ تَكُونُ الْعَمَّةُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ وَهِيَ أُخْتُ أَبِي أُمِّكَ، وَكُلُّ أُنْثَى رَجَعَ نَسَبُكَ إِلَيْهَا بِالْوِلَادَةِ فَأُخْتُهَا خالتك،

وَقَدْ تَكُونُ الْخَالَةُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَهِيَ أُخْتُ أُمِّ أَبِيكَ. النَّوْعُ السَّادِسُ وَالسَّابِعُ: بَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ: وَالْقَوْلُ فِي بَنَاتِ الْأَخِ وَبَنَاتِ الْأُخْتِ كَالْقَوْلِ فِي بَنَاتِ الصُّلْبِ. فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ السَّبْعَةُ مُحَرَّمَةٌ فِي نَصِّ الْكِتَابِ بِالْأَنْسَابِ وَالْأَرْحَامِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كُلُّ امْرَأَةٍ حَرَّمَ اللَّه نِكَاحَهَا لِلنَّسَبِ وَالرَّحِمِ، فَتَحْرِيمُهَا مُؤَبَّدٌ لَا يَحِلُّ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَأَمَّا اللَّوَاتِي يَحِلُّ نِكَاحُهُنَّ ثُمَّ يَصِرْنَ مُحَرَّمَاتٍ بِسَبَبٍ طَارِئٍ، فَهُنَّ اللَّاتِي ذُكِرْنَ فِي بَاقِي الْآيَةِ. النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالتَّاسِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْمُرْضِعَاتُ سَمَّاهُنَّ أُمَّهَاتٍ لِأَجْلِ الْحُرْمَةِ، كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى أَزْوَاجَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الْأَحْزَابِ: 6] لِأَجْلِ الْحُرْمَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حُرْمَةِ الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعَةِ إِلَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ غَيْرُ مَقْصُورَةٍ عَلَيْهِنَّ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» وَإِنَّمَا عَرَفْنَا أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا سَمَّى الْمُرْضِعَةَ أُمًّا، وَالْمُرْضِعَةَ أُخْتًا، فَقَدْ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَجْرَى الرَّضَاعَ مَجْرَى النَّسَبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ بِسَبَبِ النَّسَبِ سَبْعًا: اثْنَتَانِ مِنْهَا هُمَا الْمُنْتَسِبَتَانِ بِطَرِيقِ الْوِلَادَةِ، وَهَمَّا الْأُمَّهَاتُ وَالْبَنَاتُ، وَخَمْسٌ مِنْهَا بِطَرِيقِ الْأُخُوَّةِ، وَهُنَّ الْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَعَ بَعْدَ ذلك في أخوال الرضاع كالحال ذَكَرَ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ صُورَةً وَاحِدَةً تَنْبِيهًا بِهَا عَلَى الْبَاقِي، فَذَكَرَ مِنْ قِسْمِ قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ الْأُمَّهَاتِ، وَمِنْ قِسْمِ قَرَابَةِ الْأُخُوَّةِ الْأَخَوَاتِ، وَنَبَّهَ بِذِكْرِ هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ عَلَى أَنَّ الْحَالَ فِي بَابِ الرَّضَاعِ كَالْحَالِ فِي النَّسَبِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكَّدَ هَذَا الْبَيَانَ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» فَصَارَ صَرِيحُ الْحَدِيثِ مُطَابِقًا لِمَفْهُومِ الْآيَةِ، وَهَذَا/ بَيَانٌ لَطِيفٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أُمُّ الْإِنْسَانِ مِنَ الرَّضَاعِ هِيَ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ امْرَأَةٍ انْتَسَبَتْ إِلَى تِلْكَ الْمُرْضِعَةِ بِالْأُمُومَةِ، إِمَّا مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعِ، وَالْحَالُ فِي الْأَبِ كَمَا فِي الْأُمِّ، وَإِذَا عَرَفْتَ الْأُمَّ وَالْأَبَ فَقَدْ عَرَفْتَ الْبِنْتَ أَيْضًا بِذَلِكَ الطَّرِيقِ، وَأَمَّا الْأَخَوَاتُ فَثَلَاثَةٌ: الْأُولَى أُخْتُكَ لِأَبِيكَ وَأُمِّكَ، وَهِيَ الصَّغِيرَةُ الْأَجْنَبِيَّةُ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا أُمُّكَ بِلَبَنِ أَبِيكَ، سَوَاءٌ أَرْضَعَتْهَا مَعَكَ أَوْ مَعَ وَلَدٍ قَبْلَكَ أَوْ بَعْدَكَ، وَالثَّانِيَةُ أُخْتُكَ لِأَبِيكَ دُونَ أُمِّكَ، وَهِيَ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا زَوْجَةُ أَبِيكَ بِلَبَنِ أَبِيكَ، وَالثَّالِثَةُ أُخْتُكَ لِأُمِّكَ دُونَ أَبِيكَ، وَهِيَ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا أمك بلبن رجل آخَرَ، وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ سَهُلَ عَلَيْكَ مَعْرِفَةُ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَبَنَاتِ الْأَخِ وَبَنَاتِ الْأُخْتِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ: الرَّضَاعُ يَحْرُمُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: الرَّضْعَةُ الْوَاحِدَةُ كَافِيَةٌ، وَقَدْ مَرَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ هَذَا الِاسْمَ يَعْنِي الْأُمُومَةَ وَالْأُخُوَّةَ بِفِعْلِ الرَّضَاعِ، فَحَيْثُ حَصَلَ هَذَا الْفِعْلُ وَجَبَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، ثُمَّ سَأَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَعْطَيْنَكُمْ، وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي كَسَوْنَكُمْ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَقَدُّمَ حُصُولِ صِفَةِ الْأُمُومَةِ وَالْأُخْتِيَّةِ عَلَى

فِعْلِ الرَّضَاعِ، بَلْ لَوْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ هُنَّ أُمَّهَاتُكُمْ لَكَانَ مَقْصُودُكُمْ حَاصِلًا. وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: الرَّضَاعُ هُوَ الَّذِي يَكْسُوهَا سِمَةَ الْأُمُومَةِ، فَلَمَّا كَانَ الِاسْمُ مُسْتَحَقًّا بِوُجُودِ الرَّضَاعِ كَانَ الْحُكْمُ مُعَلَّقًا بِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي كَسَوْنَكُمْ، لِأَنَّ اسْمَ الْأُمُومَةِ غَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنَ الْكِسْوَةِ، قَالَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَفْهُومٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فَقَالَ: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: لَا بَأْسَ بِالرَّضْعَةِ وَلَا بِالرَّضْعَتَيْنِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَضَاءُ اللَّه خَيْرٌ مِنْ قَضَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ قَالَ: فَعَقَلَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ التَّحْرِيمَ بِالرَّضَاعِ الْقَلِيلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ رَكِيكٌ جِدًّا، أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ اسْمَ الْأُمُومَةِ إِنَّمَا جَاءَ مِنْ فِعْلِ الرَّضَاعِ فَنَقُولُ: وَهَلِ النِّزَاعُ إِلَّا فِيهِ، فَإِنَّ عِنْدِي أَنَّ اسْمَ الْأُمُومَةِ إِنَّمَا جَاءَ مِنَ الرَّضَاعِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَعِنْدَكَ إِنَّمَا جَاءَ مِنْ أَصْلِ الرَّضَاعِ، وَأَنْتَ إنما تمسكت بهذه الآية لا ثبات هَذَا الْأَصْلِ، فَإِذَا أَثْبَتَّ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ كُنْتَ قَدْ أَثْبَتَّ الدَّلِيلَ بِالْمَدْلُولِ وَإِنَّهُ دَوْرٌ وَسَاقِطٌ، وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ فَهِمَ مِنَ الْآيَةِ حُصُولَ التَّحْرِيمِ بِمُجَرَّدِ فِعْلِ الرَّضَاعِ، فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ مَا فَهِمَهُ/ مِنْهُ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَمِنَ الْعُلَمَاءِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، فَكَيْفَ جُعِلَ فَهْمُ أَحَدِهِمَا حُجَّةً وَلَمْ يُجْعَلْ فَهْمُ الْآخَرِ حُجَّةً عَلَى قَوْلِ خَصْمِهِ. وَلَوْلَا التَّعَصُّبُ الشَّدِيدُ الْمُعْمِي لِلْقَلْبِ لَمَا خَفِيَ ضَعْفُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الرَّازِيَّ أَخَذَ يَتَمَسَّكُ فِي إِثْبَاتِ مَذْهَبِهِ بِالْأَحَادِيثِ وَالْأَقْيِسَةِ، وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَجَبَ أَنْ لَا يَذْكُرَ إِلَّا مَا يَسْتَنْبِطُهُ مِنَ الْآيَةِ، فَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَلِيقُ بِكُتُبِ الْفِقْهِ. النَّوْعُ الْعَاشِرُ: مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأُمَّهَاتُ الْأَصْلِيَّةُ وَجَمِيعُ جَدَّاتِهَا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ كَمَا بَيَّنَّا مِثْلَهُ فِي النَّسَبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَزَعَمَ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ أُمَّ الْمَرْأَةِ إِنَّمَا تَحْرُمُ بِالدُّخُولِ بِالْبِنْتِ كَمَا أَنَّ الرَّبِيبَةَ إِنَّمَا تَحْرُمُ بِالدُّخُولِ بِأُمِّهَا، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَجَابِرٍ، وَأَظْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ثُمَّ ذَكَرَ شَرْطًا وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّرْطُ مُعْتَبَرًا فِي الْجُمْلَتَيْنِ مَعًا، وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا وَلَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عَوْدِ ذَلِكَ الشَّرْطِ إِلَيْهِ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِبَقَائِهِ عَلَى عُمُومِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ غَيْرُ عَائِدٍ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ لَا بُدَّ مِنْ تَعْلِيقِهِ بِشَيْءٍ سَبَقَ ذِكْرُهُ فَإِذَا عَلَّقْنَاهُ بِإِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إِلَى تَعْلِيقِهِ بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَانَ تَعْلِيقُهُ بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ تَرْكًا لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ عُمُومَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعْلُومٌ، وَعَوْدُ الشرط اليه محتمل، لأنه يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مُخْتَصًّا بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ مَعًا، وَالْقَوْلُ بِعَوْدِ هَذَا الشَّرْطِ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ تَرْكٌ لِظَاهِرِ الْعُمُومِ بِمُخَصَّصٍ مَشْكُوكٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا

الشَّرْطَ لَوْ عَادَ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَيْهَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِهَا وَبِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ أَيْضًا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَلْزَمُ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِ الرَّبَائِبِ مُطْلَقًا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ أَيْضًا، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ نَظْمُ الْآيَةِ هَكَذَا/ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دخلتم بهن، فيكون المراد بكلمة «من» هاهنا التَّمْيِيزَ ثُمَّ يَقُولُ: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بكلمة «من» هاهنا ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ كَمَا يَقُولُ: بَنَاتُ الرَّسُولِ مِنْ خَدِيجَةَ، فَيَلْزَمُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ الْمُشْتَرَكِ فِي كِلَا مَفْهُومَيْهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ فَيُقَالَ: إِنَّ كَلِمَةَ «مِنْ» لِلِاتِّصَالِ كقوله تَعَالَى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التَّوْبَةِ: 71] وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا أَنَا مِنْ دَدٍ وَلَا الدَّدُ مِنِّي» وَمَعْنَى مُطْلَقِ الِاتِّصَالِ حَاصِلٌ فِي النِّسَاءِ وَالرَّبَائِبِ مَعًا. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ: مَا رَوَى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا نَكَحَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا، دَخَلَ بِالْبِنْتِ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الْأُمَّ فَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَإِنْ شَاءَ تَزَوَّجَ الْبِنْتَ، وَطَعَنَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّه بْنُ مَسْعُودٍ يُفْتِي بِنِكَاحِ أُمِّ الْمَرْأَةِ إِذَا طَلَّقَ بِنْتَهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِالْكُوفَةِ، فَاتَّفَقَ أَنْ ذَهَبَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَصَادَفَهُمْ مُجْمِعِينَ عَلَى خِلَافِ فَتْوَاهُ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْكُوفَةِ لَمْ يَدْخُلْ دَارَهُ حَتَّى ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ وَقَرَعَ عَلَيْهِ الْبَابَ وَأَمَرَهُ بِالنُّزُولِ عَنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ. وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ تَزَوَّجَ أُمَّهَا، وَإِنْ مَاتَتْ لَمْ يَتَزَوَّجْ أُمَّهَا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ فِي التَّحْرِيمِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الدُّخُولِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ، وَأَمَّا الْمَوْتُ فَلَمَّا كَانَ فِي حُكْمِ الدُّخُولِ فِي بَابِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ، لَا جَرَمَ جَعَلَهُ اللَّه سَبَبًا لِهَذَا التَّحْرِيمِ. النوع الحادي عشر: من المحرمات. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الرَّبَائِبُ: جَمْعُ رَبِيبَةٍ، وَهِيَ بِنْتُ امْرَأَةِ الرَّجُلِ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَعْنَاهَا مَرْبُوبَةٌ، لِأَنَّ/ الرجل هو يربها يقال: ربيت فلانا أربه: وربيته أُرَبِّيهِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْحُجُورُ جَمْعُ حِجْرٍ، وَفِيهِ لُغَتَانِ قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: حَجْرُ الْإِنْسَانِ وَحِجْرُهُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فِي حُجُورِكُمْ أَيْ فِي تَرْبِيَتِكُمْ، يُقَالُ: فُلَانٌ فِي حِجْرِ فُلَانٍ إِذَا كَانَ فِي تَرْبِيَتِهِ، وَالسَّبَبُ فِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ رَبَّى طِفْلًا أَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ، فَصَارَ الْحِجَرُ عِبَارَةً عَنِ التَّرْبِيَةِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ فِي حَضَانَةِ فُلَانٍ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحِضْنِ الَّذِي هُوَ الْإِبْطُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فِي حُجُورِكُمْ أَيْ فِي بُيُوتِكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الرَّبِيبَةُ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِ الزَّوْجِ وَكَانَتْ فِي بَلَدٍ آخَرَ، ثُمَّ فَارَقَ الْأُمَّ بَعْدَ الدُّخُولِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّبِيبَةَ، وَنُقِلَ أَنَّهُ رِضْوَانُ اللَّه

عَلَيْهِ احْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ شَرَطَ فِي كَوْنِهَا رَبِيبَةً لَهُ، كَوْنَهَا فِي حِجْرِهِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِي تَرْبِيَتِهِ وَلَا فِي حِجْرِهِ فَقَدْ فَاتَ الشَّرْطُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَثْبُتَ الْحُرْمَةُ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ حَسَنٌ. وَأَمَّا سَائِرُ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا دَخَلَ بِالْمَرْأَةِ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ فِي تَرْبِيَتِهِ أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ عَلَّقَ رَفْعَ الْجُنَاحِ بِمُجَرَّدِ عَدَمِ الدُّخُولِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِحُصُولِ الْجُنَاحِ هُوَ مُجَرَّدُ الدُّخُولِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حُجَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنَّ الْأَعَمَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ بِنْتَ زَوْجَةِ الْإِنْسَانِ تَكُونُ فِي تَرْبِيَتِهِ، فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى الْأَعَمِّ، لَا أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ شَرْطٌ فِي حُصُولِ هَذَا التَّحْرِيمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الزِّنَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ قَالَ: لِأَنَّ الدُّخُولَ بِهَا اسْمٌ لِمُطْلَقِ الْوَطْءِ سَوَاءٌ كَانَ الْوَطْءُ نِكَاحًا أَوْ سِفَاحًا، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الزِّنَا بِالْأُمِّ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْبِنْتِ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ فِي نِهَايَةِ الضَّعْفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمَنْكُوحَةِ لِدَلِيلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا تَنَاوَلَتِ امْرَأَةً كَانَتْ مِنْ نِسَائِهِ قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا وَالْمَزْنِيُّ بِهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَيَمْتَنِعُ دُخُولُهَا فِي الْآيَةِ بَيَانُ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ يَقْتَضِي أَنَّ كَوْنَهَا مِنْ نِسَائِهِ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَى دُخُولِهِ بِهَا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَسَمَ نِسَاءَهُمْ إِلَى مَنْ تَكُونُ مَدْخُولًا بِهَا، وَإِلَى مَنْ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وَإِذَا كَانَ نِسَاؤُهُمْ مُنْقَسِمَةً إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ عَلِمْنَا أَنَّ كَوْنَ الْمَرْأَةِ مِنْ نِسَائِهِ أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِلدُّخُولِ بِهَا، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْمَزْنِيَّةَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَذَلِكَ لِأَنَّ فِي النِّكَاحِ صَارَتِ الْمَرْأَةُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ مِنْ نِسَائِهِ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، أَمَّا فِي الزِّنَا فَإِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا حَالَةٌ أُخْرَى تَقْتَضِي صَيْرُورَتَهَا مِنْ نِسَائِهِ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْمَزْنِيَّةَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ/ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. الثَّانِي: لَوْ أَوْصَى لِنِسَاءِ فُلَانٍ، لَا تَدْخُلُ هَذِهِ الزَّانِيَةُ فِيهِنَّ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ عَلَى نِسَاءِ بَنِي فُلَانٍ، لَا يَحْصُلُ الْحِنْثُ وَالْبِرُّ بِهَذِهِ الزَّانِيَةِ، فَثَبَتَ ضَعْفُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ واللَّه أَعْلَمُ. النوع الثاني عشر: من المحرمات. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِجَارِيَةِ ابْنِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إِنَّهُ يَجُوزُ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: جَارِيَةُ الِابْنِ حَلِيلَةٌ، وَحَلِيلَةُ الِابْنِ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَبِ، أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَبَيَانُهَا بِالْبَحْثِ عَنِ الْحَلِيلَةِ فَنَقُولُ: الحليلة فعلية فَتَكُونُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ أَوْ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنَ الْحِلِّ الَّذِي هُوَ الْإِبَاحَةُ، فَالْحَلِيلَةُ تَكُونُ بِمَعْنَى الْمُحَلَّةِ أَيِ الْمُحَلَّلَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَارِيَةَ كَذَلِكَ فَوَجَبَ كَوْنُهَا حَلِيلَةً لَهُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنَ الْحُلُولِ، فَالْحَلِيلَةُ عِبَارَةٌ عَنْ شَيْءٍ يَكُونُ مَحَلَّ الْحُلُولِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَارِيَةَ مَوْضِعُ حُلُولِ السَّيِّدِ، فَكَانَتْ حَلِيلَةً لَهُ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا: الْحَلِيلَةُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَيْضًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لِشِدَّةِ اتِّصَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ كَأَنَّهُمَا يَحِلَّانِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَفِي لِحَافٍ وَاحِدٍ وَفِي مَنْزِلٍ وَاحِدٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَارِيَةَ كَذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ حَالٌّ فِي قَلْبِ صَاحِبِهِ وَفِي رُوحِهِ لِشِدَّةِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالْأُلْفَةِ، فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ جَارِيَةَ الِابْنِ حَلِيلَةٌ، وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ أَنَّ حَلِيلَةَ الِابْنِ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ لَا يُقَالُ: إِنَّ أهل اللغة

يَقُولُونَ: حَلِيلَةُ الرَّجُلِ زَوْجَتُهُ لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّا قَدْ بَيَّنَّا بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الِاشْتِقَاقَاتِ الظَّاهِرَةِ أَنَّ لَفْظَ الْحَلِيلَةِ يَتَنَاوَلُ الْجَارِيَةَ، فَالنَّقْلُ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. فَكَيْفَ وَهُوَ شَهَادَةٌ عَلَى النَّفْيِ؟ فَإِنَّا لَا نُنْكِرُ أَنَّ لَفْظَ الْحَلِيلَةِ يَتَنَاوَلُ الزَّوْجَةَ، وَلَكِنَّا نُفَسِّرُهُ بِمَعْنًى يَتَنَاوَلُ الزَّوْجَةَ وَالْجَارِيَةَ، فَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ شَهَادَةٌ عَلَى النَّفْيِ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ احْتِرَازًا عَنِ الْمُتَبَنَّى، وَكَانَ الْمُتَبَنَّى فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بِمَنْزِلَةِ الِابْنِ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْإِنْسَانِ حَلِيلَةُ مَنِ ادَّعَاهُ ابْنًا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ صُلْبِهِ، نَكَحَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةَ وَهِيَ بِنْتُ أُمَيْمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَتْ زَيْنَبُ ابْنَةَ عَمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ زَوْجَةَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ ابْنِهِ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ [الْأَحْزَابِ: 4] وَقَالَ: لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ [الْأَحْزَابِ: 37] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ لَا يَتَنَاوَلُ حَلَائِلَ الْأَبْنَاءِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَلَمَّا قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ لَزِمَ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَتَيْنِ حِلُّ التَّزَوُّجِ بِأَزْوَاجِ الْأَبْنَاءِ مِنَ الرَّضَاعِ، إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» فَاقْتَضَى هَذَا تَحْرِيمَ التَّزَوُّجِ بِحَلِيلَةِ الِابْنِ مِنَ الرَّضَاعِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ يَتَنَاوَلُ الرَّضَاعَ وَغَيْرَ الرَّضَاعِ، فَكَانَ قوله: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النَّسَبِ» أَخَصَّ مِنْهُ، فَخَصَّصُوا عُمُومَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ التَّزَوُّجِ بِحَلِيلَةِ الِابْنِ تَحْصُلُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ كَمَا أَنَّ حُرْمَةَ التَّزَوُّجِ بِحَلِيلَةِ الْأَبِ تَحْصُلُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عُمُومَ الْآيَةِ يَتَنَاوَلُ حَلِيلَةَ الِابْنِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أو لم تكن. أما ما روي ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَخْصُوصٌ بِمَا إِذَا دَخَلَ الِابْنُ بِهَا. أَوْ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَهُ اللَّه، فَلَيْسَ مُرَادُهُ مِنْ هَذَا الْإِبْهَامِ كَوْنَهَا مُجْمَلَةً مُشْتَبِهَةً، بل المراد من هذا الإبهام التأييد. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي السَّبْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ: إِنَّهَا مِنَ الْمُبْهَمَاتِ، أَيْ من اللواتي ثبت حرمتهن على سبيل التأبيد، فكذا هاهنا واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي تَحْرِيمَ حَلِيلَةِ وَلَدِ الْوَلَدِ عَلَى الْجَدِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ صُلْبِ الْجَدِّ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْجَدِّ بِالْوِلَادَةِ. النَّوْعُ الثَّالِثَ عَشَرَ: مِنَ المحرمات. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا أَنْ يَنْكِحَهُمَا مَعًا، أَوْ يَمْلِكَهُمَا مَعًا، أَوْ يَنْكِحَ إِحْدَاهُمَا وَيَمْلِكَ الْأُخْرَى، أَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي النِّكَاحِ. فَذَلِكَ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يعقد عليهما جميعا، فالحكم هاهنا: إِمَّا الْجَمْعُ، أَوِ التَّعْيِينُ، أَوِ التَّخْيِيرُ، أَوِ الْإِبْطَالُ، أَمَّا الْجَمْعُ فَبَاطِلٌ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ هَكَذَا قَالُوا، إِلَّا أَنَّهُ مُشْكِلٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، لِأَنَّ/ الْحُرْمَةَ لَا تَقْتَضِي الْإِبْطَالَ عَلَى قَوْلِ

أَبِي حَنِيفَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الطَّلَقَاتِ حَرَامٌ عَلَى قَوْلِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَقَعُ، وَكَذَا النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ لَمْ يَمْنَعْ مِنِ انْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الْمُبَايَعَاتِ الْفَاسِدَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالنَّهْيِ عَلَى الْفَسَادِ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِهِ. فَإِنْ قَالُوا: وَهَذَا يَلْزَمُكُمْ أَيْضًا لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ وَفِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ يَقَعُ. قُلْنَا: بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ فَرْقٌ دَقِيقٌ لَطِيفٌ ذَكَرْنَاهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ، فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَطْلُبْ ذَلِكَ الْكِتَابَ فَثَبَتَ أَنَّ الْجَمْعَ بَاطِلٌ. وَأَمَّا أَنَّ التَّعْيِينَ أَيْضًا بَاطِلٌ، فَلِأَنَّ التَّرْجِيحَ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ بَاطِلٌ، وَأَمَّا أَنَّ التَّخْيِيرَ أَيْضًا بَاطِلٌ، فَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّخْيِيرِ يَقْتَضِي حُصُولَ الْعَقْدِ وَبَقَاءَهُ إِلَى أَوَانِ التَّعْيِينِ. وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَهُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَوْلُ بِفَسَادِ الْعَقْدَيْنِ جَمِيعًا. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ صُوَرِ الْجَمْعِ: وَهِيَ أَنْ يَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا، ثُمَّ يَتَزَوَّجَ الْأُخْرَى بَعْدَهَا، فَهَهُنَا يُحْكَمُ بِبُطْلَانِ نِكَاحِ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ الدَّفْعَ أَسْهَلُ مِنَ الرَّفْعِ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، أَوْ بِأَنْ يَنْكِحَ إِحْدَاهُمَا وَيَشْتَرِيَ الْأُخْرَى، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الصَّحَابَةُ فِيهِ، فقال علي وعمرو وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ: لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا: وَالْبَاقُونَ جَوَّزُوا ذَلِكَ. أَمَّا الْأَوَّلُونَ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مُطْلَقًا، فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَعَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، وَالتَّحْلِيلُ أَوْلَى، فَالْآيَةُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّحْلِيلِ هِيَ قَوْلُهُ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النِّسَاءِ: 24] وَقَوْلُهُ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [الْمُؤْمِنُونَ: 6] . وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي حِلِّ الْوَطْءِ، فَنَقُولُ: لَوْ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ لَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْوَطْءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المعارج: 29، 30] ، لَكِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بِأَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ، أَوْلَى مِنْ أَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى الْجَوَازِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: إِنْ سَلَّمْنَا دَلَالَتَهَا عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ، لَكِنْ نَقُولُ: التَّرْجِيحُ لِجَانِبِ الْحُرْمَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا اجْتَمَعَ الْحَرَامُ وَالْحَلَالُ إِلَّا وَغَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ» الثَّانِي: أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي جَانِبِ التَّرْكِ فَيَجِبُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» الثَّالِثُ: أَنَّ مَبْنَى الْأَبْضَاعِ فِي الْأَصْلِ عَلَى الْحُرْمَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ إِذَا اسْتَوَتِ الْأَمَارَاتُ فِي حُصُولِ الْعَقْدِ مَعَ شَرَائِطِهِ وَفِي عَدَمِهِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِالْحُرْمَةِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ مُشْتَمِلٌ عَلَى/ الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ، فَلَوْ كَانَ خَالِيًا عَنْ جِهَةِ الْإِذْلَالِ وَالضَّرَرِ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ الْأُمَّهَاتِ لِأَنَّ إِيصَالَ النَّفْعِ إِلَيْهِنَّ مَنْدُوبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْبَقَرَةِ: 83] وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا عَلِمْنَا اشْتِمَالَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِذْلَالِ وَالْمُضَارَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ هُوَ الْحُرْمَةَ، وَالْحِلُّ إِنَّمَا ثَبَتَ بِالْعَارِضِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ الرُّجْحَانَ لِجَانِبِ الْحُرْمَةِ، فَهَذَا هُوَ تَقْرِيرُ مَذْهَبِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ. أَمَّا إِذَا أَخَذْنَا بِالْمَذْهَبِ الْمَشْهُورِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَمَتَيْنِ أُخْتَيْنِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، فَإِذَا وَطِئَ إِحْدَاهُمَا حُرِّمَتِ الثَّانِيَةُ، وَلَا تَزُولُ هَذِهِ الْحُرْمَةُ مَا لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنِ الْأُولَى بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ كِتَابَةٍ أو تزويج.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: نِكَاحُ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ الْبَائِنِ جَائِزٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ: لَا يَجُوزُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْجَمْعُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْمَنْعُ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْجَمْعُ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمُطَلَّقَةِ زَائِلٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا، وَلَوْ وَطِئَهَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُوجَدِ الْجَمْعُ وَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْمَنْعُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ تَقْرِيرِ الْمُحَرَّمَاتِ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ [النِّسَاءِ: 24] وَلَا شُبْهَةَ فِي انْتِفَاءِ جَمِيعِ تِلْكَ الْمَوَانِعِ، إِلَّا كَوْنُهُ جَمْعًا بَيْنَ أُخْتَيْنِ، فَإِذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْجَمْعَ مُنْتَفٍ وَجَبَ الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ. فَإِنْ قِيلَ: النِّكَاحُ بَاقٍ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ وَلُزُومِ النَّفَقَةِ عَلَيْهَا. قُلْنَا: النِّكَاحُ لَهُ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْحَقِيقَةُ الْوَاحِدَةُ يَمْتَنِعُ كَوْنُهَا مَوْجُودَةً مَعْدُومَةً مَعًا، بَلْ لَوِ انْقَسَمَتْ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ إِلَى نِصْفَيْنِ حَتَّى يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَوْجُودًا وَالْآخَرُ مَعْدُومًا صَحَّ ذَلِكَ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْحَقِيقَةُ الْوَاحِدَةُ غَيْرَ قَابِلَةٍ لِلتَّنْصِيفِ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ فَاسِدًا. وَأَمَّا وُجُوبُ الْعِدَّةِ وَلُزُومُ النَّفَقَةِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ حَصَلَ النِّكَاحُ حَصَلَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى حَبْسِهَا، وَهَذَا لَا يُنْتِجُ أَنَّهُ حَصَلَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى حَبْسِهَا لِلنِّكَاحِ، لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ عَيْنِ التَّالِي لَا يُنْتِجُ، فَبِالْجُمْلَةِ: فَإِثْبَاتُ حَقِّ الْحَبْسِ بَعْدَ زَوَالِ النِّكَاحِ بِطَرِيقٍ آخَرَ مَعْقُولٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَأَمَّا الْقَوْلُ بِبَقَاءِ النِّكَاحِ حَالَ الْقَوْلِ بِعَدَمِهِ، فَذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ، وَتَخْرِيجُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ عَلَى وَفْقِ الْعُقُولِ، أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى مَا يُعْرَفُ بُطْلَانُهَا فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ: إِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ اخْتَارَ. أَيَّتَهُمَا شَاءَ وَفَارَقَ الْأُخْرَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إِنَّ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِهِمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِإِحْدَاهُمَا أَوَّلًا وَبِالْأُخْرَى ثَانِيًا، اخْتَارَ الْأُولَى وَفَارَقَ الثَّانِيَةَ، وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ قَالَ: هَذَا خِطَابٌ عَامٌّ/ فَيَتَنَاوَلُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَنَاوَلَ الْكَافِرَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ فَاسِدًا، لِأَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ، فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّكَ بَنَيْتَ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ وَعَلَى أَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَقُولُ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، فَإِنْ قَالَ: فَهُمَا صَحِيحَانِ عَلَى قَوْلِكُمْ: فَكَانَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ لَازِمًا عَلَيْكُمْ فَنَقُولُ: قَوْلُنَا: الْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ لَا نَعْنِي بِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ مَا دَامَ كَافِرًا لَا يُمْكِنُ تَكْلِيفُهُ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا أَسْلَمَ سَقَطَ عَنْهُ كُلُّ مَا مَضَى بِالْإِجْمَاعِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَحْكَامُ الْآخِرَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْكَافِرَ يُعَاقَبُ بِتَرْكِ فُرُوعِ الْإِسْلَامِ كَمَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ الْإِسْلَامِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ الْكَافِرُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ، أَوْ تَزَوَّجَ بِهَا عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ، فَبَعْدَ الْإِسْلَامِ يُقَرُّ ذَلِكَ النِّكَاحُ فِي حَقِّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْخِطَابَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيَّ أَسْلَمَ عَلَى ثَمَانِ نِسْوَةٍ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اخْتَرْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ» خَيَّرَهُ بَيْنَهُنَّ، وَذَلِكَ يُنَافِي مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ التَّرْتِيبِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ فِيهِ الْإِشْكَالُ الْمَشْهُورُ: وَهُوَ أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَكَذَا وَكَذَا إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، وَهَذَا يَقْتَضِي اسْتِثْنَاءَ الْمَاضِي مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَجَوَابُهُ بِالْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا مَضَى مَغْفُورٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً؟

[سورة النساء (4) : آية 24]

[سورة النساء (4) : آية 24] وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) النوع الرابع: عشر من المحرمات. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ. فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْإِحْصَانُ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ، وَكَذَلِكَ الْحَصَانَةُ، يُقَالُ: مَدِينَةٌ حَصِينَةٌ وَدِرْعٌ حَصِينَةٌ، أَيْ مَانِعَةٌ صَاحِبَهَا مِنَ الْجِرَاحَةِ. قَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: 80] مَعْنَاهُ لِتَمْنَعَكُمْ وَتَحْرِزَكُمْ، وَالْحِصْنُ الْمَوْضِعُ الْحَصِينُ لِمَنْعِهِ مَنْ يُرِيدُهُ بِالسُّوءِ، وَالْحِصَانُ بِالْكَسْرِ الْفَرَسُ/ الْفَحْلُ، لِمَنْعِهِ صَاحِبَهُ مِنَ الْهَلَاكِ، وَالْحَصَانُ بِالْفَتْحِ الْمَرْأَةُ الْعَفِيفَةُ لِمَنْعِهَا فَرْجَهَا مِنَ الْفَسَادِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها [التَّحْرِيمِ: 12] . وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْإِحْصَانِ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الْحُرِّيَّةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النُّورِ: 4] يَعْنِي الْحَرَائِرَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَذَفَ غَيْرَ حُرٍّ لَمْ يُجْلَدْ ثَمَانِينَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ يعني الحرائر، وكذلك قَوْلُهُ: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ [النِّسَاءِ: 25] وَقَوْلُهُ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَقَوْلُهُ: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها [الْأَنْبِيَاءِ: 91] أَيْ أَعَفَّتْهُ، وَثَالِثُهَا الْإِسْلَامُ: مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَإِذا أُحْصِنَّ قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ: إِذَا أَسْلَمْنَ، وَرَابِعُهَا: كَوْنُ الْمَرْأَةِ ذَاتَ زَوْجٍ يُقَالُ: امْرَأَةٌ مُحْصَنَةٌ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ، وَقَوْلُهُ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يَعْنِي ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى عطف المحصنات على المجرمات، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْإِحْصَانُ سَبَبًا لِلْحُرْمَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالْعَفَافَ وَالْإِسْلَامَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُزَوَّجَةَ، لِأَنَّ كَوْنَ الْمَرْأَةِ ذَاتَ زَوْجٍ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً عَلَى الْغَيْرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوُجُوهَ الْأَرْبَعَةَ مُشْتَرِكَةٌ فِي الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ الْمَنْعُ، وَذَلِكَ لِأَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِحْصَانَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَنْعِ، فَالْحُرِّيَّةُ سَبَبٌ لِتَحْصِينِ الْإِنْسَانِ مِنْ نَفَاذِ حُكْمِ الْغَيْرِ فِيهِ، وَالْعِفَّةُ أَيْضًا مَانِعَةٌ لِلْإِنْسَانِ عَنِ الشُّرُوعِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي، وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ مَانِعٌ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ النَّفْسُ وَالشَّهْوَةُ، وَالزَّوْجُ أَيْضًا مَانِعٌ لِلزَّوْجَةِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَالزَّوْجَةُ مَانِعَةٌ لِلزَّوْجِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الزِّنَا، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ تَزَوَّجَ فَقَدْ حَصَّنَ ثُلُثَيْ دِينِهِ» فَثَبَتَ أَنَّ الْمَرْجِعَ بِكُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ إِلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي الْمُحْصَناتُ فَقَرَءُوا بِكَسْرِ الصَّادِ وَفَتْحِهَا فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ إِلَّا الَّتِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى الْفَتْحِ فِيهَا، فَمَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ جَعَلَ الْفِعْلَ لَهُنَّ يَعْنِي: أَسْلَمْنَ وَاخْتَرْنَ الْعَفَافَ، وَتَزَوَّجْنَ وَأَحْصَنَّ أَنْفُسَهُنَّ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأُمُورِ. وَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ جَعَلَ الْفِعْلَ لِغَيْرِهِنَّ، يَعْنِي أَحْصَنَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ: الثَّيِّبُ الذِّمِّيُّ إِذَا زَنَى يُرْجَمُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَا يُرْجَمُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ حَصَلَ الزِّنَا مَعَ الْإِحْصَانِ وَذَلِكَ عِلَّةٌ لِإِبَاحَةِ الدَّمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ إِبَاحَةُ الدَّمِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الرَّجْمِ. أَمَّا قَوْلُنَا: حَصَلَ الزِّنَا مَعَ الْإِحْصَانِ، فَهَذَا يَعْتَمِدُ إِثْبَاتَ قَيْدَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حُصُولُ الزِّنَا وَلَا شَكَّ فِيهِ. الثَّانِي: / حُصُولُ الْإِحْصَانِ وَهُوَ حَاصِلٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمُحْصَنَةِ: الْمُزَوَّجَةُ، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ مُزَوَّجَةٌ فَهِيَ مُحْصَنَةٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ حَصَلَ الزِّنَا مَعَ الْإِحْصَانِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الزِّنَا مَعَ الْإِحْصَانِ عِلَّةٌ لِإِبَاحَةِ الدَّمِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امرئ مسلم الا لا حدى مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ» وَمِنْهَا قَوْلُهُ: «وَزِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ» جَعَلَ الزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ عِلَّةً لِإِبَاحَةِ الدَّمِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، وَالْمُسْلِمُ مَحَلٌّ لِهَذَا الْحُكْمِ، أَمَّا الْعِلَّةُ فَهِيَ مُجَرَّدُ الزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ، بِدَلِيلِ أَنَّ لَامَ التَّعْلِيلِ إِنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِ. أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ حَكَمَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، أَنَّ الزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ عِلَّةٌ لِإِبَاحَةِ الدَّمِ، إِلَّا أَنَّ كَوْنَهُ مُسْلِمًا مَحَلُّ الْحُكْمِ، وَخُصُوصُ مَحَلِّ الْحُكْمِ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّعْدِيَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْمَحَلِّ، وَإِلَّا لَبَطَلَ الْقِيَاسُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَأَمَّا الْعِلَّةُ فَهِيَ مَا دَخَلَ عليه لا م التَّعْلِيلِ، وَهِيَ مَاهِيَّةُ الزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ، وَهَذِهِ الْمَاهِيَّةُ لَمَّا حَصَلَتْ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ الذِّمِّيِّ، وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ فِي حَقِّهِ إِبَاحَةُ الدَّمِ، فثبت أنه مباح الدم. ثم هاهنا طَرِيقَانِ: إِنْ شِئْنَا اكْتَفَيْنَا بِهَذَا الْقَدْرِ، فَإِنَّا نَدَّعِي كَوْنَهُ مُبَاحَ الدَّمِ وَالْخَصْمُ لَا يَقُولُ به، فصار محجوجا، أَوْ نَقُولُ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ مُبَاحُ الدَّمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الرَّجْمِ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمْ إِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ مُحْصَنٌ، فَهَهُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَشْرَكَ باللَّه فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» . قُلْنَا: ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الذِّمِّيَّ مُحْصَنٌ، وَثَبَتَ بِهَذَا الْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ، فَنَقُولُ: إِنَّهُ مُحْصَنٌ بمعنى أنه ذات زَوْجٍ، وَغَيْرُ مُحْصَنٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ، وَقَوْلُهُ: مَنْ أَشْرَكَ باللَّه فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ، لَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُحَدُّ عَلَى الزِّنَا، لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِوَصْفِ الشِّرْكِ وَذَلِكَ جِنَايَةٌ، وَالْمَذْكُورُ عَقِيبَ الْجِنَايَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَمْرًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً، وَقَوْلُنَا: إِنَّهُ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً، أَمَّا قَوْلُنَا: لَا يُحَدُّ عَلَى الزِّنَا، لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً لَهُ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ أَشْرَكَ باللَّه فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ مَا ذَكَرْنَاهُ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ مِنْهَا ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ حُرِّمَتْ عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا، إِلَّا إِذَا صَارَتْ مِلْكًا لِإِنْسَانٍ فَإِنَّهَا تَحِلُّ لِلْمَالِكِ، الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِمِلْكِ اليمين هاهنا مِلْكُ النِّكَاحِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَوَاتَ الْأَزْوَاجِ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ إِلَّا إِذَا مَلَكْتُمُوهُنَّ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ بَعْدَ وُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ الزَّجْرُ عَنِ الزِّنَا وَالْمَنْعُ مِنْ وَطْئِهِنَّ إِلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، أَوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَمْلُوكَةً، وَعَبَّرَ عَنْ/ ذَلِكَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ حَاصِلٌ فِي النِّكَاحِ وَفِي الْمِلْكِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ هاهنا بِالْمُحْصَنَاتِ الْحَرَائِرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء: 25] ذكر هاهنا الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ كان المراد بالمحصنات هاهنا مَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَاكَ،

ثُمَّ الْمُرَادُ مِنَ الْمُحْصَنَاتِ هُنَاكَ الْحَرَائِرُ، فَكَذَا هاهنا. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ إِلَّا الْعَدَدَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّه مِلْكًا لَكُمْ وَهُوَ الْأَرْبَعُ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْحَرَائِرُ إِلَّا الْعَدَدَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّه مِلْكًا لَكُمْ وَهُوَ الْأَرْبَعُ، الثَّانِي: الْحَرَائِرُ مُحَرَّمَاتٌ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا أَثْبَتَ اللَّه لَكُمْ مِلْكًا عَلَيْهِنَّ، وَذَلِكَ عِنْدَ حُضُورِ الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ وَسَائِرِ الشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الشَّرِيعَةِ، فَهَذَا الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ هُوَ الْمُخْتَارُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المعارج: 29، 30] ، جَعَلَ مِلْكَ الْيَمِينِ عِبَارَةً عَنْ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فيها، فوجب أن يكون هاهنا مُفَسَّرًا بِذَلِكَ، لِأَنَّ تَفْسِيرَ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى بِكَلَامِ اللَّه أَقْرَبُ الطُّرُقِ إِلَى الصِّدْقِ وَالصَّوَابِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا سُبِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الْآخَرِ وَأُخْرِجَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ. أَمَّا إِذَا سُبِيَا مَعًا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: هاهنا تَزُولُ الزَّوْجِيَّةُ، وَيَحِلُّ لِلْمَالِكِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ إِنْ كَانَتْ حَامِلًا مِنْ زَوْجِهَا، أَوْ بِالْحَيْضِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ: لَا تَزُولُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ ذَاتِ الْأَزْوَاجِ ثُمَّ قَوْلُهُ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يَقْتَضِي أَنَّ عِنْدَ طَرَيَانِ الْمِلْكِ تُرْفَعُ الْحُرْمَةُ وَيَحْصُلُ الْحِلُّ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: لَوْ حَصَلَتِ الْفُرْقَةُ بِمُجَرَّدِ طَرَيَانِ الْمِلْكِ لَوَجَبَ أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ بِشِرَاءِ الْأَمَةِ وَاتِّهَابِهَا وَإِرْثِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَيُقَالُ لَهُ: كَأَنَّكَ مَا سَمِعْتَ أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ فِي الْبَاقِي، وَأَيْضًا: فَالْحَاصِلُ عِنْدَ السَّبْيِ إِحْدَاثُ الْمِلْكِ فِيهَا، وَعِنْدَ الْبَيْعِ نُقِلَ الْمِلْكُ مِنْ شَخْصٍ إِلَى شَخْصٍ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَقْوَى، فَظَهَرَ الْفَرْقُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ الْأَمَةَ الْمَنْكُوحَةَ إِذَا بِيعَتْ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ، وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْفُقَهَاءِ الْيَوْمَ، وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَأَنَسٌ: إِنَّهَا إِذَا بِيعَتْ طُلِّقَتْ. حُجَّةُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ عَائِشَةَ لَمَّا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ وَأَعْتَقَتْهَا خَيَّرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ مُزَوَّجَةً، وَلَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِالْبَيْعِ لَمَا كَانَ لِذَلِكَ التَّخْيِيرِ فَائِدَةٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَى فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا» وَحُجَّةُ أبي كَعْبٍ/ وَابْنِ مَسْعُودٍ عُمُومُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَحَاصِلُ الْجَوَابِ عَنْهُ يَرْجِعُ إِلَى تَخْصِيصِ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ ذِكْرَ الْمُحَرَّمَاتِ بِقَوْلِهِ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الفعل فان قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ يدل على معنى الكتبة فَالتَّقْدِيرُ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ تَحْرِيمُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ كِتَابًا مِنَ اللَّه، وَمَجِيءُ الْمَصْدَرِ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الْفِعْلِ كَثِيرٌ نَظِيرُهُ وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ [النَّمْلِ: 88] الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى جِهَةِ الْأَمْرِ، وَيَكُونَ «عَلَيْكُمْ» مُفَسِّرًا لَهُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: الْزَمُوا كِتَابَ اللَّه. ثُمَّ قَالَ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأُحِلَّ لَكُمْ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْأَلِفِ وَالْحَاءِ عَطْفًا عَلَى كِتابَ اللَّهِ يَعْنِي كَتَبَ اللَّه عَلَيْكُمْ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَهَا. المسألة الثاني: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ يَقْتَضِي حِلَّ كُلِّ مَنْ سِوَى الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ.

إِلَّا أَنَّهُ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ أَصْنَافٍ أُخَرَ سِوَى هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ وَنَحْنُ نَذْكُرُهَا. الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا» وَهَذَا خَبَرٌ مَشْهُورٌ مُسْتَفِيضٌ، وَرُبَّمَا قِيلَ: إِنَّهُ بَلَغَ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ، وَزَعَمَ الْخَوَارِجُ أَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ، وَتَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ عُمُومَ الْكِتَابِ مَقْطُوعُ الْمَتْنِ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ مَظْنُونُ الْمَتْنِ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ، فَكَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ أَضْعَفَ مِنْ عُمُومِ الْقُرْآنِ، فَتَرْجِيحُهُ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى تَقْدِيمِ الْأَضْعَفِ عَلَى الْأَقْوَى وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. الثَّانِي: مِنْ جُمْلَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ خَبَرُ مُعَاذٍ، وَإِنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ تَقْدِيمِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى عُمُومِ الْقُرْآنِ مِنْ وَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ قَالَ: بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ بِكِتَابِ اللَّه، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدَّمَ التَّمَسُّكَ بِكِتَابِ اللَّه عَلَى التَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ، وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ تَقْدِيمِ السُّنَّةِ عَلَى الْكِتَابِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَّقَ جَوَازَ التَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ عَلَى عَدَمِ الْكِتَابِ بِكَلِمَةِ «إِنْ» وَهِيَ لِلِاشْتِرَاطِ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ. الثَّالِثُ: أَنَّ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّه فَإِنْ وَافَقَهُ فَاقْبَلُوهُ وَإِلَّا فَرُدُّوهُ» فهذا الخبر نقتضي أَنْ لَا يُقْبَلَ خَبَرُ الْوَاحِدِ/ إِلَّا عِنْدَ مُوَافَقَةِ الْكِتَابِ، فَإِذَا كَانَ خَبَرُ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَجَبَ رَدُّهُ. الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ مَعَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا لَا يَخْلُو الْحَالُ فِيهِمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا أَنْ يُقَالَ: الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ الْخَبَرِ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِلْخَبَرِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْعَامَّ إِذَا وَرَدَ بَعْدَ الْخَاصِّ كَانَ الْعَامُّ نَاسِخًا لِلْخَاصِّ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: الْخَبَرُ وَرَدَ بَعْدَ الْكِتَابِ، فَهَذَا يَقْتَضِي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه لا يجوز، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: وَرَدَا مَعًا، وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ الْآيَةُ وَحْدَهَا مُشْتَبِهَةً، وَيَكُونُ مَوْضِعُ الْحُجَّةِ مَجْمُوعَ الْآيَةِ مَعَ الْخَبَرِ، وَلَا يَجُوزُ لِلرَّسُولِ الْمَعْصُومِ أَنْ يَسْعَى فِي تَشْهِيرِ الشُّبْهَةِ وَلَا يَسْعَى فِي تَشْهِيرِ الْحُجَّةِ، فَكَانَ يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُسْمِعَ أَحَدًا هَذِهِ الْآيَةَ إِلَّا مَعَ هَذَا الْخَبَرِ، وَأَنْ يُوجِبَ إِيجَابًا ظَاهِرًا عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ أَنْ لا يبلغوا هذه الآية أَحَدٍ إِلَّا مَعَ هَذَا الْخَبَرِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ اشْتِهَارُ هَذَا الْخَبَرِ مُسَاوِيًا لِاشْتِهَارِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا فَسَادَ هَذَا الْقِسْمِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَثْبُتَ صِحَّةُ هَذَا الْخَبَرِ قَطْعًا، إِلَّا أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْآيَةِ رَاجِحٌ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْخَبَرِ. وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي التَّحْلِيلِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» فَلَيْسَ نَصًّا صَرِيحًا لِأَنَّ ظَاهِرَهُ إِخْبَارٌ، وَحَمْلُ الْإِخْبَارِ عَلَى النَّهْيِ مَجَازٌ، ثُمَّ بِهَذَا التَّقْدِيرِ فَدَلَالَةُ لَفْظِ النَّهْيِ عَلَى التَّحْرِيمِ أَضْعَفُ مِنْ دَلَالَةِ لَفْظِ الْإِحْلَالِ عَلَى مَعْنَى الْإِبَاحَةِ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ صَرِيحٌ فِي تَحْلِيلِ كُلِّ مَا سِوَى الْمَذْكُورَاتِ، وَقَوْلُهُ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» لَيْسَ صَرِيحًا فِي الْعُمُومِ، بَلِ احْتِمَالُهُ لِلْمَعْهُودِ السَّابِقِ أَظْهَرُ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَقْصَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَرْحَ أَصْنَافِ الْمُحَرَّمَاتِ فَعَدَّ مِنْهَا خَمْسَةَ عَشَرَ صِنْفًا، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا التَّفْصِيلِ التَّامِّ وَالِاسْتِقْصَاءِ الشَّدِيدِ قَالَ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ فَلَوْ لَمْ يَثْبُتِ الْحِلُّ فِي كُلِّ مَنْ سِوَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ لَصَارَ هَذَا الِاسْتِقْصَاءُ عَبَثًا لغوا، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِكَلَامِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، فَهَذَا تَقْرِيرُ وُجُوهِ السُّؤَالِ فِي هَذَا الْبَابِ.

وَالْجَوَابُ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ وَأَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ لَا يَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْحِلِّ عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ، وَهَذَا الْوَجْهُ عِنْدِي هُوَ الْأَصَحُّ فِي هَذَا الْبَابِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ إِخْبَارٌ عَنْ إِحْلَالِ كُلِّ مَا سِوَى الْمَذْكُورَاتِ وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ إِحْلَالَ كُلِّ مَا سِوَى الْمَذْكُورَاتِ وَقَعَ عَلَى التَّأْبِيدِ أَمْ لَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ التَّأْبِيدَ: أَنَّهُ يَصِحُّ تَقْسِيمُ هَذَا الْمَفْهُومِ إِلَى الْمُؤَبَّدِ وَإِلَى غَيْرِ الْمُؤَبَّدِ، فَيُقَالُ تَارَةً: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ/ ذلِكُمْ أَبَدًا، وَأُخْرَى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ إِلَى الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ، وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ صَرِيحًا فِي التَّأْبِيدِ لَمَا كَانَ هَذَا التَّقْسِيمُ مُمْكِنًا، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ لَا يُفِيدُ إِلَّا إِحْلَالَ مَنْ سِوَى الْمَذْكُورَاتِ وَصَرِيحُ الْعَقْلِ يَشْهَدُ بِأَنَّ الْإِحْلَالَ أَعَمُّ مِنَ الْإِحْلَالِ الْمُؤَبَّدِ وَمِنَ الْإِحْلَالِ الْمُؤَقَّتِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ لَا يُفِيدُ إِلَّا حِلَّ مَنْ عَدَا الْمَذْكُورَاتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَأَمَّا ثُبُوتُ حِلِّهِمْ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ فَاللَّفْظُ سَاكِتٌ عَنْهُ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَقَدْ كَانَ حِلُّ مَنْ سِوَى الْمَذْكُورَاتِ ثَابِتًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَطَرَيَانُ حُرْمَةِ بَعْضِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا لِذَلِكَ النَّصِّ وَلَا نَسْخًا لَهُ، فَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ مَعْقُولٌ مُقَرَّرٌ. وَبِهَذَا الطَّرِيقِ نَقُولُ أَيْضًا: إِنَّ قَوْلَهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاءِ: 23] لَيْسَ نَصًّا فِي تَأْبِيدِ هَذَا التَّحْرِيمِ، وَإِنَّ ذَلِكَ التَّأْبِيدَ إِنَّمَا عَرَفْنَاهُ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا مِنْ هَذَا اللَّفْظِ، فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ حُرْمَةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي الْآيَةِ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَكَوْنُهُمَا أُخْتَيْنِ يُنَاسِبُ هَذِهِ الْحُرْمَةَ لِأَنَّ الْأُخْتِيَّةَ قَرَابَةٌ قَرِيبَةٌ، وَالْقَرَابَةُ الْقَرِيبَةُ تُنَاسِبُ مَزِيدَ الْوُصْلَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالْكَرَامَةِ، وَكَوْنُ إِحْدَاهُمَا ضَرَّةَ الْأُخْرَى يُوجِبُ الْوَحْشَةَ الْعَظِيمَةَ وَالنَّفْرَةَ الشَّدِيدَةَ، وَبَيْنَ الْحَالَتَيْنِ مُنَافَرَةٌ عَظِيمَةٌ، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهَا أُخْتًا لَهَا يُنَاسِبُ حُرْمَةَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ ذِكْرَ الْحُكْمِ مَعَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ له، يدل بحسب اللفظ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ [النساء: 23] يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ مَانِعَةً مِنَ الْجَمْعِ فِي النِّكَاحِ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، فَكَانَ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِي الْأُخْتَيْنِ مَذْكُورًا فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ مِنْ طريق الدلالة، بل هاهنا أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَمَّةَ وَالْخَالَةَ يُشْبِهَانِ الْأُمَّ لِبِنْتِ الْأَخِ وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ، وَهُمَا يُشْبِهَانِ الْوَلَدَ لِلْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، وَاقْتِضَاءُ مِثْلِ هَذِهِ الْقَرَابَةِ لِتَرْكِ الْمُضَارَّةِ أَقْوَى مِنِ اقْتِضَاءِ قَرَابَةِ الْأُخْتِيَّةِ لِمَنْعِ الْمُضَارَّةِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مَانِعًا مِنَ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. الثَّانِي: أَنَّهُ نَصَّ عَلَى حُرْمَةِ التَّزَوُّجِ بِأُمَّهَاتِ النِّسَاءِ فقال: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ [النساء: 23] وَلَفْظُ الْأُمِّ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، أَمَّا عَلَى الْعَمَّةِ فَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مُخْبِرًا عَنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ [الْبَقَرَةِ: 133] فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْأَبِ عَلَى إِسْمَاعِيلَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَمًّا، وَإِذَا كَانَ الْعَمُّ أَبًا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الْعَمَّةُ أُمًّا، وَأَمَّا إِطْلَاقُ لَفْظِ الْأُمِّ عَلَى الْخَالَةِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ [يُوسُفَ: 100] وَالْمُرَادُ أَبُوهُ وَخَالَتُهُ، فَإِنَّ أُمَّهُ كَانَتْ مُتَوَفَّاةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَثَبَتَ بِمَا/ ذَكَرْنَا أَنَّ لَفْظَ الْأُمِّ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ مُتَنَاوِلًا لِلْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ الْمُرَادُ مَا وَرَاءَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورَاتِ سواء كن

مَذْكُورَاتٍ بِالْقَوْلِ الصَّرِيحِ أَوْ بِدَلَالَةٍ جَلِيَّةٍ، أَوْ بِدَلَالَةٍ خَفِيَّةٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنِ الْعَمَّةُ وَالْخَالَةُ خَارِجَةً عَنِ الْمَذْكُورَاتِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ عَنْ شُبْهَةِ الْخَوَارِجِ أَنْ نَقُولَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ عَامٌّ، وَقَوْلُهُ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا» خَاصٌّ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى العام، ثم هاهنا طَرِيقَانِ: تَارَةً نَقُولُ: هَذَا الْخَبَرُ بَلَغَ فِي الشُّهْرَةِ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ، وَتَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ جَائِزٌ، وَعِنْدِي هَذَا الْوَجْهُ كَالْمُكَابَرَةِ، لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الشُّهْرَةِ فِي زَمَانِنَا هَذَا لَكِنَّهُ لَمَّا انْتَهَى فِي الْأَصْلِ إِلَى رِوَايَةِ الْآحَادِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْآحَادِ. وَتَارَةً نَقُولُ: تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ، وَتَقْرِيرُهُ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْجَوَابِ عِنْدَنَا الْوَجْهُ الأول. الصنف الثاني: مِنَ التَّخْصِيصَاتِ الدَّاخِلَةِ فِي هَذَا الْعُمُومِ: أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا لَا تَحِلُّ، إِلَّا أَنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 230] . الصنف الثالث: تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] . الصنف الرابع: مَنْ كَانَ فِي نِكَاحِهِ حُرَّةٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأَمَةِ، وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: الْقَادِرُ عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَدَلِيلُ هَذَا التَّخْصِيصِ قَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النِّسَاءِ: 25] وَسَيَأْتِي بَيَانُ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا المطلوب. الصنف الخامس: يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّزَوُّجُ بِالْخَامِسَةِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [النساء: 3] . الصنف السادس: الْمُلَاعَنَةُ: وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُتَلَاعِنَانِ لا يجتمعان أبدا» . قوله تعالى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ. فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَنْ تَبْتَغُوا فِي مَحَلِّهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رُفِعَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ «مَا» وَالتَّقْدِيرُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ (وَأُحِلَّ) بِضَمِّ الْأَلِفِ.. وَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ كَانَ مَحَلُّ «أَنْ تَبْتَغُوا» نَصْبًا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ النَّصْبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ كَأَنَّهُ قِيلَ: لِأَنْ تَبْتَغُوا، والمعنى: وأحل لكم ما وراء ذلكم لا رادة أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَقَوْلُهُ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ أَيْ فِي حَالِ كَوْنِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ، وَقَوْلُهُ: مُحْصِنِينَ أَيْ مُتَعَفِّفِينَ عَنِ الزِّنَا، وَقَوْلُهُ: غَيْرَ مُسافِحِينَ أَيْ غَيْرَ زَانِينَ، وَهُوَ تَكْرِيرٌ لِلتَّأْكِيدِ. قَالَ اللَّيْثُ: السِّفَاحُ وَالْمُسَافَحَةُ الْفُجُورُ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنَ السَّفْحِ وَهُوَ الصَّبُّ يُقَالُ: دُمُوعٌ سَوَافِحُ وَمَسْفُوحَةٌ، قَالَ تَعَالَى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [الْأَنْعَامِ: 145] وَفُلَانٌ سَفَّاحٌ لِلدِّمَاءِ أَيْ سَفَّاكٌ، وسمي الزاني سِفَاحًا لِأَنَّهُ لَا غَرَضَ لِلزَّانِي إِلَّا سَفْحُ النُّطْفَةِ. فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ مَفْعُولُ تَبْتَغُوا؟

قُلْنَا: التَّقْدِيرُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ لا رادة أَنْ تَبْتَغُوهُنَّ، أَيْ تَبْتَغُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ، فَحُذِفَ ذِكْرُهُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: يَجُوزُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَلَا تَقْدِيرَ فِيهِ. احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَيَّدَ التَّحْلِيلَ بِقَيْدٍ، وَهُوَ الِابْتِغَاءُ بِأَمْوَالِهِمْ، وَالدِّرْهَمُ وَالدِّرْهَمَانِ لَا يُسَمَّى أَمْوَالًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ جَعْلُهَا مَهْرًا. فَإِنْ قِيلَ: وَمَنْ عِنْدَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ لَا يُقَالُ عِنْدَهُ أَمْوَالٌ، مَعَ أَنَّكُمْ تُجَوِّزُونَ كَوْنَهَا مَهْرًا. قُلْنَا: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَكُونَ الْعَشَرَةُ كَافِيَةً، إِلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِهِ، فَتَمَسَّكَ فِي الْأَقَلِّ مِنَ الْعَشَرَةِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الِابْتِغَاءَ بِالْأَمْوَالِ جَائِزٌ، وَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الِابْتِغَاءَ بِغَيْرِ الْأَمْوَالِ لَا يَجُوزُ، إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَفْهُومِ، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ. ثُمَّ نَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ فِي الْمَهْرِ وُجُوهٌ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: بِأَمْوالِكُمْ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، فَيَقْتَضِي تَوَزُّعَ الْفَرْدِ عَلَى الْفَرْدِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَتَمَكَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنِ ابْتِغَاءِ النِّكَاحِ بِمَا يُسَمَّى مَالًا، وَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ فِي هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَفِي هَذَا الِاسْمِ سَوَاءٌ، فَيَلْزَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ ابْتِغَاءِ النِّكَاحِ بِأَيِّ شَيْءٍ يُسَمَّى مَالًا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [الْبَقَرَةِ: 237] دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى سُقُوطِ النِّصْفِ عَنِ الْمَذْكُورِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الْعَقْدُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِدِرْهَمٍ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ إِلَّا نِصْفُ دِرْهَمٍ، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: الْأَحَادِيثُ: مِنْهَا مَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً جِيءَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَزَوَّجَ بِهَا رَجُلٌ عَلَى نَعْلَيْنِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رَضِيتِ مِنْ نَفْسِكِ بِنَعْلَيْنِ» فَقَالَتْ: نَعَمْ فَأَجَازَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قِيمَةَ النَّعْلَيْنِ تَكُونُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ اللَّذَيْنِ لَا يَكُونُ تَزَوُّجُهُمَا إِلَّا عَلَى النَّعْلَيْنِ يَكُونَانِ فِي غَايَةِ الْفَقْرِ، وَنَعْلُ هَذَا الْإِنْسَانِ يَكُونُ قَلِيلَ الْقِيمَةِ جِدًّا. وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَعْطَى امْرَأَةً فِي نِكَاحٍ كَفَّ دَقِيقٍ أَوْ سَوِيقٍ أَوْ طَعَامٍ فَقَدِ اسْتَحَلَّ» وَمِنْهَا مَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ الْوَاهِبَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِمَنْ أَرَادَ التَّزَوُّجَ بِهَا: «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» وَذَلِكَ لَا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَوْ تَزَوَّجَ بِهَا عَلَى تَعْلِيمِ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَهْرًا وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، ثُمَّ قَالَ: إِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى خِدْمَتِهِ سَنَةً، فَإِنْ كَانَ حُرًّا لها مَهْرُ مِثْلِهَا، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَلَهَا خِدْمَةُ سَنَةٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ: يَجُوزُ جَعْلُ ذَلِكَ مَهْرًا، احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى قَوْلِهِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: هَذِهِ الْآيَةُ وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ فِي حُصُولِ الْحِلِّ أَنْ يَكُونَ الِابْتِغَاءُ بِالْمَالِ، وَالْمَالُ اسْمٌ لِلْأَعْيَانِ لَا لِلْمَنَافِعِ، الثَّانِي: قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النِّسَاءِ: 4] وَذَلِكَ صِفَةُ الْأَعْيَانِ. أَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِابْتِغَاءَ بِالْمَالِ جَائِزٌ، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الِابْتِغَاءَ بِغَيْرِ الْمَالِ جَائِزٌ أَمْ لَا، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الْإِيتَاءِ كَمَا يَتَنَاوَلُ الْأَعْيَانَ يَتَنَاوَلُ الْمَنَافِعَ الْمُلْتَزَمَةَ، وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ خَرَجَ

الْخِطَابُ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ، ثُمَّ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَلَى جَوَازِ جَعْلِ الْمَنْفَعَةِ صداقا لوجوه: الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ [الْقَصَصِ: 27] جَعَلَ الصَّدَاقَ تِلْكَ الْمَنَافِعَ وَالْأَصْلُ فِي شَرْعِ مَنْ تَقَدَّمَنَا الْبَقَاءُ إِلَى أَنْ يَطْرَأَ النَّاسِخُ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا، لَمَّا لَمْ يَجِدِ الرَّجُلُ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا شَيْئًا، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «هَلْ مَعَكَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ نَعَمْ سُورَةُ كَذَا، قَالَ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ/ الْقُرْآنِ» واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ عِتْقَ الْأَمَةِ لَا يَكُونُ صَدَاقًا لَهَا، لِأَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي كَوْنَ الْبُضْعِ مَالًا، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، فَذَاكَ مِنْ خَوَاصِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: مُحْصِنِينَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ مُحْصِنِينَ بِسَبَبِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْإِحْصَانُ شَرْطًا فِي الْإِحْلَالِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَبْقَى الْآيَةُ عَامَّةً مَعْلُومَةَ الْمَعْنَى، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الثَّانِي تَكُونُ الْآيَةُ مُجْمَلَةً، لِأَنَّ الْإِحْصَانَ الْمَذْكُورَ فِيهِ غَيْرُ مُبَيَّنٍ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الْمُجْمَلِ يَكُونُ مُجْمَلًا، وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مَعْلُومًا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُجْمَلًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً. فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الِاسْتِمْتَاعُ فِي اللُّغَةِ الِانْتِفَاعُ، وَكُلُّ مَا انْتُفِعَ بِهِ فَهُوَ مَتَاعٌ، يُقَالُ: اسْتَمْتَعَ الرَّجُلُ بِوَلَدِهِ، وَيُقَالُ فِيمَنْ مَاتَ فِي زَمَانِ شَبَابِهِ: لَمْ يَتَمَتَّعْ بِشَبَابِهِ. قَالَ تَعَالَى: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ [الْأَنْعَامِ: 128] وَقَالَ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها [الْأَحْقَافِ: 20] يَعْنِي تَعَجَّلْتُمُ الِانْتِفَاعَ بِهَا، وَقَالَ: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ [التَّوْبَةِ: 69] يَعْنِي بِحَظِّكُمْ وَنَصِيبِكُمْ مِنَ الدُّنْيَا. وَفِي قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنَ الْمَنْكُوحَاتِ مِنْ جِمَاعٍ أَوْ عَقْدٍ عَلَيْهِنَّ، فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَسْقَطَ الرَّاجِعَ إِلَى «مَا» لِعَدَمِ الِالْتِبَاسِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشُّورَى: 43] فَأُسْقِطَ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ «مَا» فِي قَوْلِهِ: مَا وَراءَ ذلِكُمْ بِمَعْنَى النِّسَاءِ وَ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنْهُنَّ لِلتَّبْعِيضِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بِهِ رَاجِعٌ إِلَى لَفْظِ مَا لِأَنَّهُ وَاحِدٌ فِي اللَّفْظِ، وَفِي قَوْلِهِ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ إِلَى مَعْنَى «مَا» لِأَنَّهُ جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى، وَقَوْلُهُ: أُجُورَهُنَّ أَيْ مُهُورَهُنَّ، قَالَ تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا إِلَى قَوْلِهِ: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النِّسَاءِ: 25] وَهِيَ الْمُهُورُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ هاهنا، وقال تعالى في آية أخرى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الْمُمْتَحَنَةِ: 10] وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمَهْرُ أَجْرًا لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَنَافِعِ، وَلَيْسَ بِبَدَلٍ مِنَ الْأَعْيَانِ، كَمَا سُمِّيَ بَدَلُ مَنَافِعِ الدَّارِ وَالدَّابَّةِ أَجْرًا واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ لَا تُقَرِّرُ الْمَهْرَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تُقَرِّرُهُ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى قَوْلِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُشْعِرٌ بِأَنَّ وُجُوبَ إِيتَائِهِنَّ مُهُورَهُنَّ

كَانَ لِأَجْلِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، وَلَوْ كَانَتِ الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ مُقَرِّرَةً لِلْمَهْرِ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ تَتَقَدَّمُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِنَّ، فَكَانَ الْمَهْرُ يَتَقَرَّرُ قَبْلَ الِاسْتِمْتَاعِ، وَتَقَرُّرُهُ قَبْلَ الِاسْتِمْتَاعِ يَمْنَعُ مِنْ تَعَلُّقِ ذَلِكَ التَّقَرُّرِ بِالِاسْتِمْتَاعِ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ تَقَرُّرَ الْمَهْرِ يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِمْتَاعِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ لَا تُقَرِّرُ الْمَهْرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ الْمُرَادُ مِنْهُ ابْتِغَاءُ النِّسَاءِ بِالْأَمْوَالِ عَلَى طَرِيقِ النِّكَاحِ، وَقَوْلُهُ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ فَإِنِ اسْتَمْتَعَ بِالدُّخُولِ بِهَا آتَاهَا الْمَهْرَ بِالتَّمَامِ، وَإِنِ اسْتَمْتَعَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ آتَاهَا نِصْفَ الْمَهْرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ حُكْمُ الْمُتْعَةِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ بِمَالٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مُعَيَّنٍ فَيُجَامِعَهَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُبَاحَةً فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ فِي عُمْرَتِهِ تَزَيَّنَ نِسَاءُ مَكَّةَ، فَشَكَا أَصْحَابُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طُولَ الْعُزُوبَةِ فَقَالَ: اسْتَمْتِعُوا مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا هَلْ نُسِخَتْ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْأُمَّةِ إِلَى أَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً، وَقَالَ السَّوَادُ مِنْهُمْ: إِنَّهَا بَقِيَتْ مُبَاحَةً كَمَا كَانَتْ وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، أَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَعَنْهُ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إِحْدَاهَا: الْقَوْلُ بِالْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ، قَالَ عُمَارَةُ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْمُتْعَةِ: أَسِفَاحٌ هِيَ أَمْ نِكَاحٌ؟ قَالَ: لَا سِفَاحٌ وَلَا نِكَاحٌ، قُلْتُ: فَمَا هِيَ؟ قَالَ: هِيَ مُتْعَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى، قُلْتُ: هَلْ لَهَا عِدَّةٌ؟ قَالَ نَعَمْ عِدَّتُهَا حَيْضَةٌ، قُلْتُ: هَلْ يَتَوَارَثَانِ؟ قَالَ لَا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْهُ: أَنَّ النَّاسَ لَمَّا ذَكَرُوا الْأَشْعَارَ فِي فُتْيَا ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُتْعَةِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَاتَلَهُمُ اللَّه إِنِّي مَا أَفْتَيْتُ بِإِبَاحَتِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَكِنِّي قُلْتُ: إِنَّهَا تَحِلُّ لِلْمُضْطَرِّ كَمَا تَحِلُّ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ لَهُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً. رَوَى عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ قَالَ صَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطَّلَاقِ: 1] وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ مِنْ قَوْلِي فِي الْمُتْعَةِ وَالصَّرْفِ وَأَمَّا عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ فَإِنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا آيَةٌ تَنْسَخُهَا/ وَأَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَمَتَّعْنَا بِهَا، وَمَاتَ وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ. وَأَمَّا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فَالشِّيعَةُ يَرْوُونَ عَنْهُ إِبَاحَةَ الْمُتْعَةِ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ عُمَرَ نَهَى النَّاسَ عَنِ الْمُتْعَةِ مَا زَنَى إِلَّا شَقِيٌّ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بن على المشهور بمحمد بن الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَرَّ بِابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ يُفْتِي بِجَوَازِ الْمُتْعَةِ، فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالرِّوَايَاتِ. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى حُرْمَةِ الْمُتْعَةِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ إِلَّا فِي الزَّوْجَةِ أَوِ الْمَمْلُوكَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المعارج: 29، 30] ، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ لَا شَكَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً، وَلَيْسَتْ أَيْضًا زَوْجَةً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: لَوْ كَانَتْ زَوْجَةً لَحَصَلَ التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ [النِّسَاءِ: 12] وَبِالِاتِّفَاقِ لَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا، وَثَانِيهَا: وَلَثَبَتَ النَّسَبُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» وَبِالِاتِّفَاقِ لَا يَثْبُتُ، وَثَالِثُهَا: وَلَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا، لِقَوْلِهِ تعالى: وَالَّذِينَ

يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [الْبَقَرَةِ: 234] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ كَلَامٌ حَسَنٌ مُقَرَّرٌ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَأُعَاقِبُ عَلَيْهِمَا، ذُكِرَ هَذَا الْكَلَامُ فِي مَجْمَعِ الصَّحَابَةِ وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَالْحَالُ هاهنا لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِحُرْمَةِ الْمُتْعَةِ فَسَكَتُوا، أَوْ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ وَلَكِنَّهُمْ سَكَتُوا عَلَى سَبِيلِ الْمُدَاهَنَةِ، أَوْ مَا عَرَفُوا إِبَاحَتَهَا وَلَا حُرْمَتَهَا. فَسَكَتُوا لِكَوْنِهِمْ مُتَوَقِّفِينَ فِي ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَالثَّانِي يُوجِبُ تَكْفِيرَ عُمَرَ، وَتَكْفِيرَ الصَّحَابَةِ لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ مَحْظُورَةٌ مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ لَهَا فَهُوَ كَافِرٌ باللَّه، وَمَنْ صَدَّقَهُ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِكَوْنِهِ مُخْطِئًا كَافِرًا، كَانَ كَافِرًا أَيْضًا. وَهَذَا يَقْتَضِي تَكْفِيرَ الْأُمَّةِ وَهُوَ عَلَى ضِدِّ قَوْلِهِ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آلِ عِمْرَانَ: 110] . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا عَالِمِينَ بِكَوْنِ الْمُتْعَةِ مُبَاحَةً أَوْ مَحْظُورَةً فَلِهَذَا سَكَتُوا، فَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمُتْعَةَ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهَا مُبَاحَةً تَكُونُ كَالنِّكَاحِ، وَاحْتِيَاجُ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَالِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامٌّ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَمِثْلُ هَذَا يُمْنَعُ أَنْ يَبْقَى مَخْفِيًّا، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَشْتَهِرَ الْعِلْمُ بِهِ، فَكَمَا أَنَّ الْكُلَّ كَانُوا عَارِفِينَ بِأَنَّ النِّكَاحَ مُبَاحٌ، وَأَنَّ إِبَاحَتَهُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي الْمُتْعَةِ كَذَلِكَ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَانِ الْقِسْمَانِ ثَبَتَ أَنَّ الصَّحَابَةَ إِنَّمَا سَكَتُوا عَنِ الْإِنْكَارِ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ الْمُتْعَةَ صَارَتْ مَنْسُوخَةً فِي الْإِسْلَامِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمْ يَبْطُلُ بِمَا أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: لَا أُوتَى بِرَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً إِلَى أَجَلٍ إِلَّا رَجَمْتُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الرَّجْمَ غَيْرُ جَائِزٍ، مَعَ أَنَّ الصَّحَابَةَ مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْكُتُونَ عَنِ الْإِنْكَارِ عَلَى الْبَاطِلِ. قُلْنَا: لَعَلَّهُ كَانَ يَذْكُرُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ وَالزَّجْرِ وَالسِّيَاسَةِ، وَمِثْلُ هَذِهِ السِّيَاسَاتِ جَائِزَةٌ لِلْإِمَامِ عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَنْ مَنَعَ مِنَّا الزَّكَاةَ فَإِنَّا آخِذُوهَا مِنْهُ وَشَطْرَ مَالِهِ» ثُمَّ إِنَّ أَخْذَ شَطْرِ الْمَالِ مِنْ مَانِعِ الزَّكَاةِ غَيْرُ جَائِزٍ، لَكِنَّهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الزجر، فكذا هاهنا واللَّه أَعْلَمُ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ عَلَى أَنَّ الْمُتْعَةَ مُحَرَّمَةٌ: مَا رَوَى مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عبد اللَّه والحسن ابني محمد ابن عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ. وَرَوَى الرَّبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ الْجُهَنِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: غَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي أَمَرْتُكُمْ بِالِاسْتِمْتَاعِ مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ أَلَا وَإِنَّ اللَّه قَدْ حَرَّمَهَا عَلَيْكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخْلِ سَبِيلَهَا وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا» وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مُتْعَةُ النِّسَاءِ حَرَامٌ» وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الثَّلَاثَةُ ذَكَرَهَا الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يُسَمَّى اسْتِمْتَاعًا، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ هُوَ التَّلَذُّذُ، وَمُجَرَّدُ النِّكَاحِ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَمَّا الْقَائِلُونَ بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ فَقَدِ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بهذه الآية طريقان:

الطريق الأول: أَنْ نَقُولَ: نِكَاحُ الْمُتْعَةِ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ يَتَنَاوَلُ مَنِ ابْتَغَى بِمَالِهِ الِاسْتِمْتَاعَ بِالْمَرْأَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ، وَمَنِ ابْتَغَى بِمَالِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْقِيتِ، وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ دَاخِلًا فِيهِ كَانَ قَوْلُهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ يَقْتَضِي حِلَّ الْقِسْمَيْنِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي حِلَّ الْمُتْعَةِ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى بَيَانِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: مَا رُوِيَ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ كَانَ يَقْرَأُ (فما استمعتم بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) وَهَذَا أَيْضًا هُوَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْأُمَّةُ مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِمَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنَ الْأُمَّةِ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَمَّا مَنَعَ مِنَ الْمُتْعَةِ وَالصَّحَابَةُ/ مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا على صحة ما ذكرنا، وكذا هاهنا، وَإِذَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ صِحَّةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ثَبَتَ الْمَطْلُوبُ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ الِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بَإِيتَائِهِنَّ أُجُورَهُنَّ بَعْدَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ يُجَوِّزُ الْوَطْءَ، وَمُجَرَّدُ الِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، فَأَمَّا فِي النِّكَاحِ الْمُطْلَقِ فَهُنَاكَ الْحِلُّ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْعَقْدِ، وَمَعَ الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ، وَمُجَرَّدُ الِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِالْمُتْعَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أُوجِبَ إِيتَاءَ الْأُجُورِ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَالِاسْتِمْتَاعُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّلَذُّذِ وَالِانْتِفَاعِ، فَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَإِيتَاءُ الْأُجُورِ لَا يَجِبُ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ الْبَتَّةَ، بَلْ عَلَى النِّكَاحِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِمُجَرَّدِ النِّكَاحِ يَلْزَمُ نِصْفُ الْمَهْرِ، فَظَاهِرٌ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يُسَمَّى اسْتِمْتَاعًا، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ هُوَ التَّلَذُّذُ. وَمُجَرَّدُ النِّكَاحِ لَيْسَ كَذَلِكَ. الرَّابِعُ: أَنَّا لَوْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى حُكْمِ النِّكَاحِ لَزِمَ تَكْرَارُ بَيَانِ حُكْمِ النِّكَاحِ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [النِّسَاءِ: 3] ثُمَّ قَالَ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً [النِّسَاءِ: 4] أَمَّا لَوْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى بَيَانِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ كَانَ هَذَا حُكْمًا جَدِيدًا، فَكَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ أَوْلَى واللَّه أَعْلَمُ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ: أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ كَانَ جَائِزًا فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ فِيهِ، إِنَّمَا الْخِلَافُ فِي طَرَيَانِ النَّاسِخِ، فَنَقُولُ: لَوْ كَانَ النَّاسِخُ مَوْجُودًا لَكَانَ ذَلِكَ النَّاسِخُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِالتَّوَاتُرِ، أَوْ بِالْآحَادِ، فَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا بِالتَّوَاتُرِ، كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللَّه بْنُ عَبَّاسٍ وَعِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ مُنْكِرِينَ لِمَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ تَكْفِيرَهُمْ، وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا بِالْآحَادِ فَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ ثُبُوتُ إِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ مَعْلُومًا بِالْإِجْمَاعِ وَالتَّوَاتُرِ، كَانَ ثُبُوتُهُ مَعْلُومًا قَطْعًا، فَلَوْ نَسَخْنَاهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَزِمَ جَعْلُ الْمَظْنُونِ رَافِعًا لِلْمَقْطُوعِ وَإِنَّهُ بَاطِلٌ. قَالُوا: وَمِمَّا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِهَذَا النَّسْخِ أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَبَاحَ الْمُتْعَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَفِي يَوْمِ الْفَتْحِ، وَهَذَانِ الْيَوْمَانِ مُتَأَخِّرَانِ عَنْ يَوْمِ خَيْبَرَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَسَخَ الْمُتْعَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ، لِأَنَّ النَّاسِخَ يَمْتَنِعُ تَقَدُّمُهُ عَلَى الْمَنْسُوخِ، وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ حَصَلَ التَّحْلِيلُ مِرَارًا وَالنَّسْخُ مِرَارًا ضَعِيفٌ، لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُعْتَبَرِينَ، إِلَّا الَّذِينَ أَرَادُوا إِزَالَةَ التَّنَاقُضِ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: مُتْعَتَانِ كَانَتَا مَشْرُوعَتَيْنِ فِي عَهْدِ/ رَسُولِ

اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا: مُتْعَةُ الْحَجِّ، وَمُتْعَةُ النِّكَاحِ، وَهَذَا مِنْهُ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ مُتْعَةَ النِّكَاحِ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي عَهْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ: وَأَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا نَسَخَهُ، وَإِنَّمَا عُمَرُ هُوَ الَّذِي نَسَخَهُ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حِلَّ الْمُتْعَةِ كَانَ ثَابِتًا فِي عَهْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا نَسَخَهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ نَاسِخٌ إِلَّا نَسْخَ عُمَرَ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ لَا يَصِيرَ مَنْسُوخًا لِأَنَّ مَا كَانَ ثَابِتًا فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا نَسَخَهُ الرَّسُولُ، يَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ مَنْسُوخًا بِنَسْخِ عُمَرَ، وَهَذَا هُوَ الْحُجَّةُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ اللَّه أَنْزَلَ فِي الْمُتْعَةِ آيَةً وَمَا نَسَخَهَا بِآيَةٍ أُخْرَى، وَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُتْعَةِ وَمَا نَهَانَا عَنْهَا، ثُمَّ قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ، يُرِيدُ أَنَّ عُمَرَ نَهَى عَنْهَا، فَهَذَا جُمْلَةُ وُجُوهِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الْمُتْعَةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنْ نَقُولَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا نِكَاحُ الْمُتْعَةِ وَبَيَانُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْمُحَرَّمَاتِ بِالنِّكَاحِ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ فَكَانَ الْمُرَادُ بِهَذَا التَّحْلِيلِ مَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَاكَ بِهَذَا التَّحْرِيمِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَاكَ بِالتَّحْرِيمِ هو النكاح، فالمراد بالتحليل هاهنا أَيْضًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ النِّكَاحَ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: مُحْصِنِينَ وَالْإِحْصَانُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ: غَيْرَ مُسافِحِينَ سَمَّى الزِّنَا سِفَاحًا لِأَنَّهُ لَا مَقْصُودَ فِيهِ إِلَّا سَفْحُ الْمَاءِ، وَلَا يُطْلَبُ فِيهِ الْوَلَدُ وَسَائِرُ مَصَالِحِ النِّكَاحِ، وَالْمُتْعَةُ لَا يُرَادُ مِنْهَا إِلَّا سَفْحُ الْمَاءِ فَكَانَ سِفَاحًا، هَذَا مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ. أَمَّا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: فَكَأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَصْنَافَ مَنْ يَحْرُمُ عَلَى الْإِنْسَانِ وَطْؤُهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَيْ وَأُحِلَّ لَكُمْ وَطْءُ مَا وَرَاءَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ، فَأَيُّ فَسَادٍ فِي هَذَا الْكَلَامِ؟ وَأَمَّا قَوْلُهُ ثَانِيًا: الْإِحْصَانُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَلَمْ يَذْكُرْ عَلَيْهِ دَلِيلًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ ثَالِثًا: الزِّنَا إِنَّمَا سُمِّيَ سِفَاحًا، لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ مِنْهُ إِلَّا سَفْحُ الْمَاءِ، وَالْمُتْعَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا سَفْحُ الْمَاءِ بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ مَأْذُونٍ فِيهِ مِنْ قِبَلِ اللَّه، فَإِنْ قُلْتُمُ: الْمُتْعَةُ مُحَرَّمَةٌ، فَنَقُولُ: هَذَا أَوَّلُ الْبَحْثِ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، فَظَهَرَ أَنَّ الْكَلَامَ رِخْوٌ، وَالَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّا لَا نُنْكِرُ أَنَّ الْمُتْعَةَ كَانَتْ مُبَاحَةً، إِنَّمَا الَّذِي نَقُولُهُ: إِنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَادِحًا فِي غَرَضِنَا، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ أَيْضًا عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِقِرَاءَةِ أُبَيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّ تِلْكَ الْقِرَاءَةَ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّ الْمُتْعَةَ كَانَتْ مَشْرُوعَةً، وَنَحْنُ لَا نُنَازِعُ فِيهِ، إِنَّمَا الَّذِي نَقُولُهُ: إِنَّ النَّسْخَ طَرَأَ عَلَيْهِ، وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ/ لَا يَدْفَعُ قَوْلَنَا، وَقَوْلُهُمُ: النَّاسِخُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا أَوْ آحَادًا. قُلْنَا: لَعَلَّ بَعْضَهُمْ سَمِعَهُ ثُمَّ نَسِيَهُ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْجَمْعِ الْعَظِيمِ تَذَكَّرُوهُ وَعَرَفُوا صِدْقَهُ فِيهِ فَسَلَّمُوا الْأَمْرَ لَهُ. قَوْلُهُ: إِنَّ عُمَرَ أَضَافَ النَّهْيَ عَنِ الْمُتْعَةِ إِلَى نَفْسِهِ. قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّ الْمُتْعَةَ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَنْهَى عَنْهُ لَزِمَ تَكْفِيرُهُ وَتَكْفِيرُ كُلِّ مَنْ لَمْ يُحَارِبْهُ وَيُنَازِعْهُ، وَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى تَكْفِيرِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَيْثُ لَمْ يُحَارِبْهُ وَلَمْ يَرُدَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ عَلَيْهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: كَانَ مُرَادُهُ أَنَّ الْمُتْعَةَ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا أَنْهَى عَنْهَا لِمَا ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسَخَهَا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ هَذَا الْكَلَامُ حُجَّةً لَنَا فِي مَطْلُوبِنَا واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَالْمَعْنَى أَنَّ إِيتَاءَهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَمُهُورَهُنَّ فَرِيضَةٌ لازمة وواجبة،

[سورة النساء (4) : آية 25]

وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ: فَرِيضَةً ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْأُجُورِ بِمَعْنَى مَفْرُوضَةٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّهَا وُضِعَتْ مَوْضِعَ إِيتَاءٍ، لِأَنَّ الْإِيتَاءَ مَفْرُوضٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ، أَيْ فرض ذلك فريضة. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الَّذِينَ حَمَلُوا الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى بَيَانِ حُكْمِ النِّكَاحِ قَالُوا: الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَهْرُ مُقَدَّرًا بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، فَلَا حَرَجَ فِي أَنْ تَحُطَّ عَنْهُ شَيْئًا مِنَ الْمَهْرِ أَوْ تُبَرِّئَهُ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَعَلَى هَذَا: الْمُرَادُ مِنَ التَّرَاضِي الْحَطُّ مِنَ الْمَهْرِ أَوِ الْإِبْرَاءُ عَنْهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النِّسَاءِ: 4] وَقَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ [الْبَقَرَةِ: 237] وَقَالَ الزَّجَّاجُ مَعْنَاهُ: لَا إِثْمَ عَلَيْكُمْ فِي أَنْ تَهَبَ الْمَرْأَةُ لِلزَّوْجِ مَهْرَهَا، أَوْ يَهَبَ الزَّوْجُ لِلْمَرْأَةِ تَمَامَ الْمَهْرِ إِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ. وَأَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوا الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى بَيَانِ الْمُتْعَةِ قَالُوا: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ إِذَا انْقَضَى أَجَلُ الْمُتْعَةِ لَمْ يَبْقَ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ سَبِيلٌ الْبَتَّةَ، فَإِنْ قَالَ لَهَا: زِيدِينِي فِي الْأَيَّامِ وَأَزِيدُكِ/ فِي الْأُجْرَةِ كَانَتِ الْمَرْأَةُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَتْ فَعَلَتْ، وَإِنْ شَاءَتْ لَمْ تَفْعَلْ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ أَيْ مِنْ بَعْدِ الْمِقْدَارِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا مِنَ الْأَجْرِ وَالْأَجَلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إِلْحَاقُ الزِّيَادَةِ فِي الصَّدَاقِ جَائِزٌ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ إِنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا، أَمَّا إِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَتِ الزِّيَادَةُ، وَكَانَ لَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ: الزِّيَادَةُ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ، فَإِنْ أَقْبَضَهَا مَلَكَتْهُ بِالْقَبْضِ، وَإِنْ لَمْ يُقْبِضْهَا بَطَلَتْ. احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرازي لأبي حنيفة بهذه الآية فقوله: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ يَتَنَاوَلُ مَا وَقَعَ التَّرَاضِي بِهِ فِي طَرَفَيِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَكَانَ هَذَا بِعُمُومِهِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إِلْحَاقِ الزِّيَادَةِ بِالصَّدَاقِ، قَالَ: بَلْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالزِّيَادَةِ أَخَصُّ مِنْهَا بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَهُ بِتَرَاضِيهِمَا، وَالْبَرَاءَةُ وَالْحَطُّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى رِضَا الزَّوْجِ، وَالزِّيَادَةُ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِقَبُولِهِ، فَإِذَا عُلِّقَ ذَلِكَ بِتَرَاضِيهِمَا جَمِيعًا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الزِّيَادَةُ. وَالْجَوَابُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ عِبَارَةً عَمَّا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ؟ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنْ شَاءَتِ الْمَرْأَةُ أَبْرَأَتْهُ عَنِ النِّصْفِ، وَإِنْ شَاءَ الزَّوْجُ سَلَّمَ إِلَيْهَا كُلَّ الْمَهْرِ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ قَدْ زَادَهَا عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ إِلَيْهَا، وَأَيْضًا عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا جُنَاحَ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ إِلَّا أَنَّهَا تَكُونُ هِبَةً. وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى بُطْلَانِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَوِ الْتَحَقَتْ بِالْأَصْلِ لَكَانَ إِمَّا مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، أَوْ بَعْدَ زَوَالِ الْعَقْدِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا انْعَقَدَ عَلَى الْقَدْرِ الْأَوَّلِ، فَلَوِ انْعَقَدَ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى الْقَدْرِ الثَّانِي، لَكَانَ ذَلِكَ تَكْوِينًا لِذَلِكَ الْعَقْدِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ عِنْدَ إِلْحَاقِ الزِّيَادَةِ لَا يَرْتَفِعُ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ، فَثَبَتَ فَسَادُ مَا قَالُوهُ واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ التَّكَالِيفِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْإِحْلَالِ، بَيَّنَ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا خَافِيَةٌ أَصْلًا، وَحَكِيمٌ لَا يُشَرِّعُ الْأَحْكَامَ إِلَّا عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّسْلِيمَ لِأَوَامِرِهِ وَالِانْقِيَادَ لِأَحْكَامِهِ واللَّه أَعْلَمُ. [سورة النساء (4) : آية 25] وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) النَّوْعُ السَّابِعُ: مِنَ التَّكَالِيفِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السورة قوله تعالى:

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مَنْ يَحِلُّ وَمَنْ لَا يَحِلُّ: بَيَّنَ فِيمَنْ يَحِلُّ أَنَّهُ مَتَى يَحِلُّ، وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ يَحِلُّ فَقَالَ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْكِسَائِيُّ الْمُحْصِنَاتِ بِكَسْرِ الصَّادِ، وَكَذَلِكَ مُحْصِنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَكَذَلِكَ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصِنَاتِ كُلُّهَا بِكَسْرِ الصَّادِ، وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ، فَالْفَتْحُ مَعْنَاهُ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ، وَالْكَسْرُ مَعْنَاهُ الْعَفَائِفُ وَالْحَرَائِرُ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الطَّوْلُ: الْفَضْلُ، وَمِنْهُ التَّطَوُّلُ وَهُوَ التَّفَضُّلُ، وَقَالَ تَعَالَى: ذِي الطَّوْلِ [غافر: 3] وَيُقَالُ: تَطَاوَلَ لِهَذَا الشَّيْءِ أَيْ تَنَاوَلَهُ، كَمَا يُقَالُ: يَدُ فُلَانٍ مَبْسُوطَةٌ وَأَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنَ الطُّولِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْقِصَرِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ طَوِيلًا فَفِيهِ كَمَالٌ وَزِيَادَةٌ، كَمَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ قَصِيرًا فَفِيهِ قُصُورٌ وَنُقْصَانٌ، وَسُمِّيَ الْغِنَى أَيْضًا طَوْلًا، لِأَنَّهُ يُنَالُ بِهِ من المرادات مالا يُنَالُ عِنْدَ الْفَقْرِ، كَمَا أَنَّ بِالطُّولِ يُنَالُ مَا لَا يُنَالُ بِالْقِصَرِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الطَّوْلُ الْقُدْرَةُ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ «يَسْتَطِعْ» وَ «أَنْ يَنْكِحَ» فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ الْقُدْرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِطَاعَةُ هِيَ الْقُدْرَةُ، وَالطَّوْلُ أَيْضًا هُوَ الْقُدْرَةُ، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ/ مِنْكُمْ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى نِكَاحِ الْمُحْصَنَاتِ، فَمَا فَائِدَةُ هَذَا التَّكْرِيرِ فِي ذِكْرِ الْقُدْرَةِ؟ قُلْنَا: الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْمَعْنَى فَمَنْ لَمْ يستطع منكم استطاعة بالنكاح المحصنات، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ. أَمَّا مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فَوُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ زِيَادَةً فِي الْمَالِ وَسَعَةً يَبْلُغُ بِهَا نِكَاحَ الْحُرَّةِ فَلْيَنْكِحْ أَمَةً. الثَّانِي: أَنْ يُفَسَّرَ النِّكَاحُ بِالْوَطْءِ، وَالْمَعْنَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا وَطْءَ الْحَرَائِرِ فَلْيَنْكِحْ أَمَةً، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَكُلُّ مَنْ لَيْسَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّزَوُّجُ بِالْأَمَةِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ لَائِقٌ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى التَّزَوُّجِ بِالْحُرَّةِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ. وَالثَّالِثُ: الِاكْتِفَاءُ بِالْحُرَّةِ، فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأَمَةِ سَوَاءٌ كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، كُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ إِنَّمَا حَصَلَتْ، لِأَنَّ لَفْظَ الِاسْتِطَاعَةِ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ هُوَ الْحَرَائِرُ، وَيَدُلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ عِنْدَ تَعَذُّرِ نِكَاحِ الْمُحْصَنَاتِ نِكَاحَ الْإِمَاءِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ من

الْمُحْصَنَاتِ مَنْ يَكُونُ كَالضِّدِّ لِلْإِمَاءِ، وَالْوَجْهُ فِي تَسْمِيَةِ الْحَرَائِرِ بِالْمُحْصَنَاتِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ الصَّادِ: أَنَّهُنَّ أُحْصِنَّ بِحُرِّيَّتِهِنَّ عَنِ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَقَدَّمَ عَلَيْهَا الْإِمَاءُ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْأَمَةَ تَكُونُ خَرَّاجَةً وَلَّاجَةً مُمْتَهَنَةً مُبْتَذَلَةً، وَالْحُرَّةُ مَصُونَةٌ مُحْصَنَةٌ مِنْ هَذِهِ النُّقْصَانَاتِ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ الصَّادِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُنَّ أَحْصَنَّ أَنْفُسَهُنَّ بِحُرِّيَّتِهِنَّ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى شَرَطَ فِي نِكَاحِ الْإِمَاءِ شَرَائِطَ ثَلَاثَةً، اثْنَانِ مِنْهَا فِي النَّاكِحِ، وَالثَّالِثُ فِي الْمَنْكُوحَةِ، أَمَّا اللَّذَانِ فِي النَّاكِحِ. فَأَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَاجِدٍ لِمَا يَتَزَوَّجُ بِهِ الْحُرَّةَ الْمُؤْمِنَةَ مِنَ الصَّدَاقِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَعَدَمُ اسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ مَا يَنْكِحُ بِهِ الْحُرَّةَ. فَإِنْ قِيلَ: الرَّجُلُ إِذَا كَانَ يَسْتَطِيعُ التَّزَوُّجَ بِالْأَمَةِ يَقْدِرُ عَلَى التَّزَوُّجِ بِالْحُرَّةِ الْفَقِيرَةِ، فَمِنْ أَيْنَ هَذَا التَّفَاوُتُ؟ قُلْنَا: كَانَتِ الْعَادَةُ فِي الْإِمَاءِ تَخْفِيفُ مُهُورِهِنَّ وَنَفَقَتِهِنَّ لِاشْتِغَالِهِنَّ بِخِدْمَةِ السَّادَاتِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَظْهَرُ هَذَا التَّفَاوُتُ. وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: فَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي آخِرِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [النساء: 25] أَيْ بَلَغَ الشِّدَّةَ فِي الْعُزُوبَةِ. وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْمُعْتَبَرُ فِي الْمَنْكُوحَةِ، فَأَنْ تَكُونَ الْأَمَةُ مُؤْمِنَةً لَا كَافِرَةً، فَإِنَّ الْأَمَةَ/ إِذَا كَانَتْ كَافِرَةً كَانَتْ نَاقِصَةً مِنْ وَجْهَيْنِ: الرِّقِّ وَالْكُفْرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَلَدَ تَابِعٌ لِلْأُمِّ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، وَحِينَئِذٍ يُعَلَّقُ الْوَلَدُ رَقِيقًا عَلَى مِلْكِ الْكَافِرِ، فَيَحْصُلُ فِيهِ نُقْصَانُ الرِّقِّ وَنُقْصَانُ كَوْنِهِ مِلْكًا لِلْكَافِرِ، فَهَذِهِ الشَّرَائِطُ الثَّلَاثَةُ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَيَقُولُ: إِذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ جَازَ لَهُ ذَلِكَ، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى قَوْلِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَدَمَ الْقُدْرَةِ عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ التَّزَوُّجَ بِالْأَمَةِ، وَذَلِكَ الْوَصْفُ يُنَاسِبُ هَذَا الْحُكْمَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى الْجِمَاعِ، فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى جِمَاعِ الْحُرَّةِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ مُؤْنَتِهَا وَمَهْرِهَا، وَجَبَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْحُكْمُ إِذَا كَانَ مَذْكُورًا عَقِيبَ وَصْفٍ يُنَاسِبُهُ، فَذَلِكَ الِاقْتِرَانُ فِي الذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَوْ كَانَ نِكَاحُ الْأَمَةِ جَائِزًا بِدُونِ الْقُدْرَةِ عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ وَمَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لِعَدَمِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ أَثَرٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ الْبَتَّةَ، لَكِنَّا بَيَّنَّا دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ لَهُ أَثَرًا فِي هَذَا الْحُكْمِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِالْأَمَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ. الثَّانِي: أَنْ نَتَمَسَّكَ بِالْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَفْهُومِ، وَهُوَ أَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: الْمَيِّتُ الْيَهُودِيُّ لَا يُبْصِرُ شَيْئًا، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَضْحَكُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَيَقُولُ: إِذَا كَانَ غَيْرُ الْيَهُودِيِّ أَيْضًا لَا يُبْصِرُ فَمَا فَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِكَوْنِهِ يَهُودِيًّا، فَلَمَّا رَأَيْنَا أَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ يَسْتَقْبِحُونَ هَذَا الْكَلَامَ وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ الِاسْتِقْبَاحَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ، عَلِمْنَا اتِّفَاقَ أَرْبَابِ اللِّسَانِ عَلَى أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالصِّفَةِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْقَيْدِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: تَخْصِيصُ هَذِهِ الْحَالَةِ بِذِكْرِ الْإِبَاحَةِ فِيهَا لَا يَدُلُّ عَلَى حَظْرِ مَا عَدَاهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا

تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاءِ: 31] وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى إِبَاحَةِ الْقَتْلِ عِنْدَ زَوَالِ هَذِهِ الحالة، وقوله: لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آلِ عِمْرَانَ: 130] لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى إِبَاحَةِ الْأَكْلِ عِنْدَ زَوَالِ هَذِهِ الْحَالَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي ذَلِكَ، إِلَّا أن تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، كَمَا أَنَّ عِنْدَكَ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَقَدْ يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِهِ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَالسُّؤَالُ الْجَيِّدُ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْآيَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ، حَيْثُ قُلْنَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ النِّكَاحِ الْوَطْءَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ وَطْءَ الْحُرَّةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ لَا يَكُونُ تَحْتَهُ حُرَّةٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَنْقَلِبُ الْآيَةُ حُجَّةً لِأَبِي حَنِيفَةَ. وَجَوَابُهُ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ فَسَّرُوا الطَّوْلَ بِالْغِنَى، وَعَدَمُ الْغِنَى تَأْثِيرُهُ فِي عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَقْدِ، لَا فِي عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوَطْءِ. وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ بِالْعُمُومَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: / فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ: 3] وَقَوْلِهِ: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَقَوْلِهِ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ وَقَوْلِهِ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [المائدة: 5] وَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِلْإِمَاءِ الْكِتَابِيَّاتِ. وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْإِحْصَانِ الْعِفَّةُ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ آيَتَنَا خَاصَّةٌ، وَالْخَاصُّ مقدم على العام، ولأنه دخلها التخصيص فيا إِذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ، وَإِنَّمَا خُصَّتْ صَوْنًا لِلْوَلَدِ، عَنِ الْإِرْقَاقِ، وَهُوَ قَائِمٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ يَقْتَضِي كَوْنَ الْإِيمَانِ مُعْتَبَرًا فِي الْحُرَّةِ، فَعَلَى هَذَا: لَوْ قَدَرَ عَلَى حُرَّةٍ كِتَابِيَّةٍ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى طَوْلِ حُرَّةٍ مَسْلِمَةٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذِكْرَ الْإِيمَانِ فِي الْحَرَائِرِ نَدْبٌ وَاسْتِحْبَابٌ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحُرَّةِ الْكِتَابِيَّةِ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنَةِ فِي كَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ وَقِلَّتِهَا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِالْكِتَابِيَّاتِ الْبَتَّةَ، وَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ، فَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ نِكَاحِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ يَتَعَيَّنُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَلَوْ كَانَ التَّزَوُّجُ بِالْحُرَّةِ الْكِتَابِيَّةِ جَائِزًا، لَكَانَ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ لَمْ تَكُنِ الْأَمَةُ الْمُسْلِمَةُ مُتَعَيِّنَةً، وَذَلِكَ يَنْفِي دَلَالَةَ الْآيَةِ. ثُمَّ أَكَّدُوا هَذِهِ الدَّلَالَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [الْبَقَرَةِ: 221] وَقَدْ بَيَّنَّا بِالدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْكِتَابِيَّةَ مُشْرِكَةٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى التَّحْذِيرِ مِنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، فَإِذَا كَانَتِ الْأُمُّ رَقِيقَةً عُلِّقَ الْوَلَدُ رَقِيقًا، وَذَلِكَ يُوجِبُ النَّقْصَ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ وَفِي حَقِّ وَلَدِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَمَةَ قَدْ تَكُونُ تَعَوَّدَتِ الْخُرُوجَ وَالْبُرُوزَ وَالْمُخَالَطَةَ بِالرِّجَالِ وَصَارَتْ فِي غَايَةِ الْوَقَاحَةِ، وَرُبَّمَا تَعَوَّدَتِ الْفُجُورَ، وَكُلُّ ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى الْأَزْوَاجِ. الثَّالِثُ: أَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى عَلَيْهَا أَعْظَمُ مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ، فَمِثْلُ هَذِهِ الزَّوْجَةِ لَا تَخْلُصُ لِلزَّوْجِ كَخُلُوصِ الْحُرَّةِ، فَرُبَّمَا احْتَاجَ الزَّوْجُ إِلَيْهَا جِدًّا وَلَا يَجِدُ إِلَيْهَا سَبِيلًا لِأَنَّ السَّيِّدَ يَمْنَعُهَا وَيَحْبِسُهَا. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَوْلَى قَدْ يَبِيعُهَا مِنْ إِنْسَانٍ آخَرَ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا، تَصِيرُ مُطَلَّقَةً شَاءَ الزَّوْجُ أَمْ أَبَى، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ فَقَدْ يُسَافِرُ الْمَوْلَى الثَّانِي بِهَا وَبِوَلَدِهَا، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَضَارِّ. الْخَامِسُ: أَنَّ مَهْرَهَا مِلْكٌ لِمَوْلَاهَا، فَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَى هِبَةِ

مَهْرِهَا مِنْ زَوْجِهَا، وَلَا عَلَى إِبْرَائِهِ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْحُرَّةِ، فَلِهَذِهِ الْوُجُوهِ مَا أَذِنَ اللَّه فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الرُّخْصَةِ واللَّه أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أَيْ فَلْيَتَزَوَّجْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ جَارِيَةَ أُخْتِكَ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِجَارِيَةِ نَفْسِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفَتَيَاتُ: الْمَمْلُوكَةُ جَمْعُ فَتَاةٍ، وَالْعَبْدُ فَتًى، وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَلَكِنْ لِيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي» وَيُقَالُ لِلْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ: فَتَاةٌ، وَلِلْغُلَامِ فَتًى، وَالْأَمَةُ تُسَمَّى فَتَاةً، عَجُوزًا كَانَتْ أَوْ شَابَّةً، لِأَنَّهَا كَالشَّابَّةِ فِي أَنَّهَا لَا تُوَقَّرُ تَوْقِيرَ الْكَبِيرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ يَدُلُّ عَلَى تَقْيِيدِ نِكَاحِ الْأَمَةِ بِمَا إِذَا كَانَتْ مُؤْمِنَةً فَلَا يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِالْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدٍ وَالْحَسَنِ، وَقَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِالْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ تَقْيِيدٌ لِجَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ بِكَوْنِهَا مُؤْمِنَةً، وَذَلِكَ يَنْفِي جَوَازَ نِكَاحِ غَيْرِ الْمُؤْمِنَةِ مِنَ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي مَسْأَلَةِ طَوْلِ الْحُرَّةِ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [الْبَقَرَةِ: 221] . حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: النَّصِّ وَالْقِيَاسِ: أَمَّا النَّصُّ فَالْعُمُومَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا تَمَسُّكَهُ بِهَا فِي طَوْلِ الْحُرَّةِ، وَآكَدُهَا قَوْلُهُ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [الْمَائِدَةِ: 5] وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْكِتَابِيَّةَ الْحُرَّةَ مُبَاحَةٌ، وَالْكِتَابِيَّةَ الْمَمْلُوكَةَ أَيْضًا مُبَاحَةٌ، فَكَذَلِكَ إِذَا تَزَوَّجَ بِالْكِتَابِيَّةِ الْمَمْلُوكَةِ وَجَبَ أَنَّهُ يَجُوزُ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْعُمُومَاتِ: أَنَّ دَلَائِلَنَا خَاصَّةٌ فَتَكُونُ مُقَدَّمَةً عَلَى الْعُمُومَاتِ، وَعَنِ الْقِيَاسِ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: إِذَا تَزَوَّجَ بِالْحُرَّةِ الْكِتَابِيَّةِ فَهُنَاكَ نَقْصٌ وَاحِدٌ، أَمَّا إِذَا تَزَوَّجَ بِالْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ فَهُنَاكَ نَوْعَانِ مِنَ النَّقْصِ: الرِّقُّ وَالْكُفْرُ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ اعْمَلُوا عَلَى الظَّاهِرِ فِي الْإِيمَانِ فَإِنَّكُمْ مُكَلَّفُونَ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ، واللَّه يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ وَالْحَقَائِقَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: كُلُّكُمْ أَوْلَادُ آدَمَ فَلَا تُدَاخِلَنَّكُمْ أَنَفَةٌ مِنْ تَزَوُّجِ الْإِمَاءِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى: كُلُّكُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ أَعْظَمُ الْفَضَائِلِ، فَإِذَا حَصَلَ الِاشْتِرَاكُ فِي أَعْظَمِ الْفَضَائِلِ كَانَ التَّفَاوُتُ فِيمَا وَرَاءَهُ غَيْرَ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التَّوْبَةِ: 71] وَقَوْلُهُ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 13] قَالَ الزَّجَّاجُ: فَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ الْمُؤْمِنَاتِ، أَوْ لِأَنَّ الشَّرَفَ بِشَرَفِ الْإِسْلَامِ أَوْلَى مِنْهُ بِسَائِرِ الصِّفَاتِ، وَهُوَ يُقَوِّي قَوْلَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إِنَّ الْإِيمَانَ شَرْطٌ لِجَوَازِ/ نِكَاحِ الْأَمَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِالْأَنْسَابِ، فَأَعْلَمَ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أن

اللَّه لَا يَنْظُرُ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ. رُوِيَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ: الطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ، وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالْأَنْوَاءِ، وَلَا يَدَعُهَا النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ» وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَضَعُونَ مِنِ ابْنِ الْهَجِينِ، فَذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْكَلِمَةَ زَجْرًا لَهُمْ عَنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى شَرَحَ كَيْفِيَّةَ هَذَا النِّكَاحِ فَقَالَ: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ بِدُونِ إِذْنِ سَيِّدِهَا بَاطِلٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْقِيَاسُ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ يَقْتَضِي كَوْنَ الْإِذْنِ شَرْطًا فِي جَوَازِ النِّكَاحِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النِّكَاحُ وَاجِبًا. وَهُوَ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» فَالسَّلَمُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَكِنَّهُ إِذَا اخْتَارَ أَنْ يُسْلِمَ فَعَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ هَذِهِ الشَّرَائِطِ، كَذَلِكَ النِّكَاحُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، لَكِنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً، وَجَبَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَهَا إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهَا. وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَهُوَ أَنَّ الْأَمَةَ مِلْكٌ لِلسَّيِّدِ، وَبَعْدَ التَّزَوُّجِ يَبْطُلُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مَنَافِعِهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ ذَلِكَ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ مُقْتَصِرٌ عَلَى الْأَمَةِ، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ بِالْحَدِيثِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ فَهُوَ عَاهِرٌ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: الْمَرْأَةُ الْبَالِغَةُ الْعَاقِلَةُ لَا يَصِحُّ نِكَاحُهَا إِلَّا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: يَصِحُّ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ عَائِدٌ إِلَى الْإِمَاءِ، وَالْأَمَةُ ذَاتٌ مَوْصُوفَةٌ بِصِفَةِ الرِّقِّ، وَصِفَةُ الرِّقِّ صِفَةٌ زَائِلَةٌ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَةٍ زَائِلَةٍ لَا يَتَنَاوَلُ الْإِشَارَةَ إِلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ مَعَ هَذَا الشَّابِّ فَصَارَ شَيْخًا ثُمَّ تَكَلَّمَ مَعَهُ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَةٍ عَرَضِيَّةٍ زَائِلَةٍ، بَاقِيَةٌ بَعْدَ زَوَالِ تِلْكَ الصِّفَةِ الْعَرَضِيَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِمَاءِ، فَهَذِهِ الْإِشَارَةُ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً حَالَ زَوَالِ الرِّقِّ عَنْهُنَّ، وَحُصُولِ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ لَهُنَّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْحُرَّةُ الْبَالِغَةُ الْعَاقِلَةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَتَوَقَّفُ جَوَازُ نِكَاحِهَا عَلَى إِذْنِ وَلِيِّهَا، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَجَبَ ثُبُوتُ هَذَا الْحُكْمِ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ/ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: مَذْهَبُهُ أَنَّهُ لَا عِبَارَةَ لِلْمَرْأَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُزَوِّجَ أمتها، بل مذهبه أن توكل غيرها بتزوج أَمَتِهَا. قَالَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ تُبْطِلُ ذَلِكَ، لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِحُصُولِ إِذْنِ أَهْلِهَا، فَمَنْ قَالَ لَا يَكْفِي ذَلِكَ كَانَ تَارِكًا لِظَاهِرِ الْآيَةِ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِذْنِ الرِّضَا. وَعِنْدَنَا أَنَّ رِضَا الْمَوْلَى لَا بُدَّ مِنْهُ، فَأَمَّا أَنَّهُ كَافٍ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ أَهْلَهُنَّ عِبَارَةٌ عَمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى نِكَاحِهِنَّ، وَذَلِكَ إِمَّا الْمَوْلَى إِنْ كَانَ رَجُلًا، أَوْ وَلِيُّ مَوْلَاهَا إِنْ كَانَ مَوْلَاهَا امْرَأَةً. وَثَالِثُهَا: هَبْ أَنَّ الْأَهْلَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَوْلَى، لَكِنَّهُ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، وَالدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُنْكِحُ نَفْسَهَا خَاصَّةٌ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْعَاهِرُ هِيَ الَّتِي تُنْكِحُ نفسها» فثبت بهذا الحديث أنه عِبَارَةَ لَهَا فِي نِكَاحِ نَفْسِهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا عِبَارَةٌ فِي نِكَاحِ مَمْلُوكَتِهَا، ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ واللَّه أَعْلَمُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأُجُورِ: الْمُهُورُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مَهْرِهَا إِذَا نَكَحَهَا، سَمَّى لَهَا الْمَهْرَ أَوْ لَمْ يُسَمِّ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ سَمَّى، وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يُسَمِّ فِي إِيجَابِ الْمَهْرِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ مَهْرَ الْمِثْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِالْمَعْرُوفِ وَهَذَا إِنَّمَا يُطْلَقُ فِيمَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الِاجْتِهَادِ وَغَالِبِ الظَّنِّ فِي الْمُعْتَادِ وَالْمُتَعَارَفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [الْبَقَرَةِ: 33] الثَّانِي: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْ أُجُورِهِنَّ النَّفَقَةُ عَلَيْهِنَّ، قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْمَهْرَ مُقَدَّرٌ، وَلَا مَعْنًى لِاشْتِرَاطِ الْمَعْرُوفِ فِيهِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ كَوْنَهَا أَمَةً لَا يَقْدَحُ فِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا وَكِفَايَتِهَا كَمَا فِي حَقِّ الْحُرَّةِ إِذَا حَصَلَتِ التَّخْلِيَةُ مِنَ الْمَوْلَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا عَلَى الْعَادَةِ، ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي: اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ مَا ذَكَرْنَاهُ فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ يَحْمِلُونَهُ عَلَى الْمَهْرِ، وَحَمَلُوا قَوْلَهُ: بِالْمَعْرُوفِ عَلَى إِيصَالِ الْمَهْرِ إِلَيْهَا عَلَى الْعَادَةِ الْجَمِيلَةِ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ مِنْ غَيْرِ مَطْلٍ وَتَأْخِيرٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّ الْأَمَةَ هِيَ الْمُسْتَحِقَّةُ لِقَبْضِ مَهْرِهَا، وَأَنَّ الْمَوْلَى إِذَا آجَرَهَا لِلْخِدْمَةِ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِلْأَجْرِ دُونَهَا وَهَؤُلَاءِ احْتَجُّوا فِي الْمَهْرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَإِنَّهُمُ احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ مَهْرَهَا لِمَوْلَاهَا بِالنَّصِّ وَالْقِيَاسِ، أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ [النَّحْلِ: 75] وَهَذَا يَنْفِي كَوْنَ الْمَمْلُوكِ مَالِكًا لِشَيْءٍ أَصْلًا، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَنَّ الْمَهْرَ وَجَبَ عِوَضًا عَنْ مَنَافِعِ الْبُضْعِ، وَتِلْكَ الْمَنَافِعُ مَمْلُوكَةٌ لِلسَّيِّدِ، وَهُوَ الَّذِي أَبَاحَهَا لِلزَّوْجِ بِقَيْدِ النِّكَاحِ، فَوَجَبَ أَنْ/ يَكُونَ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِبَدَلِهَا. وَالْجَوَابُ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِالْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّا إذا حملنا لفظ الْأُجُورَ فِي الْآيَةِ عَلَى النَّفَقَةِ زَالَ السُّؤَالُ بِالْكُلِّيَّةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَضَافَ إِيتَاءَ الْمُهُورِ إِلَيْهِنَّ لِأَنَّهُ ثَمَنُ بُضْعِهِنَّ وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: وَآتُوهُنَّ مَا يُوجِبُ كَوْنَ الْمَهْرِ مِلْكًا لَهُنَّ، وَلَكِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «الْعَبْدُ وَمَا فِي يَدِهِ لِمَوْلَاهُ» فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْمَهْرُ مِلْكًا لِلْمَوْلَى بِهَذِهِ الطَّرِيقِ واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُحْصَنَاتٌ أَيْ عَفَائِفُ، وَهُوَ حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ، فَظَاهِرُ هَذَا يُوجِبُ حُرْمَةَ نِكَاحِ الزَّوَانِي مِنَ الْإِمَاءِ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ نِكَاحَ الزَّوَانِي هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ وَسَنَذْكُرُهُ فِي قَوْلِهِ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً [النُّورِ: 3] وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مَحْمُولَةً عَلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَقَوْلُهُ: غَيْرَ مُسافِحاتٍ أَيْ غَيْرَ زَوَانٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ جَمْعِ خِدْنٍ، كَالْأَتْرَابِ جَمْعِ تِرْبٍ، وَالْخِدْنُ الَّذِي يُخَادِنُكَ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مَعَكَ فِي كُلِّ أَمْرٍ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ. قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُسَافِحَةُ هِيَ الَّتِي تُؤَاجِرُ نَفْسَهَا مَعَ أَيِّ رَجُلٍ أَرَادَهَا، وَالَّتِي تَتَّخِذُ الْخِدْنَ فَهِيَ الَّتِي تَتَّخِذُ خِدْنًا مُعَيَّنًا، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْصِلُونَ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَمَا كَانُوا يَحْكُمُونَ عَلَى ذَاتِ الْخِدْنِ بِكَوْنِهَا زَانِيَةً، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْفَرْقُ مُعْتَبَرًا عِنْدَهُمْ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ بالذكر، ونص على حرمتها مَعًا، وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأعراف: 33] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ أَحَدُ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ لَا يَجْعَلُ الْإِيمَانَ فِي نِكَاحِ الْفَتَيَاتِ شَرْطًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا لَكَانَ كَوْنُهُنَّ مُحْصَنَاتٍ عَفِيفَاتٍ أَيْضًا شَرْطًا، وَهَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا مَعْطُوفٌ لَا عَلَى ذِكْرِ الْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، بَلْ عَلَى قَوْلِهِ: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْوُجُوبِ فِي هَذَا، عَدَمُ الْوُجُوبِ فِيمَا قَبْلَهُ واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ أُحْصِنَّ بِالْفَتْحِ فِي الْأَلِفِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الْأَلِفِ، فَمَنْ فَتَحَ فَمَعْنَاهُ: أَسْلَمْنَ، هَكَذَا قَالَهُ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالسُّدِّيُّ، وَمَنْ/ ضَمَّ الْأَلِفَ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُنَّ أُحْصِنَّ بِالْأَزْوَاجِ. هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ طَعَنَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْإِمَاءَ بِالْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ: فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَمِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يُقَالَ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، ثُمَّ يُقَالَ: فَإِذَا آمَنَّ، فَإِنَّ حَالَهُنَّ كَذَا وَكَذَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: حَالُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ، فَاعْتَبَرَ الْإِيمَانَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَالثَّانِي: حُكْمُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ عِنْدَ إِقْدَامِهِنَّ عَلَى الْفَاحِشَةِ، فَذَكَرَ حَالَ إِيمَانِهِنَّ أَيْضًا فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِذا أُحْصِنَّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ قَوِيٌّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُحْصَنَاتِ فِي قَوْلِهِ: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْحَرَائِرَ الْمُتَزَوِّجَاتِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْحَرَائِرَ الْأَبْكَارَ. وَالسَّبَبُ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُحْصَنَاتِ عَلَيْهِنَّ حُرِّيَّتُهُنَّ. وَالْأَوَّلُ مُشْكِلٌ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْحَرَائِرِ الْمُتَزَوِّجَاتِ فِي الزِّنَا: الرَّجْمُ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَجِبَ فِي زِنَا الْإِمَاءِ نِصْفُ الرَّجْمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: الْحَرَائِرَ الْأَبْكَارَ، فَنِصْفُ مَا عَلَيْهِنَّ هُوَ خَمْسُونَ جَلْدَةً، وَهَذَا الْقَدْرُ وَاجِبٌ فِي زِنَا الْأَمَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُحْصَنَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا الْحُكْمُ مُعَلَّقًا بِمُجَرَّدِ صُدُورِ الزِّنَا عَنْهُنَّ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُعَلَّقًا بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ: الْإِحْصَانِ وَالزِّنَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ شَرْطٌ بَعْدَ شَرْطٍ، فَيَقْتَضِي كَوْنَ الْحُكْمِ مَشْرُوطًا بِهِمَا نَصًّا، فَهَذَا إِشْكَالٌ قَوِيٌّ فِي الْآيَةِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّا نَخْتَارُ الْقِسْمَ الثَّانِيَ، وَقَوْلُهُ: فَإِذا أُحْصِنَّ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ جَعْلَ هَذَا الْإِحْصَانِ شَرْطًا لِأَنْ يَجِبَ فِي زِنَاهَا خَمْسُونَ جَلْدَةً، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّ حَدَّ الزِّنَا يُغَلَّظُ عِنْدَ التَّزَوُّجِ، فَهَذِهِ إِذَا زَنَتَ وَقَدْ تَزَوَّجَتْ فَحَدُّهَا خَمْسُونَ جَلْدَةً لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ، فَبِأَنْ يَكُونَ قَبْلَ التَّزَوُّجِ هَذَا الْقَدْرُ أَيْضًا أَوْلَى، وَهَذَا مِمَّا يَجْرِي مَجْرَى الْمَفْهُومِ بِالنَّصِّ، لِأَنَّ عِنْدَ حُصُولِ مَا يُغَلِّظُ الْحَدَّ، لَمَا وَجَبَ تَخْفِيفُ الْحَدِّ لِمَكَانِ الرِّقِّ، فَبِأَنْ يَجِبَ هَذَا الْقَدْرُ عند مالا يُوجَدُ ذَلِكَ الْمُغَلِّظُ كَانَ أَوْلَى واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْخَوَارِجُ اتَّفَقُوا عَلَى إِنْكَارِ الرَّجْمِ، وَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْأَمَةِ نِصْفَ مَا عَلَى الْحُرَّةِ الْمُحْصَنَةِ، فَلَوْ وَجَبَ عَلَى الْحُرَّةِ الْمُحْصَنَةِ الرَّجْمُ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ عَلَى الْأَمَةِ نِصْفَ الرَّجْمِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْحُرَّةِ الْمُتَزَوِّجَةِ لَيْسَ إِلَّا الْجَلْدَ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ النُّورِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور: 2] .

[سورة النساء (4) : آية 26]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْفُقَهَاءَ صَيَّرُوا هَذِهِ الْآيَةَ أَصْلًا فِي نُقْصَانِ حُكْمِ الْعَبْدِ عَنْ حُكْمِ الْحُرِّ/ فِي غَيْرِ الْحَدِّ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأُمُورِ مَا لَا يَجِبُ ذَلِكَ فِيهِ واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى نِكَاحِ الْإِمَاءِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ، وَالْعَنَتُ هُوَ الضَّرَرُ الشَّدِيدُ الشاق قال تعالى فيما رخص فيه من مُخَالَطَةَ الْيَتَامَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 220] أَيْ لَشَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَيْكُمْ فَأَلْزَمَكُمْ تَمْيِيزَ طَعَامِكُمْ مِنْ طَعَامِهِمْ فَلَحِقَكُمْ بِذَلِكَ ضَرَرٌ شَدِيدٌ وَقَالَ: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 118] ، أَيْ أَحَبُّوا أَنْ تَقَعُوا فِي الضَّرَرِ الشَّدِيدِ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّبَقَ الشَّدِيدَ وَالْغُلْمَةَ الْعَظِيمَةَ رُبَّمَا تَحْمِلُ عَلَى الزِّنَا فَيَقَعُ فِي الْحَدِّ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْعَذَابِ الْعَظِيمِ فِي الْآخِرَةِ، فَهَذَا هُوَ الْعَنَتُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّبَقَ الشَّدِيدَ وَالْغُلْمَةَ الْعَظِيمَةَ قَدْ تُؤَدِّي بِالْإِنْسَانِ إِلَى الْأَمْرَاضِ الشَّدِيدَةِ، أَمَّا فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَقَدْ تُؤَدِّي إِلَى اخْتِنَاقِ الرَّحِمِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الرِّجَالِ فَقَدْ تُؤَدِّي إِلَى أَوْجَاعِ الْوَرِكَيْنِ وَالظَّهْرِ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ هُوَ اللَّائِقُ بِبَيَانِ الْقُرْآنِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ أَنَّ نِكَاحَ الْإِمَاءِ بَعْدَ رِعَايَةِ شَرَائِطِهِ الثَّلَاثَةِ أَعْنِي عَدَمَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّزَوُّجِ بِالْحُرَّةِ، وَوُجُودَ الْعَنَتِ، وَكَوْنَ الْأَمَةِ مُؤْمِنَةً: الْأَوْلَى تَرْكُهُ لِمَا بَيَّنَّا مِنَ الْمَفَاسِدِ الْحَاصِلَةِ فِي هَذَا النِّكَاحِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالنِّكَاحِ أَفْضَلُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالنَّوَافِلِ، فَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُمْ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالنِّكَاحِ مُطْلَقًا أَفْضَلُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالنَّوَافِلِ، سَوَاءٌ كَانَ النِّكَاحُ نِكَاحَ الْحُرَّةِ أَوْ نِكَاحَ الْأَمَةِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ، وَإِنْ قَالُوا: إِنَّا لَا نُرَجِّحُ نِكَاحَ الْأَمَةِ عَلَى النَّافِلَةِ، فَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ، إِلَّا أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ مَا رَأَيْتُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِمْ واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَهَذَا كَالْمُؤَكِّدِ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ هَذَا النِّكَاحِ، يَعْنِي أَنَّهُ وَإِنْ حَصَلَ مَا يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَبَاحَهُ لَكُمْ لِاحْتِيَاجِكُمْ إِلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ واللَّه أعلم. [سورة النساء (4) : آية 26] يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) [في قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيُبَيِّنَ لَكُمْ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالُوا: إِنَّهُ قَدْ تُقَامُ اللَّامُ مَقَامَ «أَنْ» فِي أَرَدْتَ وَأَمَرْتَ، فَيُقَالُ: أَرَدْتَ أَنْ تَذْهَبَ، وَأَرَدْتَ لِتَذْهَبَ، وَأَمَرْتُكَ أَنْ تَقُومَ، وَأَمَرْتُكَ لِتَقُومَ، قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ [الصف: 8] يعني يريدون أن يطفؤا، وَقَالَ: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْأَنْعَامِ: 71] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: إِنَّ فِي الْآيَةِ إِضْمَارًا، وَالتَّقْدِيرُ: يُرِيدُ اللَّه إِنْزَالَ هَذِهِ الْآيَاتِ لِيُبَيِّنَ لكم دينكم

[سورة النساء (4) : آية 27]

وَشَرْعَكُمْ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي ذكروها، فقوله: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ يعني يريدون كيدهم وعنادهم ليطفؤا، وَأُمِرْنَا بِمَا أُمِرْنَا لِنُسْلِمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: قَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. مَعْنَاهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَالتَّكْرِيرُ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: لِيُبَيِّنَ لَكُمْ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لَنَا هَذِهِ التَّكَالِيفَ، وَمَيَّزَ فِيهَا الْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ وَالْحَسَنَ مِنَ الْقَبِيحِ. ثُمَّ قَالَ: وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا بَيَّنَ تَحْرِيمَهُ لَنَا وَتَحْلِيلَهُ لَنَا مِنَ النِّسَاءِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَقَدْ كَانَ الْحُكْمُ أَيْضًا كَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى يَهْدِيكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قبلكم في بيان مالكم فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ كَمَا بَيَّنَهُ لَهُمْ، فَإِنَّ الشَّرَائِعَ وَالتَّكَالِيفَ وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي نَفْسِهَا، إِلَّا أَنَّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي بَابِ الْمَصَالِحِ، وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَهْدِيكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ لِتَجْتَنِبُوا الْبَاطِلَ وَتَتَّبِعُوا الْحَقَّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا أَرَادَ مِنَّا نَفْسَ الطَّاعَةِ، فَلَا جَرَمَ بَيَّنَهَا وَأَزَالَ الشُّبْهَةَ عَنْهَا، كَذَلِكَ وَقَعَ التَّقْصِيرُ وَالتَّفْرِيطُ مِنَّا، فَيُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْنَا، لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ قَدْ يُطِيعُ فَيَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ، وَقَدْ يَعْصِي فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّلَافِي بِالتَّوْبَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ إِشْكَالًا: وَهُوَ أَنَّ الْحَقَّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا يَقُولُ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ للَّه تَعَالَى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَيْسَ مَخْلُوقًا للَّه تَعَالَى، وَالْآيَةُ مُشْكِلَةٌ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ. أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: فَلِأَنَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ اللَّه تَعَالَى فَإِنَّهُ يَحْصُلُ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْنَا وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ التَّوْبَةُ لِكُلِّنَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: فَهُوَ تَعَالَى يُرِيدُ مِنَّا أَنْ نَتُوبَ بِاخْتِيَارِنَا وَفِعْلِنَا، وَقَوْلُهُ: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ظَاهِرُهُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ التَّوْبَةَ فِينَا وَيَحْصُلُ لَنَا هَذِهِ التَّوْبَةُ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مُشْكِلَةٌ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ. وَالْجَوَابُ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ التَّوْبَةَ فِينَا. وَالْعَقْلُ أَيْضًا مُؤَكِّدٌ لَهُ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّدَمِ فِي الْمَاضِي، وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالنَّدَمُ وَالْعَزْمُ مِنْ بَابِ الْإِرَادَاتِ، وَالْإِرَادَةُ لَا يُمْكِنُ إِرَادَتُهَا، وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، فَإِذَنِ الْإِرَادَةُ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ فِعْلَ الْإِنْسَانِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا النَّدَمَ وَهَذَا الْعَزْمَ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا بِتَخْلِيقِ اللَّه تَعَالَى، فَصَارَ هَذَا الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ دَالًّا عَلَى صِحَّةِ مَا أَشْعَرَ بِهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَتُوبُ عَلَيْنَا فَأَمَّا قَوْلُهُ: لَوْ تَابَ عَلَيْنَا لَحَصَلَتْ هَذِهِ التَّوْبَةُ، فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ خِطَابٌ مَعَ الْأُمَّةِ، وَقَدْ تَابَ عَلَيْهِمْ فِي نِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَسَائِرِ الْمَنْهِيَّاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَحَصَلَتْ هَذِهِ التَّوْبَةُ لَهُمْ فَزَالَ الْإِشْكَالُ واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أَيْ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِكُمْ، حَكِيمٌ فِي كُلِّ مَا يَفْعَلُهُ بِكُمْ وَيَحْكُمُ عَلَيْكُمْ. [سورة النساء (4) : آية 27] وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قِيلَ: الْمَجُوسُ كَانُوا يُحِلُّونَ الْأَخَوَاتِ وَبَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، فَلَمَّا حَرَّمَهُنَّ اللَّه تعالى

[سورة النساء (4) : آية 28]

قَالُوا: إِنَّكُمْ تُحِلُّونَ بِنْتَ الْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ، وَالْخَالَةُ وَالْعَمَّةُ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، فَانْكِحُوا أَيْضًا بَنَاتِ الْأَخِ وَالْأُخْتِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ التَّوْبَةَ مِنَ الْكُلِّ، وَالطَّاعَةَ مِنَ الْكُلِّ. قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذَا محالا لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ مِنَ الْفَاسِقِ أَنَّهُ لَا يَتُوبُ وَعِلْمُهُ بِأَنَّهُ لَا يَتُوبُ مَعَ تَوْبَتِهِ ضِدَّانِ، وَذَلِكَ الْعِلْمُ مُمْتَنِعُ الزَّوَالِ، وَمَعَ وُجُوبِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ كَانَتْ إِرَادَةُ الضِّدِّ الْآخَرِ إِرَادَةً لِمَا عَلِمَ كَوْنَهُ مُحَالًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَأَيْضًا إِذَا كَانَ هُوَ تَعَالَى يُرِيدُ التَّوْبَةَ مِنَ الْكُلِّ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا، ثُمَّ يَحْصُلُ مُرَادُ الشَّيْطَانِ لَا مُرَادُ الرَّحْمَنِ، فَحِينَئِذٍ نَفَاذُ الشَّيْطَانِ فِي مُلْكِ الرَّحْمَنِ أَتَمُّ مِنْ نَفَاذِ الرَّحْمَنِ فِي مُلْكِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ خِطَابٌ مَعَ قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ حَصَلَتْ هذه التوبة لهم. ثم قال: [سورة النساء (4) : آية 28] يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي التَّخْفِيفِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ إِبَاحَةُ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلٍ، وَالْبَاقُونَ قَالُوا: هَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَفِي جَمِيعِ مَا يَسَّرَهُ لَنَا وَسَهَّلَهُ عَلَيْنَا، إِحْسَانًا مِنْهُ إِلَيْنَا، وَلَمْ يُثْقِلِ التَّكْلِيفَ عَلَيْنَا كَمَا ثَقَّلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الْأَعْرَافِ: 157] وَقَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: 185] وَقَوْلُهُ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَجِّ: 78] وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «جِئْتُكُمْ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ للَّه تَعَالَى، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ فَالْكَافِرُ يُخْلَقُ فِيهِ الْكُفْرُ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: لَا تَكْفُرْ، فَهَذَا أَعْظَمُ وُجُوهِ التَّثْقِيلِ، وَلَا يَخْلُقُ فِيهِ الْإِيمَانَ، وَلَا قُدْرَةَ لِلْعَبْدِ عَلَى خَلْقِ الْإِيمَانِ. ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: آمِنْ، وَهَذَا أَعْظَمُ وُجُوهِ التَّثْقِيلِ. قَالَ: وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ، لِأَنَّهُ أَعْظَمُ وُجُوهِ التَّثْقِيلِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِالْعِلْمِ وَالدَّاعِي، وَأَكْثَرِ مَا ذَكَرْنَاهُ. ثُمَّ قَالَ: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لِضَعْفِ الْإِنْسَانِ خَفَّفَ تَكْلِيفَهُ وَلَمْ يُثْقِلْ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ يُحْمَلُ الضَّعْفُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا عَلَى ضَعْفِ الْخِلْقَةِ، بَلْ يُحْمَلُ عَلَى كَثْرَةِ الدَّوَاعِي إِلَى اتِّبَاعِ الشَّهْوَةِ وَاللَّذَّةِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ كَالْوَجْهِ فِي أَنْ يَضْعُفَ عَنِ احْتِمَالِ خِلَافِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا الْوَجْهَ أَوْلَى، لِأَنَّ الضَّعْفَ فِي الْخِلْقَةِ وَالْقُوَّةِ لَوْ قَوَّى اللَّه دَاعِيَتَهُ إِلَى الطَّاعَةِ كَانَ فِي حُكْمِ الْقَوِيِّ وَالْقَوِيُّ فِي الْخِلْقَةِ وَالْآلَةِ إِذَا كَانَ ضَعِيفَ الدَّوَاعِي إِلَى الطَّاعَةِ صَارَ فِي حُكْمِ الضَّعِيفِ، فَالتَّأْثِيرُ فِي هَذَا الْبَابِ لِضَعْفِ الدَّاعِيَةِ وَقُوَّتِهَا، لَا لِضَعْفِ الْبَدَنِ وَقُوَّتِهِ، هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ الْقَاضِي، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ، وَلَكِنَّهُ يَهْدِمُ أَصْلَهُ، وَذَلِكَ لَمَّا سَلَّمَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي وُجُودِ الْفِعْلِ وَعَدَمِهِ، قُوَّةُ الدَّاعِيَةِ وَضَعْفُهَا فَلَوْ تَأَمَّلَ لَعَلِمَ أَنَّ قُوَّةَ الدَّاعِيَةِ وَضَعْفَهَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِدَاعِيَةٍ أُخْرَى مِنَ الْعَبْدِ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ مِنَ اللَّه، فَذَاكَ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ، وَبَطَلَ الْقَوْلُ بِالِاعْتِزَالِ بِالْكُلِّيَّةِ واللَّه أَعْلَمُ.

[سورة النساء (4) : الآيات 29 إلى 30]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: ثَمَانُ آيَاتٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ هِيَ خَيْرٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النِّسَاءِ: 26] وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء: 27] يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء: 28] إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النِّسَاءِ: 31] إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النِّسَاءِ: 116] إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ/ ذَرَّةٍ [النِّسَاءِ: 40] وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [النِّسَاءِ: 110] مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 147] . وَيَقُولُ مُحَمَّدٌ الرَّازِيُّ مُصَنِّفُ هَذَا الْكِتَابِ خَتَمَ اللَّه لَهُ بِالْحُسْنَى: اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا بِفَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ أَهْلًا لَهَا يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الراحمين. [سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 30] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) النَّوْعُ الثَّامِنُ: مِنَ التَّكَالِيفِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السورة. اعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي النُّفُوسِ بِسَبَبِ النِّكَاحِ ذَكَرَ بَعْدَهُ كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ. وَالثَّانِي: قَالَ الْقَاضِي: لَمَّا ذَكَرَ ابْتِغَاءَ النِّكَاحِ بِالْأَمْوَالِ وَأَمَرَ بِإِيفَاءِ الْمُهُورِ وَالنَّفَقَاتِ، بَيَّنَ مِنْ بَعْدُ كَيْفَ التَّصَرُّفُ فِي الْأَمْوَالِ فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى خص الأكل هاهنا بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَتْ سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْبَاطِلِ مُحَرَّمَةً، لِمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنَ الْأَمْوَالِ: الْأَكْلُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النِّسَاءِ: 10] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْبَاطِلِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا لَا يَحِلُّ فِي الشَّرْعِ، كَالرِّبَا وَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ وَأَخْذِ الْمَالِ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَجَحْدِ الْحَقِّ. وَعِنْدِي أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَقْتَضِي كَوْنَهَا مُجْمَلَةً، لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلْتُمُوهَا بَيْنَكُمْ بِطَرِيقٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، فَإِنَّ الطُّرُقَ الْمَشْرُوعَةَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مذكورة هاهنا عَلَى التَّفْصِيلِ صَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً لَا مَحَالَةَ. وَالثَّانِي: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ: أَنَّ الْبَاطِلَ هُوَ كُلُّ/ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ لَا تَكُونُ الْآيَةُ مُجْمَلَةً، لَكِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، قَالُوا: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَحَرَّجَ النَّاسُ مِنْ أَنْ يَأْكُلُوا عِنْدَ أَحَدٍ شَيْئًا، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْخَلْقِ، فَنَسَخَهُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النُّورِ: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ [النور: 61] الْآيَةَ. وَأَيْضًا: ظَاهِرُ الْآيَةِ إِذَا فَسَّرْنَا الْبَاطِلَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، تَحْرُمُ الصَّدَقَاتُ وَالْهِبَاتُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَخْصِيصٌ، وَلِهَذَا رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ مَا نُسِخَتْ، وَلَا تُنْسَخُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ يَدْخُلُ تَحْتَهُ أَكْلُ مَالِ الْغَيْرِ بِالْبَاطِلِ، وَأَكْلُ مَالِ نَفْسِهِ بِالْبَاطِلِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَمْوالَكُمْ يَدْخُلُ فِيهِ الْقِسْمَانِ مَعًا، كَقَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ غَيْرِهِ وَعَنْ قَتْلِ نَفْسِهِ بِالْبَاطِلِ. أَمَّا أَكْلُ مَالِ نَفْسِهِ بِالْبَاطِلِ. فَهُوَ إِنْفَاقُهُ فِي مَعَاصِي اللَّه، وَأَمَّا أَكْلُ مَالِ غَيْرِهِ بِالْبَاطِلِ فَقَدْ عَدَدْنَاهُ. ثُمَّ قَالَ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: تِجارَةً بِالنَّصْبِ، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ. أَمَّا مَنْ نَصَبَ فَعَلَى «كَانَ» النَّاقِصَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ التِّجَارَةُ تِجَارَةً، وَأَمَّا مَنْ رَفَعَ فَعَلَى «كَانَ» التَّامَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا أَنْ تُوجَدَ وَتَحْصُلَ تِجَارَةٌ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالِاخْتِيَارُ الرَّفْعُ، لِأَنَّ مَنْ نَصَبَ أَضْمَرَ التِّجَارَةَ فَقَالَ: تَقْدِيرُهُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ التِّجَارَةُ تِجَارَةً، وَالْإِضْمَارُ قَبْلَ الذِّكْرِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِلَّا فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ التِّجَارَةَ عَنْ تَرَاضٍ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، فَكَانَ «إلا» هاهنا بِمَعْنَى «بَلْ» وَالْمَعْنَى: لَكِنْ يَحِلُّ أَكْلُهُ بِالتِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ. الثَّانِي: أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ وَأَضْمَرَ شَيْئًا، فَقَالَ التَّقْدِيرُ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ، وَإِنْ تَرَاضَيْتُمْ كَالرِّبَا وَغَيْرِهِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا يَحِلُّ الْمُسْتَفَادُ مِنَ التِّجَارَةِ، فَقَدْ يَحِلُّ أَيْضًا الْمَالُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْإِرْثِ وَأَخْذِ الصَّدَقَاتِ وَالْمَهْرِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، فَإِنَّ أَسْبَابَ الْمِلْكِ كَثِيرَةٌ سِوَى التِّجَارَةِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ فَلَا إِشْكَالَ، فانه تعالى ذكر هاهنا سببا واحد مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ وَلَمْ يَذْكُرْ سَائِرَهَا، لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِإِثْبَاتٍ. وَإِنْ قُلْنَا: الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا بِأَنَّ غَيْرَ التِّجَارَةِ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ، وَعِنْدَ هَذَا لَا بُدَّ إِمَّا مِنَ النَّسْخِ أَوِ التَّخْصِيصِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ: النَّهْيُ فِي الْمُعَامَلَاتِ يَدُلُّ عَلَى الْبُطْلَانِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمِيعَ الْأَمْوَالِ مَمْلُوكَةٌ للَّه تَعَالَى، فَإِذَا أَذِنَ لِبَعْضِ عَبِيدِهِ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ كَانَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى مَا إِذَا وَكَّلَ الْإِنْسَانُ وَكِيلًا فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ، ثُمَّ إِنَّ الْوَكِيلَ إِذَا تَصَرَّفَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْمُوَكِّلِ فَذَاكَ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِذَا كَانَ التَّصَرُّفُ الْوَاقِعُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْمَالِكِ الْمُجَازِي لَا يَنْعَقِدُ فَبِأَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ الْوَاقِعُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْمَالِكِ الْحَقِيقِيِّ غَيْرَ مُنْعَقِدٍ كَانَ أَوْلَى. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الْفَاسِدَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُسْتَلْزِمَةً لِدُخُولِ الْمُحَرَّمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْوُجُودِ، وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَجَبَ الْقَوْلُ بِبُطْلَانِهَا قِيَاسًا عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الْفَاسِدَةِ. وَالْجَامِعُ السَّعْيُ فِي أَنْ لَا يَدْخُلَ مَنْشَأُ النَّهْيِ فِي الْوُجُودِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهَا، قائسا عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الصَّحِيحَةِ، وَالْجَامِعُ كَوْنُهَا تَصَرُّفَاتٍ خَالِيَةً عَنِ الْمُفْسِدِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ التَّصَرُّفِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. فَأَمَّا الْقَوْلُ بِتَصَرُّفٍ لَا يَكُونُ صَحِيحًا وَلَا بَاطِلًا فَهُوَ مُحَالٌ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِدِرْهَمَيْنِ، كَقَوْلِهِ: لَا تَبِيعُوا الْحُرَّ بِالْعَبْدِ، فَكَمَا أَنَّ هَذَا النَّهْيَ بِاللَّفْظِ لَكِنَّهُ نَسْخٌ لِلشَّرِيعَةِ فكذا الأول،

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا لِلشَّرِيعَةِ بَطَلَ كَوْنُهُ مُفِيدًا لِلْحُكْمِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ، خِيَارُ الْمَجْلِسِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ: ثَابِتٌ، احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِالنُّصُوصِ: أَوَّلُهَا: هَذِهِ الْآيَةُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي الْحِلَّ عِنْدَ حُصُولِ التَّرَاضِي، سَوَاءٌ حَصَلَ التَّفَرُّقُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فَأَلْزَمَ كُلَّ عَاقِدٍ الْوَفَاءَ بِمَا عَقَدَ عَنْ نَفْسِهِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نفسه» وقد حصلت الطيبة هاهنا بِعَقْدِ الْبَيْعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ الْحِلُّ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فلا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ» جَوَّزَ بَيْعَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَخَامِسُهَا: مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصِّيعَانُ، وَأَبَاحَ بَيْعَهُ إِذَا جَرَى فِيهِ الصِّيعَانُ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ الِافْتِرَاقَ. وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ كَمَا اشْتَرَى حَصَلَ الْعِتْقُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْصُلُ الْمِلْكُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يُسَلِّمُ عُمُومَ هَذِهِ النُّصُوصِ، لَكِنَّهُ يَقُولُ: أَنْتُمْ أَثْبَتُّمْ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ فِي شِرَاءِ مَا لَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي بِحَدِيثٍ اتَّفَقَ الْمُحَدِّثُونَ عَلَى ضَعْفِهِ، فَنَحْنُ أَيْضًا نُثْبِتُ خِيَارَ الْمَجْلِسِ بِحَدِيثٍ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ عَلَى قَبُولِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» وَتَأْوِيلَاتُ أَصْحَابِ/ أَبِي حَنِيفَةَ لِهَذَا الْخَبَرِ وَأَجْوِبَتُهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْخِلَافِيَّاتِ واللَّه أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا نَهْيٌ عَنْ أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَإِنَّمَا قَالَ: أَنْفُسَكُمْ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُؤْمِنُونَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ» وَلِأَنَّ الْعَرَبَ يَقُولُونَ: قُتِلْنَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ إِذَا قُتِلَ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ قَتْلَ بَعْضِهِمْ يَجْرِي مَجْرَى قَتْلِهِمْ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ هَلْ هُوَ نَهْيٌ لَهُمْ عَنْ قَتْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ؟ فَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ وَقَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ مَعَ إِيمَانِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْهَى عَنْ قَتْلِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ مُلْجَأٌ إِلَى أَنْ لَا يَقْتُلَ نَفْسَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّارِفَ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا قَائِمٌ، وَهُوَ الْأَلَمُ الشَّدِيدُ وَالذَّمُّ الْعَظِيمُ، وَالصَّارِفُ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآخِرَةِ قَائِمٌ، وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ، وَإِذَا كَانَ الصَّارِفُ خَالِصًا امْتَنَعَ مِنْهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْيِ عَنْهُ فَائِدَةٌ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ أَنْ يُذْكَرَ هَذَا النَّهْيُ فِيمَنْ يَعْتَقِدُ فِي قَتْلِ نَفْسِهِ مَا يَعْتَقِدُهُ أَهْلُ الْهِنْدِ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مَعَ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا باللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، قَدْ يَلْحَقُهُ مِنَ الْغَمِّ وَالْأَذِيَّةِ مَا يَكُونُ الْقَتْلُ عَلَيْهِ أَسْهَلَ مِنْ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ نَرَى كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ يَقْتُلُونَ أَنْفُسَهُمْ بِمِثْلِ السَّبَبِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فِي النَّهْيِ عَنْهُ فَائِدَةٌ، وَأَيْضًا فَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَفْعَلُوا مَا تَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْقَتْلَ: مِنَ الْقَتْلِ وَالرِّدَّةِ وَالزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ وَلِأَجْلِ رَحْمَتِهِ نَهَاهُمْ عَنْ كُلِّ مَا يَسْتَوْجِبُونَ بِهِ مَشَقَّةً أَوْ مِحْنَةً، وَقِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِقَتْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ لِيَكُونَ تَوْبَةً لَهُمْ وَتَمْحِيصًا لِخَطَايَاهُمْ وَكَانَ بِكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ رَحِيمًا، حَيْثُ لَمْ يُكَلِّفْكُمْ تِلْكَ التَّكَالِيفَ الصَّعْبَةَ. ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. وَاعْلَمْ أَنَّ فِيهِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قال عطاء:

[سورة النساء (4) : آية 31]

إِنَّهُ خَاصٌّ فِي قَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ. الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى قَتْلِ النَّفْسِ وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ لِأَنَّهُمَا مَذْكُورَانِ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى كُلِّ مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قَالَ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً لِأَنَّ فِي جُمْلَةِ مَا تَقَدَّمَ قَتْلَ الْبَعْضِ لِلْبَعْضِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ حَقًّا كَالْقَوَدِ، وَفِي جُمْلَةِ مَا تَقَدَّمَ أَخْذُ الْمَالِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ حَقًّا كَمَا فِي الدِّيَةِ وَغَيْرِهَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ شَرَطَهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْوَعِيدِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى الْقَطْعِ بِوَعِيدِ أَهْلِ الصَّلَاةِ. قَالُوا: / وَقَوْلُهُ: فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَإِنْ كَانَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْلِيدِ إِلَّا أَنَّ كُلَّ مَنْ قَطَعَ بِوَعِيدِ الْفُسَّاقِ قَالَ: بِتَخْلِيدِهِمْ، فَيَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ الْآخَرِ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ بِالِاسْتِقْصَاءِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ، إِلَّا أَنَّ الذي نقوله هاهنا: إِنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِالْكُفَّارِ، لِأَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً وَلَا بُدَّ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعُدْوَانِ وَبَيْنَ الظُّلْمِ دَفْعًا لِلتَّكْرِيرِ، فَيُحْمَلُ الظُّلْمُ عَلَى مَا إِذَا كَانَ قَصْدُهُ التَّعَدِّي عَلَى تَكَالِيفِ اللَّه، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كَافِرًا لَا يُقَالُ: أليس أنه وصفهم بالإيمان فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْكُفَّارُ؟ لِأَنَّا نَقُولُ: مَذْهَبُكُمْ أَنَّ مَنْ دَخَلَ تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا الْبَتَّةَ، فَلَا بُدَّ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ أَنْ تَقُولُوا: إِنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، ثُمَّ لَمَّا أَتَوْا بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ مَا بَقُوا عَلَى وَصْفِ الْإِيمَانِ، فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ لَكُمْ مِنَ الْقَوْلِ بِهَذَا الْكَلَامِ. فَلِمَ لَا يَصِحُّ هَذَا الْكَلَامُ مِنَّا أَيْضًا فِي تَقْرِيرِ مَا قُلْنَاهُ؟ واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ فَقَالَ: وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. وَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ الْمُمْكِنَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّه عَلَى السَّوِيَّةِ، وَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ بَعْضَ الْأَفْعَالِ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ بَعْضٍ، بَلْ هَذَا الْخِطَابُ نَزَلَ عَلَى الْقَوْلِ الْمُتَعَارَفِ فِيمَا بَيْنَنَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: 27] أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهُ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّهْدِيدِ، وَهُوَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْهَرَبِ مِنْهُ وَلَا على الامتناع عليه. [سورة النساء (4) : آية 31] إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) [فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ الْوَعِيدِ أَتْبَعَهُ بِتَفْصِيلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: جَمِيعُ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي كَبَائِرُ. رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ عُصِيَ اللَّه فِيهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، فَمَنْ عَمِلَ شَيْئًا مِنْهَا فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّه، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يُخَلِّدُ فِي النَّارِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا رَاجِعًا عَنِ الْإِسْلَامِ، أَوْ جَاحِدًا فَرِيضَةً، أَوْ مُكَذِّبًا بِقَدَرٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ، فَإِنَّ الذُّنُوبَ لَوْ كَانَتْ بِأَسْرِهَا كَبَائِرَ لَمْ يَصِحَّ الْفَصْلُ بَيْنَ مَا يُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَبَيْنَ الْكَبَائِرِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [الْقَمَرِ: 53] وَقَوْلُهُ: لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الْكَهْفِ: 49] . الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَصَّ عَلَى ذُنُوبٍ بِأَعْيَانِهَا أَنَّهَا كَبَائِرُ، كقوله: «الكبائر:

الْإِشْرَاكُ باللَّه وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ» وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْهَا مَا لَيْسَ مِنَ الْكَبَائِرِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ [الْحُجُرَاتِ: 7] وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمَنْهِيَّاتِ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ: أَوَّلُهَا: الْكُفْرُ، وَثَانِيهَا: الْفُسُوقُ. وَثَالِثُهَا: الْعِصْيَانُ، فَلَا بُدَّ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَ الْفُسُوقِ وَبَيْنَ الْعِصْيَانِ لِيَصِحَّ العطف، وما ذلك إِلَّا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّغَائِرِ وَبَيْنَ الْكَبَائِرِ، فَالْكَبَائِرُ هِيَ الْفُسُوقُ، وَالصَّغَائِرُ هِيَ الْعِصْيَانُ. وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَثْرَةُ نِعَمِ مَنْ عَصَى. وَالثَّانِي: إِجْلَالُ مَنْ عَصَى، فَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْأَوَّلَ فَنِعَمُ اللَّه غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، كَمَا قَالَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [النحل: 18] وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الثَّانِي فَهُوَ أَجَلُّ الْمَوْجُودَاتِ وَأَعْظَمُهَا، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عِصْيَانُهُ فِي غَايَةِ الْكِبَرِ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ فَهُوَ كَبِيرَةٌ. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى أَجَلُّ الْمَوْجُودَاتِ وَأَشْرَفُهَا، فَكَذَلِكَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، وَأَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ عَنْ طَاعَاتِ الْمُطِيعِينَ وَعَنْ ذُنُوبِ الْمُذْنِبِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ خِفَّةَ الذَّنْبِ. الثَّانِي: هَبْ أَنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا كَبِيرَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا ذُنُوبٌ، وَلَكِنَّ بَعْضَهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّفَاوُتَ. إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الذُّنُوبَ عَلَى قِسْمَيْنِ بَعْضُهَا صَغَائِرُ وَبَعْضُهَا كَبَائِرُ، فَالْقَائِلُونَ بِذَلِكَ فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْكَبِيرَةُ تَتَمَيَّزُ عَنِ الصَّغِيرَةِ فِي نَفْسِهَا وَذَاتِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا الِامْتِيَازُ إِنَّمَا يَحْصُلُ لَا فِي ذَوَاتِهَا، بَلْ بِحَسَبِ حَالِ فَاعِلِيهَا، وَنَحْنُ نَشْرَحُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فَالذَّاهِبُونَ إِلَيْهِ وَالْقَائِلُونَ بِهِ اخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا شَدِيدًا، وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى بَعْضِهَا، فَالْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَقْرُونًا بِذِكْرِ الْوَعِيدِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، نَحْوَ قَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ وَالزِّنَا وَالرِّبَا وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَالْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ مَسْعُودَ: افْتَتِحُوا سُورَةَ النِّسَاءِ، فَكُلُّ شَيْءٍ نَهَى اللَّه عَنْهُ حَتَّى ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ آيَةً فَهُوَ كَبِيرَةٌ، ثُمَّ قَالَ مِصْدَاقُ ذَلِكَ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النِّسَاءِ: 31] الثَّالِثُ: قَالَ قَوْمٌ: كُلُّ عَمْدٍ فَهُوَ كَبِيرَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ ضَعِيفَةٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقَ الذَّمِّ فِي الْعَاجِلِ وَالْعِقَابِ فِي الْآجِلِ، / فَالْقَوْلُ بِأَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَقْرُونًا بِالْوَعِيدِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ ذَنْبٍ كَبِيرَةً وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ كَثِيرًا مِنَ الْكَبَائِرِ فِي سَائِرِ السُّوَرِ، وَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِهَا بِهَذِهِ السُّورَةِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ بِالْعَمْدِ أَنَّهُ لَيْسَ بِسَاهٍ عَنْ فِعْلِهِ، فَمَا هَذَا حَالُهُ هُوَ الَّذِي نَهَى اللَّه عَنْهُ، فَيَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ ذَنْبٍ كَبِيرَةً وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ، وَإِنْ أَرَادَ بِالْعَمْدِ أَنْ يَفْعَلَ الْمَعْصِيَةَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يَكْفُرُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كُفْرٌ كَبِيرٌ، فَبَطَلَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّه فِي مُنْتَخَبَاتِ كِتَابِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ فَصْلًا طَوِيلًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ فَقَالَ: فَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْكَبَائِرُ تَمْتَازُ عَنِ الصَّغَائِرِ بِحَسَبِ ذَوَاتِهَا وَأَنْفُسِهَا. وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْكَبَائِرُ تَمْتَازُ عَنِ الصَّغَائِرِ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ أَحْوَالِ فَاعِلِيهَا، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ لِكُلِّ طَاعَةٍ قَدْرًا مِنَ الثَّوَابِ، وَلِكُلِّ مَعْصِيَةٍ قَدْرًا مِنَ الْعِقَابِ، فَإِذَا أَتَى الْإِنْسَانُ بِطَاعَةٍ واستحق

بِهَا ثَوَابًا، ثُمَّ أَتَى بِمَعْصِيَةٍ وَاسْتَحَقَّ بِهَا عِقَابًا، فَهَهُنَا الْحَالُ بَيْنَ ثَوَابِ الطَّاعَةِ وَعِقَابِ الْمَعْصِيَةِ بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَعَادَلَا وَيَتَسَاوَيَا، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا بِحَسَبِ التَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ إِلَّا أَنَّهُ دَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشُّورَى: 7] وَلَوْ وُجِدَ مِثْلُ هَذَا الْمُكَلَّفِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ وَلَا فِي السَّعِيرِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ثَوَابُ طَاعَتِهِ أَزْيَدُ مِنْ عِقَابِ مَعْصِيَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يَنْحَبِطُ ذَلِكَ الْعِقَابُ بِمَا يُسَاوِيهِ مِنَ الثَّوَابِ، وَيَفْضُلُ مِنَ الثَّوَابِ شَيْءٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ هِيَ الصَّغِيرَةُ، وَهَذَا الِانْحِبَاطُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالتَّكْفِيرِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عِقَابُ مَعْصِيَتِهِ أَزْيَدَ مِنْ ثَوَابِ طَاعَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يَنْحَبِطُ ذَلِكَ الثَّوَابُ بِمَا يُسَاوِيهِ مِنَ الْعِقَابِ، وَيَفْضُلُ مِنَ الْعِقَابِ شَيْءٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ هِيَ الْكَبِيرَةُ، وَهَذَا الِانْحِبَاطُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْإِحْبَاطِ، وَبِهَذَا الْكَلَامِ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَبَيْنَ الصَّغِيرَةِ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولٍ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ عِنْدَنَا. أَوَّلُهَا: أَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الطَّاعَةَ تُوجِبُ ثَوَابًا وَالْمَعْصِيَةَ تُوجِبُ عِقَابًا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّا بَيَّنَّا فِي كَثِيرٍ مِنْ مَوَاضِعِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ/ صُدُورَ الْفِعْلِ عَنِ الْعَبْدِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا إِذَا خَلَقَ اللَّه فِيهِ دَاعِيَةً تُوجِبُ ذَلِكَ الْفِعْلَ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ كَوْنُ الطَّاعَةِ مُوجِبَةً لِلثَّوَابِ، وَكَوْنُ الْمَعْصِيَةِ مُوجِبَةً لِلْعِقَابِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّا نَعْلَمُ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ مَنِ اشْتَغَلَ بِتَوْحِيدِ اللَّه وَتَقْدِيسِهِ وَخِدْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ سَبْعِينَ سَنَةً، فَإِنَّ ثَوَابَ مَجْمُوعِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ أَكْثَرُ بِكَثِيرٍ مِنْ عِقَابِ شُرْبِ قَطْرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْخَمْرِ، مَعَ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ شُرْبَ هَذِهِ الْقَطْرَةِ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَإِنْ أَصَرُّوا وَقَالُوا: بَلْ عِقَابُ شُرْبِ هَذِهِ الْقَطْرَةِ أَزْيَدُ مِنْ ثَوَابِ التَّوْحِيدِ وجميع الطاعات سبعين سنة فقد أَبْطَلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَصْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَبْنُونَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ عَلَى قَاعِدَةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَمِنَ الْأُمُورِ الْمُتَقَرِّرَةِ فِي الْعُقُولِ أَنَّ مَنْ جَعَلَ عِقَابَ هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْجِنَايَةِ أَزْيَدَ مِنْ ثَوَابِ تِلْكَ الطَّاعَاتِ الْعَظِيمَةِ فَهُوَ ظَالِمٌ، فَإِنْ دَفَعُوا حُكْمَ الْعَقْلِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَدْ أَبْطَلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْقَوْلَ بِتَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ عَلَيْهِمْ كُلُّ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ نِعَمَ اللَّه تَعَالَى كَثِيرَةٌ وَسَابِقَةٌ عَلَى طَاعَاتِ الْعَبِيدِ، وَتِلْكَ النِّعَمُ السَّابِقَةُ مُوجِبَةٌ لِهَذِهِ الطَّاعَاتِ، فَكَانَ أَدَاءُ الطَّاعَاتِ أَدَاءٌ لِمَا وَجَبَ بِسَبَبِ النِّعَمِ السَّابِقَةِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوجِبُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ شَيْئًا آخَرَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الطَّاعَاتِ مُوجِبًا لِلثَّوَابِ أَصْلًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَعْصِيَةٍ يُؤْتَى بِهَا فَإِنَّ عِقَابَهَا يَكُونُ أَزْيَدُ مِنْ ثَوَابِ فَاعِلِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمَعَاصِي كَبَائِرَ، وَذَلِكَ أَيْضًا بَاطِلٌ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِالْإِحْبَاطِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوُجُوهَ الْكَثِيرَةَ فِي إِبْطَالِ الْقَوْلِ بِالْإِحْبَاطِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَيْهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ قَوْلٌ بَاطِلٌ وباللَّه التَّوْفِيقُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ اللَّه تَعَالَى هَلْ مَيَّزَ جُمْلَةَ الْكَبَائِرِ عَنْ جُمْلَةِ الصَّغَائِرِ أَمْ لَا؟ فَالْأَكْثَرُونَ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُمَيِّزْ جُمْلَةَ الْكَبَائِرِ عَنْ جُمْلَةِ الصَّغَائِرِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الِاجْتِنَابَ عَنِ الْكَبَائِرِ يُوجِبُ تَكْفِيرَ الصَّغَائِرِ، فَإِذَا عَرَفَ الْعَبْدُ أَنَّ الْكَبَائِرَ لَيْسَتْ إِلَّا هَذِهِ الْأَصْنَافَ الْمَخْصُوصَةَ، عَرَفَ أَنَّهُ مَتَى احْتَرَزَ عَنْهَا صَارَتْ صَغَائِرُهُ مُكَفِّرَةً فَكَانَ ذَلِكَ إِغْرَاءً لَهُ بِالْإِقْدَامِ عَلَى تِلْكَ الصَّغَائِرِ، وَالْإِغْرَاءُ بِالْقَبِيحِ لَا يَلِيقُ بِالْجُمْلَةِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُمَيِّزِ اللَّه تَعَالَى كُلَّ الْكَبَائِرِ عَنْ كُلِّ الصَّغَائِرِ، وَلَمْ يُعْرَفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ أَنَّهُ صَغِيرَةٌ، وَلَا ذَنْبَ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ إِلَّا وَيَجُوزُ كَوْنُهُ كَبِيرَةً فَيَكُونُ ذَلِكَ زَاجِرًا لَهُ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ. قَالُوا: وَنَظِيرُ هَذَا فِي الشَّرِيعَةِ

إِخْفَاءُ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فِي الصَّلَوَاتِ وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، وَسَاعَةِ الْإِجَابَةِ فِي سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ، وَوَقْتِ الْمَوْتِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ تَقْتَضِي أَنْ لَا يُبَيِّنَ اللَّه تَعَالَى فِي شَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ أَنَّهُ صَغِيرَةٌ، وَأَنْ لَا يُبَيِّنَ أَنَّ الْكَبَائِرَ لَيْسَتْ/ إِلَّا كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّهُ لَوْ بَيَّنَ ذَلِكَ لَكَانَ مَا عَدَاهَا صَغِيرَةً، فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الصَّغِيرَةُ مَعْلُومَةً، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُبَيِّنَ فِي بَعْضِ الذُّنُوبِ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ. رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا تَعُدُّونَ الْكَبَائِرَ» فَقَالُوا: اللَّه وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَقَالَ: «الْإِشْرَاكُ باللَّه وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ وَالسِّحْرُ وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَوْلُ الزُّورِ وَأَكْلُ الرِّبَا وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ» وَعَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ ذَكَرَهَا وَزَادَ فِيهَا: اسْتِحْلَالُ آمِّينَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ زَادَ فِيهَا: الْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّه وَالْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّه، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّه. وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا سَبْعَةٌ، ثُمَّ قَالَ: هِيَ إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى السَّبْعِمِائَةِ أَقْرَبُ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَبُو الْقَاسِمِ الْكَعْبِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْقَطْعِ بِوَعِيدِ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ فقال: فقد كَشَفَ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ الشُّبْهَةَ فِي الْوَعِيدِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ قَدَّمَ ذِكْرَ الْكَبَائِرِ، بَيَّنَ أَنَّ مَنِ اجْتَنَبَهَا يُكَفِّرُ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَجْتَنِبُوهَا فَلَا تُكَفَّرُ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَغْفِرَ تَعَالَى لَهُمُ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْكَلَامُ. وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: إِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تَسْتَدِلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ عِنْدَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ يُكَفِّرُ السَّيِّئَاتِ، وَجَبَ أَنَّ عِنْدَ عَدَمِ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ لَا يُكَفِّرُهَا، لِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ وَهَذَا بَاطِلٌ. لِأَنَّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ هَذَا الْأَصْلَ بَاطِلٌ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ دَلَالَةٌ ظَنِّيَّةٌ ضَعِيفَةٌ، وَإِمَّا أَنْ تَسْتَدِلُّوا بِهِ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِكَلِمَةِ «إِنَّ» عَلَى الشَّيْءِ عُدِمَ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ: إِحْدَاهَا: قَوْلُهُ: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [الْبَقَرَةِ: 172] فَالشُّكْرُ وَاجِبٌ سَوَاءٌ عُبِدَ اللَّه أَوْ لَمْ يُعْبَدْ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ [الْبَقَرَةِ: 283] وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ وَاجِبٌ سَوَاءٌ ائْتَمَنَهُ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ [الْبَقَرَةِ: 282] وَالِاسْتِشْهَادُ بِالرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ جَائِزٌ سَوَاءٌ حَصَلَ الرَّجُلَانِ أَوْ لَمْ يَحْصُلَا. وَرَابِعُهَا: وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ [الْبَقَرَةِ: 283] وَالرَّهْنُ مَشْرُوعٌ سَوَاءٌ وجد الكاتب أو لم يجده. وَخَامِسُهَا: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً [النُّورِ: 33] وَالْإِكْرَاهُ عَلَى الْبِغَاءِ مُحَرَّمٌ، سَوَاءٌ أَرَدْنَ التَّحَصُّنَ أَوْ لَمْ يُرِدْنَ. وَسَادِسُهَا: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ: 3] وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ سَوَاءٌ حَصَلَ ذَلِكَ الْخَوْفُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ، وَسَابِعُهَا: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ [النِّسَاءِ: 101] وَالْقَصْرُ جَائِزٌ، سَوَاءٌ حَصَلَ الْخَوْفُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ وَثَامِنُهَا: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ [النِّسَاءِ: 11] وَالثُّلُثَانِ كَمَا أَنَّهُ حَقُّ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ أَيْضًا حَقُّ الثِّنْتَيْنِ، وَتَاسِعُهَا: قَوْلُهُ: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ [النِّسَاءِ: 35] وَذَلِكَ جَائِزٌ سَوَاءٌ حَصَلَ/ الْخَوْفُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ. وَعَاشِرُهَا: قَوْلُهُ: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما [النِّسَاءِ: 35] وَقَدْ يَحْصُلُ التوفيق بدون إرادتيهما، وَالْحَادِي عَشَرَ: قَوْلُهُ: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النِّسَاءِ: 130] وَقَدْ يَحْصُلُ الْغِنَى بِدُونِ ذَلِكَ التَّفَرُّقِ، وَهَذَا الْجِنْسُ مِنَ الْآيَاتِ فِيهِ كَثْرَةٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِكَلِمَةِ «إِنَّ» عَلَى الشَّيْءِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَدَمًا عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَالْعَجَبُ أَنَّ مَذْهَبَ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ هُوَ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِكَلِمَةِ «إِنَّ» عَلَى الشَّيْءِ لَا يَكُونُ عَدَمًا عِنْدَ

عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، ثُمَّ إِنَّهُ فِي التَّفْسِيرِ اسْتَحْسَنَ اسْتِدْلَالَ الْكَعْبِيِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُبَّ الْإِنْسَانِ لِمَذْهَبِهِ قَدْ يُلْقِيهِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي. الْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ الْجَوَابِ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ عَقِيبَ الْآيَةِ الَّتِي نَهَى اللَّه فِيهَا عَنْ نِكَاحِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَعَنْ عَضْلِ النِّسَاءِ وَأَخْذِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا هَذِهِ الْكَبَائِرَ الَّتِي نَهَيْنَاكُمْ عَنْهَا كَفَّرْنَا عَنْكُمْ مَا كَانَ مِنْكُمْ فِي ارْتِكَابِهَا سَالِفًا. وَإِذَا كَانَ هَذَا الْوَجْهُ مُحْتَمَلًا، لَمْ يَتَعَيَّنْ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَزِلَةُ. وَطَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ عَامٌّ، فَقَصْرُهُ عَلَى الْمَذْكُورِ الْمُتَقَدِّمِ لَا يَجُوزُ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ بِاجْتِنَابِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ يُكَفِّرُ اللَّه مَا حَصَلَ مِنْهَا فِي الْمَاضِي كَلَامٌ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ أَمْرَيْنِ اثْنَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ تَابُوا مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، فَالتَّوْبَةُ قَدْ أَزَالَتْ عِقَابَ ذَلِكَ لِاجْتِنَابِ هَذِهِ الْكَبَائِرِ، أَوْ لَا يَكُونُوا قَدْ تَابُوا مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، فَمِنْ أَيْنَ أَنَّ اجْتِنَابَ هَذِهِ الْكَبَائِرِ يُوجِبُ تَكْفِيرَ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ؟ هَذَا لَفْظُ الْقَاضِي فِي تَفْسِيرِهِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّا لَا نَدَّعِي الْقَطْعَ بِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، لَكِنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ مُحْتَمَلٌ، وَمَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا يَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَكَ: من أين أن اجتناب هذا الْكَبَائِرِ يُوجِبُ تَكْفِيرَ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ؟ سُؤَالٌ لَا اسْتِدْلَالَ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقِسْمِ، وَبِهَذَا الْقَدْرِ لَا يَبْطُلُ هَذَا الِاحْتِمَالُ، وَإِذَا حَضَرَ هَذَا الِاحْتِمَالُ بَطَلَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ واللَّه أَعْلَمُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مِنَ الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ: هُوَ أَنَّا إِذَا أَعْطَيْنَاهُمْ جَمِيعَ مُرَادَاتِهِمْ لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ زِيَادَةٌ عَلَى أَنْ نَقُولَ: إِنَّ مَنْ لَمْ يَجْتَنِبِ الْكَبَائِرَ لَمْ تُكَفَّرْ سَيِّئَاتُهُ، وَحِينَئِذٍ تَصِيرُ هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةً فِي الْوَعِيدِ، وَعُمُومَاتُ الْوَعِيدِ لَيْسَتْ قَلِيلَةً، فَمَا ذَكَرْنَاهُ جَوَابًا عَنْ سَائِرِ الْعُمُومَاتِ كَانَ جَوَابًا عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَلَا أَعْرِفُ لِهَذِهِ الْآيَةِ مَزِيدَ خَاصِّيَّةٍ فِي هَذَا الْبَابِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِ الْكَعْبِيِّ: إِنَّ اللَّه قَدْ كَشَفَ الشُّبْهَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَجْهٌ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ الْكَبَائِرَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَا يَكُونُ كَبِيرًا، بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ، وَيَكُونُ/ صَغِيرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الصَّغَائِرِ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي يَحْكُمُ بِكَوْنِهِ كَبِيرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ هُوَ الْكُفْرُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ الْكُفْرَ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفْرَ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا الْكُفْرُ باللَّه وَبِأَنْبِيَائِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَشَرَائِعِهِ، فَكَانَ الْمُرَادُ أَنَّ مَنِ اجْتَنَبَ عَنِ الْكُفْرِ كَانَ مَا وَرَاءَهُ مَغْفُورًا، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ مُنْطَبِقٌ مُوَافِقٌ لِصَرِيحِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] وَإِذَا كَانَ هَذَا مُحْتَمَلًا، بَلْ ظَاهِرًا سَقَطَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ وباللَّه التَّوْفِيقُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ عِنْدَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ يَجِبُ غُفْرَانُ الصَّغَائِرِ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، بَلْ كُلُّ مَا يَفْعَلُهُ فَهُوَ فَضْلٌ وَإِحْسَانٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ دَلَائِلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ (يُكَفَّرْ وَيُدْخِلْكُمْ) بِالْيَاءِ فِي الْحَرْفَيْنِ عَلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ، وَالْبَاقُونَ بِالنُّونِ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْوَعْدِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ مَدْخَلًا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَفِي الْحَجِّ مِثْلُهُ، وَالْبَاقُونَ بالضم، ولم

[سورة النساء (4) : آية 32]

يَخْتَلِفُوا فِي مُدْخَلَ صِدْقٍ بِالضَّمِّ، فَبِالْفَتْحِ الْمُرَادُ مَوْضِعُ الدُّخُولِ، وَبِالضَّمِّ الْمُرَادُ الْمَصْدَرُ وَهُوَ الْإِدْخَالُ، أَيْ: وَيُدْخِلْكُمْ إِدْخَالًا كَرِيمًا، وَصَفَ الْإِدْخَالَ بِالْكَرَمِ بِمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِدْخَالَ يَكُونُ مَقْرُونًا بِالْكَرَمِ عَلَى خِلَافِ مَنْ قَالَ اللَّه فِيهِمْ: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ [الْفُرْقَانِ: 34] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ مُجَرَّدَ الِاجْتِنَابِ عَنِ الْكَبَائِرِ لَا يُوجِبُ دُخُولَ الْجَنَّةِ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَالتَّقْدِيرُ: إِنْ أَتَيْتُمْ بِجَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ، وَاجْتَنَبْتُمْ عَنْ جَمِيعِ الْكَبَائِرِ كَفَّرْنَا عَنْكُمْ بَقِيَّةَ السَّيِّئَاتِ وَأَدْخَلْنَاكُمُ الْجَنَّةَ، فَهَذَا أَحَدُ مَا يُوجِبُ الدُّخُولَ فِي الْجَنَّةِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ عَدَمَ السَّبَبِ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ عَدَمَ الْمُسَبِّبِ، بَلْ هاهنا سَبَبٌ آخَرُ هُوَ السَّبَبُ الْأَصْلِيُّ الْقَوِيُّ، وَهُوَ فَضْلُ اللَّه وَكَرَمُهُ وَرَحْمَتُهُ، كَمَا قَالَ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يُونُسَ: 58] واللَّه أعلم. [سورة النساء (4) : آية 32] وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) اعْلَمْ أَنَّ فِي النَّظْمِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَاهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، وَعَنْ قَتْلِ النَّفْسِ، أَمَرَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا سَهَّلَ عَلَيْهِمْ تَرْكَ هَذِهِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَهُوَ أَنْ يَرْضَى كُلُّ أَحَدٍ بِمَا قَسَمَ اللَّه لَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ وَقَعَ فِي الْحَسَدِ، وَإِذَا وَقَعَ فِي الْحَسَدِ وَقَعَ لَا مَحَالَةَ فِي أَخْذِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ وَفِي قَتْلِ النُّفُوسِ، فَأَمَّا إِذَا رَضِيَ بما قدر اللَّه أَمْكَنَهُ الِاحْتِرَازُ عَنِ الظُّلْمِ فِي النُّفُوسِ وَفِي الْأَمْوَالِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ: هُوَ أَنَّ أَخْذَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَقَتْلَ النَّفْسِ، مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ فَأَمَرَ أَوَّلًا بِتَرْكِهِمَا لِيَصِيرَ الظَّاهِرُ طَاهِرًا عَنِ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ، وَهُوَ الشَّرِيعَةُ. ثُمَّ أَمَرَ بَعْدَهُ بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لِنُفُوسِ النَّاسِ وَأَمْوَالِهِمْ بِالْقَلْبِ عَلَى سَبِيلِ الْحَسَدِ، لِيَصِيرَ الْبَاطِنُ طَاهِرًا عَنِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الطَّرِيقَةُ. [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ] ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّمَنِّي عِنْدَنَا عِبَارَةٌ عَنْ إِرَادَةِ مَا يُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ مِنَ الْكَافِرِ أَنْ يُؤْمِنَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ لَكَانَ مُتَمَنِّيًا. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: النَّهْيُ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: لَيْتَهُ وُجِدَ كَذَا، أَوْ لَيْتَهُ لَمْ يُوجَدْ كَذَا، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ مُجَرَّدَ اللَّفْظِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنًى لَا يَكُونُ تَمَنِّيًا، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يُبْحَثَ عَنْ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ، وَلَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِرَادَةِ مَا يُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَرَاتِبَ السَّعَادَاتِ إِمَّا نَفْسَانِيَّةٌ، أَوْ بَدَنِيَّةٌ، أَوْ خَارِجِيَّةٌ. أَمَّا السَّعَادَاتُ النَّفْسَانِيَّةُ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، وَهُوَ: الذَّكَاءُ التَّامُّ وَالْحَدْسُ الْكَامِلُ، وَالْمَعَارِفُ الزَّائِدَةُ عَلَى مَعَارِفِ الْغَيْرِ بِالْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ. وَثَانِيهِمَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَهِيَ: الْعِفَّةُ الَّتِي هِيَ وَسَطٌ بَيْنِ الْخُمُودِ وَالْفُجُورِ، وَالشَّجَاعَةُ الَّتِي هِيَ وَسَطٌ بَيْنِ التَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ، وَاسْتِعْمَالُ الْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْبَلَهِ وَالْجَرْبَزَةِ، وَمَجْمُوعُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ هُوَ الْعَدَالَةُ. وَأَمَّا السَّعَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ: فَالصِّحَّةُ وَالْجَمَالُ، وَالْعُمْرُ الطَّوِيلُ فِي ذَلِكَ مَعَ اللَّذَّةِ وَالْبَهْجَةِ.

وَأَمَّا السَّعَادَاتُ الْخَارِجِيَّةُ: فَهِيَ كَثْرَةُ الْأَوْلَادِ الصُّلَحَاءِ، وَكَثْرَةُ الْعَشَائِرِ، وَكَثْرَةُ الْأَصْدِقَاءِ وَالْأَعْوَانِ، وَالرِّيَاسَةُ التَّامَّةُ، وَنَفَاذُ الْقَوْلِ، وَكَوْنُهُ مَحْبُوبًا لِلْخَلْقِ حَسَنَ الذِّكْرِ فِيهِمْ، مُطَاعَ الْأَمْرِ فِيهِمْ، فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَجَامِعِ السَّعَادَاتِ، وَبَعْضُهَا فِطْرِيَّةٌ لَا سَبِيلَ لِلْكَسْبِ فِيهِ، وَبَعْضُهَا كَسْبِيَّةٌ، وَهَذَا الَّذِي يَكُونُ كسيبا مَتَى تَأَمَّلَ الْعَاقِلُ فِيهِ يَجِدْهُ أَيْضًا مَحْضَ عَطَاءِ اللَّه، فَإِنَّهُ لَا تَرْجِيحَ لِلدَّوَاعِي وَإِزَالَةِ الْعَوَائِقِ وَتَحْصِيلِ الْمُوجِبَاتِ، وَإِلَّا فَيَكُونُ سَبَبُ السَّعْيِ وَالْجِدِّ مُشْتَرَكًا فِيهِ، وَيَكُونُ الْفَوْزُ/ بِالسَّعَادَةِ وَالْوُصُولُ إِلَى الْمَطْلُوبِ غَيْرَ مُشْتَرَكٍ فِيهِ، فَهَذَا هُوَ أَقْسَامُ السَّعَادَاتِ الَّتِي يُفَضِّلُ اللَّه بَعْضَهُمْ عَلَى بعض فيها. المسألة الثالثة: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا شَاهَدَ أَنْوَاعَ الْفَضَائِلِ حَاصِلَةً لِإِنْسَانٍ، وَوَجَدَ نَفْسَهُ خَالِيًا عَنْ جُمْلَتِهَا أَوْ عَنْ أَكْثَرِهَا، فَحِينَئِذٍ يَتَأَلَّمُ قَلْبُهُ وَيَتَشَوَّشُ خَاطِرُهُ، ثم يعرض هاهنا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَتَمَنَّى زَوَالَ تِلْكَ السَّعَادَاتِ عَنْ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ، وَالْأُخْرَى: أَنْ لَا يَتَمَنَّى ذَلِكَ، بَلْ يَتَمَنَّى حُصُولَ مِثْلِهَا لَهُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ الْحَسَدُ الْمَذْمُومُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ لِمُدَبِّرِ الْعَالَمِ وَخَالِقِهِ: الْإِحْسَانُ إِلَى عَبِيدِهِ وَالْجُودُ إِلَيْهِمْ وَإِفَاضَةُ أَنْوَاعِ الْكَرَمِ عَلَيْهِمْ، فَمَنْ تَمَنَّى زَوَالَ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى اللَّه تَعَالَى فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ مِنْ خَلْقِ الْعَالَمِ وَإِيجَادِ الْمُكَلَّفِينَ، وَأَيْضًا رُبَّمَا اعْتَقَدَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِتِلْكَ النِّعَمِ مِنْ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ فَيَكُونُ هَذَا اعْتِرَاضًا عَلَى اللَّه وَقَدْحًا فِي حِكْمَتِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُلْقِيهِ فِي الْكُفْرِ وَظُلُمَاتِ الْبِدْعَةِ، وَيُزِيلُ عَنْ قَلْبِهِ نُورَ الْإِيمَانِ، وَكَمَا أَنَّ الْحَسَدَ سَبَبٌ لِلْفَسَادِ فِي الدِّينِ، فَكَذَلِكَ هُوَ السَّبَبُ لِلْفَسَادِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الْمَوَدَّةَ وَالْمَحَبَّةَ وَالْمُوَالَاةَ، وَيَقْلِبُ كُلَّ ذَلِكَ إِلَى أَضْدَادِهَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ نَهَى اللَّه عِبَادَهُ عَنْهُ فَقَالَ: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ سَبَبَ الْمَنْعِ مِنْ هَذَا الْحَسَدِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أُصُولِ الْأَدْيَانِ، أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 23] فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ. وَلَا مَجَالَ لِأَحَدٍ فِي مُنَازَعَتِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ صَنَعَهُ وَلَا عِلَّةَ لِصُنْعِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ صَارَتْ أَبْوَابُ الْقِيلِ وَالْقَالِ مَسْدُودَةً، وَطُرُقُ الِاعْتِرَاضَاتِ مَرْدُودَةً. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَهَذَا الطَّرِيقُ أَيْضًا مَسْدُودٌ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فَهُوَ أَعْرَفُ مِنْ خَلْقِهِ بِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَدَقَائِقِ الْحِكَمِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [الشُّورَى: 27] وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا بُدَّ لِكُلِّ عَاقِلٍ مِنَ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّه سُبْحَانَهُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى حَكَى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنِ اسْتَسْلَمَ لِقَضَائِي وَصَبَرَ عَلَى بَلَائِي وَشَكَرَ لِنَعْمَائِي كَتَبْتُهُ صِدِّيقًا وَبَعَثْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الصِّدِّيقِينَ وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي وَلَمْ يَشْكُرْ لِنَعْمَائِي فَلْيَطْلُبْ رَبًّا سِوَايَ» فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِيمَا إِذَا تَمَنَّى زَوَالَ تِلْكَ النِّعْمَةِ عَنْ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَلَا يَسُومُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَقُومَ مَقَامَهَا فَإِنَّ اللَّه هُوَ رَازِقُهَا» وَالْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْحَسَدِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَمَنَّ ذَلِكَ بَلْ تَمَنَّى حُصُولَ مِثْلِهَا لَهُ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ قَالُوا: هَذَا أَيْضًا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ/ رُبَّمَا كَانَتْ مَفْسَدَةً فِي حَقِّهِ فِي الدِّينِ وَمَضَرَّةً عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي دَارًا مِثْلَ دَارِ فُلَانٍ، وَزَوْجَةً مِثْلَ زَوْجَةِ فُلَانٍ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي مَا يَكُونُ صَلَاحًا فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَمَعَادِي وَمَعَاشِي. وَإِذَا تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ كَثِيرًا لَمْ يَجِدْ دُعَاءً أَحْسَنَ مِمَّا ذكر اللَّه فِي الْقُرْآنِ تَعْلِيمًا لِعِبَادِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي

الْآخِرَةِ حَسَنَةً [الْبَقَرَةِ: 201] وَرَوَى قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَتَمَنَّ أَحَدٌ الْمَالَ فَلَعَلَّ هَلَاكَهُ فِي ذَلِكَ الْمَالِ، كَمَا فِي حَقِّ ثَعْلَبَةَ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الآية: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ. المسألة الرابعة: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ مُجَاهِدٌ قَالَتْ أَمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّه يَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا نَغْزُو، وَلَهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ ضِعْفُ مَا لَنَا، فَلَيْتَنَا كُنَّا رِجَالًا فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، الثَّانِي: قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ قَالَ الرِّجَالُ: نَرْجُو أَنْ نُفَضَّلَ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فُضِّلْنَا فِي الْمِيرَاثِ وَقَالَ النِّسَاءُ: نَرْجُو أَنْ يَكُونَ الْوِزْرُ عَلَيْنَا نِصْفَ مَا عَلَى الرِّجَالِ كَمَا فِي الْمِيرَاثِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ: الثَّالِثُ: لَمَّا جَعَلَ اللَّه الْمِيرَاثَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ قَالَتِ النِّسَاءُ: نَحْنُ أَحْوَجُ لِأَنَّا ضُعَفَاءُ، وَهُمْ أَقْدَرُ عَلَى طَلَبِ الْمَعَاشِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. الرَّابِعُ: أَتَتْ وَاحِدَةٌ مِنَ النِّسَاءِ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: رَبُّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَاحِدٌ، وَأَنْتَ الرَّسُولُ إِلَيْنَا وَإِلَيْهِمْ، وَأَبُونَا آدَمُ وَأُمُّنَا حَوَّاءُ. فَمَا السَّبَبُ فِي أَنَّ اللَّه يَذْكُرُ الرِّجَالَ وَلَا يَذْكُرُنَا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. فَقَالَتْ: وَقَدْ سَبَقَنَا الرِّجَالُ بِالْجِهَادِ فَمَا لَنَا؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلْحَامِلِ مِنْكُنَّ أَجْرَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ فَإِذَا ضَرَبَهَا الطَّلْقُ لَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَا لَهَا مِنَ الْأَجْرِ، فَإِذَا أَرْضَعَتْ كَانَ لَهَا بِكُلِّ مَصَّةٍ أَجْرُ إِحْيَاءِ نَفْسٍ» . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَأَنْ يَكُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا. أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لِكُلِّ فَرِيقٍ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبَ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللَّه لَهُ. الثَّانِي: كُلُّ نَصِيبٍ مُقَدَّرُ مِنَ الْمِيرَاثِ عَلَى مَا حَكَمَ اللَّه بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَرْضَى بِهِ، وَأَنْ يَتْرُكَ الِاعْتِرَاضَ، وَالِاكْتِسَابُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِمَعْنَى الْإِصَابَةِ وَالْإِحْرَازِ. الثَّالِثُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، فَأَبْطَلَ اللَّه ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَصِيبًا، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا. وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ لِكُلِّ أَحَدٍ قَدْرٌ مِنَ الثَّوَابِ يَسْتَحِقُّهُ بِكَرَمِ اللَّه وَلُطْفِهِ، فَلَا تَتَمَنَّوْا خِلَافَ/ ذَلِكَ. الثَّانِي: لِكُلِّ أَحَدٍ جَزَاءٌ مِمَّا اكْتَسَبَ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُضَيِّعَهُ بِسَبَبِ الْحَسَدِ الْمَذْمُومِ وَتَقْدِيرُهُ: لَا تُضَيِّعْ مَالَكَ وَتَتَمَنَّ مَا لغيرك. الثالث: للرجال نصيب مما اكتسبوا سبب قِيَامِهِمْ بِالنَّفَقَةِ عَلَى النِّسَاءِ، وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ، يُرِيدُ حِفْظَ فُرُوجِهِنَّ وَطَاعَةَ أَزْوَاجِهِنَّ، وَقِيَامَهَا بِمَصَالِحِ الْبَيْتِ مِنَ الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ وَحِفْظِ الثِّيَابِ وَمَصَالِحِ الْمَعَاشِ، فَالنَّصِيبُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ هُوَ الثَّوَابُ. وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ: كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ، وَلَا مُنَافَاةَ. ثُمَّ قَالَ تعالى: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ: (وَسَلُوا اللَّه مِنْ فَضْلِهِ) بِغَيْرِ هَمْزٍ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مِنَ السُّؤَالِ، وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ وَاوٌ أَوْ فَاءٌ، وَالْبَاقُونَ بِالْهَمْزِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ.

[سورة النساء (4) : آية 33]

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَنَقَلَ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ إِلَى السِّينِ، وَاسْتَغْنَى عَنْ أَلِفِ الْوَصْلِ فَحَذَفَهَا. وَأَمَّا الثَّانِي: فعلى الأصل. واتفقوا في قوله: وَلْيَسْئَلُوا أَنَّهُ بِالْهَمْزَةِ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ لِغَائِبٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: قَوْلُهُ: مِنْ فَضْلِهِ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي فِي قَوْلِ أَبِي الْحَسَنِ وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفًا فِي قِيَاسِ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، وَالصِّفَةُ قَائِمَةٌ مَقَامَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَاسْأَلُوا اللَّه نِعْمَتَهُ مِنْ فَضْلِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قوله: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ شَيْئًا فِي الطَّلَبِ وَالدُّعَاءِ، وَلَكِنْ يَطْلُبُ مِنْ فَضْلِ اللَّه مَا يَكُونُ سَبَبًا لِصَلَاحِهِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِطْلَاقِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ بِمَا يَكُونُ صَالِحًا لِلسَّائِلِينَ، فَلْيَقْتَصِرِ السَّائِلُ عَلَى الْمُجْمَلِ، وَلْيَحْتَرِزْ فِي دُعَائِهِ عَنِ التَّعْيِينِ، فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ مَحْضَ الْمَفْسَدَةِ وَالضَّرَرِ واللَّه أعلم. [سورة النساء (4) : آية 33] وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وُرَّاثًا، وَيُمْكِنُ أَيْضًا بِحَيْثُ يَكُونَانِ مَوْرُوثًا عَنْهُمَا. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ أَيْ: وَلِكُلِّ وَاحِدٍ جَعَلْنَا وَرَثَةً فِي تَرِكَتِهِ، ثُمَّ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَنْ هَؤُلَاءِ الْوَرَثَةُ؟ فَقِيلَ: هُمُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا بُدَّ مِنَ الْوَقْفِ عِنْدَ قَوْلِهِ: مِمَّا تَرَكَ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلِكُلِّ شَيْءٍ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ جعلنا موالي، أي: ورثة وجَعَلْنا فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، لِأَنَّ مَعْنَى جَعَلْنا خَلَقْنَا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَلِكُلِّ قَوْمٍ جَعَلْنَاهُمْ مَوَالِيَ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، فَقَوْلُهُ: مَوالِيَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ صِفَةً، وَالْمَوْصُوفُ يَكُونُ مَحْذُوفًا، وَالرَّاجِعُ إِلَى قَوْلِهِ: وَلِكُلٍّ مَحْذُوفًا، وَالْخَبَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ: نَصِيبٌ مَحْذُوفٌ أَيْضًا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ جَعَلْنا معتديا إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَالْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ أَوْلَى، لِكَثْرَةِ الْإِضْمَارِ في هذا الوجه. المسألة الثانية: المولي لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: الْمُعْتَقُ، لِأَنَّهُ وَلِيُّ نِعْمَتِهِ فِي عِتْقِهِ، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى مَوْلَى النِّعْمَةِ. وَثَانِيهَا: الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ، لِاتِّصَالِ وِلَايَةِ مَوْلَاهُ فِي إِنْعَامِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا كَمَا يُسَمَّى الطَّالِبُ غَرِيمًا، لِأَنَّ لَهُ اللُّزُومَ وَالْمُطَالَبَةَ بِحَقِّهِ، وَيُسَمَّى الْمَطْلُوبُ غَرِيمًا لِكَوْنِ الدِّينِ لَازِمًا لَهُ. وَثَالِثُهَا: الْحَلِيفُ لِأَنَّ الْمُحَالِفَ يَلِي أَمْرَهُ بِعَقْدِ الْيَمِينِ. وَرَابِعُهَا: ابْنُ الْعَمِّ، لِأَنَّهُ يَلِيهِ بِالنُّصْرَةِ لِلْقَرَابَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا. وَخَامِسُهَا: الْمَوْلَى الْوَلِيُّ لِأَنَّهُ يَلِيهِ بِالنُّصْرَةِ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [محمد: 11] وسادسها:

الَعَصَبَةُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا هَذَا الْمَعْنَى، وَيُؤَكِّدُهُ مَا رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مَنْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَمَالُهُ لِلْمَوَالِي الْعَصَبَةِ وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا فَأَنَا وَلِيُّهُ» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اقْسِمُوا هَذَا الْمَالَ فَمَا أَبْقَتِ السِّهَامُ فلأولي عصبة ذكر» . ثم قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: عَقَدَتْ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَبِالتَّخْفِيفِ، وَالْبَاقُونَ بِالْأَلِفِ وَالتَّخْفِيفِ، وَعَقَدَتْ: أَضَافَتِ الْعَقْدَ إِلَى وَاحِدٍ، وَالِاخْتِيَارُ: عَاقَدَتْ، لِدَلَالَةِ الْمُفَاعَلَةِ عَلَى عَقْدِ الْحَلِفِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَيْمَانُ. جَمْعُ يَمِينٍ، وَالْيَمِينُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْيَدُ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْقَسَمُ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْيَدَ فَفِيهِ مَجَازٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُعَاقَدَةَ مُسْنَدَةٌ فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ إِلَى الْأَيْدِي، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مُسْنَدَةٌ إِلَى الْحَالِفِينَ، وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الْمَجَازِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَضْرِبُونَ صَفْقَةَ الْبَيْعِ بِأَيْمَانِهِمْ، وَيَأْخُذُ بَعْضُهُمْ بِيَدِ بَعْضٍ عَلَى الْوَفَاءِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْعَهْدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْمَجَازِ: وَهُوَ أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ بِحَلِفِهِمْ أَيْمَانُكُمْ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَحَسُنَ هَذَا الْحَذْفُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَالَّذِينَ عَاقَدَتْهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الذِّكْرَ الْعَائِدَ مِنَ الصِّلَةِ إِلَى الْمَوْصُولِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا فَسَّرْنَا الْيَمِينَ بِالْيَدِ. أَمَّا إِذَا فَسَّرْنَاهَا بِالْقَسَمِ وَالْحَلِفِ كَانَتِ الْمُعَاقَدَةُ فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ مُضَافَةً إِلَى الْقَسَمِ، وَإِنَّمَا حَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّ سَبَبَ الْمُعَاقَدَةِ لَمَّا كَانَ هُوَ الْيَمِينُ حَسُنَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ، وَالْقَوْلُ فِي بَقِيَّةِ الْمَجَازَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ أَمَّا الْقَائِلُونَ بِالنَّسْخِ فَهُمُ الَّذِينَ فَسَّرُوا الْآيَةَ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي نَذْكُرُهَا. فَالْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ: الْحُلَفَاءُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُعَاقِدُ غَيْرَهُ وَيَقُولُ: دَمِي دَمُكَ وَسِلْمِي سِلْمُكَ، وَحَرْبِي حَرْبُكَ، وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ، وَتَعْقِلُ عَنِّي وَأَعْقِلُ عَنْكَ، فَيَكُونُ لِهَذَا الْحَلِيفِ السُّدْسُ مِنَ الْمِيرَاثِ، فَنُسِخَ ذلك بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الأنفال: 75] وبقوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ كَانَ يَتَّخِذُ إِنْسَانًا أَجْنَبِيًّا ابْنًا لَهُ، وَهُمُ الْمُسَمَّوْنَ بِالْأَدْعِيَاءِ، وَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِذَلِكَ السَّبَبِ ثُمَّ نُسِخَ. الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُثْبِتُ الْمُؤَاخَاةَ بَيْنَ كُلِّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْمُؤَاخَاةُ سَبَبًا لِلتَّوَارُثِ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى كُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ كَانَتِ الْمُعَاقَدَةُ سَبَبًا لِلتَّوَارُثِ بِقَوْلِهِ: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ثُمَّ إِنَّ اللَّه تَعَالَى نَسَخَ ذَلِكَ بِالْآيَاتِ الَّتِي تَلَوْنَاهَا. الْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْآيَةُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَالْقَائِلُونَ بِذَلِكَ ذَكَرُوا فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَلِكُلِّ شَيْءٍ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ مَوَالِيَ وَرَثَةً فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ، أَيْ فَآتُوا الْمُوَالِيَ وَالْوَرَثَةَ نَصِيبَهُمْ، فقوله: والذين عاقدت أَيْمَانُكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا تَرَكَ الَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَلَهُ وَارِثٌ هُوَ أَوْلَى بِهِ، وَسَمَّى اللَّه تَعَالَى الْوَارِثَ مَوْلَى. وَالْمَعْنَى لَا

تَدْفَعُوا الْمَالَ إِلَى الْحَلِيفِ، بَلْ إِلَى الْمَوْلَى وَالْوَارِثِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا نَسْخَ فِي الْآيَةِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ. الثَّانِي: الْمُرَادُ بِالَّذِينِ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ: الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ، وَالنِّكَاحُ يُسَمَّى عَقْدًا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَعْزِمُوا/ عُقْدَةَ النِّكاحِ [الْبَقَرَةِ: 235] فَذَكَرَ تَعَالَى الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَذَكَرَ مَعَهُمُ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ، وَنَظِيرُهُ آيَةُ الْمَوَارِيثِ فِي أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ مِيرَاثَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدَيْنِ ذَكَرَ مَعَهُمْ مِيرَاثَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا نَسْخَ فِي الْآيَةِ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: والذين عاقدت أَيْمَانُكُمْ الْمِيرَاثَ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ الْوَلَاءِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا نَسْخَ أَيْضًا. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ المراد من الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ الْحُلَفَاءَ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ النُّصْرَةَ وَالنَّصِيحَةَ وَالْمُصَافَاةَ فِي الْعِشْرَةِ، وَالْمُخَالَصَةَ فِي الْمُخَالَطَةِ، فَلَا يَكُونُ الْمُرَادُ التَّوَارُثَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا نَسْخَ أَيْضًا. الْخَامِسُ: نُقِلَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَفِي ابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حَلَفَ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَلَا يُوَرِّثَهُ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَمَرَهُ اللَّه أَنْ يُؤْتِيَهُ نَصِيبَهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا نَسْخَ أَيْضًا. السَّادِسُ: قَالَ الْأَصَمُّ: إِنَّهُ نَصِيبٌ عَلَى سَبِيلِ التُّحْفَةِ وَالْهَدِيَّةِ بِالشَّيْءِ الْقَلِيلِ، كَمَا أَمَرَ تَعَالَى لِمَنْ حَضَرَ الْقِسْمَةَ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ نَصِيبٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ حسنة محتملة واللَّه أعلم بمراده. المسألة الرابعة: القائلون بأن قوله: والذين عاقدت أَيْمَانُكُمْ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرَهُ قَوْلُهُ: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ قَالُوا: إِنَّمَا جَاءَ خَبَرُهُ مَعَ الْفَاءِ لِتَضَمُّنِ «الَّذِي» مَعْنَى الشَّرْطِ فَلَا جَرَمَ وَقَعَ خَبَرُهُ مَعَ الْفَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يكون منصوبا على قولك: زيدا فاضربه. المسألة الْخَامِسَةُ: قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: لَا يَرِثُ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ مِنَ الْأَعْلَى. وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ: يَرِثُ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ، فَمَاتَ الْمُعْتِقُ وَلَمْ يَتْرُكْ إِلَّا الْمُعْتَقَ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيرَاثَهُ لِلْغُلَامِ الْمُعْتَقِ، وَلِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: والذين عاقدت أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ. وَالْجَوَابُ عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْحَدِيثِ: أَنَّهُ لَعَلَّ ذَلِكَ الْمَالَ لَمَّا صَارَ لِبَيْتِ الْمَالِ دَفَعَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى ذَلِكَ الْغُلَامِ لِحَاجَتِهِ وَفَقْرِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ مَالًا لَا وَارِثَ لَهُ، فَسَبِيلُهُ أَنْ يُصْرَفَ إِلَى الْفُقَرَاءِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَاهُ وَعَاقَدَهُ ثُمَّ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، أَنَّهُ لَا يَرِثُهُ بَلْ مِيرَاثُهُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: يَرِثُهُ حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ وَلِكُلِّ شَيْءٍ مِمَّا تَرَكَهُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَقَدْ جَعَلْنَا لَهُ مَوَالِيَ وَهُمُ الْعُصْبَةُ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ الْعُصْبَةُ إِمَّا الْخَاصَّةُ وَهُمُ الْوَرَثَةُ، وَإِمَّا الْعَامَّةُ وَهُمْ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ، فَوَجَبَ صَرْفُ هَذَا الْمَالِ إِلَى الْعُصْبَةِ الْعَامَّةِ مَا لَمْ تُوجَدِ الْعُصْبَةُ الْخَاصَّةُ، وَاحْتَجَّ/ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ لِقَوْلِهِ بِأَنَّ الْآيَةَ تُوجِبُ الْمِيرَاثَ لِلَّذِي وَالَاهُ وَعَاقَدَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَسَخَهُ بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الأنفال: 75] فهذا النسخ إنما يحصل إذا وجد أولوا الْأَرْحَامِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدُوا لَزِمَ بَقَاءُ الْحُكْمِ كما كان.

[سورة النساء (4) : آية 34]

وَالْجَوَابُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْحَلِيفَ يَرِثُ، بَلْ بَيَّنَّا أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْقَوْلَ بِهَذَا النَّسْخِ بَاطِلٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً وَهُوَ كَلِمَةُ وَعْدٍ لِلْمُطِيعِينَ، وَكَلِمَةُ وَعِيدٍ لِلْعُصَاةِ وَالشَّهِيدُ الشَّاهِدُ وَالْمُشَاهِدُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ إِمَّا عِلْمُهُ تَعَالَى بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ، وَإِمَّا شَهَادَتُهُ عَلَى الْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِكُلِّ مَا عَمِلُوهُ. وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ: الشَّهِيدُ هُوَ الْعَالِمُ، وعلى التقدير الثاني: هو المخبر. [سورة النساء (4) : آية 34] الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النساء: 32] وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ النِّسَاءَ تَكَلَّمْنَ فِي تَفْضِيلِ اللَّه الرِّجَالَ عَلَيْهِنَّ فِي الْمِيرَاثِ، فَذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ إِنَّمَا فَضَّلَ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْمِيرَاثِ، لِأَنَّ الرِّجَالَ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ، فَإِنَّهُمَا وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي اسْتِمْتَاعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، أَمَرَ اللَّه الرِّجَالَ أَنْ يَدْفَعُوا إِلَيْهِنَّ الْمَهْرَ، وَيُدِرُّوا عَلَيْهِنَّ النَّفَقَةَ فَصَارَتِ الزِّيَادَةُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مُقَابَلَةً بِالزِّيَادَةِ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَكَأَنَّهُ لَا فَضْلَ الْبَتَّةَ، فَهَذَا هُوَ بيان كيفية النظم. [في قَوْلُهُ تَعَالَى الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقِوَامُ اسْمٌ لِمَنْ يَكُونُ مُبَالِغًا فِي الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ، يُقَالُ: هَذَا قَيِّمُ الْمَرْأَةِ وَقِوَامُهَا لِلَّذِي يَقُومُ بِأَمْرِهَا وَيَهْتَمُّ بِحِفْظِهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي بِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ وَزَوْجِهَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ أَحَدِ نُقَبَاءِ الْأَنْصَارِ، فَإِنَّهُ لَطَمَهَا لَطْمَةً فَنَشَزَتْ عَنْ فِرَاشِهِ وَذَهَبَتْ إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَذَكَرَتْ هَذِهِ الشِّكَايَةَ، وَأَنَّهُ لَطَمَهَا وَأَنَّ أَثَرَ اللَّطْمَةِ بَاقٍ فِي وَجْهِهَا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اقْتَصِّي مِنْهُ ثُمَّ قَالَ لَهَا اصْبِرِي حَتَّى أَنْظُرَ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ أَيْ مُسَلَّطُونَ عَلَى أَدَبِهِنَّ وَالْأَخْذِ فَوْقَ أَيْدِيهِنَّ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ أَمِيرًا عَلَيْهَا وَنَافِذَ الْحُكْمِ فِي حَقِّهَا، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَدْنَا أَمْرًا وَأَرَادَ اللَّه أَمْرًا وَالَّذِي أَرَادَ اللَّه خَيْرٌ» وَرَفَعَ الْقِصَاصَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَثْبَتَ لِلرِّجَالِ سَلْطَنَةً عَلَى النِّسَاءِ وَنَفَاذَ أَمْرٍ عَلَيْهِنَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مُعَلَّلٌ بِأَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [النساء: 34] . واعلم أن فضل الرجل عَلَى النِّسَاءِ حَاصِلٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، بَعْضُهَا صِفَاتٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَبَعْضُهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، أَمَّا الصِّفَاتُ الْحَقِيقِيَّةُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْفَضَائِلَ الْحَقِيقِيَّةَ يَرْجِعُ حَاصِلُهَا إِلَى أَمْرَيْنِ: إِلَى الْعِلْمِ، وَإِلَى الْقُدْرَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عُقُولَ الرِّجَالِ وَعُلُومَهُمْ أَكْثَرُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قُدْرَتَهُمْ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ أَكْمَلُ، فَلِهَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ حَصَلَتِ الْفَضِيلَةُ لِلرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْعَقْلِ وَالْحَزْمِ وَالْقُوَّةِ، وَالْكِتَابَةِ فِي الْغَالِبِ وَالْفُرُوسِيَّةِ وَالرَّمْيِ، وَإِنَّ مِنْهُمُ الْأَنْبِيَاءَ وَالْعُلَمَاءَ، وَفِيهِمُ الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى وَالْجِهَادُ وَالْأَذَانُ وَالْخُطْبَةُ وَالِاعْتِكَافُ وَالشَّهَادَةُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي الْأَنْكِحَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَزِيَادَةُ النَّصِيبِ فِي الْمِيرَاثِ وَالتَّعْصِيبُ فِي الْمِيرَاثِ، وَفِي تَحَمُّلِ الدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ وَالْخَطَأِ، وَفِي الْقَسَامَةِ وَالْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَعَدَدِ

الْأَزْوَاجِ، وَإِلَيْهِمْ الِانْتِسَابُ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ. وَالسَّبَبُ الثَّانِي: لِحُصُولِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ يَعْنِي الرَّجُلُ أَفْضَلُ مِنَ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ يُعْطِيهَا الْمَهْرَ وَيُنْفِقُ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَسَمَ النِّسَاءَ قِسْمَيْنِ، فَوَصَفَ الصَّالِحَاتِ مِنْهُنَّ بِأَنَّهُنَّ قانتات حافظات للغيب بما حفظ اللَّه، [في قوله تعالى فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَالصَّوَالِحُ قَوَانِتُ حَوَافِظُ لِلْغَيْبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَانِتَاتٌ، أَيْ مُطِيعَاتٌ للَّه، حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ أَيْ قَائِمَاتٌ بِحُقُوقِ الزَّوْجِ، وَقَدَّمَ قَضَاءَ حَقِّ اللَّه ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ حَقِّ الزَّوْجِ. الثَّانِي: أَنَّ حَالَ الْمَرْأَةِ إِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ عِنْدَ حُضُورِ الزَّوْجِ أَوْ عِنْدَ غَيْبَتِهِ، أَمَّا حَالُهَا عِنْدَ حُضُورِ الزَّوْجِ فَقَدْ وَصَفَهَا اللَّه بِأَنَّهَا قَانِتَةٌ، وَأَصْلُ الْقُنُوتِ دَوَامُ الطَّاعَةِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُنَّ قَيِّمَاتٌ بِحُقُوقِ/ أَزْوَاجِهِنَّ، وَظَاهِرُ هَذَا إِخْبَارٌ، إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْأَمْرُ بِالطَّاعَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكُونُ صَالِحَةً إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُطِيعَةً لِزَوْجِهَا، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْجَمْعِ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ تَكُونُ صَالِحَةً، فَهِيَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ قَانِتَةً مُطِيعَةً. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَفْظُ الْقُنُوتِ يُفِيدُ الطَّاعَةَ، وَهُوَ عَامٌّ فِي طَاعَةِ اللَّه وَطَاعَةِ الْأَزْوَاجِ، وَأَمَّا حَالُ الْمَرْأَةِ عِنْدَ غَيْبَةِ الزَّوْجِ فَقَدْ وَصَفَهَا اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَيْبَ خِلَافُ الشَّهَادَةِ، وَالْمَعْنَى كَوْنُهُنَّ حَافِظَاتٍ بِمَوَاجِبِ الْغَيْبِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَحْفَظُ نَفْسَهَا عَنِ الزِّنَا لِئَلَّا يَلْحَقَ الزَّوْجَ الْعَارُ بِسَبَبِ زِنَاهَا، وَلِئَلَّا يَلْتَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ الْمُتَكَوِّنُ مِنْ نُطْفَةِ غَيْرِهِ، وَثَانِيهَا: حِفْظُ مَالِهِ عَنِ الضَّيَاعِ، وَثَالِثُهَا: حِفْظُ مَنْزِلِهِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي، وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ النِّسَاءِ إِنْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ وَإِنْ أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ وَإِنْ غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي مَالِكَ وَنَفْسِهَا» ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: «مَا» فِي قَوْلِهِ: بِما حَفِظَ اللَّهُ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ إِلَيْهِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: بِمَا حَفِظَهُ اللَّه لَهُنَّ، وَالْمَعْنَى أَنَّ عَلَيْهِنَّ أَنْ يَحْفَظْنَ حُقُوقَ الزَّوْجِ فِي مُقَابَلَةِ مَا حَفِظَ اللَّه حُقُوقَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِالْعَدْلِ عَلَيْهِنَّ وَإِمْسَاكِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَإِعْطَائِهِنَّ أُجُورَهُنَّ، فَقَوْلُهُ: بِما حَفِظَ اللَّهُ يَجْرِي مَجْرَى مَا يُقَالُ: هَذَا بِذَاكَ، أَيْ هَذَا فِي مُقَابَلَةِ ذَاكَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ «مَا» مَصْدَرِيَّةً، وَالتَّقْدِيرُ: بِحِفْظِ اللَّه، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُنَّ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّه إِيَّاهُنَّ، أَيْ لَا يَتَيَسَّرُ لَهُنَّ حِفْظٌ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّه، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْفَاعِلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى: هُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِنَّمَا تَكُونُ حَافِظَةً لِلْغَيْبِ بِسَبَبِ حِفْظِهِنَّ اللَّه أَيْ بِسَبَبِ حِفْظِهِنَّ حُدُودَ اللَّه وَأَوَامِرَهُ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَوْلَا أَنَّهَا تُحَاوِلُ رِعَايَةَ تَكَالِيفِ اللَّه وَتَجْتَهِدُ فِي حِفْظِ أَوَامِرِهِ لَمَا أَطَاعَتْ زَوْجَهَا، وَهَذَا الْوَجْهُ يَكُونُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الصَّالِحَاتِ ذَكَرَ بَعْدَهُ غَيْرَ الصَّالِحَاتِ، فَقَالَ: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَوْفَ عِبَارَةٌ عَنْ حَالٍ يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ عِنْدَ ظَنِّ حُدُوثِ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ النُّشُوزُ قَدْ يَكُونُ قَوْلًا، وَقَدْ يَكُونُ فِعْلًا، فَالْقَوْلُ مِثْلَ أَنْ

كَانَتْ تُلَبِّيهِ إِذَا دَعَاهَا، وَتَخْضَعُ لَهُ بِالْقَوْلِ إِذَا خَاطَبَهَا ثُمَّ تَغَيَّرَتْ، وَالْفِعْلُ مِثْلَ أَنْ كَانَتْ تَقُومُ إِلَيْهِ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا، أَوْ كَانَتْ تُسَارِعُ إِلَى أَمْرِهِ وَتُبَادِرُ إِلَى فِرَاشِهِ بِاسْتِبْشَارٍ إِذَا الْتَمَسَهَا، ثُمَّ إِنَّهَا تَغَيَّرَتْ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ، فَهَذِهِ أَمَارَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى نُشُوزِهَا وَعِصْيَانِهَا، فَحِينَئِذٍ ظَنُّ نُشُوزِهَا/ وَمُقَدِّمَاتُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ تُوجِبُ خَوْفَ النُّشُوزِ. وَأَمَّا النُّشُوزُ فَهُوَ مَعْصِيَةُ الزَّوْجِ وَالتَّرَفُّعُ عَلَيْهِ بِالْخِلَافِ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ نَشَزَ الشَّيْءُ إِذَا ارْتَفَعَ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْأَرْضِ المرتفعة: ونشز وَنَشَرَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: أَمَّا الْوَعْظُ فَإِنَّهُ يَقُولُ لَهَا: اتَّقِي اللَّه فَإِنَّ لِي عَلَيْكِ حَقًّا وَارْجِعِي عَمَّا أَنْتِ عَلَيْهِ، وَاعْلَمِي أَنَّ طَاعَتِي فَرْضٌ عَلَيْكِ وَنَحْوُ هَذَا، وَلَا يَضْرِبُهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهَا فِي ذَلِكَ كِفَايَةٌ، فَإِنْ أَصَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّشُوزِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَهْجُرُهَا فِي الْمَضْجَعِ وَفِي ضِمْنِهِ امْتِنَاعُهُ مِنْ كَلَامِهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ. وَلَا يَزِيدُ فِي هَجْرِهِ الْكَلَامَ ثَلَاثًا، وَأَيْضًا فَإِذَا هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ فان كانت تحب الزوج شق ذلك عَلَيْهَا فَتَتْرُكُ النُّشُوزَ، وَإِنْ كَانَتْ تُبْغِضُهُ وَافَقَهَا ذَلِكَ الْهِجْرَانُ، فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى كَمَالِ نُشُوزِهَا، وَفِيهِمْ مَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى الْهِجْرَانِ فِي الْمُبَاشَرَةِ، لِأَنَّ إِضَافَةَ ذَلِكَ إِلَى الْمَضَاجِعِ يُفِيدُ ذَلِكَ، ثُمَّ عِنْدَ هَذِهِ الْهِجْرَةِ إِنْ بَقِيَتْ عَلَى النُّشُوزِ ضَرَبَهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: وَالضَّرْبُ مُبَاحٌ وَتَرْكُهُ أَفْضَلُ. رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ تَمْلِكُ رِجَالُنَا نِسَاءَهُمْ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَوَجَدْنَا نِسَاءَهُمْ تَمْلِكُ رِجَالَهُمْ، فاختلطت نساؤنا بنسائهم فَذَئِرْنَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، أَيْ نَشَزْنَ وَاجْتَرَأْنَ، فَأَتَيْتُ النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقلت: ذَئِرَتِ النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، فَأَذِنَ فِي ضَرْبِهِنَّ فَطَافَ بِحُجَرِ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمْعٌ مِنَ النِّسْوَانِ كُلُّهُنَّ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ، فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ أَطَافَ اللَّيْلَةَ بِآلِ مُحَمَّدٍ سَبْعُونَ امْرَأَةً كُلُّهُنَّ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ وَلَا تَجِدُونَ أُولَئِكَ خِيَارَكُمْ» وَمَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِينَ ضَرَبُوا أَزْوَاجَهُمْ لَيْسُوا خَيْرًا مِمَّنْ لَمْ يَضْرِبُوا. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ الضَّرْبِ، فَأَمَّا إِذَا ضَرَبَهَا وَجَبَ فِي ذَلِكَ الضَّرْبِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ مُفْضِيًا إِلَى الْهَلَاكِ الْبَتَّةَ، بِأَنْ يَكُونَ مُفَرَّقًا عَلَى بَدَنِهَا، ولا يوالي بها فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَيَتَّقِي الْوَجْهَ لِأَنَّهُ مَجْمَعُ الْمَحَاسِنِ، وَأَنْ يَكُونَ دُونَ الْأَرْبَعِينَ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَبْلُغُ بِهِ عِشْرِينَ لِأَنَّهُ حَدٌّ كَامِلٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ بِمِنْدِيلٍ مَلْفُوفٍ أَوْ بِيَدِهِ، وَلَا يَضْرِبُهَا بِالسِّيَاطِ وَلَا بِالْعَصَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَالتَّخْفِيفُ مُرَاعَى فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ. وَأَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى ابْتَدَأَ بِالْوَعْظِ، ثُمَّ تَرَقَّى مِنْهُ إِلَى الْهِجْرَانِ فِي الْمَضَاجِعِ، ثُمَّ تَرَقَّى مِنْهُ إِلَى الضَّرْبِ، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ يَجْرِي مَجْرَى التَّصْرِيحِ فِي أَنَّهُ مَهْمَا حَصَلَ الْغَرَضُ بِالطَّرِيقِ الْأَخَفِّ وَجَبَ الِاكْتِفَاءُ بِهِ، وَلَمْ يَجُزِ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَشَقِّ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا قَالَ بَعْضُهُمْ: حُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ مَشْرُوعٌ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَإِنَّ ظَاهِرَ/ اللَّفْظِ وَإِنْ دَلَّ عَلَى الْجَمْعِ إِلَّا أَنَّ فَحْوَى الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ، قَالَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ: يَعِظُهَا بِلِسَانِهِ، فَإِنِ انْتَهَتْ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا، فَإِنْ أَبَتْ هَجَرَ مَضْجَعَهَا، فَإِنْ أَبَتْ ضَرَبَهَا، فَإِنْ لَمْ تَتَّعِظْ بِالضَّرْبِ بَعَثَ الْحَكَمَيْنِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا التَّرْتِيبُ مُرَاعًى عِنْدَ خَوْفِ النُّشُوزِ، أَمَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ النُّشُوزِ فَلَا بَأْسَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْكُلِّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: تَحْرِيرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ لَهُ عِنْدَ خَوْفِ النُّشُوزِ أَنْ يَعِظَهَا، وَهَلْ لَهُ أَنْ يَهْجُرَهَا؟ فِيهِ احْتِمَالٌ، وَلَهُ عِنْدَ إِبْدَاءِ النُّشُوزِ أَنْ يَعِظَهَا أَوْ يَهْجُرَهَا، أَوْ يضربها.

[سورة النساء (4) : آية 35]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ أَيْ إِذَا رَجَعْنَ عَنِ النُّشُوزِ إِلَى الطَّاعَةِ عِنْدَ هَذَا التَّأْدِيبِ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أَيْ لَا تَطْلُبُوا عَلَيْهِنَّ الضَّرْبَ وَالْهِجْرَانَ طَرِيقًا عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ وَالْإِيذَاءِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً وَعُلُوُّهُ لَا بِعُلُوِّ الْجِهَةِ، وَكِبَرُهُ لَا بِكِبَرِ الْجُثَّةِ، بَلْ هُوَ عَلِيٌّ كَبِيرٌ لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَنَفَاذِ مَشِيئَتِهِ فِي كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ. وَذِكْرُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَهْدِيدُ الْأَزْوَاجِ عَلَى ظُلْمِ النِّسْوَانِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُنَّ إن ضَعُفْنَ عَنْ دَفْعِ ظُلْمِكُمْ وَعَجَزْنَ عَنْ الِانْتِصَافِ مِنْكُمْ، فاللَّه سُبْحَانَهُ عَلِيٌّ قَاهِرٌ كَبِيرٌ قَادِرٌ يَنْتَصِفُ لَهُنَّ مِنْكُمْ وَيَسْتَوْفِي حَقَّهُنَّ مِنْكُمْ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَغْتَرُّوا بِكَوْنِكُمْ أَعْلَى يَدًا مِنْهُنَّ، وَأَكْبَرَ دَرَجَةً مِنْهُنَّ. الثَّانِي: لَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ إِذَا أَطَعْنَكُمْ لِعُلُوِّ أَيْدِيكُمْ. فَإِنَّ اللَّه أَعْلَى مِنْكُمْ وَأَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ مُتَعَالٍ عَنْ أَنْ يُكَلَّفَ إِلَّا بِالْحَقِّ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى مَعَ عُلُوِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ لَا يُكَلِّفُكُمْ إِلَّا مَا تُطِيقُونَ، فَكَذَلِكَ لَا تُكَلِّفُوهُنَّ مَحَبَّتَكُمْ، فَإِنَّهُنَّ لَا يَقْدِرْنَ عَلَى ذَلِكَ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ مَعَ عُلُوِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ لَا يُؤَاخِذُ الْعَاصِي إِذَا تَابَ، بَلْ يَغْفِرُ لَهُ، فَإِذَا تَابَتِ الْمَرْأَةُ عَنْ نُشُوزِهَا فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِأَنْ تَقْبَلُوا تَوْبَتَهَا وَتَتْرُكُوا مُعَاقَبَتَهَا. الْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى مَعَ عُلُوِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ اكْتَفَى مِنَ الْعَبْدِ بِالظَّوَاهِرِ، وَلَمْ يَهْتِكِ السَّرَائِرَ، فَأَنْتُمْ أَوْلَى أَنْ تَكْتَفُوا بِظَاهِرِ حَالِ الْمَرْأَةِ، وَأَنْ لَا تَقَعُوا فِي التَّفْتِيشِ عَمَّا فِي قلبها وضميرها من الحب والبعض. [سورة النساء (4) : آية 35] وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ عِنْدَ نُشُوزِ الْمَرْأَةِ أَنَّ الزَّوْجَ يَعِظُهَا، ثُمَّ يَهْجُرُهَا، ثُمَّ يَضْرِبُهَا، بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ/ يَبْقَ بَعْدَ الضَّرْبِ إِلَّا الْمُحَاكَمَةُ إِلَى مَنْ يُنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنَ الظَّالِمِ فَقَالَ: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما إِلَى آخر الآية وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خِفْتُمْ أَيْ عَلِمْتُمْ. قَالَ: وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَإِنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الظَّنِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّ فِي الِابْتِدَاءِ يَظْهَرُ لَهُ أَمَارَاتُ النُّشُوزِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْصُلُ الْخَوْفُ وَأَمَّا بَعْدَ الْوَعْظِ وَالْهَجْرِ وَالضَّرْبِ لَمَّا أَصَرَّتْ عَلَى النُّشُوزِ، فَقَدْ حَصَلَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهَا نَاشِزَةً: فوجب حمل الخوف هاهنا عَلَى الْعِلْمِ. طَعَنَ الزَّجَّاجُ فِيهِ فَقَالَ: خِفْتُمْ هاهنا بِمَعْنَى أَيْقَنْتُمْ خَطَأٌ، فَإِنَّا لَوْ عَلِمْنَا الشِّقَاقَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَمْ نَحْتَجْ إِلَى الْحَكَمَيْنِ. وَأَجَابَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّ وُجُودَ الشِّقَاقِ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا، إِلَّا أَنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الشِّقَاقَ صَدَرَ عَنْ هَذَا أَوْ عَنْ ذَاكَ، فَالْحَاجَةُ إِلَى الْحُكْمَيْنِ لِمَعْرِفَةِ هَذَا الْمَعْنَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: وُجُودُ الشِّقَاقِ فِي الْحَالِ مَعْلُومٌ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ خَوْفٌ، إِنَّمَا الْخَوْفُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَبْقَى ذَلِكَ الشِّقَاقُ أَمْ لَا؟ فَالْفَائِدَةُ فِي بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ لَيْسَتْ إِزَالَةَ الشِّقَاقِ الثَّابِتِ فِي الْحَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ، بَلِ الْفَائِدَةُ إِزَالَةُ ذَلِكَ الشِّقَاقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِلشِّقَاقِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَفْعَلُ مَا يَشُقُّ عَلَى صَاحِبِهِ. الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَارَ فِي شِقٍّ بِالْعَدَاوَةِ وَالْمُبَايَنَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: شِقاقَ بَيْنِهِما مَعْنَاهُ: شِقَاقًا بَيْنَهُمَا، إِلَّا أَنَّهُ أُضِيفَ الْمَصْدَرُ إِلَى الظَّرْفِ وَإِضَافَةُ الْمَصَادِرِ إِلَى الظُّرُوفِ جَائِزَةٌ لِحُصُولِهَا فِيهَا، يُقَالُ: يُعْجِبُنِي صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ: 33] .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ مَنْ هُوَ؟ فِيهِ خِلَافٌ: قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ هُوَ الْإِمَامُ أَوْ مَنْ يَلِي مَنْ قِبَلَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَنْفِيذَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَيْهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ صَالِحِي الأمة وذلك لأن قوله: خِفْتُمْ خطاب للجميع وَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْبَقِيَّةِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْكُلِّ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَإِنْ خِفْتُمْ خِطَابًا لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ قَالَ فَابْعَثُوا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَمْرًا لِآحَادِ الْأُمَّةِ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَثَبَتَ أَنَّهُ سَوَاءٌ وُجِدَ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، فَلِلصَّالِحِينَ أَنْ يَبْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا لِلْإِصْلَاحِ. وَأَيْضًا فَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى دَفْعِ الضَّرَرِ، وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَقُومَ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا وَقَعَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا، فَذَاكَ الشِّقَاقُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْهُ أَوْ مِنْهَا، أَوْ يُشْكِلُ، فَإِنْ كَانَ مِنْهَا فَهُوَ النُّشُوزُ وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ فِعْلًا حَلَالًا/ مِثْلَ التَّزَوُّجِ بِامْرَأَةٍ أُخْرَى، أَوْ تَسَرَّى بِجَارِيَةٍ، عَرَفَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ وَنُهِيَتْ عَنِ الشِّقَاقِ، فَإِنْ قَبِلَتْ وَإِلَّا كَانَ نُشُوزًا، وَإِنْ كَانَ بِظُلْمٍ مِنْ جِهَتِهِ أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِالْوَاجِبِ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمَا أَوْ كَانَ الْأَمْرُ مُتَشَابِهًا، فَالْقَوْلُ أَيْضًا مَا قُلْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْعَثَ الْحَاكِمُ عَدْلَيْنِ وَيَجْعَلَهُمَا حَكَمَيْنِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِهِ وَوَاحِدٌ مِنْ أَهْلِهَا، لِأَنَّ أَقَارِبَهُمَا أَعْرَفُ بِحَالِهِمَا مِنَ الْأَجَانِبِ، وَأَشَدُّ طَلَبًا لِلصَّلَاحِ، فَإِنْ كَانَا أَجْنَبِيَّيْنِ جَازَ. وَفَائِدَةُ الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَخْلُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ وَيَسْتَكْشِفَ حَقِيقَةَ الْحَالِ، لِيَعْرِفَ أَنَّ رَغْبَتَهُ فِي الْإِقَامَةِ عَلَى النِّكَاحِ، أَوْ فِي الْمُفَارَقَةِ، ثُمَّ يَجْتَمِعُ الْحَكَمَانِ فَيَفْعَلَانِ مَا هُوَ الصَّوَابُ من إيقاع طلاق أو خلع. المسألة السَّابِعَةُ: هَلْ يَجُوزُ لِلْحَكَمَيْنِ تَنْفِيذُ أَمْرٍ يُلْزِمُ الزَّوْجَيْنِ بِدُونِ إِذْنِهِمَا، مِثْلَ أَنْ يُطَلِّقَ حَكَمُ الرَّجُلِ، أَوْ يَفْتَدِيَ حَكَمُ الْمَرْأَةِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهَا؟ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، وَبِهِ قال مالك وإسحاق. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَلَى هَذَا هُوَ وَكَالَةٌ كَسَائِرِ الْوَكَالَاتِ وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حَدِيثَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَهُوَ مَا رَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ أَنَّهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمْعٌ مِنَ النَّاسِ، فَأَمَرَهُمْ عَلِيٌّ بِأَنْ يَبْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ قَالَ لِلْحَكَمَيْنِ: تَعْرِفَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟ عَلَيْكُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا فَاجْمَعَا، وَإِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا فَفَرِّقَا، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: رَضِيتُ بِكِتَابِ اللَّه تَعَالَى فِيمَا عَلَيَّ وَلِيَ فِيهِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: أَمَّا الْفُرْقَةُ فَلَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: كَذَبْتَ واللَّه حَتَّى تُقِرَّ بِمِثْلِ الَّذِي أَقَرَّتْ بِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ دَلِيلٌ. أَمَّا دَلِيلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنَّهُ بُعِثَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الزَّوْجَيْنِ وَقَالَ: عَلَيْكُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا فَاجْمَعَا، وَأَقَلُّ مَا فِي قَوْلِهِ: عَلَيْكُمَا، أَنْ يَجُوزَ لَهُمَا ذَلِكَ. وَأَمَّا دَلِيلُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ الزَّوْجَ لَمَّا لَمْ يَرْضَ تَوَقَّفَ عَلِيٌّ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: كَذَبْتَ، أَيْ لَسْتَ بِمُنْصِفٍ فِي دَعْوَاكَ حَيْثُ لَمْ تَفْعَلْ مَا فَعَلَتْ هِيَ. وَمِنَ النَّاسِ مَنِ احْتَجَّ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُمَا حَكَمَيْنِ وَالْحَكَمُ هُوَ الْحَاكِمُ وَإِذَا جَعَلَهُ حَاكِمًا فَقَدْ مَكَّنَهُ مِنَ الْحُكْمِ، وَمِنْهُمْ مَنِ احْتَجَّ لِلْقَوْلِ الثَّانِي بِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْحَكَمَيْنِ، لَمْ يُضِفْ إِلَيْهِمَا إِلَّا الْإِصْلَاحَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا وَرَاءَ الْإِصْلَاحِ غَيْرَ مُفَوَّضٍ إِلَيْهِمَا.

[سورة النساء (4) : آية 36]

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما أَيْ شِقَاقًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، ثُمَّ إِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُهُمَا إِلَّا أَنَّهُ جَرَى ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: إِنْ يُرِيدا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: إِنْ يُرِدِ الْحَكَمَانِ خَيْرًا وَإِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّه بَيْنَ الْحَكَمَيْنِ حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ. الثَّانِي: إِنْ يُرِدِ الْحَكَمَانِ إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّه بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. الثَّالِثُ: إِنْ يُرِدِ الزَّوْجَانِ إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّه بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. الرَّابِعُ: إِنْ يَرِدِ الزَّوْجَانِ إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّه بَيْنَ الْحَكَمَيْنِ حَتَّى يَعْمَلَا بِالصَّلَاحِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَصْلُ التَّوْفِيقِ الْمُوَافَقَةُ، وَهِيَ الْمُسَاوَاةُ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، فَالتَّوْفِيقُ اللُّطْفُ الَّذِي يَتَّفِقُ عِنْدَهُ فِعْلُ الطَّاعَةِ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتِمُّ شَيْءٌ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّه تَعَالَى، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتْ نِيَّةُ الْحَكَمَيْنِ إِصْلَاحَ ذَاتِ الْبَيْنِ يُوَفِّقِ اللَّه بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْوَعِيدُ لِلزَّوْجَيْنِ وَلِلْحَكَمَيْنِ فِي سُلُوكِ مَا يُخَالِفُ طريق الحق. [سورة النساء (4) : آية 36] وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) النَّوْعُ التَّاسِعُ: مِنَ التَّكَالِيفِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السورة قوله تعالى: وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرْشَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الْمُعَامَلَةِ الْحَسَنَةِ مَعَ الْآخَرِ وَإِلَى إِزَالَةِ الْخُصُومَةِ وَالْخُشُونَةِ، أَرْشَدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى سَائِرِ الْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ وَذَكَرَ مِنْهَا عَشَرَةَ أَنْوَاعٍ. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَاعْبُدُوا اللَّهَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى وَحِّدُوهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَةَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ وَتَرْكٍ يُؤْتَى بِهِ لِمُجَرَّدِ أَمْرِ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ، وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَجَمِيعُ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ ذَلِكَ بِالتَّوْحِيدِ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي الْعِبَادَةِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ. [الْبَقَرَةِ: 21] النَّوْعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْعِبَادَةِ بِقَوْلِهِ: وَاعْبُدُوا اللَّهَ أَمَرَ بِالْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ بِقَوْلِهِ: وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً لِأَنَّ مَنْ عَبَدَ مَعَ اللَّه غَيْرَهُ كَانَ مُشْرِكًا وَلَا يَكُونُ مُخْلِصًا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الْبَيِّنَةِ: 5] . النَّوْعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً واتفقوا على أن هاهنا مَحْذُوفًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا كَقَوْلِهِ: فَضَرْبَ الرِّقابِ [مُحَمَّدٍ: 4] أَيْ فَاضْرِبُوهَا، وَيُقَالُ: أَحْسَنْتُ بِفُلَانٍ، وَإِلَى فُلَانٍ. قَالَ كُثَيِّرٌ: أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةٌ ... لدنيا وَلَا مَقْلِيَةً إِنْ تَقَلَّتِ

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَرَنَ إِلْزَامَ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ بِعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ فِي مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا: فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْإِسْرَاءِ: 23] وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لُقْمَانَ: 14] وَكَفَى بِهَذَا دَلَالَةً عَلَى تَعْظِيمِ حَقِّهِمَا وَوُجُوبِ بِرِّهِمَا وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْبِرِّ إِلَيْهِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً [الْإِسْرَاءِ: 23] وَقَالَ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً [الْعَنْكَبُوتِ: 8] وَقَالَ فِي الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ: وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً [لُقْمَانَ: 15] وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ باللَّه وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ» وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اليمين اسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «هَلْ لَكَ أَحَدٌ بِالْيَمَنِ فَقَالَ أَبَوَايَ فَقَالَ: أَبَوَاكَ أَذِنَا لَكَ فَقَالَ لَا فَقَالَ فَارْجِعْ وَاسْتَأْذِنْهُمَا فَإِنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا» . وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْوَالِدَيْنِ هُوَ أَنْ يَقُومَ بِخِدْمَتِهِمَا، وَأَلَّا يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِمَا، وَلَا يَخْشُنَ فِي الْكَلَامِ مَعَهُمَا، وَيَسْعَى فِي تَحْصِيلِ مَطَالِبِهِمَا وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ الْقُدْرَةِ مِنَ الْبِرِّ، وَأَنْ لَا يُشْهِرَ عَلَيْهِمَا سِلَاحًا، وَلَا يَقْتُلَهُمَا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إِلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَخَافَ أَنْ يَقْتُلَهُ إِنْ تَرَكَ قَتْلَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ قَدْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِتَمْكِينِ غَيْرِهِ مِنْهُ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى حَنْظَلَةَ بْنَ أَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبَ عَنْ قَتْلِ أَبِيهِ وَكَانَ مُشْرِكًا. النَّوْعُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِذِي الْقُرْبى وَهُوَ أَمْرٌ بِصِلَةِ الرَّحِمِ كَمَا ذكر في أول السورة بقوله: وَالْأَرْحامَ [النساء: 1] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْأَقَارِبِ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّ قَرَابَةَ الْوِلَادِ لَمَّا كَانَتْ مَخْصُوصَةً بِكَوْنِهَا أَقْرَبَ الْقَرَابَاتِ وَكَانَتْ مَخْصُوصَةً بِخَوَاصَّ لَا تَحْصُلُ فِي غَيْرِهَا، لَا جَرَمَ مَيَّزَهَا اللَّه تَعَالَى فِي الذِّكْرِ عَنْ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ، فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَرَابَةَ الْوِلَادِ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِقَرَابَةِ الرَّحِمِ. النَّوْعُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: وَالْيَتامى وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَتِيمَ مَخْصُوصٌ بِنَوْعَيْنِ مِنَ الْعَجْزِ: أَحَدُهُمَا: الصِّغَرُ، وَالثَّانِي: عَدَمُ الْمُنْفِقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ هَذَا حَالُهُ كَانَ فِي غَايَةِ الْعَجْزِ وَاسْتِحْقَاقِ الرَّحْمَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَرْفُقُ بِهِمْ وَيُرَبِّيهِمْ وَيَمْسَحُ رَأْسَهُمْ، وَإِنْ كَانَ وَصِيًّا لَهُمْ فَلْيُبَالِغْ فِي حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ. النَّوْعُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ: وَالْمَساكِينِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَدِيمَ الْمَالِ إِلَّا أَنَّهُ لِكِبَرِهِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْرِضَ حَالَ نَفْسِهِ عَلَى الْغَيْرِ، فَيَجْلِبُ بِهِ نَفْعًا أَوْ يَدْفَعُ بِهِ ضَرَرًا، وَأَمَّا الْيَتِيمُ فَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَدَّمَ اللَّه الْيَتِيمَ فِي الذِّكْرِ عَلَى الْمِسْكِينِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْمِسْكِينِ إِمَّا بِالْإِجْمَالِ إِلَيْهِ، أَوْ بِالرَّدِّ الْجَمِيلِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضُّحَى: 9] . النَّوْعُ السَّابِعُ: قَوْلُهُ: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى قِيلَ: هُوَ الَّذِي قَرُبَ جِوَارُهُ، وَالْجَارُ الْجُنُبُ هُوَ الَّذِي بَعُدَ جِوَارُهُ. قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ أَلَا وَإِنَّ الْجِوَارَ أَرْبَعُونَ دَارًا» وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَقُولُ: أَرْبَعُونَ يُمْنَةً، وَأَرْبَعُونَ يُسْرَةً، وَأَرْبَعُونَ أَمَامًا وَأَرْبَعُونَ خَلْفًا. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّ فُلَانَةً تَصُومُ النَّهَارَ وَتُصَلِّي الليل وفي لسنانها شَيْءٌ يُؤْذِي جِيرَانَهَا، أَيْ هِيَ سَلِيطَةٌ، فَقَالَ عليه الصلاة

وَالسَّلَامُ: «لَا خَيْرَ فِيهَا هِيَ فِي النَّارِ» وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يُؤَدِّي حَقَّ الْجَارِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّه وَقَلِيلٌ مَا هُمْ أَتَدْرُونَ مَا حَقُّ الْجَارِ إِنِ افْتَقَرَ أَغْنَيْتَهُ وَإِنِ اسْتَقْرَضَ أَقْرَضْتَهُ وَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ هَنَّأْتَهُ وَإِنْ أَصَابَهُ شَرٌّ عَزَّيْتَهُ وَإِنْ مَرِضَ عُدْتَهُ وَإِنْ مَاتَ شَيَّعْتَ جَنَازَتَهُ» وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى: الْقَرِيبَ النَّسِيبَ، وَبِالْجَارِ الْجُنُبِ: الْجَارَ الْأَجْنَبِيَّ، وَقُرِئَ (وَالْجَارَ ذَا الْقُرْبَى) نَصْبًا عَلَى الِاخْتِصَاصِ، كَمَا قُرِئَ حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [الْبَقَرَةِ: 238] تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ حَقِّهِ، لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ مُوجِبَانِ. الْجِوَارُ وَالْقَرَابَةُ. النَّوْعُ الثَّامِنُ: قَوْلُهُ: وَالْجارِ الْجُنُبِ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْجُنُبُ نَعْتٌ عَلَى وَزْنِ فُعُلٍ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ ضِدَّ الْقَرَابَةِ وَهُوَ الْبَعِيدُ. يُقَالُ: رَجُلٌ جُنُبٌ إِذَا كَانَ غَرِيبًا مُتَبَاعِدًا عَنْ أَهْلِهِ، وَرَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ وَهُوَ الْبَعِيدُ مِنْكَ فِي الْقَرَابَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ [إِبْرَاهِيمَ: 35] أَيْ بَعِّدْنِي، وَالْجَانِبَانِ النَّاحِيَتَانِ لِبُعْدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ، وَمِنْهُ الْجَنَابَةُ مِنَ الْجِمَاعِ لِتَبَاعُدِهِ عَنِ الطَّهَارَةِ وَعَنْ حُضُورِ الْمَسَاجِدِ لِلصَّلَاةِ مَا لَمْ يَغْتَسِلْ، وَمِنْهُ أَيْضًا الْجَنْبَانِ لِبُعْدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ. وَرَوَى الْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: وَالْجارِ الْجُنُبِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُرِيدُ بِالْجَنْبِ النَّاحِيَةَ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَالْجَارِ ذِي الْجُنُبِ فَحَذَفَ الْمُضَافَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى مَفْهُومٌ وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ وَصْفًا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ كَرَمٌ وَجُودٌ. النَّوْعُ التَّاسِعُ: قَوْلُهُ: وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَهُوَ الَّذِي صَحِبَكَ بِأَنْ حَصَلَ بِجَنْبِكَ إِمَّا رَفِيقًا فِي/ سَفَرٍ، وَإِمَّا جَارًا مُلَاصِقًا، وَإِمَّا شَرِيكًا فِي تَعَلُّمٍ أَوْ حِرْفَةٍ، وَإِمَّا قَاعِدًا إِلَى جَنْبِكَ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَسْجِدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، مِنْ أَدْنَى صُحْبَةٍ الْتَأَمَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، فَعَلَيْكَ أَنْ تَرْعَى ذَلِكَ الْحَقَّ وَلَا تَنْسَاهُ وَتَجْعَلَهُ ذَرِيعَةً إِلَى الْإِحْسَانِ. قيل: الصاحب بالجنب: الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تَكُونُ مَعَكَ وَتَضْجَعُ إِلَى جَنْبِكَ. النَّوْعُ الْعَاشِرُ: قَوْلُهُ: وَابْنِ السَّبِيلِ وَهُوَ الْمُسَافِرُ الَّذِي انْقَطَعَ عَنْ بَلَدِهِ، وَقِيلَ: الضَّيْفُ. النَّوْعُ الْحَادِي عَشَرَ: قَوْلُهُ: وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْمَمَالِيكِ طَاعَةٌ عَظِيمَةٌ، رَوَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عليه وسلم قال: «من ابْتَاعَ شَيْئًا مِنَ الْخَدَمِ فَلَمْ تُوَافِقْ شِيمَتُهُ شِيمَتَهُ فَلْيَبِعْ وَلْيَشْتَرِ حَتَّى تُوَافِقَ شِيمَتُهُ شِيمَتَهُ فَإِنَّ لِلنَّاسِ شِيَمًا وَلَا تُعَذِّبُوا عِبَادَ اللَّه» وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ: «الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلٌ بِالْمَدِينَةِ يَضْرِبُ عَبْدَهُ، فَيَقُولُ الْعَبْدُ أَعُوذُ باللَّه وَيَسْتَمِعُهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالسَّيِّدُ كَانَ يَزِيدُهُ ضَرْبًا، فَطَلَعَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَعُوذُ بِرَسُولِ اللَّه فَتَرَكَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه كَانَ أَحَقَّ أَنْ يُجَارَ عَائِذُهُ» قَالَ يَا رَسُولَ اللَّه فَإِنَّهُ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّه، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تَقُلْهَا لَدَافَعَ وَجْهُكَ سَفْعَ النَّارِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يُكَلِّفَهُمْ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَثَانِيهَا: أَنْ لَا يُؤْذِيهِمْ بِالْكَلَامِ الْخَشِنِ بَلْ يُعَاشِرُهُمْ مُعَاشَرَةً حَسَنَةً، وَثَالِثُهَا: أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنَ الطَّعَامِ وَالْكُسْوَةِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ. وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسِيئُونَ إِلَى الْمَمْلُوكِ فَيُكَلِّفُونَ الْإِمَاءَ الْبِغَاءَ، وَهُوَ الْكَسْبُ بِفُرُوجِهِنَّ وَبُضُوعِهِنَّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُّ

[سورة النساء (4) : آية 37]

حَيَوَانٍ فَهُوَ مَمْلُوكٌ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْكُلِّ بِمَا يَلِيقُ بِهِ طَاعَةٌ عَظِيمَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَ الْيَمِينِ تَأْكِيدٌ وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: مَشَتْ رِجْلُكَ، وَأُخِذَتْ يَدُكَ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ» وَقَالَ تَعَالَى: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: 71] وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْأَصْنَافَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً وَالْمُخْتَالُ ذُو الْخُيَلَاءِ وَالْكِبْرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ بِالْمُخْتَالِ الْعَظِيمَ فِي نَفْسِهِ الَّذِي لَا يَقُومُ بِحُقُوقِ أَحَدٍ. قَالَ الزجاج: وإنما ذكر الاختيال هاهنا، لأن المختال يأنف من أقاربه إذا كانوا فقراء، ومن جيرانه إذا كانوا ضعفاء فلا يحسن عشرتهم. وَذَكَرْنَا اشْتِقَاقَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ [آلِ عِمْرَانَ: 14] وَمَعْنَى الْفَخْرِ التَّطَاوُلُ، وَالْفَخُورُ الَّذِي يُعَدِّدُ مَنَاقِبَهُ كِبْرًا وَتَطَاوُلًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الَّذِي يَفْخَرُ عَلَى عِبَادِ اللَّه بِمَا أَعْطَاهُ اللَّه مِنْ أَنْوَاعِ نِعَمِهِ، وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّه تَعَالَى هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ بِالذَّمِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ الْمُخْتَالَ هُوَ الْمُتَكَبِّرُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ مُتَكَبِّرًا فَإِنَّهُ قَلَّمَا يَقُومُ بِرِعَايَةِ الْحُقُوقِ، ثُمَّ أَضَافَ إِلَيْهِ ذَمَّ الْفَخُورِ لِئَلَّا يُقْدِمَ عَلَى رِعَايَةِ هَذِهِ/ الْحُقُوقِ لِأَجْلِ الرِّيَاءِ والسمعة، بل لمحض أمر اللَّه تعالى. [سورة النساء (4) : آية 37] الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: بِالْبُخْلِ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْخَاءِ، وَفِي الْحَدِيدِ مِثْلُهُ، وَهِيَ لُغَةُ الْأَنْصَارِ، وَالْبَاقُونَ بِالْبُخْلِ بِضَمِّ الْبَاءِ وَالْخَاءِ وَهِيَ اللُّغَةُ الْعَالِيَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ: بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً وَالْمَعْنَى: إِنَّ اللَّه لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فخورا ولا يجب الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، أَوْ نَصْبٌ عَلَى الذَّمِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى الذَّمِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَفْعَلُونَ وَيَصْنَعُونَ: أَحِقَّاءُ بِكُلِّ مَلَامَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثالثة: قال الواحدي: البخل فيه أربع اللغات: الْبُخْلُ. مِثْلَ الْقُفْلِ، وَالْبَخَلُ مِثْلَ الْكَرَمِ، وَالْبَخْلِ مِثْلَ الْفَقْرِ، وَالْبُخُلِ بِضَمَّتَيْنِ. ذَكَرَهُ الْمُبَرِّدُ، وَهُوَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عِبَارَةٌ عَنْ مَنْعِ الْإِحْسَانِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ مَنْعُ الْوَاجِبِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُمُ الْيَهُودُ، بَخِلُوا أَنْ يَعْتَرِفُوا بِمَا عَرَفُوا مِنْ نَعْتِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَصِفَتُهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَأَمَرُوا قَوْمَهُمْ أَيْضًا بِالْكِتْمَانِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يَعْنِي مِنَ الْعِلْمِ بِمَا فِي كِتَابِهِمْ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْتَدْنا فِي الْآخِرَةِ لِلْيَهُودِ عَذاباً مُهِيناً وَاحْتَجَّ مَنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ: بِأَنَّ ذِكْرَ الْكَافِرِ فِي آخِرِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأَوَّلِهَا الْكَافِرُ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْبُخْلُ بِالْمَالِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ عَقِيبَ الْآيَةِ الَّتِي أَوْجَبَ فِيهَا رِعَايَةَ حُقُوقِ النَّاسِ بِالْمَالِ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ [النساء: 36] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى هَؤُلَاءِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْمَالِ، ثُمَّ ذَمَّ الْمُعْرِضِينَ عَنْ هَذَا الْإِحْسَانِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً [النساء: 36] ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْبُخْلُ بُخْلًا/ مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا الْبُخْلُ بالمال.

[سورة النساء (4) : آية 38]

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَامٌّ فِي الْبُخْلِ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَفِي الْبُخْلِ بِالْمَالِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ، وَالْكُلُّ مَذْمُومٌ، فَوَجَبَ كَوْنُ اللَّفْظِ مُتَنَاوِلًا لِلْكُلِّ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمَذْمُومَةِ ثَلَاثًا: أَوَّلُهَا: كَوْنُ الْإِنْسَانِ بَخِيلًا وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وثانيها: كونهم آمرين لغيرهم بالخبل، وَهَذَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي حُبِّ الْبُخْلِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَيَكْتُمُونَ مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَيُوهِمُونَ الْفَقْرَ مَعَ الْغِنَى، وَالْإِعْسَارَ مَعَ الْيَسَارِ، وَالْعَجْزَ مَعَ الْإِمْكَانِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْكِتْمَانَ قَدْ يَقَعُ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْكُفْرَ، مِثْلَ أَنْ يُظْهِرَ الشِّكَايَةَ عَنِ اللَّه تَعَالَى، وَلَا يَرْضَى بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَهَذَا يَنْتَهِي إِلَى حَدِّ الْكُفْرِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً وَمَنْ قَالَ: الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْيَهُودِ، فَكَلَامُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ مَنْ كَتَمَ الدِّينَ وَالنُّبُوَّةَ فَهُوَ كَافِرٌ، وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَافِرِ، مَنْ يَكُونُ كَافِرًا بِالنِّعْمَةِ، لا من يكون كافرا بالدين والشرع. [سورة النساء (4) : آية 38] وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنْ شِئْتَ عَطَفْتَ الَّذِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الَّذِينَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا على قوله: لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً [النساء: 37] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ الْوَجْهُ لِذِكْرِ الرِّئَاءِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ النِّفَاقِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ الْمُنْفِقِينَ عَلَى عَدَاوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى أَرْبَابِ الْحَاجَاتِ، بَيَّنَ أَنَّ مَنْ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ قِسْمَانِ: فَالْأَوَّلُ: هُوَ الْبَخِيلُ الَّذِي لَا يُقْدِمُ عَلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ الْبَتَّةَ، وَهُمُ الْمَذْمُومُونَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ/ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء: 37] وَالثَّانِي: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ، لَكِنْ لَا لِغَرَضِ الطَّاعَةِ، بَلْ لِغَرَضِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، فَهَذِهِ الْفِرْقَةُ أَيْضًا مَذْمُومَةٌ، وَمَتَى بَطُلَ الْقَوْلُ بِهَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ. وَهُوَ إِنْفَاقُ الْأَمْوَالِ لِغَرَضِ الْإِحْسَانِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشَّيْطَانَ قَرِينٌ لِأَصْحَابِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزُّخْرُفِ: 36] وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ بِئْسَ الْقَرِينُ، إِذْ كَانَ يُضِلُّهُ عَنْ دَارِ النَّعِيمِ وَيُورِدُهُ نَارَ السَّعِيرِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ [الْحَجِّ: 3، 4] . ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَيَّرَهُمْ وبين سوء اختيارهم في ترك الإيمان. [سورة النساء (4) : آية 39] وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) وَفِيهِ مَسَائِلُ:

[سورة النساء (4) : آية 40]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَماذا عَلَيْهِمْ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «مَاذَا» اسْمًا وَاحِدًا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَأَيُّ الشَّيْءِ عَلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «ذَا» فِي مَعْنَى الَّذِي، وَيَكُونُ «مَا» وَحْدَهَا اسْمًا، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَمَا الَّذِي عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ يَصِحُّ عَلَى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْإِيمَانِ فِي غَايَةِ السُّهُولَةِ، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ مُعْتَبَرًا لَكَانَ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ، فَإِنَّا نَرَى الْمُسْتَدِلِّينَ تَفْرُغُ أَعْمَارُهُمْ وَلَا يَتِمُّ اسْتِدْلَالُهُمْ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ كَافٍ. أَجَابَ الْمُتَكَلِّمُونَ بِأَنَّ الصُّعُوبَةَ فِي التَّفَاصِيلِ، فَأَمَّا الدَّلَائِلُ عَلَى سَبِيلِ الْجُمْلَةِ فَهِيَ سَهْلَةٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذَا الْبَحْثِ غَوْرًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَضَرَبُوا لَهُ أَمْثِلَةً، قَالَ الْجُبَّائِيُّ: وَلَوْ كَانُوا غَيْرَ قَادِرِينَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُولَ اللَّه ذَلِكَ، كَمَا لَا يُقَالُ لِمَنْ هُوَ فِي النَّارِ مُعَذَّبٌ: مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَرَجُوا مِنْهَا وَصَارُوا إِلَى الْجَنَّةِ، وَكَمَا لَا يُقَالُ لِلْجَائِعِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الطَّعَامِ: مَاذَا عَلَيْهِ لَوْ أَكَلَ. وَقَالَ الْكَعْبِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ الْكُفْرَ ثُمَّ يَقُولُ: مَاذَا عَلَيْهِ لَوْ آمَنَ. كَمَا لَا يُقَالُ لِمَنْ أَمْرَضَهُ: مَاذَا عَلَيْهِ لَوْ كَانَ/ صَحِيحًا، وَلَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ: مَاذَا عَلَيْهَا لَوْ كَانَتْ رَجُلًا، وَلِلْقَبِيحِ: مَاذَا عَلَيْهِ لَوْ كَانَ جَمِيلًا، وَكَمَا لَا يَحْسُنُ هَذَا الْقَوْلُ مِنَ الْعَاقِلِ كَذَا لَا يَحْسُنُ مِنَ اللَّه تَعَالَى، فَبَطَلَ بِهَذَا مَا يُقَالُ: إِنَّهُ وَإِنْ قَبُحَ مِنْ غَيْرِهِ، لَكِنَّهُ يَحْسُنُ مِنْهُ لِأَنَّ الْمُلْكَ مُلْكُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ الْعَاقِلُ وَكِيلَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي الضَّيْعَةِ وَيَحْبِسَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مُفَارَقَةِ الْحَبْسِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: مَاذَا عَلَيْكَ لَوْ تَصَرَّفْتَ فِي الضَّيْعَةِ، وَإِذَا كَانَ مَنْ يَذْكُرُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ سَفِيهًا دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى اللَّه تَعَالَى، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِطَرِيقَةِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ قَدْ كَثُرَ لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَمُعَارَضَتُهُمْ بِمَسْأَلَتَيِ الْعِلْمِ وَالدَّاعِي قَدْ كَثُرَتْ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِعَادَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقَصْدَ إِلَى الرِّئَاءِ إِنَّمَا يَكُونُ بَاطِنًا غَيْرَ ظَاهِرٍ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ عَلِيمٌ بِبَوَاطِنِ الْأُمُورِ كَمَا هُوَ عَلِيمٌ بِظَوَاهِرِهَا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَتَى اعْتَقَدَ ذَلِكَ صار ذلك كالرداع لَهُ عَنِ الْقَبَائِحِ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ: مِثْلَ داعية النفاق والرياء والسمعة. [سورة النساء (4) : آية 40] إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) اعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ [النساء: 39] فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنَّ اللَّه لَا يَظْلِمُ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا، فَرَغِبَ بِذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْوَعْدِ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الذَّرَّةُ النَّمْلَةُ الْحَمْرَاءُ الصَّغِيرَةُ فِي قَوْلِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَدْخَلَ يده في

التُّرَابِ ثُمَّ رَفَعَهَا ثُمَّ نَفَخَ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ذَرَّةٌ ومِثْقالَ مِفْعَالٌ مِنَ الثِّقَلِ يُقَالُ: هَذَا عَلَى مِثْقَالِ هَذَا، أَيْ وَزْنِ هَذَا، وَمَعْنَى مِثْقالَ ذَرَّةٍ أَيْ مَا يَكُونُ وَزْنُهُ وَزْنَ الذَّرَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَظْلِمُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ عَلَى أَصْغَرِ/ مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً [يُونُسَ: 44] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ خَالِقًا لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ، لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ ظُلْمَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَلَوْ كَانَ مُوجِدُ ذَلِكَ الظُّلْمِ هُوَ اللَّه تَعَالَى لَكَانَ الظَّالِمُ هُوَ اللَّه، وَأَيْضًا لَوْ خَلَقَ الظُّلْمَ فِي الظَّالِمِ، وَلَا قُدْرَةَ لِذَلِكَ الظَّالِمِ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الظُّلْمِ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَلَا عَلَى دَفْعِهِ بَعْدَ وُجُودِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِمَنْ هَذَا شَأْنُهُ وَصِفَتُهُ: لِمَ ظَلَمْتَ ثُمَّ يُعَاقِبُهُ عَلَيْهِ، كَانَ هَذَا مَحْضَ الظُّلْمِ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الظُّلْمِ. وَالْجَوَابُ: الْمُعَارَضَةُ بِالْعِلْمِ وَالدَّاعِي عَلَى مَا سَبَقَ مِرَارًا لَا حَدَّ لَهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اسْتِدْلَالَاتِ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِنْ كَثُرَتْ وَعَظُمَتْ، إِلَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِالْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالسُّؤَالُ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ مُعَيَّنٌ، وَهُوَ الْمُعَارَضَةُ بِالْعِلْمِ وَالدَّاعِي، فَكُلَّمَا أَعَادُوا ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالَ أَعَدْنَا عَلَيْهِمْ هَذَا السُّؤَالَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الظُّلْمِ لِأَنَّهُ تَمَدَّحَ بِتَرْكِهِ، وَمَنْ تَمَدَّحَ بِتَرْكِ فِعْلٍ قَبِيحٍ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ ذَلِكَ التَّمَدُّحُ، إِلَّا إِذَا كَانَ هُوَ قَادِرًا عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّمِنَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَتَمَدَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَذْهَبُ فِي اللَّيَالِي إِلَى السَّرِقَةِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ تَعَالَى تَمَدَّحَ بِأَنَّهُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَتَمَدَّحَ بِأَنَّهُ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ عَلَى طَاعَتِهِ وَأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يُثِبْهُ لَكَانَ ظَالِمًا، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُثِبْهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ لَكَانَ قَدْ ظَلَمَهُمْ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا كَانُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلثَّوَابِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَهُمْ بِالثَّوَابِ عَلَى تِلْكَ الْأَفْعَالِ، فَلَوْ لَمْ يُثِبْهُمْ عَلَيْهَا لَكَانَ ذَلِكَ فِي صُورَةِ ظُلْمٍ، فَلِهَذَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الظُّلْمِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الظُّلْمَ مُحَالٌ مِنَ اللَّه، أَنَّ الظُّلْمَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْجَهْلِ وَالْحَاجَةِ عِنْدَكُمْ، وَهُمَا مُحَالَانِ عَلَى اللَّه، وَمُسْتَلْزِمُ الْمُحَالِ مُحَالٌ، وَالْمُحَالُ غَيْرُ مَقْدُورٍ. وَأَيْضًا الظُّلْمُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ لَا يَتَصَرَّفُ إِلَّا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، فَيَمْتَنِعُ كَوْنُهُ ظَالِمًا. وَأَيْضًا: الظَّالِمُ لَا يَكُونُ إِلَهًا وَالشَّيْءُ لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا كَانَتْ لَوَازِمُهُ صَحِيحَةً، فَلَوْ صَحَّ مِنْهُ الظُّلْمُ لَكَانَ زَوَالُ إِلَهِيَّتِهِ صَحِيحًا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ إِلَهِيَّتُهُ جَائِزَةَ الزَّوَالِ، وَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ فِي حُصُولِ صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ لَهُ إِلَى مُخَصِّصٍ وَفَاعِلٍ، وَذَلِكَ عَلَى اللَّه مُحَالٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ عِقَابَ قَطْرَةٍ مِنَ الْخَمْرِ يُزِيلُ ثَوَابَ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ/ مُدَّةَ مِائَةِ سَنَةٍ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: هَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ ثواب كل تلك الطاعات العظيمة تلك السنن المتطاولة، أزيد

مِنْ عِقَابِ شُرْبِ هَذِهِ الْقَطْرَةِ، فَإِسْقَاطُ ذَلِكَ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ بِعِقَابِ هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ ظُلْمٌ، وَإِنَّهُ مَنْفِيٌّ بِهَذِهِ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: إِنَّ عِقَابَ الْكَبِيرَةِ يُحْبِطُ ثَوَابَ جُمْلَةِ الطَّاعَاتِ، وَلَا يَنْحَبِطُ مِنْ ذَلِكَ الْعِقَابِ شَيْءٌ. وَقَالَ ابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ: بَلْ يَنْحَبِطُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَشْرُوعَ صَارَ حُجَّةً قَوِيَّةً لِأَصْحَابِنَا فِي بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِالْإِحْبَاطِ فَإِنَّا نَقُولُ: لَوِ انْحَبَطَ ذَلِكَ الثَّوَابُ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يحبط مثله من العقاب أولا يُحْبَطُ، وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ. فَالْقَوْلُ بِالْإِحْبَاطِ بَاطِلٌ. إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ لَا يَجُوزُ انْحِبَاطُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ سَبَبُ عَدَمِ كل واحد منهما وجود الآخر، فلو حصل العدمان معا لحصل الوجودان مَعًا، ضَرُورَةَ أَنَّ الْعِلَّةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ حَاصِلَةً مَعَ الْمَعْلُولِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ انْحِبَاطُ الطَّاعَةِ بِالْمَعْصِيَةِ مَعَ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَنْحَبِطُ بِالطَّاعَةِ، لِأَنَّ تِلْكَ الطَّاعَاتِ لَمْ يَنْتَفِعِ الْعَبْدُ بِهَا الْبَتَّةَ، لَا فِي جَلْبِ ثَوَابٍ، وَلَا فِي دَفْعِ عِقَابٍ وَذَلِكَ ظُلْمٌ، وَهُوَ يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَلَمَّا بَطَلَ الْقِسْمَانِ ثَبَتَ الْقَوْلُ بِفَسَادِ الْإِحْبَاطِ عَلَى مَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ، فَقَالُوا: لَا شَكَّ أَنَّ ثَوَابَ الْإِيمَانِ، وَالْمُدَاوَمَةَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالْإِقْرَارَ بِأَنَّهُ هُوَ الْمَوْصُولُ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَالْمُوَاظَبَةَ عَلَى وَضْعِ الْجَبِينِ عَلَى تُرَابِ الْعُبُودِيَّةِ مِائَةَ سَنَةٍ: أَعْظَمُ ثَوَابًا مِنْ عِقَابِ شُرْبِ الْجُرْعَةِ مِنَ الْخَمْرِ، فَإِذَا حَضَرَ هَذَا الشَّارِبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأُسْقِطَ عَنْهُ قَدْرُ عِقَابِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ مِنْ ذَلِكَ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ فَضَلَ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ قَدْرٌ عَظِيمٌ، فَإِذَا أُدْخِلَ النَّارَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْعِقَابِ، فَلَوْ بَقِيَ هُنَاكَ لَكَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا وَهُوَ بَاطِلٌ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ إِلَى الْجَنَّةِ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الْآيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ حَسَنَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِهِ «كَانَ» التَّامَّةَ، وَالْمَعْنَى: وَإِنْ حَدَثَتْ حَسَنَةٌ، أَوْ وَقَعَتْ حَسَنَةٌ، وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ «كَانَ» النَّاقِصَةِ وَالتَّقْدِيرِ: وَإِنْ تَكْ زِنَةُ الذَّرَّةِ حَسَنَةً. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ (يُضَعِّفْهَا) بِالتَّشْدِيدِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ مِنَ التَّضْعِيفِ، وَالْبَاقُونَ يُضاعِفْها بِالْأَلِفِ وَالتَّخْفِيفِ مِنَ الْمُضَاعَفَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَكُ: أَصْلُهُ مِنْ «كَانَ يَكُونُ» وَأَصْلُهُ «تَكُونُ» سَقَطَتِ الضَّمَّةُ لِلْجَزْمِ، وَسَقَطَتِ الْوَاوُ لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ النُّونِ فَصَارَ «تَكُنْ» ثُمَّ حَذَفُوا النُّونَ أَيْضًا لِأَنَّهَا سَاكِنَةٌ. وَهِيَ/ تُشْبِهُ حُرُوفَ اللِّينِ، وَحُرُوفُ اللِّينِ إِذَا وَقَعَتْ طَرَفًا سَقَطَتْ لِلْجَزْمِ، كَقَوْلِكَ: لَمْ أَدْرِ، أَيْ لَا أَدْرِي وَجَاءَ الْقُرْآنُ بِالْحَذْفِ وَالْإِثْبَاتِ، أَمَّا الْحَذْفُ فَهَهُنَا، وَأَمَّا الْإِثْبَاتُ، فَكَقَوْلِهِ: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً [النِّسَاءِ: 135] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ أَنَّهُ لَا يَبْخَسُهُمْ حَقَّهُمْ أَصْلًا، وَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَزِيدُهُمْ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْمُضَاعَفَةِ لَيْسَ هُوَ الْمُضَاعَفَةُ فِي الْمُدَّةِ، لِأَنَّ مُدَّةَ الثَّوَابِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَتَضْعِيفُ

[سورة النساء (4) : الآيات 41 إلى 42]

غَيْرِ الْمُتَنَاهِي مُحَالٌ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى يُضَعِّفُهُ بِحَسَبِ الْمِقْدَارِ، مَثَلًا يَسْتَحِقُّ عَلَى طَاعَتِهِ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ مِنَ الثَّوَابِ، فَيَجْعَلُهُ عِشْرِينَ جُزْءًا، أَوْ ثَلَاثِينَ جُزْءًا، أَوْ أَزْيَدَ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُنَادِي مُنَادٍ عَلَى رؤوس الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ: هَذَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلْيَأْتِ إِلَى حَقِّهِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: أَعْطِ هَؤُلَاءِ حُقُوقَهُمْ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مِنْ أَيْنَ وَقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ اللَّه لِمَلَائِكَتِهِ: انْظُرُوا فِي أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ فَأَعْطُوهُمْ مِنْهَا فَإِنْ بَقِيَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ حَسَنَةٍ ضَعَّفَهَا اللَّه تَعَالَى لِعَبْدِهِ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَقَالَ الْحَسَنُ: قَوْلُهُ: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها هَذَا أَحَبُّ إِلَى الْعُلَمَاءِ مِمَّا لَوْ قَالَ: فِي الْحَسَنَةِ الْوَاحِدَةِ مِائَةُ أَلْفِ حَسَنَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ يَكُونُ مِقْدَارُهُ مَعْلُومًا أَمَّا عَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ فَلَا يَعْلَمُ كَمِّيَّةُ ذَلِكَ التَّضْعِيفِ إِلَّا اللَّه تَعَالَى، وَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِنَّهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: بَلَغَنِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّه لَيُعْطِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ بِالْحَسَنَةِ الْوَاحِدَةِ أَلْفَ أَلْفَ حَسَنَةٍ، فَقَدَّرَ اللَّه أَنْ ذَهَبْتُ إِلَى مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا فَأَلْفَيْتُهُ فَقُلْتُ: بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ تَقُولُ: إِنَّ اللَّه يُعْطِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ بِالْحَسَنَةِ الْوَاحِدَةِ أَلْفَ أَلْفَ حَسَنَةٍ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمْ أَقُلْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ قُلْتُ: إِنَّ الْحَسَنَةَ تُضَاعَفُ بِأَلْفَيْ أَلْفِ ضِعْفٍ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ: إِذَا قَالَ اللَّه: أَجْراً عَظِيماً فَمَنْ يُقَدِّرُ قَدْرَهُ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَدُنْ: بِمَعْنَى «عِنْدَ» إِلَّا أَنَّ «لَدُنْ» أَكْثَرُ تَمْكِينًا، يَقُولُ الرَّجُلُ: عِنْدِي مَالٌ إِذَا كَانَ مَالُهُ بِبَلَدٍ آخَرَ، وَلَا يُقَالُ: لَدَيَّ مَالٌ وَلَا لَدُنِّي، إِلَّا مَا كَانَ حَاضِرًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَالَّذِي يحظر بِبَالِي وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّه، أَنَّ ذَلِكَ التَّضْعِيفَ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الثَّوَابِ، وَأَمَّا هَذَا الْأَجْرُ/ الْعَظِيمُ فَلَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الثَّوَابِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ التَّضْعِيفَ يَكُونُ مِنْ جنس اللذات الموعد بِهَا فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا هَذَا الْأَجْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي يُؤْتِيهِ مِنْ لَدُنْهُ، فَهُوَ اللَّذَّةُ الْحَاصِلَةُ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ، وَعِنْدَ الِاسْتِغْرَاقِ فِي الْمَحَبَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَا النَّوْعَ بِقَوْلِهِ: مِنْ لَدُنْهُ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْغِبْطَةِ وَالسَّعَادَةِ وَالْبَهْجَةِ وَالْكَمَالِ، لَا يُنَالُ بِالْأَعْمَالِ الْجَسَدَانِيَّةِ، بَلْ إِنَّمَا يُنَالُ بِمَا يُودِعُ اللَّه فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ الْقُدْسِيَّةِ مِنَ الْإِشْرَاقِ وَالصَّفَاءِ وَالنُّورِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَذَلِكَ التَّضْعِيفُ إِشَارَةٌ إِلَى السَّعَادَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَهَذَا الْأَجْرُ العظيم إشارة إلى السعادة الروحانية. [سورة النساء (4) : الآيات 41 الى 42] فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) وَجْهُ النَّظْمِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ فِي الْآخِرَةِ لَا يَجْرِي عَلَى أَحَدٍ ظُلْمٌ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يُجَازِي الْمُحْسِنَ عَلَى إِحْسَانِهِ وَيَزِيدُهُ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي بِشَهَادَةِ الرُّسُلِ الَّذِينَ جَعَلَهُمُ اللَّه الْحُجَّةَ عَلَى الْخَلْقِ، لِتَكُونَ الْحُجَّةُ عَلَى الْمُسِيءِ أَبْلَغَ، وَالتَّبْكِيتُ لَهُ أَعْظَمَ وَحَسْرَتُهُ أَشَدَّ، وَيَكُونَ سُرُورُ مَنْ قَبِلَ ذَلِكَ مِنَ الرَّسُولِ وَأَظْهَرَ الطَّاعَةَ أَعْظَمَ، وَيَكُونَ هَذَا وَعِيدًا لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ قَالَ اللَّه فِيهِمْ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَوَعْدًا لِلْمُطِيعِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّه فيهم: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها [النساء: 40] [في قَوْلُهُ تَعَالَى فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً] وفيه مسائل:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لا بن مَسْعُودٍ: «اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَيَّ» قَالَ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه أَنْتَ الَّذِي عَلَّمْتَنِيهِ فَقَالَ: «أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي» قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَافْتَتَحْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ بَكَى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْقِرَاءَةِ. وَذَكَرَ السُّدِّيُّ أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْهَدُونَ لِلرُّسُلِ بِالْبَلَاغِ، وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْهَدُ لِأُمَّتِهِ بِالتَّصْدِيقِ، فَلِهَذَا قَالَ: جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [الْبَقَرَةِ: 143] وَحُكِيَ عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ [الْمَائِدَةِ: 117] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الشَّيْءِ الَّذِي يَتَوَقَّعُونَهُ: كَيْفَ بِكَ إِذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا فَعَلَ فُلَانٌ كَذَا، وَإِذَا جَاءَ وَقْتُ كَذَا، فَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ: كَيْفَ تَرَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا اسْتَشْهَدَ اللَّه عَلَى كُلِّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهَا، وَاسْتَشْهَدَكَ عَلَى هَؤُلَاءِ، يَعْنِي قَوْمَهُ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ الَّذِينَ شَاهَدَهُمْ وَعَرَفَ أَحْوَالَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ يَشْهَدُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ شَاهَدُوا أَحْوَالَهُمْ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَقَالَ: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ يَقْتَضِي كَوْنَ عِصْيَانِ الرَّسُولِ مُغَايِرًا لِلْكُفْرِ. لِأَنَّ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ غَيْرُ جَائِزٍ، فَوَجَبَ حَمْلُ عِصْيَانِ الرَّسُولِ عَلَى الْمَعَاصِي الْمُغَايِرَةِ لِلْكُفْرِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُمْ كَمَا يُعَاقَبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْكُفْرِ فَيُعَاقَبُونَ أَيْضًا عَلَى تِلْكَ الْمَعَاصِي. لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِتِلْكَ الْمَعْصِيَةِ أَثَرٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى لَمَا كَانَ فِي ذِكْرِ مَعْصِيَتِهِمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَثَرٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو تُسَوَّى مَضْمُومَةَ التَّاءِ خَفِيفَةَ السِّينِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ تُسَوَّى مَفْتُوحَةَ التَّاءِ مُشَدَّدَةَ السِّينِ بِمَعْنَى: تَتَسَوَّى، فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي السِّينِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا، وَلَا يُكْرَهُ اجْتِمَاعُ التَّشْدِيدَيْنِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِأَنَّ لَهَا نَظَائِرَ فِي التَّنْزِيلِ كَقَوْلِهِ: اطَّيَّرْنا بِكَ [النَّمْلِ: 47] وَازَّيَّنَتْ [يُونُسَ: 24] يَذَّكَّرُونَ [الأنعام: 26] وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ اتِّسَاعٌ، وَهُوَ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الْأَرْضِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ تُسَوَّى مَفْتُوحَةَ التَّاءِ وَالسِّينُ خَفِيفَةٌ، حَذَفَا التَّاءَ الَّتِي أَدْغَمَهَا نَافِعٌ، لِأَنَّهَا كَمَا اعْتَلَّتْ بِالْإِدْغَامِ اعْتَلَّتْ بِالْحَذْفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: لَوْ يُدْفَنُونَ فَتُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ كَمَا تُسَوَّى بِالْمَوْتَى. وَالثَّانِي: يَوَدُّونَ أَنَّهُمْ لَمْ يُبْعَثُوا وَأَنَّهُمْ كَانُوا وَالْأَرْضُ سَوَاءٌ. الثَّالِثُ: تَصِيرُ الْبَهَائِمُ تُرَابًا فَيَوَدُّونَ حَالَهَا كقوله: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [النَّبَأِ: 40] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً فِيهِ لِأَهْلِ التَّأْوِيلِ طَرِيقَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ، فَإِذَا جَعَلْنَاهُ مُتَّصِلًا احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: يَوَدُّونَ لَوْ تَنْطَبِقُ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ وَلَمْ يَكُونُوا كَتَمُوا أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا كَفَرُوا بِهِ وَلَا نَافَقُوا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ:

[سورة النساء (4) : آية 43]

الْكِتْمَانُ عَائِدٌ إِلَى مَا كَتَمُوا مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الثَّانِي: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا رَأَوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَلَا يَغْفِرُ/ شِرْكًا، قَالُوا: تَعَالَوْا فَلْنَجْحَدْ فَيَقُولُونَ: واللَّه رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، رَجَاءَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّه لَهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَتَكَلَّمُ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَهُنَالِكَ يَوَدُّونَ أَنَّهُمْ كَانُوا تُرَابًا وَلَمْ يَكْتُمُوا اللَّه حَدِيثًا. الطَّرِيقُ الثَّانِي فِي التَّأْوِيلِ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُسْتَأْنَفٌ، فَإِنَّ مَا عَمِلُوهُ ظَاهِرٌ عِنْدَ اللَّه، فَكَيْفَ يَقْدِرُونَ عَلَى كِتْمَانِهِ؟ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] . وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَوَاطِنَ الْقِيَامَةِ كَثِيرَةٌ، فَمَوْطِنٌ لَا يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه: 108] وَمَوْطِنٌ يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ كَقَوْلِهِ: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [النَّحْلِ: 28] وَقَوْلِهِمْ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فَيَكْذِبُونَ فِي مَوَاطِنَ، وَفِي مَوَاطِنَ يَعْتَرِفُونَ عَلَى أنفسهم بالكفر ويسألون الرجعة وهو قولهم: يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا [الْأَنْعَامِ: 27] وَآخِرُ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ أَنْ يُخْتَمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَتَكَلَّمَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَجُلُودُهُمْ، فَنَعُوذُ باللَّه مِنْ خِزْيِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْكِتْمَانَ غَيْرُ وَاقِعٍ، بَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي التَّمَنِّي عَلَى مَا بَيَّنَّا. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا الْكِتْمَانَ، وَإِنَّمَا أَخْبَرُوا عَلَى حَسَبِ مَا تَوَهَّمُوا، وَتَقْدِيرُهُ: واللَّه مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ عِنْدَ أَنْفُسِنَا، بَلْ مُصِيبِينَ فِي ظُنُونِنَا حَتَّى تَحَقَّقْنَا الْآنَ. وَسَيَجِيءُ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إن شاء اللَّه تعالى. [سورة النساء (4) : آية 43] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) النَّوْعُ الْعَاشِرُ: مِنَ التَّكَالِيفِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السورة. [في قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ صَنَعَ لَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا وَشَرَابًا حِينَ كَانَتِ الْخَمْرُ مُبَاحَةً فَأَكَلُوا وشربوا، فلما تملوا جَاءَ وَقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَقَدَّمُوا أَحَدَهُمْ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ. فَقَرَأَ: أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَأَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَكَانُوا لَا يَشْرَبُونَ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، فَإِذَا صَلُّوا الْعِشَاءَ شَرِبُوهَا، فَلَا يُصْبِحُونَ إِلَّا وَقَدْ/ ذَهَبَ عَنْهُمُ السُّكْرُ وَعَلِمُوا مَا يَقُولُونَ، ثُمَّ نَزَلَ تَحْرِيمُهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ الْخَمْرَ تَضُرُّ بِالْعُقُولِ وَالْأَمْوَالِ، فَأَنْزِلْ فِيهَا أَمْرَكَ فَصَبَّحَهُمُ الْوَحْيُ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَانُوا يَشْرَبُونَهَا ثُمَّ يَأْتُونَ الْمَسْجِدَ لِلصَّلَاةِ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَهَاهُمُ اللَّه عَنْهُ.

المسألة الثانية: في لفظة الصَّلَاةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَسْجِدُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ. وَاعْلَمْ أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَسْجِدِ مُحْتَمَلٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ لَا تَقْرَبُوا مَوْضِعَ الصَّلَاةِ، وَحَذْفُ الْمُضَافِ مُجَازٌ شَائِعٌ، وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ [الْحَجِّ: 40] وَالْمُرَادُ بِالصَّلَوَاتِ مَوَاضِعُ الصَّلَوَاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الصَّلَاةِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَسْجِدُ جَائِزٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَفْسُ الصَّلَاةِ، أَيْ لَا تُصَلُّوا إِذَا كُنْتُمْ سُكَارَى. وَاعْلَمْ أَنَّ فَائِدَةَ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى: لَا تَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ دَالًّا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْجُنُبِ الْعُبُورُ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى، وَلَا تَقْرَبُوهَا حَالَ كَوْنِكُمْ جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ، وَالْمُرَادُ بِعَابِرِ السَّبِيلِ الْمُسَافِرُ، فَيَكُونُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْجُنُبِ الْإِقْدَامُ عَلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَاءِ. قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: هَذَا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَالَ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَالْقُرْبُ وَالْبُعْدُ لَا يَصِحَّانِ عَلَى نَفْسِ الصَّلَاةِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ، إِنَّمَا يَصِحَّانِ عَلَى الْمَسْجِدِ. الثَّانِي: أَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا قُلْنَا لَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ صَحِيحًا، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا قُلْتُمْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، لَأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَابِرَ سَبِيلٍ وَقَدْ عَجَزَ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ الشَّدِيدِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى. الثَّالِثُ: أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا عَابِرَ السَّبِيلِ عَلَى الْجُنُبِ الْمُسَافِرِ، فَهَذَا إِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلْمَاءِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقُرْبُ مِنَ الصَّلَاةِ الْبَتَّةَ، فَحِينَئِذٍ يُحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْآيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِدًا لِلْمَاءِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الصَّلَاةُ إِلَّا مَعَ التَّيَمُّمِ، فَيُفْتَقَرُ إِلَى إِضْمَارِ هَذَا الشَّرْطِ فِي الْآيَةِ، وَأَمَّا عَلَى مَا قُلْنَاهُ فَإِنَّا لَا نَفْتَقِرُ إِلَى إِضْمَارِ شَيْءٍ فِي الْآيَةِ فَكَانَ قَوْلُنَا أَوْلَى. الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَ السَّفَرِ وَعَدَمِ الْمَاءِ، وَجَوَازِ التَّيَمُّمِ بَعْدَ هَذَا، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ هَذَا/ عَلَى حُكْمٍ مَذْكُورٍ فِي آيَةٍ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُهُ أَنَّ الْقُرَّاءَ كُلَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْوَقْفَ عِنْدَ قَوْلِهِ: حَتَّى تَغْتَسِلُوا ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ قَوْلَهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى لِأَنَّهُ حُكْمٌ آخَرُ. وَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَمْ نَحْتَجْ فِيهِ إِلَى هَذِهِ الْإِلْحَاقَاتِ فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى. وَلِمَنْ نَصَرَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ نَفْسُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَيْسَ فِيهِ قَوْلٌ مَشْرُوعٌ يَمْنَعُ السُّكْرَ مِنْهُ، أَمَّا الصَّلَاةُ فَفِيهَا أَقْوَالٌ مَخْصُوصَةٌ يَمْنَعُ السُّكْرَ مِنْهَا، فَكَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا أَوْلَى، وَلِلْقَائِلِ الْأَوَّلِ أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، فَمَا يُخِلُّ بِالصَّلَاةِ كَانَ كَالْمَانِعِ مِنَ الذَّهَابِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلِهَذَا ذُكِرَ هَذَا الْمَعْنَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: السُّكَارَى جَمْعُ سَكْرَانَ، وَكُلُّ نَعْتٍ عَلَى فَعْلَانَ فَإِنَّهُ يُجْمَعُ عَلَى: فَعَالَى وَفُعَالَى، مِثْلَ كَسَالَى وَكُسَالَى، وَأَصْلُ السَّكَرِ فِي اللُّغَةِ سَدُّ الطَّرِيقِ، وَمِنْ ذَلِكَ سَكْرُ الْبَثْقِ وَهُوَ سَدُّهُ، وَسَكِرَتْ عَيْنُهُ سُكْرًا إِذَا تَحَيَّرَتْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا [الْحِجْرِ: 15] أَيْ غُشِيَتْ فليس

يَنْفُذُ نُورُهَا وَلَا تُدْرِكُ الْأَشْيَاءَ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ سَكْرُ الْمَاءِ وَهُوَ رَدُّهُ عَلَى سُنَنِهِ فِي الْجَرْيِ. وَالسُّكْرُ مِنَ الشَّرَابِ وَهُوَ أَنْ يَنْقَطِعَ عَمَّا عَلَيْهِ مِنَ النَّفَاذِ حَالَ الصَّحْوِ، فَلَا يَنْفُذُ رَأْيُهُ عَلَى حَدِّ نَفَاذِهِ فِي حَالِ صَحْوِهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي لَفْظِ السُّكَارَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ السُّكْرُ مِنَ الْخَمْرِ وَهُوَ نَقِيضُ الصَّحْوِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ: وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ سُكْرَ الْخَمْرِ، إِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْهُ سُكْرُ النَّوْمِ، قَالَ: وَلَفْظُ السُّكْرِ يُسْتَعْمَلُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ هَذَا اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لَهُ، وَالدَّلِيلُ دَلَّ عَلَيْهِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لَهُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَا: أَنَّ لَفْظَ السُّكْرِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ سَدِّ الطَّرِيقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عِنْدَ النَّوْمِ تَمْتَلِئُ مَجَارِي الرُّوحِ مِنَ الْأَبْخِرَةِ الْغَلِيظَةِ فَتَنْسَدُّ تِلْكَ الْمَجَارِي بِهَا، وَلَا يَنْفُذُ الرُّوحُ الْبَاصِرُ وَالسَّامِعُ إِلَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ. الثَّانِي: قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: مِنَ السَّيْرِ وَالْإِدْلَاجِ يُحْسَبُ أَنَّمَا ... سَقَاهُ الْكَرَى فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ خَمْرًا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لَهُ فَنَقُولُ: الدَّلِيلُ دَلَّ عَلَيْهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى نَهَاهُمْ عَنِ الْقُرْبِ مِنَ الصَّلَاةِ حَالَ صَيْرُورَتِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ مَا يَقُولُونَ، وَتَوْجِيهُ التَّكْلِيفِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْإِنْسَانِ مُمْتَنِعٌ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، أَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ تَكْلِيفَ مِثْلِ هَذَا الْإِنْسَانِ يَقْتَضِي تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ، وَأَمَّا النَّقْلُ فَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى/ يَفِيقَ وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا السَّكْرَانَ يَكُونُ مِثْلَ الْمَجْنُونِ، فَوَجَبَ ارْتِفَاعُ التَّكْلِيفِ عَنْهُ. وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ فَإِنَّهُ إِذَا صَلَّى وَهُوَ يَنْعِسُ لَعَلَّهُ يَذْهَبُ لِيَسْتَغْفِرَ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ» هَذَا تَقْرِيرُ قَوْلِ الضَّحَّاكِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ السُّكْرِ حَقِيقَةٌ فِي السُّكْرِ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ، فَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى السُّكْرِ مِنَ الْعِشْقِ، أَوْ مِنَ الْغَضَبِ أَوْ مِنَ الْخَوْفِ، أَوْ مِنَ النَّوْمِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مَجَازٌ، وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ مُقَيَّدًا. قَالَ تَعَالَى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ [ق: 19] وَقَالَ: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى [الْحَجِّ: 2] الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ الْمُفَسِّرِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْآيَةَ إِذَا نَزَلَتْ فِي وَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَلِأَجْلِ سَبَبٍ مُعَيَّنٍ، امْتَنَعَ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ السَّبَبُ مُرَادًا بِتِلْكَ الْآيَةِ، فَأَمَّا قَوْلُ الضَّحَّاكِ كَيْفَ يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ حَالَ كَوْنِهِ سَكْرَانَ؟ فَنَقُولُ: وَهَذَا أَيْضًا لا زم عَلَيْكُمْ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: كَيْفَ يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ وَهُوَ نَائِمٌ لَا يَفْهَمُ شَيْئًا؟ ثُمَّ الْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنِ الشُّرْبِ الْمُؤَدِّي إِلَى السُّكْرِ الْمُخِلِّ بِالْفَهْمِ حَالَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، فَخَرَجَ اللَّفْظُ عَنِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ السُّكْرِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ النَّهْيُ عَنِ الشُّرْبِ الْمُوجِبِ لِلسُّكْرِ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ فَذَاكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّكْرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ النَّوْمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ، وَأَقُولُ: الَّذِي يُمْكِنُ ادِّعَاءُ النَّسْخِ فِيهِ أَنَّهُ يُقَالُ: نَهَى عَنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ حَالَ السُّكْرِ مَمْدُودًا إِلَى غَايَةِ أَنْ يَصِيرَ بِحَيْثُ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَالْحُكْمُ الْمَمْدُودُ إِلَى غَايَةٍ يَقْتَضِي انْتِهَاءَ ذَلِكَ الْحُكْمِ عِنْدَ تِلْكَ الْغَايَةِ، فَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ مَعَ السُّكْرِ إِذَا صَارَ بِحَيْثُ يَعْلَمُ مَا

يَقُولُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ فَقَدْ رَفَعَ هَذَا الْجَوَازَ، فَثَبَتَ أَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ نَاسِخَةٌ لِبَعْضِ مَدْلُولَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ. هَذَا مَا خَطَرَ بِبَالِي فِي تَقْرِيرِ هَذَا النَّسْخِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ حَاصِلَ هَذَا النَّهْيِ رَاجِعٌ إِلَى النَّهْيِ عَنِ الشُّرْبِ الْمُوجِبِ لِلسُّكْرِ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَتَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ الضَّعِيفِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ نَسْخًا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ سَكَارَى بِفَتْحِ السِّينِ وَ (سَكْرَى) عَلَى أَنْ يَكُونَ جَمْعًا نَحْوَ: هَلْكَى، وَجَوْعَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ قَوْلُهُ: وَلا جُنُباً عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ سُكارى وَالْوَاوُ هاهنا لِلْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ حَالَ مَا تَكُونُونَ سُكَارَى، وَحَالَ مَا تَكُونُونَ جُنُبًا، وَالْجُنُبُ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، لِأَنَّهُ اسْمٌ جَرَى مَجْرَى الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الْإِجْنَابُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَصْلَ الْجَنَابَةِ الْبُعْدُ، وَقِيلَ لِلَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ: جُنُبٌ، لِأَنَّهُ يَجْتَنِبُ الصَّلَاةَ وَالْمَسْجِدَ وَقِرَاءَةَ الْقُرْآنِ حَتَّى يَتَطَهَّرَ. ثُمَّ قَالَ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الْعُبُورَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعُبُورُ فِي الْمَسْجِدِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ الْمُسَافِرُونَ، وَبَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ ترجيح أحدهما على الآخر. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هاهنا أَصْنَافًا أَرْبَعَةً: الْمَرْضَى، وَالْمُسَافِرِينَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنَ الغائط، والذين لا مسوا النِّسَاءَ. فَالْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ: يُلْجِئَانِ إِلَى التَّيَمُّمِ، وَهُمَا الْمَرَضُ وَالسَّفَرُ. وَالْقِسْمَانِ الْأَخِيرَانِ: يُوجِبَانِ التَّطَهُّرَ بِالْمَاءِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ، وَبِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ: أَمَّا السَّبَبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَرَضُ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَوِ اسْتَعْمَلَ الْمَاءَ لَمَاتَ، كَمَا فِي الْجُدَرِيِّ الشَّدِيدِ وَالْقُرُوحِ الْعَظِيمَةِ، وَثَانِيهَا: أَنْ لَا يَمُوتَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَلَكِنَّهُ يَجِدُ الْآلَامَ الْعَظِيمَةَ. وَثَالِثُهَا: أَنْ لَا يَخَافَ الْمَوْتَ وَالْآلَامَ الشَّدِيدَةَ. لَكِنَّهُ يَخَافُ بَقَاءَ شَيْنٍ أَوْ عَيْبٍ عَلَى الْبَدَنِ، فَالْفُقَهَاءُ جَوَّزُوا التَّيَمُّمَ فِي الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَمَا جَوَّزُوهُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَزَعَمَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ فِي الْكُلِّ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ شَرَطَ جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِلْمَرِيضِ بِعَدَمِ وِجْدَانِ الْمَاءِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً وَإِذَا كَانَ هَذَا الشَّرْطُ/ مُعْتَبَرًا فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ، فَعِنْدَ فِقْدَانِ هَذَا الشَّرْطِ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَانَ يَقُولُ: لَوْ شَاءَ اللَّه لَابْتَلَاهُ بِأَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ. وَدَلِيلُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ تَعَالَى جَوَّزَ التَّيَمُّمَ لِلْمَرِيضِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَنْعِهِ مِنَ التَّيَمُّمِ عِنْدَ وُجُودِهِ، ثُمَّ قَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ على

جَوَازِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أنه أصابته جنابة وكان بِهِ جِرَاحَةٌ عَظِيمَةٌ، فَسَأَلَ بَعْضَهُمْ فَأَمَرَهُ بِالِاغْتِسَالِ، فَلَمَّا اغْتَسَلَ مَاتَ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّه، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ مَا ذَكَرْنَاهُ. السَّبَبُ الثَّانِي: السَّفَرُ: وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ تَيَمَّمَ، طَالَ سَفَرُهُ أَوْ قَصُرَ لِهَذِهِ الْآيَةِ. السَّبَبُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ وَالْغَائِطُ الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ وَجَمْعُهُ الْغِيطَانُ. وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ قَضَاءَ الْحَاجَةِ طَلَبَ غَائِطًا مِنَ الْأَرْضِ يَحْجُبُهُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، ثُمَّ سُمِّيَ الْحَدَثُ بِهَذَا الِاسْمِ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مَكَانِهِ. السَّبَبُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (لَمَسْتُمْ) بِغَيْرِ أَلِفٍ مِنَ اللَّمْسِ، وَالْبَاقُونَ لامَسْتُمُ بِالْأَلِفِ مِنَ الْمُلَامَسَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي اللمس المذكور هاهنا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِمَاعُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، لِأَنَّ اللَّمْسَ بِالْيَدِ لَا يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّ المراد باللمس هاهنا الْتِقَاءُ الْبَشَرَتَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ بِجِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَرْجَحُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ وَاللَّمْسُ حَقِيقَتُهُ الْمَسُّ بِالْيَدِ، فَأَمَّا تَخْصِيصُهُ بِالْجِمَاعِ فَذَاكَ مَجَازٌ، وَالْأَصْلُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: أَوْ لامَسْتُمُ فَهُوَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ اللَّمْسِ، وَذَلِكَ لَيْسَ حَقِيقَةً فِي الْجِمَاعِ أَيْضًا، بَلْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَيْضًا، لِئَلَّا يَقَعَ التَّنَاقُضُ بَيْنَ الْمَفْهُومِ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ الْمُتَوَاتِرَتَيْنِ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِاللَّمْسِ الْجِمَاعُ، بِأَنَّ لَفْظَ اللَّمْسِ وَالْمَسِّ وَرَدَا فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الْبَقَرَةِ: 237] وَقَالَ فِي آيَةِ الظِّهَارِ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [الْمُجَادَلَةِ: 3] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّه حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَعَفُّ وَيَكْنِي، فَعَبَّرَ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ بِالْمُلَامَسَةِ. وَأَيْضًا الْحَدَثُ نَوْعَانِ: الْأَصْغَرُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ فَلَوْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ/ عَلَى الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ لَمَا بَقِيَ لِلْحَدَثِ الْأَكْبَرِ ذِكْرٌ فِي الْآيَةِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرُوهُ عُدُولٌ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ. وَأَيْضًا فَحُكْمُ الْجَنَابَةِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلا جُنُباً فَلَوْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْجَنَابَةِ لَزِمَ التَّكْرَارُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: إِنَّمَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُ اللَّامِسِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ أَمَّا الْمَلْمُوسُ فَلَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عنه: بل ينتقض وضوءهما مَعًا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَسْبَابَ الْأَرْبَعَةَ قَالَ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إِذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَطَلَبَ الْمَاءَ وَلَمْ يَجِدْهُ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى، ثُمَّ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الطَّلَبُ مَرَّةً أُخْرَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَا يَجِبُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً وَعَدَمُ الْوِجْدَانِ مُشْعِرٌ بِسَبْقِ الطَّلَبِ، فَلَا بُدَّ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْ سَبْقِ الطَّلَبِ.

فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُنَا: وَجَدَ، لَا يُشْعِرُ بِسَبْقِ الطَّلَبِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى [الضُّحَى: 7، 8] وَقَوْلِهِ: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ [الْأَعْرَافِ: 102] وَقَوْلِهِ: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً فَإِنَّ الطَّلَبَ عَلَى اللَّه مُحَالٌ. قُلْنَا: الطَّلَبُ وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى مُحَالًا، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ لَائِقًا لِقَوْمِهِ صَارَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ طَلَبَهُ، وَلَمَّا أَمَرَ الْمُكَلَّفِينَ بِالطَّاعَاتِ ثُمَّ إِنَّهُمْ قَصَّرُوا فِيهَا صَارَ كَأَنَّهُ طَلَبَ شَيْئًا ثُمَّ لَمْ يَجِدْهُ، فَخَرَجَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْوِيلِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ الْمَاءَ لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِعَطَشِهِ أَوْ عَطَشِ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ، أَمَّا إِذَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا لَا يَكْفِيهِ لِلْوُضُوءِ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْمَاءِ وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ؟ قَدْ أَوْجَبَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، مُتَمَسِّكًا بِظَاهِرِ لَفْظِ الْآيَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً وفي مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَصْدِ، يُقَالُ: أَمَمْتُهُ وَتَيَمَّمْتُهُ وَتَأَمَّمْتُهُ، أَيْ قصدته وأما الصَّعِيدِ فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الصَّاعِدِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: الصَّعِيدُ وَجْهُ الْأَرْضِ، تُرَابًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَوْ فَرَضْنَا صَخْرًا لَا تُرَابَ عَلَيْهِ فَضَرَبَ الْمُتَيَمِّمُ يَدَهُ عَلَيْهِ وَمَسَحَ كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تُرَابٍ يَلْتَصِقُ بِيَدِهِ. احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: التَّيَمُّمُ هُوَ الْقَصْدُ، وَالصَّعِيدُ هُوَ مَا تَصَاعَدَ مِنَ الْأَرْضِ، فَقَوْلُهُ: فَتَيَمَّمُوا/ صَعِيداً طَيِّباً أَيِ اقْصُدُوا أَرْضًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَدْرُ كَافِيًا. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ هذه الآية هاهنا مُطْلَقَةٌ، وَلَكِنَّهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ مُقَيَّدَةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [الْمَائِدَةِ: 6] وَكَلِمَةُ «مِنْ» لِلتَّبْعِيضِ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى فِي الصَّخْرِ الَّذِي لَا تُرَابَ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ كَلِمَةَ «مِنْ» لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: مَسَحْتُ بِرَأْسِهِ مِنَ الدُّهْنِ وَمِنَ الْمَاءِ وَمِنَ التُّرَابِ: إِلَّا مَعْنَى التَّبْعِيضِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْإِذْعَانُ لِلْحَقِّ أَحَقُّ مِنَ الْمِرَاءِ. الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَوْنَ الصَّعِيدِ طَيِّبًا، وَالْأَرْضُ الطَّيِّبَةُ هِيَ الَّتِي تُنْبِتُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الْأَعْرَافِ: 58] فَوَجَبَ فِي الَّتِي لَا تُنْبِتُ أَنْ لَا تَكُونَ طَيِّبَةً، فَكَانَ قَوْلُهُ: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً أَمْرًا بِالتَّيَمُّمِ بِالتُّرَابِ فَقَطْ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ للوجوب. أَنَّ قَوْلَهُ: صَعِيداً طَيِّباً أَمْرٌ بِإِيقَاعِ التَّيَمُّمِ بِالصَّعِيدِ الطَّيِّبِ، وَالصَّعِيدُ الطَّيِّبُ هُوَ الْأَرْضُ الَّتِي لَا سَبَخَةَ فِيهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّيَمُّمَ بِهَذَا التُّرَابِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَوَجَبَ حَمْلُ الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ عَلَيْهِ رِعَايَةً لِقَاعِدَةِ الِاحْتِيَاطِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ خَصَّصَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ التُّرَابَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَقَالَ: «جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرَابُهَا طَهُورًا» وَقَالَ: «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مَحْمُولٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْكُوعَيْنِ، وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ يَجِبُ مَسْحُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ اسْمَ الْيَدِ يَتَنَاوَلُ جُمْلَةَ هَذَا الْعُضْوِ إِلَى الْإِبِطَيْنِ، إِلَّا أَنَّا أَخْرَجْنَا الْمِرْفَقَيْنِ مِنْهُ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، فَبَقِيَ اللَّفْظُ مُتَنَاوِلًا لِلْبَاقِي. ثُمَّ خَتَمَ تَعَالَى

[سورة النساء (4) : الآيات 44 إلى 45]

الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّرْخِيصِ، وَالتَّيْسِيرِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ يَعْفُو عَنِ الْمُذْنِبِينَ، فبأن يرخص للعاجزين كان أولى. [سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 45] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) [فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ التكاليف والأحكام الشرعية، قطع هاهنا بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَذِكْرِ أَحْوَالِ أَعْدَاءِ الدِّينِ وَأَقَاصِيصِ الْمُتَقَدِّمِينَ، لِأَنَّ الْبَقَاءَ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنَ الْعِلْمِ مِمَّا يُكِلُّ الطَّبْعَ وَيُكَدِّرُ الْخَاطِرَ، فَأَمَّا الِانْتِقَالُ مِنْ نَوْعٍ مِنَ الْعُلُومِ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ يُنَشِّطُ الْخَاطِرَ وَيُقَوِّي الْقَرِيحَةَ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ مَعْنَاهُ: أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ إِلَى هَؤُلَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ [الْبَقَرَةِ: 258] وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ يُشْبِهُ الرُّؤْيَةَ، فَيَجُوزُ جَعْلُ الرُّؤْيَةِ اسْتِعَارَةً عَنْ مِثْلِ هَذَا الْعِلْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ: هُمُ الْيَهُودُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: مِنَ الَّذِينَ هادُوا [النِّسَاءِ: 46] مُتَعَلِّقٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ. الثَّانِي: رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَبْرَيْنِ من أحبار اليهود، كانا يأتيان رأس المنافقان عَبْدَ اللَّه بْنَ أُبَيٍّ وَرَهْطَهُ فَيُثَبِّطُونَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ. الثَّالِثُ: أَنَّ عَدَاوَةَ الْيَهُودِ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ عَدَاوَةِ النَّصَارَى بِنَصِّ الْقُرْآنِ، فَكَانَتْ إِحَالَةُ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى الْيَهُودِ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمْ يَقُلْ تَعَالَى: إِنَّهُمْ أُوتُوا عِلْمَ الْكِتَابِ، بَلْ قَالَ: أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ لِأَنَّهُمْ عَرَفُوا مِنَ التَّوْرَاةِ نُبُوَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمْ يَعْرِفُوا مِنْهَا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا الَّذِينَ أَسْلَمُوا كَعَبْدِ اللَّه بْنِ سَلَامٍ وَعَرَفُوا الْأَمْرَيْنِ، فَوَصَفَهُمُ اللَّه بِأَنَّ مَعَهُمْ عِلْمَ الْكِتَابِ، فَقَالَ: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرَّعْدِ: 43] واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِأَمْرَيْنِ: الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ، أَمَّا الضَّلَالُ فَهُوَ قَوْلُهُ: يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: يُؤْثِرُونَ تَكْذِيبَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِيَأْخُذُوا الرِّشَا عَلَى ذَلِكَ وَيَحْصُلَ لَهُمُ الرِّيَاسَةُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الِاشْتِرَاءِ لِأَنَّ مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا آثَرَهُ. الثَّانِي: أَنَّ فِي الْآيَةِ إِضْمَارًا، وَتَأْوِيلُهُ: يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى كَقَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [الْبَقَرَةِ: 16] أَيْ يَسْتَبْدِلُونَ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، وَلَا إِضْمَارَ عَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ. الثَّالِثُ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَوَامُّ الْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُعْطُونَ أَحْبَارَهُمْ بَعْضَ أَمْوَالِهِمْ وَيَطْلُبُونَ مِنْهُمْ أَنْ يَنْصُرُوا الْيَهُودِيَّةَ وَيَتَعَصَّبُوا لَهَا، فَكَانُوا جَارِينَ مَجْرَى مَنْ يَشْتَرِي بِمَالِهِ الشُّبْهَةَ وَالضَّلَالَةَ، وَلَا إِضْمَارَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَازِلَةً فِي عُلَمَائِهِمْ، ثُمَّ لَمَّا وَصَفَهُمْ تَعَالَى بِالضَّلَالِ وَصَفَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْإِضْلَالِ فَقَالَ: وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ يَعْنِي أَنَّهُمْ يَتَوَصَّلُونَ إِلَى إِضْلَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالتَّلْبِيسِ عَلَيْهِمْ، لِكَيْ يَخْرُجُوا عَنِ الْإِسْلَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَا تَرَى حَالَةً أَسْوَأَ وَلَا أَقْبَحَ مِمَّنْ جَمَعَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي الضَّلَالَ وَالْإِضْلَالَ.

[سورة النساء (4) : آية 46]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ أَيْ هُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِكُنْهِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ وَصُدُورِهِمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ شِدَّةَ عَدَاوَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ، بَيَّنَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَلِيُّ الْمُسْلِمِينَ وَنَاصِرُهُمْ، وَمَنْ كَانَ اللَّه وَلِيًّا لَهُ وَنَاصِرًا لَهُ لَمْ تَضُرَّهُ عَدَاوَةُ الْخَلْقِ، وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: وِلَايَةُ اللَّه لِعَبْدِهِ عِبَارَةٌ عَنْ نُصْرَتِهِ لَهُ، فَذِكْرُ النَّصِيرِ بَعْدَ ذِكْرِ الْوَلِيِّ تَكْرَارٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْوَلِيَّ الْمُتَصَرِّفُ فِي الشَّيْءِ، وَالْمُتَصَرِّفُ فِي الشَّيْءِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نَاصِرًا لَهُ فَزَالَ التَّكْرَارُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ لَمْ يَقُلْ: وَكَفَى باللَّه وَلِيًّا وَنَصِيرًا؟ وَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَكْرِيرِ قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّكْرَارَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ يَكُونُ أَشَدَّ تَأْثِيرًا فِي الْقَلْبِ وَأَكْثَرَ مُبَالَغَةً. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا فَائِدَةُ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا. وَالْجَوَابُ: ذَكَرُوا وُجُوهًا، الْأَوَّلُ: لَوْ قِيلَ: كَفَى اللَّه، كَانَ يَتَّصِلُ الْفِعْلُ بِالْفَاعِلِ. ثم هاهنا زيدت الباء إيذانا بأن الْكِفَايَةَ مِنَ اللَّه لَيْسَتْ كَالْكِفَايَةِ مِنْ غَيْرِهِ فِي الرُّتْبَةِ وَعِظَمِ الْمَنْزِلَةِ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: كَفَى اكْتِفَاؤُكَ باللَّه وَلِيًّا، وَلَمَّا ذُكِرَتْ «كَفَى» دَلَّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ، لِأَنَّهُ مِنْ لَفْظِهِ، كَمَا تَقُولُ: مَنْ كَذَبَ كَانَ شَرًّا لَهُ، أَيْ كَانَ الْكَذِبُ شَرًّا لَهُ، فَأَضْمَرْتَهُ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ الْبَاءَ فِي الْأَصْلِ لِلْإِلْصَاقِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْسُنُ فِي الْمُؤَثِّرِ الَّذِي لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّأْثِيرِ، وَلَوْ قِيلَ: كَفَى اللَّه، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى فَاعِلًا لِهَذِهِ الْكِفَايَةِ، وَلَكِنْ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، فَإِذَا ذَكَرْتَ حَرْفَ الْبَاءِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَفْعَلُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، بَلْ هُوَ تَعَالَى يَتَكَفَّلُ بِتَحْصِيلِ هَذَا الْمَطْلُوبِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ أَحَدٍ، كَمَا قَالَ: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] . [سورة النساء (4) : آية 46] مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ شَرَحَ كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الضَّلَالَةِ وَهِيَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مُتَعَلِّقِ قَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِلَّذِينِ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا، وَالثَّانِي: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: نَصِيراً وَالتَّقْدِيرُ: وَكَفَى باللَّه نَصِيرًا مِنَ الَّذِينَ هَادُوا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الْأَنْبِيَاءِ: 77] الثالث: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، ويُحَرِّفُونَ صِفَتَهُ. تَقْدِيرُهُ: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا قَوْمٌ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ، فَحُذِفَ الْمَوْصُوفُ وَأُقِيمَ الْوَصْفُ مَكَانَهُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ

أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ [النِّسَاءِ: 44] بَقِيَ ذَلِكَ مُجْمَلًا مِنْ وَجْهَيْنِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمِنْ ذَلِكَ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ؟ فَأُجِيبَ وَقِيلَ: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا، ثُمَّ قِيلَ: وَكَيْفَ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ؟ فَأُجِيبَ وَقِيلَ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ. المسألة الثانية: لقائل أن يقول: الجمع المؤنث، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهَا. وَالْجَوَابُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا جَمْعٌ حُرُوفُهُ أَقَلُّ مِنْ حُرُوفِ وَاحِدِهِ، وَكُلُّ جَمْعٍ يَكُونُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَذْكِيرُهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: كَوْنُ الْجَمْعِ مُؤَنَّثًا لَيْسَ أَمْرًا حَقِيقِيًّا، بَلْ هُوَ أَمْرٌ لَفْظِيٌّ، فَكَانَ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ فِيهِ جَائِزًا وَقُرِئَ، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ التَّحْرِيفِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يُبَدِّلُونَ اللَّفْظَ بِلَفْظٍ آخَرَ مِثْلَ تَحْرِيفِهِمُ اسْمَ «رَبْعَةٍ» عَنْ مَوْضِعِهِ فِي التَّوْرَاةِ بِوَضْعِهِمْ «آدَمُ طَوِيلٌ» مَكَانَهُ، وَنَحْوَ تَحْرِيفِهِمُ «الرَّجْمَ» بِوَضْعِهِمُ «الْحَدَّ» بَدَلَهُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 79] . فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُمْكِنُ هَذَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي بَلَغَتْ آحَادُ حُرُوفِهِ وَكَلِمَاتِهِ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ الْمَشْهُورِ/ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ؟ قُلْنَا لَعَلَّهُ يُقَالُ: الْقَوْمُ كَانُوا قَلِيلِينَ، وَالْعُلَمَاءُ بِالْكِتَابِ كَانُوا فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ فَقَدَرُوا عَلَى هَذَا التَّحْرِيفِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحْرِيفِ: إِلْقَاءُ الشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ، وَالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ، وَصَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الْحَقِّ إِلَى مَعْنًى بَاطِلٍ بِوُجُوهِ الْحِيَلِ اللَّفْظِيَّةِ، كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْبِدْعَةِ فِي زَمَانِنَا هَذَا بِالْآيَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِمَذَاهِبِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْأَلُونَهُ عَنْ أَمْرٍ فَيُخْبِرُهُمْ لِيَأْخُذُوا بِهِ، فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ حَرَّفُوا كَلَامَهُ. الْمَسْأَلَةُ الرابعة: ذكر اللَّه تعالى هاهنا: عَنْ مَواضِعِهِ وَفِي الْمَائِدَةِ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ [الْمَائِدَةِ: 41] وَالْفَرْقُ أَنَّا إِذَا فَسَّرْنَا التَّحْرِيفَ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ، فَهَهُنَا قَوْلُهُ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ لِتِلْكَ النُّصُوصِ، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُمْ يُخْرِجُونَ تِلْكَ اللَّفْظَةَ مِنَ الْكِتَابِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَكَانُوا يَذْكُرُونَ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةَ، وَكَانُوا يُخْرِجُونَ اللَّفْظَ أَيْضًا مِنَ الْكِتَابِ، فَقَوْلُهُ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّأْوِيلِ الْبَاطِلِ وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ إِشَارَةٌ إِلَى إِخْرَاجِهِ عَنِ الْكِتَابِ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ ضَلَالَاتِهِمْ: مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا أَمَرَهُمْ بِشَيْءٍ قَالُوا فِي الظَّاهِرِ: سَمِعْنَا، وَقَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ: وَعَصَيْنَا وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ قَوْلَهُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، إِظْهَارًا لِلْمُخَالَفَةِ، وَاسْتِحْقَارًا لِلْأَمْرِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ ضَلَالَتِهِمْ قَوْلُهُ: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ ذُو وَجْهَيْنِ يَحْتَمِلُ الْمَدْحَ وَالتَّعْظِيمَ، وَيَحْتَمِلُ الْإِهَانَةَ وَالشَّتْمَ. أَمَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْمَدْحَ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ مَكْرُوهًا، وَأَمَّا أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلشَّتْمِ وَالذَّمِّ فَذَاكَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا

يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْمَعْ، وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: لَا سَمِعْتَ، فَقَوْلُهُ: غَيْرَ مُسْمَعٍ مَعْنَاهُ: غَيْرَ سَامِعٍ، فَإِنَّ السَّامِعَ مُسْمَعٌ، وَالْمُسْمَعَ سَامِعٌ. الثَّانِي: غَيْرَ مُسْمَعٍ، أَيْ غَيْرَ مَقْبُولٍ مِنْكَ، وَلَا تُجَابُ إِلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ، وَمَعْنَاهُ غَيْرَ مُسْمَعٍ جَوَابًا يُوَافِقُكَ، فَكَأَنَّكَ مَا أَسْمَعْتَ شَيْئًا. الثَّالِثُ: اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ كَلَامًا تَرْضَاهُ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْمَعُهُ لِنُبُوِّ سَمْعِهِ عَنْهُ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِلذَّمِّ وَالْمَدْحِ، فَكَانُوا يَذْكُرُونَهَا لِغَرَضِ الشَّتْمِ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: مِنْ ضَلَالَاتِهِمْ قَوْلُهُمْ: وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ أَمَّا تَفْسِيرُ راعِنا فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ كَلِمَةٌ كَانَتْ تَجْرِي بَيْنَهُمْ عَلَى جِهَةِ الْهُزْءِ وَالسُّخْرِيَةِ، فَلِذَلِكَ نَهَى الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَتَلَفَّظُوا بِهَا فِي حَضْرَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّانِي: / قَوْلُهُ: راعِنا مَعْنَاهُ أَرْعِنَا سَمْعَكَ، أَيِ اصْرِفْ سَمْعَكَ إِلَى كَلَامِنَا وَأَنْصِتْ لِحَدِيثِنَا وَتَفَهَّمْ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُخَاطَبُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، بَلْ إِنَّمَا يُخَاطَبُونَ بِالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ. الثَّالِثُ: كَانُوا يَقُولُونَ رَاعِنَا وَيُوهِمُونَهُ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَرْعِنَا سَمْعَكَ، وَكَانُوا يُرِيدُونَ سَبَّهُ بِالرُّعُونَةِ فِي لُغَتِهِمْ. الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ حَتَّى يَصِيرَ قَوْلُهُمْ: راعِنا رَاعَيْنَا، وَكَانُوا يُرِيدُونَ أَنَّكَ كُنْتَ تَرْعَى أَغْنَامًا لَنَا، وَقَوْلُهُ: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَصْلُ «لَيًّا» لَوْيًا، لِأَنَّهُ مَنْ لَوَيْتُ، وَلَكِنَّ الْوَاوَ أُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ لِسَبْقِهَا بِالسُّكُونِ، وَمِثْلُهُ الطَّيُّ وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ كَانُوا يَقُولُونَ: رَاعِنَا وَيُرِيدُونَ بِهِ الشَّتْمَ، فَذَاكَ هُوَ اللَّيُّ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: غَيْرَ مُسْمَعٍ وَأَرَادُوا بِهِ لَا سَمِعْتَ، فَهَذَا هُوَ اللَّيُّ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يَصِلُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا يُضْمِرُونَهُ مِنَ الشَّتْمِ إِلَى مَا يُظْهِرُونَهُ مِنَ التَّوْقِيرِ عَلَى سَبِيلِ النِّفَاقِ. الثَّالِثُ: لعلهم كانوا يفتلون أشداقهم وألسنتهم عن ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ، كَمَا جرت عادة من يهزأ بإنسان بمثل هذا الْأَفْعَالِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُقْدِمُونَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِطَعْنِهِمْ فِي الدِّينِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِأَصْحَابِهِمْ: إِنَّمَا نَشْتُمُهُ وَلَا يَعْرِفُ، وَلَوْ كَانَ نَبِيًّا لَعَرَفَ ذَلِكَ، فَأَظْهَرَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ فَعَرَّفَهُ خُبْثَ ضَمَائِرِهِمْ، فَانْقَلَبَ مَا فَعَلُوهُ طَعْنًا فِي نُبُوَّتِهِ دَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى نُبُوَّتِهِ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْغَيْبِ مُعْجِزٌ. فَإِنْ قيل: كيف جاءوا بالقول المحتمل للوجهين بعد ما حَرَّفُوا، وَقَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا حَكَيْنَا عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُمْ مَا كَانُوا يُظْهِرُونَ قَوْلَهُمْ: وَعَصَيْنا بَلْ كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ. وَالثَّانِي: هَبْ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ جَمِيعَ الْكَفَرَةِ كَانُوا يُوَاجِهُونَهُ بِالْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ، وَلَا يُوَاجِهُونَهُ بِالسَّبِّ وَالشَّتْمِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا بَدَلَ قَوْلِهِمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا لِعِلْمِهِمْ بِصِدْقِكَ وَلِإِظْهَارِكَ الدَّلَائِلَ وَالْبَيِّنَاتِ مَرَّاتٍ بَعْدَ مَرَّاتٍ، وَبَدَلَ قَوْلِهِمْ: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ قَوْلَهُمْ وَاسْمَعْ، وَبَدَلَ قَوْلِهِمْ: راعِنا قَوْلَهُمْ: انْظُرْنا أَيِ اسْمَعْ مِنَّا مَا نَقُولُ، وَانْظُرْنَا حَتَّى نَتَفَهَّمَ عَنْكَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ عِنْدَ اللَّه وَأَقْوَمَ، أَيْ أَعْدَلَ وَأَصْوَبَ، وَمِنْهُ يُقَالُ: رُمْحٌ قَوِيمٌ أَيْ مُسْتَقِيمٌ، وَقَوَّمْتُ الشَّيْءَ مِنْ عِوَجٍ فَتَقَوَّمَ. ثُمَّ قَالَ: وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا لَعَنَهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَلِيلَ صِفَةٌ لِلْقَوْمِ، وَالْمَعْنَى فَلَا يُؤْمِنُ مِنْهُمْ

[سورة النساء (4) : آية 47]

إِلَّا أَقْوَامٌ قَلِيلُونَ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ الْقَلِيلُ عَبْدَ اللَّه بْنَ سَلَامٍ وَأَصْحَابَهُ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّه مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَلِيلَ صِفَةٌ لِلْإِيمَانِ، وَالتَّقْدِيرُ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا إِيمَانًا قَلِيلًا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ باللَّه وَالتَّوْرَاةِ وَمُوسَى وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى الْأَوَّلِ، قَالَ: لِأَنَّ «قَلِيلًا» لَفْظٌ مُفْرَدٌ، وَلَوْ أُرِيدَ بِهِ نَاسٌ لَجُمِعَ نَحْوَ قَوْلِهِ: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ [الشُّعَرَاءِ: 54] وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فَعِيلٌ مُفْرَدًا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ قَالَ تَعَالَى: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النِّسَاءِ: 69] وقال: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ [الْمَعَارِجِ: 10، 11] فَدَلَّ عَوْدُ الذِّكْرِ مَجْمُوعًا إِلَى الْقَبِيلَيْنِ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِمَا الكثرة. [سورة النساء (4) : آية 47] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) [في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ حَكَى عَنِ الْيَهُودِ أَنْوَاعَ مَكْرِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَقَرَنَ بِهَذَا الْأَمْرِ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ عَلَى التَّرْكِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَانَ يَجِبُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالنَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، حَتَّى يَكُونَ إِيمَانُهُمُ اسْتِدْلَالِيًّا، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ الْإِيمَانِ ابْتِدَاءً فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ مُخْتَصٌّ بِالَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ، وَهَذَا صِفَةُ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ التَّوْرَاةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ [النِّسَاءِ: 44] وَلَمْ يَقُلْ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا عالمين بكل ما في التَّوْرَاةِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَالِمًا بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ التَّوْرَاةَ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى تِلْكَ الدَّلَائِلِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ أَيْ مُصَدِّقًا لِلْآيَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي التَّوْرَاةِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ حَاصِلًا كَانَ ذَلِكَ الْكُفْرُ مَحْضَ الْعِنَادِ، فَلَا جَرَمَ حَسُنَ مِنْهُ تَعَالَى أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَزْمًا، وَأَنْ/ يَقْرِنَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الطَّمْسُ: الْمَحْوُ، تَقُولُ الْعَرَبُ فِي وَصْفِ الْمَفَازَةِ، إِنَّهَا طَامِسَةُ الْأَعْلَامِ وَطَمُسَ الطَّرِيقُ وَطُمِسَ إِذَا دَرَسَ، وَقَدْ طَمَسَ اللَّه عَلَى بَصَرِهِ إِذَا أَزَالَهُ وَأَبْطَلَهُ، وَطَمَسَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ إِذَا مَحَتْهُ، وَطَمَسْتُ الْكِتَابَ مَحَوْتُهُ، وَذَكَرُوا فِي الطَّمْسِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهُوَ طَمْسُ الْوُجُوهِ: وَالثَّانِي: حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَجَازِهِ. أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ طَمْسِ الْوُجُوهِ مَحْوُ تَخْطِيطِ صُوَرِهَا، فَإِنَّ الْوَجْهَ إِنَّمَا يَتَمَيَّزُ عن سائر الأعضاء بما فيه من الْحَوَاسُّ، فَإِذَا أُزِيلَتْ وَمُحِيَتْ كَانَ ذَلِكَ طَمْسًا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها رَدُّ الْوُجُوهِ

إِلَى نَاحِيَةِ الْقَفَا، وَهَذَا الْمَعْنَى إِنَّمَا جَعَلَهُ اللَّه عُقُوبَةً لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْوِيهِ فِي الْخِلْقَةِ وَالْمُثْلَةِ وَالْفَضِيحَةِ، لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَعْظُمُ الْغَمُّ وَالْحَسْرَةُ، فَإِنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُخْتَصٌّ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا سَنُقِيمُ الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ، وَمِمَّا يُقَرِّرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ [الِانْشِقَاقِ: 10] فَإِنَّهُ إِذَا رُدَّتِ الْوُجُوهُ إِلَى الْقَفَا أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ وَرَاءِ ظُهُورِهِمْ، لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ الْعُيُونُ وَالْأَفْوَاهُ الَّتِي بِهَا يُدْرَكُ الْكِتَابُ وَيُقْرَأُ بِاللِّسَانِ. فَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ طَمْسِ الْوُجُوهِ مجازه، ثم ذكروا فيه وجوها: الأول: قال الْحَسَنُ: الْمُرَادُ نَطْمِسُهَا عَنِ الْهُدَى فَنَرُدُّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا، أَيْ عَلَى ضَلَالَتِهَا، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ إِلْقَائِهَا فِي أَنْوَاعِ الْخِذْلَانِ وَظُلُمَاتِ الضَّلَالَاتِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الْأَنْفَالِ: 24] تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي مَبْدَأِ خِلْقَتِهِ أَلِفَ هَذَا الْعَالَمَ الْمَحْسُوسَ، ثُمَّ عِنْدَ الْفِكْرِ وَالْعُبُودِيَّةِ كَأَنَّهُ يُسَافِرُ من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات، فقد أمه عَالَمُ الْمَعْقُولَاتِ، وَوَرَاءَهُ عَالَمُ الْمَحْسُوسَاتِ فَالْمَخْذُولُ هُوَ الَّذِي يُرَدُّ مِنْ قُدَّامِهِ إِلَى خَلْفِهِ كَمَا قال تعالى في صفتهم: ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ [السَّجْدَةِ: 12] . الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالطَّمْسِ الْقَلْبَ وَالتَّغْيِيرَ، وَبِالْوُجُوهِ: رُؤَسَاؤُهُمْ وَوُجَهَاؤُهُمْ، وَالْمَعْنَى مِنْ قَبْلِ أَنْ نُغَيِّرَ أَحْوَالَ وُجَهَائِهِمْ فَنَسْلُبُ مِنْهُمُ الْإِقْبَالَ وَالْوَجَاهَةَ وَنَكْسُوهُمُ الصَّغَارَ وَالْإِدْبَارَ وَالْمَذَلَّةَ. الثَّالِثُ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: هَذَا الْوَعِيدُ قَدْ لَحِقَ الْيَهُودَ وَمَضَى، وَتَأَوَّلَ ذَلِكَ فِي إِجْلَاءِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ إِلَى الشَّامِ، فَرَدَّ اللَّه وُجُوهَهُمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ حِينَ عَادُوا إِلَى أَذْرِعَاتَ وَأَرِيحَاءَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، كَمَا جَاءُوا مِنْهَا بَدْءًا، وَطَمْسُ الْوُجُوهِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَقْبِيحُ صُورَتِهِمْ يُقَالُ: طَمَسَ اللَّه صُورَتَهُ كَقَوْلِهِ: قَبَّحَ اللَّه وَجْهَهُ، وَالثَّانِي: إِزَالَةُ آثَارِهِمْ عَنْ بِلَادِ الْعَرَبِ وَمَحْوُ أَحْوَالِهِمْ عَنْهَا. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى هَدَّدَهُمْ بِطَمْسِ الْوُجُوهِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَلَا إِشْكَالَ الْبَتَّةَ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهُ/ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى مَا جَعَلَ الْوَعِيدَ هُوَ الطَّمْسُ بِعَيْنِهِ، بَلْ جَعَلَ الْوَعِيدَ إِمَّا الطَّمْسُ أَوِ اللَّعْنُ فَإِنَّهُ قَالَ: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَقَدْ فَعَلَ أَحَدَهُمَا وَهُوَ اللَّعْنُ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَوْ نَلْعَنَهُمْ وَظَاهِرُهُ لَيْسَ هُوَ الْمَسْخُ. الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: آمِنُوا تَكْلِيفٌ مُتَوَجِّهٌ عَلَيْهِمْ فِي جَمِيعِ مُدَّةِ حَيَاتِهِمْ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً وَاقِعًا فِي الْآخِرَةِ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: آمِنُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَجِيءَ وَقْتٌ نَطْمِسُ فِيهِ وُجُوهَكُمْ وَهُوَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ. الثَّالِثُ: أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أن قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ خِطَابٌ مَعَ جَمِيعِ عُلَمَائِهِمْ، فَكَانَ التَّهْدِيدُ بِهَذَا الطَّمْسِ مَشْرُوطًا بِأَنْ لَا يَأْتِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالْإِيمَانِ، وَهَذَا الشَّرْطُ لَمْ يُوجَدْ لِأَنَّهُ آمَنَ عَبْدُ اللَّه بْنُ سَلَامٍ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَفَاتَ الْمَشْرُوطُ بِفَوَاتِ الشَّرْطِ، وَيُقَالُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَتَى عَبْدُ اللَّه بْنُ سَلَامٍ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ فَأَسْلَمَ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه كُنْتُ أَرَى أَنْ لَا أَصِلَ إِلَيْكَ حَتَّى يَتَحَوَّلَ وَجْهِي فِي قَفَايَ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهَكُمْ، بَلْ قَالَ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً وَعِنْدَنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ طَمْسٍ فِي الْيَهُودِ أَوْ مَسْخٍ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أن المراد ليس طمس وجوههم بأعيا بهم، بَلْ طَمْسَ وُجُوهِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ قَوْلُهُ: أَوْ نَلْعَنَهُمْ فَذَكَرَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَايَبَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ أُولَئِكَ الْمُخَاطَبِينَ لَذَكَرَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْخِطَابِ، وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا إِلَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ مَا ذكرناه.

[سورة النساء (4) : آية 48]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ قَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ: نَمْسَخُهُمْ قِرَدَةً كَمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ بِأَوَائِلِهِمْ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ: الْأَظْهَرُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى اللَّعْنِ الْمُتَعَارَفِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ [المائدة: 60] ففصل تعالى هاهنا بين اللعن وبين مسخهم قردة وخنازير، وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: إِلَى مَنْ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَوْ نَلْعَنَهُمْ. الْجَوَابُ: إِلَى الْوُجُوهِ إِنْ أُرِيدَ الْوُجَهَاءُ أَوْ لِأَصْحَابِ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهَ قَوْمٍ، أَوْ يَرْجِعَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَدْ كَانَ اللَّعْنُ وَالطَّمْسُ حَاصِلَيْنِ قَبْلَ الْوَعِيدِ عَلَى الْفِعْلِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَتَّحِدَا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ لَعْنَهُ تَعَالَى لَهُمْ مِنْ بَعْدِ هَذَا الْوَعِيدِ يَكُونُ أَزْيَدَ تَأْثِيرًا فِي الْخِزْيِ فَيَصِحُّ ذَلِكَ فِيهِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ، وَقَوْلُهُ: أَوْ نَلْعَنَهُمْ خِطَابُ مُغَايَبَةٍ، فَكَيْفَ يَلِيقُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ؟ الْجَوَابُ: مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يُونُسَ: 22] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ التَّهْدِيدَ حَاصِلٌ فِي غَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَكْذِبُونَ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ. وَعِنْدِي فِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ اللَّعْنَ هُوَ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ، وَذِكْرُ الْبَعِيدِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْمُغَايَبَةِ، فَلَمَّا لَعَنَهُمْ ذَكَرَهُمْ بِعِبَارَةِ الْغَيْبَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ لَا رَادَّ لِحُكْمِهِ وَلَا نَاقِضَ لِأَمْرِهِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ، كَمَا تَقُولُ فِي الشَّيْءِ الَّذِي لَا شَكَّ فِي حُصُولِهِ: هَذَا الْأَمْرُ مَفْعُولٌ وَإِنْ لَمْ يُفْعَلْ بَعْدُ. وَإِنَّمَا قَالَ: (وَكَانَ) إِخْبَارًا عَنْ جَرَيَانِ عَادَةِ اللَّه فِي الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ مَهْمَا أَخْبَرَهُمْ بِإِنْزَالِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَانَ تَهْدِيدُ اللَّه فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَاقِعًا لَا مَحَالَةَ، فَاحْتَرِزُوا الْآنَ وَكُونُوا عَلَى حَذَرٍ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّه مُحْدَثٌ فَقَالَ: قَوْلُهُ: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا يَقْتَضِي أَنَّ أَمْرَهُ مَفْعُولٌ، وَالْمَخْلُوقُ وَالْمَصْنُوعُ وَالْمَفْعُولُ وَاحِدٌ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ أَمْرَ اللَّه مَخْلُوقٌ مَصْنُوعٌ، وَهَذَا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي اللُّغَةِ جَاءَ بِمَعْنَى الشَّأْنِ وَالطَّرِيقَةِ وَالْفِعْلِ قَالَ تَعَالَى: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هُودٍ: 97] والمراد هاهنا ذاك. [سورة النساء (4) : آية 48] إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا هَدَّدَ الْيَهُودَ عَلَى الْكُفْرِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ التَّهْدِيدَ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ لَا مَحَالَةَ بَيَّنَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّهْدِيدِ مِنْ خَوَاصِّ الْكُفْرِ، فَأَمَّا سَائِرُ الذُّنُوبِ الَّتِي هِيَ مُغَايِرَةٌ لِلْكُفْرِ فَلَيْسَتْ حَالُهَا كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ

يَعْفُو عَنْهَا، فَلَا جَرَمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْيَهُودِيَّ يُسَمَّى مُشْرِكًا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الشِّرْكِ مَغْفُورٌ، فَلَوْ كَانَتِ الْيَهُودِيَّةُ مُغَايِرَةٌ لِلشِّرْكِ/ لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَغْفُورَةً بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبِالْإِجْمَاعِ هِيَ غَيْرُ مَغْفُورَةٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ اسْمِ الشِّرْكِ. الثَّانِي: أَنَّ اتِّصَالَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ تَهْدِيدَ الْيَهُودِ، فَلَوْلَا أَنَّ الْيَهُودِيَّةَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ اسْمِ الشِّرْكِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا إِلَى قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [الْحَجِّ: 17] عَطَفَ الْمُشْرِكَ عَلَى الْيَهُودِيِّ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ. قُلْنَا: الْمُغَايَرَةُ حَاصِلَةٌ بِسَبَبِ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ، وَالِاتِّحَادُ حَاصِلٌ بِسَبَبِ الْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ. إِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فَنَقُولُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: الْمُسْلِمُ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْتَلُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الذِّمِّيَّ مُشْرِكٌ لِمَا ذكرناه، والمشرك مباح الدم لقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ. فَكَانَ الذِّمِّيُّ مُبَاحَ الدَّمِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَمُبَاحُ الدَّمِ هُوَ الَّذِي لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى قَاتِلِهِ، وَلَا يَتَوَجَّهُ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِهِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهَذَا الدَّلِيلِ فِي حَقِّ النَّهْيِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ عَنْ قَاتِلِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ لَنَا عَلَى الْعَفْوِ عَنْ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ مَعْنَاهُ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ لِأَنَّهُ بِالْإِجْمَاعِ لَا يَغْفِرُ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، وذلك عند ما يَتُوبُ الْمُشْرِكُ عَنْ شِرْكِهِ، فَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ هُوَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ هُوَ أَنْ يَغْفِرَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ، حَتَّى يَكُونَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ مُتَوَارِدَيْنِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: فُلَانٌ لَا يُعْطِي أَحَدًا تَفَضُّلًا، وَيُعْطِيَ زَائِدًا فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يُعْطِيهِ تَفَضُّلًا، حَتَّى لَوْ صَرَّحَ وَقَالَ: لَا يُعْطِي أَحَدًا شَيْئًا عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ وَيُعْطِي أَزْيَدَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، فَكُلُّ عَاقِلٍ يَحْكُمُ بِرَكَاكَةِ هَذَا الْكَلَامِ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ غُفْرَانَ الصَّغِيرَةِ وَغُفْرَانَ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ إِلَّا حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى غُفْرَانِ الْكَبِيرَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَسَّمَ الْمَنْهِيَّاتِ عَلَى قِسْمَيْنِ: الشِّرْكُ وَمَا سِوَى الشِّرْكِ، ثُمَّ إِنَّ مَا سِوَى الشِّرْكِ يَدْخُلُ فِيهِ الْكَبِيرَةُ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَالْكَبِيرَةُ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَالصَّغِيرَةُ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَى الشِّرْكِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَغْفُورٍ قَطْعًا، وَعَلَى مَا سِوَاهُ بِأَنَّهُ مَغْفُورٌ قَطْعًا، لَكِنْ فِي حَقِّ مَنْ يَشَاءُ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ كُلَّ مَا سِوَى الشِّرْكِ، لَكِنْ فِي حَقِّ/ مَنْ شَاءَ. وَلَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى الشِّرْكِ مَغْفُورٌ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْكَبِيرَةُ قَبْلَ التَّوْبَةِ أَيْضًا مَغْفُورَةً. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لِمَنْ يَشاءُ فَعَلَّقَ هَذَا الْغُفْرَانَ بِالْمَشِيئَةِ، وَغُفْرَانُ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَغُفْرَانُ الصَّغِيرَةِ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَغَيْرُ مُعَلَّقٍ عَلَى

[سورة النساء (4) : الآيات 49 إلى 50]

الْمَشِيئَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْغُفْرَانُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ غُفْرَانُ الْكَبِيرَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَاعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْأَخِيرِ بِأَنَّ تَعْلِيقَ الْأَمْرِ بِالْمَشِيئَةِ لَا يُنَافِي وُجُوبَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 49] ثُمَّ إِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُزَكِّي إِلَّا مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلتَّزْكِيَةِ، وَإِلَّا كَانَ كذبا، والكذب على اللَّه محال، فكذا هاهنا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُعْتَزِلَةِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ كَلَامٌ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ إِلَّا الْمُعَارَضَةَ بِعُمُومَاتِ الْوَعِيدِ، وَنَحْنُ نُعَارِضُهَا بِعُمُومَاتِ الْوَعْدِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: 81] فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ مِنَّا عَلَى كَبِيرَةٍ شَهِدْنَا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَأَمْسَكْنَا عَنِ الشَّهَادَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنِّي لَأَرْجُو كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ عَمَلٌ، كَذَلِكَ لَا يَضُرُّ مَعَ التَّوْحِيدِ ذَنْبٌ. ذَكَرَ ذَلِكَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَكَتَ عُمَرُ. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّسِمُوا بِالْإِيمَانِ وَأَقِرُّوا بِهِ فَكَمَا لَا يُخْرِجُ إِحْسَانُ الْمُشْرِكِ الْمُشْرِكَ مِنْ إِشْرَاكِهِ كَذَلِكَ لَا تُخْرِجُ ذنوب المؤمن المؤمن من إيمانه» . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا قَتَلَ وَحْشِيٌّ حَمْزَةَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانُوا قَدْ وَعَدُوهُ بِالْإِعْتَاقِ إِنْ هُوَ فَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَا وَفَّوْا لَهُ بِذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَدِمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَكَتَبُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَنْبِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُهُمْ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الْفُرْقَانِ: 68] فَقَالُوا: قَدِ ارْتَكَبْنَا كُلَّ مَا فِي الْآيَةِ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [الْفُرْقَانِ: 70] فَقَالُوا: هَذَا شَرْطٌ شَدِيدٌ نَخَافُ أَنْ لَا نَقُومَ بِهِ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فَقَالُوا: نَخَافُ أَنْ لَا نَكُونَ من أهل مشيئته، فنزل قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزُّمَرِ: 53] فَدَخَلُوا عِنْدَ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ. وَطَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَقَالَ: إِنَّ مَنْ يُرِيدُ الْإِيمَانَ لَا يَجُوزُ مِنْهُ الْمُرَاجَعَةُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزُّمَرِ: 53] لَوْ كَانَ عَلَى إِطْلَاقِهِ لَكَانَ ذَلِكَ إِغْرَاءً لَهُمْ بِالثَّبَاتِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمُ اسْتَعْظَمُوا قَتْلَ حَمْزَةَ وَإِيذَاءَ الرَّسُولِ إِلَى ذَلِكَ/ الْحَدِّ، فَوَقَعَتِ الشُّبْهَةُ فِي قُلُوبِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ هَلْ يُغْفَرُ لَهُمْ أَمْ لَا، فَلِهَذَا الْمَعْنَى حَصَلَتِ الْمُرَاجَعَةُ. وَقَوْلُهُ: هَذَا إِغْرَاءٌ بِالْقَبِيحِ، فَهُوَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَتِمُّ عَلَى مَذْهَبِهِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّهُ تَعَالَى فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، فَالسُّؤَالُ سَاقِطٌ واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً أَيِ اخْتَلَقَ ذَنْبًا غَيْرَ مَغْفُورٍ، يُقَالُ: افْتَرَى فُلَانٌ الْكَذِبَ إِذَا اعْتَمَلَهُ وَاخْتَلَقَهُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَرْيِ بِمَعْنَى الْقَطْعِ. [سورة النساء (4) : الآيات 49 الى 50] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) اعمل أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا هَدَّدَ الْيَهُودَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فَعِنْدَ هَذَا قَالُوا: لَسْنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، بَلْ نَحْنُ خَوَاصُّ اللَّه تَعَالَى كَمَا حَكَى تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَةِ: 18] وحكى

عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَةِ: 80] وَحَكَى أَيْضًا أَنَّهُمْ قَالُوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: 111] وَبَعْضُهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ آبَاءَنَا كَانُوا أَنْبِيَاءَ فَيَشْفَعُونَ لَنَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْيَهُودِ أَتَوْا بِأَطْفَالِهِمْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ هَلْ عَلَى هَؤُلَاءِ ذَنْبٌ؟ فَقَالَ لَا، فَقَالُوا: واللَّه مَا نَحْنُ إِلَّا كَهَؤُلَاءِ: مَا عَمِلْنَاهُ بِاللَّيْلِ كُفِّرَ عَنَّا بِالنَّهَارِ، وَمَا عَمِلْنَاهُ بِالنَّهَارِ كُفِّرَ عَنَّا بِاللَّيْلِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَوْمُ كَانُوا قَدْ بَالَغُوا فِي تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ فَذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِتَزْكِيَةِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِتَزْكِيَةِ اللَّه له [فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّزْكِيَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عِبَارَةٌ عَنْ مَدْحِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ، وَمِنْهُ تَزْكِيَةُ الْمُعَدِّلِ لِلشَّاهِدِ، قَالَ تَعَالَى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى [النَّجْمِ: 32] وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالتَّقْوَى، وَالتَّقْوَى صِفَةٌ فِي الْبَاطِنِ، وَلَا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهَا إِلَّا اللَّه، فَلَا جَرَمَ لَا تَصْلُحُ التَّزْكِيَةُ إِلَّا مِنَ اللَّه، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «واللَّه إِنِّي لَأَمِينٌ فِي السَّمَاءِ أَمِينٌ فِي الْأَرْضِ» . قُلْنَا: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ حِينَ قَالَ الْمُنَافِقُونَ لَهُ: اعْدِلْ فِي الْقِسْمَةِ، وَلِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا زَكَّاهُ/ أو لا بِدَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَحْصُلُ بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى لِأَنَّ أَجَلَّ أَنْوَاعِ الزَّكَاةِ وَالطَّهَارَةِ وَأَشْرَفَهَا هُوَ الْإِيمَانُ، فَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ دَلَّ عَلَى أَنَّ إِيمَانَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَحْصُلْ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا هُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النِّسَاءِ: 40] وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ يُعَاقَبُونَ عَلَى تِلْكَ التَّزْكِيَةِ حَقَّ جَزَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ زَكَّاهُمُ اللَّه فَإِنَّهُ يُثِيبُهُمْ عَلَى طَاعَاتِهِمْ وَلَا يُنْقِصُ مِنْ ثَوَابِهِمْ شَيْئًا، وَالْفَتِيلُ مَا فَتَلْتَ بَيْنَ إِصْبَعَيْكَ مِنَ الْوَسَخِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَعَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ: الْفَتِيلُ مَا كَانَ فِي شِقِّ النَّوَاةِ، وَالنَّقِيرُ النُّقْطَةُ الَّتِي فِي ظَهْرِ النَّوَاةِ، وَالْقِطْمِيرُ الْقِشْرَةُ الرَّقِيقَةُ عَلَى النَّوَاةِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا تُضْرَبُ أَمْثَالًا لِلشَّيْءِ التَّافِهِ الْحَقِيرِ، أَيْ لَا يُظْلَمُونَ لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا تَعْجِيبٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِرْيَتِهِمْ عَلَى اللَّه، وَهِيَ تَزْكِيَتُهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَافْتِرَاؤُهُمْ عَلَى اللَّه، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَةِ: 18] وَقَوْلُهُمْ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى وَقَوْلُهُمْ: مَا عَمِلْنَاهُ بِالنَّهَارِ يُكَفَّرُ عَنَّا بِاللَّيْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَذْهَبُنَا أَنَّ الْخَبَرَ عَنِ الشَّيْءِ إِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ كَانَ كَذِبًا، سَوَاءٌ عَلِمَ قَائِلُهُ كَوْنَهُ كَذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَقَالَ الْجَاحِظُ: شَرْطُ كَوْنِهِ كَذِبًا أَنْ يُعْلَمَ كَوْنُهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ لَنَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمُ الزَّكَاءَ وَالطَّهَارَةَ، ثُمَّ لَمَّا أَخْبَرُوا بِالزَّكَاةِ وَالطَّهَارَةِ كَذَّبَهُمُ اللَّه فِيهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا قلناه.

[سورة النساء (4) : الآيات 51 إلى 52]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً وَإِنَّمَا يُقَالُ: كَفَى بِهِ فِي التَّعْظِيمِ عَلَى جِهَةِ الْمَدْحِ أَوْ عَلَى جِهَةِ الذَّمِّ، أَمَّا فِي الْمَدْحِ فَكَقَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً [النِّسَاءِ: 45] وَأَمَّا فِي الذَّمِّ فَكَمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ: إِثْماً مُبِيناً مَنْصُوبٌ على التمييز. [سورة النساء (4) : الآيات 51 الى 52] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْيَهُودِ نَوْعًا آخَرَ مِنَ الْمَكْرِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُفَضِّلُونَ عَبَدَةَ الْأَصْنَامِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، فَكَانَ إِقْدَامُهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِمَحْضِ الْعِنَادِ وَالتَّعَصُّبِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ أَنَّ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ وَكَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيَّيْنِ خَرَجَا إِلَى مَكَّةَ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْيَهُودِ يُحَالِفُونَ قُرَيْشًا عَلَى مُحَارَبَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: أَنْتُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَأَنْتُمْ أَقْرَبُ إِلَى مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ إِلَيْنَا فَلَا نَأْمَنُ مَكْرَكُمْ، فَاسْجُدُوا لِآلِهَتِنَا حَتَّى تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ. فَهَذَا إِيمَانُهُمْ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، لِأَنَّهُمْ سَجَدُوا لِلْأَصْنَامِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَنْحَنُ أَهْدَى سَبِيلًا أَمْ محمد؟ فقال كعب: ماذا يقول محمد؟ يَأْمُرُ بِعِبَادَةِ اللَّه وَحْدَهُ وَيَنْهَى عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَتَرَكَ دِينَ آبَائِهِ، وَأَوْقَعَ الْفُرْقَةَ. قَالَ: وَمَا دِينُكُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ وُلَاةُ الْبَيْتِ نَسْقِي الْحَاجَّ وَنَقْرِي الضَّيْفَ وَنَفُكُّ الْعَانِي وَذَكَرُوا أَفْعَالَهُمْ، فَقَالَ: أَنْتُمْ أَهْدَى سَبِيلًا. فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ: لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النِّسَاءِ: 51] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الناس في الجبت والطاغوت، وذكروا فيه وجوه: الْأَوَّلُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: كُلُّ مَعْبُودٍ دُونَ اللَّه فَهُوَ جِبْتٌ وَطَاغُوتٌ، ثُمَّ زَعَمَ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْجِبْتَ لَيْسَ لَهُ تَصَرُّفٌ فِي اللُّغَةِ. وَحَكَى الْقَفَّالُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْجِبْتَ أَصْلُهُ جِبْسٌ، فَأُبْدِلَتِ السِّينُ تَاءً، وَالْجِبْسُ هُوَ الْخَبِيثُ الرَّدِيءُ، وَأَمَّا الطَّاغُوتُ فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الطُّغْيَانِ، وَهُوَ الْإِسْرَافُ فِي الْمَعْصِيَةِ، فَكُلُّ مَنْ دَعَا إِلَى الْمَعَاصِي الْكِبَارِ لَزِمَهُ هَذَا الِاسْمُ، ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِي هَذَا الِاسْمِ حَتَّى أَوْقَعُوهُ عَلَى الْجَمَادِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إِبْرَاهِيمَ: 35، 36] فَأَضَافَ الْإِضْلَالَ إِلَى الْأَصْنَامِ مَعَ أَنَّهَا جَمَادَاتٌ. الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْجِبْتُ الْأَصْنَامُ وَكُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّه، وَالطَّاغُوتُ الشَّيْطَانُ. الثَّالِثُ: الْجِبْتُ الْأَصْنَامُ، وَالطَّاغُوتُ تَرَاجِمَةُ الْأَصْنَامِ يُتَرْجِمُونَ لِلنَّاسِ عَنْهَا الْأَكَاذِيبَ فَيُضِلُّونَهُمْ بِهَا، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الرَّابِعُ: رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْجِبْتُ الْكَاهِنُ، وَالطَّاغُوتُ السَّاحِرُ. الْخَامِسُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْجِبْتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَالطَّاغُوتُ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِمَا، فَسُمِّيَا بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ لِسَعْيِهِمَا فِي إِغْوَاءِ/ النَّاسِ وَإِضْلَالِهِمْ. السَّادِسُ: الْجِبْتُ وَالطَّاغُوتُ صَنَمَانِ لِقُرَيْشٍ، وَهُمَا الصَّنَمَانِ اللَّذَانِ سَجَدَ الْيَهُودُ لَهُمَا طَلَبًا لِمَرْضَاةِ قُرَيْشٍ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَقَاوِيلُ كَثِيرَةٌ، وَهُمَا كَلِمَتَانِ وُضِعَتَا عَلَمَيْنِ عَلَى مَنْ كَانَ غَايَةً فِي الشَّرِّ وَالْفَسَادِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً فَبَيَّنَ أَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَ من اللَّه

[سورة النساء (4) : آية 53]

وَهُوَ الْخِذْلَانُ وَالْإِبْعَادُ، وَهُوَ ضِدُّ مَا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْقُرْبَةِ وَالزُّلْفَى، وَأَخْبَرَ بَعْدَهُ بِأَنَّ مَنْ يَلْعَنُهُ اللَّه فَلَا نَاصِرَ لَهُ، كَمَا قَالَ: مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الْأَحْزَابِ: 61] فَهَذَا اللَّعْنُ حَاضِرٌ، وَمَا فِي الْآخِرَةِ أَعْظَمُ، وَهُوَ يَوْمٌ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للَّه، وَفِيهِ وَعْدٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنُّصْرَةِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِالتَّقْوِيَةِ، بِالضِّدِّ عَلَى الضِّدِّ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ: وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً [النِّسَاءِ: 45] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا اسْتَحَقُّوا هَذَا اللَّعْنَ الشَّدِيدَ لِأَنَّ الَّذِي ذَكَرُوهُ مِنْ تَفْضِيلِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْرِي مَجْرَى الْمُكَابَرَةِ، فَمَنْ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّه كَيْفَ يَكُونُ أَفْضَلَ حَالًا مِمَّنْ لَا يَرْضَى بِمَعْبُودٍ غَيْرِ اللَّه! وَمَنْ كَانَ دِينُهُ الْإِقْبَالُ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى خِدْمَةِ الْخَالِقِ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْآخِرَةِ، كَيْفَ يَكُونُ أَقَلَّ حَالًا مِمَّنْ كَانَ بِالضِّدِّ فِي كُلِّ هذه الأحوال واللَّه أعلم. [سورة النساء (4) : آية 53] أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْيَهُودَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِالْجَهْلِ الشَّدِيدِ، وَهُوَ اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى، وَوَصَفَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْبُخْلِ وَالْحَسَدِ، فَالْبُخْلُ هُوَ أَنْ لَا يَدْفَعَ لِأَحَدٍ شَيْئًا مِمَّا آتَاهُ اللَّه مِنَ النِّعْمَةِ، وَالْحَسَدُ هُوَ أَنْ يَتَمَنَّى أَنْ لَا يُعْطِيَ اللَّه غَيْرَهُ شَيْئًا مِنَ النِّعَمِ، فَالْبُخْلُ وَالْحَسَدُ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ صَاحِبَهُ يُرِيدُ مَنْعَ النِّعْمَةِ مِنَ الْغَيْرِ، فَأَمَّا الْبَخِيلُ فَيَمْنَعُ نِعْمَةَ نَفْسِهِ عَنِ الْغَيْرِ، وَأَمَّا الْحَاسِدُ فَيُرِيدُ أَنْ يَمْنَعَ نِعْمَةَ اللَّه مِنْ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ تِلْكَ الْآيَةَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ لَهَا قُوَّتَانِ: الْقُوَّةُ الْعَالِمَةُ وَالْقُوَّةُ الْعَامِلَةُ، فَكَمَالُ الْقُوَّةِ الْعَالِمَةِ الْعِلْمُ، وَنُقْصَانُهَا الْجَهْلُ، وَكَمَالُ الْقُوَّةِ الْعَامِلَةِ: الْأَخْلَاقُ الْحَمِيدَةُ، وَنُقْصَانُهَا الْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ، وَأَشَدُّ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ نُقْصَانًا الْبُخْلُ وَالْحَسَدُ، لِأَنَّهُمَا مَنْشَآنِ لِعَوْدِ الْمَضَارِّ إِلَى عِبَادِ اللَّه. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّمَا قَدَّمَ وَصْفَهُمْ بِالْجَهْلِ عَلَى وَصْفِهِمْ بِالْبُخْلِ وَالْحَسَدِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُوَّةَ النَّظَرِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ فِي الشَّرَفِ وَالرُّتْبَةِ وَأَصْلٌ لَهَا، فَكَانَ شَرْحُ حَالِهَا يَجِبُ/ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى شَرْحِ حَالِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ. الثاني: أن السبب لحصول البخل والجسد هُوَ الْجَهْلُ، وَالسَّبَبُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُسَبَّبِ، لَا جَرَمَ قَدَّمَ تَعَالَى ذِكْرَ الْجَهْلِ عَلَى ذِكْرِ الْبُخْلِ وَالْحَسَدِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْجَهْلَ سَبَبُ الْبُخْلِ وَالْحَسَدِ: أَمَّا الْبُخْلُ فَلِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ سَبَبٌ لِطَهَارَةِ النَّفْسِ وَلِحُصُولِ السَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَحَبْسُ الْمَالِ سَبَبٌ لِحُصُولِ مَالِ الدُّنْيَا فِي يَدِهِ، فَالْبُخْلُ يَدْعُوكَ إِلَى الدُّنْيَا وَيَمْنَعُكَ عَنِ الْآخِرَةِ، وَالْجُودُ يَدْعُوكَ إِلَى الْآخِرَةِ وَيَمْنَعُكَ عَنِ الدُّنْيَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَرْجِيحَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ مَحْضِ الْجَهْلِ. وَأَمَّا الْحَسَدُ فَلِأَنَّ الْإِلَهِيَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ إِيصَالِ النِّعَمِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْعَبِيدِ، فَمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ عَزْلَ الْإِلَهِ عَنِ الْإِلَهِيَّةِ، وَذَلِكَ مَحْضُ الْجَهْلِ. فَثَبَتَ أَنَّ السَّبَبَ الْأَصْلِيَّ لِلْبُخْلِ وَالْحَسَدِ هُوَ الْجَهْلُ، فَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْجَهْلَ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ الْبُخْلِ وَالْحَسَدِ لِيَكُونَ الْمُسَبَّبُ مَذْكُورًا عَقِيبَ السَّبَبِ، فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى نَظْمِ هذه الآية، وهاهنا مسائل: المسألة الأولى: «أم» هاهنا فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمِيمُ صِلَةٌ، وَتَقْدِيرُهُ: أَلَهُمْ لِأَنَّ حَرْفَ «أَمْ» إِذَا لَمْ يَسْبِقْهُ اسْتِفْهَامٌ كَانَ الْمِيمُ فِيهِ صِلَةً. الثَّانِي: أن «أم» هاهنا متصلة، وقد سبق هاهنا اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْمَلْعُونِينَ قَوْلَهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ: إِنَّهُمْ أَهْدَى سَبِيلًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، عَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَمِنْ ذَلِكَ يُتَعَجَّبُ، أَمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ

كَانَ لَهُمْ مُلْكٌ لَبَخِلُوا بِأَقَلِّ الْقَلِيلِ. الثَّالِثُ: أن «أم» هاهنا مُنْقَطِعَةٌ وَغَيْرُ مُتَّصِلَةٍ بِمَا قَبْلَهَا الْبَتَّةَ، كَأَنَّهُ لَمَّا تَمَّ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ قَالَ: بَلْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، يَعْنِي لَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْمُلْكِ الْبَتَّةَ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَصَحُّ الْوُجُوهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي هَذَا الْمُلْكِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: الْيَهُودُ كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ أَوْلَى بِالْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ فَكَيْفَ نَتَّبِعُ الْعَرَبَ؟ فَأَبْطَلَ اللَّه عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. الثَّانِي: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمُلْكَ يَعُودُ إِلَيْهِمْ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الْيَهُودِ مَنْ يُجَدِّدُ مُلْكَهُمْ وَدَوْلَتَهُمْ وَيَدْعُو إِلَى دِينِهِمْ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّه في هذه الآية. الثالث: المراد بالملك هاهنا التَّمْلِيكُ، يَعْنِي أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِ نُبُوَّتِكَ لَوْ كَانَ التَّمْلِيكُ إِلَيْهِمْ، وَلَوْ كَانَ التَّمْلِيكُ إِلَيْهِمْ لَبَخِلُوا بِالنَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ، فَكَيْفَ يَقْدِرُونَ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: كَانُوا أَصْحَابَ بَسَاتِينَ وَأَمْوَالٍ، وَكَانُوا فِي عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ ثُمَّ كَانُوا يَبْخَلُونَ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِأَقَلِّ الْقَلِيلِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ بُخْلَهُمْ كَالْمَانِعِ مِنْ حُصُولِ الْمُلْكِ لَهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُلْكَ وَالْبُخْلَ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلِ أَنَّ الِانْقِيَادَ لِلْغَيْرِ أَمْرٌ مَكْرُوهٌ لِذَاتِهِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَتَحَمَّلُ الْمَكْرُوهَ إِلَّا إِذَا وَجَدَ فِي مُقَابَلَتِهِ أَمْرًا مَطْلُوبًا مَرْغُوبًا فِيهِ، وَجِهَاتُ الْحَاجَاتِ/ مُحِيطَةٌ بِالنَّاسِ، فَإِذَا صَدَرَ مِنْ إِنْسَانٍ إِحْسَانٌ إِلَى غَيْرِهِ صَارَتْ رَغْبَةُ الْمُحْسِنِ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ سَبَبًا لِصَيْرُورَتِهِ مُنْقَادًا مُطِيعًا لَهُ، فَلِهَذَا قِيلَ: بِالْبِرِّ يُسْتَعْبَدُ الْحُرُّ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ هَذَا بَقِيَتِ النَّفْرَةُ الطَّبِيعِيَّةُ عَنْ الِانْقِيَادِ لِلْغَيْرِ خَالِصًا عَنِ الْمُعَارِضِ، فَلَا يَحْصُلُ الِانْقِيَادُ الْبَتَّةَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُلْكَ وَالْبُخْلَ لَا يَجْتَمِعَانِ ثُمَّ إِنَّ الْمُلْكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مُلْكٌ عَلَى الظَّوَاهِرِ فَقَطْ، وَهَذَا هُوَ مُلْكُ الْمُلُوكِ، وَمُلْكٌ عَلَى الْبَوَاطِنِ فَقَطْ، وَهَذَا هُوَ مُلْكُ الْعُلَمَاءِ، وَمُلْكٌ عَلَى الظَّوَاهِرِ وَالْبَوَاطِنِ مَعًا، وَهَذَا هُوَ مُلْكُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِمْ. فَإِذَا كَانَ الْجُودُ مِنْ لَوَازِمِ الْمُلْكِ وَجَبَ فِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَكُونُوا فِي غَايَةِ الْجُودِ وَالْكَرَمِ وَالرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ، لِيَصِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ سَبَبًا لِانْقِيَادِ الْخَلْقِ لَهُمْ، وَامْتِثَالِهِمْ لِأَوَامِرِهِمْ. وَكَمَالُ هَذِهِ الصِّفَاتِ حَاصِلٌ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: «إِذَنْ» فِي عَوَامِلِ الْأَفْعَالِ بِمَنْزِلَةِ أَظُنُّ فِي عَوَامِلِ الْأَسْمَاءِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الظَّنَّ إِذَا وَقَعَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ نُصِبَ لَا غَيْرَ، كَقَوْلِكَ أَظُنُّ زَيْدًا قَائِمًا، وَإِنْ وَقَعَ فِي الْوَسَطِ جَازَ إِلْغَاؤُهُ وَإِعْمَالُهُ، كَقَوْلِهِ: زَيْدٌ أَظُنُّ قَائِمٌ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ زَيْدًا أَظُنُّ قَائِمًا، وَإِنْ تَأَخَّرَ فَالْأَحْسَنُ إِلْغَاؤُهُ، تَقُولُ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ ظَنَنْتُ، وَالسَّبَبُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ «ظَنَّ» وما أشبه مِنَ الْأَفْعَالِ نَحْوَ عَلِمَ وَحَسِبَ ضَعِيفَةٌ فِي الْعَمَلِ، لِأَنَّهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي مَعْمُولَاتِهَا، فَإِذَا تَقَدَّمَ دَلَّ التَّقْدِيمُ فِي الذِّكْرِ عَلَى شِدَّةِ الْعِنَايَةِ فَقَوِيَ عَلَى التَّأْثِيرِ، وَإِذَا تَأَخَّرَ دَلَّ عَلَى عَدَمِ الْعِنَايَةِ فَلَغَا، وَإِنْ تَوَسَّطَ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ فِي مَحَلِّ الْعِنَايَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَلَا فِي مَحَلِّ الْإِهْمَالِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، بَلْ كَانَتْ كَالْمُتَوَسِّطَةِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ فَلَا جَرَمَ كَانَ الْإِعْمَالُ وَالْإِلْغَاءُ جَائِزًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِعْمَالَ فِي حَالِ التَّوَسُّطِ أَحْسَنُ، وَالْإِلْغَاءَ حَالَ التَّأَخُّرِ أَحْسَنُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: كَلِمَةُ «إِذَنْ» عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ أَيْضًا، فَإِنْ تَقَدَّمَتْ نَصَبَتِ الْفِعْلَ، تَقُولُ إِذَنْ أُكْرِمَكَ، وَإِنْ تَوَسَّطَتْ أَوْ تَأَخَّرَتْ جَازَ الْإِلْغَاءُ، تَقُولُ أَنَا إِذَنْ أُكْرِمُكَ، وَأَنَا أُكْرِمُكَ إِذَنْ فَتُلْغِيهِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذاً لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً كَلِمَةُ «إِذَنْ» فِيهَا مُتَقَدِّمَةٌ وَمَا عَمِلَتْ،

[سورة النساء (4) : الآيات 54 إلى 55]

فَذَكَرُوا فِي الْعُذْرِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا إِذَنْ. الثَّانِي: أَنَّهَا لَمَّا وَقَعَتْ بَيْنَ الْفَاءِ وَالْفِعْلِ جَازَ أَنْ تُقَدَّرَ مُتَوَسِّطَةً فَتُلْغَى كَمَا تُلْغَى إِذَا تَوَسَّطَتْ أَوْ تَأَخَّرَتْ، وَهَكَذَا سَبِيلُهَا مَعَ الْوَاوِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذًا لَا يلبثون خلفك [الْإِسْرَاءِ: 76] وَالثَّالِثُ: قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ (فَإِذًا لَا يُؤْتُوا) عَلَى إِعْمَالِ «إِذَنْ» عَمَلَهَا الَّذِي هُوَ النَّصْبُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: النَّقِيرُ نُقْرَةٌ فِي ظَهْرِ النَّوَاةِ وَمِنْهَا تَنْبُتُ النَّخْلَةُ، وَأَصْلُهُ أَنَّهُ/ فَعِيلٌ مِنَ النَّقْرِ، وَيُقَالُ لِلْخَشَبِ الَّذِي يُنْقَرُ فِيهِ نَقِيرٌ لِأَنَّهُ يُنْقَرُ، وَالنَّقْرُ ضَرْبُ الْحَجَرِ وَغَيْرُهُ بِالْمِنْقَارِ وَالْمِنْقَارُ حَدِيدَةٌ كَالْفَأْسِ تقطع بها الحجارة، ومنه منقار الطائر لأنه ينقر به. واعلم أن ذكر النقير هاهنا تمثيل، والغرض انهم يبخلون بأقل القليل. [سورة النساء (4) : الآيات 54 الى 55] أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) [في قَوْلُهُ تَعَالَى أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً] فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمْ: مُنْقَطِعَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ بَلْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِلَفْظِ «النَّاسِ» قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْجَمْعِ وَهُوَ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ مَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا مُتَفَرِّقًا فِي الْجَمْعِ الْعَظِيمِ، وَمِنْ هَذَا يُقَالُ: فُلَانٌ أُمَّةٌ وَحْدَهُ، أَيْ يَقُومُ مَقَامَ أُمَّةٍ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً [النَّحْلِ: 120] . والقول الثاني: المراد هاهنا هُوَ الرَّسُولُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ: إِنَّ لَفْظَ النَّاسِ جَمْعٌ، فَحَمْلُهُ عَلَى الْجَمْعِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمُفْرَدِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا حَسُنَ ذكر الناس لا رادة طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ النَّاسِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْخَلْقِ إِنَّمَا هُوَ الْقِيَامُ بِالْعُبُودِيَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] فَلَمَّا كَانَ الْقَائِمُونَ بِهَذَا الْمَقْصُودِ لَيْسَ إِلَّا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِ كَانَ وَهُوَ وَأَصْحَابُهُ كَأَنَّهُمْ كُلُّ النَّاسِ، فَلِهَذَا حَسُنَ إِطْلَاقُ لَفْظِ النَّاسِ وَإِرَادَتِهِمْ عَلَى التَّعْيِينِ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْفَضْلِ الَّذِي لِأَجْلِهِ صَارُوا مَحْسُودِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ هُوَ النُّبُوَّةُ وَالْكَرَامَةُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِهَا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ حَسَدُوهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَهُ مِنَ الزَّوْجَاتِ تِسْعٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَسَدَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الْفَضِيلَةِ، فَكُلَّمَا كَانَتْ فَضِيلَةُ الْإِنْسَانِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ كَانَ حَسَدُ الْحَاسِدِينَ عَلَيْهِ أَعْظَمَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النُّبُوَّةَ أَعْظَمُ الْمَنَاصِبِ فِي الدِّينِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَعْطَاهَا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَمَّ إِلَيْهَا أَنَّهُ جَعَلَهُ كُلَّ يَوْمٍ أَقْوَى دَوْلَةً وَأَعْظَمَ شَوْكَةً وَأَكْثَرَ أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ الْحَسَدَ الْعَظِيمَ. فَأَمَّا كَثْرَةُ النِّسَاءِ فَهُوَ كَالْأَمْرِ الْحَقِيرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ هَذَا الْفَضْلِ بِهِ، بَلْ إِنْ جُعِلَ الْفَضْلُ اسْمًا

[سورة النساء (4) : آية 56]

لِجَمِيعِ مَا أَنْعَمَ اللَّه تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِ دَخَلَ هَذَا أَيْضًا تَحْتَهُ، فَأَمَّا عَلَى سَبِيلِ الْقَصْرِ عَلَيْهِ فَبَعِيدٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ كَثْرَةَ نِعَمِ اللَّه عَلَيْهِ صَارَتْ سَبَبًا لِحَسَدِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ بَيَّنَ مَا يَدْفَعُ ذَلِكَ فَقَالَ: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النساء: 54] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ حَصَلَ فِي أَوْلَادِ إِبْرَاهِيمَ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ جَمَعُوا بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ، وَأَنْتُمْ لَا تَتَعَجَّبُونَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا تَحْسُدُونَهُ، فَلِمَ تَتَعَجَّبُونَ مِنْ حَالِ مُحَمَّدٍ وَلِمَ تَحْسُدُونَهُ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ الْكِتَابَ إِشَارَةٌ إِلَى ظَوَاهِرِ الشَّرِيعَةِ وَالْحِكْمَةَ إِشَارَةٌ إِلَى أَسْرَارِ الْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ هُوَ كَمَالُ الْعِلْمِ، وَأَمَّا الْمُلْكُ الْعَظِيمُ فَهُوَ كَمَالُ الْقُدْرَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْكَمَالَاتِ الْحَقِيقِيَّةَ لَيْسَتْ إِلَّا الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ، فَهَذَا الْكَلَامُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ آتَاهُمْ أَقْصَى مَا يَلِيقُ بِالْإِنْسَانِ مِنَ الْكَمَالَاتِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْتَبْعَدًا فِيهِمْ لَا يَكُونُ مُسْتَبْعَدًا فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمَّا اسْتَكْثَرُوا نِسَاءَهُ قيل لهم: كيف استكثرتهم لَهُ التِّسْعَ، وَقَدْ كَانَ لِدَاوُدَ مِائَةٌ وَلِسُلَيْمَانَ ثَلَاثُمِائَةٍ بِالْمَهْرِ وَسَبْعُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ؟ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى «بِهِ» فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْمُرَادُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ آمَنَ بَعْضُهُمْ وَبَقِيَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْإِنْكَارِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَالْمَعْنَى أَنَّ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءَ مَعَ مَا خَصَصْتُهُمْ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ جَرَتْ عادت أُمَمِهِمْ فِيهِمْ أَنَّ بَعْضَهُمْ آمَنَ بِهِ وَبَعْضَهُمْ بَقُوا عَلَى الْكُفْرِ، فَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ لَا تَتَعَجَّبْ مِمَّا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ، فَإِنَّ أَحْوَالَ جَمِيعِ الْأُمَمِ مَعَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ هَكَذَا كَانَتْ، وَذَلِكَ تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّه لِيَكُونَ أَشَدَّ صَبْرًا عَلَى مَا يَنَالُ مِنْ قِبَلِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً أَيْ كَفَى بِجَهَنَّمَ فِي عَذَابِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ. سَعِيرًا، وَالسَّعِيرُ الْوَقُودُ، يُقَالُ أَوْقَدْتُ النَّارَ وَأَسْعَرْتُهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. [سورة النساء (4) : آية 56] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) اعْلَمْ أنه تعالى بعد ما ذَكَرَ الْوَعِيدَ بِالطَّائِفَةِ الْخَاصَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَيَّنَ مَا يَعُمُّ الْكَافِرِينَ مِنَ الْوَعِيدِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَدْخُلُ فِي الْآيَاتِ كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَاتِ اللَّه وَأَفْعَالِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْكُتُبُ وَالرُّسُلُ، وَكُفْرُهُمْ بِالْآيَاتِ لَيْسَ يَكُونُ بِالْجَحْدِ، لَكِنْ بِوُجُوهٍ، مِنْهَا أَنْ يُنْكِرُوا كَوْنَهَا آيَاتٍ، وَمِنْهَا أَنْ يَغْفُلُوا عَنْهَا فَلَا يَنْظُرُوا فِيهَا. وَمِنْهَا أَنْ يُلْقُوا الشُّكُوكَ وَالشُّبُهَاتِ فِيهَا. وَمِنْهَا: أَنْ يُنْكِرُوهَا مَعَ الْعِلْمِ بِهَا عَلَى سَبِيلِ الْعِنَادِ وَالْحَسَدِ، وَأَمَّا حَدُّ الْكُفْرِ وَحَقِيقَتُهُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ [الْبَقَرَةِ: 6] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: «سَوْفَ» كَلِمَةٌ تُذْكَرُ لِلتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، يُقَالُ: سَوْفَ أَفْعَلُ، وَيَنُوبُ عنها حرف

السِّينِ كَقَوْلِهِ: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [الْمُدَّثِّرِ: 26] وَقَدْ تَرِدُ كَلِمَةُ «سَوْفَ» فِي الْوَعْدِ أَيْضًا قَالَ تَعَالَى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضُّحَى: 5] وَقَالَ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يُوسُفَ: 98] قِيلَ أَخَّرَهُ إِلَى وَقْتِ السَّحَرِ تَحْقِيقًا لِلدُّعَاءِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَكَلِمَةُ «السِّينِ» وَ «سَوْفَ» مَخْصُوصَتَانِ بِالِاسْتِقْبَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: نُصْلِيهِمْ أَيْ نُدْخِلُهُمُ النَّارَ، لَكِنَّ قَوْلَهُ: نُصْلِيهِمْ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ شَوَيْتُهُ بِالنَّارِ، يُقَالُ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ أَيْ مَشْوِيَّةٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ وَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَمَّا كَانَ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى إِبْقَائِهِمْ أَحْيَاءً فِي النَّارِ أَبَدَ الْآبَادِ فَلِمَ لَمْ يُبْقِ أَبْدَانَهُمْ فِي النَّارِ مَصُونَةً عَنِ النُّضْجِ وَالِاحْتِرَاقِ مَعَ أَنَّهُ يُوَصِّلُ إِلَيْهَا الْآلَامَ الشَّدِيدَةَ، حَتَّى لَا يَحْتَاجَ إِلَى تَبْدِيلِ جُلُودِهِمْ بِجُلُودٍ أُخْرَى؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُوَصِّلَ إِلَى أَبْدَانِهِمْ آلَامًا عَظِيمَةً مِنْ غَيْرِ إِدْخَالِ النَّارِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى أَدْخَلَهُمُ النَّارَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: الْجُلُودُ الْعَاصِيَةُ إِذَا احْتَرَقَتْ فَلَوْ خَلَقَ اللَّه مَكَانَهَا جُلُودًا أُخْرَى وَعَذَّبَهَا كَانَ/ هَذَا تَعْذِيبًا لِمَنْ لَمْ يَعْصِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُجْعَلَ النُّضْجُ غَيْرُ النَّضِيجِ، فَالذَّاتُ وَاحِدَةٌ وَالْمُتَبَدِّلِ هُوَ الصِّفَةُ، فَإِذَا كَانَتِ الذَّاتُ وَاحِدَةً كَانَ الْعَذَابُ لَمْ يَصِلْ إِلَّا إِلَى الْعَاصِي، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْمُرَادُ بِالْغَيْرِيَّةِ التَّغَايُرُ فِي الصِّفَةِ. الثَّانِي: الْمُعَذَّبُ هُوَ الْإِنْسَانُ، وَذَلِكَ الْجِلْدُ مَا كان جزأ مِنْ مَاهِيَّةِ الْإِنْسَانِ، بَلْ كَانَ كَالشَّيْءِ الْمُلْتَصِقِ بِهِ الزَّائِدِ عَلَى ذَاتِهِ، فَإِذَا جَدَّدَ اللَّه الْجِلْدَ وَصَارَ ذَلِكَ الْجِلْدُ الْجَدِيدُ سَبَبًا لِوُصُولِ الْعَذَابِ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَعْذِيبًا إِلَّا لِلْعَاصِي. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُلُودِ السَّرَابِيلُ، قَالَ تَعَالَى: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ [إِبْرَاهِيمَ: 50] فَتَجْدِيدُ الْجُلُودِ إِنَّمَا هُوَ تَجْدِيدُ السَّرَابِيلَاتِ. طَعَنَ الْقَاضِي فِيهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ، وَأَيْضًا السَّرَابِيلُ مِنَ الْقَطِرَانِ لَا تُوصَفُ بِالنُّضْجِ، وَإِنَّمَا تُوصَفُ بِالِاحْتِرَاقِ. الرَّابِعُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا اسْتِعَارَةٌ عَنِ الدَّوَامِ وَعَدَمِ الِانْقِطَاعِ، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ يُرَادُ وَصْفُهُ بِالدَّوَامِ: كُلَّمَا انْتَهَى فَقَدِ ابْتَدَأَ، وَكُلَّمَا وَصَلَ إِلَى آخِرِهِ فَقَدِ ابْتَدَأَ مِنْ أَوَّلِهِ، فَكَذَا قَوْلُهُ: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها يَعْنِي كُلَّمَا ظَنُّوا أَنَّهُمْ نَضِجُوا وَاحْتَرَقُوا وَانْتَهَوْا إِلَى الْهَلَاكِ أَعْطَيْنَاهُمْ قُوَّةً جَدِيدَةً مِنَ الْحَيَاةِ بِحَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهُمُ الْآنَ حَدَثُوا وَوُجِدُوا، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بَيَانَ دَوَامِ الْعَذَابِ وَعَدَمِ انْقِطَاعِهِ. الْخَامِسُ: قَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّهُ تَعَالَى يُبَدِّلُ الْجُلُودَ مِنْ لَحْمِ الْكَافِرِ فَيُخْرِجُ مِنْ لَحْمِهِ جِلْدًا آخَرَ وَهَذَا بِعِيدٌ، لِأَنَّ لَحْمَهُ مُتَنَاهٍ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَنْفَدَ، وَعِنْدَ نَفَادِ لَحْمِهِ لَا بُدَّ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ فِي تَبْدِيلِ الْجِلْدِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الطَّرِيقُ مَذْكُورًا أَوَّلًا واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِيَذُوقُوا الْعَذابَ وَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: لِيَذُوقُوا الْعَذابَ أَيْ لِيَدُومَ لَهُمْ ذَوْقُهُ وَلَا يَنْقَطِعَ، كَقَوْلِكَ لِلْمَعْزُوزِ: أَعَزَّكَ اللَّه، أَيْ أَدَامَكَ عَلَى الْعِزِّ وَزَادَكَ فِيهِ. وَأَيْضًا الْمُرَادُ لِيَذُوقُوا بِهَذِهِ الْحَالَةِ الْجَدِيدَةِ الْعَذَابَ، وَإِلَّا فَهُمْ ذَائِقُونَ مُسْتَمِرُّونَ عَلَيْهِ.

[سورة النساء (4) : آية 57]

السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ: فُلَانٌ ذَاقَ الْعَذَابَ إِذَا أَدْرَكَ شَيْئًا قَلِيلًا مِنْهُ، واللَّه تَعَالَى قَدْ وَصَفَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَشَدِّ الْعَذَابِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ ذَاقُوا الْعَذَابَ؟ وَالْجَوَابُ: الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الذَّوْقِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ إِحْسَاسَهُمْ بِذَلِكَ الْعَذَابِ فِي كُلِّ حَالٍ يَكُونُ كَإِحْسَاسِ الذَّائِقِ الْمَذُوقَ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ نُقْصَانٌ وَلَا زَوَالٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاحْتِرَاقِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً وَالْمُرَادُ مِنَ الْعَزِيزِ: الْقَادِرُ الْغَالِبُ، وَمِنَ الْحَكِيمِ: الَّذِي لَا يَفْعَلُ إِلَّا الصَّوَابَ، وَذِكْرُهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، لِأَنَّهُ يَقَعُ فِي الْقَلْبِ تَعَجُّبٌ مِنْ أَنَّهُ كَيْفَ يُمْكِنُ بَقَاءُ الْإِنْسَانِ فِي النَّارِ الشَّدِيدَةِ أَبَدَ الْآبَادِ! فَقِيلَ: هَذَا لَيْسَ بِعَجِيبٍ مِنَ اللَّه، / لِأَنَّهُ الْقَادِرُ الْغَالِبُ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، يَقْدِرُ عَلَى إِزَالَةِ طَبِيعَةِ النَّارِ، وَيَقَعُ فِي الْقَلْبِ أَنَّهُ كَرِيمٌ رَحِيمٌ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِرَحْمَتِهِ تَعْذِيبُ هَذَا الشَّخْصِ الضَّعِيفِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ الْعَظِيمِ؟ فَقِيلَ: كَمَا أَنَّهُ رَحِيمٌ فَهُوَ أَيْضًا حَكِيمٌ، وَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي ذَلِكَ. فَإِنَّ نِظَامَ الْعَالَمِ لَا يَبْقَى إِلَّا بِتَهْدِيدِ الْعُصَاةِ، وَالتَّهْدِيدُ الصَّادِرُ مِنْهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَقْرُونًا بِالتَّحْقِيقِ صَوْنًا لِكَلَامِهِ عَنِ الْكَذِبِ، فثبت أن ذكر هاتين الكلمتين هاهنا في غاية الحسن. [سورة النساء (4) : آية 57] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ جَرَتْ عَادَةُ اللَّه تَعَالَى فِي هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ بِأَنَّ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ يَتَلَازَمَانِ فِي الذِّكْرِ عَلَى سَبِيلِ الْأَغْلَبِ، وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ الْعَمَلِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ الْعَمَلَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي: مَتَى ذُكِرَ لَفْظُ الْإِيمَانِ وَحْدَهُ دَخَلَ فِيهِ الْعَمَلُ، وَمَتَى ذُكِرَ مَعَهُ الْعَمَلُ كَانَ الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَهَذَا بِعِيدٌ لِأَنَّ الأصل عدم الاشتراك وعدم التغير، وَلَوْلَا أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ لَخَرَجَ الْقُرْآنُ عَنْ كَوْنِهِ مُفِيدًا. فَلَعَلَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي نَسْمَعُهَا فِي الْقُرْآنِ يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَعْنًى سِوَى مَا نَعْلَمُهُ، وَيَكُونُ مُرَادُ اللَّه تَعَالَى مِنْهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا هَذَا الَّذِي تَبَادَرَتْ أَفْهَامُنَا إِلَيْهِ. هَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ احْتِمَالَ الِاشْتِرَاكِ وَالْإِفْرَادِ عَلَى السَّوِيَّةِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ احْتِمَالَ الْبَقَاءِ عَلَى الْأَصْلِ وَاحْتِمَالَ التَّغْيِيرِ مُتَسَاوِيَانِ فَلَا، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْأَلْفَاظُ كَانَتْ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضُوعَةً لِمَعْنًى آخَرَ غَيْرِ مَا نَفْهَمُهُ الْآنَ، ثُمَّ تَغَيَّرَتْ إِلَى هَذَا الَّذِي نَفْهَمُهُ الْآنَ. فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ يَخْرُجُ الْقُرْآنُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ وَالتَّغْيِيرَ خِلَافَ الْأَصْلِ انْدَفَعَ كَلَامُ الْقَاضِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي شَرْحِ ثَوَابِ الْمُطِيعِينَ أُمُورًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا مِيَاهُ الْأَنْهَارِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ جُعِلَ النَّهْرُ اسْمًا لِمَكَانِ الْمَاءِ كَانَ الْأَمْرُ مِثْلَ مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَمَّا إِنْ جَعَلْنَاهُ فِي الْمُتَعَارَفِ اسْمًا لِذَلِكَ/ الْمَاءِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهَا بِالْخُلُودِ وَالتَّأْبِيدِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ حَيْثُ يَقُولُ: إِنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ وَعَذَابَ النَّارِ يَنْقَطِعَانِ، وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَعَ الْخُلُودِ التَّأْبِيدَ، وَلَوْ كَانَ الْخُلُودُ عِبَارَةً عَنِ التَّأْبِيدِ لَزِمَ التَّكْرَارُ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَدَلَّ هَذَا أَنَّ الْخُلُودَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ التَّأْبِيدِ، بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ طُولِ الْمُكْثِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ

[سورة النساء (4) : آية 58]

أَوْ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَعِنْدَ هَذَا يَبْطُلُ اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها [النِّسَاءِ: 93] عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ يَبْقَى فِي النَّارِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْخُلُودَ لِطُولِ الْمُكْثِ لَا لِلتَّأْبِيدِ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَالْمُرَادُ طَهَارَتُهُنَّ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَجَمِيعِ أَقْذَارِ الدُّنْيَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سورة البقرة: لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: 25] وَاللَّطَائِفُ اللَّائِقَةُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي تِلْكَ الْآيَةِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الظَّلِيلُ لَيْسَ يُنْبِئُ عَنِ الْفِعْلِ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَوْ مَفْعُولٍ، بَلْ هُوَ مُبَالَغَةٌ فِي نَعْتِ الظِّلِّ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ. وَاعْلَمْ أَنَّ بِلَادَ الْعَرَبِ كَانَتْ فِي غَايَةِ الْحَرَارَةِ، فَكَانَ الظِّلُّ عِنْدَهُمْ أَعْظَمَ أَسْبَابِ الرَّاحَةِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَعَلُوهُ كِنَايَةً عَنِ الرَّاحَةِ. قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السَّلَامُ: «السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّه فِي الْأَرْضِ» فَإِذَا كَانَ الظِّلُّ عِبَارَةً عَنِ الرَّاحَةِ كَانَ الظَّلِيلُ كِنَايَةً عَنِ الْمُبَالَغَةِ الْعَظِيمَةِ فِي الرَّاحَةِ، هَذَا مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ خَاطِرِي، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَنْدَفِعُ سُؤَالُ مَنْ يَقُولُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْجَنَّةِ شَمْسٌ تُؤْذِي بِحَرِّهَا فَمَا فَائِدَةُ وَصْفِهَا بِالظِّلِّ الظَّلِيلِ. وَأَيْضًا نَرَى فِي الدُّنْيَا أَنَّ الْمَوَاضِعَ الَّتِي يَدُومُ الظِّلُّ فِيهَا وَلَا يَصِلُ نُورُ الشَّمْسِ إِلَيْهَا يَكُونُ هَوَاؤُهَا عَفِنًا فَاسِدًا مُؤْذِيًا فَمَا مَعْنَى وَصْفُ هَوَاءِ الْجَنَّةِ بِذَلِكَ لِأَنَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي لَخَّصْنَاهُ تَنْدَفِعُ هَذِهِ الشُّبُهَاتُ. [سورة النساء (4) : آية 58] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا شَرَحَ بَعْضَ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ وَشَرَحَ وَعِيدَهُ عَادَ إِلَى ذِكْرِ التَّكَالِيفِ مَرَّةً أُخْرَى، وَأَيْضًا لَمَّا حَكَى عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ كَتَمُوا الْحَقَّ حَيْثُ قَالُوا لِلَّذِينِ كَفَرُوا: هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا، أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، سَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ مِنْ بَابِ الْمَذَاهِبِ وَالدِّيَانَاتِ، أَوْ مِنْ بَابِ الدُّنْيَا وَالْمُعَامَلَاتِ، وَأَيْضًا لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ لِلَّذِينِ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَكَانَ مِنْ أَجَلِّ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْأَمَانَةٌ/ لَا جرم أمر بها في هذه الآية. [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ أَغْلَقَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ وَكَانَ سَادِنَ الْكَعْبَةِ بَابَ الْكَعْبَةِ، وَصَعِدَ السَّطْحَ وَأَبَى أَنْ يَدْفَعَ الْمِفْتَاحَ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّه لَمْ أَمْنَعْهُ، فَلَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَدَهُ وَأَخَذَهُ مِنْهُ وَفَتَحَ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا خَرَجَ سَأَلَهُ الْعَبَّاسُ أَنْ يُعْطِيَهُ الْمِفْتَاحَ وَيَجْمَعَ لَهُ السِّقَايَةَ وَالسَّدَانَةَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى عُثْمَانَ وَيَعْتَذِرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ عُثْمَانُ لِعَلِيٍّ: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق، فقال: لقد أنزل اللَّه في شأنك قرآنا وقرأ عليه الآية فقال عثمان: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه، فَهَبَطَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَخْبَرَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ السَّدَانَةَ فِي أَوْلَادِ عُثْمَانَ أَبَدًا. فَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَقَ. وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ: أَعْطِنِي الْمِفْتَاحَ فَقَالَ: هَاكَ بِأَمَانَةِ اللَّه، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ ضَمَّ يَدَهُ، فَقَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ مَرَّةً ثَانِيَةً: إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ باللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَأَعْطِنِي الْمِفْتَاحَ، فَقَالَ: هَاكَ بِأَمَانَةِ اللَّه، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ ضَمَّ يَدَهُ، فَقَالَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ مَرَّةً ثَالِثَةً، فَقَالَ عُثْمَانُ فِي الثَّالِثَةِ: هَاكَ بِأَمَانَةِ اللَّه وَدَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقام

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ وَمَعَهُ الْمِفْتَاحُ وَأَرَادَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى الْعَبَّاسِ، ثُمَّ قَالَ: يَا عُثْمَانُ خُذِ الْمِفْتَاحَ عَلَى أَنَّ لِلْعَبَّاسِ نَصِيبًا مَعَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ: «هَاكَ خَالِدَةٌ تَالِدَةٌ لَا يَنْزِعُهَا مِنْكَ إِلَّا ظَالِمٌ» ثُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ هَاجَرَ وَدَفَعَ الْمِفْتَاحَ إِلَى أَخِيهِ شَيْبَةَ فَهُوَ فِي وَلَدِهِ الْيَوْمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ لَا يُوجِبُ كَوْنَهَا مَخْصُوصَةً بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ، بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْأَمَانَاتِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مُعَامَلَةَ الْإِنْسَانِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَعَ رَبِّهِ أَوْ مَعَ سَائِرِ الْعِبَادِ، أَوْ مَعَ نَفْسِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ الْأَمَانَةِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ. أَمَّا رِعَايَةُ الْأَمَانَةِ مَعَ الرَّبِّ: فَهِيَ فِي فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَهَذَا بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْأَمَانَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَازِمَةٌ، فِي الْوُضُوءِ وَالْجَنَابَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فَرْجَ الْإِنْسَانِ وَقَالَ هَذَا أَمَانَةٌ خَبَّأْتُهَا عِنْدَكَ فَاحْفَظْهَا إِلَّا بِحَقِّهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا بَابٌ وَاسِعٌ، فَأَمَانَةُ اللِّسَانِ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهُ فِي الْكَذِبِ وَالْغَيْبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ وَالْفُحْشِ وَغَيْرِهَا، وَأَمَانَةُ الْعَيْنِ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهَا فِي النَّظَرِ إِلَى الْحَرَامِ، وَأَمَانَةُ السَّمْعِ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهُ فِي سَمَاعِ الْمَلَاهِي وَالْمَنَاهِي، وَسَمَاعِ الْفُحْشِ وَالْأَكَاذِيبِ وَغَيْرِهَا، وَكَذَا الْقَوْلُ/ فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ رِعَايَةُ الْأَمَانَةِ مَعَ سَائِرِ الْخَلْقِ فَيَدْخُلُ فِيهَا رَدُّ الْوَدَائِعِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ تَرْكُ التَّطْفِيفِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَنْ لَا يُفْشِيَ عَلَى النَّاسِ عُيُوبَهُمْ، وَيَدْخُلُ فِيهِ عَدْلُ الْأُمَرَاءِ مَعَ رَعِيَّتِهِمْ وَعَدْلُ الْعُلَمَاءِ مَعَ الْعَوَامِّ بِأَنْ لَا يحملوهم على التعصبات الباطلة، بل يرشدونهم إِلَى اعْتِقَادَاتٍ وَأَعْمَالٍ تَنْفَعُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَيَدْخُلُ فِيهِ نَهْيُ الْيَهُودِ عَنْ كِتْمَانِ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَهْيُهُمْ عَنْ قَوْلِهِمْ لِلْكُفَّارِ: إِنَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَمْرُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِرَدِّ الْمِفْتَاحِ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَمَانَةُ الزَّوْجَةِ لِلزَّوْجِ فِي حِفْظِ فَرْجِهَا، وَفِي أَنْ لَا تُلْحِقَ بِالزَّوْجِ وَلَدًا يُولَدُ مِنْ غَيْرِهِ. وَفِي إِخْبَارِهَا عَنِ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَمَانَةُ الْإِنْسَانِ مَعَ نَفْسِهِ فَهُوَ أَنْ لَا يَخْتَارَ لِنَفْسِهِ إِلَّا مَا هُوَ الْأَنْفَعُ وَالْأَصْلَحُ لَهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَأَنْ لَا يُقْدِمَ بِسَبَبِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ عَلَى مَا يَضُرُّهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مسؤول عن رعيته» فقوله: يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها يَدْخُلُ فِيهِ الْكُلُّ، وَقَدْ عَظَّمَ اللَّه أَمْرَ الْأَمَانَةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الْأَحْزَابِ: 72] وَقَالَ: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 8] وَقَالَ: وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [الْأَنْفَالِ: 27] وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ» وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: ثَلَاثَةٌ يُؤَدَّيْنَ إِلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ: الْأَمَانَةُ وَالْعَهْدُ وَصِلَةُ الرَّحِمِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَفْظُ الْأَمَانَةِ وَإِنْ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِلْكُلِّ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْأَمَانَةِ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْمَالِ، لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي يُمْكِنُ أَدَاؤُهَا إِلَى الْغَيْرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَمَانَةُ مَصْدَرٌ سُمِّي بِهِ الْمَفْعُولُ، وَلِذَلِكَ جُمِعَ فَإِنَّهُ جُعِلَ اسْمًا خَالِصًا. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ (الْأَمَانَةَ) عَلَى التَّوْحِيدِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: مِنَ الْأَمَانَاتِ الْوَدَائِعُ، وَيَجِبُ رَدُّهَا عِنْدَ الطَّلَبِ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا

غَيْرُ مَضْمُونَةٍ. وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ، رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: اسْتَحْمَلَنِي رَجُلٌ بِضَاعَةً فَضَاعَتْ مِنْ بَيْنِ ثِيَابِي، فَضَمِنَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ لِإِنْسَانٍ عِنْدِي وَدِيعَةٌ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَذَهَبَتْ، فَقَالَ عُمَرُ: ذَهَبَ لَكَ مَعَهَا شَيْءٌ؟ قُلْتُ لَا، فَأَلْزَمَنِي الضَّمَانَ، وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ/ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا ضَمَانَ عَلَى رَاعٍ وَلَا عَلَى مُؤْتَمَنٍ» وَأَمَّا فِعْلُ عُمَرَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمُودِعَ اعْتَرَفَ بِفِعْلٍ يُوجِبُ الضَّمَانَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ: الْعَارِيَّةُ مَضْمُونَةٌ بَعْدَ الْهَلَاكِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ: غَيْرُ مَضْمُونَةٍ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَبَعْدَ هَلَاكِهَا تَعَذَّرَ رَدُّهَا بِصُورَتِهَا، وَرَدُّ ضَمَانِهَا رَدُّهَا بِمَعْنَاهَا، فَكَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى وُجُوبِ التَّضْمِينِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ فِي الْوَدِيعَةِ، لَكِنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْمُسْتَامَ مَضْمُونٌ، وَأَنَّ الْمُودَعَ غَيْرُ مَضْمُونٍ، وَالْعَارِيَّةَ وَقَعَتْ فِي الْبَيْنِ، فَنَقُولُ: الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الْعَارِيَّةِ وَبَيْنَ الْمُسْتَامِ أَكْثَرُ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَخَذَهُ الْأَجْنَبِيُّ لِغَرَضِ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْمُودَعِ، فَإِنَّهُ أَخَذَ الْوَدِيعَةَ لِغَرَضِ الْمَالِكِ، فَكَانَتِ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الْمُسْتَعَارِ وَبَيْنَ الْمُسْتَامِ أَتَمَّ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسْتَعَارِ وَبَيْنَ الْمُودَعِ. حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا ضَمَانَ عَلَى مُؤْتَمَنٍ» . قُلْنَا: إِنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي الْمُسْتَامِ، فَكَذَا فِي الْعَارِيَّةِ، ولأن دليلنا ظاهر القرآن وهو أقوى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْأَمَانَةَ عِبَارَةٌ عَمَّا إِذَا وَجَبَ لِغَيْرِكَ عَلَيْكَ حَقٌّ فَأَدَّيْتَ ذَلِكَ الْحَقَّ إِلَيْهِ فَهَذَا هُوَ الْأَمَانَةُ، وَالْحُكْمُ بِالْحَقِّ عِبَارَةٌ عَمَّا إِذَا وَجَبَ لِإِنْسَانٍ عَلَى غَيْرِهِ حَقٌّ فَأَمَرْتَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْحَقُّ بِأَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى مَنْ لَهُ ذَلِكَ الْحَقُّ، وَلَمَّا كَانَ التَّرْتِيبُ الصَّحِيحُ أَنْ يَبْدَأَ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِغَيْرِهِ، لَا جَرَمَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْأَمْرَ بِالْأَمَانَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ بَعْدَهُ ذَكَرَ الْأَمْرَ بِالْحُكْمِ بِالْحَقِّ، فَمَا أَحْسَنَ هَذَا التَّرْتِيبَ، لِأَنَّ أَكْثَرَ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ مُودَعَةٌ فِي التَّرْتِيبَاتِ وَالرَّوَابِطِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ حَاكِمًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِالْعَدْلِ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ اللَّه يَأْمُرُكُمْ إِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النَّحْلِ: 90] وَقَالَ: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى [الْأَنْعَامِ: 152] وقال: يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص: 26] وَعَنْ أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَزَالُ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِخَيْرٍ مَا إِذَا قَالَتْ صَدَقَتْ وَإِذَا حَكَمَتْ عَدَلَتْ وَإِذَا اسْتَرْحَمَتْ رَحِمَتْ» وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: إِنَّ اللَّه أَخَذَ عَلَى الْحُكَّامِ ثَلَاثًا: أَنْ لَا يَتَّبِعُوا الْهَوَى، وَأَنْ يَخْشَوْهُ وَلَا يَخْشَوُا النَّاسَ، وَلَا يَشْتَرُوا بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قليلا. ثم قرأ يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى [ص: 26] وَقَرَأَ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها

هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [المائدة: 44] وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْعَدْلِ الْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي مَذَمَّةِ الظُّلْمِ قَالَ تَعَالَى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصَّافَّاتِ: 22] وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الظَّلَمَةُ وَأَيْنَ أَعْوَانُ الظَّلَمَةِ، فَيُجْمَعُونَ كُلُّهُمْ حَتَّى مَنْ بَرَى لهم قلما أو لا ق لَهُمْ دَوَاةً فَيُجْمَعُونَ وَيُلْقَوْنَ فِي النَّارِ» وَقَالَ أَيْضًا: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إِبْرَاهِيمَ: 42] وَقَالَ: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النَّمْلِ: 52] . فَإِنْ قِيلَ: الْغَرَضُ مِنَ الظُّلْمِ مَنْفَعَةُ الدُّنْيَا. فَأَجَابَ اللَّه عَنِ السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ: لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ [الْقَصَصِ: 58] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَالْجُلُوسِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِمَاعِ مِنْهُمَا، وَالْحُكْمِ عَلَيْهِمَا قَالَ: وَالْمَأْخُوذُ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَفْعَالِ دُونَ الْقَلْبِ، فَإِنْ كَانَ يَمِيلُ قَلْبُهُ إِلَى أَحَدِهِمَا وَيُحِبُّ أَنْ يَغْلِبَ بِحُجَّتِهِ عَلَى الْآخَرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ. قَالَ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُلَقِّنَ وَاحِدًا مِنْهُمَا حُجَّتَهُ، وَلَا شَاهِدًا شَهَادَتَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، وَلَا يُلَقِّنُ الْمُدَّعِي الدَّعْوَى وَالِاسْتِحْلَافَ، وَلَا يُلَقِّنُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْإِنْكَارَ وَالْإِقْرَارَ، وَلَا يُلَقِّنُ الشُّهُودَ أَنْ يَشْهَدُوا أَوْ لَا يَشْهَدُوا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَضِيفَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكْسِرُ قَلْبَ الْآخَرِ، وَلَا يُجِيبُ هُوَ إِلَى ضِيَافَةِ أَحَدِهِمَا، وَلَا إِلَى ضِيَافَتِهِمَا مَا دَامَا مُتَخَاصِمَيْنِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَضِيفُ الْخَصْمَ إِلَّا وَخَصْمُهُ مَعَهُ. وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَحَاصِلُ الْأَمْرِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ الْحَاكِمِ بِحُكْمِهِ إِيصَالَ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَأَنْ لَا يَمْتَزِجَ ذَلِكَ بِغَرَضٍ آخَرَ، وَذَلِكَ هُوَ المراد بقوله تَعَالَى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ كَالتَّصْرِيحِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِجَمِيعِ النَّاسِ أَنْ يَشْرَعُوا فِي الْحُكْمِ، بَلْ ذَلِكَ لِبَعْضِهِمْ، ثُمَّ بَقِيَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً فِي أَنَّهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ يَصِيرُ حَاكِمًا وَلَمَّا دَلَّتْ سَائِرُ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْأُمَّةِ مِنَ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُنَصِّبُ الْقُضَاةَ وَالْوُلَاةَ فِي الْبِلَادِ، صَارَتْ تِلْكَ الدَّلَائِلُ كَالْبَيَانِ لِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْإِجْمَالِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أَيْ نِعْمَ شَيْءٌ يَعِظُكُمْ بِهِ، أَوْ نِعْمَ الَّذِي يَعِظُكُمْ بِهِ، وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ، أَيْ نِعْمَ شَيْءٌ يَعِظُكُمْ بِهِ ذَاكَ، وَهُوَ المأمور به مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَاتِ وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً أي اعلموا بِأَمْرِ اللَّه وَوَعْظِهِ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ يُجَازِيكُمْ عَلَى مَا يَصْدُرُ مِنْكُمْ، وَفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِالْحُكْمِ عَلَى سَبِيلِ الْعَدْلِ وَبِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً أَيْ إِذَا حَكَمْتَ بِالْعَدْلِ فَهُوَ سُمَيْعٌ لِكُلِّ الْمَسْمُوعَاتِ يَسْمَعُ ذَلِكَ الْحُكْمَ، وَإِنْ أَدَّيْتَ الْأَمَانَةَ فَهُوَ بَصِيرٌ لِكُلِّ الْمُبْصَرَاتِ يُبْصِرُ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا أَعْظَمُ أَسْبَابِ الْوَعْدِ لِلْمُطِيعِ، وَأَعْظَمُ أَسْبَابِ الْوَعِيدِ لِلْعَاصِي، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اعْبُدِ اللَّه كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» وَفِيهِ دقيقة أخرى، وهي أن كُلَّمَا كَانَ احْتِيَاجُ الْعَبْدِ أَشَدَّ كَانَتْ عِنَايَةُ اللَّه أَكْمَلَ، وَالْقُضَاةُ وَالْوُلَاةُ قَدْ فَوَّضَ اللَّه إِلَى أَحْكَامِهِمْ مَصَالِحَ الْعِبَادِ، فَكَانَ الِاهْتِمَامُ بِحُكْمِهِمْ وَقَضَائِهِمْ أَشَدَّ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنِ

[سورة النساء (4) : آية 59]

الْغَفْلَةِ وَالسَّهْوِ وَالتَّفَاوُتِ فِي إِبْصَارِ الْمُبْصَرَاتِ وَسَمَاعِ الْمَسْمُوعَاتِ، وَلَكِنْ لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ هَذَا التَّفَاوُتَ كَانَ مُمْكِنًا لَكَانَ أَوْلَى الْمَوَاضِعِ بِالِاحْتِرَازِ عَنِ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ هُوَ وَقْتُ حُكْمِ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَوْضِعُ مَخْصُوصًا بِمَزِيدِ الْعِنَايَةِ لَا جَرَمَ قَالَ فِي خَاتِمَةِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً فَمَا أَحْسَنَ هذه المقاطع الموافقة لهذه المطالع. [سورة النساء (4) : آية 59] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) [في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الرُّعَاةَ وَالْوُلَاةَ بِالْعَدْلِ فِي الرَّعِيَّةِ أَمَرَ الرَّعِيَّةَ بِطَاعَةِ الْوُلَاةِ فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَلِهَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: حَقٌّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه وَيُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَحَقٌّ عَلَى الرَّعِيَّةِ أَنْ يَسْمَعُوا وَيُطِيعُوا. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الطَّاعَةُ مُوَافَقَةُ الْإِرَادَةِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الطَّاعَةُ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ لَا مُوَافَقَةُ الْإِرَادَةِ. لَنَا أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ طَاعَةٌ، إِنَّمَا النِّزَاعُ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا أَمْ لَا؟ فَإِذَا دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ قَدْ لَا يَكُونُ مُرَادًا ثَبَتَ حِينَئِذٍ أَنَّ الطَّاعَةَ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ مُوَافَقَةِ الْإِرَادَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ اللَّه قَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّه وَخَبَرَهُ قَدْ تَعَلَّقَا بِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُوجَدُ مِنْ أَبِي لَهَبٍ الْبَتَّةَ، وَهَذَا الْعِلْمُ وَهَذَا الْخَبَرُ يَمْتَنِعُ زَوَالُهُمَا وَانْقِلَابُهُمَا جَهْلًا، وَوُجُودُ الْإِيمَانِ مُضَادٌّ وَمُنَافٍ لِهَذَا الْعِلْمِ وَلِهَذَا الْخَبَرِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ مُحَالٌ، فَكَانَ صُدُورُ الْإِيمَانِ مِنْ أَبِي لَهَبٍ مُحَالًا. واللَّه تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَيَكُونُ عَالِمًا بِكَوْنِهِ مُحَالًا، وَالْعَالِمُ بِكَوْنِ الشَّيْءِ مُحَالًا لَا يَكُونُ مُرِيدًا لَهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مُرِيدٍ لِلْإِيمَانِ مِنْ أَبِي لَهَبٍ وَقَدْ أَمَرَهُ بِالْإِيمَانِ فَثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ يُوجَدُ بِدُونِ الْإِرَادَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ طَاعَةَ اللَّه عِبَارَةٌ عَنْ مُوَافَقَةِ أَمْرِهِ لَا عَنْ مُوَافَقَةِ إِرَادَتِهِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الطَّاعَةَ اسْمٌ لِمُوَافَقَةِ الْإِرَادَةِ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: رُبَّ مَنْ أَنْضَجْتُ غَيْظًا صَدْرَهُ ... قَدْ تَمَنَّى لِيَ مَوْتًا لَمْ يُطَعْ رَتَّبَ الطَّاعَةَ عَلَى التَّمَنِّي وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَادَةِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعَاقِلَ عَالِمٌ بِأَنَّ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَا يَلِيقُ مُعَارَضَتُهُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحُجَّةِ الرَّكِيكَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ آيَةٌ شَرِيفَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَكْثَرِ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ زَعَمُوا أَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ أَرْبَعٌ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَقْرِيرِ هَذِهِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ بِهَذَا التَّرْتِيبِ. أَمَّا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَقَدْ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ هِيَ طَاعَةُ اللَّه، فَمَا مَعْنَى هَذَا الْعَطْفِ؟ قُلْنَا: قَالَ الْقَاضِي: الْفَائِدَةُ فِي ذَلِكَ بَيَانُ الدَّلَالَتَيْنِ، فَالْكِتَابُ يَدُلُّ عَلَى أَمْرِ اللَّه، ثُمَّ نَعْلَمُ مِنْهُ أَمْرَ الرَّسُولِ لَا مَحَالَةَ، وَالسُّنَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَمْرِ الرَّسُولِ، ثُمَّ نَعْلَمُ مِنْهُ أمر اللَّه لا محالة، فثبت بما ذكرناه أَنَّ قَوْلَهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مُتَابَعَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يَدُلُّ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ، وَالدَّلِيلُ

عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمْرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ أَمَرَ اللَّه بِطَاعَتِهِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ وَالْقَطْعِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا عَنِ الْخَطَأِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعْصُومًا عَنِ الْخَطَأِ كَانَ بِتَقْدِيرِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْخَطَأِ يَكُونُ قَدْ أَمَرَ اللَّه بِمُتَابَعَتِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا بِفِعْلِ ذَلِكَ الْخَطَأِ وَالْخَطَأُ لِكَوْنِهِ خَطَأً مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَهَذَا يُفْضِي إِلَى اجْتِمَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ بِالِاعْتِبَارِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّهُ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ، وَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَمَرَ اللَّه بِطَاعَتِهِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا عَنِ الْخَطَأِ، فَثَبَتَ قَطْعًا أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا، ثُمَّ نَقُولُ: ذَلِكَ الْمَعْصُومُ إِمَّا مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ أَوْ بَعْضُ الْأُمَّةِ، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضَ الْأُمَّةِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْجَبَ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَطْعًا، وَإِيجَابُ طَاعَتِهِمْ قَطْعًا مَشْرُوطٌ بِكَوْنِنَا عَارِفِينَ بِهِمْ قَادِرِينَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّا فِي زَمَانِنَا هَذَا عَاجِزُونَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ، عَاجِزُونَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، عَاجِزُونَ عَنِ اسْتِفَادَةِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ مِنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْمَعْصُومَ الَّذِي أَمَرَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ لَيْسَ بَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِ الْأُمَّةِ، وَلَا طَائِفَةً مِنْ طَوَائِفِهِمْ. وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْصُومُ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَأُولِي الْأَمْرِ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِي أُولِي الْأَمْرِ وُجُوهًا أُخْرَى سِوَى مَا ذَكَرْتُمْ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَالثَّانِي: الْمُرَادُ أُمَرَاءُ السَّرَايَا، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَبْدِ اللَّه بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ إِذْ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ وَفِيهَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ فِي شَيْءٍ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ. وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يُفْتُونَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَيُعَلِّمُونَ النَّاسَ دِينَهُمْ، وَهَذَا رِوَايَةُ الثَّعْلَبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَاكِ. وَرَابِعُهَا: نُقِلَ عَنِ الرَّوَافِضِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الْمَعْصُومُونَ، وَلَمَّا كَانَتْ أَقْوَالُ الْأُمَّةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَحْصُورَةً فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَكَانَ الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرْتُمُوهُ خَارِجًا عَنْهَا كَانَ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ بَاطِلًا. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: حَمْلُ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ أَوْلَى مِمَّا ذَكَرْتُمْ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأُمَرَاءَ وَالسَّلَاطِينَ أَوَامِرُهُمْ نَافِذَةٌ عَلَى الْخَلْقِ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ أُولُو الْأَمْرِ/ أَمَّا أَهْلُ الْإِجْمَاعِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَمْرٌ نَافِذٌ عَلَى الْخَلْقِ، فَكَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ وَآخِرَهَا يُنَاسِبُ مَا ذَكَرْنَاهُ، أَمَّا أَوَّلُ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْحُكَّامَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ وَبِرِعَايَةِ الْعَدْلِ، وَأَمَّا آخِرُ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيمَا أُشْكِلَ، وَهَذَا إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْأُمَرَاءِ لَا بِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ. الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَالَغَ فِي التَّرْغِيبِ فِي طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ، فَقَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّه وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي» فَهَذَا مَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ مِنَ السُّؤَالِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ حَمَلُوا قَوْلَهُ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ عَلَى الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْهُ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ وَالْحَلِّ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَوْلًا خَارِجًا عَنْ أَقْوَالِ الْأُمَّةِ، بَلْ كَانَ هَذَا اخْتِيَارًا لِأَحَدِ أَقْوَالِهِمْ وَتَصْحِيحًا لَهُ بِالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ، فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: وَأَمَّا سُؤَالُهُمُ الثَّانِي فَهُوَ مَدْفُوعٌ، لِأَنَّ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرُوهَا وُجُوهٌ ضَعِيفَةٌ، وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ، فَكَانَ قَوْلُنَا أَوْلَى، عَلَى أَنَّا نُعَارِضُ تِلْكَ الْوُجُوهَ

بِوُجُوهٍ أُخْرَى أَقْوَى مِنْهَا: فَأَحَدُهَا: أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْأُمَرَاءَ وَالسَّلَاطِينَ إِنَّمَا يَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا عُلِمَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ، وَذَلِكَ الدَّلِيلُ لَيْسَ إِلَّا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ هَذَا قِسْمًا مُنْفَصِلًا عَنْ طَاعَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَعَنْ طَاعَةِ اللَّه وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، بَلْ يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ، كَمَا أَنَّ وُجُوبَ طَاعَةِ الزَّوْجَةِ لِلزَّوْجِ وَالْوَلَدِ لِلْوَالِدَيْنِ، وَالتِّلْمِيذِ لِلْأُسْتَاذِ دَاخِلٌ فِي طَاعَةِ اللَّه وَطَاعَةِ الرَّسُولِ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِجْمَاعِ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقِسْمُ دَاخِلًا تَحْتَهَا، لِأَنَّهُ رُبَّمَا دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى حُكْمٍ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ أَمْكَنَ جَعْلُ هَذَا الْقِسْمِ مُنْفَصِلًا عَنِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، فَهَذَا أَوْلَى. وَثَانِيهَا: أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ يَقْتَضِي إِدْخَالَ الشَّرْطِ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّ طَاعَةَ الْأُمَرَاءِ إِنَّمَا تَجِبُ إِذَا كَانُوا مَعَ الْحَقِّ، فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِجْمَاعِ لَا يَدْخُلُ الشَّرْطُ فِي الْآيَةِ، فَكَانَ هَذَا أَوْلَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ بَعْدُ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ مُشْعِرٌ بِإِجْمَاعٍ مُقَدَّمٍ يُخَالِفُ حُكْمُهُ حُكْمَ هَذَا التَّنَازُعِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ طَاعَةَ اللَّه وَطَاعَةَ رَسُولِهِ وَاجِبَةٌ قَطْعًا، وَعِنْدَنَا أَنَّ طَاعَةَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَاجِبَةٌ قَطْعًا، وَأَمَّا طَاعَةُ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ فَغَيْرُ وَاجِبَةٍ قَطْعًا، بَلِ الْأَكْثَرُ أَنَّهَا تَكُونُ مُحَرَّمَةً لِأَنَّهُمْ لَا يَأْمُرُونَ إِلَّا بِالظُّلْمِ، وَفِي الْأَقَلِّ تَكُونُ وَاجِبَةً بِحَسَبِ الظَّنِّ الضَّعِيفِ، فَكَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْإِجْمَاعِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ فَكَانَ حَمْلُ أُولِي الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ مَقْرُونٌ بِالرَّسُولِ عَلَى الْمَعْصُومِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى/ الْفَاجِرِ الْفَاسِقِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ أَعْمَالَ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى فَتَاوَى الْعُلَمَاءِ، وَالْعُلَمَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ أُمَرَاءُ الْأُمَرَاءِ، فَكَانَ حَمْلُ لَفْظِ أُولِي الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ أَوْلَى، وَأَمَّا حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْأَئِمَّةِ الْمَعْصُومِينَ عَلَى مَا تَقُولُهُ الرَّوَافِضُ فَفِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ طَاعَتَهُمْ مَشْرُوطَةٌ بِمَعْرِفَتِهِمْ وَقُدْرَةِ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، فَلَوْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا طَاعَتَهُمْ قَبْلَ مَعْرِفَتِهِمْ كَانَ هَذَا تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا طَاعَتَهُمْ إِذَا صِرْنَا عَارِفِينَ بِهِمْ وَبِمَذَاهِبِهِمْ صَارَ هَذَا الْإِيجَابُ مَشْرُوطًا، وَظَاهِرُ قَوْلُهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يَقْتَضِي الْإِطْلَاقَ، وَأَيْضًا فَفِي الْآيَةِ مَا يَدْفَعُ هَذَا الِاحْتِمَالَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ فِي لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وَاللَّفْظَةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً وَمَشْرُوطَةً مَعًا، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مُطْلَقَةً فِي حَقِّ الرَّسُولِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً فِي حَقِّ أُولِي الْأَمْرِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ، وَأُولُو الْأَمْرِ جَمْعٌ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ فِي الزَّمَانِ إِلَّا إِمَامٌ وَاحِدٌ، وَحَمْلُ الْجَمْعِ عَلَى الْفَرْدِ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِأُولِي الْأَمْرِ الْإِمَامَ الْمَعْصُومَ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الْإِمَامِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ يَدُلُّ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَإِنِ اخْتَلَفْتُمْ فِي شَيْءٍ حُكْمُهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ، أَوِ الْمُرَادُ فَإِنِ اخْتَلَفْتُمْ فِي شَيْءٍ حُكْمُهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ وَجَبَ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ فَكَانَ ذَلِكَ دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلُهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِعَادَةً لِعَيْنِ مَا مَضَى، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَإِذَا بَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ تَعَيَّنَ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ حُكْمُهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَرُدُّوهُ إِلَى

اللَّهِ وَالرَّسُولِ طَلَبَ حُكْمِهِ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ رَدَّ حُكْمِهِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْوَقَائِعِ الْمُشَابِهَةِ لَهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْقِيَاسُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْقِيَاسِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أَيْ فَوِّضُوا عِلْمَهُ إِلَى اللَّه وَاسْكُتُوا عَنْهُ وَلَا تَتَعَرَّضُوا لَهُ؟ وَأَيْضًا فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَرُدُّوا غَيْرَ الْمَنْصُوصِ إِلَى الْمَنْصُوصِ فِي أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ فِيهِ إِلَّا بِالنَّصِّ؟ وَأَيْضًا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَرُدُّوا هَذِهِ الْأَحْكَامَ/ إِلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ؟ قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَدْفُوعٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْوَقَائِعَ قِسْمَيْنِ، مِنْهَا مَا يَكُونُ حُكْمُهَا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، ثُمَّ أَمَرَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ بِالطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ، وَأَمَرَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي بِالرَّدِّ إِلَى اللَّه وَإِلَى الرَّسُولِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا الرَّدِّ السُّكُوتَ، لِأَنَّ الْوَاقِعَةَ رُبَّمَا كَانَتْ لَا تَحْتَمِلُ ذَلِكَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ قَطْعِ الشَّغَبِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ حَمْلُ الرَّدِّ إِلَى اللَّه عَلَى السُّكُوتِ عَنْ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَبِهَذَا الْجَوَابِ يَظْهَرُ فَسَادُ السُّؤَالِ الثَّالِثِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَجَوَابُهُ أَنَّ الْبَرَاءَةَ الْأَصْلِيَّةَ مَعْلُومَةٌ بِحُكْمِ الْعَقْلِ، فَلَا يَكُونُ رَدُّ الْوَاقِعَةِ إِلَيْهَا رَدًّا إِلَى اللَّه بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، أَمَّا إِذَا رَدَدْنَا حُكْمَ الْوَاقِعَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا كَانَ هَذَا رَدًّا لِلْوَاقِعَةِ عَلَى أَحْكَامِ اللَّه تَعَالَى، فَكَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مُقَدَّمَانِ عَلَى الْقِيَاسِ مُطْلَقًا، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِمَا بِسَبَبِ الْقِيَاسِ، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُمَا بِسَبَبِ الْقِيَاسِ الْبَتَّةَ، سَوَاءٌ كَانَ الْقِيَاسُ جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ النَّصُّ مَخْصُوصًا قَبْلَ ذَلِكَ أَمْ لَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أَمْرٌ بِطَاعَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذَا الْأَمْرُ مُطْلَقٌ، فَثَبَتَ أَنَّ مُتَابَعَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ سَوَاءٌ حَصَلَ قِيَاسٌ يُعَارِضُهُمَا أَوْ يُخَصِّصُهُمَا أَوْ لَمْ يُوجَدْ وَاجِبَةٌ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ وُجُوهٌ أُخْرَى: أَحَدُهَا: أَنَّ كَلِمَةَ «إِنَّ» عَلَى قَوْلِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ لِلِاشْتِرَاطِ، وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ كَانَ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ صريح فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إِلَى الْقِيَاسِ إِلَّا عِنْدَ فِقْدَانِ الْأُصُولِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَخَّرَ ذِكْرَ الْقِيَاسِ عَنْ ذِكْرِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ، وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مُؤَخَّرٌ عَنِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَبَرَ هَذَا التَّرْتِيبَ فِي قِصَّةِ مُعَاذٍ حَيْثُ أَخَّرَ الِاجْتِهَادَ عَنِ الْكِتَابِ، وَعَلَّقَ جَوَازَهُ عَلَى عَدَمِ وِجْدَانِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِقَوْلِهِ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ» الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ حَيْثُ قَالَ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [الْبَقَرَةِ: 34] ثُمَّ إِنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَدْفَعْ هَذَا النَّصَّ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ خَصَّصَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ بِقِيَاسٍ هُوَ قَوْلُهُ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12] ثُمَّ أَجْمَعَ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ الْقِيَاسَ مُقَدَّمًا عَلَى النَّصِّ وَصَارَ بِذَلِكَ السَّبَبِ مَلْعُونًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ تَقْدِيمٌ لِلْقِيَاسِ عَلَى النَّصِّ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْقُرْآنَ مَقْطُوعٌ فِي مَتْنِهِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ، وَالْقِيَاسُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مَظْنُونٌ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَالْمَقْطُوعُ رَاجِحٌ عَلَى الْمَظْنُونِ. السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى/ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الْمَائِدَةِ: 45] وَإِذَا وَجَدْنَا عُمُومَ الْكِتَابِ حَاصِلًا فِي الْوَاقِعَةِ ثُمَّ إِنَّا لَا نَحْكُمُ بِهِ بَلْ حَكَمْنَا بِالْقِيَاسِ لَزِمَ الدُّخُولُ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ. السَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات: 1] فإذا كان عموم القرآن حاضر، ثم قدمنا القياس المخصص عليه لَزِمَ التَّقْدِيمُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّه وَرَسُولِهِ. الثَّامِنُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَقُولُ الَّذِينَ

أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ إلى قوله: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [الْأَنْعَامِ: 148] جَعَلَ اتِّبَاعَ الظَّنِّ مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ، وَمِنَ الْمُوجِبَاتِ الْقَوِيَّةِ فِي مَذَمَّتِهِمْ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ الْبَتَّةَ تُرِكَ هَذَا النَّصُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ، لَكِنَّهُ إِنَّمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ فِقْدَانِ النُّصُوصِ، فَوَجَبَ عِنْدَ وِجْدَانِهَا أَنْ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. التَّاسِعُ: أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا رُوِيَ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّه فَإِنْ وَافَقَهُ فَاقْبَلُوهُ وَإِلَّا ذَرُوهُ» وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَدِيثَ أَقْوَى مِنَ الْقِيَاسِ، فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ الَّذِي لَا يُوَافِقُهُ الْكِتَابُ مَرْدُودًا فَالْقِيَاسُ أَوْلَى بِهِ. الْعَاشِرُ: أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّه الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، وَالْقِيَاسُ يُفَرِّقُ عَقْلَ الْإِنْسَانِ الضَّعِيفِ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ عَقْلٌ سَلِيمٌ عَلِمَ أَنَّ الْأَوَّلَ أَقْوَى بِالْمُتَابَعَةِ وَأَحْرَى. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى هَذِهِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ: أَعْنِي الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ وَالْقِيَاسَ مَرْدُودٌ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْوَقَائِعَ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا تَكُونُ أَحْكَامُهَا مَنْصُوصَةً عَلَيْهَا وَأَمَرَ فِيهَا بِالطَّاعَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وَالثَّانِي: مَا لَا تَكُونُ أَحْكَامُهَا مَنْصُوصَةً عَلَيْهَا وَأَمَرَ فِيهَا بِالِاجْتِهَادِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ فَإِذَا كَانَ لَا مَزِيدَ عَلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَكْلِيفٍ خَاصٍّ مُعَيَّنٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِشَيْءٍ سِوَى هَذِهِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْقَوْلُ بِالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي يَقُولُ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَالْقَوْلُ بِالِاسْتِصْلَاحِ الَّذِي يَقُولُ بِهِ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَحَدَ هَذِهِ الْأُمُورِ الأربعة فَهُوَ تَغْيِيرُ عِبَارَةٍ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُغَايِرًا لِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ كَانَ الْقَوْلُ بِهِ بَاطِلًا قَطْعًا لِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى بُطْلَانِهِ كَمَا ذَكَرْنَا. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: زَعَمَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَاعْتَرَضَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَيْهِ فَقَالُوا: قَوْلُهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِيجَابِ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ. وَهَذَا يَقْتَضِي افْتِقَارَ الدَّلِيلِ إِلَى الْمَدْلُولِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَلِلْفُقَهَاءِ أَنْ يُجِيبُوا عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَوَامِرَ الْوَارِدَةَ فِي الْوَقَائِعِ الْمَخْصُوصَةِ دَالَّةٌ عَلَى/ النُّدْبِيَّةِ فَقَوْلُهُ: أَطِيعُوا لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورَاتِ مَنْدُوبٌ فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِهَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَةٌ. لِأَنَّ مُجَرَّدَ النُّدْبِيَّةِ كَانَ مَعْلُومًا مِنْ تِلْكَ الْأَوَامِرِ، فَوَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى إِفَادَةِ الْوُجُوبِ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ الْأَوَامِرَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ فِعْلَ تِلْكَ الْمَأْمُورَاتِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ تَرْكِهَا فَحِينَئِذٍ يَبْقَى لِهَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَهُوَ وَعِيدٌ، فَكَمَا أَنَّ احْتِمَالَ اخْتِصَاصِهِ بِقَوْلِهِ: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ قَائِمٌ، فَكَذَلِكَ احْتِمَالُ عَوْدِهِ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ أَعْنِي قَوْلَهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَقَوْلَهُ: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ قَائِمٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِيهِ، وَإِذَا حَكَمْنَا بِعَوْدِ ذَلِكَ الْوَعِيدِ إِلَى الْكُلِّ صَارَ قَوْلُهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ مُوجِبًا لِلْوُجُوبِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَصْلٌ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَّا الْقَوْلُ وَإِمَّا الْفِعْلُ، أَمَّا الْقَوْلُ فَيَجِبُ إِطَاعَتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأَمَّا الْفِعْلُ فَيَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ. وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: أَطِيعُوا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوَامِرَ اللَّه لِلْوُجُوبِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى فِي صِفَةِ محمد عليه

الصلاة والسلام: فَاتَّبِعُوهُ وَهَذَا أَمْرٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلْوُجُوبِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُتَابَعَتَهُ وَاجِبَةٌ، وَالْمُتَابَعَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ فِعْلِ الْغَيْرِ لِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ فَعَلَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ يُوجِبُ الِاقْتِدَاءَ بِالرَّسُولِ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ، وَقَوْلَهُ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ يُوجِبُ الِاقْتِدَاءَ بِهِ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا أَصْلَانِ مُعْتَبَرَانِ فِي الشَّرِيعَةِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ لَا يُفِيدُ التِّكْرَارَ وَلَا الْفَوْرَ إِلَّا أَنَّهُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ يَصِحُّ مِنْهُ اسْتِثْنَاءُ أَيِّ وَقْتٍ كَانَ، وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ الْأَوْقَاتِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي التِّكْرَارَ، وَالتِّكْرَارُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ لَصَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً، لِأَنَّ الْوَقْتَ الْمَخْصُوصَ وَالْكَيْفِيَّةَ الْمَخْصُوصَةَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعُمُومِ كَانَتِ الْآيَةُ مُبِيِّنَةً، وَحَمْلُ كَلَامِ اللَّه عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَكُونُ مُبَيِّنًا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بِهِ يَصِيرُ مُجْمَلًا مَجْهُولًا، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ، وَالتَّخْصِيصُ خَيْرٌ مِنَ الْإِجْمَالِ. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ أَضَافَ لَفْظَ الطَّاعَةِ إِلَى لَفْظِ اللَّه، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ وُجُوبَ الطَّاعَةِ عَلَيْنَا لَهُ إِنَّمَا كَانَ لِكَوْنِنَا عَبِيدًا لَهُ وَلِكَوْنِهِ إِلَهًا، فَثَبَتَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الْمَنْشَأَ لِوُجُوبِ الطَّاعَةِ هُوَ الْعُبُودِيَّةُ وَالرُّبُوبِيَّةُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي دَوَامَ وُجُوبِ الطَّاعَةِ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ/ وَهَذَا أَصْلٌ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: أَنَّهُ قَالَ: أَطِيعُوا اللَّهَ فَأَفْرَدَهُ فِي الذِّكْرِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وَهَذَا تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّه سُبْحَانَهُ لِهَذَا الْأَدَبِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَجْمَعُوا فِي الذِّكْرِ بَيْنَ اسْمِهِ سُبْحَانَهُ وَبَيْنَ اسْمِ غَيْرِهِ، وَأَمَّا إِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ فَيَجُوزُ ذَلِكَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وَهَذَا تَعْلِيمٌ لِهَذَا الْأَدَبِ، وَلِذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ وَاحِدًا ذُكِرَ عِنْدَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ: مَنْ أَطَاعَ اللَّه وَالرَّسُولَ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ عَصَاهُمَا فَقَدْ غَوَى، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ هَلَّا قُلْتَ مَنْ عَصَى اللَّه وَعَصَى رسوله» أو لفظ هَذَا مَعْنَاهُ، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ فِي اللَّفْظِ يُوهِمُ نَوْعَ مُنَاسَبَةٍ وَمُجَانَسَةٍ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ مُتَعَالٍ عَنْ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ فَنَقُولُ: كَمَا أَنَّهُ دَلَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَكَذَلِكَ دَلَّ عَلَى مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ فُرُوعِ الْقَوْلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ بَعْضَهَا: الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: مَذْهَبُنَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِقَوْلِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُمْكِنُهُمُ اسْتِنْبَاطُ أَحْكَامِ اللَّه مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُسَمَّوْنَ بِأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ نَقُولُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ، وَالَّذِينَ لَهُمُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي الشَّرْعِ لَيْسَ إِلَّا هَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ الَّذِي لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِكَيْفِيَّةِ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنَ النُّصُوصِ لَا اعْتِبَارَ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُفَسِّرُ وَالْمُحَدِّثُ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ أُولِي الْأَمْرِ حُجَّةٌ علمنا دلالة الآية على أنه يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَامِّيَّ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهِ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ مِنَ الظَّاهِرِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أُولِي الْأَمْرِ. الْفَرْعُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْحَاصِلَ عَقِيبَ الْخِلَافِ هَلْ هُوَ حُجَّةٌ؟ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَالدَّلِيلُ

عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يَقْتَضِي وُجُوبَ طَاعَةِ جُمْلَةِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا حَصَلَ بَعْدَ الْخِلَافِ وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ حُجَّةً. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ انْقِرَاضَ أَهْلِ الْعَصْرِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ؟ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ الْمُجْمِعِينَ، وَذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ مَا إِذَا انْقَرَضَ الْعَصْرُ وَمَا إِذَا لَمْ يَنْقَرِضْ. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِإِجْمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ لأنه تعالى قال في أول الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ قَالَ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِإِجْمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَمَّا سَائِرُ الْفِرَقِ الَّذِينَ يُشَكُّ فِي إِيمَانِهِمْ فَلَا عِبْرَةَ بِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ، فَنَقُولُ: كَمَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، فَكَذَلِكَ دَلَّتْ عَلَى مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ فُرُوعِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ بَعْضَهَا: الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ مَعْنَاهُ فَرُدُّوهُ إِلَى وَاقِعَةٍ بَيَّنَ اللَّه حُكْمَهَا، وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَرُدُّوهَا إِلَى وَاقِعَةٍ تُشْبِهُهَا، إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِرَدِّهَا رَدَّهَا إِلَى وَاقِعَةٍ تَخَالِفُهَا فِي الصُّورَةِ وَالصِّفَةِ، فَحِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ رَدُّهَا إِلَى بَعْضِ الصُّوَرِ أَوْلَى مِنْ رَدِّهَا إِلَى الْبَاقِي، وَحِينَئِذٍ يَتَعَذَّرُ الرَّدُّ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: فَرُدُّوهَا إِلَى وَاقِعَةٍ تُشْبِهُهَا فِي الصُّورَةِ وَالصِّفَةِ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَاهُ يُؤَكَّدُ بِالْخَبَرِ وَالْأَثَرِ، أَمَّا الْخَبَرُ فَإِنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ» يَعْنِي الْمَضْمَضَةَ مُقَدِّمَةَ الْأَكْلِ، كَمَا أَنَّ الْقُبْلَةَ مُقَدِّمَةُ الْجِمَاعِ، فَكَمَا أَنَّ تِلْكَ الْمَضْمَضَةَ لَمْ تَنْقُضِ الصَّوْمَ، فَكَذَا الْقُبْلَةُ. وَلَمَّا سَأَلَتْهُ الْخَثْعَمِيَّةُ عَنِ الْحَجِّ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ هَلْ يُجْزِي فَقَالَتْ نَعَمْ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: فَدَيْنُ اللَّه أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» وَأَمَّا الْأَثَرُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: اعْرِفِ الْأَشْبَاهَ وَالنَّظَائِرَ وَقِسِ الْأُمُورَ بِرَأْيِكَ، فَدَلَّ مَجْمُوعُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ وَدَلَالَةِ الْخَبَرِ وَدَلَالَةِ الْأَثَرِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَرُدُّوهُ أَمْرٌ بِرَدِّ الشَّيْءِ إِلَى شَبِيهَهُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ جَعَلَ اللَّه الْمُشَابَهَةَ فِي الصُّورَةِ وَالصِّفَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ مُشَابِهٌ لِلْحُكْمِ فِي مَحَلِّ النَّصِّ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه قِيَاسَ الْأَشْبَاهِ، وَيُسَمِّيهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ قِيَاسَ الطَّرْدِ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى صِحَّتِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: فَرُدُّوهُ هُوَ أَنَّهُ رُدُّوهُ إِلَى شَبِيهِهِ عَلِمْنَا أَنَّ الْأَصْلَ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْقِيَاسِ مَحْضُ الْمُشَابَهَةِ، وَهَذَا بَحْثٌ فِيهِ طُولٌ، وَمُرَادُنَا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ اسْتِنْبَاطِ الْمَسَائِلِ مِنَ الْآيَاتِ، فَأَمَّا الِاسْتِقْصَاءُ فِيهَا فَمَذْكُورٌ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ. الْفَرْعُ الثَّانِي: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْقِيَاسِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا نَصٌّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ مُشْعِرٌ بِهَذَا الِاشْتِرَاطِ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْوَاقِعَةِ نَصٌّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ جَازَ اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِيهِ كَيْفَ كَانَ، وَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِي الْكَفَّارَاتِ/ وَالْحُدُودِ وَغَيْرِهِمَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ عَامٌّ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ لَا نَصَّ فِيهَا.

[سورة النساء (4) : الآيات 60 إلى 61]

الْفَرْعُ الرَّابِعُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ الْحُكْمَ فِي صُورَةٍ بِالْقِيَاسِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَقِيسَهُ عَلَى صُورَةٍ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِيهَا بِالنَّصِّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقِيسَهُ عَلَى صُورَةٍ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِيهَا بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ظَاهِرُهُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ يَجِبُ رَدُّهُ إِلَى الْحُكْمِ الَّذِي ثَبَتَ بِنَصِّ اللَّه وَنَصِّ رَسُولِهِ. الْفَرْعُ الْخَامِسُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ثَبَتَ حُكْمُهُ بِالْقُرْآنِ، وَالْقِيَاسَ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ثَبَتَ حُكْمُهُ بِالسُّنَّةِ إِذَا تَعَارَضَا كَانَ الْقِيَاسُ عَلَى الْقُرْآنِ مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ عَلَى الْخَبَرِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ الْكِتَابَ عَلَى السُّنَّةِ فِي قَوْلِهِ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَفِي قَوْلِهِ: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَكَذَلِكَ فِي خَبَرِ مُعَاذٍ. الْفَرْعُ السَّادِسُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ قِيَاسَانِ أَحَدُهُمَا تَأَيَّدَ بِإِيمَاءٍ فِي كِتَابِ اللَّه وَالْآخَرُ تَأَيَّدَ بِإِيمَاءِ خَبَرٍ مِنْ أَخْبَارِ رَسُولِ اللَّه، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مُقَدَّمٌ عَلَى الثَّانِي، يَعْنِي كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَرْعِ الْخَامِسِ، فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الْأُصُولِيَّةُ اسْتَنْبَطْنَاهَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَقَلَّ مِنْ سَاعَتَيْنِ، وَلَعَلَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اسْتَعْمَلَ الْفِكْرَ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ أَمْكَنَهُ اسْتِنْبَاطَ أَكْثَرِ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: وَأُولِي الْأَمْرِ مَعْنَاهُ ذَوُو الْأَمْرِ وَأُولُو جَمْعٌ، وَوَاحِدُهُ ذُو عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ، كَالنِّسَاءِ وَالْإِبِلِ وَالْخَيْلِ، كُلُّهَا أَسْمَاءٌ لِلْجَمْعِ وَلَا وَاحِدَ لَهُ فِي اللَّفْظِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ قَالَ الزَّجَّاجُ: اخْتَلَفْتُمْ وَقَالَ كُلُّ فَرِيقٍ: الْقَوْلُ قَوْلِي وَاشْتِقَاقُ الْمُنَازَعَةِ مِنَ النَّزْعِ الَّذِي هُوَ الْجَذْبُ، وَالْمُنَازَعَةُ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَاذَبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ لِحُجَّةٍ مُصَحِّحَةٍ لِقَوْلِهِ، أَوْ مُحَاوَلَةِ جَذْبِ قَوْلِهِ وَنَزْعِهِ إِيَّاهُ عَمَّا يُفْسِدُهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا الْوَعِيدُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى قَوْلِهِ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَإِلَى قَوْلِهِ: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ لَمْ يُطِعِ اللَّه وَالرَّسُولَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَخْرُجَ الْمُذْنِبُ عَنِ الْإِيمَانِ لَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّهْدِيدِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أَيْ ذَلِكَ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً لَكُمْ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ عِبَارَةٌ عَمَّا إِلَيْهِ مَآلُ الشيء ومرجعه وعاقبته. [سورة النساء (4) : الآيات 60 الى 61] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) [فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ إلى قوله تعالى ضَلالًا بَعِيداً] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ أَنْ يُطِيعُوا اللَّه وَيُطِيعُوا الرَّسُولَ ذَكَرَ فِي

هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ لَا يُطِيعُونَ الرَّسُولَ وَلَا يَرْضَوْنَ بِحُكْمِهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ حُكْمَ غَيْرِهِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الزَّعْمُ وَالزَّعَمُ لُغَتَانِ، وَلَا يُسْتَعْمَلَانِ فِي الْأَكْثَرَ إِلَّا فِي الْقَوْلِ الَّذِي لَا يَتَحَقَّقُ. قَالَ اللَّيْثُ: أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُونَ زَعَمَ فُلَانٌ إِذَا شَكُّوا فِيهِ فَلَمْ يَعْرِفُوا أَكَذَبَ أَوْ صَدَقَ، فَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ أَيْ بِقَوْلِهِمُ الْكَذِبَ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الزَّعُومُ مِنَ الْغَنَمِ الَّتِي لَا يَعْرِفُونَ أَبِهَا شَحْمٌ أَمْ لا، وقال ابن العربي: الزَّعْمُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْحَقِّ، وَأَنْشَدَ لِأُمَيَّةَ بْنِ الصَّلْتِ وَإِنِّي أَدِينُ لَكُمْ أَنَّهُ ... سَيُنْجِزُكُمْ رَبُّكُمْ مَا زَعَمَ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُرَادُ بِهِ الْكَذِبُ، لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: نَازَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَبُو الْقَاسِمِ، وَقَالَ الْمُنَافِقُ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى الرِّشْوَةِ، وَكَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ كَانَ شَدِيدَ الرَّغْبَةِ فِي الرِّشْوَةِ، وَالْيَهُودِيَّ كَانَ مُحِقًّا، وَالْمُنَافِقَ كَانَ مُبْطِلًا، فَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ الْيَهُودِيُّ يُرِيدُ التَّحَاكُمَ إِلَى الرَّسُولِ، وَالْمُنَافِقُ كَانَ يُرِيدُ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ، ثُمَّ أَصَرَّ الْيَهُودِيُّ عَلَى قَوْلِهِ، فَذَهَبَا إِلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَكَمَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْيَهُودِيِّ/ عَلَى الْمُنَافِقِ، فَقَالَ الْمُنَافِقُ لَا أَرْضَى انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَحَكَمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِلْيَهُودِيِّ فَلَمْ يَرْضَ الْمُنَافِقُ، وَقَالَ الْمُنَافِقُ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ عُمَرُ، فَصَارَا إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ الْيَهُودِيُّ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَبَا بَكْرٍ حَكَمَا عَلَى الْمُنَافِقِ فَلَمْ يَرْضَ بِحُكْمِهِمَا، فَقَالَ لِلْمُنَافِقِ: أَهَكَذَا فَقَالَ نَعَمْ، قَالَ: اصْبِرَا إِنَّ لِي حَاجَةً أَدْخُلُ فَأَقْضِيهَا وَأَخْرُجُ إِلَيْكُمَا. فَدَخَلَ فَأَخَذَ سَيْفَهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمَا فَضَرَبَ بِهِ الْمُنَافِقَ حَتَّى بَرَدَ وَهَرَبَ الْيَهُودِيُّ، فَجَاءَ أَهْلُ الْمُنَافِقِ فَشَكَوْا عُمَرَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عُمَرَ عَنْ قِصَّتِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ رَدَّ حُكْمَكَ يَا رَسُولَ اللَّه، فَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْحَالِ وَقَالَ: إِنَّهُ الْفَارُوقُ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: «أَنْتَ الْفَارُوقُ» وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الطَّاغُوتُ هُوَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ. الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ أَسْلَمَ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ وَنَافَقَ بَعْضُهُمْ، وَكَانَتْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا قَتَلَ قُرَظِيٌّ نَضَرِيًّا قُتِلَ بِهِ وَأُخِذَ مِنْهُ دِيَةٌ مِائَةُ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ، وَإِذَا قَتَلَ نَضَرِيٌّ قُرَظِيًّا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ، لَكِنْ أَعْطَىَ دِيَتَهُ سِتِّينَ وَسْقًا مِنَ التَّمْرِ، وَكَانَ بَنُو النَّضِيرِ أَشْرَفَ وَهُمْ حُلَفَاءُ الْأَوْسِ، وَقُرَيْظَةُ حُلَفَاءُ الْخَزْرَجِ، فَلَمَّا هَاجَرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى الْمَدِينَةِ قَتَلَ نَضَرِيٌّ قُرَظِيًّا فَاخْتَصَمَا فِيهِ، فَقَالَتْ بَنُو النَّضِيرِ: لَا قِصَاصَ عَلَيْنَا، إِنَّمَا عَلَيْنَا سِتُّونَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ عَلَى مَا اصْطَلَحْنَا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، وَقَالَتِ الْخَزْرَجُ: هَذَا حُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَنَحْنُ وَأَنْتُمُ الْيَوْمَ إِخْوَةٌ، وَدِينُنَا وَاحِدٌ وَلَا فَضْلَ بَيْنَنَا، فَأَبَى بَنُو النَّضِيرِ ذَلِكَ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: انْطَلِقُوا إِلَى أَبِي بُرْدَةَ الْكَاهِنِ الْأَسْلَمِيِّ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: بَلْ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبَى الْمُنَافِقُونَ وَانْطَلَقُوا إِلَى الْكَاهِنِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَدَعَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْكَاهِنَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، هَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الطَّاغُوتُ هُوَ الْكَاهِنُ. الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ حَقٌّ، فَدَعَاهُ الْمُنَافِقُ

إِلَى وَثَنٍ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهِ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ يُتَرْجِمُ الْأَبَاطِيلَ عَنِ الْوَثَنِ، فَالْمُرَادُ بِالطَّاغُوتِ هُوَ ذَلِكَ الرَّجُلُ. الرِّوَايَةُ الرَّابِعَةُ: كَانُوا يَتَحَاكَمُونَ إِلَى الْأَوْثَانِ، وَكَانَ طَرِيقُهُمْ أَنَّهُمْ يَضْرِبُونَ الْقِدَاحَ بِحَضْرَةِ الْوَثَنِ، فَمَا خَرَجَ عَلَى الْقِدَاحِ عَمِلُوا بِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالطَّاغُوتُ هُوَ الْوَثَنُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، مِثْلَ أَنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ عَلَى سَبِيلِ النِّفَاقِ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّمَا يَلِيقُ بِمِثْلِ هَذَا الْمُنَافِقِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَقْصُودُ الْكَلَامِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ أَرَادَ أَنْ يَتَحَاكَمَ إِلَى بَعْضِ أَهْلِ الطُّغْيَانِ وَلَمْ يُرِدِ التَّحَاكُمَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّحَاكُمُ إِلَى هَذَا الطَّاغُوتِ كَالْكُفْرِ، وَعَدَمُ الرِّضَا بِحُكْمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُفْرٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ فَجَعَلَ التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ يَكُونُ إِيمَانًا بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ بِالطَّاغُوتِ كُفْرٌ باللَّه، كما أن الكفر بالطغوت إِيمَانٌ باللَّه. الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النِّسَاءِ: 65] وَهَذَا نَصٌّ فِي تَكْفِيرِ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النُّورِ: 63] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُخَالَفَتَهُ مَعْصِيَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ دَلَائِلُ عَلَى أَنَّ مَنْ رَدَّ شَيْئًا مِنْ أَوَامِرِ اللَّه أَوْ أَوَامِرِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْإِسْلَامِ، سَوَاءٌ رَدَّهُ مِنْ جِهَةِ الشَّكِّ أَوْ مِنْ جِهَةِ التَّمَرُّدِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ صِحَّةَ مَا ذَهَبَتِ الصَّحَابَةُ إِلَيْهِ مِنَ الْحُكْمِ بِارْتِدَادِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَقَتْلِهِمْ وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُفْرَ الْكَافِرِ لَيْسَ بِخَلْقِ اللَّه وَلَا بِإِرَادَتِهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ خَلَقَ اللَّه الْكُفْرَ فِي الْكَافِرِ وَأَرَادَهُ مِنْهُ فَأَيُّ تَأْثِيرٍ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ تَأْثِيرٌ فَلِمَ ذَمَّهُ عَلَيْهِ؟ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ الشَّيْطَانَ بِسَبَبِ أَنَّهُ يُرِيدُ هَذِهِ الضَّلَالَةَ؟ فَلَوْ كَانَ تَعَالَى مُرِيدًا لَهَا لَكَانَ هُوَ بِالذَّمِّ أَوْلَى مِنْ حَيْثُ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَابَ شَيْئًا ثُمَّ فَعَلَهُ كَانَ بِالذَّمِّ أَوْلَى قَالَ تَعَالَى: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفِّ: 3] الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْآيَةِ صَرِيحٌ فِي إِظْهَارِ التَّعَجُّبِ مِنْ أَنَّهُمْ كَيْفَ تَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ التَّحَاكُمُ بِخَلْقِ اللَّه لَمَا بَقِيَ التعجب، فانه يقال: إنما فعلوا لا جل أَنَّكَ خَلَقْتَ ذَلِكَ الْفِعْلَ فِيهِمْ وَأَرَدْتَهُ مِنْهُمْ، بَلِ التَّعَجُّبُ مِنْ هَذَا التَّعَجُّبِ أَوْلَى، فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِيهِمْ ثُمَّ أَخَذَ يَتَعَجَّبُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ كَيْفَ فَعَلُوا ذَلِكَ كَانَ التَّعَجُّبُ مِنْ هَذَا التَّعَجُّبِ أَوْلَى. وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ يَرْجِعُ إِلَى التَّمَسُّكِ بِطَرِيقَةِ الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ، وَقَدْ عَرَفْتَ مِنَّا أَنَّا لَا نَقْدَحُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إِلَّا بِالْمُعَارَضَةِ بِالْعِلْمِ وَالدَّاعِي واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً وفيه مسألتان:

[سورة النساء (4) : الآيات 62 إلى 63]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى رَغْبَةَ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّحَاكُمِ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ نُفْرَتَهُمْ عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّمَا صَدَّ الْمُنَافِقُونَ عَنْ حُكْمِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ الرِّشَا وَأَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِمُرِّ الْحُكْمِ، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ الصَّدُّ لِعَدَاوَتِهِمْ فِي الدِّينِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا، أَيْ يُعْرِضُونَ عَنْكَ، وَذِكْرُ الْمَصْدَرِ لِلتَّأْكِيدِ والمبالغة كأنه قيل: صدودا أي صدود. [سورة النساء (4) : الآيات 62 الى 63] فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) [في قَوْلُهُ تَعَالَى فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ فِي اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ كَلَامٌ وَقَعَ فِي الْبَيْنِ، وَمَا قَبْلُ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَّصِلٌ بِمَا بَعْدَهَا هَكَذَا: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّه وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عنك صدودا ثم جاؤك يَحْلِفُونَ باللَّه إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا، يَعْنِي أَنَّهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يَصُدُّونَ عَنْكَ أَشَدَّ الصُّدُودِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَجِيئُونَكَ وَيَحْلِفُونَ باللَّه كَذِبًا عَلَى أَنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِذَلِكَ الصَّدِّ إِلَّا الْإِحْسَانَ وَالتَّوْفِيقَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ النَّظْمُ مُتَّصِلًا، وَتِلْكَ الْآيَةُ وَقَعَتْ فِي الْبَيْنِ كَالْكَلَامِ الْأَجْنَبِيِّ، وَهَذَا يُسَمَّى اعْتِرَاضًا، وَهُوَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: إِنَّ الثَّمَانِينَ وَبُلِّغْتَهَا ... قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إِلَى تُرْجُمَانْ فَقَوْلُهُ: وَبُلِّغْتَهَا، كَلَامٌ أَجْنَبِيٌّ وَقَعَ فِي الْبَيْنِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ الْأَجْنَبِيَّ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ تَعَلُّقٌ بِذَلِكَ الْمَقْصُودِ كَمَا فِي هَذَا الْبَيْتِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: بُلِّغْتَهَا دُعَاءٌ لِلْمُخَاطَبِ وَتَلَطُّفٌ فِي/ الْقَوْلِ مَعَهُ، وَالْآيَةُ أَيْضًا كَذَلِكَ، لِأَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ وَآخِرَهَا فِي شَرْحِ قَبَائِحِ الْمُنَافِقِينَ وَفَضَائِحِهِمْ وَأَنْوَاعِ كَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ، فَإِنَّ الْآيَةَ أَخْبَرَتْ بِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ يَتَحَاكَمُونَ إِلَى الطَّاغُوتِ مَعَ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْكُفْرِ بِهِ، وَيَصُدُّونَ عَنِ الرَّسُولِ مَعَ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِطَاعَتِهِ، فَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الْأَحْوَالِ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَقَالَ: فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أَيْ فَكَيْفَ حال تكل الشِّدَّةِ وَحَالُ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَاخْتِيَارُ الْوَاحِدِيِّ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَلَامٌ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُمْ يَتَحَاكَمُونَ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَيَفِرُّونَ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَشَدَّ الْفِرَارِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى شِدَّةِ نُفْرَتِهِمْ مِنَ الْحُضُورِ عِنْدَ الرَّسُولِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ قَالَ: فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ يَعْنِي إِذَا كَانَتْ نُفْرَتُهُمْ مِنَ الْحُضُورِ عِنْدَ الرَّسُولِ فِي أَوْقَاتِ السَّلَامَةِ هَكَذَا، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ فِي شِدَّةِ الْغَمِّ والحسرة إذا

أتوا بجناية خافوا بسببها منك، ثم جاؤك شَاءُوا أَمْ أَبَوْا وَيَحْلِفُونَ باللَّه عَلَى سَبِيلِ الْكَذِبِ: أَنَّا مَا أَرَدْنَا بِتِلْكَ الْجِنَايَةِ إِلَّا الْخَيْرَ وَالْمَصْلَحَةَ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ بَيَانُ أَنَّ مَا فِي قَلْبِهِمْ مِنَ النُّفْرَةِ عَنِ الرَّسُولِ لَا غَايَةَ لَهُ، سَوَاءٌ غَابُوا أَمْ حَضَرُوا، وَسَوَاءٌ بَعُدُوا أَمْ قَرُبُوا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَدَّ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي شَيْءٍ قَالَ: هَذَا شَيْءٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّه، يَعْنِي أَنَّهُ لِكَثْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ لَمَّا عَرَفَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شِدَّةَ بُغْضِهِمْ وَنِهَايَةَ عَدَاوَتِهِمْ وَنُفْرَتِهِمْ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ كَيْفَ يُعَامِلُهُمْ فَقَالَ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً وَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مُنْتَظِمٌ حَسَنُ الِاتِّسَاقِ لَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَذْفِ وَالْإِضْمَارِ، وَمَنْ طَالَعَ كُتُبَ التَّفْسِيرِ عَلِمَ أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ كَيْفَ اضْطَرَبُوا فِيهِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ قَتْلُ عُمَرَ صَاحِبَهُمُ الَّذِي أَقَرَّ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِحُكْمِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَهُمْ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَطَالَبُوا عُمَرَ بِدَمِهِ وَحَلَفُوا أَنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِالذَّهَابِ إِلَى غَيْرِ الرَّسُولِ إِلَّا الْمَصْلَحَةَ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ. الثَّانِي: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْمُصِيبَةِ مَا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَسْتَصْحِبُهُمْ فِي الْغَزَوَاتِ، وَأَنَّهُ يَخُصُّهُمْ بِمَزِيدِ الْإِذْلَالِ وَالطَّرْدِ عَنْ حَضْرَتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ/ ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الْأَحْزَابِ: 60- 61] وَقَوْلُهُ: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً [التَّوْبَةِ: 83] وَبِالْجُمْلَةِ فَأَمْثَالُ هَذِهِ الْآيَاتِ تُوجِبُ لَهُمُ الذُّلَّ الْعَظِيمَ، فَكَانَتْ مَعْدُودَةً فِي مَصَائِبِهِمْ، وَإِنَّمَا يُصِيبُهُمْ ذَلِكَ لِأَجْلِ، نِفَاقِهِمْ، وعني بقوله: ثُمَّ جاؤُكَ أَيْ وَقْتَ الْمُصِيبَةِ يَحْلِفُونَ وَيَعْتَذِرُونَ أَنَّا مَا أَرَدْنَا بِمَا كَانَ مِنَّا مِنْ مُدَارَاةِ الْكُفَّارِ الا الصلاح، وكانوا في ذلك كاذبين لا نهم أَضْمَرُوا خِلَافَ مَا أَظْهَرُوهُ، وَلَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ الْإِحْسَانَ الَّذِي هُوَ الصَّلَاحُ. الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ رَغِبُوا فِي حُكْمِ الطَّاغُوتِ وَكَرِهُوا حُكْمَ الرَّسُولِ، بَشَّرَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَتُصِيبُهُمْ مَصَائِبُ تُلْجِئُهُمْ إِلَيْهِ، وَإِلَى أَنْ يُظْهِرُوا لَهُ الْإِيمَانَ بِهِ وَإِلَى أَنْ يَحْلِفُوا بِأَنَّ مُرَادَهُمُ الْإِحْسَانُ وَالتَّوْفِيقُ. قَالَ: وَمِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ عِنْدَ التَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ أَنْ يَقُولُوا: كَيْفَ أَنْتَ إِذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النِّسَاءِ: 41] وَقَوْلُهُ: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ [آلِ عِمْرَانَ: 25] ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى إِذَا كَانَ مِنْهُمْ ذَلِكَ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ وَيَعِظَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْإِحْسَانِ وَالتَّوْفِيقِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ مَا أَرَدْنَا بِالتَّحَاكُمِ إِلَى غَيْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْإِحْسَانَ إِلَى خُصُومِنَا وَاسْتِدَامَةَ الِاتِّفَاقِ وَالِائْتِلَافِ فِيمَا بَيْنَنَا، وَإِنَّمَا كَانَ التَّحَاكُمُ إِلَى غَيْرِ الرَّسُولِ إِحْسَانًا إِلَى الْخُصُومِ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا عِنْدَ الرَّسُولِ لَمَا قَدَرُوا عَلَى رَفْعِ صَوْتٍ عِنْدَ تَقْرِيرِ كَلَامِهِمْ، وَلَمَّا قَدَرُوا عَلَى التَّمَرُّدِ مِنْ حُكْمِهِ، فَإِذَنْ كَانَ التَّحَاكُمُ إِلَى غَيْرِ الرَّسُولِ إِحْسَانًا إِلَى الْخُصُومِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَا أَرَدْنَا بِالتَّحَاكُمِ إِلَى عُمَرَ إِلَّا أَنَّهُ يُحْسِنُ إِلَى صَاحِبِنَا بِالْحُكْمِ الْعَدْلِ وَالتَّوْفِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ، وَمَا خَطَرَ بِبَالِنَا أَنَّهُ يَحْكُمُ بِمَا حَكَمَ بِهِ الرَّسُولُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَا أَرَدْنَا بِالتَّحَاكُمِ إِلَى غَيْرِكَ يَا رَسُولَ اللَّه إِلَّا أَنَّكَ لَا تَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ الْمُرِّ، وَغَيْرُكَ يَدُورُ عَلَى التَّوَسُّطِ وَيَأْمُرُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْآخَرِ، وَتَقْرِيبِ مُرَادِهِ مِنْ مُرَادِ صَاحِبِهِ حَتَّى يَحْصُلَ بَيْنَهُمَا الْمُوَافَقَةُ.

[سورة النساء (4) : آية 64]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ وَالْغَيْظِ وَالْعَدَاوَةِ إِلَّا اللَّه. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعَامِلَهُمْ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَهَذَا يُفِيدُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْعُذْرَ وَلَا يَغْتَرَّ بِهِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَقْبَلُ عُذْرَ غَيْرِهِ وَيَسْتَمِرُّ عَلَى سُخْطِهِ قَدْ يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُعْرِضٌ عَنْهُ غَيْرُ مُلْتَفِتٍ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا يَجْرِي مَجْرَى أَنْ يَقُولَ لَهُ: اكْتَفِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَلَا تَهْتِكْ سِتْرَهُمْ، وَلَا تُظْهِرْ لَهُمْ أَنَّكَ عَالِمٌ بِكُنْهِ مَا فِي بَوَاطِنِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ هَتَكَ سِتْرَ/ عَدُّوِهُ وَأَظْهَرَ لَهُ كَوْنَهُ عَالِمًا بِمَا فِي قَلْبِهِ فَرُبَّمَا يُجَرِّئُهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ لَا يُبَالِيَ بِإِظْهَارِ الْعَدَاوَةِ فَيَزْدَادَ الشَّرُّ، وَلَكِنْ إِذَا تَرَكَهُ عَلَى حَالِهِ بَقِيَ فِي خَوْفٍ وَوَجِلٍ فَيَقِلُّ الشَّرُّ. النَّوْعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِظْهُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَزْجُرُهُمْ عَنِ النِّفَاقِ وَالْمَكْرِ وَالْكَيْدِ وَالْحَسَدِ وَالْكَذِبِ وَيُخَوِّفُهُمْ بِعِقَابِ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النَّحْلِ: 125] . النَّوْعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: فِي أَنْفُسِهِمْ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا بَلِيغًا فِي أَنْفُسِهِمْ مُؤَثِّرًا فِي قُلُوبِهِمْ يَغْتَمُّونَ بِهِ اغْتِمَامًا وَيَسْتَشْعِرُونَ مِنْهُ الْخَوْفَ اسْتِشْعَارًا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَقُلْ لَهُمْ فِي مَعْنَى أَنْفُسِهِمُ الْخَبِيثَةِ وَقُلُوبِهِمُ الْمَطْوِيَّةِ عَلَى النِّفَاقِ قَوْلًا بَلِيغًا، وَإِنَّ اللَّه يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ فَلَا يُغْنِي عَنْكُمْ إِخْفَاؤُهُ، فَطَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ مِنَ النِّفَاقِ وَإِلَّا أَنْزَلَ اللَّه بِكُمْ مَا أَنْزَلَ بِالْمُجَاهِرِينَ بِالشِّرْكِ أَوْ شَرًّا مِنْ ذَلِكَ وَأَغْلَظَ. الثَّالِثُ: قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ خَالِيًا بِهِمْ لَيْسَ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ عَلَى سَبِيلِ السِّرِّ، لِأَنَّ النصيحة عَلَى الْمَلَأِ تَقْرِيعٌ وَفِي السِّرِّ مَحْضُ الْمَنْفَعَةِ. المسألة الثانية: في الآية قولان: أحدهما: إن الْمُرَادَ بِالْوَعْظِ التَّخْوِيفُ بِعِقَابِ الْآخِرَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الْبَلِيغِ التَّخْوِيفُ بِعِقَابِ الدُّنْيَا، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: إِنَّ مَا فِي قُلُوبِكُمْ مِنَ النِّفَاقِ وَالْكَيْدِ مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّه، وَلَا فَرْقَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ الْكُفَّارِ، وَإِنَّمَا رَفَعَ اللَّه السَّيْفَ عَنْكُمْ لِأَنَّكُمْ أَظْهَرْتُمُ الْإِيمَانَ، فَإِنْ وَاظَبْتُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ ظَهَرَ لِلْكُلِّ بَقَاؤُكُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُكُمُ السَّيْفُ. الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ الْبَلِيغَ صِفَةٌ لِلْوَعْظِ، فَأَمَرَ تَعَالَى بِالْوَعْظِ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَعْظُ بِالْقَوْلِ الْبَلِيغِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا بَلِيغًا طَوِيلًا حَسَنَ الْأَلْفَاظِ حَسَنَ الْمَعَانِي مُشْتَمِلًا عَلَى التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْإِحْذَارِ وَالْإِنْذَارِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ إِذَا كَانَ هَكَذَا عَظُمَ وَقْعُهُ فِي الْقَلْبِ، وَإِذَا كَانَ مُخْتَصَرًا رَكِيكَ اللَّفْظِ قَلِيلَ الْمَعْنَى لَمْ يؤثر ألبتة في القلب. [سورة النساء (4) : آية 64] وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ فِي قَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ثُمَّ حَكَى أَنَّ بَعْضَهُمْ تَحَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ وَلَمْ يَتَحَاكَمْ إِلَى الرَّسُولِ، وَبَيَّنَ قُبْحَ طَرِيقِهِ وَفَسَادَ مَنْهَجِهِ، رَغَّبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَرَّةً أُخْرَى فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ فَقَالَ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَفِي/ الْآيَةِ مَسَائِلُ:

المسألة الأولى: قال الزجاج كلمة «من» هاهنا صِلَةٌ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَرْسَلْنَا رَسُولًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ أَحَدًا إِلَّا كَذَا وَكَذَا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ الْمُبَالَغَةُ أَتَمَّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ: مَعْنَى الْآيَةِ: وَمَا أَرْسَلْتُ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا وَأَنَا مُرِيدٌ أَنْ يُطَاعَ وَيُصَدَّقَ وَلَمْ أُرْسِلْهُ لِيُعْصَى. قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ على بطلان مذهب المجبرة لا نهم يَقُولُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ رُسُلًا لِتُعْصَى، وَالْعَاصِي مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يَبْقَى عَلَى الْكُفْرِ، وَقَدْ نَصَّ اللَّه عَلَى كَذِبِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ لَكَفَى، وَكَانَ يَجِبُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَرْسَلَ الرُّسُلَ لِيُطَاعُوا وَلِيُعْصَوْا جَمِيعًا، فَدَلَّ ذَلِكَ على أن معصيتهم للرسول غَيْرُ مُرَادَةٍ للَّه، وَأَنَّهُ تَعَالَى مَا أَرَادَ إِلَّا أَنْ يُطَاعَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا لِيُطاعَ يَكْفِي فِي تَحْقِيقِ مَفْهُومِهِ أَنْ يُطِيعَهُ مُطِيعٌ وَاحِدٌ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ تَحَقُّقِ مَفْهُومِهِ أَنْ يُطِيعَهُ جَمِيعُ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ: وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَرْسَلَهُ اللَّه تَعَالَى فَقَدْ أَطَاعَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: تَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ، إِلَّا أَنَّ الْجُبَّائِيَّ لَا يَقُولُ بِذَلِكَ، فَسَقَطَ هَذَا الْإِشْكَالُ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ. الثَّانِي: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ فَإِنَّهُ لا بد وأن يقربه عِنْدَ مَوْتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النِّسَاءِ: 159] أَوْ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى إِيمَانِ الْكُلِّ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوَصْفَ فِي جَانِبِ الثُّبُوتِ يَكْفِي فِي حُصُولِ مُسَمَّاهُ ثُبُوتُهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْعِلْمَ بِعَدَمِ الطَّاعَةِ مَعَ وُجُودِ الطَّاعَةِ مُتَضَادَّانِ، وَالضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَذَلِكَ الْعِلْمُ مُمْتَنِعُ الْعَدَمِ، فَكَانَتِ الطَّاعَةُ مُمْتَنِعَةَ الْوُجُودِ، واللَّه عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فَكَانَ عَالِمًا بِكَوْنِ الطَّاعَةِ مُمْتَنِعَةَ الْوُجُودِ، وَالْعَالِمُ بِكَوْنِ الشَّيْءِ مُمْتَنِعَ الْوُجُودِ لَا يَكُونُ مُرِيدًا لَهُ، فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ أَنْ يَسْتَحِيلَ أَنْ يُرِيدَ اللَّه مِنَ الْكَافِرِ كَوْنَهُ مُطِيعًا، فَوَجَبَ تَأْوِيلُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْكَلَامِ لَيْسَ الْإِرَادَةَ بَلِ الْأَمْرَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رسول إلا ليأمر النَّاسُ بِطَاعَتِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ سَقَطَ الْإِشْكَالُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللَّه تَعَالَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْإِذْنِ الْأَمْرَ وَالتَّكْلِيفَ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَوْنِهِ رَسُولًا إِلَّا أَنَّ اللَّه/ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِذْنِ هُوَ هَذَا لَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَمَا أَذِنَّا فِي طَاعَةِ مَنْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَّا بِإِذْنِنَا وَهُوَ تَكْرَارٌ قَبِيحٌ، فَوَجَبَ حَمْلُ الْإِذْنِ عَلَى التَّوْفِيقِ وَالْإِعَانَةِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِتَوْفِيقِنَا وَإِعَانَتِنَا، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَا أَرَادَ مِنَ الْكُلِّ طَاعَةَ الرَّسُولِ، بَلْ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ إِلَّا مِنَ الَّذِي وَفَّقَهُ اللَّه لِذَلِكَ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَأَمَّا الْمَحْرُومُونَ مِنَ التَّوْفِيقِ وَالْإِعَانَةِ فاللَّه تَعَالَى مَا أَرَادَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى مَذْهَبِنَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا رَسُولَ إِلَّا وَمَعَهُ شَرِيعَةٌ لِيَكُونَ مُطَاعًا فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ وَمَتْبُوعًا فِيهَا، إِذْ لَوْ كَانَ لَا يَدْعُو إِلَّا إِلَى شَرْعِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُطَاعًا، بَلْ كَانَ الْمُطَاعُ هُوَ الرَّسُولُ الْمُتَقَدِّمُ الَّذِي هُوَ الْوَاضِعُ لِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ، واللَّه تَعَالَى حَكَمَ عَلَى كُلِّ رَسُولٍ بِأَنَّهُ مُطَاعٌ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَعْصُومُونَ عَنِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِمْ مُطْلَقًا، فَلَوْ أَتَوْا بِمَعْصِيَةٍ لَوَجَبَ عَلَيْنَا الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ فَتَصِيرُ تِلْكَ الْمَعْصِيَةُ وَاجِبَةً عَلَيْنَا، وَكَوْنُهَا مَعْصِيَةً يُوجِبُ كَوْنَهَا مُحَرَّمَةً عَلَيْنَا، فَيَلْزَمُ تَوَارُدُ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَإِنَّهُ مُحَالٌ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَسْتُمْ فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى كَلَامِ الْجُبَّائِيِّ ذَكَرْتُمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا لِيُطاعَ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، فَكَيْفَ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ لَا يَتِمُّ إِلَّا مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّهَا تُفِيدُ الْعُمُومَ. قُلْنَا: ظَاهِرُ اللَّفْظِ يُوهِمُ الْعُمُومَ، وَإِنَّمَا تَرَكْنَا الْعُمُومَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لِلدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْقَاطِعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ تَعَالَى أَنْ يُرِيدَ الْإِيمَانَ مِنَ الْكَافِرِ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ الْمُعَارِضِ الْقَاطِعِ صَرَفْنَا الظَّاهِرَ عَنِ الْعُمُومِ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَقْلِيٌّ يُوجِبُ الْقَدْحَ في عصمة الأنبياء فظهر الفرق. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِهِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، يَعْنِي لَوْ أَنَّهُمْ عند ما ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالتَّحَاكُمِ إِلَى الطَّاغُوتِ وَالْفِرَارِ مِنَ التَّحَاكُمِ إِلَى الرَّسُولِ جَاءُوا الرَّسُولَ وَأَظْهَرُوا النَّدَمَ عَلَى مَا فَعَلُوهُ وَتَابُوا عَنْهُ وَاسْتَغْفَرُوا مِنْهُ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ بِأَنْ يَسْأَلَ اللَّه أَنْ يَغْفِرَهَا لَهُمْ عِنْدَ تَوْبَتِهِمْ لَوَجَدُوا اللَّه تَوَّابًا رَحِيمًا. الثَّانِي: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ اصْطَلَحُوا عَلَى كَيْدٍ فِي حَقِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ دَخَلُوا عَلَيْهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْغَرَضِ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخْبَرَهُ بِهِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ قَوْمًا دَخَلُوا يُرِيدُونَ أَمْرًا لَا يَنَالُونَهُ، فَلْيَقُومُوا وَلْيَسْتَغْفِرُوا اللَّه حَتَّى أَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فَلَمْ يَقُومُوا، فَقَالَ: أَلَا تَقُومُونَ، فَلَمْ يَفْعَلُوا فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُمْ يَا فُلَانُ قُمْ يَا فُلَانُ حَتَّى عَدَّ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَقَامُوا وَقَالُوا: كُنَّا عَزَمْنَا عَلَى مَا قُلْتَ، وَنَحْنُ نَتُوبُ إِلَى اللَّه مِنْ ظُلْمِنَا أَنْفُسَنَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا، فَقَالَ: الْآنَ اخْرُجُوا أَنَا كُنْتُ فِي بَدْءِ الْأَمْرِ أَقْرَبَ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ: وَكَانَ اللَّه أَقْرَبَ إِلَى الْإِجَابَةِ اخْرُجُوا عَنِّي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَلَيْسَ لَوِ اسْتَغْفَرُوا اللَّه وَتَابُوا عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ لَكَانَتْ تَوْبَتُهُمْ مَقْبُولَةً، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ضَمِّ اسْتِغْفَارِ الرَّسُولِ إِلَى اسْتِغْفَارِهِمْ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ كَانَ مُخَالَفَةً لِحُكْمِ اللَّه، وَكَانَ أَيْضًا إِسَاءَةً إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِدْخَالًا لِلْغَمِّ فِي قَلْبِهِ، وَمَنْ كَانَ ذَنْبُهُ كَذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاعْتِذَارُ عَنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ لِغَيْرِهِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَطْلُبُوا مِنَ الرَّسُولِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ. الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا لَمْ يَرْضَوْا بِحُكْمِ الرَّسُولِ ظهر منهم ذلك التمر، فَإِذَا تَابُوا وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْعَلُوا مَا يُزِيلُ عَنْهُمْ ذَلِكَ التَّمَرُّدَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِأَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَطْلُبُوا مِنْهُ الِاسْتِغْفَارَ. الثَّالِثُ: لَعَلَّهُمْ إِذَا أَتَوْا بِالتَّوْبَةِ أَتَوْا بِهَا عَلَى وَجْهِ الْخَلَلِ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهَا اسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ صَارَتْ مُسْتَحِقَّةً لِلْقَبُولِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَالَ: وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ وَلَمْ يَقُلْ وَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ إِجْلَالًا لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

[سورة النساء (4) : آية 65]

وَالسَّلَامُ، وَأَنَّهُمْ إِذَا جَاءُوهُ فَقَدْ جَاءُوا مَنْ خَصَّهُ اللَّه بِرِسَالَتِهِ وَأَكْرَمَهُ بِوَحْيِهِ وَجَعَلَهُ سَفِيرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّه لَا يَرُدُّ شَفَاعَتَهُ، فَكَانَتِ الْفَائِدَةُ فِي الْعُدُولِ عَنْ لَفْظِ الْخِطَابِ إِلَى لَفْظِ الْمُغَايَبَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى الْجَزْمِ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَةَ التَّائِبِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ عَنْهُمُ الِاسْتِغْفَارَ قَالَ بَعْدَهُ: لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً وَهَذَا الْجَوَابُ إِنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: تَوَّاباً رَحِيماً هُوَ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَتَهُمْ وَيَرْحَمَ تَضَرُّعَهُمْ/ وَلَا يَرُدَّ اسْتِغْفَارَهُمْ. [سورة النساء (4) : آية 65] فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَازِلَةٌ فِي قِصَّةِ الْيَهُودِيِّ وَالْمُنَافِقِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدِي. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُسْتَأْنَفَةٌ نَازِلَةٌ فِي قِصَّةٍ أُخْرَى، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي مَاءٍ يَسْقِي بِهِ النَّخْلَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ: «اسْقِ أَرْضَكَ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى أَرْضِ جَارِكَ» فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: لِأَجْلِ أَنَّهُ ابْنُ عَمَّتِكَ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لِلزُّبَيْرِ: «اسْقِ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْجُدُرَ» . وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ فِي هَذَا أَنَّ مَنْ كَانَتْ أَرْضُهُ أَقْرَبَ إِلَى فَمِ الْوَادِي فَهُوَ أَوْلَى بِأَوَّلِ الْمَاءِ وَحَقُّهُ تَمَامُ السَّقْيِ، فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِلزُّبَيْرِ فِي السَّقْيِ عَلَى وَجْهِ الْمُسَامَحَةِ، فَلَمَّا أَسَاءَ خَصْمُهُ الْأَدَبَ وَلَمْ يَعْرِفْ حَقَّ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عليه وسلم من المسامحة لا جله أَمَرَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ، وَحَمْلِ خَصْمِهِ عَلَى مُرِّ الْحَقِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: «لَا» فِي قَوْلِهِ: فَلا وَرَبِّكَ فيه قولان: الأول: معناه فو ربك، كقوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الْحِجْرِ: 92] وَ «لَا» مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْقَسَمِ، كَمَا زِيدَتْ فِي لِئَلَّا يَعْلَمَ لِتَأْكِيدِ وجوب العلم ولا يُؤْمِنُونَ جَوَابُ الْقَسَمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُفِيدَةٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُفِيدُ نَفْيَ أَمْرٍ سَبَقَ، وَالتَّقْدِيرُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَهُمْ يُخَالِفُونَ حُكْمَكَ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْقَسَمَ بِقَوْلِهِ: فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ وَالثَّانِي: أَنَّهَا لِتَوْكِيدِ النَّفْيِ الَّذِي جَاءَ فِيمَا بَعْدُ، لِأَنَّهُ إِذَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ وَفِي آخِرِهِ كَانَ أَوْكَدَ وَأَحْسَنَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُقَالُ شَجَرَ يَشْجُرُ شُجُورًا وَشَجَرًا إِذَا اخْتَلَفَ وَاخْتَلَطَ، وَشَاجَرَهُ إِذَا نَازَعَهُ وَذَلِكَ لِتَدَاخُلِ كَلَامِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ عِنْدِ الْمُنَازَعَةِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِخَشَبَاتِ الْهَوْدَجِ شِجَارٌ، لتداخل/ بعضها في بعض. قال أبو مسلم الأصفهاني: وَهُوَ مَأْخُوذٌ عِنْدِي مِنَ الْتِفَافِ الشَّجَرِ، فَإِنَّ الشَّجَرَ يَتَدَاخَلُ بَعْضُ أَغْصَانِهِ فِي بَعْضٍ، وَأَمَّا الْحَرَجُ فَهُوَ الضِّيقُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُقَالُ لِلشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ الَّذِي لَا يَكَادُ يُوصَلُ إِلَيْهِ: حَرَجٌ، وَجَمْعُهُ حَرَاجٌ، وَأَمَّا التَّسْلِيمُ فَهُوَ تَفْعِيلٌ يُقَالُ: سَلِمَ فُلَانٌ أَيْ عُوفِيَ وَلَمْ يَنْشَبْ بِهِ نَائِبَةٌ، وَسَلِمَ هَذَا الشَّيْءُ لِفُلَانٍ، أَيْ خَلُصَ لَهُ مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ، فَإِذَا ثَقَّلْتَهُ بِالتَّشْدِيدِ فَقُلْتَ: سَلَّمَ لَهُ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ سَلَّمَهُ لَهُ وَخَلَّصَهُ لَهُ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي اللُّغَةِ، وَجَمِيعُ اسْتِعْمَالَاتِ التَّسْلِيمِ رَاجِعٌ إِلَى الْأَصْلِ فَقَوْلُهُمْ: سَلَّمَ عَلَيْهِ، أَيْ دَعَا لَهُ بِأَنْ يَسْلَمَ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْوَدِيعَةَ، أَيْ دَفَعَهَا

إِلَيْهِ بِلَا مُنَازَعَةٍ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ أَيْ رَضِيَ بِحُكْمِهِ، وَسَلَّمَ إِلَى فُلَانٍ فِي كَذَا، أَيْ تَرَكَ مُنَازَعَتَهُ فِيهِ، وَسَلَّمَ إِلَى اللَّه أَمْرَهُ أَيْ فَوَّضَ إِلَيْهِ حُكْمَ نَفْسِهِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ فِي أَمْرِهِ أَثَرًا وَلَا شَرِكَةً، وَعَلِمَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ الصَّانِعَ هُوَ اللَّه تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ قَسَمٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَصِيرُونَ مَوْصُوفِينَ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ شَرَائِطَ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ الرَّسُولِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى إِلَّا بِإِرْشَادِ النَّبِيِّ الْمَعْصُومِ قَالَ: لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُمُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِأَنْ يَسْتَعِينُوا بِحُكْمِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كُلِّ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَنَرَى أَهْلَ الْعِلْمِ مُخْتَلِفِينَ فِي صِفَاتِ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَمِنْ مُعَطِّلٍ وَمِنْ مُشَبِّهٍ، وَمِنْ قَدَرِيٍّ وَمِنْ جَبْرِيٍّ، فَلَزِمَ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِحُكْمِهِ وَإِرْشَادِهِ وَهِدَايَتِهِ، وَحَقَّقُوا ذَلِكَ بِأَنَّ عُقُولَ أَكْثَرِ الْخَلْقِ نَاقِصَةٌ وَغَيْرُ وَافِيَةٍ بِإِدْرَاكِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ؟ وَعَقْلُ النَّبِيِّ الْمَعْصُومِ كَامِلٌ مُشْرِقٌ، فَإِذَا اتَّصَلَ إِشْرَاقُ نُورِهِ بِعُقُولِ الْأُمَّةِ قَوِيَتْ عُقُولُهُمْ وَانْقَلَبَتْ مِنَ النَّقْصِ إِلَى الْكَمَالِ، وَمِنَ الضَّعْفِ إِلَى الْقُوَّةِ، فَقَدَرُوا عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَسْرَارِ الْإِلَهِيَّةِ. وَالَّذِي يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا جَازِمِينَ مُتَيَقِّنِينَ كَامِلِي الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ، والذين بعدوا عنه اضطربوا واختلفوا، وَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ مَا تَوَلَّدَتْ إِلَّا بَعْدَ زَمَانِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَالتَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ رَأَيْتُهُ فِي كُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الشَّهْرَسْتَانِيِّ، فَيُقَالُ لَهُ: فَهَذَا الِاسْتِقْلَالُ الَّذِي ذَكَرْتَهُ إِنَّمَا اسْتَخْرَجْتَهُ مِنْ عَقْلِكَ، فَإِذَا كَانَ عُقُولُ الْأَكْثَرِينَ نَاقِصَةً فَلَعَلَّكَ ذَكَرْتَ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ لِنُقْصَانِ عَقْلِكَ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الِاحْتِمَالُ قَائِمًا وَجَبَ أَنْ يُشَكَّ فِي صِحَّةِ مَذْهَبِكَ وَصِحَّةِ هَذَا الدَّلِيلِ الَّذِي تَمَسَّكْتَ بِهِ، وَلِأَنَّ مَعْرِفَةَ النُّبُوَّةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْإِلَهِ، فَلَوْ تَوَقَّفَتْ مَعْرِفَةُ الْإِلَهِ عَلَى مَعْرِفَةِ النُّبُوَّةِ لَزِمَ الدَّوْرُ، وَهُوَ مُحَالٌ. الشَّرْطُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا تَضِيقُ صُدُورُهُمْ مِنْ أَقْضِيَتِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّاضِيَ بِحُكْمِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ يَكُونُ رَاضِيًا بِهِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْقَلْبِ فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الرِّضَا بِهِ فِي الْقَلْبِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَيْلَ الْقَلْبِ وَنُفْرَتَهُ شَيْءٌ خَارِجٌ عَنْ وُسْعِ الْبَشَرِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ ذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَحْصُلَ الْجَزْمُ وَالْيَقِينُ فِي الْقَلْبِ بِأَنَّ الَّذِي يَحْكُمُ بِهِ الرَّسُولُ هُوَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ عَرَفَ بِقَلْبِهِ كَوْنَ ذَلِكَ الْحُكْمِ حَقًّا وَصِدْقًا قَدْ يَتَمَرَّدُ عَنْ قَبُولِهِ عَلَى سَبِيلِ الْعِنَادِ أَوْ يَتَوَقَّفُ فِي ذَلِكَ الْقَبُولِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ كَمَا لَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ حُصُولِ ذَلِكَ الْيَقِينِ فِي الْقَلْبِ. فَلَا بُدَّ أَيْضًا مِنَ التَّسْلِيمِ مَعَهُ فِي الظَّاهِرِ، فَقَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ الْمُرَادُ بِهِ الِانْقِيَادُ فِي الْبَاطِنِ، وَقَوْلُهُ: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً الْمُرَادُ مِنْهُ الِانْقِيَادُ فِي الظَّاهِرِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعْصُومُونَ عَنِ الْخَطَأِ فِي الْفَتْوَى وَفِي الْأَحْكَامِ،

[سورة النساء (4) : الآيات 66 إلى 68]

لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الِانْقِيَادَ لِحُكْمِهِمْ وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ الْإِيجَابِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ ذَلِكَ الِانْقِيَادِ فِي الظَّاهِرِ وَفِي الْقَلْبِ، وَذَلِكَ يَنْفِي صُدُورَ الْخَطَأِ عَنْهُمْ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: 43] وَأَنَّ فَتْوَاهُ فِي أُسَارَى بَدْرٍ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التَّحْرِيمِ: 1] وَأَنَّ قَوْلَهُ: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عَبَسَ: 1] كُلُّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي لَخَّصْنَاهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ تَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْقَضَاءَ هُوَ الْإِلْزَامُ، وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ مُتَابَعَةُ قَوْلِهِ وَحُكْمِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَلَّمَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنَ التَّكَالِيفِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ تَقْدِيمَ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ عَلَى حُكْمِ الْقِيَاسِ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ مُشْعِرٌ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَتَى خَطَرَ بِبَالِهِ قِيَاسٌ يُفْضِي إِلَى نَقِيضِ مَدْلُولِ النَّصِّ فَهُنَاكَ يَحْصُلُ الْحَرَجُ فِي النَّفْسِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَكْمُلُ إِيمَانُهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى ذَلِكَ الْحَرَجِ، وَيُسَلِّمَ النَّصَّ تَسْلِيمًا كُلِّيًّا، وَهَذَا الْكَلَامُ قَوِيٌّ حَسَنٌ لِمَنْ أَنْصَفَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَوْ كَانَتِ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي بِقَضَاءِ اللَّه تعالى لزوم التَّنَاقُضُ، / وَذَلِكَ لَأَنَّ الرَّسُولَ إِذَا قَضَى عَلَى إِنْسَانٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ الرِّضَا بِذَلِكَ لِأَنَّهُ قَضَاءُ الرَّسُولِ. وَالرِّضَا بِقَضَاءِ الرَّسُولِ وَاجِبٌ لِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ لَوْ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ عَلَى خِلَافِ فَتْوَى الرَّسُولِ، فَلَوْ كَانَتِ الْمَعَاصِي بِقَضَاءِ اللَّه لَكَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ بِقَضَاءِ اللَّه، وَالرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّه وَاجِبٌ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ الرِّضَا بِذَلِكَ الْفِعْلِ. لِأَنَّهُ قَضَاءُ اللَّه، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُمُ الرِّضَا بِالْفِعْلِ وَالتَّرْكِ مَعًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَضَاءِ الرَّسُولِ الْفَتْوَى الْمَشْرُوعَةُ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَضَاءِ اللَّه التَّكْوِينُ وَالْإِيجَادُ، وَهُمَا مَفْهُومَانِ مُتَغَايِرَانِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَا يُفْضِي إلى التناقض. [سورة النساء (4) : الآيات 66 الى 68] وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَّصِلَةٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ وَتَرْغِيبِهِمْ فِي الْإِخْلَاصِ وَتَرْكِ النِّفَاقِ، وَالْمَعْنَى أَنَّا لَوْ شَدَّدْنَا التَّكْلِيفَ عَلَى النَّاسِ، نَحْوَ أَنْ نَأْمُرَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الْأَوْطَانِ لَصَعُبَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَلَمَا فَعَلَهُ إِلَّا الْأَقَلُّونَ، وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ كُفْرُهُمْ وَعِنَادُهُمْ، فَلَمَّا لَمْ نَفْعَلْ ذَلِكَ رَحْمَةً مِنَّا عَلَى عِبَادِنَا بَلِ اكْتَفَيْنَا بِتَكْلِيفِهِمْ فِي الْأُمُورِ السَّهْلَةِ، فَلْيَقْبَلُوهَا بِالْإِخْلَاصِ وَلْيَتْرُكُوا التَّمَرُّدَ وَالْعِنَادَ حَتَّى يَنَالُوا خَيْرَ الدارين، [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ بِضَمِّ النُّونِ فِي «أَنْ» وَضَمِّ وَاوِ «أَوْ»

وَالسَّبَبُ فِيهِ نَقْلُ ضَمَّةِ اقْتُلُوا وَضَمَّةِ اخْرُجُوا إِلَيْهِمَا، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِالْكَسْرِ فِيهِمَا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِكَسْرِ النُّونِ وَضَمِّ الْوَاوِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَسْتُ أَعْرِفُ لِفَصْلِ أَبِي عَمْرٍو بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ خَاصِّيَّةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ رِوَايَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَمَّا كَسْرُ النُّونِ فَلِأَنَّ الْكَسْرَ هُوَ الْأَصْلُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَأَمَّا ضَمُّ الْوَاوِ فَلِأَنَّ الضَّمَّةَ/ فِي الْوَاوِ أَحْسَنُ لِأَنَّهَا تُشْبِهُ وَاوَ الضَّمِيرِ. وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى الضَّمِّ فِي وَاوِ الضَّمِيرِ نَحْوَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ [الْبَقَرَةِ: 16] وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ [الْبَقَرَةِ: 237] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: مَا فَعَلُوهُ عَائِدَةٌ إِلَى الْقَتْلِ وَالْخُرُوجِ مَعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ ضُرُوبُهُ، وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا قَلِيلٌ فَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (قَلِيلًا) بالنصب، وكذا هو في مصاحب أَهْلِ الشَّامِ وَمُصْحَفِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ، أَمَّا مَنْ نَصَبَ فَقَاسَ النَّفْيَ عَلَى الْإِثْبَاتِ، فَإِنَّ قَوْلَكَ: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ كَلَامٌ تَامٌّ، كَمَا أَنَّ قَوْلَكَ: جَاءَنِي الْقَوْمُ كَلَامٌ تَامٌّ فَلَمَّا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مَنْصُوبًا فِي الْإِثْبَاتِ فَكَذَا مَعَ النَّفْيِ، وَالْجَامِعُ كَوْنُ الْمُسْتَثْنَى فَضْلَةٌ جَاءَتْ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ، وَأَمَّا مَنْ رَفَعَ فَالسَّبَبُ أَنَّهُ جَعَلَهُ بَدَلًا مِنَ الْوَاوِ فِي فَعَلُوهُ وكذلك كل المستثنى مِنْ مَنْفِيٍّ، كَقَوْلِكَ: مَا أَتَانِي أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ، بِرَفْعِ زَيْدٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ أَحَدٍ، فَيُحْمَلُ إِعْرَابُ مَا بَعْدَ «إِلَّا» عَلَى مَا قَبْلَهَا. وَكَذَلِكَ فِي النَّصْبِ وَالْجَرِّ، كَقَوْلِكَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا إِلَّا زَيْدًا، وَمَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا زَيْدٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الرَّفْعُ أَقْيَسُ، فَإِنَّ مَعْنَى مَا أَتَى أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ، وَمَا أَتَانِي إِلَّا زَيْدٌ وَاحِدٌ، فَكَمَا اتَّفَقُوا فِي قَوْلِهِمْ مَا أَتَانِي إِلَّا زَيْدٌ عَلَى الرَّفْعِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: مَا أَتَانِي أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ بِمَنْزِلَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمُنَافِقِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى كَتَبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ، وَكَتَبَ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا الْقَتْلَ وَالْخُرُوجَ عَنِ الْوَطَنِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ مَا فَعَلَهُ إِلَّا قَلِيلٌ رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَحِينَئِذٍ يَصْعُبُ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ وَيَنْكَشِفُ كُفْرُهُمْ، فَإِذَا لَمْ نَفْعَلْ ذَلِكَ بَلْ كَلَّفْنَاهُمْ بِالْأَشْيَاءِ السَّهْلَةِ فَلْيَتْرُكُوا النِّفَاقَ وَلْيَقْبَلُوا الْإِيمَانَ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ وَأَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ لَوْ كَتَبَ اللَّه عَلَى النَّاسِ مَا ذَكَرَ لَمْ يَفْعَلْهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ دَخَلَ تَحْتَ هَذَا الْكَلَامِ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، وَأَمَّا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمُنَافِقِينَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ يَكُونَ أَوَّلُ الْآيَةِ عَامًّا وَآخِرُهَا خَاصًّا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَلِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، رُوِيَ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ نَاظَرَ يَهُودِيًّا، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِنَّ مُوسَى أَمَرَنَا بِقَتْلِ أَنْفُسِنَا فَقَبِلْنَا ذَلِكَ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا يَأْمُرُكُمْ بِالْقِتَالِ فَتَكْرَهُونَهُ، فَقَالَ: يَا أَنْتَ لَوْ أَنَّ مُحَمَّدًا أَمَرَنِي بِقَتْلِ نَفْسِي لَفَعَلْتُ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ مِنْ أُمَّتِي رِجَالًا الْإِيمَانُ أَثْبَتُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي» وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: واللَّه لَوْ أَمَرَنَا رَبُّنَا بِقَتْلِ أَنْفُسِنَا لَفَعَلْنَا وَالْحَمْدُ للَّه الَّذِي/ لَمْ يَأْمُرْنَا بِذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ: لَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْهُمْ مَا يَغْلُظُ وَيَثْقُلُ عَلَيْهِمْ، فَبِأَنْ لَا يُكَلِّفَهُمْ مَا لَا يطيقون كان أولى، فيقال له: هذا لا زم عَلَيْكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا لَمْ يُكَلِّفْهُمْ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الشَّاقَّةِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَلَّفَهُمْ بِهَا لَمَا فَعَلُوهَا، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلُوهَا لَوَقَعُوا فِي الْعَذَابِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ مِنْ أَبِي جَهْلٍ وَأَبِي لَهَبٍ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَفِيدُونَ مِنَ التَّكْلِيفِ إِلَّا الْعِقَابَ الدَّائِمَ، وَمَعَ

ذَلِكَ فَإِنَّهُ تَعَالَى كَلَّفَهُمْ، فَكُلُّ مَا تَجْعَلُهُ جَوَابًا عَنْ هَذَا فَهُوَ جَوَابُنَا عَمَّا ذَكَرْتَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً. اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ أَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا مَا كُلِّفُوا بِهِ وَأُمِرُوا بِهِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا التَّكْلِيفُ وَالْأَمْرُ وَعْظًا، لَأَنَّ تَكَالِيفَ اللَّه تَعَالَى مَقْرُونَةٌ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسَمَّى وَعْظًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَوِ الْتَزَمُوا هَذِهِ التَّكَالِيفَ لَحَصَلَتْ لَهُمْ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمَنَافِعِ. فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: لَكانَ خَيْراً لَهُمْ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُمْ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمُبَالَغَةُ وَالتَّرْجِيحُ، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ لَهُمْ وَأَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ قَوْلَنَا: «خَيْرٌ» يُسْتَعْمَلُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. النَّوْعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إِلَى ثَبَاتِهِمْ عَلَيْهِ وَاسْتِمْرَارِهِمْ، لِأَنَّ الطَّاعَةَ تَدْعُو إِلَى أَمْثَالِهَا، وَالْوَاقِعُ مِنْهَا فِي وَقْتٍ يَدْعُو إِلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَثْبَتَ وَأَبْقَى لِأَنَّهُ حَقٌّ وَالْحَقُّ ثَابِتٌ بَاقٍ، وَالْبَاطِلُ زَائِلٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَطْلُبُ أَوَّلًا تَحْصِيلَ الْخَيْرِ، فَإِذَا حَصَّلَهُ فَإِنَّهُ يَطْلُبُ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ الْحَاصِلُ بَاقِيًا ثَابِتًا، فَقَوْلُهُ: لَكانَ خَيْراً لَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، وَقَوْلُهُ: وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْإِخْلَاصَ فِي الْإِيمَانِ خَيْرٌ مِمَّا يُرِيدُونَهُ مِنَ النِّفَاقِ وَأَكْثَرُ ثَبَاتًا وَبَقَاءً، بَيَّنَ أَنَّهُ كَمَا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ خَيْرٌ فَهُوَ أَيْضًا مُسْتَعْقِبُ الْخَيِّرَاتِ الْعَظِيمَةِ وَهُوَ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ وَالثَّوَابُ الْعَظِيمُ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَ «إِذًا» جَوَابٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ وَالتَّثْبِيتِ. فَقِيلَ: هُوَ أَنْ نُؤْتِيَهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا، كَقَوْلِهِ: وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النِّسَاءِ: 40] . وَأَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَرَائِنَ كَثِيرَةً، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تَدُلُّ عَلَى عِظَمِ هَذَا الْأَجْرِ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ ذَكَرَ نَفْسَهُ بصيغة العظمة وهي قوله: لَآتَيْناهُمْ وَقَوْلُهُ: مِنْ لَدُنَّا وَالْمُعْطِي الْحَكِيمُ إِذَا ذَكَرَ نَفْسَهُ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى عَظَمَةٍ عِنْدَ الْوَعْدِ بِالْعَطِيَّةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَظَمَةِ تِلْكَ الْعَطِيَّةِ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: مِنْ لَدُنَّا وَهَذَا التَّخْصِيصُ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الْكَهْفِ: 65] وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَصَفَ هَذَا الْأَجْرَ بِالْعَظِيمِ، وَالشَّيْءُ الَّذِي وَصَفَهُ أَعْظَمُ الْعُظَمَاءِ بِالْعَظَمَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِي نِهَايَةِ الْجَلَالَةِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» . النَّوْعُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ الدِّينُ الْحَقُّ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ [الشُّورَى: 52، 53] وَالثَّانِي: أَنَّهُ الصِّرَاطُ الَّذِي هُوَ الطَّرِيقُ مِنْ عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ بَعْدَ ذِكْرِ الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ، وَالدِّينُ الْحَقُّ مقدم

[سورة النساء (4) : الآيات 69 إلى 70]

عَلَى الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ، وَالصِّرَاطُ الَّذِي هُوَ الطَّرِيقُ مِنْ عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ، فَكَانَ حَمْلُ لَفْظِ الصِّرَاطِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أولى. [سورة النساء (4) : الآيات 69 الى 70] وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِطَاعَةِ اللَّه وَطَاعَةِ الرَّسُولِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء: 59] ثُمَّ زَيَّفَ طَرِيقَةَ الَّذِينَ تَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَصَدُّوا عَنِ الرَّسُولِ، ثُمَّ أَعَادَ الْأَمْرَ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ مَرَّةً أُخْرَى فَقَالَ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء: 64] ثُمَّ رَغَّبَ فِي تِلْكَ الطَّاعَةِ بِقَوْلِهِ: لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً [النساء: 66- 68] أَكَّدَ الْأَمْرَ بِطَاعَةِ اللَّه وَطَاعَةِ الرَّسُولِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَرَّةً أُخْرَى فَقَالَ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ/ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: رَوَى جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ شَدِيدَ الْحُبِّ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلِيلَ الصَّبْرِ عَنْهُ، فَأَتَاهُ يَوْمًا وَقَدْ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَنُحِلَ جِسْمُهُ وَعُرِفَ الْحُزْنُ فِي وَجْهِهِ، فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالِهِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه مَا بِي وَجَعٌ غَيْرَ أَنِّي إِذَا لَمْ أَرَكَ اشْتَقْتُ إِلَيْكَ وَاسْتَوْحَشْتُ وَحْشَةً شَدِيدَةً حَتَّى أَلْقَاكَ، فَذَكَرْتُ الْآخِرَةَ فَخِفْتُ أَنْ لَا أَرَاكَ هُنَاكَ، لِأَنِّي إِنْ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَأَنْتَ تَكُونُ فِي دَرَجَاتِ النَّبِيِّينَ وَأَنَا فِي دَرَجَةِ الْعَبِيدِ فَلَا أَرَاكَ، وَإِنْ أَنَا لَمْ أَدْخُلِ الْجَنَّةَ فَحِينَئِذٍ لَا أَرَاكَ أَبَدًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: الثَّانِي: قَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّكَ تَسْكُنُ الْجَنَّةَ فِي أَعْلَاهَا، وَنَحْنُ نَشْتَاقُ إِلَيْكَ، فَكَيْفَ نَصْنَعُ؟ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. الثَّالِثُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّه إِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ إِلَى أَهَالِينَا اشْتَقْنَا إِلَيْكَ، فَمَا يَنْفَعُنَا شَيْءٌ حَتَّى نَرْجِعَ إِلَيْكَ، ثُمَّ ذَكَرْتُ دَرَجَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، فَكَيْفَ لَنَا بِرُؤْيَتِكَ إِنْ دَخَلْنَا الْجَنَّةَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَةَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْأَنْصَارُ وَلَدَهُ وَهُوَ فِي حَدِيقَةٍ لَهُ فَأَخْبَرَهُ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعْمِنِي حَتَّى لَا أَرَى شَيْئًا بَعْدَهُ إِلَى أَنْ أَلْقَاهُ، فَعَمِيَ مَكَانَهُ، فَكَانَ يُحِبُّ النَّبِيَّ حُبًّا شَدِيدًا فَجَعَلَهُ اللَّه مَعَهُ فِي الْجَنَّةِ. الرَّابِعُ: قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا لَنَا مِنْكَ إِلَّا الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَتِ الْآخِرَةُ رُفِعْتَ فِي الْأُولَى فَحَزِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَزِنُوا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: لَا نُنْكِرُ صِحَّةَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ إِلَّا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْبَعْثُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالتَّرْغِيبُ فِيهَا، فَإِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ خُصُوصَ السَّبَبِ لَا يَقْدَحُ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَطَاعَ اللَّه وَأَطَاعَ الرَّسُولَ فَقَدْ فَازَ بِالدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ وَالْمَرَاتِبِ الشَّرِيفَةِ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ يُوجِبُ الِاكْتِفَاءَ بِالطَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ. لِأَنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الصِّفَةِ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِهِ فِي جَانِبِ الثُّبُوتِ حُصُولُ ذَلِكَ الْمُسَمَّى مَرَّةً وَاحِدَةً. قَالَ الْقَاضِي: لَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ هَذَا عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، وَأَنْ تُحْمَلَ الطَّاعَةُ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكِ جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ، إِذْ لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الطَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ لَدَخَلَ فِيهِ الْفُسَّاقُ وَالْكُفَّارُ، لِأَنَّهُمْ قَدْ يَأْتُونَ بِالطَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ. وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي

أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ عَقِيبَ الصِّفَةِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ/ أَيْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّه فِي كَوْنِهِ إِلَهًا، وَطَاعَةُ اللَّه فِي كَوْنِهِ إِلَهًا هُوَ مَعْرِفَتُهُ وَالْإِقْرَارُ بِجَلَالِهِ وَعِزَّتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَصَمَدِيَّتِهِ، فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَنْبِيهًا عَلَى أَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ مِنْ أَحْوَالِ الْمَعَادِ، فَالْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ مَنْشَأَ جَمِيعِ السَّعَادَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِشْرَاقُ الرُّوحِ بِأَنْوَارِ مَعْرِفَةِ اللَّه، وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَنْوَارُ فِي قَلْبِهِ أَكْثَرَ، وَصَفَاؤُهَا أَقْوَى، وَبُعْدُهَا عَنِ التَّكَدُّرِ بِمَحَبَّةِ عَالَمِ الْأَجْسَامِ أَتَمَّ كَانَ إِلَى السَّعَادَةِ أَقْرَبَ وَإِلَى الْفَوْزِ بِالنَّجَاةِ أَوْصَلَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَعْدَ أَهْلِ الطَّاعَةِ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ وَالثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَالْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعْدَهُمْ بِكَوْنِهِمْ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَهَذَا الَّذِي وَقَعَ بِهِ فِي الْخَتْمِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَشْرَفَ وَأَعْلَى مِمَّا قَبْلَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ هَؤُلَاءِ مَعَهُمْ هُوَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي عَيْنِ تِلْكَ الدَّرَجَاتِ، لِأَنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَرْوَاحَ النَّاقِصَةَ إِذَا اسْتَكْمَلَتْ عَلَائِقَهَا مَعَ الْأَرْوَاحِ الْكَامِلَةِ فِي الدُّنْيَا لِسَبَبِ الْحُبِّ الشَّدِيدِ، فَإِذَا فَارَقَتْ هَذَا الْعَالَمَ وَوَصَلَتْ إِلَى عَالَمِ الْآخِرَةِ بَقِيَتْ تِلْكَ الْعَلَائِقُ الرُّوحَانِيَّةُ هُنَاكَ، ثُمَّ تَصِيرُ تِلْكَ الْأَرْوَاحُ الصَّافِيَةُ كَالْمَرَايَا الْمَجْلُوَّةِ الْمُتَقَابِلَةِ، فَكَأَنَّ هَذِهِ الْمَرَايَا يَنْعَكِسُ الشُّعَاعُ مِنْ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَبِسَبَبِ هَذِهِ الِانْعِكَاسَاتِ تَصِيرُ أَنْوَارُهَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ، فَكَذَا الْقَوْلُ فِي تِلْكَ الْأَرْوَاحِ فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مَجْلُوَّةً بِصِقَالَةِ الْمُجَاهَدَةِ عَنْ غُبَارِ حُبِّ مَا سِوَى اللَّه، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ طَاعَةِ اللَّه وَطَاعَةِ الرَّسُولِ، ثُمَّ ارْتَفَعَتِ الْحُجُبُ الْجَسَدَانِيَّةُ أَشْرَقَتْ عَلَيْهَا أَنْوَارُ جَلَالِ اللَّه، ثُمَّ انْعَكَسَتْ تِلْكَ الْأَنْوَارُ مِنْ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ وَصَارَتِ الْأَرْوَاحُ النَّاقِصَةُ كَامِلَةً بِسَبَبِ تِلْكَ الْعَلَائِقِ الرُّوحَانِيَّةِ، فَهَذَا الِاحْتِمَالُ خَطَرَ بِالْبَالِ واللَّه أَعْلَمُ بِأَسْرَارِ كَلَامِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِ مَنْ أَطَاعَ اللَّه وَأَطَاعَ الرَّسُولَ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ، كَوْنَ الْكُلِّ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ فِي الدَّرَجَةِ بَيْنَ الْفَاضِلِ وَالْمَفْضُولِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. بَلِ الْمُرَادُ كَوْنُهُمْ فِي الْجَنَّةِ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ رُؤْيَةِ الْآخَرِ، وَإِنْ بَعُدَ الْمَكَانُ، لِأَنَّ الْحِجَابَ إِذَا زَالَ شَاهَدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَإِذَا أَرَادُوا الزِّيَارَةَ وَالتَّلَاقِيَ قَدَرُوا عَلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْمَعِيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ النَّبِيِّينَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَوْصَافًا ثَلَاثَةً: الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءَ وَالصَّالِحِينَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ النَّبِيِّينَ مُغَايِرُونَ لِلصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، فَأَمَّا هَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثَةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الصِّفَاتُ كُلُّهَا لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ، وَهِيَ صِفَاتٌ مُتَدَاخِلَةٌ فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ أَنْ يَكُونَ صِدِّيقًا وَشَهِيدًا وَصَالِحًا. وَقَالَ الْآخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ/ بِكُلِّ وَصْفٍ صِنْفٌ مِنَ النَّاسِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْرَبُ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَكَمَا أَنَّ النَّبِيِّينَ غَيْرُ مَنْ ذُكِرَ بَعْدَهُمْ، فَكَذَلِكَ الصِّدِّيقُونَ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا غَيْرَ مَنْ ذُكِرَ بَعْدَهُمْ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ، وَلْنَبْحَثْ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ: الصِّفَةُ الْأُولَى: الصِّدِّيقُ: وَهُوَ اسْمٌ لِمَنْ عَادَتُهُ الصِّدْقُ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَى عَادَتِهِ فِعْلٌ إِذَا وُصِفَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ قِيلَ فِيهِ فِعِّيلٌ، كَمَا يُقَالُ: سِكِّيرٌ وَشِرِّيبٌ وَخِمِّيرٌ، وَالصِّدْقُ صِفَةٌ كَرِيمَةٌ فَاضِلَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَفَى الصِّدْقَ فَضِيلَةً أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ إِلَّا التَّصْدِيقُ، وَكَفَى الْكَذِبُ مَذَمَّةً أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ إِلَّا التَّكْذِيبُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِي الصِّدِّيقِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ صَدَّقَ بِكُلِّ الدِّينِ لَا يَتَخَالَجُهُ فِيهِ شَكٌّ فَهُوَ صِدِّيقٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ [الحديد: 19] .

الثَّانِي: قَالَ قَوْمٌ: الصِّدِّيقُونَ أَفَاضِلُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الصِّدِّيقَ اسْمٌ لِمَنْ سَبَقَ إِلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَصَارَ فِي ذَلِكَ قُدْوَةً لِسَائِرِ النَّاسِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ أَوْلَى الْخَلْقِ بِهَذَا الْوَصْفِ أَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ سَبَقَ إِلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلِأَنَّهُ قَدِ اشْتَهَرَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «مَا عَرَضْتُ الْإِسْلَامَ عَلَى أَحَدٍ إلا وله كبوة غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَلَعْثَمْ» دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَرَضَ الْإِسْلَامَ عَلَى أَبِي بَكْرِ قَبِلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَتَوَقَّفْ، فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ إِسْلَامَهُ تَأَخَّرَ عَنْ إِسْلَامِ غَيْرِهِ لَزِمَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَّرَ حَيْثُ أَخَّرَ عَرْضَ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ قَدْحًا فِي أَبِي بَكْرٍ، بَلْ يَكُونُ قَدْحًا فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ كُفْرٌ، وَلَمَّا بَطَلَ نِسْبَةُ هَذَا التَّقْصِيرِ إِلَى الرَّسُولِ عَلِمْنَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَصَّرَ فِي عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ، وَالْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَتَوَقَّفِ الْبَتَّةَ، فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ أَسْبَقُ النَّاسِ إِسْلَامًا، أَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ كَانَ قُدْوَةً لِسَائِرِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ فَلِأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ إِسْلَامَ عَلِيٍّ كَانَ سَابِقًا عَلَى إِسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَشُكُّ عَاقِلٌ أَنَّ عَلِيًّا مَا صَارَ قُدْوَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لِأَنَّ عَلِيًّا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ صَبِيًّا صَغِيرًا، وَكَانَ أَيْضًا فِي تَرْبِيَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَانَ شَدِيدَ الْقُرْبِ مِنْهُ بِالْقَرَابَةِ، وَأَبُو بَكْرٍ مَا كَانَ شَدِيدَ الْقُرْبِ مِنْهُ بِالْقَرَابَةِ وَإِيمَانُ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ يَكُونُ سَبَبًا لِرَغْبَةِ سَائِرَ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ لَمَّا آمَنَ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ قَلِيلَةٍ بِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ حَتَّى أَسْلَمُوا، فَكَانَ إِسْلَامُهُ/ سَبَبًا لِاقْتِدَاءِ هَؤُلَاءِ الْأَكَابِرِ بِهِ، فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ رِضْوَانُ اللَّه عَلَيْهِ كَانَ أَسْبَقَ النَّاسِ إِسْلَامًا، وَثَبَتَ أَنَّ إِسْلَامَهُ صَارَ سَبَبًا لِاقْتِدَاءِ أَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ الْإِسْلَامِ، فَثَبَتَ أَنَّ أَحَقَّ الْأُمَّةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ أَفْضَلَ الْخَلْقِ بَعْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِسْلَامَهُ لَمَّا كَانَ أَسْبَقَ مِنْ غَيْرِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثَوَابُهُ أَكْثَرَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» الثَّانِي: أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ جَاهَدَ فِي اللَّه وَصَارَ جِهَادُهُ مُفْضِيًا إِلَى حُصُولِ الْإِسْلَامِ لِأَكَابِرِ الصَّحَابَةِ مِثْلِ عُثْمَانَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ، وَجَاهَدَ عَلِيٌّ يَوْمَ أُحُدٍ وَيَوْمَ الْأَحْزَابِ فِي قَتْلِ الْكُفَّارِ، وَلَكِنَّ جِهَادَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَفْضَى إِلَى حُصُولِ الْإِسْلَامِ لِمِثْلِ الَّذِينَ هُمْ أَعْيَانُ الصَّحَابَةِ، وَجِهَادُ عَلِيٍّ أَفْضَى إِلَى قَتْلِ الْكُفَّارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَفْضَلُ، وَأَيْضًا فَأَبُو بَكْرٍ جَاهَدَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، وَعَلِيٌّ إِنَّمَا جَاهَدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَيَوْمَ الْأَحْزَابِ، وَكَانَ الْإِسْلَامُ قَوِيًّا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجِهَادَ وَقْتَ الضَّعْفِ أَفْضَلُ مِنَ الْجِهَادِ وَقْتَ الْقُوَّةِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا [الْحَدِيدِ: 10] فَبَيَّنَ أَنَّ نُصْرَةَ الْإِسْلَامِ وَقْتَ مَا كَانَ ضَعِيفًا أَعْظَمُ ثَوَابًا مِنْ نُصْرَتِهِ وَقْتَ مَا كَانَ قَوِيًّا، فَثَبَتَ من مجموع ما ذكرناه أَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِهَذَا الْوَصْفِ هُوَ الصِّدِّيقُ، فَلِهَذَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَسْلِيمِ هَذَا اللَّقَبِ لَهُ إِلَّا مَنْ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يُنْكِرُهُ، وَدَلَّ تَفْسِيرُ الصِّدِّيقِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ لَا مَرْتَبَةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ فِي الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ إِلَّا هَذَا الْوَصْفُ وَهُوَ كَوْنُ الْإِنْسَانِ صِدِّيقًا، وَكَمَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ فَقَدْ دَلَّ لَفْظُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ أَيْنَمَا ذَكَرَ الصِّدِّيقَ وَالنَّبِيَّ لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً، فَقَالَ فِي وَصْفِ إِسْمَاعِيلَ: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مَرْيَمَ: 54] وَفِي صِفَةِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا [مَرْيَمَ: 56] وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ يعني انك إن

ترقيب مِنَ الصِّدِّيقِيَّةِ وَصَلْتَ إِلَى النُّبُوَّةِ، وَإِنْ نَزَلْتَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَصَلْتَ إِلَى الصِّدِّيقِيَّةِ، وَلَا مُتَوَسِّطَ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزُّمَرِ: 33] فَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً، وَكَمَا دَلَّتْ هَذِهِ الدَّلَائِلُ عَلَى نَفْيِ الْوَاسِطَةِ فَقَدْ وَفَّقَ اللَّه هَذِهِ الْأُمَّةَ الْمَوْصُوفَةَ بِأَنَّهَا خَيْرُ أُمَّةٍ حَتَّى جَعَلُوا الْإِمَامَ بَعْدَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَبَا بَكْرٍ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَاعِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ رِضْوَانُ اللَّه عَلَيْهِ دَفَنُوهُ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ اللَّه تَعَالَى رَفَعَ الْوَاسِطَةَ بَيْنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَلَا جَرَمَ ارْتَفَعَتِ الْوَاسِطَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْوُجُوهِ الَّتِي عَدَدْنَاهَا. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: الشَّهَادَةُ: وَالْكَلَامُ فِي الشُّهَدَاءِ قَدْ مَرَّ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ نُعِيدَ الْبَعْضَ فَنَقُولُ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ مُفَسَّرَةً بِكَوْنِ الْإِنْسَانِ مَقْتُولَ الْكَافِرِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَرْتَبَةَ الشَّهَادَةِ مَرْتَبَةٌ عَظِيمَةٌ فِي الدِّينِ، وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ مَقْتُولَ الْكَافِرِ لَيْسَ فِيهِ زيارة شَرَفٍ، لِأَنَّ هَذَا الْقَتْلَ قَدْ يَحْصُلُ فِي الْفُسَّاقِ وَمَنْ لَا مَنْزِلَةَ لَهُ عِنْدَ اللَّه. الثَّانِي: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا الشَّهَادَةَ، فَلَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عِبَارَةً عَنْ قَتْلِ الْكَافِرِ إِيَّاهُ لَكَانُوا قَدْ طَلَبُوا مِنَ اللَّه ذَلِكَ الْقَتْلَ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ طَلَبَ صُدُورِ ذَلِكَ الْقَتْلِ مِنَ الْكَافِرِ كُفْرٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ اللَّه مَا هُوَ كُفْرٌ، الثَّالِثُ: رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْمَبْطُونُ شَهِيدٌ وَالْغَرِيقُ شَهِيدٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنِ الْقَتْلِ، بَلْ نَقُولُ: الشَّهِيدُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، وَهُوَ الَّذِي يَشْهَدُ بِصِحَّةِ دِينِ اللَّه تَعَالَى تَارَةً بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ، وَأُخْرَى بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، فَالشُّهَدَاءُ هُمُ الْقَائِمُونَ بِالْقِسْطِ، وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّه فِي قَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ [آلِ عِمْرَانَ: 18] وَيُقَالُ لِلْمَقْتُولِ فِي سَبِيلِ اللَّه شَهِيدٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بَذَلَ نَفْسَهُ فِي نُصْرَةِ دِينِ اللَّه، وَشَهَادَتِهِ لَهُ بِأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ وَمَا سِوَاهُ هُوَ الْبَاطِلُ، وَإِذَا كَانَ مِنْ شُهَدَاءِ اللَّه بِهَذَا المعنى كان من شهداء اللَّه في نصرة دين اللَّه، الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [الْبَقَرَةِ: 143] . الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: الصَّالِحُونَ: وَالصَّالِحُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ صَالِحًا فِي اعْتِقَادِهِ وَفِي عَمَلِهِ، فَإِنَّ الْجَهْلَ فَسَادٌ فِي الِاعْتِقَادِ، وَالْمَعْصِيَةُ فَسَادٌ فِي الْعَمَلِ، وَإِذَا عَرَفْتَ تَفْسِيرَ الصِّدِّيقِ وَالشَّهِيدِ وَالصَّالِحِ ظَهَرَ لَكَ مَا بَيْنَ هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنَ التَّفَاوُتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ اعْتِقَادُهُ صَوَابًا وَكَانَ عَمَلُهُ طَاعَةً وَغَيْرَ مَعْصِيَةٍ فَهُوَ صَالِحٌ، ثُمَّ إِنَّ الصَّالِحَ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يَشْهَدُ لِدِينِ اللَّه بِأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا سِوَاهُ هُوَ الْبَاطِلُ، وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ تَارَةً تَكُونُ بِالْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ وَأُخْرَى بِالسَّيْفِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ الصَّالِحُ مَوْصُوفًا بِكَوْنِهِ قَائِمًا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ شَهِيدًا كَانَ صَالِحًا، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ كَانَ صَالِحًا شَهِيدًا، فَالشَّهِيدُ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ الصَّالِحِ، ثُمَّ إِنَّ الشَّهِيدَ قَدْ يَكُونُ صِدِّيقًا وَقَدْ لَا يَكُونُ: وَمَعْنَى الصِّدِّيقِ الَّذِي كَانَ أسبق إيمانا من غيره، وكان إيمانه وقدوة لِغَيْرِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ صِدِّيقًا كَانَ شَهِيدًا، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ كَانَ شَهِيدًا كَانَ صِدِّيقًا، فَثَبَتَ أَنَّ أَفْضَلَ الْخَلْقِ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَبَعْدَهُمُ الصِّدِّيقُونَ، وَبَعْدَهُمْ مَنْ لَيْسَ لَهُ دَرَجَةٌ إِلَّا مَحْضَ دَرَجَةِ الشَّهَادَةِ، وَبَعْدَهُمْ مَنْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَحْضَ دَرَجَةِ الصَّلَاحِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ أَكَابِرَ الْمَلَائِكَةِ يَأْخُذُونَ الدِّينَ الْحَقَّ عَنِ اللَّه، وَالْأَنْبِيَاءُ يَأْخُذُونَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا قَالَ: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [النَّحْلِ: 2] وَالصِّدِّيقُونَ يَأْخُذُونَهُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ. وَالشُّهَدَاءُ يَأْخُذُونَهُ عَنِ الصِّدِّيقِينَ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الصِّدِّيقَ هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى عَنِ/ الْأَنْبِيَاءِ وَصَارَ قُدْوَةً لِمَنْ بَعْدُهُ، وَالصَّالِحُونَ يَأْخُذُونَهُ عَنِ الشُّهَدَاءِ، فَهَذَا هُوَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا ظَهَرَ لَكَ أَنَّهُ لَا أَحَدَ يَدْخُلُ

الْجَنَّةَ إِلَّا وَهُوَ دَاخِلٌ فِي بَعْضِ هَذِهِ النُّعُوتِ وَالصِّفَاتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فِيهِ مَعْنَى التَّعْجِيبِ. كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا أَحْسَنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الرِّفْقُ فِي اللُّغَةِ لِينُ الْجَانِبِ وَلَطَافَةُ الْفِعْلِ، وَصَاحِبُهُ رَفِيقٌ. هَذَا مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ ثُمَّ الصَّاحِبُ يُسَمَّى رفيقا لا لِارْتِفَاقِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّمَا وَحَّدَ الرَّفِيقَ وَهُوَ صِفَةٌ لِجَمْعٍ، لِأَنَّ الرَّفِيقَ وَالرَّسُولَ وَالْبَرِيدَ تَذْهَبُ بِهِ الْعَرَبُ إِلَى الواحد وإلى الجمع قال تعالى: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: 16] وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: حَسُنَ أُولَئِكَ رَجُلًا، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا إِنَّمَا يَجُوزُ فِي الِاسْمِ الَّذِي يَكُونُ صِفَةً، أَمَّا إِذَا كَانَ اسْمًا مُصَرَّحًا مِثْلَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ لَمْ يَجُزْ، وَجَوَّزَ الزَّجَّاجُ ذَلِكَ فِي الِاسْمِ أَيْضًا وَزَعَمَ أَنَّهُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً أَيْ حَسُنَ كُلُّ واحد منهم رفيقا، كما قال: يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غَافِرٍ: 67] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: رَفِيقاً نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَقِيلَ عَلَى الْحَالِ: أَيْ حَسُنَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ رَفِيقًا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِيمَنْ أَطَاعَ اللَّه وَرَسُولَهُ أَنَّهُ يَكُونُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، ثُمَّ لَمْ يَكْتَرِثْ بِذَلِكَ، بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُ يَكُونُ رَفِيقًا لَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّفِيقَ هُوَ الَّذِي يُرْتَفَقُ بِهِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُطِيعِينَ يَرْتَفِقُونَ بِهِمْ، وَإِنَّمَا يَرْتَفِقُونَ بِهِمْ إِذَا نَالُوا مِنْهُمْ رِفْقًا وَخَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا كَيْفِيَّةَ هَذَا الِارْتِفَاقِ، وَأَمَّا عَلَى حَسَبِ الظَّاهِرِ فَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ مَعَ غَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ رَفِيقًا لَهُ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَظِيمَ الشَّفَقَةِ عَظِيمَ الِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِهِ كَانَ رَفِيقًا لَهُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءَ وَالصَّالِحِينَ يَكُونُونَ لَهُ كَالرُّفَقَاءِ مِنْ شِدَّةِ مَحَبَّتِهِمْ لَهُ وَسُرُورِهِمْ بِرُؤْيَتِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ وَصْفِ الثَّوَابِ، فَلَمَّا حَكَمَ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُ فَضْلٌ مِنَ اللَّه دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى اللَّه، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْقُدْرَةُ عَلَى الطَّاعَةِ إِنْ كَانَتْ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِلطَّاعَةِ، فَخَالِقُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ هُوَ الَّذِي أَعْطَى الطَّاعَةَ، فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ مُوجِبًا عَلَيْهِ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِلْمَعْصِيَةِ أَيْضًا لَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبُ الطَّاعَةِ عَلَى جَانِبِ الْمَعْصِيَةِ إِلَّا بخلق الداعي إلى الداعي، وَيَصِيرُ مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِي مُوجِبًا لِلْفِعْلِ، فَخَالِقُ هَذَا الْمَجْمُوعِ هُوَ الَّذِي أَعْطَى الطَّاعَةَ، فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ مُوجِبًا عَلَيْهِ/ شَيْئًا. الثَّانِي: نِعَمُ اللَّه عَلَى الْعَبْدِ لَا تُحْصَى وَهِيَ مُوجِبَةٌ لِلطَّاعَةِ وَالشُّكْرِ، وَإِذَا كَانَتِ الطَّاعَاتُ تَقَعُ فِي مُقَابَلَةِ النِّعَمِ السَّالِفَةِ امْتَنَعَ كَوْنُهَا مُوجِبَةً لِلثَّوَابِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْوُجُوبَ يَسْتَلْزِمُ اسْتِحْقَاقَ الذَّنْبِ عِنْدَ التَّرْكِ، وَهَذَا الِاسْتِحْقَاقُ يُنَافِي الْإِلَهِيَّةِ، فَيَمْتَنِعُ حُصُولُهُ فِي حَقِّ الْإِلَهِ تَعَالَى، فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ كَمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ كُلَّهُ فَضْلٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى، فَالْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ الْقَاطِعَةُ دَالَّةٌ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الثَّوَابُ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا لَكِنْ لَا يَمْتَنِعُ إِطْلَاقُ اسْمِ الْفَضْلِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا اسْتَحَقَّ ذَلِكَ الثَّوَابَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى كَلَّفَهُ وَالتَّكْلِيفُ تَفَضُّلٌ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَعْطَى الْعَقْلَ وَالْقُدْرَةَ وَأَزَاحَ الْأَعْذَارَ وَالْمَوَانِعَ حَتَّى تَمَكَّنَ الْمُكَلَّفُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَةِ، فَصَارَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَهَبَ لِغَيْرِهِ ثَوْبًا كَيْ يَنْتَفِعَ بِهِ، فَإِذَا

[سورة النساء (4) : آية 71]

بَاعَهُ وَانْتَفَعَ بِثَمَنِهِ جَازَ أَنْ يُوصَفَ ذَلِكَ الثمن بأنه فضل من الواهب فكذا هاهنا: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ فِيهِ احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّه، وَيَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الثَّوَابَ لِكَمَالِ دَرَجَتِهِ كَأَنَّهُ هُوَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّه وَأَنَّ مَا سِوَاهُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: ذَلِكَ الْفَضْلُ هُوَ مِنَ اللَّه، أَيْ ذَلِكَ الْفَضْلُ الْمَذْكُورُ، وَالثَّوَابُ الْمَذْكُورُ هُوَ مِنَ اللَّه لَا مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ أَبْلَغُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً وَلَهُ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ فِي تَوْكِيدِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي طَاعَةِ اللَّه لِأَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ الطَّاعَةِ وَكَيْفِيَّةَ الْجَزَاءِ وَالتَّفَضُّلِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُرَغِّبُ الْمُكَلَّفَ فِي كَمَالِ الطاعة والاحتراز عن التقصير فيه. [سورة النساء (4) : آية 71] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى عَادَ بَعْدَ التَّرْغِيبِ فِي طَاعَةِ اللَّه وَطَاعَةِ رَسُولِهِ إِلَى ذِكْرِ الْجِهَادِ الَّذِي تَقَدَّمَ، لِأَنَّهُ أَشَقُّ الطَّاعَاتِ، وَلِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْأُمُورِ الَّتِي بِهَا يحصل تقوية الدين فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْحَذَرُ وَالْحِذْرُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَالْأَثَرِ وَالْإِثْرِ، وَالْمَثَلِ وَالْمِثْلِ، يُقَالُ: أَخَذَ حِذْرَهُ إِذَا تَيَقَّظَ وَاحْتَرَزَ مِنَ الْمُخَوِّفِ، كَأَنَّهُ جَعَلَ الْحَذَرَ آلَتَهُ الَّتِي يَقِي بِهَا نَفْسَهُ وَيَعْصِمُ بِهَا رُوحَهُ، وَالْمَعْنَى احْذَرُوا وَاحْتَرِزُوا مِنَ الْعَدُوِّ وَلَا تُمَكِّنُوهُ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» . وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه فِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: المراد بالحذر هاهنا السِّلَاحُ، وَالْمَعْنَى خُذُوا سِلَاحَكُمْ، وَالسِّلَاحُ يُسَمَّى حِذْرًا، أَيْ خُذُوا سِلَاحَكُمْ وَتَحَذَّرُوا، وَالثَّانِي: أَنَّ يَكُونَ خُذُوا حِذْرَكُمْ بِمَعْنَى/ احْذَرُوا عَدُوَّكُمْ لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ بِالْحِذْرِ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِأَخْذِ السِّلَاحِ، لِأَنَّ أَخْذَ السِّلَاحِ هُوَ الْحَذَرُ مِنَ الْعَدُوِّ، فَالتَّأْوِيلُ أَيْضًا يَعُودُ إِلَى الْأَوَّلِ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْأَمْرُ مُصَرِّحٌ بِأَخْذِ السِّلَاحِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَخْذُ السِّلَاحِ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِفَحْوَى الْكَلَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: ذَلِكَ الَّذِي أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِالْحَذَرِ عَنْهُ إِنْ كَانَ مُقْتَضَى الْوُجُودِ لَمْ يَنْفَعِ الْحَذَرُ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى الْعَدَمِ لَا حَاجَةَ إِلَى الْحَذَرِ، فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ الْأَمْرُ بِالْحَذَرِ عَبَثٌ وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «الْمَقْدُورُ كَائِنٌ وَالْهَمُّ فَضْلٌ» وَقِيلَ أَيْضًا: الْحَذَرُ لَا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ فَنَقُولُ: إِنْ صَحَّ هَذَا الْكَلَامُ بَطَلَ الْقَوْلُ بِالشَّرَائِعِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فِي قَضَاءِ اللَّه وَقَدَرِهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِيمَانِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ لَمْ يَنْفَعْهُ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ، فَهَذَا يُفْضِي إِلَى سُقُوطِ التَّكْلِيفِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالتَّحْقِيقُ فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْكُلُّ بِقَدَرٍ كَانَ الْأَمْرُ بِالْحَذَرِ أَيْضًا دَاخِلًا فِي الْقَدَرِ، فَكَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ: أَيُّ فَائِدَةٍ فِي الْحَذَرِ كَلَامًا مُتَنَاقِضًا، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا الْحَذَرُ مُقَدَّرًا فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا السُّؤَالِ الطَّاعِنِ فِي الْحَذَرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَانْفِرُوا يُقَالُ: نَفَرَ الْقَوْمُ يَنْفِرُونَ نَفْرًا وَنَفِيرًا إِذَا نَهَضُوا لِقِتَالِ عَدُوٍّ وَخَرَجُوا لِلْحَرْبِ، وَاسْتَنْفَرَ الْإِمَامُ النَّاسَ لِجِهَادِ الْعَدُوِّ فَنَفَرُوا يَنْفِرُونَ إِذَا حَثَّهُمْ عَلَى النَّفِيرِ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» وَالنَّفِيرُ اسْمٌ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ يَنْفِرُونَ، وَمِنْهُ يُقَالُ: فُلَانٌ لَا فِي الْعِيرِ وَلَا فِي النَّفِيرِ، وَقَالَ أَصْحَابُ الْعَرَبِيَّةِ: أَصْلُ هَذَا الْحَرْفِ مِنَ النُّفُورِ وَالنِّفَارِ وَهُوَ الْفَزَعُ، يُقَالُ نَفَرَ إِلَيْهِ إِذَا فَزِعَ إِلَيْهِ، وَنَفَرَ

[سورة النساء (4) : الآيات 72 إلى 73]

مِنْهُ إِذَا فَزِعَ مِنْهُ وَكَرِهَهُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ فَانْفِرُوا إِلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ جَمِيعُ أَهْلِ اللُّغَةِ: الثُّبَاتُ جَمَاعَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَاحِدُهَا ثُبَةٌ، وَأَصْلُهَا مِنْ: ثَبَيْتُ الشَّيْءَ، أَيْ جَمَعْتُهُ، وَيُقَالُ أَيْضًا: ثَبَيْتُ عَلَى الرَّجُلِ إِذَا أَثْنَيْتَ عليه، وتأويله جميع مَحَاسِنَهُ، فَقَوْلُهُ: فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً مَعْنَاهُ: انْفِرُوا إِلَى الْعَدُوِّ إِمَّا ثُبَاتٍ، أَيْ جَمَاعَاتٍ مُتَفَرِّقَةً، سَرِيَّةً بَعْدَ سَرِيَّةٍ، وَإِمَّا جَمِيعًا، أَيْ مُجْتَمِعِينَ كَوْكَبَةً وَاحِدَةً، وَهَذَا الْمَعْنَى أَرَادَ الشَّاعِرُ فِي قَوْلِهِ: طَارُوا إِلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوِحْدَانَا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً [البقرة: 239] أي على أي الحالتين كنتم فصلوا. [سورة النساء (4) : الآيات 72 الى 73] وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) [في قوله تعالى وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنَّ مِنْكُمْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى المؤمنين الذين ذكرهم اللَّه بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ وَاخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُنَافِقُونَ كَانُوا يُثَبِّطُونَ النَّاسَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ تَقْدِيرُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْمُبْطِئُ مُنَافِقًا فَكَيْفَ جَعَلَ الْمُنَافِقَ قِسْمًا مِنَ الْمُؤْمِنِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْكُمْ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْمُنَافِقَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ الْجِنْسِ وَالنَّسَبِ وَالِاخْتِلَاطِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الظَّاهِرِ مُتَشَبِّهِينَ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ. الثَّالِثُ: كَأَنَّهُ قِيلَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فِي زَعْمِكُمْ ودعواكم كقوله: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [الْحِجْرِ: 6] . الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُبْطِئِينَ كَانُوا ضَعَفَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ اخْتِيَارُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: وَالتَّبْطِئَةُ بِمَعْنَى الْإِبْطَاءِ أَيْضًا، وَفَائِدَةُ هَذَا التَّشْدِيدِ تَكَرُّرُ الْفِعْلِ مِنْهُ. وَحَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: مَا أَبْطَأَ بِكَ يَا فُلَانُ عَنَّا، وَإِدْخَالُهُمُ الْبَاءَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُبَطِّئُ عَنْ هَذَا الْغَرَضِ وَيَتَثَاقَلُ عَنْ هَذَا الْجِهَادِ، فَإِذَا ظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ تَمَنَّوْا أَنْ يَكُونُوا مَعَهُمْ لِيَأْخُذُوا الْغَنِيمَةَ، وَإِنْ أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ سَرَّهُمْ أَنْ كَانُوا مُتَخَلِّفِينَ. قَالَ: وَهَؤُلَاءِ هُمُ الذين أرادهم اللَّه بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التَّوْبَةِ: 38] قَالَ: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: لَيُبَطِّئَنَّ الْإِبْطَاءُ مِنْهُمْ لَا تَثْبِيطُ غَيْرِهِمْ، ما حكاه تعالى من قولهم: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ عِنْدَ الْغَنِيمَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَثْبِيطُ الْغَيْرِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْكَلَامِ مَعْنًى. وَطَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْقَوْلِ وَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُبْطِئِينَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ عِنْدَ مُصِيبَةِ الْمُؤْمِنِينَ: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً فَيُعِدُّ قُعُودَهُ عَنِ الْقِتَالِ نِعْمَةً مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ/ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْمُنَافِقِينَ لَا بِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَيْضًا لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ

بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ يَعْنِي الرَّسُولَ: مَوَدَّةٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْإِبْطَاءِ وَالتَّثَاقُلِ صَحَّ فِي الْمُنَافِقِينَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَأَخَّرُونَ عَنِ الْجِهَادِ وَيَتَثَاقَلُونَ وَلَا يُسْرِعُونَ إِلَيْهِ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى تَثْبِيطِ الْغَيْرِ صَحَّ أَيْضًا فِيهِمْ، فَقَدْ كَانُوا يُثَبِّطُونَ كَثِيرًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُورِدُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ التَّلْبِيسِ، فَكِلَا الْوَصْفَيْنِ مَوْجُودٌ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلَهُ عَلَى تَثْبِيطِ الْغَيْرِ، فَكَأَنَّهُمْ فَصَلُوا بَيْنَ أَبْطَأَ وَبَطَّأَ، فَجَعَلُوا الْأَوَّلَ لَازِمًا، وَالثَّانِي مُتَعَدِّيًا، كَمَا يُقَالُ فِي أَحَبَّ وَحَبَّ، فان الأول لا زم وَالثَّانِي مُتَعَدٍّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: «مَنْ» فِي قَوْلِهِ: لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ مَوْصُولَةٌ بِالْحَالِ لِلْقَسَمِ كَأَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ كَلَامًا لَكَ لَقُلْتَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ حَلَفَ باللَّه لَيُبَطِّئَنَّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ يَعْنِي مِنَ الْقَتْلِ وَالِانْهِزَامِ وَجَهْدٍ مِنَ الْعَيْشِ. يَعْنِي لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا حَاضِرًا حَتَّى يُصِيبَنِي مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ وَالشِّدَّةِ وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ مِنْ ظَفَرٍ وَغَنِيمَةٍ لَيَقُولَنَّ: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بِالتَّاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ فَوْقٍ يَعْنِي الْمَوَدَّةَ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ لِتَقَدُّمِ الْفِعْلِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَكِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ قَدْ جَاءَ بِهِ التَّنْزِيلُ. قَالَ: قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [يُونُسَ: 57] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الْبَقَرَةِ: 275] فَالتَّأْنِيثُ هُوَ الْأَصْلُ وَالتَّذْكِيرُ يَحْسُنُ إِذَا كَانَ التَّأْنِيثُ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ، سِيَّمَا إِذَا وَقَعَ فَاصْلَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ لَيَقُولَنَّ بِضَمِّ اللَّامِ أَعَادَ الضَّمِيرَ إِلَى مَعْنَى «مَنْ» لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فِي مَعْنَى الْجَمَاعَةِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّ «مَنْ» وَإِنْ كَانَ جَمَاعَةٌ فِي الْمَعْنَى لَكِنَّهُ مُفْرَدٌ فِي اللَّفْظِ، وَجَانِبُ الْإِفْرَادِ قَدْ تَرَجَّحَ فِي قَوْلِهِ: قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ [النساء: 72] وفي قوله: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ التَّنْزِيلُ هَكَذَا: وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّه لَيَقُولَنَّ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا كَانَ النَّظْمُ مُسْتَقِيمًا حَسَنًا، فَكَيْفَ وَقَعَ قوله: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ فِي الْبَيْنِ؟ وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ وَقَعَ فِي الْبَيْنِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، بَيَانُهُ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ هَذَا الْمُنَافِقِ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَتْ لِلْمُسْلِمِينَ نَكْبَةٌ أَظْهَرَ السُّرُورَ الشَّدِيدَ بِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَ مُتَخَلِّفًا عَنْهُمْ، وَلَوْ فَازُوا بِغَنِيمَةٍ/ وَدَوْلَةٍ أَظْهَرَ الْغَمَّ الشَّدِيدَ بِسَبَبِ فَوَاتِ تِلْكَ الْغَنِيمَةِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ لَا يَقْدُمُ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ إِلَّا فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ الْعَدُوِّ، لِأَنَّ مَنْ أَحَبِّ إِنْسَانًا فَرِحَ عِنْدَ فَرَحِهِ وَحَزِنَ عِنْدَ حُزْنِهِ، فَأَمَّا إِذَا قُلِبَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ فَذَاكَ إِظْهَارٌ لِلْعَدَاوَةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ هَذَا الْمُنَافِقِ سُرُورَهُ وَقْتَ نَكْبَةِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَحْكِيَ حُزْنَهُ عِنْدَ دَوْلَةِ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ أَنَّهُ فَاتَهُ الْغَنِيمَةُ، فَقَبْلَ أَنْ يَذْكُرَ هَذَا الْكَلَامَ بِتَمَامِهِ أَلْقَى فِي الْبَيْنِ قَوْلَهُ: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ وَالْمُرَادُ التَّعَجُّبُ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى مَا يَقُولُ هَذَا الْمُنَافِقُ كَأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ وَلَا مُخَالَطَةٌ أَصْلًا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْكَلَامِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ كَلَامًا وَاقِعًا فِي الْبَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِرَاضِ إِلَّا أَنَّهُ في غاية الحسن.

[سورة النساء (4) : آية 74]

[سورة النساء (4) : آية 74] فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) [في قَوْلُهُ تَعَالَى فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَمَّ الْمُبْطِئِينَ فِي الْجِهَادِ عَادَ إِلَى التَّرْغِيبِ فِيهِ فَقَالَ: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ يَشْرُونَ مَعْنَاهُ يَبِيعُونَ قَالَ ابْنُ مُفَرِّغٍ: وَشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ قَالَ: وَبُرْدٌ هو غلامه، وشربته بِمَعْنَى بِعْتُهُ، وَتَمَنَّى الْمَوْتَ بَعْدَ بَيْعِهِ، فَكَانَ مَعْنَى الْآيَةِ: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّه الَّذِينَ يَبِيعُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ [التَّوْبَةِ: 111] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مَعْنَى قَوْلِهِ: يَشْرُونَ أَيْ يَشْتَرُونَ قَالُوا: وَالْمُخَاطَبُونَ بِهَذَا الْخِطَابِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ أُحُدٍ، وَتَقْرِيرُ الْكَلَامِ: فَلْيُقَاتِلِ الَّذِينَ يَخْتَارُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفٍ تَقْدِيرُهُ: آمَنُوا ثُمَّ قَاتَلُوا لِاسْتِحَالَةِ حُصُولِ الْأَمْرِ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ حُصُولِ الْإِسْلَامِ. وَعِنْدِي فِي الْآيَةِ احْتِمَالَاتٌ أُخْرَى: أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبْذُلَ هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فِي سَبِيلِ اللَّه بَخِلَتْ نَفْسُهُ بِهَا، فَاشْتَرَاهَا مِنْ نَفْسِهِ بِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ لِيَقْدِرَ عَلَى بَذْلِهَا فِي سَبِيلِ اللَّه بِطِيبَةِ النَّفْسِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْقِتَالِ مَقْرُونًا بِبَيَانِ فَسَادِ مَا لِأَجْلِهِ يَتْرُكُ الْإِنْسَانُ/ الْقِتَالَ، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ الْقِتَالَ فَإِنَّمَا يَتْرُكُهُ رَغْبَةً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ يُوجِبُ فَوَاتَ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: اشْتَغِلْ بِالْقِتَالِ وَاتْرُكْ تَرْجِيحَ الْفَانِي عَلَى الْبَاقِي. وَثَالِثُهَا: كَأَنَّهُ قِيلَ: الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ إِنَّمَا رَجَّحُوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ إِذَا كَانَتْ مَقْرُونَةً بِالسَّعَادَةِ وَالْغِبْطَةِ وَالْكَرَامَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلْيُقَاتِلُوا، فَإِنَّهُمْ بِالْمُقَاتَلَةِ يَفُوزُونَ بِالْغِبْطَةِ وَالْكَرَامَةِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهُمْ بِالْمُقَاتَلَةِ يَسْتَوْلُونَ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَيَفُوزُونَ بِالْأَمْوَالِ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ خَطَرَتْ بِالْبَالِ واللَّه أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وَالْمَعْنَى مَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّه فَسَوَاءٌ صَارَ مَقْتُولًا لِلْكُفَّارِ أَوْ صَارَ غَالِبًا لِلْكُفَّارِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا، وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ الْخَالِصَةُ الدَّائِمَةُ الْمَقْرُونَةُ بِالتَّعْظِيمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، فَإِذَا كَانَ الْأَجْرُ حَاصِلًا عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ أَشْرَفَ مِنَ الْجِهَادِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُجَاهِدَ لَا بُدَّ وَأَنْ يُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَقْتُلَهُ الْعَدُوُّ، وَإِمَّا أَنْ يَغْلِبَ الْعَدُوَّ وَيَقْهَرَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَفِرَّ عَنِ الْخَصْمِ وَلَمْ يُحْجِمْ عَنِ الْمُحَارَبَةِ، فَأَمَّا إِذَا دَخَلَ لَا عَلَى هَذَا الْعَزْمِ فَمَا أَسْرَعَ مَا يَقَعُ فِي الْفِرَارِ، فَهَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى مِنَ التَّقْسِيمِ فِي قَوْلِهِ: فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ. [سورة النساء (4) : آية 75] وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ] اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ إِنْكَارُهُ تَعَالَى لِتَرْكِهِمُ الْقِتَالِ، فَصَارَ ذَلِكَ تَوْكِيدًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ وَاجِبٌ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا عُذْرَ لَكُمْ فِي تَرْكِ الْمُقَاتَلَةِ وَقَدْ بَلَغَ حَالُ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَا بَلَغَ فِي الضَّعْفِ، فَهَذَا حَثٌّ شَدِيدٌ عَلَى الْقِتَالِ، وَبَيَانُ الْعِلَّةِ الَّتِي لَهَا صَارَ الْقِتَالُ وَاجِبًا، وَهُوَ مَا فِي الْقِتَالِ مِنْ/ تَخْلِيصِ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَيْدِي الْكَفَرَةِ، لِأَنَّ هَذَا الْجَمْعَ إِلَى الْجِهَادِ يَجْرِي مَجْرَى فِكَاكِ الْأَسِيرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ: وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِ الْقِتَالِ وَبَيَانُ أَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُمُ الْبَتَّةَ فِي تَرْكِهِ، وَلَوْ كَانَ فِعْلُ الْعَبْدِ بِخَلْقِ اللَّه لَبَطَلَ هَذَا الْكَلَامُ لِأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْعُذْرِ أَنَّ اللَّه مَا خَلَقَهُ وَمَا أَرَادَهُ وَمَا قَضَى بِهِ، وَجَوَابُهُ مَذْكُورٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أن يكون عطفا على السبيل، والمعنى: مالكم لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه وَفِي الْمُسْتَضْعَفِينَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى اسْمِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، أَيْ فِي سَبِيلِ اللَّه وَفِي سَبِيلِ الْمُسْتَضْعَفِينَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُرَادُ بِالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَقُوا بِمَكَّةَ وَعَجَزُوا عَنِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانُوا يَلْقَوْنَ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ أَذًى شَدِيدًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْوِلْدَانُ: جَمْعُ الْوَلَدِ، وَنَظِيرُهُ مِمَّا جَاءَ عَلَى فِعْلٍ وَفِعْلَانِ، نَحْوَ حِزْبٍ وَحِزْبَانِ، وَوِرْكٍ وَوِرْكَانِ، كَذَلِكَ وِلْدٌ وَوِلْدَانٌ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الْأَحْرَارُ وَالْحَرَائِرُ، وَبِالْوِلْدَانِ الْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ، لِأَنَّ الْعَبْدَ وَالْأَمَةَ يُقَالُ لَهُمَا الْوَلِيدُ وَالْوَلِيدَةُ، وجمعهما الولدان والولائد، إلا أنه جعل هاهنا الْوِلْدَانَ جَمْعًا لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ تَغْلِيبًا لِلذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ، كَمَا يُقَالُ آبَاءٌ وَإِخْوَةٌ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إِنَّمَا ذَكَرَ اللَّه الْوِلْدَانَ مُبَالَغَةً فِي شَرْحِ ظُلْمِهِمْ حَيْثُ بَلَغَ أَذَاهُمُ الْوِلْدَانَ غَيْرَ الْمُكَلَّفِينَ إِرْغَامًا لِآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَمَبْغَضَةً لَهُمْ بِمَكَانِهِمْ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ كَانُوا يُشْرِكُونَ صِبْيَانَهُمْ فِي دُعَائِهِمِ اسْتِنْزَالًا لِرَحْمَةِ اللَّه بِدُعَاءِ صِغَارِهِمُ الَّذِينَ لَمْ يُذْنِبُوا، كَمَا وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِإِخْرَاجِهِمْ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَضْعَفِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا مَكَّةُ، وَكَوْنُ أَهْلُهَا مَوْصُوفِينَ بِالظُّلْمِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] وَأَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤْذُونَ الْمُسْلِمِينَ وَيُوصِلُونَ إِلَيْهِمْ أَنْوَاعَ الْمَكَارِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْقَرْيَةُ مُؤَنَّثَةٌ، وَقَوْلُهُ: الظَّالِمِ أَهْلُها صِفَةٌ لِلْقَرْيَةِ وَلِذَلِكَ خَفَضَ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: الظَّالِمَةُ أَهْلُهَا، وَجَوَابُهُ أَنَّ النَّحْوِيِّينَ يُسَمُّونَ مِثْلَ هَذِهِ الصِّفَةِ الصِّفَةَ الْمُشَبَّهَةَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ: أَنَّكَ إِذَا أَدْخَلْتَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْأَخِيرِ أَجْرَيْتَهُ عَلَى الْأَوَّلِ فِي تَذْكِيرِهِ وَتَأْنِيثِهِ، نَحْوُ قَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِامْرَأَةٍ حَسَنَةِ الزَّوْجِ كَرِيمَةِ الْأَبِ، وَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ جَمِيلِ الْجَارِيَةِ، وَإِذَا لَمْ تُدْخِلِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْأَخِيرِ حَمَلْتَهُ عَلَى الثَّانِي فِي تَذْكِيرِهِ وَتَأْنِيثِهِ كَقَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِامْرَأَةٍ كَرِيمٍ أَبُوهَا، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:

[سورة النساء (4) : آية 76]

أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَلَوْ أَدْخَلْتَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ عَلَى الْأَهْلِ لَقُلْتَ مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمَةِ الْأَهْلِ، وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الظَّالِمُ نَعْتًا لِلْقَرْيَةِ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِلْأَهْلِ، وَالْأَهْلُ مُنْتَسِبُونَ إِلَى الْقَرْيَةِ، وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي صِحَّةِ الْوَصْفِ كَقَوْلِكَ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ قَائِمٍ أَبُوهُ، فَالْقِيَامُ لِلْأَبِ وَقَدْ جَعَلْتَهُ وَصْفًا لِلرَّجُلِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْقَدْرُ كَافِيًا فِي صِحَّةِ الْوَصْفِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْوَصْفِ التَّخْصِيصُ وَالتَّمْيِيزُ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْوَصْفِ واللَّه أعلم. المسألة الثالثة: فِي قَوْلِهِ: وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً قَوْلَانِ: فَالْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُونَ اجْعَلْ عَلَيْنَا رَجُلًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُوَالِينَا وَيَقُومُ بِمَصَالِحِنَا وَيَحْفَظُ عَلَيْنَا دِينَنَا وَشَرْعَنَا، فَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى دُعَاءَهُمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ جَعَلَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ أَمِيرًا لَهُمْ، فَكَانَ الْوَلِيُّ هُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَانَ النَّصِيرُ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ، وَكَانَ عَتَّابٌ يُنْصِفُ الضَّعِيفَ مِنَ الْقَوِيِّ وَالذَّلِيلَ مِنَ الْعَزِيزِ. الثَّانِي: الْمُرَادُ: وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وِلَايَةً وَنُصْرَةً، والحاصل كن أنت لنا وليا وناصرا. [سورة النساء (4) : آية 76] الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ وُجُوبَ الْجِهَادِ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِصُورَةِ الْجِهَادِ. بَلِ الْعِبْرَةُ بِالْقَصْدِ وَالدَّاعِي، فَالْمُؤْمِنُونَ يُقَاتِلُونَ لِغَرَضِ نُصْرَةِ دِينِ اللَّه وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَالْكَافِرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطاغوت، وهذه الآية كالدلالة عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ غَرَضُهُ فِي فِعْلِهِ رِضَا غَيْرِ اللَّه فَهُوَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْقِسْمَةَ وَهِيَ أَنَّ الْقِتَالَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه: أَوْ فِي سَبِيلِ/ الطَّاغُوتِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا سِوَى اللَّه طَاغُوتًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُقَاتِلِينَ فِي سَبِيلِ اللَّه بِأَنْ يُقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ، وَبَيَّنَ أَنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا، لِأَنَّ اللَّه يَنْصُرُ أَوْلِيَاءَهُ، وَالشَّيْطَانُ يَنْصُرُ أَوْلِيَاءَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ نُصْرَةَ الشَّيْطَانِ، لِأَوْلِيَائِهِ أَضْعَفُ مِنْ نُصْرَةِ اللَّه لِأَوْلِيَائِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الْخَيْرِ وَالدِّينِ يَبْقَى ذِكْرُهُمُ الْجَمِيلُ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ وَإِنْ كَانُوا حَالَ حَيَاتِهِمْ فِي غَايَةِ الْفَقْرِ وَالذِّلَّةِ، وَأَمَّا الْمُلُوكُ وَالْجَبَابِرَةُ فَإِذَا مَاتُوا انْقَرَضَ أَثَرُهُمْ وَلَا يَبْقَى فِي الدُّنْيَا رَسْمُهُمْ وَلَا ظُلْمُهُمْ، وَالْكَيْدُ السَّعْيُ فِي فَسَادِ الْحَالِ عَلَى جِهَةِ الِاحْتِيَالِ عَلَيْهِ يُقَالُ: كَادَهُ يَكِيدُهُ إِذَا سَعَى فِي إِيقَاعِ الضَّرَرِ عَلَى جِهَةِ الْحِيلَةِ عَلَيْهِ وَفَائِدَةُ إِدْخَالِ كانَ فِي قَوْلِهِ: كانَ ضَعِيفاً لِلتَّأْكِيدِ لِضَعْفِ كَيْدِهِ، يَعْنِي أَنَّهُ مُنْذُ كَانَ كَانَ موصوفا بالضعف والذلة. [سورة النساء (4) : آية 77] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) [فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ إلى قوله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ صِفَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالْمِقْدَادِ وَقُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَيَلْقَوْنَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَذًى شَدِيدًا فَيَشْكُونَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَيَقُولُونَ: ائْذَنْ لَنَا فِي قِتَالِهِمْ وَيَقُولُ لَهُمْ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ فَإِنِّي لَمْ أُومَرْ بِقِتَالِهِمْ، وَاشْتَغِلُوا بِإِقَامَةِ دِينِكُمْ/ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأُمِرُوا بِقِتَالِهِمْ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ كَرِهَهُ بَعْضُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَةَ. وَاحْتَجَّ الذَّاهِبُونَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الَّذِينَ يَحْتَاجُ الرَّسُولُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: كُفُّوا عَنِ الْقِتَالِ هُمُ الرَّاغِبُونَ فِي الْقِتَالِ، وَالرَّاغِبُونَ فِي الْقِتَالِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَازِلَةٌ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ. وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّا مُؤْمِنُونَ وَأَنَّا نُرِيدُ قِتَالَ الْكُفَّارِ وَمُحَارَبَتَهُمْ، فَلَمَّا أَمَرَ اللَّه بِقِتَالِهِمُ الْكُفَّارَ أَحْجَمَ الْمُنَافِقُونَ عَنْهُ وَظَهَرَ مِنْهُمْ خِلَافُ مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ نَازِلَةٌ فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ، وَاحْتَجَّ الذَّاهِبُونَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أُمُورٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْمُنَافِقِينَ. فَالْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي وَصْفِهِمْ: يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [النساء: 77] وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْمُنَافِقِ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَوْفُهُ مِنَ النَّاسِ أَزْيَدَ مِنْ خَوْفِهِ مِنَ اللَّه تَعَالَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ، وَالِاعْتِرَاضُ عَلَى اللَّه لَيْسَ إِلَّا مِنْ صِفَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِلرَّسُولِ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَهَذَا الْكَلَامُ يُذْكَرُ مَعَ مَنْ كَانَتْ رَغْبَتُهُ فِي الدُّنْيَا أَكْثَرَ مِنْ رَغْبَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ. وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ حُبَّ الْحَيَاةِ وَالنُّفْرَةَ عَنِ الْقَتْلِ مِنْ لَوَازِمِ الطِّبَاعِ، فَالْخَشْيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَقَوْلُهُمْ: لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّمَنِّي لِتَخْفِيفِ التكليف لا على وجه الإنكار لا يجاب اللَّه تَعَالَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ مَذْكُورٌ لَا لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِذَلِكَ، بَلْ لِأَجْلِ إِسْمَاعِ اللَّه لَهُمْ هَذَا الْكَلَامَ مِمَّا يُهَوِّنُ عَلَى الْقَلْبِ أَمْرَ هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَحِينَئِذٍ يَزُولُ مِنْ قَلْبِهِمْ نُفْرَةُ الْقِتَالِ وَحُبُّ الْحَيَاةِ وَيُقْدِمُونَ عَلَى الْجِهَادِ بِقَلْبٍ قَوِيٍّ، فَهَذَا مَا فِي تَقْرِيرِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ واللَّه أَعْلَمُ، وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ [النساء: 78] وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْمُنَافِقِينَ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا ثُمَّ الْمَعْطُوفُ فِي الْمُنَافِقِينَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِمْ فِيهِمْ أَيْضًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ إِيجَابَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى إِيجَابِ الْجِهَادِ، وَهَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الْمُطَابِقُ لِمَا فِي الْعُقُولِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّه، وَالزَّكَاةَ عِبَارَةٌ عَنِ الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّه، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا مُقَدَّمَانِ عَلَى الْجِهَادِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: كَخَشْيَةِ اللَّهِ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً يُوهِمُ الشَّكَّ، وَذَلِكَ عَلَى عَلَّامِ الْغُيُوبِ مُحَالٌ. وَفِيهِ وُجُوهٌ مِنَ التَّأْوِيلِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِبْهَامُ عَلَى الْمُخَاطَبِ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ عَلَى إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ مِنَ الْمُسَاوَاةِ وَالشِّدَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ خَوْفَيْنِ فَأَحَدُهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخَرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَنْقَصَ أَوْ مُسَاوِيًا أَوْ أَزْيَدَ فَبَيَّنَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ خَوْفَهُمْ مِنَ النَّاسِ لَيْسَ أَنْقَصَ مِنْ خَوْفِهِمْ مِنَ اللَّه، بَلْ بَقِيَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا أَوْ أَزْيَدَ، فَهَذَا لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ تَعَالَى شَاكًّا فِيهِ، بَلْ يُوجِبُ إِبْقَاءَ الْإِبْهَامِ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ عَلَى الْمُخَاطَبِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ «أو»

[سورة النساء (4) : آية 78]

بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَخْشَوْنَهُمْ كَخَشْيَةِ اللَّه وَأَشَدَّ خَشْيَةً، وَلَيْسَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ مُنَافَاةٌ، لِأَنَّ مَنْ هُوَ أَشَدُّ خَشْيَةً فَمَعَهُ مِنَ الْخَشْيَةِ مِثْلُ خَشْيَتِهِ مِنَ اللَّه وَزِيَادَةٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصَّافَّاتِ: 147] يَعْنِي أَنَّ مَنْ يُبْصِرُهُمْ يقول هذا الكلام، فكذا هاهنا واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَهُمْ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لَا اعْتِرَاضًا عَلَى اللَّه، لَكِنْ جَزَعًا مِنَ الْمَوْتِ وَحُبًّا لِلْحَيَاةِ، وَإِنْ كَانُوا مُنَافِقِينَ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِكَوْنِ الرَّبِّ تَعَالَى كَاتِبًا لِلْقِتَالِ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى كَتَبَ الْقِتَالَ عَلَيْهِمْ فِي زَعْمِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفِي دَعْوَاهُ، ثُمَّ قَالُوا: لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ وَهَذَا كالعلة لكراهتهم لا يجاب الْقِتَالِ عَلَيْهِمْ، أَيْ هَلَّا تَرَكْتَنَا حَتَّى نَمُوتَ بِآجَالِنَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ شُبْهَتِهِمْ فَقَالَ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا قَلِيلَةٌ، وَنِعَمَ الْآخِرَةِ كَثِيرَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ وَنِعَمَ الْآخِرَةِ مُؤَبَّدَةٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا مَشُوبَةٌ بِالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْمَكَارِهِ، وَنِعَمَ الْآخِرَةِ صَافِيَةٌ عَنِ الْكُدُرَاتِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا مَشْكُوكَةٌ فَإِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ تَنَعُّمًا لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ عَاقِبَتُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَنِعَمَ الآخرة يقينية، وكل هذه الوجوه تجب رُجْحَانَ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَ تَعَالَى هَذَا الشَّرْطَ وَهُوَ قَوْلُهُ: لِمَنِ اتَّقى وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (يُظْلَمُونَ) بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى سَبِيلِ الْخِطَابِ، وَيُؤَيِّدُ التَّاءَ قَوْلُهُ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ: قُلْ يُفِيدُ الْخِطَابَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ عَلَى طَاعَتِهِمُ الثَّوَابَ، وَإِلَّا لَمَا تَحَقَّقَ نَفْيُ الظُّلْمِ، وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَصِحُّ مِنْهُ الظُّلْمُ وَإِنْ كُنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ، وَإِلَّا لما يصح التمدح به. المسألة الثالثة: قوله: وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْ لَا يُنْقَصُونَ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ مِثْلَ فَتِيلِ النَّوَاةِ وَهُوَ مَا تَفْتِلُهُ بِيَدِكَ ثُمَّ تُلْقِيهِ احْتِقَارًا. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ. [سورة النساء (4) : آية 78] أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) [في قَوْلُهُ تَعَالَى أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ] وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَبْكِيتُ مَنْ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَ فَرْضِ الْقِتَالِ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّه أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ، فَقَالَ تَعَالَى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا خَلَاصَ لَهُمْ مِنَ الْمَوْتِ، وَالْجِهَادُ مَوْتٌ مُسْتَعْقِبٌ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْمَوْتِ، فَبِأَنْ يَقَعَ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُسْتَعْقِبًا لِلسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ كَانَ أَوْلَى مِنْ أَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الْأَحْزَابِ: 16] وَالْبُرُوجُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هِيَ الْقُصُورُ

وَالْحُصُونُ، وَأَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ مِنَ الظُّهُورِ، يُقَالُ: تَبَرَّجَتِ الْمَرْأَةُ، إِذَا أَظْهَرَتْ مَحَاسِنَهَا، وَالْمُشَيَّدَةُ الْمُرْتَفِعَةُ، وَقُرِئَ مُشَيَّدَةٍ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مِنْ شَادَ القصر إِذَا رَفَعَهُ أَوْ طَلَاهُ بِالشَّيْدِ وَهُوَ الْجَصُّ، وَقَرَأَ نُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ بِكَسْرِ الْيَاءِ وَصْفًا لَهَا بِفِعْلِ فَاعِلِهَا مَجَازًا، كَمَا قَالُوا: قَصِيدَةٌ شَاعِرَةٌ، وَإِنَّمَا الشَّاعِرُ قَائِلُهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ كَوْنَهُمْ مُتَثَاقِلِينَ عَنِ الْجِهَادِ خَائِفِينَ مِنَ الْمَوْتِ غَيْرَ رَاغِبِينَ/ فِي سَعَادَةِ الْآخِرَةِ حَكَى عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَصْلَةً أُخْرَى قَبِيحَةً أَقْبَحَ مِنَ الْأُولَى، وَفِي النَّظْمِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْخَائِفِينَ مِنَ الْمَوْتِ الْمُتَثَاقِلِينَ فِي الْجِهَادِ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا جَاهَدُوا وَقَاتَلُوا فَإِنْ أَصَابُوا واحدة وَغَنِيمَةً قَالُوا: هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّه، وَإِنْ أَصَابَهُمْ مَكْرُوهٌ قَالُوا: هَذَا مِنْ شُؤْمِ مُصَاحَبَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ حُمْقِهِمْ وَجَهْلِهِمْ وَشِدَّةِ عِنَادِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَتِ الْمَدِينَةُ مَمْلُوءَةً مِنَ النِّعَمِ وَقْتَ مَقْدَمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا ظَهَرَ عِنَادُ الْيَهُودِ وَنِفَاقُ الْمُنَافِقِينَ أَمْسَكَ اللَّه عَنْهُمْ بَعْضَ الْإِمْسَاكِ كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ، قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ فَعِنْدَ هَذَا قَالَ الْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ: مَا رَأَيْنَا أَعْظَمَ شُؤْمًا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، نَقَصَتْ ثِمَارُنَا وَغَلَتْ أَسْعَارُنَا مُنْذُ قَدِمَ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَعْنِي الْخَصْبَ وَرُخْصَ السِّعْرِ وَتَتَابُعَ الْأَمْطَارِ قَالُوا: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّه وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ جَدْبٌ وَغَلَاءُ سِعْرٍ قَالُوا هَذَا مِنْ شُؤْمِ مُحَمَّدٍ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الْأَعْرَافِ: 131] وَعَنْ قَوْمِ صَالِحٍ: قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ [النَّمْلِ: 47] . الْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنَ الْحَسَنَةِ النَّصْرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَالْغَنِيمَةُ، وَمِنَ السَّيِّئَةِ الْقَتْلُ وَالْهَزِيمَةُ قَالَ الْقَاضِي: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ لِأَنَّ إِضَافَةَ الْخَصْبِ وَالْغَلَاءِ إِلَى اللَّه وَكَثْرَةِ النِّعَمِ وَقِلَّتِهَا إِلَى اللَّه جَائِزَةٌ، أَمَّا إِضَافَةُ النَّصْرِ وَالْهَزِيمَةِ إِلَى اللَّه فَغَيْرُ جَائِزَةٍ، لِأَنَّ السَّيِّئَةَ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الْهَزِيمَةِ وَالْقَتْلِ لَمْ يَجُزْ إِضَافَتُهَا إِلَى اللَّه، وَأَقُولُ: الْقَوْلُ كَمَا قَالَ عَلَى مَذْهَبِهِ، أَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا فَالْكُلُّ دَاخِلٌ فِي قَضَاءِ اللَّه وَقَدَرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ السَّيِّئَةَ تَقَعُ عَلَى الْبَلِيَّةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَالْحَسَنَةَ عَلَى النِّعْمَةِ وَالطَّاعَةَ قَالَ تَعَالَى: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الْأَعْرَافِ: 168] وَقَالَ: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هُودٍ: 114] . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يُفِيدُ الْعُمُومَ فِي كُلِّ الْحَسَنَاتِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يُفِيدُ الْعُمُومَ فِي كُلِّ السَّيِّئَاتِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ مِنَ اللَّه، ولما ثبت بما ذكرناه أَنَّ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِيَ دَاخِلَتَانِ تَحْتَ اسْمِ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ كَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي مِنَ اللَّه وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. فَإِنْ قيل: المراد هاهنا بِالْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ لَيْسَ هُوَ الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: اتِّفَاقُ الْكُلِّ

عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَازِلَةٌ فِي مَعْنَى الْخَصْبِ وَالْجَدْبِ فَكَانَتْ مُخْتَصَّةً بِهِمَا. الثَّانِي: أَنَّ الْحَسَنَةَ الَّتِي يُرَادُ بِهَا الْخَيْرُ وَالطَّاعَةُ لَا يُقَالُ فِيهَا أَصَابَتْنِي، إِنَّمَا يُقَالُ أَصَبْتُهَا، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ/ أَصَابَتْ فُلَانًا حَسَنَةٌ بِمَعْنَى عَمِلَ خَيْرًا، أَوْ أَصَابَتْهُ سَيِّئَةٌ بِمَعْنَى عَمِلَ مَعْصِيَةً، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْتُمْ لَقَالَ إِنْ أَصَبْتُمْ حَسَنَةً. الثَّالِثُ: لَفْظُ الْحَسَنَةِ وَاقِعٌ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى الطَّاعَةِ وَعَلَى الْمَنْفَعَةِ، وهاهنا أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمَنْفَعَةَ مُرَادَةٌ، فَيَمْتَنِعُ كَوْنُ الطَّاعَةِ مُرَادَةً، ضَرُورَةُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَفْهُومَيْهِ مَعًا. فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّكُمْ تُسَلِّمُونَ أَنَّ خُصُوصَ السَّبَبِ لَا يَقْدَحُ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: أَصَابَنِي تَوْفِيقٌ مِنَ اللَّه وَعَوْنٌ مِنَ اللَّه، وَأَصَابَهُ خِذْلَانٌ مِنَ اللَّه، وَيَكُونُ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ التَّوْفِيقَ وَالْعَوْنَ تِلْكَ الطَّاعَةَ، وَمِنَ الْخُذْلَانِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ فَهُوَ حَسَنَةٌ، فَإِنْ كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ الطَّاعَةُ، وَإِنْ كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ السَّعَادَةُ الْحَاضِرَةُ، فَاسْمُ الْحَسَنَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ مُتَوَاطِئُ الِاشْتِرَاكِ، فَزَالَ السُّؤَالُ. فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ إِلَّا ذَاكَ مَا ثَبَتَ فِي بَدَائِهِ الْعُقُولِ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَهُوَ إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ، وَإِمَّا مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ كُلُّ مَا سِوَاهُ، فَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ إِنِ اسْتَغْنَى عَنِ الْمُؤَثِّرِ فَسَدَ الِاسْتِدْلَالُ بِجَوَازِ الْعَالَمِ وَحُدُوثِهِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ نَفْيُ الصَّانِعِ، وَإِنْ كَانَ الْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ مُحْتَاجًا إِلَى الْمُؤَثِّرِ، فَإِذَا كَانَ كُلُّ مَا سِوَى اللَّه مُمْكِنًا كَانَ كُلُّ مَا سِوَى اللَّه مُسْتَنِدًا إِلَى اللَّه، وَهَذَا الْحُكْمُ لَا يَخْتَلِفُ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُمْكِنُ مَلَكًا أَوْ جَمَادًا أَوْ فِعْلًا لِلْحَيَوَانِ أَوْ صِفَةً لِلنَّبَاتِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ لا ستناد الْمُمْكِنِ لِذَاتِهِ إِلَى الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ كَوْنِهِ مُمْكِنًا كَانَ الْكُلُّ فِيهِ عَلَى السَّوِيَّةِ، وَهَذَا بُرْهَانٌ أَوْضَحُ وَأَبْيَنُ مِنْ قُرْصِ الشَّمْسِ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْبُرْهَانُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ كل ما سوى اللَّه مستندا إلى اللَّه عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَخَّصْنَاهُ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَالْجَلَاءِ، قَالَ تَعَالَى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّعَجُّبِ مِنْ عَدَمِ وُقُوفِهِمْ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْكَلَامِ مَعَ ظُهُورِهِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: بَلْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حُصُولُ الْفَهْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِتَخْلِيقِ اللَّه تَعَالَى لَمْ يبق هذا التَّعَجُّبِ مَعْنًى الْبَتَّةَ، لِأَنَّ السَّبَبَ فِي عَدَمِ حُصُولِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى مَا خَلَقَهَا وَمَا أَوْجَدَهَا، وَذَلِكَ يُبْطِلُ هَذَا التَّعَجُّبَ، فَحُصُولُ هَذَا التَّعَجُّبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِإِيجَادِ الْعَبْدِ لَا بِإِيجَادِ اللَّه تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَيْسَ إِلَّا التَّمَسُّكَ بِطَرِيقَةِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِالْعِلْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً أَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ هَذِهِ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهَذَا يَقْتَضِي وَصْفَ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ حَدِيثٌ، وَالْحَدِيثُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مُحْدَثًا. وَالْجَوَابُ: مُرَادُكُمْ بِالْقُرْآنِ لَيْسَ إِلَّا هَذِهِ الْعِبَارَاتُ، وَنَحْنُ لَا نُنَازِعُ فِي كَوْنِهَا مُحْدَثَةً.

[سورة النساء (4) : آية 79]

المسألة الثالثة: الفقه: الفهم، يقال أوتى فلانا فِقْهًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا بن عباس: «فقهه في التأويل» أي فهمه. ثم قال تعالى: [سورة النساء (4) : آية 79] مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ السَّيِّئَةِ تَارَةً يَقَعُ عَلَى الْبَلِيَّةِ وَالْمِحْنَةِ، وَتَارَةً يَقَعُ عَلَى الذَّنْبِ وَالْمَعْصِيَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ السَّيِّئَةَ إِلَى نَفْسِهِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِقَوْلِهِ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء: 78] وَأَضَافَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الْعَبْدِ بِقَوْلِهِ: وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَإِزَالَةِ التَّنَاقُضِ عَنْهُمَا، وَلَمَّا كَانَتِ السَّيِّئَةُ بِمَعْنَى الْبَلَاءِ وَالشِّدَّةِ مُضَافَةً إِلَى اللَّه وَجَبَ أَنْ تَكُونَ السَّيِّئَةُ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ مُضَافَةً إِلَى الْعَبْدِ حَتَّى يَزُولَ التَّنَاقُضُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْمُتَجَاوِرَتَيْنِ، قَالَ: وَقَدْ حَمَلَ الْمُخَالِفُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى تَغْيِيرِ الْآيَةِ وقرءوا: (فَمِنْ تَعْسِكَ) فَغَيَّرُوا الْقُرْآنَ وَسَلَكُوا مِثْلَ طَرِيقَةِ الرَّافِضَةِ مِنَ ادِّعَاءِ التَّغْيِيرِ فِي الْقُرْآنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَاذَا فَصَلَ تَعَالَى بَيْنَ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَأَضَافَ الْحَسَنَةَ الَّتِي هِيَ الطَّاعَةُ إِلَى نَفْسِهِ دُونَ السَّيِّئَةِ وَكِلَاهُمَا فِعْلُ الْعَبْدِ عِنْدَكُمْ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْحَسَنَةَ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ فَإِنَّمَا وَصَلَ إِلَيْهَا بِتَسْهِيلِهِ تَعَالَى وَأَلْطَافِهِ فَصَحَّتِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا السَّيِّئَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ فَهِيَ غَيْرُ مُضَافَةٍ إِلَى اللَّه تَعَالَى لَا بِأَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَهَا وَلَا بِأَنَّهُ أَرَادَهَا، وَلَا بِأَنَّهُ أَمَرَ بِهَا، وَلَا بِأَنَّهُ رَغِبَ فِيهَا، فَلَا جَرَمَ انْقَطَعَتْ إِضَافَةُ هَذِهِ السَّيِّئَةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى. هَذَا مُنْتَهَى كَلَامِ الرَّجُلِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ حَصَلَ بِتَخْلِيقِ اللَّه تَعَالَى، وَالْقَوْمُ لَا يَقُولُونَ بِهِ فَصَارُوا مَحْجُوجِينَ بِالْآيَةِ. إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ حَسَنَةٌ، وَكُلُّ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّه. إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْإِيمَانَ حَسَنَةٌ، لِأَنَّ الْحَسَنَةَ هِيَ الْغِبْطَةُ الْخَالِيَةُ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ الْقُبْحِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ كَذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَسَنَةً لِأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ [فُصِّلَتْ: 33] الْمُرَادُ بِهِ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ، وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النَّحْلِ: 90] قِيلَ: هُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ حَسَنَةٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ كُلَّ حَسَنَةٍ مِنَ اللَّه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَقَوْلُهُ: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ يُفِيدُ الْعُمُومَ فِي جَمِيعِ الْحَسَنَاتِ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَى كُلِّهَا بِأَنَّهَا مِنَ اللَّه، فَيَلْزَمُ مِنْ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، أَعْنِي أَنَّ الْإِيمَانَ حَسَنَةٌ، وَكُلُّ حَسَنَةٍ مِنَ اللَّه، الْقَطْعُ بِأَنَّ الْإِيمَانَ مِنَ اللَّه. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ الْإِيمَانِ مِنَ اللَّه هُوَ أَنَّ اللَّه أَقْدَرَهُ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ إِلَى مَعْرِفَةِ حَسَنِهِ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ قُبْحِ ضِدِّهِ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ؟ قُلْنَا: جَمِيعُ الشَّرَائِعِ مُشْتَرِكَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ عِنْدَكُمْ، ثُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ أَوْجَدَ الْإِيمَانَ، وَلَا مَدْخَلَ لِقُدْرَةِ اللَّه وَإِعَانَتِهِ فِي نَفْسِ الْإِيمَانِ، فَكَانَ الْإِيمَانُ مُنْقَطِعًا عَنِ اللَّه فِي كُلِّ الْوُجُوهِ، فَكَانَ هَذَا مُنَاقِضًا

لِقَوْلِهِ: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ فَثَبَتَ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ مِنَ اللَّه، وَالْخُصُومُ لَا يَقُولُونَ بِهِ، فَصَارُوا مَحْجُوجِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ الْكُفْرَ أَيْضًا مِنَ اللَّه. قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ مِنَ اللَّه قَالَ: الْكُفْرُ مِنَ اللَّه، فَالْقَوْلُ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا مِنَ اللَّه دُونَ الْآخَرِ مخالف لا جماع الْأُمَّةِ. الثَّانِي: أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ قَدَرَ عَلَى تحصيل الكفر فالقدرة الصالحة لا يجاد الكفر إما أن تكون صالحة لا يجاد الْإِيمَانِ أَوْ لَا تَكُونَ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لا يجاد الْإِيمَانِ فَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْقَوْلُ فِي أَنَّ إِيمَانَ العبد منه، وإن لم تكن صالحة لا يجاد الْإِيمَانِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْقَادِرُ عَلَى الشَّيْءِ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى ضِدِّهِ، وَذَلِكَ عِنْدَهُمْ مُحَالٌ، وَلِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ الْقُدْرَةُ مُوجِبَةً لِلْمَقْدُورِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْإِيمَانُ مِنْهُ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْكُفْرُ مِنْهُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ مُوجِدًا لِلْإِيمَانِ فَبِأَنْ لَا يَكُونَ مُوجِدًا لِلْكُفْرِ أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَقِلَّ بِإِيجَادِ الشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُ مُرَادِهِ، وَلَا نَرَى فِي الدُّنْيَا عَاقِلًا إِلَّا وَيُرِيدُ أَنْ يَكُونَ الْحَاصِلُ فِي قَلْبِهِ هُوَ الْإِيمَانَ وَالْمَعْرِفَةَ وَالْحَقَّ، وَإِنَّ أَحَدًا مِنَ الْعُقَلَاءِ لَا يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ الْحَاصِلُ فِي قَلْبِهِ هُوَ/ الْجَهْلَ وَالضَّلَالَ وَالِاعْتِقَادَ الْخَطَأَ، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُوجِدًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَقْصِدُ إِلَّا تَحْصِيلَ الْعِلْمِ الْحَقِّ الْمُطَابِقِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ فِي قَلْبِهِ إِلَّا الْحَقُّ، فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُهُ وَمَطْلُوبُهُ وَمُرَادُهُ لَمْ يُقْطَعْ بِإِيجَادِهِ، فَبِأَنْ يَكُونَ الْجَهْلُ الَّذِي مَا أَرَادَهُ وَمَا قَصَدَ تَحْصِيلَهُ وَكَانَ فِي غَايَةِ النُّفْرَةِ عَنْهُ وَالْفِرَارِ مِنْهُ غَيْرَ وَاقِعٍ بِإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشُّبْهَةَ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ وَاقِعٌ بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ أَشَدُّ مِنَ الشُّبْهَةِ فِي وُقُوعِ الْكُفْرِ بِقُدْرَتِهِ، فَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فِي الْإِيمَانِ أَنَّهُ مِنَ اللَّه تَرَكَ ذِكْرَ الْكُفْرِ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي بَيَانِ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِ إِمَامِنَا. أَمَّا مَا احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِهِ عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشُّعَرَاءِ: 80] أَضَافَ الْمَرَضَ إِلَى نَفْسِهِ وَالشِّفَاءَ إِلَى اللَّه، فَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقًا لِلْمَرَضِ وَالشِّفَاءِ، بَلْ إِنَّمَا فَصَلَ بينهما رعاية الأدب، فكذا هاهنا، فانه يقال: يا مدبر السموات والأرض، ولا يقال يا مدبر القمل والصئبان والخنافس، فكذا هاهنا. الثَّانِي: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: هَذَا رَبِّي أَنَّهُ ذَكَرَ هَذَا اسْتِفْهَامًا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَهَذَا رَبِّي، فكذا هاهنا، كَأَنَّهُ قِيلَ: الْإِيمَانُ الَّذِي وَقَعَ عَلَى وَفْقِ قَصْدِهِ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ وَاقِعًا مِنْهُ، بَلْ مِنَ اللَّه، فَهَذَا الْكُفْرُ مَا قَصَدَهُ وَمَا أَرَادَهُ وَمَا رَضِيَ بِهِ الْبَتَّةَ، أَفَيَدْخُلُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ وَقَعَ بِهِ؟ فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْحَسَنَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَدْخُلُ فِيهَا الْإِيمَانُ، وَالسَّيِّئَةَ يَدْخُلُ فِيهَا الْكُفْرُ، أَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ (فَمِنْ تَعْسِكَ) فَنَقُولُ: إِنْ صَحَّ أَنَّهُ قَرَأَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَاحِدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَلَا طَعْنَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ فَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّهَا وَرَدَتْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ ذَكَرَ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ هَذَا الْكَلَامَ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ السَّيِّئَةَ إِلَيْهِمْ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهَا غَيْرُ مُضَافَةٍ إِلَيْهِمْ، فَذَكَرَ هَذَا الْقَائِلُ قَوْلَهُ: (فَمِنْ تَعْسِكَ) لَا عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ، بَلْ لِأَجْلِ أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى التَّفْسِيرِ لِقَوْلِنَا: إِنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَمِمَّا يَدُلُّ دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ إِسْنَادُ جَمِيعِ الْأُمُورِ إِلَى اللَّه تَعَالَى، قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا يَعْنِي لَيْسَ لَكَ إِلَّا الرِّسَالَةُ وَالتَّبْلِيغُ، وَقَدْ فَعَلْتَ ذَلِكَ وَمَا قَصَّرْتَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [النساء: 166]

[سورة النساء (4) : آية 80]

عَلَى جِدِّكَ وَعَدَمِ تَقْصِيرِكَ فِي أَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَتَبْلِيغِ الْوَحْيِ، فَأَمَّا حُصُولُ الْهِدَايَةِ فَلَيْسَ إِلَيْكَ بَلْ إِلَى اللَّه، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [آلِ عِمْرَانَ: 128] وَقَوْلُهُ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [الْقَصَصِ: 56] فَهَذَا جُمْلَةُ مَا خَطَرَ بِالْبَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، واللَّه أَعْلَمُ بِأَسْرَارِ كَلَامِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ هَذَا الذي قلناه فقال تعالى: [سورة النساء (4) : آية 80] مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ لِكَوْنِهِ رَسُولًا مُبَلِّغًا إِلَى الْخَلْقِ أَحْكَامَ اللَّه فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَا أَطَاعَ إِلَّا اللَّه، وَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّه، وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا، فَإِنَّ مَنْ أَعْمَاهُ اللَّه عَنِ الرُّشْدِ وَأَضَلَّهُ عَنِ الطَّرِيقِ، فَإِنَّ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِرْشَادِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَنَارَ اللَّه قَلْبَهُ بِنُورِ الْهِدَايَةِ قَطَعَ بِأَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّكَ تَرَى الدَّلِيلَ الْوَاحِدَ تَعْرِضُهُ عَلَى شَخْصَيْنِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ إِنَّ أَحَدَهُمَا يَزْدَادُ إِيمَانًا عَلَى إِيمَانٍ عِنْدَ سَمَاعِهِ، وَالْآخَرُ يَزْدَادُ كُفْرًا عَلَى كُفْرٍ عِنْدَ سَمَاعِهِ، وَلَوْ أَنَّ الْمُحِبَّ لِذَلِكَ الْكَلَامِ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ قَلْبِهِ حُبَّ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَاعْتِقَادَ صِحَّتِهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنَّ الْمُبْغِضَ لَهُ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ قَلْبِهِ بُغْضَ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَاعْتِقَادَ فَسَادِهِ لَمْ يَقْدِرْ، ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ رُبَّمَا انْقَلَبَ الْمُحِبُّ مُبْغِضًا وَالْمُبْغِضُ مُحِبًّا، فَمَنْ تَأَمَّلَ لِلْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِسْنَادِ جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ، ثُمَّ اعْتَبَرَ مِنْ نَفْسِهِ الِاسْتِقْرَاءَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ لَمْ يَقْطَعْ بِأَنَّ الْكُلَّ بِقَضَاءِ اللَّه وَقَدَرِهِ، فَلْيَجْعَلْ وَاقِعَتَهُ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَحْصُلُ الْهِدَايَةُ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّه مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَعَ الْعِلْمِ بِمِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ، وَمَعَ الْعِلْمِ بِمِثْلِ هَذَا الِاسْتِقْرَاءِ لَمَّا لَمْ يَحْصُلْ فِي قَلْبِهِ هَذَا الِاعْتِقَادُ، عَرَفَ أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا بِأَنَّ اللَّه صَدَّهُ عَنْهُ وَمَنَعَهُ مِنْهُ. بَقِيَ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ مَعْصُومٌ فِي جَمِيعِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَفِي كُلِّ مَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّه، لِأَنَّهُ لَوْ أَخْطَأَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لَمْ تَكُنْ طَاعَتُهُ طَاعَةَ اللَّه وَأَيْضًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِمُتَابَعَتِهِ فِي قوله: وَاتَّبِعُوهُ [الأعراف: 158] وَالْمُتَابَعَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ فِعْلِ الْغَيْرِ لِأَجْلِ أَنَّهُ فِعْلُ ذَلِكَ الْغَيْرِ، فَكَانَ الْآتِي بِمِثْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ مُطِيعًا للَّه فِي قَوْلِهِ: وَاتَّبِعُوهُ فَثَبَتَ أَنَّ الِانْقِيَادَ لَهُ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَفِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، طَاعَةٌ للَّه وَانْقِيَادٌ لِحُكْمِ اللَّه. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ فِي بَابِ فَرْضِ الطَّاعَةِ لِلرَّسُولِ: إِنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ تَكْلِيفٍ كَلَّفَ اللَّه بِهِ عِبَادَهُ فِي بَابِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَسَائِرِ الْأَبْوَابِ فِي الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ مُبَيَّنًا فِي الْقُرْآنِ، فَحِينَئِذٍ لَا سَبِيلَ لَنَا إِلَى الْقِيَامِ بِتِلْكَ التَّكَالِيفِ إِلَّا بِبَيَانِ الرَّسُولِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ/ لَزِمَ الْقَوْلُ بِأَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ عَيْنُ طَاعَةِ اللَّه، هَذَا مَعْنَى كَلَامِ الشَّافِعِيِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا طَاعَةَ إِلَّا للَّه الْبَتَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ لِكَوْنِهِ رَسُولًا فِيمَا هُوَ فِيهِ رَسُولٌ لَا تَكُونُ إلا طاعة اللَّه، فَكَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ لَا طَاعَةَ لأحد إلا

[سورة النساء (4) : آية 81]

للَّه. قَالَ مُقَاتِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «مَنْ أَحَبَّنِي فَقَدْ أَحَبَّ اللَّه وَمَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه» ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: لَقَدْ قَارَبَ هَذَا الرَّجُلُ الشِّرْكَ وَهُوَ أَنْ يَنْهَى أَنْ نَعْبُدَ غَيْرَ اللَّه، وَيُرِيدُ أَنْ نَتَّخِذَهُ رَبًّا كَمَا اتَّخَذَتِ النَّصَارَى عِيسَى، فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا طَاعَةَ الْبَتَّةَ لِلرَّسُولِ، وَإِنَّمَا الطَّاعَةُ للَّه. أَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّوَلِّي هُوَ التَّوَلِّي بِالْقَلْبِ، يَعْنِي يَا مُحَمَّدُ حُكْمُكَ عَلَى الظَّوَاهِرِ، أَمَّا الْبَوَاطِنُ فَلَا تَتَعَرَّضْ لَهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التولي بالظاهر، ثم هاهنا فَفِي قَوْلِهِ: فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَغْتَمَّ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّوَلِّي وَأَنْ تَحْزَنَ، فَمَا أَرْسَلْنَاكَ لِتَحْفَظَ النَّاسَ عَنِ الْمَعَاصِي، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَشْتَدُّ حُزْنُهُ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ، فاللَّه تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ تَسْلِيَةً لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ الْحُزْنِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ لِتَشْتَغِلَ بِزَجْرِهِمْ عَنْ ذَلِكَ التَّوَلِّي وَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [الْبَقَرَةِ: 256] ثُمَّ نُسِخَ هَذَا بعده بآية الجهاد. [سورة النساء (4) : آية 81] وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) أَيْ وَيَقُولُونَ إِذَا أَمَرْتَهُمْ بِشَيْءٍ طاعَةٌ بِالرَّفْعِ، أَيْ أَمْرُنَا وَشَأْنُنَا طَاعَةٌ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ بِمَعْنَى أَطَعْنَاكَ طَاعَةً، وَهَذَا كَمَا إِذَا قَالَ الرَّجُلُ الْمُطِيعُ الْمُنْقَادُ: سَمْعًا وَطَاعَةً، وَسَمْعٌ وَطَاعَةٌ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: سَمِعْنَا بَعْضَ الْعَرَبِ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ يُقَالُ لَهُمْ كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ فَيَقُولُ: حمدا للَّه وثناء عليه، كأنه قال: أمرى وشأني حمدا للَّه. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْبَ يَدُلُّ عَلَى مُجَرَّدِ الْفِعْلِ. وَأَمَّا الرَّفْعُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ثَبَاتِ الطَّاعَةِ وَاسْتِقْرَارِهَا فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ أَيْ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ أَمْرٍ تَفَكَّرُوا فِيهِ كَثِيرًا وَتَأَمَّلُوا فِي مَصَالِحِهِ وَمَفَاسِدِهِ كَثِيرًا قِيلَ هَذَا أَمْرٌ مُبَيَّتٌ، قَالَ تَعَالَى: إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ [النِّسَاءِ: 108] وَفِي اشْتِقَاقِهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: اشْتِقَاقُهُ مِنَ الْبَيْتُوتَةِ، لِأَنَّ أَصْلَحَ الْأَوْقَاتِ لِلْفِكْرِ أَنْ يَجْلِسَ الْإِنْسَانُ فِي بَيْتِهِ بِاللَّيْلِ، فَهُنَاكَ تَكُونُ الْخَوَاطِرُ أَخْلَى وَالشَّوَاغِلُ أَقَلَّ، فَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ أَنَّ الْإِنْسَانَ وَقْتَ اللَّيْلِ يَكُونُ فِي الْبَيْتِ، وَالْغَالِبُ لَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَقْصِي فِي الْأَفْكَارِ فِي اللَّيْلِ، لَا جَرَمَ سُمِّيَ الْفِكْرُ الْمُسْتَقْصَى مُبَيَّتًا. الثَّانِي: اشْتِقَاقُهُ مِنْ بَيْتِ الشِّعْرِ قَالَ الْأَخْفَشُ: الْعَرَبُ إِذَا أَرَادُوا قَرْضَ الشِّعْرِ بَالَغُوا فِي التَّفَكُّرِ فِيهِ فَسَمَّوُا الْمُتَفَكَّرَ فِيهِ الْمُسْتَقْصَى مُبَيَّتًا، تَشْبِيهًا لَهُ بِبَيْتِ الشِّعْرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُسَوَّى وَيُدَبَّرُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ طَائِفَةً مِنْ جُمْلَةِ الْمُنَافِقِينَ بِالتَّبْيِيتِ، وَفِي هَذَا التَّخْصِيصِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَبْقَى عَلَى كُفْرِهِ وَنِفَاقِهِ، فَأَمَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ كَانُوا قَدْ أَسْهَرُوا لَيْلَهُمْ فِي التَّبْيِيتِ، وَغَيْرَهُمْ سَمِعُوا وَسَكَتُوا وَلَمْ يُبَيِّتُوا، فَلَا جَرَمَ لَمْ يُذْكَرُوا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ بَيَّتَ طائِفَةٌ بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الطَّاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالْإِظْهَارِ أَمَّا مَنْ أَدْغَمَ

[سورة النساء (4) : آية 82]

فَلَهُ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: جَزَمُوا لِكَثْرَةِ الْحَرَكَاتِ، فَلَمَّا سَكَنَتِ التَّاءُ أُدْغِمَتْ فِي الطَّاءِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الطَّاءَ وَالدَّالَ وَالتَّاءَ مِنْ حَيِّزٍ وَاحِدٍ، فَالتَّقَارُبُ الَّذِي بَيْنَهَا يُجْرِيهَا مَجْرَى الْأَمْثَالِ فِي الْإِدْغَامِ، وَمِمَّا يُحَسِّنُ هَذَا الْإِدْغَامَ أَنَّ الطَّاءَ تَزِيدُ عَلَى التَّاءِ بِالْإِطْبَاقِ، فَحَسُنَ إِدْغَامُ الْأَنْقَصِ صَوْتًا فِي الْأَزْيَدِ صَوْتًا. أَمَّا مَنْ لَمْ يُدْغِمْ فَعِلَّتُهُ أَنَّهُمَا حَرْفَانِ مِنْ مَخْرَجَيْنِ فِي كَلِمَتَيْنِ مُتَفَاصِلَتَيْنِ، فَوَجَبَ إِبْقَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَالِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ: بَيَّتَ بِالتَّذْكِيرِ وَلَمْ يَقُلْ: بَيَّتَتْ بِالتَّأْنِيثِ، لِأَنَّ تَأْنِيثَ الطَّائِفَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَلِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْفَرِيقِ وَالْفَوْجِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : بَيَّتَ طائِفَةٌ أَيْ زورت وزينت خلاف ما قلت وَمَا أُمِرَتْ بِهِ، أَوْ خِلَافَ مَا قَالَتْ وَمَا ضَمِنَتْ مِنَ الطَّاعَةِ، لِأَنَّهُمْ أَبْطَنُوا الرَّدَّ لَا الْقَبُولَ وَالْعِصْيَانَ لَا الطَّاعَةَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ يُنَزِّلُ إِلَيْكَ فِي كِتَابِهِ. وَالثَّانِي: يَكْتُبُ ذَلِكَ فِي صَحَائِفِ أَعْمَالِهِمْ لِيُجَازُوا بِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَالْمَعْنَى لَا تَهْتِكْ سِتْرَهُمْ وَلَا تَفْضَحْهُمْ وَلَا تَذْكُرْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّه بِسَتْرِ أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ إِلَى أَنْ يَسْتَقِيمَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ. ثُمَّ قَالَ: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي شَأْنِهِمْ، فَإِنَّ اللَّه يَكْفِيكَ شَرَّهُمْ وَيَنْتَقِمُ مِنْهُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا لِمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ الْأَمْرُ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ/ الْمُنَافِقِينَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة: 73، التحريم: 9] وَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّفْحِ مُطْلَقٌ فَلَا يُفِيدُ إِلَّا الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ، فَوُرُودُ الْأَمْرِ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْجِهَادِ لَا يَكُونُ نَاسِخًا له. [سورة النساء (4) : آية 82] أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنْوَاعَ مَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ، وَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ كَوْنَهُ مُحِقًّا فِي ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ صَادِقًا فِيهِ، بَلْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مُفْتَرٍ مُتَخَرِّصٌ، فَلَا جَرَمَ أَمَرَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِأَنْ يَنْظُرُوا وَيَتَفَكَّرُوا فِي الدَّلَائِلَ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ. فَقَالَ: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً فَاحْتَجَّ تَعَالَى بِالْقُرْآنِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّدْبِيرُ وَالتَّدَبُّرُ عِبَارَةٌ عَنِ النَّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَأَدْبَارِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: إِلَامَ تَدَبَّرُوا أَعْجَازَ أُمُورٍ قَدْ وَلَّتْ صُدُورُهَا، وَيُقَالُ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، أَيْ لَوْ عَرَفْتُ فِي صَدْرِ أَمْرِي مَا عَرَفْتُ مِنْ عَاقِبَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى احْتَجَّ بِالْقُرْآنِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ لو تُحْمَلِ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِمَا قَبْلَهَا الْبَتَّةَ، وَالْعُلَمَاءُ قَالُوا: دَلَالَةُ الْقُرْآنِ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ثلاثة أوجه: أحدها: فَصَاحَتُهُ. وَثَانِيهَا: اشْتِمَالُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ. وَالثَّالِثُ: سَلَامَتُهُ عَنِ الِاخْتِلَافِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ سَلَامَتِهِ عَنِ الِاخْتِلَافِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَتَوَاطَئُونَ فِي السِّرِّ عَلَى أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَكْرِ وَالْكَيْدِ، واللَّه تَعَالَى كَانَ يُطْلِعُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى تِلْكَ الْأَحْوَالِ حَالًا فَحَالًا وَيُخْبِرُهُ عَنْهَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَمَا كَانُوا يَجِدُونَ فِي كُلِّ ذَلِكَ إِلَّا الصِّدْقَ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ بِإِخْبَارِ اللَّه تَعَالَى وَإِلَّا لَمَا اطَّرَدَ الصِّدْقُ فِيهِ، وَلَظَهَرَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنْوَاعُ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ، فَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ

لَيْسَ إِلَّا بِإِعْلَامِ اللَّه تَعَالَى، وَالثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ/ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ كَبِيرٌ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعُلُومِ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّه لَوَقَعَ فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُتَنَاقِضَةِ، لِأَنَّ الْكِتَابَ الْكَبِيرَ الطَّوِيلَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّه. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [الْقِيَامَةِ: 23] كَالْمُنَاقِضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الْأَنْعَامِ: 103] وَآيَاتُ الْجَبْرِ كَالْمُنَاقِضَةِ لِآيَاتِ الْقَدَرِ، وَقَوْلُهُ: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 92] كالمناقض لقوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرَّحْمَنِ: 39] . قُلْنَا: قَدْ شَرَحْنَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ وَلَا مُنَاقَضَةَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهَا الْبَتَّةَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِنَا: الْقُرْآنُ سَلِيمٌ عَنِ الِاخْتِلَافِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الِاخْتِلَافُ فِي رُتْبَةِ الْفَصَاحَةِ، حَتَّى لَا يَكُونَ فِي جُمْلَتِهِ مَا يُعَدُّ فِي الْكَلَامِ الرَّكِيكِ، بَلْ بَقِيَتِ الْفَصَاحَةُ فِيهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ وَنِهَايَةِ الْفَصَاحَةِ، فَإِذَا كَتَبَ كِتَابًا طَوِيلًا مُشْتَمِلًا عَلَى الْمَعَانِي الْكَبِيرَةِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَظْهَرَ التَّفَاوُتُ فِي كَلَامِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ بَعْضُهُ قَوِيًّا مَتِينًا وَبَعْضُهُ سَخِيفًا نَازِلًا، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ المعجز مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى، وَضَرَبَ الْقَاضِي لِهَذَا مَثَلًا فَقَالَ: إِنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْتُبَ الطَّوَامِيرَ الطَّوِيلَةَ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ في شيء من تلك الحروف خل وَنُقْصَانٌ، حَتَّى لَوْ رَأَيْنَا الطَّوَامِيرَ الطَّوِيلَةَ مَصُونَةً عَنْ مِثْلِ هَذَا الْخَلَلِ وَالنُّقْصَانِ لَكَانَ ذَلِكَ معدودا في الاعجاز فكذا هاهنا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَعْلُومُ الْمَعْنَى خِلَافَ مَا يَقُولُهُ مَنْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إِلَّا النَّبِيُّ وَالْإِمَامُ الْمَعْصُومُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا تَهَيَّأَ لِلْمُنَافِقِينَ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِالتَّدَبُّرِ، وَلَمَا جَازَ أَنْ يَأْمُرَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِهِ وَأَنْ يَجْعَلَ الْقُرْآنَ حُجَّةً فِي صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَلَا أَنْ يَجْعَلَ عَجْزَهُمْ عَنْ مِثْلِهِ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى كُفَّارِ الزَّنْجِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِفَسَادِ التَّقْلِيدِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُنَافِقِينَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ فِي صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، فَبِأَنْ يُحْتَاجَ فِي مَعْرِفَةِ ذَاتِ اللَّه وَصِفَاتِهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ كَانَ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ للَّه تَعَالَى لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً يَقْتَضِي أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الِاخْتِلَافِ، وَالِاخْتِلَافُ وَالتَّفَاوُتُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا كَانَ فِعْلُ الْعَبْدِ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ، وَفِعْلُ اللَّه لَا يُوجَدُ فِيهِ التَّفَاوُتُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الْمُلْكِ: 3] فَهَذَا/ يَقْتَضِي أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَا يَكُونُ فِعْلًا للَّه. وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ مَعْنَاهُ نَفِيُ التَّفَاوُتِ فِي أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى وَفْقِ مَشِيئَتِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ فِعْلَ غَيْرِهِ لَا يَقَعُ عَلَى وَفْقِ مَشِيئَتِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.

[سورة النساء (4) : آية 83]

[سورة النساء (4) : آية 83] وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَوْعًا آخَرَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا جَاءَهُمُ الْخَبَرُ بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ مِنْ بَابِ الْأَمْنِ أَوْ مِنْ بَابِ الْخَوْفِ أَذَاعُوهُ وَأَفْشُوهُ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الضَّرَرِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْإِرْجَافَاتِ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْكَذِبِ الْكَثِيرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْخَبَرُ فِي جَانِبِ الْأَمْنِ زَادُوا فِيهِ زِيَادَاتٍ كَثِيرَةً، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ تِلْكَ الزِّيَادَاتُ أَوْرَثَ ذَلِكَ شُبْهَةً لِلضُّعَفَاءِ فِي صِدْقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَرْوُونَ تِلْكَ الْإِرْجَافَاتِ عَنِ الرَّسُولِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي جَانِبِ الْخَوْفِ تُشُوِّشَ الْأَمْرُ بِسَبَبِهِ عَلَى ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَوَقَعُوا عِنْدَهُ فِي الْحَيْرَةِ وَالِاضْطِرَابِ، فَكَانَتْ تِلْكَ الْإِرْجَافَاتُ سَبَبًا لِلْفِتْنَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الْإِرْجَافَ سَبَبٌ لِتَوْفِيرِ الدَّوَاعِي عَلَى الْبَحْثِ الشَّدِيدِ وَالِاسْتِقْصَاءِ التَّامِّ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِظُهُورِ الْأَسْرَارِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُوَافِقُ مَصْلَحَةَ الْمَدِينَةِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْعَدَاوَةَ الشَّدِيدَةَ كَانَتْ قَائِمَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي إِعْدَادِ آلَاتِ الْحَرْبِ وَفِي انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ فِيهِ، فَكُلُّ مَا كَانَ أَمْنًا لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ كَانَ خَوْفًا لِلْفَرِيقِ الثَّانِي، فَإِنْ وَقَعَ خَبَرُ الْأَمْنِ لِلْمُسْلِمِينَ وَحُصُولُ الْعَسْكَرِ وَآلَاتِ الْحَرْبِ لَهُمْ أَرْجَفَ الْمُنَافِقُونَ بِذَلِكَ فَوَصَلَ الْخَبَرُ فِي أَسْرَعِ مُدَّةٍ إِلَى الْكُفَّارِ، فَأَخَذُوا فِي التَّحَصُّنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي الِاحْتِرَازِ عَنِ اسْتِيلَائِهِمْ عَلَيْهِمْ، / وَإِنْ وَقَعَ خَبَرُ الْخَوْفِ لِلْمُسْلِمِينَ بَالَغُوا فِي ذَلِكَ، وَزَادُوا فِيهِ وَأَلْقَوُا الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ الضَّعَفَةِ وَالْمَسَاكِينِ، فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ ذَلِكَ الْإِرْجَافَ كَانَ مَنْشَأً لِلْفِتَنِ وَالْآفَاتِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ذَمَّ اللَّه تِلْكَ الْإِذَاعَةَ وَذَلِكَ التَّشْهِيرَ، وَمَنَعَهُمْ مِنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: أَذَاعَهُ وَأَذَاعَ بِهِ لُغَتَانِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي أُولِي الْأَمْرِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِلَى ذَوِي الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ مِنْهُمْ. وَالثَّانِي: إِلَى أُمَرَاءِ السَّرَايَا، وَهَؤُلَاءِ رَجَّحُوا هَذَا الْقَوْلَ عَلَى الْأَوَّلِ، قَالُوا لِأَنَّ أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ لَهُمْ أَمْرٌ عَلَى الناس، وأهل العلم ليسوا كذلك، إنما الْأُمَرَاءُ هُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِأَنَّ لَهُمْ أَمْرًا عَلَى النَّاسِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ الْعُلَمَاءَ إِذَا كَانُوا عَالِمِينَ بِأَوَامِرِ اللَّه وَنَوَاهِيهِ، وَكَانَ يَجِبُ عَلَى غَيْرِهِمْ قَبُولُ قَوْلِهِمْ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُسَمَّوْا أُولِي الْأَمْرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التَّوْبَةِ: 122] فَأَوْجَبَ الْحَذَرَ بِإِنْذَارِهِمْ وَأَلْزَمَ الْمُنْذَرِينَ قَبُولَ قَوْلِهِمْ، فَجَازَ لِهَذَا الْمَعْنَى إِطْلَاقُ اسْمِ أُولِي الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الِاسْتِنْبَاطُ فِي اللُّغَةِ الِاسْتِخْرَاجُ يُقَالُ: اسْتَنْبَطَ الْفَقِيهُ إِذَا اسْتَخْرَجَ الْفِقْهَ الْبَاطِنَ بِاجْتِهَادِهِ وَفَهْمِهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ النَّبْطِ وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْبِئْرِ أَوَّلَ مَا تُحْفَرُ، والنبط إنما سموا نبطا لا لِاسْتِنْبَاطِهِمُ الْمَاءَ مِنَ الْأَرْضِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ هُمْ أُولَئِكَ الْمُنَافِقُونَ الْمُذِيعُونَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الْمُذِيعِينَ رَدُّوا أمر الْأَمْنَ وَالْخَوْفَ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ، وَطَلَبُوا مَعْرِفَةَ الْحَالِ فِيهِ مِنْ جِهَتِهِمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ، وَهُمْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الْمُذِيعُونَ مِنْهُمْ، أَيْ مِنْ جَانِبِ الرَّسُولِ وَمِنْ جَانِبِ أُولِي الْأَمْرِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ لَكَانَ عِلْمُهُ حَاصِلًا عِنْدَ مَنْ يَسْتَنْبِطُ هَذِهِ الْوَقَائِعَ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أُولِي الْأَمْرِ فَرِيقَانِ، بَعْضُهُمْ مَنْ يَكُونُ مُسْتَنْبِطًا، وَبَعْضُهُمْ مَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَقَوْلُهُ: مِنْهُمْ يَعْنِي لِعِلْمِهِ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ الْمَخْفِيَّاتِ مِنْ طَوَائِفِ أُولِي الْأَمْرِ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الَّذِينَ أَمَرَهُمُ اللَّه بَرَدِّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، فَكَيْفَ جَعَلَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ. قُلْنَا: إِنَّمَا جَعَلَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ عَلَى حَسَبِ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ يُظْهِرُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [النساء: 72] وَقَوْلُهُ: مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النِّسَاءِ: 66] واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ فِي الشَّرْعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ صِفَةٌ لِأُولِي الْأَمْرِ، وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى عَلَى الَّذِينَ يَجِيئُهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَنْ يرجعوا في معرفته إليهم، ولا يخلو إِمَّا أَنْ يَرْجِعُوا إِلَيْهِمْ فِي مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْوَقَائِعِ مَعَ حُصُولِ النَّصِّ فِيهَا، أَوْ لَا مَعَ حُصُولِ النَّصِّ فِيهَا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَبْقَى الِاسْتِنْبَاطُ لِأَنَّ مَنْ رَوَى النَّصَّ فِي وَاقِعَةٍ لَا يُقَالُ: أَنَّهُ اسْتَنْبَطَ الْحُكْمَ، فَثَبَتَ أَنَّ اللَّه أَمَرَ الْمُكَلَّفَ بِرَدِّ الْوَاقِعَةِ إِلَى مَنْ يَسْتَنْبِطُ الْحُكْمَ فِيهَا، وَلَوْلَا أَنَّ الِاسْتِنْبَاطَ حُجَّةٌ لَمَا أَمَرَ الْمُكَلَّفَ بِذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِنْبَاطَ حُجَّةٌ، وَالْقِيَاسُ إِمَّا اسْتِنْبَاطٌ أَوْ دَاخِلٌ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ مَا لَا يُعْرَفُ بِالنَّصِّ بَلْ بِالِاسْتِنْبَاطِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الِاسْتِنْبَاطَ حُجَّةٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْعَامِّيَّ يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ الْعُلَمَاءِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُكَلَّفًا بِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالرَّدِّ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَمْ يُخَصِّصْ أُولِي الْأَمْرِ بِذَلِكَ دُونَ الرَّسُولِ وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ كُلُّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِالِاسْتِنْبَاطِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بقوله: الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ هم أولوا الْأَمْرِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُمُ الْمُنَافِقُونَ الْمُذِيعُونَ عَلَى مَا رَوَيْتُمْ هَذَا الْقَوْلَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أُولُو الْأَمْرِ لَكِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْوَقَائِعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْحُرُوبِ وَالْجِهَادِ، فَهَبْ أَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الِاسْتِنْبَاطِ جَائِزٌ فِيهَا، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ يَلْزَمُ جَوَازُهُ فِي الْوَقَائِعِ الشَّرْعِيَّةِ؟ فَإِنْ قِيسَ أَحَدُ الْبَابَيْنِ عَلَى الْآخَرِ كَانَ ذَلِكَ إِثْبَاتًا لِلْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، سَلَّمْنَا أَنَّ الِاسْتِنْبَاطَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ دَاخِلٌ تَحْتَ الْآيَةِ فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ حُجَّةً؟ بَيَانُهُ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ اسْتِخْرَاجَ الْأَحْكَامِ مِنَ النُّصُوصِ الْخَفِيَّةِ أَوْ مِنْ تَرْكِيبَاتِ النُّصُوصِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنِ اسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، أَوْ مِمَّا ثَبَتَ بِحُكْمِ الْعَقْلِ كَمَا يقول

الْأَكْثَرُونَ: إِنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ، وَفِي الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ، سَلَّمْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ مِنَ الشَّرْعِيِّ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقِيَاسُ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ فَأَخْبَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَحْصُلُ الْعِلْمُ/ مِنْ هَذَا الِاسْتِنْبَاطِ، وَلَا نِزَاعَ فِي مِثْلِ هَذَا الْقِيَاسِ، إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي يُفِيدُ الظَّنَّ هَلْ هُوَ حُجَّةٌ فِي الشَّرْعِ أَمْ لا؟ والجواب: أما في السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: فَمَدْفُوعٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بالذين يستنبطونه المنافقين لكان الأولى أَنْ يُقَالَ: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمُوهُ، لِأَنَّ عَطْفَ الْمُظْهَرِ عَلَى الْمُضْمَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَوْ رَدُّوهُ قَبِيحٌ مُسْتَكْرَهٌ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَمَدْفُوعٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُرُوبِ وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِسَائِرِ الْوَقَائِعِ الشَّرْعِيَّةِ، لِأَنَّ الْأَمْنَ وَالْخَوْفَ حَاصِلٌ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِبَابِ التَّكْلِيفِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهَا بِأَمْرِ الْحُرُوبِ. الثَّانِي: هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْتُمْ لَكِنْ تُعْرَفُ أَحْكَامُ الْحُرُوبِ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، وَلَمَّا ثَبَتَ جَوَازُهُ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ التَّمَسُّكُ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ فِي سَائِرِ الْوَقَائِعِ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ: الْقِيَاسُ حُجَّةٌ فِي بَابِ الْبَيْعِ لَا فِي بَابِ النِّكَاحِ لَمْ يُلْتَفَتْ اليه، فكذا هاهنا. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ حَمْلُ الِاسْتِنْبَاطِ: عَلَى النُّصُوصِ الْخَفِيَّةِ أَوْ عَلَى تَرْكِيبَاتِ النُّصُوصِ فَجَوَابُهُ: أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَنْصُوصًا، وَالتَّمَسُّكُ بِالنَّصِّ لَا يُسَمَّى اسْتِنْبَاطًا. قَوْلُهُ: لِمَ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ؟ قُلْنَا لَيْسَ هَذَا اسْتِنْبَاطًا بَلْ هُوَ إِبْقَاءٌ لِمَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُسَمَّى اسْتِنْبَاطًا الْبَتَّةَ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُهُ إِنَّ هَذَا الِاسْتِنْبَاطَ إِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ، وَالْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ. قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ عِنْدَنَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، وذلك لا ن بَعْدَ ثُبُوتِ أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ نَقْطَعُ بِأَنَّهُ مَهْمَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ حُكْمَ اللَّه فِي الْأَصْلِ مُعَلَّلٌ بِكَذَا، ثُمَّ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى قَائِمٌ فِي الْفَرْعِ، فَهَهُنَا يَحْصُلُ ظَنٌّ أَنَّ حُكْمَ اللَّه فِي الْفَرْعِ مُسَاوٍ لِحُكْمِهِ فِي الْأَصْلِ، وَعِنْدَ هَذَا الظَّنِّ نَقْطَعُ بِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِأَنْ يَعْمَلَ عَلَى وَفْقِ هَذَا الظَّنِّ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الظَّنَّ وَاقِعٌ فِي طَرِيقِ الْحُكْمِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فَمَقْطُوعٌ بِهِ، وَهُوَ يَجْرِي مَجْرَى مَا إِذَا قَالَ اللَّه: مَهْمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّكَ كَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْوَاقِعَةِ الْفُلَانِيَّةِ حُكْمِي كَذَا فَإِذَا حَصَلَ الظَّنُّ قَطَعْنَا بِثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ قَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الظَّنُّ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ» شَرَطَ الْعِلْمَ فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ، وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ عِنْدَ الظَّنِّ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ، فَثَبَتَ أَنَّ الظَّنَّ قَدْ يُسَمَّى بِالْعِلْمِ واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الاستنثاء يُوهِمُ أَنَّ ذَلِكَ الْقَلِيلَ وَقَعَ لَا بِفَضْلِ اللَّه وَلَا بِرَحْمَتِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ. فَعِنْدَ هَذَا اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ وَذَكَرُوا وُجُوهًا، قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: أَذاعُوا

وَقَالَ قَوْمٌ: رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوُجُوهَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَزِيدَ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ الْآيَةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْإِخْبَارِ عَنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ، وَيَصِحُّ صَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُحْتَمَلٌ. أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فَالتَّقْدِيرُ: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ إِلَّا قَلِيلًا، فَأَخْرَجَ تَعَالَى بَعْضَ المنافقين عن هذه الْإِذَاعَةِ كَمَا أَخْرَجَهُمْ فِي قَوْلِهِ: بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النساء: 81] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الِاسْتِثْنَاءُ عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ يَعْنِي لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلَ: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ مَا يُعْلَمُ بِالِاسْتِنْبَاطِ فَالْأَقَلُّ يَعْلَمُهُ، وَالْأَكْثَرُ يَجْهَلُهُ، وَصَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى مَا ذكره يَقْتَضِي ضِدَّ ذَلِكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ شَيْئًا يَسْتَخْرِجُهُ بِنَظَرٍ دَقِيقٍ وَفِكْرٍ غَامِضٍ، إِنَّمَا هُوَ اسْتِنْبَاطُ خَبَرٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَكْثَرُونَ يَعْرِفُونَهُ، إِنَّمَا الْبَالِغُ فِي الْبَلَادَةِ وَالْجَهَالَةِ هُوَ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: كَلَامُ الزَّجَّاجِ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ حَمَلْنَا الِاسْتِنْبَاطَ عَلَى مُجَرَّدِ تَعَرُّفِ الْأَخْبَارِ وَالْأَرَاجِيفِ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ كَمَا صَحَّحْنَا ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ كَانَ الْحَقُّ كَمَا ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ صَرْفَ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى مَا يَلِيهِ وَيَتَّصِلُ بِهِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إِلَى الشَّيْءِ الْبَعِيدِ عَنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَتَمَشَّى إِلَّا إِذَا فَسَّرْنَا الْفَضْلَ وَالرَّحْمَةَ بِشَيْءٍ خَاصٍّ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، أَنَّ الْمُرَادَ بِفَضْلِ اللَّه وَبِرَحْمَتِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ وَبِعْثَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْلَا بِعْثَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم وإنزال القرآن لا تبعتم الشَّيْطَانَ وَكَفَرْتُمْ باللَّه إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْقَلِيلَ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَمِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ مَا كَانَ يَتَّبِعُ الشَّيْطَانَ، وَمَا كَانَ يَكْفُرُ باللَّه، وَهُمْ مِثْلُ قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ وَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ باللَّه قَبْلَ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِفَضْلِ اللَّه وَبِرَحْمَتِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ نُصْرَتُهُ تَعَالَى وَمَعُونَتُهُ اللَّذَانِ عَنَاهُمَا الْمُنَافِقُونَ بِقَوْلِهِمْ: فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً [النِّسَاءِ: 73] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْلَا حُصُولُ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ عَلَى سَبِيلِ التَّتَابُعِ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ وَتَرَكْتُمُ الدِّينَ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْكُمْ، وَهُمْ أَهْلُ الْبَصَائِرِ النَّاقِدَةِ وَالنِّيَّاتِ الْقَوِيَّةِ وَالْعَزَائِمِ الْمُتَمَكِّنَةِ مِنْ أَفَاضِلِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِهِ حَقًّا حُصُولُ الدَّوْلَةِ فِي الدُّنْيَا، فَلِأَجْلِ تَوَاتُرِ الْفَتْحِ وَالظَّفَرِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ حَقًّا، وَلِأَجْلِ تَوَاتُرِ الِانْهِزَامِ وَالِانْكِسَارِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ بَاطِلًا، بَلِ الْأَمْرُ فِي كَوْنِهِ حَقًّا وَبَاطِلًا عَلَى الدَّلِيلِ، وَهَذَا أَصَحُّ الْوُجُوهِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى التَّحْقِيقِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الشَّيْطَانَ فَقَدْ مَنَعَهُمُ اللَّه فَضْلَهُ وَرَحْمَتَهُ، وَإِلَّا مَا كَانَ يُتَّبَعُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّه رِعَايَةُ الْأَصْلَحِ فِي الدِّينِ. أَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ بِأَنَّ فَضْلَ اللَّه وَرَحْمَتَهُ عَامَّانِ فِي حَقِّ الْكُلِّ، لَكِنَّ الْمُؤْمِنِينَ انْتَفَعُوا بِهِ، وَالْكَافِرِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ، فَصَحَّ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لِلْكَافِرِ مِنَ اللَّه فَضْلٌ وَرَحْمَةٌ فِي الدِّينِ.

[سورة النساء (4) : آية 84]

وَالْجَوَابُ: أَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَجَازِ خِلَافُ الأصل. [سورة النساء (4) : آية 84] فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْجِهَادِ وَرَغَّبَ فِيهِ أَشَدَّ التَّرْغِيبِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَذَكَرَ فِي الْمُنَافِقِينَ قِلَّةَ رَغْبَتِهِمْ فِي الْجِهَادِ، بَلْ ذَكَرَ عَنْهُمْ شِدَّةَ سَعْيِهِمْ فِي تَثْبِيطِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْجِهَادِ، عَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ فَقَالَ: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَقاتِلْ بِمَاذَا تَتَعَلَّقُ؟ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ [النِّسَاءِ: 74] مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى إِنْ أَرَدْتَ الْفَوْزَ فَقَاتِلْ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء: 75] فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء: 84] وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِمَعْنَى مَا ذَكَرَ مِنْ قَصَصِ الْمُنَافِقِينَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مِنْ أَخْلَاقِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ كَذَا وَكَذَا، فَلَا تَعْتَدَّ بِهِمْ وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى أَفْعَالِهِمْ، بَلْ قَاتِلْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَهُ بِالْجِهَادِ وَلَوْ وَحْدَهُ قَبْلَ دُعَاءِ النَّاسِ فِي بَدْرٍ الصُّغْرَى إِلَى الْخُرُوجِ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ وَاعَدَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللِّقَاءَ فِيهَا، فَكَرِهَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَخْرُجُوا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَخَرَجَ وَمَا مَعَهُ إِلَّا سَبْعُونَ رَجُلًا وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى أَحَدٍ، وَلَوْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ لَخَرَجَ وَحْدَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَشْجَعَ الْخَلْقِ وَأَعْرَفَهُمْ بِكَيْفِيَّةِ الْقِتَالِ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَا كَانَ يَأْمُرُهُ بِذَلِكَ إِلَّا وَهُوَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَلَقَدِ اقْتَدَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حَيْثُ حَاوَلَ الْخُرُوجَ وَحْدَهُ إِلَى قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللَّه وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا بِقَضَاءِ اللَّه سَهُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قرئ لا تكلف بالجزم على النهي. ولا نُكَلِّفُ بِالنُّونِ وَكَسْرِ اللَّامِ، أَيْ لَا نُكَلِّفُ نَحْنُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحْدَهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه انْتِصَابُ قَوْلِهِ: نَفْسَكَ عَلَى مَفْعُولِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُسَاعِدْهُ عَلَى الْقِتَالِ غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجِهَادِ الْبَتَّةَ، وَالْمَعْنَى لَا تُؤَاخَذُ إِلَّا بِفِعْلِكَ دُونَ فِعْلِ غَيْرِكَ، فَإِذَا أَدَّيْتَ فِعْلَكَ لَا تُكَلَّفُ بِفَرْضِ غَيْرِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجِهَادَ فِي حَقِّ غَيْرِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فَمَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ يُفِيدُ لَمْ يَجِبْ، بِخِلَافِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنَّهُ عَلَى ثِقَةٍ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] وبدليل قوله هاهنا: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ «عَسَى» مِنَ اللَّه جَزْمٌ، فَلَزِمَهُ الْجِهَادُ وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا هُوَ

[سورة النساء (4) : آية 85]

الْجِهَادُ وَتَحْرِيضُ النَّاسِ فِي الْجِهَادِ، فَإِنْ أَتَى بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِ غَيْرِهِ تَارِكًا لِلْجِهَادِ شَيْءٌ. ثُمَّ قَالَ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: عَسَى حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْمُقَارَبَةِ وَفِيهِ تَرَجٍّ وَطَمَعٌ، وَذَلِكَ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ «عَسَى» مَعْنَاهَا الْإِطْمَاعُ، وَلَيْسَ فِي الْإِطْمَاعِ أَنَّهُ شَكٌّ أَوْ يَقِينٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِطْمَاعُ الْكَرِيمِ إِيجَابٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْكَفُّ الْمَنْعُ، وَالْبَأْسُ أَصْلُهُ الْمَكْرُوهُ، يُقَالُ مَا عَلَيْكَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ بَأْسٌ أَيْ مَكْرُوهٌ، وَيُقَالُ بِئْسَ الشَّيْءُ هَذَا إِذَا وُصِفَ بِالرَّدَاءَةِ، وَقَوْلُهُ: بِعَذابٍ بَئِيسٍ [الْأَعْرَافِ: 165] أَيْ مَكْرُوهٍ، وَالْعَذَابُ قَدْ يُسَمَّى بَأْسًا لِكَوْنِهِ مَكْرُوهًا، قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ [غَافِرٍ: 29] فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا [الْأَنْبِيَاءِ: 12] فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غَافِرٍ: 84] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: عَسَى اللَّه أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَقَدْ كَفَّ بِأَسَهُمْ، فَقَدْ بَدَا لِأَبِي سُفْيَانَ وَقَالَ هَذَا عَامٌ مُجْدِبٌ وَمَا كَانَ مَعَهُمْ زَادٌ إِلَّا السَّوِيقُ، فَتَرَكَ الذَّهَابَ إِلَى مُحَارَبَةِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا يُقَالُ: نَكَّلْتُ فُلَانًا إِذَا عَاقَبْتَهُ عُقُوبَةً تُنَكِّلُ غَيْرَهُ عَنِ ارْتِكَابِ مِثْلِهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: نَكَلَ الرَّجُلُ عَنِ الشَّيْءِ إِذَا جَبُنَ عَنْهُ وَامْتَنَعَ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها [الْبَقَرَةِ: 66] وَقَالَ فِي السَّرِقَةِ: بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ [الْمَائِدَةِ: 38] وَيُقَالُ: نَكَلَ فُلَانٌ عَنِ الْيَمِينِ إِذَا خَافَهُ وَلَمْ يُقْدِمْ عَلَيْهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ عَذَابَ اللَّه وَتَنْكِيلَهُ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ غَيْرِهِ وَمِنْ تَنْكِيلِهِ، وَأَقْبَلُ الْوُجُوهِ فِي بَيَانِ هَذَا التَّفَاوُتِ أَنَّ عَذَابَ غَيْرِ اللَّه لَا يَكُونُ دَائِمًا، وَعَذَابَ اللَّه دَائِمٌ فِي الْآخِرَةِ، وَعَذَابَ غَيْرِ اللَّه قَدْ يُخَلِّصُ اللَّه مِنْهُ، وَعَذَابَ اللَّه لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ، وَأَيْضًا عَذَابُ غَيْرِ اللَّه لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَعَذَابُ اللَّه قَدْ يَصِلُ إِلَى جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ والروح والبدن. [سورة النساء (4) : آية 85] مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) [في قَوْلُهُ تَعَالَى مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يُحَرِّضِ الْأُمَّةَ عَلَى الْجِهَادِ، وَالْجِهَادُ مِنَ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ وَالطَّاعَاتِ الشَّرِيفَةِ، فَكَانَ تَحْرِيضُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْأُمَّةِ عَلَى الْجِهَادِ تَحْرِيضًا مِنْهُ لَهُمْ عَلَى الْفِعْلِ الْحَسَنِ وَالطَّاعَةِ الْحَسَنَةِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا، وَالْغَرَضُ/ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا حَرَّضَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ بِذَلِكَ التَّحْرِيضِ أَجْرًا عَظِيمًا. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِتَحْرِيضِهِمْ عَلَى الْجِهَادِ ذَكَرَ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَقْبَلُوا أَمْرَهُ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ مِنْ عِصْيَانِهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ عَيْبٌ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَمَّا أَطَاعُوا وَقَبِلُوا

التَّكْلِيفَ رَجَعَ إِلَيْهِمْ مِنْ طَاعَتِهِمْ خَيْرٌ كَثِيرٌ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: حَرِّضْهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوا قَوْلَكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ عِصْيَانِهِمْ عِتَابٌ لَكَ، وَإِنْ أَطَاعُوكَ حَصَلَ لَكَ مِنْ طَاعَتِهِمْ أَعْظَمُ الثَّوَابِ، فَكَانَ هَذَا تَرْغِيبًا مِنَ اللَّه لِرَسُولِهِ فِي أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْرِيضِ الْأُمَّةِ عَلَى الْجِهَادِ، وَالسَّبَبُ فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ عِنْدَ طَاعَتِهِمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ، وَمَا كَانَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْوِزْرِ، هُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَذَلَ الْجُهْدَ فِي تَرْغِيبِهِمْ فِي الطَّاعَةِ وَمَا رَغَّبَهُمُ الْبَتَّةَ فِي الْمَعْصِيَةِ، فَلَا جَرَمَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنْ طَاعَتِهِمْ أَجْرٌ وَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ وِزْرٌ. الثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا كَانَ يُرَغِّبُهُمْ فِي الْقِتَالِ وَيُبَالِغُ فِي تَحْرِيضِهِمْ عَلَيْهِ، فَكَانَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ يَشْفَعُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ يَأْذَنَ لِبَعْضِهِمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ، فَنَهَى اللَّه عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ وَبَيَّنَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ إِنَّمَا تَحْسُنُ إِذَا كَانَتْ وَسِيلَةً إِلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللَّه، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ وَسِيلَةً إِلَى مَعْصِيَتِهِ كَانَتْ مُحَرَّمَةً مُنْكَرَةً. الرَّابِعُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ رَاغِبًا فِي الْجِهَادِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ أُهْبَةَ الْجِهَادِ، فَصَارَ غَيْرُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ شَفِيعًا لَهُ إِلَى مُؤْمِنٍ آخَرَ لِيُعِينَهُ عَلَى الْجِهَادِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الشَّفَاعَةُ سَعْيًا فِي إِقَامَةِ الطَّاعَةِ، فَرَغَّبَ اللَّه تَعَالَى فِي مِثْلِ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ، وَعَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَالْآيَةُ حَسَنَةُ الِاتِّصَالِ بِمَا قَبْلَهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الشَّفَاعَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الشَّفْعِ، وَهُوَ أَنْ يُصَيِّرَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ شَفْعًا لِصَاحِبِ الْحَاجَةِ حَتَّى يَجْتَمِعَ مَعَهُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فِيهَا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي الشَّفَاعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا تَحْرِيضُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام يأمرهم بالغزو فقد جعل نفسه شفعا لَهُمْ فِي تَحْصِيلِ الْأَغْرَاضِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْجِهَادِ، وَأَيْضًا فَالتَّحْرِيضُ عَلَى الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَمْرِ بِهِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ الرِّفْقِ وَالتَّلَطُّفِ، وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الشَّفَاعَةِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ كَانَ يَشْفَعُ لِمُنَافِقٍ آخَرَ فِي أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ يَشْفَعُ لِمُؤْمِنٍ آخَرَ عِنْدَ مُؤْمِنٍ ثَالِثٍ فِي أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ آلَاتِ الْجِهَادِ. الثَّالِثُ: نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عنهما ما معناه أن الشفاعة الحسنة هاهنا هِيَ أَنْ يَشْفَعَ إِيمَانُهُ باللَّه بِقِتَالِ الْكُفَّارِ، وَالشَّفَاعَةَ السَّيِّئَةَ أَنْ يَشْفَعَ كُفْرُهُ بِالْمَحَبَّةِ لِلْكُفَّارِ وَتَرْكِ إِيذَائِهِمْ. الرَّابِعُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: الشَّفَاعَةُ/ إِلَى اللَّه إِنَّمَا تَكُونُ بِالدُّعَاءِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ دَعَا لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ اسْتُجِيبَ لَهُ وَقَالَ الْمَلِكُ لَهُ وَلَكَ مِثْلُ ذَلِكَ» فَهَذَا هُوَ النَّصِيبُ، وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ فَهِيَ مَا رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا دَخَلُوا عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، وَالسَّامُ هُوَ الْمَوْتُ، فَسَمِعَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا فَقَالَتْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، أَتَقُولُونَ هَذَا لِلرَّسُولِ! فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ عَلِمْتُ مَا قَالُوا فَقُلْتُ وَعَلَيْكُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الْخَامِسُ: قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: الْمُرَادُ هُوَ الشَّفَاعَةُ الَّتِي بَيْنَ النَّاسِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، فَمَا يَجُوزُ فِي الدِّينِ أَنْ يُشْفَعَ فِيهِ فَهُوَ شَفَاعَةٌ حَسَنَةٌ، وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُشْفَعَ فِيهِ فَهُوَ شَفَاعَةٌ سَيِّئَةٌ، ثُمَّ قَالَ الْحَسَنُ: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ، وَإِنْ لَمْ يُشَفَّعْ، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُولُ: مَنْ يَشْفَعْ وَلَمْ يَقُلْ: وَمَنْ يُشَفَّعْ، وَيَتَأَيَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا» . وَأَقُولُ: هَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْجِهَادِ وَإِلَّا صَارَتِ الْآيَةُ مُنْقَطِعَةً عَمَّا قَبْلَهَا، وَذَلِكَ التَّعَلُّقُ

حَاصِلٌ بِالْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، فَأَمَّا الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ الْأَخِيرَةُ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ قَصْرَ الْآيَةِ عَلَيْهَا فَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَإِلَّا صَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَجْنَبِيَّةً عَمَّا قَبْلَهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ دُخُولَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَعَ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فِي اللَّفْظِ فَهَذَا جَائِزٌ لِأَنَّ خُصُوصَ السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ عُمُومَ اللَّفْظِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْكِفْلُ: هُوَ الْحَظُّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الْحَدِيدِ: 28] أَيْ حَظَّيْنِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: كَفَلْتُ الْبَعِيرَ وَاكْتَفَلْتُهُ إِذَا أَدَرْتَ عَلَى سَنَامِهِ كِسَاءً وَرَكِبْتَ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا قِيلَ: كَفَلْتُ الْبَعِيرَ وَاكْتَفَلْتُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْمِلْ كُلَّ الظَّهْرِ، وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَ نَصِيبًا مِنَ الظَّهْرِ. قَالَ ابْنُ الْمُظَفَّرِ: لَا يُقَالُ: هَذَا كِفْلُ فُلَانٍ حَتَّى تَكُونَ قَدْ هَيَّأْتَ لِغَيْرِهِ مِثْلَهُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي النَّصِيبِ، فَإِنْ أَفْرَدْتَ فَلَا تَقُلْ لَهُ كِفْلٌ وَلَا نَصِيبٌ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ فِي الشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ: يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَقَالَ فِي الشَّفَاعَةِ السَّيِّئَةِ: يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَهَلْ لِاخْتِلَافِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ فَائِدَةٌ؟ قُلْنَا: الْكِفْلُ اسْمٌ لِلنَّصِيبِ الَّذِي عَلَيْهِ يَكُونُ اعْتِمَادُ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ كِفْلُ الْبَعِيرِ لِأَنَّكَ حَمَيْتَ ظَهْرَ الْبَعِيرِ بِذَلِكَ الْكِسَاءِ عَنِ الْآفَةِ، وَحَمَى الرَّاكِبُ بَدَنَهُ بِذَلِكَ الْكِسَاءِ عَنِ ارْتِمَاسِ ظَهْرِ الْبَعِيرِ فَيَتَأَذَّى بِهِ، وَيُقَالُ لِلضَّامِنِ: كَفِيلٌ. وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ» فَثَبَتَ أَنَّ الْكِفْلَ هُوَ النَّصِيبُ الَّذِي عَلَيْهِ يَعْتَمِدُ الْإِنْسَانُ فِي تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ لِنَفْسِهِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ عَنْ نَفْسِهِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها أَيْ يَحْصُلُ لَهُ مِنْهَا نَصِيبٌ يَكُونُ ذَلِكَ النَّصِيبُ ذَخِيرَةً لَهُ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَالْمَقْصُودُ حُصُولُ ضِدِّ ذَلِكَ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21] / وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الشَّفَاعَةَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى سُقُوطِ الْحَقِّ وَقُوَّةِ الْبَاطِلِ تَكُونُ عَظِيمَةَ الْعِقَابِ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمُقِيتِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُقِيتُ الْقَادِرُ عَلَى الشَّيْءِ، وَأَنْشَدُوا لِلزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ ... وَكُنْتُ عَلَى إِسَاءَتِهِ مُقِيتَا وَقَالَ آخَرُ: لَيْتَ شِعْرِي وَأَشْعُرَنْ إِذَا مَا ... قَرَّبُوهَا مَنْشُورَةً وَدُعِيتُ إلي الفضل أم علي إذا حوسبت ... أَنِّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ وَأَنْشَدَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: تَجَلَّدْ وَلَا تَجْزَعْ وَكُنْ ذَا حَفِيظَةٍ ... فَإِنِّي عَلَى مَا سَاءَهُمْ لَمُقِيتُ الثَّانِي: الْمُقِيتُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقُوتِ، يُقَالُ: قُتُّ الرَّجُلَ إِذَا حَفَظْتَ عَلَيْهِ نَفْسَهُ بِمَا يَقُوتُهُ، وَاسْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ هُوَ الْقُوتُ، وَهُوَ الَّذِي لَا فَضْلَ لَهُ عَلَى قَدْرِ الْحِفْظِ، فَالْمُقِيتُ هُوَ الْحَفِيظُ الَّذِي يُعْطِي الشَّيْءَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، ثُمَّ قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه: وَأَيُّ الْمَعْنَيَيْنِ كَانَ فَالتَّأْوِيلُ صَحِيحٌ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِيصَالِ النَّصِيبِ وَالْكِفْلِ مِنَ الْجَزَاءِ إِلَى الشَّافِعِ مِثْلَ مَا يُوصِلُهُ إِلَى الْمَشْفُوعِ فِيهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَلَا يَنْتَقِصُ بِسَبَبِ مَا يَصِلُ إِلَى الشَّافِعِ شَيْءٌ مِنْ جَزَاءِ الْمَشْفُوعِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّهُ تَعَالَى حَافِظُ الْأَشْيَاءِ شَاهِدٌ عَلَيْهَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ

[سورة النساء (4) : آية 86]

شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِنَا، فَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّ الشَّافِعَ يَشْفَعُ فِي حَقٍّ أَوْ فِي بَاطِلٍ حَفِيظٌ عَلَيْهِ فَيُجَازِي كُلًّا بِمَا عَلِمَ مِنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قَالَ: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى الْمَقْدُورَاتِ صِفَةً كَانَتْ ثَابِتَةً لَهُ من الأزل، وليست صفة محدثة، فقوله: كانَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ قَيَّدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَ مِنْ وَقْتِ كَذَا أَوْ حَالِ كَذَا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَاصِلًا مِنَ الْأَزَلِ إلى الأبد. [سورة النساء (4) : آية 86] وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) فِي النَّظْمِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجِهَادِ أَمَرَهُمْ أَيْضًا بِأَنَّ الْأَعْدَاءَ لَوْ رَضُوا بِالْمَسْأَلَةِ فَكُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا رَاضِينَ بِهَا، فَقَوْلُهُ: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الْأَنْفَالِ: 61] . الثَّانِي: أَنَّ الرَّجُلَ فِي الْجِهَادِ كَانَ يَلْقَاهُ الرَّجُلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ مَا يُقَارِبُهَا فَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ، فَقَدْ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى سَلَامِهِ عَلَيْهِ وَيَقْتُلُهُ، وَرُبَّمَا ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا، فَمَنَعَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُ وَأَمَرَهُمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَيُكْرِمُهُمْ بِنَوْعٍ مِنَ الْإِكْرَامِ يُقَابِلُونَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْإِكْرَامِ أَوْ أَزْيَدَ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ كَافِرًا لَا يَضُرُّ الْمُسْلِمَ أَنْ قَابَلَ إِكْرَامَ ذَلِكَ الْكَافِرِ بِنَوْعٍ مِنَ الْإِكْرَامِ، أَمَّا إِنْ كَانَ مسلما وقتله ففيه أعظم المضار والمفاسد، [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّحِيَّةُ تَفْعِلَةٌ مِنْ حَيَّيْتُ، وَكَانَ فِي الْأَصْلِ تَحْيِيَةٌ، مِثْلُ التَّوْصِيَةِ وَالتَّسْمِيَةِ، وَالْعَرَبُ تُؤْثِرُ التَّفْعِلَةَ عَلَى التَّفْعِيلِ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [الْوَاقِعَةِ: 94] فَثَبَتَ أَنَّ التَّحِيَّةَ أَصْلُهَا التَّحْيِيَةُ ثُمَّ أَدْغَمُوا الْيَاءَ فِي الْيَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ إِذَا لَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَالُوا: حَيَّاكَ اللَّه وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْحَيَاةِ كَأَنَّهُ يَدْعُو لَهُ بِالْحَيَاةِ، فَكَانَتِ التَّحِيَّةُ عِنْدَهُمْ عِبَارَةً عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ حَيَّاكَ اللَّه، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أُبْدِلَ ذَلِكَ بِالسَّلَامِ، فَجَعَلُوا التَّحِيَّةَ اسْمًا لِلسَّلَامِ. قَالَ تَعَالَى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الْأَحْزَابِ: 44] وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُصَلِّي: التَّحِيَّاتُ للَّه، أَيِ السَّلَامُ مِنَ الْآفَاتِ للَّه، وَالْأَشْعَارُ نَاطِقَةٌ بِذَلِكَ. قَالَ عَنْتَرَةُ: حَيْيَتُ مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ وَقَالَ آخَرُ: إِنَّا مُحَيُّوكِ يَا سَلْمَى فَحَيِّينَا وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ مِنْ قَوْلِهِ: حَيَّاكَ اللَّه، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَيَّ إِذَا كَانَ سَلِيمًا كَانَ حَيًّا لَا مَحَالَةَ، وَلَيْسَ إِذَا كَانَ حَيًّا كَانَ سَلِيمًا، فَقَدْ تَكُونُ حَيَاتُهُ مَقْرُونَةً بِالْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ مِنْ قَوْلِهِ: حَيَّاكَ اللَّه. الثَّانِي: أَنَّ السَّلَامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى، فَالِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ اللَّه أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ إِبْقَاءَ السَّلَامَةِ عَلَى عِبَادِهِ أَكْمَلُ مِنْ قَوْلِهِ: حَيَّاكَ اللَّه. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ فِيهِ بِشَارَةٌ بِالسَّلَامَةِ، وَقَوْلَهُ: حَيَّاكَ اللَّه لَا يُفِيدُ ذَلِكَ، فَكَانَ هَذَا أَكْمَلُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ السَّلَامِ الْقُرْآنُ وَالْأَحَادِيثُ وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَمِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى سَلَّمَ عَلَى المؤمنين فِي اثْنَيْ عَشَرَ مَوْضِعًا: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى كَأَنَّهُ سَلَّمَ عَلَيْكَ فِي الْأَزَلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي وَصْفِ ذَاتِهِ: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ [الحشر: 23] ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى نُوحٍ وَجَعَلَ لَكَ من ذلك السلام نصيبا، فقال: قِيلَ/ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هُودٍ: 48] وَالْمُرَادُ

مِنْهُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَثَالِثُهَا: سَلَّمَ عَلَيْكَ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ، فَقَالَ: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [الْقَدْرِ: 5] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَافَ عَلَى أُمَّتِهِ أَنْ يَصِيرُوا مِثْلَ أُمَّةِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَالَ اللَّه: لَا تَهْتَمَّ لِذَلِكَ فَإِنِّي وَإِنْ أَخْرَجْتُكَ مِنَ الدُّنْيَا، إِلَّا إِنِّي جَعَلْتُ جِبْرِيلَ خَلِيفَةً لَكَ، يَنْزِلُ إِلَى أُمَّتِكَ كُلَّ لَيْلَةِ قَدْرٍ وَيُبْلِغُهُمُ السَّلَامَ مِنِّي. وَرَابِعُهَا: سَلَّمَ عَلَيْكَ عَلَى لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه: 47] فَإِذَا كُنْتَ مُتَّبِعَ الْهُدَى وَصَلَ سَلَامُ مُوسَى إِلَيْكَ. وَخَامِسُهَا: سَلَّمَ عَلَيْكَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النَّمْلِ: 59] وَكُلُّ مَنْ هَدَى اللَّه إِلَى الْإِيمَانِ فَقَدِ اصْطَفَاهُ، كَمَا قَالَ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا [فَاطِرٍ: 32] وَسَادِسُهَا: أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّلَامِ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَافَهَةِ، فَقَالَ: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الْأَنْعَامِ: 54] وَسَابِعُهَا: أَمَرَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّسْلِيمِ عَلَيْكَ قَالَ: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها وَثَامِنُهَا: سَلَّمَ عَلَيْكَ عَلَى لِسَانِ مَلَكِ الْمَوْتِ فَقَالَ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [النَّحْلِ: 32] قِيلَ: إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ يَقُولُ فِي أُذُنِ الْمُسْلِمِ: السَّلَامُ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ: أَجِبْنِي فَإِنِّي مُشْتَاقٌ إِلَيْكَ، وَاشْتَاقَتِ الْجَنَّاتُ وَالْحُورُ الْعِينُ إِلَيْكَ، فَإِذَا سَمِعَ الْمُؤْمِنُ الْبِشَارَةَ، يَقُولُ لِمَلَكِ الْمَوْتِ: لِلْبَشِيرِ مِنِّي هَدِيَّةٌ، وَلَا هَدِيَّةَ أَعَزُّ مِنْ رُوحِي، فَاقْبِضْ رُوحِي هَدِيَّةً لَكَ، وَتَاسِعُهَا: السَّلَامُ مِنَ الْأَرْوَاحِ الطَّاهِرَةِ الْمُطَهَّرَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الْوَاقِعَةِ: 91] وَعَاشِرُهَا: سَلَّمَ اللَّه عَلَيْكَ عَلَى لِسَانِ رِضْوَانَ خَازِنِ الْجَنَّةِ فَقَالَ تَعَالَى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً إِلَى قَوْلِهِ: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ [الزُّمَرِ: 73] وَالْحَادِيَ عَشَرَ: إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ فَالْمَلَائِكَةُ يَزُورُونَهُمْ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِمْ. قَالَ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْدِ: 23، 24] وَالثَّانِي عَشَرَ: السَّلَامُ مِنَ اللَّه مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الْأَحْزَابِ: 44] وَقَوْلُهُ: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] وَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَلَاشَى سَلَامُ الْكُلِّ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَبْقَى عَلَى تَجَلِّي نُورِ الْخَالِقِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الدَّلَائِلِ الْقُرْآنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضِيلَةِ السَّلَامِ أَنَّ أَشَدَّ الْأَوْقَاتِ حَاجَةً إِلَى السَّلَامَةِ وَالْكَرَامَةِ ثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ: وَقْتُ الِابْتِدَاءِ، وَوَقْتُ الْمَوْتِ، وَوَقْتُ الْبَعْثِ، واللَّه تَعَالَى لَمَّا أَكْرَمَ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّمَا أَكْرَمَهُ بِأَنْ وَعَدَهُ السَّلَامَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [مَرْيَمَ: 15] وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ أَيْضًا ذَلِكَ فَقَالَ: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ/ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مَرْيَمَ: 33] . الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ تَعْظِيمَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الْأَحْزَابِ: 56] يُرْوَى فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا دَخَلُوا قَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَحَزِنَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَبَعَثَ اللَّه جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: إِنْ كَانَ الْيَهُودُ يَقُولُونَ السَّامُ عَلَيْكَ، فَأَنَا أَقُولُ مِنْ سُرَادِقَاتِ الْجَلَالِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ، وَأَنْزَلَ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ إلى قوله: وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً. وَأَمَّا مَا يَدُلُّ مِنَ الْأَخْبَارِ عَلَى فَضِيلَةِ السَّلَامِ فَمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنَ سَلَامٍ قَالَ: لَمَّا سَمِعْتُ بِقُدُومِ الرَّسُولِ

عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَخَلْتُ فِي غِمَارِ النَّاسِ، فَأَوَّلُ مَا سَمِعْتُ مِنْهُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصِلُوا الْأَرْحَامَ وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» . وَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ السَّلَامِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ فَوُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالُوا: تَحِيَّةُ النَّصَارَى وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْفَمِ، وَتَحِيَّةُ الْيَهُودِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ الْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ، وَتَحِيَّةُ الْمَجُوسِ الِانْحِنَاءُ، وَتَحِيَّةُ الْعَرَبِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَنْ يَقُولُوا: حَيَّاكَ اللَّه، وَلِلْمُلُوكِ أَنْ يَقُولُوا: أَنْعِمْ صَبَاحًا، وَتَحِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَنْ يَقُولُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّه وَبَرَكَاتُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ التَّحِيَّةَ أَشْرَفُ التَّحِيَّاتِ وَأَكْرَمُهَا. الثَّانِي: أَنَّ السَّلَامَ مُشْعِرٌ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّعْيَ فِي تَحْصِيلِ الصَّوْنِ عَنِ الضَّرَرِ أَوْلَى مِنَ السَّعْيِ فِي تَحْصِيلِ النَّفْعِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْوَعْدَ بِالنَّفْعِ يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ وَقَدْ لَا يَقْدِرُ، أَمَّا الْوَعْدُ بِتَرْكِ الضَّرَرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَادِرًا عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ، وَالسَّلَامُ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّ السَّلَامَ أَفْضَلُ أَنْوَاعِ التَّحِيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْحَاضِرِينَ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النُّورِ: 27] وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْشُوا السَّلَامَ» وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ. الثَّانِي: أَنَّ مَنْ دَخَلَ عَلَى إِنْسَانٍ كَانَ كَالطَّالِبِ لَهُ، ثُمَّ الْمَدْخُولُ عَلَيْهِ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَطْلُبُهُ لِخَيْرٍ أَوْ لِشَرٍّ، فَإِذَا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ فَقَدْ بَشَّرَهُ بِالسَّلَامَةِ وَآمَنَهُ مِنَ الْخَوْفِ، وَإِزَالَةُ الضَّرَرِ عَنِ الْمُسْلِمِ وَاجِبَةٌ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ يَدِهِ وَلِسَانِهِ» فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ السَّلَامُ وَاجِبًا. الثَّالِثُ: أَنَّ السَّلَامَ مِنْ شَعَائِرَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَإِظْهَارُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَاجِبٌ، وَأَمَّا الْمَشْهُورُ فَهُوَ أَنَّ السَّلَامَ سُنَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالنَّخَعِيِّ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَلَى السَّلَامِ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى/ وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها الثَّانِي: أَنَّ تَرْكَ الْجَوَابِ إِهَانَةٌ، وَالْإِهَانَةُ ضَرَرٌ وَالضَّرَرُ حَرَامٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مُنْتَهَى الْأَمْرِ فِي السَّلَامِ أَنْ يُقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّه وَبَرَكَاتُهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ هُوَ الْوَارِدُ فِي التَّشَهُّدِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها فَقَالَ الْعُلَمَاءُ: الْأَحْسَنُ هُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكَ زِيدَ فِي جَوَابِهِ الرَّحْمَةُ، وَإِنْ ذَكَرَ السَّلَامَ وَالرَّحْمَةَ فِي الِابْتِدَاءِ زِيدَ فِي جَوَابِهِ الْبَرَكَةُ، وَإِنْ ذَكَرَ الثَّلَاثَةَ فِي الِابْتِدَاءِ أَعَادَهَا فِي الْجَوَابِ. رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّه، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّه وَبَرَكَاتُهُ. وَآخَرُ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّه، فَقَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّه وَبَرَكَاتُهُ، وَجَاءَ ثَالِثٌ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّه وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّه وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: نَقَصْتَنِي، فَأَيْنَ قَوْلُ اللَّه: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ مَا تَرَكْتَ لِي فَضْلًا فَرَدَدْتُ عَلَيْكَ مَا ذَكَرْتَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمُبْتَدِئُ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَالْمُجِيبُ، يَقُولُ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، هَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الْحَسَنُ، وَالَّذِي خَطَرَ بِبَالِي فِيهِ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ كَانَ الِابْتِدَاءُ وَاقِعًا بِذِكْرِ اللَّه، فَإِذَا قَالَ الْمُجِيبُ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ كَانَ الِاخْتِتَامُ وَاقِعًا بِذِكْرِ اللَّه، وَهَذَا يُطَابِقُ قَوْلَهُ: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ [الْحَدِيدِ: 3] وَأَيْضًا لَمَّا

وَقَعَ الِابْتِدَاءُ وَالِاخْتِتَامُ بِذِكْرِ اللَّه فَإِنَّهُ يُرْجَى أَنْ يَكُونَ مَا وَقَعَ بَيْنَهُمَا يَصِيرُ مَقْبُولًا ببركته كما في قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هُودٍ: 114] فَلَوْ خَالَفَ الْمُبْتَدِئُ فَقَالَ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ فَقَدْ خَالَفَ السُّنَّةَ، فَالْأَوْلَى لِلْمُجِيبِ أَنْ يَقُولَ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا تَرَكَ الِافْتِتَاحَ بِذِكْرِ اللَّه، فَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ الِاخْتِتَامَ بِذِكْرِ اللَّه. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إِنْ شَاءَ قَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَإِنْ شَاءَ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ قَالَ تَعَالَى فِي حق نوح: يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا [هُودٍ: 48] وَقَالَ عَنِ الْخَلِيلِ: قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مَرْيَمَ: 47] وقال في قصة لوط: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [هود: 69] وقال عن يحيى: وَسَلامٌ عَلَيْهِ وَقَالَ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ [النَّمْلِ: 59] وَقَالَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرَّعْدِ: 23، 24] وَقَالَ عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] وقال: فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ وَأَمَّا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَقَوْلُهُ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه: 47] وَقَالَ عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ/ أَمُوتُ [مَرْيَمَ: 33] فَثَبَتَ أَنَّ الْكُلَّ جَائِزٌ، وَأَمَّا فِي التَّحْلِيلِ مِنَ الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ بِالِاتِّفَاقِ، وَاخْتَلَفُوا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ أَنَّ التَّنْكِيرَ أَفْضَلُ أَمِ التَّعْرِيفُ؟ فَقِيلَ التَّنْكِيرُ أَفْضَلُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ السَّلَامِ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ فَكَانَ أَفْضَلَ. الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ مِنَ اللَّه وَالْمَلَائِكَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ عَلَى مَا عَدَدْنَاهُ فِي الْآيَاتِ، وَأَمَّا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَإِنَّمَا وَرَدَ فِي تَسْلِيمِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ قَالَ مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه: 47] وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَالسَّلامُ عَلَيَّ [مريم: 33] وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْمَعْنَى الْمَعْقُولُ أَنَّ لَفْظَ السَّلَامِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَدُلُّ عَلَى أَصْلِ الْمَاهِيَّةِ، وَالتَّنْكِيرُ يَدُلُّ عَلَى أَصْلِ الْمَاهِيَّةِ مَعَ وَصْفِ الْكَمَالِ، فَكَانَ هَذَا أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَرَاكِبُ الْفَرَسِ عَلَى رَاكِبِ الْحِمَارِ، وَالصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْأَقَلُّ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَالْقَائِمُ عَلَى الْقَاعِدِ» . وَأَقُولُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّاكِبَ أَكْثَرُ هَيْبَةً فَسَلَامُهُ يُفِيدُ زَوَالَ الْخَوْفِ وَالثَّانِي: أَنَّ التَّكَبُّرَ بِهِ أَلْيَقُ، فَأُمِرَ بِالِابْتِدَاءِ بِالتَّسْلِيمِ كَسْرًا لِذَلِكَ التَّكَبُّرِ، وَأَمَّا أَنَّ الْقَائِمَ يُسَلِّمُ عَلَى الْقَاعِدِ فَلِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَصَلَ إِلَيْهِ، فَلَا بُدَّ وَأَنَّ يَفْتَتِحَ هَذَا الْوَاصِلُ الْمَوْصُولَ بِالْخَيْرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: السُّنَّةُ فِي السَّلَامِ الْجَهْرُ لِأَنَّهُ أَقْوَى فِي إِدْخَالِ السُّرُورِ فِي الْقَلْبِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: السُّنَّةُ فِي السَّلَامِ الْإِفْشَاءُ وَالتَّعْمِيمُ لِأَنَّ فِي التَّخْصِيصِ إِيحَاشًا. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: الْمُصَافَحَةُ عِنْدَ السَّلَامِ عَادَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا تَصَافَحَ الْمُسْلِمَانِ تَحَاتَّتْ ذُنُوبُهُمَا كَمَا يَتَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ» . الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَنْ قَالَ لِآخَرَ: أَقْرِئْ فُلَانًا عَنِّي السَّلَامَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إِذَا اسْتَقْبَلَكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَاقْصِدِ الرَّجُلَ وَالْمَلَكَيْنِ فَإِنَّكَ إِذَا سَلَّمْتَ عَلَيْهِمَا رَدَّا السَّلَامَ عَلَيْكَ، وَمَنْ سَلَّمَ الْمَلَكُ عَلَيْهِ فَقَدْ سَلِمَ مِنْ عَذَابِ اللَّه.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: إِذَا دَخَلْتَ بَيْتًا خَالِيًا فَسَلِّمْ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّكَ تُسَلِّمُ مِنَ اللَّه عَلَى نَفْسِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّكَ تُسَلِّمُ عَلَى مَنْ فِيهِ مِنْ مُؤْمِنِي الْجِنِّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّكَ تَطْلُبُ السَّلَامَةَ بِبَرَكَةِ السَّلَامِ مِمَّنْ فِي الْبَيْتِ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالْمُؤْذِيَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: السُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدِئُ بِالسَّلَامِ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَكَذَا الْمُجِيبُ. رُوِيَ أَنَّ وَاحِدًا سَلَّمَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ كَانَ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ، فَقَامَ وَتَيَمَّمَ ثُمَّ رَدَّ السَّلَامَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: السُّنَّةُ إِذَا الْتَقَى إِنَسَانَانِ أَنْ يَبْتَدِرَا بِالسَّلَامِ إِظْهَارًا لِلتَّوَاضُعِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: لِنَذْكُرِ الْمَوَاضِعَ الَّتِي لَا يُسَلَّمُ فِيهَا، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ: الْأَوَّلُ: رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يُبْدَأُ الْيَهُودِيُّ بِالسَّلَامِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُبْدَأُ بِالسَّلَامِ فِي كِتَابٍ وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا تُسَلِّمْ عَلَيْهِمْ وَلَا تُصَافِحْهُمْ، وَإِذَا دَخَلْتَ فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتبع الهدى. ورخص بعض العلماء فِي ابْتِدَاءِ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ إِذَا دَعَتْ إِلَى ذَلِكَ حَاجَةٌ، وَأَمَّا إِذَا سَلَّمُوا عَلَيْنَا فَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ وَعَلَيْكَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ عِنْدَ الدُّخُولِ عَلَى الرَّسُولِ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَعَلَيْكُمْ، فَجَرَتِ السُّنَّةُ بِذَلِكَ، ثم هاهنا تَفْرِيعٌ وَهُوَ أَنَّا إِذَا قُلْنَا لَهُمْ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، فَهَلْ يَجُوزُ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ فِيهِ؟ قَالَ الْحَسَنُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلْكَافِرِ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، لَكِنْ لَا يُقَالُ وَرَحْمَةُ اللَّه لِأَنَّهَا اسْتِغْفَارٌ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِنَصْرَانِيٍّ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّه فَقِيلَ لَهُ فِيهِ، فَقَالَ: أَلَيْسَ فِي رَحْمَةِ اللَّه يَعِيشُ. الثَّانِي: إِذَا دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَلِّمَ لِاشْتِغَالِ النَّاسِ بِالِاجْتِمَاعِ، فَإِنْ سَلَّمَ فَرَدَّ بَعْضُهُمْ فَلَا بَأْسَ، وَلَوِ اقْتَصَرُوا عَلَى الْإِشَارَةِ كَانَ أَحْسَنَ. الثَّالِثُ: إِذَا دَخَلَ الْحَمَّامَ فَرَأَى النَّاسَ مُتَّزِرِينَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُتَّزِرِينَ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، الرَّابِعُ: الْأَوْلَى تَرْكُ السَّلَامِ عَلَى الْقَارِئِ، لِأَنَّهُ إِذَا اشْتَغَلَ بِالْجَوَابِ يَقْطَعُ عَلَيْهِ التِّلَاوَةَ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِيمَنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِرِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَمُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ، الْخَامِسُ: لَا يُسَلِّمُ عَلَى الْمُشْتَغِلِ بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. السَّادِسُ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ. لَا يُسَلِّمُ عَلَى لَاعِبِ النَّرْدِ، وَلَا عَلَى الْمُغَنِّي، وَمُطَيِّرِ الْحَمَامِ، وَفِي مَعْنَاهُ كُلُّ مَنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِنَوْعِ مَعْصِيَةٍ، السَّابِعُ: لَا يُسَلِّمُ عَلَى مَنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، مَرَّ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجُلٌ وَهُوَ يَقْضِي حَاجَتَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَامَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى الْجِدَارِ فَتَيَمَّمَ ثُمَّ رَدَّ الْجَوَابَ، وَقَالَ: «لَوْلَا أَنِّي خَشِيتُ أَنَّ تَقُولَ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ الْجَوَابَ لَمَا أَجَبْتُكَ إِذَا رَأَيْتَنِي عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا تُسَلِّمْ عَلَيَّ فَإِنَّكَ إِنْ سَلَّمْتَ عَلَيَّ لَمْ أَرُدَّ عَلَيْكَ» الثَّامِنُ: إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ سَلَّمَ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَإِنْ حَضَرَتْ أَجْنَبِيَّةٌ هُنَاكَ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِمَا. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي أَحْكَامِ الْجَوَابِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ: الْأَوَّلُ: رَدُّ الْجَوَابِ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها وَلِأَنَّ تَرْكَ الْجَوَابِ إِهَانَةٌ وَضَرَرٌ وَحَرَامٌ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ عَلَى قَوْمٍ مُسْلِمِينَ فَيُسَلِّمْ عَلَيْهِمْ وَلَا يَرُدُّونَ عَلَيْهِ إِلَّا نَزَعَ عَنْهُمْ رُوحُ الْقُدُسِ وَرَدَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ. الثَّانِي: رَدُّ الْجَوَابِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَالْأَوْلَى لِلْكُلِّ أَنْ يَذْكُرُوا الْجَوَابَ إِظْهَارًا لِلْإِكْرَامِ وَمُبَالَغَةً فِيهِ، الثَّالِثُ: أَنَّهُ وَاجِبٌ/ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنْ أَخَّرَ حَتَّى انْقَضَى الْوَقْتُ فَإِنْ أَجَابَ بَعْدَ فَوْتِ الْوَقْتِ كَانَ ذَلِكَ ابْتِدَاءَ سَلَامٍ وَلَا يَكُونُ جَوَابًا. الرَّابِعُ: إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ سَلَامٌ فِي كِتَابٍ فَجَوَابُهُ بِالْكَتَبَةِ أَيْضًا وَاجِبٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها الْخَامِسُ: إِذَا قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ: وَعَلَيْكُمُ السلام. إلا أن السنة أن يزيد فيه الرحمة والبركة ليدخل تحت قوله (فحيوا بأحسن منها) أما إذا

[سورة النساء (4) : آية 87]

قال: السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته، فظاهر الآية يقتضي أنه لا يجوز الاقتصار على قوله وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ. السَّادِسُ: رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجْهَرُ بِالرَّدِّ يَعْنِي الْجَهْرَ الْكَثِيرَ. السَّابِعُ: إِنْ سَلَّمَتِ الْمَرْأَةُ الْأَجْنَبِيَّةُ عَلَيْهِ وَكَانَ يَخَافُ فِي رَدِّ الْجَوَابِ عَلَيْهَا تُهْمَةً أَوْ فِتْنَةً لَمْ يَجِبِ الرَّدُّ، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ. الثَّامِنُ: حَيْثُ قُلْنَا إِنَّهُ لَا يُسَلِّمُ، فَلَوْ سَلَّمَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الرَّدُّ، لِأَنَّهُ أَتَى بِفِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فَكَانَ وَجُودُهُ كَعَدَمِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ التَّحِيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ صَارَ كِنَايَةً عَنِ الْإِكْرَامِ، فَجَمِيعُ أَنْوَاعِ الْإِكْرَامِ يَدْخُلُ تَحْتَ لَفْظِ التَّحِيَّةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: مَنْ وَهَبَ لِغَيْرِ ذِي رَحِمِ مُحَرَّمٍ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا، فَإِذَا أُثِيبَ مِنْهَا فَلَا رُجُوعَ فِيهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَهُ الرُّجُوعُ فِي حَقِّ الْوَلَدِ، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ، احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها يَدْخُلُ فِيهِ التَّسْلِيمُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْهِبَةُ، وَمُقْتَضَاهُ وُجُوبُ الرَّدِّ إِذَا لَمْ يَصِرْ مُقَابِلًا بِالْأَحْسَنِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتِ الْوُجُوبُ فَلَا أَقَلَّ مِنَ الْجَوَازِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا الْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ، بِدَلِيلٍ أَنَّهُ لَوْ أُثِيبَ بِمَا هو أقل منه سقطت منكة الرَّدِّ بِالْإِجْمَاعِ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَأْتِيَ بِالْأَحْسَنِ، ثُمَّ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى قَوْلِهِ بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا إِلَّا الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ» وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ هِبَةَ الْأَجْنَبِيِّ يَحْرُمُ الرُّجُوعُ فِيهَا، وَهِبَةَ الْوَلَدِ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْحَسِيبِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُحَاسِبِ عَلَى الْعَمَلِ، كَالْأَكِيلِ وَالشَّرِيبِ وَالْجَلِيسِ بِمَعْنَى الْمُؤَاكِلِ وَالْمُشَارِبِ وَالْمُجَالِسِ. الثَّانِي: أَنَّهُ بِمَعْنَى الْكَافِي فِي قَوْلِهِمْ: حَسْبِي كَذَا أَيْ كَافِيَّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَسْبِيَ اللَّهُ [التَّوْبَةِ: 129، الزمر: 38] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْوَعِيدُ، فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ قَدْ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَى الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ، / ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْمُسْلِمَ مَا كَانَ يَتَفَحَّصُ عَنْ حَالِهِ، بَلْ رُبَّمَا قَتَلَهُ طَمَعًا فِي سَلَبِهِ، فاللَّه تَعَالَى زَجَرَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَتَعَرَّضُوا لَهُ بِالْقَتْلِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً أَيْ هُوَ مُحَاسِبُكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ وَكَافِي فِي إِيصَالِ جَزَاءِ أَعْمَالِكُمْ إِلَيْكُمْ فكونوا على حذر من مخالفة هذا التكليف، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الْعِنَايَةِ بِحِفْظِ الدِّمَاءِ والمنع من إهدارها ثم قال تعالى: [سورة النساء (4) : آية 87] اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إن لَا يَصِيرَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ مَقْتُولًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ

عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً ثُمَّ بَالَغَ فِي تَأْكِيدِ ذَلِكَ الْوَعِيدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ مُتَلَازِمَانِ، فَقَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَقَوْلُهُ: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَدْلِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ [آلِ عِمْرَانَ: 18] وَكَقَوْلِهِ فِي طه: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّوْحِيدِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه: 15] وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَدْلِ، فَكَذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ فِي حُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ يَجْمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي عَرَصَةِ الْقِيَامَةِ فَيَنْتَصِفَ لِلْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ. الثَّانِي: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: مَنْ سَلَّمَ عَلَيْكُمْ وَحَيَّاكُمْ فَاقْبَلُوا سَلَامَهُ وَأَكْرِمُوهُ وَعَامِلُوهُ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ، فَإِنَّ الْبَوَاطِنَ إِنَّمَا يَعْرِفُهَا اللَّه الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنَّمَا تَنْكَشِفُ بَوَاطِنُ الْخَلْقِ لِلْخَلْقِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِمَّا خَبَرٌ للمبتدأ، وإما اعتراض والخبر لَيَجْمَعَنَّكُمْ واللام لا من الْقَسَمِ، وَالتَّقْدِيرُ: واللَّه لَيَجْمَعَنَّكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: لَيَجْمَعَنَّكُمْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ فِي الْمَوْتِ أَوِ الْقُبُورِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. الثَّانِي: التَّقْدِيرُ: لَيَضُمَّنَّكُمْ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيَجْمَعُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ بِأَنْ يَجْمَعَكُمْ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ سُمِّيَتِ الْقِيَامَةُ قِيَامَةً لِأَنَّ النَّاسَ يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: سُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّ النَّاسَ يَقُومُونَ لِلْحِسَابِ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْمُطَفِّفِينَ: 6] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْقِيَامُ الْقِيَامَةُ، كَالطِّلَابِ وَالطِّلَابَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ أَنَّ الْقِيَامَةَ سَتُوجَدُ لَا مَحَالَةَ، وَجَعَلَ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ مُجَرَّدَ إِخْبَارِ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ، وَهَذَا حَقٌّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَسَائِلَ الْأُصُولِيَّةَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا مَا الْعِلْمُ بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ يَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَى الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ. وَالْأَوَّلُ مِثْلُ عِلْمِنَا بِافْتِقَارِ الْعَالَمِ إِلَى صَانِعٍ عَالِمٍ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ قَادِرٍ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، فَإِنَّا مَا لَمْ نَعْلَمْ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُنَا الْعِلْمُ بِصِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ هَذَا شَأْنُهَا فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ إِثْبَاتُهَا بِالْقُرْآنِ وَإِخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِلَّا وَقَعَ الدَّوْرُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ جُمْلَةُ الْمَسَائِلَ الَّتِي لَا يَتَوَقَّفُ الْعِلْمُ بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ عَلَى الْعِلْمِ بِصِحَّتِهَا فَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ بِكَلَامِ اللَّه وَإِخْبَارِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ قِيَامَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ، فَلَا جَرَمَ أَمْكَنَ إِثْبَاتُهُ بِالْقُرْآنِ وَبِكَلَامِ اللَّه، فَثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ بِإِخْبَارِ اللَّه عَنْهُ اسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّهُ يَجِبُ كَوْنُهُ تَعَالَى صَادِقًا وَأَنَّ الْكَذِبَ وَالْخُلْفَ فِي قَوْلِهِ مُحَالٌ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ بَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِكَوْنِ الْكَذِبِ قَبِيحًا، وَعَالَمٌ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ يَكْذِبَ. إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ عَالِمٌ بِقُبْحِ الْكَذِبِ، وَعَالِمٌ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُ لِأَنَّ الْكَذِبَ قَبِيحٌ لِكَوْنِهِ كَذِبًا، واللَّه تَعَالَى غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى شَيْءٍ أَصْلًا، وَثَبَتَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِكَوْنِهِ عَالِمًا بِهَذَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَأَمَّا أن كل من كان كذلك استحال

[سورة النساء (4) : آية 88]

يَكْذِبَ فَهُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْكَذِبَ جِهَةُ صَرْفٍ لَا جِهَةَ دُعَاءٍ، فَإِذَا خَلَا عَنْ مُعَارِضِ الْحَاجَةِ بَقِيَ ضَارًّا مَحْضًا فَيَمْتَنِعُ صُدُورُ الْكَذِبِ عَنْهُ، وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَدَلِيلُهُمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَاذِبًا لَكَانَ كَذِبُهُ قَدِيمًا، وَلَوْ كَانَ كَذِبُهُ قَدِيمًا لَامْتَنَعَ زَوَالُ كَذِبِهِ لِامْتِنَاعِ الْعَدَمِ عَلَى الْقَدِيمِ، وَلَوِ امْتَنَعَ زَوَالُ كَذِبِهِ قَدِيمًا لَامْتَنَعَ كَوْنُهُ صَادِقًا، لِأَنَّ وُجُودَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ يَمْنَعُ وُجُودَ الضِّدِّ الْآخَرِ، فَلَوْ كَانَ كَاذِبًا لَامْتَنَعَ أن يصدق لكنه غير ممتنع، لا نا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ مُطَابِقٍ/ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَالْعِلْمُ بِهَذِهِ الصِّحَّةِ ضَرُورِيٌّ، فَإِذَا كَانَ إِمْكَانُ الصِّدْقِ قَائِمًا كَانَ امْتِنَاعُ الْكَذِبِ حَاصِلًا لَا مَحَالَةَ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْقَطْعِ بِكَوْنِهِ تَعَالَى صَادِقًا. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّه تَعَالَى مُحْدَثٌ، قَالُوا لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ حَدِيثًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزُّمَرِ: 23] وَالْحَدِيثُ هُوَ الْحَادِثُ أَوِ الْمُحْدَثُ، وَجَوَابُنَا عَنْهُ: إِنَّكُمَا إِنَّمَا تَحْكُمُونَ بِحُدُوثِ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ الْحَرْفُ وَالصَّوْتُ وَنَحْنُ لَا نُنَازِعُ فِي حُدُوثِهِ، إِنَّمَا الَّذِي نَدَّعِي قِدَمَهُ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، وَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْبَتَّةَ بِالِاتِّفَاقِ مِنَّا وَمِنْكُمْ، فَأَمَّا مِنَّا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا مِنْكُمْ فَإِنَّكُمْ تُنْكِرُونَ وُجُودَ كَلَامٍ سِوَى هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَقُولُوا بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ على حدوثه واللَّه أعلم. [سورة النساء (4) : آية 88] فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) [في قَوْلُهُ تَعَالَى فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ أَحْوَالِ المنافقين ذكره اللَّه تعالى، وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلِهِ مُسْلِمِينَ فَأَقَامُوا بِالْمَدِينَةِ مَا شَاءَ اللَّه، ثُمَّ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّه: نُرِيدُ أَنْ نَخْرُجَ إِلَى الصَّحْرَاءِ فَائْذَنْ لَنَا فِيهِ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَلَمَّا خَرَجُوا لَمْ يَزَالُوا يَرْحَلُونَ مَرْحَلَةً مَرْحَلَةً حَتَّى لَحِقُوا بِالْمُشْرِكِينَ فَتَكَلَّمَ الْمُؤْمِنُونَ فِيهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ مِثْلَنَا لَبَقَوْا مَعَنَا وَصَبَرُوا كَمَا صَبَرْنَا وَقَالَ قَوْمٌ: هُمْ مُسْلِمُونَ، وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَنْسِبَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ أَمْرُهُمْ، فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى نِفَاقَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. الثَّانِي: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ بِمَكَّةَ، وَكَانُوا يُعِينُونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَاخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِمْ وَتَشَاجَرُوا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ. الثَّالِثُ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي الَّذِينَ تَخَلَّفُوا يَوْمَ أُحُدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: لو نعلم قتالا لا تبعناكم، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ، فَمِنْهُمْ فِرْقَةٌ يَقُولُونَ كَفَرُوا، وَآخَرُونَ قَالُوا: لَمْ يَكْفُرُوا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ طَعَنَ فِي هَذَا الْوَجْهِ وَقَالَ: فِي/ نَسَقِ الْآيَةِ مَا يَقْدَحُ فِيهِ، وَإِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء: 89] الرَّابِعُ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ ضَلُّوا وَأَخَذُوا أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ وَانْطَلَقُوا بِهَا إِلَى الْيَمَامَةِ فَاخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِمْ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ. الْخَامِسُ: هُمُ الْعُرَنِيُّونَ الَّذِينَ أَغَارُوا وَقَتَلُوا يَسَارًا مَوْلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. السَّادِسُ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْإِفْكِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أن «فئتين» نصب على الحال كقولك: مالك قائما، أي مالك فِي حَالِ الْقِيَامِ، وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. الثَّانِي: أنه نصب على خبر كان، والتقدير: مالكم صِرْتُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ

[سورة النساء (4) : آية 89]

فِئَتَيْنِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، أَيْ لِمَ تَخْتَلِفُونَ فِي كُفْرِهِمْ مَعَ أَنَّ دَلَائِلَ كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ، فَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَخْتَلِفُوا فِيهِ بَلْ يَجِبُ أَنْ تَقْطَعُوا بِكُفْرِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا سَمَّاهُمْ مُنَافِقِينَ وَإِنْ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ لِأَنَّهُمْ وُصِفُوا بِالصِّفَةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا مِنْ قَبْلُ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فِئَتَيْنِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ فِرْقَةً مِنْهُمْ كَانَتْ تَمِيلُ إِلَيْهِمْ وَتَذُبُّ عَنْهُمْ وَتُوَالِيهِمْ، وَفِرْقَةً مِنْهُمْ تُبَايِنُهُمْ وَتُعَادِيهِمْ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَأُمِرُوا بِأَنْ يَكُونُوا عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ فِي التَّبَايُنِ وَالتَّبَرِّي وَالتَّكْفِيرِ، واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كُفْرِهِمْ: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الرَّكْسُ: رَدُّ الشَّيْءِ مِنْ آخِرِهِ إِلَى أَوَّلِهِ، فَالرَّكْسُ وَالنَّكْسُ وَالْمَرْكُوسُ وَالْمَنْكُوسُ وَاحِدٌ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلرَّوَثِ الرَّكْسُ لِأَنَّهُ رُدَّ إِلَى حَالَةٍ خَسِيسَةٍ، وَهِيَ حَالَةُ النَّجَاسَةِ، وَيُسَمَّى رَجِيعًا لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، وَفِيهِ لُغَتَانِ: رَكَسَهُمْ وَأَرْكَسَهُمْ فَارْتَكَسُوا، أَيِ ارْتَدُّوا. وَقَالَ أُمَيَّةُ. فَأُرْكِسُوا فِي حَمِيمِ النَّارِ إِنَّهُمْ ... كَانُوا عُصَاةً وَقَالُوا الْإِفْكَ وَالزُّورَا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ رَدَّهُمْ إِلَى أَحْكَامِ الْكُفَّارِ مِنَ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ وَالسَّبْيِ وَالْقَتْلِ بِمَا كَسَبُوا، أَيْ بِمَا أَظْهَرُوا مِنَ الارتداد بعد ما كَانُوا عَلَى النِّفَاقِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقَ مَا دَامَ يَكُونُ مُتَمَسِّكًا فِي الظَّاهِرِ بِالشَّهَادَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ إِلَى قَتْلِهِ، فَإِذَا أَظْهَرَ الْكُفْرَ فَحِينَئِذٍ يُجْرِي اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ أَحْكَامَ الكفار. المسألة الثالثة: قرأ ابي كَعْبٍ وَعَبْدُ اللَّه بْنُ مَسْعُودٍ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَرْكَسَ وَرَكَسَ لُغَتَانِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ/ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَضَلَّ اللَّهُ لَيْسَ أَنَّهُ هُوَ خَلَقَ الضَّلَالَ فِيهِ لِلْوُجُوهِ الْمَشْهُورَةِ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا رَدَّهُمْ وَطَرَدَهُمْ بِسَبَبِ كَسْبِهِمْ وَفِعْلِهِمْ، وَذَلِكَ يَنْفِي الْقَوْلَ بِأَنَّ إِضْلَالَهُمْ حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّه وَعِنْدَ هَذَا حَمَلُوا قَوْلَهُ: مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَكَمَ بِضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يُكَفِّرُ فُلَانًا وَيُضِلُّهُ: بِمَعْنَى أَنَّهُ حَكَمَ بِهِ وَأَخْبَرَ عَنْهُ: الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا إِلَى الْجَنَّةِ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّه عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى يُضِلُّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِضْلَالُ مُفَسَّرًا بِمَنْعِ الْأَلْطَافِ. وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ضَعْفَ هَذِهِ الْوُجُوهِ، ثُمَّ نَقُولُ: هَبْ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَقَدْ تَوَجَّهَ الْإِشْكَالُ لِأَنَّ انْقِلَابَ عِلْمِ اللَّه تَعَالَى جَهْلًا مُحَالٌ، وَالْمُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَضَلَّهُمْ عَنِ الدِّينِ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا فَالْمُؤْمِنُونَ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا كَانُوا يُرِيدُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الْإِيمَانَ وَيَحْتَالُونَ فِي إِدْخَالِهِمْ فِيهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَضَلَّهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ امْتَنَعَ أَنْ يَجِدَ الْمَخْلُوقُ سَبِيلًا إِلَى إدخاله في الايمان، وهذا ظاهر ثم قال تعالى: [سورة النساء (4) : آية 89] وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً]

وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [النِّسَاءِ: 88] وَكَانَ ذَلِكَ اسْتِفْهَامًا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ قَرَّرَ ذَلِكَ الِاسْتِبْعَادَ بِأَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ بَلَغُوا فِي الْكُفْرِ إِلَى أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ أَنْ تَصِيرُوا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ كُفَّارًا، فَلَمَّا بَلَغُوا فِي تَعَصُّبِهِمْ فِي الْكُفْرِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَكَيْفَ تَطْمَعُونَ فِي إِيمَانِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَتَكُونُونَ سَواءً رُفِعَ بِالنَّسَقِ عَلَى تَكْفُرُونَ وَالْمَعْنَى: وَدُّوا لَوْ/ تَكُونُونَ، وَالْفَاءُ عَاطِفَةٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ جَوَابَ التَّمَنِّي، وَلَوْ أَرَادَ ذَلِكَ عَلَى تَأْوِيلِ إِذَا كَفَرُوا اسْتَوَوْا لَكَانَ نَصْبًا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [الْقَلَمِ: 9] وَلَوْ قِيلَ: (فَيُدْهِنُوا) عَلَى الْجَوَابِ لكان ذلك جائزا في الاعراب، ومثله قوله: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ [النِّسَاءِ: 102] وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَتَكُونُونَ سَواءً أَيْ فِي الْكُفْرِ، وَالْمُرَادُ فَتَكُونُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ سَوَاءٌ إِلَّا أَنَّهُ اكْتَفَى بِذِكْرِ الْمُخَاطَبِينَ عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِمْ لِوُضُوحِ الْمَعْنَى بِسَبَبِ تَقَدُّمِ ذِكْرِهِمْ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ لِلْمُؤْمِنِينَ كُفْرَهُمْ وَشِدَّةَ غُلُوِّهُمْ فِي ذَلِكَ الْكُفْرِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ شَرَحَ لِلْمُؤْمِنِينَ كَيْفِيَّةَ الْمُخَالَطَةِ مَعَهُمْ فَقَالَ: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُوَالَاةُ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْتَهِرِينَ بِالزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ، وَهَذَا مُتَأَكِّدٌ بِعُمُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ أَعَزَّ الْأَشْيَاءِ وَأَعْظَمَهَا عِنْدَ جَمِيعِ الْخَلْقِ هُوَ الدِّينُ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي بِهِ يُتَقَرَّبُ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَيُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى طَلَبِ السَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْعَدَاوَةُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِهِ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْعَدَاوَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ طَلَبُ الْمَحَبَّةِ وَالْوِلَايَةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ أَعْظَمُ مُوجِبَاتِ الْعَدَاوَةِ حَاصِلًا فِيهِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: التَّقْدِيرُ حَتَّى يُسْلِمُوا وَيُهَاجِرُوا، لِأَنَّ الْهِجْرَةَ فِي سَبِيلِ اللَّه لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى إِيجَابِ الْهِجْرَةِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُمْ وَإِنْ أَسْلَمُوا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مُوَالَاةٌ إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا [الْأَنْفَالِ: 72] . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ إِنَّمَا كَانَ لَازِمًا حَالَ مَا كَانَتِ الْهِجْرَةُ مَفْرُوضَةً قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَقَامَ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ وَأَنَا بَرِيءٌ مَنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ» فَكَانَتِ الْهِجْرَةُ وَاجِبَةً إِلَى أَنْ فُتِحَتْ مَكَّةُ، ثُمَّ نُسِخَ فَرْضُ الْهِجْرَةِ. عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عباس قال: قال رسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ ثَابِتٌ فِي كُلِّ مَنْ أَقَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَرَأَى فَرْضَ الْهِجْرَةِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَائِمًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْهِجْرَةَ تَارَةً تَحْصُلُ بِالِانْتِقَالِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِيمَانِ، وَأُخْرَى تَحْصُلُ بِالِانْتِقَالِ عَنْ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ إِلَى أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ» وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: الْهِجْرَةُ فِي سَبِيلِ اللَّه عِبَارَةٌ عَنِ الْهِجْرَةِ عَنْ تَرْكِ مَأْمُورَاتِهِ/ وَفِعْلِ مَنْهِيَّاتِهِ، وَلَمَّا كَانَ كُلُّ هَذِهِ الْأُمُورِ مُعْتَبَرًا لَا

[سورة النساء (4) : آية 90]

جرم ذكر اللَّه تعالى لفظ عَامًّا يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ فَقَالَ: حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: حَتَّى يُهَاجِرُوا عَنِ الْكُفْرِ، بَلْ قَالَ: حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ مُهَاجِرَةُ دَارِ الْكُفْرِ وَمُهَاجِرَةُ شِعَارِ الْكُفْرِ، ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرْ تَعَالَى عَلَى ذِكْرِ الْهِجْرَةِ، بَلْ قَيَّدَهُ بِكَوْنِهِ فِي سَبِيلِ اللَّه، فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَتِ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ شِعَارِ الْكُفْرِ إِلَى شِعَارِ الْإِسْلَامِ لِغَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا، إِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ وُقُوعُ تِلْكَ الهجرة لأجل أمر اللَّه تعالى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً [النساء: 89] . وَالْمَعْنَى فَإِنْ أَعْرَضُوا عَنِ الْهِجْرَةِ وَلَزِمُوا مَوَاضِعَهُمْ خَارِجًا عَنِ الْمَدِينَةِ فَخُذُوهُمْ إِذَا قَدَرْتُمْ عَلَيْهِمْ، وَاقْتُلُوهُمْ أَيْنَمَا وَجَدْتُمُوهُمْ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَلِيًّا يَتَوَلَّى شَيْئًا مِنْ مُهِمَّاتِكُمْ وَلَا نَصِيرًا يَنْصُرُكُمْ عَلَى أعدائكم. [سورة النساء (4) : آية 90] إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ الكفار استثنى منه موضعين، الأول قوله تعالى: [إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: يَصِلُونَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: يَنْتَهُونَ إِلَيْهِمْ وَيَتَّصِلُونَ بِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَنْ دَخَلَ فِي عَهْدِ مَنْ كَانَ دَاخِلًا فِي عَهْدِكُمْ فَهُمْ أَيْضًا دَاخِلُونَ فِي عَهْدِكُمْ. قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه: وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْآيَةِ أَنْ يَقْصِدَ قَوْمٌ حَضْرَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَعَذَّرَ عليهم ذلك المطلوب فيلجئوا إِلَى قَوْمٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ إِلَى أَنْ يَجِدُوا السَّبِيلَ إِلَيْهِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: يَصِلُونَ مَعْنَاهُ يَنْتَسِبُونَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَكْثَرُهُمْ كَانُوا مُتَّصِلِينَ بِالرَّسُولِ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ أَبَاحَ دَمَ الْكُفَّارِ مِنْهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ مَنْ هُمْ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ هُمُ الْأَسْلَمِيُّونَ فَإِنَّهُ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَادَعَ وَقْتَ خروجه إلى مكة هلال ابن عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيَّ عَلَى أَنْ لَا يَعْصِيَهُ وَلَا يُعِينَ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَلَ إِلَى هِلَالٍ وَلَجَأَ إِلَيْهِ فَلَهُ مِنَ الْجِوَارِ مِثْلُ مَا لِهِلَالٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ بَنُو بَكْرِ بْنِ زَيْدِ/ مَنَاةَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ خُزَاعَةُ وَخُزَيْمَةُ بْنُ عَبْدِ مَنَاةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ بِشَارَةً عَظِيمَةً لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا رَفَعَ السَّيْفَ عَمَّنِ الْتَجَأَ إِلَى مَنِ الْتَجَأَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، فَبِأَنْ يَرْفَعَ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ عَمَّنِ الْتَجَأَ إِلَى مَحَبَّةِ اللَّه وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ كَانَ أَوْلَى واللَّه أَعْلَمُ. الْمَوْضِعُ الثَّانِي فِي الِاسْتِثْنَاءِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

المسألة الأولى: قوله تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى صِلَةِ الَّذِينَ وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ بِالْمُعَاهَدِينَ أَوِ الَّذِينَ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ فَلَا يُقَاتِلُونَكُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى صِفَةِ «قَوْمٍ» وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ، أَوْ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ فَلَا يُقَاتِلُونَكُمْ، والأوّل أولى لوجهين: أحدهما: قوله تعالى: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [النساء: 89] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ هُوَ تَرْكُهُمْ لِلْقِتَالِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا عَلَى الِاحْتِمَالِ الثاني فالسبب الموجب لترك التعرض لهم وهو الِاتِّصَالُ بِمَنْ تَرَكَ الْقِتَالَ. الثَّانِي: أَنَّ جَعْلَ تَرْكِ الْقِتَالِ مُوجِبًا لِتَرْكِ التَّعَرُّضِ أَوْلَى مِنْ جَعْلِ الِاتِّصَالِ بِمَنْ تَرَكَ الْقِتَالَ سَبَبًا قَرِيبًا لترك التعرض، لا ن عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ تَرْكُ الْقِتَالِ سَبَبًا قَرِيبًا لِتَرْكِ التَّعَرُّضِ، وَعَلَى السَّبَبِ الثَّانِي يَصِيرُ سَبَبًا بَعِيدًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ مَعْنَاهُ ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ عَنِ الْمُقَاتَلَةِ فَلَا يُرِيدُونَ قتالكم لأنكم مسلمون، ولا يريدون قتالهم لا نهم أَقَارِبُهُمْ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ قَوْلِهِ: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ وَذَكَرُوا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ بِإِضْمَارِ «قَدْ» وَذَلِكَ لِأَنَّ «قَدْ» تُقَرِّبُ/ الْمَاضِيَ مِنَ الْحَالِ، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، وَيُقَالُ أَتَانِي فُلَانٌ ذَهَبَ عَقْلُهُ، أَيْ أَتَانِي فُلَانٌ قَدْ ذَهَبَ عَقْلُهُ: وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ، أو جاؤكم حال ما قد حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ. الثَّانِي: أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، كأنه قال: أو جاؤكم ثُمَّ أَخْبَرَ بَعْدَهُ فَقَالَ: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ قَوْلُهُ: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ بَدَلًا من جاؤُكُمْ الثالث: أن يكون التقدير: جاؤكم قوما حصرت صدورهم أو جاؤكم رِجَالًا حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قَوْلُهُ: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ نُصِبَ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَنْصُوبٍ عَلَى الْحَالِ، إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الْمَوْصُوفَ الْمُنْتَصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَأُقِيمَتْ صِفَتُهُ مَقَامَهُ، وَقَوْلُهُ: أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ مَعْنَاهُ ضَاقَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ قِتَالِكُمْ وَعَنْ قِتَالِ قَوْمِهِمْ فَهُمْ لَا عَلَيْكُمْ وَلَا لَكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللَّه تَعَالَى أَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ أَوْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ قَتْلَ الْكَافِرِ إِلَّا إِذَا كَانَ مُعَاهِدًا أَوْ تَارِكًا لِلْقِتَالِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، وَعَلَى هَذَا التقدير فالقول بالنسخ لا زم لِأَنَّ الْكَافِرَ وَإِنْ تَرَكَ الْقِتَالَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ الْهِجْرَةَ عَلَى كُلِّ مَنْ أَسْلَمَ اسْتَثْنَى مَنْ لَهُ عُذْرٌ فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ وَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَصَدُوا الرَّسُولَ لِلْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَانَ فِي طَرِيقِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ مَا لَمْ يَجِدُوا طَرِيقًا إِلَيْهِ خَوْفًا مِنْ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ، فَصَارُوا إِلَى قَوْمٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ وَأَقَامُوا عِنْدَهُمْ إِلَى أَنْ يُمْكِنَهُمُ الْخَلَاصَ، وَاسْتَثْنَى بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ صَارَ إِلَى الرَّسُولِ وَلَا يُقَاتِلُ الرَّسُولَ وَلَا أَصْحَابَهُ، لِأَنَّهُ يَخَافُ اللَّه تَعَالَى فِيهِ، وَلَا يُقَاتِلُ الْكُفَّارَ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ أَقَارِبُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ أَبْقَى أَوْلَادَهُ وَأَزْوَاجَهُ بَيْنَهُمْ، فَيَخَافُ لَوْ قَاتَلَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا أَوْلَادَهُ وَأَصْحَابَهُ، فَهَذَانِ الْفَرِيقَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَحِلُّ قِتَالُهُمْ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمُ الْهِجْرَةُ وَلَا مُقَاتَلَةُ الْكُفَّارِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ التَّسْلِيطُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّلَاطَةِ وَهِيَ الْحِدَّةُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى مَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِكَفِّ بَأْسِ الْمُعَاهَدِينَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ ضِيقَ صُدُورِهِمْ عَنْ قِتَالِكُمْ إِنَّمَا هُوَ لِأَنَّ اللَّه قَذَفَ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَلَوْ أَنَّهُ تَعَالَى قَوَّى قُلُوبَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ لَتَسَلَّطُوا عَلَيْهِمْ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْبُحُ مِنَ اللَّه تَعَالَى تَسْلِيطُ الكفار عَلَى الْمُؤْمِنِ وَتَقْوِيَتُهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ

[سورة النساء (4) : آية 91]

فَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللَّه تَعَالَى قَوْمٌ مُؤْمِنُونَ لَا كَافِرُونَ، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى الْآيَةِ: وَلَوْ شَاءَ اللَّه لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ بِتَقْوِيَةِ قُلُوبِهِمْ لِيَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنْ أَقْدَمْتُمْ عَلَى مُقَاتَلَتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الظُّلْمِ. وَالثَّانِي: قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَفَعَلَ، وَهَذَا لَا يُفِيدُ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى/ الظُّلْمِ، وَهَذَا مَذْهَبُنَا إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ الظُّلْمَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ شَاءَ ذَلِكَ وَأَرَادَهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: فَلَقاتَلُوكُمْ جَوَابٌ «لِلَوْ» عَلَى التَّكْرِيرِ أَوِ الْبَدَلِ، على تأويل ولو شاء اللَّه سلطهم عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّه لَقَاتَلُوكُمْ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقُرِئَ فَلَقَتَّلُوكُمْ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ. ثُمَّ قَالَ: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ أَيْ فَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ، أَيِ الِانْقِيَادَ وَالِاسْتِسْلَامَ، وَقُرِئَ بِسُكُونِ اللَّامِ مَعَ فَتْحِ السِّينِ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا فَمَا أَذِنَ لَكُمْ فِي أَخْذِهِمْ وَقَتْلِهِمْ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَةِ: 5] وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، أَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوا الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَذَلِكَ ظَاهِرٌ عَلَى قَوْلِهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوا الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى الْكَافِرِينَ فَقَالَ الْأَصَمُّ: إِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى الْمُعَاهَدِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا منسوخة ثم قال تعالى: [سورة النساء (4) : آية 91] سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ، كَانُوا إِذَا أَتَوُا الْمَدِينَةَ أَسْلَمُوا وَعَاهَدُوا، وَغَرَضُهُمْ أَنْ يَأْمَنُوا الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ كَفَرُوا وَنَكَثُوا عُهُودَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ كُلَّمَا دَعَاهُمْ قَوْمُهُمْ إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ أُرْكِسُوا فِيها أَيْ رُدُّوا مَغْلُوبِينَ مَنْكُوسِينَ فِيهَا، وَهَذَا اسْتِعَارَةٌ لِشِدَّةِ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَعَدَاوَةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ مَنْ وَقَعَ فِي شَيْءٍ مَنْكُوسًا يَتَعَذَّرُ خُرُوجُهُ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ. وَالْمَعْنَى: فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوا قِتَالَكُمْ وَلَمْ يَطْلُبُوا الصُّلْحَ مِنْكُمْ وَلَمْ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ/ ثَقِفْتُمُوهُمْ. قَالَ الْأَكْثَرُونَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا اعْتَزَلُوا قِتَالَنَا وَطَلَبُوا الصُّلْحَ مِنَّا وَكَفُّوا أَيْدِيَهُمْ عَنْ إِيذَائِنَا لَمْ يَجُزْ لَنَا قِتَالُهُمْ وَلَا قَتْلُهُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ [الْمُمْتَحَنَةِ: 8] وَقَوْلُهُ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 190] فَخَصَّ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ لِمَنْ يُقَاتِلُنَا دُونَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْنَا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِكَلِمَةِ «إِنْ» عَلَى الشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، وَقَدْ شَرَحْنَا الْحَالَ فِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النِّسَاءِ: 31] . ثُمَّ قَالَ: وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً. وَفِي السُّلْطَانِ الْمُبِينِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ظَهَرَ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ هَؤُلَاءِ حُجَّةٌ وَاضِحَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَهِيَ ظُهُورُ

[سورة النساء (4) : آية 92]

عَدَاوَتِهِمْ وَانْكِشَافُ حَالِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالْغَدْرِ، وَإِضْرَارُهُمْ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ. الثَّانِي: أَنَّ السُّلْطَانَ الْمُبِينَ هُوَ إِذْنُ اللَّه تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ فِي قَتْلِ هَؤُلَاءِ الكفار. [سورة النساء (4) : آية 92] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) [فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا رَغَّبَ فِي مُقَاتَلَةِ الْكُفَّارِ، وَحَرَّضَ عَلَيْهَا ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمُحَارَبَةِ، فَمِنْهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَذِنَ فِي قَتْلِ الْكُفَّارِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَدْ يَتَّفِقُ أَنْ يَرَى الرَّجُلُ رَجُلًا يَظُنُّهُ كَافِرًا حَرْبِيًّا/ فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا، فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى حُكْمَ هَذِهِ الواقعة فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: رَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ كَانَ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَخْطَأَ الْمُسْلِمُونَ وَظَنُّوا أَنَّ أَبَاهُ الْيَمَانَ وَاحِدٌ مِنَ الْكُفَّارِ، فَأَخَذُوهُ وَضَرَبُوهُ بِأَسْيَافِهِمْ وَحُذَيْفَةُ يَقُولُ: إِنَّهُ أَبِي فَلَمْ يَفْهَمُوا قَوْلَهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ قَتَلُوهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَغْفِرُ اللَّه لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَلَمَّا سَمِعَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ ازْدَادَ وَقْعُ حُذَيْفَةَ عِنْدَهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ فَعَدَلَ إِلَى شِعْبٍ لِحَاجَةٍ لَهُ فَوَجَدَ رَجُلًا فِي غَنَمٍ لَهُ فَحَمَلَ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، فَقَتَلَهُ وَسَاقَ غَنَمَهُ ثُمَّ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا، فَذَكَرَ الْوَاقِعَةَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ» وَنَدِمَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: رُوِيَ أَنَّ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَكَانَ أَخًا لِأَبِي جَهْلٍ مِنْ أُمِّهِ، أَسْلَمَ وَهَاجَرَ خَوْفًا مِنْ قَوْمِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ قَبْلَ هِجْرَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْسَمَتْ أُمُّهُ لَا تَأْكُلُ وَلَا تَشْرَبُ وَلَا تَجْلِسُ تَحْتَ سَقْفٍ حَتَّى يَرْجِعَ، فَخَرَجَ أَبُو جَهْلٍ وَمَعَهُ الْحَرْثُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ فَأَتَيَاهُ وَطَوَّلَا فِي الْأَحَادِيثِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَلَيْسَ أَنَّ مُحَمَّدًا يَأْمُرُكَ بِبِرِّ الْأُمِّ فَانْصَرِفْ وَأَحْسِنْ إِلَى أُمِّكَ وَأَنْتَ عَلَى دِينِكَ فَرَجَعَ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْ مَكَّةَ قَيَّدُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَجَلَدَهُ أَبُو جَهْلٍ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَجَلَدَهُ الْحَرْثُ مِائَةً أُخْرَى، فَقَالَ لِلْحَرْثِ: هَذَا أَخِي فَمَنْ أَنْتَ يَا حرث، للَّه علي إن وجدتك خالي أَنْ أَقْتُلَكَ. وَرُوِيَ أَنَّ الْحَرْثَ قَالَ لِعَيَّاشٍ حِينَ رَجَعَ: إِنْ كَانَ دِينُكَ الْأَوَّلُ هُدًى فَقَدْ تَرَكْتَهُ وَإِنْ كَانَ ضَلَالًا فَقَدْ دَخَلْتَ الْآنَ فِيهِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى عَيَّاشٍ وَحَلَفَ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى أُمِّهِ حَلَفَتْ أُمُّهُ لَا يَزُولُ عَنْهُ الْقَيْدُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى دِينِهِ الْأَوَّلِ فَفَعَلَ، ثُمَّ هَاجَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَسْلَمَ الْحَرْثُ أَيْضًا وَهَاجَرَ، فَلَقِيَهُ عَيَّاشٌ خَالِيًا وَلَمْ يَشْعُرْ بِإِسْلَامِهِ فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا أُخْبِرَ بِأَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا نَدِمَ عَلَى فِعْلِهِ وَأَتَى رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: قَتَلْتُهُ وَلَمْ أَشْعُرْ بِإِسْلَامِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَيْ وَمَا كَانَ فِيمَا أَتَاهُ مِنْ رَبِّهِ وَعَهِدَ إِلَيْهِ.

الثَّانِي: مَا كَانَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَزْمِنَةِ ذَلِكَ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ حُرْمَةَ الْقَتْلِ كَانَتْ ثَابِتَةً مِنْ أَوَّلِ زَمَانِ التَّكْلِيفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: إِلَّا خَطَأً فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَالذَّاهِبُونَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ وَرَدَ عَلَى طَرِيقِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ/ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُؤَاخِذُ الْإِنْسَانَ عَلَى الْقَتْلِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْقَتْلُ قَتْلَ خَطَأٍ فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ. الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَحِيحٌ أَيْضًا عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا الْبَتَّةَ إِلَّا عِنْدَ الْخَطَأِ وَهُوَ مَا إِذَا رَأَى عَلَيْهِ شِعَارَ الْكُفَّارِ، أَوْ وَجَدَهُ فِي عَسْكَرِهِمْ فَظَنَّهُ مُشْرِكًا، فَهَهُنَا يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ، فَإِنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ كَافِرٌ مَعَ أَنَّهُ مَا كان كافر. الثَّالِثُ: أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا كَانَ مُؤْمِنٌ لِيَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مَرْيَمَ: 35] تَأْوِيلُهُ: مَا كَانَ اللَّه لِيَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، إِنَّمَا يَنْفِي عَنْهُ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها [النَّمْلِ: 60] مَعْنَاهُ مَا كُنْتُمْ لِتُنْبِتُوا، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ أَنْ يُنْبِتُوا الشَّجَرَ، إِنَّمَا نَفَى عَنْهُمْ أَنْ يُمْكِنَهُمْ إِنْبَاتَهَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِنْبَاتِ الشَّجَرِ. الرَّابِعُ: أَنَّ وَجْهَ الْإِشْكَالِ فِي حَمْلِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَهَذَا يَقْتَضِي الْإِطْلَاقَ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ إِنَّمَا يَلْزَمُ إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَذَلِكَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِيهِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَقْتَضِي صَرْفَ الْحُكْمِ عَنِ الْمُسْتَثْنَى لَا صَرْفَ الْمَحْكُومِ بِهِ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ تَأْثِيرُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي صَرْفِ الْحُكْمِ فَقَطْ بَقِيَ الْمُسْتَثْنَى غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ، وَحِينَئِذٍ يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ لَيْسَ بِإِثْبَاتٍ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ وَلَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ» وَيُقَالُ: لَا مُلْكَ إِلَّا بِالرِّجَالِ وَلَا رِجَالَ إِلَّا بِالْمَالِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي جُمْلَةِ هَذِهِ الصُّوَرِ لَا يُفِيدُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمُسْتَثْنَى مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتًا واللَّه أَعْلَمُ. الْخَامِسُ: قَالَ أَبُو هَاشِمٍ وَهُوَ أَحَدُ رُؤَسَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا فَيَبْقَى مُؤْمِنًا، إِلَّا أَنْ يَقْتُلَهُ خَطَأً فَيَبْقَى حِينَئِذٍ مُؤْمِنًا، قَالَ: وَالْمُرَادُ أَنَّ قَتْلَ الْمُؤْمِنِ لِلْمُؤْمِنِ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَطَأً فَإِنَّهُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَهُوَ أَصْلٌ بَاطِلٌ، واللَّه أَعْلَمُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى لَكِنْ، وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. قَالَ تَعَالَى: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً [النِّسَاءِ: 29] وَقَالَ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النَّجْمِ: 53] وَقَالَ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الْوَاقِعَةِ: 25، 26] واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ: خَطَأً وجوه: الأول: أنه مفعوله لَهُ، وَالتَّقْدِيرُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْتُلَهُ لِعِلَّةٍ مِنَ الْعِلَلِ، إِلَّا لِكَوْنِهِ خَطَأً. الثَّانِي: أَنَّهُ حَالٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَقْتُلُهُ الْبَتَّةَ إِلَّا حَالَ كَوْنِهِ خَطَأً. الثَّالِثُ: أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمَصْدَرِ وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا قَتْلًا خَطَأً. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا. وَفِي الْآيَةِ مسائل:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْقَتْلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: عَمْدٌ، وَخَطَأٌ، وَشِبْهُ عَمْدٍ. أَمَّا الْعَمْدُ: فَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ قَتْلَهُ بِالسَّبَبِ الَّذِي يُعْلَمُ إِفْضَاءُهُ إِلَى الْمَوْتِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ جَارِحًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَهَذَا قَوْلٌ الشافعي. وَأَمَّا الْخَطَأُ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصِدَ رَمْيَ الْمُشْرِكِ أَوِ الطَّائِرِ فَأَصَابَ مُسْلِمًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَظُنَّهُ مُشْرِكًا بِأَنْ كَانَ عَلَيْهِ شِعَارُ الْكُفَّارِ، وَالْأَوَّلُ خَطَأٌ فِي الْفِعْلِ، وَالثَّانِي خَطَأٌ فِي القصد. أما شبه العمد: فهو أن يضربه بعصا خفيفة لا تقتل غالبا فيموت منه. قال الشافعي رحمه اللَّه: هذا خطأ في القتل وإن كان عمدا في الضرب. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقَتْلُ بِالْمُثْقَلِ لَيْسَ بِعَمْدٍ مَحْضٍ، بَلْ هُوَ خَطَأٌ وَشِبْهُ عَمْدٍ، فَيَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ فَتَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ، وَلَا يَجُبْ فِيهِ الْقِصَاصُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّهُ عَمْدٌ مَحْضٌ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ. أَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ قَتْلٌ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ وَكَزَ الْقِبْطِيَّ فَقَضَى عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ ذلك الواكز يُسَمَّى بِالْقَتْلِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ حَكَى أَنَّ الْقِبْطِيَّ قَالَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ [الْقَصَصِ: 19] وَكَانَ الصَّادِرُ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْأَمْسِ لَيْسَ إِلَّا الْوَكْزَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقِبْطِيَّ سَمَّاهُ قَتْلًا، وَأَيْضًا أَنَّ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ سَمَّاهُ قَتْلًا حَيْثُ قَالَ: رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الْقَصَصِ: 33] وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ قَتْلُ ذَلِكَ الْقِبْطِيِّ بِذَلِكَ الْوَكْزِ، وَأَيْضًا أَنَّ اللَّه تَعَالَى سَمَّاهُ قَتْلًا حَيْثُ قَالَ: وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً [طه: 40] فَثَبَتَ أَنَّ الْوَكْزَ قَتْلٌ بِقَوْلِ الْقِبْطِيِّ وَبِقَوْلِ مُوسَى وَبِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا إِنَّ قَتِيلَ الْخَطَأِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ» فَسَمَّاهُ قَتْلًا، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ أَنَّهُ حَصَلَ الْقَتْلُ، وَأَمَّا أَنَّهُ عَمْدٌ فَالشَّاكُّ فِيهِ دَاخِلٌ فِي السَّفْسَطَةِ فَإِنَّ مَنْ ضَرَبَ رَأْسَ إِنْسَانٍ بِحَجَرِ الرَّحَا، أَوْ صَلَبَهُ أَوْ غَرَّقَهُ، أَوْ خَنَقَهُ ثُمَّ قَالَ: مَا قَصَدْتُ بِهِ قَتْلَهُ كَانَ ذَلِكَ إِمَّا كَاذِبًا أَوْ مَجْنُونًا، وَإِمَّا أَنَّهُ عُدْوَانٌ فَلَا يُنَازِعُ فِيهِ مُسْلِمٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ قَتْلٌ عَمْدٌ عُدْوَانٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا النَّصُّ: فَهُوَ جَمِيعُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ، كَقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [الْبَقَرَةِ: 178] وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [الْمَائِدَةِ: 45] وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً [الْإِسْرَاءِ: 33] وَجَزاءُ/ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 194] . وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِ الْقِصَاصِ صِيَانَةُ النُّفُوسِ وَالْأَرْوَاحِ عَنِ الْإِهْدَارِ. قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [الْبَقَرَةِ: 179] وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الْقِصَاصِ صِيَانَةُ النُّفُوسِ وَالْأَرْوَاحِ عَنِ الْإِهْدَارِ، وَالْإِهْدَارُ مِنَ الْمُثْقَلِ كَهُوَ فِي الْمُحَدَّدِ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ فِي إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ كَالْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى، وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ فِي نَفْسِ الْإِهْدَارِ، إِنَّمَا التَّفَاوُتُ حَاصِلٌ فِي آلَةِ الْإِهْدَارِ، وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلٌ بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَالْكَلَامُ فِي الْفِقْهِيَّاتِ إِذَا وَصَلَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَقَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ الْقُصْوَى فِي التَّحْقِيقِ لِمَنْ تَرَكَ التَّقْلِيدَ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا إِنَّ قَتِيلَ الْخَطَأِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ»

وَهُوَ عَامٌّ سَوَاءٌ كَانَ السَّوْطُ وَالْعَصَا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ: «قَتِيلُ الْخَطَأِ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْخَطَأِ حَاصِلًا فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ خَنَقَ إِنْسَانًا أَوْ ضَرَبَ رَأْسَهُ بِحَجَرِ الرَّحَا، ثُمَّ قَالَ: مَا كُنْتُ أَقْصِدُ قَتْلَهُ، فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ بِبَدِيهَةِ عَقْلِهِ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي هَذَا الْمَقَالِ، فَوَجَبَ حَمْلُ هَذَا الضَّرْبِ عَلَى الضَّرْبِ بِالْعَصَا الصَّغِيرَةِ حَتَّى يَبْقَى مَعْنَى الْخَطَأِ فِيهِ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقَتْلُ الْعَمْدُ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُوجِبُ. احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ قَوْلُهُ: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَعِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ لَا يَحْصُلُ الْمَشْرُوطُ، فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النِّسَاءِ: 25] فقوله: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مَا كَانَ شَرْطًا لِجَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عَلَى قولكم، فكذلك هاهنا. ثُمَّ نَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْخَبَرُ وَالْقِيَاسُ. أَمَّا الْخَبَرُ فهو ما روى واثلة ابن الْأَسْقَعِ قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَاحِبٍ لَنَا أَوْجَبَ النَّارَ بِالْقَتْلِ، فَقَالَ: أَعْتِقُوا عَنْهُ يَعْتِقِ اللَّه بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَهُوَ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ إِعْتَاقِ الْعَبْدِ هُوَ أَنْ يَعْتِقَهُ اللَّه مِنَ النَّارِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ أَتَمُّ، فَكَانَتِ الْحَاجَةُ فِيهِ إِلَى إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ أَتَمَّ واللَّه أَعْلَمُ. وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حُجَّةً أُخْرَى مِنْ قِيَاسِ الشَّبَهِ فَقَالَ: لَمَّا وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ سَوَّيْنَا بَيْنَ الْعَامِدِ وَبَيْنَ الْخَاطِئِ إِلَّا فِي الْإِثْمِ، فَكَذَا فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ، وَلِهَذَا الْكَلَامِ تَأْكِيدٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: نَصَّ اللَّه تَعَالَى هُنَاكَ فِي الْعَامِدِ، وَأَوْجَبْنَا عَلَى الْخَاطِئِ فَهَهُنَا نَصَّ عَلَى الْخَاطِئِ، فَبِأَنْ نُوجِبَهُ عَلَى الْعَامِدِ مَعَ أَنَّ احْتِيَاجَ الْعَامِدِ إِلَى الْإِعْتَاقِ الْمُخْلِصِ لَهُ عَنِ النَّارِ/ أَشَدُّ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ: لَا تَجْزِي الرَّقَبَةُ إِلَّا إِذَا صَامَ وَصَلَّى، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ: يَجْزِي الصَّبِيَّ إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا. حُجَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْآيَةُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ تَحْرِيرَ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِالْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ إِمَّا التَّصْدِيقُ وَإِمَّا الْعَمَلُ وَإِمَّا الْمَجْمُوعُ، وَعَلَى التَّقْدِيرَاتِ فَالْكُلُّ فَائِتٌ عَنِ الصَّبِيِّ فَلَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجْزِيَ. حُجَّةُ الْفُقَهَاءُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً يَدْخُلُ فِيهِ الصَّغِيرُ، فَكَذَا قَوْلُهُ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الصَّغِيرُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الدِّيَةُ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ وَفِي شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّظَةٌ مُثَلَّثَةٌ ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا. وَأَمَّا فِي الْخَطَأِ الْمَحْضِ فَمُخَفَّفَةٌ: عِشْرُونَ بَنَاتِ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ بنو لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَهُوَ أَيْضًا هَكَذَا يَقُولُ فِي الْكُلِّ إِلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ أَوْجَبَ بَنِي مَخَاضٍ بَدَلًا عَنْ بَنَاتٍ لَبُونٍ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الدِّيَةَ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ الدِّيَةِ فَرَجَعْنَا فِي مَعْرِفَةِ الْكَيْفِيَّةِ إِلَى السُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ، فَلَمْ نَجِدْ فِي السُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَإِنَّهُ لَا مَجَالَ لِلْمُنَاسَبَاتِ وَالتَّعْلِيلَاتِ الْمَعْقُولَةِ فِي تعيين الأسباب وتعيين الأعداد، فلم يبق

هاهنا مَطْمَعٌ إِلَّا فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ، وَنَرَى أَنَّ الدِّيَةَ وَجَبَتْ بِسَبَبٍ أَقْوَى مِنَ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلزَّكَاةِ، ثُمَّ إِنَّا رَأَيْنَا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَجْعَلْ لِبَنِي مَخَاضٍ دَخْلًا فِي بَابِ الزَّكَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا دَخْلٌ فِي بَابِ الدِّيَةِ أَيْضًا. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَرَاءَةَ كَانَتْ ثَابِتَةٌ، وَالْأَصْلُ فِي الثَّابِتِ الْبَقَاءُ، فَكَانَتِ الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ بَاقِيَةً، وَلَا يُعْدَلُ عَنْ هَذَا الدَّلِيلِ إِلَّا لِدَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ فَنَقُولُ: الْأَوَّلُ هُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَاعْتَرَفْنَا بِوُجُوبِهِ: وَأَمَّا الزَّائِدُ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الذِّمَّةَ مَشْغُولَةٌ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ، وَالْأَصْلُ فِي الثَّابِتِ الْبَقَاءُ، وَقَدْ رَأَيْنَا حُصُولَ الِاتِّفَاقِ عَلَى السُّقُوطِ بِأَدَاءِ أَكْثَرِ مَا قِيلَ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ ذَلِكَ السُّقُوطُ عِنْدَ أَدَاءِ أَقَلِّ مَا فِيهِ، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِذَا لَمْ تُوجَدِ الْإِبِلُ، فَالْوَاجِبُ إِمَّا أَلْفُ دِينَارٍ، أَوِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بَلِ الْوَاجِبُ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: مَا رَوَى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ. قَالَ: كَانَتْ قِيمَةُ الدِّيَةِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ وَثَمَانِيَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا اسْتَخْلَفَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَامَ خَطِيبًا وَقَالَ: إِنَّ الْإِبِلَ قَدْ غَلَتْ أَثْمَانُهَا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ فَرَضَهَا عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَجْمَعِ الصَّحَابَةِ وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا. حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَقَلِّ أَوْلَى، وَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ وَجُمْهُورُ الْخَوَارِجِ: الدِّيَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْقَاتِلِ، قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لَا شَكَّ أَنَّهُ إِيجَابٌ لِهَذَا التَّحْرِيرِ، وَالْإِيجَابُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ شَخْصٍ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ، وَالْمَذْكُورُ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْقَاتِلُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَهَذَا التَّرْتِيبُ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنَّ هَذَا التَّحْرِيرَ إِنَّمَا أَوْجَبَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ صَدَرَتْ مِنْهُ، وَالْمَعْقُولُ هُوَ أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَجِبُ إِلَّا عَلَى الْمُتْلِفِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ صَدَرَ عَنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْخَطَأِ. وَلَكِنَّ الْفِعْلَ الْخَطَأَ قَائِمٌ فِي قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، مع أن تلك الضمانات لا تجب إلى على المتلف، فكذا هاهنا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَيْئَيْنِ: تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ، وَتَسْلِيمُ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ، ثُمَّ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيرَ وَاجِبٌ عَلَى الْجَانِي، فَكَذَا الدِّيَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً عَلَى الْقَاتِلِ، ضَرُورَةَ أَنَّ اللَّفْظَ وَاحِدٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمْ جِنَايَةٌ وَلَا مَا يُشْبِهُ الْجِنَايَةَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُمْ شَيْءٌ لِلْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا القرآن فقوله تعالى: لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الْأَنْعَامِ: 164] وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها [الْأَنْعَامِ: 164] وَقَالَ: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الْبَقَرَةِ: 286] وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا رِمْثَةَ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ ابْنُهُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ هَذَا فَقَالَ ابْنِي، قَالَ إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِخْبَارَ عَنْ نَفْسِ الْجِنَايَةِ إِنَّمَا الْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ أَثَرَ جِنَايَتِكَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى وَلَدِكَ وَبِالْعَكْسِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيجَابَ الدِّيَةِ عَلَى الْجَانِي أَوْلَى مِنْ إِيجَابِهَا عَلَى الْغَيْرِ. الْخَامِسُ: أَنَّ النُّصُوصَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَالَ الْإِنْسَانِ مَعْصُومٌ وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ. قَالَ تَعَالَى: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً [النِّسَاءِ: 29] وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّ امْرِئٍ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ» وَقَالَ: «حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ» وَقَالَ: «لَا يَحِلُّ مَالُ الْمُسْلِمِ إِلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ» تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِهَذِهِ الْعُمُومَاتِ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي عَرَفْنَا بِنَصِّ الْقُرْآنِ كَوْنَهَا مُوجِبَةً لِجَوَازِ الْأَخْذِ كَمَا قلنا في

الزَّكَوَاتِ، وَكَمَا قُلْنَا فِي أَخْذِ الضَّمَانَاتِ. وَأَمَّا فِي إِيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَالْمُعْتَمَدُ فِيهِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَتَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ مَعْلُومٌ، وخبر الواحد مظنون، وتقديم المظنون على المعلوم غَيْرُ جَائِزٍ، وَلِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ وَرَدَ/ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَيُرَدُّ، وَلِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ وَرَدَ عَلَى مُخَالَفَةِ جَمِيعِ أُصُولِ الشَّرَائِعِ، فَوَجَبَ رَدُّهُ، وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَقَدْ تَمَسَّكُوا فِيهِ بِالْخَبَرِ وَالْأَثَرِ وَالْآيَةِ: أَمَّا الْخَبَرُ: فَمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ أَنَّ امْرَأَةً ضَرَبَتْ بَطْنَ امْرَأَةٍ أُخْرَى فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَاقِلَةِ الضَّارِبَةِ بِالْغِرَّةِ، فَقَامَ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ فَقَالَ: كَيْفَ نَدِي مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ، وَلَا صَاحَ ولا استهل، ومثل ذلك بطل، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا مِنْ سَجْعِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَمَّا الْأَثَرُ: فَهُوَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَضَى عَلَى عَلِيٍّ بِأَنْ يَعْقِلَ عَنْ مَوْلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حِينَ جَنَى مَوْلَاهَا، وَعَلِيٌّ كَانَ ابْنَ أَخِي صَفِيَّةَ، وَقَضَى لِلزُّبَيْرِ بِمِيرَاثِهَا، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ إِنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: دِيَتُهَا مِثْلُ دِيَةِ الرَّجُلِ. حُجَّةُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ عَلِيًّا وَعُمَرَ وَابْنَ مَسْعُودٍ قَضَوْا بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي الْمِيرَاثِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ، فَكَذَلِكَ فِي الدِّيَةِ. وَحُجَّةُ الْأَصَمِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَخَلَ فِيهَا حُكْمُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهَا ثَابِتًا بِالسَّوِيَّةِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ مُخَفَّفَةٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ: الثُّلُثُ فِي السَّنَةِ، وَالثُّلُثَانِ فِي السَّنَتَيْنِ، وَالْكُلُّ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. اسْتَفَاضَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَلَمْ يُخَالِفْهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ فَكَانَ إِجْمَاعًا. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: لَا فرق في هذه الدية بين أين يُقْضَى مِنْهَا الدَّيْنُ وَتُنَفَّذَ مِنْهَا الْوَصِيَّةُ، وَيُقَسَّمَ الْبَاقِي بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّه تَعَالَى. رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ تَطْلُبُ نَصِيبَهَا مِنْ دِيَةِ الزَّوْجِ فَقَالَ عُمَرُ: لَا أَعْلَمُ لَكِ شَيْئًا، إِنَّمَا الدِّيَةُ لِلْعُصْبَةِ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنْهُ، فَشَهِدَ بَعْضٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُورِثَ الزَّوْجَةَ من دية زوجها، فقضى عمر بذلك، وإذا قَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسَائِلَ فَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ مَعْنَاهُ فَعَلَيْهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، وَالتَّحْرِيرُ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِهِ حُرًّا، وَالْحُرُّ هُوَ الْخَالِصُ، وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ خُلِقَ لِيَكُونَ مَالِكًا لِلْأَشْيَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَةِ: 29] فَكَوْنُهُ مَمْلُوكًا يَكُونُ صِفَةَ تَكَدُّرِ مُقْتَضَى الْإِنْسَانِيَّةِ وَتَشَوُّشِهَا، فَلَا جَرَمَ سُمِّيَتْ إِزَالَةُ الْمُلْكِ تَحْرِيرًا، أَيْ تَخْلِيصًا لِذَلِكَ الْإِنْسَانِ عَمَّا يُكَدِّرُ إِنْسَانِيَّتَهُ، وَالرَّقَبَةُ عِبَارَةٌ عَنِ النَّسَمَةِ كَمَا قَدْ يُجْعَلُ الرَّأْسُ أَيْضًا عِبَارَةً عَنْ نَسَمَةٍ فِي قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَمْلِكُ كَذَا رَأْسًا مِنَ الرَّقِيقِ، وَالْمُرَادُ بِرَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ كُلُّ رَقَبَةٍ كَانَتْ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تُجْزِي إِلَّا رَقَبَةٌ قَدْ صَلَّتْ وَصَامَتْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ. وَقَوْلُهُ: وَدِيَةٌ/ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الدِّيَةُ مِنَ الْوَدْيِ كَالشِّيَةِ مِنَ الْوَشْيِ، وَالْأَصْلُ وَدِيَةٌ فَحُذِفَتِ الْوَاوُ يُقَالُ: وَدَى فُلَانٌ فُلَانًا، أَيْ أَدَّى دِيَتَهُ إِلَى وَلِيِّهِ، ثُمَّ إِنَّ الشَّرْعَ خَصَّصَ هَذَا اللَّفْظَ بِمَا يُؤَدَّى فِي بَدَلِ النَّفْسِ دُونَ مَا يُؤَدَّى فِي بَدَلِ الْمُتْلَفَاتِ، وَدُونَ مَا يُؤَدَّى فِي بَدَلِ الْأَطْرَافِ وَالْأَعْضَاءِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أَصْلُهُ يَتَصَدَّقُوا فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الصَّادِ، وَمَعْنَى التَّصَدُّقِ الْإِعْطَاءُ قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يُوسُفَ: 88] وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَتَصَدَّقُوا بِالدِّيَةِ فَيَعْفُوا

وَيَتْرُكُوا الدِّيَةَ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ وَتَسْلِيمُهَا إِلَى حِينِ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: أَنْ يَصَّدَّقُوا فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ أَهْلِهِ بِمَعْنَى إِلَّا مُتَصَدِّقِينَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: أَنَّ مَنْ قَتَلَ عَلَى سَبِيلِ الْخَطَأِ مُؤْمِنًا فَعَلَيْهِ تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ وَتَسْلِيمُ الدِّيَةِ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ قَتَلَ عَلَى سَبِيلِ الْخَطَأِ مُؤْمِنًا مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَنَا فَعَلَيْهِ تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الدِّيَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدُ أَنَّ الْمَقْتُولَ إِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَجَبَتِ الدِّيَةُ، وَالسُّكُوتُ عَنْ إِيجَابِ الدِّيَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ ذِكْرِهَا فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِيمَا بَعْدَهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: كَلِمَةُ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا كَوْنُ هَذَا الْمَقْتُولِ مِنْ سُكَّانِ دَارِ الْحَرْبِ، أَوِ الْمُرَادُ كَوْنُهُ ذَا نَسَبٍ مِنْهُمْ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ السَّاكِنَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَجَمِيعَ أَقَارِبِهِ يَكُونُونَ كُفَّارًا، فَإِذَا قُتِلَ عَلَى سَبِيلِ الْخَطَأِ وَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي قَتْلِهِ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ: وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ خَطَأً مِنْ سُكَّانِ دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَالْوَاجِبُ بِسَبَبِ قَتْلِهِ الْوَاقِعِ عَلَى سَبِيلِ الْخَطَأِ هُوَ تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ، فَأَمَّا وُجُوبُ الدِّيَةِ فَلَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: وَكَمَا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَالْقِيَاسُ يُقَوِّيهِ، أَمَّا أَنَّهُ لَا تَجِبُ الدِّيَةَ فَلِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا الدِّيَةَ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ السَّاكِنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَاحْتَاجَ مَنْ يُرِيدُ غَزْوَ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى أَنْ يَبْحَثَ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُ هَلْ هُوَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أم لا، وذلك مما يصعب ويشق فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى احْتِرَازِ النَّاسِ عَنِ الْغَزْوِ، فَالْأَوْلَى سُقُوطُ الدِّيَةِ عَنْ قَاتِلِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَهْدَرَ دَمَ نَفْسِهِ بِسَبَبِ اخْتِيَارِهِ السُّكْنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَإِنَّهَا حَقُّ اللَّه تَعَالَى، لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ مَقْتُولًا فَقَدْ هَلَكَ إِنْسَانٌ كَانَ مُوَاظِبًا عَلَى عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى، وَالرَّقِيقُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى عِبَادَةِ اللَّه، فَإِذَا أَعْتَقَهُ فَقَدْ أَقَامَهُ مَقَامَ ذَلِكَ الْمَقْتُولِ فِي الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْعِبَادَاتِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي سُقُوطَ الدِّيَةِ، وَيَقْتَضِي بَقَاءَ الْكَفَّارَةِ واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُسْلِمُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلًا حَالَ الْمُسْلِمِ الْقَاتِلِ خَطَأً ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الْمُسْلِمِ الْمَقْتُولِ خَطَأً إِذَا كَانَ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الْمُسْلِمِ الْمَقْتُولِ خَطَأً إِذَا كَانَ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الْعَهْدِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا تَرْتِيبٌ حَسَنٌ فَكَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ جَائِزًا، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ صِحَّةَ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ كانَ لَا بُدَّ مِنْ إِسْنَادِهِ إِلَى شَيْءٍ جَرَى ذِكْرُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالَّذِي جَرَى ذِكْرُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ هُوَ الْمُؤْمِنُ الْمَقْتُولُ خَطَأً فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الذِّمِّيُّ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَمَعْنَى كَوْنِ الْمَقْتُولِ مِنْهُمْ أَنَّهُ عَلَى دِينِهِمْ وَمَذْهَبِهِمْ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ طَعَنُوا فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُسْلِمَ الْمَقْتُولَ خَطَأً سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمُؤْمِنُ لَكَانَ هَذَا عطفا للشيء

عَلَى نَفْسِهِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ الْمَقْتُولُ خَطَأً مِنْ سُكَّانِ دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَعَادَهُ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي قَتْلِهِ، وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَدْ أَوْجَبَ الدِّيَةَ وَالْكَفَّارَةَ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ هُوَ الْمُؤْمِنُ لَكَانَ هَذَا إِعَادَةً وَتَكْرَارًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا ذَكَرْتُمْ لَمَا كَانَتِ الدِّيَةُ مُسَلَّمَةً إِلَى أَهْلِهِ لِأَنَّ أَهْلَهُ كُفَّارٌ لَا يَرِثُونَهُ. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا مِنْ ذَلِكَ الْقَوْمِ فِي الْوَصْفِ الَّذِي وَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ وَهُوَ حُصُولُ الْمِيثَاقِ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ كَوْنَهُ مِنْهُمْ مُجْمَلٌ لَا يَدْرِي أَنَّهُ مِنْهُمْ فِي أَيِّ الْأُمُورِ، وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى كَوْنِهِ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَصْفِ زَالَ الْإِجْمَالُ فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَإِذَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ مِنْهُمْ فِي كَوْنِهِ مُعَاهَدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا أَوْ مُعَاهَدًا مِثْلَهُمْ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ: أَمَّا الْأَوَّلُ: فَجَوَابُهُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَ الْمُؤْمِنِ الْمَقْتُولِ عَلَى سَبِيلِ الْخَطَأِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَحَدَ قِسْمَيْهِ وَهُوَ الْمُؤْمِنُ الْمَقْتُولُ خَطَأً الَّذِي يَكُونُ مِنْ سُكَّانِ دَارِ الْحَرْبِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الدِّيَةَ لَا تَجِبُ فِي قَتْلِهِ، وَذَكَرَ الْقِسْمَ الثَّانِيَ وَهُوَ الْمُؤْمِنُ الْمَقْتُولُ خَطَأً الَّذِي يَكُونُ مِنْ سُكَّانِ مَوَاضِعِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَبَيَّنَ وُجُوبَ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِهِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ إِظْهَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا الْقِسْمِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَجَوَابُهُ أَنَّ أَهْلَهُ هُمُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ تُصْرَفُ دِيَتُهُ إِلَيْهِمْ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَجَوَابُهُ أَنَّ كَلِمَةَ «مِنْ» صَارَتْ مُفَسَّرَةً فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِكَلِمَةِ «فِي» يَعْنِي فِي قوم عدو لكم، فكذا هاهنا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى ذَلِكَ لَا غَيْرَ. وَاعْلَمْ أَنَّ فَائِدَةَ هَذَا الْبَحْثِ تَظْهَرُ فِي مَسْأَلَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ مِثْلَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ثُلُثُ دِيَةِ الْمَجُوسِيِّ، وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثُلُثَا عُشْرِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى قَوْلِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ الْمُرَادُ بِهِ الذِّمِّيُّ، ثُمَّ قَالَ: فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ فَأَوْجَبَ تَعَالَى فِيهِمْ تَمَامَ الدِّيَةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْآيَةَ نَازِلَةٌ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ لَا فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ، وَأَيْضًا بِتَقْدِيرِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُمْ أَنَّهَا نَازِلَةٌ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ تَدُلَّ عَلَى مَقْصُودِهِمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دِيَةً مُسَلَّمَةً، فَهَذَا يَقْتَضِي إِيجَابَ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُسَمَّى دِيَةً، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الدِّيَةَ الَّتِي أَوْجَبَهَا فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ هِيَ الدِّيَةُ الَّتِي أَوْجَبَهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ؟ وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ دِيَةُ الْمُسْلِمِ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا. وَدِيَةُ الذِّمِّيِّ مِقْدَارًا آخَرَ، فَإِنَّ الدِّيَةَ لَا مَعْنَى لَهَا إِلَّا الْمَالُ الَّذِي يُؤَدَّى فِي مُقَابَلَةِ النَّفْسِ، فَإِنِ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ مِقْدَارَ الدِّيَةِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَفِي حَقِّ الذِّمِّيِّ وَاحِدٌ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَالنِّزَاعُ مَا وَقَعَ إِلَّا فِيهِ، فَسَقَطَ هَذَا الِاحْتِجَاجُ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ قَدَّمَ تَحْرِيرَ الرَّقَبَةِ عَلَى الدِّيَةِ في الآية الأولى وهاهنا عَكْسُ هَذَا التَّرْتِيبِ، إِذْ لَوْ أَفَادَهُ لَتَوَجَّهَ الطَّعْنُ فِي إِحْدَى الْآيَتَيْنِ فَصَارَ هَذَا كَقَوْلِهِ: ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ [الْبَقَرَةِ: 58] وَفِي آيَةٍ أُخْرَى وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ [الْأَعْرَافِ: 161] واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: هُمْ

[سورة النساء (4) : آية 93]

أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ: هُمُ الْمُعَاهَدُونَ مِنَ الْكُفَّارِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ أَيْ فَعَلَيْهِ ذَلِكَ بَدَلًا عَنِ الرَّقَبَةِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا، وَقَالَ مَسْرُوقٌ إِنَّهُ بَدَلٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ، وَالتَّتَابُعُ وَاجِبٌ حَتَّى لَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا وَجَبَ الِاسْتِئْنَافُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْفِطْرُ بِحَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، وَقَوْلُهُ: تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ انْتَصَبَ بِمَعْنَى صِيَامِ مَا تَقَدَّمَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: اعْمَلُوا بِمَا أَوْجَبَ اللَّه عَلَيْكُمْ لِأَجْلِ التَّوْبَةِ مِنَ اللَّه، أَيْ لِيَقْبَلَ اللَّه تَوْبَتَكُمْ، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: فَعَلْتُ كَذَا حَذَرَ الشَّرِّ. فَإِنْ قِيلَ: قَتْلُ الْخَطَأِ لَا يَكُونُ مَعْصِيَةً، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ. قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِيهِ نَوْعَيْنِ مِنَ التَّقْصِيرِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ بَالَغَ فِي الِاحْتِيَاطِ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفِعْلُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ كَافِرٌ حَرْبِيٌّ، فَلَوْ أَنَّهُ بَالَغَ فِي الِاحْتِيَاطِ/ وَالِاسْتِكْشَافِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ فِيهِ، وَمَنْ رَمَى إِلَى صَيْدٍ فَأَخْطَأَ وَأَصَابَ إِنْسَانًا فَلَوِ احْتَاطَ فَلَا يَرْمِي إِلَّا فِي مَوْضِعٍ يَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ إنسان فانه لا يقطع فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، فَقَوْلُهُ: تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُقَصِّرًا فِي تَرْكِ الِاحْتِيَاطِ. الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: أَنَّ قَوْلَهُ: تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَذِنَ لَهُ فِي إِقَامَةِ الصَّوْمِ مَقَامَ الْإِعْتَاقِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى إِذَا تَابَ عَلَى الْمُذْنِبِ فَقَدْ خَفَّفَ عَنْهُ، فَلَمَّا كَانَ التَّخْفِيفُ مِنْ لَوَازِمِ التَّوْبَةِ أَطْلَقَ لفظ التوبة لا رادة التخفيف إطلاقا لا سم الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا اتَّفَقَ لَهُ مِثْلُ هَذَا الْخَطَأِ فَإِنَّهُ يَنْدَمُ وَيَتَمَنَّى أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا وَقَعَ فَسَمَّى اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ النَّدَمَ وَذَلِكَ التَّمَنِّيَ تَوْبَةً. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى عَلِيمٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وَلَمْ يَتَعَمَّدْ حَكِيمٌ فِي أَنَّهُ مَا يُؤَاخِذُهُ بِذَلِكَ الْفِعْلِ الْخَطَأِ، فَإِنَّ الْحِكْمَةَ تَقْتَضِي أَنْ لَا يُؤَاخَذَ الْإِنْسَانُ إِلَّا بِمَا يَخْتَارُ وَيَتَعَمَّدُ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ لَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ أَفْعَالَ اللَّه تَعَالَى غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ بِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ قَالُوا: مَعْنَى كَوْنِهِ تَعَالَى حَكِيمًا كَوْنُهُ عَالِمًا بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تُبْطِلُ هَذَا الْقَوْلَ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ الْحَكِيمَ عَلَى الْعَلِيمِ، فَلَوْ كَانَ الْحَكِيمُ هُوَ الْعَلِيمُ لَكَانَ هَذَا عَطْفًا لِلشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَرَدَ فِيهِ لَفْظُ الْحَكِيمِ مَعْطُوفًا عَلَى الْعَلِيمِ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْحَكِيمِ كَوْنَهُ مُحْكِمًا فِي أَفْعَالِهِ، فَالْإِحْكَامُ وَالْإِعْلَامُ عائدان إلى كيفية الفعل واللَّه أعلم. [سورة النساء (4) : آية 93] وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الْقَتْلِ الْخَطَأِ ذَكَرَ بَعْدَهُ بَيَانَ حُكْمِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ، وَلَهُ أَحْكَامٌ مِثْلُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ البقرة وهو قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [البقرة: 178] فلا جرم هاهنا اقْتَصَرَ عَلَى بَيَانِ مَا فِيهِ مِنَ الْإِثْمِ وَالْوَعِيدِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اسْتَدَلَّتِ الْوَعِيدِيَّةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْقَطْعِ بِوَعِيدِ الْفُسَّاقِ. وَالثَّانِي: عَلَى خُلُودِهِمْ فِي النَّارِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ كَلِمَةَ «مَنْ» فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ/ تُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا فِي

تَقْرِيرِ كَلَامِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: 81] وَبَالَغْنَا فِي الْجَوَابِ عَنْهَا، وَزَعَمَ الْوَاحِدِيُّ أَنَّ الْأَصْحَابَ سَلَكُوا فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ طُرُقًا كَثِيرَةً. قَالَ: وَأَنَا لَا أَرْتَضِي شَيْئًا مِنْهَا لِأَنَّ الَّتِي ذَكَرُوهَا إِمَّا تَخْصِيصٌ، وَإِمَّا مُعَارَضَةٌ، وَإِمَّا إِضْمَارٌ، وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: وَالَّذِي اعْتَمَدَهُ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: إِجْمَاعُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي كَافِرٍ قَتَلَ مُؤْمِنًا ثُمَّ ذَكَرَ تِلْكَ الْقِصَّةَ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ مَعْنَاهُ الِاسْتِقْبَالُ أَيْ أَنَّهُ سَيُجْزَى بِجَهَنَّمَ، وَهَذَا وَعِيدٌ قَالَ: وَخُلْفُ الْوَعِيدِ كَرَمٌ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخْلِفَ اللَّه وَعِيدَ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِمَّا قَالَهُ غَيْرُهُ. وَأَقُولُ: أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ حَاصِلٌ، فَنُزُولُهُ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ لَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ الْعُمُومِ، فَيَسْقُطُ هَذَا الْكَلَامُ بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ نَقُولُ: كَمَا أَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ عَامًّا فِي كُلِّ قَاتِلٍ مَوْصُوفٍ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، فكذا هاهنا وَجْهٌ آخَرُ يَمْنَعُ مِنْ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْكَافِرِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُجَاهَدَةِ مَعَ الْكُفَّارِ ثُمَّ عَلَّمَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ عِنْدَ اشْتِغَالِهِمْ بِالْجِهَادِ، فَابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النِّسَاءِ: 92] فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَ كَفَّارَاتٍ: كَفَّارَةُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَكَفَّارَةُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ سُكُونِهِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَكَفَّارَةُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ سُكُونِهِ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْعَهْدِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ حُكْمَ قَتْلِ الْعَمْدِ مَقْرُونًا بِالْوَعِيدِ، فَلَمَّا كَانَ بَيَانُ حُكْمِ قَتْلِ الْخَطَأِ بَيَانًا لِحُكْمٍ اخْتَصَّ بِالْمُسْلِمِينَ كَانَ بَيَانُ حُكْمِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الَّذِي هُوَ كَالضِّدِّ لِقَتْلِ الْخَطَأِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا مُخْتَصًّا بِالْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَصَّ بِهِمْ فَلَا أَقَلَّ مِنْ دُخُولِهِمْ فِيهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النِّسَاءِ: 94] وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي حَقِّ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَقَوْا قَوْمًا فَأَسْلَمُوا فَقَتَلُوهُمْ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ إِنَّمَا أَسْلَمُوا مِنَ الْخَوْفِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَهَذِهِ الْآيَةُ وَرَدَتْ فِي نَهْيِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ قَتْلِ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَهَذَا أَيْضًا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً نَازِلًا فِي نَهْيِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يَحْصُلَ التَّنَاسُبُ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهَا مَخْصُوصَةً بِالْكُفَّارِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ لَهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ عَرَفْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [الْمَائِدَةِ: 38] وَقَوْلَهُ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما [النُّورِ: 2] الْمُوجِبَ لِلْقَطْعِ هُوَ السرقة، والموجب للجلد هو الزنا، / فكذا هاهنا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ لِهَذَا الْوَعِيدِ هُوَ هَذَا الْقَتْلُ الْعَمْدُ، لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ مُنَاسِبٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، فَلَزِمَ كَوْنُ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يُقَالَ: أَيْنَمَا ثَبَتَ هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ يَحْصُلُ هَذَا الْحُكْمُ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ لَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ: الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْكَافِرِ وَجْهٌ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَنْشَأَ لِاسْتِحْقَاقِ هَذَا الْوَعِيدِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْكُفْرُ أَوْ هَذَا الْقَتْلُ الْمَخْصُوصُ، فَإِنْ كَانَ مَنْشَأُ هَذَا الْوَعِيدِ هُوَ الْكُفْرَ كَانَ الْكُفْرُ حَاصِلًا قَبْلَ هَذَا الْقَتْلِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِهَذَا الْقَتْلِ أَثَرٌ الْبَتَّةَ فِي هَذَا الْوَعِيدِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ جَارِيَةً مَجْرَى مَا يُقَالُ: إِنَّ مَنْ يَتَعَمَّدُ قَتْلَ نَفْسٍ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا

فِيهَا وَغَضِبَ اللَّه عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي هَذَا الْوَعِيدِ جَرَى مَجْرَى النَّفْسِ وَمَجْرَى سَائِرِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا أَثَرَ لَهَا فِي هَذَا الْوَعِيدِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مَنْشَأُ هَذَا الْوَعِيدِ هُوَ كَوْنُهُ قَتْلًا عَمْدًا فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ: أَيْنَمَا حَصَلَ الْقَتْلُ يَحْصُلُ هَذَا الْوَعِيدُ، وَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ هَذَا السُّؤَالُ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ الَّذِي ارْتَضَاهُ الْوَاحِدِيُّ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ اخْتَارَهُمَا فَهُوَ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ لِأَنَّ الْوَعِيدَ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الْخَبَرِ، فَإِذَا جَوَّزَ عَلَى اللَّه الْخُلْفَ فِيهِ فَقَدْ جَوَّزَ الْكَذِبَ عَلَى اللَّه، وَهَذَا خَطَأٌ عَظِيمٌ، بَلْ يَقْرُبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا، فَإِنَّ الْعُقَلَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْكَذِبِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا جَوَّزَ الْكَذِبَ عَلَى اللَّه فِي الْوَعِيدِ لِأَجْلِ مَا قَالَ: إِنَّ الْخُلْفَ فِي الْوَعِيدِ كَرَمٌ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ الْخُلْفُ فِي الْقَصَصِ وَالْأَخْبَارِ لِغَرَضِ الْمَصْلَحَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فَتْحَ هَذَا الْبَابِ يُفْضِي إِلَى الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ وَكُلِّ الشَّرِيعَةِ فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَحَكَى الْقَفَّالُ فِي تَفْسِيرِهِ وَجْهًا آخَرَ، هُوَ الْجَوَابُ وَقَالَ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَزَاءَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ هُوَ مَا ذُكِرَ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ تَعَالَى يُوصِلُ هَذَا الْجَزَاءَ إِلَيْهِ أَمْ لَا، وَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ: جَزَاؤُكَ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ كَذَا وَكَذَا، إِلَّا أَنِّي لَا أَفْعَلُهُ، وَهَذَا الْجَوَابُ أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ جَزَاءَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ هُوَ مَا ذُكِرَ، وَثَبَتَ بِسَائِرِ الْآيَاتِ أَنَّهُ تَعَالَى يُوصِلُ الْجَزَاءَ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ. قَالَ تَعَالَى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النِّسَاءِ: 123] وَقَالَ: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [غَافِرٍ: 17] وَقَالَ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7، 8] بَلْ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُوصِلُ إِلَيْهِمْ هَذَا الْجَزَاءَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً فَإِنَّ بَيَانَ أَنَّ هَذَا جَزَاؤُهُ حَصَلَ بِقَوْلِهِ: فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً إِخْبَارًا عَنِ الِاسْتِحْقَاقِ كَانَ تَكْرَارًا، فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ أَنَّهُ تَعَالَى سَيَفْعَلُ لَمْ يَلْزَمِ التَّكْرَارُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى. وَاعْلَمْ أَنَّا نَقُولُ: هَذِهِ الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ غَيْرَ عُدْوَانٍ كَمَا فِي الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ فِيهِ هَذَا الْوَعِيدُ الْبَتَّةَ. وَالثَّانِي: الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ إِذَا تَابَ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ فِيهِ الْوَعِيدُ، وَإِذَا ثَبَتَ دُخُولُ التَّخْصِيصِ فِيهِ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ فَنَحْنُ نُخَصِّصُ هَذَا الْعُمُومَ فِيمَا إِذَا حَصَلَ الْعَفْوُ بِدَلِيلِ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْآيَةُ إِحْدَى عُمُومَاتِ الْوَعِيدِ، وَعُمُومَاتُ الْوَعْدِ أَكْثَرُ مِنْ عُمُومَاتِ الْوَعِيدِ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي تَرْجِيحِ عُمُومَاتِ الْوَعِيدِ قَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ وَبَيَّنَّا أَنَّ عُمُومَاتِ الْوَعْدِ رَاجِحَةٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: 81] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: تَوْبَةُ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهَا مَقْبُولَةٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الْكُفْرَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا الْقَتْلِ فَإِذَا قُبِلَتِ التَّوْبَةُ عَنِ الْكُفْرِ فَالتَّوْبَةُ مِنْ هَذَا الْقَتْلِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْفُرْقَانِ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلَّا

مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [الفرقان: 68- 70] وَإِذَا كَانَتْ تَوْبَةُ الْآتِي بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ مَعَ سَائِرِ الْكَبَائِرِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَقْبُولَةً فَبِأَنْ تَكُونَ تَوْبَةُ الْآتِي بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ وَحْدَهُ مَقْبُولَةً كَانَ أَوْلَى. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَعْدٌ بِالْعَفْوِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى الْكُفْرِ، فَبِأَنْ يَعْفُوَ عنه بعد التوبة أولى واللَّه أعلم. تم الجزء العاشر، ويليه إن شاء اللَّه تعالى الجزء الحادي عشر، وأوله قول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ من سورة النساء. أعان اللَّه على إكماله.

الجزء الحادي عشر

الجزء الحادي عشر [تتمة سورة النساء] بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم [سورة النساء (4) : آية 94] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا. اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَحْرِيمِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمْرُ الْمُجَاهِدِينَ بِالتَّثَبُّتِ فِيهِ لِئَلَّا يَسْفِكُوا دَمًا حَرَامًا بِتَأْوِيلٍ ضَعِيفٍ، وَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ خِطَابٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَفِيهِ مسائل: [في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ هُنَا وَكَذَلِكَ فِي الْحُجُرَاتِ فَتَثَبَّتُوا مِنْ ثَبَتَ ثَبَاتًا، وَالْبَاقُونَ بِالنُّونِ مِنَ الْبَيَانِ، وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ، فَمَنْ رَجَّحَ التَّثْبِيتَ قَالَ: إِنَّهُ خِلَافُ الْإِقْدَامِ، وَالْمُرَادُ فِي الْآيَةِ التَّأَنِّي وَتَرْكُ الْعَجَلَةِ، وَمَنْ رَجَّحَ التَّبْيِينَ قَالَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّثْبِيتِ التَّبْيِينُ، فَكَانَ التَّبْيِينُ أَبْلَغَ وَأَكْمَلَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّرْبُ مَعْنَاهُ السَّيْرُ فِيهَا بِالسَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ أَوِ الْجِهَادِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الضَّرْبِ بِالْيَدِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِسْرَاعِ فِي السَّيْرِ فَإِنَّ مَنْ ضَرَبَ إِنْسَانًا كَانَتْ حَرَكَةُ يَدِهِ عِنْدَ ذَلِكَ الضَّرْبِ سَرِيعَةً، فَجُعِلَ الضَّرْبُ كِنَايَةً عَنِ الْإِسْرَاعِ فِي السَّيْرِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَعْنَى ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ غَزَوْتُمْ وَسِرْتُمْ إِلَى الْجِهَادِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلم لَسْتَ مُؤْمِنًا. أَرَادَ الِانْقِيَادَ وَالِاسْتِسْلَامَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ [النَّحْلِ: 87] أَيِ اسْتَسْلَمُوا لِلْأَمْرِ، وَمَنْ قَرَأَ السَّلامَ بِالْأَلِفِ فَلَهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ السَّلَامَ الَّذِي يَكُونُ هُوَ تَحِيَّةَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ لَا تَقُولُوا لِمَنْ حَيَّاكُمْ بِهَذِهِ التَّحِيَّةِ إِنَّهُ إِنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا فَتُقْدِمُوا عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ لِتَأْخُذُوا/ مَالَهُ وَلَكِنْ كُفُّوا وَاقْبَلُوا مِنْهُ مَا أَظْهَرَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا تَقُولُوا لِمَنِ اعْتَزَلَكُمْ وَلَمْ يُقَاتِلْكُمْ لَسْتَ مُؤْمِنًا، وَأَصْلُ هَذَا مِنَ السَّلَامَةِ لِأَنَّ الْمُعْتَزِلَ طَالِبٌ لِلسَّلَامَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: قُرِئَ مُؤْمَنًا بِفَتْحِ الْمِيمِ مِنْ آمَنَهُ أَيْ لَا نُؤَمِّنُكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ رِوَايَاتٌ: الرِّوَايَةُ الْأُولَى: أَنَّ مِرْدَاسَ بْنَ نَهِيكٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ فَدَكَ أَسْلَمَ وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْ قَوْمِهِ غَيْرُهُ، فَذَهَبَتْ سَرِيَّةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمِهِ وَأَمِيرُهُمْ غَالِبُ بْنُ فَضَالَةَ، فَهَرَبَ الْقَوْمُ وَبَقِيَ مِرْدَاسٌ لِثِقَتِهِ بِإِسْلَامِهِ، فَلَمَّا رَأَى الْخَيْلَ أَلْجَأَ غَنَمَهُ إِلَى عَاقُولٍ مِنَ الْجَبَلِ، فَلَمَّا تَلَاحَقُوا وَكَبَّرُوا كَبَّرَ وَنَزَلَ، وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَتَلَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَسَاقَ غَنَمَهُ، فَأَخْبَرُوا رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجِدَ وَجْدًا شَدِيدًا وَقَالَ: قَتَلْتُمُوهُ إِرَادَةَ مَا

مَعَهُ، ثُمَّ قَرَأَ الْآيَةَ عَلَى أُسَامَةَ، فَقَالَ أُسَامَةُ يَا رَسُولَ اللَّه اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ: فَكَيْفَ وَقَدْ تَلَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه! قَالَ أُسَامَةُ فَمَا زَالَ يُعِيدُهَا حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ إِلَّا يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لِي وَقَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً. الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْقَاتِلَ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ لَقِيَهُ عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ فَحَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ بَيْنَ مُحَلِّمٍ وَبَيْنَهُ إِحْنَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «لَا غَفَرَ اللَّه لَكَ» فَمَا مَضَتْ بِهِ سَبْعَةُ أَيَّامٍ حَتَّى مَاتَ فَدَفَنُوهُ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْأَرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ وَلَكِنَّ اللَّه أَرَادَ أَنْ يُرِيَكُمْ عِظَمَ الذَّنَبِ عِنْدَهُ» ثُمَّ أَمَرَ أَنْ تُلْقَى عَلَيْهِ الْحِجَارَةُ. الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ قَدْ وَقَعَتْ لَهُ مِثْلَ وَاقِعَةِ أُسَامَةَ قَالَ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِي فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ ثُمَّ لَاذَ بِشَجَرَةٍ، فَقَالَ أَسْلَمْتُ للَّه تَعَالَى أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّه بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه لَا تَقْتُلْهُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّهُ قَطَعَ يَدِي، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تَقْتُلْهُ فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ بَعْدَ أَنْ تَقْتُلَهُ وَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ» وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَشْرَعَ أَحَدُكُمُ الرُّمْحَ إِلَى الرَّجُلِ فَإِنْ كَانَ سِنَانُهُ عِنْدَ نُقْرَةِ نَحْرِهِ فَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه فَلْيَرْفَعْ عَنْهُ الرُّمْحَ» قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه: وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ عِنْدَ وُقُوعِهَا بِأَسْرِهَا، فَكَانَ كُلُّ فَرِيقٍ يَظُنُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَاقِعَتِهِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ تَوْبَةَ الزِّنْدِيقِ هَلْ تُقْبَلُ أَمْ لَا؟ فَالْفُقَهَاءُ قَبِلُوهَا وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ الزِّنْدِيقِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بَلْ أَوْجَبَ/ ذَلِكَ فِي الْكُلِّ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الْأَنْفَالِ: 38] وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَصْنَافِ الْكَفَرَةِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الزِّنْدِيقَ لَا شَكَّ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّوْبَةِ، وَالتَّوْبَةُ مَقْبُولَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [الشُّورَى: 25] وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الذُّنُوبِ وَفِي جَمِيعِ أَصْنَافِ الْخَلْقِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِسْلَامُ الصَّبِيِّ صَحِيحٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى صِحَّةِ إِسْلَامِ الصَّبِيِّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً عَامٌّ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ، وَفِي حَقِّ الْبَالِغِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ صَحَّ الْإِسْلَامُ مِنْهُ لَوَجَبَ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ لَكَانَ ذَلِكَ إِذْنًا فِي الْكُفْرِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، لَكِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ» الْحَدِيثَ، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: لَوْ قَالَ الْيَهُودِيُّ أَوِ النَّصْرَانِيُّ: أَنَا مُؤْمِنٌ أَوْ قَالَ أَنَا مُسْلِمٌ لَا يُحْكَمُ بِهَذَا الْقَدْرِ بِإِسْلَامِهِ، لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ هُوَ الْإِسْلَامُ وَهُوَ الْإِيمَانُ، وَلَوْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه، فَعِنْدَ قَوْمٍ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ، لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّه إِلَى الْعَرَبِ لَا إِلَى الْكُلِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا الَّذِي هُوَ الرَّسُولُ الْحَقُّ بَعْدُ مَا جَاءَ وَسَيَجِيءُ بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَعْتَرِفَ بِأَنَّ الدِّينَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ بَاطِلٌ وَأَنَّ الدِّينَ الْمَوْجُودَ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ هو الحق واللَّه أعلم. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَمِيعُ مَتَاعِ الدُّنْيَا عَرَضٌ

بِفَتْحِ الرَّاءِ، يُقَالُ: إِنَّ الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ يَأْخُذُ مِنْهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَالْعَرْضُ بِسُكُونِ الرَّاءِ مَا سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ مَتَاعُ الدُّنْيَا عَرَضًا لِأَنَّهُ عَارِضٌ زَائِلٌ غَيْرُ بَاقٍ وَمِنْهُ يُسَمِّي الْمُتَكَلِّمُونَ مَا خَالَفَ الْجَوْهَرَ مِنَ الْحَوَادِثِ عَرَضًا لِقِلَّةٍ لُبْثِهِ، فَقَوْلُهُ: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ يَعْنِي ثَوَابًا كَثِيرًا، فَنَبَّهَ تَعَالَى بِتَسْمِيَتِهِ عَرَضًا عَلَى كَوْنِهِ سَرِيعَ الْفَنَاءِ قَرِيبَ الِانْقِضَاءِ، وَبِقَوْلِهِ: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ عَلَى أَنَّ ثَوَابَ اللَّه مَوْصُوفٌ بِالدَّوَامِ وَالْبَقَاءِ كَمَا قال: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ [مريم: 76] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ وَهَذَا يَقْتَضِي تَشْبِيهَ هَؤُلَاءِ الْمُخَاطَبِينَ بِأُولَئِكَ الَّذِينَ أَلْقَوُا/ السَّلَمَ، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ فِيمَ وَقَعَ، فَلِهَذَا ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّكُمْ أَوَّلَ مَا دَخَلْتُمْ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا سَمِعْتُ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ حَقَنْتُ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ ذَلِكَ عَلَى حُصُولِ الْعِلْمِ بِأَنَّ قَلْبَكُمْ مُوَافِقٌ لِمَا فِي لِسَانِكُمْ، فَعَلَيْكُمْ بِأَنْ تَفْعَلُوا بِالدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا فُعِلَ بِكُمْ، وَأَنْ تَعْتَبِرُوا ظَاهِرَ الْقَوْلِ، وَأَنْ لَا تَقُولُوا إِنَّ إِقْدَامَهُمْ عَلَى التَّكَلُّمِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ لِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنَ السَّيْفِ، هَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: مَا كَانَ إِيمَانُنَا مِثْلَ إِيمَانِ هَؤُلَاءِ، لِأَنَّا آمَنَّا عَنِ الطَّوَاعِيَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَهَؤُلَاءِ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَشْبِيهُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْمُرَادُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تُخْفُونَ إِيمَانَكُمْ عَنْ قَوْمِكُمْ كَمَا أَخْفَى هَذَا الدَّاعِي إِيمَانَهُ عَنْ قَوْمِهِ، ثُمَّ مَنَّ اللَّه عَلَيْكُمْ بِإِعْزَازِكُمْ حَتَّى أَظْهَرْتُمْ دِينَكُمْ، فَأَنْتُمْ عَامِلُوهُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ، وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ إِخْفَاءَ الْإِيمَانِ مَا كَانَ عَامًّا فِيهِمْ. الثَّالِثُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قِبْلِ الْهِجْرَةِ حِينَ كُنْتُمْ فِيمَا بَيْنَ الْكُفَّارِ تَأْمَنُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّه بِكَلِمَةِ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه» فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ، وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَنْ يَنْتَقِلُ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ فَفِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يَحْدُثُ مَيْلٌ قَلِيلٌ بِسَبَبٍ ضَعِيفٍ، ثُمَّ لا يزال ذلك الميل يتأكد ويتوقى إِلَى أَنْ يَكْمُلَ وَيَسْتَحْكِمَ وَيَحْصُلَ الِانْتِقَالُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: كُنْتُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ إِنَّمَا حَدَثَ فِيكُمْ مَيْلٌ ضَعِيفٌ بِأَسْبَابٍ ضَعِيفَةٍ إِلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ مَنَّ اللَّه عَلَيْكُمْ بِالْإِسْلَامِ بِتَقْوِيَةِ ذَلِكَ الْمَيْلِ وَتَأْكِيدِ النَّفْرَةِ عَنِ الْكُفْرِ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ كَمَا حَدَثَ فِيهِمْ مَيْلٌ ضَعِيفٌ إِلَى الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ هَذَا الْخَوْفِ فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ هَذَا الْإِيمَانَ، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يُؤَكِّدُ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ وَيُقَوِّي تِلْكَ الرَّغْبَةَ فِي صُدُورِهِمْ، فهذا ما عندي فيه. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَفِيهِ احْتِمَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ يَكُونَ هَذَا مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ يَعْنِي إِيمَانُكُمْ كَانَ مِثْلَ إِيمَانِهِمْ فِي أَنَّهُ إِنَّمَا عَرَفَ مِنْهُ مُجَرَّدَ الْقَوْلِ اللِّسَانِيِّ دُونَ مَا فِي الْقَلْبِ، أَوْ فِي أَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ حَاصِلًا بِسَبَبٍ ضَعِيفٍ، ثُمَّ مَنَّ اللَّه عَلَيْكُمْ حَيْثُ قَوَّى نُورَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ وَأَعَانَكُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هَذَا مُنْقَطِعًا عَنْ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا قَتَلُوا مَنْ تَكَلَّمَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَهَاهُمْ عَنْ هَذَا الْفِعْلِ وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ مِنَ الْعَظَائِمِ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أَيْ مَنَّ عَلَيْكُمْ بِأَنْ/ قَبِلَ تَوْبَتَكُمْ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُنْكَرِ. ثُمَّ أَعَادَ الْأَمْرَ بِالتَّبْيِينِ فَقَالَ: فَتَبَيَّنُوا وَإِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالتَّبْيِينِ تَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّحْذِيرِ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَالْمُرَادُ مِنْهُ الوعيد والزجر عن الإظهار بخلاف الإضمار.

[سورة النساء (4) : الآيات 95 إلى 96]

[سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96] لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) اعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا رَغَّبَ فِي الْجِهَادِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَيَانِ أَحْكَامِ الْجِهَادِ. فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ أَحْكَامِ الْجِهَادِ: تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ، وَبَيَانُ الْحَالِ فِي قَتْلِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْخَطَأِ كَيْفَ، وَعَلَى سَبِيلِ الْعَمْدِ كَيْفَ، وَعَلَى سَبِيلِ تَأْوِيلِ الْخَطَأِ كَيْفَ، فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ الْحُكْمَ أَتْبَعَهُ بِحُكْمٍ آخَرَ وَهُوَ بَيَانُ فَضْلِ الْمُجَاهِدِ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: لَمَّا عَاتَبَهُمُ اللَّه تَعَالَى عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنْ قَتْلِ مَنْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ، فَلَعَلَّهُ يَقَعُ فِي قَلْبِهِمْ أَنَّ الْأَوْلَى الِاحْتِرَازُ عَنِ الْجِهَادِ لِئَلَّا يَقَعَ بِسَبَبِهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَحْذُورِ، فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فِي عَقِيبِهِ هَذِهِ الْآيَةَ وَبَيَّنَ فِيهَا فَضْلَ الْمُجَاهِدِ عَلَى غَيْرِهِ إِزَالَةً لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَاتَبَهُمْ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنْ قَتْلِ مَنْ تَكَلَّمَ بِالشَّهَادَةِ ذَكَرَ عَقِيبَهُ فَضِيلَةَ الْجِهَادِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ أَتَى بِالْجِهَادِ فَقَدْ فَازَ بِهَذِهِ الدَّرَجَةِ الْعَظِيمَةِ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى، فَلْيَحْتَرِزْ/ صَاحِبُهَا مِنْ تِلْكَ الْهَفْوَةِ لِئَلَّا يُخِلَّ مَنْصِبَهُ الْعَظِيمَ فِي الدين بسبب هذه الهفوة، واللَّه أعلم [في قَوْلُهُ تَعَالَى لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ فِي غَيْرُ فَالرَّفْعُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: الْقاعِدُونَ وَالْمَعْنَى لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ الْمُغَايِرُونَ لِأُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ [النُّورِ: 31] وَذَكَرْنَا جَوَازَ أَنْ يَكُونَ (غَيْرِ) صِفَةَ الْمَعْرِفَةِ فِي قَوْلِهِ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ [الْفَاتِحَةِ: 7] قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ رَفْعًا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمَعْنَى لا يستوي القاعدون والمجهدون إِلَّا أُولِي الضَّرَرِ فَإِنَّهُمْ يُسَاوُونَ الْمُجَاهِدِينَ، أَيِ الَّذِينَ أَقْعَدَهُمْ عَنِ الْجِهَادِ الضَّرَرُ، وَالْكَلَامُ فِي رَفْعِ الْمُسْتَثْنَى بَعْدَ النَّفْيِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النِّسَاءِ: 66] وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ فَفِيهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْقَاعِدِينَ، وَالْمَعْنَى لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ إِلَّا أُولِي الضَّرَرِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَخْفَشِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ فِي حَالِ صِحَّتِهِمْ، وَالْمُجَاهِدُونَ، كَمَا تَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ غَيْرَ مَرِيضٍ، أَيْ جَاءَنِي زَيْدٌ صَحِيحًا، وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَالْفَرَّاءِ وَكَقَوْلِهِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ [الْمَائِدَةِ: 1] وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْجَرِّ فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُجْعَلَ غَيْرُ صِفَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا بَيَانُ الْوُجُوهِ فِي هَذِهِ القراءات. ثم هاهنا بَحْثٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْأَخْفَشَ قَالَ: الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ اسْتِثْنَاءُ قَوْمٍ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْخُرُوجِ. رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فَضِيلَةَ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ جَاءَ قَوْمٌ مِنْ أُولِي الضَّرَرِ فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَالَتُنَا كَمَا تَرَى، وَنَحْنُ نَشْتَهِي الْجِهَادَ، فَهَلْ لَنَا مِنْ طَرِيقٍ؟ فَنَزَلَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ فَاسْتَثْنَاهُمُ اللَّه تَعَالَى مِنْ جُمْلَةِ الْقَاعِدِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ أَوْلَى لِأَنَّ الأصل في

كَلِمَةِ (غَيْرُ) أَنْ تَكُونَ صِفَةً، ثُمَّ إِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ صِفَةً فَالْمَقْصُودُ وَالْمَطْلُوبُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ حَاصِلٌ مِنْهَا، لِأَنَّهَا فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ أَخْرَجَتْ أُولِي الضَّرَرِ مِنْ تِلْكَ الْمَفْضُولِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَقْصُودُ حَاصِلًا عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ وَكَانَ الأصل في كلمة (غير) أن تكون صفة كَانَتِ الْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّرَرُ النُّقْصَانُ سَوَاءٌ كَانَ بِالْعَمَى أَوِ الْعَرَجِ أَوِ الْمَرَضِ، أَوْ كَانَ بِسَبَبِ عَدَمِ الْأُهْبَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حَاصِلُ الْآيَةِ: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَصِحَّاءُ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ هَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْقَاعِدِينَ الْأَضِرَّاءَ يُسَاوُونَ الْمُجَاهِدِينَ أَمْ لَا؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَا يَدُلُّ لِأَنَّا إِنْ حَمَلْنَا لَفْظَ (غَيْرُ) عَلَى الصِّفَةِ وَقُلْنَا التَّخْصِيصُ/ بِالصِّفَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَقُلْنَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ لَيْسَ بِإِثْبَاتٍ لَمْ يَلْزَمْ أَيْضًا ذَلِكَ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَقُلْنَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ لَزِمَ الْقَوْلُ بِالْمُسَاوَاةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمُسَاوَاةَ فِي حَقِّ الْأَضِرَّاءِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهَا مَشْرُوطَةٌ بِشَرْطٍ آخَرَ ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى إِلَى قَوْلِهِ: إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [التَّوْبَةِ: 91] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِهَذِهِ الْمُسَاوَاةِ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ، أَمَّا النَّقْلُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ بَعْضِ غَزَوَاتِهِ «لَقَدْ خَلَّفْتُمْ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ أُولَئِكَ أَقْوَامٌ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ اكْتُبُوا لِعَبْدِي مَا كَانَ يَعْمَلُهُ فِي الصحة إلى أن يبرأ» وذكر بعض المفسرون فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التِّينِ: 5، 6] أَنَّ مَنْ صَارَ هَرِمًا كَتَبَ اللَّه تَعَالَى لَهُ أَجْرَ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ قَبْلَ هَرَمِهِ غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا. وَذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» أَنَّ مَا يَنْوِيهِ الْمُؤْمِنُ مِنْ دَوَامِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لَوْ بَقِيَ أَبَدًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ عَمَلِهِ الَّذِي أَدْرَكَهُ فِي مُدَّةِ حَيَاتِهِ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ اسْتِنَارَةُ الْقَلْبِ بِنُورِ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى، فَإِنْ حَصَلَ الِاسْتِوَاءُ فِيهِ لِلْمُجَاهِدِ وَالْقَاعِدِ فَقَدْ حَصَلَ الِاسْتِوَاءُ فِي الثَّوَابِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاعِدُ أَكْثَرَ حَظًّا مِنْ هَذَا الِاسْتِغْرَاقِ كَانَ هُوَ أَكْثَرَ ثَوَابًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [التَّوْبَةِ: 111] فَقَدَّمَ ذِكْرَ النَّفْسِ عَلَى الْمَالِ، وَفِي الْآيَةِ الَّتِي نحن فيها وهي قوله: الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ قَدَّمَ ذِكْرَ الْمَالِ عَلَى النَّفْسِ، فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟ وَجَوَابُهُ: أَنَّ النَّفْسَ أَشْرَفُ مِنَ الْمَالِ، فَالْمُشْتَرِي قَدَّمَ ذِكْرَ النَّفْسِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الرَّغْبَةَ فِيهَا أَشَدُّ وَالْبَائِعُ أَخَّرَ ذِكْرَهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُضَايَقَةَ فِيهَا أَشَدُّ، فَلَا يَرْضَى بِبَذْلِهَا إِلَّا فِي آخِرِ الْمَرَاتِبِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْمُجَاهِدِينَ وَالْقَاعِدِينَ لَا يَسْتَوِيَانِ ثُمَّ إِنَّ عَدَمَ الِاسْتِوَاءِ يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَيَحْتَمِلُ النُّقْصَانَ، لَا جَرَمَ كَشَفَ تَعَالَى عَنْهُ فَقَالَ: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَفِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ دَرَجَةً وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُحْذَفُ الْجَارُّ، وَالتَّقْدِيرُ بِدَرَجَةٍ فَلَمَّا حُذِفَ الْجَارُّ وُصِلَ الْفِعْلُ فَعَمِلَ الثَّانِي: قَوْلُهُ دَرَجَةً أَيْ فَضِيلَةً، وَالتَّقْدِيرُ: وَفَضَّلَ اللَّه الْمُجَاهِدِينَ فَضِيلَةً كَمَا يُقَالُ زَيْدٌ أَكْرَمَ عَمْرًا إِكْرَامًا

والفائدة في التنكير التفخيم. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ/ دَرَجَةً نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ. ثُمَّ قَالَ: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أَيْ وَكُلًّا مِنَ الْقَاعِدِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ فَقَدْ وَعَدَهُ اللَّه الْحُسْنَى قَالَ الْفُقَهَاءُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَلَيْسَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ الْقَاعِدِينَ الْحُسْنَى كَمَا وَعَدَ الْمُجَاهِدِينَ، وَلَوْ كَانَ الْجِهَادُ وَاجِبًا عَلَى التَّعْيِينِ لَمَا كَانَ الْقَاعِدُ أَهْلًا لِوَعْدِ اللَّه تَعَالَى إِيَّاهُ الْحُسْنَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ: أَجْراً وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: انْتَصَبَ بِقَوْلِهِ: وَفَضَّلَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ: آجَرَهُمْ أَجْرًا، ثُمَّ قَوْلُهُ: دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: أَجْراً. الثاني: انتصب على التمييز ودَرَجاتٍ عَطْفُ بَيَانٍ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً مَعْطُوفَانِ عَلَى دَرَجاتٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى ذكر أولا دَرَجَةً، وهاهنا دَرَجاتٍ، وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِالدَّرَجَةِ لَيْسَ هُوَ الدَّرَجَةَ الْوَاحِدَةَ بِالْعَدَدِ، بَلْ بِالْجِنْسِ، وَالْوَاحِدُ بِالْجِنْسِ يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْكَثِيرُ بِالنَّوْعِ، وَذَلِكَ هُوَ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ، وَالدَّرَجَاتُ الرَّفِيعَةُ فِي الْجَنَّةِ الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُجَاهِدَ أَفْضَلُ مِنَ الْقَاعِدِ الَّذِي يَكُونُ مِنَ الْأَضِرَّاءِ بِدَرَجَةٍ، وَمِنَ الْقَاعِدِ الَّذِي يَكُونُ مِنَ الْأَصِحَّاءِ بِدَرَجَاتٍ، وَهَذَا الْجَوَابُ إِنَّمَا يَتَمَشَّى إِذَا قُلْنَا بِأَنَّ قَوْلَهُ: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ لَا يُوجِبُ حُصُولَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُجَاهِدِينَ وَبَيْنَ الْقَاعِدِينَ الْأَضِرَّاءِ. الثَّالِثُ: فَضَّلَ اللَّه الْمُجَاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْغَنِيمَةُ، وَفِي الْآخِرَةِ بِدَرَجَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي الْجَنَّةِ بِالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ. الرَّابِعُ: قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْمُجَاهِدِ هُوَ الْمُجَاهِدَ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ فَقَطْ، وَإِلَّا حَصَلَ التَّكْرَارُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَنْ كَانَ مُجَاهِدًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، أَعْنِي فِي عَمَلِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْقَلْبِ وَهُوَ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْمُجَاهَدَةِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» وَحَاصِلُ هَذَا الْجِهَادِ صَرْفُ الْقَلْبِ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ اللَّه إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي طَاعَةِ اللَّه، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَقَامُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهُ لَا جَرَمَ جَعَلَ فَضِيلَةَ الْأَوَّلِ دَرَجَةً، وَفَضِيلَةَ هَذَا الثَّانِي دَرَجَاتٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الشِّيعَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَلِيًّا كَانَ أَكْثَرَ جِهَادًا، فَالْقَدْرُ الذي فيه حصل التَّفَاوُتُ كَانَ أَبُو بَكْرٍ مِنَ/ الْقَاعِدِينَ فِيهِ، وَعَلِيٌّ مِنَ الْقَائِمِينَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلِيٌّ أَفْضَلَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ مُبَاشَرَةَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَتْلِ الْكُفَّارِ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ مُبَاشَرَةِ الرَّسُولِ لِذَلِكَ، فَيَلْزَمُكُمْ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ عَلِيٌّ أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، فَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ مُجَاهَدَةَ الرَّسُولِ مَعَ الْكُفَّارِ كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْ مُجَاهَدَةِ عَلِيٍّ مَعَهُمْ، لِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُجَاهِدُ الْكُفَّارَ بِتَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ وَإِزَالَةِ الشُّبُهَاتِ وَالضَّلَالَاتِ، وَهَذَا الْجِهَادُ أَكْمَلُ مِنْ ذَلِكَ الْجِهَادِ، فَنَقُولُ: فَاقْبَلُوا مِنَّا مِثْلَهُ فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَمَّا أَسْلَمَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ سَعَى فِي إِسْلَامِ سَائِرِ النَّاسِ حَتَّى أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وقاص وعثمان بْنُ مَظْعُونٍ، وَكَانَ يُبَالِغُ فِي تَرْغِيبِ النَّاسِ في

[سورة النساء (4) : الآيات 97 إلى 99]

الْإِيمَانِ وَفِي الذَّبِّ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ وَبِمَالِهِ، وَعَلِيٌّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ صَبِيًّا مَا كَانَ أَحَدٌ يُسَلِّمُ بِقَوْلِهِ، وَمَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الذَّبِّ عَنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَانَ جِهَادُ أَبِي بَكْرٍ أَفْضَلَ مِنْ جِهَادِ عَلِيٍّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ جِهَادَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حِينَ كَانَ الْإِسْلَامُ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، وَأَمَّا جِهَادُ عَلِيٍّ فَإِنَّمَا ظَهَرَ فِي الْمَدِينَةِ فِي الْغَزَوَاتِ، وَكَانَ الْإِسْلَامُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَوِيًّا. وَالثَّانِي: أَنَّ جِهَادَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ، وَأَكْثَرُ أَفَاضِلِ الْعَشَرَةِ إِنَّمَا أَسْلَمُوا عَلَى يَدِهِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْجِهَادِ هُوَ حِرْفَةُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَمَّا جِهَادُ عَلِيٍّ فَإِنَّمَا كَانَ بِالْقَتْلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَفْضَلُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِالْعَمَلِ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْعَمَلِ لَمَّا أَوْجَبَ التَّفَاوُتَ فِي الثَّوَابِ وَالْفَضِيلَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الثَّوَابِ هُوَ الْعَمَلُ، وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَكُنِ الْعَمَلُ مُوجِبًا لِلثَّوَابِ لَكَانَ الثَّوَابُ هِبَةً لَا أَجْرًا، لَكِنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ أَجْرًا، فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْعَمَلُ علة الثواب لكن لا لذاته، بل بجعل الشَّارِعُ ذَلِكَ الْعَمَلَ مُوجِبًا لَهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالنَّوَافِلِ أَفْضَلُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالنِّكَاحِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَلَوْ كَانَ الْجِهَادُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ لَمَا كَانَ الْقَاعِدُ عَنِ الْجِهَادِ مَوْعُودًا مِنْ عِنْدِ اللَّه بِالْحُسْنَى. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا قَامَتْ طَائِفَةٌ بِالْجِهَادِ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ، فَلَوْ أَقْدَمُوا عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ مِنَ النَّوَافِلِ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمُجَاهِدِينَ سَوَاءٌ كَانَ جِهَادُهُ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا، وَالْمُشْتَغِلُ بِالنِّكَاحِ قَاعِدٌ عَنِ الْجِهَادِ، فَثَبَتَ أَنَّ الِاشْتِغَالَ/ بِالْجِهَادِ الْمَنْدُوبِ أفضل من الاشتغال بالنكاح واللَّه أعلم. [سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 99] إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) [في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ ثَوَابَ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْجِهَادِ أَتْبَعَهُ بِعِقَابِ مَنْ قَعَدَ عَنْهُ وَرَضِيَ بِالسُّكُونِ فِي دَارِ الْكُفْرِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ تَوَفَّاهُمُ مَاضِيًا وَلَمْ تَضُمَّ تَاءً مَعَ التَّاءِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا [الْبَقَرَةِ: 70] وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ إِخْبَارًا عَنْ حَالِ أَقْوَامٍ مُعَيَّنِينَ انْقَرَضُوا وَمَضَوْا، وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ مُسْتَقْبَلًا، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ الآية عامة في حق كل من كان بِهَذِهِ الصِّفَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذَا التَّوَفِّي قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مَعْنَاهُ تَقْبِضُ أَرْوَاحَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها

[الزُّمَرِ: 42] الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: 2] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الْبَقَرَةِ: 28] وَبَيْنَ قَوْلِهِ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السَّجْدَةِ: 11] . قُلْنَا: خَالِقُ الْمَوْتِ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَالرَّئِيسُ الْمُفَوَّضُ إِلَيْهِ هَذَا الْعَمَلُ هُوَ مَلَكُ الْمَوْتِ/ وَسَائِرُ الْمَلَائِكَةِ أَعْوَانُهُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يَعْنِي يَحْشُرُونَهُمْ إِلَى النَّارِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي خَبَرِ (إِنَّ) وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ هُوَ قَوْلُهُ: قَالُوا لَهُمْ فِيمَ كُنْتُمْ، فَحَذَفَ «لَهُمْ» لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْخَبَرَ هُوَ قَوْلُهُ: فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ فَيَكُونُ (قَالُوا لَهُمْ) فِي مَوْضِعِ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْخَبَرَ مَحْذُوفٌ وَهُوَ هَلَكُوا، ثُمَّ فَسَّرَ الْهَلَاكَ بِقَوْلِهِ: قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ فِي حَالِ ظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ، وَهُوَ وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى الْمَعْرِفَةِ إِلَّا أَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الِانْفِصَالِ، كَأَنَّهُ قِيلَ ظَالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ، إِلَّا أَنَّهُمْ حَذَفُوا النُّونَ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ الْحَالُ أَوِ الِاسْتِقْبَالُ فَقَدْ يَكُونُ مَفْصُولًا فِي الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا فِي اللَّفْظِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا [الْأَحْقَافِ: 24] هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [الْمَائِدَةِ: 95] ثانِيَ عِطْفِهِ [الْحَجِّ: 9] فَالْإِضَافَةُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا لَفْظِيَّةٌ لَا مَعْنَوِيَّةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الظُّلْمُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْكُفْرُ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَعْصِيَةُ فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ [فَاطِرٍ: 32] وَفِي الْمُرَادِ بِالظُّلْمِ فِي هَذِهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فِي دَارِ الْكُفْرِ وَبَقُوا هُنَاكَ، وَلَمْ يُهَاجِرُوا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. الثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ خَوْفًا، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ أَظْهَرُوا لَهُمُ الْكُفْرَ وَلَمْ يُهَاجِرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِنِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَتَرْكِهِمُ الْهِجْرَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: فِيمَ كُنْتُمْ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ. وَثَانِيهَا: فِيمَ كُنْتُمْ فِي حَرْبِ مُحَمَّدٍ أَوْ فِي حَرْبِ أَعْدَائِهِ. وَثَالِثُهَا: لِمَ تَرَكْتُمُ الْجِهَادَ وَلِمَ رَضِيتُمْ بِالسُّكُونِ فِي دِيَارِ الْكُفَّارِ؟ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ فِيمَ كُنْتُمْ وَكَانَ حَقُّ الْجَوَابِ أَنْ يَقُولُوا: كُنَّا فِي كَذَا، أَوْ لَمْ نَكُنْ فِي شَيْءٍ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ مَعْنَى فِيمَ كُنْتُمْ التَّوْبِيخُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ حَيْثُ قَدَرُوا عَلَى الْمُهَاجَرَةِ وَلَمْ يُهَاجِرُوا، فَقَالُوا: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ اعْتِذَارًا عَمَّا وُبِّخُوا بِهِ، وَاعْتِلَالًا بِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْمُهَاجَرَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُمْ هَذَا الْعُذْرَ بَلْ رَدُّوهُ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها أَرَادُوا أَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَادِرِينَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَعْضِ الْبِلَادِ الَّتِي لَا تُمْنَعُونَ/ فِيهَا مِنْ إِظْهَارِ دِينِكُمْ، فَبَقِيتُمْ بَيْنَ الْكُفَّارِ لَا لِلْعَجْزِ عَنْ مُفَارَقَتِهِمْ، بَلْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى هَذِهِ الْمُفَارَقَةِ، فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى وَعِيدَهُمْ فَقَالَ: فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً.

ثُمَّ اسْتَثْنَى تَعَالَى فَقَالَ: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْمَعْنَى لَا يَقْدِرُونَ عَلَى حِيلَةٍ وَلَا نَفَقَةٍ، أَوْ كَانَ بِهِمْ مَرَضٌ، أَوْ كَانُوا تَحْتَ قَهْرِ قَاهِرٍ يَمْنَعُهُمْ مِنْ تِلْكَ الْمُهَاجَرَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا أَيْ لَا يَعْرِفُونَ الطَّرِيقَ وَلَا يَجِدُونَ مَنْ يَدُلُّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ. رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مُسْلِمِي مَكَّةَ فَقَالَ جُنْدَبُ بْنُ ضَمْرَةَ لِبَنِيهِ: احْمِلُونِي فَإِنِّي لَسْتُ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَلَا أَنِّي لَا أَهْتَدِي الطَّرِيقَ، واللَّه لَا أَبِيتُ اللَّيْلَةَ بِمَكَّةَ، فَحَمَلُوهُ عَلَى سَرِيرٍ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَدْخَلَ الْوِلْدَانِ فِي جُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا يَحْسُنُ لَوْ كَانُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلْوَعِيدِ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ؟ قُلْنَا: سُقُوطُ الْوَعِيدِ إِذَا كَانَ بِسَبَبِ الْعَجْزِ، وَالْعَجْزُ تَارَةً يَحْصُلُ بِسَبَبِ عَدَمِ الْأُهْبَةِ وَتَارَةً بِسَبَبِ الصِّبَا، فَلَا جَرَمَ حَسُنَ هَذَا إِذَا أُرِيدَ بِالْوِلْدَانِ الْأَطْفَالُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْمُرَاهِقُونَ مِنْهُمُ الَّذِينَ كَمُلَتْ عُقُولُهُمْ لِتَوَجُّهِ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّه تَعَالَى، وَإِنْ أُرِيدَ الْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ الْبَالِغُونَ فَلَا سُؤَالَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا كَانُوا عَاجِزِينَ عَنِ الْهِجْرَةِ، وَالْعَاجِزُ عَنِ الشَّيْءِ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا بِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ عُقُوبَةٌ، فَلِمَ قَالَ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَالْعَفْوُ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا مَعَ الذَّنْبِ، وَأَيْضًا (عَسَى) كَلِمَةُ الْإِطْمَاعِ، وَهَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ الْقَطْعِ بِحُصُولِ الْعَفْوِ فِي حَقِّهِمْ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمُسْتَضْعَفَ قَدْ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ مَعَ ضَرْبٍ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَتَمْيِيزُ الضَّعْفِ الَّذِي يَحْصُلُ عِنْدَهُ الرُّخْصَةُ عَنِ الْحَدِّ الَّذِي لَا يَحْصُلُ عِنْدَهُ الرُّخْصَةُ شَاقٌّ وَمُشْتَبَهٌ، فَرُبَّمَا ظَنَّ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الْمُهَاجَرَةِ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْهِجْرَةِ عَنِ الْوَطَنِ فَإِنَّهَا شَاقَّةٌ عَلَى النَّفْسِ، وَبِسَبَبِ شِدَّةِ النَّفْرَةِ قَدْ يَظُنُّ الْإِنْسَانُ كَوْنَهُ عَاجِزًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْعَفْوِ شَدِيدَةً فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي ذكر لفظة عَسَى هاهنا؟ فَنَقُولُ: الْفَائِدَةُ فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْهِجْرَةِ أَمْرٌ مُضَيَّقٌ لَا تَوْسِعَةَ فِيهِ، حَتَّى أَنَّ الْمُضْطَرَّ الْبَيِّنَ الِاضْطِرَارِ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ: عَسَى اللَّه أَنْ يَعْفُوَ عَنِّي، فَكَيْفَ الْحَالُ فِي غَيْرِهِ. هَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، إِلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لِشِدَّةِ نَفْرَتِهِ عَنْ مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ رُبَّمَا ظَنَّ نَفْسَهُ عَاجِزًا عَنْهَا مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَ الْعَفْوَ بِكَلِمَةِ عَسَى لَا بِالْكَلِمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقَطْعِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً ذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِي كانَ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: كَانَ قَبْلَ أَنْ خَلَقَ الْخَلْقَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ كانَ مَعَ أَنَّ جَمِيعَ الْعِبَادِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ عَادَةُ

[سورة النساء (4) : آية 100]

اللَّه تَعَالَى أَجْرَاهَا فِي حَقِّ خَلْقِهِ. الثَّالِثُ: لَوْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى عَفُوٌّ غَفُورٌ كَانَ هَذَا إِخْبَارًا عَنْ كَوْنِهِ كَذَلِكَ فَقَطْ، وَلَمَّا قَالَ إِنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا إِخْبَارًا وَقَعَ مُخْبِرُهُ عَلَى وَفْقِهِ فَكَانَ ذَلِكَ أَدَلَّ عَلَى كَوْنِهِ صِدْقًا وَحَقًّا وَمُبَرَّأً عَنِ الْخُلْفِ وَالْكَذِبِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَعْفُو عَنِ الذَّنْبِ قَبْلَ التَّوْبَةِ فإنه لو لم يحصل هاهنا شَيْءٌ مِنَ الذَّنْبِ لَامْتَنَعَ حُصُولُ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ فِيهِ، فَلَمَّا أَخْبَرَ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ دَلَّ عَلَى حُصُولِ الذَّنْبِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ بِالْعَفْوِ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِحَالِ التَّوْبَةِ فَيَدُلُّ عَلَى ما ذكرناه. [سورة النساء (4) : آية 100] وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) وَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الْمَانِعَ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي وَطَنِهِ نَوْعُ رَاحَةٍ وَرَفَاهِيَةٍ، فَيَقُولُ لَوْ فَارَقْتُ الْوَطَنَ وَقَعْتُ فِي الشِّدَّةِ وَالْمَشَقَّةِ وَضِيقِ الْعَيْشِ، فَأَجَابَ اللَّه عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً يُقَالُ: رَاغَمْتُ الرَّجُلَ إِذَا فَعَلْتَ مَا يَكْرَهُهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الرَّغَامِ وَهُوَ التُّرَابُ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: رَغْمَ أَنْفِهِ، يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِ/ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَنْفَ عُضْوٌ فِي غَايَةِ الْعِزَّةِ وَالتُّرَابُ فِي غَايَةِ الذِّلَّةِ، فَجَعَلُوا قَوْلَهُمْ: رَغْمَ أَنْفِهِ كِنَايَةً عَنِ الذُّلِّ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَشْهُورُ أَنَّ هَذِهِ الْمُرَاغَمَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ فَارَقُوا وَخَرَجُوا عَنْ دِيَارِهِمْ. وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّه إِلَى بَلَدٍ آخَرَ يَجِدْ فِي أَرْضِ ذَلِكَ الْبَلَدِ مِنَ الْخَيْرِ وَالنِّعْمَةِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِرَغْمِ أَنْفِ أَعْدَائِهِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فِي بَلْدَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ فارق وذهب إلى بلدة أجنبية فإذا اسْتَقَامَ أَمْرُهُ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَوَصَلَ ذَلِكَ الْخَبَرُ إِلَى أَهْلِ بَلْدَتِهِ خَجِلُوا مِنْ سُوءِ مُعَامَلَتِهِمْ مَعَهُ، وَرَغِمَتْ أُنُوفُهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا أَقْرَبُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا قَالُوهُ واللَّه أَعْلَمُ. وَالْحَاصِلُ كَأَنَّهُ قِيلَ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كُنْتَ إِنَّمَا تَكْرَهُ الْهِجْرَةَ عَنْ وَطَنِكَ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَقَعَ فِي الْمَشَقَّةِ وَالْمِحْنَةِ فِي السَّفَرِ، فَلَا تَخَفْ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يُعْطِيكَ مِنَ النِّعَمِ الْجَلِيلَةِ وَالْمَرَاتِبِ الْعَظِيمَةِ فِي مُهَاجَرَتِكَ مَا يَصِيرُ سَبَبًا لِرَغْمِ أُنُوفِ أَعْدَائِكَ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِسَعَةِ عَيْشِكَ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ فِي الْآيَةِ ذِكْرَ رَغْمِ الْأَعْدَاءِ عَلَى ذِكْرِ سَعَةِ الْعَيْشِ لِأَنَّ ابْتِهَاجَ الْإِنْسَانِ الَّذِي يُهَاجِرُ عَنْ أَهْلِهِ وَبَلَدِهِ بِسَبَبِ شِدَّةِ ظُلْمِهِمْ عَلَيْهِ بِدَوْلَتِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَصِيرُ سَبَبًا لِرَغْمِ أُنُوفِ الْأَعْدَاءِ، أَشَدُّ مِنَ ابْتِهَاجِهِ بِتِلْكَ الدَّوْلَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا صَارَتْ سَبَبًا لِسَعَةِ الْعَيْشِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَانِعُ الثَّانِي: مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمُهَاجَرَةِ فَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَقُولُ: إِنْ خَرَجْتُ عَنْ بَلَدِي فِي طَلَبِ هَذَا الْغَرَضِ، فَرُبَّمَا وَصَلْتُ إِلَيْهِ وَرُبَّمَا لَمْ أَصِلْ إِلَيْهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا أُضَيِّعَ الرَّفَاهِيَةَ الحاضرة بسبب طلب شيء ربما أَصِلُ إِلَيْهِ، وَرُبَّمَا لَا أَصِلُ إِلَيْهِ، فَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مَنْ قَصَدَ طَاعَةَ اللَّه ثُمَّ عَجَزَ عَنْ إِتْمَامِهَا، كَتَبَ اللَّه لَهُ ثَوَابَ تَمَامِ تِلْكَ الطَّاعَةِ: كَالْمَرِيضِ يَعْجِزُ عَمَّا كَانَ يَفْعَلُهُ فِي حَالِ صِحَّتِهِ مِنَ الطَّاعَةِ، فَيُكْتَبُ لَهُ ثَوَابُ ذَلِكَ الْعَمَلِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم. وقال آخَرُونَ: ثَبَتَ لَهُ أَجْرُ قَصْدِهِ وَأَجْرُ الْقَدْرِ الَّذِي أَتَى بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَأَمَّا أَجْرُ تَمَامِ الْعَمَلِ فَذَلِكَ مُحَالٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هذه الآية هاهنا فِي مَعْرِضِ التَّرْغِيبِ فِي

[سورة النساء (4) : آية 101]

الْجِهَادِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ خَرَجَ إِلَى السَّفَرِ لِأَجْلِ الرَّغْبَةِ فِي الْهِجْرَةِ، فَقَدْ وَجَدَ ثَوَابَ الْهِجْرَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّرْغِيبَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ ثَوَابُ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْعَمَلِ، فَلَا يَصْلُحُ مُرَغِّبًا، لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَتَى بِعَمَلٍ فَإِنَّهُ يَجِدُ الثَّوَابَ الْمُرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْعَمَلِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ/ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وَأَيْضًا رُوِيَ في قصة جُنْدَبِ بْنِ ضَمْرَةَ، أَنَّهُ لَمَّا قَرُبَ مَوْتُهُ أَخَذَ يُصَفِّقُ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذِهِ لَكَ، وَهَذِهِ لِرَسُولِكَ أُبَايِعُكَ عَلَى مَا بَايَعَكَ عَلَيْهِ رَسُولُكَ، ثُمَّ مَاتَ فَبَلَغَ خَبَرُهُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: لَوْ تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ يُوجِبُ الثَّوَابَ عَلَى اللَّه، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَ الْوُقُوعِ، وَحَقِيقَةُ الْوُجُوبِ هِيَ الْوُقُوعُ وَالسُّقُوطُ، قَالَ تَعَالَى: فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها [الْحَجِّ: 26] أَيْ وَقَعَتْ وَسَقَطَتْ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ ذُكِرَ بِلَفْظِ الْأَجْرِ، وَالْأَجْرُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ، فَأَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا فَذَاكَ لَا يُسَمَّى أَجْرًا بَلْ هِبَةً. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: عَلَى اللَّهِ وَكَلِمَةُ (عَلَى) لِلْوُجُوبِ، قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آلِ عِمْرَانَ: 97] وَالْجَوَابُ: أَنَّنَا لَا نُنَازِعُ فِي الْوُجُوبِ، لَكِنْ بِحُكْمِ الْوَعْدِ وَالْعِلْمِ وَالتَّفَضُّلِ وَالْكَرَمِ، لَا بِحُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ الَّذِي لَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَخَرَجَ عَنِ الْإِلَهِيَّةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا دَلَائِلَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اسْتَدَلَّ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْغَازِيَ إِذَا مَاتَ فِي الطَّرِيقِ وَجَبَ سَهْمُهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، كَمَا وَجَبَ أَجْرُهُ. وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ مَخْصُوصٌ بِالْأَجْرِ، وَأَيْضًا فَاسْتِحْقَاقُ السَّهْمِ مِنَ الْغَنِيمَةِ مُتَعَلِّقٌ بِحِيَازَتِهَا، إِذْ لَا تَكُونُ غَنِيمَةً إِلَّا بَعْدَ حِيَازَتِهَا، قَالَ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْفَالِ: 41] واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أَيْ يَغْفِرُ مَا كَانَ مِنْهُ مِنَ الْقُعُودِ إِلَى أَنْ خَرَجَ، ويرحمه بإكمال أجر المجاهدة. [سورة النساء (4) : آية 101] وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) [في قوله تعالى وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ] اعْلَمْ أَنَّ أَحَدَ الْأُمُورِ الَّتِي يَحْتَاجُ الْمُجَاهِدُ إِلَيْهَا مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي زَمَانِ الْخَوْفِ، وَالِاشْتِغَالِ بِمُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ فَلِهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَهُ اللَّه تعالى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُقَالُ قَصَرَ فُلَانٌ صَلَاتَهُ وَأَقْصَرَهَا وَقَصَّرَهَا، كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ/ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَقْصُرُوا مِنْ أَقْصَرَ، وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: مِنْ قَصَرَ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى اللُّغَاتِ الثَّلَاثِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْقَصْرِ مُشْعِرٌ بِالتَّخْفِيفِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ صَرِيحًا فِي أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْقَصْرُ فِي كَمِّيَّةِ الرَّكَعَاتِ وَعَدَدِهَا أَوْ فِي كَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا، فَلَا جَرَمَ حَصَلَ فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقَصْرُ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا أَيْضًا عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ صَلَاةُ الْمُسَافِرِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ تَكُونُ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، فَإِنَّهَا تَصِيرُ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، فَعَلَى هَذَا الْقَصْرِ إِنَّمَا يَدْخُلُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ، أَمَّا الْمَغْرِبُ وَالصُّبْحُ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِمَا الْقَصْرُ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ

بِهَذِهِ الْآيَةِ صَلَاةَ السَّفَرِ، بَلْ صَلَاةُ الْخَوْفِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه وَجَمَاعَةٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرَضَ اللَّه صَلَاةَ الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَصَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَاةَ الْخَوْفِ رَكْعَةً عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مُتَفَرِّعَانِ عَلَى مَا إِذَا قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنَ الْقَصْرِ تَقْلِيلُ الرَّكَعَاتِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْقَصْرِ إِدْخَالُ التَّخْفِيفِ فِي كَيْفِيَّةِ أَدَاءِ الرَّكَعَاتِ، وَهُوَ أَنْ يَكْتَفِيَ فِي الصَّلَاةِ بِالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ بَدَلَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَأَنْ يَجُوزَ الْمَشْيُ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنْ تَجُوزَ الصَّلَاةُ عِنْدَ تَلَطُّخِ الثَّوْبِ بِالدَّمِ، وَذَلِكَ هُوَ الصَّلَاةُ الَّتِي يُؤْتَى بِهَا حَالَ شِدَّةِ الْتِحَامِ الْقِتَالِ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ. وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ خَوْفَ الْفِتْنَةِ مِنَ الْعَدُوِّ لَا يَزُولُ فِيمَا يُؤْتَى بِرَكْعَتَيْنِ عَلَى إِتْمَامِ أَوْصَافِهِمَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا يَشْتَدُّ فِيهِ الْخَوْفُ فِي حَالِ الْتِحَامِ الْقِتَالِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةَ الرَّكَعَاتِ، فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْلَمُ خَصْمُهُ بِكَوْنِهِ مُصَلِّيًا، أَمَّا إِذَا كَثُرَتِ الرَّكَعَاتُ طَالَتِ الْمُدَّةُ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنَ الْعَدُوِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الِاحْتِمَالِ مَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ أَنَّ الْقَصْرَ مُشْعِرٌ بِالتَّخْفِيفِ، وَالتَّخْفِيفُ كَمَا يَحْصُلُ بِحَذْفِ بَعْضِ الرَّكَعَاتِ فَكَذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَنْ يُجْعَلَ الْإِيمَاءُ وَالْإِشَارَةُ قَائِمًا مُقَامَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَمْلَ لَفْظِ الْقَصْرِ عَلَى إِسْقَاطِ بَعْضِ الرَّكَعَاتِ أَوْلَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: مَا رَوَى عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، كَيْفَ نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا، وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ فَقَالَ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّه بِهَا عليكم فاقبلوا صدقته» وهذا يدل على أن الْقَصْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْقَصْرُ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَفْهُومًا عِنْدَهُمْ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ. الثَّانِي: أَنَّ الْقَصْرَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ يُؤْتَى بِبَعْضِ الشَّيْءِ، وَيُقْتَصَرَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا أَنْ يُؤْتَى بِشَيْءٍ/ آخَرَ، فَذَلِكَ لَا يُسَمَّى قَصْرًا، وَلَا اقْتِصَارًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِقَامَةَ الْإِيمَاءِ مُقَامَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَتَجْوِيزَ الْمَشْيِ فِي الصَّلَاةِ وَتَجْوِيزَ الصَّلَاةِ مَعَ الثَّوْبِ الْمُلَطَّخِ بِالدَّمِ، لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَصْرًا، بَلْ كُلُّهَا إِثْبَاتٌ لِأَحْكَامٍ جَدِيدَةٍ وَإِقَامَةٌ لِشَيْءٍ مُقَامَ شَيْءٍ آخَرَ، فَكَانَ تَفْسِيرُ الْقَصْرِ بِمَا ذَكَرْنَا أَوْلَى. الثَّالِثُ: أَنَّ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنَ الصَّلاةِ لِلتَّبْعِيضِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ جَوَازَ الِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِ الصَّلَاةِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ تَفْسِيرَ الْقَصْرِ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ الرَّكَعَاتِ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهِ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ. الرَّابِعُ: أَنَّ لَفْظَ الْقَصْرِ كَانَ مَخْصُوصًا فِي عُرْفِهِمْ بِنَقْصِ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَمَّا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ؟ الْخَامِسُ: أَنَّ الْقَصْرَ بِمَعْنَى تَغَيُّرِ الصَّلَاةِ مَذْكُورٌ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، فَوَجَبَ أَنَّ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانَ الْقَصْرِ بِمَعْنَى حَذْفِ الرَّكَعَاتِ، لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْقَصْرُ رُخْصَةٌ، فَإِنْ شَاءَ الْمُكَلَّفُ أَتَمَّ، وَإِنْ شَاءَ اكْتَفَى عَلَى الْقَصْرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقَصْرُ وَاجِبٌ، فَإِنْ صَلَّى الْمُسَافِرُ أَرْبَعًا وَلَمْ يَقْعُدْ فِي الثِّنْتَيْنِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ قَعَدَ بَيْنَهُمَا مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ تَمَّتْ صَلَاتُهُ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه عَلَى قَوْلِهِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ مُشْعِرٌ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِي أَدَاءِ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ، بَلْ هَذَا اللَّفْظُ إِنَّمَا يُذْكَرُ فِي رَفْعِ التَّكْلِيفِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ، فَأَمَّا إِيجَابُهُ عَلَى التَّعْيِينِ فَهَذَا اللَّفْظُ غَيْرُ

مُسْتَعْمَلٍ فِيهِ، أَمَّا أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْقَصْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا تَقْلِيلَ الرَّكَعَاتِ، بَلْ تَخْفِيفَ الْأَعْمَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، فَسَقَطَ هَذَا الْعُذْرُ. وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَجْهًا آخَرَ فِيهِ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَمَّا أَلِفُوا الْإِتْمَامَ، فَرُبَّمَا كَانَ يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ نُقْصَانًا فِي الْقَصْرِ، فَنَفَى عَنْهُمُ الْجُنَاحَ لِتَطِيبَ أَنْفُسُهُمْ بِالْقَصْرِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا الِاحْتِمَالُ إِنَّمَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ إِذَا قَالَ الشَّارِعُ لَهُمْ: رَخَّصْتُ لَكُمْ فِي هَذَا الْقَصْرِ، أَمَّا إِذَا قَالَ: أَوْجَبْتُ عَلَيْكُمْ هَذَا الْقَصْرَ، وَحَرَّمْتُ عَلَيْكُمُ الْإِتْمَامَ، وَجَعَلْتُهُ مُفْسِدًا لِصَلَاتِكُمْ، فَهَذَا الِاحْتِمَالُ مِمَّا لَا يَخْطُرُ بِبَالِ عَاقِلٍ أَصْلًا، فَلَا يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ لَائِقًا بِهِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: مَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: اعْتَمَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا قَدِمْتُ مَكَّةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، قَصَرْتُ وَأَتْمَمْتُ وَصُمْتُ وَأَفْطَرْتُ، فَقَالَ: أَحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ وَمَا عَابَ عَلَيَّ، وَكَانَ عُثْمَانُ يُتِمُّ وَيَقْصُرُ، وَمَا ظَهَرَ إِنْكَارٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ جَمِيعَ رُخَصِ السَّفَرِ شُرِعَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّجْوِيزِ، لا على سبيل التعيين جزما فكذا هاهنا، وَاحْتَجُّوا بِالْأَحَادِيثِ مِنْهَا مَا رَوَى عُمَرُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّه بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» فَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ مُسَافِرًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ تدل على كون القصر مشروعا جائزا، إِلَّا أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ غَيْرُهُ؟ وَلَمَّا دَلَّ لَفْظُ الْقُرْآنِ عَلَى جَوَازِ غَيْرِهِ كَانَ الْقَوْلُ بِهِ أَوْلَى، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ، وَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يُبْطِلُ هَذَا، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْقَصْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ تَخْفِيفُ الركعات، ولو كان الأمر على مَا ذَكَرُوهُ لَمَا كَانَ هَذَا قَصْرًا فِي صَلَاةِ السَّفَرِ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: زَعَمَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ أَنَّ قَلِيلَ السَّفَرِ وَكَثِيرَهُ سَوَاءٌ فِي جَوَازِ الرُّخْصَةِ وَزَعَمَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ السَّفَرَ مَا لَمْ يُقَدَّرْ بِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الرُّخْصَةُ. احْتَجَّ أَهْلُ الظَّاهِرِ بِالْآيَةِ فَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ جُمْلَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ شَرْطٍ، وَجَزَاءُ الشَّرْطِ هُوَ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ، وَالْجَزَاءُ هُوَ جَوَازُ الْقَصْرِ، وَإِذَا حَصَلَ الشَّرْطُ وَجَبَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ سَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ الَّذِي هُوَ السَّفَرُ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: فَهَذَا يَقْتَضِي حُصُولَ الرُّخْصَةِ عِنْدَ انْتِقَالِ الْإِنْسَانِ مِنْ مَحَلَّةٍ إِلَى مَحَلَّةٍ، وَمِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ مَحَلَّةٍ إِلَى مَحَلَّةٍ إِنْ لَمْ يُسَمَّ بِأَنَّهُ ضَرْبٌ فِي الْأَرْضِ، فَقَدْ زَالَ الْإِشْكَالُ، وَإِنْ سُمِّيَ بِذَلِكَ فَنَقُولُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، فَهَذَا تَخْصِيصٌ تَطَرَّقَ إِلَى هَذَا النَّصِّ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، وَالْعَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى النَّصُّ مُعْتَبَرًا فِي السَّفَرِ، سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الضَّرْبَ فِي الأرض شرطا

لِحُصُولِ هَذِهِ الرُّخْصَةِ، فَلَوْ كَانَ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ اسْمًا لِمُطْلَقِ الِانْتِقَالِ لَكَانَ ذَلِكَ حَاصِلًا دَائِمًا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْفَكُّ طُولَ عُمُرِهِ مِنَ الِانْتِقَالِ مِنَ الدَّارِ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَمِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى السُّوقِ، وَإِذَا كَانَ حَاصِلًا دَائِمًا امْتَنَعَ جَعْلُهُ شَرْطًا لِثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللَّه الضَّرْبَ فِي الْأَرْضِ شَرْطًا لِثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ عَلِمْنَا أَنَّهُ مُغَايِرٌ لِمُطْلَقِ الِانْتِقَالِ/ وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُسَمَّى سَفَرًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْمَ السَّفَرِ وَاقِعٌ عَلَى الْقَرِيبِ وَعَلَى الْبَعِيدِ، فَعَلِمْنَا دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى حُصُولِ الرُّخْصَةِ فِي مُطْلَقِ السَّفَرِ، أَمَّا الْفُقَهَاءُ فَقَالُوا: أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ السَّفَرِ مُقَدَّرٌ، قَالُوا: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَصَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَاتٌ: فَالرِّوَايَةُ الْأُولَى: مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: يَقْصُرُ فِي يَوْمٍ تَامٍّ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ. الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا زَادَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ قَصَرَ. وَالثَّالِثَةُ: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: الْمُعْتَبَرُ خَمْسُ فَرَاسِخَ. الرَّابِعَةُ: قَالَ الْحَسَنُ: مَسِيرَةُ لَيْلَتَيْنِ. الْخَامِسَةُ: قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْمَدَايِنِ، وَهِيَ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِذَا سَافَرَ إِلَى مَوْضِعٍ يَكُونُ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ وَأَكْثَرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ جَازَ الْقَصْرُ، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. السَّادِسَةُ: قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: أَرْبَعَةُ بُرُدٍ كُلُّ بَرِيدٍ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ، كُلُّ فَرْسَخٍ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ بِأَمْيَالِ هَاشِمٍ جَدِّ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الَّذِي قَدَّرَ أَمْيَالَ الْبَادِيَةِ كُلُّ مِيلٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ قَدَمٍ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ آلَافِ خُطْوَةٍ، فَإِنَّ كُلَّ ثَلَاثَةِ أَقْدَامٍ خُطْوَةٌ قَالَ الْفُقَهَاءُ: فَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَدُلُّ عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ على أن الحكم عير مَرْبُوطٍ بِمُطْلَقِ السَّفَرِ، قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: اضْطِرَابُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا فِي الْمَسْأَلَةِ دَلِيلًا قَوِيًّا فِي تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ، إِذْ لَوْ حَصَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ لَمَا حَصَلَ هَذَا الِاضْطِرَابُ، وَأَمَّا سُكُوتُ سَائِرِ الصَّحَابَةِ عَنْ حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَعَلَّهُ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى ارْتِبَاطِ الْحُكْمِ بِمُطْلَقِ السَّفَرِ، فَكَانَ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي مُطْلَقِ السَّفَرِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مَذْكُورًا فِي نَصِّ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ بِهِمْ حَاجَةٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، فَلِهَذَا سَكَتُوا عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ عَوَّلُوا فِي تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْمَسْحُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَنْ لَا يَكُونَ مُسَافِرًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا لَمْ يَحْصُلِ الرُّخَصُ الْمَشْرُوعَةُ فِي السَّفَرِ، وَأَمَّا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَإِنَّهُمْ عَوَّلُوا عَلَى مَا رَوَى مُجَاهِدٌ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَدْنَى مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ، قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى تَخْصِيصِ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ عِنْدَنَا غَيْرُ جَائِزٍ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ وَخَبَرَ الْوَاحِدِ مُشْتَرِكَانِ فِي دَلَالَةِ لَفْظِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْحُكْمِ، وَالْقُرْآنُ مَقْطُوعُ الْمَتْنِ، وَالْخَبَرُ مَظْنُونُ الْمَتْنِ، فَكَانَ الْقُرْآنُ أَقْوَى دَلَالَةً مِنَ الْخَبَرِ، فَتَرْجِيحُ/ الضَّعِيفِ عَلَى الْقَوِيِّ لَا يَجُوزُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِذَا رُوِيَ حَدِيثٌ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّه تَعَالَى فَإِنْ وَافَقَهُ فَاقْبَلُوهُ وَإِنْ خَالَفَهُ فَرُدُّوهُ» ، دَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ وَرَدَ عَلَى مُخَالَفَةِ كِتَابِ اللَّه تَعَالَى فَهُوَ مَرْدُودٌ، فَهَذَا الْخَبَرُ لَمَّا وَرَدَ عَلَى مُخَالَفَةِ عُمُومِ الْكِتَابِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَرْدُودًا. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي دَفْعِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ، وَهُوَ أَنَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ وَرَدَتْ فِي وَاقِعَةٍ تَعُمُّ الْحَاجَةُ إِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهَا فَوَجَبَ كَوْنُهَا مَرْدُودَةً، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهَا عَامَّةٌ لِأَنَّ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ كَانُوا فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ فِي السَّفَرِ وَفِي

الْغَزْوِ، فَلَمَّا كَانَتْ رُخَصُ السَّفَرِ مَخْصُوصَةً بِسَفَرٍ مُقَدَّرٍ، كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى مِقْدَارِ السَّفَرِ الْمُفِيدِ لِلرُّخْصِ حَاجَةً عَامَّةً فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَعَرَفُوهَا وَلَنَقْلُوهَا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، لَا سِيَّمَا وَهُوَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ أَخْبَارٌ ضَعِيفَةٌ مَرْدُودَةٌ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَجُوزُ تَرْكُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ بِسَبَبِهَا. الثَّالِثُ: أَنَّ دَلَائِلَ الشَّافِعِيَّةِ وَدَلَائِلَ الْحَنَفِيَّةِ صَارَتْ مُتَقَابِلَةً مُتَدَافِعَةً، وَإِذَا تَعَارَضَتْ تَسَاقَطَتْ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، هَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالَّذِي عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كَلِمَةَ (إِذَا) وَكَلِمَةَ (إِنْ) لَا يُفِيدَانِ إِلَّا كَوْنَ الشَّرْطِ مُسْتَعْقِبًا لِلْجَزَاءِ فَأَمَّا كَوْنُهُ مُسْتَعْقِبًا لِذَلِكَ الْجَزَاءِ فِي جَمِيعِ الأوقات فهذا غير لا زم، بدليل أنه إذا قال لا مرأته: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، أَوْ إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتْ مَرَّةً وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَإِذَا دَخَلَتِ الدَّارَ ثَانِيًا لَا يَقَعُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ (إِذَا) وَكَلِمَةَ (إِنْ) لَا يفيدان الْعُمُومِ الْبَتَّةَ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا سَقَطَ اسْتِدْلَالُ أَهْلِ الظَّاهِرِ بِالْآيَةِ، فَإِنَّ الْآيَةَ لَا تُفِيدُ إِلَّا أَنَّ الضَّرْبَ فِي الْأَرْضِ يَسْتَعْقِبُ مَرَّةً وَاحِدَةً هَذِهِ الرُّخَصَ وَعِنْدَنَا الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَ السَّفَرُ طَوِيلًا، فَأَمَّا السَّفَرُ الْقَصِيرُ فَإِنَّمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْآيَةِ لَوْ قُلْنَا إِنَّ كَلِمَةَ (إِذَا) لِلْعُمُومِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ الأمر كذلك فقد سقط هذا الِاسْتِدْلَالُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ الدَّلَائِلَ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْمُجْتَهِدُونَ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ لَيْسَتْ وَاقِعَةً عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ فَكَانَتْ مَقْبُولَةً صَحِيحَةً، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: زَعَمَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ أَنَّ جَوَازَ الْقَصْرِ مَخْصُوصٌ بِحَالِ الْخَوْفِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ هَذَا الْحُكْمَ مَشْرُوطًا بِالْخَوْفِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالْمَشْرُوطُ بِالشَّيْءِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّرْطِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ جَوَازُ الْقَصْرِ عِنْدَ الْأَمْنِ. قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ رَفْعُ هَذَا الشَّرْطِ بِخَبَرٍ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي نَسْخَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلَقَدْ صَعُبَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى قوله ذَكَرُوا فِيهِ/ وُجُوهًا مُتَكَلَّفَةً فِي الْآيَةِ لِيَتَخَلَّصُوا عَنْ هَذَا الْكَلَامِ. وَعِنْدِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا غُمُوضٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النِّسَاءِ: 31] أَنَّ كَلِمَةَ (إِنْ) وَكَلِمَةَ (إِذَا) يُفِيدَانِ أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ الشَّرْطِ يَحْصُلُ الْمَشْرُوطُ، وَلَا يُفِيدَانِ أَنَّ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ يَلْزَمُ عدم المشروط، واستدللنا على صحة هذا الْكَلَامِ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ خِفْتُمْ يَقْتَضِي أَنَّ عِنْدَ حصول الخوف تحصل الرخصة، ويقتضي أَنَّ عِنْدَ عَدَمِ الْخَوْفِ لَا تَحْصُلُ الرُّخْصَةُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْآيَةُ سَاكِتَةً عَنْ حَالِ الْأَمْنِ بِالنَّفْيِ وَبِالْإِثْبَاتِ، وَإِثْبَاتُ الرُّخْصَةِ حَالَ الْأَمْنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يَكُونُ إِثْبَاتًا لِحُكْمٍ سَكَتَ عَنْهُ الْقُرْآنُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، إِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى خِلَافِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا لَمَّا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتًا حَالَ الْأَمْنِ وَحَالَ الْخَوْفِ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَقْيِيدِهِ بِحَالِ الْخَوْفِ؟ قُلْنَا: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَالِبِ أَسْفَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَكْثَرُهَا لَمْ يَخْلُ عَنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ، فَذَكَرَ اللَّه هَذَا الشَّرْطَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ الْأَغْلَبُ فِي الْوُقُوعِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْقَصْرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ الْمُرَادُ مِنْهُ الِاكْتِفَاءُ بِالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ بَدَلًا عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَذَلِكَ هُوَ الصَّلَاةُ حَالَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ مَخْصُوصَةٌ بِحَالِ الْخَوْفِ، فَإِنَّ وَقْتَ الْأَمْنِ لَا يَجُوزُ الْإِتْيَانُ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ، وَلَا تَكُونُ مُحَرَّمَةً وَلَا صَحِيحَةً، واللَّه

[سورة النساء (4) : الآيات 102 إلى 103]

أَعْلَمُ. ثُمَّ يُقَالُ لِأَهْلِ الظَّاهِرِ: إِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ الْقَصْرُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الْخَوْفِ الْحَاصِلِ مِنْ فِتْنَةِ الْكُفَّارِ، وَأَمَّا لَوْ حَصَلَ الْخَوْفُ بِسَبَبٍ آخَرَ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْقَصْرُ، فَإِنِ الْتَزَمُوا ذَلِكَ سَلِمُوا مِنَ الطَّعْنِ، إِلَّا أَنَّهُ بَعِيدٌ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمُوهُ تَوَجَّهَ النَّقْضُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ هَذَا الْخَوْفُ الْمَخْصُوصُ، وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِمَّا أَنْ يُقَالَ: حَصَلَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْخَوْفِ كَافٍ، أَوْ لَمْ يَحْصُلِ الْإِجْمَاعُ، فَإِنْ حَصَلَ الْإِجْمَاعُ فَنَقُولُ: خَالَفْنَا ظَاهِرَ الْقُرْآنِ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ فَلَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلِ الْإِجْمَاعُ فَقَدْ زَالَ السُّؤَالُ، لِأَنَّا نَلْتَزِمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ إِلَّا مَعَ هَذَا الْخَوْفِ الْمَخْصُوصِ، واللَّه أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنُوكُمْ عَنْ إِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي جَمِيعِهَا. الثَّانِي: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَدَاوَتِهِمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مِحْنَةٍ وَبَلِيَّةٍ وَشِدَّةٍ فَهِيَ فِتْنَةٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعَدَاوَةَ الْحَاصِلَةَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْكَافِرِينَ قَدِيمَةٌ، وَالْآنَ قَدْ أَظْهَرْتُمْ خِلَافَهُمْ فِي الدِّينِ وَازْدَادَتْ عَدَاوَتُهُمْ، وَبِسَبَبِ شِدَّةِ الْعَدَاوَةِ أَقْدَمُوا عَلَى مُحَارَبَتِكُمْ وَقَصْدِ إِتْلَافِكُمْ إِنْ قَدَرُوا، فَإِنْ طَالَتْ صَلَاتُكُمْ فَرُبَّمَا وَجَدُوا الْفُرْصَةَ فِي قَتْلِكُمْ، فَعَلَى هَذَا رَخَّصْتُ لَكُمْ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا قَالَ عَدُوًّا وَلَمْ يَقُلْ أَعْدَاءً، لِأَنَّ الْعَدُوَّ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: 77] . [سورة النساء (4) : الآيات 102 الى 103] وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ حَالَ قَصْرِ الصَّلَاةِ بِحَسَبِ الْكَمِّيَّةِ فِي الْعَدَدِ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَالَهَا فِي الْكَيْفِيَّةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: صَلَاةُ الْخَوْفِ كَانَتْ خَاصَّةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَجُوزُ لِغَيْرِهِ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: كَانَتْ ثَابِتَةً ثُمَّ نُسِخَتْ. وَاحْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ عَلَى قَوْلِهِ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ إِقَامَةَ هَذِهِ الصَّلَاةِ مَشْرُوطَةٌ بِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ، لِأَنَّ كَلِمَةَ «إِذَا» تُفِيدُ الِاشْتِرَاطَ الثَّانِي: أَنَّ تَغْيِيرَ هَيْئَةِ الصَّلَاةِ أَمْرٌ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، إِلَّا أَنَّا جَوَّزْنَا ذَلِكَ فِي حَقِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَحْصُلَ لِلنَّاسِ فَضِيلَةُ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ، وَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ

حَاصِلٍ، لِأَنَّ فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ خَلْفَ الثَّانِي كَهِيَ خَلْفَ الْأَوَّلِ، فَلَا يَحْتَاجُ هُنَاكَ إِلَى تَغْيِيرِ هَيْئَةِ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا سَائِرُ الْفُقَهَاءِ فَقَالُوا: لَمَّا ثَبَتَ هَذَا الْحُكْمُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوهُ [الْأَعْرَافِ: 158] أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ [التَّوْبَةِ: 103] لَمْ يُوجِبْ كَوْنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ بَعْدَهُ، وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِلَفْظِ «إِذَا» فَالْجَوَابُ أَنَّ مُقْتَضَاهُ هُوَ الثُّبُوتُ عِنْدَ الثُّبُوتِ، أَمَّا الْعَدَمُ عِنْدَ الْعَدَمِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِإِدْرَاكِ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِإِبَاحَةِ تَغْيِيرِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طَلَبُ الْفَضِيلَةِ يُوجِبُ تَرْكَ الْفَرْضِ، فَانْدَفَعَ هَذَا الْكَلَامُ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: شَرْحُ صَلَاةِ الْخَوْفِ هُوَ أَنَّ الْإِمَامَ يَجْعَلُ الْقَوْمَ طَائِفَتَيْنِ وَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ إِذَا فَرَغُوا مِنَ الرَّكْعَةِ فَكَيْفَ يَصْنَعُونَ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تِلْكَ الطَّائِفَةَ يُسَلِّمُونَ مِنَ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ وَيَذْهَبُونَ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى وَيُصَلِّي بِهِمُ الْإِمَامُ رَكْعَةً أُخْرَى وَيُسَلِّمُ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَرَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ لِلْإِمَامِ رَكْعَتَانِ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَةٌ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه وَمُجَاهِدٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِمَامَ يُصَلِّي بِتِلْكَ الطَّائِفَةِ رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلِّمُ، ثُمَّ تَذْهَبُ تِلْكَ الطَّائِفَةُ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِهِمْ مَرَّةً أُخْرَى رَكْعَتَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. الثَّالِثُ: أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ مَعَ الطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً تَامَّةً، ثُمَّ يَبْقَى الْإِمَامُ قَائِمًا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى أَنْ تُصَلِّيَ هَذِهِ الطَّائِفَةُ رَكْعَةً أُخْرَى، وَيَتَشَهَّدُونَ وَيُسَلِّمُونَ وَيَذْهَبُونَ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ وَيُصَلُّونَ مَعَ الْإِمَامِ قَائِمًا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ رَكْعَةً، ثُمَّ يَجْلِسُ الْإِمَامُ فِي التَّشَهُّدِ إِلَى أَنْ تُصَلِّيَ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ يُسَلِّمُ الْإِمَامُ بِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. الرَّابِعُ: أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى يُصَلِّي الْإِمَامُ بِهِمْ رَكْعَةً/ وَيَعُودُونَ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيُصَلِّي بِهِمْ بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ وَيَنْصَرِفُونَ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَعُودُ الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَيَقْضُونَ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ بِقِرَاءَةٍ وَيَنْصَرِفُونَ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَعُودُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيَقْضُونَ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ بِقِرَاءَةٍ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى أَدْرَكَتْ أَوَّلَ الصَّلَاةِ، وَهُمْ فِي حُكْمِ مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلَمْ تُدْرِكْ أَوَّلَ الصَّلَاةِ، وَالْمَسْبُوقُ فِيمَا يَقْضِي كَالْمُنْفَرِدِ فِي صَلَاتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَرَدَتِ الرِّوَايَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ، فَلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ وَالْأَشَدَّ مُوَافَقَةً لِظَاهِرِ الْآيَةِ أَيُّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، أَمَّا الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه فَقَالَ: الْآيَةُ مُخَالِفَةٌ لِلرِّوَايَاتِ الَّتِي أَخَذَ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى قَدْ صَلَّتْ عِنْدَ إِتْيَانِ الثَّانِيَةِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ عِنْدَهُ تَأْتِي وَالْأُولَى بَعْدُ فِي الصَّلَاةِ وَمَا فَرَغُوا مِنْهَا. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ صَلَاةِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ الْإِمَامِ لِأَنَّ مُطْلَقَ قَوْلِكَ: صَلَّيْتُ مَعَ الْإِمَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّكَ أَدْرَكْتَ جَمِيعَ الصَّلَاةِ مَعَهُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالُوا: الْآيَةُ مُطَابِقَةٌ لِقَوْلِنَا، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى لَمْ يَفْرَغُوا مِنَ الصَّلَاةِ، وَلَكِنَّهُمْ يُصَلُّونَ رَكْعَةً ثُمَّ يَكُونُونَ مِنْ وَرَاءِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ لِلْحِرَاسَةِ، وَأَجَابَ الْوَاحِدِيُّ عَنْهُ فَقَالَ: هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ إِذَا جَعَلْنَا السُّجُودَ وَالْكَوْنَ مِنْ وَرَائِكُمْ لِطَائِفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ لِطَائِفَتَيْنِ السُّجُودُ لِلْأُولَى، وَالْكَوْنُ مِنْ وَرَائِكُمُ الَّذِي

بِمَعْنَى الْحِرَاسَةِ لِلطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ واللَّه أَعْلَمُ. وَلَنَرْجِعْ إلى تفسير الآية [قوله تعالى وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ إلى قوله أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ] فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ أَيْ وَإِذَا كُنْتَ أَيُّهَا النَّبِيُّ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فِي غَزَوَاتِهِمْ وَخَوْفِهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَالْمَعْنَى فَاجْعَلْهُمْ طَائِفَتَيْنِ، فَلْتَقُمْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ مَعَكَ فَصَلِّ بِهِمْ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ، وَالضَّمِيرُ إِمَّا لِلْمُصَلِّينَ وَإِمَّا لِغَيْرِهِمْ، فَإِنْ كَانَ لِلْمُصَلِّينَ فَقَالُوا: يَأْخُذُونَ مِنَ السِّلَاحِ مَا لَا يَشْغَلُهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ كَالسَّيْفِ وَالْخِنْجَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى الِاحْتِيَاطِ وَأَمْنَعُ لِلْعَدُوِّ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ الْمُصَلِّينَ فَلَا كَلَامَ فِيهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَمْرًا لِلْفَرِيقَيْنِ بِحَمْلِ السِّلَاحِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى الِاحْتِيَاطِ. ثُمَّ قَالَ: فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا. يَعْنِي غَيْرَ الْمُصَلِّينَ مِنْ وَرائِكُمْ يَحْرُسُونَكُمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَدَاءَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى مَعَ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ كَهُوَ فِي صَلَاةِ الْأَمْنِ، إِنَّمَا التَّفَاوُتُ يَقَعُ فِي أَدَاءِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فِيهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا/ مَذَاهِبَ النَّاسِ فِيهَا. ثُمَّ قَالَ: وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. ثُمَّ قَالَ: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْحِذْرَ وَهُوَ التَّحَذُّرُ وَالتَّيَقُّظُ آلَةً يَسْتَعْمِلُهَا الْغَازِي، فَلِذَلِكَ جُمِعَ بَيْنَهُ وبني الْأَسْلِحَةِ فِي الْأَخْذِ وَجُعِلَا مَأْخُوذَيْنِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: وَفِيهِ رُخْصَةٌ لِلْخَائِفِ فِي الصَّلَاةِ بِأَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ فِكْرِهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَسْلِحَتَهُمْ فَقَطْ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ. قُلْنَا: لِأَنَّ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ قَلَّمَا يَتَنَبَّهُ الْعَدُوُّ لِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّلَاةِ، بَلْ يَظُنُّونَ كَوْنَهُمْ قَائِمِينَ لِأَجْلِ الْمُحَارَبَةِ أَمَّا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَقَدْ ظَهَرَ لِلْكُفَّارِ كَوْنُهُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَهَهُنَا يَنْتَهِزُونَ الْفُرْصَةَ فِي الْهُجُومِ عَلَيْهِمْ، فَلَا جَرَمَ خَصَّ اللَّه تَعَالَى هَذَا الْمَوْضِعَ بِزِيَادَةِ تَحْذِيرٍ فَقَالَ: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً أَيْ بِالْقِتَالِ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ الظُّهْرَ، وَرَأَى الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ، فَقَالُوا بَعْدَ ذَلِكَ: بِئْسَمَا صَنَعْنَا حَيْثُ لَمْ نُقْدِمْ عَلَيْهِمْ، وَعَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى، فَأَطْلَعَ اللَّه نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَسْرَارِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ حَمْلُ السِّلَاحِ إِمَّا لِأَنَّهُ يُصِيبُهُ بَلَلُ الْمَطَرِ فَيَسْوَدُّ وَتَفْسُدُ حِدَّتُهُ، أَوْ لِأَنَّ مِنَ الْأَسْلِحَةِ مَا يَكُونُ مُبَطَّنًا فَيَثْقُلُ على لا بسه إِذَا ابْتَلَّ بِالْمَاءِ، أَوْ لِأَجْلِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ مَرِيضًا فَيَشُقُّ عَلَيْهِ حَمْلُ السَّلَاحِ، فَهَهُنَا لَهُ أَنْ يَضَعَ حَمْلَ السِّلَاحِ. ثُمَّ قَالَ: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا رَخَّصَ لَهُمْ فِي وَضْعِ السِّلَاحِ حَالَ الْمَطَرِ وَحَالَ الْمَرَضِ أَمَرَهُمْ مَرَّةً أُخْرَى بِالتَّيَقُّظِ وَالتَّحَفُّظِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْحِذْرِ، لِئَلَّا يَجْتَرِئَ الْعَدُوُّ عَلَيْهِمُ احْتِيَالًا فِي الْمَيْلِ عَلَيْهِمْ وَاسْتِغْنَامًا مِنْهُمْ لِوَضْعِ الْمُسْلِمِينَ أَسْلِحَتَهُمْ، وفيه مسائل:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ أَمْرٌ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَخْذُ السِّلَاحِ وَاجِبًا ثُمَّ تَأَكَّدَ هَذَا بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ فَخَصَّ رَفْعَ الْجُنَاحِ فِي وَضْعِ السِّلَاحِ بِهَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ فِيمَا وَرَاءَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ يَكُونُ الْإِثْمُ وَالْجُنَاحُ حَاصِلًا بِسَبَبِ وَضْعِ السِّلَاحِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَالْأَصَحُّ مَا بَيَّنَّاهُ/ ثُمَّ الشَّرْطُ أَنْ لَا يَحْمِلَ سِلَاحًا نَجِسًا إِنْ أَمْكَنَهُ، وَلَا يَحْمِلَ الرُّمْحَ إِلَّا فِي طَرَفِ الصَّفِّ، وَبِالْجُمْلَةِ بِحَيْثُ لَا يَتَأَذَّى بِهِ أَحَدٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُرْجَانِيُّ صَاحِبُ النَّظْمِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ عَلَى جِهَةٍ يَكُونُ بِهَا حَاذِرًا غَيْرَ غَافِلٍ عَنْ كَيْدِ الْعَدُوِّ. وَالَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ وَجْهُ الْحِذْرِ، لِأَنَّ الْعَدُوَّ يَوْمَئِذٍ بِذَاتِ الرِّقَاعِ كَانَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، فَالْمُسْلِمُونَ كَانُوا مُسْتَدْبِرِينَ الْقِبْلَةَ، وَمَتَى اسْتَقْبَلُوا الْقِبْلَةَ صَارُوا مُسْتَدْبِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ، فَلَا جَرَمَ أُمِرُوا بِأَنْ يَصِيرُوا طَائِفَتَيْنِ: طَائِفَةً فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَطَائِفَةً مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَأَمَّا حِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُسْفَانَ وَبِبَطْنِ نَخْلٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابَهُ طَائِفَتَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَدُوَّ كَانَ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ، وَالْمُسْلِمُونَ كَانُوا مُسْتَقْبِلِينَ لَهَا، فَكَانُوا يَرَوْنَ الْعَدُوَّ حَالَ كَوْنِهِمْ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَحْتَاجُوا إِلَى الِاحْتِرَاسِ إِلَّا عِنْدَ السُّجُودِ، فَلَا جَرَمَ لَمَّا سَجَدَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ بَقِيَ الصَّفُّ الثَّانِي يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ السُّجُودِ وَقَامُوا تَأَخَّرُوا وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الثَّانِي وَسَجَدُوا وَكَانَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ حَالَ قِيَامِهِمْ يَحْرُسُونَ الصَّفَّ الثَّانِيَ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: خُذُوا حِذْرَكُمْ يدل على جواز كل هَذِهِ الْوُجُوهِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّا لَوْ لَمْ نَحْمِلْهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَصَارَ تَكْرَارًا مَحْضًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَلَوَقَعَ فِعْلُ الرَّسُولِ بِعُسْفَانَ وَبِبَطْنِ نَخْلٍ عَلَى خِلَافِ نَصِّ الْقُرْآنِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ بِالْحِذْرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْعَبْدِ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ وَعَلَى التَّرْكِ وَعَلَى جَمِيعِ وُجُوهِ الْحِذْرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً للَّه تَعَالَى، وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمُعَارَضَةِ بِالْعِلْمِ وَالدَّاعِي واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ الْحِذْرِ عَنِ الْعَدُوِّ، فَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْحِذْرِ عَنْ جَمِيعِ الْمَضَارِّ الْمَظْنُونَةِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ كَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعِلَاجِ بِالدَّوَاءِ وَالْعِلَاجِ بِالْيَدِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْوَبَاءِ وَعَنِ الْجُلُوسِ تَحْتَ الْجِدَارِ الْمَائِلِ وَاجِبًا واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً وَفِيهِ سُؤَالٌ، أَنَّهُ كَيْفَ طَابَقَ الْأَمْرُ بِالْحِذْرِ قَوْلَهُ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْحِذْرِ عَنِ الْعَدُوِّ أَوْهَمَ ذَلِكَ قُوَّةَ الْعَدُوِّ وَشِدَّتَهُمْ، فَأَزَالَ اللَّه تَعَالَى هَذَا الْوَهْمَ بِأَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُهِينُهُمْ وَيَخْذُلُهُمْ وَلَا يَنْصُرُهُمُ الْبَتَّةَ حَتَّى يُقَوِّيَ قُلُوبَ الْمُسْلِمِينَ وَيَعْلَمُوا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحِذْرِ لَيْسَ لِمَا لَهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْهَيْبَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ أَنْ يَحْصُلَ الْخَوْفُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِينَ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُونَ مُتَضَرِّعِينَ إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي أَنْ يَمُدَّهُمْ بِالنَّصْرِ/ وَالتَّوْفِيقِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الْأَنْفَالِ: 45] .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: فَإِذَا قَضَيْتُمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ فَوَاظِبُوا عَلَى ذِكْرِ اللَّه فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، فَإِنَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْخَوْفِ وَالْحِذْرِ مَعَ الْعَدُوِّ جَدِيرٌ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذِكْرِ اللَّه وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ، الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الصَّلَاةُ، يَعْنِي صَلُّوا قِيَامًا حَالَ اشْتِغَالِكُمْ بِالْمُسَابَقَةِ وَالْمُقَارَعَةِ، وَقُعُودًا حَالَ اشْتِغَالِكُمْ بِالرَّمْيِ، وَعَلَى جُنُوبِكُمْ حَالَ مَا تَكْثُرُ الْجِرَاحَاتُ فِيكُمْ فَتَسْقُطُونَ عَلَى الْأَرْضِ، فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ حِينَ تَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، فَاقْضُوا مَا صَلَّيْتُمْ فِي حَالِ الْمُسَابَقَةِ. هَذَا ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي إِيجَابِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُحَارِبِ فِي حَالِ الْمُسَابَقَةِ إِذَا حَضَرَ وَقْتُهَا، وَإِذَا اطْمَأَنُّوا فَعَلَيْهِمُ الْقَضَاءُ إِلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِشْكَالًا، وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَصَلُّوا، وَذَلِكَ بَعِيدٌ لِأَنَّ حَمْلَ لَفْظِ الذِّكْرِ عَلَى الصَّلَاةِ مَجَازٌ فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ. ثُمَّ قَالَ تعالى: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَسْبُوقَةٌ بِحُكْمَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: بَيَانُ الْقَصْرِ وَهُوَ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَالثَّانِي: صَلَاةُ الْخَوْفِ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ يَحْتَمِلُ نَقِيضَ الْأَمْرَيْنِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الِاطْمِئْنَانِ أَنْ لَا يَبْقَى الْإِنْسَانُ مُسَافِرًا بَلْ يَصِيرُ مُقِيمًا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمُرَادُ: فَإِذَا صِرْتُمْ مُقِيمِينَ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ تَامَّةً مِنْ غَيْرِ قَصْرٍ الْبَتَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الِاطْمِئْنَانِ أَنْ لَا يَبْقَى الْإِنْسَانُ مُضْطَرِبَ الْقَلْبِ، بَلْ يَصِيرُ سَاكِنَ الْقَلْبِ سَاكِنَ النَّفْسِ بِسَبَبِ أَنَّهُ زَالَ الْخَوْفُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمُرَادُ: فَإِذَا زَالَ الْخَوْفُ عَنْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كُنْتُمْ تَعْرِفُونَهَا، وَلَا تُغَيِّرُوا شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِهَا وَهَيْآتِهَا، ثُمَّ لَمَّا بَالَغَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي شَرْحِ أَقْسَامِ الصَّلَاةِ فَذَكَرَ صَلَاةَ السَّفَرِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ صَلَاةَ الْخَوْفِ خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً أي فرضا موقتا، والمراد بالكتاب هاهنا الْمَكْتُوبُ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَكْتُوبَةٌ مَوْقُوتَةٌ، ثُمَّ حَذَفَ الْهَاءَ مِنَ الْمَوْقُوتِ كَمَا جَعَلَ الْمَصْدَرَ مَوْضِعَ الْمَفْعُولِ وَالْمَصْدَرُ مُذَكَّرٌ، وَمَعْنَى الْمَوْقُوتِ أَنَّهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ فِي أَوْقَاتٍ مُوَقَّتَةٍ، يُقَالُ: وَقَّتَهُ وَوَقَتَهُ مخففا، وقريء وَإِذَا الرُّسُلُ وُقِتَتْ [الْمُرْسَلَاتِ: 11] بِالتَّخْفِيفِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ وُجُوبَ الصَّلَاةِ مُقَدَّرٌ بِأَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أجمل ذكر الأوقات هاهنا وَبَيَّنَهَا فِي سَائِرِ الْآيَاتِ، وَهِيَ خَمْسَةٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [الْبَقَرَةِ: 238] فَقَوْلُهُ الصَّلَواتِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ صَلَوَاتٍ ثَلَاثَةٍ، وَقَوْلُهُ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّكْرَارُ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ زَائِدَةً عَلَى الثَّلَاثَةِ/ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ أَرْبَعَةً، وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ فِيهَا وُسْطَى، فَلَا بُدَّ مِنْ جَعْلِهَا خَمْسَةً لِتَحْصُلَ الْوُسْطَى، وَكَمَا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ خَمْسِ صَلَوَاتٍ دَلَّتْ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْوَتْرِ، وَإِلَّا لَصَارَتِ الصَّلَوَاتُ الْوَاجِبَةُ سِتَّةً، فَحِينَئِذٍ لَا تَحْصُلُ الْوُسْطَى فَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ إِلَّا أَنَّهَا غَيْرُ دَالَّةٍ عَلَى بَيَانِ أَوْقَاتِهَا. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الْإِسْرَاءِ: 78] فَالْوَاجِبُ مِنَ الدُّلُوكِ إِلَى الْغَسَقِ هُوَ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، وَالْوَاجِبُ مِنَ الْغَسَقِ إِلَى الْفَجْرِ هُوَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالْوَاجِبُ فِي الْفَجْرِ هُوَ صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تُوهِمُ أَنَّ لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَقْتًا وَاحِدًا وَلِلْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَقْتًا وَاحِدًا. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الرُّومِ: 17] وَالْمُرَادُ مِنْهُ الصَّلَاتَانِ الْوَاقِعَتَانِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ وَهُمَا الْمَغْرِبُ وَالصُّبْحُ، ثُمَّ قَالَ: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الرُّومِ: 18]

فَقَوْلُهُ وَعَشِيًّا الْمُرَادُ مِنْهُ الصَّلَاةُ الْوَاقِعَةُ فِي مَحْضِ اللَّيْلِ وَهِيَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَقَوْلُهُ وَحِينَ تُظْهِرُونَ الْمُرَادُ الصَّلَاةُ الْوَاقِعَةُ فِي مَحْضِ النَّهَارِ، وَهِيَ صَلَاةُ الظُّهْرِ كَمَا قَدَّمَ فِي قَوْلِهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الرُّومِ: 17] صَلَاةَ اللَّيْلِ عَلَى صَلَاةِ النَّهَارِ فِي الذِّكْرِ، فَكَذَلِكَ قَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ صَلَاةَ اللَّيْلِ عَلَى صَلَاةِ النَّهَارِ فِي الذِّكْرِ، فَصَارَتِ الصَّلَوَاتُ الْأَرْبَعَةُ مَذْكُورَةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَمَّا صَلَاةُ الْعَصْرِ فَقَدْ أَفْرَدَهَا اللَّه تَعَالَى بِالذِّكْرِ فِي قوله وَالْعَصْرِ تَشْرِيفًا لَهَا بِالْإِفْرَادِ بِالذِّكْرِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ [هُودٍ: 114] فَقَوْلُهُ طَرَفَيِ النَّهارِ يُفِيدُ وُجُوبَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَوُجُوبَ صَلَاةِ الْعَصْرِ لِأَنَّهُمَا كَالْوَاقِعَتَيْنِ عَلَى الطَّرَفَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَاقِعَةً قَبْلَ حُدُوثِ الطَّرَفِ الْأَوَّلِ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ وَاقِعَةً قَبْلَ حُدُوثِ الطَّرَفِ الثَّانِي. وَقَوْلُهُ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ يُفِيدُ وُجُوبَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَسْتَدِلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْوَتْرِ قَالَ: لِأَنَّ الزُّلَفَ جَمْعٌ، وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَجِبَ ثَلَاثُ صَلَوَاتٍ فِي اللَّيْلِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ فَقَوْلُهُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها [طه: 130] إِشَارَةٌ إِلَى الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ [هُودٍ: 114] وَقَوْلُهُ وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ وَكَمَا احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ فَكَذَلِكَ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ لِأَنَّ قَوْلَهُ آنَاءِ اللَّيْلِ جَمْعٌ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، فَهَذَا مَجْمُوعُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ الصَّلَوَاتِ بِهَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ فِي نِهَايَةِ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ نَظَرًا إِلَى الْمَعْقُولِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ مَرَاتِبَ خَمْسَةً: أَوَّلُهَا: مَرْتَبَةُ الْحُدُوثِ وَالدُّخُولِ فِي الْوُجُودِ، وَهُوَ كَمَا يُولَدُ الْإِنْسَانُ وَيَبْقَى في النشو وَالنَّمَاءِ إِلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، وَهَذِهِ الْمُدَّةُ تُسَمَّى سن/ النشو وَالنَّمَاءِ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: مُدَّةُ الْوُقُوفِ، وَهُوَ أَنْ يَبْقَى ذَلِكَ الشَّيْءُ عَلَى صِفَةِ كَمَالِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَهَذِهِ الْمُدَّةُ تُسَمَّى سِنَّ الشَّبَابِ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: مُدَّةُ الْكُهُولَةِ، وَهُوَ أَنْ يَظْهَرَ فِي الْإِنْسَانِ نُقْصَانٌ خَفِيٌّ، وَهَذِهِ الْمُدَّةُ تُسَمَّى سِنَّ الْكُهُولَةِ. وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: مُدَّةُ الشَّيْخُوخَةِ، وَهُوَ أَنْ يَظْهَرَ فِي الْإِنْسَانِ نُقْصَانَاتٌ ظاهرة جليلة إِلَى أَنْ يَمُوتَ وَيَهْلِكَ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمُدَّةُ سِنَّ الشَّيْخُوخَةِ. الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ تَبْقَى آثَارُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُدَّةً، ثُمَّ بِالْآخِرَةِ تَنْمَحِي تِلْكَ الْآثَارُ وَتَبْطُلُ وَتَزُولُ، وَلَا يَبْقَى مِنْهُ فِي الدُّنْيَا خَبَرٌ وَلَا أَثَرٌ، فَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ الْخَمْسَةُ حَاصِلَةٌ لِجَمِيعِ حَوَادِثِ هَذَا الْعَالَمِ سَوَاءٌ كَانَ إِنْسَانًا أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ أَوِ النَّبَاتَاتِ، وَالشَّمْسُ حَصَلَ لَهَا بِحَسَبِ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا هَذِهِ الْأَحْوَالُ الْخَمْسُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا حِينَ تَطْلُعُ مِنْ مشرقها يشبه حالها حال المولود عند ما يُولَدُ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَزْدَادُ ارْتِفَاعُهَا وَيَقْوَى نُورُهَا وَيَشْتَدُّ حَرُّهَا إِلَى أَنْ تَبْلُغَ إِلَى وَسَطِ السَّمَاءِ، فَتَقِفَ هُنَاكَ سَاعَةً ثُمَّ تَنْحَدِرُ وَيَظْهَرُ فِيهَا نُقْصَانَاتٌ خَفِيَّةٌ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ يَظْهَرُ فِيهَا نُقْصَانَاتٌ ظَاهِرَةٌ فَيَضْعُفُ ضَوْؤُهَا وَيَضْعُفُ حَرُّهَا، وَيَزْدَادُ انْحِطَاطُهَا وَقُوَّتُهَا إِلَى الْغُرُوبِ، ثُمَّ إِذَا غَرَبَتْ يَبْقَى بَعْضُ آثَارِهَا فِي أُفُقِ الْمَغْرِبِ وَهُوَ الشَّفَقُ، ثُمَّ تَنْمَحِي تِلْكَ الْآثَارُ وَتَصِيرُ الشَّمْسُ كَأَنَّهَا مَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْعَالَمِ، فَلَمَّا حَصَلَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الْخَمْسَةُ لَهَا وَهِيَ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّه تَعَالَى لَا جرم

[سورة النساء (4) : آية 104]

أَوَجَبَ اللَّه تَعَالَى عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْخَمْسَةِ لَهَا صَلَاةً، فَأَوْجَبَ عِنْدَ قُرْبِ الشَّمْسِ مِنَ الطُّلُوعِ صَلَاةَ الْفَجْرِ شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ زَوَالِ تِلْكَ الظُّلْمَةِ وَحُصُولِ النُّورِ، وَبِسَبَبِ زَوَالِ النَّوْمِ الَّذِي هُوَ كَالْمَوْتِ وَحُصُولِ الْيَقَظَةِ الَّتِي هِيَ كَالْحَيَاةِ، وَلَمَّا وَصَلَتِ الشَّمْسُ إِلَى غَايَةِ الِارْتِفَاعِ ثُمَّ ظَهَرَ فِيهَا أَثَرُ الِانْحِطَاطِ أَوْجَبَ صَلَاةَ الظُّهْرِ تَعْظِيمًا لِلْخَالِقِ الْقَادِرِ عَلَى قَلْبِ أَحْوَالِ الْأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ مِنَ الضِّدِّ إِلَى الضِّدِّ، فَجَعَلَ الشَّمْسَ بَعْدَ غَايَةِ ارْتِفَاعِهَا وَاسْتِعْلَائِهَا مُنْحَطَّةً عَنْ ذَلِكَ الْعُلُوِّ وَآخِذَةً فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ، وَهُوَ النُّقْصَانُ الْخَفِيُّ، ثُمَّ لَمَّا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْكُهُولَةِ وَدَخَلَتْ فِي أَوَّلِ زَمَانِ الشَّيْخُوخَةِ أَوْجَبَ تَعَالَى صَلَاةَ الْعَصْرِ. وَنِعْمَ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِنَّ أَوَّلَ الْعَصْرِ هُوَ أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ تَظْهَرُ النُّقْصَانَاتُ الظَّاهِرَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه مَا ازْدَادَ الظل إلا مثل الشيء، ثم ان في زمان الطيف يَصِيرُ ظِلُّهُ مِثْلَيْهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى/ أَنَّ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي يَصِيرُ ظِلُّ الشَّيْءِ مِثْلًا لَهُ تَأْخُذُ الشَّمْسُ فِي النُّقْصَانَاتِ الظَّاهِرَةِ، ثُمَّ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ أَشْبَهَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ مَا إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ، فَلَا جَرَمَ أَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى عِنْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ لَمَّا غَرَبَ الشَّفَقُ فَكَأَنَّهُ انْمَحَتْ آثَارُ الشَّمْسِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا خَبَرٌ وَلَا أَثَرٌ، فَلَا جَرَمَ أَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى صَلَاةَ الْعِشَاءِ، فَثَبَتَ أَنَّ إِيجَابَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ مُطَابِقٌ لِلْقَوَانِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْأُصُولِ الحكمية، واللَّه أعلم بأسرار أفعاله. [سورة النساء (4) : آية 104] وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَحْتَاجُ الْمُجَاهِدُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا عَادَ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى الْحَثِّ عَلَى الْجِهَادِ فَقَالَ وَلا تَهِنُوا أَيْ وَلَا تَضْعُفُوا وَلَا تَتَوَانَوْا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ أَيْ فِي طَلَبِ الْكُفَّارِ بِالْقِتَالِ، ثُمَّ أَوْرَدَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ حُصُولَ الْأَلَمِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَصِرْ خَوْفُ الْأَلَمِ مَانِعًا لَهُمْ عَنْ قِتَالِكُمْ فَكَيْفَ صَارَ مَانِعًا لَكُمْ عَنْ قِتَالِهِمْ، ثُمَّ زَادَ فِي تَقْرِيرِ الْحُجَّةِ وَبَيَّنَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى بِالْمُصَابَرَةِ عَلَى الْقِتَالِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مُقِرُّونَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَالْمُشْرِكِينَ لَا يُقِرُّونَ بِذَلِكَ، فَإِذَا كَانُوا مَعَ إِنْكَارِهِمُ الْحَشْرَ وَالنَّشْرَ يُجِدُّونَ فِي الْقِتَالِ فَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمُقِرُّونَ بِأَنَّ لَكُمْ فِي هَذَا الْجِهَادِ ثَوَابًا عَظِيمًا وَعَلَيْكُمْ فِي تَرْكِهِ عِقَابًا عَظِيمًا، أَوْلَى بِأَنْ تَكُونُوا مُجِدِّينَ فِي هَذَا الْجِهَادِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنَّ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الرَّجَاءِ مَا وَعَدَهُمُ اللَّه تَعَالَى فِي قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة: 33] [الفتح: 28] [الصف: 9] وفي قوله يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَالِ: 64] وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّكُمْ تَعْبُدُونَ الْإِلَهَ الْعَالِمَ الْقَادِرَ السَّمِيعَ الْبَصِيرَ فَيَصِحُّ مِنْكُمْ أَنْ تَرْجُوا ثَوَابَهُ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَإِنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَهِيَ جَمَادَاتٌ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُمْ أَنْ يَرْجُوا مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَامِ ثَوَابًا أَوْ يَخَافُوا مِنْهَا عِقَابًا. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ بِمَعْنَى: وَلَا تَهِنُوا لِأَنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ، وَقَوْلُهُ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ تَعْلِيلٌ. ثُمَّ قَالَ: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أَيْ لَا يُكَلِّفُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَأْمُرُكُمْ وَلَا يَنْهَاكُمْ إِلَّا بِمَا هُوَ عَالِمٌ بِأَنَّهُ/ سَبَبٌ لِصَلَاحِكُمْ في دينكم ودنياكم.

[سورة النساء (4) : الآيات 105 إلى 106]

[سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 106] إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ ثُمَّ اتَّصَلَ بِذَلِكَ أَمْرُ الْمُحَارَبَةِ، وَاتَّصَلَ بِذِكْرِ الْمُحَارَبَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، مِثْلُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ خَطَأً عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَمِثْلُ بَيَانِ صَلَاةِ السَّفَرِ وَصَلَاةِ الْخَوْفِ، رَجَعَ الْكَلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَاوِلُونَ أَنْ يَحْمِلُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَنْ يَحْكُمَ بِالْبَاطِلِ وَيَذَرَ الْحُكْمَ الْحَقَّ، فَأَطْلَعَ اللَّه رَسُولَهُ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِأَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَقْبَلَ قَوْلَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي بَيَانِ النَّظْمِ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْأَحْكَامَ الْكَثِيرَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مَا عُرِفَ بِإِنْزَالِ اللَّه تَعَالَى وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّسُولِ أَنْ يَحِيدَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا طَلَبًا لِرِضَا قَوْمِهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْمُجَاهَدَةِ مَعَ الْكُفَّارِ بَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ لَا تَجُوزُ الْخِيَانَةُ مَعَهُمْ وَلَا إِلْحَاقُ مَا لَمْ يَفْعَلُوا بِهِمْ، وَأَنَّ كُفْرَ الْكَافِرِ لَا يُبِيحُ الْمُسَامَحَةَ بِالنَّظَرِ لَهُ، بَلِ الْوَاجِبُ فِي الدِّينِ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ وَعَلَيْهِ بِمَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ، وَأَنْ لَا يَلْحَقَ الْكَافِرَ حَيْفٌ لِأَجْلِ أَنْ يرضى المنافق بذلك، [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ، ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ الْوَاقِعَةِ رِوَايَاتٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ طُعْمَةَ سَرَقَ دِرْعًا فَلَمَّا طُلِبَتِ الدِّرْعُ مِنْهُ رَمَى وَاحِدًا مِنَ الْيَهُودِ بِتِلْكَ السَّرِقَةِ، وَلَمَّا اشْتَدَّتِ الْخُصُومَةُ بَيْنَ قَوْمِهِ وَبَيْنَ قَوْمِ الْيَهُودِيِّ جَاءَ قَوْمُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُعِينَهُمْ عَلَى هَذَا الْمَقْصُودِ وَأَنْ يُلْحِقَ هَذِهِ الْخِيَانَةَ بِالْيَهُودِيِّ، فَهَمَّ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَلِكَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، وَثَانِيهَا: أَنَّ وَاحِدًا وَضَعَ عِنْدَهُ دِرْعًا عَلَى سَبِيلِ الْوَدِيعَةِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَاهِدٌ، فَلَمَّا طَلَبَهَا مِنْهُ جَحَدَهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُودِعَ لَمَّا طَلَبَ الْوَدِيعَةَ زَعَمَ أَنَّ الْيَهُودِيَّ سَرَقَ الدِّرْعَ/ وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طُعْمَةَ وَقَوْمَهُ كَانُوا مُنَافِقِينَ، وَإِلَّا لَمَا طَلَبُوا مِنَ الرَّسُولِ نُصْرَةَ الْبَاطِلِ وَإِلْحَاقَ السَّرِقَةِ بِالْيَهُودِيِّ عَلَى سَبِيلِ التَّخَرُّصِ وَالْبُهْتَانِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ [النِّسَاءِ: 113] ثُمَّ رُوِيَ أَنَّ طُعْمَةَ هَرَبَ إِلَى مَكَّةَ وَارْتَدَّ وَثَقَبَ حَائِطًا هُنَاكَ لِأَجْلِ السَّرِقَةِ فَسَقَطَ الْحَائِطُ عَلَيْهِ وَمَاتَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: قَوْلُهُ أَراكَ اللَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا بِالْهَمْزَةِ مِنْ رَأَيْتَ الَّتِي يُرَادُ بِهَا رُؤْيَةُ الْبَصَرِ، أَوْ مِنْ رَأَيْتَ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولَيْنِ، أَوْ مِنْ رَأَيْتَ الَّتِي يُرَادُ بِهَا الِاعْتِقَادُ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْحَادِثَةِ لَا يُرَى بِالْبَصَرِ، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةٍ لَا إِلَى الْمَفْعُولَيْنِ بِسَبَبِ التَّعْدِيَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَتَعَدَّ إِلَّا إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْكَافُ الَّتِي هِيَ لِلْخِطَابِ، وَالْآخَرُ الْمَفْعُولُ الْمُقَدَّرُ، وَتَقْدِيرُهُ: بِمَا أَرَاكَهُ اللَّه، وَلَمَّا بَطَلَ الْقِسْمَانِ بَقِيَ الثَّالِثُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ رَأَيْتَ بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ بِما أَراكَ اللَّهُ مَعْنَاهُ بِمَا أَعْلَمَكَ اللَّه، وَسُمِّيَ ذَلِكَ الْعِلْمُ

بِالرُّؤْيَةِ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ الْمُبَرَّأَ عَنْ جِهَاتِ الرَّيْبِ يَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى الرُّؤْيَةِ فِي الْقُوَّةِ وَالظُّهُورِ، وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: لَا يَقُولَنَّ أَحَدٌ قَضَيْتُ بِمَا أَرَانِي اللَّه تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ إِلَّا لِنَبِيِّهِ، وَأَمَّا الْوَاحِدُ مِنَّا فَرَأْيُهُ يَكُونُ ظَنًّا وَلَا يَكُونُ عِلْمًا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا كَانَ يَحْكُمُ إِلَّا بِالْوَحْيِ وَالنَّصِّ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: تَفَرَّعَ عَلَيْهِ مَسْأَلَتَانِ: إحداهما: أنه لما ثبت أنه عليه والصلاة وَالسَّلَامُ مَا كَانَ يَحْكُمُ إِلَّا بِالنَّصِّ ثَبَتَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ مَا كَانَ جَائِزًا لَهُ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ إِلَّا بِالنَّصِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْأُمَّةِ كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوهُ [الْأَعْرَافِ: 158] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ حَرَامًا. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا قَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ كَانَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ عَمَلًا بِالنَّصِّ فِي الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَهْمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّكَ أَنَّ حُكْمَ الصُّورَةِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا مِثْلُ حُكْمِ الصُّورَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا بِسَبَبِ أَمْرٍ جَامِعٍ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ فَاعْلَمْ أَنَّ تَكْلِيفِي فِي حَقِّكَ أَنْ تَعْمَلَ بِمُوجِبِ ذَلِكَ الظَّنِّ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ الْعَمَلُ بِهَذَا الْقِيَاسِ عَمَلًا بِعَيْنِ النَّصِّ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى الْآيَةِ: وَلَا تَكُنْ لِأَجْلِ الْخَائِنِينَ مُخَاصِمًا لِمَنْ كَانَ بَرِيئًا عَنِ الذَّنْبِ، يَعْنِي/ لَا تُخَاصِمِ الْيَهُودَ لِأَجْلِ الْمُنَافِقِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: خَصْمُكَ الَّذِي يُخَاصِمُكَ، وَجَمْعُهُ الْخُصَمَاءُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْخَصْمِ وَهُوَ نَاحِيَةُ الشَّيْءِ وَطَرَفُهُ، وَالْخَصْمُ طَرَفُ الزَّاوِيَةِ وَطَرَفُ الْأَشْفَارِ، وَقِيلَ لِلْخَصْمَيْنِ خَصْمَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْحُجَّةِ وَالدَّعْوَى، وَخُصُومُ السَّحَابَةِ جَوَانِبُهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الطَّاعِنُونَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى صُدُورِ الذَّنْبِ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَإِنَّهُ لَوْلَا أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَ لِأَجْلِ الْخَائِنِ وَيَذُبَّ عَنْهُ وَإِلَّا لَمَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْمَنْهِيِّ فَاعِلًا لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ، بَلْ ثَبَتَ فِي الرِّوَايَةِ أَنَّ قَوْمَ طُعْمَةَ لَمَّا الْتَمَسُوا مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ يَذُبَّ عَنْ طُعْمَةَ وَأَنْ يُلْحِقَ السَّرِقَةَ بِالْيَهُودِيِّ تَوَقَّفَ وَانْتَظَرَ الْوَحْيَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَكَانَ الْغَرَضُ مِنْ هَذَا النَّهْيِ تَنْبِيهَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَنَّ طُعْمَةَ كَذَّابٌ، وَأَنَّ الْيَهُودِيَّ بَرِيءٌ عَنْ ذَلِكَ الْجُرْمِ. فَإِنْ قِيلَ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْجُرْمَ قَدْ وَقَعَ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً فَلَمَّا أَمَرَهُ اللَّه بِالِاسْتِغْفَارِ دَلَّ عَلَى سَبْقِ الذَّنْبِ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: لَعَلَّهُ مَالَ طَبْعُهُ إِلَى نُصْرَةِ طُعْمَةَ بِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَرَ بِالِاسْتِغْفَارِ لِهَذَا الْقَدْرِ، وَحَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ. وَالثَّانِي: لَعَلَّ الْقَوْمَ لَمَّا شَهِدُوا عَلَى سَرِقَةِ الْيَهُودِيِّ

[سورة النساء (4) : آية 107]

وَعَلَى بَرَاءَةِ طُعْمَةَ مِنْ تِلْكَ السَّرِقَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا يُوجِبُ الْقَدْحَ فِي شَهَادَتِهِمْ هَمَّ بِأَنْ يَقْضِيَ بِالسَّرِقَةِ عَلَى الْيَهُودِيِّ، ثُمَّ لَمَّا أَطْلَعَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى كَذِبِ أُولَئِكَ الشُّهُودِ عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَضَاءَ لَوْ وَقَعَ لَكَانَ خَطَأً، فَكَانَ اسْتِغْفَارُهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ هَمَّ بِذَلِكَ الْحُكْمِ الَّذِي لَوْ وَقَعَ لَكَانَ خَطَأً فِي نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا عِنْدَ اللَّه فِيهِ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَاسْتَغْفِرِ اللَّه لِأُولَئِكَ الَّذِينَ يَذُبُّونَ عَنْ طُعْمَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ يظهروا براءته عن السرقة ثم قال تعالى: [سورة النساء (4) : آية 107] وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ طُعْمَةُ وَمَنْ عَاوَنَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِمَّنْ عَلِمَ كَوْنَهُ سَارِقًا، وَالِاخْتِيَانُ كَالْخِيَانَةِ/ يُقَالُ: خَانَهُ وَاخْتَانَهُ، وَذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 187] وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى لِطُعْمَةَ وَلِمَنْ ذَبَّ عَنْهُمْ: إِنَّهُمْ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ لِأَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَقْدَ حَرَمَ نَفْسَهُ الثَّوَابَ وَأَوْصَلَهَا إِلَى الْعِقَابِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ خِيَانَةً مَعَ نَفْسِهِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ لِمَنْ ظَلَمَ غَيْرَهُ: إِنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ تَهْدِيدًا شَدِيدًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا مَالَ طَبْعُهُ قَلِيلًا إِلَى جَانِبِ طُعْمَةَ، وَكَانَ فِي عِلْمِ اللَّه أَنَّ طُعْمَةَ كَانَ فَاسِقًا، فاللَّه تَعَالَى عَاتَبَ رَسُولَهُ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ إِعَانَةِ الْمُذْنِبِ، فَكَيْفَ حَالُ مَنْ يَعْلَمُ مِنَ الظَّالِمِ كَوْنَهُ ظَالِمًا ثُمَّ يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ الظُّلْمِ، بَلْ يَحْمِلُهُ عَلَيْهِ وَيُرَغِّبُهُ فِيهِ أَشَدَّ التَّرْغِيبِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنْ طُعْمَةَ خَانَ فِي الدِّرْعِ، وَأَثِمَ فِي نِسْبَةِ الْيَهُودِيِّ إِلَى تِلْكَ السَّرِقَةِ فَلَا جَرَمَ قَالَ اللَّه تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ خَوَّاناً أَثِيماً مَعَ أَنَّ الصَّادِرَ عَنْهُ خِيَانَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِثْمٌ وَاحِدٌ. قُلْنَا: عَلِمَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ فِي طَبْعِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْخِيَانَةُ الْكَثِيرَةُ وَالْإِثْمُ الْكَثِيرُ، فَذَكَرَ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ بِسَبَبِ مَا كَانَ فِي طَبْعِهِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ أَنَّهُ بَعْدَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ هَرَبَ إِلَى مَكَّةَ وَارْتَدَّ وَنَقَبَ حَائِطَ إِنْسَانٍ لِأَجْلِ السَّرِقَةِ فَسَقَطَ الْحَائِطُ عَلَيْهِ وَمَاتَ، وَمَنْ كَانَ خَاتِمَتُهُ كَذَلِكَ لَمْ يُشَكَّ فِي خِيَانَتِهِ، وَأَيْضًا طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَدْفَعَ السَّرِقَةَ عَنْهُ وَيُلْحِقَهَا بِالْيَهُودِيِّ، وَهَذَا يُبْطِلُ رِسَالَةَ الرَّسُولِ، وَمَنْ حَاوَلَ إِبْطَالَ رِسَالَةَ الرَّسُولِ وَأَرَادَ إِظْهَارَ كَذِبِهِ فَقَدْ كَفَرَ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى وَصَفَهُ اللَّه بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْخِيَانَةِ وَالْإِثْمِ. وَقِيلَ: إِذَا عَثَرْتَ مِنْ رَجُلٍ عَلَى سَيِّئَةٍ فَاعْلَمْ أَنَّ لَهَا أَخَوَاتٍ. عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ سَارِقٍ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ تَبْكِي وَتَقُولُ هَذِهِ أَوَّلُ سَرِقَةٍ سَرَقَهَا فَاعْفُ عَنْهُ، فَقَالَ كَذَبْتِ إِنَّ اللَّه لَا يُؤَاخِذُ عَبْدَهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَصَّ هَذَا الْوَعِيدَ بِمَنْ كَانَ عَظِيمَ الْخِيَانَةِ وَالْإِثْمِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ قَلِيلَ الْخِيَانَةِ والإثم فهو خارج عنه ثم قال تعالى: [سورة النساء (4) : آية 108] يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) الِاسْتِخْفَاءُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ الِاسْتِتَارُ، يُقَالُ اسْتَخْفَيْتُ مِنْ/ فُلَانٍ، أَيْ تَوَارَيْتُ مِنْهُ وَاسْتَتَرْتُ. قَالَ تعالى:

[سورة النساء (4) : آية 109]

وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ [الرَّعْدِ: 10] أَيْ مُسْتَتِرٌ، فَقَوْلُهُ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ أَيْ يَسْتَتِرُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَتِرُونَ مِنَ اللَّه. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَسْتَحْيُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَحْيُونَ مِنَ اللَّه. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا مَعْنًى وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ النَّاسِ يُوجِبُ الِاسْتِتَارَ مِنَ النَّاسِ وَالِاسْتِخْفَاءَ مِنْهُمْ، فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: الِاسْتِحْيَاءُ هُوَ نَفْسُ الِاسْتِخْفَاءِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: وَهُوَ مَعَهُمْ يُرِيدُ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرُّؤْيَةِ، وَكَفَى هَذَا زَاجِرًا لِلْإِنْسَانِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَقَوْلُهُ: إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ أَيْ يُضْمِرُونَ وَيُقَدِّرُونَ فِي أَذْهَانِهِمْ وَذَكَرْنَا مَعْنَى التبييت في قوله بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ [النساء: 81] وَالَّذِي لَا يَرْضَاهُ اللَّه مِنَ الْقَوْلِ هُوَ أَنَّ طُعْمَةَ قَالَ: أَرْمِي الْيَهُودِيَّ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَرَقَ الدِّرْعَ وَأَحْلِفُ أَنِّي لَمْ أَسْرِقْهَا، فَيَقْبَلُ الرَّسُولُ يَمِينِي لِأَنِّي عَلَى دِينِهِ وَلَا يَقْبَلُ يَمِينَ الْيَهُودِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ سُمِّيَ التَّبْيِيتُ قَوْلًا وَهُوَ مَعْنًى فِي النَّفْسِ؟ قُلْنَا: مَذْهَبُنَا أَنَّ الْكَلَامَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ، وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ فَلَا إِشْكَالَ، وَمَنْ أَنْكَرَ كَلَامَ النَّفْسِ فَلَهُ أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّ طُعْمَةَ وَأَصْحَابَهُ لَعَلَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِي اللَّيْلِ وَرَتَّبُوا كَيْفِيَّةَ الْحِيلَةِ وَالْمَكْرِ، فَسَمَّى اللَّه تَعَالَى كَلَامَهُمْ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ الْمُبَيَّتِ الَّذِي لَا يَرْضَاهُ، فَأَمَّا قَوْلُهُ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً فَالْمُرَادُ الْوَعِيدُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا يُخْفُونَ كَيْفِيَّةَ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ عَنِ النَّاسِ إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي عِلْمِ اللَّه، لِأَنَّهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ منها شيء ثم قال تعالى: [سورة النساء (4) : آية 109] هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ هَا لِلتَّنْبِيهِ فِي هَا أَنْتُمْ وهؤُلاءِ وَهُمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ جادَلْتُمْ جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِوُقُوعِ أُولَاءِ خَبَرًا، كَمَا تَقُولُ لِبَعْضِ الْأَسْخِيَاءِ: أَنْتَ حَاتِمٌ تَجُودُ بِمَالِكَ وَتُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُولَاءِ اسْمًا مَوْصُولًا بِمَعْنَى الَّذِي وجادَلْتُمْ صِلَةً، وَأَمَّا الْجِدَالُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْمُخَاصَمَةِ، وَجَدْلُ الْحَبْلِ شِدَّةُ فَتْلِهِ، وَرَجُلٌ مَجْدُولٌ كَأَنَّهُ فُتِلَ، وَالْأَجْدَلُ الصَّقْرُ لِأَنَّهُ مِنْ أَشَدِّ الطُّيُورِ قُوَّةً. هَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سُمِّيَتِ الْمُخَاصَمَةُ جِدَالًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ يُرِيدُ مَيْلَ صَاحِبِهِ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ وَصَرْفَهُ عَنْ رَأْيِهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذَا خِطَابٌ مَعَ قَوْمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَذُبُّونَ عَنْ طُعْمَةَ وَعَنْ قَوْمِهِ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الظَّاهِرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَعْنَى: هَبُوا أَنَّكُمْ خَاصَمْتُمْ عَنْ طُعْمَةَ وَقَوْمِهِ فِي الدُّنْيَا، فَمَنِ الَّذِينَ يُخَاصِمُونَ عَنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِذَا أَخَذَهُمُ اللَّه بِعَذَابِهِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّه بْنُ مَسْعُودٍ: هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُ، يَعْنِي عَنْ طُعْمَةَ، وَقَوْلُهُ فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ استفهام بمعنى التوبيخ والتقريع. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا فَقَوْلُهُ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَطْفٌ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ السَّابِقِ، وَالْوَكِيلُ هُوَ الَّذِي وُكِلَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ فِي الْحِفْظِ وَالْحِمَايَةِ، وَالْمَعْنَى: مَنِ الَّذِي يَكُونُ مُحَافِظًا وَمُحَامِيًا لَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّه؟

[سورة النساء (4) : آية 110]

[سورة النساء (4) : آية 110] وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ فِي هَذَا الْبَابِ أَتْبَعَهُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْبَةِ، وَذَكَرَ فيه ثلاثة أنواع من الترغيب فالأول: وَالْمُرَادُ بِالسُّوءِ الْقَبِيحُ الَّذِي يَسُوءُ بِهِ غَيْرَهُ كَمَا فَعَلَ طُعْمَةُ مِنْ سَرِقَةِ الدِّرْعِ وَمِنْ رَمْيِ الْيَهُودِيِّ بِالسَّرِقَةِ وَالْمُرَادُ بِظُلْمِ النَّفْسِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْإِنْسَانُ كَالْحَلِفِ الْكَاذِبِ، وَإِنَّمَا خَصَّ مَا يَتَعَدَّى إِلَى الْغَيْرِ بِاسْمِ السُّوءِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الْأَكْثَرِ إِيصَالًا لِلضَّرَرِ إِلَى الْغَيْرِ، وَالضَّرَرُ سُوءٌ حَاضِرٌ، فَأَمَّا الذَّنْبُ الَّذِي يَخُصُّ الْإِنْسَانَ فَذَلِكَ فِي الْأَكْثَرِ لَا يَكُونُ ضَرَرًا حَاضِرًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُوَصِلُ الضَّرَرَ إِلَى نَفْسِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى حُكْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ عَنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ سَوَاءٌ كَانَتْ كُفْرًا أَوْ قَتْلًا، عَمْدًا أَوْ غَصْبًا لِلْأَمْوَالِ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ عَمَّ الْكُلَّ الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ مُجَرَّدَ الِاسْتِغْفَارِ كَافٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالتَّوْبَةِ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ الِاسْتِغْفَارُ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَقَوْلُهُ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً مَعْنَاهُ غَفُورًا رَحِيمًا لَهُ، وَحُذِفَ هَذَا الْقَيْدُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلتَّرْغِيبِ فِي الِاسْتِغْفَارِ إِلَّا إذا كان المراد ذلك. [سورة النساء (4) : آية 111] وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُرَغِّبَةِ فِي التَّوْبَةِ قوله تعالى: وَالْكَسْبُ عِبَارَةٌ عَمَّا يُفِيدُ جَرَّ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعَ مَضَرَّةٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ وَصْفُ الْبَارِي تَعَالَى بِذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَرْغِيبُ الْعَاصِي فِي الِاسْتِغْفَارِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الذَّنْبُ الَّذِي أَتَيْتَ بِهِ مَا عَادَتْ مَضَرَّتُهُ إِلَيَّ فَإِنَّنِي مُنَزَّهٌ عن النفع والضرر، وَلَا تَيْأَسْ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بِمَا فِي قَلْبِهِ عِنْدَ إِقْدَامِهِ عَلَى التَّوْبَةِ حَكِيماً تَقْتَضِي حِكْمَتُهُ وَرَحْمَتُهُ أَنْ يتجاوز عن التائب. [سورة النساء (4) : آية 112] وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) النوع الثالث: قوله تعالى: وَذَكَرُوا فِي الْخَطِيئَةِ وَالْإِثْمِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخَطِيئَةَ هِيَ الصَّغِيرَةُ، وَالْإِثْمَ هُوَ الْكَبِيرَةُ وَثَانِيهَا: الْخَطِيئَةُ هِيَ الذَّنْبُ الْقَاصِرُ عَلَى فَاعِلِهَا، وَالْإِثْمُ هُوَ الذَّنْبُ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْغَيْرِ كَالظُّلْمِ وَالْقَتْلِ. وَثَالِثُهَا: الْخَطِيئَةُ مَا لَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ سَوَاءٌ كَانَ بِالْعَمْدِ أَوْ بِالْخَطَأِ، وَالْإِثْمُ مَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ الْعَمْدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ [النساء: 111] فَبَيَّنَ أَنَّ الْإِثْمَ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَالضَّمِيرُ فِي بِهِ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: ثُمَّ يَرْمِ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْإِثْمِ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَقْرَبُ كَمَا عَادَ إِلَى التِّجَارَةِ فِي قَوْلِهِ وَإِذا رَأَوْا

[سورة النساء (4) : آية 113]

تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْكَسْبِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَرْمِ بِكَسْبِهِ بَرِيئًا، فَدَلَّ يَكْسِبُ عَلَى الْكَسْبِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى مَعْنَى الْخَطِيئَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ يَكْسِبْ ذَنْبًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً فَالْبُهْتَانُ أَنْ تَرْمِيَ أَخَاكَ بِأَمْرٍ مُنْكَرٍ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْبُهْتَانِ مَذْمُومٌ فِي الدُّنْيَا أَشَدَّ الذَّمِّ، وَمُعَاقَبٌ فِي الْآخِرَةِ أَشَدَّ الْعِقَابِ، فَقَوْلُهُ فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَلْحَقُهُ مِنَ الذَّمِّ الْعَظِيمِ فِي الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ وَإِثْماً مُبِيناً إِشَارَةٌ إِلَى/ مَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْعِقَابِ الْعَظِيمِ فِي الْآخِرَةِ. [سورة النساء (4) : آية 113] وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَالْمَعْنَى وَلَوْلَا أَنَّ اللَّه خَصَّكَ بِالْفَضْلِ وَهُوَ النُّبُوَّةُ، وَبِالرَّحْمَةِ وَهِيَ الْعِصْمَةُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْمَ طُعْمَةَ كَانُوا قَدْ عَرَفُوا أَنَّهُ سَارِقٌ، ثُمَّ سَأَلُوا النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَدْفَعَ وَيُجَادِلَ عَنْهُ وَيُبَرِّئَهُ عَنِ السَّرِقَةِ، وَيَنْسُبَ تِلْكَ السَّرِقَةَ إِلَى الْيَهُودِيِّ، وَمَعْنَى يُضِلُّوكَ أَيْ يُلْقُوكَ فِي الْحُكْمِ الْبَاطِلِ الْخَطَأِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بِسَبَبِ تَعَاوُنِهِمْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَشَهَادَتِهِمْ بِالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ، فَهُمْ لَمَّا أَقْدَمُوا عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ فَهُمُ الَّذِينَ يعلمون عَمَلَ الضَّالِّينَ. وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه: وَمَا يَضُرُّونَكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَوَعَدَهُ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِإِدَامَةِ الْعِصْمَةِ لَهُ مِمَّا يُرِيدُونَ مِنْ إِيقَاعِهِ فِي الْبَاطِلِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ وَإِنْ سَعَوْا فِي إِلْقَائِكَ فِي الْبَاطِلِ فَأَنْتَ مَا وَقَعْتَ فِي الْبَاطِلِ، لِأَنَّكَ بَنَيْتَ الْأَمْرَ عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ، وَأَنْتَ مَا أُمِرْتَ إِلَّا بِبِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّوَاهِرِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّا إِنْ فَسَّرْنَا قَوْلَهُ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَهُ بِالْعِصْمَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَانَ قَوْلُهُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ مُؤَكِّدًا لِذَلِكَ الْوَعْدِ، يَعْنِي لَمَّا أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَأَمَرَكَ بِتَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ إِلَى الْخَلْقِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ أَنْ لَا يَعْصِمَكَ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الشُّبُهَاتِ وَالضَّلَالَاتِ، وَإِنْ فَسَّرْنَا تِلْكَ الْآيَةَ بِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مَعْذُورًا فِي بِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَى الظَّاهِرِ كَانَ الْمَعْنَى: وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَأَوْجَبَ فِيهَا بِنَاءَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ عَلَى الظَّاهِرِ فَكَيْفَ يَضُرُّكَ بِنَاءُ الْأَمْرِ عَلَى الظَّاهِرِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً. قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه: هَذِهِ الْآيَةُ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، كَمَا/ قَالَ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشُّورَى: 52] وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْكَ الْكِتَابَ

[سورة النساء (4) : آية 114]

وَالْحِكْمَةَ وَأَطْلَعَكَ عَلَى أَسْرَارِهِمَا وَأَوْقَفَكَ عَلَى حَقَائِقِهِمَا مَعَ أَنَّكَ مَا كُنْتَ قَبْلَ ذَلِكَ عَالِمًا بِشَيْءٍ مِنْهُمَا، فَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِكَ فِي مُسْتَأْنَفِ أَيَّامِكَ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى إِضْلَالِكَ وَإِزْلَالِكَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ مِنْ أَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ، فَكَذَلِكَ يُعَلِّمُكَ مِنْ حِيَلِ الْمُنَافِقِينَ وَوُجُوهِ كَيْدِهِمْ مَا تَقْدِرُ بِهِ عَلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ وُجُوهِ كَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ، ثُمَّ قَالَ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ الْفَضَائِلِ وَالْمَنَاقِبِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى مَا أَعْطَى الْخَلْقَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا الْقَلِيلَ، كَمَا قَالَ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 85] وَنَصِيبُ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مِنْ عُلُومِ جَمِيعِ الْخَلْقِ يَكُونُ قَلِيلًا، ثُمَّ إِنَّهُ سَمَّى ذَلِكَ الْقَلِيلَ عَظِيمًا حَيْثُ قَالَ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وَسَمَّى جَمِيعَ الدُّنْيَا قَلِيلًا حَيْثُ قَالَ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ [النِّسَاءِ: 77] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى غاية شرف العلم. [سورة النساء (4) : آية 114] لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) [في قَوْلُهُ تَعَالَى لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانُوا يَتَنَاجَوْنَ فِيهِ حِينَ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: النَّجْوَى فِي اللُّغَةِ سِرٌّ بَيْنَ اثْنَيْنِ، يُقَالُ نَاجَيْتُ الرَّجُلَ مُنَاجَاةً وَنَجَاءً، وَيُقَالُ: نَجَوْتُ الرَّجُلَ أَنْجُو نَجْوَى بِمَعْنَى نَاجَيْتُهُ، وَالنَّجْوَى قَدْ تَكُونُ مَصْدَرًا بِمَنْزِلَةِ الْمُنَاجَاةِ، قَالَ تَعَالَى مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [الْمُجَادَلَةِ: 7] وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الْقَوْمِ الَّذِينَ يَتَنَاجَوْنَ، قَالَ تَعَالَى وَإِذْ هُمْ نَجْوى [الْإِسْرَاءِ: 47] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ فِي مَحَلِّ (مَنْ) وُجُوهًا، وَتِلْكَ/ الْوُجُوهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَعْنَى النَّجْوَى فِي هذه الآية، فإن جعلنا معنى النجوى هاهنا السِّرَّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ الشَّيْءِ عَنْ خِلَافِ جِنْسِهِ فَيَكُونُ نَصْبًا كَقَوْلِهِ إِلَّا أَذىً [آلِ عِمْرَانَ: 111] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفْعًا فِي لُغَةِ مَنْ يَرْفَعُ الْمُسْتَثْنَى مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ كَقَوْلِهِ: إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ جَعَلَ هَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ فَقَالَ: التَّقْدِيرُ إِلَّا فِي نَجْوَى مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ثُمَّ حَذَفَ الْمُضَافَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ (مَنْ) فِي مَحَلِّ النَّجْوَى لِأَنَّهُ أُقِيمَ مَقَامَهُ، وَيَجُوزُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْخَفْضُ بَدَلٌ مِنْ نَجْوَاهُمْ، كَمَا تَقُولُ: مَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا زِيدٍ. وَالثَّانِي: النَّصْبُ على الاستثناء فكما تَقُولُ مَا جَاءَنِي أَحَدٌ إِلَّا زَيْدًا، وَهَذَا اسْتِثْنَاءُ الْجِنْسِ مِنَ الْجِنْسِ، وَأَمَّا إِنْ جَعَلْنَا النَّجْوَى اسْمًا لِلْقَوْمِ الْمُتَنَاجِينَ كَانَ مَنْصُوبًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ الْجِنْسِ مِنَ الْجِنْسِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (مَنْ) فِي مَحَلِّ الْخَفْضِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَجْعَلَهُ تَبَعًا لِكَثِيرٍ، عَلَى مَعْنَى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا فِيمَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ، كَقَوْلِكَ: لَا خَيْرَ فِي الْقَوْمِ إِلَّا نَفَرٍ مِنْهُمْ. وَالثَّانِي: أَنْ تَجْعَلَهُ تَبَعًا لِلنَّجْوَى، كَمَا تَقُولُ: لَا خَيْرَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْقَوْمِ إِلَّا زَيْدٍ، إِنْ شِئْتَ أَتْبَعْتَ زَيْدًا الْجَمَاعَةَ، وَإِنْ شِئْتَ أَتْبَعْتَهُ الْقَوْمَ، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي مُنَاجَاةِ بَعْضِ قَوْمِ ذَلِكَ السَّارِقِ مَعَ بَعْضٍ إِلَّا أَنَّهَا فِي الْمَعْنَى عَامَّةٌ، وَالْمُرَادُ: لَا خَيْرَ فِيمَا يَتَنَاجَى فِيهِ النَّاسُ وَيَخُوضُونَ فِيهِ مِنَ الْحَدِيثِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى

[سورة النساء (4) : آية 115]

ذَكَرَ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ: الْأَمْرُ بِالصَّدَقَةِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّه هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَمَلَ الْخَيْرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِيصَالِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ بِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ، أَمَّا إِيصَالُ الْخَيْرِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَهُوَ إِعْطَاءُ الْمَالِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْخَيْرَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَكْمِيلِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ بِالْعُلُومِ، أَوْ تَكْمِيلِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ بِالْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ، وَمَجْمُوعُهُمَا عِبَارَةٌ عَنِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ أَوْ مَعْرُوفٍ وَأَمَّا إِزَالَةُ الضَّرَرِ فَإِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ فَثَبَتَ أَنَّ مَجَامِعَ الْخَيْرَاتِ مَذْكُورَةٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كَلَامُ ابْنِ آدَمَ كُلُّهُ عَلَيْهِ لَا لَهُ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ ذِكْرٍ اللَّه» وَقِيلَ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: مَا أَشَدَّ هَذَا الْحَدِيثَ! فَقَالَ سُفْيَانُ: أَلَمْ تَسْمَعِ اللَّه يَقُولُ: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ فَهُوَ هَذَا بِعَيْنِهِ، أَمَا سَمِعْتَ اللَّه يَقُولُ وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [الْعَصْرِ: 1، 2] فَهُوَ هَذَا بِعَيْنِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ مِنَ الطَّاعَاتِ وَإِنْ كَانَتْ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ وَالْجَلَالَةِ إِلَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا/ إِذَا أَتَى بِهَا لِوَجْهِ اللَّه وَلِطَلَبِ مَرْضَاتِهِ، فَأَمَّا إِذَا أَتَى بِهَا لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ انْقَلَبَتِ الْقَضِيَّةُ فَصَارَتْ مَنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ رِعَايَةُ أَحْوَالِ الْقَلْبِ فِي إِخْلَاصِ النِّيَّةِ، وَتَصْفِيَةُ الدَّاعِيَةِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَرَضٍ سِوَى طَلَبِ رِضْوَانِ اللَّه تَعَالَى وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الْبَيِّنَةِ: 5] وَقَوْلُهُ: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى [النَّجْمِ: 39] وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وهاهنا سؤالان: السؤال الأول: لم انتصب ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ؟ وَالْجَوَابُ: لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى لِأَنَّهُ لا لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّه. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ قَالَ إِلَّا مَنْ أَمَرَ ثُمَّ قَالَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ ذَكَرَ الْأَمْرَ بِالْخَيْرِ لِيَدُلَّ بِهِ عَلَى فَاعِلِهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْخَيْرِ لَمَّا دَخَلَ فِي زُمْرَةِ الْخَيِّرِينَ فَبِأَنْ يَدْخُلَ فَاعِلُ الْخَيْرِ فِيهِمْ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: وَمَنْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ، فَعَبَّرَ عَنِ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ لِأَنَّ الْأَمْرَ أَيْضًا فِعْلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ. [سورة النساء (4) : آية 115] وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) اعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ طُعْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ لَمَّا رَأَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى هَتَكَ سِتْرَهُ وَبَرَّأَ الْيَهُودِيَّ عَنْ تُهْمَةِ السَّرِقَةِ ارْتَدَّ وَذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ وَنَقَبَ جِدَارَ إِنْسَانٍ لِأَجْلِ السَّرِقَةِ فَتَهَدَّمَ الْجِدَارُ عَلَيْهِ وَمَاتَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. أَمَّا الشِّقَاقُ وَالْمُشَاقَقَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي شَقٍّ آخَرَ مِنَ الْأَمْرِ، أَوْ عَنْ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَاعِلًا فِعْلًا يَقْتَضِي لُحُوقَ مَشَقَّةٍ بِصَاحِبِهِ، وَقَوْلُهُ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا ظَهَرَ لَهُ بِالدَّلِيلِ صِحَّةُ دِينِ الْإِسْلَامِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَنَّ طُعْمَةَ هَذَا كَانَ قَدْ تَبَيَّنَ لَهُ بِمَا أَوْحَى اللَّه تَعَالَى مِنْ أَمْرِهِ وَأَظْهَرَ مِنْ سَرِقَتِهِ مَا دَلَّهُ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَادَى الرَّسُولَ وَأَظْهَرَ الشِّقَاقَ وَارْتَدَّ عَنْ

دين الإسلام، فكان ذلك إظهار الشقاق بعد ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى، قَوْلُهُ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي غَيْرَ دِينِ الْمُوَحِّدِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ طُعْمَةَ تَرَكَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَاتَّبَعَ دِينَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. ثُمَّ قَالَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى أَيْ نَتْرُكْهُ وَمَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ، وَنَكِلْهُ إِلَى مَا تَوَكَّلَ عَلَيْهِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ لَا سِيَّمَا فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ. ثُمَّ قَالَ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ يَعْنِي نُلْزِمُهُ جَهَنَّمَ، وَأَصْلُهُ الصِّلَاءُ وَهُوَ لُزُومُ النَّارِ وَقْتَ الِاسْتِدْفَاءِ وَساءَتْ مَصِيراً انْتَصَبَ مَصِيراً عَلَى التَّمْيِيزِ كَقَوْلِكَ: فُلَانٌ طَابَ نَفْسًا، وَتَصَبَّبَ عَرَقًا، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ، فَقَرَأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَمِائَةِ مَرَّةٍ حَتَّى وَجَدَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَتَقْرِيرُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اتِّبَاعَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حَرَامٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَاجِبًا، بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى أَنَّهُ تَعَالَى أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُشَاقَّةُ الرَّسُولِ وَحْدَهَا مُوجِبَةٌ لِهَذَا الْوَعِيدِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مُوجِبًا لَهُ لَكَانَ ذَلِكَ ضَمًّا لِمَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْوَعِيدِ إِلَى مَا هُوَ مُسْتَقِلٌّ بِاقْتِضَاءِ ذَلِكَ الْوَعِيدِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، فَثَبَتَ أَنَّ اتِّبَاعَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حَرَامٌ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ اتِّبَاعُ سَبِيلِهِمْ وَاجِبًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَدَمَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِذَا كَانَ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حَرَامًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حَرَامًا، وَإِذَا كَانَ عَدَمُ اتِّبَاعِهِمْ حَرَامًا كَانَ اتِّبَاعُهُمْ وَاجِبًا، لِأَنَّهُ لَا خُرُوجَ عَنْ طَرَفَيِ النَّقِيضِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَدَمَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يُتَّبَعَ لَا سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا غَيْرُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ مَا فَعَلَ الْغَيْرُ، فَإِذَا كَانَ مِنْ شَأْنِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَتَّبِعُوا سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ أَتَى بِمِثْلِ فِعْلِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَوَجَبَ كَوْنُهُ مُتَّبِعًا لَهُمْ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الِاتِّبَاعُ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ فِعْلِ الْغَيْرِ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يُقَالَ: الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ مُتَّبِعُونَ لِآحَادِ الْخَلْقِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ يُوَحِّدُونَ اللَّه كَمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْأُمَّةِ يُوَحِّدُ اللَّه، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُقَالُ، بَلِ الِاتِّبَاعُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ فِعْلِ الْغَيْرِ لِأَجْلِ أَنَّهُ فِعْلُ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ تَرَكَ مُتَابَعَةَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ أَنَّهُ مَا وَجَدَ عَلَى وُجُوبِ مُتَابَعَتِهِمْ دَلِيلًا، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَتَّبِعْهُمْ، فَهَذَا الشَّخْصُ لَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا سُؤَالٌ قَوِيٌّ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ، وَفِيهِ أَبْحَاثٌ أُخَرُ دَقِيقَةٌ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ/ الْمَحْصُولِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ عِصْمَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ صَدَرَ عَنْهُ ذَنْبٌ لَجَازَ مَنْعُهُ، وَكُلُّ مَنْ مَنَعَ غَيْرَهُ عَنْ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ كَانَ مُشَاقِقًا لَهُ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ فِي شَقٍّ غَيْرَ الشَّقِّ الَّذِي يَكُونُ الْآخَرُ فِيهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ صَدَرَ الذَّنْبُ عَنِ الرَّسُولِ لَوَجَبَتْ مُشَاقَّتُهُ، لَكِنَّ مُشَاقَّتَهُ مُحَرَّمَةٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصْدُرَ الذَّنْبُ عَنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي أَفْعَالِهِ إِذْ لَوْ كَانَ فِعْلُ الْأُمَّةِ غَيْرَ فِعْلِ الرَّسُولِ لَزِمَ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي شَقٍّ آخَرَ مِنَ الْعَمَلِ فَتَحْصُلُ الْمُشَاقَّةُ، لكن المشاقة

[سورة النساء (4) : الآيات 116 إلى 122]

مُحَرَّمَةٌ، فَيَلْزَمُ وُجُوبُ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي أَفْعَالِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فِي الْأُصُولِ لَا بِمَعْنَى أَنَّ اعْتِقَادَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُطَابِقٌ لِلْمُعْتَقَدِ، بَلْ بِمَعْنَى سُقُوطِ الْإِثْمِ عَنِ الْمُخْطِئِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ حُصُولَ الْوَعِيدِ بِتَبَيُّنِ الْهُدَى، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ تَبَيُّنُ الْهُدَى أَنْ لَا يَكُونَ الْوَعِيدُ حَاصِلًا. وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ تَمَسُّكٌ بِالْمَفْهُومِ، وَهُوَ دَلَالَةٌ ظَنِّيَّةٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ، وَالدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ وَعِيدَ الْكُفَّارِ قَطْعِيٌّ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 116] وَالْقَاطِعُ لَا يُعَارِضُهُ الْمَظْنُونُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الدِّينِ إِلَّا بِالدَّلِيلِ وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ حُصُولَ الْوَعِيدِ بِتَبَيُّنِ الْهُدَى، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ تَبَيُّنُ الْهُدَى مُعْتَبَرًا فِي صِحَّةِ الدِّينِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الشَّرْطِ مَعْنًى. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْهُدَى اسْمٌ لِلدَّلِيلِ لَا لِلْعِلْمِ، إِذْ لَوْ كَانَ الْهُدَى اسْمًا لِلْعِلْمِ لَكَانَ تَبَيُّنُ الْهُدَى إِضَافَةَ الشَّيْءِ إلى نفسه وأنه فاسد. [سورة النساء (4) : الآيات 116 الى 122] إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122) [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ] / اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُكَرَّرَةٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِي تَكْرَارِهَا فَائِدَتَانِ: الْأُولَى: أَنَّ عُمُومَاتِ الْوَعِيدِ وَعُمُومَاتِ الْوَعْدِ مُتَعَارِضَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى مَا أَعَادَ آيَةً مِنْ آيَاتِ الْوَعِيدِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ، وَقَدْ أَعَادَ هَذِهِ الْآيَةَ دالة عَلَى الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فِي سُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي التَّكْرِيرِ إِلَّا التَّأْكِيدُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ جَانِبَ الْوَعْدِ وَالرَّحْمَةِ بِمَزِيدِ التَّأْكِيدِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الْوَعْدِ عَلَى الْوَعِيدِ. وَالْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي سَارِقِ الدِّرْعِ، وَقَوْلَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ [النساء: 115] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي ارْتِدَادِهِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا يَحْسُنُ اتِّصَالُهَا بِمَا قَبْلَهَا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ

ذَلِكَ السَّارِقَ لَوْ لَمْ يَرْتَدَّ لَمْ يَصِرْ مَحْرُومًا عَنْ رَحْمَتِي، وَلَكِنَّهُ لَمَّا ارْتَدَّ وَأَشْرَكَ باللَّه صار محروما قطع عَنْ رَحْمَةِ اللَّه، ثُمَّ إِنَّهُ أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ شَرَحَ أَنَّ أَمْرَ الشِّرْكِ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّه فَقَالَ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً يَعْنِي وَمَنْ لَمْ يُشْرِكْ باللَّه لَمْ يَكُنْ ضَلَالُهُ بَعِيدًا، فَلَا جَرَمَ لَا يَصِيرُ مَحْرُومًا عَنْ رَحْمَتِي، وَهَذِهِ الْمُنَاسَبَاتُ دَالَّةٌ قَطْعًا عَلَى دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الشِّرْكِ مَغْفُورٌ قَطْعًا سَوَاءٌ حَصَلَتِ التَّوْبَةُ أَوْ لَمْ تَحْصُلْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كَوْنَ الشِّرْكِ ضَلَالًا بَعِيدًا فَقَالَ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ (إن) هاهنا مَعْنَاهُ النَّفْيُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء: 159] ويَدْعُونَ بِمَعْنَى يَعْبُدُونَ لِأَنَّ مَنْ عَبَدَ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَدْعُوهُ عِنْدَ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ، وَقَوْلُهُ إِلَّا إِناثاً فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْأَوْثَانُ وَكَانُوا يُسَمُّونَهَا بَاسْمِ الْإِنَاثِ كَقَوْلِهِمْ: اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَمَنَاةُ الثَّالِثَةُ الْأُخْرَى، وَاللَّاتُ تَأْنِيثُ اللَّه، وَالْعُزَّى تَأْنِيثُ الْعَزِيزِ. قَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَكُنْ حَيٌّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ إِلَّا وَلَهُمْ صَنَمٌ يَعْبُدُونَهُ وَيُسَمُّونَهُ أُنْثَى بَنِي فُلَانٍ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قِرَاءَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: إِلَّا أَوْثَانًا، وَقِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِلَّا أُثْنًا، جَمْعُ وَثَنٍ مِثْلَ أَسَدٍ وَأُسْدٍ، ثُمَّ أُبْدِلَتْ مِنَ الْوَاوِ الْمَضْمُومَةِ هَمْزَةً نَحْوَ قَوْلِهِ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ [الْمُرْسَلَاتِ: 11] قَالَ الزَّجَّاجُ: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أُثُنٌ أَصْلُهَا أُثْنٌ، فَأَتْبَعَتِ الضَّمَّةُ الضَّمَّةَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُهُ إِلَّا إِناثاً أَيْ إِلَّا أَمْوَاتًا، وَفِي تَسْمِيَةِ الْأَمْوَاتِ إِنَاثًا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْمَوَاتِ يَكُونُ عَلَى صِيغَةِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأُنْثَى، تَقُولُ: هَذِهِ الْأَحْجَارُ تُعْجِبُنِي: كَمَا تَقُولُ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ تُعْجِبُنِي. الثَّانِي: أَنَّ الْأُنْثَى أَخَسُّ مِنَ الذَّكَرِ، وَالْمَيِّتُ أَخَسُّ مِنَ الْحَيِّ، فَلِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ أَطْلَقُوا اسْمَ الْأُنْثَى عَلَى الْجَمَادَاتِ الْمَوَاتِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنْ بَعْضَهُمْ كَانَ يَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى [النَّجْمِ: 27] وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ هَلْ إِنْسَانٌ أَجْهَلُ مِمَّنْ أَشْرَكَ خَالِقَ السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا جَمَادًا يُسَمِّيهِ بِالْأُنْثَى. ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَوْثَانِ شَيْطَانٌ يَتَرَاءَى لِلسَّدَنَةِ يُكَلِّمُهُمْ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: المراد بالشيطان هاهنا إِبْلِيسُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلَا شَكَّ أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ إِبْلِيسُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ الَّذِي تَرَاءَى لِلسَّدَنَةِ هُوَ إِبْلِيسُ، وَأَمَّا الْمَرِيدُ فَهُوَ الْمُبَالِغُ فِي الْعِصْيَانِ الْكَامِلِ فِي الْبُعْدِ مِنَ الطَّاعَةِ وَيُقَالُ لَهُ: مَارِدٌ وَمَرِيدٌ، قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ: حَائِطٌ مُمَرَّدٌ أَيْ مُمَلَّسٌ، وَيُقَالُ شَجَرَةٌ مَرْدَاءُ إِذَا تَنَاثَرَ وَرَقُهَا، وَالَّذِي لَمْ تَنْبُتْ لَهُ لِحْيَةٌ يُقَالُ لَهُ أَمْرَدٌ لِكَوْنِ مَوْضِعِ اللِّحْيَةِ أَمْلَسَ، فَمَنْ كَانَ شَدِيدَ الْبُعْدِ عَنِ الطَّاعَةِ يُقَالُ لَهُ مَرِيدٌ وَمَارِدٌ لِأَنَّهُ مُمَلَّسٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّه لَمْ يَلْتَصِقْ بِهِ مِنْ هَذِهِ الطَّاعَةِ شَيْءٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ صِفَتَانِ بِمَعْنَى شَيْطَانًا مَرِيدًا جَامِعًا بَيْنَ لَعْنَةِ اللَّه وَهَذَا الْقَوْلِ الشَّنِيعِ. واعلم أن الشيطان هاهنا قَدِ ادَّعَى أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً الْفَرْضُ فِي اللُّغَةِ الْقَطْعُ، وَالْفُرْضَةُ الثُّلْمَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي طَرَفِ النَّهْرِ، وَالْفَرْضُ الْحَزُّ الَّذِي فِي الْوَتَرِ، وَالْفَرْضُ فِي الْقَوْسِ الْحَزُّ الَّذِي يُشَدُّ فِيهِ الْوَتَرُ، وَالْفَرِيضَةُ مَا فَرَضَ اللَّه عَلَى عِبَادِهِ وَجَعَلَهُ حَتْمًا عليهم

قَطْعًا لِعُذْرِهِمْ، وَكَذَا قَوْلُهُ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً [الْبَقَرَةِ: 237] أَيْ جَعَلْتُمْ لَهُنَّ قِطْعَةً مِنَ الْمَالِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَعَنَهُ اللَّه قَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ حَظًّا مُقَدَّرًا مُعَيَّنًا، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ خُطُوَاتِهِ وَيَقْبَلُونَ وَسَاوِسَهُ، وَفِي التَّفْسِيرِ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «مِنْ كُلِّ أَلْفٍ وَاحِدٌ للَّه وَسَائِرُهُ لِلنَّاسِ وَلِإِبْلِيسَ» . فَإِنْ قِيلَ: النَّقْلُ وَالْعَقْلُ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنْ حِزْبِ اللَّه. أَمَّا النَّقْلُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ البشر فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ: 20] وَقَالَ حَاكِيًا عَنِ الشَّيْطَانِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 62] . وَحُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82، 83] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُخْلَصِينَ قَلِيلُونَ. وَأَمَّا الْعَقْلُ: فَهُوَ أَنَّ الْفُسَّاقَ وَالْكُفَّارَ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلَصِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفُسَّاقَ وَالْكُفَّارَ كُلَّهمْ حِزْبُ إِبْلِيسَ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِمَ قَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَعَ أَنَّ لَفْظَ النَّصِيبِ لَا يَتَنَاوَلُ الْقِسْمَ الْأَكْثَرَ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْأَقَلَّ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا التَّفَاوُتَ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي نَوْعِ الشَّرِّ، أَمَّا إِذَا ضَمَمْتَ زُمْرَةَ الْمَلَائِكَةِ مَعَ غَايَةِ كَثْرَتِهِمْ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلَصِينَ، وَأَيْضًا فَالْمُؤْمِنُونَ وَإِنْ كَانُوا قَلِيلِينَ فِي الْعَدَدِ إِلَّا أَنَّ مَنْصِبَهُمْ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّه، وَالْكُفَّارُ وَالْفُسَّاقُ وَإِنْ كَانُوا كَثِيرِينَ فِي الْعَدَدِ فَهُمْ كَالْعَدَمِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَ اسْمُ النَّصِيبِ عَلَى قَوْمِ إِبْلِيسَ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ يَعْنِي عَنِ الْحَقِّ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ مِنْ أُصُولِنَا. فَالْأَصْلُ الْأَوَّلُ: الْمُضِلُّ هُوَ الشَّيْطَانُ، وَلَيْسَ الْمُضِلُّ هُوَ اللَّه تَعَالَى قَالُوا: وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُضِلَّ هُوَ الشَّيْطَانُ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ ادَّعَى ذَلِكَ واللَّه تَعَالَى مَا كَذَّبَهُ فِيهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وقوله لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا وَقَوْلُهُ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الْأَعْرَافِ: 16] وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ وَصْفَهُ بِكَوْنِهِ مُضِلًّا لِلنَّاسِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِ الْإِلَهِ/ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ. وَالْأَصْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: الْإِضْلَالُ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَقُلْنَا: لَيْسَ الْإِضْلَالُ عِبَارَةً عَنْ خَلْقِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ بِدَلِيلِ أَنَّ إِبْلِيسَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ مُضِلٌّ مَعَ أَنَّهُ بِالْإِجْمَاعِ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ الضَّلَالِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا كَلَامُ إِبْلِيسَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً، وَأَيْضًا أَنَّ كَلَامَ إِبْلِيسَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُضْطَرِبٌ جِدًّا، فَتَارَةً يَمِيلُ إِلَى الْقَدَرِ الْمَحْضِ، وَهُوَ قوله لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وَأُخْرَى إِلَى الْجَبْرِ الْمَحْضِ وَهُوَ قَوْلُهُ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي [القصص: 39] وَتَارَةً يُظْهِرُ التَّرَدُّدَ فِيهِ حَيْثُ قَالَ: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَصِ: 63] يَعْنِي أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ: نَحْنُ أُغْوِينَا فَمَنِ الَّذِي أَغْوَانَا عَنِ الدِّينِ؟ وَلَا بُدَّ مِنَ انْتِهَاءِ الْكُلِّ بِالْآخِرَةِ إِلَى اللَّه. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى أَنَّهُ يُضِلُّ الْخَلْقَ قَالَ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا حِيلَةَ لَهُ فِي الْإِضْلَالِ أَقْوَى مِنْ إِلْقَاءِ الْأَمَانِيِّ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَطَلَبُ الْأَمَانِيِّ يُورِثُ شَيْئَيْنِ: الْحِرْصَ

وَالْأَمَلَ، وَالْحِرْصُ وَالْأَمَلُ يَسْتَلْزِمَانِ أَكْثَرَ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَهُمَا كَالْأَمْرَيْنِ اللَّازِمَيْنِ لِجَوْهَرِ الْإِنْسَانِ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَشِبُّ مَعَهُ اثْنَانِ الْحِرْصُ وَالْأَمَلُ» وَالْحِرْصُ يَسْتَلْزِمُ رُكُوبَ أَهْوَالِ الدُّنْيَا وَأَهْوَالِ الدِّينِ فَإِنَّهُ إِذَا اشْتَدَّ حِرْصُهُ عَلَى الشَّيْءِ فَقَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهِ إِلَّا بِمَعْصِيَةِ اللَّه وَإِيذَاءِ الْخَلْقِ، وَإِذَا طَالَ أَمَلُهُ نَسِيَ الْآخِرَةَ وَصَارَ غَرِيقًا فِي الدُّنْيَا فَلَا يَكَادُ يُقْدِمُ عَلَى التَّوْبَةِ، وَلَا يَكَادُ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْوَعْظُ فَيَصِيرُ قَلْبُهُ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدَّ قَسْوَةً. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ الْبَتْكُ الْقَطْعُ، وَسَيْفٌ بَاتِكٌ أَيْ قَاطِعٌ، وَالتَّبْتِيكُ التَّقْطِيعُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: التبتيك هاهنا هُوَ قَطْعُ آذَانِ الْبَحِيرَةِ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشُقُّونَ آذَانَ النَّاقَةِ إِذَا وَلَدَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ وَجَاءَ الْخَامِسُ ذَكَرًا، وَحَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الِانْتِفَاعَ بِهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يُقَطِّعُونَ آذَانَ الْأَنْعَامِ نُسُكًا فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ مَعَ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ كُفْرٌ وَفِسْقٌ. خَامِسُهَا: قَوْلُهُ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وللمفسرين هاهنا: قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّه تَغْيِيرُ دِينِ اللَّه، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ، وَفِي تَقْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى فَطَرَ الْخَلْقَ عَلَى الْإِسْلَامِ يَوْمَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ كَالذَّرِّ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ رَبُّهُمْ وَآمَنُوا بِهِ، فَمَنْ كَفَرَ فَقَدْ غَيَّرَ فِطْرَةَ اللَّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» وَلَكِنْ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَغْيِيرِ دِينِ اللَّه هُوَ تبديل الحلال حراما/ أو الحرام الْقَوْلُ الثَّانِي: حَمْلُ هَذَا التَّغْيِيرِ عَلَى تَغْيِيرِ أَحْوَالٍ كُلُّهَا تَتَعَلَّقُ بِالظَّاهِرِ، وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّه بْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّه الْوَاصِلَاتِ وَالْوَاشِمَاتِ» قَالَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَتَوَصَّلُ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ إِلَى الزِّنَا. الثَّانِي: رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ وَشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي صَالِحٍ أَنَّ مَعْنَى تَغْيِيرِ خلق اللَّه هاهنا هُوَ الْإِخْصَاءُ وَقَطْعُ الْآذَانِ وَفَقْءُ الْعُيُونِ، وَلِهَذَا كَانَ أَنَسٌ يَكْرَهُ إِخْصَاءَ الْغَنَمِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا بَلَغَتْ إِبِلُ أَحَدِهِمْ أَلْفًا عَوَّرُوا عَيْنَ فَحْلِهَا. الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ هُوَ التَّخَنُّثُ، وَأَقُولُ: يَجِبُ إِدْخَالُ السَّحَّاقَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّ التَّخَنُّثَ عِبَارَةٌ عَنْ ذَكَرٍ يُشْبِهُ الْأُنْثَى، وَالسَّحْقَ عِبَارَةٌ عَنْ أُنْثَى تُشْبِهُ الذَّكَرَ الرَّابِعُ: حَكَى الزَّجَّاجُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ الْأَنْعَامَ لِيَرْكَبُوهَا وَيَأْكُلُوهَا فَحَرَّمُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَالْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَالْوَصَائِلِ، وَخَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَةً لِلنَّاسِ يَنْتَفِعُونَ بِهَا فَعَبَدَهَا الْمُشْرِكُونَ، فَغَيَّرُوا خَلْقَ اللَّه، هَذَا جُمْلَةُ كلام المفسرين في هذا الباب [قوله تعالى وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ إلى قوله فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً] ويخطر ببالي هاهنا وَجْهٌ آخَرُ فِي تَخْرِيجِ الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ دُخُولَ الضَّرَرِ وَالْمَرَضِ فِي الشَّيْءِ يَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: التَّشَوُّشُ، وَالنُّقْصَانُ، وَالْبُطْلَانُ. فَادَّعَى الشَّيْطَانُ لَعَنَهُ اللَّه إِلْقَاءَ أَكْثَرِ الْخَلْقِ فِي مَرَضِ الدِّينِ، وَضَرَرُ الدِّينِ هُوَ قَوْلُهُ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمَرَضَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى أَحَدِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَهِيَ التَّشَوُّشُ وَالنُّقْصَانُ وَالْبُطْلَانُ، فَأَمَّا التَّشَوُّشُ فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَمَانِيِّ يَشْغَلُ عَقْلَهُ وَفِكْرَهُ فِي اسْتِخْرَاجِ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ وَالْحِيَلِ وَالْوَسَائِلِ اللَّطِيفَةِ فِي تَحْصِيلِ الْمَطَالِبِ الشَّهْوَانِيَّةِ وَالْغَضَبِيَّةِ، فَهَذَا مَرَضٌ رُوحَانِيٌّ مِنْ جِنْسِ التَّشَوُّشِ، وَأَمَّا النُّقْصَانُ فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَذَلِكَ لِأَنَّ بَتْكَ الْآذَانِ نَوْعُ نُقْصَانٍ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا صَارَ مُسْتَغْرِقَ الْعَقْلِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا صَارَ فَاتِرَ الرَّأْيِ ضَعِيفَ الْحَزْمِ فِي طَلَبِ الْآخِرَةِ، وأما البطلان

فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ يُوجِبُ بُطْلَانَ الصِّفَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْمُدَّةِ الْأُولَى، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ بَقِيَ مُوَاظِبًا عَلَى طَلَبِ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ مُعْرِضًا عَنِ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ فَلَا يَزَالُ يَزِيدُ فِي قَلْبِهِ الرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا وَالنُّفْرَةُ عَنِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَزَالُ تَتَزَايَدُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ إِلَى أَنْ يَتَغَيَّرَ الْقَلْبُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ ذِكْرُ الْآخِرَةِ الْبَتَّةَ، وَلَا يَزُولُ عَنْ خَاطِرِهِ حُبُّ الدُّنْيَا الْبَتَّةَ، فَتَكُونُ حَرَكَتُهُ وَسُكُونُهُ وَقَوْلُهُ وَفِعْلُهُ لِأَجْلِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ يُوجِبُ تَغْيِيرَ الْخِلْقَةِ لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ إِنَّمَا دَخَلَتْ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ عَلَى سَبِيلِ السَّفَرِ، وَهِيَ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى عَالَمِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا نَسِيَتْ مَعَادَهَا وَأَلِفَتْ هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ/ الَّتِي لَا بُدَّ مِنَ انْقِضَائِهَا وَفَنَائِهَا كَانَ هَذَا بِالْحَقِيقَةِ تَغْيِيرًا لِلْخِلْقَةِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الْحَشْرِ: 19] وَقَالَ فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الْحَجِّ: 46] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الشَّيْطَانِ دَعَاوِيَهِ فِي الْإِغْوَاءِ وَالضَّلَالِ حَذَّرَ النَّاسَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ فَقَالَ: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً وَاعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا لَا يَخْتَارُ أَنْ يَتَّخِذَ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّه، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ مَا أَمَرَهُ الشَّيْطَانُ بِهِ وَتَرَكَ مَا أَمَرَهُ الرَّحْمَنُ بِهِ صَارَ كَأَنَّهُ اتَّخَذَ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا لِنَفْسِهِ وَتَرَكَ وِلَايَةَ اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا قَالَ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً لِأَنَّ طَاعَةَ اللَّه تُفِيدُ الْمَنَافِعَ الْعَظِيمَةَ الدَّائِمَةَ الْخَالِصَةَ عَنْ شَوَائِبِ الضَّرَرِ، وَطَاعَةَ الشَّيْطَانِ تُفِيدُ الْمَنَافِعَ الثَّلَاثَةَ الْمُنْقَطِعَةَ الْمَشُوبَةَ بِالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ وَالْآلَامِ الْغَالِبَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ عَقْلًا، فَمَنْ رَغِبَ فِي وِلَايَتِهِ فَقَدْ فَاتَهُ أَشْرَفُ الْمَطَالِبِ وَأَجَلُّهَا بِسَبَبِ أَخَسِّ الْمَطَالِبِ وَأَدْوَنِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا هُوَ الْخَسَارُ الْمُطْلَقُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ عُمْدَةَ أَمْرِ الشَّيْطَانِ إِنَّمَا هُوَ بِإِلْقَاءِ الْأَمَانِيِّ فِي الْقَلْبِ، وَأَمَّا تَبْتِيكُ الْآذَانِ وَتَغْيِيرُ الْخِلْقَةِ فَذَاكَ مِنْ نَتَائِجِ إِلْقَاءِ الْأَمَانِيِّ فِي الْقَلْبِ وَمِنْ آثَارِهِ، فَلَا جَرَمَ نَبَّهَ اللَّه تَعَالَى عَلَى مَا هُوَ الْعُمْدَةُ فِي دَفْعِ تِلْكَ الْأَمَانِيِّ وَهُوَ أَنَّ تِلْكَ الْأَمَانِيَّ لَا تُفِيدُ إِلَّا الْغُرُورَ، وَالْغُرُورُ هُوَ أَنْ يَظُنَّ الْإِنْسَانُ بِالشَّيْءِ أَنَّهُ نَافِعٌ وَلَذِيذٌ، ثُمَّ يَتَبَيَّنَ اشْتِمَالُهُ عَلَى أَعْظَمِ الْآلَامِ وَالْمَضَارِّ، وَجَمِيعُ أَحْوَالِ الدُّنْيَا كَذَلِكَ، وَالْعَاقِلُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَمِثَالُ هَذَا أَنَّ الشَّيْطَانَ يُلْقِي فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ سَيَطُولُ عُمُرُهُ وَيَنَالُ مِنَ الدُّنْيَا أَمَلَهُ وَمَقْصُودَهُ، وَيَسْتَوْلِي عَلَى أَعْدَائِهِ، وَيَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّ الدُّنْيَا دُوَلٌ فَرُبَّمَا تَيَسَّرَتْ لَهُ كَمَا تَيَسَّرَتْ لِغَيْرِهِ، إِلَّا أَنَّ كل ذلك غرور فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ فِي أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْغَمِّ وَالْحَسْرَةِ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ كُلَّمَا كَانَ أَلَذَّ وَأَشْهَى وَكَانَ الْإِلْفُ مَعَهُ أَدْوَمَ وَأَبْقَى كَانَتْ مُفَارَقَتُهُ أَشَدَّ إِيلَامًا وَأَعْظَمَ تَأْثِيرًا فِي حُصُولِ الْغَمِّ وَالْحَسْرَةِ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُنَبِّهَةٌ عَلَى مَا هُوَ الْعُمْدَةُ وَالْقَاعِدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ. وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَعِدُهُمْ بِأَنَّهُ لَا قِيَامَةَ وَلَا جَزَاءَ فَاجْتَهَدُوا فِي اسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَاعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْغُرُورَ عِبَارَةٌ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي تَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ عِنْدَ وِجْدَانِ مَا يُسْتَحْسَنُ ظَاهِرُهُ إِلَّا أَنَّهُ يَعْظُمُ تَأَذِّيهِ عِنْدَ انْكِشَافِ الْحَالِ فِيهِ، وَالِاسْتِغْرَاقُ/ فِي طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا وَالِانْهِمَاكُ فِي مَعَاصِي اللَّه سُبْحَانَهُ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ لَذِيذًا إِلَّا أَنَّ عَاقِبَتَهُ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَسُخْطُ اللَّه وَالْبُعْدُ عَنْ رَحْمَتِهِ، فَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يُقَوِّي مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا الْغُرُورُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً الْمَحِيصُ الْمَعْدِلُ وَالْمَفَرُّ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: هَذِهِ الْآيَةُ

[سورة النساء (4) : آية 123]

تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ وُرُودِهَا. الثَّانِي: التَّخْلِيدُ الَّذِي هُوَ نَصِيبُ الْكُفَّارِ، وَهَذَا غَيْرُ بَعِيدٍ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ وَلا يَجِدُونَ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ الشَّيْطَانُ: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الَّذِي يَكُونُ نَصِيبًا لِلشَّيْطَانِ هُمُ الْكُفَّارُ. وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه الْوَعِيدَ أَرْدَفَهُ بِالْوَعْدِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى فِي أَكْثَرِ آيَاتِ الْوَعْدِ ذَكَرَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَلَوْ كَانَ الْخُلُودُ يُفِيدُ التَّأْبِيدَ وَالدَّوَامَ لَلَزِمَ التَّكْرَارُ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْخُلُودَ عِبَارَةٌ عَنْ طُولِ الْمُكْثِ لَا عَنِ الدَّوَامِ، وَأَمَّا فِي آيَاتِ الْوَعِيدِ فَإِنَّهُ يَذْكُرُ الْخُلُودَ وَلَمْ يَذْكُرِ التَّأْبِيدَ إِلَّا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِقَابَ الْفُسَّاقِ مُنْقَطِعٌ. ثُمَّ قَالَ: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هُمَا مَصْدَرَانِ: الْأَوَّلُ: مُؤَكِّدٌ لِنَفْسِهِ، كأنه قال: وعد وعدا وحقا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِغَيْرِهِ، أَيْ حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا. ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا وَهُوَ تَوْكِيدٌ ثَالِثٌ بَلِيغٌ. وَفَائِدَةُ هَذِهِ التَّوْكِيدَاتِ مُعَارَضَةُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْطَانُ لِأَتْبَاعِهِ مِنَ الْمَوَاعِيدِ الْكَاذِبَةِ وَالْأَمَانِيِّ الْبَاطِلَةِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ وَعْدَ اللَّه أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَأَحَقُّ بِالتَّصْدِيقِ مِنْ قَوْلِ الشَّيْطَانِ الَّذِي لَيْسَ أَحَدٌ أَكْذَبَ مِنْهُ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا بِإِشْمَامِ الصَّادِ الزَّايَ، وَكَذَلِكَ كَلُّ صَادٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا دَالٌ فِي الْقُرْآنِ نَحْوَ قَصْدُ السَّبِيلِ [النَّحْلِ: 9] فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الْحِجْرِ: 94] وَالْقِيلُ: مَصْدَرُ قَالَ قولا وقيلا، وقال ابن السكيت: القيل والقال اسمان لا مصدران ثم قال تعالى: [سورة النساء (4) : آية 123] لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأُمْنِيَّةُ أُفْعُولَةٌ مِنَ الْمُنْيَةِ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا اللَّفْظِ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى/ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الْحَجِّ: 52] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: (لَيْسَ) فِعْلٌ، فَلَا بُدَّ مِنَ اسْمٍ يَكُونُ هُوَ مُسْنَدًا إِلَيْهِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَيْسَ الثَّوَابُ الذي تقدم ذكره والوعد به في قوله سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي [النساء: 122] الْآيَةَ، بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَيْ لَيْسَ يُسْتَحَقُّ بِالْأَمَانِيِّ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. الثَّانِي: لَيْسَ وَضْعُ الدِّينِ عَلَى أَمَانِيِّكُمْ. الثَّالِثُ: لَيْسَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ بِأَمَانِيِّكُمْ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ إِسْنَادَ لَيْسَ إِلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِيمَا قَبْلُ أَوْلَى مِنْ إِسْنَادِهِ إِلَى مَا هُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ خِطَابٌ مَعَ مَنْ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَأَمَانِيُّهُمْ أَنْ لَا يَكُونُ هُنَاكَ حَشْرٌ وَلَا نَشْرٌ وَلَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، وَإِنِ اعْتَرَفُوا بِهِ لَكِنَّهُمْ يَصِفُونَ أَصْنَامَهُمْ بِأَنَّهَا شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّه، وَأَمَّا أَمَانِيُّ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهُوَ قَوْلُهُمْ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ

نَصارى [الْبَقَرَةِ: 111] وَقَوْلُهُمْ نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَةِ: 18] فَلَا يُعَذِّبُنَا، وَقَوْلُهُمْ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَةِ: 80] . الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَانِيُّهُمْ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ وَإِنِ ارْتَكَبُوا الْكَبَائِرَ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَخُصُّ بِالْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ مَنْ يَشَاءُ كَمَا قَالَ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 116] وَرُوِيَ أَنَّهُ تَفَاخَرَ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ، وَنَحْنُ أَوْلَى باللَّه مِنْكُمْ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَبِيُّنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَكِتَابُنَا نَاسِخُ الْكُتُبِ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْفُو عَنْ شَيْءٍ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا يُشْكِلُ بِالصَّغَائِرِ فَإِنَّهَا مَغْفُورَةٌ قَالُوا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ، وَالثَّانِي: أَنَّ صَاحِبَ الصَّغِيرَةِ قَدِ انْحَبَطَ مِنْ ثَوَابِ طَاعَتِهِ بِمِقْدَارِ عِقَابِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ، فَهَهُنَا قَدْ وَصَلَ جَزَاءُ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ إِلَيْهِ. أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ بِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى عُمُومَاتِهِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: 81] وَالَّذِي نَزِيدُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ هَذَا الْجَزَاءِ مَا يَصِلُ إِلَى الْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْغُمُومِ وَالْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ وَالْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا [الْمَائِدَةِ: 38] سَمَّى ذَلِكَ الْقَطْعَ بِالْجَزَاءِ/ وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: كَيْفَ الصَّلَاحُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ؟ فَقَالَ غَفَرَ اللَّه لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْتَ تَمْرَضُ، أَلَيْسَ يُصِيبُكَ الْأَذَى فَهُوَ مَا تُجْزَوْنَ. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّ رَجُلًا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: أَنُجْزَى بِكُلِّ مَا نَعْمَلُ لَقَدْ هَلَكْنَا، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامُهُ فَقَالَ: يُجْزَى الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا بِمُصِيبَتِهِ فِي جَسَدِهِ وَمَا يُؤْذِيهِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَكَيْنَا وَحَزِنَّا وَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّه مَا أَبْقَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَنَا شَيْئًا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصلاة والسلام: «أبشروا فإنه لا يصيب أحدا مِنْكُمْ مُصِيبَةٌ فِي الدُّنْيَا إِلَّا جَعَلَهَا اللَّه لَهُ كَفَّارَةً حَتَّى الشَّوْكَةُ الَّتِي تَقَعُ فِي قَدَمِهِ» . الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: هَبْ أَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ الْجَزَاءُ بِنَقْصِ ثَوَابِ إِيمَانِهِ وَسَائِرِ طَاعَاتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ وَالْمَعْقُولُ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: 114] . وَأَمَّا الْخَبَرُ: فَمَا رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَقَّتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مَشَقَّةً شَدِيدَةً، وَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّه وَأَيُّنَا لَمْ يعمل سوأ فَكَيْفَ الْجَزَاءُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ عَلَى الطَّاعَةِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ وَعَلَى الْمَعْصِيَةِ الْوَاحِدَةِ عُقُوبَةً وَاحِدَةً فَمَنْ جُوزِيَ بِالسَّيِّئَةِ نَقَصَتْ وَاحِدَةٌ مِنْ عَشَرَةٍ وَبَقِيَتْ لَهُ تِسْعُ حَسَنَاتٍ فَوَيْلٌ لِمَنْ غَلَبَتْ آحَادُهُ أَعْشَارَهُ» . وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ ثَوَابَ الْإِيمَانِ وَجَمِيعَ الطَّاعَاتِ أَعْظَمُ لَا مَحَالَةَ مِنْ عِقَابِ الْكَبِيرَةِ الْوَاحِدَةِ والعدل

يَقْتَضِي أَنْ يُحَطَّ مِنَ الْأَكْثَرِ مِثْلُ الْأَقَلِّ، فَيَبْقَى حِينَئِذٍ مِنَ الْأَكْثَرِ شَيْءٌ زَائِدٌ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِسَبَبِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النِّسَاءِ: 124] فَالْمُؤْمِنُ الَّذِي أَطَاعَ اللَّه سَبْعِينَ سَنَةً ثُمَّ شَرِبَ قَطْرَةً مِنَ الْخَمْرِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلُهُمْ: خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا فَهُوَ بَاطِلٌ لِلدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، مِثْلُ قَوْلِهِ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا إِلَى قَوْلِهِ فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى [الْحُجُرَاتِ: 9] سَمَّى الْبَاغِيَ حَالَ كَوْنِهِ بَاغِيًا مؤمنا، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [الْبَقَرَةِ: 178] سَمَّى صَاحِبَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ مُؤْمِنًا، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ [التَّحْرِيمِ: 8] سَمَّاهُ مُؤْمِنًا حَالَ مَا أَمَرَهُ بِالتَّوْبَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، وَإِذَا كَانَ مُؤْمِنًا كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ حُجَّةً فِي أَنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يَكُونُ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ مَخْصُوصًا بِأَهْلِ الْكُفْرِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ فِي الْجَوَابِ: هَبْ أَنَّ النَّصَّ يَعُمُّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] أَخَصُّ مِنْهُ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، وَلِأَنَّ إِلْحَاقَ التَّأْوِيلِ بِعُمُومَاتِ الْوَعِيدِ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِعُمُومَاتِ الْوَعْدِ لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ كَرَمٌ، وَإِهْمَالَ الْوَعِيدِ وَحَمْلَهُ عَلَى التَّأْوِيلِ بِالتَّعْرِيضِ جُودٌ وَإِحْسَانٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ، فَدَخَلَ فِيهِ مَا صَدَرَ عَنِ الْكُفَّارِ مِمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ قَوْلُهُ يُجْزَ بِهِ يَدُلُّ عَلَى وُصُولِ جَزَاءِ كُلِّ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْجَزَاءُ عِبَارَةً عَمَّا يَصِلُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ فِي الدُّنْيَا. قُلْنَا: إِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِلَ جَزَاءُ أَعْمَالِهِمُ الْحَسَنَةِ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى إِيصَالِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ إِلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ تَنَعُّمُهُمْ فِي الدُّنْيَا أَكْثَرَ ولذاتهم هاهنا أَكْمَلَ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ جَزَاءَ أَفْعَالِهِمُ الْمَحْظُورَةِ تَصِلُ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِوُصُولِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ إِلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ، وَدَلَّتْ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ بِعَمَلِ السُّوءِ يَسْتَحِقُّ الْجَزَاءَ، وَإِذَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى مَجْمُوعِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ اللَّه غَيْرُ خَالِقٍ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَمَلًا لِلْعَبْدِ امْتَنَعَ كَوْنُهُ عَمَلًا للَّه تَعَالَى لِاسْتِحَالَةِ حُصُولِ مَقْدُورٍ واحد بِقَادِرَيْنِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى لَمَا اسْتَحَقَّ الْعَبْدُ عَلَيْهِ جَزَاءً الْبَتَّةَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، لَأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَسْتَحِقُّ الْجَزَاءَ عَلَى عَمَلِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ مُكَرَّرٌ في هذا الكتاب. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ، وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا قُلْنَا إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ. وَالثَّانِي: أَنَّ شَفَاعَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ فِي حَقِّ الْعُصَاةِ إِنَّمَا تَكُونُ بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا وَلِيَّ

[سورة النساء (4) : آية 124]

لِأَحَدٍ وَلَا نَصِيرَ لِأَحَدٍ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ وتعالى ثم قال تعالى: [سورة النساء (4) : آية 124] وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) قَالَ مَسْرُوقٌ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء: 123] قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ لِلْمُسْلِمِينَ: نَحْنُ وَأَنْتُمْ سَوَاءٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى قَوْلِهِ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ يُدْخَلُونَ الْجَنَّةَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ وَفِي حم الْمُؤْمِنِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْخَاءِ في هذه السورة جَمِيعًا عَلَى أَنَّ الدُّخُولَ مُضَافٌ إِلَيْهِمْ، وَكِلَاهُمَا حَسَنٌ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ لِأَنَّهُ أَفْخَمُ، وَيَدُلُّ عَلَى مُثِيبٍ أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ وَيُوَافِقُ وَلا يُظْلَمُونَ وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ فَهِيَ مُطَابِقَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ [الزُّخْرُفِ: 70] وَلِقَوْلِهِ ادْخُلُوها بِسَلامٍ [الحجر: 46] [ق: 34] واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا: الْفَرْقُ بَيْنَ (مَنِ) الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ أَنَّ الْأُولَى لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمُرَادُ مَنْ يَعْمَلْ بَعْضَ الصَّالِحَاتِ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ جَمِيعَ الصَّالِحَاتِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا عَمِلَ بَعْضَهَا حَالَ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يَبْقَى مُخَلَّدًا فِي النَّارِ، بَلْ يُنْقَلُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ إِذَا كَانَ قَدْ صَلَّى وَصَامَ وَحَجَّ وَزَكَّى وَجَبَ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَلَزِمَ بِحُكْمِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَعِيدِ الْفُسَّاقِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ، فَأَمَّا أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ ثُمَّ يُنْقَلَ إِلَى النَّارِ فَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ يَدْخُلُ النَّارَ ثُمَّ يُنْقَلُ إِلَى الْجَنَّةِ فَذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: النَّقِيرُ: نُقْرَةٌ فِي ظَهْرِ النَّوَاةِ مِنْهَا تَنْبُتُ النَّخْلَةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يُنْقَصُونَ قَدْرَ مَنْبِتِ النَّوَاةِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ خَصَّ اللَّه الصَّالِحِينَ بِأَنَّهُمْ لَا يُظْلَمُونَ مَعَ أَنَّ غَيْرَهُمْ كَذَلِكَ كَمَا قَالَ وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فُصِّلَتْ: 46] وَقَالَ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 108] . وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الرَّاجِعُ فِي قَوْلِهِ وَلا يُظْلَمُونَ عَائِدًا إِلَى عُمَّالِ السُّوءِ/ وَعُمَّالِ الصَّالِحَاتِ جَمِيعًا، وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَنْقُصُ عَنِ الثَّوَابِ كَانَ بِأَنْ لَا يَزِيدَ فِي الْعِقَابِ أَوْلَى هَذَا هُوَ الْحُكْمُ فِيمَا بَيْنَ الْخَلْقِ، فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هذا الحكم على وفق تعارف الخلق. [سورة النساء (4) : الآيات 125 الى 126] وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَطَ حُصُولَ النَّجَاةِ وَالْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ بِكَوْنِ الْإِنْسَانِ مُؤْمِنًا شَرَحَ الْإِيمَانَ وَبَيَّنَ فَضْلَهُ مِنْ

وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الدِّينُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى إِظْهَارِ كَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْخُضُوعِ وَالِانْقِيَادِ للَّه تَعَالَى، وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ الدِّينُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ بِالتَّرْغِيبِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَاعْلَمْ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرَيْنِ: الِاعْتِقَادُ وَالْعَمَلُ: أَمَّا الِاعْتِقَادُ فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ أَسْلَمَ وَجْهَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الِانْقِيَادُ وَالْخُضُوعُ. وَالْوَجْهُ أَحْسَنُ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ، فَالْإِنْسَانُ إِذَا عَرَفَ بِقَلْبِهِ رَبَّهُ وَأَقَرَّ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَبِعُبُودِيَّةِ نَفْسِهِ فَقَدْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّه، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَيَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُ الْحَسَنَاتِ وَتَرْكُ السَّيِّئَاتِ، فَتَأَمَّلْ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ الْمُخْتَصَرَةِ وَاحْتِوَائِهَا عَلَى جَمِيعِ الْمَقَاصِدِ وَالْأَغْرَاضِ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ يُفِيدُ الْحَصْرَ، مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَسْلَمَ نَفْسَهُ للَّه، وَمَا أَسْلَمَ لِغَيْرِ اللَّه وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ تَفْوِيضِ جَمِيعِ الْأُمُورِ إِلَى الْخَالِقِ وَإِظْهَارِ التَّبَرِّي مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، وَأَيْضًا فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى فَسَادِ طَرِيقَةِ مَنِ اسْتَعَانَ بِغَيْرِ اللَّه، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَسْتَعِينُونَ بِالْأَصْنَامِ وَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه، وَالدَّهْرِيَّةُ وَالطَّبِيعِيُّونَ يَسْتَعِينُونَ. بِالْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ وَالطَّبَائِعِ وَغَيْرِهَا، وَالْيَهُودُ كَانُوا يَقُولُونَ فِي دَفْعِ عِقَابِ الْآخِرَةِ عَنْهُمْ: أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالنَّصَارَى كَانُوا يَقُولُونَ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، فَجَمِيعُ الْفِرَقِ قَدِ اسْتَعَانُوا بِغَيْرِ اللَّه. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مَا أَسْلَمَتْ وُجُوهُهُمْ للَّه لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الطَّاعَةَ الْمُوجِبَةَ لِثَوَابِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَالْمَعْصِيَةَ الْمُوجِبَةَ لِعِقَابِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَهُمْ فِي/ الْحَقِيقَةِ لَا يَرْجُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَلَا يَخَافُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ فَوَّضُوا التَّدْبِيرَ وَالتَّكْوِينَ وَالْإِبْدَاعَ وَالْخَلْقَ إِلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا مُوجِدَ وَلَا مُؤَثِّرَ إِلَّا اللَّه فَهُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وُجُوهَهُمْ للَّه وَعَوَّلُوا بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى فَضْلِ اللَّه، وَانْقَطَعَ نَظَرُهُمْ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مَا سِوَى اللَّه. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فِي بَيَانِ فَضِيلَةِ الْإِسْلَامِ: وَهُوَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا دَعَا الْخَلْقَ إِلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَقَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ كُلِّ الْخَلْقِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَّا إِلَى اللَّه تَعَالَى كما قال: إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الْأَنْعَامِ: 19] وَمَا كَانَ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ فَلَكٍ وَلَا طَاعَةِ كَوْكَبٍ وَلَا سَجْدَةِ صَنَمٍ وَلَا اسْتِعَانَةٍ بِطَبِيعَةٍ، بَلْ كَانَ دِينُهُ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّه وَالْإِعْرَاضَ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّه وَدَعْوَةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْخِتَانِ وَفِي الْأَعْمَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْكَعْبَةِ: مِثْلُ الصَّلَاةِ إِلَيْهَا وَالطَّوَافِ بِهَا وَالسَّعْيِ وَالرَّمْيِ وَالْوُقُوفِ وَالْحَلْقِ وَالْكَلِمَاتِ الْعَشْرِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ [الْبَقَرَةِ: 124] وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ شَرْعَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ قَرِيبًا مِنْ شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ ثُمَّ إِنَّ شَرْعَ إِبْرَاهِيمَ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْكُلِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا يَفْتَخِرُونَ بِشَيْءٍ كَافْتِخَارِهِمْ بِالِانْتِسَابِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَمَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهِمْ مُفْتَخِرِينَ بِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ شَرْعُ مُحَمَّدٍ مَقْبُولًا عِنْدَ الْكُلِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ حَنِيفاً فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا لِلْمَتْبُوعِ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا لِلتَّابِعِ، كَمَا إِذَا قُلْتَ: رَأَيْتُ رَاكِبًا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّاكِبُ حَالًا لِلْمَرْئِيِّ وَالرَّائِي. الْبَحْثُ الثَّانِي: الْحَنِيفُ الْمَائِلُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَائِلٌ عَنِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، لِأَنَّ مَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَائِلٌ عَنْ كُلِّ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْبَاطِلَ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنَ الْبَاطِلِ الَّذِي يُضَادُّهُ فَقَدْ يَكُونُ قَرِيبًا مِنَ الْبَاطِلِ الَّذِي يُجَانِسُهُ، وَأَمَّا الْحَقُّ فَإِنَّهُ وَاحِدٌ فَيَكُونُ مَائِلًا عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ كَالْمَرْكَزِ الَّذِي يَكُونُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الدَّائِرَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ شَرْعَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَفْسُ شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَاحِبَ شَرِيعَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِذَلِكَ. قُلْنَا: يَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ دَاخِلَةً فِي مِلَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ اشْتِمَالِ هَذِهِ الْمِلَّةِ عَلَى زَوَائِدَ حَسَنَةٍ وَفَوَائِدَ جَلِيلَةٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا، وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ/ لَمَّا بَلَغَ فِي عُلُوِّ الدَّرَجَةِ فِي الدِّينِ أَنِ اتَّخَذَهُ اللَّه خَلِيلًا كَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يَتَّبِعَ خُلُقَهُ وَطَرِيقَتَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ حَنِيفًا ثُمَّ قَالَ عَقِيبَهُ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا أَشْعَرَ هَذَا بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا اتَّخَذَهُ خَلِيلًا لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ الشَّرْعِ آتِيًا بِتِلْكَ التَّكَالِيفِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا قَوْلُهُ وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [الْبَقَرَةِ: 124] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا جَعَلَهُ إِمَامًا لِلْخَلْقِ لِأَنَّهُ أَتَمَّ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ. وإذا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا كَانَ بِهَذَا الْمَنْصِبِ الْعَالِي وَهُوَ كَوْنُهُ خَلِيلًا للَّه تَعَالَى بِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَ عَامِلًا بِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ كَانَ هَذَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِهَذَا الشَّرْعِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَفُوزَ بِأَعْظَمِ الْمَنَاصِبِ فِي الدِّينِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ التَّرْغِيبَ الْعَظِيمَ فِي هَذَا الدِّينِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا مَوْقِعُ قَوْلِهِ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا. قُلْنَا: هَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَنَظِيرُهُ مَا جَاءَ فِي الشِّعْرِ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ وَالْجُمْلَةُ الِاعْتِرَاضِيَّةُ مِنْ شَأْنِهَا تَأْكِيدُ ذَلِكَ الكلام، والأمر هاهنا كَذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي اشْتِقَاقِ الْخَلِيلِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ خَلِيلَ الْإِنْسَانِ هُوَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي خِلَالِ أُمُورِهِ وَأَسْرَارِهِ، وَالَّذِي دَخَلَ حُبُّهُ فِي خِلَالِ أَجْزَاءِ قَلْبِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَايَةُ فِي الْمَحَبَّةِ. قِيلَ: لَمَّا أَطْلَعَ اللَّه إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ وَدَعَا الْقَوْمَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِلَى تَوْحِيدِ اللَّه، وَمَنَعَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ النَّجْمِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ، وَمَنَعَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ ثُمَّ سَلَّمَ نَفْسَهُ لِلنِّيرَانِ وَوَلَدَهُ لِلْقُرْبَانِ وَمَالَهُ لِلضِّيفَانِ جَعَلَهُ اللَّه إِمَامًا لِلْخَلْقِ وَرَسُولًا إِلَيْهِمْ، وَبَشَّرَهُ بِأَنَّ الْمُلْكَ وَالنُّبُوَّةَ فِي ذُرِّيَّتِهِ، فَلِهَذِهِ الِاخْتِصَاصَاتِ سَمَّاهُ خَلِيلًا، لِأَنَّ مَحَبَّةَ اللَّه لِعَبْدِهِ عِبَارَةٌ عَنْ إِرَادَتِهِ لِإِيصَالِ الْخَيْرَاتِ وَالْمَنَافِعِ إِلَيْهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي فِي اشْتِقَاقِ اسْمِ الْخَلِيلِ: أَنَّهُ الَّذِي يُوَافِقُكَ فِي خِلَالِكَ. أَقُولُ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّه» فَيُشْبِهُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَلَغَ فِي هَذَا الْبَابِ مَبْلَغًا لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَ لَا جَرَمَ خَصَّهُ اللَّه بِهَذَا التَّشْرِيفِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّ الْخَلِيلَ هُوَ الَّذِي يُسَايِرُكَ فِي طَرِيقِكَ، مِنَ الْخَلِّ وَهُوَ الطَّرِيقُ فِي الرَّمْلِ، وَهَذَا الْوَجْهُ قَرِيبٌ مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي، أَوْ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى شِدَّةِ طَاعَتِهِ للَّه وَعَدَمِ تَمَرُّدِهِ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ عَنْ حُكْمِ اللَّه، كَمَا أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُ بِقَوْلِهِ إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ/ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْبَقَرَةِ: 131] .

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: الْخَلِيلُ هُوَ الَّذِي يَسُدُّ خَلَلَكَ كَمَا تَسُدُّ خَلَلَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَانَ خَلِيلًا مَعَ اللَّه امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَسُدُّ الْخَلَلَ، ومن هاهنا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ الْخَلِيلِ بِذَلِكَ، أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَقَدْ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذَا اللَّقَبِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا صَارَ الرَّمْلُ الَّذِي أَتَى بِهِ غِلْمَانُهُ دَقِيقًا قَالَتِ امْرَأَتُهُ: هَذَا مِنْ عِنْدِ خَلِيلِكَ الْمِصْرِيِّ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: بَلْ هُوَ مِنْ خَلِيلِيَ اللَّه، وَالثَّانِي: قَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: هَبَطَ مَلَكٌ فِي صُورَةِ رَجُلٍ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّه بِصَوْتٍ رَخِيمٍ شَجِيٍّ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اذْكُرْهُ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ لَا أَذْكُرُهُ مَجَّانًا، فَقَالَ لَكَ مَالِي كُلُّهُ، فَذَكَرَهُ الْمَلَكُ بِصَوْتٍ أَشْجَى مِنَ الْأَوَّلِ، فَقَالَ: اذْكُرْهُ مَرَّةً ثَالِثَةً وَلَكَ أَوْلَادِي، فَقَالَ الْمَلَكُ: أَبْشِرْ فَإِنِّي مَلَكٌ لَا أَحْتَاجُ إِلَى مَالِكَ وَوَلَدِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمَقْصُودُ امْتِحَانَكَ، فَلَمَّا بَذَلَ الْمَالَ وَالْأَوْلَادَ عَلَى سَمَاعِ ذِكْرِ اللَّه لَا جَرَمَ اتَّخَذَهُ اللَّه خَلِيلًا. الثَّالِثُ: رَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جِبْرِيلَ وَالْمَلَائِكَةَ لَمَّا دَخَلُوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ فِي صُورَةِ غِلْمَانٍ حِسَانِ الْوُجُوهِ وَظَنَّ الْخَلِيلُ أَنَّهُمْ أَضْيَافُهُ وَذَبَحَ لَهُمْ عِجْلًا سَمِينًا وَقُرَّبَهُ إِلَيْهِمْ وَقَالَ كُلُوا عَلَى شَرْطِ أَنْ تُسَمُّوا اللَّه فِي أَوَّلِهِ وَتَحْمَدُوهُ فِي آخِرِهِ، فَقَالَ جِبْرِيلُ أَنْتَ خَلِيلُ اللَّه، فَنَزَلَ هَذَا الْوَصْفُ. وَأَقُولُ: فِيهِ عِنْدِي وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ جَوْهَرَ الرُّوحِ إِذَا كَانَ مُضِيئًا مُشْرِقًا عُلْوِيًّا قَلِيلَ التَّعَلُّقِ بِاللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الْجَسَدَانِيَّةِ، ثُمَّ انْضَافَ إِلَى مَثَلِ هَذَا الْجَوْهَرِ الْمُقَدَّسِ الشَّرِيفِ أَعْمَالٌ تَزِيدُهُ صِقَالَةً عَنِ الْكُدُورَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَأَفْكَارٌ تَزِيدُهُ اسْتِنَارَةً بِالْمَعَارِفِ الْقُدْسِيَّةِ وَالْجَلَايَا الْإِلَهِيَّةِ، صَارَ مِثْلُ هَذَا الْإِنْسَانِ مُتَوَغِّلًا فِي عَالَمِ الْقُدُسِ وَالطَّهَارَةِ مُتَبَرِّئًا عَنْ عَلَائِقِ الْجِسْمِ وَالْحِسِّ، ثُمَّ لَا يَزَالُ هَذَا الْإِنْسَانُ يَتَزَايَدُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الشَّرِيفَةِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ بِحَيْثُ لَا يَرَى إِلَّا اللَّه، وَلَا يَسْمَعُ إِلَّا اللَّه، وَلَا يَتَحَرَّكُ إِلَّا باللَّه، وَلَا يَسْكُنُ إِلَّا باللَّه، وَلَا يَمْشِي إِلَّا باللَّه، فَكَأَنَّ نُورَ جَلَالِ اللَّه قَدْ سَرَى فِي جَمِيعِ قُوَاهُ الْجُسْمَانِيَّةِ وَتَخَلَّلَ فِيهَا وَغَاصَ فِي جَوَاهِرِهَا، وَتَوَغَّلَ فِي مَاهِيَّاتِهَا، فَمِثْلُ هَذَا الْإِنْسَانِ هُوَ الْمَوْصُوفُ حَقًّا بِأَنَّهُ خَلِيلٌ لِمَا أَنَّهُ تَخَلَّلَتْ مَحَبَّةُ اللَّه فِي جَمِيعِ قُوَاهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا وَفِي عَصَبِي نُورًا» . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُ النَّصَارَى: لَمَّا جَازَ إِطْلَاقُ اسْمِ الخليل على إنسان معنى عَلَى سَبِيلِ الْإِعْزَازِ وَالتَّشْرِيفِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ اسْمِ الِابْنِ فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْزَازِ وَالتَّشْرِيفِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْفَرْقَ أَنَّ كَوْنَهُ خَلِيلًا عِبَارَةٌ عَنِ الْمَحَبَّةِ الْمُفْرِطَةِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْجِنْسِيَّةَ، أَمَّا/ الِابْنُ فَإِنَّهُ مُشْعِرٌ بِالْجِنْسِيَّةِ، وَجَلَّ الْإِلَهُ عَنْ مُجَانَسَةِ الْمُمْكِنَاتِ وَمُشَابَهَةِ الْمُحْدَثَاتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذِ اللَّه إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا لِاحْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ كَمَا تَكُونُ خُلَّةُ الآدميين، وكيف يعقل ذلك وله ملك السموات وَالْأَرْضِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إِلَى الْبَشَرِ الضَّعِيفِ، وَإِنَّمَا اتَّخَذَهُ خَلِيلًا بِمَحْضِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْكَرَمِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُخْلِصًا فِي الْعُبُودِيَّةِ لَا جَرَمَ خَصَّهُ اللَّه بِهَذَا التَّشْرِيفِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَوْنَهُ خَلِيلًا يُوهِمُ الْجِنْسِيَّةَ فَهُوَ سُبْحَانُهُ أَزَالَ وَهْمَ الْمُجَانَسَةِ وَالْمُشَاكَلَةِ بِهَذَا الْكَلَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَبَيَّنَ هاهنا أَنَّهُ إِلَهُ الْمُحْدَثَاتِ وَمُوجِدُ الْكَائِنَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَلِكًا مُطَاعًا فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَخْضَعَ لِتَكَالِيفِهِ وَأَنْ يَنْقَادَ

[سورة النساء (4) : آية 127]

لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَلَا يُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهِمَا إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ. وَالثَّانِي: الْعِلْمُ التَّامُّ الْمُتَعَلِّقُ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ حَتَّى لَا يُشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْمُطِيعُ وَالْعَاصِي وَالْمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ، فَدَلَّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ بِقَوْلِهِ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَعَلَى كَمَالِ عِلْمِهِ بِقَوْلِهِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً الرَّابِعُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا وَصَفَ إِبْرَاهِيمَ بِأَنَّهُ خَلِيلُهُ بَيَّنَ أَنَّهُ مَعَ هَذِهِ الْخُلَّةِ عَبْدٌ لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ له ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَيَجْرِي هَذَا مَجْرَى قَوْلِهِ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم: 93] ومجرى قوله نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النِّسَاءِ: 172] يَعْنِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ كَمَالِهِمْ فِي صِفَةِ الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ فِي صِفَةِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ لَمَّا لَمْ يَسْتَنْكِفُوا عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّه فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ مَعَ ضعف بشريته عن عبودية اللَّه؟ كذا هاهنا، يعني إذا كان كل من في السموات وَالْأَرْضِ مُلْكَهُ فِي تَسْخِيرِهِ وَنَفَاذِ/ إِلَهِيَّتِهِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اتِّخَاذَ اللَّه إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلِيلًا يُخْرِجُهُ عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّه، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا حَسَنَةٌ مُتَنَاسِبَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قَالَ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يَقُلْ (مَنْ) لِأَنَّهُ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْجِنْسِ، وَالَّذِي يَعْقِلُ إِذَا ذُكِّرَ وَأُرِيدَ بِهِ الجنس ذكر بما. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِحَاطَةُ فِي الْعِلْمِ. وَالثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِحَاطَةُ بِالْقُدْرَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها [الْفَتْحِ: 21] قَالَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ: وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَمَّا دَلَّ قَوْلُهُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي/ الْأَرْضِ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، فَلَوْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ لَزِمَ التَّكْرَارُ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نقول: إن قَوْلِهِ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَا يُفِيدُ ظَاهِرُهُ إِلَّا كَوْنَهُ تَعَالَى قَادِرًا مالكا لكل ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَلَا يُفِيدُ كَوْنَهُ قَادِرًا عَلَى مَا يَكُونُ خَارِجًا عَنْهُمَا وَمُغَايِرًا لَهُمَا، فَلَمَّا قَالَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ الْمَقْدُورَاتِ خَارِجًا عَنْ هَذِهِ السموات وَالْأَرْضِ، عَلَى أَنَّ سِلْسِلَةَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فِي جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ إِنَّمَا تَنْقَطِعُ بِإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ وَإِبْدَاعِهِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الْقَوْلِ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَحْسَنُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِلَهِيَّةَ وَالْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إِنَّمَا يَحْصُلُ وَيَكْمُلُ بِمَجْمُوعِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِمَا مَعًا، وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذِكْرِ الْعِلْمِ لِمَا ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْعِلْمَ باللَّه هُوَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا، ثُمَّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ قَادِرًا يُعْلَمُ كَوْنُهُ عَالِمًا لِمَا أَنَّ الْفِعْلَ بِحُدُوثِهِ يَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَبِمَا فِيهِ مِنَ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ مُقَدَّمٌ عَلَى الثَّانِي. [سورة النساء (4) : آية 127] وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) اعْلَمْ أَنَّ عَادَةَ اللَّه فِي تَرْتِيبِ هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَقَعَ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَهُوَ أَنَّهُ يَذْكُرُ شَيْئًا مِنَ الْأَحْكَامِ ثُمَّ يَذْكُرُ عَقِيبَهُ آيَاتٍ كثيرة في الوعد والوعيد وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَيَخْلِطُ بِهَا آيَاتٍ دَالَّةً عَلَى كِبْرِيَاءِ اللَّه وَجَلَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظَمَةِ إِلَهِيَّتِهِ. ثُمَّ يَعُودُ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا أَحْسَنُ أَنْوَاعِ التَّرْتِيبِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى التَّأْثِيرِ فِي القلوب،

لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِالْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ لَا يَقَعُ فِي مَوْقِعِ الْقَبُولِ إِلَّا إِذَا كَانَ مَقْرُونًا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ إِلَّا عِنْدَ/ الْقَطْعِ بِغَايَةِ كَمَالِ مَنْ صَدَرَ عَنْهُ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ أَحْسَنُ التَّرْتِيبَاتِ اللَّائِقَةِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الشَّرَائِعِ وَالتَّكَالِيفِ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِشَرْحِ أَحْوَالِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاسْتَقْصَى فِي ذَلِكَ، ثُمَّ خَتَمَ تِلْكَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَةِ جَلَالِ اللَّه وَكَمَالِ كِبْرِيَائِهِ، ثُمَّ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ فَقَالَ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الِاسْتِفْتَاءُ طَلَبُ الْفَتْوَى يقال: استفتيت الرجل في المسألة فأفتاني إفتاء وَفُتْيًا وَفَتْوًى، وَهُمَا اسْمَانِ مَوْضُوعَانِ مَوْضِعَ الْإِفْتَاءِ، وَيُقَالُ: أَفْتَيْتُ فُلَانًا فِي رُؤْيَا رَآهَا إِذَا عَبَرَهَا قَالَ تَعَالَى: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ [يُوسُفَ: 46] وَمَعْنَى الْإِفْتَاءِ إِظْهَارُ الْمُشْكِلِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَتَى وَهُوَ الشَّابُّ الَّذِي قَوِيَ وَكَمُلَ، فَالْمَعْنَى كَأَنَّهُ يَقْوَى بِبَيَانِهِ مَا أُشْكِلَ وَيَصِيرُ قَوِيًّا فَتِيًّا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تُوَرِّثُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ شَيْئًا مِنَ الْمِيرَاثِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي تَوْرِيثِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي تَوْفِيَةِ الصَّدَاقِ لَهُنَّ، وَكَانَتِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ فَإِذَا كَانَتْ جَمِيلَةً وَلَهَا مَالٌ تَزَوَّجَ بِهَا وَأَكَلَ مَالَهَا، وَإِذَا كَانَتْ دَمِيمَةً مَنَعَهَا مِنَ الْأَزْوَاجِ حَتَّى تَمُوتَ فَيَرِثَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِفْتَاءَ لَا يَقَعُ عَنْ ذَوَاتِ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا يَقَعُ عَنْ حالة من أحوالهن وصفة من صفاتهن، وَتِلْكَ الْحَالَةُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي الْآيَةِ فَكَانَتْ مُجْمَلَةً غَيْرَ دَالَّةٍ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي وَقَعَ عَنْهُ الِاسْتِفْتَاءُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالتَّقْدِيرُ: قُلِ اللَّه يُفْتِيكُمْ فِي النِّسَاءِ، وَالْمَتْلُوُّ فِي الْكِتَابِ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ أَيْضًا، وَذَلِكَ الْمَتْلُوُّ فِي الْكِتَابِ هُوَ قَوْلِهِ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى [النِّسَاءِ: 3] . وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ سَأَلُوا عَنْ أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَحْوَالِ النِّسَاءِ، فَمَا كَانَ مِنْهَا غَيْرَ مُبَيَّنِ الْحُكْمِ ذَكَرَ أَنَّ اللَّه يُفْتِيهِمْ فِيهَا، وَمَا كَانَ مِنْهَا مُبَيَّنَ الْحُكْمِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ ذَكَرَ أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ الْمَتْلُوَّةَ تُفْتِيهِمْ فِيهَا. وَجَعَلَ دَلَالَةَ الْكِتَابِ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ إِفْتَاءً مِنَ الْكِتَابِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ فِي الْمَجَازِ الْمَشْهُورِ: إِنَّ كِتَابَ اللَّه بَيَّنَ لَنَا هَذَا الْحُكْمَ، وَكَمَا جَازَ هَذَا جَازَ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ/ كِتَابَ اللَّه أَفْتَى بِكَذَا. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ مبتدأ وفِي الْكِتابِ خَبَرُهُ، وَهِيَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَعْظِيمُ حَالِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي تُتْلَى عَلَيْهِمْ وَأَنَّ الْعَدْلَ وَالْإِنْصَافَ فِي حُقُوقِ الْيَتَامَى مِنْ عَظَائِمِ الْأُمُورِ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى الَّتِي يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا، وَالْمُخِلُّ بِهَا ظَالِمٌ مُتَهَاوِنٌ بِمَا عَظَّمَهُ اللَّه. وَنَظِيرُهُ فِي تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ قَوْلِهِ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزُّخْرُفِ: 4] . الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَجْرُورٌ عَلَى الْقَسَمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: قُلِ اللَّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ، وَأُقْسِمُ بِمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ، وَالْقَسَمُ أَيْضًا بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ.

وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ فِيهِنَّ وَالْمَعْنَى: قُلِ اللَّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا الْوَجْهُ بَعِيدٌ جِدًّا نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي عَطْفَ الْمُظْهَرِ عَلَى الْمُضْمَرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جائز كما شرحناه في قوله تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ [النِّسَاءِ: 1] وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ أَفْتَى وَيُفْتِي أَيْضًا فِيمَا يُتْلَى مِنَ الْكِتَابِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى يُفْتِي فِيمَا سَأَلُوا مِنَ الْمَسَائِلِ. بقي هاهنا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: بِمَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ فِي يَتامَى النِّساءِ. قُلْنَا: هُوَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ صِلَةُ يُتْلى أَيْ يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي مَعْنَاهُنَّ، وَأَمَّا فِي سَائِرِ الْوُجُوهِ فَبَدَلٌ مِنْ فِيهِنَّ. السُّؤَالُ الثَّانِي: الْإِضَافَةُ فِي يَتامَى النِّساءِ مَا هِيَ؟ الْجَوَابُ: قَالَ الْكُوفِيُّونَ: مَعْنَاهُ فِي النِّسَاءِ الْيَتَامَى، فَأُضِيفَتِ الصِّفَةُ إِلَى الِاسْمِ، كَمَا تَقُولُ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَحَقُّ الْيَقِينِ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: إِضَافَةُ الصِّفَةِ إِلَى الِاسْمِ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَا يُقَالُ مَرَرْتُ بِطَالِعَةِ الشَّمْسِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصِّفَةَ وَالْمَوْصُوفَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَإِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مُحَالٌ. وَهَذَا التَّعْلِيلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ قَدْ يَبْقَى بِدُونِ الْوَصْفِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ غَيْرُ الصِّفَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْبَصْرِيِّينَ فَرَّعُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَقَالُوا: النِّسَاءُ فِي الْآيَةِ غَيْرُ الْيَتَامَى، وَالْمُرَادُ بِالنِّسَاءِ أُمَّهَاتُ الْيَتَامَى أُضِيفَتْ إِلَيْهِنَّ أَوْلَادُهُنَّ الْيَتَامَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ أُمِّ كُحَّةَ، وَكَانَتْ لَهَا يَتَامَى. ثُمَّ قَالَ: اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مَا فُرِضَ لَهُنَّ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي مِيرَاثِ الْيَتَامَى وَالصِّغَارِ، وَعَلَى قَوْلِ الْبَاقِينَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مَا كُتِبَ/ لَهُنَّ الصَّدَاقُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذَا يَحْتَمِلُ الرَّغْبَةَ وَالنَّفْرَةَ، فَإِنْ حَمَلْتَهُ عَلَى الرَّغْبَةِ كَانَ الْمَعْنَى: وَتَرْغَبُونَ فِي أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ، وَإِنْ حَمَلْتَهُ عَلَى النَّفْرَةِ كَانَ الْمَعْنَى: وَتَرْغَبُونَ عَنْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لِدَمَامَتِهِنَّ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ تَزْوِيجُ الصَّغِيرَةِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا بَلَغْنَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا: أَنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ زَوَّجَ بِنْتَ أَخِيهِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ مِنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ، فَخَطَبَهَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شعبة ورغب أمها في المال، فجاؤا إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ قُدَامَةُ: أَنَا عَمُّهَا وَوَصِيُّ أَبِيهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهَا صَغِيرَةٌ وَإِنَّهَا لَا تُزَوَّجُ إِلَّا بِإِذْنِهَا، وَفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ابْنِ عُمَرَ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ أَكْثَرُ مِنْ ذِكْرِ رَغْبَةِ الْأَوْلِيَاءِ فِي نِكَاحِ الْيَتِيمَةِ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَهُوَ مَجْرُورٌ مَعْطُوفٌ عَلَى يَتَامَى النِّسَاءِ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ الْأَطْفَالَ وَلَا النِّسَاءَ، وَإِنَّمَا يُوَرِّثُونَ الرِّجَالَ الَّذِينَ بَلَغُوا إِلَى الْقِيَامِ بِالْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ دُونَ الْأَطْفَالِ وَالنِّسَاءِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَهُوَ مَجْرُورٌ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ يُفْتِيكُمْ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ وَفِي الْمُسْتَضْعَفِينَ وَفِي أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً يُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ وَلَا يَضِيعُ عِنْدَ اللَّه مِنْهُ شيء.

[سورة النساء (4) : آية 128]

[سورة النساء (4) : آية 128] وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ يُفْتِيهِمْ بِهِ فِي النِّسَاءِ مِمَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ شَبِيهَةٌ بِقَوْلِهِ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ [التَّوْبَةِ: 6] وَقَوْلِهِ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما [الحجرات: 9] وهاهنا ارْتَفَعَ امْرَأَةٌ بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ خافَتْ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الَّتِي تَلَوْنَاهَا واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: خَافَتْ أَيْ عَلِمَتْ، وَقَالَ آخَرُونَ: ظَنَّتْ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، بَلِ الْمُرَادُ نَفْسُ الْخَوْفِ إِلَّا أَنَّ الْخَوْفَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ ظُهُورِ الْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُقُوعِ الْخَوْفِ، وَتِلْكَ الأمارات هاهنا أن يقول الرجل لا مرأته: إِنَّكِ دَمِيمَةٌ أَوْ شَيْخَةٌ وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ شَابَّةً جَمِيلَةً، وَالْبَعْلُ هُوَ الزَّوْجُ، وَالْأَصْلُ فِي الْبَعْلِ هُوَ السَّيِّدُ، ثُمَّ سُمِّيَ الزَّوْجُ بِهِ لِكَوْنِهِ كَالسَّيِّدِ لِلزَّوْجَةِ، وَيُجْمَعُ الْبَعْلُ عَلَى بُعُولَةٍ، وَقَدْ سَبَقَ هَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [الْبَقَرَةِ: 228] وَالنُّشُوزُ يَكُونُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَهُوَ كَرَاهَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ النَّشَزِ وَهُوَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ، وَنُشُوزُ الرَّجُلِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهَا وَيَعْبِسَ وَجْهُهُ فِي وَجْهِهَا وَيَتْرُكَ مُجَامَعَتَهَا وَيُسِيءَ عِشْرَتَهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ابْنِ أَبِي السَّائِبِ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ وَلَهُ مِنْهَا أَوْلَادٌ وَكَانَتْ شَيْخَةً فَهَمَّ بِطَلَاقِهَا، فَقَالَتْ لَا تُطَلِّقْنِي وَدَعْنِي أَشْتَغِلْ بِمَصَالِحِ أَوْلَادِي وَاقْسِمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ لَيَالِيَ قَلِيلَةً، فَقَالَ الزَّوْجُ: إِنْ كان الأمر كذلك فَهُوَ أَصْلَحُ لِي. وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ أَرَادَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَالْتَمَسَتْ أَنْ يُمْسِكَهَا وَيَجْعَلَ نَوْبَتَهَا لِعَائِشَةَ، فَأَجَازَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ وَلَمْ يُطَلِّقْهَا. وَالثَّالِثُ: رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: نَزَلَتْ فِي الْمَرْأَةِ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ وَيُرِيدُ الرَّجُلُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهَا غَيْرَهَا، فَتَقُولُ: أَمْسِكْنِي وَتَزَوَّجْ بِغَيْرِي، وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْقَسْمِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً الْمُرَادُ بِالنُّشُوزِ إِظْهَارُ الْخُشُونَةِ فِي الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ أَوْ فِيهِمَا، وَالْمُرَادُ مِنَ الْإِعْرَاضِ السُّكُوتُ عَنِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْمُدَاعَاةِ وَالْإِيذَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِعْرَاضِ يَدُلُّ دَلَالَةً قَوِيَّةً عَلَى النَّفْرَةِ وَالْكَرَاهَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يُصْلِحا بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَحَذْفِ الْأَلِفِ مِنَ الْإِصْلَاحِ، وَالْبَاقُونَ يَصَّالَحَا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالصَّادِ، وَالْأَلِفِ بَيْنَ الصَّادِ وَاللَّامِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ مِنَ التَّصَالُحِ، وَيَصَّالَحَا فِي الْأَصْلِ هُوَ يَتَصَالَحَا، فَسَكَنَتِ التَّاءُ وَأُدْغِمَتْ فِي الصَّادِ. وَنَظِيرُهُ قوله/ ادَّارَكُوا فِيها [الْأَعْرَافِ: 38] أَصْلُهُ تَدَارَكُوا سَكَنَتِ التَّاءُ وَأُبْدِلَتْ بِالدَّالِ لِقُرْبِ الْمَخْرَجِ وَأُدْغِمَتْ فِي الدَّالِ، ثُمَّ اجْتُلِبَتِ الْهَمْزَةُ لِلِابْتِدَاءِ بِهَا فَصَارَ ادَّارَكُوا.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَنْ قَرَأَ يُصْلِحا فَوَجْهُهُ أَنَّ الْإِصْلَاحَ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَالتَّشَاجُرِ مُسْتَعْمَلٌ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ [الْبَقَرَةِ: 182] وَقَالَ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النِّسَاءِ: 114] وَمَنْ قَرَأَ يَصَّالَحَا وَهُوَ الِاخْتِيَارُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ قَالَ: أَنْ يَصَّالَحَا مَعْنَاهُ يَتَوَافَقَا، وَهُوَ أَلْيَقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّه: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ صَالَحَا، وَانْتَصَبَ صُلْحًا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَصْدَرِ وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ: تَصَالَحَا، وَلَكِنَّهُ وَرَدَ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نُوحٍ: 17] وَقَوْلِهِ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 8] وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرِّتَاعَا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الصُّلْحُ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي شَيْءٍ يَكُونُ حَقًّا لَهُ، وَحَقُّ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ إِمَّا الْمَهْرُ أَوِ النَّفَقَةُ أَوِ الْقَسْمُ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي تَقْدِرُ الْمَرْأَةُ عَلَى طَلَبِهَا مِنَ الزَّوْجِ شَاءَ أَمْ أَبَى، أَمَّا الْوَطْءُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْوَطْءِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذَا الصُّلْحُ عِبَارَةٌ عَمَّا إِذَا بَذَلَتِ الْمَرْأَةُ كُلَّ الصَّدَاقِ أَوْ بَعْضَهُ لِلزَّوْجِ أَوْ أَسْقَطَتْ عَنْهُ مُؤْنَةَ النَّفَقَةِ، أَوْ أَسْقَطَتْ عَنْهُ الْقَسْمَ، وَكَانَ غَرَضُهَا مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا زَوْجُهَا، فَإِذَا وَقَعَتِ الْمُصَالَحَةُ عَلَى ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الصُّلْحُ مُفْرَدٌ دَخَلَ فِيهِ حَرْفُ التَّعْرِيفِ، وَالْمُفْرَدُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ حَرْفُ التَّعْرِيفِ هَلْ يُفِيدُ الْعُمُومَ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَصَرْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُهُ، وَذَكَرْنَا الدَّلَائِلَ الْكَثِيرَةَ فِيهِ. وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ يُفِيدُ الْعُمُومَ فَهَهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ هُنَاكَ مَعْهُودٌ سَابِقٌ فَحَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ أَوْلَى أَمْ عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ؟ الْأَصَحُّ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ ضَرُورَةَ أَنَّا لَوْ لَمْ نَقُلْ ذَلِكَ لَصَارَ مُجْمَلًا وَيَخْرُجُ عَنِ الْإِفَادَةِ، فَإِذَا حَصَلَ هُنَاكَ مَعْهُودٌ سَابِقٌ انْدَفَعَ هَذَا الْمَحْذُورُ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ، يَعْنِي الصُّلْحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ خَيْرٌ مِنَ الْفُرْقَةِ، وَالْأَوَّلُونَ تَمَسَّكُوا بِهِ فِي مَسْأَلَةِ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ جَائِزٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَمَّا نَحْنُ فَقَدَ بَيَّنَّا أَنَّ حَمْلَ هَذَا/ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ أَوْلَى، فَانْدَفَعَ اسْتِدْلَالُهُمْ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ إِلَّا أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ مُؤَكِّدٌ لِلْمَطْلُوبِ فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلًا قَوْلَهُ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا فَقَوْلُهُ فَلا جُناحَ يُوهِمُ أَنَّهُ رُخْصَةٌ، وَالْغَايَةُ فِيهِ ارْتِفَاعُ الْإِثْمِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الصُّلْحَ كَمَا أَنَّهُ لَا جُنَاحَ فِيهِ وَلَا إِثْمَ فَكَذَلِكَ فِيهِ خَيْرٌ عَظِيمٌ وَمَنْفَعَةٌ كَثِيرَةٌ، فَإِنَّهُمَا إِذَا تَصَالَحَا عَلَى شَيْءٍ فَذَاكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يُقِيمَا عَلَى النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ.

[سورة النساء (4) : آية 129]

فَاعْلَمْ أَنَّ الشُّحَّ هُوَ الْبُخْلُ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الشُّحَّ جُعِلَ كَالْأَمْرِ الْمُجَاوِرِ لِلنُّفُوسِ اللَّازِمِ لَهَا، يَعْنِي أَنَّ النُّفُوسَ مَطْبُوعَةٌ عَلَى الشُّحِّ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَشِحُّ بِبَذْلِ نَصِيبِهَا وَحَقِّهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الزَّوْجَ يَشِحُّ بِأَنْ يَقْضِيَ عُمُرَهُ مَعَهَا مَعَ دَمَامَةِ وَجْهِهَا وَكِبَرِ سِنِّهَا وَعَدَمِ حُصُولِ اللَّذَّةِ بِمُجَانَسَتِهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْأَزْوَاجِ، يَعْنِي وَإِنْ تُحْسِنُوا بِالْإِقَامَةِ عَلَى نِسَائِكُمْ وَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ وَتَيَقَّنْتُمُ النُّشُوزَ وَالْإِعْرَاضَ وَمَا يُؤَدِّي إِلَى الْأَذَى وَالْخُصُومَةِ فَإِنَّ اللَّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالتَّقْوَى خَبِيرًا، وَهُوَ يُثِيبُكُمْ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ، يَعْنِي وَإِنْ يُحْسِنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا إِلَى صَاحِبِهِ وَيَحْتَرِزْ عَنِ الظُّلْمِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِغَيْرِهِمَا، يَعْنِي إِنْ تُحْسِنُوا فِي الْمُصَالَحَةِ بَيْنَهُمَا وَتَتَّقُوا الْمَيْلَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَحَكَى صَاحِبُ الْكَشَّافِ: أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حِطَّانَ الْخَارِجِيَّ كَانَ مِنْ أَدَمِّ بَنِي آدَمَ، وَامْرَأَتُهُ مِنْ أَجْمَلِهِمْ، فَنَظَرَتْ إِلَيْهِ يَوْمًا ثُمَّ قَالَتْ: الْحَمْدُ للَّه، فَقَالَ مالك؟ فَقَالَتْ حَمِدْتُ اللَّه عَلَى أَنِّي وَإِيَّاكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِأَنَّكَ رُزِقْتَ مِثْلِي فَشَكَرْتَ، وَرُزِقْتُ مِثْلَكَ فَصَبَرْتُ، وَقَدْ وَعَدَ اللَّه بِالْجَنَّةِ عِبَادَهُ الشاكرين والصابرين. [سورة النساء (4) : آية 129] وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: لَنْ تَقْدِرُوا عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُنَّ فِي مَيْلِ الطِّبَاعِ، وَإِذَا لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِ لَمْ تَكُونُوا مُكَلَّفِينَ بِهِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ وَلَا جَائِزِ الْوُقُوعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِشْكَالَ لا زم عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ وَفِي الدَّوَاعِي. الثَّانِي: لَا تَسْتَطِيعُونَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُنَّ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْحُبِّ يُوجِبُ التَّفَاوُتَ فِي نَتَائِجِ الْحُبِّ، لِأَنَّ الْفِعْلَ بِدُونِ الدَّاعِي وَمَعَ قِيَامِ/ الصَّارِفِ مُحَالٌ. ثُمَّ قَالَ: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ لَسْتُمْ مَنْهِيِّينَ عَنْ حُصُولِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَيْلِ الْقَلْبِيِّ لِأَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ وُسْعِكُمْ، وَلَكِنَّكُمْ مَنْهِيُّونَ عَنْ إِظْهَارِ ذَلِكَ التَّفَاوُتِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. رَوَى الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ وَيَقُولُ: «هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِمَا لَا أَمْلِكُ» . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ يَعْنِي تَبْقَى لَا أَيِّمًا وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ، كَمَا أَنَّ الشَّيْءَ الْمُعَلَّقَ لَا يَكُونُ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا عَلَى السَّمَاءِ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: فَتَذَرُوهَا كَالْمَسْجُونَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ يَمِيلُ مَعَ إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ» وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بَعَثَ إِلَى أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَالٍ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِلَى كُلِّ أَزْوَاجِ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عُمَرُ بِمِثْلِ هَذَا؟ فَقَالُوا: لَا، بَعَثَ إِلَى الْقُرَشِيَّاتِ بِمِثْلِ هَذَا، وَإِلَى غَيْرِهِنَّ بِغَيْرِهِ، فَقَالَتْ لِلرَّسُولِ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ لِعُمَرَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعدل بيننا في الْقِسْمَةِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ، فَرَجَعَ الرَّسُولُ فَأَخْبَرَهُ فَأَتَمَّ لَهُنَّ جَمِيعًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تُصْلِحُوا بِالْعَدْلِ فِي الْقَسْمِ وَتَتَّقُوا الْجَوْرَ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً مَا حَصَلَ فِي الْقَلْبِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى بَعْضِهِنَّ دُونَ الْبَعْضِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَإِنْ تُصْلِحُوا مَا مَضَى مِنْ مَيْلِكُمْ وَتَتَدَارَكُوهُ بِالتَّوْبَةِ، وَتَتَّقُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَنْ مِثْلِهِ غفر اللَّه

[سورة النساء (4) : آية 130]

لَكُمْ ذَلِكَ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْلَى لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْمَيْلِ الْقَلْبِيِّ لَمَّا كَانَ خَارِجًا عَنِ الْوُسْعِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَاجَةٌ إِلَى الْمَغْفِرَةِ. [سورة النساء (4) : آية 130] وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ جَوَازَ الصُّلْحِ إِنْ أَرَادَا ذَلِكَ، فَإِنْ رَغِبَا فِي الْمُفَارَقَةِ فاللَّه سُبْحَانَهُ بَيَّنَ جَوَازَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا، وَوَعَدَ لَهُمَا أَنْ يُغْنِيَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، أَوْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يُغْنِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِزَوْجٍ خَيْرٍ مِنْ زَوْجِهِ الْأَوَّلِ، وَيَعِيشُ أَهْنَأَ مِنْ عَيْشِهِ الْأَوَّلِ. ثُمَّ قَالَ: وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ يُغْنِيهِ مِنْ/ سَعَتِهِ وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ وَاسِعًا، وَإِنَّمَا جَازَ وَصْفُ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَاسِعُ الرِّزْقِ، وَاسِعُ الْفَضْلِ، وَاسِعُ الرَّحْمَةِ، وَاسِعُ الْقُدْرَةِ، وَاسِعُ الْعِلْمِ، فَلَوْ ذَكَرَ تعالى أنه واسع في كذا لا ختص ذَلِكَ بِذَلِكَ الْمَذْكُورِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْوَاسِعَ وَمَا أَضَافَهُ إِلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَاسِعٌ فِي جَمِيعِ الْكَمَالَاتِ، وَتَحْقِيقُهُ فِي الْعَقْلِ أَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ، وَإِمَّا مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِإِيجَادِ اللَّه الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كُلُّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ فَإِنَّمَا يُوجَدُ بِإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ، فَلَزِمَ مِنْ هَذَا كَوْنُهُ وَاسِعَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالْفَضْلِ وَالْجُودِ، وَالْكَرَمِ. وَقَوْلُهُ حَكِيماً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ فِيمَا حَكَمَ وَوَعَظَ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يُرِيدُ فِيمَا حَكَمَ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ إِمْسَاكِهَا بمعروف أو تسريح بإحسان. [سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 134] وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) وَفِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يُغْنِي كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ، وَأَنَّهُ وَاسِعٌ أَشَارَ إِلَى مَا هُوَ كَالتَّفْسِيرِ لِكَوْنِهِ وَاسِعًا فَقَالَ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَعْنِي/ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ وَاسِعَ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْجُودِ وَالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ بَيَّنَ أَنَّهُ مَا أَمَرَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لاحتياجه إلى أعمال العباد، لأن مالك السموات وَالْأَرْضِ كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إِلَى عَمَلِ الْإِنْسَانِ مَعَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْقُصُورِ، بَلْ إِنَّمَا أَمَرَ بِهَا رِعَايَةً لِمَا هُوَ الْأَحْسَنُ لَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ أَنَّ الْأَمْرَ بِتَقْوَى اللَّه شَرِيعَةٌ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ لَمْ يَلْحَقْهَا نَسْخٌ وَلَا تَبْدِيلٌ، بَلْ هُوَ وَصِيَّةُ اللَّه فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ مِنْ قَبْلِكُمْ فِيهِ وَجْهَانِ: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِوَصَّيْنَا، يَعْنِي وَلَقَدْ وَصَّيْنَا مَنْ قَبْلَكُمُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِأُوتُوا، يَعْنِي الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَصَّيْنَاهُمْ بِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ وَإِيَّاكُمْ بِالْعَطْفِ عَلَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْكِتَابُ اسْمٌ لِلْجِنْسِ يَتَنَاوَلُ الْكُتُبَ السَّمَاوِيَّةَ، وَالْمُرَادُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ كَقَوْلِكَ: أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ أَوْصَيْتُكَ أَنِ افْعَلْ كَذَا وَأَنْ تَفْعَلَ كَذَا، وَيُقَالُ: أَلَمْ آمُرْكَ أَنِ ائْتِ زَيْدًا، وَأَنْ تَأْتِيَ زَيْدًا، قَالَ تَعَالَى: أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ [الْأَنْعَامِ: 14] وَقَالَ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ [النَّمْلِ: 91] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً قَوْلُهُ وَإِنْ تَكْفُرُوا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ اتَّقُوا اللَّهَ وَالْمَعْنَى: أَمَرْنَاهُمْ وَأَمَرْنَاكُمْ بِالتَّقْوَى، وَقُلْنَا لَهُمْ وَلَكُمْ: إِنْ تَكْفُرُوا فإن للَّه ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ. وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقُهُمْ وَمَالِكُهُمْ وَالْمُنْعِمُ عَلَيْهِمْ بِأَصْنَافِ النِّعَمِ كُلِّهَا، فَحَقُّ كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَكُونَ مُنْقَادًا لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ يَرْجُو ثَوَابَهُ وَيَخَافُ عِقَابَهُ، وَالثَّانِي: أَنَّكُمْ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ للَّه مَا فِي سَمَاوَاتِهِ وَمَا فِي أَرْضِهِ مِنْ أَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ مَنْ يَعْبُدُهُ وَيَتَّقِيهِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ غَنِيًّا عَنْ خَلْقِهِمْ وَعَنْ عِبَادَتِهِمْ، وَمُسْتَحِقًّا لِأَنْ يُحْمَدَ لِكَثْرَةِ نِعَمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْمَدْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَهُوَ فِي ذَاتِهِ مَحْمُودٌ سَوَاءٌ حَمِدُوهُ أَوْ لَمْ يَحْمَدُوهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَكْرِيرِ قَوْلُهُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِتَقْرِيرِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: فَأَوَّلُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النساء: 130] وَالْمُرَادُ مِنْهُ كَوْنُهُ تَعَالَى جَوَادًا مُتَفَضِّلًا، فَذَكَرَ عَقِيبَهُ قَوْلَهُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَالْغَرَضُ تَقْرِيرُ كَوْنِهِ وَاسِعَ الْجُودِ وَالْكَرَمِ، وَثَانِيهَا: / قَالَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ طَاعَاتِ الْمُطِيعِينَ وَعَنْ ذُنُوبِ الْمُذْنِبِينَ، فَلَا يَزْدَادُ جَلَالُهُ بِالطَّاعَاتِ، وَلَا يَنْقُصُ بِالْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ، فَذَكَرَ عَقِيبَهُ قَوْلَهُ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَقْرِيرُ كَوْنِهِ غَنِيًّا لِذَاتِهِ عَنِ الْكُلِّ، وَثَالِثُهَا: قَالَ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى الْإِفْنَاءِ وَالْإِيجَادِ، فَإِنْ عَصَيْتُمُوهُ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعْدَامِكُمْ وَإِفْنَائِكُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَعَلَى أَنْ يُوجِدَ قَوْمًا آخَرِينَ يَشْتَغِلُونَ بِعُبُودِيَّتِهِ وتعظيمه، فالغرض هاهنا تَقْدِيرُ كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ، وَإِذَا كَانَ الدَّلِيلُ الْوَاحِدُ دَلِيلًا عَلَى مَدْلُولَاتٍ كَثِيرَةٍ فَإِنَّهُ يَحْسُنُ ذِكْرُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَحَدِ تِلْكَ الْمَدْلُولَاتِ، ثُمَّ يَذْكُرُهُ مَرَّةً أُخْرَى لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الثَّانِي، ثُمَّ يَذْكُرُهُ ثَالِثًا لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْمَدْلُولِ الثَّالِثِ، وَهَذِهِ الْإِعَادَةُ أَحْسَنُ وَأَوْلَى مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِ الدَّلِيلِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِأَنَّ عِنْدَ إِعَادَةِ ذِكْرِ الدَّلِيلِ يَخْطُرُ فِي الذِّهْنِ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْمَدْلُولِ، فَكَانَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِذَلِكَ الْمَدْلُولِ أَقْوَى وَأَجْلَى، فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا التَّكْرِيرَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالْكَمَالِ. وَأَيْضًا فَإِذَا أَعَدْتَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَفَرَّعْتَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ إِثْبَاتَ صِفَةٍ أُخْرَى مِنْ صِفَاتِ جَلَالِ اللَّه تَنَبَّهَ الذهن حينئذ

[سورة النساء (4) : آية 135]

لكون تخليق السموات وَالْأَرْضِ دَالًّا عَلَى أَسْرَارٍ شَرِيفَةٍ وَمَطَالِبَ جَلِيلَةٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَجْتَهِدُ الْإِنْسَانُ فِي التَّفَكُّرِ فِيهَا وَالِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِهَا وَصِفَاتِهَا عَلَى صِفَاتِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ الْغَرَضُ الْكُلِّيُّ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ صَرْفَ الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِ اللَّه إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّه، وَكَانَ هَذَا التَّكْرِيرُ مِمَّا يُفِيدُ حُصُولَ هَذَا الْمَطْلُوبِ وَيُؤَكِّدُهُ، لَا جَرَمَ كَانَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالْكَمَالِ. وَقَوْلُهُ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مَوْصُوفًا بِالْقُدْرَةِ عَلَى جَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ، فَإِنَّ قُدْرَتَهُ عَلَى الْأَشْيَاءِ لَوْ كَانَتْ حَادِثَةً لَافْتَقَرَ حُدُوثُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ إِلَى قُدْرَةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَالْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ بِجِهَادِهِمُ الْغَنِيمَةَ فَقَطْ مُخْطِئُونَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ اللَّه ثَوَابَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلِمَ اكْتَفَى بِطَلَبِ ثَوَابِ الدُّنْيَا مَعَ أَنَّهُ كَانَ كَالْعَدَمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَلَوْ كَانَ عَاقِلًا لَطَلَبَ ثَوَابَ الْآخِرَةِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ ذَلِكَ وَيَحْصُلَ لَهُ ثَوَابُ الدُّنْيَا عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ دَخَلَ الْفَاءُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ وَعِنْدَهُ تَعَالَى ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ سَوَاءٌ حَصَلَتْ هَذِهِ الْإِرَادَةُ أَوْ لَمْ تَحْصُلْ؟ قُلْنَا: تَقْرِيرُ الْكَلَامِ: فَعِنْدَ اللَّه ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَهُ إِنْ أَرَادَهُ اللَّه تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَتَعَلَّقُ الْجَزَاءُ بِالشَّرْطِ. ثُمَّ قَالَ: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً يَعْنِي يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَطْلُبُونَ مِنَ الْجِهَادِ سِوَى الْغَنِيمَةِ وَيَرَى أَنَّهُمْ لَا يَسْعَوْنَ فِي الْجِهَادِ وَلَا يَجْتَهِدُونَ فِيهِ إِلَّا عِنْدَ تَوَقُّعِ الْفَوْزِ بِالْغَنِيمَةِ، وَهَذَا كَالزَّجْرِ مِنْهُ تَعَالَى لهم عن هذه الأعمال. [سورة النساء (4) : آية 135] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) [في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي اتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ النِّسَاءِ وَالنُّشُوزِ وَالْمُصَالَحَةِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْأَزْوَاجِ عَقَّبَهُ بِالْأَمْرِ بِالْقِيَامِ بِأَدَاءِ حُقُوقِ اللَّه تَعَالَى وَبِالشَّهَادَةِ لِإِحْيَاءِ حُقُوقِ اللَّه، وَبِالْجُمْلَةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنِ اشْتَغَلْتَ بِتَحْصِيلِ مُشْتَهَيَاتِكَ كُنْتَ لِنَفْسِكَ لَا للَّه، وَإِنِ اشْتَغَلْتَ بِتَحْصِيلِ مَأْمُورَاتِ اللَّه كُنْتَ للَّه لَا لِنَفْسِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ أَعْلَى وَأَشْرَفُ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَأْكِيدًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّكَالِيفِ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا مَنَعَ النَّاسَ عَنْ أَنْ يُقَصِّرُوا عَنْ طَلَبِ ثَوَابِ الدُّنْيَا وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا طَالِبِينَ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ ذَكَرَ عَقِيبَهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَبَيَّنَ أَنَّ كَمَالَ سَعَادَةِ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ للَّه وَفِعْلُهُ للَّه وَحَرَكَتُهُ للَّه وَسُكُونُهُ للَّه حَتَّى يَصِيرَ مِنَ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي آخِرِ مَرَاتِبِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَأَوَّلِ مَرَاتِبِ الْمَلَائِكَةِ، فَأَمَّا إِذَا عَكَسَ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ كَانَ مِثْلَ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مُنْتَهَى أَمْرِهَا وِجْدَانُ عَلَفٍ، أَوِ السَّبُعِ الَّذِي غَايَةُ أَمْرِهِ إِيذَاءُ حَيَوَانٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَمْرُ النَّاسِ بِالْقِسْطِ كَمَا قَالَ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى [النساء: 3] وأمرهم بالإشهاد عن دَفْعِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُمْ

بَعْدَ ذَلِكَ بِبَذْلِ النَّفْسِ وَالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّه، وَأَجْرَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ قِصَّةَ طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ وَاجْتِمَاعَ قَوْمِهِ عَلَى الذَّبِّ عَنْهُ بِالْكَذِبِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الْيَهُودِيِّ/ بِالْبَاطِلِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِالْمُصَالَحَةِ مَعَ الزَّوْجَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مِنَ اللَّه لِعِبَادِهِ بِأَنْ يَكُونُوا قَائِمِينَ بِالْقِسْطِ، شَاهِدِينَ للَّه عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، بَلْ وَعَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَالْمُؤَكِّدِ لِكُلِّ مَا جَرَى ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّكَالِيفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَوَّامُ مُبَالَغَةٌ مِنْ قَائِمٍ، وَالْقِسْطُ الْعَدْلُ، فَهَذَا أَمْرٌ مِنْهُ تَعَالَى لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ بِأَنْ يَكُونُوا مُبَالِغِينَ فِي اخْتِيَارِ الْعَدْلِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْجَوْرِ وَالْمَيْلِ، وَقَوْلُهُ شُهَداءَ لِلَّهِ أَيْ تُقِيمُونَ شَهَادَاتِكُمْ لِوَجْهِ اللَّه كَمَا أُمِرْتُمْ بِإِقَامَتِهَا، وَلَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ آبَائِكُمْ أَوْ أَقَارِبِكُمْ، وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ لَهَا تَفْسِيرَانِ: الأول: أن يقر على نَفْسَهُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ كَالشَّهَادَةِ فِي كَوْنِهِ مُوجِبًا إِلْزَامَ الْحَقِّ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ وَبَالًا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَأَقَارِبِكُمْ، وَذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مَنْ يُتَوَقَّعُ ضَرَرُهُ مِنْ سُلْطَانٍ ظَالِمٍ أَوْ غَيْرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي نَصْبِ شُهَداءَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: عَلَى الْحَالِ مِنْ قَوَّامِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَبَرٌ عَلَى أَنَّ كُونُوا لَهَا خَبَرَانِ، وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِقَوَّامِينَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا قَدَّمَ الْأَمْرَ بِالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ عَلَى الْأَمْرِ بِالشَّهَادَةِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ عَادَتُهُمْ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ غَيْرَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْفُسِهِمْ تَرَكُوهُ حَتَّى أَنَّ أَقْبَحَ الْقَبِيحِ إِذَا صَدَرَ عَنْهُمْ كَانَ فِي مَحَلِّ الْمُسَامَحَةِ وَأَحْسَنِ الْحُسْنِ، وَإِذَا صَدَرَ عَنْ غَيْرِهِمْ كَانَ فِي مَحَلِّ الْمُنَازَعَةِ فاللَّه سُبْحَانَهُ نَبَّهَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سُوءِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ أَوَّلًا، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْغَيْرِ ثَانِيًا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْحَسَنَةَ أَنْ تَكُونَ مُضَايَقَةُ الْإِنْسَانِ مَعَ نَفْسِهِ فَوْقَ مُضَايَقَتِهِ مَعَ الْغَيْرِ. الثَّانِي: أَنَّ الْقِيَامَ بِالْقِسْطِ عِبَارَةٌ عَنْ دَفْعِ ضَرَرِ الْعِقَابِ عَنِ الْغَيْرِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْغَيْرِ، الثَّالِثُ: أَنَّ الْقِيَامَ بِالْقِسْطِ فِعْلٌ، وَالشَّهَادَةَ قَوْلٌ، وَالْفِعْلُ أَقْوَى مِنَ الْقَوْلِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ [آلِ عِمْرَانَ: 18] فَقَدَّمَ الشَّهَادَةَ على القيام بالقسط، وهاهنا قَدَّمَ الْقِيَامَ بِالْقِسْطِ، فَمَا الْفَرْقُ؟ قُلْنَا: شَهَادَةُ اللَّه تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقًا لِلْمَخْلُوقَاتِ، وَقِيَامُهُ بِالْقِسْطِ عِبَارَةٌ عَنْ رِعَايَةِ الْقَوَّامِينَ بِالْعَدْلِ فِي تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَيَلْزَمُ هُنَاكَ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ مُقَدَّمَةً عَلَى الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ، أَمَّا فِي حَقِّ الْعِبَادِ فَالْقِيَامُ بِالْقِسْطِ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مُرَاعِيًا لِلْعَدْلِ وَمُبَايِنًا لِلْجَوْرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا لَمْ يَكُنِ الْإِنْسَانُ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ شَهَادَتُهُ عَلَى الْغَيْرِ مَقْبُولَةً، فَثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ في قوله شَهِدَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الشَّهَادَةُ مُقَدَّمَةً عَلَى الْقِيَامِ بالقسط والواجب هاهنا أَنَّ تَكُونَ الشَّهَادَةُ مُتَأَخِّرَةً عَنِ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ، / وَمَنْ تَأَمَّلَ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْرَارَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَيْهَا إِلَّا بِالتَّأْيِيدِ الْإِلَهِيِّ واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما أَيْ إِنْ يَكُنِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ إِمَّا لِطَلَبِ رِضَا الْغَنِيِّ أَوِ التَّرَحُّمِ عَلَى الْفَقِيرِ، فاللَّه أَوْلَى بِأُمُورِهِمَا وَمَصَالِحِهِمَا، وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: فاللَّه أَوْلَى بِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فِي مَعْنَى إِنْ يَكُنْ أَحَدُ هَذَيْنِ إِلَّا أَنَّهُ بَنَى الضَّمِيرَ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، أَيْ اللَّه أَوْلَى بِالْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبي فاللَّه أَوْلَى بِهِمْ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ

[سورة النساء (4) : آية 136]

أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّه: إِنْ يَكُنْ غَنِيٌّ أَوْ فَقِيرٌ، عَلَى (كَانَ) التَّامَّةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَالْمَعْنَى اتْرُكُوا مُتَابَعَةَ الْهَوَى حَتَّى تَصِيرُوا مَوْصُوفِينَ بِصِفَةِ الْعَدْلِ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّ الْعَدْلَ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ مُتَابَعَةِ الْهَوَى، وَمَنْ تَرَكَ أَحَدَ النَّقِيضَيْنِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْآخَرُ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى لِأَجْلِ أَنْ تَعْدِلُوا يَعْنِي اتْرُكُوا مُتَابَعَةَ الْهَوَى لِأَجْلِ أَنْ تَعْدِلُوا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَفِي الْآيَةِ قِرَاءَتَانِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَإِنْ تَلْوُوا بِوَاوَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ تَلُوا وَأَمَّا قِرَاءَةُ تَلْوُوا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الدَّفْعِ وَالْإِعْرَاضِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوَاهُ حَقَّهُ إِذَا مَطَلَهُ وَدَفَعَهُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوَى الشَّيْءَ إِذَا فَتَلَهُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: الْتَوَى هَذَا الْأَمْرُ إِذَا تَعَقَّدَ وَتَعَسَّرَ تَشْبِيهًا بِالشَّيْءِ الْمُنْفَتِلِ، وَأَمَّا تَلُوا فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ وِلَايَةَ الشَّيْءِ إِقْبَالٌ عَلَيْهِ وَاشْتِغَالٌ بِهِ، وَالْمَعْنَى أَنْ تُقْبِلُوا عَلَيْهِ فَتُتِمُّوهُ أَوْ تُعْرِضُوا عَنْهُ فَإِنَّ اللَّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا فَيُجَازَى الْمُحْسِنُ الْمُقْبِلُ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءُ الْمُعْرِضُ بِإِسَاءَتِهِ، وَالْحَاصِلُ: إِنْ تَلْوُوا عَنْ إِقَامَتِهَا أَوْ تُعْرِضُوا عَنْ إِقَامَتِهَا، وَالثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: تَلُوا أَصْلُهُ تَلْوُوا ثُمَّ قُلِبَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً، ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى السَّاكِنِ الَّذِي قَبْلَهَا فَصَارَ تَلْوُوا وَهَذَا أَضْعَفُ الْوَجْهَيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فَهُوَ تَهْدِيدٌ ووعيد للمذنبين ووعد بالإحسان للمطيعين. [سورة النساء (4) : آية 136] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) [في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى قوله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ إِلَّا إِذَا كَانَ رَاسِخَ الْقَدَمِ فِي الْإِيمَانِ بِالْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْأَحْكَامَ الْكَثِيرَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ذَكَرَ عَقِيبَهَا آيَةَ الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ أَمْرٌ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُحَالٌ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ وُجُوهًا وَهِيَ مُنْحَصِرَةٌ فِي قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ المراد بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الْمُسْلِمُونَ، ثُمَّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ تَفْرِيعًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا دُومُوا عَلَى الْإِيمَانِ وَاثْبُتُوا عَلَيْهِ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ آمِنُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [مُحَمَّدٍ: 19] مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ. وَثَانِيهَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ آمِنُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ. وَثَالِثُهَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِحَسَبِ الِاسْتِدْلَالَاتِ الْجَمِيلَةِ آمِنُوا بِحَسَبِ الدَّلَائِلِ التَّفْصِيلِيَّةِ. وَرَابِعُهَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِالدَّلَائِلِ التَّفْصِيلِيَّةِ باللَّه وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ آمِنُوا بِأَنَّ كُنْهَ عَظَمَةِ اللَّه لَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ عُقُولُكُمْ، وَكَذَلِكَ أَحْوَالُ الْمَلَائِكَةِ وَأَسْرَارُ الْكُتُبِ وَصِفَاتُ الرُّسُلِ لَا تَنْتَهِي إِلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ عُقُولُنَا. وَخَامِسُهَا: رُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّا نُؤْمِنُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَبِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ وَعُزَيْرٍ، وَنَكْفُرُ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ آمِنُوا باللَّه وَبِرُسُلِهِ وَبِمُحَمَّدٍ وبكتابه القرآن

وَبِكُلِّ كِتَابٍ كَانَ قَبْلَهُ، فَقَالُوا: لَا نَفْعَلُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَكُلُّهُمْ آمَنُوا. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ آمَنُوا لَيْسَ هُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَفِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ تَفْرِيعًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخِطَابَ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَالتَّقْدِيرُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ وَعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ آمِنُوا بِمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْخِطَابَ مَعَ الْمُنَافِقِينَ، وَالتَّقْدِيرُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللِّسَانِ آمِنُوا بِالْقَلْبِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ/ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [الْمَائِدَةِ: 41] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَكَفَرُوا آخِرَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ آمِنُوا أَيْضًا آخِرَهُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ تَقْدِيرُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى آمِنُوا باللَّه، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ رَجَّحُوا الْقَوْلَ الْأَوَّلَ لِأَنَّ لَفْظَ الْمُؤْمِنِ لَا يَتَنَاوَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إِلَّا الْمُسْلِمِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالْبَاقُونَ (نَزَّلَ وَأَنْزَلَ) بِالْفَتْحِ، فَمَنْ ضَمَّ فَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ [الْأَنْعَامِ: 114] وَمَنْ فَتَحَ فَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وقوله وَأَنْزَلْنا (إِلَيْكَ) الذِّكْرَ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كِلَاهُمَا حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ الضم أفخم كما في قوله وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ [هُودٍ: 44] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْإِيمَانِ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: باللَّه، وَثَانِيهَا: بِرَسُولِهِ، وَثَالِثُهَا: بِالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ، وَرَابِعُهَا: بِالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ، وَذَكَرَ فِي الْكُفْرِ أُمُورًا خَمْسَةً: فَأَوَّلُهَا الْكُفْرُ باللَّه، وَثَانِيهَا الْكُفْرُ بِمَلَائِكَتِهِ، وَثَالِثُهَا الْكُفْرُ بِكُتُبِهِ، وَرَابِعُهَا الْكُفْرُ بِرُسُلِهِ، وَخَامِسُهَا الْكُفْرُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قُدِّمَ فِي مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ ذِكْرَ الرَّسُولِ عَلَى ذِكْرِ الْكِتَابِ، وَفِي مَرَاتِبِ الْكُفْرِ قَلَبَ الْقَضِيَّةَ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ فِي مَرْتَبَةِ النُّزُولِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ إِلَى الْخَلْقِ كَانَ الْكِتَابُ مُقَدَّمًا عَلَى الرَّسُولِ وَفِي مَرْتَبَةِ الْعُرُوجِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى الْخَالِقِ يَكُونُ الرَّسُولُ مُقَدَّمًا عَلَى الْكِتَابِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ ذَكَرَ فِي مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ أُمُورًا ثَلَاثَةً: الْإِيمَانَ باللَّه وَبِالرَّسُولِ وَبِالْكُتُبِ، وَذَكَرَ فِي مَرَاتِبِ الْكُفْرِ أُمُورًا خَمْسَةً: الْكُفْرَ باللَّه وَبِالْمَلَائِكَةِ وَبِالْكُتُبِ وَبِالرُّسُلِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِيمَانَ باللَّه وَبِالرُّسُلِ وَبِالْكُتُبِ مَتَى حَصَلَ فَقَدْ حَصَلَ الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَا مَحَالَةَ، إِذْ رُبَّمَا ادَّعَى الْإِنْسَانُ أَنَّهُ يُؤْمِنُ باللَّه وَبِالرُّسُلِ وَبِالْكُتُبِ، ثُمَّ إِنَّهُ يُنْكِرُ الْمَلَائِكَةَ وَيُنْكِرُ الْيَوْمَ الْآخِرَ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يَجْعَلُ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِي الْمَلَائِكَةِ وَفِي الْيَوْمِ الْآخِرِ مَحْمُولَةً عَلَى التَّأْوِيلِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الِاحْتِمَالُ قَائِمًا لَا جَرَمَ نَصَّ أَنَّ مُنْكِرَ الْمَلَائِكَةِ وَمُنْكِرَ الْقِيَامَةِ كَافِرٌ باللَّه. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ قِيلَ لِأَهْلِ الْكُتُبِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ مَعَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا/ كَافِرِينَ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بَلْ مُؤْمِنِينَ بِهِمَا؟ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِمَا فَقَطْ وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِكُلِّ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْكُتُبِ، فَأُمِرُوا أَنْ يُؤْمِنُوا بِكُلِّ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، الثَّانِي: أَنَّ إِيمَانَهُمْ بِبَعْضِ الْكُتُبِ دُونَ الْبَعْضِ لَا يَصِحُّ لأن طريق الإيمان

[سورة النساء (4) : الآيات 137 إلى 138]

وهو الْمُعْجِزَةُ، فَإِذَا كَانَتِ الْمُعْجِزَةُ حَاصِلَةً فِي الْكُلِّ كَانَ تَرْكُ الْإِيمَانِ بِالْبَعْضِ طَعْنًا فِي الْمُعْجِزَةِ، وَإِذَا حَصَلَ الطَّعْنُ فِي الْمُعْجِزَةِ امْتَنَعَ التَّصْدِيقُ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا [النِّسَاءِ: 150، 151] . السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لِمَ قَالَ نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وأَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ. وَالْجَوَابُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً بِخِلَافِ الْكُتُبِ قَبْلَهُ. وَأَقُولُ: الْكَلَامُ فِي هَذَا سَبَقَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ [آلِ عِمْرَانَ: 3، 4] . السُّؤَالُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ لَفْظٌ مُفْرَدٌ، وَأَيُّ الْكُتُبِ هُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ؟ الْجَوَابُ: أَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ فيصلح للعموم. [سورة النساء (4) : الآيات 137 الى 138] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً] فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْإِيمَانِ وَرَغَّبَ فِيهِ بَيَّنَ فَسَادَ طَرِيقَةِ مَنْ يَكْفُرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِيهَا أَقْوَالًا كَثِيرَةً: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الَّذِينَ يَتَكَرَّرُ مِنْهُمُ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ مَرَّاتٍ وَكَرَّاتٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا وَقْعَ لِلْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ، إذا لَوْ كَانَ لِلْإِيمَانِ وَقْعٌ وَرُتْبَةٌ فِي قُلُوبِهِمْ لَمَا تَرَكُوهُ بِأَدْنَى سَبَبٍ، وَمَنْ لَا يَكُونُ للإيمان في قبله وَقْعٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ باللَّه إِيمَانًا صَحِيحًا مُعْتَبَرًا فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِبْعَادُ وَالِاسْتِغْرَابُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَكَذَلِكَ نَرَى الْفَاسِقَ الَّذِي يَتُوبُ ثُمَّ يَرْجِعُ ثُمَّ يَتُوبُ ثُمَّ يَرْجِعُ فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُرْجَى مِنْهُ الثَّبَاتُ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ يموت على الفسق، فكذا هاهنا. الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْيَهُودُ آمَنُوا بِالتَّوْرَاةِ وَبِمُوسَى، ثُمَّ كَفَرُوا بِعُزَيْرٍ، ثُمَّ آمَنُوا بِدَاوُدَ، ثُمَّ كَفَرُوا بِعِيسَى، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا عِنْدَ مَقْدَمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. الثَّالِثُ: قَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ الْمُنَافِقُونَ، فَالْإِيمَانُ الْأَوَّلُ إِظْهَارُهُمُ الْإِسْلَامَ، وَكُفْرُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ نِفَاقُهُمْ وَكَوْنُ بَاطِنِهِمْ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِمْ، وَالْإِيمَانُ الثَّانِي هُوَ أَنَّهُمْ كُلَّمَا لَقُوا جَمْعًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا إِنَّا مُؤْمِنُونَ وَالْكَفْرُ الثَّانِي هُوَ أَنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا عَلَى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن، وَازْدِيَادُهُمْ فِي الْكُفْرِ هُوَ جِدُّهُمْ وَاجْتِهَادُهُمْ فِي اسْتِخْرَاجِ أَنْوَاعِ الْمَكْرِ وَالْكَيْدِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَإِظْهَارُ الْإِيمَانِ قَدْ يُسَمَّى إِيمَانًا قَالَ تَعَالَى وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [الْبَقَرَةِ: 221] قَالَ الْقَفَّالُ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بَيَانَ هَذَا الْعَدَدِ، بَلِ الْمُرَادُ تَرَدُّدُهُمْ كَمَا قَالَ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ [النِّسَاءِ: 143] قَالَ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. الرَّابِعُ: قَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَصَدُوا تَشْكِيكَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانُوا يُظْهِرُونَ

الْإِيمَانَ تَارَةً، وَالْكُفْرَ أُخْرَى عَلَى مَا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 72] وَقَوْلُهُ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي ذَلِكَ إِلَى حَدِّ الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ بِالْإِسْلَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَهَذَا يُبْطِلُ مَذْهَبَ الْقَائِلِينَ بِالْمُوَافَاةِ، وَهِيَ أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَمُوتَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَهُمْ يُجِيبُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّا نَحْمِلُ الْإِيمَانَ عَلَى إِظْهَارِ الْإِيمَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ أَيْضًا كَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ مُتَنَافِيَانِ، فَإِذَا قَبِلَ أَحَدُهُمَا التَّفَاوُتَ فَكَذَلِكَ الْآخَرُ، وَذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ مَاتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ. الثَّانِي: أَنَّهُمُ ازْدَادُوا كُفْرًا بِسَبَبِ/ ذُنُوبٍ أَصَابُوهَا حَالَ كُفْرِهِمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمَّا كَانَتْ إِصَابَةُ الذُّنُوبِ وَقْتَ الْكُفْرِ زِيَادَةً فِي الْكُفْرِ فَكَذَلِكَ إِصَابَةُ الطَّاعَاتِ وَقْتَ الْإِيمَانِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ زِيَادَةً فِي الْإِيمَانِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الكفر إنما حصلت بقولهم إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [الْبَقَرَةِ: 14] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِالدِّينِ أَعْظَمُ دَرَجَاتِ الْكُفْرِ وَأَقْوَى مَرَاتِبِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَفِيهِ سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِمَا قَبْلَ التَّوْبَةِ أَوْ بِمَا بَعْدَهَا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْكُفْرَ قَبْلَ التَّوْبَةِ غَيْرُ مَذْكُورٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَحِينَئِذٍ تَضِيعُ هَذِهِ الشَّرَائِطُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْكُفْرَ بَعْدَ التَّوْبَةِ مَغْفُورٌ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَلْفِ مرة، فعلى كلا التقديرين فالسؤال لا زم. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّا لَا نَحْمِلُ قَوْلَهُ إِنَّ الَّذِينَ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، بَلْ نَحْمِلُهُ عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَقْوَامٌ مُعَيَّنُونَ عَلِمَ اللَّه تَعَالَى مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ وَلَا يَتُوبُونَ عَنْهُ قَطُّ فَقَوْلُهُ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ إِخْبَارٌ عَنْ مَوْتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ زَالَ السُّؤَالُ. الثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ كَثِيرَ الِانْتِقَالِ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ لَمْ يَكُنْ لِلْإِسْلَامِ فِي قَلْبِهِ وَقْعٌ وَلَا عِظَمٌ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ مِثْلِ هَذَا الْإِنْسَانِ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ عَنِ الْكُفْرِ، وَقَوْلُ السَّائِلِ: إِنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَضِيعُ الصِّفَاتُ الْمَذْكُورَةُ. قُلْنَا: إِنَّ إِفْرَادَهُمْ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ أَفْحَشُ وَخِيَانَتَهُمْ أَعْظَمُ وَعُقُوبَتَهُمْ فِي الْقِيَامَةِ أَقْوَى فَجَرَى هَذَا مَجْرَى قَوْلِهِ وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الْأَحْزَابِ: 7] خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَجْلِ التشريف، وكذلك قوله وَمَلائِكَتِهِ ... وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: 98] . السُّؤَالُ الثَّانِي: فِي قَوْلِهِ لِيَغْفِرَ لَهُمْ اللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ فَقَوْلُهُ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ يُفِيدُ نَفْيَ التَّأْكِيدِ، وَهَذَا غَيْرُ لَائِقٍ بِهَذَا الْمَوْضِعِ إِنَّمَا اللَّائِقُ بِهِ تَأْكِيدُ النَّفْيِ، فَمَا الْوَجْهُ فِيهِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ نَفْيَ التَّأْكِيدِ إِذَا ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةَ فِي تَأْكِيدِ النَّفْيِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَهْدِ الْكَافِرَ إِلَى الْإِيمَانِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَهُمْ أَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ زِيَادَةِ اللُّطْفِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَهْدِيهِ فِي الْآخِرَةِ إِلَى الْجَنَّةِ.

[سورة النساء (4) : آية 139]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ حَمَلَ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ كُفْرَهُمْ وَلَا/ يَهْدِيهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَكَمَا لَا يُوصِلُهُمْ إِلَى دَارِ الثَّوَابِ فَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يُوصِلُهُمْ إِلَى أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَقَوْلُهُ بَشِّرِ تَهَكُّمٌ بِهِمْ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: تَحِيَّتُكَ الضرب، وعتابك السيف. ثم قال تعالى: [سورة النساء (4) : آية 139] الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) الَّذِينَ: نَصْبٌ عَلَى الذَّمِّ، بِمَعْنَى أُرِيدُ الَّذِينَ، أَوْ رَفْعٌ بِمَعْنَى هُمُ الَّذِينَ، وَاتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ: الْمُنَافِقُونَ، وَبِالْكَافِرِينَ الْيَهُودُ، وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يُوَالُونَهُمْ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ أَمْرَ مُحَمَّدٍ لَا يَتِمُّ، فَيَقُولُ الْيَهُودُ بِأَنَّ الْعِزَّةَ وَالْمَنَعَةَ لَهُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَصْلُ الْعِزَّةِ فِي اللُّغَةِ الشِّدَّةُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَرْضِ الصُّلْبَةِ الشَّدِيدَةِ: عَزَازٌ، وَيُقَالُ: قَدِ اسْتَعَزَّ الْمَرَضُ عَلَى الْمَرِيضِ إِذَا اشْتَدَّ مَرَضُهُ وَكَادَ أَنْ يَهْلِكَ، وَعَزَّ الْهَمُّ اشْتَدَّ، وَمِنْهُ عَزَّ عَلَيَّ أَنْ يَكُونَ كَذَا بِمَعْنَى اشْتَدَّ، وَعَزَّ الشَّيْءُ إِذَا قَلَّ حَتَّى لَا يَكَادَ يُوجَدُ لِأَنَّهُ اشْتَدَّ مَطْلَبُهُ، وَاعْتَزَّ فُلَانٌ بِفُلَانٍ إِذَا اشْتَدَّ ظَهْرُهُ بِهِ، وَشَاةٌ عَزُوزٌ الَّتِي يَشْتَدُّ حَلْبُهَا وَيَصْعُبُ وَالْعِزَّةُ الْقُوَّةُ مَنْقُولَةٌ مِنَ الشِّدَّةِ لِتَقَارُبِ مَعْنَيَيْهِمَا. وَالْعَزِيزُ الْقَوِيُّ الْمَنِيعُ بِخِلَافِ الذَّلِيلِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ الْعِزَّةَ وَالْقُوَّةَ بِسَبَبِ اتِّصَالِهِمْ بِالْيَهُودِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَ عَلَيْهِمْ هَذَا الرَّأْيَ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا كَالْمُنَاقِضِ لِقَوْلِهِ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقين: 8] . قُلْنَا: الْقُدْرَةُ الْكَامِلَةُ للَّه، وَكُلُّ مَنْ سِوَاهُ فَبِإِقْدَارِهِ صَارَ قَادِرًا، وَبِإِعْزَازِهِ صَارَ عَزِيزًا، فَالْعِزَّةُ الْحَاصِلَةُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ لَمْ تَحْصُلْ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى، فَكَانَ الْأَمْرُ عند التحقيق أن العزة جميعا للَّه. ثم قال تعالى: [سورة النساء (4) : آية 140] وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا فِي مَجَالِسِهِمْ يخوضون في ذكر القرآن ويستهزؤن بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الْأَنْعَامِ: 68]

[سورة النساء (4) : آية 141]

وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، ثُمَّ إِنَّ أَحْبَارَ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ كَانُوا يَفْعَلُونَ مِثْلَ فِعْلِ الْمُشْرِكِينَ، وَالْقَاعِدُونَ مَعَهُمْ وَالْمُوَافِقُونَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، فَقَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلْمُنَافِقِينَ إِنَّهُ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها وَالْمَعْنَى إِذَا سَمِعْتُمُ الْكُفْرَ بِآيَاتِ اللَّه وَالِاسْتِهْزَاءَ بِهَا، وَلَكِنْ أَوْقَعَ فِعْلَ السَّمَاعِ عَلَى الْآيَاتِ وَالْمُرَادُ بِهِ سَمَاعُ الِاسْتِهْزَاءِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّه يُلَامُ. وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّه حَالَ مَا يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا قَالَ الْكِسَائِيُّ، فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِ الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ. وَالْمَعْنَى: أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ أَنْتُمْ مِثْلُ أُولَئِكَ الْأَحْبَارِ فِي الْكُفْرِ. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ رَضِيَ بِالْكُفْرِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ رَضِيَ بِمُنْكَرٍ يَرَاهُ وَخَالَطَ أَهْلَهُ وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْ كَانَ فِي الْإِثْمِ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشِرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تعالى ذكر لفظ المثل هاهنا، هَذَا إِذَا كَانَ الْجَالِسُ رَاضِيًا بِذَلِكَ الْجُلُوسِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ سَاخِطًا لِقَوْلِهِمْ وَإِنَّمَا جَلَسَ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ وَالْخَوْفِ فَالْأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلِهَذِهِ الدَّقِيقَةِ قُلْنَا بِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُجَالِسُونَ الْيَهُودَ، وَكَانُوا يَطْعَنُونَ فِي الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ كَانُوا كَافِرِينَ مِثْلَ أُولَئِكَ الْيَهُودِ، وَالْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ كَانُوا بِمَكَّةَ يُجَالِسُونَ الْكُفَّارَ الَّذِينَ كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا بَاقِينَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُجَالِسُونَ الْيَهُودَ مَعَ الِاخْتِيَارِ، وَالْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُجَالِسُونَ الْكُفَّارَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَقَّقَ كَوْنَ الْمُنَافِقِينَ مِثْلَ الْكَافِرِينَ فِي الْكُفْرِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً. يُرِيدُ كَمَا أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّه فِي الدُّنْيَا فَكَذَلِكَ يَجْتَمِعُونَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَرَادَ جَامِعٌ بِالتَّنْوِينِ لِأَنَّهُ بَعْدُ مَا جَمَعَهُمْ وَلَكِنْ حَذَفَ التَّنْوِينَ اسْتِخْفَافًا من اللفظ وهو مراد في الحقيقة. [سورة النساء (4) : آية 141] الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ إِمَّا بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ، وَإِمَّا صِفَةٌ لِلْمُنَافِقِينَ، وَإِمَّا نَصْبٌ عَلَى الذَّمِّ، وَقَوْلُهُ يَتَرَبَّصُونَ أَيْ يَنْتَظِرُونَ مَا يَحْدُثُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ أَيْ ظُهُورٌ عَلَى الْيَهُودِ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ، أَيْ فَأَعْطُونَا قِسْمًا مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ يَعْنِي الْيَهُودَ نَصِيبٌ، أَيْ ظَفْرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ، يُقَالُ: اسْتَحْوَذَ عَلَى فُلَانٍ، أَيْ غَلَبَ عَلَيْهِ وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى أَلَمْ نَغْلِبْكُمْ وَنَتَمَكَّنْ مِنْ قَتْلِكُمْ وَأَسْرِكُمْ ثُمَّ لَمْ نَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ ثَبَّطْنَاهُمْ عَنْكُمْ وَخَيَّلْنَا لَهُمْ مَا ضَعُفَتْ بِهِ قُلُوبُهُمْ وَتَوَانَيْنَا فِي مُظَاهَرَتِهِمْ عَلَيْكُمْ فَهَاتُوا لَنَا نَصِيبًا مِمَّا أَصَبْتُمْ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ وَالْيَهُودَ كَانُوا قَدْ هَمُّوا بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ حَذَّرُوهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَبَالَغُوا فِي تَنْفِيرِهِمْ عَنْهُ وَأَطْمَعُوهُمْ أَنَّهُ سَيَضْعُفُ أَمْرُ مُحَمَّدٍ وَسَيَقْوَى أَمْرُكُمْ، فَإِذَا اتَّفَقَتْ لَهُمْ صَوْلَةٌ عَلَى

[سورة النساء (4) : آية 142]

الْمُسْلِمِينَ قَالَ الْمُنَافِقُونَ: أَلَسْنَا غَلَبْنَاكُمْ عَلَى رَأْيِكُمْ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَمَنَعْنَاكُمْ مِنْهُ وَقُلْنَا لَكُمْ بِأَنَّهُ سَيَضْعُفُ أَمْرُهُ وَيَقْوَى/ أَمْرُكُمْ، فَلَمَّا شَاهَدْتُمْ صِدْقَ قَوْلِنَا فَادْفَعُوا إِلَيْنَا نَصِيبًا مِمَّا وَجَدْتُمْ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَمُنُّونَ عَلَى الْكَافِرِينَ بِأَنَّا نَحْنُ الَّذِينَ أَرْشَدْنَاكُمْ إِلَى هَذِهِ الْمَصَالِحِ، فَادْفَعُوا إِلَيْنَا نَصِيبًا مِمَّا وَجَدْتُمْ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ سَمَّى ظَفْرَ الْمُسْلِمِينَ فَتْحًا وَظَفْرَ الْكُفَّارِ نَصِيبًا؟ قُلْنَا: تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَاحْتِقَارًا لِحَظِّ الْكَافِرِينَ، لِأَنَّ ظَفْرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمْرٌ عَظِيمٌ تُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ حَتَّى تَنْزِلَ الْمَلَائِكَةُ بِالْفَتْحِ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّه، وَأَمَّا ظَفْرُ الْكَافِرِينَ فَمَا هُوَ إِلَّا حَظٌّ دَنِيءٌ يَنْقَضِي وَلَا يَبْقَى مِنْهُ إِلَّا الذَّمُّ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقُوبَةُ فِي الْعَاقِبَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَيْ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ: وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا وَضَعَ السَّيْفَ فِي الدُّنْيَا عَنِ الْمُنَافِقِينَ، بَلْ أَخَّرَ عِقَابَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي الْقِيَامَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْحُجَّةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ حُجَّةَ الْمُسْلِمِينَ غَالِبَةٌ عَلَى حُجَّةِ الْكُلِّ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَغْلِبَهُمْ بِالْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ. الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّهُ عَامٌّ فِي الْكُلِّ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه مَسَائِلُ: مِنْهَا أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ وَأَحْرَزَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَمْلِكْهُ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا مُسْلِمًا بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ. [سورة النساء (4) : آية 142] إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ الْخِدَاعِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَةِ: 9] قَالَ الزَّجَّاجُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ يُخادِعُونَ اللَّهَ أَيْ يُخَادِعُونَ رَسُولَ اللَّه، أَيْ يُظْهِرُونَ لَهُ الْإِيمَانَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ كَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْحِ: 10] وَقَوْلُهُ وَهُوَ خادِعُهُمْ أَيْ مُجَازِيهِمْ بِالْعِقَابِ عَلَى خِدَاعِهِمْ. قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَادِعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِمْ نُورًا كَمَا يُعْطِي الْمُؤْمِنِينَ فَإِذَا وَصَلُوا إِلَى الصِّرَاطِ انْطَفَأَ نُورُهُمْ وَبَقُوا فِي الظُّلْمَةِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ [البقرة: 17] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يَعْنِي وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ قَامُوا كُسَالَى، أَيْ مُتَثَاقِلِينَ مُتَبَاطِئِينَ وَهُوَ مَعْنَى الْكَسَلِ فِي اللُّغَةِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ الْكَسَلِ أَنَّهُمْ يَسْتَثْقِلُونَهَا/ فِي الْحَالِ وَلَا يَرْجُونَ بِهَا ثَوَابًا وَلَا مِنْ تَرْكِهَا عِقَابًا، فَكَانَ الدَّاعِي لِلتَّرْكِ قَوِيًّا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَالدَّاعِي إِلَى الْفِعْلِ لَيْسَ إِلَّا خَوْفُ النَّاسِ، وَالدَّاعِي إِلَى الْفِعْلِ مَتَى كَانَ كَذَلِكَ وَقَعَ الْفِعْلُ عَلَى وَجْهِ الْكَسَلِ وَالْفُتُورِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ كُسالى بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهَا جَمْعُ كَسْلَانٍ كسكارى في سكران.

[سورة النساء (4) : آية 143]

ثم قال تعالى: يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَقُومُونَ إِلَى الصَّلَاةِ إِلَّا لِأَجْلِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، لَا لِأَجْلِ الدِّينِ. فَإِنْ قِيلَ: ما معنى المراءاة وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ. قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَائِيَ يُرِيهِمْ عَمَلَهُ وَهُمْ يُرُونَهُ اسْتِحْسَانَ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَفِي قَوْلِهِ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِ اللَّه الصَّلَاةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ إِلَّا قَلِيلًا، لِأَنَّهُ مَتَى لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْأَجَانِبِ لَمْ يُصَلُّوا، وَإِذَا كَانُوا مَعَ النَّاسِ فَعِنْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ يَتَكَلَّفُونَ حَتَّى يَصِيرُوا غَائِبِينَ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِ اللَّه أَنَّهُمْ كَانُوا فِي صَلَاتِهِمْ لَا يَذْكُرُونَ اللَّه إِلَّا قَلِيلًا، وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ مِثْلُ التَّكْبِيرَاتِ، فَأَمَّا الَّذِي يَخْفَى مِثْلُ الْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحَاتِ فَهُمْ لَا يَذْكُرُونَهَا. الثَّالِثُ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَذْكُرُونَ اللَّه فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ وَقْتَ الصَّلَاةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الصَّلَاةِ إِلَّا قَلِيلًا نَادِرًا. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَهَكَذَا نَرَى كَثِيرًا مِنَ الْمُتَظَاهِرِينَ بِالْإِسْلَامِ، وَلَوْ صَحِبْتَهُ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ لَمْ تَسْمَعْ مِنْهُ تَهْلِيلَةً وَلَا تَسْبِيحَةً، وَلَكِنَّ حَدِيثَ الدُّنْيَا يَسْتَغْرِقُ بِهِ أَيَّامَهُ وَأَوْقَاتَهُ لَا يَفْتُرُ عَنْهُ. الرَّابِعُ: قَالَ قَتَادَةُ إِنَّمَا قِيلَ: إِلَّا قَلِيلًا، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَقْبَلْهُ، وَمَا رَدَّهُ اللَّه تَعَالَى فَكَثِيرُهُ قَلِيلٌ، وَمَا قَبِلَهُ اللَّه فَقَلِيلُهُ كثير ثم قال تعالى: [سورة النساء (4) : آية 143] مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) [في قوله تَعَالَى مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مُذَبْذَبِينَ. إِمَّا حَالٌ من قوله يُراؤُنَ أو من قوله لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 142] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الذَّمِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مُذَبْذَبِينَ: أَيْ مُتَحَيِّرِينَ، وَحَقِيقَةُ الْمُذَبْذَبِ الَّذِي يُذَبُّ عَنْ كِلَا الْجَانِبَيْنِ، أَيْ/ يُرَدُّ وَيُدْفَعُ فَلَا يَقَرُّ فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّ الذبذبة فيها تكرير وليس فِي الذَّبِّ، فَكَانَ الْمَعْنَى كُلَّمَا مَالَ إِلَى جَانِبٍ ذُبَّ عَنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ السَّبَبَ فِي ذلك أن الفعل يتوقف على الداعي، فإذا كَانَ الدَّاعِي إِلَى الْفِعْلِ هُوَ الْأَغْرَاضُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ كَثُرَ التَّذَبْذُبُ وَالِاضْطِرَابُ، لِأَنَّ مَنَافِعَ هَذَا الْعَالَمِ وَأَسْبَابَهُ مُتَغَيِّرَةٌ سَرِيعَةُ التَّبَدُّلِ، وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ تَبَعًا لِلدَّاعِي، وَالدَّاعِي تَبَعًا لِلْمَقْصُودِ ثُمَّ إِنَّ الْمَقْصُودَ سَرِيعُ التَّبَدُّلِ وَالتَّغَيُّرِ لَزِمَ وُقُوعُ التَّغَيُّرِ فِي الْمَيْلِ وَالرَّغْبَةِ، وَرُبَّمَا تَعَارَضَتِ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفُ فَيَبْقَى الْإِنْسَانُ فِي الْحَيْرَةِ وَالتَّرَدُّدِ. أَمَّا مَنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ فِي فِعْلِهِ إِنْشَاءَ الْخَيْرَاتِ الْبَاقِيَةِ، وَاكْتِسَابَ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَعَلِمَ أَنَّ تِلْكَ الْمَطَالِبَ أُمُورٌ بَاقِيَةٌ بَرِيئَةٌ عَنِ التَّغَيُّرِ وَالتَّبَدُّلِ لَا جَرَمَ كَانَ هَذَا الْإِنْسَانُ ثَابِتًا رَاسِخًا فَلِهَذَا الْمَعْنَى وَصَفَ اللَّه تَعَالَى أَهْلَ الْإِيمَانِ بِالثَّبَاتِ فَقَالَ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [إِبْرَاهِيمَ: 27] وَقَالَ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْدِ: 28] وَقَالَ: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الْفَجْرِ: 26] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ مُذَبْذَبِينَ بِكَسْرِ الذَّالِ الثَّانِيَةِ، وَالْمَعْنَى يُذَبْذِبُونَ قُلُوبَهُمْ أَوْ دِينَهُمْ أَوْ رَأْيَهُمْ، بِمَعْنَى يَتَذَبْذَبُونَ كَمَا جَاءَ صَلْصَلَ وَتَصَلْصَلَ بِمَعْنًى، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ: مُتَذَبْذِبِينَ، وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: مُدَبْدِبِينَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ تَارَةً يَكُونُونَ فِي دُبَّةٍ وَتَارَةً فِي أُخْرَى، فَلَا يَبْقَوْنَ عَلَى دُبَّةٍ

[سورة النساء (4) : آية 144]

وَاحِدَةٍ، وَالدُّبَّةُ الطَّرِيقَةُ وَهِيَ الَّتِي تَدِبُّ فِيهَا الدَّوَابُّ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ بَيْنَ ذلِكَ أَيْ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، أَوْ بَيْنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَكَلِمَةُ ذلِكَ يُشَارُ بِهِ إِلَى الْجَمَاعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [الْبَقَرَةِ: 68] وَذِكْرُ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ قَدْ جَرَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 139] وَإِذَا جَرَى ذِكْرُ الْفَرِيقَيْنِ فَقَدْ جَرَى ذِكْرُ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ مُخْلَصِينَ وَلَا مُشْرِكِينَ مُصَرِّحِينَ بِالشِّرْكِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْحَيْرَةَ فِي الدِّينِ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِإِيجَادِ اللَّه تَعَالَى وَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ مُذَبْذَبِينَ يَقْتَضِي فَاعِلًا قَدْ ذَبْذَبَهُمْ وَصَيَّرَهُمْ مُتَحَيِّرِينَ مُتَرَدِّدِينَ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ الدَّوَاعِي الْمُتَعَارِضَةُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّرَدُّدِ وَالْحَيْرَةِ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ التَّرَدُّدَ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ أَصْلًا، وَمَنْ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَتَأَمَّلَ فِي أَحْوَالِهِ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ الذَّبْذَبَةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ فَاعِلٍ، وَثَبَتَ أَنَّ فَاعِلَهَا لَيْسَ هُوَ الْعَبْدُ ثَبَتَ أَنَّ فَاعِلَهَا هُوَ اللَّه تَعَالَى، فَثَبَتَ أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّه تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ يَقْتَضِي ذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ طَرِيقَةِ الْمُؤْمِنِينَ/ وَطَرِيقَةِ الْكَافِرِينَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى مَا ذَمَّهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْكُفَّارِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. قُلْنَا: إِنَّ طَرِيقَةَ الْكُفَّارِ وَإِنْ كَانَتْ خَبِيثَةً إِلَّا أَنَّ طَرِيقَةَ النِّفَاقِ أَخْبَثُ مِنْهَا، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ الْكُفَّارَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي آيَتَيْنِ، وَذَمَّ الْمُنَافِقِينَ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ طَرِيقَةَ النِّفَاقِ أَخْبَثُ مِنْ طَرِيقَةِ الْكُفَّارِ، فَهُوَ تَعَالَى إِنَّمَا ذَمَّهُمْ لَا لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْكُفْرَ، بَلْ لِأَنَّهُمْ عَدَلُوا عَنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَخْبَثُ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذِكْرَ هَذَا الْكَلَامِ عَقِيبَ قَوْلِهِ مُذَبْذَبِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الذَّبْذَبَةَ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَإِلَّا لَمْ يَتَّصِلْ هَذَا الْكَلَامُ بِمَا قَبْلَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَضَلَّهُ عَنِ الدِّينِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: مَعْنَى هَذَا الْإِضْلَالِ سَلْبُ الْأَلْطَافَ، أَوْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ حُكْمِ اللَّه عَلَيْهِ بِالضَّلَالِ، أَوْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يُضِلُّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ قد تكلمنا عليها مرارا. [سورة النساء (4) : آية 144] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَمَّ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ مَرَّةً إِلَى الْكَفَرَةِ وَمَرَّةً إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَقِرُّوا مَعَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ نَهَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَفْعَلُوا مِثْلَ فِعْلِهِمْ فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْأَنْصَارَ بِالْمَدِينَةِ كَانَ لَهُمْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ رَضَاعٌ وَحِلْفٌ وَمَوَدَّةٌ، فَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَتَوَلَّى؟ فَقَالَ: الْمُهَاجِرِينَ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.

[سورة النساء (4) : آية 145]

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه: وَهُوَ أَنَّ هَذَا نَهْيٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُ: قَدْ بَيِّنْتُ لَكُمْ أَخْلَاقَ الْمُنَافِقِينَ وَمَذَاهِبَهُمْ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً. فَإِنْ حَمَلْنَا الْآيَةَ الْأُولَى عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ أَتُرِيدُونَ/ أَنْ تَجْعَلُوا للَّه سُلْطَانًا مُبِينًا عَلَى كَوْنِكُمْ مُنَافِقِينَ، وَالْمُرَادُ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِأَهْلِ دِينِ اللَّه وَهُمُ الرَّسُولُ وَأُمَّتُهُ، وَإِنْ حَمَلْنَا الْآيَةَ الْأُولَى عَلَى الْمُنَافِقِينَ كَانَ الْمَعْنَى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا للَّه عَلَيْكُمْ فِي عِقَابِكُمْ حُجَّةً بِسَبَبِ مُوَالَاتِكُمْ لِلْمُنَافِقِينَ ثُمَّ قَالَ تعالى: [سورة النساء (4) : آية 145] إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ اللَّيْثُ: الدَّرْكُ أَقْصَى قَعْرِ الشَّيْءِ كَالْبَحْرِ وَنَحْوِهِ، فَعَلَى هَذَا الْمُرَادُ بِالدَّرْكِ الْأَسْفَلِ أَقْصَى قَعْرِ جَهَنَّمَ، وَأَصْلُ هَذَا مِنَ الْإِدْرَاكِ بِمَعْنَى اللُّحُوقِ، وَمِنْهُ إِدْرَاكُ الطَّعَامِ وَإِدْرَاكُ الْغُلَامِ، فَالدَّرْكُ مَا يُلْحَقُ بِهِ مِنَ الطَّبَقَةِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ جَهَنَّمَ طَبَقَاتٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَشَدَّهَا أَسْفَلُهَا. قَالَ الضَّحَّاكُ: الدَّرَجُ إِذَا كَانَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَالدَّرْكُ إِذَا كَانَ بَعْضُهَا أَسْفَلَ مِنْ بَعْضٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ فِي الدَّرْكِ بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، قَالَ الزَّجَّاجُ: هُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ الشَّمْعِ وَالشَّمَعِ، إِلَّا أَنَّ الِاخْتِيَارَ فَتْحُ الرَّاءِ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: جَمْعُ الدَّرَكِ أَدْرَاكٌ كَقَوْلِهِمْ: جَمَلٌ وأجمل، وفرس وأفرس، وَجَمْعُ الدَّرْكِ أَدْرُكٌ مِثْلَ فَلْسٍ وَأَفْلُسٌ وَكَلْبٍ وَأَكْلُبٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ إِنَّهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ، وَقَالَ فِي آلِ فِرْعَوْنَ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غَافِرٍ: 46] فَأَيُّهُمَا أَشَدُّ عَذَابًا، الْمُنَافِقُونَ أَمْ آلُ فِرْعَوْنَ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ أَشَدَّ الْعَذَابِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ الْفَرِيقَانِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَمَّا كَانَ الْمُنَافِقُ أَشَدَّ عَذَابًا مِنَ الْكَافِرِ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الْكُفْرِ، وَضُمَّ إِلَيْهِ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْكُفْرِ، وَهُوَ الِاسْتِهْزَاءُ بِالْإِسْلَامِ وَبِأَهْلِهِ، وَبِسَبَبِ أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ يُمْكِنُهُمُ الِاطِّلَاعُ عَلَى أَسْرَارِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ يُخْبِرُونَ الْكُفَّارَ بِذَلِكَ فَكَانَتْ تَتَضَاعَفُ الْمِحْنَةُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ، فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ جَعَلَ اللَّه عَذَابَهُمْ أَزْيَدَ مِنْ عَذَابِ الْكُفَّارِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً وَهَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذَا عَلَى إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ فِي حَقِّ الْفُسَّاقِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْمُنَافِقِينَ بِهَذَا التَّهْدِيدِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ حَاصِلًا فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ زَجْرًا عَنِ النِّفَاقِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ نِفَاقٌ، وَلَيْسَ هَذَا اسْتِدْلَالًا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، بَلْ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الزَّجْرِ عَنِ النِّفَاقِ، فَلَوْ حَصَلَ ذَلِكَ مَعَ عَدَمِهِ لَمْ يَبْقَ زَجْرًا عَنْهُ مِنْ حيث إنه نفاق ثم قال تعالى:

[سورة النساء (4) : آية 146]

[سورة النساء (4) : آية 146] إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِيهَا تَغْلِيظَاتٌ عَظِيمَةٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ فِي إِزَالَةِ الْعِقَابِ عَنْهُمْ أُمُورًا أَرْبَعَةً: أَوَّلُهَا: التَّوْبَةُ، وَثَانِيهَا: إِصْلَاحُ الْعَمَلِ، فَالتَّوْبَةُ عَنِ الْقَبِيحِ، وَإِصْلَاحُ الْعَمَلِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْحَسَنِ، وَثَالِثُهَا: الِاعْتِصَامُ باللَّه، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُ مِنَ التَّوْبَةِ وَإِصْلَاحِ الْعَمَلِ طَلَبَ مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى لَا طَلَبَ مَصْلَحَةِ الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَطْلُوبُهُ جَلْبَ الْمَنَافِعِ وَدَفْعَ الْمَضَارِّ لَتَغَيَّرَ عَنِ التَّوْبَةِ وَإِصْلَاحِ الْعَمَلِ سَرِيعًا، أَمَّا إِذَا كَانَ مَطْلُوبُهُ مَرْضَاةَ اللَّه تَعَالَى وَسَعَادَةَ الْآخِرَةِ وَالِاعْتِصَامَ بِدِينِ اللَّه بَقِيَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْهَا. وَرَابِعُهَا: الإخلاص، والسبب فيه أنه تعالى أمرهم الأول: بِتَرْكِ الْقَبِيحِ، وَثَانِيًا: بِفِعْلِ الْحَسَنِ، وَثَالِثًا: أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُمْ فِي ذَلِكَ التَّرْكِ وَالْفِعْلِ طَلَبَ مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى، وَرَابِعًا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْغَرَضُ وَهُوَ طَلَبُ مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى خَالِصًا وَأَنْ لَا يَمْتَزِجَ بِهِ غَرَضٌ آخَرُ، فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ الْأَرْبَعَةُ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ: فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَقُلْ فَأُولَئِكَ مُؤْمِنُونَ، ثُمَّ أَوْقَعَ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي التَّشْرِيفِ لِانْضِمَامِ الْمُنَافِقِينَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً وَهَذِهِ الْقَرَائِنُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ حال المنافق شديد عند اللَّه تعالى. [سورة النساء (4) : آية 147] مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147) فيه مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَيُعَذِّبُكُمْ لِأَجْلِ التَّشَفِّي، أَمْ لِطَلَبِ النَّفْعِ، أَمْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، كُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ لِذَاتِهِ عَنِ الْحَاجَاتِ، مُنَزَّهٌ عَنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ حَمْلُ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى فِعْلِ الْحَسَنِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْقَبِيحِ، فَإِذَا أَتَيْتُمْ بِالْحَسَنِ وَتَرَكْتُمُ الْقَبِيحَ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِكَرَمِهِ أَنْ يُعَذِّبَكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى قَوْلِنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ/ مَا خَلَقَ خَلْقًا لِأَجْلِ التَّعْذِيبِ وَالْعِقَابِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ أَحَدًا لِغَرَضِ التَّعْذِيبِ، وَأَيْضًا الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَاعِلَ الشُّكْرِ وَالْإِيمَانِ هُوَ الْعَبْدُ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِعْلًا للَّه تَعَالَى، وَإِلَّا لَصَارَ التَّقْدِيرُ: مَا يَفْعَلُ اللَّه بِعَذَابِكُمْ إِذَا خَلَقَ الشُّكْرَ وَالْإِيمَانَ فِيكُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُنْتَظِمٍ، وَقَدْ سَبَقَ الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لِأَنَّا نَفْرِضُ الْكَلَامَ فِيمَنْ شَكَرَ وَآمَنَ ثُمَّ أَقْدَمَ عَلَى الشُّرْبِ أَوِ الزِّنَا، فَهَذَا وَجَبَ أَنْ لَا يُعَاقَبَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ فَإِنْ قَالُوا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، قُلْنَا: ذَكَرْنَا الْوُجُوهَ الْكَثِيرَةَ فِي هَذَا الْكِتَابِ عَلَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَقَدُّمِ الشُّكْرِ عَلَى الْإِيمَانِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أَيْ إِنْ آمَنْتُمْ وَشَكَرْتُمْ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ مُقَدَّمٌ عَلَى سَائِرِ الطَّاعَاتِ. الثَّانِي: إِذَا قُلْنَا: الْوَاوُ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا نَظَرَ فِي نَفْسِهِ رَأَى النِّعْمَةَ الْعَظِيمَةَ حَاصِلَةً فِي تَخْلِيقِهَا وَتَرْتِيبِهَا فَيَشْكُرُ شُكْرًا مُجْمَلًا، ثُمَّ

[سورة النساء (4) : آية 148]

إِذَا تَمَّمَ النَّظَرَ فِي مَعْرِفَةِ الْمُنْعِمِ آمَنَ بِهِ ثُمَّ شَكَرَ شُكْرًا مُفَصَّلًا، فَكَانَ ذَلِكَ الشُّكْرُ الْمُجْمَلُ مُقَدَّمًا عَلَى الْإِيمَانِ، فَلِهَذَا قَدَّمَهُ عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ. ثُمَّ قَالَ: وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالشُّكْرِ سَمَّى جَزَاءَ الشُّكْرِ شُكْرًا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، فَالْمُرَادُ مِنَ الشَّاكِرِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى كَوْنُهُ مُثِيبًا عَلَى الشُّكْرِ، وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ عَلِيمًا أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ، فَلَا يَقَعُ الْغَلَطُ لَهُ أَلْبَتَّةَ، فَلَا جَرَمَ يُوصِلُ الثَّوَابَ إِلَى الشاكر والعقاب إلى المعرض. [سورة النساء (4) : آية 148] لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا هَتَكَ سِتْرَ الْمُنَافِقِينَ وَفَضَحَهُمْ وَكَانَ هَتْكُ السِّتْرِ غَيْرَ لَائِقٍ بِالرَّحِيمِ الْكَرِيمِ ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعُذْرِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ إِظْهَارَ الْفَضَائِحِ/ وَالْقَبَائِحِ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ عَظُمَ ضَرَرُهُ وَكَثُرَ مَكْرُهُ وَكَيْدُهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَجُوزُ إِظْهَارُ فَضَائِحِهِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اذْكُرُوا الْفَاسِقَ بِمَا فِيهِ كَيْ تَحْذَرَهُ النَّاسُ» وَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ قَدْ كَانَ كَثُرَ مَكْرُهُمْ وَكَيْدُهُمْ وَظُلْمُهُمْ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَعَظُمَ ضَرَرُهُمْ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَ اللَّه فَضَائِحَهُمْ وَكَشَفَ أَسْرَارَهُمْ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ إِذَا تَابُوا وَأَخْلَصُوا صَارُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَتُوبُ بَعْضُهُمْ وَيُخْلِصُ فِي تَوْبَتِهِ ثُمَّ لَا يَسْلَمُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ التَّعْيِيرِ وَالذَّمِّ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ مَا صَدَرَ عَنْهُ فِي الْمَاضِي مِنَ النِّفَاقِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، وَلَا يَرْضَى بِالْجَهْرِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَأَقَامَ عَلَى نِفَاقِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكْرَهُ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ مِنْ عِبَادِهِ فِعْلَ الْقَبَائِحِ وَلَا يَخْلُقُهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَحَبَّةَ اللَّه تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنْ إِرَادَتِهِ، فَلَمَّا قَالَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ خَالِقًا لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ لَكَانَ مُرِيدًا لَهَا، وَلَوْ كَانَ مُرِيدًا لَهَا لَكَانَ قَدْ أَحَبَّ إِيجَادَ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، وَإِنَّهُ خِلَافُ الْآيَةِ. وَالْجَوَابُ: الْمَحَبَّةُ عِنْدَنَا عِبَارَةٌ عَنْ إِعْطَاءِ الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَرَادَهُ وَلَكِنَّهُ مَا أَحَبَّهُ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِنَّهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، وَلَا غَيْرَ الْجَهْرِ أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْوَصْفَ لِأَنَّ كَيْفِيَّتَهُ الْوَاقِعَةَ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا [النساء: 94] والتبين واجب في الظعن والإقامة، فكذا هاهنا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ قَوْلَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، أَوْ مُتَّصِلًا. الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ هَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ عَلَى تَقْدِيرِ: إِلَّا جَهْرَ مَنْ ظُلِمَ. ثُمَّ حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، الثاني: قال الزجاج: المصدر هاهنا أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يُحِبُّ اللَّه الْمُجَاهِرَ بِالسُّوءِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ.

[سورة النساء (4) : آية 149]

الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى لَا يُحِبُّ اللَّه الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، لَكِنَّ الْمَظْلُومَ لَهُ أَنْ يَجْهَرَ بِظُلَامَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمَظْلُومُ مَاذَا يَفْعَلُ؟ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يُحِبُّ/ اللَّه رَفْعَ الصَّوْتِ بِمَا يَسُوءُ غَيْرَهُ إِلَّا الْمَظْلُومَ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالدُّعَاءِ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ. الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَّا أَنْ يُخْبِرَ بِظُلْمِ ظَالِمِهِ لَهُ. الثَّالِثُ: لَا يَجُوزُ إِظْهَارُ الْأَحْوَالِ الْمَسْتُورَةِ الْمَكْتُومَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ سَبَبًا لِوُقُوعِ النَّاسِ فِي الْغِيبَةِ وَوُقُوعِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ فِي الرِّيبَةِ، لَكِنْ مَنْ ظُلِمَ فَيَجُوزُ إِظْهَارُ ظُلْمِهِ بِأَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ سُرِقَ أَوْ غُصِبَ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَصَمِّ. الرَّابِعُ: قَالَ الْحَسَنُ: إِلَّا أَنْ يَنْتَصِرَ مِنْ ظَالِمِهِ. قِيلَ نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فَإِنَّ رَجُلًا شَتَمَهُ فَسَكَتَ مِرَارًا، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: شَتَمَنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ قُمْتَ، قَالَ: إِنَّ مَلَكًا كَانَ يُجِيبُ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ ذَهَبَ ذَلِكَ الْمَلَكُ وَجَاءَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَجْلِسْ عِنْدَ مَجِيءِ الشَّيْطَانِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَرَأَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْكِبَارِ: الضَّحَّاكُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ بِفَتْحِ الظَّاءِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ كَلَامٌ تَامٌّ، وَقَوْلُهُ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ كَلَامٌ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: لَكِنْ مَنْ ظَلَمَ فَدَعُوهُ وَخَلُّوهُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: يَعْنِي لَكِنْ مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ يَجْهَرُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ ظُلْمًا وَاعْتِدَاءً. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا وَالتَّقْدِيرُ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْجَهْرُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ مَعَهُ. ثُمَّ قَالَ: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً وَهُوَ تَحْذِيرٌ مِنَ التَّعَدِّي فِي الْجَهْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، يَعْنِي فَلْيَتَّقِ اللَّه وَلَا يَقُلْ إِلَّا الْحَقَّ وَلَا يَقْذِفْ مَسْتُورًا بِسُوءٍ فَإِنَّهُ يَصِيرُ عَاصِيًا للَّه بِذَلِكَ، وَهُوَ تَعَالَى سُمَيْعٌ لِمَا يَقُولُهُ عَلِيمٌ بِمَا يُضْمِرُهُ. [سورة النساء (4) : آية 149] إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) اعْلَمْ أَنَّ مَعَاقِدَ الْخَيْرَاتِ عَلَى كَثْرَتِهَا مَحْصُورَةٌ فِي أَمْرَيْنِ: صِدْقٌ مَعَ الْحَقِّ، وَخُلُقٌ مَعَ الْخَلْقِ، وَالَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْخَلْقِ مَحْصُورٌ فِي قِسْمَيْنِ إِيصَالُ نَفْعٍ إِلَيْهِمْ وَدَفْعُ ضَرَرٍ عَنْهُمْ، فَقَوْلُهُ إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ إِشَارَةٌ إِلَى إِيصَالِ النَّفْعِ إِلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ أَوْ تَعْفُوا إِشَارَةٌ إِلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ، فَدَخَلَ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى يَعْفُو عَنِ الْجَانِبَيْنِ/ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الِانْتِقَامِ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَقْتَدُوا بِسُنَّةِ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. الثَّانِي: إِنَّ اللَّه كَانَ عَفُوًّا لِمَنْ عَفَا، قَدِيرًا عَلَى إِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَيْهِ. الثَّالِثُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَقْدَرُ عَلَى عَفْوِ ذنوبك منك على عفو صاحبك. [سورة النساء (4) : الآيات 150 الى 151] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُنَافِقِينَ عَادَ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَذَاهِبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُنَاقَضَاتِهِمْ وَذَكَرَ

[سورة النساء (4) : آية 152]

فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ أَنْوَاعًا: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مِنْ أَبَاطِيلِهِمْ: إِيمَانُهُمْ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ دُونَ الْبَعْضِ. فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فَإِنَّ الْيَهُودَ آمَنُوا بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ وَكَفَرُوا بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ، وَالنَّصَارَى آمَنُوا بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ وَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أَيْ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ باللَّه وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أَيْ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّ وَبَيْنَ الْكُفْرِ بِالْكُلِّ سَبِيلًا أَيْ وَاسِطَةً، وَهِيَ الْإِيمَانُ بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي خَبَرِ إِنَّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْذُوفٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ جَمَعُوا الْمَخَازِيَ. وَالثَّانِي: هُوَ قَوْلُهُ أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ إِذَا حُذِفَ الْجَوَابُ ذَهَبَ الْوَهْمُ كُلَّ مَذْهَبٍ مِنَ الْعَيْبِ، وَإِذَا ذُكِرَ بَقِيَ مُقْتَصِرًا عَلَى الْمَذْكُورِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَأْسُ الْآيَةِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَبَرُ مُنْفَصِلًا عَنِ الْمُبْتَدَأِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ إِنَّمَا كَانُوا كَافِرِينَ حَقًّا لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ الْبَعْضِ لَيْسَ إِلَّا الْمُعْجِزَ، وَإِذَا كَانَ دَلِيلًا عَلَى النُّبُوَّةِ لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ حَيْثُ حَصَلَ حَصَلَتِ النُّبُوَّةِ فَإِنْ جَوَّزْنَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ حُصُولَ الْمُعْجِزِ بِدُونِ الصِّدْقِ تَعَذَّرَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى الصِّدْقِ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْكُفْرُ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ فَثَبَتَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ نُبُوَّةَ أَحَدٍ مِنْهُمْ لَزِمَهُ الْكُفْرُ بِجَمِيعِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّهُ يَلْزَمُهُمُ الْكُفْرُ بِكُلِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَكِنْ لَيْسَ إِذَا تَوَجَّهَ بَعْضُ الْإِلْزَامَاتِ عَلَى الْإِنْسَانِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ قَائِلًا بِهِ، فَإِلْزَامُ الْكُفْرِ غَيْرٌ، وَالْتِزَامُ الْكُفْرِ غَيْرٌ، وَالْقَوْمُ لَمَّا لَمْ يَلْتَزِمُوا ذَلِكَ فَكَيْفَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ. قُلْنَا: الْإِلْزَامُ إِذَا كَانَ خَفِيًّا بِحَيْثُ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى فِكْرٍ وَتَأَمُّلٍ كَانَ الْأَمْرُ فِيهِ كَمَا ذَكَرْتُمْ، أَمَّا إِذَا كَانَ جَلِيًّا وَاضِحًا لَمْ يَبْقَ بَيْنَ الْإِلْزَامِ وَالِالْتِزَامِ فَرْقٌ، وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ قَبُولَ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ إِنْ كَانَ لِأَجْلِ الِانْقِيَادِ لِطَاعَةِ اللَّه تَعَالَى وَحُكْمِهِ وَجَبَ قَبُولُ الْكُلِّ، وَإِنْ كَانَ لِطَلَبِ الرِّيَاسَةِ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ كُفْرًا بِكُلِّ الْأَنْبِيَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ حَقًّا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ انْتَصَبَ عَلَى مِثْلِ قَوْلِكَ: زَيْدٌ أَخُوكَ حَقًّا، وَالتَّقْدِيرُ: أَخْبَرْتُكَ بِهَذَا الْمَعْنَى إِخْبَارًا حَقًّا، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ كُفْرًا حَقًّا. طَعَنَ الْوَاحِدِيُّ فِيهِ وَقَالَ: الْكُفْرُ لَا يَكُونُ حَقًّا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَقِّ الْكَامِلُ، وَالْمَعْنَى أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ كُفْرًا كَامِلًا ثَابِتًا حقا يقينا. [سورة النساء (4) : آية 152] وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ أَرْدَفَهُ بِالْوَعْدِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

[سورة النساء (4) : الآيات 153 إلى 154]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا قَالَ: وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَعَ أَنَّ التَّفْرِيقَ يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا إِلَّا أَنَّ أَحَدًا لَفْظٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الْأَحْزَابِ: 32] . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ أَوْ بَيْنَ جَمَاعَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ الْعَفْوِ وَعَدَمِ الْإِحْبَاطِ فَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى/ وَعَدَ مَنْ آمَنَ باللَّه ورسله بأن يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ، وَالْمَفْهُومُ مِنْهُ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ، وَإِلَّا لَمْ تَصْلُحْ هَذِهِ الْآيَةُ لِأَنْ تَكُونَ تَرْغِيبًا فِي الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِعَدَمِ الْإِحْبَاطِ وَالْقَطْعَ بِالْعَفْوِ وَبِالْإِخْرَاجِ مِنَ النَّارِ بَعْدَ الْإِدْخَالِ فِيهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ يُؤْتِيهِمْ بِالْيَاءِ وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى اسْمِ اللَّه، وَالْبَاقُونَ بِالنُّونِ، وَذَلِكَ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَفْخَمُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مشاكل لقوله وَأَعْتَدْنا [الأحزاب: 31] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ مَعْنَاهُ أَنَّ إِيتَاءَهَا كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ تَأَخَّرَ فَالْغَرَضُ بِهِ تَوْكِيدُ الْوَعْدِ وَتَحْقِيقُهُ لَا كَوْنُهُ مُتَأَخِّرًا. ثُمَّ قَالَ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً وَالْمُرَادُ أَنَّهُ وَعَدَهُمْ بِالثَّوَابِ ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ وَيَعْفُو عنها ويغفرها. [سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 154] يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ جَهَالَاتِ الْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنْ عند اللَّه فائتنا بِكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ جُمْلَةً كَمَا جَاءَ مُوسَى بِالْأَلْوَاحِ. وَقِيلَ: طَلَبُوا أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى فُلَانٍ وَكِتَابًا إِلَى فُلَانٍ بِأَنَّكَ/ رَسُولُ اللَّه وَقِيلَ: كِتَابًا نُعَايِنُهُ حِينَ يُنَزَّلُ، وَإِنَّمَا اقْتَرَحُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ لِأَنَّ مُعْجِزَاتِ الرَّسُولِ كَانَتْ قَدْ تَقَدَّمَتْ، وَحَصَلَتْ فَكَانَ طَلَبُ الزِّيَادَةِ مِنْ بَابِ التَّعَنُّتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ وَإِنَّمَا أَسْنَدَ السُّؤَالَ إِلَيْهِمْ وَإِنْ وُجِدَ مِنْ آبَائِهِمْ فِي أَيَّامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُمُ النُّقَبَاءُ السَّبْعُونَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَرَاضِينَ بِسُؤَالِهِمْ وَمُشَاكِلِينَ لَهُمْ فِي التَّعَنُّتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّعَنُّتِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ مُوسَى لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ كِتَابٌ مِنَ السَّمَاءِ لَمْ يَكْتَفُوا بِذَلِكَ الْقَدْرِ، بَلْ طَلَبُوا مِنْهُ الرُّؤْيَةَ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَايَنَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَلَبَ هَؤُلَاءِ لِنُزُولِ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ لَيْسَ لِأَجْلِ الِاسْتِرْشَادِ بَلْ لِمَحْضِ الْعِنَادِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ وَهَذِهِ الْقِصَّةُ قَدْ فَسَّرْنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَاسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ قَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ هُنَاكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَالْمَعْنَى بَيَانُ كَمَالِ جَهَالَاتِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ مَا اكْتَفَوْا بَعْدَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِمْ بِطَلَبِ الرُّؤْيَةِ جَهْرَةً، بَلْ ضَمُّوا إِلَيْهِ عِبَادَةَ الْعِجْلِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ بُعْدِهِمْ عَنْ طَلَبِ الْحَقِّ وَالدِّينِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مَا أَرَاهُمْ مِنَ الصَّاعِقَةِ بَيِّنَاتٍ، فَإِنَّ الصَّاعِقَةَ وَإِنْ كَانَتْ شَيْئًا وَاحِدًا إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ دَالَّةً عَلَى قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَعَلَى عِلْمِهِ وَعَلَى قِدَمِهِ، وَعَلَى كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ وَعَلَى صِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دَعْوَى النُّبُوَّةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيِّنَاتِ إِنْزَالُ الصَّاعِقَةِ وَإِحْيَاؤُهُمْ بعد ما أَمَاتَهُمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ إِنَّمَا عَبَدُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ أَنْ شَاهَدُوا مُعْجِزَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّتِي كَانَ يُظْهِرُهَا فِي زَمَانِ فِرْعَوْنَ، وَهِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ الْبَيْضَاءُ وَفَلْقُ الْبَحْرِ وَغَيْرُهَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَطْلُبُونَ مِنْكَ يَا مُحَمَّدُ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَاعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّهُمْ لَا يَطْلُبُونَهُ مِنْكَ إِلَّا عِنَادًا وَلَجَاجًا، فَإِنَّ مُوسَى قَدْ أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِ هَذَا الْكِتَابَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ سَائِرَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ طَلَبُوا الرُّؤْيَةَ عَلَى سَبِيلِ الْعِنَادِ وَأَقْبَلُوا عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَجْبُولُونَ عَلَى اللَّجَاجِ وَالْعِنَادِ وَالْبُعْدِ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ. ثُمَّ قَالَ: فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ يَعْنِي لَمْ نَسْتَأْصِلْ عَبَدَةَ الْعِجْلِ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً يَعْنِي أَنَّ قَوْمَ مُوسَى وَإِنْ كَانُوا قَدْ بَالَغُوا فِي إِظْهَارِ اللَّجَاجِ وَالْعِنَادِ مَعَهُ لَكِنَّا نَصَرْنَاهُ وَقَوَّيْنَاهُ فَعَظُمَ أَمْرُهُ وَضَعُفَ خَصْمُهُ، وَفِيهِ بِشَارَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ، وَالرَّمْزُ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ وَإِنْ كَانُوا يُعَانِدُونَهُ فَإِنَّهُ/ بِالْآخِرَةِ يَسْتَوْلِي عَلَيْهِمْ وَيَقْهَرُهُمْ، ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْهُمْ سَائِرَ جَهَالَاتِهِمْ وَإِصْرَارَهُمْ عَلَى أَبَاطِيلِهِمْ: فَأَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى رَفَعَ فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ أَعْطَوُا الْمِيثَاقَ عَلَى أَنْ لَا يَرْجِعُوا عَنِ الدِّينِ. ثُمَّ رَجَعُوا عَنْهُ وَهَمُّوا بِالرُّجُوعِ، فَرَفَعَ اللَّه فَوْقَهُمُ الطُّورَ حَتَّى يَخَافُوا فَلَا يَنْقُضُوا الْمِيثَاقَ. الثَّانِي: أَنَّهُمُ امْتَنَعُوا عَنْ قَبُولِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ فَرَفَعَ اللَّه الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ حَتَّى قَبِلُوا، وَصَارَ الْمَعْنَى: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ لِأَجْلِ أَنْ يُعْطُوا الْمِيثَاقَ بِقَبُولِ الدِّينِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ أَعْطَوُا الْمِيثَاقَ عَلَى أَنَّهُمْ إِنْ هَمُّوا بِالرُّجُوعِ عَنِ الدِّينِ فاللَّه يُعَذِّبُهُمْ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ أَرَادَ، فَلَمَّا هَمُّوا بِتَرْكِ الدِّينِ أَظَلَّ اللَّه الطُّورَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَمَضَى بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ، فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: لَا تَعْدُوا بِاقْتِنَاصِ السَّمَكِ فِيهِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُقَالُ عَدَا عَلَيْهِ أَشَدَّ الْعَدَاءِ وَالْعَدْوِ وَالْعُدْوَانِ، أَيْ ظَلَمَهُ وَجَاوَزَ الْحَدَّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً [الْأَنْعَامِ: 108] الثَّانِي: لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ مِنَ الْعَدْوِ بِمَعْنَى الْحَضَرِ، وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ الْعَمَلِ وَالْكَسْبِ يَوْمَ السَّبْتِ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: اسْكُنُوا عَنِ الْعَمَلِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَاقْعُدُوا فِي مَنَازِلِكُمْ فَأَنَا الرَّزَّاقُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ لَا تَعْدُوا سَاكِنَةَ الْعَيْنِ مُشَدَّدَةَ الدَّالِ، وَأَرَادَ: لَا تَعْتَدُوا، وَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ [الْبَقَرَةِ: 65] فَجَاءَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا افْتَعَلُوا، ثُمَّ أَدْغَمَ التَّاءَ فِي الدَّالِ لِتَقَارُبِهِمَا وَلِأَنَّ الدَّالَ تَزِيدُ عَلَى التَّاءِ فِي الْجَهْرِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ يُنْكِرُونَ الْجَمْعَ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ إِذَا كَانَ الثَّانِي

[سورة النساء (4) : آية 155]

منهما مدغما ولم يكن الأول حرف الأول لِينٍ نَحْوَ دَابَّةٍ وَشَابَّةٍ، وَقِيلْ لَهُمْ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْمَدَّ يَصِيرُ عِوَضًا عَنِ الْحَرَكَةِ، وَرَوَى وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ لَا تَعَدُّوا بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَدْغَمَ التَّاءَ فِي الدَّالِ نَقَلَ حَرَكَتَهَا إِلَى الْعَيْنِ، وَالْبَاقُونَ تَعْدُوا بِضَمِّ الدَّالِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ حَقِيقَةً. الْمَسْأَلَةُ الثالثة: قال القفال: الميثاق الغليط هُوَ الْعَهْدُ الْمُؤَكَّدُ غَايَةَ التَّوْكِيدِ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فيما يدعونه من التوراة ثم قال تعالى: [سورة النساء (4) : آية 155] فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) [في قوله تَعَالَى فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مُتَعَلِّقِ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ فَبِما نَقْضِهِمْ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ محذوف تقديره فيما نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكَذَا، لَعَنَّاهُمْ وَسَخِطْنَا عَلَيْهِمْ، وَالْحَذْفُ أَفْخَمُ لِأَنَّ عِنْدَ الْحَذْفِ يَذْهَبُ الْوَهْمُ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَدَلِيلُ الْمَحْذُوفِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ مِنْ صِفَاتِ الذَّمِّ فَيَدُلُّ عَلَى اللَّعْنِ. الثَّانِي: أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْبَاءِ هُوَ قَوْلُهُ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النِّسَاءِ: 160] وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَزَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ فَبِما نَقْضِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِنْ قَوْلِهِ فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ فَبِظُلْمٍ الْآيَتَيْنِ بَعِيدٌ جِدًّا، فَجَعْلُ أَحَدِهِمَا بَدَلًا عَنِ الْآخَرِ بَعِيدٌ. الثَّانِي: أَنَّ تِلْكَ الْجِنَايَاتِ الْمَذْكُورَةَ عَظِيمَةٌ جِدًّا لِأَنَّ كُفْرَهُمْ باللَّه وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ وَإِنْكَارَهُمْ لِلتَّكْلِيفِ بِقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ، وَذِكْرُ الذُّنُوبِ الْعَظِيمَةِ إِنَّمَا يَلِيقُ أَنْ يُفَرَّعَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ الْعَظِيمَةُ، وَتَحْرِيمُ بَعْضِ الْمَأْكُولَاتِ عُقُوبَةٌ خَفِيفَةٌ فَلَا يَحْسُنُ تَعْلِيقُهُ بِتِلْكَ الْجِنَايَاتِ الْعَظِيمَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ (مَا) فِي قَوْلِهِ فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ صِلَةٌ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَبِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 159] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَدْخَلَ حَرْفَ الْبَاءِ عَلَى أُمُورٍ: أَوَّلُهَا: نَقْضُ الْمِيثَاقِ. وَثَانِيهَا: كُفْرُهُمْ بِآيَاتِ اللَّه، وَالْمُرَادُ مِنْهُ كُفْرُهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ مُعْجِزَةَ رَسُولٍ وَاحِدٍ فَقَدْ أَنْكَرَ جَمِيعَ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ حَكَمَ اللَّه عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ بِآيَاتِ اللَّه. وَثَالِثُهَا: قَتْلُهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَذَكَرْنَا تَفْسِيرَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ وَذَكَرَ الْقَفَّالُ فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ غُلْفًا جَمْعُ غِلَافٍ وَالْأَصْلُ غُلُفٌ بِتَحْرِيكِ اللَّامِ فَخَفَّفَ بِالتَّسْكِينِ، كَمَا قِيلَ كُتْبٌ وَرُسْلٌ بِتَسْكِينِ التَّاءِ وَالسِّينِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّهُمْ قَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ، أَيْ أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى عِلْمٍ سِوَى مَا عِنْدَنَا، فَكَذَّبُوا الْأَنْبِيَاءَ بِهَذَا الْقَوْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ/

[سورة النساء (4) : آية 156]

غُلْفًا جَمْعُ أَغْلَفَ وَهُوَ الْمُتَغَطِّي بِالْغِلَافِ أَيْ بِالْغِطَاءِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّهُمْ قَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَغْطِيَةٍ فَهِيَ لَا تَفْقَهُ مَا تَقُولُونَ، نَظِيرُهُ مَا حَكَى اللَّه فِي قَوْلِهِ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فُصِّلَتْ: 5] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ. فَإِنْ حَمَلْنَا الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى كَذَّبَهُمْ فِي ادِّعَائِهِمْ أَنَّ قُلُوبَهُمْ أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى طَبَعَ عَلَيْهَا وَخَتَمَ عَلَيْهَا فَلَا يَصِلُ أَثَرُ الدَّعْوَةِ وَالْبَيَانِ إِلَيْهَا، وَهَذَا يَلِيقُ بِمَذْهَبِنَا، وَإِنْ حَمَلْنَا الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي كَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى كَذَّبَهُمْ فِي ادِّعَائِهِمْ أَنَّ قُلُوبَهُمْ فِي الْأَكِنَّةِ وَالْأَغْطِيَةِ، وَهَذَا يَلِيقُ بِمَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، إِلَّا أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَوْلَى، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِقَوْلِهِ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ، وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُمْ عَلَى حَسَبِ دَعْوَاهُمْ وَزَعْمِهِمْ، وَإِلَّا فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ يَكْفُرُ بِرَسُولٍ وَاحِدٍ وَبِمُعْجِزَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْإِيمَانُ بِأَحَدٍ مِنَ الرسل ألبتة. [سورة النساء (4) : آية 156] وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً. اعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا نَسَبُوا مَرْيَمَ إِلَى الزِّنَا لِإِنْكَارِهِمْ قُدْرَةَ اللَّه تَعَالَى عَلَى خَلْقِ الْوَلَدِ مِنْ دُونِ الْأَبِ وَمُنْكِرُ قُدْرَةِ اللَّه عَلَى ذَلِكَ كَافِرٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ: كُلُّ وَلَدٍ وُلِدَ فَهُوَ مَسْبُوقٌ بِوَالِدٍ لَا إِلَى أَوَّلٍ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَوْلَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَالدَّهْرِ، وَالْقَدْحَ فِي وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ، فَالْقَوْمُ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ أَوَّلًا: أَنْكَرُوا قُدْرَةَ اللَّه تَعَالَى عَلَى خَلْقِ الْوَلَدِ مِنْ دُونِ الْأَبِ، وَثَانِيًا: نَسَبُوا مَرْيَمَ إِلَى الزِّنَا، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَبِكُفْرِهِمْ هُوَ إِنْكَارُهُمْ قُدْرَةَ اللَّه تَعَالَى، وَبِقَوْلِهِ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً نِسْبَتُهُمْ إِيَّاهَا إِلَى الزِّنَا، وَلَمَّا حَصَلَ التَّغَيُّرُ لَا جَرَمَ حَسُنَ الْعَطْفُ، وَإِنَّمَا صَارَ هَذَا الطَّعْنُ بُهْتَانًا عَظِيمًا لِأَنَّهُ ظَهَرَ عِنْدَ وِلَادَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْكَرَامَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ مَا دَلَّ عَلَى بَرَاءَتِهَا مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا [مَرْيَمَ: 25] وَنَحْوَ كَلَامِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَالَ كَوْنِهِ طِفْلًا مُنْفَصِلًا عَنْ أُمِّهِ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ دَلَائِلُ قَاطِعَةٌ عَلَى بَرَاءَةِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ مِنْ كُلِّ رِيبَةٍ، فَلَا/ جَرَمَ وَصَفَ اللَّه تَعَالَى طَعْنَ الْيَهُودِ فِيهَا بِأَنَّهُ بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، وَكَذَلِكَ وَصَفَ طَعْنَ الْمُنَافِقِينَ فِي عَائِشَةَ بِأَنَّهُ بُهْتَانٌ عَظِيمٌ حَيْثُ قَالَ: سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ [النُّورِ: 16] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّوَافِضَ الَّذِينَ يَطْعَنُونَ فِي عَائِشَةَ بِمَنْزِلَةِ الْيَهُودِ الذين يطعنون في مريم عليها السلام. [سورة النساء (4) : الآيات 157 الى 158] وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كُفْرٍ عَظِيمٍ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ قَالُوا فَعَلْنَا ذَلِكَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا رَاغِبِينَ فِي قَتْلِهِ مُجْتَهِدِينَ فِي ذَلِكَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ كُفْرٌ عَظِيمٌ. فَإِنْ قِيلَ: الْيَهُودُ كَانُوا كَافِرِينَ بِعِيسَى أَعْدَاءً لَهُ عَامِدِينَ لِقَتْلِهِ يُسَمُّونَهُ السَّاحِرَ ابْنَ السَّاحِرَةِ وَالْفَاعِلَ ابْنَ الْفَاعِلَةِ، فَكَيْفَ قَالُوا: إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّه؟ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَالُوهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهْزَاءِ كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشُّعَرَاءِ: 27] وَكَقَوْلِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ لمحمد صلى اللَّه عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحِجْرِ: 6] ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَضَعَ اللَّه الذِّكْرَ الْحَسَنَ مَكَانَ ذِكْرِهِمُ الْقَبِيحَ فِي الْحِكَايَةِ عَنْهُمْ رَفْعًا لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَمَّا كَانُوا يَذْكُرُونَهُ بِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ قَتَلُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فاللَّه تَعَالَى كَذَّبَهُمْ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى وَقَالَ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ شُبِّهَ مُسْنَدٌ إِلَى مَاذَا؟ إِنْ جَعَلْتَهُ مُسْنَدًا إِلَى الْمَسِيحِ فَهُوَ مُشَبَّهٌ بِهِ وَلَيْسَ بِمُشَبَّهٍ، وَإِنْ أَسْنَدْتَهُ إِلَى الْمَقْتُولِ فَالْمَقْتُولُ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُسْنَدٌ إِلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَهُوَ كَقَوْلِكَ: خُيِّلَ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَكِنْ وَقَعَ لَهُمُ الشَّبَهُ. الثَّانِي: أَنْ يُسْنَدَ إِلَى ضَمِيرِ الْمَقْتُولِ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَما قَتَلُوهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ الْقَتْلُ عَلَى غَيْرِهِ فَصَارَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مَذْكُورًا بِهَذَا الطَّرِيقِ، فَحَسُنَ إِسْنَادُ شُبِّهَ إِلَيْهِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى يُلْقِي شَبَهَ إِنْسَانٍ عَلَى إِنْسَانٍ آخَرَ فَهَذَا يَفْتَحُ بَابَ السَّفْسَطَةِ، فَإِنَّا إِذَا رَأَيْنَا زَيْدًا فَلَعَلَّهُ لَيْسَ بِزَيْدٍ، وَلَكِنَّهُ أُلْقِيَ شَبَهُ زَيْدٍ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ ذلك/ لا يبقى النكاح والطلاق والملك، وثوقا بِهِ، وَأَيْضًا يُفْضِي إِلَى الْقَدْحِ فِي التَّوَاتُرِ لِأَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ إِنَّمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِشَرْطِ انْتِهَائِهِ فِي الْآخِرَةِ إِلَى الْمَحْسُوسِ، فَإِذَا جَوَّزْنَا حُصُولَ مِثْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي الْمَحْسُوسَاتِ تَوَجَّهَ الطَّعْنُ فِي التَّوَاتُرِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَدْحَ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، وَلَيْسَ لِمُجِيبٍ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِزَمَانِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّا نَقُولُ: لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمْ فَذَاكَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ، فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ الدَّلِيلَ وَذَلِكَ الْبُرْهَانَ وَجَبَ أَنْ لَا يَقْطَعَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ وَوَجَبَ أَنْ لَا يَعْتَمِدَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَأَيْضًا فَفِي زَمَانِنَا إِنِ انْسَدَّتِ الْمُعْجِزَاتُ فَطَرِيقُ الْكَرَامَاتِ مَفْتُوحٌ، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الِاحْتِمَالُ الْمَذْكُورُ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ: وَبِالْجُمْلَةِ فَفَتْحُ هَذَا الْبَابِ يُوجِبُ الطَّعْنَ فِي التَّوَاتُرِ، وَالطَّعْنُ فِيهِ يُوجِبُ الطَّعْنَ فِي نُبُوَّةِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَهَذَا فَرْعٌ يُوجِبُ الطَّعْنَ فِي الْأُصُولِ فَكَانَ مَرْدُودًا. وَالْجَوَابُ: اخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَكَرُوا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ الْيَهُودَ لَمَّا قَصَدُوا قَتْلَهُ رَفَعَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ فَخَافَ رُؤَسَاءُ الْيَهُودِ مِنْ وُقُوعِ الْفِتْنَةِ مِنْ عَوَامِّهِمْ، فَأَخَذُوا إِنْسَانًا وَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ وَلَبَّسُوا عَلَى النَّاسِ أَنَّهُ الْمَسِيحُ، وَالنَّاسُ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْمَسِيحَ إِلَّا بِالِاسْمِ لِأَنَّهُ كَانَ قَلِيلَ الْمُخَالَطَةِ لِلنَّاسِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ زَالَ السُّؤَالُ. لَا يُقَالُ: إِنَّ النَّصَارَى

يَنْقُلُونَ عَنْ أَسْلَافِهِمْ أَنَّهُمْ شَاهَدُوهُ مَقْتُولًا، لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ تَوَاتُرَ النَّصَارَى يَنْتَهِي إِلَى أَقْوَامٍ قَلِيلِينَ لَا يَبْعُدُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى إِنْسَانٍ آخَرَ ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُ حَاضِرٌ فِي الْبَيْتِ الْفُلَانِيِّ مَعَ أَصْحَابِهِ أَمَرَ يَهُوذَا رَأْسُ الْيَهُودِ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ طَيْطَايُوسُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيُخْرِجَهُ لِيَقْتُلَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَخْرَجَ اللَّه عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ سَقْفِ الْبَيْتِ وَأَلْقَى عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ شَبَهَ عِيسَى فَظَنُّوهُ هُوَ فَصَلَبُوهُ وَقَتَلُوهُ. الثَّانِي: وَكَّلُوا بِعِيسَى رَجُلًا يَحْرُسُهُ وَصَعِدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْجَبَلِ وَرُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَأَلْقَى اللَّه شَبَهَهُ عَلَى ذَلِكَ الرَّقِيبِ فَقَتَلُوهُ وَهُوَ يَقُولُ لَسْتُ بِعِيسَى. الثَّالِثُ: أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا هَمُّوا بِأَخْذِهِ وَكَانَ مَعَ عِيسَى عَشَرَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَهُمْ: مَنْ يَشْتَرِي الْجَنَّةَ بِأَنْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي؟ فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنَا، فَأَلْقَى اللَّه شَبَهَ عِيسَى عَلَيْهِ فَأُخْرِجَ وَقُتِلَ، وَرَفَعَ اللَّه عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. الرَّابِعُ: كَانَ رَجُلٌ يَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ مُنَافِقًا فَذَهَبَ إِلَى الْيَهُودِ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَ مَعَ الْيَهُودِ لِأَخْذِهِ أَلْقَى اللَّه تَعَالَى شَبَهَهُ عَلَيْهِ فَقُتِلَ وَصُلِبَ. وَهَذِهِ الْوُجُوهُ مُتَعَارِضَةٌ مُتَدَافِعَةٌ واللَّه أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ هُمُ النَّصَارَى وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ بِأَسْرِهِمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ قَتَلُوهُ، إِلَّا أَنَّ كِبَارَ فِرَقِ النَّصَارَى ثَلَاثَةٌ: النُّسْطُورِيَّةُ، وَالْمَلْكَانِيَّةُ، وَالْيَعْقُوبِيَّةُ. أَمَّا النُّسْطُورِيَّةُ فَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الْمَسِيحَ صُلِبَ مِنْ جِهَةِ نَاسُوتِهِ لَا من جهة لا هوته، وَأَكْثَرُ الْحُكَمَاءِ يَرَوْنَ مَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ هَذَا الْهَيْكَلِ بَلْ هُوَ إِمَّا جسم شريف مناسب فِي هَذَا الْبَدَنِ، وَإِمَّا جَوْهَرٌ رُوحَانِيٌّ مُجَرَّدٌ فِي ذَاتِهِ وَهُوَ مُدَبِّرٌ فِي هَذَا الْبَدَنِ، فَالْقَتْلُ إِنَّمَا وَرَدَ عَلَى هَذَا الْهَيْكَلِ، وَأَمَّا النَّفْسُ الَّتِي هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْقَتْلُ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ، لَا يُقَالُ: فَكُلُّ إِنْسَانٍ كَذَلِكَ فَمَا الْوَجْهُ لِهَذَا التَّخْصِيصِ؟ لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ نَفْسَهُ كَانَتْ قُدُسِيَّةً عُلْوِيَّةً سَمَاوِيَّةً شَدِيدَةَ الْإِشْرَاقِ بِالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ عَظِيمَةَ الْقُرْبِ مِنْ أَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ، وَالنَّفْسُ مَتَى كَانَتْ كَذَلِكَ لَمْ يَعْظُمْ تَأَلُّمُهَا بِسَبَبِ الْقَتْلِ وَتَخْرِيبِ الْبَدَنِ، ثُمَّ إِنَّهَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ عَنْ ظُلْمَةِ الْبَدَنِ تتخلص إلى فسحة السموات وَأَنْوَارِ عَالَمِ الْجَلَالِ فَيَعْظُمُ بَهْجَتُهَا وَسَعَادَتُهَا هُنَاكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ غَيْرُ حَاصِلَةٍ لِكُلِّ النَّاسِ بَلْ هِيَ غَيْرُ حَاصِلَةٍ مِنْ مَبْدَأِ خِلْقَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ إِلَّا لِأَشْخَاصٍ قَلِيلِينَ، فَهَذَا هُوَ الْفَائِدَةُ فِي تَخْصِيصِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ. وَأَمَّا الْمَلْكَانِيَّةُ فَقَالُوا: الْقَتْلُ وَالصَّلْبُ وَصَلَا إِلَى اللَّاهُوتِ بِالْإِحْسَاسِ وَالشُّعُورِ لَا بِالْمُبَاشَرَةِ. وَقَالَتِ الْيَّعْقُوبِيَّةُ: الْقَتْلُ وَالصَّلْبُ وَقَعَا بِالْمَسِيحِ الَّذِي هُوَ جَوْهَرٌ مُتَوَلِّدٌ مِنْ جَوْهَرَيْنِ، فَهَذَا هُوَ شَرْحُ مَذَاهِبِ النَّصَارَى فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ. القول الثَّانِي: إِنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ اخْتَلَفُوا هُمُ الْيَهُودُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ لَمَّا قَتَلُوا الشَّخْصَ الْمُشَبَّهَ بِهِ كَانَ الشَّبَهُ قَدْ أُلْقِيَ عَلَى وَجْهِهِ وَلَمْ يُلْقَ عَلَيْهِ شَبَهُ جَسَدِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا قَتَلُوهُ وَنَظَرُوا إِلَى بَدَنِهِ قَالُوا: الْوَجْهُ وَجْهُ عِيسَى وَالْجَسَدُ جَسَدُ غَيْرِهِ. الثَّانِي: قَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ الْيَهُودَ حَبَسُوا عِيسَى مع عشرة مِنْ الْحَوَارِيِّينَ فِي

بَيْتٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ لِيُخْرِجَهُ وَيَقْتُلَهُ، فَأَلْقَى اللَّه شَبَهَ عِيسَى عَلَيْهِ وَرُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَخَذُوا ذَلِكَ الرَّجُلَ وَقَتَلُوهُ عَلَى أَنَّهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ/ قَالُوا: إِنْ كَانَ هَذَا عِيسَى فَأَيْنَ صَاحِبُنَا، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَنَا فَأَيْنَ عِيسَى؟ فَذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ اتِّبَاعٌ لِلظَّنِّ، وَاتِّبَاعُ الظَّنِّ مَذْمُومٌ فِي كِتَابِ اللَّه بِدَلِيلِ أَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى وصف اليهود والنصارى هاهنا فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ بِهَذَا فَقَالَ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي مَذَمَّةِ الْكُفَّارِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الأنعام: 116] وقال في آية أخرى وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [يُونُسَ: 36] وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ مَذْمُومٌ. وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ اتباع الظن، فَإِنَّ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ لَمَّا دَلَّ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ كَانَ الْحُكْمُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْقِيَاسِ مَعْلُومًا لَا مَظْنُونًا، وَهَذَا الْكَلَامُ لَهُ غَوْرٌ وَفِيهِ بحث. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَقِينُ عَدَمِ الْقَتْلِ، وَالْآخَرُ يَقِينُ عَدَمِ الْفِعْلِ، فَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمْ شَاكُّونَ فِي أَنَّهُ هَلْ قَتَلُوهُ أَمْ لَا، ثُمَّ أَخْبَرَ مُحَمَّدًا بِأَنَّ الْيَقِينَ حَاصِلٌ بِأَنَّهُمْ مَا قَتَلُوهُ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ شَاكُّونَ في أنه هل قتلوه؟ ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَتَلُوا ذَلِكَ الشَّخْصَ الَّذِي قَتَلُوهُ لَا عَلَى يَقِينٍ أَنَّهُ عِيسَى عليه السلام، بل حين ما قَتَلُوهُ كَانُوا شَاكِّينَ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ عِيسَى أَمْ لَا، وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَهَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا تَقَدَّمَ الْقَطْعُ وَالْيَقِينُ بِعَدَمِ الْقَتْلِ. أَمَّا قَوْلُهُ: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ بإدغام الكلام فِي الرَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِتَرْكِ الْإِدْغَامِ، حُجَّتُهُمَا قُرْبُ مَخْرَجِ اللَّامِ مِنَ الرَّاءِ وَالرَّاءُ أَقْوَى مِنَ اللَّامِ بِحُصُولِ التَّكْرِيرِ فِيهَا، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ إِدْغَامُ الرَّاءِ فِي اللَّامِ لِأَنَّ الْأَنْقَصَ يُدْغَمُ فِي الْأَفْضَلِ، وَحُجَّةُ الْبَاقِينَ أَنَّ الرَّاءَ وَاللَّامَ حَرْفَانِ مِنْ كَلِمَتَيْنِ فَالْأَوْلَى تَرْكُ الْإِدْغَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُشَبِّهَةُ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي إِثْبَاتِ الْجِهَةِ. وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ الرَّفْعُ إِلَى مَوْضِعٍ لَا يَجْرِي فِيهِ حُكْمُ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى كَقَوْلِهِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [الْبَقَرَةِ: 210] وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاءِ: 100] وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصَّافَّاتِ: 99] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رَفْعُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى السَّمَاءِ ثَابِتٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آلِ عِمْرَانَ: 55] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ عَقِيبَ مَا شَرَحَ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَى عِيسَى أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ أَنَّهُ رَفَعَهُ إِلَيْهِ دَلَّ ذَلِكَ على أن رفعه إلى أَعْظَمُ فِي بَابِ الثَّوَابِ مِنَ الْجَنَّةِ وَمِنْ كُلِّ مَا فِيهَا مِنَ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَفْتَحُ عَلَيْكَ بَابَ مَعْرِفَةِ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً.

[سورة النساء (4) : آية 159]

وَالْمُرَادُ مِنَ الْعِزَّةِ كَمَالُ الْقُدْرَةِ، وَمِنَ الْحِكْمَةِ كَمَالُ الْعِلْمِ، فَنَبَّهَ بِهَذَا عَلَى أَنَّ رَفْعَ عيسى من الدنيا إلى السموات وَإِنْ كَانَ كَالْمُتَعَذِّرِ عَلَى الْبَشَرِ لَكِنَّهُ لَا تَعَذُّرَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِي وَإِلَى حِكْمَتِي، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الْإِسْرَاءِ: 1] فَإِنَّ الْإِسْرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُتَعَذِّرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ مُحَمَّدٍ إِلَّا أَنَّهُ سَهْلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ ثُمَّ قال تعالى: [سورة النساء (4) : آية 159] وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فَضَائِحَ الْيَهُودِ وَقَبَائِحَ أَفْعَالِهِمْ وَشَرَحَ أَنَّهُمْ قَصَدُوا قَتْلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ، وَأَنَّهُ حَصَلَ لِعِيسَى أَعْظَمُ الْمَنَاصِبِ وَأَجَلُّ الْمَرَاتِبِ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ الذين كانوا مبالغين في عداوته لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ فَقَالَ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ (إِنْ) بِمَعْنَى (مَا) النَّافِيَةِ كَقَوْلِهِ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مَرْيَمَ: 71] فَصَارَ التَّقْدِيرُ: وَمَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ. ثُمَّ إِنَّا نَرَى أَكْثَرَ الْيَهُودِ يَمُوتُونَ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا رُوِيَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: قَالَ الْحَجَّاجُ إِنِّي مَا قَرَأْتُهَا إِلَّا وَفِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ، يَعْنِي هَذِهِ الْآيَةَ فَإِنِّي أَضْرِبُ عُنُقَ الْيَهُودِيِّ وَلَا أَسْمَعُ مِنْهُ ذَلِكَ. فَقُلْتُ: إِنَّ الْيَهُودِيَّ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ وَجْهَهُ وَدُبُرَهُ، وَقَالُوا يَا عَدُوَّ اللَّه أَتَاكَ عِيسَى نَبِيًّا فَكَذَّبْتَ بِهِ، فَيَقُولُ آمَنْتُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّه، وَتَقُولُ لِلنَّصْرَانِيِّ: أَتَاكَ عِيسَى نَبِيًّا فَزَعَمْتَ أَنَّهُ هُوَ اللَّه وَابْنُ اللَّه، / فَيَقُولُ: آمَنْتُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّه فَأَهْلُ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَلَكِنْ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ، فَاسْتَوَى الْحَجَّاجُ جَالِسًا وَقَالَ: عَمَّنْ نَقَلْتَ هَذَا؟ فَقُلْتُ: حَدَّثَنِي بِهِ محمد بن علي بن الْحَنَفِيَّةِ فَأَخَذَ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ بِقَضِيبٍ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ أَخَذْتَهَا مِنْ عَيْنٍ صَافِيَةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَهُ كَذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عِكْرِمَةُ: فَإِنْ خَرَّ مِنْ سَقْفِ بَيْتٍ أَوِ احْتَرَقَ أَوْ أَكَلَهُ سَبُعٌ قَالَ: يَتَكَلَّمُ بِهَا فِي الْهَوَاءِ وَلَا تَخْرُجُ رُوحُهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبي إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِضَمِّ النُّونِ عَلَى مَعْنَى وَإِنْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُؤْمِنُونَ بِهِ قَبْلَ موتهم لأن أحدا يصلح للجمع، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَالْفَائِدَةُ فِي إِخْبَارِ اللَّه تَعَالَى بِإِيمَانِهِمْ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِهِمْ أَنَّهُمْ مَتَى عَلِمُوا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ لَا مَحَالَةَ فَلِأَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ حَالَ مَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ حَالَ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ عَنْ أَصْلِ السُّؤَالِ: أَنَّ قَوْلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ أَيْ قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، وَالْمُرَادُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَكُونُونَ مَوْجُودِينَ فِي زَمَانِ نُزُولِهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ: قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّهُ لَا يُمْنَعُ نُزُولَهُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الدُّنْيَا إِلَّا أَنَّهُ إِنَّمَا يَنْزِلُ عِنْدَ ارْتِفَاعِ التَّكَالِيفِ أَوْ بِحَيْثُ لَا يُعْرَفُ، إِذْ لَوْ نَزَلَ مَعَ بَقَاءِ التَّكَالِيفِ عَلَى وَجْهٍ يُعْرَفُ أَنَّهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا وَلَا نَبِيَّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوْ غَيْرَ نَبِيٍّ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا الْإِشْكَالُ عِنْدِي ضَعِيفٌ لِأَنَّ انْتِهَاءَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعِنْدَ مَبْعَثِهِ انْتَهَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَصِيرَ بَعْدَ نُزُولِهِ تَبَعًا لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً قِيلَ: يَشْهَدُ عَلَى الْيَهُودِ أَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ وَطَعَنُوا فِيهِ، وَعَلَى النَّصَارَى أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ نَبِيٍّ شَاهِدٌ على أمته ثم قال تعالى:

[سورة النساء (4) : الآيات 160 إلى 161]

[سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 161] فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ فَضَائِحَ أَعْمَالِ الْيَهُودِ وَقَبَائِحَ الْكَافِرِينَ وَأَفْعَالِهِمْ ذَكَرَ عَقِيبَهُ تَشْدِيدَهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، أَمَّا تَشْدِيدُهُ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ كَانَتْ مُحَلَّلَةً لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ [الْأَنْعَامِ: 146] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ مَا هُوَ كَالْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِهَذِهِ التَّشْدِيدَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَنْوَاعَ الذُّنُوبِ مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ: الظُّلْمِ لِلْخَلْقِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الدِّينِ الْحَقِّ، أَمَّا ظُلْمُ الْخَلْقِ فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْحِرْصِ فِي طَلَبِ الْمَالِ، فَتَارَةً يُحَصِّلُونَهُ بِالرِّبَا مَعَ أَنَّهُمْ نُهُوا عَنْهُ، وَتَارَةً بِطَرِيقِ الرِّشْوَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [الْمَائِدَةِ: 43] فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ هِيَ الذُّنُوبُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، أَمَّا التَّشْدِيدُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا التَّشْدِيدُ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ طَرِيقَةَ الْكُفَّارِ وَالْجُهَّالِ مِنَ اليهود وصف طريقة المؤمنين منهم. [سورة النساء (4) : آية 162] لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّه بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ الثَّابِتُونَ فِيهِ، وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ الْمُسْتَدِلُّونَ بِأَنَّ الْمُقَلِّدَ يَكُونُ بِحَيْثُ إِذَا شُكِّكَ يَشُكُّ، وَأَمَّا الْمُسْتَدِلُّ فَإِنَّهُ لَا يَتَشَكَّكُ الْبَتَّةَ، فَالرَّاسِخُونَ هُمُ الْمُسْتَدِلُّونَ وَالْمُؤْمِنُونَ، يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ أَوِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وارتفع الراسخون على الابتداء ويُؤْمِنُونَ خَبَرُهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ/ فَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: إِنَّ فِي الْمُصْحَفِ لَحْنًا وَسَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ هَذَا الْمُصْحَفَ مَنْقُولٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ يُمْكِنُ ثُبُوتُ اللَّحْنِ فِيهِ، الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ: إِنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ لِبَيَانِ فَضْلِ الصَّلَاةِ، قَالُوا إِذَا قُلْتَ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ الْكَرِيمِ فَلَكَ أَنْ تَجُرَّ الْكَرِيمَ لِكَوْنِهِ صِفَةً لِزَيْدٍ، وَلَكَ أَنْ تَنْصِبَهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْنِي، وَإِنْ شِئْتَ رَفَعْتَ عَلَى تَقْدِيرِ هُوَ الْكَرِيمُ، وَعَلَى هَذَا يُقَالُ: جَاءَنِي قَوْمُكَ الْمُطْعِمِينَ فِي الْمَحَلِّ وَالْمُغِيثُونَ فِي الشَّدَائِدِ، وَالتَّقْدِيرُ جَاءَنِي قَوْمُكَ أَعْنِي الْمَطْعِمِينِ فِي الْمَحَلِّ وَهُمُ الْمُغِيثُونَ فِي الشَّدَائِدِ فَكَذَا هاهنا تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَعْنِي الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَهُمُ الْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، طَعَنَ الْكِسَائِيُّ فِي هَذَا الْقَوْلِ وَقَالَ: النَّصْبُ عَلَى الْمَدْحِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الكلام، وهاهنا لم

[سورة النساء (4) : الآيات 163 إلى 165]

يَتِمَّ الْكَلَامُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مُنْتَظِرٌ لِلْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ هُوَ قَوْلُهُ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً. وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَتِمُّ إِلَّا عِنْدَ قَوْلِهِ أُولئِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْخَبَرَ هُوَ قَوْلُهُ يُؤْمِنُونَ وَأَيْضًا لِمَ لَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِالْمَدْحِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْخَبَرِ، وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِهِ؟ فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكِسَائِيِّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُقِيمِينَ خُفِضَ بِالْعَطْفِ عَلَى (مَا) فِي قَوْلِهِ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمَعْنَى: وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ قَوْلَهُ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُرَادُ بِالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ الْأَنْبِيَاءُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُ شَرْعُ أَحَدٍ مِنْهُمْ مِنَ الصَّلَاةِ. قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَعْدَادًا مِنْهُمْ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ [الْأَنْبِيَاءِ: 73] وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّه بِأَنَّهُمُ الصَّافُّونَ وَهُمُ الْمُسَبِّحُونَ وَأَنَّهُمْ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، فَقَوْلُهُ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يَعْنِي يُؤْمِنُونَ بِالْكُتُبِ، وَقَوْلُهُ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ يعني يُؤْمِنُونَ بِالرُّسُلِ. الرَّابِعُ: جَاءَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ وَالْمُقِيمُونَ الصَّلَاةَ بِالْوَاوِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ وَالْجَحْدَرِيِّ وَعِيسَى الثَّقَفِيِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: الْعُلَمَاءُ بِأَحْكَامِ اللَّه تَعَالَى فَقَطْ. وَالثَّانِي: الْعُلَمَاءُ بِذَاتِ اللَّه وَصِفَاتِ اللَّه فَقَطْ. وَالثَّالِثُ: الْعُلَمَاءُ بِأَحْكَامِ اللَّه وَبِذَاتِ اللَّه، أَمَّا الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ فَهُمُ الْعَالِمُونَ بِأَحْكَامِ اللَّه وَتَكَالِيفِهِ وَشَرَائِعِهِ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُمُ الْعَالِمُونَ بِذَاتِ اللَّه وَبِصِفَاتِهِ الْوَاجِبَةِ وَالْجَائِزَةِ وَالْمُمْتَنِعَةِ، وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَهُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِالْعَامِلِينَ وَهُمْ أَكَابِرُ الْعُلَمَاءِ، وَإِلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «جَالِسِ الْعُلَمَاءَ وَخَالِطِ الْحُكَمَاءَ وَرَافِقِ الْكُبَرَاءَ» . وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ رَاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، ثُمَّ شَرَحَ ذَلِكَ فَبَيَّنَ أَوَّلًا: كَوْنَهُمْ عَالِمِينَ بِأَحْكَامِ اللَّه تَعَالَى وَعَامِلِينَ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ، فَأَمَّا عِلْمُهُمْ بِأَحْكَامِ اللَّه فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَأَمَّا عَمَلُهُمْ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِمَا أَشْرَفَ الطَّاعَاتِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَشْرَفُ الطَّاعَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالزَّكَاةَ أَشْرَفُ الطَّاعَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَلَمَّا شَرَحَ كَوْنَهُمْ عَالِمِينَ بِأَحْكَامِ اللَّه وَعَامِلِينَ بِهَا شَرَحَ بَعْدَ ذَلِكَ كَوْنَهُمْ عَالِمِينَ باللَّه، وَأَشْرَفُ الْمَعَارِفِ الْعِلْمُ بِالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، فَالْعِلْمُ بِالْمَبْدَأِ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْعِلْمُ بِالْمَعَادِ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَمَّا شَرَحَ هَذِهِ الْأَقْسَامَ ظَهَرَ كَوْنُ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ عَالِمِينَ بِأَحْكَامِ اللَّه تَعَالَى وَعَامِلِينَ بِهَا وَظَهَرَ كَوْنُهُمْ عَالِمِينَ باللَّه وَبِأَحْوَالِ الْمَعَادِ، وَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْعُلُومُ وَالْمَعَارِفُ ظَهَرَ كَوْنُهُمْ رَاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ هَذَا الْمَقَامَ فِي الْكَمَالِ وَعُلُوِّ الدَّرَجَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً. [سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 165] إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165)

[في قوله تعالى إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ إلى قوله وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، وَذَكَرَ تَعَالَى بَعْدَهُ أَنَّهُمْ لَا يَطْلُبُونَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الِاسْتِرْشَادِ وَلَكِنْ لِأَجْلِ الْعِنَادِ وَاللَّجَاجِ، وَحَكَى أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنْ فَضَائِحِهِمْ وَقَبَائِحِهِمْ، وَامْتَدَّ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الْمَقَامِ، شَرَعَ الآية فِي الْجَوَابِ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ فَقَالَ: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّا تَوَافَقْنَا عَلَى نُبُوَّةِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَجَمِيعِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَعَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِمْ، وَلَا طَرِيقَ إِلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِمْ أَنْبِيَاءَ اللَّه وَرُسُلَهُ إِلَّا ظُهُورُ الْمُعْجِزَاتِ عَلَيْهِمْ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ كِتَابًا بِتَمَامِهِ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ إِلَى مُوسَى، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ عَدَمُ إِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَى هَؤُلَاءِ دُفْعَةً وَاحِدَةً قَادِحًا فِي نُبُوَّتِهِمْ، بَلْ كَفَى فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّتِهِمْ ظُهُورُ نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَيْهِمْ، عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ زَائِلَةٌ، وَأَنَّ إِصْرَارَ الْيَهُودِ عَلَى طَلَبِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ بَاطِلٌ، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ إِثْبَاتَ الْمَدْلُولِ يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ الدَّلِيلِ، ثُمَّ إِذَا حَصَلَ الدَّلِيلُ وَتَمَّ فَالْمُطَالَبَةُ بِدَلِيلٍ آخَرَ تَكُونُ طَلَبًا لِلزِّيَادَةِ وَإِظْهَارًا لِلتَّعَنُّتِ وَاللَّجَاجِ، واللَّه سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ بِأَنَّهُ لِمَ أَعْطَى هَذَا الرَّسُولَ هَذِهِ الْمُعْجِزَةَ وَذَلِكَ الرَّسُولَ الْآخَرَ مُعْجِزًا آخَرَ، وَهَذَا الْجَوَابُ المذكور هاهنا هُوَ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاءِ: 90] إِلَى قَوْلِهِ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: 93] يَعْنِي أَنَّكَ إِنَّمَا ادَّعَيْتَ الرِّسَالَةَ، وَالرَّسُولُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُعْجِزَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، وَذَلِكَ قَدْ حَصَلَ، وَأَمَّا أَنْ تَأْتِيَ بِكُلِّ مَا يُطْلَبُ مِنْكَ فَذَاكَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الرِّسَالَةِ، فَهَذَا جَوَابٌ مُعْتَمَدٌ عَنِ الشُّبْهَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْيَهُودُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْإِيحَاءُ الْإِعْلَامُ عَلَى سَبِيلِ الْخَفَاءِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مَرْيَمَ: 11] أَيْ أَشَارَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي [الْمَائِدَةِ: 111] وَقَالَ وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النَّحْلِ: 68] وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى [الْقَصَصِ: 7] وَالْمُرَادُ بِالْوَحْيِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَةِ الْإِلْهَامُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالُوا إِنَّمَا بَدَأَ تَعَالَى بِذِكْرِ نُوحٍ لِأَنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ شَرَعَ اللَّه تَعَالَى عَلَى لِسَانِهِ الْأَحْكَامَ وَالْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ثُمَّ خَصَّ بَعْضَ النَّبِيِّينَ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِمْ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ كَقَوْلِهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: 98] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سِوَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اثْنَا عَشَرَ وَلَمْ يُذْكَرْ مُوسَى/ مَعَهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: إِنْ كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ نَبِيًّا فَأْتِنَا بِكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَمَا أَتَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ

بِالتَّوْرَاةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فاللَّه تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ الِاثْنَيْ عَشَرَ كُلُّهُمْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ وَرُسُلًا مَعَ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ مَا أَتَى بِكِتَابٍ مِثْلِ التَّوْرَاةِ دُفْعَةً واحدة، وإذا كان المقصود من تعديد هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هذا المعنى لم يجر ذكر موسى معهم، ثُمَّ خَتَمَ ذِكْرَ الْأَنْبِيَاءِ بِقَوْلِهِ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً يَعْنِي أَنَّكُمُ اعْتَرَفْتُمْ بِأَنَّ الزَّبُورَ مِنْ عِنْدِ اللَّه، ثُمَّ إِنَّهُ مَا نَزَلَ عَلَى دَاوُدَ دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي أَلْوَاحٍ مِثْلَ مَا نَزَلَتِ التَّوْرَاةُ دُفْعَةً وَاحِدَةً عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأَلْوَاحِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ نُزُولَ الْكِتَابِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي نَزَلَتِ التَّوْرَاةُ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِ الْكِتَابِ مِنْ عِنْدِ اللَّه، وَهَذَا إِلْزَامٌ حَسَنٌ قَوِيٌّ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الزَّبُورُ الْكِتَابُ، وَكُلُّ كِتَابٍ زَبُورٌ، وَهُوَ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَالرَّسُولِ وَالرَّكُوبِ وَالْحَلُوبِ، وَأَصْلُهُ مِنْ زَبَرْتُ بِمَعْنَى كَتَبْتُ، وقد ذكرنا ما فيه عند قوله جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ [آلِ عِمْرَانَ: 184] . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ زَبُوراً بِضَمِّ الزَّايِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، حُجَّةُ حَمْزَةَ أَنَّ الزَّبُورَ مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِمْ: ضَرْبُ الْأَمِيرِ، وَنَسْجُ فُلَانٍ فَصَارَ اسْمًا ثُمَّ جُمِعَ عَلَى زُبُرٍ كَشُهُودٍ وَشُهُدٍ، وَالْمَصْدَرُ إِذَا أُقِيمَ مَقَامَ الْمَفْعُولِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ جَمْعُهُ كَمَا يُجْمَعُ الْكِتَابُ عَلَى كُتُبٍ، فَعَلَى هَذَا، الزَّبُورُ الْكِتَابُ، وَالزُّبُرُ بِضَمِّ الزَّايِ الْكُتُبُ، أَمَّا قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ فَهِيَ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَشْهَرُ، وَالْقِرَاءَةُ بِهَا أَكْثَرُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ انْتَصَبَ قَوْلُهُ رُسُلًا بِمُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ أَحْوَالَ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْقُرْآنِ، وَالْأَكْثَرُونَ غَيْرُ مَذْكُورِينَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ. ثُمَّ قَالَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً وَالْمُرَادُ أَنَّهُ بَعَثَ كُلَّ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَخَصَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالتَّكَلُّمِ مَعَهُ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ تَخْصِيصِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذَا التَّشْرِيفِ الطَّعْنُ فِي نُبُوَّةِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ تَخْصِيصِ مُوسَى بِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً طَعْنٌ فِيمَنْ أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِ الْكِتَابَ لَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب أنهما قرءا وَكَلَّمَ اللَّهُ بِالنَّصْبِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَكَلَّمَ اللَّه مَعْنَاهُ وَجَرَحَ اللَّه مُوسَى بِأَظْفَارِ الْمِحَنِ وَمَخَالِبِ الْفِتَنِ وَهَذَا تَفْسِيرٌ بَاطِلٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ رُسُلًا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْأَوْجَهُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَدْحِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ انْتَصَبَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ وَرُسُلًا الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا فَيَكُونُ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ أَيْضًا جَوَابٌ عَنْ شُبْهَةِ الْيَهُودِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ بِعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُبَشِّرُوا الْخَلْقَ عَلَى اشْتِغَالِهِمْ بِعُبُودِيَّةِ اللَّه، وَأَنْ يُنْذِرُوهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الْبِعْثَةِ، فَإِذَا حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ فَقَدْ كَمُلَ الْغَرَضُ وَتَمَّ الْمَطْلُوبُ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ حَاصِلٌ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى بَيَانِ هَذَا الْمَطْلُوبِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ حَالُ هذا المطلوب

[سورة النساء (4) : آية 166]

بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْكِتَابُ مَكْتُوبًا فِي الْأَلْوَاحِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَبِأَنْ يَكُونَ نَازِلًا دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا، بَلْ لَوْ قِيلَ: إِنَّ إِنْزَالَ الْكِتَابِ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا أَقْرَبُ إِلَى الْمَصْلَحَةِ لَكَانَ أَوْلَى لِأَنَّ الْكِتَابَ إِذَا نَزَلَ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَثُرَتِ التَّكَالِيفُ وَتَوَجَّهَتْ بِأَسْرِهَا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فَيَثْقُلُ عَلَيْهِمْ قَبُولُهَا، وَلِهَذَا السَّبَبِ أَصَرَّ قَوْمُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى التَّمَرُّدِ وَلَمْ يَقْبَلُوا تِلْكَ التَّكَالِيفَ، أَمَّا إِذَا نَزَلَ الْكِتَابُ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، بَلْ يُنْزِلُ التَّكَالِيفَ شَيْئًا فَشَيْئًا وَجُزْءًا فَجُزْءًا، فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ مِنَ الْقَوْمِ وَحَاصِلُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ بِعْثَةِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ هُوَ الْإِعْذَارُ وَالْإِنْذَارُ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ سَوَاءٌ نَزَلَ الْكِتَابُ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَكَانَ اقْتِرَاحُ الْيَهُودِ فِي إِنْزَالِ الْكِتَابِ دُفْعَةً وَاحِدَةً اقْتِرَاحًا فَاسِدًا. وَهَذَا أَيْضًا جَوَابٌ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً يَعْنِي هَذَا الَّذِي يَطْلُبُونَهُ مِنَ الرَّسُولِ أَمْرٌ هَيِّنٌ فِي الْقُدْرَةِ، وَلَكِنَّكُمْ طَلَبْتُمُوهُ عَلَى سَبِيلِ اللَّجَاجِ وَهُوَ تَعَالَى عَزِيزٌ، وَعِزَّتُهُ تَقْتَضِي أَنْ لَا يُجَابَ الْمُتَعَنِّتُ إِلَى مَطْلُوبِهِ فَكَذَلِكَ حِكْمَتُهُ تَقْتَضِي هَذَا الِامْتِنَاعَ لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَبَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى لَجَاجِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا التَّشْرِيفَ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَوْمُهُ بَقُوا مَعَهُ عَلَى الْمُكَابَرَةِ وَالْإِصْرَارِ وَاللَّجَاجِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالسَّمْعِ قَالُوا لِأَنَّ قَوْلَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَبْلَ الْبِعْثَةِ يَكُونُ لِلنَّاسِ حُجَّةٌ فِي تَرْكِ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: 15] وَقَوْلُهُ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه: 134] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَحْتَجُّ عَلَى الرَّبِّ، وَأَنَّ الَّذِي يَقُولُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ كَمَا يَشَاءُ لَيْسَ بِشَيْءٍ قَالُوا: لِأَنَّ قَوْلَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ يَقْتَضِي أَنَّ لَهُمْ عَلَى اللَّه حُجَّةً قَبْلَ الرُّسُلِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّه حُجَّةٌ أَيْ مَا يُشْبِهُ الْحُجَّةَ فِيمَا بَيْنَكُمْ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: وَتَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ عَدَمَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِذَا كَانَ يَصْلُحُ عُذْرًا فَبِأَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْمُكْنَةِ وَالْقُدْرَةِ صَالِحًا لِأَنْ يَكُونَ عُذْرًا كَانَ أولى، وجوابه المعارضة بالعلم واللَّه أعلم. [سورة النساء (4) : آية 166] لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) [في قَوْلُهُ تَعَالَى لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ] وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ لكِنِ لَا يُبْتَدَأُ بِهِ لِأَنَّهُ اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا سَبَقَ، وَفِي ذَلِكَ الْمُسْتَدْرَكِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ بِأَسْرِهَا جَوَابٌ عَنْ قوله يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ [النِّسَاءِ: 153] وَهَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَيْسَ كِتَابًا نَازِلًا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُمْ وَإِنْ شَهِدُوا بِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ لَكِنَّ اللَّه يَشْهَدُ بِأَنَّهُ نَازِلٌ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ

[سورة النساء (4) : الآيات 167 إلى 169]

إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [النساء: 163] قَالَ الْقَوْمُ: نَحْنُ لَا نَشْهَدُ لَكَ بِذَلِكَ، فَنَزَلَ لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: شَهَادَةُ اللَّه إِنَّمَا عُرِفَتْ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْقُرْآنَ الْبَالِغَ فِي الْفَصَاحَةِ فِي اللَّفْظِ وَالشَّرَفِ فِي الْمَعْنَى إِلَى حَيْثُ عَجَزَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُعْجِزًا وَإِظْهَارُ الْمُعْجِزَةِ شَهَادَةٌ بِكَوْنِ الْمُدَّعِي صَادِقًا، وَلَمَّا كَانَتْ شَهَادَتُهُ إِنَّمَا عُرِفَتْ بِوَاسِطَةِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ لَا جَرَمَ قَالَ لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَيْ يَشْهَدُ لَكَ بِالنُّبُوَّةِ بِوَاسِطَةِ هَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ بَيَّنَ صِفَةَ ذَلِكَ الْإِنْزَالِ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَهُ بِعِلْمٍ تَامٍّ وَحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، فَصَارَ قَوْلُهُ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ جَارِيًا مَجْرَى قَوْلِ الْقَائِلِ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ وَقَطَعْتُ بِالسِّكِّينِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَصْفُ الْقُرْآنِ بِغَايَةِ الْحُسْنِ وَنِهَايَةِ الْكَمَالِ، وَهَذَا مِثْلُ مَا يُقَالُ فِي الرَّجُلِ الْمَشْهُورِ بِكَمَالِ الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ إِذَا صَنَّفَ كِتَابًا وَاسْتَقْصَى فِي تَحْرِيرِهِ: إِنَّهُ إِنَّمَا صَنَّفَ هَذَا بِكَمَالِ عِلْمِهِ وَفَضْلِهِ، يَعْنِي أَنَّهُ اتَّخَذَ جُمْلَةَ عُلُومِهِ آلَةً وَوَسِيلَةً إِلَى تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى وَصْفِ ذَلِكَ التَّصْنِيفِ بِغَايَةِ الْجَوْدَةِ ونهاية الحسن، فكذا هاهنا واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ للَّه تَعَالَى عِلْمًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ عِلْمِ اللَّه تَعَالَى، وَلَوْ كَانَ عِلْمُهُ نَفْسَ ذَاتِهِ لَزِمَ إِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ. ثُمَّ قَالَ: وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَإِنَّمَا تُعْرَفُ شَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ ظُهُورَ الْمُعْجِزِ عَلَى يَدِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى شَهِدَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ، وَإِذَا شَهِدَ اللَّه لَهُ بِذَلِكَ فَقَدْ شَهِدَتِ الْمَلَائِكَةُ لَا مَحَالَةَ بِذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُمْ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، وَالْمَقْصُودُ كَأَنَّهُ قِيلَ: يَا مُحَمَّدُ إِنْ كَذَّبَكَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ فَلَا تُبَالِ بِهِمْ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ إِلَهُ العالمين يصدقك في ذلك، وملائكة السموات السَّبْعِ يُصَدِّقُونَكَ فِي ذَلِكَ، وَمَنْ صَدَّقَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَمَلَائِكَةُ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالسَّمَوَاتِ السَّبْعِ أَجْمَعُونَ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى تَكْذِيبِ أَخَسِّ النَّاسِ، وَهُمْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً وَالْمَعْنَى وَكَفَى اللَّه شَهِيدًا، وَقَدْ سَبَقَ الكلام في مثل هذا. [سورة النساء (4) : الآيات 167 الى 169] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ صِفَاتِ الْيَهُودِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ وَبِالْقُرْآنِ وَصَدُّوا غَيْرَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّه، وَذَلِكَ بِإِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ فِي قُلُوبِهِمْ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ رَسُولًا لَأَتَى/ بِكِتَابِهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً مِنَ السَّمَاءِ كَمَا نَزَلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى لَا تُبَدَّلُ وَلَا تُنْسَخُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَكُونُونَ إِلَّا مِنْ وَلَدِ هَارُونَ وَدَاوُدَ، وَقَوْلُهُ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً وَذَلِكَ لِأَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ ضَلَالًا مَنْ كَانَ ضَالًّا وَيَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ مُحِقٌّ، ثُمَّ إِنَّهُ يَتَوَسَّلُ بِذَلِكَ الضَّلَالِ إِلَى اكْتِسَابِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَبْذُلُ كُنْهَ جُهْدِهِ فِي إِلْقَاءِ غَيْرِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الضَّلَالِ، فَهَذَا الْإِنْسَانُ لَا شَكَّ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ في الضلال

[سورة النساء (4) : آية 170]

إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ وَأَعْظَمِ النِّهَايَاتِ، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً وَلَمَّا وَصَفَ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ ضَلَالِهِمْ ذَكَرَ بَعْدَهُ وَعِيدَهُمْ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا مُحَمَّدًا بِكِتْمَانِ ذِكْرِ بِعْثَتِهِ وَظَلَمُوا عَوَامَّهُمْ بِإِلْقَاءِ الشُّبَهَاتِ فِي قُلُوبِهِمْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّا إِنْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى إِضْمَارِ شَرْطٍ فِي هَذَا الْوَعِيدِ، لِأَنَّا نَحْمِلُ الْوَعِيدَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَقْوَامٍ عَلِمَ اللَّه مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ أَضْمَرْنَا فِيهِ شَرْطَ عَدَمِ التَّوْبَةِ، ثُمَّ قَالَ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَهْدِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ بَلْ يَهْدِيهِمْ إِلَى طَرِيقِ جَهَنَّمَ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً انْتَصَبَ خَالِدِينَ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى لَا لِيَهْدِيَهُمْ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نُعَاقِبُهُمْ خَالِدِينَ، وَانْتَصَبَ أَبَداً عَلَى الظَّرْفِ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّه يَسِيرًا، وَالْمَعْنَى لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَكَانَ إِيصَالُ الْأَلَمِ إِلَيْهِمْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ يَسِيرًا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَذِّرًا عَلَى غَيْرِهِ. [سورة النساء (4) : آية 170] يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَجَابَ عَنْ شُبْهَةِ الْيَهُودِ عَلَى الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ وَبَيَّنَ فَسَادَ طَرِيقَتِهِمْ ذَكَرَ خِطَابًا عَامًّا يَعُمُّهُمْ وَيَعُمُّ غَيْرَهُمْ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ وَهَذَا الْحَقُّ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ جَاءَ بِالْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ مُعْجِزٌ فَيَلْزَمُ أَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَاءَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّه وَالْإِعْرَاضِ عَنْ غَيْرِهِ، وَالْعَقْلُ/ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَقُّ، فَيَلْزَمُ أَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ يَعْنِي فَآمِنُوا يَكُنْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ خَيْرًا لَكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، أَيْ أَحْمَدَ عَاقِبَةً مِنَ الْكُفْرِ، وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّه غني عن إيمانكم لأنه مالك السموات وَالْأَرْضِ وَخَالِقُهُمَا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إِلَى شَيْءٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: فإن للَّه ما في السموات وَالْأَرْضِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِنْزَالِ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَلَيْكُمْ لَوْ كَفَرْتُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَنَّكُمْ إِنْ كَفَرْتُمْ فَلَهُ ملك السموات وَالْأَرْضِ وَلَهُ عَبِيدٌ يَعْبُدُونَهُ وَيَنْقَادُونَ لِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أَيْ عَلِيمًا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ عباده المؤمنين والكافرين شيء، وحكيما لَا يَضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْهُمْ وَلَا يُسَوِّي بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْمُسِيءِ وَالْمُحْسِنِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] . [سورة النساء (4) : الآيات 171 الى 173] يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173)

[في قوله تعالى يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ إلى قوله وَرُوحٌ مِنْهُ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَجَابَ عَنْ شُبُهَاتِ الْيَهُودِ تَكَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ النَّصَارَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ النَّصَارَى لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ أَيْ لَا تُفْرِطُوا فِي تَعْظِيمِ الْمَسِيحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ يُبَالِغُونَ فِي الطَّعْنِ فِي الْمَسِيحِ، وَهَؤُلَاءِ النَّصَارَى يُبَالِغُونَ فِي تَعْظِيمِهِ وَكِلَا طَرَفَيْ قَصْدِهِمْ ذَمِيمٌ، فَلِهَذَا قَالَ لِلنَّصَارَى لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَقَوْلُهُ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ يَعْنِي لَا تَصِفُوا اللَّه بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ أَوْ رُوحِهِ، وَنَزِّهُوهُ عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ. وَلَمَّا مَنَعَهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْغُلُوِّ أَرْشَدَهُمْ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ، وَهُوَ أَنَّ الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّه وَعَبْدُهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ. فَاعْلَمْ أَنَّا فَسَّرْنَا (الْكَلِمَةَ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ [آلِ عِمْرَانَ: 45] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ وُجِدَ بِكَلِمَةِ اللَّه وَأَمْرِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَلَا نُطْفَةٍ كَمَا قَالَ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آلِ عِمْرَانَ: 59] أما قَوْلُهُ وَرُوحٌ مِنْهُ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ أَنَّهُمْ إِذَا وَصَفُوا شَيْئًا بِغَايَةِ الطَّهَارَةِ وَالنَّظَافَةِ قَالُوا: إِنَّهُ رُوحٌ، فَلَمَّا كَانَ عِيسَى لَمْ يَتَكَوَّنْ مِنْ نُطْفَةِ الْأَبِ وَإِنَّمَا تَكَوَّنُ مِنْ نَفْخَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا جَرَمَ وُصِفَ بِأَنَّهُ رُوحٌ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ مِنْهُ التَّشْرِيفُ وَالتَّفْضِيلُ كَمَا يُقَالُ: هَذِهِ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّه، وَالْمُرَادُ كَوْنُ تِلْكَ النِّعْمَةِ كَامِلَةً شَرِيفَةً. الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ سَبَبًا لِحَيَاةِ الْخَلْقِ فِي أَدْيَانِهِمْ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ وُصِفَ بِأَنَّهُ رُوحٌ. قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشُّورَى: 52] الثَّالِثُ: رُوحٌ مِنْهُ أَيْ رَحْمَةٌ مِنْهُ، قِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [الْمُجَادَلَةِ: 22] أَيْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» فَلَمَّا كَانَ عِيسَى رَحْمَةً مِنَ اللَّه عَلَى الْخَلْقِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ كَانَ يُرْشِدُهُمْ إِلَى مَصَالِحِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ لَا جَرَمَ سُمِّيَ رُوحًا مِنْهُ. الرَّابِعُ: / أَنَّ الرُّوحَ هُوَ النَّفْخُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَإِنَّ الرُّوحَ وَالرِّيحَ مُتَقَارِبَانِ، فَالرُّوحُ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْخَةِ جِبْرِيلَ وَقَوْلُهُ مِنْهُ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ النَّفْخَ مِنْ جِبْرِيلَ كَانَ بِأَمْرِ اللَّه وَإِذْنِهِ فَهُوَ مِنْهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا [الأنبياء: 91] الْخَامِسُ: قَوْلُهُ رُوحٌ أَدْخَلَ التَّنْكِيرَ فِي لَفْظِ رُوحٌ وَذَلِكَ يُفِيدُ التَّعْظِيمَ، فَكَانَ الْمَعْنَى: وَرُوحٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ الشَّرِيفَةِ الْقُدُسِيَّةِ الْعَالِيَةِ، وَقَوْلُهُ مِنْهُ إِضَافَةٌ لِذَلِكَ الرُّوحِ إِلَى نَفْسِهِ لِأَجْلِ التَّشْرِيفِ وَالتَّعْظِيمِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أَيْ أَنَّ عِيسَى مِنْ رُسُلِ اللَّه فَآمِنُوا بِهِ كَإِيمَانِكُمْ بِسَائِرِ الرُّسُلِ وَلَا تَجْعَلُوهُ إِلَهًا. ثُمَّ قَالَ: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى: وَلَا تَقُولُوا إِنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ بِالْجَوْهَرِ ثَلَاثَةٌ بِالْأَقَانِيمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ النَّصَارَى مَجْهُولٌ جِدًّا، وَالَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْهُ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا ذَاتًا مَوْصُوفَةً بِصِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ وَإِنْ سَمَّوْهَا صِفَاتٍ فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ ذَوَاتٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ عَلَيْهَا الْحُلُولَ فِي عِيسَى وَفِي مَرْيَمَ

بِأَنْفُسِهَا، وَإِلَّا لَمَا جَوَّزُوا عَلَيْهَا أَنْ تَحِلَّ فِي الْغَيْرِ وَأَنْ تُفَارِقَ ذَلِكَ الْغَيْرَ مَرَّةً أُخْرَى، فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا يُسَمُّونَهَا بِالصِّفَاتِ إِلَّا أَنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ يُثْبِتُونَ ذَوَاتٍ مُتَعَدِّدَةً قَائِمَةً بِأَنْفُسِهَا، وَذَلِكَ مَحْضُ الْكُفْرِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا فَأَمَّا إِنْ حَمَلْنَا الثَّلَاثَةَ عَلَى أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ صِفَاتٍ ثَلَاثَةً، فَهَذَا لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ، وَكَيْفَ لَا نَقُولُ ذَلِكَ وَإِنَّا نَقُولُ: هُوَ اللَّه الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْعَالِمُ الْحَيُّ الْقَادِرُ الْمُرِيدُ، وَنَفْهَمُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ غَيْرَ مَا نَفْهَمُهُ مِنَ اللَّفْظِ الْآخَرِ، وَلَا مَعْنَى لِتَعَدُّدِ الصِّفَاتِ إِلَّا ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ بِتَعَدُّدِ الصِّفَاتِ كُفْرًا لَزِمَ رَدُّ جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَلَزِمَ رَدُّ الْعَقْلِ مِنْ حَيْثُ أَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا غَيْرُ الْمَفْهُومِ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا أَوْ حَيًّا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ ثَلاثَةٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ ذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَاهُ، أَيْ وَلَا تَقُولُوا الْأَقَانِيمُ ثَلَاثَةٌ. الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَا تَقُولُوا آلِهَتُنَا ثَلَاثَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّه وَالْمَسِيحَ وَمَرْيَمَ ثَلَاثَةُ آلِهَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَةِ: 116] الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ وَلَا تَقُولُوا هُمْ ثَلَاثَةٌ كقوله سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ [الكهف: 22] وذلك لأن ذكر عِيسَى وَمَرْيَمَ مَعَ اللَّه تَعَالَى بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ يُوهِمُ كَوْنَهُمَا إِلَهَيْنِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا نَرَى مَذْهَبًا فِي الدُّنْيَا أَشَدَّ رَكَاكَةً وَبُعْدًا عَنِ الْعَقْلِ مِنْ/ مَذْهَبِ النَّصَارَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ انْتِصَابِهِ عِنْدَ قوله فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ. ثُمَّ أَكَّدَ التَّوْحِيدَ بِقَوْلِهِ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ الْوَلَدِ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ وَدَلَائِلُ تَنْزِيهِ اللَّه عَنِ الْوَلَدِ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَفِي سُورَةِ مَرْيَمَ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: إِنْ يَكُونُ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ أَنْ وَرَفْعِ النُّونِ مِنْ يَكُونَ، أَيْ سُبْحَانَهُ مَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْكَلَامُ جُمْلَتَانِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ الْوَلَدِ ذَكَرَ كَوْنَهُ مَلِكًا وَمَالِكًا لِمَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ فَقَالَ فِي مَرْيَمَ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مَرْيَمَ: 93] وَالْمَعْنَى: مَنْ كَانَ مَالِكًا لكل السموات وَالْأَرْضِ وَلِكُلِّ مَا فِيهَا كَانَ مَالِكًا لِعِيسَى ولمريم لأنهما كانا في السموات وَفِي الْأَرْضِ، وَمَا كَانَا أَعْظَمَ مِنْ غَيْرِهِمَا فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، وَإِذَا كَانَ مَالِكًا لِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُمَا فَبِأَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهُمَا أَوْلَى، وَإِذَا كَانَا مَمْلُوكَيْنِ لَهُ فَكَيْفَ يُعْقَلُ مَعَ هَذَا تَوَهُّمُ كَوْنِهِمَا لَهُ وَلَدًا وَزَوْجَةً. ثُمَّ قَالَ: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ كَافٍ فِي تَدْبِيرِ الْمَخْلُوقَاتِ وَفِي حِفْظِ الْمُحْدَثَاتِ فَلَا حَاجَةَ مَعَهُ إِلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ إِلَهٍ آخَرَ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَذْكُرُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ كَانَ كَافِيًا فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَلَوْ فَرَضْنَا إِلَهًا آخَرَ مَعَهُ لَكَانَ مُعَطَّلًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَذَلِكَ نَقْصٌ، وَالنَّاقِصُ لَا يَكُونُ إِلَهًا. ثُمَّ قال تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ: لَنْ يَسْتَنْكِفَ أَيْ لَنْ يَأْنَفَ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنْ نَكَفْتُ الدَّمْعَ إِذَا نَحَّيْتَهُ بإصبعك عن خدك، فتأويل نْ يَسْتَنْكِفَ أي لن يتنغص ولم يَمْتَنِعَ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: سَمِعْتُ الْمُنْذِرِيَّ يَقُولُ:

سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الِاسْتِنْكَافِ فَقَالَ: هُوَ مِنَ النَّكْفِ، يُقَالُ مَا عَلَيْهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ مِنْ نَكْفٍ وَلَا وَكْفٍ، وَالنَّكْفُ أَنْ يُقَالَ لَهُ سُوءٌ، وَاسْتَنْكَفَ إِذَا دَفَعَ ذَلِكَ السُّوءَ عَنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِمَ تَعِيبُ صَاحِبَنَا قَالَ: وَمَنْ صَاحِبُكُمْ؟ قَالُوا عِيسَى، قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ قُلْتُ؟ قَالُوا تَقُولُ إِنَّهُ عَبْدُ اللَّه وَرَسُولُهُ، قَالَ إِنَّهُ/ لَيْسَ بِعَارٍ أَنْ يَكُونَ عَبْدَ اللَّه، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقَامَ الْحُجَّةَ الْقَاطِعَةَ عَلَى أَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّه، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنًا لَهُ أَشَارَ بَعْدَهُ إِلَى حِكَايَةِ شُبْهَتِهِمْ وَأَجَابَ عَنْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ الَّتِي عَلَيْهَا يُعَوِّلُونَ فِي إِثْبَاتِ أَنَّهُ ابْنُ اللَّه هُوَ أَنَّهُ كَانَ يُخْبِرُ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ وَكَانَ يَأْتِي بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ مِنَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِبْرَاءِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قال: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ بِسَبَبِ هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ أَعْلَى حَالًا مِنْهُ فِي الْعِلْمِ بِالْمُغَيَّبَاتِ لِأَنَّهُمْ مُطَّلِعُونَ عَلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَأَعْلَى حَالًا مِنْهُ فِي الْقُدْرَةِ لِأَنَّ ثَمَانِيَةً مِنْهُمْ حَمَلُوا الْعَرْشَ عَلَى عَظَمَتِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ كمال حالهم في العلوم والقدرة لا يَسْتَنْكِفُوا عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّه، فَكَيْفَ يَسْتَنْكِفُ الْمَسِيحُ عَنْ عُبُودِيَّتِهِ بِسَبَبِ هَذَا الْقَدْرِ الْقَلِيلِ الَّذِي كَانَ مَعَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَإِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ صَارَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مُتَنَاسِبَةً مُتَتَابِعَةً وَمُنَاظَرَةً شَرِيفَةً كَامِلَةً، فَكَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اسْتَدَلَّ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا اسْتِدْلَالَهُمْ بِهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْبَقَرَةِ: 34] وَأَجَبْنَا عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِوُجُوهٍ كثيرة، والذي نقول هاهنا: إِنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ اطِّلَاعَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ أَكْثَرُ مِنَ اطِّلَاعِ الْبَشَرِ عَلَيْهَا وَنُسَلِّمُ أَنَّ قُدْرَةَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي هَذَا الْعَالَمِ أَشَدُّ مِنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، كَيْفَ وَيُقَالُ: إِنَّ جبريل قلع مدائن قوله لُوطٍ بِرِيشَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ جَنَاحِهِ إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ ثَوَابَ طَاعَاتِ الْمَلَائِكَةِ أَكْثَرُ أَمْ ثَوَابَ طَاعَاتِ الْبَشَرِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْبَتَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّصَارَى إِنَّمَا أَثْبَتُوا إِلَهِيَّةَ عِيسَى بِسَبَبِ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ الْغُيُوبِ وَأَتَى بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ. فَإِيرَادُ الْمَلَائِكَةِ لِأَجْلِ إِبْطَالِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إِذَا كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ أَقْوَى حَالًا فِي هَذَا الْعِلْمِ، وَفِي هَذِهِ الْقُدْرَةِ مِنَ الْبَشَرِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ. فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ تَفْضِيلُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمَسِيحِ فِي كَثْرَةِ الثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَاتِ فَذَلِكَ مِمَّا لَا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَوْضِعَ وَلَا يَلِيقُ بِهِ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ إِنَّمَا قَوِيَ فِي الْأَوْهَامِ لِأَنَّ النَّاسَ مَا لَخَّصُوا مَحَلَّ النِّزَاعِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعْطُوفُونَ عَلَى الْمَسِيحِ فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ فِي أَنْ يَكُونُوا عَبِيدًا للَّه وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَالْجَوَابُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ المراد ولا كل واحد من المقربين. الثاني: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ أَنْ يكونوا عبيدا فحذف ذلك لدلالة قوله بْداً لِلَّهِ عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْإِيجَازِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ (عبيد اللَّه) على التصغير. المسألة السادسة: قوله لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَبَقَاتِ الْمَلَائِكَةِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الدَّرَجَةِ وَالْفَضِيلَةِ فَالْأَكَابِرُ مِنْهُمْ مِثْلَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَعِزْرَائِيلَ وَحَمَلَةِ الْعَرْشِ، وَقَدْ شَرَحْنَا طَبَقَاتِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [الْبَقَرَةِ: 30] .

[سورة النساء (4) : الآيات 174 إلى 175]

ثم قال تعالى: مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنِ اسْتَنْكَفَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّه وَاسْتَكْبَرَ عَنْهَا فَإِنَّ اللَّه يَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ أَيْ يَجْمَعُهُمْ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَيْثُ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يَحْشُرُ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَنْكِفِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ لَمْ يَذْكُرْ مَا يَفْعَلُ بِهِمْ بَلْ ذَكَرَ أَوَّلًا ثَوَابَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُطِيعِينَ. فَقَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ثُمَّ ذَكَرَ آخِرًا عِقَابَ الْمُسْتَنْكِفِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ. فَقَالَ: وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً وَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ ثَوَابَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى عِقَابِ الْمُسْتَنْكِفِينَ لِأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا أَوَّلًا ثَوَابَ الْمُطِيعِينَ ثُمَّ شَاهَدُوا بَعْدَهُ عِقَابَ أَنْفُسِهِمْ كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ فِي الحسرة. [سورة النساء (4) : الآيات 174 الى 175] يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى: لَمَّا أَوْرَدَ الْحُجَّةَ عَلَى جَمِيعِ الْفِرَقِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَجَابَ عَنْ جَمِيعِ شُبُهَاتِهِمْ عَمَّمَ الْخِطَابَ. وَدَعَا جَمِيعَ النَّاسِ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَالْبُرْهَانُ هُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ بُرْهَانًا لِأَنَّ حِرْفَتَهُ إِقَامَةُ الْبُرْهَانِ عَلَى تَحْقِيقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، وَالنُّورُ الْمُبِينُ هُوَ/ الْقُرْآنُ، وَسَمَّاهُ نُورًا لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِوُقُوعِ نُورِ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ، وَلَمَّا قَرَّرَ عَلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ كَوْنَ مُحَمَّدٍ رَسُولًا وَكَوْنَ الْقُرْآنِ كِتَابًا حَقًّا أَمَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَعَدَهُمْ عَلَيْهِ بِالثَّوَابِ فَقَالَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ وَالْمُرَادُ آمَنُوا باللَّه فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَاعْتَصَمُوا بِهِ أَيْ باللَّه فِي أَنْ يُثَبِّتَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَيَصُونَهُمْ عَنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ وَيُدْخِلَهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مستقيما، فَوَعَدَ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالْهِدَايَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرَّحْمَةُ الْجَنَّةُ، وَالْفَضْلُ مَا يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً يُرِيدُ دِينًا مُسْتَقِيمًا. وَأَقُولُ: الرَّحْمَةُ وَالْفَضْلُ مَحْمُولَانِ عَلَى مَا فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَأَمَّا الْهِدَايَةُ فَالْمُرَادُ مِنْهَا السَّعَادَاتُ الْحَاصِلَةُ بِتَجَلِّي أَنْوَارِ عَالِمِ الْقُدْسِ وَالْكِبْرِيَاءِ فِي الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ وَهَذَا هُوَ السَّعَادَةُ الرُّوحَانِيَّةُ، وَأَخَّرَ ذِكْرَهَا عَنِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْبَهْجَةَ الرُّوحَانِيَّةَ أَشْرَفُ من اللذات الجسمانية. [سورة النساء (4) : آية 176] يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إلى قوله فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى تَكَلَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ وَخَتَمَ آخِرَهَا بِذَلِكَ لِيَكُونَ الْآخِرُ مُشَاكِلًا لِلْأَوَّلِ، وَوَسَطُ السُّورَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمُنَاظَرَةِ مَعَ الْفِرَقِ الْمُخَالِفِينَ لِلدِّينِ. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ فِي الْكَلَالَةِ آيَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا فِي الشِّتَاءِ وَهِيَ الَّتِي فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَالْأُخْرَى فِي الصَّيْفِ وَهِيَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلِهَذَا تُسَمَّى هَذِهِ الْآيَةُ آيَةَ الصَّيْفِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَلَالَةَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى/ الْوَارِثِ وَعَلَى الْمَوْرُوثِ، فَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْوَارِثِ فَهُوَ مَنْ سِوَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ، وَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْمَوْرُوثِ فَهُوَ الَّذِي مَاتَ وَلَا يَرِثُهُ أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْأَوْلَادِ، ثُمَّ قَالَ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ ارْتَفَعَ امْرُؤٌ بِمُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ، وَمَحَلُّ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ الرَّفْعُ عَلَى الصِّفَةِ، أَيْ إِنْ هَلَكَ امْرُؤٌ غَيْرُ ذِي وَلَدٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِ تَقْيِيدَاتٌ ثَلَاثٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْأُخْتَ تَأْخُذُ النِّصْفَ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ، فَأَمَّا عِنْدَ وُجُودِ الْوَلَدِ فَإِنَّهَا لَا تَأْخُذُ النِّصْفَ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ شَرْطُ كَوْنِ الْأُخْتِ تَأْخُذُ النِّصْفَ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمَيِّتِ وَلَدُ ابْنٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ بِنْتٌ فَإِنَّ الْأُخْتَ تَأْخُذُ النِّصْفَ. الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ فَإِنَّ الْأُخْتَ تَأْخُذُ النِّصْفَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الشَّرْطُ أَنْ لَا يكون للميت ولد ولا والد، وذلك لأن الْأُخْتَ لَا تَرِثُ مَعَ الْوَالِدِ بِالْإِجْمَاعِ. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَلَهُ أُخْتٌ الْمُرَادُ مِنْهُ الْأُخْتُ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ، أَوْ مِنَ الْأَبِ، لِأَنَّ الْأُخْتَ مِنَ الْأُمِّ وَالْأَخَ مِنَ الْأُمِّ قَدْ بَيَّنَ اللَّه حُكْمَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِالْإِجْمَاعِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ يَعْنِي أَنَّ الْأَخَ يَسْتَغْرِقُ مِيرَاثَ الْأُخْتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْأُخْتِ وَلَدٌ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْأَخَ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْ مِنَ الْأَبِ، أَمَّا الْأَخُ مِنَ الْأُمِّ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَغْرِقُ الْمِيرَاثَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأُخْتَ الْمَذْكُورَةَ لَيْسَتْ هِيَ الْأُخْتُ مِنَ الْأُمِّ فَقَطْ، وَرُوِيَ أَنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَلَا إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّه فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي الْفَرَائِضِ، فَأَوَّلُهَا: فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، وَثَانِيهَا: فِي الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ، وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ بِهَا سُورَةَ النِّسَاءِ أَنْزَلَهَا فِي الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ بِهَا سُورَةَ الْأَنْفَالِ أَنْزَلَهَا فِي أُولِي الْأَرْحَامِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وفيه وجوه: الأول: قال البصريون: المضاف هاهنا مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ: يُبَيِّنُ اللَّه لَكُمْ كَرَاهَةَ أَنْ تضلوا، إلا أنه حذف المضاف كقوله وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] الثَّانِي: قَالَ الْكُوفِيُّونَ: حَرْفُ النَّفْيِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: يُبَيِّنُ اللَّه لَكُمْ لِئَلَّا تَضِلُّوا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فَاطِرٍ: 41] أَيْ لِئَلَّا تَزُولَا. الثَّالِثُ: قَالَ الْجُرْجَانِيُّ صَاحِبُ «النَّظْمِ» : يُبَيِّنُ اللَّه لَكُمُ الضَّلَالَةَ لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا ضَلَالَةٌ فَتَجَنَّبُوهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَيَكُونُ بَيَانُهُ حَقًّا وَتَعْرِيفُهُ صِدْقًا. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لَطِيفَةً عَجِيبَةً، وَهِيَ أَنَّ أَوَّلَهَا مُشْتَمِلٌ عَلَى بَيَانِ كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى فَإِنَّهُ قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ [النِّسَاءِ: 1] وَهَذَا دَالٌّ عَلَى سَعَةِ الْقُدْرَةِ، وَآخِرَهَا مُشْتَمِلٌ عَلَى بَيَانِ كَمَالِ الْعِلْمِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَهَذَانِ الْوَصْفَانِ هُمَا اللَّذَانِ بِهِمَا تَثْبُتُ الرُّبُوبِيَّةُ وَالْإِلَهِيَّةُ وَالْجَلَالَةُ وَالْعِزَّةُ، وَبِهِمَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ مُطِيعًا لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي مُنْقَادًا لِكُلِّ التَّكَالِيفِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فَرَغْتُ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ ثَانِيَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ سَنَةِ خمس وتسعين وخمسمائة.

سورة المائدة (5)

بسم الله الرحمن الرحيم سورة المائدة (5) مدنية وآياتها مائة وعشرون [سورة المائدة (5) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: وَفَى بِالْعَهْدِ وَأَوْفَى بِهِ، ومنه الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 177] وَالْعَقْدُ هُوَ وَصْلُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِيثَاقِ وَالْإِحْكَامِ، وَالْعَهْدُ إِلْزَامٌ، وَالْعَقْدُ الْتِزَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْكَامِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ عِبَارَةً عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَحْكَامِهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ إِظْهَارُ الِانْقِيَادِ للَّه تَعَالَى فِي جَمِيعِ تَكَالِيفِهِ وَأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ فَكَانَ هَذَا الْعَقْدُ أَحَدَ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي تَحَقُّقِ ماهية الإيمان، فلهذا قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يَعْنِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ الْتَزَمْتُمْ بِإِيمَانِكُمْ أَنْوَاعَ الْعُقُودِ وَالْعُهُودِ فِي إِظْهَارِ طَاعَةِ اللَّه أَوْفُوا بِتِلْكَ الْعُقُودِ، وَإِنَّمَا سَمَّى اللَّه تَعَالَى هَذِهِ التَّكَالِيفَ عُقُودًا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى رَبَطَهَا بِعِبَادِهِ كَمَا يُرْبَطُ الشَّيْءُ بِالشَّيْءِ بِالْحَبْلِ الْمُوَثَّقِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى تَارَةً يُسَمِّي هَذِهِ التَّكَالِيفَ عُقُودًا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ [الْمَائِدَةِ: 89] وَتَارَةً عُهُودًا، قَالَ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 40] وَقَالَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ [النَّحْلِ: 91] وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ أَمَرَ بِأَدَاءِ التَّكَالِيفِ فِعْلًا وَتَرْكًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِذَا نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ أَوْ نَذَرَ ذَبْحَ الْوَلَدِ لَغَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: بَلْ يَصِحُّ. حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ نَذَرَ الصَّوْمَ وَالذَّبْحَ فَيَلْزَمُهُ الصَّوْمُ وَالذَّبْحُ، بَيَانُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ، وَنَذَرَ ذبح الولد، وصوم يوم الْعِيدِ مَاهِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الصَّوْمِ وَمِنْ وُقُوعِهِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ، وَكَذَلِكَ ذَبْحُ الْوَلَدِ مَاهِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الذَّبْحِ وَمِنْ وُقُوعِهِ فِي الْوَلَدِ، وَالْآتِي بِالْمُرَكَّبِ يَكُونُ آتِيًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مُفْرَدَيْهِ، فَمُلْتَزِمُ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ وَذَبْحِ الْوَلَدِ يَكُونُ لَا مَحَالَةَ مُلْتَزِمًا لِلصَّوْمِ وَالذَّبْحِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَالذَّبْحُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفِّ: 2] وَلِقَوْلِهِ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الْإِنْسَانِ: 7] وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فِ بِنَذْرِكَ» أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ لَغَا هَذَا النَّذْرَ فِي خُصُوصِ كَوْنِ الصَّوْمِ وَاقِعًا فِي يَوْمِ الْعِيدِ، وَفِي خُصُوصِ

كَوْنِ الذَّبْحِ وَاقِعًا فِي الْوَلَدِ، إِلَّا أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ. وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّ هَذَا نَذْرٌ فِي الْمَعْصِيَةِ فَيَكُونُ لَغْوًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّه» . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: خِيَارُ الْمَجْلِسِ غَيْرُ ثَابِتٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: ثَابِتٌ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمَّا انْعَقَدَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ الْفَسْخُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ تَخْصِيصُ هَذَا الْعُمُومِ بِالْخَبَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّه: الْجَمْعُ بَيْنَ الطَّلَقَاتِ حَرَامٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَيْسَ بِحَرَامٍ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ مِنَ الْعُقُودِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ [الْبَقَرَةِ: 235] فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ رَفْعُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهَا عَلَى الْأَصْلِ، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه خَصَّصَ هَذَا الْعُمُومَ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ حَرُمَ الْجَمْعُ لَمَا نفذ وقد نفذ فلا يحرم. قَوْلُهُ تَعَالَى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ بِالْآيَةِ الْأُولَى عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُمُ الِانْقِيَادُ لِجَمِيعِ تَكَالِيفِ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ كَالْأَصْلِ الْكُلِّيِّ وَالْقَاعِدَةِ الْجَمِيلَةِ، شَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي ذِكْرِ التَّكَالِيفِ الْمُفَصَّلَةِ، فَبَدَأَ بِذِكْرِ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ فَقَالَ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالُوا: كُلُّ حَيٍّ لَا عَقْلَ لَهُ فَهُوَ بَهِيمَةٌ، مِنْ قَوْلِهِمْ: اسْتَبْهَمَ الْأَمْرُ عَلَى فُلَانٍ إِذَا أَشْكَلَ، وَهَذَا بَابٌ مُبْهَمٌ أَيْ مَسْدُودُ الطَّرِيقِ، ثُمَّ اخْتُصَّ هَذَا الِاسْمُ بِكُلِّ ذَاتِ أَرْبَعٍ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَالْأَنْعَامُ هِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، قَالَ تعالى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ إِلَى قَوْلِهِ وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ [النَّحْلِ: 5- 8] فَفَرَّقَ تَعَالَى بَيْنَ الْأَنْعَامِ وَبَيْنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ. وَقَالَ تَعَالَى: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ [يس: 71، 72] وَقَالَ: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ إِلَى قَوْلِهِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَإِلَى قَوْلِهِ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ [الْأَنْعَامِ: 142- 144] قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: وَلَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْأَنْعَامِ الْحَافِرُ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ نُعُومَةِ الْوَطْءِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي لَفْظِ الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْبَهِيمَةَ اسْمُ الْجِنْسِ، وَالْأَنْعَامَ اسْمُ النَّوْعِ فَقَوْلُهُ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ يَجْرِي مَجْرَى قَوْلِ الْقَائِلِ: حَيَوَانُ الْإِنْسَانِ وَهُوَ مُسْتَدْرَكٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ قَالَ: أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ، لَكَانَ الْكَلَامُ تَامًّا بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ [الحج: 30] فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي زِيَادَةِ لَفْظِ الْبَهِيمَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَ الْبَهِيمَةِ بِلَفْظِ الْوُحْدَانِ، وَلَفْظَ الْأَنْعَامِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟ وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَهِيمَةِ وَبِالْأَنْعَامِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَإِضَافَةُ الْبَهِيمَةِ إِلَى الْأَنْعَامِ لِلْبَيَانِ، وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ بِمَعْنَى مِنْ كَخَاتَمِ فِضَّةٍ، وَمَعْنَاهُ الْبَهِيمَةُ من الأنعام أو للتأكيد كقولنا: نفس

الشَّيْءِ وَذَاتُهُ وَعَيْنُهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَهِيمَةِ شَيْءٌ، وَبِالْأَنْعَامِ شَيْءٌ آخَرُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الظِّبَاءُ وَبَقَرُ الْوَحْشِ وَنَحْوُهَا، كَأَنَّهُمْ أَرَادُوا مَا يُمَاثِلُ الْأَنْعَامَ وَيُدَانِيهَا مِنْ جِنْسِ الْبَهَائِمِ فِي الِاجْتِرَارِ وَعَدَمِ الْأَنْيَابِ، فَأُضِيفَتْ إِلَى الْأَنْعَامِ لِحُصُولِ الْمُشَابَهَةِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ أَجِنَّةُ الْأَنْعَامِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ بَقَرَةً ذُبِحَتْ فَوُجِدَ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ، فَأَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِذَنَبِهَا وَقَالَ: هَذَا مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهَا أَجِنَّةُ الْأَنْعَامِ، وَذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه فِي أَنَّ الْجَنِينَ مُذَكًّى بِذَكَاةِ الْأُمِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الثَّنَوِيَّةُ: ذَبْحُ الْحَيَوَانَاتِ إِيلَامٌ، وَالْإِيلَامُ قَبِيحٌ، وَالْقَبِيحُ لَا يَرْضَى بِهِ/ الْإِلَهُ الرَّحِيمُ الْحَكِيمُ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ حَلَالًا مُبَاحًا بِحُكْمِ اللَّه. قَالُوا: وَالَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ لَيْسَ لَهَا قُدْرَةٌ عَنِ الدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِهَا، وَلَا لَهَا لِسَانٌ تَحْتَجُّ عَلَى مَنْ قَصَدَ إِيلَامَهَا، وَالْإِيلَامُ قَبِيحٌ إِلَّا أَنَّ إِيلَامَ مَنْ بَلَغَ فِي الْعَجْزِ وَالْحَيْرَةِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ أَقْبَحُ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِرَقَ الْمُسْلِمِينَ افْتَرَقُوا فِرَقًا كَثِيرَةً بِسَبَبِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فَقَالَتِ الْمُكْرَمِيَّةُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ تَتَأَلَّمُ عِنْدَ الذَّبْحِ، بَلْ لَعَلَّ اللَّه تَعَالَى يَرْفَعُ أَلَمَ الذَّبْحِ عَنْهَا. وَهَذَا كَالْمُكَابَرَةِ فِي الضَّرُورِيَّاتِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِيلَامَ قَبِيحٌ مُطْلَقًا، بَلْ إِنَّمَا يَقْبُحُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَسْبُوقًا بجناية ولا ملحقا بعوض. وهاهنا اللَّه سُبْحَانَهُ يُعَوِّضُ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ فِي الْآخِرَةِ بِأَعْوَاضٍ شَرِيفَةٍ، وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ هَذَا الذَّبْحُ عَنْ أَنْ يَكُونَ ظُلْمًا، قَالُوا: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ مَا تُقُرِّرَ فِي الْعُقُولِ أَنَّهُ يَحْسُنُ تَحَمُّلُ أَلَمِ الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ لِطَلَبِ الصِّحَّةِ، فَإِذَا حَسُنَ تَحَمُّلُ الْأَلَمِ الْقَلِيلِ لِأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ الْعَظِيمَةِ، فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الذَّبْحِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّ الْإِذْنَ فِي ذَبْحِ الْحَيَوَانَاتِ تَصَرُّفٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى فِي مُلْكِهِ، وَالْمَالِكُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ إِذَا تَصَرَّفَ فِي مُلْكِ نَفْسِهِ، وَالْمَسْأَلَةُ طَوِيلَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ مُجْمَلٌ، لِأَنَّ الْإِحْلَالَ إِنَّمَا يضاف إلى الأفعال، وهاهنا أُضِيفَ إِلَى الذَّاتِ فَتَعَذَّرَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ فِعْلٍ، وَلَيْسَ إِضْمَارُ بَعْضِ الْأَفْعَالِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِحْلَالَ الِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهَا أَوْ عَظْمِهَا أَوْ صُوفِهَا أَوْ لَحْمِهَا، أَوِ الْمُرَادُ إِحْلَالُ الِانْتِفَاعِ بِالْأَكْلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لِلْكُلِّ فَصَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً، إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ [النَّحْلِ: 5] دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بها من كل هذه الوجوه. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ أَلْحَقَ بِهِ نَوْعَيْنِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مُجْمَلٌ، وَاسْتِثْنَاءُ الْكَلَامِ الْمُجْمَلِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُفَصَّلِ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مُجْمَلًا أَيْضًا، إِلَّا أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ الْمَذْكُورُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة: 3] وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ يَقْتَضِي إِحْلَالَهَا لَهُمْ عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَيْتَةً، أَوْ مَوْقُوذَةً أَوْ مُتَرَدِّيَةً أَوْ نَطِيحَةً أَوِ افْتَرَسَهَا السَّبُعُ أَوْ ذُبِحَتْ عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللَّه تَعَالَى فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ.

[سورة المائدة (5) : آية 2]

النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَحَلَّ بَهِيمَةَ الْأَنْعَامِ ذَكَرَ الْفَرْقَ بَيْنَ صَيْدِهَا وَغَيْرِ صَيْدِهَا، فَعَرَفْنَا أَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا صَيْدًا، فَإِنَّهُ حَلَالٌ فِي الْإِحْلَالِ دُونَ الْإِحْرَامِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ صَيْدًا فَإِنَّهُ حَلَالٌ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أَيْ مُحْرِمُونَ أَيْ دَاخِلُونَ فِي الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَوْ أَحَدِهِمَا، يُقَالُ: أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَهُوَ مُحْرِمٌ وَحُرُمٌ، كَمَا يُقَالُ: أَجَنْبَ فَهُوَ مُجْنِبٌ وَجُنُبٌ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، يُقَالُ قَوْمٌ حُرُمٌ كَمَا يُقَالُ قَوْمٌ جُنُبٌ. قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [الْمَائِدَةِ: 65] . وَاعْلَمْ أَنَّا إِذَا قُلْنَا: أَحْرَمَ الرَّجُلُ فَلَهُ مَعْنَيَانِ: الْأَوَّلُ: هَذَا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ دَخَلَ الْحَرَمَ فَقَوْلُهُ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يَشْتَمِلُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَيَحْرُمُ الصَّيْدُ عَلَى مَنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ كَمَا يَحْرُمُ عَلَى مَنْ كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الصَّيْدَ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا فَإِنَّ إِذَا لِلشَّرْطِ، وَالْمُعَلَّقُ بِكَلِمَةِ الشَّرْطِ عَلَى الشَّيْءِ عُدِمَ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ عَلَى الْمُحْرِمِ إِنَّمَا هُوَ صَيْدُ الْبَرِّ لَا صَيْدُ الْبَحْرِ، قَالَ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً [الْمَائِدَةِ: 96] فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانًا لِتِلْكَ الْآيَاتِ الْمُطْلَقَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: انْتَصَبَ غَيْرَ عَلَى الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ أُحِلَّتْ لَكُمْ كَمَا تَقُولُ: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّعَامُ غَيْرَ مُعْتَدِينَ فِيهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مِثْلُ قَوْلِكِ: أُحِلَّ لَكَ الشَّيْءُ لَا مُفَرِّطًا فِيهِ وَلَا مُتَعَدِّيًا، وَالْمَعْنَى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا أَنْ تُحِلُّوا الصَّيْدَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكُمْ ذَلِكَ إِذَا كُنْتُمْ مُحْرِمِينَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ الْأَنْعَامَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَأَبَاحَ الصَّيْدَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: مَا السَّبَبُ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ وَالتَّخْصِيصِ كَانَ جَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى مَالِكُ الْأَشْيَاءِ وَخَالِقُهَا فَلَمْ يَكُنْ عَلَى حُكْمِهِ اعْتِرَاضٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا إِنَّ عِلَّةَ حُسْنِ التَّكْلِيفِ هِيَ الرُّبُوبِيَّةُ وَالْعُبُودِيَّةُ لَا مَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ رِعَايَةِ المصالح. [سورة المائدة (5) : آية 2] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى: لَمَّا حَرَّمَ الصَّيْدَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَكَّدَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ مُخَالَفَةِ تَكَالِيفِ اللَّه تعالى فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّعَائِرَ جَمْعٌ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا جَمْعُ شَعِيرَةٍ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَاحِدُهَا شَعَارَةٌ، وَالشَّعِيرَةُ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مُفَعَّلَةٍ، وَالْمُشَّعَرَةُ الْمُعَلَّمَةُ، وَالْأَشْعَارُ الْأَعْلَامُ، وَكُلُّ شَيْءٍ أُشْعِرَ فَقَدْ أُعْلِمُ، وَكُلُّ شَيْءٍ جُعِلَ عَلَمًا عَلَى شَيْءٍ أَوْ عُلِّمَ بِعَلَامَةٍ جَازَ أَنْ يُسَمَّى شَعِيرَةً، فَالْهَدْيُ الَّذِي يُهْدَى إِلَى مَكَّةَ يُسَمَّى شَعَائِرَ لِأَنَّهَا مُعَلَّمَةٌ بِعَلَامَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى كَوْنِهَا هَدْيًا. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِشَعَائِرِ اللَّه، وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ أَيْ لَا تُخِلُّوا بِشَيْءٍ مِنْ شَعَائِرِ اللَّه وَفَرَائِضِهِ الَّتِي حَدَّهَا لِعِبَادِهِ وَأَوْجَبَهَا عَلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَشَعَائِرُ اللَّه عَامٌّ فِي جَمِيعِ تَكَالِيفِهِ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُ الْحَسَنِ: شَعَائِرُ اللَّه دِينُ اللَّه. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ شَيْءٌ خَاصٌّ مِنَ التَّكَالِيفِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَذَكَرُوا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ لَا تَحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّه عَلَيْكُمْ فِي حَالِ إِحْرَامِكُمْ مِنَ الصَّيْدِ. وَالثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَحُجُّونَ الْبَيْتَ وَيُهْدُونَ الْهَدَايَا وَيُعَظِّمُونَ الْمَشَاعِرَ وَيَنْحَرُونَ، فَأَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَتْ عَامَّةُ الْعَرَبِ لَا يَرَوْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ وَلَا يَطُوفُونَ بِهِمَا، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: لَا تَسْتَحِلُّوا ترك شيء من مناسك الحج وائتوا بِجَمِيعِهَا عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ. الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الشَّعَائِرُ هِيَ الْهَدَايَا تُطْعَنُ فِي أَسَنَامِهَا وَتُقَلَّدُ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا هَدْيٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [الْحَجِّ: 36] وَهَذَا عِنْدِي ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ شَعَائِرَ اللَّه ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا الْهَدْيَ، وَالْمَعْطُوفُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ أَيْ لَا تُحِلُّوا الشَّهْرَ الْحَرَامَ بِالْقِتَالِ فِيهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّهْرَ الْحَرَامَ هُوَ الشَّهْرُ الَّذِي كَانَتِ الْعَرَبُ تُعَظِّمُهُ وَتُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِيهِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التَّوْبَةِ: 36] / فَقِيلَ: هِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ، فَقَوْلُهُ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْهُرِ كَمَا يُطْلَقُ اسْمُ الْوَاحِدِ عَلَى الْجِنْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ رَجَبٌ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَا الْهَدْيَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْهَدْيُ مَا أُهْدِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّه مِنْ نَاقَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ، وَاحِدُهَا هَدْيَةٌ بِتَسْكِينِ الدَّالِ، وَيُقَالُ أَيْضًا هَدِيَّةٌ، وَجَمْعُهَا هَدِيٌّ. قَالَ الشَّاعِرُ: حَلَفْتُ بِرَبِّ مَكَّةَ وَالْمُصَلَّى ... وَأَعْنَاقِ الْهَدِيِّ مُقَلَّدَاتٍ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [الْمَائِدَةِ: 95] وَقَوْلُهُ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الْفَتْحِ: 25] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَا الْقَلائِدَ وَالْقَلَائِدُ جَمْعُ قِلَادَةٍ وَهِيَ الَّتِي تُشَدُّ عَلَى عُنُقِ الْبَعِيرِ وَغَيْرِهِ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ. وَفِي التَّفْسِيرِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْهَدْيُ ذَوَاتُ الْقَلَائِدِ، وَعُطِفَتْ عَلَى الْهَدْيِ مُبَالَغَةً فِي التَّوْصِيَةِ بِهَا لِأَنَّهَا أَشْرَفُ الْهَدْيِ كَقَوْلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: 98] كَأَنَّهُ قِيلَ: وَالْقَلَائِدُ مِنْهَا خُصُوصًا الثَّانِي: أَنَّهُ نَهَى عَنِ التَّعَرُّضِ لِقَلَائِدِ الْهَدْيِ مُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْهَدْيِ عَلَى مَعْنَى: وَلَا تُحِلُّوا قَلَائِدَهَا فَضْلًا عَنْ أَنْ تُحِلُّوهَا، كَمَا قَالَ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النُّورِ: 31] فَنَهَى عَنْ إِبْدَاءِ الزِّينَةِ مُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ عَنْ إِبْدَاءِ مَوَاضِعِهَا. الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مُوَاظِبِينَ عَلَى الْمُحَارَبَةِ إِلَّا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَمَنْ وُجِدَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الأشهر الحرم

أُصِيبَ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُشْعِرًا بَدَنَةً أَوْ بَقَرَةً مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ الْحَرَمِ، أَوْ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ إِلَى الْبَيْتِ، فَحِينَئِذٍ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ، فَأَمَرَ اللَّه الْمُسْلِمِينَ بِتَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى. ثُمَّ قَالَ: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ أَيْ قَوْمًا قَاصِدِينَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّه: ولا آمي البيت الحرام على الإضافة. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ الْأَعْرَجُ تَبْتَغُونَ بِالتَّاءِ عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْفَضْلِ وَالرِّضْوَانِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ بِالتِّجَارَةِ الْمُبَاحَةِ لَهُمْ فِي حَجِّهِمْ، كَقَوْلِهِ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [الْبَقَرَةِ: 198] قَالُوا: نَزَلَتْ فِي تِجَارَاتِهِمْ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَمْنَعُوهُمْ فَإِنَّمَا قَصَدُوا الْبَيْتَ لِإِصْلَاحِ مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، فَابْتِغَاءُ الْفَضْلِ لِلدُّنْيَا، وَابْتِغَاءُ الرِّضْوَانِ لِلْآخِرَةِ. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِحَجِّهِمُ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّه وَإِنْ كَانُوا لَا يَنَالُونَ ذَلِكَ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ بِسَبَبِ هَذَا الْقَصْدِ نَوْعٌ مِنَ الْحُرْمَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِفَضْلِ اللَّه الثَّوَابُ، وَبِالرِّضْوَانِ أَنْ يَرْضَى عَنْهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَافِرَ وَإِنْ كَانَ لَا يَنَالُ الْفَضْلَ وَالرِّضْوَانَ لَكِنَّهُ يَظُنُّ أن بِفِعْلِهِ طَالِبٌ لَهُمَا، فَيَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ، قَالَ تَعَالَى: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ [طه: 97] وَقَالَ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدُّخَانِ: 49] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ يَقْتَضِي حُرْمَةَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ بقوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] قوله وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَقْتَضِي حُرْمَةَ مَنْعِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا [البقرة: 28] وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمْ يُنْسَخْ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَالَ قَوْمٌ آخَرُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: هَذِهِ الْآيَةُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ طَرِيقَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ لَا نُخِيفَ مَنْ يَقْصِدُ بَيَتَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَحَرَّمَ عَلَيْنَا أَخْذَ الْهَدْيِ مِنَ الْمُهْدِينَ إِذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَوَّلُ الْآيَةِ وَآخِرُهَا، أَمَّا أَوَّلُ الْآيَةِ فَهُوَ قَوْلُهُ لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَشَعَائِرُ اللَّه إِنَّمَا تَلِيقُ بِنُسُكِ الْمُسْلِمِينَ وَطَاعَاتِهِمْ لَا بِنُسُكِ الْكُفَّارِ، وَأَمَّا آخِرُ الْآيَةِ فَهُوَ قَوْلُهُ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَهَذَا إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْمُسْلِمِ لَا بِالْكَافِرِ. الثَّانِي: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْكُفَّارُ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا زَالَ الْعَهْدُ بِسُورَةِ بَرَاءَةٌ زَالَ ذَلِكَ الْحَظْرُ وَلَزِمَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَفِيهِ مسائل: المسألة الأولى: قريء: وإذا أحللتم يقال حل المحرم وأحل، وقريء بِكَسْرِ الْفَاءِ وَقِيلَ هُوَ بَدَلٌ مِنْ كَسْرِ الْهَمْزَةِ عِنْدَ الِابْتِدَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة: 1] يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْمَانِعُ مِنْ حِلِّ الِاصْطِيَادِ هُوَ الْإِحْرَامُ، فَإِذَا زَالَ الْإِحْرَامُ وَجَبَ أَنْ يزول المنع.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ لِلْوُجُوبِ إلا أنه لا يفيد هاهنا إِلَّا الْإِبَاحَةَ. وَكَذَا فِي قَوْلِهِ فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الْجُمُعَةِ: 10] وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا تَدْخُلَّنَ هَذِهِ الدَّارَ حَتَّى تُؤَدِّيَ ثَمَنَهَا، فَإِذَا أَدَّيْتَ فَادْخُلْهَا، أَيْ فَإِذَا أَدَّيْتَ فَقَدْ أُبِيحَ لَكَ دُخُولُهَا، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّا إنما عرفنا أن الأمر هاهنا لَمْ يُفِدِ الْوُجُوبَ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه: هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَعْنِي وَلَا تَحْمِلَنَّكُمْ عَدَاوَتُكُمْ لِقَوْمٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى أَنْ تَعْتَدُوا فَتَمْنَعُوهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِنَّ الْبَاطِلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَدَى بِهِ. وَلَيْسَ لِلنَّاسِ أَنْ يُعِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى الْعُدْوَانِ حَتَّى إِذَا تَعَدَّى وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى الْآخَرِ تَعَدَّى ذَلِكَ الْآخَرُ عَلَيْهِ، لكن الجواب أَنْ يُعِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى مَا فِيهِ الْبِرُّ وَالتَّقْوَى، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» جَرَمَ يَجْرِي مَجْرَى كَسَبَ فِي تَعَدِّيهِ تَارَةً إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَتَارَةً إِلَى اثْنَيْنِ، تَقُولُ: جَرَمَ ذَنْبًا نَحْوَ كَسَبَهُ، وَجَرَمْتُهُ ذَنْبًا نَحْوَ كَسَبْتُهُ إِيَّاهُ، وَيُقَالُ: أَجْرَمْتُهُ ذَنْبًا عَلَى نَقْلِ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ بِالْهَمْزَةِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، كَقَوْلِهِمْ: أَكْسَبْتُهُ ذَنْبًا، وَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّه وَلَا يُجْرِمَنَّكُمْ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَأَوَّلُ الْمَفْعُولَيْنِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِينَ. وَالثَّانِي: أَنْ تَعْتَدُوا، وَالْمَعْنَى لَا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ لِأَنْ صَدُّوكُمُ الِاعْتِدَاءَ وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الشَّنَآنُ الْبُغْضُ، يُقَالُ: شَنَأْتُ الرَّجُلَ أشنؤه شنأ ومشنأ وَمَشْنَأَةً وَشَنَآنًا بِفَتْحِ الشِّينِ وَكَسْرِهَا، وَيُقَالُ: رَجُلٌ شَنَآنٌ وَامْرَأَةٌ شَنَآنَةٌ مَصْرُوفَانِ، وَيُقَالُ شَنَآنُ بِغَيْرِ صَرْفٍ، وَفَعَلَانُ قَدْ جَاءَ وَصْفًا وَقَدْ جَاءَ مَصْدَرًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَإِسْمَاعِيلُ عَنْ نَافِعٍ بِجَزْمِ النُّونِ الْأُولَى، وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ. قَالُوا: وَالْفَتْحُ أَجْوَدُ لِكَثْرَةِ نَظَائِرِهَا فِي الْمَصَادِرِ كَالضَّرَبَانِ وَالسَّيَلَانِ وَالْغَلَيَانِ وَالْغَشَيَانِ، وَأَمَّا بِالسُّكُونِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْأَكْثَرِ وَصْفًا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَمِمَّا جَاءَ مَصْدَرًا قَوْلُهُمْ: لَوَيْتُهُ حَقَّهُ لَيَّانًا، وَشَنْآنٌ فِي قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَأَنْشَدَ لِلْأَحْوَصِ. وَإِنْ عَابَ فِيهِ ذُو الشَّنْآنِ وَفَنَّدَا فَقَوْلُهُ: ذُو الشَّنْآنِ عَلَى التَّخْفِيفِ كَقَوْلِهِمْ: إِنِّي ظَمْآنٌ، وَفُلَانٌ ظَمْآنٌ، بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قرأ ابن كثير وأبو عمرو أَنْ صَدُّوكُمْ بِكَسْرِ الْأَلِفِ عَلَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْأَلِفِ، يَعْنِي لِأَنْ صَدُّوكُمْ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ هِيَ الِاخْتِيَارُ لِأَنَّ مَعْنَى صَدِّهِمْ إِيَّاهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَنْعُ أَهْلِ مَكَّةَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَنِ الْعُمْرَةِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ هَذَا الصَّدُّ مُتَقَدِّمًا لَا مَحَالَةَ عَلَى نُزُولِ هَذِهِ الآية.

[سورة المائدة (5) : آية 3]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ، يَعْنِي اتَّقُوا اللَّه وَلَا تَسْتَحِلُّوا شَيْئًا مِنْ مَحَارِمِهِ إِنَّ اللَّه شَدِيدُ الْعِقَابِ، لَا يَطِيقُ أَحَدٌ عقابه. [سورة المائدة (5) : آية 3] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) قَوْلُهُ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أول السورة أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ [المائدة: 1] ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ اسْتِثْنَاءَ أَشْيَاءَ تُتْلَى عَلَيْكُمْ، فَهَهُنَا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى تِلْكَ الصُّوَرَ الْمُسْتَثْنَاةَ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ، وَهِيَ أَحَدَ عَشَرَ نَوْعًا: الْأَوَّلُ: الْمَيْتَةُ: وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّكُمْ تَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّه. وَاعْلَمْ أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْعُقُولِ، لِأَنَّ الدَّمَ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ جِدًّا، فَإِذَا مَاتَ الْحَيَوَانُ حَتْفَ أَنْفِهِ احْتَبَسَ الدَّمُ فِي عُرُوقِهِ وَتَعَفَّنَ وَفَسَدَ وَحَصَلَ مِنْ أَكْلِهِ مَضَارٌّ عَظِيمَةٌ. والثاني: الدم: قال صاحب «الكشاف» كانوا يملؤون الْمَعْيَ مِنَ الدَّمِ وَيَشْوُونَهُ وَيُطْعِمُونَهُ الضَّيْفَ، فاللَّه تَعَالَى حَرَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. وَالثَّالِثُ: لَحْمُ الْخِنْزِيرِ، قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: الْغِذَاءُ يَصِيرُ جُزْءًا مِنْ جَوْهَرِ الْمُغْتَذِي، فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ لِلْمُغْتَذِي أَخْلَاقٌ وَصِفَاتٌ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ حَاصِلًا فِي الْغِذَاءِ، وَالْخِنْزِيرُ مَطْبُوعٌ عَلَى حِرْصٍ عَظِيمٍ وَرَغْبَةٍ شَدِيدَةٍ فِي الْمُشْتَهَيَاتِ، فَحَرُمَ أَكْلُهُ عَلَى الْإِنْسَانِ لِئَلَّا يَتَكَيَّفَ بِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ، وَأَمَّا الشَّاةُ فَإِنَّهَا حَيَوَانٌ فِي غَايَةِ السَّلَامَةِ، فَكَأَنَّهَا ذَاتٌ عَارِيَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ، فَلِذَلِكَ لَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ بِسَبَبِ أَكْلِ لَحْمِهَا كَيْفِيَّةٌ أَجْنَبِيَّةٌ عَنْ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ. الرَّابِعُ: مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّه بِهِ، وَالْإِهْلَالُ/ رَفْعُ الصَّوْتِ، وَمِنْهُ يُقَالُ أَهَلَّ فُلَانٌ بِالْحَجِّ إِذَا لَبَّى بِهِ، وَمِنْهُ اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ وَهُوَ صُرَاخُهُ إِذَا وُلِدَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ عِنْدَ الذَّبْحِ: بِاسْمِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى فَحَرَّمَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ. وَالْخَامِسُ: الْمُنْخَنِقَةُ، يُقَالُ: خَنَقَهُ فَاخْتَنَقَ، وَالْخَنْقُ وَالِاخْتِنَاقُ انْعِصَارُ الْحَلْقِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُنْخَنِقَةَ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَخْنُقُونَ الشَّاةَ فَإِذَا مَاتَتْ أَكَلُوهَا، وَمِنْهَا مَا يُخْنَقُ بِحَبْلِ الصَّائِدِ، وَمِنْهَا مَا يُدْخَلُ رَأْسُهَا بَيْنَ عُودَيْنِ فِي شَجَرَةٍ فَتَخْتَنِقُ فَتَمُوتُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَبِأَيِّ وَجْهٍ اخْتَنَقَتْ فَهِيَ حَرَامٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمُنْخَنِقَةَ مِنْ جِنْسِ الْمَيْتَةِ، لِأَنَّهَا لَمَّا مَاتَتْ وَمَا سَالَ دَمُهَا كَانَتْ كَالْمَيِّتِ حَتْفَ أَنْفِهِ. وَالسَّادِسُ: الْمَوْقُوذَةُ، وَهِيَ الَّتِي ضُرِبَتْ إِلَى أَنْ مَاتَتْ يُقَالُ: وَقَذَهَا وَأَوْقَذَهَا إِذَا ضَرَبَهَا إِلَى أَنْ مَاتَتْ، وَيَدْخُلُ فِي الْمَوْقُوذَةِ مَا رُمِيَ بِالْبُنْدُقِ فَمَاتَ، وَهِيَ أَيْضًا فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ وَفِي مَعْنَى الْمُنْخَنِقَةِ فَإِنَّهَا مَاتَتْ وَلَمْ يَسِلْ دَمُهَا. السَّابِعُ: الْمُتَرَدِّيَةُ، وَالْمُتَرَدِّي هُوَ الْوَاقِعُ فِي الرَّدَى وَهُوَ الْهَلَاكُ. قَالَ تَعَالَى: وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى [اللَّيْلِ: 11] أَيْ وَقَعَ فِي النَّارِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ تَرَدَّى مِنَ السَّطْحِ، فَالْمُتَرَدِّيَةُ هِيَ الَّتِي تَسْقُطُ مِنْ جَبَلٍ أو موضع

مُشْرِفٍ فَتَمُوتُ، وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْمَيْتَةِ لِأَنَّهَا مَاتَتْ وَمَا سَالَ مِنْهَا الدَّمُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا إِذَا أَصَابَهُ سَهْمٌ وَهُوَ فِي الْجَبَلِ فَسَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ أَكْلُهُ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مَاتَ بِالتَّرَدِّي أَوْ بِالسَّهْمِ، وَالثَّامِنُ: النَّطِيحَةُ، وَهِيَ الْمَنْطُوحَةُ إِلَى أَنْ مَاتَتْ، وَذَلِكَ مِثْلُ شَاتَيْنِ تَنَاطَحَا إِلَى أَنْ مَاتَا أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، وَهَذَا أَيْضًا دَاخِلٌ فِي الْمَيْتَةِ لِأَنَّهَا مَاتَتْ مِنْ غَيْرِ سَيَلَانِ الدَّمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ دُخُولَ الْهَاءِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعِ، أَعْنِي: الْمُنْخَنِقَةَ، وَالْمَوْقُوذَةَ، وَالْمُتَرَدِّيَةَ، وَالنَّطِيحَةَ، إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهَا صِفَاتٌ لِمَوْصُوفٍ مُؤَنَّثٍ وَهُوَ الشَّاةُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الشَّاةُ الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ، وَخُصَّتِ الشَّاةُ لِأَنَّهَا مِنْ أَعَمِّ مَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ، وَالْكَلَامُ يَخْرُجُ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ هُوَ الْكُلُّ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ أَثْبَتَ الْهَاءَ فِي النَّطِيحَةِ مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَصْلِ مَنْطُوحَةً فَعَدَلَ بِهَا إِلَى النَّطِيحَةِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ تَكُونُ الْهَاءُ مَحْذُوفَةً، كَقَوْلِهِمْ: كَفٌّ خَضِيبٌ، وَلِحْيَةٌ دَهِينٌ، وَعَيْنٌ كَحِيلٌ. قُلْنَا: إنما تحذف الهاء من الفعلية إِذَا كَانَتْ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ يَتَقَدَّمُهَا، فَإِذَا لَمْ يُذْكَرِ الْمَوْصُوفُ وَذُكِرَتِ الصِّفَةُ وَضَعْتَهَا مَوْضِعَ الْمَوْصُوفِ، تَقُولُ: رَأَيْتُ قَتِيلَةَ بَنِي فُلَانٍ بِالْهَاءِ لِأَنَّكَ إِنْ لَمْ تُدْخِلِ الْهَاءَ لَمْ يُعْرَفْ أَرَجُلٌ هُوَ أَوِ امْرَأَةٌ، فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا دَخَلَتِ الْهَاءُ فِي النَّطِيحَةِ لِأَنَّهَا صِفَةٌ لِمُؤَنَّثٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الشَّاةُ، وَالتَّاسِعُ: قَوْلُهُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: السَّبُعُ: اسْمٌ يَقَعُ عَلَى مَا لَهُ نَابٌ وَيَعْدُو عَلَى الْإِنْسَانِ وَالدَّوَابِّ وَيَفْتَرِسُهَا، / مِثْلَ الْأَسَدِ وَمَا دُونَهُ، وَيَجُوزُ التَّخْفِيفُ فِي سَبُعٍ فَيُقَالُ: سَبْعٌ وَسَبْعَةٌ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: السَّبْعُ بِسُكُونِ الْبَاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَكِيلُ السَّبُعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا جَرَحَ السَّبُعُ شَيْئًا فَقَتَلَهُ وَأَكَلَ بَعْضَهُ أَكَلُوا مَا بَقِيَ، فَحَرَّمَهُ اللَّه تَعَالَى. وَفِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَمَا أَكَلَ مِنْهُ السَّبُعُ لِأَنَّ مَا أَكَلَهُ السَّبُعُ فَقَدْ نَفِدَ وَلَا حُكْمَ لَهُ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ لِلْبَاقِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَصْلُ الذَّكَاءِ فِي اللُّغَةِ إِتْمَامُ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ الذَّكَاءُ فِي الْفَهْمِ وَهُوَ تَمَامُهُ، وَمِنْهُ الذَّكَاءُ فِي السِّنِّ، وَقِيلَ: جَرْيُ الْمُذَكِّيَاتِ غِلَابٌ، أَيْ جَرْيُ الْمُسِنَّاتِ الَّتِي قَدْ أَسَنَّتْ، وَتَأْوِيلُ تَمَامِ السِّنِّ النِّهَايَةُ فِي الشَّبَابِ، فَإِذَا نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ أَوْ زَادَ فَلَا يُقَالُ لَهُ الذَّكَاءُ فِي السِّنِّ، وَيُقَالُ ذَكَّيْتُ النَّارَ أَيْ أَتْمَمْتُ إِشْعَالَهَا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فَنَقُولُ: الِاسْتِثْنَاءُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ إِلَى قَوْلِهِ وَما أَكَلَ السَّبُعُ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، فَعَلَى هَذَا إِنَّكَ إِنْ أَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ بِأَنْ وَجَدْتَ لَهُ عَيْنًا تَطْرِفُ أَوْ ذَنَبًا يَتَحَرَّكُ أَوْ رِجْلًا تَرْكُضُ فَاذْبَحْ فَإِنَّهُ حَلَالٌ، فَإِنَّهُ لَوْلَا بَقَاءُ الْحَيَاةِ فِيهِ لَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ، فَلَمَّا وَجَدْتَهَا مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ بِتَمَامِهَا حَاصِلَةٌ فِيهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ مُخْتَصٌّ بِقَوْلِهِ وَما أَكَلَ السَّبُعُ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَكِنْ مَا ذَكَّيْتُمْ مِنْ غَيْرِ هَذَا فَهُوَ حَلَالٌ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ التَّحْرِيمِ لَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، يَعْنِي حَرَّمَ عَلَيْكُمْ مَا مَضَى إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ فَإِنَّهُ لَكُمْ

حَلَالٌ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا أَيْضًا. الْعَاشِرُ: مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: النَّصُبُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا وَأَنْ يَكُونَ وَاحِدًا، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ جَمْعٌ فَفِي وَاحِدِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ وَاحِدَهُ نِصَابٌ، فَقَوْلُنَا: نِصَابٌ وَنُصُبٌ كَقَوْلِنَا: حِمَارٌ وَحُمُرٌ. الثَّانِي: أَنَّ وَاحِدَهُ النَّصْبُ، فَقَوْلُنَا نَصْبُّ وَنُصُبٌ كَقَوْلِنَا: سَقْفٌ وَسُقُفٌ وَرَهْنٌ وَرُهُنٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ وَاحِدَهُ النَّصْبَةُ. قَالَ اللَّيْثُ: النُّصُبُ جَمْعُ النَّصْبَةِ، وَهِيَ عَلَامَةٌ تُنْصَبُ لِلْقَوْمِ، أَمَّا إِنْ قُلْنَا: أَنَّ النُّصُبَ وَاحِدٌ فَجَمْعُهُ أَنْصَابٌ، فَقَوْلُنَا: نُصُبٌ وَأَنْصَابٌ كَقَوْلِنَا طُنُبٌ وَأَطْنَابٌ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَقَدْ جَعَلَ الْأَعْشَى النُّصُبَ وَاحِدًا فَقَالَ: وَلَا النُّصُبُ الْمَنْصُوبُ لَا تُنْسِكَنَّهُ ... لِعَاقِبَةٍ واللَّه رَبَّكَ فَاعْبُدَا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: النُّصُبُ هِيَ الْأَوْثَانُ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الذَّبْحُ عَلَى اسْمِ الْأَوْثَانِ، وَمِنْ حَقِّ الْمَعْطُوفِ أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: النُّصُبُ لَيْسَ بِأَصْنَامٍ فَإِنَّ الْأَصْنَامَ أَحْجَارٌ مُصَوَّرَةٌ مَنْقُوشَةٌ، وَهَذِهِ النُّصُبُ أَحْجَارٌ كَانُوا يَنْصِبُونَهَا حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَكَانُوا يَذْبَحُونَ عِنْدَهَا لِلْأَصْنَامِ، وَكَانُوا يُلَطِّخُونَهَا بِتِلْكَ الدِّمَاءِ وَيَضَعُونَ اللُّحُومَ عَلَيْهَا، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّه كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعَظِّمُونَ الْبَيْتَ بِالدَّمِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نُعَظِّمَهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِرْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها [الْحَجِّ: 37] . وَاعْلَمْ أَنَّ (مَا) فِي قَوْلِهِ وَما ذُبِحَ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ لِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ إِلَى قَوْلِهِ وَما أَكَلَ السَّبُعُ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَمَا ذُبِحَ عَلَى اعْتِقَادِ تَعْظِيمِ النُّصُبِ، وَالثَّانِي: وَمَا ذُبِحَ لِلنُّصُبِ، وَ (اللَّامُ) وَ (عَلَى) يَتَعَاقَبَانِ، قَالَ تَعَالَى: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الْوَاقِعَةِ: 91] أَيْ فَسَلَامٌ عَلَيْكَ مِنْهُمْ، وَقَالَ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: 7] أَيْ فَعَلَيْهَا. النَّوْعُ الْحَادِيَ عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه: ذُكِرَ هَذَا فِي جُمْلَةِ الْمَطَاعِمِ لِأَنَّهُ مِمَّا أَبْدَعَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ مُوَافِقًا لِمَا كَانُوا فَعَلُوهُ فِي الْمَطَاعِمِ، وَذَلِكَ أَنَّ الذَّبْحَ عَلَى النُّصُبِ إِنَّمَا كَانَ يَقَعُ عِنْدَ الْبَيْتِ، وَكَذَا الِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ كَانُوا يُوقِعُونَهُ عِنْدَ الْبَيْتِ إِذَا كَانُوا هُنَاكَ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَوْ غَزْوًا أَوْ تِجَارَةً أَوْ نِكَاحًا أَوْ أَمْرًا آخَرَ مِنْ مَعَاظِمِ الْأُمُورِ ضَرَبَ بِالْقِدَاحِ، وَكَانُوا قَدْ كَتَبُوا عَلَى بَعْضِهَا: أَمَرَنِي رَبِّي، وَعَلَى بَعْضِهَا: نَهَانِي رَبِّي، وَتَرَكُوا بَعْضَهَا خَالِيًا عَنِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ خَرَجَ الْأَمْرُ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ، وَإِنْ خَرَجَ النَّهْيُ أَمْسَكَ، وَإِنْ خَرَجَ الْغُفْلُ أَعَادَ الْعَمَلَ مَرَّةً أُخْرَى، فَمَعْنَى الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ طَلَبُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِوَاسِطَةِ ضَرْبِ الْقِدَاحِ. الثَّانِي: قَالَ الْمُؤَرِّجُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: الِاسْتِقْسَامُ هُنَا هُوَ الْمَيْسِرُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَالْأَزْلَامُ قِدَاحُ الْمَيْسِرِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْجُمْهُورِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَزْلَامُ الْقِدَاحُ وَاحِدُهَا زَلَمٌ، ذَكَرَهُ الْأَخْفَشُ. وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الْقِدَاحُ بِالْأَزْلَامِ لِأَنَّهَا زُلِّمَتْ أَيْ سُوِّيَتْ. وَيُقَالُ: رَجُلٌ مُزَلَّمٌ وَامْرَأَةٌ مُزَلَّمَةٌ إِذَا كَانَ خَفِيفًا قَلِيلَ الْعَلَائِقِ، وَيُقَالُ قَدَحٌ مُزَلَّمٌ وَزَلَمٌ إِذَا ظُرِفَ وَأُجِيدَ

قَدُّهُ وَصَنْعَتُهُ، وَمَا أَحْسَنَ مَا زُلِّمَ سَهْمُهُ، أَيْ سَوَّاهُ، وَيُقَالُ لِقَوَائِمِ الْبَقَرِ أَزْلَامٌ، شُبِّهَتْ بِالْقِدَاحِ لِلَطَافَتِهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكُمْ فِسْقٌ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ فَقَطْ وَمُقْتَصِرًا عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، فَمَنْ خَالَفَ فِيهِ رَادًّا عَلَى اللَّه تَعَالَى كَفَرَ. فَإِنْ قِيلَ: عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِمَ صَارَ الِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ فِسْقًا؟ أَلَيْسَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ جُمْلَةِ الْفَأْلِ فَلِمَ صَارَ فِسْقًا؟ قُلْنَا: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّمَا يَحْرُمُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ طَلَبٌ لِمَعْرِفَةِ الْغَيْبِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً [لُقْمَانَ: 34] وَقَالَ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النَّمْلِ: 65] وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَكَهَّنَ أَوِ اسْتَقْسَمَ أَوْ تَطَيَّرَ طِيَرَةً تَرُدُّهُ عَنْ سَفَرِهِ لَمْ يَنْظُرْ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعُلَى مِنَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ طَلَبُ الظَّنِّ بِنَاءً عَلَى الْأَمَارَاتِ الْمُتَعَارَفَةِ طَلَبًا لِمَعْرِفَةِ الْغَيْبِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ التَّعْبِيرِ غَيْبًا أَوْ كُفْرًا لِأَنَّهُ طَلَبٌ لِلْغَيْبِ، وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ التَّمَسُّكُ بِالْفَأْلِ كُفْرًا لِأَنَّهُ طَلَبٌ لِلْغَيْبِ، وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ أَصْحَابُ الْكَرَامَاتِ الْمُدَّعُونَ لِلْإِلْهَامَاتِ كُفَّارًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ كُلُّهُ بَاطِلٌ، وَأَيْضًا فَالْآيَاتُ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي الْعِلْمِ، وَالْمُسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا وَإِنَّمَا يَسْتَفِيدُ مِنْ ذَلِكَ ظَنًّا ضَعِيفًا، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَاخِلًا تَحْتَ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَقَالَ قَوْمٌ آخَرُونَ إِنَّهُمْ كَانُوا يَحْمِلُونَ تِلْكَ الْأَزْلَامَ عِنْدَ الْأَصْنَامِ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى تِلْكَ الْأَزْلَامِ فَبِإِرْشَادِ الْأَصْنَامِ وَإِعَانَتِهِمْ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ ذَلِكَ فِسْقًا وَكُفْرًا، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي أَوْلَى وأقرب. قَوْلُهُ تَعَالَى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَدَّدَ فِيمَا مَضَى مَا حَرَّمَهُ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَمَا أَحَلَّهُ مِنْهَا خَتَمَ الْكَلَامَ فِيهَا بِقَوْلِهِ ذلِكُمْ فِسْقٌ وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَحْذِيرُ الْمُكَلَّفِينَ عَنْ مِثْلِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ، ثُمَّ حَرَّضَهُمْ عَلَى التَّمَسُّكِ/ بِمَا شَرَعَ لَهُمْ بِأَكْمَلِ مَا يَكُونُ فَقَالَ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ أَيْ فَلَا تَخَافُوا الْمُشْرِكِينَ فِي خِلَافِكُمْ إِيَّاهُمْ فِي الشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ، فَإِنِّي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ بِالدَّوْلَةِ الْقَاهِرَةِ وَالْقُوَّةِ الْعَظِيمَةِ وَصَارُوا مَقْهُورِينَ لَكُمْ ذَلِيلِينَ عِنْدَكُمْ، وَحَصَلَ لَهُمُ الْيَأْسُ مِنْ أَنْ يَصِيرُوا قَاهِرِينَ لَكُمْ مُسْتَوْلِينَ عَلَيْكُمْ، فَإِذَا صَارَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ، وَأَنْ تُقْبِلُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى وَالْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلِهِ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ هُوَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِعَيْنِهِ حَتَّى يُقَالَ إِنَّهُمْ مَا يَئِسُوا قَبْلَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ خَارِجٌ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ اللِّسَانِ مَعْنَاهُ لَا حَاجَةَ بِكُمُ الْآنَ إِلَى مُدَاهَنَةِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ لِأَنَّكُمُ الْآنَ صِرْتُمْ بِحَيْثُ لَا يَطْمَعُ أَحَدٌ مِنْ أَعْدَائِكُمْ فِي تَوْهِينِ أَمْرِكُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: كُنْتَ بِالْأَمْسِ شَابًّا وَالْيَوْمَ قَدْ صِرْتَ شَيْخًا، وَلَا يُرِيدُ بِالْأَمْسِ الْيَوْمَ الَّذِي قَبْلَ يَوْمِكَ، وَلَا بِالْيَوْمِ يَوْمَكَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ يَوْمُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ نَزَلَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةَ وَكَانَ يَوْمَ عَرَفَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ فِي

حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ بِعَرَفَاتٍ عَلَى نَاقَتِهِ الْعَضْبَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: يَئِسُوا مِنْ أَنْ تُحَلِّلُوا هَذِهِ الْخَبَائِثَ بَعْدَ أَنْ جَعَلَهَا اللَّه مُحَرَّمَةً. وَالثَّانِي: يَئِسُوا مِنْ أَنْ يَغْلِبُوكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَدْ وَعَدَ بِإِعْلَاءِ هَذَا الدِّينِ عَلَى كُلِّ الْأَدْيَانِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التَّوْبَةِ: 33] [الفتح: 28] [الصف: 9] فَحَقَّقَ تِلْكَ النُّصْرَةَ وَأَزَالَ الْخَوْفَ بِالْكُلِّيَّةِ وَجَعَلَ الْكُفَّارَ مَغْلُوبِينَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا غَالِبِينَ، وَمَقْهُورِينَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَاهِرِينَ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ قَوْمٌ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ التَّقِيَّةَ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْخَوْفِ، قَالُوا لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِإِظْهَارِ هَذِهِ الشَّرَائِعِ وَإِظْهَارِ الْعَمَلِ بِهَا وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِزَوَالِ الْخَوْفِ مِنْ جِهَةِ الْكُفَّارِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِيَامَ الْخَوْفِ يُجَوِّزُ تَرْكَهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يَقْتَضِي أَنَّ الدِّينَ كَانَ نَاقِصًا قَبْلَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ الدِّينَ الَّذِي كَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَاظِبًا عَلَيْهِ أَكْثَرَ عُمُرِهِ كَانَ نَاقِصًا، وَأَنَّهُ إِنَّمَا وَجَدَ الدِّينَ الْكَامِلَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ مُدَّةً قَلِيلَةً. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ لِأَجْلِ الِاحْتِرَازِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ ذَكَرُوا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ/ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ هُوَ إِزَالَةُ الْخَوْفِ عَنْهُمْ وَإِظْهَارُ الْقُدْرَةِ لَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَهَذَا كما يقول الملك عند ما يَسْتَوْلِي عَلَى عَدُوِّهِ وَيَقْهَرُهُ قَهْرًا كُلِّيًّا: الْيَوْمَ كَمُلَ مَلْكُنَا، وَهَذَا الْجَوَابُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ مُلْكَ ذَلِكَ الْمَلِكِ كَانَ قَبْلَ قَهْرِ الْعَدُوِّ نَاقِصًا. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ: إِنِّي أَكْمَلْتُ لَكُمْ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي تَكَالِيفِكُمْ مِنْ تَعَلُّمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُكْمِلْ لَهُمْ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ مَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرَائِعِ كَانَ ذَلِكَ تَأْخِيرًا لِلْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. الثَّالِثُ: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ: أَنَّ الدِّينَ مَا كَانَ نَاقِصًا الْبَتَّةَ، بَلْ كَانَ أَبَدًا كَامِلًا، يَعْنِي كَانَتِ الشَّرَائِعُ النَّازِلَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّه فِي كُلِّ وَقْتٍ كَافِيَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا فِي أَوَّلِ وَقْتِ الْمَبْعَثِ بِأَنَّ مَا هُوَ كَامِلٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ لَيْسَ بِكَامِلٍ فِي الْغَدِ وَلَا صَلَاحَ فِيهِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ يَنْسَخُ بَعْدَ الثُّبُوتِ وَكَانَ يَزِيدُ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَأَمَّا فِي آخِرِ زَمَانِ الْمَبْعَثِ فَأَنْزَلَ اللَّه شَرِيعَةً كَامِلَةً وَحَكَمَ بِبَقَائِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَالشَّرْعُ أَبَدًا كَانَ كَامِلًا، إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ كَمَالٌ إِلَى زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، وَالثَّانِي كَمَالٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ نَصَّ عَلَى الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ الْوَقَائِعِ، إِذْ لَوْ بَقِيَ بَعْضُهَا غَيْرَ مُبَيَّنِ الْحُكْمِ لَمْ يَكُنِ الدِّينُ كَامِلًا، وَإِذَا حَصَلَ النَّصُّ فِي جَمِيعِ الْوَقَائِعِ فَالْقِيَاسُ إِنْ كَانَ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ النَّصِّ كَانَ عَبَثًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِهِ كَانَ بَاطِلًا. أَجَابَ مُثْبِتُو الْقِيَاسِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِإِكْمَالِ الدِّينِ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ حُكْمَ جَمِيعِ الْوَقَائِعِ بَعْضَهَا بِالنَّصِّ وَبَعْضَهَا بِأَنْ بَيَّنَ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ فِيهَا عَلَى سَبِيلِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا جَعَلَ الْوَقَائِعَ قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا الَّتِي نُصَّ عَلَى

أَحْكَامِهَا، وَالْقِسْمُ الثَّانِي أَنْوَاعٌ يُمْكِنُ اسْتِنْبَاطُ الْحُكْمِ فِيهَا بِوَاسِطَةِ قِيَاسِهَا عَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْقِيَاسِ وَتَعَبَّدَ الْمُكَلَّفِينَ بِهِ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ بَيَانًا لِكُلِّ الْأَحْكَامِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ إِكْمَالًا للدين. قال نفاة القياس: الطريق الْمُقْتَضِيَةُ لِإِلْحَاقِ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ دَلَائِلَ قَاطِعَةً أَوْ غَيْرَ قَاطِعَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَلَا نِزَاعَ فِي صِحَّتِهِ، فَإِنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَبْنِيَّ عَلَى الْمُقَدِّمَاتِ الْيَقِينِيَّةِ حُجَّةٌ، إِلَّا أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقِيَاسِ يَكُونُ الْمُصِيبُ فِيهِ وَاحِدًا، وَالْمُخَالِفُ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ، وَيُنْقَضُ قَضَاءُ الْقَاضِي فِيهِ وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ هُوَ الْقِسْمَ الثَّانِيَ كَانَ ذَلِكَ تَمْكِينًا لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ هَلْ هُوَ دِينُ اللَّه أَمْ لَا، وَهَلْ هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي حَكَمَ بِهِ اللَّه أَمْ لَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَكُونُ إِكْمَالًا لِلدِّينِ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ إِلْقَاءً لِلْخَلْقِ فِي وَرْطَةِ الظُّنُونِ وَالْجَهَالَاتِ، قَالَ/ مُثْبِتُو الْقِيَاسِ: إِذَا كَانَ تَكْلِيفُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ أَنْ يَعْمَلَ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ كَانَ ذَلِكَ إِكْمَالًا لِلدِّينِ، وَيَكُونُ كُلُّ مُكَلَّفٍ قَاطِعًا بِأَنَّهُ عَامِلٌ بِحُكْمِ اللَّه فَزَالَ السُّؤَالُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الرَّافِضَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَئِسُوا مِنْ تَبْدِيلِ الدِّينِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ فَلَوْ كَانَتْ إمامة عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى وقبل رسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصًّا وَاجِبَ الطَّاعَةِ لَكَانَ مَنْ أَرَادَ إِخْفَاءَهُ وَتَغْيِيرَهُ آيِسًا مِنْ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَقْدِرَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ النَّصِّ وَعَلَى تَغْيِيرِهِ وَإِخْفَائِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ لَمْ يَجْرِ لِهَذَا النَّصِّ ذِكْرٌ، وَلَا ظَهَرَ مِنْهُ خَبَرٌ وَلَا أَثَرٌ، عَلِمْنَا أَنَّ ادِّعَاءَ هَذَا النَّصِّ كَذِبٌ، وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَا كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ بِالْإِمَامَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَصْحَابُ الْآثَارِ: إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعَمَّرْ بَعْدَ نُزُولِهَا إِلَّا أَحَدًا وَثَمَانِينَ يَوْمًا، أَوِ اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ يَوْمًا، وَلَمْ يَحْصُلْ فِي الشَّرِيعَةِ بَعْدَهَا زِيَادَةٌ وَلَا نَسْخٌ وَلَا تَبْدِيلٌ الْبَتَّةَ، وَكَانَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى إِخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قُرْبِ وَفَاتِهِ، وَذَلِكَ إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الصَّحَابَةِ فَرِحُوا جِدًّا وَأَظْهَرُوا السُّرُورَ الْعَظِيمَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَإِنَّهُ بَكَى فَسُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى قُرْبِ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْكَمَالِ إِلَّا الزَّوَالُ، فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى كَمَالِ عِلْمِ الصِّدِّيقِ حَيْثُ وَقَفَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سِرٍّ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الدِّينَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى وَإِيجَادِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَضَافَ إِكْمَالَ الدِّينِ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَلَنْ يَكُونَ إِكْمَالُ الدِّينِ مِنْهُ إِلَّا وَأَصْلُهُ أَيْضًا مِنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّا سَوَاءٌ قُلْنَا: الدِّينُ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَمَلِ، أَوْ قُلْنَا إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَعْرِفَةِ، أَوْ قُلْنَا إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الِاعْتِقَادِ وَالْإِقْرَارِ وَالْفِعْلِ فَالِاسْتِدْلَالُ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ يَحْمِلُونَ ذَلِكَ عَلَى إِكْمَالِ بَيَانِ الدِّينِ وَإِظْهَارِ شَرَائِعِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي ذَكَرُوهُ عُدُولٌ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَمَعْنَى أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بِإِكْمَالِ أَمْرِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ كَأَنَّهُ

قَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بِسَبَبِ ذَلِكَ الْإِكْمَالِ لِأَنَّهُ لَا نِعْمَةَ أَتَمُّ مِنْ نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَيْضًا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ خَالِقَ الْإِيمَانِ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ: الدِّينُ الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ نِعْمَةٌ، وَكُلُّ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ دِينُ الْإِسْلَامِ مِنَ اللَّه. إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْإِسْلَامَ نِعْمَةٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْكَلِمَةُ الْمَشْهُورَةُ عَلَى لِسَانِ الْأُمَّةِ وَهِيَ قَوْلُهُمْ: الْحَمْدُ للَّه عَلَى نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ذَكَرَ لَفْظَ النِّعْمَةِ مُبْهَمَةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ الدِّينُ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِإِتْمَامِ النِّعْمَةِ جَعْلَهُمْ قَاهِرِينَ لِأَعْدَائِهِمْ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ جَعْلَ هَذَا الشَّرْعِ بِحَيْثُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ نَسْخٌ. قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ عُرِفَ بِقَوْلِهِ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَحَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ أَيْضًا يَكُونُ تَكْرِيرًا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ إِبْقَاءَ هَذَا الدِّينِ لَمَّا كَانَ إِتْمَامًا لِلنِّعْمَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ نِعْمَةً لَا مَحَالَةَ، فَثَبَتَ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ نِعْمَةٌ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: كُلُّ نِعْمَةٍ فَهِيَ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَإِذَا ثَبَتَ هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ إِنَّمَا حَصَلَ بِتَخْلِيقِ اللَّه تَعَالَى وَتَكْوِينِهِ وَإِيجَادِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا هُوَ الدِّينُ الْمَرْضِيُّ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَهَذَا مِنْ تَمَامِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْمَطَاعِمِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّه تَعَالَى، يَعْنِي أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً إِلَّا أَنَّهَا تَحِلُّ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ، وَمِنْ قَوْلِهِ ذلِكُمْ فِسْقٌ إِلَى هاهنا اعْتِرَاضٌ وَقَعَ فِي الْبَيْنِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَأْكِيدُ مَا ذُكِرَ مِنْ مَعْنَى التَّحْرِيمِ، فَإِنَّ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْخَبَائِثِ مِنْ جُمْلَةِ الدِّينِ الْكَامِلِ وَالنِّعْمَةِ التَّامَّةِ وَالْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ الدِّينُ الْمَرْضِيُّ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى، وَمَعْنَى اضْطُرَّ أُصِيبَ بِالضُّرِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ مَعَهُ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَالْمَخْمَصَةُ المجاعة. قال أهل اللغة: الخمص والمخمصة خُلُوُّ الْبَطْنِ مِنَ الطَّعَامِ عِنْدَ الْجُوعِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْخَمْصِ الَّذِي هُوَ ضُمُورُ الْبَطْنِ. يُقَالُ: رَجُلٌ خَمِيصٌ وَخَمْصَانٌ وَامْرَأَةٌ خَمِيصَةٌ وَخَمْصَانَةٌ وَالْجَمْعُ خَمَائِصُ وَخَمْصَانَاتٌ، وَقَوْلُهُ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ أَيْ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْجَنَفِ الَّذِي هُوَ الْمَيْلُ، قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً [الْبَقَرَةِ: 182] أَيْ مَيْلًا، فَقَوْلُهُ غَيْرَ مُتَجانِفٍ أَيْ غَيْرَ/ مَائِلٍ وَغَيْرَ مُنْحَرِفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ غَيْرَ بِمَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ عَلَى مَعْنَى فَتَنَاوَلَ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ بِقَوْلِهِ اضْطُرَّ وَيَكُونُ الْمُقَدَّرُ مُتَأَخِّرًا على معنى: فمن اضطر غير متجانف لا ثم فَتَنَاوَلَ فَإِنَّ اللَّه غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَمَعْنَى الْإِثْمِ هاهنا فِي قَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنْ يَأْكُلَ فَوْقَ الشِّبَعِ تَلَذُّذًا، وَفِي قَوْلِ أَهْلِ الْحِجَازِ أَنْ يَكُونَ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ [الْبَقَرَةِ: 173] وَقَوْلُهُ فَإِنَّ اللَّهَ

[سورة المائدة (5) : آية 4]

غَفُورٌ رَحِيمٌ يَعْنِي يَغْفِرُ لَهُمْ أَكْلَ الْمُحَرَّمِ عند ما اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِهِ، وَرَحِيمٌ بِعِبَادِهِ حَيْثُ أَحَلَّ لَهُمْ ذَلِكَ الْمُحَرَّمَ عِنْدَ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى أَكْلِهِ. [سورة المائدة (5) : آية 4] يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَهَذَا أَيْضًا مُتَّصِلٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَآكِلِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي السُّؤَالِ مَعْنَى الْقَوْلِ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ بَعْدَهُ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: يَقُولُونَ لَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ مَاذَا أُحِلَّ لَنَا حِكَايَةً لِمَا قَالُوهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا حِكَايَةً لِكَلَامِهِمْ لَكَانُوا قَدْ قَالُوا مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ، بَلْ إِنَّمَا يَقُولُونَ مَاذَا أُحِلَّ لَنَا، بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ حِكَايَةً لِكَلَامِهِمْ بِعِبَارَتِهِمْ، بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الْوَاقِعَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَاذَا إِنْ جَعَلْتَهُ اسْمًا وَاحِدًا فَهُوَ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ أُحِلَّ وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ (مَا) وَحْدَهَا اسْمًا، وَيَكُونُ خَبَرُهَا (ذَا) وَ (أُحِلَّ) مِنْ صِلَةِ (ذَا) لِأَنَّهُ بِمَعْنَى: مَا الَّذِي أُحِلَّ لَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَشْيَاءَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ. فَهُمْ كَانُوا يَحْكُمُونَ بِكَوْنِهَا طَيِّبَةً إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَكْلَهَا لِشُبُهَاتٍ ضَعِيفَةٍ، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ مَا يُسْتَطَابُ فَهُوَ حَلَالٌ، وَأَكَّدَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ/ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الْأَعْرَافِ: 32] وَبِقَوْلِهِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الْأَعْرَافِ: 157] . وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّيِّبَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمُسْتَلَذُّ، وَالْحَلَالُ الْمَأْذُونُ فِيهِ يُسَمَّى أَيْضًا طَيِّبًا تَشْبِيهًا بِمَا هُوَ مُسْتَلَذٌّ، لِأَنَّهُمَا اجْتَمَعَا فِي انْتِفَاءِ الْمَضَرَّةِ، فَلَا يُمْكِنُ أن يكون المراد بالطيبات هاهنا الْمُحَلَّلَاتِ، وَإِلَّا لَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الْمُحَلَّلَاتُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا رَكِيكٌ، فَوَجَبَ حَمْلُ الطَّيِّبَاتِ عَلَى الْمُسْتَلَذِّ الْمُشْتَهَى، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: أُحِلَّ لَكُمْ كُلُّ مَا يَسْتَلَذُّ وَيُشْتَهَى. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الِاسْتِلْذَاذِ وَالِاسْتِطَابَةِ بِأَهْلِ الْمُرُوءَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ يَسْتَطِيبُونَ أَكْلَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، وَيَتَأَكَّدُ دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَةِ: 29] فَهَذَا يَقْتَضِي التَّمَكُّنَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِكُلِّ مَا فِي الْأَرْضِ، إِلَّا أَنَّهُ أَدْخَلَ التَّخْصِيصَ فِي ذَلِكَ الْعُمُومِ فَقَالَ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الْأَعْرَافِ: 157] وَنَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ عَلَى إِبَاحَةِ الْمُسْتَلَذَّاتِ وَالطَّيِّبَاتِ فَصَارَ هَذَا أَصْلًا كَبِيرًا، وَقَانُونًا مَرْجُوعًا إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ، مِنْهَا أَنَّ لَحْمَ الْخَيْلِ مُبَاحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه لَيْسَ بِمُبَاحٍ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ مُسْتَلَذٌّ مُسْتَطَابٌ، وَالْعِلْمُ بِهِ ضَرُورِيٌّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا لِقَوْلِهِ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَمِنْهَا أَنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه مُبَاحٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَرَامٌ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ مُسْتَطَابٌ مُسْتَلَذٌّ، فَوَجَبَ أَنْ يحل

لِقَوْلِهِ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ اسْتَثْنَى الْمُذَكَّاةَ ثُمَّ فَسَّرَ الذَّكَاةَ بِمَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَالصَّدْرِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ فِي الْخَيْلِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُذَكَّاةً، فَوَجَبَ أَنْ تَحِلَّ لِعُمُومِ قوله إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ. [المائدة: 3] وَأَمَّا فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ فَالذَّكَاةُ أَيْضًا حَاصِلَةٌ لِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ نَاسِيًا فَهِيَ مُذَكَّاةٌ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ اللَّه تَعَالَى بِاللِّسَانِ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ مَاهِيَّةِ الذَّكَاةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْإِتْيَانُ بِالذَّكَاةِ بِدُونِ الْإِتْيَانِ بِالتَّسْمِيَةِ مُمْكِنًا، فَنَحْنُ مِثْلُكُمْ فِيمَا إِذَا وُجِدَ ذَلِكَ، وَإِذَا حَصَلَتِ الذَّكَاةُ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمِنْهَا أَنَّ لَحْمَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ مُبَاحٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَعِنْدَ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَقَدِ احْتَجَّا بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، إِلَّا أَنَّا نَعْتَمِدُ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِيهَا إِضْمَارًا، وَالتَّقْدِيرُ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَصَيْدُ مَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ، فحذف الصيد وهو المراد فِي الْكَلَامِ لِدَلَالَةِ الْبَاقِي عَلَيْهِ، وَهُوَ/ قَوْلُهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ. الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ إِنَّ قَوْلَهُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ، وَخَبَرُهُ هُوَ قَوْلُهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِحُّ الْكَلَامُ مِنْ غَيْرِ حَذْفٍ وَإِضْمَارٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْجَوَارِحِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الْكَوَاسِبُ مِنَ الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ، وَاحِدُهَا جَارِحَةٌ، سُمِّيَتْ جَوَارِحَ لِأَنَّهَا كَوَاسِبُ مِنْ جَرَحَ وَاجْتَرَحَ إِذَا اكْتَسَبَ، قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ [الجاثية: 21] أي اكتسبوا، وقال وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام: 60] أي ما كسبتم. والثاني: أن الجوارح هي التي تجرح، وَقَالُوا: إِنَّ مَا أُخِذَ مِنَ الصَّيْدِ فَلَمْ يَسِلْ مِنْهُ دَمٌ لَمْ يَحِلَّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ، أَنَّ مَا صَادَهُ غَيْرُ الْكِلَابِ فَلَمْ يُدْرَكْ ذَكَاتُهُ لَمْ يَجُزْ أَكْلُهُ، وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مُكَلِّبِينَ قالوا: لأن التخصيص يذل عَلَى كَوْنِ هَذَا الْحُكْمِ مَخْصُوصًا بِهِ، وَزَعَمَ الْجُمْهُورُ أَنَّ قَوْلَهُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا يُمْكِنُ الِاصْطِيَادُ بِهِ، كَالْفَهْدِ وَالسِّبَاعِ مِنَ الطَّيْرِ: مِثْلَ الشَّاهِينِ وَالْبَاشِقِ وَالْعُقَابِ، قَالَ اللَّيْثُ: سُئِلَ مُجَاهِدٌ عَنِ الصَّقْرِ وَالْبَازِي وَالْعُقَابِ وَالْفَهْدِ وَمَا يَصْطَادُ بِهِ مِنَ السِّبَاعِ، فَقَالَ: هَذِهِ كُلُّهَا جَوَارِحُ. وَأَجَابُوا عَنِ التَّمَسُّكِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مُكَلِّبِينَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُكَلِّبَ هُوَ مُؤَدِّبُ الْجَوَارِحِ وَمُعَلِّمُهَا أَنْ تَصْطَادَ لِصَاحِبِهَا، وَإِنَّمَا اشْتُقَّ هَذَا الِاسْمُ مِنَ الْكَلْبِ لِأَنَّ التَّأْدِيبَ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي الْكِلَابِ، فَاشْتُقَّ مِنْهُ هَذَا اللَّفْظُ لِكَثْرَتِهِ فِي جِنْسِهِ. الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ سَبْعٍ فَإِنَّهُ يُسَمَّى كَلْبًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ فَأَكَلَهُ الْأَسَدُ» . الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْكَلَبِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الضَّرَاوَةِ، يُقَالُ فُلَانٌ: كَلِبٌ بِكَذَا إِذَا كَانَ حَرِيصًا عَلَيْهِ. وَالرَّابِعُ: هَبْ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِبَاحَةُ الصَّيْدِ بِالْكَلْبِ، لَكِنَّ تَخْصِيصَهُ بِالذِّكْرِ لَا يَنْفِي حِلَّ غَيْرِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الِاصْطِيَادَ بِالرَّمْيِ وَوَضْعِ الشَّبَكَةِ جَائِزٌ، وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الِاصْطِيَادَ بِالْجَوَارِحِ إِنَّمَا يَحِلُّ إِذَا كَانَتِ الْجَوَارِحُ مُعَلَّمَةً، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّه فَكُلْ» ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: وَالْكَلْبُ لَا يَصِيرُ مُعَلَّمًا إِلَّا عِنْدَ أُمُورٍ، وَهِيَ إِذَا أُرْسِلَ

اسْتَرْسَلَ، وَإِذَا أُخِذَ حُبِسَ وَلَا يَأْكُلُ، وَإِذَا دَعَاهُ أَجَابَهُ، وَإِذَا أَرَادَهُ لَمْ يَفِرَّ مِنْهُ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّاتٍ فَهُوَ مُعَلَّمٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ رَحِمَهُ اللَّه فِيهِ حَدًّا مُعَيَّنًا، بَلْ قَالَ: إِنَّهُ مَتَى غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ تَعَلَّمَ حُكِمَ بِهِ قَالَ لِأَنَّ الِاسْمَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا مِنَ النَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ وَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَاتِ. وَقَالَ/ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: يَصِيرُ مُعَلَّمًا بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ يَصِيرُ مُعَلَّمًا بِتَكْرِيرِ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّه، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّه: أَنَّهُ يَصِيرُ مُعَلَّمًا بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْكَلَّابُ وَالْمُكَلِّبُ هُوَ الَّذِي يُعَلِّمُ الْكِلَابَ الصَّيْدَ، فَمُكَلِّبٌ صَاحِبُ التَّكْلِيبِ كَمُعَلِّمٍ صَاحِبِ التَّعْلِيمِ، وَمُؤَدِّبٍ صَاحِبِ التَّأْدِيبِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَقُرِئَ مُكْلِبِينَ بِالتَّخْفِيفِ، وَأَفْعَلَ وَفَعَلَ يَشْتَرِكَانِ كَثِيرًا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: انْتِصَابُ مُكَلِّبِينَ عَلَى الْحَالِ مِنْ عَلَّمْتُمْ. فَإِنْ قِيلَ: مَا فَائِدَةُ هَذِهِ الْحَالِ وَقَدِ اسْتَغْنَى عَنْهَا بِعَلَّمْتُمْ؟ قُلْنَا: فَائِدَتُهَا أَنْ يَكُونَ مَنْ يُعَلِّمُ الْجَوَارِحَ نِحْرِيرًا فِي عِلْمِهِ مُدَرَّبًا فِيهِ مَوْصُوفًا بِالتَّكْلِيبِ وتُعَلِّمُونَهُنَّ حَالٌ ثَانِيَةٌ أَوِ اسْتِئْنَافٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي اشْتِرَاطِ التَّعْلِيمِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْكَلْبُ مُعَلَّمًا ثُمَّ صَادَ صَيْدًا وَجَرَحَهُ وَقَتَلَهُ وَأَدْرَكَهُ الصَّائِدُ مَيِّتًا فَهُوَ حَلَالٌ، وَجُرْحُ الْجَارِحَةِ كَالذَّبْحِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ. وَكَذَا فِي السَّهْمِ وَالرُّمْحِ، أَمَّا إِذَا صَادَهُ الْكَلْبُ فَجَثَمَ عَلَيْهِ وَقَتَلَهُ بِالْفَمِ مِنْ غَيْرِ جُرْحٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَحِلُّ لِدُخُولِهِ تَحْتَ قَوْلِهِ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَأْكُلْ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، فَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَعَطَاءٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ، وَهُوَ أَظْهَرُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ، قَالُوا: لِأَنَّهُ أَمْسَكَ الصَّيْدَ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَحِلُّ إِذَا أَمْسَكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعدي ابن حَاتِمٍ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّه فَإِنْ أَدْرَكْتَهُ وَلَمْ يَقْتُلْ فَاذْبَحْ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّه عَلَيْهِ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ وَقَدْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ فَكُلْ فَقَدْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ قَدْ أَكَلَ فَلَا تَطْعَمْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» وَقَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ: إِنَّهُ يَحِلُّ وَإِنْ أَكَلَ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه. وَاخْتَلَفُوا فِي الْبَازِي إِذَا أَكَلَ، فَقَالَ قَائِلُونَ: إِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلْبِ، فَإِنْ أَكَلَ شَيْئًا مِنَ الصَّيْدِ لَمْ يُؤْكَلْ ذَلِكَ الصَّيْدُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيُّ: يُؤْكَلُ مَا بَقِيَ مِنْ جَوَارِحِ الطَّيْرِ وَلَا يُؤْكَلُ مَا بَقِيَ مِنَ الْكَلْبِ، الْفَرْقُ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدَّبَ الْكَلْبُ عَلَى الْأَكْلِ بِالضَّرْبِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدَّبَ الْبَازِي عَلَى الْأَكْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِمَّا أَمْسَكْنَ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ صِلَةٌ زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ/ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ [الْأَنْعَامِ: 141] وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِلتَّبْعِيضِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الصَّيْدَ كُلَّهُ لَا يُؤْكَلُ فَإِنَّ لَحْمَهُ يُؤْكَلُ، أَمَّا عَظْمُهُ وَدَمُهُ وَرِيشُهُ فَلَا يُؤْكَلُ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى كُلُوا مِمَّا تُبْقِي لَكُمُ الْجَوَارِحُ بَعْدَ

[سورة المائدة (5) : آية 5]

أَكْلِهَا مِنْهُ، قَالُوا: فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْكَلْبَ إِذَا أَكَلَ مِنَ الصَّيْدِ كَانَتِ الْبَقِيَّةُ حَلَالًا، قَالُوا وَإِنْ أَكَلَهُ مِنَ الصَّيْدِ لَا يَقْدَحُ فِي أَنَّهُ أَمْسَكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ صِفَةَ الْإِمْسَاكِ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ الصَّيْدَ وَلَا يَتْرُكَهُ حَتَّى يَذْهَبَ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ سَوَاءٌ أَكَلَ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى: سَمِّ اللَّه إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّه فَكُلْ» وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالضَّمِيرُ في قوله عَلَيْهِ عائد إلى ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ أَيْ سَمُّوا عَلَيْهِ عِنْدَ إِرْسَالِهِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَا أَمْسَكْنَ، يَعْنِي سَمُّوا عَلَيْهِ إِذَا أَدْرَكْتُمْ ذَكَاتَهُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْأَكْلِ، يَعْنِي وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّه عَلَى الْأَكْلِ. رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ: «سَمِّ اللَّه وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» . وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا يَحِلُّ أَكْلُهُ، فَإِنْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ النَّدْبَ تَوْفِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى حِلِّهِ، وَسَنَذْكُرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الْأَنْعَامِ: 121] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أَيْ وَاحْذَرُوا مُخَالَفَةَ أَمْرِ اللَّه فِي تَحْلِيلِ مَا أَحَلَّهُ وَتَحْرِيمِ ما حرمه. [سورة المائدة (5) : آية 5] الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) قَوْلُهُ تَعَالَى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ أَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ، وَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ، ثُمَّ أَعَادَ ذِكْرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فبين أنه كما أكمل الدين وأتمم النِّعْمَةَ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، فَكَذَلِكَ أَتَمَّ النِّعْمَةَ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَمِنْهَا إِحْلَالُ الطَّيِّبَاتِ، وَالْغَرَضُ مِنَ الْإِعَادَةِ رِعَايَةُ هَذِهِ النُّكْتَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَفِي الْمُرَادِ بِالطَّعَامِ هاهنا وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الذَّبَائِحُ، يَعْنِي أَنَّهُ يَحِلُّ لَنَا أَكْلُ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَقَدْ سُنَّ فِيهِمْ سُنَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ دُونَ أَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَثْنَى نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ، وَقَالَ: لَيْسُوا عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ وَلَمْ يَأْخُذُوا مِنْهَا إِلَّا شُرْبَ الْخَمْرِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْخَبْزُ وَالْفَاكِهَةُ وَمَا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الذَّكَاةِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ

الزيدية، والثالث: أن المراد جميع الْمَطْعُومَاتِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَرَجَّحُوا ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الذَّبَائِحَ هِيَ الَّتِي تَصِيرُ طَعَامًا بِفِعْلِ الذَّابِحِ، فَحَمْلُ قَوْلِهِ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ عَلَى الذَّبَائِحِ أَوْلَى، وَثَانِيهَا: أَنَّ مَا سِوَى الذَّبَائِحِ فَهِيَ مُحَلَّلَةٌ قَبْلَ أَنْ كَانَتْ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَبَعْدَ أَنْ صَارَتْ لَهُمْ، فَلَا يَبْقَى لِتَخْصِيصِهَا بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَائِدَةٌ، وَثَالِثُهَا: مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ، فَحَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الذَّبَائِحِ أَوْلَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أَيْ وَيَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تُطْعِمُوهُمْ مِنْ طَعَامِكُمْ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُحَرِّمَ اللَّه أَنْ نُطْعِمَهُمْ مِنْ ذَبَائِحِنَا، وَأَيْضًا فَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ ذَلِكَ أَنَّ إِبَاحَةَ الْمُنَاكَحَةِ غَيْرُ حَاصِلَةٍ فِي الْجَانِبَيْنِ، وَإِبَاحَةَ الذَّبَائِحِ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي الْجَانِبَيْنِ، لَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَفِي الْمُحْصَنَاتِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الْحَرَائِرُ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْعَفَائِفُ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي يَدْخُلُ فِيهِ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَمَهْرُ الْأَمَةِ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهَا بَلْ إِلَى سَيِّدِهَا، وَثَانِيهَا: أَنَّا بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ [النِّسَاءِ: 25] أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ إِنَّمَا يَحِلُّ بِشَرْطَيْنِ: عَدَمُ طَوْلِ الْحُرَّةِ، وَحُصُولُ الْخَوْفِ مِنَ الْعَنَتِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ تَخْصِيصَ الْعَفَائِفِ بِالْحِلِّ يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ/ الزَّانِيَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَا الْمُحْصَنَاتِ عَلَى الْحَرَائِرِ يَلْزَمُ تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ عَلَى بَعْضِ التَّقْدِيرَاتِ، وَرَابِعُهَا: أَنَا بَيَّنَّا أَنَّ اشْتِقَاقَ الْإِحْصَانِ مِنَ التَّحَصُّنِ، وَوَصْفُ التَّحَصُّنِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ أَكْثَرُ ثُبُوتًا مِنْهُ فِي حَقِّ الْأَمَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَمَةَ وَإِنْ كانت عفيفة إلا أنها لا تخلوا مِنَ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ وَالْمُخَالَطَةِ مَعَ النَّاسِ بِخِلَافِ الْحُرَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ تَفْسِيرَ الْمُحْصَنَاتِ بِالْحَرَائِرِ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهَا بِغَيْرِهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَحِلُّ التَّزَوُّجُ بِالذِّمِّيَّةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَتَمَسَّكُوا فِيهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا لَا يَرَى ذَلِكَ وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [الْبَقَرَةِ: 221] وَيَقُولُ: لَا أَعْلَمُ شِرْكًا أَعْظَمَ مِنْ قَوْلِهَا: إِنَّ رَبَّهَا عِيسَى، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَجَابُوا عَنِ التَّمَسُّكِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْيَهُودِيَّةَ إِذَا آمَنَتْ فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا أَمْ لَا؟ فَبَيَّنَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ جَوَازَ ذَلِكَ، وَالثَّانِي: رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا رَخَّصَ اللَّه تَعَالَى فِي التَّزَوُّجِ بِالْكِتَابِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْمُسْلِمَاتِ قِلَّةٌ، وَأَمَّا الْآنَ فَفِيهِنَّ الْكَثْرَةُ الْعَظِيمَةُ، فَزَالَتِ الْحَاجَةُ فَلَا جَرَمَ زَالَتِ الرُّخْصَةُ، وَالثَّالِثُ: الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْمُبَاعَدَةِ عَنِ الْكُفَّارِ، كَقَوْلِهِ لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الْمُمْتَحِنَةِ: 1] وَقَوْلِهِ لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 118] وَلِأَنَّ عِنْدَ حُصُولِ الزَّوْجِيَّةِ رُبَّمَا قَوِيَتِ الْمَحَبَّةُ وَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَيْلِ الزَّوْجِ إِلَى دِينِهَا، وَعِنْدَ حُدُوثِ الْوَلَدِ فَرُبَّمَا مَالَ الْوَلَدُ إِلَى دِينِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ إِلْقَاءٌ لِلنَّفْسِ فِي الضَّرَرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي خَاتِمَةِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُنَفِّرَاتِ عَنِ التَّزَوُّجِ بِالْكَافِرَةِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِبَاحَةَ التَّزَوُّجِ بِالْكِتَابِيَّةِ لَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِيبَهَا كَالتَّنَاقُضِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ قُلْنَا: الْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ: الْحَرَائِرُ، لَمْ تَدْخُلِ الْأَمَةُ الْكِتَابِيَّةُ تَحْتَ الْآيَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: الْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ: الْعَفَائِفُ دَخَلَتْ، وَعَلَى هَذَا الْبَحْثِ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِالْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ. قَالَ: لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي حَقِّهَا نَوْعَانِ مِنَ النُّقْصَانِ: الْكُفْرُ وَالرِّقُّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه يَجُوزُ، وَتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ الْعَفَائِفُ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَدْخُلُ فِيهِ الذِّمِّيَّاتُ وَالْحَرْبِيَّاتُ، فَيَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِكُلِّهِنَّ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالذِّمِّيَّةِ فَقَطْ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَحِلُّ لَنَا، وَمِنْهُنَّ مَنْ لَا يَحِلُّ لَنَا، وَقَرَأَ قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ [التَّوْبَةِ: 29] فَمَنْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ حَلَّ، وَمَنْ لَمْ يُعْطِ لَمْ يَحِلَّ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَجُوسَ قَدْ سُنَّ بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ دُونَ أَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ مَرِيضًا فَأَمَرَ الْمَجُوسِيَّ أَنْ يَذْكُرَ اللَّه وَيَذْبَحَ فَلَا بَأْسَ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: وَإِنْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فِي الصِّحَّةِ فَلَا بَأْسَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْكَثِيرُ مِنَ الْفُقَهَاءِ: إِنَّمَا يَحِلُّ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ الَّتِي دَانَتْ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَقَوْلُهُ مِنْ قَبْلِكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ دَانَ الْكِتَابَ بَعْدَ نُزُولِ الْفُرْقَانِ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْكِتَابِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَتَقْيِيدُ التَّحْلِيلِ بِإِيتَاءِ الْأُجُورِ يَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ وُجُوبِهَا وَأَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَعَزَمَ عَلَى أَنْ لَا يُعْطِيَهَا صَدَاقَهَا كَانَ فِي صُورَةِ الزَّانِي، وَتَسْمِيَةُ الْمَهْرِ بِالْأَجْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّدَاقَ لَا يَتَقَدَّرُ، كَمَا أَنَّ أَقَلَّ الْأَجْرِ لَا يَتَقَدَّرُ فِي الْإِجَارَاتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ قَالَ الشَّعْبِيُّ: الزِّنَا ضَرْبَانِ: السِّفَاحُ وَهُوَ الزِّنَا عَلَى سَبِيلِ الْإِعْلَانِ، وَاتِّخَاذُ الْخِدْنِ وَهُوَ الزِّنَا فِي السِّرِّ، واللَّه تَعَالَى حَرَّمَهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَبَاحَ التَّمَتُّعَ بِالْمَرْأَةِ عَلَى جِهَةِ الْإِحْصَانِ وَهُوَ التَّزَوُّجُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّرْغِيبُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ، يَعْنِي وَمَنْ يَكْفُرْ بِشَرَائِعِ اللَّه وَبِتَكَالِيفِهِ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالثَّانِي: قَالَ الْقَفَّالُ: الْمَعْنَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ وَإِنْ حَصَلَتْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَضِيلَةُ الْمُنَاكَحَةِ وَإِبَاحَةُ الذَّبَائِحِ فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَفِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، بَلْ كُلُّ مَنْ كَفَرَ باللَّه فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَصِلْ إِلَى شَيْءٍ مِنَ السَّعَادَاتِ فِي الْآخِرَةِ الْبَتَّةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ فِيهِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْكُفْرَ إِنَّمَا/ يُعْقَلُ باللَّه وَرَسُولِهِ، فَأَمَّا الْكُفْرُ بِالْإِيمَانِ فَهُوَ مُحَالٌ، فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أَيْ وَمَنْ يَكْفُرْ باللَّه، إِنَّمَا حَسُنَ هَذَا الْمَجَازُ لِأَنَّهُ تَعَالَى رَبُّ الْإِيمَانِ، وَرَبُّ الشَّيْءِ قَدْ يُسَمَّى بَاسِمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. وَالثَّانِي: قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أَيْ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ

[سورة المائدة (5) : آية 6]

إِلَّا اللَّه، فَجَعَلَ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ إِيمَانًا، فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِهَا لَمَّا كَانَ وَاجِبًا كَانَ الْإِيمَانُ مِنْ لَوَازِمِهَا بِحَسَبِ أَمْرِ الشَّرْعِ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الشيء على لا زمه مَجَازٌ مَشْهُورٌ، وَالثَّالِثُ: قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: كَيْفَ نَتَزَوَّجُ نِسَاءَهُمْ مَعَ كَوْنِهِمْ عَلَى غَيْرِ دِينِنَا! فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ أَيْ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِمَا نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ كَذَا وَكَذَا، فَسَمَّى الْقُرْآنَ إِيمَانًا لِأَنَّهُ هُوَ الْمُشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ كُلِّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْإِيمَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَائِلُونَ بِالْإِحْبَاطِ قَالُوا: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ أَيْ عِقَابُ كُفْرِهِ يُزِيلُ مَا كَانَ حَاصِلًا لَهُ مِنْ ثَوَابِ إِيمَانِهِ، وَالَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْقَوْلَ بِالْإِحْبَاطِ قَالُوا: مَعْنَاهُ أَنَّ عَمَلَهُ الَّذِي أَتَى بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ الْإِيمَانِ فَقَدْ هَلَكَ وَضَاعَ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَأْتِي بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهَا خَيْرٌ مِنَ الْإِيمَانِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ كَانَ ضَائِعًا بَاطِلًا كَانَتْ تِلْكَ الْأَعْمَالُ بَاطِلَةً فِي أَنْفُسِهَا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ من قوله فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ مَشْرُوطٌ بِشَرْطٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ عَلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ، إِذْ لَوْ تَابَ عَنِ الْكُفْرِ لَمْ يَكُنْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ [البقرة: 217] الآية. [سورة المائدة (5) : آية 6] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى افْتَتَحَ السورة بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَصَلَ بَيْنَ/ الرَّبِّ وَبَيْنَ الْعَبْدِ عَهْدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَعَهْدُ الْعُبُودِيَّةِ، فَقَوْلُهُ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ طَلَبَ تَعَالَى مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَفُوا بِعَهْدِ الْعُبُودِيَّةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَهُنَا الْعَهْدُ نَوْعَانِ: عَهْدُ الرُّبُوبِيَّةِ مِنْكَ، وَعَهْدُ الْعُبُودِيَّةِ مِنَّا، فَأَنْتَ أَوْلَى بِأَنْ تُقَدِّمَ الْوَفَاءَ بِعَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِحْسَانِ. فَقَالَ تَعَالَى: نَعَمْ أَنَا أُوفِي أَوَّلًا بِعَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْكَرَمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنَافِعَ الدُّنْيَا مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ: لَذَّاتِ الْمَطْعَمِ، وَلَذَّاتِ الْمَنْكَحِ، فَاسْتَقْصَى سُبْحَانَهُ فِي بَيَانِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمُنَاكِحِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْمَطْعُومِ فَوْقَ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَنْكُوحِ، لَا جَرَمَ قَدَّمَ بَيَانَ الْمَطْعُومِ عَلَى الْمَنْكُوحِ، وَعِنْدَ تَمَامِ هَذَا الْبَيَانِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ وَفَّيْتُ بِعَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ فِيمَا يُطْلَبُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَاللَّذَّاتِ، فَاشْتَغِلْ أَنْتَ فِي الدُّنْيَا بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِ الْعُبُودِيَّةِ وَلَمَّا كَانَ أَعْظَمُ الطَّاعَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ الصَّلَاةَ، وَكَانَتِ الصَّلَاةُ لَا يُمْكِنُ إِقَامَتُهَا إِلَّا بِالطَّهَارَةِ، لَا جَرَمَ بَدَأَ تَعَالَى بِذِكْرِ شَرَائِطِ الْوُضُوءِ فَقَالَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ لَيْسَ نَفْسَ الْقِيَامِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَزِمَ تَأْخِيرُ الْوُضُوءِ عَنِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ غَسَلَ الْأَعْضَاءَ قَبْلَ الصَّلَاةِ قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا لَكَانَ قَدْ خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ: إِذَا شَمَّرْتُمْ لِلْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَرَدْتُمْ ذَلِكَ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَجَازًا إِلَّا أَنَّهُ مَشْهُورٌ مُتَعَارَفٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْفِعْلِ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ. الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [النِّسَاءِ: 34] وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقِيَامَ الَّذِي هُوَ الِانْتِصَابُ، يُقَالُ: فُلَانٌ قَائِمٌ بِذَلِكَ الْأَمْرِ، قَالَ تَعَالَى: قائِماً بِالْقِسْطِ [آلِ عِمْرَانَ: 18] وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْبَتَّةَ الِانْتِصَابَ، بَلِ الْمُرَادُ كَوْنُهُ مُرِيدًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ مُتَهَيِّئًا لَهُ مُسْتَعِدًّا لِإِدْخَالِهِ فِي الْوُجُودِ، فكذا هاهنا قَوْلُهُ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ مَعْنَاهُ إِذَا أَرَدْتُمْ أَدَاءَ الصَّلَاةِ وَالِاشْتِغَالَ بِإِقَامَتِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ قَوْمٌ: الْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ تَبَعٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ قَوْلَهُ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ، الشَّرْطُ فِيهَا الْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ، وَالْجَزَاءُ الْأَمْرُ بِالْغَسْلِ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّيْءِ بِحَرْفِ الشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ تَبَعٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: المقصود من الوضوء الطهارة، والطاهرة مَقْصُودَةٌ بِذَاتِهَا بِدَلِيلِ الْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «بُنِيَ الدِّينُ عَلَى النَّظَافَةِ» وَقَالَ: «أُمَّتِي غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ/ الْوُضُوءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَلِأَنَّ الْأَخْبَارَ الْكَثِيرَةَ وَارِدَةٌ فِي كَوْنِ الْوُضُوءِ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ دَاوُدُ: يَجِبُ الْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: لَا يَجِبُ. احْتَجَّ دَاوُدُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ قِيَامًا وَاحِدًا وَصَلَاةً وَاحِدَةً، فَيَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْخُصُوصَ، أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعُمُومَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَصِيرُ الْآيَةُ مُجْمَلَةً لِأَنَّ تَعْيِينَ تِلْكَ الْمَرَّةِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ، وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْإِجْمَالِ إِخْرَاجٌ لَهَا عَنِ الْفَائِدَةِ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَصِحُّ إِدْخَالُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهِ، وَمِنْ شَأْنِهِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْعُمُومَ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ غَيْرُ مَقْصُورٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ عِنْدَ كُلِّ قِيَامٍ إِلَى الصَّلَاةِ، إِذْ لَوْ لَمْ تُحْمَلْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ لَزِمَ احْتِيَاجُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى مَا هُوَ مُرَادُ اللَّه تَعَالَى إِلَى سَائِرِ الدَّلَائِلِ، فَتَصِيرُ هَذِهِ الْآيَةُ وَحْدَهَا مُجْمَلَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ قِيَامٍ إِلَى الصَّلَاةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّا نَسْتَفِيدُ هَذَا الْعُمُومَ مِنْ إِيمَاءِ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ اشْتِغَالٌ بِخِدْمَةِ الْمَعْبُودِ، وَالِاشْتِغَالُ بِالْخِدْمَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَقْرُونًا بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ مِنَ التَّعْظِيمِ، وَمِنْ وُجُوهِ التَّعْظِيمِ كَوْنُهُ آتِيًا بِالْخِدْمَةِ حَالَ كَوْنِهِ فِي غَايَةِ النَّظَافَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَجْدِيدَ الْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ قِيَامٍ إِلَى الصَّلَاةِ مُبَالَغَةٌ فِي النَّظَافَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذِكْرَ الْحُكْمِ عَقِيبَ الْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عُمُومَ الْحُكْمِ لِعُمُومِهِ، فَيَلْزَمُ وُجُوبُ الْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ قِيَامٍ إِلَى الصَّلَاةِ. ثُمَّ قَالَ دَاوُدُ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ وَرَدَ فِي

الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّا نَتْرُكُ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ لِوُرُودِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى خِلَافِهِ، قَالَ: أَمَّا الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ فَمَرْدُودَةٌ قَطْعًا، لِأَنَّا إِنْ جَوَّزْنَا ثُبُوتَ قُرْآنٍ غَيْرِ مَنْقُولٍ بِالتَّوَاتُرِ لَزِمَ الطَّعْنُ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا هُوَ الْآنَ بِكَثِيرٍ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ مَعْرِفَةَ أَحْوَالِ الْوُضُوءِ مِنْ أَعْظَمِ مَا عَمَّ بِهِ الْبَلْوَى، وَمِنْ أَشَدِّ الْأُمُورِ الَّتِي يَحْتَاجُ كُلُّ أَحَدٍ إِلَى مَعْرِفَتِهَا، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قُرْآنًا لَامْتَنَعَ بَقَاؤُهُ فِي حَيِّزِ الشُّذُوذِ، وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَقَالَ: هَذَا يَقْتَضِي نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالْخَبَرِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ كَلِمَةَ (إِذَا) لَا تُفِيدُ الْعُمُومَ بِدَلِيلِ أنه لو قال لا مرأته: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ مَرَّةً طُلِّقَتْ، ثُمَّ لَوْ دَخَلَتْ ثَانِيًا لَمْ تُطَلَّقْ ثَانِيًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى/ أَنَّ كَلِمَةَ (إِذَا) لَا تُفِيدُ الْعُمُومَ، وَأَيْضًا إِنَّ السَّيِّدَ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إِذَا دَخَلْتَ السُّوقَ فَادْخُلْ عَلَى فُلَانٍ وَقُلْ لَهُ كَذَا وَكَذَا، فَهَذَا لَا يُفِيدُ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ دَاوُدَ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ غَيْرُ مَعْلُومٍ: فَلَعَلَّهُ يَلْتَزِمُ الْعُمُومَ، وَأَيْضًا فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ (إِذَا) فِي هَذِهِ الْآيَةِ تُفِيدُ الْعُمُومَ لِأَنَّ التَّكَالِيفَ الْوَارِدَةَ فِي الْقُرْآنِ مَبْنَاهَا عَلَى التَّكْرِيرِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرْتُمْ، فَإِنَّ الْقَرَائِنَ الظَّاهِرَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَبْنَى الْأَمْرِ فِيهَا عَلَى التَّكْرِيرِ، وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَإِنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ إِلَّا يَوْمَ الْفَتْحِ فَإِنَّهُ صَلَّى الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ. قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: عَمْدًا فَعَلْتُ ذَلِكَ يَا عُمَرُ. أَجَابَ دَاوُدُ بِأَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ، وَأَيْضًا فَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُوَاظِبًا عَلَى تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي وجوب ذلك علينا لقوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ [سبأ: 20] بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: قَدْ جَاءَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَنَقُولُ: لَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ فَالتَّرْجِيحُ مَعَنَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: هَبْ أَنَّ التَّجْدِيدَ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لَكِنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَزِيدُ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ فِي الطَّاعَاتِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ هُوَ يَوْمُ إِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ، وَزِيَادَةُ النِّعْمَةِ مِنَ اللَّه تُنَاسِبُ زِيَادَةَ الطَّاعَاتِ لَا نُقْصَانَهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الِاحْتِيَاطَ لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ جَانِبِنَا فَيَكُونُ رَاجِحًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ» . الثَّالِثُ: أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ أَوْلَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى قَوْلِنَا لَفْظِيَّةٌ، وَدَلَالَةَ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْتُمْ عَلَى قَوْلِكُمْ فِعْلِيَّةٌ، وَالدَّلَالَةُ الْقَوْلِيَّةُ أَقْوَى مِنَ الدَّلَالَةِ الْفِعْلِيَّةِ، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ الْقَوْلِيَّةَ غَنِيَّةٌ عَنِ الْفِعْلِيَّةِ وَلَا يَنْعَكِسُ، فَهَذَا مَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ واللَّه أَعْلَمُ. وَالْأَقْوَى فِي إِثْبَاتِ الْمَذْهَبِ الْمَشْهُورِ أَنْ يُقَالَ: لَوْ وَجَبَ الْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَكَانَ الْمُوجِبُ لِلْوُضُوءِ هُوَ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ تَأْثِيرٌ فِي إِيجَابِ الْوُضُوءِ، لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النِّسَاءِ: 43] أَوْجَبَ التَّيَمُّمَ عَلَى الْمُتَغَوِّطِ وَالْمُجَامِعِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الطَّهَارَةِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْوُضُوءِ قَدْ يَكُونُ بِسَبَبٍ آخَرَ سِوَى الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هَلْ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْوُضُوءِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ؟ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ فِعْلَ الصَّلَاةِ عَلَى الطَّهُورِ بِالْمَاءِ، ثُمَّ بَيَّنَ/ أَنَّهُ مَتَى عُدِمَ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِالتَّيَمُّمِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا لَمَا صَحَّ ذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ بِالصَّلَاةِ مَعَ الْوُضُوءِ، فَالْآتِي بِالصَّلَاةِ بِدُونِ

الْوُضُوءِ تَارِكٌ لِلْمَأْمُورِ بِهِ، وَتَارِكُ الْمَأْمُورِ بِهِ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ، وَلَا مَعْنَى لِلْبَقَاءِ فِي عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ إِلَّا ذَلِكَ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ كَوْنُ الْوُضُوءِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: النِّيَّةُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: لَيْسَ كَذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَدِلُّ لِذَلِكَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَمَّا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه فَإِنَّهُ قَالَ: الْوُضُوءُ مَأْمُورٌ بِهِ، وَكُلُّ مَأْمُورٍ بِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنَوِيًّا فَالْوُضُوءُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنَوِيًّا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْوُضُوءَ مَأْمُورٌ بِهِ لِقَوْلِهِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6] وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ فَاغْسِلُوا وَامْسَحُوا أَمْرٌ، وإنما قلنا: إن كل مأمور به أَنْ يَكُونَ مَنَوِيًّا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الْبَيِّنَةِ: 5] وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِيَعْبُدُوا ظَاهِرٌ لِلتَّعْلِيلِ، لَكِنَّ تَعْلِيلَ أَحْكَامِ اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْبَاءِ لِمَا عُرِفَ مِنْ جَوَازِ إِقَامَةِ حُرُوفِ الْجَرِّ بَعْضِهَا مَقَامَ بَعْضٍ، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا بِأَنْ يَعْبُدُوا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَالْإِخْلَاصُ عِبَارَةٌ عَنِ النِّيَّةِ الْخَالِصَةِ، وَمَتَى كَانَتِ النِّيَّةُ الْخَالِصَةُ مُعْتَبَرَةً كَانَ أَصْلُ النِّيَّةِ مُعْتَبَرًا. وَقَدْ حَقَّقْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الدَّلِيلِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ فِي طَلَبِ زِيَادَةِ الْإِتْقَانِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ وُضُوءٍ مَأْمُورٌ بِهِ، وَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَأْمُورٍ بِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنَوِيًّا، فَلَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ كُلَّ وُضُوءٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنَوِيًّا أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ قَوْلَنَا: كُلُّ مَأْمُورٍ بِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنَوِيًّا مَخْصُوصٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، لَكِنَّا إِنَّمَا أَثْبَتْنَا هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ بِعُمُومِ النَّصِّ، وَالْعَامُّ حُجَّةٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْوُضُوءِ، فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ غَسْلَ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَمْ يُوجِبِ النِّيَّةَ فِيهَا، فَإِيجَابُ النِّيَّةِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَنَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ. وَجَوَابُنَا: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ إِنَّمَا أَوْجَبْنَا النِّيَّةَ فِي الْوُضُوءِ بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: التَّرْتِيبُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوُضُوءِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّه: لَيْسَ كَذَلِكَ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ يَقْتَضِي وُجُوبَ الِابْتِدَاءِ بِغَسْلِ الْوَجْهِ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، وَإِذَا وَجَبَ التَّرْتِيبُ فِي هَذَا الْعُضْوِ وَجَبَ فِي غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. فَإِنْ قَالُوا: فَاءُ التَّعْقِيبِ إِنَّمَا دَخَلَتْ فِي جُمْلَةِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ فَجَرَى الْكَلَامُ مَجْرَى أَنْ يُقَالَ: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَأْتُوا بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ. قُلْنَا: فَاءُ التَّعْقِيبِ إِنَّمَا دَخَلَتْ عَلَى الْوَجْهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْفَاءَ مُلْتَصِقَةٌ بِذِكْرِ الْوَجْهِ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْفَاءَ بِوَاسِطَةِ دُخُولِهَا عَلَى الْوَجْهِ دَخَلَتْ عَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ، وَعَلَى هَذَا دُخُولُ الْفَاءِ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ أَصْلٌ، وَدُخُولُهَا عَلَى مَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ تَبَعٌ لِدُخُولِهَا عَلَى غَسْلِ الْوَجْهِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ إِيجَابِ تَقْدِيمِ غَسْلِ الْوَجْهِ وَبَيْنَ إِيجَابِ

مَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، فَنَحْنُ اعْتَبَرْنَا دَلَالَةَ هَذِهِ الْفَاءِ فِي الْأَصْلِ وَالتَّبَعِ، وَأَنْتُمْ أَلْغَيْتُمُوهَا فِي الْأَصْلِ وَاعْتَبَرْتُمُوهَا فِي التَّبَعِ، فَكَانَ قَوْلُنَا أَوْلَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: وَقَعَتِ الْبَدَاءَةُ فِي الذِّكْرِ بِالْوَجْهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَقَعَ الْبَدَاءَةُ بِهِ فِي الْعَمَلِ لِقَوْلِهِ فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هُودٍ: 112] وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّه بِهِ» وَهَذَا الْخَبَرُ وَإِنْ وَرَدَ فِي قِصَّةِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ إِلَّا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لَكِنَّ الْعَامَّ حُجَّةٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ لَا عَلَى وَفْقِ التَّرْتِيبِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْحِسِّ، وَلَا عَلَى وَفْقِ التَّرْتِيبِ الْمُعْتَبَرِ فِي الشَّرْعِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ. بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى أَنَّ التَّرْتِيبَ الْمُعْتَبَرَ فِي الْحِسِّ أَنْ يَبْدَأَ مِنَ الرَّأْسِ نَازِلًا إِلَى الْقَدَمِ، أَوْ مِنَ الْقَدَمِ صَاعِدًا إِلَى الرَّأْسِ، وَالتَّرْتِيبُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا التَّرْتِيبُ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ فَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْأَعْضَاءِ الْمَغْسُولَةِ، وَيُفْرِدَ الْمَمْسُوحَةَ عَنْهَا، وَالْآيَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَدْرَجَ الْمَمْسُوحَ فِي أَثْنَاءِ الْمَغْسُولَاتِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ إِهْمَالَ التَّرْتِيبِ فِي الْكَلَامِ مُسْتَقْبَحٌ، فَوَجَبَ تَنْزِيهُ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِيمَا إِذَا صَارَ ذَلِكَ مُحْتَمِلًا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ، فَيَبْقَى فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ. الرَّابِعُ: أَنَّ إِيجَابَ الْوُضُوءِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَرَدَ فِي النَّصِّ، بَيَانُ الْمَقَامِ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَدَثَ يَخْرُجُ مِنْ مَوْضِعٍ وَالْغَسْلَ يَجِبُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْقُولِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ أَعْضَاءَ الْمُحْدِثِ طَاهِرَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التَّوْبَةِ: 28] وَكَلِمَةُ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا» وَتَطْهِيرُ الطَّاهِرِ مُحَالٌ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ التَّيَمُّمَ مَقَامَ الْوُضُوءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ ضِدُّ النَّظَافَةِ وَالْوَضَاءَةِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مَقَامَ/ الْغَسْلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْبَتَّةَ فِي نَفْسِ الْعُضْوِ نَظَافَةً، وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمَاءَ الْكَدِرَ الْعَفِنَ يُفِيدُ الطَّهَارَةَ، وَمَاءَ الْوَرْدِ لَا يُفِيدُهَا، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْوُضُوءَ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ الِاعْتِمَادُ فِيهِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ التَّرْتِيبُ الْمَذْكُورُ مُعْتَبَرًا إِمَّا لِمَحْضِ التَّعَبُّدِ أَوْ لِحِكَمٍ خَفِيَّةٍ لَا نَعْرِفُهَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَوْجَبْنَا رِعَايَةَ التَّرْتِيبِ الْمُعْتَبَرِ الْمَذْكُورِ فِي أركان الصلاة، بل هاهنا أَوْلَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ فِي كِتَابِهِ مُرَتَّبَةً وَذَكَرَ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَرْتَبَةً فَلَمَّا وَجَبَ التَّرْتِيبُ هُنَاكَ فَهَهُنَا أَوْلَى. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِهِ فَقَالَ: الْوَاوُ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ، فَكَانَتِ الْآيَةُ خَالِيَةً عَنْ إِيجَابِ التَّرْتِيبِ، فَلَوْ قُلْنَا بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ، وَهُوَ نَسْخٌ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَجَوَابُنَا: أَنَّا بَيَّنَّا دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ مِنْ جِهَاتٍ أُخَرَ غَيْرِ التَّمَسُّكِ بِأَنَّ الْوَاوَ تُوجِبُ التَّرْتِيبَ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: مُوَالَاةُ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ لَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ فِي الْقَوْلِ الْجَدِيدِ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه: إِنَّهُ شَرْطٌ لَنَا أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ هَذِهِ الْأَعْمَالَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِيجَابَهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ إِيجَابِهَا عَلَى سَبِيلِ الْمُوَالَاةِ وَإِيجَابِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّرَاخِي ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ يُفِيدُ حُصُولَ الطَّهَارَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ فَثَبَتَ أَنَّ الْوُضُوءَ بِدُونِ الْمُوَالَاةِ

يُفِيدُ حُصُولَ الطَّهَارَةِ، فَوَجَبَ أَنْ نَقُولَ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ بِهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهَارَةُ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه لَا يَنْقُضُ، احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: ظَاهِرُهَا يَقْتَضِي الْإِتْيَانَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ، تُرِكَ العمل به عند ما لَمْ يَخْرُجِ الْخَارِجُ النَّجِسُ مِنَ الْبَدَنِ فَيَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ عِنْدَ خُرُوجِ الْخَارِجِ النَّجِسِ، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه عَوَّلَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَصَلَّى وَلَمْ يَزِدْ عَلَى غَسْلِ أَثَرِ مَحَاجِمِهِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه: لَا وُضُوءَ فِي الْخَارِجِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُعْتَادٍ وَسَلَّمَ فِي دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ، وَقَالَ رَبِيعَةُ: لَا وُضُوءَ أَيْضًا فِي دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ، لَنَا التَّمَسُّكُ بِعُمُومِ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: الْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الرُّكُوعِ/ وَالسُّجُودِ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَقَالَ الْبَاقُونَ: لَا تَنْقُضُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه التَّمَسُّكُ بِعُمُومِ الْآيَةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَمْسُ الْمَرْأَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه لَا يَنْقُضُهُ. لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِعُمُومِ الْآيَةِ، قَالَ: وَهَذَا الْعُمُومُ مُتَأَكِّدٌ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ وَحُجَّةُ الْخَصْمِ خَبَرُ وَاحِدٍ، أَوْ قِيَاسٌ، فَلَا يَصِيرُ مُعَارِضًا لَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: مَسُّ الْفَرْجِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه لَا يَنْقُضُهُ، لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنْ يَتَمَسَّكَ بِعُمُومِ الْآيَةِ، وَهَذَا الْعُمُومُ مُتَأَكِّدٌ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» وَالْخَبَرُ الَّذِي يَتَمَسَّكُ بِهِ الْخَصْمُ عَلَى خِلَافِ عُمُومِ الْآيَةِ فَكَانَ التَّرْجِيحُ مَعَنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَوْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ وَجْهِهِ نَجَاسَةٌ فَغَسَلَهَا وَنَوَى الطَّهَارَةَ عَنِ الْحَدَثِ بِذَلِكَ الغسل هل يصح وضوؤه؟ مَا رَأَيْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَوْضُوعَةً فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا. وَالَّذِي أَقُولُهُ: إِنَّهُ يَكْفِي لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْغَسْلِ فِي قَوْلِهِ فَاغْسِلُوا وَقَدْ أَتَى بِهِ فَيَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ لِأَنَّهُ عِنْدَ احْتِيَاجِهِ إِلَى التبرد والتنظف لو نوى فإنه يصح وضوؤه، كذا هاهنا. وَأَيْضًا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وَهَذَا الْإِنْسَانُ نَوَى فَيَجِبُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الْمَنْوِيُّ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عشر: لَوْ وَقَفَ تَحْتَ مِيزَابٍ حَتَّى سَالَ عَلَيْهِ الماء ونوى رفع الحدث هل يصح وضوؤه أَمْ لَا؟ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْغَسْلِ، وَالْغَسْلُ عَمَلٌ وَهُوَ لَمْ يَأْتِ بِالْعَمَلِ، وَيُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ: يَصِحُّ لِأَنَّ الْغَسْلَ عِبَارَةٌ عَنِ الْفِعْلِ الْمُفْضِي إِلَى الِانْغِسَالِ، وَالْوُقُوفُ تَحْتَ الْمِيزَابِ يُفْضِي إِلَى الِانْغِسَالِ فَكَانَ ذَلِكَ الْوُقُوفُ غَسْلًا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: إِذَا غَسَلَ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَقَشَّرَتِ الْجِلْدَةُ عَنْهَا فَلَا شَكَّ أَنَّ مَا ظَهَرَ تَحْتَ الْجَلْدَةِ غَيْرُ مَغْسُولٍ، إِنَّمَا الْمَغْسُولُ هُوَ تِلْكَ الْجَلْدَةُ وَقَدْ تَقَلَّصَتْ وَسَقَطَتْ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الْغَسْلُ عِبَارَةٌ عَنْ إِمْرَارِ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ، فَلَوْ رَطَّبَ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ وَلَكِنْ مَا سَالَ الْمَاءُ عَلَيْهَا لَمْ يَكْفِ، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ بِإِمْرَارِ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ، وَفِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ احْتِمَالٌ أَنْ يَكْفِيَ ذَلِكَ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْوُضُوءِ الْغَسْلُ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ إِمْرَارِ الْمَاءِ، وَفِي الْجَنَابَةِ الْمَأْمُورُ بِهِ الطُّهْرُ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِمُجَرَّدِ التَّرْطِيبِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: لَوْ أَخَذَ الثَّلْجَ وَأَمَرَّهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِنْ كَانَ الْهَوَاءُ حَارًّا يُذِيبُ الثَّلْجَ/ وَيُسِيلُ جَازَ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِهِ لَمْ يَجُزْ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ. لَنَا أَنَّ قَوْلَهُ فَاغْسِلُوا يَقْتَضِي كَوْنَهُ مَأْمُورًا بِالْغَسْلِ، وَهَذَا لَا يسمى غسلا، فوجب أن لا يجزئ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: التَّثْلِيثُ فِي أَعْمَالِ الْوُضُوءِ سُنَّةٌ لَا وَاجِبٌ، إِنَّمَا الْوَاجِبُ هُوَ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْغَسْلِ فَقَالَ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وَمَاهِيَّةُ الْغَسْلِ تَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ حُصُولَ الطِّهَارَةِ فَقَالَ: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ كَافِيَةٌ فِي صِحَّةِ الْوُضُوءِ ثُمَّ تَأَكَّدَ هَذَا بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ مرة مَرَّةً ثُمَّ قَالَ: هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّه الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: السِّوَاكُ سُنَّةٌ، وَقَالَ دَاوُدُ: وَاجِبٌ وَلَكِنْ تَرْكُهُ لَا يَقْدَحُ فِي الصَّلَاةِ. لَنَا أَنَّ السِّوَاكَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ، ثُمَّ حَكَمَ بِحُصُولِ الطَّهَارَةِ بِقَوْلِهِ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَإِذَا حَصَلَتِ الطَّهَارَةُ حَصَلَ جَوَازُ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهَارَةُ» . الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ: التَّسْمِيَةُ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ سُنَّةٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: وَاجِبَةٌ، وَإِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا بَطَلَتِ الطَّهَارَةُ. لَنَا أَنَّ التَّسْمِيَةَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي الْآيَةِ، ثُمَّ حَكَمَ بِحُصُولِ الطَّهَارَةِ وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ، ثُمَّ تَأَكَّدَ هَذَا بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَذَكَرَ اسْمَ اللَّه عَلَيْهِ كَانَ طَهُورًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ وَمَنْ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّه عَلَيْهِ كَانَ طَهُورًا لِأَعْضَاءِ وُضُوئِهِ» . الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: تَقْدِيمُ غَسْلِ الْيَدَيْنِ عَلَى الْوُضُوءِ وَاجِبٌ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي السِّوَاكِ وَفِي التَّسْمِيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: حَدُّ الْوَجْهِ مِنْ مَبْدَأِ سَطْحِ الْجَبْهَةِ إِلَى مُنْتَهَى الذَّقَنِ طُولًا، وَمِنَ الْأُذُنِ إِلَى الْأُذُنِ عَرْضًا، وَلَفْظُ الْوَجْهِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمُوَاجَهَةِ فَيَجِبُ غَسْلُ كُلِّ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى دَاخِلِ الْعَيْنِ، وَقَالَ الْبَاقُونَ لَا يَجِبُ، حُجَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ وَجَبَ غَسْلُ كُلِّ الْوَجْهِ لِقَوْلِهِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَالْعَيْنُ جُزْءٌ مِنَ الْوَجْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ غَسْلُهُ. حُجَّةُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي إِدْخَالِ الْمَاءِ فِي الْعَيْنِ حَرَجًا واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ لَا يَجِبَانِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ رَحِمَهُمَا اللَّه وَاجِبَانِ فِيهِمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه وَاجِبٌ فِي الْغُسْلِ، غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْوُضُوءِ. لَنَا أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ غَسْلَ الْوَجْهِ، وَالْوَجْهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُوَاجِهًا وَدَاخِلَ الْأَنْفِ وَالْفَمُ غَيْرُ مُوَاجِهٍ فَلَا يَكُونُ مِنَ الْوَجْهِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ يُفِيدُ الطَّهَارَةَ لِقَوْلِهِ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَالطَّهَارَةُ تُفِيدُ جَوَازَ الصَّلَاةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: غَسْلُ الْبَيَاضِ الَّذِي بَيْنَ الْعِذَارِ وَالْأُذُنِ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّه، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّه لَا يَجِبُ. لَنَا أَنَّهُ مِنَ الْوَجْهِ، وَالْوَجْهُ يَجِبُ غَسْلُهُ بِالْآيَةِ، وَلِأَنَّا

أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُ قَبْلَ نَبَاتِ الشَّعْرِ، فَحَيْلُولَةُ الشَّعْرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَجْهِ لَا تَسْقُطُ كَالْجَبْهَةِ لَمَّا وَجَبَ غَسْلُهَا قَبْلَ نَبَاتِ شَعْرِ الْحَاجِبِ وَجَبَ أَيْضًا بَعْدَهُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَ اللِّحْيَةِ الْخَفِيفَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: لَا يَجِبُ. لَنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ يُوجِبُ غَسْلَ الْوَجْهِ، وَالْوَجْهُ اسْمٌ لِلْجِلْدَةِ الْمُمْتَدَّةِ مِنَ الْجَبْهَةِ إِلَى الذَّقَنِ، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَ كَثَافَةِ اللِّحْيَةِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] وَعِنْدَ خِفَّةِ اللِّحْيَةِ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْحَرَجُ، فَكَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى وُجُوبِ غَسْلِهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: هَلْ يَجِبُ إِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَى مَا نَزَلَ مِنَ اللِّحْيَةِ عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ وَعَلَى الْخَارِجِ مِنْهَا إِلَى الْأُذُنَيْنِ عَرْضًا؟ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجِبُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّا تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّ فِي اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ لَا يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى مَنَابِتِ الشُّعُورِ وَهِيَ الْجِلْدُ، وَإِنَّمَا أَسْقَطْنَا هَذَا التَّكْلِيفَ لِأَنَّا أَقَمْنَا ظَاهِرَ اللِّحْيَةِ مَقَامَ جِلْدَةِ الْوَجْهِ فِي كَوْنِهِ وَجْهًا، وَإِذَا كَانَ ظَاهِرُ اللِّحْيَةِ يُسَمَّى وَجْهًا وَالْوَجْهُ يَجِبُ غَسْلُهُ بِالتَّمَامِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ لَزِمَ بِحُكْمِ هَذَا الدَّلِيلِ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى ظَاهِرِ جَمِيعِ اللِّحْيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: لَوْ نَبَتَ لِلْمَرْأَةِ لِحْيَةٌ يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى جِلْدَةِ الْوَجْهِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ اللِّحْيَةُ كَثِيفَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْوَجْهِ، وَالْوَجْهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْجِلْدَةِ الْمُمْتَدَّةِ مِنْ مَبْدَأِ الْجَبْهَةِ إِلَى مُنْتَهَى الذَّقَنِ، تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِهِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَلِحْيَةُ الْمَرْأَةِ نَادِرَةٌ فَتَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَ الشَّعْرِ الْكَثِيفِ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ: الْعَنْفَقَةُ، وَالْحَاجِبَانِ وَالشَّارِبَانِ، وَالْعِذَارَانِ، وَأَهْدَابُ الْعَيْنَيْنِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ كُلِّ جِلْدِ الْوَجْهِ، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَهَذِهِ الشُّعُورُ خَفِيفَةٌ فَلَا حَرَجَ فِي إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى الْجِلْدَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا أَقْبَلَ مِنَ الْأُذُنِ مَعْدُودٌ مِنَ الْوَجْهِ فَيَجِبُ غَسْلُهُ مَعَ الْوَجْهِ، وَمَا أَدْبَرَ مِنْهُ فَهُوَ مَعْدُودٌ مِنَ الرَّأْسِ فَيُمْسَحُ، وَعِنْدَنَا الْأُذُنُ لَيْسَتِ الْبَتَّةَ مِنَ الْوَجْهِ إِذِ الْوَجْهُ مَا بِهِ الْمُوَاجَهَةُ، وَالْأُذُنُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّلَاثُونَ: قَالَ الْجُمْهُورُ: غَسْلُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَاجِبٌ مَعَهُمَا، وَقَالَ مَالِكٌ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّه: لَا يَجِبُ غَسْلُ الْمِرْفَقَيْنِ، وَهَذَا الْخِلَافُ حَاصِلٌ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ حُجَّةُ زُفَرَ أَنَّ كَلِمَةَ (إِلَى) لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَمَا يُجْعَلُ غَايَةً لِلْحُكْمِ يَكُونُ خَارِجًا عَنْهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [الْبَقَرَةِ: 187] فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ غَسْلُ الْمِرْفَقَيْنِ. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ حَدَّ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ مُنْفَصِلًا عَنِ الْمَحْدُودِ بمقطع محسوس، وهاهنا يَكُونُ الْحَدُّ خَارِجًا عَنِ الْمَحْدُودِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ فَإِنَّ النَّهَارَ مُنْفَصِلٌ عَنِ اللَّيْلِ انْفِصَالًا مَحْسُوسًا لِأَنَّ انْفِصَالَ النُّورِ عَنِ الظُّلْمَةِ مَحْسُوسٌ، وَقَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ كَقَوْلِكَ: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ مِنْ هَذَا الطَّرَفِ إِلَى ذَلِكَ الطَّرَفِ، فَإِنَّ طَرَفَ الثَّوْبِ غَيْرُ مُنْفَصِلٍ عَنِ الثَّوْبِ بِمَقْطَعٍ مَحْسُوسٍ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ امْتِيَازَ الْمِرْفَقِ عَنِ السَّاعِدِ لَيْسَ لَهُ مَفْصِلٌ مُعَيَّنٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ إِيجَابُ الْغَسْلِ إِلَى جُزْءٍ أَوْلَى مِنْ إِيجَابِهِ إِلَى جُزْءٍ آخَرَ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِإِيجَابِ غَسْلِ كُلِّ الْمِرْفَقِ. الْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ الْجَوَابِ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْمِرْفَقَ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ، لَكِنَّ الْمِرْفَقَ اسْمٌ لِمَا جَاوَزَ طَرَفَ الْعَظْمِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُرْتَفَقُ بِهِ أَيْ يُتَّكَأُ عَلَيْهِ، وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّ مَا وَرَاءَ طَرَفِ الْعَظْمِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ، وَهَذَا الْجَوَابُ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: الرَّجُلُ إِنْ كَانَ أَقْطَعَ، فَإِنْ كَانَ أَقْطَعَ مِمَّا دُونَ الْمِرْفَقِ وَجَبَ عَلَيْهِ غَسْلُ مَا بَقِيَ مِنَ الْمِرْفَقِ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ يَقْتَضِي وُجُوبَ غَسْلِ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، فَإِذَا سَقَطَ بَعْضُهُ بِالْقَطْعِ وَجَبَ غَسْلُ الْبَاقِي بِحُكْمِ الْآيَةِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ أَقْطَعَ مِمَّا فَوْقَ الْمِرْفَقَيْنِ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ لِأَنَّ مَحَلَّ هَذَا التَّكْلِيفِ لَمْ يَبْقَ أَصْلًا، وَأَمَّا إِذَا كَانَ أَقْطَعَ مِنَ الْمِرْفَقِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: يَجِبُ إِمْسَاسُ الْمَاءِ لِطَرَفِ الْعَظْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ غَسْلَ الْمِرْفَقِ لَمَّا كَانَ وَاجِبًا وَالْمِرْفَقُ عِبَارَةٌ عَنْ مُلْتَقَى الْعَظْمَيْنِ، فَإِذَا وَجَبَ إِمْسَاسُ الْمَاءِ لِمُلْتَقَى الْعَظْمَيْنِ وَجَبَ إِمْسَاسُ الْمَاءِ لِطَرَفِ الْعَظْمِ الثَّانِي لَا مَحَالَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: تَقْدِيمُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى مَنْدُوبٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: / هُوَ وَاجِبٌ. لَنَا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ تَقْدِيمَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ: السُّنَّةُ أَنْ يُصَبَّ الْمَاءُ عَلَى الْكَفِّ بِحَيْثُ يَسِيلُ الْمَاءُ مِنَ الْكَفِّ إِلَى الْمِرْفَقِ، فَإِنْ صَبَّ الْمَاءَ عَلَى الْمِرْفَقِ حَتَّى سَالَ الْمَاءُ إِلَى الْكَفِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ فَجَعَلَ الْمَرَافِقَ غَايَةَ الْغَسْلِ، فَجَعَلَهُ مَبْدَأَ الْغَسْلِ خِلَافَ الْآيَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِصِحَّةِ الْوُضُوءِ إِلَّا أَنَّهُ يَكُونُ تَرْكًا لِلسُّنَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: لَوْ نَبَتَ مِنَ الْمِرْفَقِ سَاعِدَانِ وَكَفَّانِ وَجَبَ غَسْلُ الْكُلِّ لِعُمُومِ قَوْلِهِ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ كَمَا أَنَّهُ لَوْ نَبَتَ عَلَى الْكَفِّ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهَا بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَى الْمَرافِقِ يَقْتَضِي تَحْدِيدَ الْأَمْرِ لَا تَحْدِيدَ الْمَأْمُورِ بِهِ، يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ أَمْرٌ بِغَسْلِ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، فَإِيجَابُ الْغَسْلِ مَحْدُودٌ بِهَذَا الْحَدِّ، فَبَقِيَ الْوَاجِبُ هُوَ هَذَا الْقَدْرُ فَقَطْ، أَمَّا نَفْسُ الْغَسْلِ فَغَيْرُ مَحْدُودٍ بِهَذَا الْحَدِّ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ أَنَّ تَطْوِيلَ الْغُرَّةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْوَاجِبُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ أَقَلُّ شَيْءٍ يُسَمَّى مَسْحًا لِلرَّأْسِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ مَسْحُ الْكُلِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: الْوَاجِبُ مَسْحُ رُبْعِ الرَّأْسِ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَسَحْتُ الْمِنْدِيلَ، فَهَذَا لَا يُصَدَّقُ إِلَّا عِنْدَ مَسْحِهِ بِالْكُلِّيَّةِ أَمَّا لَوْ قَالَ: مَسَحْتُ يَدِي بِالْمِنْدِيلِ فَهَذَا يَكْفِي فِي صِدْقِهِ مَسْحُ الْيَدَيْنِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْمِنْدِيلِ. إِذَا ثبت هذا فنقول: قوله وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِهِ مَسْحُ الْيَدِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الرَّأْسِ، ثُمَّ ذَلِكَ الْجُزْءُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فِي الْآيَةِ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا تَقْدِيرَهُ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يُمْكِنْ تَعْيِينُ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ إِلَّا بدليل مغاير

لِهَذِهِ الْآيَةِ، فَيَلْزَمُ صَيْرُورَةُ الْآيَةِ مُجْمَلَةً وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَكْفِي فِيهِ إِيقَاعُ الْمَسْحِ عَلَى أَيِّ جُزْءٍ كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ الرَّأْسِ كَانَتِ الْآيَةُ مُبِيِّنَةً مُفِيدَةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى مَحْمَلٍ تَبْقَى الْآيَةُ مَعَهُ مُفِيدَةً أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى مَحْمَلٍ تَبْقَى الْآيَةُ مَعَهُ مُجْمَلَةً، فَكَانَ الْمَصِيرُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى. وَهَذَا اسْتِنْبَاطٌ حَسَنٌ مِنَ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: لَا يَجُوزُ الِاكْتِفَاءُ بِالْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ: يَجُوزُ. لَنَا أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْمَسْحُ عَلَى الرَّأْسِ، وَمَسْحُ الْعِمَامَةِ لَيْسَ مَسْحًا لِلرَّأْسِ/ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ. جَوَابُنَا: لَعَلَّهُ مَسَحَ قَدْرَ الْفَرْضِ عَلَى الرَّأْسِ وَالْبَقِيَّةَ عَلَى الْعِمَامَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ وَفِي غَسْلِهِمَا، فَنَقَلَ الْقَفَّالُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعِكْرِمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ: أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِمَا الْمَسْحُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِيَّةِ مِنَ الشِّيعَةِ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ: فَرْضُهُمَا الْغَسْلُ، وَقَالَ دَاوُدُ الْأَصْفَهَانِيُّ: يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ قَوْلُ النَّاصِرِ لِلْحَقِّ مِنْ أَئِمَّةِ الزَّيْدِيَّةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: الْمُكَلَّفُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ. حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْمَسْحِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ الْمَشْهُورَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ وَأَرْجُلَكُمْ فَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ بِالْجَرِّ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ عَنْهُ بِالنَّصْبِ، فَنَقُولُ: أَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْجَرِّ فَهِيَ تَقْتَضِي كَوْنَ الْأَرْجُلِ معطوفة على الرؤوس، فَكَمَا وَجَبَ الْمَسْحُ فِي الرَّأْسِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَرْجُلِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا كُسِرَ عَلَى الْجِوَارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: جُحْرَ ضَبٍّ خَرِبٍ، وَقَوْلِهِ كَبِيرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَمَّلٍ قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَسْرَ عَلَى الْجِوَارِ مَعْدُودٌ في اللحن الذي قد يُتَحَمَّلُ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فِي الشِّعْرِ، وَكَلَامُ اللَّه يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْكَسْرَ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ حَيْثُ يَحْصُلُ الْأَمْنُ مِنَ الِالْتِبَاسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: جُحْرَ ضَبٍّ خَرِبٍ، فَإِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْخَرِبَ لَا يَكُونُ نَعْتًا لِلضَّبِّ بَلْ لِلْجُحْرِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَمْنُ مِنَ الِالْتِبَاسِ غَيْرُ حَاصِلٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْكَسْرَ بِالْجِوَارِ إِنَّمَا يَكُونُ بِدُونِ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَأَمَّا مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ فَلَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ فَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّهَا توجب المسح، وذلك لأن قوله وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ فرؤوسكم في النَّصْبِ وَلَكِنَّهَا مَجْرُورَةٌ بِالْبَاءِ، فَإِذَا عَطَفْتَ الْأَرْجُلَ على الرؤوس جَازَ فِي الْأَرْجُلِ النَّصْبُ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ الرؤوس، وَالْجَرُّ عَطْفًا عَلَى الظَّاهِرِ، وَهَذَا مَذْهَبٌ مَشْهُورٌ لِلنُّحَاةِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَهَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامِلُ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ وَأَرْجُلَكُمْ هُوَ قَوْلَهُ وَامْسَحُوا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ قَوْلَهُ فَاغْسِلُوا لَكِنِ الْعَامِلَانِ إِذَا اجْتَمَعَا عَلَى مَعْمُولٍ وَاحِدٍ كَانَ إِعْمَالُ الْأَقْرَبِ أَوْلَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَامِلُ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ وَأَرْجُلَكُمْ هُوَ قَوْلَهُ وَامْسَحُوا فَثَبَتَ أَنَّ قِرَاءَةَ وَأَرْجُلَكُمْ بِنَصْبِ اللَّامِ تُوجِبُ الْمَسْحَ أَيْضًا، فَهَذَا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْمَسْحِ، ثُمَّ قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ ذَلِكَ

بِالْأَخْبَارِ لِأَنَّهَا بِأَسْرِهَا مِنْ بَابِ الْآحَادِ، وَنَسْخُ الْقُرْآنِ/ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا إِلَّا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَخْبَارَ الْكَثِيرَةَ وَرَدَتْ بِإِيجَابِ الْغَسْلِ، وَالْغَسْلُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَسْحِ وَلَا يَنْعَكِسُ، فَكَانَ الْغَسْلُ أَقْرَبَ إِلَى الِاحْتِيَاطِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ غَسْلَ الرِّجْلِ يَقُومُ مَقَامَ مَسْحِهَا، وَالثَّانِي: أَنَّ فَرْضَ الرِّجْلَيْنِ مَحْدُودٌ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَالتَّحْدِيدُ إِنَّمَا جَاءَ فِي الْغَسْلِ لَا فِي الْمَسْحِ، وَالْقَوْمُ أَجَابُوا عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَعْبَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَظْمِ الَّذِي تَحْتَ مَفْصِلِ الْقَدَمِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَجِبُ الْمَسْحُ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمَيْنِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ سَلَّمُوا أَنَّ الْكَعْبَيْنِ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَظْمَيْنِ النَّاتِئَيْنِ مِنْ جَانِبَيِ السَّاقِ، إِلَّا أَنَّهُمُ الْتَزَمُوا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَمْسَحَ ظُهُورَ الْقَدَمَيْنِ إِلَى هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى هَذَا السُّؤَالُ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْكَعْبَيْنِ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَظْمَيْنِ النَّاتِئَيْنِ مِنْ جَانِبَيِ السَّاقِ، وَقَالَتِ الْإِمَامِيَّةُ وَكُلُّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ الْمَسْحِ: إِنَّ الْكَعْبَ عِبَارَةٌ عَنْ عَظْمٍ مُسْتَدِيرٍ مِثْلَ كَعْبِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مَوْضُوعٍ تَحْتَ عَظْمِ السَّاقِ حَيْثُ يَكُونُ مَفْصِلُ السَّاقِ وَالْقَدَمِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّه. وَكَانَ الْأَصْمَعِيُّ يَخْتَارُ هَذَا الْقَوْلَ وَيَقُولُ: الطَّرَفَانِ النَّاتِئَانِ يُسَمَّيَانِ الْمَنْجِمَيْنِ. هَكَذَا رَوَاهُ الْقَفَّالُ فِي تَفْسِيرِهِ. حُجَّةُ الْجُمْهُورِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْكَعْبُ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامِيَّةُ لَكَانَ الْحَاصِلُ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبًا وَاحِدًا، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكِعَابِ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْحَاصِلُ فِي كُلِّ يَدٍ مِرْفَقًا وَاحِدًا لَا جَرَمَ قَالَ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَظْمَ الْمُسْتَدِيرَ الْمَوْضُوعَ فِي الْمَفْصِلِ شَيْءٌ خَفِيٌّ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْمُشَرِّحُونَ، وَالْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ فِي طَرَفَيِ السَّاقِ مَحْسُوسَانِ مَعْلُومَانِ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَمَنَاطُ التَّكَالِيفِ الْعَامَّةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا ظَاهِرًا، لَا أَمْرًا خَفِيًّا. الثَّالِثُ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «ألصقوا الكعب بِالْكِعَابِ» وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْنَاهُ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْكَعْبَ مَأْخُوذٌ مِنَ الشَّرَفِ وَالِارْتِفَاعِ، وَمِنْهُ جَارِيَةٌ كَاعِبٌ إِذَا نَتَأَ ثَدْيَاهَا، وَمِنْهُ الْكَعْبُ لِكُلِّ مَا لَهُ ارْتِفَاعٌ. حُجَّةُ الْإِمَامِيَّةِ: أَنَّ اسْمَ الْكَعْبِ وَاقِعٌ عَلَى الْعَظْمِ الْمَخْصُوصِ الْمَوْجُودِ فِي أَرْجُلِ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ كَذَلِكَ، وَأَيْضًا الْمَفْصِلُ يُسَمَّى كَعْبًا، وَمِنْهُ كُعُوبُ الرُّمْحِ لِمَفَاصِلِهِ، وَفِي وَسَطِ الْقَدَمِ مَفْصِلٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكَعْبُ هُوَ هُوَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَنَاطَ التَّكَالِيفِ الظَّاهِرَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا ظَاهِرًا، وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَظْهَرُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكَعْبُ هُوَ هُوَ. الْمَسْأَلَةُ الْأَرْبَعُونَ: أَثْبَتَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَأَطْبَقَتِ الشِّيعَةُ وَالْخَوَارِجُ عَلَى إِنْكَارِهِ، واحتجوا بأن ظاهر قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ يَقْتَضِي إِمَّا غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ أَوْ مَسْحَهُمَا، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَيْسَ مَسْحًا لِلرِّجْلَيْنِ وَلَا غَسْلًا لَهُمَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ بِحُكْمِ نَصِّ هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِنَّمَا يُعَوِّلُونَ عَلَى الْخَبَرِ، لَكِنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الْقُرْآنِ أَوْلَى مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى هَذَا الْخَبَرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ، وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ لَا مَنْسُوخَ فِيهَا الْبَتَّةَ إِلَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ [المائدة: 2] فَإِنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ الْقَوْلُ بِأَنَّ وُجُوبَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ مَنْسُوخٌ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ خَبَرَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ بِتَقْدِيرِ أَنَّهُ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى نُزُولِ الْآيَةِ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مَنْسُوخًا بِالْقُرْآنِ، وَلَوْ كَانَ بِالْعَكْسِ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ نَاسِخًا لِلْقُرْآنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَرْجِيحَ الْقُرْآنِ الْمُتَوَاتِرِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعَمَلَ بِالْآيَةِ أَقْرَبُ إِلَى الِاحْتِيَاطِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّه فَإِنْ وَافَقَهُ فَاقْبَلُوهُ وَإِلَّا فَرُدُّوهُ» وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْقُرْآنِ عَلَى الْخَبَرِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ قِصَّةَ مُعَاذٍ تَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْقُرْآنِ عَلَى الْخَبَرِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي بَيَانِ ضَعْفِ هَذَا الْخَبَرِ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَأَنْ تُقْطَعَ قَدَمَايَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: لَأَنْ أَمْسَحَ عَلَى جِلْدِ حِمَارٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ أَنْكَرَ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَلَا نِزَاعَ أَنَّهُ كَانَ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ كَالشَّمْسِ الطَّالِعَةِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ عَرَفَ فِيهِ ضَعْفًا وَإِلَّا لَمَا قَالَ ذَلِكَ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ مَا أَبَاحَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِلْمُقِيمِ، وَأَبَاحَهُ لِلْمُسَافِرِ مَهْمَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ فِيهِ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوهُ لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: ابْتِدَاؤُهُ مِنْ وَقْتِ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ: يُعْتَبَرُ وَقْتُ الْمَسْحِ بَعْدَ الْحَدَثِ، قَالُوا: فَهَذَا الِاخْتِلَافُ الشَّدِيدُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مَا بَلَغَ مَبْلَغَ الظُّهُورِ وَالشُّهْرَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ لَمَّا تَعَارَضَتْ تَسَاقَطَتْ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَى ظَاهِرِ كِتَابِ اللَّه تَعَالَى. الْخَامِسُ: أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى مَعْرِفَةِ جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ الْمُكَلَّفِينَ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوعًا لَعَرَفَهُ الْكُلُّ، وَلَبَلَغَ/ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ظَهَرَ ضَعْفُهُ، فَهَذَا جُمْلَةُ كَلَامِ مَنْ أَنْكَرَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَقَالُوا: ظَهَرَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ الْقَوْلُ بِهِ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْبَاقِينَ إِنْكَارٌ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنَ الصَّحَابَةِ، فَهَذَا أَقْوَى مَا يُقَالُ فِيهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: حَدَّثَنِي سَبْعُونَ مِنْ أَصْحَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَأَمَّا إِنْكَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فَرُوِيَ أَنَّ عِكْرِمَةَ رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ، فَلَمَّا سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْهُ فَقَالَ: كَذَبَ عَلَيَّ. وَقَالَ عَطَاءٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُخَالِفُ النَّاسَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَكِنَّهُ لَمْ يَمُتْ حَتَّى وَافَقَهُمْ، وَأَمَّا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا فَرُوِيَ أَنَّ شُرَيْحَ بْنَ هَانِئٍ قَالَ: سَأَلْتُهَا عَنْ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ فَقَالَتِ: اذْهَبْ إِلَى عَلِيٍّ فَاسْأَلْهُ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْفَارِهِ، قَالَ: فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ امْسَحْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ تَرَكَتْ ذَلِكَ الْإِنْكَارَ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: رَجُلٌ مَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ سَقَطَ عَنْهُ هَذَانِ الْفَرْضَانِ وَبَقِيَ عَلَيْهِ غَسْلُ الْوَجْهِ وَمَسْحُ الرَّأْسِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَنْ يُوَضِّئُهُ أَوْ يُيَمِّمُهُ يَسْقُطُ عَنْهُ ذلك أيضا، لأن قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ، فَإِذَا فَاتَتِ الْقُدْرَةُ سَقَطَ التَّكْلِيفُ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الْمَسَائِلِ بِآيَةِ الْوُضُوءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ فَتَطَهَّرُوا، إِلَّا أَنَّ التَّاءَ تُدْغَمُ فِي الطَّاءِ لِأَنَّهُمَا مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الطَّاءِ سَكَنَ أَوَّلُ الْكَلِمَةِ فَزِيدَ فِيهَا أَلِفُ الْوَصْلِ لِيُبْتَدَأَ بِهَا. فَقِيلَ: اطهروا.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى ذَكَرَ بَعْدَهَا كَيْفِيَّةَ الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى، وَهِيَ الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِحُصُولِ الْجَنَابَةِ سَبَبَانِ: الْأَوَّلُ: نُزُولُ الْمَنِيِّ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» وَالثَّانِي: الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَمُعَاذٌ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: لَا يَجِبُ الْغُسْلُ إِلَّا عِنْدَ نُزُولِ الْمَاءِ. لَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ» . وَاعْلَمْ أَنَّ خِتَانَ الرَّجُلِ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُقْطَعُ مِنْهُ جِلْدَةُ الْقُلْفَةِ، وَأَمَّا خِتَانُ الْمَرْأَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ شَفْرَيْهَا مُحِيطَانِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: ثُقْبَةٌ فِي أَسْفَلِ الْفَرْجِ وَهُوَ مَدْخَلُ الذَّكَرِ وَمَخْرَجُ الْحَيْضِ وَالْوَلَدِ، وَثُقْبَةٌ أُخْرَى فَوْقَ هَذِهِ مِثْلُ إِحْلِيلِ الذَّكَرِ وَهِيَ مَخْرَجُ الْبَوْلِ لَا غَيْرَ، وَالثَّالِثُ، فَوْقَ ثُقْبَةِ الْبَوْلِ مَوْضِعُ/ خِتَانِهَا، وَهُنَاكَ جِلْدَةٌ رَقِيقَةٌ قَائِمَةٌ مِثْلُ عُرْفِ الدِّيكِ، وَقَطْعُ هَذِهِ الْجِلْدَةِ هُوَ خِتَانُهَا، فَإِذَا غَابَتِ الْحَشَفَةُ حَاذَى خِتَانَهَا خِتَانُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ فَاطَّهَّرُوا أمر بالطهارة عَلَى الْإِطْلَاقِ بِحَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَخْصُوصًا بِعُضْوٍ مُعَيَّنٍ دُونَ عُضْوٍ، فَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا بِتَحْصِيلِ الطَّهَارَةِ فِي كُلِّ الْبَدَنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلِأَنَّ الطهارة الصغرى لَمَّا كَانَتْ مَخْصُوصَةً بِبَعْضِ الْأَعْضَاءِ لَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى تِلْكَ الْأَعْضَاءَ عَلَى التَّعْيِينِ، فَهَهُنَا لَمَّا لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنَ الْأَعْضَاءِ عَلَى التَّعْيِينِ عُلِمَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَمْرٌ بِطَهَارَةِ كُلِّ الْبَدَنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّطْهِيرَ هُوَ الِاغْتِسَالُ كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النِّسَاءِ: 43] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الدَّلْكُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْغُسْلِ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه: وَاجِبٌ. لَنَا أَنَّ قَوْلَهُ فَاطَّهَّرُوا أَمْرٌ بِتَطْهِيرِ الْبَدَنِ، وَتَطْهِيرُ الْبَدَنِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الدَّلْكُ بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الِاغْتِسَالِ مِنَ الْجَنَابَةِ قَالَ: «أَمَّا أَنَا فَأَحْثِي عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ خَفِيفَاتٍ مِنَ الْمَاءِ فَإِذَا أَنَا قَدْ طَهُرْتُ» أَثْبَتَ حُصُولَ الطِّهَارَةِ بِدُونِ الدَّلْكِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّطْهِيرَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّلْكِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ مَسُّ الْمُصْحَفِ. وَقَالَ دَاوُدُ: يَجُوزُ. لَنَا قَوْلُهُ فَاطَّهَّرُوا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِطَاهِرٍ، وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا بِتَطْهِيرِ الطَّاهِرِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ طَاهِرًا لَمْ يَجُزْ لَهُ مَسُّ الْمُصْحَفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الْوَاقِعَةِ: 79] . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَا يَجِبُ تَقْدِيمُ الْوُضُوءِ عَلَى الْغُسْلِ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ: يَجِبُ. لَنَا أَنَّ قَوْلَهُ فَاطَّهَّرُوا أَمْرٌ بِالتَّطْهِيرِ، وَالتَّطْهِيرُ حَاصِلٌ بِمُجَرَّدِ الِاغْتِسَالِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْوُضُوءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَمَّا أَنَا فَأَحْثِي عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ فَإِذَا أَنَا قَدْ طَهُرْتُ» . الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ غَيْرُ وَاجِبَيْنِ فِي الْغُسْلِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: هُمَا وَاجِبَانِ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَمَّا أَنَا فَأَحْثِي عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ فَإِذَا أَنَا قَدْ طَهُرْتُ» . وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ الْآيَةُ وَالْخَبَرُ. أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَاطَّهَّرُوا وَهَذَا أَمْرٌ بِأَنْ يُطَهِّرُوا أنفسهم، وتطهير

النَّفْسِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَطْهِيرِ جَمِيعِ أَجْزَاءِ النَّفْسِ، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْأَجْزَاءِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ تَطْهِيرُهَا، وَدَاخِلُ الْفَمِ وَالْأَنْفِ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُمَا، فَوَجَبَ بَقَاؤُهُمَا تَحْتَ النَّصِّ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «بُلُّوا الشَّعَرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ» فَإِنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً» فَقَوْلُهُ «بُلُّوا الشَّعَرَ» يَدْخُلُ فِيهِ الْأَنْفُ لِأَنَّ فِي دَاخِلِهِ شَعَرًا، وَقَوْلُهُ «وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ» يَدْخُلُ فِيهِ جلدة داخل الفم. المسألة السابعة: شَعَرُ الرَّأْسِ إِنْ كَانَ مَفْتُولًا لَا مَشْدُودًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ نَظَرَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى جِلْدَةِ الرَّأْسِ وَجَبَ نَقْضُهُ، وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَجِبُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْنَعُ لَمْ يَجِبْ وَقَالَ النَّخَعِيُّ: يَجِبُ. لَنَا أَنَّ قَوْلَهُ فَاطَّهَّرُوا عِبَارَةٌ عَنْ إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ، فَإِنْ كَانَ شَدُّ بَعْضِ الشُّعُورِ بِالْبَعْضِ مَانِعًا مِنْهُ وَجَبَ إِزَالَةُ ذَلِكَ الشَّدِّ لِيَزُولَ ذَلِكَ الْمَانِعُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْهُ لَمْ يَجِبْ إِزَالَتُهُ، لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ قَدْ حَصَلَ فَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا تَرْتِيبَ فِي الْغُسْلِ، وَقَالَ إِسْحَاقُ: تَجِبُ الْبُدَاءَةُ بِأَعْلَى الْبَدَنِ لَنَا أَنَّ قَوْلَهُ فَاطَّهَّرُوا أَمْرٌ بِالتَّطْهِيرِ الْمُطْلَقِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِإِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى كُلِّ الْبَدَنِ، فَإِذَا حَصَلَ التَّطْهِيرُ وَجَبَ أَنْ يكون كافيا في الخروج عن العهدة. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النِّسَاءَ: 43] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ شَرَطَ فِيهِ عَدَمَ الْمَاءِ، لِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ، فَلَا مَعْنَى لِضَمِّهِ إِلَى الْمَرَضِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ قَوْلُهُ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً إِلَى الْمُسَافِرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَرَضُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَخَافَ الضَّرَرَ وَالتَّلَفَ، فَهَهُنَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالِاتِّفَاقِ. الثَّانِي: أَنْ لَا يَخَافَ الضَّرَرَ وَلَا التَّلَفَ، فَهَهُنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ، وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ يَجُوزُ، وَحُجَّتُهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْمَرَضِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَخَافَ الزِّيَادَةَ فِي الْعِلَّةِ وَبُطْءِ الْمَرَضِ، فَهَهُنَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّه، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ عُمُومُ قَوْلِهِ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى الرَّابِعُ: أَنْ يَخَافَ بَقَاءَ شَيْنٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أعضائه، قال في «الجديد» : لا يتيمم. وقال فِي «الْقَدِيمِ» يَتَيَمَّمُ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُطَابِقُ لِلْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْ كَانَ الْمَرَضُ الْمَانِعُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ حَاصِلًا فِي بَعْضِ جَسَدِهِ دُونَ بَعْضٍ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِنَّهُ يَغْسِلُ مَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: إِنْ كَانَ/ أَكْثَرُ الْبَدَنِ صَحِيحًا غَسَلَ الصَّحِيحَ دُونَ التَّيَمُّمِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ جَرِيحًا يَكْفِيهِ التَّيَمُّمُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ الْمَرَضَ أَحَدَ أَسْبَابِ جَوَازِ التَّيَمُّمِ، وَالْمَرَضُ إِذَا كَانَ حَالًّا فِي بَعْضِ أَعْضَائِهِ فَهُوَ مَرِيضٌ فَكَانَ دَاخِلًا تَحْتَ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَوْ أَلْصَقَ عَلَى مَوْضِعِ التَّيَمُّمِ لَصُوقًا يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ وَلَا يَخَافُ مِنْ نَزْعٍ ذَلِكَ اللَّصُوقِ التَّلَفَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: يَلْزَمُهُ نَزْعُ اللَّصُوقِ عِنْدَ التَّيَمُّمِ حَتَّى يَصِلَ التُّرَابُ إِلَيْهِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ:

لَا يَجِبُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رِعَايَةُ الِاحْتِيَاطِ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ مَدَارَ الْأَمْرِ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى التَّخْفِيفِ وَإِزَالَةِ الْحَرَجِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَجِّ: 78] فَإِيجَابُ نَزْعِ اللَّصُوقِ حَرَجٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: يَجُوزُ التَّيَمُّمُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ. لَنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى أَوْ عَلى سَفَرٍ مُطْلَقٌ وَلَيْسَ فِيهِ تَفْصِيلُ أَنَّ السَّفَرَ هَلْ هُوَ طَوِيلٌ أَوْ قَصِيرٌ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّا إِذَا قُلْنَا السَّفَرَ الطَّوِيلَ وَالْقَصِيرَ سَبَبَانِ لِلرُّخْصَةِ لِكَوْنِ لَفْظِ السَّفَرِ مُطْلَقًا وَجَبَ أَنْ نَقُولَ: الْمَرَضُ الْخَفِيفُ وَالشَّدِيدُ سَبَبَانِ لِلرُّخْصَةِ لِكَوْنِ لَفْظِ الْمَرَضِ مُطْلَقًا، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ السَّفَرَ الْقَصِيرَ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ انْصَرَفَ مِنْ قَوْمِهِ فَبَلَغَ مَوْضِعًا مُشْرِفًا عَلَى الْمَدِينَةِ فَدَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ فَطَلَبَ الْمَاءَ لِلْوُضُوءِ فَلَمْ يَجِدْ فَجَعَلَ يَتَيَمَّمُ، فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: أَتَتَيَمَّمُ وَهَا هِيَ تَنْظُرُ إِلَيْكَ جُدْرَانُ المدينة! فقال: أو أعيش حَتَّى أَبْلُغَهَا، وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ بَيْضَاءُ وَمَا أَعَادَ الصَّلَاةَ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْمُسَافِرُ إِذَا كَانَ مَعَهُ مَاءٌ وَيَخَافُ الْعَطَشَ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلِأَنَّ فَرْضَ الْوُضُوءِ سَقَطَ عَنْهُ إِذَا أَضَرَّ بِمَالِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ إِلَّا بِثَمَنٍ كَثِيرٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، فَإِذَا أَضَرَّ بِنَفْسِهِ كَانَ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إِذَا كَانَ مَعَهُ مَاءٌ وَكَانَ حَيَوَانٌ آخَرُ عَطْشَانًا مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ وَاجِبُ الصَّرْفِ إِلَى ذَلِكَ الْحَيَوَانِ، لِأَنَّ حَقَّ الْحَيَوَانِ مُقَدَّمٌ عَلَى الصَّلَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ قَطْعُ الصَّلَاةِ عِنْدَ إِشْرَافِ صَبِيٍّ أَوْ أَعْمَى عَلَى غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ الْمَاءُ كَالْمَعْدُومِ، فَدَخَلَ حِينَئِذٍ تَحْتَ قَوْلِهِ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَاءٌ وَلَكِنْ كَانَ مَعَ غَيْرِهِ مَاءٌ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ إِلَّا بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ جَازَ التَّيَمُّمُ لَهُ: لِأَنَّ قَوْلَهُ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَجِّ: 78] رَفَعَ عَنْهُ تَحَمُّلَ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ كَالْفَاقِدِ لِلْمَاءِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا وَكَذَا الْقَوْلُ إِذَا كَانَ يُبَاعُ/ الْمَاءُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ لَكِنَّهُ لَا يَجِدُ ذَلِكَ الثَّمَنَ، أَوْ كَانَ مَعَهُ ذَلِكَ الثَّمَنُ لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ حَاجَةً ضَرُورِيَّةً، فَأَمَّا إِذَا كَانَ وَاجِدًا لِثَمَنِ الْمِثْلِ وَلَمْ يَكُنْ بِهِ إِلَيْهِ حَاجَةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَهُنَا يَجِبُ شِرَاءُ الْمَاءِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إِذَا وُهِبَ مِنَّةً ذَلِكَ الْمَاءَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَبُولُ ذَلِكَ الْمَاءِ، لِأَنَّ الْمِنَّةَ فِي قَبُولِ الْهِبَةِ شَاقَّةٌ، وَأَنَا أَتَعَجَّبُ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ لَمَّا جَعَلُوا هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْحَرَجِ سَبَبًا لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ فَلِمَ لَمْ يَجِدُوا خَوْفَ زِيَادَةِ الْأَلَمِ فِي الْمَرَضِ سَبَبًا لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: إِذَا أُعِيرَ مِنَّهً الدَّلْوَ وَالرِّشَاءَ، فَهَهُنَا الْأَكْثَرُونَ قَالُوا: لَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ، لِأَنَّ الْمِنَّةَ فِي هَذِهِ الْإِعَارَةِ قَلِيلَةٌ، وَكَانَ هَذَا الْإِنْسَانُ وَاجِدًا لِلْمَاءِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ عَدَمُ وِجْدَانِ الْمَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ كِنَايَةٌ عَنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَلْحَقُوا بِهِ كُلَّ مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ مُعْتَادًا أَوْ نَادِرًا لِدَلَالَةِ الْأَحَادِيثِ عَلَيْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الِاسْتِنْجَاءُ وَاجِبٌ إِمَّا بِالْمَاءِ وَإِمَّا بِالْأَحْجَارِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: غَيْرُ وَاجِبٍ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ: فَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا أَوْجَبَ عِنْدَ الْمَجِيءِ مِنَ الْغَائِطِ الْوُضُوءَ أَوِ التَّيَمُّمَ وَلَمْ يُوجِبْ غَسْلَ مَوْضِعِ الْحَدَثِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَمْسُ الْمَرْأَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَلَا يَنْقُضُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ يَدُلُّ عَلَى انْتِقَاضِ وُضُوءِ اللَّامِسِ، أَمَّا انْتِقَاضُ وُضُوءِ الْمَلْمُوسِ فَغَيْرُ مَأْخُوذٍ مِنَ الْآيَةِ، بَلْ إِنَّمَا أُخِذَ مِنَ الْخَبَرِ، أَوْ مِنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً وَفِيهِ مَسَائِلُ، وَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْمَاءَ الْمُطَهِّرَ مَا هُوَ؟ وَالثَّانِي: الْكَلَامُ فِي أَنَّ التَّيَمُّمَ كَيْفَ هُوَ؟ أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الأولى: الوضوء بالماء المسخن جاز وَلَا يُكْرَهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُكْرَهُ. لَنَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَالْغَسْلُ عِبَارَةٌ عَنْ إِمْرَارِ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ وَقَدْ أَتَى بِهِ/ فَيَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا عَلَّقَ جَوَازَ التَّيَمُّمِ بفقدان الماء، وهاهنا لَمْ يَحْصُلْ فِقْدَانُ الْمَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْمَاءُ إِذَا قَصَدَ تَشْمِيسَهُ فِي الْإِنَاءِ كُرِهَ الْوُضُوءُ بِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّه: لَا يُكْرَهُ. حُجَّةُ أَصْحَابِنَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ اغْتَسَلَ بماء مشمس فأصابه وضع فلا يلو من إِلَّا نَفْسَهُ» وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يُكْرَهُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ أَمَرَ بِالْغَسْلِ فِي قَوْلِهِ: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَهَذَا غَسْلٌ فَيَكُونُ كَافِيًا، الثَّانِي أَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَا يُكْرَهُ الْوُضُوءُ بِمَا فَضَلَ عَنْ وُضُوءِ الْمُشْرِكِ، وَكَذَا لَا يُكْرَهُ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ الَّذِي يَكُونُ فِي أَوَانِي الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لَا يَجُوزُ. لَنَا أَنَّهُ أُمِرَ بِالْغَسْلِ وَقَدْ أَتَى بِهِ وَلِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ فَلَا يَتَيَمَّمُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَوَضَّأَ مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ، وَتَوَضَّأَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مِنْ مَاءٍ فِي جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِمَاءِ الْبَحْرِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لَا يَجُوزُ. لَنَا أَنَّهُ أُمِرَ بِالْغَسْلِ وَقَدْ أَتَى بِهِ، وَلِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِ التَّيَمُّمِ عَدَمُ الْمَاءِ، وَمَنْ وَجَدَ مَاءَ الْبَحْرِ فَقَدْ وَجَدَ الْمَاءَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: يَجُوزُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا أَوْجَبَ الشَّارِعُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ التَّيَمُّمَ، وَعِنْدَ الْخَصْمِ يَجُوزُ لَهُ التَّرْكُ لِلتَّيَمُّمِ بَلْ يَجِبُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَوَضَّأَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْآيَةِ، فإن

تَمَسَّكُوا بِقِصَّةِ الْجِنِّ قُلْنَا: قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ مَاءً نُبِذَتْ فِيهِ تُمَيْرَاتٌ لِإِزَالَةِ الْمُلُوحَةِ، وَأَيْضًا فَقِصَّةُ الْجِنِّ كَانَتْ بِمَكَّةَ وَسُورَةُ الْمَائِدَةِ آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَجَعْلُ هَذَا نَاسِخًا لِذَلِكَ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالْأَصَمُّ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ بِجَمِيعِ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يَجُوزُ. لَنَا أَنَّ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ أَوْجَبَ اللَّه التَّيَمُّمَ، وَتَجْوِيزُ الْوُضُوءِ بِسَائِرِ الْمَائِعَاتِ يُبْطِلُ ذَلِكَ. احْتَجُّوا بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ أَمْرٌ بِمُطْلِقِ الْغَسْلِ، وَإِمْرَارُ الْمَائِعِ عَلَى الْعُضْوِ يُسَمَّى غَسْلًا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: فَيَا حُسْنَهَا إِذْ يَغْسِلُ الدَّمْعُ كُحْلَهَا وَإِذَا كَانَ الْغَسْلُ اسْمًا لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ بَيْنَ مَا يَحْصُلُ بِالْمَاءِ وَبَيْنَ مَا يَحْصُلُ بِسَائِرِ الْمَائِعَاتِ كَانَ قَوْلُهُ فَاغْسِلُوا إِذْنًا فِي الْوُضُوءِ بِكُلِّ الْمَائِعَاتِ. قُلْنَا: هَذَا مُطْلَقٌ، وَالدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مُقَيَّدٌ، وَحَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ هُوَ الْوَاجِبُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْمَاءُ الْمُتَغَيِّرُ بِالزَّعْفَرَانِ تَغَيُّرًا فَاحِشًا لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه يَجُوزُ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَاءِ لَا يُسَمَّى مَاءً عَلَى الْإِطْلَاقِ فَوَاجِدُهُ غَيْرُ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ وَاجِدَهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمُتَغَيِّرَ بِالزَّعْفَرَانِ مَاءٌ مَوْصُوفٌ بِصِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَكَانَ أَصْلُ الْمَاءِ مَوْجُودًا لَا مَحَالَةَ، فَوَاجِدُهُ يَكُونُ وَاجِدًا لِلْمَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا عَلَّقَ جَوَازَ التَّيَمُّمِ بِعَدَمِ الْمَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْمَاءُ الَّذِي تَغَيَّرَ وَتَعَفَّنَ بِطُولِ الْمُكْثِ طَاهِرٌ طَهُورٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا عَلَّقَ جَوَازَ التَّيَمُّمِ عَلَى عَدَمِ الْمَاءِ وَهَذَا الْمَاءُ الْمُتَعَفِّنُ مَاءٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ عِنْدَ وُجُودِهِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْوُضُوءِ يَبْقَى طَاهِرًا طَهُورًا، وَهُوَ قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَالْقَوْلُ الْجَدِيدُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ طَهُورًا وَلَكِنَّهُ طَاهِرٌ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ إِنَّهُ نَجِسٌ. حُجَّةُ مَالِكٍ أَنَّ جَوَازَ التَّيَمُّمِ مُعَلَّقٌ عَلَى عَدَمِ وِجْدَانِ الْمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا وَوَاجِدُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ، وَإِذَا لَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ جَازَ لَهُ التَّوَضُّؤُ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً [الْفُرْقَانِ: 48] وَالطَّهُورُ هُوَ الَّذِي يَتَكَرَّرُ مِنْهُ هَذَا الْفِعْلُ كَالضَّحُوكِ وَالْقَتُولِ وَالْأَكُولِ وَالشَّرُوبِ، وَالتَّكْرَارُ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الطَّهَارَةِ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهَا مَرَّةً أُخْرَى. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ مَالِكٌ: الْمَاءُ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ وَلَمْ يَتَغَيَّرِ الْمَاءُ بِتِلْكَ النَّجَاسَةِ بَقِيَ طَاهِرًا طَهُورًا سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنَ الْقُلَّتَيْنِ يَنْجَسُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ فِي عَشَرَةٍ يَنْجَسُ. حُجَّةُ مَالِكٍ أَنَّ اللَّه جَعَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَدَمَ الْمَاءِ شَرْطًا لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ، وَوَاجِدُ هَذَا الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ النِّزَاعُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ التَّيَمُّمُ. أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ عِنْدَ صَيْرُورَةِ الْمَاءِ الْقَلِيلِ مُتَغَيِّرًا، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: الْعَامُّ حُجَّةٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ أَمْرٌ بِمُطْلَقِ الْغَسْلِ، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي سَائِرِ

الْمَائِعَاتِ وَفِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ الَّذِي تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ، فَيَبْقَى حُجَّةً فِي الْبَاقِي. وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه: ثُمَّ تَأَيَّدَ التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ/ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ أَوْ لَوْنَهُ» وَلَا يُعَارَضُ هَذَا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا» لِأَنَّ الْقُرْآنَ أَوْلَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْمَنْطُوقَ أَوْلَى مِنَ الْمَفْهُومِ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِفَضْلِ مَاءِ الْجُنُبِ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: لَا يَجُوزُ بِفَضْلِ مَاءِ الْمَرْأَةِ إِذَا خَلَتْ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. لَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا وَوَاجِدُ هَذَا الْمَاءِ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ جَازَ لَهُ الْوُضُوءُ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَسْآرُ السِّبَاعِ طَاهِرَةٌ مُطَهِّرَةٌ، وَكَذَا سُؤْرُ الْحِمَارِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: نَجِسَةٌ. لَنَا أَنَّ وَاجِدَ هَذَا السُّؤْرِ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَاغْسِلُوا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْمَاءِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: الْمَاءُ إِذَا بَلَغَ قلتين ووقعت فيه نجاسة غير مُغَيِّرَةٌ بَقِيَ طَاهِرًا طَهُورًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه يَنْجَسُ. لَنَا أَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَلِأَنَّهُ أُمِرَ بِالْغَسْلِ وَقَدْ أَتَى بِهِ فَخَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْمَاءُ الَّذِي تَفَتَّتَتِ الْأَوْرَاقُ فِيهِ، لِلنَّاسِ فِيهِ تَفَاصِيلُ، لَكِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى كَوْنِهِ طَاهِرًا مُطَهِّرًا مَا لَمْ يَزُلْ عَنْهُ اسْمُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا بَقِيَ اسْمُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ كَانَ طَاهِرًا طَهُورًا. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ مَسَائِلِ التَّيَمُّمِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَكْثَرُونَ رَحِمَهُمُ اللَّه: لَا بُدَّ فِي التَّيَمُّمِ مِنَ النِّيَّةِ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّه لَا يَجِبُ. لَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَيَمَّمُوا وَالتَّيَمُّمُ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَصْدِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ تَيَمُّمُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى الرُّسْغَيْنِ، وَعَنْ مَالِكٍ إِلَى الْكُوعَيْنِ، وَعَنِ الزُّهْرِيِّ إِلَى الْآبَاطِ. لَنَا: الْيَدُ اسْمٌ لِهَذَا الْعُضْوِ إِلَى الْإِبِطِ فَقَوْلُهُ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ يَقْتَضِي الْمَسْحَ إِلَى الْإِبِطَيْنِ، تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِهَذَا النَّصِّ فِي الْعَضُدَيْنِ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَنِ الْوُضُوءِ. وَمَبْنَاهُ عَلَى التَّخْفِيفِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْوَاجِبَ تَطْهِيرُ أَعْضَاءٍ أَرْبَعَةٍ فِي الْوُضُوءِ، وَفِي التَّيَمُّمِ الْوَاجِبُ تَطْهِيرُ عُضْوَيْنِ وَتَأَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ فَإِذَا كَانَ الْعَضُدَانِ/ غَيْرَ مُعْتَبَرَيْنِ فِي الْوُضُوءِ فَبِأَنْ لَا يَكُونَا مُعْتَبَرَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ أَوْلَى، وَإِذَا خَرَجَ الْعَضُدَانِ عَنْ ظَاهِرِ النَّصِّ بِهَذَا الدَّلِيلِ بَقِيَ الْيَدَانِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ فِيهِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا تَرَكَ تَقْيِيدَ التَّيَمُّمِ فِي الْيَدَيْنِ بِالْمِرْفَقَيْنِ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنِ الْوُضُوءِ، فَتَقْيِيدُهُ بِهِمَا فِي الْوُضُوءِ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ هَذَا التَّقْيِيدِ فِي التَّيَمُّمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يَجِبُ اسْتِيعَابُ الْعُضْوَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ. وَنَقَلَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِذَا يَمَّمَ الْأَكْثَرَ جَازَ.

لَنَا قَوْلُهُ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ وَالْوَجْهُ وَالْيَدُ اسْمٌ لِجُمْلَةِ هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالِاسْتِيعَابِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ ذكرتم في قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ أن الباء تفيد التبعيض فكذا هاهنا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِذَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ فَمَا لَمْ يَعْلَقْ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنَ الْغُبَارِ لَمْ يُجْزِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّه. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ رَحِمَهُمَا اللَّه يُجْزِئُهُ. لَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ وَكَلِمَةُ مِنْهُ تَدُلُّ عَلَى التَّمَسُّحِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ كَمَا أَنَّ مَنْ قَالَ: فُلَانٌ يَمْسَحُ مِنَ الدُّهْنِ أَفَادَ هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ بَالَغْنَا فِي تَقْرِيرِ هَذَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّيَمُّمِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إِلَّا بِالتُّرَابِ الْخَالِصِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّه. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: يَجُوزُ بِالتُّرَابِ وَبِالرَّمْلِ وَبِالْخَزَفِ الْمَدْقُوقِ وَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ وَالزَّرْنِيخِ. لَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: الصَّعِيدُ هُوَ التُّرَابُ، وَأَيْضًا التَّيَمُّمُ طَهَارَةٌ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ الْمَعْنَى، فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ فِيهِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ، وَالنَّصُّ الْمُفَصَّلُ إِنَّمَا وَرَدَ فِي التُّرَابِ. قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ حِجَجٍ» وَقَالَ «جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرَابُهَا طَهُورًا» واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَوْ وَقَفَ عَلَى مَهَبِّ الرِّيَاحِ فَسَفَتِ الرِّيَاحُ التُّرَابَ عَلَيْهِ فَأَمَرَّ يَدَهُ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُمِرَّ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ لَا يَكْفِي. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ يَكْفِي، لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ الْغُبَارُ إِلَى أَعْضَائِهِ ثُمَّ أَمَرَّ الْغُبَارَ عَلَى تِلْكَ الْأَعْضَاءِ فَقَدْ قَصَدَ إِلَى اسْتِعْمَالِ الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ فِي أَعْضَائِهِ فَكَانَ كَافِيًا. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الْمَذْهَبُ أَنَّهُ إِذَا يَمَّمَهُ غَيْرُهُ صَحَّ، وَقِيلَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَتَيَمَّمُوا أَمْرٌ/ لَهُ بِالْفِعْلِ وَلَمْ يُوجَدْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه يَجُوزُ. لنا قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إِلَى قَوْلِهِ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا وَالْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا. وَالْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إِذَا ضَرَبَ رِجْلَهُ حَتَّى ارْتَفَعَ عَنْهُ غُبَارٌ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّه لَا يَجُوزُ. حُجَّةُ أَبِي يُوسُفَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً وَالْغُبَارُ الْمُنْفَصِلُ عَنِ التُّرَابِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ صَعِيدٌ طَيِّبٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِيَ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِتُرَابٍ نَجِسٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً وَالنَّجِسُ لَا يَكُونُ طَيِّبًا. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْمُسَافِرُ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ بِقُرْبِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ إِلَّا بعد

الطَّلَبِ عَنِ الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَادٍ هَبَطَ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ جَبَلٌ صَعِدَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُ الْمَاءِ لَمْ يَجِبْ طَلَبُهُ. لَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا جَعَلَ عَدَمَ وِجْدَانِ الْمَاءِ شَرْطًا لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ، وَعَدَمُ الْوِجْدَانِ مَشْرُوطٌ بِتَقْدِيمِ الطَّلَبِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الطَّلَبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: لَا يَصِحُّ الطَّلَبُ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ طَلَبَ قَبْلَهُ يَلْزَمُهُ الطَّلَبُ ثَانِيًا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، إِلَّا أَنْ يَحْصُلَ عِنْدَهُ يَقِينٌ أَنَّ الْأَمْرَ بَقِيَ كَمَا كَانَ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ. لَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إِلَى قَوْلِهِ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا فقوله إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ عِبَارَةٌ عَنْ دُخُولِ الْوَقْتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فَلَمْ تَجِدُوا عِبَارَةً عَنْ عَدَمِ الْوِجْدَانِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَعَدَمُ الْوِجْدَانِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ مَشْرُوطٌ بِحُصُولِ الطَّلَبِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الطَّلَبِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ بَدَلًا عَنِ الْوُضُوءِ. وَأَمَّا التَّيَمُّمُ بَدَلًا عَنِ الْغَسْلِ فِي حِقِّ الْجُنُبِ فَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ جَوَازُهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. لَنَا أَنَّ قَوْلَهُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالْجِمَاعِ أَوْ يَدْخُلُ فِيهِ الْجِمَاعُ، فَوَجَبَ جَوَازُ التَّيَمُّمِ بَدَلًا عَنِ الْغَسْلِ لِقَوْلِهِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَا يَجْمَعُ بِالتَّيَمُّمِ بَيْنَ فَرْضَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ كَمَا فِي الْوُضُوءِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: يَجْمَعُ بَيْنَ الْفَوَائِتِ وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ صلاتي وقتين. حجة الشافعي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا إِلَى قَوْلِهِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا. وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِكُلِّ وُضُوءٍ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ إِنْ وُجِدَ الْمَاءُ، وَبِالتَّيَمُّمِ إِنْ فُقِدَ الْمَاءُ، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْوُضُوءِ لِفِعْلِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَبْقَى فِي التَّيَمُّمِ عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَيَتَوَقَّعُ وِجْدَانَهُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: بَلْ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: قوله إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إِلَى قَوْلِهِ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً وَقَوْلُهُ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، بَلِ الْمُرَادُ دُخُولُ وَقْتِ الصَّلَاةِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ التَّيَمُّمِ وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ بَطَلَ تَيَمُّمُهُ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ: لَا يَبْطُلُ. لَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إِلَى قَوْلِهِ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا شَرَطَ عَدَمَ وِجْدَانِ الْمَاءِ بِجَوَازِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ، وَمَنْ وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ التَّيَمُّمِ وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ فَاتَهُ

هَذَا الشَّرْطُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: لَوْ فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ لَا يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ. قَالَ طَاوُسٌ: يلزمه. لنا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إِلَى قَوْلِهِ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا جَوَّزَ لَهُ الشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ وِجْدَانِ الْمَاءِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِخُرُوجِهِ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ، لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ سَبَبٌ لِلْإِجْزَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: لَوْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ لَا يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ وَابْنِ شُرَيْحٍ. لَنَا أَنَّ عَدَمَ وِجْدَانِ الْمَاءِ يَقْتَضِي جَوَازَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ بِحُكْمِ التَّيَمُّمِ عَلَى مَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَيْهِ، فَقَدِ انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ صَحِيحَةً، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ فَنَقُولُ: مَا لَمْ يُبْطِلْ صَلَاتَهُ/ لَا يَصِيرُ قَادِرًا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَمَا لَمْ يَصِرْ قَادِرًا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، فَيَتَوَقَّفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَيَكُونُ دَوْرًا وَهُوَ بَاطِلٌ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: لَوْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ عَلِمَ وُجُودَ الْمَاءِ لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ. حُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الْمَاءِ لِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ كَمَا أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، فَكَذَلِكَ النِّسْيَانُ سَبَبٌ لِلْعَجْزِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ عِنْدَ النِّسْيَانِ عَاجِزٌ فِيهِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ فِي ذَلِكَ النِّسْيَانِ. الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ: إِذَا ضَلَّ رَحْلُهُ فِي الرِّحَالِ فَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا تَجِبَ الْإِعَادَةُ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: إِذَا نَسِيَ كَوْنَ الْمَاءِ فِي رَحْلِهِ وَلَكِنَّهُ اسْتَقْصَى فِي الطَّلَبِ فَلَمْ يَجِدْهُ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ وَجَدَهُ، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ الْإِعَادَةُ لِأَنَّ الْعُذْرَ ضَعِيفٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَقْصَى فِي الطَّلَبِ صَارَ عَاجِزًا عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: لَوْ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ وَجَدَ مَاءً فِي بِئْرٍ بِجَنْبِهِ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ الْمَاءِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَهُ أَوَّلًا ثُمَّ نَسِيَهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا قَطُّ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا عَلَامَةٌ ظَاهِرَةٌ لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا عَلَامَةٌ فَلَا إِعَادَةَ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، فَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ مِائَةُ مَسْأَلَةٍ، وَقَدْ كَتَبْنَاهَا فِي مَوْضِعٍ مَا كَانَ مَعَنَا شَيْءٌ مِنَ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَكَانَ الْقَلْبُ مُشَوَّشًا بِسَبَبِ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ عَلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ. فَنَسْأَلُ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَكْفِيَنَا شَرَّهُمْ، وَأَنْ يَجْعَلَ كَدَّنَا فِي اسْتِنْبَاطِ أَحْكَامِ اللَّه مِنْ نَصِّ اللَّه سَبَبًا لِرُجْحَانِ الْحَسَنَاتِ عَلَى السيئات أنه أعز مأمول وأكرم مسؤول. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُرِيدٌ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ

كَوْنِهِ مُرِيدًا، فَقَالَ الْحَسَنُ النَّجَّارُ: أَنَّهُ مُرِيدٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ غَيْرُ مَغْلُوبٍ وَلَا مُكْرَهٍ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَكَوْنُهُ تَعَالَى مَرِيداً صِفَةٌ سَلْبِيَّةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى كَوْنِهِ مُرِيدًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ أَنَّهُ دَعَاهُ الدَّاعِي إِلَى إِيجَادِهَا، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مُرِيدًا لِأَفْعَالِ غَيْرِهِ أَنَّهُ دَعَاهُ الدَّاعِي إِلَى الْأَمْرِ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْجَاحِظِ وَأَبِي قَاسِمٍ الْكَعْبِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ الْبَاقُونَ: كَوْنُهُ مُرِيدًا صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْعِلْمِ، وَهُوَ الَّذِي سَمَّيْنَاهُ بِالدَّاعِي، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُرِيدٌ لِذَاتِهِ، وَهَذِهِ هِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ الْحَسَنِ النَّجَّارِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ مُرِيدٌ بِإِرَادَةٍ، ثُمَّ قَالَ أَصْحَابُنَا: مُرِيدٌ بِإِرَادَةٍ قَدِيمَةٍ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْبَصْرِيَّةُ: مُرِيدٌ بِإِرَادَةٍ مُحْدَثَةٍ لَا فِي مَحَلِّهِ وَقَالَتِ الْكَرَّامِيَّةُ: مُرِيدٌ بِإِرَادَةٍ مُحْدَثَةٍ قَائِمَةٍ بِذَاتِهِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ لَا يُوجَدُ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْحَرَجِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: لَمَّا كَانَ خِلَافُ الْمَعْلُومِ مُحَالَ الْوُقُوعِ فَقَدْ لَزِمَكُمْ مَا أَلْزَمْتُمُوهُ عَلَيْنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَصْلٌ كَبِيرٌ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَضَارِّ أَنْ لَا تَكُونَ مَشْرُوعَةً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ فإنه تعالى قال: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَجِّ: 78] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: 185] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ مُسْتَحْسَنٌ فِي الْعُقُولِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الشَّرْعِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّه حَسَنٌ» وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ فَوُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَةِ: 29] وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [الْمَائِدَةِ: 4] وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الْمُسْتَلَذَّاتُ وَالْأَشْيَاءُ الَّتِي يُنْتَفَعُ بِهَا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ فَعِنْدَ هَذَا قَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ: لَا حَاجَةَ الْبَتَّةَ أَصْلًا إِلَى الْقِيَاسِ فِي الشَّرْعِ لِأَنَّ كُلَّ حَادِثَةٍ تَقَعُ فَحُكْمُهَا الْمُفَصَّلُ إِنْ كَانَ مَذْكُورًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَذَاكَ هُوَ الْمُرَادُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الْمَضَارِّ حَرَّمْنَاهُ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الْمَنَافِعِ أَبَحْنَاهُ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى إِبَاحَةِ الْمَنَافِعِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْدَحَ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَقْيِسَةِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ الْمُعَارِضَ لَهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ يَكُونُ قِيَاسًا وَاقِعًا فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَأَنَّهُ مَرْدُودٌ، فَكَانَ بَاطِلًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ هَذَا التَّطْهِيرِ، فَقَالَ جُمْهُورُ/ أَهْلِ النَّظَرِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: إِنَّ عِنْدَ خُرُوجِ الْحَدَثِ تَنْجَسُ الْأَعْضَاءُ نَجَاسَةً حُكْمِيَّةً، فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّطْهِيرِ إِزَالَةُ تِلْكَ النَّجَاسَةِ الْحُكْمَيَّةِ، وَهَذَا الْكَلَامُ عِنْدَنَا بَعِيدٌ جِدًّا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التَّوْبَةِ: 28] وَكَلِمَةُ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا تَنْجَسُ أَعْضَاؤُهُ الْبَتَّةَ. الثَّانِي: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجَسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا» فَهَذَا الْحَدِيثُ مَعَ تِلْكَ الْآيَةِ كَالنَّصِّ الدَّالِّ عَلَى بُطْلَانِ مَا قَالُوهُ. الثَّالِثُ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ بَدَنَ الْمُحْدِثِ لَوْ كَانَ رَطْبًا فَأَصَابَهُ ثَوْبٌ لَمْ يَتَنَجَّسْ، وَلَوْ حَمَلَهُ إِنْسَانٌ وَصَلَّى لَمْ تفسد صلاته، وذلك بدل عَلَى أَنَّهُ لَا نَجَاسَةَ فِي أَعْضَاءِ الْمُحْدِثِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْحَدَثَ لَوْ كَانَ يُوجِبُ نَجَاسَةَ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ ثُمَّ كَانَ تَطْهِيرُ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ يُوجِبُ طَهَارَةَ كُلِّ الْأَعْضَاءِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. الْخَامِسُ: أَنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ مِنْ مَوْضِعٍ كَيْفَ يُوجِبُ

[سورة المائدة (5) : آية 7]

تَنَجُّسَ مَوْضِعٍ آخَرَ! السَّادِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ مَذْكُورٌ عَقِيبَ التَّيَمُّمِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ التَّيَمُّمَ زِيَادَةٌ فِي التَّقْدِيرِ وَإِزَالَةِ الْوَضَاءَةِ وَالنَّظَافَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُزِيلُ شَيْئًا مِنَ النَّجَاسَاتِ أَصْلًا، السَّابِعُ: أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ قَائِمٌ مَقَامَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْمَسْحَ لَا يُزِيلُ شَيْئًا الْبَتَّةَ عَنِ الرِّجْلَيْنِ، الثَّامِنُ: أَنَّ الَّذِي يُرَادُ زَوَالُهُ إِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَجْسَامِ فَالْحِسُّ يَشْهَدُ بِبُطْلَانِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْرَاضِ فَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ انْتِقَالَ الْأَعْرَاضِ مُحَالٌ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الَّذِي يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءُ بَعِيدٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذَا التَّطْهِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ طَهَارَةَ الْقَلْبِ عَنْ صِفَةِ التَّمَرُّدِ عَنْ طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ نَجَاسَةٌ لِلْأَرْوَاحِ، فَإِنَّ النَّجَاسَةَ إِنَّمَا كَانَتْ نَجَاسَةً لِأَنَّهَا شَيْءٌ يُرَادُ نَفْيُهُ وَإِزَالَتُهُ وَتَبْعِيدُهُ، وَالْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي كَذَلِكَ، فَكَانَتْ نَجَاسَاتٍ رُوحَانِيَّةً، وَكَمَا أَنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ تُسَمَّى طَهَارَةً فَكَذَلِكَ إِزَالَةُ هَذِهِ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْبَاطِلَةِ تُسَمَّى طَهَارَةً، وَلِهَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ اللَّه تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَجَعَلَ رَأْيَهُمْ نَجَاسَةً، وَقَالَ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الْأَحْزَابِ: 33] فَجَعَلَ بَرَاءَتَهُمْ عَنِ الْمَعَاصِي طَهَارَةً لَهُمْ. وَقَالَ فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آلِ عِمْرَانَ: 55] فَجَعَلَ خَلَاصَهُ عَنْ طَعْنِهِمْ وَعَنْ تَصَرُّفِهِمْ فِيهِ تَطْهِيرًا لَهُ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْعَبْدَ بِإِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الْمَخْصُوصَةِ وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ طَاهِرَةً لَمْ يَعْرِفِ الْعَبْدُ فِي هَذَا التَّكْلِيفِ فَائِدَةً مَعْقُولَةً، فَلَمَّا انْقَادَ لِهَذَا التَّكْلِيفِ كَانَ ذَلِكَ الِانْقِيَادُ لِمَحْضِ إِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ وَالِانْقِيَادِ لِلرُّبُوبِيَّةِ، فَكَانَ هَذَا الِانْقِيَادُ قَدْ أَزَالَ عَنْ قَلْبِهِ آثَارَ التَّمَرُّدِ فَكَانَ ذَلِكَ طَهَارَةً، فَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الصَّحِيحُ فِي تَسْمِيَةِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ طَهَارَةً، وَتَأَكَّدَ/ هَذَا بِالْأَخْبَارِ الْكَثِيرَةِ الْوَارِدَةِ فِي أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَّتْ خَطَايَاهُ مِنْ وَجْهِهِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي يديه ورأسه ورجائه. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الَّتِي قَرَّرْنَاهَا أَصْلٌ مُعْتَبَرٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ فِي أَبْوَابِ الطَّهَارَةِ واللَّه أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَلَامَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا ذُكِرَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَنْعَمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِإِبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَنَاكِحِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَهُ كَيْفِيَّةَ فَرْضِ الْوُضُوءِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِتَتِمَّ النِّعْمَةُ الْمَذْكُورَةُ أَوَّلًا وَهِيَ نِعْمَةُ الدُّنْيَا، وَالنِّعْمَةُ الْمَذْكُورَةُ ثَانِيًا وَهِيَ نِعْمَةُ الدِّينِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ: وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ أَيْ بِالتَّرَخُّصِ فِي التَّيَمُّمِ وَالتَّخْفِيفِ فِي حَالِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ، فَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُخَفِّفُ عَنْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْ ذُنُوبِكُمْ وَيَتَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِكُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَالْكَلَامُ فِي «لَعَلَّ» مَذْكُورٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] واللَّه أعلم. [سورة المائدة (5) : آية 7] وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا التَّكْلِيفَ أَرْدَفَهُ بِمَا يُوجِبُ عَلَيْهِمُ الْقَبُولَ وَالِانْقِيَادَ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الأول:

كَثْرَةُ نِعْمَةِ اللَّه عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَثْرَةَ النِّعَمِ تُوجِبُ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ الِاشْتِغَالَ بِخِدْمَةِ الْمُنْعِمِ وَالِانْقِيَادَ لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا قَالَ: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَلَمْ يَقُلْ نِعَمَ اللَّه عَلَيْكُمْ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّأَمُّلَ فِي أَعْدَادِ نِعَمِ اللَّه، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّأَمُّلُ فِي جِنْسِ نِعَمِ اللَّه لِأَنَّ هَذَا الْجِنْسَ جِنْسٌ لَا يَقْدِرُ غَيْرُ اللَّه عَلَيْهِ، فَمَنِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى إِعْطَاءِ نِعْمَةِ الْحَيَاةِ وَالصِّحَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْهِدَايَةِ وَالصَّوْنِ عَنِ الْآفَاتِ وَالْإِيصَالِ إِلَى جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَجِنْسُ نِعْمَةِ اللَّه جِنْسٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ/ غَيْرُ اللَّه، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ الْمُرَادُ التَّأَمُّلُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُمْتَازٌ عَنْ نِعْمَةِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ الِامْتِيَازُ هُوَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النِّعْمَةَ مَتَى كَانْتَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ وُجُوبُ الِاشْتِغَالِ بِشُكْرِهَا أَتَمَّ وَأَكْمَلَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ مُشْعِرٌ بِسَبْقِ النِّسْيَانِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ نِسْيَانُهَا مَعَ أَنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ مُتَوَالِيَةٌ عَلَيْنَا فِي جَمِيعِ السَّاعَاتِ وَالْأَوْقَاتِ، إِلَّا أَنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ أَنَّهَا لِكَثْرَتِهَا وَتَعَاقُبِهَا صَارَتْ كَالْأَمْرِ الْمُعْتَادِ، فَصَارَتْ غَلَبَةُ ظُهُورِهَا وَكَثْرَتِهَا سَبَبًا لِوُقُوعِهَا فِي مَحَلِّ النِّسْيَانِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا كَانَ بَاطِنًا لِكَوْنِهِ ظَاهِرًا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قولهم: سبحانه مَنِ احْتَجَبَ عَنِ الْعُقُولِ بِشِدَّةِ ظُهُورِهِ، وَاخْتَفَى عَنْهَا بِكَمَالِ نُورِهِ. السَّبَبُ الثَّانِي: مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْهِمْ كَوْنَهُمْ مُنْقَادِينَ لِتَكَالِيفِ اللَّه تَعَالَى هُوَ الْمِيثَاقُ الَّذِي وَاثَقَهُمْ بِهِ، وَالْمُوَاثَقَةُ الْمُعَاهَدَةُ الَّتِي قَدْ أُحْكِمَتْ بِالْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُشَابِهَةٌ لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْمِيثَاقِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْمَوَاثِيقُ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَهُمْ فِي أَنْ يَكُونُوا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ، مِثْلُ مُبَايَعَتِهِ مَعَ الْأَنْصَارِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَمُبَايَعَتِهِ عَامَّةَ الْمُؤْمِنِينَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْمِيثَاقَ الصَّادِرَ عَنِ الرَّسُولِ إِلَى نَفْسِهِ كَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْحِ: 10] وَقَالَ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النِّسَاءِ: 80] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ ذَكَّرَهُمْ أَنَّهُمُ الْتَزَمُوا ذَلِكَ وَقَبِلُوا تِلْكَ التَّكَالِيفَ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، ثُمَّ حَذَّرَهُمْ مِنْ نَقْضِ تِلْكَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ فَقَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يَعْنِي لَا تَنْقُضُوا تِلْكَ الْعُهُودَ وَلَا تَعْزِمُوا بِقُلُوبِكُمْ عَلَى نَقْضِهَا، فَإِنَّهُ إِنْ خَطَرَ ذَلِكَ بِبَالِكُمْ فاللَّه يَعْلَمُ بِذَلِكَ وَكَفَى بِهِ مُجَازِيًا. وَالثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: هُوَ الْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ قَالُوا آمَنَّا بِالتَّوْرَاةِ وَبِكُلِّ مَا فِيهَا، فَلَمَّا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي التَّوْرَاةِ الْبِشَارَةِ بِمَقْدَمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَزِمَهُمُ الْإِقْرَارُ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالثَّالِثُ: قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: هُوَ الْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّه تَعَالَى مِنْهُمْ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ. فَإِنْ قِيلَ: عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنَّ بَنِي آدَمَ لَا يَذْكُرُونَ هَذَا الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ فَكَيْفَ يُؤْمَرُونَ بِحِفْظِهِ؟ قُلْنَا: لَمَّا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ حَاصِلًا حَصَلَ الْقَطْعُ بِحُصُولِهِ، وَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْوَفَاءِ بِذَلِكَ الْعَهْدِ. الرَّابِعُ: قَالَ السُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بِالْمِيثَاقِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ وَالشَّرْعِيَّةُ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّه تَعَالَى عَلَى التَّوْحِيدِ والشرائع، وهو اختيار أكثر المتكلمين.

[سورة المائدة (5) : آية 8]

[سورة المائدة (5) : آية 8] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) قَوْلُهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ هَذَا أَيْضًا مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَالْمُرَادُ حَثُّهُمْ عَلَى الِانْقِيَادِ لِتَكَالِيفِ اللَّه تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّكَالِيفَ وَإِنْ كَثُرَتْ إِلَّا أَنَّهَا مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ: التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى، وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّه، فَقَوْلُهُ كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَهُوَ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّه، وَمَعْنَى الْقِيَامِ للَّه هُوَ أَنْ يَقُومَ للَّه بِالْحَقِّ فِي كُلِّ مَا يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ بِهِ مِنْ إِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ وَتَعْظِيمِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَقَوْلُهُ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ إِشَارَةٌ إِلَى الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّه وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ عَطَاءٌ: يَقُولُ لَا تُحَابِ فِي شَهَادَتِكَ أَهْلَ وُدِّكَ وَقَرَابَتَكَ، وَلَا تَمْنَعْ شَهَادَتَكَ أَعْدَاءَكَ وَأَضْدَادَكَ. الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى تُبَيِّنُونَ عَنْ دِينِ اللَّه، لِأَنَّ الشَّاهِدَ يُبَيِّنُ مَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا أَيْ لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لَا تَعْدِلُوا، وَأَرَادَ أَنْ لَا تَعْدِلُوا فِيهِمْ لَكِنَّهُ حُذِفَ لِلْعِلْمِ، وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا عَامَّةٌ وَالْمَعْنَى لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ تَجُورُوا عَلَيْهِمْ وَتُجَاوِزُوا الحد فيهم، بل اعدلوا فيهم وإن أساؤوا عليكم، وَأَحْسِنُوا إِلَيْهِمْ وَإِنْ بَالَغُوا فِي إِيحَاشِكُمْ، فَهَذَا خِطَابٌ عَامٌّ، وَمَعْنَاهُ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى جَمِيعَ الْخَلْقِ بِأَنْ لَا يُعَامِلُوا أَحَدًا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، وَتَرْكِ الْمَيْلِ وَالظُّلْمِ وَالِاعْتِسَافِ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْكُفَّارِ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ لَمَّا صَدُّوا الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَيْفَ يُعْقَلُ ظُلْمُ الْمُشْرِكِينَ مَعَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أُمِرُوا بِقَتْلِهِمْ وَسَبْيِ ذَرَارِيهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ؟ قُلْنَا: يُمْكِنُ ظُلْمُهُمْ أَيْضًا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: مِنْهَا أَنَّهُمْ إِذَا أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ لَا يَقْبَلُونَهُ مِنْهُمْ، وَمِنْهَا قَتْلُ أَوْلَادِهِمُ الْأَطْفَالِ لِاغْتِمَامِ الْآبَاءِ، وَمِنْهَا إِيقَاعُ الْمُثْلَةِ بِهِمْ، وَمِنْهَا نَقْضُ عُهُودِهِمْ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى فَنَهَاهُمْ أَوَّلًا عَنْ أَنْ يَحْمِلَهُمُ الْبَغْضَاءُ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ/ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَصَرَّحَ لَهُمْ بِالْأَمْرِ بِالْعَدْلِ تَأْكِيدًا وَتَشْدِيدًا، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمْ عِلَّةَ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْبَقَرَةِ: 237] أَيْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الِاتِّقَاءِ مِنْ مَعَاصِي اللَّه تَعَالَى، وَالثَّانِي: هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الِاتِّقَاءِ مِنْ عَذَابِ اللَّه وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَظِيمٌ عَلَى وُجُوبِ الْعَدْلِ مَعَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَعْدَاءُ اللَّه تَعَالَى، فَمَا الظَّنُّ بِوُجُوبِهِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ. ثُمَّ ذَكَرَ الْكَلَامَ الَّذِي يَكُونُ وَعْدًا مَعَ الْمُطِيعِينَ وَوَعِيدًا لِلْمُذْنِبِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يَعْنِي أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم. [سورة المائدة (5) : آية 9] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) ثُمَّ ذَكَرَ وَعْدَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ فَالْمَغْفِرَةُ إِسْقَاطُ السَّيِّئَاتِ كَمَا قَالَ فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الْفُرْقَانِ: 70] وَالْأَجْرُ العظيم إيصال

[سورة المائدة (5) : آية 10]

الثَّوَابِ، وَقَوْلُهُ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَيُّ شَيْءٍ وَعَدَهُمْ؟ فَقَالَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ الثَّانِي: التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَعَدَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَالَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، وَالثَّالِثُ: أَجْرَى قَوْلَهُ وَعَدَ مَجْرَى قَالَ، وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ اللَّه فِي الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ وَعَدَ وَاقِعًا عَلَى جُمْلَةِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ أَيْ وَعَدَهُمْ بِهَذَا الْمَجْمُوعِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ أَخْبَرَ عَنْ هَذَا الْوَعْدِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ بِالْمَوْعُودِ بِهِ كَانَ ذَلِكَ أَقْوَى؟ قُلْنَا: بَلِ الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِ هَذَا الْوَعْدِ وَعْدَ اللَّه أَقْوَى. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَضَافَ هَذَا الْوَعْدَ إِلَى اللَّه تَعَالَى فَقَالَ وَعَدَ اللَّهُ وَالْإِلَهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ غَنِيًّا عَنْ كُلِّ الْحَاجَاتِ، وَهَذَا يَمْتَنِعُ الْخُلْفُ فِي وَعْدِهِ، لِأَنَّ دُخُولَ الْخُلْفِ إِنَّمَا يَكُونُ إِمَّا لِلْجَهْلِ حَيْثُ يَنْسَى وَعْدَهُ، وَإِمَّا لِلْعَجْزِ حَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِوَعْدِهِ، وَإِمَّا لِلْبُخْلِ حَيْثُ يَمْنَعُهُ الْبُخْلُ عَنِ الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ، وَإِمَّا لِلْحَاجَةِ، فَإِذَا كَانَ الْإِلَهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُنَزَّهًا عَنْ كُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ كَانَ دُخُولُ الْخُلْفِ فِي وَعْدِهِ مُحَالًا، فَكَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ هَذَا الْوَعْدِ أَوْكَدَ وَأَقْوَى مِنْ نَفْسِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمَوْعُودِ بِهِ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ هَذَا الْوَعْدَ يَصِلُ إليه قبل الموت فيفيده السرور عن سَكَرَاتِ الْمَوْتِ فَتَسْهُلُ بِسَبَبِهِ/ تِلْكَ الشَّدَائِدُ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ يَسْهُلُ عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ الْبَقَاءُ فِي ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَفِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ تِلْكَ الأهوال. [سورة المائدة (5) : آية 10] وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَعِيدَ الْكُفَّارِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. هَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ قَاطِعٌ فِي أَنَّ الْخُلُودَ لَيْسَ إِلَّا لِلْكُفَّارِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَالْمُصَاحَبَةُ تَقْتَضِي الْمُلَازَمَةَ كَمَا يقال: أصحاب الصحراء، أي الملازمون لها. [سورة المائدة (5) : آية 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَانُوا غَالِبِينَ، وَالْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَقْهُورِينَ مَغْلُوبِينَ، وَلَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَبَدًا يُرِيدُونَ إِيقَاعَ الْبَلَاءِ وَالْقَتْلِ وَالنَّهْبِ بِالْمُسْلِمِينَ، واللَّه تَعَالَى كَانَ يَمْنَعُهُمْ عَنْ مَطْلُوبِهِمْ إِلَى أَنْ قَوِيَ الْإِسْلَامُ وَعَظُمَتْ شَوْكَةُ المسلمين فقال تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ وَهُوَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالنَّهْبِ وَالنَّفْيِ فَكَفَّ اللَّه تَعَالَى بِلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ أَيْدِيَ الْكُفَّارِ عَنْكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، وَمِثْلُ هَذَا الْإِنْعَامِ الْعَظِيمِ يُوجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَّقُوا مَعَاصِيَهُ وَمُخَالَفَتَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أَيْ كُونُوا مُوَاظِبِينَ عَلَى طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى، وَلَا تَخَافُوا أَحَدًا فِي إِقَامَةِ طَاعَاتِ اللَّه تعالى.

[سورة المائدة (5) : آية 12]

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي وَاقِعَةٍ خَاصَّةٍ ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً إِلَى بَنِي عَامِرٍ فَقُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ إِلَّا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ: أَحَدُهُمْ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِي، وَانْصَرَفَ هُوَ وَآخَرُ مَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَاهُ خَبَرَ الْقَوْمِ، فَلَقِيَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ مَعَهُمَا أَمَانٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلَاهُمَا وَلَمْ يَعْلَمَا أَنَّ مَعَهُمَا أَمَانًا، فَجَاءَ قَوْمُهُمَا يَطْلُبُونَ الدِّيَةَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ/ وَعَلِيٌّ حَتَّى دَخَلُوا عَلَى بَنِي النَّضِيرِ، وَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ وَعَلَى أَنْ يُعِينُوهُ فِي الدِّيَاتِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَصَابَ رَجُلَيْنِ مَعَهُمَا أَمَانٌ مِنِّي فَلَزِمَنِي دِيَتُهُمَا، فَأُرِيدُ أَنْ تُعِينُونِي، فَقَالُوا اجْلِسْ حَتَّى نُطْعِمَكَ وَنُعْطِيَكَ مَا تُرِيدُ، ثُمَّ هَمُّوا بِالْفَتْكِ بِرَسُولِ اللَّه وَبِأَصْحَابِهِ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَالِ مَعَ أَصْحَابِهِ وَخَرَجُوا، فَقَالَ الْيَهُودُ: إِنَّ قُدُورَنَا تَغْلِي، فَأَعْلَمَهُمُ الرَّسُولُ أَنَّهُ قَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ الوحي بما عزموا عليه. قال عطاء: توامروا عَلَى أَنْ يَطْرَحُوا عَلَيْهِ رَحًا أَوْ حَجَرًا، وَقِيلَ: بَلْ أَلْقَوْا فَأَخَذَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالثَّانِي: قَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الرَّسُولَ نَزَلَ مَنْزِلًا وَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ، وَعَلَّقَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِلَاحَهُ بِشَجَرَةٍ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ وَسَلَّ سَيْفَ رَسُولِ اللَّه ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ وقال: من يمنعك مني؟ قال: اللَّه، قالها ثلاثا، فأسقطه جبريل من يده فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقَالَ: لَا أَحَدَ، ثُمَّ صَاحَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمْ وَأَبَى أَنْ يُعَاقِبَهُ، وَعَلَى هَذَيْنِ القولين فالمراد من قوله اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تَذْكِيرُ نِعْمَةِ اللَّه عَلَيْهِمْ بِدَفْعِ الشَّرِّ وَالْمَكْرُوهِ عَنْ نَبِيِّهِمْ، فَإِنَّهُ لَوْ حَصَلَ ذَلِكَ لَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْمِحَنِ، وَالثَّالِثُ: رُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَامُوا إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ بِالْجَمَاعَةِ وَذَلِكَ بَعُسْفَانَ، فَلَمَّا صَلَّوْا نَدِمَ الْمُشْرِكُونَ وَقَالُوا لَيْتَنَا أَوْقَعْنَا بِهِمْ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَهَا صَلَاةً هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَآبَائِهِمْ، يَعْنُونَ صَلَاةَ الْعَصْرِ، فهموا بأن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُقَالُ: بَسَطَ إِلَيْهِ لِسَانَهُ إِذَا شَتَمَهُ، وَبَسَطَ إِلَيْهِ يَدَهُ إِذَا بَطَشَ بِهِ. وَمَعْنَى بَسْطِ الْيَدِ مَدُّهَا إِلَى الْمَبْطُوشِ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُمْ: فُلَانٌ بَسِيطُ الْبَاعِ وَمَدِيدُ الْبَاعِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ أَيْ منعها أن تصل إليكم. [سورة المائدة (5) : آية 12] وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ فِي اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا تَقَدَّمَ فَقَالَ: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا [الْمَائِدَةِ: 7] ثُمَّ ذَكَرَ الْآنَ أَنَّهُ أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَكِنَّهُمْ نَقَضُوهُ وَتَرَكُوا الْوَفَاءَ بِهِ، فَلَا تَكُونُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِثْلَ أُولَئِكَ الْيَهُودِ فِي هَذَا الْخُلُقِ الذَّمِيمِ لِئَلَّا تَصِيرُوا مِثْلَهُمْ فِيمَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ اللَّعْنِ وَالذِّلَّةِ/ وَالْمَسْكَنَةِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا ذكر قوله اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ [الْمَائِدَةِ: 11] وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَعْضِ الروايات أن

هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَأَنَّهُمْ أَرَادُوا إِيقَاعَ الشَّرِّ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ فَضَائِحِهِمْ وَبَيَانِ أَنَّهُمْ أَبَدًا كَانُوا مُوَاظِبِينَ عَلَى نَقْضِ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، الثَّالِثُ: أَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ تَرْغِيبُ الْمُكَلَّفِينَ فِي قَبُولِ التَّكَالِيفِ وَتَرْكِ التَّمَرُّدِ وَالْعِصْيَانِ، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ كَلَّفَ مَنْ كَانَ قَبْلَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا كَلَّفَهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ عَادَةَ اللَّه فِي التَّكْلِيفِ وَالْإِلْزَامِ غَيْرُ مَخْصُوصَةٍ بِهِمْ، بَلْ هِيَ عَادَةٌ جَارِيَةٌ لَهُ مَعَ جَمِيعِ عِبَادِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: النَّقِيبُ فَعِيلٌ أَصْلُهُ مِنَ النَّقْبِ وَهُوَ الثُّقْبُ الْوَاسِعُ، يُقَالُ فُلَانٌ نَقِيبُ الْقَوْمِ لِأَنَّهُ يَنْقُبُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ كَمَا يَنْقُبُ عَنِ الْأَسْرَارِ وَمِنْهُ الْمَنَاقِبُ وَهِيَ الْفَضَائِلُ لِأَنَّهَا لَا تَظْهَرُ إِلَّا بِالتَّنْقِيبِ عَنْهَا، وَنَقَبْتُ الْحَائِطَ أَيْ بَلَغْتُ في النقب إلى آخره، ومنه النقبة من الجرب لأنه داء شديد الدخول، وذلك لأنه يطلي البعير بالهناء فيعجد طعم القطران في لحمه، والنقبة السَّرَاوِيلُ بِغَيْرِ رِجْلَيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ بُولِغَ فِي فَتْحِهَا وَنَقْبِهَا، وَيُقَالُ: كَلْبٌ نَقِيبٌ، وَهُوَ أَنْ يَنْقُبَ حَنْجَرَتَهُ لِئَلَّا يَرْتَفِعَ صَوْتُ نُبَاحِهِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْبُخَلَاءُ مِنَ الْعَرَبِ لِئَلَّا يَطْرُقَهُمْ ضَيْفٌ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: النَّقِيبُ فَعِيلٌ، وَالْفَعِيلُ يَحْتَمِلُ الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ، فَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ فَهُوَ النَّاقِبُ عَنْ أَحْوَالِ الْقَوْمِ الْمُفَتِّشُ عنها، وقال أبو مسلم: النقيب هاهنا فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ يَعْنِي اخْتَارَهُمْ عَلَى عِلْمٍ بِهِمْ، وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ يُقَالُ لِلْمَضْرُوبِ: ضَرِيبٌ، وَلِلْمَقْتُولِ قَتِيلٌ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: هُمُ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِمْ وَالْمُسْنَدُ إِلَيْهِمْ أُمُورُ الْقَوْمِ وَتَدْبِيرُ مَصَالِحِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا. فَاخْتَارَ اللَّه تَعَالَى مِنْ كُلِّ سِبْطٍ رَجُلًا يَكُونُ نَقِيبًا لَهُمْ وَحَاكِمًا فِيهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ: أَنَّ النُّقَبَاءَ بُعِثُوا إِلَى مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ الَّذِينَ أُمِرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْقِتَالِ مَعَهُمْ لِيَقِفُوا عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَيَرْجِعُوا بِذَلِكَ إِلَى نَبِيِّهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا ذَهَبُوا إِلَيْهِمْ رَأَوْا أَجْرَامًا عَظِيمَةً وَقُوَّةً وَشَوْكَةً فَهَابُوا وَرَجَعُوا فحدثوا قَوْمُهُمْ، وَقَدْ نَهَاهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُحَدِّثُوهُمْ، فَنَكَثُوا الْمِيثَاقَ إِلَّا كَالِبَ بْنَ يُوفِنَا مَنْ سِبْطِ يَهُوذَا، وَيُوشَعَ بْنَ نُونٍ مِنْ سِبْطِ إِفْرَاثِيمَ بْنِ يُوسُفَ، وَهُمَا اللَّذَانِ قَالَ اللَّه تَعَالَى فِيهِمَا قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ [المائدة: 23] الآية. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَقَالَ اللَّه لَهُمْ إِنِّي مَعَكُمْ، إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ ذَلِكَ لِاتِّصَالِ الْكَلَامِ بِذِكْرِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ إِنِّي مَعَكُمْ خِطَابٌ لِمَنْ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنُّقَبَاءِ، أَيْ وَقَالَ اللَّه لِلنُّقَبَاءِ إِنِّي مَعَكُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِكُلِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكِلَاهُمَا مُحْتَمَلٌ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى. لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَكُونُ عَائِدًا إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورِ هُنَا النُّقَبَاءُ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْكَلَامَ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ وَالْمَعْنَى إِنِّي مَعَكُمْ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ فَأَسْمَعُ كَلَامَكُمْ وَأَرَى أَفْعَالَكُمْ وَأَعْلَمُ ضَمَائِرَكُمْ وَأَقْدِرُ عَلَى إِيصَالِ الْجَزَاءِ إِلَيْكُمْ، فَقَوْلُهُ إِنِّي مَعَكُمْ مُقَدِّمَةٌ مُعْتَبَرَةٌ جِدًّا فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، ثُمَّ لَمَّا وَضَعَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ الْكُلِّيَّةَ ذَكَرَ بَعْدَهَا جُمْلَةً شَرْطِيَّةً،

[سورة المائدة (5) : آية 13]

وَالشَّرْطُ فِيهَا مُرَكَّبٌ مِنْ أُمُورٍ خَمْسَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَالْجَزَاءُ هُوَ قَوْلُهُ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى إِزَالَةِ الْعِقَابِ. وَقَوْلُهُ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى إِيصَالِ الثَّوَابِ، وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ أَخَّرَ الْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ عَنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ مَعَ أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي حُصُولِ النَّجَاةِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَى تَكْذِيبِ بَعْضِ الرُّسُلِ، فَذَكَرَ بَعْدَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِيمَانِ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ حَتَّى يَحْصُلَ الْمَقْصُودُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ تَأْثِيرٌ فِي حُصُولِ النَّجَاةِ بِدُونِ الْإِيمَانِ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ. وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى التَّعْزِيرِ؟ الْجَوَابُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْعَزْرُ فِي اللُّغَةِ الرَّدُّ، وَتَأْوِيلُ عَزَّرْتُ فُلَانًا، أَيْ فَعَلْتُ بِهِ مَا يَرُدُّهُ عَنِ الْقَبِيحِ وَيَزْجُرُهُ عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ الْأَكْثَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أَيْ نَصَرْتُمُوهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ نَصَرَ إِنْسَانًا فَقَدْ رَدَّ عَنْهُ أَعْدَاءَهُ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ التَّعْزِيرُ هُوَ التَّوْقِيرُ لَكَانَ قَوْلُهُ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الْفَتْحِ: 9] تَكْرَارًا. وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً دَخَلَ تَحْتَ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي الْإِعَادَةِ؟ وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَاتُ، وَبِهَذَا الْإِقْرَاضِ الصَّدَقَاتُ الْمَنْدُوبَةُ، وَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى شَرَفِهَا وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوْ قَالَ: وَأَقْرَضْتُمُ اللَّه إِقْرَاضًا حَسَنًا لَكَانَ صَوَابًا أَيْضًا إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يُقَامُ الِاسْمُ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ [آلِ عِمْرَانَ: 37] وَلَمْ يَقُلْ بَتَقَبُّلٍ، وَقَوْلُهُ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَلَمْ يَقُلْ إِنْبَاتًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أَيْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي هُوَ الدِّينُ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّه تَعَالَى لَهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: مَنْ كَفَرَ قَبْلَ ذَلِكَ أَيْضًا فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ. قُلْنَا: أَجَلْ، وَلَكِنَّ الضَّلَالَ بَعْدَهُ أَظْهَرُ وَأَعْظَمُ لِأَنَّ الْكُفْرَ إِنَّمَا عَظُمَ قُبْحُهُ لِعِظَمِ النِّعْمَةِ الْمَكْفُورَةِ، فَإِذَا زَادَتِ النِّعْمَةُ زَادَ قُبْحُ الْكُفْرِ وَبَلَغَ النِّهَايَةَ القصوى. [سورة المائدة (5) : آية 13] فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي نَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ. الثَّانِي: بِكِتْمَانِهِمْ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّالِثُ: مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأُمُورِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ «اللَّعْنِ» وُجُوهٌ: الأول: قال عطاء: لعناهم أي أخر جناهم من رحمتنا.

الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ: مَسَخْنَاهُمْ حَتَّى صَارُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ضَرَبْنَا الْجِزْيَةَ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (قَسِيَّةً) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ بغير ألف على وزن فعيلة، وَالْبَاقُونَ بِالْأَلِفِ وَالتَّخْفِيفِ، وَفِي قَوْلِهِ (قَسِيَّةً) وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْقَسِيَّةُ بِمَعْنَى الْقَاسِيَةِ/ إِلَّا أَنَّ الْقَسِيَّ أَبْلَغُ مِنَ الْقَاسِي، كَمَا يُقَالُ: قَادِرٌ وَقَدِيرٌ، وَعَالِمٌ وَعَلِيمٌ، وَشَاهِدٌ وَشَهِيدٌ، فَكَمَا أَنَّ الْقَدِيرَ أَبْلَغُ مِنَ الْقَادِرِ فَكَذَلِكَ الْقِسِيُّ أبلغ من القاسي، والثاني: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: دِرْهَمٌ قَسِيٌّ عَلَى وَزْنِ شَقِيٍّ، أَيْ فَاسِدٌ رَدِيءٌ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ أَيْضًا مِنَ الْقَسْوَةِ لِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الْخَالِصَيْنِ فِيهِمَا لِينٌ، وَالْمَغْشُوشَ فِيهِ يُبْسٌ وَصَلَابَةٌ، وَقُرِئَ (قِسِيَّةً) بِكَسْرِ الْقَافِ لِلْإِتْبَاعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً أَيْ جَعَلْنَاهَا نَائِيَةً عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ مُنْصَرِفَةً عَنِ الِانْقِيَادِ لِلدَّلَائِلِ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً أَيْ أَخْبَرْنَا عَنْهَا بِأَنَّهَا صَارَتْ قَاسِيَةً كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ جَعَلَ فُلَانًا فَاسِقًا وَعَدْلًا. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْضَ مَا هُوَ مِنْ نَتَائِجِ تِلْكَ الْقَسْوَةِ فَقَالَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَهَذَا التَّحْرِيفُ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ الْبَاطِلَ، وَيَحْتَمِلُ تَغْيِيرَ اللَّفْظِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِأَنَّ الْكِتَابَ الْمَنْقُولَ بِالتَّوَاتُرِ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ تَغْيِيرُ اللَّفْظِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَرَكُوا نَصِيبًا مِمَّا أُمِرُوا بِهِ فِي كِتَابِهِمْ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ وَفِي الْخَائِنَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخَائِنَةَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَنَظِيرُهُ كَثِيرٌ، كَالْكَافِيَةِ وَالْعَافِيَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الْحَاقَّةِ: 5] أَيْ بِالطُّغْيَانِ. وَقَالَ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الْوَاقِعَةِ: 2] أَيْ كَذِبٌ. وَقَالَ: لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً [الْغَاشِيَةِ: 11] أَيْ لَغْوًا. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: سَمِعْتُ رَاغِيَةَ الْإِبِلِ. وَثَاغِيَةَ الشَّاءِ يَعْنُونَ رُغَاءَهَا وَثُغَاءَهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَيُقَالُ عَافَاهُ اللَّه عَافِيَةً، وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: الْخَائِنَةُ صِفَةٌ، وَالْمَعْنَى: تَطَّلِعُ عَلَى فِرْقَةٍ خَائِنَةٍ أَوْ نَفْسٍ خَائِنَةٍ أَوْ عَلَى فِعْلَةٍ ذَاتِ خِيَانَةٍ. وَقِيلَ: أَرَادَ الْخَائِنَ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ كَعَلَّامَةٍ وَنَسَّابَةٍ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَقُرِئَ عَلَى خِيَانَةٍ مِنْهُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا كَعَبْدِ اللَّه بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَلِيلُ من الذين بقوا على الكفر لكنهم بَقُوا عَلَى الْعَهْدِ وَلَمْ يَخُونُوا فِيهِ. ثُمَّ قَالَ: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ/ عَفْوٌ وَصَفْحٌ عَنِ الْكُفَّارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَعْنَى فَاعْفُ عَنْ مُذْنِبِهِمْ وَلَا تُؤَاخِذْهُمْ بِمَا سَلَفَ مِنْهُمْ، وَالثَّانِي: أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا الْقَلِيلَ على الْكُفَّارِ مِنْهُمُ الَّذِينَ بَقُوا عَلَى الْكُفْرِ فَسَّرْنَا هَذِهِ الْآيَةَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا أَمْرُ اللَّه رَسُولِهِ بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيَصْفَحَ عَنْ صَغَائِرِ زَلَّاتِهِمْ مَا دَامُوا بَاقِينَ عَلَى الْعَهْدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ.

[سورة المائدة (5) : آية 14]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا عَفَوْتَ فَأَنْتَ مُحْسِنٌ، وَإِذَا كُنْتَ مُحْسِنًا فَقَدْ أَحَبَّكَ اللَّه. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَؤُلَاءِ الْمُحْسِنِينَ هُمُ الْمَعْنِيُّونَ بِقَوْلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ نَقَضُوا عَهْدَ اللَّه، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ صَرْفَ قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَأْمُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي إِلَى غَيْرِ الرَّسُولِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى. [سورة المائدة (5) : آية 14] وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) المراد أَنَّ سَبِيلَ النَّصَارَى مِثْلُ سَبِيلِ الْيَهُودِ فِي نَقْضِ الْمَوَاثِيقِ مِنْ عِنْدِ اللَّه، وَإِنَّمَا قَالَ: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى وَلَمْ يَقُلْ: وَمِنَ النَّصَارَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ بِهَذَا الِاسْمِ ادِّعَاءً لِنُصْرَةِ اللَّه تَعَالَى، وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا لِعِيسَى نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 52] فَكَانَ هَذَا الِاسْمُ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمَ مَدْحٍ، فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ هَذِهِ الصِّفَةَ وَلَكِنَّهُمْ لَيْسُوا مَوْصُوفِينَ بِهَا عِنْدَ اللَّه تَعَالَى، وَقَوْلُهُ أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ أَيْ مَكْتُوبٌ فِي الْإِنْجِيلِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَنْكِيرُ الْحَظِّ فِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَظٌّ وَاحِدٌ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَا الْوَاحِدَ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْكَثِيرَ مِمَّا أَمَرَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِهِ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعَظَّمُ وَالْمُهِمُّ، وَقَوْلُهُ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ أَيْ أَلْصَقْنَا الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ بِهِمْ، يُقَالُ: أُغْرِيَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ إِذَا وَلِعَ بِهِ كَأَنَّهُ أُلْصِقَ بِهِ، وَيُقَالُ: لِمَا الْتَصَقَ بِهِ الشَّيْءُ: الْغِرَاءُ، وَفِي قَوْلِهِ بَيْنَهُمُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَالثَّانِي: بَيْنَ فِرَقِ النَّصَارَى، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ يُكَفِّرُ بَعْضًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الْأَنْعَامِ: 65] وَقَوْلُهُ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ وَعِيدٌ لَهُمْ. [سورة المائدة (5) : آية 15] يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْيَهُودِ وَعَنِ النَّصَارَى نَقْضَهُمُ الْعَهْدَ وَتَرْكَهُمْ مَا أُمِرُوا بِهِ، دَعَاهُمْ عَقِيبَ ذَلِكَ إِلَى الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يا أَهْلَ الْكِتابِ وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَإِنَّمَا وَحَّدَ الْكِتَابَ لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجِنْسِ، ثُمَّ وَصَفَ الرَّسُولَ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُبَيِّنُ لَهُمْ كَثِيرًا مِمَّا كَانُوا يُخْفُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْفَوْا صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْفَوْا أَمْرَ الرَّجْمِ، ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَهَذَا مُعْجِزٌ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا وَلَمْ يَتَعَلَّمْ عِلْمًا مِنْ أَحَدٍ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِأَسْرَارِ مَا فِي كِتَابِهِمْ كَانَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا. الوصف الثاني للرسول: قوله وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أَيْ لَا يُظْهِرُ كَثِيرًا مِمَّا تَكْتُمُونَهُ أَنْتُمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يُظْهِرْهُ لِأَنَّهُ

[سورة المائدة (5) : آية 16]

لَا حَاجَةَ إِلَى إِظْهَارِهِ فِي الدِّينِ، وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ كَوْنَ الرَّسُولِ عَالِمًا بِكُلِّ مَا يُخْفُونَهُ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى تَرْكِ الْإِخْفَاءِ لِئَلَّا يَفْتَضِحُوا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ وَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنُّورِ مُحَمَّدٌ وَبِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنُّورِ الْإِسْلَامُ، وَبِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ. الثَّالِثُ: النُّورُ/ وَالْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَتَسْمِيَةُ مُحَمَّدٍ وَالْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ بِالنُّورِ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ النُّورَ الظَّاهِرَ هُوَ الَّذِي يَتَقَوَّى بِهِ الْبَصَرُ عَلَى إِدْرَاكِ الْأَشْيَاءِ الظَّاهِرَةِ، وَالنُّورُ الْبَاطِنُ أَيْضًا هُوَ الَّذِي تَتَقَوَّى بِهِ الْبَصِيرَةُ عَلَى إِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ وَالْمَعْقُولَاتِ. [سورة المائدة (5) : آية 16] يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ أَيْ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ مَنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ مِنْ طَلَبِ الدِّينَ اتِّبَاعَ الدِّينِ الَّذِي يَرْتَضِيهِ اللَّه تَعَالَى، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ مِنْ دِينِهِ تَقْرِيرَ مَا أَلِفَهُ وَنَشَأَ عَلَيْهِ وَأَخَذَهُ مِنْ أَسْلَافِهِ مَعَ تَرْكِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مُتَّبِعٍ رِضْوَانَ اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سُبُلَ السَّلامِ أَيْ طُرُقَ السَّلَامَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ سُبُلَ دَارِ السَّلَامِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ [محمد: 4، 5] ومعلوم أنه لَيْسَ الْمُرَادُ هِدَايَةَ الْإِسْلَامِ، بَلِ الْهِدَايَةُ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ. ثُمَّ قَالَ: وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ أَيْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفْرَ يَتَحَيَّرُ فِيهِ صَاحِبُهُ كَمَا يَتَحَيَّرُ فِي الظَّلَامِ، وَيَهْتَدِي بِالْإِيمَانِ إِلَى طُرُقِ الْجَنَّةِ كَمَا يَهْتَدِي بِالنُّورِ، وَقَوْلُهُ بِإِذْنِهِ أَيْ بِتَوْفِيقِهِ، وَالْبَاءُ تَتَعَلَّقُ بِالِاتِّبَاعِ أَيِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ بِإِذْنِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْهِدَايَةِ وَلَا بِالْإِخْرَاجِ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَّبِعُ رِضْوَانَ اللَّه إِلَّا مَنْ أَرَادَ اللَّه مِنْهُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَهُوَ الدِّينُ الْحَقُّ، لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لِذَاتِهِ، وَمُتَّفِقٌ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَأَمَّا الْبَاطِلُ فَفِيهِ كثرة، وكلها معوجة. [سورة المائدة (5) : آية 17] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وقوله تَعَالَى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ النَّصَارَى لَا يَقُولُ: إِنَّ اللَّه هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، فَكَيْفَ حَكَى اللَّه عَنْهُمْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْحُلُولِيَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ يَحِلُّ فِي بَدَنِ إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ فِي رُوحِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْمًا مِنَ النَّصَارَى ذَهَبُوا إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، بَلْ هَذَا أَقْرَبُ مِمَّا يَذْهَبُ إِلَيْهِ النَّصَارَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَنَّ أُقْنُومَ الْكَلِمَةِ اتَّحَدَ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأُقْنُومُ الْكَلِمَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَاتًا أَوْ

[سورة المائدة (5) : آية 18]

صِفَةً، فَإِنْ كَانَ ذَاتًا فَذَاتُ اللَّه تَعَالَى قَدْ حَلَّتْ فِي عِيسَى وَاتَّحَدَتْ بِعِيسَى فَيَكُونُ عِيسَى هُوَ الْإِلَهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْأُقْنُومَ عِبَارَةٌ عَنِ الصِّفَةِ، فَانْتِقَالُ الصِّفَةِ مِنْ ذَاتٍ إِلَى ذَاتٍ أُخْرَى غَيْرُ مَعْقُولٍ، ثُمَّ بِتَقْدِيرِ انْتِقَالِ أُقْنُومِ الْعِلْمِ عَنْ ذَاتِ اللَّه تَعَالَى إِلَى عِيسَى يَلْزَمُ خُلُوَّ ذَاتِ اللَّه عَنِ الْعِلْمِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا لَمْ يَكُنْ إِلَهًا، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْإِلَهُ هُوَ عِيسَى عَلَى قَوْلِهِمْ، فَثَبَتَ أَنَّ النَّصَارَى وَإِنْ كَانُوا لَا يُصَرِّحُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ إِلَّا أَنَّ حَاصِلَ مَذْهَبِهِمْ لَيْسَ إِلَّا ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ احْتَجَّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْمَذْهَبِ بِقَوْلِهِ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَهَذِهِ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ قَدَّمَ فِيهَا الْجَزَاءَ عَلَى الشَّرْطِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، فَمَنِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ مُرَادِهِ وَمَقْدُورِهِ، وَقَوْلُهُ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أَيْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ أَفْعَالِ اللَّه شَيْئًا، وَالْمُلْكُ هُوَ الْقُدْرَةُ، يَعْنِي فَمَنِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ اللَّه تَعَالَى وَمَنْعِ شَيْءٍ مِنْ مُرَادِهِ. وَقَوْلُهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [المعارج: 14] يعني أن عيسى مشاكل لمن فِي الصُّورَةِ وَالْخِلْقَةِ وَالْجِسْمِيَّةِ وَالتَّرْكِيبِ وَتَغْيِيرِ الصِّفَاتِ وَالْأَحْوَالِ، فَلَمَّا سَلَّمْتُمْ كَوْنَهُ تَعَالَى خَالِقًا لِلْكُلِّ مُدَبِّرًا لِلْكُلِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا خَالِقًا لِعِيسَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنَّمَا قَالَ وَما بَيْنَهُما بعد ذكر السموات وَالْأَرْضِ، وَلَمْ يَقُلْ: بَيْنَهُنَّ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِذَلِكَ مَذْهَبَ الصِّنْفَيْنِ وَالنَّوْعَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: يَعْنِي يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، فَتَارَةً يَخْلُقُ الْإِنْسَانَ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كَمَا هُوَ مُعْتَادٌ، وَتَارَةً لَا مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ كَمَا في خلق آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَارَةً مِنَ الْأُمِّ لَا مِنَ الْأَبِ كَمَا فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالثَّانِي: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، يَعْنِي أَنَّ عِيسَى إِذَا قَدَّرَ صُورَةَ الطَّيْرِ مِنَ الطِّينِ فاللَّه تَعَالَى يَخْلُقُ فِيهِ اللَّحْمِيَّةَ وَالْحَيَاةَ وَالْقُدْرَةَ مُعْجِزَةً لِعِيسَى، وَتَارَةً يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ مُعْجِزَةً لَهُ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى اللَّه تعالى في شيء من أفعاله. [سورة المائدة (5) : آية 18] وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ الْيَهُودَ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ الْبَتَّةَ، فَكَيْفَ يَجُوزُ نَقْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْهُمْ؟ وَأَمَّا النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي حَقِّ عِيسَى لَا فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ، فَكَيْفَ يَجُوزُ هَذَا النَّقْلُ عَنْهُمْ؟ أَجَابَ الْمُفَسِّرُونَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَالتَّقْدِيرُ نَحْنُ أَبْنَاءُ رُسُلِ اللَّه، فَأُضِيفَ إِلَى اللَّه ما هو في الحقيقة مضاف إلى رسول اللَّه، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْحِ: 10] وَالثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الِابْنِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى ابْنِ الصُّلْبِ فَقَدْ يُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى مَنْ يَتَّخِذُ ابْنًا، وَاتِّخَاذُهُ ابْنًا بِمَعْنَى تَخْصِيصِهِ بِمَزِيدِ الشَّفَقَةِ وَالْمَحَبَّةِ، فَالْقَوْمُ لَمَّا ادَّعَوْا أَنَّ عِنَايَةَ اللَّه بِهِمْ أَشَدُّ وَأَكْمَلُ مِنْ عِنَايَتِهِ بِكُلِّ مَا سِوَاهُمْ، لَا جَرَمَ عَبَّرَ اللَّه تَعَالَى عَنْ دَعْوَاهُمْ كَمَالَ عِنَايَةِ اللَّه بِهِمْ بِأَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّه. الثَّالِثُ: أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا زَعَمُوا أَنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللَّه، وَالنَّصَارَى زَعَمُوا أَنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّه، ثم زعموا أن عزيزا وَالْمَسِيحَ كَانَا مِنْهُمْ، صَارَ

ذَلِكَ كَأَنَّهُمْ قَالُوا نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّه، أَلَا تَرَى أَنَّ أَقَارِبَ الْمَلِكِ إِذَا فَاخَرُوا إِنْسَانًا آخر فَقَدْ يَقُولُونَ: نَحْنُ مُلُوكُ الدُّنْيَا، وَنَحْنُ سَلَاطِينُ الْعَالَمِ، وَغَرَضُهُمْ مِنْهُ كَوْنُهُمْ مُخْتَصِّينَ بِذَلِكَ الشَّخْصِ الذي هو الملك والسلطان فكذا هاهنا، وَالرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا جَمَاعَةً مِنَ الْيَهُودِ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَخَوَّفَهُمْ بِعِقَابِ اللَّه تَعَالَى فَقَالُوا: كَيْفَ تُخَوِّفُنَا بِعِقَابِ اللَّه وَنَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ إِنَّمَا وَقَعَتْ عَنْ تِلْكَ الطَّائِفَةِ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ يَتْلُونَ فِي الْإِنْجِيلِ الَّذِي لَهُمْ أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ لَهُمْ: أَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كَانُوا يَرَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ فَضْلًا عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ بِسَبَبِ أَسْلَافِهِمُ الْأَفَاضِلِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى انْتَهَوْا فِي تَعْظِيمِ أَنْفُسِهِمْ إِلَى أَنْ قَالُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَ عَلَيْهِمْ دَعْوَاهُمْ وَقَالَ: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ وَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ حَاصِلَ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَبْنَاءَ اللَّه وَأَحِبَّاءَهُ لَمَا عَذَّبَهُمْ لَكِنَّهُ عَذَّبَهُمْ، فَهُمْ لَيْسُوا أَبْنَاءَ اللَّه وَلَا أَحِبَّاءَهُ، وَالْإِشْكَالُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: إِمَّا أَنْ تَدَّعُوا أَنَّ اللَّه عَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَوْ تَدَّعُوا أَنَّهُ سَيُعَذِّبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنْ كَانَ مَوْضِعُ الْإِلْزَامِ عَذَابَ الدُّنْيَا فَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي ادِّعَائِهِمْ كَوْنَهُمْ أَحِبَّاءَ اللَّه لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ هُوَ وَأَمَّتُهُ أَحِبَّاءُ اللَّه، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَا خَلَوْا عَنْ مِحَنِ الدُّنْيَا. انْظُرُوا إِلَى وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَإِلَى قَتْلِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَوْضِعُ الْإِلْزَامِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى سَيُعَذِّبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَالْقَوْمُ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ. وَمُجَرَّدُ إِخْبَارِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِكَافٍ فِي هَذَا الْبَابِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَافِيًا لَكَانَ مُجَرَّدُ إِخْبَارِهِ بِأَنَّهُمْ كَذَبُوا فِي ادِّعَائِهِمْ أَنَّهُمْ أَحِبَّاءُ اللَّه كَافِيًا، وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ ضَائِعًا. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَوْضِعَ الْإِلْزَامِ هُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا، وَالْمُعَارَضَةُ بِيَوْمِ أُحُدٍ غَيْرُ لَازِمَةٍ لِأَنَّهُ يَقُولُ: لو كانوا أبناء اللَّه وأحباءه لما عذبهم اللَّه فِي الدُّنْيَا، وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ادَّعَى أَنَّهُ مِنْ أَحِبَّاءِ اللَّه وَلَمْ يَدَّعِ أَنَّهُ مِنْ أَبْنَاءِ اللَّه فَزَالَ السُّؤَالُ. الثَّانِي: أَنَّ مَوْضِعَ الْإِلْزَامِ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَةِ: 80] وَالثَّالِثُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ فَلِمَ مَسَخَكُمْ، فَالْمُعَذَّبُ فِي الْحَقِيقَةِ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ الْيَهُودِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْخِطَابِ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مِنْ جِنْسِ أُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِينَ حَسُنَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ، وَهَذَا الْجَوَابُ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لِيَأْمُرَ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ لَمْ يَدْخُلْ بَعْدُ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَعَالَى يُعَذِّبُنَا، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ قَدْ وُجِدَ وَحَصَلَ حَتَّى يَكُونَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ قَوِيًّا مَتِينًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَقٌّ يُوجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَقٌّ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يُعَذِّبَهُ، بَلِ الْمُلْكُ لَهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مُرَادَ الْقَوْمِ مِنْ قَوْلِهِمْ نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ كَمَالُ رَحْمَتِهِ عَلَيْهِمْ وَكَمَالُ عِنَايَتِهِ بِهِمْ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَمَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَطَاعَ اللَّه وَاحْتَرَزَ عَنِ الْكَبَائِرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّه عقلا إيصال الرحمة والنعمة إليه أبدا الْآبَادِ، وَلَوْ قَطَعَ عَنْهُ بَعْدَ أُلُوفِ سَنَةٍ فِي الْآخِرَةِ تِلْكَ النِّعَمَ لَحْظَةً وَاحِدَةً لَبَطَلَتْ إِلَهِيَّتُهُ وَلَخَرَجَ عَنْ صِفَةِ الْحِكْمَةِ، وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ، وَكَمَا أَنَّ قَوْلُهُ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ إِبْطَالٌ لِقَوْلِ الْيَهُودِ. فَبِأَنْ يَكُونَ إِبْطَالًا لِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَوْلَى وَأَكْمَلُ.

[سورة المائدة (5) : آية 19]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما بِمَعْنَى مَنْ كَانَ مُلْكُهُ هَكَذَا وَقُدْرَتُهُ هَكَذَا فَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ الْبَشَرُ الضَّعِيفُ عَلَيْهِ حَقًّا وَاجِبًا؟ وَكَيْفَ يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ الْجَاهِلُ بِعِبَادَتِهِ/ النَّاقِصَةِ وَمَعْرِفَتِهِ الْقَلِيلَةِ عَلَيْهِ دَيْنًا. إِنَّهَا كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أَيْ وَإِلَيْهِ يَؤُولُ أَمْرُ الْخَلْقِ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الضَّرَّ وَالنَّفْعَ هُنَاكَ إِلَّا هُوَ كما قال وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار: 19] . [سورة المائدة (5) : آية 19] يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) [في قوله تعالى يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ يُبَيِّنُ لَكُمْ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَدَّرَ الْمُبَيَّنُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَبَيَّنُ هُوَ الدِّينُ وَالشَّرَائِعُ، وَإِنَّمَا حَسُنَ حَذْفُهُ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ إِنَّمَا أُرْسِلَ لِبَيَانِ الشَّرَائِعِ، وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ يُبَيِّنُ لَكُمْ مَا كُنْتُمْ تُخْفُونَ، وَإِنَّمَا حَسُنَ حَذْفُهُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُقَدَّرَ الْمُبَيَّنُ وَيَكُونُ الْمَعْنَى يُبَيِّنُ لَكُمُ الْبَيَانَ، وَحَذْفُ الْمَفْعُولِ أَكْمَلُ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ أَعَمَّ فَائِدَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ يُبَيِّنُ لَكُمْ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، أَيْ مُبَيِّنًا لَكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ عَلَى انْقِطَاعٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، يُقَالُ: فَتَرَ الشَّيْءُ يَفْتُرُ فُتُورًا إِذَا سَكَنَتْ حِدَّتُهُ وَصَارَ أَقَلَّ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ، وَسُمِّيَتِ الْمُدَّةُ الَّتِي بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ فَتْرَةً لِفُتُورِ الدَّوَاعِي فِي الْعَمَلِ بِتِلْكَ الشرائع. واعلم أن قوله عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ جاءَكُمْ أَيْ جَاءَكُمْ عَلَى حِينِ فُتُورٍ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ. قِيلَ: كَانَ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ كَانَ بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَلْفٌ وَسَبْعُمِائَةِ سَنَةٍ، وَأَلْفَا نَبِيٍّ، وَبَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ثَلَاثَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَوَاحِدٌ مِنَ الْعَرَبِ وَهُوَ خَالِدُ بْنُ سِنَانٍ الْعَبْسِيُّ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْفَائِدَةُ فِي بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ هِيَ أَنَّ التَّغْيِيرَ وَالتَّحْرِيفَ قَدْ تَطَرَّقَ إِلَى الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِتَقَادُمِ عَهْدِهَا وَطُولِ زَمَانِهَا، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ اخْتَلَطَ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَالصِّدْقُ بِالْكَذِبِ، وَصَارَ ذلك عذرا ظاهر فِي إِعْرَاضِ الْخَلْقِ عَنِ الْعِبَادَاتِ، لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: يَا إِلَهَنَا عَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عِبَادَتِكَ وَلَكِنَّا مَا عَرَفْنَا كَيْفَ نَعْبُدُ، فَبَعَثَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذَا الْوَقْتِ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِزَالَةً لِهَذَا الْعُذْرِ، وَهُوَ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ يَعْنِي إِنَّمَا بَعَثْنَا إِلَيْكُمُ الرَّسُولَ فِي وَقْتِ الْفَتْرَةِ كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا: مَا جَاءَنَا فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ فَزَالَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ وَارْتَفَعَ هَذَا الْعُذْرُ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ حُصُولَ الْفَتْرَةِ يُوجِبُ احْتِيَاجَ الْخَلْقِ إِلَى بِعْثَةِ الرُّسُلِ، واللَّه تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَكَانَ قَادِرًا عَلَى الْبِعْثَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْخَلْقُ مُحْتَاجِينَ إِلَى الْبِعْثَةِ، وَالرَّحِيمُ الْكَرِيمُ

[سورة المائدة (5) : آية 20]

قَادِرًا عَلَى الْبِعْثَةِ وَجَبَ فِي كَرَمِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ يَبْعَثَ الرُّسُلَ إِلَيْهِمْ، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الْإِشَارَةُ إِلَى الدَّلَالَةِ التي قررناها. [سورة المائدة (5) : آية 20] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الِاتِّصَالِ هُوَ أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ وَاوُ عَطْفٍ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ [المائدة: 12] كَأَنَّهُ قِيلَ: أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ وَذَكَّرَهُمْ مُوسَى نِعَمَ اللَّه تَعَالَى وَأَمَرَهُمْ بِمُحَارَبَةِ الْجَبَّارِينَ فَخَالَفُوا فِي الْقَوْلِ فِي الْمِيثَاقِ، وَخَالَفُوهُ فِي مُحَارَبَةِ الْجَبَّارِينَ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى مَنَّ عَلَيْهِمْ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْ فِي أُمَّةٍ مَا بَعَثَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَمِنْهُمُ السَّبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى مِنْ قَوْمِهِ/ فَانْطَلَقُوا مَعَهُ إِلَى الْجَبَلِ، وَأَيْضًا كَانُوا مِنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ بِالِاتِّفَاقِ كَانُوا مِنْ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ. وَأَوْلَادُ يَعْقُوبَ أَيْضًا كَانُوا عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ أَنْبِيَاءَ، واللَّه تَعَالَى أَعْلَمَ مُوسَى أَنَّهُ لَا يَبْعَثُ الْأَنْبِيَاءَ إِلَّا مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ وَمِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، فَهَذَا الشَّرَفُ حَصَلَ بِمَنْ مَضَى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَبِالَّذِينِ كَانُوا حَاضِرِينَ مَعَ مُوسَى، وَبِالَّذِينِ أَخْبَرَ اللَّه مُوسَى أَنَّهُ سَيَبْعَثُهُمْ مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ وَإِسْمَاعِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ شَرَفٌ عَظِيمٌ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي وَجَعَلَكُمْ أَحْرَارًا تَمْلِكُونَ أَنْفُسَكُمْ بَعْدَ مَا كُنْتُمْ فِي أَيْدِي الْقِبْطِ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْجِزْيَةِ فِينَا، وَلَا يَغْلِبُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ غَالِبٌ وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ رَسُولًا وَنَبِيًّا كَانَ مَلِكًا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ أَمْرَ أُمَّتِهِ وَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِمْ، وَكَانَ نَافِذَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ فَكَانَ مَلِكًا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النِّسَاءِ: 54] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ كَانَ فِي أَسْلَافِهِمْ وَأَخْلَافِهِمْ مُلُوكٌ وَعُظَمَاءُ، وَقَدْ يُقَالُ فِيمَنْ حَصَلَ فِيهِمْ مُلُوكٌ: أَنْتُمْ مُلُوكٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مُسْتَقِلًّا بِأَمْرِ نَفْسِهِ وَمَعِيشَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا فِي مَصَالِحِهِ إِلَى أَحَدٍ فَهُوَ مَلِكٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَلِكُ مَنْ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ وَاسِعَةً وَفِيهَا مِيَاهٌ جَارِيَةٌ، وَكَانَتْ لَهُمْ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ وَخَدَمٌ يَقُومُونَ بِأَمْرِهِمْ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَلِكًا. وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ النِّعَمِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ آتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّهُمْ بِأَنْوَاعٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْإِكْرَامِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى فَلَقَ الْبَحْرَ لَهُمْ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ أَهْلَكَ عَدُوَّهُمْ وَأَوْرَثَهُمْ أَمْوَالَهُمْ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ أَخْرَجَ لَهُمُ الْمِيَاهَ الْعَذْبَةَ مِنَ الْحَجَرِ، وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَظَلَّ فَوْقَهُمُ الْغَمَامَ، وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ لِقَوْمٍ الْمُلْكُ وَالنُّبُوَّةُ كَمَا جُمِعَ لَهُمْ، وَسَابِعُهَا: أَنَّهُمْ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ كَانُوا هُمُ الْعُلَمَاءُ باللَّه وَهُمْ أَحْبَابُ اللَّه وَأَنْصَارُ دِينِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَكَّرَهُمْ هَذِهِ النِّعْمَةَ وَشَرَحَهَا لَهُمْ أَمَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بمجاهدة العدو فقال: [سورة المائدة (5) : آية 21] يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) فِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا صَعِدَ جَبَلَ لُبْنَانَ قَالَ لَهُ اللَّه تَعَالَى: انْظُرْ فَمَا أَدْرَكَهُ بَصَرُكَ فَهُوَ مُقَدَّسٌ، وَهُوَ مِيرَاثٌ لِذُرِّيَّتِكَ. وَقِيلَ: لَمَّا خَرَجَ قَوْمُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ مِصْرَ وَعَدَهُمُ اللَّه تَعَالَى إِسْكَانَ أَرْضِ الشَّامِ، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يُسَمُّونَ أَرْضَ الشَّامِ أَرْضَ الْمَوَاعِيدِ، ثُمَّ بَعَثَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا مِنَ الْأُمَنَاءِ لِيَتَجَسَّسُوا لَهُمْ عَنْ أَحْوَالِ تِلْكَ الْأَرَاضِي، / فَلَمَّا دَخَلُوا تِلْكَ الْبِلَادَ رَأَوْا أَجْسَامًا عَظِيمَةً هَائِلَةً. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا بَعَثَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ النُّقَبَاءَ لِأَجْلِ التَّجَسُّسِ رَآهُمْ وَاحِدٌ مِنْ أُولَئِكَ الْجَبَّارِينَ فَأَخَذَهُمْ وَجَعَلَهُمْ فِي كُمِّهِ مَعَ فَاكِهَةٍ كَانَ قَدْ حَمَلَهَا مِنْ بُسْتَانِهِ وَأَتَى بِهِمُ الْمَلِكَ، فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ مُتَعَجِّبًا لِلْمَلِكِ: هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ قِتَالَنَا، فَقَالَ الْمَلِكُ: ارْجِعُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ وَأَخْبِرُوهُ بِمَا شَاهَدْتُمْ، ثُمَّ انْصَرَفَ أُولَئِكَ النُّقَبَاءُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخْبَرُوهُ بِالْوَاقِعَةِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَكْتُمُوا مَا عَاهَدُوهُ فَلَمْ يَقْبَلُوا قَوْلَهُ، إِلَّا رَجُلَانِ مِنْهُمْ، وَهُمَا يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَكَالِبُ بْنُ يُوفِنَا، فَإِنَّهُمَا سَهَّلَا الْأَمْرَ وَقَالَا: هِيَ بِلَادٌ طَيِّبَةٌ كَثِيرَةُ النِّعَمِ، وَالْأَقْوَامُ وَإِنْ كَانَتْ أَجْسَادُهُمْ عَظِيمَةً إِلَّا أَنَّ قُلُوبَهُمْ ضَعِيفَةٌ، وَأَمَّا الْعَشَرَةُ الْبَاقِيَةُ فَقَدْ أَوْقَعُوا الْجُبْنَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ حَتَّى أَظْهَرُوا الِامْتِنَاعَ مِنْ غَزْوِهِمْ، فَقَالُوا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [الْمَائِدَةِ: 24] فَدَعَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ فَعَاقَبَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِأَنْ أَبْقَاهُمْ فِي التِّيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً. قَالُوا: وَكَانَتْ مُدَّةُ غَيْبَةِ النُّقَبَاءِ لِلتَّجَسُّسِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَعُوقِبُوا بِالتِّيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَمَاتَ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ فِي التِّيهِ، وَأُهْلِكَ النُّقَبَاءُ الْعَشَرَةُ فِي التِّيهِ بِعُقُوبَاتٍ غَلِيظَةٍ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مَاتَا أَيْضًا فِي التِّيهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَقِيَ وَخَرَجَ مَعَهُ يُوشَعُ وَكَالِبُ وَقَاتَلُوا الْجَبَّارِينَ وَغَلَبُوهُمْ وَدَخَلُوا تِلْكَ الْبِلَادَ، فَهَذِهِ هِيَ الْقِصَّةُ واللَّه أَعْلَمُ بِكَيْفِيَّةِ الْأُمُورِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ هِيَ الْأَرْضُ الْمُطَهَّرَةُ طُهِّرَتْ مِنَ الْآفَاتِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: طُهِّرَتْ مِنَ الشِّرْكِ وَجُعِلَتْ مَسْكَنًا وَقَرَارًا لِلْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ تِلْكَ الْأَرْضَ لَمَّا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ مَا كَانَتْ مُقَدَّسَةً عَنِ الشِّرْكِ، وَمَا كَانَتْ مَقَرًّا لِلْأَنْبِيَاءِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّهَا كَانَتْ كَذَلِكَ فِيمَا قَبْلُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْأَرْضِ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ أَرِيحَا وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: دِمَشْقُ وَفِلَسْطِينُ وَبَعْضُ الْأُرْدُنِ، وَقِيلَ الطُّورُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنَّهَا لَكُمْ وَثَانِيهَا: وَهَبَهَا اللَّه لَكُمْ، وَثَالِثُهَا: أَمَرَكُمْ بِدُخُولِهَا. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ثُمَّ قَالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [الْمَائِدَةِ: 26] . وَالْجَوَابُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ هِبَةً ثُمَّ حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ بِشُؤْمِ تَمَرُّدِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ. وَقِيلَ: اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ عَامًّا لَكِنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْخُصُوصُ، فَصَارَ كَأَنَّهُ مَكْتُوبٌ لِبَعْضِهِمْ وَحَرَامٌ عَلَى بَعْضِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْوَعْدَ بِقَوْلِهِ كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مَشْرُوطٌ بِقَيْدِ الطَّاعَةِ، فَلَمَّا لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ لَا جَرَمَ لَمْ يُوجَدِ الْمَشْرُوطُ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا مَضَى الْأَرْبَعُونَ حَصَلَ مَا كَتَبَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قَوْلِهِ كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْقَوْمَ وَإِنْ كَانُوا جَبَّارِينَ إِلَّا أَنَّ اللَّه

[سورة المائدة (5) : آية 22]

تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءَ بِأَنَّ تِلْكَ الْأَرْضَ لَهُمْ، فَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ مُقِرِّينَ بِصِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلِمُوا قَطْعًا أَنَّ اللَّه يَنْصُرُهُمْ عَلَيْهِمْ وَيُسَلِّطُهُمْ عَلَيْهِمْ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُقْدِمُوا عَلَى قِتَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ جُبْنٍ وَلَا خَوْفٍ وَلَا هَلَعٍ، فَهَذِهِ هِيَ الْفَائِدَةُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: لَا تَرْجِعُوا عَنِ الدِّينِ الصَّحِيحِ إِلَى الشَّكِّ فِي نُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ تِلْكَ الْأَرْضَ لَهُمْ كَانَ هَذَا وَعْدًا بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَنْصُرُهُمْ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ لَمْ يَقْطَعُوا بِهَذِهِ النُّصْرَةِ صَارُوا شَاكِّينَ فِي صِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَصِيرُوا كَافِرِينَ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: الْمُرَادُ لَا تَرْجِعُوا عَنِ الْأَرْضِ الَّتِي أُمِرْتُمْ بِدُخُولِهَا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي خَرَجْتُمْ عَنْهَا. يُرْوَى أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى مِصْرَ، وَقَوْلُهُ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: خَاسِرِينَ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ يَفُوتُكُمُ الثَّوَابُ وَيَلْحَقُكُمُ الْعِقَابُ، وَثَانِيهَا: تَرْجِعُونَ إِلَى الذُّلِّ، وَثَالِثُهَا: تَمُوتُونَ فِي التِّيهِ وَلَا تَصِلُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مطالب الدنيا ومنافع الآخرة. [سورة المائدة (5) : آية 22] قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَفِي تَفْسِيرِ الْجَبَّارِينَ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْجَبَّارُ فَعَّالٌ مِنْ جَبَرَهُ عَلَى الْأَمْرِ بِمَعْنَى أَجْبَرَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْعَاتِي الَّذِي يُجْبِرُ النَّاسَ عَلَى مَا يُرِيدُ، وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَمْ أَسْمَعْ فَعَّالًا مِنْ أَفْعَلَ إِلَّا فِي حَرْفَيْنِ وَهُمَا: جَبَّارٌ مِنْ أَجْبَرَ، وَدَرَّاكٌ مِنْ أَدْرَكَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ نَخْلَةٌ جَبَّارَةٌ إِذَا كَانَتْ طَوِيلَةً مُرْتَفِعَةً لَا تَصِلُ الْأَيْدِي إِلَيْهَا، وَيُقَالُ: رَجُلٌ جَبَّارٌ إِذَا كَانَ طَوِيلًا عَظِيمًا قَوِيًّا، تَشْبِيهًا بِالْجَبَّارِ مِنَ النَّخْلِ وَالْقَوْمُ كَانُوا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَعِظَمِ الْأَجْسَامِ بِحَيْثُ كَانَتْ أَيْدِي قَوْمِ مُوسَى مَا كَانَتْ تَصِلُ إِلَيْهِمْ، فَسَمَّوْهُمْ جَبَّارِينَ لِهَذَا الْمَعْنَى. ثُمَّ قَالَ الْقَوْمُ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الْأَعْرَافِ: 40] . ثم قال تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 23] قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) فيه مسائل: المسألة الأولى: هذا الرَّجُلَانِ هُمَا يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَكَالِبُ بْنُ يوفنا، وكانوا مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ اللَّه وَأَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِمَا بِالْهِدَايَةِ وَالثِّقَةِ بِعَوْنِ اللَّه تَعَالَى وَالِاعْتِمَادِ عَلَى نُصْرَةِ اللَّه. قَالَ الْقَفَّالُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَهُمُ الْجَبَّارُونَ، وَهُمَا رَجُلَانِ مِنْهُمْ أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِمَا بِالْإِيمَانِ فَآمَنَا، وَقَالَا هَذَا الْقَوْلَ لِقَوْمِ مُوسَى تَشْجِيعًا لَهُمْ عَلَى قِتَالِهِمْ، وَقِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ يُخَافُونَ بِالضَّمِّ شَاهِدَةٌ لِهَذَا الْوَجْهِ.

[سورة المائدة (5) : آية 24]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ رَجُلانِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ وَقَعَ فِي الْبَيْنِ يُؤَكِّدُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ مُبَالَغَةٌ فِي الْوَعْدِ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَتَى دَخَلْتُمْ بَابَ بَلَدِهِمُ انْهَزَمُوا وَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ نَافِخُ نَارٍ وَلَا سَاكِنُ دَارٍ، فَلَا تَخَافُوهُمْ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا جَزَمَ هَذَانِ الرَّجُلَانِ فِي قَوْلِهِمَا فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ لِأَنَّهُمَا كَانَا جَازِمَيْنِ بِنُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ اللَّه قَالَ: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [الْمَائِدَةِ: 21] لَا جَرَمَ قَطَعَا بِأَنَّ النُّصْرَةَ لَهُمْ وَالْغَلَبَةَ حَاصِلَةٌ فِي جَانِبِهِمْ، وَلِذَلِكَ خَتَمُوا كَلَامَهُمْ بِقَوْلِهِمْ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يَعْنِي لَمَّا وَعَدَكُمُ اللَّه تَعَالَى النَّصْرَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَصِيرُوا خَائِفِينَ مِنْ شِدَّةِ قُوَّتِهِمْ وَعِظَمِ أَجْسَامِهِمْ، بَلْ تَوَكَّلُوا عَلَى اللَّه فِي حُصُولِ هَذَا النَّصْرِ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مُقِرِّينَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ وَمُؤْمِنِينَ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السلام. ثم قال تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 24] قالُوا يَا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) وَفِي قَوْلِهِ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَعَلَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُجَسِّمَةً، وَكَانُوا يُجَوِّزُونَ الذَّهَابَ وَالْمَجِيءَ عَلَى اللَّه تَعَالَى. الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الذَّهَابِ بَلْ هُوَ كَمَا يُقَالُ: كَلَّمْتُهُ فَذَهَبَ يُجِيبُنِي، يَعْنِي يُرِيدُ أَنْ يُجِيبَنِي، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: كُنْ أَنْتَ وَرَبُّكَ مُرِيدَيْنِ لِقِتَالِهِمْ، / وَالثَّالِثُ: التَّقْدِيرُ: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ مُعِينٌ لَكَ بِزَعْمِكَ فَأَضْمَرَ خَبَرَ الِابْتِدَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا أَضْمَرْنَا الْخَبَرَ فَكَيْفَ يُجْعَلُ قَوْلُهُ فَقاتِلا خَبَرًا أَيْضًا؟ قُلْنَا: لَا يَمْتَنِعُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَالرَّابِعُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَرَبُّكَ أَخُوهُ هَارُونُ، وَسَمَّوْهُ رَبًّا لِأَنَّهُ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: قَوْلُهُمْ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ إِنْ قَالُوهُ عَلَى وَجْهِ الذَّهَابِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ فَهُوَ كُفْرٌ، وَإِنْ قَالُوهُ عَلَى وَجْهِ التَّمَرُّدِ عَنِ الطَّاعَةِ فَهُوَ فِسْقٌ، وَلَقَدْ فَسَقُوا بِهَذَا الْكَلَامِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [الْمَائِدَةِ: 26] وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ شَرْحُ خِلَافِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَشِدَّةِ بُغْضِهِمْ وَغُلُوِّهِمْ فِي الْمُنَازَعَةِ مَعَ أَنْبِيَاءِ اللَّه تَعَالَى منذ كانوا. [سورة المائدة (5) : آية 25] قالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) ثُمَّ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ مِنْهُمْ هَذَا الْكَلَامَ قالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ وَأَخِي وَجْهَيْنِ: الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ، أَمَّا الرَّفْعُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ نَسَقًا عَلَى مَوْضِعِ إِنِّي وَالْمَعْنَى أَنَا لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي، وَأَخِي كَذَلِكَ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التَّوْبَةِ: 3] وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي أَمْلِكُ وَهُوَ «أَنَا» وَالْمَعْنَى: لَا أَمْلِكُ أَنَا وَأَخِي إِلَّا أَنْفُسَنَا، وَأَمَّا النَّصْبُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ نَسَقًا عَلَى الْيَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنِّي وَأَخِي لَا

[سورة المائدة (5) : آية 26]

نَمْلِكُ إِلَّا أَنْفُسَنَا، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَخِي مَعْطُوفًا عَلَى نَفْسِي فَيَكُونَ الْمَعْنَى لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي، وَلَا أَمْلِكُ إِلَّا أَخِي، لِأَنَّ أَخَاهُ إِذَا كَانَ مُطِيعًا لَهُ فَهُوَ مَالِكُ طَاعَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي، وَكَانَ مَعَهُ الرَّجُلَانِ الْمَذْكُورَانِ؟ قُلْنَا: كَأَنَّهُ لَمْ يَثِقْ بِهِمَا كُلَّ الْوُثُوقِ لِمَا رَأَى مِنْ إِطْبَاقِ الْأَكْثَرِينَ عَلَى التَّمَرُّدِ، وَأَيْضًا لَعَلَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَقْلِيلًا لِمَنْ يُوَافِقُهُ، وَأَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَخِ مَنْ يُوَاخِيهِ فِي الدِّينِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَكَانَا دَاخِلَيْنِ فِي قَوْلِهِ وَأَخِي. ثُمَّ قَالَ: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ يَعْنِي فَافْصِلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِأَنْ تَحْكُمَ لَنَا بِمَا نَسْتَحِقُّ وَتَحْكُمَ عَلَيْهِمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ خَلِّصْنَا مِنْ صُحْبَتِهِمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: 21] . ثم أنه تعالى قال: [سورة المائدة (5) : آية 26] قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ فَإِنَّها أَيِ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِالتَّحْرِيمِ، أَيِ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ فَتَحَ اللَّه تَعَالَى تِلْكَ الْأَرْضَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ مُحَارَبَةٍ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِقَوْلِهِ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أَيْ بَقُوا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَمَّا الْحُرْمَةُ فَقَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِمْ وَمَاتُوا، ثُمَّ إِنَّ أَوْلَادَهُمْ دَخَلُوا تِلْكَ الْبَلْدَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُحْتَمَلُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ فِي دُعَائِهِ عَلَى الْقَوْمِ فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [الْمَائِدَةِ: 25] لَمْ يَقْصِدْ بِدُعَائِهِ هَذَا الْجِنْسَ مِنَ الْعَذَابِ، بَلْ أَخَفَّ مِنْهُ. فَلَمَّا أَخْبَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِالتِّيهِ عَلِمَ أَنَّهُ يَحْزَنُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَعَزَّاهُ وَهَوَّنَ أَمْرَهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ مُوسَى لَمَّا دَعَا عَلَيْهِمْ أَخْبَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَحْوَالِ التِّيهِ، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَ قَوْمَهُ بِذَلِكَ، فَقَالُوا لَهُ: لِمَ دَعَوْتَ عَلَيْنَا وَنَدِمَ مُوسَى عَلَى مَا عمل، فأوحى اللَّه تعالى إليه فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَا تَحْزَنْ عَلَى قَوْمٍ لَمْ يَزَلْ شَأْنُهُمُ الْمَعَاصِيَ وَمُخَالَفَةَ الرُّسُلِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ هَلْ بَقِيَا فِي التِّيهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُمَا مَا كَانَا فِي التِّيهِ، قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا اللَّه يَفْرُقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، وَدَعَوَاتُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُجَابَةٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ التِّيهَ كَانَ عَذَابًا وَالْأَنْبِيَاءُ لَا يُعَذَّبُونَ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا عُذِّبُوا بِسَبَبِ أَنَّهُمْ تَمَرَّدُوا وَمُوسَى وَهَارُونُ مَا كَانَا كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَعَ أُولَئِكَ الْفَاسِقِينَ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُمَا كَانَا مَعَ الْقَوْمِ فِي ذَلِكَ التِّيهِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى سَهَّلَ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ الْعَذَابَ كَمَا سَهَّلَ النَّارَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ فَجَعَلَهَا بَرْدًا وَسَلَامًا، ثُمَّ

[سورة المائدة (5) : آية 27]

الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُمَا هَلْ مَاتَا فِي التِّيهِ أَوْ خَرَجَا مِنْهُ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ هَارُونَ مَاتَ فِي التِّيهِ ثُمَّ مَاتَ مُوسَى بَعْدَهُ بِسَنَةٍ، وَبَقِيَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَكَانَ ابْنَ أُخْتِ مُوسَى وَوَصِيَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهُوَ الَّذِي فَتَحَ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَلَكَ الشَّأْمَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ بَقِيَ مُوسَى بَعْدَ ذَلِكَ وَخَرَجَ مِنَ التِّيهِ وَحَارَبَ الْجَبَّارِينَ وَقَهَرَهُمْ وَأَخَذَ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ تَحْرِيمُ مَنْعٍ لَا تَحْرِيمُ تَعَبُّدٍ، / وَقِيلَ: يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمَ تَعَبُّدٍ، فَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَمْكُثُوا فِي تِلْكَ الْمَفَازَةِ فِي الشِّدَّةِ وَالْبَلِيَّةِ عِقَابًا لَهُمْ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي التِّيهِ فَقَالَ الرَّبِيعُ: مِقْدَارُ سِتَّةِ فَرَاسِخَ، وَقِيلَ: تِسْعَةُ فَرَاسِخَ فِي ثَلَاثِينَ فَرْسَخًا. وَقِيلَ: سِتَّةٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَقِيلَ: كَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفِ فَارِسٍ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُعْقَلُ بَقَاءُ هَذَا الْجَمْعِ الْعَظِيمِ فِي هَذَا الْقَدْرِ الصَّغِيرِ مِنَ الْمَفَازَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً بِحَيْثُ لَا يَتَّفِقُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَجِدَ طَرِيقًا إِلَى الْخُرُوجِ عَنْهَا، وَلَوْ أَنَّهُمْ وَضَعُوا أَعْيُنَهُمْ عَلَى حَرَكَةِ الشَّمْسِ أَوِ الْكَوَاكِبِ لَخَرَجُوا مِنْهَا وَلَوْ كَانُوا فِي الْبَحْرِ الْعَظِيمِ، فَكَيْفَ فِي الْمَفَازَةِ الصَّغِيرَةِ؟ قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ انْخِرَاقَ الْعَادَاتِ فِي زَمَانِ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، إِذْ لَوْ فَتَحْنَا بَابَ الِاسْتِبْعَادِ لَزِمَ الطَّعْنُ فِي جَمِيعِ الْمُعْجِزَاتِ، وَإِنَّهُ بَاطِلٌ. الثَّانِي: إِذَا فَسَّرْنَا ذَلِكَ التَّحْرِيمَ بِتَحْرِيمِ التَّعَبُّدِ فَقَدْ زَالَ السُّؤَالُ لِاحْتِمَالِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الرُّجُوعَ إِلَى أَوْطَانِهِمْ، بَلْ أَمَرَهُمْ بِالْمُكْثِ فِي تِلْكَ الْمَفَازَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَعَ الْمَشَقَّةِ وَالْمِحْنَةِ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَدْ زَالَ الْإِشْكَالُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: يُقَالُ: تَاهَ يَتِيهُ تَيْهًا وَتِيهًا وَتَوْهًا، وَالتِّيهُ أَعَمُّهَا، وَالتَّيْهَاءُ الْأَرْضُ الَّتِي لَا يُهْتَدَى فِيهَا. قَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا يُصْبِحُونَ حَيْثُ أَمْسَوْا، وَيُمْسُونَ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَكَانَتْ حَرَكَتُهُمْ فِي تِلْكَ الْمَفَازَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدَارَةِ، وَهَذَا مُشْكِلٌ فَإِنَّهُمْ إِذَا وَضَعُوا أَعْيُنَهُمْ عَلَى مَسِيرِ الشَّمْسِ وَلَمْ يَنْعَطِفُوا وَلَمْ يَرْجِعُوا فَإِنَّهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَخْرُجُوا عَنِ الْمَفَازَةِ، بَلِ الْأَوْلَى حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى تَحْرِيمِ التَّعَبُّدِ عَلَى مَا قررناه واللَّه أعلم. [سورة المائدة (5) : آية 27] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تعالى قال فيما تقدم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [الْمَائِدَةِ: 11] فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ/ الْأَعْدَاءَ يُرِيدُونَ إِيقَاعَ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ بِهِمْ لَكِنَّهُ تَعَالَى يَحْفَظُهُمْ بِفَضْلِهِ وَيَمْنَعُ أَعْدَاءَهُمْ مِنْ إِيصَالِ الشَّرِّ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لِأَجْلِ التَّسْلِيَةِ وَتَخْفِيفِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عَلَى الْقَلْبِ ذَكَرَ قِصَصًا كَثِيرَةً فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ خَصَّهُ اللَّه تَعَالَى بِالنِّعَمِ الْعَظِيمَةِ فِي الدِّينِ والدنيا فإن الناس ينازعون حَسَدًا وَبَغْيًا، فَذَكَرَ أَوَّلًا قِصَّةَ النُّقَبَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَأَخْذِ اللَّه تَعَالَى الْمِيثَاقَ مِنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّ الْيَهُودَ نَقَضُوا ذَلِكَ الْمِيثَاقَ حَتَّى وَقَعُوا فِي اللَّعْنِ وَالْقَسَاوَةِ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ شِدَّةَ إِصْرَارِ

النَّصَارَى عَلَى كُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ بِالتَّثْلِيثِ بَعْدَ ظُهُورِ الدلائل القاطعة لهم عَلَى فَسَادِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِحَسَدِهِمْ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا آتَاهُ اللَّه مِنَ الدِّينِ الْحَقِّ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ قِصَّةَ مُوسَى فِي مُحَارَبَةِ الْجَبَّارِينَ وَإِصْرَارِ قَوْمِهِ عَلَى التَّمَرُّدِ وَالْعِصْيَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ بعده قصة ابني آدم وأن أَحَدَهُمَا قَتَلَ الْآخَرَ حَسَدًا مِنْهُ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَبِلَ قُرْبَانَهُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْقِصَصِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ، فَلَمَّا كَانَتْ نِعَمُ اللَّه عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمَ النِّعَمِ لَا جَرَمَ لَمْ يَبْعُدِ اتِّفَاقُ الْأَعْدَاءِ عَلَى اسْتِخْرَاجِ أَنْوَاعِ الْمَكْرِ وَالْكَيْدِ فِي حَقِّهِ، فَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَصِ تَسْلِيَةً مِنَ اللَّه تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَمَّ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ أَنْ يَمْكُرُوا بِهِ وَأَنْ يُوقِعُوا بِهِ آفَةً وَمِحْنَةً. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الْمَائِدَةِ: 15] وَهَذِهِ الْقِصَّةُ وَكَيْفِيَّةُ إِيجَابِ الْقَصَاصِ عَلَيْهَا مِنْ أَسْرَارِ التَّوْرَاةِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَهِيَ قِصَّةُ مُحَارَبَةِ الْجَبَّارِينَ، أَيِ اذْكُرْ لِلْيَهُودِ حَدِيثَ ابْنَيْ آدَمَ لِيَعْلَمُوا أَنَّ سَبِيلَ أَسْلَافِهِمْ فِي النَّدَامَةِ وَالْحَسْرَةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ كَانَ مِثْلَ سَبِيلِ ابْنَيْ آدَمَ فِي إِقْدَامِ أَحَدِهِمَا عَلَى قَتْلِ الْآخَرِ. وَالرَّابِعُ: قِيلَ هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَةِ: 18] أَيْ لَا يَنْفَعُهُمْ كَوْنُهُمْ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ كُفْرِهِمْ كَمَا لَمْ يَنْتَفِعْ وَلَدُ آدَمَ عِنْدَ مَعْصِيَتِهِ بِكَوْنِ أَبِيهِ نَبِيًّا مُعَظَّمًا عِنْدَ اللَّه تَعَالَى. الْخَامِسُ: لَمَّا كَفَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَدًا أَخْبَرَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِخَبَرِ ابْنِ آدَمَ وَأَنَّ الْحَسَدَ أَوْقَعَهُ فِي سُوءِ الْعَاقِبَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّحْذِيرُ عَنِ الْحَسَدِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَاتْلُ عَلَى النَّاسِ. وَالثَّانِي: وَاتْلُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِي قَوْلِهِ ابْنَيْ آدَمَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمَا ابْنَا آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ، وَهُمَا هَابِيلُ وَقَابِيلُ. وَفِي سَبَبِ وُقُوعِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَابِيلَ كَانَ صَاحِبَ غَنَمٍ، وَقَابِيلَ كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ، فَقَرَّبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قُرْبَانًا، فَطَلَبَ هَابِيلُ أَحْسَنَ شَاةٍ كَانَتْ فِي غَنَمِهِ وَجَعَلَهَا قُرْبَانًا، وَطَلَبَ قَابِيلُ شَرَّ حِنْطَةٍ فِي زَرْعِهِ فَجَعَلَهَا قُرْبَانًا، ثُمَّ تَقَرَّبَ كُلُّ وَاحِدٍ بِقُرْبَانِهِ إِلَى اللَّه فَنَزَلَتْ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَاحْتَمَلَتْ قُرْبَانَ هَابِيلَ وَلَمْ تَحْمِلْ قُرْبَانَ قَابِيلَ، فَعَلِمَ قَابِيلُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَبِلَ قُرْبَانَ أَخِيهِ/ وَلَمْ يَقْبَلْ قُرْبَانَهُ فَحَسَدَهُ وَقَصَدَ قَتْلَهُ، وَثَانِيهِمَا: مَا رُوِيَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُولَدُ لَهُ فِي كُلِّ بَطْنٍ غُلَامٌ وجارية وكان يزوج البنت من بطن الغلام مِنْ بَطْنٍ آخَرَ، فَوُلِدَ لَهُ قَابِيلُ وَتَوْأَمَتُهُ، وَبَعْدَهُمَا هَابِيلُ وَتَوْأَمَتُهُ، وَكَانَتْ تَوْأَمَةُ قَابِيلَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا، فَأَرَادَ آدَمُ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ هَابِيلَ، فَأَبَى قَابِيلُ ذَلِكَ وَقَالَ أَنَا أَحَقُّ بِهَا، وَهُوَ أَحَقُّ بِأُخْتِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا هُوَ رَأْيُكَ، فَقَالَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمَا: قَرِّبَا قُرْبَانًا، فَأَيُّكُمَا قُبِلَ قُرْبَانُهُ زَوَّجْتُهَا مِنْهُ، فَقَبِلَ اللَّه تَعَالَى قُرْبَانَ هَابِيلَ بِأَنْ أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى عَلَى قُرْبَانِهِ نَارًا، فَقَتَلَهُ قَابِيلُ حَسَدًا لَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ: أَنَّ ابْنَيْ آدَمَ اللَّذَيْنِ قَرَّبَا قُرْبَانًا مَا كَانَا ابْنَيْ آدَمَ لِصُلْبِهِ، وَإِنَّمَا كَانَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْقِصَّةِ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً [الْمَائِدَةِ: 32] إِذْ مِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ صُدُورَ هَذَا الذَّنْبِ مِنْ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِإِيجَابِ الْقَصَاصِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَمَّا لَمَّا أَقْدَمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ أَمْكَنَ جَعْلُ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِيجَابِ الْقَصَاصِ عَلَيْهِمْ زَجْرًا لَهُمْ عَنِ الْمُعَاوَدَةِ إِلَى مِثْلِ هَذَا الذَّنْبِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ بَيَانُ إِصْرَارِ الْيَهُودِ أَبَدًا من

قَدِيمِ الدَّهْرِ عَلَى التَّمَرُّدِ وَالْحَسَدِ حَتَّى بَلَغَ بِهِمْ شِدَّةُ الْحَسَدِ إِلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا لَمَّا قَبِلَ اللَّه قُرْبَانَهُ حَسَدَهُ الْآخَرُ وَأَقْدَمَ عَلَى قَتْلِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا رُتْبَةٌ عَظِيمَةٌ فِي الْحَسَدِ، فَإِنَّهُ لَمَّا شَاهَدَ أَنَّ قُرْبَانَ صَاحِبِهِ مَقْبُولٌ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى فَذَلِكَ مِمَّا يَدْعُوهُ إِلَى حُسْنِ الِاعْتِقَادِ فِيهِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي تَعْظِيمِهِ، فَلَمَّا أَقْدَمَ عَلَى قَتْلِهِ وَقَتَلَهُ مَعَ هَذِهِ الْحَالَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ بَلَغَ فِي الْحَسَدِ إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ بَيَانَ أَنَّ الْحَسَدَ دَأْبٌ قَدِيمٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: هَذَانِ الرَّجُلَانِ كَانَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الْأَخْبَارِ، وَفِي الْآيَةِ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ جَهِلَ مَا يَصْنَعُ بِالْمَقْتُولِ حَتَّى تَعَلَّمَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْغُرَابِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ هَذَا الْأَمْرُ، وَهُوَ الْحَقُّ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ بِالْحَقِّ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: بِالْحَقِّ، أَيْ تِلَاوَةً مُتَلَبِّسَةً بِالْحَقِّ وَالصِّحَّةِ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى. وَالثَّانِي: أَيْ تِلَاوَةً مُتَلَبِّسَةً بِالصِّدْقِ وَالْحَقِّ مُوَافِقَةً لِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. الثَّالِثُ: بِالْحَقِّ، أَيْ بِالْغَرَضِ الصَّحِيحِ وَهُوَ تَقْبِيحُ الْحَسَدِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا يَحْسُدُونَ رَسُولَ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ويبيعون عليه. الرابع: بالحق، أي ليعتبرون به لا يحملوه عَلَى اللَّعِبِ وَالْبَاطِلِ مِثْلَ كَثِيرٍ مِنَ الْأَقَاصِيصِ التي لا فائدة فيها، وإنما في لَهْوُ الْحَدِيثِ، وَهَذَا/ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذِّكْرِ مِنَ الْأَقَاصِيصِ وَالْقَصَصِ فِي الْقُرْآنِ الْعِبْرَةُ لَا مُجَرَّدُ الْحِكَايَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يُوسُفَ: 111] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِذْ قَرَّبا قُرْباناً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِذْ: نُصِبَ بِمَاذَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نُصِبَ بِالنَّبَأِ، أَيْ قِصَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ النَّبَأِ أَيْ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبَأِ نَبَأَ ذَلِكَ الْوَقْتِ، عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقُرْبَانُ: اسْمٌ لِمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى مِنْ ذَبِيحَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ، وَمَضَى الْكَلَامُ عَلَى الْقُرْبَانِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً قَرَّبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قُرْبَانًا إِلَّا أَنَّهُ جَمَعَهُمَا فِي الْفِعْلِ وَأَفْرَدَ الِاسْمَ، لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِفِعْلِهِمَا عَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ قُرْبَانًا. وَقِيلَ: إِنَّ الْقُرْبَانَ اسْمُ جِنْسٍ فَهُوَ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالْعَدَدِ، وَأَيْضًا فَالْقُرْبَانُ مَصْدَرٌ كَالرُّجْحَانِ وَالْعُدْوَانِ وَالْكُفْرَانِ وَالْمَصْدَرُ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قِيلَ: كَانَتْ عَلَامَةُ الْقَبُولِ أَنْ تَأْكُلَهُ النَّارُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَامَةُ الرَّدِّ أَنْ تَأْكُلَهُ النَّارُ، وَالْأَوَّلُ أولى لا تفاق أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَقِيرٌ يَدْفَعُ إِلَيْهِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى، فَكَانَتِ النَّارُ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ فَتَأْكُلُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا صَارَ أَحَدُ الْقُرْبَانَيْنِ مَقْبُولًا وَالْآخَرُ مَرْدُودًا لِأَنَّ حُصُولَ التَّقْوَى شَرْطٌ فِي قَبُولِ الْأَعْمَالِ. قَالَ تَعَالَى هاهنا حِكَايَةً عَنِ الْمُحِقِّ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ وَقَالَ فِيمَا أَمَرَنَا بِهِ مِنَ الْقُرْبَانِ بِالْبُدْنِ لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ [الْحَجِّ: 37] فَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي يَصِلُ إِلَى حَضْرَةِ اللَّه لَيْسَ إِلَّا التَّقْوَى وَالتَّقْوَى مِنْ صِفَاتِ الْقُلُوبِ قَالَ عَلَيْهِ الصلاة والسلام: «التقوى هاهنا» وَأَشَارَ إِلَى الْقَلْبِ،

[سورة المائدة (5) : آية 28]

وَحَقِيقَةُ التَّقْوَى أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى خَوْفٍ وَوَجَلٍ مِنْ تَقْصِيرِ نَفْسِهِ فِي تِلْكَ الطَّاعَةِ فَيَتَّقِيَ بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ عَنْ جِهَاتِ التَّقْصِيرِ، وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ فِي غَايَةِ الِاتِّقَاءِ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بِتِلْكَ الطَّاعَةِ لِغَرَضٍ سِوَى طَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ يَتَّقِيَ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ اللَّه فِيهِ شَرِكَةٌ، وَمَا أَصْعَبَ رِعَايَةَ هَذِهِ الشَّرَائِطِ! وَقِيلَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: إِنَّ أَحَدَهُمَا جَعَلَ قُرْبَانَهُ أَحْسَنَ مَا كَانَ مَعَهُ، وَالْآخَرَ جَعَلَ قُرْبَانَهُ أَرْدَأَ مَا كَانَ مَعَهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَضْمَرَ أَنَّهُ لَا يُبَالِي سَوَاءً قُبِلَ أَوْ لَمْ يُقْبَلْ وَلَا يُزَوِّجُ أُخْتَهُ مِنْ هَابِيلَ. وَقِيلَ: كَانَ قَابِيلُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى وَالطَّاعَةِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقْبَلِ اللَّه قُرْبَانَهُ. ثُمَّ حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْ قَابِيلَ أَنَّهُ قَالَ لِهَابِيلَ لَأَقْتُلَنَّكَ فَقَالَ هَابِيلُ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: كَأَنَّ هَابِيلَ قَالَ: لِمَ تَقْتُلُنِي؟ قَالَ لِأَنَّ قُرْبَانَكَ صَارَ مَقْبُولًا، فَقَالَ هَابِيلُ: وَمَا ذَنْبِي؟ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّه مِنَ الْمُتَّقِينَ. وَقِيلَ: هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْقِصَّةِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يَقْبَلْ قُرْبَانَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَّقِيًا. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنِ الْأَخِ الْمَظْلُومِ أَنَّهُ قَالَ: [سورة المائدة (5) : آية 28] لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) السؤال الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهُ لِمَ لَمْ يَدْفَعِ الْقَاتِلَ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ أَنَّ الدَّفْعَ عَنِ النَّفْسِ وَاجِبٌ؟ وَهَبْ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، فَلِمَ قَالَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الأول: يحتمل أن يقال: لا ح لِلْمَقْتُولِ بِأَمَارَاتٍ تَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ يُرِيدُ قَتْلَهُ، فَذَكَرَ لَهُ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ الْوَعْظِ وَالنَّصِيحَةِ، يَعْنِي أَنَا لَا أُجَوِّزُ مِنْ نَفْسِي أَنْ أَبْدَأَكَ بِالْقَتْلِ الظُّلْمِ الْعُدْوَانِ، وَإِنَّمَا لَا أَفْعَلُهُ خَوْفًا مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا ذَكَرَ لَهُ هَذَا الْكَلَامَ قَبْلَ إِقْدَامِ الْقَاتِلِ عَلَى قَتْلِهِ وَكَانَ غَرَضُهُ مِنْهُ تَقْبِيحَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ فِي قَلْبِهِ، وَلِهَذَا يُرْوَى أَنَّ قَابِيلَ صَبَرَ حَتَّى نَامَ هَابِيلُ فَضَرَبَ رَأْسَهُ بِحَجَرٍ كَبِيرٍ فَقَتَلَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ قَوْلُهُ مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ يَعْنِي لَا أَبْسُطُ يَدِيَ إِلَيْكَ لِغَرَضِ قَتْلِكَ، وَإِنَّمَا أَبْسُطُ يَدِيَ إِلَيْكَ لِغَرَضِ الدَّفْعِ. وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: الدَّافِعُ عَنْ نَفْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ بِالْأَيْسَرِ فَالْأَيْسَرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْصِدَ الْقَتْلَ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْصِدَ الدَّفْعَ، ثُمَّ إِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ إِلَّا بِالْقَتْلِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَقْصُودُ بِالْقَتْلِ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَسْلِمَ جَازَ لَهُ ذَلِكَ، وَهَكَذَا فَعَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ. وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ: «أَلْقِ كُمَّكَ عَلَى وَجْهِكَ وَكُنْ عَبْدَ اللَّه الْمَقْتُولَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّه الْقَاتِلَ» . الْوَجْهُ الرَّابِعُ: وُجُوبُ الدَّفْعِ عَنِ النَّفْسِ أَمْرٌ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ الدَّفْعَ عَنِ النَّفْسِ مَا كَانَ مُبَاحًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ جَاءَ الشَّرْطُ بِلَفْظِ الْفِعْلِ، وَالْجَزَاءُ بِلَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ.

[سورة المائدة (5) : آية 29]

وَالْجَوَابُ: لِيُفِيدَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَا يَكْتَسِبُ بِهِ هَذَا الْوَصْفَ الشَّنِيعَ، وَلِذَلِكَ أَكَّدَهُ بِالْبَاءِ المؤكد للنفي. ثم قال تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 29] إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) وَفِيهِ سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَبُوءَ الْقَاتِلُ بِإِثْمِ الْمَقْتُولِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. [فَاطِرٍ: 18] . وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ: مَعْنَاهُ تَحْمِلُ إِثْمَ قَتْلِي وَإِثْمَكَ الَّذِي كَانَ مِنْكَ قَبْلَ قَتْلِي، وَهَذَا بِحَذْفِ الْمُضَافِ، وَالثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ تَرْجِعُ إِلَى اللَّه بإثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك. السؤال الثاني: كما لا يجوز للإنسان أن يريد من نفسه أن يعصي اللَّه تعالى فكذلك لا يجوز أن يريد من غيره أن يعصي اللَّه، فَلِمَ قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا دَارَ بَيْنَهُمَا عند ما غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمَقْتُولِ أَنَّهُ يُرِيدُ قَتْلَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ إِقْدَامِ الْقَاتِلِ عَلَى إِيقَاعِ الْقَتْلِ بِهِ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا وَعَظَهُ وَنَصَحَهُ قَالَ لَهُ: وَإِنْ كُنْتَ لَا تَنْزَجِرُ عَنْ هَذِهِ الْكَبِيرَةِ بِسَبَبِ هَذِهِ النَّصِيحَةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَتَرَصَّدَ قَتْلِي فِي وَقْتٍ أَكُونُ غَافِلًا عَنْكَ وَعَاجِزًا عَنْ دَفْعِكَ، فَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَدْفَعَكَ عَنْ قَتْلِي إِلَّا إِذَا قَتَلْتُكَ ابْتِدَاءً بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ، وَهَذَا مِنِّي كَبِيرَةٌ وَمَعْصِيَةٌ، وَإِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ أَنَا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَنْتَ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَحْصُلَ هَذِهِ الْكَبِيرَةُ لَكَ لَا لِي، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ إِرَادَةَ صُدُورِ الذَّنْبِ مِنَ الْغَيْرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَعَلَى هَذَا الشَّرْطِ لَا يَكُونُ حَرَامًا، بَلْ هُوَ عَيْنُ الطَّاعَةِ وَمَحْضُ الْإِخْلَاصِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: أَنَّ الْمُرَادَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِعُقُوبَةِ قَتْلِي، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يُرِيدَ مِنَ اللَّه عِقَابَ ظَالِمِهِ، وَالثَّالِثُ: رُوِيَ أَنَّ الظَّالِمَ إِذَا لَمْ يَجِدْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا يُرْضِي خَصْمَهُ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ وَحُمِلَ عَلَى الظَّالِمِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أن يقال: إني أريد أن تبوأ بِإِثْمِي فِي أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا لَمْ تَجِدْ مَا يُرْضِينِي، وَبِإِثْمِكَ فِي قَتْلِكَ إِيَّايَ، وَهَذَا يَصْلُحُ جَوَابًا عَنِ السُّؤَالِ الأول واللَّه أعلم، ثم قال تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 30] فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) ثُمَّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: سَهَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ شَجَّعَتْهُ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَصَوَّرَ مِنَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ كَوْنَهُ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ، فَهَذَا الِاعْتِقَادُ يَصِيرُ صَارِفًا لَهُ عَنْ فِعْلِهِ، فَيَكُونُ هَذَا الْفِعْلُ كَالشَّيْءِ الْعَاصِي الْمُتَمَرِّدِ عَلَيْهِ الَّذِي لَا يُطِيعُهُ بِوَجْهٍ الْبَتَّةَ، فَإِذَا أَوْرَدَتِ النَّفْسُ أَنْوَاعَ وَسَاوِسِهَا صَارَ هَذَا الْفِعْلُ سَهْلًا عَلَيْهِ، فَكَأَنَّ النَّفْسَ جَعَلَتْ بِوَسَاوِسِهَا الْعَجِيبَةِ هَذَا الْفِعْلَ كَالْمُطِيعِ لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ كَالْعَاصِي الْمُتَمَرِّدِ عَلَيْهِ. فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَوْ كَانَ خَالِقُ الْكُلِّ هُوَ اللَّه تَعَالَى لَكَانَ ذَلِكَ التَّزْيِينُ وَالتَّطْوِيعُ مُضَافًا إِلَى اللَّه تَعَالَى لَا إِلَى النَّفْسِ.

[سورة المائدة (5) : آية 31]

وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ لَمَّا أُسْنِدَتِ الْأَفْعَالُ إِلَى الدَّوَاعِي، وَكَانَ فَاعِلُ تِلْكَ الدَّوَاعِي هُوَ اللَّه تَعَالَى فَكَانَ فَاعِلُ الْأَفْعَالِ كُلِّهَا هُوَ اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقَتَلَهُ قِيلَ: لَمْ يَدْرِ قَابِيلُ كَيْفَ يَقْتُلُ هَابِيلَ، فَظَهَرَ لَهُ إِبْلِيسُ وَأَخَذَ طَيْرًا وَضَرَبَ رَأْسَهُ بِحَجَرٍ، فَتَعَلَّمَ قَابِيلُ ذَلِكَ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ وَجَدَ هَابِيلَ نَائِمًا يَوْمًا فَضَرَبَ رَأْسَهُ بِحَجَرٍ فَمَاتَ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا» وَذَلِكَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَسِرَ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ، أَمَّا الدُّنْيَا فَهُوَ أَنَّهُ أَسْخَطَ وَالِدَيْهِ وَبَقِيَ مَذْمُومًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَهُوَ الْعِقَابُ الْعَظِيمُ. قِيلَ: إِنَّ قَابِيلَ لَمَّا قَتَلَ أَخَاهُ هَرَبَ إِلَى عَدَنَ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ، فَأَتَاهُ إِبْلِيسُ وَقَالَ: إِنَّمَا أَكَلَتِ النَّارُ قُرْبَانَ هَابِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ يَخْدُمُ النَّارَ وَيَعْبُدُهَا، فَإِنْ عَبَدْتَ النَّارَ أَيْضًا حَصَلَ مَقْصُودُكَ، فَبَنَى بَيْتَ نَارٍ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَبَدَ النَّارَ. وَرُوِيَ أَنَّ هَابِيلَ قُتِلَ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ قَتْلُهُ عِنْدَ عُقْبَةِ حِرَاءٍ، وَقِيلَ بِالْبَصْرَةِ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ اسْوَدَّ جَسَدُهُ وَكَانَ أَبْيَضَ، فَسَأَلَهُ آدَمُ عَنْ أَخِيهِ، فَقَالَ مَا كُنْتُ عَلَيْهِ وَكِيلًا، فَقَالَ بَلْ قَتَلْتَهُ، وَلِذَلِكَ اسْوَدَّ جَسَدُكَ، وَمَكَثَ آدَمُ بَعْدَهُ مِائَةَ سَنَةٍ لَمْ يَضْحَكْ قَطُّ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» يُرْوَى أَنَّهُ رَثَاهُ بِشِعْرٍ. قَالَ وَهُوَ كَذِبٌ بَحْتٌ، وَمَا الشِّعْرُ إِلَّا مَنْحُولٌ مَلْحُونٌ، وَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ عَنِ الشِّعْرِ، وَصَدَقَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِيمَا قَالَ، فَإِنَّ ذَلِكَ الشِّعْرَ فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ لَا يَلِيقُ بِالْحَمْقَى مِنَ الْمُعَلِّمِينَ، فَكَيْفَ يُنْسَبُ إِلَى مَنْ جَعَلَ اللَّه عِلْمَهُ حُجَّةً على الملائكة ثم قال تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 31] فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يَا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) [في قوله تَعَالَى فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قِيلَ: لَمَّا قَتَلَهُ تَرَكَهُ لَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ بِهِ، ثُمَّ خَافَ عَلَيْهِ السِّبَاعَ فَحَمَلَهُ فِي جِرَابٍ عَلَى ظَهْرِهِ سَنَةً حَتَّى تَغَيَّرَ فَبَعَثَ اللَّه غُرَابًا، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: بَعَثَ اللَّه غُرَابَيْنِ فَاقْتَتَلَا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَحَفَرَ لَهُ بِمِنْقَارِهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ أَلْقَاهُ فِي الْحُفْرَةِ، فَتَعَلَّمَ قَابِيلُ ذَلِكَ مِنَ الْغُرَابِ. الثَّانِي: قَالَ الْأَصَمُّ: لَمَّا قَتَلَهُ وَتَرَكَهُ بَعَثَ اللَّه غُرَابًا يَحْثُو التُّرَابَ عَلَى الْمَقْتُولِ، فَلَمَّا رَأَى الْقَاتِلُ أَنَّ اللَّه كَيْفَ يُكْرِمُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ نَدِمَ وَقَالَ: يَا وَيْلَتَى. الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: عَادَةُ الْغُرَابِ دَفْنُ الْأَشْيَاءِ فَجَاءَ غُرَابٌ فَدَفَنَ شَيْئًا فَتَعَلَّمَ ذَلِكَ مِنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِيُرِيَهُ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: لِيُرِيَهُ اللَّه أَوْ لِيُرِيَهُ الْغُرَابُ، أَيْ لِيُعَلِّمَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَبَبُ تَعَلُّمِهِ فَكَأَنَّهُ قَصَدَ تَعْلِيمَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: سَوْأَةَ أَخِيهِ عَوْرَةَ أَخِيهِ، وَهُوَ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكَشِفَ مِنْ جَسَدِهِ، وَالسَّوْأَةُ الْفَضِيحَةُ لِقُبْحِهَا. وَقِيلَ سَوْأَةَ أَخِيهِ، أَيْ جِيفَةَ أَخِيهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالَ يَا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

[سورة المائدة (5) : آية 32]

المسألة الأولى: لا شك أن قوله يا وَيْلَتى كَلِمَةُ تَحَسُّرٍ وَتَلَهُّفٍ، وَفِي الْآيَةِ احْتِمَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَا كَانَ يَعْلَمُ كَيْفَ يُدْفَنُ الْمَقْتُولُ، فَلَمَّا تَعَلَّمَ ذَلِكَ مِنَ الْغُرَابِ عَلِمَ أَنَّ الْغُرَابَ أَكْثَرُ عِلْمًا مِنْهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ بِسَبَبِ جَهْلِهِ وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ، فَنَدِمَ وَتَلَهَّفَ وَتَحَسَّرَ عَلَى فِعْلِهِ. الثَّانِي: أنه كان عالما منه بِكَيْفِيَّةِ دَفْنِهِ، فَإِنَّهُ يَبْعُدُ فِي الْإِنْسَانِ أَنْ لا يهتدي إلى هذا القدر من العمل، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ تَرَكَهُ بِالْعَرَاءِ اسْتِخْفَافًا بِهِ، وَلَمَّا رَأَى الْغُرَابَ يَدْفِنُ الْغُرَابَ الْآخَرَ رق قلبه وقال: إن هذا الغراب لما قتل ذلك الآخر فبعد أن قتله أخفاه تحت الأرض، أفأكون أقل شفقة من هذا الغراب، وقيل: إن هذا الْغُرَابَ جَاءَ وَكَانَ يَحْثِي التُّرَابَ عَلَى الْمَقْتُولِ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّ اللَّه أَكْرَمَهُ حَالَ حَيَاتِهِ بِقَبُولِ قُرْبَانِهِ. وَأَكْرَمَهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ بِأَنْ بَعَثَ هَذَا الْغُرَابَ لِيَدْفِنَهُ تَحْتَ الْأَرْضِ عَلِمَ أَنَّهُ عَظِيمُ الدَّرَجَةِ عِنْدَ اللَّه/ فَتَلَهَّفَ عَلَى فِعْلِهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّقَرُّبِ إِلَى أَخِيهِ إِلَّا بِأَنْ يَدْفِنَهُ فِي الْأَرْضِ، فَلَا جَرَمَ قَالَ: يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ يا وَيْلَتى اعْتِرَافٌ عَلَى نَفْسِهِ بِاسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ وُقُوعِ الدَّاهِيَةِ الْعَظِيمَةِ، وَلَفْظُهَا لَفْظُ النداء، كأن الْوَيْلَ غَيْرُ حَاضِرٍ لَهُ فَنَادَاهُ لِيَحْضُرَهُ، أَيْ أَيُّهَا الْوَيْلُ احْضُرْ، فَهَذَا أَوَانُ حُضُورِكَ، وَذِكْرُ (يا) زيادة بيان كما في قوله يا وَيْلَتى أَأَلِدُ [هُودٍ: 72] واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَفْظُ النَّدَمِ وُضِعَ لِلُّزُومِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ النَّدِيمُ نَدِيمًا لِأَنَّهُ يُلَازِمُ الْمَجْلِسَ. وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» فَلَمَّا كَانَ مِنَ النَّادِمِينَ كَانَ مِنَ التَّائِبِينَ فَلِمَ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ؟ أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعْلَمِ الدَّفْنَ إِلَّا مِنَ الْغُرَابِ صَارَ مِنَ النَّادِمِينَ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى ظَهْرِهِ سَنَةً، وَالثَّانِي: أَنَّهُ صَارَ مِنَ النَّادِمِينَ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ، لِأَنَّهُ لَمْ ينتفع بقتله، وسخط عليه بسببه أبواه وَإِخْوَتُهُ، فَكَانَ نَدَمُهُ لِأَجْلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا لِكَوْنِهِ مَعْصِيَةً، وَالثَّالِثُ: أَنَّ نَدَمَهُ كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ تَرَكَهُ بِالْعَرَاءِ اسْتِخْفَافًا بِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ، فلما رأى أن الْغُرَابَ دَفَنَهُ نَدِمَ عَلَى قَسَاوَةِ قَلْبِهِ وَقَالَ: هَذَا أَخِي وَشَقِيقِي وَلَحْمُهُ مُخْتَلِطٌ بِلَحْمِي وَدَمُهُ مُخْتَلِطٌ بِدَمِي، فَإِذَا ظَهَرَتِ الشَّفَقَةُ مِنَ الْغُرَابِ عَلَى الْغُرَابِ وَلَمْ تَظْهَرْ مِنِّي عَلَى أَخِي كَنْتُ دُونَ الْغُرَابِ فِي الرَّحْمَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ فَكَانَ نَدَمُهُ لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، لَا لِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنَ اللَّه تَعَالَى فَلَا جَرَمَ لَمْ يَنْفَعْهُ ذلك الندم ثم قال تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 32] مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَيْ بِسَبَبِ فِعْلَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ عَلَيْهِ سؤالان: الأول: أن قَوْلِهِ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَيْ مِنْ أَجْلِ مَا مَرَّ مِنْ قِصَّةِ قَابِيلَ وَهَابِيلَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقَصَاصَ، وَذَاكَ مُشْكِلٌ فَإِنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ وَاقِعَةِ قَابِيلَ وَهَابِيلَ وَبَيْنَ وُجُوبِ الْقَصَاصِ عَلَى بَنِي

إِسْرَائِيلَ. الثَّانِي: أَنَّ وُجُوبَ الْقَصَاصِ حُكْمٌ ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ فَمَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِهِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ؟ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ الْحَسَنُ: هَذَا الْقَتْلُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا بَيْنَ وَلَدَيْ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالثَّانِي: أَنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الْقَتْلَ وَقَعَ بَيْنَ وَلَدَيْ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ لَيْسَ إِشَارَةً إِلَى قِصَّةِ قَابِيلَ وَهَابِيلَ، بَلْ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا مَرَّ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ الْقَتْلِ الْحَرَامِ، مِنْهَا قَوْلُهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ [المائدة: 30] ومنها قوله فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة: 31] فَقَوْلُهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ خَسَارَةُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ إشارة إلى أنه حصل في قَلْبِهِ أَنْوَاعُ النَّدَمِ وَالْحَسْرَةِ وَالْحُزْنِ مَعَ أَنَّهُ لَا دَفْعَ لَهُ الْبَتَّةَ، فَقَوْلُهُ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَيْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي أَثْنَاءِ الْقِصَّةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ شَرَّعْنَا الْقَصَاصَ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ، وَهَذَا جَوَابٌ حَسَنٌ واللَّه أَعْلَمُ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فالجواب عَنْهُ أَنَّ وُجُوبَ الْقَصَاصِ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ، إلا أن التشديد المذكور هاهنا فِي حَقِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي جميع الأديان لأنه تعالى حكم هاهنا بِأَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ جَارٍ مَجْرَى قَتْلِ جَمِيعِ النَّاسِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ منه المبالغة العظيمة فِي شَرْحِ عِقَابِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ شَرْحِ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ أَنَّ الْيَهُودَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهَذِهِ الْمُبَالَغَةِ الْعَظِيمَةِ أَقْدَمُوا عَلَى قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ قَسَاوَةِ قُلُوبِهِمْ وَنِهَايَةِ بُعْدِهِمْ عَنْ طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ الْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْقَصَصِ تَسْلِيَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْوَاقِعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ عَزَمُوا عَلَى الْفَتْكِ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِأَكَابِرِ أَصْحَابِهِ، كَانَ تَخْصِيصُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِهَذِهِ الْمُبَالَغَةِ الْعَظِيمَةِ مُنَاسِبًا لِلْكَلَامِ وَمُؤَكِّدًا لِلْمَقْصُودِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ» بِحَذْفِ الهمزة وفتح النون لا لقاء حَرَكَتِهَا عَلَيْهَا وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ» بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ لُغَةٌ، فَإِذَا خَفَّفَ كَسَرَ النُّونَ مُلْقِيًا لِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَيْهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ اللَّه تَعَالَى قَدْ تَكُونُ مُعَلَّلَةً بِالْعِلَلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ كَذَا وَكَذَا، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ كَتَبَةَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ مُعَلَّلَةٌ بِتِلْكَ الْمَعَانِي الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ وَالْمُعْتَزِلَةُ أَيْضًا قَالُوا: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ اللَّه تَعَالَى مُعَلَّلَةٌ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَمَتَى ثَبَتَ ذَلِكَ امْتَنَعَ كَوْنُهُ تَعَالَى خَالِقًا لِلْكُفْرِ وَالْقَبَائِحِ فِيهِمْ مُرِيدًا وُقُوعَهَا مِنْهُمْ، لِأَنَّ خَلْقَ الْقَبَائِحِ وَإِرَادَتَهَا تَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى مُرَاعِيًا لِلْمَصَالِحِ. وَذَلِكَ يُبْطِلُ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: الْقَوْلُ بِتَعْلِيلِ أَحْكَامِ اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعِلَّةَ إِنْ كَانَتْ قَدِيمَةً لَزِمَ قِدَمُ الْمَعْلُولِ، وَإِنْ كَانَتْ مُحْدَثَةً وَجَبَ تَعْلِيلُهَا بِعِلَّةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَثَانِيهَا: لَوْ كَانَ مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ فَوُجُودُ تِلْكَ الْعِلَّةِ وَعَدَمُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّه تَعَالَى إِنْ كَانَ عَلَى السَّوِيَّةِ امْتَنَعَ كَوْنُهُ عِلَّةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى السَّوِيَّةِ فَأَحَدُهُمَا بِهِ أَوْلَى، وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُسْتَفِيدًا تِلْكَ الْأَوْلَوِيَّةَ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَيَكُونُ نَاقِصًا لِذَاتِهِ مُسْتَكْمِلًا بِغَيْرِهِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ تَوَقُّفُ الْفِعْلِ عَلَى الدَّوَاعِي، وَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ التَّسَلْسُلِ فِي الدَّوَاعِي، بَلْ يَجِبُ انْتِهَاؤُهَا إِلَى الدَّاعِيَةِ الْأُولَى الَّتِي حَدَثَتْ فِي الْعَبْدِ لَا مِنَ الْعَبْدِ بَلْ مِنَ اللَّه، وَثَبَتَ أَنَّ عِنْدَ حُدُوثِ الدَّاعِيَةِ يَجِبُ الْفِعْلُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْكُلُّ مِنَ اللَّه، وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ تَعْلِيلِ أَفْعَالِ اللَّه تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ. فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ

المتشابهات لا من المحكمات، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْمَائِدَةِ: 17] وَذَلِكَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ اللَّه كُلُّ شَيْءٍ وَلَا يَتَوَقَّفُ خَلْقُهُ وَحُكْمُهُ عَلَى رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ نَفْسٍ وَالتَّقْدِيرُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ بِغَيْرِ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَتْلَ يَحِلُّ لِأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا الْقَصَاصُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ وَمِنْهَا الْكُفْرُ مَعَ الْحِرَابِ، وَمِنْهَا الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَمِنْهَا قَطْعُ الطَّرِيقِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْمَائِدَةِ: 33] فَجَمَعَ تَعَالَى كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ فِي قَوْلِهِ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ. الْمَسْأَلَةُ الخامسة: قوله فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً فيه إِشْكَالٌ. وَهُوَ أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ كَيْفَ يَكُونُ مُسَاوِيًا لِقَتْلِ جَمِيعِ النَّاسِ، فَإِنَّ مِنَ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ مُسَاوِيًا لِلْكُلِّ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ بِسَبَبِ هَذَا السُّؤَالِ وُجُوهًا مِنَ الْجَوَابِ وَهِيَ بِأَسْرِهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ تَشْبِيهَ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ بِالْآخَرِ لَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِمُشَابَهَتِهِمَا مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ قَوْلَنَا: هَذَا يُشْبِهُ ذَاكَ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِنَا: إِنَّهُ يُشْبِهُهُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، أَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَإِذَا/ ظَهَرَتْ صِحَّةُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ فَنَقُولُ: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الْمَقْصُودُ مِنْ تَشْبِيهِ قَتْلِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ بِقَتْلِ النُّفُوسِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَعْظِيمِ أَمْرِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ وَتَفْخِيمِ شَأْنِهِ، يَعْنِي كَمَا أَنَّ قَتْلَ كُلِّ الْخَلْقِ أَمْرٌ مُسْتَعْظَمٌ عِنْدِ كُلِّ أَحَدٍ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَتْلُ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ مُسْتَعْظَمًا مَهِيبًا فَالْمَقْصُودُ مُشَارَكَتُهُمَا فِي الِاسْتِعْظَامِ، لَا بَيَانُ مُشَارَكَتِهِمَا فِي مِقْدَارِ الِاسْتِعْظَامِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ مُسْتَعْظَمًا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً [النِّسَاءِ: 93] . الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: هُوَ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ لَوْ عَلِمُوا مِنْ إِنْسَانٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ يَقْصِدُ قَتْلَهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يَدْفَعُونَهُ دَفْعًا لَا يُمَكِّنُهُ تَحْصِيلَ مَقْصُودِهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا عَلِمُوا مِنْهُ أَنَّهُ يَقْصِدُ قَتْلَ إِنْسَانٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جِدُّهُمْ وَاجْتِهَادُهُمْ فِي مَنْعِهِ عَنْ قَتْلِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ مِثْلَ جِدِّهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى. الْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ: وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فَقَدْ رَجَّحَ دَاعِيَةَ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ عَلَى دَاعِيَةِ الطَّاعَةِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا التَّرْجِيحُ حَاصِلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ، فَكَانَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ نَازَعَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ مَطَالِبِهِ فَإِنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ لَقَتَلَهُ، وَنِيَّةُ الْمُؤْمِنِ فِي الْخَيْرَاتِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، فَكَذَلِكَ نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ فِي الشُّرُورِ شَرٌّ مِنْ عَمَلِهِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: وَمَنْ يَقْتُلْ إِنْسَانًا قَتْلًا عَمْدًا عُدْوَانًا فَكَأَنَّمَا قَتَلَ جَمِيعَ النَّاسِ، وَهَذِهِ الْأَجْوِبَةُ الثَّلَاثَةُ حَسَنَةٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً الْمُرَادُ مِنْ إِحْيَاءِ النَّفْسِ تَخْلِيصُهَا عَنِ الْمُهْلِكَاتِ: مِثْلِ الْحَرْقِ وَالْغَرَقِ وَالْجُوعِ الْمُفْرِطِ وَالْبَرْدِ وَالْحَرِّ الْمُفْرِطَيْنِ، وَالْكَلَامُ فِي أَنَّ إِحْيَاءَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ مِثْلُ إِحْيَاءِ النُّفُوسِ عَلَى قِيَاسِ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ مِثْلُ قَتْلِ النُّفُوسِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ.

[سورة المائدة (5) : آية 33]

وَالْمَعْنَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ بَعْدَ ذَلِكَ، أَيْ بَعْدَ مَجِيءِ الرُّسُلِ، وَبَعْدَ مَا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ تَحْرِيمَ الْقَتْلِ لَمُسْرِفُونَ، يَعْنِي فِي الْقَتْلِ لا يبالون بعظمته. [سورة المائدة (5) : آية 33] إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى تَغْلِيظَ الْإِثْمِ فِي قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ قَتْلِ نَفْسٍ وَلَا فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ أَنَّ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ الَّذِي يُوجِبُ الْقَتْلَ مَا هُوَ، فَإِنَّ بَعْضَ مَا يَكُونُ فَسَادًا فِي الْأَرْضِ لَا يُوجِبُ الْقَتْلَ فَقَالَ إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي أَوَّلِ الْآيَةِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُحَارَبَةَ مَعَ اللَّه تَعَالَى غَيْرُ مُمْكِنَةٍ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُحَارَبَةِ مَعَ أَوْلِيَاءِ اللَّه، وَالْمُحَارَبَةُ مَعَ الرُّسُلِ مُمْكِنَةٌ فَلَفْظَةُ الْمُحَارَبَةِ إِذَا نُسِبَتْ إِلَى اللَّه تَعَالَى كَانَ مَجَازًا، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُحَارَبَةُ مَعَ أَوْلِيَاءِ اللَّه، وَإِذَا نُسِبَتْ إِلَى الرَّسُولِ كَانَتْ حَقِيقَةً، فَلَفْظُ يُحَارِبُونَ فِي قَوْلِهِ إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْمَجَازِ وَالْحَقِيقَةِ مَعًا، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، فَهَذَا تَقْرِيرُ السُّؤَالِ. وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا نَحْمِلُ الْمُحَارَبَةَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وَالتَّكْلِيفِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ أَحْكَامَ اللَّه وَأَحْكَامَ رَسُولِهِ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا كَذَا وَكَذَا، وَالثَّانِي: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّه تَعَالَى وَأَوْلِيَاءَ رَسُولِهِ كَذَا وَكَذَا. وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: «مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَذَا الْوَعِيدُ مُخْتَصٌّ بِالْكُفَّارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ فِي فُسَّاقِ الْمُؤْمِنِينَ، أَمَّا الْأَوَّلُونَ فَقَدْ ذَكَرُوا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ عُرَيْنَةَ نَزَلُوا الْمَدِينَةَ مُظْهَرِينَ لِلْإِسْلَامِ، فَمَرِضَتْ أَبْدَانُهُمْ وَاصْفَرَّتْ أَلْوَانُهُمْ، فَبَعَثَهُمْ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ لِيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَيَصِحُّوا، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَشَرِبُوا وَصَحُّوا قَتَلُوا الرُّعَاةَ وَسَاقُوا الْإِبِلَ وَارْتَدُّوا، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَثَرِهِمْ وَأَمَرَ بِهِمْ فَقُطِعَتْ أَيْدِيهُمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ وَتُرِكُوا هُنَاكَ حَتَّى مَاتُوا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَسْخًا لِمَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ، فَصَارَتْ تِلْكَ السُّنَّةُ مَنْسُوخَةً بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه لَمَّا لَمْ يَجُزْ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ كَانَ النَّاسِخُ لِتِلْكَ السُّنَّةِ سَنَةً أُخْرَى وَنَزَلَ هَذَا الْقُرْآنُ مُطَابِقًا لِلسُّنَّةِ النَّاسِخَةِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمِ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، وَكَانَ قَدْ عَاهَدَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرَّ قَوْمٌ مِنْ كِنَانَةَ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ وَأَبُو بَرْزَةَ غَائِبٌ، فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ غَلَّظَ اللَّه عَلَيْهِمْ عِقَابَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فَهُمْ مُسْرِفُونَ فِي الْقَتْلِ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ أَتَى مِنْهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَجَزَاؤُهُمْ كَذَا وَكَذَا.

وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ/ الْفُقَهَاءِ، قَالُوا: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَطْعَ الْمُرْتَدِّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمُحَارَبَةِ وَلَا عَلَى إِظْهَارِ الْفَسَادِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْآيَةُ تَقْتَضِي ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ فِي الْمُرْتَدِّ عَلَى قَطْعِ الْيَدِ وَلَا عَلَى النَّفْيِ، وَالْآيَةُ تَقْتَضِي ذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي سُقُوطَ الْحَدِّ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [الْمَائِدَةِ: 34] وَالْمُرْتَدُّ يَسْقُطُ حَدُّهُ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ وَبَعْدَهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْمُرْتَدِّينَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الصَّلْبَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ وَهُوَ مشروع هاهنا، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ الْآيَةُ مُخْتَصَّةً بِالْمُرْتَدِّ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، سَوَاءٌ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ لَكِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُحَارِبُونَ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ يَجْتَمِعُونَ وَلَهُمْ مَنَعَةٌ مِمَّنْ أَرَادَهُمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ يَحْمِي بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَيَقْصِدُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَرْوَاحِهِمْ وَدِمَائِهِمْ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْقُوَّةَ وَالشَّوْكَةَ لِأَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ إِنَّمَا يَمْتَازُ عَنِ السَّارِقِ بِهَذَا الْقَيْدِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ إِذَا حَصَلَتْ فِي الصَّحْرَاءِ كَانُوا قَطَّاعَ الطَّرِيقِ، فَأَمَّا لَوْ حَصَلَتْ فِي نَفْسِ الْبَلْدَةِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِنَّهُ يَكُونُ أَيْضًا سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَيُقَامُ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدُّ. قَالَ: وَأَرَاهُمْ فِي الْمِصْرِ إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَعْظَمَ ذَنْبًا فَلَا أَقَلَّ مِنَ الْمُسَاوَاةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّه: إِذَا حَصَلَ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه النَّصُّ وَالْقِيَاسُ، أَمَّا النَّصُّ فَعُمُومُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْبَلَدِ كَانَ لَا مَحَالَةَ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ هَذَا النَّصِّ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَنَّ هَذَا حَدٌّ فَلَا يَخْتَلِفُ فِي الْمِصْرِ وَغَيْرِ الْمِصْرِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ الدَّاخِلَ فِي الْمِصْرِ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ فِي الْغَالِبِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ فَصَارَ فِي حُكْمِ السَّارِقِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ لِلْعُلَمَاءِ فِي لَفْظِ أَوْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لِلتَّخْيِيرِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَقَوْلُ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَمُجَاهِدٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِمَامَ إِنْ شَاءَ قَتَّلَ وَإِنْ شَاءَ صَلَّبَ، وَإِنْ شَاءَ قَطَّعَ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ، وَإِنْ شَاءَ نَفَى، أَيَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ شَاءَ فَعَلَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ في رواية عطاء: كلمة أَوْ هاهنا لَيْسَتْ لِلتَّخْيِيرِ، بَلْ هِيَ لِبَيَانِ أَنَّ الْأَحْكَامَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجِنَايَاتِ، فَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْقَتْلِ قُتِّلَ، وَمَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قُتِّلَ/ وَصُلِّبَ، وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ قُطِّعَ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ. وَمَنْ أَخَافَ السُّبُلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ نُفِيَ مِنَ الْأَرْضِ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ التَّخْيِيرَ لَوَجَبَ أَنْ يُمَكَّنَ الْإِمَامُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى النَّفْيِ، وَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ التَّخْيِيرَ، وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْمُحَارِبَ إِذَا لَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ فَقَدْ هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يَفْعَلْ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْقَتْلَ كَالْعَزْمِ عَلَى سَائِرِ الْمَعَاصِي، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى التَّخْيِيرِ، فَيَجِبُ أَنْ يُضْمِرَ فِي كُلِّ فِعْلٍ عَلَى حِدَةٍ فِعْلًا عَلَى حِدَةٍ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: أَنْ يُقَتَّلُوا إِنْ قَتَلُوا، أَوْ يُصَلَّبُوا إِنْ جَمَعُوا بَيْنَ أَخْذِ الْمَالِ وَالْقَتْلِ، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ من

خِلَافٍ إِنِ اقْتَصَرُوا عَلَى أَخْذِ الْمَالِ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ إِنْ أَخَافُوا السُّبُلَ، وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ الْعُدْوَانَ يُوجِبُ الْقَتْلَ، فَغَلَّظَ ذَلِكَ فِي قَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَصَارَ الْقَتْلُ حَتْمًا لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَأَخْذُ الْمَالِ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَطْعُ فِي غَيْرِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ، فَغَلَّظَ ذَلِكَ فِي قَاطِعِ الطَّرِيقِ بِقَطْعِ الطَّرَفَيْنِ، وَإِنْ جَمَعُوا بَيْنَ الْقَتْلِ وَبَيْنَ أَخْذِ الْمَالِ جَمَعَ فِي حَقِّهِمْ بَيْنَ الْقَتْلِ وَبَيْنَ الصَّلْبِ، لِأَنَّ بَقَاءَهُ مَصْلُوبًا فِي مَمَرِّ الطَّرِيقِ يَكُونُ سَبَبًا لِاشْتِهَارِ إِيقَاعِ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ زَاجِرًا لِغَيْرِهِ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَمَّا إِنِ اقْتَصَرَ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِخَافَةِ اقْتَصَرَ الشَّرْعُ مِنْهُ عَلَى عُقُوبَةٍ خَفِيفَةٍ وَهِيَ النَّفْيُ مِنَ الْأَرْضِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: إِذَا قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. أَنْ يُقَتِّلَهُمْ فَقَطْ، أَوْ يُقَتِّلَهُمْ وَيُقَطِّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ قَبْلَ الْقَتْلِ، أَوْ يُقَتِّلَهُمْ وَيُصَلِّبَهُمْ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه: لَا بُدَّ مِنَ الصَّلْبِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّه. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى الصَّلْبِ كَمَا نَصَّ عَلَى الْقَتْلِ فَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُ الصَّلْبِ كَمَا لَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُ الْقَتْلِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الصَّلْبِ، فَقِيلَ: يُصْلَبُ حَيًّا ثُمَّ يُزَجُّ بَطْنُهُ بِرُمْحٍ حَتَّى يَمُوتَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: يُقْتَلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصْلَبُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ النَّفْيِ مِنَ الْأَرْضِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: مَعْنَاهُ إِنْ وَجَدَ هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ قَتَلَهُمْ وَصَلَبَهُمْ وَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُمْ طَلَبَهُمْ أَبَدًا حَتَّى إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِمْ فَعَلَ بِهِمْ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ رَحِمَهُمَا اللَّه. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: النَّفْيُ مِنَ الْأَرْضِ هُوَ الْحَبْسُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ، قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ النَّفْيَ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ مَعَ بَقَاءِ الْحَيَاةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِخْرَاجُهُ مِنْ تِلْكَ الْبَلْدَةِ إِلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذَا النَّفْيِ دَفْعُ شَرِّهِ/ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْ أَخْرَجْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ لَاسْتَضَرَّ بِهِ مَنْ كَانَ هُنَاكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِخْرَاجَهُ إِلَى دَارِ الْكُفْرِ وَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ إِخْرَاجَ الْمُسْلِمِ إِلَى دَارِ الْكُفْرِ تَعْرِيضٌ لَهُ بِالرِّدَّةِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَمَّا بَطَلَ الْكُلُّ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ النَّفْيِ نَفْيَهُ عَنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ إِلَّا مَكَانَ الْحَبْسِ. قَالُوا: وَالْمَحْبُوسُ قَدْ يُسَمَّى مَنْفِيًّا مِنَ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِشَيْءٍ مِنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، وَلَا يَرَى أَحَدًا مِنْ أَحْبَابِهِ، فَصَارَ مَنْفِيًّا عَنْ جَمِيعِ اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ وَالطَّيِّبَاتِ فَكَانَ كَالْمَنْفِيِّ فِي الْحَقِيقَةِ. وَلَمَّا حَبَسُوا صَالِحَ بْنَ عَبْدِ الْقُدُّوسِ عَلَى تُهْمَةِ الزَّنْدَقَةِ فِي حَبْسٍ ضَيِّقٍ وَطَالَ لُبْثُهُ هناك ذَكَرَ شِعْرًا، مِنْهُ قَوْلُهُ: خَرَجْنَا عَنِ الدُّنْيَا وعن وصل أهلها ... فلسنا من الأحياء وَلَسْنَا مِنَ الْمَوْتَى إِذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ ... عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: هَذَا النَّفْيُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ مَحْمُولٌ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ إِذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ فَالْإِمَامُ إِنْ أَخَذَهُمْ أَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحَدَّ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُمْ طَلَبَهُمْ أَبَدًا فَكَوْنُهُمْ خَائِفِينَ مِنَ الْإِمَامِ هَارِبِينَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ النَّفْيِ. الثَّانِي: الْقَوْمُ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ الْوَاقِعَةَ وَيُكْثِرُونَ جَمْعَ هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ وَيُخِيفُونَ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنَّهُمْ مَا قَتَلُوا وَمَا أَخَذُوا الْمَالَ فَالْإِمَامُ إِنْ أَخَذَهُمْ أَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحَدَّ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُمْ طلبهم أبدا. فيقول الشافعي هاهنا: إِنَّ الْإِمَامَ يَأْخُذُهُمْ وَيُعَزِّرُهُمْ وَيَحْبِسُهُمْ، فَالْمُرَادُ بِنَفْيِهِمْ عن الأرض

[سورة المائدة (5) : آية 34]

هُوَ هَذَا الْحَبْسُ لَا غَيْرَ، واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا أَيْ فَضِيحَةٌ وَهَوَانٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى الْقَطْعِ بِوَعِيدِ الْفُسَّاقِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، وَدَالَّةٌ عَلَى أَنَّ قَتْلَهُمْ قَدْ أَحْبَطَ ثَوَابَهُمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ مُسْتَحِقِّينَ لِلذَّمِّ، وَكَوْنُهُمْ مُسْتَحِقِّينَ لِلذَّمِّ فِي الْحَالِ يَمْنَعُ مِنْ بَقَاءِ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِلْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ لِمَا أَنَّ ذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ثَبَتَ الْقَوْلُ بِالْقَطْعِ بِوَعِيدِ الْفُسَّاقِ، وَثَبَتَ الْقَوْلُ بِالْإِحْبَاطِ. وَالْجَوَابُ: لَا نِزَاعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فِي أَنَّ هَذَا الْحَدَّ إِنَّمَا يَكُونُ وَاقِعًا عَلَى جِهَةِ الْخِزْيِ وَالِاسْتِخْفَافِ/ إِذَا لَمْ تَحْصُلِ التَّوْبَةُ، فَأَمَّا عِنْدَ حُصُولِ التَّوْبَةِ فَإِنَّ هَذَا الْحَدَّ لَا يَكُونُ عَلَى جِهَةِ الْخِزْيِ وَالِاسْتِخْفَافِ، بَلْ يَكُونُ عَلَى جِهَةِ الِامْتِحَانِ، فَإِذَا جَازَ لَكُمْ أَنْ تَشْتَرِطُوا هَذَا الْحُكْمَ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ لِدَلِيلٍ دَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ، فَنَحْنُ أَيْضًا نَشْرُطُ هَذَا الْحُكْمَ بِشَرْطِ عَدَمِ الْعَفْوِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى الْكَلَامُ إِلَّا فِي أَنَّهُ هَلْ دَلَّ هَذَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْفُو عَنِ الْفُسَّاقِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: 81] ثم قال تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 34] إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: لَمَّا شَرَحَ مَا يَجِبُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ مِنَ الْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ استثنى عنه ما إِذَا تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ. وَضَبْطُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ بِحُقُوقِ اللَّه تَعَالَى فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بَعْدَ هَذِهِ التَّوْبَةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ، فَهَؤُلَاءِ الْمُحَارِبُونَ إِنْ قَتَلُوا إِنْسَانًا ثُمَّ تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ عَلَى حَقِّهِ فِي الْقَصَاصِ وَالْعَفْوِ، إِلَّا أَنَّهُ يَزُولُ حَتْمُ الْقَتْلِ بِسَبَبِ هَذِهِ التَّوْبَةِ، وَإِنْ أَخَذَ مَالًا وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَطْعُ الْيَدِ أَوِ الرِّجْلِ، وَأَمَّا إِذَا تَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ فَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَنْفَعُهُ، وَتُقَامُ الْحُدُودُ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَسْقُطَ كل حد للَّه بِالتَّوْبَةِ، لِأَنَّ مَاعِزًا لَمَّا رُجِمَ أَظْهَرَ تَوْبَتَهُ، فَلَمَّا تَمَّمُوا رَجْمَهُ ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ» . أَوْ لَفْظٌ هَذَا مَعْنَاهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ عَنِ الْمُكَلَّفِ كُلَّ مَا يتعلق بحق اللَّه تعالى. [سورة المائدة (5) : آية 35] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) [في قوله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي النَّظْمِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ رَسُولَهُ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْيَهُودِ هَمُّوا أَنْ يَبْسُطُوا أَيْدِيَهُمْ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَصْحَابِهِ بِالْغَدْرِ وَالْمَكْرِ وَمَنَعَهُمُ اللَّه تَعَالَى عَنْ مُرَادِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ شَرَحَ لِلرَّسُولِ شِدَّةَ عِتِيِّهِمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَكَمَالَ إِصْرَارِهِمْ عَلَى إِيذَائِهِمْ، وَامْتَدَّ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، فَعِنْدَ هَذَا رَجَعَ الْكَلَامُ إِلَى الْمَقْصُودِ الأول وقال: يَا أَيُّهَا/ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ كَأَنَّهُ قِيلَ: قَدْ عَرَفْتُمْ كَمَالَ جَسَارَةِ الْيَهُودِ عَلَى الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ وَبُعْدِهِمْ عَنِ الطَّاعَاتِ الَّتِي هِيَ الْوَسَائِلُ لِلْعَبْدِ

إِلَى الرَّبِّ، فَكُونُوا يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، وَكُونُوا مُتَّقِينَ عَنْ مَعَاصِي اللَّه، مُتَوَسِّلِينَ إِلَى اللَّه بِطَاعَاتِ اللَّه. الْوَجْهُ الثَّانِي فِي النَّظْمِ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَةِ: 18] أَيْ نَحْنُ أَبْنَاءُ أَنْبِيَاءِ اللَّه، فَكَانَ افْتِخَارُهُمْ بِأَعْمَالِ آبَائِهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَكُنْ مُفَاخَرَتُكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ لَا بِشَرَفِ آبَائِكُمْ وَأَسْلَافِكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّه وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَجَامِعَ التَّكْلِيفِ مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: أَحَدُهُمَا: تَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ اتَّقُوا اللَّهَ وَثَانِيهِمَا: فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَلَمَّا كَانَ تَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ مُقَدَّمًا عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ بِالذَّاتِ لَا جَرَمَ قَدَّمَهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ التَّرْكَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْفِعْلِ لِأَنَّ التَّرْكَ عِبَارَةٌ عَنْ بَقَاءِ الشَّيْءِ عَلَى عَدَمِهِ الْأَصْلِيِّ، وَالْفِعْلُ هُوَ الْإِيقَاعُ وَالتَّحْصِيلُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَدَمَ جَمِيعِ الْمُحْدَثَاتِ سَابِقٌ عَلَى وُجُودِهَا، فَكَانَ التَّرْكُ قَبْلَ الْفِعْلِ لَا مَحَالَةَ. فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ جُعِلَتِ الْوَسِيلَةُ مَخْصُوصَةً بِالْفِعْلِ مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ تَرْكَ الْمَعَاصِي قَدْ يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى؟ قُلْنَا: التَّرْكُ إِبْقَاءُ الشَّيْءِ عَلَى عَدَمِهِ الْأَصْلِيِّ، وَذَلِكَ الْعَدَمُ الْمُسْتَمِرُّ لَا يُمْكِنُ التَّوَسُّلُ بِهِ إِلَى شَيْءٍ الْبَتَّةَ فَثَبَتَ أَنَّ التَّرْكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَسِيلَةً، بَلْ مَنْ دَعَاهُ دَاعِي الشَّهْوَةِ إِلَى فِعْلٍ قَبِيحٍ، ثُمَّ تَرَكَهُ لِطَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى، فَهَهُنَا يَحْصُلُ التَّوَسُّلُ بِذَلِكَ الِامْتِنَاعِ إِلَى اللَّه تَعَالَى، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الِامْتِنَاعَ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: تَرْكُ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِ ضِدِّهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ التَّرْكَ وَالْفِعْلَ أَمْرَانِ مُعْتَبَرَانِ فِي ظَاهِرِ الْأَفْعَالِ، فَالَّذِي يَجِبُ تَرْكُهُ هُوَ الْمُحَرَّمَاتُ، وَالَّذِي يَجِبُ فِعْلُهُ هُوَ الْوَاجِبَاتُ، وَمُعْتَبَرَانِ أَيْضًا فِي الْأَخْلَاقِ، فَالَّذِي يَجِبُ حُصُولُهُ هُوَ الْأَخْلَاقُ الْفَاضِلَةُ، وَالَّذِي يَجِبُ تَرْكُهُ هُوَ الْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ، وَمُعْتَبَرَانِ أَيْضًا فِي الْأَفْكَارِ فَالَّذِي يَجِبُ فِعْلُهُ هُوَ التَّفَكُّرُ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، وَالَّذِي يَجِبُ تَرْكُهُ هُوَ الِالْتِفَاتُ إِلَى الشُّبُهَاتِ، ومعتبران أيضا في مقام التجلي، فالفعل هن الِاسْتِغْرَاقُ فِي اللَّه تَعَالَى، وَالتَّرْكُ هُوَ الِالْتِفَاتُ إِلَى غَيْرِ اللَّه تَعَالَى: وَأَهْلُ الرِّيَاضَةِ يُسَمُّونَ الْفِعْلَ وَالتَّرْكَ بِالتَّحْلِيَةِ وَالتَّخْلِيَةِ، وَبِالْمَحْوِ وَالصَّحْوِ، وَبِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَبِالْفَنَاءِ وَالْبَقَاءِ، وَفِي جَمِيعِ الْمَقَامَاتِ النَّفْيُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُنَا «لَا إله إلا اللَّه» النفي مقدم فيه إلى الْإِثْبَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْوَسِيلَةُ فَعِيلَةٌ، مِنْ وَسَلَ إِلَيْهِ إِذَا تَقَرَّبَ إِلَيْهِ. قَالَ لَبِيدٌ الشَّاعِرُ: أَرَى النَّاسَ لَا يَدْرُونَ مَا قَدْرُ أَمْرِهِمْ ... أَلَا كُلُّ ذِي لُبٍّ إِلَى اللَّه وَاسِلُ أَيْ مُتَوَسِّلٌ، فَالْوَسِيلَةُ هِيَ الَّتِي يُتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى الْمَقْصُودِ. قَالَتِ التَّعْلِيمِيَّةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى اللَّه تَعَالَى إِلَّا بِمُعَلِّمٍ يُعَلِّمُنَا مَعْرِفَتَهُ، وَمُرْشِدٍ يُرْشِدُنَا إِلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِطَلَبِ الْوَسِيلَةِ إِلَيْهِ مُطْلَقًا، وَالْإِيمَانُ بِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَطَالِبِ وَأَشْرَفِ الْمَقَاصِدِ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْوَسِيلَةِ. وَجَوَابُنَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ بِابْتِغَاءِ الْوَسِيلَةِ إِلَيْهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِهِ، وَالْإِيمَانُ بِهِ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَعْرِفَةِ بِهِ فَكَانَ هَذَا أَمْرًا بِابْتِغَاءِ الْوَسِيلَةِ إِلَيْهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَبَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَمْرًا بِطَلَبِ الْوَسِيلَةِ إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَتِهِ، فَكَانَ الْمُرَادُ طَلَبَ الْوَسِيلَةِ إِلَيْهِ فِي تَحْصِيلِ مَرْضَاتِهِ وَذَلِكَ بِالْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ.

[سورة المائدة (5) : الآيات 36 إلى 37]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِتَرْكِ مَا لَا يَنْبَغِي بِقَوْلِهِ اتَّقُوا اللَّهَ وَبِفِعْلِ مَا يَنْبَغِي، بِقَوْلِهِ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاقٌّ ثَقِيلٌ عَلَى النَّفْسِ وَالشَّهْوَةِ، فَإِنَّ النَّفْسَ لَا تَدْعُو إِلَّا إِلَى الدُّنْيَا وَاللَّذَّاتِ الْمَحْسُوسَةِ، وَالْعَقْلَ لَا يَدْعُو إِلَّا إِلَى خدمة اللَّه وطاعته والاعتراض عَنِ الْمَحْسُوسَاتِ، وَكَانَ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ تَضَادٌّ وَتَنَافٍ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ ضَرَبُوا الْمَثَلَ فِي مَظَانَّ تَطْلُبُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ بِالضَّرَّتَيْنِ، وَبِالضِّدَّيْنِ، وَبِالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَبِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الِانْقِيَادُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ مِنْ أَشَقِّ الْأَشْيَاءِ عَلَى النَّفْسِ وَأَشَدِّهَا ثِقَلًا عَلَى الطَّبْعِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَرْدَفَ ذَلِكَ التَّكْلِيفَ بِقَوْلِهِ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَهَذِهِ الْآيَةُ آيَةٌ شَرِيفَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَسْرَارٍ رُوحَانِيَّةٍ، ونحن نشير هاهنا إِلَى وَاحِدٍ مِنْهَا، وَهُوَ أَنَّ مَنْ يَعْبُدُ اللَّه تَعَالَى فَرِيقَانِ، مِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّه لَا لِغَرَضٍ سِوَى اللَّه، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُهُ لِغَرَضٍ آخَرَ. وَالْمَقَامُ الْأَوَّلُ: هُوَ الْمَقَامُ الشَّرِيفُ الْعَالِي، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ أَيْ فِي سَبِيلِ عُبُودِيَّتِهِ وَطَرِيقِ الْإِخْلَاصِ فِي مَعْرِفَتِهِ وَخِدْمَتِهِ. وَالْمَقَامُ الثَّانِي: دُونَ الْأَوَّلِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَالْفَلَاحُ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَلَاصِ عَنِ الْمَكْرُوهِ وَالْفَوْزِ بِالْمَحْبُوبِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرْشَدَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مَعَاقِدِ جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ، وَمَفَاتِحِ كُلِّ السَّعَادَاتِ أَتْبَعَهُ بِشَرْحِ حَالِ الْكُفَّارِ، وَبِوَصْفِ عَاقِبَةِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَيَاةً وَلَا سَعَادَةً إِلَّا فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْأُمُورِ الفظيعة نوعين: [سورة المائدة (5) : الآيات 36 الى 37] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37) أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ مَعَ كَلِمَةِ لَوْ خَبَرُ إِنَّ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ وَحَّدَ الرَّاجِعَ فِي قَوْلِهِ لِيَفْتَدُوا بِهِ مَعَ أَنَّ الْمَذْكُورَ السَّابِقَ بَيَانُ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلِهِ؟ قُلْنَا: التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قِيلَ: لِيَفْتَدُوا بِذَلِكَ الْمَذْكُورِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الْخَبَرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ التَّمْثِيلُ لِلُزُومِ الْعَذَابِ لَهُمْ، فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُقَالُ لِلْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ لَهُ قَدْ سُئِلْتَ أَيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ فَأَبَيْتَ» .

[سورة المائدة (5) : آية 38]

النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. قَوْلُهُ: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِرَادَتُهُمُ الْخُرُوجَ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَصَدُوا ذَلِكَ وَطَلَبُوا الْمَخْرَجَ مِنْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [السَّجْدَةِ: 2] . قِيلَ: إِذَا رَفَعَهُمْ لَهَبُ النَّارِ إِلَى فَوْقُ فَهُنَاكَ يَتَمَنَّوْنَ الْخُرُوجَ. وَقِيلَ: يَكَادُونَ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ لِقُوَّةِ النَّارِ وَدَفْعِهَا لِلْمُعَذَّبِينَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا ذَلِكَ وَأَرَادُوهُ بِقُلُوبِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها [الْمُؤْمِنُونَ: 107] وَيُؤَكِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ بِضَمِّ الْيَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه» عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ. قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ تَهْدِيدَاتِ الْكُفَّارِ، وَأَنْوَاعِ مَا خَوَّفَهُمْ بِهِ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُخْتَصٌّ بِالْكُفَّارِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْكُفَّارِ بِهِ مَعْنًى واللَّه أَعْلَمُ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ قَوْلُهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ وَهَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ، فَكَانَ الْمَعْنَى وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ لَا لِغَيْرِهِمْ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] أي لكم لا لغيركم، فكذا هاهنا. [سورة المائدة (5) : آية 38] وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فِي اتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَطْعَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ عِنْدَ أَخْذِ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الْمُحَارَبَةِ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَخْذَ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ السَّرِقَةِ يُوجِبُ قَطْعَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ أَيْضًا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعْظِيمَ أَمْرِ الْقَتْلِ حَيْثُ قَالَ: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [الْمَائِدَةِ: 32] ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا الْجِنَايَاتِ الَّتِي تُبِيحُ الْقَتْلَ وَالْإِيلَامَ، فَذَكَرَ أَوَّلًا: قَطْعَ الطَّرِيقِ، وَثَانِيًا: أَمْرَ السَّرِقَةِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي الرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ: أَنَّ قَوْلَهُ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ مَرْفُوعَانِ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمُ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، أَيْ حُكْمُهُمَا كَذَا، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما [النور: 2] وفي قوله وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما [النِّسَاءِ: 16] وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ بِالنَّصْبِ، وَمِثْلُهُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي وَالِاخْتِيَارُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ النَّصْبُ فِي هَذَا. قَالَ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: زَيْدًا فَاضْرِبْهُ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِكَ: زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ، وَأَيْضًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاقْطَعُوا خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ، لِأَنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْفَاءُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ: أَنَّ الرَّفْعَ أَوْلَى مِنَ النَّصْبِ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ يَقُومَانِ مَقَامَ «الَّذِي» فَصَارَ التَّقْدِيرُ: الَّذِي سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ حَسُنَ إِدْخَالُ حَرْفِ الْفَاءِ عَلَى الْخَبَرِ لِأَنَّهُ صَارَ جَزَاءً، وَأَيْضًا النَّصْبُ إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا أَرَدْتَ سَارِقًا بِعَيْنِهِ أَوْ سَارِقَةً بِعَيْنِهَا، فَأَمَّا إِذَا أَرَدْتَ تَوْجِيهَ هَذَا الْجَزَاءِ عَلَى كُلِّ مَنْ أَتَى بهذا الفعل فالرفع أولى، وهذا القول هو الذي اخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى صَرَّحَ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ جَزاءً بِما كَسَبا وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ شُرِعَ جَزَاءً عَلَى فِعْلِ السَّرِقَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَعُمَّ الْجَزَاءُ لِعُمُومِ الشَّرْطِ، وَالثَّانِي: أَنَّ السَّرِقَةَ جِنَايَةٌ، وَالْقَطْعَ عُقُوبَةٌ، وَرَبْطُ الْعُقُوبَةِ بِالْجِنَايَةِ مُنَاسِبٌ، وَذِكْرُ الْحُكْمِ عَقِيبَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ عِلَّةٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّا لَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَتِ الْآيَةُ مُفِيدَةً، وَلَوْ حَمَلْنَاهَا عَلَى سَارِقٍ مُعَيَّنٍ صَارَتْ مُجْمَلَةً غَيْرَ مُفِيدَةٍ، فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى. وَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ طَعَنَ فِي الْقُرْآنِ الْمَنْقُولِ بِالتَّوَاتُرِ عَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَنْ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا، فَإِنْ قَالَ لَا أَقُولُ: إِنَّ الْقِرَاءَةَ بِالرَّفْعِ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَلَكِنِّي أَقُولُ: الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ أَوْلَى، فَنَقُولُ: وَهَذَا أَيْضًا رَدِيءٌ لِأَنَّ تَرْجِيحَ الْقِرَاءَةِ الَّتِي لَمْ يَقْرَأْ بِهَا إِلَّا عِيسَى بْنُ عُمَرَ عَلَى قِرَاءَةِ الرَّسُولِ وَجَمِيعِ الْأُمَّةِ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَمْرٌ مُنْكَرٌ وَكَلَامٌ مَرْدُودٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالنَّصْبِ لَوْ كَانَتْ أَوْلَى لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرَّاءِ مَنْ قَرَأَ (وَاللَّذَيْنِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ) بِالنَّصْبِ، وَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ فِي الْقُرَّاءِ أَحَدٌ قَرَأَ كَذَلِكَ عَلِمْنَا سُقُوطَ هَذَا الْقَوْلِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّا إِذَا قُلْنَا وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ هُوَ الَّذِي نُضْمِرُهُ، وَهُوَ قَوْلُنَا فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، فَحِينَئِذٍ قَدْ تَمَّتْ هذه الجملة بمبتداها وَخَبَرِهَا، فَبِأَيِّ شَيْءٍ تَتَعَلَّقُ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما فَإِنْ قَالَ: الْفَاءُ تَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ يَعْنِي أَنَّهُ إِذَا أَتَى بِالسَّرِقَةِ فَاقْطَعُوا يَدَيْهِ فَنَقُولُ: إِذَا احْتَجْتَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ إِلَى أَنْ تَقُولَ: السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ تَقْدِيرُهُ: مَنْ سَرَقَ، فَاذْكُرْ هَذَا أَوَّلًا حَتَّى لَا تَحْتَاجَ إِلَى الْإِضْمَارِ الَّذِي ذَكَرْتَهُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّا إِذَا اخْتَرْنَا الْقِرَاءَةَ بِالنَّصْبِ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ السَّرِقَةِ عِلَّةً لِوُجُوبِ الْقَطْعِ، وَإِذَا اخْتَرْنَا الْقِرَاءَةَ بِالرَّفْعِ أَفَادَتِ الْآيَةُ هَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ هَذَا الْمَعْنَى مُتَأَكِّدٌ بِقَوْلِهِ جَزاءً بِما كَسَبا فَثَبَتَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالرَّفْعِ أَوْلَى. الْخَامِسُ: أَنَّ سِيبَوَيْهِ قَالَ: هُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ، وَالَّذِي هُمْ بِشَأْنِهِ أَعْنَى، فَالْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ تَقْتَضِي تَقْدِيمَ/ ذِكْرِ كَوْنِهِ سَارِقًا عَلَى ذِكْرِ وُجُوبِ الْقَطْعِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَكْبَرُ الْعِنَايَةِ مَصْرُوفًا إِلَى شَرْحِ مَا يَتَعَلَّقُ بِحَالِ السَّارِقِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سَارِقٌ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْعِنَايَةُ بِبَيَانِ الْقَطْعِ أَتَمَّ مِنَ الْعِنَايَةِ بِكَوْنِهِ سَارِقًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ تَقْبِيحِ السَّرِقَةِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الزَّجْرِ عَنْهَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالرَّفْعِ هِيَ الْمُتَعَيَّنَةُ قَطْعًا واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْأُصُولِيِّينَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُجْمَلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ عَلَى السَّرِقَةِ، وَمُطْلَقُ السَّرِقَةِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَطْعِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ هَذِهِ السَّرِقَةُ سَرِقَةً لِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الْمَالِ، وَذَلِكَ الْقَدْرُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ فَكَانَتْ مُجْمَلَةً، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ قَطْعَ الْأَيْدِي، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْوَاجِبَ قَطْعُ الْأَيْدِي الْأَيْمَانِ وَالشَّمَائِلِ، وَبِالْإِجْمَاعِ لَا يَجِبُ قَطْعُهُمَا مَعًا فَكَانَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْيَدَ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ الْأَصَابِعَ فَقَطْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَمَسُّ فُلَانًا بِيَدِهِ فَمَسَّهُ بِأَصَابِعِهِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ، فَالْيَدُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْأَصَابِعِ وَحْدَهَا، وَيَقَعُ عَلَى الْأَصَابِعِ مَعَ الْكَفِّ، وَيَقَعُ عَلَى الْأَصَابِعِ وَالْكَفِّ وَالسَّاعِدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَيَقَعُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ، وَإِذَا كَانَ لَفْظُ الْيَدِ مُحْتَمِلًا لِكُلِّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَالتَّعْيِينُ غَيْرَ مَذْكُورٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَكَانَتْ مُجْمَلَةً، وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ فَاقْطَعُوا خِطَابٌ مَعَ قَوْمٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّكْلِيفُ وَاقِعًا عَلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ وَاقِعًا عَلَى طَائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ وَاقِعًا عَلَى شخص معين

مِنْهُمْ، وَهُوَ إِمَامُ الزَّمَانِ كَمَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ التَّعْيِينُ مَذْكُورًا فِي الْآيَةِ كَانَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُجْمَلَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، هَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الْمَذْهَبِ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: الْآيَةُ لَيْسَتْ مُجْمَلَةً الْبَتَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ قائما مَقَامَ «الَّذِي» وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَاقْطَعُوا لِلْجَزَاءِ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ: الَّذِي سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ تَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: جَزاءً بِما كَسَبا وَذَلِكَ الْكَسْبُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ السَّرِقَةُ، فَصَارَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ وَمُتَعَلَّقَهُ هُوَ مَاهِيَّةُ السَّرِقَةِ وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَعُمَّ الْجَزَاءُ فِيمَا حَصَلَ هَذَا الشَّرْطُ، اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا قَامَ دَلِيلٌ مُنْفَصِلٌ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذَا الْعَامِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ «الْأَيْدِي» عَامَّةٌ فَنَقُولُ: مُقْتَضَاهُ قَطْعُ الْأَيْدِي لَكِنَّهُ لَمَّا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَطْعُهُمَا مَعًا، وَلَا الِابْتِدَاءُ بِالْيَدِ الْيُسْرَى أَخْرَجْنَاهُ عَنِ الْعُمُومِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَفْظُ الْيَدِ دَائِرٌ بَيْنَ أَشْيَاءَ فَنَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ، بَلِ الْيَدُ اسْمٌ لِهَذَا الْعُضْوِ إِلَى الْمَنْكِبِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ [المائدة: 6] فَلَوْلَا دُخُولُ الْعَضُدَيْنِ فِي هَذَا الِاسْمِ وَإِلَّا لَمَا احْتِيجَ إِلَى التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ إِلَى الْمَرافِقِ فَظَاهِرُ الْآيَةِ يُوجِبُ قَطْعَ الْيَدَيْنِ مِنَ الْمَنْكِبَيْنِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْخَوَارِجِ، إِلَّا أَنَّا تَرَكْنَا ذَلِكَ لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: رَابِعًا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ. قُلْنَا: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِيمَا صَارَ مَخْصُوصًا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ فَيَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي الْبَاقِي. وَالْحَاصِلُ أَنَّا نَقُولُ: الْآيَةُ عَامَّةٌ، فَصَارَتْ مَخْصُوصَةً بِدَلَائِلَ مُنْفَصِلَةٍ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَتَبْقَى حُجَّةً فِيمَا عَدَاهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مُجْمَلَةٌ فَلَا تُفِيدُ فَائِدَةً أَصْلًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْقَطْعُ لَا يَجِبُ إِلَّا عِنْدَ شَرْطَيْنِ: قَدْرُ النِّصَابِ، وَأَنْ تَكُونَ السَّرِقَةُ مِنَ الْحِرْزِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الْقَدْرُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، فَالْقَطْعُ وَاجِبٌ فِي سَرِقَةِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَالْحِرْزُ أَيْضًا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَقَوْلُ الْخَوَارِجِ، وَتَمَسَّكُوا فِي الْمَسْأَلَةِ بِعُمُومِ الْآيَةِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ يَتَنَاوَلُ السَّرِقَةَ سَوَاءً كَانَتْ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً وَسَوَاءً سُرِقَتْ مِنَ الْحِرْزِ أَوْ مِنْ غَيْرِ الْحِرْزِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَوْ ذَهَبْنَا إِلَى التَّخْصِيصِ لَكَانَ ذَلِكَ إِمَّا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، أَوْ بِالْقِيَاسِ وَتَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَحُجَّةُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى الْقَوْلِ بِالتَّخْصِيصِ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ لَفْظَ السَّرِقَةِ لَفْظَةٌ عَرَبِيَّةٌ، وَنَحْنُ بِالضَّرُورَةِ نَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَقُولُونَ لِمَنْ أَخَذَ حَبَّةً مِنْ حِنْطَةِ الْغَيْرِ، أَوْ تِبْنَةً وَاحِدَةً، أَوْ كِسْرَةً صَغِيرَةً مِنْ خُبْزٍ: إِنَّهُ سَرَقَ مَالَهُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ كَيْفَمَا كَانَ لَا يُسَمَّى سَرِقَةً، وَأَيْضًا السَّرِقَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ مُسَارَقَةِ عَيْنِ الْمَالِكِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى مُسَارَقَةِ عَيْنِ الْمَالِكِ لَوْ كَانَ الْمَسْرُوقُ أَمْرًا يَكُونُ مُتَعَلِّقَ الرَّغْبَةِ فِي مَحَلِّ الشُّحِّ وَالضِّنَّةِ حَتَّى يَرْغَبَ السَّارِقُ فِي أَخْذِهِ وَيَتَضَايَقَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ فِي دَفْعِهِ إِلَى الْغَيْرِ وَلِهَذَا الطَّرِيقِ اعْتَبَرْنَا فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ أَخْذَ الْمَالِ مِنْ حِرْزِ الْمِثْلِ، لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ مَوْضُوعًا فِي الْحِرْزِ لَا يَحْتَاجُ فِي أَخْذِهِ إِلَى مُسَارَقَةِ الْأَعْيُنِ فَلَا يُسَمَّى أَخْذُهُ سَرِقَةً. وَقَالَ دَاوُدُ: نَحْنُ لَا نُوجِبُ الْقَطْعَ فِي سَرِقَةِ الحبة الواحدة،

وَلَا فِي سَرِقَةِ التِّبْنَةِ الْوَاحِدَةِ، بَلْ فِي أَقَلِّ شَيْءٍ يَجْرِي فِيهِ الشُّحُّ وَالضِّنَّةُ، وَذَلِكَ لأن مَقَادِيرُ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ، فَرُبَّمَا اسْتَحْقَرَ الْمَلِكُ الْكَبِيرُ آلَافًا مُؤَلَّفَةً، وَرُبَّمَا اسْتَعْظَمَ الْفَقِيرُ طَسُّوجًا، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ فَسَّرَ بِالْحَبَّةِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ عَظِيمًا عِنْدَهُ لِغَايَةِ فَقْرِهِ وَشِدَّةِ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَتْ مَقَادِيرُ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ غَيْرَ مَضْبُوطَةٍ وَجَبَ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى أَقَلِّ مَا يُسَمَّى مَالًا، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَسْتَبْعِدَ وَيَقُولَ: كَيْفَ يَجُوزُ قَطْعُ الْيَدِ فِي سَرِقَةِ الطَّسُّوجَةِ الْوَاحِدَةِ، لِأَنَّ الْمُلْحِدَةَ قَدْ جَعَلُوا هَذَا طَعْنًا فِي الشَّرِيعَةِ، فَقَالُوا: الْيَدُ لَمَّا كَانَتْ قِيمَتُهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ، فَكَيْفَ تُقْطَعُ لِأَجْلِ الْقَلِيلِ مِنَ الْمَالِ؟ ثُمَّ إِنَّا أَجَبْنَا عَنْ هَذَا الطَّعْنِ بِأَنَّ/ الشَّرْعَ إِنَّمَا قَطَعَ يَدَهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ تَحَمَّلَ الدَّنَاءَةَ وَالْخَسَاسَةَ فِي سَرِقَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ الْقَلِيلِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُعَاقِبَهُ الشَّرْعُ بِسَبَبِ تِلْكَ الدَّنَاءَةِ بِهَذِهِ الْعُقُوبَةِ الْعَظِيمَةِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْجَوَابُ مَقْبُولًا مِنَ الْكُلِّ فَلْيَكُنْ أَيْضًا مَقْبُولًا مِنَّا فِي إِيجَابِ الْقَطْعِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. قَالَ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لا يجوز تخصيص عموم القرآن هاهنا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِتَخْصِيصِ هَذَا الْعُمُومِ اخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: يَجِبُ الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ، وَرُوِيَ فِيهِ قوله عليه الصلاة والسلام: «لا قطع إلا فِي رُبْعِ دِينَارٍ» وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: لَا يَجُوزُ الْقَطْعُ إِلَّا فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ وَرُوِيَ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا قَطْعَ إِلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ» وَالظَّاهِرُ أَنَّ ثَمَنَ الْمِجَنِّ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: إِنَّهُ مُقَدَّرٌ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ أَوْ رُبْعِ دِينَارٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: مُقَدَّرٌ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ يَطْعَنُ فِي الْخَبَرِ الَّذِي يَرْوِيهِ الْآخَرُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَهَذِهِ الْمُخَصِّصَاتُ صَارَتْ مُتَعَارِضَةً، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَيُرْجَعُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى إِلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ. قَالَ: وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ إِلَّا فِي مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ. قَالَ: لِأَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ كَانَ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِمُطْلَقِ السَّرِقَةِ، وَكَانَ يَقُولُ: احْذَرْ مِنْ قَطْعِ يَدِكَ بِدِرْهَمٍ، وَلَوْ كَانَ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدًا لَمَا خَالَفَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِيهِ مَعَ قُرْبِهِ مِنْ زَمَانِ الصَّحَابَةِ وَشِدَّةِ احْتِيَاطِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ مَذْهَبِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَدَاوُدَ الْأَصْفَهَانِيِّ. وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ مِنَ الْقَدْرِ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا وَهُوَ نِصَابُ السَّرِقَةِ، وَسَائِرُ الْأَشْيَاءِ تَقُومُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: لَا يَجِبُ الْقَطْعُ في أقل من عشرة دراهم مَضْرُوبَةٍ، وَيَقُومُ غَيْرُهَا بِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه: رُبْعُ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: خَمْسَةُ دَرَاهِمَ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما يُوجِبُ الْقَطْعَ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، إِلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ تَوَافَقُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ فِيمَا دُونَ رُبْعِ دِينَارٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا عَلَى ظَاهِرِ النَّصِّ، ثُمَّ أُكِّدَ هَذَا بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «لَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ» . وَأَمَّا الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا قَطْعَ إِلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ» فَهُوَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ثَمَنَ الْمِجَنِّ مَجْهُولٌ، فَتَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ مُجْمَلٍ مَجْهُولِ الْمَعْنَى لَا يَجُوزُ. الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ كَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ مُقَدَّرًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَانَ التَّخْصِيصُ/ الْحَاصِلُ بِسَبَبِهِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما أَكْثَرَ مِنَ التَّخْصِيصِ الْحَاصِلِ فِي عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ بَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ» فَكَانَ التَّرْجِيحُ لهذا الجانب.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الرَّجُلُ إِذَا سَرَقَ أَوَّلًا قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى، وَفِي الثَّانِيَةِ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، وَفِي الثَّالِثَةِ يَدُهُ الْيُسْرَى، وَفِي الرَّابِعَةِ رِجْلُهُ الْيُمْنَى، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: لَا يُقْطَعُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ السَّرِقَةَ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ، وَقَدْ وُجِدَتْ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ أَيْضًا، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ السَّرِقَةَ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ لِقَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَعْنَى: الَّذِي سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، وَأَيْضًا الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ وَجَبَ جَزَاءً عَلَى تِلْكَ السَّرِقَةِ، فَالسَّرِقَةُ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّرِقَةَ حَصَلَتْ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، فَمَا هُوَ الْمُوجِبُ لِلْقَطْعِ حَاصِلٌ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُوجِبُهُ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَكُونَ مُوجِبُهُ هُوَ الْقَطْعُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَسْبِقُ الْعِلَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَطْعَ وَجَبَ بِالسَّرِقَةِ الْأُولَى، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ السَّرِقَةُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ تُوجِبُ قَطْعًا آخَرَ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما وَلَفْظُ الْأَيْدِي لَفْظُ جَمْعٍ، وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، وَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي وُجُوبَ قَطْعِ ثَلَاثَةٍ مِنَ الْأَيْدِي فِي السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ ابْتِدَاءً فَيَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ عِنْدَ السَّرِقَةِ الثَّالِثَةِ. فَإِنْ قَالُوا إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا، فَكَانَ هَذَا الْحُكْمُ مُخْتَصًّا بِالْيَمِينِ لَا فِي مُطْلَقِ الْأَيْدِي، وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ جَارِيَةٌ مَجْرَى خَبَرِ الْوَاحِدِ. قُلْنَا: الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ لَا تُبْطِلُ الْقِرَاءَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ، فَنَحْنُ نَتَمَسَّكُ بِالْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي إِثْبَاتِ مَذْهَبِنَا وَأَيْضًا الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا، لِأَنَّا نَقْطَعُ أَنَّهَا لَيْسَتْ قُرْآنًا، إِذْ لَوْ كَانَتْ قُرْآنًا لَكَانَتْ مُتَوَاتِرَةً، فَإِنَّا لَوْ جَوَّزْنَا أَنْ لَا يُنْقَلَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَيْنَا عَلَى سَبِيلِ التَّوَاتُرِ انْفَتَحَ بَابُ طَعْنِ الرَّوَافِضِ وَالْمَلَاحِدَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ نَصًّا، وَمَا نُقِلَتْ إِلَيْنَا، وَلَعَلَّهُ كَانَ فِيهِ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى نَسْخِ أَكْثَرِ هَذِهِ الشَّرَائِعِ وَمَا نُقِلَتْ إِلَيْنَا وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قُرْآنًا لَكَانَ مُتَوَاتِرًا، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَوَاتِرًا قَطَعْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ الْبَتَّةَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: أُغَرِّمُ السَّارِقَ مَا سَرَقَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ/ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالْغُرْمِ، فَإِنْ غَرِمَ فَلَا قَطْعَ، وَإِنْ قُطِعَ فَلَا غُرْمَ. وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه: يُقْطَعُ بِكُلِّ حَالٍ، وَأَمَّا الْغُرْمُ فَيَلْزَمُهُ إِنْ كَانَ غَنِيًّا، وَلَا يَلْزَمُهُ إِنْ كَانَ فَقِيرًا. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ السَّرِقَةَ تُوجِبُ الْقَطْعَ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَقَدِ اجْتَمَعَ الْأَمْرَانِ فِي هَذِهِ السَّرِقَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ الْقَطْعُ وَالضَّمَانُ، فَلَوِ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ الْجَمْعَ مُمْتَنِعٌ كَانَ ذَلِكَ مُعَارَضَةً، وَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، عَلَى أَنَّا نَقُولُ: إِنَّ حَدَّ اللَّه لَا يَمْنَعُ حَقَّ الْعِبَادِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجْتَمِعُ الْجَزَاءُ وَالْقِيمَةُ فِي الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ، وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَسْرُوقُ بَاقِيًا وَجَبَ رَدُّهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْمَسْرُوقَ كَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ إِلَى وَقْتِ قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ بِالِاتِّفَاقِ، فَعِنْدَ حُصُولِ الْقَطْعِ إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ الْمِلْكُ فِيهِ مُقْتَصِرًا عَلَى وَقْتِ الْقَطْعِ، أَوْ مُسْنَدًا إلى زَمَانِ السَّرِقَةِ، وَالْأَوَّلُ: لَا يَقُولُ بِهِ الْخَصْمُ، وَالثَّانِي: يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَدَثَ الْمِلْكُ فِيهِ مِنْ وَقْتِ الْقَطْعِ فِي الزَّمَانِ الَّذِي كَانَ سَابِقًا عَلَى

ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهَذَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الْفِعْلِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَهَذَا مُحَالٌ. حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِكَوْنِ هَذَا الْقَطْعِ جَزَاءً، وَالْجَزَاءُ هُوَ الْكَافِي، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَطْعَ كَافٍ فِي جِنَايَةِ السَّرِقَةِ، وَإِذَا كَانَ كَافِيًا وَجَبَ أَنْ لَا يُضَمَّ الْغُرْمُ إِلَيْهِ. وَالْجَوَابُ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُمْ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ رَدُّ الْمَسْرُوقِ عِنْدَ كَوْنِهِ قَائِمًا، واللَّه أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: السَّيِّدُ يَمْلِكُ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الْمَمَالِيكِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: لَا يَمْلِكُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما عَامٌّ فِي حَقِّ الْكُلِّ، لِأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَخْصُوصًا بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، وَلَمَّا عَمَّ الْكُلَّ دَخَلَ فِيهِ الْمَوْلَى أَيْضًا، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْإِمَامِ وَالْمَوْلَى، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْمَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: احْتَجَّ الْمُتَكَلِّمُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ يُنَصِّبُوا لِأَنْفُسِهِمْ إِمَامًا مُعَيَّنًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى السُّرَّاقِ وَالزُّنَاةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ شَخْصٍ يَكُونُ مُخَاطَبًا بِهَذَا الْخِطَابِ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِآحَادِ الرَّعِيَّةِ إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى الْجُنَاةِ، بَلْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى الْأَحْرَارِ الْجُنَاةِ إِلَّا لِلْإِمَامِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا التَّكْلِيفُ تَكْلِيفًا جَازِمًا وَلَا يُمْكِنُ الْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَةِ هَذَا التَّكْلِيفِ إِلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْإِمَامِ، وَمَا لَا يَتَأَتَّى الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، وَكَانَ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ، فَهُوَ وَاجِبٌ، فَلَزِمَ الْقَطْعُ بِوُجُوبِ نَصْبِ الْإِمَامِ حِينَئِذٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: قَوْلُهُ نَكالًا مِنَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أُقِيمَ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدُّ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَافِ وَالْإِهَانَةِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ الْقَطْعُ بِكَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلِاسْتِخْفَافِ وَالذَّمِّ وَالْإِهَانَةِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ بَقِيَ مُسْتَحِقًّا لِلْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ، لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ، وَذَلِكَ يَدُلُّ على أن عقاب الكبير يُحْبِطُ ثَوَابَ الطَّاعَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَا قَدْ ذَكَرْنَا الدَّلَائِلَ الْكَثِيرَةَ فِي بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِالْإِحْبَاطِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَةِ: 264] فَلَا نُعِيدُهَا هاهنا. ثُمَّ الْجَوَابُ عَنْ كَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْحَدِّ وَاقِعًا عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيلِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ، فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى حُصُولِ الْعَفْوِ مِنَ اللَّه تَعَالَى لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ لَا تَكُونُ أَيْضًا عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيلِ، بَلْ تَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِحَانِ، لَكِنَّا ذَكَرْنَا الدَّلَائِلَ الْكَثِيرَةَ عَلَى الْعَفْوِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: قَوْلُهُ جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى تَعْلِيلِ أَحْكَامِ اللَّه، فَإِنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ بِما كَسَبا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقَطْعَ إِنَّمَا وَجَبَ مُعَلَّلًا بِالسَّرِقَةِ. وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ [المائدة: 32] . الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ جَزاءً بِما كَسَبا قَالَ الزَّجَّاجُ: جَزَاءً نُصِبَ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، وَالتَّقْدِيرُ فاقطعوهم

[سورة المائدة (5) : آية 39]

لِجَزَاءِ فِعْلِهِمْ، وَكَذَلِكَ نَكالًا مِنَ اللَّهِ فَإِنْ شِئْتَ كَانَا مَنْصُوبَيْنِ عَلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ فَاقْطَعُوا وَالتَّقْدِيرُ: جَازُوهُمْ وَنَكِّلُوا بِهِمْ جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّه. أَمَّا قَوْلُهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَالْمَعْنَى: عَزِيزٌ فِي انْتِقَامِهِ، حَكِيمٌ فِي شَرَائِعِهِ وَتَكَالِيفِهِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ كُنْتُ أَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ وَمَعِيَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ فَقُلْتُ (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سَهْوًا، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: كَلَامُ مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ كَلَامُ اللَّه. قَالَ أَعِدْ، فَأَعَدْتُ: (واللَّه غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، ثُمَّ تَنَبَّهْتُ فَقُلْتُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَقَالَ: الْآنَ أَصَبْتَ، فَقُلْتُ كَيْفَ عَرَفْتَ؟ قَالَ: يَا هَذَا عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَأَمَرَ بِالْقَطْعِ فَلَوْ غَفَرَ وَرَحِمَ لما أمر بالقطع ثم قال تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 39] فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَابَ فَإِنَّ اللَّه يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ وَأَصْلَحَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ التَّوْبَةِ غَيْرُ مَقْبُولٍ. قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَأَصْلَحَ أَيْ يَتُوبُ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ صَادِقَةٍ وَعَزِيمَةٍ صَحِيحَةٍ خَالِيَةٍ عَنْ سَائِرِ الْأَغْرَاضِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا تَابَ قَبْلَ الْقَطْعِ تَابَ اللَّه عَلَيْهِ، وَهَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ؟ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ التَّابِعِينَ: يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْعُقُوبَةِ عَنْهُ، وَالْعُقُوبَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ الْحَدُّ، فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي سُقُوطَهَا. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَسْقُطُ عَنْهُ هَذَا الْحَدُّ، بَلْ يُقَامُ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِحَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى اللَّه تَعَالَى لِأَنَّهُ تَعَالَى تَمَدَّحَ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ، وَالتَّمَدُّحُ إِنَّمَا يَكُونُ بِفِعْلِ التَّفَضُّلِ وَالْإِحْسَانِ، لَا بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ ثم قال تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 40] أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ قَطْعَ الْيَدِ وَعِقَابَ الْآخِرَةِ عَلَى السَّارِقِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ إِنْ تَابَ أَرْدَفَهُ بِبَيَانِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمَ مَا يُرِيدُ، فَيُعَذِّبَ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرَ لِمَنْ يَشَاءُ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ التَّعْذِيبَ عَلَى الْمَغْفِرَةِ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ تَقَدُّمِ السَّرِقَةِ عَلَى التَّوْبَةِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْآيَةُ وَاضِحَةٌ لِلْقَدَرِيَّةِ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْوِيزِ، وَقَوْلُهُمْ بِوُجُوبِ الرَّحْمَةِ لِلْمُطِيعِ، وَوُجُوبِ الْعَذَابِ لِلْعَاصِي عَلَى اللَّه، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ مُفَوَّضَةٌ إِلَى الْمَشِيئَةِ وَالْوُجُوبُ يُنَافِي ذَلِكَ. وَأَقُولُ: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلًا قَوْلَهُ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ رَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا حَسُنَ مِنْهُ التَّعْذِيبُ تَارَةً، وَالْمَغْفِرَةُ أُخْرَى، لِأَنَّهُ مَالِكُ الْخَلْقِ وَرَبُّهُمْ وَإِلَهُهُمْ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى

[سورة المائدة (5) : آية 41]

يَحْسُنُ مِنْهُ كُلُّ مَا يَشَاءُ وَيُرِيدُ لِأَجْلِ كَوْنِهِ مَالِكًا لِجَمِيعِ الْمُحْدَثَاتِ، وَالْمَالِكُ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ: أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: حُسْنُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنَ اللَّه تَعَالَى لَيْسَ لِأَجْلِ كَوْنِهِ إِلَهًا لِلْخَلْقِ وَمَالِكًا لَهُمْ، بَلْ لِأَجْلِ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُهُ صَرِيحُ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ. [سورة المائدة (5) : آية 41] يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بَعْضَ التَّكَالِيفِ وَالشَّرَائِعِ، وَكَانَ قَدْ عَلِمَ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ كَوْنَهُمْ مُتَسَارِعِينَ إِلَى الْكُفْرِ لَا جَرَمَ صَبَّرَ رَسُولَهُ عَلَى تَحَمُّلِ ذَلِكَ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ لَا يَحْزَنَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَمَا خَاطَبَهُ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الرسول إلا في موضعين: أحدهما: هاهنا، والثاني: قوله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الْمَائِدَةِ: 67] وَهَذَا الْخِطَابُ لَا شَكَّ أَنَّهُ خِطَابُ تَشْرِيفٍ وَتَعْظِيمٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ لا يحزنك بضم الياء، ويسرعون، وَالْمَعْنَى لَا تَهْتَمَّ وَلَا تُبَالِ بِمُسَارَعَةِ الْمُنَافِقِينَ فِي الْكُفْرِ وَذَلِكَ بِسَبَبِ احْتِيَالِهِمْ فِي اسْتِخْرَاجِ وُجُوهِ الْكَيْدِ وَالْمَكْرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَفِي مُبَالَغَتِهِمْ فِي مُوَالَاةِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنِّي نَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ وَكَافِيكَ شَرَّهُمْ. يُقَالُ: أَسْرَعَ فِيهِ الشَّيْبُ وَأَسْرَعَ/ فِيهِ الْفَسَادُ بِمَعْنَى وَقَعَ فِيهِ سَرِيعًا، فَكَذَلِكَ مُسَارَعَتُهُمْ فِي الْكُفْرِ عِبَارَةٌ عَنْ إِلْقَائِهِمْ أَنْفُسَهُمْ فِيهِ عَلَى أَسْرَعِ الْوُجُوهِ مَتَى وَجَدُوا فِيهِ فُرْصَةً، وَقَوْلُهُ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنَ الَّذِينَ قَالُوا بِأَفْوَاهِهِمْ آمَنَّا وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ وَفِيهِ مسألتان: المسألة الأولى: ذكر الفراء والزجاج هاهنا وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَتِمُّ عِنْدَ قَوْلِهِ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا ثُمَّ يُبْتَدَأُ الْكَلَامُ مِنْ قَوْلِهِ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمِنَ الْيَهُودِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَصَفَ الْكُلَّ بِكَوْنِهِمْ سَمَّاعِينَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنْ قَوْلِهِ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ سَمَّاعُونَ صِفَةُ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا قَوْمٌ سَمَّاعُونَ. وَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، يَعْنِي هُمْ سَمَّاعُونَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَاهُ قَابِلُونَ لِلْكَذِبِ، وَالسَّمْعُ يُسْتَعْمَلُ وَيُرَادُ مِنْهُ الْقَبُولُ، كَمَا يُقَالُ: لَا تَسْمَعْ مِنْ فُلَانٍ أَيْ لَا تَقْبَلْ مِنْهُ، وَمِنْهُ «سَمِعَ اللَّه لِمَنْ حَمِدَهُ» ، وَذَلِكَ الْكَذِبُ الَّذِي يَقْبَلُونَهُ هُوَ مَا يَقُولُهُ رُؤَسَاؤُهُمْ مِنَ الْأَكَاذِيبِ فِي دِينِ اللَّه تَعَالَى فِي تَحْرِيفِ التَّوْرَاةِ، وَفِي الطَّعْنِ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ نَفْسُ السَّمَاعِ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلْكَذِبِ لَامُ كَيْ، أَيْ يَسْمَعُونَ مِنْكَ لِكَيْ يَكْذِبُوا عَلَيْكَ. وأما قوله سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَعْيُنٌ وَجَوَاسِيسُ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ وَلَمْ يَحْضُرُوا عِنْدَكَ لِيَنْقُلُوا إِلَيْهِمْ أَخْبَارَكَ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قَوْلُهُ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَيْ سَمَّاعُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِ أَنْ يَكْذِبُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يَمْزُجُوا مَا سَمِعُوا مِنْهُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالتَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ، سَمَّاعُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّه لِأَجْلِ قَوْمٍ آخَرِينَ مِنَ الْيَهُودِ، وَهُمْ عُيُونٌ لِيُبَلِّغُوهُمْ مَا سَمِعُوا مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ بِصِفَةٍ أُخْرَى فَقَالَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أَيْ مِنْ بَعْدِ أَنْ وَضَعَهُ اللَّه مَوَاضِعَهُ، أَيْ فَرَضَ فُرُوضَهُ وَأَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ رَجُلًا وَامْرَأَةً مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ خَيْبَرَ زَنَيَا، وَكَانَ حَدُّ الزِّنَا فِي التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ، فَكَرِهَتِ الْيَهُودُ رَجْمَهُمَا لِشَرَفِهِمَا، فَأَرْسَلُوا قَوْمًا إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْأَلُوهُ عَنْ حُكْمِهِ فِي الزَّانِيَيْنِ إِذَا أُحْصِنَا، / وَقَالُوا: إِنْ أَمَرَكُمْ بِالْجَلْدِ فَاقْبَلُوا، وَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوا وَلَا تَقْبَلُوا، فَلَمَّا سَأَلُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالرَّجْمِ فَأَبَوْا أَنْ يَأْخُذُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ «ابْنَ صُورِيَا» فَقَالَ الرَّسُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ شَابًّا أَمْرَدَ أَبْيَضَ أَعْوَرَ يَسْكُنُ فَدَكَ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ صُورِيَا؟ قَالُوا نَعَمْ وَهُوَ أَعْلَمُ يَهُودِيٍّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَرَضُوا بِهِ حَكَمًا، فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْشُدُكَ اللَّه الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الَّذِي فَلَقَ الْبَحْرَ لِمُوسَى وَرَفَعَ فَوْقَكُمُ الطُّورَ وَأَنْجَاكُمْ وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ كِتَابَهُ وَحَلَالَهُ وَحَرَامَهُ هَلْ تَجِدُونَ فِيهِ الرَّجْمَ عَلَى مَنْ أُحْصِنَ» ؟ قَالَ ابْنُ صُورِيَا: نَعَمْ، فَوَثَبَتْ عَلَيْهِ سَفَلَةُ الْيَهُودِ، فَقَالَ: خِفْتُ إِنْ كَذَّبْتُهُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْنَا الْعَذَابُ، ثُمَّ سَأَلَ رَسُولَ اللَّه عَنْ أَشْيَاءَ كَانَ يَعْرِفُهَا مِنْ عَلَامَاتِهِ، فَقَالَ ابْنُ صُورِيَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّه النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الْعَرَبِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ الْمُرْسَلُونَ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالزَّانِيَيْنِ فَرُجِمَا عِنْدَ بَابِ مَسْجِدِهِ. إِذَا عَرَفْتَ الْقِصَّةَ فَنَقُولُ: قَوْلُهُ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أَيْ وَضَعُوا الْجَلْدَ مَكَانَ الرَّجْمِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا أَيْ إِنْ أَمَرَكُمْ مُحَمَّدٌ بِالْجَلْدِ فَاقْبَلُوا، وَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالرَّجْمِ فَلَا تَقْبَلُوا. وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ الثَّيِّبَ الذِّمِّيَّ يُرْجَمُ. قَالَ: لِأَنَّهُ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِرَجْمِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ بِرَجْمِ الثَّيِّبِ الذِّمِّيِّ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ فَقَدْ ثَبَتَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَا ثَبَتَ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَشْرُوعًا فِي دِينِنَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَفْتَى عَلَى وَفْقِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَانَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي ذَلِكَ وَاجِبًا، لِقَوْلِهِ فَاتَّبِعُوهُ [الأعراف: 58] وَالثَّانِي: أَنَّ مَا كَانَ ثَابِتًا فِي شَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ إِلَى طِرِّيَانِ النَّاسِخِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي شَرْعِنَا مَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ هَذَا الْحُكْمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ قوله

[سورة المائدة (5) : آية 42]

تَعَالَى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [الْمَائِدَةِ: 45] حُكْمُهُ بَاقٍ فِي شَرْعِنَا. وَلَمَّا شَرَحَ اللَّه تَعَالَى فَضَائِحَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ قَالَ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً. وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْفِتْنَةِ مُحْتَمِلٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا اللَّفْظُ مَذْكُورًا عَقِيبَ أَنْوَاعِ كُفْرِهِمُ الَّتِي شَرَحَهَا اللَّه تَعَالَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْفِتْنَةِ تِلْكَ الْكُفْرِيَّاتِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمُرَادُ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّه كُفْرَهُ وَضَلَالَتَهُ فَلَنْ يَقْدِرَ أَحَدٌ عَلَى دَفْعِ ذَلِكَ عَنْهُ. ثُمَّ أَكَّدَ تَعَالَى هَذَا فَقَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ. قَالَ أَصْحَابُنَا: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى غَيْرُ مُرِيدٍ إِسْلَامَ الْكَافِرِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُطَهِّرْ قَلْبَهُ مِنَ/ الشَّكِّ وَالشِّرْكِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَآمَنَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَشَدِّ الْآيَاتِ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْفِتْنَةِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الْفِتْنَةَ هِيَ الْعَذَابُ، قَالَ تَعَالَى: عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: 13] أي يعذبون، فالمراد هاهنا: أَنَّهُ يُرِيدُ عَذَابَهُ لِكُفْرِهِ وَنِفَاقِهِ، وَثَانِيهَا: الْفِتْنَةُ الْفَضِيحَةُ، يَعْنِي وَمَنْ يُرِدِ اللَّه فَضِيحَتَهُ. الثَّالِثُ: فِتْنَتَهُ: إِضْلَالَهُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْإِضْلَالِ الْحُكْمُ بِضَلَالِهِ وَتَسْمِيَتِهِ ضَالًّا، وَرَابِعُهَا: الْفِتْنَةُ الِاخْتِبَارُ، يَعْنِي مَنْ يُرِدِ اللَّه اخْتِبَارَهُ فِيمَا يَبْتَلِيهِ مِنَ التَّكَالِيفِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَتْرُكُهَا وَلَا يَقُومُ بِأَدَائِهَا فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّه ثَوَابًا وَلَا نَفْعًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: لَمْ يُرِدِ اللَّه أَنْ يَمُدَّ قُلُوبَهُمْ بِالْأَلْطَافِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تِلْكَ الْأَلْطَافِ لِأَنَّهَا لَا تَنْجَعُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَثَانِيهَا: لَمْ يُرِدِ اللَّه أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْحَرَجِ وَالْغَمِّ وَالْوَحْشَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا اسْتِعَارَةٌ عَنْ سُقُوطِ وَقْعِهِ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهِ بِسَبَبِ قُبْحِ أَفْعَالِهِ وَسُوءِ أَعْمَالِهِ، وَالْكَلَامُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَخِزْيُ الْمُنَافِقِينَ هَتْكُ سِتْرِهِمْ بِاطِّلَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كَذِبِهِمْ وَخَوْفِهِمْ مِنَ الْقَتْلِ، وَخِزْيُ الْيَهُودِ فَضِيحَتُهُمْ بِظُهُورِ كَذِبِهِمْ فِي كِتْمَانِ نَصِّ اللَّه تَعَالَى فِي إِيجَابِ الرَّجْمِ وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ. وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وَهُوَ الخلود في النار. [سورة المائدة (5) : آية 42] سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وأبو عمرو الكسائي السُّحُتُ بِضَمِّ السِّينِ وَالْحَاءِ حَيْثُ كَانَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِرَفْعِ السِّينِ وَسُكُونِ الْحَاءِ عَلَى لَفْظِ الْمَصْدَرِ مِنْ: سَحَتَهُ، وَنَقَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» السَّحَتِ بِفَتْحَتَيْنِ، وَالسِّحْتِ بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونِ الْحَاءِ، وَكُلُّهَا لُغَاتٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذكروا في لفظ السحت وجوها: الأول: قَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُهُ مِنْ سَحَتَهُ إِذَا اسْتَأْصَلَهُ، قال تعالى: فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ [طه: 61] وسميت الرشاء الَّتِي كَانُوا يَأْخُذُونَهَا بِالسُّحْتِ إِمَّا لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يُسْحِتُهُمْ بِعَذَابٍ، أَيْ يَسْتَأْصِلُهُمْ، أَوْ لِأَنَّهُ مَسْحُوتُ الْبَرَكَةِ، قَالَ تَعَالَى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا [البقرة: 276]

الثَّانِي: قَالَ اللَّيْثُ: إِنَّهُ حَرَامٌ يَحْصُلُ مِنْهُ الْعَارُ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّيْءِ يُسْحِتُ فَضِيلَةَ الْإِنْسَانِ وَيَسْتَأْصِلُهَا، وَالثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: أَصْلُ السُّحْتِ شِدَّةُ الْجُوعِ، يُقَالُ رَجُلٌ مَسْحُوتُ الْمَعِدَةِ إِذَا كَانَ أَكُولًا لَا يُلْقَى إِلَّا جَائِعًا أَبَدًا، فَالسُّحْتُ حَرَامٌ يُحْمَلُ عَلَيْهِ شِدَّةُ الشَّرَهِ كَشَرَهِ مَنْ كَانَ مَسْحُوتَ الْمَعِدَةِ، وَهَذَا أَيْضًا قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ شَدِيدَ الْجُوعِ شَدِيدَ الشَّرَهِ فَكَأَنَّهُ يَسْتَأْصِلُ كُلَّ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ الطَّعَامِ وَيَشْتَهِيهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: السُّحْتُ الرَّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ وَعَسْبُ الْفَحْلِ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ وَثَمَنُ الْكَلْبِ وَثَمَنُ الْخَمْرِ وَثَمَنُ الْمَيْتَةِ وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ وَالِاسْتِئْجَارُ فِي الْمَعْصِيَةِ: رُوِيَ ذَاكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَمُجَاهِدٍ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ، وَنَقَصَ بَعْضُهُمْ، وَأَصْلُهُ يَرْجِعُ إِلَى الْحَرَامِ الْخَسِيسِ الَّذِي لَا يَكُونُ فِيهِ بَرَكَةٌ، وَيَكُونُ فِي حُصُولِهِ عَارٌ بِحَيْثُ يُخْفِيهِ صَاحِبُهُ لَا مَحَالَةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَخْذَ الرَّشْوَةِ كَذَلِكَ، فَكَانَ سُحْتًا لَا مَحَالَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ كَانَ الْحَاكِمُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا أَتَاهُ مَنْ كَانَ مُبْطِلًا فِي دَعْوَاهُ بِرَشْوَةٍ سَمِعَ كَلَامَهُ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى خَصْمِهِ، فَكَانَ يَسْمَعُ الْكَذِبَ وَيَأْكُلُ السُّحْتَ. الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ فُقَرَاؤُهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ مَالًا لِيُقِيمُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ، فَالْفُقَرَاءُ كَانُوا يَسْمَعُونَ أَكَاذِيبَ الْأَغْنِيَاءِ وَيَأْكُلُونَ السُّحْتَ الَّذِي يَأْخُذُونَهُ مِنْهُمْ. الثَّالِثُ: سَمَّاعُونَ لِلْأَكَاذِيبِ الَّتِي كَانُوا يَنْسُبُونَهَا إِلَى التَّوْرَاةِ، أكالون للربا لقوله تعالى: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا [النساء: 161] . ثم قال تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَيَّرَهُ بَيْنَ الْحُكْمِ فِيهِمْ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالزُّهْرِيُّ: إِنَّهُ فِي زِنَا الْمُحْصَنِ وَأَنَّ حَدَّهُ هُوَ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ. الثَّانِي: أَنَّهُ فِي قَتِيلٍ قُتِلَ مِنَ الْيَهُودِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَكَانَ فِي بَنِي النَّضِيرِ شَرَفٌ وَكَانَتْ دِيَتُهُمْ دِيَةً كَامِلَةً، وَفِي قُرَيْظَةَ نِصْفَ دِيَةٍ، فَتَحَاكَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ الدِّيَةَ سَوَاءً. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا التَّخْيِيرَ مُخْتَصٌّ بِالْمُعَاهَدِينَ الَّذِينَ لَا ذِمَّةَ لَهُمْ، فَإِنْ شَاءَ حَكَمَ فِيهِمْ وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ عَنْهُمْ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ في كل من جاءه من الْكُفَّارُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ وَأَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ وَأَبِي مُسْلِمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [الْمَائِدَةِ: 49] وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى حَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ، لِأَنَّ فِي إِمْضَاءِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ صَغَارًا لَهُمْ، فَأَمَّا الْمُعَاهَدُونَ الَّذِينَ لَهُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ إِلَى مُدَّةٍ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بَلْ يَتَخَيَّرُ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا التَّخْيِيرُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَخْصُوصٌ بِالْمُعَاهَدِينَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهِ إِلَّا لِطَلَبِ الْأَسْهَلِ وَالْأَخَفِّ، كَالْجَلْدِ مَكَانَ الرَّجْمِ، فَإِذَا أَعْرَضَ عَنْهُمْ وَأَبَى الْحُكُومَةَ لَهُمْ شَقَّ عَلَيْهِمْ إعراضه عنهم وصاروا أعداء له، فبيّن اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ عَدَاوَتُهُمْ لَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.

[سورة المائدة (5) : آية 43]

أَيْ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ وَالِاحْتِيَاطِ كَمَا حَكَمْتَ بالرجم. [سورة المائدة (5) : آية 43] وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هذا تعجيب من اللَّه تعالى لنبينه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِتَحْكِيمِ الْيَهُودِ إِيَّاهُ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ حَدِّ الزَّانِي، ثُمَّ تَرْكِهِمْ قَبُولَ ذَلِكَ الْحُكْمِ، فَعَدَلُوا عَمَّا يَعْتَقِدُونَهُ حُكْمًا حَقًّا إِلَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ بَاطِلًا طَلَبًا لِلرُّخْصَةِ، فَلَا جَرَمَ ظَهَرَ جَهْلُهُمْ وَعِنَادُهُمْ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: عُدُولُهُمْ عَنْ حُكْمِ كِتَابِهِمْ، وَالثَّانِي: رُجُوعُهُمْ إِلَى حُكْمِ مَنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِيهِ أَنَّهُ مُبْطِلٌ، وَالثَّالِثُ: إِعْرَاضُهُمْ عَنْ حُكْمِهِ بَعْدَ أَنْ حَكَّمُوهُ، فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى حَالَ جَهْلِهِمْ وَعِنَادِهِمْ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِمْ مُغْتَرٌّ أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابِ اللَّه وَمِنَ المحافظين على أمر اللَّه، وهاهنا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ مَا مَوْضِعُهُ مِنَ الْإِعْرَابِ؟ الْجَوَابُ: إِمَّا أَنْ يُنْصَبَ حَالًا مِنَ التَّوْرَاةِ، وَهِيَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهَا عِنْدَهُمُ وَإِمَّا أَنْ يَرْتَفِعَ خَبَرًا عَنْهَا كَقَوْلِكَ: وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ نَاطِقَةٌ بِحُكْمِ اللَّه تَعَالَى، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَحَلٌّ وَيَكُونَ الْمَقْصُودُ أَنَّ عِنْدَهُمْ مَا يُغْنِيهِمْ عَنِ التَّحْكِيمِ، كَمَا تَقُولُ: عِنْدَكَ زَيْدٌ يَنْصَحُكَ وَيُشِيرُ عَلَيْكَ بِالصَّوَابِ فَمَا تَصْنَعُ بِغَيْرِهِ؟ السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ أَنَّثَ التَّوْرَاةَ؟ وَالْجَوَابُ: الْأَمْرُ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ التَّوْرَاةِ وَشَرَائِعَ من قبلنا لا زم عَلَيْنَا مَا لَمْ يُنْسَخْ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ حُكْمُ التَّوْرَاةِ كَحُكْمِ الْقُرْآنِ فِي وُجُوبِ طَلَبِ الْحُكْمِ مِنْهُ، لَكِنَّ الشَّرْعَ نَهَى عَنِ النَّظَرِ فِيهَا. بَلِ الْمُرَادُ هَذَا الْأَمْرُ الْخَاصُّ وَهُوَ الرَّجْمُ، لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا الرُّخْصَةَ بِالتَّحْكِيمِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ قَوْلُهُ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ يُحَكِّمُونَكَ وَقَوْلُهُ ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى حُكْمِ اللَّه الَّذِي فِي التَّوْرَاةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى التَّحْكِيمِ. وَقَوْلُهُ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَيْ وَمَا هُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوْرَاةِ وَإِنْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ بِهَا، وَالثَّانِي: مَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ: إِخْبَارٌ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَبَدًا وَهُوَ خَبَرٌ عَنِ الْمُسْتَأْنَفِ لَا عَنِ الْمَاضِي. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ وَإِنْ طَلَبُوا الْحُكْمَ مِنْكَ فَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ بِكَ وَلَا بِمُعْتَقِدِينَ فِي صِحَّةِ حُكْمِكَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا إِيمَانَ لَهُمْ بِشَيْءٍ. وَأَنَّ كُلَّ مقصودهم تحصيل مصالح الدنيا فقط. تمّ الجزء الحادي عَشَرَ، وَيَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى الْجُزْءُ الثاني عشر، وأوله قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ من سورة المائدة. أعان اللَّه على إكماله.

الجزء الثاني عشر

الجزء الثاني عشر [تتمة سورة المائدة] بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم [سورة المائدة (5) : آية 44] إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ. اعْلَمْ أَنَّ هَذَا تَنْبِيهٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى لِلْيَهُودِ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ، وَتَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي أَنْ يَكُونُوا كَمُتَقَدِّمِيهِمْ مِنْ مُسْلِمِي أَحْبَارِهِمْ وَالْأَنْبِيَاءِ الْمَبْعُوثِينَ إِلَيْهِمْ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ حُصُولُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْهُدَى وَالنُّورِ، فَالْهُدَى مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ وَالتَّكَالِيفِ، وَالنُّورُ بَيَانٌ لِلتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ. قَالَ الزَّجَّاجُ فِيها هُدىً أَيْ بَيَانُ الْحُكْمِ الَّذِي جَاءُوا يَسْتَفْتُونَ فِيهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُورٌ بَيَانُ أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احتج القائلون بأن شرع من قبلنا لا زم عَلَيْنَا إِلَّا إِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى صَيْرُورَتِهِ مَنْسُوخًا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ فِي التَّوْرَاةِ هَدًى وَنُورًا. وَالْمُرَادُ كَوْنُهُ هُدًى وَنُورًا فِي أُصُولِ الشَّرْعِ وَفُرُوعِهِ، وَلَوْ كَانَ مَنْسُوخًا غَيْرَ مُعْتَبَرِ الْحُكْمِ بِالْكُلِّيَّةِ لَمَا كَانَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ الْهُدَى وَالنُّورُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِأُصُولِ الدِّينِ فَقَطْ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْهُدَى وَالنُّورَ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُمَا مَعًا هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأُصُولِ الدِّينِ لَزِمَ التَّكْرَارُ، وَأَيْضًا إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي مَسْأَلَةِ الرَّجْمِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ دَاخِلَةً فِي الْآيَةِ، لِأَنَّا وَإِنِ اخْتَلَفْنَا فِي أَنَّ غَيْرَ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ هَلْ يَدْخُلُ فِيهَا أَمْ لَا، لَكِنَّا تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِيهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا يُرِيدُ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا بَعْدَ مُوسَى، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى بَعَثَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أُلُوفًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَ مَعَهُمْ كِتَابٌ، إِنَّمَا بَعَثَهُمْ بِإِقَامَةِ التَّوْرَاةِ حَتَّى يَحُدُّوا حُدُودَهَا وَيَقُومُوا بِفَرَائِضِهَا وَيُحِلُّوا حَلَالَهَا وَيُحَرِّمُوا حَرَامَهَا. فَإِنْ قِيلَ: كُلُّ نَبِيٍّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا. قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَسْلَمُوا أَيِ انْقَادُوا لِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، فَإِنَّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ لَمْ تَكُنْ شَرِيعَتُهُ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ، وَالَّذِينَ كَانُوا مُنْقَادِينَ لِحُكْمِ التَّوْرَاةِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ مَبْعَثِ مُوسَى إِلَى مَبْعَثِ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بالنبيين الذين

أَسْلَمُوا هُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ عَلَى الْيَهُودِيَّيْنِ بِالرَّجْمِ، وَكَانَ هَذَا حُكْمَ التَّوْرَاةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا لَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النَّحْلِ: 120] وَقَوْلِهِ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ [النِّسَاءِ: 54] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ مَا كَانَ حَاصِلًا لِأَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ. الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: هَذَا رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: الْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ يَهُودٌ أَوْ نَصَارَى، فَقَالَ تَعَالَى: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ مَا كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، بَلْ كَانُوا مُسْلِمِينَ للَّه مُنْقَادِينَ لِتَكَالِيفِهِ. الرَّابِعُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا يَعْنِي الَّذِينَ كَانَ مَقْصُودُهُمْ مِنَ الْحُكْمِ بِالتَّوْرَاةِ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ وَإِظْهَارَ أَحْكَامِ اللَّه تَعَالَى وَالِانْقِيَادَ لِتَكَالِيفِهِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى قُبْحِ طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَإِنَّ غَرَضَهُمْ مِنَ ادِّعَاءِ الْحُكْمِ بِالتَّوْرَاةِ أَخْذُ الرَّشْوَةِ وَاسْتِتْبَاعُ الْعَوَامِّ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ لِلَّذِينَ هادُوا فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى أَنَّ النَّبِيِّينَ إِنَّمَا يَحْكُمُونَ بِالتَّوْرَاةِ لِلَّذِينِ هَادُوا، أَيْ لِأَجْلِهِمْ وَفِيمَا بَيْنَهُمْ، وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ عَلَى مَعْنَى إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ لِلَّذِينِ هَادُوا يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَمَّا الرَّبَّانِيُّونَ فَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَأَمَّا الْأَحْبَارُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْفُقَهَاءُ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي وَاحِدِهِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا هُوَ «حِبْرٌ» بِكَسْرِ الْحَاءِ، يُقَالُ ذَلِكَ لِلْعَالِمِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ لِمَكَانِ الْحِبْرِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَكُونُ صَاحِبَ كُتُبٍ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَقُولُ: حَبْرٌ بِفَتْحِ الْحَاءِ. قَالَ اللَّيْثُ: هُوَ حِبْرٌ وَحَبْرٌ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا. وقال الأصمعي: لا أدري أهو الحبر أو الْحَبْرُ، وَأَمَّا اشْتِقَاقُهُ فَقَالَ قَوْمٌ: أَصْلُهُ مِنَ التَّحْبِيرِ وَهُوَ التَّحْسِينُ، وَفِي الْحَدِيثِ «يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنَ النَّارِ ذَهَبَ حَبْرُهُ وَسَبْرُهُ» أَيْ جَمَالُهُ وَبَهَاؤُهُ، وَالْمُحَبِّرُ لِلشَّيْءِ الْمُزَيِّنُ، وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ أَكْمَلَ أَقْسَامِ الْفَضِيلَةِ وَالْجَمَالِ وَالْمَنْقَبَةِ لَا جَرَمَ سُمِّيَ الْعَالِمُ بِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: اشْتِقَاقُهُ مِنَ/ الْحِبْرِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَحْكُمُ بِالتَّوْرَاةِ النَّبِيُّونَ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ، وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ الرَّبَّانِيِّينَ أَعْلَى حَالًا مِنَ الْأَحْبَارِ، فَثَبَتَ أَنْ يَكُونَ الرَّبَّانِيُّونَ كَالْمُجْتَهِدِينَ، وَالْأَحْبَارُ كَآحَادِ الْعُلَمَاءِ. ثُمَّ قَالَ: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: حِفْظُ كِتَابِ اللَّه عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُحْفَظَ فَلَا يُنْسَى. الثَّانِي: أَنْ يُحْفَظَ فَلَا يُضَيَّعُ، وَقَدْ أَخَذَ اللَّه عَلَى الْعُلَمَاءِ حِفْظَ كِتَابِهِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْفَظُوهُ فِي صُدُورِهِمْ وَيَدْرُسُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُضَيِّعُوا أَحْكَامَهُ وَلَا يُهْمِلُوا شَرَائِعَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ صِلَةَ الْأَحْبَارِ عَلَى مَعْنَى الْعُلَمَاءُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَحْكُمُونَ بِمَا اسْتُحْفِظُوا، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ أَيْ هَؤُلَاءِ النَّبِيُّونَ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ كَانُوا شُهَدَاءَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا فِي التَّوْرَاةِ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَمِنْ عِنْدِ اللَّه، فَلَا جَرَمَ كَانُوا يُمْضُونَ أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ وَيَحْفَظُونَهَا عَنِ التحريف والتغيير. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ أَنَّ النَّبِيِّينَ وَالرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارَ كَانُوا قَائِمِينَ بِإِمْضَاءِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ مِنْ غَيْرِ مُبَالَاةٍ،

خَاطَبَ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنَعَهُمْ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ إِقْدَامَ الْقَوْمِ عَلَى التَّحْرِيفِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِخَوْفٍ وَرَهْبَةٍ، أَوْ لِطَمَعٍ وَرَغْبَةٍ، وَلَمَّا كَانَ الْخَوْفُ أَقْوَى تَأْثِيرًا مِنَ الطَّمَعِ قَدَّمَ تَعَالَى ذِكْرَهُ فَقَالَ: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَالْمَعْنَى إِيَّاكُمْ وَأَنْ تُحَرِّفُوا كِتَابِي لِلْخَوْفِ مِنَ النَّاسِ وَالْمُلُوكِ وَالْأَشْرَافِ، فَتُسْقِطُوا عَنْهُمُ الْحُدُودَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِمْ وَتَسْتَخْرِجُوا الْحِيَلَ فِي سُقُوطِ تَكَالِيفِ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ، فَلَا تَكُونُوا خَائِفِينَ مِنَ النَّاسِ، بَلْ/ كُونُوا خَائِفِينَ مِنِّي وَمِنْ عِقَابِي. وَلَمَّا ذَكَرَ أَمْرَ الرَّهْبَةِ أَتْبَعَهُ بِأَمْرِ الرَّغْبَةِ، فَقَالَ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا أَيْ كَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ تَغْيِيرِ أَحْكَامِي لِأَجْلِ الْخَوْفِ وَالرَّهْبَةِ، فَكَذَلِكَ أَنْهَاكُمْ عَنِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ لِأَجْلِ الطَّمَعِ فِي الْمَالِ وَالْجَاهِ وَأَخْذِ الرَّشْوَةِ فَإِنَّ كُلَّ مَتَاعِ الدُّنْيَا قَلِيلٌ، وَالرَّشْوَةُ الَّتِي تَأْخُذُونَهَا مِنْهُمْ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ، وَالرَّشْوَةُ لِكَوْنِهَا سُحْتًا تَكُونُ قَلِيلَةَ الْبَرَكَةِ وَالْبَقَاءِ وَالْمَنْفَعَةِ، فَكَذَلِكَ الْمَالُ الَّذِي تَكْتَسِبُونَهُ قَلِيلٌ مِنْ قَلِيلٍ، ثُمَّ أَنْتُمْ تُضَيِّعُونَ بِسَبَبِهِ الدِّينَ وَالثَّوَابَ الْمُؤَبَّدَ، وَالسَّعَادَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا. وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ إِقْدَامُهُمْ عَلَى التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، لِلْخَوْفِ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَلِأَخْذِ الرَّشْوَةِ مِنَ الْعَامَّةِ، وَلَمَّا مَنَعَهُمُ اللَّه مِنَ الْأَمْرَيْنِ ونبّه عَلَى مَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الدَّنَاءَةِ وَالسُّقُوطِ كَانَ ذَلِكَ بُرْهَانًا قَاطِعًا فِي الْمَنْعِ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ. ثُمَّ إِنَّهُ أَتْبَعَ هَذَا الْبُرْهَانَ الْبَاهِرَ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فَقَالَ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَهْدِيدُ الْيَهُودِ فِي إِقْدَامِهِمْ عَلَى تَحْرِيفِ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى فِي حَدِّ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا حُكْمَ اللَّه الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي التَّوْرَاةِ وَقَالُوا: إِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَهُمْ كَافِرُونَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَا يَسْتَحِقُّونَ اسْمَ الْإِيمَانِ لَا بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ وَلَا بِمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْخَوَارِجُ: كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّه فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، أَمَّا الْخَوَارِجُ فَقَدِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: إِنَّهَا نَصٌّ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّه فَهُوَ كَافِرٌ، وَكُلُّ مَنْ أَذْنَبَ فَقَدْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّه، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا. وَذَكَرَ الْمُتَكَلِّمُونَ وَالْمُفَسِّرُونَ أَجْوِبَةً عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ فَتَكُونُ مُخْتَصَّةً بِهِمْ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَاوَلَ دَفْعَ هَذَا السُّؤَالِ فَقَالَ: الْمُرَادُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ كَلَامٌ أُدْخِلَ فِيهِ كَلِمَةُ (مَنْ) فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ، فَيَكُونَ لِلْعُمُومِ. وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْمُرَادُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه مِنَ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي النَّصِّ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. الثَّانِي: قَالَ عَطَاءٌ: هُوَ كُفْرٌ دُونَ/ كُفْرٍ. وَقَالَ طَاوُسٌ: لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ كَمَنْ يَكْفُرُ باللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَكَأَنَّهُمْ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ لَا عَلَى كُفْرِ الدِّينِ، وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ لَفْظَ الْكُفْرِ إِذَا أُطْلِقَ انْصَرَفَ إِلَى الْكُفْرِ فِي الدِّينِ. وَالثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فَقَدْ فَعَلَ فِعْلًا يُضَاهِي أَفْعَالَ الْكُفَّارِ، وَيُشْبِهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْكَافِرِينَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ. وَالرَّابِعُ: قَالَ

[سورة المائدة (5) : آية 45]

عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْكِنَانِيُّ: قَوْلُهُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ صِيغَةُ عُمُومٍ، فَقَوْلُهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مَعْنَاهُ مَنْ أَتَى بِضِدِّ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّه فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ، وَهَذَا حَقٌّ لِأَنَّ الْكَافِرَ هُوَ الَّذِي أَتَى بِضِدِّ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّه، أَمَّا الْفَاسِقُ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِضِدِّ حُكْمِ اللَّه إِلَّا فِي الْقَلِيلِ، وَهُوَ الْعَمَلُ، أَمَّا فِي الِاعْتِقَادِ وَالْإِقْرَارِ فَهُوَ مُوَافِقٌ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَعِيدًا مَخْصُوصًا بِمَنْ خَالَفَ حُكْمَ اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَتَنَاوَلْ هَذَا الْوَعِيدُ الْيَهُودَ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِمْ حُكْمَ اللَّه فِي الرَّجْمِ، وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ يَتَنَاوَلُ الْيَهُودَ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِمْ حُكْمَ اللَّه تَعَالَى فِي وَاقِعَةِ الرَّجْمِ، فَيَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ هَذَا الْجَوَابِ، وَالْخَامِسُ: قَالَ عِكْرِمَةُ: قَوْلُهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ وَجَحَدَ بِلِسَانِهِ، أَمَّا مَنْ عَرَفَ بِقَلْبِهِ كَوْنَهُ حُكْمَ اللَّه وَأَقَرَّ بِلِسَانِهِ كَوْنَهُ حُكْمَ اللَّه، إِلَّا أَنَّهُ أَتَى بِمَا يُضَادُّهُ فَهُوَ حَاكِمٌ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ تَارِكٌ لَهُ، فَلَا يَلْزَمُ دُخُولُهُ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ واللَّه أعلم. [سورة المائدة (5) : آية 45] وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تعالى بيّن في التوراة أن حكم الزاني المحصن هو الرجم، واليهود غيروه وبدلوه، وبيّن فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، وَهَؤُلَاءِ الْيَهُودُ غَيَّرُوا هَذَا الْحُكْمَ أَيْضًا، فَفَضَّلُوا بَنِي النَّضِيرِ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَخَصَّصُوا إِيجَابَ الْقَوْدِ بِبَنِي قُرَيْظَةَ دُونَ بَنِي النَّضِيرِ، فَهَذَا هُوَ وَجْهُ النَّظْمِ مِنَ الْآيَةِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْكِسَائِيُّ: الْعَيْنُ وَالْأَنْفُ وَالْأُذُنُ وَالسِّنُّ وَالْجُرُوحُ كُلَّهَا بِالرَّفْعِ، وَفِيهِ/ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: الْعَطْفُ عَلَى مَحَلِّ أَنَّ النَّفْسَ لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا النَّفْسُ بِالنَّفْسِ لِأَنَّ مَعْنَى كَتَبْنَا قُلْنَا، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْكِتَابَةَ تَقَعُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجُمَلِ تَقُولُ: كَتَبْتُ (الْحَمْدُ للَّه) وَقَرَأْتُ (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا) وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا تَرْتَفِعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَتَقْدِيرُهُ: أَنَّ النَّفْسَ مَقْتُولَةٌ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنُ مَفْقُوءَةٌ بِالْعَيْنِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ [البقرة: 62] وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِنَصْبِ الْكُلِّ سِوَى الْجُرُوحَ فَإِنَّهُ بِالرَّفْعِ، فَالْعَيْنُ وَالْأَنْفُ وَالْأُذُنُ نُصِبَ عَطْفًا عَلَى النَّفْسِ، ثُمَّ الْجُرُوحَ مبتدأ، وقِصاصٌ خَبَرُهُ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ كُلَّهَا بِالنَّصْبِ عَطْفًا لِبَعْضِ ذَلِكَ عَلَى بَعْضٍ، وَخَبَرُ الْجَمِيعِ قِصَاصٌ، وَقَرَأَ نَافِعٌ الْأُذُنَ بِسُكُونِ الذَّالِ حَيْثُ وَقَعَ، وَالْبَاقُونَ بِالضَّمِّ مُثْقَلَةٌ، وَهُمَا لُغَتَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ وَفَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، يُرِيدُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ قَوْدٍ قِيدَ مِنْهُ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّه لَهُ دِيَةً فِي نَفْسٍ وَلَا جُرْحٍ، إِنَّمَا هُوَ الْعَفْوُ أَوِ الْقِصَاصُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا لَا يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالْمَرْأَةِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَمَّا الْأَطْرَافُ فَكُلُّ شَخْصَيْنِ جَرَى الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْسِ جَرَى الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي جَمِيعِ الْأَطْرَافِ إِذَا تَمَاثَلَا فِي السَّلَامَةِ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ امْتَنَعَ أيضا في

[سورة المائدة (5) : آية 46]

الْأَطْرَافِ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى بَعْضَ الْأَعْضَاءِ عَمَّمَ الْحُكْمَ فِي كُلِّهَا فَقَالَ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ وَهُوَ كُلُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ، مِثْلُ الشَّفَتَيْنِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْقَدَمَيْنِ وَالْيَدَيْنِ وَغَيْرِهَا، فَأَمَّا مَا لَا يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ مِنْ رَضٍّ فِي لَحْمٍ، أَوْ كَسْرٍ فِي عَظْمٍ، أَوْ جِرَاحَةٍ فِي بَطْنٍ يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ فَفِيهِ أَرْشٌ وَحُكُومَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ شَرْعًا فِي التَّوْرَاةِ، فَمَنْ قَالَ: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا يَلْزَمُنَا إِلَّا مَا نُسِخَ بِالتَّفْصِيلِ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ فِي شَرْعِنَا، وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَيْنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قِصاصٌ هاهنا مَصْدَرٌ يُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ، أَيْ وَالْجُرُوحُ مُتَقَاصَّةٌ بعضها ببعض ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ لَهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْعَافِي أَوْ إِلَى الْمَعْفُوِّ عَنْهُ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَالتَّقْدِيرُ أَنَّ الْمَجْرُوحَ أَوْ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ إِذَا عَفَا كَانَ ذَلِكَ كَفَّارَةً لَهُ، أَيْ لِلْعَافِي وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ تعالى في آية القصاص الثالث: فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة: 237] / وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ تَصَدَّقَ بِعِرْضِهِ عَلَى النَّاسِ» وَرَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَصَدَّقَ مِنْ جَسَدِهِ بِشَيْءٍ كَفَّرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ بِقَدْرِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ» وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ عَائِدٌ إِلَى الْقَاتِلِ وَالْجَارِحِ، يَعْنِي أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ إِذَا عَفَا عَنِ الْجَانِي صَارَ ذَلِكَ الْعَفْوُ كَفَّارَةً لِلْجَانِي، يَعْنِي لَا يُؤَاخِذُهُ اللَّه تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ الْعَفْوِ، وَأَمَّا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الَّذِي عَفَا فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَوَّلًا: فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة: 44] وَثَانِيًا: هُمُ الظَّالِمُونَ وَالْكُفْرُ أَعْظَمُ مِنَ الظُّلْمِ، فَلَمَّا ذَكَرَ أَعْظَمَ التَّهْدِيدَاتِ أَوَّلًا، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي ذِكْرِ الْأَخَفِّ بَعْدَهُ؟ وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْكُفْرَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ إِنْكَارٌ لِنِعْمَةِ الْمَوْلَى وَجُحُودٌ لَهَا فَهُوَ كُفْرٌ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَقْتَضِي إِبْقَاءَ النَّفْسِ فِي الْعِقَابِ الدَّائِمِ الشَّدِيدِ فَهُوَ ظُلْمٌ عَلَى النَّفْسِ، فَفِي الْآيَةِ الْأُولَى ذَكَرَ اللَّه مَا يَتَعَلَّقُ بِتَقْصِيرِهِ فِي حَقِّ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بالتقصير في حق نفسه. [سورة المائدة (5) : آية 46] وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) قَفَيْتُهُ: مِثْلُ عَقَبْتُهُ إِذَا أَتْبَعْتَهُ، ثُمَّ يُقَالُ: عَقَّبْتُهُ بِفُلَانٍ وَقَفَّيْتُهُ بِهِ، فَتَعَدِّيهِ إِلَى الثَّانِي بِزِيَادَةِ الْبَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيْنَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ فِي الْآيَةِ؟ قُلْنَا: هُوَ مَحْذُوفٌ، وَالظَّرْفُ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلى آثارِهِمْ كَالسَّادِّ مَسَدَّهُ، لِأَنَّهُ إِذَا قَفَّى بِهِ عَلَى أَثَرِهِ فَقَدْ قَفَّى بِهِ إِيَّاهُ، وَالضَّمِيرُ فِي آثارِهِمْ لِلنَّبِيِّينَ فِي قَوْلِهِ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا [المائدة: 44] وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ بِكَوْنِهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ، / وَإِنَّمَا يَكُونُ

[سورة المائدة (5) : آية 47]

كَذَلِكَ إِذَا كَانَ عَمَلُهُ عَلَى شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ شَرِيعَةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ مُغَايِرَةً لِشَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلِذَلِكَ قَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ [المائدة: 47] فَكَيْفَ طَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ؟ وَالْجَوَابُ: مَعْنَى كَوْنِ عِيسَى مُصَدِّقًا لِلتَّوْرَاةِ أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّه، وَأَنَّهُ كَانَ حَقًّا وَاجِبَ الْعَمَلِ بِهِ قَبْلَ وُرُودِ النَّسْخِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ كَرَّرَ قَوْلَهُ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْجَوَابُ: لَيْسَ فِيهِ تَكْرَارٌ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمَسِيحَ يُصَدِّقُ التَّوْرَاةَ، وَفِي الثَّانِي: الْإِنْجِيلُ يُصَدِّقُ التَّوْرَاةَ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْإِنْجِيلَ بِصِفَاتٍ خَمْسَةٍ فَقَالَ: فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَفِيهِ مُبَاحَثَاتٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْخَمْسَةِ: وَثَانِيهَا: لِمَ ذَكَرَ الْهُدَى مَرَّتَيْنِ؟ وَثَالِثُهَا: لِمَ خَصَّصَهُ بِكَوْنِهِ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ؟ وَالْجَوَابُ عَلَى الْأَوَّلِ: أَنَّ الْإِنْجِيلَ هَدًى بِمَعْنَى أَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ، وَبَرَاءَةِ اللَّه تَعَالَى عَنِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَالْمِثْلِ وَالضِّدِّ، وَعَلَى النُّبُوَّةِ وَعَلَى الْمَعَادِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ هُدًى، وَأَمَّا كَوْنُهُ نُورًا، فَالْمُرَادُ بِهِ كَوْنُهُ بَيَانًا لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَلِتَفَاصِيلِ التَّكَالِيفِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى كَوْنِهِ مُبَشِّرًا بِمَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَقْدِمِهِ وَأَمَّا كَوْنُهُ هُدًى مَرَّةً أُخْرَى فَلِأَنَّ اشْتِمَالَهُ عَلَى الْبِشَارَةِ بِمَجِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَبٌ لِاهْتِدَاءِ النَّاسِ إِلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمَّا كَانَ أَشَدُّ وُجُوهِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي ذَلِكَ لَا جَرَمَ أَعَادَهُ اللَّه تَعَالَى مَرَّةً أُخْرَى تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْإِنْجِيلَ يَدُلُّ دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ هُدًى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ الْمَسَائِلِ احْتِيَاجًا إِلَى الْبَيَانِ وَالتَّقْرِيرِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مَوْعِظَةً فَلِاشْتِمَالِ الْإِنْجِيلِ عَلَى النَّصَائِحِ وَالْمَوَاعِظِ وَالزَّوَاجِرِ الْبَلِيغَةِ الْمُتَأَكِّدَةِ وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِالْمُتَّقِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] . السُّؤَالُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ فِي صِفَةِ الْإِنْجِيلِ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ عَطْفٌ عَلَى مَاذَا؟ الْجَوَابُ: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَحَلِّ فِيهِ هُدىً وَمَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرِ: وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ حَالَ كَوْنِهِ هُدًى وَنُورًا وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ. [سورة المائدة (5) : آية 47] وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ قَرَأَ حَمْزَةُ وَلْيَحْكُمْ بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ/ الْمِيمِ، جَعَلَ اللَّامَ مُتَعَلِّقَةً بقوله وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ [المائدة: 46] لِأَنَّ إِيتَاءَ الْإِنْجِيلِ إِنْزَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَكَانَ المعنى آتيناه الإنجيل ليحكم، وأما الباقون فقرءوا بِجَزْمِ اللَّامِ وَالْمِيمِ عَلَى سَبِيلِ الْأَمْرِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَقُلْنَا لِيَحْكُمَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ، فَيَكُونُ هَذَا إِخْبَارًا عَمَّا فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنَ الْحُكْمِ بِمَا تَضَمَّنَهُ الْإِنْجِيلُ، ثُمَّ حَذَفَ الْقَوْلَ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ وَكَتَبْنا وقَفَّيْنا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَحَذْفُ الْقَوْلِ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرَّعْدِ: 23] أَيْ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قوله وَلْيَحْكُمْ ابتداء أمر للنصارى بالحكم في الإنجيل.

[سورة المائدة (5) : آية 48]

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يُؤْمَرُوا بِالْحُكْمِ بِمَا فِي الْإِنْجِيلِ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ لِيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فِيهِ مِنَ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ، وَالثَّانِي: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فِيهِ، مِمَّا لَمْ يَصِرْ مَنْسُوخًا بِالْقُرْآنِ، وَالثَّالِثُ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ زَجْرُهُمْ عَنْ تَحْرِيفِ مَا فِي الْإِنْجِيلِ وَتَغْيِيرِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَهُ الْيَهُودُ مِنْ إِخْفَاءِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، فَالْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ وَلْيَحْكُمْ أَيْ وَلْيُقِرَّ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّه فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَبْدِيلٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ، أَعْنِي قَوْلَهُ (الْكَافِرُونَ الظَّالِمُونَ الْفَاسِقُونَ) صِفَاتٍ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَلَيْسَ فِي إِفْرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِلَفْظٍ مَا يُوجِبُ الْقَدْحَ فِي الْمَعْنَى، بَلْ هُوَ كَمَا يُقَالُ: مَنْ أَطَاعَ اللَّه فَهُوَ الْمُؤْمِنُ، مَنْ أَطَاعَ اللَّه فَهُوَ الْبَرُّ، مَنْ أَطَاعَ اللَّه فَهُوَ الْمُتَّقِي، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ صِفَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ حَاصِلَةٌ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْأَوَّلُ: فِي الْجَاحِدِ، وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ: فِي الْمُقِرِّ التَّارِكِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: الْأَوَّلُ وَالثَّانِي: فِي الْيَهُودِ، وَالثَّالِثُ: في النصارى. [سورة المائدة (5) : آية 48] وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَهَذَا خِطَابٌ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقوله وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي القرآن، وقوله مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ أَيْ كُلُّ كِتَابٍ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ سِوَى الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمُهَيْمِنِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْخَلِيلُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ قَدْ هَيْمَنَ الرَّجُلُ يُهَيْمِنُ إِذَا كَانَ رَقِيبًا عَلَى الشَّيْءِ وَشَاهِدًا عَلَيْهِ حَافِظًا. قَالَ حَسَّانُ: إِنَّ الْكِتَابَ مُهَيْمِنٌ لِنَبِيِّنَا ... وَالْحَقُّ يَعْرِفُهُ ذَوُو الْأَلْبَابِ وَالثَّانِي: قَالُوا: الْأَصْلُ فِي قَوْلِنَا: آمَنَ يُؤْمِنُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، أَأْمَنَ يُؤَأْمِنُ فَهُوَ مُؤَأْمِنٌ بِهَمْزَتَيْنِ، ثُمَّ قُلِبَتِ الْأُولَى هَاءً كَمَا فِي: هَرَقْتُ وَأَرَقْتُ، وَهِيَّاكَ وَإِيَّاكَ، وَقُلِبَتِ الثَّانِيَةُ يَاءً فَصَارَ مُهَيْمِنًا فَلِهَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ أَيْ أَمِينًا عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي قَبْلَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا كَانَ الْقُرْآنُ مُهَيْمِنًا عَلَى الْكُتُبِ لِأَنَّهُ الْكِتَابُ الَّذِي لَا يَصِيرُ مَنْسُوخًا أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحِجْرِ: 9] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ شَهَادَةُ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ التوراة والإنجيل والزبور حق صدق بَاقِيَةً أَبَدًا، فَكَانَتْ حَقِيقَةُ هَذِهِ الْكُتُبِ مَعْلُومَةً أبدا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ بِفَتْحِ الْمِيمِ لِأَنَّهُ مَشْهُودٌ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى بِأَنْ يَصُونَهُ عَنِ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ لِمَا قَرَّرْنَا مِنَ الْآيَاتِ، وَلِقَوْلِهِ لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فُصِّلَتْ: 42] وَالْمُهَيْمِنُ عَلَيْهِ هُوَ اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ يَعْنِي فَاحْكُمْ بَيْنَ الْيَهُودِ بِالْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ الَّذِي نَزَّلَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَيْكَ. وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَلا تَتَّبِعْ يُرِيدُ وَلَا تَنْحَرِفْ، وَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِعَنْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا تَنْحَرِفْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ مُتَّبِعًا أَهْوَاءَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْيَهُودِ قَالُوا: تَعَالَوْا نَذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّنَا نَفْتِنُهُ عَنْ دِينِهِ، ثُمَّ دَخَلُوا عَلَيْهِ وَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّا أَحْبَارُ الْيَهُودِ وَأَشْرَافُهُمْ، وَإِنَّا إِنِ اتَّبَعْنَاكَ اتَّبَعَكَ كُلُّ الْيَهُودِ، وَإِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خُصُومِنَا حُكُومَةً فَنُحَاكِمُهُمْ إِلَيْكَ، فَاقْضِ لَنَا وَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكَ مَنْ طَعَنَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالَ: لَوْلَا جَوَازُ الْمَعْصِيَةِ عَلَيْهِمْ وَإِلَّا لَمَا قَالَ: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ مَقْدُورٌ لَهُ وَلَكِنْ لَا يَفْعَلُهُ لِمَكَانِ النَّهْيِ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَفْظُ (الشِّرْعَةِ) فِي اشْتِقَاقِهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: مَعْنَى شَرَعَ بَيَّنَ وَأَوْضَحَ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: لَفْظُ الشَّرْعِ مَصْدَرُ: شَرَعْتُ الْإِهَابَ، إِذَا شَقَقْتَهُ وَسَلَخْتَهُ. الثَّانِي: شَرَعَ مَأْخُوذٌ مِنَ الشُّرُوعِ فِي الشَّيْءِ وَهُوَ الدُّخُولُ فِيهِ، وَالشَّرِيعَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْمُشْرَعَةُ الَّتِي يَشْرَعُهَا النَّاسُ فَيَشْرَبُونَ مِنْهَا، فالشريعة فعيلة بمعنى الفعولة، وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي أَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْمُكَلَّفِينَ أَنْ يَشْرَعُوا فِيهَا، وَأَمَّا الْمِنْهَاجُ فَهُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ، يُقَالُ: نَهَجْتُ لَكَ الطَّرِيقَ وَأَنْهَجْتُ لُغَتَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَا يَلْزَمُنَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ رَسُولٍ مُسْتَقِلًّا بِشَرِيعَةٍ خَاصَّةٍ، وَذَلِكَ يَنْفِي كَوْنَ أُمَّةِ أَحَدِ الرُّسُلِ مُكَلَّفَةً بِشَرِيعَةِ الرَّسُولِ الْآخَرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَرَدَتْ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ التَّبَايُنِ فِي طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَآيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى حُصُولِ التَّبَايُنِ فِيهَا. أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فَقَوْلُهُ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشُّورَى: 13] إِلَى قَوْلِهِ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشُّورَى: 13] وَقَالَ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَامِ: 90] . وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ أَنْ نَقُولَ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنَ الْآيَاتِ مَصْرُوفٌ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ

[سورة المائدة (5) : آية 49]

بِأُصُولِ الدِّينِ، وَالنَّوْعُ الثَّانِي مَصْرُوفٌ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِفُرُوعِ الدِّينِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً خِطَابٌ لِلْأُمَمِ الثَّلَاثِ: أُمَّةِ مُوسَى، وَأُمَّةِ عِيسَى، وَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، بِدَلِيلِ أَنَّ ذِكْرَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَةِ: 44] ثُمَّ قَالَ وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [المائدة: 46] ثم قال وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ [المائدة: 48] . ثُمَّ قَالَ: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً يَعْنِي شَرَائِعَ مُخْتَلِفَةً: لِلتَّوْرَاةِ شَرِيعَةٌ، وَلِلْإِنْجِيلِ شَرِيعَةٌ، وَلِلْقُرْآنِ شَرِيعَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ عِبَارَتَانِ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ، وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ/ وَالْمُرَادُ بِهِمَا الدِّينُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، فَالشِّرْعَةُ عِبَارَةٌ عَنْ مُطْلَقِ الشَّرِيعَةِ، وَالطَّرِيقَةُ عِبَارَةٌ عَنْ مَكَارِمِ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ الْمُرَادُ بِالْمِنْهَاجِ، فَالشَّرِيعَةُ أَوَّلٌ، وَالطَّرِيقَةُ آخِرٌ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الشَّرِيعَةُ ابْتِدَاءُ الطَّرِيقَةِ، وَالطَّرِيقَةُ الْمِنْهَاجُ الْمُسْتَمِرُّ، وَهَذَا تَقْرِيرُ مَا قلناه. واللَّه أعلم بأسرار كلامه. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أَيْ جَمَاعَةً مُتَّفِقَةً عَلَى شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ ذَوِي أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ، أَيْ دِينٍ وَاحِدٍ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ بِمَشِيئَةِ اللَّه تَعَالَى وَالْمُعْتَزِلَةُ حَمَلُوهُ عَلَى مَشِيئَةِ الْإِلْجَاءِ. ثُمَّ قَالَ تعالى: وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ مِنَ الشَّرَائِعِ الْمُخْتَلِفَةِ، هَلْ تَعْمَلُونَ بِهَا مُنْقَادِينَ للَّه خَاضِعِينَ لِتَكَالِيفِ اللَّه، أَمْ تَتَّبِعُونَ الشبه وتقصرون في العمل. فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْ فَابْتَدِرُوهَا وَسَابِقُوا نَحْوَهَا. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً اسْتِئْنَافٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِاسْتِبَاقِ الْخَيْرَاتِ. فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَيُخْبِرُكُمْ بِمَا لَا تَشُكُّونَ مَعَهُ مِنَ الْجَزَاءِ الْفَاصِلِ بَيْنَ مُحِقِّكُمْ وَمُبْطِلِكُمْ، وَمُوَفِّيكُمْ وَمُقَصِّرِكُمْ فِي الْعَمَلِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْأَمْرَ سَيَؤُولُ إِلَى مَا يزول معه الشكوك ويحصل مع الْيَقِينُ، وَذَلِكَ عِنْدَ مُجَازَاةِ الْمُحْسِنِ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءِ بإساءته. [سورة المائدة (5) : آية 49] وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الأولى: فإن قيل: قوله وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ معطوف على ماذا؟ قلنا: على الكتاب في قوله وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ [المائدة: 48] كَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ أَنِ احْكُمْ/ وَ (أَنْ) وُصِلَتْ بِالْأَمْرِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ بِالْحَقِّ [المائدة: 48] أي أنزلنا بِالْحَقِّ وَبِأَنِ احْكُمْ، وَقَوْلُهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْيَهُودَ اجْتَمَعُوا وَأَرَادُوا إِيقَاعَهُ فِي تَحْرِيفِ دِينِهِ فَعَصَمَهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ ذلك.

[سورة المائدة (5) : آية 50]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِلتَّخْيِيرِ فِي قَوْلِهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [الْمَائِدَةِ: 42] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أُعِيدَ ذِكْرُ الْأَمْرِ بِالْحُكْمِ بَعْدَ ذِكْرِهِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِمَّا لِلتَّأْكِيدِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمَا حُكْمَانِ أُمِرَ بِهِمَا جَمِيعًا، لِأَنَّهُمُ احْتَكَمُوا إِلَيْهِ فِي زِنَا الْمُحْصَنِ، ثُمَّ احْتَكَمُوا فِي قَتِيلٍ كَانَ فِيهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ بِهِ يَرُدُّوكَ إِلَى أَهْوَائِهِمْ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ صُرِفَ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ فَقَدْ فُتِنَ، وَمِنْهُ قوله وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الإسراء: 73] والفتنة هاهنا فِي كَلَامِهِمُ الَّتِي تُمِيلُ عَنِ الْحَقِّ وَتُلْقِي فِي الْبَاطِلِ وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا» قَالَ هُوَ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الطَّرِيقِ. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ جَائِزَانِ عَلَى الرَّسُولِ، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَالتَّعَمُّدُ فِي مِثْلِ هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى الرَّسُولِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ فَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوا حُكْمَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ يَبْتَلِيَهُمْ بِجَزَاءِ بَعْضِ ذُنُوبِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ أَنْ يُسَلِّطَكَ عَلَيْهِمْ، وَيُعَذِّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالْجَلَاءِ، وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّه تَعَالَى بَعْضَ الذُّنُوبِ لِأَنَّ الْقَوْمَ جُوزُوا فِي الدُّنْيَا بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ، وَكَانَ مُجَازَاتُهُمْ بِالْبَعْضِ كَافِيًا فِي إِهْلَاكِهِمْ وَالتَّدْمِيرِ عَلَيْهِمْ، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ بِإِرَادَةِ اللَّه تَعَالَى، لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ إِلَّا وَقَدْ أَرَادَ ذُنُوبَهُمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُرِيدٌ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ لَمُتَمَرِّدُونَ فِي الْكُفْرِ مُعْتَدُونَ فِيهِ، يَعْنِي أَنَّ التَّوَلِّيَ عَنْ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى من التمرد العظيم والاعتداء في الكفر. [سورة المائدة (5) : آية 50] أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ/ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ تَبْغُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْمُغَايَبَةِ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ بِرَفْعِ الْحُكْمِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَإِيقَاعِ يَبْغُونَ خَبَرًا وَإِسْقَاطِ الْرَّاجِعِ عَنْهُ لِظُهُورِهِ، وَقَرَأَ قَتَادَةُ أَبِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمُرَادُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الَّذِي يَبْغُونَهُ إِنَّمَا يَحْكُمُ بِهِ حُكَّامُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَرَادُوا بِشَهِيَّتِهِمْ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ حَكَمًا كَأُولَئِكَ الْحُكَّامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَتْ بَيْنَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ دِمَاءٌ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّه مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلَمَّا بُعِثَ تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ، فَقَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ: بَنُو النَّضِيرِ إِخْوَانُنَا، أَبُونَا وَاحِدٌ، وَدِينُنَا وَاحِدٌ، وَكِتَابُنَا وَاحِدٌ، فَإِنْ قَتَلَ بَنُو النَّضِيرِ مِنَّا قَتِيلًا أَعْطَوْنَا سَبْعِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ، وَإِنْ قَتَلْنَا مِنْهُمْ وَاحِدًا أَخَذُوا مِنَّا مِائَةً وَأَرْبَعِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ، وَأُرُوشُ جِرَاحَاتِنَا عَلَى النصف من أروش جِرَاحَاتِهِمْ، فَاقْضِ بَيْنَنَا

[سورة المائدة (5) : آية 51]

وَبَيْنَهُمْ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنَّ دَمَ الْقُرَظِيِّ وَفَاءٌ مِنْ دَمِ النَّضِرِيِّ، وَدَمَ النَّضِرِيِّ وَفَاءٌ مِنْ دَمِ الْقُرَظِيِّ، لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا فَضْلٌ عَلَى الْآخَرِ فِي دَمٍ وَلَا عَقْلٍ، وَلَا جِرَاحَةٍ، فَغَضِبَ بَنُو النَّضِيرِ وَقَالُوا: لَا نَرْضَى بِحُكْمِكَ فَإِنَّكَ عَدُوٌّ لَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ يَعْنِي حُكْمَهُمُ الْأَوَّلَ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا وَجَبَ الْحُكْمُ عَلَى ضُعَفَائِهِمْ أَلْزَمُوهُمْ إِيَّاهُ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَى أَقْوِيَائِهِمْ لَمْ يَأْخُذُوهُمْ بِهِ، فَمَنَعَهُمُ اللَّه تَعَالَى مِنْهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ تَعْيِيرًا لِلْيَهُودِ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَعِلْمٍ مَعَ أَنَّهُمْ يَبْغُونَ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَحْضُ الْجَهْلِ وَصَرِيحُ الْهَوَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ للبيان كاللام في هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23] أَيْ هَذَا الْخِطَابُ وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَعْدَلُ مِنَ اللَّه حُكْمًا، وَلَا أَحْسَنُ مِنْهُ بيانا. [سورة المائدة (5) : آية 51] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) اعْلَمْ أَنَّهُ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ أَوْلِياءَ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَرُوِيَ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَرَّأَ عِنْدَهُ مِنْ مُوَالَاةِ الْيَهُودِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ/ أُبَيٍّ: لَكِنِّي لَا أَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ لِأَنِّي أَخَافُ الدَّوَائِرَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَمَعْنَى لَا تَتَّخِذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ: أَيْ لَا تَعْتَمِدُوا عَلَى الِاسْتِنْصَارِ بِهِمْ، وَلَا تَتَوَدَّدُوا إِلَيْهِمْ. ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ كَأَنَّهُ مِثْلُهُمْ، وَهَذَا تَغْلِيظٌ مِنَ اللَّه وَتَشْدِيدٌ فِي وُجُوبِ مُجَانَبَةِ الْمُخَالِفِ فِي الدِّينِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [الْبَقَرَةِ: 249] . ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عنه: إن لي كاتبا نصرانيا، فقال: مالك قَاتَلَكَ اللَّه، أَلَا اتَّخَذْتَ حَنِيفًا، أَمَا سَمِعْتَ قول اللَّه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ قُلْتُ: لَهُ دِينُهُ وَلِيَ كِتَابَتُهُ، فقال: لا أكرمهم إذا أهانهم اللَّه، ولا أعزهم إذا أذلهم اللَّه، ولا أدنيهم إذا أَبْعَدَهُمُ اللَّه، قُلْتُ: لَا يَتِمُّ أَمْرُ الْبَصْرَةِ إِلَّا بِهِ، فَقَالَ: مَاتَ النَّصْرَانِيُّ وَالسَّلَامُ، يَعْنِي هَبْ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ فَمَا تَصْنَعُ بَعْدَهُ، فَمَا تَعْمَلُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَاعْمَلْهُ الْآنَ وَاسْتَغْنِ عنه بغيره. [سورة المائدة (5) : آية 52] فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الْمُنَافِقُونَ: مِثْلُ عَبْدِ اللَّه بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ، وَقَوْلُهُ يُسارِعُونَ فِيهِمْ أَيْ يُسَارِعُونَ فِي مَوَدَّةِ الْيَهُودِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ ثَرْوَةٍ وَكَانُوا يُعِينُونَهُمْ عَلَى مُهِمَّاتِهِمْ وَيُقْرِضُونَهُمْ، وَيَقُولُ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّمَا نُخَالِطُهُمْ لِأَنَّا نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الدَّائِرَةُ مِنْ دَوَائِرَ الدَّهْرِ كَالدَّوْلَةِ، وَهِيَ الَّتِي تَدُورُ مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ، وَالدَّائِرَةُ هِيَ الَّتِي تخشى، كالهزيمة

[سورة المائدة (5) : آية 53]

وَالْحَوَادِثِ الْمُخَوِّفَةِ، فَالدَّوَائِرُ تَدُورُ، وَالدَّوَائِلُ تَدُولُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ نَخْشَى أَنْ لَا يَتِمَّ الْأَمْرُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدُورُ الْأَمْرُ كَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ (عَسَى) مِنَ اللَّه وَاجِبٌ، لِأَنَّ الْكَرِيمَ إِذَا أَطْمَعَ فِي خَيْرٍ فَعَلَهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَعْدِ لِتَعَلُّقِ النَّفْسِ بِهِ وَرَجَائِهَا لَهُ، وَالْمَعْنَى: فَعَسَى اللَّه أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ لِرَسُولِ اللَّه عَلَى أَعْدَائِهِ وَإِظْهَارِ/ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يَقْطَعُ أَصْلَ الْيَهُودِ أَوْ يُخْرِجُهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ فَيُصْبِحَ الْمُنَافِقُونَ نَادِمِينَ عَلَى مَا حَدَّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَشُكُّونَ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ وَيَقُولُونَ: لَا نَظُنُّ أَنَّهُ يَتِمُّ لَهُ أَمْرُهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ تَصِيرَ الدَّوْلَةُ وَالْغَلَبَةُ لِأَعْدَائِهِ. وَقِيلَ: أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ، يَعْنِي أَنْ يُؤْمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِظْهَارِ أَسْرَارِ الْمُنَافِقِينَ وَقَتْلِهِمْ فَيَنْدَمُوا عَلَى فِعَالِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: شَرْطُ صِحَّةِ التَّقْسِيمِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَيْنَ قِسْمَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ، وَقَوْلُهُ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْفَتْحِ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ. قُلْنَا: قَوْلُهُ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ مَعْنَاهُ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ لَا يَكُونُ لِلنَّاسِ فِيهِ فِعْلٌ أَلْبَتَّةَ، كَبَنِي النَّضِيرِ الَّذِينَ طَرَحَ اللَّه فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَأُعْطُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ غَيْرِ مُحَارِبَةٍ وَلَا عَسْكَرٍ ثم قال تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 53] وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ يَقُولُ بِغَيْرِ وَاوِ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالشَّامِ، وَالْبَاقُونَ بِالْوَاوِ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْعِرَاقِ. قَالَ الواحدي رحمه اللَّه: وحذف الواو هاهنا كَإِثْبَاتِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ ذِكْرًا مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْمَوْصُوفَ بِقَوْلِهِ يُسارِعُونَ فِيهِمْ [المائدة: 52] هُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ الْمُؤْمِنُونَ أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ فَلَمَّا حَصَلَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ ذِكْرٌ مِنَ الْأُخْرَى حَسُنَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ وَبِغَيْرِ الْوَاوِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ لَمَّا كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ ذِكْرُ مَا تَقَدَّمَ أَغْنَى ذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ الْوَاوِ، ثُمَّ قَالَ: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الْكَهْفِ: 22] فَأَدْخَلَ/ الْوَاوَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حَذْفَ الْوَاوِ، وَذِكْرَهَا جَائِزٌ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» حَذْفُ الْوَاوِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ جَوَابُ قَائِلٍ يَقُولُ: فَمَاذَا يَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ حِينَئِذٍ؟ فَقِيلَ: يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا. وَاخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَةِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا نَصْبًا عَلَى مَعْنَى: وَعَسَى أَنْ يَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَأَمَّا مَنْ رَفَعَ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْوَاوَ لِعَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ قِرَاءَةُ مَنْ حَذَفَ الْوَاوَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفَائِدَةُ فِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ أَنَّهُمْ يتعجبون من حال المنافقين عند ما أَظْهَرُوا الْمَيْلَ إِلَى مُوَالَاةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَقَالُوا: إِنَّهُمْ يُقْسِمُونَ باللَّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ أَنَّهُمْ مَعَنَا وَمِنْ أَنْصَارِنَا، فَالْآنَ كَيْفَ صَارُوا مُوَالِينَ لِأَعْدَائِنَا مُحِبِّينَ لِلِاخْتِلَاطِ بِهِمْ وَالِاعْتِضَادِ بِهِمْ؟

[سورة المائدة (5) : آية 54]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى، وَالْمَعْنَى ذَهَبَ مَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَبَطَلَ كُلُّ خَيْرٍ عَمِلُوهُ لِأَجْلِ أَنَّهُمُ الْآنَ أَظْهَرُوا مُوَالَاةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَطَلَتْ أَعْمَالُهُمْ بَقِيَتْ عَلَيْهِمُ الْمَشَقَّةُ فِي الْإِتْيَانِ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ثَمَرَاتِهَا وَمَنَافِعِهَا، بَلِ اسْتَحَقُّوا اللَّعْنَ فِي الدُّنْيَا والعقاب في الآخرة. [سورة المائدة (5) : آية 54] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) [في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ] فيه مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ يَرْتَدِدْ بِدَالَيْنِ، وَالْبَاقُونَ بِدَالٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ، وَالْأَوَّلُ: لِإِظْهَارِ التَّضْعِيفِ، وَالثَّانِي: لِلْإِدْغَامِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِظْهَارُ الدَّالَيْنِ هُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّ الثَّانِيَ مِنَ الْمُضَاعَفِ إِذَا سُكِّنَ ظَهَرَ التَّضْعِيفُ، نَحْوَ قَوْلِهِ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ [آلِ عِمْرَانَ: 140] وَيَجُوزُ فِي اللُّغَةِ: إِنْ يَمَسَّكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ كَانَ أَهْلُ الرِّدَّةِ إِحْدَى عَشْرَةَ فِرْقَةً: ثَلَاثٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَنُو مُدْلِجٍ: وَرَئِيسُهُمْ ذُو الْحِمَارِ، وَهُوَ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ، وَكَانَ كَاهِنًا ادَّعَى النُّبُوَّةَ فِي الْيَمَنِ وَاسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِهَا، وَأَخْرَجَ عُمَّالَ رَسُولِ اللَّه، فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَسَادَاتِ الْيَمَنِ، فَأَهْلَكَهُ اللَّه عَلَى يَدِ فَيْرُوزٍ الدَّيْلَمِيِّ بَيَّتَهُ فَقَتَلَهُ، وَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّه بِقَتْلِهِ لَيْلَةَ قُتِلَ، فَسُرَّ الْمُسْلِمُونَ، وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّه مِنَ الْغَدِ وَأُتِيَ خَبَرُهُ فِي آخِرِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَبَنُو حَنِيفَةَ قَوْمُ مُسَيْلِمَةَ، ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَكَتَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّه: مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللَّه إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّه أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْأَرْضَ نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لَكَ، فَأَجَابَهُ الرَّسُولُ: مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّه إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْأَرْضَ للَّه يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، فَحَارَبَهُ أَبُو بَكْرٍ بِجُنُودِ الْمُسْلِمِينَ، وَقُتِلَ عَلَى يَدَيْ وَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ، وَكَانَ يَقُولُ: قَتَلْتُ خَيْرَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَشَرَّ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ، أَرَادَ فِي جَاهِلِيَّتِي وَفِي إِسْلَامِي. وَبَنُو أَسَدٍ قَوْمُ طُلَيْحَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ: ادَّعَى النُّبُوَّةَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّه خَالِدًا، فَانْهَزَمَ بَعْدَ الْقِتَالِ إِلَى الشَّامِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ. وَسَبْعٌ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ: فَزَارَةُ قَوْمُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَغَطَفَانُ قَوْمُ قُرَّةَ بْنِ سَلَمَةَ الْقُشَيْرِيِّ، وَبَنُو سُلَيْمٍ قَوْمُ الْفُجَاءَةَ بْنِ عَبْدِ يَالِيلَ، وَبَنُو يَرْبُوعٍ قَوْمُ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ، وَبَعْضُ بَنِي تَمِيمٍ قَوْمُ سَجَاحَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ الَّتِي ادَّعَتِ النُّبُوَّةَ وَزَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ مُسَيْلِمَةَ الكذاب، وكندة وقوم الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَبَنُو بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ بِالْبَحْرَيْنِ قَوْمُ الْحَطْمِ بْنِ زَيْدٍ، وَكَفَى اللَّه أَمْرَهُمْ عَلَى يَدِ أَبِي بَكْرٍ. وَفِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ فِي عَهْدِ عُمَرَ: غَسَّانُ قَوْمُ جَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ، وَذَلِكَ أَنَّ جَبَلَةَ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ عُمَرَ، وَكَانَ يَطُوفُ ذَاتَ يَوْمٍ جَارًّا رِدَاءَهُ، فَوَطِئَ رَجُلٌ طَرَفَ رِدَائِهِ فَغَضِبَ فَلَطَمَهُ، فَتَظَلَّمَ إِلَى عُمَرَ فَقَضَى لَهُ بِالْقِصَاصِ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، فَقَالَ: أَنَا أَشْتَرِيهَا بِأَلْفٍ، فَأَبَى الرَّجُلُ، فَلَمْ يَزَلْ يَزِيدُ

فِي الْفِدَاءِ إِلَى أَنْ بَلَغَ عَشَرَةَ آلَافٍ، فَأَبَى الرَّجُلُ إِلَّا الْقَصَاصَ، فَاسْتَنْظَرَ عُمَرَ فَأَنْظَرَهُ عُمَرُ فَهَرَبَ إِلَى الرُّومِ وَارْتَدَّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَتَوَلَّ مِنْكُمُ الْكُفَّارَ فَيَرْتَدَّ عَنْ دِينِهِ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَأْتِي بِأَقْوَامٍ آخَرِينَ يَنْصُرُونَ هَذَا الدِّينَ عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّه: عَلِمَ اللَّه أَنَّ قَوْمًا يَرْجِعُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَوْتِ نَبِيِّهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ سَيَأْتِي بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ، وَقَدْ وَقَعَ الْمُخْبَرُ عَلَى وَفْقِهِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْحَسَنُ وقتادة والضحاك وابن جريح: هُمْ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ قَاتَلُوا أَهْلَ الرِّدَّةِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: مَاتَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، وَاشْتَهَرَ النِّفَاقُ، وَنَزَلَ بِأَبِي مَا لَوْ نَزَلَ بِالْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ لَهَاضَهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي الْأَنْصَارِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ نَصَرُوا الرَّسُولَ وَأَعَانُوهُ عَلَى إِظْهَارِ الدِّينِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْيَمَنِ. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَشَارَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَقَالَ: هُمْ قَوْمُ هَذَا. وَقَالَ آخَرُونَ: هُمُ الْفُرْسُ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سئل عن هَذِهِ الْآيَةِ ضَرَبَ بِيَدِهِ/ عَلَى عَاتِقِ سَلْمَانَ وَقَالَ: هَذَا وَذَوُوهُ، ثُمَّ قَالَ: «لَوْ كَانَ الدِّينُ مُعَلَّقًا بِالثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ» . وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَفَعَ الرَّايَةَ إِلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ خَيْبَرَ قَالَ: «لَأَدْفَعَنَّ الرَّايَةَ غَدًا إِلَى رَجُلٍ يُحِبُّ اللَّه وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّه وَرَسُولُهُ» ، وَهَذَا هُوَ الصِّفَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ [الْمَائِدَةِ: 55] وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي حَقِّ عَلِيٍّ، فَكَانَ الْأَوْلَى جَعْلُ مَا قَبْلَهَا أَيْضًا فِي حَقِّهِ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَقَامَاتٌ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ الْإِمَامِيَّةِ مِنَ الرَّوَافِضِ، وَتَقْرِيرُ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ الَّذِينَ أَقَرُّوا بِخِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَإِمَامَتِهِ كُلَّهُمْ كَفَرُوا وَصَارُوا مُرْتَدِّينَ، لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا النَّصَّ الْجَلِيَّ عَلَى إمامة علي عليه السلام فَنَقُولُ: «لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَاءَ اللَّه تَعَالَى بِقَوْمٍ يُحَارِبُهُمْ وَيَقْهَرُهُمْ وَيَرُدُّهُمْ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ» بِدَلِيلِ قَوْلِهِ مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَكَلِمَةُ (مَنْ) فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ لِلْعُمُومِ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ صَارَ مُرْتَدًّا عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ اللَّه يَأْتِي بِقَوْمٍ يَقْهَرُهُمْ وَيَرُدُّهُمْ وَيُبْطِلُ شَوْكَتَهُمْ، فَلَوْ كَانَ الَّذِينَ نصبوا أبا بكر للخلافة لَوَجَبَ بِحُكْمِ الْآيَةِ أَنْ يَأْتِيَ اللَّه بِقَوْمٍ يَقْهَرُهُمْ وَيُبْطِلُ مَذْهَبَهُمْ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلِ الْأَمْرُ بِالضِّدِّ فَإِنَّ الرَّوَافِضَ هُمُ الْمَقْهُورُونَ الْمَمْنُوعُونَ عَنْ إِظْهَارِ مَقَالَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ أَبَدًا مُنْذُ كَانُوا عَلِمْنَا فَسَادَ مَقَالَتِهِمْ وَمَذْهَبِهِمْ، وَهَذَا كَلَامٌ ظَاهِرٌ لِمَنْ أَنْصَفَ. الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنَّا نَدَّعِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمُحَارَبَةِ الْمُرْتَدِّينَ، وَأَبُو بَكْرٍ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى مُحَارَبَةَ الْمُرْتَدِّينَ عَلَى مَا شَرَحْنَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ مُحَارَبَةُ الْمُرْتَدِّينَ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ

فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ وَهَذَا لِلِاسْتِقْبَالِ لَا لِلْحَالِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ غَيْرَ مَوْجُودِينَ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذَا الْخِطَابِ. فَإِنْ قِيلَ: هذا لا زم عَلَيْكُمْ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ قَاتَلَ بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ أَهْلَ الرِّدَّةِ مَا كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي الْحَالِ، وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّه بِقَوْمٍ قَادِرِينَ مُتَمَكِّنِينَ مِنْ هَذَا الْحِرَابِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَّا أَنَّهُ مَا كَانَ مُسْتَقِلًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ/ بِالْحِرَابِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَزَالَ السُّؤَالُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَا يُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ قِتَالٌ مَعَ أَهْلِ الرِّدَّةِ، فَكَيْفَ تُحْمَلُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قَالُوا: بَلْ كَانَ قِتَالُهُ مَعَ أَهْلِ الرِّدَّةِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ نَازَعَهُ فِي الْإِمَامَةِ كَانَ مُرْتَدًّا. قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اسْمَ الْمُرْتَدِّ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ تَارِكًا لِلشَّرَائِعِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَالْقَوْمُ الَّذِينَ نَازَعُوا عَلِيًّا مَا كَانُوا كَذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ إِنَّمَا يُحَارِبُهُمْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَعَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُسَمِّهِمْ أَلْبَتَّةَ بِالْمُرْتَدِّينَ، فَهَذَا الَّذِي يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الرَّوَافِضُ لَعَنَهُمُ اللَّه بُهْتٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى عَلِيٍّ أَيْضًا. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ مَنْ نَازَعَهُ فِي الْإِمَامَةِ كَانَ مُرْتَدًّا لَزِمَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَفِي قَوْمِهِ أَنْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ بِحُكْمِ ظَاهِرِ الْآيَةِ أَنْ يَأْتِيَ اللَّه بِقَوْمٍ يَقْهَرُونَهُمْ وَيَرُدُّونَهُمْ إِلَى الدِّينِ الصَّحِيحِ، وَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ عَلِمْنَا أَنَّ مُنَازَعَةَ عَلِيٍّ فِي الْإِمَامَةِ لَا تَكُونُ رِدَّةً، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ رِدَّةً لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى عَلِيٍّ، لِأَنَّهَا نَازِلَةٌ فِيمَنْ يُحَارِبُ الْمُرْتَدِّينَ، وَلَا يُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا نَازِلَةٌ فِي أَهْلِ الْيَمَنِ أَوْ فِي أَهْلِ فَارِسَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُمْ مُحَارَبَةٌ مَعَ الْمُرْتَدِّينَ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: اتَّفَقَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْمُحَارَبَةُ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا رَعِيَّةً وَأَتْبَاعًا وَأَذْنَابًا، وَكَانَ الرَّئِيسُ الْمُطَاعُ الْآمِرُ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى مَنْ كَانَ أَصْلًا فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ وَرَئِيسًا مُطَاعًا فِيهَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الرَّعِيَّةِ وَالْأَتْبَاعِ وَالْأَذْنَابِ، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِأَبِي بَكْرٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِأَبِي بَكْرٍ: هُوَ أَنَّا نَقُولُ: هَبْ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ قَدْ حَارَبَ الْمُرْتَدِّينَ، وَلَكِنَّ مُحَارَبَةَ أَبِي بَكْرٍ مَعَ الْمُرْتَدِّينَ كَانَتْ أَعْلَى حَالًا وَأَكْثَرَ مَوْقِعًا فِي الْإِسْلَامِ مِنْ مُحَارَبَةِ عَلِيٍّ مَعَ مَنْ خَالَفَهُ فِي الْإِمَامَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تُوُفِّيَ اضْطَرَبَتِ الْأَعْرَابُ وَتَمَرَّدُوا، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ هُوَ الَّذِي قَهَرَ مُسَيْلِمَةَ وَطُلَيْحَةَ، وَهُوَ الَّذِي حَارَبَ الطَّوَائِفَ السَّبْعَةَ الْمُرْتَدِّينَ، وَهُوَ الَّذِي حَارَبَ مَانِعِيِ الزَّكَاةِ، وَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَقَرَّ الْإِسْلَامُ وَعَظُمَتْ شَوْكَتُهُ وَانْبَسَطَتْ دَوْلَتُهُ. أَمَّا لَمَّا انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانَ الْإِسْلَامُ قَدِ انْبَسَطَ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَصَارَ مُلُوكُ الدُّنْيَا مَقْهُورِينَ، وَصَارَ الْإِسْلَامُ مُسْتَوْلِيًا عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُحَارَبَةَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَعْظَمُ تَأْثِيرًا فِي نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَتَقْوِيَتِهِ مِنْ مُحَارَبَةِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَعْظِيمُ قَوْمٍ يَسْعَوْنَ فِي تَقْوِيَةِ الدِّينِ وَنُصْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَلَمَّا كَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ. الْمَقَامُ الثَّالِثُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَهُوَ أَنَّا نَدَّعِي دَلَالَةَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ

بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِهِ فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الَّذِينَ أَرَادَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِصِفَاتٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ. فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ وَصْفٌ لِأَبِي بَكْرٍ، وَمَنْ وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُحِقًّا فِي إِمَامَتِهِ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ وَهُوَ صفة أبي بكر أيضا الدليل الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَيُؤَكِّدُهُ مَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ الْمُسْتَفِيضِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ» فَكَانَ مَوْصُوفًا بِالرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَبِالشِّدَّةِ مَعَ الْكُفَّارِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حِينَ كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّةَ وَكَانَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ كَيْفَ كَانَ يَذُبُّ عَنِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَيْفَ كَانَ يُلَازِمُهُ وَيَخْدِمُهُ، وَمَا كَانَ يُبَالِي بِأَحَدٍ مِنْ جَبَابِرَةِ الْكُفَّارِ وَشَيَاطِينِهِمْ، وَفِي آخِرِ الْأَمْرِ أَعْنِي وَقْتَ خِلَافَتِهِ كَيْفَ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِ أَحَدٍ، وَأَصَرَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمُحَارَبَةِ مَعَ مَانِعِيِ الزَّكَاةِ حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ خَرَجَ إِلَى قِتَالِ الْقَوْمِ وَحْدَهُ، حَتَّى جَاءَ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ وَمَنَعُوهُ مِنَ الذَّهَابِ، ثُمَّ لَمَّا بَلَغَ بَعْثُ الْعَسْكَرِ إِلَيْهِمُ انْهَزَمُوا وَجَعَلَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ مَبْدَأً لِدَوْلَةِ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ قَوْلُهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِهِ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ فَهَذَا مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ، إِلَّا أَنَّ حَظَّ أَبِي بَكْرٍ فِيهِ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُجَاهَدَةَ أَبِي بَكْرٍ مَعَ الْكُفَّارِ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْبَعْثِ، وَهُنَاكَ الْإِسْلَامُ كَانَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، وَالْكُفْرُ كَانَ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ، وَكَانَ يُجَاهِدُ الْكُفَّارَ بِمِقْدَارِ قُدْرَتِهِ، وَيَذُبُّ عَنْ رَسُولِ اللَّه بِغَايَةِ وُسْعِهِ، وَأَمَّا عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ إِنَّمَا شَرَعَ فِي الْجِهَادِ يَوْمَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ الْإِسْلَامُ قَوِيًّا وَكَانَتِ الْعَسَاكِرُ مُجْتَمِعَةً، فَثَبَتَ أَنَّ جِهَادَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ أَكْمَلَ مِنْ جِهَادِ عَلِيٍّ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ فِي الزَّمَانِ، فَكَانَ أَفْضَلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ [الْحَدِيدِ: 10] وَالثَّانِي: أَنَّ جِهَادَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ فِي وَقْتِ ضَعْفِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجِهَادَ عَلِيٍّ كَانَ فِي وَقْتِ الْقُوَّةِ، وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَهَذَا لَائِقٌ بِأَبِي بَكْرٍ لِأَنَّهُ مُتَأَكِّدٌ بِقَوْلِهِ تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ [النُّورِ: 22] وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَبِي بَكْرٍ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ لِأَبِي بَكْرٍ أَنَّا بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ فِي أَبِي بَكْرٍ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ لِأَبِي بَكْرٍ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ إِمَامَتِهِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ إِمَامَتُهُ بَاطِلَةً لَمَا كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ لَائِقَةً بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ حَالَ حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَمَّا شَرَعَ فِي الْإِمَامَةِ زَالَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ وَبَطَلَتْ. قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فَأَثْبَتَ كَوْنَهُمْ مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ حَالَ إِتْيَانِ اللَّه بِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى شَهَادَةِ اللَّه لَهُ بِكَوْنِهِ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ حَالَ مُحَارَبَتِهِ مَعَ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَذَلِكَ هُوَ حَالُ إِمَامَتِهِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ إِمَامَتِهِ، أَمَّا قَوْلُ الرَّوَافِضِ لَعَنَهُمُ اللَّه: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي حَقِّ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يوم خيبر: «لأعطيين الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّه وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّه وَرَسُولُهُ» وَكَانَ ذَلِكَ هُوَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَنَقُولُ: هَذَا الْخَبَرُ مِنْ بَابِ الْآحَادِ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي الْعَمَلِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي الْعِلْمِ، وَأَيْضًا أَنَّ إِثْبَاتَ هَذِهِ الصِّفَةِ

لِعَلِيٍّ لَا يُوجِبُ انْتِفَاءَهَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ لَكِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الصِّفَاتِ كَوْنُهُ كَرَّارًا غَيْرَ فَرَّارٍ، فَلَمَّا انْتَفَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ لَمْ يَحْصُلْ مَجْمُوعُ تِلْكَ الصِّفَاتِ لَهُ، فَكَفَى هَذَا فِي الْعَمَلِ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، فَأَمَّا انْتِفَاءُ جَمِيعِ تِلْكَ الصِّفَاتِ فَلَا دَلَالَةَ فِي اللَّفْظِ عَلَيْهِ، فَهُوَ تَعَالَى إِنَّمَا أَثْبَتَ هَذِهِ الصِّفَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَالَ اشْتِغَالِهِ بِمُحَارَبَةِ الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهَبْ أَنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ مَا كَانَتْ حَاصِلَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ حُصُولِهَا فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَلِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ تَمَسُّكٌ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَمَا ذَكَرُوهُ تَمَسُّكٌ بِالْخَبَرِ الْمَذْكُورِ الْمَنْقُولِ بِالْآحَادِ، وَلِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِ أَبِي بَكْرٍ مُحِبًّا للَّه وَلِرَسُولِهِ. وَكَوْنِ اللَّه مُحِبًّا لَهُ وَرَاضِيًا عَنْهُ. قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ وَلَسَوْفَ يَرْضى [اللَّيْلِ: 21] وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّه يَتَجَلَّى لِلنَّاسِ عَامَّةً وَيَتَجَلَّى لِأَبِي بَكْرٍ خَاصَّةً» وَقَالَ: «مَا صَبَّ اللَّه شَيْئًا فِي صَدْرِي إِلَّا وَصَبَّهُ فِي صَدْرِ أَبِي بَكْرٍ» وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ اللَّه وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّه وَرَسُولُهُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُمْ: الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ دَالَّةٌ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيٍّ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَازِلَةً فِي عَلِيٍّ، فَجَوَابُنَا: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ دَلَالَةَ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيٍّ وَسَنَذْكُرُ الْكَلَامَ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، فَهَذَا مَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ الْبَحْثِ واللَّه أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي الْمَحَبَّةِ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [الْبَقَرَةِ: 165] فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. وَفِيهِ دَقِيقَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ مَحَبَّتَهُ لَهُمْ عَلَى مَحَبَّتِهِمْ لَهُ، وَهَذَا حَقٌّ لِأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ اللَّه أَحَبَّهُمْ وَإِلَّا لَمَا وَفَّقَهُمْ حَتَّى صَارُوا مُحِبِّينَ لَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ/ بَيْنَهُمْ [الْفَتْحِ: 29] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَذِلَّةٌ جَمْعُ ذَلِيلٍ، وَأَمَّا ذَلُولٌ فَجَمْعُهُ ذُلُلٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ أَذِلَّةً هُوَ أَنَّهُمْ مُهَانُونَ، بَلِ الْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِهِمْ بِالرِّفْقِ وَلِينِ الْجَانِبِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ ذَلِيلًا عِنْدَ إِنْسَانٍ فَإِنَّهُ أَلْبَتَّةَ لَا يُظْهِرُ شَيْئًا مِنَ التَّكَبُّرِ وَالتَّرَفُّعِ، بَلْ لا يظهر إلا الرفق واللين فكذا هاهنا، فَقَوْلُهُ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ أَيْ يُظْهِرُونَ الْغِلْظَةَ وَالتَّرَفُّعَ عَلَى الْكَافِرِينَ. وَقِيلَ: يُعَازُونَهُمْ أَيْ يُغَالِبُونَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَزَّهُ يُعِزُّهُ إِذَا غَلَبَهُ، كَأَنَّهُمْ مُشَدِّدُونَ عَلَيْهِمْ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا قِيلَ: أَذِلَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ. قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُضَمِّنَ الذُّلَّ مَعْنَى الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: رَاحِمِينَ عَلَيْهِمْ مُشْفِقِينَ عَلَيْهِمْ عَلَى وَجْهِ التَّذَلُّلِ وَالتَّوَاضُعِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ كَلِمَةَ عَلَى حَتَّى يَدُلَّ عَلَى عُلُوِّ مَنْصِبِهِمْ وَفَضْلِهِمْ وَشَرَفِهِمْ، فَيُفِيدَ أَنَّ كَوْنَهُمْ أَذِلَّةً لَيْسَ لِأَجْلِ كَوْنِهِمْ ذَلِيلِينِ فِي أَنْفُسِهِمْ، بَلْ ذَاكَ التَّذَلُّلُ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَضُمُّوا إِلَى عُلُوِّ مَنْصِبِهِمْ فَضِيلَةَ التَّوَاضُعِ. وَقُرِئَ (أَذِلَّةً وَأَعِزَّةً) بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ لِنُصْرَةِ دِينِ اللَّه وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْوَاوُ لِلْحَالِ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُرَاقِبُونَ الْكُفَّارَ وَيَخَافُونَ لَوْمَهُمْ، فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ كَانَ قَوِيًّا فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ لَا يَخَافُ فِي نُصْرَةِ دِينِ اللَّه بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّه لَا لِغَرَضٍ آخَرَ، وَمِنْ شَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ صِلَابٌ فِي

[سورة المائدة (5) : آية 55]

نُصْرَةِ الدِّينِ لَا يُبَالُونَ بِلَوْمَةِ اللَّائِمِينَ، وَاللَّوْمَةُ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ اللَّوْمِ، وَالتَّنْكِيرُ فِيهَا وَفِي اللائم مبالغة، كأنه قيل: لا يخافون شيئا قَطُّ مِنْ لَوْمِ أَحَدٍ مِنَ اللَّائِمِينَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ فَقَوْلُهُ ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ وَصْفِ الْقَوْمِ بِالْمَحَبَّةِ وَالذِّلَّةِ وَالْعِزَّةِ وَالْمُجَاهَدَةِ وَانْتِفَاءِ خَوْفِ اللَّوْمَةِ الْوَاحِدَةِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أن كل ذلك بفضله إحسانه، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ طَاعَاتِ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ للَّه تَعَالَى، وَالْمُعْتَزِلَةُ يَحْمِلُونَ اللَّفْظَ عَلَى فِعْلِ الْأَلْطَافِ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ فِعْلَ. الْأَلْطَافِ عَامٌّ فِي حَقِّ الْكُلِّ، فَلَا بُدَّ فِي التَّخْصِيصِ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ فَالْوَاسِعُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَالْعَلِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْعِلْمِ، وَلَمَّا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ سَيَجِيءُ بِأَقْوَامٍ هَذَا شَأْنُهُمْ وَصِفَتُهُمْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَامِلُ الْقُدْرَةِ فَلَا يَعْجِزُ عَنْ هَذَا الْمَوْعُودِ، كَامِلُ الْعِلْمِ فَيَمْتَنِعُ دخول الخلف في أخباره ومواعيده. [سورة المائدة (5) : آية 55] إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَجْهُ النَّظْمِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمُوَالَاةِ مَنْ يَجِبُ مُوَالَاتُهُ وَقَالَ: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَيِ الْمُؤْمِنُونَ الْمَوْصُوفُونَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ عَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ لَمَّا تَبَرَّأَ مِنَ الْيَهُودِ وَقَالَ: أَنَا بَرِيءٌ إِلَى اللَّه مِنْ حِلْفِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَأَتَوَلَّى اللَّه وَرَسُولَهُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وَفْقِ قَوْلِهِ. وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنَ سَلَامٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّ قَوْمَنَا قَدْ هَجَرُونَا وَأَقْسَمُوا أَنْ لَا يُجَالِسُونَا، وَلَا نَسْتَطِيعُ مُجَالَسَةَ أَصْحَابِكَ لِبُعْدِ الْمَنَازِلِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَقَالَ: رَضِينَا باللَّه وَرَسُولِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ أَوْلِيَاءَ، فَعَلَى هَذَا: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَهُوَ وَلِيُّ كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التَّوْبَةِ: 71] وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ صِفَةٌ لِكُلِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَاتِ تَمْيِيزُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ إِلَّا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُدَاوِمِينَ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ، قَالَ تَعَالَى: فِي صِفَةِ صَلَاتِهِمْ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى [التوبة: 54] وقال: يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النِّسَاءِ: 142] وَقَالَ فِي صِفَةِ زَكَاتِهِمْ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ [الْأَحْزَابِ: 19] وَأَمَّا قَوْلُهُ وَهُمْ راكِعُونَ فَفِيهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ مِنَ الرُّكُوعِ الْخُضُوعُ، يَعْنِي أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ وَهُمْ مُنْقَادُونَ خَاضِعُونَ لِجَمِيعِ أَوَامِرِ اللَّه وَنَوَاهِيهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: مِنْ شَأْنِهِمْ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ، وَخُصَّ الرُّكُوعُ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [الْبَقَرَةِ: 43] وَالثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ أَصْحَابَهُ كَانُوا عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مُخْتَلِفُونَ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ، مِنْهُمْ مَنْ قَدْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ دَفَعَ الْمَالَ إِلَى الْفَقِيرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ بَعْدُ فِي الصَّلَاةِ وَكَانَ رَاكِعًا، فَلَمَّا كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى كُلَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: رَوَى عِكْرِمَةُ أن هذه

الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. وَالثَّانِي: رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام. وروي أَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنَ سَلَامٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه أَنَا رَأَيْتُ عَلِيًّا تَصَدَّقَ بِخَاتَمِهِ عَلَى مُحْتَاجٍ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَنَحْنُ نَتَوَلَّاهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا صَلَاةَ الظُّهْرِ، فَسَأَلَ سَائِلٌ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ، فَرَفَعَ السَّائِلُ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ أَنِّي سَأَلْتُ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا أَعْطَانِي أَحَدٌ شَيْئًا، وَعَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ رَاكِعًا، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ الْيُمْنَى وَكَانَ فِيهَا خَاتَمٌ، فَأَقْبَلَ السَّائِلُ حَتَّى أَخَذَ الْخَاتَمَ بِمَرْأَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّ أَخِي مُوسَى سَأَلَكَ» فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي إِلَى قَوْلِهِ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه: 25- 32] فَأَنْزَلْتَ قُرْآنًا نَاطِقًا سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً [الْقَصَصِ: 35] اللَّهُمَّ وَأَنَا مُحَمَّدٌ نَبِيُّكَ وَصَفِيُّكَ فَاشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي عَلِيًّا اشْدُدْ بِهِ ظهري. قال أبو ذر: فو اللَّه مَا أَتَمَّ رَسُولُ اللَّه هَذِهِ الْكَلِمَةَ حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اقْرَأْ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَى آخِرِهَا، فَهَذَا مَجْمُوعُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرِّوَايَاتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الشِّيعَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَتَقْرِيرُهُ أَنْ نَقُولَ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِمَامٌ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْإِمَامُ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. بَيَانُ الْمَقَامِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْوَلِيَّ فِي اللُّغَةِ قَدْ جَاءَ بِمَعْنَى النَّاصِرِ وَالْمُحِبِّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة: 71] وَجَاءَ بِمَعْنَى الْمُتَصَرِّفِ. قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا» فَنَقُولُ: هاهنا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ الْوَلِيُّ جَاءَ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ وَلَمْ يُعَيِّنِ اللَّه مُرَادَهُ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا، فَوَجَبَ دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ مُتَصَرِّفُونَ فِي الْأُمَّةِ. الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: الْوَلِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بمعنى الناصر، فوجب أن يكون بمعنى التصرف، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى النَّاصِرِ، لِأَنَّ الْوَلَايَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ عَامَّةٍ فِي كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بِكَلِمَةِ إِنَّما وَكَلِمَةُ إِنَّما لِلْحَصْرِ، كَقَوْلِهِ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ [النِّسَاءِ: 171] والولاية بمعنى النصرة عامة لقوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وهذا يوجب القطع بأن الولاية الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَتْ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ كَانَتْ بِمَعْنَى التَّصَرُّفِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعْنًى/ سِوَى هَذَيْنِ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: إِنَّمَا الْمُتَصَرِّفُ فِيكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ هُوَ اللَّه وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ الْمَوْصُوفُونَ بِالصِّفَةِ الْفُلَانِيَّةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَصَرِّفُونَ فِي جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَلَا مَعْنَى لِلْإِمَامِ إِلَّا الْإِنْسَانُ الَّذِي يَكُونُ مُتَصَرِّفًا فِي كُلِّ الْأُمَّةِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الشَّخْصَ الْمَذْكُورَ فِيهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ إِمَامَ الْأُمَّةِ. أَمَّا بَيَانُ الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ أَثْبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِمَامَةَ شَخْصٍ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ هُوَ عَلِيٌّ، وَقَدْ ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِمَامَةِ شَخْصٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّخْصُ هُوَ عَلِيٌّ، ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. الثَّانِي: تَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَقِّ عَلِيٍّ، وَلَا يُمْكِنُ الْمَصِيرُ إِلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِأَنَّهَا لَوْ نَزَلَتْ فِي حَقِّهِ لَدَلَّتْ عَلَى إِمَامَتِهِ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ هذه

الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى إِمَامَتِهِ، فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَهُمْ راكِعُونَ لَا يَجُوزُ جَعْلُهُ عَطْفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ تَقَدَّمَتْ، وَالصَّلَاةُ مُشْتَمِلَةُ عَلَى الرُّكُوعِ، فَكَانَتْ إِعَادَةُ ذِكْرِ الرُّكُوعِ تَكْرَارًا، فَوَجَبَ جَعْلُهُ حَالًا أَيْ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ حَالَ كَوْنِهِمْ رَاكِعِينَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ إِيتَاءَ الزَّكَاةِ حَالَ الرُّكُوعِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا فِي حَقِّ عَلِيٍّ، فَكَانَتِ الْآيَةُ مَخْصُوصَةً بِهِ وَدَالَّةً عَلَى إِمَامَتِهِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ، وَهَذَا حَاصِلُ اسْتِدْلَالِ الْقَوْمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْجَوَابُ: أَمَّا حَمْلُ لَفْظِ الْوَلِيِّ عَلَى النَّاصِرِ وَعَلَى الْمُتَصَرِّفِ مَعًا فَغَيْرُ جَائِزٍ، لِمَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَفْهُومَيْهِ مَعًا. أَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَنَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ الْوَلِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ النَّاصِرَ وَالْمُحِبَّ، وَنَحْنُ نُقِيمُ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ حَمْلَ لَفْظِ الْوَلِيِّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَعْنَى الْمُتَصَرِّفِ. ثُمَّ نُجِيبُ عَمَّا قَالُوهُ فَنَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى النَّاصِرِ أَوْلَى وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّائِقَ بِمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبِمَا بَعْدَهَا لَيْسَ إِلَّا هَذَا الْمَعْنَى، أَمَّا مَا قَبْلَ هذه الآية فلأنه تعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة: 51] وَلَيْسَ الْمُرَادُ لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَئِمَّةً مُتَصَرِّفِينَ فِي أَرْوَاحِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ لِأَنَّ بُطْلَانَ هَذَا كَالْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ، بَلِ الْمُرَادُ لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَحْبَابًا وَأَنْصَارًا، وَلَا تُخَالِطُوهُمْ وَلَا تُعَاضِدُوهُمْ، ثُمَّ لَمَّا بَالَغَ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّه وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ الْمَوْصُوفُونَ، والظاهر أن الولاية المأمور بها هاهنا هِيَ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا فِيمَا قَبْلُ، وَلَمَّا كَانَتِ الْوَلَايَةُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا فِيمَا قَبْلُ هِيَ الْوَلَايَةَ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ كَانَتِ/ الْوَلَايَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا هِيَ الْوَلَايَةَ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ، وَأَمَّا مَا بَعْدَ هَذِهِ الآية فهي قوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْمَائِدَةِ: 57] فَأَعَادَ النَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَلَايَةَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا هِيَ الْوَلَايَةُ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ، فَكَذَلِكَ الْوَلَايَةُ فِي قَوْلِهِ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ هِيَ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ، وَكُلُّ مَنْ أَنْصَفَ وَتَرَكَ التَّعَصُّبَ وَتَأَمَّلَ فِي مُقَدِّمَةِ الْآيَةِ وَفِي مُؤَخَّرِهَا قَطَعَ بِأَنَّ الْوَلِيَّ فِي قَوْلِهِ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ لَيْسَ إِلَّا بِمَعْنَى النَّاصِرِ وَالْمُحِبِّ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْإِمَامِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ إِلْقَاءَ كَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ فِيمَا بَيْنَ كَلَامَيْنِ مَسُوقَيْنِ لِغَرَضٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ وَالسُّقُوطِ، وَيَجِبُ تَنْزِيهُ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّا لَوْ حَمَلْنَا الْوَلَايَةَ عَلَى التَّصَرُّفِ وَالْإِمَامَةِ لَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ مَوْصُوفِينَ بِالْوَلَايَةِ حَالَ نُزُولِ الْآيَةِ، لِأَنَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّه وَجْهَهُ مَا كَانَ نَافِذَ التَّصَرُّفِ حَالَ حَيَاةِ الرَّسُولِ، وَالْآيَةُ تَقْتَضِي كَوْنَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مَوْصُوفِينَ بِالْوَلَايَةِ فِي الْحَالِ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَا الْوَلَايَةَ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالنُّصْرَةِ كَانَتِ الْوَلَايَةُ حَاصِلَةً فِي الْحَالِ، فَثَبَتَ أَنَّ حَمْلَ الْوَلَايَةِ عَلَى الْمَحَبَّةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى التَّصَرُّفِ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ مَا قُلْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى مَنَعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنِ اتِّخَاذِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِمُوَالَاةِ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مُوَالَاةُ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ حَاصِلَةً فِي الْحَالِ حَتَّى يَكُونَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ مُتَوَارِدَيْنِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَلَمَّا كَانَتِ الْوَلَايَةُ بِمَعْنَى التَّصَرُّفِ غَيْرَ حَاصِلَةٍ فِي الْحَالِ امْتَنَعَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهَا. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْصُوفِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ وَهِيَ قَوْلُهُ

وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ وَحَمْلُ أَلْفَاظِ الْجَمْعِ وَإِنْ جَازَ عَلَى الْوَاحِدِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لَكِنَّهُ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ، وَالْأَصْلَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا بِالْبُرْهَانِ الْبَيِّنِ أن الآية المتقدمة وهي قوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ [المائدة: 54] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَلَوْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى صِحَّةِ إِمَامَةِ عَلِيٍّ بَعْدَ الرَّسُولِ لَزِمَ التَّنَاقُضُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى أَنَّ عَلِيًّا هُوَ الْإِمَامُ بَعْدَ الرَّسُولِ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ أَعْرَفَ بِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ مِنْ هَؤُلَاءِ الرَّوَافِضِ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى إِمَامَتِهِ لَاحْتُجَّ بِهَا فِي مَحْفِلٍ مِنَ الْمَحَافِلِ، وَلَيْسَ للقوم أن يقولوا: إنه/ تركه للتقية فإنهم يَنْقُلُونَ عَنْهُ أَنَّهُ تَمَسَّكَ يَوْمَ الشُّورَى بِخَبَرِ الْغَدِيرِ، وَخَبَرِ الْمُبَاهَلَةِ، وَجَمِيعِ فَضَائِلِهِ وَمَنَاقِبِهِ، وَلَمْ يَتَمَسَّكْ أَلْبَتَّةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ إِمَامَتِهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِسُقُوطِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الرَّوَافِضِ لَعَنَهُمُ اللَّه. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: هَبْ أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيٍّ، لَكُنَّا تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّهَا عِنْدَ نُزُولِهَا مَا دَلَّتْ عَلَى حُصُولِ الْإِمَامَةِ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ عَلِيًّا مَا كَانَ نَافِذَ التَّصَرُّفِ فِي الْأُمَّةِ حَالَ حَيَاةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا سَيَصِيرُ إِمَامًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَتَى قَالُوا ذَلِكَ فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ وَنَحْمِلُهُ عَلَى إِمَامَتِهِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الْوَقْتِ، فَإِنْ قَالُوا: الْأُمَّةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيٍّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى إِمَامَتِهِ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ قَالَ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى إِمَامَتِهِ بَعْدَ الرَّسُولِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، فَالْقَوْلُ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيٍّ لَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّا نُجِيبُ عَنْهُ فَنَقُولُ: وَمَنِ الَّذِي أَخْبَرَكُمْ أَنَّهُ مَا كَانَ أَحَدٌ فِي الْأُمَّةِ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ، فَإِنَّ مِنَ الْمُحْتَمَلِ، بَلْ مِنَ الظَّاهِرِ أَنَّهُ مُنْذُ اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيٍّ، فَإِنَّ السَّائِلَ يُورِدُ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالِ هَذَا السُّؤَالَ، فَكَانَ ذِكْرُ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَهَذَا السُّؤَالِ مَقْرُونًا بِذِكْرِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ. الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْأُمَّةِ، وَهُمْ كَانُوا قَاطِعِينَ بِأَنَّ الْمُتَصَرِّفَ فِيهِمْ هُوَ اللَّه وَرَسُولُهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّه تعالى هذا الكلام تطييبا لقلوب الْمُؤْمِنِينَ وَتَعْرِيفًا لَهُمْ بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى اتِّخَاذِ الْأَحْبَابِ وَالْأَنْصَارِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ كَانَ اللَّه وَرَسُولُهُ نَاصِرًا لَهُ وَمُعِينًا لَهُ فَأَيُّ حَاجَةٍ بِهِ إِلَى طَلَبِ النُّصْرَةِ وَالْمَحَبَّةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ هُوَ الْوَلَايَةُ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لَفْظَ الْوَلِيِّ مَذْكُورٌ مَرَّةً وَاحِدَةً، فلما أريد به هاهنا مَعْنَى النُّصْرَةِ امْتَنَعَ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعْنَى التَّصَرُّفِ لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَفْهُومَيْهِ مَعًا. الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [الْمَائِدَةِ: 54] فَإِذَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى مَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالنُّصْرَةِ كَانَ قَوْلُهُ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يُفِيدُ فَائِدَةَ قَوْلِهِ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ وقوله يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المائدة: 54] يُفِيدُ فَائِدَةَ قَوْلِهِ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ/ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ [الْمَائِدَةِ: 55] فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُطَابِقَةً لِمَا قَبْلَهَا مُؤَكِّدَةً لِمَعْنَاهَا فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أن الولاية

الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ لَا بِمَعْنَى التَّصَرُّفِ. أَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي عَوَّلُوا عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ الْوَلَايَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ غَيْرُ عَامَّةٍ، وَالْوَلَايَةَ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ عَامَّةٌ، فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوَلَايَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ غَيْرُ عَامَّةٍ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ كَلِمَةَ (إِنَّمَا) لِلْحَصْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ [يُونُسَ: 24] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَهَا أَمْثَالٌ أُخْرَى سِوَى هَذَا الْمَثَلِ، وَقَالَ إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [مُحَمَّدٍ: 36] وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّعِبَ وَاللَّهْوَ قَدْ يَحْصُلُ فِي غَيْرِهَا. الثَّانِي: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوَلَايَةَ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ عَامَّةٌ فِي كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَسَمَ الْمُؤْمِنِينَ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِينَ جَعَلَهُمْ مُوَلِّيًا عَلَيْهِمْ وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَالثَّانِي: الْأَوْلِيَاءُ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، فإذا فسرنا الولاية هاهنا بِمَعْنَى النُّصْرَةِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ أَنْصَارًا لِلْقِسْمِ الثَّانِي. وَنُصْرَةُ الْقِسْمِ الثَّانِي غَيْرُ حَاصِلَةٍ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ فِي الْقِسْمِ الَّذِي هُمُ الْمَنْصُورُونَ أَنْ يَكُونُوا نَاصِرِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ نُصْرَةَ أَحَدِ قِسْمَيِ الْأُمَّةِ غَيْرُ ثَابِتَةٍ لِكُلِّ الْأُمَّةِ، بَلْ مَخْصُوصَةٌ بِالْقِسْمِ الثَّانِي مِنَ الْأُمَّةِ، فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ كَوْنِ الْوَلَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَاصَّةً أَنْ لَا تَكُونَ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ، وَهَذَا جَوَابٌ حَسَنٌ دَقِيقٌ لَا بُدَّ مِنَ التَّأَمُّلِ فِيهِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَقِّ عَلِيٍّ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ زَعَمُوا أَنَّهُ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ الْمُسْلِمَ أَنْ لَا يَتَّخِذَ الْحَبِيبَ وَالنَّاصِرَ إِلَّا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ أَدَّى الزَّكَاةَ في الركوع حال كونه فِي الرُّكُوعِ، وَذَلِكَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَنَقُولُ: هَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الزَّكَاةَ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ لَا لِلْمَنْدُوبِ بدليل قوله تعالى وَآتُوا الزَّكاةَ [البقرة: 43] فَلَوْ أَنَّهُ أَدَّى الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ فِي حَالِ كَوْنِهِ فِي الرُّكُوعِ لَكَانَ قَدْ أَخَّرَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْوُجُوبِ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مَعْصِيَةٌ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِسْنَادُهُ إِلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَحَمْلُ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّدَقَةِ النَّافِلَةِ خِلَافُ الْأَصْلِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ وَآتُوا الزَّكاةَ ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ زَكَاةً فَهُوَ وَاجِبٌ. الثاني: وهو أَنَّ اللَّائِقَ بِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَغْرِقَ الْقَلْبِ بِذِكْرِ اللَّه حَالَ مَا يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَتَفَرَّغُ لِاسْتِمَاعِ كَلَامِ الْغَيْرِ وَلِفَهْمِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً/ وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آلِ عِمْرَانَ: 191] وَمَنْ كَانَ قَلْبُهُ مُسْتَغْرِقًا فِي الْفِكْرِ كَيْفَ يَتَفَرَّغُ لِاسْتِمَاعِ كَلَامِ الْغَيْرِ. الثَّالِثُ: أَنَّ دَفْعَ الْخَاتَمِ فِي الصَّلَاةِ لِلْفَقِيرِ عَمَلٌ كَثِيرٌ، وَاللَّائِقُ بِحَالِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أن لا يفعل ذلك. الرابع: أن الْمَشْهُورُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فَقِيرًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَمَّا أَعْطَى ثَلَاثَةَ أَقْرَاصٍ نزل فيه سورة هَلْ أَتى [الإنسان: 1] وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا إِذَا كَانَ فَقِيرًا، فَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمَدْحَ الْعَظِيمَ الْمَذْكُورَ فِي تِلْكَ السُّورَةِ عَلَى إِعْطَاءِ ثَلَاثَةِ أَقْرَاصٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ امْتَنَعَ حَمْلُ قَوْلِهِ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ عَلَيْهِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: هَبْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَكِنَّهُ لَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ إِلَّا إِذَا تَمَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَلِيِّ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ لَا النَّاصِرُ وَالْمُحِبُّ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ.

[سورة المائدة (5) : آية 56]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ هُوَ أَنَّهُمْ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ حَالَ كَوْنِهِمْ رَاكِعِينَ احْتَجُّوا بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْقَلِيلَ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، فَإِنَّهُ دَفَعَ الزَّكَاةَ إِلَى السَّائِلِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ نَوَى إِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا تَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَبَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ هُوَ اللَّه تَعَالَى وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَلِمَ لَمْ يَقُلْ: إِنَّمَا أَوْلِيَاؤُكُمْ؟ وَالْجَوَابُ: أَصْلُ الْكَلَامِ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّه، فَجُعِلَتِ الْوَلَايَةُ للَّه عَلَى طَرِيقِ الْأَصَالَةِ، ثُمَّ نُظِمَ فِي سَلْكِ إِثْبَاتِهَا لَهُ إِثْبَاتُهَا لِرَسُولِ اللَّه وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّمَا أَوْلِيَاؤُكُمُ اللَّه وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ أَصْلٌ وَتَبَعٌ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّه: إِنَّمَا مَوْلَاكُمُ اللَّه. السُّؤَالُ الثَّانِي: الَّذِينَ يُقِيمُونَ مَا مَحَلُّهُ؟ الْجَوَابُ: الرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أَوْ يُقَالُ: التَّقْدِيرُ: هُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ، أَوِ النَّصْبُ عَلَى الْمَدْحِ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِهِ تَمْيِيزُ الْمُؤْمِنِ الْمُخْلِصِ عَمَّنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ وَيَكُونُ مُنَافِقًا لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِخْلَاصَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِكَوْنِهِ مُوَاظِبًا عَلَى الصَّلَاةِ فِي حَالِ الرُّكُوعِ، أَيْ فِي حال الخضوع والخشوع والإخبات للَّه تعالى. [سورة المائدة (5) : آية 56] وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) فيه مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْحِزْبُ فِي اللُّغَةِ أَصْحَابُ الرَّجُلِ الَّذِينَ يَكُونُونَ مَعَهُ عَلَى رَأْيِهِ، وَهُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ يَجْتَمِعُونَ لِأَمْرِ حِزْبِهِمْ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ عِبَارَاتٌ. قَالَ الْحَسَنُ: جُنْدُ اللَّه، وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: أَوْلِيَاءُ اللَّه وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: شِيعَةُ اللَّه، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْصَارُ اللَّه. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: حِزْبُ اللَّه الَّذِينَ يَدِينُونَ بِدِينِهِ وَيُطِيعُونَهُ فَيَنْصُرُهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ جُمْلَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَالْعَائِدُ غَيْرُ مَذْكُورٍ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، وَالتَّقْدِيرٌ فَهُوَ غَالِبٌ لِكَوْنِهِ من جند اللَّه وأنصاره. [سورة المائدة (5) : آية 57] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنِ اتِّخَاذِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ وَسَاقَ الْكَلَامَ فِي تَقْرِيرِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ هاهنا النَّهْيَ الْعَامَّ عَنْ مُوَالَاةِ جَمِيعِ الْكُفَّارِ وَهُوَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ الْكُفَّارِ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَمِنَ الْكُفَّارِ، وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا بِتَقْدِيرِ: وَلَا الْكُفَّارَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قِيلَ: كَانَ رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث أَظْهَرَا الْإِيمَانَ ثُمَّ نَافَقَا، وَكَانَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُوَادُّونَهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي امْتِيَازَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنِ الْكُفَّارِ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، وَقَوْلُهُ لَمْ

[سورة المائدة (5) : آية 58]

يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الْبَيِّنَةِ: 1] صَرِيحٌ فِي كَوْنِهِمْ كُفَّارًا، وَطَرِيقُ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُفْرَ الْمُشْرِكِينَ أَعْظَمُ وَأَغْلَظُ، فَنَحْنُ لِهَذَا السَّبَبِ نُخَصِّصُهُمْ بِاسْمِ الْكُفْرِ. واللَّه أَعْلَمُ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَعْنَى تَلَاعُبِهِمْ بِالدِّينِ وَاسْتِهْزَائِهِمْ إِظْهَارُهُمْ ذَلِكَ بِاللِّسَانِ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ فِي الْقَلْبِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [الْبَقَرَةِ: 14] وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَسُخْرِيَةً فَلَا تَتَّخِذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَأَنْصَارًا وَأَحْبَابًا، فإن ذلك الأمر الخارج عن العقل والمروءة. [سورة المائدة (5) : آية 58] وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) لَمَّا حَكَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَنْهُمْ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَ المسلمين هزوا ولعبا ذكر هاهنا بَعْضَ مَا يَتَّخِذُونَهُ مِنْ هَذَا الدِّينِ هُزُوًا وَلَعِبًا فَقَالَ: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ اتَّخَذُوها لِلصَّلَاةِ أَوِ الْمُنَادَاةِ. قِيلَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ النَّصَارَى بِالْمَدِينَةِ إِذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه يَقُولُ: أُحْرِقَ الْكَاذِبُ، فَدَخَلَتْ خَادِمَتُهُ بِنَارٍ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَتَطَايَرَتْ مِنْهَا شَرَارَةٌ فِي الْبَيْتِ فَاحْتَرَقَ الْبَيْتُ وَاحْتَرَقَ هُوَ وَأَهْلُهُ. وَقِيلَ: كَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِي لِلصَّلَاةِ وَقَامَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهَا، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: قَامُوا لَا قَامُوا، صَلَّوْا لَا صَلَّوْا عَلَى طريق الاستهزاء، فنزلت الآية. وقيل: كان المنافقون يتضاحكون عند القيام إلى الصلاة تنفيرا للناس عنها. وَقِيلَ: قَالُوا يَا مُحَمَّدُ لَقَدْ أَبْدَعْتَ شَيْئًا لَمْ يُسْمَعْ فِيمَا مَضَى، فَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَقَدْ خَالَفْتَ فِيمَا أَحْدَثْتَ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ، فَمِنْ أَيْنَ لَكَ صِيَاحٌ كَصِيَاحِ الْعِيرِ، فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى ثُبُوتِ الْأَذَانِ بِنَصِّ الْكِتَابِ لَا بِالْمَنَامِ وَحْدَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ هُزُواً وَلَعِباً أَمْرَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عِنْدَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ يَقُولُونَ: هَذِهِ الْأَعْمَالُ الَّتِي أَتَيْنَا بِهَا اسْتِهْزَاءٌ بِالْمُسْلِمِينَ وَسُخْرِيَةٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّا عَلَى دِينِهِمْ مَعَ أَنَّا لَسْنَا كَذَلِكَ. وَلَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا فَائِدَةٌ وَمَنْفَعَةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا قَالُوا إِنَّهَا لَعِبٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ أَيْ لَوْ كَانَ لَهُمْ عَقْلٌ كَامِلٌ لَعَلِمُوا أَنَّ تَعْظِيمَ الْخَالِقِ الْمُنْعِمِ وَخِدْمَتَهُ مَقْرُونَةٌ بِغَايَةِ التَّعْظِيمِ لَا يَكُونُ هُزُوًا وَلَعِبًا، بَلْ هُوَ أَحْسَنُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ وَأَشْرَفُ أَفْعَالِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: أَشْرَفُ الْحَرَكَاتِ الصلاة، وأنفع السكنات الصيام. [سورة المائدة (5) : آية 59] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) [في قوله تعالى قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ] اعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ النَّظْمِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَ الْإِسْلَامِ هُزُوًا وَلَعِبًا قَالَ لَهُمْ: مَا الَّذِي تَنْقِمُونَ مِنْ هَذَا الدِّينِ، وَمَا الَّذِي تَجِدُونَ فِيهِ مِمَّا يُوجِبُ اتِّخَاذَهُ هُزُوًا وَلَعِبًا وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْحَسَنُ هَلْ تَنْقِمُونَ بِفَتْحِ الْقَافِ، وَالْفَصِيحُ كَسْرُهَا. يُقَالُ: نَقِمْتُ الشَّيْءَ وَنَقَمْتُهُ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِهَا إِذَا أَنْكَرْتَهُ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ عِبَارَاتٌ: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا: هَلْ تَعِيبُونَ هَلْ تُنْكِرُونَ، هَلْ تَكْرَهُونَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: سُمِّيَ الْعِقَابُ نِقْمَةً لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَا يُنْكَرُ مِنَ الْفِعْلِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْكَرَاهَةُ الَّتِي يَتْبَعُهَا سُخْطٌ مِنَ الْكَارِهِ تُسَمَّى نِقْمَةً، لِأَنَّهَا تَتْبَعُهَا النِّقْمَةُ الَّتِي هِيَ الْعَذَابُ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَفْظُ النِّقْمَةِ مَوْضُوعٌ أَوَّلًا لِلْمَكْرُوهِ، ثُمَّ سُمِّيَ الْعَذَابُ نِقْمَةً لِكَوْنِهِ مَكْرُوهًا، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي لَفْظُ النِّقْمَةِ مَوْضُوعٌ لِلْعَذَابِ، ثُمَّ سَمِّيَ الْمُنْكَرُ وَالْمَكْرُوهُ نِقْمَةً لِأَنَّهُ يَتْبَعُهُ الْعَذَابُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ يَقُولُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ: لِمَ اتَّخَذْتُمْ هَذَا الدِّينَ هُزُوًا وَلَعِبًا، ثُمَّ قَالَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ: هَلْ تَجِدُونَ فِي هَذَا الدِّينِ إِلَّا الْإِيمَانَ باللَّه وَالْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْإِيمَانَ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ! يَعْنِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا يُنْقَمُ، أَمَّا الْإِيمَانُ باللَّه فَهُوَ رَأْسُ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ وَبِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ فَهُوَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ إِلَى تَصْدِيقِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ فِي ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ هُوَ الْمُعْجِزُ، ثُمَّ رَأَيْنَا أَنَّ الْمُعْجِزَ حَصَلَ عَلَى يَدِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَجَبَ الْإِقْرَارُ بِكَوْنِهِ رَسُولًا، فَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْبَعْضِ وَإِنْكَارُ الْبَعْضِ فَذَلِكَ كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ، وَمَذْهَبٌ بَاطِلٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ هُوَ الدين الحق والطريق المستقيم، فلم تنقموه عَلَيْنَا! قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَفَرًا مِنَ الْيَهُودِ أَتَوْا رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنَ الرُّسُلِ، فَقَالَ: أُومِنُ باللَّه وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ إِلَى قَوْلِهِ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، فَلَمَّا ذَكَرَ عِيسَى جَحَدُوا نُبُوَّتَهُ وَقَالُوا: واللَّه مَا نَعْلَمُ أَهْلَ دِينٍ أَقَلَّ حَظًّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْكُمْ وَلَا دِينًا شَرًّا مِنْ دِينِكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا بَعْدَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ فَالْقِرَاءَةُ الْعَامَّةُ أَنْ بِفَتْحِ الْأَلِفِ، وَقَرَأَ نُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ إِنَّ بِالْكَسْرِ، وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَنْقِمُ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَعَ كَوْنِ أَكْثَرِ الْيَهُودِ فَاسِقِينَ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ تَخْصِيصٌ لَهُمْ بِالْفِسْقِ، فَيَدُلُّ عَلَى سَبِيلِ التَّعْرِيضِ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَبِّعُوهُمْ عَلَى فِسْقِهِمْ، فَكَانَ الْمَعْنَى: وَمَا تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا. وَمَا فَسَقْنَا مِثْلَكُمْ، الثَّانِي: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَنْقِمُ الْيَهُودُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يُنْقَمُ ذَكَرَ فِي مُقَابِلِهِ/ فِسْقَهُمْ، وَهُوَ مِمَّا يُنْقَمُ، وَمِثْلُ هَذَا حَسَنٌ فِي الِازْدِوَاجِ. يَقُولُ الْقَائِلُ: هَلْ تَنْقِمُ مِنِّي إِلَّا أَنِّي عَفِيفٌ وَأَنَّكَ فَاجِرٌ، وَأَنِّي غَنِيٌّ وَأَنْتَ فَقِيرٌ، فَيَحْسُنُ ذَلِكَ لِإِتْمَامِ الْمَعْنَى عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ بِمَعْنَى (مَعَ) أَيْ وَمَا تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا الْإِيمَانَ باللَّه مَعَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ، فَإِنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِالصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ وَاكْتَسَبَ الثَّانِي شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ كَانَ اكْتِسَابُهُ لِلصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ مَعَ كَوْنِ خَصْمِهِ مُكْتَسِبًا لِلصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ أَشَدَّ تَأْثِيرًا فِي وُقُوعِ الْبُغْضِ وَالْحَسَدِ فِي قَلْبِ الْخَصْمِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ وَاعْتِقَادُ أَنَّكُمْ فَاسِقُونَ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَمَا تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا بِأَنْ آمَنَّا باللَّه وَبِأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ، يَعْنِي بِسَبَبِ فِسْقِكُمْ نَقَمْتُمُ الْإِيمَانَ عَلَيْنَا. السَّادِسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا مَعْطُوفًا عَلَى تَعْلِيلٍ مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا الْإِيمَانَ لِقِلَّةِ إِنْصَافِكُمْ، وَلِأَجْلِ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون.

[سورة المائدة (5) : آية 60]

السُّؤَالُ الثَّانِي: الْيَهُودُ كُلُّهُمْ فُسَّاقٌ وَكُفَّارٌ، فَلِمَ خَصَّ الْأَكْثَرَ بِوَصْفِ الْفِسْقِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: يَعْنِي أَنَّ أَكْثَرَكُمْ إِنَّمَا يَقُولُونَ مَا يَقُولُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ طَلَبًا لِلرِّيَاسَةِ وَالْجَاهِ وَأَخْذِ الرِّشْوَةِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى الْمُلُوكِ، فَأَنْتُمْ فِي دِينِكُمْ فُسَّاقٌ لَا عُدُولٌ، فَإِنَّ الْكَافِرَ وَالْمُبْتَدِعَ قَدْ يَكُونُ عَدْلَ دِينِهِ، وَقَدْ يَكُونُ فَاسِقَ دِينِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّهُمْ مَا كَانُوا كَذَلِكَ فَلِذَلِكَ خُصَّ أَكْثَرُهُمْ بِهَذَا الْحُكْمِ، وَالثَّانِي: ذُكِرَ أَكْثَرُهُمْ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ داخل في ذلك [سورة المائدة (5) : آية 60] قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) [في قوله تعالى قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ إلى قوله تعالى وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ] فيه مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ مِنْ ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُنْقِمِ، وَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَتَقْدِيرُهُ: بِشَرٍّ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَلَا يُقَالُ الْمَلْعُونُ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ الدِّينِ، بَلْ يُقَالُ: إِنَّهُ شَرٌّ مِمَّنْ لَهُ ذَلِكَ الدِّينُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْمَوْصُوفِينَ بِذَلِكَ الدِّينِ مَحْكُومًا عَلَيْهِمْ بِالشَّرِّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. قُلْنَا: إِنَّمَا خَرَجَ الْكَلَامُ عَلَى حَسَبِ قَوْلِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ، فَإِنَّهُمْ حَكَمُوا بِأَنَّ اعْتِقَادَ ذَلِكَ الدِّينِ شَرٌّ، فَقِيلَ لَهُمْ: هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ لَعْنَةَ اللَّه وَغَضَبَهُ وَمَسْخَ الصُّوَرِ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَثُوبَةً نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَوَزْنُهَا مَفُعْلَةٌ كَقَوْلِكَ: مَقُولَةٌ وَمَجُوزَةٌ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَقَدْ جَاءَتْ مَصَادِرُ عَلَى مَفْعُولٍ كَالْمَعْقُولِ وَالْمَيْسُورِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَثُوبَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْإِحْسَانِ، فَكَيْفَ جَاءَتْ فِي الْإِسَاءَةِ؟ قُلْنَا: هَذَا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آلِ عِمْرَانَ: 21] وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (مَنْ) فِي قَوْلِهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ فَكَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: مَنْ ذَلِكَ؟ فَقِيلَ: هُوَ مَنْ لَعَنَهُ اللَّه وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ [الْحَجِّ: 72] كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ النَّارُ. الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بَدَلًا مِنْ (شَرٍّ) وَالْمَعْنَى أُنَبِّئُكُمْ بِمَنْ لَعَنَهُ اللَّه. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ صِفَاتِهِمْ أَنْوَاعًا: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَعَنَهُمْ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ غَضِبَ عَلَيْهِمْ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ. قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: عَنَى بِالْقِرَدَةِ أَصْحَابَ السَّبْتِ، وَبِالْخَنَازِيرِ كُفَّارَ مَائِدَةِ عِيسَى. وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ الْمَسْخَيْنِ كَانَا فِي أَصْحَابِ السَّبْتِ لِأَنَّ شُبَّانَهُمْ مُسِخُوا قِرَدَةً، وَمَشَايِخَهُمْ مُسِخُوا خَنَازِيرَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أَنْوَاعًا من القراآت: أَحَدُهَا: قَرَأَ أُبَيٌّ: وَعَبَدُوا الطَّاغُوتَ، وَثَانِيهَا: قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَمَنْ عَبَدُوا، وَثَالِثُهَا: وَعَابِدُ الطَّاغُوتِ عَطْفًا عَلَى الْقِرَدَةِ،

[سورة المائدة (5) : آية 61]

وَرَابِعُهَا: وَعَابِدِي، وَخَامِسُهَا: وَعَبَّادُ، وَسَادِسُهَا: وَعَبْدَ، وَسَابِعُهَا: وَعَبَّدَ، بِوَزْنِ حَطَّمَ، وَثَامِنُهَا: وَعَبِيدُ، وَتَاسِعُهَا: وَعُبُدُ بضمتين جميع عَبِيدٍ، وَعَاشِرُهَا: وَعَبَدَةُ بِوَزْنِ كَفَرَةٍ، وَالْحَادِيَ عَشَرَ: وَعَبَدُ، وَأَصْلُهُ عَبَدَةٌ، فَحُذِفَتِ التَّاءُ لِلْإِضَافَةِ، أَوْ هُوَ كَخَدَمٍ فِي جَمْعِ خَادِمٍ، وَالثَّانِيَ عَشَرَ: عَبَدَ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ: عِبَادُ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ: وَأَعْبُدُ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ: وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَحُذِفَ الرَّاجِعُ، بِمَعْنَى وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ فِيهِمْ أَوْ بَيْنَهُمْ، وَالسَّادِسَ عَشَرَ: وَعَبَدَ الطَّاغُوتُ، بِمَعْنَى صَارَ الطَّاغُوتُ مَعْبُودًا مِنْ دُونِ اللَّه تَعَالَى، كَقَوْلِكَ: أَمَرَ إِذَا صَارَ أَمِيرًا، وَالسَّابِعَ عَشَرَ: قَرَأَ حَمْزَةُ: عَبُدَ الطَّاغُوتِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الْبَاءِ وَنَصْبِ الدَّالِ وَجَرِّ الطَّاغُوتِ، / وَعَابُوا هَذِهِ الْقِرَاءَةَ عَلَى حَمْزَةَ وَلَحَّنُوهُ وَنَسَبُوهُ إِلَى مَا لَا يَجُوزُ ذِكْرُهُ، وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِلَحْنٍ وَلَا خَطَأٍ، وَذَكَرُوا فِيهَا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْعَبُدُ إِلَّا أَنَّهُمْ ضَمُّوا الْبَاءَ لِلْمُبَالَغَةِ، كَقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ حَذُرٌ وَفَطُنٌ لِلْبَلِيغِ فِي الْحَذَرِ وَالْفِطْنَةِ، فَتَأْوِيلُ عَبُدَ الطَّاغُوتِ أَنَّهُ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْوُجُوهِ. الثاني: أَنَّ الْعَبْدَ، وَالْعَبُدَ لُغَتَانِ كَقَوْلِهِمْ: سَبْعٌ وَسَبُعٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْعَبُدَ جَمْعُهُ عِبَادٌ، وَالْعِبَادُ جَمْعُهُ عُبُدٌ، كَثِمَارٍ وَثُمُرٍ. ثُمَّ اسْتَثْقَلُوا ضَمَّتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ فَأُبْدِلَتِ الْأُولَى بِالْفَتْحَةِ. الرَّابِعُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَعْبُدُ الطَّاغُوتَ، فَيَكُونُ مِثْلَ فَلَسَ وَأَفْلَسَ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ وَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الْعَيْنِ. الْخَامِسُ: يحتمل أنه أراد: وعبدة الطاغوت، كما قريء، ثُمَّ حَذَفَ الْهَاءَ وَضَمَّ الْبَاءَ لِئَلَّا يُشْتَبَهُ بِالْفِعْلِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ قَالَ الفرّاء: تأويله وجعل منهم القردة من عَبَدَ الطَّاغُوتَ، فَعَلَى هَذَا: الْمَوْصُولُ مَحْذُوفٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ بِقَضَاءِ اللَّه. قَالُوا: لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ وَجَعَلَ اللَّه مِنْهُمْ مَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ، وَإِنَّمَا يُعْقَلُ مَعْنَى هَذَا الْجَعْلِ إِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ فِيهِمْ تِلْكَ الْعِبَادَةَ، إِذْ لَوْ كَانَ جَعْلُ تِلْكَ الْعِبَادَةِ مِنْهُمْ لَكَانَ اللَّه تَعَالَى مَا جَعَلَهُمْ عَبَدَةَ الطَّاغُوتِ، بَلْ كَانُوا هُمُ الَّذِينَ جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْآيَةِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَوَصَفَهُمْ بِهِ كَقَوْلِهِ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزُّخْرُفِ: 19] وَالْكَلَامُ فِيهِ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قِيلَ: الطَّاغُوتُ الْعِجْلُ، وَقِيلَ: الطَّاغُوتُ الْأَحْبَارُ، وَكُلُّ مَنْ أَطَاعَ أَحَدًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّه فَقَدْ عَبَدَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً أَيْ أُولَئِكَ الْمَلْعُونُونَ الْمَمْسُوخُونَ شَرٌّ مَكَانًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي لَفْظِ الْمَكَانِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لِأَنَّ مَكَانَهُمْ سَقَرُ، وَلَا مَكَانَ أَشَدُّ شَرًّا مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أُضِيفَ الشَّرُّ فِي اللَّفْظِ إِلَى الْمَكَانِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَهْلِهِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ كَثِيرُ الرَّمَادِ، وَيَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى الْإِشَارَةِ إِلَى الشَّيْءِ بِذِكْرِ لَوَازِمِهِ وَتَوَابِعِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ أَيْ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ وَالدِّينِ الْحَقِّ. قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية عبر الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَقَالُوا: يَا إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ والخنازير، فافتضحوا ونكسوا رؤوسهم. [سورة المائدة (5) : آية 61] وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61)

[سورة المائدة (5) : آية 62]

[في قوله تعالى وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ] فيه مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالُوا: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي نَاسٍ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيُظْهِرُونَ لَهُ الْإِيمَانَ نِفَاقًا، فَأَخْبَرَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِشَأْنِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ مَجْلِسِكَ كَمَا دَخَلُوا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِقَلْبِهِمْ شَيْءٌ مِنْ دَلَائِلِكَ وَتَقْرِيرَاتِكَ وَنَصَائِحِكَ وَتَذْكِيرَاتِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ ... خَرَجُوا بِهِ يُفِيدُ بَقَاءَ الْكُفْرِ مَعَهُمْ حَالَتَيِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ وَلَا تَغْيِيرٍ فِيهِ أَلْبَتَّةَ، كَمَا تَقُولُ: دَخَلَ زَيْدٌ بِثَوْبِهِ وَخَرَجَ بِهِ، أَيْ بَقِيَ ثَوْبُهُ حَالَ الْخُرُوجِ كَمَا كَانَ حَالَ الدُّخُولِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ عِنْدَ الدُّخُولِ كَلِمَةَ «قَدْ» فَقَالَ وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَذَكَرَ عِنْدَ الْخُرُوجِ كَلِمَةَ هُمْ فَقَالَ: وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ قَالُوا: الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ كَلِمَةِ «قَدْ» تَقْرِيبُ الْمَاضِي مِنَ الْحَالِ، وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ كَلِمَةِ «هُمْ» التَّأْكِيدُ فِي إِضَافَةِ الْكُفْرِ إِلَيْهِمْ، وَنَفْيُ أَنْ يَكُونَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ فِعْلٌ، أَيْ لَمْ يَسْمَعُوا مِنْكَ يَا مُحَمَّدُ عِنْدَ جُلُوسِهِمْ مَعَكَ مَا يُوجِبُ كُفْرًا، فَتَكُونَ أَنْتَ الَّذِي أَلْقَيْتَهُمْ فِي الْكُفْرِ، بَلْ هُمُ الَّذِينَ خَرَجُوا بِالْكُفْرِ بِاخْتِيَارِ أَنْفُسِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْكُفْرَ إِلَيْهِمْ حَالَتَيِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ عَلَى سَبِيلِ الذَّمِّ، وَبَالَغَ فِي تَقْرِيرِ تِلْكَ الْإِضَافَةِ بِقَوْلِهِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْعَبْدِ لَا مِنَ اللَّه. وَالْجَوَابُ: الْمُعَارَضَةُ بِالْعِلْمِ وَالدَّاعِي. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ وَالْغَرَضُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِيمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْمَكْرِ بِالْمُسْلِمِينَ والكيد بهم والبغض والعداوة لهم ثم قال تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 62] وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (62) الْمُسَارَعَةُ فِي الشَّيْءِ الشُّرُوعُ فِيهِ بِسُرْعَةٍ. قِيلَ: الْإِثْمُ الْكَذِبُ، وَالْعُدْوَانُ الظُّلْمُ. وَقِيلَ: الْإِثْمُ مَا يَخْتَصُّ بِهِمْ، وَالْعُدْوَانُ مَا يَتَعَدَّاهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَأَمَّا أَكْلُ السُّحْتِ فَهُوَ أَخْذُ الرِّشْوَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الِاسْتِقْصَاءُ فِي تَفْسِيرِ السُّحْتِ، وَفِي الْآيَةِ فَوَائِدُ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ وَالسَّبَبُ أَنَّ كُلَّهُمْ مَا كَانَ يَفْعَلُ ذلك، بل كان بعضهم يستحيي فَيَتْرُكُ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ لَفْظَ الْمُسَارَعَةِ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ فِي الْخَيْرِ. قَالَ تعالى: يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ [آلِ عِمْرَانَ: 114] وَقَالَ تَعَالَى: نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ [الْمُؤْمِنُونَ: 56] فَكَانَ اللَّائِقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ لَفْظَ الْعَجَلَةِ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ لَفْظَ الْمُسَارَعَةِ لِفَائِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقْدِمُونَ عَلَى هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ كَأَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِيهِ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: لَفْظُ الْإِثْمِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَعَاصِي وَالْمَنْهِيَّاتِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى بَعْدَهُ الْعُدْوَانَ وَأَكْلَ السُّحْتِ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْمَعْصِيَةِ وَالْإِثْمِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:

[سورة المائدة (5) : آية 63]

[سورة المائدة (5) : آية 63] لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ (63) مَعْنَى لَوْلا هاهنا التحضيض وَالتَّوْبِيخُ، وَهُوَ بِمَعْنَى هَلَّا، وَالْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ الرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارِ قَدْ تَقَدَّمَ. قَالَ الْحَسَنُ: الرَّبَّانِيُّونَ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ، وَالْأَحْبَارُ عُلَمَاءُ أَهْلِ التَّوْرَاةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كُلُّهُ فِي الْيَهُودِ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِذِكْرِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى اسْتَبْعَدَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ مَا نَهَوْا سَفَلَتَهُمْ وَعَوَامَّهُمْ عَنِ الْمَعَاصِي، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَارِكَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِمَنْزِلَةِ مُرْتَكِبِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ ذَمَّ تَارِكِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَقْوَى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْمُقْدِمِينَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِ السُّحْتِ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [المائدة: 62] وَقَالَ فِي الْعُلَمَاءِ التَّارِكِينَ لِلنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ وَالصُّنْعُ أَقْوَى مِنَ الْعَمَلِ لِأَنَّ الْعَمَلَ/ إِنَّمَا يُسَمَّى صِنَاعَةً إِذَا صَارَ مُسْتَقِرًّا رَاسِخًا مُتَمَكِّنًا، فَجَعَلَ جُرْمَ الْعَامِلِينَ ذَنْبًا غَيْرَ رَاسِخٍ، وَذَنْبَ التَّارِكِينَ لِلنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ذَنْبًا رَاسِخًا، وَالْأَمْرُ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ مَرَضُ الرُّوحِ، وَعِلَاجُهُ الْعِلْمُ باللَّه وَبِصِفَاتِهِ وَبِأَحْكَامِهِ، فَإِذَا حَصَلَ هَذَا الْعِلْمُ وَمَا زَالَتِ الْمَعْصِيَةُ كَانَ مِثْلَ الْمَرَضِ الَّذِي شَرِبَ صَاحِبُهُ الدَّوَاءَ فَمَا زَالَ، فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِأَنَّ الْمَرَضَ صَعْبٌ شَدِيدٌ لَا يَكَادُ يَزُولُ، فَكَذَلِكَ الْعَالِمُ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَرَضَ الْقَلْبِ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ أَشَدُّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَخْوَفَ عِنْدِي مِنْهَا واللَّه أعلم. [سورة المائدة (5) : آية 64] وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا. اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَكَى عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ اللَّه تَعَالَى صَادِقٌ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ، وَنَرَى الْيَهُودَ مُطْبِقِينَ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّا لَا نَقُولُ ذَلِكَ وَلَا نَعْتَقِدُهُ أَلْبَتَّةَ، وَأَيْضًا الْمَذْهَبُ الَّذِي يُحْكَى عَنِ الْعُقَلَاءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْبُطْلَانِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ يَدَ اللَّه مَغْلُولَةٌ قَوْلٌ بَاطِلٌ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ قَوْلَنَا (اللَّه) اسْمٌ لِمَوْجُودٍ قَدِيمٍ، وَقَادِرٍ عَلَى خَلْقِ الْعَالَمِ وَإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ، وَهَذَا الْمَوْجُودُ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ مَغْلُولَةً وَقُدْرَتُهُ مُقَيَّدَةً وَقَاصِرَةً، وَإِلَّا فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ النَّاقِصَةِ حِفْظُ الْعَالَمِ وَتَدْبِيرُهُ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: حَصَلَ الْإِشْكَالُ الشَّدِيدُ فِي كَيْفِيَّةِ تَصْحِيحِ هَذَا النَّقْلِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةِ فَنَقُولُ: عِنْدَنَا فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَعَلَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا قَالُوا هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْبَقَرَةِ: 245] قَالُوا: لَوِ احْتَاجَ إِلَى الْقَرْضِ لَكَانَ فَقِيرًا عَاجِزًا، فَلَمَّا حَكَمُوا بِأَنَّ الْإِلَهَ الَّذِي يَسْتَقْرِضُ شَيْئًا مِنْ عِبَادِهِ فَقِيرٌ مَغْلُولُ الْيَدَيْنِ، لَا جَرَمَ حَكَى اللَّه عَنْهُمْ هَذَا الْكَلَامَ الثَّانِي: لَعَلَّ الْقَوْمَ لَمَّا رَأَوْا أَصْحَابَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ وَالْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ قَالُوا عَلَى/ سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ: إِنَّ إِلَهَ مُحَمَّدٍ فَقِيرٌ

مَغْلُولُ الْيَدِ، فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ حَكَى اللَّه عَنْهُمْ هَذَا الْكَلَامَ الثَّالِثُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْيَهُودُ كَانُوا أَكْثَرَ النَّاسِ مَالًا وَثَرْوَةً، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّه مُحَمَّدًا وَكَذَّبُوا بِهِ ضَيَّقَ اللَّه عَلَيْهِمُ الْمَعِيشَةَ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَتِ الْيَهُودُ: يَدُ اللَّه مَغْلُولَةٌ، أَيْ مَقْبُوضَةٌ عَنِ الْعَطَاءِ عَلَى جِهَةِ الصِّفَةِ بِالْبُخْلِ، وَالْجَاهِلُ إِذَا وَقَعَ فِي الْبَلَاءِ وَالشِّدَّةِ وَالْمِحْنَةِ يَقُولُ مِثْلَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ. الرَّابِعُ: لَعَلَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ الْفَلْسَفَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى مُوجِبٌ لِذَاتِهِ، وَأَنَّ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ عَنْهُ لَا يُمْكِنُ إِلَّا عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ وَسُنَنٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى إِحْدَاثِ الْحَوَادِثِ عَلَى غَيْرِ الْوُجُوهِ الَّتِي عَلَيْهَا تَقَعُ، فَعَبَّرُوا عَنْ عَدَمِ الِاقْتِدَارِ عَلَى التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ بِغِلِّ الْيَدِ. الْخَامِسُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ هُوَ قَوْلُ الْيَهُودِ: إِنَّ اللَّه لَا يُعَذِّبُنَا إِلَّا بِقَدْرِ الْأَيَّامِ الَّتِي عَبَدْنَا الْعِجْلَ فِيهَا، إِلَّا أَنَّهُمْ عَبَّرُوا عَنْ كَوْنِهِ تَعَالَى غَيْرَ مُعَذِّبٍ لَهُمْ إِلَّا فِي هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الزَّمَانِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ الْفَاسِدَةِ، وَاسْتَوْجَبُوا اللَّعْنَ بِسَبَبِ فَسَادِ الْعِبَارَةِ وَعَدَمِ رِعَايَةِ الْأَدَبِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ صَحِيحَةٌ عَلَى كُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: غَلُّ الْيَدِ وَبَسْطُهَا مَجَازٌ مَشْهُورٌ عَنِ الْبُخْلِ وَالْجُودِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء: 29] قَالُوا: وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْيَدَ آلَةٌ لِأَكْثَرِ الْأَعْمَالِ لَا سِيَّمَا لِدَفْعِ الْمَالِ وَلِإِنْفَاقِهِ، فَأَطْلَقُوا اسْمَ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ، وَأَسْنَدُوا الْجُودَ وَالْبُخْلَ إِلَى الْيَدِ وَالْبَنَانِ وَالْكَفِّ وَالْأَنَامِلِ. فَقِيلَ لِلْجَوَادِ: فَيَّاضُ الْكَفِّ مَبْسُوطُ الْيَدِ، وَبَسِطُ الْبَنَانِ تَرِهُ الْأَنَامِلِ. وَيُقَالُ لِلْبَخِيلِ: كَزُّ الْأَصَابِعِ مَقْبُوضُ الْكَفِّ جَعْدُ الْأَنَامِلِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ الْمُرَادُ مِنْهُ الْبُخْلُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ الْمُرَادُ مِنْهُ أَيْضًا الْبُخْلُ لِتَصِحَّ الْمُطَابَقَةُ، وَالْبُخْلُ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ الَّتِي نَهَى اللَّه تَعَالَى عَنْهَا، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ؟ قُلْنَا: قَوْلُهُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْمُكْنَةِ مِنَ الْبَذْلِ وَالْإِعْطَاءِ، ثُمَّ إِنَّ عَدَمَ الْمُكْنَةِ مِنَ الْإِعْطَاءِ تَارَةً يَكُونُ لِأَجْلِ الْبُخْلِ وَتَارَةً يَكُونُ لِأَجْلِ الْفَقْرِ، وَتَارَةً يَكُونُ لِأَجْلِ الْعَجْزِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِعَدَمِ الْقُدْرَةِ وَالْمُكْنَةِ سَوَاءٌ حَصَلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْعَجْزِ أَوِ الْفَقْرِ أَوِ الْبُخْلِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَإِنَّهُ يَزُولُ الْإِشْكَالُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يُعَلِّمُنَا أَنْ نَدْعُوَ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الدُّعَاءِ كَمَا عَلَّمَنَا الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الْفَتْحِ: 27] وَكَمَا عَلَّمَنَا الدُّعَاءَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [الْبَقَرَةِ: 10] وَعَلَى أَبِي لَهَبٍ فِي قَوْلِهِ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [الْمَسَدِ: 1] الثَّانِي: أَنَّهُ إِخْبَارٌ. قَالَ الْحَسَنُ: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَيْ شُدَّتْ إِلَى/ أَعْنَاقِهِمْ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ هَذَا الْغُلُّ إِنَّمَا حُكِمَ بِهِ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: فَغُلَّتْ أَيْدِيهِمْ. قُلْنَا: حُذِفَ الْعَطْفُ وَإِنْ كَانَ مُضْمَرًا إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ لِفَائِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا حُذِفَ كَانَ قَوْلُهُ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ كَالْكَلَامِ الْمُبْتَدَأِ بِهِ، وَكَوْنُ الْكَلَامِ مُبْتَدَأً بِهِ يَزِيدُهُ قُوَّةً وَوَثَاقَةً لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهِ وَقُوَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِتَقْرِيرِهِ، وَنَظِيرُ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي حَذْفِ فَاءِ التَّعْقِيبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ

أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً [الْبَقَرَةِ: 67] وَلَمْ يَقُلْ: فَقَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلُعِنُوا بِما قالُوا قَالَ الْحَسَنُ: عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا بِالْجِزْيَةِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمُهِمَّاتِ، فَإِنَّ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْقُرْآنِ نَاطِقَةٌ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ، فَتَارَةً الْمَذْكُورُ هُوَ الْيَدُ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْعَدَدِ. قَالَ تَعَالَى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الْفَتْحِ: 10] وَتَارَةً بِإِثْبَاتِ الْيَدَيْنِ للَّه تَعَالَى: مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ الْمَلْعُونِ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] وَتَارَةً بِإِثْبَاتِ الْأَيْدِي. قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: 71] . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ فِي تَفْسِيرِ يَدِ اللَّه تَعَالَى، فَقَالَتِ الْمُجَسِّمَةُ: إِنَّهَا عُضْوٌ جُسْمَانِيٌّ كَمَا فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها [الْأَعْرَافِ: 195] وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَحَ فِي إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ لِأَجْلِ أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، فَلَوْ لَمْ تَحْصُلْ للَّه هَذِهِ الْأَعْضَاءُ لَزِمَ الْقَدْحُ فِي كَوْنِهِ إِلَهًا، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ وَجَبَ إِثْبَاتُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ لَهُ قَالُوا وَأَيْضًا اسْمُ الْيَدِ مَوْضُوعٌ لِهَذَا الْعُضْوِ، فَحَمْلُهُ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ تَرْكٌ لِلُّغَةِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي إِبْطَالِ هَذَا الْقَوْلِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْجِسْمَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَهُمَا مُحْدَثَانِ، وَمَا لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْمُحْدَثِ فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَلِأَنَّ كُلَّ جِسْمٍ فَهُوَ مُتَنَاهٍ فِي الْمِقْدَارِ، وَكُلُّ مَا كَانَ مُتَنَاهِيًا فِي الْمِقْدَارِ فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَلِأَنَّ كُلَّ جِسْمٍ فَهُوَ مُؤَلَّفٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَابِلًا لِلتَّرْكِيبِ وَالِانْحِلَالِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ افْتَقَرَ إِلَى مَا يُرَكِّبُهُ وَيُؤَلِّفُهُ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ تَعَالَى جِسْمًا، فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ عضوا جسمانيا. وأما جُمْهُورُ الْمُوَحِّدِينَ فَلَهُمْ فِي لَفْظِ الْيَدِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ لَمَّا دَلَّ/ عَلَى إِثْبَاتِ الْيَدِ للَّه تَعَالَى آمَنَّا بِهِ، وَالْعَقْلُ لَمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ يَدُ اللَّه عِبَارَةً عَنْ جِسْمٍ مَخْصُوصٍ وَعُضْوٍ مُرَكَّبٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ آمَنَّا بِهِ، فَأَمَّا أَنَّ الْيَدَ مَا هِيَ وَمَا حَقِيقَتُهَا فَقَدْ فَوَّضْنَا مَعْرِفَتَهَا إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ طَرِيقَةُ السَّلَفِ. وَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُونَ فَقَالُوا: الْيَدُ تُذْكَرُ فِي اللُّغَةِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الْجَارِحَةُ وهو معلوم، وثانيها: النعمة، تقول: لِفُلَانٍ عِنْدِي يَدٌ أَشْكُرُهُ عَلَيْهَا، وَثَالِثُهَا: الْقُوَّةُ قَالَ تَعَالَى أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ [ص: 45] فَسَّرُوهُ بِذَوِي الْقُوَى وَالْعُقُولِ، وَحَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَدَ لَكَ بِهَذَا، وَالْمَعْنَى سَلْبُ كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَرَابِعُهَا: الْمِلْكُ، يُقَالُ: هَذِهِ الضَّيْعَةُ فِي يَدِ فُلَانٍ، أَيْ فِي مِلْكِهِ. قَالَ تَعَالَى: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ [الْبَقَرَةِ: 237] أَيْ يَمْلِكُ ذَلِكَ، وَخَامِسُهَا: شِدَّةُ الْعِنَايَةِ وَالِاخْتِصَاصِ. قَالَ تَعَالَى: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] وَالْمُرَادُ تَخْصِيصُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذَا التَّشْرِيفِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَيُقَالُ: يَدِي لَكَ رَهْنٌ بِالْوَفَاءِ إِذَا ضَمِنَ لَهُ شَيْئًا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْيَدُ فِي حَقِّ اللَّه يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ، وَأَمَّا سَائِرُ الْمَعَانِي فكلها حاصلة.

وهاهنا قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ رَحِمَهُ اللَّه زَعَمَ فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِ أَنَّ الْيَدَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّه تَعَالَى، وَهِيَ صِفَةٌ سِوَى الْقُدْرَةِ مِنْ شَأْنِهَا التَّكْوِينُ عَلَى سبيل الاصطفاء وقال: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ وُقُوعَ خَلْقِ آدَمَ بِيَدَيْهِ عِلَّةً لِكَرَامَةِ آدَمَ وَاصْطِفَائِهِ، فَلَوْ كَانَتِ الْيَدُ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ لَامْتَنَعَ كَوْنُهُ عِلَّةً لِلِاصْطِفَاءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ فِي جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ صِفَةٍ أُخْرَى وَرَاءَ الْقُدْرَةِ يَقَعُ بِهَا الْخَلْقُ وَالتَّكْوِينُ عَلَى سَبِيلِ الِاصْطِفَاءِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ زَعَمُوا أَنَّ الْيَدَ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ وَعَنِ النِّعْمَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنْ فَسَّرْتُمُ الْيَدَ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ فَهَذَا مُشْكَلٌ لِأَنَّ قُدْرَةَ اللَّه تَعَالَى وَاحِدَةٌ وَنَصُّ الْقُرْآنِ نَاطِقٌ بِإِثْبَاتِ الْيَدَيْنِ تَارَةً، وَبِإِثْبَاتِ الْأَيْدِي أُخْرَى، وَإِنْ فَسَّرْتُمُوهَا بِالنِّعْمَةِ فَنَصُّ الْقُرْآنِ نَاطِقٌ بِإِثْبَاتِ الْيَدَيْنِ، وَنِعَمُ اللَّه غَيْرُ مَحْدُودَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: 34] [النحل: 18] . وَالْجَوَابُ: إِنِ اخْتَرْنَا تَفْسِيرَ الْيَدِ بِالْقُدْرَةِ كَانَ الْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْقَوْمَ جَعَلُوا قَوْلَهُمْ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ كِنَايَةً عَنِ الْبُخْلِ، فَأُجِيبُوا عَلَى وَفْقِ كَلَامِهِمْ، فَقِيلَ بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتُمُوهُ بِهِ مِنَ الْبُخْلِ، بَلْ هُوَ جَوَادٌ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ. فَإِنَّ مَنْ أَعْطَى بِيَدِهِ أَعْطَى عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَأَمَّا إِنِ اخْتَرْنَا تَفْسِيرَ الْيَدِ بِالنِّعْمَةِ كَانَ الْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نِسْبَةٌ بِحَسَبِ الْجِنْسِ، ثُمَّ يَدْخُلُ تَحْتَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجِنْسَيْنِ أَنْوَاعٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَقِيلَ: نِعْمَتَاهُ نِعْمَةُ الدِّينِ وَنِعْمَةُ الدُّنْيَا، أَوْ نِعْمَةُ الظَّاهِرِ وَنِعْمَةُ الْبَاطِنِ، أَوْ نِعْمَةُ النَّفْعِ وَنِعْمَةُ/ الدَّفْعِ، أَوْ نِعْمَةُ الشِّدَّةِ وَنِعْمَةُ الرَّخَاءِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْبَةِ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِ النِّعْمَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُمْ (لَبَّيْكَ) مَعْنَاهُ إِقَامَةٌ عَلَى طَاعَتِكَ بَعْدَ إِقَامَةٍ، وَكَذَلِكَ (سَعْدَيْكَ) مَعْنَاهُ مُسَاعَدَةٌ بَعْدَ مُسَاعَدَةٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ طَاعَتَيْنِ وَلَا مُسَاعَدَتَيْنِ. فَكَذَلِكَ الْآيَةُ: الْمَعْنَى فِيهَا أَنَّ النِّعْمَةَ مُتَظَاهِرَةٌ مُتَتَابِعَةٌ لَيْسَتْ كَمَا ادُّعِيَ مِنْ أَنَّهَا مَقْبُوضَةٌ مُمْتَنِعَةٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ أَيْ يَرْزُقُ وَيَخْلُقُ كَيْفَ يَشَاءُ، إِنْ شَاءَ قَتَّرَ، وَإِنْ شَاءَ وَسَّعَ. وَقَالَ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ [الشُّورَى: 27] وَقَالَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرَّعْدِ: 26] وَقَالَ قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ إِلَى قَوْلِهِ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ [آلِ عِمْرَانَ: 26] . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: يَجِبُ عَلَى اللَّه تَعَالَى إِعْطَاءُ الثَّوَابِ لِلْمُطِيعِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُعَاقِبَهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُدْخِلَ الْعَاصِيَ الْجَنَّةَ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَنْ يُعَاقِبَهُ، فَهَذَا الْمَنْعُ وَالْحَجْرُ وَالْقَيْدُ يَجْرِي مَجْرَى الْغِلِّ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ قَائِلُونَ بِأَنَّ يَدَ اللَّه مَغْلُولَةٌ وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَهُمُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُلْكَ مُلْكُهُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقٌ، وَلَا لِأَحَدٍ عَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ كَمَا قَالَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْمَائِدَةِ: 17] فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ لا يستقيم إلا على المذهب والمقالة، وَالْحَمْدُ للَّه عَلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ بِالْكَثِيرِ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ، يَعْنِي ازْدَادُوا عِنْدَ نُزُولِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ مِنَ الْقُرْآنِ

وَالْحُجَجِ شِدَّةً فِي الْكُفْرِ وَغُلُوًّا فِي الْإِنْكَارِ، كَمَا يُقَالُ: مَا زَادَتْكَ مَوْعِظَتِي إِلَّا شَرًّا. وَقِيلَ: إِقَامَتُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ زِيَادَةٌ مِنْهُمْ فِي الْكُفْرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرَاعِي مَصَالِحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُمْ يَزْدَادُونَ عِنْدَ إِنْزَالِ تِلْكَ الْآيَاتِ كُفْرًا وَضَلَالًا، فَلَوْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ مُعَلَّلَةً بِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ لِلْعِبَادِ لَامْتَنَعَ عَلَيْهِ إِنْزَالُ تِلْكَ الْآيَاتِ، فَلَمَّا أَنْزَلَهَا عَلِمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرَاعِي مَصَالِحَ الْعِبَادِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَةِ: 125] . فَإِنْ قَالُوا: عَلِمَ اللَّه تَعَالَى مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ سَوَاءٌ أَنْزَلَهَا أَوْ لَمْ يُنْزِلْهَا فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ مِنَ الْكُفْرِ، فَلِهَذَا حَسُنَ مِنْهُ تَعَالَى إِنْزَالُهَا. قُلْنَا: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الِازْدِيَادُ لِأَجْلِ إِنْزَالِ تِلْكَ الْآيَاتِ، وهذا يقتضي أن/ تكون إضافة ازدياد اكفر إِلَى إِنْزَالِ تِلْكَ الْآيَاتِ بَاطِلًا، وَذَلِكَ تَكْذِيبٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اتِّصَالَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُنْكِرُونَ نُبُوَّتَهُ بَعْدَ ظُهُورِ الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّتِهَا لِأَجْلِ الْحَسَدِ وَلِأَجْلِ حُبِّ الْجَاهِ وَالتَّبَعِ وَالْمَالِ وَالسِّيَادَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمَّا رَجَّحُوا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى كَمَا حَرَمَهُمْ سَعَادَةَ الدِّينِ، فَكَذَلِكَ حَرَمَهُمْ سَعَادَةَ الدُّنْيَا، لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بَقِيَ مُصِرًّا عَلَى مَذْهَبِهِ وَمَقَالَتِهِ، يُبَالِغُ فِي نُصْرَتِهِ وَيَطْعَنُ فِي كُلِّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَذَاهِبِ وَالْمَقَالَاتِ تَعْظِيمًا لِنَفْسِهِ وَتَرْوِيجًا لِمَذْهَبِهِ، فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوعِ الْخُصُومَةِ الشَّدِيدَةِ بَيْنَ فِرَقِهِمْ وَطَوَائِفِهِمْ، وَانْتَهَى الْأَمْرُ فِيهِ إِلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يُكَفِّرُ بَعْضًا، وَيَغْزُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَفِي قَوْلِهِ وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ مَا بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنَ الْعَدَاوَةِ لِأَنَّهُ جَرَى ذِكْرُهُمْ في قوله لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى [المائدة: 51] وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ وُقُوعُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ فِرَقِ الْيَهُودِ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ جَبْرِيَّةٌ، وَبَعْضَهُمْ قَدَرِيَّةٌ، وَبَعْضَهُمْ مُوَحِّدَةٌ، وَبَعْضَهُمْ مُشَبِّهَةٌ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ فِرَقِ النَّصَارَى: كَالْمَلْكَانِيَّةِ وَالنُّسْطُورِيَّةِ وَالْيَعْقُوبِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ بِتَمَامِهِ بَيْنَ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ جَعْلُهُ عَيْبًا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؟ قُلْنَا: هَذِهِ الْبِدَعُ إِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، أَمَّا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَلَمْ يَكُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَاصِلًا، فَلَا جَرَمَ حَسُنَ مِنَ الرَّسُولِ وَمِنْ أَصْحَابِهِ جَعْلُ ذَلِكَ عَيْبًا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ. وَهَذَا شَرْحُ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ المحن عن الْيَهُودِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كُلَّمَا هَمُّوا بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ رَجَعُوا خَائِبِينَ خَاسِرِينَ مَقْهُورِينَ مَلْعُونِينَ كَمَا قال تَعَالَى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا [آلِ عِمْرَانَ: 112] قَالَ قَتَادَةُ: لَا تَلْقَى الْيَهُودَ بِبَلْدَةٍ إِلَّا وَجَدْتَهُمْ مِنْ أَذَلِّ النَّاسِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَيْ لَيْسَ يَحْصُلُ فِي أَمْرِهِمْ قُوَّةٌ مِنَ الْعِزَّةِ وَالْمَنَعَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ

[سورة المائدة (5) : آية 65]

يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَخْدَعُوا ضَعِيفًا، وَيَسْتَخْرِجُوا نَوْعًا مِنَ الْمَكْرِ وَالْكَيْدِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمَّا خَالَفُوا حُكْمَ التَّوْرَاةِ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ بُخْتَنْصَرَ، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ بُطْرُسَ الرُّومِيَّ، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْمَجُوسَ، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّاعِيَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ ممقوت عند اللَّه تعالى ثم قال تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 65] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي ذَمِّهِمْ وَفِي تَهْجِينِ طَرِيقَتِهِمْ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَوْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَوَجَدُوا سَعَادَاتِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، أَمَّا سَعَادَاتُ الْآخِرَةِ فَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: رَفْعُ الْعِقَابِ، وَالثَّانِي: إِيصَالُ الثَّوَابِ، أَمَّا رَفْعُ الْعِقَابِ فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَمَّا إِيصَالُ الثَّوَابِ فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: الْإِيمَانُ وَحْدَهُ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ بِاقْتِضَاءِ تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَإِعْطَاءِ الْحَسَنَاتِ، فَلِمَ ضَمَّ إِلَيْهِ شَرْطَ التَّقْوَى؟ قُلْنَا: الْمُرَادُ كَوْنُهُ آتِيًا بِالْإِيمَانِ لِغَرَضِ التَّقْوَى وَالطَّاعَةِ، لَا لِغَرَضٍ آخَرَ مِنَ الْأَغْرَاضِ الْعَاجِلَةِ مِثْلَ مَا يَفْعَلُهُ الْمُنَافِقُونَ ثُمَّ قَالَ تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 66] وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) [في قوله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُمْ لَوْ آمَنُوا لَفَازُوا بِسَعَادَاتِ الْآخِرَةِ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا أَنَّهُمْ لَوْ آمَنُوا لَفَازُوا بِسَعَادَاتِ الدُّنْيَا وَوَجَدُوا طَيِّبَاتِهَا وَخَيْرَاتِهَا، وَفِي إِقَامَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا مِنَ الْوَفَاءِ بِعُهُودِ اللَّه فيها، ومن الإقرار باشتمالها على الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَثَانِيهَا: إِقَامَةُ التَّوْرَاةِ إِقَامَةُ أَحْكَامِهَا وَحُدُودِهَا كَمَا يُقَالُ: أَقَامَ الصَّلَاةَ إِذَا قَامَ بِحُقُوقِهَا، وَلَا يُقَالُ لِمَنْ لَمْ يُوفِ بِشَرَائِطِهَا: إِنَّهُ أَقَامَهَا. وَثَالِثُهَا: أَقَامُوهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ لِئَلَّا يَزِلُّوا فِي شَيْءٍ مِنْ حُدُودِهَا، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا حَسَنَةٌ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَحْسَنُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْقُرْآنُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ كُتُبُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ: مِثْلُ كِتَابِ شَعْيَاءَ وَمِثْلُ كِتَابِ حَيْقُوقَ، وَكِتَابِ دَانْيَالَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ مَمْلُوءَةٌ مِنَ الْبِشَارَةِ بِمَبْعَثِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ فَاعْلَمْ أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا أَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَصَابَهُمُ الْقَحْطُ وَالشِّدَّةُ، وَبَلَغُوا إِلَى حَيْثُ قَالُوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ فاللَّه تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا ذَلِكَ الكفر لا نقلب الْأَمْرُ وَحَصَلَ الْخِصْبُ وَالسَّعَةُ، وَفِي قَوْلِهِ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي شَرْحِ السَّعَةِ وَالْخِصْبِ، لَا أَنَّ هُنَاكَ فَوْقًا وَتَحْتًا، وَالْمَعْنَى لَأَكَلُوا أَكْلًا مُتَّصِلًا

[سورة المائدة (5) : آية 67]

كَثِيرًا، وَهُوَ كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ فِي الْخَيْرِ مِنْ فَرْقِهِ إِلَى قَدَمِهِ، تُرِيدُ تَكَاثُفَ الْخَيْرِ وَكَثْرَتَهُ عِنْدَهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْأَكْلَ مِنْ فَوْقُ نُزُولُ الْقَطْرِ، وَمِنْ تَحْتِ الْأَرْجُلِ حُصُولُ النَّبَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الْأَعْرَافِ: 96] الثَّالِثُ: الْأَكْلُ مِنْ فَوْقُ كَثْرَةُ الْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ، وَمِنْ تَحْتِ الْأَرْجُلِ الزُّرُوعُ الْمُغَلَّةُ، وَالرَّابِعُ: الْمُرَادُ أَنْ يَرْزُقَهُمُ الْجِنَانَ الْيَانِعَةَ الثِّمَارِ، فَيَجْتَنُونَ مَا تَهَدَّلَ مِنْ رؤوس الشَّجَرِ، وَيَلْتَقِطُونَ مَا تَسَاقَطَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَالْخَامِسُ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِشَارَةً إِلَى مَا جَرَى عَلَى الْيَهُودِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَبَنِي النَّضِيرِ مِنْ قَطْعِ نَخِيلِهِمْ وَإِفْسَادِ زُرُوعِهِمْ وَإِجْلَائِهِمْ عَنْ أَوْطَانِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ مَعْنَى الِاقْتِصَادِ فِي اللُّغَةِ الِاعْتِدَالُ فِي الْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ غُلُوٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ، وَأَصْلُهُ الْقَصْدُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ مَطْلُوبَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَاصِدًا لَهُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ مِنْ غَيْرِ انْحِرَافٍ وَلَا اضْطِرَابٍ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مَوْضِعَ مَقْصُودِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَحَيِّرًا، تَارَةً يَذْهَبُ يَمِينًا وَأُخْرَى يَسَارًا، فَلِهَذَا السَّبَبِ جُعِلَ الِاقْتِصَادُ عِبَارَةً عَنِ الْعَمَلِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْغَرَضِ، ثُمَّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُقْتَصِدَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: كَعَبْدِ اللَّه بْنِ سَلَامٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَالنَّجَاشِيِّ مِنَ النَّصَارَى، فَهُمْ عَلَى الْقَصْدِ مِنْ دِينِهِمْ، وَعَلَى الْمَنْهَجِ الْمُسْتَقِيمِ مِنْهُ، وَلَمْ يَمِيلُوا إِلَى طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ. وَالثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهَا الْكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَكُونُونَ عُدُولًا فِي دِينِهِمْ، وَلَا يَكُونُ فِيهِمْ عِنَادٌ شَدِيدٌ وَلَا غِلْظَةٌ كَامِلَةٌ، كَمَا قَالَ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آلِ عِمْرَانَ: 75] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ وَفِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَا أَسْوَأَ عَمَلَهُمْ، وَالْمُرَادُ: مِنْهُمُ الْأَجْلَافُ الْمَذْمُومُونَ الْمُبْغَضُونَ الَّذِينَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِمُ الدَّلِيلُ وَلَا/ يَنْجَعُ فيهم القول. [سورة المائدة (5) : آية 67] يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أَمَرَ الرَّسُولَ بِأَنْ لَا يَنْظُرَ إِلَى قِلَّةِ الْمُقْتَصِدِينَ وَكَثْرَةِ الْفَاسِقِينَ وَلَا يَخْشَى مَكْرُوهَهُمْ فَقَالَ بَلِّغْ أَيْ وَاصْبِرْ عَلَى تَبْلِيغِ مَا أَنْزَلْتُهُ إِلَيْكَ مِنْ كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَفَضَائِحِ أَفْعَالِهِمْ، فَإِنَّ اللَّه يَعْصِمُكَ مِنْ كَيْدِهِمْ وَيَصُونُكَ مِنْ مَكْرِهِمْ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّه بَعَثَنِي بِرِسَالَتِهِ فَضِقْتُ بِهَا ذَرْعًا وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ يُكَذِّبُونِي وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقُرَيْشٌ يُخَوِّفُونِي، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَةَ زَالَ الْخَوْفُ بِالْكُلِّيَّةِ» وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أَيَّامَ إِقَامَتِهِ بِمَكَّةَ يُجَاهِرُ بِبَعْضِ الْقُرْآنِ وَيُخْفِي بَعْضَهُ إِشْفَاقًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ تَسَرُّعِ الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا أَعَزَّ اللَّه الْإِسْلَامَ وأيده بالمؤمنين قال له: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أَيْ لَا تُرَاقِبَنَّ أَحَدًا، وَلَا تَتْرُكْ شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَنَالَكَ مَكْرُوهٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ رِسالاتِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الْأَنْعَامِ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ [الْأَنْعَامِ: 124] على الجمع، وفي الأعراف بِرِسالاتِي [الْأَعْرَافِ: 144] عَلَى الْوَاحِدِ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ عَلَى الضِّدِّ، فَفِي الْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ عَلَى الْوَاحِدِ، وَفِي الْأَعْرَافِ عَلَى الْجَمْعِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْجَمِيعِ عَلَى الْوَاحِدِ، وَقَرَأَ ابْنُ

عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ كُلُّهُ عَلَى الْجَمْعِ. حُجَّةُ مَنْ جَمَعَ أَنَّ الرُّسُلَ يُبْعَثُونَ بِضُرُوبٍ مِنَ الرِّسَالَاتِ وَأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الشَّرِيعَةِ، وَكُلُّ آيَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّه تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ رِسَالَةٌ، فَحَسُنَ لَفْظُ الْجَمْعِ، وَأَمَّا مَنْ أَفْرَدَ فَقَالَ: الْقُرْآنُ كُلُّهُ رِسَالَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ لَفْظَ الْوَاحِدِ قَدْ يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ وَإِنْ لَمْ يُجْمَعْ كَقَوْلِهِ وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً [الْفُرْقَانِ: 14] فَوَقَعَ الِاسْمُ الواحد على الجمع، وكذا هاهنا لَفْظُ الرِّسَالَةِ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْجَمْعُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ مَعْنَاهُ فَإِنْ لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالَتَهُ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا الْكَلَامِ؟ أَجَابَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّ الْمُرَادَ: إِنَّكَ إِنْ لَمْ تُبَلِّغْ وَاحِدًا مِنْهَا كُنْتَ كَمَنْ لَمْ يُبَلِّغْ شَيْئًا مِنْهَا، / وَهَذَا الْجَوَابُ عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مَنْ أَتَى بِالْبَعْضِ وَتَرَكَ الْبَعْضَ لَوْ قِيلَ: إِنَّهُ تَرَكَ الْكُلَّ لَكَانَ كَذِبًا وَلَوْ قِيلَ أَيْضًا: إِنَّ مِقْدَارَ الْجُرْمِ فِي تَرْكِ الْبَعْضِ مِثْلُ مِقْدَارِ الْجُرْمِ فِي تَرْكِ الْكُلِّ فَهُوَ أَيْضًا مُحَالٌ مُمْتَنِعٌ، فَسَقَطَ هَذَا الْجَوَابُ. وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا خَرَجَ عَلَى قَانُونِ قَوْلِهِ: أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي وَمَعْنَاهُ أَنَّ شِعْرِي قَدْ بَلَغَ فِي الْكَمَالِ وَالْفَصَاحَةِ إِلَى حَيْثُ مَتَى قِيلَ فِيهِ: إِنَّهُ شِعْرِي فَقَدِ انْتَهَى مَدْحُهُ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهَا، فَهَذَا الْكَلَامُ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ التَّامَّةَ مِنْ هَذَا الوجه، فكذا هاهنا: فَإِنْ لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالَتَهُ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ تَرْكُ التَّبْلِيغِ بِتَهْدِيدٍ أَعْظَمَ مِنْ أَنَّهُ تَرَكَ التَّبْلِيغَ، فَكَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى غَايَةِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ الرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ الْيَهُودِ. الثَّانِي: نَزَلَتْ فِي عَيْبِ الْيَهُودِ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِالدِّينِ وَالنَّبِيُّ سَكَتَ عَنْهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الثَّالِثُ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ، وهو قوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الْأَحْزَابِ: 28] فَلَمْ يَعْرِضْهَا عَلَيْهِنَّ خَوْفًا مِنَ اخْتِيَارِهِنَّ الدُّنْيَا فَنَزَلَتْ. الرَّابِعُ: نَزَلَتْ فِي أَمْرِ زَيْدٍ وَزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: مَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّه، واللَّه تعالى يقول: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ وَلَوْ كَتَمَ رَسُولُ اللَّه شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ لَكَتَمَ قَوْلَهُ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ [الْأَحْزَابِ: 37] الْخَامِسُ: نَزَلَتْ فِي الْجِهَادِ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَكْرَهُونَهُ، فَكَانَ يُمْسِكُ أَحْيَانًا عَنْ حَثِّهِمْ عَلَى الْجِهَادِ. السَّادِسُ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَامِ: 108] سَكَتَ الرَّسُولُ عَنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ فنزلت هذه الْآيَةُ وَقَالَ بَلِّغْ يَعْنِي مَعَايِبَ آلِهَتِهِمْ وَلَا تُخْفِهَا عَنْهُمْ، واللَّه يَعْصِمُكَ مِنْهُمْ. السَّابِعُ: نَزَلَتْ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لَمَّا بَيَّنَ الشَّرَائِعَ وَالْمَنَاسِكَ (هَلْ بَلَّغْتُ) قَالُوا نَعَمْ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ» الثَّامِنُ: رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَعَلَّقَ سَيْفَهُ عَلَيْهَا، فَأَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ وَهُوَ نَائِمٌ فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَاخْتَرَطَهُ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقَالَ «اللَّه» فَرَعَدَتْ يَدُ الْأَعْرَابِيِّ وَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ وَضَرَبَ بِرَأْسِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى انْتَثَرَ دِمَاغُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَةَ وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَعْصِمُهُ مِنَ النَّاسِ. التَّاسِعُ: كَانَ يَهَابُ قُرَيْشًا وَالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، فَأَزَالَ اللَّه عن قلبه

[سورة المائدة (5) : آية 68]

تِلْكَ الْهَيْبَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. الْعَاشِرُ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي فَضْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ» فَلَقِيَهُ عُمَرُ/ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ: هَنِيئًا لَكَ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ أَصْبَحْتَ مَوْلَايَ وَمَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَإِنْ كَثُرَتْ إِلَّا أَنَّ الْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى آمَنَهُ مِنْ مَكْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَأَمَرَهُ بِإِظْهَارِ التَّبْلِيغِ مِنْ غَيْرِ مُبَالَاةٍ مِنْهُ بِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ بِكَثِيرٍ وَمَا بَعْدَهَا بِكَثِيرٍ لَمَّا كَانَ كَلَامًا مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى امْتَنَعَ إِلْقَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْبَيْنِ عَلَى وَجْهٍ تَكُونُ أَجْنَبِيَّةً عَمَّا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ يَعْصِمُهُ مِنَ الْقَتْلِ، وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَمِلَ كُلَّ مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ، فَمَا أَشَدَّ تَكْلِيفَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ! وَثَانِيهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ يَوْمِ أُحُدٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ النَّاسِ هاهنا الْكُفَّارُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ. وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُمَكِّنُهُمْ مِمَّا يُرِيدُونَ. وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْرُسُهُ سَعْدٌ وَحُذَيْفَةُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَأَخْرَجَ رَأْسَهُ مِنْ قُبَّةِ أَدَمٍ وَقَالَ: «انْصَرِفُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّه من الناس» . [سورة المائدة (5) : آية 68] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِالتَّبْلِيغِ سَوَاءٌ طَابَ لِلسَّامِعِ أَوْ ثَقُلَ عَلَيْهِ أَمَرَ بِأَنْ يَقُولَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ هَذَا الْكَلَامَ وَإِنْ كَانَ مما يشق عليهم جدا فقال قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَسْتُمْ/ عَلى شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ وَلَا فِي أَيْدِيكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْتَ تَحْقِيرَهُ وَتَصْغِيرَ شَأْنِهِ. وَقَوْلُهُ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً. وَهَذَا مَذْكُورٌ فِيمَا قَبْلُ، وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: لَا تَأْسَفْ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ زِيَادَةِ طُغْيَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، فَإِنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ لَا إِلَيْكَ وَلَا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ. الثَّانِي: لَا تَتَأَسَّفْ بِسَبَبِ نُزُولِ اللَّعْنِ وَالْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِذَلِكَ، رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَاءَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ وَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَلَسْتَ تُقِرُّ أَنَّ التَّوْرَاةَ حَقٌّ مِنَ اللَّه تَعَالَى؟ قَالَ بَلَى، قَالُوا: فَإِنَّا مُؤْمِنُونَ بِهَا وَلَا نؤمن بغيرها، فنزلت هذه الآية.

[سورة المائدة (5) : آية 69]

[سورة المائدة (5) : آية 69] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وبقي هاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ظَاهِرُ الْإِعْرَابِ يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ: وَالصَّابِئِينَ، وَهَكَذَا قَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَلِلنَّحْوِيِّينَ فِي عِلَّةِ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ ارْتَفَعَ الصَّابِئُونَ بِالِابْتِدَاءِ عَلَى نِيَّةِ التَّأْخِيرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ باللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالصَّابِئُونَ كَذَلِكَ، فَحُذِفَ خَبَرُهُ، وَالْفَائِدَةُ فِي عَدَمِ عَطْفِهِمْ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ هُوَ أَنَّ الصَّابِئِينَ أَشَدُّ الْفِرَقِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ضَلَالًا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: كُلُّ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ إِنْ آمَنُوا بالعمل الصالح قبل اللَّه توبتهم وأزال ذَنْبَهُمْ، حَتَّى الصَّابِئُونَ فَإِنَّهُمْ إِنْ آمَنُوا كَانُوا أَيْضًا كَذَلِكَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ أن كلمة (إن) ضعيفة في العمل هاهنا، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ (إِنَّ) إِنَّمَا تَعْمَلُ لِكَوْنِهَا مُشَابِهَةً لِلْفِعْلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشَابَهَةَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَبَيْنَ/ الْحَرْفِ ضَعِيفَةٌ. الثَّانِي: أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ تَعْمَلُ لَكِنْ إِنَّمَا تَعْمَلُ فِي الِاسْمِ فَقَطْ، أَمَّا الْخَبَرُ فَإِنَّهُ بَقِيَ مَرْفُوعًا بِكَوْنِهِ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْحَرْفِ فِي رَفْعِ الْخَبَرِ تَأْثِيرٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَقَدْ بَيَّنَاهُ بِالدَّلِيلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلَهُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ [الْبَقَرَةِ: 6] الثَّالِثُ: أَنَّهَا إِنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ، أَمَّا الْأَسْمَاءُ الَّتِي لَا يَتَغَيَّرُ حَالُهَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْعَوَامِلِ فَلَا يَظْهَرُ أثر هذا الحرف فيها، والأمر هاهنا كذلك، لأن الاسم هاهنا هُوَ قَوْلُهُ الَّذِينَ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ لَا يَظْهَرُ فِيهَا أَثَرُ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ إِذَا كَانَ اسْمُ إِنَّ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ الْإِعْرَابِ، فَالَّذِي يَعْطِفُ عَلَيْهِ يُجَوِّزُ النَّصْبَ عَلَى إِعْمَالِ هَذَا الْحَرْفِ، وَالرَّفْعَ عَلَى إِسْقَاطِ عَمَلِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ زَيْدًا وَعَمْرٌو قَائِمَانِ لِأَنَّ زَيْدًا ظَهَرَ فِيهِ أَثَرُ الْإِعْرَابِ، لَكِنْ إِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ وَإِخْوَتُكَ يُكْرِمُونَنَا، وَإِنَّ هَذَا نَفْسُهُ شُجَاعٌ، وَإِنَّ قَطَامِ وَهِنْدٌ عِنْدَنَا، وَالسَّبَبُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ أَنَّ كَلِمَةَ (إِنْ) كَانَتْ فِي الْأَصْلِ ضَعِيفَةَ الْعَمَلِ، وَإِذَا صَارَتْ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ لَهَا أَثَرٌ فِي اسْمِهَا صَارَتْ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، فَجَازَ الرَّفْعُ بِمُقْتَضَى الْحُكْمِ الثَّابِتِ قَبْلَ دُخُولِ هَذَا الْحَرْفِ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُبْتَدَأً، فَهَذَا تَقْرِيرُ قَوْلِ الْفَرَّاءِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ حَسَنٌ وَأَوْلَى مِنْ مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ الَّذِي قَالُوهُ يَقْتَضِي أَنَّ كَلَامَ اللَّه عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الصِّحَّةُ عِنْدَ تَفْكِيكِ هَذَا النَّظْمِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ فَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: لَا شَكَّ أَنَّ كَلِمَةَ «إِنَّ» مِنَ الْعَوَامِلِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، وَكَوْنُ الْمُبْتَدَأِ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرِ خَبَرًا وَصْفٌ حَقِيقِيٌّ ثَابِتٌ حَالَ دُخُولِ هَذَا الْحَرْفِ وَقَبْلَهُ، وَكَوْنُهُ مُبْتَدَأً يَقْتَضِي الرَّفْعَ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَعْطُوفُ عَلَى اسْمِ «إِنَّ» يَجُوزُ انْتِصَابُهُ بِنَاءً عَلَى إِعْمَالِ هَذَا الْحَرْفِ، وَيَجُوزُ ارْتِفَاعُهُ أَيْضًا لِكَوْنِهِ فِي الْحَقِيقَةِ مُبْتَدَأً مُحْدَثًا عَنْهُ وَمُخْبَرًا عَنْهُ. طَعَنَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِيهِ وَقَالَ: إِنَّمَا يَجُوزُ ارْتِفَاعُهُ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ (إِنَّ وَاسْمِهَا) بعد ذكر

الخبر، تقول: إِنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ وَعَمْرًا وَعَمْرٌو بِالنَّصْبِ عَلَى اللَّفْظِ، وَالرَّفْعِ عَلَى مَوْضِعِ (إِنَّ) وَاسْمِهَا، لِأَنَّ الْخَبَرَ قَدْ تَقَدَّمَ، وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ الْخَبَرِ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّا لَوْ رَفَعْنَاهُ عَلَى مَحَلِّ (إِنَّ وَاسْمِهَا) لَكَانَ الْعَامِلُ فِي خَبَرِهِمَا هُوَ الْمُبْتَدَأُ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْعَامِلُ فِي خَبَرِهِمَا هُوَ الِابْتِدَاءُ، لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ مَعًا، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ في الْخَبَرُ الْمُتَأَخِّرُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِحَرْفِ (إِنَّ) وَبِمَعْنَى الِابْتِدَاءِ فَيَجْتَمِعُ عَلَى الْمَرْفُوعِ الْوَاحِدِ رَافِعَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَإِنَّهُ مُحَالٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ ضَعِيفٌ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تُسَمِّيهَا النَّحْوِيُّونَ: رَافِعَةً وَنَاصِبَةً لَيْسَ مَعْنَاهَا أَنَّهَا كَذَلِكَ لِذَوَاتِهَا أَوْ لِأَعْيَانِهَا، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهَا مُعَرِّفَاتٌ بِحَسَبِ الْوَضْعِ وَالِاصْطِلَاحِ لِهَذِهِ الْحَرَكَاتِ، وَاجْتِمَاعُ الْمُعَرِّفَاتِ الْكَثِيرَةِ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ غَيْرُ مُحَالٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْمُحْدَثَاتِ دَالَّةٌ عَلَى وُجُودِ اللَّه تَعَالَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي ضَعْفِ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ (إِنَّ) مُؤَثِّرَةٌ فِي نَصْبِ الِاسْمِ وَرَفْعِ الْخَبَرِ، وَالْكُوفِيُّونَ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ: لَا تَأْثِيرَ لِهَذَا الْحَرْفِ فِي رَفْعِ الْخَبَرِ أَلْبَتَّةَ، وَقَدْ أَحْكَمْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْكَثِيرَةَ إِذَا عُطِفَ بَعْضُهَا عَلَى الْبَعْضِ فَالْخَبَرُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ خَبَرًا عَنْهَا، لِأَنَّ الْخَبَرَ عَنِ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْرِيفِ حَالِهِ وَبَيَانِ صِفَتِهِ، وَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ حَالُ الشَّيْءِ وَصِفَتُهُ عَيْنَ حَالِ الْآخَرِ وَصِفَتِهِ، لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الصِّفَةِ الْوَاحِدَةِ بِالذَّوَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ الْخَبَرَ وَإِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ وَاحِدًا إِلَّا أَنَّهُ فِي التَّقْدِيرِ مُتَعَدِّدٌ، وَهُوَ لَا مَحَالَةَ مَوْجُودٌ بِحَسَبِ التَّقْدِيرِ وَالنِّيَّةِ، وَإِذَا حَصَلَ التَّعَدُّدُ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يَمْتَنِعْ كَوْنُ الْبَعْضِ مُرْتَفِعًا بِالْحَرْفِ وَالْبَعْضِ بِالِابْتِدَاءِ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَلْزَمِ اجْتِمَاعُ الرَّافِعَيْنِ عَلَى مَرْفُوعٍ وَاحِدٍ. وَالَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّهُ سَلَّمَ أَنَّ بَعْدَ ذِكْرِ الِاسْمِ وَخَبَرِهِ جَازَ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْطُوفَ إِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ فِيهِ لِأَنَّا نُضْمِرُ لَهُ خَبَرًا، وَحَكَمْنَا بِأَنَّ ذَلِكَ الْخَبَرَ الْمُضْمَرَ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنْ قُبِلَ ذِكْرُ الْخَبَرِ إِذَا عَطَفْنَا اسْمًا عَلَى اسْمٍ حَكَمَ صَرِيحُ الْعَقْلِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْحُكْمِ بِتَقْدِيرِ الْخَبَرِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِإِضْمَارِ الْأَخْبَارِ الْكَثِيرَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ مَا ذُكِرَ مِنَ الِالْتِزَامِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مَا لَمْ يُؤْمِنُوا، بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ عَامٌّ فِي الْكُلِّ، وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِأَحَدٍ فَضِيلَةٌ وَلَا مَنْقَبَةٌ إِلَّا إِذَا آمَنَ باللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ قُوَّتَانِ: الْقُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ، وَالْقُوَّةُ الْعَمَلِيَّةُ، أَمَّا كَمَالُ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ فَلَيْسَ إِلَّا بِأَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ، وَأَمَّا كَمَالُ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ فَلَيْسَ إِلَّا بِأَنْ يَعْمَلَ الْخَيْرَ، وَأَعْظَمُ الْمَعَارِفِ شَرَفًا مَعْرِفَةُ أَشْرَفِ الْمَوْجُودَاتِ وَهُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ فَلَا جَرَمَ كَانَ أَفْضَلُ الْمَعَارِفِ هُوَ الْإِيمَانَ باللَّه وَالْيَوْمِ الْآخَرِ، وَأَفْضَلُ الْخَيْرَاتِ فِي الْأَعْمَالِ أَمْرَانِ: الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُشْعِرَةِ بِتَعْظِيمِ الْمَعْبُودِ، وَالسَّعْيُ فِي إِيصَالِ النَّفْعِ إِلَى الْخَلْقِ/ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّه وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّه» ثُمَّ بَيَّنَ تعالى

[سورة المائدة (5) : آية 70]

أَنَّ كُلَّ مَنْ أَتَى بِهَذَا الْإِيمَانِ وَبِهَذَا الْعَمَلِ فَإِنَّهُ يَرِدُ الْقِيَامَةَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا حَزَنٍ. وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهِمَا أَنَّ الْخَوْفَ يتعلق بالمستقبل، والحزن بالماضي، فقال فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ مَا يُشَاهِدُونَ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بِسَبَبِ مَا فَاتَهُمْ مِنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا أُمُورًا أَعْظَمَ وَأَشْرَفَ وَأَطْيَبَ مِمَّا كَانَتْ لَهُمْ حَاصِلَةً فِي الدُّنْيَا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَحْزَنُ بِسَبَبِ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُمْكِنُ خُلُوُّ الْمُكَلَّفِ الَّذِي لَا يَكُونُ مَعْصُومًا عَنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ ذَلِكَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلَا يَكُونُ آتِيًا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ إِلَّا إِذَا كَانَ تَارِكًا لِجَمِيعِ الْمَعَاصِي، وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ حَصَلَ خَوْفٌ فَذَلِكَ عَارِضٌ قَلِيلٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ عَدَمَ الْخَوْفِ وَعَدَمَ الْحَزَنِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْمَشْرُوطُ بِشَيْءٍ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، فَلَزِمَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَأْتِ مَعَ الْإِيمَانِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ الْخَوْفُ وَالْحَزَنُ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الْعَفْوِ عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يَقْطَعُ بِأَنَّ اللَّه يَعْفُو عَنْهُ لَا مَحَالَةَ، فَكَانَ الْخَوْفُ وَالْحَزَنُ حَاصِلًا قَبْلَ إِظْهَارِ الْعَفْوِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَفِي هَذَا التَّكْرِيرِ فَائِدَتَانِ، الْأُولَى: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّكْرِيرِ إِخْرَاجُهُمْ عَنْ وَعْدِ عَدَمِ الْخَوْفِ وَعَدَمِ الْحَزَنِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَطْلَقَ لَفْظَ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ يَدْخُلُ تَحْتَهُ أَقْسَامٌ، وَأَشْرَفُهَا الْإِيمَانُ باللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَكَانَتِ الْفَائِدَةُ فِي الْإِعَادَةِ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ أَشْرَفُ أَقْسَامِ الْإِيمَانِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوهًا كَثِيرَةً فِي قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكُلُّهَا صَالِحَةٌ لِهَذَا الْمَوْضِعِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الرَّاجِعُ إِلَى اسْمِ (إِنَّ) مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ حَسُنَ الْحَذْفُ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، واللَّه أعلم. [سورة المائدة (5) : آية 70] لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ عُتُوِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَشِدَّةِ تَمَرُّدِهِمْ عَنِ الْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّه، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا افْتَتَحَ اللَّه بِهِ السُّورَةَ، وَهُوَ قَوْلُهُ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] فَقَالَ لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ يَعْنِي خَلَقْنَا الدَّلَائِلَ وَخَلَقْنَا الْعَقْلَ الْهَادِي إِلَى كَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ، وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا بِتَعْرِيفِ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ. وَقَوْلُهُ كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ وَقَعَتْ صِفَةً لِقَوْلِهِ رُسُلًا وَالرَّاجِعُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ، أَيْ بِمَا يُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ وَمَا يُضَادُّ شَهَوَاتِهِمْ مِنْ مَشَاقِّ التَّكْلِيفِ. وهاهنا سُؤَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَيْنَ جَوَابُ الشَّرْطِ؟ فَإِنَّ قَوْلَهُ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِهَذَا الشَّرْطِ،

[سورة المائدة (5) : آية 71]

لِأَنَّ الرَّسُولَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ فَرِيقَيْنِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، وَإِنَّمَا جَازَ حَذْفُهُ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ نَاصَبُوهُ، ثُمَّ إِنَّهُ قِيلَ: فَكَيْفَ نَاصَبُوهُ؟ فَقِيلَ: فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ. وَقَوْلُهُ: الرَّسُولُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ فَرِيقَيْنِ. فَنَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُ كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الرُّسُلِ، فَلَا جَرَمَ جَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ ذُكِرَ أَحَدُ الْفِعْلَيْنِ مَاضِيًا، وَالْآخَرُ مُضَارِعًا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ كَيْفَ كَانُوا يُكَذِّبُونَ عِيسَى وَمُوسَى فِي كُلِّ مَقَامٍ، وَكَيْفَ كَانُوا يَتَمَرَّدُونَ عَلَى أَوَامِرِهِ وَتَكَالِيفِهِ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السلام إنما توفى في التيه على قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِشُؤْمِ تَمَرُّدِهِمْ عَنْ قَبُولِ قَوْلِهِ فِي مُقَاتَلَةِ الْجَبَّارِينَ. وَأَمَّا الْقَتْلُ فَهُوَ مَا اتَّفَقَ لَهُمْ فِي حَقِّ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَكَانُوا قَدْ قَصَدُوا أَيْضًا قَتْلَ عِيسَى وَإِنْ كَانَ اللَّه مَنَعَهُمْ عَنْ مُرَادِهِمْ وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، فَذِكْرُ التَّكْذِيبِ بِلَفْظِ الْمَاضِي هُنَا إِشَارَةٌ إِلَى مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ قَدِ انْقَضَى مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ أَدْوَارٌ كَثِيرَةٌ، وَذِكْرُ الْقَتْلِ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ إِشَارَةٌ إِلَى مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِكَوْنِ ذَلِكَ الزَّمَانِ قَرِيبًا فَكَانَ كَالْحَاضِرِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ. وَالْجَوَابُ: قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ التَّقْدِيمَ إِنَّمَا يَكُونُ لِشِدَّةِ الْعِنَايَةِ، فَالتَّكْذِيبُ وَالْقَتْلُ وَإِنْ كَانَا مُنْكَرَيْنِ إِلَّا أَنَّ تَكْذِيبَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وقتلهم أقبح، فكان التقديم لهذه الفائدة. [سورة المائدة (5) : آية 71] وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو أَنْ لَا تَكُونُ فِتْنَةٌ بِرَفْعِ نُونِ (تَكُونُ) وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ، وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ لِهَذَا تَقْرِيرًا حَسَنًا فَقَالَ: الْأَفْعَالُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى ثَبَاتِ الشَّيْءِ وَاسْتِقْرَارِهِ نَحْوَ: الْعِلْمُ وَالتَّيَقُّنُ وَالتَّبَيُّنُ، فَمَا كَانَ مِثْلَ هَذَا يَقَعُ بعده (أن) الثقيلة ولم يَقَعُ بَعْدَهُ (أَنْ) الْخَفِيفَةُ النَّاصِبَةُ لِلْفِعْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّقِيلَةَ تَدُلُّ عَلَى ثَبَاتِ الشَّيْءِ وَاسْتِقْرَارِهِ، فَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ وَالثَّبَاتِ وَ (أَنَّ) الثَّقِيلَةُ تُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى حَصَلَتْ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ وَمُجَانَسَةٌ، وَمِثَالُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النُّورِ: 25] أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التَّوْبَةِ: 104] أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى [الْعَلَقِ: 14] وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الثَّبَاتِ وَالِاسْتِقْرَارِ، نَحْوَ: أَطْمَعُ وَأَخَافُ وَأَرْجُو، فَهَذَا لَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ إِلَّا الْخَفِيفَةُ النَّاصِبَةُ لِلْفِعْلِ. قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي [الشُّعَرَاءِ: 82] تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ [الْأَنْفَالِ: 26] فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما [الْكَهْفِ: 80] . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: فِعْلٌ يَحْذُو مَرَّةً إِلَى هَذَا الْقَبِيلِ وَمَرَّةً أُخْرَى إِلَى ذَلِكَ الْقَبِيلِ نَحْوَ: حَسِبَ وَأَخَوَاتِهَا، فَتَارَةً تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى أَطْمَعُ وَأَرْجُو فِيمَا لَا يَكُونُ ثَابِتًا وَمُسْتَقِرًّا، وَتَارَةً بِمَعْنَى الْعِلْمِ فِيمَا يَكُونُ مُسْتَقِرًّا.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: يُمْكِنُ إِجْرَاءُ الْحُسْبَانِ هاهنا بِحَيْثُ يُفِيدُ الثَّبَاتَ وَالِاسْتِقْرَارَ، لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا جَازِمِينَ بِأَنَّهُمْ لَا يَقَعُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ وَالْقَتْلِ فِي الْفِتْنَةِ وَالْعَذَابِ، وَيُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ بِحَيْثُ لَا يُفِيدُ هَذَا الثَّبَاتُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُكَذِّبُونَ وَيَقْتُلُونَ بِسَبَبِ حِفْظِ الْجَاهِ وَالتَّبَعِ، فَكَانُوا بِقُلُوبِهِمْ عَارِفِينَ بِأَنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ وَمَعْصِيَةٌ، وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ لَا جَرَمَ ظَهَرَ الْوَجْهُ فِي صِحَّةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ، فَمَنْ رَفَعَ قَوْلَهُ أَنْ لَا تَكُونُ كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا تَكُونُ، ثُمَّ خُفِّفَتِ الْمُشَدَّدَةُ وَجُعِلَتْ (لَا) عِوَضًا مِنْ حَذْفِ الضَّمِيرِ، فَلَوْ قُلْتَ: عَلِمْتُ أَنْ يَقُولُ، بِالرَّفْعِ لَمْ يَحْسُنْ حَتَّى تَأْتِيَ بِمَا يَكُونُ عِوَضًا مِنْ حَذْفِ الضَّمِيرِ: نَحْوَ السِّينِ وَسَوْفَ وَقَدْ، كَقَوْلِهِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ [الْمُزَّمِّلِ: 20] وَوَجْهُ النَّصْبِ ظَاهِرٌ. ثُمَّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ قَدْ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، فَمِثْلُ قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ وَأَوْقَعَ بَعْدَهُ الْخَفِيفَةَ/ قَوْلُهُ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا [الْعَنْكَبُوتِ: 4] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ [الْجَاثِيَةِ: 21] الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا [الْعَنْكَبُوتِ: 1، 2] وَمِثْلُ قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ [الزُّخْرُفِ: 80] أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ [المؤمنون: 55] أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ [القيامة: 3] فَهَذِهِ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ لِأَنَّ النَّاصِبَةَ لِلْفِعْلِ لَا يَقَعُ بَعْدَهَا (لَنْ) وَمِثْلُ الْمَذْهَبَيْنِ فِي الظَّنِّ قَوْلُهُ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ [الْقِيَامَةِ: 25] إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما [الْبَقَرَةِ: 230] وَمِنَ الرَّفْعِ قَوْلُهُ: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الْجِنِّ: 5] وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً [الجن: 7] فإن هاهنا الْخَفِيفَةُ مِنَ الشَّدِيدَةِ كَقَوْلِهِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ [الْمُزَّمِّلِ: 20] لِأَنَّ (أَنِ) النَّاصِبَةَ لِلْفِعْلِ لَا تَجْتَمِعُ مَعَ لَنْ، لِأَنَّ (لَنْ) تُفِيدُ التَّأْكِيدَ، وَ (أَنِ) النَّاصِبَةَ تُفِيدُ عَدَمَ الثَّبَاتِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ بَابَ حَسِبَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَفْعُولَيْنِ، إِلَّا أن قوله أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ جُمْلَةٌ قَامَتْ مَقَامَ مَفْعُولَيْ حَسِبَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: وَحَسِبُوا الْفِتْنَةَ غَيْرَ نَازِلَةٍ بِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي (الْفِتْنَةِ) وُجُوهًا، وَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةَ، ثُمَّ عَذَابُ الدُّنْيَا أَقْسَامٌ: مِنْهَا الْقَحْطُ، وَمِنْهَا الْوَبَاءُ، وَمِنْهَا الْقَتْلُ، وَمِنْهَا الْعَدَاوَةُ، وَمِنْهَا الْبَغْضَاءُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَمِنْهَا الْإِدْبَارُ وَالنُّحُوسَةُ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ بِهِمْ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلَ الْفِتْنَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ حُسْبَانَهُمْ أَنْ لَا تَقَعَ فِتْنَةٌ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ النَّسْخَ مُمْتَنِعٌ عَلَى شَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ رَسُولٍ جَاءَ بِشَرْعٍ آخَرَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ تَكْذِيبُهُ وَقَتْلُهُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ وَإِنِ اعْتَقَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ كَوْنَهُمْ مُخْطِئِينَ فِي ذَلِكَ التَّكْذِيبِ وَالْقَتْلِ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ نُبُوَّةَ أَسْلَافِهِمْ وَآبَائِهِمْ تَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعِقَابَ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقَتْلِ وَالتَّكْذِيبِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيه مسائل:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ عَمَاهُمْ وَصَمَمَهُمْ عَنِ الْهِدَايَةِ إِلَى الْحَقِّ حَصَلَ مَرَّتَيْنِ. واختلف المفسرون في المراد بهاتين المرتين عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ عَمُوا وَصَمُّوا فِي زَمَانِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، ثُمَّ تَابَ اللَّه عَلَى بَعْضِهِمْ حَيْثُ وُفِّقَ بَعْضُهُمْ لِلْإِيمَانِ بِهِ، ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ أَنْكَرُوا نُبُوَّتَهُ وَرِسَالَتَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْيَهُودِ وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَّا أَنَّ/ جَمْعًا مِنْهُمْ آمَنُوا بِهِ: مِثْلَ عَبْدِ اللَّه بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ. الثَّانِي: عَمُوا وَصَمُّوا حِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ، ثُمَّ تَابُوا عَنْهُ فَتَابَ اللَّه عَلَيْهِمْ، ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِالتَّعَنُّتِ، وَهُوَ طَلَبُهُمْ رُؤْيَةَ اللَّه جَهْرَةً وَنُزُولَ الْمَلَائِكَةِ: الثَّالِثُ: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً [الْإِسْرَاءِ: 4- 6] فَهَذَا فِي مَعْنَى فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ قَالَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً [الْإِسْرَاءِ: 7] فَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ فَعَمُوا وَصَمُّوا إِنَّمَا كَانَ بِرَسُولٍ أُرْسِلُ إِلَيْهِمْ مِثْلَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمَا فَآمَنُوا بِهِ فَتَابَ اللَّه عَلَيْهِمْ، ثُمَّ وَقَعَتْ فَتْرَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا مَرَّةً أُخْرَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قريء. عُمُوا وَصُمُّوا بِالضَّمِّ عَلَى تَقْدِيرِ: عَمَاهُمُ اللَّه وَصَمَّهُمُ اللَّه، أَيْ رَمَاهُمْ وَضَرَبَهُمْ بِالْعَمَى وَالصَّمَمِ، كَمَا تَقُولُ: نَزَكْتُهُ إِذَا ضَرَبْتَهُ بِالنَّزْكِ، وَهُوَ رُمْحٌ قَصِيرٌ، وَرَكِبْتُهُ إِذَا ضَرَبْتَهُ بِرُكْبَتِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ مِنَ الْعَرَبِ «أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ» وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَدَلًا عَنِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا وَالْإِبْدَالُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السَّجْدَةِ: 7] وَقَالَ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آلِ عِمْرَانَ: 97] وَهَذَا الإبدال هاهنا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: عَمُوا وَصَمُّوا لَأَوْهَمَ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّهُمْ صَارُوا كَذَلِكَ، فَلَمَّا قَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ لِلْأَكْثَرِ لَا لِلْكُلِّ. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: هُمْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْعَمَى وَالصَّمَمِ الْجَهْلُ وَالْكُفْرُ، فَنَقُولُ: إِنَّ فَاعِلَ هَذَا الْجَهْلِ هُوَ اللَّه تعالى أو العبد، والأول: يبطل قوله الْمُعْتَزِلَةِ، وَالثَّانِي: بَاطِلٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْتَارُ الْبَتَّةَ تَحْصِيلَ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ لِنَفْسِهِ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّمَا اخْتَارُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ عِلْمٌ. قُلْنَا: حَاصِلُ هَذَا أَنَّهُمْ إِنَّمَا اخْتَارُوا هَذَا الْجَهْلَ لِسَبْقِ جَهْلٍ آخَرَ، إِلَّا أَنَّ الْجَهَالَاتِ لَا تَتَسَلْسَلُ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ انْتِهَائِهَا إِلَى الْجَهْلِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ هُوَ الْعَبْدُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ هُوَ اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أَيْ مِنْ قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّهْدِيدُ.

[سورة المائدة (5) : آية 72]

[سورة المائدة (5) : آية 72] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا اسْتَقْصَى الْكَلَامَ مَعَ اليهود شرع هاهنا فِي الْكَلَامِ مَعَ النَّصَارَى فَحَكَى عَنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللَّه هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْيَعْقُوبِيَّةِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَرْيَمَ وَلَدَتْ إِلَهًا، وَلَعَلَّ مَعْنَى هَذَا الْمَذْهَبِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى حَلَّ فِي ذَاتِ عِيسَى وَاتَّحَدَ بِذَاتِ عِيسَى، ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَالَ. وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَا هُوَ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ النَّصَارَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي أَنَّ دَلَائِلَ الْحُدُوثِ ظَاهِرَةٌ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ عِقَابَ الْفُسَّاقِ لَا يَكُونُ مُخَلَّدًا، قَالُوا: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ فِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ هُوَ أَنَّ اللَّه حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الْجَنَّةَ وَجَعَلَ مَأْوَاهُمُ النَّارَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ نَاصِرٌ يَنْصُرُهُمْ وَلَا شَافِعٌ يَشْفَعُ لَهُمْ، فَلَوْ كَانَ حَالُ الْفُسَّاقِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ لَمَا بَقِيَ لِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ على شركهم بهذا الوعيد فائدة. [سورة المائدة (5) : آية 73] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ثَلاثَةٍ كُسِرَتْ بِالْإِضَافَةِ، وَلَا يَجُوزُ نَصْبُهَا لِأَنَّ مَعْنَاهُ: وَاحِدُ ثَلَاثَةٍ. أَمَّا إِذَا قُلْتَ: رَابِعُ ثَلَاثَةٍ فَهَهُنَا يَجُوزُ الْجَرُّ وَالنَّصْبُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ الَّذِي صَيَّرَ الثَّلَاثَةَ أَرْبَعَةً بِكَوْنِهِ فِيهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ النَّصَارَى ثالِثُ ثَلاثَةٍ طَرِيقَانِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّ اللَّه وَمَرْيَمَ وَعِيسَى آلِهَةٌ ثَلَاثَةٌ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى لِلْمَسِيحِ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَةِ: 116] فَقَوْلُهُ ثالِثُ ثَلاثَةٍ أَيْ أَحَدُ ثَلَاثَةِ آلِهَةٍ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ آلِهَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ، إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ ذِكْرُ الْآلِهَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَلَا يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّه ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ إِذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ ثَالِثَ ثَلَاثَةِ آلِهَةٍ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إِلَّا واللَّه ثَالِثُهُمَا بِالْعِلْمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ [الْمُجَادَلَةِ: 7] . وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ حَكَوْا عَنِ النَّصَارَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: جَوْهَرٌ وَاحِدٌ، ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ أَبٌ، وَابْنٌ،

[سورة المائدة (5) : آية 74]

وَرُوحُ الْقُدُسِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، كَمَا أَنَّ الشَّمْسَ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ الْقُرْصَ وَالشُّعَاعَ وَالْحَرَارَةَ، وَعَنُوا بِالْأَبِ الذَّاتَ، وَبِالِابْنِ الْكَلِمَةَ، وَبِالرُّوحِ الْحَيَاةَ، وَأَثْبَتُوا الذَّاتَ وَالْكَلِمَةَ وَالْحَيَاةَ، وَقَالُوا: إِنَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ كَلَامُ اللَّه اخْتَلَطَتْ بِجَسَدِ عِيسَى اخْتِلَاطَ الْمَاءِ بِالْخَمْرِ، وَاخْتِلَاطَ الْمَاءِ بِاللَّبَنِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْأَبَ إِلَهٌ، وَالِابْنَ إِلَهٌ، وَالرُّوحَ إِلَهٌ، وَالْكُلَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ، فَإِنَّ الثَّلَاثَةَ لَا تَكُونُ وَاحِدًا، وَالْوَاحِدَ، لَا يَكُونُ ثَلَاثَةً، وَلَا يُرَى فِي الدُّنْيَا مَقَالَةٌ أَشَدُّ فَسَادًا وَأَظْهَرُ بُطْلَانًا مِنْ مَقَالَةِ النَّصَارَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ فِي (مِنْ) قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا صِلَةٌ زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا إِلَهٌ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا تُفِيدُ مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا فِي الْوُجُودِ مِنْ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ إِلَّا فَرْدٌ وَاحِدٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ: لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ أَقَامُوا عَلَى هَذَا الدِّينِ لأن كثيرا منهم تابوا عن النصرانية. ثم قال تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 74] أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا أَمْرٌ فِي لَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ كَقَوْلِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [الْمَائِدَةِ: 91] فِي آية تحريم الخمر. [سورة المائدة (5) : آية 75] مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ أَيْ مَا هُوَ إِلَّا رَسُولٌ مِنْ جِنْسِ الرُّسُلِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِ جَاءَ بِآيَاتٍ مِنَ اللَّه كَمَا أَتَوْا بِأَمْثَالِهَا، فَإِنْ كَانَ اللَّه أَبْرَأَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأَحْيَا الْمَوْتَى عَلَى يَدِهِ فَقَدْ أَحْيَا الْعَصَا وَجَعَلَهَا حَيَّةً تَسْعَى وَفَلَقَ الْبَحْرَ عَلَى يَدِ مُوسَى، وَإِنْ كَانَ خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ فَقَدْ خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ وَفِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا صَدَّقَتْ بِآيَاتِ رَبِّهَا وَبِكُلِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ وَلَدُهَا. قَالَ تَعَالَى فِي صِفَتِهَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ [التَّحْرِيمِ: 12] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا [مَرْيَمَ: 17] فَلَمَّا كَلَّمَهَا جِبْرِيلُ وَصَدَّقَتْهُ وَقَعَ عَلَيْهَا اسْمُ الصِّدِّيقَةِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِهَا صِدِّيقَةً غَايَةُ بُعْدِهَا عَنِ الْمَعَاصِي وَشِدَّةُ جِدِّهَا وَاجْتِهَادِهَا فِي إِقَامَةِ مَرَاسِمِ الْعُبُودِيَّةِ، فَإِنَّ الْكَامِلَ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ يُسَمَّى صِدِّيقًا قَالَ تَعَالَى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النِّسَاءِ: 69] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ النَّصَارَى، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ أُمٌّ فَقَدْ حَدَثَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَخْلُوقًا لَا إِلَهًا، وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا كَانَا مُحْتَاجَيْنِ، لِأَنَّهُمَا كَانَا مُحْتَاجَيْنِ إِلَى الطَّعَامِ أَشَدَّ الْحَاجَةِ، وَالْإِلَهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ غَنِيًّا عَنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا. الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ قَوْلَهُ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ كِنَايَةٌ عَنِ الْحَدَثِ لِأَنَّ مَنْ أَكَلَ الطَّعَامَ فَإِنَّهُ لَا بدّ

[سورة المائدة (5) : آية 76]

وَأَنْ يُحْدِثَ، وَهَذَا عِنْدِي ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أَكَلَ أَحْدَثَ، فَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ وَلَا يُحْدِثُونَ. الثَّانِي: أَنَّ الْأَكْلَ عِبَارَةٌ عَنِ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّعَامِ، وَهَذِهِ الْحَاجَةُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِإِلَهٍ، فَأَيُّ حَاجَةٍ بِنَا إِلَى جَعْلِهِ كِنَايَةً عَنْ شَيْءٍ آخَرَ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، فَلَوْ كَانَ إِلَهًا لَقَدَرَ عَلَى دَفْعِ أَلَمِ الْجُوعِ عَنْ نفسه بغير الطعام والشراب، فلما لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا لِلْعَالَمِينَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَفَسَادُ قَوْلِ النَّصَارَى أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُحْتَاجَ فِيهِ إِلَى دَلِيلٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ يُقَالُ: أَفَكَهُ يَأْفِكُهُ إِفْكًا إِذَا صَرَفَهُ، وَالْإِفْكُ الْكَذِبُ لِأَنَّهُ صَرْفٌ عَنِ الْحَقِّ، وَكُلُّ مَصْرُوفٍ عَنِ الشَّيْءِ مَأْفُوكٌ عَنْهُ، وَقَدْ/ أَفَكَتِ الْأَرْضُ إِذَا صُرِفَ عَنْهَا الْمَطَرُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أَنَّى يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ، قَالَ أَصْحَابُنَا: الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُمْ مَصْرُوفُونَ عَنْ تَأَمُّلِ الْحَقِّ، وَالْإِنْسَانُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصْرِفَ نَفْسَهُ عَنِ الْحَقِّ وَالصِّدْقِ إِلَى الْبَاطِلِ وَالْجَهْلِ وَالْكَذِبِ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ ذَلِكَ، فَعَلِمْنَا أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي صَرَفَهُمْ عن ذلك. ثم قال تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 76] قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) وَهَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ النَّصَارَى، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْوَاعًا مِنَ الْحُجَّةِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُعَادُونَهُ وَيَقْصِدُونَهُ بِالسُّوءِ، فَمَا قَدَرَ عَلَى الْإِضْرَارِ بِهِمْ، وَكَانَ أَنْصَارُهُ وَصَحَابَتُهُ يُحِبُّونَهُ فَمَا قَدَرَ عَلَى إِيصَالِ نَفْعٍ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا إِلَيْهِمْ، وَالْعَاجِزُ عَنِ الْإِضْرَارِ وَالنَّفْعِ كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا. الثَّانِي: أَنَّ مَذْهَبَ النَّصَارَى أَنَّ الْيَهُودَ صَلَبُوهُ وَمَزَّقُوا أَضْلَاعَهُ، وَلَمَّا عَطِشَ وَطَلَبَ الْمَاءَ مِنْهُمْ صَبُّوا الْخَلَّ فِي مَنْخِرَيْهِ، وَمَنْ كَانَ فِي الضَّعْفِ هَكَذَا كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا. الثَّالِثُ: أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَيَكُونُ كُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ عِيسَى كَذَلِكَ لَامْتَنَعَ كَوْنُهُ مَشْغُولًا بِعِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى، لِأَنَّ الْإِلَهَ لَا يَعْبُدُ شَيْئًا، إِنَّمَا الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي يَعْبُدُ الْإِلَهَ، وَلَمَّا عُرِفَ بِالتَّوَاتُرِ كَوْنُهُ كَانَ مُوَاظِبًا عَلَى الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ عَلِمْنَا أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُهَا لِكَوْنِهِ مُحْتَاجًا فِي تَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ إِلَى غَيْرِهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى إِيصَالِ الْمَنَافِعِ إِلَى الْعِبَادِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ عَبْدًا كَسَائِرِ الْعَبِيدِ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الدَّلِيلِ الَّذِي حَكَاهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ لِأَبِيهِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مَرْيَمَ: 42] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّهْدِيدُ يَعْنِي سَمِيعٌ بِكُفْرِهِمْ عليم بضمائرهم. [سورة المائدة (5) : آية 77] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَكَلَّمَ أَوَّلًا: عَلَى أَبَاطِيلِ الْيَهُودِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ ثَانِيًا: عَلَى أَبَاطِيلِ النَّصَارَى وَأَقَامَ الدَّلِيلَ الْقَاهِرَ عَلَى بُطْلَانِهَا وَفَسَادِهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ خَاطَبَ مَجْمُوعَ الْفَرِيقَيْنِ بِهَذَا الْخِطَابِ فقال يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي

[سورة المائدة (5) : آية 78]

دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ وَالْغُلُوُّ نَقِيضُ التَّقْصِيرِ. وَمَعْنَاهُ الْخُرُوجُ عَنِ الْحَدِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَقَّ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَدِينَ اللَّه بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ. وَقَوْلُهُ غَيْرَ الْحَقِّ صِفَةُ الْمَصْدَرِ، أَيْ/ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غُلُوًّا غَيْرَ الْحَقِّ، أَيْ غُلُوًّا بَاطِلًا، لِأَنَّ الْغُلُوَّ فِي الدِّينِ نَوْعَانِ: غُلُوُّ حَقٍّ، وَهُوَ أَنْ يُبَالَغَ فِي تَقْرِيرِهِ وَتَأْكِيدِهِ، وَغُلُوُّ بَاطِلٍ وَهُوَ أَنْ يُتَكَلَّفَ فِي تَقْرِيرِ الشُّبَهِ وَإِخْفَاءِ الدَّلَائِلِ، وَذَلِكَ الْغُلُوُّ هُوَ أَنَّ الْيَهُودَ لَعَنَهُمُ اللَّه نَسَبُوهُ إِلَى الزِّنَا. وَإِلَى أَنَّهُ كَذَّابٌ، وَالنَّصَارَى ادَّعَوْا فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الأولى: الأهواء هاهنا الْمَذَاهِبُ الَّتِي تَدْعُو إِلَيْهَا الشَّهْوَةُ دُونَ الْحُجَّةِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا ذَكَرَ اللَّه لَفْظَ الْهَوَى فِي الْقُرْآنِ إِلَّا ذَمَّهُ. قَالَ: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص: 26] وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى [طه: 16] وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النَّجْمِ: 3] أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الْجَاثِيَةِ: 23] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَمْ نَجِدِ الْهَوَى يُوضَعُ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الشَّرِّ. لَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَهْوَى الْخَيْرَ، إِنَّمَا يُقَالُ: يُرِيدُ الْخَيْرَ وَيُحِبُّهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْهَوَى إِلَهٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّه. وَقِيلَ: سُمِّيَ الْهَوَى هَوًى لِأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ فِي النَّارِ، وَأَنْشَدَ فِي ذَمِّ الْهَوَى: إِنَّ الْهَوَى لَهُوَ الْهَوَانُ بِعَيْنِهِ ... فَإِذَا هَوَيْتَ فقد لقيت هوانا وقال رجل لا بن عَبَّاسٍ: الْحَمْدُ للَّه الَّذِي جَعَلَ هَوَايَ عَلَى هَوَاكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ هَوًى ضَلَالَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِثَلَاثِ دَرَجَاتٍ فِي الضَّلَالِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ كَانُوا ضَالِّينَ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُضِلِّينَ لِغَيْرِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ حَتَّى إِنَّهُمُ الْآنَ ضَالُّونَ كَمَا كَانُوا، وَلَا نجد حالة أقرب إلى البعد مِنَ اللَّه وَالْقُرْبِ مِنْ عِقَابِ اللَّه تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ. نَعُوذُ باللَّه مِنْهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَنَّهُمْ ضَلُّوا وَأَضَلُّوا، ثُمَّ ضَلُّوا بِسَبَبِ اعْتِقَادِهِمْ فِي ذَلِكَ الْإِضْلَالِ أَنَّهُ إِرْشَادٌ إِلَى الْحَقِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالضَّلَالِ الْأَوَّلِ الضَّلَالَ عَنِ الدِّينِ، وَبِالضَّلَالِ الثَّانِي الضَّلَالَ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَاطَبَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِهَذَا الْخِطَابِ وَصَفَ أسلافهم فقال تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 78] لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: يَعْنِي أَصْحَابَ السَّبْتِ، وَأَصْحَابَ الْمَائِدَةِ. أَمَّا أَصْحَابُ السَّبْتِ فَهُوَ أَنَّ قَوْمَ دَاوُدَ، وَهُمْ أَهْلُ «أَيْلَةَ» لَمَّا اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ بِأَخْذِ الْحِيتَانِ عَلَى مَا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ قَالَ دَاوُدُ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُمْ وَاجْعَلْهُمْ آيَةً فَمُسِخُوا قِرَدَةً، وَأَمَّا أَصْحَابُ الْمَائِدَةِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَكَلُوا مِنَ الْمَائِدَةِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا قَالَ عِيسَى: اللَّهُمَّ الْعَنْهُمْ كَمَا لَعَنْتَ أَصْحَابَ السَّبْتِ فَأَصْبَحُوا خَنَازِيرَ، وَكَانُوا/ خَمْسَةَ آلَافِ رَجُلٍ مَا فِيهِمُ امْرَأَةٌ وَلَا صَبِيٌّ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِأَنَّا مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ، فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ لِتَدُلَّ عَلَى

[سورة المائدة (5) : آية 79]

أَنَّهُمْ مَلْعُونُونَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: إِنَّ دَاوُدَ وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بَشَّرَا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَعَنَا مَنْ يُكَذِّبُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ اللَّعْنَ كَانَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ يَعْصُونَ وَيُبَالِغُونَ فِي ذَلِكَ العصيان. [سورة المائدة (5) : آية 79] كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى فَسَّرَ الْمَعْصِيَةَ وَالِاعْتِدَاءَ بِقَوْلِهِ كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ وَلِلتَّنَاهِي هاهنا مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ تَفَاعُلٌ مِنَ النَّهْيِ، أَيْ كَانُوا لَا يَنْهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، رَوَى ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ رَضِيَ عَمَلَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ وَمَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» . وَالْمَعْنَى الثَّانِي فِي التَّنَاهِي: أَنَّهُ بِمَعْنَى الِانْتِهَاءِ. يُقَالُ: انْتَهَى عَنِ الْأَمْرِ، وَتَنَاهَى عَنْهُ إِذَا كَفَّ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ اللَّامُ فِي لَبِئْسَ لَامُ الْقَسَمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أُقْسِمُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَهُوَ ارْتِكَابُ الْمَعَاصِي وَالْعُدْوَانُ، وَتَرْكُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. فَإِنْ قِيلَ: الِانْتِهَاءُ عَنِ الشَّيْءِ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَفْعُولًا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلِمَ ذَمَّهُمْ عَلَيْهِ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُعَاوَدَةِ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ الثَّانِي: لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ أَرَادُوا فِعْلَهُ وَأَحْضَرُوا آلَاتِهِ وَأَدَوَاتِهِ. الثَّالِثُ: لَا يَتَنَاهَوْنَ عن الإصرار على منكر فعلوه. [سورة المائدة (5) : آية 80] تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ أَسْلَافَهُمْ بِمَا تَقَدَّمَ وَصَفَ الْحَاضِرِينَ مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الْكُفَّارَ وَعَبَدَةَ الْأَوْثَانِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابُهُ حِينَ اسْتَجَاشُوا الْمُشْرِكِينَ عَلَى الرسول صلى اللَّه عليه وسلم، وذكرنا ذلك فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النِّسَاءِ: 51] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَيْ بِئْسَ مَا قَدَّمُوا مِنَ الْعَمَلِ لِمَعَادِهِمْ فِي دَارِ الْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ مَحَلُّ أَنْ رفع كما تَقُولُ: بِئْسَ رَجُلًا زَيْدٌ، وَرَفْعُهُ كَرَفْعِ زَيْدٍ، وَفِي زَيْدٍ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَيَكُونُ (بِئْسَ) وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ خَبَرَهُ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ لَمَّا قال: بئس رجلا قتل: مَا هُوَ؟ فَقَالَ: زَيْدٌ، أَيْ هُوَ زَيْدٌ. [سورة المائدة (5) : آية 81] وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)

[سورة المائدة (5) : آية 82]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ وَالْمَعْنَى: لَوْ كَانُوا يؤمنون باللَّه والنبي وهو موسى وما أنزل إليه في التَّوْرَاةِ كَمَا يَدَّعُونَ مَا اتَّخَذُوا الْمُشْرِكِينَ أَوْلِيَاءَ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ ذَلِكَ مُتَأَكِّدٌ فِي التَّوْرَاةِ وَفِي شَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُهُمْ تَقْرِيرَ دِينِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَلْ مُرَادُهُمُ الرِّيَاسَةُ وَالْجَاهُ فَيَسْعَوْنَ فِي تَحْصِيلِهِ بِأَيِّ طَرِيقٍ قَدَرُوا عَلَيْهِ، فَلِهَذَا وَصَفَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِالْفِسْقِ فَقَالَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُتَوَلُّونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُؤْمِنُونَ باللَّه وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اتَّخَذَهُمْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ أَوْلِيَاءَ، وَهَذَا الْوَجْهُ حَسَنٌ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ ما يدفعه. [سورة المائدة (5) : آية 82] لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) قَوْلُهُ تَعَالَى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَا ذَكَرَهُ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الآية أن اليهود في غاية العداوة مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِذَلِكَ جَعَلَهُمْ قُرَنَاءَ لِلْمُشْرِكِينَ فِي شدة العداوة، بل نبّه على أنهم أشد في العداوة مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدَّمَ ذِكْرَهُمْ عَلَى ذِكْرِ الْمُشْرِكِينَ. وَلَعَمْرِي إِنَّهُمْ كَذَلِكَ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا خَلَا يَهُودِيَّانِ بِمُسْلِمٍ إِلَّا هَمَّا بِقَتْلِهِ» وَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ النَّصَارَى أَلْيَنُ عَرِيكَةً من اليهود وأقرب إلى المسلمين منهم. وهاهنا مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بِهِ النَّجَاشِيُّ وَقَوْمُهُ الَّذِينَ قَدِمُوا مِنَ الْحَبَشَةِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنُوا بِهِ، وَلَمْ يُرِدْ جَمِيعَ النَّصَارَى مَعَ ظُهُورِ عَدَاوَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَذْهَبُ الْيَهُودِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ إِيصَالُ الشَّرِّ إِلَى مَنْ يُخَالِفُهُمْ فِي الدِّينِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، فَإِنْ قَدَرُوا عَلَى الْقَتْلِ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَبِغَصْبِ الْمَالِ أَوْ بِالسَّرِقَةِ أَوْ بِنَوْعٍ مِنَ الْمَكْرِ وَالْكَيْدِ وَالْحِيلَةِ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَلَيْسَ مَذْهَبُهُمْ ذَاكَ بَلِ الْإِيذَاءُ فِي دِينِهِمْ حَرَامٌ، فَهَذَا هُوَ وَجْهُ التَّفَاوُتِ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَقْصُودُ مِنْ بَيَانِ هَذَا التَّفَاوُتِ تَخْفِيفُ أَمْرِ الْيَهُودِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَتَجِدَنَّ لَامُ الْقَسَمِ، وَالتَّقْدِيرُ: قَسَمًا إنك تجد اليهود والمشركين أشد الناس عداوة مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ شَرَحْتُ لَكَ أَنَّ هَذَا التَّمَرُّدَ وَالْمَعْصِيَةَ عَادَةٌ قَدِيمَةٌ لَهُمْ، فَفَرِّغْ خَاطِرَكَ عَنْهُمْ وَلَا تُبَالِ بِمَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى سَبَبَ هَذَا التَّفَاوُتِ فَقَالَ ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: عِلَّةُ هَذَا التَّفَاوُتِ أَنَّ الْيَهُودَ مَخْصُوصُونَ بِالْحِرْصِ الشَّدِيدِ عَلَى الدُّنْيَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:

[سورة المائدة (5) : آية 83]

وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [الْبَقَرَةِ: 96] فَقَرَنَهُمْ فِي الْحِرْصِ بِالْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ لِلْمَعَادِ، وَالْحِرْصُ مَعْدِنُ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ لِأَنَّ مَنْ كَانَ حَرِيصًا عَلَى الدُّنْيَا طَرَحَ دِينَهُ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَأَقْدَمَ عَلَى كُلِّ مَحْظُورٍ وَمُنْكَرٍ بِطَلَبِ الدُّنْيَا، فَلَا جَرَمَ تَشْتَدُّ عَدَاوَتُهُ مَعَ كُلِّ مَنْ نَالَ مَالًا أَوْ جَاهًا، وَأَمَّا النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ مُعْرِضُونَ عَنِ الدُّنْيَا مُقْبِلُونَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَتَرْكِ طَلَبِ الرِّيَاسَةِ وَالتَّكَبُّرِ وَالتَّرَفُّعِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَحْسُدُ النَّاسَ وَلَا يُؤْذِيهِمْ وَلَا يُخَاصِمُهُمْ، بَلْ يَكُونُ لَيِّنَ الْعَرِيكَةِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ سَهْلَ الِانْقِيَادِ لَهُ، فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. وهاهنا دَقِيقَةٌ نَافِعَةٌ فِي طَلَبِ الدِّينِ وَهُوَ أَنَّ كُفْرَ النَّصَارَى أَغْلَظُ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ لِأَنَّ النَّصَارَى يُنَازِعُونَ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَفِي النُّبُوَّاتِ، وَالْيَهُودُ لَا يُنَازِعُونَ إِلَّا فِي النُّبُوَّاتِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْأَوَّلَ أَغْلَظُ، ثُمَّ إِنَّ النَّصَارَى مَعَ غِلْظِ كُفْرِهِمْ لَمَّا لَمْ يَشْتَدَّ حِرْصُهُمْ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا بَلْ كَانَ فِي قَلْبِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الْآخِرَةِ شَرَّفَهُمُ اللَّه بِقَوْلِهِ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى وَأَمَّا الْيَهُودُ مَعَ أَنَّ كُفْرَهُمْ أَخَفُّ فِي جَنْبِ كُفْرِ النَّصَارَى طَرَدَهُمْ وَخَصَّهُمُ اللَّه بِمَزِيدِ اللَّعْنِ وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِسَبَبِ حِرْصِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا، وَذَلِكَ يُنَبِّهُكَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَسُّ وَالْقِسِّيسُ اسْمٌ لِرَئِيسِ النَّصَارَى، وَالْجَمْعُ الْقِسِّيسُونَ. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: صَنَعَتِ النَّصَارَى الْإِنْجِيلَ وَأَدْخَلَتْ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَبَقِيَ وَاحِدٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ عَلَى الْحَقِّ وَالدِّينِ، وَكَانَ اسْمُهُ قِسِّيسًا، فَمَنْ كَانَ عَلَى هَدْيِهِ وَدِينِهِ فَهُوَ قِسِّيسٌ. قَالَ قُطْرُبٌ: الْقَسُّ وَالْقِسِّيسُ الْعَالِمُ بِلُغَةِ الرُّومِ، وَهَذَا مِمَّا وَقَعَ الْوِفَاقُ فِيهِ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ، وَأَمَّا الرُّهْبَانُ فَهُوَ جَمْعُ رَاهِبٍ كَرُكْبَانٍ وَرَاكِبٍ، وَفُرْسَانٍ وَفَارِسٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الرُّهْبَانُ وَاحِدٌ، وَجَمْعُهُ رَهَابِينُ كَقُرْبَانٍ وَقَرَابِينَ، وَأَصْلُهُ مِنَ الرَّهْبَةِ بِمَعْنَى الْمَخَافَةِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ مَدَحَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها [الْحَدِيدِ: 27] وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ» . قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ صَارَ مَمْدُوحًا فِي مُقَابَلَةِ طَرِيقَةِ الْيَهُودِ فِي الْقَسَاوَةِ وَالْغِلْظَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ كَوْنُهُ مَمْدُوحًا عَلَى الْإِطْلَاقِ. [سورة المائدة (5) : آية 83] وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ الضَّمِيرُ فِي/ قَوْلِهِ سَمِعُوا يَرْجِعُ إِلَى الْقِسِّيسِينَ والرهبان الذين آمنوا منهم وما أُنْزِلَ يَعْنِي الْقُرْآنَ إِلَى الرَّسُولِ يَعْنِي مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ النجاشي وأصحابه، وذلك لأن جعفر الطَّيَّارَ قَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ مَرْيَمَ، فَأَخَذَ النَّجَاشِيُّ تَبِنَةً مِنَ الْأَرْضِ وَقَالَ: واللَّه مَا زَادَ عَلَى مَا قَالَ اللَّه فِي الْإِنْجِيلِ مِثْلَ هَذَا، وَمَا زَالُوا يَبْكُونَ حَتَّى فَرَغَ جَعْفَرٌ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّ أَعْيُنَهُمْ تَمْتَلِئُ مِنَ الدَّمْعِ حَتَّى تَفِيضَ لِأَنَّ الْفَيْضَ أَنْ يَمْتَلِئَ الْإِنَاءُ وَغَيْرُهُ حَتَّى يَطَلُعَ مَا فِيهِ مِنْ جَوَانِبِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ المراد

[سورة المائدة (5) : آية 84]

الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِهِمْ بِالْبُكَاءِ فَجُعِلَتْ أَعْيُنُهُمْ كَأَنَّهَا تَفِيضُ بِأَنْفُسِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ أَيْ مِمَّا نَزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ. فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ (مِنْ) وَبَيْنَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ. قُلْنَا: الْأُولَى: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ فَيْضَ الدَّمْعِ إِنَّمَا ابْتُدِئَ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَكَانَ مِنْ أَجْلِهِ وَبِسَبَبِهِ، وَالثَّانِيَةُ: لِلتَّبْعِيضِ، يَعْنِي أَنَّهُمْ عَرَفُوا بَعْضَ الْحَقِّ وَهُوَ الْقُرْآنُ فَأَبْكَاهُمُ اللَّه، فَكَيْفَ لَوْ عَرَفُوا كُلَّهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا أَيْ بِمَا سَمِعْنَا وَشَهِدْنَا أَنَّهُ حَقٌّ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: يُرِيدُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] وَالثَّانِي: أَيْ مَعَ كُلِّ مَنْ شَهِدَ مِنْ أَنْبِيَائِكَ وَمُؤْمِنِي عِبَادِكَ بِأَنَّكَ لَا إِلَهَ غَيْرُكَ. وأما قوله تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 84] وَما لَنا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مَحَلُّ لَا نُؤْمِنُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ بِمَعْنَى غَيْرَ مُؤْمِنِينَ، كَقَوْلِكَ قَائِمًا، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَنَطْمَعُ وَاوُ الْحَالِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْعَامِلُ فِي الْحَالِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ. قُلْنَا: الْعَامِلُ فِي الْأُولَى مَا فِي اللَّامِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُّ شَيْءٍ حَصَلَ لَنَا حَالَ كَوْنِنَا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ، وَفِي الثَّانِي مَعْنَى هَذَا الْفِعْلِ وَلَكِنْ مُقَيَّدًا بِالْحَالِ الْأُولَى، لِأَنَّكَ لَوْ أَزَلْتَهَا وَقُلْتَ: وَمَا لَنَا وَنَطْمَعُ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَنَطْمَعُ حَالًا مِنْ لَا نُؤْمِنُ عَلَى أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُوَحِّدُونَ اللَّه وَيَطْمَعُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَصْحَبُوا الصَّالِحِينَ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى/ قَوْلِهِ لَا نُؤْمِنُ عَلَى مَعْنَى: وَمَا لَنَا نَجْمَعُ بَيْنَ التَّثْلِيثِ وَبَيْنَ الطَّمَعِ فِي صُحْبَةِ الصَّالِحِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَيُدْخِلُنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ جَنَّتَهُ وَدَارَ رِضْوَانِهِ، قَالَ تَعَالَى: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ [الْحَجِّ: 59] إِلَّا أَنَّهُ حَسُنَ الْحَذْفُ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا. ثُمَّ قَالَ تعالى: [سورة المائدة (5) : الآيات 85 الى 86] فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ الثَّوَابَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْقَوْلِ لا يفيد الثواب. وأجابوا عنه من وجهين: الأول: أنه قد سبق من وصفهم ما يدل على إخلاصهم فيما قالوا، وهو المعرفة، وذلك هو قوله مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة: 83] فلما حصلت المعرفة والإخلاص وكمال الانقياد ثم

[سورة المائدة (5) : آية 87]

انضاف إليه القول لا جرم كمل الإيمان. الثاني: رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ قوله بِما قالُوا يريد بما سألوا، يعني قولهم فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة: 83] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْفَاسِقَ لَا يَبْقَى مُخَلَّدًا فِي النَّارِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ وَهَذَا الْإِحْسَانُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [الْمَائِدَةِ: 83] وَمِنَ الْإِقْرَارِ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ، وَهَذَا الْإِقْرَارَ يُوجِبُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ هَذَا الثَّوَابُ، وَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ لَهُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ وَهَذَا الْإِقْرَارُ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ هَذَا الثَّوَابُ، فَأَمَّا أَنْ يُنْقَلَ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى النَّارِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ يُقَالَ: يُعَاقَبُ عَلَى ذَنْبِهِ ثُمَّ يُنْقَلُ إِلَى الْجَنَّةِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ. الثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ فَقَوْلُهُ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ لَا غَيْرُهُمْ، وَالْمُصَاحِبُ لِلشَّيْءِ هُوَ الْمُلَازِمُ لَهُ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، فَهَذَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذَا الدَّوَامِ بِالْكُفَّارِ، فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ لَا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ الْفَاسِقِ. [سورة المائدة (5) : آية 87] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا اسْتَقْصَى فِي الْمُنَاظَرَةِ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَادَ بَعْدَهُ إِلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ وَذَكَرَ جُمْلَةً مِنْهَا. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِحِلِّ المطاعم والمشارب واللذات فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الطَّيِّبَاتُ اللَّذِيذَاتُ الَّتِي تَشْتَهِيهَا النُّفُوسُ، وَتَمِيلُ إِلَيْهَا الْقُلُوبُ، وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَصْحَابِهِ فِي بَيْتِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَبَالَغَ وَأَشْبَعَ الْكَلَامَ فِي الْإِنْذَارِ وَالتَّحْذِيرِ، فَعَزَمُوا عَلَى أَنْ يَرْفُضُوا الدُّنْيَا وَيُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْمَطَاعِمَ الطَّيِّبَةَ وَالْمُشَارِبَ اللَّذِيذَةَ، وَأَنْ يَصُومُوا النَّهَارَ وَيَقُومُوا اللَّيْلَ وَأَنْ لَا يَنَامُوا عَلَى الْفُرُشِ، وَيَخْصُوا أَنْفُسَهُمْ وَيَلْبَسُوا الْمُسُوحَ وَيَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فقالوا لَهُمْ «إِنِّي لَمْ أُومَرْ بِذَلِكَ إِنَّ لِأَنْفُسِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا وَقُومُوا وَنَامُوا فَإِنِّي أقوم وأنام وأصوم وأفطر آكل اللَّحْمَ وَالدَّسَمَ وَآتِي النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وَبِهَذَا الْكَلَامِ ظَهَرَ وَجْهُ النَّظْمِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَ النَّصَارَى بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا، وَعَادَتُهُمُ الِاحْتِرَازُ عَنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، فَلَمَّا مَدَحَهُمْ أَوْهَمَ ذَلِكَ الْمَدْحُ تَرْغِيبَ الْمُسْلِمِينَ فِي مِثْلِ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ، فَذَكَرَ تَعَالَى عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ إِزَالَةً لِذَلِكَ الْوَهْمِ، لِيُظْهِرَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي هَذَا النَّهْيِ، فَإِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ حُبَّ الدُّنْيَا مُسْتَوْلٍ عَلَى الطِّبَاعِ وَالْقُلُوبِ، فَإِذَا تَوَسَّعَ الْإِنْسَانُ فِي اللَّذَّاتِ وَالطَّيِّبَاتِ اشْتَدَّ مَيْلُهُ إِلَيْهَا وَعَظُمَتْ رَغْبَتُهُ فِيهَا، وَكُلَّمَا كَانَتْ تِلْكَ النِّعَمُ أَكْثَرَ وَأَدْوَمَ كَانَ ذَلِكَ الْمَيْلُ أَقْوَى وَأَعْظَمَ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْمَيْلُ قُوَّةً وَرَغْبَةً ازْدَادَ حِرْصُهُ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَاسْتِغْرَاقُهُ فِي تَحْصِيلِهَا، وَذَلِكَ يَمْنَعُهُ عَنِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّه وَفِي طَاعَتِهِ وَيَمْنَعُهُ عَنْ طَلَبِ سَعَادَاتِ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا إِذَا أَعْرَضَ عَنْ

لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا، فَكُلَّمَا كَانَ ذَلِكَ الْإِعْرَاضُ أَتَمَّ وَأَدْوَمَ كَانَ ذَلِكَ الْمَيْلُ أَضْعَفَ وَالرَّغْبَةُ أَقَلَّ، وَحِينَئِذٍ تَتَفَرَّغُ النَّفْسُ لِطَلَبِ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي خِدْمَتِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي نَهْيِ اللَّه تَعَالَى عَنِ الرَّهْبَانِيَّةِ؟ وَالْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ الْمُفْرِطَةَ وَالِاحْتِرَازَ التَّامَّ عَنِ الطَّيِّبَاتِ وَاللَّذَّاتِ مِمَّا يُوقِعُ الضَّعْفَ فِي الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسَةِ الَّتِي هِيَ الْقَلْبُ وَالدِّمَاغُ، وَإِذَا وَقَعَ الضَّعْفُ فيهما اختلف الْفِكْرَةُ وَتَشَوَّشَ الْعَقْلُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ أَكْمَلَ السَّعَادَاتِ وَأَعْظَمَ الْقُرُبَاتِ إِنَّمَا هُوَ مَعْرِفَةُ/ اللَّه تَعَالَى، فَإِذَا كَانَتِ الرَّهْبَانِيَّةُ الشَّدِيدَةُ مِمَّا يُوقِعُ الْخَلَلَ فِي ذَلِكَ بِالطَّرِيقِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ لَا جَرَمَ وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهَا. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ حَاصِلَ مَا ذَكَرْتُمْ أَنَّ اشْتِغَالَ النَّفْسِ بِطَلَبِ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ يَمْنَعُهَا عَنِ الِاسْتِكْمَالِ بِالسَّعَادَاتِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهَذَا مُسَلَّمٌ لَكِنْ فِي حَقِّ النُّفُوسِ الضَّعِيفَةِ، أَمَّا النُّفُوسُ الْمُسْتَعْلِيَةُ الْكَامِلَةُ فَإِنَّهَا لَا يَكُونُ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْأَعْمَالِ الْحِسِّيَّةِ مَانِعًا لَهَا مِنَ الِاسْتِكْمَالِ بِالسَّعَادَاتِ الْعَقْلِيَّةِ، فَإِنَّا نُشَاهِدُ النُّفُوسَ قَدْ تَكُونُ ضَعِيفَةً بِحَيْثُ مَتَى اشْتَغَلَتْ بِمُهِمٍّ امْتَنَعَ عليها الاشتغال بهم آخَرَ، وَكُلَّمَا كَانَتِ النَّفْسُ أَقْوَى كَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ أَكْمَلَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الرَّهْبَانِيَّةُ الْخَالِصَةُ دَلِيلًا عَلَى نَوْعٍ مِنَ الضَّعْفِ وَالْقُصُورِ، وَإِنَّمَا الْكَمَالُ فِي الْوَفَاءِ بِالْجِهَتَيْنِ وَالِاسْتِكْمَالِ فِي النَّاسِ. الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ مَنِ اسْتَوْفَى اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةَ، كَانَ غَرَضُهُ مِنْهَا الِاسْتِعَانَةَ بِهَا عَلَى اسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ فَإِنَّ رِيَاضَتَهُ وَمُجَاهَدَتَهُ أَتَمُّ مِنْ رِيَاضَةِ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ، لِأَنَّ صَرْفَ حِصَّةِ النَّفْسِ إِلَى جَانِبِ الطَّاعَةِ أَشَقُّ وَأَشَدُّ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْ حِصَّةِ النَّفْسِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَكَانَ الْكَمَالُ فِي هَذَا أَتَمَّ. الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ التَّامَّةَ تُوجِبُ خَرَابَ الدُّنْيَا وَانْقِطَاعَ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ. وَأَمَّا تَرْكَ الرَّهْبَانِيَّةِ مَعَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالطَّاعَاتِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ عِمَارَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ أَكْمَلَ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْوَجْهِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ السورة أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فَبَيَّنَ أَنَّهُ كَمَا لَا يَجُوزُ اسْتِحْلَالُ الْمُحَرَّمِ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَحْرِيمُ الْمُحَلَّلِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُحَرِّمُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّه تَعَالَى، وَهِيَ الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْوَصِيلَةُ وَالْحَامُ، وَقَدْ حكى اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَكَانُوا يُحَلِّلُونَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَغَيْرَهُمَا، فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى أَنْ لَا يُحَرِّمُوا مَا أَحَلَّ اللَّه ولا يحللوا مَا أَحَلَّ اللَّه وَلَا يُحَلِّلُوا مَا حَرَّمَهُ اللَّه تعالى حتى يدخلوا تحت قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: لَا تَعْتَقِدُوا تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللَّه تَعَالَى لَكُمْ، وَثَانِيهَا: لَا تُظْهِرُوا بِاللِّسَانِ تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّهُ اللَّه لَكُمْ، وَثَالِثُهَا: لَا تَجْتَنِبُوا عَنْهَا اجْتِنَابًا شَبِيهَ الِاجْتِنَابِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَرَابِعُهَا: لَا تُحَرِّمُوا عَلَى غَيْرِكُمْ بِالْفَتْوَى، وَخَامِسُهَا: لَا تَلْتَزِمُوا تَحْرِيمَهَا بِنَذْرٍ أَوْ يَمِينٍ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التَّحْرِيمِ: 1] وَسَادِسُهَا: أَنْ يَخْلِطَ الْمَغْصُوبَ بِالْمَمْلُوكِ خَلْطًا لَا يُمْكِنُهُ التَّمْيِيزُ، وَحِينَئِذٍ يَحْرُمُ الْكُلُّ، فَذَلِكَ الْخَلْطُ سَبَبٌ لِتَحْرِيمِ مَا كَانَ حَلَالًا لَهُ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِيمَا إِذَا خُلِطَ النَّجِسُ بِالطَّاهِرِ، وَالْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ لِكُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَلَا يَبْعُدُ حَمْلُهَا عَلَى الْكُلِّ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة: 190] فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى/ جَعَلَ تَحْرِيمَ الطَّيِّبَاتِ اعْتِدَاءً وَظُلْمًا فَنَهَى عَنِ الِاعْتِدَاءِ لِيَدْخُلَ تَحْتَهُ النَّهْيُ عَنْ تَحْرِيمِهَا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا أباح

[سورة المائدة (5) : آية 88]

الطَّيِّبَاتِ حَرَّمَ الْإِسْرَافَ فِيهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَعْتَدُوا ونظيره قوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الْأَعْرَافِ: 31] الثَّالِثُ: يَعْنِي لِمَا أَحَلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتِ فَاكْتَفُوا بِهَذِهِ الْمُحَلَّلَاتِ وَلَا تتعدوها إلى ما حرّم عليكم. ثم قال تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 88] وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ وَكُلُوا صِيغَةُ أَمْرٍ، وَظَاهِرُهَا لِلْوُجُوبِ لَا أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا الْإِبَاحَةُ وَالتَّحْلِيلُ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ بِهِ فِي أَنَّ التَّطَوُّعَ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، وَقَالُوا: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي إِبَاحَةَ الْأَكْلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَتَنَاوَلُ مَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ، غَايَتُهُ أَنَّهُ خُصَّ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ إِلَّا أَنَّ الْعَامَّ حُجَّةٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ حَلالًا طَيِّباً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالْأَكْلِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَأْكُولِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: كُلُوا حَلَالًا طَيِّبًا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّه، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي: كُلُوا مِنَ الرِّزْقِ الَّذِي يَكُونُ حَلَالًا طَيِّبًا، أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فإنه حجة المعتزلة عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ لَا يَكُونُ إِلَّا حَلَالًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ دَالَّةٌ عَلَى الْإِذْنِ فِي أَكْلِ كُلِّ مَا رَزَقَ اللَّه تَعَالَى وَإِنَّمَا يَأْذَنُ اللَّه تَعَالَى فِي أَكْلِ الْحَلَالِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا كَانَ رِزْقًا كَانَ حَلَالًا، وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي فَإِنَّهُ حُجَّةٌ لِأَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا لِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّصَ إِذْنَ الْأَكْلِ بِالرِّزْقِ الَّذِي يَكُونُ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَوْلَا أَنَّ الرِّزْقَ قَدْ لَا يَكُونُ حَلَالًا وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ فَائِدَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمْ يَقُلْ تَعَالَى: كُلُوا مَا رَزَقَكُمْ، ولكن قال كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَكَلِمَةُ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اقْتَصِرُوا فِي الْأَكْلِ عَلَى الْبَعْضِ وَاصْرِفُوا الْبَقِيَّةَ إِلَى الصَّدَقَاتِ وَالْخَيْرَاتِ لِأَنَّهُ إِرْشَادٌ إِلَى تَرْكِ الْإِسْرَافِ كَمَا قال: وَلا تُسْرِفُوا [الأنعام: 141] [الْأَعْرَافِ: 31] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ بِرِزْقِ كُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَكَفَّلْ بِرِزْقِهِ لَمَا قَالَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَإِذَا تَكَفَّلَ اللَّه بِرِزْقِهِ وَجَبَ أَنْ لَا يُبَالِغَ فِي الطَّلَبِ وَأَنْ يُعَوِّلَ عَلَى وَعْدِ اللَّه تَعَالَى وَإِحْسَانِهِ، فَإِنَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُخْلِفَ الْوَعْدَ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا فَاتَّقُوا اللَّه وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ» أَمَّا قَوْلُهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلتَّوْصِيَةِ/ بِمَا أَمَرَ بِهِ، زَادَهُ تَوْكِيدًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِهِ يُوجِبُ التَّقْوَى فِي الِانْتِهَاءِ إِلَى مَا أَمَرَ بِهِ وَعَمَّا نَهَى عنه. [سورة المائدة (5) : آية 89] لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْوَاعًا مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: أَيُّ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَ هَذَا الْحُكْمِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ حَتَّى يَحْسُنَ ذِكْرُهُ عَقِيبَهُ؟ فَنَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ قَوْمًا مِنَ الصَّحَابَةِ

حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْمَطَاعِمَ وَالْمَلَابِسَ وَاخْتَارُوا الرَّهْبَانِيَّةَ وَحَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ فَلَمَّا نَهَاهُمُ اللَّه تَعَالَى عَنْهَا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه فَكَيْفَ نَصْنَعُ بأيماننا أنزل اللَّه هَذِهِ الْآيَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي أن يَمِينَ اللَّغْوِ مَا هُوَ قَدْ سَبَقَ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلَهُ لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: 225] فَلَا وَجْهَ لِلْإِعَادَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ عَقَّدْتُمُ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ عَقَّدْتُمُ بِتَخْفِيفِ الْقَافِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ عَاقَدْتُمْ بِالْأَلِفِ وَالتَّخْفِيفِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُقَالُ عَقَدَ فُلَانٌ الْيَمِينَ وَالْعَهْدَ وَالْحَبْلَ عَقْدًا إِذَا وَكَّدَهُ وَأَحْكَمَهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا عَقَّدَ بِالتَّشْدِيدِ إِذَا وَكَّدَ، وَمِثْلُهُ أَيْضًا عَاقَدَ بِالْأَلِفِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ فَإِنَّهُ صَالِحٌ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، يُقَالُ: عَقَدَ زَيْدٌ يَمِينَهُ، وَعَقَدُوا أَيْمَانَهُمْ، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ فَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ زَيَّفَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ وَقَالَ: التَّشْدِيدُ لِلتَّكْرِيرِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَالْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ تُوجِبُ سُقُوطَ الْكَفَّارَةِ عَنِ الْيَمِينِ الواحدة لأنها لم تكرر. وَأَجَابَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: عَقَدَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى. الثَّانِي: هَبْ أَنَّهَا تُفِيدُ التَّكْرِيرَ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ [يُوسُفَ: 23] إِلَّا أَنَّ هَذَا التَّكْرِيرَ يَحْصُلُ بِأَنْ يَعْقِدَهَا بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، وَمَتَى جَمَعَ بَيْنَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَقَدْ حَصَلَ التَّكْرِيرُ أَمَّا لَوْ عَقَدَ الْيَمِينَ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ مُعَقِّدًا، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْأَلِفِ فَإِنَّهُ مِنَ الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْوَاحِدِ مِثْلُ عَافَاهُ اللَّه وَطَارَقْتُ النَّعْلَ وَعَاقَبْتُ اللِّصَّ فَتَكُونُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ كَقِرَاءَةِ مَنْ خَفَّفَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: (مَا) مَعَ الْفِعْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِعَقْدِكُمْ أَوْ بِتَعْقِيدِكُمْ أَوْ بِمُعَاقَدَتِكُمُ الْأَيْمَانَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ إِذَا حَنَثْتُمْ، فَحَذَفَ وَقْتَ الْمُؤَاخَذَةِ لِأَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ أَوْ بِنَكْثِ مَا عَقَّدْتُمْ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ اسْتِدْلَالِ الشَّافِعِيِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا في سورة البقرة. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَحَدُ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ عَلَى التَّخْيِيرِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا جَمِيعًا فَالْوَاجِبُ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ الصَّوْمُ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهَا جَمِيعًا، وَمَتَى أَتَى بِأَيِّ وَاحِدٍ شَاءَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْقُيُودُ الثَّلَاثَةُ فَذَاكَ هُوَ الْوَاجِبُ الْمُخَيَّرُ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ: الْوَاحِدُ لَا بِعَيْنِهِ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ

يُقَالَ: الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُدْخِلَ فِي الْوُجُودِ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَا بِعَيْنِهِ. وَهَذَا مُحَالٌ فِي الْعُقُولِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَا يَكُونُ مُعَيَّنًا فِي نَفْسِهِ يَكُونُ مُمْتَنِعَ الْوُجُودِ لذاته، وما كان كذلك فإنه لا يُرَادُ بِهِ التَّكْلِيفُ، الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: الْوَاجِبُ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ فِي نَفْسِهِ وَفِي عِلْمِ اللَّه تَعَالَى، إِلَّا أَنَّهُ مَجْهُولُ الْعَيْنِ عِنْدَ الْفَاعِلِ، وَذَلِكَ أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَاجِبًا بِعَيْنِهِ فِي عِلْمِ اللَّه تَعَالَى هُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِحَالٍ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ بِتَقْدِيرِ الْإِتْيَانِ بِغَيْرِهِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه نَصِيبُ كُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ، وَهُوَ ثُلُثَا مَنٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ/ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَالْقَاسِمِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه الْوَاجِبُ نِصْفُ صَاعٍ مِنَ الْحِنْطَةِ، وَصَاعٌ مِنْ غَيْرِ الْحِنْطَةِ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ فِي الْإِطْعَامِ إِلَّا قَوْلَهُ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ وَهَذَا الْوَسَطُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا كَانَ مُتَوَسِّطًا فِي الْعُرْفِ، أَوْ مَا كَانَ مُتَوَسِّطًا فِي الشَّرْعِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مَا كَانَ مُتَوَسِّطًا فِي الْعُرْفِ فَثُلُثَا مَنٍ مِنَ الْحِنْطَةِ إِذَا جُعِلَ دَقِيقًا أَوْ جُعِلَ خُبْزًا فَإِنَّهُ يَصِيرُ قَرِيبًا مِنَ الْمَنِ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي قُوتِ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ ظَاهِرًا، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مَا كَانَ مُتَوَسِّطًا فِي الشَّرْعِ فَلَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ لَهُ مِقْدَارٌ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا رُوِيَ فِي خَبَرِ الْمُفْطِرِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مِقْدَارٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا أَجِدُ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْعِمْ هَذَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِ طَعَامِ الْمِسْكِينِ بِرُبْعِ الصَّاعِ، وَهُوَ مُدٌّ، وَلَا يُلْزَمُ كَفَّارَةَ الْحَلِفِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ مُطْلَقَةً عَنِ التَّقْدِيرِ بِإِطْعَامِ الْأَهْلِ، فَكَانَ قَدْرُهَا مُعْتَبَرًا بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ تَقْدِيرُهَا بِالصَّاعِ لَا بِالْمُدِّ. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ وَالْأَوْسَطُ هُوَ الْأَعْدَلُ وَالَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه هُوَ أَدْنَى مَا يَكْفِي، فَأَمَّا الْأَعْدَلُ فَيَكُونُ بِإِدَامٍ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَحِمَهُمَا اللَّه: مُدٌّ مَعَهُ إِدَامُهُ، وَالْإِدَامُ يَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ مُدٍّ آخَرَ أَوْ يَزِيدُ فِي الْأَغْلَبِ. أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه بِأَنَّ قَوْلَهُ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّوَسُّطَ فِي الْقَدْرِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا كَانَ قَلِيلَ الْأَكْلِ جِدًّا يَكْفِيهِ الرَّغِيفُ الْوَاحِدُ، وَرُبَّمَا كَانَ كَثِيرَ الْأَكْلِ فَلَا يَكْفِيهِ الْمَنَوَانِ، إِلَّا أَنَّ الْمُتَوَسِّطَ الْغَالِبَ أَنَّهُ يَكْفِيهِ مِنَ الْخُبْزِ مَا يَقْرُبُ مِنَ الْمَنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّوَسُّطَ في القيمة لا يكون غالبا كَالسُّكَّرِ، وَلَا يَكُونُ خَسِيسَ الثَّمَنِ كَالنُّخَالَةِ وَالذُّرَةِ، وَالْأَوْسَطُ هُوَ الْحِنْطَةُ وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَالْخُبْزُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَوْسَطَ فِي الطِّيبِ وَاللَّذَاذَةِ، وَلَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فَنَقُولُ: يَجِبُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِدَامَ غَيْرُ وَاجِبٍ بِالْإِجْمَاعِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى التَّوَسُّطِ فِي قَدْرِ الطَّعَامِ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ وَاجِبٌ بِيَقِينٍ، وَالْبَاقِي مَشْكُوكٌ فِيهِ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَيْهِ فَأَوْجَبْنَا الْيَقِينَ وطرحنا الشك واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْوَاجِبُ تَمْلِيكُ الطَّعَامِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: إِذَا غَدَّى أَوْ عَشَّى عَشَرَةَ مساكين جاز.

حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْوَاجِبَ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ أَحَدُ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، إِمَّا الْإِطْعَامُ، أَوِ الْكِسْوَةُ، أَوِ الْإِعْتَاقُ، ثُمَّ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْكِسْوَةِ التَّمْلِيكُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ فِي الْإِطْعَامِ هُوَ التَّمْلِيكَ. حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الإطعام، والتغذية وَالتَّعْشِيَةُ هُمَا إِطْعَامٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ [الْإِنْسَانِ: 8] وَقَالَ: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ وَإِطْعَامُ الْأَهْلِ يَكُونُ بِالتَّمْكِينِ لَا بِالتَّمْلِيكِ، وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ: فُلَانٌ يُطْعِمُ الْفُقَرَاءَ إِذَا كَانَ يُقَدِّمُ الطَّعَامَ إِلَيْهِمْ وَيُمَكِّنُهُمْ مِنْ أَكْلِهِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالْإِطْعَامِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَافِيًا. أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: أَنَّ الْوَاجِبَ إِمَّا الْمُدُّ أَوِ الأزيد، والتغذية وَالتَّعْشِيَةُ قَدْ تَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ إِلَّا بِالْيَقِينِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّه: لَا يُجْزِئُهُ إِلَّا طَعَامُ عَشَرَةٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه لَوْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا عَشَرَةَ أَيَّامٍ جَازَ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّ مَدَارَ هَذَا الْبَابِ عَلَى التَّعَبُّدِ الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ الاعتماد فيه عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْكِسْوَةُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهَا اللِّبَاسُ، وَهُوَ كُلُّ مَا يُكْتَسَى بِهِ، فَأَمَّا الَّتِي تُجْزِي فِي الْكَفَّارَةِ فَهُوَ أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكِسْوَةِ إِزَارٌ أَوْ رِدَاءٌ أَوْ قَمِيصٌ أَوْ سَرَاوِيلُ أَوْ عِمَامَةٌ أَوْ مِقْنَعَةٌ ثَوْبٌ وَاحِدٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْمُرَادُ بِالرَّقَبَةِ الْجُمْلَةُ، وَقِيلَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْمَجَازِ أَنَّ الْأَسِيرَ فِي الْعَرَبِ كَانَ يُجْمَعُ يَدَاهُ إِلَى رَقَبَتِهِ بِحَبْلٍ، فَإِذَا أُطْلِقَ حُلَّ ذَلِكَ الْحَبْلُ فَسُمِّيَ الْإِطْلَاقُ مِنَ الرَّقَبَةِ فَكَّ الرَّقَبَةِ، ثُمَّ جَرَى ذَلِكَ عَلَى الْعِتْقِ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّ جَمِيعَ الرَّقَبَاتِ تُجْزِيهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الرَّقَبَةُ الْمُجْزِيَةُ فِي الْكَفَّارَةِ كُلُّ رَقَبَةٍ سَلِيمَةٍ مِنْ عَيْبٍ يَمْنَعُ مِنَ الْعَمَلِ، صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، بَعْدَ أَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً، وَلَا يَجُوزُ إِعْتَاقُ الْكَافِرَةِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكَفَّارَاتِ، وَلَا إِعْتَاقُ الْمُكَاتَبِ، وَلَا شِرَاءُ الْقَرِيبِ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي آيَةِ الظِّهَارِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَيُّ فَائِدَةٍ لِتَقْدِيمِ الْإِطْعَامِ عَلَى الْعِتْقِ مَعَ أَنَّ الْعِتْقَ أَفْضَلُ لَا مَحَالَةَ. قُلْنَا لَهُ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَى التَّخْيِيرِ لَا عَلَى التَّرْتِيبِ لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ عَلَى التَّرْتِيبِ لَوَجَبَتِ الْبُدَاءَةُ بِالْأَغْلَظِ، وَثَانِيهَا: قُدِّمَ الْإِطْعَامُ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ/ لِكَوْنِ الطَّعَامِ أَعَمَّ وُجُودًا، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرَاعِي التَّخْفِيفَ وَالتَّسْهِيلَ فِي التَّكَالِيفِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِطْعَامَ أَفْضَلُ لِأَنَّ الْحُرَّ الْفَقِيرَ قَدْ لَا يَجِدُ الطَّعَامَ، وَلَا يَكُونُ هُنَاكَ مَنْ يُعْطِيهِ الطَّعَامَ فَيَقَعُ فِي الضُّرِّ، أَمَّا الْعَبْدُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَوْلَاهُ إِطْعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِذَا كَانَ عِنْدَهُ قُوتُهُ وَقُوتُ عِيَالِهِ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ وَمِنَ الْفَضْلِ مَا يُطْعِمُ

عَشَرَةَ مَسَاكِينَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ بِالْإِطْعَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ هَذَا الْقَدْرُ جَازَ لَهُ الصِّيَامُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه، يَجُوزُ لَهُ الصِّيَامُ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَجُعِلَ مَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ عَادِمًا. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ جَوَازَ الصِّيَامِ عَلَى عَدَمِ وِجْدَانِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، فعند عدم وِجْدَانِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الصَّوْمُ، تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِهِ عِنْدَ وِجْدَانِ قُوتِ نَفْسِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً لِأَنَّ ذَلِكَ كَالْأَمْرِ الْمُضْطَرِّ إِلَيْهِ، وَقَدْ رَأَيْنَا فِي الشَّرْعِ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ التَّعَارُضُ فِي حَقِّ النَّفْسِ وَحَقِّ الْغَيْرِ كَانَ تَقْدِيمُ حَقِّ النَّفْسِ وَاجِبًا، فَوَجَبَ أَنْ تَبْقَى الْآيَةُ مَعْمُولًا بِهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ: أَنَّهُ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِنْ شَاءَ مُتَتَابِعَةً وَإِنْ شَاءَ مُتَفَرِّقَةً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ التَّتَابُعُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالْآتِي بِصَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَى التَّفَرُّقِ آتٍ بِصَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ. حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه، مَا رُوِيَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ: فَصَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ، وَقِرَاءَتُهُمَا لَا تَخْتَلِفُ عَنْ رِوَايَتِهِمَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ مَرْدُودَةٌ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ قُرْآنًا لَنُقِلَتْ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، إِذْ لَوْ جَوَّزْنَا فِي الْقُرْآنِ أَنْ لَا يُنْقَلَ عَلَى التَّوَاتُرِ لَزِمَ طَعْنُ الرَّوَافِضِ وَالْمَلَاحِدَةِ فِي الْقُرْآنِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ مَرْدُودَةٌ، فَلَا تَصْلُحُ لِأَنْ تَكُونَ حُجَّةً. وَأَيْضًا نُقِلَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَرَأَ (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ) مَعَ أَنَّ التَّتَابُعَ هُنَاكَ مَا كَانَ شَرْطًا، وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ أَفَأَقْضِيهَا مُتَفَرِّقَاتٍ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَيْكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَ الدِّرْهَمَ فَالدِّرْهَمَ أَمَا كَانَ يُجْزِيكَ قَالَ بَلَى، قَالَ/ فاللَّه أَحَقُّ أَنْ يَعْفُوَ وَأَنْ يَصْفَحَ» . قُلْنَا: فَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ وَقَعَ جَوَابًا عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إِلَّا أَنَّ لَفْظَهُ عَامٌّ، وَتَعْلِيلَهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الصِّيَامَاتِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى جَوَازِ التَّفْرِيقِ هَاهُنَا أَيْضًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ عَنْ يَمِينَيْنِ أَجْزَأَهُ سَوَاءٌ عَيَّنَ إِحْدَى الثَّلَاثَتَيْنِ لِإِحْدَى الْيَمِينَيْنِ أَوْ لَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَتَى بِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ قَوْلَهُ ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَتَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ، أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حلفتم وخنثتم لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْحَلِفِ، إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ ذِكْرَ الْحِنْثِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، كَمَا قَالَ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [الْبَقَرَةِ: 184] أَيْ فَأَفْطَرَ. احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ التَّكْفِيرَ قَبْلَ الْحِنْثِ جَائِزٌ فَقَالَ: الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ كَفَّارَةٌ لِلْيَمِينِ عِنْدَ وُجُودِ الْحَلِفِ، فَإِذَا أَدَّاهَا بَعْدَ الْحَلِفِ قَبْلَ الْحِنْثِ فَقَدْ أَدَّى الْكَفَّارَةَ عَنْ ذَلِكَ الْيَمِينِ،

[سورة المائدة (5) : آية 90]

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ. قَالَ: وَقَوْلُهُ إِذا حَلَفْتُمْ فِيهِ دَقِيقَةٌ وَهِيَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْيَمِينِ لَا يَجُوزُ، وَأَمَّا بَعْدَ الْيَمِينِ وَقَبْلَ الْحِنْثِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ قَلِّلُوا الْأَيْمَانَ وَلَا تُكْثِرُوا مِنْهَا قَالَ كُثَيِّرٌ: قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ برت فدل قوله (وإن سبقت منه الألية) على أن قوله (حافظ ليمينه) وصف منه له بأنه لا يحلف. الثاني: واحفظوا أيمانكم إذا حلفتم عن الحنث لئلا تحتاجوا إلى التكفير، واللفظ محتمل للوجهين، إلا أن على هذا التقدير يكون مخصوصا بقوله عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثم ليكفر عن يمينه» . ثم قال تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ والمعنى ظاهر، والكلام في لفظ لعلّ تقدم مرارا. [سورة المائدة (5) : آية 90] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَوَجْهُ اتِّصَالِهِ بِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِيمَا تَقَدَّمَ لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً [المائدة: 87، 88] ثُمَّ لَمَّا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْأُمُورِ الْمُسْتَطَابَةِ الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ لَا جَرَمَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمَا غَيْرُ دَاخِلَيْنِ فِي الْمُحَلَّلَاتِ، بَلْ فِي الْمُحَرَّمَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَعْنَى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَذَكَرْنَا مَعْنَى الْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ [المائدة: 3] فَمَنْ أَرَادَ الِاسْتِقْصَاءَ فَعَلَيْهِ بِهَذِهِ الْمَوَاضِعِ. وَفِي اشْتِقَاقِ لَفْظِ الْخَمْرِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: سُمِّيَتِ الْخَمْرُ خَمْرًا لِأَنَّهَا خَامَرَتِ الْعَقْلَ، أَيْ خَالَطَتْهُ فَسَتَرَتْهُ، وَالثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: تُرِكَتْ فَاخْتَمَرَتْ، أَيْ تَغَيَّرَ رِيحُهَا، وَالْمَيْسِرُ هُوَ قِمَارُهُمْ فِي الْجَزُورِ، وَالْأَنْصَابُ هِيَ آلِهَتُهُمُ الَّتِي نَصَبُوهَا يَعْبُدُونَهَا، وَالْأَزْلَامُ سِهَامٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا خَيْرٌ وَشَرٌّ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الْأَرْبَعَةَ بِوَصْفَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ رِجْسٌ وَالرِّجْسُ فِي اللُّغَةِ كُلُّ مَا اسْتُقْذِرَ مِنْ عَمَلٍ. يُقَالُ: رَجُسَ الرَّجُلُ رِجْسًا ورجس إِذَا عَمِلَ عَمَلًا قَبِيحًا، وَأَصْلُهُ مِنَ الرَّجْسِ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَهُوَ شِدَّةُ الصَّوْتِ. يُقَالُ: سَحَابٌ رَجَّاسٌ إِذَا كَانَ شَدِيدَ الصَّوْتِ بِالرَّعْدِ فَكَانَ الرَّجْسُ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي يَكُونُ قَوِيَّ الدَّرَجَةِ كَامِلَ الرُّتْبَةِ فِي الْقُبْحِ. الْوَصْفُ الثَّانِي: قَوْلُهُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ وَهَذَا أَيْضًا مُكَمِّلٌ لِكَوْنِهِ رِجْسًا لِأَنَّ الشَّيْطَانَ نَجَسٌ خَبِيثٌ لِأَنَّهُ كَافِرٌ وَالْكَافِرُ نَجَسٌ لِقَوْلِهِ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التَّوْبَةِ: 28] وَالْخَبِيثُ لَا يَدْعُو إِلَّا إِلَى الْخَبِيثِ لِقَوْلِهِ

[سورة المائدة (5) : آية 91]

الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النُّورِ: 26] وَأَيْضًا كُلُّ مَا أُضِيفَ إِلَى الشَّيْطَانِ فَالْمُرَادُ مِنْ تِلْكَ الْإِضَافَةِ الْمُبَالَغَةُ فِي كَمَالِ قُبْحِهِ. قَالَ تَعَالَى: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [الْقَصَصِ: 15] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ قَالَ فَاجْتَنِبُوهُ أَيْ كُونُوا جَانِبًا مِنْهُ، وَالْهَاءُ عَائِدَةٌ إِلَى مَاذَا فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا عَائِدَةٌ إِلَى الرِّجْسِ، وَالرِّجْسٌ وَاقِعٌ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَكَانَ الْأَمْرُ/ بِالِاجْتِنَابِ مُتَنَاوِلًا لِلْكُلِّ. الثَّانِي: أَنَّهَا عَائِدَةٌ إِلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّمَا شَأْنُ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أَوْ تَعَاطِيهِمَا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِاجْتِنَابِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ذَكَرَ فِيهَا نَوْعَيْنِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ: فَالْأَوَّلُ: مَا يَتَعَلَّقُ بالدنيا وهو قوله: [سورة المائدة (5) : آية 91] إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَاعْلَمْ أَنَّا نَشْرَحُ وَجْهَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ أَوَّلًا فِي الْخَمْرِ ثُمَّ فِي الْمَيْسِرِ: أَمَّا الْخَمْرُ فَاعْلَمْ أَنَّ الظَّاهِرَ فِيمَنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ أَنَّهُ يَشْرَبُهَا مَعَ جَمَاعَةٍ وَيَكُونُ غَرَضُهُ مِنْ ذَلِكَ الشُّرْبِ أَنْ يَسْتَأْنِسَ بِرُفَقَائِهِ وَيَفْرَحَ بِمُحَادَثَتِهِمْ وَمُكَالَمَتِهِمْ، فَكَانَ غَرَضُهُ مِنْ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ تَأْكِيدَ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ يَنْقَلِبُ إِلَى الضِّدِّ لِأَنَّ الْخَمْرَ يُزِيلُ الْعَقْلَ، وَإِذَا زَالَ الْعَقْلُ اسْتَوْلَتِ الشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ مِنْ غَيْرِ مُدَافَعَةِ الْعَقْلِ، وَعِنْدَ اسْتِيلَائِهِمَا تَحْصُلُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَ أُولَئِكَ الْأَصْحَابِ، وَتِلْكَ الْمُنَازَعَةُ رُبَّمَا أَدَّتْ إِلَى الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَالْمُشَافَهَةِ بِالْفُحْشِ، وَذَلِكَ يُورِثُ أَشَدَّ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، فَالشَّيْطَانُ يُسَوِّلُ أَنَّ الِاجْتِمَاعَ عَلَى الشُّرْبِ يُوجِبُ تَأْكِيدَ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَبِالْآخِرَةِ انْقَلَبَ الْأَمْرُ وَحَصَلَتْ نِهَايَةُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ. وَأَمَّا الْمَيْسِرُ فَفِيهِ بِإِزَاءِ التَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ الْإِجْحَافُ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، لِأَنَّ مَنْ صَارَ مَغْلُوبًا فِي الْقِمَارِ مَرَّةً دَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى اللَّجَاجِ فِيهِ عَنْ رَجَاءِ أَنَّهُ رُبَّمَا صَارَ غَالِبًا فِيهِ، وَقَدْ يَتَّفِقُ أَنْ لَا يَحْصُلَ لَهُ ذَلِكَ إِلَى أَنْ لَا يَبْقَى لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ، وَإِلَى أَنْ يُقَامِرَ عَلَى لِحْيَتِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَبْقَى فَقِيرًا مِسْكِينًا وَيَصِيرُ مِنْ أَعْدَى الْأَعْدَاءِ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا غَالِبِينَ لَهُ فَظَهَرَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ سَبَبَانِ عَظِيمَانِ فِي إِثَارَةِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ شِدَّةَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ تُفْضِي إِلَى أَحْوَالٍ مَذْمُومَةٍ مِنَ الْهَرْجِ وَالْمَرْجِ وَالْفِتَنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُضَادٌّ لِمَصَالِحِ الْعَالَمِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ جَمَعَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ مَعَ الْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ ثُمَّ أَفْرَدَهُمَا فِي آخِرِ الْآيَةِ. قُلْنَا: لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خِطَابٌ مع المؤمنين بدليل أنه تعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [المائدة: 90] وَالْمَقْصُودُ نَهْيُهُمْ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَإِظْهَارُ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْقُبْحِ وَالْمَفْسَدَةِ، / فَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ النَّهْيَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَإِنَّمَا ضَمَّ الْأَنْصَابَ وَالْأَزْلَامَ إِلَى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ تَأْكِيدًا لِقُبْحِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، لَا جَرَمَ أَفْرَدَهُمَا فِي آخِرِ الْآيَةِ بِالذِّكْرِ.

[سورة المائدة (5) : آية 92]

أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْمَفَاسِدِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ: الْمَفَاسِدُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالدِّينِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فنقول: أما أن شرب الخمر يمنع عن ذِكْرَ اللَّه فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ شُرْبَ الْخُمُورِ يُورِثُ الطَّرَبَ وَاللَّذَّةَ الْجُسْمَانِيَّةَ، وَالنَّفْسُ إِذَا اسْتَغْرَقَتْ فِي اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ غَفَلَتْ عَنْ ذِكْرِ اللَّه تَعَالَى، وَأَمَّا أَنَّ الْمَيْسِرَ مَانِعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه وَعَنِ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ غَالِبًا صَارَ اسْتِغْرَاقُهُ فِي لَذَّةِ الْغَلَبَةِ مَانِعًا مِنْ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِ شَيْءٌ سِوَاهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ مِمَّا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّه وَعَنِ الصَّلَاةِ. فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ هِيَ هَذِهِ الْمَعَانِي، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ كَانَتْ حَاصِلَةً قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ مَعَ أَنَّ التَّحْرِيمَ مَا كَانَ حَاصِلًا وَهَذَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ هَذَا التَّعْلِيلِ: قُلْنَا: هَذَا هُوَ أَحَدُ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهَا عِلَّةً. وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى اشْتِمَالَ شُرْبِ الْخَمْرِ وَاللَّعِبِ بِالْمَيْسِرِ عَلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ فِي الدِّينِ. قَالَ تَعَالَى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النِّسَاءِ: 43] قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا يَا رَبِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ اسْتِفْهَامًا فِي الظَّاهِرِ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هُوَ النَّهْيُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا حَسُنَ هَذَا الْمَجَازُ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ وَأَظْهَرَ قُبْحَهَا لِلْمُخَاطَبِ، فَلَمَّا اسْتَفْهَمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ تَرْكِهَا لَمْ يَقْدِرِ الْمُخَاطَبُ إِلَّا عَلَى الإقرار بالترك، فكأنه قيل له: أتفعله بعد ما قَدْ ظَهَرَ مِنْ قُبْحِهِ مَا قَدْ ظَهَرَ فَصَارَ قَوْلُهُ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ جَارِيًا مَجْرَى تَنْصِيصِ اللَّه تَعَالَى عَلَى وُجُوبِ الِانْتِهَاءِ مَقْرُونًا بِإِقْرَارِ الْمُكَلَّفِ بِوُجُوبِ الِانْتِهَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ مِنْ وجوه: أحدها: تَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِإِنَّمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لِلْحَصْرِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا رِجْسَ وَلَا شَيْءَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ وثانيها: أَنَّهُ تَعَالَى قَرَنَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ» وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالِاجْتِنَابِ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ جَعَلَ الِاجْتِنَابَ مِنَ الْفَلَاحِ، وَإِذَا كَانَ الِاجْتِنَابُ فَلَاحًا كَانَ الِارْتِكَابُ خَيْبَةً، وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ شَرَحَ أَنْوَاعَ الْمَفَاسِدِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَهِيَ وُقُوعُ التَّعَادِي وَالتَّبَاغُضِ بَيْنَ الْخَلْقِ/ وَحُصُولُ الْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِ اللَّه تَعَالَى وَعَنِ الصَّلَاةِ. وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ مَا يُنْتَهَى بِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: قَدْ تُلِيَ عَلَيْكُمْ مَا فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ وَالْقَبَائِحِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ مَعَ هَذِهِ الصَّوَارِفِ؟ أَمْ أَنْتُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ تُوعَظُوا بِهَذِهِ الْمَوَاعِظِ. وَسَابِعُهَا: أنه تعالى قال بعد ذلك. [سورة المائدة (5) : آية 92] وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ وَأَطِيعُوا اللَّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَمْرِهِمَا بِالِاجْتِنَابِ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَقَوْلُهُ وَاحْذَرُوا أي احذروا عن مخالفتها فِي هَذِهِ التَّكَالِيفِ. وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ:

[سورة المائدة (5) : آية 93]

فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ وَهَذَا تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ فِي حَقِّ مَنْ خَالَفَ فِي هَذَا التَّكْلِيفِ وَأَعْرَضَ فِيهِ عَنْ حُكْمِ اللَّه، وَبَيَانِهِ، يَعْنِي أَنَّكُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَالْحُجَّةُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْكُمْ وَالرَّسُولُ قَدْ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ التَّبْلِيغِ وَالْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ، فَأَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ عِقَابِ مَنْ خَالَفَ هَذَا التَّكْلِيفَ وَأَعْرَضَ عَنْهُ فَذَاكَ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّمَانِيَةِ دَلِيلًا قَاهِرًا وَبُرْهَانًا بَاهِرًا فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَنْصَفَ وَتَرَكَ الِاعْتِسَافَ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قَوْلُهُ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [المائدة: 91] قَالَ بَعْدَهُ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فَرَتَّبَ النَّهْيَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ عَلَى كَوْنِ الْخَمْرِ مُشْتَمِلَةً عَلَى تِلْكَ الْمَفَاسِدِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ فِي بَدَائِهِ الْعُقُولِ أَنَّ تِلْكَ الْمَفَاسِدَ إِنَّمَا تَوَلَّدَتْ مِنْ كَوْنِهَا مُؤَثِّرَةً فِي السُّكْرِ وَهَذَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِأَنَّ عِلَّةَ قَوْلِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ هِيَ كَوْنُ الْخَمْرِ مُؤَثِّرًا فِي الْإِسْكَارِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ أَحَاطَ عَقْلُهُ بِهَذَا التَّقْدِيرِ وَبَقِيَ مُصِرًّا عَلَى قَوْلِهِ فَلَيْسَ لِعِنَادِهِ عِلَاجٌ، واللَّه أَعْلَمُ. [سورة المائدة (5) : آية 93] لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) وفي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ قَالَتِ الصَّحَابَةُ: إِنَّ إِخْوَانَنَا كَانُوا قَدْ شَرِبُوا الْخَمْرَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمَّ قُتِلُوا فَكَيْفَ حَالُهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْمَعْنَى: لَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ شَرِبُوهَا حَالَ مَا كَانَتْ مُحَلَّلَةً، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُشَابِهَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي نَسْخِ الْقِبْلَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 143] أَيْ أَنَّكُمْ حِينَ اسْتَقْبَلْتُمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَقَدِ اسْتَقْبَلْتُمُوهُ بِأَمْرِي فَلَا أُضِيعُ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى [آلِ عِمْرَانَ: 195] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الطَّعَامُ فِي الْأَغْلَبِ مِنَ اللُّغَةِ خِلَافُ الشَّرَابِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الطُّعْمُ خِلَافَ الشُّرْبِ، إِلَّا أَنَّ اسْمَ الطَّعَامِ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْمَشْرُوبَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [الْبَقَرَةِ: 249] وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا أَيْ شَرِبُوا الْخَمْرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الطُّعْمِ رَاجِعًا إِلَى التَّلَذُّذِ بِمَا يُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ، وَقَدْ تَقُولُ الْعَرَبُ: تَطَعَّمْ تَطْعَمْ أَيْ ذُقْ حَتَّى تَشْتَهِيَ وَإِذَا كَانَ مَعْنَى الْكَلِمَةِ رَاجِعًا إِلَى الذَّوْقِ صَلُحَ لِلْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ مَعًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: زَعَمَ بَعْضُ الْجُهَّالِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْخَمْرِ أنها محرمة عند ما تَكُونُ مُوقِعَةً لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَصَادَّةً عَنْ ذِكْرِ اللَّه وَعَنِ الصَّلَاةِ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ طَعِمَهَا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ، بَلْ حَصَلَ مَعَهُ أَنْوَاعُ الْمَصَالِحِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ. قَالُوا: وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَحْوَالِ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَقَالَ: مَا كَانَ جُنَاحٌ عَلَى الَّذِينَ طَعِمُوا، كَمَا ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي آيَةِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ فَقَالَ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 143] وَلَكِنَّهُ

[سورة المائدة (5) : آية 94]

لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ إِلَى قَوْلِهِ إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَلَا شَكَّ أَنَّ إِذَا لِلْمُسْتَقْبَلِ لَا لِلْمَاضِي. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَرْدُودٌ بِإِجْمَاعِ كُلِّ الْأُمَّةِ وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ كلمة إِذَا لِلْمُسْتَقْبَلِ لَا لِلْمَاضِي فَجَوَابُهُ مَا رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّه كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَقَدْ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَفَعَلُوا الْقِمَارَ وَكَيْفَ بِالْغَائِبِينَ عَنَّا فِي الْبُلْدَانِ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ اللَّه حَرَّمَ الْخَمْرَ وَهُمْ يَطْعَمُونَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَاتِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْحِلُّ قَدْ ثَبَتَ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ عَنْ وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لَكِنْ فِي حَقِّ الْغَائِبِينَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغْهُمْ هَذَا النَّصُّ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ لِنَفْيِ الْجُنَاحِ حُصُولَ التَّقْوَى وَالْإِيمَانِ مَرَّتَيْنِ وَفِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ حُصُولَ التَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ: الأول: عَمَلُ الِاتِّقَاءِ، وَالثَّانِي: دَوَامُ الِاتِّقَاءِ وَالثَّبَاتُ عَلَيْهِ، وَالثَّالِثُ: اتِّقَاءُ ظُلْمِ الْعِبَادِ مَعَ ضَمِّ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَوَّلَ اتِّقَاءُ جَمِيعِ الْمَعَاصِي قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالثَّانِي: اتِّقَاءُ الخمر والميسر وما في هذه الآية. الثالث: اتِّقَاءُ مَا يَحْدُثُ تَحْرِيمُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهَذَا قَوْلُ الْأَصَمِّ، الْقَوْلُ الثَّالِثُ: اتِّقَاءُ الْكُفْرِ ثُمَّ الْكَبَائِرِ ثُمَّ الصَّغَائِرِ، الْقَوْلُ الرَّابِعُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى قَالَ: التَّقْوَى الْأُولَى عِبَارَةٌ عَنِ الِاتِّقَاءِ مِنَ الْقَدْحِ فِي صِحَّةِ النَّسْخِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ يَقُولُونَ النَّسْخُ يَدُلُّ عَلَى الْبَدَاءِ فَأَوْجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ سَمَاعِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُبَاحَةً أَنْ يَتَّقُوا عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ الْفَاسِدَةِ وَالتَّقْوَى الثَّانِيَةُ الْإِتْيَانُ بِالْعَمَلِ الْمُطَابِقِ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ الِاحْتِرَازُ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالتَّقْوَى الثَّالِثَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى التَّقْوَى الْمَذْكُورَةِ فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ ثُمَّ يُضَمُّ إِلَى هَذِهِ التَّقْوَى الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ. وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا التَّكْرِيرِ التَّأْكِيدُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْحَثِّ عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ شَرَطَ رَفْعَ الْجُنَاحِ عَنْ تَنَاوُلِ الْمَطْعُومَاتِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى مَعَ أَنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ وَمَنْ لَمْ يَتَّقِ ثُمَّ تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنَ الْمُبَاحَاتِ فَإِنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ التَّنَاوُلِ، بَلْ عَلَيْهِ جُنَاحٌ فِي تَرْكِ الْإِيمَانِ وَفِي تَرْكِ التَّقْوَى، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِتَنَاوُلِ ذَلِكَ الْمُبَاحِ فَذِكْرُ هَذَا الشَّرْطِ فِي هَذَا الْمَعْرِضِ غَيْرُ جَائِزٍ. قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا لِلِاشْتِرَاطِ بَلْ لِبَيَانِ أَنَّ أُولَئِكَ الأقوام الذين نزلت فيهم هذه الآية عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ ثَنَاءً عَلَيْهِمْ وَحَمْدًا لِأَحْوَالِهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ، وَمِثَالُهُ أَنْ يُقَالَ لَكَ: هَلْ عَلَى زَيْدٍ فِيمَا فَعَلَ جُنَاحٌ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ مُبَاحٌ فَتَقُولُ: لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ فِي الْمُبَاحِ إِذَا اتَّقَى الْمَحَارِمَ وَكَانَ مُؤْمِنًا مُحْسِنًا تُرِيدُ أَنَّ زَيْدًا إِنْ بَقِيَ مُؤْمِنًا مُحْسِنًا فَإِنَّهُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِمَا فَعَلَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا جَعَلَ الْإِحْسَانَ شَرْطًا فِي نَفْيِ الْجُنَاحِ بَيَّنَ أَنَّ تَأْثِيرَ الْإِحْسَانِ لَيْسَ فِي نَفْيِ الْجُنَاحِ فَقَطْ، بَلْ وَفِي أَنْ يُحِبَّهُ اللَّه، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الدَّرَجَةَ أَشْرَفُ الدَّرَجَاتِ وَأَعْلَى الْمَقَامَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَحَبَّةِ اللَّه تَعَالَى لِعِبَادِهِ. [سورة المائدة (5) : آية 94] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94)

قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَوَجْهُ النَّظْمِ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ: لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [الْمَائِدَةِ: 87] ثُمَّ اسْتَثْنَى الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ عَنْ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ اسْتَثْنَى هَذَا النَّوْعَ مِنَ الصَّيْدِ عَنِ الْمُحَلَّلَاتِ، وَبَيَّنَ دُخُولَهُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ. وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ لَامُ الْقَسَمِ، لِأَنَّ اللَّامَ وَالنُّونَ قَدْ يَكُونَانِ جَوَابًا لِلْقَسَمِ، وَإِذَا تُرِكَ الْقَسَمُ جِيءَ بِهِمَا دَلِيلًا عَلَى الْقَسَمِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ لَيَبْلُوَنَّكُمُ مَفْتُوحَةٌ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَيَبْلُوَنَّكُمُ أَيْ لَيَخْتَبِرَنَّ طَاعَتَكُمْ مِنْ مَعْصِيَتِكُمْ أَيْ لَيُعَامِلَنَّكُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: ابْتَلَاهُمُ اللَّه بِالصَّيْدِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ حَتَّى كَانَتِ الْوَحْشُ وَالطَّيْرُ تَغْشَاهُمْ فِي رِحَالِهِمْ، فَيَقْدِرُونَ عَلَى أَخْذِهَا بِالْأَيْدِي، وَصَيْدِهَا بِالرِّمَاحِ، وَمَا رَأَوْا مِثْلَ ذَلِكَ قَطُّ، فَنَهَاهُمُ اللَّه عَنْهَا ابْتِلَاءً. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الَّذِي تَنَالُهُ الْأَيْدِي مِنَ الصَّيْدِ، الْفِرَاخُ وَالْبَيْضُ وَصِغَارُ الْوَحْشِ، وَالَّذِي تَنَالُهُ الرِّمَاحُ الْكِبَارُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الصَّيْدَ اسْمٌ لِلْمُتَوَحِّشِ الْمُمْتَنِعِ دُونَ مَا لَمْ يَمْتَنِعْ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَعْنَى التَّقْلِيلِ وَالتَّصْغِيرِ فِي قَوْلِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِفِتْنَةٍ مِنَ الْفِتَنِ الْعِظَامِ الَّتِي يَكُونُ التَّكْلِيفُ فِيهَا صَعْبًا شَاقًّا، كَالِابْتِلَاءِ بِبَذْلِ الْأَرْوَاحِ وَالْأَمْوَالِ، وَإِنَّمَا هُوَ ابْتِلَاءٌ سَهْلٌ، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى امْتَحَنَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَيْدِ الْبَرِّ كَمَا امْتَحَنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِصَيْدِ الْبَحْرِ، وَهُوَ صَيْدُ السَّمَكِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنَ الصَّيْدِ لِلتَّبْعِيضِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ صَيْدُ الْبَرِّ/ دُونَ الْبَحْرِ. وَالثَّانِي: صَيْدُ الْإِحْرَامِ دُونَ صَيْدِ الْإِحْلَالِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْيِينِ كَقَوْلِهِ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الْحَجِّ: 30] . الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: أَرَادَ بِالصَّيْدِ الْمَفْعُولَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ وَالصَّيْدُ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ يَكُونُ حَدَثًا، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِنَيْلِ الْيَدِ وَالرِّمَاحِ مَا كَانَ عَيْنًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ هَذَا مَجَازٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ فَقِيلَ نُعَامِلُكُمْ مُعَامَلَةَ مَنْ يَطْلُبُ أَنْ يَعْلَمَ وَقِيلَ لِيَظْهَرَ الْمَعْلُومُ وَهُوَ خَوْفُ الْخَائِفِ وَقِيلَ هَذَا عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَالتَّقْدِيرُ: لِيَعْلَمَ أَوْلِيَاءُ اللَّه مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ بِالْغَيْبِ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: مَنْ يَخَافُهُ حَالَ إِيمَانِهِ بِالْغَيْبِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ وهو قوله يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3] الثَّانِي: مَنْ يَخَافُ بِالْغَيْبِ أَيْ يَخَافُهُ بِإِخْلَاصٍ وَتَحْقِيقٍ وَلَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ بِسَبَبِ حُضُورِ أَحَدٍ أَوْ غَيْبَتِهِ كَمَا فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ.

[سورة المائدة (5) : آية 95]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِالْغَيْبِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِالْحَالِ وَالْمَعْنَى مَنْ يَخَافُهُ حَالَ كَوْنِهِ غَائِبًا عَنْ رُؤْيَتِهِ وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ [ق: 33] ويَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [الأنبياء: 49] وَأَمَّا مَعْنَى الْغَيْبِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَةِ: 3] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ والمراد عذاب الآخرة والتعزيز فِي الدُّنْيَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا الْعَذَابُ هُوَ أَنْ يُضْرَبَ بَطْنُهُ وَظَهْرُهُ ضَرْبًا وَجِيعًا وَيُنْزَعَ ثِيَابُهُ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَهَذَا جَائِزٌ لِأَنَّ اسْمَ الْعَذَابِ قَدْ يَقَعُ عَلَى الضَّرْبِ كَمَا سَمَّى جَلْدَ الزَّانِيَيْنِ عَذَابًا فَقَالَ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ [النُّورِ: 2] وَقَالَ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النِّسَاءِ: 25] وَقَالَ حَاكِيًا عَنْ سليمان في الهدهد: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً [النمل: 21] . [سورة المائدة (5) : آية 95] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ بِالصَّيْدِ قَوْلَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الَّذِي تَوَحَّشَ سَوَاءٌ كَانَ مَأْكُولًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَعَلَى هَذَا الْمُحْرِمُ إِذَا قَتَلَ سَبُعًا لَا يؤكل لحمه ضمن ولا يجب بِهِ قِيمَةَ شَاةٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه، وَقَالَ زُفَرُ: يَجِبُ بَالِغًا مَا بَلَغَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّيْدَ هُوَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ الْبَتَّةَ فِي قَتْلِ السَّبُعِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه وَسَلَّمَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ فِي قَتْلِ الْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ وَفِي قَتْلِ الذِّئْبِ حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ أَنَّ الَّذِي يَحْرُمُ أَكْلُهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُضْمَنَ، إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ لِأَنَّ الصَّيْدَ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة: 96] فَهَذَا يَقْتَضِي حِلَّ صَيْدِ الْبَحْرِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَحِلَّ صَيْدِ الْبَرِّ خَارِجَ وَقْتِ الْإِحْرَامِ، فَثَبَتَ أَنَّ الصَّيْدَ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَالسَّبُعُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ صَيْدًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَضْمُونًا، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الضَّمَانِ، تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِهِ فِي ضَمَانِ الصَّيْدِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَبَقِيَ فِيمَا لَيْسَ بِصَيْدٍ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَهُوَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «خَمْسُ فَوَاسِقَ لَا جُنَاحَ عَلَى الْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُلَهُنَّ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَالسَّبُعُ الضَّارِي، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَالسَّبُعُ الضَّارِي نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَفَهَا بكونها فواسق ثم حكى بِحِلِّ قَتْلِهَا، وَالْحُكْمُ الْمَذْكُورُ عَقِيبَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهَا فَوَاسِقَ عِلَّةٌ لِحِلِّ قَتْلِهَا، وَلَا مَعْنَى لِكَوْنِهَا فَوَاسِقَ إِلَّا كَوْنُهَا مُؤْذِيَةً، وَصِفَةُ الْإِيذَاءِ فِي السِّبَاعِ أَقْوَى فَوَجَبَ جَوَازُ قَتْلِهَا، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الشَّارِعَ خَصَّهَا بِإِبَاحَةِ الْقَتْلِ، وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِهَذَا الْحُكْمِ لِاخْتِصَاصِهَا بِمَزِيدِ الْإِيذَاءِ، وَصِفَةُ الْإِيذَاءِ فِي السِّبَاعِ أَتَمُّ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِ قَتْلِهَا. وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ قَتْلِهَا وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ مَضْمُونَةً لِمَا بَيَّنَاهُ فِي الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ.

حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّ السَّبُعَ صَيْدٌ فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ صَيْدٌ لِقَوْلِ الشَّاعِرِ: لَيْثٌ تَرَبَّى رُبْيَةً فَاصْطِيدَا وَلِقَوْلِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: صَيْدُ الْمُلُوكِ أَرَانِبٌ وَثَعَالِبٌ ... وَإِذَا رَكِبْتُ فَصَيْدِيَ الْأَبْطَالُ وَالْجَوَابُ: قَدْ بَيَّنَّا بِدَلَالَةِ الْآيَةِ أَنَّ مَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ، وَذَلِكَ لَا يُعَارِضُهُ شِعْرُ مَجْهُولٍ، وَأَمَّا شِعْرُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَغَيْرُ وَارِدٍ، لِأَنَّ عِنْدَنَا الثَّعْلَبَ حَلَالٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حُرُمٌ جَمْعُ حَرَامٍ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قِيلَ حُرُمٌ أَيْ مُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ، وَقِيلَ: وَقَدْ دَخَلْتُمُ الْحَرَمَ، وَقِيلَ: هُمَا مُرَادَانِ بِالْآيَةِ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ فِيهِ خِلَافٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ لَا تَقْتُلُوا يُفِيدُ الْمَنْعَ مِنَ الْقَتْلِ ابْتِدَاءً، وَالْمَنْعَ مِنْهُ تَسَبُّبًا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ إِلَى الصَّيْدِ مَا دَامَ مُحْرِمًا لَا بِالسِّلَاحِ وَلَا بِالْجَوَارِحِ مِنَ الْكِلَابِ وَالطُّيُورِ سَوَاءٌ كَانَ الصَّيْدُ صَيْدَ الْحِلِّ أَوْ صَيْدَ الْحَرَمِ، وَأَمَّا الْحَلَالُ فَلَهُ أَنْ يَتَصَيَّدَ فِي الْحِلِّ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَيَّدَ فِي الْحَرَمِ، وَإِذَا قُلْنَا وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي مَنْ كَانَ مُحْرِمًا وَمَنْ كَانَ دَاخِلًا فِي الْحَرَمِ كَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى كُلِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فَجَزَاءٌ بِالتَّنْوِينِ ومثل بِالرَّفْعِ وَالْمَعْنَى فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ مُمَاثِلٌ لِلْمَقْتُولِ مِنَ الصَّيْدِ فَمِثْلُ مَرْفُوعٌ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ فَجَزاءٌ قَالَ وَلَا يَنْبَغِي إِضَافَةُ جَزَاءٍ إِلَى الْمِثْلِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ جَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ، فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا عَلَيْهِ جَزَاءُ الْمَقْتُولِ لَا جَزَاءٌ مِثْلُ الْمَقْتُولِ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَ النَّعَمِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلنَّكِرَةِ الَّتِي هِيَ جَزَاءٌ وَالْمَعْنَى فَجَزَاءٌ مِنَ النَّعَمِ مِثْلُ مَا قَتَلَ، وَأَمَّا سائر القراء فهم قرءوا فَجَزاءٌ مِثْلُ عَلَى إِضَافَةِ الْجَزَاءِ إِلَى الْمِثْلِ وَقَالُوا: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ جَزَاءَ الْمَقْتُولِ لَا جَزَاءَ مِثْلِهِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَنَا أُكْرِمُ مِثْلَكَ يُرِيدُونَ أَنَا أُكْرِمُكَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: 11] وَالتَّقْدِيرُ: لَيْسَ هُوَ كَشَيْءٍ، وَقَالَ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ [الْأَنْعَامِ: 122] وَالتَّقْدِيرُ: كَمَنْ هُوَ فِي الظُّلُمَاتِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَجَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ كَقَوْلِكَ خَاتَمُ فِضَّةٍ أَيْ خَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْمُحْرِمُ إِذَا قَتَلَ الصَّيْدَ خَطَأً لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ سَوَاءٌ قَتَلَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً حُجَّةُ دَاوُدَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً مَذْكُورٌ فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ، وَعِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ يَلْزَمُ عَدَمُ الْمَشْرُوطِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ الْجَزَاءُ عِنْدَ فِقْدَانِ الْعَمْدِيَّةِ قَالَ: وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَالِانْتِقَامُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَمْدِ دُونَ الْخَطَأِ وَقَوْلُهُ وَمَنْ عادَ الْمُرَادُ مِنْهُ وَمَنْ عَادَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الذي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلْجَزَاءِ هُوَ الْعَمْدُ لَا الْخَطَأُ وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً [الْمَائِدَةِ: 96] وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا بِالْإِحْرَامِ صَارَ فِعْلُهُ مَحْظُورًا بِالْإِحْرَامِ فَلَا يَسْقُطُ حُكْمُهُ بِالْخَطَأِ وَالْجَهْلِ كما

فِي حَلْقِ الرَّأْسِ وَكَمَا فِي ضَمَانِ مَالِ الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَتِ الْحُرْمَةُ لِحَقِّ الْمَالِكِ لَمْ يَتَبَدَّلْ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا فَكَذَا هَاهُنَا وَأَيْضًا/ يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الضَّبُعِ كَبْشٌ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ، وَقَوْلِ الصَّحَابَةِ فِي الظَّبْيِ شَاةٌ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْعَمْدِ. أَجَابَ دَاوُدُ بِأَنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ خَيْرٌ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ وَالْقِيَاسِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَزَاءُ الصَّيْدِ مِثْلَ الْمَقْتُولِ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْمِثْلِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: الصَّيْدُ ضَرْبَانِ: مِنْهُ مَا لَهُ مِثْلٌ، وَمِنْهُ مَا لَا مِثْلَ لَهُ، فَمَا لَهُ مِثْلٌ يُضْمَنُ بِمِثْلِهِ مِنَ النَّعَمِ، وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: الْمِثْلُ الْوَاجِبُ هُوَ الْقِيمَةُ. وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: الْقُرْآنُ، وَالْخَبَرِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالْقِيَاسِ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمَاعَةً من القراء قرءوا فَجَزاءٌ بِالتَّنْوِينِ، وَمَعْنَاهُ: فَجَزَاءٌ مِنَ النَّعَمِ مُمَاثِلٌ لِمَا قَتَلَ، فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ مِثْلُهُ فِي الْقِيمَةِ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ، وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْمًا آخَرِينَ قَرَءُوا فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ بِالْإِضَافَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَجَزَاءُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ، أَيْ فَجَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ النَّعَمِ، فَمَنْ لَمْ يُوجِبْهُ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ، ثَالِثُهَا: قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَجَزَاؤُهُ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِيمَا قُلْنَاهُ: وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ الَّذِي يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْهُمْ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَدْيًا بالغ الكعبة. فإن قيل: إنه يشري بِتِلْكَ الْقِيمَةِ هَذَا الْهَدْيَ. قُلْنَا: النَّصُّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ الَّذِي يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَدْيًا وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: الْوَاجِبُ هُوَ الْقِيمَةُ، ثُمَّ إِنَّهُ يَكُونُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ اشْتَرَى بِهَا هَدْيًا يُهْدَى إِلَى الْكَعْبَةِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ، وَأَمَّا الْخَبَرُ: فَمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّه أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الضَّبُعِ، أَصَيْدٌ هُوَ؟ فَقَالَ نَعَمْ، وَفِيهِ كَبْشٌ إِذَا أَخَذَهُ الْمُحْرِمُ، وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَهُوَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّه قَالَ: تَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ فِي بُلْدَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَزْمَانٍ شَتَّى: أَنَّهُمْ حَكَمُوا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ، فَحَكَمُوا فِي النَّعَامَةِ بِبَدَنَةٍ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بِبَقَرَةٍ، وَفِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ، وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ، وَفِي الظَّبْيِ بِشَاةٍ، وَفِي الْأَرْنَبِ بِجَفْرَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ بِعَنَاقٍ، وَفِي الضَّبِّ بِسَخْلَةٍ، وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ شَبَهًا بِالصَّيْدِ مِنَ النَّعَمِ لَا بِالْقِيمَةِ وَلَوْ حَكَمُوا بِالْقِيمَةِ لَاخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْأَسْعَارِ وَالظَّبْيُ هُوَ الْغَزَالُ الْكَبِيرُ الذَّكَرُ وَالْغَزَالُ هُوَ/ الْأُنْثَى وَالْيَرْبُوعُ هُوَ الْفَأْرَةُ الْكَبِيرَةُ تَكُونُ فِي الصَّحْرَاءِ، وَالْجَفْرَةُ الْأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ إِذَا انْفَصَلَتْ عَنْ أُمِّهَا وَالذَّكَرُ جَفْرٌ وَالْعَنَاقُ الْأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ إِذَا قَوِيَتْ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الضَّمَانِ جَزَاءُ الْهَالِكِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ كُلَّمَا كَانَتْ أَتَمَّ كَانَ الْجَزَاءُ أَتَمَّ فَكَانَ الْإِيجَابُ أَوْلَى. حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: لَا نِزَاعَ أَنَّ الصَّيْدَ الْمَقْتُولَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ فَإِنَّهُ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ فَكَانَ الْمُرَادُ بِالْمِثْلِ فِي قَوْلِهِ فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ هُوَ الْقِيمَةَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ كَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ إِلَّا عَلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُمَاثَلَةِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ وَالشَّارِعُ أَوْجَبَ رِعَايَةَ الْمُمَاثَلَةِ فَوَجَبَ رِعَايَتُهَا بِأَقْصَى الْإِمْكَانِ فَإِنْ أَمْكَنَتْ رِعَايَتُهَا فِي الصُّورَةِ وَجَبَ ذَلِكَ وإن لم يكن رِعَايَتُهَا إِلَّا بِالْقِيمَةِ وَجَبَ الِاكْتِفَاءُ بِهَا لِلضَّرُورَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: جَمَاعَةٌ مُحْرِمُونَ قَتَلُوا صَيْدًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ إِلَّا جزاء واحدا، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّه: يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ الْمِثْلِ، وَمِثْلُ الْوَاحِدِ وَاحِدٌ وَأُكِّدَ هَذَا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ بِمِثْلِ قَوْلِنَا: حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ، بَيَانُ الْأَوَّلِ أَنَّ جَمَاعَةً لَوْ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَقْتُلَ صَيْدًا فَقَتَلُوا صَيْدًا وَاحِدًا لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَفَّارَةٌ، وَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْقَتْلِ يَجِبُ عَلَى جَمَاعَةٍ يَقْتُلُونَ وَاحِدًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ وَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ فَقَوْلُهُ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً صِيغَةُ عُمُومٍ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ الْقَاتِلِينَ. أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: بِأَنَّ الْقَتْلَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَيَمْتَنِعُ حُصُولُهُ بِتَمَامِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ فَاعِلٍ وَاحِدٍ فَإِذَا اجْتَمَعُوا حَصَلَ بِمَجْمُوعِ أَفْعَالِهِمْ قَتْلٌ وَاحِدٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلًا فِي الْحَقِيقَةِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَيْسَ بِقَاتِلٍ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمَّا قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ فَذَاكَ ثَبَتَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَبُّدِ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْمُحْرِمُ إِذَا دَلَّ غَيْرَهُ عَلَى صَيْدٍ، فَقَتَلَهُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ لَمْ يَضْمَنِ الدَّالُّ الْجَزَاءَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: يَضْمَنُ حجة الشافعي أن وجوب الجزاء متعلق بِالْقَتْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالدِّلَالَةُ لَيْسَتْ بِقَتْلٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ الضَّمَانُ وَلِأَنَّهُ بَدَلُ الْمُتْلَفِ فَلَا يَجِبُ بِالدِّلَالَةِ كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالدِّيَةِ، وَكَالدِّلَالَةِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ. حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ سُئِلَ عُمَرُ عَنْ هَذِهِ/ الْمَسْأَلَةِ فَشَاوَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَأَجْمَعَا عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَوْجَبَ الْجَزَاءَ عَلَى الدَّالِّ، أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: بِأَنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ خَيْرٌ مِنْ أَثَرِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِنْ جَرَحَ ظَبْيًا فَنَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ الْعُشْرُ فَعَلَيْهِ عُشْرُ قِيمَةِ الشَّاةِ، وَقَالَ دَاوُدُ لَا يَضْمَنُ الْبَتَّةَ سِوَى الْقَتْلِ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ عَلَيْهِ شَاةٌ. حُجَّةُ دَاوُدَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْجَزَاءِ هُوَ الْقَتْلُ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدِ الْقَتْلُ: وَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ الْجَزَاءُ الْبَتَّةَ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى الْقَتْلِ، وُجُوبُ مِثْلِ الْمَقْتُولِ، وَعِنْدَنَا أَنَّ هَذَا لَا يَجِبُ عِنْدَ عَدَمِ الْقَتْلِ فَسَقَطَ قَوْلُهُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إِذَا رَمَى مِنَ الْحِلِّ والصيد في الحل، فمر في السهم طَائِفَةٍ مِنَ الْحَرَمِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: يَحْرُمُ وَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْرُمُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ سَبَبَ الذَّبْحِ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ، بَعْضُهَا مُبَاحٌ وَبَعْضُهَا مُحَرَّمٌ، وَهُوَ الْمُرُورُ فِي الْحَرَمِ، وَمَا اجْتَمَعَ الْحَرَامُ وَالْحَلَالُ إِلَّا وَغَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ، لَا سِيَّمَا فِي الذَّبْحِ الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ الْحُرْمَةُ. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ نَهْيٌ لَهُ عَنِ الِاصْطِيَادِ حَالَ كَوْنِهِ فِي الْحَرَمِ، فَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ وَجَبَ أَنْ لَا تَحْصُلَ الْحُرْمَةُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْحَلَالُ إِذَا اصْطَادَ صَيْدًا وَأَدْخَلَهُ الْحَرَمَ لَزِمَهُ الْإِرْسَالُ وَإِنْ ذَبَحَهُ حَرُمَ وَلَزِمَهُ الْجَزَاءُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه يَحِلُّ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانٌ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَةِ: 1] وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ نَهَى عَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ حَالَ كَوْنِهِ مُحْرِمًا، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الصَّيْدَ الَّذِي اصْطَادَهُ فِي الْحِلِّ، وَالَّذِي اصْطَادَهُ فِي الْحَرَمِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إذا قتل المحرم صيدا وأدى جزاءه، ثُمَّ قَتَلَ صَيْدًا آخَرَ لَزِمَهُ جَزَاءٌ آخَرُ، وَقَالَ دَاوُدُ: لَا يَجِبُ حُجَّةُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ عِلَّةَ وُجُوبِ الْجَزَاءِ هُوَ الْقَتْلُ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَكَرَّرَ الْحُكْمُ عِنْدَ تَكَرُّرِ الْعِلَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِنِسَائِهِ، مَنْ دَخَلَ مِنْكُنَّ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ، فَدَخَلَتْ وَاحِدَةٌ مَرَّتَيْنِ لَمْ يَقَعْ إِلَّا طَلَاقٌ وَاحِدٌ. قُلْنَا: الْفَرْقُ أَنَّ الْقَتْلَ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الْجَزَاءِ، فَيَلْزَمُ تَكَرُّرُ الْحُكْمِ عِنْدَ تَكَرُّرِ الْعِلَّةِ. أَمَّا هَاهُنَا: دُخُولُ الدَّارِ شَرْطٌ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَلَمْ يَلْزَمْ تَكَرُّرُ الْحُكْمِ عِنْدَ تَكَرُّرِ الشَّرْطِ. حُجَّةُ دَاوُدَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ جَعَلَ جَزَاءَ الْعَائِدِ الِانْتِقَامَ لَا الْكَفَّارَةَ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِذَا أَصَابَ صَيْدًا أَعْوَرَ أَوْ مَكْسُورَ الْيَدِ أَوِ الرِّجْلِ فَدَاهُ بِمِثْلِهِ، وَالصَّحِيحُ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَعَلَى هَذَا الْكَبِيرُ أَوْلَى مِنَ الصَّغِيرِ، وَيُفْدَى الذَّكَرُ بِالذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُغَيَّرَ، لِأَنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ إِيجَابُ الْمِثْلِ، وَالْأُنْثَى وَإِنْ كَانَتْ أَفْضَلَ مِنَ الذَّكَرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَلِدُ، فَالذَّكَرُ أَفْضَلُ مِنَ الْأُنْثَى لِأَنَّ لَحْمَهُ أَطْيَبُ وَصُورَتَهُ أَحْسَنُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ يَحْكُمُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ رَجُلَانِ صَالِحَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَيْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ وَدِينِكُمْ فَقِيهَانِ عَدْلَانِ فَيَنْظُرَانِ إِلَى أشبه الأشباه بِهِ مِنَ النَّعَمِ فَيَحْكُمَانِ بِهِ، وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فِي إِيجَابِ الْقِيمَةِ، فَقَالَ: التَّقْوِيمُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَى النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ، وَأَمَّا الْخِلْقَةُ وَالصُّورَةُ، فَظَاهِرَةٌ مُشَاهَدَةٌ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الِاجْتِهَادِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ وُجُوهَ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ النَّعَمِ وَبَيْنَ الصَّيْدِ مُخْتَلِفَةٌ وَكَثِيرَةٌ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي تَمْيِيزِ الْأَقْوَى مِنَ الْأَضْعَفِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا، أَنَّهُ قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فَقَالَ: إِنِّي أَصَبْتُ مِنَ الصَّيْدِ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: أَتَيْتُكَ أَسْأَلُكَ، وَأَنْتَ تَسْأَلُ غَيْرَكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: وَمَا أَنْكَرْتَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فَشَاوَرْتُ صَاحِبِي، فَإِذَا اتَّفَقْنَا عَلَى شَيْءٍ أَمَرْنَاكَ بِهِ، وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ: أَنَّهُ حِينَ كَانَ مُحْرِمًا ضَرَبَ ظَبْيًا فَمَاتَ، فَسَأَلَ عمر بن الخطاب رضي اللَّه عَنْهُ، وَكَانَ بِجَنْبِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَقَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: مَا تَرَى؟ قَالَ: عَلَيْهِ شَاةٌ. قَالَ: وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَاهْدِ شَاةً. قَالَ قَبِيصَةُ: فَخَرَجْتُ إِلَى صَاحِبِي وَقُلْتُ لَهُ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ حَتَّى سَأَلَ غَيْرَهُ. قَالَ: ففاجأني عُمَرُ وَعَلَانِي بِالدِّرَّةِ، وَقَالَ:

أَتَقْتُلُ فِي الْحَرَمِ وَتُسَفِّهُ الْحُكْمَ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فَأَنَا عُمَرُ، وَهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الَّذِي لَهُ مِثْلٌ ضَرْبَانِ فَمَا حَكَمَتْ فِيهِ الصَّحَابَةُ بِحُكْمٍ لا يعدل عنه إلى غيره، لأنه شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ، وَحَضَرُوا التَّأْوِيلَ، وَمَا لَمْ يَحْكُمْ فِيهِ الصَّحَابَةُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ عَدْلَيْنِ، فَيُنْظَرُ إِلَى الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْأَنْعَامِ فَكُلُّ مَا كَانَ أَقْرَبَ شَبَهًا بِهِ يُوجِبَانِهِ وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ التَّحْكِيمُ فِيمَا حَكَمَتْ بِهِ الصَّحَابَةُ، وفما لَمْ تَحْكُمْ بِهِ حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ، فَإِذَا حَكَمَ بِهِ اثْنَانِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ دَخَلَ تَحْتَ الْآيَةِ، ثُمَّ ذَاكَ أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ، وَحَضَرُوا التَّأْوِيلَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ أَحَدَ الْعَدْلَيْنِ إِذَا كَانَ أَخْطَأَ/ فِيهِ، فَإِنْ تَعَمَّدَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ يَفْسُقُ بِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ كَمَا فِي تَقْوِيمِ الْمُتْلَفَاتِ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ، وَإِذَا صَدَرَ عَنْهُ الْقَتْلُ خَطَأً كَانَ عَدْلًا، فَإِذَا حَكَمَ بِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ فَقَدْ حَكَمَ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ، وَأَيْضًا رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ أَوْطَأَ فَرَسَهُ ظَبْيًا، فَسَأَلَ عُمَرَ عَنْهُ، فَقَالَ عُمَرُ: احْكُمْ، فَقَالَ: أَنْتَ عَدْلٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَاحْكُمْ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إِنَّمَا أَمَرْتُكَ أَنْ تَحْكُمَ وَمَا أَمَرْتُكَ أَنْ تُزَكِّيَنِي، فَقَالَ: أَرَى فِيهِ جَدْيًا جَمَعَ الْمَاءَ وَالشَّجَرَ، فَقَالَ: افْعَلْ مَا تَرَى، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا قَاتِلَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَوْ حَكَمَ عَدْلَانِ بِمِثْلٍ، وَحَكَمَ عَدْلَانِ آخَرَانِ بِمِثْلٍ آخَرَ. فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَتَخَيَّرُ، وَالثَّانِي: يَأْخُذُ بِالْأَغْلَظِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ بَعْضُ مُثْبِتِي الْقِيَاسِ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ جَائِزٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى فَوَّضَ تَعْيِينَ الْمِثْلِ إِلَى اجْتِهَادِ النَّاسِ وَظُنُونِهِمْ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الشَّارِعَ تَعَبَّدَنَا بِالْعَمَلِ بِالظَّنِّ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ. مِنْهَا: الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ، وَمِنْهَا: الْعَمَلُ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ وَمِنْهَا: الْعَمَلُ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فِي قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، وَمِنْهَا: الْعَمَلُ بِتَحْكِيمِ الْحُكَّامِ فِي تَعْيِينِ مِثْلِ الْمَصِيدِ الْمَقْتُولِ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِنْهَا: عَمَلُ الْعَامِّيِّ بالفتوى، ومنها: المل بِالظَّنِّ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا. إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: إِنِ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ تَشْبِيهَ صُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ بِصُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ هُوَ عَيْنُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي عَدَدْنَاهَا فَذَلِكَ بَاطِلٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ، وَإِنْ سَلَّمْتُمُ الْمُغَايَرَةَ لَمْ يَلْزَمْ، مِنْ كَوْنِ الظَّنِّ حُجَّةً فِي تِلْكَ الصُّوَرِ، كَوْنُهُ حُجَّةً فِي مَسْأَلَةِ الْقِيَاسِ، إِلَّا إِذَا قِسْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى تِلْكَ الْمَسَائِلِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْقِيَاسِ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ بَاطِلٌ. وَأَيْضًا فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ الْبَابَيْنِ، لِأَنَّ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ الْحُكْمَ إِنَّمَا ثَبَتَ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فِي وَاقِعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْقِيَاسِ فَإِنَّهُ شَرْعٌ عَامٌّ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ بَاقٍ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ وَالتَّنْصِيصُ عَلَى أَحْكَامِ الْأَشْخَاصِ الْجُزْئِيَّةِ مُتَعَذِّرٌ. وَأَمَّا التَّنْصِيصُ عَلَى الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ وَالشَّرَائِعِ الْعَامَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ غَيْرُ مُتَعَذِّرٍ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى يَحْكُمَانِ بِهِ هَدْيًا يُسَاقُ إِلَى الْكَعْبَةِ فَيُنْحَرُ هُنَاكَ، وَهَذَا

يُؤَكِّدُ قَوْلَ مَنْ أَوْجَبَ الْمِثْلَ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ يَحْكُمَانِ بِهِ شَيْئًا يُشْتَرَى بِهِ هَدْيٌ وَإِنَّمَا قَالَ يَحْكُمَانِ بِهِ هَدْيًا وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمَا يَحْكُمَانِ بِالْهَدْيِ لَا غَيْرَ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَحْكُمَانِ بِهِ شَيْئًا يُشْتَرَى بِهِ مَا يَكُونُ هَدْيًا، وَهَذَا بَعِيدٌ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَالْحَقُّ هُوَ الْأَوَّلُ. وَقَوْلُهُ هَدْياً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ/ الْكِنَايَةِ فِي قَوْلِهِ بِهِ وَالتَّقْدِيرُ يَحْكُمُ بِذَلِكَ الْمِثْلِ شَاةً أَوْ بَقَرَةً أَوْ بَدَنَةً فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ بِهِ عَائِدٌ إِلَى الْمِثْلِ وَالْهَدْيُ حَالٌ مِنْهُ، وَعِنْدَ التَّفَطُّنِ لِهَذَيْنِ الِاعْتِبَارَيْنِ فَمَنِ الَّذِي يَرْتَابُ فِي أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْلُ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ بالِغَ الْكَعْبَةِ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ هَدْياً لِأَنَّ إِضَافَتَهُ غَيْرُ حَقِيقِيَّةٍ، تَقْدِيرُهُ بَالِغًا الْكَعْبَةَ لَكِنَّ التَّنْوِينَ قَدْ حُذِفَ اسْتِخْفَافًا وَمِثْلُهُ عارِضٌ مُمْطِرُنا [الأحقاف: 24] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: سُمِّيَتِ الْكَعْبَةُ كَعْبَةً لِارْتِفَاعِهَا وَتَرَبُّعِهَا، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ بَيْتٍ مُرَبَّعٍ كَعْبَةً وَالْكَعْبَةُ إِنَّمَا أُرِيدَ بِهَا كُلُّ الْحَرَمِ لِأَنَّ الذَّبْحَ وَالنَّحْرَ لَا يَقَعَانِ فِي الْكَعْبَةِ وَلَا عِنْدَهَا مُلَازِقًا لَهَا وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الْحَجِّ: 33] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَعْنَى بُلُوغِهِ الْكَعْبَةَ، أَنْ يُذْبَحَ بِالْحَرَمِ فَإِنْ دَفَعَ مِثْلَ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ إِلَى الْفُقَرَاءِ حَيًّا لَمْ يَجُزْ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَبْحُهُ فِي الْحَرَمِ، وَإِذَا ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ فِي الْحَرَمِ أَيْضًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ حَيْثُ شَاءَ، وَسَلَّمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ لَهُ أَنْ يَصُومَ حَيْثُ شَاءَ، لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ نَفْسَ الذَّبْحِ إِيلَامٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً، بَلِ الْقُرْبَةُ هِيَ إِيصَالُ اللَّحْمِ إِلَى الْفُقَرَاءِ، فَقَوْلُهُ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ يُوجِبُ إِيصَالَ تِلْكَ الْهَدِيَّةِ إِلَى أَهْلِ الحرم والكعبة. حجة أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّهَا لَمَّا وَصَلَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَدْ صَارَتْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ عَلَى إِضَافَةِ الْكَفَّارَةِ إِلَى الطَّعَامِ، وَالْبَاقُونَ أَوْ كَفَّارَةٌ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ طَعَامُ بِالرَّفْعِ مِنْ غَيْرِ التَّنْوِينِ، أَمَّا وَجْهُ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: فَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَيَّرَ الْمُكَلَّفَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الْهَدْيُ، وَالصِّيَامُ، وَالطَّعَامُ، حَسُنَتِ الْإِضَافَةُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ كَفَّارَةُ طَعَامٍ لَا كَفَّارَةُ هَدْيٍ، وَلَا كَفَّارَةُ صِيَامٍ، فَاسْتَقَامَتِ الْإِضَافَةُ لِكَوْنِ الْكَفَّارَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَأَمَّا وَجْهُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ أَوْ كَفَّارَةٌ بالتنوين، فهو أنه عطف على قوله فَجَزاؤُهُ وطَعامُ مَساكِينَ عَطْفَ بَيَانٍ، لِأَنَّ الطَّعَامَ هُوَ الْكَفَّارَةُ وَلَمْ تُضَفِ الْكَفَّارَةُ إِلَى الطَّعَامِ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَيْسَتْ لِلطَّعَامِ، وَإِنَّمَا الْكَفَّارَةُ لِقَتْلِ الصَّيْدِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّه: كَلِمَةُ أَوْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلتَّخْيِيرِ، وقال أحمد وزفر: إنها لِلتَّرْتِيبِ. حُجَّةُ الْأَوَّلِينَ أَنَّ كَلِمَةَ (أَوْ) فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِلتَّخْيِيرِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ. حُجَّةُ الْبَاقِينَ: أَنَّ كَلِمَةَ (أَوْ) قَدْ تجيء لا لمعنى لِلتَّخْيِيرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ [الْمَائِدَةِ: 33] فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ تَخْصِيصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ بِحَالَةٍ

مُعَيَّنَةٍ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ التَّرْتِيبَ، فَنَقُولُ: وَالدَّلِيلُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ التَّرْتِيبُ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ هَاهُنَا شُرِعَ عَلَى سَبِيلِ التغليظ بدليل قوله لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ ... وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَالتَّخْيِيرُ يُنَافِي التَّغْلِيظَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ إِخْرَاجَ الْمِثْلِ لَيْسَ أَقْوَى عُقُوبَةً مِنْ إِخْرَاجِ الطَّعَامِ، فَالتَّخْيِيرُ لَا يَقْدَحُ فِي الْقَدْرِ الْحَاصِلِ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي إِيجَابِ الْمِثْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا قَتَلَ صَيْدًا لَهُ مِثْلٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إِنْ شَاءَ أَخْرَجَ الْمِثْلَ، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَ الْمِثْلَ بِدَرَاهِمَ، وَيَشْتَرِي بِهَا طَعَامًا وَيَتَصَدَّقُ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ، وَأَمَّا الصَّيْدُ الَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، بَيْنَ أَنْ يُقَوِّمَ الصَّيْدَ بِالدَّرَاهِمِ وَيَشْتَرِيَ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ طَعَامًا وَيَتَصَدَّقَ بِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَصُومَ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا الصَّيْدُ الَّذِي لَهُ مِثْلٌ إِنَّمَا يَشْتَرِي الطَّعَامَ بِقِيمَةِ مِثْلِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ رَحِمَهُمَا اللَّه: إِنَّمَا يَشْتَرِي الطَّعَامَ بِقِيمَتِهِ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمِثْلَ مِنَ النَّعَمِ هُوَ الْجَزَاءُ وَالطَّعَامُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ فَيُعْدَلُ بِهِ كَمَا يُعْدَلُ عَنِ الصَّوْمِ بِالطَّعَامِ، وَأَيْضًا تَقْوِيمُ مِثْلِ الصَّيْدِ أَدْخَلُ فِي الضَّبْطِ مِنْ تَقْوِيمِ نَفْسِ الصَّيْدِ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّ مِثْلَ الْمُتْلَفِ إِذَا وَجَبَ اعْتُبِرَ بِالْمُتْلَفِ لَا بِغَيْرِهِ مَا أَمْكَنَ، وَالطَّعَامُ إِنَّمَا وَجَبَ مِثْلًا لِلْمُتْلَفِ فَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّرَ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ التَّقْوِيمِ: فَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّمَا يُقَوَّمُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي قُتِلَ الصَّيْدُ فِيهِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: يُقَوَّمُ بِمَكَّةَ بِثَمَنِ مَكَّةَ لِأَنَّهُ يُكَفِّرُ بِهَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَدْلُ مَا عَادَلَ الشَّيْءَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَالْعِدْلُ الْمِثْلُ، تَقُولُ عِنْدِي عِدْلُ غُلَامِكَ أَوْ شَاتِكَ إِذَا كَانَ عِنْدَكَ غُلَامٌ يَعْدِلُ غُلَامًا أَوْ شَاةٌ تَعْدِلُ شَاةً، أَمَّا إِذَا أَرَدْتَ قِيمَتَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ نَصَبْتَ الْعَيْنَ فَقُلْتَ عَدْلٌ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: الْعَدْلُ الْمِثْلُ، وَالْعِدْلُ الْقِيمَةُ، وَالْعَدْلُ اسْمُ حِمْلٍ مَعْدُولٍ بِحِمْلٍ آخَرَ مُسَوًّى بِهِ، وَالْعِدْلُ تَقْوِيمُكَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْعَدْلُ وَالْعِدْلُ سَوَاءٌ وَقَوْلُهُ صِياماً نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، كَمَا تقول عندي رطلان عسلا، وملء بيت قتا، وَالْأَصْلُ فِيهِ إِدْخَالُ حَرْفٍ مِنْ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ نَصَبْتَهُ. تَقُولُ: رِطْلَانِ مِنَ الْعَسَلِ وَعَدْلُ ذَلِكَ مِنَ الصِّيَامِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: أَنَّهُ يَصُومُ لِكُلِّ مُدٍّ يَوْمًا وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ/ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ يَصُومُ لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا، وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُمَا تَوَافَقَا عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ مُقَدَّرٌ بِطَعَامِ يَوْمٍ، إِلَّا أَنَّ طَعَامَ الْيَوْمِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مُقَدَّرٌ بِالْمُدِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه مُقَدَّرٌ بِنِصْفِ صَاعٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: زَعَمَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْخِيَارَ فِي تَعْيِينِ أَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إِلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّه إِلَى الْحَكَمَيْنِ: حُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ أَحَدَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى التَّخْيِيرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَاتِلُ الصَّيْدِ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَيِّهَا شَاءَ، وَحُجَّةُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْخِيَارَ إِلَى الْحَكَمَيْنِ فَقَالَ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً أَيْ كَذَا وَكَذَا. وَجَوَابُنَا: أَنَّ تَأْوِيلَ الْآيَةِ فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ... أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً وَأَمَّا الَّذِي يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ فَهُوَ تَعْيِينُ الْمِثْلِ، إِمَّا فِي الْقِيمَةِ أَوْ فِي الْخِلْقَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ وفيه مسألتان:

[سورة المائدة (5) : آية 96]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَبَالُ فِي اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَمَّا فِيهِ مِنَ الثِّقْلِ وَالْمَكْرُوهِ. يُقَالُ: مَرْعًى وَبِيلٌ إِذَا كَانَ فِيهِ وَخَامَةٌ، وَمَاءٌ وَبِيلٌ إِذَا لم يستمر، أو الطعام الْوَبِيلُ الَّذِي يَثْقُلُ عَلَى الْمَعِدَةِ فَلَا يَنْهَضِمُ، قَالَ تَعَالَى: فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 16] أَيْ ثَقِيلًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا سَمَّى اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ وَبَالًا لِأَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: اثْنَانِ مِنْهَا تُوجِبُ تَنْقِيصَ الْمَالِ، وَهُوَ ثَقِيلٌ عَلَى الطَّبْعِ، وَهُمَا الْجَزَاءُ بِالْمِثْلِ وَالْإِطْعَامُ، وَالثَّالِثُ: يُوجِبُ إِيلَامَ الْبَدَنِ وَهُوَ الصَّوْمُ، وَذَلِكَ أَيْضًا ثَقِيلٌ عَلَى الطَّبْعِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ أَحَدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا ثَقِيلٌ عَلَى الطَّبْعِ حَتَّى يَحْتَرِزَ عَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ وَفِي حَالِ الْإِحْرَامِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: عَفَا اللَّه عَمَّا مَضَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَعَمَّا سَلَفَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ فِي الْإِسْلَامِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ لَا يُوجِبُ الْجَزَاءَ إِلَّا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، أَمَّا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ وَيَقُولُ إِنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفِّرَهُ التَّصَدُّقُ بِالْجَزَاءِ، فَعَلَى هَذَا الْمُرَادُ: عَفَا اللَّه عَمَّا سَلَفَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى بِسَبَبِ أَدَاءِ الْجَزَاءِ، وَمَنْ عَادَ إِلَيْهِ مَرَّةً ثَانِيَةً فَلَا كَفَّارَةَ لِجُرْمِهِ بَلْ يَنْتَقِمُ اللَّه مِنْهُ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ فَاءُ الْجَزَاءِ، وَالْجَزَاءُ هُوَ الْكَافِي، / فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الِانْتِقَامَ كَافٍ فِي هَذَا الذَّنْبِ، وَكَوْنُهُ كَافِيًا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ شَيْءٍ آخَرَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ الْجَزَاءُ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَفِي قَوْلِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا [الْبَقَرَةِ: 126] وَفِي قَوْلِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ [الْجِنِّ: 13] إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ إِضْمَارًا مُقَدَّرًا وَالتَّقْدِيرُ: وَمَنْ عَادَ فَهُوَ يَنْتَقِمُ اللَّه مِنْهُ، وَمَنْ كَفَرَ فَأَنَا أُمَتِّعُهُ، وَمَنْ يُؤْمِنُ بِرَبِّهِ فَهُوَ لَا يَخَافُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ يَصِيرُ ذَلِكَ الْفِعْلُ خَبَرًا عَنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ الْفِعْلَ يَصِيرُ بِنَفْسِهِ جَزَاءً، فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِدْخَالِ حَرْفِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ إِدْخَالُ حَرْفِ الْفَاءِ عَلَى الْفِعْلِ لَغْوًا أَمَّا إِذَا أَضْمَرْنَا الْمُبْتَدَأَ احْتَجْنَا إِلَى إِدْخَالِ حَرْفِ الْفَاءِ عَلَيْهِ لِيَرْتَبِطَ بِالشَّرْطِ فَلَا تصير الفاء لغوا واللَّه أعلم. [سورة المائدة (5) : آية 96] أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) قَوْلُهُ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ بِالصَّيْدِ الْمَصِيدُ، وَجُمْلَةُ مَا يُصَادُ مِنَ الْبَحْرِ ثَلَاثَةُ أَجْنَاسٍ، الْحِيتَانُ وَجَمِيعُ أَنْوَاعِهَا حَلَالٌ، وَالضَّفَادِعُ وَجَمِيعُ أَنْوَاعِهَا حَرَامٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى هَذَيْنِ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه إِنَّهُ حَرَامٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْأَكْثَرُونَ إِنَّهُ حَلَالٌ، وَتَمَسَّكُوا فِيهِ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَحْرِ جَمِيعُ الْمِيَاهِ وَالْأَنْهَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ طَعَامَ الْبَحْرِ عَلَى صَيْدِهِ وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا:

الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَحْسَنُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: أَنَّ الصَّيْدَ مَا صِيدَ بِالْحِيلَةِ حَالَ حَيَاتِهِ وَالطَّعَامُ مَا يُوجَدُ مِمَّا لَفَظَهُ الْبَحْرُ أَوْ نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ مِنْ غَيْرِ مُعَالَجَةٍ فِي أَخْذِهِ هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ مِمَّا قِيلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ هُوَ الطَّرِيُّ، وَأَمَّا طَعَامُ الْبَحْرِ فَهُوَ الَّذِي جُعِلَ مُمَلَّحًا، لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ عَتِيقًا سَقَطَ اسْمُ الصَّيْدِ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَمُقَاتِلٍ وَالنَّخَعِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الَّذِي صَارَ مَالِحًا فَقَدْ كَانَ طَرِيًّا وَصَيْدًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَيَلْزَمُ التَّكْرَارُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الِاصْطِيَادَ قَدْ يَكُونُ لِلْأَكْلِ وَقَدْ يَكُونُ لِغَيْرِهِ مِثْلُ اصْطِيَادِ الصَّدَفِ لِأَجْلِ اللُّؤْلُؤِ، وَاصْطِيَادِ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ الْبَحْرِيَّةِ لِأَجْلِ عِظَامِهَا وَأَسْنَانِهَا فَقَدْ حَصَلَ التَّغَايُرُ بَيْنَ الِاصْطِيَادِ مِنَ الْبَحْرِ وَبَيْنَ الْأَكْلِ مِنْ طَعَامِ الْبَحْرِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: السَّمَكَةُ الطَّافِيَةُ فِي الْبَحْرِ مُحَلَّلَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه مُحَرَّمَةٌ: حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَكْلُهُ فَيَكُونُ طَعَامًا فَوَجَبَ أَنْ يَحِلَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . الْمَسْأَلَةُ الرابعة: قوله لِلسَّيَّارَةِ يَعْنِي أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ لِلْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ، فَالطَّرِيُّ لِلْمُقِيمِ، وَالْمَالِحُ لِلْمُسَافِرِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ مَتاعاً لَكُمْ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ انْتَصَبَ لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا مُؤَكِّدًا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا قِيلَ: أُحِلَّ لَكُمْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مُنْعَمٌ بِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قِيلَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاءِ: 23] كَانَ دَلِيلًا عَلَى أنه كتب عليهم ذلك فقال كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء: 24] الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» انْتَصَبَ لِكَوْنِهِ مَفْعُولًا لَهُ، أَيْ أُحِلَّ لَكُمْ تَمْتِيعًا لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ تَحْرِيمَ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة: 1] إلى قوله وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة: 2] وَمِنْ قَوْلِهِ لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة: 95] إِلَى قَوْلِهِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: صَيْدُ الْبَحْرِ هُوَ الَّذِي لَا يَعِيشُ إِلَّا فِي الْمَاءِ، أَمَّا الَّذِي لَا يَعِيشُ إِلَّا فِي الْبَرِّ وَالَّذِي يُمْكِنُهُ أَنْ يَعِيشَ فِي الْبَرِّ تَارَةً وَفِي الْبَحْرِ أُخْرَى فَذَاكَ كُلُّهُ صَيْدُ الْبَرِّ، فَعَلَى هَذَا السُّلَحْفَاةُ، وَالسَّرَطَانُ، وَالضِّفْدَعُ، وَطَيْرُ الْمَاءِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ، وَيَجِبُ عَلَى قَاتِلِهِ الْجَزَاءُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّيْدُ، وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّيْدِ الَّذِي يَصِيدُهُ الْحَلَالُ هَلْ يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٍ، وَذَكَرَهُ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ بِكُلِّ حَالٍ، وَعَوَّلُوا فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَذَلِكَ لِأَنَّ صَيْدَ الْبَرِّ يَدْخُلُ فِيهِ مَا اصْطَادَهُ الْمُحْرِمُ وَمَا اصْطَادَهُ الْحَلَالُ، وَكُلُّ ذَلِكَ صَيْدُ الْبَرِّ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ» عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّه بْنِ الحرث عن أبيه قال: كان الحرث خليفة

[سورة المائدة (5) : آية 97]

عُثْمَانَ عَلَى الطَّائِفِ فَصَنَعَ لِعُثْمَانَ طَعَامًا وَصَنَعَ فِيهِ الْحَجَلَ وَالْيَعَاقِيبَ وَلُحُومَ الْوَحْشِ فَبَعَثَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَجَاءَهُ الرَّسُولُ فَجَاءَ فَقَالُوا لَهُ كُلْ فَقَالَ عَلِيٌّ: أَطْعِمُونَا قُوتًا حَلَالًا فَإِنَّا حُرُمٌ، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْشُدُ اللَّه مَنْ كَانَ/ هَاهُنَا مِنْ أَشْجَعَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه أَهْدَى إِلَيْهِ رَجُلٌ حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَهُ فَقَالُوا نَعَمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ لَحْمَ الصَّيْدِ مُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَصْطَادَهُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُصْطَادَ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَالْحُجَّةُ فِيهِ مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ» عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ مَا لم تصيدوه أو يصاد لَكُمْ» . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا صِيدَ لِلْمُحْرِمِ بِغَيْرِ إِعَانَتِهِ وَإِشَارَتِهِ حَلَّ لَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه، رُوِيَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ اصْطَادَ حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ حَلَالٌ فِي أَصْحَابٍ مُحْرِمِينَ لَهُ فَسَأَلُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فَقَالَ: «هَلْ أَشَرْتُمْ هَلْ أَعَنْتُمْ فَقَالُوا لَا» . فَقَالَ: هَلْ بَقِيَ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ أَوْجَبَ الْإِبَاحَةَ عِنْدَ عَدَمِ الْإِشَارَةِ وَالْإِعَانَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مُفَرَّعَانِ عَلَى تَخْصِيصِ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالثَّانِي فِي غَايَةِ الضَّعْفِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّهْدِيدُ لِيَكُونَ الْمَرْءُ مُوَاظِبًا عَلَى الطاعة محترزا عن المعصية. [سورة المائدة (5) : آية 97] جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) قَوْلُهُ تَعَالَى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ. اعْلَمْ أَنَّ اتِّصَالَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا، هُوَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَرَّمَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الِاصْطِيَادَ عَلَى الْمُحْرِمِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْحَرَمَ كَمَا أَنَّهُ سَبَبٌ لِأَمْنِ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ، فَكَذَلِكَ هُوَ سَبَبٌ لِأَمْنِ النَّاسِ عَنِ الْآفَاتِ وَالْمُخَافَاتِ، وَسَبَبٌ لِحُصُولِ الْخَيْرَاتِ وَالسَّعَادَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ قَيِّمًا بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَمَعْنَاهُ الْمُبَالَغَةُ فِي كَوْنِهِ قَائِمًا بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِ النَّاسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: دِيناً قِيَماً [الْأَنْعَامِ: 161] وَالْبَاقُونَ بِالْأَلِفِ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: جَعَلَ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بَيَّنَ وَحَكَمَ، الثَّانِي: أَنَّهُ صَيَّرَ، فَالْأَوَّلُ بِالْأَمْرِ وَالتَّعْرِيفِ، وَالثَّانِي بِخَلْقِ الدَّوَاعِي فِي قُلُوبِ النَّاسِ لِتَعْظِيمِهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: سُمِّيَتِ الْكَعْبَةُ كَعْبَةً لِارْتِفَاعِهَا، يُقَالُ لِلْجَارِيَةِ إِذَا نَتَأَ ثَدْيُهَا وَخَرَجَ كَاعِبٌ وَكَعَابٌ، وَكَعْبُ الْإِنْسَانِ يُسَمَّى كَعْبًا لِنُتُوِّهِ مِنَ السَّاقِ، فَالْكَعْبَةُ لَمَّا ارْتَفَعَ ذِكْرُهَا فِي الدُّنْيَا وَاشْتَهَرَ أَمْرُهَا فِي الْعَالَمِ سُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لِمَنْ عَظُمَ أَمْرُهُ فُلَانٌ عَلَا كَعْبُهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ قِياماً لِلنَّاسِ أَصْلُهُ قِوَامٌ لِأَنَّهُ مِنْ قَامَ يَقُومُ، وَهُوَ مَا يَسْتَقِيمُ بِهِ الْأَمْرُ وَيَصْلُحُ، ثُمَّ ذَكَرُوا هَاهُنَا فِي كَوْنِ الْكَعْبَةِ سَبَبًا لِقِوَامِ مَصَالِحِ النَّاسِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى حُضُورِ أَهْلِ الْآفَاقِ عِنْدَهُمْ لِيَشْتَرُوا مِنْهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ طُولَ السَّنَةِ، فَإِنَّ مَكَّةَ بَلْدَةٌ ضَيِّقَةٌ لَا ضَرْعَ فِيهَا وَلَا زَرْعَ، وَقَلَّمَا

يُوجَدُ فِيهَا مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، فاللَّه تَعَالَى جَعَلَ الْكَعْبَةَ مُعَظَّمَةً فِي الْقُلُوبِ حَتَّى صَارَ أَهْلُ الدُّنْيَا رَاغِبِينَ فِي زِيَارَتِهَا، فَيُسَافِرُونَ إِلَيْهَا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِأَجْلِ التِّجَارَةِ وَيَأْتُونَ بجميع المطالب والمشتهيات، فصار ذلك سببا لا سباغ النِّعَمِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ. الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَتَقَاتَلُونَ وَيُغِيرُونَ إِلَّا فِي الْحَرَمِ، فَكَانَ أَهْلُ الْحَرَمِ آمِنِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى أَمْوَالِهِمْ حَتَّى لَوْ لَقِيَ الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ فِي الْحَرَمِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، وَلَوْ جَنَى الرَّجُلُ أَعْظَمَ الْجِنَايَاتِ ثُمَّ الْتَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: 67] الثَّالِثُ: أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ صَارُوا بِسَبَبِ الْكَعْبَةِ أَهْلَ اللَّه وَخَاصَّتَهُ وَسَادَةَ الْخَلْقِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكُلُّ أَحَدٍ يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِمْ وَيُعَظِّمُهُمْ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْكَعْبَةَ قِوَامًا لِلنَّاسِ فِي دِينِهِمْ بِسَبَبِ مَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْمَنَاسِكِ الْعَظِيمَةِ وَالطَّاعَاتِ الشَّرِيفَةِ، وجعل تلك المناسك سببا لحط الخطيآت، وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَكَثْرَةِ الْكَرَامَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قِوَامَ الْمَعِيشَةِ إِمَّا بِكَثْرَةِ الْمَنَافِعِ وَهُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَإِمَّا بِدَفْعِ الْمَضَارِّ وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي، وَإِمَّا بِحُصُولِ الْجَاهِ وَالرِّيَاسَةِ وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ، وَإِمَّا بِحُصُولِ الدِّينِ وَهُوَ الْوَجْهُ الرَّابِعُ، فَلَمَّا كَانَتِ الْكَعْبَةُ سَبَبًا لِحُصُولِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، وَثَبَتَ أَنَّ قِوَامَ الْمَعِيشَةِ لَيْسَ إِلَّا بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ ثَبَتَ أَنَّ الْكَعْبَةَ سَبَبٌ لِقَوَامِ النَّاسِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ قِياماً لِلنَّاسِ أَيْ لِبَعْضِ النَّاسِ وَهُمُ الْعَرَبُ، وَإِنَّمَا حَسُنَ هَذَا الْمَجَازُ لِأَنَّ أَهْلَ كُلِّ بَلَدٍ إِذَا قَالُوا النَّاسُ فَعَلُوا كَذَا وَصَنَعُوا كَذَا فَإِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ إِلَّا أَهْلَ بَلْدَتِهِمْ فَلِهَذَا السَّبَبِ خُوطِبُوا بِهَذَا الْخِطَابِ عَلَى وَفْقِ عَادَتِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ سَبَبًا لِقِيَامِ النَّاسِ وَقِوَامِهِمْ. الْأَوَّلُ: الْكَعْبَةُ وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى كَوْنِهَا سَبَبًا لِقِيَامِ النَّاسِ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ/ وَمَعْنَى كَوْنِهِ سَبَبًا لِقِيَامِ النَّاسِ هُوَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي سَائِرِ الْأَشْهُرِ، وَيُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ زَالَ الْخَوْفُ وَقَدَرُوا عَلَى الْأَسْفَارِ وَالتِّجَارَاتِ وَصَارُوا آمِنِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَكَانُوا يُحَصِّلُونَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ مِنَ الْأَقْوَاتِ مَا كَانَ يَكْفِيهِمْ طُولَ السَّنَةِ، فَلَوْلَا حُرْمَةُ الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَهَلَكُوا وَتَفَانَوْا مِنَ الْجُوعِ وَالشِّدَّةِ فَكَانَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ سَبَبًا لِقِوَامِ مَعِيشَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا. فَهُوَ سَبَبٌ لا لِاكْتِسَابِ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ بِسَبَبِ إِقَامَةِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ الْأَرْبَعَةَ إِلَّا أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهَا بِلَفْظِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِهِ مَذْهَبَ الْجِنْسِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَهُوَ الْهَدْيُ وَهُوَ إِنَّمَا كَانَ سَبَبًا لِقِيَامِ النَّاسِ، لِأَنَّ الْهَدْيَ مَا يُهْدَى إِلَى الْبَيْتِ وَيُذْبَحُ هُنَاكَ وَيُفَرَّقُ لَحْمُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَيَكُونُ ذَلِكَ نُسُكًا لِلْمُهْدِي وَقِوَامًا لِمَعِيشَةِ الْفُقَرَاءِ. وَأَمَّا الرَّابِعُ: فَهُوَ الْقَلَائِدُ، وَالْوَجْهُ فِي كَوْنِهَا قِيَامًا لِلنَّاسِ أَنَّ مَنْ قَصَدَ الْبَيْتَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ أَحَدٌ، وَمَنْ قصده من غَيْرِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَمَعَهُ هَدْيٌ، وَقَدْ قَلَّدَهُ وقلد نفسه من لحاء شجرة الْحَرَمِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ أَحَدٌ، حَتَّى إِنَّ الْوَاحِدَ مِنَ الْعَرَبِ يَلْقَى الْهَدْيَ مُقَلَّدًا، وَيَمُوتُ مِنَ الْجُوعِ فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ الْبَتَّةَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا صَاحِبُهَا أَيْضًا، وَكُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ تَعْظِيمَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، فَكُلُّ مَنْ قَصَدَهُ أَوْ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ صَارَ آمِنًا مِنْ جَمِيعِ الْآفَاتِ وَالْمَخَافَاتِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ ذَكَرَ بَعْدَهُ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ، وَهِيَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ وَالْهَدْيُ وَالْقَلَائِدُ، لِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ إِنَّمَا صَارَتْ سَبَبًا لِقِوَامِ الْمَعِيشَةِ لِانْتِسَابِهَا إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ، فَكَانَ

[سورة المائدة (5) : آية 98]

ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى عَظَمَةِ هَذَا الْبَيْتِ وَغَايَةِ شَرَفِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ فِي الْأَزَلِ أَنَّ مُقْتَضَى طِبَاعِ الْعَرَبِ الْحِرْصُ الشَّدِيدُ عَلَى الْقَتْلِ وَالْغَارَةِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ دَامَتْ بِهِمْ هَذِهِ الْحَالَةُ لَعَجَزُوا عَنْ تَحْصِيلِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ مَنَافِعِ الْمَعِيشَةِ، وَلَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى فَنَائِهِمْ وَانْقِطَاعِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ، دَبَّرَ فِي ذَلِكَ تَدْبِيرًا لَطِيفًا، وَهُوَ أَنَّهُ أَلْقَى فِي قُلُوبِهِمِ اعْتِقَادًا قَوِيًّا فِي تَعْظِيمِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَتَعْظِيمِ مَنَاسِكِهِ، فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِحُصُولِ الْأَمْنِ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ، وَفِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَلَمَّا حَصَلَ الْأَمْنُ فِي هَذَا الْمَكَانِ وَفِي هَذَا الزَّمَانِ، قَدَرُوا عَلَى تَحْصِيلِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَفِي هَذَا الْمَكَانِ، فَاسْتَقَامَتْ مَصَالِحُ مَعَاشِهِمْ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّدْبِيرِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا إِذَا كَانَ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ الشَّرَّ غَالِبٌ عَلَى طِبَاعِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي بِهِمْ إِلَى الْفَنَاءِ وَانْقِطَاعِ النَّسْلِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ دَفْعُ ذَلِكَ إِلَّا/ بِهَذَا الطَّرِيقِ اللطيف، وهو إلقاء اللَّه تَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِحُصُولِ الْأَمَانِ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ، وَفِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ، فَحِينَئِذٍ تَسْتَقِيمُ مَصَالِحُ مَعَاشِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَفِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَهَذَا هُوَ بِعَيْنِهِ الدَّلِيلُ الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ أَفْعَالَهُ مُحْكَمَةٌ مُتْقَنَةٌ مُطَابِقَةٌ لِلْمَصَالِحِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ عَالِمًا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ إِلْقَاءَ تَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ فِي قُلُوبِ الْعَرَبِ لِأَجْلِ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِحُصُولِ الْأَمْنِ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ، وَفِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ، لِيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبَ اقْتِدَارِهِمْ عَلَى تَحْصِيلِ مَصَالِحِ الْمَعِيشَةِ، فِعْلٌ فِي غَايَةِ الْإِتْقَانِ وَالْإِحْكَامِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا قَاهِرًا وَبُرْهَانًا بَاهِرًا، عَلَى أَنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فَلَا جَرَمَ قَالَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَيْ ذَلِكَ التَّدْبِيرُ اللَّطِيفُ لِأَجْلِ أَنْ تَتَفَكَّرُوا فِيهِ، فَتَعْلَمُوا أَنَّهُ تَدْبِيرٌ لَطِيفٌ وَفِعْلٌ مُحْكَمٌ مُتْقَنٌ، فَتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ثُمَّ إِذَا عَرَفْتُمْ ذَلِكَ، عَرَفْتُمْ أَنَّ عِلْمَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صِفَةٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ، امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ مُتَعَلِّقًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، كَانَ اللَّه سُبْحَانَهُ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَمَا أَحْسَنَ هَذَا التَّرْتِيبَ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ وَالْحَمْدُ للَّه الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا اللَّه. [سورة المائدة (5) : آية 98] اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) لَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى أَنْوَاعَ رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ، ذَكَرَ بَعْدَهُ أَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوْ وُزِنَ خَوْفُ الْمُؤْمِنِ وَرَجَاؤُهُ لَاعْتَدَلَا» ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ غَفُورًا رَحِيمًا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ أَغْلَبُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِيمَا قَبْلُ أَنْوَاعَ رَحْمَتِهِ وَكَرَمِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ وَصْفَيْنِ مِنْ أَوْصَافِ الرَّحْمَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ غَفُورًا رَحِيمًا، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى دَقِيقَةٍ وَهِيَ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ كَانَ لِأَجْلِ الرَّحْمَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخَتْمَ لَا يَكُونُ إلا على الرحمة. ثم قال تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 99] مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَّمَ التَّرْهِيبَ وَالتَّرْغِيبَ بِقَوْلِهِ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

[سورة المائدة (5) : آية 100]

[المائدة: 98] أَتْبَعَهُ بِالتَّكْلِيفِ بِقَوْلِهِ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ مُكَلَّفًا بِالتَّبْلِيغِ فَلَمَّا بَلَّغَ خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ وَبَقِيَ الْأَمْرُ مِنْ جَانِبِكُمْ وَأَنَا عَالِمٌ بِمَا تُبْدُونَ وَبِمَا تَكْتُمُونَ، فَإِنْ خَالَفْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّه شَدِيدُ الْعِقَابِ، وَإِنْ أَطَعْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّه غَفُورٌ رَحِيمٌ. [سورة المائدة (5) : آية 100] قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا زَجَرَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَرَغَّبَ فِي الطَّاعَةِ بِقَوْلِهِ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 98] ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالتَّكْلِيفِ بِقَوْلِهِ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [المائدة: 99] ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالتَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَةِ وَالتَّنْفِيرِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ [المائدة: 99] أَتْبَعَهُ بِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَةِ وَالتَّنْفِيرِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَقَالَ: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَبِيثَ وَالطَّيِّبَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِي يَكُونُ جُسْمَانِيًّا، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَالثَّانِي: الَّذِي يَكُونُ رُوحَانِيًّا، وَأَخْبَثُ الْخَبَائِثِ الرُّوحَانِيَّةِ الْجَهْلُ وَالْمَعْصِيَةُ، وَأَطْيَبُ الطَّيِّبَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ مَعْرِفَةُ اللَّه تَعَالَى وَطَاعَةُ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِسْمَ الَّذِي يَلْتَصِقُ بِهِ شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَاتِ يَصِيرُ مُسْتَقْذَرًا عِنْدَ أَرْبَابِ الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ، فَكَذَلِكَ الْأَرْوَاحُ الْمَوْصُوفَةُ بِالْجَهْلِ باللَّه وَالْإِعْرَاضِ عَنْ طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى تَصِيرُ مُسْتَقْذَرَةً عِنْدَ الْأَرْوَاحِ الْكَامِلَةِ الْمُقَدَّسَةِ. وَأَمَّا الْأَرْوَاحُ الْعَارِفَةُ باللَّه تَعَالَى الْمُوَاظِبَةُ عَلَى خِدْمَةِ اللَّه تَعَالَى، فَإِنَّهَا تَصِيرُ مُشْرِقَةً بِأَنْوَارِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ مُبْتَهِجَةً بِالْقُرْبِ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْمُقَدَّسَةِ الطَّاهِرَةِ، وَكَمَا أَنَّ الْخَبِيثَ وَالطَّيِّبَ فِي عَالَمِ الْجُسْمَانِيَّاتِ لَا يَسْتَوِيَانِ، فَكَذَلِكَ فِي عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ لَا يَسْتَوِيَانِ، بَلِ الْمُبَايَنَةُ بَيْنَهُمَا فِي عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ أَشَدُّ، لِأَنَّ مَضَرَّةَ خُبْثِ الْخَبِيثِ الْجُسْمَانِيِّ شَيْءٌ قَلِيلٌ، وَمَنْفَعَتَهُ طَيِّبَةٌ مُخْتَصَرَةٌ، وَأَمَّا خُبْثُ الْخَبِيثِ الرُّوحَانِيِّ فَمَضَرَّتُهُ عَظِيمَةٌ دَائِمَةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَطَيِّبُ الطَّيِّبِ الرُّوحَانِيِّ فَمَنْفَعَتُهُ عَظِيمَةٌ دَائِمَةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَهُوَ الْقُرْبُ مِنْ جِوَارِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالِانْخِرَاطُ فِي زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَالْمُرَافَقَةُ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، فَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ وُجُوهِ التَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَةِ وَالتَّنْفِيرِ/ عَنِ الْمَعْصِيَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ يَعْنِي أَنَّ الَّذِي يَكُونُ خَبِيثًا فِي عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ، قَدْ يَكُونُ طَيِّبًا فِي عَالَمِ الْجُسْمَانِيَّاتِ، وَيَكُونُ كَثِيرَ الْمِقْدَارِ، وَعَظِيمَ اللَّذَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ مَعَ كَثْرَةِ مِقْدَارِهِ وَلَذَاذَةِ مُتَنَاوَلِهِ وَقُرْبِ وِجْدَانِهِ، سَبَبٌ لِلْحِرْمَانِ مِنَ السَّعَادَاتِ الْبَاقِيَةِ الْأَبَدِيَّةِ السَّرْمَدِيَّةِ، الَّتِي إِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ [الْكَهْفِ: 46] وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْخَبِيثُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَتُهُ، يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلطَّيِّبِ الَّذِي هُوَ الْمَعْرِفَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالطَّاعَةُ وَالِابْتِهَاجُ بِالسَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْكَرَامَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ التَّرْغِيبَاتِ الْكَثِيرَةَ فِي الطَّاعَةِ، وَالتَّحْذِيرَاتِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، أَتْبَعَهَا بِوَجْهٍ آخَرَ يُؤَكِّدُهَا، فَقَالَ تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أَيْ فَاتَّقُوا اللَّه بَعْدَ هَذِهِ الْبَيَانَاتِ الْجَلِيَّةِ، وَالتَّعْرِيفَاتِ الْقَوِيَّةِ، وَلَا تُقْدِمُوا عَلَى مُخَالَفَتِهِ لَعَلَّكُمْ تَصِيرُونَ فَائِزِينَ بِالْمَطَالِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ. [سورة المائدة (5) : آية 101] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)

قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [المائدة: 99] صَارَ التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ، مَا بَلَّغَهُ الرَّسُولُ إِلَيْكُمْ فَخُذُوهُ، وَكُونُوا مُنْقَادِينَ لَهُ، وَمَا لَمْ يُبَلِّغْهُ الرَّسُولُ إِلَيْكُمْ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهُ، وَلَا تَخُوضُوا فِيهِ، فَإِنَّكُمْ إِنْ خُضْتُمْ فِيمَا لَا تَكْلِيفَ فِيهِ عَلَيْكُمْ فَرُبَّمَا جَاءَكُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْخَوْضِ الْفَاسِدِ مِنَ التَّكَالِيفِ مَا يَثْقُلُ عَلَيْكُمْ وَيَشُقُّ عَلَيْكُمْ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَهَذَا ادِّعَاءٌ مِنْهُ لِلرِّسَالَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُطَالِبُونَهُ بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ، بِمُعْجِزَاتٍ أُخَرَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْهُمْ وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاءِ: 90] إِلَى قَوْلِهِ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: 93] وَالْمَعْنَى أَنِّي رَسُولٌ أُمِرْتُ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَالشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ إِلَيْكُمْ، واللَّه تَعَالَى قَدْ أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَايَ فِي الرِّسَالَةِ بِإِظْهَارِ أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ طَلَبُ الزِّيَادَةِ مِنْ بَابِ التَّحَكُّمِ/ وَذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِي وَلَعَلَّ إِظْهَارَهَا يُوجِبُ مَا يَسُوءُكُمْ مِثْلُ أَنَّهَا لَوْ ظَهَرَتْ فَكُلُّ مَنْ خَالَفَ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتَوْجَبَ الْعِقَابَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا سَمِعُوا الْكُفَّارَ يُطَالِبُونَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ، وَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ مَيْلٌ إِلَى ظُهُورِهَا فَعَرَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَطْلُبُوا ذَلِكَ فَرُبَّمَا كَانَ ظُهُورُهَا يُوجِبُ مَا يَسُوءُهُمْ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ [المائدة: 99] فَاتْرُكُوا الْأُمُورَ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَلَا تَسْأَلُوا عَنْ أحوال مخفية إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَشْيَاءَ جمع شيء وأنها غير متصرفة وَلِلنَّحْوِيِّينَ فِي سَبَبِ امْتِنَاعِ الصَّرْفِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: قَوْلُنَا شَيْءٌ جَمْعُهُ فِي الْأَصْلِ شَيْآءُ عَلَى وَزْنِ فَعْلَاءَ فَاسْتَثْقَلُوا اجْتِمَاعَ الْهَمْزَتَيْنِ فِي آخِرِهِ، فَنَقَلُوا الْهَمْزَةَ الْأُولَى الَّتِي هِيَ لَامُ الْفِعْلِ إِلَى أَوَّلِ الْكَلِمَةِ فَجَاءَتْ لَفْعَاءُ، وَذَلِكَ يُوجِبُ مَنْعَ الصَّرْفِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، وَاحِدٌ مِنْهَا مَذْكُورٌ، وَاثْنَانِ خَطَرَا بِبَالِي. أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَذْكُورُ فَهُوَ أَنَّ الْكَلِمَةَ لَمَّا كَانَتْ فِي الْأَصْلِ عَلَى وَزْنِ فَعَلَاءَ، مِثْلُ حمراء، لا جرم لم تنصرف كما لم ينصرف حَمْرَاءُ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ فِي الْأَصْلِ شَيَآءَ ثُمَّ جُعِلَتْ أَشْيَاءَ كَانَ ذَلِكَ تَشْبِيهًا بِالْمَعْدُولِ كَمَا فِي عَامِرٍ وَعُمَرَ، وَزَافِرٍ وَزُفَرَ، وَالْعَدْلُ أَحَدُ أَسْبَابِ مَنْعِ الصَّرْفِ. الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّا لَمَّا قَطَعْنَا الْحَرْفَ الْأَخِيرَ مِنْهُ وَجَعَلْنَاهُ أَوَّلَهُ، وَالْكَلِمَةُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا قُطِعَ مِنْهَا الْحَرْفُ الْأَخِيرُ صَارَتْ كَنِصْفِ الْكَلِمَةِ، وَنِصْفُ الْكَلِمَةِ لَا يَقْبَلُ الْإِعْرَابَ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ ذَلِكَ الْحَرْفَ الَّذِي قَطَعْنَاهُ مِنْهَا مَا حَذَفْنَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ أَلْصَقْنَاهُ بِأَوَّلِهَا، كَانَتِ الْكَلِمَةُ كَأَنَّهَا بَاقِيَةٌ بِتَمَامِهَا، فَلَا جَرَمَ مَنَعْنَاهُ بَعْضَ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ دُونَ الْبَعْضِ، تَنْبِيهًا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، فَهَذَا مَا خَطَرَ بِالْبَالِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ السَّبَبِ فِي مَنْعِ الصَّرْفِ مَا ذَكَرَهُ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ: وَهُوَ أَنَّ أَشْيَاءَ وَزْنُهُ أَفْعِلَاءُ، كَقَوْلِهِ أَصْدِقَاءُ وَأَصْفِيَاءُ، ثُمَّ إِنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوا اجْتِمَاعَ الْيَاءِ وَالْهَمْزَتَيْنِ فَقَدَّمُوا الْهَمْزَةَ، فَلَمَّا كَانَ أَشْيَاءُ فِي الْأَصْلِ أَشْيِيَاءَ عَلَى وَزْنِ أَصْدِقَاءَ وَأَفْعِلَاءَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجْرِي فِيهِ الصَّرْفُ، فَكَذَا هَاهُنَا.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ الْكِسَائِيُّ: وَهُوَ أَنَّ أَشْيَاءَ عَلَى وَزْنِ أَفْعَالٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَصْرِفُوهُ لِكَوْنِهِ شَبِيهًا فِي الظَّاهِرِ بِحَمْرَاءَ وَصَفْرَاءَ، وَأَلْزَمَهُ الزَّجَّاجُ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ أَسْمَاءٌ وَأَبْنَاءٌ، وَعِنْدِي أَنَّ سُؤَالَ الزَّجَّاجِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ لِلْكِسَائِيِّ أَنْ يَقُولَ: الْقِيَاسُ يَقْتَضِي ذَلِكَ فِي أَبْنَاءٍ وَأَسْمَاءٍ، إِلَّا أَنَّهُ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ لِلنَّصِّ، لِأَنَّ النَّصَّ أَقْوَى مِنَ الْقِيَاسِ، وَلَمْ يُوجَدِ النَّصُّ فِي لَفْظِ أَشْيَاءَ فَوَجَبَ الْجَرْيُ فِيهِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَلِأَنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعِلَلَ النَّحْوِيَّةَ لَا تُوجِبُ الِاطِّرَادَ، أَلَا تَرَى أَنَّا إِذَا قُلْنَا/ الْفَاعِلِيَّةُ تُوجِبُ الرَّفْعَ، لَزِمَنَا أَنْ نَحْكُمَ بِحُصُولِ الرَّفْعِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ، كَقَوْلِنَا جَاءَنِي هَؤُلَاءِ وَضَرَبَنِي هَذَا بَلْ نَقُولُ: الْقِيَاسُ ذَلِكَ فَيُعْمَلُ بِهِ، إِلَّا إِذَا عَارَضَهُ نَصٌّ فَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا أَوْرَدَهُ الزَّجَّاجُ عَلَى الْكِسَائِيِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رَوَى أَنَسٌ أَنَّهُمْ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكْثَرُوا الْمَسْأَلَةَ، فَقَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: «سلوني فو اللَّه لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا إِلَّا حَدَّثْتُكُمْ بِهِ» فَقَامَ عَبْدُ اللَّه بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ وَكَانَ يُطْعَنُ فِي نَسَبِهِ، فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّه مَنْ أَبِي فقال: «أبو حُذَافَةُ بْنُ قَيْسٍ» وَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ وَيُرْوَى عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ يَا رَسُولَ اللَّه: الْحَجُّ عَلَيْنَا فِي كُلِّ عَامٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَعَادَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَيْحَكَ وَمَا يُؤَمِّنُكَ أَنْ أَقُولَ نَعَمْ واللَّه لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَتَرَكْتُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ لَكَفَرْتُمْ فَاتْرُكُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ» وَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه أَيْنَ أَبِي فَقَالَ «فِي النَّارِ» وَلَمَّا اشْتَدَّ غَضَبُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عُمَرُ وَقَالَ: رَضِينَا باللَّه رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الْأَشْيَاءِ رُبَّمَا يُؤَدِّي إِلَى ظُهُورِ أَحْوَالٍ مَكْتُومَةٍ يُكْرَهُ ظُهُورُهَا وَرُبَّمَا تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ تَكَالِيفُ شَاقَّةٌ صَعْبَةٌ فَالْأَوْلَى بِالْعَاقِلِ أَنْ يَسْكُتَ عَمَّا لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي سَأَلَ عَنْ أَبِيهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يُلْحِقَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِغَيْرِ أَبِيهِ فَيَفْتَضِحَ، وَأَمَّا السَّائِلُ عَنِ الْحَجِّ فَقَدْ كَادَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ: «إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ كَانَ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ حَلَالٍ إِذْ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَقُولَ فِي الْحَجِّ إِيجَابٌ فِي كُلِّ عَامٍ» وَكَانَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ يَقُولُ: إِنَّ اللَّه أَحَلَّ وَحَرَّمَ فَمَا أَحَلَّ فَاسْتَحِلُّوهُ، وَمَا حَرَّمَ فَاجْتَنِبُوهُ، وَتَرَكَ بَيْنَ ذَلِكَ أَشْيَاءَ لَمْ يُحَلِّلْهَا وَلَمْ يُحَرِّمْهَا، فَذَلِكَ عَفْوٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ: إِنَّ اللَّه فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَعَفَا عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تبحثوا عنها. ثم قال تعالى: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بَيَّنَ بِالْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الَّتِي سَأَلُوا عَنْهَا إِنْ أُبْدِيَتْ لَهُمْ سَاءَتْهُمْ ثُمَّ بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ إِنْ سَأَلُوا عَنْهَا أُبْدِيَتْ لَهُمْ، فَكَانَ حَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُمْ إِنْ سَأَلُوا عَنْهَا أُبْدِيَتْ لَهُمْ، وَإِنْ أُبْدِيَتْ لَهُمْ سَاءَتْهُمْ، فَيَلْزَمُ مِنْ مَجْمُوعِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ أَنَّهُمْ إِنْ سَأَلُوا عَنْهَا ظَهَرَ لَهُمْ مَا يَسُوءُهُمْ وَلَا يَسُرُّهُمْ. وَالْوَجْهُ/ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنَّ السُّؤَالَ عَلَى قِسْمَيْنِ. أَحَدُهُمَا: السُّؤَالُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَجُزْ ذِكْرُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَهَذَا السُّؤَالُ منهى عنه بقوله لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنَ السُّؤَالِ: السُّؤَالُ عَنْ شَيْءٍ نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ لَكِنَّ السَّامِعَ لَمْ يَفْهَمْهُ كَمَا ينبغي فههنا السؤال واجب، وهو المراد بقوله وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا الْقِسْمِ أَنَّهُ لَمَّا مَنَعَ

[سورة المائدة (5) : آية 102]

فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ السُّؤَالِ أَوْهَمَ أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ السُّؤَالِ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فَذَكَرَ ذَلِكَ تَمْيِيزًا لِهَذَا الْقِسْمِ عَنْ ذَلِكَ الْقِسْمِ. فَإِنْ قيل قوله وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها هَذَا الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ في قوله لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ فَكَيْفَ يُعْقَلُ فِي أَشْياءَ بِأَعْيَانِهَا أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَنْهَا مَمْنُوعًا وَجَائِزًا مَعًا. قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَنْهَا مَمْنُوعًا قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِهَا وَمَأْمُورًا بِهِ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِهَا، وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، إِلَّا أَنَّهُمَا فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مسؤولا عَنْهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَلِهَذَا الْوَجْهِ حَسُنَ اتِّحَادُ الضَّمِيرِ وَإِنْ كَانَا فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ: أَنَّ قَوْلَهُ لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ دَلَّ عَلَى سُؤَالَاتِهِمْ عَنْ تِلْكَ الأشياء، فقوله وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها أَيْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ تِلْكَ السُّؤَالَاتِ حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ يُبَيَّنْ لَكُمْ أَنَّ تِلْكَ السُّؤَالَاتِ هَلْ هِيَ جَائِزَةٌ أَمْ لَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَجِبُ السُّؤَالُ أَوَّلًا، وَأَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ السُّؤَالُ عَنْ كَذَا وَكَذَا أَمْ لَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْها وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: عَفَا اللَّه عَمَّا سَلَفَ مِنْ مَسَائِلِكُمْ وَإِغْضَابِكُمْ لِلرَّسُولِ بِسَبَبِهَا، فَلَا تَعُودُوا إِلَى مِثْلِهَا. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الَّتِي سَأَلُوا عَنْهَا إِنْ أُبْدِيَتْ لَهُمْ سَاءَتْهُمْ، فَقَالَ عَفَا اللَّهُ عَنْها يَعْنِي عَمَّا ظَهَرَ عِنْدَ تِلْكَ السؤالات مما يسؤكم وَيَثْقُلُ وَيَشُقُّ فِي التَّكْلِيفِ عَلَيْكُمْ. الثَّالِثُ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ عَفَا اللَّه عَنْهَا فِي الْآيَةِ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِذَا اسْتَقَامَ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ النَّظْمِ لَمْ يَجُزِ الْمَصِيرُ إِلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَوْلُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْها أَيْ أَمْسَكَ عَنْهَا وَكَفَّ عَنْ ذِكْرِهَا وَلَمْ يُكَلِّفْ فِيهَا بِشَيْءٍ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ» أَيْ خَفَّفْتُ عَنْكُمْ بِإِسْقَاطِهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ عَفَا اللَّه عَنْهَا مَا ذَكَرْنَاهُ في الوجه الأول. ثم قال تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 102] قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَعْنِي قَوْمَ صَالِحٍ سَأَلُوا النَّاقَةَ ثُمَّ عَقَرُوهَا وَقَوْمُ مُوسَى قَالُوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: 153] فَصَارَ ذَلِكَ وَبَالًا عَلَيْهِمْ، وَبَنُو إِسْرَائِيلَ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وقالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ [الْبَقَرَةِ: 246- 247] فَسَأَلُوهَا ثُمَّ كَفَرُوا بِهَا، وَقَوْمُ عِيسَى سَأَلُوا الْمَائِدَةَ ثُمَّ كَفَرُوا بِهَا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ أُولَئِكَ سَأَلُوا فَلَمَّا أُعْطُوا سُؤْلَهُمْ سَاءَهُمْ ذَلِكَ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ فَلَعَلَّكُمْ إِنْ أُعْطِيتُمْ سُؤْلَكُمْ سَاءَكُمْ ذَلِكَ فَإِنْ قيل: إنه تعالى قال: أولا: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ [المائدة: 101] ثُمَّ قَالَ هَاهُنَا: قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: قَدْ سَأَلَ عَنْهَا قَوْمٌ فَمَا السَّبَبُ فِي ذَلِكَ. قُلْنَا الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنِ السُّؤَالِ عَنْ حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِهِ، وَصِفَةٍ مِنْ

[سورة المائدة (5) : آية 103]

صِفَاتِهِ، وَسُؤَالُ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ، يُقَالُ: سَأَلْتُهُ دِرْهَمًا أَيْ طَلَبْتُ مِنْهُ الدِّرْهَمَ وَيُقَالُ: سَأَلْتُهُ عَنِ الدِّرْهَمِ أَيْ سَأَلْتُهُ عَنْ صِفَةِ الدِّرْهَمِ وَعَنْ نَعْتِهِ، فَالْمُتَقَدِّمُونَ إِنَّمَا سَأَلُوا مِنَ اللَّه إِخْرَاجَ النَّاقَةِ مِنَ الصَّخْرَةِ، وَإِنْزَالَ الْمَائِدَةِ مِنَ السَّمَاءِ، فَهُمْ سَأَلُوا نَفْسَ الشَّيْءِ، وَأَمَّا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمْ مَا سَأَلُوا ذَلِكَ، وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَنْ أَحْوَالِ الْأَشْيَاءِ وَصِفَاتِهَا، فَلَمَّا اخْتَلَفَ السُّؤَالَانِ فِي النَّوْعِ، اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَةُ أَيْضًا إِلَّا أَنَّ كِلَا الْقِسْمَيْنِ يَشْتَرِكَانِ فِي وَصْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ خَوْضٌ فِي الْفُضُولِ، وَشُرُوعٌ فِيمَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَفِيهِ خَطَرُ الْمَفْسَدَةِ، وَالشَّيْءُ الَّذِي لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ وَيَكُونُ فِيهِ خَطَرُ الْمَفْسَدَةِ، يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ قَوْمَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السُّؤَالِ عَنْ أَحْوَالِ الْأَشْيَاءِ مُشَابِهُونَ لِأُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي سُؤَالِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فُضُولًا وَخَوْضًا فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ الْهَاءَ فِي قَوْلِهِ قَدْ سَأَلَها غَيْرُ عَائِدَةٍ إِلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي سَأَلُوا عَنْهَا، بَلْ عَائِدَةٌ إِلَى سُؤَالَاتِهِمْ عَنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: قَدْ سَأَلَ تِلْكَ السُّؤَالَاتِ الْفَاسِدَةَ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ، فَلَمَّا أُجِيبُوا عَنْهَا أَصْبَحُوا بها كافرين. [سورة المائدة (5) : آية 103] مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَنَعَ النَّاسَ مِنَ الْبَحْثِ عَنْ أُمُورٍ مَا كُلِّفُوا بِالْبَحْثِ عَنْهَا كَذَلِكَ مَنَعَهُمْ عَنِ الْتِزَامِ أُمُورٍ مَا كُلِّفُوا الْتِزَامَهَا، وَلَمَّا كَانَ الْكُفَّارُ يُحَرِّمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ الِانْتِفَاعَ بِهَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ وَإِنْ كَانُوا فِي غَايَةِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِهَا، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ فَقَالَ: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ يُقَالُ: فَعَلَ وَعَمِلَ وَطَفِقَ وَجَعَلَ وَأَنْشَأَ وَأَقْبَلَ، وَبَعْضُهَا أَعَمُّ مِنْ بَعْضٍ، وَأَكْثَرُهَا عُمُومًا فَعَلَ، لِأَنَّهُ وَاقِعٌ عَلَى أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ وَأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، أَمَّا إِنَّهُ وَاقِعٌ عَلَى أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا إِنَّهُ وَاقِعٌ عَلَى أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، فَدَلِيلٌ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا إلى قوله ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النَّحْلِ: 35] وَأَمَّا عَمِلَ فَإِنَّهُ أَخَصُّ مِنْ فَعَلَ، لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ إلا على أعمال الجوارح، وال يَقَعُ عَلَى الْهَمِّ وَالْعَزْمِ وَالْقَصْدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» جَعَلَ النِّيَّةَ خَيْرًا مِنَ الْعَمَلِ، فَلَوْ كَانَتِ النِّيَّةُ عَمَلًا، لَزِمَ كَوْنُ النِّيَّةِ خَيْرًا مِنْ نَفْسِهَا، وَأَمَّا جَعَلَ فَلَهُ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: الْحُكْمُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزُّخْرُفِ: 19] وَثَانِيهَا: الْخَلْقُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: 1] وَثَالِثُهَا: بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزُّخْرُفِ: 3] . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ مَا جَعَلَ اللَّهُ أَيْ مَا حَكَمَ اللَّه بِذَلِكَ وَلَا شَرَعَ وَلَا أَمَرَ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَاهُنَا أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: الْبَحِيرَةُ: وَهِيَ فَعِيلَةٌ مِنَ الْبَحْرِ وَهُوَ الشَّقُّ، يُقَالُ: بَحَرَ نَاقَتَهُ إِذَا شَقَّ أُذُنَهَا، وَهِيَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ: النَّاقَةُ إِذَا نَتَجَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ، وَكَانَ

آخِرُهَا ذَكَرًا شَقُّوا أُذُنَ النَّاقَةِ وَامْتَنَعُوا مِنْ رُكُوبِهَا وَذَبْحِهَا وَسَيَّبُوهَا لِآلِهَتِهِمْ، وَلَا يُجَزُّ لَهَا وَبَرٌ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى ظَهْرِهَا، وَلَا تُطْرَدُ عَنْ مَاءٍ، وَلَا تُمْنَعُ عَنْ مَرْعًى، وَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا وَإِذَا لَقِيَهَا الْمُعْيَى لَمْ يَرْكَبْهَا تَحْرِيجًا. وَأَمَّا السَّائِبَةُ: فَهِيَ فَاعِلَةٌ مِنْ سَابَ إِذَا جَرَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يُقَالُ: سَابَ الْمَاءُ وَسَابَتِ الْحَيَّةُ، فَالسَّائِبَةُ هِيَ الَّتِي تُرِكَتْ حَتَّى تَسِيبَ إِلَى حَيْثُ شَاءَتْ، وَهِيَ الْمُسَيَّبَةُ كَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ بِمَعْنَى مَرْضِيَّةٍ، وَذَكَرُوا فِيهَا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا مَرِضَ أَوْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ أَوْ نَذَرَ نَذْرًا أَوْ شَكَرَ نِعْمَةً سَيَّبَ بَعِيرًا، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْبَحِيرَةِ فِي جَمِيعِ مَا حَكَمُوا لَهَا، وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِذَا وَلَدَتِ النَّاقَةُ عَشَرَةَ أَبْطُنٍ كُلُّهُنَّ إِنَاثٌ، سُيِّبَتْ فَلَمْ تُرْكَبْ وَلَمْ تُحْلَبْ وَلَمْ يُجَزَّ لَهَا وَبَرٌ، وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنَهَا إِلَّا وَلَدٌ أَوْ ضَيْفٌ، وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السَّائِبَةُ هِيَ الَّتِي تُسَيَّبُ لِلْأَصْنَامِ أَيْ تُعْتَقُ لَهَا، وَكَانَ الرَّجُلُ يُسَيِّبُ مِنْ مَالِهِ مَا يَشَاءُ، فَيَجِيءُ بِهِ إِلَى السَّدَنَةِ وَهُمْ خَدَمُ آلِهَتِهِمْ فَيُطْعِمُونَ/ مِنْ لَبَنِهَا أَبْنَاءَ السَّبِيلِ، وَرَابِعُهَا: السَّائِبَةُ هُوَ الْعَبْدُ يُعْتَقُ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ وَلَاءٌ وَلَا عَقْلٌ وَلَا مِيرَاثٌ. وَأَمَّا الْوَصِيلَةُ: فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِذَا وَلَدَتِ الشَّاةُ أُنْثَى فَهِيَ لَهُمْ وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا فَهُوَ لِآلِهَتِهِمْ، وَإِنْ ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، فالوصيلة بمعنى الموصولة كأنها وصلت بغيرها، ويجوز أن تكون بمعنى الواصلة لأنها وَصَلَتْ أَخَاهَا، وَأَمَّا الْحَامُ فَيُقَالُ: حَمَاهُ يَحْمِيهِ إِذَا حَفِظَهُ وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: الْفَحْلُ إِذَا رُكِبَ وَلَدُ وَلَدِهِ. قِيلَ: حَمَى ظَهْرَهُ أَيْ حَفِظَهُ عَنِ الرُّكُوبِ فَلَا يُرْكَبُ وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ مَاءٍ وَلَا مَرْعًى إِلَى أَنْ يَمُوتَ فَحِينَئِذٍ تَأْكُلُهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. وَثَانِيهَا: إِذَا نَتَجَتِ النَّاقَةُ عَشَرَةَ أَبْطُنٍ قَالُوا حَمَتْ ظَهْرَهَا حَكَاهُ أَبُو مُسْلِمٍ. وَثَالِثُهَا: الْحَامُ هُوَ الْفَحْلُ الَّذِي يَضْرِبُ فِي الْإِبِلِ عَشْرَ سِنِينَ فَيُخَلَّى، وَهُوَ مِنَ الْأَنْعَامِ الَّتِي حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا، وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ فَإِنْ قِيلَ: إِذَا جَازَ إِعْتَاقُ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ إِعْتَاقُ هَذِهِ الْبَهَائِمِ مِنَ الذَّبْحِ وَالْإِتْعَابِ وَالْإِيلَامِ. قُلْنَا: الْإِنْسَانُ مَخْلُوقٌ لِخِدْمَةِ اللَّه تَعَالَى وَعُبُودِيَّتِهِ، فَإِذَا تَمَرَّدَ عَنْ طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى عُوقِبَ بِضَرْبِ الرِّقِّ عَلَيْهِ، فَإِذَا أُزِيلَ الرِّقُّ عَنْهُ تَفَرَّغَ لِعِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى، فَكَانَ ذَلِكَ عِبَادَةً مُسْتَحْسَنَةً، وَأَمَّا هَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ فَإِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِمَنَافِعِ الْمُكَلَّفِينَ، فَتَرْكُهَا وَإِهْمَالُهَا يَقْتَضِي فَوَاتَ مَنْفَعَةٍ عَلَى مَالِكِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ فِي مُقَابَلَتِهَا فَائِدَةٌ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ، وَأَيْضًا الْإِنْسَانُ إِذَا كَانَ عَبْدًا فَأُعْتِقَ قَدَرَ عَلَى تَحْصِيلِ مَصَالِحِ نَفْسِهِ، وَأَمَّا الْبَهِيمَةُ إِذَا أُعْتِقَتْ وَتُرِكَتْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى رِعَايَةِ مَصَالِحِ نَفْسِهَا فَوَقَعَتْ فِي أَنْوَاعٍ مِنَ الْمِحْنَةِ أَشَدَّ وَأَشَقَّ مِمَّا كَانَتْ فِيهَا حَالَ مَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً فَظَهَرَ الْفَرْقُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ كَانَ قَدْ مَلَكَ مَكَّةَ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ، فَاتَّخَذَ الْأَصْنَامَ، وَنَصَبَ الْأَوْثَانَ، وَشَرَعَ الْبَحِيرَةَ والسابئة وَالْوَصِيلَةَ وَالْحَامَ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ يُؤْذِي أَهْلَ النار بريح قصبه» والقصب المعا وَجَمْعُهُ الْأَقْصَابُ، وَيُرْوَى يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يُرِيدُ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ وَأَصْحَابَهُ يَقُولُونَ عَلَى اللَّه هَذِهِ الْأَكَاذِيبَ وَالْأَبَاطِيلَ فِي تَحْرِيمِهِمْ هَذِهِ الْأَنْعَامَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الرُّؤَسَاءَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّه عَلَى الْكَذِبِ، فَأَمَّا الْأَتْبَاعُ وَالْعَوَامُّ فَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، فَلَا جَرَمَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّه هَذِهِ الْأَكَاذِيبَ مِنْ أُولَئِكَ الرؤساء ثم قال تعالى:

[سورة المائدة (5) : آية 104]

[سورة المائدة (5) : آية 104] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104) وَالْمَعْنَى مَعْلُومٌ وَهُوَ رَدٌّ عَلَى أَصْحَابِ التَّقْلِيدِ وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ وَاوُ الْحَالِ قَدْ دخلت عليها همزة الإنكار، وتقديره أحسبهم ذلك وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ إِنَّمَا يَجُوزُ بِالْعَالِمِ الْمُهْتَدِي، وَإِنَّمَا يَكُونُ عَالِمًا مُهْتَدِيًا إِذَا بَنَى قَوْلَهُ عَلَى الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا مُهْتَدِيًا، فَوَجَبَ أَنْ لا يجوز الاقتداء به. [سورة المائدة (5) : آية 105] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) قَوْلُهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَمَّا بَيَّنَ أَنْوَاعَ التَّكَالِيفِ وَالشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ ثُمَّ قَالَ: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ [المائدة: 99] إِلَى قَوْلِهِ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا [المائدة: 104] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالَ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ بَلْ بَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى جَهْلِهِمْ مُجِدِّينَ عَلَى جَهَالَاتِهِمْ وَضَلَالَتِهِمْ، فَلَا تُبَالُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِجَهَالَتِهِمْ وَضَلَالَتِهِمْ، بَلْ كُونُوا مُنْقَادِينَ لِتَكَالِيفِ اللَّه مُطِيعِينَ لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، فَلَا يَضُرُّكُمْ ضَلَالَتُهُمْ وَجَهَالَتُهُمْ، فَلِهَذَا قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أَيِ احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ مُلَابَسَةِ الْمَعَاصِي وَالْإِصْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ قَالَ النَّحْوِيُّونَ عَلَيْكَ وَعِنْدَكَ وَدُونَكَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ. تَقُولُ الْعَرَبُ: عَلَيْكَ وَعِنْدَكَ وَدُونَكَ، فَيُعَدُّونَهَا إِلَى الْمَفْعُولِ وَيُقِيمُونَهَا مُقَامَ الْفِعْلِ، وَيَنْصِبُونَ بِهَا، فَيُقَالُ: عليك زيدا كأنه قال: خُذْ زَيْدًا فَقَدْ عَلَاكَ، أَيْ أَشْرَفَ عَلَيْكَ، وَعِنْدَكَ زَيْدًا، أَيْ حَضَرَكَ فَخُذْهُ وَدُونَكَ، أَيْ قَرُبَ مِنْكَ فَخُذْهُ، فَهَذِهِ الْأَحْرُفُ الثَّلَاثَةُ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ فِي إِجَازَةِ النَّصْبِ بِهَا وَنَقَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ بِالرَّفْعِ عَنْ نَافِعٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: مَا رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ/ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَبِلَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْجِزْيَةَ وَلَمْ يَقْبَلْ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا الْإِسْلَامَ أَوِ السَّيْفَ، عَيَّرَ الْمُنَافِقُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ دُونَ الْبَعْضِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَيْ لَا يَضُرُّكُمْ مَلَامَةُ اللَّائِمِينَ إِذَا كُنْتُمْ عَلَى الْهُدَى، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِمْ بَقَاءُ الْكُفَّارِ فِي كُفْرِهِمْ وَضَلَالَتِهِمْ. فَقِيلَ لَهُمْ: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، وَمَا كُلِّفْتُمْ مِنْ إِصْلَاحِهَا وَالْمَشْيِ بِهَا فِي طَرِيقِ الْهُدَى لَا يَضُرُّكُمْ ضَلَالُ الضَّالِّينَ وَلَا جَهْلُ

الْجَاهِلِينَ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَغْتَمُّونَ لِعَشَائِرِهِمْ لَمَّا مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّهُ لَمَّا حَكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا [المائدة: 104] ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِهِمْ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الْفَاسِدَةِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا مُصِرِّينَ عَلَى دِينِهِمْ، وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُمْ جَهْلُ أُولَئِكَ الْجَاهِلِينَ إِذَا كَانُوا رَاسِخِينَ فِي دِينِهِمْ ثَابِتِينَ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يُوهِمُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ غَيْرُ وَاجِبٍ. قُلْنَا الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ تُوجِبُ أَنَّ الْمُطِيعَ لِرَبِّهِ لَا يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِذُنُوبِ الْعَاصِي، فَأَمَّا وُجُوبُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فَثَابِتٌ بِالدَّلَائِلِ، خَطَبَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ: إنكم تقرءون هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَضَعُونَهَا غَيْرَ مَوْضِعِهَا وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّه بِعِقَابٍ» . وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا قَوْلُهُ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يَكُونُ هَذَا فِي آخِرِ الزَّمَانِ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَمَّا قُرِئَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَ هَذَا بِزَمَانِهَا، مَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ وَاحِدَةً وَلَمْ تُلْبَسُوا شِيَعًا وَلَمْ يَذُقْ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَأْمُرُوا وَانْهَوْا فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْقُلُوبُ وَالْأَهْوَاءُ وَأُلْبِسْتُمْ شِيَعًا وَوُكِّلَ كُلُّ امْرِئٍ وَنَفْسَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ جَاءَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ، وهذا القول عندي ضعيف، لأن قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خِطَابٌ عَامٌّ، وَهُوَ أَيْضًا خِطَابٌ مَعَ الْحَاضِرِينَ فَكَيْفَ يُخْرِجُ الْحَاضِرَ وَيَخُصُّ الْغَائِبَ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّه بْنُ الْمُبَارَكِ فَقَالَ: هَذِهِ أَوْكَدُ آيَةٍ فِي وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فَإِنَّهُ قَالَ: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يَعْنِي عَلَيْكُمْ أَهْلَ دِينِكُمْ وَلَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ مِنَ الْكُفَّارِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 54] يَعْنِي أَهْلَ دِينِكُمْ فَقَوْلُهُ/ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يَعْنِي بِأَنْ يَعِظَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَيُرَغِّبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي الْخَيْرَاتِ، وَيُنَفِّرُهُ عَنِ الْقَبَائِحِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ ذَلِكَ مَا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ مَعْنَاهُ احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ فَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا بِأَنْ نَحْفَظَ أَنْفُسَنَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْحِفْظُ إِلَّا بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِالْكُفَّارِ الَّذِينَ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمُ الْوَعْظُ، وَلَا يَتْرُكُونَ الْكُفْرَ، بِسَبَبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، فههنا لَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا الْقَوْلَ مَا ذَكَرْنَا فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَنَّ الْآيَةَ نَازِلَةٌ فِي الْمُنَافِقِينَ، حَيْثُ عَيَّرُوا الْمُسْلِمِينَ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ الْمُشْرِكِينَ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْآيَةَ مخصوصة بالكفار بِمَا إِذَا خَافَ الْإِنْسَانُ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عرضه أو على ماله، فههنا عَلَيْهِ نَفْسُهُ لَا تَضُرُّهُ ضَلَالَةُ مَنْ ضَلَّ وَلَا جَهَالَةُ مَنْ جَهِلَ، وَكَانَ ابْنُ شُبْرُمَةَ يَقُولُ: مَنْ فَرَّ مِنِ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ وَمَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَمْ يَفِرَّ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: لَا يَضُرُّكُمْ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فَأَمَرْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَيْتُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ضَلَالُ مَنْ ضَلَّ فَلَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، فَإِنْ لَمْ

[سورة المائدة (5) : آية 106]

يَقْبَلُوا ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَسْتَوْحِشُوا مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّكُمْ خَرَجْتُمْ عَنْ عُهْدَةِ تَكْلِيفِكُمْ فَلَا يَضُرُّكُمْ ضَلَالُ غَيْرِكُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِرَسُولِهِ فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النِّسَاءِ: 84] وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ عَنِ الرَّسُولِ فَكَذَا هاهنا. المسألة الخامسة: قريء لَا يَضُرَّكُمْ بِفَتْحِ الرَّاءِ مَجْزُومًا عَلَى جَوَابِ قوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وقريء بِضَمِّ الرَّاءِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ أَيْ لَيْسَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ، وَالثَّانِي: أَنَّ حَقَّهَا الْفَتْحُ عَلَى الْجَوَابِ وَلَكِنْ ضُمَّتِ الرَّاءُ إِتْبَاعًا لِضَمَّةِ الضَّادِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً يُرِيدُ مَصِيرَكُمْ وَمَصِيرَ مَنْ خَالَفَكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يَعْنِي يجازيكم بأعمالكم. [سورة المائدة (5) : آية 106] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى: لَمَّا أَمَرَ بِحِفْظِ النَّفْسِ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [المائدة: 105] أمر بحفظ المال في قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ وَأَخَاهُ عَدِيًّا كَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ خَرَجَا إِلَى الشَّامِ وَمَعَهُمَا بَدِيلٌ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَكَانَ مُسْلِمًا مُهَاجِرًا، خَرَجُوا لِلتِّجَارَةِ فَلَمَّا قَدِمُوا الشَّامَ مَرِضَ بَدِيلٌ فَكَتَبَ كِتَابًا فِيهِ نُسْخَةُ جَمِيعِ مَا مَعَهُ وَأَلْقَاهُ فِيمَا بَيْنَ الْأَقْمِشَةِ وَلَمْ يُخْبِرْ صَاحِبَهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ أَوْصَى إِلَيْهِمَا وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَدْفَعَا مَتَاعَهُ إِذَا رَجَعَا إِلَى أَهْلِهِ، وَمَاتَ بَدِيلٌ فَأَخَذَا مِنْ مَتَاعِهِ إِنَاءً مِنْ فِضَّةٍ مَنْقُوشًا بِالذَّهَبِ ثَلَاثَمِائَةِ مِثْقَالٍ، وَدَفَعَا بَاقِيَ الْمَتَاعِ إِلَى أَهْلِهِ لَمَّا قَدِمَا، فَفَتَّشُوا فَوَجَدُوا الصَّحِيفَةَ، وَفِيهَا ذِكْرُ الْإِنَاءِ، فَقَالُوا لِتَمِيمٍ وَعَدِيٍّ: أَيْنَ الْإِنَاءُ؟ فَقَالَا لا ندري، والذي رفع إِلَيْنَا دَفَعْنَاهُ إِلَيْكُمْ، فَرَفَعُوا الْوَاقِعَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ شَهادَةُ بَيْنِكُمْ يَعْنِي شَهَادَةَ مَا بَيْنَكُمْ وَمَا بَيْنَكُمْ كِنَايَةٌ عَنِ التَّنَازُعِ وَالتَّشَاجُرِ، وَإِنَّمَا أَضَافَ الشَّهَادَةَ إِلَى التَّنَازُعِ لِأَنَّ الشُّهُودَ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِمْ عِنْدَ وُقُوعِ التَّنَازُعِ، وَحَذْفُ مَا مِنْ قَوْلِهِ شَهادَةُ بَيْنِكُمْ جَائِزٌ لِظُهُورِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الْكَهْفِ: 78] أَيْ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَقَوْلُهُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الْأَنْعَامِ: 94] فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ، وَقَوْلُهُ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ يَعْنِي الشَّهَادَةَ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهَا عند حضور الموت، وحين الْوَصِيَّةِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ لِأَنَّ زَمَانَ حُضُورِ الْمَوْتِ هُوَ زَمَانُ حُضُورِ الْوَصِيَّةِ، فَعُرِفَ ذَلِكَ الزَّمَانُ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْوَاقِعَيْنِ فِيهِ، كَمَا يُقَالُ: ائْتِنِي إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ حِينَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَالْمُرَادُ بِحُضُورِ الْمَوْتِ مُشَارَفَتُهُ وَظُهُورُ أَمَارَاتِ وُقُوعِهِ، كَقَوْلِهِ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ

الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ [الْبَقَرَةِ: 180] قَالُوا وَقَوْلُهُ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ زَمَانَ حُضُورِ الْمَوْتِ غَيْرَ زَمَانِ الْوَصِيَّةِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَا مُتَلَازِمَيْنِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ هذه الملازمة عند وجوب الوصية. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ حَذْفٌ، وَالْمُرَادُ أَنْ يَشْهَدَ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ، وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: شَهَادَةُ مَا بَيْنَكُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ الْمَوْصُوفِ، هِيَ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ، وَإِنَّمَا حَسُنَ هَذَا الْحَذْفُ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ مِنْكُمْ، عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ: اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ وَمِلَّتِكُمْ، وَقَوْلُهُ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ يَعْنِي أَوْ شَهَادَةَ آخَرَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِكُمْ وَمِلَّتِكُمْ إِذَا كُنْتُمْ فِي السَّفَرِ، فَالْعَدْلَانِ الْمُسْلِمَانِ صَالِحَانِ لِلشَّهَادَةِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَشُرَيْحٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَابْنِ جُرَيْجٍ. قَالُوا: إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ فِي الْغُرْبَةِ، وَلَمْ يَجِدْ مُسْلِمًا يُشْهِدُهُ عَلَى وَصِيَّتِهِ، جَازَ لَهُ أَنْ يُشْهِدَ الْيَهُودِيَّ أَوِ النَّصْرَانِيَّ أَوِ الْمَجُوسِيَّ أَوْ عَابِدَ الْوَثَنِ أَوْ أَيَّ كَافِرٍ كَانَ وَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ، وَلَا يَجُوزُ شَهَادَةُ الْكَافِرِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِلَّا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ قَالَ الشَّعْبِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: مَرِضَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْغُرْبَةِ، فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُشْهِدُهُ عَلَى وَصِيَّتِهِ، فَأَشْهَدَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَدِمَا الْكُوفَةَ وَأَتَيَا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، وَكَانَ وَالِيًا عليها فأخبراه بالواقعة وقد ما تَرِكَتَهُ وَوَصِيَّتَهُ. فَقَالَ أَبُو مُوسَى: هَذَا أَمْرٌ لم يكن بعد لذي كَانَ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثُمَّ حَلَّفَهُمَا فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، باللَّه أَنَّهُمَا مَا كَذَبَا وَلَا بَدَّلَا وَأَجَازَ شَهَادَتَهُمَا، ثُمَّ إِنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذَا الْحُكْمُ بَقِيَ مُحْكَمًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ صَارَ مَنْسُوخًا. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ قَوْلَهُ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَيْ مِنْ أَقَارِبِكُمْ وَقَوْلَهُ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أَيْ مِنَ الْأَجَانِبِ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أَيْ إِنْ تُوُقِّعَ الْمَوْتُ فِي السَّفَرِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَقَارِبِكُمْ، فَاسْتَشْهِدُوا أَجْنَبِيَّيْنِ عَلَى الْوَصِيَّةِ. وَجَعَلَ الْأَقَارِبَ أَوَّلًا لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِأَحْوَالِ الْمَيِّتِ وَهُمْ بِهِ أَشْفَقُ، وَبِوَرَثَتِهِ أَرْحَمُ وَأَرْأَفُ، وَاحْتَجَّ الذَّاهِبُونَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِوُجُوهٍ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أول الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فعم بِهَذَا الْخِطَابِ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا قَالَ بَعْدَهُ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ كَانَ الْمُرَادُ أَوْ آخَرَانِ مِنْ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ لَا مَحَالَةَ. الْحُجَّةُ الثانية: أنه قَالَ تَعَالَى: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ وَهَذَا يَدُلُّ/ عَلَى أَنَّ جَوَازَ الِاسْتِشْهَادِ بِهَذَيْنِ الْآخَرَيْنِ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِ الْمُسْتَشْهِدِ فِي السَّفَرِ، فَلَوْ كَانَ هَذَانِ الشَّاهِدَانِ مُسْلِمَيْنِ لَمَا كَانَ جَوَازُ الِاسْتِشْهَادِ بِهِمَا مَشْرُوطًا بِالسَّفَرِ، لِأَنَّ اسْتِشْهَادَ الْمُسْلِمِ جَائِزٌ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الْحَلِفِ عَلَى هَذَيْنِ الشَّاهِدَيْنِ مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ الْمُسْلِمَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَلِفُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَيْنِ الشَّاهِدَيْنِ لَيْسَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ شَهَادَةِ النَّصْرَانِيَّيْنِ عَلَى بَدِيلٍ وَكَانَ مُسْلِمًا.

الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: مَا رُوِّينَا أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ قَضَى بِشَهَادَةِ الْيَهُودِيَّيْنِ بَعْدَ أَنْ حَلَّفَهُمَا، وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّا إِنَّمَا نُجِيزُ إِشْهَادَ الْكَافِرِينَ إِذَا لَمْ نَجِدْ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالضَّرُورَاتُ قَدْ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى أَجَازَ التَّيَمُّمَ وَالْقَصْرَ فِي الصَّلَاةِ، وَالْإِفْطَارَ فِي رَمَضَانَ، وَأَكْلَ الْمَيْتَةِ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ حَاصِلَةٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا قَرُبَ أَجْلُهُ فِي الْغُرْبَةِ وَلَمْ يَجِدْ مُسْلِمًا يُشْهِدُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ تَكُنْ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ مَقْبُولَةً فَإِنَّهُ يُضَيِّعُ أَكْثَرَ مُهِمَّاتِهِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَوَاتٌ وَكَفَّارَاتٌ وَمَا أَدَّاهَا. وَرُبَّمَا كَانَ عِنْدَهُ وَدَائِعُ أَوْ دُيُونٌ كَانَتْ فِي ذِمَّتِهِ، وَكَمَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ النِّسَاءِ، كَالْحَيْضِ وَالْحَبَلِ وَالْوِلَادَةِ وَالِاسْتِهْلَالِ لِأَجْلِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ وُقُوفُ الرِّجَالِ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَاكْتَفَيْنَا فِيهَا بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، فَكَذَا هَاهُنَا. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ صَارَ مَنْسُوخًا فَبَعِيدٌ، لِاتِّفَاقِ أَكْثَرِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَالْكَافِرُ لَا يَكُونُ عَدْلًا. أَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْهُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعَدْلِ مَنْ كَانَ عَدْلًا فِي الِاحْتِرَازِ عَنِ الْكَذِبِ، لَا مَنْ كَانَ عَدْلًا فِي الدِّينِ وَالِاعْتِقَادِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، مَعَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا عُدُولًا فِي مَذَاهِبِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا عُدُولًا فِي الِاحْتِرَازِ عَنِ الْكَذِبِ قَبِلْنَا شَهَادَتَهُمْ، فَكَذَا هَاهُنَا سَلَّمْنَا أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ بِعَدْلٍ، إِلَّا أَنَّ قوله وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: 2] عَامٌّ، وَقَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ خَاصٌّ فَإِنَّهُ أَوْجَبَ شَهَادَةَ الْعَدْلِ الَّذِي يَكُونُ مِنَّا فِي الْحَضَرِ، وَاكْتَفَى بِشَهَادَةِ مَنْ لَا يَكُونُ/ مِنَّا فِي السَّفَرِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ، وَالْآيَةُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا عَامَّةٌ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْخَاصُّ مُتَأَخِّرًا فِي النُّزُولِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مُتَأَخِّرَةٌ، فَكَانَ تَقْدِيمُ هَذِهِ الْآيَةِ الْخَاصَّةِ عَلَى الْآيَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا وَاجِبًا بِالِاتِّفَاقِ واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ أَوْ آخَرانِ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ اثْنانِ وَالتَّقْدِيرُ: شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ جَوَازَ الِاسْتِشْهَادِ بِآخَرَيْنِ مِنْ غَيْرِهِمْ مَشْرُوطٌ بِمَا إِذَا كَانَ الْمُسْتَشْهِدُ مُسَافِرًا ضَارِبًا فِي الْأَرْضِ وَحَضَرَتْ عَلَامَاتُ نُزُولِ الْمَوْتِ بِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَحْبِسُونَهُمَا، أَيْ تُوقِفُونَهُمَا كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: مَرَّ بِي فُلَانٌ عَلَى فَرَسٍ فَحَبَسَ عَلَيَّ دَابَّتَهُ أَيْ أَوْقَفَهَا وَحَبَسْتُ الرَّجُلَ فِي الطَّرِيقِ أُكَلِّمُهُ أَيْ أَوْقَفْتُهُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا مَوْقِعُ تَحْبِسُونَهُمَا. قُلْنَا: هُوَ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّهُ قِيلَ كَيْفَ نَعْمَلُ إِنْ حَصَلَتِ الرِّيبَةُ فِيهِمَا فقيل تحبسونهما.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ أَهْلِ دِينِهِمَا، وَالثَّانِي: قَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعَصْرِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ عُرِفَ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ صَلَاةُ الْعَصْرِ، مَعَ أَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ الصَّلَاةُ الْمُطْلَقَةُ. قُلْنَا: إِنَّمَا عُرِفَ هَذَا التَّعْيِينُ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ بِالتَّحْلِيفِ بَعْدَهَا فَالتَّقْيِيدُ بِالْمَعْرُوفِ الْمَشْهُورِ أَغْنَى عَنِ التَّقْيِيدِ بِاللَّفْظِ، وَثَانِيهَا: مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ صلّى النبي (ص) صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَدَعَا بِعَدِيٍّ وَتَمِيمٍ، فَاسْتَحْلَفَهُمَا عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَصَارَ فِعْلُ الرَّسُولِ دَلِيلًا عَلَى التَّقْيِيدِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ يُعَظِّمُونَ هَذَا الْوَقْتَ وَيَذْكُرُونَ اللَّه فِيهِ وَيَحْتَرِزُونَ عَنِ الْحَلِفِ الْكَاذِبِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُصَلُّونَ لِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ بَعْدَ الظُّهْرِ أَوْ بَعْدَ الْعَصْرِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ كَانُوا يَقْعُدُونَ لِلْحُكُومَةِ بَعْدَهُمَا. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ بَعْدَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ أَيَّ صَلَاةٍ كَانَتْ وَالْغَرَضُ مِنَ التَّحْلِيفِ بَعْدَ/ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ هُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، فَكَانَ احْتِرَازُ الْحَالِفِ عَنِ الْكَذِبِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْأَيْمَانُ تُغَلَّظُ فِي الدِّمَاءِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَالْمَالِ إِذَا بَلَغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَيَحْلِفُ بَعْدَ الْعَصْرِ بِمَكَّةَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَبِالْمَدِينَةِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، وَفِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ فِي أَشْرَفِ الْمَسَاجِدِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: يَحْلِفُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْتَصَّ الْحَلِفُ بِزَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ، وَهَذَا عَلَى خِلَافِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّهْوِيلُ وَالتَّعْظِيمُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَقْوَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لِلْجَزَاءِ يَعْنِي: تَحْبِسُونَهُمَا فَيُقْدِمَانِ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْحَبْسِ عَلَى الْقَسَمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ إِنِ ارْتَبْتُمْ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: إِنِ ارْتَبْتُمْ فِي شَأْنِهِمَا وَاتَّهَمْتُمُوهُمَا فَحَلِّفُوهُمَا، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ مَنْ يَقُولُ الْآيَةُ نَازِلَةٌ فِي إِشْهَادِ الْكُفَّارِ، لِأَنَّ تَحْلِيفَ الشَّاهِدِ الْمُسْلِمِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَمَنْ قَالَ الْآيَةُ نَازِلَةٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ قَالَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَعَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يُحَلِّفُ الشَّاهِدَ وَالرَّاوِيَ عِنْدَ التُّهْمَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً يَعْنِي يُقْسِمَانِ باللَّه أَنَّا لَا نَبِيعُ عَهْدَ اللَّه بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا قَائِلِينَ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا [آلِ عِمْرَانَ: 77] أَيْ لَا نَأْخُذُ وَلَا نَسْتَبْدِلُ، وَمَنْ بَاعَ شَيْئًا فَقَدِ اشْتَرَى ثَمَنَهُ، وَقَوْلُهُ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى أَيْ لَا نَبِيعُ عَهْدَ اللَّه بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ حَبْوَةَ ذِي قُرْبَى أَوْ نَفْسِهِ، وَخَصَّ ذَا الْقُرْبَى بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْمَيْلَ إِلَيْهِمْ أَتَمُّ وَالْمُدَاهَنَةَ بِسَبَبِهِمْ أَعْظَمُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [النِّسَاءِ: 135] .

[سورة المائدة (5) : آية 107]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ وفيه مسألتان: الْأُولَى: هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً يَعْنِي أَنَّهُمَا يُقْسِمَانِ حَالَ مَا يَقُولَانِ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّه أَيِ الشَّهَادَةَ الَّتِي أَمَرَ اللَّه بِحِفْظِهَا وَإِظْهَارِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نُقِلَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى قَوْلِهِ شَهادَةُ ثُمَّ ابْتَدَأَ اللَّه بِالْمَدِّ عَلَى طَرْحِ حَرْفِ الْقَسَمِ. وَتَعْوِيضِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ مِنْهُ، وَرُوِيَ عَنْهُ بِغَيْرِ مَدٍّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ اللَّه لَقَدْ كَانَ كَذَا، وَالْمَعْنَى تاللَّه. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ يعني إذا كتمناها كنا من الآثمين. [سورة المائدة (5) : آية 107] فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً قَالَ اللَّيْثُ رَحِمَهُ اللَّه: عَثَرَ الرَّجُلُ يَعْثُرُ عُثُورًا إِذَا هَجَمَ عَلَى أَمْرٍ لَمْ يَهْجُمْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَأَعْثَرْتُ فُلَانًا عَلَى أَمْرِي أَيْ أَطْلَعْتُهُ عَلَيْهِ، وَعَثَرَ الرَّجُلُ يَعْثُرُ عَثْرَةً إِذَا وَقَعَ عَلَى شَيْءٍ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: وَأَصْلُ عَثَرَ بِمَعْنَى اطَّلَعَ مِنَ الْعَثْرَةِ الَّتِي هِيَ الْوُقُوعُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَاثِرَ إِنَّمَا يَعْثُرُ بِشَيْءٍ كَانَ لَا يَرَاهُ، فَلَمَّا عَثَرَ بِهِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ وَنَظَرَ مَا هُوَ، فَقِيلَ لِكُلِّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى أَمْرٍ كَانَ خَفِيًّا عَلَيْهِ قَدْ عَثَرَ عَلَيْهِ، وَأَعْثَرَ غَيْرَهُ إِذَا أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ [الْكَهْفِ: 21] أَيْ أَطْلَعْنَا، وَمَعْنَى الْآيَةِ فَإِنْ حَصَلَ الْعُثُورُ وَالْوُقُوفُ عَلَى أَنَّهُمَا أَتَيَا بِخِيَانَةٍ وَاسْتَحَقَّا الْإِثْمَ بِسَبَبِ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أن معنى الآية فإن عثر بعد ما حَلَفَ الْوَصِيَّانِ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا أَيْ حَنَثَا فِي الْيَمِينِ بِكَذِبٍ فِي قَوْلٍ أَوْ خِيَانَةٍ فِي مَالٍ قَامَ فِي الْيَمِينِ مَقَامَهُمَا رَجُلَانِ مِنْ قَرَابَةِ الْمَيِّتِ فَيَحْلِفَانِ باللَّه لَقَدْ ظَهَرْنَا عَلَى خِيَانَةِ الذِّمِّيَّيْنِ وَكَذِبِهِمَا وَتَبْدِيلِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا فِي ذَلِكَ وَمَا كَذَبْنَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ الْأُولَى صَلَّى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ وَدَعَا بِتَمِيمٍ وَعَدِيٍّ فَاسْتَحْلَفَهُمَا عِنْدَ الْمِنْبَرِ باللَّه الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنَّا خِيَانَةٌ فِي هَذَا الْمَالِ وَلَمَّا حَلَفَا خَلَّى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبِيلَهُمَا وكتما الإناء مدة ثم ظهروا وَاخْتَلَفُوا فَقِيلَ: وُجِدَ بِمَكَّةَ. وَقِيلَ: لَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ أَظْهَرَا الْإِنَاءَ فَبَلَغَ ذَلِكَ بَنِي سَهْمٍ فَطَالَبُوهُمَا فَقَالَا كُنَّا قَدِ اشْتَرَيْنَاهُ مِنْهُ فَقَالُوا أَلَمْ نَقُلْ لَكُمْ هَلْ بَاعَ صَاحِبُنَا شَيْئًا فَقُلْتُمَا لَا؟ فَقَالَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا بَيِّنَةٌ فَكَرِهْنَا أَنْ نُعْثَرَ فَكَتَمْنَا فَرَفَعُوا الْقِصَّةَ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: فَإِنْ عُثِرَ الْآيَةَ فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ/ وَالْمُطَّلِبُ بْنُ أَبِي رِفَاعَةَ السَّهْمِيَّانِ فَحَلَفَا باللَّه بَعْدَ الْعَصْرِ فَدَفَعَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِنَاءَ إِلَيْهِمَا وَإِلَى أَوْلِيَاءِ الميت. وكان تميم الداري يقول بعد ما أَسْلَمَ: صَدَقَ اللَّه وَرَسُولُهُ أَنَا أَخَذْتُ الْإِنَاءَ فَأَتُوبُ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بَقِيَتْ تِلْكَ الْوَاقِعَةُ مَخْفِيَّةً إِلَى أَنْ أَسْلَمَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ فَلَمَّا أَسْلَمَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ وَقَالَ: حَلَفْتُ كَاذِبًا وَأَنَا وَصَاحِبِي بِعْنَا الْإِنَاءَ بِأَلْفٍ وَقَسَمْنَا الثَّمَنَ. ثُمَّ دَفَعَ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ نَفْسِهِ وَنَزَعَ مِنْ صَاحِبِهِ خَمْسَمِائَةٍ أُخْرَى وَدَفَعَ الْأَلْفَ إِلَى مَوَالِي الْمَيِّتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما أَيْ مَقَامَ الشَّاهِدَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ غَيْرِ مِلَّتِهِمَا وَقَوْلُهُ مِنَ

[سورة المائدة (5) : آية 108]

الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ الْمُرَادُ بِهِ مَوَالِي الْمَيِّتِ، وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي أَنَّهُ لِمَ وَصَفَ مَوَالِيَ الْمَيِّتِ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا وُصِفُوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أُخِذَ مَالُهُمْ فَقَدِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ مَالُهُمْ فَإِنَّ مَنْ أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ فَقَدْ حَاوَلَ أَنْ يَكُونَ تَعَلُّقُهُ بِذَلِكَ الْمَالِ مُسْتَعْلِيًا عَلَى تَعَلُّقِ مَالِكِهِ بِهِ فَصَحَّ أَنْ يُوصَفَ الْمَالِكُ بِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَالُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَّا قَوْلُهُ الْأَوْلَيانِ فَفِيهِ وجوه: الأول: أن يكون خبر المبتدأ محذوف وَالتَّقْدِيرُ: هُمَا الْأَوْلَيَانِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَنْ هُمَا فَقِيلَ الْأَوْلَيَانِ: وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي يَقُومَانِ وَالتَّقْدِيرُ فَيَقُومُ الْأَوْلَيَانِ، وَالثَّالِثُ: أَجَازَ الْأَخْفَشُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ الْأَوْلَيانِ صِفَةً لِقَوْلِهِ فَآخَرانِ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّكِرَةَ إِذَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا ثُمَّ أُعِيدَ عَلَيْهَا الذِّكْرُ صَارَتْ مَعْرِفَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ [النُّورِ: 35] فَمِصْبَاحٌ نَكِرَةٌ ثُمَّ قَالَ الْمِصْباحُ ثُمَّ قَالَ فِي زُجاجَةٍ ثُمَّ قَالَ الزُّجاجَةُ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِكَ رَأَيْتُ رَجُلًا، ثُمَّ يَقُولُ إِنْسَانٌ مَنِ الرَّجُلُ، فَصَارَ بِالْعَوْدِ إِلَى ذِكْرِهِ مَعْرِفَةً. الرَّابِعُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ الْأَوْلَيانِ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ آخَرَانِ، وَإِبْدَالُ الْمَعْرِفَةِ مِنَ النَّكِرَةِ كَثِيرٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا وَصَفَهُمَا بِأَنَّهُمَا أَوْلَيَانِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَعْنَى الْأَوْلَيَانِ الْأَقْرَبَانِ إِلَى الْمَيِّتِ. الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْأَوْلَيَانِ بِالْيَمِينِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْوَصِيَّيْنِ قَدِ ادَّعَيَا أَنَّ الْمَيِّتَ بَاعَ الْإِنَاءَ الْفِضَّةَ فَانْتَقَلَ الْيَمِينُ إِلَى مَوَالِي الْمَيِّتِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّيْنِ قَدِ ادَّعَيَا أَنَّ مُورِثَهُمَا بَاعَ الْإِنَاءَ وَهُمَا أَنْكَرَا ذَلِكَ، فَكَانَ الْيَمِينُ حقا لهما، وهذا كما أَنَّ إِنْسَانًا أَقَرَّ لِآخَرَ بِدَيْنٍ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ قَضَاهُ حُكِمَ بِرَدِّ الْيَمِينِ إِلَى الَّذِي ادَّعَى الدَّيْنَ أَوَّلًا لِأَنَّهُ صَارَ مُدَّعًى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ لِلْجُمْهُورِ اسْتَحَقَّ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ، وَالْأَوْلَيَانِ تَثْنِيَةُ الْأَوْلَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَهُ وَقِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَعَاصِمٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الْأَوَّلِينَ بِالْجَمْعِ، وَهُوَ نَعْتٌ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ وَتَقْدِيرُهُ مِنَ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ مَالُهُمْ/ وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُمُ الْأَوَّلِينَ مِنْ حَيْثُ كَانُوا أَوَّلِينَ فِي الذِّكْرِ، ألا ترى أنه قد تقدم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ [المائدة: 106] وكذلك اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ [المائدة: 106] ذِكْرًا فِي اللَّفْظِ قَبْلَ قَوْلِهِ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ وَقَرَأَ حَفْصٌ وَحْدَهُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْحَاءِ الْأَوْلَيَانِ عَلَى التَّثْنِيَةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَصِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُمَا هُمَا أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمَا بِسَبَبِ أَنَّ الْمَيِّتَ عَيَّنَهُمَا لِلْوِصَايَةِ وَلَمَّا خَانَا فِي مَالِ الْوَرَثَةِ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْوَرَثَةَ قَدِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ أَيْ خَانَ فِي مَالِهِمُ الْأَوْلَيَانِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ الْأَوَّلَانِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ وَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ أَيْ وَمَا اعْتَدَيْنَا فِي طَلَبِ هَذَا الْمَالِ، وَفِي نِسْبَتِهِمْ إِلَى الْخِيَانَةِ. وَقَوْلُهُ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أَيْ إِنَّا إِذًا حَلَفْنَا مُوقِنِينَ بِالْكَذِبِ معتقدين الزور والباطل. [سورة المائدة (5) : آية 108] ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ

[سورة المائدة (5) : آية 109]

وَالْمَعْنَى ذَلِكَ الْحُكْمُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَالطَّرِيقُ الَّذِي شَرَعْنَاهُ أَقْرَبُ إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا، وَأَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ لَا عَلَى وَجْهِهَا، وَلَكِنَّهُمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى مَا ذَكَرُوهُ لِخَوْفِهِمْ مِنْ أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ عَلَى الْوَرَثَةِ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ، فَيَظْهَرُ كَذِبُهُمْ وَيَفْتَضِحُونَ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ وَالْمَعْنَى اتَّقُوا اللَّه أَنْ تَخُونُوا فِي الْأَمَانَاتِ وَاسْمَعُوا مَوَاعِظَ اللَّه أَيِ اعْمَلُوا بِهَا وَأَطِيعُوا اللَّه فِيهَا واللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ، وَهُوَ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لِمَنْ خَالَفَ حُكْمَ اللَّه وَأَوَامِرَهُ فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهَا فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ إِعْرَابًا وَنَظْمًا وَحُكْمًا، وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه فِي «الْبَسِيطِ» عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ أَعْضَلُ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَالْحُكْمُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْسُوخٌ عِنْدَ أكثر الفقهاء واللَّه أعلم بأسرار كلامه. [سورة المائدة (5) : آية 109] يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قالُوا لَا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ اعْلَمْ أَنَّ عَادَةَ اللَّه تَعَالَى جَارِيَةٌ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ أَنَّهُ إِذَا ذَكَرَ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الشَّرَائِعِ وَالتَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ، أَتْبَعَهَا إِمَّا بِالْإِلَهِيَّاتِ، وَإِمَّا بِشَرْحِ أَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ بِشَرْحِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ مُؤَكِّدًا لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ التَّكَالِيفِ وَالشَّرَائِعِ فَلَا جَرَمَ لَمَّا ذَكَرَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنْوَاعًا/ كَثِيرَةً مِنَ الشَّرَائِعِ أَتْبَعَهَا بِوَصْفِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ ذَكَرَ أَحْوَالَ عِيسَى. أَمَّا وَصْفُ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ فَهُوَ قَوْلُهُ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ تَقْدِيرُهُ: وَاتَّقُوا اللَّه يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّه الرُّسُلَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى الظَّرْفِ لِهَذَا الْفِعْلِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالتَّقْوَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَكِنْ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ. الثَّانِي: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: واللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّه الرُّسُلَ، أَيْ لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ [النِّسَاءِ: 168، 169] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُنْقَطِعَةٌ عَمَّا قبلها، وعلى هذا التقدير ففيه أيضا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّقْدِيرَ: اذْكُرْ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّه الرُّسُلَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّه الرُّسُلَ كَانَ كَيْتُ وَكَيْتُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَوْلُهُ مَاذَا مُنْتَصِبٌ بأجبتم انْتِصَابَ مَصْدَرِهِ عَلَى مَعْنَى أَيَّ إِجَابَةٍ أُجِبْتُمْ إِجَابَةُ إِنْكَارٍ أَمْ إِجَابَةُ إِقْرَارٍ. وَلَوْ أُرِيدَ الْجَوَابُ لَقِيلَ بِمَاذَا أُجِبْتُمْ. فَإِنْ قِيلَ: وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا السُّؤَالِ؟ قُلْنَا: تَوْبِيخُ قَوْمِهِمْ كما أن قوله وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التَّكْوِيرِ: 8، 9] الْمَقْصُودُ مِنْهُ توبيخ من فعل ذلك الفعل. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا لَا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَشْهَدُونَ لِأُمَمِهِمْ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاءِ: 41] مُشْكِلٌ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ

وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [الْبَقَرَةِ: 143] فَإِذَا كَانَتْ أُمَّتُنَا تَشْهَدُ لِسَائِرِ النَّاسِ فَالْأَنْبِيَاءُ أَوْلَى بِأَنْ يَشْهَدُوا لِأُمَمِهِمْ بِذَلِكَ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ لِلْقِيَامَةِ زَلَازِلَ وَأَهْوَالًا بِحَيْثُ/ تَزُولُ الْقُلُوبُ عَنْ مَوَاضِعِهَا عِنْدَ مُشَاهَدَتِهَا. فَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ تِلْكَ الْأَهْوَالِ يَنْسَوْنَ أَكْثَرَ الْأُمُورِ، فَهُنَالِكَ يَقُولُونَ لَا عِلْمَ لَنَا، فَإِذَا عَادَتْ قُلُوبُهُمْ إِلَيْهِمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَشْهَدُونَ لِلْأُمَمِ. وَهَذَا الْجَوَابُ وَإِنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمْعٌ عَظِيمٌ مِنَ الْأَكَابِرِ فَهُوَ عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ أَهْلِ الثَّوَابِ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الْأَنْبِيَاءِ: 103] وَقَالَ أَيْضًا وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عَبَسَ: 38، 39] بَلْ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الْبَقَرَةِ: 62] فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَوْ خَافُوا لَكَانُوا أَقَلَّ مَنْزِلَةً مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ الْبَتَّةَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي تَحْقِيقِ فَضِيحَتِهِمْ كَمَنْ يَقُولُ لِغَيْرِهِ مَا تَقُولُ فِي فُلَانٍ؟ فَيَقُولُ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الشَّهَادَةِ لِظُهُورِهِ، وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِقَوِيٍّ لِأَنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا وَقَعَ عَنْ كُلِّ الْأُمَّةِ وَكُلُّ الْأُمَّةِ مَا كَانُوا كَافِرِينَ حَتَّى تُرِيدَ الرُّسُلُ بِالنَّفْيِ تَبْكِيتَهُمْ وَفَضِيحَتَهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ إِنَّمَا قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا لِأَنَّكَ تَعْلَمُ مَا أَظْهَرُوا وَمَا أَضْمَرُوا وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ إِلَّا مَا أَظْهَرُوا فَعِلْمُكَ فِيهِمْ أَنْفَذُ مِنْ عِلْمِنَا. فَلِهَذَا الْمَعْنَى نَفَوُا الْعِلْمَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ عِلْمَهُمْ عِنْدَ اللَّه كَلَا عِلْمٍ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي الْجَوَابِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا، إِلَّا أَنَّ عَلِمْنَا جَوَابَهُمْ لَنَا وَقْتَ حَيَاتِنَا، وَلَا نَعْلَمُ مَا كَانَ مِنْهُمْ بَعْدَ وَفَاتِنَا. وَالْجَزَاءُ وَالثَّوَابُ إِنَّمَا يَحْصُلَانِ عَلَى الْخَاتِمَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا. فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا وَقَوْلُهُ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: وَهُوَ الَّذِي خَطَرَ بِبَالِي وَقْتَ الْكِتَابَةِ، أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْعِلْمَ غَيْرٌ وَالظَّنَّ غَيْرٌ وَالْحَاصِلُ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ حَالِ الْغَيْرِ إِنَّمَا هُوَ الظَّنُّ لَا الْعِلْمُ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ واللَّه يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّكُمْ لَتَخْتَصِمُونَ لَدَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ فَمَنْ حَكَمْتُ لَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ فَكَأَنَّمَا قَطَعْتُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» أَوْ لَفْظٌ هَذَا مَعْنَاهُ. فَالْأَنْبِيَاءُ قَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا الْبَتَّةَ بِأَحْوَالِهِمْ، إِنَّمَا الْحَاصِلُ عِنْدَنَا مِنْ أَحْوَالِهِمْ هُوَ الظَّنُّ، وَالظَّنُّ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى الظَّنِّ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَلَا الْتِفَاتَ فِيهَا إِلَى الظَّنِّ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ فِي الْآخِرَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَبَوَاطِنِ الْأُمُورِ. فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا وَلَمْ يَذْكُرُوا الْبَتَّةَ مَا مَعَهُمْ مِنَ الظَّنِّ لِأَنَّ الظَّنَّ لَا عِبْرَةَ بِهِ فِي الْقِيَامَةِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُمْ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَالِمٌ لَا يَجْهَلُ، حَكِيمٌ لَا يَسْفَهُ، عَادِلٌ لَا يَظْلِمُ، / عَلِمُوا أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا يُفِيدُ خَيْرًا، وَلَا يَدْفَعُ شَرًّا فَرَأَوْا أَنَّ الْأَدَبَ فِي السُّكُوتِ، وَفِي تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَى عَدْلِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ الَّذِي لَا يَمُوتُ.

[سورة المائدة (5) : آية 110]

المسألة الرابعة: قريء عَلَّامُ الْغُيُوبِ بِالنَّصْبِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ الْكَلَامَ قَدْ تَمَّ بِقَوْلِهِ إِنَّكَ أَنْتَ أَيْ أَنْتَ الْمَوْصُوفُ بِأَوْصَافِكَ الْمَعْرُوفَةِ، مِنَ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ. ثُمَّ نَصَبَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أو على النداء، أو وصفا لا سم إِنَّ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْعَلَّامِ عَلَيْهِ، كَمَا جَازَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْخَلَّاقِ عَلَيْهِ. أَمَّا الْعَلَّامَةُ فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهَا فِي حَقِّهِ وَلَعَلَّ السَّبَبَ مَا فِيهِ مِنْ لَفْظِ التَّأْنِيثِ. [سورة المائدة (5) : آية 110] إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى لِلرُّسُلِ مَاذَا أُجِبْتُمْ [المائدة: 109] تَوْبِيخُ مَنْ تَمَرَّدَ مِنْ أُمَمِهِمْ وَأَشَدُّ الْأُمَمِ افْتِقَارًا إِلَى التَّوْبِيخِ وَالْمَلَامَةِ النَّصَارَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَتْبَاعُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ طَعْنَ سَائِرِ الْأُمَمِ كَانَ مَقْصُورًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَطَعْنَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاعِينِ تَعَدَّى إِلَى جَلَالِ اللَّه وَكِبْرِيَائِهِ حَيْثُ وَصَفُوهُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِعَاقِلٍ أَنْ يَصِفَ الْإِلَهَ بِهِ، وَهُوَ اتِّخَاذُ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ يُعَدِّدُ أَنْوَاعَ نِعَمِهِ عَلَى عِيسَى بِحَضْرَةِ الرُّسُلِ وَاحِدَةً فَوَاحِدَةً وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَوْبِيخُ النَّصَارَى وَتَقْرِيعُهُمْ عَلَى سُوءِ مَقَالَتِهِمْ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ النعم المعدودة عَلَى عِيسَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَبْدٌ وَلَيْسَ بِإِلَهٍ. وَالْفَائِدَةُ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ تَنْبِيهُ النَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قُبْحِ مَقَالَتِهِمْ وَرَكَاكَةِ مَذْهَبِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَوْضِعُ إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفْعًا بِالِابْتِدَاءِ عَلَى مَعْنَى ذَاكَ إِذْ قَالَ اللَّه، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى اذْكُرْ إِذْ قَالَ اللَّه. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: خَرَجَ قَوْلُهُ إِذْ قالَ اللَّهُ عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الدَّلَالَةُ عَلَى قُرْبِ الْقِيَامَةِ حَتَّى كَأَنَّهَا قَدْ قَامَتْ وَوَقَعَتْ وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ وَيُقَالُ: الْجَيْشُ قَدْ أَتَى، إِذَا قَرُبَ إِتْيَانُهُمْ. قَالَ اللَّه تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْلِ: 1] الثَّانِي: أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ كَأَنَّكَ بِنَا وَقَدْ دَخَلْنَا بَلْدَةَ كَذَا فَصَنَعْنَا فِيهَا كَذَا إِذْ صَاحَ صَائِحٌ فَتَرَكْتَنِي وَأَجَبْتَهُ. وَنَظِيرُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ [سَبَأٍ: 51] وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ [الْأَنْفَالِ: 50] وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ [سَبَأٍ: 31] وَالْوَجْهُ فِي كُلِّ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا ذَكَرْنَاهُ، مِنْ أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى/ سبيل الحكاية عن الحال. المسألة الرابعة: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (عِيسَى) فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ لِأَنَّهُ مُنَادَى مُفْرَدٌ وُصِفَ بِمُضَافٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ لِأَنَّهُ فِي نِيَّةِ الْإِضَافَةِ ثُمَّ جُعِلَ الِابْنُ تَوْكِيدًا وَكُلُّ مَا كَانَ مِثْلَ هَذَا جَازَ

فِيهِ وَجْهَانِ نَحْوَ يَا زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو، وَأَنْشَدَ النَّحْوِيُّونَ: يَا حَكَمُ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودِ بِرَفْعِ الْأَوَّلِ وَنَصْبِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ نِعْمَتِي عَلَيْكَ أَرَادَ الْجَمْعَ كَقَوْلِهِ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [النَّحْلِ: 18] وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُضَافٌ يَصْلُحُ لِلْجِنْسِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى فَسَّرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ بِأُمُورٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: رُوحُ الْقُدُسِ هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، الرُّوحُ جِبْرِيلُ وَالْقُدُسُ هُوَ اللَّه تَعَالَى، كَأَنَّهُ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ تَعْظِيمًا لَهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْأَرْوَاحَ مُخْتَلِفَةٌ بِالْمَاهِيَّةِ فَمِنْهَا طَاهِرَةٌ نُورَانِيَّةٌ وَمِنْهَا خَبِيثَةٌ ظَلْمَانِيَّةٌ، وَمِنْهَا مُشْرِقَةٌ، وَمِنْهَا كَدِرَةٌ، وَمِنْهَا خَيِّرَةٌ، وَمِنْهَا نَذْلَةٌ وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ» فاللَّه تَعَالَى خَصَّ عِيسَى بِالرُّوحِ الطَّاهِرَةِ النُّورَانِيَّةِ الْمُشْرِقَةِ الْعُلْوِيَّةِ الْخَيِّرَةِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ تَأْيِيدَ عِيسَى إِنَّمَا حَصَلَ مِنْ جِبْرِيلَ أَوْ بِسَبَبِ رُوحِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، قَدَحَ هَذَا فِي دَلَالَةِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ لِأَنَّا قَبْلَ الْعِلْمِ بِعِصْمَةِ جِبْرِيلَ نُجَوِّزُ أَنَّهُ أَعَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى ذَلِكَ، عَلَى سَبِيلِ إِغْوَاءِ الْخَلْقِ وَإِضْلَالِهِمْ فَمَا لَمْ تُعْرَفْ عِصْمَةُ جِبْرِيلَ لَا يَنْدَفِعُ هَذَا وَمَا لَمْ تُعْرَفْ نُبُوَّةُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا تُعْرَفُ عِصْمَةُ جِبْرِيلَ، فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ وَجَوَابُهُ: مَا ثَبَتَ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْخَالِقَ لَيْسَ إِلَّا اللَّه وَبِهِ يَنْدَفِعُ هَذَا السُّؤَالُ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا أَمَّا كَلَامُ عِيسَى فِي الْمَهْدِ فَهُوَ قَوْلُهُ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ [مَرْيَمَ: 30] وَقَوْلُهُ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: يُكَلِّمُهُمْ طِفْلًا وَكَهْلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَفَاوَتَ كَلَامُهُ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَهَذِهِ خَاصِّيَّةٌ شَرِيفَةٌ كَانَتْ حَاصِلَةً لَهُ وَمَا حَصَلَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَفِي الْكِتابَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ بِهِ الْكِتَابَةُ وَهِيَ الْخَطُّ. وَالثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهُ جِنْسُ الْكُتُبِ. فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَتَعَلَّمُ أَوَّلًا كُتُبًا سَهْلَةً مُخْتَصَرَةً، ثُمَّ يَتَرَقَّى مِنْهَا إِلَى الْكُتُبِ الشَّرِيفَةِ. وَأَمَّا الْحِكْمَةَ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ، وَالْعُلُومِ الْعَمَلِيَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: / الْأَوَّلُ: أَنَّهُمَا خُصَّا بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذِكْرِ الْكُتُبِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ كَقَوْلِهِ حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [الْبَقَرَةِ: 238] وَقَوْلِهِ وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الْأَحْزَابِ: 7] وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَقْوَى أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى أَسْرَارِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ صَارَ بَانِيًا فِي أَصْنَافِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَبْحَثُ عَنْهَا الْعُلَمَاءُ. فَقَوْلُهُ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَسْرَارِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا أَحَدٌ إِلَّا أَكَابِرُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ والسلام. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ فَتَكُونُ طَائِرًا وَالْبَاقُونَ طَيْراً بِغَيْرِ أَلِفٍ وَطَيْرٌ جَمْعُ طَائِرٍ كَضَأْنٍ وَضَائِنٍ وَرَكْبٍ وَرَاكِبٍ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَاهُنَا فَتَنْفُخُ فِيها وَذَكَرَ فِي آلِ عِمْرَانَ فَأَنْفُخُ فِيهِ [آل عمران: 49] . وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أَيْ هَيْئَةٌ مِثْلُ هَيْئَةِ الطَّيْرِ فَقَوْلُهُ فَتَنْفُخُ فِيها الضَّمِيرُ لِلْكَافِ، لِأَنَّهَا صِفَةُ الْهَيْئَةِ الَّتِي كَانَ يَخْلُقُهَا عِيسَى وَيَنْفُخُ فِيهَا وَلَا يَرْجِعُ إِلَى الْهَيْئَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا نَفْخِهِ فِي شَيْءٍ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْكَافُ تُؤَنَّثُ بِحَسَبَ الْمَعْنَى لِدَلَالَتِهَا عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي هِيَ مِثْلُ هَيْئَةِ الطَّيْرِ وَتُذَكَّرُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَقَعَ الضَّمِيرُ عَنْهَا تَارَةً عَلَى وَجْهِ التَّذْكِيرِ وَأُخْرَى عَلَى وَجْهِ التَّأْنِيثِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى اعْتَبَرَ الْإِذْنَ فِي خَلْقِ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، وَفِي صَيْرُورَتِهِ ذَلِكَ الشَّيْءَ طَيْرًا. وَإِنَّمَا أَعَادَ قَوْلَهُ بِإِذْنِي تَأْكِيدًا لِكَوْنِ ذَلِكَ وَاقِعًا بِقُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَتَخْلِيقِهِ لَا بِقُدْرَةِ عِيسَى وَإِيجَادِهِ. وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ مَعْرُوفٌ وَقَالَ الْخَلِيلِيُّ الْأَكْمَهُ مَنْ وُلِدَ أَعْمَى وَالْأَعْمَى مَنْ وُلِدَ بَصِيرًا ثُمَّ عَمِيَ. وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي أَيْ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً/ بِإِذْنِي أَيْ بِفِعْلِي ذَلِكَ عِنْدَ دُعَائِكَ، وَعِنْدَ قَوْلِكَ لِلْمَيِّتِ اخْرُجْ بِإِذْنِ اللَّه مِنْ قَبْرِكَ، وَذِكْرُ الْإِذْنِ فِي هَذِهِ الْأَفَاعِيلِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَعْنَى إِضَافَةِ حَقِيقَةِ الْفِعْلِ إِلَى اللَّه تَعَالَى كَقَوْلِهِ وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 145] أي إلا بخلق اللَّه الموت فيها. وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ جِنْسَ الْبَيِّنَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَظْهَرَ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الْعَجِيبَةَ قَصَدَ الْيَهُودُ قَتْلَهُ فَخَلَّصَهُ اللَّه تَعَالَى مِنْهُمْ حَيْثُ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ سَاحِرٌ بِالْأَلِفِ وَكَذَلِكَ فِي يُونُسَ وَهُودٍ وَالصَّفِّ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ فِي يُونُسَ بِالْأَلِفِ فَقَطْ وَالْبَاقُونَ سِحْرٌ فَمَنْ قَرَأَ سَاحِرٌ أَشَارَ إِلَى الرَّجُلِ وَمَنْ قَرَأَ سِحْرٌ أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ. وَكِلَاهُمَا حَسَنٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: وَالِاخْتِيَارُ سِحْرٌ لِجَوَازِ وُقُوعِهِ عَلَى الْحَدَثِ وَالشَّخْصِ، أَمَّا وُقُوعُهُ عَلَى الْحَدَثِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا وُقُوعُهُ عَلَى الشَّخْصِ، فَتَقُولُ: هَذَا سِحْرٌ وَتُرِيدُ بِهِ ذُو سِحْرٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ [الْبَقَرَةِ: 177] أَيْ ذَا الْبِرِّ قَالَ الشَّاعِرُ: فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى شَرَعَ هَاهُنَا فِي تَعْدِيدِ نِعَمِهِ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْلُ الْكُفَّارِ فِي حَقِّهِ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ لَيْسَ مِنَ النِّعَمِ، فَكَيْفَ ذَكَرَهُ هَاهُنَا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ مِنَ الْأَمْثَالِ الْمَشْهُورَةِ- أَنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ- وَطَعْنُ الْكُفَّارِ فِي عِيسَى عَلَيْهِ/ السَّلَامُ

[سورة المائدة (5) : آية 111]

بِهَذَا الْكَلَامِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِعَمَ اللَّه فِي حَقِّهِ كَانَتْ عَظِيمَةً فَحَسُنَ ذِكْرُهُ عِنْدَ تعديد النعم للوجه الذي ذكرناه. [سورة المائدة (5) : آية 111] وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْوَحْيِ. فَمَنْ قَالَ إِنَّهُمْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ قَالَ ذَلِكَ الْوَحْيُ هُوَ الْوَحْيُ الَّذِي يُوحَى إِلَى الْأَنْبِيَاءِ. وَمَنْ قَالَ إِنَّهُمْ مَا كَانُوا أَنْبِيَاءَ قال المراد بذلك الوحي الإلهام وَالْإِلْقَاءُ فِي الْقَلْبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [الْقَصَصِ: 7] وَقَوْلِهِ وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النَّحْلِ: 68] وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا فِي مَعْرِضِ تَعْدِيدِ النِّعَمِ لِأَنَّ صَيْرُورَةَ الْإِنْسَانِ مَقْبُولَ الْقَوْلِ عِنْدَ النَّاسِ مَحْبُوبًا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّه عَلَى الْإِنْسَانِ. وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمَّا أَلْقَى ذَلِكَ الْوَحْيَ فِي قُلُوبِهِمْ، آمَنُوا وَأَسْلَمُوا وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ الْإِيمَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ صِفَةُ الْقَلْبِ وَالْإِسْلَامَ عِبَارَةٌ عَنِ الِانْقِيَادِ وَالْخُضُوعِ فِي الظَّاهِرِ، يَعْنِي آمَنُوا بِقُلُوبِهِمْ وَانْقَادُوا بِظَوَاهِرِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ [المائدة: 110] ثُمَّ إِنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى مِنَ النِّعَمِ مُخْتَصٌّ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ لِأُمِّهِ بِشَيْءٍ مِنْهَا تَعَلُّقٌ. قُلْنَا: كُلُّ مَا حَصَلَ لِلْوَلَدِ مِنَ النِّعَمِ الْجَلِيلَةِ وَالدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ فَهُوَ حَاصِلٌ عَلَى سَبِيلِ الضِّمْنِ وَالتَّبَعِ لِلْأُمِّ. وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [الْمُؤْمِنُونَ: 50] فَجَعَلَهُمَا مَعًا آيَةً وَاحِدَةً لِشِدَّةِ اتِّصَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لما قال لعيسى اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ [المائدة: 110] كَانَ يَلْبَسُ الشَّعْرَ وَيَأْكُلُ الشَّجَرَ، وَلَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ وَيَقُولُ مَعَ كُلِّ يَوْمٍ رِزْقُهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْتٌ فَيَخْرَبُ، وَلَا ولد فيموت، أينما أمسى بات. [سورة المائدة (5) : آية 112] إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) [في قوله تعالى إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ] فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ إِذْ قالَ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ الثَّانِي: اذْكُرْ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ هَلْ تَسْتَطِيعُ بِالتَّاءِ رَبَّكَ بِالنَّصْبِ/ وَبِإِدْغَامِ اللَّامِ فِي التَّاءِ، وَسَبَبُ الْإِدْغَامِ أَنَّ اللَّامَ قَرِيبُ الْمَخْرَجِ مِنَ التَّاءِ لِأَنَّهُمَا مِنْ حُرُوفِ طَرَفِ اللِّسَانِ وَأُصُولِ الثَّنَايَا وَبِحَسَبَ قُرْبِ الْحَرْفِ مِنَ الْحَرْفِ يَحْسُنُ الْإِدْغَامُ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كَانُوا أَعْلَمَ باللَّه مِنْ أَنْ يَقُولُوا هَلْ يَسْتَطِيعُ وَإِنَّمَا قَالُوا هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْأَلَ رَبَّكَ. وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تَسْتَطِيعُ بِالتَّاءِ رَبَّكَ بِالنَّصْبِ وَالْبَاقُونَ يَسْتَطِيعُ بِالْيَاءِ رَبُّكَ بِرَفْعِ الْبَاءِ وبالإظهار فأما القراءة الأولى فمعناها: هل تسطيع سُؤَالَ رَبِّكَ؟ قَالُوا وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَوْلَى مِنَ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ تُوجِبُ شَكَّهُمْ فِي اسْتِطَاعَةِ عِيسَى، وَالثَّانِيَةُ تُوجِبُ شَكَّهُمْ فِي اسْتِطَاعَةِ اللَّه، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأُولَى أَوْلَى،

وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ فَفِيهَا إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ [المائدة: 111] وَبَعْدَ الْإِيمَانِ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ بَقُوا شَاكِّينَ فِي اقْتِدَارِ اللَّه تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى مَا وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ بَلْ حَكَى عَنْهُمُ ادِّعَاءَهُمْ لَهُمَا ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْهُمْ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا شَاكِّينَ مُتَوَقِّفِينَ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَصْدُرُ عَمَّنْ كَانَ كَامِلًا فِي الْإِيمَانِ وَقَالُوا: وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَرَضٍ فِي الْقَلْبِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمْ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا كَامِلِينَ فِي الْإِيمَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنَّهُمْ طَلَبُوا هَذِهِ الْآيَةَ لِيَحْصُلَ لَهُمْ مَزِيدُ الطُّمَأْنِينَةِ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] فَإِنَّ مُشَاهَدَةَ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ لَا شَكَّ أَنَّهَا تُورِثُ الطُّمَأْنِينَةَ وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالُوا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ اسْتِفْهَامُ أَنَّ ذَلِكَ هَلْ هُوَ جَائِزٌ فِي الْحِكْمَةِ أَمْ لَا وَذَلِكَ لِأَنَّ أَفْعَالَ اللَّه تَعَالَى لَمَّا كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى رِعَايَةِ وُجُوهِ الْحِكْمَةِ فَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَحْصُلُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ وُجُوهِ الْحِكْمَةِ يَكُونُ الْفِعْلُ مُمْتَنِعًا فَإِنَّ الْمُنَافِيَ مِنْ جِهَةِ الْحِكْمَةِ كَالْمُنَافِي مِنْ جِهَةِ الْقُدْرَةِ، وَهَذَا الْجَوَابُ يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى هَلْ قَضَى بِذَلِكَ وَهَلْ عَلِمَ وُقُوعَهُ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْضِ بِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ وُقُوعَهُ كَانَ ذَلِكَ مُحَالًا غَيْرَ مَقْدُورٍ لِأَنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ غَيْرُ مَقْدُورٍ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَالَ السُّدِّيُّ: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَيْ هَلْ يُطِيعُكَ رَبُّكَ إِنْ سَأَلْتَهُ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ اسْتَطَاعَ بِمَعْنَى أطاع والسين زائدة. والوجه الْخَامِسُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ بِالرَّبِّ: هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ كَانَ يُرَبِّيهِ وَيَخُصُّهُ بِأَنْوَاعِ/ الْإِعَانَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْآيَةِ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ [المائدة: 110] يَعْنِي أَنَّكَ تَدَّعِي أَنَّهُ يُرَبِّيكَ وَيَخُصُّكَ بِأَنْوَاعِ الْكَرَامَةِ، فَهَلْ يَقْدِرُ عَلَى إِنْزَالِ مَائِدَةٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْكَ. وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ كَوْنَهُمْ شَاكِّينَ فِيهِ بَلِ الْمَقْصُودُ تَقْرِيرُ أَنَّ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ كَمَنْ يَأْخُذُ بِيَدِ ضَعِيفٍ وَيَقُولُ هَلْ يَقْدِرُ السُّلْطَانُ عَلَى إِشْبَاعِ هَذَا وَيَكُونُ غَرَضُهُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ جَلِيٌّ وَاضِحٌ، لَا يَجُوزُ لِعَاقِلٍ أَنْ يَشُكَّ فِيهِ، فَكَذَا هَاهُنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَائِدَةُ فَاعِلَةٌ مِنْ مَادَ يَمِيدُ، إِذَا تَحَرَّكَ فَكَأَنَّهَا تَمِيدُ بِمَا عَلَيْهَا وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ سُمِّيَتْ مَائِدَةً لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: مَادَ فُلَانٌ فُلَانًا يَمِيدُهُ مَيْدًا إِذَا أَحْسَنَ إِلَيْهِ، فَالْمَائِدَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَاعِلَةٌ مِنَ الْمَيْدِ بِمَعْنَى مُعْطِيَةٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَائِدَةُ فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ مِثْلُ عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ، وَأَصْلُهَا مُمِيدَةٌ مِيدَ بِهَا صَاحِبُهَا، أَيْ أُعْطِيهَا وَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِهَا، وَالْعَرَبُ تَقُولُ مَادَنِي فُلَانٌ يَمِيدُنِي إِذَا أَحْسَنَ إِلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ عِيسَى اتَّقُوا اللَّه فِي تَعْيِينِ الْمُعْجِزَةِ، فَإِنَّهُ جَارٍ مَجْرَى التَّعَنُّتِ وَالتَّحَكُّمِ، وَهَذَا مِنَ الْعَبْدِ فِي حَضْرَةِ الرَّبِّ جُرْمٌ عَظِيمٌ، وَلِأَنَّهُ أَيْضًا اقْتِرَاحُ مُعْجِزَةٍ بَعْدَ تَقَدُّمِ مُعْجِزَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَهُوَ جُرْمٌ عَظِيمٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى لِتَصِيرَ التَّقْوَى سَبَبًا لحصول هذا

[سورة المائدة (5) : آية 113]

الْمَطْلُوبِ، كَمَا قَالَ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3] وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [الْمَائِدَةِ: 35] وَقَوْلُهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يَعْنِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِكَوْنِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَادِرًا عَلَى إِنْزَالِ الْمَائِدَةِ فَاتَّقُوا اللَّه لِتَصِيرَ تقواكم وسيلة إلى حصول هذا المطلوب. ثم قال تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 113] قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) وَالْمَعْنَى كَأَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا ذَلِكَ قَالَ عِيسَى لَهُمْ: إِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَتِ الْمُعْجِزَاتُ الْكَثِيرَةُ فَاتَّقُوا اللَّه فِي طَلَبِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ بَعْدَ تَقَدُّمِ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ، فَأَجَابُوا وَقَالُوا إِنَّا لَا نَطْلُبُ هَذِهِ الْمَائِدَةَ لِمُجَرَّدِ أَنْ/ تَكُونَ مُعْجِزَةً بَلْ لِمَجْمُوعِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا فَإِنَّ الْجُوعَ قَدْ غَلَبَنَا وَلَا نَجِدُ طَعَامًا آخَرَ، وَثَانِيهَا: أَنَّا وَإِنْ عَلِمْنَا قُدْرَةَ اللَّه تَعَالَى بِالدَّلِيلِ، وَلَكِنَّا إِذَا شَاهَدْنَا نُزُولَ هَذِهِ الْمَائِدَةِ ازْدَادَ الْيَقِينُ وَقَوِيَتِ الطُّمَأْنِينَةُ، وَثَالِثُهَا: أَنَّا وَإِنْ عَلِمْنَا بِسَائِرِ المعجزات صدقك، ولكن إِذَا شَاهَدْنَا هَذِهِ الْمُعْجِزَةَ ازْدَادَ الْيَقِينُ وَالْعِرْفَانُ وَتَأَكَّدَتِ الطُّمَأْنِينَةُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَوْرَدْتَهَا كَانَتْ مُعْجِزَاتٍ أَرْضِيَّةً، وَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ سَمَاوِيَّةٌ وَهِيَ أَعْجَبُ وَأَعْظَمُ، فَإِذَا شَاهَدْنَاهَا كُنَّا عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ، نَشْهَدُ عَلَيْهَا عِنْدَ الَّذِينَ لَمْ يَحْضُرُوهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَنَكُونُ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ للَّه بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَلَكَ بِالنُّبُوَّةِ. ثم قال تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 114] قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمَّا الْكَلَامُ فِي اللَّهُمَّ فَقَدْ تَقَدَّمَ بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي قَوْلِهِ قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ [آلِ عِمْرَانَ: 26] فَقَوْلُهُ اللَّهُمَّ نِدَاءٌ، وَقَوْلُهُ رَبَّنا نِدَاءٌ ثَانٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَكُونُ لَنا صِفَةٌ لِلْمَائِدَةِ وَلَيْسَ بِجَوَابٍ لِلْأَمْرِ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّه تَكُنْ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ جَوَابَ الْأَمْرِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَمَا كَانَ مِنْ نَكِرَةٍ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهَا أَمْرٌ جَازَ فِي الْفِعْلِ بَعْدَهُ الْجَزْمُ وَالرَّفْعُ، وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي [مَرْيَمَ: 5- 6] بِالْجَزْمِ وَالرَّفْعِ فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي [الْقَصَصِ: 34] بِالْجَزْمِ وَالرَّفْعِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا أَيْ نَتَّخِذُ الْيَوْمَ الَّذِي تَنْزِلُ فِيهِ الْمَائِدَةُ عِيدًا نُعَظِّمُهُ نَحْنُ وَمَنْ يَأْتِي بَعْدَنَا، وَنَزَلَتْ يَوْمَ الْأَحَدِ فَاتَّخَذَهُ النَّصَارَى عِيدًا، وَالْعِيدُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا عَادَ إِلَيْكَ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ عَادَ يَعُودُ فَأَصْلُهُ هُوَ الْعَوْدُ، فَسُمِّيَ الْعِيدُ عِيدًا لِأَنَّهُ يَعُودُ كُلَّ سَنَةٍ بِفَرَحٍ جَدِيدٍ، وَقَوْلُهُ وَآيَةً مِنْكَ أَيْ دَلَالَةً عَلَى تَوْحِيدِكَ وَصِحَّةِ نُبُوَّةِ رَسُولِكَ وَارْزُقْنا أَيْ وَارْزُقْنَا طَعَامًا نَأْكُلُهُ وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَأَمَّلْ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ فَإِنَّ الْحَوَارِيِّينَ لَمَّا سَأَلُوا الْمَائِدَةَ ذَكَرُوا فِي طَلَبِهَا أَغْرَاضًا، فَقَدَّمُوا ذِكْرَ الْأَكْلِ فَقَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها [المائدة: 113] وَأَخَّرُوا الْأَغْرَاضَ الدِّينِيَّةَ الرُّوحَانِيَّةَ، فَأَمَّا عِيسَى فَإِنَّهُ لَمَّا طَلَبَ الْمَائِدَةَ وَذَكَرَ أَغْرَاضَهُ فِيهَا قَدَّمَ الْأَغْرَاضَ الدِّينِيَّةَ وَأَخَّرَ غَرَضَ الْأَكْلِ حَيْثُ قَالَ وَارْزُقْنا وَعِنْدَ هَذَا يَلُوحُ لَكَ مَرَاتِبُ دَرَجَاتِ الْأَرْوَاحِ فِي كَوْنِ بَعْضِهَا رُوحَانِيَّةً وَبَعْضِهَا جُسْمَانِيَّةً، ثُمَّ إِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِشِدَّةِ صَفَاءِ

[سورة المائدة (5) : آية 115]

دِينِهِ وَإِشْرَاقِ رُوحِهِ لَمَّا ذَكَرَ الرِّزْقَ بِقَوْلِهِ وَارْزُقْنا لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ بَلِ انْتَقَلَ مِنَ الرزق إلى الرازق فَقَالَ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فَقَوْلُهُ رَبَّنا ابْتِدَاءٌ مِنْهُ بِذِكْرِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَقَوْلُهُ أَنْزِلْ عَلَيْنا انْتِقَالٌ مِنَ الذَّاتِ إِلَى الصِّفَاتِ، وَقَوْلُهُ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا إِشَارَةٌ إِلَى ابْتِهَاجِ الرُّوحِ بِالنِّعْمَةِ لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا نِعْمَةٌ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا صَادِرَةٌ عَنِ الْمُنْعِمِ وَقَوْلُهُ وَآيَةً مِنْكَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِ هَذِهِ الْمَائِدَةِ دَلِيلًا لِأَصْحَابِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَقَوْلُهُ وَارْزُقْنا إِشَارَةٌ إِلَى حِصَّةِ النَّفْسِ وَكُلُّ ذَلِكَ نُزُولٌ مِنْ حَضْرَةِ الْجَلَالِ. فَانْظُرْ كَيْفَ ابْتَدَأَ بِالْأَشْرَفِ فَالْأَشْرَفِ نَازِلًا إِلَى الْأَدْوَنِ فَالْأَدْوَنِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وَهُوَ عُرُوجٌ مَرَّةً أُخْرَى مِنَ الْخَلْقِ إِلَى الْخَالِقِ وَمِنْ غَيْرِ اللَّه إِلَى اللَّه وَمِنَ الْأَخَسِّ إِلَى الْأَشْرَفِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَلُوحُ لَكَ شَمَّةٌ مِنْ كَيْفِيَّةِ عُرُوجِ الْأَرْوَاحِ الْمُشْرِقَةِ النُّورَانِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ وَنُزُولِهَا اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قِرَاءَةِ زَيْدٍ يَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَالتَّأْنِيثُ بمعنى الآية. ثم قال تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 115] قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115) فيه مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَنَافِعٌ مُنَزِّلُها بِالتَّشْدِيدِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَهُمَا لُغَتَانِ نَزَلَ وَأَنْزَلَ وَقِيلَ: بِالتَّشْدِيدِ أَيْ مُنَزِّلُهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَبِالتَّخْفِيفِ مَرَّةً وَاحِدَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قوله فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ أَيْ بَعْدَ إِنْزَالِ الْمَائِدَةِ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي مَسْخَهُمْ خَنَازِيرَ وَقِيلَ: قِرَدَةً وَقِيلَ: جِنْسًا مِنَ الْعَذَابِ لَا يُعَذَّبُ بِهِ غَيْرُهُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَذَابُ مُعَجَّلًا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُؤَخَّرًا إِلَى الْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ مِنَ الْعالَمِينَ يَعْنِي عَالَمِي زَمَانِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قِيلَ: إِنَّهُمْ سَأَلُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا السُّؤَالَ عِنْدَ نُزُولِهِمْ فِي مَفَازَةٍ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ وَلَا طَعَامٍ وَلِذَلِكَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ سَأَلَ الْمَائِدَةَ لِنَفْسِهِ أَوْ سَأَلَهَا لِقَوْمِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَضَافَهَا إِلَى نَفْسِهِ فِي الظَّاهِرِ وَكِلَاهُمَا مُحْتَمَلٌ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ. فَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: مَا نَزَلَتْ وَاحْتَجُّوا/ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ اسْتَغْفَرُوا وَقَالُوا لَا نُرِيدُهَا. والثاني: أنه وصف المائدة بكونها عيدا لأولهم وآخرهم فلو نزلت لَبَقِيَ ذَلِكَ الْعِيدُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ وَهَذَا وَعْدٌ بِالْإِنْزَالِ جَزْمًا مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ عَلَى شَرْطٍ، فَوَجَبَ حُصُولُ هَذَا النُّزُولِ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ قَوْلَهُ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِقَوْلِهِ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ يَوْمَ نُزُولِهَا كَانَ عِيدًا لَهُمْ وَلِمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ كَانَ عَلَى شَرْعِهِمْ

[سورة المائدة (5) : آية 116]

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: رُوِيَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَرَادَ الدُّعَاءَ لَبِسَ صُوفًا، ثُمَّ قَالَ: اللهم أَنْزِلْ عَلَيْنَا فَنَزَلَتْ سُفْرَةٌ حَمْرَاءُ بَيْنَ غَمَامَتَيْنِ غَمَامَةٌ فَوْقَهَا وَأُخْرَى تَحْتَهَا، وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا حَتَّى سَقَطَتْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَبَكَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الشَّاكِرِينَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً وَلَا تَجْعَلْهَا مُثْلَةً وَعُقُوبَةً، وَقَالَ لَهُمْ لِيَقُمْ أَحْسَنُكُمْ عَمَلًا يَكْشِفُ عَنْهَا وَيَذْكُرُ اسْمَ اللَّه عَلَيْهَا وَيَأْكُلُ مِنْهَا. فَقَالَ شَمْعُونُ رَأْسُ الْحَوَارِيِّينَ: أَنْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ، فَقَامَ عِيسَى وَتَوَضَّأَ وَصَلَّى وَبَكَى ثُمَّ كَشَفَ الْمِنْدِيلَ. وَقَالَ: بِسْمِ اللَّه خَيْرِ الرَّازِقِينَ، فَإِذَا سَمَكَةٌ مَشْوِيَّةٌ بِلَا شَوْكٍ وَلَا فُلُوسٍ تَسِيلُ دَسَمًا. وَعِنْدَ رَأْسِهَا مِلْحٌ وَعِنْدَ ذَنَبِهَا خَلٌّ، وَحَوْلَهَا مِنْ أَلْوَانِ الْبُقُولِ مَا خَلَا الْكُرَّاثَ وَإِذَا خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا زَيْتُونٌ وَعَلَى الثَّانِي عَسَلٌ، وَعَلَى الثَّالِثِ سَمْنٌ، وَعَلَى الرَّابِعِ جُبْنٌ، وَعَلَى الْخَامِسِ قَدِيدٌ، فَقَالَ شَمْعُونُ: يَا رُوحَ اللَّه: أمن طعام الدنيا أمن طَعَامِ الْآخِرَةِ؟ فَقَالَ: لَيْسَ مِنْهُمَا وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ اخْتَرَعَهُ اللَّه بِالْقُدْرَةِ الْعَالِيَةِ كُلُوا مَا سَأَلْتُمْ وَاشْكُرُوا يُمْدِدْكُمُ اللَّه وَيَزِدْكُمْ مِنْ فَضْلِهِ، فَقَالَ الْحَوَارِيُّونَ: يَا رُوحَ اللَّه لَوْ أَرَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ آيَةً أُخْرَى فَقَالَ يَا سَمَكَةُ احْيَيْ بِإِذْنِ اللَّه فَاضْطَرَبَتْ، ثُمَّ قَالَ لَهَا عُودِي كَمَا كُنْتِ فَعَادَتْ مَشْوِيَّةً، ثُمَّ طَارَتِ الْمَائِدَةُ ثُمَّ عَصَوْا مِنْ بَعْدِهَا، فَمُسِخُوا قِرَدَةً وخنازير. [سورة المائدة (5) : آية 116] وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) [في قوله تعالى وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ] فيه مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ [المائدة: 110] وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَذْكُرُهُ لِعِيسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ هَذَا الْكَلَامَ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ رَفَعَهُ إِلَيْهِ وَتَعَلَّقَ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ وَإِذْ قالَ اللَّهُ وإذ تُسْتَعْمَلُ لِلْمَاضِي، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّ اللَّه تعالى عقيب هَذِهِ الْقِصَّةَ بِقَوْلِهِ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [الْمَائِدَةِ: 119] وَالْمُرَادُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِكَلِمَةِ إِذْ فَقَدَ سَبَقَ الْجَوَابُ عَنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ سُؤَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ كَيْفَ يَلِيقُ بِعَلَّامِ الْغُيُوبِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فَلِمَ خَاطَبَهُ بِهِ؟ فَإِنْ قُلْتُمُ الْغَرَضُ مِنْهُ تَوْبِيخُ النَّصَارَى وَتَقْرِيعُهُمْ فَنَقُولُ: إِنَّ أَحَدًا مِنَ النَّصَارَى لَمْ يَذْهَبْ إِلَى الْقَوْلِ بِإِلَهِيَّةِ عِيسَى وَمَرْيَمَ مَعَ الْقَوْلِ بِنَفْيِ إِلَهِيَّةِ اللَّه تَعَالَى فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَيْهِمْ مَعَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يَقُلْ بِهِ. وَالْجَوَابُ: عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ. وَالْجَوَابُ: عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْخَالِقُ وَالنَّصَارَى يَعْتَقِدُونَ أَنَّ خَالِقَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدِ عِيسَى وَمَرْيَمَ هُوَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَرْيَمُ واللَّه تَعَالَى مَا خَلَقَهَا الْبَتَّةَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالنَّصَارَى قَدْ قَالُوا إِنَّ خَالِقَ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ هُوَ عِيسَى وَمَرْيَمُ واللَّه تَعَالَى لَيْسَ خَالِقَهَا، فَصَحَّ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ كَوْنَ عِيسَى وَمَرْيَمَ إِلَهَيْنِ لَهُ مَعَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَيْسَ إِلَهًا لَهُ فَصَحَّ بِهَذَا التَّأْوِيلِ هَذِهِ الْحِكَايَةُ وَالرِّوَايَةُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ أَمَّا قَوْلُهُ سُبْحانَكَ فَقَدْ فَسَّرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا [الْبَقَرَةِ: 32] .

[سورة المائدة (5) : آية 117]

وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا سَأَلَ عِيسَى أَنَّكَ هَلْ قُلْتَ كَذَا لَمْ يَقُلْ عِيسَى بِأَنِّي قُلْتُ أَوْ مَا قُلْتُ بَلْ قَالَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ، وَهَذَا لَيْسَ بِحَقٍّ يُنْتِجُ أَنَّهُ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ هَذَا الْكَلَامَ وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْكَلَامَ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَنَّهُ هَلْ وَقَعَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ أَمْ لَا فَلَمْ يَقُلْ بِأَنِّي مَا قُلْتُ هَذَا الْكَلَامَ لِأَنَّ هَذَا يَجْرِي مَجْرَى دَعْوَى الطَّهَارَةِ وَالنَّزَاهَةِ، وَالْمَقَامُ مَقَامُ الْخُضُوعِ وَالتَّوَاضُعِ، وَلَمْ يَقُلْ بِأَنِّي قُلْتُهُ بَلْ فَوَّضَ ذَلِكَ إِلَى عِلْمِهِ الْمُحِيطِ بِالْكُلِّ. فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي الْأَدَبِ وَفِي إِظْهَارِ الذُّلِّ وَالْمَسْكَنَةِ فِي حَضْرَةِ الْجَلَالِ وَتَفْوِيضِ الْأُمُورِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِيهِ عِبَارَاتِ تَعْلَمُ مَا أُخْفِي وَلَا أَعْلَمُ مَا تُخْفِي وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا عِنْدِي وَلَا أَعْلَمُ مَا عِنْدَكَ، وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا فِي غَيْبِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي غَيْبِكَ، وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا كَانَ مِنِّي فِي الدُّنْيَا وَلَا أَعْلَمُ مَا كَانَ مِنْكَ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا أَقُولُ وَأَفْعَلُ، وَلَا أَعْلَمُ مَا تَقُولُ وَتَفْعَلُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَتِ الْمُجَسِّمَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: النَّفْسُ هُوَ الشَّخْصُ وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَعَالَى جِسْمًا. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّفْسَ عِبَارَةٌ عَنِ الذَّاتِ، يُقَالُ نَفْسُ الشَّيْءِ وَذَاتُهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ تَعْلَمُ مَعْلُومِي وَلَا أَعْلَمُ مَعْلُومَكَ وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى طَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ وَالْمُشَاكَلَةِ وَهُوَ مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ أَعْنِي قَوْلَهُ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ وَقَوْلَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [سورة المائدة (5) : آية 117] مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ أَنْ مُفَسِّرَةٌ وَالْمُفَسَّرُ هُوَ الْهَاءُ فِي بِهِ الرَّاجِعِ إِلَى الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَعْنَى مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا قَوْلًا أَمَرْتَنِي بِهِ وَذَلِكَ الْقَوْلُ هُوَ أَنْ أَقُولَ لَهُمْ: اعْبُدُوا اللَّه رَبِّي وَرَبَّكُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ: مَا أَمَرْتُهُمْ إِلَّا بِمَا أَمَرْتَنِي بِهِ إِلَّا أَنَّهُ وَضَعَ الْقَوْلَ مَوْضِعَ الْأَمْرِ، نُزُولًا عَلَى مُوجِبِ الْأَدَبِ الْحَسَنِ، لِئَلَّا يَجْعَلَ نَفْسَهُ وَرَبَّهُ آمِرَيْنِ مَعًا، وَدَلَّ عَلَى الْأَصْلِ بِذِكْرِ أَنِ الْمُفَسِّرَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ أَيْ كُنْتُ أَشْهَدُ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ مَا دُمْتُ مُقِيمًا فِيهِمْ. فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي وَالْمُرَادُ مِنْهُ، وَفَاةُ الرَّفْعِ إِلَى السَّمَاءِ، مِنْ قَوْلِهِ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [آلِ عِمْرَانَ: 55] . كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْحَافِظُ عَلَيْهِمُ المراقب لأحوالهم.

[سورة المائدة (5) : آية 118]

وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ يَعْنِي أَنْتَ الشَّهِيدُ لِي حِينَ كُنْتُ فِيهِمْ وَأَنْتَ الشَّهِيدُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مُفَارَقَتِي لَهُمْ، فَالشَّهِيدُ الشَّاهِدُ وَيَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الرُّؤْيَةِ، وَيَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْعِلْمِ، وَيَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْكَلَامِ بِمَعْنَى الشَّهَادَةِ فَالشَّهِيدُ مِنْ أَسْمَاءِ الصِّفَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ ثم قال تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 118] إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) فيه مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى الْآيَةِ ظَاهِرٌ، وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ جَازَ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَقُولَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ واللَّه لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَةِ: 116] عُلِمَ أَنَّ قَوْمًا مِنَ النَّصَارَى حَكَوْا هَذَا الْكَلَامَ عَنْهُ، وَالْحَاكِي لِهَذَا الْكُفْرِ عَنْهُ لَا يَكُونُ كَافِرًا بَلْ يَكُونُ مُذْنِبًا حَيْثُ كَذَبَ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ وَغُفْرَانُ الذَّنْبِ جَائِزٌ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى: طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِنَا مِنَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُدْخِلَ الْكُفَّارَ الْجَنَّةَ وَأَنْ يُدْخِلَ الزُّهَّادَ وَالْعُبَّادَ النَّارَ، لِأَنَّ الْمُلْكَ مُلْكُهُ وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، فَذَكَرَ عِيسَى هَذَا الْكَلَامَ وَمَقْصُودُهُ مِنْهُ تَفْوِيضُ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَى اللَّه، وَتَرَكَ التَّعَرُّضَ وَالِاعْتِرَاضَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِذَلِكَ خَتَمَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَعْنِي أَنْتَ قَادِرٌ عَلَى مَا تُرِيدُ، حَكِيمٌ فِي كُلِّ مَا تَفْعَلُ لَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْكَ، فَمَنْ أَنَا وَالْخَوْضُ فِي أَحْوَالِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَقَوْلُهُ إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ فَنَقُولُ: إِنَّ غُفْرَانَهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ قَالُوا: لِأَنَّ الْعِقَابَ حَقُّ اللَّه عَلَى الْمُذْنِبِ وَفِي إِسْقَاطِهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُذْنِبِ، وَلَيْسَ فِي إِسْقَاطِهِ عَلَى اللَّه مَضَرَّةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا بَلْ دَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ فِي شَرْعِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ، فَلَعَلَّ هَذَا الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي شَرْعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. الوجه الثالث: في الجواب أن القوم قَالُوا هَذَا الْكُفْرَ فَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ قَدْ تَابَ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ عَلِمْتُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُعَذَّبِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ فَلَكَ أَنْ تُعَذِّبَهُمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَأَنْتَ قَدْ حَكَمْتَ عَلَى كُلِّ مَنْ كَفَرَ مِنْ عِبَادِكَ بِالْعُقُوبَةِ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ عَلِمْتُ أَنَّهُمْ تَابُوا عَنِ الْكُفْرِ، وَأَنْتَ حَكَمْتَ عَلَى مَنْ تَابَ عَنِ الْكُفْرِ بِالْمَغْفِرَةِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَ اللَّه تَعَالَى لِعِيسَى أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: 116] إِنَّمَا كَانَ عِنْدَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ لَا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى/ هَذَا الْقَوْلِ فَالْجَوَابُ سَهْلٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ يَعْنِي إِنْ تَوَفَّيْتَهُمْ عَلَى هَذَا الْكُفْرِ وَعَذَّبْتَهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ فَلَكَ ذَاكَ، وَإِنْ أَخْرَجْتَهُمْ بِتَوْفِيقِكَ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، وَغَفَرْتَ لَهُمْ مَا سَلَفَ مِنْهُمْ فَلَكَ أَيْضًا ذَاكَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا إِشْكَالَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ بَعْضُ الْأَصْحَابِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَقِّ الْفُسَّاقِ قَالُوا: لِأَنَّ قَوْلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ لَيْسَ فِي حَقِّ أَهْلِ الثَّوَابِ لِأَنَّ التَّعْذِيبَ لَا يَلِيقُ بِهِمْ، وَلَيْسَ أَيْضًا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَا يَلِيقُ بِهِمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا فِي

[سورة المائدة (5) : آية 119]

حَقِّ الْفُسَّاقِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَإِذَا ثَبَتَ شَفَاعَةُ الْفُسَّاقِ فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَبَتَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَصْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رَوَى الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّه (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) سَمِعْتُ شَيْخِي وَوَالِدِي رَحِمَهُ اللَّه يَقُولُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هَاهُنَا أَوْلَى مِنَ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ، لِأَنَّ كَوْنَهُ غَفُورًا رَحِيمًا يُشْبِهُ الْحَالَةَ الْمُوجِبَةَ لِلْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لِكُلِّ مُحْتَاجٍ، وَأَمَّا الْعِزَّةُ وَالْحِكْمَةُ فَهُمَا لَا يُوجِبَانِ الْمَغْفِرَةَ، فَإِنَّ كَوْنَهُ عَزِيزًا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَأَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ فَإِذَا كَانَ عَزِيزًا مُتَعَالِيًا عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ، ثُمَّ حَكَمَ بِالْمَغْفِرَةِ كَانَ الْكَرَمُ هَاهُنَا أَتَمَّ مِمَّا إِذَا كَانَ كَوْنُهُ غَفُورًا رَحِيمًا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ، فَكَانَتْ عِبَارَتُهُ رَحِمَهُ اللَّه أَنْ يَقُولَ: عَزَّ عَنِ الْكُلِّ. ثُمَّ حَكَمَ بِالرَّحْمَةِ فَكَانَ هَذَا أَكْمَلَ. وَقَالَ قَوْمٌ آخَرُونَ: إِنَّهُ لَوْ قَالَ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، أَشْعَرَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ شَفِيعًا لَهُمْ، فَلَمَّا قَالَ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ غَرَضَهُ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَتَرْكُ التَّعَرُّضِ لِهَذَا الْبَابِ من جميع الوجوه. [سورة المائدة (5) : آية 119] قالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْيَوْمِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ صِدْقَهُمْ فِي الدُّنْيَا يَنْفَعُهُمْ فِي الْقِيَامَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْنَا: أَنَّ صِدْقَ الْكُفَّارِ فِي الْقِيَامَةِ لَا يَنْفَعُهُمْ، أَلَا/ تَرَى أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [إِبْرَاهِيمَ: 22] فَلَمْ يَنْفَعْهُ هَذَا الصِّدْقُ، وَهَذَا الْكَلَامُ تَصْدِيقٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى لِعِيسَى فِي قَوْلِهِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ [المائدة: 117] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ يَوْمُ بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ بِالنَّصْبِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. فَمَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ هَذَا الْيَوْمُ يَوْمُ مَنْفَعَةِ الصَّادِقِينَ، وَأَمَّا النَّصْبُ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الأول: على أنه ظرف لقال وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ اللَّه هَذَا الْقَوْلَ لِعِيسَى يَوْمَ يَنْفَعُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: هَذَا الصِّدْقُ وَاقِعٌ يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ ظُرُوفَ الزَّمَانِ أَخْبَارًا عَنِ الْأَحْدَاثِ بِهَذَا التَّأْوِيلِ كَقَوْلِكَ: الْقِتَالُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَالْحَجُّ يَوْمَ عَرَفَةَ، أَيْ وَاقِعٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَالثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: يَوْمَ أُضِيفَ إِلَى مَا لَيْسَ بِاسْمٍ فَبُنِيَ عَلَى الْفَتْحِ كَمَا فِي يَوْمَئِذٍ. قَالَ الْبَصْرِيُّونَ هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الظَّرْفَ إِنَّمَا يُبْنَى إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْمَبْنِيِّ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ. عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا بُنِيَ (حِينَ) لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْمَبْنِيِّ وَهُوَ الْفِعْلُ الْمَاضِي وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ [الِانْفِطَارِ: 19] بُنِيَ لِإِضَافَتِهِ إِلَى (لَا) وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ، أَمَّا هُنَا فَالْإِضَافَةُ إِلَى مُعْرَبٍ لِأَنَّ يَنْفَعُ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ، وَالْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ مُعْرَبٌ فَالْإِضَافَةُ إِلَيْهِ لَا تُوجِبُ الْبِنَاءَ واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

[سورة المائدة (5) : آية 120]

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ صِدْقَ الصَّادِقِينَ فِي الدُّنْيَا يَنْفَعُهُمْ فِي الْقِيَامَةِ، شَرَحَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ النَّفْعِ وَهُوَ الثَّوَابُ، وَحَقِيقَةُ الثَّوَابِ: أَنَّهَا مَنْفَعَةٌ خَالِصَةٌ دَائِمَةٌ مَقْرُونَةٌ بِالتَّعْظِيمِ. فَقَوْلُهُ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَنْفَعَةِ الْخَالِصَةِ عَنِ الْغُمُومِ وَالْهُمُومِ، وَقَوْلُهُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِشَارَةٌ إِلَى الدَّوَامِ وَاعْتَبِرْ هَذِهِ الدَّقِيقَةَ، فَإِنَّهُ أَيْنَمَا ذَكَرَ الثَّوَابَ قَالَ: خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَأَيْنَمَا ذَكَرَ عِقَابَ الْفُسَّاقِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ ذَكَرَ لَفْظَ الْخُلُودِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ التَّأْبِيدَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّعْظِيمِ. هَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَأَمَّا عِنْدَ أَصْحَابِ الْأَرْوَاحِ الْمُشْرِقَةِ بِأَنْوَارِ جَلَالِ اللَّه تَعَالَى، فَتَحْتَ قَوْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أَسْرَارٌ عَجِيبَةٌ لَا تَسْمَحُ الْأَقْلَامُ بِمِثْلِهَا جَعَلَنَا اللَّه مِنْ أَهْلِهَا، وَقَوْلُهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ ذلِكَ عَائِدٌ إِلَى جُمْلَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي إِلَى قَوْلِهِ وَرَضُوا عَنْهُ وَعِنْدِي أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِقَوْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ فَإِنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَ أَرْبَابِ الْأَلْبَابِ أَنَّ جُمْلَةَ الْجَنَّةِ بِمَا فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى رِضْوَانِ اللَّه كَالْعَدَمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوُجُودِ، وَكَيْفَ وَالْجَنَّةُ مَرْغُوبُ الشَّهْوَةِ، وَالرِّضْوَانُ/ صِفَةُ الْحَقِّ وَأَيُّ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا الْكَلَامُ يَشْمَئِزُّ مِنْهُ طَبْعُ الْمُتَكَلِّمِ الظَّاهِرِيِّ، وَلَكِنْ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ ثُمَّ قال تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 120] لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) قِيلَ: إِنَّ هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ يُعْطِيهِمْ ذَلِكَ الْفَوْزَ الْعَظِيمَ؟ فَقِيلَ: الَّذِي لَهُ ملك السموات وَالْأَرْضِ. وَفِي هَذِهِ الْخَاتِمَةِ الشَّرِيفَةِ أَسْرَارٌ كَثِيرَةٌ وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْقَلِيلَ مِنْهَا. فَالْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَلَمْ يَقُلْ وَمَنْ فِيهِنَّ فَغَلَّبَ غَيْرَ الْعُقَلَاءِ عَلَى الْعُقَلَاءِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ كُلَّ الْمَخْلُوقَاتِ مُسَخَّرُونَ فِي قَبْضَةِ قَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ التَّسْخِيرِ كَالْجَمَادَاتِ الَّتِي لَا قُدْرَةَ لَهَا وَكَالْبَهَائِمِ الَّتِي لَا عَقْلَ لَهَا، فَعِلْمُ الْكُلِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِهِ كَلَا عِلْمٍ، وَقُدْرَةُ الْكُلِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِهِ كَلَا قُدْرَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ مُفْتَتَحَ السُّورَةِ كَانَ بِذِكْرِ الْعَهْدِ الْمُنْعَقِدِ بَيْنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ فَقَالَ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] وَكَمَالُ حَالِ الْمُؤْمِنِ فِي أَنْ يَشْرَعَ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَيَنْتَهِيَ إِلَى الْفَنَاءِ الْمَحْضِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْكُلِّيَّةِ. فَالْأَوَّلُ هُوَ الشَّرِيعَةُ وَهُوَ الْبِدَايَةُ وَالْآخِرُ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَهُوَ النِّهَايَةُ. فَمُفْتَتَحُ السُّورَةِ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَمُخْتَتَمُهَا بِذِكْرِ كِبْرِيَاءِ اللَّه وَجَلَالِهِ وَعِزَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعُلُوِّهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْوُصُولُ إِلَى مَقَامِ الْحَقِيقَةِ فَمَا أَحْسَنَ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ ذَلِكَ الْمُفْتَتَحِ، وَهَذَا الْمُخْتَتَمِ! وَالثَّالِثُ: أَنَّ السُّورَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعُلُومِ. فَمِنْهَا: بَيَانُ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَالتَّكَالِيفِ. وَمِنْهَا الْمُنَاظَرَةُ مَعَ الْيَهُودِ فِي إِنْكَارِهِمْ شَرِيعَةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمِنْهَا الْمُنَاظَرَةُ مَعَ النَّصَارَى فِي قَوْلِهِمْ بِالتَّثْلِيثِ فَخَتَمَ السُّورَةَ بِهَذِهِ النُّكْتَةِ الْوَافِيَةِ بِإِثْبَاتِ كُلِّ هَذِهِ الْمَطَالِبِ. فَإِنَّهُ قَالَ: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَمَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ مَوْجُودٌ بِإِيجَادِهِ تَعَالَى. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ مَالِكًا لِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ وَالْكَائِنَاتِ مُوجِدًا لِجَمِيعِ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَادِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَزِمَ مِنْهُ ثُبُوتُ كُلِّ الْمَطَالِبِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَأَمَّا حُسْنُ التَّكْلِيفِ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ، فَذَاكَ ثَابِتٌ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَانَ مَالِكًا لِلْكُلِّ، كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْكُلِّ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ. فَصَحَّ الْقَوْلُ بِالتَّكْلِيفِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَرَادَهُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَأَمَّا الرَّدُّ عَلَى الْيَهُودِ فَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَانَ مَالِكَ الْمُلْكِ فَلَهُ بِحُكْمِ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَنْسَخَ شَرْعَ مُوسَى وَيَضَعَ شَرْعَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَمَّا الرَّدُّ

عَلَى النَّصَارَى فَلِأَنَّ عِيسَى وَمَرْيَمَ دَاخِلَانِ فِيمَا سِوَى اللَّه لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُوجِدَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ اللَّه تَعَالَى أَوْ غَيْرَهُ، وَعِيسَى وَمَرْيَمُ لَا شَكَّ فِي كَوْنِهِمَا دَاخِلَيْنِ فِي هَذَا الْقِسْمِ. فَإِذَا دَلَّلْنَا/ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ مَوْجُودٌ بِإِيجَادِ اللَّه كَائِنٌ بِتَكْوِينِ اللَّه كَانَ عِيسَى وَمَرْيَمُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَذَلِكَ. وَلَا مَعْنَى لِلْعُبُودِيَّةِ إِلَّا ذَلِكَ. فَثَبَتَ كَوْنُهُمَا عَبْدَيْنِ مَخْلُوقَيْنِ فَظَهَرَ بِالتَّقْرِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّه خَاتِمَةً لِهَذِهِ السُّورَةِ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ فِي صِحَّةِ جَمِيعِ الْعُلُومِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَيْهَا. واللَّه أَعْلَمُ بِأَسْرَارِ كَلَامِهِ. تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ بِحَمْدِ اللَّه وَمَنِّهِ وَصَلَاتُهُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

سورة الأنعام

بسم اللَّه الرحمن الرحيم سُورَةُ الْأَنْعَامِ مَكِّيَّةٌ إِلَّا الْآيَاتِ: 20 وَ 23 وَ 91 وَ 93 وَ 114 وَ 141 وَ 151 وَ 152 وَ 153 فَمَدَنِيَّةٌ، وَآيَاتُهَا 165 نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْحِجْرِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَامْتَلَأَ مِنْهَا الْوَادِي، وَشَيَّعَهَا سَبْعُونَ ألف ملك، ونزلت الملائكة فملئوا مَا بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ، فَدَعَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكُتَّابَ وَكَتَبُوهَا مِنْ لَيْلَتِهِمْ إِلَّا سِتَّ آيَاتٍ فَإِنَّهَا مَدَنِيَّاتٌ قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الْأَنْعَامِ: 151] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ وَقَوْلُهُ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الْأَنْعَامِ: 91] الْآيَةَ وَقَوْلُهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الْأَنْعَامِ: 93] وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا نَزَلَ عَلَيَّ سُورَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ جُمْلَةً غَيْرَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمَا اجْتَمَعَتِ الشَّيَاطِينُ لِسُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ جَمْعَهَا لَهَا، وَقَدْ بُعِثَ بِهَا إِلَيَّ مَعَ جِبْرِيلَ مَعَ خَمْسِينَ مَلَكًا أَوْ خَمْسِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَزُفُّونَهَا وَيَحُفُّونَهَا حَتَّى أَقَرُّوهَا فِي صَدْرِي كَمَا أُقِرَّ الْمَاءُ فِي الْحَوْضِ، وَلَقَدْ أَعَزَّنِي اللَّه وَإِيَّاكُمْ بِهَا عِزًّا لَا يُذِلُّنَا بَعْدَهُ أَبَدًا، فِيهَا دَحْضُ حُجَجِ الْمُشْرِكِينَ وَوَعْدٌ مِنَ اللَّه لَا يُخْلِفُهُ» وَعَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ: لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ سَبَّحَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «لَقَدْ شَيَّعَ هَذِهِ السُّورَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا سَدَّ الْأُفُقَ» قَالَ الْأُصُولِيُّونَ: هَذِهِ السُّورَةُ اخْتُصَّتْ بِنَوْعَيْنِ مِنَ الْفَضِيلَةِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَالثَّانِي: أَنَّهَا شَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَإِبْطَالِ مَذَاهِبِ الْمُبْطِلِينَ وَالْمُلْحِدِينَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلْمَ الْأُصُولِ فِي غَايَةِ الْجَلَالَةِ وَالرِّفْعَةِ، وَأَيْضًا فَإِنْزَالُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَحْكَامِ قَدْ تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ أَنْ يُنْزِلَهُ اللَّه تَعَالَى قَدْرَ حَاجَتِهِمْ، وَبِحَسَبِ الْحَوَادِثِ وَالنَّوَازِلِ. وَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَى عِلْمِ الْأُصُولِ فَقَدْ أَنْزَلَهُ اللَّه تَعَالَى جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ عِلْمِ الْأُصُولِ وَاجِبٌ على الفور لا على التراخي. [سورة الأنعام (6) : آيَةً 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ الْمُسْتَقْصَى فِي قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ قَدْ سَبَقَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ نُعِيدَ بَعْضَ تِلْكَ الْفَوَائِدِ، وفيه مسائل:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَدْحِ وَالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ. اعْلَمْ أَنَّ الْمَدْحَ أَعَمُّ مِنَ الْحَمْدِ، وَالْحَمْدَ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ. أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْمَدْحَ أَعَمُّ مِنَ الْحَمْدِ، فَلِأَنَّ الْمَدْحَ يَحْصُلُ لِلْعَاقِلِ وَلِغَيْرِ الْعَاقِلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَمَا يَحْسُنُ مَدْحُ الرَّجُلِ الْعَاقِلِ عَلَى أَنْوَاعِ فَضَائِلِهِ، فَكَذَلِكَ قَدْ يُمْدَحُ اللُّؤْلُؤُ لِحُسْنِ شَكْلِهِ وَلَطَافَةِ خِلْقَتِهِ، وَيُمْدَحُ الْيَاقُوتُ عَلَى نِهَايَةِ صَفَائِهِ وَصَقَالَتِهِ! فَيُقَالُ: مَا أَحْسَنَهُ وَمَا أَصْفَاهُ، وَأَمَّا الْحَمْدُ: فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِلْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ عَلَى مَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنَ الْإِنْعَامِ وَالْإِحْسَانِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَدْحَ أَعَمُّ مِنَ الْحَمْدِ. وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْحَمْدَ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ، فَلِأَنَّ الْحَمْدَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْظِيمِ الْفَاعِلِ لِأَجْلِ مَا صَدَرَ عَنْهُ مِنَ الْإِنْعَامِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْإِنْعَامُ وَاصِلًا إِلَيْكَ أَوْ إِلَى غَيْرِكَ، وَأَمَّا الشُّكْرُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْظِيمِهِ لِأَجْلِ إِنْعَامٍ وَصَلَ إِلَيْكَ وَحَصَلَ عِنْدَكَ. فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَدْحَ أَعَمُّ مِنَ الْحَمْدِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّمَا لَمْ يَقُلِ الْمَدْحُ للَّه لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَدْحَ كَمَا يَحْصُلُ لِلْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، فَقَدْ يَحْصُلُ لِغَيْرِهِ. أَمَّا الْحَمْدُ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِلْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ. فَكَانَ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ تَصْرِيحًا بِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي وُجُودِ هَذَا الْعَالَمِ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ خَلَقَهُ بِالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَلَيْسَ عِلَّةً مُوجِبَةً لَهُ إِيجَابَ الْعِلَّةِ لِمَعْلُولِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْفَائِدَةَ عَظِيمَةٌ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلِ الشُّكْرُ للَّه، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الشُّكْرَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْظِيمِهِ بِسَبَبِ إِنْعَامٍ صَدَرَ مِنْهُ وَوَصَلَ إِلَيْكَ، وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا ذَكَرَ تَعْظِيمَهُ بِسَبَبِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ النِّعْمَةِ فحينئذ يكون المطلوب الأصلي به وَصُولَ النِّعْمَةِ إِلَيْهِ وَهَذِهِ دَرَجَةٌ حَقِيرَةٌ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: الْحَمْدُ للَّه، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ حَمِدَهُ لِأَجْلِ كَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ لَا لِخُصُوصِ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْصَلَ/ النِّعْمَةَ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ الْإِخْلَاصُ أَكْمَلَ، وَاسْتِغْرَاقُ الْقَلْبِ فِي مُشَاهَدَةِ نُورِ الْحَقِّ أَتَمَّ، وَانْقِطَاعُهُ عَمَّا سِوَى الْحَقِّ أَقْوَى وَأَثْبَتَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَمْدُ: لَفْظٌ مُفْرَدٌ مُحَلًّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَيُفِيدُ أَصْلَ الْمَاهِيَّةِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ يُفِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْمَاهِيَّةَ للَّه، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْحَمْدِ لِغَيْرِ اللَّه، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ جَمِيعَ أَقْسَامِ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ لَيْسَ إِلَّا للَّه سُبْحَانَهُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ، مِثْلُ شُكْرِ الْأُسْتَاذِ عَلَى تَعْلِيمِهِ، وَشُكْرُ السُّلْطَانِ عَلَى عَدْلِهِ، وَشُكْرُ الْمُحْسِنِ عَلَى إِحْسَانِهِ، كما قال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّه» . قُلْنَا: الْمَحْمُودُ وَالْمَشْكُورُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ إِلَّا اللَّه، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: صُدُورُ الْإِحْسَانِ مِنَ الْعَبْدِ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ دَاعِيَةِ الْإِحْسَانِ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، وَحُصُولُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ فِي القلب ليس من العبد، وإلا لا فتقر فِي حُصُولِهَا إِلَى دَاعِيَةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، بَلْ حُصُولُهَا لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّه سُبْحَانَهُ فَتِلْكَ الدَّاعِيَةُ عِنْدَ حُصُولِهَا يَجِبُ الْفِعْلُ، وَعِنْدَ زَوَالِهَا يَمْتَنِعُ الْفِعْلُ فَيَكُونُ الْمُحْسِنُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ إِلَّا اللَّه، فَيَكُونُ الْمُسْتَحِقُّ لِكُلِّ حَمْدٍ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّه تَعَالَى. وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ أَحْسَنَ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ إِلَى الْغَيْرِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُقْدِمُ عَلَى ذَلِكَ الْإِحْسَانِ إِمَّا لِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ، أَمَّا جَلْبُ الْمَنْفَعَةِ: فَإِنَّهُ يَطْمَعُ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْإِحْسَانِ بِمَا يَصِيرُ سَبَبًا لِحُصُولِ السُّرُورِ فِي قَلْبِهِ أَوْ مُكَافَأَةٍ بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فِي الدُّنْيَا أَوْ وِجْدَانِ ثَوَابٍ فِي الْآخِرَةِ. وَأَمَّا دَفْعُ الْمَضَرَّةِ، فَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَأَى حَيَوَانًا فِي ضُرٍّ أَوْ بَلِيَّةٍ فَإِنَّهُ يَرِقُّ قَلْبُهُ عَلَيْهِ، وَتِلْكَ الرِّقَّةُ أَلَمٌ مَخْصُوصٌ يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ عند

مُشَاهَدَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ فِي تِلْكَ الْمَضَرَّةِ فَإِذَا حَاوَلَ إِنْقَاذَ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ مِنْ تِلْكَ الْمَضَرَّةِ زَالَتْ تِلْكَ الرِّقَّةُ عَنِ الْقَلْبِ وَصَارَ فَارِغَ الْقَلْبِ طَيِّبَ الْوَقْتِ، فَذَلِكَ الْإِحْسَانُ كَأَنَّهُ سَبَبٌ أَفَادَ تَخْلِيصَ الْقَلْبِ عَنْ أَلَمِ الرِّقَّةِ الحسيّة، فثبت أن كل ما سِوَى الْحَقِّ فَإِنَّهُ يَسْتَفِيدُ بِفِعْلِ الْإِحْسَانِ إِمَّا جَلْبُ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعُ مَضَرَّةٍ، أَمَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَإِنَّهُ يُحْسِنُ وَلَا يَسْتَفِيدُ مِنْهُ جَلْبَ مَنْفَعَةٍ وَلَا دَفْعَ مَضَرَّةٍ، وَكَانَ الْمُحْسِنُ الْحَقِيقِيُّ لَيْسَ إِلَّا اللَّه تَعَالَى، فَبِهَذَا السَّبَبِ كَانَ الْمُسْتَحِقُّ لِكُلِّ أَقْسَامِ الْحَمْدِ هُوَ اللَّه، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ كُلَّ إِحْسَانٍ يُقْدِمُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ فَالِانْتِفَاعُ بِهِ لَا يَكْمُلُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ إِحْسَانِ اللَّه، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ أَنْوَاعَ النِّعْمَةِ وَإِلَّا لَمْ يَقْدِرِ الْإِنْسَانُ عَلَى إِيصَالِ تِلْكَ الْحِنْطَةِ وَالْفَوَاكِهِ إِلَى الْغَيْرِ، وَأَيْضًا فلولا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْطَاهُ الْمِزَاجَ الصَّحِيحَ وَالْبِنْيَةَ السَّلِيمَةَ وَإِلَّا لَمَا أَمْكَنَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ إِحْسَانٍ يَصْدُرُ عَنْ مُحْسِنٍ سِوَى اللَّه/ تَعَالَى، فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ لَا يَكْمُلُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ إِحْسَانِ اللَّه تَعَالَى. وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا مُحْسِنَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّه، وَلَا مُسْتَحِقَّ لِلْحَمْدِ إِلَّا اللَّه. فَلِهَذَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِجَمِيعِ النِّعَمِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْمُنْتَفِعِ بَعْدَ كَوْنِهِ حَيًّا قَادِرًا عَالِمًا، وَنِعْمَةُ الْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ لَيْسَتْ إِلَّا مِنَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَالتَّرْبِيَةُ الْأَصْلِيَّةُ وَالْأَرْزَاقُ الْمُخْتَلِفَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنَ اللَّه سُبْحَانَهُ مِنْ أَوَّلِ الطُّفُولِيَّةِ إِلَى آخِرِ الْعُمُرِ. ثُمَّ إِذَا تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ فِي آثَارِ حِكْمَةِ الرَّحْمَنِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَوَصَلَ إِلَى مَا أَوْدَعَ اللَّه تَعَالَى فِي أَعْضَائِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ عَلِمَ أَنَّهَا بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيَمِ: 34] فَبِتَقْدِيرِ: أَنْ نُسَلِّمَ أَنَّ الْعَبْدَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُنْعِمَ عَلَى الْغَيْرِ إِلَّا أَنَّ نِعَمَ الْعَبْدِ كَالْقَطْرَةِ، وَنِعَمَ اللَّه لَا نِهَايَةَ لَهَا أَوَّلًا وَآخِرًا وَظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ الْمُطْلَقِ وَالثَّنَاءِ الْمُطْلَقِ لَيْسَ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ فَلِهَذَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَمْ يَقُلْ: أَحْمَدُ اللَّه، لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَمْدَ صِفَةُ الْقَلْبِ وَرُبَّمَا احْتَاجَ الْإِنْسَانُ إِلَى أَنْ يَذْكُرَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ حال كونه غافلا يقلبه عَنِ اسْتِحْضَارِ مَعْنَى الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ، فَلَوْ قَالَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَحْمَدُ اللَّه، كَانَ كَاذِبًا وَاسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ، حَيْثُ أَخْبَرَ عَنْ دَعْوَى شَيْءٍ مَعَ أَنَّهُ مَا كَانَ مَوْجُودًا. أَمَّا إِذَا قَالَ: الْحَمْدُ للَّه، فَمَعْنَاهُ: أَنَّ مَاهِيَّةَ الْحَمْدِ وَحَقِيقَتَهُ مُسَلَّمَةٌ للَّه تَعَالَى. وَهَذَا الْكَلَامُ حَقٌّ وَصِدْقٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعْنَى الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ حَاضِرًا فِي قَلْبِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَكَانَ تَكَلُّمُهُ بِهَذَا الْكَلَامِ عِبَادَةً شَرِيفَةً وَطَاعَةً رَفِيعَةً فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ. وَثَانِيهَا: رُوِيَ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْمُرُهُ بِالشُّكْرِ، فَقَالَ دَاوُدُ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أَشْكُرُكَ؟ وَشُكْرِي لَكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا أَنْ تُوَفِّقَنِي لِشُكْرِكَ وَذَلِكَ التَّوْفِيقُ نِعْمَةٌ زَائِدَةٌ وَإِنَّهَا تُوجِبُ الشُّكْرَ لِي أَيْضًا وَذَلِكَ يَجُرُّ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَلَا طَاقَةَ لِي بِفِعْلِ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ. فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَى دَاوُدَ: لَمَّا عَرَفْتَ عَجْزَكَ عَنْ شُكْرِي فَقَدْ شَكَرْتَنِي. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَوْ قَالَ الْعَبْدُ أَحْمَدُ اللَّه كَانَ دَعْوَى أَنَّهُ أَتَى بِالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ السُّؤَالُ. أَمَّا لَوْ قَالَ، الْحَمْدُ للَّه فَلَيْسَ فِيهِ ادِّعَاءٌ أَنَّ الْعَبْدَ أَتَى بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ، بَلْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِذَلِكَ الْحَمْدِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَظَهَرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَحْمَدُ اللَّه كَانَ ذَلِكَ مُشْعِرًا بِأَنَّهُ ذَكَرَ حَمْدَ نَفْسِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ حَمْدَ غَيْرِهِ. أَمَّا إِذَا قَالَ: الْحَمْدُ للَّه، فَقَدْ دَخَلَ فِيهِ حَمْدُهُ وَحَمْدُ غَيْرِهِ مِنْ أَوَّلِ خَلْقِ الْعَالَمِ إِلَى آخِرِ اسْتِقْرَارِ الْمُكَلَّفِينَ فِي دَرَجَاتِ الْجِنَانِ

ودركات النيران، كما قَالَ تَعَالَى: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُسَ: 10] فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مَذْكُورَةٌ فِي أَوَّلِ سُوَرٍ خَمْسَةٍ. أَوَّلُهَا: الْفَاتِحَةُ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَةِ: 2] وَثَانِيهَا: فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَامِ: 1] وَالْأَوَّلُ أَعَمُّ لِأَنَّ الْعَالَمَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّه تَعَالَى، فَقَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّه تَعَالَى. أَمَّا قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَا يَدْخُلُ فِيهِ إِلَّا خلق السموات وَالْأَرْضِ وَالظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ سَائِرُ الْكَائِنَاتِ وَالْمُبْدَعَاتِ، فَكَانَ التَّحْمِيدُ الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ كَأَنَّهُ قِسْمٌ مِنَ الْأَقْسَامِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ التَّحْمِيدِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَتَفْصِيلٌ لِتِلْكَ الْجُمْلَةِ. وَثَالِثُهَا: سُورَةُ الْكَهْفِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الْكَهْفِ: 1] وَذَلِكَ أَيْضًا تَحْمِيدٌ مَخْصُوصٌ بِنَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ النِّعْمَةِ وَهُوَ نِعْمَةُ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْهِدَايَةِ وَالْقُرْآنِ، وَبِالْجُمْلَةِ النِّعَمُ الْحَاصِلَةُ بِوَاسِطَةِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَرَابِعُهَا: سُورَةُ سَبَأٍ وَهِيَ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [سَبَأٍ: 1] وَهُوَ أَيْضًا قِسْمٌ مِنَ الْأَقْسَامِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَخَامِسُهَا: سُورَةُ فَاطِرٍ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [فَاطِرٍ: 1] وَظَاهِرٌ أَيْضًا أَنَّهُ قِسْمٌ مِنَ الْأَقْسَامِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فَظَهَرَ أَنَّ الْكَلَامَ الْكُلِّيَّ التَّامَّ هُوَ التَّحْمِيدُ الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَهُوَ إِمَّا وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَإِمَّا مُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ. وَوَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَلَا يُمْكِنُ دُخُولُهُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا بِإِيجَادِ اللَّه تَعَالَى وَتَكْوِينِهِ وَالْوُجُودُ نِعْمَةٌ فَالْإِيجَادُ إِنْعَامٌ وَتَرْبِيَةٌ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَأَنَّهُ تَعَالَى الْمُرَبِّي لِكُلِّ مَا سِوَاهُ وَالْمُحْسِنُ إِلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ. فَذَلِكَ الْكَلَامُ هُوَ الْكَلَامُ الْكُلِّيُّ الْوَافِي بِالْمَقْصُودِ. أَمَّا التَّحْمِيدَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّوَرِ فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ ذَلِكَ التَّحْمِيدِ وَنَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِهِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَبَيْنَ الْفَاطِرِ وَالرَّبِّ؟ وَأَيْضًا لِمَ قَالَ هَاهُنَا خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمَاضِي؟ وَقَالَ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَنَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنِ الْأَوَّلِ: الْخَلْقُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ وَهُوَ فِي حَقِّ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ عِبَارَةٌ عَنْ عِلْمِهِ النَّافِذِ فِي جَمِيعِ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ الْوَاصِلِ إِلَى جَمِيعِ ذَوَاتِ الْكَائِنَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ وَأَمَّا كَوْنُهُ فَاطِرًا فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الإيجاد والا بداع، فَكَوْنُهُ تَعَالَى خَالِقًا إِشَارَةٌ إِلَى صِفَةِ الْعِلْمِ، وَكَوْنُهُ فَاطِرًا إِشَارَةٌ إِلَى صِفَةِ الْقُدْرَةِ، وَكَوْنُهُ تَعَالَى رَبًّا وَمُرَبِّيًا مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَكْمَلَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْخَلْقَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ وَهُوَ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنْ عِلْمِهِ بِالْمَعْلُومَاتِ، وَالْعِلْمُ بِالشَّيْءِ يَصِحُّ تَقَدُّمُهُ عَلَى وُجُودِ الْمَعْلُومِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْلَمَ الشَّيْءَ قَبْلَ/ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ. أَمَّا إِيجَادُ الشَّيْءِ، فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا حَالَ وُجُودِ الْأَثَرِ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِنَا أَنَّ الْقُدْرَةَ إِنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي وُجُودِ الْمَقْدُورِ حَالَ وُجُودِ الْمَقْدُورِ. فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِهَا قبل وجودها، وقال: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَكُونُ فَاطِرًا لَهَا وَمُوجِدًا لَهَا عِنْدَ وُجُودِهَا.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ احْمَدُوا اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا جَاءَ عَلَى صِيغَةِ الْخَبَرِ لِفَوَائِدَ: إِحْدَاهَا: أَنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ يُفِيدُ تَعْلِيمَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَلَوْ قَالَ: احْمَدُوا لَمْ يَحْصُلْ مَجْمُوعُ هَاتَيْنِ الْفَائِدَتَيْنِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ تَعَالَى مُسْتَحِقُّ الْحَمْدِ سَوَاءٌ حَمِدَهُ حَامِدٌ أَوْ لَمْ يَحْمَدْهُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ ذِكْرُ الْحُجَّةِ فَذِكْرُهُ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ أَوْلَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ مَعْنَاهُ قُولُوا الْحَمْدُ للَّه. قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ تَعْلِيمُ الْعِبَادِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَلِيقُ ذِكْرُهُ إِلَّا بِالْعِبَادِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَمَرَ بِالْحَمْدِ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ أَنَّ الْحَمْدَ لَا يَحْسُنُ إِلَّا عَلَى الْإِنْعَامِ، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ هَذَا الْأَمْرُ حَامِلًا لِلْمُكَلَّفِ عَلَى أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي أَقْسَامِ نِعَمِ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ النِّعَمَ يُسْتَدَلُّ بِذِكْرِهَا عَلَى مَقْصُودَيْنِ شَرِيفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ قَدْ حَدَثَتْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُحْدِثٍ وَمُحَصِّلٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ هُوَ الْعَبْدَ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُرِيدُ تَحْصِيلَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ النِّعَمِ لِنَفْسِهِ، فَلَوْ كَانَ حُصُولُ النِّعَمِ لِلْعَبْدِ بِوَاسِطَةِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ وَاخْتِيَارِهِ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ وَاصِلًا إِلَى جَمِيعِ أَقْسَامِ النِّعَمِ إِذْ لَا أَحَدَ إِلَّا وَهُوَ يُرِيدُ تَحْصِيلَ كُلِّ النِّعَمِ لِنَفْسِهِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِحُدُوثِ هَذِهِ النِّعَمِ مِنْ مُحْدِثٍ وَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ الْمُحْدِثَ لَيْسَ هُوَ الْعَبْدَ، فَوَجَبَ الْإِقْرَارُ بِمُحْدِثٍ قَاهِرٍ قَادِرٍ، وَهُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ مَقَاصِدِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّ الْقُلُوبَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا وَبُغْضِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهَا فَإِذَا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى الْعَبْدَ بِالتَّحْمِيدِ، وَكَانَ الْأَمْرُ بِالتَّحْمِيدِ مِمَّا يَحْمِلُهُ عَلَى تَذَكُّرِ أَنْوَاعِ نِعَمِ اللَّه تَعَالَى، صَارَ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ حَامِلًا لِلْعَبْدِ عَلَى تَذَكُّرِ أَنْوَاعِ نِعَمِ اللَّه عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ النِّعَمُ كَثِيرَةً خَارِجَةً عَنِ الْحَدِّ وَالْإِحْصَاءِ، صَارَ تَذَكُّرُ تِلْكَ النِّعَمِ مُوجِبَةً رُسُوخَ حُبِّ اللَّه تَعَالَى فِي قَلْبِ الْعَبْدِ. فَثَبَتَ أَنَّ تَذْكِيرَ النِّعَمِ يُفِيدُ هَاتَيْنِ الْفَائِدَتَيْنِ الشَّرِيفَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: الِاسْتِدْلَالُ بِحُدُوثِهَا عَنِ الْإِقْرَارِ بِوُجُودِ اللَّه تَعَالَى. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الشُّعُورَ بِكَوْنِهَا نِعَمًا يُوجِبُ ظُهُورَ حُبِّ اللَّه فِي الْقَلْبِ، وَلَا مَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ إِلَّا هَذَانِ الْأَمْرَانِ. فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، لِأَنَّ الْعَالَمَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى، وَمَا سِوَى اللَّه إِمَّا جِسْمٌ أَوْ حَالٌّ فِيهِ أَوْ لَا جِسْمٌ وَلَا حَالٌّ فِيهِ، وَهُوَ الْأَرْوَاحُ. ثُمَّ الْأَجْسَامُ إِمَّا فَلَكِيَّةٌ، وَإِمَّا عُنْصُرِيَّةٌ. أَمَّا الْفَلَكِيَّاتُ فَأَوَّلُهَا الْعَرْشُ الْمَجِيدُ، ثُمَّ الْكُرْسِيُّ الرَّفِيعُ. وَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الْعَرْشَ مَا هُوَ، وَأَنَّ الْكُرْسِيَّ مَا هُوَ، وَأَنْ يَعْرِفَ صِفَاتِهِمَا وَأَحْوَالَهُمَا، ثُمَّ يَتَأَمَّلَ أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ، وَالْقَلَمَ وَالرَّفْرَفَ، وَالْبَيْتَ الْمَعْمُورَ، وَسِدْرَةَ الْمُنْتَهَى مَا هِيَ، وَأَنْ يَعْرِفَ حَقَائِقَهَا، ثُمَّ يتفكر في طبقات السموات وَكَيْفِيَّةِ اتِّسَاعِهَا وَأَجْرَامِهَا وَأَبْعَادِهَا، ثُمَّ يَتَأَمَّلَ فِي الْكَوَاكِبِ الثَّابِتَةِ وَالسَّيَّارَةِ، ثُمَّ يَتَأَمَّلَ فِي عَالَمِ الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ وَالْمَوَالِيدِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْمَعَادِنُ وَالنَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ، ثُمَّ يَتَأَمَّلَ فِي كَيْفِيَّةِ حِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى فِي خَلْقِهِ الْأَشْيَاءَ الْحَقِيرَةَ وَالضَّعِيفَةَ كَالْبَقِّ وَالْبَعُوضِ، ثُمَّ يَنْتَقِلَ مِنْهَا إِلَى مَعْرِفَةِ أَجْنَاسِ الْأَعْرَاضِ وَأَنْوَاعِهَا الْقَرِيبَةِ وَالْبَعِيدَةِ، وَكَيْفِيَّةِ الْمَنَافِعِ الْحَاصِلَةِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهَا، ثُمَّ يَنْتَقِلَ مِنْهَا إِلَى تَعَرُّفِ مَرَاتِبِ الْأَرْوَاحِ السُّفْلِيَّةِ وَالْعُلْوِيَّةِ وَالْعَرْشِيَّةِ وَالْفَلَكِيَّةِ، وَمَرَاتِبِ الْأَرْوَاحِ الْمُقَدَّسَةِ عَنْ عَلَائِقِ الْأَجْسَامِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الْأَنْبِيَاءِ: 19] فَإِذَا اسْتَحْضَرَ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِقَدْرِ الْقُدْرَةِ وَالطَّاقَةِ، فَقَدْ حَضَرَ فِي عَقْلِهِ ذَرَّةٌ مِنْ مَعْرِفَةِ الْعَالَمِ، وَهُوَ كُلُّ مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ عِنْدَ هَذَا يَعْرِفُ أَنَّ كُلَّ مَا

حَصَلَ لَهَا مِنَ الْوُجُودِ وَكَمَالَاتِ الْوُجُودِ فِي ذَوَاتِهَا مِنْ صِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا وَعَلَائِقِهَا، فَمِنْ إِيجَادِ الْحَقِّ وَمِنْ جُودِهِ وَوُجُودِهِ، فَعِنْدَ هَذَا يَعْرِفُ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ذَرَّةً، وَهَذَا بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، وَكَلَامٌ لَا آخِرَ لَهُ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّا وَإِنْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أُجْرِيَ مَجْرَى قَوْلِهِ قُولُوا: الْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ فَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْعَبْدِ فَلِهَذَا السَّبَبِ افْتَقَرْنَا هُنَاكَ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ. أَمَّا هَذِهِ السُّورَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ ثَنَاءَ اللَّه تَعَالَى بِهِ عَلَى نَفْسِهِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا يَدُلُّ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الشبيه في اللذات وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ جَارٍ مَجْرَى مَدْحِ النَّفْسِ وَذَلِكَ قَبِيحٌ فِي الشَّاهِدِ، فَلَمَّا أَمَرَنَا بِذَلِكَ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ قِيَاسُ الْحَقِّ عَلَى الْخَلْقِ، فَكَمَا أَنَّ هَذَا قَبِيحٌ مِنَ الْخَلْقِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَقْبُحُ مِنَ الْحَقِّ، فَكَذَلِكَ لَيْسَ كُلُّ مَا يَقْبُحُ مِنَ الْخَلْقِ وَجَبَ أَنْ يَقْبُحَ مِنَ الْحَقِّ. وَبِهَذَا الطَّرِيقِ وَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ كَلِمَاتُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ مَا قَبُحَ مِنَّا وَجَبَ أَنْ يَقْبُحَ مِنَ اللَّه. إِذَا عَرَفْتَ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَنَّ أَفْعَالَهُ لَا تُشْبِهُ أَفْعَالَ الْخَلْقِ، فَكَذَلِكَ صِفَاتُهُ لَا تُشْبِهُ صِفَاتِ الْخَلْقِ، وَذَاتُهُ لَا تُشْبِهُ ذَوَاتَ الْخَلْقِ، وَعِنْدَ هَذَا يَحْصُلُ التَّنْزِيهُ الْمُطْلَقُ وَالتَّقْدِيسُ الْكَامِلُ عَنْ كَوْنِهِ تَعَالَى/ مُشَابِهًا لِغَيْرِهِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، فَهُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ، لَا شَرِيكَ لَهُ فِي صِفَاتِهِ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ وَاحِدٌ فِي أَفْعَالِهِ لَا شَبِيهَ لَهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ واللَّه أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: فِي السُّؤَالَاتِ الْمُتَوَجِّهَةِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: إِنَّ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ جَارٍ مَجْرَى مَا يُقَالُ: جَاءَنِي الرَّجُلُ الْفَقِيهُ. فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ رَجُلٍ آخَرَ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ إِلَى ذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ حَاجَةٌ كذا هاهنا قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ يوهم أن هناك إلها لم يخلق السموات وَالْأَرْضَ، وَإِلَّا فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ (اللَّه) جَارٍ مجرى اسم العلم. فإذا ذكر الوصف لا سم الْعَلَمِ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الْوَصْفِ التَّمْيِيزَ، بَلْ تَعْرِيفَ كَوْنِ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُسَمَّى، مَوْصُوفًا بِتِلْكَ الصِّفَةِ. مِثَالُهُ إِذَا قُلْنَا الرَّجُلُ الْعَالِمُ، فَقَوْلُنَا: الرَّجُلُ اسْمُ الْمَاهِيَّةِ، وَالْمَاهِيَّةُ تَتَنَاوَلُ الأشخاص المذكورين الكثيرين. فكان المقصود هاهنا مِنْ ذِكْرِ الْوَصْفِ تَمْيِيزَ هَذَا الرَّجُلِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ عَنْ سَائِرِ الرِّجَالِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: زَيْدٌ الْعَالِمُ، فَلَفْظُ زَيْدٌ اسْمُ عَلَمٍ، وَهُوَ لَا يُفِيدُ إِلَّا هَذِهِ الذَّاتَ الْمُعَيَّنَةَ، لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَعْلَامِ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْإِشَارَاتِ. فَإِذَا وَصَفْنَاهُ بِالْعِلْمِيَّةِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَمْيِيزَ ذَلِكَ الشَّخْصِ عَنْ غَيْرِهِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَعْرِيفُ كَوْنِ ذَلِكَ الْمُسَمَّى مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ (اللَّه) مِنْ بَابِ أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ، لَا جَرَمَ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ واللَّه أَعْلَمُ.

السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَدَّمَ ذِكْرَ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ التَّنْزِيلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ مُقَدَّمٌ عَلَى خَلْقِ السَّمَاءِ؟ وَالْجَوَابُ: السَّمَاءُ كَالدَّائِرَةِ، وَالْأَرْضُ كَالْمَرْكَزِ، وَحُصُولُ الدَّائِرَةِ يُوجِبُ تَعَيُّنَ الْمَرْكَزِ وَلَا يَنْعَكِسُ، فَإِنَّ حُصُولَ الْمَرْكَزِ لَا يُوجِبُ تَعَيُّنَ الدَّائِرَةِ لِإِمْكَانِ أَنْ يُحِيطَ بِالْمَرْكَزِ الْوَاحِدِ دَوَائِرُ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَلَمَّا كَانَتِ السَّمَاءُ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْأَرْضِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَجَبَ تَقْدِيمُ ذِكْرِ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ ذَكَرَ السَّمَاءَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَالْأَرْضَ بِصِيغَةِ الْوَاحِدِ مَعَ أَنَّ الْأَرَضِينَ أَيْضًا كَثِيرَةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطَّلَاقِ: 12] . وَالْجَوَابُ: أَنَّ السَّمَاءَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْفَاعِلِ وَالْأَرْضَ مَجْرَى الْقَابِلِ. فَلَوْ كَانَتِ السَّمَاءُ وَاحِدَةً لَتَشَابَهَ الْأَثَرُ، وَذَلِكَ يُخِلُّ بِمَصَالِحِ هَذَا الْعَالَمِ. أَمَّا لَوْ كَانَتْ كَثِيرَةً اخْتَلَفَتِ الِاتِّصَالَاتُ الْكَوْكَبِيَّةُ فَحَصَلَ بِسَبَبِهَا الْفُصُولُ/ الْأَرْبَعَةُ، وَسَائِرُ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَحَصَلَ بِسَبَبِ تِلْكَ الِاخْتِلَافَاتِ مَصَالِحُ هَذَا الْعَالَمِ. أَمَّا الْأَرْضُ فَهِيَ قَابِلَةٌ لِلْأَثَرِ وَالْقَابِلُ الْوَاحِدُ كَافٍ فِي الْقَبُولِ، وَأَمَّا دَلَالَةُ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى تَعَدُّدِ الْأَرَضِينَ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ كَيْفِيَّةَ الْحَالِ فِيهَا واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِ الصانع. وتقريره أن أجرام السموات وَالْأَرْضِ تَقَدَّرَتْ فِي أُمُورٍ مَخْصُوصَةٍ بِمَقَادِيرَ مَخْصُوصَةٍ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ إِلَّا بِتَخْصِيصِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ. أَمَّا بَيَانُ الْمَقَامِ الْأَوَّلِ فَمِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ فَلَكٍ مَخْصُوصٍ اخْتَصَّ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي كَانَ حَاصِلًا مِقْدَارًا أَزْيَدَ مِنْهُ أَوْ أَنْقَصَ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ فَلَكٍ بِمِقْدَارٍ مُرَكَّبٍ مِنْ أَجْزَاءٍ، وَالْجُزْءُ الدَّاخِلُ كَانَ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ خَارِجًا وَبِالْعَكْسِ. فَوُقُوعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي حَيِّزِهِ الْخَاصِّ أَمْرٌ جَائِزٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ جَائِزَانِ عَلَى كُلِّ الْأَجْسَامِ بِدَلِيلِ أَنَّ الطَّبِيعَةَ الْجِسْمِيَّةَ وَاحِدَةٌ. وَلَوَازِمَ الْأُمُورِ الْوَاحِدَةِ وَاحِدَةٌ. فَإِذَا صَحَّ السُّكُونُ وَالْحَرَكَةُ عَلَى بَعْضِ الْأَجْسَامِ، وَجَبَ أَنْ يَصِحَّا عَلَى كُلِّهَا. فَاخْتِصَاصُ الْجِسْمِ الْفَلَكِيِّ بِالْحَرَكَةِ دُونَ السُّكُونِ اخْتِصَاصٌ بِأَمْرٍ مُمْكِنٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ كُلَّ حَرَكَةٍ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ وُقُوعُهَا أَسْرَعَ مِمَّا وَقَعَ وَأَبْطَأَ مِمَّا وَقَعَ، فَاخْتِصَاصُ تِلْكَ الْحَرَكَةِ الْمُعَيَّنَةِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ مِنَ السُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ اخْتِصَاصٌ بِأَمْرٍ مُمْكِنٍ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ كُلَّ حَرَكَةٍ، وَقَعَتْ مُتَوَجِّهَةً إِلَى جِهَةٍ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ وُقُوعُهَا مُتَوَجِّهَةً إِلَى سَائِرِ الْجِهَاتِ. فَاخْتِصَاصُهَا بِالْوُقُوعِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الْخَاصِّ اخْتِصَاصٌ بِأَمْرٍ مُمْكِنٍ. وَالسَّادِسُ: أَنَّ كُلَّ فَلَكٍ فَإِنَّهُ يُوجَدُ جِسْمٌ آخَرُ إِمَّا أَعْلَى مِنْهُ وَإِمَّا أَسْفَلَ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَ وُقُوعُهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ التَّرْتِيبِ أَمْرًا مُمْكِنًا، بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَجْسَامَ لَمَّا كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً فِي الطَّبِيعَةِ الْجِسْمِيَّةِ، فَكُلُّ مَا صَحَّ عَلَى بَعْضِهَا صَحَّ عَلَى كُلِّهَا، فَكَانَ اخْتِصَاصُهُ بِذَلِكَ الْحَيِّزِ وَالتَّرْتِيبِ أَمْرًا مُمْكِنًا. وَالسَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ لِحَرَكَةِ كُلِّ فَلَكٍ أَوَّلًا، لِأَنَّ وُجُودَ حَرَكَةٍ لَا أَوَّلَ لَهَا مُحَالٌ. لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَرَكَةِ انْتِقَالٌ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ. وَهَذَا الِانْتِقَالُ يَقْتَضِي كَوْنَهَا مَسْبُوقَةً بِالْغَيْرِ. وَالْأَوَّلُ يُنَافِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ. فَثَبَتَ أَنَّ لِكُلِّ حَرَكَةٍ أَوَّلًا، وَاخْتِصَاصُ ابْتِدَاءِ حُدُوثِهِ بِذَلِكَ الْوَقْتِ، دُونَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ اخْتِصَاصٌ بِأَمْرٍ مُمْكِنٍ. وَالثَّامِنُ: هُوَ أَنَّ الْأَجْسَامَ، لَمَّا كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ كَانَ اتِّصَافُ بَعْضِهَا بِالْفَلَكِيَّةِ وَبَعْضِهَا بِالْعُنْصُرِيَّةِ دُونَ الْعَكْسِ، اخْتِصَاصًا بِأَمْرٍ مُمْكِنٍ. وَالتَّاسِعُ: وَهُوَ أَنَّ حَرَكَاتِهَا فِعْلٌ لِفَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ فَلَهَا أَوَّلٌ. بَيَانُ الْمَقَامِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِيهَا لَوْ كَانَ عِلَّةً مُوجِبَةً بِالذَّاتِ لَزِمَ مِنْ دَوَامِ تِلْكَ الْعِلَّةِ دَوَامُ آثَارِهَا، فَيَلْزَمُ

من دوام تلك، دَوَامُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ الْمُتَقَوِّمَةِ فِي هَذِهِ الْحَرَكَةِ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُحَالًا ثَبَتَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِيهَا لَيْسَ عِلَّةً مُوجِبَةً بِالذَّاتِ، بَلْ/ فَاعِلًا مُخْتَارًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَجَبَ كَوْنُ ذَلِكَ الْفَاعِلِ مُتَقَدِّمًا عَلَى هَذِهِ الْحَرَكَاتِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهَا بِدَايَةٌ. الْعَاشِرُ: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ حَصَلَ خَارِجَ الْعَالَمِ خَلَاءٌ لَا نِهَايَةَ لَهُ بِدَلِيلِ أَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنْفُسَنَا وَاقِفِينَ عَلَى طَرَفِ الْفَلَكِ الْأَعْلَى فَإِنَّا نُمَيِّزُ بَيْنَ الْجِهَةِ الَّتِي تَلِي قُدَّامَنَا وَبَيْنَ الْجِهَةِ الَّتِي تَلِي خَلْفَنَا، وَثُبُوتُ هَذَا الِامْتِيَازِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ حَصَلَ خَارِجَ الْعَالَمِ خَلَاءٌ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَحُصُولُ هَذَا الْعَالَمِ فِي هَذَا الْحَيِّزِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ دُونَ سَائِرِ الْأَحْيَازِ أَمْرٌ مُمْكِنٌ، فثبت بهذه الوجوه العشرة: أن أجرام السموات وَالْأَرَضِينَ مُخْتَلِفَةٌ بِصِفَاتٍ وَأَحْوَالٍ، فَكَانَ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ حُصُولُ أَضْدَادِهَا وَمُقَابَلَاتِهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ هَذَا الِاخْتِصَاصُ الْخَاصُّ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ وَمُقَدِّرٍ وَإِلَّا فَقَدْ تَرَجُّحِ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْخَلْقِ إِلَّا التَّقْدِيرُ. فَلَمَّا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى حُصُولِ التَّقْدِيرِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْعَشَرَةِ، وَجَبَ حُصُولُ الْخَلْقِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْعَشَرَةِ. فَلِهَذَا الْمَعْنَى. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ واللَّه أَعْلَمُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذكر السموات وَالْأَرْضِ وَالظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِيهَا من المنافع. واعلم أن منافع السموات أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحِيطَ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا المجلدات، وذلك لأن السموات بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَوَالِيدِ هَذَا الْعَالَمِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَبِ وَالْأَرْضَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأُمِّ فَالْعِلَلُ الْفَاعِلَةُ سَمَاوِيَّةٌ وَالْعِلَلُ الْقَابِلَةُ أَرْضِيَّةٌ وَبِهَا يَتِمُّ أَمْرُ الْمَوَالِيدِ الثَّلَاثَةِ. وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي شَرْحِ ذلك لا سبيل له. أَمَّا قَوْلُهُ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَفْظُ (جَعَلَ) يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى أَحْدَثَ وَأَنْشَأَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ وَإِلَى مَفْعُولَيْنِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى صَيَّرَ كَقَوْلِهِ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزُّخْرُفِ: 19] وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْجَعْلِ أَنَّ الْخَلْقَ فِيهِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ، وَفِي الْجَعْلِ مَعْنَى التَّضْمِينِ وَالتَّصْيِيرِ كَإِنْشَاءِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ، وَتَصْيِيرِ شَيْءٍ شَيْئًا، وَمِنْهُ: قَوْلُهُ تعالى: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الأعراف: 189] وقوله وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً [الرعد: 38] وَقَوْلُهُ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: 5] وَإِنَّمَا حسن لفظ الجعل هاهنا لِأَنَّ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ لَمَّا تَعَاقَبَا صَارَ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنَّمَا تَوَلَّدَ مِنَ الْآخَرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي لَفْظِ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا الْأَمْرَانِ الْمَحْسُوسَانِ بِحِسِّ الْبَصَرِ وَالَّذِي يُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا. وَأَيْضًا هَذَانِ الْأَمْرَانِ إِذَا جُعِلَا مَقْرُونَيْنِ/ بذكر السموات وَالْأَرْضِ، فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُمَا إِلَّا هَاتَانِ الْكَيْفِيَّتَانِ الْمَحْسُوسَتَانِ وَالثَّانِي: نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ أَيْ ظُلْمَةَ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ وَالْكُفْرِ وَالنُّورُ يُرِيدُ نُورَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْيَقِينِ. وَنُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: يَعْنِي الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ، وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، فَكَانَ قَوْلُ الْحَسَنِ كَالتَّلْخِيصِ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَوْلَى، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلِأَنَّ الظلمات والنور إذا كان ذكرهما مقرونا بالسموات وَالْأَرْضِ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْأَوْلَى حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِمَا مَعًا. وأقول هذا مشكل لأنه حمل اللفظ عَلَى مَجَازِهِ، وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ

[سورة الأنعام (6) : آية 2]

بِالِاعْتِبَارِ الْوَاحِدِ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ الظُّلُمَاتِ عَلَى ذِكْرِ النُّورِ لِأَجْلِ أَنَّ الظُّلْمَةَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ النُّورِ عَنِ الْجِسْمِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ قَبُولُ النُّورِ، وَلَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ كَيْفِيَّةٍ وُجُودِيَّةٍ مُضَادَّةٍ لِلنُّورِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا جَلَسَ إِنْسَانٌ بِقُرْبِ السِّرَاجِ، وَجَلَسَ إِنْسَانٌ آخَرُ بِالْبُعْدِ مِنْهُ، فَإِنَّ الْبَعِيدَ يَرَى الْقَرِيبَ وَيَرَى ذَلِكَ الْهَوَاءَ صَافِيًا مُضِيئًا، وَأَمَّا الْقَرِيبُ فَإِنَّهُ لَا يَرَى الْبَعِيدَ وَيَرَى ذَلِكَ الْهَوَاءَ مُظْلِمًا، فَلَوْ كَانَتِ الظُّلْمَةُ كَيْفِيَّةً وُجُودِيَّةً لَكَانَتْ حَاصِلَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَيْنِ الشَّخْصَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الظُّلْمَةَ ليست كيفية وجودية. وإذا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: عَدَمُ الْمُحْدَثَاتِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى وُجُودِهَا، فَالظُّلْمَةُ مُتَقَدِّمَةٌ فِي التَّقْدِيرِ وَالتَّحَقُّقِ عَلَى النُّورِ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا فِي اللَّفْظِ، وَمِمَّا يُقَوِّي ذَلِكَ مَا يُرْوَى فِي الْأَخْبَارِ الْإِلَهِيَّةِ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ فِي ظُلْمَةٍ، ثُمَّ رَشَّ عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ ذَكَرَ الظُّلُمَاتِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَالنُّورَ بِصِيغَةِ الْوَاحِدِ؟ فَنَقُولُ: أَمَّا مَنْ حَمَلَ الظُّلُمَاتِ على الكفر والنور على الإيمان، فكلامه هاهنا ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَالْبَاطِلَ كَثِيرٌ، وَأَمَّا مَنْ حَمَلَهَا عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْمَحْسُوسَةِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ النُّورَ عِبَارَةٌ عَنْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ الْكَامِلَةِ الْقَوِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَقْبَلُ التَّنَاقُصَ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَتِلْكَ الْمَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ. فَلِهَذَا السَّبَبِ عَبَّرَ عَنِ الظُّلُمَاتِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ التَّسْوِيَةُ. يُقَالُ: عَدَلَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إِذَا سَوَّاهُ بِهِ، وَمَعْنَى يَعْدِلُونَ يُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ. فَإِنْ قِيلَ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ عُطِفَ قَوْلُهُ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللَّه حَقِيقٌ بِالْحَمْدِ عَلَى كُلِّ مَا خَلَقَ لِأَنَّهُ مَا خَلَقَهُ إِلَّا نِعْمَةً ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فَيَكْفُرُونَ بِنِعْمَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ على معنى أن خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَحَدٌ سِوَاهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَعْدِلُونَ بِهِ جَمَادًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى ثُمَّ؟ قُلْنَا: الْفَائِدَةُ فِيهِ اسْتِبْعَادُ أَنْ يَعْدِلُوا بِهِ بَعْدَ وُضُوحِ آيَاتِ قدرته واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 2] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) [فِي قَوْلُهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ ذِكْرَ دَلِيلٍ آخَرَ مِنْ دَلَائِلَ إثبات الصانع تعالى، ويحتمل أن لا يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ ذِكْرَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ الْمَعَادِ وَصِحَّةِ الْحَشْرِ. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَتَقْرِيرُهُ: أن اللَّه تعالى لما استدل بخلقه السموات وَالْأَرْضَ وَتَعَاقُبِ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ أَتْبَعَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِهِ الْإِنْسَانَ، عَلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمْ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ كَانَ مَخْلُوقًا مِنْ طِينٍ. فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: هُوَ

الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ مِنَ الْمَنِيِّ ومن دم الطمث، وهما يتولدان مِنَ الدَّمِ، وَالدَّمُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْأَغْذِيَةِ، وَالْأَغْذِيَةُ إِمَّا حَيَوَانِيَّةٌ وَإِمَّا نَبَاتِيَّةٌ، فَإِنْ كَانَتْ حَيَوَانِيَّةً كَانَ الْحَالُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَلُّدِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ كَالْحَالِ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَلُّدِ الْإِنْسَانِ، فَبَقِيَ أَنْ تَكُونَ نَبَاتِيَّةً، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ مِنَ الْأَغْذِيَةِ النَّبَاتِيَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنَ الطِّينِ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الطِّينِ. وَهَذَا الْوَجْهُ عِنْدِي أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: هُنَا الطِّينُ قَدْ تَوَلَّدَتِ النُّطْفَةُ مِنْهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ تَوَلَّدَ مِنَ النُّطْفَةِ أَنْوَاعُ الْأَعْضَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الصِّفَةِ وَالصُّورَةِ وَاللَّوْنِ وَالشَّكْلِ مِثْلَ الْقَلْبِ وَالدِّمَاغِ وَالْكَبِدِ، وَأَنْوَاعُ الْأَعْضَاءِ الْبَسِيطَةِ كَالْعِظَامِ وَالْغَضَارِيفِ وَالرِّبَاطَاتِ وَالْأَوْتَارِ وَغَيْرِهَا، وَتَوَلُّدُ الصِّفَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْمَادَّةِ الْمُتَشَابِهَةِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِتَقْدِيرِ مُقَدِّرٍ حَكِيمٍ وَمُدَبِّرٍ رَحِيمٍ وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَقْرِيرُ أَمْرِ الْمَعَادِ، فَنَقُولُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ تَخْلِيقَ بَدَنِ الْإِنْسَانِ إِنَّمَا حَصَلَ، لأن الفاعل الحكيم والمقدر الرحيم، رتب حلقة هَذِهِ الْأَعْضَاءِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ بِحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَتِلْكَ الْقُدْرَةُ وَالْحِكْمَةُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ مَوْتِ الْحَيَوَانِ فَيَكُونُ قَادِرًا عَلَى إِعَادَتِهَا وَإِعَادَةِ الْحَيَاةِ فِيهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْمَعَادِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ قَضى أَجَلًا فَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: لَفْظُ الْقَضَاءِ قَدْ يَرِدُ بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَالْأَمْرِ. قَالَ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاءِ: 23] وَبِمَعْنَى الْخَبَرِ وَالْإِعْلَامِ. قَالَ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ [الْإِسْرَاءِ: 4] وَبِمَعْنَى صِفَةِ الْفِعْلِ إِذَا تَمَّ. قَالَ تَعَالَى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فُصِّلَتَ: 12] وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ قَضَى فُلَانٌ حَاجَةَ فُلَانٍ. وَأَمَّا الْأَجَلُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ لِانْقِضَاءِ الْأَمَدِ، وَأَجَلُ الْإِنْسَانِ هُوَ الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ لِانْقِضَاءِ عُمُرِهِ، وَأَجَلُ الدَّيْنِ مَحِلُّهُ لِانْقِضَاءِ التَّأْخِيرِ فِيهِ وَأَصْلُهُ مِنَ التَّأْخِيرِ يُقَالُ أَجِلَ الشَّيْءُ يَأْجِلُ أَجُولًا، وَهُوَ آجِلٌ إِذَا تَأَخَّرَ وَالْآجِلُ نَقِيضُ الْعَاجِلِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُهُ ثُمَّ قَضى أَجَلًا مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّصَ مَوْتَ كُلِّ وَاحِدٍ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَذَلِكَ التَّخْصِيصُ عِبَارَةٌ عَنْ تَعَلُّقِ مَشِيئَتِهِ بِإِيقَاعِ ذَلِكَ الْمَوْتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 15] . وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ فَاعْلَمْ أَنَّ صَرِيحَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ أَجَلَيْنِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِهِمَا عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ قَوْلُهُ ثُمَّ قَضى أَجَلًا الْمُرَادُ مِنْهُ آجَالُ الْمَاضِينَ مِنَ الْخَلْقِ وَقَوْلُهُ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ الْمُرَادُ مِنْهُ آجَالُ الْبَاقِينَ مِنَ الْخَلْقِ فَهُوَ خَصَّ هَذَا الْأَجَلَ. الثَّانِيَ: بِكَوْنِهِ مُسَمًّى عِنْدَهُ، لِأَنَّ الْمَاضِينَ لَمَّا مَاتُوا صَارَتْ آجَالُهُمْ مَعْلُومَةً، أَمَّا الْبَاقُونَ فَهُمْ بَعْدُ لَمْ يَمُوتُوا فَلَمْ تَصِرْ آجَالُهُمْ مَعْلُومَةً، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَجَلَ الْأَوَّلَ هُوَ أَجَلُ الْمَوْتِ وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى عِنْدَ اللَّه هُوَ أَجَلُ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ مُدَّةَ حَيَاتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ لَا آخِرَةَ لَهَا وَلَا انْقِضَاءَ وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ كَيْفِيَّةَ الْحَالِ فِي هَذَا الْأَجَلِ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

[سورة الأنعام (6) : آية 3]

وَالثَّالِثُ: الْأَجَلُ الْأَوَّلُ مَا بَيْنَ أَنْ يُخْلَقَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ. وَالثَّانِي: مَا بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْبَعْثِ وَهُوَ الْبَرْزَخُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْأَوَّلَ: هُوَ النَّوْمُ وَالثَّانِيَ: الْمَوْتُ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْأَجَلَ الْأَوَّلَ مِقْدَارُ مَا انْقَضَى مِنْ عُمُرِ كُلِّ أَحَدٍ، وَالْأَجَلَ الثَّانِي: مِقْدَارُ مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِ كُلِّ أَحَدٍ. وَالسَّادِسُ: وَهُوَ قَوْلُ حُكَمَاءَ الْإِسْلَامِ أَنَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ أَجَلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْآجَالُ الطَّبِيعِيَّةُ. وَالثَّانِي: الْآجَالُ الِاخْتِرَامِيَّةُ. أَمَّا الْآجَالُ الطَّبِيعِيَّةُ: فَهِيَ الَّتِي لَوْ بَقِيَ ذَلِكَ الْمِزَاجُ/ مَصُونًا مِنَ العوارض الخارجية لا لَانْتَهَتْ مُدَّةُ بَقَائِهِ إِلَى الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ، وَأَمَّا الْآجَالُ الِاخْتِرَامِيَّةُ: فَهِيَ الَّتِي تَحْصُلُ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْخَارِجِيَّةِ: كَالْغَرَقِ وَالْحَرْقِ وَلَدْغِ الْحَشَرَاتِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُعْضِلَةِ، وَقَوْلُهُ مُسَمًّى عِنْدَهُ أَيْ مَعْلُومٌ عِنْدَهُ أَوْ مَذْكُورٌ اسْمُهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَمَعْنَى عِنْدَهُ شَبِيهٌ بِمَا يَقُولُ الرَّجُلُ فِي الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي أَنَّ الْأَمْرَ كَذَا وَكَذَا أَيْ هَذَا اعْتِقَادِي وَقَوْلِي. فَإِنْ قِيلَ: الْمُبْتَدَأُ النَّكِرَةُ إِذَا كَانَ خَبَرُهُ ظَرْفًا وَجَبَ تَأْخِيرُهُ فَلِمَ جَازَ تَقْدِيمُهُ فِي قَوْلِهِ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ قُلْنَا: لِأَنَّهُ تَخَصَّصَ بِالصِّفَةِ فَقَارَبَ الْمَعْرِفَةَ كَقَوْلِهِ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ [الْبَقَرَةِ: 221] . وَأَمَّا قَوْلُهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ فَنَقُولُ: الْمِرْيَةُ وَالِامْتِرَاءُ هُوَ الشَّكُّ. وَاعْلَمْ أَنَّا إِنْ قُلْنَا الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ بَعْدَ ظُهُورِ مِثْلِ هَذِهِ الْحُجَّةِ الْبَاهِرَةِ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ فِي صِحَّةِ التَّوْحِيدِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ تَصْحِيحَ الْقَوْلِ بالمعاد فكذلك واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 3] وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَاعْلَمْ أَنَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ. قُلْنَا: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فَإِنَّ الْآيَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ يَدُلَّانِ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْعِلْمِ وَحِينَئِذٍ يَكْمُلُ الْعِلْمُ بِالصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي حُصُولِ الْإِلَهِيَّةِ، وَإِنْ قُلْنَا: الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ الْمَعَادِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَكْمِيلُ ذَلِكَ الْبَيَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُنْكِرِي الْمَعَادِ إِنَّمَا أَنْكَرُوهُ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي حُدُوثِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ هُوَ امْتِزَاجُ الطَّبَائِعِ وَيُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ فِيهِ قَادِرًا مُخْتَارًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ يُسَلِّمُونَ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِالْجُزْئِيَّاتِ فَلَا يُمْكِنُهُ تَمْيِيزُ الْمُطِيعِ من العاصي، ولا تميز أَجْزَاءِ بَدَنِ زَيْدٍ عَنْ أَجْزَاءِ بَدَنِ عَمْرٍو ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ بِالْآيَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ كَوْنَهُ تَعَالَى قَادِرًا وَمُخْتَارًا لَا عِلَّةً مُوجِبَةً، وَأَثْبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَحِينَئِذٍ تَبْطُلُ جَمِيعُ الشُّبُهَاتِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْقَوْلِ بِإِنْكَارِ الْمَعَادِ، وَصِحَّةِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ فَهَذَا هو الكلام في نظم الآية وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِالْمَكَانِ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ مُسْتَقِرٌّ فِي السَّمَاءِ قَالُوا: وَيَتَأَكَّدُ هَذَا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ [الْمُلْكِ: 16] قَالُوا: وَلَا يَلْزَمُنَا أَنْ يُقَالَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي حُصُولَهُ تَعَالَى فِي الْمَكَانَيْنِ مَعًا وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّا نَقُولُ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْأَرْضِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الْعَمَلِ بِأَحَدِ الظَّاهِرَيْنَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالظَّاهِرِ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى ظَاهِرُ قَوْلِهِ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ عَلَى ذَلِكَ الظَّاهِرِ، وَلِأَنَّ مِنَ الْقُرَّاءِ مَنْ وَقَفَ عِنْدَ

قَوْلِهِ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ ثُمَّ يَبْتَدِئُ فَيَقُولُ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ سَرَائِرَكُمُ الْمَوْجُودَةَ فِي الْأَرْضِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ فِي الْأَرْضِ صِلَةً لِقَوْلِهِ سِرَّكُمْ هَذَا تمام كلامهم. وَاعْلَمْ أَنَّا نُقِيمُ الدَّلَالَةَ أَوَّلًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الْأَنْعَامِ: 12] فَبَيَّنَ بِهَذِهِ الآية أن كل ما في السموات وَالْأَرْضِ فَهُوَ مِلْكٌ للَّه تَعَالَى وَمَمْلُوكٌ لَهُ، فَلَوْ كَانَ اللَّه أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي السموات لَزِمَ كَوْنُهُ مِلْكًا لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ طه لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما [طه: 6] فَإِنْ قَالُوا قَوْلِهِ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كل ما في السموات فَهُوَ للَّه إِلَّا أَنَّ كَلِمَةَ مَا مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ لَا يَعْقِلُ فَلَا يَدْخُلُ فِيهَا ذَاتُ اللَّه تَعَالَى. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها [الشَّمْسِ: 5- 7] وَنَظِيرُهُ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الْكَافِرُونَ: 3] وَلَا شَكَّ أَنَّ المراد بكلمة ما هاهنا هُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ منه أنه موجود في جميع السموات، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي سَمَاءٍ وَاحِدَةٍ. وَالثَّانِي: تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ وَالْأَوَّلُ: عَلَى قِسْمَيْنِ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَاصِلُ مِنْهُ تَعَالَى فِي أحد السموات عين ما حصل منه في سائر السموات أَوْ غَيْرَهُ، وَالْأَوَّلُ: يَقْتَضِي حُصُولَ الْمُتَحَيِّزِ الْوَاحِدِ فِي مَكَانَيْنِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ. وَالثَّانِي: يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَعَالَى مُرَكَّبًا مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا في السموات لَكَانَ مَحْدُودًا مُتَنَاهِيًا وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَبُولُهُ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مُمْكِنًا، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اخْتِصَاصُهُ بِالْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ لِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وَتَقْدِيرِ مُقَدِّرٍ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي السموات فَهَلْ يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ عَالَمٍ آخَرَ فَوْقَ هذه السموات أَوْ لَا يَقْدِرُ، وَالثَّانِي: يُوجِبُ تَعْجِيزَهُ وَالْأَوَّلُ: يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَحَصَلَ تَحْتَ هَذَا الْعَالَمِ، وَالْقَوْمُ يُنْكِرُونَ كَوْنَهُ تَحْتَ الْعَالَمِ/ وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الْحَدِيدِ: 4] وَقَالَ: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] وَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزُّخْرُفِ: 84] وَقَالَ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 115] وَكُلُّ ذَلِكَ يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ للَّه تَعَالَى، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَوَجَبَ التَّأْوِيلُ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْنِي وهو اللَّه في تدبير السموات وَالْأَرْضِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ فِي أَمْرِ كَذَا أَيْ فِي تَدْبِيرِهِ وَإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ وَهُوَ اللَّهُ كَلَامٌ تَامٌّ، ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ: فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ والمعنى إله سبحانه وتعالى يعلم في السموات سَرَائِرَ الْمَلَائِكَةِ، وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سَرَائِرَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالتَّقْدِيرُ: وهو اللَّه يعلم في السموات وَفِي الْأَرْضِ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ، وَمِمَّا يُقَوِّي هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ قَوْلَنَا: وَهُوَ اللَّه نَظِيرُ قَوْلِنَا هُوَ الْفَاضِلُ الْعَالِمُ، وَكَلِمَةُ هُوَ إِنَّمَا تُذْكَرُ هاهنا لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، وَهَذِهِ الْفَائِدَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ إِذَا جَعَلْنَا لَفْظَ اللَّه اسْمًا مُشْتَقًّا فَأَمَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ اسْمَ عَلَمِ شَخْصٍ قَائِمٍ مَقَامَ التَّعْيِينِ لَمْ يَصِحَّ إِدْخَالُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ عَلَيْهِ، وَإِذَا جَعَلْنَا قَوْلَنَا: اللَّه لَفْظًا مُفِيدًا صَارَ مَعْنَاهُ وَهُوَ الْمَعْبُودُ فِي السَّمَاءِ وَفِي الْأَرْضِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ السُّؤَالُ واللَّه أَعْلَمُ.

[سورة الأنعام (6) : آية 4]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِالسِّرِّ صِفَاتُ الْقُلُوبِ وَهِيَ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفُ، وَالْمُرَادُ بِالْجَهْرِ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ السِّرِّ عَلَى ذِكْرِ الْجَهْرِ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْفِعْلِ هُوَ مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِي، فَالدَّاعِيَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ السِّرِّ هِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ الْمُسَمَّاةِ بِالْجَهْرِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ عِلَّةٌ لِلْعِلْمِ بِالْمَعْلُولِ، وَالْعِلَّةُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الْمَعْلُولِ، وَالْمُتَقَدِّمُ بِالذَّاتِ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ بِحَسَبِ اللَّفْظِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ فِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ الْأَفْعَالَ إِمَّا أَفْعَالُ الْقُلُوبِ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالسِّرِّ، وَإِمَّا أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْجَهْرِ. فَالْأَفْعَالُ لَا تَخْرُجُ عَنِ السِّرِّ وَالْجَهْرِ فَكَانَ قَوْلُهُ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ يَقْتَضِي عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ فَاسِدٌ. وَالْجَوَابُ: يَجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِ مَا تَكْسِبُونَ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ الْإِنْسَانُ عَلَى فِعْلِهِ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُكْتَسَبِ كَمَا يُقَالُ: هَذَا الْمَالُ كَسْبُ فُلَانٍ أَيْ مُكْتَسَبُهُ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى نَفْسِ الْكَسْبِ، وَإِلَّا لَزِمَ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي السُّؤَالِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْإِنْسَانِ مُكْتَسِبًا لِلْفِعْلِ وَالْكَسْبُ هُوَ الْفِعْلُ الْمُفْضِي إِلَى اجْتِلَابِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، وَلِهَذَا السَّبَبِ لَا يُوصَفُ فِعْلُ اللَّه بِأَنَّهُ كَسْبٌ لِكَوْنِهِ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنْ جَلْبِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 4] وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَكَلَّمَ، أَوَّلًا: فِي التَّوْحِيدِ، وَثَانِيًا: فِي الْمَعَادِ، وَثَالِثًا: فِيمَا يُقَرِّرُ هَذَيْنِ الْمَطْلُوبَيْنِ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَقْرِيرِ النُّبُوَّةِ وَبَدَأَ فِيهِ بِأَنْ بَيَّنَ كَوْنَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مُعْرِضِينَ عَنْ تَأَمُّلِ الدَّلَائِلِ، غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ إِلَيْهَا وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ بَاطِلٌ. وَالتَّأَمُّلَ فِي الدَّلَائِلِ وَاجِبٌ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ذَمَّ اللَّه الْمُعْرِضِينَ عَنِ الدَّلَائِلِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ آيَةٍ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ الَّذِي يَقَعُ فِي النَّفْيِ كَقَوْلِكَ مَا أَتَانِي مِنْ أَحَدٍ وَالثَّانِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ لِلتَّبْعِيضِ وَالْمَعْنَى وَمَا يَظْهَرُ لَهُمْ دَلِيلٌ قَطُّ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا النَّظَرُ والاعتبار إلا كانوا عنه معرضين [سورة الأنعام (6) : آية 5] فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ أَحْوَالَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ، فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُمْ مُعْرِضِينَ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي الدَّلَائِلِ وَالتَّفَكُّرِ فِي الْبَيِّنَاتِ، وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُمْ مُكَذِّبِينَ بِهَا وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ أَزْيَدُ مِمَّا قَبْلَهَا، لِأَنَّ الْمُعْرِضَ عَنِ الشَّيْءِ قَدْ لَا يَكُونُ مُكَذِّبًا بِهِ، بَلْ يَكُونُ غَافِلًا عَنْهُ غَيْرَ مُتَعَرِّضٍ لَهُ، فَإِذَا صَارَ مُكَذِّبًا بِهِ فَقَدْ زَادَ عَلَى الْإِعْرَاضِ، وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: كَوْنُهُمْ مُسْتَهْزِئِينَ بِهَا لِأَنَّ الْمُكَذِّبَ بِالشَّيْءِ قَدْ لَا يَبْلُغُ تَكْذِيبُهُ بِهِ إِلَى حَدِّ الِاسْتِهْزَاءِ، فَإِذَا بَلَغَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَقَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ الْقُصْوَى فِي الْإِنْكَارِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ وَصَلُوا إِلَى هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْحَقِّ فَقِيلَ إِنَّهُ الْمُعْجِزَاتُ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: انْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ وَانْفَلَقَ فِلْقَتَيْنِ فَذَهَبَتْ فِلْقَةٌ وَبَقِيَتْ فِلْقَةٌ، وَقِيلَ إِنَّهُ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ إِنَّهُ الشَّرْعُ الَّذِي أَتَى بِهِ

[سورة الأنعام (6) : آية 6]

مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَحْكَامُ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ إِنَّهُ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ، الَّذِي يُرَغِّبُهُمْ بِهِ تَارَةً وَيُحَذِّرُهُمْ بِسَبَبِهِ أُخْرَى، وَالْأَوْلَى دُخُولُ الْكُلِّ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْوَعِيدُ وَالزَّجْرُ عَنْ ذَلِكَ الِاسْتِهْزَاءِ، فيجب أن يكون المراد بالأنباء الأنباء لَا نَفْسَ الْأَنْبَاءِ بَلِ الْعَذَابُ الَّذِي أَنْبَأَ اللَّه تَعَالَى بِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص: 88] وَالْحَكِيمُ إِذَا تَوَعَّدَ فَرُبَّمَا قَالَ سَتَعْرِفُ نَبَأَ هذا الأمر إذا نَزَلَ بِكَ مَا تَحْذَرُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَرَضَ بِالْخَبَرِ الَّذِي هُوَ الْوَعِيدُ حُصُولُ الْعِلْمِ/ بِالْعِقَابِ الَّذِي يَنْزِلُ فَنَفْسُ الْعِقَابِ إِذَا نَزَلَ يُحَقِّقُ ذَلِكَ الْخَبَرَ، حَتَّى تَزُولَ عَنْهُ الشُّبْهَةُ. ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَذَابَ الدُّنْيَا، وَهُوَ الَّذِي ظَهَرَ يَوْمَ بَدْرٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَذَابَ الْآخِرَةِ. [سورة الأنعام (6) : آية 6] أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا مَنَعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْإِعْرَاضِ وَالتَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ أَتْبَعَهُ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى الْمَوْعِظَةِ وَالنَّصِيحَةِ فِي هَذَا الْبَابِ فَوَعَظَهُمْ بِسَائِرِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ، كَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَقَوْمِ شُعَيْبٍ وَفِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْقَرْنُ؟ قُلْنَا قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْقَرْنُ الْقَوْمُ الْمُقْتَرِنُونَ فِي زَمَانٍ مِنَ الدَّهْرِ فَالْمُدَّةُ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا قَوْمٌ ثُمَّ يَفْتَرِقُونَ بِالْمَوْتِ فَهِيَ قَرْنٌ، لِأَنَّ الَّذِينَ يَأْتُونَ بَعْدَهُمْ أَقْوَامٌ آخَرُونَ اقْتَرَنُوا فَهُمْ قَرْنٌ آخَرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي» وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْأَقْرَانِ، وَلَمَّا كَانَ أَعْمَارُ النَّاسِ فِي الْأَكْثَرِ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ وَالثَّمَانِينَ لَا جَرَمَ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَرْنُ هُوَ السِّتُّونَ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ السَّبْعُونَ، وَقَالَ قَوْمٌ هُوَ الثَّمَانُونَ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ لَا يَقَعُ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ، بَلِ الْمُرَادُ أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ فَإِذَا انْقَضَى مِنْهُمُ الْأَكْثَرُ قِيلَ قَدِ انْقَضَى الْقَرْنُ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَصَفَ الْقُرُونَ الْمَاضِيَةَ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الصِّفَاتِ. الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مَكَّنَ لَهُ فِي الْأَرْضِ جَعَلَ لَهُ مَكَانًا وَنَحْوَهُ فِي أَرْضٍ لَهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ [الْكَهْفِ: 84] أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ [الْقَصَصِ: 57] وَأَمَّا مَكَّنْتُهُ فِي الْأَرْضِ، فَمَعْنَاهُ أَثْبَتُّهُ فِيهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ [الْأَحْقَافِ: 26] وَلِتَقَارُبِ الْمَعْنَيَيْنِ جَمَعَ اللَّه بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَالْمَعْنَى لَمْ نُعْطِ أَهْلَ/ مَكَّةَ مِثْلَ مَا أَعْطَيْنَا عَادًا وَثَمُودَ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْبَسْطَةِ فِي الْأَجْسَامِ وَالسَّعَةِ فِي الْأَمْوَالِ وَالِاسْتِظْهَارِ بِأَسْبَابِ الدُّنْيَا. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً يُرِيدُ الْغَيْثَ وَالْمَطَرَ، فَالسَّمَاءُ مَعْنَاهُ المطر هاهنا، وَالْمِدْرَارُ الْكَثِيرُ الدَّرِّ وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ دَرَّ اللَّبَنُ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْحَالِبِ مِنْهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ فَالْمِدْرَارُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَعْتِ السَّحَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَعْتِ الْمَطَرِ يُقَالُ سَحَابٌ مِدْرَارٌ إِذَا تَتَابَعَ أَمْطَارُهُ. وَمِفْعَالٌ يَجِيءُ فِي نَعْتٍ يُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِيهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ مِدْراراً مُتَتَابِعًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَيَسْتَوِي فِي الْمِدْرَارِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ.

[سورة الأنعام (6) : آية 7]

وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ وَالْمُرَادُ مِنْهُ كَثْرَةُ الْبَسَاتِينِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ أَنَّهُمْ وَجَدُوا مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا أَكْثَرَ مِمَّا وَجَدَهُ أَهْلُ مَكَّةَ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ مَزِيدِ الْعِزِّ فِي الدُّنْيَا بِهَذِهِ الْوُجُوهِ وَمَعَ كَثْرَةِ الْعَدَدِ وَالْبَسْطَةِ فِي الْمَالِ وَالْجِسْمِ جَرَى عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْكُفْرِ مَا سَمِعْتُمْ وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجِبُ الِاعْتِبَارَ وَالِانْتِبَاهَ مِنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ وَرَقْدَةِ الْجَهَالَةِ بَقِيَ هاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَيْسَ فِي هَذَا الْكَلَامِ إِلَّا أَنَّهُمْ هَلَكُوا إِلَّا أَنَّ هَذَا الْهَلَاكَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِمْ بَلِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ أَيْضًا قَدْ هَلَكُوا فَكَيْفَ يَحْسُنُ إِيرَادُ هَذَا الْكَلَامِ فِي مَعْرِضِ الزَّجْرِ عَنِ الْكُفْرِ مَعَ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ الْكَافِرِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. وَالْجَوَابُ: لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الزَّجْرَ بِمُجَرَّدِ الْمَوْتِ وَالْهَلَاكِ، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ بَاعُوا الدِّينَ بِالدُّنْيَا فَفَاتَهُمْ وَبَقُوا فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ بِسَبَبِ الْحِرْمَانِ عَنِ الدِّينِ. وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُشْتَرَكٍ فِيهِ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ قَالَ أَلَمْ يَرَوْا مَعَ أَنَّ الْقَوْمَ مَا كَانُوا مُقِرِّينَ بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا يُخْبِرُ عَنْهُ وَهُمْ أَيْضًا مَا شَاهَدُوا وَقَائِعَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ. وَالْجَوَابُ: أَنْ أَقَاصِيصَ الْمُتَقَدِّمِينَ مَشْهُورَةٌ بَيْنَ الْخَلْقِ فَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ مَا سَمِعُوا هَذِهِ الْحِكَايَاتِ وَلِمُجَرَّدِ سَمَاعِهَا يَكْفِي فِي الِاعْتِبَارِ. وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ إِنْشَاءِ قَرْنٍ آخَرِينَ بَعْدَهُمْ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْفَائِدَةَ هِيَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَتَعَاظَمُهُ أَنْ يُهْلِكَهُمْ وَيُخْلِيَ بِلَادَهُمْ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْشِئَ مَكَانَهُمْ قَوْمًا آخَرِينَ يُعَمِّرُ بِهِمْ بِلَادَهُمْ كَقَوْلِهِ وَلا يَخافُ عُقْباها [الشَّمْسِ: 15] واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 7] وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) اعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ يَتَمَرَّدُونَ عَنْ قَبُولِ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ، فَالطَّائِفَةُ الْأُولَى الَّذِينَ بَالَغُوا فِي حُبِّ الدُّنْيَا وَطَلَبِ لَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا إِلَى أَنِ اسْتَغْرَقُوا فِيهَا وَاغْتَنَمُوا وِجْدَانَهَا، فَصَارَ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُمْ عَنْ قَبُولِ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّه تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَبَيَّنَ أَنَّ لَذَّاتِ الدُّنْيَا ذَاهِبَةٌ وَعَذَابُ الْكُفْرِ بَاقٍ، وَلَيْسَ مِنَ الْعَقْلِ تَحَمُّلُ الْعِقَابِ الدَّائِمِ لِأَجْلِ اللَّذَّاتِ الْمُنْقَرِضَةِ الْخَسِيسَةِ، وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، عَلَى أَنَّهَا مِنْ بَابِ السِّحْرِ لَا مِنْ بَابِ الْمُعْجِزَةِ، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ لَوْ أَنَّهُمْ شَاهَدُوا نُزُولَ كِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ دُفْعَةً وَاحِدَةً عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، بَلْ حَمَلُوهُ عَلَى أَنَّهُ سِحْرٌ وَمَخْرَقَةٌ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي قِرْطاسٍ أَنَّهُ لَوْ نَزَلَ الْكِتَابُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي صَحِيفَةٍ وَاحِدَةٍ، فَرَأَوْهُ وَلَمَسُوهُ وَشَاهَدُوهُ عِيَانًا لَطَعَنُوا فِيهِ وَقَالُوا إِنَّهُ سِحْرٌ. فَإِنْ قِيلَ: ظُهُورُ الْكِتَابِ وَنُزُولُهُ مِنَ السَّمَاءِ هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْمُعْجِزَاتِ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الْمُعْجِزَاتِ لَمْ يَكُنْ إِنْكَارُهُمْ لِدَلَالَتِهِ عَلَى النُّبُوَّةِ مُنْكَرًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُعْجِزَاتِ لِأَنَّ الْمَلِكَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْزَالِهِ مِنَ السَّمَاءِ، وَقَبْلَ الْإِيمَانِ بِصِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ لَمْ تَكُنْ عِصْمَةُ الْمَلَائِكَةِ مَعْلُومَةً، وَقَبْلَ الْإِيمَانِ

[سورة الأنعام (6) : الآيات 8 إلى 9]

بِالرُّسُلِ، لَا شَكَّ أَنَّا نُجَوِّزُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ ذَلِكَ الْكِتَابِ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ قِبَلِ بَعْضِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، أَوْ مِنْ قِبَلِ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ لَمْ تَثْبُتْ عِصْمَتُهُمْ، وَإِذَا كَانَ هَذَا التَّجْوِيزُ قَائِمًا فَقَدْ خَرَجَ نُزُولُ الْكِتَابِ مِنَ السَّمَاءِ عَنْ كَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى الصِّدْقِ. قُلْنَا: لَيْسَ الْمَقْصُودُ مَا ذَكَرْتُمْ، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُ بَقُوا شَاكِّينَ فِيهِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا، فَإِذَا لَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ فَقَدْ يَقْوَى الْإِدْرَاكُ الْبَصْرِيُّ بِالْإِدْرَاكِ اللَّمْسِيِّ، وَبَلَغَ الْغَايَةَ فِي الظُّهُورِ وَالْقُوَّةِ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ يَبْقُونَ شَاكِّينَ فِي أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي رَأَوْهُ وَلَمَسُوهُ هَلْ هُوَ مَوْجُودٌ أَمْ لَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي الْجَهَالَةِ إِلَى حَدِّ السَّفْسَطَةِ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ لَا مَا ذَكَرْتُمْ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَمْنَعَ الْعَبْدَ لُطْفًا. عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ لَآمَنَ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا لَا يُنَزِّلُ هَذَا الْكِتَابَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَوْ أَنْزَلَهُ لَقَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ إِلَّا وَالْمَعْلُومُ أَنَّهُمْ لَوْ قَبِلُوهُ وَآمَنُوا بِهِ لِأَنْزَلَهُ لَا مَحَالَةَ فَثَبَتَ بِهَذَا وُجُوبُ اللُّطْفِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَهُ لَوْ أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِمْ هَذَا الْكِتَابَ لَقَالُوا هَذَا الْقَوْلَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُنْزِلُهُ عَلَيْهِمْ، لَوْ لَمْ يَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَهُوَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَأَيْضًا فَلَيْسَ كُلُّ مَا فَعَلَهُ اللَّه وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ إِنْ دَلَّتْ فَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ لَا عَلَى وُجُوبِ الْوُقُوعِ واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 8 الى 9] وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ الثَّالِثَ مِنْ شُبَهِ مُنْكِرِي النُّبُوَّاتِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَوْ بَعَثَ اللَّه إِلَى الْخَلْقِ رَسُولًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرَّسُولُ وَاحِدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مِنْ زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ كَانَتْ عُلُومُهُمْ أَكْثَرَ، وَقُدْرَتُهُمْ أَشَدَّ، وَمَهَابَتُهُمْ أَعْظَمَ، وَامْتِيَازُهُمْ عَنِ الْخَلْقِ أَكْمَلَ، وَالشُّبُهَاتُ وَالشُّكُوكُ فِي نُبُوَّتِهِمْ وَرِسَالَتِهِمْ أَقَلَّ. وَالْحَكِيمُ إِذَا أَرَادَ تَحْصِيلَ مُهِمٍّ فَكُلُّ شَيْءٍ كَانَ أَشَدَّ إِفْضَاءً إِلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ كَانَ أَوْلَى. فَلَمَّا كَانَ وُقُوعُ الشُّبُهَاتِ فِي نُبُوَّةِ الْمَلَائِكَةِ أَقَلَّ، وَجَبَ لَوْ بَعَثَ اللَّه رَسُولًا إِلَى الْخَلْقِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرَّسُولُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَوْلُهُ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ وَمَعْنَى الْقَضَاءِ الْإِتْمَامُ وَالْإِلْزَامُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعَانِيَ الْقَضَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. ثُمَّ هاهنا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِنْزَالَ الْمَلَكِ عَلَى الْبَشَرِ آيَةٌ بَاهِرَةٌ، فَبِتَقْدِيرِ إِنْزَالِ الْمَلَكِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ فَرُبَّمَا لَمْ يُؤْمِنُوا كَمَا قَالَ: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ إِلَى قَوْلِهِ مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْأَنْعَامِ: 111] وَإِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا وَجَبَ إِهْلَاكُهُمْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، فَإِنَّ سُنَّةَ اللَّه جَارِيَةٌ بِأَنَّ عِنْدَ ظُهُورِ الْآيَةِ الْبَاهِرَةِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا جَاءَهُمْ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ، فَهَهُنَا مَا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى الْمَلَكَ إِلَيْهِمْ لِئَلَّا يَسْتَحِقُّوا هَذَا الْعَذَابَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ إِذَا شَاهَدُوا الْمَلَكَ زَهَقَتْ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ هَوْلِ مَا يَشْهَدُونَ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْآدَمِيَّ/ إِذَا رَأَى الْمَلَكَ فَإِمَّا أَنْ يَرَاهُ عَلَى صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ أَوْ عَلَى صُورَةِ الْبَشَرِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَمْ يَبْقَ الْآدَمِيُّ حَيًّا، أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ غُشِيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَرْئِيُّ شَخْصًا عَلَى صُورَةِ الْبَشَرِ، وَذَلِكَ

[سورة الأنعام (6) : آية 10]

لَا يَتَفَاوَتُ الْحَالُ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ مَلَكًا أَوْ بَشَرًا. أَلَا تَرَى أَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ عَايَنُوا الْمَلَائِكَةَ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ كَأَضْيَافِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَضْيَافِ لُوطٍ، وَكَالَّذِينِ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، وَكَجِبْرِيلَ حَيْثُ تَمَثَّلَ لِمَرْيَمَ بَشَرًا سَوِيًّا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ إِنْزَالَ الْمَلَكِ آيَةٌ بَاهِرَةٌ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْإِلْجَاءِ، وَإِزَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَذَلِكَ مُخِلٌّ بِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ إِنْزَالَ الْمَلَكِ وَإِنْ كَانَ يَدْفَعُ الشُّبُهَاتِ الْمَذْكُورَةَ إِلَّا أَنَّهُ يُقَوِّي الشُّبُهَاتِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَيَّ مُعْجِزَةٍ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ قَالُوا هَذَا فِعْلُكَ فَعَلْتَهُ بِاخْتِيَارِكَ وَقُدْرَتِكَ، وَلَوْ حَصَلَ لَنَا مِثْلُ مَا حَصَلَ لَكَ مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْعِلْمِ لَفَعَلْنَا مِثْلَ مَا فَعَلْتَهُ أَنْتَ، فَعَلِمْنَا أَنَّ إِنْزَالَ الْمَلَكِ وَإِنْ كَانَ يَدْفَعُ الشُّبْهَةَ مِنَ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ لَكِنَّهُ يُقَوِّي الشُّبْهَةَ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ فَالْفَائِدَةُ فِي كَلِمَةِ ثُمَّ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْإِنْظَارِ أَشَدُّ مِنْ قَضَاءِ الْأَمْرِ، لِأَنَّ مُفَاجَأَةَ الشِّدَّةِ أَشَدُّ مِنْ نَفْسِ الشِّدَّةِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَقَوْلُهُ وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا أَيْ لَجَعَلْنَاهُ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ. وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْجِنْسَ إِلَى الْجِنْسِ أَمَيْلُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْبَشَرَ لَا يُطِيقُ رُؤْيَةَ الْمَلَكِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ طَاعَاتِ الْمَلَائِكَةِ قَوِيَّةٌ فَيَسْتَحْقِرُونَ طَاعَةَ الْبَشَرِ، وَرُبَّمَا لَا يَعْذُرُونَهُمْ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعَاصِي. وَرَابِعُهَا: أَنَّ النُّبُوَّةَ فَضْلٌ مِنَ اللَّه فَيَخْتَصُّ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَلَكًا أَوْ بَشَرًا. ثُمَّ قَالَ: وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُقَالُ لَبَسْتُ الْأَمْرَ عَلَى الْقَوْمِ أَلْبِسُهُ لَبْسًا إِذَا شَبَّهْتَهُ عَلَيْهِمْ وَجَعَلْتَهُ مُشْكِلًا، وَأَصْلُهُ مِنَ التَّسَتُّرِ بِالثَّوْبِ، وَمِنْهُ لَبِسَ الثَّوْبَ لِأَنَّهُ يُفِيدُ سَتْرَ النَّفْسِ وَالْمَعْنَى أَنَّا إِذَا جَعَلْنَا الْمَلَكَ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ فَهُمْ يَظُنُّونَ كَوْنَ ذَلِكَ الْمَلَكِ بَشَرًا فَيَعُودُ سُؤَالُهُمْ أَنَّا لَا نَرْضَى بِرِسَالَةِ هَذَا الشَّخْصِ. وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّ اللَّه لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَصَارَ فِعْلُ اللَّه نَظِيرًا لِفِعْلِهِمْ فِي التَّلْبِيسِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ تَلْبِيسًا لِأَنَّ النَّاسَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بَشَرٌ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ فِعْلُهُمْ تَلْبِيسًا لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِقَوْمِهِمْ إِنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَالْبَشَرُ لَا يَكُونُ رَسُولًا مِنْ عند اللَّه تعالى. [سورة الأنعام (6) : آية 10] وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) اعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ رَسُولَ اللَّه يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَانُوا يَقُولُونَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، وَكَانَ يَضِيقُ قَلْبُ الرَّسُولِ عِنْدَ سَمَاعِهِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِيَصِيرَ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ عَنِ القلب لأن أحدا مَا يُخَفِّفُ عَنِ الْقَلْبِ الْمُشَارَكَةُ فِي سَبَبِ الْمِحْنَةِ وَالْغَمِّ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ إِنَّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الْكَثِيرَةَ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ الَّتِي يُعَامِلُونَكَ بِهَا قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي سَائِرِ الْقُرُونِ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ، فَلَسْتَ أَنْتَ فَرِيدًا فِي هَذَا الطَّرِيقِ. وَقَوْلُهُ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ الْآيَةَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فَاطِرٍ: 43] وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ لِأَهْلِ اللُّغَةِ وَهِيَ بِأَسْرِهَا مُتَقَارِبَةٌ. قَالَ النَّضْرُ: وَجَبَ عَلَيْهِمْ. قَالَ اللَّيْثُ (الْحَيْقُ) مَا حَاقَ بِالْإِنْسَانِ مِنْ مَكْرٍ أَوْ سُوءٍ يَعْمَلُهُ فَنَزَلَ ذَلِكَ بِهِ، يَقُولُ أَحَاقَ اللَّه بِهِمْ مَكْرَهُمْ وَحَاقَ بهم مكرهم، وقال الفرّاء (حاق بهم) عاد عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ (حَاقَ بِهِمْ) حَلَّ بِهِمْ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ «حَاقَ» أَيْ أَحَاطَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: فَسَّرَ الزَّجَّاجُ (حَاقَ) بِمَعْنَى أَحَاطَ وَكَانَ مَأْخَذُهُ مِنَ الْحَوْقِ وَهُوَ مَا اسْتَدَارَ بِالْكَمَرَةِ. وَفِي الْآيَةِ بَحْثٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ لَفْظَةَ (مَا) في قوله ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فِيهَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالشَّرْعُ وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَتَصِيرُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَالتَّقْدِيرُ فَحَاقَ بِهِمْ عقاب ما كانوا به يستهزؤن.

[سورة الأنعام (6) : آية 11]

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يستهزؤن بِالْعَذَابِ الَّذِي كَانَ يُخَوِّفُهُمُ الرَّسُولُ بِنُزُولِهِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ. [سورة الأنعام (6) : آية 11] قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا صَبَّرَ رَسُولَهُ بِالْآيَةِ الْأُولَى، فَكَذَلِكَ حَذَّرَ الْقَوْمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ لِرَسُولِهِ قُلْ لَهُمْ لَا تَغْتَرُّوا بِمَا وَجَدْتُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا وَوَصَلْتُمْ إِلَيْهِ مِنْ لَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا، بَلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ لِتَعْرِفُوا صِحَّةَ مَا أَخْبَرَكُمُ الرَّسُولُ عَنْهُ مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَى الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ فِي الْأَزْمِنَةِ السَّالِفَةِ، فَإِنَّكُمْ عِنْدَ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ وَالسَّفَرِ فِي الْبِلَادِ لَا بُدَّ وَأَنْ تُشَاهِدُوا تِلْكَ الْآثَارَ، فَيَكْمُلَ الِاعْتِبَارُ، وَيَقْوَى الِاسْتِبْصَارُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ فَانْظُروا [آل عمران: 137] وَبَيْنَ قَوْلِهِ ثُمَّ انْظُرُوا. قُلْنَا: قَوْلُهُ فَانْظُروا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ النَّظَرَ سَبَبًا عَنِ السَّيْرِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: سِيرُوا لِأَجْلِ النَّظَرِ وَلَا تَسِيرُوا سَيْرَ الْغَافِلِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا فَمَعْنَاهُ إِبَاحَةُ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَنَافِعِ، وَإِيجَابُ النَّظَرِ فِي آثَارِ الْهَالِكِينَ، ثُمَّ نَبَّهَ اللَّه تَعَالَى عَلَى هَذَا الْفَرْقِ بِكَلِمَةِ (ثُمَّ) لِتَبَاعُدِ ما بين الواجب والمباح. واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 12] قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) [في قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ تَقْرِيرُ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ، وَتَقْرِيرُ الْمَعَادِ وَتَقْرِيرُ النُّبُوَّةِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ أَحْوَالَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَجْسَامِ مَوْصُوفَةٌ بِصِفَاتٍ كَانَ يَجُوزُ عَلَيْهَا اتِّصَافُهَا بِأَضْدَادِهَا وَمُقَابَلَاتِهَا، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ، فَاخْتِصَاصُ كُلِّ جُزْءٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ الْجُسْمَانِيَّةِ بِصِفَتِهِ الْمُعَيَّنَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ أَنَّ الصَّانِعَ الْحَكِيمَ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ خَصَّهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ الْمُعَيَّنَةِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَالَمَ مَعَ كُلِّ مَا فِيهِ مَمْلُوكٌ للَّه تَعَالَى. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، ثَبَتَ كَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى الْإِعَادَةِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، لِأَنَّ التَّرْكِيبَ الْأَوَّلَ إِنَّمَا حَصَلَ لِكَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، وَهَذِهِ الْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ يَمْتَنِعُ زَوَالُهُمَا، فَوَجَبَ صِحَّةُ الْإِعَادَةِ ثَانِيًا. وَأَيْضًا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مَلِكٌ مُطَاعٌ، وَالْمَلِكُ الْمُطَاعُ مَنْ لَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عَلَى عَبِيدِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مُبَلِّغٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْثَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مِنَ اللَّه تَعَالَى إِلَى الْخَلْقِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ. فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَافِيَةٌ بِإِثْبَاتِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ الثَّلَاثَةِ. وَلَمَّا سَبَقَ ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثَةِ، ذَكَرَ اللَّه بَعْدَهَا هَذِهِ الْآيَةَ لِتَكُونَ مُقَرِّرَةً لِمَجْمُوعِ تِلْكَ الْمَطَالِبِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي شَرَحْنَاهُ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ سُؤَالٌ. وَقَوْلُهُ قُلْ لِلَّهِ جَوَابٌ فَقَدْ أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِالسُّؤَالِ أَوَّلًا ثُمَّ بِالْجَوَابِ ثَانِيًا. وَهَذَا، إِنَّمَا يَحْسُنُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ الْجَوَابُ قَدْ بَلَغَ فِي

الظُّهُورِ إِلَى حَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِنْكَارِهِ مُنْكِرٌ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ دَافِعٌ. وَلَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ آثَارَ الْحُدُوثِ وَالْإِمْكَانِ ظَاهِرَةٌ فِي ذَوَاتِ جَمِيعِ الْأَجْسَامِ وَفِي جَمِيعِ صِفَاتِهَا، لَا جَرَمَ كَانَ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهَا بِأَسْرِهَا مِلْكٌ للَّه تَعَالَى وَمِلْكٌ لَهُ وَمَحِلُّ تَصَرُّفِهِ وَقُدْرَتِهِ لَا جَرَمَ أَمَرَهُ بِالسُّؤَالِ أَوَّلًا/ ثُمَّ بِالْجَوَابِ ثَانِيًا، لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ بِهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِهِ الْبَتَّةَ. وَأَيْضًا فَالْقَوْمُ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ كُلَّ الْعَالَمِ مُلْكٌ للَّه، وَمِلْكُهُ وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ وَقَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى كَمَا قَالَ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: 25] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بِهَذَا الطَّرِيقِ كَمَالَ إِلَهِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَنَفَاذَ تَصَرُّفِهِ فِي عَالَمِ الْمَخْلُوقَاتِ بِالْكُلِّيَّةِ، أَرْدَفَهُ بِكَمَالِ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى الْخَلْقِ فَقَالَ: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَرْضَ مِنْ نَفْسِهِ بِأَنْ لَا ينعم ولا بأن يَعِدَ بِالْإِنْعَامِ، بَلْ أَبَدًا يُنْعِمُ وَأَبَدًا يُعِدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالْإِنْعَامِ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ ذَلِكَ وَأَوْجَبَهُ إِيجَابَ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تِلْكَ الرَّحْمَةُ هِيَ أَنَّهُ تَعَالَى يُمْهِلُهُمْ مُدَّةَ عُمُرِهِمْ وَيَرْفَعُ عَنْهُمْ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالَ وَلَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لِمَنْ تَرَكَ التَّكْذِيبَ بِالرُّسُلِ وَتَابَ وَأَنَابَ وَصَدَّقَهُمْ وَقَبِلَ شَرِيعَتَهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ الْكَثِيرَةُ فِي سِعَةِ رَحْمَةِ اللَّه تَعَالَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَمَّا فَرَغَ اللَّه مِنَ الْخَلْقِ كَتَبَ كِتَابًا أَنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» . فَإِنْ قِيلَ: الرَّحْمَةُ هِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ، وَالْغَضَبُ هُوَ إِرَادَةُ الِانْتِقَامِ، وَظَاهِرُ هَذَا الْخَبَرِ يَقْتَضِي كَوْنَ إِحْدَى الْإِرَادَتَيْنِ سَابِقَةً عَلَى الْأُخْرَى، وَالْمَسْبُوقُ بِالْغَيْرِ مُحْدَثٌ، فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ إِرَادَةِ اللَّه تَعَالَى مُحْدَثَةً. قُلْنَا: الْمُرَادُ بِهَذَا السَّبْقِ سَبْقُ الْكَثْرَةِ لَا سَبْقُ الزَّمَانِ. وَعَنْ سَلْمَانَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ خَلَقَ مِائَةَ رَحْمَةٍ، كُلُّ رَحْمَةٍ مَلْءُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَعِنْدَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ رَحْمَةً، وَقَسَّمَ رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْخَلَائِقِ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَيَتَرَاحَمُونَ، فَإِذَا كَانَ آخِرُ الْأَمْرِ قَصَرَهَا عَلَى الْمُتَّقِينَ. أَمَّا قَوْلُهُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ: «اللَّامُ» فِي قَوْلِهِ لَيَجْمَعَنَّكُمْ لَامُ قَسَمٍ مُضْمَرٍ، وَالتَّقْدِيرُ: واللَّه لَيَجْمَعَنَّكُمْ. الْبَحْثُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُبْتَدَأٌ أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كَمَالَ إِلَهِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يَرْحَمُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْإِمْهَالِ وَدَفْعِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَجْمَعُهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَوْلُهُ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ يُمْهِلُهُمْ وَقَوْلُهُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أَنَّهُ لَا يُمْهِلُهُمْ بَلْ يَحْشُرُهُمْ وَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى كُلِّ مَا فَعَلُوا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَالتَّقْدِيرُ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ. وَكَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا قَالَ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا تِلْكَ الرَّحْمَةُ؟ فَقِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْلَا خَوْفُ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَحَصَلَ الْهَرَجُ وَالْمَرَجُ وَلَارْتَفَعَ الضَّبْطُ وَكَثُرَ الْخَبْطُ، فَصَارَ التَّهْدِيدُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الرَّحْمَةِ فِي الدُّنْيَا، فَكَانَ قَوْلُهُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 13 إلى 15]

الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلِهِ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَلَامٌ وَرَدَ عَلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ. وَقَوْلُهُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كَلَامٌ وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ الْمُخَاطَبَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ فِي التَّهْدِيدِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَمَّا علمتم أن كل ما في السموات وَالْأَرْضِ للَّه وَمِلْكُهُ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الْمَلِكَ الْحَكِيمَ لَا يُهْمِلُ أَمْرَ رَعِيَّتِهِ وَلَا يَجُوزُ فِي حِكْمَتِهِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي وَبَيْنَ الْمُشْتَغِلِ بِالْخِدْمَةِ وَالْمُعْرِضِ عَنْهَا، فَهَلَّا عَلِمْتُمْ أَنَّهُ يُقِيمُ الْقِيَامَةَ وَيُحْضِرُ الْخَلَائِقَ وَيُحَاسِبُهُمْ فِي الكل؟ البحث الرابع: أن كلمة «إلى» في قوله إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فِيهَا أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا صِلَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: لَيَجْمَعَنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: إِلى بِمَعْنَى فِي أَيْ لَيَجْمَعَنَّكُمْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: فِيهِ حَذْفٌ أَيْ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى الْمَحْشَرِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ الْجَمْعَ يَكُونُ إِلَى الْمَكَانِ لَا إِلَى الزَّمَانِ. وَقِيلَ: لَيَجْمَعَنَّكُمْ فِي الدُّنْيَا بِخَلْقِكُمْ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ الَّذِينَ مَوْضِعُهُ نَصْبٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ لَيَجْمَعَنَّكُمْ وَالْمَعْنَى لَيَجْمَعَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ، أَنَّ قَوْلَهُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَقَوْلُهُ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَبَرُهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْكُلِّ، عَلَى الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ «وَالْفَاءُ» فِي قَوْلِهِ فَهُمْ يُفِيدُ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، كَقَوْلِهِمْ: الَّذِي يُكْرِمُنِي فَلَهُ دِرْهَمٌ، لِأَنَّ الدِّرْهَمَ وَجَبَ بِالْإِكْرَامِ فَكَانَ الْإِكْرَامُ شَرْطًا وَالدِّرْهَمُ جَزَاءً. فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خُسْرَانَهُمْ سَبَبٌ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ، وَالْأَمْرُ عَلَى الْعَكْسِ. قُلْنَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبْقَ الْقَضَاءِ بِالْخُسْرَانِ وَالْخِذْلَانِ، هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْإِيمَانِ، وذلك عين مذهب أهل السنّة. [سورة الأنعام (6) : الآيات 13 الى 15] وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ أَحْسَنَ مَا قِيلَ فِي نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فقال: ذكر في الآية الأولى السموات وَالْأَرْضَ، إِذْ لَا مَكَانَ سِوَاهُمَا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِذْ لَا زَمَانَ سِوَاهُمَا، فَالزَّمَانُ وَالْمَكَانُ ظَرْفَانِ لِلْمُحْدَثَاتِ، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَالِكٌ لِلْمَكَانِ وَالْمَكَانِيَّاتِ، وَمَالِكٌ لِلزَّمَانِ وَالزَّمَانِيَّاتِ، وهذا بيان في غاية الجلالة. وأقول هاهنا دَقِيقَةٌ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ الِابْتِدَاءَ وَقَعَ بِذِكْرِ الْمَكَانِ وَالْمَكَانِيَّاتِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ الزَّمَانَ وَالزَّمَانِيَّاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَكَانَ وَالْمَكَانِيَّاتِ أَقْرَبُ إِلَى الْعُقُولِ وَالْأَفْكَارِ مِنَ الزَّمَانِ وَالزَّمَانِيَّاتِ، لِدَقَائِقَ مَذْكُورَةٍ فِي العقليات

الصِّرْفَةِ، وَالتَّعْلِيمُ الْكَامِلُ هُوَ الَّذِي يُبْدَأُ فِيهِ بالأظهر فالأظهر مُتَرَقِّيًا إِلَى الْأَخْفَى فَالْأَخْفَى، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِوَجْهِ النَّظْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَالتَّقْدِيرُ: هَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الحق لأن كُلَّ مَوْجُودٍ فَهُوَ إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ، وَإِمَّا مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، فَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ لَيْسَ إِلَّا الْوَاحِدُ. وَمَا سِوَى ذَلِكَ الْوَاحِدِ مُمْكِنٌ. وَالْمُمْكِنُ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِإِيجَادِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، وَكُلُّ مَا حَصَلَ بِإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ كَانَ مُلْكًا لَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ الْمَوْجُودِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ فَهُوَ مُلْكُهُ وَمَالِكُهُ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَفْسِيرِ هَذَا السُّكُونِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الشَّيْءُ الَّذِي سَكَنَ بَعْدَ أَنْ تَحَرَّكَ، فَعَلَى هَذَا، الْمُرَادُ كُلُّ مَا اسْتَقَرَّ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَجُمْلَةِ الْحَيَوَانَاتِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ/ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: قَالُوا فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَهُ مَا سَكَنَ وَتَحَرَّكَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْلِ: 81] أَرَادَ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْقَرِينَةِ الْمَذْكُورَةِ، كَذَلِكَ هُنَا حَذَفَ ذِكْرَ الْحَرَكَةِ، لِأَنَّ ذِكْرَ السُّكُونِ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا السُّكُونِ مَا هُوَ ضِدُّ الْحَرَكَةِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ السُّكُونُ بِمَعْنَى الْحُلُولِ. كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَسْكُنُ بَلَدَ كَذَا إِذَا كَانَ مَحِلُّهُ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [إِبْرَاهِيمَ: 45] وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: كَانَ الْمُرَادُ، وَلَهُ كُلُّ مَا حَصَلَ في الليل والنهار. والتقدير: كل ما حصل فِي الْوَقْتِ وَالزَّمَانِ سَوَاءٌ كَانَ مُتَحَرِّكًا أَوْ سَاكِنًا، وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَوْلَى وَأَكْمَلُ. وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ تَحْتَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ حَصَلَ فِي الزَّمَانِ فَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ انْقَضَى الْمَاضِي وَسَيَجِيءُ الْمُسْتَقْبَلُ، وَذَلِكَ مُشْعِرٌ بِالتَّغَيُّرِ وَهُوَ الْحُدُوثُ، وَالْحُدُوثُ يُنَافِي الْأَزَلِيَّةَ وَالدَّوَامَ، فَكُلُّ مَا مَرَّ بِهِ الْوَقْتُ وَدَخَلَ تَحْتَ الزَّمَانِ فَهُوَ مُحْدَثٌ وَكُلُّ حَادِثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ، وَفَاعِلُ ذَلِكَ الْفِعْلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ وَالْمُتَقَدِّمُ عَلَى الزَّمَانِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى الْوَقْتِ وَالزَّمَانِ فَلَا تَجْرِي عَلَيْهِ الْأَوْقَاتُ وَلَا تَمُرُّ بِهِ السَّاعَاتُ وَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ وَسَيَكُونُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ مَالِكٌ لِلْمَكَانِ وَجُمْلَةِ الْمَكَانِيَّاتِ وَمَالِكٌ لِلزَّمَانِ وَجُمْلَةِ الزَّمَانِيَّاتِ، بَيَّنَ أَنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَسْمَعُ نِدَاءَ الْمُحْتَاجِينَ وَيَعْلَمُ حَاجَاتِ الْمُضْطَرِّينَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَقُولُ الْإِلَهُ تَعَالَى مُوجَبٌ بِالذَّاتِ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَالِكًا لِكُلِّ الْمُحْدَثَاتِ لَكِنَّهُ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ يَسْمَعُ وَيَرَى وَيَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَلَمَّا قَرَّرَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ قَالَ: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ: أَتَّخِذُ غَيْرَ اللَّه وَلِيًّا لِأَنَّ الْإِنْكَارَ إِنَّمَا حَصَلَ عَلَى اتِّخَاذِ غَيْرِ اللَّه وَلِيًّا، لَا عَلَى اتِّخَاذِ الْوَلِيِّ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ الَّذِي هُمْ بِشَأْنِهِ أَعْنِي فَكَانَ قَوْلُهُ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا أَوْلَى مِنَ الْعِبَارَةِ الثَّانِيَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ [الزُّمَرِ: 64] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ [يُونُسَ: 59] . ثم قال: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وقريء فاطِرِ السَّماواتِ بِالْجَرِّ صِفَةً للَّه وَبِالرَّفْعِ عَلَى إِضْمَارِ «هُوَ» وَالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا عَرَفْتُ فاطِرِ السَّماواتِ حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا أَيِ ابْتَدَأْتُهَا وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَصْلُ الْفَطْرِ شَقُّ الشَّيْءِ عِنْدَ ابْتِدَائِهِ، فَقَوْلُهُ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُرِيدُ خَالِقَهُمَا وَمُنْشِئَهُمَا بِالتَّرْكِيبِ الَّذِي سَبِيلُهُ أَنْ يَحْصُلَ فيه الشق

وَالتَّأْلِيفُ عِنْدَ ضَمِّ الْأَشْيَاءِ إِلَى بَعْضٍ، فَلَمَّا كان الأصل الشَّقُّ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي حَالٍ شَقَّ إِصْلَاحٍ وَفِي حَالٍ أُخْرَى شَقَّ إِفْسَادٍ. فَفَاطِرُ السموات/ مِنَ الْإِصْلَاحِ لَا غَيْرَ. وَقَوْلُهُ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك: 3] وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الِانْفِطَارِ: 1] مِنَ الْإِفْسَادِ، وَأَصْلُهُمَا وَاحِدٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ أي وهو الرازق لِغَيْرِهِ وَلَا يَرْزُقُهُ أَحَدٌ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ فَسَّرْتَ الْإِطْعَامَ بِالرِّزْقِ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذَّارِيَاتِ: 57] وَالْعَطْفُ يُوجِبُ الْمُغَايَرَةَ. قُلْنَا: لَا شَكَّ فِي حُصُولِ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَهُمَا، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَحْسُنُ جَعْلُ أَحَدِهِمَا كِنَايَةً عَنِ الْآخَرِ لِشِدَّةِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُقَارَبَةِ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ الْمَنَافِعَ كُلَّهَا مِنْ عِنْدِهِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ. وَقُرِئَ وَلا يُطْعَمُ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَرَوَى ابْنُ الْمَأْمُونِ عَنْ يَعْقُوبَ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ عَلَى بِنَاءٍ الْأَوَّلِ لِلْمَفْعُولِ وَالثَّانِي لِلْفَاعِلِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ أَغَيْرَ اللَّهِ وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعِمُ عَلَى بِنَائِهِمَا لِلْفَاعِلِ. وَفُسِّرَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يَسْتَطْعِمُ. وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ: أَطْعَمْتُ بِمَعْنَى اسْتَطْعَمْتُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَهُوَ يُطْعِمُ تَارَةً وَلَا يُطْعِمُ أُخْرَى عَلَى حَسَبِ الْمَصَالِحِ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيَبْسُطُ وَيَقْدِرُ، وَيُغْنِي وَيُفْقِرُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي صَدْرِ الْآيَةِ هُوَ الْمَنْعُ مِنَ اتِّخَاذِ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى وَلِيًّا. وَاحْتَجَّ عليه بأنه فاطر السموات وَالْأَرْضِ وَبِأَنَّهُ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ. وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ اتِّخَاذُ غَيْرِهِ وَلِيًّا. أَمَّا بيان أنه فاطر السموات وَالْأَرْضِ، فَلِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مَا سِوَى الْوَاحِدِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يَقَعُ مَوْجُودًا إِلَّا بِإِيجَادِ غَيْرِهِ، فَنَتَجَ أَنَّ مَا سِوَى اللَّه فَهُوَ حَاصِلٌ بِإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ. فَثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْفَاطِرُ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ. وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ فَظَاهِرَةٌ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ عِبَارَةٌ عَنْ إِيصَالِ الْمَنَافِعِ، وَعَدَمُ الِاسْتِطْعَامِ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ. وَلَمَّا كان هو المبديء تعالى وتقدس لكل ما سواه، كان لا محالة هو المبديء لحصول جميع المنافع. وَلَمَّا كَانَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ كَانَ لَا مَحَالَةَ غَنِيًّا وَمُتَعَالِيًا عَنِ الِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ آخَرَ فَثَبَتَ بالبرهان صحة أنه تعالى فاطر السموات وَالْأَرْضِ، وَصِحَّةُ أَنَّهُ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا امْتَنَعَ فِي الْعَقْلِ اتِّخَاذُ غَيْرِهِ وَلِيًّا لِأَنَّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ فِي ذَاتِهِ وَفِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَفِي جَمِيعِ مَا تَحْتَ يَدِهِ. وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لِذَاتِهِ الْجَوَادُ لِذَاتِهِ، وَتَرُكُ الْغَنِيِّ الْجَوَادِ، وَالذَّهَابُ إِلَى الْفَقِيرِ الْمُحْتَاجِ مَمْنُوعٌ عَنْهُ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَدْ سَبَقَ فِي هَذَا الْكِتَابِ بَيَانُ أَنَّ الْوَلِيَّ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيُّ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الْقَرِيبُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوهَ الِاشْتِقَاقَاتِ فِيهِ. فَقَوْلُهُ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا يَمْنَعُ مِنَ الْقُرْبِ مِنْ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى. فَهَذَا يَقْتَضِي تَنْزِيهَ الْقَلْبِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ اللَّه تَعَالَى، وَقَطْعَ الْعَلَائِقِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَالسَّبَبُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابِقُ أُمَّتِهِ فِي الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الْأَنْعَامِ: 163] وَلِقَوْلِ مُوسَى سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَعْرَافِ: 143] . ثُمَّ قَالَ: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمَعْنَاهُ أُمِرْتُ بِالْإِسْلَامِ وَنُهِيتُ عَنِ الشِّرْكِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَوْنَ

[سورة الأنعام (6) : آية 16]

رَسُولِهِ مَأْمُورًا بِالْإِسْلَامِ ثُمَّ عَقِبَهُ بِكَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنِ الشِّرْكِ قَالَ بَعْدَهُ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وَالْمَقْصُودُ أَنِّي إِنْ خَالَفْتُهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ صِرْتُ مُسْتَحِقًّا لِلْعَذَابِ الْعَظِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِ لَمَا كَانَ خَائِفًا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، بَلِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَدَرَ عَنْهُ الْكُفْرُ وَالْمَعْصِيَةُ فَإِنَّهُ يَخَافُ. وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْخَوْفِ، وَمِثَالُهُ قَوْلُنَا: إِنْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ زَوْجًا كَانَتْ مُنْقَسِمَةً بِمُتَسَاوِيَيْنِ، وهذا لا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَمْسَةَ زَوْجٌ وَلَا عَلَى كَوْنِهَا مُنْقَسِمَةً بِمُتَسَاوِيَيْنِ واللَّه أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي أَخافُ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ إِنِّيَ بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْبَاقُونَ بِالْإِرْسَالِ. [سورة الأنعام (6) : آية 16] مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يُصْرَفْ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ. وفاعل الصرف على هذه القراءة والضمير الْعَائِدُ إِلَى رَبِّي مِنْ قَوْلِهِ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي [الأنعام: 15] وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ يَصْرِفُ هُوَ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ الْعَذَابَ. وَحُجَّةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلُهُ فَقَدْ رَحِمَهُ فَلَمَّا كَانَ هَذَا فِعْلًا مُسْنَدًا إِلَى ضَمِيرِ اسْمِ اللَّه تَعَالَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي تِلْكَ اللَّفْظَةِ الْأُخْرَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِيَتَّفِقَ الفعلان، وعلى هذا التقدير: صَرْفُ الْعَذَابِ مُسْنَدًا إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَتَكُونُ الرَّحْمَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْنَدَةً إِلَى اللَّه تَعَالَى، وأما الباقون فإنهم قرءوا مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالتَّقْدِيرُ مَنْ يُصْرَفُ عَنْهُ عَذَابُ يَوْمِئِذٍ وَإِنَّمَا حَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْعَذَابَ إِلَى الْيَوْمِ فِي قَوْلِهِ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام: 15] فَلِذَلِكَ أَضَافَ الصَّرْفَ إِلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ يُصْرَفُ عَنْهُ عَذَابُ ذَلِكَ الْيَوْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي كَوْنَ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَصْرُوفًا وَذَلِكَ مُحَالٌ، بَلِ الْمُرَادُ عَذَابُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَحَسُنَ هَذَا الْحَذْفُ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الطَّاعَةَ لَا تُوجِبُ الثَّوَابَ، وَالْمَعْصِيَةَ لَا تُوجِبُ الْعِقَابَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ أَيْ كُلُّ مَنْ صَرَفَ اللَّه عَنْهُ الْعَذَابَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَدْ رَحِمَهُ. وَهَذَا إِنَّمَا يَحْسُنُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الصَّرْفُ وَاقِعًا عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ أَمَّا لَوْ كَانَ وَاجِبًا مُسْتَحَقًّا لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يُقَالَ فِيهِ إِنَّهُ رَحِمَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي يَقْبُحُ مِنْهُ أَنْ يَضْرِبَ الْعَبْدَ، فَإِذَا لَمْ يَضْرِبْهُ لَا يُقَالُ إِنَّهُ رَحِمَهُ. أَمَّا إِذَا حَسُنَ مِنْهُ أَنْ يَضْرِبَهُ وَلَمْ يَضْرِبْهُ فَإِنَّهُ يُقَالُ إِنَّهُ رَحِمَهُ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ عِقَابٍ انْصَرَفَ وَكُلَّ ثَوَابٍ حَصَلَ، فَهُوَ ابْتِدَاءً فَضْلٌ وَإِحْسَانٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا يُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ، قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّه قَالَ وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّه بِرَحْمَتِهِ» وَوَضَعَ يَدَهُ فَوْقَ رَأْسِهِ، وَطَوَّلَ بِهَا صَوْتَهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْقَاضِي: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُعَاقَبْ فِي الْآخِرَةِ مِمَّنْ يُصْرَفُ عَنْهُ الْعِقَابُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُثَابَ وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ فِيمَنْ يُصْرَفُ عَنْهُ الْعِقَابُ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ مَنْ لَا يُثَابُ، لَكِنَّهُ يَتَفَضَّلُ عليه.

[سورة الأنعام (6) : آية 17]

فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ مَنْ لَمْ يُعَاقِبْهُ اللَّه تَعَالَى وَيَتَفَضَّلْ عَلَيْهِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَذَلِكَ يُبْطِلُ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِكُمْ؟ قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ مَدْفُوعٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّفَضُّلَ يَكُونُ كَالِابْتِدَاءِ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى، وَلَيْسَ يَكُونُ ذَلِكَ مَطْلُوبًا مِنَ الْفِعْلِ وَالْفَوْزُ هُوَ الظَّفَرُ بِالْمَطْلُوبِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُفِيدَ أَمْرًا مَطْلُوبًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْفَوْزَ الْمُبِينَ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى التَّفَضُّلِ بَلْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَا يَقْتَضِي مُبَالَغَةً فِي عِظَمِ النِّعْمَةِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا ثَوَابًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْآيَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام: 15] وَالْمُقَابِلُ لِلْعَذَابِ هُوَ الثَّوَابُ، فَيَجِبُ حَمْلُ هَذِهِ الرَّحْمَةِ عَلَى الثَّوَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ ضَعِيفٌ جِدًّا وَضَعْفُهُ ظَاهِرٌ فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إلى الاستقصاء واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 17] وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَّخِذَ غَيْرَ اللَّه وَلِيًّا، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الضُّرَّ اسْمٌ لِلْأَلَمِ وَالْحُزْنِ وَالْخَوْفِ وَمَا يُفْضِي إِلَيْهَا أَوْ إِلَى أَحَدِهَا. وَالنَّفْعُ اسْمٌ لِلَّذَّةِ وَالسُّرُورِ وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِمَا أَوْ إِلَى أَحَدِهِمَا. وَالْخَيْرُ اسْمٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ دَفْعِ الضُّرِّ وَبَيْنَ حُصُولِ النَّفْعِ. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ الْحَصْرُ فِي أَنَّ الْإِنْسَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الضُّرِّ أَوْ فِي الْخَيْرِ لِأَنَّ زَوَالَ الضُّرِّ خَيْرٌ سَوَاءٌ حَصَلَ فِيهِ اللَّذَّةُ أَوْ لَمْ تَحْصُلْ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْحَصْرُ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ الْمَضَارَّ قَلِيلَهَا وَكَثِيرَهَا لَا يَنْدَفِعُ إِلَّا باللَّه، وَالْخَيْرَاتُ لَا يَحْصُلُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا إِلَّا باللَّه. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، أَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ وَإِمَّا مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ أَمَّا الْوَاجِبُ لِذَاتِهِ فَوَاحِدٌ فَيَكُونُ كُلُّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِإِيجَادِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، وَكُلُّ مَا سِوَى الْحَقِّ فَهُوَ إِنَّمَا حَصَلَ بِإِيجَادِ الْحَقِّ وَتَكْوِينِهِ فَثَبَتَ أَنَّ انْدِفَاعَ جَمِيعِ الْمَضَارِّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهِ، وَحُصُولَ جَمِيعِ الْخَيِّرَاتِ وَالْمَنَافِعِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِهِ، فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ الْبَيِّنِ صِحَّةُ مَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ نَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَدْفَعُ الْمَضَارَّ عَنْ نَفْسِهِ بِمَالِهِ وَبِأَعْوَانِهِ وَأَنْصَارِهِ، وَقَدْ يَحْصُلُ الْخَيْرُ لَهُ بِكَسْبِ نَفْسِهِ وَبِإِعَانَةِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ. وَأَيْضًا فَرَأْسُ الْمَضَارِّ هُوَ الْكُفْرُ فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَمْ يَنْدَفِعْ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّه تَعَالَى. وَرَأْسُ الْخَيْرَاتِ هُوَ الْإِيمَانُ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ إِلَّا بِإِيجَادِ اللَّه تَعَالَى، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ الْإِنْسَانُ بِفِعْلِ الْكُفْرِ عِقَابًا وَلَا بِفِعْلِ الْإِيمَانِ ثَوَابًا. وَأَيْضًا فَإِنَّا نَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْتَفِعُ بِأَكْلِ الدَّوَاءِ وَيَتَضَرَّرُ بِتَنَاوُلِ السُّمُومِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ يَصْدُرُ عَنِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّمَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِذَا دَعَاهُ الدَّاعِي إِلَيْهِ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِدُونِ الدَّاعِي مُحَالٌ، وَحُصُولُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَكُونُ الْكُلُّ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ السُّؤَالَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ إِمْسَاسَ الضُّرِّ وَإِمْسَاسَ الْخَيْرِ، إِلَّا أَنَّهُ مَيَّزَ الْأَوَّلَ عَنِ الثَّانِي بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَ إِمْسَاسِ الضُّرِّ عَلَى ذِكْرِ إِمْسَاسِ الْخَيْرِ، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَضَارِّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ

[سورة الأنعام (6) : آية 18]

عَقِيبَهَا الْخَيْرُ وَالسَّلَامَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ فِي إِمْسَاسِ الضُّرِّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَذَكَرَ فِي إِمْسَاسِ الْخَيْرِ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَذَكَرَ فِي الْخَيْرِ كَوْنَهُ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إرادة اللَّه تعالى لا يصال الخيرات غالبة على إرادته لا يصال/ الْمَضَارِّ. وَهَذِهِ الشُّبُهَاتُ بِأَسْرِهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ اللَّه تَعَالَى جَانِبَ الرَّحْمَةِ غَالِبٌ، كَمَا قال: (سبقت رحمتي غضبي) . [سورة الأنعام (6) : آية 18] وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَحْصُورَةٌ فِي الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ فَإِنْ قَالُوا: كَيْفَ أَهْمَلْتُمْ وُجُوبَ الْوُجُودِ. قُلْنَا: ذَلِكَ عَيْنُ الذَّاتِ لَا صِفَةً قَائِمَةً بِالذَّاتِ لِأَنَّ الصِّفَةَ الْقَائِمَةَ بِالذَّاتِ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى الذَّاتِ وَالْمُفْتَقِرُ إِلَى الذَّاتِ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْغَيْرِ فَيَكُونُ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ وَاجِبًا بِغَيْرِهِ فَيَلْزَمُ حُصُولُ وُجُوبٍ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَذَلِكَ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ عَيْنُ الذَّاتِ، وَثَبَتَ أَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ الْكِمَالَاتُ حَقِيقَتُهَا هِيَ الْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ فَقَوْلُهُ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَقَوْلُهُ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْعِلْمِ. وَقَوْلُهُ وَهُوَ الْقاهِرُ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا مَوْصُوفَ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَكَمَالِ الْعِلْمِ إِلَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا كَامِلَ إِلَّا هُوَ، وَكُلُّ مَنْ سِوَاهُ فَهُوَ نَاقِصٌ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا دَلَالَةُ كَوْنِهِ قَاهِرًا عَلَى الْقُدْرَةِ فَلِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مَا عَدَا الْحَقِّ سُبْحَانَهُ مُمْكِنٌ بِالْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يَتَرَجَّحُ وُجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ وَلَا عَدَمُهُ عَلَى وُجُودِهِ إِلَّا بِتَرْجِيحِهِ وَتَكْوِينِهِ وَإِيجَادِهِ وَإِبْدَاعِهِ فَيَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الَّذِي قَهَرَ الْمُمْكِنَاتِ تَارَةً فِي طَرَفِ تَرْجِيحِ الْوُجُودِ عَلَى الْعَدَمِ، وَتَارَةً فِي طَرَفِ تَرْجِيحِ الْعَدَمِ عَلَى الْوُجُودِ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ كَوْنُهُ قَاهِرًا لَهُمْ بِالْمَوْتِ وَالْفَقْرِ وَالْإِذْلَالِ وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي قَوْلِهِ قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ [آلِ عِمْرَانَ: 26] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وأما كونه حكيما، فلا يمكن حمله هاهنا عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّ الْخَبِيرَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعِلْمِ فيلزم التكرار أنه لَا يَجُوزُ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى كَوْنِهِ مُحْكَمًا فِي أَفْعَالِهِ بِمَعْنَى أَنَّ أَفْعَالَهُ تَكُونُ مُحْكَمَةً مُتْقَنَةً آمِنَةً مِنْ وُجُوهِ الْخَلَلِ وَالْفَسَادِ وَالْخَبِيرُ هُوَ الْعَالِمُ بِالشَّيْءِ الْمَرْوِيِّ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ الْعَالِمُ بِمَا يَصِحُّ أَنْ يُخْبَرَ بِهِ قَالَ: وَالْخَبَرُ عِلْمُكَ بِالشَّيْءِ تَقُولُ: لِي بِهِ خَبَرٌ أَيْ عِلْمٌ وَأَصْلُهُ مِنَ الْخَبَرِ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْعِلْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُشَبِّهَةُ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَوْجُودٌ فِي الْجِهَةِ الَّتِي هِيَ فَوْقَ الْعَالَمِ وَهُوَ مَرْدُودٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فَوْقَ الْعَالَمِ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الصِّغَرِ بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ جَانِبٌ مِنْهُ مِنْ جَانِبٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَاهِبًا فِي الْأَقْطَارِ مُتَمَدِّدًا فِي الْجِهَاتِ. وَالْأَوَّلُ: يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي الصِّغَرِ وَالْحَقَارَةِ كَالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ فَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إله العالم بعض الذرات المخلوطة بالهباءات الْوَاقِعَةِ فِي كُوَّةِ الْبَيْتِ وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، وَإِنْ كَانَ/ الثَّانِي كَانَ مُتَبَعِّضًا مُتَجَزِّئًا، وَذَلِكَ عَلَى اللَّه مُحَالٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِمَّا أن يكون غير متناه من كل الجوانب فيلزم كون ذاته مخالطا للقاذورات وهو باطل أو يكون متناهيا مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ عَلَيْهِ الزِّيَادَةُ والنقصان. وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بمقداره المعين

لِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ، فَيَكُونُ مُحْدَثًا أَوْ يَكُونُ مُتَنَاهِيًا مِنْ بَعْضِ الْجَوَانِبِ دُونَ الْبَعْضِ، فَيَكُونُ الْجَانِبُ الْمَوْصُوفُ بِكَوْنِهِ مُتَنَاهِيًا غَيْرَ الْجَانِبِ الْمَوْصُوفِ بِكَوْنِهِ غَيْرَ مُتَنَاهٍ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقِسْمَةَ وَالتَّجْزِئَةَ. وَالثَّالِثُ: إِمَّا أَنْ يُفَسَّرَ الْمَكَانُ بِالسَّطْحِ الْحَاوِي أَوْ بِالْبُعْدِ وَالْخَلَاءِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ أَجْسَامُ العالم متناهية فخارج العالم لا خلا ولا ملا وَلَا مَكَانَ وَلَا حَيْثُ وَلَا جِهَةَ، فَيَمْتَنِعُ حُصُولُ ذَاتِ اللَّه تَعَالَى فِيهِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَنَقُولُ الْخَلَاءُ مُتَسَاوِي الْأَجْزَاءِ فِي حَقِيقَتِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَوْ صَحَّ حُصُولُ اللَّه فِي جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْخَلَاءِ لَصَحَّ حُصُولُهُ فِي سَائِرِ الْأَجْزَاءِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ حُصُولُهُ فِيهِ بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ وَاقِعًا بِالْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ فَهُوَ مُحْدَثٌ، فَحُصُولُ ذَاتِهِ فِي الْجُزْءِ مُحْدَثٌ. وَذَاتُهُ لَا تَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ الْحُصُولِ وَمَا لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْمُحْدَثِ فَهُوَ مُحْدَثٌ، فَيَلْزَمُ كَوْنُ ذَاتِهِ مُحْدَثَةً وهو محال. والرابع: أَنَّ الْبُعْدَ وَالْخَلَاءَ أَمْرٌ قَابِلٌ لِلْقِسْمَةِ وَالتَّجْزِئَةِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ ومفتقر إلى الموجد ويكون موجده موجودا قَبْلَهُ فَيَكُونُ ذَاتُ اللَّه تَعَالَى قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُجُودِ الْخَلَاءِ وَالْجِهَةِ وَالْحَيْثِ وَالْحَيِّزِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا: فَبَعْدَ الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ وَالْخَلَاءِ وَجَبَ أَنْ تَبْقَى ذَاتُ اللَّه تَعَالَى كَمَا كَانَتْ وَإِلَّا فَقَدَ وَقَعَ التَّغْيِيرُ فِي ذَاتِ اللَّه تَعَالَى وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الْأَحْيَازِ وَالْجِهَاتِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْعَالَمَ كُرَةٌ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالَّذِي يَكُونُ فوق رؤوس أَهْلِ الرَّيِّ يَكُونُ تَحْتَ أَقْدَامِ قَوْمٍ آخَرِينَ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى فَوْقَ أَقْوَامٍ بِأَعْيَانِهِمْ. أَوْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى فَوْقَ الْكُلِّ. وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ، لِأَنَّ كَوْنَهُ فَوْقًا لِبَعْضِهِمْ يُوجِبُ كَوْنَهُ تَحْتًا لِآخَرِينَ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: يُوجِبُ كَوْنَهُ تَعَالَى مُحِيطًا بِكُرَةِ الْفَلَكِ فَيَصِيرُ حَاصِلُ الْأَمْرِ إِلَى أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ هُوَ فَلَكٌ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْأَفْلَاكِ وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ. وَالسَّادِسُ: هُوَ أَنَّ لَفْظَ الْفَوْقِيَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسْبُوقٌ بِلَفْظٍ وَمَلْحُوقٌ بِلَفْظٍ آخَرَ. أَمَّا أَنَّهَا مَسْبُوقَةٌ فَلِأَنَّهَا مَسْبُوقَةٌ بِلَفْظِ الْقَاهِرِ، وَالْقَاهِرُ مُشْعِرٌ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَتَمَامِ الْمُكْنَةِ. وَأَمَّا أَنَّهَا مَلْحُوقَةٌ بِلَفْظٍ فَلِأَنَّهَا مَلْحُوقَةٌ بِقَوْلِهِ عِبادِهِ وَهَذَا اللَّفْظُ مُشْعِرٌ بِالْمَمْلُوكِيَّةِ وَالْمَقْدُورِيَّةِ، فَوَجَبَ حَمْلُ تِلْكَ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى فَوْقِيَّةِ الْقُدْرَةِ لَا عَلَى فَوْقِيَّةِ الْجِهَةِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى الضِّدِّ مِنْ قَوْلِكُمْ إِنَّ قَوْلَهُ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ دَلَّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ. فَلَوْ حَمَلْنَا لَفْظَ الْفَوْقِ عَلَى فَوْقِيَّةِ الْقُدْرَةِ لَزِمَ التَّكْرَارُ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى فَوْقِيَّةِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ. قُلْنَا: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ لِأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ الذَّاتُ مَوْصُوفَةً بِكَوْنِهَا قَاهِرَةً لِلْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ وَقَوْلُهُ فَوْقَ عِبادِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَهْرَ وَالْقُدْرَةَ عَامٌّ فِي حَقِّ الْكُلِّ. وَالسَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ رَدًّا عَلَى مَنْ يَتَّخِذُ غَيْرَ اللَّه وَلِيًّا، وَالتَّقْدِيرُ: كَأَنَّهُ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى فَوْقَ كُلِّ عِبَادِهِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ اتِّخَاذُ غَيْرِ اللَّه وَلِيًّا. وَهَذِهِ النَّتِيجَةُ إِنَّمَا يَحْسُنُ تَرْتِيبُهَا عَلَى تِلْكَ الْفَوْقِيَّاتِ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ تِلْكَ الْفَوْقِيَّةِ، الْفَوْقِيَّةَ بِالْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ. أَمَّا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهَا الْفَوْقِيَّةَ بِالْجِهَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ هَذَا الْمَقْصُودَ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مُجَرَّدِ كَوْنِهِ حَاصِلًا فِي جِهَةٍ فَوْقَ أَنْ يَكُونَ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ مُفِيدًا وَأَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ الْمَطَالِبِ لَازِمًا. أَمَّا إِذَا حملنا

[سورة الأنعام (6) : آية 19]

ذَلِكَ عَلَى فَوْقِيَّةِ الْقُدْرَةِ حَسُنَ تَرْتِيبُ هَذِهِ النَّتِيجَةِ عَلَيْهِ فَظَهَرَ بِمَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْنَاهُ، لَا مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التشبيه واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 19] قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) [في قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَكْبَرَ الشَّهَادَاتِ وَأَعْظَمَهَا شَهَادَةُ اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ شَهَادَةَ اللَّه حَاصِلَةٌ إِلَّا أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَدُلَّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الشَّهَادَةَ حَصَلَتْ فِي إِثْبَاتِ أَيِّ الْمَطَالِبِ فَنَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حُصُولَ شَهَادَةِ اللَّه فِي ثُبُوتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حُصُولَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ فِي ثُبُوتِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّه تَعَالَى. أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: فَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رُؤَسَاءَ أَهْلِ مَكَّةَ قَالُوا يَا مُحَمَّدُ مَا وَجَدَ اللَّه غَيْرَكَ/ رَسُولًا وَمَا نَرَى أَحَدًا يُصَدِّقُكَ وَقَدْ سَأَلْنَا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَنْكَ فَزَعَمُوا أَنَّهُ لَا ذِكْرَ لَكَ عِنْدَهُمْ بِالنُّبُوَّةِ فَأَرِنَا مَنْ يَشْهَدُ لَكَ بِالنُّبُوَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ قُلْ يَا مُحَمَّدُ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً مِنَ اللَّه حَتَّى يَعْتَرِفُوا بِالنُّبُوَّةِ، فَإِنَّ أَكْبَرَ الْأَشْيَاءِ شَهَادَةً هُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِذَا اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ فَقُلْ إِنَّ اللَّه شَهِيدٌ لِي بِالنُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ أَوْحَى إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنَ وَهَذَا الْقُرْآنُ مُعْجِزٌ، لِأَنَّكُمْ أَنْتُمُ الْفُصَحَاءُ وَالْبُلَغَاءُ وَقَدْ عَجَزْتُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ فَإِذَا كَانَ مُعْجِزًا، كَانَ إِظْهَارُ اللَّه إِيَّاهُ عَلَى وَفْقِ دَعْوَايَ شَهَادَةً مِنَ اللَّه عَلَى كَوْنِي صَادِقًا فِي دَعْوَايَ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُمْ طَلَبُوا شَاهِدًا مَقْبُولَ الْقَوْلِ يَشْهَدُ عَلَى نُبُوَّتِهِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ أَكْبَرَ الْأَشْيَاءِ شَهَادَةً هُوَ اللَّه، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ شَهِدَ لَهُ بالنبوّة وهو المراد من قَوْلُهُ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ فَهَذَا تَقْرِيرٌ وَاضِحٌ. وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حُصُولَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ فِي وَحْدَانِيَّةِ اللَّه تَعَالَى. فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِمُقَدِّمَةٍ، وَهِيَ أَنَّا نَقُولُ: الْمَطَالِبُ عَلَى أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ: مِنْهَا مَا يَمْتَنِعُ إِثْبَاتُهُ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ فَإِنَّ كُلَّ مَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ السَّمْعِ عَلَى صِحَّتِهِ امْتَنَعَ إِثْبَاتُهُ بِالسَّمْعِ، وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ. وَمِنْهَا مَا يَمْتَنِعُ إِثْبَاتُهُ بِالْعَقْلِ وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ يَصِحُّ وُجُودُهُ وَيَصِحُّ عَدَمُهُ عَقْلًا، فَلَا امْتِنَاعَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ أَصْلًا، فَالْقَطْعُ عَلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ بِعَيْنِهِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ، وَمِنْهَا مَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ بِالْعَقْلِ وَالسَّمْعِ مَعًا، وَهُوَ كُلُّ أَمْرٍ عَقْلِيٍّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ، فَلَا جَرَمَ أَمْكَنَ إِثْبَاتُهُ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ. إِذَا عرفت هذا فنقول: قوله قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فِي إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْبَرَاءَةِ عَنِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ وَالْأَمْثَالِ والأشباه. ثم قَالَ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَيْ إِنَّ الْقَوْلَ بِالتَّوْحِيدِ هُوَ الْحَقُّ الْوَاجِبُ، وَإِنَّ الْقَوْلَ بِالشِّرْكِ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نُقِلَ عَنْ جَهْمٍ أَنَّهُ يُنْكِرُ كَوْنَهُ تَعَالَى شَيْئًا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُنَازِعُ فِي كَوْنِهِ تَعَالَى ذَاتًا مَوْجُودًا وَحَقِيقَةً إِلَّا أَنَّهُ يُنْكِرُ تَسْمِيَتَهُ تَعَالَى بِكَوْنِهِ شَيْئًا، فَيَكُونُ هَذَا

خِلَافًا فِي مُجَرَّدِ الْعِبَارَةِ. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى تَسْمِيَةِ اللَّه تَعَالَى بِالشَّيْءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ قَالَ أَيُّ الْأَشْيَاءِ أَكْبَرُ شَهَادَةً ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ قَوْلَهُ قُلِ اللَّهُ وَهَذَا يُوجِبُ كَوْنَهُ تَعَالَى شَيْئًا، كَمَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَيُّ النَّاسِ أَصْدَقُ فَلَوْ قِيلَ: جِبْرِيلُ، كَانَ هَذَا الْجَوَابُ خَطَأً لأن جبريل ليس من الناس فكذا هاهنا. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كلام تام مستقبل بِنَفْسِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ لِأَنَّ/ قَوْلَهُ اللَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ خَبَرُهُ، وَهُوَ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا لَا تعلق لها بما قبلها. قلنا الجواب فيه وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ قَوْلُهُ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً لَا شَكَّ أَنَّهُ سُؤَالٌ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ جَوَابٍ: إِمَّا مَذْكُورٍ، وإما محذوف. فإن قلنا: الجواب مذكور: كان الجواب هو قوله قُلِ اللَّهُ وهاهنا يتم الكلام. فأما قوله شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فههنا يضمر مبتدأ، والتقدير: وهو شهيد بيني وبينكم، وعند هذا يصح الاستدلال المذكور. وأما إن قُلْنَا: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ فَنَقُولُ: هَذَا عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْمَحْذُوفَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَمْرًا يَدُلُّ الْمَذْكُورُ عَلَيْهِ وَيَكُونَ لَائِقًا بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ. وَالْجَوَابُ اللَّائِقُ بِقَوْلِهِ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً هُوَ أَنْ يُقَالَ: هُوَ اللَّه، ثُمَّ يُقَالُ بَعْدَهُ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُسَمَّى بَاسْمِ الشَّيْءِ فَهَذَا تَمَامُ تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88] وَالْمُرَادُ بِوَجْهِهِ ذَاتُهُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَى ذَاتَ نَفْسِهِ مِنْ قَوْلِهِ كُلُّ شَيْءٍ وَالْمُسْتَثْنَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُسَمَّى بَاسْمِ الشَّيْءِ. وَاحْتَجَّ جَهْمٌ عَلَى فَسَادِ هَذَا الِاسْمِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: 11] وَالْمُرَادُ لَيْسَ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ وَذَاتُ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُ مِثْلِ نَفْسِهِ فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يُسَمَّى بَاسِمِ الشَّيْءِ وَلَا يُقَالُ الْكَافُ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ لِأَنَّ جَعْلَ كَلِمَةٍ مِنْ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ عَبَثًا بَاطِلًا لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الدِّينِ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ الشَّدِيدَةِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرَّعْدِ: 16] وَلَوْ كَانَ تَعَالَى مُسَمَّى بِالشَّيْءِ لَزِمَ كَوْنُهُ خَالِقًا لِنَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ، لَا يُقَالُ: هَذَا عَامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ لِأَنَّا نَقُولُ: إِدْخَالُ التَّخْصِيصِ إِنَّمَا يَجُوزُ فِي صُورَةٍ نَادِرَةٍ شَاذَّةٍ لَا يُؤْبَهُ بِهَا وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا، فَيَجْرِي وُجُودُهَا مَجْرَى عَدَمِهَا، فَيُطْلَقُ لَفْظُ الْكُلِّ عَلَى الْأَكْثَرِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْبَقِيَّةَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْعَدَمِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْبَارِي تَعَالَى لَوْ كَانَ مُسَمًّى بِاسْمِ الشَّيْءِ لَكَانَ هُوَ تَعَالَى أَعْظَمَ الْأَشْيَاءِ وَأَشْرَفَهَا، وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْكُلِّ مَعَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقِسْمُ خَارِجًا عَنْهُ يَكُونُ مَحْضَ كَذِبٍ وَلَا يَكُونُ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ. الثَّالِثُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الْأَعْرَافِ: 180] وَالِاسْمُ إِنَّمَا يَحْسُنُ لِحُسْنِ مُسَمَّاهُ وَهُوَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ نعت مِنْ نُعُوتِ/ الْجَلَالِ وَلَفَظُ الشَّيْءِ أَعَمُّ الْأَشْيَاءِ فَيَكُونُ مُسَمَّاهُ حَاصِلًا فِي أَحْسَنِ الْأَشْيَاءِ وَفِي أَرْذَلِهَا وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْمُسَمَّى بِهَذَا اللَّفْظِ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَلَا نَعْتًا مِنْ نُعُوتِ الْجَلَالِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ دَعْوَةُ اللَّه تَعَالَى بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى واللَّه تَعَالَى أَمَرَ بِأَنْ يُدْعَى بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ دُعَاءُ اللَّه تَعَالَى بِهَذَا الِاسْمِ وَكُلُّ مَنْ مَنَعَ مِنْ دعاء

اللَّه بِهَذَا الِاسْمِ قَالَ: إِنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَيْسَ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى الْبَتَّةَ. الرَّابِعُ: أَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ يَتَنَاوَلُ الْمَعْدُومَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ إِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّه تَعَالَى بَيَانُ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً [الْكَهْفِ: 23] سَمَّى الشَّيْءَ الَّذِي سَيَفْعَلُهُ غَدًا بِاسْمِ الشَّيْءِ فِي الْحَالِ وَالَّذِي سَيَفْعَلُهُ غَدًا يَكُونُ مَعْدُومًا فِي الْحَالِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ يَقَعُ عَلَى الْمَعْدُومِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُنَا: إِنَّهُ شَيْءٌ لَا يُفِيدُ امْتِيَازَ ذَاتِهِ عَنْ سَائِرِ الذَّوَاتِ بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ وَلَا بِخَاصَّةِ مُتَمَيِّزَةٍ وَلَا يُفِيدُ كَوْنَهُ مَوْجُودًا فَيَكُونُ هَذَا لَفْظًا لَا يُفِيدُ فَائِدَةً فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى أَلْبَتَّةَ، فكان عبثا مطلقا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ إِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّه تَعَالَى. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا تَعَارَضَتِ الدَّلَائِلُ. فَنَقُولُ: لَفْظُ الشَّيْءِ أَعَمُّ الْأَلْفَاظِ، وَمَتَى صَدَقَ الْخَاصُّ صَدَقَ الْعَامُّ، فَمَتَى صَدَقَ فِيهِ كَوْنُهُ ذَاتًا وَحَقِيقَةً وَجَبَ أَنْ يَصْدُقَ عَلَيْهِ كَوْنُهُ شَيْئًا وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ واللَّه أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنَ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ، وَهُوَ خِطَابٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَقَوْلُهُ وَمَنْ بَلَغَ عَطْفٌ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَيْ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ، وَأُنْذِرَ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ، مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَقِيلَ مِنَ الثَّقَلَيْنِ، وَقِيلَ: مَنْ بَلَغَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ، فَكَأَنَّمَا رَأَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَيَحْصُلُ فِي الْآيَةِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ، وَمَنْ بَلَغَهُ هَذَا الْقُرْآنُ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْعَائِدَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، كَمَا يُقَالُ الَّذِي رَأَيْتُ زَيْدٌ، وَالَّذِي ضَرَبْتُ عَمْرٌو. وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَمَنْ بَلَغَ قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَمَنْ بَلَغَ أَيْ وَمَنِ احْتَلَمَ وَبَلَغَ حَدَّ التَّكْلِيفِ، وَعِنْدَ هَذَا لَا يُحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ الْعَائِدِ إِلَّا أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى الْقَوْلِ الأول. أما قوله أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ فَنَقُولُ: فِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: (أَيِنَّكُمْ) بِهَمْزَةٍ وَكَسْرَةٍ بَعْدَهَا خَفِيفَةٍ مُشْبِهَةٍ يَاءً سَاكِنَةً بِلَا مدة، وَأَبُو عَمْرٍو وَقَالُونُ عَنْ نَافِعٍ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ يَمُدُّ وَالْبَاقُونَ بِهَمْزَتَيْنِ بِلَا مَدٍّ. وَالْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الْجَحْدُ وَالْإِنْكَارُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَمْ يَقُلْ آخَرُ لِأَنَّ الْآلِهَةَ جَمْعٌ وَالْجَمْعُ يَقَعُ عَلَيْهِ التَّأْنِيثُ كَمَا قَالَ: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الْأَعْرَافِ: 180] وَقَالَ: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى [طه: 51] وَلَمْ يَقُلِ الْأَوَّلِ وَلَا الْأَوَّلِينَ وَكُلُّ ذَلِكَ صَوَابٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ دَالٌّ عَلَى إِيجَابِ التَّوْحِيدِ وَالْبَرَاءَةِ عَنِ الشِّرْكِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ قُلْ لَا أَشْهَدُ أَيْ لَا أَشْهَدُ بِمَا تَذْكُرُونَهُ مِنْ إِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَكَلِمَةُ إِنَّما تُفِيدُ الْحَصْرَ، وَلَفْظُ الْوَاحِدِ صَرِيحٌ فِي التَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الشركاء. وثالثها: قوله إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِالْبَرَاءَةِ عَنْ إِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ فَثَبَتَ دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِيجَابِ التَّوْحِيدِ بِأَعْظَمِ طُرُقِ الْبَيَانِ وَأَبْلَغِ وُجُوهِ التَّأْكِيدِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْمُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَسْلَمَ ابْتِدَاءً أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَيَتَبَرَّأَ مِنْ كُلِّ دِينٍ سِوَى دِينِ الْإِسْلَامِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 20]

وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه عَلَى اسْتِحْبَابِ ضَمِّ التَّبَرِّي إِلَى الشَّهَادَةِ لِقَوْلِهِ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ عقيب التصريح بالتوحيد. [سورة الأنعام (6) : آية 20] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) اعْلَمْ أَنَّا رُوِّينَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الْكُفَّارَ سَأَلُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَنْكَرُوا دَلَالَةَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى نُبُوَّتِهِ، فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ شَهَادَةَ اللَّه عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ كَافِيَةٌ فِي ثُبُوتِهَا وَتَحَقُّقِهَا، ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِي قَوْلِهِمْ أَنَّا لَا نَعْرِفُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ قَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ اللَّه بْنِ سَلَامٍ: أَنْزَلَ اللَّه عَلَى نَبِيِّهِ هَذِهِ الْآيَةَ فَكَيْفَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ، فَقَالَ يَا عُمَرُ لَقَدْ عَرَفْتُهُ فِيكُمْ حِينَ رَأَيْتُهُ كَمَا أَعْرِفُ ابني ولأنا أشد معرفة بمحمد مني يا بني لِأَنِّي لَا أَدْرِي مَا صَنَعَ النِّسَاءُ وَأَشْهَدُ أَنَّهُ حَقٌّ مِنَ اللَّه تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُمْ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِثْلَ عِلْمِهِمْ بِأَبْنَائِهِمْ وَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْمَكْتُوبُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مُجَرَّدُ أَنَّهُ سَيَخْرُجُ نَبِيٌّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَدْعُو الْخَلْقَ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، أَوِ الْمَكْتُوبُ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ تَعَيُّنِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالنَّسَبِ وَالصِّفَةِ/ وَالْحِلْيَةِ وَالشَّكْلِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَذَلِكَ الْقَدْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ هُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: عِلْمُهُمْ بِنُبُوَّتِهِ مِثْلُ علمهم بنبوّة أَبْنَائِهِمْ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَالِمِينَ بِالضَّرُورَةِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِكَوْنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَبِيًّا مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى، وَالْكَذِبُ عَلَى الْجَمْعِ الْعَظِيمِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مَا كَانَا مُشْتَمِلَيْنِ عَلَى هَذِهِ التَّفَاصِيلِ التَّامَّةِ الْكَامِلَةِ، لِأَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ بَاقِيًا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ حَالَ ظُهُورِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُ مَا بَقِيَتْ هَذِهِ التَّفَاصِيلُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي وَقْتِ ظُهُورِهِ لِأَجْلِ أن التحريف قد تطرف إِلَيْهِمَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ إِخْفَاءَ مِثْلِ هَذِهِ التَّفَاصِيلِ التَّامَّةِ فِي كِتَابٍ وَصَلَ إِلَى أَهْلِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ مُمْتَنِعٌ، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَكُنِ يَهُودُ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَنَصَارَى ذَلِكَ الزَّمَانِ عَالِمِينَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمَهُمْ بنبوّة أَبْنَائِهِمْ، وَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ هَذَا الْكَلَامُ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَهُمْ كَانُوا أَهْلًا لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَكَانُوا قَدْ شَاهَدُوا ظُهُورَ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَعَرَفُوا بِوَاسِطَةِ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ كَوْنَهُ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّه، وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَشْبِيهِ إِحْدَى الْمَعْرِفَتَيْنِ بِالْمَعْرِفَةِ الثَّانِيَةِ هَذَا الْقَدْرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. أَمَّا قَوْلُهُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ الَّذِينَ صِفَةٌ لِلَّذِينِ الْأُولَى، فَيَكُونُ عَامِلُهُمَا وَاحِدًا وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ وَعِيدَ الْمُعَانِدِينَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ وَيَجْحَدُونَ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمُ ابْتِدَاءٌ. وَقَوْلَهُ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَبَرُهُ، وَفِي قَوْلِهِ الَّذِينَ خَسِرُوا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَعْنَى الْهَلَاكِ الدَّائِمِ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَالثَّانِي: جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَافِرٍ وَلَا مُؤْمِنٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ، فَمَنْ كَفَرَ صَارَتْ مَنْزِلَتُهُ إِلَى مَنْ أَسْلَمَ فَيَكُونُ قَدْ خَسِرَ نفسه وأهله بأن ورث منزلته غيره.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 21 إلى 22]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 21 الى 22] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ عَلَى أُولَئِكَ الْمُنْكِرِينَ بِالْخُسْرَانِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سَبَبَ ذَلِكَ الْخُسْرَانِ، وَهُوَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَى اللَّه كَذِبًا، وَهَذَا الِافْتِرَاءُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ كَانُوا يَقُولُونَ هَذِهِ الْأَصْنَامُ شُرَكَاءُ اللَّه، واللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهَا وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهَا، وَكَانُوا أَيْضًا يَقُولُونَ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه، ثُمَّ نَسَبُوا إِلَى اللَّه تَحْرِيمَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ. وَثَانِيهَا: أَنِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كَانُوا يَقُولُونَ: حَصَلَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَنَّ هَاتَيْنِ الشَّرِيعَتَيْنِ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمَا النَّسْخُ وَالتَّغْيِيرُ، وَأَنَّهُمَا لَا يَجِيءُ بَعْدَهُمَا نَبِيٌّ، وَثَالِثُهَا: مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي قَوْلِهِ وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الْأَعْرَافِ: 28] وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَةِ: 18] وَكَانُوا يَقُولُونَ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَةِ: 80] وَخَامِسُهَا: أَنَّ بَعْضَ الْجُهَّالِ مِنْهُمْ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّه فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَبَاطِيلِ الَّتِي كَانُوا يَنْسُبُونَهَا إِلَى اللَّه كَثِيرَةٌ، وَكُلُّهَا افْتِرَاءٌ مِنْهُمْ عَلَى اللَّه. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ أَسْبَابِ خُسْرَانِهِمْ تَكْذِيبُهُمْ بِآيَاتِ اللَّه، وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَدْحُهُمْ فِي مُعْجِزَاتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَطَعْنُهُمْ فِيهَا وَإِنْكَارُهُمْ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةً قَاهِرَةً بَيِّنَةً، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أَيْ لَا يَظْفَرُونَ بِمَطَالِبِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ بَلْ يَبْقَوْنَ فِي الْحِرْمَانِ وَالْخِذْلَانِ. أَمَّا قَوْلُهُ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً فَفِي نَاصِبِ قَوْلِهِ وَيَوْمَ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَتُرِكَ لِيَبْقَى عَلَى الْإِبْهَامِ الَّذِي هُوَ أَدْخَلُ فِي التَّخْوِيفِ، وَالثَّانِي: التَّقْدِيرُ اذْكُرْ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أَبَدًا وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّقْرِيعُ وَالتَّبْكِيتُ لَا السُّؤَالُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَيْنَ نَفْسُ الشُّرَكَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَيْنَ شَفَاعَتُهُمْ لَكُمْ وَانْتِفَاعُكُمْ بِهِمْ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ: لَا يَكُونُ الْكَلَامُ إِلَّا تَوْبِيخًا وَتَقْرِيعًا وَتَقْرِيرًا فِي نُفُوسِهِمْ أَنَّ الَّذِي كَانُوا يَظُنُّونَهُ مَأْيُوسٌ عَنْهُ، وَصَارَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا لَهُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَالْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ شُفَعَاءُ، فَحَذَفَ مَفْعُولَ الزَّعْمِ لِدَلَالَةِ السُّؤَالِ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وكل زعم في كتاب اللَّه كذب. [سورة الأنعام (6) : الآيات 23 الى 24] ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (24) [في قَوْلِهِ تَعَالَى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ] اعلم أن هاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ بِالتَّاءِ الْمُنْقَطَةِ مِنْ فَوْقُ وَفِتْنَتُهُمْ بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ بِالْيَاءِ وَفِتْنَتَهُمْ بِالنَّصْبِ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالتَّاءِ الْمُنْقَطَةِ مِنْ فَوْقُ وَنَصْبِ الْفِتْنَةِ، فَهَهُنَا قَوْلُهُ أَنْ قَالُوا: فِي مَحَلِّ الرفع لسكونه اسْمَ تَكُنْ، وَإِنَّمَا أُنِّثَ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ مَنْ كَانَتْ أُمُّكَ أَوْ

لِأَنَّ مَا قَالُوا: فِتْنَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَيَجُوزُ تَأْوِيلُ إِلَّا أَنْ قَالُوا لَا مَقَالَتُهُمْ وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْيَاءِ الْمُنْقَطَةِ مِنْ تَحْتُ، وَنَصْبِ فِتْنَتَهُمْ، فَهَهُنَا قَوْلُهُ أَنْ قَالُوا: فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ لِكَوْنِهِ اسْمَ يَكُنْ، وَفِتْنَتَهُمْ هُوَ الْخَبَرُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الِاخْتِيَارُ قِرَاءَةُ مَنْ جَعَلَ أَنْ قَالُوا الِاسْمَ دُونَ الْخَبَرِ لِأَنَّ أَنْ إِذَا وُصِلَتْ بِالْفِعْلِ لَمْ تُوصَفْ فَأَشْبَهَتْ بِامْتِنَاعِ وَصْفِهَا الْمُضْمَرَ، فَكَمَا أَنَّ الْمُظْهَرَ وَالْمُضْمَرَ، إِذَا اجْتَمَعَا كَانَ جَعْلُ الْمُضْمَرِ اسْمًا أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ خَبَرًا، فكذا هاهنا تَقُولُ كُنْتُ الْقَائِمَ، فَجَعَلْتَ الْمُضْمَرَ اسْمًا وَالْمُظْهَرَ خبرا فكذا هاهنا، وَنَقُولُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: واللَّه رَبَّنَا بِنَصْبِ قَوْلِهِ رَبَّنَا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِإِضْمَارٍ أَعْنِي وَأَذْكُرُ، وَالثَّانِي: عَلَى النِّدَاءِ، أَيْ واللَّه يَا رَبَّنَا، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْبَاءِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ للَّه تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ حَسَنٌ فِي اللُّغَةِ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ عَرَفَ مَعَانِيَ الْكَلَامِ وَتَصَرُّفَ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى بَيَّنَ كَوْنَ الْمُشْرِكِينَ مَفْتُونِينَ بِشِرْكِهِمْ مُتَهَالِكِينَ عَلَى حُبِّهِ، فَأَعْلَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ افْتِتَانُهُمْ بشركهم وإقامتهم عليه، إلا أن تبرؤا مِنْهُ وَتَبَاعَدُوا عَنْهُ، فَحَلَفُوا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُشْرِكِينَ: وَمِثَالُهُ أَنْ تَرَى إِنْسَانًا يُحِبُّ عَارِيًا مَذْمُومَ الطَّرِيقَةِ فَإِذَا وَقَعَ فِي مِحْنَةٍ بِسَبَبِهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، فَيُقَالُ لَهُ مَا كَانَتْ مَحَبَّتُكَ لِفُلَانٍ، إِلَّا أَنِ انْتَفَيْتَ مِنْهُ فَالْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ هاهنا افْتِتَانُهُمْ بِالْأَوْثَانِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الْوَجْهُ بِمَا رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ قَالَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ مَعْنَاهُ شِرْكُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِعٌ إِلَى حَذْفِ الْمُضَافِ لِأَنَّ الْمَعْنَى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عَاقِبَةُ فِتْنَتِهِمْ إِلَّا الْبَرَاءَةَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُكَ مَا كَانَتْ مَحَبَّتُكَ لِفُلَانٍ، إِلَّا أَنْ فَرَرْتَ مِنْهُ وَتَرَكْتَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي: أَنَّهُمْ حَلَفُوا فِي الْقِيَامَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُشْرِكِينَ، وَهَذَا يَقْتَضِي إِقْدَامَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِلنَّاسِ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ، وَالْقَاضِي: أَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ لَا يَجُوزُ إِقْدَامُهُمْ على الكذب واحتجا عليه بوجوه: الأول: ن أَهْلَ الْقِيَامَةِ يَعْرِفُونَ اللَّه تَعَالَى بِالِاضْطِرَارِ، إِذْ لَوْ عَرَفُوهُ بِالِاسْتِدْلَالِ لَصَارَ مَوْقِفُ الْقِيَامَةِ دَارَ التَّكْلِيفِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَإِذَا كَانُوا عَارِفِينَ باللَّه عَلَى سَبِيلِ الِاضْطِرَارِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا مُلْجَئِينَ إِلَى أَنْ لَا يَفْعَلُوا الْقَبِيحَ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يعلمون أَنَّهُمْ لَوْ رَامُوا فِعْلَ الْقَبِيحِ لَمَنَعَهُمُ اللَّه مِنْهُ لَأَنَّ مَعَ زَوَالِ التَّكْلِيفِ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ ذَلِكَ إِطْلَاقَهُمْ فِي فِعْلِ الْقَبِيحِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ يَعْلَمُونَ اللَّه بِالِاضْطِرَارِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ مَتَى كَانَ كَذَلِكَ كَانُوا مُلْجَئِينَ إِلَى تَرْكِ الْقَبِيحِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُقْدِمُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِيَامَةِ عَلَى فِعْلِ الْقَبِيحِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْهُمْ فِعْلُ الْقَبِيحِ، إِذَا كَانُوا عُقَلَاءَ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ وَقَعَ مِنْهُمْ هَذَا الْكَذِبُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَايَنُوا أَهْوَالَ الْقِيَامَةِ اضْطَرَبَتْ عُقُولُهُمْ، فَقَالُوا: هَذَا الْقَوْلَ الْكَذِبَ عِنْدَ اخْتِلَالِ عُقُولِهِمْ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُمْ نَسُوا كَوْنَهُمْ مُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْشُرَهُمْ: وَيُورِدَ عَلَيْهِمُ التَّوْبِيخَ بِقَوْلِهِ أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ [الأنعام: 22] ثُمَّ يَحْكِي عَنْهُمْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الِاعْتِذَارِ مَعَ أَنَّهُمْ غَيْرُ عُقَلَاءٍ، لِأَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى، وَأَيْضًا فَالْمُكَلَّفُونَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُوا عُقَلَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ بِمَا يُعَامِلُهُمُ اللَّه بِهِ غَيْرُ مَظْلُومِينَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ النِّسْيَانَ: لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا مَعَ كَمَالِ الْعَقْلِ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْسَى مِثْلَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَإِنْ بَعُدَ الْعَهْدُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَنْسَى الْيَسِيرَ مِنَ الْأُمُورِ وَلَوْلَا أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ لَجَوَّزْنَا

أَنْ يَكُونَ الْعَاقِلُ قَدْ مَارَسَ الْوِلَايَاتِ الْعَظِيمَةَ دَهْرًا طَوِيلًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ نَسِيَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَجْوِيزَهُ يُوجِبُ السَّفْسَطَةَ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ أَقْدَمُوا عَلَى ذَلِكَ الْكَذِبِ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ مَا كَانُوا عُقَلَاءَ أَوْ كَانُوا عُقَلَاءَ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُمْ مَا كَانُوا عُقَلَاءَ فَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَحْكِيَ كَلَامَ الْمَجَانِينِ فِي مَعْرِضِ تَمْهِيدِ الْعُذْرِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُمْ كَانُوا عُقَلَاءَ فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَالِمٌ بِأَحْوَالِهِمْ، مُطَّلِعٌ عَلَى أَفْعَالِهِمْ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ تَجْوِيزَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّه مُحَالٌ، وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَفِيدُونَ بِذَلِكَ الْكَذِبِ إِلَّا زِيَادَةَ الْمَقْتِ وَالْغَضَبِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ إِقْدَامُهُمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى الْكَذِبِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ لَوْ كَذَبُوا فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ حَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ الْكَذِبِ لَكَانُوا قَدْ أَقْدَمُوا عَلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الْقُبْحِ وَالذَّنْبِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْعِقَابَ، فَتَصِيرُ الدَّارُ الْآخِرَةُ دَارَ التَّكْلِيفِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا إِنْ قِيلَ إِنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ عَلَى ذَلِكَ الْكَذِبِ، وَعَلَى ذَلِكَ الْحَلِفِ الْكَاذِبِ عِقَابًا وَذَمًّا، فَهَذَا يَقْتَضِي حُصُولَ الْإِذْنِ مِنَ اللَّه تَعَالَى فِي ارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ وَالذُّنُوبِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِقْدَامُ أَهْلِ الْقِيَامَةِ عَلَى الْقَبِيحِ وَالْكَذِبِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا: فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا يُحْمَلُ قَوْلُهُ وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ أَيْ مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فِي اعْتِقَادِنَا وَظُنُونِنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُوَحِّدِينَ مُتَبَاعِدِينَ مِنَ الشِّرْكِ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: يَكُونُونَ صَادِقِينَ فِيمَا أَخْبَرُوا عَنْهُ لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِأَنَّهُمْ كَانُوا غَيْرَ مُشْرِكِينَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ، فَلِمَاذَا قَالَ اللَّه تَعَالَى انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ قَوْلِهِ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ حَتَّى يَلْزَمَنَا هَذَا السُّؤَالُ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا فِي أُمُورٍ كَانُوا يُخْبِرُونَ عَنْهَا كَقَوْلِهِمْ: إِنَّهُمْ عَلَى صَوَابٍ وَإِنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ لَيْسَ بِشِرْكٍ وَالْكَذِبُ يَصِحُّ عَلَيْهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يُنْفَى ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ اخْتِلَافُ الْحَالَيْنِ، وَأَنَّهُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وَلَا يَحْتَرِزُونَ عَنْهُ وَأَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ يَحْتَرِزُونَ عَنِ الْكَذِبِ وَلَكِنْ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ الصِّدْقُ فَلِتَعَلُّقِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ أَظْهَرَ اللَّه تَعَالَى لِلرَّسُولِ ذَلِكَ وَبَيَّنَ أَنَّ الْقَوْمَ لِأَجْلِ شِرْكِهِمْ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ الِاعْتِذَارِ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي دَارِ الدُّنْيَا يَكْذِبُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى صَوَابٍ. هَذَا جُمْلَةُ كَلَامِ الْقَاضِي فِي تَقْرِيرِ الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَكْذِبُونَ فِي هَذَا الْقَوْلِ قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ قَدْ يَكْذِبُونَ فِي الْقِيَامَةِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ [المؤمنون: 107] مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الْأَنْعَامِ: 28] وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ [الْمُجَادَلَةِ: 18] بَعْدَ قَوْلِهِ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ [الْمُجَادَلَةِ: 14] فَشَبَّهَ كَذِبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِكَذِبِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الْكَهْفِ: 19] وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى إِقْدَامِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ عَلَى الْكَذِبِ. وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْهُمْ

[سورة الأنعام (6) : آية 25]

وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الزخرف: 77] / وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْضِي عَلَيْهِمْ بِالْخَلَاصِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ وَحَمْلُ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فِي ظُنُونِنَا وَعَقَائِدِنَا مُخَالَفَةٌ لِلظَّاهِرِ. ثُمَّ حَمْلُ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِي الدُّنْيَا يُوجِبُ فَكَّ نَظْمِ الْآيَةِ، وَصَرْفَ أَوَّلِ الْآيَةِ إِلَى أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ وَصَرْفَ آخِرِهَا إِلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ. أَمَّا قَوْلُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ كَذَبُوا حَالَ كَمَالِ الْعَقْلِ أَوْ حَالَ نُقْصَانِ الْعَقْلِ فَنَقُولُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ حَالَ مَا عَايَنُوا أَهْوَالَ الْقِيَامَةِ، وَشَاهَدُوا مُوجِبَاتِ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ اخْتَلَّتْ عُقُولُهُمْ فَذَكَرُوا هَذَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقَوْلُهُ: كَيْفَ يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّه تعالى أن يحكى عنهم مَا ذَكَرُوهُ فِي حَالِ اضْطِرَابِ الْعُقُولِ، فَهَذَا يُوجِبُ الْخَوْفَ الشَّدِيدَ عِنْدَ سَمَاعِ هَذَا الْكَلَامِ حَالَ كَوْنِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَلَا مَقْصُودَ مِنْ تَنْزِيلِ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَّا ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ ثَانِيًا الْمُكَلَّفُونَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا عُقَلَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَنَقُولُ: اخْتِلَالُ عُقُولِهِمْ سَاعَةً وَاحِدَةً حَالَ مَا يَتَكَلَّمُونَ بِهَذَا الْكَلَامِ لَا يَمْنَعُ مِنْ كَمَالِ عُقُولِهِمْ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ. فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ واللَّه أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ فَالْمُرَادُ إِنْكَارُهُمْ كَوْنَهُمْ مُشْرِكِينَ، وَقَوْلُهُ وَضَلَّ عَنْهُمْ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ كَذَبُوا تَقْدِيرُهُ: وَكَيْفَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ بِعِبَادَتِهِ مِنَ الْأَصْنَامِ فَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها لهم. [سورة الأنعام (6) : آية 25] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَحْوَالَ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ أَتْبَعَهُ بِمَا يُوجِبُ الْيَأْسَ عَنْ إِيمَانِ بَعْضِهِمْ فَقَالَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَضَرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو سُفْيَانَ وَالْوَلِيدُ بن المغيرة والنضر بن الحرث وعقبة وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةُ وَأُبَيٌّ ابْنَا خلف والحرث بْنُ/ عَامِرٍ وَأَبُو جَهِلٍ وَاسْتَمَعُوا إِلَى حَدِيثِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا لِلنَّضْرِ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا يَقُولُ لَكِنِّي أَرَاهُ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ وَيَتَكَلَّمُ بِأَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ كَالَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ بِهِ عَنْ أَخْبَارِ القرون الأولى وقال أبو سفيان إني لا أرى بَعْضَ مَا يَقُولُ حَقًّا فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ كَلَّا فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَالْأَكِنَّةُ جَمْعُ كِنَانٍ وَهُوَ مَا وَقَى شَيْئًا وَسَتَرَهُ، مِثْلُ عِنَانٍ وَأَعِنَّةٍ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ كَنَنْتُ وَأَكْنَنْتُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ أَنْ يَفْقَهُوهُ فَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَوْضِعُ أَنْ نَصْبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ وَالْمَعْنَى وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً لِكَرَاهَةِ أَنْ يَفْقَهُوهُ فَلَمَّا حُذِفَتِ (اللَّامُ) نُصِبَتِ الْكَرَاهَةُ، وَلَمَّا حُذِفَتِ الْكَرَاهَةُ انْتَقَلَ نَصْبُهَا إِلَى (أَنْ) وَقَوْلُهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الْوَقْرُ الثِّقَلُ فِي الْأُذُنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَصْرِفُ عَنِ الْإِيمَانِ، وَيَمْنَعُ مِنْهُ وَيَحُولُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ الْقَلْبَ فِي الْكِنَانِ الَّذِي يَمْنَعُهُ عَنِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لِيَكُونَ حُجَّةً لِلرَّسُولِ عَلَى الْكُفَّارِ لَا لِيَكُونَ حُجَّةً لِلْكُفَّارِ عَلَى الرَّسُولِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ

تَعَالَى مَنَعَ الْكُفَّارَ عَنِ الْإِيمَانِ لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا لِلرَّسُولِ لَمَّا حَكَمَ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ مَنَعَنَا مِنَ الْإِيمَانِ فَلِمَ يَذُمُّنَا عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ، وَلِمَ يَدْعُونَا إِلَى فِعْلِ الْإِيمَانِ؟ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ مَنَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَيْهِ لَكَانَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا لِلْعَاجِزِ وَهُوَ مَنْفِيٌّ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَةِ: 286] الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى صَرِيحَ هَذَا الْكَلَامِ عَنِ الْكُفَّارِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ فَقَالَ تَعَالَى: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: 5] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 88] وَإِذَا كَانَ قَدْ حَكَى اللَّه تَعَالَى هَذَا الْمَذْهَبَ عَنْهُمْ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمُ امْتَنَعَ أَنْ يَذْكُرَهُ هاهنا فِي مَعْرِضِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّنَاقُضُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَفْهَمُونَ وَيَسْمَعُونَ وَيَعْقِلُونَ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ وَلَوْ كَانَ هَذَا الصَّدُّ وَالْمَنْعُ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى لَمَا كَانُوا مَذْمُومِينَ بَلْ كَانُوا مَعْذُورِينَ. وَالسَّادِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْقَهُونَ وَيُمَيِّزُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَعِنْدَ هَذَا قَالُوا لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ إِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَسْتَمِعُونَ لِقِرَاءَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَتَوَسَّلُوا بِسَمَاعِ قِرَاءَتِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ مَكَانِهِ بِاللَّيْلِ فَيَقْصِدُوا قَتْلَهُ وَإِيذَاءَهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ كَانَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُلْقِي عَلَى قُلُوبِهِمُ النَّوْمَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَكِنَّةِ، وَيَثْقُلُ أَسْمَاعُهُمْ عَنِ اسْتِمَاعِ تِلْكَ الْقِرَاءَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ النَّوْمِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي عَلِمَ اللَّه مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَأَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ فَإِنَّهُ تَعَالَى يَسِمُ قَلْبَهُ بِعَلَامَةٍ مَخْصُوصَةٍ يَسْتَدِلُّ الْمَلَائِكَةُ بِرُؤْيَتِهَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، فَصَارَتْ تِلْكَ الْعَلَامَةُ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا يَبْعُدُ تَسْمِيَةُ تِلْكَ الْعَلَامَةِ بِالْكِنَانِ وَالْغِطَاءِ الْمَانِعِ، مَعَ أَنَّ تِلْكَ الْعَلَامَةَ فِي نَفْسِهَا لَيْسَتْ مَانِعَةً عَنِ الْإِيمَانِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ لَمَّا أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ وَعَانَدُوا وَصَمَّمُوا عَلَيْهِ، فَصَارَ عُدُولُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَالْكِنَانِ الْمَانِعِ عَنِ الْإِيمَانِ، فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى الْكِنَانَ كِنَايَةً عَنْ هَذَا الْمَعْنَى. وَالتَّأْوِيلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَنَعَهُمُ الْأَلْطَافَ الَّتِي إِنَّمَا تَصْلُحُ أَنْ تُفْعَلَ بِمَنْ قَدِ اهْتَدَى فَأَخْلَاهُمْ مِنْهَا، وَفَوَّضَ أَمْرَهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ لِسُوءِ صَنِيعِهِمْ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً. وَالتَّأْوِيلُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ وَرَدَ حِكَايَةً لِمَا كَانُوا يَذْكُرُونَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: 5] . وَالْجَوَابُ عَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْكِنَانِ وَالْوَقْرِ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى مَنَعَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: بَلِ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ السَّاطِعُ قَائِمٌ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي أَتَى بِالْكُفْرِ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْإِيمَانِ، فَقَدْ صَحَّ قَوْلُنَا إِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى الْكُفْرِ وَصَدَّهُ عَنِ الْإِيمَانِ. وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْكُفْرِ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْإِيمَانِ فَنَقُولُ: يَمْتَنِعُ صَيْرُورَةُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ مَصْدَرًا لِلْكُفْرِ دُونَ الْإِيمَانِ، إِلَّا عِنْدَ انْضِمَامِ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ، وَقَدْ عَرَفْتَ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ مَجْمُوعَ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِي يُوجِبُ الْفِعْلَ، فَيَكُونُ الْكُفْرُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَتَكُونُ تِلْكَ الدَّاعِيَةُ الْجَارَّةُ إِلَى الْكُفْرِ كِنَانًا لِلْقَلْبِ عَنِ الْإِيمَانِ، وَوَقْرًا لِلسَّمْعِ عَنِ اسْتِمَاعِ دَلَائِلِ الْإِيمَانِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبُرْهَانَ الْعَقْلِيَّ مُطَابِقٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ.

وَإِذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ صِحَّةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَجَبَ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ عَمَلًا بِالْبُرْهَانِ وَبِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ فَذَكَرَهُ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ ثُمَّ قَالَ: عَلى قُلُوبِهِمْ فَذَكَرَهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَإِنَّمَا حَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّ صِيغَةَ (مَنْ) وَاحِدٌ فِي اللَّفْظِ جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ دَلِيلٍ وَحُجَّةٍ/ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا لِأَجْلِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ الَّذِي نَقَلْنَاهُ عَنِ الْجُبَّائِيِّ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً إِلْقَاءَ النَّوْمِ عَلَى قُلُوبِ الْكُفَّارِ لِئَلَّا يُمْكِنُهُمُ التَّوَسُّلُ بِسَمَاعِ صَوْتِهِ عَلَى وِجْدَانِ مَكَانِهِ لَمَا كَانَ قوله وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها لَائِقًا بِهَذَا الْكَلَامِ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ لَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَسْمَعُوهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْمَنْعِ مِنْ سَمَاعِ صَوْتِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَّا الْمَنْعُ مِنْ نَفْسِ كَلَامِهِ وَمِنْ فَهْمِ مَقْصُودِهِ، فَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ فَظَهَرَ سُقُوطُ قَوْلِهِ. واللَّه أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ جُمْلَةٌ أُخْرَى مرتبة على ما قبلها وحَتَّى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هِيَ الَّتِي يَقَعُ بَعْدَهَا الجمل، والجملة هي قوله إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَيُجَادِلُونَكَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَقَوْلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ يُجادِلُونَكَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ بَلَغَ بِتَكْذِيبِهِمُ الْآيَاتِ إِلَى أَنَّهُمْ يُجَادِلُونَكَ وَيُنَاكِرُونَكَ، وَفَسَّرَ مُجَادَلَتَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَأَصْلُ الْأَسَاطِيرِ مِنَ السَّطْرِ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ شَيْئًا مُمْتَدًّا مُؤَلَّفًا وَمِنْهُ سَطْرُ الْكِتَابِ وَسَطْرٌ مِنْ شَجَرٍ مَغْرُوسٍ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ سَطْرٌ وَسَطَرٌ، فَمَنْ قَالَ سَطْرٌ فَجَمْعُهُ فِي الْقَلِيلِ أَسْطُرٌ وَالْكَثِيرِ سُطُورٌ، وَمَنْ قَالَ سَطَرٌ فَجَمْعُهُ أَسْطَارٌ، وَالْأَسَاطِيرُ جَمْعُ الْجَمْعِ، وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: وَاحِدُ الْأَسَاطِيرِ أُسْطُورٌ وَأُسْطُورَةٌ وَأَسْطِيرٌ وَأَسْطِيرَةٌ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَاحِدُ الْأَسَاطِيرِ أُسْطُورَةٌ مِثْلَ أَحَادِيثَ وَأُحْدُوثَةٍ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْأَسَاطِيرُ مِنَ الْجَمْعِ الَّذِي لَا وَاحِدَ لَهُ مِثْلَ عَبَادِيدَ ثُمَّ قَالَ الْجُمْهُورُ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ مَا سَطَرَهُ الْأَوَّلُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ الْأَوَّلِينَ الَّتِي كَانُوا يَسْطُرُونَهَا أَيْ يَكْتُبُونَهَا. فَأَمَّا قَوْلُ مَنْ فَسَّرَ الْأَسَاطِيرَ بِالتُّرَّهَاتِ، فَهُوَ مَعْنًى وَلَيْسَ مُفَسِّرًا. وَلَمَّا كَانَتْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ مِثْلَ حَدِيثِ رُسْتُمَ وَاسْفَنْدِيَارَ كَلَامًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ لَا جَرَمَ فُسِّرَتْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ بِالتُّرَّهَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ مَقْصُودُ الْقَوْمِ مِنْ ذِكْرِ قَوْلِهِمْ إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ الْقَدْحَ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ جِنْسِ سَائِرِ الْحِكَايَاتِ الْمَكْتُوبَةِ، وَالْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ لِلْأَوَّلِينَ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مِنْ جِنْسِ تِلْكَ الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى حِكَايَاتِ الْأَوَّلِينَ وَأَقَاصِيصِ الْأَقْدَمِينَ لم يكن معجزا خارقا للعبادة. وَأَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: هَذَا السُّؤَالُ مَدْفُوعٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ لَوْ كَانَ فِي مَقْدُورِكُمْ مُعَارَضَتُهُ لَوَجَبَ أَنْ تَأْتُوا بِتِلْكَ الْمُعَارَضَةِ وَحَيْثُ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا ظَهَرَ أَنَّهَا مُعْجِزَةٌ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَانَ لِلْقَوْمِ أَنْ يَقُولُوا نَحْنُ وَإِنْ كُنَّا أَرْبَابَ/ هَذَا اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ إِلَّا أَنَّا لَا نَعْرِفُ كَيْفِيَّةَ تَصْنِيفِ الْكُتُبِ وَتَأْلِيفِهَا وَلَسْنَا أَهْلًا لِذَلِكَ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَجْزِنَا عَنِ التَّصْنِيفِ كَوْنُ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَنْ جِنْسِ سَائِرِ الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ وَأَقَاصِيصِ الْأَقْدَمِينَ.

[سورة الأنعام (6) : آية 26]

وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ سَيَأْتِي في الآية المذكورة بعد ذلك. [سورة الأنعام (6) : آية 26] وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ طَعَنُوا فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا بِأَنْ قَالُوا: إِنَّهُ مِنْ جِنْسِ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ وَأَقَاصِيصِ الْأَقْدَمِينَ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ الْقُرْآنِ وَذِكْرُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ عَنْهُ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْقُرْآنِ وَأَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ أَيْ عَنِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ وَالِاسْتِمَاعِ لَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ يَنْهَوْنَ عَنِ الرَّسُولِ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُحَالٌ بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنْ فِعْلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فَلَا جَرَمَ حَصَلَ فِيهِ قَوْلَانِ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَنْهَوْنَ عَنِ التَّصْدِيقِ بِنُبُوَّتِهِ وَالْإِقْرَارِ بِرِسَالَتِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَنْهَى قُرَيْشًا عَنْ إِيذَاءِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثُمَّ يَتَبَاعَدُ عَنْهُ وَلَا يَتْبَعُهُ عَلَى دِينِهِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَشْبَهُ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمِيعَ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ تَقْتَضِي ذَمَّ طَرِيقَتِهِمْ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى أَمْرٍ مَذْمُومٍ، فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى أَنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَنْهَى عَنْ إِيذَائِهِ، لَمَا حَصَلَ هَذَا النَّظْمُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ يَعْنِي بِهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ النَّهْيَ عَنْ أَذِيَّتِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ لَا يُوجِبُ الْهَلَاكَ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ قوله وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ يرجع إلى قَوْلِهِ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ لَا إِلَى قَوْلِهِ يَنْهَوْنَ عَنْهُ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ يَبْعُدُونَ عَنْهُ بِمُفَارَقَةِ دِينِهِ، وَتَرْكِ الْمُوَافَقَةِ لَهُ وَذَلِكَ ذَمٌّ فَلَا يَصِحُّ مَا رَجَّحْتُمْ بِهِ هَذَا الْقَوْلَ. قُلْنَا: إِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ يَرْجِعُ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فَلَانًا يَبْعُدُ عَنِ الشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ وَيَنْفُرُ عَنْهُ وَلَا يَضُرُّ بِذَلِكَ إِلَّا نَفْسَهُ، فَلَا يَكُونُ هَذَا الضَّرَرُ مُتَعَلِّقًا بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ كَانُوا يُعَامِلُونَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَوْعَيْنِ مِنَ الْقَبِيحِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنْ قَبُولِ دِينِهِ وَالْإِقْرَارِ بِنُبُوَّتِهِ. وَالثَّانِي: كَانُوا يَنْأَوْنَ عَنْهُ، وَالنَّأْيُ الْبُعْدُ يُقَالُ: نَأَى يَنْأَى إِذَا بَعُدَ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَيْ وَمَا يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بِسَبَبِ تَمَادِيهِمْ فِي الْكُفْرِ وَغُلُوِّهِمْ فِيهِ وَمَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيُذْهِبُونَهَا إِلَى النَّارِ بِمَا يَرْتَكِبُونَ مِنَ الْكُفْرِ والمعصية، واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 27 الى 28] وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28)

[في قوله تعالى وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ صِفَةَ مَنْ يَنْهَى عَنْ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيَنْأَى عَنْ طَاعَتِهِ بِأَنَّهُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ شَرَحَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الْهَلَاكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَفِيهَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ وَلَوْ تَرى يَقْتَضِي لَهُ جَوَابًا وَقَدْ حُذِفَ تَفْخِيمًا لِلْأَمْرِ وَتَعْظِيمًا لِلشَّأْنِ، وَجَازَ حَذْفُهُ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِهِ وَأَشْبَاهُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَالشِّعْرِ. وَلَوْ قَدَّرْتَ الْجَوَابَ، كَانَ التَّقْدِيرُ: لَرَأَيْتَ سُوءَ مُنْقَلَبِهِمْ أَوْ لَرَأَيْتَ سُوءَ حَالِهِمْ وَحَذْفُ الْجَوَابِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَبْلَغُ فِي الْمَعْنَى مِنْ إِظْهَارِهِ، أَلَا تَرَى: أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ لِغُلَامِكَ، واللَّه لَئِنْ قُمْتُ إِلَيْكَ وَسَكَتَّ عَنِ الْجَوَابِ، ذَهَبَ بِفِكْرِهِ إِلَى أَنْوَاعِ الْمَكْرُوهِ، مِنَ الضَّرْبِ، وَالْقَتْلِ، وَالْكَسْرِ، وَعَظُمَ الْخَوْفُ وَلَمْ يَدْرِ أَيَّ الْأَقْسَامِ تَبْغِي. وَلَوْ قُلْتَ: واللَّه لَئِنْ قُمْتُ إِلَيْكَ لِأَضْرِبَنَّكَ فَأَتَيْتَ بِالْجَوَابِ، لَعَلِمَ أَنَّكَ لَمْ تَبْلُغْ شَيْئًا غَيْرَ الضَّرْبِ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ نَوْعٌ مِنَ الْمَكْرُوهِ سِوَاهُ، فَثَبَتَ أَنَّ حَذْفَ الْجَوَابِ أَقْوَى تَأْثِيرًا فِي حُصُولِ الْخَوْفِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ جَوَابُ لَوْ مَذْكُورٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَالتَّقْدِيرُ وَلَوْ تَرَى إذا وُقِفُوا عَلَى النَّارِ يَنُوحُونَ وَيَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ وُقِفُوا يُقَالُ وَقَفْتُهُ وَقْفًا، وَوَقَفْتُهُ وُقُوفًا كَمَا يُقَالُ رَجَعْتُهُ رُجُوعًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَعْنَى وُقِفُوا عَلَى النَّارِ يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وُقِفُوا عِنْدَهَا وَهُمْ يُعَايِنُونَهَا فَهُمْ مَوْقُوفُونَ عَلَى أَنْ يَدْخُلُوا النَّارَ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا وُقِفُوا عَلَيْهَا وَهِيَ تَحْتُهُمْ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ وُقِفُوا فَوْقَ النَّارِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَهُوَ جِسْرٌ فَوْقَ جَهَنَّمَ. وَالثَّالِثُ: مَعْنَاهُ عَرَفُوا حَقِيقَتَهَا تَعْرِيفًا مِنْ قَوْلِكَ وَقَفْتُ فَلَانًا عَلَى كَلَامِ فُلَانٍ أَيْ عَلَّمْتُهُ مَعْنَاهُ وَعَرَّفْتُهُ. وَفِيهِ وَجْهٌ رَابِعٌ: وَهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي جَوْفِ النَّارِ، وَتَكُونُ النَّارُ مُحِيطَةً بِهِمْ، وَيَكُونُونَ غَائِصِينَ فِيهَا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَدْ أُقِيمَ (عَلَى) مَقَامَ (فِي) وَإِنَّمَا صَحَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، أَنْ يُقَالَ: وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، لِأَنَّ النَّارَ دَرَكَاتٌ وطبقات، بعضها فَوْقَ بَعْضٍ فَيَصِحُّ هُنَاكَ مَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَاذَا قَالَ وَلَوْ تَرى؟ وَذَلِكَ يُؤْذِنُ بِالِاسْتِقْبَالِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ إِذْ وُقِفُوا وَكَلِمَةُ إِذْ لِلْمَاضِي ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ، فَقَالُوا وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْمَاضِي. قُلْنَا: إِنَّ كَلِمَةَ (إِذْ) تُقَامُ مَقَامَ (إِذَا) إِذَا أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّكْرِيرِ وَالتَّوْكِيدِ، وَإِزَالَةَ الشُّبْهَةِ لِأَنَّ الْمَاضِيَ قَدْ وَقَعَ وَاسْتَقَرَّ، فَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِاللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لِلْمَاضِي، يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْإِمَالَةُ فِي النَّارِ حَسَنَةٌ جَيِّدَةٌ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْأَلِفِ مَكْسُورٌ وَهُوَ حَرْفُ الرَّاءِ، كَأَنَّهُ تَكَرَّرَ فِي اللِّسَانِ فَصَارَتِ الْكَسْرَةُ فِيهِ كَالْكَسْرَتَيْنِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقالُوا يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ يا لَيْتَنا نُرَدُّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ تَمَنَّوْا أَنْ يُرَدُّوا إِلَى الدُّنْيَا. فَأَمَّا قَوْلُهُ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي التَّمَنِّي وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا أَنْ يُرَدُّوا إِلَى الدُّنْيَا وَلَا يَكُونُوا مُكَذِّبِينَ وَأَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ قَالُوا هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِكَوْنِهِمْ كَاذِبِينَ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وَالْمُتَمَنِّي لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ كَاذِبًا. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُتَمَنِّيَ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ كَاذِبًا لِأَنَّ مَنْ أَظْهَرَ التَّمَنِّيَ، فَقَدْ أَخْبَرَ ضِمْنًا كَوْنَهُ مُرِيدًا لذلك

الشَّيْءِ فَلَمْ يَبْعُدْ تَكْذِيبُهُ فِيهِ، وَمِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: لَيْتَ اللَّه يَرْزُقُنِي مَالًا فَأُحْسِنَ إِلَيْكَ، فَهَذَا تَمَنٍّ فِي حُكْمِ الْوَعْدِ، فَلَوْ رُزِقَ مَالًا وَلَمْ يُحْسِنْ إِلَى صَاحِبِهِ لَقِيلَ إِنَّهُ كَذَبَ فِي وَعْدِهِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ التمني تمّ عند قوله يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَهَذَا الْكَلَامُ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ عَائِدٌ إِلَيْهِ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ، ثُمَّ قَالُوا وَلَوْ رُدِدْنَا لَمْ نُكَذِّبْ بِالدِّينِ وَكُنَّا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَذَّبَهُمْ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا لَكَذَّبُوا وَلَأَعْرَضُوا عَنِ الْإِيمَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ نُرَدُّ وَنُكَذِّبُ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا وَنَكُونَ بِالنَّصْبِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ نُرَدُّ بِالرَّفْعِ، ونُكَذِّبَ ونَكُونَ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ فِي الثَّلَاثَةِ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى الرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ نُرَدُّ وذلك لأنه داخلة فِي التَّمَنِّي لَا مَحَالَةَ، فَأَمَّا الَّذِينَ رَفَعُوا قَوْلَهُ وَلَا نُكَذِّبُ ... وَنَكُونُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ نُرَدُّ فَتَكُونُ الثَّلَاثَةُ دَاخِلٌ فِي التَّمَنِّي، فَعَلَى هَذَا قَدْ تَمَنَّوُا الرَّدَّ وَأَنْ لَا يُكَذِّبُوا وَأَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقْطَعَ وَلَا نُكَذِّبُ وَمَا بَعْدَهُ عَنِ الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَنَحْنُ لَا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُمْ ضَمِنُوا أَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَ بِتَقْدِيرِ حُصُولِ الرَّدِّ. وَالْمَعْنَى يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَنَحْنُ لَا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا رُدِدْنَا أَوْ لَمْ نَرُدَّ أَيْ قَدْ عَايَنَّا وَشَاهَدْنَا مَا لَا نُكَذِّبُ مَعَهُ أَبَدًا. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِكَ دَعْنِي وَلَا أَعُودُ، فَهَهُنَا الْمَطْلُوبُ بِالسُّؤَالِ تَرْكُهُ. فَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَعُودُ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي الطَّلَبِ، فَكَذَا هُنَا قَوْلُهُ يَا لَيْتَنا نُرَدُّ الدَّاخِلُ فِي هَذَا التَّمَنِّي الرَّدُّ، فَأَمَّا تَرْكُ التَّكْذِيبِ وَفِعْلُ الْإِيمَانِ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي التَّمَنِّي، بَلْ هُوَ حَاصِلٌ سَوَاءٌ حَصَلَ الرَّدُّ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ، وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا الزَّجَّاجُ وَالنَّحْوِيُّونَ قَالُوا: الْوَجْهُ الثَّانِي أَقْوَى، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ دَاخِلًا فِي التَّمَنِّي، وَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ إِخْبَارًا مَحْضًا. وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ اللَّه كَذَّبَهُمْ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ فَقَالَ: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وَالْمُتَمَنِّي لَا يَجُوزُ تَكْذِيبُهُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عَمْرٍو. وَقَدِ احْتُجَّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ، إِلَّا أَنَّا قَدْ أَجَبْنَا عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ، وَذَكَرْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ قَوِيَّةً، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ وَلا نُكَذِّبَ. ونَكُونَ بِالنَّصْبِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: بِإِضْمَارِ (أَنْ) عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي، وَالتَّقْدِيرُ: يَا لَيْتَنَا نَرُدُّ وَأَنْ لَا نُكَذِّبَ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ مُبْدَلَةً مِنَ الْفَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فَلَا نكذب، فتكون الواو هاهنا بِمَنْزِلَةِ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزُّمَرِ: 58] وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الْوَجْهُ بِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقْرَأُ فَلَا نُكَذِّبَ بِالْفَاءِ عَلَى النَّصْبِ، وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْحَالُ، وَالتَّقْدِيرُ: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ غَيْرَ مُكَذِّبِينَ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ- لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ- أَيْ لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ شَارِبًا لِلَّبَنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَكُونُ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ دَاخِلَةً فِي التَّمَنِّي. وَأَمَّا أَنَّ الْمُتَمَنِّيَ كَيْفَ يَجُوزُ/ تَكْذِيبُهُ فَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَهِيَ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ وَلَا نُكَذِّبُ وَيَنْصُبُ وَنَكُونَ فَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهُ يَجْعَلُ قَوْلَهُ وَلا نُكَذِّبَ دَاخِلًا فِي التَّمَنِّي، بِمَعْنَى أَنَّا إِنْ رُدِدْنَا غَيْرَ مُكَذِّبِينَ نَكُنْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثالثة: قوله فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ تَمَنِّي رَدِّهِمْ إِلَى حَالَةِ التَّكْلِيفِ لِأَنَّ لَفْظَ الرَّدِّ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، فَالْمَفْهُومُ مِنْهُ الرَّدُّ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ ثُمَّ عَايَنَ الشَّدَائِدَ وَالْأَحْوَالَ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّقْصِيرِ أَنَّهُ يَتَمَنَّى الرَّدَّ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، ليسعى في

إِزَالَةِ جَمِيعِ وُجُوهِ التَّقْصِيرَاتِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكُفَّارَ قَصَّرُوا فِي دَارِ الدُّنْيَا فَهُمْ يَتَمَنَّوْنَ الْعَوْدَ إِلَى الدُّنْيَا لِتَدَارُكِ تِلْكَ التَّقْصِيرَاتِ، وَذَلِكَ التَّدَارُكُ لَا يَحْصُلُ بِالْعَوْدِ إِلَى الدُّنْيَا فَقَطْ، وَلَا بِتَرْكِ التَّكْذِيبِ، وَلَا بِعَمَلِ الْإِيمَانِ بَلْ إِنَّمَا يَحْصُلُ التَّدَارُكُ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ فَوَجَبَ إِدْخَالُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ تَحْتَ التَّمَنِّي. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَحْسُنُ مِنْهُمْ تَمَنِّي الرَّدِّ مَعَ أَنَّهُمْ يعلمون أن الرد يحصل لا الْبَتَّةَ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: لَعَلَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الرَّدَّ لَا يَحْصُلُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ لَا يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ إِرَادَةِ الرَّدِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ [الْمَائِدَةِ: 37] وَكَقَوْلِهِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الْأَعْرَافِ: 50] فَلَمَّا صَحَّ أَنْ يُرِيدُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا لَا تَحْصُلُ، فَبِأَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَقْرَبُ، لِأَنَّ بَابَ التَّمَنِّي أَوْسَعُ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَتَمَنَّى مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُرِيدَ مِنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ الْمَاضِيَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وفيه مسائل: المسألة الأولى: معنى بَلْ هاهنا رَدُّ كَلَامِهُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهُمْ مَا تَمَنَّوُا الْعَوْدَ إِلَى الدُّنْيَا، وَتَرْكَ التَّكْذِيبِ، وَتَحْصِيلَ الْإِيمَانِ لِأَجْلِ كَوْنِهِمْ رَاغِبِينَ فِي الْإِيمَانِ، بَلْ لِأَجْلِ خَوْفِهِمْ مِنَ الْعِقَابِ الَّذِي شَاهَدُوهُ وَعَايَنُوهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّغْبَةَ فِي الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ لَا تَنْفَعُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ تِلْكَ الرَّغْبَةُ رَغْبَةً فِيهِ، لِكَوْنِهِ إِيمَانًا وَطَاعَةً، فَأَمَّا الرَّغْبَةُ فِيهِ لِطَلَبِ الثَّوَابِ، وَالْخَوْفِ مِنَ الْعِقَابِ فَغَيْرُ مُفِيدٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا أَخْفَوْهُ فِي الدُّنْيَا. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الَّذِي أَخْفَوْهُ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو رَوْقٍ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ يَجْحَدُونَ الشِّرْكَ فَيَقُولُونَ وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فَيُنْطِقُ اللَّه جَوَارِحَهُمْ فَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ، فَذَلِكَ حِينَ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَهْلُ التَّفْسِيرِ. الثَّانِي: / قَالَ الْمُبَرِّدُ: بَدَا لَهُمْ وَبَالُ عَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَسُوءُ عَاقِبَتِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُفْرَهُمْ مَا كَانَ بَادِيًا ظَاهِرًا لَهُمْ، لِأَنَّ مَضَارَّ كُفْرِهِمْ كَانَتْ خَفِيَّةً، فَلَمَّا ظَهَرَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا جَرَمَ قَالَ اللَّه تَعَالَى: بَلْ بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ الثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: بَدَا لِلْأَتْبَاعِ مَا أَخَفَاهُ الرُّؤَسَاءُ عَنْهُمْ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ. قَالَ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَقِيبَهُ وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام: 29] وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ. الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ كَانُوا يُسِرُّونَ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ، وَبَدَا لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَظَهَرَ بِأَنْ عَرَفَ غَيْرُهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ مُنَافِقِينَ. الْخَامِسُ: قِيلَ بَدَا لَهُمْ مَا كَانَ عُلَمَاؤُهُمْ يُخْفُونَ مِنْ جَحْدِ نُبُوَّةِ الرَّسُولِ وَنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ فِي الْكُتُبِ وَالْبِشَارَةِ بِهِ، وَمَا كَانُوا يُحَرِّفُونَهُ مِنَ التَّوْرَاةِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا بِأَسْرِهَا أَنَّهُ ظَهَرَتْ فَضِيحَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ وانهتكت أَسْتَارُهُمْ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطَّارِقِ: 9] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ رَدَّهُمْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمْ تَرْكُ التَّكْذِيبِ وَفِعْلُ الْإِيمَانِ، بَلْ كَانُوا يَسْتَمِرُّونَ عَلَى طَرِيقَتِهِمُ الْأُولَى فِي الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ قَدْ عَرَفُوا اللَّه بِالضَّرُورَةِ، وَشَاهَدُوا أَنْوَاعَ الْعِقَابِ وَالْعَذَابِ فَلَوْ رَدَّهُمُ اللَّه تَعَالَى

[سورة الأنعام (6) : آية 29]

إِلَى الدُّنْيَا فَمَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ يَعُودُونَ إِلَى الْكُفْرِ باللَّه وَإِلَى مَعْصِيَةِ اللَّه. قُلْنَا: قَالَ الْقَاضِي: تَقْرِيرُ الْآيَةِ وَلَوْ رُدُّوا إِلَى حَالَةِ التَّكْلِيفِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الرَّدُّ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ فِي الْقِيَامَةِ مَعْرِفَةُ اللَّه بِالضَّرُورَةِ، وَلَمْ يَحْصُلْ هُنَاكَ مُشَاهَدَةُ الْأَهْوَالِ وَعَذَابِ جَهَنَّمَ، فَهَذَا الشَّرْطُ يَكُونُ مُضْمَرًا لَا مَحَالَةَ فِي الْآيَةِ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ هَذَا الْجَوَابُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ غُلُوِّهِمْ فِي الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَعَدَمِ الرَّغْبَةِ فِي الْإِيمَانِ، وَلَوْ قَدَّرْنَا عَدَمَ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى فِي الْقِيَامَةِ، وَعَدَمَ مُشَاهَدَةِ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ لَمْ يَكُنْ فِي إِصْرَارِ الْقَوْمِ عَلَى كُفْرِهِمُ الْأَوَّلِ مَزِيدُ تَعَجُّبٍ، لِأَنَّ إِصْرَارَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ يَجْرِي مَجْرَى إِصْرَارِ سَائِرِ الْكُفَّارِ عَلَى الْكُفْرِ فِي الدُّنْيَا، فَعَلِمْنَا أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ الْبَتَّةَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ قَوْمٍ جَرَى عَلَيْهِمْ قَضَاؤُهُ فِي الأزل بالشرك. ثم إنه تعالى بين أنهم لو شاهدوا النار والعذاب، ثم سألوا الرجعة وردوا إلى الدنيا لعادوا إلى الشرك، وَذَلِكَ الْقَضَاءُ السَّابِقُ فِيهِمْ، وَإِلَّا فَالْعَاقِلُ لَا يَرْتَابُ فِيمَا شَاهَدَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ خَبَرٍ حَتَّى يَصْرِفَ هَذَا التَّكْذِيبَ إِلَيْهِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ الدَّاخِلُ فِي التَّمَنِّي هُوَ مُجَرَّدُ قوله يا لَيْتَنا نُرَدُّ أَمَّا الْبَاقِي فَهُوَ إِخْبَارٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلِ الْكُلُّ دَاخِلٌ فِي التَّمَنِّي، لِأَنَّ إِدْخَالَ التَّكْذِيبِ فِي التَّمَنِّي أَيْضًا جَائِزٌ، لِأَنَّ التَّمَنِّيَ يَدُلُّ عَلَى الْإِخْبَارِ عَلَى سَبِيلِ الضِّمْنِ وَالصَّيْرُورَةِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ لَيْتَ زَيْدًا جَاءَنَا فَكُنَّا تأكل ونشرب ونتحدث فكذا هاهنا. واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 29] وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) اعْلَمْ أَنَّهُ حَصَلَ فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، أَنَّهُ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي يُخْفُونَهُ هُوَ أَمْرُ الْمَعَادِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَهُ وَيُخْفُونَ صِحَّتَهُ وَيَقُولُونَ مَا لَنَا إِلَّا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَوِيَّةُ، وَلَيْسَ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ لَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَلَأَنْكَرُوا الْحَشْرَ وَالنَّشْرَ، وَقَالُوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ. [سورة الأنعام (6) : آية 30] وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِنْكَارَهُمْ لِلْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَيْفِيَّةَ حَالِهِمْ فِي الْقِيَامَةِ، فَقَالَ وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ وَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُشَبِّهَةِ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ يَقِفُونَ عِنْدَ اللَّه وَبِالْقُرْبِ مِنْهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى بِحَيْثُ يَحْضُرُ فِي مَكَانٍ تَارَةً وَيَغِيبُ عَنْهُ تَارَةً أُخْرَى.

[سورة الأنعام (6) : آية 31]

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ، يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ وَاقِفِينَ عَلَى اللَّه تَعَالَى، كَمَا يَقِفُ أَحَدُنَا عَلَى الْأَرْضِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُسْتَعْلِيًا عَلَى ذَاتِ اللَّه تَعَالَى وَأَنَّهُ بِالِاتِّفَاقِ بَاطِلٌ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى مَا وَعَدَهُمْ رَبُّهُمْ مِنْ عَذَابِ/ الْكَافِرِينَ وَثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنْ أمر الآخر. التَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْوُقُوفِ الْمَعْرِفَةُ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ وَقَفْتُ عَلَى كَلَامِكَ أَيْ عَرَفْتُهُ. التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ وُقِفُوا لِأَجْلِ السُّؤَالِ فَخَرَجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، مِنْ وُقُوفِ الْعَبْدِ بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِهِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْبِيرُ عَنِ الْمَقْصُودِ بِالْأَلْفَاظِ الْفَصِيحَةِ الْبَلِيغَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْقِيَامَةَ وَالْبَعْثَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ يُقِرُّونَ بِهِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ حَالَهُمْ فِي هَذَا الْإِنْكَارِ سَيَئُولُ إِلَى الْإِقْرَارِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا الْقِيَامَةَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُمْ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ؟ وَهُوَ كَالْمُنَاقِضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَةِ: 174] وَالْجَوَابُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ وَلا يُكَلِّمُهُمُ أَيْ لَا يُكَلِّمُهُمْ بِالْكَلَامِ الطَّيِّبِ النَّافِعِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ التَّنَاقُضُ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ لَهُمْ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ؟ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِكَوْنِهِ حَقًّا مَعَ الْقَسَمِ وَالْيَمِينِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَخَصَّ لَفْظَ الذَّوْقِ لِأَنَّهُمْ فِي كُلِّ حَالٍ يَجِدُونَهُ وِجْدَانَ الذَّائِقِ فِي قُوَّةِ الْإِحْسَاسِ وَقَوْلُهُ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى مَا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ احْتِجَاجًا عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا [الْأَنْعَامِ: 2] عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ وَفَسَّرْنَاهُ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ عَنْ هَذَا المذهب والقول. [سورة الأنعام (6) : آية 31] قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (31) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ شَرْحُ حَالَةٍ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ مُنْكِرِي/ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَهِيَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: حُصُولُ الْخُسْرَانِ. وَالثَّانِي: حَمْلُ الْأَوْزَارِ الْعَظِيمَةِ. أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ حُصُولُ الْخُسْرَانِ فَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى بَعَثَ جَوْهَرَ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ الْقُدْسِيَّةِ الْجُسْمَانِيَّ وَأَعْطَاهُ هَذِهِ الْآلَاتِ الْجُسْمَانِيَّةَ وَالْأَدَوَاتِ الْجَسَدَانِيَّةَ وَأَعْطَاهُ الْعَقْلَ وَالتَّفَكُّرَ لِأَجْلِ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِاسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي يَعْظُمُ مَنَافِعُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْإِنْسَانُ هَذِهِ الْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ وَالْقُوَّةَ الْعَقْلِيَّةَ وَالْقُوَّةَ الْفِكْرِيَّةَ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ اللَّذَّاتِ الدَّائِرَةِ وَالسَّعَادَاتِ الْمُنْقَطِعَةِ ثُمَّ انْتَهَى الْإِنْسَانُ إِلَى آخِرِ عُمُرِهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ قَدْ فَنِيَ وَالرِّبْحَ الَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ هو

الْمَطْلُوبُ فَنِيَ أَيْضًا وَانْقَطَعَ فَلَمْ يَبْقَ فِي يَدِهِ لَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَثَرٌ وَلَا مِنَ الرِّبْحِ شَيْءٌ. فَكَانَ هَذَا هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ. وَهَذَا الْخُسْرَانُ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَكَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ مُنْتَهَى السَّعَادَاتِ وَنِهَايَةَ الْكَمَالَاتِ هُوَ هَذِهِ السَّعَادَاتُ الْعَاجِلَةُ الْفَانِيَةُ. أَمَّا مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ لَا يَغْتَرُّ بِهَذِهِ السَّعَادَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَلَا يَكْتَفِي بِهَذِهِ الْخَيْرَاتِ الْعَاجِلَةِ بَلْ يَسْعَى فِي إِعْدَادِ الزَّادِ لِيَوْمِ الْمَعَادِ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْخُسْرَانُ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّه وَأَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ قَدْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا وَأَنَّهُمْ عِنْدَ الْوُصُولِ إِلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ يَتَحَسَّرُونَ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي تَحْصِيلِ الزَّادِ لِيَوْمِ الْمَعَادِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنْ وُجُوهِ: خُسْرَانِهِمْ أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ. وَتَقْرِيرُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ كَمَالَ السَّعَادَةِ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَالِاشْتِغَالِ بِعُبُودِيَّتِهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي حُبِّهِ وَخِدْمَتِهِ وَأَيْضًا فِي الِانْقِطَاعِ عَنِ الدُّنْيَا وَتَرْكِ مَحَبَّتِهَا وَفِي قَطْعِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَهَا، فَمَنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْعَى فِي إِعْدَادِ الزَّادِ لِمَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَسْعَى فِي قَطْعِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ الدُّنْيَا، فَإِذَا مَاتَ بَقِيَ كَالْغَرِيبِ فِي عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ، وَكَالْمُنْقَطِعِ عَنْ أَحْبَابِهِ وَأَقَارِبِهِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَالَمِ الْجُسْمَانِيَّاتِ فَيَحْصُلُ لَهُ الْحَسَرَاتُ الْعَظِيمَةُ بِسَبَبِ فُقْدَانِ الزَّادِ وَعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْمُخَالَطَةِ بِأَهْلِ ذَلِكَ الْعَالَمِ وَيَحْصُلُ لَهُ الْآلَامُ الْعَظِيمَةُ بِسَبَبِ الِانْقِطَاعِ عَنْ لَذَّاتِ هَذَا الْعَالَمِ وَالِامْتِنَاعِ عَنِ الِاسْتِسْعَادِ بِخَيْرَاتِ هَذَا الْعَالَمِ. فَالْأَوَّلُ: هُوَ المراد من قوله قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها وَالثَّانِي: هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ فَهَذَا تَقْرِيرُ الْمَقْصُودِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْخُسْرَانِ فوت الثواب العظيم وحصول العقاب العظيم الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ الْمُرَادُ مِنْهُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ، وَقَدْ بَالَغْنَا فِي شَرْحِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَةِ: 46] وَإِنَّمَا حَسُنَتْ هَذِهِ الْكِنَايَةُ لِأَنَّ مَوْقِفَ الْقِيَامَةِ مَوْقِفٌ لَا حُكْمَ/ فِيهِ لِأَحَدٍ إِلَّا للَّه تَعَالَى، وَلَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ وَالرَّفْعِ وَالْخَفْضِ إِلَّا للَّه. وَقَوْلُهُ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً اعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ (حَتَّى) غَايَةٌ لِقَوْلِهِ كَذَّبُوا لَا لِقَوْلِهِ قَدْ خَسِرَ لِأَنَّ خُسْرَانَهُمْ لَا غَايَةَ لَهُ ومعنى (حتى) هاهنا أَنَّ مُنْتَهَى تَكْذِيبِهِمُ الْحَسْرَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَذَّبُوا إِلَى أَنْ ظَهَرَتِ السَّاعَةُ بَغْتَةً. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يَتَحَسَّرُونَ عِنْدَ مَوْتِهِمْ. قُلْنَا: لَمَّا كَانَ الْمَوْتُ وُقُوعًا فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَمُقَدِّمَاتِهَا جُعِلَ مِنْ جِنْسِ السَّاعَةِ وَسُمِّيَ بِاسْمِهَا وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ» وَالْمُرَادُ بِالسَّاعَةِ الْقِيَامَةُ، وَفِي تَسْمِيَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِهَذَا الِاسْمِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُسَمَّى السَّاعَةَ لِسُرْعَةِ الْحِسَابِ فِيهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا هِيَ إِلَّا سَاعَةُ الْحِسَابِ. الثَّانِي: السَّاعَةُ هِيَ الْوَقْتُ الَّذِي تَقُومُ الْقِيَامَةُ سُمِّيَتْ سَاعَةً لِأَنَّهَا تَفْجَأُ النَّاسَ فِي سَاعَةٍ لَا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّه تَعَالَى. أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: بَغْتَةً وَالْبَغْتُ وَالْبَغْتَةُ هُوَ الْفَجْأَةُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ السَّاعَةَ لَا تَجِيءُ إِلَّا دَفْعَةً لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَتَى يَكُونُ مَجِيئُهَا، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَكُونُ حُدُوثُهَا وَقَوْلُهُ بَغْتَةً انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ بِمَعْنَى: بَاغِتَةً أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ قِيلَ: بَغَتَتْهُمُ السَّاعَةُ بغتة. ثم قال تعالى: قالُوا يا حَسْرَتَنا قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى دُعَاءِ الْحَسْرَةِ تَنْبِيهٌ لِلنَّاسِ عَلَى مَا سَيَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ الْحَسْرَةِ وَالْعَرَبُ تُعَبِّرُ عَنْ تَعْظِيمِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِهَذِهِ اللفظة كقوله تعالى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ [يس: 30] ويا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزُّمَرِ: 56] يا وَيْلَتى أَأَلِدُ [هود: 72]

وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: الْحَسْرَةُ عَلَيْنَا في تفريطنا ومثله يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [يُوسُفَ: 84] تَأْوِيلُهُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَنَبَّهُوا عَلَى مَا وَقَعَ بِي مِنَ الْأَسَفِ فَوَقَعَ النِّدَاءُ عَلَى غَيْرِ الْمُنَادَى فِي الْحَقِيقَةِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّكَ إِذَا قُلْتَ يَا عَجَبَاهُ فَكَأَنَّكَ قُلْتَ يَا عَجَبُ احْضَرْ وَتَعَالَ فَإِنَّ هَذَا زَمَانُكَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: حَصَلَ للنداء هاهنا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّدَاءَ لِلْحَسْرَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِينَ وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُنَادَى هُوَ نَفْسُ الْحَسْرَةِ عَلَى مَعْنَى: أَنَّ هَذَا وَقْتُكِ فَاحْضَرِي وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَقَوْلُهُ عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها فِيهِ بَحْثَانِ. الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُقَالُ: فَرَّطْتُ فِي الشَّيْءِ أَيْ ضَيَّعْتُهُ فَقَوْلُهُ فَرَّطْنا أَيْ تَرَكْنَا وَضَيَّعْنَا وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فَرَّطْنَا أَيْ قَدَّمْنَا الْعَجْزَ جَعَلَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ فَرَطَ فُلَانٌ إِذَا سَبَقَ وَتَقَدَّمَ، وَفَرَّطَ الشَّيْءَ إِذَا قَدَّمَهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَالتَّفْرِيطُ عِنْدَهُ تَقْدِيمُ التَّقْصِيرِ. وَالْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ فِيها إِلَى مَاذَا يَعُودُ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الدُّنْيَا وَالسُّؤَالُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لِلدُّنْيَا ذِكْرٌ فَكَيْفَ يُمْكِنُ عَوْدُ هَذَا الضَّمِيرِ إِلَيْهَا. وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ التَّقْصِيرِ لَيْسَ إِلَّا الدُّنْيَا، فَحَسُنَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهَا لِهَذَا الْمَعْنَى. الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ/ الْمُرَادُ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي السَّاعَةِ، وَالْمَعْنَى: عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي إِعْدَادِ الزَّادِ لِلسَّاعَةِ وَتَحْصِيلِ الْأُهْبَةِ لَهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَعُودَ الكناية إلى معنى ما في قوله ما فَرَّطْنا أَيْ حَسْرَتُنَا عَلَى الْأَعْمَالِ وَالطَّاعَاتِ الَّتِي فَرَّطْنَا فِيهَا. وَالرَّابِعُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: الْكِنَايَةُ تَعُودُ إِلَى الصَّفْقَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْخُسْرَانَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى حُصُولِ الصَّفْقَةِ وَالْمُبَايَعَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِمْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَحْصُلُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَا بِهِ يَسْتَحِقُّونَ الثَّوَابَ، وَقَوْلُهُ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ حَصَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَا بِهِ اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ الْعَظِيمَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ نِهَايَةُ الْخُسْرَانِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَوْزَارُ الْآثَامُ وَالْخَطَايَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْوِزْرُ الثِّقَلُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْحَمْلِ يُقَالُ وَزَرْتُ الشَّيْءَ أَيْ حَمَلْتُهُ أَزِرُهُ وِزْرًا، ثُمَّ قِيلَ لِلذُّنُوبِ أَوْزَارٌ لِأَنَّهَا تُثْقِلُ ظَهْرَ مَنْ عَمِلَهَا، وَقَوْلُهُ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [فاطر: 18] أَيْ لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ حَامِلَةٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا بَسَطَ ثَوْبَهُ فَجَعَلَ فِيهِ الْمَتَاعَ احْمِلْ وِزْرَكَ وَأَوْزَارُ الْحَرْبِ أَثْقَالُهَا مِنَ السِّلَاحِ وَوَزِيرُ السُّلْطَانِ الَّذِي يَزِرُ عَنْهُ أَثْقَالَ مَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ مِنْ تَدْبِيرِ الْوِلَايَةِ أَيْ يَحْمِلُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ أَيْ يَحْمِلُونَ ثِقَلَ ذُنُوبِهِمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ حَمْلِهِمُ الْأَوْزَارِ فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ اسْتَقْبَلَهُ شَيْءٌ هُوَ أَحْسَنُ الْأَشْيَاءِ صُورَةً وَأَطْيَبُهَا رِيحًا وَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ طَالَمَا رَكِبْتُكَ فِي الدُّنْيَا فَارْكَبْنِي أَنْتَ الْيَوْمَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً [مَرْيَمَ: 85] قَالُوا رُكْبَانًا وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ اسْتَقْبَلَهُ شَيْءٌ هُوَ أَقْبَحُ الْأَشْيَاءِ صُورَةً وَأَخْبَثُهَا رِيحًا فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْفَاسِدُ طَالَمَا رَكِبْتَنِي فِي الدُّنْيَا فَأَنَا أَرْكَبُكَ الْيَوْمَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الثِّقَلُ كَمَا يُذْكَرُ فِي الْمَنْقُولِ، فَقَدْ يُذْكَرُ أَيْضًا فِي الْحَالِ وَالصِّفَةِ يُقَالُ: ثَقُلَ عَلَيَّ خِطَابُ فُلَانٍ، وَالْمَعْنَى كَرِهْتُهُ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُقَاسُونَ عَذَابَ ذُنُوبِهِمْ مُقَاسَاةَ ثِقَلِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ أَيْ لَا تُزَايِلُهُمْ أَوْزَارُهُمْ كَمَا تَقُولُ شَخْصُكَ نُصْبَ عَيْنِي أَيْ ذِكْرُكَ مُلَازِمٌ لِي. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ وَالْمَعْنَى بِئْسَ الشَّيْءُ الَّذِي يَزِرُونَهُ أَيْ يَحْمِلُونَهُ وَالِاسْتِقْصَاءُ في تفسير

[سورة الأنعام (6) : آية 32]

هَذَا اللَّفْظِ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي قوله وَساءَ سَبِيلًا [سورة النساء: 22] . [سورة الأنعام (6) : آية 32] وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) [فِي قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ تَعْظُمُ رَغْبَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَتَحْصِيلِ لَذَّاتِهَا، فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ تَنْبِيهًا عَلَى خَسَاسَتِهَا وَرَكَاكَتِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ نَفْسَ هَذِهِ الْحَيَاةِ لَا يُمْكِنُ ذَمُّهَا لِأَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الْعَاجِلَةَ لَا يَصِحُّ اكْتِسَابُ السَّعَادَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ إِلَّا فِيهَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ حَصَلَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ حَيَاةُ الْكَافِرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ حَيَاةَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ، وَالسَّبَبُ فِي وَصْفِ حَيَاةِ هَؤُلَاءِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَنَّ حَيَاةَ الْمُؤْمِنِ يَحْصُلُ فِيهَا أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ فَلَا تَكُونُ لَعِبًا وَلَهْوًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا عَامٌّ فِي حَيَاةِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ اللَّذَّاتُ الْحَاصِلَةُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ وَالطَّيِّبَاتُ الْمَطْلُوبَةُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا بِاللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ حَالَ اشْتِغَالِهِ بِاللَّعِبِ وَاللَّهْوِ يَلْتَذُّ بِهِ، ثُمَّ عِنْدَ انْقِرَاضِهِ وَانْقِضَائِهِ لَا يَبْقَى مِنْهُ إِلَّا النَّدَامَةُ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْحَيَاةُ لَا يَبْقَى عِنْدَ انْقِرَاضِهَا إِلَّا الْحَسْرَةُ وَالنَّدَامَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَسْمِيَةَ هَذِهِ الْحَيَاةِ بِاللَّعِبِ وَاللَّهْوِ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُدَّةَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ قَلِيلَةٌ سَرِيعَةُ الِانْقِضَاءِ وَالزَّوَالِ، وَمُدَّةَ هَذِهِ الْحَيَاةِ كَذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّعِبَ وَاللَّهْوَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْسَاقَا فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَكَارِهِ وَلَذَّاتُ الدُّنْيَا كَذَلِكَ. الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّعِبَ وَاللَّهْوَ، إِنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ الِاغْتِرَارِ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ، وَأَمَّا عِنْدَ التَّأَمُّلِ التَّامِّ وَالْكَشْفِ عَنْ حَقَائِقِ الْأُمُورِ، لَا يَبْقَى اللَّعِبُ وَاللَّهْوُ أَصْلًا، وَكَذَلِكَ اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ، فَإِنَّهُمَا لَا يَصْلُحَانِ إِلَّا لِلصِّبْيَانِ وَالْجُهَّالِ الْمُغَفَّلِينَ، أَمَّا الْعُقَلَاءُ وَالْحُصَفَاءُ، فَقَلَّمَا يَحْصُلُ لَهُمْ خَوْضٌ فِي اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، فَكَذَلِكَ الِالْتِذَاذُ بِطَيِّبَاتِ الدُّنْيَا وَالِانْتِفَاعِ بِخَيْرَاتِهَا لَا يَحْصُلُ، إِلَّا لِلْمُغَفَّلِينَ الْجَاهِلِينَ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ، وَأَمَّا الْحُكَمَاءُ الْمُحَقِّقُونَ، فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْخَيْرَاتِ غُرُورٌ، وَلَيْسَ لَهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَقِيقَةٌ مُعْتَبَرَةٌ. الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّعِبَ وَاللَّهْوَ لَيْسَ لَهُمَا عَاقِبَةٌ مَحْمُودَةٌ، فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ اللَّذَّاتِ وَالْأَحْوَالَ الدُّنْيَوِيَّةَ لَعِبٌ وَلَهْوٌ/ وَلَيْسَ لَهُمَا حَقِيقَةٌ مُعْتَبَرَةٌ. وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَصَفَ الْآخِرَةَ بِكَوْنِهَا خَيْرًا، ويدل على أن الأمر كذلك حصول التفات بَيْنَ أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَأَحْوَالِ الْآخِرَةِ فِي أُمُورٍ أَحَدُهَا: أَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا خَسِيسَةٌ وَخَيْرَاتِ الْآخِرَةِ شَرِيفَةٌ بَيَانُ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا لَيْسَتْ إِلَّا قَضَاءَ الشَّهْوَتَيْنِ، وَهُوَ فِي نِهَايَةِ الْخَسَاسَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ الْخَسِيسَةَ تُشَارِكُ الْإِنْسَانَ فِيهِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ أَمْرُ تِلْكَ الْحَيَوَانَاتِ فِيهَا أَكْمَلَ مِنْ أَمْرِ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّ الْجَمَلَ أَكْثَرُ أَكْلًا، وَالدِّيكَ وَالْعُصْفُورَ أَكْثَرُ وِقَاعًا، وَالذِّئْبَ أَقْوَى عَلَى الْفَسَادِ وَالتَّمْزِيقِ، وَالْعَقْرَبَ أَقْوَى عَلَى الْإِيلَامِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى خَسَاسَتِهَا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ شَرِيفَةً لَكَانَ الْإِكْثَارُ مِنْهَا يُوجِبُ زِيَادَةَ الشَّرَفِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ الَّذِي وَقَّفَ كُلَّ عُمْرِهِ عَلَى الْأَكْلِ وَالْوِقَاعِ أَشْرَفَ النَّاسِ، وَأَعْلَاهُمْ دَرَجَةً، وَمَعْلُومٌ بِالْبَدِيهَةِ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ مِثْلُ هَذَا الْإِنْسَانِ يَكُونُ مَمْقُوتًا مُسْتَقْذَرًا مُسْتَحْقَرًا يُوصَفُ بِأَنَّهُ بَهِيمَةٌ أَوْ كَلْبٌ أَوْ أَخَسُّ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ لَا يَفْتَخِرُونَ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ بَلْ

يُخْفُونَهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ الْعُقَلَاءُ عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِالْوِقَاعِ يَخْتَفُونَ وَلَا يُقْدِمُونَ عَلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ بِمَحْضَرٍ مِنَ النَّاسِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَا تُوجِبُ الشَّرَفَ بَلِ النَّقْصَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ النَّاسَ إِذَا شَتَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَا يَذْكُرُونَ فِيهِ إِلَّا الْأَلْفَاظَ الدَّالَّةَ عَلَى الْوِقَاعِ، وَلَوْلَا أَنَّ تِلْكَ اللَّذَّةَ مِنْ جِنْسِ النُّقْصَانَاتِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ اللَّذَّاتِ تَرْجِعُ حَقِيقَتُهَا إِلَى دَفْعِ الْآلَامِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَشَدَّ جُوعًا وَأَقْوَى حَاجَةً كَانَ الْتِذَاذُهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَكْمَلَ لَهُ وَأَقْوَى، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِهَذِهِ اللَّذَّاتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ هَذِهِ اللَّذَّاتِ سَرِيعَةُ الِاسْتِحَالَةِ سَرِيعَةُ الزَّوَالِ سَرِيعَةُ الِانْقِضَاءِ. فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ خَسَاسَةُ هَذِهِ اللَّذَّاتِ. وَأَمَّا السَّعَادَاتُ الرُّوحَانِيَّةُ فَإِنَّهَا سَعَادَاتٌ شَرِيفَةٌ عَالِيَةٌ بَاقِيَةٌ مُقَدَّسَةٌ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ إِذَا تَخَيَّلُوا فِي الْإِنْسَانِ كَثْرَةَ الْعِلْمِ وَشِدَّةَ الِانْقِبَاضِ عَنِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ بِالطَّبْعِ يُعَظِّمُونَهُ وَيَخْدِمُونَهُ وَيَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ عَبِيدًا لِذَلِكَ الْإِنْسَانِ وَأَشْقِيَاءَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى شَهَادَةِ الْفِطْرَةِ الْأَصْلِيَّةِ بِخَسَاسَةِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَكَمَالِ مَرْتَبَةِ اللَّذَّاتِ الرُّوحَانِيَّةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ أَفْضَلُ مِنْ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا، هو أَنْ نَقُولَ: هَبْ أَنَّ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ تَشَارَكَا فِي الْفَضْلِ وَالْمَنْقَبَةِ، إِلَّا أَنَّ الْوُصُولَ إِلَى الْخَيْرَاتِ الْمَوْعُودَةِ فِي غَدِ الْقِيَامَةِ مَعْلُومٌ قَطْعًا. وَأَمَّا الْوُصُولُ إِلَى الْخَيْرَاتِ الْمَوْعُودَةِ فِي غَدِ الدُّنْيَا فَغَيْرُ مَعْلُومٍ بَلْ وَلَا مَظْنُونٍ، فَكَمْ مِنْ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ فِي بُكْرَةِ الْيَوْمَ صَارَ تَحْتَ التُّرَابِ فِي آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَكَمْ مِنْ أَمِيرٍ كَبِيرٍ أَصْبَحَ فِي/ الْمُلْكِ وَالْإِمَارَةِ، ثُمَّ أَمْسَى أَسِيرًا حَقِيرًا، وَهَذَا التَّفَاوُتُ أَيْضًا يُوجِبُ الْمُبَايَنَةَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: هَبْ أَنَّهُ وَجَدَ الْإِنْسَانُ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ يَوْمًا آخَرَ فِي الدُّنْيَا، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِمَا جَمَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالطَّيِّبَاتِ وَاللَّذَّاتِ أَمْ لَا؟ أَمَّا كُلُّ مَا جَمَعَهُ مِنْ مُوجِبَاتِ السَّعَادَاتِ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: هَبْ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهَا إِلَّا أَنَّ انْتِفَاعَهُ بِخَيْرَاتِ الدُّنْيَا لَا يَكُونُ خَالِيًا عَنْ شَوَائِبِ الْمَكْرُوهَاتِ، وَمُمَازَجَةِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُخَوَّفَاتِ. وَلِذَلِكَ قِيلَ: مَنْ طَلَبَ مَا لَمْ يُخْلَقْ أَتْعَبَ نَفْسَهُ وَلَمْ يُرْزَقْ. فَقِيلَ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّه؟ قَالَ: «سُرُورُ يَوْمٍ بِتَمَامِهِ» . الْوَجْهُ الْخَامِسُ: هَبْ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِتِلْكَ الْأَمْوَالِ وَالطَّيِّبَاتِ فِي الْغَدِ، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْمَنَافِعَ مُنْقَرِضَةٌ ذَاهِبَةٌ بَاطِلَةٌ، وَكُلَّمَا كَانَتْ تِلْكَ الْمَنَافِعُ أَقْوَى وَأَلَذَّ وَأَكْمَلَ وَأَفْضَلَ كَانَتِ الْأَحْزَانُ الْحَاصِلَةُ عِنْدَ انْقِرَاضِهَا وَانْقِضَائِهَا أَقْوَى وَأَكْمَلَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْمُتَنَبِّي: أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ ... تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالَا فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ سَعَادَاتِ الدُّنْيَا وَخَيْرَاتِهَا مَوْصُوفَةٌ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ الْعَظِيمَةِ، وَالنُّقْصَانَاتِ الْكَامِلَةِ، وَسَعَادَاتِ الْآخِرَةِ مُبَرَّأَةٌ عَنْهَا، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْآخِرَةَ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ وَأَبْقَى وَأَتْقَى وَأَحْرَى وَأَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ بِإِضَافَةِ الدَّارِ إِلَى الْآخِرَةِ، وَالْبَاقُونَ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ عَلَى جَعْلِ الْآخِرَةِ نَعْتًا لِلدَّارِ. أَمَّا وَجْهُ قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ فَهُوَ أَنَّ الصِّفَةَ فِي الْحَقِيقَةِ مُغَايِرَةٌ لِلْمَوْصُوفِ فَصَحَّتِ الْإِضَافَةُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ بَارِحَةُ الْأُولَى، وَيَوْمُ الْخَمِيسَ وَحَقُّ الْيَقِينِ، وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا تَجُوزُ هذه

[سورة الأنعام (6) : آية 33]

الْإِضَافَةُ، قَالُوا لِأَنَّ الصِّفَةَ نَفْسُ الْمَوْصُوفِ، وَإِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مُمْتَنِعَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصِّفَةَ نَفْسُ الْمَوْصُوفِ وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ يُعْقَلُ تَصَوُّرُ الْمَوْصُوفِ مُنْفَكًّا عَنِ الصِّفَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْصُوفُ عَيْنَ الصِّفَةِ لَكَانَ ذَلِكَ مُحَالًا، وَلِقَوْلِهِمْ وَجْهٌ دَقِيقٌ يُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَكَانِ، ثُمَّ إِنَّ الْبَصْرِيِّينَ ذَكَرُوا فِي تَصْحِيحِ قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَجْهًا آخَرَ، فَقَالُوا لَمْ يَجْعَلِ الْآخِرَةَ صِفَةً لِلدَّارِ، لَكِنَّهُ جَعَلَهَا صِفَةً لِلسَّاعَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَدَارُ السَّاعَةِ الْآخِرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ تَكُونُ قَدْ أُقِيمَتِ الْآخِرَةُ الَّتِي هِيَ الصِّفَةُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ الَّذِي هُوَ السَّاعَةُ وَذَلِكَ قَبِيحٌ. قُلْنَا لَا يَقْبُحُ ذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الصِّفَةُ قَدِ اسْتُعْمِلَتِ اسْتِعْمَالَ/ الأسماء ولفظ الآخرة قد استعمل الْأَسْمَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: قَوْلُهُ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى [الضُّحَى: 4] وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ فَهِيَ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي جَعْلَ الْآخِرَةِ صِفَةً لِلدَّارِ وَذَلِكَ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَمَتَى أَمْكَنَ إِجْرَاءُ الْكَلَامِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْعُدُولِ عَنْهُ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالدَّارِ الْآخِرَةِ عَلَى وُجُوهٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ الْجَنَّةُ، وَإِنَّهَا خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ نَفْسُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: التَّمَسُّكُ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ خَيْرٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: نَعِيمُ الْآخِرَةِ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا، مِنْ حيث إنها كانت بَاقِيَةٌ دَائِمَةٌ مَصُونَةٌ عَنِ الشَّوَائِبِ آمِنَةٌ مِنَ الِانْقِضَاءِ وَالِانْقِرَاضِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ فَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِمَنْ كَانَ مِنَ الْمُتَّقِينَ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ. فَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْفَاسِقُ فَلَا! لِأَنَّ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ خَيْرٌ مِنَ الْآخِرَةِ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» . ثُمَّ قَالَ: أَفَلا تَعْقِلُونَ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ أَفَلا تَعْقِلُونَ بالتاء هاهنا وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَيُوسُفَ وَيس. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ فِي يس بِالْيَاءِ وَالْبَاقِي بِالتَّاءِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى فِي يُوسُفَ بِالتَّاءِ وَالْبَاقِي بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ الْأَعْشَى وَالْبُرْجُمِيِّ جَمِيعَ ذَلِكَ بِالْيَاءِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ مَعْنَاهُ: أَفَلَا يَعْقِلُونَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ؟ فَيَعْمَلُونَ لِمَا يَنَالُونَ بِهِ الدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ وَالنَّعِيمَ الدَّائِمَ فَلَا يَفْتُرُونَ فِي طَلَبِ مَا يُوصِلُ إِلَى ذَلِكَ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ، فَالْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ أَنَّ ذلك خير؟ واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 33] قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ طَوَائِفَ الْكُفَّارِ كَانُوا فِرَقًا كَثِيرِينَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ نُبُوَّتَهُ لِأَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ رِسَالَةَ الْبَشَرِ وَيَقُولُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّه مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ شُبْهَةَ هَؤُلَاءِ وَأَجَابَ عَنْهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يُخْبِرُنَا بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَذَلِكَ/ مُحَالٌ. وَكَانُوا يَسْتَدِلُّونَ بِامْتِنَاعِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ عَلَى الطَّعْنِ فِي رِسَالَتِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ وَأَجَابَ عَنْهُ بِالْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُشَافِهُهُ بِالسَّفَاهَةِ وَذِكْرِ مَا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْقَوْلِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاخْتَلَفُوا

فِي أَنَّ ذَلِكَ الْمُحْزِنَ مَا هُوَ؟ فَقِيلَ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّهُ سَاحِرٌ وَشَاعِرٌ وَكَاهِنٌ وَمَجْنُونٌ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَلَا يَقْبَلُونَ دِينَهُ وَشَرِيعَتَهُ. وَقِيلَ: كَانُوا يَنْسُبُونَهُ إِلَى الْكَذِبِ وَالِافْتِعَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ لَيَحْزُنُكَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ وَهُمَا لُغَتَانِ يُقَالُ حَزَنَنِي كَذَا وَأَحْزَنَنِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ خَفِيفَةً وَالْبَاقُونَ يُكَذِّبُونَكَ مُشَدَّدَةً وَفِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا ظَاهِرًا ثُمَّ ذَكَرُوا فِي تَقْرِيرِ الْفَرْقِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَانَ الْكِسَائِيُّ يَقْرَأُ بِالتَّخْفِيفِ، وَيَحْتَجُّ بِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ كَذَبْتَ الرَّجُلَ إِذَا نَسَبْتَهُ إِلَى الْكَذِبِ وَإِلَى صُنْعِهِ الْأَبَاطِيلَ مِنَ الْقَوْلِ وَأَكْذَبْتَهُ إِذَا أَخْبَرْتَ أَنَّ الَّذِي يُحَدِّثُ بِهِ كَذِبٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِافْتِعَالِهِ وَصُنْعِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى كَذَبْتُهُ قُلْتُ لَهُ كَذَبْتَ وَمَعْنَى أَكْذَبْتُهُ أَنَّ الَّذِي أَتَى بِهِ كَذِبٌ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ ادِّعَاءٍ أَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ تَكَلَّفَ ذَلِكَ الْكَذِبَ وَأَتَى بِهِ عَلَى سَبِيلِ الِافْتِعَالِ وَالْقَصْدِ فَكَأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِافْتِعَالِ وَالتَّرْوِيجِ بَلْ تَخَيَّلَ صِحَّةَ تِلْكَ النُّبُوَّةِ وَتِلْكَ الرِّسَالَةِ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي تَخَيَّلَهُ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ بَاطِلٌ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى لَا يُكَذِّبُونَكَ أَيْ لَا يُصَادِفُونَكَ كَاذِبًا لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَكَ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ كَمَا يُقَالُ أَحْمَدْتُ الرَّجُلَ إِذَا أَصَبْتَهُ مَحْمُودًا فَأَحْبَبْتَهُ وَأَحْسَنْتُ مَحْمَدَتَهُ إِذَا صَادَفْتَهُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدًا لِأَنَّ مَعْنَى التَّفْعِيلِ النِّسْبَةُ إِلَى الْكَذِبِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ كَذَبْتَ كَمَا تَقُولُ ذَنَّبْتُهُ وَفَسَّقْتُهُ وَخَطَّأْتُهُ أَيْ قُلْتُ لَهُ فَعَلْتَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَسَقَّيْتُهُ وَرَعَّيْتُهُ أَيْ قُلْتُ لَهُ سَقَاكَ اللَّه وَرَعَاكَ وَقَدْ جَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَفَعَلْتُهُ قَالُوا أَسْقَيْتُهُ أَيْ قُلْتُ لَهُ سَقَاكَ اللَّه. قَالَ ذُو الرمة: وأسقيه حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُثُّهُ ... تُكَلِّمُنِي أَحْجَارُهُ وَمَلَاعِبُهْ أَيْ أَنْسُبُهُ إِلَى السُّقْيَا بِأَنْ أَقُولَ سَقَاكَ اللَّه فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدًا، إِلَّا أَنَّ فَعَّلْتُ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَنْسُبُوهُ إِلَى أَمْرٍ أَكْثَرُ مِنْ أَفْعَلْتُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّه وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَوْمَ مَا كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ فِي السِّرِّ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ وَيَجْحَدُونَ الْقُرْآنَ وَالنُّبُوَّةَ. ثُمَّ ذَكَرُوا لِتَصْحِيحِ هَذَا الْوَجْهِ رِوَايَاتٍ: إحداها: أن الحرث بْنَ عَامِرٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ يَا مُحَمَّدُ واللَّه مَا كَذَبْتَنَا قَطُّ وَلَكِنَّا إِنِ اتَّبَعْنَاكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا فَنَحْنُ لَا نُؤْمِنُ بِكَ لِهَذَا السَّبَبِ. وَثَانِيهَا: رُوِيَ أَنَّ الْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ قَالَ لِأَبِي جَهْلٍ: يَا أَبَا الْحَكَمِ أَخْبِرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ أَصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا أَحَدٌ غَيْرَنَا، فَقَالَ لَهُ واللَّه إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِقٌ وَمَا كَذَبَ قَطُّ؟ وَلَكِنْ إِذَا ذَهَبَ بَنُو قُصَيٍّ بِاللِّوَاءِ وَالسِّقَايَةِ وَالْحِجَابَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَمَاذَا يَكُونُ لِسَائِرِ قُرَيْشٍ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ الْقَوْمَ لَا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون بنوّتك

[سورة الأنعام (6) : آية 34]

بِأَلْسِنَتِهِمْ وَظَاهِرِ قَوْلِهِمْ وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النَّمْلِ: 14] . الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ إِنَّكَ أَنْتَ كَذَّابٌ لِأَنَّهُمْ جَرَّبُوكَ الدَّهْرَ الطَّوِيلَ وَالزَّمَانَ الْمَدِيدَ وَمَا وَجَدُوا مِنْكَ كَذِبًا الْبَتَّةَ وَسَمَّوْكَ بِالْأَمِينِ فَلَا يَقُولُونَ فِيكَ إِنَّكَ كَاذِبٌ وَلَكِنْ جَحَدُوا صِحَّةَ نُبُوَّتِكَ وَرِسَالَتِكَ إِمَّا لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ مُحَمَّدًا عَرَضَ لَهُ نَوْعُ خَبَلٍ وَنُقْصَانٍ فَلِأَجْلِهِ تَخَيَّلَ مِنْ نَفْسِهِ كَوْنَهُ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّه، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ: لَا يَنْسُبُونَهُ إِلَى الْكَذِبِ أَوْ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ مَا كَذَبَ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ، بَلْ هُوَ أَمِينٌ فِي كُلِّهَا إِلَّا فِي هَذَا الْوَجْهِ الْوَاحِدِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي التَّأْوِيلِ: أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتِ الْمُعْجِزَاتُ الْقَاهِرَةُ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ، ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ أَصَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ فاللَّه تَعَالَى قَالَ لَهُ إِنَّ الْقَوْمَ مَا كَذَّبُوكَ، وَإِنَّمَا كَذَّبُونِي، وَنَظِيرُهُ أَنَّ رَجُلًا إِذَا أَهَانَ عَبْدًا لِرَجُلٍ آخَرَ، فَقَالَ هَذَا الْآخَرُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ إِنَّهُ مَا أَهَانَكَ، وَإِنَّمَا أَهَانَنِي: وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ نَفْيَ الْإِهَانَةِ عَنْهُ بَلِ الْمَقْصُودُ تَعْظِيمُ الْأَمْرِ وَتَفْخِيمُ الشَّأْنِ. وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ إِهَانَةَ ذَلِكَ الْعَبْدِ جَارِيَةٌ مَجْرَى إِهَانَتِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْحِ: 10] . وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي التَّأْوِيلِ وَهُوَ كَلَامٌ خَطَرَ بِالْبَالِ، هُوَ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ أَيْ لَا يَخُصُّونَكَ بِهَذَا التَّكْذِيبِ بَلْ يُنْكِرُونَ دَلَالَةَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي كُلِّ مُعْجِزَةٍ إِنَّهَا سِحْرٌ وَيُنْكِرُونَ دَلَالَةَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ: إِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ عَلَى التَّعْيِينِ بَلِ الْقَوْمُ يُكَذِّبُونَ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ والرسل، واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 34] وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَزَالَ الْحُزْنَ عَنْ قَلْبِ رَسُولِهِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِأَنْ بَيَّنَ أَنَّ تَكْذِيبَهُ يَجْرِي مَجْرَى تَكْذِيبِ اللَّه تَعَالَى فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ طَرِيقًا آخَرَ فِي إِزَالَةِ الْحُزْنِ عَنْ قَلْبِهِ وَذَلِكَ بِأَنْ بَيَّنَ أَنَّ سَائِرَ الْأُمَمِ عَامَلُوا أَنْبِيَاءَهُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ، وَأَنَّ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءَ صَبَرُوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ حَتَّى أَتَاهُمُ النَّصْرُ وَالْفَتْحُ وَالظَّفَرُ فَأَنْتَ أَوْلَى بِالْتِزَامِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لِأَنَّكَ مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ، فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرُوا تَظْفَرْ كَمَا ظَفِرُوا. ثُمَّ أَكَّدَ وَقَوَّى تَعَالَى هَذَا الْوَعْدَ بِقَوْلِهِ وَلَا مبدل لكلمات اللَّه يعني أن وعد اللَّه إِيَّاكَ بِالنَّصْرِ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَلَا يُمْكِنُ تَطَرُّقُ الْخُلْفِ وَالتَّبْدِيلِ إِلَيْهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ [الصفات: 171] وَقَوْلِهِ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [الْمُجَادَلَةِ: 21] وَبِالْجُمْلَةِ فَالْخُلْفُ فِي كَلَامِ اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ وَقَوْلُهُ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أَيْ خَبَرُهُمْ فِي الْقُرْآنِ كَيْفَ أَنْجَيْنَاهُمْ وَدَمَّرْنَا قَوْمَهُمْ. قال الأخفش (من) هاهنا صِلَةٌ، كَمَا تَقُولُ أَصَابَنَا مِنْ مَطَرٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّهَا لَا تُزَادُ فِي الْوَاجِبِ، وَإِنَّمَا تُزَادُ مَعَ النَّفْيِ كَمَا تقول: ما أتاني من أحد، وهي هاهنا لِلتَّبْعِيضِ، فَإِنَّ الْوَاصِلَ إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَصَصُ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ لَا قَصَصُ كُلِّهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غَافِرٍ: 78] وَفَاعِلُ (جَاءَ) مضمر أضمر

[سورة الأنعام (6) : آية 35]

لِدَلَالَةِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَلَقَدْ جَاءَكَ نَبَأٌ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا فِي خَلْقِ الْأَفْعَالِ لِأَنَّ كُلَّ مَا أَخْبَرَ اللَّه عَنْ وُقُوعِهِ، فَذَلِكَ الْخَبَرُ مُمْتَنِعُ التَّغَيُّرِ، وَإِذَا امْتَنَعَ تَطْرَّقَ التَّغَيُّرُ إِلَى ذَلِكَ الْخَبَرِ امْتَنَعَ تَطَرُّقُ التَّغَيُّرِ إِلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ. فَإِذَا أَخْبَرَ اللَّه عَنْ بَعْضِهِمْ بِأَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ كَانَ تَرْكُ الْكُفْرِ مِنْهُ مُحَالًا. فَكَانَ تَكْلِيفُهُ بِالْإِيمَانِ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ. واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 35] وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَنَّ الْحَرْثَ بْنَ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ ائْتِنَا مِنْ عِنْدِ اللَّه كَمَا كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ تَفْعَلُ فَإِنَّا نُصَدِّقُ بِكَ فَأَبَى اللَّه أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِهَا فَأَعْرَضُوا عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَالْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِكَ، وَصِحَّةِ الْقُرْآنِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَافْعَلْ. فَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ وَحَسُنَ هَذَا الْحَذْفُ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ فِي النُّفُوسِ. وَالنَّفَقُ سَرَبٌ فِي الْأَرْضِ لَهُ مَخْلَصٌ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، وَمِنْهُ نَافِقَاءُ الْيَرْبُوعِ لِأَنَّ الْيَرْبُوعَ يَثْقُبُ الْأَرْضَ إلى القعر، ثم يصعد من ذلك القعر إِلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، فَكَأَنَّهُ يَنْفُقُ الْأَرْضَ نَفْقًا، أَيْ يَجْعَلُ لَهُ مَنْفَذًا مِنْ جَانِبٍ آخَرَ. وَمِنْهُ أَيْضًا سُمِّيَ الْمُنَافِقُ مُنَافِقًا لِأَنَّهُ يُضْمِرُ غَيْرَ مَا يُظْهِرُ كَالنَّافِقَاءِ الَّذِي يَتَّخِذُهُ الْيَرْبُوعُ وَأَمَّا السُّلَّمُ فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّلَامَةِ، وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُسَلِّمُكَ إِلَى مَصْعَدِكَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يَقْطَعَ الرَّسُولُ طَمَعَهُ عَنْ إِيمَانِهِمْ، وَأَنْ لَا يَتَأَذَّى بِسَبَبِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّه هُدَاهُمْ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى وَحَيْثُمَا جَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى، وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مَا شَاءَ هُدَاهُمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ الْإِيمَانَ مِنَ الْكَافِرِ بَلْ يُرِيدُ إِبْقَاءَهُ عَلَى الْكُفْرِ، وَالَّذِي يُقَرِّبُ هَذَا الظَّاهِرَ أَنَّ قُدْرَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْكُفْرِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِلْإِيمَانِ، أَوْ غَيْرَ صَالِحَةٍ لَهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً لَهُ فَالْقُدْرَةُ عَلَى الْكُفْرِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْكُفْرِ، وَغَيْرُ صَالِحَةٍ لِلْإِيمَانِ، فَخَالِقُ هَذِهِ الْقُدْرَةِ يَكُونُ قَدْ أَرَادَ/ هَذَا الْكُفْرَ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْقُدْرَةُ، كَمَا أَنَّهَا صَلَحَتْ لِلْكُفْرِ فَهِيَ أَيْضًا صَالِحَةٌ لِلْإِيمَانِ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ نِسْبَةُ الْقُدْرَةِ إِلَى الطَّرَفَيْنِ امْتَنَعَ رُجْحَانُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، إِلَّا لِدَاعِيَةٍ مُرَجِّحَةٍ، وَحُصُولُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ لَيْسَ مِنَ الْعَبْدِ، وَإِلَّا وَقَعَ التَّسَلْسُلُ، فَثَبَتَ أَنَّ خَالِقَ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَثَبَتَ أَنَّ مَجْمُوعَ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِيَةِ الْحَاصِلَةِ مُوجِبٌ لِلْفِعْلِ، فَثَبَتَ أَنَّ خَالِقَ مَجْمُوعِ تِلْكَ الْقُدْرَةِ مَعَ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِذَلِكَ الْكُفْرِ مُرِيدٌ لِذَلِكَ الْكُفْرِ، وَغَيْرُ مُرِيدٍ لِذَلِكَ الْإِيمَانِ. فَهَذَا الْبُرْهَانُ الْيَقِينِيُّ قَوِيٌّ ظَاهِرٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا بَيَانَ أَقْوَى مِنْ أَنْ يَتَطَابَقَ الْبُرْهَانُ مَعَ ظَاهِرِ القرآن. قالت المعتزلة: المراد ولو شَاءَ اللَّه أَنْ يُلْجِئَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ لِجَمَعَهُمْ عَلَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْإِلْجَاءُ هُوَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ حَاوَلُوا غَيْرَ الْإِيمَانِ لَمَنَعَهُمْ مِنْهُ، وَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُونَ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ غَيْرِ الْإِيمَانِ. وَمِثَالُهُ: أَنَّ أَحَدَنَا لَوْ حَصَلَ بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ وحضر

[سورة الأنعام (6) : آية 36]

هُنَاكَ مِنْ حَشَمِهِ الْجَمْعُ الْعَظِيمُ، وَهَذَا الرَّجُلُ علم أنه لو هم بقتل ذلك السُّلْطَانِ لَقَتَلُوهُ فِي الْحَالِ، فَإِنَّ هَذَا الْعِلْمَ يَصِيرُ مَانِعًا لَهُ مِنْ قَصْدِ قَتْلِ ذَلِكَ السُّلْطَانِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَوْنِهِ مَلْجَأً إِلَى ترك ذلك الفعل فكذا هاهنا. إِذَا عَرَفْتَ الْإِلْجَاءَ فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا تَرَكَ فِعْلَ هَذَا الْإِلْجَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُزِيلُ تَكْلِيفَهُمْ فَيَكُونُ مَا يَقَعُ مِنْهُمْ كَأَنْ لَمْ يَقَعْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يَنْتَفِعُوا بِمَا يَخْتَارُونَهُ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ جِهَةِ الْوَصْلَةِ إِلَى الثَّوَابِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا اخْتِيَارًا. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْهُمُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْإِيمَانِ حَالَ كَوْنِ الدَّاعِي إِلَى الْإِيمَانِ وَإِلَى الْكُفْرِ عَلَى السَّوِيَّةِ أَوْ حَالَ حُصُولِ هَذَا الرُّجْحَانِ. وَالْأَوَّلُ: تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِتَحْصِيلِ الرُّجْحَانِ حَالَ حُصُولِ الِاسْتِوَاءِ، تَكْلِيفٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ: فَالطَّرَفُ الرَّاجِحُ يَكُونُ وَاجِبَ الْوُقُوعِ، وَالطَّرَفُ الْمَرْجُوحُ يَكُونُ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ تُنَافِي مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُكْنَةِ وَالِاخْتِيَارِ، فَسَقَطَ قَوْلُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ نَهْيٌ لَهُ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَهَذَا النَّهْيُ لَا يَقْتَضِي إِقْدَامَهُ عَلَى مَثَلِ هَذِهِ الْحَالَةِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَابِ: 48] لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطَاعَهُمْ وَقَبِلَ دِينَهُمْ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَدَّ تَحَسُّرُكَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ تَجْزَعَ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنْكَ فَإِنَّكَ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ قَرُبَ حَالُكَ مِنْ حَالِ الْجَاهِلِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَغْلِيظِ الْخِطَابِ التَّبْعِيدُ وَالزَّجْرُ لَهُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ. واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 36] إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ السَّبَبَ فِي كَوْنِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُونَ الْإِيمَانَ وَلَا يَتْرُكُونَ الْكُفْرَ فَقَالَ: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ يَعْنِي أَنَّ الَّذِينَ تَحْرِصُ عَلَى أَنْ يُصَدِّقُوكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتَى الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ، وَإِنَّمَا يَسْتَجِيبُ مَنْ يَسْمَعُ، كَقَوْلِهِ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النَّمْلِ: 80] قَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: الْفَرْقُ بَيْنَ يَسْتَجِيبُ وَيُجِيبُ، أَنَّ يَسْتَجِيبُ فِي قَبُولِهِ لِمَا دُعِيَ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ يُجِيبُ لِأَنَّهُ قَدْ يُجِيبُ بِالْمُخَالَفَةِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَتُوَافِقُ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ أَمْ تُخَالِفُ؟ فَيَقُولُ الْمُجِيبُ: أُخَالِفُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَثَلٌ لِقُدْرَتِهِ عَلَى إِلْجَائِهِمْ إِلَى الِاسْتِجَابَةِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ الْمَوْتَى مِنَ الْقُبُورِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثم إليه يرجعون للجزاء، فكذلك هاهنا أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِحْيَاءِ قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ بِحَيَاةِ الْإِيمَانِ وَأَنْتَ لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى: وَهَؤُلَاءِ الْمَوْتَى يَعْنِي الْكَفَرَةَ يَبْعَثُهُمُ اللَّه ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ، فَحِينَئِذٍ يَسْمَعُونَ وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا سَبِيلَ إلى استماعهم، وقريء يَرْجِعُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَأَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْجَسَدَ الْخَالِيَ عَنِ الرُّوحِ يَظْهَرُ مِنْهُ النَّتَنُ وَالصَّدِيدُ وَالْقَيْحُ وَأَنْوَاعُ الْعُفُونَاتِ، وَأَصْلَحُ أَحْوَالِهِ أَنْ يُدْفَنَ تَحْتَ التُّرَابِ، وَأَيْضًا الرُّوحُ الْخَالِيَةُ عَنِ الْعَقْلِ يَكُونُ صَاحِبُهَا مَجْنُونًا يَسْتَوْجِبُ الْقَيْدَ وَالْحَبْسَ وَالْعَقْلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرُّوحِ كَالرُّوحِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَسَدِ، وَأَيْضًا الْعَقْلُ بِدُونِ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَطَاعَتِهِ كَالضَّائِعِ الْبَاطِلِ، فَنِسْبَةُ التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ إِلَى الْعَقْلِ كَنِسْبَةِ الْعَقْلِ إِلَى الرُّوحِ، وَنِسْبَةِ الرَّوْحِ إِلَى الْجَسَدِ فَمَعْرِفَةُ اللَّه وَمَحَبَّتُهُ رُوحُ رُوحِ الرُّوحِ فَالنَّفْسُ الْخَالِيَةُ عَنْ

[سورة الأنعام (6) : آية 37]

هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ تَكُونُ بِصِفَةِ الْأَمْوَاتِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وصف اللَّه تعالى أُولَئِكَ الْكُفَّارَ الْمُصِرِّينَ بِأَنَّهُمُ الْمَوْتَى. واللَّه أَعْلَمُ. [سورة الأنعام (6) : آية 37] وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ شُبُهَاتِ مُنْكِرِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ كَانَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّه فَهَلَّا أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةً قَاهِرَةً وَمُعْجِزَةً بَاهِرَةً! ويروى أن بعض الملحدة طعن فَقَالَ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَتَى بِآيَةٍ مُعْجِزَةٍ لَمَا صَحَّ أَنْ يَقُولَ أُولَئِكَ الْكُفَّارُ لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ولما قال: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزَةٌ قَاهِرَةٌ وَبَيِّنَةٌ بَاهِرَةٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَدَّاهُمْ بِهِ فَعَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُعْجِزًا. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَيْفَ قَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ. فَنَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: لَعَلَّ الْقَوْمَ طَعَنُوا فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا عَلَى سَبِيلِ اللَّجَاجِ وَالْعِنَادِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْكُتُبِ، وَالْكِتَابُ لَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمُعْجِزَاتِ، كَمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ وَالْإِنْجِيلِ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ طَلَبُوا الْمُعْجِزَةَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ طَلَبُوا مُعْجِزَاتٍ قَاهِرَةً مِنْ جِنْسِ مُعْجِزَاتِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ مِثْلَ فَلْقِ الْبَحْرِ وَإِظْلَالِ الْجَبَلِ وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ طَلَبُوا مَزِيدَ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ وَاللَّجَاجِ مِثْلَ إِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ وَإِسْقَاطِ السَّمَاءِ كِسَفًا وَسَائِرِ مَا حَكَاهُ عَنِ الْكَافِرِينَ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا حَكَاهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ بَعْضِهِمْ فِي قَوْلِهِ اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَالِ: 32] فَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ مِمَّا يَحْتَمِلُهَا لَفْظُ الْآيَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ سؤالهم فقوله قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِيجَادِ مَا طَلَبْتُمُوهُ وَتَحْصِيلِ مَا اقْتَرَحْتُمُوهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ آيَةً بَاهِرَةً وَمُعْجِزَةً قَاهِرَةً وَهِيَ الْقُرْآنُ كَانَ طَلَبُ الزِّيَادَةِ جَارِيًا مَجْرَى التَّحَكُّمِ وَالتَّعَنُّتِ الْبَاطِلِ، واللَّه سُبْحَانَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَالْأَمْرُ فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ، فَإِنَّ فَاعِلِيَّتَهُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِحَسَبِ مَحْضِ الْمَشِيئَةِ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ، أَوْ عَلَى وَفْقِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ عَلَى وَفْقِ اقْتِرَاحَاتِ النَّاسِ وَمُطَالَبَاتِهِمْ، فَإِنْ شَاءَ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا، وإن شاء لم يجبهم إليها. الوجه الثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتِ الْمُعْجِزَةُ الْقَاهِرَةُ وَالدَّلَالَةُ الْبَاهِرَةُ الْكَافِيَةُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ عُذْرٌ/ ولا علة،

[سورة الأنعام (6) : آية 38]

فَبَعْدَ ذَلِكَ لَوْ أَجَابَهُمُ اللَّه تَعَالَى فِي ذَلِكَ الِاقْتِرَاحِ فَلَعَلَّهُمْ يَقْتَرِحُونَ اقْتِرَاحًا ثَانِيًا، وَثَالِثًا، وَرَابِعًا، وَهَكَذَا إِلَى مَا لَا غَايَةَ لَهُ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ الدَّلِيلُ وَلَا تَتِمَّ الْحُجَّةُ، فَوَجَبَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ سَدُّ هَذَا الْبَابِ وَالِاكْتِفَاءُ بِمَا سَبَقَ مِنَ الْمُعْجِزَةِ الْقَاهِرَةِ وَالدَّلَالَةِ الْبَاهِرَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَعْطَاهُمْ مَا طَلَبُوهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ، فَلَوْ لَمْ يُؤْمِنُوا عِنْدَ ظُهُورِهَا لَاسْتَحَقُّوا عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ، فَاقْتَضَتْ رَحْمَةُ اللَّه صَوْنَهُمْ عَنْ هَذَا الْبَلَاءِ فَمَا أَعْطَاهُمْ هَذَا الْمَطْلُوبَ رَحْمَةً مِنْهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْلَمُونَ كَيْفِيَّةَ هَذِهِ الرَّحْمَةِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَطْلُبُونَ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ لَا لِطَلَبِ الْفَائِدَةِ بَلْ لِأَجْلِ الْعِنَادِ وَالتَّعَصُّبِ وَعَلِمَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَعْطَاهُمْ مَطْلُوبَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ مَا أَعْطَاهُمْ مَطْلُوبَهُمْ لِعِلْمِهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي ذَلِكَ، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ هُوَ أَنَّ الْقَوْمَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ وَالتَّعَصُّبِ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يُعْطِيهِمْ مَطْلُوبَهُمْ وَلَوْ كَانُوا عَالِمِينَ عَاقِلِينَ لَطَلَبُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ طَلَبِ الْفَائِدَةِ، وَحِينَئِذٍ كَانَ اللَّه تَعَالَى يُعْطِيهِمْ ذَلِكَ المطلوب على أكمل الوجوه. واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 38] وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَقْرِيرِ وَجْهِ النَّظْمِ، فَنَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ إِنْزَالُ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ مَصْلَحَةً لَهُمْ لَفَعَلَهَا وَلَأَظْهَرَهَا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ إِظْهَارُهَا مَصْلَحَةً لِلْمُكَلَّفِينَ، لَا جَرَمَ مَا أَظْهَرَهَا. وَهَذَا الْجَوَابُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى يُرَاعِي مَصَالِحَ الْمُكَلَّفِينَ وَيَتَفَضَّلُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، وَقَرَّرَهُ بِأَنْ قَالَ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ فِي وُصُولِ فَضْلِ اللَّه وَعِنَايَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ كَالْأَمْرِ الْمُشَاهَدِ الْمَحْسُوسِ فَإِذَا كَانَتْ آثَارُ عِنَايَتِهِ وَاصِلَةً إِلَى/ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ فَلَوْ كَانَ فِي إِظْهَارِ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُكَلَّفِينَ لَفَعَلَهَا وَلَأَظْهَرَهَا وَلَامْتَنَعَ أَنْ يَبْخَلَ بِهَا مَعَ مَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْخَلْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ بِمَصَالِحِهَا وَمَنَافِعِهَا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا لَمْ يُظْهِرْ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ، لِأَنَّ إِظْهَارَهَا يُخِلُّ بِمَصَالِحِ الْمُكَلَّفِينَ. فَهَذَا هُوَ وَجْهُ النَّظْمِ وَالْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا واللَّه أَعْلَمُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ الْكُفَّارِ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّه وَيُحْشَرُونَ بَيَّنَ أَيْضًا بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ فِي أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ، وَالْمَقْصُودُ: بَيَانُ أَنَّ الْحَشْرَ وَالْبَعْثَ كَمَا هُوَ حَاصِلٌ فِي حَقِّ النَّاسِ فَهُوَ أَيْضًا حَاصِلٌ فِي حَقِّ الْبَهَائِمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَيَوَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَدِبُّ أَوْ يَكُونُ بِحَيْثُ يَطِيرُ فَجَمِيعُ مَا خَلَقَ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَدِبَّ، وَإِمَّا أَنْ يَطِيرَ. وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مِنَ الْحَيَوَانِ مَا لَا يَدْخُلُ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ مِثْلَ حِيتَانِ الْبَحْرِ، وَسَائِرِ مَا يَسْبَحُ فِي الْمَاءِ وَيَعِيشُ فِيهِ.

وَالْجَوَابُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهَا دَابَّةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَدِبُّ فِي الْمَاءِ أَوْ هِيَ كَالطَّيْرِ، لِأَنَّهَا تَسْبَحُ فِي الْمَاءِ، كَمَا أَنَّ الطَّيْرَ يَسْبَحُ فِي الْهَوَاءِ، إِلَّا أَنَّ وَصْفَهَا بِالدَّبِيبِ أَقْرَبُ إِلَى اللُّغَةِ مِنْ وَصْفِهَا بِالطَّيَرَانِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَقْيِيدِ الدَّابَّةِ بِكَوْنِهَا فِي الْأَرْضِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خَصَّ مَا فِي الْأَرْضِ بِالذِّكْرِ دُونَ مَا فِي السَّمَاءِ احْتِجَاجًا بِالْأَظْهَرِ لِأَنَّ مَا فِي السَّمَاءِ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا مِثْلَنَا فَغَيْرُ ظَاهِرٍ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ عِنَايَةَ اللَّه تَعَالَى لَمَّا كَانَتْ حَاصِلَةً فِي هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ فَلَوْ كَانَ إِظْهَارُ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ مَصْلَحَةً لَمَا مَنَعَ اللَّه مِنْ إِظْهَارِهَا. وَهَذَا الْمَقْصُودُ إِنَّمَا يَتِمُّ بِذِكْرِ مَنْ كَانَ أَدْوَنَ مَرْتَبَةً مِنَ الْإِنْسَانِ لَا بِذِكْرِ مَنْ كَانَ أَعْلَى حَالًا مِنْهُ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَيَّدَ الدَّابَّةَ بِكَوْنِهَا فِي الْأَرْضِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ؟ مَعَ أَنَّ كُلَّ طَائِرٍ إِنَّمَا يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ. وَالْجَوَابُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ إِنَّمَا ذُكِرَ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ نَعْجَةٌ أُنْثَى وَكَمَا يُقَالُ: كَلَّمْتُهُ بِفِيَّ وَمَشَيْتُ إِلَيْهِ بِرِجْلَيَّ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ طِرْ فِي حَاجَتِي وَالْمُرَادُ الْإِسْرَاعُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَقَدْ يَحْصُلُ الطَّيَرَانُ لَا بِالْجَنَاحِ. قَالَ الْحَمَاسِيُّ: طاروا إليه زرافات ووحدانا فذكر الجناح ليتمحض هَذَا الْكَلَامُ فِي الطَّيْرِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [فَاطِرٍ: 1] فَذَكَرَ هاهنا قَوْلَهُ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ لِيَخْرُجَ عَنْهُ الْمَلَائِكَةُ فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِنَّمَا يَتِمُّ بِذِكْرِ مَنْ كَانَ أَدْوَنَ حَالًا مِنَ الْإِنْسَانِ لَا بِذِكْرِ مَنْ كَانَ أَعْلَى حَالًا مِنْهُ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: كَيْفَ قَالَ: إِلَّا أُمَمٌ مَعَ إِفْرَادِ الدَّابَّةِ وَالطَّائِرِ؟ وَالْجَوَابُ: لما كان قوله ما مِنْ دَابَّةٍ وَلَا طائِرٍ دَالًّا عَلَى مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ وَمُغْنِيًا عَنْ أَنْ يَقُولَ: وَمَا مِنْ دَوَابَّ وَلَا طُيُورٍ لَا جَرَمَ حُمِلَ قَوْلُهُ إِلَّا أُمَمٌ عَلَى الْمَعْنَى. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ إِنَّ كُلَّ صِنْفٍ مِنَ الْبَهَائِمِ أُمَّةٌ وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا» فَجَعَلَ الْكِلَابَ أُمَّةً. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الدَّوَابَّ وَالطُّيُورَ أَمْثَالُنَا، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُمَاثَلَةَ فِي أَيِّ الْمَعَانِي حَصَلَتْ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ حُصُولُ الْمُمَاثَلَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ وَإِلَّا لَكَانَ يَجِبُ كَوْنُهَا أَمْثَالًا لنا في الصورة والصفة وَالْخِلْقَةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْمُمَاثَلَةَ حَصَلَتْ فِي أَيِّ الْأَحْوَالِ وَالْأُمُورِ فَبَيَّنُوا ذَلِكَ. وَالْجَوَابُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَعْيِينِ الْأَمْرِ الَّذِي حَكَمَ اللَّه تَعَالَى فِيهِ بِالْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الْبَشَرِ وَبَيْنَ الدَّوَابِّ وَالطُّيُورِ وَذَكَرُوا فِيهِ أَقْوَالًا: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: يُرِيدُ، يَعْرِفُونَنِي وَيُوَحِّدُونَنِي

وَيُسَبِّحُونَنِي وَيَحْمَدُونَنِي. وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ طَائِفَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ تَعْرِفُ اللَّه وَتَحْمَدُهُ وَتُوَحِّدُهُ وَتُسَبِّحُهُ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 44] وَبِقَوْلِهِ فِي صِفَةِ الْحَيَوَانَاتِ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النُّورِ: 41] وَبِمَا أَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ النَّمْلَ وَخَاطَبَ الْهُدْهُدَ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ وَتَحْقِيقِهِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ: أُبْهِمَتْ عُقُولُ الْبَهَائِمِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: مَعْرِفَةِ الْإِلَهِ، وَطَلَبِ الرِّزْقِ، وَمَعْرِفَةِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَتَهَيُّؤِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعِجُّ إِلَى اللَّه يَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّ هَذَا قَتَلَنِي عَبَثًا لَمْ يَنْتَفِعْ بِي وَلَمْ يَدَعْنِي آكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ» . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ فِي كونها أمما وجماعات وفي كونها مَخْلُوقَةً بِحَيْثُ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيَأْنَسُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَيَتَوَالَدُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ كَالْإِنْسِ إِلَّا أَنَّ لِلسَّائِلِ أَنْ يَقُولَ حَمْلُ/ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً مُعْتَبَرَةً لِأَنَّ كَوْنَ الْحَيَوَانَاتِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهَا. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ أَنَّهَا أَمْثَالُنَا فِي أَنْ دَبَّرَهَا اللَّه تَعَالَى وَخَلَقَهَا وَتَكَفَّلَ بِرِزْقِهَا وَهَذَا يَقْرُبُ مِنَ الْقَوْلِ الثَّانِي فِي أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْإِخْبَارِ عَمَّا عُلِمَ حُصُولُهُ بِالضَّرُورَةِ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا أَحْصَى فِي الْكِتَابِ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْبَشَرِ، مِنَ الْعُمْرِ وَالرِّزْقِ وَالْأَجَلِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ فَكَذَلِكَ أَحْصَى فِي الْكِتَابِ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي كُلِّ الْحَيَوَانَاتِ. قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ وَلَيْسَ لِذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ عَقِيبَ قَوْلِهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ فَائِدَةٌ إلا ما ذكرناه. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَرَادَ تَعَالَى أَنَّهَا أَمْثَالُنَا فِي أنها تحشر يوم القيامة يوصل إِلَيْهَا حُقُوقُهَا، كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يُقْتَصُّ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ» . الْقَوْلُ السَّادِسُ: مَا اخْتَرْنَاهُ فِي نَظْمِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِتْيَانَ بِالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ الظَّاهِرَةِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ عِنَايَتَهُ وَصَلَتْ إِلَى جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ كَمَا وَصَلَتْ إِلَى الْإِنْسَانِ. وَمَنْ بَلَغَتْ رَحْمَتُهُ وَفَضْلُهُ إِلَى حَيْثُ لَا يَبْخَلُ بِهِ عَلَى الْبَهَائِمِ كَانَ بِأَنْ لَا يَبْخَلَ بِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ أَوْلَى، فَدَلَّ مَنْعُ اللَّه مِنْ إِظْهَارِ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ لِأُولَئِكَ السَّائِلِينَ فِي إِظْهَارِهَا، وَأَنَّ إِظْهَارَهَا عَلَى وَفْقِ سُؤَالِهِمْ وَاقْتِرَاحِهِمْ يُوجِبُ عَوْدَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ إِلَيْهِمْ. الْقَوْلُ السَّابِعُ: مَا رَوَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: مَا فِي الْأَرْضِ آدَمِيٌّ إِلَّا وَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ بَعْضِ الْبَهَائِمِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُقْدِمُ إِقْدَامَ الْأَسَدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو عَدْوَ الذِّئْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْبَحُ نُبَاحَ الْكَلْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَطَوَّسُ كَفِعْلِ الطَّاوُسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُشْبِهُ الْخِنْزِيرَ فَإِنَّهُ لَوْ أُلْقِيَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ الطَّيِّبُ تَرَكَهُ وَإِذَا قَامَ الرَّجُلُ عَنْ رَجِيعِهِ وَلَغَ فِيهِ. فَكَذَلِكَ نَجِدُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ مَنْ لَوْ سَمِعَ خَمْسِينَ حِكْمَةً لَمْ يَحْفَظْ وَاحِدَةً مِنْهَا، فَإِنْ أَخْطَأْتَ مَرَّةً وَاحِدَةً حَفِظَهَا، وَلَمْ يَجْلِسْ مَجْلِسًا إِلَّا رواه عنه.

ثُمَّ قَالَ: فَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّكَ إِنَّمَا تُعَاشِرُ الْبَهَائِمَ وَالسِّبَاعَ، فَبَالِغْ فِي الْحِذَارِ وَالِاحْتِرَازِ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَهَبَ الْقَائِلُونَ بِالتَّنَاسُخِ إِلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ إِنْ كَانَتْ سَعِيدَةً مُطِيعَةً للَّه تَعَالَى مَوْصُوفَةً بِالْمَعَارِفِ الْحَقَّةِ وَبِالْأَخْلَاقِ الطَّاهِرَةِ، فَإِنَّهَا بَعْدَ مَوْتِهَا تُنْقَلُ إِلَى أَبْدَانِ الْمُلُوكِ، وَرُبَّمَا قَالُوا: إِنَّهَا تُنْقَلُ إِلَى مُخَالَطَةِ عَالَمِ الْمَلَائِكَةِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ شَقِيَّةً جَاهِلَةً عَاصِيَةً فَإِنَّهَا تُنْقَلُ إِلَى أَبْدَانِ/ الْحَيَوَانَاتِ، وَكُلَّمَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَرْوَاحُ أَكْثَرَ شَقَاوَةً وَاسْتِحْقَاقًا لِلْعَذَابِ نُقِلَتْ إِلَى بَدَنِ حَيَوَانٍ أَخَسَّ وَأَكْثَرَ شَقَاءً وَتَعَبًا، وَاحْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: صَرِيحُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا دَابَّةَ وَلَا طَائِرَ إِلَّا وَهِيَ أَمْثَالُنَا، وَلَفْظُ الْمُمَاثَلَةِ يَقْتَضِي حُصُولَ الْمُسَاوَاةِ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ أَمَّا الصِّفَاتُ الْعَرَضِيَّةُ الْمُفَارِقَةُ، فَالْمُسَاوَاةُ فِيهَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي حُصُولِ الْمُمَاثَلَةِ. ثُمَّ إِنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ زَادُوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا: قَدْ ثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ أَرْوَاحَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ عَارِفَةٌ بِرَبِّهَا وَعَارِفَةٌ بِمَا يَحْصُلُ لَهَا مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَرْسَلَ إِلَى كُلِّ جِنْسٍ مِنْهَا رَسُولًا مِنْ جِنْسِهَا، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الدَّوَابَّ وَالطُّيُورَ أُمَمٌ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فَاطِرٍ: 24] وَذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ رَسُولًا أَرْسَلَهُ اللَّه إِلَيْهَا. ثُمَّ أَكَّدُوا ذَلِكَ بِقِصَّةِ الْهُدْهُدِ، وَقِصَّةِ النَّمْلِ، وَسَائِرِ الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّنَاسُخِ قَدْ أَبْطَلْنَاهُ بِالدَّلَائِلِ الْجَيِّدَةِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَكْفِي فِي صِدْقِ حُصُولِ الْمُمَاثَلَةِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِثْبَاتِ مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّنَاسُخِ. واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ وَفِي الْمُرَادِ بِالْكِتَابِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْكِتَابُ الْمَحْفُوظُ في العرش وعالم السموات الْمُشْتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّامِّ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقُرْآنُ، وَهَذَا أَظْهَرُ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ إِذَا دَخَلَا عَلَى الِاسْمِ الْمُفْرَدِ انْصَرَفَ إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ، وَالْمَعْهُودُ السَّابِقُ مِنَ الْكِتَابِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الْقُرْآنُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقُرْآنَ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ قَالَ تَعَالَى: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَفَاصِيلُ عِلْمِ الطِّبِّ وَتَفَاصِيلُ عِلْمِ الْحِسَابِ، وَلَا تَفَاصِيلُ كَثِيرٍ مِنَ الْمَبَاحِثِ وَالْعُلُومِ، وَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا تَفَاصِيلُ مَذَاهِبِ النَّاسِ وَدَلَائِلِهِمْ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِبَيَانِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَجِبُ مَعْرِفَتُهَا، وَالْإِحَاطَةُ بِهَا وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ التَّفْرِيطِ لَا يُسْتَعْمَلُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا إِلَّا فِيمَا يَجِبُ أَنْ يُبَيَّنَ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُنْسَبُ إِلَى التَّفْرِيطِ وَالتَّقْصِيرِ فِي أَنْ لَا يَفْعَلَ مَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ هَذَا اللَّفْظُ فِيمَا إِذَا قَصَّرَ فِيمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ آيَاتِ الْقُرْآنِ أَوِ الْكَثِيرَ مِنْهَا دَالَّةٌ بِالْمُطَابَقَةِ أَوِ التَّضَمُّنِ أَوِ الِالْتِزَامِ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِنْزَالِ هَذَا الْكِتَابِ بَيَانُ الدِّينِ/ وَمَعْرِفَةُ اللَّه وَمَعْرِفَةُ أَحْكَامِ اللَّه، وَإِذَا كَانَ هَذَا التَّقْيِيدُ مَعْلُومًا مِنْ كُلِّ

القرآن كان المطلق هاهنا مَحْمُولًا عَلَى ذَلِكَ الْمُقَيَّدِ. أَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ هَذَا الْكِتَابَ غَيْرُ مُشْتَمِلٍ عَلَى جَمِيعِ عُلُومِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ. فَنَقُولُ: أَمَّا عِلْمُ الْأُصُولِ فَإِنَّهُ بِتَمَامِهِ حَاصِلٌ فِيهِ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْأَصْلِيَّةَ مَذْكُورَةٌ فِيهِ عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ: فَأَمَّا رِوَايَاتُ الْمَذَاهِبِ وَتَفَاصِيلُ الْأَقَاوِيلِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَيْهَا، وَأَمَّا تَفَاصِيلُ علم الفروع فنقول: للعلماء هاهنا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ وَخَبَرَ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسَ حُجَّةٌ فِي الشَّرِيعَةِ فَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَحَدُ هذه الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ، كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ مَوْجُودًا فِي الْقُرْآنِ، وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه لِهَذَا الْمَعْنَى أَمْثِلَةً ثَلَاثَةً: الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: رُوِيَ أَنَّ ابن مسعود كان يقول: مالي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّه فِي كِتَابِهِ يَعْنِي الْوَاشِمَةَ، وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَالْوَاصِلَةَ، وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَرُوِيَ أَنَّ أَمِرْأَةً قَرَأَتْ جَمِيعَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ أَتَتْهُ فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ، تَلَوْتُ الْبَارِحَةَ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ، فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ لَعْنَ الْوَاشِمَةِ وَالْمُسْتَوْشِمَةِ فَقَالَ: لَوْ تَلَوْتِيهِ لَوَجَدْتِيهِ. قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الْحَشْرِ: 7] وَإِنَّ مِمَّا أَتَانَا بِهِ رَسُولُ اللَّه أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّه الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ» وَأَقُولُ: يُمْكِنُ وِجْدَانُ هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ اللَّه بِطَرِيقٍ أَوْضَحَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ [النِّسَاءِ: 117، 118] فَحَكَمَ عَلَيْهِ بِاللَّعْنِ، ثُمَّ عَدَّدَ بَعْدَهُ قَبَائِحَ أَفْعَالِهِ وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا قَوْلَهُ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النِّسَاءِ: 119] وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ تَغْيِيرَ الْخَلْقِ يُوجِبُ اللَّعْنَ. الْمِثَالُ الثَّانِي: ذُكِرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّه كَانَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ: «لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَجَبْتُكُمْ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللَّه تَعَالَى» فَقَالَ رَجُلٌ: مَا تَقُولُ فِي الْمُحْرِمِ إِذَا قَتَلَ الزُّنْبُورَ؟ فَقَالَ: «لَا شَيْءَ عَلَيْهِ» فَقَالَ: أَيْنَ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّه؟ فَقَالَ: قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ثُمَّ ذَكَرَ إِسْنَادًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» ثُمَّ ذَكَرَ إِسْنَادًا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لِلْمُحْرِمِ قَتْلُ الزُّنْبُورِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَأَجَابَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّه مُسْتَنْبِطًا بِثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، وأقول: هاهنا طَرِيقٌ آخَرُ أَقْرَبُ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ الْعِصْمَةُ. قَالَ تَعَالَى: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الْبَقَرَةِ: 286] وَقَالَ: وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ [مُحَمَّدٍ: 36] وَقَالَ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ [النِّسَاءِ: 29] فَنَهَى عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ إِلَّا بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ فَعِنْدَ عَدَمِ التِّجَارَةِ وَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ، وَهَذِهِ الْعُمُومَاتُ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْمُحْرِمِ الَّذِي قَتَلَ الزُّنْبُورَ شَيْءٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ الْعُمُومَاتِ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِمَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَمَّا الطَّرِيقُ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ: فَهُوَ تُمْسُّكٌ بِالْعُمُومِ عَلَى أَرْبَعِ دَرَجَاتٍ: أَوَّلُهَا: التَّمَسُّكُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الْحَشْرِ: 7] وَأَحَدُ الْأُمُورِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ هَذَا أَمْرُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمُتَابَعَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَثَانِيهَا: التَّمَسُّكُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» ، وَثَالِثُهَا: بَيَانُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ. وَرَابِعُهَا: الرِّوَايَةُ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَيْئًا، فَثَبَتَ أَنَّ الطَّرِيقَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَقْرَبُ. الْمِثَالُ الثَّالِثُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: رُوِيَ فِي حَدِيثِ الْعَسِيفِ الزَّانِي أَنَّ أَبَاهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ

اللَّه فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّه» ثُمَّ قَضَى بِالْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ عَلَى الْعَسِيفِ، وَبِالرَّجْمِ عَلَى الْمَرْأَةِ إِنِ اعْتَرَفَتْ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَلَيْسَ لِلْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ ذِكْرٌ فِي نَصِّ الْكِتَابِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ عَيْنُ كِتَابِ اللَّه. وَأَقُولُ: هَذَا الْمِثَالُ حَقٌّ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النَّحْلِ: 44] وَكُلُّ مَا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَمْثِلَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ، وَأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ، وَأَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ، فَكُلُّ حُكْمٍ ثَبَتَ بِطَرِيقٍ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ، كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ ثَابِتًا بِالْقُرْآنِ، فَعِنْدَ هَذَا يَصِحُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ هَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَى نُصْرَتِهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ. وَلِقَائِلٍ أن يقول: حاصل هذه الْوَجْهِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا دَلَّ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسُ حُجَّةٌ، فَكُلُّ حُكْمٍ ثَبَتَ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ قَدْ ثَبَتَ بِالْقُرْآنِ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: حَمْلُ قَوْلِهِ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ذُكِرَ فِي مَعْرِضِ تَعْظِيمِ هَذَا الْكِتَابِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي مَدْحِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَلَوْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ مَا يُوجِبُ التَّعْظِيمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ اللَّه تَعَالَى قال: اعلموا بِالْإِجْمَاعِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ، كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ حَاصِلًا مِنْ هَذَا اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى الَّذِي يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ الْقَلِيلِ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ وَاجِبًا لِمَدْحِ الْقُرْآنِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِسَبَبِ اشْتِمَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يُوجِبُ الْمَدْحَ الْعَظِيمَ وَالثَّنَاءَ التَّامَّ لَوْ لَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ أَشَدَّ اخْتِصَارًا مِنْهُ، فَأَمَّا لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ الْمَقْصُودَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ وَتَحْصِيلُهُ بِاللَّفْظِ الْمُخْتَصَرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ فِي تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَذْكُورَةٌ فِي مَعْرِضِ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يُفِيدُ تَعْظِيمَ الْقُرْآنِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَهَذَا أَقْصَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ وَافٍ بِبَيَانِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فِي حَقِّ جَمِيعِ التَّكْلِيفِ، وَشَغْلُ الذِّمَّةِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَالتَّنْصِيصُ عَلَى أَقْسَامِ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ التَّكْلِيفُ مُمْتَنِعٌ، لِأَنَّ الْأَقْسَامَ الَّتِي لَمْ يَرِدِ التَّكْلِيفُ فِيهَا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مُحَالٌ بَلِ التَّنْصِيصُ إِنَّمَا يُمْكِنُ عَلَى الْمُتَنَاهِي مَثَلًا للَّه تَعَالَى أَلْفُ تَكْلِيفٍ عَلَى الْعِبَادِ وَذَكَرَهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَمَرَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتَبْلِيغِ ذَلِكَ الْأَلْفِ إِلَى الْعِبَادِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ فَكَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ للَّه عَلَى الْخَلْقِ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَلْفِ تَكْلِيفٌ آخَرُ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الْمَائِدَةِ: 3] وَبِقَوْلِهِ: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الْأَنْعَامِ: 59] فَهَذَا تَقْرِيرُ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ، وَالِاسْتِقْصَاءُ فِيهِ إِنَّمَا يَلِيقُ بِأُصُولِ الْفِقْهِ. واللَّه أَعْلَمُ. وَلْنَرْجِعِ الْآنَ إِلَى التَّفْسِيرِ، فَنَقُولُ: قَوْلُهُ مِنْ شَيْءٍ قَالَ الْوَاحِدِيُّ (مِنْ) زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ: مَا جَاءَ لِي مِنْ أَحَدٍ. وَتَقْرِيرُهُ مَا تَرَكْنَا فِي الْكِتَابِ شَيْئًا لَمْ نُبَيِّنْهُ. وَأَقُولُ: كَلِمَةُ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ فَكَانَ الْمَعْنَى مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ بَعْضَ شَيْءٍ يَحْتَاجُ الْمُكَلَّفُ إِلَيْهِ. وَهَذَا هُوَ نِهَايَةُ الْمُبَالَغَةِ فِي أَنَّهُ تَعَالَى مَا تَرَكَ شَيْئًا مِمَّا يَحْتَاجُ الْمُكَلَّفُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ. أَمَّا قَوْلُهُ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَحْشُرُ الدَّوَابَّ وَالطُّيُورَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ

تَعَالَى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التَّكْوِيرِ: 5] وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُقْتَصُّ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ» وَلِلْعُقَلَاءِ فِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى يَحْشُرُ الْبَهَائِمَ وَالطُّيُورَ لِإِيصَالِ الْأَعْوَاضِ إِلَيْهَا وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ إِيصَالَ الْآلَامِ إِلَيْهَا مِنْ سَبْقِ جِنَايَةٍ لَا يَحْسُنُ إِلَّا لِلْعِوَضِ، وَلَمَّا كَانَ إِيصَالُ الْعِوَضِ إِلَيْهَا وَاجِبًا، فاللَّه تَعَالَى يَحْشُرُهَا لِيُوصِلَ تِلْكَ الْأَعْوَاضَ إِلَيْهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ أَصْحَابِنَا أن الإيجاب على اللَّه تعالى مُحَالٌ، بَلِ اللَّه تَعَالَى يَحْشُرُهَا بِمُجَرَّدِ الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَمُقْتَضَى الْإِلَهِيَّةِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الْعِوَضِ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ بَاطِلٌ بِأُمُورٍ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الْوُجُوبَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مُسْتَلْزِمًا لِلذَّمِّ عِنْدَ التَّرْكِ وَكَوْنُهُ تَعَالَى مُسْتَلْزِمًا لِلذَّمِّ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى كَامِلٌ لِذَاتِهِ وَالْكَامِلُ لِذَاتِهِ لَا يُعْقَلُ كَوْنُهُ مُسْتَلْزِمًا لِلذَّمِّ بِسَبَبِ أَمْرٍ مُنْفَصِلٍ، لِأَنَّ مَا بِالذَّاتِ لَا يَبْطُلُ عِنْدَ عُرُوضِ أَمْرٍ مِنَ الْخَارِجِ. وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى مَالِكٌ لِكُلِّ الْمُحْدَثَاتِ، وَالْمَالِكُ يَحْسُنُ تَصَرُّفُهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْعِوَضِ. وَالْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَوْ حَسُنَ إِيصَالُ الضَّرَرِ إِلَى الْغَيْرِ لِأَجْلِ الْعِوَضِ، لَوَجَبَ أَنْ يَحْسُنَ مِنَّا/ إِيصَالُ الْمَضَارِّ إِلَى الْغَيْرِ لِأَجْلِ الْتِزَامِ الْعِوَضِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْعِوَضِ بَاطِلٌ. واللَّه أَعْلَمُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا: فَلْنَذْكُرْ بَعْضَ التَّفَارِيعِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْقَاضِي فِي هَذَا الْبَابِ. الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَاضِي: كُلُّ حَيَوَانٍ اسْتَحَقَّ الْعِوَضَ عَلَى اللَّه تَعَالَى بِمَا لَحِقَهُ مِنَ الْآلَامِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْعِوَضُ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّه حَشْرُهُ عَقْلًا فِي الْآخِرَةِ لِيُوَفِّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعِوَضَ وَالَّذِي لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ حَشْرُهُ عَقْلًا، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ يَحْشُرُ الْكُلَّ، فَمِنْ حَيْثُ السَّمْعِ يُقْطَعُ بِذَلِكَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ فِي الْحَيَوَانَاتِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِوَضَ الْبَتَّةَ، لِأَنَّهَا رُبَّمَا بَقِيَتْ مُدَّةَ حَيَاتِهَا مَصُونَةً عَنِ الْآلَامِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُمِيتُهَا مِنْ غَيْرِ إِيلَامٍ أَصْلًا. فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْمَوْتَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الْإِيلَامِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِوَضَ الْبَتَّةَ. الْفَرْعُ الثَّانِي: كُلُّ حَيَوَانٍ أَذِنَ اللَّه تَعَالَى فِي ذَبْحِهِ فَالْعِوَضُ عَلَى اللَّه. وَهِيَ أَقْسَامٌ: مِنْهَا مَا أَذِنَ فِي ذَبْحِهَا لِأَجْلِ الْأَكْلِ وَمِنْهَا مَا أَذِنَ فِي ذَبْحِهَا لِأَجْلِ كَوْنِهَا مُؤْذِيَةً، مِثْلَ السِّبَاعِ الْعَادِيَةِ وَالْحَشَرَاتِ الْمُؤْذِيَةِ، وَمِنْهَا آلَمَهَا بِالْأَمْرَاضِ، وَمِنْهَا مَا أَذِنَ اللَّه فِي حَمْلِ الْأَحْمَالِ الثَّقِيلَةِ عَلَيْهَا وَاسْتِعْمَالِهَا فِي الْأَفْعَالِ الشَّاقَّةِ وَأَمَّا إِذَا ظَلَمَهَا النَّاسُ فَذَلِكَ الْعِوَضُ عَلَى ذَلِكَ الظَّالِمِ وَإِذَا ظَلَمَ بَعْضُهَا بَعْضًا فَذَلِكَ الْعِوَضُ عَلَى ذَلِكَ الظَّالِمِ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا ذُبِحَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ عَلَى وَجْهِ التَّذْكِيَةِ فَعَلَى مَنِ الْعِوَضُ؟ أَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ ظُلْمٌ وَالْعِوَضُ عَلَى الذَّابِحِ، وَلِذَلِكَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ مِنَ الْعِوَضِ مَنَافِعُ عَظِيمَةٌ بَلَغَتْ فِي الْجَلَالَةِ وَالرِّفْعَةِ إِلَى حَيْثُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْبَهِيمَةُ

[سورة الأنعام (6) : آية 39]

عَاقِلَةً وَعَلِمَتْ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهَا إِلَى تَحْصِيلِ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ تَحَمُّلِ ذَلِكَ الذَّبْحِ فَإِنَّهَا كَانَتْ تَرْضَى بِهِ، فَهَذَا هُوَ الْعِوَضُ الَّذِي لِأَجْلِهِ يَحْسُنُ الْإِيلَامُ وَالْإِضْرَارُ. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: مَذْهَبُ الْقَاضِي وَأَكْثَرِ مُعْتَزِلَةِ الْبَصْرَةِ أَنَّ الْعِوَضَ مُنْقَطِعٌ. قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ تَوْفِيرِ الْعِوَضِ عَلَيْهَا يَجْعَلُهَا تُرَابًا، وَعِنْدَ هَذَا يَقُولُ الْكَافِرُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَلْخِيُّ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ دَائِمًا وَاحْتَجَّ الْقَاضِي عَلَى قَوْلِهِ بِأَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ الْوَاحِدِ مِنَّا أَنْ يَلْتَزِمَ عَمَلًا شَاقًّا وَالْأُجْرَةُ مُنْقَطِعَةٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ إِيصَالَ الْأَلَمِ إِلَى الْغَيْرِ غَيْرُ مَشْرُوطٍ بِدَوَامِ الْأُجْرَةِ. وَاحْتَجَّ الْبَلْخِيُّ عَلَى قَوْلِهِ، بِأَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ قَطْعُ ذَلِكَ الْعِوَضِ إِلَّا بِإِمَاتَةِ تِلْكَ الْبَهِيمَةِ، وَإِمَاتَتُهَا تُوجِبُ الْأَلَمَ وَذَلِكَ الْأَلَمُ يُوجِبُ عِوَضًا آخَرَ، وَهَكَذَا إِلَى مَا لَا آخِرَ لَهُ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْإِمَاتَةَ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا إِلَّا مَعَ الْإِيلَامِ. واللَّه أَعْلَمُ. الْفَرْعُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْبَهِيمَةَ إِذَا اسْتَحَقَّتْ عَلَى بَهِيمَةٍ أُخْرَى عِوَضًا، فَإِنْ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ الظَّالِمَةُ قَدِ اسْتَحَقَّتْ عِوَضًا عَلَى اللَّه تَعَالَى فإنه تعالى يَنْقُلُ ذَلِكَ الْعِوَضَ إِلَى الْمَظْلُومِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فاللَّه تَعَالَى يُكْمِلُ ذَلِكَ الْعِوَضَ، فَهَذَا مُخْتَصَرٌ مِنْ أَحْكَامِ الْأَعْوَاضِ عَلَى قول المعتزلة. واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 39] وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) [في قَوْلِهِ تَعَالَى وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ] فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي وَجْهِ النَّظْمِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ مِنْ حَالِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي الْكُفْرِ إِلَى حَيْثُ كَأَنَّ قُلُوبَهُمْ قَدْ صَارَتْ مَيِّتَةً عَنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ [الأنعام: 36] فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْرِيرًا لِذَلِكَ الْمَعْنَى الثَّانِي أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي قَوْلِهِ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [الأنعام: 38] فِي كَوْنِهَا دَالَّةً عَلَى كَوْنِهَا تَحْتَ تَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ قَدِيمٍ وَتَحْتَ تَقْدِيرِ مُقَدِّرٍ حَكِيمٍ، وَفِي أَنَّ عِنَايَةَ اللَّه مُحِيطَةٌ بِهِمْ، وَرَحْمَتَهُ وَاصِلَةٌ إِلَيْهِمْ، قَالَ بَعْدَهُ وَالْمُكَذِّبُونَ لِهَذِهِ الدَّلَائِلِ وَالْمُنْكِرُونَ لِهَذِهِ الْعَجَائِبِ صُمٌّ لَا يَسْمَعُونَ كَلَامًا الْبَتَّةَ، بُكْمٌ لَا يَنْطِقُونَ بِالْحَقِّ، خَائِضُونَ فِي ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ، غَافِلُونَ عَنْ تَأَمُّلِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْهُدَى وَالضَّلَالَ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ صُمًّا وَبُكْمًا وَبِكَوْنِهِمْ فِي الظُّلُمَاتِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِمْ عُمْيًا فَهُوَ بِعَيْنِهِ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [الْبَقَرَةِ: 18] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْهُدَى وَالضَّلَالَ لَيْسَا إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُهُمْ صُمًّا وَبُكْمًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ الْحَشْرِ. وَيَكُونُونَ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ بِأَنْ يَجْعَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ صُمًّا وَبُكْمًا فِي الظُّلُمَاتِ، وَيُضِلَّهُمْ بِذَلِكَ عَنِ الْجَنَّةِ/ وَعَنْ طَرِيقِهَا وَيُصَيِّرَهُمْ

[سورة الأنعام (6) : الآيات 40 إلى 41]

إِلَى النَّارِ، وَأَكَّدَ الْقَاضِي هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ أَنَّهُ يَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ الْجُبَّائِيُّ أَيْضًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ تَوَسُّعًا مِنْ حَيْثُ جُعِلُوا بِتَكْذِيبَهُمْ بِآيَاتِ اللَّه تَعَالَى فِي الظُّلُمَاتِ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى مَنَافِعِ الدِّينِ، كَالصُّمِّ وَالْبُكْمِ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى مَنَافِعِ الدُّنْيَا. فَشَبَّهَهُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِهِمْ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ مِثْلَ صِفَاتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ قَوْلُهُ صُمٌّ وَبُكْمٌ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّتْمِ وَالْإِهَانَةِ، لَا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ فَقَالَ الْكَعْبِيُّ: لَيْسَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ أَجْمَلَ القول فيه هاهنا، فَقَدْ فَصَّلَهُ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إِبْرَاهِيمَ: 27] وَقَوْلُهُ وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [الْبَقَرَةِ: 26] وَقَوْلُهُ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [مُحَمَّدٍ: 17] وَقَوْلُهُ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ [الْمَائِدَةِ: 16] وَقَوْلُهُ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [إِبْرَاهِيمَ: 27] وَقَوْلُهُ وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [الْعَنْكَبُوتِ: 69] فَثَبْتَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ مَشِيئَةَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَإِنْ كَانَتْ مُجْمَلَةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَّا أَنَّهَا مُخَصَّصَةٌ مُفَصَّلَةٌ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ، فَيَجِبُ حَمْلُ هَذَا الْمُجْمَلِ عَلَى تِلْكَ الْمُفَصَّلَاتِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ ذَكَرُوا تَأْوِيلَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْعِ الْأَلْطَافِ فَصَارُوا عِنْدَهَا كَالصُّمِّ وَالْبُكْمِ. وَالثَّانِي: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ وَعَنْ وِجْدَانِ الثَّوَابِ، وَمَنْ يَشَأْ أَنْ يَهْدِيَهُ إِلَى الْجَنَّةِ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الَّذِي يَسْلُكُهُ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَشَاءُ هَذَا الْإِضْلَالَ إِلَّا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ عُقُوبَةً كَمَا لَا يَشَاءُ الْهُدَى إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الَّتِي تَكَلَّفَهَا هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ إِنَّمَا يَحْسُنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا لَوْ ثَبَتَ فِي الْعَقْلِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى ظاهره. أما لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْقَاطِعِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذَا الْكَلَامِ إِلَّا عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ الْعُدُولُ إِلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الْمُتَكَلِّفَةِ بَعِيدًا جِدًّا، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الدَّاعِي، وَبَيَّنَّا أَنَّ خَالِقَ ذَلِكَ الدَّاعِي هُوَ اللَّه، وَبَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ حُصُولِهِ يَجِبُ الْفِعْلُ، فَهَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ الثَّلَاثَةُ تُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ مِنَ اللَّه، وبتخليفه وَتَقْدِيرِهِ وَتَكْوِينِهِ، وَمَتَى ثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ صِحَّةُ هَذَا الظَّاهِرِ، كَانَ الذَّهَابُ إِلَى هَذِهِ التَّكَلُّفَاتِ فَاسِدًا قَطْعًا، وَأَيْضًا فَقَدْ تَتَبَّعْنَا هَذِهِ الْوُجُوهَ بِالْإِبْطَالِ وَالنَّقْضِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 7] وَفِي سَائِرِ الْآيَاتِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِعَادَةِ، وَأَقْرَبُهَا أَنَّ هَذَا الْإِضْلَالَ وَالْهِدَايَةَ مُعَلَّقَانِ بِالْمَشِيئَةِ، وَعَلَى مَا قَالُوهُ: فَهُوَ أَمْرٌ وَاجِبٌ عَلَى اللَّه تَعَالَى يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ شَاءَ أَمْ أَبَى واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِتِلْكَ الْآيَاتِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ وَمُحَمَّدٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ. واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 40 الى 41] قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ غَايَةَ جَهْلِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ بَيَّنَ مِنْ حَالِهِمْ أَيْضًا أَنَّهُمْ إذا نزلت بهم بلية أو محنة فإنهم يفزعون إلى اللَّه تعالى ويلجئون إِلَيْهِ وَلَا يَتَمَرَّدُونَ عَنْ طَاعَتِهِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْفَرَّاءُ لِلْعَرَبِ فِي (أَرَأَيْتَ) لُغَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: رُؤْيَةُ الْعَيْنِ، فَإِذَا قُلْتَ للرجل رأيتك كَانَ الْمُرَادُ: أَهَلْ رَأَيْتَ نَفْسَكَ؟ ثُمَّ يُثَنَّى وَيُجْمَعُ. فَنَقُولُ: أَرَأَيْتَكُمَا أَرَأَيْتَكُمْ، وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ تَقُولَ أَرَأَيْتَكَ، وَتُرِيدَ: أَخْبِرْنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ هَذَا الْمَعْنَى تَرَكْتَ التَّاءَ مَفْتُوحَةً عَلَى كُلِّ حَالٍ تَقُولُ: أَرَأَيْتَكَ أَرَأَيْتَكُمَا أَرَأَيْتَكُمْ أَرَأَيْتَكُنَّ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ: أَنَّ الضَّمِيرَ الثَّانِيَ وَهُوَ الْكَافُ فِي قَوْلِكَ: أَرَأَيْتَكَ لَا مَحَلَّ له من الاعراب، والدليل قوله تعالى: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الْإِسْرَاءِ: 62] وَيُقَالُ أَيْضًا: أَرَأَيْتَكَ زَيْدًا مَا شَأْنُهُ، وَلَوْ جَعَلْتَ الْكَافَ مَحَلًّا لَكُنْتَ كَأَنَّكَ تَقُولُ: أَرَأَيْتَ نَفْسَكَ زَيْدًا مَا شَأْنُهُ، وَذَلِكَ كَلَامٌ فَاسِدٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْكَافَ لَا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، بَلْ هُوَ حَرْفٌ لِأَجْلِ الْخِطَابِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَوْ كَانَتِ الْكَافُ تَوْكِيدًا لَوَقَعَتِ التَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ عَلَى التَّاءِ، كَمَا يَقَعَانِ عَلَيْهَا عِنْدَ عَدَمِ الْكَافِ، فَلَمَّا فُتِحَتِ التَّاءُ فِي خِطَابِ الْجَمْعِ، وَوَقَعَتْ عَلَامَةُ الْجَمْعِ عَلَى الْكَافِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكَافَ غَيْرُ مَذْكُورٍ لِلتَّوْكِيدِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَافَ لَوْ سَقَطَتْ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُقَالَ لِجَمَاعَةٍ: أَرَأَيْتَ، فَثَبَتَ بِهَذَا انْصِرَافُ الْفِعْلِ إِلَى الْكَافِ، وَأَنَّهَا وَاجِبَةٌ لَازِمَةٌ مُفْتَقَرٌ إِلَيْهَا. أَجَابَ الْوَاحِدِيُّ عَنْهُ: بِأَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ تَبْطُلُ بِكَافِ ذَلِكَ وَأُولَئِكَ، فَإِنَّ عَلَامَةَ الْجَمْعِ تَقَعُ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّهَا حَرْفٌ لِلْخِطَابِ، مُجَرَّدٌ عَنِ الِاسْمِيَّةِ، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نافع أرأيتكم. وأ رأيت. وأ فرأيت. وأ رأيتك وأ فرأيت وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ/ بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَالْكِسَائِيُّ تَرَكَ الْهَمْزَةَ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَالْبَاقُونَ بِالْهَمْزَةِ. أَمَّا تَخْفِيفُ الْهَمْزَةِ، فَالْمُرَادُ جَعْلُهَا بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْأَلْفِ عَلَى التَّخْفِيفِ الْقِيَاسِيِّ. وَأَمَّا مَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ فَحَسَنٌ، وَبِهِ قَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الشِّعْرِ، وَقَدْ تَكَلَّمَتِ الْعَرَبُ فِي مِثْلِهِ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ لِلتَّخْفِيفِ كَمَا قَالُوا: وَسَلْهُ، وَكَمَا أَنْشَدَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: وَإِنْ لَمْ أُقَاتِلْ فَالْبِسُونِي بُرْقُعًا بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ. أَرَادَ فَأَلْبِسُونِي بِإِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ فَالسَّبَبُ أَنَّ الْهَمْزَةَ عَيْنُ الْفِعْلِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّه فِي الدُّنْيَا وَأَتَاكُمُ الْعَذَابُ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، أَتَرْجِعُونَ إِلَى غَيْرِ اللَّه فِي دَفْعِ ذَلِكَ الْبَلَاءِ وَالضُّرِّ أَوْ تَرْجِعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى؟ وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي دَفْعِ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ لَا إِلَى الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، لَا جرم قال بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ يَعْنِي أَنَّكُمْ لَا تَرْجِعُونَ فِي طَلَبِ دَفْعِ الْبَلِيَّةِ وَالْمِحْنَةِ إِلَّا إِلَى اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ: فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ أَيْ فَيَكْشِفُ الضُّرَّ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ دَعَوْتُمْ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ تَتْرُكُونَ الْأَصْنَامَ ولا تدعونهم لعلكم أَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ. الثَّانِي: قَالَ

[سورة الأنعام (6) : الآيات 42 إلى 43]

الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّكُمْ فِي تَرْكِكُمْ دُعَاءَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَدْ نَسِيَهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ لِأَنَّهُ قَالَ: يُعْرِضُونَ إِعْرَاضَ النَّاسِي، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ [يُونُسَ: 22] وَلَا يَذْكُرُونَ الْأَوْثَانَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يُجِيبُ الدُّعَاءَ إِنْ شَاءَ وَقَدْ لَا يُجِيبُهُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَهُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: 60] يُفِيدُ الْجَزْمَ بِحُصُولِ الْإِجَابَةِ، فَكَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ. وَالْجَوَابُ أَنْ نَقُولَ: تَارَةً يَجْزِمُ تَعَالَى بِالْإِجَابَةِ وَتَارَةً لَا يَجْزِمُ، إِمَّا بِحَسَبِ مَحْضِ الْمَشِيئَةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا، أَوْ بِحَسَبِ رِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَمَّا كَانَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ حَاصِلًا لَا جَرَمَ وَرَدَتِ الْآيَتَانِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: حَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ: إِذَا كُنْتُمْ تَرْجِعُونَ عِنْدَ نُزُولِ الشَّدَائِدِ إِلَى اللَّه تَعَالَى لَا إِلَى الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، فَلِمَ تُقْدِمُونَ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي/ لَا تَنْتَفِعُونَ بِعِبَادَتِهَا أَلْبَتَّةَ؟ وَهَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يُفِيدُ لَوْ كَانَ ذِكْرُ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ مَقْبُولًا. أَمَّا لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَرْدُودًا وَكَانَ الْوَاجِبُ هُوَ مَحْضُ التَّقْلِيدِ، كَانَ هَذَا الْكَلَامُ سَاقِطًا، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الدِّينِ هُوَ الحجة والدليل. واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 42 الى 43] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (43) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى أَنَّ الْكُفَّارَ عِنْدَ نُزُولِ الشَّدَائِدِ يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّه عِنْدَ كُلِّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الشَّدَائِدِ، بَلْ قَدْ يَبْقُونَ مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ مُنْجَمِدِينَ عَلَيْهِ غَيْرَ رَاجِعِينَ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِنَا مِنْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى إِذَا لَمْ يَهْدِهِ لَمْ يَهْتَدِ، سَوَاءٌ شَاهَدَ الْآيَاتِ الْهَائِلَةَ، أَوْ لَمْ يُشَاهِدْهَا، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا فَخَالَفُوهُمْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَحَسُنَ الْحَذْفُ لِكَوْنِهِ مَفْهُومًا مِنَ الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ. وَقَالَ الْحَسَنُ (الْبَأْسَاءُ) شِدَّةُ الْفَقْرِ مِنَ الْبُؤْسِ (وَالضَّرَّاءُ) الْأَمْرَاضُ وَالْأَوْجَاعُ. ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا أَرْسَلْنَا الرُّسُلَ إِلَيْهِمْ وَإِنَّمَا سَلَّطْنَا الْبَأْسَاءَ وَالضَّرَّاءَ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ أَنْ يَتَضَرَّعُوا. وَمَعْنَى التَّضَرُّعِ التَّخَشُّعُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الِانْقِيَادِ وَتَرَكِ التَّمَرُّدِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الضَّرَاعَةِ وَهِيَ الذِّلَّةُ، يُقَالُ ضَرَعَ الرَّجُلُ يَضْرَعُ ضَرَاعَةً فَهُوَ ضَارِعٌ أَيْ ذَلِيلٌ ضَعِيفٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمَ نَبِيَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَرْسَلَ قَبْلَهُ إِلَى أَقْوَامٍ بَلَغُوا فِي الْقَسْوَةِ إِلَى أَنْ أُخِذُوا بِالشِّدَّةِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَلَمْ يَخْضَعُوا وَلَمْ يَتَضَرَّعُوا، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّسْلِيَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 44 إلى 45]

فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَوْلُهُ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ يدل على أنهم تضرعوا؟ وهاهنا يَقُولُ: قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ يَتَضَرَّعُوا. قُلْنَا: أُولَئِكَ أَقْوَامٌ، وَهَؤُلَاءِ أَقْوَامٌ آخَرُونَ. أَوْ نَقُولُ أُولَئِكَ تَضَرَّعُوا لِطَلَبِ إِزَالَةِ الْبَلِيَّةِ وَلَمْ يَتَضَرَّعُوا عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ للَّه تَعَالَى فَلِهَذَا الْفَرْقِ حَسُنَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا مَعْنَاهُ نَفْيُ التَّضَرُّعِ. وَالتَّقْدِيرُ فَلَمْ يَتَضَرَّعُوا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا. وَذِكْرُ كَلِمَةِ (لَوْلَا) يُفِيدُ أَنَّهُ مَا كَانَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي تَرْكِ التَّضَرُّعِ إِلَّا عِنَادُهُمْ وَقَسْوَتُهُمْ وَإِعْجَابُهُمْ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي زَيَّنَهَا الشَّيْطَانُ لَهُمْ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِقَوْلِهِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَقَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَرْسَلَ الرُّسُلَ إِلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا سَلَّطَ الْبَأْسَاءَ وَالضَّرَّاءَ عليهم، لا رادة أَنْ يَتَضَرَّعُوا وَيُؤْمِنُوا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ الْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ مِنَ الْكُلِّ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ كَلِمَةَ (لَعَلَّ) تُفِيدُ التَّرَجِّي وَالتَّمَنِّيَ وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ وَأَنْتُمْ حَمَلْتُمُوهُ عَلَى إِرَادَةِ هَذَا الْمَطْلُوبِ، وَنَحْنُ نَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَامَلَهُمْ مُعَامَلَةً لَوْ صَدَرَتْ عَنْ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى لَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ هَذَا الْمَعْنَى، فَأَمَّا تَعْلِيلُ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ فَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى مَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ. ثُمَّ نَقُولُ إِنْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى قَوْلِكُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ضِدِّ قَوْلِكُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَدُلُّ على أنهم إنما لَمْ يَتَضَرَّعُوا لِقَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ وَلِأَجْلِ أَنَّ الشَّيْطَانَ زَيَّنَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ. فَنَقُولُ: تِلْكَ الْقَسْوَةُ إِنْ حَصَلَتْ بِفِعْلِهِمُ احْتَاجُوا فِي إِيجَادِهَا إِلَى سَبَبٍ آخَرَ وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ حَصَلَتْ بِفِعْلِ اللَّه فَالْقَوْلُ قَوْلُنَا، وَأَيْضًا هَبْ أَنَّ الْكُفَّارَ إِنَّمَا أَقْدَمُوا عَلَى هَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ بِسَبَبِ تَزْيِينِ الشيطان، إلا أنا نَقُولَ: وَلِمَ بَقِيَ الشَّيْطَانُ مُصِرًّا عَلَى هَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ؟ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ شَيْطَانٍ آخَرَ تَسَلْسَلَ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ، وَإِنْ بَطَلَتْ هَذِهِ الْمَقَادِيرُ انْتَهَتْ بِالْآخِرَةِ إِلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ إِنَّمَا يُقْدِمُ تَارَةً عَلَى الْخَيْرِ وَأُخْرَى عَلَى الشَّرِّ، لِأَجْلِ الدَّوَاعِي الَّتِي تَحْصُلُ فِي قَلْبِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الدَّوَاعِيَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِإِيجَادِ اللَّه تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ قولنا ويفسد بالكلية قولهم، واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 44 الى 45] فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) اعلم أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ تَمَامِ الْقِصَّةِ الْأُولَى فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ أَخَذَهُمْ أَوَّلًا بِالْبَأْسَاءِ والضراء لكي يَتَضَرَّعُوا ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَمَّا نَسُوا مَا ذِكِّرُوا بِهِ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ/ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ، وَنَقَلْنَاهُمْ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ إِلَى الرَّاحَةِ وَالرَّخَاءِ وَأَنْوَاعِ الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى عَامَلَهُمْ بِتَسْلِيطِ الْمَكَارِهِ وَالشَّدَائِدِ عَلَيْهِمْ تَارَةً فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ، فَنَقَلَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ إِلَى ضِدِّهَا وَهُوَ فَتْحُ أَبْوَابِ الْخَيْرَاتِ عَلَيْهِمْ وَتَسْهِيلُ مُوجِبَاتِ الْمَسَرَّاتِ وَالسَّعَادَاتِ لَدَيْهِمْ فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ أَيْضًا. وَهَذَا كَمَا يَفْعَلُهُ الْأَبُ الْمُشْفِقُ بِوَلَدِهِ يُخَاشِنُهُ تَارَةً

[سورة الأنعام (6) : آية 46]

وَيُلَاطِفُهُ أُخْرَى طَلَبًا لِصَلَاحِهِ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنَ الْخَيْرِ وَالنِّعَمِ، لَمْ يَزِيدُوا عَلَى الْفَرَحِ وَالْبَطَرِ مِنْ غَيْرِ انْتِدَابٍ لِشُكْرٍ وَلَا إِقْدَامٍ عَلَى اعْتِذَارٍ وَتَوْبَةٍ، فَلَا جَرَمَ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ مَعْنَاهُ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ كَانَ مُغْلَقًا عَنْهُمْ مِنَ الْخَيْرِ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا أَيْ حَتَّى إِذَا ظَنُّوا أن الذي نزل بهم من البأساء والضراء مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الِانْتِقَامِ مِنَ اللَّه. وَلَمَّا فَتَحَ اللَّه عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الْخَيْرَاتِ ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ قَسَتْ وَمَاتَتْ وَأَنَّهُ لَا يُرْجَى لَهَا انْتِبَاهٌ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ، لَا جَرَمَ فَاجَأَهُمُ اللَّه بِالْعَذَابِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. قَالَ الْحَسَنُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَكْرٌ بِالْقَوْمِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّه يُعْطِي عَلَى الْمَعَاصِي فَإِنَّ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى» ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: وَإِنَّمَا أُخِذُوا فِي حَالِ الرَّخَاءِ وَالرَّاحَةِ لِيَكُونَ أَشَدَّ لِتَحَسُّرِهِمْ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ حَالِ السَّلَامَةِ وَالْعَافِيَةِ وَقَوْلُهُ فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ أَيْ آيِسُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُبْلِسُ الَّذِي انْقَطَعَ رَجَاؤُهُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلَّذِي سَكَتَ عِنْدَ انْقِطَاعِ حُجَّتِهِ قَدْ أَبْلَسَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُبْلِسُ الشَّدِيدُ الْحَسْرَةِ الْحَزِينُ، وَالْإِبْلَاسُ فِي اللُّغَةِ يَكُونُ بِمَعْنَى الْيَأْسِ مِنَ النَّجَاةِ عِنْدَ وُرُودِ الْهَلَكَةِ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى انْقِطَاعِ الْحُجَّةِ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْحَيْرَةِ بِمَا يَرِدُ عَلَى النَّفْسِ مِنَ الْبَلِيَّةِ وَهَذِهِ الْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الدَّابِرُ التَّابِعُ لِلشَّيْءِ مِنْ خَلْفِهِ كَالْوَلَدِ لِلْوَالِدِ يُقَالُ: دَبَرَ فُلَانٌ الْقَوْمَ يَدْبُرُهُمْ دُبُورًا وَدَبَرًا إِذَا كَانَ آخِرَهُمْ. قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ: فَاسْتُؤْصِلُوا بِعَذَابٍ حَصَّ دَابِرَهُمْ ... فَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفًا وَلَا انْتَصَرُوا وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: دَابِرُ الْقَوْمِ آخِرُهُمُ الَّذِي يَدْبُرُهُمْ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ الدَّابِرُ الْأَصْلُ يُقَالُ قَطَعَ اللَّه دَابِرَهُ أَيْ أَذْهَبَ اللَّه أَصْلَهُ. وَقَوْلُهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى حَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ قَطَعَ دَابِرَهُمْ وَاسْتَأْصَلَ شَأْفَتَهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَارِيًا مَجْرَى النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ عَلَى أُولَئِكَ الرُّسُلِ فِي إِزَالَةِ شَرِّهِمْ عَنْ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ قَسْوَةَ قُلُوبِهِمْ لَزِمَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كُلَّمَا ازْدَادَتْ مُدَّةُ حَيَاتِهِمُ ازْدَادَتْ أَنْوَاعُ كفرهم ومعاصيهم، فكانوا يستوجبون به مريد الْعِقَابِ وَالْعَذَابِ فَكَانَ إِفْنَاؤُهُمْ وَإِمَاتَتُهُمْ فِي تِلْكَ الحالة موجبا أن لا يَصِيرُوا مُسْتَوْجِبِينَ/ لِتِلْكَ الزِّيَادَاتِ مِنَ الْعِقَابِ فَكَانَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى الْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ إِنَّمَا حَصَلَ عَلَى وُجُودِ إِنْعَامِ اللَّه عَلَيْهِمْ فِي أَنْ كَلَّفَهُمْ وَأَزَالَ الْعُذْرَ وَالْعِلَّةَ عَنْهُمْ وَدَبَّرَهُمْ بِكُلِّ الْوُجُوهِ الْمُمْكِنَةِ فِي التَّدْبِيرِ الْحَسَنِ، وَذَلِكَ بِأَنْ أَخْذَهُمْ أَوَّلًا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، ثُمَّ نَقَلَهُمْ إِلَى الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ، وَأَمْهَلَهُمْ وَبَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَزْدَادُوا إِلَّا انْهِمَاكًا فِي الْغَيِّ وَالْكُفْرِ، أَفْنَاهُمُ اللَّه وَطَهَّرَ وَجْهَ الْأَرْضِ مِنْ شَرِّهِمْ، فَكَانَ قَوْلُهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ عَلَى تلك النعم الكثيرة المتقدمة. [سورة الأنعام (6) : آية 46] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ الْمُخْتَارِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ أَشْرَفَ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ هُوَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْقَلْبُ فَالْأُذُنُ مَحَلُّ الْقُوَّةِ السَّامِعَةِ وَالْعَيْنُ محل القوة

[سورة الأنعام (6) : آية 47]

الْبَاصِرَةِ، وَالْقَلْبُ مَحَلُّ الْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ وَالْعِلْمِ. فَلَوْ زَالَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ عَنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ اخْتَلَّ أَمْرُ الْإِنْسَانِ وَبَطَلَتْ مَصَالِحُهُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الدِّينِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى تَحْصِيلِ هَذِهِ الْقُوَى فِيهَا وَصَوْنِهَا عَنِ الْآفَاتِ وَالْمُخَافَاتِ لَيْسَ إِلَّا اللَّه. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، كَانَ الْمُنْعِمُ بِهَذِهِ النِّعَمِ الْعَالِيَةِ وَالْخَيْرَاتِ الرَّفِيعَةِ هُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ الْمُسْتَحِقُّ لِلتَّعْظِيمِ وَالثَّنَاءِ وَالْعُبُودِيَّةِ لَيْسَ إِلَّا اللَّه تَعَالَى وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ طَرِيقَةٌ بَاطِلَةٌ فَاسِدَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ وَطَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَمْ يَعْقِلُوا الْهُدَى. الثَّانِي: مَعْنَاهُ وَأَزَالَ عُقُولَكُمْ حَتَّى تَصِيرُوا كَالْمَجَانِينِ. وَالثَّالِثُ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْخَتْمِ الْإِمَاتَةُ أَيْ يُمِيتُ قُلُوبَكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ ... مَنْ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وخبره إِلهٌ وغَيْرُ صِفَةٌ لَهُ وَقَوْلُهُ يَأْتِيكُمْ بِهِ هَذِهِ الْهَاءُ تَعُودُ عَلَى مَعْنَى الْفِعْلِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّه يَأْتِيكُمْ بِمَا أُخِذَ مِنْكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ بِهِ انْظُرْ بِضَمِّ الْهَاءِ وَهُوَ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقْرَأْ فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ [الْقَصَصِ: 81] فَحَذَفَ الْوَاوَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ فَصَارَ بِهِ انْظُرْ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَصْدِفُونَ بِإِشْمَامِ الزَّايِ وَالْبَاقُونَ بالصاد أي يعرضون عنه. يقال: صرف عَنْهُ أَيْ أَعْرَضَ وَالْمُرَادُ مِنْ تَصْرِيفِ الْآيَاتِ إِيرَادُهَا عَلَى الْوُجُوهِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمُتَكَاثِرَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُقَوِّي مَا قَبْلَهُ فِي الْإِيصَالِ إِلَى الْمَطْلُوبِ فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مَعَ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّفْهِيمِ وَالتَّقْرِيرِ وَالْإِيضَاحِ وَالْكَشْفِ، انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّهُمْ كَيْفَ يَصْدِفُونَ وَيُعْرِضُونَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَكَّنَهُمْ مِنَ الْفَهْمِ، وَلَمْ يَخْلُقْ فِيهِمُ الْإِعْرَاضَ وَالصَّدَّ وَلَوْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْكُفْرِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْكَلَامِ مَعْنًى. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِعَيْنِ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ بَالَغَ فِي إِظْهَارِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ وَفِي تَقْرِيرِهَا وَتَنْقِيحِهَا وَإِزَالَةِ جِهَاتِ الشُّبُهَاتِ عَنْهَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ الْقَاطِعَةِ لِلْعُذْرِ مَا زَادُوا إِلَّا تَمَادِيًا فِي الْكُفْرِ وَالْغَيِّ وَالْعِنَادِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهُدَى وَالضَّلَالَ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا بِهِدَايَةِ اللَّه وَإِلَّا بِإِضْلَالِهِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَالَتُهَا عَلَى قَوْلِنَا أَقْوَى مِنْ دلالتها على قولهم واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 47] قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) اعْلَمْ أَنَّ الدَّلِيلَ الْمُتَقَدِّمَ كَانَ مُخْتَصًّا بِأَخْذِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْقَلْبِ وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا دَافِعَ لِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ، وَلَا مُحَصِّلَ لِخَيْرٍ مِنَ الْخَيْرَاتِ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَعْبُودُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ لَا غَيْرُهُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً قُلْنَا الْعَذَابُ الَّذِي يَجِيئُهُمْ إِمَّا أَنْ يَجِيئَهُمْ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ عَلَامَةٍ تَدُلُّهُمْ عَلَى مَجِيءِ ذَلِكَ الْعَذَابِ أَوْ مَعَ سَبْقِ هَذِهِ الْعَلَامَةِ. فَالْأَوَّلُ: هُوَ الْبَغْتَةُ. وَالثَّانِي: هُوَ الْجَهْرَةُ. وَالْأَوَّلُ سَمَّاهُ اللَّه تَعَالَى بِالْبَغْتَةِ، لِأَنَّهُ فَاجَأَهُمْ بِهَا وَسَمَّى الثَّانِيَ جَهْرَةً، لِأَنَّ نَفْسَ الْعَذَابِ وَقَعَ بِهِمْ وَقَدْ عَرَفُوهُ حَتَّى لَوْ أَمْكَنَهُمُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ لَتَحَرَّزُوا مِنْهُ.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 48 إلى 49]

وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً مَعْنَاهُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا. وَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ حَمْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِأَنَّهُ لَوْ جَاءَهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابُ لَيْلًا وَقَدْ عَايَنُوا مُقَدِّمَتَهُ، لَمْ يَكُنْ بَغْتَةً وَلَوْ/ جَاءَهُمْ نَهَارًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِمُقَدِّمَتِهِ لَمْ يَكُنْ جَهْرَةً. فَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، اسْتَقَامَ الْكَلَامُ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ مَعَ عِلْمِكُمْ بِأَنَّ الْعَذَابَ إِذَا نَزَلَ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ التَّمْيِيزُ. قُلْنَا: إِنَّ الْهَلَاكَ وَإِنْ عَمَّ الْأَبْرَارَ وَالْأَشْرَارَ فِي الظَّاهِرِ، إِلَّا أَنَّ الْهَلَاكَ فِي الْحَقِيقَةِ مُخْتَصٌّ بِالظَّالِمِينَ الشِّرِّيرِينَ، لِأَنَّ الْأَخْيَارَ يَسْتَوْجِبُونَ بِسَبَبِ نُزُولِ تِلْكَ الْمَضَارِّ بِهِمْ أَنْوَاعًا عَظِيمَةً مِنَ الثَّوَابِ وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةِ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى، فَذَاكَ وَإِنْ كَانَ بَلَاءً فِي الظَّاهِرِ، إِلَّا أَنَّهُ يُوجِبُ سَعَادَاتٍ عَظِيمَةً؟ أَمَّا الظَّالِمُونَ فَإِذَا نَزَلَ الْبَلَاءُ بِهِمْ فَقَدْ خَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ مَعًا، فَلِذَلِكَ وَصَفَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِكَوْنِهِمْ هَالِكِينَ وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ التَّقِيَّ النَّقِيَّ هُوَ السَّعِيدُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْبَلَاءِ أَوْ فِي الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ وَأَنَّ الْفَاسِقَ الْكَافِرَ هُوَ الشَّقِيُّ، كَيْفَ دَارَتْ قَضِيَّتُهُ وَاخْتَلَفَتْ أحواله، واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 48 الى 49] وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الكفار فيما تقدم أنهم قَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الأنعام: 37] وَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فِي جَوَابِهِمْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ ثُمَّ ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ بُعِثُوا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى إِظْهَارِ الْآيَاتِ وَإِنْزَالِ الْمُعْجِزَاتِ، بَلْ ذَاكَ مُفَوَّضٌ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّه تَعَالَى وَكَلِمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فَقَالَ: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ مُبَشِّرِينَ بِالثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَمُنْذِرِينَ بِالْعِقَابِ عَلَى الْمَعَاصِي، فَمَنْ قَبِلَ قَوْلَهُمْ وَأَتَى بِالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ عَمَلُ الْقَلْبِ وَالْإِصْلَاحِ الَّذِي هُوَ عَمَلُ الْجَسَدِ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ وَمَعْنَى الْمَسِّ فِي اللُّغَةِ الْتِقَاءُ الشَّيْئَيْنِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ تَعَالَى عَلَّلَ عَذَابَ الْكُفَّارِ بِكَوْنِهِمْ فَاسِقِينَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ فَاسِقٍ كَذَلِكَ، فَيُقَالُ لَهُ هَذَا/ مُعَارَضٌ بِمَا أَنَّهُ خَصَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّه بِهَذَا الْوَعِيدِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُكَذِّبًا بِآيَاتِ اللَّه أَنْ لَا يَلْحَقَهُ الْوَعِيدُ أَصْلًا. وَأَيْضًا فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ هَذَا الْوَعِيدِ مُعَلَّلًا بِفِسْقِهِمْ فَلِمَ قُلْتُمْ أَنَّ فِسْقَ مَنْ عَرَفَ اللَّه وَأَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، مُسَاوٍ لِفِسْقِ مَنْ أنكر هذه الأشياء؟ واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 50] قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الْأَنْعَامِ: 37] فَقَالَ اللَّه تَعَالَى قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ، إِنَّمَا بُعِثْتُ مُبَشِّرًا وَمُنْذِرًا، وَلَيْسَ لِي أَنْ أَتَحَكَّمَ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَأَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَنْفِيَ عَنْ نَفْسِهِ أُمُورًا ثَلَاثَةً، أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ إِنْ

كُنْتَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّه، فَاطْلُبْ مِنَ اللَّه حَتَّى يُوَسِّعَ عَلَيْنَا مَنَافِعَ الدُّنْيَا وَخَيْرَاتِهَا، وَيَفْتَحْ عَلَيْنَا أَبْوَابَ سَعَادَتِهَا. فَقَالَ تَعَالَى قُلْ لَهُمْ إِنِّي لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّه، فَهُوَ تَعَالَى يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ لَا بِيَدِي وَالْخَزَائِنُ جَمْعُ خِزَانَةٍ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي يُخَزَّنُ فِيهِ الشَّيْءُ وَخَزْنُ الشَّيْءِ إِحْرَازُهُ، بِحَيْثُ لَا تَنَالُهُ الْأَيْدِي. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ إِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّه فَلَا بُدَّ وَأَنْ تُخْبِرَنَا عَمَّا يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَضَارِّ، حَتَّى نَسْتَعِدَّ لِتَحْصِيلِ تِلْكَ الْمَصَالِحِ، وَلِدَفْعِ تِلْكَ الْمَضَارِّ. فَقَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنِّي لَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ فَكَيْفَ تَطْلُبُونَ مِنِّي هَذِهِ الْمَطَالِبَ؟ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ وَالْخَيْرَاتِ الْوَاسِعَةَ، وَفِي الْمَقَامِ الثَّانِي كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْإِخْبَارَ عَنِ الْغُيُوبِ، لِيَتَوَسَّلُوا بِمَعْرِفَةِ تِلْكَ الْغُيُوبِ إِلَى الْفَوْزِ بِالْمَنَافِعِ وَالِاجْتِنَابِ عَنِ الْمَضَارِّ وَالْمَفَاسِدِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَقُولُونَ مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفَرْقَانِ: 7] وَيَتَزَوَّجُ وَيُخَالِطُ النَّاسَ. فَقَالَ تَعَالَى: قُلْ لَهُمْ إِنِّي لَسْتُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ نَفْيِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ؟ فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنْ يُظْهِرَ الرَّسُولُ مِنْ نَفْسِهِ الْتَّوَاضُعَ للَّه وَالْخُضُوعَ لَهُ وَالِاعْتِرَافَ بِعُبُودِيَّتِهِ، حَتَّى لَا يُعْتَقَدَ فِيهِ مِثْلُ اعْتِقَادِ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَقْتَرِحُونَ مِنْهُ إِظْهَارَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ الْقَوِيَّةِ، كَقَوْلِهِمْ وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاءِ: 90] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَقَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: 93] يَعْنِي لَا أَدَّعِي إِلَّا الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ، وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي طَلَبْتُمُوهَا، فَلَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا إِلَّا بِقُدْرَةِ اللَّه، فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِظْهَارَ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِتَحْصِيلِ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي طَلَبُوهَا مِنْهُ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قوله لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ مَعْنَاهُ أَنِّي لَا أَدَّعِي كَوْنِي مَوْصُوفًا بِالْقُدْرَةِ اللَّائِقَةِ بِالْإِلَهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ أَيْ وَلَا أَدَّعِي كَوْنِي مَوْصُوفًا بِعِلْمِ اللَّه تَعَالَى. وَبِمَجْمُوعِ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ حَصَلَ أَنَّهُ لَا يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ. ثُمَّ قَالَ: وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْإِلَهِيَّةِ دَرَجَةٌ أَعْلَى حَالًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَصَارَ حَاصِلُ الْكَلَامِ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَا أَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ وَلَا أَدَّعِي الْمَلَكِيَّةَ وَلَكِنِّي أَدَّعِي الرِّسَالَةَ، وَهَذَا مَنْصِبٌ لَا يَمْتَنِعُ حُصُولُهُ لِلْبَشَرِ، فَكَيْفَ أَطْبَقْتُمْ عَلَى اسْتِنْكَارِ قَوْلِي وَدَفْعِ دَعْوَايَ؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ لَا أَدَّعِي مَنْزِلَةً فَوْقَ مَنْزِلَتِي وَلَوْلَا أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي: إِنْ كَانَ الْغَرَضُ بِمَا نَفَى طَرِيقَةَ التَّوَاضُعِ فَالْأَقْرَبُ أَنْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ نَفْيَ قُدْرَتِهِ عَنْ أَفْعَالٍ لَا يَقْوَى عَلَيْهَا إِلَّا الْمَلَائِكَةُ، لَمْ يَدُلْ عَلَى كَوْنِهِمْ أَفْضَلَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ إِلَّا بِالْوَحْيِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى حُكْمَيْنِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 51]

الْحُكْمُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا النَّصَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَحْكُمُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ وَأَنَّهُ مَا كَانَ يَجْتَهِدُ بَلْ جَمِيعُ أَحْكَامِهِ صَادِرَةٌ عَنِ الْوَحْيِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النَّجْمِ: 3، 4] . الْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّ نُفَاةَ الْقِيَاسِ قَالُوا: ثَبَتَ بِهَذَا النَّصِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَعْمَلُ إِلَّا بِالْوَحْيِ النَّازِلِ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَعْمَلُوا إِلَّا بِالْوَحْيِ النَّازِلِ عَلَيْهِ، لقوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ [سبأ: 20] وَذَلِكَ يَنْفِي جَوَازَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِغَيْرِ الْوَحْيِ يَجْرِي مَجْرَى عَمَلِ الْأَعْمَى وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَى نُزُولِ الْوَحْيِ يَجْرِي مَجْرَى عَمَلِ الْبَصِيرِ. ثُمَّ قَالَ: أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ وَأَنْ لَا يَكُونَ غَافِلًا عَنْ مَعْرِفَتِهِ، واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 51] وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الرُّسُلَ بِكَوْنِهِمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، أَمَرَ الرَّسُولَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْإِنْذَارِ فَقَالَ: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: (الْإِنْذَارُ) الْإِعْلَامُ بِمَوْضِعِ الْمَخَافَةِ وَقَوْلُهُ بِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزَّجَّاجُ بِالْقُرْآنِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [الْأَنْعَامِ: 50] وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَأَنْذِرْ بِهِ أَيْ باللَّه، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْإِنْذَارَ وَالتَّخْوِيفَ إِنَّمَا يَقَعُ بِالْقَوْلِ وَبِالْكَلَامِ لَا بِذَاتِ اللَّه تَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ فَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمُ الْكَافِرُونَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَوِّفُهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَتَأَثَّرُ مِنْ ذَلِكَ التَّخْوِيفِ، وَيَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ الَّذِي يَقُولُهُ مُحَمَّدٌ حَقًّا، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَائِقٌ بِهَؤُلَاءِ، لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ، وَالْعِلْمُ خِلَافُ الْخَوْفِ وَالظَّنِّ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ، لِأَنَّهُمْ وَإِنْ تَيَقَّنُوا الْحَشْرَ فَلَمْ يَتَيَقَّنُوا الْعَذَابَ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ، لِتَجْوِيزِهِمْ أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَتَجْوِيزِ أَنْ لَا يَمُوتُوا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانُوا خَائِفِينَ مِنَ الْحَشْرِ، بِسَبَبِ أَنَّهُمْ/ كَانُوا مُجَوِّزِينَ لِحُصُولِ الْعَذَابِ وَخَائِفِينَ مِنْهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِصِحَّةِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ فَهُمُ الَّذِينَ يَخَافُونَ مِنْ عَذَابِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ لِأَنَّهُ لَا عَاقِلَ إِلَّا وَهُوَ يَخَافُ الْحَشْرَ، سَوَاءٌ قَطَعَ بِحُصُولِهِ أَوْ كَانَ شَاكًّا فِيهِ لِأَنَّهُ بِالِاتِّفَاقِ غَيْرُ مَعْلُومِ الْبُطْلَانِ بِالضَّرُورَةِ فَكَانَ هَذَا الْخَوْفُ قَائِمًا فِي حَقِّ الْكُلِّ وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَبْعُوثًا

[سورة الأنعام (6) : آية 52]

إِلَى الْكُلِّ، وَكَانَ مَأْمُورًا بِالتَّبْلِيغِ إِلَى الْكُلِّ، وَخُصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّذِينَ يَخَافُونَ الْحَشْرَ، لِأَنَّ انْتِفَاعَهُمْ بِذَلِكَ الْإِنْذَارِ أَكَمَلُ، بِسَبَبِ أَنَّ خَوْفَهُمْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى إِعْدَادِ الزَّادِ لِيَوْمِ الْمَعَادِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُجَسِّمَةُ تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ اللَّه تَعَالَى مُخْتَصًّا بِمَكَانٍ وَجِهَةٍ لِأَنَّ كَلِمَةَ (إِلَى) لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ. وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي جَعَلَهُ رَبُّهُمْ لِاجْتِمَاعِهِمْ وَلِلْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَوْضِعُ لَيْسَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مُتَخَلِّينَ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شفيع، والعامل فيه يخافون. ثم هاهنا بَحْثٌ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ الْكُفَّارَ، فَالْكَلَامُ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّه شُفَعَاءُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَةِ: 18] واللَّه كَذَّبَهُمْ فِيهِ وَذَكَرَ أَيْضًا فِي آيَةٍ أُخْرَى فَقَالَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ [غَافِرٍ: 18] وَقَالَ أَيْضًا فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [الْمُدَّثِّرِ: 48] وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْمُسْلِمِينَ، فَنَقُولُ: قَوْلُهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَا يُنَافِي مَذْهَبَنَا فِي إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ شَفَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ لِلْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا تَكُونُ بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى لِقَوْلِهِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَةِ: 255] فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الشَّفَاعَةُ بِإِذْنِ اللَّه، كَانَتْ فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ اللَّه تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ وَأَنْذِرْهُمْ لِكَيْ يَخَافُوا فِي الدُّنْيَا وَيَنْتَهُوا عَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنَ الْكُفَّارِ التَّقْوَى وَالطَّاعَةَ، وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ قَدْ سَبَقَ مِرَارًا. [سورة الأنعام (6) : آية 52] وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ] فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: مَرَّ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ صُهَيْبٌ وَخَبَّابٌ وَبِلَالٌ وَعَمَّارٌ وَغَيْرُهُمْ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَرَضِيتَ بِهَؤُلَاءِ عَنْ قَوْمِكَ؟ أَفَنَحْنُ نَكُونُ تَبَعًا لِهَؤُلَاءِ؟ اطْرُدْهُمْ عَنْ نَفْسِكَ، فَلَعَلَّكَ إِنْ طَرَدْتَهُمُ اتَّبَعْنَاكَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ» فَقَالُوا فَأَقِمْهُمْ عَنَّا إِذَا جِئْنَا، فَإِذَا أَقَمْنَا فَأَقْعِدْهُمْ مَعَكَ إِنْ شِئْتَ، فَقَالَ «نَعَمْ» طَمَعًا فِي إِيمَانِهِمْ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ: لَوْ فَعَلْتَ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى مَاذَا يَصِيرُونَ، ثُمَّ أَلَحُّوا وَقَالُوا لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اكْتُبْ لَنَا بِذَلِكَ كِتَابًا فَدَعَا بِالصَّحِيفَةِ وَبِعَلِيٍّ لِيَكْتُبَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَرَمَى الصَّحِيفَةَ، وَاعْتَذَرَ عُمَرُ عَنْ مَقَالَتِهِ، فَقَالَ سَلْمَانُ وَخَبَّابٌ: فِينَا نَزَلَتْ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْعُدُ مَعَنَا وَنَدْنُو مِنْهُ حَتَّى تَمَسَّ رُكْبَتُنَا رُكْبَتَهُ، وَكَانَ يَقُومُ عَنَّا إِذَا أَرَادَ الْقِيَامَ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الْكَهْفِ: 28] فَتَرَكَ الْقِيَامَ عَنَّا إِلَى أَنْ نَقُومَ عَنْهُ وَقَالَ: «الْحَمْدُ للَّه الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أَمَرَنِي أَنِ أَصْبِرَ نَفْسِيَ مَعَ قَوْمٍ مِنْ أُمَّتِي مَعَكُمُ الْمَحْيَا وَمَعَكُمُ الْمَمَاتُ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الطَّاعِنُونَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ

السَّلَامُ طَرَدَهُمْ واللَّه تَعَالَى نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ الطَّرْدِ، فَكَانَ ذَلِكَ الطَّرْدُ ذَنْبًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ طَرَدَهُمْ، فَيَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ مِنَ الظَّالِمِينَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا [هُودٍ: 29] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمُتَابَعَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ، حَيْثُ قَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَامِ: 90] فَبِهَذَا الطَّرِيقِ وَجَبَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ لَا يَطْرُدَهُمْ، فَلَمَّا طَرَدَهُمْ كَانَ ذَلِكَ ذَنْبًا. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، فَزَادَ فِيهَا فَقَالَ: تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الْكَهْفِ: 28] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَهَاهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى زِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي آيَةٍ أُخْرَى فَقَالَ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا [طه: 131] فَلَمَّا نُهِيَ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى زِينَةِ الدُّنْيَا، ثُمَّ/ ذُكِرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ أَنَّهُ يُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَانَ ذَلِكَ ذَنْبًا. الْخَامِسُ: نُقِلَ أَنَّ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءَ كُلَّمَا دَخَلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ فَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ «مَرْحَبًا بِمَنْ عَاتَبَنِي رَبِّي فِيهِمْ» أَوْ لَفْظٌ هَذَا مَعْنَاهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى الذَّنْبِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا طَرَدَهُمْ لِأَجْلِ الِاسْتِخْفَافِ بِهِمْ وَالِاسْتِنْكَافِ مِنْ فَقْرِهِمْ وَإِنَّمَا عَيَّنَ لِجُلُوسِهِمْ وَقْتًا مُعَيَّنًا سِوَى الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَحْضُرُ فِيهِ أَكَابِرُ قُرَيْشٍ فَكَانَ غَرَضُهُ مِنْهُ التَّلَطُّفَ فِي إِدْخَالِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَلَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَفُوتُهُمْ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ أَمْرٌ مُهِمٌّ فِي الدُّنْيَا وَفِي الدِّينِ، وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ فَإِنَّهُ يَفُوتُهُمُ الدِّينُ وَالْإِسْلَامُ فَكَانَ تَرْجِيحُ هَذَا الْجَانِبِ أَوْلَى فَأَقْصَى مَا يُقَالُ إِنَّ هَذَا الِاجْتِهَادَ وَقَعَ خَطَأً إِلَّا أَنَّ الْخَطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ مَغْفُورٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ ثَانِيًا: إِنَّ طَرْدَهُمْ يُوجِبُ كَوْنَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَجَوَابُهُ: أَنَّ الظُّلْمَ عِبَارَةٌ عَنْ وَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَالْمَعْنَى أو أُولَئِكَ الضُّعَفَاءَ الْفُقَرَاءَ كَانُوا يَسْتَحِقُّونَ التَّعْظِيمَ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِذَا طَرَدَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ كَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا، إِلَّا أَنَّهُ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَوْلَى وَالْأَفْضَلِ لَا مِنْ بَابِ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ فَإِنَّا نَحْمِلُ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ وَالْأَكْمَلِ وَالْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالْغُدْوَةِ وَالْعَشِيِّ بِالْوَاوِ وَضَمِّ الْغَيْنِ وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ مِثْلَهُ وَالْبَاقُونَ بِالْأَلِفِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ الْوَجْهُ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالْغَدَاةِ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ نَكِرَةً فَأَمْكَنَ تَعْرِيفُهَا بِإِدْخَالِ لَامِ التَّعْرِيفِ عَلَيْهَا. فَأَمَّا (غُدْوَةٌ) فَمَعْرِفَةٌ وَهُوَ عَلَمٌ صِيغَ لَهُ، وَإِذَا كان كذلك، فوجب أن يمتنع إدخال لا م التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ، كَمَا يَمْتَنِعُ إِدْخَالُهُ عَلَى سَائِرِ الْمَعَارِفِ. وَكِتْبَةُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ بِالْوَاوِ فِي الْمُصْحَفِ لَا تَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ كتبوا «الصلاة» بالواو وهي ألف فكذا هاهنا. قَالَ سِيبَوَيْهِ «غُدْوَةٌ وَبُكْرَةٌ» جُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْمًا لِلْجِنْسِ كَمَا جَعَلُوا أَمَّ حُبَيْنٍ اسْمًا لِدَابَّةٍ مَعْرُوفَةٍ. قَالَ وَزَعَمَ يُونُسُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ لَقِيتُهُ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ غُدْوَةً أَوْ بُكْرَةً وَأَنْتَ تُرِيدُ الْمَعْرِفَةَ لَمْ تُنَوِّنْ. فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تُقَوِّي قِرَاءَةَ الْعَامَّةِ، وَأَمَّا وَجْهُ قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ فَهُوَ أَنَّ سِيبَوَيْهِ قَالَ زَعَمَ الْخَلِيلُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَتَيْتُكَ الْيَوْمَ غُدْوَةً وَبُكْرَةً فَجَعَلَهُمَا بِمَنْزِلَةِ ضَحْوَةً، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الدُّعَاءِ الصَّلَاةُ، يَعْنِي يَعْبُدُونَ رَبَّهُمْ بِالصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَهِيَ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ طَرَفَا النَّهَارِ، وَذَكَرَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ تَنْبِيهًا عَلَى كَوْنِهِمْ مُوَاظِبِينَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنَ الدعاء الذكر قال إبراهيم: الدعاء هاهنا هُوَ الذِّكْرُ وَالْمَعْنَى يَذْكُرُونَ رَبَّهُمْ طَرَفَيِ النَّهَارِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمُجَسِّمَةُ تَمَسَّكُوا فِي إِثْبَاتِ الْأَعْضَاءِ للَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَسَائِرُ الْآيَاتِ الْمُنَاسِبَةِ لَهُ مِثْلُ قَوْلِهِ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرَّحْمَنِ: 27] . وَجَوَابُهُ أَنَّ قَوْلَهُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاصِ: 1] يَقْتَضِي الْوِحْدَانِيَّةَ التَّامَّةَ، وَذَلِكَ يُنَافِي التَّرْكِيبَ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَجْزَاءِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ الْمَعْنَى يُرِيدُونَهُ إِلَّا أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ لَفْظَ الْوَجْهِ لِلتَّعْظِيمِ، كَمَا يُقَالُ هَذَا وَجْهُ الرَّأْيِ وَهَذَا وَجْهُ الدَّلِيلِ، وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ أَحَبَّ ذَاتًا أَحَبَّ أَنْ يَرَى وَجْهَهُ، فَرُؤْيَةُ الْوَجْهِ مِنْ لَوَازِمِ الْمَحَبَّةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ جُعِلَ الْوَجْهُ كِنَايَةً عَنِ الْمَحَبَّةِ وَطَلَبِ الرِّضَا وَتَمَامُ هَذَا الْكَلَامِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلَهُ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 115] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ حِسابِهِمْ وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِمْ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَالْمَعْنَى مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ شَيْءٍ وَلَا حِسَابُكَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَإِنَّمَا اللَّه هُوَ الَّذِي يُدَبِّرُ عَبِيدَهُ كَمَا يَشَاءُ وَأَرَادَ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَمَّلُ هَذَا الِاقْتِرَاحَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، فَلَعَلَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ وَيَتَخَلَّصُونَ مِنْ عِقَابِ الْكُفْرِ، فَقَالَ تَعَالَى: لَا تَكُنْ فِي قَيْدِ أَنَّهُمْ يَتَّقُونَ الْكُفْرَ أَمْ لَا فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى هُوَ الْهَادِي وَالْمُدَبِّرُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، وَهُمُ الْفُقَرَاءُ، وَذَلِكَ أَشْبَهُ بِالظَّاهِرِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْكِنَايَةَ فِي قَوْلِهِ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ عَائِدَةٌ لَا مَحَالَةَ إِلَى هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَائِرُ الْكِنَايَاتِ عَائِدَةً إِلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكُفَّارَ طَعَنُوا فِي إِيمَانِ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ وَقَالُوا يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُمْ إِنَّمَا اجْتَمَعُوا عِنْدَكَ وَقَبِلُوا دِينَكَ لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ بِهَذَا السَّبَبِ مَأْكُولًا وَمَلْبُوسًا عِنْدَكَ، وَإِلَّا فَهِمَ فَارِغُونَ عَنْ دِينِكَ، فَقَالَ اللَّه تَعَالَى إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ، فَمَا يَلْزَمُكَ إِلَّا اعْتِبَارُ الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ بَاطِنٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ عِنْدَ اللَّه، فحسابهم عليه لا زم لَهُمْ، لَا يَتَعَدَّى إِلَيْكَ، كَمَا أَنَّ حِسَابَكَ عَلَيْكَ لَا يَتَعَدَّى إِلَيْهِمْ، كَقَوْلِهِ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الْأَنْعَامِ: 164] . فَإِنْ قِيلَ: أَمَا كَفَى قَوْلُهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى ضَمَّ إِلَيْهِ قَوْلَهُ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ. قُلْنَا: جُعِلَتِ الْجُمْلَتَانِ بِمَنْزِلَةِ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ قُصِدَ بِهِمَا مَعْنًى وَاحِدٌ وَهُوَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَلَا يَسْتَقِلُّ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا الْجُمْلَتَانِ جَمِيعًا، كَأَنَّهُ قِيلَ لَا تُؤَاخَذُ أَنْتَ وَلَا هُمْ بِحِسَابِ صَاحِبِهِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِ رِزْقِهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَمَلَّهُمْ وَتَطْرُدَهُمْ، وَلَا حِسَابُ رِزْقِكَ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا

[سورة الأنعام (6) : آية 53]

الرَّازِقُ لَهُمْ وَلَكَ هُوَ اللَّه تَعَالَى، فَدَعْهُمْ يَكُونُوا عِنْدَكَ وَلَا تَطْرُدْهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ شَبِيهَةٌ بِقِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء: 111] فأجابهم نوح عليه السلام وقالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ [الشعراء: 112، 113] وَعَنَوْا بِقَوْلِهِمْ الْأَرْذَلُونَ الْحَاكَّةَ وَالْمُحْتَرِفِينَ بِالْحِرَفِ الْخَسِيسَةِ، فكذلك هاهنا. وَقَوْلُهُ فَتَطْرُدَهُمْ جَوَابُ النَّفْيِ وَمَعْنَاهُ، مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ حِسَابُهُمْ حَتَّى أَنَّكَ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْحِسَابِ تَطْرُدُهُمْ، وَقَوْلُهُ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ فَتَطْرُدَهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّسَبُّبِ لِأَنَّ كَوْنَهُ ظَالِمًا مَعْلُولُ طَرْدِهُمْ وَمُسَبَّبٌ لَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ لِنَفْسِكَ بِهَذَا الطَّرْدِ، الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا اسْتَوْجَبُوا مَزِيدَ التَّقْرِيبِ وَالتَّرْحِيبِ كَانَ طَرْدُهُمْ ظُلْمًا لَهُمْ، واللَّه أَعْلَمُ. [سورة الأنعام (6) : آية 53] وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُبْتَلًى بِصَاحِبِهِ، فَأُولَئِكَ الْكُفَّارُ الرُّؤَسَاءُ الْأَغْنِيَاءُ كَانُوا يَحْسُدُونَ فُقَرَاءَ الصَّحَابَةِ عَلَى كَوْنِهِمْ سَابِقِينَ فِي الْإِسْلَامِ مُسَارِعِينَ إِلَى قَبُولِهِ فَقَالُوا: لَوْ دَخَلْنَا فِي الْإِسْلَامِ لَوَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَنْقَادَ لِهَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ الْمَسَاكِينِ وَأَنْ نَعْتَرِفَ لَهُمْ بِالتَّبَعِيَّةِ، فَكَانَ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا [الْقَمَرِ: 25] لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ [الْأَحْقَافِ: 11] وَأَمَّا فُقَرَاءُ الصَّحَابَةِ فَكَانُوا يَرَوْنَ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ فِي الرَّاحَاتِ وَالْمَسَرَّاتِ وَالطَّيِّبَاتِ وَالْخِصْبِ وَالسَّعَةِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ كَيْفَ حَصَلَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ لِهَؤُلَاءِ مَعَ أَنَّا بَقِينَا فِي هَذِهِ الشِّدَّةِ وَالضِّيقِ وَالْقِلَّةِ. فَقَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ فَأَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ يَرَى الْآخَرَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ فِي الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ وَالْفَرِيقُ الْآخَرُ يَرَى الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ فِي الْمَنَاصِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ أَهَذَا هُوَ الَّذِي فَضَّلَهُ اللَّه عَلَيْنَا، وَأَمَّا الْمُحَقِّقُونَ فَهُمُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ اللَّه تَعَالَى فَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَحِكْمَةٌ وَصَوَابٌ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ، إِمَّا بِحُكْمِ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا أَوْ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، فَكَانُوا صَابِرِينَ فِي وَقْتِ الْبَلَاءِ، شَاكِرِينَ فِي وَقْتِ الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّه تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ إِلْقَاءَ تِلْكَ الْفِتْنَةِ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَالْمُرَادُ مِنْ تِلْكَ الْفِتْنَةِ لَيْسَ إِلَّا اعْتِرَاضَهُمْ عَلَى اللَّه فِي أَنْ جَعَلَ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءَ رُؤَسَاءَ فِي الدِّينِ وَالِاعْتِرَاضُ عَلَى اللَّه كُفْرٌ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِلْكُفْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُوَ أَنَّهُ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ باللَّه وَمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ إِنَّمَا تَحْصُلُ مِنَ اللَّه تَعَالَى لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُوجِدُ لِلْإِيمَانِ هُوَ الْعَبْدَ، فاللَّه مَا مَنَّ عَلَيْهِ بِهَذَا الْإِيمَانِ، بَلِ الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي مَنَّ عَلَى نَفْسِهِ

بِهَذَا الْإِيمَانِ، فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ، بِأَنَّ الْفِتْنَةَ فِي التَّكْلِيفِ مَا يُوجِبُ التَّشْدِيدَ، وَإِنَّمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ؟ أَيْ لِيَقُولَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ اسْتِفْهَامًا لَا إِنْكَارًا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا بِالْإِيمَانِ؟ وَأَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَصْبِرُوا أَوْ لِيَشْكُرُوا، فَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ أَنْ قَالُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا عَلَى مِيثَاقِ قَوْلِهِ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَصِ: 8] وَالْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لَا سِيَّمَا وَالدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ قَائِمٌ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ مُشَاهَدَةُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ تُوجِبُ الْأَنَفَةَ، وَالْأَنَفَةُ تُوجِبُ الْعِصْيَانَ وَالْإِصْرَارَ عَلَى الْكُفْرِ، وَمُوجَبُ الْمُوجَبِ مُوجَبٌ، كَانَ الْإِلْزَامُ وَارِدًا، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ افْتِتَانِ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْغِنَى وَالْفَقْرَ كَانَا سَبَبَيْنِ لِحُصُولِ هَذَا الِافْتِتَانِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَمَا قَالَ فِي قِصَّةِ قَوْمِ صَالِحٍ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الْأَعْرَافِ: 76] وَالثَّانِي: ابْتِلَاءُ الشَّرِيفِ بِالْوَضِيعِ. وَالثَّالِثُ: ابْتِلَاءُ الذَّكِيِّ بِالْأَبْلَهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَصِفَاتُ الْكَمَالِ مُخْتَلِفَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ، وَلَا تَجْتَمِعُ فِي/ إِنْسَانٍ وَاحِدٍ الْبَتَّةَ، بَلْ هِيَ مُوَزَّعَةٌ عَلَى الْخَلْقِ وَصِفَاتُ الْكَمَالِ مَحْبُوبَةٌ لِذَاتِهَا، فَكُلُّ أَحَدٍ يَحْسُدُ صَاحِبَهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّه مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ. فَأَمَّا مَنْ عَرَفَ سِرَّ اللَّه تَعَالَى فِي الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ رَضِيَ بِنَصِيبِ نَفْسِهِ وَسَكَتَ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْخَلْقِ، وَعَاشَ عَيْشًا طَيِّبًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ: إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ إِلَّا عِنْدَ حُدُوثِهَا، وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الِافْتِتَانَ هُوَ الِاخْتِبَارُ وَالِامْتِحَانُ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إِلَّا لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَجَوَابُهُ قَدْ مَرَّ غير مرة. ثم الجزء الثاني عَشَرَ، وَيَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى الْجُزْءُ الثالث عشر، وأوله قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا من سورة الأنعام أعان اللَّه على إكماله.

الجزء الثالث عشر

الجزء الثالث عشر [تتمة سورة الأنعام] بسم اللَّه الرحمن الرحيم [سورة الأنعام (6) : آية 54] وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) [فِي قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا] فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي كُلِّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ الَّذِينَ سَأَلَ الْمُشْرِكُونَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَرْدَهُمْ وَإِبْعَادَهُمْ، فَأَكْرَمَهُمُ اللَّه بِهَذَا الْإِكْرَامِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى نَهَى الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلًا عَنْ طَرْدِهِمْ ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ يُكْرِمَهُمْ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِكْرَامِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَآهُمْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ وَيَقُولُ: «الْحَمْدُ للَّه الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مَنْ أَمَرَنِي أَنْ أَبْدَأَهُ بِالسَّلَامِ» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَنَّ عُمَرَ لَمَّا اعْتَذَرَ مِنْ مَقَالَتِهِ وَاسْتَغْفَرَ اللَّه مِنْهَا. وَقَالَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ إِلَّا الْخَيْرَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ أَقْدَمُوا عَلَى ذُنُوبٍ، ثُمَّ جَاءُوهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُظْهِرِينَ لِلنَّدَامَةِ وَالْأَسَفِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ وَالْأَقْرَبُ مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى عُمُومِهَا، فَكُلُّ مَنْ آمَنَ باللَّه دخل تحت هذا التشريف. ولي هاهنا إِشْكَالٌ، وَهُوَ: أَنَّ النَّاسَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَإِذَا/ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي كل واحدة من آيات السُّورَةِ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا هُوَ الْأَمْرُ الْفُلَانِيُّ بِعَيْنِهِ؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا مُشْتَمِلٌ عَلَى أَسْرَارٍ عَالِيَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى فَهُوَ آيَاتُ وُجُودِ اللَّه تَعَالَى، وَآيَاتُ صِفَاتِ جَلَالِهِ وَإِكْرَامِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَآيَاتُ وَحْدَانِيَّتِهِ، وَمَا سِوَى اللَّه فَلَا نِهَايَةَ لَهُ، وَمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ فَلَا سَبِيلَ لِلْعَقْلِ فِي الْوُقُوفِ عَلَيْهِ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّامِّ، إِلَّا أَنَّ الْمُمْكِنَ هُوَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى بَعْضِ الْآيَاتِ وَيَتَوَسَّلَ بِمَعْرِفَتِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى ثُمَّ يُؤْمِنَ بِالْبَقِيَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ إِنَّهُ يَكُونُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ كَالسَّائِحِ فِي تِلْكَ الْقِفَارِ، وَكَالسَّابِحِ فِي تِلْكَ الْبِحَارِ. وَلَمَّا كَانَ لَا نِهَايَةَ لَهَا فَكَذَلِكَ لَا نِهَايَةَ لِتَرَقِّي الْعَبْدِ فِي مَعَارِجِ تِلْكَ الْآيَاتِ، وَهَذَا مُشَرَّعٌ جُمَلِيٌّ لَا نِهَايَةَ لِتَفَاصِيلِهِ. ثُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا صَارَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَعِنْدَ هَذَا أَمَرَ اللَّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ فَيَكُونُ هَذَا التَّسْلِيمُ بِشَارَةً لِحُصُولِ السَّلَامَةِ. وَقَوْلُهُ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ بِشَارَةً لِحُصُولِ الرحمة عقيب تلك السلامة. أما السلامة فالنجاة مِنْ بَحْرِ عَالَمِ الظُّلُمَاتِ وَمَرْكَزِ الْجُسْمَانِيَّاتِ وَمَعْدِنِ الْآفَاتِ وَالْمُخَالَفَاتِ وَمَوْضِعِ التَّغْيِيرَاتِ وَالتَّبْدِيلَاتِ، وَأَمَّا الْكَرَامَاتُ فَبِالْوُصُولِ إِلَى الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَالْمُجَرَّدَاتِ الْمُقَدَّسَاتِ، وَالْوُصُولِ إِلَى فُسْحَةِ عَالَمِ الْأَنْوَارِ وَالتَّرَقِّي إِلَى مَعَارِجِ سُرَادِقَاتِ الْجَلَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الزَّجَّاجُ عَنِ الْمُبَرِّدِ. أَنَّ السَّلَامَةَ فِي اللُّغَةِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءٍ، فَمِنْهَا سَلَّمْتُ سَلَامًا وَهُوَ مَعْنَى

الدُّعَاءِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى، وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ، وَمِنْهَا اسْمٌ لِلشَّجَرِ الْعَظِيمِ، أَحْسَبُهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِسَلَامَتِهِ مِنَ الْآفَاتِ، وَهُوَ أَيْضًا اسْمٌ لِلْحِجَارَةِ الصُّلْبَةِ، وَذَلِكَ أَيْضًا لِسَلَامَتِهَا مِنَ الرَّخَاوَةِ. ثُمَّ قَالَ الزَّجَّاجُ: قَوْلُهُ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ السلام هاهنا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ سَلَّمْتُ تَسْلِيمًا وَسَلَامًا مِثْلَ السَّرَاحِ مِنَ التَّسْرِيحِ، وَمَعْنَى سَلَّمْتُ عَلَيْهِ سَلَامًا، دَعَوْتُ لَهُ بِأَنْ يَسْلَمَ مِنَ الْآفَاتِ فِي دِينِهِ وَنَفْسِهِ. فَالسَّلَامُ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السَّلَامُ جَمْعَ السَّلَامَةِ، فَمَعْنَى قَوْلِكَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، السَّلَامَةُ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: قَالَ قَوْمٌ السَّلَامُ هُوَ اللَّه تَعَالَى فَمَعْنَى السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَعْنِي اللَّه عَلَيْكُمْ أَيْ عَلَى حِفْظِكُمْ وَهَذَا بِعِيدٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِتَنْكِيرِ السَّلَامِ فِي قَوْلِهِ فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ وَلَوْ كَانَ مُعَرَّفًا لَصَحَّ هَذَا الْوَجْهُ. وَأَقُولُ كَتَبْتُ فُصُولًا مُشْبِعَةً كَامِلَةً فِي قَوْلِنَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَكَتَبْتُهَا فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ، وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ عَنْ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِذَا نَقَلْتُهُ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ كَمُلَ الْبَحْثُ واللَّه أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ كُتِبَ كذا على فلان يفيد الإيجاب. ولكمة «عَلَى» أَيْضًا تُفِيدُ الْإِيجَابَ وَمَجْمُوعُهُمَا مُبَالَغَةٌ فِي الْإِيجَابِ. فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ سُبْحَانَهُ رَاحِمًا لِعِبَادِهِ رَحِيمًا بِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ وَاخْتَلَفَ الْعُقَلَاءُ فِي سَبَبِ ذَلِكَ الْوُجُوبِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي عَبِيدِهِ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ، إِلَّا أَنَّهُ أَوْجَبَ الرَّحْمَةَ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى سَبِيلِ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ كَوْنَهُ عَالِمًا بِقُبْحِ الْقَبَائِحِ وَعَالَمًا بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهَا، يَمْنَعُهُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَبَائِحِ وَلَوْ فَعَلَهُ كَانَ ظُلْمًا، وَالظُّلْمُ قَبِيحٌ، وَالْقَبِيحُ مِنْهُ مُحَالٌ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنَ الْمَسَائِلِ الْجَلِيَّةِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ تَسْمِيَةُ ذَاتِ اللَّه تَعَالَى بِالنَّفْسِ وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة: 116] يدل عليه، والنفس هاهنا بِمَعْنَى الذَّاتِ وَالْحَقِيقَةِ، وَأَمَّا بِمَعْنَى الْجِسْمِ وَالدَّمِ فاللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُقَدَّسٌ عَنْهُ. لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جِسْمًا لَكَانَ مُرَكَّبًا وَالْمُرَكَّبُ مُمْكِنٌ وَأَيْضًا أَنَّهُ أَحَدٌ، وَالْأَحَدُ لَا يَكُونُ مُرَكَّبًا، وَمَا لَا يَكُونُ مُرَكَّبًا لَا يَكُونُ جِسْمًا وَأَيْضًا أنه غني كما قال وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَالْغَنِيُّ لَا يَكُونُ مُرَكَّبًا وَمَا لَا يَكُونُ مُرَكَّبًا لَا يَكُونُ جِسْمًا وَأَيْضًا الْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، فَلَوْ كَانَ جِسْمًا لَحَصَلَ لَهُ مِثْلٌ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِقَوْلِهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: 11] فَأَمَّا الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ فَكَثِيرَةٌ ظَاهِرَةٌ بَاهِرَةٌ قَوِيَّةٌ جَلِيَّةٌ وَالْحَمْدُ للَّه عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ يُنَافِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْكُفْرَ فِي الْكَافِرِ، ثُمَّ يُعَذِّبُهُ عَلَيْهِ أَبَدَ الْآبَادِ، وَيُنَافِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَمْنَعُهُ عَنِ الْإِيمَانِ، ثُمَّ يَأْمُرُهُ حَالَ ذَلِكَ الْمَنْعِ بِالْإِيمَانِ، ثُمَّ يُعَذِّبُهُ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ الْإِيمَانِ. وجواب أصحابنا: أنه ضار نافع محيي مُمِيتٌ، فَهُوَ تَعَالَى فَعَلَ تِلْكَ الرَّحْمَةَ الْبَالِغَةَ وَفَعَلَ هَذَا الْقَهْرَ الْبَالِغَ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الرَّسُولَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ كَانَ هَذَا مِنْ قَوْلِ اللَّه تَعَالَى وَمِنْ كَلَامِهِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا: سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَتَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ أَقْوَامًا بِأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] ثُمَّ إِنَّ أَقْوَامًا أَفْنَوْا أَعْمَارَهُمْ فِي الْعُبُودِيَّةِ حَتَّى صَارُوا فِي

حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ كَأَنَّهُمُ انْتَقَلُوا إِلَى عَالَمِ الْقِيَامَةِ، لَا جَرَمَ صَارَ التَّسْلِيمُ الْمَوْعُودُ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ حَالَ كَوْنِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا، بَلْ هَذَا كَلَامُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَوْلُهُ: وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَا يَتَنَاوَلُ التَّوْبَةَ مِنَ الْكُفْرِ، لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ خِطَابٌ مَعَ الَّذِينَ/ وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ تَوْبَةُ الْمُسْلِمِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ بِجَهالَةٍ لَيْسَ هُوَ الْخَطَأَ وَالْغَلَطَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى التَّوْبَةِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ، أَنْ تُقْدِمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِسَبَبِ الشَّهْوَةِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانَ أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى الذَّنْبِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ ذَنْبًا ثُمَّ تَابَ منه توبة حقيقة فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ بِفَتْحِ الْأَلِفِ فَأَنَّهُ غَفُورٌ بِكَسْرِ الْأَلِفِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا، وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ فِيهِمَا. أَمَّا فَتْحُ الْأُولَى فَعَلَى التَّفْسِيرِ لِلرَّحْمَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ. وَأَمَّا فَتْحُ الثَّانِيَةِ فَعَلَى أَنْ يَجْعَلَهُ بَدَلًا مِنَ الْأُولَى كَقَوْلِهِ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 85] وَقَوْلِهِ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ [الْحَجِّ: 4] وَقَوْلِهِ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [التَّوْبَةِ: 63] قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: مَنْ فَتَحَ الْأُولَى فَقَدْ جَعَلَهَا بَدَلًا مِنَ الرَّحْمَةِ، وَأَمَّا الَّتِي بَعْدَ الْفَاءِ فَعَلَى أَنَّهُ أَضْمَرَ لَهُ خَبَرًا تَقْدِيرُهُ، فَلَهُ أَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، أَيْ فَلَهُ غُفْرَانُهُ، أَوْ أَضْمَرَ مُبْتَدَأً يَكُونُ «أَنَّ» خَبَرَهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَأَمْرُهُ أَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَأَمَّا مَنْ كَسَرَهُمَا جَمِيعًا فَلِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فَقَدْ تَمَّ هَذَا الْكَلَامُ، ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَدَخَلَتِ الْفَاءُ جَوَابًا لِلْجَزَاءِ، وَكُسِرَتْ إِنَّ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ كَأَنَّكَ قُلْتَ فَهُوَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. إِلَّا أَنَّ الْكَلَامَ بِأَنَّ أَوْكَدُ هَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ الْأُولَى بِالْفَتْحِ وَالثَّانِيَةَ بِالْكَسْرِ، لِأَنَّهُ أَبْدَلَ الْأُولَى مِنَ الرَّحْمَةِ، وَاسْتَأْنَفَ مَا بَعْدَ الْفَاءِ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ قَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ مَنْ عَمِلَ مَعْصِيَةً فَهُوَ جَاهِلٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: إِنَّهُ جَاهِلٌ بِمِقْدَارِ مَا فَاتَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَمَا اسْتَحَقَّهُ مِنَ الْعِقَابِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ عَاقِبَةَ ذَلِكَ الْفِعْلِ مَذْمُومَةٌ، إِلَّا أَنَّهُ آثَرَ اللَّذَّةَ الْعَاجِلَةَ عَلَى الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الْآجِلِ، وَمَنْ آثَرَ الْقَلِيلَ عَلَى الْكَثِيرِ قِيلَ فِي الْعُرْفِ إِنَّهُ جَاهِلٌ. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَاهِلًا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا فَعَلَ مَا يَلِيقُ بِالْجُهَّالِ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْجَاهِلِ، وَقِيلَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عُمَرَ حِينَ أَشَارَ بِإِجَابَةِ الْكَفَرَةِ إِلَى مَا اقْتَرَحُوهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّهَا مَفْسَدَةٌ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ [النِّسَاءِ: 17] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَقَوْلُهُ تابَ إِشَارَةٌ إِلَى النَّدَمِ عَلَى الْمَاضِي وَقَوْلُهُ وَأَصْلَحَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ آتِيًا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ. ثُمَّ قَالَ: فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَهُوَ غَفُورٌ بِسَبَبِ إِزَالَةِ الْعِقَابِ، رَحِيمٌ بِسَبَبِ إِيصَالِ الثَّوَابِ الَّذِي هُوَ النهاية في الرحمة. واللَّه أعلم.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 55 إلى 57]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 55 الى 57] وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ. الْمُرَادُ كَمَا فَصَّلْنَا لَكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ دَلَائِلَنَا عَلَى صِحَّةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ، فَكَذَلِكَ نُمَيِّزُ وَنُفَصِّلُ لَكَ دَلَائِلَنَا وَحُجَجَنَا فِي تَقْرِيرِ كُلِّ حَقٍّ يُنْكِرُهُ أَهْلُ الْبَاطِلِ وقوله: وليستبين سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ عَطْفٌ عَلَى الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ لِيَظْهَرَ الْحَقُّ وَلِيَسْتَبِينَ، وَحَسُنَ هَذَا الْحَذْفُ لِكَوْنِهِ معلوما واختلف القراء في قوله ليستبين فَقَرَأَ نَافِعٌ لِتَسْتَبِينَ بِالتَّاءِ وَسَبِيلَ بِالنَّصْبِ وَالْمَعْنَى لِتَسْتَبِينَ يَا مُحَمَّدُ سَبِيلَ هَؤُلَاءِ الْمُجْرِمِينَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ لِيَسْتَبِينَ بالياء سَبِيلُ بالرفع والباقون بالتاء وسَبِيلُ بِالرَّفْعِ عَلَى تَأْنِيثِ سَبِيلٍ. وَأَهْلُ الْحِجَازِ يُؤَنِّثُونَ السَّبِيلَ، وَبَنُو تَمِيمٍ يُذَكِّرُونَهُ. وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ بِهِمَا فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [الْأَعْرَافِ: 146] وَقَالَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً [إِبْرَاهِيمَ: 3] . فَإِنْ قِيلَ: لم قال ليستبين سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ وَلَمْ يَذْكُرْ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ. قُلْنَا: ذِكْرُ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ يَدُلُّ عَلَى الثَّانِي. كَقَوْلِهِ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْلِ: 81] وَلَمْ يَذْكُرِ الْبَرْدَ. وَأَيْضًا فَالضِّدَّانِ إِذَا كَانَا بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ، فَمَتَى بَانَتْ خَاصِّيَّةُ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ بَانَتْ خَاصِّيَّةُ الْقِسْمِ الْآخَرِ وَالْحَقُّ وَالْبَاطِلُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا، فَمَتَى اسْتَبَانَتْ طَرِيقَةُ الْمُجْرِمِينَ فَقَدِ اسْتَبَانَتْ طَرِيقَةُ الْمُحِقِّينَ أَيْضًا لَا مَحَالَةَ. [قَوْلُهُ تعالى: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ إلى قوله وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ] قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِيَظْهَرَ الْحَقُّ وَلِيَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ سُلُوكِ سَبِيلِهِمْ. فَقَالَ: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهَا إِنَّمَا يَعْبُدُونَهَا بِنَاءً عَلَى مَحْضِ الْهَوَى وَالتَّقْلِيدِ، لَا عَلَى سبيل الحجة والدليل، لأنها جمادات وأحجار وَهِيَ أَخَسُّ مَرْتَبَةً مِنَ الْإِنْسَانِ بِكَثِيرٍ، وَكَوْنُ الْأَشْرَفِ مُشْتَغِلًا بِعِبَادَةِ الْأَخَسِّ أَمْرٌ يَدْفَعُهُ صَرِيحُ الْعَقْلِ. وَأَيْضًا إِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَنْحِتُونَ تِلْكَ الْأَصْنَامَ وَيُرَكِّبُونَهَا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدِيهَةِ أَنَّهُ يَقْبُحُ من هذا العامل الصانع أن يَعْبُدُ مَعْمُولَهُ وَمَصْنُوعَهُ. فَثَبَتَ أَنَّ عِبَادَتَهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْهَوَى. وَمُضَادَّةٌ لِلْهُدَى، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ ثُمَّ قَالَ: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أَيْ إِنِ اتَّبَعْتُ أَهْوَاءَكُمْ فَأَنَا ضَالٌّ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي شَيْءٍ. وَالْمَقْصُودُ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ أَنْتُمْ كَذَلِكَ. وَلَمَّا نَفَى أَنْ يَكُونَ الْهَوَى مُتَّبَعًا، نَبَّهَ عَلَى

[سورة الأنعام (6) : الآيات 58 إلى 59]

مَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أَيْ فِي أَنَّهُ لَا مَعْبُودَ سِوَاهُ. وَكَذَّبْتُمْ أَنْتُمْ حَيْثُ أَشْرَكْتُمْ بِهِ غَيْرَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ يُخَوِّفُهُمْ بِنُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ هَذَا الشِّرْكِ. وَالْقَوْمُ لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ نُزُولَ ذَلِكَ الْعَذَابِ. فَقَالَ تَعَالَى قُلْ يَا مُحَمَّدُ: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يَعْنِي قَوْلَهُمْ اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَالِ: 32] وَالْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ يُنْزِلُهُ اللَّه فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَرَادَ إِنْزَالَهُ فِيهِ. وَلَا قُدْرَةَ لِي عَلَى تَقْدِيمِهِ أَوْ تَأْخِيرِهِ. ثُمَّ قَالَ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ وهذا مطلق يتناول الكل. والمراد هاهنا إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للَّه فَقَطْ فِي تَأْخِيرِ عَذَابِهِمْ يَقْضِي الْحَقَّ أَيِ الْقَضَاءَ الْحَقَّ فِي كُلِّ مَا يَقْضِي مِنَ التَّأْخِيرِ وَالتَّعْجِيلِ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ أَيِ الْقَاضِينَ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا إِذَا قَضَى اللَّه بِهِ، فَيَمْتَنِعُ مِنْهُ فِعْلُ الْكُفْرِ إِلَّا إِذَا قَضَى اللَّه بِهِ وَحَكَمَ بِهِ. وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ وَهَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا للَّه. وَاحْتَجَّ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ: يَقْضِي الْحَقَّ وَمَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا قَضَى بِهِ فَهُوَ الْحَقُّ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُرِيدَ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ. وَلَا الْمَعْصِيَةَ مِنَ الْعَاصِي لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ الْحَقَّ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ يَقُصُّ الْحَقَّ بِالصَّادِ مِنَ الْقَصَصِ، يعني أن كل ما أنبأ اللَّه بِهِ وَأَمَرَ بِهِ فَهُوَ مِنْ أَقَاصِيصِ الْحَقِّ، كَقَوْلِهِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يُوسُفَ: 3] وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يَقْضِ الْحَقَّ وَالْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ «يَقْضِ» بِغَيْرِ يَاءٍ لِأَنَّهَا سَقَطَتْ فِي اللَّفْظِ لالتقاء الساكنين كما كتبوا سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: 18] فَما تُغْنِ النُّذُرُ [القمر: 5] وقوله: يقضى الْحَقَّ قَالَ الزَّجَّاجُ: فِيهِ وَجْهَانِ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَقَّ صِفَةَ الْمَصْدَرِ وَالتَّقْدِيرُ: يَقْضِ الْقَضَاءَ الْحَقَّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَقْضِ الْحَقَّ يَصْنَعُ الْحَقَّ، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ صَنَعَهُ اللَّه فَهُوَ حَقٌّ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْحَقَّ يَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ وَقَضَى/ بِمَعْنَى صَنَعَ. قَالَ الْهُذَلِيُّ: وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ أَوْ صَنَعَ السَّوَابِغَ تُبَّعُ أَيْ صَنَعَهُمَا دَاوُدُ وَاحْتَجَّ أَبُو عَمْرٍو عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ قَالَ وَالْفَصْلُ يَكُونُ فِي الْقَضَاءِ، لَا فِي الْقَصَصِ. أجاب أبو علي الفارسي فقال القصص هاهنا بِمَعْنَى الْقَوْلِ. وَقَدْ جَاءَ الْفَصْلُ فِي الْقَوْلِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [الطَّارِقِ: 13] وَقَالَ: أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هُودٍ: 1] وَقَالَ: نُفَصِّلُ الْآياتِ [الأعراف: 32] . [سورة الأنعام (6) : الآيات 58 الى 59] قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ] اعْلَمْ أَنَّ الْمَعْنَى لَوْ أَنَّ عِنْدِي أَيْ فِي قُدْرَتِي وَإِمْكَانِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ لَأَهْلَكْتُكُمْ عَاجِلًا غَضَبًا لِرَبِّي، وَاقْتِصَاصًا مِنْ تَكْذِيبِكُمْ بِهِ. وَلَتَخَلَّصْتُ سَرِيعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ وَبِمَا يَجِبُ فِي الْحِكْمَةِ مِنْ وَقْتِ عِقَابِهِمْ وَمِقْدَارِهِ، وَالْمَعْنَى: إِنِّي لَا أَعْلَمُ وَقْتَ عُقُوبَةِ الظَّالِمِينَ. واللَّه تَعَالَى يَعْلَمُ ذَلِكَ فَهُوَ يُؤَخِّرُهُ إِلَى وقته، واللَّه أعلم. [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ إلى قوله إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ يَعْنِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ يُعَجِّلُ مَا تَعْجِيلُهُ أَصْلَحُ وَيُؤَخِّرُ مَا تَأْخِيرُهُ أَصْلَحُ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَفَاتِحُ جَمْعُ مِفْتَحٍ. وَمَفْتَحٍ، وَالْمِفْتَحُ بِالْكَسْرِ الْمِفْتَاحُ الَّذِي يُفْتَحُ بِهِ وَالْمَفْتَحُ بِفَتْحِ الْمِيمِ الْخِزَانَةُ وَكُلُّ خِزَانَةٍ كَانَتْ لِصِنْفٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَهُوَ مَفْتَحٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ [الْقَصَصِ: 76] يَعْنِي خَزَائِنَهُ فَلَفْظُ الْمَفَاتِحِ يُمْكِنُ أن يكون المراد منه المفاتيح يتوصل بها إلى ما الْخَزَائِنَ أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ. فَقَدْ جَعَلَ لِلْغَيْبِ مَفَاتِيحَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ الْمَفَاتِيحَ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مَا فِي الْخَزَائِنِ الْمُسْتَوْثَقِ مِنْهَا بِالْأَغْلَاقِ وَالْأَقْفَالِ فَالْعَالِمُ بِتِلْكَ الْمَفَاتِيحِ وَكَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي فَتْحِ تِلْكَ الْأَغْلَاقِ وَالْأَقْفَالِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِتِلْكَ الْمَفَاتِيحِ إِلَى مَا فِي تلك الخزائن فكذلك هاهنا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِالْعِبَارَةِ الْمَذْكُورَةِ وَقُرِئَ مَفَاتِيحُ وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي فَالْمَعْنَى وَعِنْدَهُ خَزَائِنُ الْغَيْبِ. فَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُرَادُ الْعِلْمَ بِالْغَيْبِ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي الْمُرَادُ مِنْهُ الْقُدْرَةُ عَلَى كُلِّ الْمُمَكِنَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الْحِجْرِ: 21] وَلِلْحُكَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ كَلَامٌ عَجِيبٌ مُفَرَّعٌ عَلَى أُصُولِهِمْ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ عِلَّةٌ لِلْعِلْمِ بِالْمَعْلُولِ وَأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمَعْلُولِ لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلْعِلْمِ بِالْعِلَّةِ. قَالُوا: وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَوْجُودَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ، وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ لَيْسَ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِتَأْثِيرِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ وَكُلُّ مَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ فَهُوَ مَوْجُودٌ بِإِيجَادِهِ كَائِنٌ بِتَكْوِينِهِ وَاقِعٌ بِإِيقَاعِهِ. إِمَّا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِمَّا بِوَسَائِطَ كَثِيرَةٍ عَلَى التَّرْتِيبِ النَّازِلِ مِنْ عِنْدِهِ طُولًا وَعَرْضًا. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فنقول: علمه بذاته يوجب عمله بِالْأَثَرِ الْأَوَّلِ الصَّادِرِ مِنْهُ، ثُمَّ عِلْمُهُ بِذَلِكَ الأثر الأول يوجب عمله بِالْأَثَرِ الثَّانِي لِأَنَّ الْأَثَرَ الْأَوَّلَ عِلَّةٌ قَرِيبَةٌ لِلْأَثَرِ الثَّانِي. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْمَعْلُولِ فَبِهَذَا عِلْمُ الْغَيْبِ لَيْسَ إِلَّا عِلْمَ الْحَقِّ بِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ ثُمَّ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ عَلْمِهِ بِذَاتِهِ عِلْمُهُ بِالْآثَارِ الصَّادِرَةِ عَنْهُ عَلَى تَرْتِيبِهَا الْمُعْتَبَرِ، وَلَمَّا كَانَ عِلْمُهُ بِذَاتِهِ لَمْ يَحْصُلْ إِلَّا لِذَاتِهِ لَا جَرَمَ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ فَهَذَا هُوَ طَرِيقَةُ هَؤُلَاءِ الْفِرْقَةِ الَّذِينَ فَسَّرُوا هَذِهِ الْآيَةَ بِنَاءً عَلَى هذه الطريقة. ثم اعلم أن هاهنا دَقِيقَةً أُخْرَى، وَهِيَ: أَنَّ الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةَ الْمَحْضَةَ يَصْعُبُ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ إِلَّا لِلْعُقَلَاءِ الْكَامِلِينَ الَّذِينَ تَعَوَّدُوا الْإِعْرَاضَ عَنْ قَضَايَا الْحِسِّ وَالْخَيَالِ وَأَلِفُوا اسْتِحْضَارَ

الْمَعْقُولَاتِ الْمُجَرَّدَةِ، وَمِثْلُ هَذَا الْإِنْسَانِ يَكُونُ كَالنَّادِرِ وَقَوْلُهُ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ قَضِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ مَحْضَةٌ مُجَرَّدَةٌ فَالْإِنْسَانُ الَّذِي يَقْوَى عَقْلُهُ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِمَعْنَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ نَادِرٌ جِدًّا. وَالْقُرْآنُ إِنَّمَا أُنْزِلَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ. فَهَهُنَا طَرِيقٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ الْقَضِيَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الْمَحْضَةَ الْمُجَرَّدَةَ، فَإِذَا أَرَادَ إِيصَالَهَا إِلَى عَقْلِ كُلِّ أَحَدٍ ذَكَرَ لَهَا مِثَالًا مِنَ الْأُمُورِ الْمَحْسُوسَةِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْقَضِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ الْمَعْقُولُ بِمُعَاوَنَةِ هَذَا الْمِثَالِ الْمَحْسُوسِ مَفْهُومًا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَالْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَرَدَ عَلَى هَذَا الْقَانُونِ، لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها/ إِلَّا هُوَ ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْمَعْقُولَ الْكُلِّيَّ الْمُجَرَّدَ بِجُزْئِيٍّ مَحْسُوسٍ فَقَالَ: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدَ أَقْسَامِ مَعْلُومَاتِ اللَّه هُوَ جَمِيعُ دَوَابِّ الْبَرِّ، وَالْبَحْرِ، وَالْحِسُّ، وَالْخَيَالُ قَدْ وَقَفَ عَلَى عَظَمَةِ أَحْوَالِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَذِكْرُ هَذَا الْمَحْسُوسِ يَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَةِ عَظَمَةِ ذَلِكَ الْمَعْقُولِ. وَفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ: أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَ الْبَرِّ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ شَاهَدَ أَحْوَالَ الْبَرِّ، وَكَثْرَةَ مَا فِيهِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْقُرَى وَالْمَفَاوِزِ وَالْجِبَالِ وَالتِّلَالِ، وَكَثْرَةَ مَا فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ. وَأَمَّا الْبَحْرُ فَإِحَاطَةُ الْعَقْلِ بِأَحْوَالِهِ أَقَلُّ إِلَّا أَنَّ الْحِسَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَجَائِبَ الْبِحَارِ فِي الْجُمْلَةِ أَكْثَرُ وَطُولَهَا وَعَرْضَهَا أَعْظَمُ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَأَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ أَعْجَبُ. فَإِذَا اسْتَحْضَرَ الْخَيَالُ صُورَةَ الْبَحْرِ وَالْبَرِّ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ. ثُمَّ عَرَفَ أَنَّ مَجْمُوعَهَا قِسْمٌ حَقِيرٌ مِنَ الْأَقْسَامِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ فَيَصِيرُ هَذَا الْمِثَالُ الْمَحْسُوسُ مُقَوِّيًا وَمُكَمِّلًا لِلْعَظَمَةِ الْحَاصِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَمَا كَشَفَ عَنْ عَظَمَةِ قَوْلِهِ وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ بِذِكْرِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ كَشَفَ عَنْ عَظَمَةِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِقَوْلِهِ: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَسْتَحْضِرُ جَمِيعَ مَا فِي وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْقُرَى وَالْمَفَاوِزِ وَالْجِبَالِ وَالتِّلَالِ، ثُمَّ يَسْتَحْضِرُ كَمْ فِيهَا مِنَ النَّجْمِ وَالشَّجَرِ ثُمَّ يَسْتَحْضِرُ أَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ حَالُ وَرَقَةٍ إِلَّا وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُهَا ثُمَّ يَتَجَاوَزُ مِنْ هَذَا الْمِثَالِ إِلَى مِثَالٍ آخَرٍ أَشَدَّ هَيْئَةً مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَبَّةَ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ وَظُلُمَاتُ الْأَرْضِ مَوْضِعٌ يَبْقَى أَكْبَرُ الْأَجْسَامِ وَأَعْظَمُهَا مَخْفِيًّا فِيهَا فَإِذَا سَمِعَ أَنَّ تِلْكَ الْحَبَّةَ الصَّغِيرَةَ الْمُلْقَاةَ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ عَلَى اتِّسَاعِهَا وَعَظَمَتِهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ عِلْمِ اللَّه تَعَالَى الْبَتَّةَ، صَارَتْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ مُنَبِّهَةً عَلَى عَظَمَةٍ عَظِيمَةٍ وَجَلَالَةٍ عَالِيَةٍ مِنَ الْمَعْنَى الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ بِحَيْثُ تَتَحَيَّرُ الْعُقُولُ فِيهَا وَتَتَقَاصَرُ الْأَفْكَارُ وَالْأَلْبَابُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مَبَادِيهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَوَّى أَمْرَ ذَلِكَ الْمَعْقُولِ الْمَحْضِ الْمُجَرَّدِ بِذِكْرِ هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ الْمَحْسُوسَةِ فَبَعْدَ ذِكْرِهَا عَادَ إِلَى ذِكْرِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ الْمُجَرَّدَةِ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ وَهُوَ عَيْنُ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ فَهَذَا مَا عَقَلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ الْعَالِيَةِ. وَمِنَ اللَّه التَّوْفِيقُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُتَكَلِّمُونَ قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى فَاعِلُ الْعَالَمِ بِجَوَاهِرِهِ وَأَعْرَاضِهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ عَالِمًا بِهَا فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِهَا وَالْحُكَمَاءُ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى مَبْدَأٌ لِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَالْعِلْمُ بِالْمَبْدَأِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْأَثَرِ فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِكُلِّهَا: وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ أَدَلَّ الدَّلَائِلِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ الزَّمَانِيَّةِ وَذَلِكَ/ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مَبْدَأٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ وَجَبَ كَوْنُهُ مَبْدَأً لِهَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ بِالْأَثَرِ. فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِهَذِهِ التَّغَيُّرَاتِ وَالزَّمَانِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهَا مُتَغَيِّرَةٌ وَزَمَانِيَّةٌ وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ.

[سورة الأنعام (6) : آية 60]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الضِّدِّ وَالنِّدِّ وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ عِنْدَهُ لَا عِنْدَ غَيْرِهِ. وَلَوْ حَصَلَ مَوْجُودٌ آخَرُ وَاجِبُ الْوُجُودِ لَكَانَ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ حَاصِلَةً أَيْضًا عِنْدَ ذَلِكَ الْآخَرِ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ الْحَصْرُ. وَأَيْضًا فَكَمَا أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّوْحِيدِ، فَكَذَلِكَ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ يُسَاعِدُ عَلَيْهِ. وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْمَبْدَأَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْآثَارِ وَالنَّتَائِجِ وَالصَّنَائِعِ هُوَ الْعِلْمُ بِالْمُؤَثِّرِ وَالْمُؤَثِّرُ الْأَوَّلُ فِي كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ هُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ. فَالْمَفْتَحُ الْأَوَّلُ لِلْعِلْمِ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ هُوَ الْعِلْمُ بِهِ سُبْحَانَهُ لَكِنَّ الْعِلْمَ بِهِ لَيْسَ إِلَّا لَهُ لِأَنَّ مَا سِوَاهُ أَثَرٌ وَالْعِلْمُ بِالْأَثَرِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمُؤَثِّرِ. فَظَهَرَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَنَّ مَفَاتِحَ الْغَيْبِ لَيْسَتْ إِلَّا عِنْدَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُرِئَ وَلَا حَبَّةٌ وَلَا رَطْبٌ وَلَا يَابِسٌ بِالرَّفْعِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى مَحَلٍّ مِنْ وَرَقَةٍ وَأَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ كَقَوْلِكَ: لَا رَجُلَ مِنْهُمْ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا فِي الدَّارِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ الْمُبِينَ هُوَ عِلْمُ اللَّه تَعَالَى لَا غَيْرَ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَالثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَثْبَتَ كَيْفِيَّةَ الْمَعْلُومَاتِ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها [الْحَدِيدِ: 22] وَفَائِدَةُ هَذَا الْكِتَابِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا كَتَبَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِتَقِفَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى نَفَاذِ عِلْمِ اللَّه تَعَالَى فِي الْمَعْلُومَاتِ وأنه لا يغيب عنه مما في السموات وَالْأَرْضِ شَيْءٌ. فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ تَامَّةٌ كَامِلَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِأَنَّهُمْ يُقَابِلُونَ بِهِ مَا يَحْدُثُ فِي صَحِيفَةِ هَذَا الْعَالَمِ فَيَجِدُونَهُ مُوَافِقًا لَهُ. وَثَانِيهَا: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَا ذَكَرَ مِنَ الْوَرَقَةِ وَالْحَبَّةِ تَنْبِيهًا لِلْمُكَلَّفِينَ عَلَى أَمْرِ الْحِسَابِ وَإِعْلَامًا بِأَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ مِنْ كُلِّ مَا يَصْنَعُونَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ: لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يُهْمِلُ الْأَحْوَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ وَلَا تَكْلِيفٌ فَبِأَنْ لَا يُهْمِلَ الْأَحْوَالَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ أَوْلَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَحْوَالَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ فَيَمْتَنِعُ تَغْيِيرُهَا عَنْ مُقْتَضَى ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَإِلَّا لَزِمَ الْجَهْلُ. فَإِذَا كَتَبَ أَحْوَالَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّامِّ امْتَنَعَ أَيْضًا تَغْيِيرُهَا وَإِلَّا لَزِمَ الْكَذِبُ فَتَصِيرُ كِتْبَةُ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ مُوجِبًا تَامًّا وَسَبَبًا كَامِلًا فِي أَنَّهُ يَمْتَنِعُ تَقَدُّمُ مَا تَأَخَّرَ وَتَأَخُّرُ/ مَا تَقَدَّمَ كَمَا قَالَ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القيامة» واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 60] وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَمَالَ عِلْمِهِ بِالْآيَةِ الْأُولَى بَيَّنَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى نَقْلِ الذَّوَاتِ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ وَمِنَ النَّوْمِ إِلَى اليقظة واستقلاله بحفظها فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَتَدْبِيرُهَا عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ حالة النوم واليقظة. فأما قوله: الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يُنِيمُكُمْ فَيَتَوَفَّى أَنْفُسَكُمُ الَّتِي بِهَا تَقْدِرُونَ عَلَى الْإِدْرَاكِ وَالتَّمْيِيزِ كَمَا قَالَ جَلَّ جَلَالُهُ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى

[سورة الأنعام (6) : الآيات 61 إلى 62]

عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزُّمَرِ: 42] ، فاللَّه جَلَّ جَلَالُهُ يَقْبِضُ الْأَرْوَاحَ عَنِ التصرف بالنوم كما يقبضها بالموت، وهاهنا بَحْثٌ: وَهُوَ أَنَّ النَّائِمَ لَا شَكَّ أَنَّهُ حَيٌّ وَمَتَى كَانَ حَيًّا لَمْ تَكُنْ رُوحُهُ مَقْبُوضَةً الْبَتَّةَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّه تَوَفَّاهُ فَلَا بُدَّ هاهنا مِنْ تَأْوِيلٍ وَهُوَ أَنَّ حَالَ النَّوْمِ تَغُورُ الْأَرْوَاحُ الْحَسَّاسَةُ مِنَ الظَّاهِرِ فِي الْبَاطِنِ فَصَارَتِ الْحَوَاسُّ الظَّاهِرَةُ مُعَطَّلَةً عَنْ أَعْمَالِهَا، فَعِنْدَ النَّوْمِ صَارَ ظَاهِرُ الْجَسَدِ مُعَطَّلًا عَنْ بَعْضِ الْأَعْمَالِ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ صَارَتْ جُمْلَةُ الْبَدَنِ مُعَطَّلَةً عَنْ كُلِّ الْأَعْمَالِ، فَحَصَلَ بَيْنَ النَّوْمِ وَبَيْنَ الْمَوْتِ مُشَابَهَةٌ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ، فَصَحَّ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْوَفَاةِ وَالْمَوْتِ عَلَى النَّوْمِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. ثُمَّ قَالَ: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ يُرِيدُ مَا كَسَبْتُمْ مِنَ الْعَمَلِ بِالنَّهَارِ قَالَ تَعَالَى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ وَالْمُرَادُ مِنْهَا الْكَوَاسِبُ مِنَ الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ وَاحِدَتُهَا جَارِحَةٌ. قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَيِ اكْتَسَبُوا. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أَيْ يرد إليكم أرواحكم في النهار، والبعث هاهنا الْيَقَظَةُ. ثُمَّ قَالَ: لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى أَيْ أَعْمَارُكُمُ الْمَكْتُوبَةُ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ وَالْمَعْنَى يَبْعَثُكُمْ مِنْ نَوْمِكُمْ إِلَى أَنْ تَبْلُغُوا آجَالَكُمْ، وَمَعْنَى الْقَضَاءِ فَصْلُ الْأَمْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ، وَمَعْنَى قَضَاءِ الْأَجَلِ فَصْلُ مُدَّةِ الْعُمْرِ مِنْ غَيْرِهَا بِالْمَوْتِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يُنِيمُهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ يُوقِظُهُمْ ثَانِيًا كَانَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ، لَا جَرَمَ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ. فَقَالَ: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي لَيْلِكُمْ وَنَهَارِكُمْ وَفِي جميع أحوالكم وأعمالكم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 61 الى 62] وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62) [قوله تعالى وهو القاهر فوق عباده] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَكَمَالِ حِكْمَتِهِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّا بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ هَذِهِ الْآيَةِ الْفَوْقِيَّةَ بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا الْفَوْقِيَّةَ بِالْقَهْرِ وَالْقُدْرَةِ، كَمَا يُقَالُ أَمْرُ فُلَانٍ فَوْقَ أَمْرِ فُلَانٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَعْلَى وَأَنْفَذُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الْفَتْحِ: 10] وَمِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ هَذَا الْقَهْرَ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْفَوْقِيَّةِ، وَالْفَوْقِيَّةُ الْمُفِيدَةُ لِصِفَةِ الْقَهْرِ هِيَ الْفَوْقِيَّةُ بِالْقُدْرَةِ لَا الْفَوْقِيَّةُ بِالْجِهَةِ، إِذِ الْمَعْلُومُ أَنَّ الْمُرْتَفِعَ فِي الْمَكَانِ قَدْ يَكُونُ مَقْهُورًا. وَتَقْرِيرُ هَذَا الْقَهْرِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَهَّارٌ لِلْعَدَمِ بِالتَّكْوِينِ وَالْإِيجَادِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَهَّارٌ لِلْوُجُودِ بِالْإِفْنَاءِ وَالْإِفْسَادِ فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَنْقُلُ الْمُمْكِنَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ تَارَةً وَمِنَ الْوُجُودِ إِلَى الْعَدَمِ أُخْرَى. فَلَا وُجُودَ إِلَّا بِإِيجَادِهِ وَلَا عَدَمَ إِلَّا بِإِعْدَامِهِ فِي الْمُمْكِنَاتِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَهَّارٌ لِكُلِّ ضِدٍّ بِضِدِّهِ فَيَقْهَرُ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ وَالظُّلْمَةَ بِالنُّورِ، وَالنَّهَارَ بِاللَّيْلِ وَاللَّيْلَ بِالنَّهَارِ. وَتَمَامُ تَقْرِيرِهِ فِي قَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ [آلِ عِمْرَانَ: 26] . وَإِذَا عَرَفْتَ مَنْهَجَ الْكَلَامِ. فَاعْلَمْ أَنَّهُ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ لِأَنَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ فَلَهُ ضِدٌّ، فَالْفَوْقُ ضِدُّهُ التَّحْتُ،

وَالْمَاضِي ضِدُّهُ الْمُسْتَقْبَلُ، وَالنُّورُ ضِدُّهُ الظُّلْمَةُ، وَالْحَيَاةُ ضِدُّهَا الْمَوْتُ، وَالْقُدْرَةُ ضِدُّهَا الْعَجْزُ. وَتَأَمَّلْ فِي سائل الْأَحْوَالِ وَالصِّفَاتِ لِتَعْرِفَ أَنَّ حُصُولَ التَّضَادِّ بَيْنَهَا يَقْضِي عَلَيْهَا بِالْمَقْهُورِيَّةِ وَالْعَجْزِ وَالنُّقْصَانِ، وَحُصُولُ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي الْمُمْكِنَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا مُدَبِّرًا قَادِرًا قَاهِرًا مُنَزَّهًا عَنِ الضِّدِّ وَالنِّدِّ، مُقَدَّسًا عَنِ الشَّبِيهِ وَالشَّكْلِ. كَمَا قَالَ: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَالرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا/ الْبَدَنَ مُؤَلَّفٌ مِنَ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ. وَهِيَ مُتَنَافِرَةٌ مُتَبَاغِضَةٌ مُتَبَاعِدَةٌ بِالطَّبْعِ وَالْخَاصَّةِ فَاجْتِمَاعُهَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِقَسْرِ قَاسِرٍ وَأَخْطَأَ مَنْ قَالَ إِنَّ ذَلِكَ الْقَاسِرَ هُوَ النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ سِينَا فِي الْإِشَارَاتِ لِأَنَّ تَعَلُّقَ النَّفْسِ بِالْبَدَنِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ حُصُولِ الْمِزَاجِ وَاعْتِدَالِ الْأَمْشَاجِ، وَالْقَاهِرُ لِهَذِهِ الطَّبَائِعِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ سَابِقٌ عَلَى هَذَا الِاجْتِمَاعِ، وَالسَّابِقُ عَلَى حُصُولِ الِاجْتِمَاعِ مُغَايِرٌ لِلْمُتَأَخِّرِ عَنْ حُصُولِ الِاجْتِمَاعِ. فَثَبَتَ أَنَّ الْقَاهِرَ لِهَذِهِ الطَّبَائِعِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ لَيْسَ إِلَّا اللَّه تَعَالَى، كَمَا قَالَ: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَأَيْضًا فَالْجَسَدُ كَثِيفٌ سُفْلِيٌّ ظُلْمَانِيٌّ فَاسِدٌ عَفِنٌ، وَالرُّوحُ لَطِيفٌ عُلْوِيٌّ نُورَانِيٌّ مُشْرِقٌ بَاقٍ طَاهِرٌ نَظِيفٌ، فَبَيْنَهُمَا أَشَدُّ الْمُنَافَرَةِ وَالْمُبَاعَدَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْقُدْرَةِ، وَجَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَكْمَلًا بِصَاحِبِهِ مُنْتَفِعًا بِالْآخَرِ. فَالرُّوحُ تَصُونُ الْبَدَنَ عَنِ الْعُفُونَةِ وَالْفَسَادِ وَالتَّفَرُّقِ، وَالْبَدَنُ يَصِيرُ آلَةً لِلرُّوحِ فِي تَحْصِيلِ السِّعَادَاتِ الْأَبَدِيَّةِ، وَالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، فَهَذَا الِاجْتِمَاعُ وَهَذَا الِانْتِفَاعُ لَيْسَ إِلَّا بِقَهْرِ اللَّه تَعَالَى لِهَذِهِ الطَّبَائِعِ، كَمَا قَالَ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَأَيْضًا فَعِنْدَ دُخُولِ الرُّوحِ فِي الْجَسَدِ أَعْطَى الرُّوحَ قُدْرَةً عَلَى فِعْلِ الضِّدَّيْنِ، وَمُكْنَةً مِنَ الطَّرَفَيْنِ إِلَّا أَنَّهُ يَمْتَنِعُ رُجْحَانُ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ تَارَةً وَالتَّرْكِ عَلَى الْفِعْلِ أُخْرَى إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الدَّاعِيَةِ الْجَازِمَةِ الْخَالِيَةِ عَنِ الْمُعَارِضِ. فَلَمَّا لَمْ تَحْصُلْ تِلْكَ الدَّاعِيَةُ امْتَنَعَ الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ فَكَانَ إِقْدَامُ الْفَاعِلِ عَلَى الْفِعْلِ تَارَةً وَعَلَى التَّرْكِ أُخْرَى بِسَبَبِ حُصُولِ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ فِي قَلْبِهِ مِنَ اللَّه يَجْرِي مَجْرَى الْقَهْرِ فَكَانَ قَاهِرًا لِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الْأَبْوَابَ عَلِمْتَ أَنَّ الْمُمْكِنَاتِ وَالْمُبْدِعَاتِ وَالْعُلْوِيَّاتِ وَالسُّفْلِيَّاتِ وَالذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ كُلَّهَا مَقْهُورَةٌ تَحْتَ قَهْرِ اللَّه مُسَخَّرَةٌ تَحْتَ تَسْخِيرِ اللَّه تعالى، كما قال: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً [البحث الأول] فَالْمُرَادُ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ قَهْرِهِ لِعِبَادِهِ إِرْسَالَ الْحَفَظَةِ عَلَيْهِمْ وَهَؤُلَاءِ الْحَفَظَةُ هُمُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرَّعْدِ: 11] وَقَوْلُهُ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18] وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ [الِانْفِطَارِ: 10، 11] وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حُضُورِ هَؤُلَاءِ الْحَفَظَةِ ضَبْطُ الْأَعْمَالِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُمْ يَكْتُبُونَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِيَ وَالْمُبَاحَاتِ بِأَسْرِهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الْكَهْفِ: 49] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ مَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ مَلَكَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِهِ، فَإِذَا تَكَلَّمَ الْإِنْسَانُ بِحَسَنَةٍ كَتَبَهَا مَنْ عَلَى الْيَمِينِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِسَيِّئَةٍ قَالَ مَنْ عَلَى الْيَمِينِ لِمَنْ عَلَى الْيَسَارِ انْتَظِرْهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ كَتَبَ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَقْوَى لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً يُفِيدُ حَفَظَةَ الْكُلِّ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ. وَالْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اطِّلَاعَ هَؤُلَاءِ الْحَفَظَةِ عَلَى الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، أَمَّا عَلَى صِفَاتِ الْقُلُوبِ وَهِيَ الْعِلْمُ وَالْجَهْلُ فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى اطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهَا. أَمَّا فِي الْأَقْوَالِ، فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَأَمَّا فِي الْأَعْمَالِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً

كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الِانْفِطَارِ: 10- 12] فَأَمَّا الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ وَالْإِخْلَاصُ وَالْإِشْرَاكُ فَلَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى اطِّلَاعِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهَا. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: ذَكَرُوا فِي فَائِدَةِ جَعْلِ الْمَلَائِكَةِ مُوَكَّلِينَ عَلَى بَنِي آدَمَ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مُوَكَّلُونَ بِهِ يُحْصُونَ عَلَيْهِ أَعْمَالَهُ وَيَكْتُبُونَهَا في صحائف تعرض على رؤوس الْأَشْهَادِ فِي مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ كَانَ ذَلِكَ أَزْجَرَ لَهُ عَنِ الْقَبَائِحِ. الثَّانِي: يُحْتَمَلُ فِي الْكِتَابَةِ أَنْ يَكُونَ الْفَائِدَةُ فِيهَا أَنْ تُوزَنَ تِلْكَ الصَّحَائِفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ وَزْنَ الْأَعْمَالِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، أَمَّا وَزْنُ الصَّحَائِفِ فَمُمْكِنٌ. الثَّالِثُ: يَفْعَلُ اللَّه مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. وَيَجِبُ عَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ سَوَاءٌ عَقَلْنَا الْوَجْهَ فِيهِ أَوْ لَمْ نَعْقِلْ، فَهَذَا حَاصِلُ مَا قَالَهُ أَهَلُّ الشَّرِيعَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الْحِكْمَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْهُمْ: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الْقَهْرِ أَنَّهُ خَلَطَ الطَّبَائِعَ الْمُتَضَادَّةَ وَمَزَجَ بَيْنَ الْعَنَاصِرِ الْمُتَنَافِرَةِ، فَلَمَّا حَصَلَ بَيْنَهَا امْتِزَاجٌ اسْتَعَدَّ ذَلِكَ الْمُمْتَزِجُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِامْتِزَاجِ لِقَبُولِ النَّفْسِ الْمُدَبِّرَةِ وَالْقُوَى الْحِسِّيَّةِ وَالْحَرَكِيَّةِ وَالنُّطْقِيَّةِ فَقَالُوا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً تِلْكَ النُّفُوسُ وَالْقُوَى، فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي تَحْفَظُ تِلْكَ الطَّبَائِعَ الْمَقْهُورَةَ عَلَى امْتِزَاجَاتِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْقُدَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ النُّفُوسَ الْبَشَرِيَّةَ وَالْأَرْوَاحَ الْإِنْسَانِيَّةَ مُخْتَلِفَةٌ بِجَوَاهِرِهَا مُتَبَايِنَةٌ، بِمَاهِيَّاتِهَا، فَبَعْضُهَا خَيِّرَةٌ وَبَعْضُهَا شِرِّيرَةٌ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الذَّكَاءِ وَالْبَلَادَةِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالنَّذَالَةِ وَالشَّرَفِ وَالدَّنَاءَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الصِّفَاتِ وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ السُّفْلِيَّةِ رُوحٌ سَمَاوِيٌّ هُوَ لَهَا كَالْأَبِ الشَّفِيقِ وَالسَّيِّدِ الرَّحِيمِ يُعِينُهَا عَلَى مُهِمَّاتِهَا فِي يَقَظَاتِهَا وَمَنَامَاتِهَا تَارَةً عَلَى سَبِيلِ الرُّؤْيَا، وَأُخْرَى عَلَى سَبِيلِ الْإِلْهَامَاتِ فَالْأَرْوَاحُ الشِّرِّيرَةُ لَهَا مَبَادِئُ مِنْ عَالَمِ الْأَفْلَاكِ، وَكَذَا الْأَرْوَاحُ الْخَيِّرَةُ وَتِلْكَ الْمَبَادِئُ تُسَمَّى في مصطلحهم بالطباع التام يعني تِلْكَ الْأَرْوَاحَ الْفَلَكِيَّةَ فِي تِلْكَ الطَّبَائِعِ وَالْأَخْلَاقِ تَامَّةٌ كَامِلَةٌ، وَهَذِهِ الْأَرْوَاحَ السُّفْلِيَّةَ الْمُتَوَلِّدَةَ مِنْهَا أَضْعَفُ مِنْهَا لِأَنَّ الْمَعْلُولَ فِي كُلِّ بَابٍ أَضْعَفُ مِنْ عِلَّتِهِ وَلِأَصْحَابِ الطَّلْسَمَاتِ وَالْعَزَائِمِ الرُّوحَانِيَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ كَلَامٌ كَثِيرٌ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: النَّفْسُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَذَا الْجَسَدِ. لَا شَكَّ فِي أَنَّ النُّفُوسَ الْمُفَارِقَةَ عَنِ الْأَجْسَادِ/ لَمَّا كَانَتْ مُسَاوِيَةً لِهَذِهِ فِي الطَّبِيعَةِ وَالْمَاهِيَّةِ فَتِلْكَ النُّفُوسُ الْمُفَارِقَةُ تَمِيلُ إِلَى هَذِهِ النَّفْسِ بِسَبَبِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُشَاكَلَةِ وَالْمُوَافَقَةِ وَهِيَ أَيْضًا تَتَعَلَّقُ بِوَجْهٍ مَا بِهَذَا الْبَدَنِ وَتَصِيرُ مُعَاوَنَةً لِهَذِهِ النَّفْسِ عَلَى مُقْتَضَيَاتِ طَبِيعَتِهَا فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ الَّذِي جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ الْحَقَّةُ بِهِ لَيْسَ لِلْفَلَاسِفَةِ أَنْ يَمْتَنِعُوا عَنْهَا لِأَنَّ كُلَّهُمْ قَدْ أَقَرُّوا بِمَا يَقْرُبُ مِنْهُ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ إِصْرَارُ الْجُهَّالِ مِنْهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ بَاطِلًا واللَّه أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا فههنا أبحاث: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزُّمَرِ: 42] وَقَالَ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: 2] فَهَذَانَ النَّصَّانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ تَوَفِّيَ الْأَرْوَاحِ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السَّجْدَةِ: 11] وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْوَفَاةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ. ثُمَّ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا فَهَذِهِ النُّصُوصُ الثَّلَاثَةُ كَالْمُتَنَاقِضَةِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّوَفِّيَ فِي الْحَقِيقَةِ يَحْصُلُ بقدرة اللَّه تعالى، وهو في عالم الظَّاهِرِ مُفَوَّضٌ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ،

وَهُوَ الرَّئِيسُ الْمُطْلَقُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَهُ أَعْوَانٌ وَخَدَمٌ وَأَنْصَارٌ، فَحَسُنَتْ إِضَافَةُ التَّوَفِّي إِلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِحَسَبِ الِاعْتِبَارَاتِ الثَّلَاثَةِ واللَّه أَعْلَمُ: الْبَحْثُ الثَّانِي: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَؤُلَاءِ الرُّسُلُ الَّذِينَ بِهِمْ تَحْصُلُ الْوَفَاةُ، وَهُمْ أَعْيَانُ أُولَئِكَ الْحَفَظَةِ فَهُمْ فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ يَحْفَظُونَهُمْ مِنْ أَمْرِ اللَّه، وَعِنْدَ مَجِيءِ الْمَوْتِ يَتَوَفَّوْنَهُمْ، وَالْأَكْثَرُونَ أَنَّ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْحِفْظَ غَيْرُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ أَمْرَ الْوَفَاةِ، وَلَا دَلَالَةَ فِي لَفْظِ الْآيَةِ تَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي مَالَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي، وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ مَعَادِنُ الرَّحْمَةِ وَالْخَيْرِ وَالرَّاحَةِ مُغَايِرُونَ لِلَّذِينِ هُمْ أُصُولُ الْحُزْنِ وَالْغَمِّ فَطَائِفَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ هُمُ الْمُسَمَّوْنَ بِالرُّوحَانِيِّينَ لِإِفَادَتِهِمُ الرُّوحَ وَالرَّاحَةَ وَالرَّيْحَانَ، وَبَعْضُهُمْ يُسَمَّوْنَ بِالْكَرُوبِيِينَ لِكَوْنِهِمْ مَبَادِئَ الْكَرْبِ وَالْغَمِّ وَالْأَحْزَانِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ أَنَّهُ مَلَكٌ وَاحِدٌ هُوَ رَئِيسُ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَفَظَةِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَتْبَاعُهُ، وَأَشْيَاعُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ: جَعَلَ الْأَرْضَ مِثْلَ الطَّسْتِ لِمَلِكِ الْمَوْتِ يَتَنَاوَلُ مَنْ يَتَنَاوَلُهُ، وَمَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ إِلَّا وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، وَجَاءَ فِي الْأَخْبَارِ مِنْ صِفَاتِ مَلَكِ الْمَوْتِ وَمِنْ كَيْفِيَّةِ مَوْتِهِ عِنْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَانْقِضَائِهَا أَحْوَالٌ عَجِيبَةٌ. وَالْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَرَأَ حَمْزَةُ: تَوَفَّاهُ بِالْأَلِفِ مُمَالَةً وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ، فَالْأَوَّلُ لِتَقْدِيمِ الْفِعْلِ، / وَلِأَنَّ الْجَمْعَ قَدْ يُذَكَّرُ، وَالثَّانِي عَلَى تَأْنِيثِ الْجَمْعِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ فِيمَا أَمَرَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ لَا يُقَصِّرُونَ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ. وَقَوْلُهُ فِي صِفَةِ مَلَائِكَةِ النَّارِ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَلَائِكَةَ الْعَذَابِ لَا يُقَصِّرُونَ فِي تِلْكَ التَّكَالِيفِ، وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ عِصْمَةَ الْمَلَائِكَةِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَثْبَتَ عِصْمَتَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى ثُبُوتِ عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ فَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: قِيلَ الْمَرْدُودُونَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ يَعْنِي كَمَا يَمُوتُ بَنُو آدَمَ يَمُوتُ أَيْضًا أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةُ. وَقِيلَ: بَلِ الْمَرْدُودُونَ الْبَشَرُ، يَعْنِي أَنَّهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ يُرَدُّونَ إِلَى اللَّه. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ مُجَرَّدِ هَذِهِ الْبِنْيَةِ، لِأَنَّ صَرِيحَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْمَوْتِ لِلْعَبْدِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ الْمَوْتِ يُرَدُّ إِلَى اللَّه، وَالْمَيِّتُ مَعَ كَوْنِهِ مَيِّتًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَدَّ إِلَى اللَّه لِأَنَّ ذَلِكَ الرَّدَّ لَيْسَ بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ، لِكَوْنِهِ تَعَالَى مُتَعَالِيًا عَنِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرَّدُّ مُفَسَّرًا بِكَوْنِهِ مُنْقَادًا لِحُكْمِ اللَّه مُطِيعًا لِقَضَاءِ اللَّه، وَمَا لَمْ يَكُنْ حَيًّا لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْمَعْنَى فِيهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ حصل هاهنا مَوْتٌ وَحَيَاةٌ أَمَّا الْمَوْتُ، فَنَصِيبُ الْبَدَنِ: فَبَقِيَ أَنْ تَكُونَ الْحَيَاةُ نَصِيبًا لِلنَّفْسِ وَالرُّوحِ وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ وَثَبَتَ أن المرد وهو النَّفْسُ وَالرُّوحُ، ثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ إِلَّا النَّفْسَ وَالرُّوحَ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ الرُّوحِ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْبَدَنِ، لِأَنَّ الرَّدَّ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى حَضْرَةِ الْجَلَالِ: إِنَّمَا يَكُونُ لَوْ أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ التَّعَلُّقِ بِالْبَدَنِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الْفَجْرِ: 28] وَقَوْلُهُ: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً [يُونُسَ: 4] وَنُقِلَ عَنِ النَّبِيِّ صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «خَلَقَ اللَّه الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْأَجْسَادِ بِأَلْفَيْ عَامٍ» وَحُجَّةُ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى إِثْبَاتِ أَنَّ النُّفُوسَ الْبَشَرِيَّةَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ قَبْلَ وُجُودِ الْبَدَنِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ بَيَّنَّا ضَعْفَهَا فِي «الْكُتُبِ العقلية» .

الْبَحْثُ الثَّانِي: كَلِمَةُ «إِلَى» تُفِيدُ انْتِهَاءَ الْغَايَةِ فَقَوْلُهُ إِلَى اللَّه يُشْعِرُ بِإِثْبَاتِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ للَّه تَعَالَى وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُمْ رُدُّوا إِلَى حَيْثُ لَا مَالِكَ وَلَا حَاكِمَ سِوَاهُ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى نَفْسَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِاسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْمَوْلَى، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ لَفْظَ الْمَوْلَى، وَلَفْظَ الْوَلِيِّ مُشْتَقَّانِ مِنَ الْوَلْيِ: أَيِ الْقُرْبُ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ الْقَرِيبُ الْبَعِيدُ الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] وَقَوْلِهِ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [الْمُجَادَلَةِ: 7] وَأَيْضًا الْمُعْتِقُ يُسَمَّى بِالْمَوْلَى، وَذَلِكَ كَالْمُشْعِرِ بِأَنَّهُ أَعْتَقَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: «سَبَقَتْ/ رَحْمَتِي غَضَبِي» وَأَيْضًا أَضَافَ نَفْسَهُ إِلَى الْعَبْدِ فَقَالَ: مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَمَا أَضَافَهُمْ إِلَى نَفْسِهِ وَذَلِكَ نِهَايَةُ الرَّحْمَةِ، وَأَيْضًا قَالَ: مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا تَحْتَ تَصَرُّفَاتِ الْمَوَالِي الْبَاطِلَةِ وَهِيَ النَّفْسُ وَالشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ كَمَا قَالَ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الْجَاثِيَةِ: 23] فَلَمَّا مَاتَ الْإِنْسَانُ تَخَلَّصَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْمَوَالِي الْبَاطِلَةِ، وَانْتَقَلَ إِلَى تَصَرُّفَاتِ الْمَوْلَى الْحَقِّ. وَالِاسْمُ الثَّانِي الْحَقُّ: وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى، فَقِيلَ: الْحَقُّ مَصْدَرٌ. وَهُوَ نَقِيضُ الْبَاطِلِ، وَأَسْمَاءُ الْمَصَادِرِ لَا تَجْرِي عَلَى الْفَاعِلِينِ إِلَّا مَجَازًا كَقَوْلِنَا فُلَانٌ عَدْلٌ وَرَجَاءٌ وَغِيَاثٌ وَكَرَمٌ وَفَضْلٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْحَقُّ هُوَ الْمَوْجُودُ وَأَحَقُّ الْأَشْيَاءِ بِالْمَوْجُودِيَّةِ هُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ لِكَوْنِهِ وَاجِبًا لِذَاتِهِ، فَكَانَ أَحَقَّ الْأَشْيَاءِ بِكَوْنِهِ حَقًّا هُوَ هُوَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ قُرِئَ الْحَقَّ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ كَقَوْلِكَ الْحَمْدُ للَّه الْحَقَّ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَلا لَهُ الْحُكْمُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا للَّه. وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِأَحَدٍ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا اللَّه، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ كُلَّهُ بِحُكْمِ اللَّه وَقَضَائِهِ، فَلَوْلَا أَنَّ اللَّه حَكَمَ لِلسَّعِيدِ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّقِيِّ بِالشَّقَاوَةِ، وَإِلَّا لَمَا حَصَلَ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّاعَةَ لَا تُوجِبُ الثَّوَابَ وَالْمَعْصِيَةَ لَا تُوجِبُ الْعِقَابَ، إِذْ لَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ لَثَبَتَ لِلْمُطِيعِ عَلَى اللَّه حُكْمٌ، وَهُوَ أَخْذُ الثَّوَابِ، وَذَلِكَ يُنَافِي مَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا للَّه. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حُدُوثِ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى. قَالَ لَوْ كَانَ كَلَامُهُ قَدِيمًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا بِالْمُحَاسَبَةِ. الْآنَ: وَقَبْلَ خَلْقِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ الْمُحَاسَبَةَ تَقْتَضِي حِكَايَةَ عَمَلٍ تَقَدَّمَ وَأَصْحَابُنَا عَارَضُوهُ بِالْعِلْمِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَبْلَ الْخَلْقِ عَالِمًا بِأَنَّهُ سَيُوجَدُ، وَبَعْدَ وُجُودِهِ صَارَ عَالِمًا بِأَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ وُجِدَ، فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ تَغَيُّرُ الْعِلْمِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الْكَلَامِ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا الْحِسَابِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يُحَاسِبُ الْخَلْقَ بِنَفْسِهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، لَا يَشْغَلُهُ كَلَامٌ عَنْ كَلَامٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلْ يَأْمُرُ الْمَلَائِكَةَ حَتَّى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُحَاسِبُ وَاحِدًا مِنَ الْعِبَادِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ حَاسَبَ الْكُفَّارَ بِنَفْسِهِ لَتَكَلَّمَ مَعَهُمْ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ، وَلا يُكَلِّمُهُمُ [آل عمران: 77] ، وَأَمَّا الْحُكَمَاءُ فَلَهُمْ كَلَامٌ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الحساب، وهو أنه إنما يتخلص بتقديم مقدمتين.

فَالْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: أَنَّ كَثْرَةَ الْأَفْعَالِ وَتَكَرُّرَهَا تُوجِبُ حُدُوثَ الْمَلَكَاتِ الرَّاسِخَةِ الْقَوِيَّةِ الثَّابِتَةِ وَالِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ يَكْشِفُ عَنْ صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَتْ مُوَاظَبَتُهُ عَلَى عَمَلٍ مِنَ/ الْأَعْمَالِ أَكْثَرَ كَانَ رُسُوخُ الْمَلَكَةِ التَّامَّةِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ مِنْهُ فِيهِ أَقْوَى. الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ تَكَرُّرُ الْعَمَلِ يُوجِبُ حُصُولَ الْمَلَكَةِ الرَّاسِخَةِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ أَثَرٌ فِي حُصُولِ تِلْكَ الْمَلَكَةِ، بَلْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْعَمَلِ الْوَاحِدِ أَثَرٌ بِوَجْهٍ مَا فِي حُصُولِ تِلْكَ الْمَلَكَةِ، وَالْعُقَلَاءُ ضَرَبُوا لِهَذَا الْبَابِ أَمْثِلَةً. الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا سَفِينَةً عَظِيمَةً بِحَيْثُ لَوْ أُلْقِيَ فِيهَا مِائَةُ أَلْفِ مَنٍّ فَإِنَّهَا تَغُوصُ فِي الْمَاءِ بِقَدْرِ شِبْرٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ لَمْ يُلْقَ فِيهَا إِلَّا حَبَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ الْحِنْطَةِ، فَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ إِلْقَاءِ الْجِسْمِ الثَّقِيلِ فِي تِلْكَ السَّفِينَةِ يُوجِبُ غَوْصَهَا فِي الْمَاءِ بِمِقْدَارٍ قَلِيلٍ، وَإِنْ قَلَّتْ وَبَلَغَتْ فِي الْقِلَّةِ إِلَى حَيْثُ لَا يُدْرِكُهَا الْحِسُّ وَلَا يَضْبُطُهَا الْخَيَالُ. الْمَثَّالُ الثَّانِي: أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ أَنَّ الْبَسَائِطَ أَشْكَالَهَا الطَّبِيعِيَّةَ كُرَاتٌ فَسَطْحُ الْمَاءِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُرَةً وَالْقِسِيُّ الْمُشَابِهَةُ مِنَ الدَّوَائِرِ الْمُحِيطَةِ بِالْمَرْكَزِ الْوَاحِدِ مُتَفَاوِتَةٌ، فَإِنَّ تَحَدُّبَ الْقَوْسِ الْحَاصِلَ مِنَ الدَّائِرَةِ الْعُظْمَى يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ تَحَدُّبِ الْقَوْسِ الْمُشَابِهَةِ لِلْأُولَى مِنَ الدَّائِرَةِ الصُّغْرَى وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْكُوزُ إِذَا مُلِئَ مِنَ الْمَاءِ، وَوُضِعَ تَحْتَ الْجَبَلِ كَانَتْ حَدَبَةُ سَطْحِ ذلك الماء أعظم من حدبته عند ما يوضع الكوز فوق الجبل، ومنى كَانَتِ الْحَدَبَةُ أَعْظَمَ وَأَكْثَرَ كَانَ احْتِمَالُ الْمَاءِ بِالْكُوزِ أَكْثَرَ، فَهَذَا يُوجِبُ أَنَّ احْتِمَالَ الْكُوزِ لِلْمَاءِ حَالَ كَوْنِهِ تَحْتَ الْجَبَلِ أَكْثَرُ مِنَ احْتِمَالِهِ لِلْمَاءِ حَالَ كَوْنِهِ فَوْقَ الْجَبَلِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ التَّفَاوُتِ بِحَيْثُ لَا يَفِي بِإِدْرَاكِهِ الْحِسُّ وَالْخَيَالُ لِكَوْنِهِ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ. وَالْمَثَّالُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِنْسَانَيْنِ اللَّذَيْنِ يَقِفُ أَحَدُهُمَا بِالْقُرْبِ مِنَ الْآخَرِ، فَإِنَّ رِجْلَيْهِمَا يَكُونَانِ أَقْرَبَ إِلَى مَرْكَزِ الْعَالَمِ مِنْ رَأْسَيْهِمَا، لِأَنَّ الْأَجْرَامَ الثَّقِيلَةَ تَنْزِلُ مِنْ فَضَاءِ الْمُحِيطِ إِلَى ضِيقِ الْمَرْكَزِ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنَ التَّفَاوُتِ لَا يَفِي بِإِدْرَاكِهِ الْحِسُّ وَالْخَيَالُ. فَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْأَمْثِلَةَ: وَعَرَفْتَ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَفْعَالِ تُوجِبُ حُصُولَ الْمَلَكَاتِ فَنَقُولُ: لَا فِعْلَ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِقَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ إِلَّا وَيُفِيدُ حُصُولَ أَثَرٍ فِي النَّفْسِ. إِمَّا فِي السَّعَادَةِ، وَإِمَّا فِي الشَّقَاوَةِ، وَعِنْدَ هَذَا يَنْكَشِفُ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ صِحَّةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7، 8] وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْأَفْعَالَ تُوجِبُ حُصُولَ الْمَلَكَاتِ وَالْأَفْعَالُ الصَّادِرَةُ مِنَ الْيَدِ، فَهِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي حُصُولِ الْمَلَكَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ الصَّادِرَةُ مِنَ الرِّجْلِ، فَلَا جَرَمَ تَكُونُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ شَاهِدَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ، بِمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الْآثَارَ النَّفْسَانِيَّةَ، إِنَّمَا حَصَلَتْ فِي جَوَاهِرِ النُّفُوسِ بِوَاسِطَةِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ عَنْ هَذِهِ الْجَوَارِحِ، فَكَانَ صُدُورُ تِلْكَ/ الْأَفْعَالِ مِنْ تِلْكَ الْجَارِحَةِ الْمَخْصُوصَةِ جَارِيًا مَجْرَى الشَّهَادَةِ لِحُصُولِ تِلْكَ الْآثَارِ الْمَخْصُوصَةِ فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ، وَأَمَّا الْحِسَابُ: فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ مَعْرِفَةُ مَا بَقِيَ مِنَ الدَّخْلِ وَالْخَرْجِ، وَلَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ لِكُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ أَثَرًا فِي حُصُولِ هَيْئَةٍ مِنْ هَذِهِ الْهَيْئَاتِ فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ، إِمَّا مِنَ الْهَيْئَاتِ الزَّاكِيَةِ الطَّاهِرَةِ أَوْ مِنَ الْهَيْئَاتِ الْمَذْمُومَةِ الْخَسِيسَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً. فَلَا جَرَمَ كَانَ بَعْضُهَا يَتَعَارَضُ بِالْبَعْضِ، وَبَعْدَ حُصُولِ تِلْكَ الْمُعَارَضَاتِ بَقِيَ فِي النَّفْسِ قَدْرٌ مَخْصُوصٌ من الخلق

[سورة الأنعام (6) : الآيات 63 إلى 64]

الْحَمِيدِ، وَقَدْرٌ آخَرُ مِنَ الْخُلُقِ الذَّمِيمِ، فَإِذَا مَاتَ الْجَسَدُ ظَهَرَ مِقْدَارُ ذَلِكَ الْخُلُقِ الْحَمِيدِ، وَمِقْدَارُ ذَلِكَ الْخُلُقِ الذَّمِيمِ، وَذَلِكَ الظُّهُورُ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الْآنِ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ، وَهُوَ الْآنُ الَّذِي فِيهِ يَنْقَطِعُ تَعَلُّقُ النَّفْسِ مِنَ الْبَدَنِ، فَعَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ بِسُرْعَةِ الْحِسَابِ، فَهَذِهِ أَقْوَالٌ ذُكِرَتْ فِي تَطْبِيقِ الْحِكْمَةِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى الْحِكْمَةِ الْفَلْسَفِيَّةِ، واللَّه الْعَالِمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ. [سورة الأنعام (6) : الآيات 63 الى 64] قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَكَمَالِ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ بِالتَّشْدِيدِ فِي الْكَلِمَتَيْنِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالتَّشْدِيدُ وَالتَّخْفِيفُ لُغَتَانِ مَنْقُولَتَانِ مِنْ نَجَا، فَإِنْ شِئْتَ نَقَلْتَ بِالْهَمْزَةِ، وَإِنْ شِئْتَ نَقَلْتَ بِتَضْعِيفِ الْعَيْنِ: مِثْلُ: أَفْرَحْتُهُ وَفَرَّحْتُهُ، وَأَغْرَمْتُهُ وَغَرَّمْتُهُ، وَفِي الْقُرْآنِ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الْأَعْرَافِ: 72] وَفِي آيَةٍ أُخْرَى وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا [فُصِّلَتْ: 18] وَلَمَّا جَاءَ التَّنْزِيلُ بِاللُّغَتَيْنِ مَعًا ظَهَرَ اسْتِوَاءُ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْحُسْنِ، غَيْرَ أَنَّ الِاخْتِيَارَ التَّشْدِيدُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّه كَانَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَأَيْضًا قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ خِفْيَةً بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالْبَاقُونَ بِالضَّمِّ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَعَنِ الْأَخْفَشِ فِي خُفْيَةٍ وَخِفْيَةٍ أنهما لغتان، وأيضا الخفية من الإخفاء، / والخفية مِنَ الرَّهَبِ، وَأَيْضًا (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هَذِهِ. قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ لَئِنْ أَنْجانا عَلَى الْمُغَايَبَةِ، وَالْبَاقُونَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا عَلَى الْخِطَابِ، فَأَمَّا الْأَوَّلُونَ: وَهُمُ الَّذِينَ قَرَءُوا عَلَى الْمُغَايَبَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا. قَرَأَ عَاصِمٌ بِالتَّفْخِيمِ، وَالْبَاقُونَ بِالْإِمَالَةِ، وَحُجَّةُ مَنْ قَرَأَ عَلَى الْمُغَايَبَةِ أَنَّ مَا قَبْلَ هَذَا اللَّفْظِ، وَمَا بَعْدَهُ مَذْكُورٌ بِلَفْظِ الْمُغَايَبَةِ، فَأَمَّا مَا قَبْلَهُ فَقَوْلُهُ: تَدْعُونَهُ وَأَمَّا مَا بَعْدَهُ فَقَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَأَيْضًا فَالْقِرَاءَةُ بِلَفْظِ الْخِطَابِ تُوجِبُ الْإِضْمَارَ، وَالتَّقْدِيرُ: يَقُولُونَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا، وَالْإِضْمَارُ خِلَافُ الْأَصْلِ. وَحُجَّةُ مَنْ قَرَأَ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مَجَازٌ عَنْ مَخَاوِفِهِمَا وَأَهْوَالِهِمَا. يُقَالُ: لِلْيَوْمِ الشَّدِيدِ يَوْمٌ مُظْلِمٌ. وَيَوْمٌ ذُو كَوَاكِبَ أَيِ اشْتَدَّتْ ظُلْمَتُهُ حَتَّى عَادَتْ كَاللَّيْلِ، وَحَقِيقَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ يَشْتَدُّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، وَيَشْتَبِهُ عَلَيْهِ كَيْفِيَّةُ الْخُرُوجِ، وَيُظْلِمُ عَلَيْهِ طَرِيقُ الْخَلَاصِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَقَالَ: أَمَّا ظُلُمَاتُ الْبَحْرِ فَهِيَ أَنْ تَجْتَمِعَ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ وَظُلْمَةُ السَّحَابِ، وَيُضَافُ الرِّيَاحُ الصَّعْبَةُ وَالْأَمْوَاجُ الْهَائِلَةُ إِلَيْهَا، فَلَمْ يَعْرِفُوا كَيْفِيَّةَ الْخَلَاصِ وَعِظَمَ الْخَوْفِ، وَأَمَّا ظُلُمَاتُ الْبَرِّ فَهِيَ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَظُلْمَةُ السَّحَابِ وَالْخَوْفُ الشديد من هجوم الأعداء، وَالْخَوْفُ الشَّدِيدُ مِنْ عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عِنْدَ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْخَوْفِ الشَّدِيدِ لَا يَرْجِعُ الْإِنْسَانُ إِلَّا إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا الرُّجُوعُ يَحْصُلُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَعْظُمُ إِخْلَاصُهُ فِي حَضْرَةِ اللَّه تَعَالَى، وَيَنْقَطِعُ رَجَاؤُهُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى، وَهُوَ المراد من

[سورة الأنعام (6) : آية 65]

قَوْلِهِ: تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ إِذَا شَهِدَتِ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ وَالْخِلْقَةُ الْأَصْلِيَّةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِأَنَّهُ لَا مَلْجَأَ إِلَّا إِلَى اللَّه، وَلَا تَعْوِيلَ إِلَّا عَلَى فَضْلِ اللَّه، وَجَبَ أَنْ يَبْقَى هَذَا الْإِخْلَاصُ عِنْدَ كُلِّ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ الْفَوْزِ بِالسَّلَامَةِ وَالنَّجَاةِ. يُحِيلُ تِلْكَ السَّلَامَةَ إِلَى الْأَسْبَابِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَيُقْدِمُ عَلَى الشِّرْكِ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الطَّعْنُ فِي إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَنَا أَقُولُ: التَّعَلُّقُ بِشَيْءٍ مِمَّا سِوَى اللَّه فِي طَرِيقِ الْعُبُودِيَّةِ يَقْرُبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَعَلُّقًا بِالْوَثَنِ، فَإِنَّ أَهْلَ التَّحْقِيقِ يُسَمُّونَهُ بِالشِّرْكِ الْخَفِيِّ، وَلَفْظُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ الشَّدَائِدِ يَأْتِي الْإِنْسَانُ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: الدُّعَاءُ. وَثَانِيهَا: التَّضَرُّعُ. وَثَالِثُهَا: الْإِخْلَاصُ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَخُفْيَةً وَرَابِعُهَا: الْتِزَامُ الِاشْتِغَالِ بِالشُّكْرِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يُنَجِّيهِمْ مِنْ تِلْكَ الْمَخَاوِفِ، وَمِنْ سَائِرِ مُوجِبَاتِ الْخَوْفِ وَالْكَرْبِ. ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ يُقْدِمُ عَلَى الشِّرْكِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: / ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ وَقَوْلُهُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ وَبِالْجُمْلَةِ فَعَادَةُ أَكْثَرِ الْخَلْقِ ذَلِكَ. إِذَا شَاهَدُوا الأمر الهائل أخصلوا، وَإِذَا انْتَقَلُوا إِلَى الْأَمْنِ وَالرَّفَاهِيَةِ أَشْرَكُوا بِهِ. [سورة الأنعام (6) : آية 65] قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَهُوَ مَمْزُوجٌ بِنَوْعٍ مِنَ التَّخْوِيفِ فَبَيَّنَ كَوْنَهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى إِيصَالِ الْعَذَابِ إِلَيْهِمْ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَأَمَّا إِرْسَالُ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ تَارَةً مِنْ فَوْقِهِمْ، وَتَارَةً مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَنَقُولُ: الْعَذَابُ النَّازِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقُ مِثْلُ الْمَطَرِ النَّازِلِ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقُ، كَمَا فِي قِصَّةِ نُوحٍ وَالصَّاعِقَةُ النَّازِلَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقُ. وَكَذَا الصَّيْحَةُ النَّازِلَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقُ. كَمَا حُصِبَ قَوْمُ لُوطٍ، وَكَمَا رُمِيَ أَصْحَابُ الْفِيلِ، وَأَمَّا الْعَذَابُ الَّذِي ظَهَرَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ. فَمِثْلُ الرَّجْفَةِ، وَمِثْلُ خَسْفِ قَارُونَ. وَقِيلَ: هُوَ حَبْسُ الْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْآيَةُ تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ الَّتِي يُمْكِنُ نُزُولُهَا مِنْ فَوْقُ، وَظُهُورُهَا مِنْ أَسْفَلُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى مَجَازِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي رِوَايَةٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَيْ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ مِنَ الْعَبِيدِ وَالسَّفَلَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً فَاعْلَمْ أَنَّ الشِّيَعَ جَمْعُ الشِّيعَةِ، وَكُلُّ قَوْمٍ اجْتَمَعُوا عَلَى أَمْرٍ فَهُمْ شِيعَةٌ وَالْجُمَعُ شِيَعٌ وَأَشْيَاعٌ. قَالَ تَعَالَى: كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ [سبأ: 54] وأصله من الشيع وهو اتبع، وَمَعْنَى الشِّيعَةِ الَّذِينَ يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. قَالَ الزَّجَّاجُ قَوْلُهُ: يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً يَخْلِطَ أَمْرَكُمْ خَلْطَ اضْطِرَابٍ لَا خَلْطَ اتِّفَاقٍ، فَيَجْعَلَكُمْ فِرَقًا وَلَا تَكُونُونَ فِرْقَةً وَاحِدَةً، فَإِذَا كُنْتُمْ مُخْتَلِفِينَ قَاتَلَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلُهُ: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لَمَّا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ/ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ: «مَا بَقَاءُ أُمَّتِي إِنْ عُومِلُوا بِذَلِكَ» فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ مِثْلُكَ فَادْعُ رَبَّكَ لِأُمَّتِكَ، فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ. فَقَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ اللَّه قَدْ أَمَّنَهُمْ مِنْ خَصْلَتَيْنِ أَنْ لَا يَبْعَثَ عَلَيْهِمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا بَعَثَهُ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ وَلُوطٍ، وَلَا مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ كَمَا خَسَفَ بِقَارُونَ وَلَمْ يُجِرْهُمْ مِنْ أَنْ يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا بِالْأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بأس بعض

[سورة الأنعام (6) : الآيات 66 إلى 67]

بِالسَّيْفِ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً النَّاجِيَةُ فِرْقَةٌ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ إِلَّا الزَّنَادِقَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْمَذَاهِبِ الْمُتَنَافِيَةِ. وَظَاهِرٌ أَنَّ الْحَقَّ مِنْهَا لَيْسَ إِلَّا الْوَاحِدُ، وَمَا سِوَاهُ فَهُوَ بَاطِلٌ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَحْمِلُ الْمُكَلَّفَ عَلَى الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ وَقَوْلُهُ: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ لَا شَكَّ أَنَّ أَكْثَرَهَا ظُلْمٌ وَمَعْصِيَةٌ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقًا لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ، أَجَابَ الْخَصْمُ عَنْهُ بِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَادِرٌ عَلَيْهِ وَعِنْدَنَا اللَّه قَادِرٌ عَلَى الْقَبِيحِ. إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى هَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ وَجْهَ التَّمَسُّكِ بِالْآيَةِ شَيْءٌ آخَرُ فَإِنَّهُ قَالَ: هُوَ الْقادِرُ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ اللَّه غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَ النَّاسِ حَاصِلٌ وَثَبَتَ بِمُقْتَضَى الْحَصْرِ الْمَذْكُورِ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ صَادِرًا عَنْ غَيْرِ اللَّه فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عَنِ اللَّه وَذَلِكَ يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُقَلِّدَةُ وَالْحَشْوِيَّةُ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فَتْحَ تِلْكَ الْأَبْوَابِ يُفِيدُ وُقُوعَ الِاخْتِلَافِ وَالْمُنَازَعَةِ فِي الْأَدْيَانِ وَتُفَرُّقَ الْخَلْقِ إِلَى الْمَذَاهِبِ وَالْأَدْيَانِ وَذَلِكَ مَذْمُومٌ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْمُفْضِي إِلَى الْمَذْمُومِ مَذْمُومٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَتْحُ بَابِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي الدِّينِ مَذْمُومًا وَجَوَابُهُ سَهْلٌ واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ قَالَ الْقَاضِي: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِتَصْرِيفِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَتَقْرِيرِ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ، أَنْ يَفْهَمَ الْكُلُّ تِلْكَ الدَّلَائِلَ وَيَفْقَهَ الْكُلُّ تِلْكَ الْبَيِّنَاتِ. وَجَوَابُنَا: بَلْ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا صَرَّفَ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَّا لِمَنْ فَقُهَ وَفَهِمَ، فَأَمَّا مَنْ أَعْرَضَ وَتَمَرَّدَ فَهُوَ تَعَالَى مَا صَرَّفَ هَذِهِ الْآيَاتِ لهم واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 66 الى 67] وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) الضمير في قوله: وَكَذَّبَ بِهِ إِلَى مَاذَا يَرْجِعُ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْعَذَابِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَهُوَ الْحَقُّ أَيْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ. الثَّانِي: الضَّمِيرُ فِي «بِهِ» لِلْقُرْآنِ وَهُوَ الْحَقُّ أَيْ فِي كَوْنِهِ كِتَابًا مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّه. الثَّالِثُ: يَعُودُ إِلَى تَصْرِيفِ الْآيَاتِ وَهُوَ الْحَقُّ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا كَوْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَلَالَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أَيْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِحَافِظٍ حَتَّى أُجَازِيَكُمْ عَلَى تَكْذِيبِكُمْ وَإِعْرَاضِكُمْ عَنْ قَبُولِ الدَّلَائِلِ. إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ واللَّه هُوَ الْمُجَازِي لَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْمُفَسِّرُونَ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ وَهُوَ بَعِيدٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَالْمُسْتَقَرُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَ الِاسْتِقْرَارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَفْسَ الِاسْتِقْرَارِ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلَاثِيِّ كَانَ الْمَصْدَرُ مِنْهُ عَلَى زِنَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ نَحْوَ الْمَدْخَلِ وَالْمَخْرَجِ، بِمَعْنَى الْإِدْخَالِ وَالْإِخْرَاجِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ لِكُلِّ خَبَرٍ يُخْبِرُهُ اللَّه تَعَالَى وَقْتًا أَوْ مَكَانًا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ خُلْفٍ وَلَا تَأْخِيرٍ وَإِنْ جَعَلْتَ الْمُسْتَقِرَّ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ، كَانَ الْمَعْنَى لِكُلِّ وَعْدٍ وَوَعِيدٍ مِنَ اللَّه تَعَالَى اسْتِقْرَارٌ وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ عِنْدَ ظُهُورِهِ وَنُزُولِهِ. وَهَذَا الَّذِي خَوَّفَ الْكُفَّارَ بِهِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَذَابَ الْآخِرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ

[سورة الأنعام (6) : آية 68]

يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ اسْتِيلَاءَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكُفَّارِ بالحرب والقتل والقهر في الدنيا. [سورة الأنعام (6) : آية 68] وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ فَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِهَذَا الدِّينِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يُلَازِمَهُمْ وَأَنْ يَكُونَ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أولئك المكذبين إن ضموا إلى كفرهم وتكذيبهم الِاسْتِهْزَاءَ بِالدِّينِ وَالطَّعْنَ فِي الرَّسُولِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْ مُقَارَنَتِهِمْ وَتَرْكُ مُجَالَسَتَهُمْ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَإِذا رَأَيْتَ قِيلَ إِنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِغَيْرِهِ أَيْ إِذَا رَأَيْتَ أَيُّهَا السَّامِعُ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا. وَنَقَلَ الْوَاحِدِيُّ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا إِذَا جَالَسُوا الْمُؤْمِنِينَ وَقَعُوا فِي رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ، فَشَتَمُوا وَاسْتَهْزَءُوا فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. وَلَفْظُ الْخَوْضِ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُفَاوَضَةِ عَلَى وَجْهِ الْعَبَثِ وَاللَّعِبِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْكُفَّارِ: وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَإِذَا سُئِلَ الرَّجُلُ عَنْ قَوْمٍ فَقَالَ: تَرَكْتُهُمْ يَخُوضُونَ أَفَادَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ شَرَعُوا فِي كَلِمَاتٍ لَا يَنْبَغِي ذِكْرُهَا وَمِنَ الْحَشْوِيَّةِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي النَّهْيِ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ وَالْمُنَاظَرَةِ فِي ذَاتِ اللَّه تَعَالَى وَصِفَاتِهِ. قَالَ: لِأَنَّ ذَلِكَ خَوْضٌ فِي آيَاتِ اللَّه، وَالْخَوْضُ فِي آيَاتِ اللَّه حَرَامٌ بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّا نَقَلْنَا عَنِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ «الْخَوْضِ» الشُّرُوعُ فِي آيَاتِ اللَّه تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الطَّعْنِ وَالِاسْتِهْزَاءِ. وَبَيَّنَّا أَيْضًا أَنَّ لَفْظَ «الْخَوْضِ» وُضِعَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى فَسَقَطَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ يُنْسِيَنَّكَ بِالتَّشْدِيدِ وَفَعَلَ وأفعل يجريان مجرى واحد كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ. وَفِي التَّنْزِيلِ فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق: 17] وَالِاخْتِيَارُ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ [الْكَهْفِ: 63] وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِنْ نَسِيتَ وَقَعَدْتَ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى، وَقُمْ إِذَا ذَكَرْتَ. وَالذِّكْرَى اسْمٌ لِلتَّذْكِرَةِ قَالَهُ اللَّيْثُ. وَقَالَ القراء: الذِّكْرَى يَكُونُ بِمَعْنَى الذِّكْرِ، وَقَوْلُهُ: مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يَعْنِي مَعَ الْمُشْرِكِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَهَذَا الْإِعْرَاضُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْصُلَ بِالْقِيَامِ عَنْهُمْ وَيُحْتَمَلُ بِغَيْرِهِ. فَلَمَّا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى صَارَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يُعْرِضَ عنهم بالقيام من عندهم وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هَلْ يَجُوزُ هَذَا الْإِعْرَاضُ بِطَرِيقٍ آخَرَ سِوَى الْقِيَامِ عَنْهُمْ؟ وَالْجَوَابُ: الَّذِينَ يتمسكوا بِظَوَاهِرِ الْأَلْفَاظِ وَيَزْعُمُونَ وُجُوبَ إِجْرَائِهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا لَا يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ الْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ جَوَّزُوا ذَلِكَ قَالُوا: لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ إِظْهَارُ الْإِنْكَارِ، فَكُلُّ طَرِيقٍ أَفَادَ هَذَا الْمَقْصُودَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 69 إلى 70]

السُّؤَالُ الثَّانِي: لَوْ خَافَ الرَّسُولُ مِنَ الْقِيَامِ عَنْهُمْ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ مَعَ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: كُلُّ مَا أَوْجَبَ عَلَى الرَّسُولِ فِعْلَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ سَوَاءٌ ظَهَرَ أَثَرُ الْخَوْفِ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ فَإِنَّا إِنْ جَوَّزْنَا مِنْهُ ترك الواجب بسبب الخوف، سقط الاعتماد عن التَّكَالِيفِ الَّتِي بَلَّغَهَا إِلَيْنَا أَمَّا غَيْرُ الرَّسُولِ فَإِنَّهُ عِنْدَ شِدَّةِ الْخَوْفِ قَدْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ، لِأَنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى التَّرْكِ لَا يُفْضِي إِلَى الْمَحْذُورِ الْمَذْكُورِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى يُفِيدُ أَنَّ التَّكْلِيفَ سَاقِطٌ عَنِ النَّاسِي قَالَ الْجُبَّائِيُّ: إِذَا كَانَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ يُوجِبُ سُقُوطَ التَّكْلِيفِ، فَعَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الشَّيْءِ أَوْلَى بِأَنْ يُوجِبَ سُقُوطَ التَّكْلِيفِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ لَا يَقَعُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ حَاصِلَةٌ قَبْلَ الْفِعْلِ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَحْصُلْ إِلَّا مَعَ الْفِعْلِ لَمَا كَانَتْ حَاصِلَةً قَبْلَ الْفِعْلِ. فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْكَافِرُ قَادِرًا عَلَى الْإِيمَانِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ كَثُرَ ذِكْرُهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مَعَ الْجَوَابِ فَلَا نُطَوِّلُ الْكَلَامَ بِذِكْرِ الْجَوَابِ. واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 69 الى 70] وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ الْمُسْلِمُونَ لَئِنْ كُنَّا كُلَّمَا اسْتَهْزَأَ الْمُشْرِكُونَ بِالْقُرْآنِ وَخَاضُوا فِيهِ قُمْنَا عَنْهُمْ لَمَا قَدَرْنَا عَلَى أَنَّ نَجْلِسَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَأَنْ نَطُوفَ بِالْبَيْتِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَحَصَلَتِ الرُّخْصَةُ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَقْعُدُوا مَعَهُمْ وَيُذَكِّرُونَهُمْ وَيُفَهِّمُونَهُمْ. قَالَ وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ وَالْكَبَائِرَ وَالْفَوَاحِشَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ آثَامِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى قَالَ الزَّجَّاجُ: قَوْلُهُ ذِكْرى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. أَمَّا كَوْنُهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ ذِكْرَى أَيْ أَنْ تُذَكِّرُوهُمْ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وَلَكِنَّ الَّذِي تَأْمُرُونَهُمْ به ذكرى، فعلى الوجه الأولى الذِّكْرَى بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: الذِّكْرَى تَكُونُ بِمَعْنَى الذِّكْرِ وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ، فَالتَّقْدِيرُ ذَكِّرُوهُمْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. وَالْمَعْنَى لَعَلَّ ذَلِكَ الذِّكْرَى يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْخَوْضِ فِي ذلك الفضول. [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً إلى قوله بِما كانُوا يَكْفُرُونَ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ/ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ. اعْلَمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا وَمَعْنَى ذِرْهُمْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَتْرُكَ إِنْذَارَهُمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ: وَذَكِّرْ بِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَالْمُرَادُ تَرْكُ مُعَاشَرَتِهُمْ وَمُلَاطَفَتِهُمْ وَلَا يَتْرُكُ إِنْذَارَهُمْ وَتَخْوِيفَهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الرَّسُولَ بِأَنْ يَتْرُكَ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِصِفَتَيْنِ:

الصِّفَةُ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَتِهِمْ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمُ الَّذِي كُلِّفُوهُ وَدُعُوا إِلَيْهِ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ لَعِبًا وَلَهْوًا حَيْثُ سَخِرُوا بِهِ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ. الثَّانِي: اتَّخَذُوا مَا هُوَ لَعِبٌ وَلَهْوٌ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا دِينًا لَهُمْ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَحْكُمُونَ فِي دِينِ اللَّه بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَالتَّمَنِّي، مِثْلَ تَحْرِيمِ السَّوَائِبِ وَالْبَحَائِرِ وَمَا كَانُوا يَحْتَاطُونَ فِي أَمْرِ الدِّينِ الْبَتَّةَ، وَيَكْتَفُونَ فِيهِ بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ فَعَبَّرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا. وَالرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ جَعَلَ اللَّه لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا يُعَظِّمُونَهُ وَيُصَلُّونَ فِيهِ وَيُعَمِّرُونَهُ بِذِكْرِ اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ أَكْثَرُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ اتَّخَذُوا عِيدَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمُ اتَّخَذُوا عِيدَهُمْ كَمَا شَرَعَهُ اللَّه تَعَالَى. وَالْخَامِسُ: وَهُوَ الْأَقْرَبُ، أَنَّ الْمُحَقِّقَ فِي الدِّينِ هُوَ الَّذِي يَنْصُرُ الدِّينَ لِأَجْلِ أَنَّهُ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَصَوَابٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ يَنْصُرُونَهُ لِيَتَوَسَّلُوا بِهِ إِلَى أَخْذِ الْمَنَاصِبِ وَالرِّيَاسَةِ وَغَلَبَةِ الْخَصْمِ وَجَمْعِ الْأَمْوَالِ فَهُمْ نَصَرُوا الدِّينَ لِلدُّنْيَا، وَقَدْ حَكَمَ اللَّه عَلَى الدُّنْيَا فِي سَائِرِ الْآيَاتِ بِأَنَّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ. فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَنْ يَتَوَسَّلُ بِدِينِهِ إِلَى دُنْيَاهُ. وَإِذَا تَأَمَّلْتَ فِي حَالِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ وَجَدْتَهُمْ مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَدَاخِلِينَ تَحْتَ هَذِهِ الْحَالَةِ. واللَّه أَعْلَمُ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَهَذَا يُؤَكِّدُ الْوَجْهَ الْخَامِسَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إِنَّمَا اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا لِأَجْلِ أَنَّهُمْ غَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا. فَلِأَجْلِ اسْتِيلَاءِ حُبِّ الدُّنْيَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَعْرَضُوا عَنْ حَقِيقَةِ الدِّينِ وَاقْتَصَرُوا عَلَى تَزْيِينِ الظَّوَاهِرِ لِيَتَوَسَّلُوا بِهَا إِلَى حُطَامِ الدُّنْيَا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَقَوْلُهُ: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً مَعْنَاهُ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَلَا تُبَالِ بِتَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ وَلَا تُقِمْ لَهُمْ فِي نَظَرِكَ وَزْنًا وَذَكِّرْ بِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: بِهِ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ قِيلَ: وَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ وَقِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً/ وَالْمُرَادُ الدِّينُ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَدَيَّنُوا بِهِ وَيَعْتَقِدُوا صِحَّتَهُ. فَقَوْلُهُ: وَذَكِّرْ بِهِ أَيْ بِذَلِكَ الدِّينِ لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورِ. وَالدِّينُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِ، فَوَجَبَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَصْلُ الْإِبْسَالِ الْمَنْعُ وَمِنْهُ، هَذَا عَلَيْكَ بَسْلٌ أَيْ حَرَامٌ مَحْظُورٌ، وَالْبَاسِلُ الشُّجَاعُ لِامْتِنَاعِهِ مِنْ خَصْمِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ شَدِيدُ الْبُسُورِ، يُقَالُ بَسَرَ الرَّجُلُ إِذَا اشْتَدَّ عُبُوسُهُ، وَإِذَا زَادَ قَالُوا بَسَلَ، وَالْعَابِسُ مُنْقَبِضُ الْوَجْهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ أَيْ تُرْتَهَنُ فِي جَهَنَّمَ بِمَا كَسَبَتْ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: تُسَلَّمُ لِلْمَهْلَكَةِ أَيْ تُمْنَعُ عَنْ مُرَادِهَا وَتُخْذَلُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تُحْبَسُ فِي جَهَنَّمَ، وَعَنِ ابْنِ عباس تُبْسَلَ تفضح وأُبْسِلُوا فُضِحُوا، وَمَعْنَى الْآيَةِ وَذَكِّرْهُمْ بِالْقُرْآنِ، وَمُقْتَضَى الدِّينِ مَخَافَةَ احْتِبَاسِهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ بِسَبَبِ جِنَايَاتِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَخَافُونَ فَيَتَّقُونَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَيْسَ لَها أَيْ لَيْسَ لِلنَّفْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها أي وإن تفذ كُلَّ فِدَاءٍ، وَالْعَدْلُ الْفِدْيَةُ لَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ الْعَدْلُ وَتِلْكَ الْفِدْيَةُ مِنْهَا. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فَاعِلُ يُؤْخَذُ لَيْسَ هُوَ قَوْلَهُ: عَدْلٍ لِأَنَّ العدل هاهنا مَصْدَرٌ، فَلَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ الْأَخْذُ. وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ فَبِمَعْنَى الْمُفْدَى بِهِ، فَصَحَّ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ. فَنَقُولُ: الْأَخْذُ بِمَعْنَى القبول وارد. قال تعالى: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ أَيْ يَقْبَلُهَا. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَيُحْمَلُ الْأَخْذُ هاهنا عَلَى الْقَبُولِ، وَيَزُولُ السُّؤَالُ. واللَّه أَعْلَمُ.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 71 إلى 72]

وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: بَيَانُ أَنَّ وُجُوهَ الْخَلَاصِ عَلَى تِلْكَ النَّفْسِ مُنْسَدَّةٌ، فَلَا وَلِيَّ يَتَوَلَّى دَفْعَ ذَلِكَ الْمَحْذُورِ، وَلَا شَفِيعَ يَشْفَعُ فِيهَا، وَلَا فِدْيَةَ تُقْبَلُ لِيَحْصُلَ الْخَلَاصُ بِسَبَبِ قَبُولِهَا حَتَّى لَوْ جُعِلَتِ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا فَدِيَةً مِنْ عَذَابِ اللَّه لَمْ تَنْفَعْ. فَإِذَا كَانَتْ وُجُوهُ الْخَلَاصِ هِيَ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ فِي الدُّنْيَا، وَثَبَتَ أَنَّهَا لَا تُفِيدُ فِي الْآخِرَةِ الْبَتَّةَ، وَظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا الْإِبْسَالُ الَّذِي هُوَ الِارْتِهَانُ وَالِانْغِلَاقُ وَالِاسْتِسْلَامُ، فَلَيْسَ لَهَا الْبَتَّةَ دَافِعٌ مِنْ عَذَابِ اللَّه تَعَالَى، وَإِذَا تَصَوَّرَ الْمَرْءُ كَيْفِيَّةَ الْعِقَابِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكَادُ يُرْعِدُ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى مَعَاصِي اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ مَا بِهِ صَارُوا مُرْتَهَنِينَ وَعَلَيْهِ مَحْبُوسِينَ، فَقَالَ لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ وَذَلِكَ هُوَ النِّهَايَةُ فِي صِفَةِ الْإِيلَامِ. واللَّه أَعْلَمُ. [سورة الأنعام (6) : الآيات 71 الى 72] قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) [في قوله تعالى قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ إلى قوله إِذْ هَدانَا اللَّهُ] اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الرَّدُّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ وَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى قَبْلَ ذَلِكَ: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فقال: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ أَنَعْبُدُ مَنْ دُونِ اللَّه النَّافِعِ الضَّارِّ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعِنَا وَلَا عَلَى ضُرِّنَا، وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا رَاجِعِينَ إِلَى الشِّرْكِ بَعْدَ أَنْ أَنَقْذَنَا اللَّه مِنْهُ وَهَدَانَا لِلْإِسْلَامِ؟ وَيُقَالُ لِكُلِّ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ إِنَّهُ رَجَعَ إِلَى خَلْفٍ، وَرَجَعَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِنْسَانِ هُوَ الْجَهْلُ، ثُمَّ إِذَا تَرَقَّى وَتَكَامَلَ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ. قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ [النَّحْلِ: 78] فَإِذَا رَجَعَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَى الْجَهْلِ مَرَّةً أُخْرَى فَكَأَنَّهُ رَجَعَ إِلَى أَوَّلِ مَرَّةٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ يُقَالُ: فُلَانٌ رُدَّ عَلَى عَقِبَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ [إلى قوله إِلَى الْهُدَى ائْتِنا] فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذَا الْإِنْسَانَ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الصِّفَاتِ: الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ اسْتَهْوَاهُ بِأَلِفٍ مُمَالَةٍ عَلَى التَّذْكِيرِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ، لِأَنَّ الْجَمْعَ يَصْلُحُ أَنْ يُذَكَّرَ عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِ، وَيَصْلُحُ أَنْ يُؤَنَّثَ عَلَى مَعْنَى الْجَمَاعَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي اشْتِقَاقِ اسْتَهْوَتْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْهُوِيِّ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ النُّزُولُ مِنَ الْمَوْضِعِ الْعَالِي إِلَى الْوَهْدَةِ السَّافِلَةِ الْعَمِيقَةِ فِي قَعْرِ الْأَرْضِ، فَشَبَّهَ اللَّه تَعَالَى حَالَ هَذَا الضَّالِّ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ [الْحَجِّ: 31] وَلَا شَكَّ أَنَّ حَالَ هَذَا الْإِنْسَانِ عِنْدَ هُوِيِّهِ مِنَ الْمَكَانِ الْعَالِي إِلَى الْوَهْدَةِ الْعَمِيقَةِ الْمُظْلِمَةِ يَكُونُ فِي غَايَةِ الِاضْطِرَابِ وَالضَّعْفِ وَالدَّهْشَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْمَيْلِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ رُبَّمَا بَلَغَ/ النِّهَايَةَ فِي الْحَيْرَةِ،

وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَكْمَلُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الدَّهْشَةِ وَالضَّعْفِ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: حَيْرانَ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ حَارَ يَحَارُ حَيْرَةً وَحَيَرًا، وَزَادَ الْفَرَّاءُ حَيَرَانًا وَحَيْرُورَةً، وَمَعْنَى الْحَيْرَةِ هِيَ التَّرَدُّدُ فِي الْأَمْرِ بِحَيْثُ لَا يَهْتَدِي إِلَى مَخْرَجِهِ. وَمِنْهُ يُقَالُ: الْمَاءُ يَتَحَيَّرُ فِي الْغَيْمِ أَيْ يَتَرَدَّدُ، وَتَحَيَّرَتِ الرَّوْضَةُ بِالْمَاءِ إِذَا امْتَلَأَتْ فَتَرَدَّدَ فِيهَا الْمَاءُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَثَلَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي يَهْوِي مِنَ الْمَكَانِ الْعَالِي إِلَى الْوَهْدَةِ الْعَمِيقَةِ يَهْوِي إِلَيْهَا مَعَ الِاسْتِدَارَةِ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْحَجَرَ حَالَ نُزُولِهِ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ يَنْزِلُ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ كَمَالَ التَّرَدُّدِ، وَالتَّحَيُّرِ، وَأَيْضًا فَعِنْدَ نُزُولِهِ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَلَى مَوْضِعٍ يَزْدَادُ بَلَاؤُهُ بِسَبَبِ سُقُوطِهِ عَلَيْهِ أَوْ يَقِلُّ، فَإِذَا اعْتَبَرْتَ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عَلِمْتَ أَنَّكَ لَا تَجِدُ مِثَالًا لِلْمُتَحَيِّرِ الْمُتَرَدِّدِ الْخَائِفِ أَحْسَنَ وَلَا أَكْمَلَ مِنْ هَذَا الْمِثَالِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قَالُوا: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَدْعُو أَبَاهُ إِلَى الْكُفْرِ وَأَبُوهُ كَانَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَيَأْمُرُهُ بِأَنْ يَرْجِعَ مِنْ طَرِيقِ الْجَهَالَةِ إِلَى الْهِدَايَةِ وَمِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ لِذَلِكَ الْكَافِرِ الضَّالِّ أَصْحَابًا يَدْعُونَهُ إِلَى ذَلِكَ الضَّلَالِ وَيُسَمُّونَهُ بِأَنَّهُ هُوَ الْهُدَى وَهَذَا بِعِيدٌ. وَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى يَعْنِي هُوَ الْهُدَى الْكَامِلُ النَّافِعُ الشَّرِيفُ كَمَا إِذَا قُلْتَ عِلْمُ زَيْدٍ هُوَ الْعِلْمُ وَمُلْكُ عَمْرٍو هُوَ الْمُلْكُ كَانَ مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقْرِيرِ أَمْرِ الْكَمَالِ وَالشَّرَفِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [إلى قوله إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى دَخَلَ فِيهِ جَمِيعُ أَقْسَامِ الْمَأْمُورَاتِ وَالِاحْتِرَازُ عَنْ كُلِّ الْمَنْهِيَّاتِ، وَتَقْرِيرُ الْكَلَامِ أَنَّ كُلَّ مَا تَعَلَّقَ أَمْرُ اللَّه بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التُّرُوكِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ، وَرَئِيسُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الْإِيمَانُ باللَّه وَالْإِسْلَامُ لَهُ، وَرَئِيسُ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ الصَّلَاةُ، وَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ مِنْ بَابِ التُّرُوكِ فَهُوَ التَّقْوَى وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الِاتِّقَاءِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي، واللَّه سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ أَوَّلًا أَنَّ الْهُدَى النَّافِعَ هُوَ هُدَى اللَّه، أَرْدَفَ ذَلِكَ الْكَلَامَ الْكُلِّيَّ بِذِكْرِ أَشْرَفِ أَقْسَامِهِ عَلَى التَّرْتِيبِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ رَئِيسُ الطَّاعَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَالصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ رَئِيسَةُ الطَّاعَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ رَئِيسَةٌ لِبَابِ التُّرُوكِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي، ثُمَّ بَيَّنَ مَنَافِعَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ يَعْنِي أَنَّ مَنَافِعَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِي يَوْمِ الْحَشْرِ وَالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ حَسُنَ عَطْفُ قَوْلِهِ: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ عَلَى قَوْلِهِ: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ؟ قُلْنَا: ذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِيهِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ، وَأُمِرْنَا فَقِيلَ لَنَا أَسْلِمُوا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ. فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْتُمْ، لَكِنْ مَا الْحِكْمَةُ فِي الْعُدُولِ عَنْ هَذَا اللَّفْظِ الظَّاهِرِ وَالتَّرْكِيبِ الْمُوَافِقِ لِلْعَقْلِ إِلَى ذَلِكَ اللَّفْظِ الَّذِي لَا يَهْتَدِي الْعَقْلُ إِلَى مَعْنَاهُ إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ؟ قُلْنَا: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَافِرَ مَا دَامَ يُبْقِي عَلَى كُفْرِهِ، كَانَ كَالْغَائِبِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَا جَرَمَ يُخَاطَبُ بِخِطَابِ الْغَائِبِينَ،

[سورة الأنعام (6) : آية 73]

فَيُقَالُ لَهُ: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَإِذَا أَسْلَمَ وَآمَنَ وَدَخَلَ فِي الْإِيمَانِ صَارَ كَالْقَرِيبِ الْحَاضِرِ، فَلَا جَرَمَ يُخَاطَبُ بِخِطَابِ الْحَاضِرِينَ، وَيُقَالُ لَهُ: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الْخِطَابِ التَّنْبِيهُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ حَالَتَيِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْكَافِرَ بَعِيدٌ غَائِبٌ والمؤمن قريب حاضر. واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 73] وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) [المسألة الأولى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَعْبُودَ إِلَّا اللَّه وحده] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَاتِ المتقدمة فساد طريقة عبدة الأصنام، ذكر هاهنا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَعْبُودَ إِلَّا اللَّه وَحْدَهُ وَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَذَكَرَ فِيهَا أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الدَّلَائِلِ. أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أَمَّا كَوْنُهُ خالقا للسموات والأرض، فقد شرحنا فِي قَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَمَّا أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمَا بِالْحَقِّ فَهُوَ نَظِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا [آلِ عِمْرَانَ: 191] وَقَوْلِهِ: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 16] مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدُّخَانِ: 39] وَفِيهِ قَوْلَانِ. الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ تَعَالَى مَالِكٌ لِجَمِيعِ الْمُحْدَثَاتِ مَالِكٌ لِكُلِّ الكائنات وتصرف للمالك فِي مُلْكِهِ حَسَنٌ وَصَوَابٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَكَانَ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ حَسَنًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَحَقًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ حَقًّا أَنَّهُ وَاقِعٌ عَلَى وَفْقِ مَصَالِحِ الْمُكَلَّفِينَ مُطَابِقٌ لِمَنَافِعِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ خَلَقَ الْمُكَلَّفَ أَوَّلًا حتى يمكنه الانتفاع بخلق السموات وَالْأَرْضِ، وَلِحُكَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ يُقَالُ: أَوْدَعَ فِي هَذِهِ الْأَجْرَامِ الْعَظِيمَةِ قُوًى وَخَوَاصَّ يَصْدُرُ بِسَبَبِهَا عَنْهَا آثَارٌ وَحَرَكَاتٌ مُطَابَقَةٌ لِمَصَالِحِ هَذَا الْعَالَمِ وَمَنَافِعِهِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ. الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ وَهُوَ الذي خلق السموات وَالْأَرْضِ وَخَلَقَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِلدُّنْيَا وَلِكُلِّ مَا فِيهَا مِنَ الْأَفْلَاكِ وَالطَّبَائِعِ وَالْعَنَاصِرِ وَالْخَالِقِ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ وَلِرَدِّ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَادِ عَلَى سَبِيلِ كُنْ فَيَكُونُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ أَنْ نقول قوله: الْحَقُّ مبتدأ ويَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ظَرْفٌ دَالٌّ عَلَى الخبر، والتقدير قوله: الْحَقُّ واقع يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ كَقَوْلِكَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ الْقِتَالُ، وَمَعْنَاهُ الْقِتَالُ وَاقِعٌ يَوْمَ الْجُمْعَةِ. وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ قَوْلِهِ حَقًّا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَقْضِي إِلَّا بِالْحَقِّ وَالصِّدْقِ، لِأَنَّ أَقْضِيَتَهُ مُنَزَّهَةٌ عَنِ الْجَوْرِ وَالْعَبَثِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَقَوْلُهُ: وَلَهُ الْمُلْكُ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا مَلِكَ فِي يَوْمِ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ إِلَّا الحق سبحانه وتعالى، فالمراد بالكلام الثاني تقريرا لحكم الْحَقِّ الْمُبَرَّأِ عَنِ الْعَبَثِ وَالْبَاطِلِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْكَلَامِ تَقْرِيرُ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي لَا دَافِعَ لَهَا وَلَا مُعَارِضَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَوْلُ اللَّه حَقٌّ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَقُدْرَتُهُ كَامِلَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَخْصِيصِ هَذَا الْيَوْمِ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ؟

قُلْنَا: لِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي لَا يَظْهَرُ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ نَفْعٌ وَلَا ضُرٌّ، فَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ فَلِهَذَا السَّبَبِ حَسُنَ هَذَا التَّخْصِيصُ، وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ تَقْدِيرُهُ، وَهُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْكَامِلِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْبَعْثِ فِي الْقِيَامَةِ إِلَّا وَقَرَّرَ فِيهِ أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، وَالثَّانِي: كَوْنُهُ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ وَرَدِّ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَادِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْهُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْمُطِيعُ بِالْعَاصِي. وَالْمُؤْمِنُ بِالْكَافِرِ، وَالصِّدِّيقُ بِالزِّنْدِيقِ، فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ. أَمَّا إِذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ حُصُولُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ كَمُلَ الْغَرَضُ وَالْمَقْصُودُ، فَقَوْلُهُ: وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ/ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَقَوْلُهُ: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْعِلْمِ فَلَا جَرَمَ لَزِمَ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ حَقًّا، وَأَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ صِدْقًا، وَأَنْ تَكُونَ قَضَايَاهُ مُبَرَّأَةً عَنِ الْجَوْرِ وَالْعَبَثِ وَالْبَاطِلِ. ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ حَكِيمًا أَنْ يَكُونَ مُصِيبًا فِي أَفْعَالِهِ، وَمَنْ كَوْنِهِ خَبِيرًا، كَوْنُهُ عَالِمًا بِحَقَائِقِهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِبَاهٍ وَمِنْ غَيْرِ الْتِبَاسٍ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: كُنْ فَيَكُونُ خِطَابًا وَأَمْرًا لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ إِنْ كَانَ لِلْمَعْدُومِ فَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ لِلْمَوْجُودِ فَهُوَ أَمْرٌ بِأَنْ يَصِيرَ الْمَوْجُودُ مَوْجُودًا وَهُوَ مُحَالٌ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى نَفَاذِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ فِي تَكْوِينِ الْكَائِنَاتِ وَإِيجَادِ الْمَوْجُودَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَلَا شُبْهَةَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ يَوْمَ الْحَشْرِ، وَلَا شُبْهَةَ عِنْدَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ خَلَقَ قَرْنًا يَنْفُخُ فِيهِ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَذَلِكَ الْقَرْنُ يُسَمَّى بِالصُّورِ عَلَى مَا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالصُّورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ ذَلِكَ الْقَرْنُ الَّذِي يُنْفَخُ فِيهِ وَصِفَتُهُ مَذْكُورَةٌ فِي سَائِرِ السُّوَرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الصُّورَ جَمْعُ صُورَةٍ وَالنَّفْخُ فِي الصُّورِ عِبَارَةٌ عَنِ النَّفْخِ فِي صُوَرِ الْمَوْتَى، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الصُّورُ جَمْعُ صُورَةٍ مِثْلُ صُوفٍ وَصُوفَةٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: أَخْبَرَنِي أَبُو الْفَضْلِ الْعَرُوضِيُّ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ عَنِ الْمُنْذِرِيِّ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ: أَنَّهُ قَالَ ادَّعَى قَوْمٌ أَنَّ الصُّورَ جَمْعُ الصُّورَةِ كَمَا أَنَّ الصُّوفَ جَمْعُ الصُّوفَةِ وَالثُّومَ جَمْعُ الثُّومَةِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ، وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غَافِرٍ: 64] وَقَالَ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [يس: 51، الزمر: 68] فَمَنْ قَرَأَ وَنُفِخَ فِي الصُّوَرِ، وَقَرَأَ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ فَقَدِ افْتَرَى الْكَذِبَ، وَبَدَّلَ كِتَابَ اللَّه، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ صَاحِبَ أَخْبَارٍ وَغَرَائِبَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالنَّحْوِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: كُلُّ جمع على لفظ الواحد المذكور سَبَقَ جَمْعُهُ وَاحِدَهُ، فَوَاحِدُهُ بِزِيَادَةِ هَاءٍ فِيهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ الصُّوفِ وَالْوَبَرِ وَالشَّعْرِ وَالْقُطْنِ وَالْعُشْبِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ اسْمٌ لِجَمِيعِ جِنْسِهِ، وَإِذَا أُفْرِدَتْ وَاحِدَتُهُ زِيدَتْ فِيهَا هَاءٌ لِأَنَّ جَمْعَ هَذَا الْبَابِ سَبَقَ وَاحِدَهُ، وَلَوْ أَنَّ الصُّوفَةَ كَانَتْ سَابِقَةً لِلصُّوفِ لَقَالُوا صُوفَةٌ وَصُوَفٌ وَبُسْرَةٌ وَبُسَرٌ كَمَا قَالُوا غُرْفَةٌ وَغُرَفٌ، وَزُلْفَةٌ وَزُلَفٌ، وَأَمَّا الصُّورُ الْقَرْنُ فَهُوَ وَاحِدٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ

[سورة الأنعام (6) : آية 74]

وَاحِدَتُهُ صُورَةٌ وَإِنَّمَا تُجْمَعُ صُورَةُ الْإِنْسَانِ صُوَرًا لِأَنَّ وَاحِدَتَهُ سَبَقَتْ جَمْعَهُ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: قَدْ أَحْسَنَ أَبُو الْهَيْثَمِ فِي هَذَا الْكَلَامِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدِي غَيْرُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَأَقُولُ: وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ/ الْمُرَادُ نَفْخَ الرُّوحِ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ لَأَضَافَ تَعَالَى ذَلِكَ النَّفْخَ إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ نَفْخَ الْأَرْوَاحِ فِي الصُّوَرِ يُضِيفُهُ اللَّه إِلَى نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الْحِجْرِ: 29] وَقَالَ: فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وقال: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ وأما نفخ الصُّورِ بِمَعْنَى النَّفْخِ فِي الْقَرْنِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يُضِيفُهُ لَا إِلَى نَفْسِهِ كَمَا قَالَ: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ [الْمُدَّثِّرِ: 8] وَقَالَ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ... ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزُّمَرِ: 68] فَهَذَا تَمَامُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْبَحْثِ، واللَّه أعلم بالصواب. [سورة الأنعام (6) : آية 74] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ سبحانه كثيرا يَحْتَجُّ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِأَحْوَالِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَعْتَرِفُ بِفَضْلِهِ جَمِيعُ الطَّوَائِفِ وَالْمِلَلِ فَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِفَضْلِهِ مُقِرِّينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِهِ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مُعَظِّمُونَ لَهُ مُعْتَرِفُونَ بِجَلَالَةِ قَدْرِهِ. فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّه حِكَايَةَ حَالِهِ فِي مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَنْصِبَ الْعَظِيمَ وَهُوَ اعْتِرَافُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِفَضْلِهِ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ لَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ كَمَا اتَّفَقَ لِلْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ حَصَلَ بَيْنَ الرَّبِّ وبين العبد معاهدة. كما قال: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: 40] فَإِبْرَاهِيمُ وَفَّى بِعَهْدِ الْعُبُودِيَّةِ، واللَّه تَعَالَى شَهِدَ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ تَارَةً وَعَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ أُخْرَى. أَمَّا الْإِجْمَالُ فَفِي آيَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا قَوْلُهُ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [الْبَقَرَةِ: 124] وَهَذَا شَهَادَةٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ تَمَّمَ عَهْدَ الْعُبُودِيَّةِ. وَالثَّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْبَقَرَةِ: 131] وَأَمَّا التَّفْصِيلُ: فَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَاظِرٌ فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالِ الْقَوْلِ بِالشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ فِي مَقَامَاتٍ كَثِيرَةٍ. فَالْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فِي هَذَا الْبَابِ مُنَاظَرَاتُهُ مَعَ أَبِيهِ حَيْثُ قال له: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مَرْيَمَ: 42] . وَالْمَقَامُ الثَّانِي: مُنَاظَرَتُهُ مَعَ قَوْمِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الْأَنْعَامِ: 76] . وَالْمَقَامُ الثَّالِثُ: مُنَاظَرَتُهُ مَعَ مَلِكِ زَمَانِهِ، فَقَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة: 258] . والمقام الرابع: مناظرته مع الكفارة بِالْفِعْلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: 58] ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ قَالُوا: حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: 68] ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ بَذَلَ وَلَدَهُ فَقَالَ: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصَّافَّاتِ: 102] فَعِنْدَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنَ الْفِتْيَانِ، لِأَنَّهُ سَلَّمَ قَلْبَهُ لِلْعِرْفَانِ وَلِسَانَهُ لِلْبُرْهَانِ وَبَدَنَهُ لِلنِّيرَانِ وَوَلَدَهُ لِلْقُرْبَانِ وَمَالَهُ لِلضِّيفَانِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ رَبَّهُ فَقَالَ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشُّعَرَاءِ: 84] فَوَجَبَ فِي كَرَمِ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ يُجِيبُ دُعَاءَهُ وَيُحَقِّقُ مَطْلُوبَهُ فِي هَذَا السُّؤَالِ، فَلَا جَرَمَ أَجَابَ دُعَاءَهُ، وَقَبِلَ نِدَاءَهُ وَجَعْلَهُ مَقْبُولًا لِجَمِيعِ الْفِرَقِ وَالطَّوَائِفِ

إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَرَبُ مُعْتَرِفِينَ بِفَضْلِهِ لَا جَرَمَ جَعَلَ اللَّه تَعَالَى مُنَاظَرَتَهُ مَعَ قَوْمِهِ حُجَّةً عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ أَحَدٌ يُثْبِتُ للَّه تَعَالَى شَرِيكًا يُسَاوِيهِ فِي الْوُجُوبِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، لَكِنِ الثَّنَوِيَّةُ يُثْبِتُونَ إِلَهَيْنِ، أَحَدُهُمَا حَكِيمٌ يَفْعَلُ الْخَيْرَ، وَالثَّانِي سَفِيهٌ يَفْعَلُ الشَّرَّ، وَأَمَّا الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّه. فَفِي الذَّاهِبِينَ إِلَيْهِ كَثْرَةٌ. فَمِنْهُمْ عَبَدَةُ الْكَوَاكِبِ، وَهُمْ فَرِيقَانِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ، وَفَوَّضَ تَدْبِيرَ هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ إِلَيْهَا، فَهَذِهِ الْكَوَاكِبُ، هِيَ الْمُدَبِّرَاتُ لِهَذَا الْعَالَمِ، قَالُوا: فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْبُدَ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ تَعْبُدُ اللَّه وتطبعه، وَمِنْهُمْ قَوْمٌ غُلَاةٌ يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ، وَيَقُولُونَ هَذِهِ الْأَفْلَاكُ وَالْكَوَاكِبُ أَجْسَامٌ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهَا الْعَدَمُ وَالْفَنَاءُ، وَهِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِأَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الدَّهْرِيَّةُ الْخَالِصَةُ، وَمِمَّنْ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّه النَّصَارَى الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْمَسِيحَ وَمِنْهُمْ أَيْضًا عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هُنَا بَحْثًا لَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ أَنَّهُ لَا دِينَ أَقْدَمَ مِنْ دِينِ عَبْدَةِ الْأَصْنَامِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ أَقْدَمَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ وَصَلَ إِلَيْنَا تَوَارِيخُهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ هُوَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ إِنَّمَا جَاءَ بِالرَّدِّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِهِ أنهم قالوا: لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نُوحٍ: 23] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دِينَ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ قَدْ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ بَقِيَ ذَلِكَ الدِّينُ إِلَى هَذَا الزَّمَانِ فَإِنَّ أَكْثَرَ سُكَّانِ أَطْرَافِ الْأَرْضِ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى هَذَا الدِّينِ وَالْمَذْهَبُ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْبُطْلَانِ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ هَذَا الْحَجَرَ الْمَنْحُوتَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي خَلَقَنِي وَخَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ، وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ يَمْتَنِعُ إِطْبَاقُ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ عَلَى إِنْكَارِهِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ دِينُ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ كَوْنَ الصَّنَمِ/ خَالِقًا لِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِيهِ تَأْوِيلٌ، وَالْعُلَمَاءُ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا كَثِيرَةً وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْبَحْثَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ نعيده هاهنا تَكْثِيرًا لِلْفَوَائِدِ. فَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَقْوَى أَنَّ النَّاسَ رَأَوْا تَغَيُّرَاتِ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ مَرْبُوطَةً بِتَغَيُّرَاتِ أَحْوَالِ الْكَوَاكِبِ، فَإِنَّ بِحَسَبِ قُرْبِ الشَّمْسِ وَبُعْدِهَا مِنْ سَمْتِ الرَّأْسِ تَحْدُثُ الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ، وَبِسَبَبِ حُدُوثِ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ تَحَدُثُ الْأَحْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي هَذَا الْعَالَمِ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ تَرَصَّدُوا أَحْوَالَ سَائِرِ الْكَوَاكِبِ فَاعْتَقَدُوا ارْتِبَاطَ السَّعَادَاتِ وَالنُّحُوسَاتِ بِكَيْفِيَّةِ وُقُوعِهَا فِي طَوَالِعِ النَّاسِ عَلَى أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ فَلَمَّا اعْتَقَدُوا ذَلِكَ غَلَبَ عَلَى ظُنُونِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ أَنَّ مَبْدَأَ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ فِي هَذَا الْعَالَمِ هُوَ الِاتِّصَالَاتُ الْفَلَكِيَّةُ وَالْمُنَاسَبَاتُ الْكَوْكَبِيَّةُ فَلَمَّا اعْتَقَدُوا ذَلِكَ بَالَغُوا فِي تَعْظِيمِهَا ثُمَّ مِنْهُمْ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا وَاجِبَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَقَدَ حُدُوثَهَا وَكَوْنَهَا مَخْلُوقَةً لِلْإِلَهِ الْأَكْبَرِ، إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً لِلْإِلَهِ الْأَكْبَرِ، إِلَّا أَنَّهَا هِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِأَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أَثْبَتُوا الْوَسَائِطَ بَيْنَ الْإِلَهِ الْأَكْبَرِ، وَبَيْنَ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَالْقَوْمُ اشْتَغَلُوا بِعِبَادَتِهَا وَتَعْظِيمِهَا ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ قَدْ تَغِيبُ عَنِ الْأَبْصَارِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ اتَّخَذُوا لِكُلِّ كَوْكَبٍ صَنَمًا مِنَ الْجَوْهَرِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ وَاتَّخَذُوا صَنَمَ الشَّمْسِ مِنَ الذَّهَبِ وَزَيَّنُوهُ بِالْأَحْجَارِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى الشَّمْسِ وَهِيَ الْيَاقُوتُ وَالْأَلْمَاسُ وَاتَّخَذُوا صَنَمَ الْقَمَرِ مِنَ الْفِضَّةِ وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ ثُمَّ أَقْبَلُوا عَلَى عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ وَغَرَضُهُمْ مِنْ عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ هُوَ عِبَادَةُ تِلْكَ الْكَوَاكِبِ وَالتَّقَرُّبُ إِلَيْهَا وَعِنْدَ هَذَا الْبَحْثِ يَظْهَرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ

عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ هُوَ عِبَادَةُ الْكَوَاكِبِ. وَأَمَّا الأنبياء صلوات اللَّه عليهم فلهم هاهنا مَقَامَانِ: أَحَدُهُمَا: إِقَامَةُ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا الْبَتَّةَ فِي أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ فِي الْكَوَاكِبِ أَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِتَقْدِيرِ أَنَّهَا تَفْعَلُ شَيْئًا وَيَصْدُرُ عَنْهَا تَأْثِيرَاتٌ فِي هَذَا الْعَالَمِ إِلَّا أَنَّ دَلَائِلَ الْحُدُوثِ حَاصِلَةٌ فِيهَا فَوَجَبَ كَوْنُهَا مَخْلُوقَةً وَالِاشْتِغَالُ بِعِبَادَةِ الْأَصْلِ أَوْلَى مِنَ الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَةِ الْفَرْعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ حَاصِلَ دِينِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً؟ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ فَأَفْتَى بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ جَهْلٌ، ثُمَّ لَمَّا اشْتَغَلَ بِذِكْرِ الدَّلِيلِ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ الْكَوَاكِبَ وَالْقَمَرَ وَالشَّمْسَ لَا يَصْلُحُ شَيْءٌ مِنْهَا لِلْإِلَهِيَّةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دِينَ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ حَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى الْقَوْلِ بِإِلَهِيَّةِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ وَإِلَّا لَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَنَافِيَةً مُتَنَافِرَةً. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى إِبْطَالِ الْقَوْلِ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ إِلَّا بِإِبْطَالِ كَوْنِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ/ وَسَائِرِ الْكَوَاكِبِ آلِهَةً لِهَذَا الْعَالَمِ مُدَبِّرَةً لَهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي شَرْحِ حَقِيقَةِ مَذْهَبِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو مَعْشَرٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُنَجِّمُ الْبَلْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّه فَقَالَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الصِّينِ وَالْهِنْدِ كَانُوا يُثْبِتُونَ الْإِلَهَ وَالْمَلَائِكَةَ إِلَّا أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ تَعَالَى جِسْمٌ وَذُو صُورَةٍ كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ الصُّوَرِ وَلِلْمَلَائِكَةِ أَيْضًا صُوَرٌ حَسَنَةٌ إِلَّا أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُحْتَجِبُونَ عنا بالسموات، فَلَا جَرَمَ اتَّخَذُوا صُوَرًا وَتَمَاثِيلَ أَنِيقَةَ الْمَنْظَرِ حَسَنَةَ الرُّؤْيَا وَالْهَيْكَلِ فَيَتَّخِذُونَ صُورَةً فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَيَقُولُونَ إِنَّهَا هَيْكَلُ الْإِلَهِ، وَصُورَةً أُخْرَى دُونَ الصُّورَةِ الْأَوْلَى وَيَجْعَلُونَهَا عَلَى صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ يُوَاظِبُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا قَاصِدِينَ بِتِلْكَ الْعِبَادَةِ طَلَبَ الزُّلْفَى مِنَ اللَّه تَعَالَى وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرَهُ أَبُو مَعْشَرٍ فَالسَّبَبُ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى جِسْمٌ وَفِي مَكَانٍ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْقَوْمَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى فَوَّضَ تَدْبِيرَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَقَالِيمِ إِلَى مَلَكٍ بِعَيْنِهِ. وَفَوَّضَ تَدْبِيرَ كُلِّ قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِ مُلْكِ الْعَالَمِ إِلَى رُوحٍ سَمَاوِيٍّ بِعَيْنِهِ فَيَقُولُونَ مُدَبِّرُ الْبِحَارِ مَلَكٌ، وَمُدَبِّرُ الْجِبَالِ مَلَكٌ آخَرُ، وَمُدَبِّرُ الْغُيُومِ وَالْأَمْطَارِ مَلَكٌ، وَمُدَبِّرُ الْأَرْزَاقِ مَلَكٌ، وَمُدَبِّرُ الْحُرُوبِ وَالْمُقَاتِلَاتِ مَلَكٌ آخَرُ فَلَمَّا اعْتَقَدُوا ذَلِكَ اتَّخَذُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ صَنَمًا مَخْصُوصًا وَهَيْكَلًا مَخْصُوصًا وَيَطْلُبُونَ مِنْ كُلِّ صَنَمٍ مَا يَلِيقُ بِذَلِكَ الرُّوحِ الْفَلَكِيِّ مِنَ الْآثَارِ وَالتَّدْبِيرَاتِ، وَلِلْقَوْمِ تَأْوِيلَاتٌ أُخْرَى سِوَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ ذَكَرْنَاهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ولنكتف هاهنا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْبَيَانِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَ وَالِدِ إِبْرَاهِيمَ هُوَ آزَرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ اسْمُهُ تَارَحُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا خِلَافَ بَيْنَ النَّسَّابِينَ أَنَّ اسْمَهُ تَارَحُ، وَمِنَ الْمُلْحِدَةِ مَنْ جَعَلَ هَذَا طَعْنًا فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ هذا النسب خطأ وليس بصواب، وللعلماء هاهنا مَقَامَانِ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنَّ اسْمَ وَالِدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ آزَرُ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَجْمَعَ النَّسَّابُونَ عَلَى أَنَّ اسْمَهُ كَانَ تَارَحَ. فَنَقُولُ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا حَصَلَ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُقَلِّدُ بَعْضًا، وَبِالْآخِرَةِ يَرْجِعُ ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ إِلَى قَوْلِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ مِثْلُ قَوْلِ وَهْبٍ وَكَعْبٍ وَغَيْرِهِمَا، وَرُبَّمَا تَعَلَّقُوا بِمَا يَجِدُونَهُ مِنْ أَخْبَارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا عِبْرَةَ بِذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ صَرِيحِ الْقُرْآنِ. الْمَقَامُ الثَّانِي: سَلَّمْنَا أن اسمه كان تارح ثم لنا هاهنا وجوه:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: لَعَلَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ مُسَمًّى بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اسْمَهُ الْأَصْلِيَّ كَانَ آزَرَ وَجُعِلَ تَارَحُ لَقَبًا لَهُ، فَاشْتَهَرَ هَذَا اللَّقَبُ وَخَفِيَ الِاسْمُ. فاللَّه تَعَالَى ذَكَرَهُ بِالِاسْمِ، / وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالْعَكْسِ، وَهُوَ أَنَّ تَارَحَ كَانَ اسْمًا أَصْلِيًّا وَآزَرَ كَانَ لَقَبًا غَالِبًا. فَذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِهَذَا اللَّقَبِ الْغَالِبِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَفْظَةُ آزَرَ صفة مخصوصة في لغتم، فَقِيلَ إِنَّ آزَرَ اسْمُ ذَمٍّ فِي لُغَتِهِمْ وَهُوَ الْمُخْطِئُ كَأَنَّهُ قِيلَ، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ الْمُخْطِئِ كَأَنَّهُ عَابَهُ بِزَيْغِهِ وَكُفْرِهِ وَانْحِرَافِهِ عَنِ الْحَقِّ، وَقِيلَ آزَرُ هُوَ الشَّيْخُ الْهَرِمُ بِالْخُوَارَزْمِيَّةِ، وَهُوَ أَيْضًا فَارِسِيَّةٌ أَصْلِيَّةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ إِنَّمَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِ اشْتِمَالِ الْقُرْآنِ عَلَى أَلْفَاظٍ قَلِيلَةٍ مِنْ غَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ آزَرَ كَانَ اسْمَ صَنَمٍ يَعْبُدُهُ وَالِدُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ اللَّه بِهَذَا الِاسْمِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ مُخْتَصًّا بِعِبَادَتِهِ وَمَنْ بَالَغَ فِي مَحَبَّةِ أَحَدٍ فَقَدْ يَجْعَلُ اسْمَ الْمَحْبُوبِ اسْمًا لِلْمُحِبِّ. قَالَ اللَّه تَعَالَى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الْإِسْرَاءِ: 71] وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عَابِدَ آزَرَ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ تَارَحَ وَآزَرُ كَانَ عَمًّا لَهُ، وَالْعَمُّ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَبِ، كَمَا حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ أَنَّهُمْ قَالُوا: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [الْبَقَرَةِ: 133] وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ كَانَ عَمًّا لِيَعْقُوبَ. وَقَدْ أَطْلَقُوا عَلَيْهِ لَفْظَ الأب فكذا هاهنا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ التَّكَلُّفَاتِ إِنَّمَا يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا لَوْ دَلَّ دَلِيلٌ بَاهِرٌ عَلَى أَنَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ مَا كَانَ اسْمُهُ آزَرَ وَهَذَا الدَّلِيلُ لَمْ يُوجَدِ الْبَتَّةَ، فَأَيُّ حَاجَةٍ تَحْمِلُنَا عَلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ، وَالدَّلِيلُ الْقَوِيُّ عَلَى صِحَّةِ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ كَانُوا فِي غَايَةِ الْحِرْصِ عَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِظْهَارِ بُغْضِهِ، فَلَوْ كَانَ هَذَا النَّسَبُ كَذِبًا لَامْتَنَعَ فِي الْعَادَةِ سُكُوتُهُمْ عَنْ تَكْذِيبِهِ وَحَيْثُ لَمْ يُكَذِّبُوهُ عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا النَّسَبَ صَحِيحٌ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الشِّيعَةُ: إِنَّ أَحَدًا مِنْ آبَاءِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَجْدَادِهِ مَا كَانَ كَافِرًا وَأَنْكَرُوا أَنْ يُقَالَ إِنَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ كَافِرًا وَذَكَرُوا أَنَّ آزَرَ كَانَ عَمَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَمَا كَانَ وَالِدًا لَهُ وَاحْتَجُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِوُجُوهٍ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ آبَاءَ الْأَنْبِيَاءِ مَا كَانُوا كُفَّارًا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشُّعَرَاءِ: 218، 219] . قِيلَ مَعْنَاهُ: إِنَّهُ كَانَ يَنْقُلُ رُوحَهُ مِنْ سَاجِدٍ إِلَى سَاجِدٍ وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ: فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ آبَاءِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانُوا مُسْلِمِينَ. وَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُسْلِمًا. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أُخَرَ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ لَمَّا نُسِخَ فَرْضُ/ قِيَامِ اللَّيْلِ طَافَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عَلَى بُيُوتِ الصَّحَابَةِ لِيَنْظُرَ مَاذَا يَصْنَعُونَ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ مِنَ الطَّاعَاتِ فَوَجَدَهَا كَبُيُوتِ الزَّنَابِيرِ لِكَثْرَةِ مَا سَمِعَ مِنْ أَصْوَاتِ قِرَاءَتِهِمْ وَتَسْبِيحِهِمْ وَتَهْلِيلِهِمْ. فالمراد من قوله:

وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ طَوَافُهُ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عَلَى السَّاجِدِينَ. وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُصَلِّي بِالْجَمَاعَةِ فَتَقَلُّبُهُ فِي السَّاجِدِينَ مَعْنَاهُ: كَوْنُهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَمُخْتَلِطًا بِهِمْ حَالَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَا يَخْفَى حَالُكَ عَلَى اللَّه كُلَّمَا قُمْتَ وَتَقَلَّبْتَ مَعَ السَّاجِدِينَ فِي الِاشْتِغَالِ بِأُمُورِ الدِّينِ. وَرَابِعُهَا: الْمُرَادُ تَقَلُّبُ بَصَرِهِ فِيمَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَتِمُّوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي» فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ مِمَّا يَحْتَمِلُهَا ظَاهِرُ الْآيَةِ، فَسَقَطَ مَا ذَكَرْتُمْ. وَالْجَوَابُ: لَفْظُ الْآيَةِ مُحْتَمِلٌ لِلْكُلِّ، فَلَيْسَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْبَاقِي. فَوَجَبَ أَنْ نَحْمِلَهَا عَلَى الْكُلِّ وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَمِمَّا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنْ آبَاءِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَمْ أَزَلْ أُنْقَلُ مِنْ أَصْلَابِ الطَّاهِرِينَ إِلَى أَرْحَامِ الطَّاهِرَاتِ» وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التَّوْبَةِ: 28] وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَحَدًا مِنْ أَجْدَادِهِ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ مُشْرِكًا، وَثَبَتَ أَنَّ آزَرَ كَانَ مُشْرِكًا. فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ إِنْسَانًا آخَرَ غَيْرَ آزَرَ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: عَلَى أَنَّ آزَرَ مَا كَانَ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَافَهَ آزَرَ بِالْغِلْظَةِ وَالْجَفَاءِ. وَمُشَافَهَةُ الْأَبِ بِالْجَفَاءِ لَا تَجُوزُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آزَرَ مَا كَانَ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ شَافَهَ آزَرَ بِالْغِلْظَةِ وَالْجَفَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قُرِئَ وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ بِضَمِّ آزَرَ وَهَذَا يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى النِّدَاءِ وَنِدَاءُ الْأَبِ بِالِاسْمِ الْأَصْلِيِّ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْجَفَاءِ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ لَآزَرَ: إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْجَفَاءِ وَالْإِيذَاءِ. فَثَبَتَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَافَهَ آزَرَ بِالْجَفَاءِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ مُشَافَهَةَ الْأَبِ بِالْجَفَاءِ لَا تَجُوزُ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْإِسْرَاءِ: 23] وَهَذَا عَامٌّ فِي حَقِّ الْأَبِ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ، قَالَ تَعَالَى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما [الإسراء: 23] وهذا أيضا عام. والثاني: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى فِرْعَوْنَ أَمَرَهُ بِالرِّفْقِ مَعَهُ فَقَالَ فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ رِعَايَةً لِحَقِّ تَرْبِيَةِ فِرْعَوْنَ. فَهَهُنَا الْوَالِدُ أَوْلَى بِالرِّفْقِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الدَّعْوَةَ مَعَ الرِّفْقِ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا فِي الْقَلْبِ، أَمَّا التَّغْلِيظُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ/ التَّنْفِيرَ وَالْبُعْدَ عَنِ الْقَبُولِ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْلِ: 125] فَكَيْفَ يَلِيقُ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِثْلُ هَذِهِ الْخُشُونَةِ مَعَ أَبِيهِ فِي الدَّعْوَةِ؟ الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْحِلْمَ، فَقَالَ: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ [هُودٍ: 75] وَكَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّجُلِ الْحَلِيمِ مِثْلُ هَذَا الْجَفَاءِ مَعَ الْأَبِ؟ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ آزَرَ مَا كَانَ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلْ كَانَ عَمًّا لَهُ، فَأَمَّا وَالِدُهُ فَهُوَ تَارَحُ وَالْعَمُّ قَدْ يُسَمَّى بِالْأَبِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَوْلَادَ يَعْقُوبَ سَمَّوْا إِسْمَاعِيلَ بِكَوْنِهِ أَبًا لِيَعْقُوبَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَمًّا لَهُ. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رُدُّوا عَلَيَّ أَبِي» يَعْنِي الْعَمَّ الْعَبَّاسَ وَأَيْضًا يُحْتَمَلُ أَنَّ آزَرَ كَانَ وَالِدَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَذَا قَدْ يُقَالُ لَهُ الْأَبُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ إِلَى قَوْلِهِ: وَعِيسى [الْأَنْعَامِ: 84، 85] فَجَعَلَ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ جَدًّا لِعِيسَى مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ وَالِدَ رَسُولِ اللَّه كَانَ كَافِرًا وَذَكَرُوا أَنَّ نَصَّ الْكِتَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ آزَرَ كَانَ كَافِرًا وَكَانَ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَى قَوْلِهِ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التَّوْبَةِ: 114] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قولنا، وأما قوله وَتَقَلُّبَكَ فِي

[سورة الأنعام (6) : آية 75]

السَّاجِدِينَ قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَحْتَمِلُ سَائِرَ الْوُجُوهِ قَوْلُهُ تُحْمَلُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الْكُلِّ، قُلْنَا هَذَا مُحَالٌ لِأَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ لَا يَجُوزُ، وَأَيْضًا حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعًا لَا يَجُوزُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَمْ أَزَلْ أُنْقَلُ مِنْ أَصْلَابِ الطَّاهِرِينَ إِلَى أَرْحَامِ الطَّاهِرَاتِ» فَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مَا وَقَعَ فِي نَسَبِهِ مَا كَانَ سِفَاحًا، أَمَّا قَوْلُهُ التَّغْلِيظُ مَعَ الْأَبِ لَا يَلِيقُ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قُلْنَا: لَعَلَّهُ أَصَرَّ عَلَى كُفْرِهِ فَلِأَجَلِ الْإِصْرَارِ استحق ذلك التغليظ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قُرِئَ آزَرَ بِالنَّصْبِ وَهُوَ عَطْفُ بَيَانٍ لِقَوْلِهِ: لِأَبِيهِ وَبِالضَّمِّ عَلَى النِّدَاءِ، وَسَأَلَنِي وَاحِدٌ فَقَالَ: قُرِئَ آزَرَ بِهَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ قُرِئَ هارُونَ بِالنَّصْبِ وَمَا قُرِئَ الْبَتَّةَ بِالضَّمِّ فَمَا الْفَرْقُ؟ قُلْتُ الْقِرَاءَةُ بِالضَّمِّ مَحْمُولَةٌ عَلَى النِّدَاءِ وَالنِّدَاءُ بِالِاسْمِ اسْتِخْفَافٌ بِالْمُنَادَى. وَذَلِكَ لَائِقٌ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ كَانَ مُصِرًّا عَلَى كُفْرِهِ فَحَسُنَ أَنْ يُخَاطَبَ بِالْغِلْظَةِ زَجْرًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ الْقَبِيحِ، وَأَمَّا قِصَّةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَسْتَخْلِفُ هَارُونَ عَلَى قَوْمِهِ فَمَا كَانَ الِاسْتِخْفَافُ لَائِقًا بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَلَا جَرَمَ مَا كَانَتِ الْقِرَاءَةُ بِالضَّمِّ جَائِزَةً. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِ لَفْظِ «الْإِلَهِ» وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ هُوَ الْمَعْبُودُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّهُمْ مَا أَثْبَتُوا لِلْأَصْنَامِ إِلَّا كَوْنَهَا مَعْبُودَةً، وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَفْسِيرَ لَفْظِ «الْإِلَهِ» هُوَ الْمَعْبُودُ. / الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اشْتَمَلَ كَلَامُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ذِكْرِ الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِكَثْرَةِ الْآلِهَةِ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ بِكَثْرَةِ الْآلِهَةِ بَاطِلٌ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ لَوْ حَصَلَتْ لَهَا قُدْرَةٌ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لَكَانَ الصَّنَمُ الْوَاحِدُ كَافِيًا، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْوَاحِدُ كَافِيًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا وَإِنْ كَثُرَتْ فَلَا نَفْعَ فِيهَا الْبَتَّةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَوُجُوبَ الِاشْتِغَالِ بِشُكْرِهِ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ لَا بِالسَّمْعِ. قَالَ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالِ، وَلَوْلَا الْوُجُوبُ الْعَقْلِيُّ لَمَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالِ. لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَذْهَبَ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ كَانَ ضَلَالًا بِحُكْمِ شَرْعِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا مُتَقَدِّمِينَ على إبراهيم عليه السلام. [سورة الأنعام (6) : آية 75] وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «الْكَافُ» فِي كَذَلِكَ لِلتَّشْبِيهِ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى غَائِبٍ جرى ذكره والمذكور هاهنا فِيمَا قَبْلُ هُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَقْبَحَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَالْمَعْنَى: وَمِثْلُ مَا أَرَيْنَاهُ من قبح عبادة الأصنام نريه ملكوت السموات والأرض. وهاهنا دَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ نُورَ جَلَالِ اللَّه تَعَالَى لَائِحٌ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ وَلَا زَائِلٍ الْبَتَّةَ، وَالْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ لَا تَصِيرُ مَحْرُومَةً عَنْ تِلْكَ الْأَنْوَارِ إِلَّا لِأَجْلِ حِجَابٍ، وَذَلِكَ الْحِجَابُ لَيْسَ إِلَّا الِاشْتِغَالُ بِغَيْرِ اللَّه تَعَالَى، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَبِقَدْرِ مَا يَزُولُ ذَلِكَ الْحِجَابُ يحصل هذا

التَّجَلِّي فَقَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِشَارَةٌ إِلَى تَقْبِيحِ الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى، لِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّه فَهُوَ حِجَابٌ عَنِ اللَّه تَعَالَى، فَلَمَّا زَالَ ذَلِكَ الْحِجَابُ لَا جَرَمَ تَجَلَّى لَهُ مَلَكُوتُ السموات بِالتَّمَامِ، فَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ مَعْنَاهُ: وَبَعْدَ زَوَالِ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِ اللَّه حَصَلَ لَهُ نُورُ تَجَلِّي جَلَالِ اللَّه تَعَالَى، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ مَنْشَأً لِهَذِهِ الْفَائِدَةِ الشَّرِيفَةِ الرُّوحَانِيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ الْإِرَاءَةُ قَدْ حَصَلَتْ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الزَّمَانِ، فَكَانَ الْأَوْلَى/ أَنْ يُقَالَ: وَكَذَلِكَ أَرَيْنَا إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السموات وَالْأَرْضِ، فَلِمَ عَدَلَ عَنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ إِلَى قَوْلِهِ وَكَذلِكَ نُرِي. قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ يَكُونَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ، وَكَذَلِكَ كنا نرى إبراهيم ملكوت السموات وَالْأَرْضِ، فَيَكُونُ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ عَنِ الْمَاضِي. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ شَافَهَ أَبَاهُ الْكَلَامَ الْخَشِنَ تَعَصُّبًا لِلدِّينِ الْحَقِّ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَكَيْفَ بَلَغَ إِبْرَاهِيمُ هَذَا الْمَبْلَغَ الْعَظِيمَ فِي قُوَّةِ الدِّينِ، فَأُجِيبَ بِأَنَّا كنا نريه ملكوت السموات وَالْأَرْضِ مِنْ وَقْتِ طُفُولِيَّتِهِ لِأَجْلِ أَنْ يَصِيرَ مِنَ الْمُوقِنِينَ زَمَانَ بُلُوغِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: وَهُوَ أَعْلَى وَأَشْرَفُ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِرَاءَةِ اللَّه إبراهيم ملكوت السموات وَالْأَرْضِ هُوَ مُجَرَّدُ أَنْ يَرَى إِبْرَاهِيمُ هَذَا الْمَلَكُوتَ، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنْ يَرَاهَا فَيَتَوَسَّلَ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ جَلَالِ اللَّه تَعَالَى وَقُدْسِهِ وَعُلُوِّهِ وَعَظَمَتِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَخْلُوقَاتِ اللَّه وَإِنْ كَانَتْ مُتَنَاهِيَةً فِي الذَّوَاتِ وَفِي الصِّفَاتِ، إِلَّا أَنَّ جِهَاتِ دَلَالَاتِهَا عَلَى الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ. وَسَمِعْتُ الشَّيْخَ الْإِمَامَ الْوَالِدَ عُمَرَ ضِيَاءَ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى قَالَ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ يَقُولُ: مَعْلُومَاتُ اللَّه تَعَالَى غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَمَعْلُومَاتُهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ أَيْضًا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ فِي أَحْيَازٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا عَلَى الْبَدَلِ، ويمكن اتصافه بِصِفَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا عَلَى الْبَدَلِ، وَكُلُّ تِلْكَ الْأَحْوَالِ التَّقْدِيرِيَّةِ دَالَّةٌ عَلَى حِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ أَيْضًا، وَإِذَا كَانَ الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ وَالْجُزْءُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ الْقَوْلُ فِي كُلِّ مَلَكُوتِ اللَّه تَعَالَى، فَثَبَتَ أَنَّ دَلَالَةَ مُلْكِ اللَّه تَعَالَى، وَمَلَكُوتِهِ عَلَى نُعُوتِ جَلَالِهِ وَسِمَاتِ عَظَمَتِهِ وَعِزَّتِهِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَحُصُولُ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً في عقول الخلق محال، فإذن لَا طَرِيقَ إِلَى تَحْصِيلِ تِلْكَ الْمَعَارِفِ إِلَّا بِأَنْ يَحْصُلَ بَعْضُهَا عَقِيبَ الْبَعْضِ لَا إِلَى نِهَايَةٍ وَلَا إِلَى آخِرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ واللَّه أَعْلَمُ لَمْ يَقُلْ، وَكَذَلِكَ أَرَيْنَاهُ ملكوت السموات وَالْأَرْضِ، بَلْ قَالَ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ السَّفَرُ إِلَى اللَّه لَهُ نِهَايَةٌ، وَأَمَّا السَّفَرُ فِي اللَّه فَإِنَّهُ لَا نِهَايَةَ لَهُ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: «الْمَلَكُوتُ» هُوَ الْمُلْكُ، وَ «التَّاءُ» لِلْمُبَالَغَةِ كَالرَّغَبُوتِ مِنَ الرَّغْبَةِ وَالرَّهَبُوتِ من الرهبة. واعلم أن في تفسير هَذِهِ الْإِرَاءَةَ قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّه أَرَاهُ الْمَلَكُوتَ بِالْعَيْنِ، قَالُوا إِنَّ اللَّه تَعَالَى شَقَّ له السموات حَتَّى رَأَى الْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ وَإِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي إِلَيْهِ فَوْقِيَّةُ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ، / وَشَقَّ لَهُ الْأَرْضَ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي إِلَى السَّطْحِ الْآخَرِ مِنَ العالم الجسماني، ورأي ما في السموات مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْبَدَائِعِ، وَرَأَى مَا فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْبَدَائِعِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِإِبْرَاهِيمَ إِلَى السَّمَاءِ ورأي ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ فَأَبْصَرَ عَبْدًا عَلَى فَاحِشَةٍ فَدَعَا عَلَيْهِ وَعَلَى آخَرَ بِالْهَلَاكِ، فَقَالَ اللَّه تَعَالَى لَهُ: كُفَّ عَنْ عِبَادِي فَهُمْ بَيْنَ حَالَيْنِ إِمَّا أَنْ أَجْعَلَ مِنْهُمْ ذَرِّيَّةً طَيِّبَةً أَوْ يَتُوبُونَ فَأَغْفِرَ لَهُمْ أَوِ النَّارُ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَطَعَنَ الْقَاضِي فِي

هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ هُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَهُمْ لَا يَعْصُونَ اللَّه، فَلَا يَلِيقُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ أَبْصَرَ عَبْدًا عَلَى فَاحِشَةٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَدْعُونَ بِهَلَاكِ الْمُذْنِبِ إِلَّا عَنْ أَمْرِ اللَّه تَعَالَى، وَإِذَا أَذِنَ اللَّه تَعَالَى فِيهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ إِجَابَةِ دُعَائِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ الدُّعَاءَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَوَابًا أَوْ خَطَأً فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَلِمَ رَدَّهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَلِمَ قَبِلَهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى. ثُمَّ قَالَ: وَأَخْبَارُ الْآحَادِ إِذَا وَرَدَتْ عَلَى خِلَافِ دَلَائِلِ الْعُقُولِ وَجَبَ التَّوَقُّفُ فِيهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْإِرَاءَةَ كَانَتْ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ وَالْعَقْلِ، لَا بِالْبَصَرِ الظَّاهِرِ وَالْحِسِّ الظَّاهِرِ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ بِوُجُوهٍ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أن ملكوت السموات عِبَارَةٌ عَنْ مُلْكِ السَّمَاءِ، وَالْمُلْكُ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ، وَقُدْرَةُ اللَّه لَا تُرَى، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ بِالْعَقْلِ، وَهَذَا كَلَامٌ قَاطِعٌ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ المراد بملكوت السموات والأرض نفس السموات وَالْأَرْضِ، إِلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَضِيعُ لَفْظُ الْمَلَكُوتِ وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ فَائِدَةٌ. وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْإِرَاءَةَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ ثُمَّ فَسَّرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً [الْأَنْعَامِ: 76] فَجَرَى ذِكْرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ كَالشَّرْحِ وَالتَّفْسِيرِ لِتِلْكَ الْإِرَاءَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ تِلْكَ الْإِرَاءَةَ كَانَتْ عِبَارَةً عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ. وَالْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ وَالرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ لَا تَصِيرُ حُجَّةً عَلَى قَوْمِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا غَائِبِينَ عَنْهَا وَكَانُوا يُكَذِّبُونَ إِبْرَاهِيمَ فِيهَا وَمَا كَانَ يَجُوزُ لَهُمْ تَصْدِيقُ إِبْرَاهِيمَ فِي تِلْكَ الدَّعْوَى إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَمُعْجِزَةٍ بَاهِرَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْحُجَّةُ الَّتِي أَوْرَدَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَى قَوْمِهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالنُّجُومِ مِنَ الطَّرِيقِ الَّذِي نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ. فَإِنَّ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ كَانَتْ ظَاهِرَةً لَهُمْ كَمَا أَنَّهَا كَانَتْ ظَاهِرَةً لِإِبْرَاهِيمَ. وَالْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ إِرَاءَةَ جَمِيعِ الْعَالِمِ تُفِيدُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ إِلَهًا قَادِرًا عَلَى كُلِّ/ الْمُمْكِنَاتِ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ بِسَبَبِهَا اسْتِحْقَاقُ الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْكُفَّارَ فِي الْآخِرَةِ يَعْرِفُونَ اللَّه تَعَالَى بِالضَّرُورَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ مَدْحٌ وَلَا ثَوَابٌ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فَذَاكَ هُوَ الَّذِي يُفِيدُ الْمَدْحَ وَالتَّعْظِيمَ. وَالْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَكَذَلِكَ قَالَ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فُصِّلَتْ: 53] فَكَمَا كَانَتْ هَذِهِ الْإِرَاءَةُ بِالْبَصِيرَةِ الْبَاطِنَةِ لَا بِالْبَصَرِ الظَّاهِرِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا تَمَّمَ الِاسْتِدْلَالَ بِالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ قَالَ بَعْدَهُ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام: 79] فحكم على السموات وَالْأَرْضِ بِكَوْنِهَا مَخْلُوقَةً لِأَجْلِ الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي النَّجْمِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ. وَذَلِكَ الدَّلِيلُ لَوْ لم يكن عاما في كل السموات وَالْأَرْضِ لَكَانَ الْحُكْمُ الْعَامُّ بِنَاءً عَلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ وَإِنَّهُ خَطَأٌ، فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ كَانَ عَامًّا فَكَانَ ذِكْرُ النَّجْمِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ كَالْمِثَالِ لِإِرَاءَةِ الْمَلَكُوتِ. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ إِرَاءَةِ الْمَلَكُوتِ تَعْرِيفُ كَيْفِيَّةِ دَلَالَتِهَا بِحَسَبِ تَغَيُّرِهَا وَإِمْكَانِهَا وَحُدُوثِهَا عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْعَالِمِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْإِرَاءَةُ بِالْقَلْبِ لَا بالعين.

الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: أَنَّ الْيَقِينَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعِلْمِ الْمُسْتَفَادِ بِالتَّأَمُّلِ إِذَا كَانَ مَسْبُوقًا بِالشَّكِّ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ كَالْغَرَضِ مِنْ تِلْكَ الْإِرَاءَةِ فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِأَجْلِ أَنْ يَصِيرَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا كَانَ الْيَقِينُ هُوَ الْعِلْمُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الدَّلِيلِ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْإِرَاءَةُ عِبَارَةً عَنِ الِاسْتِدْلَالِ. الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّ جَمِيعَ مَخْلُوقَاتِ اللَّه تَعَالَى دَالَّةٌ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ بِاعْتِبَارٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ مُمْكِنَةٌ وَكُلُّ مُحْدَثٍ مُمْكِنٍ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الصَّانِعِ. وَإِذَا عَرَفَ الْإِنْسَانُ هَذَا الْوَجْهَ الْوَاحِدَ فَقَدْ كَفَاهُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الصَّانِعِ وَكَأَنَّهُ بِمَعْرِفَةِ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ قَدْ طَالَعَ جَمِيعَ الْمَلَكُوتِ بِعَيْنِ عَقْلِهِ وَسَمِعَ بِأُذُنِ عَقْلِهِ شَهَادَتَهَا بِالِاحْتِيَاجِ وَالِافْتِقَارِ وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ رُؤْيَةٌ بَاقِيَةٌ غَيْرُ زَائِلَةٍ الْبَتَّةَ. ثم إنها غير شاغلة عَنِ اللَّه تَعَالَى بَلْ هِيَ شَاغِلَةٌ لِلْقَلْبِ وَالرُّوحِ باللَّه. أَمَّا رُؤْيَةُ الْعَيْنِ فَالْإِنْسَانُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرَى بِالْعَيْنِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً دُفْعَةً وَاحِدَةً عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ نَظَرَ إِلَى صَحِيفَةٍ مَكْتُوبَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَرَى مِنْ تِلْكَ الصَّحِيفَةِ رُؤْيَةً كَامِلَةً تَامَّةً إِلَّا حَرْفًا وَاحِدًا فَإِنْ حَدَّقَ نَظَرَهُ إِلَى حَرْفٍ آخَرَ وَشَغَلَ بَصَرَهُ بِهِ صَارَ مَحْرُومًا عَنْ إِدْرَاكِ الْحَرْفِ الْأَوَّلِ، أَوْ عَنْ إِبْصَارِهِ. فَثَبَتَ أَنَّ رُؤْيَةَ الْأَشْيَاءِ/ الْكَثِيرَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً غَيْرُ مُمْكِنَةٍ. وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ مُمْكِنَةً هِيَ غَيْرُ بَاقِيَةٍ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً هِيَ شَاغِلَةٌ عَنِ اللَّه تَعَالَى. أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي تَرْكِ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ فَقَالَ: مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النَّجْمِ: 17] فَثَبَتَ بِجُمْلَةِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ تِلْكَ الْإِرَاءَةَ كَانَتْ إِرَاءَةً بِحَسَبِ بَصِيرَةِ الْعَقْلِ، لَا بِحَسَبِ الْبَصَرِ الظَّاهِرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَرُؤْيَةُ الْقَلْبِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ حَاصِلَةٌ لِجَمِيعِ الْمُوَحِّدِينَ فَأَيُّ فَضِيلَةٍ تَحْصُلُ لِإِبْرَاهِيمَ بِسَبَبِهَا. قُلْنَا: جَمِيعُ الْمُوَحِّدِينَ وَإِنْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَصْلَ هَذَا الدَّلِيلِ إِلَّا أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى آثَارِ حِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِ هَذَا الْعَالَمِ بِحَسَبِ أَجْنَاسِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَأَصْنَافِهَا وَأَشْخَاصِهَا وَأَحْوَالِهَا مِمَّا لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِلْأَكَابِرِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ رَسُولُنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ أَرِنَا الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ» فَزَالَ هَذَا الْإِشْكَالُ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي «الْوَاوِ» فِي قَوْلِهِ: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: نُرِي إِبْرَاهِيمَ ملكوت السموات وَالْأَرْضِ لِيَسْتَدِلَّ بِهَا لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا لِبَيَانِ عِلَّةِ الْإِرَاءَةِ وَالتَّقْدِيرُ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ نُرِيهِ مَلَكُوتَ السموات وَالْأَرْضِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِرَاءَةَ قَدْ تَحْصُلُ وَتَصِيرُ سَبَبًا لِمَزِيدِ الضَّلَالِ كَمَا فِي حَقِّ فِرْعَوْنَ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى [طه: 56] وَقَدْ تَصِيرُ سَبَبًا لِمَزِيدِ الْهِدَايَةِ وَالْيَقِينِ. فَلَمَّا احْتَمَلَتِ الْإِرَاءَةُ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّا أَرَيْنَاهُ هَذِهِ الْآيَاتِ لِيَرَاهَا وَلِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ من الموقنين لا من الجاهدين واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْيَقِينُ عِبَارَةٌ عَنْ عِلْمٍ يَحْصُلُ بَعْدَ زَوَالِ الشُّبْهَةِ بِسَبَبِ التَّأَمُّلِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوصَفُ عِلْمُ اللَّه تَعَالَى بِكَوْنِهِ يَقِينًا لِأَنَّ عِلْمَهُ غَيْرُ مَسْبُوقٍ بِالشُّبْهَةِ وَغَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنَ الْفِكْرِ وَالتَّأَمُّلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي أَوَّلِ مَا يَسْتَدِلُّ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ قَلْبُهُ عَنْ شَكٍّ وَشُبْهَةٍ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَإِذَا كَثُرَتِ الدَّلَائِلُ وَتَوَافَقَتْ وَتَطَابَقَتْ صَارَتْ سَبَبًا لِحُصُولِ الْيَقِينِ وَذَلِكَ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الدَّلَائِلِ نَوْعُ تَأَثُّرٍ وَقُوَّةٍ فَلَا تَزَالُ الْقُوَّةُ

[سورة الأنعام (6) : الآيات 76 إلى 79]

تَتَزَايَدُ حَتَّى نَنْتَهِيَ إِلَى الْجَزْمِ. الثَّانِي: أَنَّ كَثْرَةَ الْأَفْعَالِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْمَلَكَةِ فَكَثْرَةُ الِاسْتِدْلَالِ بِالدَّلَائِلِ الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى الْمَدْلُولِ الْوَاحِدِ جَارٍ مَجْرَى تَكْرَارِ الدَّرْسِ الْوَاحِدِ، فَكَمَا أَنَّ كَثْرَةَ التَّكْرَارِ تُفِيدُ الْحِفْظَ الْمُتَأَكَّدَ الَّذِي لَا يَزُولُ عَنِ القلب، فكذا هاهنا. الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَلْبَ عِنْدَ الِاسْتِدْلَالِ كَانَ مُظْلِمًا جِدًّا فَإِذَا حَصَلَ فِيهِ الِاعْتِقَادُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ امْتَزَجَ نُورُ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالِ بِظُلْمَةِ سَائِرِ الصِّفَاتِ الْحَاصِلَةِ فِي الْقَلْبِ، فَحَصَلَ فِيهِ حَالَةٌ شَبِيهَةٌ بِالْحَالَةِ الْمُمْتَزِجَةِ مِنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ، فَإِذَا حَصَلَ الِاسْتِدْلَالُ/ الثَّانِي امْتَزَجَ نُورُهُ بِالْحَالَةِ الْأُولَى، فَيَصِيرُ الْإِشْرَاقُ وَاللَّمَعَانُ أَتَمَّ. وَكَمَا أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا قَرُبَتْ مِنَ الْمَشْرِقِ ظَهَرَ نُورُهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَهُوَ الصُّبْحُ. فَكَذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ الْأَوَّلُ يَكُونُ كَالصُّبْحِ، ثُمَّ كَمَا أَنَّ الصُّبْحَ لَا يَزَالُ يَتَزَايَدُ بِسَبَبِ تَزَايُدِ قُرْبِ الشَّمْسِ مِنْ سَمْتِ الرَّأْسِ، فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَى سَمْتِ الرَّأْسِ حَصَلَ النُّورُ التَّامُّ، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ كُلَّمَا كَانَ تَدَبُّرُهُ فِي مَرَاتِبِ مَخْلُوقَاتِ اللَّه تَعَالَى أَكْثَرَ كَانَ شُرُوقُ نُورِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّوْحِيدِ أَجْلَى. إِلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ شَمْسِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ شَمْسِ الْعَالَمِ أَنَّ شَمْسَ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ لَهَا فِي الِارْتِقَاءِ وَالتَّصَاعُدِ حَدٌّ مُعَيَّنٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ فِي الصُّعُودِ، وَأَمَّا شَمْسُ الْمَعْرِفَةِ وَالْعَقْلِ وَالتَّوْحِيدِ، فَلَا نِهَايَةَ لِتَصَاعُدِهَا وَلَا غَايَةَ لِازْدِيَادِهَا فَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى مَرَاتِبَ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَقَوْلُهُ: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ إِشَارَةٌ إِلَى دَرَجَاتِ أَنْوَارِ التَّجَلِّي وَشُرُوقِ شَمْسِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّوْحِيدِ. واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 76 الى 79] فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ وَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نُرِي جُمْلَةٌ وَقَعَتِ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: يُقَالُ جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ وَأَجَنَّهُ اللَّيْلُ، ويقال: لكل/ ما سترته جَنَّ وَأَجَنَّ، وَيُقَالُ أَيْضًا جَنَّهُ اللَّيْلُ، وَلَكِنَّ الِاخْتِيَارَ جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، وَأَجَنَّهُ اللَّيْلُ. هَذَا قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَمَعْنَى جَنَّ سَتَرَ وَمِنْهُ الْجَنَّةُ وَالْجِنُّ وَالْجُنُونُ وَالْجَانُّ وَالْجَنِينُ وَالْمِجَنُّ وَالْجَنَنُ وَالْمُجَنُّ، وَهُوَ الْمَقْبُورُ. وَالْمَجَنَّةُ كُلُّ هَذَا يَعُودُ أَصْلُهُ إِلَى السَّتْرِ وَالِاسْتِتَارِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ إِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِ اللَّيْلُ. وَلِهَذَا دَخَلَتْ «عَلَى» عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ فِي أَظْلَمَ. فَأَمَّا جَنَّهُ فَسَتَرَهُ مِنْ غَيْرِ تَضْمِينِ مَعْنَى (أَظْلَمَ) . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا أَنَّ مَلِكَ ذَلِكَ الزَّمَانِ رَأَى رُؤْيَا وَعَبَّرَهَا الْمُعَبِّرُونَ بِأَنَّهُ يُولَدُ غُلَامٌ يُنَازِعُهُ فِي مِلْكِهِ، فَأَمَرَ ذَلِكَ الْمَلِكُ بِذَبْحِ كُلِّ غُلَامٍ يُولَدُ، فَحَبِلَتْ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ بِهِ وَمَا أَظْهَرَتْ حَبَلَهَا لِلنَّاسِ، فَلَمَّا جَاءَهَا الطَّلْقُ ذَهَبَتْ إِلَى كَهْفٍ فِي جَبَلٍ وَوَضَعَتْ إِبْرَاهِيمَ وَسَدَّتِ الْبَابَ بِحَجَرٍ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوَضَعَ أُصْبُعَهُ فِي فَمِهِ فَمَصَّهُ فَخَرَجَ مِنْهُ رِزْقُهُ وَكَانَ يَتَعَهَّدُهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَانَتِ الْأُمُّ تَأْتِيهِ أَحْيَانًا وَتُرْضِعُهُ

وَبَقِيَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ حَتَّى كَبِرَ وَعَقَلَ وَعَرَفَ أَنَّ لَهُ رَبًّا، فَسَأَلَ الْأُمَّ فَقَالَ لَهَا: مَنْ رَبِّي؟ فَقَالَتْ أَنَا، فَقَالَ: وَمَنْ رَبُّكِ؟ قَالَتْ أَبُوكَ، فَقَالَ لِلْأَبِ: وَمَنْ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: مَلِكُ الْبَلَدِ. فَعَرَفَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَهْلَهُمَا بِرَبِّهِمَا فَنَظَرَ مِنْ بَابِ ذَلِكَ الْغَارِ لِيَرَى شَيْئًا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ فَرَأَى النَّجْمَ الَّذِي هُوَ أَضْوَأُ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ. فَقَالَ: هَذَا رَبِّي إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَجَرَيَانِ قَلَمِ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ الْبُلُوغِ. وَاتَّفَقَ أَكْثَرُ المحققين على فساد القول الأول [أي إن النجم رب في قول إبراهيم ع هذا رَبِّي] وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الْقَوْلَ بِرُبُوبِيَّةِ النَّجْمِ كُفْرٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالْكُفْرُ غَيْرُ جَائِزٍ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ عَرَفَ رَبَّهُ قَبْلَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ بِالدَّلِيلِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ لِأَبِيهِ آزَرَ: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الْأَنْعَامِ: 74] . الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ دَعَا أَبَاهُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَتَرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بالرفق حيث قال: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مَرْيَمَ: 42] وَحَكَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ دَعَا أَبَاهُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَتَرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بِالْكَلَامِ الْخَشِنِ وَاللَّفْظِ الْمُوحِشِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ دَعَا غَيْرَهُ إِلَى اللَّه تَعَالَى فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ الرِّفْقَ عَلَى الْعُنْفِ وَاللِّينَ عَلَى الْغِلَظِ وَلَا يَخُوضُ فِي التَّعْنِيفِ وَالتَّغْلِيظِ إِلَّا بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمَدِيدَةِ وَالْيَأْسِ التَّامِّ. فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ بَعْدَ أَنْ دَعَا أَبَاهُ إِلَى التَّوْحِيدِ/ مِرَارًا وَأَطْوَارًا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إِنَّمَا اشْتَغَلَ بِدَعْوَةِ أَبِيهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ مُهِمِّ نَفْسِهِ. فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ بَعْدَ أَنْ عَرَفَ اللَّه بِمُدَّةٍ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ بَعْدَ أن أراه اللَّه ملكوت السموات وَالْأَرْضِ حَتَّى رَأَى مَنْ فَوْقَ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَمَا تَحْتَهُمَا إِلَى مَا تَحْتَ الثَّرَى، وَمَنْ كَانَ مَنْصِبُهُ فِي الدِّينِ كَذَلِكَ، وَعِلْمُهُ باللَّه كَذَلِكَ، كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَعْتَقِدَ إِلَهِيَّةَ الْكَوَاكِبِ؟ الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ دَلَائِلَ الْحُدُوثِ فِي الْأَفْلَاكِ ظَاهِرَةٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ وَجْهًا وَأَكْثَرَ وَمَعَ هَذِهِ الْوُجُوهِ الظَّاهِرَةِ كَيْفَ يَلِيقُ بِأَقَلِّ الْعُقَلَاءِ نَصِيبًا مِنَ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ أَنْ يَقُولَ بِرُبُوبِيَّةِ الْكَوَاكِبِ فَضْلًا عَنْ أَعْقَلِ الْعُقَلَاءِ وَأَعْلَمِ الْعُلَمَاءِ؟ الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصَّافَّاتِ: 84] وَأَقَلُّ مَرَاتِبِ الْقَلْبِ السَّلِيمِ أَنْ يَكُونَ سَلِيمًا عَنِ الْكُفْرِ، وَأَيْضًا مَدَحَهُ فَقَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 51] أَيْ آتَيْنَاهُ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ أَوَّلِ زَمَانِ الْفِكْرَةِ. وَقَوْلُهُ: وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أَيْ بِطَهَارَتِهِ وَكَمَالِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَامِ: 124] . الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أَيْ وَلِيَكُونَ بِسَبَبِ تِلْكَ الْإِرَاءَةِ مِنَ الْمُوقِنِينَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ وَالْفَاءُ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ بَعْدَ أَنْ صَارَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْمُوقِنِينَ العارفين بربه.

الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ مُنَاظَرَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ قَوْمِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ قَالَ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ وَلَمْ يَقُلْ عَلَى نَفْسِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْمُبَاحَثَةَ إِنَّمَا جَرَتْ مَعَ قَوْمِهِ لِأَجْلِ أَنْ يُرْشِدَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ. لَا لِأَجْلِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَطْلُبُ الدِّينَ وَالْمَعْرِفَةَ لِنَفْسِهِ. الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّ الْقَوْمَ يَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا اشْتَغَلَ بِالنَّظَرِ فِي الْكَوَاكِبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ حَالَ مَا كَانَ فِي الْغَارِ، وَهَذَا بَاطِلٌ. لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يقول يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مَعَ أَنَّهُ مَا كَانَ فِي الْغَارِ لَا قَوْمَ وَلَا صَنَمَ. الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ تَعَالَى: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَكَيْفَ يُحَاجُّونَهُ وَهُمْ بَعْدُ مَا رَأَوْهُ وَهُوَ مَا رَآهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا اشْتَغَلَ بِالنَّظَرِ فِي الْكَوَاكِبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ بَعْدَ أَنْ خَالَطَ قَوْمَهُ وَرَآهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَدَعَوْهُ إِلَى عِبَادَتِهَا فَذَكَرَ قَوْلَهُ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ رَدًّا عَلَيْهِمْ وَتَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى فساد قولهم. الحجة الحادية عشر: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلْقَوْمِ: وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا خَوَّفُوهُ بِالْأَصْنَامِ، كَمَا حَكَى عَنْ قَوْمِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هُودٍ: 54] وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَلِيقُ بِالْغَارِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ كَانَتْ مَسْبُوقَةً بِالنَّهَارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّمْسَ كَانَتْ طَالِعَةً فِي الْيَوْمِ الْمُتَقَدِّمِ، ثُمَّ غَرَبَتْ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَدَلَّ بِغُرُوبِهَا السَّابِقِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ، وَإِذَا بَطَلَ بِهَذَا الدَّلِيلِ صَلَاحِيَةُ الشَّمْسِ لِلْإِلَهِيَّةِ بَطَلَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْقَمَرِ وَالْكَوْكَبِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى هَذَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا تَحْصِيلَ الْمَعْرِفَةِ لِنَفْسِهِ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا إِلْزَامُ الْقَوْمِ وَإِلْجَاؤُهُمْ، فَهَذَا السُّؤَالُ غَيْرُ وَارِدٍ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ إِنَّمَا اتَّفَقَتْ مُكَالَمَتُهُ مَعَ الْقَوْمِ حَالَ طُلُوعِ ذَلِكَ النَّجْمِ، ثُمَّ امْتَدَّتِ الْمُنَاظَرَةُ إِلَى أَنْ طَلَعَ الْقَمَرُ وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ بَعْدَهُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، فَالسُّؤَالُ غَيْرُ وَارِدٍ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ: هَذَا رَبِّي. وَإِذَا بَطَلَ هذا بقي هاهنا احْتِمَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ هَذَا كَلَامُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَلَكِنْ لَيْسَ الْغَرَضُ مِنْهُ إِثْبَاتَ رُبُوبِيَّةِ الْكَوْكَبِ بَلِ الْغَرَضُ مِنْهُ أَحَدُ أُمُورٍ سَبْعَةٍ. الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَقُلْ هَذَا رَبِّي عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ، بَلِ الْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُنَاظِرُ عَبَدَةَ الْكَوْكَبِ وَكَانَ مَذْهَبُهُمْ أَنَّ الْكَوْكَبَ رَبُّهُمْ وَإِلَهُهُمْ، فَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ الْقَوْلَ الَّذِي قَالُوهُ بِلَفْظِهِمْ وَعِبَارَتِهِمْ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ فَيُبْطِلُهُ، وَمِثَالُهُ: أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا إِذَا نَاظَرَ مَنْ يَقُولُ بِقِدَمِ الْجِسْمِ، فَيَقُولُ: الْجِسْمُ قَدِيمٌ؟ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلِمَ نَرَاهُ وَنُشَاهِدُهُ مُرَكَّبًا مُتَغَيِّرًا؟ فَهُوَ إِنَّمَا قَالَ الْجِسْمُ قَدِيمٌ إِعَادَةٌ لِكَلَامِ الْخَصْمِ حَتَّى يُلْزِمَ الْمُحَالَ عليه، فكذا هاهنا قَالَ: هَذَا رَبِّي وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ حِكَايَةُ قَوْلِ الْخَصْمِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْجَوَابِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ تَعَالَى دَلَّ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي التَّأْوِيلِ: أَنْ نَقُولَ قَوْلُهُ: هَذَا رَبِّي مَعْنَاهُ هَذَا رَبِّي فِي زَعْمِكُمْ واعتقادكم ونظيره أن

يقول الموحد لِلْمُجَسِّمِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ: إِنَّ إِلَهَهُ جِسْمٌ مَحْدُودٌ أَيْ فِي زَعْمِهِ وَاعْتِقَادِهِ قَالَ تَعَالَى: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً [طه: 97] وَقَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ [القصص: 62] وكان صلوات اللَّه عَلَيْهِ يَقُولُ: «يَا إِلَهَ الْآلِهَةِ» . وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى إِلَهُ الْآلِهَةِ فِي زَعْمِهِمْ وَقَالَ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدُّخَانِ: 49] أَيْ عِنْدَ نَفْسِكَ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ إِلَّا أَنَّهُ أَسْقَطَ/ حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ مُضْمَرًا فِيهِ، وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ يَقُولُونَ هَذَا رَبِي. وَإِضْمَارُ الْقَوْلِ كَثِيرٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا [الْبَقَرَةِ: 127] أَيْ يَقُولُونَ رَبَّنَا وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزُّمَرِ: 3] أَيْ يَقُولُونَ مَا نَعْبُدُهُمْ، فَكَذَا هاهنا التَّقْدِيرُ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِقَوْمِهِ: يَقُولُونَ هَذَا رَبِي. أَيْ هَذَا هُوَ الَّذِي يُدَبِّرُنِي وَيُرَبِّينِي. وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ كَمَا يُقَالُ لِذَلِيلٍ سَادَ قَوْمًا هَذَا سَيِّدُكُمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يُبْطِلَ قَوْلَهُمْ بِرُبُوبِيَّةِ الْكَوَاكِبِ إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ عَرَفَ مِنْ تَقْلِيدِهِمْ لِأَسْلَافِهِمْ وَبُعْدِ طِبَاعِهِمْ عَنْ قَبُولِ الدَّلَائِلِ أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّه تَعَالَى لَمْ يَقْبَلُوهُ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، فَمَالَ إِلَى طَرِيقٍ بِهِ يَسْتَدْرِجُهُمْ إِلَى اسْتِمَاعِ الْحُجَّةِ. وَذَلِكَ بِأَنْ ذَكَرَ كَلَامًا يُوهِمُ كَوْنَهُ مُسَاعِدًا لَهُمْ عَلَى مَذْهَبِهِمْ بِرُبُوبِيَّةِ الْكَوَاكِبِ مَعَ أَنَّ قَلْبَهُ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ كَانَ مُطَمْئِنًا بِالْإِيمَانِ، وَمَقْصُودُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ ذِكْرِ الدَّلِيلِ عَلَى إِبْطَالِهِ وَإِفْسَادِهِ وَأَنْ يَقْبَلُوا قَوْلَهُ وتمام التقرير أنه لما يَجِدْ إِلَى الدَّعْوَةِ طَرِيقًا سِوَى هَذَا الطَّرِيقِ، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَأْمُورًا بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّه كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكْرَهِ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ يَجُوزُ إِجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النَّحْلِ: 106] فَإِذَا جَازَ ذِكْرُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ لِمَصْلَحَةِ بَقَاءِ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَبِأَنْ يَجُوزَ إِظْهَارُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ لِتَخْلِيصِ عَالَمٍ مِنَ العقلاء عن الكفر والعقاب المؤيد كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَيْضًا الْمُكْرَهُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ لَوْ صَلَّى حَتَّى قُتِلَ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ، ثُمَّ إِذَا جَاءَ وَقْتُ الْقِتَالِ مَعَ الْكُفَّارِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوِ اشْتَغَلَ بِالصَّلَاةِ انْهَزَمَ عَسْكَرُ الْإِسْلَامِ فَهَهُنَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ الصَّلَاةِ وَالِاشْتِغَالُ بِالْقِتَالِ. حَتَّى لَوْ صَلَّى وَتَرَكَ الْقِتَالَ أَثِمَ وَلَوْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَقَاتَلَ اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ، بَلْ نَقُولُ: أَنَّ مَنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَرَأَى طِفْلًا أَوْ أَعْمَى أَشْرَفَ عَلَى غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ وَجَبَ عَلَيْهِ قَطْعُ الصَّلَاةِ لِإِنْقَاذِ ذَلِكَ الطِّفْلِ أَوْ ذَلِكَ الْأَعْمَى عَنْ ذَلِكَ البلاء. فكذا هاهنا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَكَلَّمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ لِيَظْهَرَ مِنْ نَفْسِهِ مُوَافِقَةَ الْقَوْمِ حَتَّى إِذَا أَوْرَدَ عَلَيْهِمُ الدَّلِيلَ الْمُبْطِلَ لِقَوْلِهِمْ كَانَ قَبُولُهُمْ لِذَلِكَ الدَّلِيلِ أَتَمَّ وَانْتِفَاعُهُمْ بِاسْتِمَاعِهِ أَكْمَلَ، وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ مِثْلَ هَذَا الطَّرِيقِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ [الصَّافَّاتِ: 88- 90] وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَدِلُّونَ بِعِلْمِ النَّجْمِ عَلَى حُصُولِ الْحَوَادِثِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فَوَافَقَهُمْ إِبْرَاهِيمُ/ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فِي الظَّاهِرِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ بَرِيئًا عَنْهُ فِي الْبَاطِنِ، وَمَقْصُودُهُ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِهَذَا الطَّرِيقِ إِلَى كَسْرِ الْأَصْنَامِ فَإِذَا جَازَتِ الْمُوَافَقَةُ فِي الظَّاهِرِ هاهنا. مَعَ أَنَّهُ كَانَ بَرِيئًا عَنْهُ فِي الْبَاطِنِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَسْأَلَتِنَا كَذَلِكَ؟ وَأَيْضًا الْمُتَكَلِّمُونَ قَالُوا: إِنَّهُ يَصِحُّ مِنَ اللَّه تَعَالَى إِظْهَارُ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَى يَدِ مَنْ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ لِأَنَّ صُورَةَ هَذَا

الْمُدَّعِي وَشَكْلَهُ يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ فَلَا يَحْصُلُ فِيهِ التَّلْبِيسُ بِسَبَبِ ظُهُورِ تِلْكَ الْخَوَارِقِ عَلَى يَدِهِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ إِظْهَارُهَا عَلَى يَدِ مَنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ لِأَنَّهُ يُوجِبُ التَّلْبِيسَ فَكَذَا هاهنا. وَقَوْلُهُ: هَذَا رَبِّي لَا يُوجِبُ الضَّلَالَ، لِأَنَّ دَلَائِلَ بُطْلَانِهِ جَلِيَّةٌ وَفِي إِظْهَارِهِ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ اسْتِدْرَاجُهُمْ لِقَبُولِ الدَّلِيلِ فَكَانَ جَائِزًا واللَّه أَعْلَمُ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا دَعَوْهُ إِلَى عِبَادَةِ النُّجُومِ فَكَانُوا فِي تِلْكَ الْمُنَاظَرَةِ إِلَى أَنْ طَلَعَ النَّجْمُ الدُّرِّيُّ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا رَبِّي أَيْ هَذَا هُوَ الرَّبُّ الَّذِي تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ثُمَّ سَكَتَ زَمَانًا حَتَّى أَفَلَ ثُمَّ قَالَ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَهَذَا تَمَامُ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ بَعْدَ الْبُلُوغِ. أَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ ذَكَرَهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَعِنْدَ الْقُرْبِ مِنْهُ فَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَدْ خَصَّ إِبْرَاهِيمَ بِالْعَقْلِ الْكَامِلِ وَالْقَرِيحَةِ الصَّافِيَةِ، فَخَطَرَ بِبَالِهِ قَبْلَ بُلُوغِهِ إِثْبَاتُ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ فَتَفَكَّرَ فَرَأَى النَّجْمَ، فَقَالَ: هَذَا رَبِّي فَلَمَّا شَاهَدَ حَرَكَتَهُ قَالَ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكْمَلَ بُلُوغَهُ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْبَحْثِ فَقَالَ فِي الْحَالِ: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ فَهَذَا الِاحْتِمَالُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ إِنَّمَا جَرَتْ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقْتَ اشْتِغَالِهِ بِدَعْوَةِ الْقَوْمِ إِلَى التَّوْحِيدِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ رُئِيَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ حَيْثُ كَانَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكَسَائِيُّ بِكَسْرِهِمَا فَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْأَلْفِ كَافٌ أَوْ هَاءٌ نَحْوَ: رَآكَ وَرَآهَا فَحِينَئِذٍ يَكْسِرُهَا حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَفْتَحُهَا ابْنُ عَامِرٍ. وَرَوَى يَحْيَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ مِثْلَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ فَإِذَا تَلَتْهُ أَلِفُ وَصْلٍ نَحْوَ: رَأَى الشَّمْسَ، وَرَأَى الْقَمَرَ. فَإِنَّ حَمْزَةَ وَيَحْيَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَنَصْرٍ عَنِ الْكِسَائِيِّ يَكْسِرُونَ الرَّاءَ وَيَفْتَحُونَ الْهَمْزَةَ وَالْبَاقُونَ يَقْرَؤُنَ جَمِيعَ ذَلِكَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْهَمْزَةِ، وَاتَّفَقُوا فِي رَأَوْكَ، وَرَأَوْهُ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَمَّا مَنْ فَتَحَ الرَّاءَ وَالْهَمْزَةَ فَعِلَّتُهُ وَاضِحَةٌ هي تَرْكُ الْأَلِفِ عَلَى الْأَصْلِ نَحْوَ: رَعَى وَرَمَى. وَأَمَّا مَنْ فَتَحَ الرَّاءَ وَكَسَرَ الْهَمْزَةَ فَإِنَّهُ أَمَالَ الْهَمْزَةَ نَحْوَ الْكَسْرِ لِيُمِيلَ الْأَلِفَ الَّتِي فِي رَأَى نَحْوَ الْيَاءِ وَتَرَكَ الرَّاءَ مَفْتُوحَةً على الأصل. وأما من كسر هما جَمِيعًا فَلِأَجْلِ أَنْ تَصِيرَ حَرَكَةُ الرَّاءِ مُشَابَهَةً لِحَرَكَةِ الْهَمْزَةِ، وَالْوَاحِدِيُّ طَوَّلَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي «كِتَابِ الْبَسِيطِ» فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْقِصَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وُلِدَ فِي الْغَارِ وَتَرَكَتْهُ أُمَّهُ وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُرَبِّيهِ كُلُّ ذلك محتمل فِي الْجُمْلَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: كُلُّ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُعْجِزَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمُعْجِزِ عَلَى وَقْتِ الدَّعْوَى غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى بِالْإِرْهَاصِ إِلَّا إِذَا حَضَرَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ رَسُولٌ مِنَ اللَّه فَتُجْعَلُ تِلْكَ الْخَوَارِقُ مُعْجِزَةً لِذَلِكَ النَّبِيِّ. وَأَمَّا عِنْدَ أَصْحَابِنَا فَالْإِرْهَاصُ جَائِزٌ فَزَالَتِ الشُّبْهَةُ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَدَلَّ بِأُفُولِ الْكَوْكَبِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَبًّا لَهُ وَخَالِقًا لَهُ. وَيَجِبُ عَلَيْنَا هاهنا أَنْ نَبْحَثَ عَنْ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأُفُولَ مَا هُوَ؟ وَالثَّانِي: أَنَّ الْأُفُولَ كَيْفَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ رُبُوبِيَّةِ الْكَوْكَبِ؟ فَنَقُولُ: الْأُفُولُ عِبَارَةٌ عَنْ غَيْبُوبَةِ الشَّيْءِ بَعْدَ ظُهُورِهِ.

وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ، فَيَقُولُ: الْأُفُولُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ حَرَكَةٌ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، فَيَكُونُ الطُّلُوعُ أَيْضًا دَلِيلًا عَلَى الْحُدُوثِ، فَلِمَ تَرَكَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى حُدُوثِهَا بِالطُّلُوعِ وَعَوَّلَ فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ عَلَى الْأُفُولِ؟ وَالْجَوَابُ: لَا شَكَّ أَنَّ الطُّلُوعَ وَالْغُرُوبَ يَشْتَرِكَانِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُدُوثِ إِلَّا أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي مَعْرِضِ دَعْوَةِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ إِلَى اللَّه لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا جَلِيًّا بِحَيْثُ يَشْتَرِكُ فِي فَهْمِهِ الذَّكِيُّ وَالْغَبِيُّ وَالْعَاقِلُ. وَدَلَالَةُ الْحَرَكَةِ عَلَى الْحُدُوثِ وَإِنْ كَانَتْ يَقِينِيَّةً إِلَّا أَنَّهَا دَقِيقَةٌ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الْأَفَاضِلُ مِنَ الْخَلْقِ. أَمَّا دَلَالَةُ الْأُفُولِ فَإِنَّهَا دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ يَعْرِفُهَا كُلُّ أَحَدٍ، فَإِنَّ الْكَوْكَبَ يَزُولُ سُلْطَانُهُ وَقْتَ الْأُفُولِ فَكَانَتْ دَلَالَةُ الْأُفُولِ عَلَى هَذَا الْمَقْصُودِ أَتَمَّ. وَأَيْضًا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الْهَوَى فِي خَطِرَةِ الْإِمْكَانِ أُفُولٌ، وَأَحْسَنُ الْكَلَامِ مَا يَحْصُلُ فِيهِ حِصَّةُ الْخَوَاصِّ وَحِصَّةُ الْأَوْسَاطِ وَحِصَّةُ الْعَوَامِّ، فَالْخَوَاصُّ يَفْهَمُونَ مِنَ الْأُفُولِ الْإِمْكَانَ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ مُحْتَاجٌ وَالْمُحْتَاجُ: لَا يَكُونُ مَقْطُوعَ الْحَاجَةِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى مَنْ يَكُونُ مُنَزَّهًا عَنِ الْإِمْكَانِ حَتَّى تَنْقَطِعَ الْحَاجَاتُ بِسَبَبِ وُجُودِهِ كَمَا قَالَ: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النَّجْمِ: 42] وَأَمَّا الْأَوْسَاطُ فَإِنَّهُمْ يَفْهَمُونَ مِنَ الْأُفُولِ مُطْلَقَ الْحَرَكَةِ، فَكُلُّ مُتَحَرِّكٍ مُحْدَثٌ، وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْقَدِيمِ الْقَادِرِ. فَلَا يَكُونُ الْآفِلُ إِلَهًا بَلِ الْإِلَهُ هُوَ الَّذِي احْتَاجَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْآفِلُ. وَأَمَّا الْعَوَامُّ فَإِنَّهُمْ يَفْهَمُونَ مِنَ الْأُفُولِ الْغُرُوبَ وَهُمْ يُشَاهِدُونَ أَنَّ كُلَّ كَوْكَبٍ يَقْرُبُ مِنَ الْأُفُولِ والغروب فإنه يزول نوره وينتقض ضَوْءُهُ وَيَذْهَبُ سُلْطَانُهُ وَيَصِيرُ كَالْمَعْزُولِ وَمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ، فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ أَعْنِي قَوْلَهُ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ كَلِمَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى نَصِيبِ الْمُقَرَّبِينَ وَأَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَصْحَابِ الشِّمَالِ، فَكَانَتْ أَكْمَلَ الدَّلَائِلِ وَأَفْضَلَ الْبَرَاهِينِ. وَفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى: وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا كَانَ يُنَاظِرُهُمْ وَهُمْ كَانُوا مُنَجِّمِينَ. وَمَذْهَبُ أَهْلِ النُّجُومِ أَنَّ الْكَوْكَبَ إِذَا كَانَ فِي الرُّبْعِ الشَّرْقِيِّ وَيَكُونُ صَاعِدًا إِلَى وَسَطِ السَّمَاءِ كَانَ قَوِيًّا عظيم التأثير. أما إذا كان غريبا وَقَرِيبًا مِنَ الْأُفُولِ فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَعِيفَ التَّأْثِيرِ قَلِيلَ الْقُوَّةِ. فَنَبَّهَ بِهَذِهِ الدَّقِيقَةِ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي لَا تَتَغَيَّرُ قُدْرَتُهُ إِلَى الْعَجْزِ وَكَمَالُهُ إِلَى النُّقْصَانِ، وَمَذْهَبُكُمْ أَنَّ الْكَوْكَبَ حَالَ كَوْنِهِ فِي الرُّبْعِ الْغَرْبِيِّ، يَكُونُ ضَعِيفَ الْقُوَّةِ، نَاقِصَ التَّأْثِيرِ، عَاجِزًا عَنِ التَّدْبِيرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْقَدْحِ فِي إِلَهِيَّتِهِ، فَظَهَرَ عَلَى قَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ أَنَّ لِلْأُفُولِ مَزِيدَ خَاصِّيَّةٍ فِي كَوْنِهِ مُوجِبًا لِلْقَدْحِ فِي إِلَهِيَّتِهِ واللَّه أَعْلَمُ. أَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ بَيَانُ أَنَّ كَوْنَ الْكَوْكَبِ آفِلًا يَمْنَعُ مِنْ رُبُوبِيَّتِهِ. فَلِقَائِلٍ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ: أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ أُفُولُهُ دَالًّا عَلَى حُدُوثِهِ إِلَّا أَنَّ حُدُوثَهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ رَبًّا لِإِبْرَاهِيمَ وَمَعْبُودًا لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُنَجِّمِينَ وَأَصْحَابَ الوسائط يَقُولُونَ إِنَّ الْإِلَهَ الْأَكْبَرَ خَلَقَ الْكَوَاكِبَ وَأَبْدَعَهَا وَأَحْدَثَهَا، ثُمَّ أَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ تَخْلُقُ النَّبَاتَ وَالْحَيَوَانَ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ، فَثَبَتَ أَنَّ أُفُولَ الْكَوَاكِبِ وَإِنْ دَلَّ عَلَى حُدُوثِهَا إِلَّا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهَا أَرْبَابًا لِلْإِنْسَانِ وآلهة لهذا العالم. والجواب: لنا هاهنا مَقَامَانِ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الرَّبِّ وَالْإِلَهِ الْمَوْجُودَ الَّذِي عِنْدَهُ تَنْقَطِعُ الْحَاجَاتُ، وَمَتَى ثَبَتَ بِأُفُولِ الْكَوَاكِبِ حُدُوثُهَا، وَثَبَتَ فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُحْدَثًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي وُجُودِهِ مُحْتَاجًا إِلَى الْغَيْرِ. وَجَبَ الْقَطْعُ بِاحْتِيَاجِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ فِي وُجُودِهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَمَتَى ثَبَتَ هَذَا الْمَعْنَى امْتَنَعَ كَوْنُهَا أَرْبَابًا وَآلِهَةً. بِمَعْنَى أَنَّهُ تَنْقَطِعُ الْحَاجَاتُ عِنْدَ وُجُودِهَا، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهَا آفِلَةً يُوجِبُ الْقَدْحَ فِي كَوْنِهَا أَرْبَابًا وَآلِهَةً بِهَذَا التَّفْسِيرِ.

الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الرَّبِّ وَالْإِلَهِ. مَنْ يَكُونُ خَالِقًا لَنَا وَمُوجِدًا لِذَوَاتِنَا وَصِفَاتِنَا. فَنَقُولُ: أُفُولُ الْكَوَاكِبِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا عَاجِزَةً عَنِ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِبَادَتُهَا وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أُفُولَهَا يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهَا. وَحُدُوثُهَا يَدُلُّ عَلَى افْتِقَارِهَا إِلَى فَاعِلٍ قَدِيمٍ قَادِرٍ وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ قَادِرِيَّةُ ذَلِكَ الْقَادِرِ أَزَلِيَّةً. وَإِلَّا لَافْتَقَرَتْ قَادِرِيَّتُهُ إِلَى قَادِرٍ آخَرَ، وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ قَادِرِيَّتَهُ أَزَلِيَّةٌ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الشَّيْءُ الَّذِي هُوَ مَقْدُورٌ لَهُ إِنَّمَا صَحَّ كَوْنُهُ مَقْدُورًا لَهُ بِاعْتِبَارِ إِمْكَانِهِ وَالْإِمْكَانُ وَاحِدٌ فِي كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ. فَثَبَتَ أَنَّ مَا لِأَجْلِهِ صَارَ بَعْضُ الْمُمْكِنَاتِ مَقْدُورًا للَّه تَعَالَى فَهُوَ حَاصِلٌ فِي كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، فَوَجَبَ فِي كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ أَنْ تَكُونَ مَقْدُورَةً للَّه تَعَالَى. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا امْتَنَعَ وُقُوعُ شَيْءٍ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ بِغَيْرِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا صِحَّةَ هذه المقامات بالدلائل اليقينة فِي عِلْمِ الْأُصُولِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ كَوْنَ الْكَوَاكِبِ آفِلَةً يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا مُحْدَثَةً، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ هَذَا الْمَعْنَى إِلَّا بِوَاسِطَةِ مُقَدِّمَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَأَيْضًا فَكَوْنُهَا فِي نَفْسِهَا مُحْدَثَةً يُوجِبُ الْقَوْلَ بِامْتِنَاعِ كَوْنِهَا قَادِرَةً عَلَى الْإِيجَادِ وَالْإِبْدَاعِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ هَذَا الْمَعْنَى إِلَّا بِوَاسِطَةِ مُقَدِّمَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَدَلَائِلُ الْقُرْآنِ إِنَّمَا يُذْكَرُ فِيهَا أُصُولُ الْمُقَدِّمَاتِ، فَأَمَّا التَّفْرِيعُ وَالتَّفْصِيلُ، فَذَاكَ إِنَّمَا يَلِيقُ بِعِلْمِ الْجَدَلِ. فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ عَلَى سبيل الرمز لا جرم اكتفي بذكر هما فِي بَيَانِ أَنَّ الْكَوَاكِبَ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى الْإِيجَادِ وَالْإِبْدَاعِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ اسْتَدَلَّ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأُفُولِهَا عَلَى امْتِنَاعِ كَوْنِهَا أَرْبَابًا وَآلِهَةً لِحَوَادِثِ هَذَا الْعَالَمِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ أُفُولَ الْكَوَاكِبِ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهَا وَحُدُوثِهَا يَدُلُّ عَلَى افْتِقَارِهَا فِي وُجُودِهَا إِلَى الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْفَاعِلُ هُوَ الْخَالِقُ لِلْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ، وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَفْلَاكِ مِنْ دُونِ وَاسِطَةِ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ فَبِأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ أَوْلَى لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى خَلْقِ الشَّيْءِ الْأَعْظَمِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الشَّيْءِ الْأَضْعَفِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غَافِرٍ: 57] وَبِقَوْلِهِ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس: 81] فَثَبَتَ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَنَّ الْإِلَهَ الْأَكْبَرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الْبَشَرِ، وَعَلَى تَدْبِيرِ الْعَالِمِ الْأَسْفَلِ بِدُونِ وَاسِطَةِ الْأَجْرَامِ الْفَلَكِيَّةِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَةِ الْإِلَهِ الْأَكْبَرِ أَوْلَى مِنَ الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَةِ الشَّمْسِ وَالنُّجُومِ وَالْقَمَرِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ كَوْنُ بَعْضِ الْكَوَاكِبِ مُوجِدَةً وَخَالِقَةً، لَبَقِيَ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي الْكُلِّ وَحِينَئِذٍ لَا يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ أَنَّ خَالِقَهُ هَذَا الْكَوْكَبُ. أَوْ ذَلِكَ الْآخَرُ أَوْ مَجْمُوعُ الْكَوَاكِبِ فَيَبْقَى شَاكًّا فِي مَعْرِفَةِ خَالِقِهِ. أَمَّا لَوْ عَرَفْنَا الْكُلَّ وَأَسْنَدْنَا الْخَلْقَ وَالْإِيجَادَ وَالتَّدْبِيرَ إِلَى خَالِقِ الْكُلِّ فَحِينَئِذٍ يُمْكِنُنَا مَعْرِفَةُ الْخَالِقِ وَالْمُوجِدِ وَيُمْكِنُنَا الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ أُفُولَ الْكَوَاكِبِ كَمَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ كَوْنِهَا قَدِيمَةً فَكَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ كَوْنِهَا آلِهَةً لِهَذَا الْعَالَمِ وَأَرْبَابًا لِلْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ. واللَّه أَعْلَمُ. فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ كَانَتْ مَسْبُوقَةً بِنَهَارٍ وَلَيْلٍ، وَكَانَ أُفُولُ الْكَوَاكِبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ حَاصِلًا فِي اللَّيْلِ السَّابِقِ وَالنَّهَارِ السَّابِقِ وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ لَا يَبْقَى لِلْأُفُولِ الْحَاصِلِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مزيد فائدة.

وَالْجَوَابُ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ إِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا الدَّلِيلَ عَلَى الْأَقْوَامِ الَّذِينَ كَانَ يَدْعُوهُمْ مِنْ عِبَادَةِ النُّجُومِ إِلَى التَّوْحِيدِ. فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ جَالِسًا مَعَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي وَزَجَرَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ فَبَيْنَمَا هُوَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ الْكَلَامِ إِذْ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى كَوْكَبٍ مُضِيءٍ. فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوْ كَانَ هَذَا الْكَوْكَبُ إِلَهًا لَمَا انْتَقَلَ مِنَ الصُّعُودِ إِلَى الْأُفُولِ وَمِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الضَّعْفِ. ثُمَّ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ الْكَلَامِ طَلَعَ الْقَمَرُ وَأَفَلَ. فَأَعَادَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الْكَلَامَ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الشَّمْسِ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَحْضُرُنَا فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّه عليه وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: تَفَلْسَفَ الْغَزَالِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ وَحَمَلَ الْكَوْكَبَ عَلَى النَّفْسِ النَّاطِقَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ الَّتِي لِكُلِّ كَوْكَبٍ، وَالْقَمَرَ عَلَى النَّفْسِ النَّاطِقَةِ الَّتِي لِكُلِّ فَلَكٍ، وَالشَّمْسَ عَلَى الْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لِكُلِّ ذَلِكَ، وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ سَيْنَاءَ يُفَسِّرُ الْأُفُولَ بِالْإِمْكَانِ، فَزَعَمَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِأُفُولِهَا إِمْكَانُهَا فِي نَفْسِهَا، وَزَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِأَسْرِهَا مُمْكِنَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا، وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُؤَثِّرٍ، ولا بدله مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا بَأْسَ بِهِ. إِلَّا أَنَّهُ يَبْعُدُ حَمْلُ لَفْظِ الْآيَةِ عَلَيْهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ الْكَوْكَبَ عَلَى الْحِسِّ وَالْقَمَرَ عَلَى الْخَيَالِ وَالْوَهْمِ، وَالشَّمْسَ عَلَى الْعَقْلِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ الثَّلَاثَةَ قَاصِرَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ، وَمُدَبِّرُ الْعَالَمِ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا قَاهِرٌ لَهَا واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: دَلَّ قَوْلُهُ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ عَلَى أَحْكَامٍ: الْحُكْمُ الْأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمٍ إِذْ لَوْ كَانَ جِسْمًا لَكَانَ غَائِبًا عَنَّا أَبَدًا فَكَانَ آفِلًا أَبَدًا، وَأَيْضًا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ تَعَالَى يَنْزِلُ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى السَّمَاءِ تَارَةً وَيَصْعَدُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْعَرْشِ أُخْرَى، وَإِلَّا لَحَصَلَ مَعْنَى الْأُفُولِ. الْحُكْمُ الثَّانِي هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ مَحَلًّا لِلصِّفَاتِ الْمُحْدَثَةِ كَمَا تَقُولُهُ الْكَرَامِيَّةُ، وَإِلَّا لَكَانَ مُتَغَيِّرًا، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ مَعْنَى الْأُفُولِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ. الْحُكْمُ الثَّالِثُ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الدِّينَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الدَّلِيلِ لَا عَلَى التَّقْلِيدِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ فَائِدَةٌ ألبتة.

الْحُكْمُ الرَّابِعُ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَعَارِفَ الْأَنْبِيَاءِ بِرَبِّهِمِ اسْتِدْلَالِيَّةٌ لَا ضَرُورِيَّةٌ، وَإِلَّا لَمَا احْتَاجَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ. الْحُكْمُ الْخَامِسُ تَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى تَحْصِيلِ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى إِلَّا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي أَحْوَالِ مَخْلُوقَاتِهِ، إِذْ لَوْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُهَا بِطَرِيقٍ آخَرَ لَمَا عَدَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ واللَّه أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: بَزَغَ الْقَمَرُ إِذَا ابْتَدَأَ فِي الطُّلُوعِ، وَبَزَغَتِ الشَّمْسُ إِذَا بَدَأَ مِنْهَا طُلُوعٌ. وَنُجُومٌ بِوَازِغُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: كَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ فِي الْبَزْغِ وَهُوَ الشَّقُّ كَأَنَّهُ بِنُورِهِ يَشُقُّ الظُّلْمَةَ شَقًّا، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ اعْتَبَرَ فِي الْقَمَرِ مِثْلَ مَا اعْتَبَرَ فِي الْكَوْكَبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّ قَوْلُهُ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ لَيْسَتْ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى. وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ لَفْظِ الْهِدَايَةِ عَلَى التَّمَكُّنِ وَإِزَاحَةِ الْأَعْذَارِ وَنَصْبِ الدَّلَائِلِ. لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ كَانَ حَاصِلًا، فَالْهِدَايَةُ الَّتِي كَانَ يَطْلُبُهَا بَعْدَ حُصُولِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ زَائِدَةٌ عَلَيْهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَذْهَبِنَا أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَى الْعَاقِلِ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَضَافَ الْهِدَايَةَ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا قَالَ فِي الشَّمْسِ هَذَا مَعَ أَنَّهَا مُؤَنَّثَةٌ، وَلَمْ يَقُلْ هَذِهِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّمْسَ بِمَعْنَى الضِّيَاءِ وَالنُّورِ، فَحُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى التَّأْوِيلِ فَذُكِرَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ يَحْصُلْ فِيهَا عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ، فَلَمَّا أَشْبَهَ لَفْظُهَا لفظ المذكر وكان تأويلها تأويل النور صَلَحَ التَّذْكِيرُ مِنْ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ، وَثَالِثُهَا: أَرَادَ هَذَا الطَّالِعَ أَوْ هَذَا الَّذِي أَرَاهُ، وَرَابِعُهَا: الْمَقْصُودُ مِنْهُ رِعَايَةُ الْأَدَبِ، وَهُوَ تَرْكُ التَّأْنِيثِ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: هَذَا أَكْبَرُ الْمُرَادُ مِنْهُ أَكْبَرُ الْكَوَاكِبِ جِرْمًا وَأَقْوَاهَا قُوَّةً، فَكَانَ أَوْلَى بِالْإِلَهِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ الْأُفُولُ حَاصِلًا فِي الشَّمْسِ وَالْأُفُولُ يَمْنَعُ مِنْ صِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ امْتِنَاعُ صِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ لِلشَّمْسِ كَانَ امْتِنَاعُ حُصُولِهَا لِلْقَمَرِ وَلِسَائِرِ الْكَوَاكِبِ أَوْلَى. وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَظْهَرُ أَنَّ ذِكْرَ هَذَا الْكَلَامِ فِي الشَّمْسِ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِهِ فِي الْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ. فَلِمَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى ذِكْرِ الشَّمْسِ رِعَايَةً لِلْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ؟ قُلْنَا: إِنَّ الْأَخْذَ مِنَ الْأَدْوَنِ فَالْأَدْوَنِ، مُتَرَقِّيًا إِلَى الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى، لَهُ نَوْعُ تَأْثِيرٍ فِي التَّقْرِيرِ وَالْبَيَانِ وَالتَّأْكِيدِ لَا يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِهِ، فَكَانَ ذِكْرُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى.

[سورة الأنعام (6) : آية 80]

أما قوله: قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ لَا تَصْلُحُ لِلرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ، لَا جَرَمَ تَبَرَّأَ مِنَ الشِّرْكِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَبْ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْكَوَاكِبَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا تَصْلُحُ لِلرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ نَفْيُ الشَّرِيكِ مُطْلَقًا وَإِثْبَاتُ التَّوْحِيدِ، فَلِمَ فَرَّعَ عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلرُّبُوبِيَّةِ الْجَزْمُ بِإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ مُطْلَقًا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُسَاعِدِينَ عَلَى نَفْيِ سَائِرِ الشُّرَكَاءِ وَإِنَّمَا نَازَعُوا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ فَلَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ أَرْبَابًا وَلَا آلِهَةً، وَثَبَتَ بِالِاتِّفَاقِ نَفْيُ غَيْرِهَا لَا جَرَمَ حَصَلَ الْجَزْمُ بِنَفْيِ الشُّرَكَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَتَحَ الْيَاءَ مِنْ وَجْهِيَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَالْبَاقُونَ تَرَكُوا هَذَا الْفَتْحَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا الْكَلَامُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ. بَلِ الْمُرَادُ وَجَّهْتُ عِبَادَتِي وَطَاعَتِي، وَسَبَبُ جَوَازِ هَذَا الْمَجَازِ أَنَّ مَنْ كَانَ مُطِيعًا لِغَيْرِهِ مُنْقَادًا لِأَمْرِهِ، فَإِنَّهُ يَتَوَجَّهُ بِوَجْهِهِ إِلَيْهِ، فَجُعِلَ تَوْجِيهُ الْوَجْهِ إِلَيْهِ كِنَايَةً عَنِ الطَّاعَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فَفِيهِ دَقِيقَةٌ: وَهِيَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ وَجَّهَتْ وجهي إلى الذي فطر السموات وَالْأَرْضَ. بَلْ تَرَكَ هَذَا اللَّفْظَ وَذَكَرَ قَوْلَهُ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي وَالْمَعْنَى: أَنَّ تَوْجِيهَ وَجْهِ الْقَلْبِ لَيْسَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ مُتَعَالٍ عَنِ الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ، بَلْ تَوْجِيهُ وَجْهِ الْقَلْبِ إِلَى خِدْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ لِأَجْلِ عُبُودِيَّتِهِ، فَتَرْكُ كَلِمَةِ «إِلَى» هُنَا وَالِاكْتِفَاءُ بِحَرْفِ اللَّامِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى كَوْنِ الْمَعْبُودِ/ مُتَعَالِيًا عَنِ الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ، وَمَعْنَى فَطَرَ أَخْرَجَهُمَا إِلَى الْوُجُودِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الشَّقِّ، يُقَالُ: تفطر الشجر بالورق والورد إذا أظهر هما، وَأَمَّا الْحَنِيفُ فَهُوَ الْمَائِلُ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْحَنِيفُ الَّذِي يَسْتَقْبِلُ الْبَيْتَ فِي صِلَاتِهِ، وَقِيلَ إِنَّهُ الْعَادِلُ عَنْ كُلِّ مَعْبُودٍ دُونَ اللَّه تعالى. [سورة الأنعام (6) : آية 80] وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) [المسألة الأولى] اعْلَمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَوْرَدَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ الْمَذْكُورَةَ، فَالْقَوْمُ أَوْرَدُوا عَلَيْهِ حُجَجًا عَلَى صِحَّةِ أَقْوَالِهِمْ، مِنْهَا أَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِالتَّقْلِيدِ كَقَوْلِهِمْ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزُّخْرُفِ: 23] وَكَقَوْلِهِمْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ خَوَّفُوهُ بِأَنَّكَ لَمَّا طَعَنْتَ فِي إِلَهِيَّةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ وَقَعْتَ مِنْ جِهَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ فِي الْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ، وَنَظِيرُهُ مَا حَكَاهُ اللَّه تَعَالَى فِي قِصَّةِ قَوْمِ هُودٍ: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هُودٍ: 54] فَذَكَرُوا هَذَا الْجِنْسَ مِنَ الْكَلَامِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَأَجَابَ اللَّه عَنْ حُجَّتِهِمْ بِقَوْلِهِ: قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ، يَعْنِي لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلْهِدَايَةِ وَالْيَقِينِ صِحَّةُ قَوْلِي، فَكَيْفَ يُلْتَفَتُ إِلَى حُجَّتِكُمُ الْعَلِيلَةِ، وكلماتكم الباطلة.

وَأَجَابَ عَنْ حُجَّتِهِمُ الثَّانِيَةِ وَهِيَ: أَنَّهُمْ خَوَّفُوهُ بِالْأَصْنَامِ بِقَوْلِهِ: وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ لِأَنَّ الْخَوْفَ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَالْأَصْنَامُ جَمَادَاتٌ لَا تَقْدِرُ وَلَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ، فَكَيْفَ يَحْصُلُ الْخَوْفُ مِنْهَا؟ فَإِنْ قِيلَ: لَا شَكَّ أَنَّ لِلطَّلْسَمَاتِ آثَارًا مَخْصُوصَةً، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ الْخَوْفُ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ؟ قُلْنَا: الطَّلْسَمُ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى تَأْثِيرَاتِ الْكَوَاكِبِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ قُوَى الْكَوَاكِبِ عَلَى التَّأْثِيرَاتِ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ خَلْقِ اللَّه تَعَالَى فَيَكُونُ الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: إِلَّا أَنْ أُذْنِبَ فَيَشَاءُ إِنْزَالَ الْعُقُوبَةِ بِي. / وَثَانِيهَا: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يَبْتَلِيَنِي بِمِحَنِ الدُّنْيَا فَيَقْطَعَ عَنِّي بَعْضَ عَادَاتِ نِعَمِهِ. وَثَالِثُهَا: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي فَأَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ بِأَنْ يُحْيِيَهَا وَيُمَكِّنَهَا مِنْ ضُرِّي وَنَفْعِي وَيُقَدِّرَهَا عَلَى إِيصَالِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ إِلَيَّ، وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَحْدُثَ لِلْإِنْسَانِ فِي مُسْتَقْبَلِ عُمْرِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَكَارِهِ، وَالْحَمْقَى مِنَ النَّاسِ يَحْمِلُونَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا حَدَثَ ذَلِكَ الْمَكْرُوهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ طَعَنَ فِي إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ، فَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ أَنَّهُ حَدَثَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَكَارِهِ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى هَذَا السَّبَبِ. ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً يَعْنِي أَنَّهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فَلَا يَفْعَلُ إِلَّا الصَّلَاحَ وَالْخَيْرَ وَالْحِكْمَةَ، فَبِتَقْدِيرِ: أَنْ يَحْدُثَ مِنْ مَكَارِهِ الدُّنْيَا فَذَاكَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عُرِفَ وَجْهُ الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ فِيهِ لَا لِأَجْلِ أَنَّهُ عُقُوبَةٌ عَلَى الطَّعْنِ فِي إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ. ثُمَّ قَالَ: أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وَالْمَعْنَى: أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ أَنَّ نَفْيَ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ عَنِ اللَّه تَعَالَى لَا يُوجِبُ حُلُولَ الْعِقَابِ وَنُزُولَ الْعَذَابِ، وَالسَّعْيُ فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ لَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ أَتُحاجُّونِّي خَفِيفَةَ النُّونِ عَلَى حَذْفِ أَحَدِ النُّونَيْنِ وَالْبَاقُونَ عَلَى التَّشْدِيدِ على الإدغام. وأما قوله: وَقَدْ هَدانِ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ هَدَانِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ وَالْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا لِلتَّخْفِيفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَاجَّهُمْ فِي اللَّه وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ وَالْقَوْمُ أَيْضًا حَاجُّوهُ فِي اللَّه، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى خَبَرًا عَنْهُمْ: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ فَحَصَلَ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُحَاجَّةَ فِي اللَّه تَارَةً تَكُونُ مُوجِبَةً لِلْمَدْحِ الْعَظِيمِ وَالثَّنَاءِ الْبَالِغِ، وَهِيَ الْمُحَاجَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ الْمَدْحُ وَالثَّنَاءُ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ وَتَارَةً تَكُونُ مُوجِبَةً لِلذَّمِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَيْنِ البابين لا أَنَّ الْمُحَاجَّةَ فِي تَقْرِيرِ الدِّينِ الْحَقِّ تُوجِبُ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، وَالْمُحَاجَّةُ فِي تَقْرِيرِ الدِّينِ الْبَاطِلِ تُوجِبُ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الذَّمِّ وَالزَّجْرِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ صَارَ هَذَا قَانُونًا مُعْتَبَرًا، فَكُلُّ مَوْضِعٍ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ يَدُلُّ عَلَى تَهْجِينِ أَمْرِ الْمُحَاجَّةِ وَالْمُنَاظَرَةِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَقْرِيرِ الدِّينِ الْبَاطِلِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ جَاءَ يَدُلُّ عَلَى مَدْحِهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَقْرِيرِ الدِّينِ الْحَقِّ وَالْمَذْهَبِ الصِّدْقِ. واللَّه أَعْلَمُ.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 81 إلى 82]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 81 الى 82] وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ الْجَوَابِ عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَكَيْفَ أَخَافُ الْأَصْنَامَ الَّتِي لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَأَنْتُمْ لَا تَخَافُونَ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ. وَقَوْلُهُ: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً كِنَايَةٌ عَنِ امْتِنَاعِ وُجُودِ الْحُجَّةِ وَالسُّلْطَانِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ [الْمُؤْمِنُونَ: 117] وَالْمُرَادُ مِنْهُ امْتِنَاعُ حُصُولِ الْبُرْهَانِ فِيهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا أَنْ يُؤْمَرَ بِاتِّخَاذِ تِلْكَ التَّمَاثِيلِ وَالصُّوَرِ قِبْلَةً لِلدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ فَقَوْلُهُ: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مَعْنَاهُ: عَدَمُ وُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ. وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ: مَا لَكُمْ تُنْكِرُونَ عَلَيَّ الْأَمْنَ فِي مَوْضِعِ الْأَمْنِ، وَلَا تُنْكِرُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمُ الْأَمْنَ فِي مَوْضِعِ الْخَوْفِ؟ وَلَمْ يَقُلْ: فَأَيُّنَا أَحَقُّ بِالْأَمْنِ أَنَا أَمْ أَنْتُمْ؟ احْتِرَازًا مِنْ تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ يَعْنِي فَرِيقَيِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُوَحِّدِينَ. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْجَوَابَ عَنِ السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ وَهَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْمُحَاجَّةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ حَصَلَ لَهُمُ الْأَمْنُ الْمُطْلَقُ هُمُ الَّذِينَ يَكُونُونَ مُسْتَجْمِعِينَ لِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: الْإِيمَانُ وَهُوَ كَمَالُ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ. وَثَانِيهِمَا: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ وَهُوَ كَمَالُ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ. ثُمَّ قَالَ: أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ اعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهٍ وَالْمُعْتَزِلَةَ يَتَمَسَّكُونَ بِهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. أَمَّا وَجْهُ تَمَسُّكِ أَصْحَابِنَا فَهُوَ أَنْ نَقُولَ إِنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ فِي الْإِيمَانِ الْمُوجِبِ لِلْأَمْنِ عَدَمَ الظُّلْمِ، وَلَوْ كَانَ تَرْكُ الظُّلْمِ أَحَدَ أَجْزَاءِ مُسَمَّى الْإِيمَانِ لَكَانَ هَذَا التَّقْيِيدُ عَبَثًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْفَاسِقَ مُؤْمِنٌ وَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا وَجْهُ تَمَسُّكِ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَا فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ فِي حُصُولِ الْأَمْنِ حُصُولَ الْأَمْرَيْنِ، الْإِيمَانِ وَعَدَمِ الظُّلْمِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْأَمْنُ لِلْفَاسِقِ وَذَلِكَ يُوجِبُ حُصُولَ الْوَعِيدِ لَهُ. وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ الْمُرَادُ مِنَ الظُّلْمِ الشِّرْكُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عن لقمان إذ قال لابنه: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] فالمراد هاهنا الَّذِينَ آمَنُوا باللَّه وَلَمْ يُثْبِتُوا للَّه شَرِيكًا فِي الْمَعْبُودِيَّةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي نَفْيِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، فَوَجَبَ حمل الظلم هاهنا عَلَى ذَلِكَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ: أَنَّ وَعِيدَ الْفَاسِقِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُعَذِّبَهُ اللَّه، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ: فَالْأَمْنُ زَائِلٌ وَالْخَوْفُ حَاصِلٌ، فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ الْأَمْنِ الْقِطَعُ بِحُصُولِ الْعَذَابِ؟ واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 83] وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)

وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى كَلَامٍ تَقَدَّمَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا لَهُ: أَمَا تَخَافُ أَنْ تَخْبِلَكَ آلِهَتُنَا لِأَجْلِ أَنَّكَ شَتَمْتَهُمْ. فَقَالَ لَهُمْ: أَفَلَا تَخَافُونَ أَنْتُمْ حيث أقدمتهم عَلَى الشِّرْكِ باللَّه وَسَوَّيْتُمْ فِي الْعِبَادَةِ بَيْنَ خَالِقِ الْعَالَمِ وَمُدَبِّرِهِ وَبَيْنَ الْخَشَبِ الْمَنْحُوتِ وَالصَّنَمِ الْمَعْمُولِ؟ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْكُلُّ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَتِلْكَ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: حُجَّتُنا خَبَرُهُ وَقَوْلُهُ: آتَيْناها إِبْراهِيمَ صِفَةٌ لِذَلِكَ الْخَبَرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْحُجَّةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ فِي عَقْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِيتَاءِ اللَّه وَبِإِظْهَارِهِ تِلْكَ الْحُجَّةَ فِي عَقْلِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى. وَيَتَأَكَّدُ هَذَا أَيْضًا بِقَوْلِهِ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى رَفَعَ دَرَجَاتِ إِبْرَاهِيمَ بِسَبَبِ أَنَّهُ تَعَالَى آتَاهُ تِلْكَ الْحُجَّةَ، وَلَوْ كَانَ حُصُولُ الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْحُجَّةِ إِنَّمَا كَانَ مِنْ قِبَلِ إِبْرَاهِيمَ لَا مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى لَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي رَفَعَ دَرَجَاتِ نَفْسِهِ/ وَحِينَئِذٍ كَانَ قَوْلُهُ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بَاطِلًا. فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا صَرِيحُ قَوْلِنَا فِي مَسْأَلَةِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْحَشْوِيَّةِ فِي الطَّعْنِ فِي النَّظَرِ وَتَقْرِيرِ الْحُجَّةِ وَذِكْرِ الدَّلِيلِ. لِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حُصُولَ الرِّفْعَةِ وَالْفَوْزَ بِالدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ، لِأَجْلِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْحُجَّةَ فِي التَّوْحِيدِ وَقَرَّرَهَا وَذَبَّ عَنْهَا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَرْتَبَةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ أَعْلَى وَأَشْرَفُ مِنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ دَرَجاتٍ بِالتَّنْوِينِ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ وَالْبَاقُونَ بِالْإِضَافَةِ، فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى مَعْنَاهَا: نَرْفَعُ مَنْ نَشَاءُ دَرَجَاتٍ كَثِيرَةً، فَيَكُونُ «مَنْ» فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ. قَالَ ابْنُ مُقْسِمٍ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالرِّفْعَةِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: الْإِضَافَةُ تَدُلُّ عَلَى الدَّرَجَةِ الْوَاحِدَةِ وَعَلَى الدَّرَجَاتِ الْكَثِيرَةِ وَالتَّنْوِينُ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى الدَّرَجَاتِ الْكَثِيرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الدَّرَجَاتِ. قِيلَ: دَرَجَاتُ أَعْمَالِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: تِلْكَ الْحُجَجُ دَرَجَاتٌ رَفِيعَةٌ، لِأَنَّهَا تُوجِبُ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ. وَقِيلَ: نَرْفَعُ مَنْ نَشَاءُ فِي الدُّنْيَا بِالنُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ. وَقِيلَ: نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ بِالْعِلْمِ. وَاعْلَمْ أن هذه الآية من أدل الدلائل على أَنَّ كَمَالَ السَّعَادَةِ فِي الصِّفَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ وَفِي الْبُعْدِ عَنِ الصِّفَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِحُصُولِ هَذِهِ الرَّفْعَةِ هُوَ إِيتَاءُ تِلْكَ الْحُجَّةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ وُقُوفَ النَّفْسِ عَلَى حَقِيقَةِ تِلْكَ الْحُجَّةِ وَإِطْلَاعَهَا عَلَى إِشْرَاقِهَا اقْتَضَتِ ارْتِفَاعَ الرُّوحِ مِنْ حَضِيضِ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ، إِلَى أَعَالِي الْعَالَمِ الرُّوحَانِيِّ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا رِفْعَةَ وَلَا سَعَادَةَ إِلَّا فِي الرُّوحَانِيَّاتِ. واللَّه أَعْلَمُ.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 84 إلى 88]

وَأَمَّا مَعْنَى حَكِيمٌ عَلِيمٌ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ يَشَاءُ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ، لَا بِمُوجِبِ الشَّهْوَةِ وَالْمُجَازَفَةِ. فَإِنَّ أَفْعَالَ اللَّه منزهة عن العبث والفساد والباطل. [سورة الأنعام (6) : الآيات 84 الى 88] وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (88) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَظْهَرَ حُجَّةَ اللَّه تَعَالَى فِي التَّوْحِيدِ وَنَصَرَهَا وَذَبَّ عَنْهَا عَدَّدَ وُجُوهَ نِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ عَلَيْهِ. فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ وَالْمُرَادُ إِنَّا نَحْنُ آتَيْنَاهُ تِلْكَ الْحُجَّةَ وَهَدَيْنَاهُ إِلَيْهَا وَأَوْقَفْنَا عَقْلَهُ عَلَى حَقِيقَتِهَا. وَذَكَرَ نَفْسَهُ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْعَظَمَةِ وَهُوَ كِنَايَةُ الْجَمْعِ عَلَى وَفْقِ مَا يَقُولُهُ عُظَمَاءُ الْمُلُوكِ. فَعَلْنَا، وَقُلْنَا، وَذَكَرْنَا. ولما ذكر نفسه تعالى هاهنا بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْعَظَمَةِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْعَظَمَةُ عَظَمَةً كَامِلَةً رَفِيعَةً شَرِيفَةً، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيتَاءَ اللَّه تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تِلْكَ الْحُجَّةَ مِنْ أَشْرَفِ النِّعَمِ، وَمِنْ أَجَلِّ مَرَاتِبِ الْعَطَايَا وَالْمَوَاهِبِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّهُ بِالرِّفْعَةِ وَالِاتِّصَالِ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ الرَّفِيعَةِ. وَهِيَ قَوْلُهُ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ جَعَلَهُ عَزِيزًا فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ أَشْرَفَ النَّاسِ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ مِنْ نَسْلِهِ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَأَبْقَى هَذِهِ الْكَرَامَةَ فِي نَسْلِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ السُّرُورِ عِلْمَ الْمَرْءِ بِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ عَقِبِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُلُوكُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَعْدِيدُ أَنْوَاعِ نِعَمِ اللَّه عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَزَاءً عَلَى قِيَامِهِ بِالذَّبِّ عَنْ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ، فَقَالَ: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ لِصُلْبِهِ وَيَعْقُوبَ بَعْدَهُ مِنْ إِسْحَاقَ. فَإِنْ قَالُوا: لِمَ لَمْ يَذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ إِسْحَاقَ، بَلْ أَخَّرَ ذِكْرَهُ عَنْهُ بِدَرَجَاتٍ؟ قُلْنَا: لأن المقصود بالذكر هاهنا أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ بِأَسْرِهِمْ أَوْلَادُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَإِنَّهُ/ مَا خَرَجَ مِنْ صُلْبِهِ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ، وَلَا يَجُوزُ ذِكْرُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى الْعَرَبِ فِي نَفْيِ الشِّرْكِ باللَّه بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا تَرَكَ الشِّرْكَ وَأَصَرَّ عَلَى التَّوْحِيدِ رَزَقَهُ اللَّه النِّعَمَ الْعَظِيمَةَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَمِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ فِي الدُّنْيَا أَنْ آتَاهُ اللَّه أَوْلَادًا كَانُوا أَنْبِيَاءً وَمُلُوكًا، فَإِذَا كَانَ الْمُحْتَجُّ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ هُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ امْتَنَعَ أَنْ يَذْكُرَ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْمَعْرِضِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمْ يَذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ مَعَ إِسْحَاقَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ إِبْرَاهِيمَ فِي أَشْرَفِ الْأَنْسَابِ، وذلك لأنه رزقه أولادا مثل إسحاق، وَيَعْقُوبَ. وَجَعَلَ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ نَسْلِهِمَا، وَأَخْرَجَهُ مِنْ أَصْلَابِ آبَاءٍ طَاهِرِينَ مِثْلَ

نُوحٍ. وَإِدْرِيسَ، وَشِيثَ. فَالْمَقْصُودُ بَيَانُ كَرَامَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِحَسَبِ الْأَوْلَادِ وَبِحَسَبِ الْآبَاءِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ فَقِيلَ الْمُرَادُ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ نُوحًا أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ وَعَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْأَقْرَبِ وَاجِبٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي جُمْلَتِهِمْ لُوطًا وَهُوَ كَانَ ابْنَ أَخِ إِبْرَاهِيمَ وَمَا كَانَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، بَلْ كَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ رَسُولًا فِي زَمَانِ إِبْرَاهِيمَ. الثَّالِثُ: أَنَّ وَلَدَ الْإِنْسَانِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ ذُرِّيَّتُهُ، فَعَلَى هَذَا إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، بَلْ هُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الرَّابِعُ: قِيلَ إِنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ: بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى نُوحًا لِأَنَّ كَوْنَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَوْلَادِهِ أَحَدُ مُوجِبَاتِ رِفْعَةِ إِبْرَاهِيمَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلًا أَرْبَعَةً مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُمْ: نوح، وإبراهيم، وإسحاق، وَيَعْقُوبَ. ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ: دَاوُدَ، وَسُلَيْمَانَ، وَأَيُّوبَ، وَيُوسُفَ، وَمُوسَى، وَهَارُونَ، وَزَكَرِيَّا، وَيَحْيَى، وَعِيسَى، وَإِلْيَاسَ، وَإِسْمَاعِيلَ، وَالْيَسَعَ، وَيُونُسَ، وَلُوطًا، وَالْمَجْمُوعُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. فَإِنْ قِيلَ: رِعَايَةُ التَّرْتِيبِ وَاجِبَةٌ، وَالتَّرْتِيبُ إِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ بِحَسَبِ الْفَضْلِ وَالدَّرَجَةِ وَإِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ بِحَسَبِ الزَّمَانِ وَالْمُدَّةِ، وَالتَّرْتِيبُ بِحَسَبِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟ قُلْنَا: الْحَقُّ أَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ، وَأَحَدُ الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَطْلُوبِ هذه الآية فإن حرف الواو حاصل هاهنا مَعَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ الْبَتَّةَ، لَا بِحَسَبِ الشَّرَفِ وَلَا بِحَسَبِ الزَّمَانِ/ وَأَقُولُ عِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ التَّرْتِيبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْأَنْبِيَاءِ بِنَوْعٍ مِنَ الْإِكْرَامِ وَالْفَضْلِ. فَمِنَ الْمَرَاتِبِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْخَلْقِ: الْمُلْكُ وَالسُّلْطَانُ وَالْقُدْرَةُ، واللَّه تَعَالَى قَدْ أَعْطَى دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ نَصِيبًا عَظِيمًا. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الْبَلَاءُ الشَّدِيدُ وَالْمِحْنَةُ الْعَظِيمَةُ، وَقَدْ خَصَّ اللَّه أَيُّوبَ بِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَالْخَاصِّيَّةِ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: مَنْ كَانَ مُسْتَجْمِعًا لِهَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، وَهُوَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ نَالَ الْبَلَاءَ الشَّدِيدَ الْكَثِيرَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، ثُمَّ وَصَلَ إِلَى الْمُلْكِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ. وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ فَضَائِلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَخَوَاصِّهِمْ قُوَّةُ الْمُعْجِزَاتِ وَكَثْرَةُ الْبَرَاهِينِ وَالْمَهَابَةُ الْعَظِيمَةُ وَالصَّوْلَةُ الشَّدِيدَةُ وَتَخْصِيصُ اللَّه تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِالتَّقْرِيبِ الْعَظِيمِ وَالتَّكْرِيمِ التَّامِّ، وَذَلِكَ كَانَ فِي حَقِّ مُوسَى وَهَارُونَ. وَالْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: الزُّهْدُ الشَّدِيدُ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الدُّنْيَا، وَتَرْكُ مُخَالَطَةِ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي حَقِّ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ، وَلِهَذَا السَّبَبِ وَصَفَهُمُ اللَّه بِأَنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَالْمَرْتَبَةُ السَّادِسَةُ: الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِيمَا بَيْنَ الْخَلْقِ أَتْبَاعٌ وَأَشْيَاعٌ، وَهُمْ إِسْمَاعِيلُ، وَالْيَسَعُ،

وَيُونُسُ، وَلُوطٌ. فَإِذَا اعْتَبَرْنَا هَذَا الْوَجْهَ الَّذِي رَاعَيْنَاهُ ظَهَرَ أَنَّ التَّرْتِيبَ حَاصِلٌ فِي ذِكْرِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِحَسَبِ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي شَرَحْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ تَعَالَى إِلَى مَاذَا هَدَاهُمْ؟ وَكَذَا الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ: وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَكَذَا قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ الثَّوَابُ الْعَظِيمُ، وَهِيَ الْهِدَايَةُ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْهِدَايَةَ قَالَ بَعْدَهَا: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْهِدَايَةَ كَانَتْ جَزَاءَ الْمُحْسِنِينَ عَلَى إِحْسَانِهِمْ وَجَزَاءُ الْمُحْسِنِ عَلَى إِحْسَانِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا الثَّوَابَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ هُوَ الْهِدَايَةُ إِلَى الْجَنَّةِ. فَأَمَّا الْإِرْشَادُ إِلَى الدِّينِ وَتَحْصِيلُ الْمَعْرِفَةِ فِي قَلْبِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ جَزَاءً لَهُ عَلَى عَمَلِهِ، وَأَيْضًا لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ هُوَ الْهِدَايَةُ إِلَى الدِّينِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَانَ جَزَاءً عَلَى الْإِحْسَانِ الصَّادِرِ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمُ اجْتَهَدُوا فِي طَلَبِ الْحَقِّ، فاللَّه تَعَالَى جَازَاهُمْ عَلَى حُسْنِ طَلَبِهِمْ بِإِيصَالِهِمْ إِلَى الْحَقِّ، كَمَا قَالَ: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [الْعَنْكَبُوتِ: 69] . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ: الْإِرْشَادُ إِلَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، لِأَنَّ الْهِدَايَةَ الْمَخْصُوصَةَ بِالْأَنْبِيَاءِ لَيْسَتْ إِلَّا ذَلِكَ. فَإِنْ قَالُوا: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الرِّسَالَةُ جَزَاءً عَلَى عَمَلٍ، وَذَلِكَ عِنْدَكُمْ بَاطِلٌ. قُلْنَا: يُحْمَلُ قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ عَلَى الْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ الثَّوَابُ وَالْكَرَامَةُ، فَيَزُولُ الْإِشْكَالُ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ هَؤُلَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَالَمَ اسْمٌ لِكُلِّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّه تَعَالَى، فَيَدْخُلُ فِي لَفْظِ الْعَالَمِ الْمَلَائِكَةُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ الْعَالَمِينَ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ أَفْضَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنَ الْأَحْكَامِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ الْأَوْلِيَاءِ، لِأَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ يُوجِبُ ذَلِكَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ مَعْنَاهُ فَضَّلْنَاهُ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ: وَكُلًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يُفَضَّلُونَ عَلَى كُلِّ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْعَالَمِينَ. ثُمَّ الْكَلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَنَّ أَيَّ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ، كَلَامٌ وَاقِعٌ فِي نَوْعٍ آخَرَ لَا تَعْلُّقَ به بِالْأَوَّلِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَاللَّيْسَعَ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ وَالْيَسَعَ بِلَامٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ فِيهِ اللَّيْسَعُ وَالْيَسَعُ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِهَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ رَسُولِ اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْتَسِبُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ إِلَّا بِالْأُمِّ، فَكَذَلِكَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وسلّم، وإن

[سورة الأنعام (6) : آية 89]

انْتَسَبَا إِلَى رَسُولِ اللَّه بِالْأُمِّ وَجَبَ كَوْنُهُمَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْبَاقِرَ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ يُفِيدُ أَحْكَامًا كَثِيرَةً: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْآبَاءَ وَالذُّرِّيَّاتِ وَالْإِخْوَانَ، فَالْآبَاءُ هُمُ الْأُصُولُ، وَالذُّرِّيَّاتُ هُمُ الْفُرُوعُ، وَالْإِخْوَانُ فُرُوعُ الْأُصُولِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ كُلَّ مَنْ تَعَلَّقَ بِهَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ بِنَوْعٍ مِنَ الشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمِنْ آبائِهِمْ وَكَلِمَةُ «مِنْ» لِلتَّبْعِيضِ. فَإِنْ قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْ تِلْكَ الْهِدَايَةِ الْهِدَايَةُ إِلَى الثَّوَابِ وَالْجَنَّةِ وَالْهِدَايَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي آبَاءِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ كَانَ غَيْرَ مُؤْمِنٍ وَلَا وَاصِلٍ إِلَى الْجَنَّةِ. أَمَّا لَوْ قُلْنَا: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ النُّبُوَّةُ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: أَنَّا إِذَا فَسَّرْنَا هذه الهداية بالنبوة كان/ قوله: وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ شَرْطَ كَوْنِ الْإِنْسَانِ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّه أَنْ يَكُونَ رَجُلًا، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: وَاجْتَبَيْناهُمْ يُفِيدُ النُّبُوَّةَ، لِأَنَّ الِاجْتِبَاءَ إِذَا ذُكِرَ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَا يَلِيقُ بِهِ إِلَّا الْحَمْلُ عَلَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْهُدَى هُوَ مَعْرِفَةُ التَّوْحِيدِ وَتَنْزِيهُ اللَّه تَعَالَى عَنِ الشِّرْكِ، لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 88] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الْهُدَى مَا يَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى الْأَمْرِ الْمُضَادِّ لِلشِّرْكِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْهُدَى مَعْرِفَةُ اللَّه بِوَحْدَانِيَّتِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْهُدَى مِنَ اللَّه تَعَالَى، ثَبَتَ أن الإيمان لا يحصل إلا يخلق اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِنَفْيِ الشِّرْكِ فَقَالَ: وَلَوْ أَشْرَكُوا وَالْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ طَاعَاتُهُمْ وَعِبَادَاتُهُمْ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَقْرِيرُ التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالُ طَرِيقَةِ الشِّرْكِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي حَقِيقَةِ الْإِحْبَاطِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِعَادَةِ. واللَّه أَعْلَمُ. [سورة الأنعام (6) : آية 89] أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) [في قَوْلُهُ تَعَالَى أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ] اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الَّذِينَ مَضَى ذِكْرُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّه تَعَالَى قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ آتَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ الْمُغَايِرَةَ، فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَدُلَّ عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ مُتَغَايِرَةٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُكَّامَ عَلَى الْخَلْقِ ثَلَاثُ طَوَائِفَ: أَحَدُهَا: الَّذِينَ يَحْكُمُونَ عَلَى بَوَاطِنِ النَّاسِ وَعَلَى أَرْوَاحِهِمْ، وَهُمُ الْعُلَمَاءُ. وَثَانِيهَا: الَّذِينَ يَحْكُمُونَ عَلَى ظَوَاهِرِ الْخَلْقِ، وَهُمُ السَّلَاطِينُ يَحْكُمُونَ عَلَى النَّاسِ بِالْقَهْرِ وَالسَّلْطَنَةِ، وَثَالِثُهَا: الْأَنْبِيَاءُ، وَهُمُ الَّذِينَ أَعْطَاهُمُ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ مَا لِأَجْلِهِ بِهَا يَقْدِرُونَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي بَوَاطِنِ الْخَلْقِ وَأَرْوَاحِهِمْ، وَأَيْضًا أَعْطَاهُمْ مِنَ القدرة والممكنة مَا لِأَجْلِهِ/ يَقْدِرُونَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي

ظَوَاهِرِ الْخَلْقِ، وَلَمَّا اسْتَجْمَعُوا هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ لَا جَرَمَ كَانُوا هُمُ الْحُكَّامَ عَلَى الْإِطْلَاقِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَقَوْلُهُ: آتَيْناهُمُ الْكِتابَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَاهُمُ الْعَلَمَ الْكَثِيرَ وَقَوْلُهُ: وَالْحُكْمَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمْ حُكَّامًا عَلَى النَّاسِ نَافِذِي الْحُكْمِ فِيهِمْ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ. وَقَوْلُهُ: وَالنُّبُوَّةَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ، وَهِيَ الدَّرَجَةُ الْعَالِيَةُ الرَّفِيعَةُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي يَتَفَرَّعُ عَلَى حُصُولِهَا حُصُولُ الْمُرَتَّبَتَيْنِ الْمُقَدَّمَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، وَلِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ تَفْسِيرَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْإِيتَاءِ الِابْتِدَاءَ بِالْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ عَلَيْهِ كَمَا فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَتَوْرَاةِ مُوسَى، وَإِنْجِيلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وقرآن محمد صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّه تَعَالَى فَهْمًا تَامًّا لِمَا فِي الْكِتَابِ وَعِلْمًا مُحِيطًا بِحَقَائِقِهِ وَأَسْرَارِهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى. لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الْمَذْكُورِينَ مَا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كتابا إليها على التعيين والتخصيص. [فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ وَالْمُرَادُ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَذَا التَّوْحِيدِ وَالطَّعْنِ فِي الشِّرْكِ كَفَّارُ قُرَيْشٍ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْمَ مَنْ هُمْ؟ عَلَى وُجُوهٍ، فَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَهُمُ الْأَنْصَارُ، وَقِيلَ: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ: قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ وَقَالَ أَبُو رَجَاءٍ: يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ اسْمَ الْقَوْمِ قَلَّمَا يَقَعُ عَلَى غَيْرِ بَنِي آدَمَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُمُ الْفُرْسُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كُلُّ مَنْ لَمْ يَكْفُرْ فَهُوَ مِنْهُمْ سَوَاءٌ كَانَ مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا أَوْ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوْ مِنَ التَّابِعِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ يَدُلُّ عَلَى أنه إنما خلقهم للإيمان. وأما غير هم فَهُوَ تَعَالَى مَا خَلَقَهُمْ لِلْإِيمَانِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ خَلَقَ الْكُلَّ لِلْإِيمَانِ كَانَ الْبَيَانُ وَالتَّمْكِينُ وَفِعْلُ الْأَلْطَافِ مُشْتَرَكًا فِيهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَغَيْرِ الْمُؤْمِنِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ: فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ مَعْنًى!. وَأَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى زَادَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ إِيمَانِهِمْ وَبَعْدَهُ مِنْ أَلْطَافِهِ وَفَوَائِدِهِ وَشَرِيفِ أَحْكَامِهِ مَا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّه، وَذَكَرَ فِي الْجَوَابِ وَجْهًا ثَانِيًا، فَقَالَ: / وَبِتَقْدِيرِ: أَنْ يُسَوِّيَ لَكَانَ بَعْضُهُمْ إِذَا قَصَّرَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ صَحَّ أَنْ يُقَالَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ أن لَمْ يَحْصُلْ لَهُ نِعَمُ اللَّه كَالْوَالِدِ الَّذِي يُسَوِّي بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ فِي الْعَطِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَعْطَى أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْآخَرُ ضَيَّعَهُ وَأَفْسَدَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ الْأَوَّلَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْأَلْطَافَ الدَّاعِيَةَ إِلَى الْإِيمَانِ مُشْتَرَكَةٌ فِيمَا بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ وَالتَّخْصِيصُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَالثَّانِي: أَيْضًا فَاسِدٌ. لِأَنَّ الْوَالِدَ لَمَّا سَوَّى بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ فِي الْعَطِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّ أَحَدَهُمَا ضَيَّعَ نَصِيبَهُ، فَأَيُّ عَاقِلٍ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْأَبَ مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَمَا أَعْطَاهُ شَيْئًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى سَيَنْصُرُ نَبِيَّهُ وَيُقَوِّي دِينَهُ، وَيَجْعَلُهُ مُسْتَعْلِيًا عَلَى كُلِّ مَنْ عَادَاهُ، قَاهِرًا لِكُلِّ مَنْ نَازَعَهُ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الَّذِي أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَكَانَ هَذَا جَارِيًا مَجْرَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ، فَيَكُونُ مُعْجِزًا. واللَّه أعلم.

[سورة الأنعام (6) : آية 90]

[سورة الأنعام (6) : آية 90] أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ هم الذين تقدم ذكر هم مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ أَمْرٌ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي تَعْيِينِ الشَّيْءِ الَّذِي أَمَرَ اللَّه مُحَمَّدًا أَنْ يَقْتَدِيَ فِيهِ بِهِمْ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يَقْتَدِي بِهِمْ فِي الْأَمْرِ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَسَائِرِ الْعَقْلِيَّاتِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ وَالصِّفَاتِ الرَّفِيعَةِ الْكَامِلَةِ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى أَذَى السُّفَهَاءِ وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي شَرَائِعِهِمْ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا يَلْزَمُنَا، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ الْأَنْبِيَاءَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُحْتَرِزِينَ عَنِ الشِّرْكِ مُجَاهِدِينَ بِإِبْطَالِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 88] ثم أكد/ إصرار هم عَلَى التَّوْحِيدِ وَإِنْكَارَهُمْ لِلشِّرْكِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ. ثُمَّ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أَيْ هَدَاهُمْ إِلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ أَيِ اقْتَدِ بِهِمْ فِي نَفْيِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَتَحَمُّلِ سَفَاهَاتِ الْجُهَّالِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَالَ آخَرُونَ: اللَّفْظُ مُطْلَقٌ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكُلِّ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ الْمُنْفَصِلُ. قَالَ الْقَاضِي: يَبْعُدُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَمْرِ الرَّسُولِ بِمُتَابَعَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي شَرَائِعِهِمْ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ شَرَائِعَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ فَلَا يَصِحُّ مَعَ تَنَاقُضِهَا أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي تِلْكَ الْأَحْكَامِ الْمُتَنَاقِضَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْهُدَى عِبَارَةٌ عَنِ الدَّلِيلِ دُونَ نَفْسِ الْعَمَلِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: دَلِيلُ ثَبَاتِ شَرْعِهِمْ كَانَ مَخْصُوصًا بِتِلْكَ الْأَوْقَاتِ لَا فِي غَيْرِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ. فَكَانَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْهُدَى هُوَ أَنْ يَعْلَمَ وُجُوبَ تِلْكَ الْأَفْعَالِ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ فَقَطْ، وَكَيْفَ يَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ فِي شَرَائِعِهِمْ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ؟ وَثَالِثُهَا: أَنَّ كَوْنَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُتَّبِعًا لَهُمْ فِي شَرَائِعِهِمْ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنْصِبُهُ أَقَلَّ مِنْ مَنْصِبِهِمْ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي شَرَائِعِهِمْ. والجواب عن الأول: أنه قَوْلَهُ: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ يَتَنَاوَلُ الْكُلُّ. فَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ كَوْنِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ مُتَنَاقِضَةً بِحَسَبِ شَرَائِعِهِمْ. فَنَقُولُ: ذَلِكَ الْعَامُّ يَجِبُ تَخْصِيصُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهَا حُجَّةً. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِأَنْ يَسْتَدِلَّ بِالدَّلِيلِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُتَابَعَةً، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا اسْتَدَلُّوا بِحُدُوثِ الْعَالَمِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ لَا يُقَالُ: إِنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لِلْيَهُودِ

وَالنَّصَارَى فِي هَذَا الْبَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ بِالدَّلِيلِ يَكُونُ أَصِيلًا فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَنْ قَبْلَهُ الْبَتَّةَ، وَالِاقْتِدَاءُ وَالِاتِّبَاعُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا كَانَ فِعْلُ الْأَوَّلِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْفِعْلِ عَلَى الثَّانِي، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَسْقُطُ السُّؤَالُ. وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الرَّسُولَ بِالِاقْتِدَاءِ بِجَمِيعِهِمْ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ وَالْأَخْلَاقِ الشَّرِيفَةِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ أَقَلَّ مَرْتَبَةً مِنْهُمْ، بَلْ يُوجِبُ كَوْنَهُ أَعْلَى مَرْتَبَةً مِنَ الْكُلِّ عَلَى مَا سَيَجِيءُ تَقْرِيرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا يَلْزَمُنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ رَسُولَنَا صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَتَقْرِيرُهُ: هُوَ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ خِصَالَ الْكَمَالِ، وَصِفَاتَ الشَّرَفِ كَانَتْ مُفَرَّقَةً فِيهِمْ/ بِأَجْمَعِهِمْ، فَدَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ كَانَا مِنْ أَصْحَابِ الشُّكْرِ عَلَى النِّعْمَةِ، وَأَيُّوبُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ وَيُوسُفُ كَانَ مُسْتَجْمِعًا لِهَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ. وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ صَاحِبَ الشَّرِيعَةِ الْقَوِيَّةِ الْقَاهِرَةِ وَالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَزَكَرِيَّا، وَيَحْيَى، وَعِيسَى، وَإِلْيَاسُ، كَانُوا أَصْحَابَ الزُّهْدِ، وَإِسْمَاعِيلُ كَانَ صَاحِبَ الصِّدْقِ، وَيُونُسُ صَاحِبُ التَّضَرُّعِ، فَثَبَتَ إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ كَانَ خَصْلَةً مُعَيَّنَةً مِنْ خِصَالِ الْمَدْحِ وَالشَّرَفِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْكُلَّ أَمَرَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ بِأَسْرِهِمْ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ مُحَمَّدًا صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَنْ يَجْمَعَ مِنْ خِصَالِ الْعُبُودِيَّةِ وَالطَّاعَةِ كُلَّ الصِّفَاتِ الَّتِي كَانَتْ مُفَرَّقَةً فِيهِمْ بِأَجْمَعِهِمْ وَلَمَّا أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ، امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قَصَّرَ فِي تَحْصِيلِهَا، فَثَبَتَ أَنَّهُ حَصَّلَهَا، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، ثَبَتَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ مَا كَانَ مُتَفَرِّقًا فِيهِمْ بِأَسْرِهِمْ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُمْ بِكُلِّيَّتِهِمْ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَوْلُهُ: هَدَى اللَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ مَخْصُوصُونَ بِالْهُدَى، لِأَنَّهُ لَوْ هَدَى جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَائِدَةُ تَخْصِيصٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الِاقْتِدَاءُ فِي اللُّغَةِ إِتْيَانُ الثَّانِي بِمِثْلِ فِعْلِ الْأَوَّلِ لِأَجْلِ أَنَّهُ فَعَلَهُ. رَوَى اللِّحْيَانِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُقَالُ لِي بِكَ قُدْوَةٌ وَقِدْوَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قال الواحدي: قرأ ابن عامر اقتداه بِكَسْرِ الدَّالِ وَبِشَمِّ الْهَاءِ لِلْكَسْرِ مِنْ غَيْرِ بُلُوغِ يَاءٍ، وَالْبَاقُونَ اقْتَدِهْ سَاكِنَةَ الْهَاءِ، غَيْرُ أَنَّ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيَّ يَحْذِفَانِهَا فِي الْوَصْلِ وَيُثْبِتَانِهَا فِي الْوَقْفِ، وَالْبَاقُونَ يُثَبِّتُونَهَا فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ حَصَلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى إِثْبَاتِهَا فِي الْوَقْفِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْوَجْهُ الْإِثْبَاتُ فِي الْوَقْفِ وَالْحَذْفُ فِي الْوَصْلِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْهَاءَ هَاءٌ وَقَعَتْ فِي السَّكْتِ بِمَنْزِلَةِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْهَاءَ لِلْوَقْفِ، كَمَا أَنَّ هَمْزَةَ الْوَصْلِ لِلِابْتِدَاءِ بِالسَّاكِنِ، فَكَمَا لَا تَثْبُتُ الْهَمْزَةُ حَالَ الْوَصْلِ، كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَثْبُتَ الْهَاءُ إِلَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَثْبَتُوا رَامُوا مُوَافِقَةَ الْمُصْحَفِ، فَإِنَّ الْهَاءَ ثَابِتَةٌ فِي الْخَطِّ فَكَرِهُوا مُخَالَفَةَ الْخَطِّ فِي حَالَتَيِ الْوَقْفِ وَالْوَصْلِ فَأَثْبَتُوا. وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمُجَاهِدٌ: هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْهَاءَ هَاءُ وَقَفٍ، فَلَا تُعْرَبُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَإِنَّمَا تُذْكَرُ لِيَظْهَرَ بِهَا حَرَكَةُ مَا قَبْلَهَا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَيْسَ بِغَلَطٍ، وَوَجْهُهَا أَنْ

[سورة الأنعام (6) : آية 91]

تَجْعَلَ الْهَاءَ كِنَايَةً عَنِ الْمَصْدَرِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِ الِاقْتِدَاءَ، فَيُضْمَرُ الِاقْتِدَاءُ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ، وَقِيَاسُهُ إِذَا وَقَفَ أَنْ تُسَكَّنَ الْهَاءُ، لِأَنَّ هَاءَ الضَّمِيرِ تُسَكَّنُ فِي الْوَقْفِ، كَمَا تَقُولُ: اشْتَرِهْ. واللَّه أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهُدَى الْأَنْبِيَاءِ/ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ هُدَاهُمْ تَرْكُ طَلَبِ الْأَجْرِ فِي إِيصَالِ الدِّينِ وَإِبْلَاغِ الشَّرِيعَةِ. لَا جَرَمَ اقتدى بهم في ذلك، فقال: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً وَلَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ مَالًا وَلَا جعلا إِنْ هُوَ يعني القر إن إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ يُرِيدُ كَوْنَهُ مُشْتَمِلًا عَلَى كُلِّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ وَقَوْلُهُ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ يَدُلُّ على أنه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مَبْعُوثٌ إِلَى كُلِّ أَهْلِ الدُّنْيَا لَا إلى قوم دون قوم. واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 91] وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى] اعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ مَدَارَ أَمْرِ الْقُرْآنِ عَلَى إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ. وَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ ذَكَرَ دَلِيلَ التَّوْحِيدِ، وَإِبْطَالَ الشِّرْكِ، وَقَرَّرَ تَعَالَى ذَلِكَ الدَّلِيلَ بِالْوُجُوهِ الْوَاضِحَةِ شَرَعَ بَعْدَهُ فِي تَقْرِيرِ أَمْرِ النُّبُوَّةِ، فَقَالَ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ حَيْثُ أَنْكَرُوا النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ، فَهَذَا بَيَانُ وَجْهِ نَظْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَنَّهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وُجُوهٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا عَظَّمُوا اللَّه حَقَّ تَعْظِيمِهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ مَعْنَاهُ: مَا آمَنُوا أَنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَا وَصَفُوهُ حَقَّ صِفَتِهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ. مَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَحَقَّقَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه ذَلِكَ، فَقَالَ يُقَالُ: قَدَّرَ الشَّيْءَ إِذَا سَبَرَهُ وَحَرَّرَهُ، وَأَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ مِقْدَارَهُ يُقَدِّرُهُ بِالضَّمِّ قَدْرًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَإِنَّ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» أَيْ فَاطْلُبُوا أَنْ تَعْرِفُوهُ هَذَا أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ، ثُمَّ قَالَ يُقَالُ لِمَنْ عَرَفَ شَيْئًا هُوَ يُقَدِّرُ قَدْرَهُ، وَإِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ بِصِفَاتِهِ أَنَّهُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ، فَقَوْلُهُ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ صَحِيحٌ فِي كُلِّ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ بَيَّنَ السَّبَبَ فِيهِ، وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَنْكَرَ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَا عَرَفَ اللَّه حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُنْكِرَ الْبِعْثَةِ وَالرِّسَالَةِ إِمَّا أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى مَا كَلَّفَ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ تَكْلِيفًا أَصْلًا، أَوْ يَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى كَلَّفَهُمُ التَّكَالِيفَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ لَهُمْ جَمِيعَ الْمُنْكَرَاتِ وَالْقَبَائِحِ نَحْوَ شَتْمِ اللَّه، وَوَصْفِهِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَالِاسْتِخْفَافِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَأَهْلِ الدِّينِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ شُكْرِ النِّعَمِ، وَمُقَابَلَةِ الْإِنْعَامِ بِالْإِسَاءَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ. وَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ أَنَّهُ تَعَالَى كَلَّفَ الْخَلْقَ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، فَهَهُنَا لَا بُدَّ

مِنْ مُبَلِّغٍ وَشَارِعٍ وَمُبَيِّنٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا الرَّسُولُ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْعَقْلُ كَافٍ فِي إِيجَابِ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُقَبَّحَاتِ؟ قُلْنَا: هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قُلْتُمْ. إِلَّا أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ تَأْكِيدُ التَّعْرِيفِ الْعَقْلِيِّ بِالتَّعْرِيفَاتِ الْمَشْرُوعَةِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ مَنَعَ الْبَعْثَةَ وَالرِّسَالَةَ فَقَدْ طَعَنَ فِي حِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى. وَكَانَ ذَلِكَ جَهْلًا بِصِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَحِينَئِذٍ يَصْدُقُ فِي حَقِّهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ يَمْتَنِعُ بَعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ إِظْهَارُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى وَفْقِ دَعَوَاهُ تَصْدِيقًا لَهُ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ لَهُمْ مَقَامَانِ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَقُولُوا إِنَّهُ لَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ خَرْقُ الْعَادَاتِ وَلَا إِيجَادُ شَيْءٍ عَلَى خِلَافِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ. وَالْمَقَامُ الثَّانِي: الَّذِينَ يُسَلِّمُونَ إِمْكَانَ ذَلِكَ. إِلَّا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ بِتَقْدِيرِ حُصُولِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَاتِ لَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى صِدْقِ مُدَّعِي الرِّسَالَةِ، وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ يُوجِبُ الْقَدْحَ فِي كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى. أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ. وَثَبَتَ أَنَّ مَا يَحْتَمِلُهُ الشَّيْءُ وَجَبَ أَنْ يَحْتَمِلَهُ مَثَلُهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ جِرْمُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ قَابِلًا لِلتَّمَزُّقِ وَالتَّفَرُّقِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْإِلَهَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ وَصْفًا لَهُ بِالْعَجْزِ وَنُقْصَانِ الْقُدْرَةِ، وَحِينَئِذٍ يَصْدُقُ فِي حَقِّ هَذَا الْقَائِلِ: أَنَّهُ مَا قَدَرَ اللَّه حَقَّ قَدْرِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا انْشِقَاقُ الْقَمَرِ، وَلَا حُصُولُ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ. وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ حُدُوثَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ عِنْدَ دَعْوَى مُدَّعِي النُّبُوَّةِ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِمْ، فَهَذَا أَيْضًا ظَاهِرٌ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ. فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَنْكَرَ إِمْكَانَ الْبَعْثَةِ وَالرِّسَالَةِ، فَقَدْ وَصَفَ اللَّه بِالْعَجْزِ وَنُقْصَانِ الْقُدْرَةِ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ مَا قَدَرَ اللَّه حَقَّ قَدْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ حُدُوثُ الْعَالَمِ، فَنَقُولُ: حُدُوثُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ قَادِرٌ عَالِمٌ حَكِيمٌ، وَأَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَبِيدُهُ وَهُوَ مَالِكٌ لَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَلِكٌ لَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْمَلِكُ الْمُطَاعُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَتَكْلِيفٌ عَلَى عِبَادِهِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ وَعْدٌ عَلَى الطَّاعَةِ، وَوَعِيدٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ وَلَا يَكْمُلُ إِلَّا بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، فَكُلُّ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَدْ طَعَنَ فِي كَوْنِهِ تَعَالَى مَلِكًا مُطَاعًا، وَمَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فَهُوَ مَا قَدَرَ اللَّه حَقَّ قَدْرِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ مَا قَدَرَ اللَّه حَقَّ قَدْرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَحْثٌ صَعْبٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَكَى اللَّه عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ أَوْ يُقَالُ إِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ إِبْطَالُ قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى وَذَلِكَ لِأَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَالْبَرَاهِمَةَ كَمَا يُنْكِرُونَ رسالة محمد صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ فَكَذَلِكَ يُنْكِرُونَ رِسَالَةَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فَكَيْفَ يُحْسِنُ إِيرَادُ هَذَا

الْإِلْزَامِ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَهَذَا أَيْضًا صَعْبٌ مُشْكِلٌ، لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ، وَكَيْفَ يَقُولُونَهُ مَعَ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ التَّوْرَاةَ كِتَابٌ أَنْزَلَهُ اللَّه عَلَى مُوسَى، وَالْإِنْجِيلَ: كِتَابٌ أَنْزَلَهُ اللَّه عَلَى عِيسَى، وَأَيْضًا فَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَالْمُنَاظَرَاتُ الَّتِي وَقَعَتْ بين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ، وَبَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كُلُّهَا مَدَنِيَّةٌ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهَا، فَهَذَا تَقْرِيرُ الْإِشْكَالِ الْقَائِمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَقِّ الْيَهُودِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ مَالِكَ بْنَ الصَّيْفِ كَانَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَرُؤَسَائِهِمْ، وَكَانَ رَجُلًا سَمِينًا فَدَخَلَ على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «أَنْشُدُكَ اللَّه الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَلْ تَجِدُ فِيهَا إِنَّ اللَّه يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ وَأَنْتَ الْحَبْرُ السَّمِينُ وَقَدْ سَمِنْتَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُطْعِمُكَ الْيَهُودُ» فَضَحِكَ الْقَوْمُ، فَغَضِبَ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ. فَقَالَ لَهُ قَوْمُهُ: وَيْلُكَ مَا هَذَا الَّذِي بَلَغَنَا عَنْكَ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ أَغْضَبَنِي، / ثُمَّ إِنَّ الْيَهُودَ لِأَجْلِ هَذَا الْكَلَامِ عَزَلُوهُ عن رئاستهم، وَجَعَلُوا مَكَانَهُ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ، فَهَذَا هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِيهَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَتَقَيَّدُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الدَّارِ فَغَضِبَ الزَّوْجُ، وَقَالَ: إِنْ خَرَجْتِ مِنَ الدَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ. قَالُوا: اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا إِلَّا أَنَّهُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ ليتقيد لتلك المرة فكذا هاهنا قوله: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ، إِلَّا أَنَّهُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ يَتَقَيَّدُ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ فَكَانَ قَوْلُهُ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ مُرَادَهُ مِنْهُ أَنَّهُ مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فِي أَنَّهُ يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ، وَإِذَا صَارَ هَذَا الْمُطْلَقُ مَحْمُولًا عَلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى مُبْطِلًا لِكَلَامِهِ، فَهَذَا أَحَدُ السُّؤَالَاتِ: السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ مَالِكَ بْنَ الصَّيْفِ كَانَ مُفْتَخِرًا بِكَوْنِهِ يهوديا متظاهرا بذلك ومع هذا المذهب الْبَتَّةَ أَنْ يَقُولَ مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْغَضَبِ الْمُدْهِشِ لِلْعَقْلِ أَوْ عَلَى سَبِيلٍ لَا يُمْكِنُهُ طُغْيَانُ اللِّسَانِ، وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ لَا يَلِيقُ باللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنْزَالُ الْقُرْآنِ الْبَاقِي عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ فِي إِبْطَالِهِ. وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَكْثَرِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَأَنَّهَا أُنْزِلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَمُنَاظَرَاتُ الْيَهُودِ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَتْ مَدَنِيَّةً، فَكَيْفَ يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تِلْكَ الْمُنَاظَرَةِ؟ وَأَيْضًا لَمَّا نَزَلَتِ السُّورَةُ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ الْمُعَيَّنَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْوَاقِعَةِ الْفُلَانِيَّةِ؟ فَهَذِهِ هِيَ السُّؤَالَاتُ الْوَارِدَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّ مَالِكَ بْنَ الصَّيْفِ لَمَّا تَأَذَّى مِنْ هَذَا الْكَلَامِ طَعَنَ فِي نُبُوَّةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْكَ شَيْئًا الْبَتَّةَ، وَلَسْتَ رَسُولًا مِنْ قِبَلِ اللَّه الْبَتَّةَ، فَعِنْدَ هَذَا الْكَلَامِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنَّكَ لَمَّا سَلَّمْتَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَعِنْدَ هَذَا لَا يُمْكِنُكَ الْإِصْرَارُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَنْزَلَ عَلَيَّ شَيْئًا لِأَنِّي بَشَرٌ وَمُوسَى بَشَرٌ أَيْضًا، فَلَمَّا سَلَّمْتَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ عَلَى بَشَرٍ امْتَنَعَ عَلَيْكَ أَنْ تَقْطَعَ وَتَجْزِمَ بِأَنَّهُ مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَيَّ شَيْئًا، فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانَ أَنَّ الَّذِي ادَّعَاهُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمُمْتَنِعَاتِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْخَصْمِ الْيَهُودِيِّ أَنْ

يُصِرَّ عَلَى إِنْكَارِهِ، بَلْ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْمُعْجِزِ فَإِنْ أَتَى بِهِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَإِلَّا فَلَا فَإِمَّا أَنْ يُصِرَّ الْيَهُودِيُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَنْزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ شَيْئًا الْبَتَّةَ مَعَ أَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُوسَى، فَذَاكَ/ مَحْضُ الْجَهَالَةِ وَالتَّقْلِيدِ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالَيْنِ الْأَوَّلِينَ. فَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ وَنَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَمْنَعُ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مُنَاظَرَةُ الْيَهُودِيِّ. قُلْنَا: الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ قَالُوا: السُّورَةُ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ وَنَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، فَهَذَا مُنْتَهَى الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْوَجْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ أَعْنِي مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قَوْمٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: كُفَّارُ قُرَيْشٍ يُنْكِرُونَ نُبُوَّةَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ إِلْزَامُ نُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِمْ؟ وَأَيْضًا فَمَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَلِيقُ بِكَفَّارِ قُرَيْشٍ، وَإِنَّمَا يَلِيقُ بِالْيَهُودِ وَهُوَ قَوْلُهُ: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ [الأنعام: 91] فَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالْيَهُودِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ خِطَابٌ مَعَ الْكُفَّارِ، وَآخِرَهَا خِطَابٌ مَعَ الْيَهُودِ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَفْكِيكَ نَظْمِ الْآيَةِ وَفَسَادَ تَرْكِيبِهَا، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِأَحْسَنِ الْكَلَامِ فَضْلًا عَنْ كَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَهَذَا تَقْرِيرُ الْإِشْكَالِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. أَمَّا السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: فَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ كَفَّارَ قُرَيْشٍ كَانُوا مُخْتَلِطِينَ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَكَانُوا قَدْ سَمِعُوا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاتُرِ ظُهُورَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِثْلَ انْقِلَابِ الْعَصَا ثُعْبَانًا، وَفَلْقِ الْبَحْرِ وَإِظْلَالِ الْجَبَلِ وَغَيْرِهَا وَالْكَفَّارُ كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ وَكَانُوا يَقُولُونَ لَوْ جئتنا بأمثال هذه المعجزات لا منا بِكَ، فَكَانَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ جَارِيًا مَجْرَى مَا يُوجِبُ عَلَيْهِمُ الِاعْتِرَافَ بِنُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَبْعُدْ إِيرَادُ نُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلْزَامًا عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَجَوَابُهُ: أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، لَمَّا كَانُوا مُتَشَارِكِينَ فِي إِنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ وَارِدًا عَلَى سَبِيلِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ خِطَابًا مَعَ كُفَّارِ مَكَّةَ وَبَقِيَّتُهُ يَكُونُ خِطَابًا مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَهَذَا مَا يَحْضُرُنَا فِي هَذَا الْبَحْثِ الصَّعْبِ، وباللَّه التَّوْفِيقُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ عُقُولَ الْخَلْقِ لَا تَصِلُ إِلَى كُنْهِ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى الْبَتَّةَ، ثُمَّ إِنَّ الْكَثِيرَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْمَذْهَبِ يَحْتَجُّونَ عَلَى صِحَّتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أَيْ وَمَا عَرَفُوا اللَّه حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِعِيدٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِي الْقُرْآنِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، وَكُلُّهَا وَرَدَتْ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ فَهَهُنَا وَرَدَ فِي حَقِّ الْيَهُودِ أَوْ كُفَّارِ مَكَّةَ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ فَائِدَةٌ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَحْكَامٌ.

الْحُكْمُ الْأَوَّلُ أَنَّ النَّكِرَةَ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ تُفِيدُ الْعُمُومَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّ قوله: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَلَوْ لَمْ تُفِدِ الْعُمُومَ لَمَا كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى إِبْطَالًا لَهُ، وَنَقْضًا عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَفَسَدَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا، ثَبَتَ أَنَّ النَّكِرَةَ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ تَعُمُّ. واللَّه أَعْلَمُ. الْحُكْمُ الثَّانِي النَّقْضُ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى نَقَضَ قولهم: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى فَلَوْ لَمْ يَدُلَ النَّقْضُ عَلَى فَسَادِ الْكَلَامِ لَمَا كَانَتْ حُجَّةُ اللَّه مُفِيدَةً لِهَذَا الْمَطْلُوبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إِبْدَاءُ الْفَارِقِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ يَمْنَعُ مِنْ كون النقض مُبْطِلًا ضَعِيفٌ، إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَسَقَطَتْ حُجَّةُ اللَّه فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَأَنَّ الْيَهُودِيَّ كَانَ يَقُولُ مُعْجِزَاتُ مُوسَى أَظْهَرُ، وَأَبْهَرُ مِنْ مُعْجِزَاتِكَ، فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ إِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ هُنَاكَ إِثْبَاتُهَا هُنَا، وَلَوْ كَانَ الْفَرْقُ مَقْبُولًا لَسَقَطَتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ، وَحَيْثُ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِسُقُوطِهَا عَلِمْنَا أَنَّ النَّقْضَ عَلَى الْإِطْلَاقِ مُبْطِلٌ واللَّه أَعْلَمُ. الْحُكْمُ الثَّالِثُ تَفَلْسَفَ الْغَزَالِيُّ فَزَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشَّكْلِ الثَّانِي مِنَ الْأَشْكَالِ الْمَنْطِقِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ مُوسَى أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ شَيْئًا وَأَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِ شَيْئًا يَنْتِجُ مِنَ الشَّكْلِ الثَّانِي: أَنَّ مُوسَى مَا كَانَ مِنَ الْبَشَرِ، وَهَذَا خُلْفٌ مُحَالٌ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الِاسْتِحَالَةُ بِحَسَبِ شَكْلِ الْقِيَاسِ، وَلَا بِحَسَبِ صِحَّةِ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ لَزِمَ مِنْ فَرْضِ صِحَّةِ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِكَوْنِهَا كَاذِبَةً، فَثَبَتَ أَنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، إِنَّمَا تَصِحُّ عِنْدَ الِاعْتِرَافِ بِصِحَّةِ الشَّكْلِ الثَّانِي مِنَ الْأَشْكَالِ الْمَنْطِقِيَّةِ، وَعِنْدَ الِاعْتِرَافِ بِصِحَّةِ قِيَاسِ الخلف. واللَّه أعلم. [قوله تعالى نُوراً وَهُدىً إلى قوله مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى وَصَفَ بَعْدَهُ كِتَابَ مُوسَى بِالصِّفَاتِ. فَالصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُ نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ نُورًا تَشْبِيهًا لَهُ بِالنُّورِ الَّذِي بِهِ يُبَيِّنُ الطَّرِيقَ. فَإِنْ قَالُوا: فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لَا يَبْقَى بَيْنَ كَوْنِهِ نُورًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ هُدًى لِلنَّاسِ فَرْقٌ، وَعَطْفُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ يُوجِبُ التَّغَايُرَ. قُلْنَا: النُّورُ لَهُ صِفَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: كَوْنُهُ فِي نَفْسِهِ ظَاهِرًا جَلِيًّا، وَالثَّانِيَةُ: كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَكُونُ سببا لظهور

غَيْرِهِ، فَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ نُورًا وَهُدًى هَذَانِ الْأَمْرَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْقُرْآنَ أَيْضًا بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فِي آيَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وفيه مسائل: المسألة الأول: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ يَجْعَلُونَهُ عَلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ، وَكَذَلِكَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ غَائِبُونَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فَلَمَّا وَرَدَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ عَلَى لَفْظِ الْمُغَايَبَةِ، فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْبَوَاقِي، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، فَالتَّقْدِيرُ: قُلْ لَهُمْ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَاءَ عَلَى الْخِطَابِ، فَكَذَلِكَ مَا قَبْلَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: قَوْلُهُ: يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ أَيْ يَجْعَلُونَهُ ذَاتَ قَرَاطِيسَ. أَيْ يُودِعُونَهُ إِيَّاهَا. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ كُلَّ كِتَابٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُودَعَ فِي الْقَرَاطِيسِ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي كُلِّ الْكُتُبِ، فَمَا السَّبَبُ، فِي أَنْ حَكَى اللَّه تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمْ. قُلْنَا: الذَّمُّ لَمْ يَقَعْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَقَطْ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمَّا جَعَلُوهُ قَرَاطِيسَ، وَفَرَّقُوهُ وَبَعَّضُوهُ، لَا جَرَمَ قَدَرُوا عَلَى إِبْدَاءِ الْبَعْضِ، وَإِخْفَاءِ الْبَعْضِ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ صِفَةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ أَنَّ التَّوْرَاةَ كِتَابٌ وَصَلَ إِلَى أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَعَرَفَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَفِظُوهُ، وَمِثْلُ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُمْكِنُ إِدْخَالُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الرَّجُلَ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَوْ أَرَادَ إِدْخَالَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي الْقُرْآنِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَكَذَا الْقَوْلُ فِي التَّوْرَاةِ. قُلْنَا: قَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّحْرِيفِ تَفْسِيرُ آيَاتِ التَّوْرَاةِ بِالْوُجُوهِ الْبَاطِلَةِ الْفَاسِدَةِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُبْطِلُونَ فِي زَمَانِنَا هَذَا بِآيَاتِ الْقُرْآنِ. فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّهُ حَصَلَ فِي التَّوْرَاةِ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. إِلَّا أَنَّهَا قَلِيلَةٌ، وَالْقَوْمُ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنَ التَّوْرَاةِ إِلَّا تِلْكَ الْآيَاتِ، فَلِمَ قَالَ: وَيُخْفُونَ كَثِيرًا. قُلْنَا: الْقَوْمُ كَمَا يُخْفُونَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَذَلِكَ يُخْفُونَ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْأَحْكَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ حَاوَلُوا عَلَى إِخْفَاءِ الْآيَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قوله: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّ التَّوْرَاةَ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْبِشَارَةِ بِمَقْدَمِ مُحَمَّدٍ وَالْيَهُودُ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم كانوا يقرؤن تِلْكَ الْآيَاتِ وَمَا كَانُوا يَفْهَمُونَ مَعَانِيَهَا، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّه مُحَمَّدًا ظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ هُوَ مَبْعَثُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ التَّوْرَاةَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ، قَالَ: قُلِ اللَّهُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ

[سورة الأنعام (6) : آية 92]

الْآيَةِ: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ بَعْدَهُ: قُلِ اللَّهُ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعَقْلَ السَّلِيمَ وَالطَّبْعَ الْمُسْتَقِيمَ يَشْهَدُ بِأَنَّ الْكِتَابَ الْمَوْصُوفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ الْمُؤَيِّدَ قَوْلَ صَاحِبِهِ بِالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ الْبَاهِرَةِ مِثْلِ مُعْجِزَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى، فَلَمَّا صَارَ هَذَا الْمَعْنَى ظَاهِرًا بِسَبَبِ ظُهُورِ الْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ، لَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ قُلِ الْمُنْزِلُ لِهَذَا الْكِتَابِ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ وَأَيْضًا إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي حَاوَلَ إِقَامَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ يَقُولُ مَنِ الَّذِي أَحْدَثَ الْحَيَاةَ بَعْدَ عَدَمِهَا، وَمَنِ الَّذِي أَحْدَثَ الْعَقْلَ بَعْدَ الْجَهَالَةِ، وَمَنِ الَّذِي أَوْدَعَ فِي الْحَدَقَةِ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ، وَفِي الصِّمَاخِ الْقُوَّةَ السَّامِعَةَ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ نَفْسَهُ يَقُولُ اللَّهَ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ بَلَغَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ وَالْبَيِّنَةُ إِلَى حَيْثُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَعْتَرِفَ بِهَا فَسَوَاءٌ أَقَرَّ الْخَصْمُ بِهِ أَوْ لَمْ يُقِرَّ فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ فَكَذَا هَاهُنَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ: ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى أَنَّكَ إِذَا أَقَمْتَ الحجة عليهم وبلغت في الأعذار والإنذار وهذا الْمَبْلَغَ الْعَظِيمَ فَحِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ عَلَيْكَ مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ مَذْكُورٌ لِأَجْلِ التَّهْدِيدِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي حُصُولَ الْمُقَاتَلَةِ، فَلَمْ يَكُنْ وُرُودُ الْآيَةِ/ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْمُقَاتَلَةِ، رَافِعًا لِشَيْءٍ مِنْ مَدْلُولَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَلَمْ يَحْصُلِ النَّسْخُ فِيهِ. واللَّه أَعْلَمُ. [سورة الأنعام (6) : آية 92] وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَبْطَلَ بِالدَّلِيلِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، ذَكَرَ بَعْدَهُ أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابُ اللَّه، أَنْزَلَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهذا إِشَارَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ كِتَابٌ وَتَفْسِيرُ الكتاب قدم تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ وَصَفَهُ بِصِفَاتٍ كَثِيرَةٍ. الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَنْزَلْناهُ وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى لَا مِنْ عِنْدِ الرَّسُولِ لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَخُصَّ اللَّه مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِعُلُومٍ كَثِيرَةٍ يَتَمَكَّنُ بِسَبَبِهَا مِنْ تَرْكِيبِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْفَصَاحَةِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي تَوَلَّى إِنْزَالَهُ بِالْوَحْيِ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مُبارَكٌ قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي كِتَابٌ مُبَارَكٌ أَيْ كَثِيرٌ خَيْرُهُ دَائِمٌ بَرَكَتُهُ وَمَنْفَعَتُهُ، يُبَشِّرُ بِالثَّوَابِ وَالْمَغْفِرَةِ وَيَزْجُرُ عَنِ الْقَبِيحِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَأَقُولُ: الْعُلُومُ إِمَّا نَظَرِيَّةٌ، وَإِمَّا عَمَلِيَّةٌ أَمَّا الْعُلُومُ النَّظَرِيَّةُ، فَأَشْرَفُهَا وَأَكْمَلُهَا مَعْرِفَةُ ذَاتِ اللَّه وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَلَا تَرَى هَذِهِ الْعُلُومَ أَكْمَلَ وَلَا أَشْرَفَ مِمَّا تَجِدُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَأَمَّا الْعُلُومُ الْعَمَلِيَّةُ، فَالْمَطْلُوبُ، إِمَّا أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ وَإِمَّا أَعْمَالُ الْقُلُوبِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِطَهَارَةِ الْأَخْلَاقِ وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَلَا تَجِدُ هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ مِثْلَ مَا تَجِدُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، ثُمَّ قَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّ الْبَاحِثَ عَنْهُ وَالْمُتَمَسِّكَ بِهِ يَحْصُلُ لَهُ عِزُّ الدُّنْيَا وَسَعَادَةُ الْآخِرَةِ.

يَقُولُ مُصَنِّفُ هَذَا الْكِتَابِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِيُّ: وَأَنَا قَدْ نَقَلْتُ أَنْوَاعًا مِنَ الْعُلُومِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، فَلَمْ يَحْصُلْ لِي بِسَبَبِ شَيْءٍ مِنَ الْعُلُومِ مِنْ أَنْوَاعِ السَّعَادَاتِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِثْلَ مَا حَصَلَ بِسَبَبِ خِدْمَةِ هَذَا الْعِلْمِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ فَالْمُرَادُ كَوْنُهُ مُصَدِّقًا لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ وَالْأَمْرُ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَوْجُودَ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ إِمَّا عِلْمُ الْأُصُولِ، وَإِمَّا عِلْمُ الْفُرُوعِ. أَمَّا عُلُومُ الْأُصُولِ: فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ التَّفَاوُتِ فِيهِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ مُوَافِقٌ ومطابق لما في التوراة والزبورة وَالْإِنْجِيلِ وَسَائِرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ. وَأَمَّا عِلْمُ الْفُرُوعِ: فَقَدْ كَانَتِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى الْقُرْآنِ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْبِشَارَةِ بِمَقْدَمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ أَنَّ التَّكَالِيفَ الْمَوْجُودَةَ فِيهَا، إِنَّمَا تَبْقَى إِلَى وَقْتِ ظُهُورِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَمَّا بَعْدَ ظُهُورِ شَرْعِهِ فَإِنَّهَا تَصِيرُ مَنْسُوخَةً، فَثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الْكُتُبَ دَلَّتْ عَلَى ثُبُوتِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَالْقُرْآنُ مُطَابِقٌ لِهَذَا الْمَعْنَى وَمُوَافِقٌ، فَثَبَتَ كَوْنُ الْقُرْآنِ مُصَدِّقًا لِكُلِّ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ فِي جُمْلَةِ عِلْمِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَهَاهُنَا أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ هَاهُنَا مَحْذُوفًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَلِتُنْذِرَ أَهْلَ أُمِّ الْقُرَى. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أُمَّ الْقُرَى هِيَ مَكَّةُ، وَاخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ سُمِّيَتْ مَكَّةُ بِهَذَا الِاسْمِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَرَضِينَ دُحِيَتْ مِنْ تَحْتِهَا وَمِنْ حَوْلِهَا، وَقَالَ أَبُو بكر الأصم: سميت بذلك لأنها قبل أَهْلِ الدُّنْيَا، فَصَارَتْ هِيَ كَالْأَصْلِ وَسَائِرُ الْبِلَادِ وَالْقُرَى تَابِعَةٌ لَهَا، وَأَيْضًا مِنْ أُصُولِ عِبَادَاتِ أَهْلِ الدُّنْيَا الْحَجُّ، وَهُوَ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ يَجْتَمِعُ الْخَلْقُ إِلَيْهَا كَمَا يَجْتَمِعُ الْأَوْلَادُ إِلَى الْأُمِّ، وَأَيْضًا فَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الدُّنْيَا يَجْتَمِعُونَ هُنَاكَ بِسَبَبِ الْحَجِّ، لَا جَرَمَ يَحْصُلُ هُنَاكَ أَنْوَاعٌ مِنَ التِّجَارَاتِ وَالْمَنَافِعِ مَا لَا يَحْصُلُ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَسْبَ وَالتِّجَارَةَ مِنْ أُصُولِ الْمَعِيشَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ سُمِّيَتْ مَكَّةُ أُمَّ الْقُرَى. وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ مَكَّةُ أُمَّ الْقُرَى لِأَنَّ الْكَعْبَةَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، وَقِيلَ أَيْضًا: إِنَّ مَكَّةَ أَوَّلُ بَلْدَةٍ سُكِنَتْ فِي الْأَرْضِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَمَنْ حَوْلَها دَخَلَ فِيهِ سَائِرُ الْبُلْدَانِ وَالْقُرَى. وَالْبَحْثُ الثَّانِي: زَعَمَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ رَسُولًا إِلَى الْعَرَبِ فَقَطْ. وَاحْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْقُرْآنَ لِيُبَلِّغَهُ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَإِلَى الْقُرَى الْمُحِيطَةِ بِهَا، وَالْمُرَادُ مِنْهَا جَزِيرَةُ الْعَرَبِ، وَلَوْ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ لَكَانَ التَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها بَاطِلًا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ تَخْصِيصَ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ فِيمَا سِوَاهَا إِلَّا بِدَلَالَةِ/ الْمَفْهُومِ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ الظَّاهِرِ، الْمَقْطُوعِ بِهِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَدَّعِي كَوْنَهُ رَسُولًا إِلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ: وَمَنْ حَوْلَها يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْبِلَادِ وَالْقُرَى المحيطة بها، وبهذا التقدير: فيدخل فيه جمع بِلَادِ الْعَالَمِ، واللَّه أَعْلَمُ.

[سورة الأنعام (6) : آية 93]

الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ لِيُنْذِرَ بِالْيَاءِ جَعَلَ الْكِتَابَ هُوَ الْمُنْذِرَ، لِأَنَّ فِيهِ إِنْذَارًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: لِيُنْذَرُوا بِهِ أَيْ بِالْكِتَابِ، وَقَالَ: وَأَنْذِرْ بِهِ وَقَالَ: إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ فَلَا يَمْتَنِعُ إِسْنَادُ الْإِنْذَارِ إِلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّسَاعِ، وَأَمَّا الْبَاقُونَ: فَإِنَّهُمْ قَرَءُوا وَلِتُنْذِرَ بِالتَّاءِ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ وَالْمَوْصُوفَ بِالْإِنْذَارِ هُوَ. قَالَ تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وقال: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْآخِرَةِ جَارٍ مَجْرَى السَّبَبِ لِلْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ. وَالْعُلَمَاءُ ذَكَرُوا فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ السَّبَبِيَّةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ هُوَ الَّذِي يُؤْمِنُ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعَظِّمُ رَغْبَتَهُ فِي تَحْصِيلِ الثَّوَابِ، وَرَهْبَتَهُ عَنْ حُلُولِ الْعِقَابِ، وَيُبَالِغُ فِي النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، فَيَصِلُ إِلَى الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مُبَالَغَةٌ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مِثْلَ مَا فِي شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ الْإِيمَانُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبِصِحَّةِ الْآخِرَةِ أَمْرَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ، وَالثَّالِثُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ التَّنْبِيهَ عَلَى إِخْرَاجِ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ قَبُولِ هَذَا الدِّينِ، لِأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَتَرْكِ رئاسة الدُّنْيَا، وَتَرْكِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ لَيْسَ إِلَّا الرَّغْبَةَ فِي الثَّوَابِ، وَالرَّهْبَةَ عَنِ الْعِقَابِ. وَكُفَّارُ مَكَّةَ لَمَّا لَمْ يَعْتَقِدُوا فِي الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، امْتَنَعَ مِنْهُمْ تَرْكُ الْحَسَدِ وَتَرْكُ الرِّيَاسَةِ، فَلَا جَرَمَ يَبْعُدُ قَبُولُهُمْ لِهَذَا الدِّينِ وَاعْتِرَافُهُمْ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. ثُمَّ قَالَ: وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ وَالْمُرَادُ أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْآخِرَةِ كَمَا يَحْمِلُ الرَّجُلَ عَلَى الْإِيمَانِ بِالنُّبُوَّةِ، فَكَذَلِكَ يَحْمِلُهُ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْإِيمَانُ بِالْآخِرَةِ يَحْمِلُ عَلَى كُلِّ الطَّاعَاتِ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَخْصِيصِ الصَّلَاةِ بِالذِّكْرِ؟ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ أَشْرَفُ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ باللَّه وَأَعْظَمُهَا خَطَرًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعِ اسْمُ الْإِيمَانِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ إِلَّا عَلَى الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 143] أَيْ صَلَاتَكُمْ، وَلَمْ يَقَعِ اسْمُ الْكُفْرِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَعَاصِي إِلَّا عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ. قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ/ وَالسَّلَامُ: «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ» فَلَمَّا اخْتَصَّتِ الصَّلَاةُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّشْرِيفِ لَا جَرَمَ خَصَّهَا اللَّه بِالذِّكْرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 93] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) [قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ كَوْنَ الْقُرْآنِ كِتَابًا نَازِلًا مِنْ عِنْدِ اللَّه وَبَيَّنَ مَا فِيهِ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالَةِ وَالشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ، ذَكَرَ عَقِيبَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى وَعِيدِ مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ عَلَى سَبِيلِ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ فَقَالَ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى عَظَّمَ وَعِيدَ مَنْ ذَكَرَ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ: فَأَوَّلُهَا: أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَى اللَّه كَذِبًا. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَ هَذَا فِي مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ صَاحِبِ الْيَمَامَةِ، وَفِي الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ صَاحِبِ صَنْعَاءَ، فإنهما كانا

يَدَّعِيَانِ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ مِنْ عِنْدِ اللَّه عَلَى سَبِيلِ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ، وَكَانَ مُسَيْلِمَةُ يَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ قُرَيْشٍ، وَأَنَا رَسُولُ بَنِي حَنِيفَةَ. قَالَ الْقَاضِي: الَّذِي يَفْتَرِي عَلَى اللَّه الْكَذِبَ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَدَّعِي الرِّسَالَةَ كَذِبًا، وَلَكِنْ لَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. فَكُلُّ مَنْ نَسَبَ إِلَى اللَّه تَعَالَى مَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ، إِمَّا فِي الذَّاتِ، وَإِمَّا فِي الصِّفَاتِ وَإِمَّا فِي الْأَفْعَالِ كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ. قَالَ: وَالِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّه فِي صِفَاتِهِ، كَالْمُجَسِّمَةِ، وَفِي عَدْلِهِ كَالْمُجْبِرَةِ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ ظَلَمُوا أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ بِأَنِ افْتَرَوْا عَلَى اللَّه الْكَذِبَ، وَأَقُولُ: أَمَّا قَوْلُهُ: الْمُجَسِّمَةُ قَدِ افْتَرَوْا عَلَى اللَّه الْكَذِبَ، فَهُوَ حَقٌّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّه فِي صِفَاتِهِ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. / لِأَنَّ كَوْنَ الذَّاتِ جِسْمًا وَمُتَحَيَّزًا لَيْسَ بِصِفَةٍ، بَلْ هُوَ نَفْسُ الذَّاتِ الْمَخْصُوصَةِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ لَيْسَ بِجِسْمٍ، كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقُولُ: جَمِيعُ الْأَجْسَامِ وَالْمُتَحَيَّزَاتِ مُحْدَثَةٌ، وَلَهَا بِأَسْرِهَا خَالِقٌ هُوَ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِمُتَحَيَّزٍ، وَالْمُجَسِّمُ يَنْفِي هَذِهِ الذَّاتَ، فَكَانَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْمُوَحِّدِ وَالْمُجَسِّمِ لَيْسَ فِي الصِّفَةِ بَلْ فِي نَفْسِ الذَّاتِ، لِأَنَّ الْمُوَحِّدَ يُثْبِتُ هَذِهِ الذَّاتَ وَالْمُجَسِّمَ يَنْفِيهَا، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ لَمْ يَقَعْ فِي الصِّفَةِ، بَلْ فِي الذَّاتِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْمُجْبِرَةُ قَدِ افْتَرَوْا عَلَى اللَّه تَعَالَى فِي صِفَاتِهِ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ الْمُجْبِرَةُ مَا زَادُوا عَلَى قَوْلِهِمْ الْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ، فَإِنَّ كَذَبُوا فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَعْرِفُوا وُجُودَ الْإِلَهِ؟ وَإِنْ صَدَقُوا فِي ذَلِكَ لَزِمَهُمُ الْإِقْرَارُ بِتَوْقِيفِ صُدُورِ الْفِعْلِ عَلَى حُصُولِ الدَّاعِي بِتَخْلِيقِ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ عَيْنُ مَا نُسَمِّيهِ بِالْجَبْرِ، فَثَبَتَ أَنَّ الَّذِي وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ افْتِرَاءً عَلَى اللَّه بَاطِلٌ، بَلِ الْمُفْتَرِي عَلَى اللَّه مَنْ يَقُولُ الْمُمْكِنُ لَا يَتَوَقَّفُ رُجْحَانُ أَحَدِ طَرَفَيْهِ عَلَى الْآخَرِ عَلَى حُصُولِ الْمُرَجَّحِ. فَإِنَّ مَنْ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ لَزِمَهُ نَفْيُ الصَّانِعِ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ يَلْزَمُهُ نَفْيُ الْآثَارِ وَالْمُؤَثِّرَاتِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي وَصَفَهَا اللَّه تَعَالَى بِكَوْنِهَا افْتِرَاءً قَوْلُهُ: أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ، أَنَّ فِي الْأَوَّلِ كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَمَا كَانَ يَكْذِبُ بِنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، وَأَمَّا فِي هَذَا الْقَوْلِ، فَقَدْ أَثْبَتَ الْوَحْيَ لِنَفْسِهِ وَنَفَاهُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَانَ هَذَا جَمْعًا بَيْنَ نَوْعَيْنِ عَظِيمَيْنِ مِنَ الْكَذِبِ، وَهُوَ إِثْبَاتُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَنَفْيُ مَا هُوَ مَوْجُودٌ. وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: المراد ما قاله النضر بن الحرث وَهُوَ قَوْلُهُ: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا وَقَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ: إِنَّهُ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، وَكُلُّ أَحَدٍ يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ، وَحَاصِلُهُ: أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ يَدَّعِي مُعَارَضَةَ الْقُرْآنِ. وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ كَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: 12] إملاء الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ عَجِبَ عَبْدُ اللَّه مِنْهُ فَقَالَ: فَتَبَارَكَ اللَّه أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ! فَقَالَ الرَّسُولُ هَكَذَا أُنْزِلَتِ الْآيَةُ، فَسَكَتَ عَبْدُ اللَّه وَقَالَ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا، فَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَقَدْ عَارَضْتُهُ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ فَاعْلَمْ أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يُفِيدُ التَّخْوِيفَ الْعَظِيمَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلَوْ تَرى / إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ كَالتَّفْصِيلِ لِذَلِكَ الْمُجْمَلِ، وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ، وَغَمَرَاتُ الْمَوْتِ جَمْعُ غَمْرَةٍ وَهِيَ شَدَّةُ الْمَوْتِ، وَغَمْرَةُ كُلِّ شَيْءٍ كَثْرَتُهُ وَمُعْظَمُهُ، وَمِنْهُ غَمْرَةُ الْمَاءِ، وَغَمْرَةُ الْحَرْبِ، وَيُقَالُ غَمَرَهُ الشَّيْءُ إِذَا

عَلَاهُ وَغَطَّاهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ كَانَ فِي شَيْءٍ كَثِيرٍ قَدْ غَمَرَهُ ذَلِكَ. وَغَمَرَهُ الدَّيْنُ إِذَا كَثُرَ عَلَيْهِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ يُقَالُ لِلشَّدَائِدِ وَالْمَكَارِهِ: الْغَمَرَاتُ، وَجَوَابُ «لَوْ» مَحْذُوفٌ، أَيْ لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا، وَالْمَلَائِكَةُ باسطوا أَيْدِيهِمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ يَضْرِبُونَهُمْ وَيُعَذِّبُونَهُمْ، كَمَا يُقَالُ بَسَطَ إِلَيْهِ يَدَهُ بِالْمَكْرُوهِ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ. هَاهُنَا مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: يَقُولُونَ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى إِخْرَاجِ أَرْوَاحِهِمْ مِنْ أَجْسَادِهِمْ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا الْكَلَامِ؟ فَنَقُولُ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَلَوْ تَرَى الظَّالِمِينَ إِذَا صَارُوا إِلَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ فِي الْآخِرَةِ فَأُدْخِلُوا جَهَنَّمَ فَغَمَرَاتُ الْمَوْتِ عِبَارَةٌ عَمَّا يُصِيبُهُمْ هُنَاكَ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ وَالتَّعْذِيبَاتِ، وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ عَلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ يُبَكِّتُونَهُمْ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ الشَّدِيدِ إِنْ قَدَرْتُمْ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَوْتِ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهُمْ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ يَقُولُونَ لَهُمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ هَذِهِ الشَّدَائِدِ وَخَلِّصُوهَا مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ وَالْآلَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ أي أخرجوا إِلَيْنَا مِنْ أَجْسَادِكُمْ وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَنِ الْعُنْفِ وَالتَّشْدِيدِ فِي إِزْهَاقِ الرُّوحِ مِنْ غَيْرِ تَنْفِيسٍ وَإِمْهَالٍ وَأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ بِهِمْ فِعْلَ الْغَرِيمِ الْمُلَازِمِ الْمُلِحِّ يَبْسُطُ يَدَهُ إِلَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَيُعَنِّفُ عَلَيْهِ فِي الْمُطَالَبَةِ وَلَا يُمْهِلُهُ، وَيَقُولُ لَهُ: أَخْرِجْ إِلَيَّ مَا لِي عَلَيْكَ السَّاعَةَ وَلَا أَبْرَحُ مِنْ مَكَانِي حَتَّى أَنْزَعَهُ مِنْ أَحْدَاقِكَ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ حَالِهِمْ وَأَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي الْبَلَاءِ وَالشِّدَّةِ إِلَى حَيْثُ تَوَلَّى بِنَفْسِهِ إِزْهَاقَ رُوحِهِ. وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ لَيْسَ بِأَمْرٍ، بَلْ هُوَ وَعِيدٌ وَتَقْرِيعٌ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: امْضِ الْآنَ لِتَرَى مَا يَحِلُّ بِكَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ نَفْسَ الْمُؤْمِنِ تَنْشَطُ فِي الْخُرُوجِ لِلِقَاءِ رَبِّهِ وَنَفْسَ الْكَافِرِ تَكْرَهُ ذَلِكَ فَيَشُقُّ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «مَنْ أَرَادَ لِقَاءَ اللَّه أَرَادَ اللَّه لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّه كَرِهَ اللَّه لِقَاءَهُ» وَذَلِكَ/ عِنْدَ نَزْعِ الرُّوحِ، فَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ تُكْرِهُهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى نَزْعِ الرُّوحِ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا الْهَيْكَلِ وَغَيْرُ هَذَا الْجَسَدِ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا: لَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ مَعْنَاهُ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ عَنْ أَجْسَادِكُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ مُغَايِرَةٌ لِلْأَجْسَادِ إِلَّا أَنَّا لَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ، لَمْ يَتِمَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ قَالَ الزَّجَّاجُ: عَذَابُ الْهُونِ أَيِ الْعَذَابُ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْهَوَانُ الشَّدِيدُ. قَالَ تَعَالَى: أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ [النَّحْلِ: 59] وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ هُنَاكَ بَيْنَ الْإِيلَامِ وَبَيْنَ الْإِهَانَةِ، فَإِنَّ الثَّوَابَ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مَنْفَعَةً مَقْرُونَةً بِالتَّعْظِيمِ، فَكَذَلِكَ الْعِقَابُ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ

[سورة الأنعام (6) : آية 94]

مَضَرَّةً مَقْرُونَةً بِالْإِهَانَةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: الْهُونُ هُوَ الْهَوَانُ، وَالْهَوْنُ هُوَ الرِّفْقُ وَالدَّعَةُ. قَالَ تَعَالَى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الْفُرْقَانِ: 63] وَقَوْلُهُ: بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام: 93] وَذَلِكَ يَدُلُّ أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ الشَّدِيدَ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّه، وَالتَّكَبُّرِ عَلَى آيَاتِ اللَّه. وَأَقُولُ: هَذَانِ النَّوْعَانِ مِنَ الْآفَاتِ وَالْبَلَاءِ تَرَى أَكْثَرَ الْمُتَوَسِّمِينَ بِالْعِلْمِ مُتَوَغِّلِينَ فِيهِ مُوَاظِبِينَ عَلَيْهِ نَعُوذُ باللَّه مِنْهُ وَمِنْ آثَارِهِ وَنَتَائِجِهِ. وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ أَيْ لَا تُصَلُّونَ لَهُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ سَجَدَ للَّه سجدة بنية صادقة فقد بريء من الكبر» . [سورة الأنعام (6) : آية 94] وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) [في قوله تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى مسألتان] [المسألة الأولى في قوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونا] اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ كَمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّوْبِيخِ، كَذَلِكَ يَقُولُونَ حِكَايَةً عَنِ اللَّه تَعَالَى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى فَيَكُونُ الْكَلَامُ أَجْمَعُ حِكَايَةً عَنْهُمْ وَأَنَّهُمْ يُورِدُونَ ذَلِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، / فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ هُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِعِقَابِهِمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ اللَّه تَعَالَى وَمَنْشَأُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى هَلْ يتكلم مع الكفار أولا؟ فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ: وَلا يُكَلِّمُهُمُ يوجب أن لا يتكلم معهم وقوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 92] وقوله: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: 6] يقتضي أن أَنْ يَكُونَ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَ هَذَا الِاخْتِلَافُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْوَى، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَالْعَطْفُ يُوجِبُ التَّشْرِيكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فُرادى لَفْظُ جَمْعٍ وَفِي وَاحِدِهِ قَوْلَانِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: فُرَادَى جَمْعُ فَرْدَانَ، مِثْلُ سُكَارَى وَسَكْرَانَ، وَكُسَالَى وَكَسْلَانَ. وَقَالَ غَيْرُهُ فُرَادَى: جَمْعُ فَرِيدٍ، مِثْلُ رُدَافَى وَرَدِيفٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فُرَادَى جَمْعٌ وَاحِدُهُ فَرْدٌ وَفَرْدَةٌ وَفَرِيدٌ وَفَرْدَانُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى الْمُرَادُ مِنْهُ التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ صَرَفُوا جَدَّهُمْ وَجُهْدَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَى تَحْصِيلِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَحْصِيلُ الْمَالِ وَالْجَاهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهَا تَكُونُ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّه، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمَّا وَرَدُوا مَحْفِلَ الْقِيَامَةِ لَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْأَمْوَالِ وَلَمْ يَجِدُوا مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَامِ شَفَاعَةً لَهُمْ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى فَبَقُوا فُرَادَى عَنْ كُلِّ مَا حَصَّلُوهُ فِي الدُّنْيَا وَعَوَّلُوا عَلَيْهِ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُمْ صَرَفُوا عُمْرَهُمْ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَعَارِفِ الْحَقَّةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَتِلْكَ الْمَعَارِفُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ بَقِيَتْ مَعَهُمْ فِي قُبُورِهِمْ وَحَضَرَتْ مَعَهُمْ فِي مَشْهَدِ الْقِيَامَةِ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مَا حَضَرُوا فُرَادَى، بَلْ حَضَرُوا مَعَ الزَّادِ لِيَوْمِ الْمَعَادِ: ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَالْكِسَائِيِّ بَيْنَكُمْ بِالنَّصْبِ، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ قَالَ الزَّجَّاجُ:

الرَّفْعُ أَجْوَدُ، وَمَعْنَاهُ، لَقَدْ تَقَطَّعَ وَصْلُكُمْ، وَالنَّصْبُ جَائِزٌ وَالْمَعْنَى: لَقَدْ تَقَطَّعَ مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الشَّرِكَةِ بَيْنَكُمْ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا الِاسْمُ يُسْتَعْمَلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اسْمًا مُنْصَرِفًا كَالِافْتِرَاقِ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا وَالْمَرْفُوعُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بَيْنَكُمْ هُوَ الَّذِي كَانَ ظَرْفًا ثُمَّ اسْتُعْمِلَ اسْمًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ كَوْنِهِ اسْمًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: 5] وهذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الْكَهْفِ: 78] فَلَمَّا اسْتُعْمِلَ اسْمًا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ جَازَ أَنْ يُسْنَدَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ تَقَطَّعَ فِي قَوْلِ مَنْ رَفَعَ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَرْفُوعَ هُوَ الَّذِي اسْتُعْمِلَ ظَرْفًا أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الَّذِي هُوَ ظَرْفٌ اتَّسَعَ فِيهِ أَوْ يَكُونَ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي بَاطِلٌ، وَإِلَّا لَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَقَدْ/ تَقَطَّعَ افْتِرَاقُكُمْ وَهَذَا ضِدُّ الْمُرَادِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ لَقَدْ تَقَطَّعَ وَصْلُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ سَالِفُونَ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْوَصْلِ مَعَ أَنَّ أَصْلَهُ الِافْتِرَاقُ وَالتَّبَايُنُ؟ قُلْنَا: هَذَا اللَّفْظُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيْنَهُمَا مُشَارَكَةٌ وَمُوَاصَلَةٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، كَقَوْلِهِمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَرِكَةٌ، وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ رَحِمٌ، فَلِهَذَا السَّبَبِ حَسُنَ اسْتِعْمَالُ هَذَا اللَّفْظِ فِي مَعْنَى الْوَصْلَةِ فَقَوْلُهُ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ مَعْنَاهُ لَقَدْ تَقَطَّعَ وَصْلُكُمْ. أَمَّا مَنْ قَرَأَ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ بِالنَّصْبِ فَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَضْمَرَ الْفَاعِلَ وَالتَّقْدِيرُ: لَقَدْ تَقَطَّعَ وَصْلُكُمْ بَيْنَكُمْ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُمْ قَالُوا إِذَا كَانَ غَدًا فَأْتِنِي وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا كَانَ الرَّجَاءُ أَوِ الْبَلَاءُ غَدًا فَأْتِنِي، فَأَضْمَرَ لِدَلَالَةِ الْحَالِ. فَكَذَا هَاهُنَا. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: التَّقْدِيرُ: لَقَدْ تَقَطَّعَ مَا بَيْنَكُمْ. فَحُذِفَتْ لِوُضُوحِ مَعْنَاهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى قَانُونٍ شَرِيفٍ فِي مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ فَأَوَّلُهَا: أَنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ إِنَّمَا تَعَلَّقَتْ بِهَذَا الْجَسَدِ آلَةً لَهُ فِي اكْتِسَابِ الْمَعَارِفِ الْحَقَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ فَإِذَا فَارَقَتِ النَّفْسُ الْجَسَدَ وَلَمْ يَحْصُلْ هَذَيْنِ الْمَطْلُوبَيْنِ الْبَتَّةَ عَظُمَتْ حَسَرَاتُهُ وَقَوِيَتْ آفَاتُهُ حَيْثُ وَجَدَ مِثْلَ هَذِهِ الْآلَةِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي يُمْكِنُ اكْتِسَابُ السَّعَادَةِ الأبدية بها، ثم إنه ضعيفها وَأَبْطَلَهَا وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا الْبَتَّةَ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ النَّفْسَ مَعَ أَنَّهَا لَمْ تَكْتَسِبْ بِهَذِهِ الْآلَةِ الْجَسَدَانِيَّةِ سَعَادَةً رُوحَانِيَّةً، وَكَمَالًا رُوحَانِيًّا، فَقَدْ عَمِلَتْ عَمَلًا آخَرَ أَرْدَأَ مِنَ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا طُولَ الْعُمْرِ كَانَتْ فِي الرَّغْبَةِ فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَفِي تَقْوِيَةِ الْعِشْقِ عَلَيْهَا، وَتَأْكِيدِ الْمَحَبَّةِ، وَفِي تَحْصِيلِهَا. وَالْإِنْسَانُ فِي الْحَقِيقَةِ مُتَوَجِّهٌ مِنَ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ إِلَى الْعَالَمِ الرُّوحَانِيِّ، فَهَذَا الْمِسْكِينُ قَلَبَ الْقَضِيَّةَ وَعَكَسَ الْقَضِيَّةَ وَأَخَذَ يَتَوَجَّهُ مِنَ الْمَقْصِدِ الرُّوحَانِيِّ إِلَى الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ وَنَسِيَ مَقْصِدَهُ وَاغْتَرَّ بِاللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَلَمَّا مَاتَ انْقَلَبَتِ الْقَضِيَّةُ شَاءَ أَمْ أَبَى تَوَجَّهَ مِنَ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ إِلَى الْعَالَمِ الرُّوحَانِيِّ، فَبَقِيَتِ الْأَمْوَالُ الَّتِي اكْتَسَبَهَا وَأَفْنَى عُمْرَهُ فِي تَحْصِيلِهَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَالشَّيْءُ الَّذِي يَبْقَى وَرَاءَ ظَهْرِ الْإِنْسَانِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، وَرُبَّمَا بَقِيَ مُنْقَطِعَ الْمَنْفَعَةِ مُعْوَجَّ الرَّقَبَةِ مُعْوَجَّ الرَّأْسِ بِسَبَبِ الْتِفَاتِهِ إِلَيْهَا مع الهجز عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَذَلِكَ يُوجِبُ نِهَايَةَ الْخَيْبَةِ وَالْغَمِّ وَالْحَسْرَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَالٍ يَكْتَسِبُهُ الْإِنْسَانُ وَلَمْ يَصْرِفْهُ فِي مَصَارِفِ الْخَيْرَاتِ فَصِفَتُهُ هَذِهِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَمَّا إِذَا صَرَفَهَا إِلَى الْجِهَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّه وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّه فَمَا تَرَكَ تِلْكَ الْأَمْوَالَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَلَكِنَّهُ قَدَّمَهَا تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 110] وَثَالِثُهَا: أَنَّ أُولَئِكَ الْمَسَاكِينَ أَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي نُصْرَةِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ، وَالْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ/ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهَا عِنْدَ الْوُرُودِ فِي مَحْفِلِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا وَرَدُوهُ وَشَاهَدُوا مَا فِي

[سورة الأنعام (6) : آية 95]

تلك المذاهب من العذاب الشديد والعذاب الدَّائِمِ حَصَلَتْ فِيهِ جِهَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْعَذَابِ. مِنْهَا عَذَابُ الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ أَنْفَقَ مَالَهُ فِي تَحَمُّلِ الْعَنَاءِ الشَّدِيدِ وَالْبَلَاءِ الْعَظِيمِ فِي تَحْصِيلِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْهُ إِلَّا الْعَذَابُ وَالْعَنَاءُ، وَمِنْهَا عَذَابُ الْخَجَلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا كَانَ مَحْضَ الْجَهَالَةِ وَصَرِيحَ الضَّلَالَةِ، وَمِنْهَا حُصُولُ الْيَأْسِ الشَّدِيدِ مَعَ الطَّمَعِ الْعَظِيمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ يُوجِبُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ وَالْآلَامَ الْعَظِيمَةَ الرُّوحَانِيَّةَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لَمَّا بَدَا لَهُ أَنَّهُ فَاتَهُ الْأَمْرُ الَّذِي بِهِ يَقْدِرُ عَلَى اكْتِسَابِ الْخَيْرَاتِ، وَحَصَلَ عِنْدَهُ الْأَمْرُ الَّذِي يُوجِبُ حُصُولَ الْمَضَرَّاتِ، فَإِذَنْ بَقِيَ لَهُ رَجَاءٌ فِي التَّدَارُكِ مِنْ بعض الوجوه فههنا يَحُفُّ ذَلِكَ الْأَلَمُ وَيَضْعُفُ ذَلِكَ الْحُزْنُ. أَمَّا إِذَا حَصَلَ الْجَزْمُ وَالْيَقِينُ بِأَنَّ التَّدَارُكَ مُمْتَنِعٌ، وجبر ذلك النقصان متعذر فههنا يَعْظُمُ الْحُزْنُ وَيَقْوَى الْبَلَاءُ جِدًّا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْوَصْلَةَ الْحَاصِلَةَ بَيْنَ النَّفْسِ وَالْجَسَدِ قَدْ تَقَطَّعَتْ وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَحْصِيلِهَا مَرَّةً أُخْرَى. وَعِنْدَ الْوُقُوفِ عَلَى حَقَائِقِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا بَيَانَ فَوْقَ هَذَا الْبَيَانِ فِي شَرْحِ أحوال هؤلاء الضالين. [سورة الأنعام (6) : آية 95] إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَكَلَّمَ فِي التَّوْحِيدِ ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِتَقْرِيرِ أَمْرِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ فِي بَعْضِ تَفَارِيعِ هَذَا الْأَصْلِ، عَادَ هَاهُنَا إِلَى ذِكْرِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَكَمَالِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ جَمِيعِ الْمَبَاحِثِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ، وَكُلِّ الْمَطَالِبِ الْحِكْمِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ مَعْرِفَةُ اللَّه بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْلُ الضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى أَيْ خَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: ذَهَبُوا بِفَالِقٍ مَذْهَبَ فَاطِرٍ، وَأَقُولُ: الْفِطْرُ هُوَ الشَّقُّ، / وَكَذَلِكَ الْفَلْقُ، فَالشَّيْءُ قَبْلَ أَنْ دَخَلَ فِي الْوُجُودِ كَانَ مَعْدُومًا مَحْضًا وَنَفْيًا صِرْفًا، وَالْعَقْلُ يَتَصَوَّرُ مِنَ الْعَدَمِ ظُلْمَةً مُتَّصِلَةً لَا انْفِرَاجَ فِيهَا وَلَا انْفِلَاقَ وَلَا انْشِقَاقَ، فَإِذَا أَخْرَجَهُ الْمُبْدِعُ الْمُوجِدُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، فَكَأَنَّهُ بِحَسْبِ التَّخَيُّلِ وَالتَّوَهُّمِ شَقَّ ذَلِكَ الْعَدَمَ وَفَلَقَهُ. وَأَخْرَجَ ذَلِكَ الْمُحْدَثَ مِنْ ذَلِكَ الشَّقِّ. فَبِهَذَا التَّأْوِيلِ لَا يَبْعُدُ حَمْلُ الْفَالِقِ عَلَى الْمُوجِدِ وَالْمُحْدِثِ وَالْمُبْدِعِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ الْفَلْقَ هُوَ الشَّقُّ، وَالْحَبَّ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مَقْصُودًا بِذَاتِهِ مِثْلَ حَبَّةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَسَائِرِ الْأَنْوَاعِ، وَالنَّوَى هُوَ الشَّيْءُ الْمَوْجُودُ فِي دَاخِلِ الثَّمَرَةِ مِثْلَ نَوَى الْخَوْخِ وَالتَّمْرِ وَغَيْرِهِمَا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ إِذَا وَقَعَتِ الْحَبَّةُ أَوِ النَّوَاةُ فِي الْأَرْضِ الرَّطْبَةِ، ثُمَّ مَرَّ بِهِ قَدْرٌ مِنَ الْمُدَّةِ أَظْهَرَ اللَّه تَعَالَى فِي تِلْكَ الْحَبَّةِ وَالنَّوَاةِ مِنْ أَعْلَاهَا شَقًّا وَمِنْ أَسْفَلِهَا شَقًّا آخَرَ. أَمَّا الشَّقُّ الَّذِي يَظْهَرُ فِي أَعْلَى الْحَبَّةِ وَالنَّوَاةِ فَإِنَّهُ يُخْرِجُ مِنْهُ الشَّجَرَةَ الصَّاعِدَةَ إِلَى الْهَوَاءِ، وَأَمَّا الشَّقُّ الَّذِي يَظْهَرُ فِي أَسْفَلِ تِلْكَ الْحَبَّةِ فَإِنَّهُ يُخْرِجُ مِنْهُ الشَّجَرَةَ الْهَابِطَةَ فِي الْأَرْضِ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِعُرُوقِ الشَّجَرَةِ، وَتَصِيرُ تِلْكَ الْحَبَّةُ وَالنَّوَاةُ سَبَبًا لِاتِّصَالِ الشَّجَرَةِ الصَّاعِدَةِ فِي الْهَوَاءِ بِالشَّجَرَةِ الْهَابِطَةِ فِي الْأَرْضِ.

ثُمَّ إِنَّ هَاهُنَا عَجَائِبَ: فَإِحْدَاهَا: أَنَّ طَبِيعَةَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ إِنْ كَانَتْ تَقْتَضِي الْهَوَى فِي عُمْقِ الْأَرْضِ فَكَيْفَ تَوَلَّدَتْ مِنْهَا الشَّجَرَةُ الصَّاعِدَةُ فِي الْهَوَاءِ؟ وَإِنْ كَانَتْ تَقْتَضِي الصُّعُودَ فِي الْهَوَاءِ، فَكَيْفَ تَوَلَّدَتْ مِنْهَا الشَّجَرَةُ الْهَابِطَةُ فِي الْأَرْضِ؟ فَلَمَّا تُوُلِّدَ مِنْهَا هَاتَانِ الشَّجَرَتَانِ مَعَ أَنَّ الْحِسَّ وَالْعَقْلَ يَشْهَدُ بِكَوْنِ طَبِيعَةِ إِحْدَى الشَّجَرَتَيْنِ مُضَادَّةً لِطَبِيعَةِ الشَّجَرَةِ الْأُخْرَى، عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُقْتَضَى الطَّبْعِ وَالْخَاصِّيَّةِ، بَلْ بِمُقْتَضَى الْإِيجَادِ وَالْإِبْدَاعِ وَالتَّكْوِينِ وَالِاخْتِرَاعِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ بَاطِنَ الْأَرْضِ جِرْمٌ كَثِيفٌ صُلْبٌ لَا تَنْفُذُ الْمِسَلَّةُ الْقَوِيَّةُ فِيهِ وَلَا يَغُوصُ السِّكِّينُ الْحَادُّ الْقَوِيُّ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّا نُشَاهِدُ أَطْرَافَ تِلْكَ الْعُرُوقِ فِي غَايَةِ الدِّقَّةِ وَاللَّطَافَةِ بِحَيْثُ لَوْ دَلَّكَهَا الْإِنْسَانُ بِأُصْبُعِهِ بِأَدْنَى قُوَّةٍ لَصَارَتْ كَالْمَاءِ، ثُمَّ إِنَّهَا مَعَ غَايَةِ اللَّطَافَةِ تَقْوَى عَلَى النُّفُوذِ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ الصُّلْبَةِ وَالْغَوْصِ فِي بَوَاطِنِ تِلْكَ الْأَجْرَامِ الْكَثِيفَةِ، فَحُصُولُ هَذِهِ الْقُوَى الشَّدِيدَةِ لِهَذِهِ الْأَجْرَامِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي هِيَ فِي غَايَةِ اللَّطَافَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ تِلْكَ النَّوَاةِ شَجَرَةٌ وَيَحْصُلُ فِي تِلْكَ الشَّجَرَةِ طَبَائِعُ مُخْتَلِفَةٌ، فَإِنَّ قِشْرَ الْخَشَبَةِ لَهُ طَبِيعَةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَفِي دَاخِلِ ذَلِكَ الْقِشْرِ جِرْمُ الْخَشَبَةِ وَفِي وَسَطِ تِلْكَ الْخَشَبَةِ جِسْمٌ رَخْوٌ ضَعِيفٌ يُشْبِهُ الْعِهْنَ الْمَنْفُوشَ، ثُمَّ إِنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ سَاقِ الشَّجَرَةِ أَغْصَانُهَا وَيَتَوَلَّدُ عَلَى الْأَغْصَانِ الْأَوْرَاقُ أَوَّلًا، ثُمَّ الْأَزْهَارُ وَالْأَنْوَارُ ثَانِيًا، ثُمَّ الْفَاكِهَةُ ثَالِثًا، ثُمَّ قَدْ يَحْصُلُ لِلْفَاكِهَةِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْقِشْرِ: مثل الجوز، فإن قشره الْأَعْلَى هُوَ ذَلِكَ الْأَخْضَرُ، وَتَحْتَ ذَلِكَ الْقِشْرِ الَّذِي/ يُشْبِهُ الْخَشَبَ، وَتَحْتَهُ ذَلِكَ الْقِشْرُ الَّذِي هُوَ كَالْغِشَاءِ الرَّقِيقِ الْمُحِيطِ بِاللُّبِّ، وَتَحْتَهُ ذَلِكَ اللُّبُّ، وَذَلِكَ اللُّبُّ مُشْتَمِلٌ عَلَى جِرْمٍ كَثِيفٍ هُوَ أَيْضًا كَالْقِشْرِ، وَعَلَى جِرْمٍ لَطِيفٍ وَهُوَ الدُّهْنُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ، فَتَوَلُّدُ هَذِهِ الْأَجْسَامِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي طَبَائِعِهَا وَصِفَاتِهَا وَأَلْوَانِهَا وَأَشْكَالِهَا وَطَعُومِهَا مَعَ تَسَاوِي تَأْثِيرَاتِ الطَّبَائِعِ وَالنُّجُومِ وَالْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَالطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إِنَّمَا حَدَثَتْ بِتَدْبِيرِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ الْمُخْتَارِ الْقَادِرِ لَا بِتَدْبِيرِ الطَّبَائِعِ وَالْعَنَاصِرِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّكَ قَدْ تَجِدُ الطَّبَائِعَ الْأَرْبَعَ حَاصِلَةٌ فِي الْفَاكِهَةِ الْوَاحِدَةِ، فَالْأُتْرُنْجُ قِشْرُهُ حَارٌّ يَابِسٌ، وَلَحْمُهُ بَارِدٌ رَطْبٌ، وَحِمَاضُهُ بَارِدٌ يَابِسٌ، وَبِذْرُهُ حَارٌّ يَابِسٌ، وَكَذَلِكَ الْعِنَبُ قِشْرُهُ وَعَجَمُهُ بَارِدٌ يَابِسٌ، وَمَاؤُهُ وَلَحْمُهُ حَارٌّ رَطْبٌ، فَتَوَلَّدُ هَذِهِ الطَّبَائِعُ الْمُضَادَّةُ وَالْخَوَاصُّ الْمُتَنَافِرَةُ عَنِ الْحَبَّةِ الْوَاحِدَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِإِيجَادِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّكَ تَجِدُ أَحْوَالَ الْفَوَاكِهِ مُخْتَلِفَةً فَبَعْضُهَا يَكُونُ اللُّبُّ فِي الدَّاخِلِ وَالْقِشْرُ فِي الْخَارِجِ كَمَا فِي الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَبَعْضُهَا يَكُونُ الْفَاكِهَةُ الْمَطْلُوبَةُ فِي الْخَارِجِ، وَتَكُونُ الْخَشَبَةُ فِي الدَّاخِلِ كَالْخَوْخِ وَالْمِشْمِشِ، وَبَعْضُهَا يَكُونُ النَّوَاةُ لَهَا لُبٌّ كَمَا فِي نَوَى الْمِشْمِشِ وَالْخَوْخِ، وَبَعْضُهَا لَا لُبَّ لَهُ، كَمَا فِي نَوَى التَّمْرِ وَبَعْضُ الْفَوَاكِهِ لَا يَكُونُ لَهُ مِنَ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ قِشْرٌ، بَلْ يَكُونُ كُلُّهُ مَطْلُوبًا كَالتِّينِ، فَهَذِهِ أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي هَذِهِ الْفَوَاكِهِ وَأَيْضًا هَذِهِ الْحُبُوبُ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْأَشْكَالِ وَالصُّوَرِ فَشَكْلُ الْحِنْطَةِ كَأَنَّهُ نِصْفُ دَائِرَةٍ، وَشَكْلُ الشَّعِيرِ كَأَنَّهُ مَخْرُوطَانِ اتَّصَلَا بِقَاعِدَتَيْهِمَا، وَشَكْلُ الْعَدَسِ كَأَنَّهُ دَائِرَةٌ، وَشَكْلُ الْحِمَّصِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ فَهَذِهِ الْأَشْكَالُ الْمُخْتَلِفَةُ، لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ لِأَسْرَارٍ وَحِكَمٍ عَلِمَ الْخَالِقُ أَنَّ تَرْكِيبَهَا لَا يَكْمُلُ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الشَّكْلِ، وَأَيْضًا فَقَدْ أَوْدَعَ الْخَالِقُ تَعَالَى فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُبُوبِ خَاصِّيَّةً أُخْرَى وَمَنْفَعَةً أُخْرَى وَأَيْضًا فَقَدْ تَكُونُ الثَّمَرَةُ الْوَاحِدَةُ غِذَاءً لِحَيَوَانٍ وَسُمًّا لِحَيَوَانٍ آخَرَ، فَاخْتِلَافُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَالْأَشْكَالِ وَالْأَحْوَالِ مَعَ اتِّحَادِ الطَّبَائِعِ وَتَأْثِيرَاتِ الْكَوَاكِبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّهَا إِنَّمَا حَصَلَتْ بِتَخْلِيقِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ الْحَكِيمِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّكَ إِذَا أَخَذْتَ وَرَقَةً وَاحِدَةً مِنْ أَوْرَاقِ الشَّجَرَةِ وَجَدْتَ خَطًّا وَاحِدًا مُسْتَقِيمًا فِي وَسَطِهَا، كَأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الْوَرَقَةِ كَالنُّخَاعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَدَنِ الْإِنْسَانِ، وَكَمَا أَنَّهُ يَنْفَصِلُ مِنَ النُّخَاعِ أَعْصَابٌ كَثِيرَةٌ يَمْنَةً وَيَسْرَةً فِي بدن

الْإِنْسَانِ. ثُمَّ لَا يَزَالُ يَنْفَصِلُ عَنْ كُلِّ شُعْبَةٍ شُعَبٌ أُخَرُ، وَلَا تَزَالُ تَسْتَدِقُّ حَتَّى تَخْرُجَ عَنِ الْحِسِّ وَالْأَبْصَارِ بِسَبَبِ الصِّغَرِ، فَكَذَلِكَ فِي تِلْكَ الْوَرَقَةِ قَدْ يَنْفَصِلُ عَنْ ذَلِكَ الْخَطِّ الْكَبِيرِ الْوَسَطَانِيِّ خُطُوطٌ مُنْفَصِلَةٌ، وَعَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا خُطُوطٌ مُخْتَلِفَةٌ أُخْرَى أَدَقُّ مِنَ الْأُولَى، وَلَا يَزَالُ يَبْقَى عَلَى هَذَا الْمَنْهَجِ حَتَّى تَخْرُجَ تِلْكَ الْخُطُوطُ عَنِ الْحِسِّ وَالْبَصَرِ وَالْخَالِقُ تَعَالَى إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ حَتَّى أَنَّ الْقُوَى الْجَاذِبَةَ الْمَرْكُوزَةَ فِي جِرْمِ تِلْكَ الْوَرَقَةِ تَقْوَى عَلَى جَذْبِ الْأَجْزَاءِ اللَّطِيفَةِ الْأَرْضِيَّةِ فِي تِلْكَ الْمَجَارِي الضَّيِّقَةِ، فَلَمَّا وَقَفْتُ عَلَى عِنَايَةِ الْخَالِقِ فِي إِيجَادِ تِلْكَ/ الْوَرَقَةِ الْوَاحِدَةِ عَلِمْتَ أَنَّ عِنَايَتَهُ فِي تَخْلِيقِ جُمْلَةِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ أَكْمَلُ، وَعَرَفْتَ أَنَّ عِنَايَتَهُ فِي تَكْوِينِ جُمْلَةِ النَّبَاتِ أَكْمَلُ. ثُمَّ إِذَا عَرَفْتَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ جُمْلَةَ النَّبَاتِ لِمَصْلَحَةِ الْحَيَوَانِ عَلِمْتَ أَنَّ عِنَايَتَهُ بِتَخْلِيقِ الْحَيَوَانِ أَكْمَلُ، وَلَمَّا عَلِمْتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَخْلِيقِ جُمْلَةِ الْحَيَوَانَاتِ هُوَ الْإِنْسَانُ عَلِمْتَ أَنَّ عِنَايَتَهُ فِي تَخْلِيقِ الْإِنْسَانِ أَكْمَلُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ النَّبَاتَ وَالْحَيَوَانَ فِي هَذَا الْعَالَمِ لِيَكُونَ غِذَاءً وَدَوَاءً لِلْإِنْسَانِ بِحَسَبِ جَسَدِهِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَخْلِيقِ الْإِنْسَانِ هُوَ الْمَعْرِفَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْخِدْمَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. [الذَّارِيَاتِ: 56] فَانْظُرْ أَيُّهَا الْمِسْكِينُ بِعَيْنِ رَأْسِكَ فِي تِلْكَ الْوَرَقَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ، وَاعْرِفْ كَيْفِيَّةَ خِلْقَةِ تِلْكَ الْعُرُوقَ وَالْأَوْتَارَ فِيهَا، ثُمَّ انْتَقِلْ مِنْ مَرْتَبَةٍ إِلَى مَا فَوْقَهَا حَتَّى تَعْرِفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَخِيرَ مِنْهَا حُصُولُ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ فِي الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ، فَحِينَئِذٍ يَنْفَتِحُ عَلَيْكَ بَابٌ مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ لَا آخِرَ لَهَا، وَيَظْهَرُ لَكَ أَنَّ أَنْوَاعَ نِعَمِ اللَّه فِي حَقِّكَ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، كَمَا قَالَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: 34] وَكُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا ظَهَرَ مِنْ كَيْفِيَّةِ خِلْقَةِ تِلْكَ الْوَرَقَةِ مِنَ الْحَبَّةِ وَالنَّوَاةِ، فَهَذَا كَلَامٌ مُخْتَصَرٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى وَمَتَّى وَقَفَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ أَمْكَنَهُ تَفْرِيقُهَا وَتَشْعِيبُهَا إِلَى مَا لَا آخِرَ لَهُ، وَنَسْأَلُ اللَّه التَّوْفِيقَ وَالْهِدَايَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ فَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَيَّ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ موصوفا بالحياة، والْمَيِّتِ اسْمٌ لِمَا كَانَ خَالِيًا عَنْ صِفَةِ الْحَيَاةِ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: النَّبَاتُ لَا يَكُونُ حَيًّا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلِلنَّاسِ فِي تَفْسِيرِ هذا الْحَيَّ والْمَيِّتِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: حَمْلُ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُخْرِجُ مِنَ النُّطْفَةِ بَشَرًا حَيًّا، ثُمَّ يُخْرِجُ مِنَ الْبَشَرِ الْحَيِّ نُطْفَةً مَيِّتَةً، وَكَذَلِكَ يُخْرِجُ مِنَ الْبَيْضَةِ فَرَوْجَةً حَيَّةً، ثُمَّ يُخْرِجُ مِنَ الدَّجَاجَةِ بَيْضَةً مَيِّتَةً، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ الْحَيَّ وَالْمَيِّتَ مُتَضَادَّانِ مُتَنَافِيَانِ، فَحُصُولُ الْمَثَلِ عَنِ الْمَثَلِ يُوهِمُ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ الطَّبِيعَةِ وَالْخَاصِّيَّةِ. أَمَّا حُصُولُ الضِّدِّ مِنَ الضِّدِّ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ الطَّبِيعَةِ وَالْخَاصِّيَّةِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَقْدِيرِ الْمُقَدِّرِ الْحَكِيمِ، وَالْمُدَبِّرِ الْعَلِيمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ الْحَيَّ والْمَيِّتِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَعَلَى الْوُجُوهِ الْمَجَازِيَّةِ أَيْضًا، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: يُخْرِجُ النَّبَاتَ الْغَضَّ الطَّرِيَّ الْخَضِرَ مِنَ الْحَبِّ الْيَابِسِ وَيُخْرِجُ الْيَابِسَ مِنَ النَّبَاتِ الْحَيِّ النَّامِي. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ، كَمَا فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ، وَالْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ/ كَمَا فِي حَقِّ وَلَدِ نُوحٍ، وَالْعَاصِيَ مِنَ الْمُطِيعِ، وَبِالْعَكْسِ. الثَّالِثُ: قَدْ يَصِيرُ بَعْضُ مَا يُقْطَعُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يُوجِبُ الْمَضَرَّةَ سَبَبًا لِلنَّفْعِ الْعَظِيمِ، وَبِالْعَكْسِ. ذَكَرُوا فِي الطِّبِّ أَنَّ إِنْسَانًا سَقَوْهُ الْأَفْيُونَ الْكَثِيرَ فِي الشَّرَابِ لِأَجْلِ أَنْ

يَمُوتَ، فَلَمَّا تَنَاوَلَهُ وَظَنَّ الْقَوْمُ أَنَّهُ سَيَمُوتُ فِي الْحَالِ رَفَعُوهُ مِنْ مَوْضِعِهِ وَوَضَعُوهُ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ فَخَرَجَتْ حَيَّةٌ عَظِيمَةٌ فَلَدَغَتْهُ فَصَارَتْ تِلْكَ اللَّدْغَةُ سَبَبًا لِانْدِفَاعِ ضَرَرِ ذَلِكَ الْأَفْيُونِ مِنْهُ، فَإِنَّ الْأَفْيُونَ يُقْتَلُ بِقُوَّةِ بَرْدِهِ، وَسُمَّ الْأَفْعَى يَقْتُلُ بِقُوَّةِ حَرِّهِ فَصَارَتْ تِلْكَ اللَّدْغَةُ سببا لاندفاع ضرر الأفيون، فههنا تولد عما يعتقد فيه كونه أعظم تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ مُدَبِّرًا حَكِيمًا مَا أَهْمَلَ مَصَالِحَ الْخَلْقِ وَمَا تَرَكَهُمْ سُدًى، وَتَحْتَ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ مَبَاحِثُ عَالِيَةٌ شَرِيفَةٌ. الْبَحْثُ الثَّانِي: مِنْ مَبَاحِثِ هَذِهِ الْآيَةِ قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ الْمَيِّتِ مُشَدَّدَةً فِي الْكَلِمَتَيْنِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ فِي الْكَلِمَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ هَذَا الْجِنْسِ فِي الْقُرْآنِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ قَالَ أَوَّلًا: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ثُمَّ قَالَ: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ وَعَطْفُ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ قَبِيحٌ، فَمَا السَّبَبُ فِي اخْتِيَارِ ذَلِكَ؟ قُلْنَا: قَوْلُهُ: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى وَقَوْلُهُ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كَالْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى لِأَنَّ فَلْقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى بِالنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ النَّامِي مِنْ جِنْسِ إِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ، لِأَنَّ النَّامِيَ فِي حُكْمِ الْحَيَوَانِ. أَلَا تَرَى إلى قوله وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ لَفْظَ الْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفَاعِلَ يَعْتَنِي بِذَلِكَ الْفِعْلِ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَوَانٍ. وَأَمَّا لَفْظُ الِاسْمِ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ التَّجَدُّدَ وَالِاعْتِنَاءَ بِهِ سَاعَةً فَسَاعَةً، وَضَرَبَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ لِهَذَا مَثَلًا فِي كِتَابِ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» فَقَالَ: قَوْلُهُ: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ إِنَّمَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْفِعْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: يَرْزُقُكُمْ لِأَنَّ صِيغَةَ الْفِعْلِ تُفِيدُ أَنَّهُ تَعَالَى يَرْزُقُهُمْ حَالًا فَحَالًا وَسَاعَةً فَسَاعَةً. وَأَمَّا الِاسْمُ فَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الْكَهْفِ: 18] فَقَوْلُهُ: باسِطٌ يُفِيدُ الْبَقَاءَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الْوَاحِدَةِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْحَيُّ أَشْرَفُ مِنَ الْمَيِّتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِنَاءُ بِإِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ أَكْثَرَ مِنَ الِاعْتِنَاءِ بِإِخْرَاجِ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْقَسَمِ الْأَوَّلِ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ، وَعَنِ الثَّانِي بِصِيغَةِ الِاسْمِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الِاعْتِنَاءَ بِإِيجَادِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ أَكْثَرُ وَأَكْمَلُ مِنَ الِاعْتِنَاءِ بِإِيجَادِ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ. واللَّه أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ: ذَلِكُمُ اللَّه الْمُدَبِّرُ الْخَالِقُ النَّافِعُ الضَّارُّ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فِي إِثْبَاتِ الْقَوْلِ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّكُمْ لَمَّا شَاهَدْتُمْ أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَمُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، ثُمَّ شَاهَدْتُمْ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْبَدَنَ الْحَيَّ مِنَ النُّطْفَةِ الْمَيِّتَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَكَيْفَ تَسْتَبْعِدُونَ أَنْ يُخْرِجَ الْبَدَنُ الْحَيَّ مِنْ مَيِّتِ التُّرَابِ الرَّمِيمِ مَرَّةً أُخْرَى؟ وَالْمَقْصُودُ الْإِنْكَارُ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَأَيْضًا الضِّدَّانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي النِّسْبَةِ فَكَمَا لَا يَمْتَنِعُ الِانْقِلَابُ مِنْ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ إِلَى الْآخَرِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ الِانْقِلَابُ مِنَ الثَّانِي إِلَى الْأَوَّلِ، فَكَمَا لَا يَمْتَنِعُ حُصُولُ الْمَوْتِ بَعْدَ الْحَيَاةِ. وَجَبَ أَيْضًا أَنْ لَا يَمْتَنِعَ حُصُولُ الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَيَخْرُجُ مِنْهُ جَوَازُ الْقَوْلِ بِالْبَعْثِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 96]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ بِقَوْلِهِ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَيْسَ مَخْلُوقًا للَّه تَعَالَى. قَالَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ خَلَقَ الْإِفْكَ فِيهِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَقُولَ مَعَ ذَلِكَ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْقُدْرَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الضِّدَّيْنِ عَلَى السَّوِيَّةِ، فَإِنْ تَرَجَّحَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ هَذَا الرُّجْحَانُ مِنَ الْعَبْدِ، بَلْ يَكُونُ مَحْضَ الِاتِّفَاقِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وَإِنْ تَوَقَّفَ ذَلِكَ الْمُرَجَّحُ عَلَى حُصُولِ مُرَجَّحٍ، وَهِيَ الدَّاعِيَةُ الْجَاذِبَةُ إِلَى الْفِعْلِ، فَحُصُولُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ يَكُونُ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَعِنْدَ حُصُولِهَا يَجِبُ الْفِعْلُ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُكُمْ كُلُّ مَا أَلْزَمْتُمُوهُ عَلَيْنَا. واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 96] فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) [في قوله تعالى فالق الإصباح وأنه مِنْ دَلَائِلِ وُجُودِ الصَّانِعِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ دَلَائِلِ وُجُودِ الصَّانِعِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَالنَّوْعُ الْمُتَقَدِّمُ كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ دَلَالَةِ أَحْوَالِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، وَالنَّوْعُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَحْوَالِ الْفَلَكِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فَلْقَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ بِنُورِ الصُّبْحِ أَعْظَمُ فِي كَمَالِ الْقُدْرَةِ مِنْ فَلْقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى بِالنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ، وَلِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْأَحْوَالَ الْفَلَكِيَّةَ أَعْظَمُ فِي الْقُلُوبِ وَأَكْثَرُ وَقْعًا مِنَ الْأَحْوَالِ الْأَرْضِيَّةِ، وَتَقْرِيرُ الْحُجَّةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ: الصُّبْحُ صُبْحَانِ. فَالصُّبْحُ الْأَوَّلُ: هُوَ الصُّبْحُ الْمُسْتَطِيلُ كَذَنَبِ السِّرْحَانِ، ثُمَّ تُعْقِبُهُ ظُلْمَةٌ خَالِصَةٌ، ثُمَّ يَطْلُعُ بَعْدَهُ الصُّبْحُ الْمُسْتَطِيرُ فِي جَمِيعِ الْأُفُقِ فَنَقُولُ: أَمَّا الصُّبْحُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمُسْتَطِيلُ الَّذِي يَحْصُلُ عَقِيبَهُ ظُلْمَةٌ خَالِصَةٌ فَهُوَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّه وَحِكْمَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ النُّورَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَصَلَ مِنْ تَأْثِيرِ قُرْصِ الشَّمْسِ أَوْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَرْكَزَ الشَّمْسِ إِذَا وَصَلَ إِلَى دَائِرَةِ نِصْفِ اللَّيْلِ فَأَهْلُ الْمَوْضِعِ الَّذِي تَكُونُ تِلْكَ الدَّائِرَةُ أُفُقًا لَهُمْ قَدْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ مِنْ مَشْرِقِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَيْضًا نِصْفُ كُرَةِ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ حَصَلَ الضَّوْءُ فِي الرُّبْعِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بَلْدَتِنَا، وَذَلِكَ الضَّوْءُ يَكُونُ مُنْتَشِرًا مُسْتَطِيرًا فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْجَوِّ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الضَّوْءُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ إِلَى الْقُوَّةِ وَالزِّيَادَةِ وَالْكَمَالِ، وَالصُّبْحُ الْأَوَّلُ لَوْ كَانَ أَثَرُ قُرْصِ الشَّمْسِ لَامْتَنَعَ كَوْنُهُ خَطًّا مُسْتَطِيلًا، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيرًا فِي جَمِيعِ الْأُفُقِ مُنْتَشِرًا فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَزَايِدًا مُتَكَامِلًا بِحَسَبِ كُلِّ حِينٍ وَلَحْظَةٍ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ عَلِمْنَا أَنَّ الصُّبْحَ الْأَوَّلَ يَبْدُو كَالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ الصَّاعِدِ حَتَّى تُشَبِّهَهُ الْعَرَبُ بذنب السرحان، ثم إنه يحصل عيبه ظُلْمَةٌ خَالِصَةٌ، ثُمَّ يَحْصُلُ الصُّبْحُ الْمُسْتَطِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الصُّبْحَ الْمُسْتَطِيلَ لَيْسَ مِنْ تَأْثِيرِ قُرْصِ الشَّمْسِ، وَلَا مِنْ جِنْسِ نُورِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَاصِلًا بِتَخْلِيقِ اللَّه تَعَالَى ابْتِدَاءً تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْأَنْوَارَ لَيْسَ لَهَا وُجُودٌ إِلَّا بِتَخْلِيقِهِ، وَأَنَّ الظُّلُمَاتِ لَا ثَبَاتَ لَهَا إِلَّا بِتَقْدِيرِهِ كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّا لَمَّا بَحَثْنَا وَتَأَمَّلْنَا عَلِمْنَا أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وسائر الكواكب لا تقع أضواؤها إلى عَلَى الْجِرْمِ الْمُقَابِلِ لَهَا. فَأَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ مُقَابِلًا لَهَا فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ أَضْوَائِهَا عَلَيْهِ، وَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْفَلَاسِفَةِ وَبَيْنَ الرِّيَاضِيِّينَ الْبَاحِثِينَ عَنْ أَحْوَالِ الضَّوْءِ الْمُضِيءِ، وَلَهُمْ فِي تَقْرِيرِهَا وُجُوهٌ نَفِيسَةٌ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا نقول: الشمس عند الطلوع الصُّبْحِ غَيْرُ مُرْتَفِعَةٍ مِنَ الْأُفُقِ فَلَا يَكُونُ جِرْمُ الشَّمْسِ مُقَابِلًا لِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ ضَوْءِ الشَّمْسِ عَلَى وَجْهِ الأرض، وإذ كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ ضَوْءُ

الصُّبْحِ مِنْ تَأْثِيرِ قُرْصِ الشَّمْسِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِتَخْلِيقِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ. فَإِنْ قَالُوا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الشَّمْسُ حِينَ كَوْنِهَا تَحْتَ الْأَرْضِ تُوجِبُ إِضَاءَةَ ذَلِكَ الْهَوَاءِ الْمُقَابِلِ لَهُ، ثُمَّ ذَلِكَ الْهَوَاءُ مُقَابِلٌ لِلْهَوَاءِ الْوَاقِفِ فَوْقَ الْأَرْضِ، فَيُصَيِّرُهُ ضَوْءُ الْهَوَاءِ الْوَاقِفِ تَحْتَ الْأَرْضِ سَبَبًا لِضَوْءِ الْهَوَاءِ الْوَاقِفِ فَوْقَ الْأَرْضِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَسْرِي ذَلِكَ الضَّوْءُ مِنْ هَوَاءٍ إِلَى هَوَاءٍ/ آخَرَ مُلَاصِقٍ لَهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْهَوَاءِ الْمُحِيطِ بِنَا هَذَا هُوَ الْوَجْهُ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ الْهَيْثَمِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ «بِالْمَنَاظِرِ الْكَثَّةِ» . وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْعُذْرَ بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْهَوَاءَ جِرْمٌ شَفَّافٌ عَدِيمُ اللَّوْنِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ النُّورَ، وَاللَّوْنُ فِي ذَاتِهِ وَجَوْهَرِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفَلَاسِفَةِ. وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَوِ اسْتَقَرَّ النُّورُ عَلَى سَطْحِهِ لَوَقَفَ الْبَصَرُ عَلَى سَطْحِهِ. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا نَفَذَ الْبَصَرُ فِيمَا وَرَاءَهُ، وَلَصَارَ إِبْصَارُهُ مَانِعًا عَنْ إِبْصَارِ مَا وَرَاءَهُ، فَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلِ اللَّوْنَ وَالنُّورَ فِي ذَاتِهِ وَجَوْهَرِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَنْعَكِسَ النُّورُ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَامْتَنَعَ أَنْ يَصِيرَ ضَوْءُهُ، سَبَبًا لِضَوْءِ هَوَاءٍ آخَرَ مُقَابِلٍ لَهُ. فَإِنْ قَالُوا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَصَلَ فِي الْأُفُقِ أَجْزَاءٌ كَثِيفَةٌ مِنَ الْأَبْخِرَةِ وَالْأَدْخِنَةِ؟ وَهِيَ لِكَثَافَتِهَا تَقْبَلُ النُّورَ عَنْ قُرْصِ الشَّمْسِ. ثُمَّ إِنَّ بِحُصُولِ الضَّوْءِ فِيهَا يَصِيرُ سَبَبًا لِحُصُولِ الضَّوْءِ فِي الْهَوَاءِ الْمُقَابِلِ لَهَا، فَنَقُولُ: لَوْ كَانَ السَّبَبُ مَا ذَكَرْتُمْ لَكَانَ كُلَّمَا كَانَتِ الْأَبْخِرَةُ وَالْأَدْخِنَةُ فِي الْأُفُقِ أَكْثَرَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ضَوْءُ الصَّبَاحِ أَقْوَى لَكِنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ عَلَى الْعَكْسِ مِنْهُ فَبَطَلَ هَذَا الْعُذْرُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي إِبْطَالِ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْهَيْثَمِ أَنَّ الدَّائِرَةَ الَّتِي هِيَ دَائِرَةُ الْأُفُقِ لَنَا، فَهِيَ بِعَيْنِهَا دَائِرَةُ نِصْفِ النَّهَارِ لِقَوْمٍ آخَرِينَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالدَّائِرَةُ الَّتِي هِيَ نِصْفُ النَّهَارِ فِي بَلَدِنَا، وَجَبَ كَوْنُهَا دَائِرَةَ الْأُفُقِ لِأُولَئِكَ الْأَقْوَامِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا وَصَلَ مَرْكَزُ الشَّمْسِ إِلَى دَائِرَةِ نِصْفِ اللَّيْلِ وَتَجَاوَزَ عَنْهَا، فَالشَّمْسُ قَدْ طَلَعَتْ عَلَى أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ، وَاسْتَنَارَ نِصْفُ الْعَامِ هُنَاكَ، وَالرُّبْعُ مِنَ الْفَلَكِ الَّذِي هُوَ رُبْعٌ شَرْقِيٌّ لِأَهْلِ بَلَدِنَا فَهُوَ بِعَيْنِهِ رُبْعٌ غَرْبِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الْبَلْدَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالشَّمْسُ إِذَا تَجَاوَزَ مَرْكَزُهَا عَنْ دَائِرَةِ نِصْفِ اللَّيْلِ قَدْ صَارَ جِرْمُهَا مُحَاذِيًا لِهَوَاءِ الرُّبْعِ الشَّرْقِيِّ لِأَهْلِ بَلَدِنَا. فَلَوْ كَانَ الْهَوَاءُ يَقْبَلُ كَيْفِيَّةَ النُّورِ مِنَ الشَّمْسِ لَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ الضَّوْءُ وَالنُّورُ فِي هَوَاءِ الرُّبْعِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بَلَدِنَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ. وَأَنْ يَصِيرَ هَوَاءُ الرُّبْعِ الشَّرْقِيِّ فِي غَايَةِ الْإِضَاءَةِ وَالْإِنَارَةِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْهَوَاءَ لَا يَقْبَلُ كَيْفِيَّةَ النُّورِ فِي ذَاتِهِ. وَإِذَا بَطَلَ هَذَا بَطَلَ الْعُذْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْهَيْثَمِ فَقَدْ ذَكَرْنَا بُرْهَانَيْنِ دَقِيقَيْنِ عَقْلِيَّيْنِ مَحْضَيْنِ عَلَى أَنَّ خَالِقَ الضَّوْءِ وَالظُّلْمَةِ هُوَ اللَّه تَعَالَى لَا قُرْصُ الشَّمْسِ واللَّه أَعْلَمُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: هَبْ أَنَّ النُّورَ الْحَاصِلَ فِي الْعَالَمِ إِنَّمَا كَانَ بِتَأْثِيرِ الشَّمْسِ. إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: / الْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ حُصُولُ هَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ لِقُرْصِ الشَّمْسِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِتَخْلِيقِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ. أَمَّا بَيَانُ الْمَقَامِ الْأَوَّلِ: فَهُوَ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ فِي كَوْنِهَا أَجْسَامًا وَمُتَحَيَّزَةً. فَلَوْ حَصَلَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهَا لَكَانَ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ وَاقِعًا فِي مَفْهُومٍ مُغَايِرٍ لِمَفْهُومِ الْجِسْمِيَّةِ ضَرُورَةَ أَنَّ مَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ مُغَايِرٌ لما

بِهِ الْمُخَالَفَةُ فَنَقُولُ: ذَلِكَ الْأَمْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْجِسْمِيَّةِ أَوْ حَالًّا فِيهَا أَوْ لَا مَحَلًّا لَهَا وَلَا حَالًّا فِيهَا. وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي كَوْنَ الْجِسْمِ صِفَةً قَائِمَةً بِذَاتٍ أُخْرَى وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَحَلَّ إِنْ كَانَ مُتَحَيِّزًا وَمُخْتَصًّا بِحَيِّزٍ كَانَ مَحَلُّ الْجِسْمِ غَيْرَ الْجِسْمِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ الْحَاصِلُ فِي الْحَيِّزِ حَالًّا فِي مَحَلٍّ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَحَيَازِ وَالْجِهَاتِ، وَذَلِكَ مَدْفُوعٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ. وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: الذَّوَاتُ هِيَ الْأَجْسَامُ وَمَا بِهِ قَدْ حَصَلَتِ الْمُخَالَفَةُ هُوَ الصِّفَاتُ وَكُلُّ مَا يَصِحُّ عَلَى الشَّيْءِ صَحَّ عَلَى مِثْلِهِ فَلَمَّا كَانَتِ الذَّوَاتُ مُتَمَاثِلَةً فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَا يَصِحُّ عَلَى الْآخَرِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ مَا بِهِ حَصَلَتِ الْمُخَالَفَةُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْجِسْمِ وَلَا حَالًّا فِيهِ، وَفَسَادُ هَذَا الْقِسْمِ ظَاهِرٌ. فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: كُلُّ مَا يَصِحُّ عَلَى أَحَدِ الْمَثَلَيْنِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَيْضًا عَلَى الْمَثَلِ الثَّانِي. وَإِذَا اسْتَوَتِ الْأَجْسَامُ بِأَسْرِهَا فِي قَبُولِ جَمِيعِ الصِّفَاتِ عَلَى الْبَدَلِ كَانَ اخْتِصَاصُ جِسْمِ الشَّمْسِ لِهَذِهِ الْإِضَاءَةِ وَهَذِهِ الْإِنَارَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّه تَعَالَى وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ، واللَّه أَعْلَمُ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَطْلُوبِ أَنَّ الظُّلْمَةَ شَبِيهَةٌ بِالْعَدَمِ. بَلِ الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَفْهُومٌ عَدَمِيٌّ وَالنُّورُ مَحْضُ الْوُجُودِ. فَإِذَا أَظْلَمَ اللَّيْلُ حَصَلَ الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ فِي قَلْبِ الْكُلِّ فَاسْتَوْلَى النَّوْمُ عَلَيْهِمْ وَصَارُوا كَالْأَمْوَاتِ وَسَكَنَتِ الْمُتَحَرِّكَاتُ وَتَعَطَّلَتِ التَّأْثِيرَاتُ وَرُفِعَتِ التَّفْعِيلَاتُ فَإِذَا وَصَلَ نُورُ الصَّبَاحِ إِلَى هَذَا الْعَالَمِ فَكَأَنَّهُ نَفَخَ فِي الصُّورِ مَادَّةَ الْحَيَاةِ وَقُوَّةَ الْإِدْرَاكِ فَضَعُفَ النَّوْمُ وَابْتَدَأَتِ الْيَقَظَةُ بِالظُّهُورِ. وَكُلَّمَا كَانَ نُورُ الصَّبَاحِ أَقْوَى وَأَكْمَلَ كَانَ ظُهُورُ قُوَّةِ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ فِي الْحَيَوَانَاتِ أَكْمَلَ. وَمَعْلُومٌ أَنْ أَعْظَمَ نِعَمِ اللَّه عَلَى الْخَلْقِ هُوَ قُوَّةُ الْحَيَاةِ وَالْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ وَلَمَّا كَانَ النُّورُ هُوَ السَّبَبَ الْأَصْلِيَّ لِحُصُولِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ كَانَ تَأْثِيرُ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى فِي تَخْلِيقِ النُّورِ مِنْ أَعْظَمِ أَقْسَامِ النِّعَمِ وَأَجَلِّ أَنْوَاعِ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَكَوْنُهُ سُبْحَانَهُ فَالِقًا لِلْإِصْبَاحِ فِي كَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى أَجَلَّ أَقْسَامِ الدَّلَائِلِ، وَفِي كَوْنِهِ فَضْلًا وَرَحْمَةً وَإِحْسَانًا مِنَ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْخَلْقِ أَجَلَّ الْأَقْسَامِ وَأَشْرَفَ الْأَنْوَاعِ/ فَهَذَا مَا حَضَرَنَا فِي تَقْرِيرِ دَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فالِقُ الْإِصْباحِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ الْحَكَمِ. واللَّه أَعْلَمُ. وَلْنَخْتِمْ هَذِهِ الدَّلَائِلَ بِخَاتِمَةٍ شَرِيفَةٍ فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى فَالِقُ ظُلْمَةِ الْعَدَمِ بِصَبَاحِ التَّكْوِينِ وَالْإِيجَادِ وَفَالِقُ ظُلْمَةِ الْجَمَادِيَّةِ بِصَبَاحِ الْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ وَالرَّشَادِ، وَفَالِقُ ظُلْمَةِ الْجَهَالَةِ بِصَبَاحِ الْعَقْلِ وَالْإِدْرَاكِ، وَفَالِقُ ظُلُمَاتِ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ بِتَخْلِيصِ النَّفْسِ الْقُدْسِيَّةِ إِلَى صُبْحَةِ عَالَمِ الْأَفْلَاكِ، وَفَالِقُ ظُلُمَاتِ الِاشْتِغَالِ بِعَالَمِ الْمُمْكِنَاتِ بِصَبَاحِ نُورِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ مُدَبِّرِ الْمُحْدَثَاتِ وَالْمُبْدَعَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْإِصْباحِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ اللَّيْثُ: الصُّبْحُ وَالصَّبَاحُ هُمَا أَوَّلُ النَّهَارِ وَهُوَ الْإِصْبَاحُ أَيْضًا. قَالَ تَعَالَى: فالِقُ الْإِصْباحِ يَعْنِي الصُّبْحَ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَفْنَى رِيَاحًا وَبَنِي رِيَاحٍ ... تَنَاسُخُ الْإِمْسَاءِ وَالْإِصْبَاحِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِصْباحِ مَصْدَرٌ سُمِّي به الصبح.

فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فَلَقَ الصُّبْحَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ تَعَالَى فَلَقَ الظُّلْمَةَ بِالصُّبْحِ فَكَيْفَ الْوَجْهُ فِيهِ؟ فَنَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَالِقَ ظُلْمَةِ الْإِصْبَاحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُفُقَ مِنَ الْجَانِبِ الشَّمَالِيِّ وَالْغَرْبِيِّ وَالْجَنُوبِيِّ مَمْلُوءٌ مِنَ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ. وَإِنَّمَا ظَهَرَ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ فَكَأَنَّ الْأُفُقَ كَانَ بَحْرًا مَمْلُوءًا مِنَ الظُّلْمَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى شَقَّ ذَلِكَ الْبَحْرَ الْمُظْلِمَ بِأَنْ أَجْرَى جَدْوَلًا مِنَ النُّورِ فِيهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ فَالِقُ ظُلْمَةِ الْإِصْبَاحِ بِنُورِ الْإِصْبَاحِ وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ مَعْلُومًا حَسُنَ الْحَذْفُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا يَشُقُّ بَحْرَ الظُّلْمَةِ عَنْ نُورِ الصُّبْحِ فَكَذَلِكَ يَشُقُّ نُورَ الصُّبْحِ عَنْ بَيَاضِ النَّهَارِ فَقَوْلُهُ: فالِقُ الْإِصْباحِ أَيْ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ بِبَيَاضِ النَّهَارِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ ظُهُورَ النُّورِ فِي الصَّبَاحِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى فَلَقَ تِلْكَ الظُّلْمَةَ فَقَوْلُهُ: فالِقُ الْإِصْباحِ أَيْ مُظْهِرُ الْإِصْبَاحِ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ الْإِظْهَارِ هُوَ ذَلِكَ الْفَلْقَ لَا جَرَمَ ذَكَرَ اسْمَ السَّبَبِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمُسَبَّبُ. الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْفَالِقُ هُوَ الْخَالِقُ فَكَانَ الْمَعْنَى خَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ واللَّه أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وجاعل اللَّيْلَ سَكَنًا فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الدَّلَائِلِ الْفَلَكِيَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ. فَأَوَّلُهَا: ظُهُورُ الصَّبَاحِ وَقَدْ فَسَّرْنَاهُ بمقدار الفهم. وثانيها: قوله وجاعل اللَّيْلَ سَكَنًا وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : السَّكَنُ مَا يَسْكُنُ إِلَيْهِ الرَّجُلُ وَيَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ اسْتِئْنَاسًا بِهِ وَاسْتِرْوَاحًا إِلَيْهِ مِنْ زَوْجٍ أَوْ حَبِيبٍ، وَمِنْهُ قِيلَ: لِلنَّارِ سَكَنٌ لِأَنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِهَا أَلَا تَرَاهُمْ سَمَّوْهَا/ الْمُؤْنِسَةَ. ثُمَّ إِنَّ اللَّيْلَ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ لِأَنَّهُ أَتْعَبَ نَفْسَهُ بِالنَّهَارِ وَاحْتَاجَ إِلَى زَمَانٍ يَسْتَرِيحُ فِيهِ وَذَلِكَ هُوَ اللَّيْلُ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ الْخَلْقَ يَبْقَوْنَ فِي الْجَنَّةِ فِي أَهْنَأِ عَيْشٍ، وَأَلَذِّ زَمَانٍ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ لَيْلٌ؟ فَعَلِمْنَا أَنَّ وُجُودَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَيْسَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ اللَّذَّةِ وَالْخَيْرِ فِي الْحَيَاةِ قُلْنَا: كَلَامُنَا فِي أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ مَصَالِحِ هَذَا الْعَالَمِ، أَمَّا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَهَذِهِ الْعَادَاتُ غَيْرُ بَاقِيَةٍ فِيهِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. الْمَبْحَثُ الثَّانِي: قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَجَعَلَ اللَّيْلَ عَلَى صِيغَةِ الْفِعْلِ، وَالْبَاقُونَ جَاعِلُ عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ حُجَّةُ مَنْ قَرَأَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ أَنَّ الْمَذْكُورَ قَبْلَهُ اسْمُ الْفَاعِلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فالِقُ الْحَبِّ وفالِقُ الْإِصْباحِ [الأنعام: 95- 96] وَجَاعِلٌ أَيْضًا اسْمُ الْفَاعِلِ. وَيَجِبُ كَوْنُ الْمَعْطُوفِ مُشَارِكًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَحُجَّةُ مَنْ قَرَأَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مَنْصُوبَانِ وَلَا بد لهذا النصب من عامل، وما ذلك إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ قَوْلُهُ: وَجَعَلَ بِمَعْنَى وَجَاعِلٌ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا وَذَلِكَ يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً فَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَدَّرَ حَرَكَةَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِحِسَابٍ مُعَيَّنٍ كَمَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ فِي قَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يُونُسَ: 5] وَقَالَ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ [الرحمن: 5] وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ حَرَكَةَ الشَّمْسِ مَخْصُوصَةً بِمِقْدَارٍ مِنَ السُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ بِحَيْثُ تَتِمُّ الدَّوْرَةُ فِي سَنَةٍ، وَقَدَّرَ حَرَكَةَ الْقَمَرِ بِحَيْثُ يُتِمُّ الدَّوْرَةَ فِي شَهْرٍ، وَبِهَذِهِ الْمَقَادِيرِ تَنْتَظِمُ مَصَالِحُ الْعَالَمِ فِي الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، وَبِسَبَبِهَا يَحْصُلُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ نُضْجِ الثِّمَارِ،

[سورة الأنعام (6) : آية 97]

وَحُصُولِ الْغَلَّاتِ، وَلَوْ قَدَّرْنَا كَوْنَهَا أَسْرَعَ أَوْ أَبْطَأَ مِمَّا وَقَعَ، لَاخْتَلَّتْ هَذِهِ الْمَصَالِحُ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً. الْمَبْحَثُ الثَّانِي: فِي الْحُسْبَانِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْهَيْثَمِ أَنَّهُ جَمْعُ حِسَابٍ مِثْلُ رِكَابٌ وَرُكْبَانَ وَشِهَابٌ وَشُهْبَانَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحُسْبَانَ مَصْدَرٌ كَالرُّجْحَانِ وَالنُّقْصَانِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْحُسْبَانُ بِالضَّمِّ مَصْدَرُ حَسَبَ، كَمَا أَنَّ الْحِسْبَانَ بِالْكَسْرِ مَصْدَرُ حَسِبَ، وَنَظِيرُهُ الْكُفْرَانُ وَالْغُفْرَانُ وَالشُّكْرَانُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَعْنَى جَعَلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا جَعَلَهُمَا عَلَى حِسَابٍ. لِأَنَّ حِسَابَ الْأَوْقَاتِ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِدَوْرِهِمَا وَسَيْرِهِمَا. الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ قُرِئَا بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ، فَالنَّصْبُ/ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ قوله: جاعل اللَّيْلَ أَيْ وَجَعَلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا، وَالْجَرُّ عَطْفٌ عَلَى لَفْظِ اللَّيْلِ، وَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مَجْعُولَانِ حُسْبَانًا: أَيْ مَحْسُوبَانِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْعَزِيزُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَالْعَلِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ عِلْمِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ تَقْدِيرَ أَجْرَامِ الْأَفْلَاكِ بِصِفَاتِهَا الْمَخْصُوصَةِ وَهَيْئَاتِهَا الْمَحْدُودَةِ، وَحَرَكَاتِهَا الْمُقَدَّرَةِ بِالْمَقَادِيرِ الْمَخْصُوصَةِ فِي الْبُطْءِ وَالسُّرْعَةِ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ إِلَّا بِقُدْرَةٍ كَامِلَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ وَعِلْمٍ نَافِذٍ فِي جَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ، وَذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَالصِّفَاتِ لَيْسَ بِالطَّبْعِ وَالْخَاصَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِتَخْصِيصِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ. واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 97] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ هَذِهِ النُّجُومَ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ وَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا لِتَهْتَدِيَ الْخَلْقُ بِهَا إِلَى الطُّرُقِ وَالْمَسَالِكِ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَهْتَدُونَ بِهَا إِلَى الْمَسَالِكِ وَالطُّرُقِ الَّتِي يُرِيدُونَ الْمُرُورَ فِيهَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ يَسْتَدِلُّونَ بِأَحْوَالِ حَرَكَةِ الشَّمْسِ عَلَى مَعْرِفَةِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا يَسْتَدِلُّونَ بِحَرَكَةِ الشَّمْسِ فِي النَّهَارِ عَلَى الْقِبْلَةِ، وَيَسْتَدِلُّونَ بِأَحْوَالِ الْكَوَاكِبِ فِي اللَّيَالِي عَلَى مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ كَوْنَ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ زِينَةً لِلسَّمَاءِ، فَقَالَ: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الْفُرْقَانِ: 61] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ [الصَّافَّاتِ: 6] وَقَالَ: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ [الْبُرُوجِ: 1] . الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي مَنَافِعِهَا كَوْنَهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أَيْ فِي ظُلُمَاتِ التَّعْطِيلِ وَالتَّشْبِيهِ، فَإِنَّ الْمُعَطِّلَ يَنْفِي كَوْنَهُ فَاعِلًا مُخْتَارًا، وَالْمُشَبِّهَ يُثْبِتُ كَوْنَهُ تَعَالَى جِسْمًا مُخْتَصًّا بِالْمَكَانِ فَهُوَ تَعَالَى خَلَقَ هَذِهِ النُّجُومَ لِيُهْتَدَى بِهَا فِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الظُّلُمَاتِ، أَمَّا الِاهْتِدَاءُ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ بَرِّ التَّعْطِيلِ، فَذَلِكَ لأنا نشاهد

[سورة الأنعام (6) : آية 98]

هَذِهِ الْكَوَاكِبَ مُخْتَلِفَةً فِي صِفَاتٍ كَثِيرَةٍ فَبَعْضُهَا سَيَّارَةٌ وَبَعْضُهَا ثَابِتَةٌ، وَالثَّوَابِتُ بَعْضُهَا فِي الْمِنْطَقَةِ وَبَعْضُهَا فِي الْقُطْبَيْنِ، وَأَيْضًا الثَّوَابِتُ لَامِعَةٌ وَالسَّيَّارَةُ غَيْرُ لَامِعَةٍ، وَأَيْضًا بَعْضُهَا كَبِيرَةٌ دُرِّيَّةٌ عَظِيمَةُ الضَّوْءِ، وَبَعْضُهَا صَغِيرَةٌ خَفِيَّةٌ قَلِيلَةُ الضَّوْءِ، وَأَيْضًا قَدَّرُوا مَقَادِيرَهَا عَلَى سَبْعِ مَرَاتِبَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ اخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِصِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا بِتَقْدِيرِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ فَهَذَا وَجْهُ الِاهْتِدَاءِ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ بَرِّ التَّعْطِيلِ. وَأَمَّا وَجْهُ الِاهْتِدَاءِ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ بَحْرِ التَّشْبِيهِ فَلِأَنَّا نَقُولُ إِنَّهُ لَا عَيْبَ يَقْدَحُ فِي إِلَهِيَّةِ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ إِلَّا أَنَّهَا أَجْسَامٌ فَتَكُونُ مُؤَلَّفَةً مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ، وَأَيْضًا إِنَّهَا مُتَنَاهِيَةٌ وَمَحْدُودَةٌ وَأَيْضًا إِنَّهَا مُتَغَيِّرَةٌ وَمُتَحَرِّكَةٌ وَمُنْتَقِلَةٌ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ إِنْ لَمْ تَكُنْ عُيُوبًا فِي الْإِلَهِيَّةِ امْتَنَعَ الطَّعْنُ فِي إِلَهِيَّتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ عُيُوبًا فِي الْإِلَهِيَّةِ وَجَبَ تَنْزِيهُ الْإِلَهِ عَنْهَا بِأَسْرِهَا فَوَجَبَ الْجَزْمُ بِأَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَبْعَاضِ وَالْحَدِّ وَالنِّهَايَةِ وَالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ، فَهَذَا بَيَانُ الِاهْتِدَاءِ بِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ فِي بَرِّ التَّعْطِيلِ وَبَحْرِ التَّشْبِيهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ عُدُولًا عَنْ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ إِلَى مَجَازِهِ إِلَّا أَنَّهُ قَرِيبٌ مُنَاسِبٌ لِعَظَمَةِ كِتَابِ اللَّه تَعَالَى. الْوَجْهُ السَّادِسُ: فِي مَنَافِعِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا [آلِ عِمْرَانَ: 191] فَنَبَّهَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ عَلَى أَنَّ فِي وُجُودِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا حِكْمَةً عَالِيَةً وَمَنْفَعَةً شَرِيفَةً، وَلَيْسَ كُلُّ مَا لَا يُحِيطُ عَقْلُنَا بِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ وَجَبَ نَفْيُهُ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُقَدِّرَ حِكْمَةَ اللَّه تَعَالَى فِي مُلْكِهِ وَمَلَكُوتِهِ بِمِكْيَالِ خَيَالِهِ وَمِقْيَاسِ قِيَاسِهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الِاسْتِدْلَالَ بِأَحْوَالِ هَذِهِ النُّجُومِ. قَالَ: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ النُّجُومَ كَمَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى الطُّرُقَاتِ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَكَذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى مَعْرِفَةِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعِلْمِ هَاهُنَا الْعَقْلَ فَقَوْلُهُ: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْبَقَرَةِ: 164] إِلَى قَوْلِهِ: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَفِي آلِ عِمْرَانَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ [آلِ عِمْرَانَ: 190] وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: / لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَيَتَأَمَّلُونَ وَيَسْتَدِلُّونَ بِالْمَحْسُوسِ عَلَى الْمَعْقُولِ وَيَنْتَقِلُونَ مِنَ الشَّاهِدِ إلى الغائب. [سورة الأنعام (6) : آية 98] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ] هَذَا نَوْعٌ رَابِعٌ مِنْ دَلَائِلِ وُجُودِ الْإِلَهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِأَحْوَالِ الْإِنْسَانِ فَنَقُولُ لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ هِيَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ. وَحَوَّاءُ مَخْلُوقَةٌ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ. فَصَارَ كُلُّ النَّاسِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ آدَمُ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْقَوْلُ فِي عِيسَى؟ قُلْنَا: هُوَ أَيْضًا مَخْلُوقٌ مِنْ مَرْيَمَ الَّتِي هِيَ مَخْلُوقَةٌ مِنْ أَبَوَيْهَا. فَإِنْ قَالُوا: أَلَيْسَ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ الْكَلِمَةِ أَوْ مِنَ الرُّوحِ الْمَنْفُوخِ فِيهَا فَكَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ؟ قُلْنَا: كَلِمَةُ «مِنْ» تُفِيدُ ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ وَلَا نِزَاعَ أَنَّ ابْتِدَاءَ تَكَوُّنِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنْ مَرْيَمَ وَهَذَا الْقَدْرُ

كَافٍ فِي صِحَّةِ هَذَا اللَّفْظِ. قَالَ الْقَاضِي: فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْشَأَكُمْ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ لِأَنَّ أَنْشَأَكُمْ يُفِيدُ أَنَّهُ خَلَقَكُمْ لَا ابْتِدَاءً. وَلَكِنْ عَلَى وَجْهِ النُّمُوِّ وَالنُّشُوءِ لَا مِنْ مَظْهَرٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، كَمَا يُقَالُ: فِي النَّبَاتِ إِنَّهُ تَعَالَى أَنْشَأَهُ بِمَعْنَى النُّمُوِّ وَالزِّيَادَةِ إِلَى وَقْتِ الِانْتِهَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ فَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو فَمُسْتَقَرٌّ بِكَسْرِ الْقَافِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. قَالَ سِيبَوَيْهِ، يُقَالُ: قَرَّ فِي مَكَانِهِ وَاسْتَقَرَّ فَمَنْ كَسَرَ الْقَافَ كَانَ الْمُسْتَقِرُّ بِمَعْنَى الْقَارِّ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ الْمُضْمَرَ «مِنْكُمْ» أَيْ مِنْكُمْ مُسْتَقِرٌّ. وَمَنْ فَتَحَ الْقَافَ فَلَيْسَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِأَنَّ اسْتَقَرَّ لَا يَتَعَدَّى فَلَا يَكُونُ لَهُ مَفْعُولٌ بِهِ فَيَكُونُ اسْمَ مَكَانٍ فَالْمُسْتَقِرُّ بِمَنْزِلَةِ الْمَقَرِّ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ الْمُضْمَرَ «مِنْكُمْ» بَلْ يَكُونُ خَبَرُهُ «لَكُمْ» فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ لَكُمْ مَقَرٌّ وَأَمَّا الْمُسْتَوْدَعُ فَإِنَّ اسْتَوْدَعَ فِعْلٌ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ تَقُولُ اسْتَوْدَعْتُ زَيْدًا أَلْفًا وَأَوْدَعْتُ مِثْلَهُ، فَالْمُسْتَوْدَعُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْإِنْسَانِ الَّذِي اسْتَوْدَعَ ذَلِكَ الْمَكَانَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَكَانَ نَفْسَهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَنْ قَرَأَ مُسْتَقَرًّا بِفَتْحِ الْقَافِ جَعَلَ الْمُسْتَوْدَعَ مَكَانًا لِيَكُونَ مِثْلَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالتَّقْدِيرُ فَلَكُمْ مَكَانُ اسْتِقْرَارٍ وَمَكَانُ اسْتِيدَاعٍ وَمَنْ قَرَأَ فَمُسْتَقَرٌّ بِالْكَسْرِ، فَالْمَعْنَى: مِنْكُمْ مُسْتَقِرٌّ وَمِنْكُمْ مُسْتَوْدَعٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْكُمْ مَنِ اسْتَقَرَّ وَمِنْكُمْ مَنِ اسْتَوْدَعَ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَبْحَثُ الثَّانِي: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسْتَقَرِّ وَالْمُسْتَوْدَعِ أَنَّ الْمُسْتَقَرَّ أَقْرَبُ إِلَى النَّبَاتِ مِنَ الْمُسْتَوْدَعِ فَالشَّيْءُ الَّذِي حَصَلَ فِي مَوْضِعٍ وَلَا يَكُونُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ يُسَمَّى مُسْتَقَرًّا فِيهِ، وَأَمَّا إِذَا حَصَلَ فِيهِ وَكَانَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ يُسَمَّى مُسْتَوْدَعًا لِأَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ فِي مَعْرِضٍ أَنْ يُسْتَرَدَّ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَوَانٍ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: كَثُرَ اخْتِلَافُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَالْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْمُسْتَقَرَّ هُوَ الْأَرْحَامُ وَالْمُسْتَوْدَعَ الْأَصْلَابُ قَالَ كُرَيْبٌ: كَتَبَ جَرِيرٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَأَجَابَ الْمُسْتَوْدَعُ الصُّلْبُ وَالْمُسْتَقَرُّ الرَّحِمُ ثُمَّ قَرَأَ: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ [الحج: 5] وَمِمَّا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى قُوَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ النُّطْفَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَبْقَى فِي صُلْبِ الْأَبِ زَمَانًا طَوِيلًا وَالْجَنِينَ يَبْقَى فِي رَحِمِ الْأُمِّ زَمَانًا طَوِيلًا، وَلَمَّا كَانَ الْمُكْثُ فِي الرَّحِمِ أَكْثَرَ مِمَّا فِي صُلْبِ الْأَبِ كَانَ حَمْلُ الِاسْتِقْرَارِ عَلَى الْمُكْثِ فِي الرَّحِمِ أَوْلَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُسْتَقَرَّ صُلْبُ الْأَبِ وَالْمُسْتَوْدَعَ رَحِمُ الْأُمِّ، لِأَنَّ النُّطْفَةَ حَصَلَتْ فِي صُلْبِ الْأَبِ لَا مِنْ قِبَلِ الْغَيْرِ وَهِيَ حَصَلَتْ فِي رَحِمِ الْأُمِّ بِفِعْلِ الْغَيْرِ، فَحُصُولُ تِلْكَ النُّطْفَةِ فِي الرَّحِمِ مِنْ قِبَلِ الرَّجُلِ مُشَبَّهٌ بِالْوَدِيعَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ يَقْتَضِي كَوْنَ الْمُسْتَقَرِّ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ وَحُصُولُ النُّطْفَةِ فِي صُلْبِ الْأَبِ مُقَدَّمٌ عَلَى حُصُولِهَا فِي رَحِمِ الْأُمِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَقَرُّ مَا فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ، وَالْمُسْتَوْدَعُ مَا فِي أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْمُسْتَقَرُّ حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ سَعِيدًا فَقَدِ اسْتَقَرَّتْ تِلْكَ السَّعَادَةُ، وَإِنْ كَانَ شَقِيًّا فَقَدِ اسْتَقَرَّتْ تِلْكَ الشَّقَاوَةُ وَلَا تَبْدِيلَ فِي أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَمَّا قَبْلَ الْمَوْتِ فَالْأَحْوَالُ مُتَبَدِّلَةٌ. فَالْكَافِرُ قَدْ يَنْقَلِبُ مُؤْمِنًا وَالزِّنْدِيقُ قَدْ يَنْقَلِبُ صِدِّيقًا، فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ لِكَوْنِهَا عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ وَالْفَنَاءِ لَا يَبْعُدُ تَشْبِيهُهَا بِالْوَدِيعَةِ الَّتِي تَكُونُ مُشْرِفَةً عَلَى الزَّوَالِ وَالذَّهَابِ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ. إِنَّ الْمُسْتَقَرَّ مَنْ خُلِقَ مِنَ النَّفْسِ الْأُولَى وَدَخَلَ الدُّنْيَا وَاسْتَقَرَّ فِيهَا،

[سورة الأنعام (6) : آية 99]

وَالْمُسْتَوْدَعَ الَّذِي لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ وَسَيُخْلَقُ. وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: لِلْأَصَمِّ أَيْضًا الْمُسْتَقَرُّ مَنِ اسْتَقَرَّ فِي قَرَارِ الدُّنْيَا وَالْمُسْتَوْدَعُ مَنْ فِي الْقُبُورِ حَتَّى يُبْعَثَ. وَعَنْ قَتَادَةَ عَلَى الْعَكْسِ مِنْهُ فَقَالَ مُسْتَقَرٌّ فِي الْقَبْرِ وَمُسْتَوْدَعٌ فِي الدُّنْيَا. الْقَوْلُ السَّادِسُ: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ إِنَّ التَّقْدِيرَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمِنْكُمْ مُسْتَقَرٌّ ذَكَرٌ وَمِنْكُمْ مُسْتَوْدَعٌ أُنْثَى إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ عَنِ الذَّكَرِ بِالْمُسْتَقَرِّ لِأَنَّ النُّطْفَةَ إِنَّمَا تَتَوَلَّدُ فِي صُلْبِهِ وَإِنَّمَا تَسْتَقِرُّ هُنَاكَ وَعَبَّرَ عَنِ الْأُنْثَى بِالْمُسْتَوْدَعِ لِأَنَّ رَحِمَهَا شَبِيهَةٌ بِالْمُسْتَوْدَعِ لِتِلْكَ النُّطْفَةِ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: مَقْصُودُ الْكَلَامِ أَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا تَوَلَّدُوا مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَهُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْمُسْتَقَرِّ وَالْمُسْتَوْدَعِ بِحَسَبِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فَنَقُولُ: الْأَشْخَاصُ الْإِنْسَانِيَّةُ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْجِسْمِيَّةِ وَمُخْتَلِفَةٌ فِي الصِّفَاتِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا حَصَلَ التَّفَاوُتُ فِي الْمُسْتَقَرِّ وَالْمُسْتَوْدَعِ وَالِاخْتِلَافُ فِي تِلْكَ الصِّفَاتِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ وَمُؤَثِّرٍ وَلَيْسَ السَّبَبُ هُوَ الْجِسْمِيَّةَ وَلَوَازِمَهَا وَإِلَّا لَامْتَنَعَ حُصُولُ التَّفَاوُتِ فِي الصِّفَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ هُوَ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ الْحَكِيمَ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الدلالة قوله تعالى: وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّهُ بَيَّنَ هَذِهِ الدَّلَائِلَ عَلَى وَجْهِ الْفَصْلِ لِلْبَعْضِ عَنِ الْبَعْضِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى تَمَسَّكَ أَوَّلًا بِتَكْوِينِ النَّبَاتِ وَالشَّجَرِ مِنَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ التَّمَسُّكَ بِالدَّلَائِلِ الْفَلَكِيَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ التَّمَسُّكَ بِأَحْوَالِ تَكْوِينِ الْإِنْسَانِ فَقَدْ مَيَّزَ تَعَالَى بَعْضَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ عَنْ بَعْضٍ، وَفَصَلَ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ، وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ظَاهِرُهُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَفْعَلُ الْفِعْلَ لِغَرَضٍ وَحِكْمَةٍ. وَجَوَابُ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ اللَّامَ لَامُ الْعَاقِبَةِ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى التَّشْبِيهِ بِحَالِ مَنْ يَفْعَلُ الْفِعْلَ لِغَرَضٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ الْفِقْهَ، وَالْفَهْمَ وَالْإِيمَانَ، وَمَا أَرَادَ بِأَحَدٍ مِنْهُمُ الْكُفْرَ. وَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَجَوَابُ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّمَا فَصَّلْتُ هَذَا الْبَيَانَ لِمَنْ عَرَفَ وَفَقِهَ وَفَهِمَ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ لَا غَيْرَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ السَّابِقَةَ، وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي اسْتَدَلَّ فِيهَا بِأَحْوَالِ النُّجُومِ بقوله: يَعْلَمُونَ وختم آخره هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: يَفْقَهُونَ وَالْفَرْقُ أَنَّ إِنْشَاءَ الإنس من وَاحِدَةٍ، وَتَصْرِيفَهُمْ بَيْنَ أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ أَلْطَفُ وَأَدَقُّ صَنْعَةً وَتَدْبِيرًا، فَكَانَ ذِكْرُ الْفِقْهِ هَاهُنَا لِأَجْلِ أَنَّ الْفِقْهَ يُفِيدُ مَزِيدَ فِطْنَةٍ وَقُوَّةٍ وَذَكَاءٍ وفهم. واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 99] وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ الْخَامِسَ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَوُجُوهِ إِحْسَانِهِ إِلَى خَلْقِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ كَمَا أَنَّهَا دَلَائِلُ فَهِيَ أَيْضًا نِعَمٌ بَالِغَةٌ، وَإِحْسَانَاتٌ كَامِلَةٌ، وَالْكَلَامُ إِذَا كَانَ دَلِيلًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَكَانَ إِنْعَامًا وَإِحْسَانًا مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ. كَانَ تَأْثِيرُهُ فِي الْقَلْبِ عَظِيمًا، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْمُشْتَغِلَ

بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْدِلَ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ. وَفِي الْآيَةِ مسائل: المسألة الأول: ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً يَقْتَضِي نُزُولَ الْمَطَرِ مِنَ السَّمَاءِ، وَعِنْدَ هَذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ، فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» : إِنَّهُ تَعَالَى يُنْزِلُ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى السَّحَابِ، وَمِنَ السَّحَابِ إِلَى الْأَرْضِ. قَالَ لِأَنَّ ظَاهِرَ النَّصِّ يَقْتَضِي نُزُولَ الْمَطَرِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالْعُدُولُ عَنِ الظَّاهِرِ إِلَى التَّأْوِيلِ، إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ إِجْرَاءَ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى امْتِنَاعِ نُزُولِ الْمَطَرِ مِنَ السَّمَاءِ، فَوَجَبَ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْبُخَارَاتِ الْكَثِيرَةَ تَجْتَمِعُ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ. ثُمَّ تَصْعَدُ وَتَرْتَفِعُ إِلَى الْهَوَاءِ، فَيَنْعَقِدُ الْغَيْمُ مِنْهَا وَيَتَقَاطَرُ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطَرُ، فَقَدِ احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ عَلَى فَسَادِهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْبَرْدَ قَدْ يُوجَدُ فِي وَقْتِ الْحَرِّ، بَلْ فِي صَمِيمِ الصَّيْفِ، وَنَجِدُ الْمَطَرَ فِي أَبْرَدِ وَقْتٍ يَنْزِلُ غَيْرَ جَامِدٍ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْقَوْمَ يُجِيبُونَ عَنْهُ فَيَقُولُونَ: لَا شَكَّ أَنَّ الْبُخَارَ أَجْزَاءٌ مائة وَطَبِيعَتُهَا الْبَرْدُ، فَفِي وَقْتِ الصَّيْفِ يَسْتَوْلِي الْحَرُّ عَلَى ظَاهِرِ السَّحَابِ، فَيَهْرُبُ الْبَرْدُ إِلَى بَاطِنِهِ، فَيَقْوَى الْبَرْدُ هُنَاكَ بِسَبَبِ الِاجْتِمَاعِ، فَيَحْدُثُ الْبَرْدُ، وَأَمَّا فِي وَقْتِ بَرْدِ الْهَوَاءِ يَسْتَوْلِي الْبَرْدُ عَلَى ظَاهِرِ السَّحَابِ، فَلَا يَقْوَى الْبَرْدُ فِي بَاطِنِهِ، فَلَا جَرَمَ لَا يَنْعَقِدُ جَمَدًا بَلْ يَنْزِلُ مَاءً، هَذَا مَا قَالُوهُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الطَّبَقَةَ الْعَالِيَةَ مِنَ الْهَوَاءِ بَارِدَةٌ جِدًّا عِنْدَكُمْ، فَإِذَا كَانَ الْيَوْمُ يَوْمًا بَارِدًا شَدِيدَ الْبَرْدِ فِي صَمِيمِ الشِّتَاءِ، فَتِلْكَ الطَّبَقَةُ بَارِدَةٌ جِدًّا، وَالْهَوَاءُ الْمُحِيطُ بِالْأَرْضِ أَيْضًا بَارِدٌ جِدًّا، فَوَجَبَ أَنْ يَشْتَدَّ الْبَرْدُ، وَأَنْ لَا يَحْدُثَ الْمَطَرُ فِي الشِّتَاءِ الْبَتَّةَ، وَحَيْثُ شَاهَدْنَا أَنَّهُ قَدْ يَحْدُثُ فَسَدَ قَوْلُكُمْ، واللَّه أَعْلَمُ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: مِمَّا ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْبُخَارَاتِ إِذَا ارْتَفَعَتْ وَتَصَاعَدَتْ تَفَرَّقَتْ وَإِذَا تَفَرَّقَتْ لَمْ يَتَوَلَّدْ مِنْهَا قَطَرَاتُ الْمَاءِ، بَلِ الْبُخَارُ إِنَّمَا يَجْتَمِعُ إِذَا اتَّصَلَ بِسَقْفٍ مُتَّصِلٍ أَمْلَسَ كَسُقُوفِ الْحَمَّامَاتِ الْمُزَجَّجَةِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَسِلْ مِنْهُ مَاءٌ كَثِيرٌ، فَإِذَا تَصَاعَدَتِ الْبُخَارَاتُ فِي الْهَوَاءِ، وَلَيْسَ فَوْقَهَا سَطْحٌ أَمْلَسُ مُتَّصِلٌ بِهِ تِلْكَ الْبُخَارَاتُ، وَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ مِنْهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْقَوْمُ يُجِيبُونَ عَنْهُ: بِأَنَّ هَذِهِ الْبُخَارَاتِ إِذَا تَصَاعَدَتْ وَتَفَرَّقَتْ، فَإِذَا وَصَلَتْ عِنْدَ صُعُودِهَا وَتَفَرُّقِهَا إِلَى الطَّبَقَةِ الْبَارِدَةِ مِنَ الْهَوَاءِ بَرَدَتْ، وَالْبَرَدُ يُوجِبُ الثِّقَلَ وَالنُّزُولَ، فَبِسَبَبِ قُوَّةِ ذَلِكَ الْبَرْدِ عَادَتْ مِنَ الصُّعُودِ إلى النزول، والعالم كري الشَّكْلِ، فَلَمَّا رَجَعَتْ مِنَ الصُّعُودِ إِلَى النُّزُولِ، فَقَدْ رَجَعَتْ مِنْ فَضَاءِ الْمُحِيطَ إِلَى ضِيقِ الْمَرْكَزِ، فَتِلْكَ الذَّرَّاتُ بِهَذَا السَّبَبِ تَلَاصَقَتْ وَتَوَاصَلَتْ، فَحَصَلَ مِنَ اتِّصَالِ بَعْضِ تِلْكَ الذَّرَّاتِ بَعْضُ قَطَرَاتِ الْأَمْطَارِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: مَا ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ قَالَ: لَوْ كَانَ تَوَلُّدُ الْمَطَرِ مِنْ صُعُودِ الْبُخَارَاتِ، فَالْبُخَارَاتُ دَائِمَةُ الِارْتِفَاعِ مِنَ الْبِحَارِ، فَوَجَبَ أَنْ يَدُومَ هُنَاكَ نُزُولُ الْمَطَرِ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، عَلِمْنَا فَسَادَ قَوْلِهِمْ. قَالَ: فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ، أَنَّهُ لَيْسَ تَوَلُّدُ الْمَطَرِ مِنْ بُخَارِ الْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْقَوْمُ إِنَّمَا احْتَاجُوا إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْأَجْسَامَ قَدِيمَةٌ، وَإِذَا كَانَتْ قَدِيمَةً امْتَنَعَ دُخُولُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِيهَا، وَحِينَئِذٍ لَا مَعْنَى لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ إِلَّا اتِّصَافَ تِلْكَ الذَّرَّاتِ بِصِفَةٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِصِفَاتٍ أُخْرَى، فَلِهَذَا السَّبَبِ احتالوا في تكوين كل شي عَنْ مَادَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ. فَلَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ الْأَجْسَامَ مُحْدَثَةٌ، وَأَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْأَجْسَامِ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ، فَعِنْدَ هَذَا لَا حَاجَةَ إِلَى اسْتِخْرَاجِ هَذِهِ التَّكَلُّفَاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ

فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِنَّمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى امْتِنَاعِ هَذَا الظَّاهِرِ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِحَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ مَا قُلْنَاهُ: أَنَّ جَمِيعَ الْآيَاتِ نَاطِقَةٌ بِنُزُولِ الْمَطَرِ مِنَ السَّمَاءِ. قَالَ تَعَالَى: / وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً [الْفُرْقَانِ: 48] وَقَالَ: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الْأَنْفَالِ: 11] وَقَالَ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النُّورِ: 43] فَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ، أَنَّهُ تَعَالَى يُنَزِّلُ الْمَطَرَ مِنَ السَّمَاءِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَخْلُقُ هَذِهِ الْأَجْسَامَ فِي السَّمَاءِ. ثُمَّ يُنْزِلُهَا إِلَى السَّحَابِ. ثُمَّ مِنَ السَّحَابِ إِلَى الْأَرْضِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ إِنْزَالُ الْمَطَرِ مِنْ جَانِبِ السَّمَاءِ مَاءً. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَاءً وَسَمَّى اللَّه تَعَالَى السَّحَابَ سَمَاءً، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي كُلَّ مَا فَوْقَكَ سَمَاءً كَسَمَاءِ الْبَيْتِ، فَهَذَا مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ بِالْمَاءِ هَاهُنَا الْمَطَرَ وَلَا يُنْزِلُ نُقْطَةً مِنَ الْمَطَرِ إِلَّا وَمَعَهَا مَلَكٌ، وَالْفَلَاسِفَةُ يَحْمِلُونَ ذَلِكَ الْمَلَكَ عَلَى الطَّبِيعَةِ الْحَالَّةِ فِي تِلْكَ الْجِسْمِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِذَلِكَ النُّزُولِ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مَلَكٌ مِنْ مَلَائِكَةِ السموات، فَالْقَوْلُ بِهِ مُشْكِلٌ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَخْرَجَ النَّبَاتَ بِوَاسِطَةِ الْمَاءِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَوْلَ بِالطَّبْعِ وَالْمُتَكَلِّمُونَ يُنْكِرُونَهُ، وَقَدْ بَالَغْنَا فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 22] فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: قَوْلُهُ: فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ شَيْءٍ نَبَاتٌ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَكَانَ الْمُرَادُ فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ نَبَاتٌ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالَّذِي لَا نَبَاتَ لَهُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: فَأَخْرَجْنا بِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَنْزَلَ يُسَمَّى الْتِفَاتًا. وَيُعَدُّ ذَلِكَ من الفضاحة. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَ الْعَرَبِيَّةِ ادَّعَوْا أَنَّ ذَلِكَ يُعَدُّ مِنَ الْفَصَاحَةِ. وَمَا بَيَّنُوا أَنَّهُ مِنْ أَيِّ الْوُجُوهِ يُعَدُّ مِنْ هَذَا الْبَابِ؟ وَأَمَّا نَحْنُ فَقَدْ أَطْنَبْنَا فِيهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يُونُسَ: 22] فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. وَالْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: فَأَخْرَجْنا صِيغَةُ الْجَمْعِ. واللَّه وَاحِدٌ فَرْدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، إِلَّا أَنَّ الْمَلِكَ الْعَظِيمَ إِذَا كَنَّى عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّمَا يُكَنِّي بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. وَنَظِيرُهُ قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ [الدخان: 3] إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً [نوح: 1] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الحجر: 9] . أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً فَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى خَضِرٍ، كَمَعْنَى أَخْضَرَ، يُقَالُ اخْضَرَّ/ فَهُوَ أَخْضَرُ وَخَضِرٌ، مَثَّلَ اعْوَرَّ فَهُوَ أَعْوَرُ وَعَوِرٌ. وَقَالَ اللَّيْثُ: الْخَضِرُ فِي كِتَابِ اللَّه هُوَ الزَّرْعُ وَفِي الْكَلَامِ كُلُّ نَبَاتٍ مِنَ الْخَضِرِ، وَأَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى حَصَرَ النَّبْتَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قِسْمَيْنِ: حَيْثُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى فَالَّذِي يَنْبُتُ مِنَ الْحَبِّ هُوَ الزَّرْعُ، وَالَّذِي يَنْبُتُ مِنَ النَّوَى هُوَ الشَّجَرُ فَاعْتَبَرَ هَذِهِ الْقِسْمَةَ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَابْتَدَأَ بِذِكْرِ الزَّرْعِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً وَهُوَ الزَّرْعُ، كَمَا رُوِّينَاهُ عَنِ اللَّيْثِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:

يُرِيدُ الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ وَالسَّلْتَ وَالذُّرَةَ وَالْأُرْزَ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْخَضِرِ الْعُودُ الْأَخْضَرُ الَّذِي يَخْرُجُ أَوَّلًا وَيَكُونُ السُّنْبُلُ فِي أَعْلَاهُ وَقَوْلُهُ: نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً يَعْنِي يُخْرِجُ مِنْ ذَلِكَ الْخَضِرِ حَبًّا مُتَرَاكِبًا بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فِي سُنْبُلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ ذَلِكَ الْعُودُ الْأَخْضَرُ وَتَكُونُ السُّنْبُلَةُ مُرَكَّبَةً عَلَيْهِ مِنْ فَوْقِهِ وَتَكُونُ الْحَبَّاتُ مُتَرَاكِبَةً بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَيَحْصُلُ فَوْقَ السُّنْبُلَةِ أَجْسَامٌ دَقِيقَةٌ حَادَّةٌ كَأَنَّهَا الْإِبَرُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَخْلِيقِهَا أَنْ تَمْنَعَ الطُّيُورَ مِنَ الْتِقَاطِ تِلْكَ الْحَبَّاتِ الْمُتَرَاكِبَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ مَا يَنْبُتُ مِنَ الْحَبِّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَا يَنْبُتُ مِنَ النَّوَى، وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي فَقَالَ: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَهَاهُنَا مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَ الزَّرْعِ عَلَى ذِكْرِ النَّخْلِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّرْعَ أَفْضَلُ مِنَ النَّخْلِ. وَهَذَا الْبَحْثُ قَدْ أَفْرَدَ الْجَاحِظُ فِيهِ تَصْنِيفًا مُطَوَّلًا. الْبَحْثُ الثَّانِي: رَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَطْلَعَتِ النَّخْلُ إِذَا أَخْرَجَتْ طَلْعَهَا وَطَلْعُهَا كِيزَانُهَا قَبْلَ أَنْ يَنْشَقَّ عَنِ الْإِغْرِيضِ، وَالْإِغْرِيضُ يُسَمَّى طَلْعًا أَيْضًا. قَالَ وَالطَّلْعُ أَوَّلُ مَا يُرَى مِنْ عِذْقِ النَّخْلَةِ، الْوَاحِدَةُ طَلْعَةٌ. وَأَمَّا قِنْوانٌ فَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْقِنْوَانُ جَمْعُ قِنْوٍ. مِثْلَ صِنْوَانٍ وَصِنْوٍ. وَإِذَا ثَنَّيْتَ الْقِنْوَ قُلْتَ قِنْوَانِ بِكَسْرِ النُّونِ، فَجَاءَ هَذَا الْجَمْعُ عَلَى لَفْظِ الِاثْنَيْنِ وَالْإِعْرَابُ فِي النُّونِ لِلْجَمْعِ. إِذَا عَرَفْتَ تَفْسِيرَ اللَّفْظِ فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: قِنْوانٌ دانِيَةٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْعَرَاجِينَ الَّتِي قَدْ تَدَلَّتْ مِنَ الطَّلْعِ دَانِيَةً مِمَّنْ يَجْتَنِيهَا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: قِصَارُ النَّخْلِ اللَّاصِقَةُ عُذُوقَهَا بِالْأَرْضِ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَمْ يَقُلْ وَمِنْهَا قِنْوَانٌ بَعِيدَةٌ لِأَنَّ ذِكْرَ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ يَدُلُّ عَلَى الثَّانِي كَمَا قَالَ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْلِ: 81] وَلَمْ يَقُلْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْبَرْدَ، لِأَنَّ ذِكْرَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ يَدُلُّ عَلَى الثَّانِي، فَكَذَا هَاهُنَا وَقِيلَ أَيْضًا: ذَكَرَ الدَّانِيَةَ فِي الْقَرِيبَةِ، وَتَرَكَ الْبَعِيدَةَ لِأَنَّ النِّعْمَةَ فِي الْقَرِيبَةِ أَكْمَلُ وَأَكْثَرُ. وَالْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قِنْوانٌ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَمِنَ النَّخْلِ خَبَرُهُ مِنْ طَلْعِها بَدَلٌ مِنْهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَحَاصِلَةٌ مِنْ طَلْعِ النَّخْلِ قِنْوَانٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ/ أَخْرَجْنَا عَلَيْهِ تَقْدِيرُهُ، وَمُخْرَجَةٌ مِنْ طَلْعِ النَّخْلِ قِنْوَانٌ. وَمَنْ قَرَأَ يُخْرَجُ مِنْهُ حَبٌّ مُتَرَاكِبٌ كان قِنْوانٌ عنده معطوفا على قوله: حَبًّا وَقُرِئَ قِنْوانٌ بِضَمِّ الْقَافِ وَبِفَتْحِهَا عَلَى أَنَّهُ اسم جمع كركب لِأَنَّ فِعْلَانَ لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّكْسِيرِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ عَاصِمٌ: جَنَّاتٌ بِضَمِّ التَّاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: وَالْبَاقُونَ جَنَّاتٍ بِكَسْرِ التَّاءِ. أَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى فَلَهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُرَادَ، وَثُمَّ وجنات مِنْ أَعْنَابٍ أَيْ مَعَ النَّخْلِ وَالثَّانِي: أَنْ يُعْطَفَ عَلَى قِنْوانٌ عَلَى مَعْنَى وَحَاصِلَةٌ أَوْ وَمُخْرَجَةٌ مِنَ النَّخْلِ قِنْوَانٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ فَوَجْهُهَا الْعَطْفُ عَلَى قَوْلِهِ: نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ وَالتَّقْدِيرُ: وَأَخْرَجْنَا بِهِ جَنَّاتٍ من أعناب، وكذلك قوله: وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ [الأنعام: 141] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَنْتَصِبَا عَلَى الِاخْتِصَاصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النِّسَاءِ: 162] لِفَضْلِ هذين الصنفين.

البحث الثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: قَوْلُهُ: وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ يُرِيدُ شجر الزيتون، وشجر الرمان كما قال: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] يُرِيدُ أَهْلَهَا. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَاهُنَا أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْأَشْجَارِ. النَّخْلَ وَالْعِنَبَ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الزَّرْعَ عَلَى الشَّجَرِ لِأَنَّ الزَّرْعَ غِذَاءٌ، وَثِمَارُ الْأَشْجَارِ فَوَاكِهٌ، وَالْغِذَاءُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْفَاكِهَةِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ النَّخْلَ عَلَى سَائِرِ الْفَوَاكِهِ لِأَنَّ التَّمْرَ يَجْرِي مَجْرَى الْغِذَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرَبِ وَلِأَنَّ الْحُكَمَاءَ بَيَّنُوا أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَيَوَانِ مُشَابَهَةً فِي خَوَاصَّ كَثِيرَةٍ بِحَيْثُ لَا تُوجَدُ تِلْكَ الْمُشَابَهَةُ فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَكْرِمُوا عَمَّتَكُمُ النَّخْلَةَ، فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ بَقِيَّةِ طِينَةِ آدَمَ» وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْعِنَبَ عَقِيبَ النَّخْلِ لِأَنَّ الْعِنَبَ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَظْهَرُ يَصِيرُ مُنْتَفَعًا بِهِ إِلَى آخِرِ الْحَالِ فَأَوَّلُ مَا يَظْهَرُ عَلَى الشَّجَرِ يَظْهَرُ خُيُوطٌ خُضْرٌ دَقِيقَةٌ حَامِضَةُ الطَّعْمِ لَذِيذَةُ الْمَطْعَمِ، وَقَدْ يُمْكِنُ اتِّخَاذُ الطَّبَائِخِ مِنْهُ، ثُمَّ بَعْدَهُ يَظْهَرُ الْحِصْرِمُ، وَهُوَ طَعَامٌ شَرِيفٌ لِلْأَصِحَّاءِ وَالْمَرْضَى، وَقَدْ يُتَّخَذُ الْحِصْرِمُ أَشْرِبَةً لَطِيفَةَ الْمَذَاقِ نَافِعَةً لِأَصْحَابِ الصَّفْرَاءِ، وَقَدْ يُتَّخَذُ الطَّبِيخُ مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ أَلَذُّ الطَّبَائِخِ الْحَامِضَةِ. ثُمَّ إِذَا تَمَّ الْعِنَبُ فَهُوَ أَلَذُّ الْفَوَاكِهِ وَأَشْهَاهَا، وَيُمْكِنُ ادِّخَارُ الْعِنَبِ الْمُعَلَّقِ سَنَةً أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ أَلَذُّ الْفَوَاكِهِ الْمُدَّخَرَةِ ثُمَّ يَبْقَى مِنْهُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْمُتَنَاوَلَاتِ، وَهِيَ الزَّبِيبُ وَالدِّبْسُ وَالْخَمْرُ وَالْخَلُّ، وَمَنَافِعُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ لَا يُمْكِنُ ذكرها إلى فِي الْمُجَلَّدَاتِ، وَالْخَمْرُ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْعُ قَدْ حَرَّمَهَا، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَتِهَا: وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ثم قال: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما فَأَحْسَنُ مَا فِي الْعِنَبِ عَجَمُهُ. وَالْأَطِبَّاءُ يَتَّخِذُونَ مِنْهُ جُوَارِشَنَاتٍ عَظِيمَةَ النَّفْعِ لِلْمَعِدَةِ الضَّعِيفَةِ الرَّطْبَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْعِنَبَ كَأَنَّهُ سُلْطَانُ الْفَوَاكِهِ، وَأَمَّا الزَّيْتُونُ/ فَهُوَ أَيْضًا كَثِيرُ النَّفْعِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَنَاوُلُهُ كَمَا هُوَ، وَيَنْفَصِلُ أَيْضًا عَنْهُ دُهْنٌ كَثِيرٌ عَظِيمُ النَّفْعِ فِي الْأَكْلِ وَفِي سَائِرِ وُجُوهِ الِاسْتِعْمَالِ. وَأَمَّا الرُّمَّانُ فَحَالُهُ عَجِيبٌ جِدًّا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: قِشْرُهُ وَشَحْمُهُ وَعَجَمُهُ وَمَاؤُهُ. أَمَّا الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ وَهِيَ: الْقِشْرُ وَالشَّحْمُ وَالْعَجَمُ، فَكُلُّهَا بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ أَرْضِيَّةٌ كَثِيفَةٌ قَابِضَةٌ عَفْصَةٌ قَوِيَّةٌ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَأَمَّا مَاءُ الرُّمَّانِ، فَبِالضِّدِّ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ. فَإِنَّهُ أَلَذُّ الْأَشْرِبَةِ وَأَلْطَفُهَا وَأَقْرَبُهَا إِلَى الِاعْتِدَالِ وَأَشَدُّهَا مُنَاسَبَةً لِلطِّبَاعِ الْمُعْتَدِلَةِ، وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِلْمِزَاجِ الضَّعِيفِ، وَهُوَ غِذَاءٌ مِنْ وَجْهٍ وَدَوَاءٌ مِنْ وَجْهٍ، فَإِذَا تَأَمَّلْتَ فِي الرُّمَّانِ وَجَدْتَ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ مَوْصُوفَةً بِالْكَثَافَةِ التَّامَّةِ الْأَرْضِيَّةِ، وَوَجَدْتَ الْقِسْمَ الرَّابِعَ وَهُوَ مَاءُ الرُّمَّانِ مَوْصُوفًا بِاللَّطَافَةِ وَالِاعْتِدَالِ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ الْمُتَغَايِرَيْنِ، فَكَانَتْ دَلَالَةُ الْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ فِيهِ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَنْوَاعَ النَّبَاتِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَفِيَ بِشَرْحِهَا مُجَلَّدَاتٌ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْأَقْسَامَ الْأَرْبَعَةَ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِهَا تَنْبِيهًا عَلَى الْبَوَاقِي، وَلَمَّا ذَكَرَهَا قَالَ تَعَالَى: مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: فِي تَفْسِيرِ مُشْتَبِهاً وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْفَوَاكِهَ قَدْ تَكُونُ مُتَشَابِهَةً فِي اللَّوْنِ وَالشَّكْلِ، مَعَ أَنَّهَا تَكُونُ مُخْتَلِفَةً فِي الطَّعْمِ وَاللَّذَّةِ، وَقَدْ تَكُونُ مُخْتَلِفَةً فِي اللَّوْنِ وَالشَّكْلِ، مَعَ أَنَّهَا تَكُونُ مُتَشَابِهَةً فِي الطَّعْمِ وَاللَّذَّةِ، فَإِنَّ الْأَعْنَابَ وَالرُّمَّانَ قَدْ تَكُونُ مُتَشَابِهَةً فِي الصُّورَةِ وَاللَّوْنِ وَالشَّكْلِ. ثُمَّ إِنَّهَا تَكُونُ مُخْتَلِفَةً فِي الْحَلَاوَةِ وَالْحُمُوضَةِ وَبِالْعَكْسِ. الثَّانِي: أَنَّ أَكْثَرَ الْفَوَاكِهِ يَكُونُ مَا فِيهَا مِنَ الْقِشْرِ وَالْعَجَمِ مُتَشَابِهًا فِي الطَّعْمِ وَالْخَاصِّيَّةِ. وَأَمَّا مَا فِيهَا مِنَ اللَّحْمِ وَالرُّطُوبَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُخْتَلِفًا فِي الطَّعْمِ، وَالثَّالِثُ: قَالَ قَتَادَةُ: أَوْرَاقُ الْأَشْجَارِ

تَكُونُ قَرِيبَةً مِنَ التَّشَابُهِ. أَمَّا ثِمَارُهَا فَتَكُونُ مُخْتَلِفَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْأَشْجَارُ مُتَشَابِهَةٌ وَالثِّمَارُ مُخْتَلِفَةٌ، وَالرَّابِعُ: أَقُولُ إِنَّكَ قَدْ تَأْخُذُ الْعُنْقُودَ مِنَ الْعِنَبِ فَتَرَى جَمِيعَ حَبَّاتِهِ مُدْرَكَةً نَضِيجَةً حُلْوَةً طَيِّبَةً إِلَّا حَبَّاتٍ مَخْصُوصَةً مِنْهَا بَقِيَتْ عَلَى أَوَّلِ حَالِهَا مِنَ الْخُضْرَةِ وَالْحُمُوضَةِ وَالْعُفُوصَةِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَبَعْضُ حَبَّاتِ ذَلِكَ الْعُنْقُودِ مُتَشَابِهَةٌ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مُتَشَابِهٍ. وَالْبَحْثُ الثَّانِي: يُقَالُ: اشْتَبَهَ الشَّيْئَانِ وَتَشَابَهَا كَقَوْلِكَ اسْتَوَيَا وَتَسَاوَيَا، وَالِافْتِعَالُ وَالتَّفَاعُلُ يَشْتَرِكَانِ كَثِيرًا، وَقُرِئَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ. وَالْبَحْثُ الثَّالِثُ: إِنَّمَا قَالَ مُشْتَبِهًا وَلَمْ يَقُلْ مُشْتَبِهِينَ إِمَّا اكْتِفَاءً بِوَصْفِ أَحَدِهِمَا، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ: وَالزَّيْتُونَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ وَالرُّمَّانَ كَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيًّا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوَى رَمَانِي ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ ثُمُرِهِ بِضَمِّ الثَّاءِ وَالْمِيمِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو ثُمْرِهِ بِضَمِّ الثَّاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمِيمِ. أَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: فَلَهَا وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَبْيَنُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ ثُمُرِهِ عَلَى ثُمُرٍ كَمَا قَالُوا: خَشَبَةٌ وَخُشُبٌ. قَالَ تَعَالَى: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [الْمُنَافِقُونَ: 4] وَكَذَلِكَ أَكَمَةٌ وَأُكُمٌ. ثُمَّ يُخَفِّفُونَ فَيَقُولُونَ أُكْمٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: تَرَى الْأَكَمَ فِيهَا سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَمَعَ ثُمُرَهُ عَلَى ثِمَارٍ. ثُمَّ جَمَعَ ثِمَارًا عَلَى ثُمُرٍ فَيَكُونُ ثُمُرٌ جَمْعَ الْجَمْعِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو فَوَجْهُهَا أَنَّ تَخْفِيفَ ثُمُرٍ ثُمْرٌ كَقَوْلِهِمْ: رُسُلٌ وَرُسْلٌ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ فَوَجْهُهَا: أَنَّ الثَّمَرَ جَمْعُ ثَمَرَةٍ، مِثْلُ بَقَرَةٍ وَبَقَرٍ، وَشَجَرَةٍ وَشَجَرٍ، وَخَرَزَةٍ وَخَرَزٍ. وَالْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْيَنْعُ النُّضْجُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ يَنَعَ يَيْنِعُ، بِالْفَتْحِ فِي الْمَاضِي وَالْكَسْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: يَنِعَتِ الثَّمَرَةُ بِالْكَسْرِ، وَأَيْنَعَتْ فَهِيَ تَيْنَعُ وَتُونِعُ إِينَاعًا وَيَنْعًا بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَيُنْعًا بِضَمِّ الْيَاءِ، وَالنَّعْتُ يَانِعٌ وَمُونِعٌ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقُرِئَ وَيَنْعِهِ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَيَانِعِهِ. وَالْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ أَمْرٌ بِالنَّظَرِ فِي حَالِ الثَّمَرِ فِي أَوَّلِ حُدُوثِهَا. وَقَوْلِهِ: وَيَنْعِهِ أَمْرٌ بِالنَّظَرِ فِي حَالِهَا عِنْدَ تَمَامِهَا وَكَمَالِهَا، وَهَذَا هُوَ مَوْضِعُ الِاسْتِدْلَالِ وَالْحُجَّةِ الَّتِي هِيَ تَمَامُ الْمَقْصُودِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. ذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الثِّمَارَ وَالْأَزْهَارَ تَتَوَلَّدُ فِي أَوَّلِ حُدُوثِهَا عَلَى صِفَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَعِنْدَ تَمَامِهَا وَكَمَالِهَا لَا تَبْقَى عَلَى حَالَاتِهَا الْأُولَى، بَلْ تَنْتَقِلُ إِلَى أَحْوَالٍ مُضَادَّةٍ لِلْأَحْوَالِ السَّابِقَةِ، مِثْلِ أَنَّهَا كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِلَوْنِ الْخُضْرَةِ فَتَصِيرُ مُلَوَّنَةً بِلَوْنِ السَّوَادِ أَوْ بِلَوْنِ الْحُمْرَةِ، وَكَانَتْ مَوْصُوفَةً بِالْحُمُوضَةِ فَتَصِيرُ مَوْصُوفَةً بِالْحَلَاوَةِ، وَرُبَّمَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بَارِدَةً بِحَسَبِ الطَّبِيعَةِ، فَتَصِيرُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ حَارَّةً بِحَسَبِ الطَّبِيعَةِ، فَحُصُولُ هَذِهِ التَّبَدُّلَاتِ وَالتَّغَيُّرَاتِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ، وَذَلِكَ السَّبَبُ لَيْسَ هُوَ تَأْثِيرَ الطَّبَائِعِ وَالْفُصُولِ وَالْأَنْجُمِ وَالْأَفْلَاكِ، لِأَنَّ نِسْبَةَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ بِأَسْرِهَا إِلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ الْمُتَبَايِنَةِ مُتَسَاوِيَةٌ مُتَشَابِهَةٌ، وَالنِّسَبُ الْمُتَشَابِهَةُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَمَّا بَطُلَ إِسْنَادُ حُدُوثِ هَذِهِ الْحَوَادِثِ إِلَى الطَّبَائِعِ وَالْأَنْجُمِ والأفلاك

[سورة الأنعام (6) : آية 100]

وَجَبَ إِسْنَادُهَا إِلَى الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ الْمُدَبِّرِ لِهَذَا الْعَالَمِ عَلَى وِفْقِ الرَّحْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ. وَلَمَّا نَبَّهَ اللَّه سُبْحَانَهُ عَلَى مَا فِي هَذَا الْوَجْهِ اللَّطِيفِ مِنَ الدَّلَالَةِ قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ لِمَنْ يَطْلُبُ الْإِيمَانَ باللَّه تَعَالَى، لِأَنَّهُ آيَةٌ لِمَنْ آمَنَ وَلِمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ/ وَجْهُ تَخْصِيصِ الْمُؤْمِنِينَ بِالذِّكْرِ أَنَّهُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ كَمَا تقدم تقريره في قوله هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ دَلَالَةَ هَذَا الدَّلِيلِ عَلَى إِثْبَاتِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ ظَاهِرَةٌ قَوِيَّةٌ جَلِيَّةٌ، فَكَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: لِمَ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ وُجُودِ مِثْلِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ الْجَلِيَّةِ الظَّاهِرَةِ الْقَوِيَّةِ؟ فَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ قُوَّةَ الدَّلِيلِ لَا تُفِيدُ وَلَا تَنْفَعُ إِلَّا إِذَا قَدَّرَ اللَّه لِلْعَبْدِ حُصُولَ الْإِيمَانِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: هَذِهِ الدَّلَالَةُ عَلَى قُوَّتِهَا وَظُهُورِهَا دَلَالَةٌ لِمَنْ سَبَقَ قَضَاءُ اللَّه فِي حَقِّهِ بِالْإِيمَانِ، فَأَمَّا مَنْ سَبَقَ قَضَاءُ اللَّه لَهُ بِالْكُفْرِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ الْبَتَّةَ أَصْلًا، فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّخْصِيصِ التَّنْبِيهَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 100] وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) في الآية مسائل: [في قوله تعالى وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ] المسألة الأولى: [أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَثْبَتَ للَّه شُرَكَاءً] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْبَرَاهِينَ الْخَمْسَةَ مِنْ دَلَائِلِ الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ وَالْعَالَمِ الْأَعْلَى عَلَى ثُبُوتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ. ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَثْبَتَ للَّه شُرَكَاءً، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا إِلَّا أَنَّ الْمَذْكُورَ هَاهُنَا غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِينَ أَثْبَتُوا الشَّرِيكَ للَّه فِرَقٌ وَطَوَائِفُ. فَالطَّائِفَةُ الْأُولَى: عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ فَهُمْ يَقُولُونَ الْأَصْنَامُ شُرَكَاءُ للَّه فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَلَكِنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ. وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ، مُدَبِّرُ هَذَا الْعَالَمِ هُوَ الْكَوَاكِبُ، وَهَؤُلَاءِ فَرِيقَانِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا وَاجِبَةُ الْوُجُودِ لِذَاتِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا مُمْكِنَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا مُحْدَثَةٌ، وَخَالِقُهَا هُوَ اللَّه تَعَالَى، إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوَّضَ تَدْبِيرَ هَذَا الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ إِلَيْهَا وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ حَكَى اللَّه عَنْهُمْ أَنَّ الْخَلِيلَ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ نَاظَرَهُمْ بِقَوْلِهِ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ وَشَرْحُ هَذَا الدَّلِيلِ قَدْ مَضَى. وَالطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ: مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا لِجُمْلَةِ هَذَا الْعَالَمِ بِمَا فيه من السموات وَالْأَرَضِينَ إِلَهَانِ: / أَحَدُهُمَا فَاعِلُ الْخَيْرِ. وَالثَّانِي فَاعِلُ الشَّرِّ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حِكَايَةُ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ فَهَذَا تَقْرِيرُ نَظْمِ الْآيَةِ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ. فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ نَزَلَتْ فِي الزَّنَادِقَةِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّه وَإِبْلِيسَ أَخَوَانِ فاللَّه تَعَالَى خَالِقُ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ وَالْخَيْرَاتِ، وَإِبْلِيسُ خَالِقُ السِّبَاعِ وَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالشُّرُورِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ بِهَذَا الْوَجْهِ يَحْصُلُ لِهَذِهِ الْآيَةِ مَزِيدُ فَائِدَةٍ مُغَايِرَةٍ لِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالَّذِي يُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصَّافَّاتِ: 158] وَإِنَّمَا وُصِفَ بِكَوْنِهِ مِنَ الْجِنِّ لِأَنَّ لَفْظَ الْجِنِّ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْتِتَارِ، وَالْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحَانِيُّونَ لَا يُرَوْنَ بِالْعُيُونِ فَصَارَتْ كَأَنَّهَا مُسْتَتِرَةٌ مِنَ الْعُيُونِ، فَبِهَذَا التَّأْوِيلِ

أُطْلِقَ لَفْظُ الْجِنِّ عَلَيْهَا، وَأَقُولُ: هَذَا مَذْهَبُ الْمَجُوسِ، وَإِنَّمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذَا قَوْلُ الزَّنَادِقَةِ، لِأَنَّ الْمَجُوسَ يُلَقَّبُونَ بِالزَّنَادِقَةِ، لِأَنَّ الْكِتَابَ الَّذِي زَعَمَ زَرَادِشْتُ أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللَّه مُسَمًّى بِالزَّنْدِ وَالْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ يُسَمَّى زَنْدِيٌّ. ثُمَّ عُرِّبَ فَقِيلَ زِنْدِيقٌ. ثُمَّ جُمِعَ فَقِيلَ زَنَادِقَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَجُوسَ قَالُوا: كُلُّ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْخَيْرَاتِ فَهُوَ مِنْ يَزْدَانَ وَجَمِيعُ مَا فِيهِ مِنَ الشُّرُورِ فَهُوَ مِنْ أَهْرِمَنْ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِإِبْلِيسَ فِي شَرْعِنَا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَالْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ أَهْرِمَنْ مُحْدَثٌ، وَلَهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ حُدُوثِهِ أَقْوَالٌ عَجِيبَةٌ، وَالْأَقَلُّونَ مِنْهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ شَرِيكٌ للَّه فِي تَدْبِيرِ هَذَا الْعَالَمِ فَخَيْرَاتُ هَذَا الْعَالَمِ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَشُرُورُهُ مِنْ إِبْلِيسَ فَهَذَا شَرْحُ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: الْقَوْمُ أَثْبَتُوا للَّه شَرِيكًا وَاحِدًا وَهُوَ إِبْلِيسُ، فَكَيْفَ حَكَى اللَّه عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا للَّه شُرَكَاءَ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ عَسْكَرُ اللَّه هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَعَسْكَرُ إِبْلِيسَ هُمُ الشَّيَاطِينُ وَالْمَلَائِكَةُ فِيهِمْ كَثْرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهُمْ أَرْوَاحٌ طَاهِرَةٌ مُقَدَّسَةٌ وَهُمْ يُلْهِمُونَ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ بِالْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ. وَالشَّيَاطِينُ أَيْضًا فِيهِمْ كَثْرَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ تُلْقِي الْوَسَاوِسَ الْخَبِيثَةَ إِلَى الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ، واللَّه مَعَ عَسْكَرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُحَارِبُونَ إِبْلِيسَ مَعَ عَسْكَرِهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ. فَلِهَذَا السَّبَبِ حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا للَّه شُرَكَاءَ مِنَ الْجِنِّ فَهَذَا تَفْصِيلُ هَذَا الْقَوْلِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَخَلَقَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ الدَّالِّ عَلَى فَسَادِ كَوْنِ إِبْلِيسَ شَرِيكًا للَّه تَعَالَى فِي مُلْكِهِ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا نَقَلْنَا عَنِ الْمَجُوسِ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ/ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ إِبْلِيسَ لَيْسَ بِقَدِيمٍ بَلْ هُوَ مُحْدَثٌ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مُحْدَثٍ فَلَهُ خَالِقٌ وَمُوجِدٌ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَهَؤُلَاءِ الْمَجُوسُ يَلْزَمُهُمُ الْقَطْعُ بِأَنَّ خَالِقَ إِبْلِيسَ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ إِبْلِيسُ أَصْلًا لِجَمِيعِ الشُّرُورِ وَالْآفَاتِ وَالْمَفَاسِدِ وَالْقَبَائِحِ، وَالْمَجُوسُ سَلَّمُوا أَنَّ خَالِقَهُ هُوَ اللَّه تَعَالَى، فَحِينَئِذٍ قَدْ سَلَّمُوا أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ هُوَ الْخَالِقُ لِمَا هُوَ أَصْلُ الشُّرُورِ وَالْقَبَائِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا لَا بُدَّ مِنْ إِلَهَيْنِ يَكُونُ أَحَدُهُمَا فَاعِلًا لِلْخَيْرَاتِ، وَالثَّانِي يَكُونُ فَاعِلًا لِلشُّرُورِ لِأَنَّ بِهَذَا الطَّرِيقِ ثَبَتَ أَنَّ إِلَهَ الْخَيْرِ هُوَ بِعَيْنِهِ الْخَالِقُ لِهَذَا الَّذِي هُوَ الشَّرُّ الْأَعْظَمُ فَقَوْلُهُ تعالى: وَخَلَقَهُمْ إشارة إلى أن تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِهَؤُلَاءِ الشَّيَاطِينِ عَلَى مَذْهَبِ الْمَجُوسِ، وَإِذَا كَانَ خَالِقًا لَهُمْ فَقَدِ اعْتَرَفُوا بِكَوْنِ إِلَهِ الْخَيْرِ فَاعِلًا لِأَعْظَمِ الشُّرُورِ، وَإِذَا اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ وَسَقَطَ قَوْلُهُمْ: لَا بُدَّ لِلْخَيْرَاتِ مِنْ إِلَهٍ، وَلِلشُّرُورِ مِنْ إِلَهٍ آخَرَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي اسْتِنْبَاطِ الْحُجَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَخَلَقَهُمْ مَا بَيَّنَّا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَفِي كِتَابِ «الْأَرْبَعِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ» أَنَّ مَا سِوَى الْوَاحِدِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَكُلُّ مُمْكِنٍ لِذَاتِهِ فَهُوَ مُحْدَثٌ، يُنْتِجُ أَنَّ مَا سِوَى الْوَاحِدِ الْأَحَدِ الْحَقِّ فَهُوَ مُحْدَثٌ، فَيَلْزَمُ الْقَطْعُ بِأَنَّ إِبْلِيسَ وَجَمِيعَ جُنُودِهِ يَكُونُونَ مَوْصُوفِينَ بِالْحُدُوثِ. وَحُصُولِ الْوُجُودِ بعدم الْعَدَمِ، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْإِلْزَامُ الْمَذْكُورُ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، فَهَذَا تَقْرِيرُ الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وباللَّه التَّوْفِيقُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ مَعْنَاهُ: وَجَعَلُوا الْجِنَّ شركاء للَّه.

فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّقْدِيمِ؟ قُلْنَا: قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ الَّذِي هُمْ بِشَأْنِهِ أَعَنَى، فَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّقْدِيمِ اسْتِعْظَامُ أَنْ يُتَّخَذَ للَّه شَرِيكٌ سَوَاءٌ كَانَ مَلَكًا أَوْ جِنِّيًّا أَوْ إِنْسِيًّا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي تَقْدِيمِ اسْمِ اللَّه عَلَى الشُّرَكَاءِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قُرِئَ الْجِنَّ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ وَالْجَرِّ، أَمَّا وَجْهُ النَّصْبِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: شُرَكاءَ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْبَدَلَ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ، فَلَوْ قِيلَ: وَجَعَلُوا للَّه الْجِنَّ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا مَفْهُومًا بَلِ الْأَوْلَى جَعْلُهُ عَطْفُ بَيَانٍ. أَمَّا وَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِالرَّفْعِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قِيلَ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ فَهَذَا الْكَلَامُ لَوْ وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ لَصَحَّ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنُّ وَالْأِنْسُ وَالْحَجَرُ وَالْوَثَنُ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَمَنْ أُولَئِكَ الشُّرَكَاءُ؟ فَقِيلَ: الْجِنُّ. وَأَمَّا وَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِالْجَرِّ فَعَلَى الْإِضَافَةِ الَّتِي هِيَ لِلتَّبْيِينِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الشِّرْكَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فَالْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ حِكَايَةُ قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُ لِلْعَالَمِ إِلَهَيْنِ أَحَدُهُمَا فَاعِلُ الْخَيْرِ وَالثَّانِي فَاعِلُ الشَّرِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَقُولُونَ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْجِنِّ الْمَلَائِكَةُ، وَإِنَّمَا حَسُنَ إِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ لَفْظَ الْجِنِّ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْتِتَارِ، وَالْمَلَائِكَةُ مُسْتَتِرُونَ عَنِ الْأَعْيُنِ، وَكَانَ يَجِبُ عَلَى هَذَا الْقَائِلِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ كَيْفَ يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِمُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه؟ قَوْلُهُمْ بِجَعْلِ الْمَلَائِكَةِ شُرَكَاءَ للَّه حَتَّى يَتِمَّ انْطِبَاقُ لَفْظِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَلَعَلَّهُ يُقَالُ إِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا يَقُولُونَ الْمَلَائِكَةُ مَعَ أَنَّهَا بَنَاتُ اللَّه فَهِيَ مُدَبِّرَةٌ لِأَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الشِّرْكُ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ الْمُرَادَ: أَنَّ الْجِنَّ دَعُوا الْكُفَّارَ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَإِلَى الْقَوْلِ بِالشِّرْكِ، فَقَبِلُوا مِنَ الْجِنِّ هَذَا الْقَوْلَ وَأَطَاعُوهُمْ، فَصَارُوا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَائِلِينَ: يَكُونُ الْجِنُّ شُرَكَاءَ للَّه تَعَالَى. وَأَقُولُ: الْحَقُّ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَالْقَوْلَانِ الْأَخِيرَانِ ضَعِيفَانِ جَدًّا. أما تفسير هذا الشرك يقول الْعَرَبِ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه، فَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ قَدْ حَكَاهُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَامِ: 100] فَالْقَوْلُ بِإِثْبَاتِ الْبَنَاتِ للَّه لَيْسَ إِلَّا قَوْلَ مَنْ يَقُولُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه، فَلَوْ فَسَّرْنَا قَوْلَهُ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ بِهَذَا الْمَعْنَى يَلْزَمُ مِنْهُ التَّكْرَارُ فِي الْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي إِبْطَالِ هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ الْعَرَبَ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه، وَإِثْبَاتُ الْوَلَدِ للَّه غَيْرٌ، وَإِثْبَاتُ الشَّرِيكِ لَهُ غَيْرٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَنَّهُ تَعَالَى مَيَّزَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الْإِخْلَاصِ: 3، 4] وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَيْنَ الْآخَرِ لَكَانَ هَذَا التَّفْصِيلُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَبَثًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَائِلِينَ بِيَزْدَانَ وَأَهْرِمَنْ يُصَرِّحُونَ بِإِثْبَاتِ شَرِيكٍ لِإِلَهِ الْعَالَمِ فِي تَدْبِيرِ هَذَا الْعَالَمِ، فَصَرْفُ اللَّفْظِ عَنْهُ وَحَمْلُهُ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَنَاتِ صَرْفٌ لِلَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الشِّرْكَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ قَبِلُوا قَوْلَ الْجِنِّ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى الْقَوْلِ بِالشِّرْكِ لَا يَجُوزُ تَسْمِيَتُهُ بِكَوْنِهِ شَرِيكًا للَّه لَا بِحَسَبِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ وَلَا بِحَسَبِ مَجَازِهِ، وَأَيْضًا فَلَوْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَزِمَ وُقُوعُ التَّكْرِيرِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، لأن الرد

عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ وَعَلَى عَبَدَةِ الْكَوَاكِبِ قَدْ سَبَقَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ، فَثَبَتَ سُقُوطُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَظَهَرَ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرْنَاهُ وَقَوَّيْنَاهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخَلَقَهُمْ فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَهُمْ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْجِنَّ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَالُوا الْجِنُّ شُرَكَاءُ اللَّه، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ أَهْرِمَنْ مُحْدَثٌ، ثُمَّ إِنَّ فِي الْمَجُوسِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى تَفَكَّرَ فِي مَمْلَكَةِ نَفْسِهِ وَاسْتَعْظَمَهَا فَحَصَلَ نَوْعٌ مِنَ الْعَجَبِ، فَتَوَلَّدَ الشَّيْطَانُ عَنْ ذَلِكَ الْعَجَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ شَكَّ فِي قُدْرَةِ نَفْسِهِ فَتَوَلَّدَ مِنْ شَكِّهِ الشَّيْطَانُ، فَهَؤُلَاءِ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ أَهْرِمَنْ مُحْدَثٌ، وَأَنَّ مُحْدِثَهُ هُوَ اللَّه تَعَالَى فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَخَلَقَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَمَتَى ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الشَّيْطَانَ مَخْلُوقٌ للَّه تَعَالَى امْتَنَعَ جَعْلُهُ شَرِيكًا للَّه فِي تَدْبِيرِ الْعَالَمِ، لِأَنَّ الْخَالِقَ أَقْوَى وَأَكْمَلُ مِنَ الْمَخْلُوقِ، وَجَعْلُ الضَّعِيفِ النَّاقِصِ شَرِيكًا لِلْقَوِيِّ الْكَامِلِ مُحَالٌ فِي الْعُقُولِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْجَاعِلِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَثْبَتُوا الشَّرِكَةَ بَيْنَ اللَّه تَعَالَى وَبَيْنَ الْجِنِّ، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ صَارَ ذَلِكَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ دَلِيلًا قَاطِعًا تَامًّا كَامِلًا فِي إِبْطَالِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ فَائِدَةٌ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ وَاجِبٌ، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْجِنُّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَيْهِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الكشاف» : قرئ وَخَلَقَهُمْ أي اختلافهم لِلْإِفْكِ. يَعْنِي: وَجَعَلُوا اللَّه خَلْقَهُمْ حَيْثُ نَسَبُوا ذَبَائِحَهُمْ إِلَى اللَّه فِي قَوْلِهِمْ: وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها. ثُمَّ قَالَ: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا إِبْلِيسَ شَرِيكًا للَّه تَعَالَى. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ حَكَى عَنْ أَقْوَامٍ آخَرِينَ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا للَّه بَنِينَ وَبَنَاتٍ. أَمَّا الَّذِينَ أَثْبَتُوا الْبَنِينَ فَهُمُ النَّصَارَى وَقَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ وَأَمَّا الَّذِينَ أَثْبَتُوا الْبَنَاتِ فَهُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ يَقُولُونَ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ عِلْمٍ كَالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا هُوَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ فِي فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ وَفِيهِ وُجُوهٌ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الْإِلَهَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، فَوَلَدُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ كَانَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ قَائِمًا بِذَاتِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ فِي وُجُودِهِ بِالْآخَرِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَالِدٌ لَهُ الْبَتَّةَ لِأَنَّ الْوَلَدَ مُشْعِرٌ بِالْفَرْعِيَّةِ وَالْحَاجَةِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْوَلَدُ مُمْكِنَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ وَجُودُهُ بِإِيجَادِ وَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ عَبْدًا لَهُ وَلَا وَلَدًا لَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ مَنْ عَرَفَ أَنَّ الْإِلَهَ مَا هُوَ، امْتَنَعَ مِنْهُ أَنْ يُثْبِتَ لَهُ الْبَنَاتِ وَالْبَنِينَ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْوَلَدَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ بَعْدَ فَنَائِهِ، وَهَذَا إِنَّمَا يُعْقَلُ فِي حَقِّ مَنْ يَفْنَى، أَمَّا مَنْ تَقَدَّسَ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يُعْقَلِ الْوَلَدُ فِي حَقِّهِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْوَلَدَ مُشْعِرٌ بِكَوْنِهِ مُتَوَلِّدًا عَنْ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَالِدِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يُعْقَلُ فِي حَقِّ مَنْ يَكُونُ مُرَكَّبًا وَيُمْكِنُ انْفِصَالُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ عَنْهُ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ الْفَرْدِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ مُحَالٌ، فَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ

[سورة الأنعام (6) : آية 101]

مَنْ عَلِمَ أَنَّ الْإِلَهَ مَا حَقِيقَتُهُ اسْتَحَالَ أَنْ يَقُولَ لَهُ وَلَدٌ فَكَانَ قَوْلُهُ: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِشَارَةً إِلَى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَرَأَ نَافِعٌ وَخَرَقُوا مُشَدَّدَةَ الرَّاءِ. وَالْبَاقُونَ خَرَقُوا خَفِيفَةَ الرَّاءِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الِاخْتِيَارُ التَّخْفِيفُ، لِأَنَّهَا أَكْثَرُ وَالتَّشْدِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْثِيرِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى خَرَقُوا افتعلوا وافتروا. قال وخرقوا واخترقوا وخلقوا واختلفوا، وَافْتَرَوْا وَاحِدٌ. وَقَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ: تَخَرَّقَ الْكَذِبَ وَتَخَلَّقَهُ، وَحَكَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَنَّهُ سُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَقَالَ: كَلِمَةٌ عَرَبِيَّةٌ كَانَتْ تَقُولُهَا. كَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَذَبَ كِذْبَةً فِي نَادِي الْقَوْمِ يَقُولُ لَهُ بَعْضُهُمْ قَدْ خَرَقَهَا، واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَرَقَ الثَّوْبَ إِذَا شَقَّهُ. أَيْ شَقُّوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ فَقَالَ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ تَنْزِيهٌ للَّه عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَتَعالى فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعُلُوَّ فِي الْمَكَانِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هَاهُنَا تَنْزِيهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْفَاسِدَةِ، وَالْعُلُوُّ فِي الْمَكَانِ لَا يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى. فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا التَّعَالِي عَنْ كُلِّ اعْتِقَادٍ بَاطِلٍ. وَقَوْلٍ فَاسِدٍ. فَإِنْ قَالُوا: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَبْقَى بَيْنَ قَوْلِهِ: «سُبْحَانَهُ» وَبَيْنَ قَوْلِهِ: «وَتَعَالَى» فَرْقٌ. قُلْنَا: بَلْ يَبْقَى بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ يُسَبِّحُهُ وَيُنَزِّهُهُ عَمًّا لَا يَلِيقُ بِهِ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَتَعالى كَوْنُهُ فِي ذَاتِهِ مُتَعَالِيًا مُتَقَدِّسًا عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ سَوَاءٌ سَبَّحَهُ مُسَبِّحٌ أَوْ لَمْ يُسَبِّحْهُ، فَالتَّسْبِيحُ يَرْجِعُ إِلَى أَقْوَالِ الْمُسَبِّحِينَ، وَالتَّعَالِي يَرْجِعُ إِلَى صِفَتِهِ الذَّاتِيَّةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ لِذَاتِهِ لا لغيره. [سورة الأنعام (6) : آية 101] بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فَسَادَ قَوْلِ طَوَائِفِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شَرَعَ فِي إِقَامَةِ الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُ لَهُ الْوَلَدَ فَقَالَ: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ إِلَّا أَنَّا نُشِيرُ هَاهُنَا إِلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. فَنَقُولُ: الْإِبْدَاعُ عِبَارَةٌ عَنْ تَكْوِينِ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ مِثَالٍ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ أَتَى فِي فَنٍّ مِنَ الْفُنُونِ بِطَرِيقَةٍ لَمْ يَسْبِقْهُ غَيْرُهُ فِيهَا، يُقَالُ: إِنَّهُ أَبْدَعَ فِيهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى سَلَّمَ لِلنَّصَارَى أَنَّ عِيسَى حَدَثَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا نُطْفَةٍ بَلْ إِنَّهُ إِنَّمَا حَدَثَ وَدَخَلَ فِي الْوُجُودِ. لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْرَجَهُ إِلَى الْوُجُودِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ الْأَبِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ أَنْ يُقَالَ إِنَّكُمْ إما أن تريدوا بكونه والدا للَّه تَعَالَى أَنَّهُ أَحْدَثَهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْدَاعِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ نُطْفَةٍ وَوَالِدٍ. وَإِمَّا أَنْ تريدوا بكونه ولد اللَّه تَعَالَى كَمَا هُوَ الْمَأْلُوفُ الْمَعْهُودُ مِنْ كَوْنِ الْإِنْسَانِ وَلَدًا لِأَبِيهِ، وَإِمَّا أَنْ تُرِيدُوا بِكَوْنِهِ وَلَدًا للَّه مَفْهُومًا ثَالِثًا مُغَايِرًا لِهَذَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ. أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: فَبَاطِلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ يُحْدِثُ الْحَوَادِثَ فِي مِثْلِ هَذَا العالم الأسفل بناء على أسباب معلومة ووسائط مَخْصُوصَةٍ إِلَّا أَنَّ النَّصَارَى يُسَلِّمُونَ أَنَّ الْعَالَمَ الْأَسْفَلَ مُحْدَثٌ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ

كذلك. لزمهم الاعتراف بأنه تعالى خلق السموات وَالْأَرْضَ مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ مَادَّةٍ وَلَا مُدَّةٍ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إحداثه للسموات وَالْأَرْضِ إِبْدَاعًا فَلَوْ لَزِمَ مِنْ مُجَرَّدِ كَوْنِهِ مُبْدِعًا لِإِحْدَاثِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَوْنُهُ وَالِدًا له لزم من كونه مبدعا للسموات وَالْأَرْضِ كَوْنُهُ وَالِدًا لَهُمَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ مُبْدِعًا لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ وَالِدًا لَهُ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وإنما ذكر السموات وَالْأَرْضَ فَقَطْ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا فِيهِمَا لِأَنَّ حدوث ما في السموات وَالْأَرْضِ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْدَاعِ، أَمَّا حُدُوثُ ذات السموات وَالْأَرْضِ فَقَدْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْدَاعِ، فَكَانَ المقصود من الإلزام حاصلا بذكر السموات والأرض. لا بذكر ما في السموات وَالْأَرْضِ، فَهَذَا إِبْطَالُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْقَوْمِ مِنَ الْوِلَادَةِ هُوَ الْأَمْرَ الْمُعْتَادَ الْمَعْرُوفَ مِنَ الْوِلَادَةِ فِي الْحَيَوَانَاتِ، فَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ تِلْكَ الْوِلَادَةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا مِمَّنْ كَانَتْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَشَهْوَةٌ، وَيَنْفَصِلُ عَنْهُ/ جُزْءٌ وَيُحْتَبَسُ ذَلِكَ الْجُزْءُ فِي بَاطِنِ تِلْكَ الصَّاحِبَةِ، وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ إِنَّمَا تَثْبُتُ فِي حَقِّ الْجِسْمِ الَّذِي يَصِحُّ عَلَيْهِ الِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ وَالْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ وَالْحَدُّ وَالنِّهَايَةُ وَالشَّهْوَةُ وَاللَّذَّةُ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى خَالِقِ الْعَالَمِ مُحَالٌ. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَحْصِيلَ الْوَلَدِ بِهَذَا الطَّرِيقِ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَلَمَّا أَرَادَ الْوَلَدُ وَعَجَزَ عَنْ تَكْوِينِهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً عَدَلَ إِلَى تَحْصِيلِهِ بِالطَّرِيقِ الْمُعْتَادِ. أَمَّا مَنْ كَانَ خَالِقًا لِكُلِّ الْمُمْكِنَاتِ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُحْدَثَاتِ، فَإِذَا أَرَادَ إِحْدَاثَ شَيْءٍ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَمَنْ كَانَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا صِفَتَهُ وَنَعْتَهُ، امْتَنَعَ مِنْهُ إِحْدَاثُ شَخْصٍ بِطْرِيقِ الْوِلَادَةِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَوْ مُحْدَثًا، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا لِأَنَّ الْقَدِيمَ يَجِبُ كَوْنُهُ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ. وَمَا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ كَانَ غَنِيًّا عَنْ غَيْرِهِ فَامْتَنَعَ كَوْنُهُ وَلَدًا لِغَيْرِهِ. فَبَقِيَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَلَدًا لَوَجَبَ كَوْنُهُ حَادِثًا، فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ فَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ لَهُ فِي تَحْصِيلِ الْوَلَدِ كَمَالًا وَنَفْعًا أَوْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا وَقْتَ يَفْرِضُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ هَذَا الْوَلَدَ فِيهِ إِلَّا وَالدَّاعِي إِلَى إِيجَادِ هَذَا الْوَلَدِ كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ ذَلِكَ، وَمَتَى كَانَ الدَّاعِي إِلَى إِيجَادِهِ حَاصِلًا قَبْلَهُ وَجَبَ حُصُولُ الْوَلَدِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا يُوجِبُ كَوْنَ ذَلِكَ الْوَلَدِ أَزَلِيًّا وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي تَحْصِيلِ الْوَلَدِ كَمَالُ حَالٍ وَلَا ازْدِيَادُ مَرْتَبَةٍ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يُحْدِثَهُ الْبَتَّةَ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْوَلَدُ الْمُعْتَادُ إِنَّمَا يَحْدُثُ بِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَقَضَاءُ الشَّهْوَةِ يُوجِبُ اللَّذَّةَ، وَاللَّذَّةُ مَطْلُوبَةٌ لِذَاتِهَا، فَلَوْ صَحَّتِ اللَّذَّةُ عَلَى اللَّه تَعَالَى مَعَ أَنَّهَا مَطْلُوبَةٌ لِذَاتِهَا، وَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَا وَقْتٌ إِلَّا وَعِلْمُ اللَّه بِتَحْصِيلِ تِلْكَ اللَّذَّةِ يَدْعُوهُ إِلَى تَحْصِيلِهَا قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى مَعْلُومًا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ يُحَصِّلَ تِلْكَ اللَّذَّةِ فِي الْأَزَلِ، فَلَزِمَ كَوْنُ الْوَلَدِ أَزَلِيًّا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ مَعَ كَوْنِهِ تَعَالَى أَزَلِيًّا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْوَلَدِ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

[سورة الأنعام (6) : آية 102]

فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ الْوَلَدِ للَّه تَعَالَى بِنَاءً عَلَى هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَعْلُومَيْنِ، فَأَمَّا إِثْبَاتُ الْوَلَدِ للَّه تَعَالَى بِنَاءً عَلَى احْتِمَالٍ ثَالِثٍ فَذَلِكَ بَاطِلٌ. لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ وَلَا مَفْهُومٍ عِنْدِ الْعَقْلِ، فَكَانَ الْقَوْلُ بِإِثْبَاتِ الْوِلَادَةِ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ خَوْضًا فِي مَحْضِ الْجَهَالَةِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ/ وَلَوْ أَنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَذْكُرُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَلَامًا يُسَاوِيهِ فِي الْقُوَّةِ وَالْكَمَالِ لَعَجَزُوا عَنْهُ، فَالْحَمْدُ للَّه الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أن هدانا اللَّه. [سورة الأنعام (6) : آية 102] ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ وَبَيَّنَ فَسَادَ قَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى الْإِشْرَاكِ باللَّه، وَفَصَّلَ مَذَاهِبَهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَبَيَّنَ فَسَادَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِالدَّلَائِلِ اللَّائِقَةِ بِهِ. ثُمَّ حَكَى مَذْهَبَ مَنْ أَثْبَتَ للَّه الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَبَيَّنَ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ فَسَادَ الْقَوْلِ بِهَا فَعِنْدَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ فَرْدٌ وَاحِدٌ صَمَدٌ مُنَزَّهٌ عَنِ الشَّرِيكِ وَالنَّظِيرِ وَالضِّدِّ وَالنِّدِّ، وَمُنَزَّهٌ عَنِ الْأَوْلَادِ وَالْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، فَعِنْدَ هَذَا صَرَّحَ بِالنَّتِيجَةِ فَقَالَ: ذَلِكُمُ اللَّه رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ مَا سِوَاهُ فَاعْبُدُوهُ وَلَا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ أَحَدًا فَإِنَّهُ هُوَ الْمُصْلِحُ لِمُهِمَّاتِ جَمِيعِ الْعِبَادِ، وَهُوَ الَّذِي يَسْمَعُ دُعَاءَهُمْ وَيَرَى ذُلَّهُمْ وَخُضُوعَهُمْ، وَيَعْلَمُ حَاجَتَهُمْ، وَهُوَ الْوَكِيلُ لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى حُصُولِ مُهِمَّاتِهِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي هَذَا النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ فِي تَقْرِيرِ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ، وَإِظْهَارِ فَسَادِ الشِّرْكِ، عَلِمَ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ أَوْضَحُ منه وَلَا أَصْلَحُ مِنْهُ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : «ذَلِكُمْ» إِشَارَةٌ إِلَى الْمَوْصُوفِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الصِّفَاتِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهُ أَخْبَارٌ مُتَرَادِفَةٌ، وَهِيَ: اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ ذَلِكَ الْجَامِعُ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَاعْبُدُوهُ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ الصِّفَاتُ كَانَ هُوَ الْحَقِيقَ بِالْعِبَادَةِ فَاعْبُدُوهُ، وَلَا تَعْبُدُوا أحدا سواء. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِالدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ افْتِقَارَ الْخَلْقِ إِلَى خَالِقٍ وَمُوجِدٍ، وَمُحْدِثٍ، وَمُبْدِعٍ، وَمُدَبِّرٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ دَلِيلًا مُنْفَصِلًا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الشُّرَكَاءِ، وَالْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَتْبَعَ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ بِأَنْ نَقَلَ قَوْلَ مَنْ أَثْبَتَ للَّه شَرِيكًا، فَهَذَا الْقَدْرُ يَكُونُ أَوْجَبَ الْجَزْمَ بِالتَّشْرِيكِ مِنَ الْجِنِّ، ثُمَّ أَبْطَلَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ أَتَى بِالتَّوْحِيدِ الْمَحْضِ حَيْثُ قَالَ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَعِنْدَ هَذَا يَتَوَجَّهُ السُّؤَالُ وَهُوَ أَنَّ حَاصِلَ مَا تَقَدَّمَ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِ الْخَالِقِ، وَتَزْيِيفُ دَلِيلِ مَنْ أَثْبَتَ للَّه شَرِيكًا، فَهَذَا/ الْقَدْرُ كَيْفَ أَوْجَبَ الْجَزْمَ بِالتَّوْحِيدِ الْمَحْضِ؟ فَنَقُولُ: لِلْعُلَمَاءِ فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا هَذِهِ الطَّرِيقَةُ. وَتَقْرِيرُهَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْمُتَقَدِّمُونَ الصَّانِعُ الْوَاحِدُ كَافٍ وَمَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدِ فَالْقَوْلُ فِيهِ مُتَكَافِئٌ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالتَّوْحِيدِ أَمَّا قَوْلُنَا: الصَّانِعُ الْوَاحِدُ كَافٍ فَلِأَنَّ الْإِلَهَ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ الْعَالِمِ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ كَافٍ فِي كَوْنِهِ إِلَهًا لِلْعَالَمِ، وَمُدَبِّرًا لَهُ. وَأَمَّا أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْوَاحِدِ، فَالْقَوْلُ فِيهِ مُتَكَافِئٌ، فَلِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْوَاحِدِ لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِهِ، فَلَمْ يَكُنْ إِثْبَاتُ عَدَدٍ أَوْلَى مِنْ إِثْبَاتِ عَدَدٍ آخَرَ، فَيَلْزَمُ إِمَّا إِثْبَاتُ آلِهَةٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَهُوَ مُحَالٌ، أَوْ إِثْبَاتُ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ الْعَدَدُ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ الْأَعْدَادِ، وَهُوَ أَيْضًا مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ الْقِسْمَانِ بَاطِلَيْنِ لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَوْلُ بِالتَّوْحِيدِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنَّ الْإِلَهَ الْقَادِرَ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ الْعَالِمَ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ كَافٍ فِي تَدْبِيرِ الْعَالَمِ، فَلَوْ قَدَّرْنَا إِلَهًا ثَانِيًا لَكَانَ ذَلِكَ الثَّانِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا وَمَوْجُودًا لِشَيْءٍ مِنْ حَوَادِثِ هَذَا الْعَالَمِ أَوْ لَا يَكُونَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ فَكُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ أَحَدُهُمَا صَارَ كَوْنُهُ فَاعِلًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ مَانِعًا لِلْآخَرِ عَنْ تَحْصِيلِ مَقْدُورِهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبًا لِعَجْزِ الْآخَرِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَا يَفْعَلُ فِعْلًا وَلَا يُوجِدُ شَيْئًا كَانَ نَاقِصًا مُعَطِّلًا، وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ هَذَا الْإِلَهَ الْوَاحِدَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ كَامِلًا فِي صِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، فَلَوْ فَرَضْنَا إِلَهًا ثَانِيًا لَكَانَ ذَلِكَ الثَّانِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُشَارِكًا لِلْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كَانَ مُشَارِكًا لِلْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَمَيِّزًا عَنِ الْأَوَّلِ بِأَمْرٍ مَا، إِذْ لَوْ لَمْ يَحْصُلِ الِامْتِيَازُ بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ لَمْ يَحْصُلِ التَّعَدُّدُ وَالِاثْنَيْنِيَّةُ، وَإِذَا حَصَلَ الِامْتِيَازُ بِأَمْرٍ مَا فَذَلِكَ الْأَمْرُ الْمُمَيَّزُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَوْ لَا يَكُونَ. فَإِنْ كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَعَ أَنَّهُ حَصَلَ الِامْتِيَازُ بِهِ لَمْ يَكُنْ جَمِيعُ صِفَاتِ الْكَمَالِ مُشْتَرَكًا فِيهِ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمُمَيَّزُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، فَالْمَوْصُوفُ بِهِ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَذَلِكَ نُقْصَانٌ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْإِلَهَ الْوَاحِدَ كَافٍ فِي تَدْبِيرِ الْعَالَمِ وَالْإِيجَادِ، وَأَنَّ الزَّائِدَ يَجِبُ نَفْيُهُ فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى هَاهُنَا فِي تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ. وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِدَلِيلِ التَّمَانُعِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكَ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ قَالُوا: أَعْمَالُ الْعِبَادِ أَشْيَاءُ، واللَّه تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى خَالِقًا لَهَا/ وَاعْلَمْ أَنَّا أَطْنَبْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الدَّلِيلِ فِي كِتَابِ «الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ» ، وَنَكْتَفِي هَاهُنَا مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ بِنُكَتٍ قَلِيلَةٍ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذَا اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ عَامًّا إِلَّا أَنَّهُ حَصَلَ مَعَ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ خَارِجَةٌ عَنْ هَذَا الْعُمُومِ. فَأَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ فَلَوْ دَخَلَتْ أَعْمَالُ الْعِبَادِ تَحْتَ قَوْلِهِ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَنَا خَلَقْتُ أَعْمَالَكُمْ فَافْعَلُوهَا بِأَعْيَانِهَا أَنْتُمْ مَرَّةً أُخْرَى. وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ فَاسِدٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ قَوْلَهُ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَوْ دَخَلَ تَحْتَهُ أَعْمَالُ الْعِبَادِ لَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مَدْحًا وَثَنَاءً لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَتَمَدَّحَ بِخَلْقِ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالسَّرِقَةِ وَالْكُفْرِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها، [الْأَنْعَامِ: 104] وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِكَوْنِ الْعَبْدِ مُسْتَقِلًّا بِالْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَأَنَّهُ لَا مَانِعَ لَهُ الْبَتَّةَ مِنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ للَّه تَعَالَى إِذْ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا للَّه تَعَالَى لَمَا كَانَ الْعَبْدُ مُسْتَقِلًّا بِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَوْجَدَهُ اللَّه تَعَالَى امْتَنَعَ مِنْهُ الدَّفْعُ، وَإِذَا لَمْ يُوجِدْهُ اللَّه تَعَالَى امْتَنَعَ مِنْهُ التَّحْصِيلُ. فَلَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى كَوْنِ الْعَبْدِ مُسْتَقِلًّا بِالْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ كَذَلِكَ يَمْنَعُ أَنْ يُقَالَ فِعْلُ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ للَّه تَعَالَى، ثَبَتَ أَنَّ ذِكْرَ قَوْلِهِ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها يُوجِبُ تَخْصِيصَ ذَلِكَ الْعُمُومِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَذْكُورَةٌ عَقِيبَ قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ رِوَايَةُ مَذْهَبِ الْمَجُوسِ فِي إِثْبَاتِ إِلَهَيْنِ لِلْعَالَمِ. أَحَدُهُمَا يَفْعَلُ اللَّذَّاتِ وَالْخَيْرَاتِ، وَالْآخَرُ يَفْعَلُ الْآلَامَ وَالْآفَاتِ فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى إِبْطَالِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِكُلِّ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ السِّبَاعِ وَالْحَشَرَاتِ

وَالْأَمْرَاضِ وَالْآلَامِ، فَإِذَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ على هذا الوجه لم يدخل تحت أَعْمَالُ الْعِبَادِ. قَالُوا: فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ الْأَرْبَعَةَ تُوجِبُ خُرُوجَ أَعْمَالِ الْعِبَادِ عَنْ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. وَالْجَوَابُ: أَنَّا نَقُولُ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ الْقَاطِعُ قَدْ سَاعَدَ عَلَى صِحَّةِ ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْفِعْلَ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّاعِي وَخَالِقُ الدَّاعِي هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَمَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِي يُوجِبُ الْفِعْلَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَعَالَى خَالِقًا لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَإِذَا تَأَكَّدَ هَذَا الظَّاهِرُ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ الْقَاطِعِ زَالَتِ الشُّكُوكُ وَالشُّبُهَاتُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ يَدُلُّ عَلَى تَرْتِيبِ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقًا لِكُلِّ الْأَشْيَاءِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ وَتَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِحَرْفِ الْفَاءِ مُشْعِرٌ بِالسَّبَبِيَّةِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُ تَعَالَى خَالِقًا لِلْأَشْيَاءِ هُوَ الْمُوجِبَ لِكَوْنِهِ مَعْبُودًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْإِلَهُ/ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْمَعْبُودِيَّةِ، فَهَذَا يُشْعِرُ بِصِحَّةِ مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ أَنَّ الْإِلَهَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَادِرِ عَلَى الْخَلْقِ وَالْإِبْدَاعِ وَالْإِيجَادِ وَالِاخْتِرَاعِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ كَثِيرٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ بِقَوْلِهِ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ، وَعَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مَخْلُوقًا. أَمَّا نَفْيُ الصِّفَاتِ فَلِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ كَانَ تَعَالَى عَالِمًا بِالْعِلْمِ قَادِرًا بِالْقُدْرَةِ، لَكَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قَدِيمَانِ. أَوْ مُحْدَثَانِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ. لِأَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ يَقْتَضِي كَوْنَهُ خَالِقًا لِكُلِّ الْأَشْيَاءِ أَدْخَلْنَا التَّخْصِيصَ فِي هَذَا الْعُمُومِ بِحَسَبِ ذَاتِهِ تَعَالَى ضَرُورَةَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِنَفْسِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَى عُمُومِهِ فِيمَا سِوَاهُ، وَالْقَوْلُ بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ الْقَدِيمَةِ يَقْتَضِي مَزِيدَ التَّخْصِيصِ فِي هَذَا الْعُمُومِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْقَوْلُ بِحُدُوثِ عِلْمِ اللَّه وَقُدْرَتِهِ. فَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ افْتِقَارُ إِيجَادِ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ إِلَى سَبْقِ عِلْمٍ آخَرَ وَقُدْرَةٍ أُخْرَى، وَأَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ. وَأَمَّا تَمَسُّكُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مَخْلُوقًا. فَقَالُوا: الْقُرْآنُ شَيْءٌ وَكُلُّ شَيْءٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ للَّه تَعَالَى بِحُكْمِ هَذَا الْعُمُومِ. فَلَزِمَ كَوْنُ الْقُرْآنِ مَخْلُوقًا للَّه تَعَالَى أَقْصَى مَا فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ فِي ذَاتِ اللَّه تَعَالَى، إِلَّا أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ حُجَّةٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ دُخُولَ هَذَا التَّخْصِيصِ فِي هَذَا الْعُمُومِ لَمْ يَمْنَعْ أَهْلَ السُّنَّةِ مِنَ التَّمَسُّكِ بِهِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ للَّه تَعَالَى. وَجَوَابُ أَصْحَابِنَا عَنْهُ: أَنَّا نُخَصِّصُ هَذَا الْعُمُومَ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِالْعِلْمِ قَادِرًا بِالْقُدْرَةِ، وَبِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّه تَعَالَى قَدِيمٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَحْصُلَ لِلْعَبْدِ كَمَالُ التَّوْحِيدِ وَتَقْرِيرُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّهُ لَا مُدَبِّرَ إِلَّا اللَّه تَعَالَى، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ عَالَمُ الْأَسْبَابِ. وَسَمِعْتُ الشَّيْخَ الْإِمَامَ الزَّاهِدَ الْوَالِدَ رَحِمَهُ اللَّه يَقُولُ: لَوْلَا الْأَسْبَابُ لَمَا ارْتَابَ مُرْتَابٌ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ يُعَلِّقُ الرَّجُلُ الْقَلْبَ بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، فَتَارَةً يَعْتَمِدُ عَلَى الْأَمِيرِ، وَتَارَةً يَرْجِعُ فِي تَحْصِيلِ مُهِمَّاتِهِ إِلَى الْوَزِيرِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَنَالُ إِلَّا الْحِرْمَانَ وَلَا يَجِدُ إِلَّا تَكْثِيرَ الْأَحْزَانِ، وَالْحَقُّ تَعَالَى قَالَ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَعْلَمَ الرَّجُلُ أَنَّهُ لَا حَافِظَ إِلَّا اللَّه، وَلَا مُصْلِحَ لِلْمُهِمَّاتِ إِلَّا اللَّه، فَحِينَئِذٍ يَنْقَطِعُ طَمَعُهُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَلَا يَرْجِعُ فِي مُهِمٍّ مِنَ الْمُهِمَّاتِ إِلَّا إليه.

[سورة الأنعام (6) : آية 103]

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ بقليل وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الأنعام: 101] وَقَالَ هَاهُنَا خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهَذَا كَالتَّكْرَارِ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَاضِي. أَمَّا قَوْلُهُ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ اسْمُ الْفَاعِلِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْأَوْقَاتَ كُلَّهَا، وَالثَّانِي: وَهُوَ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هُنَاكَ قَوْلَهُ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ليجعله مقدمة في بيان نفي الأولاد، وهاهنا ذَكَرَ قَوْلَهُ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لِيَجْعَلَهُ مُقَدِّمَةً فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا مَعْبُودَ إِلَّا هُوَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ مُقَدِّمَةٌ تُوجِبُ أَحْكَامًا كَثِيرَةً وَنَتَائِجَ مُخْتَلِفَةً، فَهُوَ تَعَالَى يَذْكُرُهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، لِيُفَرِّعَ عَلَيْهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ النَّتِيجَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْإِلَهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا، فَقَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مَعْنَاهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلَّا هُوَ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَاعْبُدُوهُ فَإِنَّ هَذَا يُوهِمُ التَّكْرِيرَ. وَالْجَوَابُ: قَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أَيْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلَّا هُوَ، وَقَوْلُهُ: فَاعْبُدُوهُ أَيْ لَا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: الْقَوْمُ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِوُجُودِ اللَّه تَعَالَى كَمَا قَالَ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: 25] وَمَا أَطْلَقُوا لَفْظَ اللَّه عَلَى أَحَدٍ سِوَى اللَّه سُبْحَانَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مَرْيَمَ: 65] فَقَالَ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أَيِ الشَّيْءُ الْمَوْصُوفُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا هُوَ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: رَبُّكُمْ يَعْنِي الذي يربيكم وَيُحْسِنُ إِلَيْكُمْ بِأَصْنَافِ التَّرْبِيَةِ وَوُجُوهِ الْإِحْسَانِ، وَهِيَ أَقْسَامٌ بَلَغَتْ فِي الْكَثْرَةِ إِلَى حَيْثُ يَعْجِزُ الْعَقْلُ عَنْ ضَبْطِهَا، كَمَا قَالَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: 34] . ثُمَّ قَالَ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ يَعْنِي أَنَّكُمْ لَمَّا عَرَفْتُمْ وُجُودَ الْإِلَهِ الْمُحْسِنِ الْمُتَفَضِّلِ الْمُتَكَرِّمِ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ سِوَاهُ وَلَا مَعْبُودَ سِوَاهُ. ثُمَّ قَالَ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ يَعْنِي إِنَّمَا صَحَّ قَوْلُنَا: لَا إِلَهَ سِوَاهُ، لِأَنَّهُ لَا خَالِقَ لِلْخَلْقِ سِوَاهُ، وَلَا مُدَبِّرَ لِلْعَالَمِ إِلَّا هو. فهذا الترتيب ترتيب مناسب مفيد. [سورة الأنعام (6) : آية 103] لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ وَالْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ من وجوه: الْأَوَّلُ: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَطْلُوبِ أَنْ نَقُولَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ تَعَالَى تَمَدَّحَ بِقَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَذَلِكَ مِمَّا يُسَاعِدُ الْخَصْمَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ بَنَوُا اسْتِدْلَالَهُمْ فِي إِثْبَاتِ مَذْهَبِهِمْ فِي نَفْيِ الرُّؤْيَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ تَعَالَى جَائِزَ الرُّؤْيَةِ لَمَا حَصَلَ التَّمَدُّحُ بِقَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْدُومَ لَا تَصِحُّ رُؤْيَتُهُ. وَالْعُلُومُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالرَّوَائِحُ وَالطُّعُومُ لَا يَصِحُّ رُؤْيَةُ شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا مَدْحٌ لِشَيْءٍ مِنْهَا فِي كَوْنِهَا بِحَيْثُ لَا تَصِحُّ رُؤْيَتُهَا، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يُفِيدُ الْمَدْحَ، وَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ

إِنَّمَا يُفِيدُ الْمَدْحَ لَوْ كَانَ صَحِيحَ الرُّؤْيَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يُفِيدُ كَوْنَهُ تَعَالَى جَائِزَ الرُّؤْيَةِ، وَتَمَامُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ رُؤْيَتُهُ، فَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ رُؤْيَتِهِ مَدْحٌ وَتَعْظِيمٌ لِلشَّيْءِ. أَمَّا إِذَا كَانَ فِي نَفْسِهِ جَائِزَ الرُّؤْيَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ قَدَرَ عَلَى حَجْبِ الْأَبْصَارِ عَنْ رُؤْيَتِهِ وَعَنْ إِدْرَاكِهِ كَانَتْ هَذِهِ الْقُدْرَةُ الْكَامِلَةُ دَالَّةً عَلَى الْمَدْحِ وَالْعَظَمَةِ. فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَائِزُ الرُّؤْيَةِ بِحَسَبِ ذَاتِهِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَائِلَ قَائِلَانِ: قَائِلٌ قَالَ بِجَوَازِ الرُّؤْيَةِ مَعَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ، وَقَائِلٌ قَالَ لَا يَرَوْنَهُ وَلَا تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ. فَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ تَعَالَى تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَّةِ فَكَانَ بَاطِلًا. فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَائِزُ الرُّؤْيَةِ فِي ذَاتِهِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حُصُولِ الرُّؤْيَةِ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ لَطِيفٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ الْمُرَادُ بِالْأَبْصَارِ فِي قَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الْإِبْصَارِ فَإِنَّ الْبَصَرَ لَا يُدْرِكُ شَيْئًا الْبَتَّةَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ. بَلِ الْمُدْرِكُ هُوَ الْمُبْصِرُ فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ هُوَ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ الْمُبْصِرُونَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ الْمُرَادُ مِنْهُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْمُبْصِرِينَ، وَمُعْتَزِلَةُ الْبَصْرَةِ يُوَافِقُونَنَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُبْصِرُ الْأَشْيَاءَ فَكَانَ هُوَ تَعَالَى مِنْ جُمْلَةِ الْمُبْصِرِينَ فَقَوْلُهُ: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَعَالَى مُبْصِرًا لِنَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ تَعَالَى جَائِزَ الرُّؤْيَةِ فِي ذَاتِهِ، وَكَانَ تَعَالَى يَرَى نَفْسَهُ. وَكُلُّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى جَائِزُ الرُّؤْيَةِ فِي نَفْسِهِ، قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ جَائِزُ الرُّؤْيَةِ وَعَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَزِيدَ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ اخْتِصَارًا قُلْنَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِمَّا نَفْسُ الْبَصَرِ أَوِ الْمُبْصِرِ، وَعَلَى/ التَّقْدِيرَيْنِ: فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ تَعَالَى مُبْصِرًا لِأَبْصَارِ نَفْسِهِ، وَكَوْنُهُ مُبْصِرًا لِذَاتِ نَفْسِهِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ أَنَّ لَفْظَ الْأَبْصارُ صِيغَةُ جَمْعٍ دَخَلَ عَلَيْهَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ فَهِيَ تُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ فَقَوْلُهُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يَرَاهُ جَمِيعُ الْأَبْصَارِ، فَهَذَا يُفِيدُ سَلْبَ الْعُمُومِ وَلَا يُفِيدُ عُمُومَ السَّلْبِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: تَخْصِيصُ هَذَا السَّلْبِ بِالْمَجْمُوعِ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ الْمَجْمُوعِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ إِنَّ زَيْدًا مَا ضَرَبَهُ كُلُّ النَّاسِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ ضَرَبَهُ بَعْضُهُمْ. فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مَا آمَنَ بِهِ كُلُّ النَّاسِ أَفَادَ أَنَّهُ آمَنَ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا تُدْرِكُهُ جَمِيعُ الْأَبْصَارِ، فَوَجَبَ أَنْ يُفِيدَ أَنَّهُ تُدْرِكُهُ بَعْضُ الْأَبْصَارِ. أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا تَمَسُّكٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ. فَنَقُولُ: هَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ دَلِيلٌ صَحِيحٌ لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَحْصُلُ الْإِدْرَاكُ لِأَحَدٍ الْبَتَّةَ كَانَ تَخْصِيصُ هَذَا السَّلْبِ بِالْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ عَبَثًا، وَصَوْنُ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى عَنِ الْعَبَثِ وَاجِبٌ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا نُقِلَ أَنَّ ضِرَارَ بْنَ عَمْرٍو الْكُوفِيَّ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَرَى بِالْعَيْنِ، وَإِنَّمَا يَرَى بِحَاسَّةٍ سَادِسَةٍ يَخْلُقُهَا اللَّه تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَخْصِيصِ نَفِي إِدْرَاكِ اللَّه تَعَالَى بِالْبَصَرِ، وَتَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَالَ فِي غَيْرِهِ بِخِلَافِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِدْرَاكُ اللَّه بِغَيْرِ الْبَصَرِ جَائِزًا فِي الْجُمْلَةِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ سَائِرَ الْحَوَاسِّ الْمَوْجُودَةِ الْآنَ لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ ثَبَتَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَاسَّةً سَادِسَةً بِهَا تَحْصُلُ رُؤْيَةُ اللَّه تَعَالَى وَإِدْرَاكُهُ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ أَرْبَعَةٌ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ يمكن العويل عَلَيْهَا فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّه فِي الْقِيَامَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي حِكَايَةِ اسْتِدْلَالِ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي نَفْيِ الرُّؤْيَةِ. اعْلَمْ أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: الْإِدْرَاكُ بِالْبَصَرِ عِبَارَةٌ عَنِ الرُّؤْيَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ أَدْرَكْتُهُ بِبَصَرِي وَمَا رَأَيْتُهُ، أَوْ قَالَ رَأَيْتُهُ وَمَا أَدْرَكْتُهُ بِبَصَرِي فَإِنَّهُ يَكُونُ كَلَامُهُ مُتَنَاقِضًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِدْرَاكَ بِالْبَصَرِ عِبَارَةٌ عَنِ الرُّؤْيَةِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَرَاهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَبْصَارِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْعُمُومِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ وَجَمِيعِ الْأَحْوَالِ عَنْهُ فَيُقَالُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ إِلَّا بَصَرَ فُلَانٍ، وَإِلَّا فِي الْحَالَةِ الفلانية والاستثناء/ يخرج من الكلام ما لو لاه لَوَجَبَ دُخُولُهُ. فَثَبَتَ أَنَّ عُمُومَ هَذِهِ الْآيَةِ يُفِيدُ عُمُومَ النَّفْيِ عَنْ كُلِّ الْأَشْخَاصِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَرَى اللَّه تَعَالَى فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُفِيدُ الْعُمُومَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا لَمَّا أَنْكَرَتْ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أن محمدا صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ تَمَسَّكَتْ فِي نُصْرَةِ مَذْهَبِ نَفْسِهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْآيَةُ مُفِيدَةً لِلْعُمُومِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ الْأَشْخَاصِ وَكُلِّ الْأَحْوَالِ لَمَا تَمَّ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عِلْمًا بِلُغَةِ الْعَرَبِ. فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى النَّفْيِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ الْأَشْخَاصِ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ اسْتِدْلَالِ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ أَيْضًا مَدْحٌ وَثَنَاءٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ مَدْحًا وَثَنَاءً، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا لَيْسَ بِمَدْحٍ وَثَنَاءٍ وَقَعَ فِي خِلَالِ مَا هُوَ مَدْحٌ وَثَنَاءٌ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الرَّكَاكَةَ وَهِيَ غَيْرُ لَائِقَةٍ بِكَلَامِ اللَّه. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: كُلُّ مَا كَانَ عَدَمُهُ مَدْحًا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْفِعْلِ كَانَ ثُبُوتُهُ نَقْصًا فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى، وَالنَّقْصُ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ، لِقَوْلِهِ: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [الْبَقَرَةِ: 255] وَقَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: 11] وَقَوْلُهُ: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الْإِخْلَاصِ: 3] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ كَوْنُهُ تَعَالَى مَرْئِيًّا مُحَالٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا لَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ تَعَالَى تَمَدَّحَ بِنَفْيِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 108] وَقَوْلِهِ: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فُصِّلَتْ: 46] مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى الظُّلْمِ عِنْدَهُمْ، فَذَكَرُوا هَذَا الْقَيْدَ دَفْعًا لِهَذَا النَّقْضِ عَنْ كَلَامِهِمْ. فَهَذَا غَايَةُ تَقْرِيرِ كَلَامِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ.

وَالْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ إِدْرَاكَ الْبَصَرِ عِبَارَةٌ عَنِ الرُّؤْيَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ لَفْظَ الْإِدْرَاكِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ اللُّحُوقِ وَالْوُصُولِ قَالَ تَعَالَى: قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشُّعَرَاءِ: 61] أَيْ لَمُلْحَقُونَ وَقَالَ: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ [يُونُسَ: 90] أَيْ لَحِقَهُ، وَيُقَالُ: أَدْرَكَ فُلَانٌ فُلَانًا، وَأَدْرَكَ الْغُلَامُ أَيْ بَلَغَ الْحُلُمَ، وَأَدْرَكَتِ الثَّمَرَةُ أَيْ نَضِجَتْ. فَثَبَتَ أَنَّ الْإِدْرَاكَ هُوَ الْوُصُولُ إِلَى الشَّيْءِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَرْئِيُّ إِذَا كَانَ لَهُ حَدٌّ وَنِهَايَةٌ وَأَدْرَكَهُ الْبَصَرُ بِجَمِيعِ حُدُودِهِ وَجَوَانِبِهِ وَنِهَايَاتِهِ. صَارَ كَأَنَّ ذَلِكَ الْإِبْصَارَ أَحَاطَ بِهِ فَتُسَمَّى هَذِهِ الرُّؤْيَةُ إِدْرَاكًا، أَمَّا إِذَا لَمْ يُحِطِ الْبَصَرُ بِجَوَانِبِ الْمَرْئِيِّ لَمْ تُسَمَّ تِلْكَ الرُّؤْيَةُ إِدْرَاكًا. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الرُّؤْيَةَ جِنْسٌ تَحْتَهَا نَوْعَانِ: رُؤْيَةٌ مَعَ الْإِحَاطَةِ وَرُؤْيَةٌ لَا مَعَ الْإِحَاطَةِ. وَالرُّؤْيَةُ مَعَ الْإِحَاطَةِ هِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْإِدْرَاكِ فَنَفْيُ الْإِدْرَاكِ يُفِيدُ نَفْيَ نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ/ نَوْعَيِ الرُّؤْيَةِ، وَنَفْيُ النَّوْعِ لَا يُوجِبُ نَفْيَ الْجِنْسِ. فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ نَفْيِ الْإِدْرَاكِ عَنِ اللَّه تَعَالَى نَفْيُ الرُّؤْيَةِ عَنِ اللَّه تَعَالَى، فَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ مَقْبُولٌ في الاعتراض على كلام الخصم. فإن قالوا لما بينتم أن الإدراك أمر مغاير للرؤية فقد أفسدتم على أنفسكم الوجوه الأربعة التي تمسكتم بها في هذه الآية في إثبات الرؤية على اللَّه تعالى. قُلْنَا: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الْإِدْرَاكَ أَخَصُّ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَإِثْبَاتُ الْأَخَصِّ يُوجِبُ إِثْبَاتَ الْأَعَمِّ. وَأَمَّا نَفْيُ الْأَخَصِّ لَا يُوجِبُ نَفْيَ الْأَعَمِّ. فَثَبَتَ أَنَّ الْبَيَانَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يُبْطِلُ كَلَامَكُمْ وَلَا يُبْطِلُ كَلَامَنَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الِاعْتِرَاضِ أَنْ نَقُولَ: هَبْ أَنَّ الْإِدْرَاكَ بِالْبَصَرِ عِبَارَةٌ عَنِ الرُّؤْيَةِ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ أَنَّ قَوْلَهُ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ يُفِيدُ عُمُومَ النَّفْيِ عَنْ كُلِّ الْأَشْخَاصِ وَعَنْ كُلِّ الْأَحْوَالِ وَفِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ؟ وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى عُمُومِ النَّفْيِ فَمُعَارَضٌ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ عَنْ جَمْعِ الْقِلَّةِ مَعَ أَنَّهَا لَا تُفِيدُ عُمُومَ النَّفْيِ بَلْ نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُفِيدُ الْعُمُومَ إِلَّا أَنَّ نَفْيَ الْعُمُومِ غَيْرٌ، وَعُمُومَ النَّفْيِ غَيْرٌ، وَقَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُفِيدُ إِلَّا نَفْيَ الْعُمُومِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ نَفْيَ الْعُمُومِ يُوجِبُ ثُبُوتَ الْخُصُوصِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ فِي وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا تَمَسَّكَتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي نَفْيِ الرُّؤْيَةِ فَنَقُولُ: مَعْرِفَةُ مُفْرَدَاتِ اللُّغَةِ إِنَّمَا تُكْتَسَبُ مِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ، فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الِاسْتِدْلَالِ بِالدَّلِيلِ فَلَا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى التَّقْلِيدِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ دَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يُفِيدُ نَفْيَ الْعُمُومِ. وَثَبَتَ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ نفي العموم مغاير لعموم والنفي وَمَقْصُودُهُمْ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى عُمُومِ النَّفْيِ، فَسَقَطَ كَلَامُهُمْ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ نَقُولَ صِيغَةُ الْجَمْعِ كَمَا تُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ فَقَدْ تُحْمَلُ عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ أَيْضًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يُفِيدُ أَنَّ الْأَبْصَارَ الْمَعْهُودَةَ فِي الدُّنْيَا لَا تُدْرِكُهُ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَبْصَارَ وَهَذِهِ الْأَحْدَاقَ مَا دَامَتْ تَبْقَى عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ مَوْصُوفَةٌ بِهَا فِي الدُّنْيَا لَا تُدْرِكُ اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا تُدْرِكُ اللَّه تَعَالَى إِذَا تَبَدَّلَتْ صِفَاتُهَا وَتَغَيَّرَتْ أَحْوَالُهَا فَلِمَ قُلْتُمْ أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ التَّغَيُّرَاتِ لَا تُدْرِكُ اللَّه؟ الْوَجْهُ الرَّابِعُ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَبْصَارَ الْبَتَّةَ لَا تُدْرِكُ اللَّه تَعَالَى فَلِمَ لَا يَجُوزُ حُصُولُ إِدْرَاكِ اللَّه تَعَالَى بِحَاسَّةٍ سَادِسَةٍ مُغَايِرَةٍ لِهَذِهِ الْحَوَاسِّ كَمَا كَانَ ضِرَارُ بْنُ عَمْرٍو يَقُولُ بِهِ؟ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يَبْقَى فِي التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَةٌ.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: هَبْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ إِلَّا أَنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ اللَّه تَعَالَى خَاصَّةٌ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، وَحِينَئِذٍ يَنْتَقِلُ الْكَلَامُ مِنْ هَذَا الْمَقَامِ إِلَى بَيَانِ أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ هَلْ تَدُلُّ عَلَى حُصُولِ رُؤْيَةِ اللَّه تَعَالَى أَمْ لَا؟ الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنْ نَقُولَ بِمُوجَبِ الْآيَةِ فَنَقُولُ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَبْصَارَ لَا تُدْرِكُ اللَّه تَعَالَى، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْمُبْصِرِينَ لَا يُدْرِكُونَ اللَّه تَعَالَى؟ فَهَذَا مَجْمُوعُ الْأَسْئِلَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَمْتَنِعُ حُصُولُ التَّمَدُّحِ بِنَفْيِ الرُّؤْيَةِ لَوْ كَانَ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ بِحَيْثُ تَمْتَنِعُ رُؤْيَتُهُ، بَلْ إِنَّمَا يَحْصُلُ التَّمَدُّحُ لَوْ كَانَ بِحَيْثُ تَصِحُّ رُؤْيَتُهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَحْجُبُ الْأَبْصَارَ عَنْ رُؤْيَتِهِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَسْقُطُ كَلَامُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ النَّفْيَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِحُصُولِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّفْيَ الْمَحْضَ وَالْعَدَمَ الصِّرْفَ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَالْعِلْمُ بِهِ ضَرُورِيٌّ، بَلْ إِذَا كَانَ النَّفْيُ دَلِيلًا عَلَى حُصُولِ صِفَةٍ ثَابِتَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ. قِيلَ: بِأَنَّ ذَلِكَ النَّفْيَ يُوجِبُ الْمَدْحَ. وَمِثَالُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَا يُفِيدُ الْمَدْحَ نَظَرًا إِلَى هَذَا النَّفْيِ. فَإِنَّ الْجَمَادَ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ إِلَّا أَنَّ هَذَا النَّفْيَ فِي حَقِّ الْبَارِي تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ أَبَدًا مِنْ غَيْرِ تَبَدُّلٍ وَلَا زَوَالٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الْأَنْعَامِ: 14] يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ قَائِمًا بِنَفْسِهِ غَنِيًّا فِي ذَاتِهِ لِأَنَّ الْجَمَادَ أَيْضًا لَا يَأْكُلُ وَلَا يَطْعَمُ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يَمْتَنِعُ أَنْ يُفِيدَ الْمَدْحَ وَالثَّنَاءَ إِلَّا إِذَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى مَوْجُودٍ يُفِيدُ الْمَدْحَ وَالثَّنَاءَ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي قُلْنَاهُ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ كَوْنَهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى حَجْبِ الْأَبْصَارِ وَمَنْعِهَا عَنْ إِدْرَاكِهِ وَرُؤْيَتِهِ. وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ فَإِنَّ الْكَلَامَ يَنْقَلِبُ عَلَيْهِمْ حُجَّةً فَسَقَطَ اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ ذَكَرَ فِي «تَفْسِيرِهِ» وُجُوهًا أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ خَارِجَةٌ عَنِ التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمُنْفَصِلَةٌ عَنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ وَخَوْضٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَلَمَّا فَعَلَ الْقَاضِي ذَلِكَ فَنَحْنُ نَنْقُلُهَا وَنُجِيبُ عَنْهَا ثُمَّ نَذْكُرُ لِأَصْحَابِنَا وُجُوهًا دَالَّةً عَلَى صِحَّةِ الرُّؤْيَةِ. أَمَّا الْقَاضِي فَقَدْ تَمَسَّكَ بِوُجُوهٍ عَقْلِيَّةٍ أَوَّلُهَا: أَنَّ الْحَاسَّةَ إِذَا كَانَتْ سَلِيمَةً وَكَانَ الْمَرْئِيُّ حَاضِرًا وَكَانَتِ الشَّرَائِطُ الْمُعْتَبَرَةُ حَاصِلَةً وَهِيَ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْقُرْبُ الْقَرِيبُ وَلَا الْبُعْدُ الْبَعِيدُ وَلَا يَحْصُلَ الْحِجَابُ وَيَكُونَ الْمَرْئِيُّ مُقَابِلًا أَوْ فِي حُكْمِ الْمُقَابِلِ فَإِنَّهُ يَجِبُ حُصُولُ الرُّؤْيَةِ، إِذْ لَوْ جَازَ مَعَ حُصُولِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَنْ لَا تَحْصُلَ الرُّؤْيَةُ جَازَ أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِنَا بُوقَاتٌ وَطَبْلَاتٌ وَلَا نَسْمَعُهَا وَلَا نَرَاهَا وَذَلِكَ يُوجِبُ السَّفْسَطَةَ. قَالُوا إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ انْتِفَاءَ الْقُرْبِ الْقَرِيبِ وَالْبُعْدِ الْبَعِيدِ وَالْحِجَابِ وَحُصُولِ الْمُقَابَلَةِ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى مُمْتَنِعٌ، فَلَوْ صَحَّتْ رُؤْيَتُهُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضِي لِحُصُولِ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ هُوَ سَلَامَةَ الْحَاسَّةِ وَكَوْنَ الْمَرْئِيِّ تَصِحُّ رُؤْيَتُهُ. وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ حَاصِلَانِ فِي هَذَا الْوَقْتِ. فَلَوْ كَانَ بِحَيْثُ تَصِحُّ رُؤْيَتُهُ لَوَجَبَ أَنْ تَحْصُلَ رُؤْيَتُهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ. وَحَيْثُ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ عَلِمْنَا أَنَّهُ مُمْتَنِعُ الرُّؤْيَةِ. وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَرْئِيًّا كَانَ مُقَابِلًا أَوْ فِي حُكْمِ الْمُقَابِلِ واللَّه تَعَالَى لَيْسَ كَذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ تَمْتَنِعَ رُؤْيَتُهُ. وَالْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي: وَيُقَالُ لَهُمْ كَيْفَ يَرَاهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ دُونَ أَهْلِ النَّارِ؟ إِمَّا أَنْ يَقْرُبَ منهم أو

يُقَابِلَهُمْ فَيَكُونَ حَالُهُمْ مَعَهُ بِخِلَافِ أَهْلِ النَّارِ وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّهُ جِسْمٌ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْقُرْبُ وَالْبُعْدُ وَالْحِجَابُ. وَالْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْقَاضِي: إِنْ قُلْتُمْ إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَرَوْنَهُ فِي كُلِّ حَالٍ حَتَّى عِنْدَ الْجِمَاعِ وَغَيْرِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، أَوْ يَرَوْنَهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّهُ تَعَالَى مَرَّةً يَقْرُبُ وَأُخْرَى يَبْعُدُ. وَأَيْضًا فَرُؤْيَتُهُ أَعْظَمُ اللَّذَّاتِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا مُشْتَهِينَ لِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ أَبَدًا. فَإِذَا لَمْ يَرَوْهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَقَعُوا فِي الْغَمِّ وَالْحُزْنِ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِصِفَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَهَذَا مَجْمُوعُ مَا ذَكَرَهُ فِي «كِتَابِ التَّفْسِيرِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَيُقَالُ لَهُ هَبْ أَنَّ رُؤْيَةَ الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ عِنْدَ حُصُولِ سَلَامَةِ الْحَاسَّةِ وَحُضُورِ الْمَرْئِيِّ وَحُصُولِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ وَاجِبَةٌ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ رُؤْيَةُ اللَّه تَعَالَى عِنْدَ سَلَامَةِ الْحَاسَّةِ وَعِنْدَ كَوْنِ الْمَرْئِيِّ بِحَيْثُ يَصِحُّ رُؤْيَتُهُ وَاجِبَةً؟ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ ذَاتَهُ تَعَالَى مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ الذَّوَاتِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمٍ فِي شَيْءٍ ثُبُوتُ مِثْلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِيمَا يُخَالِفُهُ، وَالْعَجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ عَوَّلُوا عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ وَهُمْ يَدَّعُونَ الْفِطْنَةَ التَّامَّةَ وَالْكِيَاسَةَ الشَّدِيدَةَ وَلَمْ يَتَنَبَّهْ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِهَذَا السُّؤَالِ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ رَكَاكَةُ هَذَا الْكَلَامِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَيُقَالُ لَهُ إِنَّ النِّزَاعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ وَقَعَ فِي أَنَّ الْمَوْجُودَ الَّذِي لَا يَكُونُ مُخْتَصًّا بِمَكَانٍ وَجِهَةٍ هَلْ يَجُوزُ رُؤْيَتُهُ أَمْ لَا؟ فَإِمَّا أَنْ تَدَّعُوا أَنَّ الْعِلْمَ بِامْتِنَاعِ رُؤْيَةِ هَذَا الْمَوْجُودِ الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عِلْمٌ بَدِيهِيٌّ أَوْ تَقُولُوا إِنَّهُ عِلْمٌ اسْتِدْلَالِيٌّ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِهِ بَدِيهِيًّا لَمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ. وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعِلْمُ بَدِيهِيًّا كَانَ الِاشْتِغَالُ بِذِكْرِ الدَّلِيلِ عَبَثًا فَاتْرُكُوا الِاسْتِدْلَالَ وَاكْتَفُوا بِادِّعَاءِ الْبَدِيهَةِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَنَقُولُ: قَوْلُكُمْ الْمَرْئِيُّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلًا أَوْ فِي حُكْمِ الْمُقَابِلِ إِعَادَةٌ لَعَيْنِ الدَّعْوَى، لِأَنَّ حَاصِلَ الْكَلَامِ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَا لَا يَكُونُ مُقَابِلًا وَلَا فِي حُكْمِ الْمُقَابِلِ لَا تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ، أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مرثيا فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلًا أَوْ فِي حُكْمِ الْمُقَابِلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْكَلَامِ إِلَّا إِعَادَةُ الدَّعْوَى. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَيُقَالُ لَهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَرَوْنَهُ وَأَهْلَ النَّارِ لَا يَرَوْنَهُ؟ لَا لِأَجْلِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ كَمَا ذَكَرْتَ، بَلْ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الرُّؤْيَةَ فِي عُيُونِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَا يَخْلُقُهَا/ فِي عُيُونِ أَهْلِ النَّارِ فَلَوْ رَجَعْتَ فِي إِبْطَالِ هَذَا الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ تَجْوِيزَهُ يُفْضِي إِلَى تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِنَا بُوقَاتٌ وَطَبْلَاتٌ وَلَا نَرَاهَا وَلَا نَسْمَعُهَا، كَانَ هَذَا رُجُوعًا إِلَى الطَّرِيقَةِ الْأُولَى، وَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهَا. وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فَيُقَالُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّه تَعَالَى فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. أَمَّا قَوْلُهُ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى مَرَّةً يَقْرُبُ وَمَرَّةً يَبْعُدُ، فَيُقَالُ هَذَا عَوْدٌ إِلَى أَنَّ الْإِبْصَارَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الشَّرَائِطِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ عَوْدٌ إِلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ، وَقَوْلُهُ ثَانِيًا: الرُّؤْيَةُ أَعْظَمُ اللَّذَّاتِ، فَيُقَالُ لَهُ إِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ يَشْتَهُونَهَا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، بِدَلِيلِ أَنَّ سَائِرَ لَذَّاتِ الْجَنَّةِ وَمَنَافِعِهَا طَيِّبَةٌ وَلَذِيذَةٌ ثُمَّ إِنَّهَا تَحْصُلُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَكَذَا هَاهُنَا. فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي الْجَوَابِ عَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَذَا الْبَابِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَقْرِيرِ الْوُجُوهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّه تَعَالَى وَنَحْنُ نَعُدُّهَا هُنَا عَدًّا، وَنُحِيلُ تَقْرِيرَهَا إِلَى الْمَوَاضِعِ اللَّائِقَةِ بِهَا. فَالْأَوَّلُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ الرُّؤْيَةَ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ على

جَوَازِ رُؤْيَةِ اللَّه تَعَالَى: وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ الرُّؤْيَةَ عَلَى اسْتِقْرَارِ الْجَبَلِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي [الْأَعْرَافِ: 143] وَاسْتِقْرَارُ الجبل جائز والمعلق على الجائز جايز، وَهَذَانِ الدَّلِيلَانِ سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ مِنَ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى [يونس: 26] وزيادة وَتَقْرِيرُهُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ [الْكَهْفِ: 110] وَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى اللِّقَاءِ وَتَقْرِيرُهُ قَدْ مَرَّ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ مِرَارًا وَأَطْوَارًا. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً [الإنسان: 20] فإن إحدى القراآت فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مُلْكاً بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَلِكَ لَيْسَ إِلَّا اللَّه تَعَالَى. وَعِنْدِي التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَى مِنَ التَّمَسُّكِ بِغَيْرِهَا. الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: 15] وَتَخْصِيصُ الْكُفَّارِ بِالْحَجْبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَكُونُونَ مَحْجُوبِينَ عَنْ رُؤْيَةِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى [النَّجْمِ: 13، 14] وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْحُجَّةِ سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ. الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّ الْقُلُوبَ الصَّافِيَةَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَأَكْمَلُ طُرُقِ الْمَعْرِفَةِ هُوَ الرُّؤْيَةُ. فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ اللَّه تَعَالَى مَطْلُوبَةً لِكُلِّ أَحَدٍ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ الْقَطْعُ بِحُصُولِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ [فُصِّلَتْ: 31] . الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الْكَهْفِ: 107] دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ جَمِيعَ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى النُّزُلِ لَا يَجُوزُ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ عَقِيبَ النُّزُلِ تَشْرِيفٌ أَعْظَمُ حَالًا مِنْ ذَلِكَ النُّزُلِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا الرُّؤْيَةُ. الْحُجَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلِهِ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [الْقِيَامَةِ: 22، 23] وَتَقْرِيرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ سَيَأْتِي فِي الْمَوْضِعِ اللَّائِقِ بِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَكَثِيرَةٌ مِنْهَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ» وَاعْلَمْ أَنَّ التَّشْبِيهَ وَقَعَ فِي تَشْبِيهِ الرُّؤْيَةِ بِالرُّؤْيَةِ فِي الْجَلَاءِ وَالْوُضُوحِ لَا فِي تَشْبِيهِ الْمَرْئِيِّ بِالْمَرْئِيِّ، وَمِنْهَا مَا اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُسَ: 26] فَقَالَ الْحُسْنَى هِيَ الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّه، وَمِنْهَا أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ هَلْ رَأَى اللَّه لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَلَمْ يُكَفِّرْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهَذَا السَّبَبِ؟ وَمَا نَسَبَهُ إِلَى الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ عَقْلًا فِي رُؤْيَةِ اللَّه تَعَالَى، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي سَمْعِيَّاتِ مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَرَى الْأَشْيَاءَ وَيُبْصِرُهَا وَيُدْرِكُهَا.

[سورة الأنعام (6) : آية 104]

وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَبْصَارِ عَيْنَ الْأَبْصَارِ. أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُبْصِرِينَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وَجَبَ الْحُكْمُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى رَائِيًا لِرُؤْيَةِ الرَّائِينَ وَلِأَبْصَارِ الْمُبْصِرِينَ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى يَرَى جَمِيعَ الْمَرْئِيَّاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ وَجَبَ الْحُكْمُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى رَائِيًا لِلْمُبْصِرِينَ، فَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُبْصِرًا لِلْمُبْصَرَاتِ رَائِيًا لِلْمَرْئِيَّاتِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ يُفِيدُ الْحَصْرَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَلَا يُدْرِكُهَا غَيْرُ اللَّه تَعَالَى، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي بِهِ يَصِيرُ الْحَيُّ رَائِيًا لِلْمَرْئِيَّاتِ وَمُبْصِرًا لِلْمُبْصَرَاتِ وَمُدْرِكًا لِلْمُدْرَكَاتِ، أَمْرٌ عَجِيبٌ وَمَاهِيَّةٌ شَرِيفَةٌ، لَا يُحِيطُ الْعَقْلُ بِكُنْهِهَا. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى مُدْرِكٌ لِحَقِيقَتِهَا مُطَّلِعٌ عَلَى مَاهِيَّتِهَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ هُوَ أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْقُوَى الْمُدْرَكَةِ لَا تُحِيطُ بِحَقِيقَتِهِ، وَأَنَّ عَقْلًا مِنَ الْعُقُولِ لَا يَقِفُ عَلَى كُنْهِ صَمَدِيَّتِهِ، فَكَلَّتِ الْأَبْصَارُ عَنْ إِدْرَاكِهِ، وَارْتَدَعَتِ الْعُقُولُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مَيَادِينِ عِزَّتِهِ، / وَكَمَا أَنَّ شَيْئًا لَا يُحِيطُ بِهِ، فَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِالْكُلِّ، وَإِدْرَاكُهُ مُتَنَاوَلٌ لِلْكُلِّ، فَهَذَا كَيْفِيَّةُ نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ اللَّطَافَةُ ضِدُّ الْكَثَافَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الرِّقَّةُ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّه مُمْتَنِعٌ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ فِيهِ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ لُطْفُ صُنْعِهِ فِي تَرْكِيبِ أَبْدَانِ الْحَيَوَانَاتِ مِنَ الْأَجْزَاءِ الدَّقِيقَةِ، وَالْأَغْشِيَةِ الرَّقِيقَةِ وَالْمَنَافِذِ الضَّيِّقَةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّه تَعَالَى. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَطِيفٌ فِي الْإِنْعَامِ وَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ، حَيْثُ يُثْنِي عَلَيْهِمْ عِنْدَ الطَّاعَةِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالتَّوْبَةِ عِنْدَ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا يَقْطَعُ عَنْهُمْ سَوَادَ رحمته سواء كانوا مطيعين أو عُصَاةً. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَطِيفٌ بِهِمْ حَيْثُ لَا يَأْمُرُهُمْ فَوْقَ طَاقَتِهِمْ، وَيُنْعِمُ عَلَيْهِمْ بِمَا هُوَ فَوْقَ اسْتِحْقَاقِهِمْ. وَأَمَّا الْخَبِيرُ: فَهُوَ مِنَ الْخَبَرِ وَهُوَ الْعِلْمُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ مَعَ كَوْنِهِ عَالِمًا بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْقَبَائِحِ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» اللَّطِيفُ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَلْطُفُ عَنْ أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ الْخَبِيرُ بِكُلِّ لَطِيفٍ، فَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَلَا يَلْطُفُ شَيْءٌ عَنْ إِدْرَاكِهِ، وَهَذَا وجه حسن. [سورة الأنعام (6) : آية 104] قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ هَذِهِ الْبَيَانَاتِ الظَّاهِرَةَ، وَالدَّلَائِلَ الْقَاهِرَةَ فِي هَذِهِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ الْإِلَهِيَّةِ. عَادَ إِلَى تَقْرِيرِ أَمْرِ الدَّعْوَى وَالتَّبْلِيغِ وَالرِّسَالَةِ فَقَالَ: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَالْبَصَائِرُ جَمْعُ الْبَصِيرَةِ، وَكَمَا أَنَّ الْبَصَرَ اسْمٌ لِلْإِدْرَاكِ التَّامِّ الْكَامِلِ الْحَاصِلِ بِالْعَيْنِ الَّتِي فِي الرَّأْسِ، فَالْبَصِيرَةُ اسْمٌ لِلْإِدْرَاكِ التَّامِّ الْحَاصِلِ فِي الْقَلْبِ. قَالَ تَعَالَى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [الْقِيَامَةِ: 14] أَيْ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا لَيْسَتْ بَصَائِرَ إِلَّا أَنَّهَا لِقُوَّتِهَا وَجَلَالَتِهَا تُوجِبُ الْبَصَائِرَ لِمَنْ عَرَفَهَا، وَوَقَفَ عَلَى حَقَائِقِهَا، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَسْبَابًا لِحُصُولِ الْبَصَائِرِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 105]

سُمِّيَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَنْفُسُهَا بِالْبَصَائِرِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّسُولِ وَمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالرَّسُولِ، فَهُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَتَبْلِيغِ الدَّلَالَةِ وَالْبَيِّنَاتِ فِيهَا، وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا قَصَّرَ فِي تَبْلِيغِهَا وَإِيضَاحِهَا وَإِزَالَةِ الشُّبُهَاتِ عَنْهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّسُولِ، فَإِقْدَامُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَتَرْكِ الْكُفْرِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّسُولِ، بَلْ يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَنَفْعُهُ وَضَرُّهُ عَائِدٌ إِلَيْهِمْ، وَالْمَعْنَى مَنْ أَبْصَرَ الْحَقَّ وَآمَنَ فَلِنَفْسِهِ أَبْصَرَ، وَإِيَّاهَا نَفَعَ، وَمَنْ عَمِيَ عَنْهُ فَعَلَى نَفْسِهِ عَمِيَ وَإِيَّاهَا ضَرَّ بِالْعَمَى وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أَحْفَظُ أَعْمَالَكُمْ وَأُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا. إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ واللَّه هُوَ الْحَفِيظُ عَلَيْكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ ذَكَرَهَا الْقَاضِي: فَالْأَوَّلُ: الْغَرَضُ بِهَذِهِ الْبَصَائِرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا اخْتِيَارًا اسْتَحَقَّ بِهَا الثَّوَابَ لَا أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ يَلْجَأَ إِلَيْهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ هَذَا الْغَرَضَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا دَلَّنَا وَبَيَّنَ لَنَا مَنَافِعَ، وَأَغْرَاضُ الْمَنَافِعِ تَعُودُ إِلَيْنَا لَا لِمَنَافِعَ تَعُودُ إِلَى اللَّه تَعَالَى. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَرْءَ بِعُدُولِهِ عَنِ النَّظَرِ وَالتَّدَبُّرِ يَضُرُّ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُؤْتَ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِ لَا مِنْ قِبَلِ رَبِّهِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها قَالَ: وَفِيهِ إِبْطَالُ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ فِي الْمَخْلُوقِ، وَفِي أَنَّهُ تَعَالَى يُكَلِّفُ بِلَا قُدْرَةٍ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَتَى شَرَعَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَلَا طَرِيقَ فِيهِ إِلَّا مُعَارَضَتُهُ بِسُؤَالِ الدَّاعِي فَإِنَّهُ يَهْدِمُ كُلَّ مَا يَذْكُرُونَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْإِبْصَارِ هَاهُنَا الْعِلْمُ، وَمِنَ الْعَمَى الْجَهْلُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الْحَجِّ: 46] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ قَوْلُهُ: فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها مَعْنَاهُ لَا آخُذُكُمْ بِالْإِيمَانِ أَخْذَ الْحَفِيظِ عَلَيْكُمْ وَالْوَكِيلِ. قَالُوا: وَهَذَا إِنَّمَا كَانَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، فَلَمَّا أَمَرَ بِالْقِتَالِ صَارَ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ آيَةُ الْقِتَالِ نَاسِخَةٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ بَعِيدٌ فَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ مَشْغُوفُونَ بِتَكْثِيرِ النَّسْخِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَيْهِ، وَالْحَقُّ مَا تُقَرِّرُهُ أَصْحَابُ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ، فوجب السعي في تقليله بقدر الإمكان. [سورة الأنعام (6) : آية 105] وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) [في قوله تعالى وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَمَّمَ الْكَلَامَ فِي الْإِلَهِيَّاتِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ شَرَعَ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي إِثْبَاتِ/ النُّبُوَّاتِ فَبَدَأَ تَعَالَى بِحِكَايَةِ شُبُهَاتِ الْمُنْكِرِينَ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ. فَالشُّبْهَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُمْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي جِئْتَنَا بِهِ كَلَامٌ تَسْتَفِيدُهُ مِنْ مُدَارَسَةِ الْعُلَمَاءِ وَمُبَاحَثَةِ الْفُضَلَاءِ، وَتُنَظِّمُهُ مِنْ عند نفسك، ثم تقرأه عَلَيْنَا، وَتَزْعُمُ أَنَّهُ وَحْيٌ نَزَلَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْهُ بِالْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ النَّظْمِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى يَأْتِي بِهَا مُتَوَاتِرَةً حَالًا بَعْدَ حَالٍ، ثُمَّ قَالَ: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: حَكَى الْوَاحِدِيُّ: فِي قَوْلِهِ دَرَسَ الْكِتَابَ قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ أَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: دَرَسَ الطَّعَامَ إِذَا دَاسَهُ، يَدْرُسُهُ دِرَاسًا وَالدِّرَاسُ الدِّيَاسُ بِلُغَةِ أَهْلِ الشَّامِ قَالَ: وَدَرَسَ الْكَلَامَ مِنْ هَذَا أَيْ يَدْرُسُهُ فَيَخِفُّ عَلَى لِسَانِهِ. وَالثَّانِي: قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ دَرَسْتُ الْكِتَابَ أَيْ ذَلَّلْتُهُ بِكَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى خَفَّ حِفْظُهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ دَرَسْتُ الثَّوْبَ أَدْرُسُهُ دَرْسًا فَهُوَ مَدْرُوسٌ وَدَرِيسٌ، أَيْ أَخَلَقْتُهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلثَّوْبِ الْخَلِقِ دَرِيسٌ لِأَنَّهُ قَدْ لَانَ، وَالدِّرَاسَةُ الرِّيَاضَةُ، وَمِنْهُ دَرَسْتُ السُّورَةَ حَتَّى حَفِظْتُهَا، ثُمَّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ قَرِيبٌ مِمَّا قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ بَلْ هُوَ نَفْسُهُ لأن المعنى يعود فيه إلى الدليل وَالتَّلْيِينِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عمر ودارست بِالْأَلِفِ وَنَصْبِ التَّاءِ، وَهُوَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَتَفْسِيرُهَا قَرَأْتَ عَلَى الْيَهُودِ وَقَرَءُوا عَلَيْكَ، وَجَرَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ مُدَارَسَةٌ وَمُذَاكَرَةٌ، وَيُقَوِّي هَذِهِ القراءة قوله تعالى: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الْفُرْقَانِ: 4] وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ دَرَسْتَ أَيْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ الَّتِي تَلَوْتَهَا عَلَيْنَا قَدِيمَةٌ قَدْ دَرَسَتْ وَانْمَحَتْ، وَمَضَتْ مِنَ الدَّرْسِ الَّذِي هُوَ تُعَفِّي الْأَثَرِ وَإِمْحَاءُ الرَّسْمِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ مَنْ قَرَأَ دَرَسْتَ فَمَعْنَاهُ تَقَادَمَتْ أَيْ هَذَا الَّذِي تَتْلُوهُ عَلَيْنَا قَدْ تَقَادَمَ وَتَطَاوَلَ وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ دَرَسَ الْأَثَرُ يَدْرِسُ دُرُوسًا. وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» رَوَى هَاهُنَا قِرَاءَاتٍ أُخْرَى: فَإِحْدَاهَا: دَرُسَتْ بِضَمِّ الرَّاءِ مُبَالَغَةٌ فِي دَرَسَتْ أَيِ اشْتَدَّ دُرُوسُهَا. وَثَانِيهَا: دُرِسَتْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ بِمَعْنَى قَدُمَتْ وَعَفَتْ. وَثَالِثُهَا: دَارَسَتْ وَفَسَّرُوهَا بِدَارَسَتِ الْيَهُودُ مُحَمَّدًا. وَرَابِعُهَا: دَرَسَ أَيْ دَرَسَ مُحَمَّدٌ. وَخَامِسُهَا: دَارِسَاتٌ عَلَى مَعْنَى هِيَ دَارِسَاتٌ أَيْ قَدِيمَاتٌ أَوْ ذَاتُ دَرْسٍ كَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ. الْبحُثُ الثَّالِثُ: «الْوَاوُ» فِي قَوْلِهِ: وَلِيَقُولُوا عَطْفٌ على مضمر والتقدير وكذلك نصرف الآيات لنلزمهم الْحُجَّةَ وَلِيَقُولُوا فَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ لِوُضُوحِ مَعْنَاهُ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ ذَكَرَ الْوَجْهَ الَّذِي لِأَجْلِهِ صَرَفَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَهُوَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ تعالى: وليقولوا دارست وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أَمَّا هَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي هَذَا التَّصْرِيفِ أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ الْبَيَانُ وَالْفَهْمُ وَالْعِلْمُ. وَإِنَّمَا الْكَلَامُ في الوجه الأول وهو قوله: وليقولوا دارست لأن قولهم للرسول دارست كُفْرٌ مِنْهُمْ بِالْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ، وَعِنْدَ هَذَا الْكَلَامِ عَادَ بَحْثُ مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ. فَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَإِنَّهُمْ أَجْرَوُا الْكَلَامَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالُوا مَعْنَاهُ أَنَّا ذَكَرْنَا هَذِهِ الدَّلَائِلَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ ليقول بعضهم دارست فَيَزْدَادَ كُفْرًا عَلَى كُفْرٍ، وَتَثْبِيتًا لِبَعْضِهِمْ فَيَزْدَادَ إِيمَانًا عَلَى إِيمَانٍ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [الْبَقَرَةِ: 26] وَقَوْلُهُ: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَةِ: 125] وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ تَحَيَّرُوا. قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي: وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَحَدُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُحْمَلَ هَذَا الْإِثْبَاتُ عَلَى النَّفْيِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِئَلَّا يَقُولُوا دَرَسْتَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَمَعْنَاهُ: لِئَلَّا تَضِلُّوا. وَالثَّانِي: أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ اللَّامُ عَلَى

[سورة الأنعام (6) : الآيات 106 إلى 107]

لَامِ الْعَاقِبَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ عِنْدَ تَصْرِيفِنَا هَذِهِ الْآيَاتِ أَنْ يَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ مُسْتَنِدِينَ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ، عَادِلِينَ عَمَّا يَلْزَمُ مِنَ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الدَّلَائِلِ. هَذَا غَايَةُ كَلَامِ الْقَوْمِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا الْجَوَابُ الْأَوَّلُ فَضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ حَمْلَ الْإِثْبَاتِ عَلَى النَّفْيِ تَحْرِيفٌ لِكَلَامِ اللَّه وَتَغْيِيرٌ لَهُ، وَفَتْحُ هَذَا الْبَابِ يُوجِبُ أَنْ لَا يَبْقَى وُثُوقٌ لَا بِنَفْيِهِ وَلَا بِإِثْبَاتِهِ، وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً وَأَنَّهُ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَجُوزَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْجُمْلَةِ، إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ لَائِقٍ الْبَتَّةَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ كَانَ يُظْهِرُ آيَاتِ الْقُرْآنِ نَجْمًا نَجْمًا، وَالْكُفَّارُ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَضُمُّ هَذِهِ الْآيَاتِ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ وَيَتَفَكَّرُ فِيهَا وَيُصْلِحُهَا آيَةً فَآيَةً ثُمَّ يُظْهِرُهَا، وَلَوْ كَانَ هَذَا بِوَحْيٍ نَازِلٍ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ، فَلِمَ لَا يَأْتِي بِهَذَا الْقُرْآنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً؟ كَمَا أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى بِالتَّوْرَاةِ دَفْعَةً وَاحِدَةً. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ تَصْرِيفَ هَذِهِ الْآيَاتِ حَالًا فَحَالًا هِيَ الَّتِي أَوْقَعَتِ الشُّبْهَةَ لِلْقَوْمِ فِي أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، إِنَّمَا يَأْتِي بِهَذَا الْقُرْآنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُدَارَسَةِ مَعَ التَّفَكُّرِ وَالْمُذَاكَرَةِ مَعَ أَقْوَامٍ آخَرِينَ وَعَلَى مَا يَقُولُ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ تَصْرِيفُ هَذِهِ الْآيَاتِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ يُوجِبُ أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا أَتَى بِهَذَا الْقُرْآنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُدَارَسَةِ وَالْمُذَاكَرَةِ. فَثَبَتَ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي ذَكَرَهُ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ جَعَلْنَا تَصْرِيفَ الْآيَاتِ عِلَّةً لِأَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ، مَعَ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ تَصْرِيفَ الْآيَاتِ، هُوَ الْمُوجِبُ لِذَلِكَ الْقَوْلِ فَسَقَطَ هَذَا الْكَلَامُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّانِي: وَهُوَ حَمْلُ اللَّامِ عَلَى لَامِ الْعَاقِبَةِ، فَهُوَ أَيْضًا بَعِيدٌ لِأَنَّ حَمْلَ هَذِهِ اللَّامِ عَلَى لَامِ الْعَاقِبَةِ مَجَازٌ، وَحَمْلُهُ عَلَى لَامِ الْغَرَضِ حَقِيقَةٌ، وَالْحَقِيقَةُ أَقْوَى مِنَ الْمَجَازِ فَلَوْ قُلْنَا: «اللَّامُ» فِي قَوْلِهِ: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ لَامُ الْعَاقِبَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لِلْحَقِيقَةِ فَقَدْ حَصَلَ تَقْدِيمُ الْمَجَازِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي الذِّكْرِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا ضَعْفُ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ وَأَنَّ الْحَقَّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ عَيْنُ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ: وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يَعْنِي أَنَّا مَا بَيَّنَّاهُ إِلَّا لِهَؤُلَاءِ، فَأَمَّا الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ فَمَا بَيَّنَّا هَذِهِ الْآيَاتِ لَهُمْ، وَلَمَّا دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا جَعَلَهُ بَيَانًا إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ ثَبَتَ أَنَّهُ جَعَلَهُ ضَلَالًا لِلْكَافِرِينَ وَذَلِكَ مَا قُلْنَا. واللَّه أعلم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 106 الى 107] اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) قَوْلُهُ تَعَالَى: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ يَنْسُبُونَهُ فِي إِظْهَارِ هَذَا الْقُرْآنِ إِلَى الِافْتِرَاءِ أَوْ إِلَى أَنَّهُ يُدَارِسُ أَقْوَامًا وَيَسْتَفِيدُ هَذِهِ الْعُلُومَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْظِمُهَا قُرْآنًا وَيَدَّعِي أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّه تَعَالَى، أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لِئَلَّا يَصِيرَ ذَلِكَ الْقَوْلُ سَبَبًا لِفُتُورِهِ فِي تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ وَالرِّسَالَةِ، وَالْمَقْصُودُ تَقْوِيَةُ قَلْبِهِ وَإِزَالَةُ الْحُزْنِ الَّذِي حَصَلَ بِسَبَبِ سَمَاعِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ، وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ وَاحِدًا فِي الْإِلَهِيَّةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ طَاعَتُهُ، وَلَا يَجُوزُ الْإِعْرَاضُ عَنْ تَكَالِيفِهِ بِسَبَبِ جَهْلِ الْجَاهِلِينَ وَزَيْغِ الزَّائِغِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فَقِيلَ: الْمُرَادُ تَرْكُ الْمُقَابَلَةِ، فَلِذَلِكَ قَالُوا إِنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَهَذَا ضَعِيفٌ

لِأَنَّ الْأَمْرَ بِتَرْكِ الْمُقَابَلَةِ فِي الْحَالِ لَا يُفِيدُ الْأَمْرَ بِتَرْكِهَا دَائِمًا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَجِبِ الْتِزَامُ النَّسْخِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ تَرْكُ مُقَابَلَتِهِمْ فِيمَا يَأْتُونَهُ مِنْ سَفَهٍ، وَأَنْ يَعْدِلَ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ إِلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْقَبُولِ وَأَبْعَدَ عَنِ التَّنْفِيرِ وَالتَّغْلِيظِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ. اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ أَيْضًا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِمْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا جَمَعْتَ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ مُدَارَسَةِ النَّاسِ. وَمُذَاكَرَتِهِمْ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُ لَا تَلْتَفِتْ إِلَى سَفَاهَاتِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، وَلَا يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ كُفْرُهُمْ، فَإِنِّي لَوْ أَرَدْتُ إِزَالَةَ الْكُفْرِ عَنْهُمْ لَقَدَرْتُ، وَلَكِنِّي تَرَكْتُهُمْ مَعَ كُفْرِهِمْ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَشْغَلَ قَلْبَكَ بِكَلِمَاتِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَالْمَعْنَى: وَلَوْ شَاءَ اللَّه أَنْ لَا يُشْرِكُوا مَا أَشْرَكُوا، وَحَيْثُ لَمْ يَحْصُلِ الْجَزَاءُ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلِ الشَّرْطُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّه تَعَالَى بِعَدَمِ إِشْرَاكِهِمْ غَيْرُ حَاصِلَةٍ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنَ الْكُلِّ الْإِيمَانَ، وَمَا شَاءَ مِنْ أَحَدٍ الْكُفْرَ وَالشِّرْكَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ مِنَ الْكُلِّ الْإِيمَانَ، فَوَجَبَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ فَيُحْمَلُ مَشِيئَةُ اللَّه تَعَالَى لِإِيمَانِهِمْ عَلَى مَشِيئَةِ الْإِيمَانِ الِاخْتِيَارِيِّ الْمُوجِبِ لِلثَّوَابِ وَالثَّنَاءِ وَيُحْمَلُ عَدَمُ مَشِيئَتِهِ لِإِيمَانِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ الْحَاصِلِ بِالْقَهْرِ وَالْجَبْرِ وللإلجاء. يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ مِنْهُمْ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْإِلْجَاءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ التَّكْلِيفَ وَيُخْرِجُ الْإِنْسَانَ عَنِ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ. هَذَا مَا عَوَّلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَا شَكَّ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَقْدَرَ الْكَافِرَ عَلَى الْكُفْرِ فَقُدْرَةُ الْكُفْرِ إِنْ لَمْ تَصْلُحْ لِلْإِيمَانِ فَخَالِقُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ لَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ مُرِيدًا لِلْكُفْرِ، وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِلْإِيمَانِ لَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبُ الْكُفْرِ عَلَى جَانِبِ الْإِيمَانِ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ دَاعٍ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَإِلَّا لَزِمَ رُجْحَانُ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ، وَمَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِي إِلَى الْكُفْرِ يُوجِبُ الْكُفْرَ، وَإِذَا كَانَ خَالِقُ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِي هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَثَبَتَ أَنَّ مَجْمُوعَهُمَا يُوجِبُ الْكُفْرَ. ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَرَادَ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ. الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا بِعَدَمِ الْإِيمَانِ مِنَ الْكَافِرِ، وَوُجُودُ الْإِيمَانِ مَعَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ مُتَضَادَّانِ وَمَعَ وُجُودِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ كَانَ حُصُولُ الضِّدِّ الثَّانِي مُحَالًا، وَالْمَحَالُّ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ مُحَالًا غَيْرُ مُرَادٍ، فَامْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْإِيمَانَ مِنَ الْكَافِرِ. الثَّالِثُ: هَبْ أَنَّ الْإِيمَانَ الِاخْتِيَارِيَّ أَفْضَلُ وَأَنْفَعُ مِنَ الْإِيمَانِ الْحَاصِلِ بِالْجَبْرِ وَالْقَهْرِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَنْفَعَ لَا يَحْصُلُ الْبَتَّةَ، فَقَدْ كَانَ يَجِبُ في حكمته ورحمته أن يحلق فِيهِ الْإِيمَانَ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ، لِأَنَّ هَذَا الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ، فَأَقَلُّ مَا فِيهِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْعِقَابِ الْعَظِيمِ، فَتَرْكُ إِيجَادِ هَذَا الْإِيمَانِ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ يُوجِبُ وُقُوعَهُ فِي أَشَدِّ الْعَذَابِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ وَمِثَالُهُ أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ عَزِيزٌ وَكَانَ هَذَا الْأَبُ فِي غَايَةِ الشَّفَقَةِ وَكَانَ هَذَا الْوَلَدُ وَاقِفًا عَلَى طَرَفِ الْبَحْرِ فَيَقُولُ الْوَالِدُ لَهُ: غص في/ قعر هذا البحر لتستخرج اللآلي الْعَظِيمَةَ الرَّفِيعَةَ الْعَالِيَةَ مِنْهُ، وَعَلِمَ الْوَالِدُ قَطْعًا أَنَّهُ إِذَا غَاصَ فِي الْبَحْرِ هَلَكَ وَغَرِقَ، فَهَذَا الْأَبُ إِنْ كَانَ نَاظِرًا فِي حَقِّهِ مُشْفِقًا عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْغَوْصِ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ وَيَقُولُ لَهُ: اتْرُكْ طلب تلك اللآلي فإنك لا تحدها وَتَهْلِكُ، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى لَكَ أَنْ تَكْتَفِيَ بِالرِّزْقِ الْقَلِيلِ مَعَ السَّلَامَةِ، فَأَمَّا أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْغَوْصِ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ مَعَ الْيَقِينِ التَّامِّ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ مِنْهُ إِلَّا الْهَلَاكَ فَهَذَا يَدُلُّ على عدم الرحمة وعلى السعي في الإهلاك فَكَذَا هَاهُنَا واللَّه أَعْلَمُ.

[سورة الأنعام (6) : آية 108]

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَى إِزَالَةِ الْكُفْرِ عَنْهُمْ خَتَمَ الْكَلَامَ بِمَا يَكْمُلُ مَعَهُ تَبْصِيرُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لَهُ قَدْرَ مَا جُعِلَ إِلَيْهِ فَذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى مَا جَعَلَهُ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَلَا وَكِيلًا عَلَى سَبِيلِ الْمَنْعِ لَهُمْ، وَإِنَّمَا فَوَّضَ إِلَيْهِ الْبَلَاغَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي الْعَمَلِ وَالْعِلْمِ وَفِي الْبَيَانِ بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا فَإِنِ انْقَادُوا لِلْقَبُولِ فَنَفْعُهُ عائد إليهم، وَإِلَّا فَضَرَرُهُ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يخرج صلى الله عليه وآله وسلم من الرسالة والنبوة والتبليغ. [سورة الأنعام (6) : آية 108] وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ أَيْضًا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِمْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّمَا جَمَعْتَ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ مُدَارَسَةِ النَّاسِ وَمُذَاكَرَتِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ الْكَلَامَ مِنَ الْكُفَّارِ غَضِبُوا وَشَتَمُوا آلِهَتَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَارَضَةِ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا الْعَمَلِ، لِأَنَّكَ مَتَى شَتَمْتَ آلِهَتَهُمْ غَضِبُوا فَرُبَّمَا ذَكَرُوا اللَّهَ تَعَالَى بِمَا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْقَوْلِ، فَلِأَجْلِ الِاحْتِرَازِ عَنْ هَذَا الْمَحْذُورِ وَجَبَ الِاحْتِرَازُ عَنْ ذَلِكَ الْمَقَالِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ خَصْمَكَ إِذَا شَافَهَكَ بِجَهْلٍ وَسَفَاهَةٍ لَمْ يَجُزْ لَكَ أَنْ تَقْدُمَ عَلَى مُشَافَهَتِهِ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى كَلَامِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ فَتْحَ بَابِ الْمُشَاتَمَةِ وَالسَّفَاهَةِ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْعُقَلَاءِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاءِ: 98] قَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا وَشَتْمِهَا لَنَهْجُوَنَّ إِلَهَكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، أَقُولُ: لِي هَاهُنَا إِشْكَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّاسَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَذَا وَكَذَا. الثَّانِي: أَنَّ/ الْكُفَّارَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالْإِلَهِ تَعَالَى وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّمَا حَسُنَتْ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ لِتَصِيرَ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ إِقْدَامُهُمْ عَلَى شَتْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَبِّهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا قَرُبَتْ وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ قُرَيْشٌ: نَدْخُلُ عَلَيْهِ وَنَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَنْهَى ابْنَ أَخِيهِ عَنَّا فَإِنَّا نَسْتَحِي أَنْ نَقْتُلَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَتَقُولُ الْعَرَبُ: كَانَ يَمْنَعُهُ فَلَمَّا مَاتَ قَتَلُوهُ. فَانْطَلَقَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَبُو جَهْلٍ وَالنَّضْرُ بن الحرث مَعَ جَمَاعَةٍ إِلَيْهِ وَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ كَبِيرُنَا وَخَاطَبُوهُ بِمَا أَرَادُوا. فَدَعَا مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ: هَؤُلَاءِ قَوْمُكَ وَبَنُو عَمِّكَ يَطْلُبُونَ مِنْكَ أَنْ تَتْرُكَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَأَنْ يَتْرُكُوكَ عَلَى دِينِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فَأَبَوْا فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: قُلْ غَيْرَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَإِنَّ قَوْمَكَ يَكْرَهُونَهَا. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا أَنَا بِالَّذِي أَقُولُ غَيْرَهَا حَتَّى تَأْتُونِي بِالشَّمْسِ فَتَضَعُوهَا فِي يَدِي فَقَالُوا لَهُ اتْرُكْ شَتْمَ آلِهَتِنَا وَإِلَّا شَتَمْنَاكَ، وَمَنْ يَأْمُرُكَ بِذَلِكَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ تَعَالَى فَاسْتَحَالَ إِقْدَامُهُمْ عَلَى شَتْمِ الْإِلَهِ بَلْ هَاهُنَا احْتِمَالَاتٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ قَائِلًا بِالدَّهْرِ وَنَفْيِ الصَّانِعِ فيما كَانَ يُبَالِي بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ السَّفَاهَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ مَتَى شَتَمُوا الْأَصْنَامَ فَهُمْ كَانُوا يَشْتُمُونَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَاللَّهُ تَعَالَى أَجْرَى شَتْمَ الرَّسُولِ مَجْرَى شَتْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْحِ: 10] وَكَقَوْلِهِ: إِنَّ

الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ [الْأَحْزَابِ: 57] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِي جُهَّالِهِمْ مَنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ شَيْطَانًا يَحْمِلُهُ عَلَى ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لِجَهْلِهِ كَانَ يُسَمِّي ذَلِكَ الشَّيْطَانَ بِأَنَّهُ إِلَهُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَكَانَ يَشْتُمُ إِلَهَ مُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ شَتْمَ الْأَصْنَامِ مِنْ أُصُولِ الطَّاعَاتِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَنْهَى عَنْهَا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الشَّتْمَ، وَإِنْ كَانَ طَاعَةً. إِلَّا أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ عَلَى وَجْهٍ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ مُنْكَرٍ عَظِيمٍ، وَجَبَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَالْأَمْرُ هَاهُنَا كَذَلِكَ، لِأَنَّ هَذَا الشَّتْمَ كَانَ يَسْتَلْزِمُ إِقْدَامَهُمْ عَلَى شَتْمِ اللَّهِ وَشَتْمِ رَسُولِهِ، وَعَلَى فَتْحِ بَابِ السَّفَاهَةِ، وعلى تنفير هم عَنْ قَبُولِ الدِّينِ، وَإِدْخَالِ الْغَيْظِ وَالْغَضَبِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَلِكَوْنِهِ مُسْتَلْزِمًا لِهَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ، وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ: فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَيُقَالُ: عَدَا فُلَانٌ عَدْوًا وَعُدُوًّا وَعُدْوَانًا وَعِدًا. أَيْ ظَلَمَ ظُلْمًا جَاوَزَ الْقَدْرَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَعَدْوًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى فَيَعْدُوا عَدْوًا. قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِإِرَادَةِ اللَّامِ، وَالْمَعْنَى: فَيَنْسُبُوا اللَّهَ لِلظُّلْمِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ بِالْكَفَّارِ مَا يَزْدَادُونَ بِهِ بُعْدًا عَنِ الْحَقِّ وَنُفُورًا. إِذْ لَوْ جَازَ أَنْ يَفْعَلَهُ لَجَازَ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ، وَكَانَ لَا يَنْهَى عَمَّا ذَكَرْنَا، وَكَانَ لَا يَأْمُرُ بِالرِّفْقِ بِهِمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ. كَقَوْلِهِ لِمُوسَى وَهَارُونَ: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] وَذَلِكَ يُبَيِّنُ بُطْلَانَ مَذْهَبِ الْمُجْبِرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالُوا هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ قَدْ يُقَبَّحُ إِذَا أَدَّى إِلَى ارْتِكَابِ مُنْكَرٍ، وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ يُقَبَّحُ إِذَا أَدَّى إِلَى زِيَادَةِ مُنْكَرٍ، وَغَلَبَةُ الظَّنِّ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْبَابِ وَفِيهِ تَأْدِيبٌ لِمَنْ يَدْعُو إِلَى الدِّينِ، لِئَلَّا يَتَشَاغَلَ بِمَا لَا فَائِدَةَ لَهُ فِي الْمَطْلُوبِ، لِأَنَّ وَصْفَ الْأَوْثَانِ بِأَنَّهَا جَمَادَاتٌ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ يَكْفِي فِي الْقَدْحِ فِي إِلَهِيَّتِهَا، فَلَا حَاجَةَ مَعَ ذَلِكَ إِلَى شَتْمِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي زَيَّنَ لِلْكَافِرِ الْكُفْرَ، وَلِلْمُؤْمِنِ الْإِيمَانَ، وَلِلْعَاصِي الْمَعْصِيَةَ، وَلِلْمُطِيعِ الطَّاعَةَ. قَالَ الْكَعْبِيُّ: حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مُحَالٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَقُولُ: الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ [مُحَمَّدٍ: 25] وَيَقُولُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [الْبَقَرَةِ: 257] ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ ذَكَرُوا فِي الْجَوَابِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْمُرَادُ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ تَقَدَّمَتْ مَا أَمَرْنَاهُمْ بِهِ مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَالْكَعْبِيُّ أَيْضًا ذَكَرَ عَيْنَ هَذَا الْجَوَابِ فَقَالَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى زَيَّنَ لَهُمْ مَا يَنْبَغِي ان يعلموا وَهُمْ لَا يَنْتَهُونَ. الثَّانِي: قَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنْ أُمَمِ الْكُفَّارِ سُوءَ عَمَلِهِمْ، أَيْ خَلَّيْنَاهُمْ وَشَأْنَهُمْ وَأَمْهَلْنَاهُمْ حَتَّى حَسُنَ عِنْدَهُمْ سُوءُ عَمَلِهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَمْهَلْنَا الشَّيْطَانَ حَتَّى زَيَّنَ لَهُمْ، وَالرَّابِعُ: زَيَّنَّاهُ فِي زَعْمِهِمْ وَقَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِهَذَا وَزَيَّنَّهُ لَنَا. هَذَا مَجْمُوعُ التَّأْوِيلَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْكُلُّ ضَعِيفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ الْقَاطِعَ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا أَشْعَرَ بِهِ ظَاهِرُ هَذَا النَّصِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ صُدُورَ الْفِعْلِ عَنِ الْعَبْدِ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ الدَّاعِي. وَبَيَّنَّا أَنَّ تِلْكَ الدَّاعِيَةَ لَا

[سورة الأنعام (6) : آية 109]

بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا مَعْنَى لِتِلْكَ الدَّاعِيَةِ إِلَّا عِلْمُهُ وَاعْتِقَادُهُ أَوْ ظَنُّهُ بِاشْتِمَالِ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَلَى نَفْعٍ زَائِدٍ، وَمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ، وَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ الدَّاعِيَةُ حَصَلَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتِلْكَ الدَّاعِيَةُ لَا مَعْنَى لَهَا إِلَّا كَوْنُهُ مُعْتَقِدًا لِاشْتِمَالِ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَلَى النَّفْعِ الزَّائِدِ، وَالْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ. ثَبَتَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصْدُرَ عَنِ الْعَبْدِ فِعْلٌ، وَلَا قَوْلٌ وَلَا حَرَكَةٌ وَلَا سُكُونٌ، إِلَّا إِذَا زَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْفِعْلَ فِي قَلْبِهِ وَضَمِيرِهِ وَاعْتِقَادِهِ، وَأَيْضًا الْإِنْسَانُ لَا يَخْتَارُ الْكُفْرَ وَالْجَهْلَ ابْتِدَاءً مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ كُفْرًا وَجَهْلًا، وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ ضَرُورِيٌّ بَلْ إِنَّمَا يَخْتَارُهُ لِاعْتِقَادِهِ كَوْنَهُ إِيمَانًا وَعِلْمًا وَصِدْقًا وَحَقًّا فَلَوْلَا سَابِقَةُ الْجَهْلِ الْأَوَّلِ لَمَا اخْتَارَ هَذَا الْجَهْلَ. الثَّانِي: ثُمَّ إِنَّا نَنْقُلُ الْكَلَامَ إِلَى أَنَّهُ لِمَ اخْتَارَ ذَلِكَ/ الْجَهْلَ السَّابِقَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِسَابِقَةِ جَهْلٍ آخَرَ فَقَدْ لَزِمَ أَنْ يَسْتَمِرَّ ذَلِكَ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ الْجَهَالَاتِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا وَجَبَ انْتِهَاءُ تِلْكَ الْجَهَالَاتِ إِلَى جَهْلٍ أَوَّلَ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ ابْتِدَاءً، وَهُوَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْجَهْلِ ظَنَّ فِي الْكُفْرِ كَوْنَهُ إِيمَانًا وَحَقًّا وَعِلْمًا وَصِدْقًا، فَثَبَتَ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ مِنَ الْكَافِرِ اخْتِيَارُ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ إِلَّا إِذَا زَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْجَهْلَ فِي قَلْبِهِ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ الْبُرْهَانَيْنِ الْقَاطِعَيْنِ الْقَطْعِيَّيْنِ أَنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَقَدْ بَطَلَتِ التَّأْوِيلَاتُ الْمَذْكُورَةُ بِأَسْرِهَا، لِأَنَّ الْمَصِيرَ إِلَى التَّأْوِيلِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ. أَمَّا لَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْعُدُولُ عَنِ الظَّاهِرِ، فَقَدْ سَقَطَتْ هَذِهِ التَّكْلِيفَاتُ بِأَسْرِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ مُشْعِرٌ بِأَنَّ إِقْدَامَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْمُنْكَرِ إِنَّمَا كَانَ بِتَزْيِينِ اللَّهِ تَعَالَى. فَأَمَّا أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى زَيَّنَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فِي قُلُوبِ الْأُمَمِ، فَهَذَا كَلَامٌ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ يَتَنَاوَلُ الْأُمَمَ الْكَافِرَةَ وَالْمُؤْمِنَةَ، فَتَخْصِيصُ هَذَا الْكَلَامِ بِالْأُمَّةِ الْمُؤْمِنَةِ تَرْكٌ لِظَاهِرِ الْعُمُومِ، وَأَمَّا سَائِرُ التَّأْوِيلَاتِ، فَقَدْ ذَكَرَهَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَسُقُوطُهَا لَا يَخْفَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ أَمْرَهُمْ مُفَوَّضٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَحْوَالِهِمْ. مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمَائِرِهِمْ. وَرُجُوعِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى اللَّهِ فَيُجَازِي كُلَّ أَحَدٍ بِمُقْتَضَى عَمَلِهِ ان خيرا فخير، وان شرا فشر. [سورة الأنعام (6) : آية 109] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ شُبْهَةً تُوجِبُ الطَّعْنَ فِي نُبُوَّتِهِ، وَهِيَ قَوْلُهُمْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ إِنَّمَا جِئْتَنَا بِهِ لِأَنَّكَ تُدَارِسُ الْعُلَمَاءَ، وَتُبَاحِثُ الْأَقْوَامَ الَّذِينَ عَرَفُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ. ثُمَّ تَجْمَعُ هَذِهِ السُّوَرَ وَهَذِهِ الْآيَاتِ بِهَذَا الطَّرِيقِ. ثُمَّ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِمَا سَبَقَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى شُبْهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُمْ لَهُ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ كَيْفَمَا كَانَ أَمْرُهُ، فَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمُعْجِزَاتِ الْبَتَّةَ، وَلَوْ/ أَنَّكَ يَا مُحَمَّدُ جِئْتَنَا بمعجزة قاهرة وبينة ظاهرة لأنا بِكَ، وَحَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ وَبَالَغُوا فِي تَأْكِيدِ ذَلِكَ الْحَلِفِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَقْرِيرُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّمَا سَمَّى الْيَمِينَ بِالْقَسَمِ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَوْضُوعَةٌ لِتَوْكِيدِ الْخَبَرِ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ الإنسان:

إِمَّا مُثْبِتًا لِلشَّيْءِ، وَإِمَّا نَافِيًا. وَلَمَّا كَانَ الْخَبَرُ يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ احْتَاجَ الْمُخْبِرُ إِلَى طَرِيقٍ بِهِ يَتَوَسَّلُ إِلَى تَرْجِيحِ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ وَذَلِكَ هُوَ الْحَلِفُ وَلَمَّا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى ذِكْرِ الْحَلِفِ إِنَّمَا تَحْصُلُ عِنْدَ انْقِسَامِ النَّاسِ عِنْدَ سَمَاعِ ذَلِكَ الْخَبَرِ إِلَى مُصَدِّقٍ بِهِ وَمُكَذِّبٍ بِهِ. سَمَّوُا الْحَلِفَ بِالْقَسَمِ وَبَنَوْا تِلْكَ الصِّيغَةَ عَلَى- أَفْعَلَ- فَقَالُوا: أَقْسَمَ فُلَانٌ يُقْسِمُ إِقْسَامًا: وَأَرَادُوا أَنَّهُ أَكَّدَ الْقَسَمَ الَّذِي اخْتَارَهُ وَأَحَالَ الصِّدْقَ إِلَى الْقَسَمِ الَّذِي اخْتَارَهُ بِوَاسِطَةِ الْحَلِفِ وَالْيَمِينِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالُوا لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشُّعَرَاءِ: 4] أَقْسَمَ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لِيُؤْمِنُنَّ بِهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الثَّانِي: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: تُخْبِرُنَا أَنَّ مُوسَى ضَرَبَ الْحَجَرَ بِالْعَصَا فَانْفَجَرَ الْمَاءُ وَأَنَّ عِيسَى أَحْيَا الْمَيِّتَ وَأَنَّ صَالِحًا أَخْرَجَ النَّاقَةَ مِنَ الْجَبَلِ فَأْتِنَا أَيْضًا أَنْتَ بِآيَةٍ لِنُصَدِّقَكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا الَّذِي تُحِبُّونَ» فَقَالُوا: أَنْ تَجْعَلَ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا وَحَلَفُوا لَئِنْ فَعَلَ لَيَتَّبِعُونَهُ أَجْمَعُونَ فَقَامَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَدْعُو فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ كَانَ ذَلِكَ وَلَئِنْ كَانَ فَلَمْ يُصَدِّقُوا عِنْدَهُ لَيُعَذِّبَنَّهُمْ وَإِنْ تُرِكُوا تَابَ عَلَى بَعْضِهِمْ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ: «بَلْ يَتُوبُ عَلَى بَعْضِهِمْ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: جَهْدَ أَيْمانِهِمْ وُجُوهًا: قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: إِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ بِاللَّهِ فَهُوَ جَهْدُ يَمِينِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: بَالَغُوا فِي الْأَيْمَانِ وَقَوْلُهُ: لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ: فَقِيلَ: مَا رَوَيْنَا مِنْ جَعْلِ الصَّفَا ذَهَبًا وَقِيلَ: هِيَ الْأَشْيَاءُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاءِ: 90] وَقِيلَ: إِنَّ النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ كَانَ يُخْبِرُهُمْ بِأَنَّ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ كَانَ يَنْزِلُ بِالْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا أَنْبِيَاءَهُمْ فَالْمُشْرِكُونَ طَلَبُوا مِثْلَهَا. وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ لَفْظَةِ عِنْدَ وُجُوهًا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْقُدْرَةِ عَلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى النُّبُوَّاتِ شَرْطُهَا أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى تَحْصِيلِهَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ/ بِالْعِنْدِيَّةِ أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ إِحْدَاثَ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ هَلْ يَقْتَضِي إِقْدَامَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ عَلَى الْإِيمَانِ أَمْ لَا لَيْسَ إِلَّا عِنْدَ اللَّهِ؟ وَلَفْظُ الْعِنْدِيَّةِ بِهَذَا الْمَعْنَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الْأَنْعَامِ: 59] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَالِ مَعْدُومَةً إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى مَتَى شَاءَ إِحْدَاثَهَا أَحْدَثَهَا فَهِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَشْيَاءِ الْمَوْضُوعَةِ عِنْدَ اللَّهِ يُظْهِرُهَا مَتَى شَاءَ وَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَتَحَكَّمُوا فِي طَلَبِهَا وَلَفْظُ عِنْدَ بِهَذَا الْمَعْنَى هُنَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ [الْحِجْرِ: 21] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يُشْعِرُكُمْ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ «مَا» اسْتِفْهَامٌ وَفَاعِلُ يُشْعِرُكُمْ ضَمِيرُ «مَا» وَالْمَعْنَى: وَمَا يُدْرِيكُمْ إِيمَانُهُمْ؟ فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ وَحَذْفُ الْمَفْعُولِ كَثِيرٌ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا يُدْرِيكُمْ إِيمَانُهُمْ أَيْ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَجِيئَهُمْ هَذِهِ الْآيَاتُ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَقَوْلُهُ: أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو أَنَّهَا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الْجَيِّدَةُ. وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ أَيْ وَمَا يُشْعِرُكُمْ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ قَالَ سِيبَوَيْهِ: سَأَلْتُ الْخَلِيلَ عَنِ الْقِرَاءَةِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي أَنَّ وَقُلْتُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مَا يُدْرِيكَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ؟ فَقَالَ الْخَلِيلُ: إِنَّهُ لَا يَحْسُنُ ذَلِكَ هَاهُنَا لِأَنَّهُ لَوْ

قَالَ: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها بِالْفَتْحِ لَصَارَ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُمْ هَذَا كَلَامُ الْخَلِيلِ. وَتَفْسِيرُهُ إِنَّمَا يَظْهَرُ بِالْمِثَالِ فَإِذَا اتَّخَذْتَ ضِيَافَةً وَطَلَبْتَ مِنْ رَئِيسِ الْبَلَدِ أَنْ يَحْضُرَ فَلَمْ يَحْضُرْ فَقِيلَ لَكَ لَوْ ذَهَبْتَ أَنْتَ بِنَفْسِكَ إِلَيْهِ لَحَضَرَ فَإِذَا قُلْتَ: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنِّي لَوْ ذَهَبْتُ إِلَيْهِ لَحَضَرَ كَانَ الْمَعْنَى: أَنِّي لَوْ ذَهَبْتُ إِلَيْهِ بِنَفْسِي فَإِنَّهُ لَا يَحْضُرُ أَيْضًا فَكَذَا هَاهُنَا قَوْلُهُ: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ آمَنُوا. وَذَلِكَ يُوجِبُ مَجِيءَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَيَصِيرُ هَذَا الْكَلَامُ عُذْرًا لِلْكُفَّارِ فِي طَلَبِ الْآيَاتِ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ دَفْعُ حُجَّتِهِمْ فِي طَلَبِ الْآيَاتِ فَهَذَا تَقْرِيرُ كَلَامِ الْخَلِيلِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِنَ الْقُرَّاءِ أَنَّها بِالْفَتْحِ وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْخَلِيلُ: (أَنَّ) بِمَعْنَى لَعَلَّ تَقُولُ الْعَرَبُ ائْتِ السُّوقَ أَنَّكَ تَشْتَرِي لَنَا شَيْئًا أَيْ لَعَلَّكَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَعَلَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: (أَنَّ) بِمَعْنَى لَعَلَّ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ قَالَ الشَّاعِرُ: أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هَوْلًا لِأَنَّنِي ... أَرَى مَا تُرِينِي أَوْ بَخِيلًا مُخَلَّدَا وَقَالَ آخَرُ: هَلْ أَنْتُمْ عَاجِلُونَ بِنَا لِأَنَّا ... نَرَى الْعَرَصَاتِ أَوْ أَثَرَ الْخِيَامِ وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: أَعَاذِلَ مَا يُدْرِيكَ أَنَّ مَنِيَّتِي ... إِلَى سَاعَةٍ فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَفَسَّرَ عَلِيٌّ- لَعَلَّ مَنِيَّتِي- رَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَيْضًا فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ: عُوجًا عَلَى الطَّلَلِ الْمُحِيلِ لِأَنَّنَا ... نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابْنُ خِذَامِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَيُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ لَعَلَّهَا إِذَا جَاءَتْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ تَجْعَلَ (لَا) صِلَةً وَمِثْلَهُ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الْأَعْرَافِ: 12] مَعْنَاهُ أَنْ تَسْجُدَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 95] أَيْ يَرْجِعُونَ فَكَذَا هَاهُنَا التَّقْدِيرُ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ يُؤْمِنُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا لَوْ جَاءَتْ لَمْ يُؤْمِنُوا قَالَ الزَّجَّاجُ وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ مَا كَانَ لَغْوًا يَكُونُ لَغْوًا عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ وَمَنْ قَرَأَ إِنَّهَا بِالْكَسْرِ فَكَلِمَةُ (لَا) فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَيْسَتْ بِلَغْوٍ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ جَعْلُ هَذَا اللَّفْظِ لَغْوًا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَغْوًا عَلَى أَحَدِ التَّقْدِيرَيْنِ وَيَكُونُ مُفِيدًا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي؟ وَاخْتَلَفَ القراءة أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ فَقَرَأَ بَعْضُهُمْ بِالْيَاءِ وَهُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ قَوْمٌ مَخْصُوصُونَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ بِهَذَا الْوَصْفِ وَالْمَعْنَى وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّهُمْ إذا جاءتهم الآية التي الَّتِي اقْتَرَحُوهَا لَمْ يُؤْمِنُوا فَالْوَجْهُ الْيَاءُ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَابْنُ عَامِرٍ بِالتَّاءِ وَهُوَ عَلَى الِانْصِرَافِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ وَالْمُرَادُ بِالْمُخَاطِبِينَ فِي تُؤْمِنُونَ هُمُ الْغَائِبُونَ الْمُقْسِمُونَ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَذَهَبَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَمَا يُدْرِيكُمْ أَنَّكُمْ تُؤْمِنُونَ إِذَا جَاءَتْ وَهَذَا يُقَوِّي قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ تُؤْمِنُونَ بِالتَّاءِ. عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا. وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا ثَانِيًا: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ تَمَنَّوْا نُزُولَ الْآيَةِ لِيُؤْمِنَ الْمُشْرِكُونَ وَهُوَ الْوَجْهُ كَأَنَّهُ قِيلَ لِلْمُؤْمِنِينَ تَتَمَنَّوْنَ ذَلِكَ وَمَا يُدْرِيكُمْ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ؟

[سورة الأنعام (6) : آية 110]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: حَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْقَوْمَ طَلَبُوا مِنَ الرَّسُولِ مُعْجِزَاتٍ قَوِيَّةً وَحَلَفُوا أَنَّهَا لَوْ ظَهَرَتْ لَآمَنُوا فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ وَإِنْ حَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَنَّهَا لَوْ ظَهَرَتْ لَمْ يُؤْمِنُوا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَجِبْ فِي الْحِكْمَةِ إِجَابَتُهُمْ إِلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِنُصْرَةِ الِاعْتِزَالِ. الْحَكَمُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ لُطْفٌ يُؤْمِنُونَ عِنْدَهُ لَفَعَلَهُ لَا مَحَالَةَ إِذْ لَوْ جَازَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْجَوَابِ فَائِدَةٌ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ تَعَالَى لَا يُجِيبُهُمْ إِلَى مَطْلُوبِهِمْ سَوَاءٌ آمَنُوا أَوْ لَمْ يُؤْمِنُوا لَمْ يَكُنْ تَعْلِيقُ تَرْكِ الْإِجَابَةِ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ عِنْدَهُ مُنْتَظِمًا مُسْتَقِيمًا فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا هُوَ فِي مَقْدُورِهِ مِنَ الْأَلْطَافِ وَالْحِكْمَةِ. الْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ لَوْ كَانَ لِإِظْهَارِ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ أَثَرٌ فِي حَمْلِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَعَلَى قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ عِنْدَهُمُ الْإِيمَانَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا خَلَقَهُ حَصَلَ وَإِذَا لَمْ يخلقه لم يحصل فلم يكن لفعل الألطاف اثر في حمل المكلف على الطاعات. وأقول هذا الذي قاله القاضي غير لازم. اما الاول: فلان القوم قالوا: لو جئتنا يا محمد بآية لآمنا بك فهذا الكلام في الحقيقة مشتمل على مقدمتين: إحداهما: انك لو جئتنا بهذه المعجزات لآمنا بك. والثانية: انه متى كان الأمر كذلك وجب عليك ان تأتينا بها والله تعالى كذبهم في المقام الاول وبين انه تعالى وان أظهرها لهم فهم لا يؤمنون ولم يتعرض البتة للمقام الثاني وَلَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ بَاقٍ. فَإِنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَبْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ عِنْدَ إِظْهَارِ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ فَلِمَ لَمْ يَجِبْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِظْهَارُهَا؟ اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ قَبْلَ هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ اللُّطْفَ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ هَذَا الْمَطْلُوبُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ جَعَلَ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ اللُّطْفِ فَثَبَتَ أَنَّ كَلَامَهُ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا الْبَحْثُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذَا كَانَ الْكُلُّ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الْأَلْطَافِ أَثَرٌ فِيهِ فَنَقُولُ: الَّذِي نَقُولُ بِهِ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْفِعْلِ هُوَ مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِي وَالْعِلْمُ بِحُصُولِ هَذَا اللُّطْفِ أَحَدُ أَجْزَاءِ الدَّاعِي وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. فَيَكُونُ لهذا اللطف اثر في حصول الفعل. [سورة الأنعام (6) : آية 110] وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) هَذَا أَيْضًا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَالتَّقَلُّبَ وَالْقَلْبَ وَاحِدٌ وَهُوَ تَحْوِيلُ الشَّيْءِ عَنْ وَجْهِهِ وَمَعْنَى تَقْلِيبِ الْأَفْئِدَةِ وَالْأَبْصَارِ: هُوَ أَنَّهُ إِذَا جَاءَتْهُمُ الْآيَاتُ الْقَاهِرَةُ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا وَعَرَفُوا كَيْفِيَّةَ دَلَالَتِهَا عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا قَلَّبَ قُلُوبَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ الصَّحِيحِ بقوا

عَلَى الْكُفْرِ وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِتِلْكَ الْآيَاتِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَقْرِيرُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ الْقَاهِرَةِ لَوْ جَاءَتْهُمْ لَمَا آمَنُوا بِهَا وَلَمَا انْتَفَعُوا بِظُهُورِهَا الْبَتَّةَ. أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: الْمُرَادُ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ فِي جَهَنَّمَ عَلَى لهب النار وجمرها لنعذبهم كما لم يأمنوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي دَارِ الدُّنْيَا. وَأَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ بِأَنَّا لَا نَفْعَلُ بِهِمْ مَا نَفْعَلُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْأَلْطَافِ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ هَذَا الْحَدِّ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ. وَأَجَابَ الْقَاضِي: بِأَنَّ الْمُرَادَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَدْ ظَهَرَتْ فَلَا تَجِدُهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهَا آخِرًا كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا أَوَّلًا. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعِيبَنَا فَيَقُولَ: إِنَّكُمْ تُكَرِّرُونَ هَذِهِ الْوُجُوهَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَإِنَّا نَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةَ لَهُمْ وُجُوهٌ مَعْدُودَةٌ فِي تَأْوِيلَاتِ آيَاتِ الْجَزَاءِ فَهُمْ يُكَرِّرُونَهَا فِي كُلِّ آيَةٍ فَنَحْنُ أَيْضًا نُكَرِّرُ الْجَوَابَ عَنْهَا فِي كُلِّ آيَةٍ فَنَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقُدْرَةَ الْأَصْلِيَّةَ صَالِحَةٌ لِلضِّدَّيْنِ وَلِلطَّرَفَيْنِ عَلَى السَّوِيَّةِ. فَإِذَا لَمْ يَنْضَمَّ عَلَى تِلْكَ الْقُدْرَةِ دَاعِيَةٌ مُرَجِّحَةٌ امْتَنَعَ حُصُولُ الرُّجْحَانِ فَإِذَا انْضَمَّتِ الدَّاعِيَةُ الْمُرَجِّحَةُ إِمَّا إِلَى جَانِبِ الْفِعْلِ أَوْ إِلَى جَانِبِ التَّرْكِ ظَهَرَ الرُّجْحَانُ وَتِلْكَ الدَّاعِيَةُ لَيْسَتْ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ. وَقَدْ ظَهَرَ صِحَّةُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ الْيَقِينِيَّةِ الَّتِي لَا يَشُكُّ فِيهَا الْعَاقِلُ. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهُ كَيْفَ يَشَاءُ» فَالْقَلْبُ كَالْمَوْقُوفِ بَيْنَ دَاعِيَةِ الْفِعْلِ وَبَيْنَ دَاعِيَةِ التَّرْكِ فَإِنْ حَصَلَ فِي الْقَلْبِ دَاعِي الْفِعْلِ تَرَجَّحَ جَانِبُ الْفِعْلِ وَإِنْ حَصَلَ فِيهِ دَاعِي التَّرْكِ تَرَجَّحَ جَانِبُ التَّرْكِ وَهَاتَانِ الدَّاعِيَتَانِ لَمَّا كَانَتَا لَا تَحْصُلَانِ إِلَّا بِإِيجَادِ اللَّهِ وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ عَبَّرَ عَنْهُمَا بِأُصْبُعَيِ الرَّحْمَنِ وَالسَّبَبُ فِي حُسْنِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَحْصُلُ بَيْنَ أُصْبُعَيِ الْإِنْسَانِ يَكُونُ كَامِلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ وان شاء اسقطه فههنا أَيْضًا كَذَلِكَ الْقَلْبُ وَاقِفٌ بَيْنَ هَاتَيْنِ الدَّاعِيَتَيْنِ وَهَاتَانِ الدَّاعِيَتَانِ حَاصِلَتَانِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْقَلْبُ مُسَخَّرٌ لِهَاتَيْنِ الدَّاعِيَتَيْنِ فَلِهَذَا السَّبَبِ حَسُنَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ- مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ- أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقَلِّبُهُ تَارَةً مِنْ دَاعِي الْخَيْرِ إِلَى دَاعِي الشَّرِّ وَبِالْعَكْسِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الظَّاهِرِ الْجَلِيِّ الَّذِي يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ كُلُّ طَبْعٍ سَلِيمٍ وَعَقْلٍ مُسْتَقِيمٍ فَلَا حَاجَةَ الْبَتَّةَ إِلَى مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْمُسْتَكْرَهَةِ. وَإِنَّمَا قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَ تَقْلِيبِ الْأَفْئِدَةِ عَلَى تَقْلِيبِ الْأَبْصَارِ لِأَنَّ مَوْضِعَ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ هُوَ الْقَلْبُ. فَإِذَا حَصَلَتِ الدَّاعِيَةُ فِي الْقَلْبِ انْصَرَفَ الْبَصَرُ إِلَيْهِ شَاءَ أَمْ أَبَى وَإِذَا حَصَلَتِ الصَّوَارِفُ فِي الْقَلْبِ انْصَرَفَ/ الْبَصَرُ عَنْهُ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ يُبْصِرُهُ فِي الظَّاهِرِ. إِلَّا أَنَّهُ لَا يَصِيرُ ذَلِكَ الْإِبْصَارُ سَبَبًا لِلْوُقُوفِ عَلَى الْفَوَائِدِ الْمَطْلُوبَةِ. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً فَلَمَّا كَانَ الْمَعْدِنُ هُوَ الْقَلْبَ وَأَمَّا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ فَهُمَا آلَتَانِ لِلْقَلْبِ كَانَا لَا مَحَالَةَ تَابِعَيْنِ لِأَحْوَالِ الْقَلْبِ. فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ تَقْلِيبِ الْقُلُوبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ تَقْلِيبِ الْبَصَرِ وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وقع

الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ تَحْصِيلِ الْكِنَانِ فِي الْقَلْبِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ السَّمْعِ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْقَوِيُّ الْعَقْلِيُّ الْبُرْهَانِيُّ الَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْقُرْآنِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ مَعَ ذَلِكَ حَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى التَّكَلُّفَاتِ الَّتِي ذَكَرُوهَا؟ وَلْنَرْجِعْ إِلَى مَا يَلِيقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ الضَّعِيفَةِ فَنَقُولُ: أَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ فَمَدْفُوعٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ: وَنَذَرُهُمْ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا، فَلَوْ قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ، كَانَ هَذَا سوأ لِلنَّظْمِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ قَدَّمَ الْمُؤَخَّرَ وَأَخَّرَ الْمُقَدَّمَ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْكَعْبِيُّ فَضَعِيفٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ إِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْحِرْمَانَ مِنْ تِلْكَ الْأَلْطَافِ وَالْفَوَائِدِ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْكُفْرِ، فَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ الْحِرْمَانِ وَالْخُذْلَانِ فَكَيْفَ تَحْسُنُ إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فَبَعِيدٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ تَقْلِيبُ الْقَلْبِ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ وَنَقْلُهُ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ. وَعَلَى مَا يَقُولُهُ الْقَاضِي فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلِ الْقَلْبُ بَاقٍ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَدْخَلَ التَّقْلِيبَ وَالتَّبْدِيلَ فِي الدَّلَائِلِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرُوهَا فَاسِدَةٌ بَاطِلَةٌ بِالْكُلِّيَّةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ فِيهِ وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: دَخَلَتِ الْكَافُ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ فَلَا يُؤْمِنُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِظُهُورِ الْآيَاتِ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَتْهُمُ الْآيَاتُ مِثْلَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْآيَاتِ، وَالتَّقْدِيرُ فَلَا يُؤْمِنُونَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ مِنْ ظُهُورِ الْآيَاتِ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فِي بِهِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ أَوْ إِلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوْ إِلَى مَا طَلَبُوا مِنَ الْآيَاتِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى تَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، يَعْنِي كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَكَذَلِكَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ وَلَا حَاجَةَ فِيهَا إِلَى الْإِضْمَارِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فَالْجُبَّائِيُّ قَالَ: وَنَذَرُهُمْ أَيْ لَا نَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اخْتِيَارِهِمْ وَلَا نَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِمُعَاجَلَةِ الْهَلَاكِ وَغَيْرِهِ، لَكِنَّا نُمْهِلُهُمْ فَإِنْ أَقَامُوا عَلَى طُغْيَانِهِمْ فَذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِمْ، وَهُوَ يُوجِبُ تَأْكِيدَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: مَعْنَاهُ إِنَّا نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ وَنَتْرُكُهُمْ فِي ذَلِكَ الطُّغْيَانِ وَفِي ذَلِكَ الضَّلَالِ وَالْعَمَهِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لِلْجُبَّائِيِّ: إِنَّكَ تَقُولُ إِنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ مَا أَرَادَ بِعَبِيدِهِ إِلَّا الْخَيْرَ وَالرَّحْمَةَ، فَلِمَ تَرَكَ هَذَا الْمِسْكِينَ حَتَّى عَمِهَ فِي طُغْيَانِهِ؟ وَلِمَ لَا يُخَلِّصُهُ عَنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ وَالْقَهْرِ؟ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ إِنْ فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ فَيَفُوتُهُ الِاسْتِحْقَاقُ فَقَطْ، وَلَكِنْ يَسْلَمُ مِنَ الْعِقَابِ، أَمَّا إِذَا تَرَكَهُ فِي ذَلِكَ الْعَمَهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ يَمُوتُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ. وَيَحْصُلُ لَهُ الْعِقَابُ الْعَظِيمُ الدَّائِمُ، فَالْمَفْسَدَةُ الْحَاصِلَةُ عِنْدَ خَلْقِ الْإِيمَانِ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ مَفْسَدَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ فَوْتُ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ، أَمَّا الْمَفْسَدَةُ الْحَاصِلَةُ عِنْدَ إِبْقَائِهِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَهِ وَالطُّغْيَانِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَيْهِ فَهِيَ فَوْتُ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ مَعَ اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ الشَّدِيدِ،

[سورة الأنعام (6) : آية 111]

وَالرَّحِيمُ الْمُحْسِنُ النَّاظِرُ لِعِبَادِهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يُرَجِّحَ الْجَانِبَ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ صَلَاحًا وَأَقَلُّ فَسَادًا، فَعَلِمْنَا أَنَّ إِبْقَاءَ ذَلِكَ الْكَافِرِ فِي ذَلِكَ الْعَمَهِ وَالطُّغْيَانِ يَقْدَحُ فِي أَنَّهُ لَا يريد به إلا الخير والإحسان. [سورة الأنعام (6) : آية 111] وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَفْصِيلَ مَا ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ بِقَوْلِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ فَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَعْطَاهُمْ مَا طَلَبُوهُ مِنْ إِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى حَتَّى كَلَّمُوهُمْ بَلْ لَوْ زَادَ فِي ذَلِكَ مَا لَا يَبْلُغُهُ اقْتِرَاحُهُمْ بِأَنْ يَحْشُرَ عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُسْتَهْزِئُونَ بِالْقُرْآنِ كَانُوا خَمْسَةً: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ وَالْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيُّ وَالْأَسْوَدُ بْنُ المطلب والحرث بْنُ حَنْظَلَةَ ثُمَّ إِنَّهُمْ أَتَوُا الرَّسُولَ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَقَالُوا لَهُ أَرِنَا الْمَلَائِكَةَ/ يَشْهَدُوا بِأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ أَوِ ابْعَثْ لَنَا بَعْضَ مَوْتَانَا حَتَّى نَسْأَلَهُمْ أَحَقٌّ مَا تَقُولُهُ أَمْ بَاطِلٌ؟ أَوِ ائْتِنَا بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَيْ كَفِيلًا عَلَى مَا تَدَّعِيهِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّهُمْ لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ دَفْعَةً وَاحِدَةً كَانَ الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَاقِعَةِ الْفُلَانِيَّةِ مُشْكِلًا صَعْبًا فَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ جَوَابُ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَوْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَآمَنُوا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْكَلَامَ بَيَانًا لِكَذِبِهِمْ وَأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إِنْزَالِ الْآيَاتِ بَعْدَ الْآيَاتِ وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ بَعْدَ الْمُعْجِزَاتِ بَلِ الْمُعْجِزَةُ الْوَاحِدَةُ لَا بُدَّ مِنْهَا لِيَتَمَيَّزَ الصَّادِقُ عَنِ الْكَاذِبِ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا فَتَحَكُّمٌ مَحْضٌ وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ وَإِلَّا فَلَهُمْ أَنْ يَطْلُبُوا بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَةِ الثَّانِيَةِ ثَالِثَةً وَبَعْدَ الثَّالِثَةِ رَابِعَةً وَيَلْزَمُ أَنْ لَا تَسْتَقِرَّ الْحُجَّةُ وَأَنْ لَا يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إِلَى مَقْطَعٍ وَمَفْصِلٍ وَذَلِكَ يُوجِبُ سَدَّ بَابِ النُّبُوَّاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: قِبَلًا هَاهُنَا وَفِي الْكَهْفِ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالضَّمِّ فِيهِمَا فِي السُّورَتَيْنِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو هَاهُنَا وَفِي الْكَهْفِ بِالْكَسْرِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ أَبُو زَيْدٍ يُقَالُ لَقِيتُ فُلَانًا قِبَلَا وَمُقَابَلَةً وَقُبُلًا وَقِبِلًا وَقَبِيلًا كُلُّهُ وَاحِدٌ. وَهُوَ الْمُوَاجَهَةُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَعَلَى قَوْلِ أَبِي زَيْدٍ الْمَعْنَى فِي الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ وَإِنِ اخْتَلَفَ اللَّفْظَانِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَثْبَتَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ تَفَاوُتًا فِي الْمَعْنَى فَقَالَ أَمَّا مَنْ قَرَأَ قِبَلًا بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ عِيَانًا يُقَالُ لَقِيتُهُ قِبَلًا أَيْ مُعَايَنَةً وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قلت للنبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَكَانَ آدَمُ نَبِيًّا؟ قَالَ «نَعَمْ كَانَ نَبِيًّا كَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قِبَلًا» وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ قُبُلًا فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ جَمْعَ قَبِيلٍ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْكَفِيلُ يُقَالُ قَبِلْتُ بِالرَّجُلِ أُقْبِلُ قُبَالَةً أَيْ كُلِّفْتُ بِهِ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى لَوْ حَشَرَ عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ وَكُفِلُوا بِصِحَّةِ مَا يَقُولُ لَمَا آمَنُوا وَمَوْضِعُ الْإِعْجَازِ فِيهِ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمَحْشُورَةَ مِنْهَا مَا يَنْطِقُ وَمِنْهَا مَا لَا يَنْطِقُ فَإِذَا أَنْطَقَ اللَّهُ الْكُلَّ وَأَطْبَقُوا عَلَى قَبُولِ هَذِهِ الْكَفَالَةِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعْجِزَاتِ وَثَانِيهَا أَنْ يَكُونَ قُبُلًا جَمْعَ قُبَيْلٍ بِمَعْنَى الصِّنْفِ وَالْمَعْنَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبَيْلًا قُبَيْلًا وَمَوْضِعُ الْإِعْجَازِ فِيهِ هُوَ حَشْرُهَا بَعْدَ مَوْتِهَا ثُمَّ إِنَّهَا عَلَى اخْتِلَافِ طَبَائِعِهَا تَكُونُ مُجْتَمِعَةً فِي مَوْقِفٍ وَاحِدٍ. وَثَالِثُهَا أَنْ يَكُونَ قُبُلًا بِمَعْنَى قِبَلًا أَيْ مُوَاجَهَةً وَمُعَايَنَةً كَمَا فَسَّرَهُ ابو زيد.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَظْهَرَ جَمِيعَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْعَجِيبَةِ الْغَرِيبَةِ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِيمَانَهُمْ. قَالَ أَصْحَابُنَا فَلَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا دَلَّ ذَلِكَ الدَّلِيلُ عَلَى/ أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ الْإِيمَانَ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ وَالْجُبَّائِيُّ ذَكَرَ الْوُجُوهَ الْمَشْهُورَةَ الَّتِي لَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. أَوَّلُهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يُرِدْ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ لَمَا وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ كَمَا لَوْ لَمْ يَأْمُرْهُمْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ. وَثَانِيهَا لَوْ أَرَادَ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ لَكَانَ الْكَافِرُ مُطِيعًا لِلَّهِ بِفِعْلِ الْكُفْرِ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلطَّاعَةِ إِلَّا بِفِعْلِ الْمُرَادِ وَثَالِثُهَا لَوْ جَازَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُرِيدَ الْكُفْرَ لَجَازَ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ وَرَابِعُهَا لَوْ جَازَ أَنْ يُرِيدَ مِنْهُمُ الْكُفْرَ لَجَازَ أَنَّهُ يَأْمُرُنَا بِأَنْ نُرِيدَ مِنْهُمُ الْكُفْرَ. قَالُوا فَثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ إِلَّا الْإِيمَانَ مِنْهُمْ وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ الْإِيمَانَ مِنْهُمْ وَالتَّنَاقُضُ بَيْنَ الدَّلَائِلِ مُمْتَنِعٌ فَوَجَبَ التَّوْفِيقُ وَطَرِيقُهُ أَنْ نَقُولَ إِنَّهُ تَعَالَى شَاءَ مِنَ الْكُلِّ الْإِيمَانَ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ وَأَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ الْحَاصِلَ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ وَالْقَهْرِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ زَالَ الْإِشْكَالُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ أَيْضًا ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي سَمَّوْهُ بِالْإِيمَانِ الِاخْتِيَارِيِّ إِنْ عَنَوْا بِهِ أَنَّ قُدْرَتَهُ صَالِحَةٌ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ عَلَى السَّوِيَّةِ ثُمَّ إِنَّهُ يَصْدُرُ عَنْهَا الْإِيمَانُ دُونَ الْكُفْرِ لَا لِدَاعِيَةٍ مُرَجِّحَةٍ وَلَا لِإِرَادَةٍ مُمَيِّزَةٍ فَهَذَا قَوْلٌ بِرُجْحَانِ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْقُولًا فِي الْجُمْلَةِ إِلَّا أَنَّ حُصُولَ ذَلِكَ الْإِيمَانِ لَا يَكُونُ مِنْهُ بَلْ يَكُونُ حَادِثًا لَا لِسَبَبٍ وَلَا مُؤَثِّرَ أَصْلًا لِأَنَّ الْحَاصِلَ هُنَاكَ لَيْسَ إِلَّا الْقُدْرَةَ وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الضِّدَّيْنِ عَلَى السَّوِيَّةِ وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ تَخْصِيصٌ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِالْوُقُوعِ وَالرُّجْحَانِ ثُمَّ إِنَّ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ قَدْ حَصَلَ بِنَفْسِهِ فَهَذَا لَا يَكُونُ صَادِرًا مِنْهُ بَلْ يَكُونُ صَادِرًا لَا عَنْ سَبَبٍ الْبَتَّةَ وَذَلِكَ يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ وَالتَّأْثِيرِ وَالْمُؤَثِّرِ أَصْلًا وَلَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الَّذِي سَمَّوْهُ بِالْإِيمَانِ الِاخْتِيَارِيِّ هُوَ أَنَّ قُدْرَتَهُ وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِلضِّدَّيْنِ إِلَّا أَنَّهَا لَا تَصِيرُ مَصْدَرًا لِلْإِيمَانِ إِلَّا إِذَا انْضَمَّ إِلَى تِلْكَ الْقُدْرَةِ حُصُولُ دَاعِيَةِ الْإِيمَانِ كَانَ هَذَا قَوْلًا بِأَنَّ مَصْدَرَ الْإِيمَانِ هُوَ مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِي وَذَلِكَ الْمَجْمُوعُ مُوجِبٌ لِلْإِيمَانِ فَذَلِكَ هُوَ عَيْنُ مَا يُسَمُّونَهُ بِالْجَبْرِ وَأَنْتُمْ تُنْكِرُونَهُ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الَّذِي سَمَّوْهُ بِالْإِيمَانِ الِاخْتِيَارِيِّ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ مَعْنًى مَعْقُولٌ مَفْهُومٌ وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِيمَانَ الِاخْتِيَارِيَّ مُمَيَّزٌ عَنِ الْإِيمَانِ الْحَاصِلِ بِتَكْوِينِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَنَّا نَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَذَا وَكَذَا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا مَعْنَاهُ مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِيمَانًا اخْتِيَارِيًّا بِدَلِيلِ أَنَّ عِنْدَ ظُهُورِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُؤْمِنُوا إِيمَانًا عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ وَالْقَهْرِ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا الْمُرَادُ مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ ثُمَّ اسْتَثْنَى/ عَنْهُ فَقَالَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَالْمُسْتَثْنَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى عَنْهُ وَالْإِيمَانُ الْحَاصِلُ بِالْإِلْجَاءِ وَالْقَهْرِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْإِيمَانِ الِاخْتِيَارِيِّ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِقَوْلِنَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ الْإِيمَانُ الِاضْطِرَارِيُّ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِيمَانَ الِاخْتِيَارِيَّ وَحِينَئِذٍ يَتَوَجَّهُ دَلِيلُ أَصْحَابِنَا وَيَسْقُطُ عَنْهُ سُؤَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِالْكُلِّيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَالَ الْجُبَّائِيُّ قَوْلُهُ تَعَالَى إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ قَدِيمَةً لَمْ يُجِزْ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ كَمَا لَا يُقَالُ لَا يَذْهَبُ زَيْدٌ إِلَى الْبَصْرَةِ إِلَّا أَنْ يُوَحِّدَ اللَّهَ تَعَالَى وَتَقْرِيرُهُ أَنَّا

[سورة الأنعام (6) : آية 112]

إِذَا قُلْنَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فَهَذَا يَقْتَضِي تَعْلِيقَ حُدُوثِ هَذَا الْجَزَاءِ عَلَى حُصُولِ الْمَشِيئَةِ فَلَوْ كَانَتِ الْمَشِيئَةُ قَدِيمَةً لَكَانَ الشَّرْطُ قَدِيمًا وَيَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ الشَّرْطِ حُصُولُ الْمَشْرُوطِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْجَزَاءِ قَدِيمًا. وَالْحِسُّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُحْدَثٌ فَوَجَبَ كَوْنُ الشَّرْطِ حَادِثًا وَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ هُوَ الْمَشِيئَةَ لَزِمَ الْقَوْلُ بِكَوْنِ الْمَشِيئَةِ حَادِثَةً. هَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَشِيئَةَ وَإِنْ كَانَتْ قَدِيمَةً إِلَّا أَنَّ تَعَلُّقَهَا بِإِحْدَاثِ ذَلِكَ الْمُحْدَثِ فِي الْحَالِ إِضَافَةٌ حَادِثَةٌ وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي لِصِحَّةِ هَذَا الْكَلَامِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ قَالَ أَصْحَابُنَا الْمُرَادُ يَجْهَلُونَ بِأَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ وَبِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ جَهِلُوا أَنَّهُمْ يَبْقَوْنَ كُفَّارًا عِنْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ الَّتِي طَلَبُوهَا وَالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ يَظُنُّونَ ذلك. [سورة الأنعام (6) : آية 112] وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) [قَوْلُهُ تَعَالَى وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ وَكَذلِكَ مَنْسُوقٌ عَلَى شَيْءٍ وَفِي تَعْيِينِ ذَلِكَ الشَّيْءِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ أَنَّهُ مَنْسُوقٌ عَلَى قَوْلِهِ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام 108] اي كما فعلنا ذلك كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا الثَّانِي مَعْنَاهُ جَعَلْنَا لَكَ عَدُوًّا كَمَا جَعَلْنَا لِمَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ كَذلِكَ عَطْفًا/ عَلَى مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لَهُ أَعْدَاءً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي جَعَلَ أُولَئِكَ الْأَعْدَاءَ أَعْدَاءً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْعَدَاوَةَ مَعْصِيَةٌ وَكُفْرٌ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ خَالِقَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْجَعْلِ الْحُكْمُ وَالْبَيَانُ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا حَكَمَ بِكُفْرِ إِنْسَانٍ قِيلَ إِنَّهُ كَفَّرَهُ وَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ عَدَالَتِهِ قِيلَ إِنَّهُ عَدَّلَهُ فَكَذَا هَاهُنَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَوْنَهُمْ أَعْدَاءً لَهُ لَا جَرَمَ قَالَ إِنَّهُ جَعَلَهُمْ أَعْدَاءً لَهُ وَأَجَابَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرْسَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ إِلَى الْعَالَمِينَ وَخَصَّهُ بِتِلْكَ الْمُعْجِزَةِ حَسَدُوهُ وَصَارَ ذَلِكَ الْحَسَدُ سَبَبًا لِلْعَدَاوَةِ الْقَوِيَّةِ فَلِهَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمْ أَعْدَاءً لَهُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْمُتَنَبِّي فَأَنْتَ الَّذِي صَيَّرْتَهُمْ لِي حُسَّدًا وَأَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الأنبياء بعداوتهم وَأَعْلَمَهُمْ كَوْنَهُمْ أَعْدَاءً لَهُمْ وَذَلِكَ يَقْتَضِي صَيْرُورَتَهُمْ أَعْدَاءً لِلْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَلِهَذَا الْوَجْهِ جَازَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمْ أَعْدَاءً لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْوِبَةَ ضَعِيفَةٌ جِدًّا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَفْعَالَ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى الدَّوَاعِي وَهِيَ حَادِثَةٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ صَحَّ مَذْهَبُنَا. ثُمَّ هَاهُنَا بَحْثٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْعَدَاوَةَ وَالصَّدَاقَةَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَحْصُلَ بِاخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَبْلُغُ فِي عَدَاوَةِ غَيْرِهِ إِلَى حَيْثُ لَا يَقْدِرُ الْبَتَّةَ عَلَى إِزَالَةِ تِلْكَ الْحَالَةِ عَنْ قَلْبِهِ بَلْ قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِخْفَاءِ آثَارِ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ

وَلَوْ أَتَى بِكُلِّ تَكَلُّفٍ وَحِيلَةٍ لَعَجِزَ عَنْهُ وَلَوْ كَانَ حُصُولُ الْعَدَاوَةِ وَالصَّدَاقَةِ فِي الْقَلْبِ بِاخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَلْبِ الْعَدَاوَةِ بِالصَّدَاقَةِ وَبِالضِّدِّ وَكَيْفَ لَا نَقُولُ ذَلِكَ وَالشُّعَرَاءُ عَرَفُوا أَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنِ الْوُسْعِ؟ قَالَ الْمُتَنَبِّي يُرَادُ مِنَ الْقَلْبِ نِسْيَانُكُمْ ... وَتَأْبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِلِ وَالْعَاشِقُ الَّذِي يَشْتَدُّ عِشْقُهُ قَدْ يَحْتَالُ بِجَمِيعِ الْحِيَلِ فِي إِزَالَةِ عِشْقِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ حُصُولُ ذَلِكَ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ بِاخْتِيَارِهِ لَمَا عَجَزَ عَنْ إِزَالَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ النَّصْبُ فِي قَوْلِهِ شَياطِينَ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ عَدُوًّا وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ عَدُوًّا مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ وَالتَّقْدِيرُ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ أَعْدَاءَ الْأَنْبِيَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَلَى قَوْلَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّ الْمَعْنَى مَرَدَةُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالشَّيْطَانُ كُلُّ عَاتٍ مُتَمَرِّدٍ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَهَؤُلَاءِ قَالُوا إِنَّ مِنَ الْجِنِّ شَيَاطِينَ وَمِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينَ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مِنَ الْجِنِّ إِذَا أَعْيَاهُ الْمُؤْمِنُ ذَهَبَ إِلَى مُتَمَرِّدٍ مِنَ الْإِنْسِ وَهُوَ شَيْطَانُ الْإِنْسِ فَأَغْرَاهُ بِالْمُؤْمِنِ لِيَفْتِنَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ: «هَلْ تَعَوَّذْتَ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ؟» قَالَ قُلْتُ وَهَلْ لِلْإِنْسِ مِنْ شَيَاطِينَ؟ قَالَ «نَعَمْ هُمْ شَرٌّ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ» . وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ وَلَدِ إِبْلِيسَ إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ وَلَدَهُ قِسْمَيْنِ فَأَرْسَلَ أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ إِلَى وَسْوَسَةِ الْإِنْسِ. وَالْقِسْمَ الثَّانِي إِلَى وَسْوَسَةِ الْجِنِّ فَالْفَرِيقَانِ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ الشِّكَايَةُ مِنْ سَفَاهَةِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ هُمُ الْأَعْدَاءُ وَهُمُ الشَّيَاطِينُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْقَوْلُ الثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يَقْتَضِي إِضَافَةَ الشَّيَاطِينِ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْإِضَافَةُ تَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالشَّيَاطِينُ نَوْعٌ مُغَايِرٌ لِلْجِنِّ وَهُمْ أَوْلَادُ إِبْلِيسَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ قَوْلُهُ عَدُوًّا بِمَعْنَى أَعْدَاءً وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ إِذَا أَنَا لَمْ أَنْفَعْ صَدِيقِي بِوِدِّهِ ... فَإِنَّ عَدُوِّي لَنْ يَضُرُّهُمُو بُغْضِي أَرَادَ أَعْدَائِي فَأَدَّى الْوَاحِدَ عَنِ الْجَمْعِ وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [الذريات 24] جَعَلَ الْمُكْرَمِينَ وَهُوَ جَمْعٌ نَعْتًا لِلضَّيْفِ وَهُوَ وَاحِدٌ وَثَانِيهَا قَوْلُهُ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ [ق 10] وَثَالِثُهَا قَوْلُهُ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ [النُّورِ 31] وَرَابِعُهَا قَوْلُهُ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [الْعَصْرِ 2] وَخَامِسُهَا قَوْلُهُ كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [آلِ عِمْرَانَ 93] أَكَّدَ الْمُفْرِدَ بِمَا يُؤَكَّدُ الْجَمْعُ بِهِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّكَلُّفِ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَدُوًّا وَاحِدًا إذا لَا يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَكْثَرُ مِنْ عَدُوٍّ وَاحِدٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فَالْمُرَادُ أَنَّ أُولَئِكَ الشَّيَاطِينَ يُوَسْوِسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ تَصْدُرُ عَنْ إِنْسَانٍ فَإِنَّهَا تَكُونُ بِسَبَبِ وَسْوَسَةِ شَيْطَانٍ وَإِلَّا لَزِمَ دُخُولُ التَّسَلْسُلِ أَوِ الدَّوْرِ فِي هَؤُلَاءِ الشَّيَاطِينِ فَوَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِانْتِهَاءِ هَذِهِ الْقَبَائِحِ وَالْمَعَاصِي إِلَى قَبِيحٍ أَوَّلَ وَمَعْصِيَةٍ سَابِقَةٍ حَصَلَتْ لَا بِوَسْوَسَةِ شَيْطَانٍ آخَرَ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ إِنَّ أُولَئِكَ الشَّيَاطِينَ كَمَا أَنَّهُمْ يُلْقُونَ الْوَسَاوِسَ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَقَدْ يُوَسْوِسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلِلنَّاسِ فِيهِ مَذَاهِبُ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْأَرْوَاحُ إِمَّا فَلَكِيَّةٌ وَإِمَّا أَرْضِيَّةٌ وَالْأَرْوَاحُ الْأَرْضِيَّةُ مِنْهَا طَيِّبَةٌ طَاهِرَةٌ خَيِّرَةٌ آمِرَةٌ بِالطَّاعَةِ وَالْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْأَرْضِيَّةُ وَمِنْهَا خَبِيثَةٌ قَذِرَةٌ شِرِّيرَةٌ آمِرَةٌ بِالْقَبَائِحِ وَالْمَعَاصِي وَهُمُ الشَّيَاطِينُ. ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ الطَّيِّبَةَ كَمَا أَنَّهَا تَأْمُرُ النَّاسَ بِالطَّاعَاتِ وَالْخَيْرَاتِ فَكَذَلِكَ قَدْ يَأْمُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالطَّاعَاتِ وَالْأَرْوَاحُ الْخَبِيثَةُ كَمَا أَنَّهَا تَأْمُرُ النَّاسَ بِالْقَبَائِحِ وَالْمُنْكَرَاتِ فَكَذَلِكَ قَدْ يَأْمُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِتِلْكَ الْقَبَائِحِ وَالزِّيَادَةِ فِيهَا وَمَا لَمْ يَحْصُلْ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ وَبَيْنَ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ الِانْضِمَامُ فَالنُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ إِذَا كَانَتْ طَاهِرَةً نَقِيَّةً عَنِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْأَرْوَاحِ الطَّاهِرَةِ فَتَنْضَمُّ إِلَيْهَا وَإِذَا كَانَتْ خَبِيثَةً مَوْصُوفَةً بِالصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ فَتَنْضَمُّ إِلَيْهَا. ثُمَّ إِنَّ صِفَاتِ الطَّهَارَةِ كَثِيرَةٌ وَصِفَاتِ الْخُبْثِ وَالنُّقْصَانِ كَثِيرَةٌ وَبِحَسَبِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا طَوَائِفُ مِنَ الْبَشَرِ وَطَوَائِفُ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ بِحَسَبِ تِلْكَ الْمُجَانَسَةِ وَالْمُشَابَهَةِ وَالْمُشَاكَلَةِ يَنْضَمُّ الْجِنْسُ إِلَى جِنْسِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَفْعَالِ الْخَيْرِ كَانَ الْحَامِلُ عَلَيْهَا مَلَكًا وَكَانَ تَقْوِيَةُ ذَلِكَ الْخَاطِرِ إِلْهَامًا وَإِنْ كَانَ فِي بَابِ الشَّرِّ كَانَ الْحَامِلُ عَلَيْهَا شَيْطَانًا وَكَانَ تَقْوِيَةُ ذَلِكَ الْخَاطِرِ وَسْوَسَةً. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ بِقَوْلِهِ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فَيَجِبُ عَلَيْنَا تَفْسِيرُ أَلْفَاظٍ ثَلَاثَةٍ الْأَوَّلُ الْوَحْيُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيمَاءِ وَالْقَوْلِ السَّرِيعِ. وَالثَّانِي الزُّخْرُفُ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ بَاطِنُهُ بَاطِلًا وَظَاهِرُهُ مُزَيَّنًا ظَاهِرًا يُقَالُ فُلَانٌ يُزَخْرِفُ كَلَامَهُ إِذَا زَيَّنَهُ بِالْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ وَكُلُّ شَيْءٍ حَسَنٍ مُمَوَّهٍ فَهُوَ مُزَخْرَفٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَحْقِيقَ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ كَوْنَهُ مُشْتَمِلًا عَلَى خَيْرٍ رَاجِحٍ وَنَفْعٍ زَائِدٍ فَإِنَّهُ لَا يَرْغَبُ فِيهِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ مُخْتَارًا لِكَوْنِهِ طَالِبًا لِلْخَيْرِ وَالنَّفْعِ ثُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا الِاعْتِقَادُ مُطَابِقًا لِلْمُعْتَقَدِ فَهُوَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ وَالْإِلْهَامُ وَإِنْ كَانَ صَادِرًا مِنَ الْمَلَكِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَقَدًا مُطَابِقًا لِلْمُعْتَقَدِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ظَاهِرُهُ مُزَيَّنًا لِأَنَّهُ فِي اعْتِقَادِهِ سَبَبٌ لِلنَّفْعِ الزَّائِدِ وَالصَّلَاحِ الرَّاجِحِ وَيَكُونُ بَاطِنُهُ فَاسِدًا بَاطِلًا لِأَنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمُعْتَقَدِ فَكَانَ مُزَخْرَفًا فَهَذَا تَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ. وَالثَّالِثُ قَوْلُهُ غُرُوراً قَالَ الْوَاحِدِيُّ غُرُوراً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ وَهَذَا الْمَصْدَرُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ مَعْنَى إِيحَاءِ الزُّخْرُفِ مِنَ الْقَوْلِ مَعْنَى الْغُرُورِ فَكَأَنَّهُ قَالَ/ يَغُرُّونَ غُرُورًا وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ الْمَغْرُورَ هُوَ الَّذِي يَعْتَقِدُ فِي الشَّيْءِ كَوْنَهُ مُطَابِقًا لِلْمَنْفَعَةِ وَالْمَصْلَحَةِ مَعَ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَالْغُرُورُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ عَيْنِ هَذَا الْجَهْلِ أَوْ عَنْ حَالَةٍ مُتَوَلِّدَةٍ عَنْ هَذَا الْجَهْلِ فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَأْثِيرَ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِعِبَارَةٍ أَكْمَلَ وَلَا أَقْوَى دَلَالَةً عَلَى تَمَامِ الْمَقْصُودِ مِنْ قَوْلِهِ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ وَأَصْحَابُنَا يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُعْتَزِلَةُ يَحْمِلُونَهُ عَلَى مَشِيئَةِ الْإِلْجَاءِ وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 113]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ يُرِيدُ مَا زَيَّنَ لَهُمْ إِبْلِيسُ وَغَرَّهُمْ بِهِ قَالَ الْقَاضِيَ هَذَا الْقَوْلُ يَتَضَمَّنُ التَّحْذِيرَ الشَّدِيدَ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّرْغِيبَ الْكَامِلَ فِي الْإِيمَانِ وَيَقْتَضِي زَوَالَ الْغَمِّ عَنْ قَلْبِ الرَّسُولِ مِنْ حَيْثُ يَتَصَوَّرُ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْقَوْمِ عَلَى كُفْرِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَمَا أَعَدَّ لَهُ مِنْ مَنَازِلِ الثَّوَابِ بِسَبَبِ صَبْرِهِ على سفاهتهم ولطفه بهم. [سورة الأنعام (6) : آية 113] وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اعْلَمْ أَنَّ الصَّغْوَ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ الْمَيْلُ. يُقَالُ فِي الْمُسْتَمِعِ إِذَا مَالَ بِحَاسَّتِهِ إِلَى نَاحِيَةِ الصَّوْتِ أَنَّهُ يُصْغِي وَيُقَالُ أَصْغَى الْإِنَاءَ إِذَا أَمَالَهُ حَتَّى انْصَبَّ بَعْضُهُ فِي الْبَعْضِ وَيُقَالُ لِلْقَمَرِ إِذَا مَالَ إِلَى الْغُرُوبِ صَغَا وَأَصْغَى. فَقَوْلُهُ وَلِتَصْغى أَيْ وَلِتَمِيلَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ «اللَّامُ» فِي قَوْلِهِ وَلِتَصْغى لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُتَعَلِّقٍ. فَقَالَ أَصْحَابُنَا التَّقْدِيرُ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَمِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَإِنَّمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ لِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ وَإِنَّمَا أَوْجَدْنَا الْعَدَاوَةَ فِي قَلْبِ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ مِنْ صِفَتِهِمْ مَا ذَكَرْنَاهُ لِيَكُونَ كَلَامُهُمُ الْمُزَخْرَفُ مَقْبُولًا عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ قَالُوا وَإِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُظْهِرُ أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ قَالَ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ الزَّجْرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ [الْإِسْرَاءِ 64] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا [الانعام 113] وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ كَأَنَّهُ قَالَ لِلرَّسُولِ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَتُهُمْ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْكَعْبِيُّ أَنَّ هذه اللام لام العاقبة اي ستئول عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ إِلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ. قَالَ الْقَاضِي وَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْعَاقِبَةُ تَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ حَاصِلٌ فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَمِيلَ قُلُوبُ الْكُفَّارِ إِلَى قَبُولِ الْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ وَلَا أَنْ يَرْضَوْهُ وَلَا أَنْ يَقْتَرِفُوا الذَّنْبَ بَلْ يَجِبُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى ان عاقبة أمرهم تؤل إِلَى أَنْ يَقْبَلُوا الْأَبَاطِيلَ وَيَرْضَوْا بِهَا وَيَعْمَلُوا بِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ. قَالَ «اللَّامُ» فِي قَوْلِهِ وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الانعام 112] وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُوحِي إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ لِيُغْرَوْا بِذَلِكَ وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا الذُّنُوبَ وَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّيَاطِينِ مِنْ ذَلِكَ الْإِيحَاءِ هُوَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْمَعَانِي. فَهَذَا جُمْلَةُ مَا ذَكَرُوهُ فِي هَذَا الْبَابِ. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الْجُبَّائِيُّ فَضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ ذَكَرَهَا الْقَاضِي. فَأَحَدُهَا أَنَّ «الْوَاوَ» فِي قَوْلِهِ وَلِتَصْغى تَقْتَضِي تَعَلُّقَهُ بِمَا قَبْلَهُ فَحَمْلُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِعِيدٌ. وَثَانِيهَا أَنَّ «اللَّامَ» فِي قَوْلِهِ وَلِتَصْغى لَامُ كَيْ فَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا لَامُ الْأَمْرِ وَيَقْرُبُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيفًا لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَا يجوز.

[سورة الأنعام (6) : آية 114]

وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ اللَّامُ لَامُ الْعَاقِبَةِ فَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذَا مَجَازٌ وَحَمْلُهُ عَلَى «كَيْ» حَقِيقَةٌ فَكَانَ قَوْلُنَا أَوْلَى. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ فَهُوَ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ لِأَنَّا نَقُولُ إِنَّ قَوْلَهُ: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ الْإِيحَاءِ هُوَ التَّغْرِيرَ وَإِذَا عَطَفْنَا عَلَيْهِ قوله: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فَهَذَا أَيْضًا عَيْنُ التَّغْرِيرِ لَا مَعْنَى التَّغْرِيرِ إِلَّا أَنَّهُ يَسْتَمِيلُهُ إِلَى مَا يَكُونُ بَاطِنُهُ قَبِيحًا وَظَاهِرُهُ حَسَنًا وَقَوْلُهُ: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ عَيْنُ هَذِهِ الِاسْتِمَالَةِ فَلَوْ عَطَفْنَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ عَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَمَّا إِذَا قُلْنَا تَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُوحِيَ/ زُخْرُفَ الْقَوْلِ لِأَجْلِ التَّغْرِيرِ وَإِنَّمَا جَعَلْنَا مِثْلَ هَذَا الشَّخْصِ عَدُوًّا لِلنَّبِيِّ لِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الْكُفَّارِ فَيَبْعُدُوا بِذَلِكَ السَّبَبِ عَنْ قَبُولِ دَعْوَةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ فَثَبَتَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ زَعَمَ أَصْحَابُنَا أَنَّ الْبِنْيَةَ لَيْسَتْ مَشْرُوطًا لِلْحَيَاةِ فَالْحَيُّ هُوَ الْجُزْءُ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحَيَاةُ وَالْعَالِمُ هُوَ الْجُزْءُ الَّذِي قَامَ بِهِ الْعِلْمُ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْحَيُّ وَالْعَالِمُ هُوَ الْجُمْلَةُ لَا ذَلِكَ الْجُزْءُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فَجُعِلَ الْمَوْصُوفُ بِالْمَيْلِ وَالرَّغْبَةِ هُوَ الْقَلْبُ لَا جُمْلَةُ الْحَيِّ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الَّذِينَ قَالُوا الْإِنْسَانُ شَيْءٌ مُغَايِرٌ لِلْبَدَنِ اخْتَلَفُوا مِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمُتَعَلِّقُ الْأَوَّلُ هُوَ الْقَلْبُ وَبِوَاسِطَتِهِ تَتَعَلَّقُ النَّفْسُ بِسَائِرِ الْأَعْضَاءِ كَالدِّمَاغِ وَالْكَبِدِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْقَلْبُ مُتَعَلِّقُ النَّفْسِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالدِّمَاغُ مُتَعَلِّقُ النَّفْسِ الناطقة والكبد مُتَعَلِّقُ النَّفْسِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْأَوَّلُونَ تَعَلَّقُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مَحَلَّ الصَّغْوِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَيْلِ وَالْإِرَادَةِ الْقَلْبَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالنَّفْسِ الْقَلْبُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الكناية في قوله: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ [الانعام: 113] عَائِدَةٌ إِلَى زُخْرُفِ الْقَوْلِ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلِيَرْضَوْهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ فَاعْلَمْ أَنَّ الِاقْتِرَافَ هُوَ الِاكْتِسَابُ يُقَالُ فِي الْمَثَلِ الِاعْتِرَافُ يُزِيلُ الِاقْتِرَافَ كَمَا يُقَالُ التَّوْبَةُ تَمْحُو الْحَوْبَةَ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لِيَقْتَرِفُوا أَيْ لِيَخْتَلِفُوا وليكذبوا والاول أصح. [سورة الأنعام (6) : آية 114] أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لِيُؤْمِنُنَّ بِهَا أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إِظْهَارِ تِلْكَ الْآيَاتِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَظْهَرَهَا لَبَقَوْا مُصِرِّينَ عَلَى كُفْرِهِمْ ثُمَّ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى نُبُوَّتِهِ قَدْ حَصَلَ وَكَمُلَ فَكَانَ مَا يَطْلُبُونَهُ طَلَبًا لِلزِّيَادَةِ وَذَلِكَ مِمَّا

[سورة الأنعام (6) : آية 115]

لَا يَجِبُ الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى نُبُوَّتِهِ قَدْ حَصَلَ لِوَجْهَيْنِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بِنُبُوَّتِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَنْزَلَ إِلَيْهِ الْكِتَابَ الْمُفَصَّلَ الْمُبينَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ وَالْفَصَاحَةِ الْكَامِلَةِ وَقَدْ عَجَزَ الْخَلْقُ عَنْ مُعَارَضَتِهِ فَظُهُورُ مِثْلِ هَذَا الْمُعْجِزِ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ حَكَمَ بِنُبُوَّتِهِ فَقَوْلُهُ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً يَعْنِي قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكُمْ تَتَحَكَّمُونَ فِي طَلَبِ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ فَهَلْ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يُطْلَبَ غَيْرُ اللَّهِ حَكَمًا؟ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَقُولُ إِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ ثُمَّ قُلْ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِي حَيْثُ خَصَّنِي بِمِثْلِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُفَصَّلِ الْكَامِلِ الْبَالِغِ إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْأُمُورِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ اشْتِمَالَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَسُولٌ حَقٌّ وَعَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْوَجْهَانِ مَذْكُورَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرَّعْدِ: 43] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّهْيِيجِ وَالْإِلْهَابِ كَقَوْلِهِ: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: 114] وَالثَّانِي: التَّقْدِيرُ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فِي أَنَّ أَهْلَ الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق وَالثَّالِثُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَلا تَكُونَنَّ خِطَابًا لِكُلِّ وَاحِدٍ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتِ الدَّلَائِلُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْتَرِيَ فِيهَا أَحَدٌ والرابع قِيلَ هَذَا الْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ لِلرَّسُولِ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أُمَّتُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ مُنَزَّلٌ بِالتَّشْدِيدِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّنْزِيلِ وَالْإِنْزَالِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً الْحَكَمُ وَالْحَاكِمُ وَاحِدٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ غَيْرَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ قَالَ الْحَكَمُ أَكْمَلُ مِنَ الْحَاكِمِ لِأَنَّ الْحَاكِمَ كُلُّ مَنْ يَحْكُمُ وَأَمَّا الْحَكَمُ فَهُوَ الَّذِي لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمٌ حَقٌّ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ فَلَمَّا أَظْهَرَ الْمُعْجِزَ الْوَاحِدَ وَهُوَ الْقُرْآنُ فَقَدْ حَكَمَ بِصِحَّةِ هَذِهِ النُّبُوَّةِ وَلَا مَرْتَبَةَ فَوْقَ حُكْمِهِ فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ هَذِهِ النُّبُوَّةِ فَأَمَّا/ أَنَّهُ هَلْ يُظْهِرُ سَائِرَ الْمُعْجِزَاتِ أَمْ لَا؟ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِصِحَّةِ هَذِهِ النُّبُوَّةِ بِوَاسِطَةِ إِظْهَارِ الْمُعْجِزِ الْوَاحِدِ. [سورة الأنعام (6) : آية 115] وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وفيه مسائل [في قُوْلُهُ تَعَالَى وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ بِغَيْرِ أَلِفٍ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْبَاقُونَ كَلِمَاتُ عَلَى الْجَمْعِ قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَاتُ مَعْنَاهُمَا مَا جَاءَ مِنْ وَعْدٍ وَوَعِيدٍ وَثَوَابٍ وَعِقَابٍ فَلَا تَبْدِيلَ فِيهِ وَلَا تَغْيِيرَ لَهُ كَمَا قَالَ: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: 29] فَمَنْ قَرَأَ: كَلِمَاتُ بِالْجَمْعِ قَالَ لِأَنَّ معناها الْجَمْعُ فَوَجَبَ أَنْ يُجْمَعَ فِي اللَّفْظِ وَمَنْ قَرَأَ عَلَى الْوَحْدَةِ فَلِأَنَّهُمْ قَالُوا الْكَلِمَةُ قَدْ يُرَادُ بِهَا الْكَلِمَاتُ الْكَثِيرَةُ إِذَا كَانَتْ مَضْبُوطَةً بِضَابِطٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِمْ قَالَ زُهَيْرٌ فِي كَلِمَتِهِ يَعْنِي قَصِيدَتَهُ وَقَالَ قُسٌّ فِي كَلِمَتِهِ أَيْ خُطْبَتِهِ فَكَذَلِكَ مَجْمُوعُ الْقُرْآنِ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ فِي كَوْنِهِ حَقًّا وَصِدْقًا وَمُعْجِزًا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وَالْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ- الْقُرْآنُ- أَيْ تَمَّ الْقُرْآنُ فِي كَوْنِهِ مُعْجِزًا دَالًّا عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْلُهُ: صِدْقاً وَعَدْلًا أَيْ تَمَّتْ تَمَامًا صِدْقًا وَعَدْلًا وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: صِدْقاً وَعَدْلًا مَصْدَرَانِ يُنْصَبَانِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْكَلِمَةِ تَقْدِيرُهُ صَادِقَةً عَادِلَةً فَهَذَا وَجْهُ تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ تَعَالَى مَوْصُوفَةٌ بِصِفَاتٍ كَثِيرَةٍ فَالصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهَا تَامَّةً وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وَفِي تَفْسِيرِ هَذَا التَّمَامِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا كَافِيَةٌ وَافِيَةٌ بِكَوْنِهَا مُعْجِزَةً دَالَّةً عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَافِيَةٌ فِي بَيَانِ مَا يَحْتَاجُ الْمُكَلَّفُونَ إِلَيْهِ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ عَمَلًا وَعِلْمًا وَالثَّالِثُ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الَّذِي حَصَلَ فِي الْأَزَلِ وَلَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ فَذَلِكَ الَّذِي حَصَلَ فِي الْأَزَلِ هُوَ التَّمَامُ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مُمْتَنِعَةٌ وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ صِفَاتِ كَلِمَةِ اللَّهِ كَوْنُهَا صِدْقًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْكَذِبَ نَقْصٌ وَالنَّقْصُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَلَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ أَنَّ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ لِأَنَّ صِحَّةَ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى أَنَّ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ فَلَوْ أَثْبَتْنَا امْتِنَاعَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ لَزِمَ الدَّوْرُ وَهُوَ بَاطِلٌ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ كَمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخُلْفَ فِي وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ فَهُوَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخُلْفَ فِي وَعِيدِهِ مُحَالٌ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها [النساء: 93] أَنَّ الْخُلْفَ فِي وَعِيدِ اللَّهِ جَائِزٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ وَوَعِيدَهُ كَلِمَةُ اللَّهِ فَلَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ يَجِبُ كَوْنُهَا مَوْصُوفَةً بِالصِّدْقِ عَلَى أَنَّ الْخُلْفَ كَمَا أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فِي الْوَعْدِ فَكَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي الْوَعِيدِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ صِفَاتِ كَلِمَاتِ اللَّهِ كَوْنُهَا عَدْلًا وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ أَنَّ كُلَّ مَا حَصَلَ فِي الْقُرْآنِ نَوْعَانِ الْخَبَرُ وَالتَّكْلِيفُ أَمَّا الْخَبَرُ فَالْمُرَادُ كُلُّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ وُجُودِهِ أَوْ عَنْ عَدَمِهِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْخَبَرُ عَنْ وُجُودِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ حُصُولِ صِفَاتِهِ أَعْنِي كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا قَادِرًا سَمِيعًا بَصِيرًا وَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِخْبَارُ عَنْ صِفَاتِ التَّقْدِيسِ وَالتَّنْزِيهِ كَقَوْلِهِ: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الْإِخْلَاصِ: 3] وَكَقَوْلِهِ: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [الْبَقَرَةِ: 255] وَيَدْخُلُ فِيهِ الْخَبَرُ عَنْ أَقْسَامِ افعال الله وكيفية تدبيره لملكوت السموات وَالْأَرْضِ وَعَالَمَيِ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ أَمْرٍ عَنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْخَبَرُ عَنْ أَحْوَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْخَبَرُ عَنِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْخَبَرِ وَأَمَّا التَّكْلِيفُ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ تَوَجَّهَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ عَلَى عَبْدِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْعَبْدُ ملكا او بشر أَوْ جِنِّيًّا أَوْ شَيْطَانًا وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي شَرْعِنَا أَوْ فِي شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الْمُتَقَدِّمِينَ أَوْ فِي شَرَائِعِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ الذين هم سكان السموات وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْعَرْشِ وَمَا وَرَاءَهُ مِمَّا لَا يَعْلَمُ أَحْوَالَهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا عَرَفْتَ انْحِصَارَ مَبَاحِثِ الْقُرْآنِ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ فَنَقُولُ قَالَ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً إِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ: وَعَدْلًا إِنْ كَانَ مِنْ بَابِ التَّكَالِيفِ وَهَذَا ضَبْطٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَعَدْلًا أَنَّ كُلَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ وَعْدٍ وَوَعِيدٍ وَثَوَابٍ وَعِقَابٍ

[سورة الأنعام (6) : الآيات 116 إلى 117]

فَهُوَ صِدْقٌ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ وَاقِعًا وَهُوَ بَعْدَ وُقُوعِهِ عَدْلٌ لِأَنَّ أَفْعَالَهُ مُنَزَّهَةٌ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَوْصُوفَةً بِصِفَةِ الظُّلْمِيَّةِ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ صِفَاتِ كَلِمَةِ اللَّهِ قَوْلُهُ: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ أَنَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أَنَّهَا تَامَّةٌ فِي كَوْنِهَا مُعْجِزَةً دَالَّةً عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ. ثُمَّ قَالَ: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ يُلْقُونَ الشُّبَهَاتِ فِي كَوْنِهَا دالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الشُّبَهَاتِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي هَذِهِ الدَّلَائِلِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ التَّبْدِيلَ الْبَتَّةَ لِأَنَّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ ظَاهِرَةٌ بَاقِيَةٌ جَلِيَّةٌ قَوِيَّةٌ لَا تَزُولُ بِسَبَبِ تُرَّهَاتِ الْكُفَّارِ وَشُبُهَاتِ أُولَئِكَ الْجُهَّالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهَا تَبْقَى مَصُونَةً عَنِ التَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحِجْرِ: 9] . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهَا مَصُونَةٌ عَنِ التَّنَاقُضِ كَمَا قَالَ: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاءِ: 82] وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَقْبَلُ التَّبْدِيلَ وَالزَّوَالَ لِأَنَّهَا أَزَلِيَّةٌ وَالْأَزَلِيُّ لَا يَزُولُ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ أَحَدُ الْأُصُولِ الْقَوِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْجَبْرِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ عَلَى زَيْدٍ بِالسَّعَادَةِ وَعَلَى عَمْرٍو بِالشَّقَاوَةِ ثم قال: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ يَلْزَمُ امْتِنَاعُ أَنْ يَنْقَلِبَ السَّعِيدُ شَقِيًّا وَأَنْ يَنْقَلِبَ الشَّقِيُّ سَعِيدًا فَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَالشَّقِيُّ مَنْ شقي في بطن امه. [سورة الأنعام (6) : الآيات 116 الى 117] وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَجَابَ عَنْ شُبُهَاتِ الْكُفَّارِ ثُمَّ بَيَّنَ بِالدَّلِيلِ صِحَّةَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيَّنَ أَنَّ بَعْدَ زَوَالِ الشُّبْهَةِ وَظُهُورِ الْحُجَّةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَفِتَ الْعَاقِلُ إِلَى كَلِمَاتِ الْجُهَّالِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَشَوَّشَ بِسَبَبِ كَلِمَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ فَقَالَ: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَرْضِ كَانُوا ضُلَّالًا لِأَنَّ الْإِضْلَالَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالضَّلَالِ وَاعْلَمْ أَنَّ حُصُولَ هَذَا الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَوَّلُهَا: الْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْإِلَهِيَّاتِ فَإِنَّ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدٌ وَأَمَّا الْبَاطِلُ فَفِيهِ كَثْرَةٌ وَمِنْهَا الْقَوْلُ بِالشِّرْكِ أَمَّا كَمَا تَقُولُهُ الزَّنَادِقَةُ/ وَهُوَ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَامِ: 100] وَإِمَّا كَمَا يَقُولُهُ عَبَدَةُ الْكَوَاكِبِ وَإِمَّا كَمَا يَقُولُهُ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ وَثَانِيهَا: الْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنُّبُوَّاتِ إِمَّا كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يُنْكِرُ النُّبُوَّةَ مُطْلَقًا أَوْ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يُنْكِرُ النَّشْرَ أَوْ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يُنْكِرُ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ الْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَعَادِ وَثَالِثُهَا: الْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْأَحْكَامِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ فَإِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُحَرِّمُونَ الْبَحَائِرَ وَالسَّوَائِبَ وَالْوَصَائِلَ وَيُحَلِّلُونَ الْمَيْتَةَ فَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ فِيمَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنَ الْحُكْمِ عَلَى الْبَاطِلِ بِأَنَّهُ حَقٌّ وَعَلَى الْحَقِّ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ عَنِ الطَّرِيقِ وَالْمَنْهَجِ الصِّدْقِ.

ثُمَّ قَالَ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ الَّذِينَ يُنَازِعُونَكَ فِي دِينِكَ وَمَذْهَبِكَ غَيْرُ قَاطِعِينَ بِصِحَّةِ مَذَاهِبِهِمْ بَلْ لَا يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَهُمْ خَرَّاصُونَ كَذَّابُونَ فِي ادِّعَاءِ الْقَطْعِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُونَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الظَّنِّ رُجُوعُهُمْ فِي إِثْبَاتِ مَذَاهِبِهِمْ إِلَى تَقْلِيدِ أَسْلَافِهِمْ لَا إِلَى تَعْلِيلٍ أَصْلًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا رَأَيْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَالَغَ فِي ذَمِّ الْكُفَّارِ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ مُتَّبِعِينَ لِلظَّنِّ وَالشَّيْءُ الَّذِي يَجْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى مُوجِبًا لِذَمِّ الْكُفَّارِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِي أَقْصَى مَرَاتِبِ الذَّمِّ وَالْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ يُوجِبُ اتِّبَاعَ الظَّنِّ فَوَجَبَ كَوْنُهُ مَذْمُومًا مُحَرَّمًا لَا يُقَالُ لَمَّا وَرَدَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ بِكَوْنِهِ حُجَّةً كَانَ الْعَمَلُ بِهِ عَمَلًا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ لَا بِدَلِيلٍ مَظْنُونٍ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا مَدْفُوعٌ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَقْلِيًّا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَمْعِيًّا وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا مَجَالَ لَهُ فِي أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ جَائِزٌ أَوْ غَيْرُ جَائِزٍ لَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يُنْكِرُ تَحْسِينَ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحَهُ وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ إِنَّمَا يَكُونُ قَاطِعًا لَوْ كَانَ مُتَوَاتِرًا وَكَانَتْ أَلْفَاظُهُ غَيْرَ مُحْتَمِلَةٍ لِوَجْهٍ آخَرَ سِوَى هَذَا الْمَعْنَى الْوَاحِدِ وَلَوْ حَصَلَ مِثْلُ هَذَا الدَّلِيلِ لَعَلِمَ النَّاسُ بِالضَّرُورَةِ كَوْنَ الْقِيَاسِ حُجَّةً وَلَارْتَفَعَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ فَحَيْثُ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ مَفْقُودٌ الثَّانِي: هَبْ أَنَّهُ وُجِدَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ إِلَّا أَنَّ مَعَ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ إِلَّا مَعَ اتِّبَاعِ الظَّنِّ وَبَيَانُهُ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْقِيَاسِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَقَامَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ مُعَلَّلٌ بِكَذَا وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى حَاصِلٌ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ فَهَذَانِ الْمَقَامَانِ إِنْ كَانَا مَعْلُومَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ فَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ فِي صِحَّتِهِ وَإِنْ كَانَ مَجْمُوعُهُمَا أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ظَنِّيًّا فَحِينَئِذٍ لَا يَتِمُّ الْعَمَلُ/ بِهَذَا الْقِيَاسِ إِلَّا بِمُتَابَعَةِ الظَّنِّ وَحِينَئِذٍ يَنْدَرِجُ تَحْتَ النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ مُتَابَعَةَ الظَّنِّ مَذْمُومَةٌ. وَالْجَوَابُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الظَّنُّ عِبَارَةٌ عَنِ الِاعْتِقَادِ الرَّاجِحِ إِذَا لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى أَمَارَةٍ وَهُوَ مِثْلُ اعْتِقَادِ الْكُفَّارِ أَمَّا إِذَا كَانَ الِاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ مُسْتَنِدًا إِلَى أَمَارَةٍ فَهَذَا الِاعْتِقَادُ لَا يُسَمَّى ظَنًّا وَبِهَذَا الطَّرِيقِ سَقَطَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّكَ بَعْدَ مَا عَرَفْتَ أَنَّ الْحَقَّ مَا هُوَ وَأَنَّ الْبَاطِلَ مَا هُوَ فَلَا تَكُنْ فِي قَيْدِهِمْ بَلْ فَوِّضْ أَمْرَهُمْ إِلَى خَالِقِهِمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَنَّ الْمُهْتَدِيَ مَنْ هُوَ؟ وَالضَّالَّ مَنْ هُوَ؟ فَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ بِمَا يَلِيقُ بِعَمَلِهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ وَإِنْ أَظْهَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمُ ادِّعَاءَ الْجَزْمِ وَالْيَقِينِ فَهُمْ كَاذِبُونَ وَاللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَحْوَالِ قُلُوبِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ وَمُطَّلِعٌ عَلَى كَوْنِهِمْ مُتَحَيِّرِينَ فِي سَبِيلِ الضَّلَالِ تَائِهِينَ فِي أَوْدِيَةِ الْجَهْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ قَالَ بَعْضُهُمْ أَعْلَمُ هَاهُنَا بِمَعْنَى يَعْلَمُ وَالتَّقْدِيرُ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ مَنْ يضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين فان قيل فهذا يوجب وقوع التفاوت في علم الله تعالى وهو محال.

[سورة الأنعام (6) : آية 118]

قُلْنَا لَا شَكَّ أَنَّ حُصُولَ التَّفَاوُتِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّ الْعِنَايَةَ بِإِظْهَارِ هِدَايَةِ الْمُهْتَدِينَ فَوْقَ الْعِنَايَةِ بِإِظْهَارِ ضَلَالِ الضَّالِّينَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: 7] فَذَكَرَ الْإِحْسَانَ مَرَّتَيْنِ وَالْإِسَاءَةَ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالثَّانِي: أَنَّ مَوْضِعَ: مَنْ رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَلَفْظُهَا لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ وَالْمَعْنَى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ أَيُّ النَّاسِ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ: قَالَ وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى [الْكَهْفِ: 12] وَهَذَا قَوْلُ الْمُبَرِّدِ وَالزَّجَّاجِ والكسائي والفراء. [سورة الأنعام (6) : آية 118] فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ نَذْكُرُهَا فِي مَعْرِضِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ السُّؤَالُ الْأَوَّلُ «الْفَاءُ» فِي قَوْلِهِ: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقْتَضِي تَعَلُّقًا بِمَا تَقَدَّمَ فَمَا ذَلِكَ الشَّيْءُ؟ وَالْجَوَابُ قَوْلُهُ فَكُلُوا مُسَبَّبٌ عَنْ إِنْكَارِ اتِّبَاعِ الْمُضِلِّينَ الَّذِينَ يُحَلِّلُونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِلْمُسْلِمِينَ إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تَعْبُدُونَ اللَّهَ فَمَا قَتَلَهُ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ/ تَأْكُلُوهُ مِمَّا قَتَلْتُمُوهُ أَنْتُمْ فَقَالَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ إِنْ كُنْتُمْ مُتَحَقِّقِينَ بِالْإِيمَانِ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُذَكَّى بِبَسْمِ اللَّهِ. السُّؤَالُ الثَّانِي الْقَوْمُ كَانُوا يُبِيحُونَ أَكْلَ مَا ذُبِحَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ وَلَا يُنَازِعُونَ فِيهِ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهُمْ أَيْضًا كَانُوا يُبِيحُونَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَالْمُسْلِمُونَ كَانُوا يُحَرِّمُونَهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ وُرُودُ الْأَمْرِ بِإِبَاحَةِ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَبَثًا لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْحُكْمِ فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَتَرْكَ الْحُكْمِ فِي الْمُخْتَلَفِ فِيهِ. وَالْجَوَابُ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ لَعَلَّ الْقَوْمَ كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَكْلَ الْمُذَكَّاةِ وَيُبِيحُونَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ فَاللَّهُ تَعَالَى رَدَّ عَلَيْهِمْ فِي الْأَمْرَيْنِ فَحَكَمَ بِحِلِّ الْمُذَكَّاةِ بِقَوْلِهِ: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَبِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ الثَّانِي: أَنْ نَحْمِلَ قَوْلَهُ: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ اجْعَلُوا أَكْلَكُمْ مَقْصُورًا عَلَى مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَحْرِيمَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَقَطْ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْأَمْرِ وَهِيَ لِلْإِبَاحَةِ وَهَذِهِ الْإِبَاحَةُ حَاصِلَةٌ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ وَغَيْرِ الْمُؤْمِنِ وَكَلِمَةُ (إِنْ) فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ تُفِيدُ الِاشْتِرَاطَ وَالْجَوَابُ التَّقْدِيرُ لِيَكُنْ أَكْلُكُمْ مَقْصُورًا عَلَى مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِإِبَاحَةِ أَكْلِ الميتة لقدح ذلك في كونه مؤمنا. [سورة الأنعام (6) : آية 119] وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ بِالْفَتْحِ فِي الْحَرْفَيْنِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالضَّمِّ فِي الْحَرْفَيْنِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ/ فَصَّلَ بالفتح وَحُرِّمَ بِالضَّمِّ فَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ فِي الْحَرْفَيْنِ فَقَدِ احْتَجَّ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّهُ تَمَسَّكَ فِي فَتْحِ قَوْلِهِ: فَصَّلَ بِقَوْلِهِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ [الانعام: 97 98 126] وَفِي فَتْحِ قَوْلِهِ: حَرَّمَ بِقَوْلِهِ: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ [الانعام: 151] .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ: مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُسْنَدًا إِلَى الْفَاعِلِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا بِالضَّمِّ فِي الْحَرْفَيْنِ فَحُجَّتُهُمْ قَوْلُهُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة: 3] وَقَوْلُهُ: حُرِّمَتْ تَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَلَمَّا وَجَبَ فِي التَّفْصِيلِ أَنْ يُقَالَ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ بِفِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَجَبَ فِي الْإِجْمَالِ كَذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ وَلَمَّا ثَبَتَ وُجُوبُ حَرَّمَ بِضَمِّ الْحَاءِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ: فُصِّلَ بِضَمِّ الْفَاءِ لِأَنَّ هَذَا الْمُفَصَّلَ هُوَ ذَلِكَ الْمُحَرَّمُ الْمُجْمَلُ بِعَيْنِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا [الانعام: 114] وَقَوْلُهُ: مُفَصَّلًا يَدُلُّ عَلَى فَصَّلَ وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ فَصَّلَ بِالْفَتْحِ وَحُرِّمَ بِالضَّمِّ فَحُجَّتُهُ فِي قَوْلِهِ: فَصَّلَ قَوْلُهُ: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ وَفِي قَوْلِهِ: حَرَّمَ قَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا الْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ مَكِّيَّةٌ وَسُورَةَ الْمَائِدَةِ مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ آخِرُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِالْمَدِينَةِ وَقَوْلُهُ وَقَدْ فَصَّلَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُفَصَّلُ مُقَدَّمًا عَلَى هَذَا الْمُجْمَلِ وَالْمَدَنِيُّ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْمَكِّيِّ وَالْمُتَأَخِّرُ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ مُتَقَدِّمًا بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ [الْأَنْعَامِ 145] وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ مَذْكُورَةً بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَلِيلٍ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ التَّأْخِيرِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهُ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ أَيْ دَعَتْكُمُ الضَّرُورَةُ إِلَى أَكْلِهِ بِسَبَبِ شِدَّةِ الْمَجَاعَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: لَيُضِلُّونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَذَلِكَ فِي يُونُسَ: رَبَّنا لِيُضِلُّوا [يونس: 88] وفي ابراهيم: لِيُضِلُّوا [ابراهيم: 30] وفي الحج: ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ [الحج: 9] وفي لقمان لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ [لقمان: 6] وفي الزمر: أَنْداداً لِيُضِلَّ [الزمر: 8] وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ جَمِيعَ ذَلِكَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ هَاهُنَا وَفِي يُونُسَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَفِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ بِالضَّمِّ فَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ أَشَارَ إِلَى كَوْنِهِ ضَالًّا وَمَنْ قَرَأَ بِالضَّمِّ أَشَارَ إِلَى كَوْنِهِ مُضِلًّا قَالَ وَهَذَا أَقْوَى فِي الذَّمِّ لِأَنَّ كُلَّ مُضِلٍّ فَإِنَّهُ يَجِبُ كَوْنُهُ ضَالًّا وَقَدْ يَكُونُ ضَالًّا وَلَا يَكُونُ مُضِلًّا فَالْمُضِلُّ أَكْثَرُ اسْتِحْقَاقًا لِلذَّمِّ مِنَ الضَّالِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَيُضِلُّونَ قِيلَ إِنَّهُ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ فَمَنْ دُونَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ وَاتَّخَذَ الْبَحَائِرَ وَالسَّوَائِبَ وَأَكَلَ الْمَيْتَةَ وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ عِلْمٍ يُرِيدُ أَنَّ/ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ أَقْدَمَ عَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ عَنِ الْجَهَالَةِ الصِّرْفَةِ وَالضَّلَالَةِ الْمَحْضَةِ وَقَالَ الزَّجَّاجُ الْمُرَادُ مِنْهُ الَّذِينَ يُحَلِّلُونَ الْمَيْتَةَ وَيُنَاظِرُونَكُمْ فِي إِحْلَالِهَا وَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِمْ لَمَّا حَلَّ مَا تَذْبَحُونَهُ أَنْتُمْ فَبِأَنْ يَحِلَّ مَا يَذْبَحُهُ اللَّهُ أَوْلَى وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَضِلُّونَ فِيهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالطَّعْنِ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ فِيهِ الْهَوَى وَالشَّهْوَةَ وَلَا بَصِيرَةَ عِنْدَهُمْ وَلَا عِلْمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ فِي الدِّينِ بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ حَرَامٌ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّقْلِيدِ قَوْلٌ بِمَحْضِ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ ذلك حرام.

[سورة الأنعام (6) : آية 120]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ هُوَ الْعَالِمُ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ وَضَمَائِرِهِمْ مِنَ التَّعَدِّي وَطَلَبِ نُصْرَةِ الْبَاطِلِ وَالسَّعْيِ فِي إِخْفَاءِ الْحَقِّ، وَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِأَحْوَالِهِمْ وَكَانَ قَادِرًا عَلَى مُجَازَاتِهِمْ فَهُوَ تَعَالَى يُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ التهديد والتخويف والله اعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 120] وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ فَصَّلَ الْمُحَرَّمَاتِ أَتْبَعَهُ بِمَا يُوجِبُ تَرْكَهَا بِالْكُلِّيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ وَالْمُرَادُ مِنَ الْإِثْمِ مَا يُوجِبُ الْإِثْمَ وَذَكَرُوا فِي ظَاهِرِ الْإِثْمِ وَبَاطِنِهِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ظاهِرَ الْإِثْمِ الْإِعْلَانُ بِالزِّنَا وَباطِنَهُ الِاسْتِسْرَارُ بِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَرَوْنَ الزِّنَا حَلَالًا مَا كَانَ سِرًّا فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ السِّرَّ مِنْهُ وَالْعَلَانِيَةَ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا النَّهْيَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ تَخْصِيصَ اللَّفْظِ الْعَامِّ بِصُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ غَيْرُ جَائِزٍ ثُمَّ قِيلَ: الْمُرَادُ مَا أَعْلَنْتُمْ وَمَا أَسْرَرْتُمْ وَقِيلَ: مَا عَمِلْتُمْ وَمَا نَوَيْتُمْ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يُرِيدُ وَذَرُوا الْإِثْمَ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ كَمَا تَقُولُ: مَا أَخَذْتُ مِنْ هَذَا الْمَالِ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا تُرِيدُ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى الْآيَةِ النَّهْيُ عَنِ الْإِثْمِ مَعَ بَيَانِ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ كَوْنِهِ إِثْمًا بِسَبَبِ إِخْفَائِهِ وَكِتْمَانِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ النَّهْيُ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْإِثْمِ ثُمَّ قَالَ: وَباطِنَهُ لِيَظْهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الدَّاعِيَ لَهُ إِلَى تَرْكِ ذَلِكَ الْإِثْمِ خَوْفُ اللَّهِ لَا خَوْفُ النَّاسِ وَقَالَ آخَرُونَ: ظاهِرَ الْإِثْمِ أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ: وَباطِنَهُ أَفْعَالُ الْقُلُوبِ مِنَ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالْعُجْبِ وَإِرَادَةِ السَّوْءِ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَدْخُلُ فِيهِ الِاعْتِقَادُ وَالْعَزْمُ وَالنَّظَرُ وَالظَّنُّ وَالتَّمَنِّي وَاللَّوْمُ عَلَى الْخَيْرَاتِ وَبِهَذَا/ يَظْهَرُ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مَا يُوجَدُ فِي الْقَلْبِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عَمَلٌ فَإِنَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ كُلِّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ وَمَعْنَى الِاقْتِرَافِ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَظَاهِرُ النَّصِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُعَاقَبَ الْمُذْنِبُ إِلَّا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَابَ لَمْ يُعَاقَبْ وَأَصْحَابُنَا زَادُوا شَرْطًا ثَانِيًا وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَعْفُو عَنِ الْمُذْنِبِ فَيَتْرُكُ عِقَابَهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] . [سورة الأنعام (6) : آية 121] وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُ مَا ذُبِحَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ ذَكَرَ بَعْدَهُ تَحْرِيمَ مَا لَمْ يُذْكَرْ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ وَيَدْخُلْ فِيهِ الْمَيْتَةُ وَيَدْخُلْ فِيهِ مَا ذُبِحَ عَلَى ذِكْرِ الْأَصْنَامِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إِبْطَالُ مَا ذَكَرَهُ الْمُشْرِكُونَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نُقِلَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَا لَمْ يُذْكَرْ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ فَهُوَ حَرَامٌ تَمَسُّكًا بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمَّا سَائِرُ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى تَخْصِيصِ هَذَا الْعُمُومِ بِالذَّبْحِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّ ذَبْحٍ لَمْ يُذْكَرْ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ فَهُوَ حَرَامٌ سَوَاءٌ تُرِكَ ذَلِكَ الذِّكْرُ عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ

وَطَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنْ تُرِكَ الذِّكْرُ عَمْدًا حَرُمَ وَإِنْ تُرِكَ نِسْيَانًا حَلَّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَحِلُّ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ سَوَاءٌ تُرِكَ عمدا او خطأ إذا كان أَهْلًا لِلذَّبْحِ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ [الْمَائِدَةِ: 3] فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا النَّهْيُ مَخْصُوصٌ بِمَا إِذَا ذُبِحَ عَلَى اسْمِ النُّصُبِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفَسِّقُ أَكْلَ ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ الَّذِي تَرَكَ التَّسْمِيَةَ وَثَانِيهَا: قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَهَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ إِنَّمَا كَانَتْ فِي مَسْأَلَةِ الْمَيْتَةِ رُوِيَ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: مَا يَقْتُلُهُ الصَّقْرُ وَالْكَلْبُ تَأْكُلُونَهُ وَمَا يَقْتُلُهُ اللَّهُ فَلَا تَأْكُلُونَهُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: / تَأْكُلُونَ مَا تَقْتُلُونَهُ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا يَقْتُلُهُ اللَّهُ فَهَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ مَخْصُوصَةٌ بِأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ وَهَذَا مَخْصُوصٌ بِمَا ذُبِحَ عَلَى اسْمِ النُّصُبِ يَعْنِي لَوْ رَضِيتُمْ بِهَذِهِ الذَّبِيحَةِ الَّتِي ذُبِحَتْ عَلَى اسْمِ إِلَهِيَّةِ الْأَوْثَانِ فَقَدْ رَضِيتُمْ بِإِلَهِيَّتِهَا وَذَلِكَ يُوجِبُ الشِّرْكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَوَّلُ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ عَامًّا بِحَسَبِ الصِّيغَةِ إِلَّا أَنَّ آخِرَهَا لَمَّا حَصَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْقُيُودُ الثَّلَاثَةُ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ هُوَ هَذَا الْخُصُوصُ وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ فَقَدْ صَارَ هَذَا النَّهْيُ مَخْصُوصًا بِمَا إِذَا كَانَ هَذَا الْأَمْرُ فِسْقًا ثُمَّ طَلَبْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ مَتَى يَصِيرُ فِسْقًا؟ فَرَأَيْنَا هَذَا الْفِسْقَ مُفَسَّرًا فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهُوَ قَوْلَهُ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الْأَنْعَامِ: 145] فَصَارَ الْفِسْقُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُفَسَّرًا بِمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ مَخْصُوصًا بِمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَالْمَقَامُ الثَّانِي: أَنْ نَتْرُكَ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ الْمُخَصِّصَاتِ لَكِنْ نَقُولُ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ ذِكْرُ اللَّهِ هَاهُنَا؟ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ذِكْرُ اللَّهِ مَعَ الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ قَالَ أَوْ لَمْ يَقُلْ» وَيُحْمَلْ هَذَا الذِّكْرُ عَلَى ذِكْرِ الْقَلْبِ. وَالْمَقَامُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: هَبْ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ إِلَّا أَنَّ سَائِرَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تُوجِبُ الْحِلَّ وَمَتَى تَعَارَضَتْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّاجِحُ هُوَ الْحِلَّ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَأْكُولَاتِ الْحِلُّ وَأَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْعُمُومَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحِلِّ الْأَكْلِ وَالِانْتِفَاعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَةِ: 29] وَقَوْلِهِ: كُلُوا وَاشْرَبُوا [الْبَقَرَةِ: 60] لِأَنَّهُ مُسْتَطَابٌ بِحَسَبِ الْحِسِّ فَوَجَبَ أَنْ يَحِلَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [المائدة: 4] وَلِأَنَّهُ مَالٌ لِأَنَّ الطَّبْعَ يَمِيلُ إِلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُحَرَّمَ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ فَهَذَا تَقْرِيرُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَنَقُولُ: الْأَوْلَى بِالْمُسْلِمِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْهُ لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذَا النَّصِّ قَوِيٌّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَأْكُلُوا يَدُلُّ عَلَى الْأَكْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ فَهَذَا الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى هَذَا الْمَصْدَرِ وَالثَّانِي: كَأَنَّهُ جَعَلَ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ فِسْقًا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ من الشياطين

[سورة الأنعام (6) : آية 122]

هَاهُنَا إِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ وَسْوَسُوا إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ مِنَ المشركين ليجادلوا محمدا صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ/ وَأَصْحَابَهُ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ. وَالثَّانِي: قَالَ عِكْرِمَةُ: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ يَعْنِي مَرَدَةَ الْمَجُوسِ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا نَزَلْ تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ سَمِعَهُ الْمَجُوسُ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ فَكَتَبُوا إِلَى قُرَيْشٍ وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ مُكَاتَبَةٌ أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ أَمْرَ اللَّهِ ثُمَّ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا يَذْبَحُونَهُ حَلَالٌ وَمَا يَذْبَحُهُ اللَّهُ حَرَامٌ فَوَقَعَ فِي أَنْفُسِ نَاسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ يَعْنِي فِي اسْتِحْلَالِ الْمَيْتَةِ: إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ كُلَّ مَنْ أَهَلَّ شَيْئًا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ حَرَّمَ شَيْئًا مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ مُشْرِكٌ وَإِنَّمَا سُمِّيَ مُشْرِكًا لِأَنَّهُ أَثْبَتَ حَاكِمًا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ: الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ اسْمٌ لِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ التَّصْدِيقَ كَمَا جَعَلَ تَعَالَى الشِّرْكَ اسْمًا لِكُلِّ مَا كَانَ مُخَالِفًا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ مُخْتَصًّا بِمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى طَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُشْرِكِينَ فِي إِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ شِرْكًا وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الشِّرْكِ هَاهُنَا اعْتِقَادَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرِيكًا فِي الْحُكْمِ وَالتَّكْلِيفِ؟ وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ يَرْجِعُ مَعْنَى هَذَا الشِّرْكِ الى الاعتقاد فقط. [سورة الأنعام (6) : آية 122] أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (122) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُجَادِلُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِي دِينِ اللَّهِ ذَكَرَ مَثَلًا يَدُلُّ عَلَى حَالِ الْمُؤْمِنِ الْمُهْتَدِي وَعَلَى حَالِ الْكَافِرِ الضَّالِّ فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُهْتَدِيَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ مَيْتًا فَجُعِلَ حَيًّا بَعْدَ ذَلِكَ وَأُعْطِيَ نُورًا يَهْتَدِي بِهِ فِي مَصَالِحِهِ وَأَنَّ الْكَافِرَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ هُوَ فِي ظُلُمَاتٍ مُنْغَمِسٌ فِيهَا لَا خَلَاصَ لَهُ مِنْهَا فَيَكُونُ مُتَحَيِّرًا عَلَى الدَّوَامِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ وَعِنْدَ هَذَا عَادَتْ مَسْأَلَةُ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ/ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: ذَلِكَ الْمُزَيِّنُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَدَلِيلُهُ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ الدَّاعِي وَحُصُولُهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّاعِي عِبَارَةٌ عَنْ عِلْمٍ أَوِ اعْتِقَادٍ أَوْ ظَنٍّ بِاشْتِمَالِ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَلَى نَفْعٍ زَائِدٍ وَصَلَاحٍ رَاجِحٍ فَهَذَا الدَّاعِي لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا هَذَا التَّزْيِينُ فَإِذَا كَانَ مُوجِدُ هَذَا الدَّاعِي هُوَ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ الْمُزَيِّنُ لَا مَحَالَةَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: ذَلِكَ الْمُزَيِّنُ هُوَ الشَّيْطَانُ وَحَكَوْا عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: زَيَّنَهُ لَهُمْ وَاللَّهِ الشَّيْطَانُ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْمَثَلَ مَذْكُورٌ لِيَمِيزَ اللَّهُ حَالَ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الشَّيْطَانُ فَإِنْ كَانَ إِقْدَامُ ذَلِكَ الشَّيْطَانِ عَلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ لِشَيْطَانٍ آخَرَ لَزِمَ الذَّهَابُ إِلَى مزين آخر غَيْرِ النِّهَايَةِ وَإِلَّا فَلَا بُدَّ مِنْ مُزَيِّنٍ آخَرَ سِوَى الشَّيْطَانِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْمُزَيِّنَ لَيْسَ إِلَّا هُوَ فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا أَمَّا قَبْلَهَا فَقَوْلُهُ: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الانعام: 108] وَأَمَّا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ

فَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها [الانعام: 123] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ قَرَأَ نَافِعٌ مَيِّتًا مُشَدَّدًا وَالْبَاقُونَ مُخَفَّفًا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْمَيْتُ مُخَفَّفًا تَخْفِيفُ مَيِّتٍ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ ثُقِّلَ أَوْ خُفِّفَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: قَدْ وَصَفَ الْكُفَّارَ بِأَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ فِي قَوْلِهِ: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النَّحْلِ: 21] وَأَيْضًا فِي قَوْلِهِ: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا [يس: 70] وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النِّمْلِ: 80] وَفِي قَوْلِهِ: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ... وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ [فاطر: 19 و 22] فَلَمَّا جُعِلَ الْكُفْرُ مَوْتًا وَالْكَافِرُ مَيِّتًا جُعِلَ الْهُدَى حَيَاةً وَالْمُهْتَدِي حَيًّا وَإِنَّمَا جُعِلَ الْكُفْرُ مَوْتًا لِأَنَّهُ جَهْلٌ وَالْجَهْلُ يُوجِبُ الْحَيْرَةَ وَالْوَقْفَةَ فَهُوَ كَالْمَوْتِ الَّذِي يُوجِبُ السُّكُونَ وَأَيْضًا الْمَيِّتُ لَا يَهْتَدِي إِلَى شَيْءٍ وَالْجَاهِلُ كَذَلِكَ وَالْهُدَى عِلْمٌ وَبَصَرٌ وَالْعِلْمُ وَالْبَصَرُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الرُّشْدِ وَالْفَوْزِ بِالنَّجَاةِ وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَأَحْيَيْناهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا النُّورُ مُغَايِرًا لِتِلْكَ الْحَيَاةِ وَالَّذِي يَخْطُرُ بِالْبَالِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ لَهَا أَرْبَعُ مَرَاتِبَ فِي الْمَعْرِفَةِ فَأَوَّلُهَا: كَوْنُهَا مُسْتَعِدَّةً لِقَبُولِ هَذِهِ الْمَعَارِفِ وَذَلِكَ الِاسْتِعْدَادُ الْأَصْلِيُّ يَخْتَلِفُ فِي الْأَرْوَاحِ فَرُبَّمَا كَانَتِ الرُّوحُ مَوْصُوفَةً بِاسْتِعْدَادٍ كَامِلٍ قَوِيٍّ شَرِيفٍ وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ الِاسْتِعْدَادُ قَلِيلًا ضَعِيفًا وَيَكُونُ صَاحِبُهُ بَلِيدًا نَاقِصًا. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُحَصِّلَ لَهَا الْعُلُومَ الْكُلِّيَّةَ الْأَوَّلِيَّةَ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْعَقْلِ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُحَاوِلَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ تَرْكِيبَ تِلْكَ الْبَدِيهِيَّاتِ: وَيَتَوَصَّلَ بِتَرْكِيبِهَا إِلَى/ تَعَرُّفِ الْمَجْهُولَاتِ الْكَسْبِيَّةِ إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْمَعَارِفَ رُبَّمَا لَا تَكُونُ حَاضِرَةً بِالْفِعْلِ وَلَكِنَّهَا تَكُونُ بِحَيْثُ مَتَى شَاءَ صَاحِبُهَا اسْتِرْجَاعَهَا وَاسْتِحْضَارَهَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَعَارِفُ الْقُدُسِيَّةُ وَالْجَلَايَا الرُّوحَانِيَّةُ حَاضِرَةً بِالْفِعْلِ وَيَكُونُ جَوْهَرُ ذَلِكَ الرُّوحِ مُشْرِقًا بِتِلْكَ الْمَعَارِفِ مُسْتَضِيئًا بِهَا مُسْتَكْمَلًا بِظُهُورِهَا فِيهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: وَهِيَ حُصُولُ الِاسْتِعْدَادِ فَقَطْ هِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْمَوْتِ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَنْ تَحْصُلَ الْعُلُومُ الْبَدِيهِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ فِيهِ فَهِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: فَأَحْيَيْناهُ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ تَرْكِيبُ الْبَدِيهِيَّاتِ حَتَّى يُتَوَصَّلَ بِتَرْكِيبَاتِهَا إِلَى تَعَرُّفِ الْمَجْهُولَاتِ النَّظَرِيَّةِ فَهِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً. وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ قَوْلُهُ: يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ مُسْتَحْضِرًا لِتِلْكَ الْجَلَايَا الْقُدُسِيَّةِ نَاظِرًا إِلَيْهَا وَعِنْدَ هَذَا تَتِمُّ دَرَجَاتُ سِعَادَاتِ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا الْحَيَاةُ عِبَارَةٌ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ الْقَائِمِ بِجَوْهَرِ الرُّوحِ وَالنُّورُ عِبَارَةٌ عَنْ إِيصَالِ نُورِ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ بِهِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِبْصَارِ مِنْ أَمْرَيْنِ: مِنْ سَلَامَةِ الْحَاسَّةِ وَمِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَكَذَلِكَ الْبَصِيرَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ أَمْرَيْنِ: مِنْ سَلَامَةِ حَاسَّةِ الْعَقْلِ وَمِنْ طُلُوعِ نُورِ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ بِهَذَا النُّورِ الْقُرْآنُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ نُورُ الدِّينِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ نُورُ الْحِكْمَةِ وَالْأَقْوَالُ بِأَسْرِهَا مُتَقَارِبَةٌ وَالتَّحْقِيقُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَأَمَّا مَثَلُ الْكَافِرِ: فَهُوَ كَمَنْ فِي

الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها وَفِي قَوْلِهِ: لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها دَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا دَامَ حُصُولُهُ مَعَ الشَّيْءِ صَارَ كَالْأَمْرِ الذَّاتِيِّ وَالصِّفَةِ اللَّازِمَةِ لَهُ فَإِذَا دَامَ كَوْنُ الْكَافِرِ فِي ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ صَارَتْ تِلْكَ الظُّلُمَاتُ كَالصِّفَةِ الذَّاتِيَّةِ اللَّازِمَةِ لَهُ يعسر إِزَالَتِهَا عَنْهُ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ وَأَيْضًا الْوَاقِفُ فِي الظُّلُمَاتِ يَبْقَى مُتَحَيِّرًا لَا يَهْتَدِي إِلَى وَجْهِ صَلَاحِهِ فَيَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ وَالْعَجْزُ وَالْوُقُوفُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي ان هذين المثلين المذكورين هل هما مخصوصات بِإِنْسَانَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ أَوْ عَامَّانِ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ وكافر وفيه قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خَاصٌّ بِإِنْسَانَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَبَا جَهْلٍ رَمَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ بِفَرْثٍ وَحَمْزَةُ يَوْمَئِذٍ لَمْ يُؤْمِنْ فَأُخْبِرَ حَمْزَةُ بِذَلِكَ عِنْدَ قُدُومِهِ مِنْ صَيْدٍ لَهُ وَالْقَوْسُ بِيَدِهِ فَعَمَدَ إِلَى أَبِي جَهْلٍ وَتَوَخَّاهُ بِالْقَوْسِ وَجَعَلَ يَضْرِبُ رَأْسَهُ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: أَمَا تَرَى مَا جَاءَ بِهِ؟ سَفَّهَ عُقُولَنَا وَسَبَّ آلِهَتِنَا فَقَالَ/ حَمْزَةُ: أَنْتُمْ أَسْفَهُ النَّاسِ تَعْبُدُونَ الْحِجَارَةَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولَهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَأَبِي جَهْلٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: زَاحَمَنَا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ فِي الشَّرَفِ حَتَّى إِذَا صِرْنَا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ قَالُوا مِنَّا نَبِيٌّ يُوحَى إِلَيْهِ وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَنَا وَحْيٌ كَمَا يَأْتِيهِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ عِكْرِمَةُ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَبِي جَهْلٍ. وَالرِّوَايَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَبِي جَهْلٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ لِأَنَّ الْمَعْنَى إِذَا كَانَ حَاصِلًا فِي الْكُلِّ كَانَ التَّخْصِيصُ مَحْضَ التَّحَكُّمِ وَأَيْضًا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَالْقَوْلُ بِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْمُعَيَّنَةِ كَذَا وَكَذَا مُشْكِلٌ إِلَّا إِذَا قِيلَ ان النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ: أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْعَامَّةِ فُلَانٌ بِعَيْنِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَأَحْيَيْناهُ وَقَوْلَهُ: وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمَعْرِفَةِ وَالْهُدَى وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأُمُورِ إِنَّمَا تَحْصُلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبِإِذْنِهِ وَالدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ سَاعَدَتْ عَلَى صِحَّتِهِ وَهُوَ دَلِيلُ الدَّاعِي عَلَى مَا لَخَّصْنَاهُ وَأَيْضًا إِنَّ عَاقِلًا لَا يَخْتَارُ الْجَهْلَ وَالْكُفْرَ لِنَفْسِهِ فَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَخْتَارَ الْإِنْسَانُ جَعْلَ نَفْسِهِ جَاهِلًا كَافِرًا فَلَمَّا قَصَدَ تَحْصِيلَ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا حَصَلَ ضِدُّهُ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالْجَهْلُ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ بِإِيجَادِ غَيْرِهِ. فَإِنْ قَالُوا إِنَّمَا اخْتَارَهُ لِاعْتِقَادِهِ فِي ذَلِكَ الْجَهْلِ أَنَّهُ عِلْمٌ. قُلْنَا: فَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ إِنَّمَا اخْتَارَ هَذَا الْجَهْلَ لِسَابِقَةِ جَهْلٍ آخَرَ فَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ الْجَهْلِ السَّابِقِ كَمَا فِي الْمَسْبُوقِ لَزِمَ الذَّهَابُ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ وَإِلَّا فَوَجَبَ الِانْتِهَاءُ إِلَى جَهْلٍ يَحْصُلُ فِيهِ لِإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

[سورة الأنعام (6) : آية 123]

[سورة الأنعام (6) : آية 123] وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «الْكَافُ» فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ يُوجِبُ التَّشْبِيهَ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَكَمَا جَعَلْنَا فِي مَكَّةَ صَنَادِيدَهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا كَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا الثَّانِي: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ أَيْ كَمَا زَيَّنَا لِلْكَافِرِينَ أَعْمَالَهُمْ كَذَلِكَ جَعَلْنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَكَابِرُ جَمْعُ الْأَكْبَرِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ وَالْآيَةُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ تَقْدِيرُهُ: جَعَلْنَا مُجْرِمِيهَا أَكَابِرَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَكَابِرُ مُضَافَةً فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ الْمَعْنَى وَيَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِلْجَعْلِ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: جَعَلْتُ زَيْدًا وَسَكَتَّ لَمْ يُفِدِ الْكَلَامُ حَتَّى تَقُولَ رَئِيسًا أَوْ ذَلِيلًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لِاقْتِضَاءِ الْجَعْلِ مَفْعُولَيْنِ وَلِأَنَّكَ إِذَا أَضَفْتَ الْأَكَابِرَ فَقَدْ أَضَفْتَ الصِّفَةَ إِلَى الْمَوْصُوفِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: صَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ مُجْرِمِيهَا أَكَابِرَ لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا جَعَلَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّهُ أَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ يَمْكُرُوا بِالنَّاسِ فَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ: بِأَنَّ حَمْلَ هَذِهِ اللَّامِ عَلَى لَامِ الْعَاقِبَةِ وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا لَمْ يَمْنَعُهُمْ عَنِ الْمَكْرِ صَارَ شَبِيهًا بِمَا إِذَا أَرَادَ ذَلِكَ فَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ وَهَذَا السُّؤَالُ مَعَ جَوَابِهِ قَدْ تَكَرَّرَ مِرَارًا خَارِجَةً عَنِ الْحَدِّ وَالْحَصْرِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّمَا جَعَلَ الْمُجْرِمِينَ أَكَابِرَ لِأَنَّهُمْ لِأَجْلِ رئاستهم أَقْدَرُ عَلَى الْغَدْرِ وَالْمَكْرِ وَتَرْوِيجِ الْأَبَاطِيلِ عَلَى النَّاسِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَلِأَنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ وَقُوَّةَ الْجَاهِ تَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي حِفْظِهِمَا وَذَلِكَ الْحِفْظُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِجَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ مِنَ الْغَدْرِ وَالْمَكْرِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِ وَالْجَاهِ عَيْبٌ سِوَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا وَصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَجَاهٌ لَكَفَى ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى خَسَاسَةِ الْمَالِ وَالْجَاهِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فَاطِرٍ: 43] وَقَدْ ذَكَرْنَا حَقِيقَةَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 15] قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ مَذْكُورٌ فِي مَعْرِضِ التَّهْدِيدِ وَالزَّجْرِ فَلَوْ كَانَ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ يَمْكُرُوا بِالنَّاسِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّحِيمِ الْكَرِيمِ الْحَكِيمِ الْحَلِيمِ أَنْ يُرِيدَ مِنْهُمُ الْمَكْرَ وَيَخْلُقَ فِيهِمُ الْمَكْرَ ثُمَّ يُهَدِّدُهُمْ عَلَيْهِ وَيُعَاقِبُهُمْ أَشَدَّ الْعِقَابِ عَلَيْهِ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ مُعَارَضَةَ هَذَا الْكَلَامِ/ بِالْوُجُوهِ الْمَشْهُورَةِ قد ذكرناها مرارا. [سورة الأنعام (6) : آية 124] وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ مَكْرِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ وَحَسَدِهِمْ أَنَّهُمْ مَتَى ظَهَرَتْ لَهُمْ مُعْجِزَةٌ قَاهِرَةٌ تَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ

محمد صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ قَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى يَحْصُلَ لَنَا مِثْلُ هَذَا الْمَنْصِبِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ حَسَدِهِمْ وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا بَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ لَا لِطَلَبِ الْحُجَّةِ وَالدَّلَائِلِ بَلْ لِنِهَايَةِ الْحَسَدِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَتِ النُّبُوَّةُ حَقًّا لَكُنْتُ أَنَا أَحَقَّ بِهَا مِنْ مُحَمَّدٍ فَإِنِّي أَكْثَرُ مِنْهُ مَالًا وَوَلَدًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُخَصَّ بِالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [الْمُدَّثِّرِ: 52] فَظَاهِرُ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمَاعَةً مِنْهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ هَذَا الْكَلَامَ وَأَيْضًا فَمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها [الانعام: 123] ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَ تِلْكَ الْآيَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَكْرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى هُوَ هَذَا الْكَلَامُ الْخَبِيثُ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَرَادَ الْقَوْمُ أَنْ تَحْصُلَ لَهُمُ النُّبُوَّةُ وَالرِّسَالَةُ كَمَا حَصَلَتْ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَنْ يَكُونُوا مَتْبُوعِينَ لَا تَابِعِينَ وَمَخْدُومِينَ لَا خَادِمِينَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمَعْنَى وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ تَأْمُرُهُمْ بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ قَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى تؤتي مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إِلَى قَوْلِهِ: حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاءِ: 90- 93] / مِنَ اللَّهِ إِلَى أَبِي جَهْلٍ وَإِلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ كِتَابًا عَلَى حِدَةٍ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَالْقَوْمُ مَا طَلَبُوا النُّبُوَّةَ وَإِنَّمَا طَلَبُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ آيَاتٌ قَاهِرَةٌ وَمُعْجِزَاتٌ ظَاهِرَةٌ مِثْلَ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَيْ تَدُلَّ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْوَى وَأَوْلَى لِأَنَّ قَوْلَهُ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَلِمَنْ يَنْصُرُ الْقَوْلَ الثَّانِيَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُمْ لَمَّا اقْتَرَحُوا تِلْكَ الْآيَاتِ الْقَاهِرَةَ فَلَوْ أَجَابَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهَا وَأَظْهَرَ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى وَفْقِ الْتِمَاسِهِمْ لَكَانُوا قَدْ قَرُبُوا مِنْ مَنْصِبِ الرِّسَالَةِ وَحِينَئِذٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ جَوَابًا عَلَى هَذَا الْكَلَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ فَالْمَعْنَى أَنَّ لِلرِّسَالَةِ مَوْضِعًا مَخْصُوصًا لَا يَصْلُحُ وَضْعُهَا إِلَّا فِيهِ فَمَنْ كَانَ مَخْصُوصًا مَوْصُوفًا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي لِأَجْلِهَا يَصْلُحُ وَضْعُ الرِّسَالَةِ فِيهِ كَانَ رَسُولًا وَإِلَّا فَلَا وَالْعَالِمُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: النُّفُوسُ وَالْأَرْوَاحُ مُتَسَاوِيَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ فَحُصُولُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ لِبَعْضِهَا دُونَ الْبَعْضِ تَشْرِيفٌ مِنَ اللَّهِ وَإِحْسَانٌ وَتَفَضُّلٌ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ النُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ مُخْتَلِفَةٌ بِجَوَاهِرِهَا وَمَاهِيَّاتِهَا فَبَعْضُهَا خَيِّرَةٌ طَاهِرَةٌ مِنْ عَلَائِقِ الْجِسْمَانِيَّاتِ مُشْرِقَةٌ بِالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ مُسْتَعْلِيَةٌ مُنَوَّرَةٌ وَبَعْضُهَا خَسِيسَةٌ كَدِرَةٌ مُحِبَّةٌ لِلْجِسْمَانِيَّاتِ فَالنَّفْسُ مَا لَمْ تَكُنْ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَمْ تَصْلُحْ لِقَبُولِ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ ثُمَّ إِنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ يَقَعُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ إِلَى مَرَاتِبَ لَا نِهَايَةَ لَهَا فَلَا جَرَمَ كَانَتْ مَرَاتِبُ الرُّسُلِ مُخْتَلِفَةً فَمِنْهُمْ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ الْمُعْجِزَاتُ الْقَوِيَّةُ وَالتَّبَعُ الْقَلِيلُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ مُعْجِزَةٌ وَاحِدَةٌ أَوِ اثْنَتَانِ وَحَصَلَ لَهُ تَبَعٌ عَظِيمٌ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ الرِّفْقُ غَالِبًا عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ التَّشْدِيدُ غَالِبًا

[سورة الأنعام (6) : آية 125]

عَلَيْهِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْبَحْثِ فِيهِ اسْتِقْصَاءٌ وَلَا يَلِيقُ ذِكْرُهُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى دَقِيقَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ أَقَلَّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي حُصُولِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ الْبَرَاءَةُ عَنِ الْمَكْرِ وَالْغَدْرِ وَالْغِلِّ وَالْحَسَدِ. وَقَوْلُهُ لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ عَيْنُ الْمَكْرِ وَالْغَدْرِ وَالْحَسَدِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ مَعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ؟ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ سَيُصِيبُهُمْ صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الثَّوَابَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِأَمْرَيْنِ التَّعْظِيمُ وَالْمَنْفَعَةُ وَالْعِقَابُ أَيْضًا إِنَّمَا يَتِمُّ بِأَمْرَيْنِ الْإِهَانَةُ وَالضَّرَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى تَوَعَّدَهُمْ بِمَجْمُوعِ هذين الأمرين في هذه الآية اما الاهابة فقوله سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ الصَّغَارِ عَلَى ذِكْرِ الضَّرَرِ لِأَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا تَمَرَّدُوا عَنْ طَاعَةِ/ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَلَبًا لِلْعِزِّ وَالْكَرَامَةِ فَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ يُقَابِلُهُمْ بِضِدِّ مَطْلُوبِهِمْ فَأَوَّلُ مَا يُوَصِّلُ إِلَيْهِمْ إِنَّمَا يُوَصِّلُ الصَّغَارَ وَالذُّلَّ وَالْهَوَانَ وَفِي قَوْلِهِ صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا الصَّغَارَ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ حَيْثُ لَا حَاكِمَ يُنَفِّذُ حُكْمَهُ سِوَاهُ. وَالثَّانِي أَنَّهُمْ يُصِيبُهُمْ صغار بحكم الله وإيجابه في در الدُّنْيَا فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الصَّغَارُ هَذَا حَالُهُ جَازَ أَنْ يُضَافَ إِلَى عِنْدَ اللَّهِ. الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ وَقَالَ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ مُعَدٌّ لَهُمْ ذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ صَغَارٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ كَلِمَةِ «مِنْ» وَأَمَّا بَيَانُ الضَّرَرِ وَالْعَذَابِ فَهُوَ قَوْلُهُ وَعَذابٌ شَدِيدٌ فَحَصَلَ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى أَعَدَّ لَهُمُ الْخِزْيَ الْعَظِيمَ وَالْعَذَابَ الشَّدِيدَ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُصِيبُهُمْ لِأَجْلِ مَكْرِهِمْ وكذبهم وحسدهم. [سورة الأنعام (6) : آية 125] فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى تَمَسَّكَ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ الضَّلَالَ وَالْهِدَايَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَمَا أَنَّ لَفْظَهَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا فَلَفْظُهَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْعَبْدَ قَادِرٌ عَلَى الْإِيمَانِ وَقَادِرٌ عَلَى الْفِكْرِ فَقُدْرَتُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ حَاصِلَةٌ عَلَى السَّوِيَّةِ فَيَمْتَنِعُ صُدُورُ الْإِيمَانِ عَنْهُ بَدَلًا مِنَ الْكُفْرِ أَوِ الْكُفْرِ بَدَلًا مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا إِذَا حَصَلَ فِي الْقَلْبِ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مِرَارًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ وَتِلْكَ الدَّاعِيَةُ لَا مَعْنَى لَهَا إِلَّا عِلْمُهُ أَوِ اعْتِقَادُهُ أَوْ ظَنُّهُ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْفِعْلِ مُشْتَمِلًا عَلَى مَصْلَحَةٍ زَائِدَةٍ وَمَنْفَعَةٍ رَاجِحَةٍ فَإِنَّهُ إِذَا حَصَلَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقَلْبِ دَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى فِعْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَإِنْ حَصَلَ فِي الْقَلْبِ عِلْمٌ أَوِ اعْتِقَادٌ أَوْ ظَنٌّ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْفِعْلِ مُشْتَمِلًا عَلَى ضَرَرٍ زَائِدٍ وَمَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ دَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى/ تَرْكِهِ وَبَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الدَّوَاعِي لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ مَجْمُوعَ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِي يُوجِبُ الْفِعْلَ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَصْدُرَ الْإِيمَانُ عَنِ الْعَبْدِ إِلَّا إِذَا خَلَقَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ اعْتِقَادَ أَنَّ الْإِيمَانَ رَاجِحُ الْمَنْفَعَةِ زَائِدُ الْمَصْلَحَةِ وَإِذَا حَصَلَ فِي الْقَلْبِ هَذَا الِاعْتِقَادُ مَالَ الْقَلْبُ وَحَصَلَ فِي النَّفْسِ رَغْبَةٌ شَدِيدَةٌ فِي

تَحْصِيلِهِ وَهَذَا هُوَ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ لِلْإِيمَانِ. فَأَمَّا إِذَا حَصَلَ فِي الْقَلْبِ اعْتِقَادُ أَنَّ الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ مَثَلًا سَبَبُ مَفْسَدَةٍ عَظِيمَةٍ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَيُوجِبُ الْمَضَارَّ الْكَثِيرَةَ فَعِنْدَ هَذَا يَتَرَتَّبُ عَلَى حُصُولِ هَذَا الِاعْتِقَادِ نَفْرَةٌ شَدِيدَةٌ عَنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ الْإِيمَانَ قَوَّى دَوَاعِيَهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُ الْكُفْرَ قَوَّى صَوَارِفَهُ عَنِ الْإِيمَانِ وَقَوَّى دَوَاعِيَهُ إِلَى الْكُفْرِ وَلَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذِهِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَإِذَا انْطَبَقَ قَاطِعُ الْبُرْهَانِ عَلَى صريح لفظ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ وَرَاءَهُ بَيَانٌ وَلَا بُرْهَانٌ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ لَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَقَامَانِ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ بَيَانُ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِكُمْ. الْمَقَامُ الثَّانِي مَقَامُ التَّأْوِيلِ الْمُطَابِقِ لِمَذْهَبِنَا وَقَوْلِنَا. أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ تَعَالَى أَضَلَّ قَوْمًا أَوْ يُضِلُّهُمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ مَتَى أَرَادَ أَنْ يَهْدِيَ إِنْسَانًا فَعَلَ بِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ وَإِذَا أَرَادَ إِضْلَالَهُ فَعَلَ بِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ ذَلِكَ أَوْ لَا يُرِيدُهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ [الْأَنْبِيَاءِ 17] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يَفْعَلُ اللَّهْوَ لَوْ أَرَادَهُ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ ذَلِكَ وَلَا يَفْعَلُهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ عَنِ الْإِسْلَامِ بَلْ قَالَ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْمُرَادَ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ عَنِ الْإِيمَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي آخِرِ الْآيَةِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ بِهَذَا الْكَافِرِ جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ فَقَالَ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّ قَوْلَهُ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً فَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ جَعْلَ الصَّدْرِ ضَيِّقًا حَرَجًا يَتَقَدَّمُ حُصُولُهُ عَلَى حُصُولِ الضَّلَالَةِ وَأَنَّ لِحُصُولِ ذَلِكَ الْمُتَقَدِّمِ أَثَرًا فِي حُصُولِ/ الضَّلَالِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ. أَمَّا عِنْدَنَا فَلَا نَقُولُ بِهِ. وَأَمَّا عِنْدَكُمْ فَلِأَنَّ الْمُقْتَضَى لِحُصُولِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُهُ فِيهِ لِقُدْرَتِهِ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى قَوْلِكُمْ. أَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ بِقَوْلِنَا فَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْجًبَّائِيُّ وَنَصَرَهُ الْقَاضِي فَنَقُولُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ حَتَّى يَثْبُتَ عَلَيْهِ وَلَا يَزُولَ عَنْهُ وَتَفْسِيرُ هَذَا الشَّرْحِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ بِهِ أَلْطَافًا تَدْعُوهُ إِلَى الْبَقَاءِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ وَفِي هَذَا النَّوْعِ أَلْطَافٌ لَا يُمْكِنُ فِعْلُهَا بِالْمُؤْمِنِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ مُؤْمِنًا وَهِيَ بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا يَدْعُوهُ إِلَى الْبَقَاءِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التَّغَابُنِ 11] وَبِقَوْلِهِ وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [الْعَنْكَبُوتِ 69] فَإِذَا آمَنَ عَبْدٌ وَأَرَادَ اللَّهُ ثَبَاتَهُ فَحِينَئِذٍ يَشْرَحُ صَدْرَهُ أَيْ يَفْعَلُ بِهِ الْأَلْطَافَ الَّتِي تَقْتَضِي ثَبَاتَهُ عَلَى الْإِيمَانِ وَدَوَامَهُ عَلَيْهِ فَأَمَّا إِذَا كَفَرَ وَعَانَدَ وَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُضِلَّهُ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُلْقِي فِي صَدْرِهِ الضِّيقَ وَالْحَرَجَ. ثُمَّ سَأَلَ الجبائي نفسه

وَقَالَ كَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ وَنَجِدُ الْكُفَّارَ طَيِّبِي النُّفُوسَ لَا غَمَّ لَهُمُ الْبَتَّةَ وَلَا حَزَنَ؟ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُخْبِرْ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَلَا يَمْتَنِعُ كَوْنُهُمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ طَيِّبِي الْقُلُوبِ. وَسَأَلَ الْقَاضِي نَفْسَهُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ سُؤَالًا آخَرَ فَقَالَ فَيَجِبُ أَنْ تَقْطَعُوا فِي كُلِّ كَافِرٍ بِأَنَّهُ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ الضِّيقَ وَالْحَرَجَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ. وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ وَكَذَلِكَ نَقُولُ وَدَفْعُ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ خُصُوصًا عِنْدَ وُرُودِ أَدِلَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ ظُهُورِ نُصْرَةِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَعِنْدَ ظُهُورِ الذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ فِيهِمْ هَذَا غَايَةُ تَقْرِيرِ هَذَا الْجَوَابِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي التَّأْوِيلِ قَالُوا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ إِلَى الْجَنَّةِ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ؟ أَيْ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي يَهْدِيهِ فِيهِ إِلَى الْجَنَّةِ لِأَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَنَّ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ وَجَدَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ الْعَالِيَةَ وَالْمَرْتَبَةَ الشَّرِيفَةَ يَزْدَادُ رَغْبَةً فِي الْإِيمَانِ وَيَحْصُلُ فِي قَلْبِهِ مَزِيدُ انْشِرَاحٍ وَمَيْلٍ إِلَيْهِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ فَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يُضَيِّقُ صَدْرَهُ وَيُحْرِجُ صَدْرَهُ بِسَبَبِ الْحُزْنِ الشَّدِيدِ الَّذِي نَالَهُ عِنْدَ الْحِرْمَانِ مِنَ الْجَنَّةِ وَالدُّخُولِ فِي النَّارِ قَالُوا فَهَذَا وَجْهٌ قَرِيبٌ وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لَهُ فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي التَّأْوِيلِ أَنْ يُقَالَ حَصَلَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ فَيَكُونُ الْمَعْنَى مَنْ شَرَحَ صَدْرَ نَفْسِهِ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ أَيْ يَخُصَّهُ بِالْأَلْطَافِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ أَوْ يَهْدِيَهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَهْدِيهِ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ وَمَنْ جُعِلَ صَدْرُهُ ضَيِّقًا حَرَجًا عَنِ الْإِيمَانِ/ فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُضِلَّهُ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ أَوْ يُضِلَّهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَحْرِمُهُ عَنِ الْأَلْطَافِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ فَهَذَا هُوَ مَجْمُوعُ كَلَامِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ. وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالُوهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يُضِلُّهُ بَلِ الْمَذْكُورُ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُضِلَّهُ لَفَعَلَ كَذَا وَكَذَا. فَنَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ الْإِضْلَالَ لِأَنَّ حَرْفَ «الْكَافِ» فِي قَوْلِهِ كَذلِكَ يُفِيدُ التَّشْبِيهَ وَالتَّقْدِيرُ وَكَمَا جَعَلْنَا ذَلِكَ الضِّيقَ وَالْحَرَجَ فِي صَدْرِهِ فَكَذَلِكَ نَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالُوهُ ثَانِيًا وَهُوَ قَوْلُهُ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُضِلَّهُ عَنِ الدِّينِ. فَنَقُولُ إِنَّ قَوْلَهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ هُوَ أَنَّهُ يُضِلُّهُ عَنِ الدِّينِ. وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالُوهُ ثَالِثًا مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُلْقِي ذَلِكَ الضِّيقَ وَالْحَرَجَ فِي صُدُورِهِمْ جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِمْ. فَنَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ بَلِ الْمُرَادُ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ قُضِيَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ سَقَطَ ما ذكروه.

وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالُوهُ رَابِعًا مِنْ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ضِيقُ الصَّدْرِ وَحَرَجُهُ شَيْئًا مُتَقَدِّمًا عَلَى الضَّلَالِ وَمُوجِبًا لَهُ. فَنَقُولُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا خَلَقَ فِي قَلْبِهِ اعْتِقَادًا بِأَنَّ الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ يُوجِبُ الذَّمَّ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ فَهَذَا الِاعْتِقَادُ يُوجِبُ إِعْرَاضَ النَّفْسِ وَنُفُورَ الْقَلْبِ عَنْ قَبُولِ ذَلِكَ الْإِيمَانِ وَيَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْقَلْبِ نَفْرَةٌ وَنَبْوَةٌ عَنْ قَبُولِ ذَلِكَ الْإِيمَانِ وَهَذِهِ الْحَالَةُ شَبِيهَةٌ بِالضِّيقِ الشَّدِيدِ لِأَنَّ الطَّرِيقَ إِذَا كَانَ ضَيِّقًا لَمْ يَقْدِرِ الدَّاخِلُ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ إِذَا حَصَلَ فِيهِ هَذَا الِاعْتِقَادُ امْتَنَعَ دُخُولُ الْإِيمَانِ فِيهِ فَلِأَجْلِ حُصُولِ هَذِهِ الْمُشَابَهَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أُطْلِقَ لَفْظُ الضِّيقِ وَالْحَرَجِ عَلَيْهِ فَقَدْ سَقَطَ هَذَا الْكَلَامُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ الْكَلَامِ يَرْجِعُ إِلَى تَفْصِيلِ الضِّيقِ وَالْحَرَجِ بِاسْتِيلَاءِ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ عَلَى قَلْبِ الْكَافِرِ وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَيَّزَ الْكَافِرَ عَنِ الْمُؤْمِنِ بِهَذَا الضِّيقِ وَالْحَرَجِ فَلَوْ/ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ حُصُولَ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ فِي قَلْبِ الْكَافِرِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا يَحْصُلُ فِي قَلْبِ الْكَافِرِ مِنَ الْغُمُومِ وَالْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ أَزْيَدَ مِمَّا يَحْصُلُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ زِيَادَةً يَعْرِفُهَا كُلُّ أَحَدٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلِ الْأَمْرُ فِي حُزْنِ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ عَلَى السَّوِيَّةِ بَلِ الْحُزْنُ وَالْبَلَاءُ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ أَكْثَرُ. قَالَ تَعَالَى وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ [الزُّخْرُفِ 33] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «خُصَّ الْبَلَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ بِالْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ» . وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ أَيْضًا مَدْفُوعٌ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى إِيضَاحِ الْوَاضِحَاتِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْجَنَّةِ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ يَفْرَحُ بِسَبَبِ تِلْكَ الْهِدَايَةِ وَيَنْشَرِحُ صَدْرُهُ لِلْإِيمَانِ مَزِيدَ انْشِرَاحٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ الْمُرَادُ مَنْ يُضِلُّهُ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ يَضِيقُ قَلْبُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِنَّ حُصُولَ هَذَا الْمَعْنَى مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ إِخْرَاجٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْفَائِدَةِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ يَقْتَضِي تَفْكِيكَ نَظْمِ الْآيَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنْ يَحْصُلَ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُصُولُ الْهِدَايَةِ وَالْإِيمَانِ وَأَنْتُمْ عَكَسْتُمُ الْقَضِيَّةَ فَقُلْتُمُ الْعَبْدُ يَجْعَلُ نَفْسَهُ أَوَّلًا مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ يَهْدِيهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَخُصُّهُ بِمَزِيدِ الْأَلْطَافِ الدَّاعِيَةِ لَهُ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالدَّلَائِلُ اللَّفْظِيَّةُ إِنَّمَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهَا إِذَا أَبْقَيْنَا مَا فِيهَا مِنَ التَّرْكِيبَاتِ وَالتَّرْتِيبَاتِ فَأَمَّا إِذَا أَبْطَلْنَاهَا وَأَزَلْنَاهَا لَمْ يُمْكِنِ التَّمَسُّكُ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَصْلًا وَفَتْحُ هَذَا الْبَابِ يُوجِبُ أَنْ لَا يُمْكِنَ التَّمَسُّكُ بِشَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ وَإِنَّهُ طَعْنٌ فِي الْقُرْآنِ وَإِخْرَاجٌ لَهُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْفَصْلُ فِي هَذِهِ السُّؤَالَاتِ ثُمَّ إِنَّا نَخْتِمُ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِهَذِهِ الْخَاتِمَةِ الْقَاهِرَةِ وَهِيَ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ فِعْلَ الْإِيمَانِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يَحْصُلَ فِي الْقَلْبِ دَاعِيَةٌ جَازِمَةٌ إِلَى فِعْلِ الْإِيمَانِ وَفَاعِلُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جَانِبِ الْكُفْرِ وَلَفْظُ الْآيَةِ مُنْطَبِقٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُ قَوَّى فِي قَلْبِهِ مَا يَدْعُوهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ أَلْقَى فِي قَلْبِهِ مَا يَصْرِفُهُ عَنِ الْإِيمَانِ وَيَدْعُوهُ إِلَى الْكُفْرِ وَقَدْ ثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ الْأَمْرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَجَمِيعُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ السُّؤَالَاتِ ساقط والله تعالى اعلم بالصواب.

المسألة الثانية فِي تَفْسِيرِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ أَمَّا شَرْحُ الصَّدْرِ فَفِي تَفْسِيرِهِ وَجْهَانِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ قَالَ اللَّيْثُ يُقَالُ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ فَانْشَرَحَ أَيْ وَسَّعَ صدره لقبول ذلك الأمر فتوسع. وأقول إِنِ اللَّيْثَ فَسَّرَ شَرْحَ الصَّدْرِ بِتَوْسِيعِ الصَّدْرِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ/ يُوَسِّعَ صَدْرَهُ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ أَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَفْسِيرِ تَوْسِيعِ الصَّدْرِ فَنَقُولُ تَحْقِيقُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَا بَأْسَ بِإِعَادَتِهِ فَنَقُولُ إِذَا اعْتَقَدَ الْإِنْسَانُ فِي عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ أَنَّ نَفْعَهُ زَائِدٌ وَخَيْرَهُ رَاجِحٌ مَالَ طَبْعُهُ إِلَيْهِ وَقَوِيَتْ رَغْبَتُهُ فِي حُصُولِهِ وَحَصَلَ فِي الْقَلْبِ اسْتِعْدَادٌ شَدِيدٌ لِتَحْصِيلِهِ فَتُسَمَّى هَذِهِ الْحَالَةُ بِسِعَةِ النَّفْسِ وَإِذَا اعْتَقَدَ فِي عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ أَنَّ شَرَّهُ زَائِدٌ وَضَرَرَهُ رَاجِحٌ عَظُمَتِ النَّفْرَةُ عَنْهُ وَحَصَلَ فِي الطَّبْعِ نَفْرَةٌ وَنَبْوَةٌ عَنْ قَبُولِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطَّرِيقَ إِذَا كَانَ ضَيِّقًا لَمْ يَتَمَكَّنِ الدَّاخِلُ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ وَإِذَا كَانَ وَاسِعًا قَدَرَ الدَّاخِلُ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ فَإِذَا حَصَلَ اعْتِقَادٌ أَنَّ الْأَمْرَ الْفُلَانِيَّ زَائِدُ النَّفْعِ وَالْخَيْرِ وَحَصَلَ الْمَيْلُ إِلَيْهِ فَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ الْمَيْلُ فِي ذَلِكَ الْقَلْبِ فَقِيلَ اتَّسَعَ الصَّدْرُ لَهُ وَإِذَا حَصَلَ اعْتِقَادٌ أَنَّهُ زَائِدُ الضَّرَرِ وَالْمَفْسَدَةِ لَمْ يَحْصُلْ فِي الْقَلْبِ مَيْلٌ إِلَيْهِ فَقِيلَ إِنَّهُ ضَيِّقٌ فَقَدْ صَارَ الصَّدْرُ شَبِيهًا بِالطَّرِيقِ الضَّيِّقِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الدُّخُولُ فِيهِ فَهَذَا تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي سِعَةِ الصَّدْرِ وَضِيقِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ الشَّرْحِ يُقَالُ شَرَحَ فُلَانٌ أَمْرَهُ إِذَا أَظْهَرَهُ وَأَوْضَحَهُ وَشَرَحَ الْمَسْأَلَةَ إِذَا كَانَتْ مُشْكِلَةً فَبَيَّنَهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الشَّرْحِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْجَانِبِ الْحَقِّ لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي الْإِسْلَامِ فِي قَوْلِهِ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الزُّمَرِ 22] وَفِي الْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً [النَّحْلِ 106] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَقِيلَ لَهُ كَيْفَ يَشْرَحُ اللَّهُ صَدْرَهُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «يَقْذِفُ فِيهِ نُورًا حَتَّى يَنْفَسِحَ وَيَنْشَرِحَ» فَقِيلَ لَهُ وَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ أَمَارَةٍ يُعْرَفُ بِهَا؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ» وَأَقُولُ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ شَرْحِ اللَّهِ الصَّدْرَ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَصَوَّرَ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ زَائِدُ النَّفْعِ وَالْخَيْرِ وَأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِعَمَلِ الدُّنْيَا زَائِدُ الضَّرَرِ وَالشَّرِّ فَإِذَا حَصَلَ الْجَزْمُ بِذَلِكَ إِمَّا بِالْبُرْهَانِ أَوْ بِالتَّجْرِبَةِ أَوِ التَّقْلِيدِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى حُصُولِ هَذَا الِاعْتِقَادِ حُصُولُ الرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِنَابَةِ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالنَّفْرَةِ عَنْ دَارِ الدُّنْيَا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَأَمَّا الِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ فَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي النَّفْرَةَ عَنِ الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةَ فِي الْآخِرَةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الدَّاعِي إِلَى الْفِعْلِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ قَبْلَ حُصُولِ الْفِعْلِ وَشَرْحُ الصَّدْرِ لِلْإِيمَانِ عِبَارَةٌ عَنْ حُصُولِ الدَّاعِي إِلَى الْإِيمَانِ فَلِهَذَا الْمَعْنَى أَشْعَرَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ شَرْحَ الصَّدْرِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى حُصُولِ الْإِسْلَامِ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَانِبِ الْكُفْرِ. أَمَّا قَوْلُهُ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً فَفِيهِ مَبَاحِثُ الْبَحْثُ الْأَوَّلُ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ضَيْقًا سَاكِنَةَ الْيَاءِ وَكَذَا فِي كُلِّ الْقُرْآنِ وَالْبَاقُونَ مُشَدَّدَةَ الْيَاءِ مَكْسُورَةً فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَدَّدُ وَالْمُخَفَّفُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَسَيِّدٍ وَسَيْدٍ وَهَيِّنٍ وَهَيْنٍ وَلَيِّنٍ وَلَيْنٍ وَمَيِّتٍ وَمَيْتٍ وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ حَرِجًا بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَهُوَ فِي كَسْرِهِ وَنَصْبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَجَلِ وَالْوَجِلِ وَالْقَرَدِ وَالْقَرِدِ وَالدَّنَفِ وَالدَّنِفِ قَالَ الزَّجَّاجُ الْحَرَجُ فِي اللُّغَةِ أَضْيَقُ الضِّيقِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ ضَيِّقٌ جِدًّا

فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ رَجُلٌ حَرَجُ الصَّدْرِ بِفَتْحِ الرَّاءِ فَمَعْنَاهُ ذُو حَرَجٍ فِي صَدْرِهِ وَمَنْ قَالَ حَرِجَ جَعَلَهُ فَاعِلًا وَكَذَلِكَ رَجُلٌ دَنَفٌ ذُو دَنَفٍ وَدَنِفٌ نَعْتٌ. الْبَحْثُ الثَّانِي قَالَ بَعْضُهُمْ الْحَرِجُ بِكَسْرِ الرَّاءِ الضَّيِّقُ وَالْحَرَجُ بِالْفَتْحِ جَمْعُ حَرَجَةٍ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْكَثِيرُ الْأَشْجَارِ الَّذِي لَا تَنَالُهُ الرَّاعِيَةُ. وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ حِكَايَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا رُوِيَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ هَلْ هَاهُنَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ. قَالَ رَجُلٌ نَعَمْ. قَالَ مَا الْحَرَجَةُ فِيكُمْ. قَالَ الْوَادِي الْكَثِيرُ الشَّجَرِ الْمُشْتَبِكُ الَّذِي لَا طَرِيقَ فِيهِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ. وَالثَّانِيَةُ رَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ قَالَ قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ ائْتُونِي بِرَجُلٍ مِنْ كِنَانَةَ جَعَلُوهُ رَاعِيًا فَأَتَوْا بِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا فَتَى مَا الْحَرَجَةُ فِيكُمْ. قَالَ الْحَرَجَةُ فِينَا الشَّجَرَةُ تُحْدِقُ بِهَا الْأَشْجَارُ فَلَا يَصِلُ إِلَيْهَا رَاعِيَةٌ وَلَا وحشية. فقال عمر وكذلك قَلْبُ الْكَافِرِ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ فَفِيهِ بَحْثَانِ الْبَحْثُ الْأَوَّلُ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرِ يَصْعَدُ سَاكِنَةَ الصَّادِ وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ يَصَّاعَدُ بِالْأَلِفِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ بِمَعْنَى يَتَصَاعَدُ وَالْبَاقُونَ يَصَّعَّدُ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ وَالْعَيْنِ بِغَيْرِ أَلِفٍ أَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ يَصْعَدُ فَهِيَ مِنَ الصُّعُودِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ فِي نُفُورِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَثِقَلِهِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مِنْ تَكَلَّفَ الصُّعُودَ إِلَى السَّمَاءِ فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ التَّكْلِيفَ ثَقِيلٌ عَلَى الْقَلْبِ فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ ثَقِيلٌ عَلَى قَلْبِ الْكَافِرِ وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ يَصَّاعَدُ فَهُوَ مِثْلُ يَتَصَاعَدُ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ يَصَّعَّدُ فَهِيَ بِمَعْنَى يَتَصَعَّدُ فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الصَّادِ وَمَعْنَى يَتَصَعَّدُ يَتَكَلَّفُ مَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ. الْبَحْثُ الثَّانِي فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّشْبِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كُلِّفَ الصُّعُودَ إِلَى السَّمَاءِ ثَقُلَ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ عَلَيْهِ وَعَظُمَ وَصَعُبَ عَلَيْهِ وَقَوِيَتْ نَفْرَتُهُ عَنْهُ فَكَذَلِكَ الْكَافِرُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ وَتَعْظُمُ نَفْرَتُهُ عَنْهُ. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَنَّ قَلْبَهُ يَنْبُو عَنِ الْإِسْلَامِ وَيَتَبَاعَدُ عَنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ فَشَبَّهَ ذَلِكَ الْبُعْدَ بِبُعْدِ مَنْ يَصْعَدُ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ. أَمَّا قوله كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فَفِيهِ بَحْثَانِ الْبَحْثُ الْأَوَّلُ الْكَافُ فِي قَوْلِهِ كَذلِكَ يُفِيدُ التَّشْبِيهَ بِشَيْءٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ التَّقْدِيرُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَيْهِمْ كَجَعْلِهِ ضِيقَ الصَّدْرِ فِي قُلُوبِهِمْ. وَالثَّانِي قَالَ الزَّجَّاجُ التَّقْدِيرُ مِثْلُ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ. الْبَحْثُ الثَّانِي اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الرِّجْسَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ الشَّيْطَانُ يُسَلِّطُهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَقَالَ مُجَاهِدٌ الرِّجْسَ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ الرِّجْسَ الْعَذَابُ وَقَالَ الزَّجَّاجُ الرِّجْسَ اللَّعْنَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ. وَلْنَخْتِمْ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّهُ قَالَ تَذَاكَرْنَا فِي أَمْرِ الْقَدَرِيَّةِ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ لُعِنَتِ الْقَدَرِيَّةُ عَلَى لِسَانِ سَبْعِينَ نبيا منهم نبينا صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ وَقَدْ جُمِعَ النَّاسُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْكُلُّ أَيْنَ خُصَمَاءُ اللَّهِ فَتَقُومُ الْقَدَرِيَّةُ وَقَدْ أَوْرَدَ الْقَاضِي هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَفْسِيرِهِ. وَقَالَ هَذَا

الْحَدِيثُ مِنْ أَقْوَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ هُمُ الَّذِينَ يَنْسِبُونَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَضَاءً وَقَدَرًا وَخَلْقًا لِأَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ هُمْ خُصَمَاءُ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلَّهِ أَيُّ ذَنْبٍ لَنَا حَتَّى تُعَاقِبَنَا وَأَنْتَ الَّذِي خَلَقْتَهُ فِينَا وَأَرَدْتَهُ مِنَّا وَقَضَيْتَهُ عَلَيْنَا وَلَمْ تَخْلُقْنَا إِلَّا لَهُ وَمَا يَسَّرْتَ لَنَا غَيْرَهُ فَهَؤُلَاءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُوا خُصَمَاءَ اللَّهِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحُجَّةِ أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ مَكَّنَ وَأَزَاحَ الْعِلَّةَ وَإِنَّمَا أَتَى الْعَبْدُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَكَلَامُهُ مُوَافِقٌ لِمَا يُعَامَلُ بِهِ مِنْ إِنْزَالِ الْعُقُوبَةِ فَلَا يَكُونُونَ خُصَمَاءَ اللَّهِ بَلْ يَكُونُونَ مُنْقَادِينَ لِلَّهِ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَهُوَ عَجِيبٌ جِدًّا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ يَبْعُدُ مِنْكَ أَنَّكَ مَا عَرَفْتَ مِنْ مَذَاهِبِ خُصُومِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ وَلَا اسْتِحْقَاقٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَأَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ الرَّبُّ فِي الْعَبْدِ فَهُوَ حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ عَلَى الرَّبِّ اعْتِرَاضٌ وَلَا مُنَاظَرَةٌ فَكَيْفَ يَصِيرُ الْإِنْسَانُ الَّذِي هَذَا دِينُهُ وَاعْتِقَادُهُ خَصْمًا لِلَّهِ تَعَالَى. أَمَّا الَّذِينَ يَكُونُونَ خُصَمَاءَ لِلَّهِ فَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ أَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ وُجُوبَ الثَّوَابِ وَالْعِوَضِ وَيَقُولُ لَوْ لَمْ تُعْطِنِي ذَلِكَ لَخَرَجْتَ عَنِ الْإِلَهِيَّةِ وَصِرْتَ مَعْزُولًا عَنِ الرُّبُوبِيَّةِ وَصِرْتَ مِنْ جُمْلَةِ السُّفَهَاءِ فَهَذَا الَّذِي مَذْهَبُهُ وَاعْتِقَادُهُ ذَلِكَ هُوَ الْخَصْمُ لِلَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي أَنَّ مَنْ وَاظَبَ عَلَى الْكُفْرِ سَبْعِينَ سَنَةً ثُمَّ إِنَّهُ فِي آخِرِ زَمَنِ حَيَاتِهِ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَنِ الْقَلْبِ ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَعْطَاهُ النِّعَمَ الْفَائِقَةَ وَالدَّرَجَاتِ الزَّائِدَةَ أَلْفَ أَلْفِ سَنَةٍ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ تِلْكَ النِّعَمَ عَنْهُ لَحْظَةً وَاحِدَةً فَذَلِكَ الْعَبْدُ يَقُولُ أَيُّهَا الْإِلَهُ إِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ أَنْ تَتْرُكَ ذَلِكَ لَحْظَةً وَاحِدَةً فَإِنَّكَ إِنْ تَرَكْتَهُ لَحْظَةً وَاحِدَةً صِرْتَ مَعْزُولًا عَنِ الْإِلَهِيَّةِ/ وَالْحَاصِلُ أَنَّ إِقْدَامَ ذَلِكَ الْعَبْدِ عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ لَحْظَةً وَاحِدَةً أَوْجَبَ عَلَى الْإِلَهِ إِيصَالَ تِلْكَ النِّعَمِ مُدَّةً لَا آخِرَ لَهَا وَلَا طَرِيقَ لَهُ الْبَتَّةَ إِلَى الْخَلَاصِ عَنْ هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَهَذَا هُوَ الْخُصُومَةُ. أَمَّا مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ مَا يُوصَلُ إِلَيْهِمْ مِنَ الثَّوَابِ فَهُوَ تَفَضُّلٌ وَإِحْسَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا لَا يَكُونُ خَصْمًا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْخُصُومَةِ مَا حُكِيَ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ لَمَّا فَارَقَ مَجْلِسَ أُسْتَاذِهِ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ وَتَرَكَ مَذْهَبَهُ وَكَثُرَ اعْتِرَاضُهُ عَلَى أَقَاوِيلِهِ عَظُمَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُمَا فَاتَّفَقَ أَنَّ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ عَقَدَ الْجُبَّائِيُّ مَجْلِسَ التَّذْكِيرِ وَحَضَرَ عِنْدَهُ عَالَمٌ مِنَ النَّاسِ وَذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ إِلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَجَلَسَ فِي بَعْضِ الْجَوَانِبِ مُخْتَفِيًا عَنِ الْجُبَّائِيِّ وَقَالَ لِبَعْضِ مَنْ حَضَرَ هُنَاكَ مِنَ الْعَجَائِزِ إِنِّي أُعَلِّمُكِ مَسْأَلَةً فَاذْكُرِيهَا لِهَذَا الشَّيْخِ قُولِي لَهُ كَانَ لِي ثَلَاثَةٌ مِنَ الْبَنِينَ وَاحِدٌ كَانَ فِي غَايَةِ الدِّينِ وَالزُّهْدِ وَالثَّانِي كَانَ فِي غَايَةِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ وَالثَّالِثُ كَانَ صَبِيًّا لَمْ يَبْلُغْ فَمَاتُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ فَأَخْبِرْنِي أَيُّهَا الشَّيْخُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ. فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ أَمَّا الزَّاهِدُ فَفِي دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَفِي دَرَكَاتِ النَّارِ وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَمِنْ أَهْلِ السَّلَامَةِ. قَالَ قُولِي لَهُ لَوْ أَنَّ الصَّبِيَّ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا أَخُوهُ الزَّاهِدُ هَلْ يُمْكِنُ مِنْهُ. فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ لَا لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَهُ إِنَّمَا وَصَلَ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَتْعَبَ نَفْسَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَأَنْتَ فَلَيْسَ مَعَكَ ذَاكَ فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ قُولِي لَهُ لَوْ أَنَّ الصَّبِيَّ حِينَئِذٍ يَقُولُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ لَيْسَ الذَّنْبُ لِي لِأَنَّكَ أَمَتَّنِي قَبْلَ الْبُلُوغِ وَلَوْ أَمْهَلْتَنِي فَرُبَّمَا زِدْتُ عَلَى أَخِي الزَّاهِدِ فِي الزُّهْدِ وَالدِّينِ. فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ يَقُولُ اللَّهُ لَهُ عَلِمْتُ أَنَّكَ لَوْ عِشْتَ لَطَغَيْتَ وَكَفَرْتَ وَكُنْتَ تَسْتَوْجِبُ النَّارَ فَقَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ رَاعَيْتُ مَصْلَحَتَكَ وَأَمَتُّكَ حَتَّى تَنْجُوَ مِنَ الْعِقَابِ فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ قُولِي لَهُ لَوْ أَنَّ الْأَخَ الْكَافِرَ الْفَاسِقَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ فَقَالَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَيَا أَحْكَمَ الْحَاكِمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ كَمَا عَلِمْتَ مِنْ ذَلِكَ الْأَخِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَوْ بَلَغَ

كَفَرَ عَلِمْتَ مِنِّي ذَلِكَ فَلِمَ رَاعَيْتَ مَصْلَحَتَهُ وَمَا رَاعَيْتَ مَصْلَحَتِي؟ قَالَ الرَّاوِي: فَلَمَّا وَصَلَ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ انْقَطَعَ الْجُبَّائِيُّ. فَلَمَّا نَظَرَ رَأَى أَبَا الْحَسَنِ فَعَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْهُ لَا مِنَ الْعَجُوزِ ثُمَّ إِنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيَّ جَاءَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَدْوَارٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ بَعْدِ الْجُبَّائِيِّ فَأَرَادَ أَنْ يُجِيبَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فَقَالَ: نَحْنُ لَا نَرْضَى فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ بِهَذَا الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ بَلْ لَنَا هَاهُنَا جَوَابَانِ آخَرَانِ سِوَى مَا ذَكَرْتُمْ ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَسْأَلَةٍ اخْتَلَفَ شُيُوخُنَا فِيهَا وَهِيَ أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَلِّفَ الْعَبْدَ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: التَّكْلِيفُ مَحْضُ التَّفَضُّلِ وَالْإِحْسَانِ وَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ: إِنَّهُ وَاجِبٌ/ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ: فَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ فَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ لِذَلِكَ الصَّبِيِّ إِنِّي طَوَّلْتُ عُمُرَ الْأَخِ الزَّاهِدِ وَكَلَّفْتُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ كَوْنِي مُتَفَضِّلًا عَلَى أَخِيكَ الزَّاهِدِ بِهَذَا الْفَضْلِ أَنْ أَكُونَ مُتَفَضِّلًا عَلَيْكَ بِمِثْلِهِ وَأَمَّا إِنْ فَرَّعْنَا عَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ إِطَالَةَ عُمُرِ أَخِيكَ وَتَوْجِيهَ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِ كَانَ إِحْسَانًا فِي حَقِّهِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ عَوْدُ مَفْسَدَةٍ إِلَى الْغَيْرِ فَلَا جَرَمَ فَعَلْتُهُ وَأَمَّا إِطَالَةُ عُمُرِكَ وَتَوْجِيهُ التَّكْلِيفِ عَلَيْكَ كَانَ يَلْزَمُ مِنْهُ عَوْدُ مَفْسَدَةٍ إِلَى غَيْرِكَ فَلِهَذَا السَّبَبِ مَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فِي حَقِّكَ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. هَذَا تَلْخِيصُ كلام ابي الحسن الْبَصْرِيِّ سَعْيًا مِنْهُ فِي تَخْلِيصِ شَيْخِهِ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ سُؤَالِ الْأَشْعَرِيِّ بَلْ سَعْيًا مِنْهُ فِي تَخْلِيصِ إِلَهِهِ عَنْ سُؤَالِ الْعَبْدِ وَأَقُولُ قَبْلَ الْخَوْضِ فِي الْجَوَابِ عَنْ كَلَامِ أَبِي الْحُسَيْنِ صِحَّةُ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ الدَّقِيقَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ إِنَّمَا لَزِمَتْ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَلَا مُنَاظَرَةَ الْبَتَّةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الرَّبِّ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ لِرَبِّهِ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟ أَوْ مَا فَعَلْتَ كَذَا فَثَبَتَ أَنَّ خُصَمَاءَ اللَّهِ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ لَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَذَلِكَ يُقَوِّي غَرَضَنَا وَيُحَصِّلُ مَقْصُودَنَا ثُمَّ نَقُولُ: أَمَّا الْجَوَابُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ إِطَالَةَ الْعُمُرِ وَتَوْجِيهَ التَّكْلِيفِ تَفَضُّلٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ فَنَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ مَدْفُوعٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لما او صل التَّفَضُّلَ إِلَى أَحَدِهِمَا فَالِامْتِنَاعُ مِنْ إِيصَالِهِ إِلَى الثَّانِي قَبِيحٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْإِيصَالَ إِلَى هَذَا الثَّانِي لَيْسَ فِعْلًا شَاقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُوجِبُ دُخُولَ نُقْصَانٍ فِي مُلْكِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَهَذَا الثَّانِي يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ التَّفَضُّلِ وَمِثْلُ هَذَا الِامْتِنَاعِ قَبِيحٌ فِي الشَّاهِدِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ مَنَعَ غَيْرَهُ مِنَ النَّظَرِ فِي مِرْآتِهِ الْمَنْصُوبَةِ عَلَى الْجِدَارِ لِعَامَّةِ النَّاسِ قَبُحَ ذَلِكَ مِنْهُ لِأَنَّهُ مَنْعٌ مِنَ النَّفْعِ مِنْ غَيْرِ انْدِفَاعِ ضَرَرٍ إِلَيْهِ وَلَا وُصُولِ نَفْعٍ إِلَيْهِ فَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْعَقْلِ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ مَقْبُولًا فَلْيَكُنْ مَقْبُولًا هَاهُنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا الْبَتَّةَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ وَتَبْطُلُ كُلِّيَّةُ مَذْهَبِكُمْ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ فَاسِدٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّانِي: فَهُوَ أَيْضًا فَاسِدٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَنَا تَكْلِيفُهُ يَتَضَمَّنُ مَفْسَدَةً لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ يُوجِبُ لِذَاتِهِ حُصُولَ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَحْصُلَ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ أَبَدًا فِي حَقِّ الْكُلِّ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ بَلْ مَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا كَلَّفَ هَذَا الشَّخْصَ فَإِنَّ إِنْسَانًا آخَرَ يَخْتَارُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فِعْلًا قَبِيحًا فَإِنِ اقْتَضَى هَذَا الْقَدَرُ أَنْ يَتْرُكَ اللَّهُ تَكْلِيفَهُ فَكَذَلِكَ قَدْ عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ الْكَافِرِ أَنَّهُ إِذَا كَلَّفَهُ فَإِنَّهُ يَخْتَارُ الْكُفْرَ عِنْدَ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ فَوَجَبَ أَنْ يَتْرُكَ تَكْلِيفَهُ وَذَلِكَ يُوجِبُ قُبْحَ تَكْلِيفِ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَكْفُرُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ هَاهُنَا لَمْ يَجِبْ هُنَالِكَ وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعَالَى تَرْكُ التَّكْلِيفِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ يَخْتَارُ فِعْلًا قَبِيحًا عِنْدَ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُهُ/ إِذَا عَلِمَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ يَخْتَارُ الْقَبِيحَ عِنْدَ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ فَهَذَا محض التحكم

[سورة الأنعام (6) : آية 126]

فَثَبَتَ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي اسْتَخْرَجَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بِلَطِيفِ فِكْرِهِ وَدَقِيقِ نَظَرِهِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَدْوَارٍ ضَعِيفٌ وَظَهَرَ أَنَّ خُصَمَاءَ اللَّهِ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ لا أصحابنا والله اعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 126] وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) [في قوله تعالى وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَهذا إِشَارَةٌ إِلَى مَذْكُورٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرَهُ وَقَرَّرَهُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهُوَ أَنَّ الْفِعْلَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّاعِي وَحُصُولِ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ كَوْنُ الْفِعْلِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّوْحِيدَ الْمَحْضَ وَهُوَ كَوْنُهُ تَعَالَى مُبْدِئًا لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ وَإِنَّمَا سَمَّاهُ صِرَاطًا لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهِ يُؤَدِّي إِلَى الْعِلْمِ بِالتَّوْحِيدِ الْحَقِّ وَإِنَّمَا وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ مُسْتَقِيمًا لِأَنَّ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ رُجْحَانَ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ إِمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى الْمُرَجِّحِ أَوْ لَا يَتَوَقَّفَ فَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى الْمُرَجِّحِ لَزِمَ أَنْ يُقَالَ الْفِعْلُ لَا يَصْدُرُ عَنِ الْقَادِرِ إِلَّا عِنْدَ انْضِمَامِ الدَّاعِي إِلَيْهِ وَحِينَئِذٍ يَتِمُّ قَوْلُنَا وَيَكُونُ الْكُلُّ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَيَبْطُلُ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ رُجْحَانُ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ عَلَى مُرَجِّحٍ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ هَذَا الِاسْتِغْنَاءُ فِي كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ وَالْمُحْدَثَاتِ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ نَفْيُ الصُّنْعِ وَالصَّانِعِ وَإِبْطَالُ الْقَوْلِ بِالْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ وَالتَّأْثِيرِ وَالْمُؤَثِّرِ فَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا الرُّجْحَانَ يَحْتَاجُ إِلَى الْمُؤَثِّرِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ دُونَ الْبَعْضِ كَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةُ فَهُوَ مُعْوَجٌّ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ إِنَّمَا الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْحُكْمُ بِثُبُوتِ الْحَاجَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَذَلِكَ يُوجِبُ عَيْنَ مَذْهَبِنَا فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدِي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ هَذَا الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ يَا مُحَمَّدُ دِينُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَعْنِي الْقُرْآنَ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ عَوْدَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ أَوْلَى. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِمُتَابَعَةِ مَا فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُحْكَمَاتِ لَا مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا ذَكَرَ شَيْئًا وَبَالَغَ فِي الْأَمْرِ بِالتَّمَسُّكِ بِهِ وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ وَالتَّعْوِيلِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُحْكَمَاتِ فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ مِنَ الْمُحْكَمَاتِ وَأَنَّهُ يَجِبُ إِجْرَاؤُهَا/ عَلَى ظَاهِرِهَا وَيَحْرُمُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: انْتَصَبَ مُسْتَقِيمًا عَلَى الْحَالِ وَالْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى «هَذَا» وَذَلِكَ لِأَنَّ «ذَا» يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْإِشَارَةِ كَقَوْلِكَ: هَذَا زِيدٌ قَائِمًا مَعْنَاهُ أُشِيرُ إِلَيْهِ فِي حَالِ قِيَامِهِ وَإِذَا كَانَ الْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَعْنَى الْفِعْلِ لَا الْفِعْلُ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ الْحَالِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ قَائِمًا هَذَا زِيدٌ وَيَجُوزُ ضَاحِكًا جَاءَ زَيْدٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ. فنقول: اما تفضيل الْآيَاتِ فَمَعْنَاهُ ذِكْرُهَا فَصْلًا فَصْلًا بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِطُ وَاحِدٌ مِنْهَا بِالْآخَرِ وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ صِحَّةَ الْقَوْلِ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ مُتَوَالِيَةٍ مُتَعَاقِبَةٍ بِطُرُقٍ كَثِيرَةٍ وَوُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ فَالَّذِي أَظُنُّهُ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا جَعَلَ مَقْطَعَ هَذِهِ الْآيَةِ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ فِي عَقْلِ كُلِّ وَاحِدٍ أَنَّ أَحَدَ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ لَا يَتَرَجَّحُ عَلَى الْآخَرِ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمُعْتَزِلِيِّ: أَيُّهَا

[سورة الأنعام (6) : آية 127]

الْمُعْتَزِلِيُّ تَذَكَّرْ مَا تَقَرَّرَ فِي عَقْلِكَ أَنَّ الْمُمْكِنَ لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ عَلَى الْآخَرِ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ حَتَّى تَزُولَ الشُّبْهَةُ عَنْ قَلْبِكَ بالكلية في مسالة القضاء والقدر. [سورة الأنعام (6) : آية 127] لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ عَظِيمَ نِعَمِهِ فِي الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَبَيَّنَ انه تعالى معد مهيئ لِمَنْ يَكُونُ مِنَ الْمَذْكُورِينَ بَيَّنَ الْفَائِدَةَ الشَّرِيفَةَ الَّتِي تَحْصُلُ مِنَ الْتَمَسُّكِ بِذَلِكَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَقَالَ: لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَشْرِيفَاتٌ. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: لَهُمْ دارُ السَّلامِ وَهَذَا يُوجِبُ الْحَصْرَ فَمَعْنَاهُ: لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ لَا لِغَيْرِهِمْ وَفِي قَوْلِهِ: دارُ السَّلامِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ السَّلَامَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَدَارُ السَّلَامِ هِيَ الدَّارُ الْمُضَافَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قِيلَ لِلْكَعْبَةِ بَيْتُ اللَّهِ تَعَالَى وَلِلْخَلِيفَةِ عَبْدُ اللَّهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ السَّلَامَ صِفَةُ الدَّارِ ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى دَارُ السَّلَامَةِ وَالْعَرَبُ تُلْحِقُ هَذِهِ الْهَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَادِرِ وَتَحْذِفُهَا يَقُولُونَ ضَلَالٌ وَضَلَالَةٌ وَسَفَاهٌ وَسَفَاهَةٌ وَلَذَاذٌ وَلَذَاذَةٌ وَرَضَاعٌ وَرَضَاعَةٌ. الثَّانِي: أَنَّ السَّلَامَ جَمْعُ السَّلَامَةِ وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الْجَنَّةُ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّ/ أَنْوَاعَ السَّلَامَةِ حَاصِلَةٌ فِيهَا بِأَسْرِهَا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ: فَالْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالُوا بِهِ لِأَنَّهُ أَوْلَى لِأَنَّ إِضَافَةَ الدَّارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى نِهَايَةٌ فِي تَشْرِيفِهَا وَتَعْظِيمِهَا وَإِكْبَارِ قَدْرِهَا فَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ مُبَالَغَةً فِي تَعْظِيمِ الْأَمْرِ وَالْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي رَجَّحُوا قَوْلَهُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ وَصْفَ الدَّارِ بِكَوْنِهَا دَارَ السَّلَامَةِ أَدْخَلُ فِي التَّرْغِيبِ مِنْ إِضَافَةِ الدَّارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّانِي: أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ السَّلَامُ فِي الْأَصْلِ مَجَازٌ وَإِنَّمَا وُصِفَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذُو السَّلَامِ فَإِذَا أَمْكَنَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَانَ أَوْلَى. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْفَوَائِدِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ مَعَدٌّ عِنْدَهُ تَعَالَى كَمَا تَكُونُ الْحُقُوقُ مُعَدَّةً مُهَيَّأَةً حَاضِرَةً وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تعالى: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [البينة: 8] وَذَلِكَ نِهَايَةٌ فِي بَيَانِ وُصُولِهِمْ إِلَيْهَا وَكَوْنِهِمْ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ ذَلِكَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى التَّحْقِيقِ أَنَّ قَوْلَهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ الْمُدَّخَرَ مَوْصُوفٌ بِالْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا الْقُرْبُ لَا يَكُونُ بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ فَوَجَبَ كَوْنُهُ بِالشَّرَفِ وَالْعُلُوِّ وَالرُّتْبَةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ بَلَغَ فِي الْكَمَالِ وَالرِّفْعَةِ إِلَى حَيْثُ لَا يَعْرِفُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السَّجْدَةِ: 17] . الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 19] وَقَالَ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا- أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ لِأَجْلِي - وَقَالَ أَيْضًا- أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي - وَقَالَ فِي صِفَتِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَرِ: 55] وَقَالَ فِي دَارِهِمْ: لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَقَالَ فِي ثَوَابِهِمْ: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الْبَيِّنَةِ: 8] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُصُولَ كَمَالِ صِفَةِ الْعُبُودِيَّةِ بِوَاسِطَةِ صِفَةِ العندية.

[سورة الأنعام (6) : آية 128]

النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ التَّشْرِيفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ وَالْوَلِيُّ مَعْنَاهُ الْقَرِيبُ فَقَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ يَدُلُّ عَلَى قُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُ: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ يَدُلُّ عَلَى قُرْبِ اللَّهِ مِنْهُمْ وَلَا نَرَى فِي الْعَقْلِ دَرَجَةً لِلْعَبْدِ أَعْلَى مِنْ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ يُفِيدُ الْحَصْرَ أَيْ لَا وَلِيَّ لَهُمْ إِلَّا هُوَ وَكَيْفَ وَهَذَا التَّشْرِيفُ إِنَّمَا حَصَلَ عَلَى التَّوْحِيدِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً فَهَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ قَدْ عَرَفُوا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُدَبِّرَ وَالْمُقَدِّرَ لَيْسَ إِلَّا هُوَ وَأَنَّ النَّافِعَ وَالضَّارَّ لَيْسَ إِلَّا هُوَ وَأَنَّ الْمُسْعِدَ وَالْمُشْقِيَ لَيْسَ إِلَّا هُوَ وَأَنَّهُ لَا مُبْدِئَ لِلْكَائِنَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ إِلَّا هُوَ فَلَمَّا عَرَفُوا هَذَا انْقَطَعُوا عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ فَمَا كَانَ رُجُوعُهُمْ إِلَّا إِلَيْهِ وَمَا كَانَ تَوَكُّلُهُمْ إِلَّا عَلَيْهِ وَمَا كَانَ أُنْسُهُمْ إِلَّا بِهِ/ وَمَا كَانَ خُضُوعُهُمْ إِلَّا لَهُ فَلَمَّا صَارُوا بِالْكُلِّيَّةِ لَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ وَهَذَا إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى مُتَكَفِّلٌ بِجَمِيعِ مَصَالِحِهِمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَيَدْخُلُ فِيهَا الْحِفْظُ وَالْحِرَاسَةُ وَالْمَعُونَةُ وَالنُّصْرَةُ وَإِيصَالُ الْخَيْرَاتِ وَدَفْعُ الْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ الْمَرْءُ عَنِ الْعَمَلِ فَإِنَّ الْعَمَلَ لَا بُدَّ مِنْهُ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ: أَنَّ بَيْنَ النَّفْسِ وَالْبَدَنِ تَعَلُّقًا شديدا فكما ان الهيآت النَّفْسَانِيَّةَ قَدْ تَنْزِلُ مِنَ النَّفْسِ إِلَى الْبَدَنِ مِثْلَ مَا إِذَا تَصَوَّرَ أَمْرًا مُغْضِبًا ظَهَرَ الأثر عليه في البدن وفيسخن البدن ويحمى فكذلك الهيآت الْبَدَنِيَّةُ قَدْ تَصْعَدُ مِنَ الْبَدَنِ إِلَى النَّفْسِ فَإِذَا وَاظَبَ الْإِنْسَانُ عَلَى أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ ظهر الْآثَارُ الْمُنَاسِبَةُ لَهَا فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّالِكَ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى تركه البتة. [سورة الأنعام (6) : آية 128] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) [في قوله تعالى وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بَيَّنَ بَعْدَهُ حَالَ مَنْ يَكُونُ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ لِتَكُونَ قِصَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ مُرْدَفَةً بِقِصَّةِ أَهْلِ النَّارِ وَلِيَكُونَ الْوَعِيدُ مَذْكُورًا بَعْدَ الْوَعْدِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ مَنْصُوبٌ بِمَحْذُوفٍ أَيْ وَاذْكُرْ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ أَوْ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ قُلْنَا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ أَوْ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ وَقُلْنَا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ كَانَ مَا لَا يُوصَفُ لِفَظَاعَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: يَعُودُ إِلَى الْمَعْلُومِ لَا إِلَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ الثَّقَلَانِ وَجَمِيعُ الْمُكَلَّفِينَ الَّذِينَ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الانعام: 112] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا فَنَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ فَيَكُونُ هَذَا الْقَائِلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا أَنَّهُ الْحَاشِرُ لِجَمِيعِهِمْ وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ تَعَالَى بَعْدَ الْحَشْرِ لَا يَكُونُ إِلَّا تَبْكِيتًا وَبَيَانًا لِجِهَةِ أَنَّهُمْ وَإِنْ تَمَرَّدُوا فِي الدُّنْيَا فَيَنْتَهِي حَالُهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَى الِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْجُرْمِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ فَيُقَالُ لَهُمْ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ مَعَ الْكُفَّارِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي صفة

الْكُفَّارِ: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الْبَقَرَةِ: 174] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ فَنَقُولُ: هَذَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ لِأَنَّ الْجِنَّ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسِ لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْجِسْمِ وَعَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْفِعْلِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى الضَّلَالِ مَعَ مُصَادَفَةِ الْقَبُولِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ فَالْأَقْرَبُ أَنَّ فِيهِ حَذْفًا فَكَمَا قَالَ لِلْجِنِّ تَبْكِيتًا فَكَذَلِكَ قَالَ لِلْإِنْسِ تَوْبِيخًا لِأَنَّهُ حَصَلَ مِنَ الْجِنِّ الدُّعَاءُ وَمِنَ الْإِنْسِ الْقَبُولُ وَالْمُشَارَكَةُ حَاصِلَةٌ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فَلَمَّا بَكَّتَ تَعَالَى كِلَا الْفَرِيقَيْنِ حَكَى هَاهُنَا جَوَابَ الْإِنْسِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ فَوَصَفُوا أَنْفُسَهُمْ بِالتَّوَفُّرِ عَلَى مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَالِاسْتِمْتَاعِ بِلَذَّاتِهَا إِلَى أَنْ بَلَغُوا هَذَا الْمَبْلَغَ الَّذِي عِنْدَهُ أَيْقَنُوا بِسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ. ثُمَّ هَاهُنَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُمُ اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ اسْتَمْتَعَ الْجِنُّ بِالْإِنْسِ وَالْإِنْسُ بِالْجِنِّ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ الِاسْتِمْتَاعِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَى هَذَا الِاسْتِمْتَاعِ هُوَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا سَافَرَ فَأَمْسَى بِأَرْضٍ قَفْرٍ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ قَالَ: أَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي مِنْ سُفَهَاءِ قَوْمِهِ فَيَبِيتُ آمِنًا فِي نَفْسِهِ فَهَذَا اسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ وَأَمَّا اسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ فَهُوَ أَنَّ الْإِنْسِيَّ إِذَا عَاذَ بِالْجِنِّيِّ كَانَ ذَلِكَ تَعْظِيمًا مِنْهُمْ لِلْجِنِّ وَذَلِكَ الْجِنِّيُّ يَقُولُ: قَدْ سُدْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ لِأَنَّ الْإِنْسِيَّ قَدِ اعْتَرَفَ لَهُ بِأَنَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَالْكَلْبِيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَاحْتَجُّوا عَلَى صِحَّتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الْجِنِّ: 6] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذَا الِاسْتِمْتَاعِ أَنَّ الْإِنْسَ كَانُوا يُطِيعُونَ الْجِنَّ وَيَنْقَادُونَ لِحُكْمِهِمْ فَصَارَ الْجِنُّ كَالرُّؤَسَاءِ وَالْإِنْسُ كَالْأَتْبَاعِ وَالْخَادِمِينَ الْمُطِيعِينَ الْمُنْقَادِينَ الَّذِينَ لَا يُخَالِفُونَ رَئِيسَهُمْ وَمَخْدُومَهُمْ فِي قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الرَّئِيسَ قَدِ انْتَفَعَ بِهَذَا الْخَادِمِ فَهَذَا اسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ. وَأَمَّا اسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ فَهُوَ أَنَّ الْجِنَّ كَانُوا يَدُلُّونَهُمْ عَلَى أَنْوَاعِ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَالطَّيِّبَاتِ وَيُسَهِّلُونَ تِلْكَ الْأُمُورَ عَلَيْهِمْ وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَمَنْ كَانَ يَقُولُ مِنَ الْإِنْسِ أَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي قَلِيلٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ هُوَ كَلَامُ الْإِنْسِ خَاصَّةً لِأَنَّ اسْتِمْتَاعَ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ وَبِالْعَكْسِ أَمْرٌ قَلِيلٌ نَادِرٌ لَا يَكَادُ يَظْهَرُ أَمَّا اسْتِمْتَاعُ بَعْضِ الْإِنْسِ بِبَعْضٍ فَهُوَ أَمْرٌ ظَاهِرٌ فَوَجَبَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ كَلَامُ الْإِنْسِ الَّذِينَ هُمْ أَوْلِيَاءُ الْجِنِّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ اسْتِمْتَاعِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ اسْتِمْتَاعَ بَعْضِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ بِبَعْضٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا فَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِمْتَاعَ كَانَ حَاصِلًا إِلَى أَجَلٍ مُعَيَّنٍ وَوَقْتٍ مَحْدُودٍ ثُمَّ جَاءَتِ الْخَيْبَةُ وَالْحَسْرَةُ وَالنَّدَامَةُ مِنْ حَيْثُ لَا تَنْفَعُ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ الْأَجَلَ أَيُّ الْأَوْقَاتِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَقْتُ الْمَوْتِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ وَقْتُ التَّخْلِيَةِ وَالتَّمْكِينِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ وَقْتُ الْمُحَاسَبَةِ فِي الْقِيَامَةِ وَالَّذِينَ قَالُوا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالُوا إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ مِنْ مَقْتُولٍ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَمُوتُ بِأَجَلِهِ لِأَنَّهُمْ أَقَرُّوا أَنَّا بَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا وَفِيهِمُ الْمَقْتُولُ وَغَيْرُ المقتول.

[سورة الأنعام (6) : آية 129]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ الْمَثْوَى: الْمَقَامُ وَالْمَقَرُّ وَالْمَصِيرُ ثُمَّ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ مَقَامٌ وَمَقَرٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَيَتَخَلَّصُ بِالْمَوْتِ عَنْ ذَلِكَ الْمَثْوَى فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذلك المقام والمثوى مخلد مؤيد وَهُوَ قَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ اسْتِثْنَاءُ أَوْقَاتِ الْمُحَاسَبَةِ لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ لَيْسُوا بِخَالِدِينَ فِي النَّارِ. الثَّانِي: الْمُرَادُ الْأَوْقَاتُ الَّتِي يُنْقَلُونَ فِيهَا مِنْ عَذَابِ النَّارِ إِلَى عَذَابِ الزَّمْهَرِيرِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ وَادِيًا فِيهِ بَرْدٌ شَدِيدٌ فَهُمْ يَطْلُبُونَ الرَّدَّ مِنْ ذَلِكَ الْبَرْدِ إِلَى حَرِّ الْجَحِيمِ. الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى قَوْمًا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُمْ يُسْلِمُونَ وَيُصَدِّقُونَ النبي صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ «مَا» بِمَعْنَى «مَنْ» قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: خالِدِينَ فِيها مُنْذُ يُبْعَثُونَ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ مِنْ مِقْدَارِ حَشْرِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَمِقْدَارِ مُدَّتِهِمْ فِي مُحَاسَبَتِهِمْ. الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ غَيْرُ رَاجِعٍ إِلَى الْخُلُودِ وَإِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَجَلِ الْمُؤَجَّلِ لَهُمْ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: وَبَلَغْنَا الْأَجَلَ الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا أَيِ الَّذِي سَمَّيْتَهُ لَنَا إِلَّا مَنْ أَهْلَكْتَهُ قَبْلَ الْأَجَلِ الْمُسَمَّى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [الْأَنْعَامِ: 6] وَكَمَا فَعَلَ فِي قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ مِمِنْ أَهْلَكَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ الْأَجَلِ الَّذِي لَوْ آمَنُوا لَبَقُوا إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ فَتَلْخِيصُ الْكَلَامِ/ أَنْ يَقُولُوا: اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا مَا سَمَّيْتَ لَنَا مِنَ الْأَجَلِ إِلَّا مَنْ شِئْتَ أَنْ تَخْتَرِمَهُ فَاخْتَرَمْتَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِكُفْرِهِ وَضَلَالِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا إِلَّا أَنَّهُ تَرْكٌ لِظَاهِرِ تَرْتِيبِ أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَمَّا أَمْكَنَ إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا فَلَا حاجة الى هذا التكليف. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ أَيْ فِيمَا يَفْعَلُهُ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ وَسَائِرِ وُجُوهِ الْمُجَازَاةِ وَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّمَا حَكَمْتُ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ بِعَذَابِ الْأَبَدِ لِعِلْمِي أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: قَوْلُهُ: النَّارُ مَثْواكُمْ الْمَثْوَى اسْمٌ لِلْمَصْدَرِ دُونَ الْمَكَانِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: خالِدِينَ فِيها حَالٌ وَاسْمُ الْمَوْضِعِ لَا يَعْمَلُ عَمَلَ الْفِعْلِ فَقَوْلُهُ: النَّارُ مَثْواكُمْ مَعْنَاهُ: النَّارُ أَهْلٌ أَنْ تُقِيمُوا فيها خالدين. [سورة الأنعام (6) : آية 129] وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ فَوَائِدُ: الْفَائِدَةُ الاولى: اعلم انه تعالى لما حكيم عَنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَتَوَلَّى بَعْضًا بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِتَقْدِيرِهِ وَقَضَائِهِ فَقَالَ: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ أَنَّ الْقُدْرَةَ صَالِحَةٌ لِلطَّرَفَيْنِ أَعْنِي الْعَدَاوَةَ وَالصَّدَاقَةَ فَلَوْلَا حُصُولُ الدَّاعِيَةِ إِلَى الصَّدَاقَةِ لَمَا حَصَلَتِ الصَّدَاقَةُ وَتِلْكَ الدَّاعِيَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى قَطْعًا للتسلسل فهبت بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا. وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ تَصِيرُ هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلًا لَنَا فِي مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 130]

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ لَهُمْ دَارَ السَّلَامِ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى وَلِيُّهُمْ بِمَعْنَى الْحِفْظِ وَالْحِرَاسَةِ وَالْمَعُونَةِ وَالنُّصْرَةِ فَكَذَلِكَ لَمَّا بَيَّنَ حَالَ أَهْلِ النَّارِ ذَكَرَ أَنَّ مَقَرَّهُمْ وَمَثْوَاهُمُ النَّارُ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ أَوْلِيَاءَهُمْ مَنْ يُشْبِهُهُمْ فِي الظُّلْمِ وَالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ وَهَذِهِ مُنَاسَبَةٌ حَسَنَةٌ لَطِيفَةٌ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: كَافُ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نُوَلِّي تَقْتَضِي شَيْئًا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَالتَّقْدِيرُ: كَأَنَّهُ قَالَ كَمَا أَنْزَلْتَ بِالْجِنِّ وَالْإِنْسِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمُ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ الدَّائِمَ الَّذِي لَا مُخَلِّصَ مِنْهُ: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً لِأَنَّ الْجِنْسِيَّةَ عِلَّةُ الضَّمِّ فَالْأَرْوَاحُ/ الْخَبِيثَةُ تَنْضَمُّ إِلَى مَا يُشَاكِلُهَا فِي الْخُبْثِ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْأَرْوَاحِ الطَّاهِرَةِ فَكُلُّ أَحَدٍ يَهْتَمُّ بِشَأْنِ مَنْ يُشَاكِلُهُ فِي النُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ وَالتَّقْوِيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّعِيَّةَ مَتَى كَانُوا ظَالِمِينَ فَاللَّهُ تَعَالَى يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ ظَالِمًا مِثْلَهُمْ فَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنْ ذَلِكَ الْأَمِيرِ الظَّالِمِ فَلْيَتْرُكُوا الظُّلْمَ وَأَيْضًا الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْخَلْقِ مِنْ أَمِيرٍ وَحَاكِمٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا كَانَ لَا يُخَلِّي أَهْلَ الظُّلْمِ مِنْ أَمِيرٍ ظَالِمٍ فَبِأَنْ لَا يُخَلِّي أَهْلَ الصَّلَاحِ مِنْ أَمِيرٍ يَحْمِلُهُمْ عَلَى زِيَادَةِ الصَّلَاحِ كَانَ أَوْلَى. قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَصْلُحُ لِلنَّاسِ إِلَّا أَمِيرٌ عَادِلٌ أَوْ جَائِرٌ فَأَنْكَرُوا قَوْلَهُ: أَوْ جَائِرٌ فَقَالَ: نَعَمْ يُؤَمِّنُ السَّبِيلَ وَيُمَكِّنُ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ وَحَجِّ الْبَيْتِ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سال الرسول صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ الْإِمَارَةَ فَقَالَ لَهُ: «إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ وَهِيَ فِي الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلَّا من أخذها بحثها وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا» وَعَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ: جَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى- أَنَا اللَّهُ مَالِكُ الْمُلُوكِ قُلُوبُ الْمُلُوكِ وَنَوَاصِيهَا بِيَدِي فَمَنْ أَطَاعَنِي جَعَلْتُهُمْ عَلَيْهِ رَحْمَةً وَمَنْ عَصَانِي جَعَلْتُهُمْ عَلَيْهِ نِقْمَةً لَا تَشْغَلُوا أَنْفُسَكُمْ بِسَبِّ الْمُلُوكِ لَكِنْ تُوبُوا إِلَيَّ أُعَطِّفُهُمْ عَلَيْكُمْ-. أَمَّا قَوْلُهُ: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ فَالْمَعْنَى نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِسَبَبِ كَوْنِ ذَلِكَ الْبَعْضِ مُكْتَسِبًا لِلظُّلْمِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الجنسية علة للضم. [سورة الأنعام (6) : آية 130] يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ بَقِيَّةِ مَا يَذْكُرُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَوْبِيخِ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُمْ إِلَى الْجُحُودِ سَبِيلٌ فَيَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ وَإِنَّهُمْ لَمْ يُعَذَّبُوا إِلَّا بِالْحُجَّةِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْمَعْشَرُ كُلُّ جَمَاعَةٍ أَمْرُهُمْ وَاحِدٌ وَيَحْصُلُ بينهم معاشرة/ ومخالطة والجمع: المعاشر. وقوله: سُلٌ مِنْكُمْ اخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ مِنَ الْجِنِّ رَسُولٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الضَّحَّاكُ: أُرْسِلَ مِنَ الْجِنِّ رُسُلٌ كَالْإِنْسِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَتَلَا قَوْلَهُ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فَاطِرٍ: 24] وَيُمْكِنُ أَنْ يَحْتَجَّ الضَّحَّاكُ بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الْأَنْعَامِ: 9] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ اسْتِئْنَاسَ الْإِنْسَانِ بِالْإِنْسَانِ أَكْمَلُ مِنَ اسْتِئْنَاسِهِ بِالْمَلَكِ، فَوَجَبَ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ رَسُولَ الْإِنْسِ مِنَ الْإِنْسِ لِيَكْمُلَ هَذَا الِاسْتِئْنَاسُ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا الْمَعْنَى، فَهَذَا السَّبَبُ حَاصِلٌ فِي الْجِنِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ الْجِنِّ من الجن.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّهُ مَا كَانَ مِنَ الْجِنِّ رَسُولٌ الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا كَانَ الرُّسُلُ مِنَ الْإِنْسِ. وَمَا رَأَيْتُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ حُجَّةً إِلَّا ادِّعَاءَ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ كَيْفَ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ مَعَ حُصُولِ الِاخْتِلَافِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 33] وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الِاصْطِفَاءِ إِنَّمَا هُوَ النُّبُوَّةُ فَوَجَبَ كَوْنُ النُّبُوَّةِ مَخْصُوصَةً بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فَقَطْ فَأَمَّا تَمَسُّكُ الضَّحَّاكِ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قال: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ رُسُلَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ تَكُونُ بَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِ هَذَا الْمَجْمُوعِ وَإِذَا كَانَ الرُّسُلُ مِنَ الْإِنْسِ كَانَ الرُّسُلُ بَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ فَكَانَ هَذَا الْقَدْرُ كَافِيًا فِي حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِثْبَاتُ رَسُولٍ مِنَ الْجِنِّ. الثَّانِي: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الرُّسُلَ كَانُوا مِنَ الْإِنْسِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ يُلْقِي الدَّاعِيَةَ فِي قُلُوبِ قَوْمٍ مِنَ الْجِنِّ حَتَّى يَسْمَعُوا كَلَامَ الرُّسُلِ وَيَأْتُوا قَوْمَهُمْ مِنَ الْجِنِّ وَيُخْبِرُونَهُمْ بِمَا سَمِعُوهُ مِنَ الرُّسُلِ وَيُنْذِرُونَهُمْ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ [الْأَحْقَافِ: 29] فَأُولَئِكَ الْجِنُّ كَانُوا رُسُلَ الرُّسُلِ فَكَانُوا رُسُلًا لِلَّهِ تَعَالَى وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى رُسُلَ عِيسَى رُسُلَ نَفْسِهِ. فَقَالَ: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ [يس: 14] وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا بَكَّتَ الْكُفَّارَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَزَالَ الْعُذْرَ وَأَزَاحَ الْعِلَّةَ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ إِلَى الْكُلِّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَإِذَا وَصَلَتِ الْبِشَارَةُ وَالنِّذَارَةُ إِلَى الْكُلِّ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَقَدْ حَصَلَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِزَاحَةِ الْعُذْرِ وَإِزَالَةِ الْعِلَّةِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ قال الواحدي: قوله تعالى: سُلٌ مِنْكُمْ أَرَادَ مِنْ أَحَدِكُمْ وَهُوَ الْإِنْسُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرَّحْمَنِ: 22] أَيْ مِنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمِلْحُ الَّذِي لَيْسَ بِعَذْبٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَا حَاجَةَ مَعَهُمَا إِلَى تَرْكِ الظَّاهِرِ أَمَّا هَذَا الثَّالِثُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ تَرْكَ الظَّاهِرِ وَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ الا بالدليل المنفصل. اما قوله: قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى الْأَدِلَّةِ بالتلاوة وبالتأويل: يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا أَيْ يُخَوِّفُونَكُمْ عَذَابَ هَذَا الْيَوْمِ فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَ ذَلِكَ إِلَّا الِاعْتِرَافَ فَلِذَلِكَ قَالُوا: شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا. فَإِنْ قَالُوا: مَا السَّبَبُ فِي أَنَّهُمْ أَقَرُّوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْكُفْرِ وَجَحَدُوهُ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الانعام: 23] . قُلْنَا: يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ طَوِيلٌ وَالْأَحْوَالُ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ فَتَارَةً يُقِرُّونَ وَأُخْرَى يَجْحَدُونَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ خَوْفِهِمْ وَاضْطِرَابِ أَحْوَالِهِمْ فَإِنَّ مَنْ عَظُمَ خَوْفُهُ كَثُرَ الِاضْطِرَابُ فِي كَلَامِهِ. ثُمَّ قال تعالى: غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَإِنَّمَا وَقَعُوا فِي ذَلِكَ الْكُفْرِ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ غَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدنيا. ثم قال تعالى: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ وَإِنْ بَالَغُوا فِي عَدَاوَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالطَّعْنِ فِي شَرَائِعِهِمْ وَمُعْجِزَاتِهِمْ إِلَّا أَنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حمل قوله: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ بِأَنْ تَشْهَدَ عَلَيْهِمُ الْجَوَارِحُ بِالشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَمَقْصُودُهُمْ دَفْعُ التَّكْرَارِ عَنِ الْآيَةِ وَكَيْفَمَا كَانَ فَالْمَقْصُودُ مِنْ شَرْحِ أَحْوَالِهِمْ فِي الْقِيَامَةِ زَجْرُهُمْ فِي الدُّنْيَا عَنِ الكفر والمعصية.

[سورة الأنعام (6) : آية 131]

واعلم ان أصحابنا يتمسكون بقوله تعالى: لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْوُجُوبُ الْبَتَّةَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ لَوْ حصل الوجوب واستحقاق والعقاب قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّعْلِيلِ والذكر فائدة. [سورة الأنعام (6) : آية 131] ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ مَا عَذَّبَ الْكُفَّارَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ بَعَثَ إِلَيْهِمُ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْعَدْلُ وَالْحَقُّ وَالْوَاجِبُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَعْثَةِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ سُوءَ الْعَاقِبَةِ وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ: الْأَمْرُ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعْلِيلٌ وَالْمَعْنَى: / الْأَمْرُ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ لِانْتِفَاءِ كَوْنِ رَبِّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَكَلِمَةُ «أَنْ» هَاهُنَا هِيَ الَّتِي تَنْصِبُ الْأَفْعَالَ وَثَانِيهَا: يَجُوزُ أَنْ تكون مخففة من الثقلية وَالْمَعْنَى لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: ذلِكَ كَقَوْلِهِ: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الْحِجْرِ: 66] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِظُلْمٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِسَبَبِ ظُلْمٍ أَقْدَمُوا عَلَيْهِ. الثاني: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى ظُلْمًا عَلَيْهِمْ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ [هُودٍ: 117] فِي سُورَةِ هُودٍ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الظُّلْمُ فِعْلًا لِلْكُفَّارِ وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ عَائِدًا إِلَى فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِقَوْلِنَا لِأَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ يُوهِمُ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَهْلَكَهُمْ قَبْلَ بَعْثَةِ الرُّسُلِ كَانَ ظَالِمًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَحْكُمُ مَا يَشَاءُ وَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ: فَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي مُطَابِقٌ لِمَذْهَبِهِمْ مُوَافِقٌ لِمُعْتَقَدِهِمْ. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَمَنْ فَسَّرَ الْآيَةَ بِهَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا لَكِنَّهُ يَكُونُ فِي صُورَةِ الظَّالِمِ فِيمَا بَيَّنَّا فَوُصِفَ بِكَوْنِهِ ظَالِمًا مَجَازًا وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ هُودٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَهْلُها غافِلُونَ فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْغَفْلَةِ أَنْ يَتَغَافَلَ الْمَرْءُ عَمَّا يُوعَظُ بِهِ بَلْ مَعْنَاهَا أَنْ لَا يُبَيِّنَ اللَّهُ لَهُمْ كَيْفِيَّةَ الْحَالِ وَلَا أَنْ يُزِيلَ عُذْرَهُمْ وَعِلَّتَهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْوُجُوبُ قَبْلَ الشَّرْعِ وَأَنَّ الْعَقْلَ الْمَحْضَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ الْبَتَّةَ. قَالُوا: لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا بَعْدَ الْبَعْثَةِ لِلرَّسُولِ. وَالْمُعْتَزِلَةُ قَالُوا: إِنَّهَا تَدُلُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ قَدْ يَتَقَرَّرُ قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرْعِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ فَهَذَا الظُّلْمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْعَبْدِ أَوْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إِمْكَانِ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ الظُّلْمُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْفِعْلُ ظُلْمًا قَبْلَ البعثة لو

[سورة الأنعام (6) : آية 132]

كَانَ قَبِيحًا وَذَنْبًا قَبْلَ بَعْثَةِ الرُّسُلِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفِعْلُ قَبِيحًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا مَعَ الِاعْتِرَافِ بتحسين العقل وتقبيحه. [سورة الأنعام (6) : آية 132] وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عامر وحده تعلمون بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ أَهْلِ الثَّوَابِ وَالدَّرَجَاتِ وَأَحْوَالَ أَهْلِ الْعِقَابِ وَالدَّرَكَاتِ ذَكَرَ كَلَامًا كُلِّيًّا فَقَالَ: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا عَامٌّ فِي الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي وَالتَّقْدِيرُ: وَلِكُلِّ عَامِلٍ عَمِلَ فَلَهُ فِي عَمَلِهِ دَرَجَاتٌ فَتَارَةً يَكُونُ فِي دَرَجَةٍ نَاقِصَةٍ وَتَارَةً يَتَرَقَّى مِنْهَا إِلَى دَرَجَةٍ كَامِلَةٍ وَأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ التَّامِّ فَرَتَّبَ عَلَى كُلِّ دَرَجَةٍ مِنْ تِلْكَ الدَّرَجَاتِ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْجَزَاءِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الطَّاعَةِ لِأَنَّ لَفْظَ الدَّرَجَةِ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تعملون مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالصَّوَابُ هُوَ الْأَوَّلُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا فِي مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بِحَسَبِ فِعْلٍ مُعَيَّنٍ بِدَرَجَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَعَلِمَ تِلْكَ الدَّرَجَةَ بِعَيْنِهَا وَأَثْبَتَ تِلْكَ الدَّرَجَةَ الْمُعَيَّنَةَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ زُمَرَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ فَلَوْ لَمْ تَحْصُلْ تِلْكَ الدَّرَجَةُ لِذَلِكَ الْإِنْسَانِ لَبَطَلَ ذَلِكَ الْحُكْمُ وَلَصَارَ ذَلِكَ الْعِلْمُ جَهْلًا وَلَصَارَ ذَلِكَ الْإِشْهَادُ كَذِبًا وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّ لِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَالشَّقِيُّ مَنْ شقي في بطن امه. [سورة الأنعام (6) : الآيات 133 الى 134] وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) [وربك الغني ذو الرحمة] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ ثَوَابَ أَصْحَابِ الطَّاعَاتِ وَعِقَابَ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي وَالْمُحَرَّمَاتِ وَذَكَرَ أَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ دَرَجَةً مَخْصُوصَةً وَمَرْتَبَةً مُعَيَّنَةً بَيَّنَ أَنَّ تَخْصِيصَ الْمُطِيعِينَ بِالثَّوَابِ وَالْمُذْنِبِينَ بِالْعَذَابِ لَيْسَ لِأَجْلِ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى طَاعَةِ الْمُطِيعِينَ أَوْ يَنْتَقِصُ بِمَعْصِيَةِ الْمُذْنِبِينَ فَإِنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ لِذَاتِهِ عَنْ جَمِيعِ الْعَالَمِينَ وَمَعَ كَوْنِهِ غَنِيًّا فَإِنَّ رَحْمَتَهُ عَامَّةٌ كَامِلَةٌ وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَرْتِيبِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ وَالنُّفُوسِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَإِيصَالِهَا إِلَى دَرَجَاتِ السُّعَدَاءِ الْأَبْرَارِ إِلَّا بِتَرْتِيبِ التَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَاتِ وَالتَّرْهِيبِ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ فَقَالَ:

وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ وَمِنْ رَحْمَتِهِ عَلَى الْخَلْقِ تَرْتِيبُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فَنَفْتَقِرُ هَاهُنَا إِلَى بَيَانِ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: إِلَى بَيَانِ كَوْنِهِ تَعَالَى غَنِيًّا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُحْتَاجًا لَكَانَ مُسْتَكْمِلًا بِذَلِكَ الْفِعْلِ وَالْمُسْتَكْمِلُ بِغَيْرِهِ نَاقِصٌ بِذَاتِهِ وَهُوَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَأَيْضًا فَكُلُّ إيجاب او سلب يفرض فان كان ذَاتُهُ كَافِيَةً فِي تَحَقُّقِهِ وَجَبَ دَوَامُ ذَلِكَ الْإِيجَابِ أَوْ ذَلِكَ السَّلْبِ بِدَوَامِ ذَاتِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَافِيَةً فَحِينَئِذٍ يَتَوَقَّفُ حُصُولُ تِلْكَ الْحَالَةِ وَعَدَمُهَا عَلَى وُجُودِ سَبَبٍ مُنْفَصِلٍ أَوْ عَدَمِهِ فَذَاتُهُ لَا تَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ الثُّبُوتِ وَالْعَدَمِ وَهُمَا مَوْقُوفَانِ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ السَّبَبِ الْمُنْفَصِلِ وَعَدَمِهِ وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَى الشَّيْءِ مَوْقُوفٌ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ ذَاتِهِ مَوْقُوفَةً عَلَى الْغَيْرِ وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْغَيْرِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ فَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَهُوَ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ يُفِيدُ الْحَصْرَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا غَنِيَّ إِلَّا هُوَ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ وَمَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ مُحْتَاجٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا غَنِيَّ إِلَّا هُوَ فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ صِحَّةُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ وَأَمَّا إِثْبَاتُ أَنَّهُ: ذُو الرَّحْمَةِ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي وُجُودِ خَيْرَاتٍ وَسَعَادَاتٍ وَلَذَّاتٍ وَرَاحَاتٍ إِمَّا بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ الْجِسْمَانِيَّةِ وَإِمَّا بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ الرُّوحَانِيَّةِ فَثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَإِنَّمَا يدخل في الوجود بإيجاده وتكوينيه وَتَخْلِيقِهِ فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالرَّاحَاتِ وَالْكَرَامَاتِ وَالسَّعَادَاتِ فَهُوَ مِنَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَبِإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ ثُمَّ إِنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَيْرَ غَالِبٌ عَلَى الشَّرِّ فَإِنَّ الْمَرِيضَ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَالصَّحِيحُ أَكْثَرُ مِنْهُ وَالْجَائِعُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَالشَّبْعَانُ أَكْثَرُ مِنْهُ وَالْأَعْمَى وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا إِلَّا أَنَّ الْبَصِيرَ أَكْثَرُ مِنْهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِحُصُولِ الرَّحْمَةِ وَالرَّاحَةِ وَثَبَتَ أَنَّ الْخَيْرَ أَغْلَبُ مِنَ الشَّرِّ وَالْأَلَمِ وَالْآفَةِ وَثَبَتَ أَنَّ مَبْدَأَ تِلْكَ الرَّاحَاتِ وَالْخَيْرَاتِ بِأَسْرِهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ: ذُو الرَّحْمَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ يُفِيدُ الْحَصْرَ فَإِنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا رَحْمَةَ إِلَّا مِنْهُ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ أَوْ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ فَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مِنْهُ وَالرَّحْمَةُ دَاخِلَةٌ فِيمَا سِوَاهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا رَحْمَةَ إِلَّا مِنَ الْحَقِّ فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ صِحَّةُ هَذَا الْحَصْرِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا غَنِيَّ إِلَّا هُوَ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا رَحِيمَ إِلَّا هُوَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكَيْفَ يُمْكِنُنَا إِنْكَارُ رَحْمَةِ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ وَالْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ كُلَّهَا عِنْدَ التَّحْقِيقِ مِنَ اللَّهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى أَلْقَى فِي قَلْبِ هَذَا الرَّحِيمِ دَاعِيَةَ الرَّحْمَةِ لَمَا أَقْدَمَ عَلَى الرَّحْمَةِ فَلَمَّا كَانَ مُوجِدُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ هُوَ اللَّهُ كَانَ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ شَدِيدَ الْغَضَبِ عَلَى إِنْسَانٍ قَاسِي الْقَلْبِ عَلَيْهِ ثم ينقلب رؤوفا رَحِيمًا عَطُوفًا فَانْقِلَابُهُ مِنَ الْحَالَةِ الْأُولَى إِلَى الثَّانِيَةِ لَيْسَ إِلَّا بِانْقِلَابِ تِلْكَ الدَّوَاعِي فَثَبَتَ أَنَّ مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْبُرْهَانِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ وَبِالْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ [الْأَنْعَامِ: 110] فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا رَحْمَةَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ. وَالثَّانِي: هَبْ أَنَّ ذَلِكَ الرَّحِيمَ اعطى الطعام والثواب وَالذَّهَبَ وَلَكِنْ لَا صِحَّةَ لِلْمِزَاجِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَإِلَّا فَكَيْفَ الِانْتِفَاعُ؟ فَالَّذِي أَعْطَى صِحَّةَ الْمِزَاجِ وَالْقُدْرَةَ وَالْمُكْنَةَ هُوَ الرَّحِيمُ فِي الْحَقِيقَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ

كُلَّ مَنْ أَعْطَى غَيْرَهُ شَيْئًا فَهُوَ إِنَّمَا يُعْطِي لِطَلَبِ عِوَضٍ وَهُوَ إِمَّا الثَّنَاءُ فِي الدُّنْيَا أَوِ الثَّوَابُ فِي الْآخِرَةِ أَوْ دَفْعُ الرِّقَّةِ الْجِنْسِيَّةِ عَنِ الْقَلْبِ وَهُوَ تَعَالَى يُعْطِي لَا لِغَرَضٍ أَصْلًا فَكَانَ تَعَالَى هُوَ الرَّحِيمُ الْكَرِيمُ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْبَرَاهِينِ الْيَقِينِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ صِحَّةُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا غَنِيَّ وَلَا رَحِيمَ إِلَّا هُوَ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الْكُلِّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَسْتَكْمِلُ بِطَاعَاتِ الْمُطِيعِينَ وَلَا يَنْتَقِصُ بِمَعَاصِي الْمُذْنِبِينَ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ ثَبَتَ أَنَّهُ مَا رَتَّبَ الْعَذَابَ عَلَى الذُّنُوبِ وَلَا الثَّوَابَ عَلَى الطَّاعَاتِ إِلَّا لِأَجْلِ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالْكَرَمِ وَالْجُودِ وَالْإِحْسَانِ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: 7] فَهَذَا الْبَيَانُ الْإِجْمَالِيُّ كَافٍ فِي هَذَا الْبَابِ. وَأَمَّا تَفْصِيلُ تِلْكَ الْحَالَةِ وَشَرْحُهَا عَلَى الْبَيَانِ التَّامِّ فَمِمَّا لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ إِشَارَةٌ إِلَى الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى كَوْنِهِ عَادِلًا مُنَزَّهًا عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ وَعَلَى كَوْنِهِ رَحِيمًا مُحْسِنًا بِعِبَادِهِ. أَمَّا الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ فَقَالَ: تَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِقُبْحِ الْقَبَائِحِ وَعَالَمٌ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُ وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَعَالَى عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ. أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَتَقْرِيرُهَا إِنَّمَا يَتِمُّ بِمَجْمُوعِ مُقَدِّمَاتٍ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّ فِي الْحَوَادِثِ/ مَا يَكُونُ قَبِيحًا نَحْوَ: الظُّلْمُ وَالسَّفَهُ وَالْكَذِبُ وَالْغِيبَةُ: وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي الْآيَةِ لِغَايَةِ ظُهُورِهَا. وَثَانِيهَا: كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِالْمَعْلُومَاتِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [الانعام: 132] وَثَالِثُهَا: كَوْنُهُ تَعَالَى غَنِيًّا عَنِ الْحَاجَاتِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ وَإِذَا ثَبَتَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الثَّلَاثَةِ ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِقُبْحِ الْقَبَائِحِ وَعَالِمٌ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهَا فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا امْتَنَعَ كَوْنُهُ فَاعِلًا لَهَا لِأَنَّ الْمُقْدِمَ عَلَى فِعْلِ الْقَبِيحِ إِنَّمَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ إِمَّا لِجَهْلِهِ بِكَوْنِهِ قَبِيحًا وَإِمَّا لِاحْتِيَاجِهِ فَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْكُلِّ امْتَنَعَ كَوْنُهُ جَاهِلًا بِقُبْحِ الْقَبَائِحِ وَإِذَا كَانَ غَنِيًّا عَنِ الْكُلِّ امْتَنَعَ كَوْنُهُ مُحْتَاجًا إِلَى فِعْلِ الْقَبَائِحِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ فِعْلِ الْقَبَائِحِ مُتَعَالٍ عَنْهَا فَحِينَئِذٍ يُقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا فَلَمَّا كَلَّفَ عَبِيدَهُ الْأَفْعَالَ الشَّاقَّةَ وَجَبَ أَنْ يُثِيبَهُمْ عَلَيْهَا وَلَمَّا رَتَّبَ الْعِقَابَ وَالْعَذَابَ عَلَى فِعْلِ الْمَعَاصِي وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَادِلًا فِيهَا فَبِهَذَا الطَّرِيقِ ثَبَتَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَادِلًا فِي الْكُلِّ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَبْ أَنَّ بِهَذَا الطَّرِيقِ انْتَفَى الظُّلْمُ عَنْهُ تَعَالَى فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّكْلِيفِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّكْلِيفَ إِحْسَانٌ وَرَحْمَةٌ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي «كُتُبِ الْكَلَامِ» فَقَوْلُهُ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَقَامِ الْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ: ذُو الرَّحْمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَقَامِ الثَّانِي فَهَذَا تَقْرِيرُ الدَّلَائِلِ الَّتِي اسْتَنْبَطَهَا طَوَائِفُ الْعُقَلَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ. وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ الْكُلَّ لَا يُحَاوِلُونَ إِلَّا التَّقْدِيسَ وَالتَّعْظِيمَ وَسَمِعْتُ الشَّيْخَ الْإِمَامَ الْوَالِدَ ضِيَاءَ الدِّينِ عُمَرَ بْنَ الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا الْقَاسِمِ سُلَيْمَانَ بْنَ نَاصِرٍ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: نَظَرَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ فِي جَانِبِ الْقُدْرَةِ وَنَفَاذِ الْمَشِيئَةِ وَنَظَرَ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ فِي جَانِبِ الْعَدْلِ وَالْبَرَاءَةِ عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي فَإِذَا تَأَمَّلْتَ عَلِمْتَ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَصِفِ اللَّهَ إِلَّا بِالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّنْزِيهِ وَلَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ أَخْطَأَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَصَابَ وَرَجَاءُ الْكُلِّ مُتَعَلِّقٌ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 135]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ فَقَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ ذَا الرَّحْمَةِ إِلَّا أَنَّ لِرَحْمَتِهِ مَعْدِنًا مَخْصُوصًا وَمَوْضِعًا مُعَيَّنًا فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى وَضْعِ الرَّحْمَةِ فِي هَذَا الْخَلْقِ وَقَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ قَوْمًا آخَرِينَ وَيَضَعَ رَحْمَتَهُ فِيهِمْ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الْعَالَمِينَ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الرَّحْمَةِ بِهَؤُلَاءِ لَيْسَ لِأَجْلِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إِظْهَارُ رَحْمَتِهِ إِلَّا بِخَلْقِ هَؤُلَاءِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ فَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِهْلَاكُ وَيُحْتَمَلُ الْإِمَاتَةُ أَيْضًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُبْلِغَهُمْ مَبْلَغَ التَّكْلِيفِ/ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ يَعْنِي مِنْ بَعْدِ إِذْهَابِكُمْ لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ مِنْ فَائِتٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَا يَشاءُ فَالْمُرَادُ مِنْهُ خَلْقٌ ثَالِثٌ وَرَابِعٌ وَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَلْقًا آخَرَ مِنْ أَمْثَالِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يَكُونُونَ أَطْوَعَ وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ قادر على ان يخلق خالقا ثَالِثًا مُخَالِفًا لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْرَبُ لِأَنَّ الْقَوْمَ يَعْلَمُونَ بِالْعَادَةِ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِنْشَاءِ أَمْثَالِ هَذَا الْخَلْقِ فَمَتَى حُمِلَ عَلَى خَلْقٍ ثَالِثٍ وَرَابِعٍ يَكُونُ أَقْوَى فِي دَلَالَةِ الْقُدْرَةِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى أَنَّ قُدْرَتَهُ لَيْسَتْ مَقْصُورَةً عَلَى جِنْسٍ دُونَ جِنْسٍ مِنَ الْخَلْقِ الَّذِينَ يَصْلُحُونَ لِرَحْمَتِهِ العظيمة التي هي النواب فَبَيَّنَ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَنَّهُ تَعَالَى لِرَحْمَتِهِ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْحَاضِرِينَ أَبْقَاهُمْ وَأَمْهَلَهُمْ وَلَوْ شَاءَ لَأَمَاتَهُمْ وَأَفْنَاهُمْ وَأَبْدَلَ بِهِمْ سِوَاهُمْ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى عِلَّةَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ لِأَنَّ الْمَرْءَ الْعَاقِلَ إِذَا تَفَكَّرَ عَلِمَ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ لَيْسَ فِيهَا مِنْ صُورَتِهِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمَحْضِ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَمَا قَدَرَ تَعَالَى عَلَى تَصْوِيرِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ الْخَاصَّةِ فَكَذَلِكَ يَقْدِرُ عَلَى تَصْوِيرِهِمْ بِصُورَةٍ مُخَالِفَةٍ لَهَا. وَقَرَأَ الْقُرَّاءُ كُلُّهُمْ: ذُرِّيَّةِ بِضَمِّ الذَّالِ وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بِكَسْرِ الذَّالِ قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُمَا لُغَتَانِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ قَالَ الْحَسَنُ: أَيْ مِنْ مَجِيءِ السَّاعَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْقِيَامَةَ وَأَقُولُ فِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْوَعْدَ مَخْصُوصٌ بِالْإِخْبَارِ عَنِ الثَّوَابِ وَأَمَّا الْوَعِيدُ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالْإِخْبَارِ عَنِ الْعِقَابِ فَقَوْلُهُ: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ يَعْنِي كُلَّ مَا تَعَلَّقُ بِالْوَعْدِ بِالثَّوَابِ فَهُوَ آتٍ لَا مَحَالَةَ فَتَخْصِيصُ الْوَعْدِ بِهَذَا الْجَزْمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الْوَعِيدِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَيُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ آخِرُ الْآيَةِ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ يَعْنِي لَا تَخْرُجُونَ عَنْ قُدْرَتِنَا وَحُكْمِنَا فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْوَعْدَ جَزْمَ بِكَوْنِهِ آتِيًا وَلَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ مَا زَادَ عَلَى قَوْلِهِ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنْ جَانِبَ الرحمة والإحسان غالب. [سورة الأنعام (6) : آية 135] قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ أَمَرَ رَسُولَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ يُهَدِّدَ مَنْ ينكر البعث عن الكفار فقال: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: مَكَانَاتِكُمْ بِالْأَلِفِ على الجمع في كل القرآن والباقون مَكانَتِكُمْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْوَجْهُ الْإِفْرَادُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وَالْمَصَادِرُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ مُفْرَدَةٌ وَقَدْ تُجْمَعُ أَيْضًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ إِلَّا أَنَّ الْغَالِبَ هو الاول.

[سورة الأنعام (6) : آية 136]

الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْمَكَانَةُ تَكُونُ مَصْدَرًا يُقَالُ: مَكُنَ مَكَانَةً إِذَا تَمَكَّنَ أَبْلَغَ التَّمَكُّنِ وَبِمَعْنَى الْمَكَانِ يُقَالُ: مَكَانٌ وَمَكَانَةٌ وَمُقَامٌ وَمُقَامَةٌ فَقَوْلُهُ: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ يَحْتَمِلُ اعْمَلُوا عَلَى تَمَكُّنِكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ وَأَقْصَى اسْتِطَاعَتِكُمْ وَإِمْكَانِكُمْ وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يُرَادَ اعْمَلُوا عَلَى حَالَتِكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا أُمِرَ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى حَالَةٍ عَلَى مَكَانَتِكَ يَا فُلَانُ أَيِ اثْبُتْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ لَا تَنْحَرِفْ عَنْهُ: إِنِّي عامِلٌ أَيْ أَنَا عَامِلٌ عَلَى مَكَانَتِي الَّتِي عَلَيْهَا وَالْمَعْنَى: اثْبُتُوا عَلَى كُفْرِكُمْ وَعَدَاوَتِكُمْ فَإِنِّي ثَابِتٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَعَلَى مَضَارَّتِكُمْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أَيُّنَا لُهُ الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ وَطَرِيقَةُ هَذَا الْأَمْرِ طَرِيقَةُ قَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ وَهِيَ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: مَنْ فِي قَوْلِهِ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ ذَكَرَ الْفَرَّاءُ فِي مَوْضِعِهِ مِنَ الْإِعْرَابِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نَصْبٌ لِوُقُوعِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى مَعْنَى: تَعْلَمُونَ أَيُّنَا تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ [الْكَهْفِ: 12] . الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ يُوهِمُ أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَتْ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ وَذَلِكَ مُشْكِلٌ. قُلْنَا: الْعَاقِبَةُ تَكُونُ عَلَى الْكَافِرِ وَلَا تَكُونُ لَهُ كَمَا يُقَالُ: لَهُ الْكَثْرَةُ وَلَهُمُ الظَّفَرُ وَفِي ضِدِّهِ يُقَالُ: عَلَيْكُمُ الْكَثْرَةُ وَالظَّفَرُ. الْبَحْثُ الْخَامِسُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: مَنْ يَكُونُ بِالْيَاءِ وَفِي الْقَصَصِ أَيْضًا وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ فِي السُّورَتَيْنِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْعَاقِبَةُ مَصْدَرٌ كَالْعَافِيَةِ وَتَأْنِيثُهُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ فَمَنْ أَنَّثَ فَكَقَوْلِهِ: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ [المؤمنون: 41] وَمَنْ ذَكَّرَ فَكَقَوْلِهِ: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [هُودٍ: 67] وَقَالَ: قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [يُونُسَ: 57] وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الْبَقَرَةِ: 275] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَالْغَرَضُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ قَوْلَهُ: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ تَهْدِيدٌ وَتَخْوِيفٌ لَا أَنَّهُ أَمْرٌ وَطَلَبٌ وَمَعْنَاهُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ لا يفلحون ولا يفوزون بمطالبهم البتة. [سورة الأنعام (6) : آية 136] وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ قُبْحَ طَرِيقَتِهِمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ ذَكَرَ عَقِيبَهُ أَنْوَاعًا مِنْ جَهَالَاتِهِمْ وَرَكَاكَاتِ أَقْوَالِهِمْ تَنْبِيهًا عَلَى ضَعْفِ عُقُولِهِمْ وَقِلَّةِ مَحْصُولِهِمْ وَتَنْفِيرًا لِلْعُقَلَاءِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى كَلِمَاتِهِمْ فَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ مِنْ حُرُوثِهِمْ كَالتَّمْرِ وَالْقَمْحِ وَمِنْ أَنْعَامِهِمْ كَالضَّأْنِ وَالْمَعَزِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ نَصِيبًا فَقَالُوا: هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ يُرِيدُ بِكَذِبِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ لِلَّهِ فَكَيْفَ نُسِبُوا إِلَى الْكَذِبِ فِي قَوْلِهِمْ: هَذَا لِلَّهِ؟ قُلْنَا: إِفْرَازُهُمْ النَّصِيبَيْنِ نَصِيبًا لِلَّهِ وَنَصِيبًا لِلشَّيْطَانِ هُوَ الْكَذِبُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ جَعَلُوا لله

[سورة الأنعام (6) : آية 137]

نَصِيبًا وَلِشُرَكَائِهِمْ نَصِيبًا وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ تَفْصِيلُهُ الْقِسْمَيْنِ فِيمَا بَعْدُ وَهُوَ قَوْلُهُ: هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا وَجَعَلَ الْأَوْثَانَ شُرَكَاءَهُمْ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهَا نَصِيبًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ يُنْفِقُونَهَا عَلَيْهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ مِنْ حُرُوثِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ نَصِيبًا وَلِلْأَوْثَانِ نَصِيبًا فَمَا كَانَ لِلصَّنَمِ أَنْفَقُوهُ عَلَيْهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ أَطْعَمُوهُ الصِّبْيَانَ وَالْمَسَاكِينَ وَلَا يَأْكُلُونَ مِنْهُ الْبَتَّةَ. ثُمَّ إِنْ سَقَطَ مِمَّا جَعَلُوهُ لِلَّهِ فِي نَصِيبِ الْأَوْثَانِ تَرَكُوهُ وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ هَذَا وَإِنْ سَقَطَ مِمَّا جَعَلُوهُ لِلْأَوْثَانِ فِي نَصِيبِ اللَّهِ أَخَذُوهُ وَرَدُّوهُ إِلَى نَصِيبِ الصَّنَمِ وَقَالُوا: إِنَّهُ فقيره الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ وَالسَّدِّيُّ: كَانَ إِذَا هَلَكَ مَا لِأَوْثَانِهِمْ أَخَذُوا بَدَلَهُ مِمَّا لِلَّهِ وَلَا يَفْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِيمَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. الثَّالِثُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا انْفَجَرَ مِنْ سَقْيِ مَا جَعَلُوهُ لِلشَّيْطَانِ فِي نَصِيبِ اللَّهِ سَدُّوهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ تَرَكُوهُ. الرَّابِعُ: قَالَ قَتَادَةُ: إِذَا أَصَابَهُمُ الْقَحْطُ اسْتَعَانُوا بِمَا لِلَّهِ وَوَفَّرُوا مَا جَعَلُوهُ لِشُرَكَائِهِمْ. الْخَامِسُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنْ زَكَا وَنَمَا نَصِيبُ/ الْآلِهَةِ وَلَمْ يَزْكُ نَصِيبُ اللَّهِ تَرَكُوا نَصِيبَ الْآلِهَةِ لَهَا وَقَالُوا لَوْ شَاءَ زَكَّى نَصِيبَ نَفْسِهِ وَإِنْ زَكَا نَصِيبُ اللَّهِ وَلَمْ يَزْكُ نَصِيبُ الْآلِهَةِ قَالُوا لَا بُدَّ لِآلِهَتِنَا مِنْ نَفَقَةٍ فَأَخَذُوا نَصِيبَ اللَّهِ فَأَعْطَوْهُ السَّدَنَةَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ يَعْنِي مِنْ نَمَاءِ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ: فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ يَعْنِي الْمَسَاكِينَ وَإِنَّمَا قَالَ: إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْرِزُونَهُ لِلَّهِ وَيُسَمُّونَهُ نَصِيبَ اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَيْهِمْ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ هَذَا الْفِعْلَ: فَقَالَ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ هَذِهِ الْإِسَاءَةِ وُجُوهًا كَثِيرَةً: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ رَجَّحُوا جَانِبَ الْأَصْنَامِ فِي الرِّعَايَةِ وَالْحِفْظِ عَلَى جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ سَفَهٌ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ جَعَلُوا بَعْضَ النَّصِيبِ لِلَّهِ وَجَعَلُوا بَعْضَهُ لِغَيْرِهِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى الْخَالِقُ لِلْجَمِيعِ وَهَذَا أَيْضًا سَفَهٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ حُكْمٌ أَحْدَثُوهُ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَشْهَدْ بِصِحَّتِهِ عَقْلٌ وَلَا شَرْعٌ فَكَانَ أَيْضًا سَفَهًا. الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ حَسُنَ إِفْرَازُ نَصِيبِ الْأَصْنَامِ لَحَسُنَ إِفْرَازُ النَّصِيبِ لِكُلِّ حَجَرٍ وَمَدَرٍ الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْأَصْنَامِ فِي حُصُولِ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ وَلَا قُدْرَةَ لَهَا أَيْضًا عَلَى الِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ النَّصِيبِ فَكَانَ إِفْرَازُ النَّصِيبِ لَهَا عبثا فثبت بهذا الْوُجُوهِ أَنَّهُ: ساءَ مَا يَحْكُمُونَ وَالْمَقْصُودُ مِنْ حِكَايَةِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ أَنْ يَعْرِفَ النَّاسُ قِلَّةَ عُقُولِ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَذَاهِبِ وَأَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَحْقِيرِهِمْ فِي أَعْيُنِ الْعُقَلَاءِ وَأَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى كَلَامِهِمْ أَحَدٌ الْبَتَّةَ. [سورة الأنعام (6) : آية 137] وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ أَحْكَامِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَمَذَاهِبِهِمُ الْبَاطِلَةِ وَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ [الانعام: 136] أَيْ كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ قَتْلَ الْأَوْلَادِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ جَعْلَهُمْ لِلَّهِ نَصِيبًا وَلِلشُّرَكَاءِ نَصِيبًا نِهَايَةٌ فِي الْجَهْلِ بِمَعْرِفَةِ الْخَالِقِ الْمُنْعِمِ وَإِقْدَامَهِمْ عَلَى قَتْلِ أَوْلَادِ أَنْفُسِهِمْ نِهَايَةٌ فِي الْجَهَالَةِ وَالضَّلَالَةِ وَذَلِكَ يُفِيدُ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ هَؤُلَاءِ وَأَحْوَالَهُمْ يُشَاكِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي الرَّكَاكَةِ وَالْخَسَاسَةِ.

[سورة الأنعام (6) : آية 138]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَدْفِنُونَ بَنَاتِهُمْ أَحْيَاءً خَوْفًا مِنَ الْفَقْرِ أَوْ مِنَ التَّزْوِيجِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالشُّرَكَاءِ فَقَالَ مُجَاهِدٌ: شُرَكَاؤُهُمْ شَيَاطِينُهُمْ أَمَرُوهُمْ بِأَنْ يَئِدُوا أَوْلَادَهُمْ خَشْيَةَ الْعَيْلَةِ وَسُمِّيَتِ الشَّيَاطِينُ شُرَكَاءً لِأَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأُضِيفَتِ الشُّرَكَاءُ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْأَنْعَامِ: 22] وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ لِآلِهَتِهِمْ سَدَنَةٌ وَخُدَّامٌ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُزَيِّنُونَ لِلْكَفَّارِ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ وَكَانَ الرَّجُلُ يَقُومُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ لَئِنْ وُلِدَ لَهُ كَذَا وَكَذَا غُلَامًا لَيَنْحَرَنَّ أَحَدَهُمْ كَمَا حَلَفَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عَلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: الشُّرَكَاءُ هُمُ السَّدَنَةُ سمعوا شُرَكَاءً كَمَا سُمِّيَتِ الشَّيَاطِينُ شُرَكَاءً فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحْدَهُ زُيِّنَ بِضَمِّ الزَّاءِ وَكَسْرِ الْيَاءِ وَبِضَمِّ اللَّامِ مِنْ: قَتْلُ وَ: أَوْلَادَهُمْ بِنَصْبِ الدَّالِّ: شُرَكَائِهِمْ بِالْخَفْضِ وَالْبَاقُونَ: زَيَّنَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَالْيَاءِ: قَتْلَ بِفَتْحِ اللَّامِ أَوْلادِهِمْ بِالْجَرِّ: شُرَكاؤُهُمْ بِالرَّفْعِ. أَمَّا وَجْهُ قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ فَالتَّقْدِيرُ: زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ شُرَكَائِهِمْ أَوْلَادَهُمْ إِلَّا أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالْمَفْعُولِ بِهِ وَهُوَ الْأَوْلَادُ وَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي الشِّعْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَزَجَجْتُهَا بِمِزَجَّةٍ ... زَجَّ الْقَلُوصِ أَبِي مَزَادَهْ وَإِذَا كَانَ مُسْتَكْرَهًا فِي الشِّعْرِ فَكَيْفَ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ مُعْجِزٌ فِي الْفَصَاحَةِ. قَالُوا: وَالَّذِي حَمَلَ ابْنَ عَامِرٍ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ رَأَى فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ: شُرَكَائِهِمْ مَكْتُوبًا بِالْيَاءِ وَلَوْ قَرَأَ بِجَرِّ الْأَوْلَادِ وَالشُّرَكَاءِ لِأَجْلِ أَنَّ الْأَوْلَادَ شُرَكَاؤُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ لَوَجَدَ فِي ذَلِكَ مَنْدُوحَةً عَنْ هَذَا الِارْتِكَابِ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ: فَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفَاعِلِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها [الْأَنْعَامِ: 158] وَقَوْلُهُ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ [الْبَقَرَةِ: 124] وَالسَّبَبُ فِي تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ هُوَ إِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ وَالَّذِي هُمْ بِشَأْنِهِ أَعْنَى وَمَوْضِعُ التَّعَجُّبِ هَاهُنَا إِقْدَامُهُمْ عَلَى قَتْلِ أَوْلَادِهِمْ فَلِهَذَا السَّبَبِ حَصَلَ هَذَا التَّقْدِيرُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِيُرْدُوهُمْ وَالْإِرْدَاءُ فِي اللُّغَةِ الْإِهْلَاكُ وَفِي الْقُرْآنِ: إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ [الصَّافَّاتِ: 56] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِيُرْدُوهُمْ فِي النَّارِ وَاللَّامُ هَاهُنَا مَحْمُولَةٌ عَلَى لام العاقبة كما في قوله: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَصِ: 8] وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أَيْ لِيَخْلِطُوا لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى دِينِ إِسْمَاعِيلَ فَهَذَا الَّذِي أَتَاهُمْ بِهَذِهِ الْأَوْضَاعِ الْفَاسِدَةِ أَرَادَ أَنْ يُزِيلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الدِّينِ الْحَقِّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ الْمُشْرِكُونَ فَهُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَشِيئَةِ الْإِلْجَاءِ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ مِرَارًا: فَذَرْهُمْ/ وَما يَفْتَرُونَ [الانعام: 112] وَهَذَا عَلَى قَانُونِ قَوْلِهِ تَعَالَى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فُصِّلَتْ: 40] وَقَوْلُهُ: وَما يَفْتَرُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِقَتْلِ أولادهم فكانوا كاذبين في ذلك القول. [سورة الأنعام (6) : آية 138] وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ ثَالِثٌ مِنْ أَحْكَامِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَهِيَ أَنَّهُمْ قَسَّمُوا أَنْعَامَهُمْ أَقْسَامًا: فَأَوَّلُهَا: أَنْ قَالُوا: هذِهِ

[سورة الأنعام (6) : آية 139]

أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ فَقَوْلُهُ: حِجْرٌ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالذَّبْحِ وَالطَّحْنِ وَيَسْتَوِي فِي الْوَصْفِ بِهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْأَسْمَاءِ غَيْرِ الصِّفَاتِ وَأَصْلُ الْحِجْرِ الْمَنْعُ وَسُمِّيَ الْعَقْلُ حِجْرًا لِمَنْعِهِ عَنِ الْقَبَائِحِ وَفُلَانٌ فِي حِجْرِ الْقَاضِي: أَيْ فِي مَنْعِهِ وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: حُجْرٌ بِضَمِّ الْحَاءِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَرَجٌ وَهُوَ مِنَ الضِّيقِ وَكَانُوا إِذَا عَيَّنُوا شَيْئًا مِنْ حَرْثِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ لِآلِهَتِهِمْ قَالُوا: لَا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ يَعْنُونَ خَدَمَ الْأَوْثَانِ وَالرِّجَالَ دُونَ النِّسَاءِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مِنْ أَنْعَامِهِمُ الَّذِي قَالُوا فِيهِ: وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَهِيَ الْبَحَائِرُ وَالسَّوَائِبُ وَالْحَوَامِي وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ فِي سورة المائدة. والقسم الثالث: ف أَنْعامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا فِي الذَّبْحِ وَإِنَّمَا يَذْكُرُونَ عَلَيْهَا أَسْمَاءَ الْأَصْنَامِ وَقِيلَ لَا يَحُجُّونَ عَلَيْهَا وَلَا يُلَبُّونَ عَلَى ظُهُورِهَا. ثُمَّ قَالَ: افْتِراءً عَلَيْهِ فَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ أَوْ حَالٌ أَوْ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الِافْتِرَاءِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الوعيد. [سورة الأنعام (6) : آية 139] وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا نَوْعٌ رَابِعٌ مِنْ أَنْوَاعِ قَضَايَاهُمُ الْفَاسِدَةِ كَانُوا يَقُولُونَ فِي أَجِنَّةِ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ مَا وُلِدَ منها حيا فهو خالص لذكور لَا تَأْكُلُ مِنْهَا الْإِنَاثُ وَمَا وُلِدَ مَيِّتًا اشتراك فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْوَعِيدُ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ لِيَكُونَ الزَّجْرُ وَاقِعًا عَلَى حَدِّ الْحِكْمَةِ وَبِحَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي تَأْنِيثِ: خالِصَةٌ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: قَوْلَيْنِ لِلْفَرَّاءِ وَقَوْلًا لِلْكِسَائِيِّ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْهَاءَ لَيْسَتْ لِلتَّأْنِيثِ وَإِنَّمَا هِيَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ كَمَا قَالُوا: رَاوِيَةٌ وَعَلَّامَةٌ وَنَسَّابَةٌ وَالدَّاهِيَةُ وَالطَّاغِيَةُ كَذَلِكَ يَقُولُ هُوَ خَالِصَةٌ لِي وَخَالِصٌ لِي هَذَا قَوْلُ الْكِسَائِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ (مَا) فِي قَوْلِهِ: مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَجِنَّةِ وَإِذَا كَانَ عِبَارَةً عَنْ مُؤَنَّثٍ جَازَ تَأْنِيثُهُ عَلَى الْمَعْنَى وَتَذْكِيرُهُ عَلَى اللَّفْظِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ أُنِّثَ خَبَرُهُ الَّذِي هُوَ خَالِصَةٌ لِمَعْنَاهُ وَذُكِّرَ فِي قَوْلِهِ: وَمُحَرَّمٌ عَلَى اللَّفْظِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا وَالتَّقْدِيرُ: ذُو خَالِصَةٍ كَقَوْلِهِمْ: عَطَاؤُكَ عَافِيَةٌ وَالْمَطَرُ رَحْمَةُ وَالرُّخَصُ نِعْمَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قرا ابن عامر وان تكن بالتاء و: مَيْتَةً بِالنَّصْبِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: يَكُنْ بِالْيَاءِ: مَيْتَةٌ بِالرَّفْعِ وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: تَكُنْ بِالتَّاءِ مَيْتَةً بِالنَّصْبِ وَالْبَاقُونَ: يَكُنْ بِالْيَاءِ مَيْتَةً بِالنَّصْبِ. أَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ فَوَجْهُهَا أَنَّهُ أَلْحَقَ الْفِعْلَ عَلَامَةَ التَّأْنِيثِ لَمَّا كَانَ الْفَاعِلُ مُؤَنَّثًا فِي اللَّفْظِ وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ فَوَجْهُهَا أَنَّ قَوْلَهُ: مَيْتَةً اسْمُ: يَكُنْ وَخَبَرُهُ مُضْمَرٌ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ مَيْتَةٌ أَوْ وَإِنْ يَكُنْ هُنَاكَ مَيْتَةٌ.

[سورة الأنعام (6) : آية 140]

وَذُكِّرَ لِأَنَّ الْمَيِّتَةَ فِي مَعْنَى الْمَيِّتِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَمْ يَلْحِقِ الْفِعْلَ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ لَمَّا كَانَ الْفَاعِلُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ تَأْنِيثُهُ غَيْرُ حقيقي ولا يحتاج الكون الى خبره لِأَنَّهُ بِمَعْنَى حَدَثَ وَوَقَعَ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ عَاصِمٍ: تَكُنْ بِالتَّاءِ: مَيْتَةً بِالنَّصْبِ فَالتَّقْدِيرُ وَإِنْ تَكُنِ الْمَذْكُورُ مَيْتَهً فَأَنَّثَ/ الْفِعْلَ لِهَذَا السَّبَبِ وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ وَإِنْ يَكُنْ بِالْيَاءِ مَيْتَةً بِالنَّصْبِ. فَتَأْوِيلُهَا: وَإِنْ يَكُنِ الْمَذْكُورُ مَيْتَةً ذَكَّرُوا الْفِعْلَ لِأَنَّهُ مُسْنَدٌ إِلَى ضَمِيرِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ: مَيْتَةً لَمَّا كَانَ الْفِعْلُ مسندا الى الضمير. [سورة الأنعام (6) : آية 140] قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِيمَا تَقَدَّمَ قَتْلَهُمْ أَوْلَادَهُمْ وَتَحْرِيمَهُمْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيَّنَ مَا لَزِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ وَهُوَ الْخُسْرَانُ وَالسَّفَاهَةُ وَعَدَمُ الْعِلْمِ وَتَحْرِيمُ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَالِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ وَالضَّلَالُ وَعَدَمُ الِاهْتِدَاءِ فَهَذِهِ أُمُورٌ سَبْعَةٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا سَبَبٌ تَامٌّ فِي حُصُولِ الذَّمِّ. أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْخُسْرَانُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَلَدَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ فَإِذَا سَعَى فِي إِبْطَالِهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا عَظِيمًا لَا سِيَّمَا وَيَسْتَحِقُّ عَلَى ذَلِكَ الْإِبْطَالِ الذَّمَّ الْعَظِيمَ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقَابَ الْعَظِيمَ فِي الْآخِرَةِ. أَمَّا الذَّمُّ فِي الدُّنْيَا فَلِأَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ قَتَلَ وَلَدَهُ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ طَعَامَهُ وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا ذَمٌّ أَشَدُّ مِنْهُ. وَأَمَّا الْعِقَابُ فِي الْآخِرَةِ فَلِأَنَّ قَرَابَةَ الْوِلَادَةِ أَعْظَمُ مُوجِبَاتِ الْمَحَبَّةِ فَمَعَ حُصُولِهَا إِذَا أَقْدَمَ عَلَى إِلْحَاقِ أَعْظَمِ الْمَضَارِّ بِهِ كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الذُّنُوبِ فَكَانَ مُوجِبًا لِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: السَّفَاهَةُ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخِفَّةِ الْمَذْمُومَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَتْلَ الْوَلَدِ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْخَوْفِ مِنَ الْفَقْرِ وَالْفَقْرُ وَإِنْ كَانَ ضَرَرًا إِلَّا أَنَّ الْقَتْلَ أَعْظَمُ مِنْهُ ضَرَرًا وَأَيْضًا فهذا القتل ناجز وذلك الفقر وموهوم فَالْتِزَامُ أَعْظَمِ الْمَضَارِّ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ حَذَرًا مِنْ ضَرَرٍ قَلِيلٍ مَوْهُومٍ لَا شَكَّ أَنَّهُ سَفَاهَةٌ. وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: بِغَيْرِ عِلْمٍ فَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ السَّفَاهَةَ إِنَّمَا تَوَلَّدَتْ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَهْلَ أَعْظَمُ الْمُنْكَرَاتِ وَالْقَبَائِحِ. وَالنَّوْعُ الرَّابِعُ: تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ وَهُوَ أَيْضًا مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْحَمَاقَةِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ نَفْسَهُ تِلْكَ الْمَنَافِعَ وَالطَّيِّبَاتِ وَيَسْتَوْجِبُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمَنْعِ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَالْعِقَابِ. وَالنَّوْعُ الْخَامِسُ: الِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَرَاءَةَ عَلَى اللَّهِ وَالِافْتِرَاءَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ وَأَكْبَرُ الْكَبَائِرِ. وَالنَّوْعُ السَّادِسُ: الضَّلَالُ عَنِ الرُّشْدِ فِي مَصَالِحِ الدِّينِ وَمَنَافِعِ الدُّنْيَا. وَالنَّوْعُ السَّابِعُ: أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ يَضِلُّ الْإِنْسَانُ عَنِ الْحَقِّ إِلَّا أَنْ يَعُودَ إِلَى الِاهْتِدَاءِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمُ الِاهْتِدَاءُ قَطُّ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ الْمَوْصُوفِينَ بِقَتْلِ الْأَوْلَادِ وَتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ السَّبْعَةِ الْمُوجِبَةِ لِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ الذَّمِّ وَذَلِكَ نِهَايَةُ المبالغة.

[سورة الأنعام (6) : آية 141]

[سورة الأنعام (6) : آية 141] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مَدَارَ هَذَا الْكِتَابِ الشَّرِيفِ عَلَى تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَإِثْبَاتِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَأَنَّهُ تَعَالَى بَالَغَ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْأُصُولِ وَانْتَهَى الْكَلَامُ إِلَى شَرْحِ أَحْوَالِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى تَهْجِينِ طَرِيقَةِ مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِحِكَايَةِ أَقْوَالِهِمُ الرَّكِيكَةِ وَكَلِمَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ فِي مَسَائِلَ أَرْبَعَةٍ. وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى ضَعْفِ عُقُولِهِمْ وَقِلَّةِ مَحْصُولِهِمْ وَتَنْفِيرِ النَّاسِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى قَوْلِهِمْ وَالِاغْتِرَارِ بَشُبُهَاتِهِمْ فَلَمَّا تَمَّمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَادَ بَعْدَهَا إِلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ إِقَامَةُ الدَّلَائِلِ عَلَى تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ ذِكْرُ هَذَا الدَّلِيلِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الانعام: 99] فَالْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ ذَكَرَ تَعَالَى فِيهَا خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ وَهِيَ: الزَّرْعُ وَالنَّخْلُ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونُ وَالرُّمَّانُ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا ذَكَرَ هَذِهِ الْخَمْسَةَ بِأَعْيَانِهَا لَكِنْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ التَّرْتِيبِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْعِنَبَ ثُمَّ النَّخْلَ ثُمَّ الزَّرْعَ ثُمَّ الزَّيْتُونَ ثُمَّ الرُّمَّانَ وَذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ: مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ فَأَمَرَ تَعَالَى هُنَاكَ بِالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِهَا وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ فَأَذِنَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا وَأَمَرَ بِصَرْفِ جُزْءٍ مِنْهَا إِلَى الْفُقَرَاءِ فَالَّذِي حَصَلَ بِهِ الِامْتِيَازُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَنَّ هُنَاكَ أَمَرَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى الصَّانِعِ الْحَكِيمِ وَهَاهُنَا أَذِنَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى الصَّانِعِ الْحَكِيمِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِذْنِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا لِأَنَّ الْحَاصِلَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا سَعَادَةٌ رُوحَانِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ وَالْحَاصِلُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ سَعَادَةٌ جُسْمَانِيَّةٌ سَرِيعَةُ الِانْقِضَاءِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْرَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى الْإِذْنِ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ أَيْ خَلَقَ يقال: نشا الشيء ينشا نشاة ونشاة إِذَا ظَهَرَ وَارْتَفَعَ وَاللَّهُ يُنْشِئُهُ إِنْشَاءً أَيْ يُظْهِرُهُ وَيَرْفَعُهُ وَقَوْلُهُ: جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ يُقَالُ عَرَّشْتُ الْكَرْمَ أُعَرِّشُهُ عَرْشًا وَعَرَّشْتُهُ تَعْرِيشًا إِذَا عَطَفْتَ الْعِيدَانَ الَّتِي يُرْسَلُ عَلَيْهَا قُضْبَانُ الْكَرْمِ وَالْوَاحِدُ عَرْشٌ وَالْجَمْعُ عُرُوشٌ وَيُقَالُ: عَرِيشٌ وَجَمْعُهُ عُرُشٌ وَاعْتَرَشَ الْعِنَبُ الْعَرِيشَ اعْتِرَاشًا إِذَا عَلَاهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي قَوْلِهِ: مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْرُوشَاتِ وَغَيْرَ الْمَعْرُوشَاتِ كِلَاهُمَا الْكَرْمُ فَإِنَّ بَعْضَ الْأَعْنَابِ يُعَرَّشُ وَبَعْضُهَا لَا يُعَرَّشُ بَلْ يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُنْبَسِطًا. وَالثَّانِي: الْمَعْرُوشَاتُ الْعِنَبُ الَّذِي يُجْعَلُ لَهَا عُرُوشٌ وَغَيْرُ الْمَعْرُوشَاتِ كُلُّ مَا يَنْبُتُ مُنْبَسِطًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ

مِثْلُ الْقَرْعِ وَالْبِطِّيخِ. وَالثَّالِثُ: الْمَعْرُوشَاتُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُتَّخَذَ لَهُ عَرِيشٌ يُحْمَلُ عَلَيْهِ فَيُمْسِكُهُ وَهُوَ الْكَرْمُ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ وَغَيْرُ الْمَعْرُوشِ هُوَ الْقَائِمُ مِنَ الشَّجَرِ الْمُسْتَغْنِي بِاسْتِوَائِهِ وَذَهَابِهِ عُلُوًّا لِقُوَّةِ سَاقِهِ عَنِ التَّعْرِيشِ. وَالرَّابِعُ: الْمَعْرُوشَاتُ مَا يَحْصُلُ فِي الْبَسَاتِينِ/ وَالْعُمْرَانَاتِ مِمَّا يَغْرِسُهُ النَّاسُ وَاهْتَمُّوا بِهِ فَعَرَّشُوهُ: وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ مِمَّا أَنْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَحْشِيًّا فِي الْبَرَارِي وَالْجِبَالِ فَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوشٍ وَقَوْلُهُ: وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الزَّرْعَ هَاهُنَا بِجَمِيعِ الْحُبُوبِ الَّتِي يُقْتَاتُ بِهَا مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ أَيْ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا طَعْمٌ غَيْرُ طَعْمِ الْآخَرِ: وَالْأُكُلُ كُلُّ مَا أُكِلَ وَهَاهُنَا الْمُرَادُ ثَمَرُ النَّخْلِ وَالزَّرْعِ وَمَضَى الْقَوْلُ فِي: الْأُكُلِ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ [الْبَقَرَةِ: 265] وَقَوْلُهُ: مُخْتَلِفاً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَيْ أَنْشَأَهُ فِي حَالِ اخْتِلَافِ أُكُلِهِ وَهُوَ قَدْ أَنْشَأَهُ مِنْ قَبْلِ ظُهُورِ أُكُلِهِ وَأُكُلِ ثَمَرِهِ. الْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْشَأَهَا حَالَ اخْتِلَافِ ثَمَرِهَا وَصِدْقُ هَذَا لَا يُنَافِي صِدْقَ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْشَأَهَا قَبْلَ ذَلِكَ أَيْضًا وَأَيْضًا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مَعَ أَنَّهُ يُؤْكَلُ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ لِأَنَّ اخْتِلَافَ أُكُلِهِ مُقَدَّرٌ كَمَا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مَعَهُ صَقْرٌ صَائِدًا بِهِ غَدًا أَيْ مُقَدَّرًا لِلصَّيْدِ بِهِ غَدًا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ: أُكْلُهُ بِتَخْفِيفِ الْكَافِ وَالْبَاقُونَ: أُكُلُهُ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ وَأَمَّا تَوْحِيدُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ فَالسَّبَبُ فِيهِ: أَنَّهُ اكْتَفَى بِإِعَادَةِ الذِّكْرِ عَلَى أَحَدِهِمَا مِنْ إِعَادَتِهِ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الْجُمُعَةِ: 11] وَالْمَعْنَى: إِلَيْهِمَا وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التَّوْبَةِ: 62] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ فَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَفِيهِ مَبَاحِثُ. الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ خَلْقِهِ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ ذَكَرَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ خَلْقِهَا وَهُوَ انْتِفَاعُ الْمُكَلَّفِينَ بِهَا فَقَالَ: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَاخْتَلَفُوا مَا الْفَائِدَةُ مِنْهُ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِبَاحَةُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِبَاحَةُ الْأَكْلِ قَبْلَ إِخْرَاجِ الْحَقِّ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ الْحَقَّ فِيهِ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى الْمَالِكِ تَنَاوُلَهُ لِمَكَانِ شَرِكَةِ الْمَسَاكِينِ فِيهِ بَلْ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فَأَبَاحَ تَعَالَى هَذَا الْأَكْلَ وَأَخْرَجَ وُجُوبَ الْحَقِّ فِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ هَذَا التَّصَرُّفِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ أَبَاحَ تَعَالَى ذَلِكَ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْمَقْصِدَ بِخَلْقِ هَذِهِ النِّعَمِ إِمَّا الْأَكْلُ وَإِمَّا التَّصَدُّقُ وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ الْأَكْلِ عَلَى التَّصَدُّقِ لِأَنَّ رِعَايَةَ النَّفْسِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى رِعَايَةِ الْغَيْرِ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [الْقَصَصِ: 77] . الْبَحْثُ الثَّانِي: تَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ وَالْإِطْلَاقُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: كُلُوا خِطَابٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ فَصَارَ هَذَا جَارِيًا مَجْرَى قَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَةِ: 29] وَأَيْضًا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ وَأَنَّ مَنِ ادَّعَى إِيجَابَهُ كَانَ هُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَى الدَّلِيلِ فَيُتَمَسَّكُ بِهِ فِي أَنَّ الْمَجْنُونَ إِذَا أَفَاقَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا مَضَى وَفِي أَنَّ الشَّارِعَ فِي صَوْمِ النَّفْلِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ قَدْ تَرِدُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْوُجُوبِ وَفِي غَيْرِ مَوْضِعِ النَّدْبِ وَعِنْدَ هَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَصْلُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةُ فَوَجَبَ جَعْلُ هَذِهِ الصِّيغَةِ مُفِيدَةً لِرَفْعِ الْحَجْرِ فَلِهَذَا قَالُوا: الْأَمْرُ مُقْتَضَاهُ الْإِبَاحَةُ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ تُفِيدُ

تَرْجِيحَ جَانِبِ الْفِعْلِ وَأَنَّ حَمْلَهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ: حَصادِهِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْحَاءِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ جَمِيعُ أَهْلِ اللُّغَةِ يُقَالُ: حَصَادٌ وَحِصَادٌ وَجَدَادٌ وَجِدَادٌ وَقَطَافٌ وَقِطَافٌ وَجَذَاذٌ وَجِذَاذٌ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ جَاءُوا بِالْمَصَادِرِ حِينَ أَرَادُوا انْتِهَاءَ الزَّمَانِ عَلَى مِثَالِ فَعَالٍ وَرُبَّمَا قَالُوا فِيهِ فِعَالٌ. الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَآتُوا حَقَّهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ يُرِيدُ بِهِ الْعُشْرَ فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَنِصْفَ الْعُشْرِ فِيمَا سُقِيَ بِالدَّوَالِيبِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَطَاوُسٍ وَالضَّحَّاكِ. فَإِنْ قَالُوا: كَيْفَ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ يَوْمَ الْحَصَادِ وَالْحَبُّ فِي السُّنْبُلِ؟ وَأَيْضًا هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ وَإِيجَابُ الزَّكَاةِ مَدَنِيٌّ. قُلْنَا: لَمَّا تَعَذَّرَ إِجْرَاءُ قَوْلِهِ: وَآتُوا حَقَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ لَا جَرَمَ حَمَلْنَاهُ عَلَى تَعَلُّقِ حَقِّ الزَّكَاةِ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْمَعْنَى: اعْزِمُوا عَلَى إِيتَاءِ الْحَقِّ يَوْمَ الْحَصَادِ وَلَا تُؤَخِّرُوهُ عَنْ أَوَّلِ وَقْتٍ يُمْكِنُ فِيهِ الْإِيتَاءُ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الزَّكَاةَ مَا كَانَتْ وَاجِبَةً فِي مَكَّةَ بَلْ لَا نِزَاعَ أَنَّ الْآيَةَ الْمَدَنِيَّةَ وَرَدَتْ بِإِيجَابِهَا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً بِمَكَّةَ. وَقِيلَ أَيْضًا: هَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا حَقٌّ فِي الْمَالِ سِوَى الزَّكَاةِ.؟ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا حَصَدْتَ فَحَضَرَتِ الْمَسَاكِينُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْهُ وَإِذَا دَرَسْتَهُ وَذَرَّيْتَهُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْهُ وَإِذَا كَرْبَلْتَهُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْهُ وَإِذَا عَرَفْتَ كَيْلَهُ فَاعْزِلْ زَكَاتَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَلَمَّا فُرِضَتِ الزَّكَاةُ نُسِخَ هَذَا وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْأَصَحُّ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَآتُوا حَقَّهُ إِنَّمَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْحَقُّ مَعْلُومًا قَبْلَ وُرُودِ هَذِهِ الْآيَةِ لِئَلَّا تَبْقَى هَذِهِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ/ وَالسَّلَامُ: «لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ» فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْحَقِّ حَقَّ الزَّكَاةِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَنْوَاعِ الْخَمْسَةِ وَهُوَ الْعِنَبُ وَالنَّخْلُ وَالزَّيْتُونُ وَالرُّمَّانُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْكُلِّ وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الثِّمَارِ كَمَا كَانَ يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. فَإِنْ قَالُوا: لَفْظُ الْحَصَادِ مَخْصُوصٌ بِالزَّرْعِ فَنَقُولُ: لَفْظُ الْحَصْدِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِالزَّرْعِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَصْدَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَطْعِ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ وَأَيْضًا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: حَصادِهِ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ وَذَلِكَ هُوَ الزَّيْتُونُ وَالرُّمَّانُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَيْهِ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْعُشْرُ وَاجِبٌ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ إِنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَّا إِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: قَوْلُهُ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ حَقٍّ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْحَقُّ هُوَ الزَّكَاةَ وَجَبَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْقَلِيلِ والكثير.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 142 إلى 144]

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُسْرِفُوا فَاعْلَمْ أَنَّ لِأَهْلِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ الْإِسْرَافِ قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: السَّرَفُ تَجَاوُزُ مَا حُدَّ لَكَ. الثَّانِي: قَالَ شِمْرٌ: سَرْفُ الْمَالِ مَا ذَهَبَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَعْطَى كُلَّ مَالِهِ وَلَمْ يُوَصِّلْ إِلَى عِيَالِهِ شَيْئًا فَقَدْ أَسْرَفَ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الْخَبَرِ، «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» . وَرُوِيَ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ عَمَدَ إِلَى خَمْسِمِائَةِ نَخْلَةٍ فَجَذَّهَا ثُمَّ قَسَّمَهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُدْخِلْ مِنْهَا إِلَى مَنْزِلِهِ شَيْئًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا أَيْ وَلَا تُعْطُوا كُلَّهُ. وَالثَّانِي: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: لَا تُسْرِفُوا أَيْ لَا تَمْنَعُوا الصَّدَقَةَ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِسْرَافِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ مُجَاوَزَةٌ فِي الْإِعْطَاءِ وَالثَّانِيَ: مُجَاوَزَةٌ فِي الْمَنْعِ. الثَّالِثُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ: لَا تُشْرِكُوا الْأَصْنَامَ فِي الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ بَابِ الْمُجَاوَزَةِ لِأَنَّ مَنْ أَشْرَكَ الْأَصْنَامَ فِي الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ فَقَدْ جَاوَزَ مَا حُدَّ لَهُ. الرَّابِعُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ مَعْنَاهُ: لَا تُنْفِقُوا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ كَانَ أَبُو قُبَيْسٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ رَجُلٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ مُسْرِفًا وَلَوْ أَنْفَقَ دِرْهَمًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَانَ مُسْرِفًا. وَهَذَا الْمَعْنَى أَرَادَهُ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ حِينَ قِيلَ: لَهُ: لَا خَيْرَ فِي السَّرَفِ فَقَالَ لَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِي مَعْنَى السَّرَفِ فَإِنَّ مَنْ أَنْفَقَ/ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَقَدْ أَنْفَقَ فِيمَا لَا نَفْعَ فِيهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الزَّجْرُ لِأَنَّ كُلَّ مُكَلَّفٍ لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [الْمَائِدَةِ: 18] فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَذَلِكَ يُفِيدُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُحِبُّهُ الله فهو من اهل النار. [سورة الأنعام (6) : الآيات 142 الى 144] وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ إِنْعَامِهِ عَلَى عِبَادِهِ بِالْمَنَافِعِ النَّبَاتِيَّةِ أَتْبَعَهَا بِذِكْرِ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ بِالْمَنَافِعِ الْحَيَوَانِيَّةِ. فَقَالَ: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «الْوَاوُ» فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً تُوجِبُ الْعَطْفَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ/ مِنْ قوله: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ [الانعام: 141] وَالتَّقْدِيرُ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَأَنْشَأَ مِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا وَكَثُرَ أَقْوَالُهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْحَمُولَةِ وَالْفَرْشِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى التَّحْصِيلِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَمُولَةَ مَا تَحْمِلُ الْأَثْقَالَ وَالْفَرْشَ مَا يُفْرَشُ لِلذَّبْحِ أَوْ يُنْسَجُ مِنْ وَبَرِهِ وَصُوفِهِ وَشَعْرِهِ

لِلْفَرْشِ. وَالثَّانِي: الْحَمُولَةُ- الْكِبَارُ الَّتِي تَصْلُحُ لِلْحَمْلِ وَالْفَرْشُ- الصِّغَارُ كَالْفُصْلَانِ وَالْعَجَاجِيلِ وَالْغَنَمِ لِأَنَّهَا دَانِيَةٌ مِنَ الْأَرْضِ بِسَبَبِ صِغَرِ أَجْرَامِهَا مِثْلَ الْفَرْشِ الْمَفْرُوشِ عَلَيْهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ يُرِيدُ مَا أَحَلَّهَا لَكُمْ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِأَكْلِ الرِّزْقِ وَمَنَعَ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ يَنْتُجُ أَنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ بِحَرَامٍ. ثُمَّ قَالَ: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أَيْ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ كَمَا فَعَلَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ خُطُواتِ جَمْعُ خُطْوَةٍ وَهِيَ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَفِي خُطُواتِ الشَّيْطانِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: بِضَمِّ الطَّاءِ وَفَتْحِهَا وَبِإِسْكَانِهَا وَمَعْنَاهُ: طُرُقُ الشَّيْطَانِ أَيْ لَا تَسْلُكُوا الطَّرِيقَ الَّذِي يُسَوِّلُهُ لَكُمُ الشَّيْطَانُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أَيْ بَيِّنُ الْعَدَاوَةِ أَخْرَجَ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ وَهُوَ الْقَائِلُ: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 62] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ: ثَمانِيَةَ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: انْتَصَبَ ثَمَانِيَةَ بِالْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: حَمُولَةً وَفَرْشاً وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ. الْبَحْثُ الثَّانِي: الْوَاحِدُ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ فَهُوَ فَرْدٌ فَإِذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ مِنْ جِنْسِهِ سُمِّيَ زَوْجًا وَهُمَا زَوْجَانِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [النَّجْمِ: 45] وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ثُمَّ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ... وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ. ثُمَّ قال: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ [إلى قوله أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ] يَعْنِي الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَالضَّأْنُ ذَوَاتُ الصُّوفِ مِنَ الْغَنَمِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهِيَ جَمْعُ ضَائِنٍ وَضَائِنَةٍ مِثْلَ تَاجِرٍ وَتَاجِرَةٍ وَيُجْمَعُ الضَّأْنُ أَيْضًا عَلَى الضِّئِينِ بِكَسْرِ الضَّادِ وَفَتْحِهَا وَقَوْلُهُ: وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُرِئَ وَمِنَ الْمَعْزِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْمَعْزُ ذوات الشعر من الغنم ويقال للواحد: ما عز وَلِلْجَمْعِ: مِعْزَى. فَمَنْ قَرَأَ الْمَعْزِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فهو جمع ما عز مِثْلَ خَادِمٍ وَخَدَمٍ وَطَالِبٍ وَطَلَبٍ وَحَارِسٍ وَحَرَسٍ. وَمَنْ قَرَأَ بِسُكُونِ الْعَيْنِ فَهُوَ أَيْضًا جَمْعُ ما عز كَصَاحِبٍ وَصَحْبٍ وَتَاجِرٍ وَتَجْرٍ وَرَاكِبٍ وَرَكْبٍ. وَأَمَّا انْتِصَابُ اثْنَيْنِ فَلِأَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ أَنْشَأَ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ أَنْشَأَ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَقَوْلُهُ: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ نَصَبَ الذَّكَرَيْنِ بِقَوْلِهِ: / حَرَّمَ وَالِاسْتِفْهَامُ يَعْمَلُ فِيهِ مَا بَعْدَهُ وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُحَرِّمُونَ بَعْضَ الْأَنْعَامِ فَاحْتَجَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ بِأَنْ ذَكَرَ الضَّأْنَ وَالْمَعْزَ وَالْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَذَكَرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ زَوْجَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى. ثُمَّ قَالَ إنْ كَانَ حَرَّمَ مِنْهَا الذَّكَرَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ ذُكُورِهَا حَرَامًا وَإِنْ كَانَ حَرَّمَ الْأُنْثَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ إِنَاثِهَا حَرَامًا وَقَوْلُهُ: أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ تَقْدِيرُهُ: إِنْ كَانَ حَرَّمَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ وَجَبَ تَحْرِيمُ الْأَوْلَادِ كُلِّهَا لِأَنَّ الْأَرْحَامَ تَشْتَمِلُ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ هَذَا مَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ عِنْدِي بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَبْ أَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الْأَرْبَعَةَ أَعْنِي: الضَّأْنَ وَالْمَعْزَ وَالْإِبِلَ وَالْبَقَرَ مَحْصُورَةٌ فِي الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ تَحْرِيمِ مَا حَكَمُوا بِتَحْرِيمِهِ مَحْصُورَةً فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ بَلْ عِلَّةُ تَحْرِيمِهَا كَوْنُهَا بَحِيرَةً أَوْ سَائِبَةً أَوْ وَصِيلَةً أَوْ حَامًا أَوْ سَائِرَ

[سورة الأنعام (6) : الآيات 145 إلى 147]

الِاعْتِبَارَاتِ كَمَا أَنَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ ذَبْحَ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ لِأَجْلِ الْأَكْلِ. فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ الْحَيَوَانَ إِنْ كَانَ قَدْ حُرِّمَ لِكَوْنِهِ ذَكَرًا وَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ كُلُّ حَيَوَانٍ ذَكَرٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ حُرِّمَ لِكَوْنِهِ أُنْثَى وَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ كُلُّ حَيَوَانٍ أُنْثَى وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْكَلَامُ لَازِمًا عَلَيْنَا فَكَذَا هَذَا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَذْكُرَ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَجْهًا صَحِيحًا فَأَمَّا تَفْسِيرُهُ بِالْوُجُوهِ الْفَاسِدَةِ فَلَا يَجُوزُ وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَا وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ بَلْ هُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ يَعْنِي أَنَّكُمْ لَا تُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ نَبِيٍّ وَلَا تَعْرِفُونَ شَرِيعَةَ شَارِعٍ فَكَيْفَ تَحْكُمُونَ بِأَنَّ هَذَا يَحِلُّ وَأَنَّ ذَلِكَ يَحْرُمُ؟ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ حُكْمَهُمْ بِالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ مَخْصُوصٌ بِالْإِبِلِ فَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ النِّعَمَ عِبَارَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ فَلَمَّا لَمْ تَحْكُمُوا بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ: الضَّأْنُ وَالْمَعْزُ وَالْبَقَرُ فَكَيْفَ خَصَصْتُمُ الْإِبِلَ بِهَذَا الْحُكْمِ عَلَى التَّعْيِينِ؟ فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا وَالْمُرَادُ هَلْ شَاهَدْتُمُ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا إِنْ كُنْتُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِرَسُولٍ؟ وَحَاصِلُ الْكَلَامِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّكُمْ لَا تَعْتَرِفُونَ بِنُبُوَّةِ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَكَيْفَ تُثْبِتُونَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الْمُخْتَلِفَةَ؟ وَلَمَّا بَيَّنَ ذَلِكَ قَالَ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي غَيَّرَ شَرِيعَةَ إِسْمَاعِيلَ وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَحْمُولًا عَلَى كُلِّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَالْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِهَذَا الْحُكْمِ عَامَّةٌ/ فَالتَّخْصِيصُ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ. قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي تَحْرِيمِ مُبَاحٍ اسْتَحَقَّ هَذَا الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى. اللَّهِ الْكَذِبَ فِي مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ وَمَعْرِفَةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْمَلَائِكَةِ وَمَبَاحِثِ الْمَعَادِ كَانَ وَعِيدُهُ أَشَدَّ وَأَشَقَّ: قَالَ الْقَاضِي: وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِضْلَالَ عَنِ الدِّينِ مَذْمُومٌ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا ذَمَّ الْإِضْلَالَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِلَّا تَحْرِيمُ الْمُبَاحِ فَالَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ أَوْلَى بِالذَّمِّ. وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ مَذْمُومًا مِنَّا كَانَ مَذْمُومًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَتَسْلِيطَ الشَّهْوَةِ عَلَيْهِمْ وَتَمْكِينَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الْفُجُورِ مَذْمُومٌ مِنَّا وَغَيْرُ مَذْمُومٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَكَذَا هَاهُنَا. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَالَ القاضي: لا يهديهم الا ثَوَابِهِ وَإِلَى زِيَادَاتِ الْهُدَى الَّتِي يَخْتَصُّ الْمُهْتَدِيَ بِهَا. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَهْدِي أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ أَيْ لَا يَنْقُلُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَالْكَلَامُ فِي تَرْجِيحِ أَحْدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ معلوم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 145 الى 147] قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فَسَادَ طَرِيقَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ أَتْبَعَهُ بِالْبَيَانِ الصَّحِيحِ فِي هَذَا الْبَابِ فَقَالَ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ بِالتَّاءِ مَيْتَةً بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ أَوِ النَّفْسُ أَوِ الْجُثَّةُ مَيْتَةً. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ بِالتَّاءِ مَيْتَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى إِلَّا أَنْ تَقَعَ مَيْتَةٌ أَوْ تَحْدُثَ مَيْتَةٌ وَالْبَاقُونَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَيْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَأْكُولُ مَيْتَةً أَوْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ مَيْتَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالْوَحْيِ قَالَ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ أَيْ عَلَى آكِلٍ يَأْكُلُهُ وَذَكَرَ هَذَا لِيُظْهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هُوَ بَيَانُ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ. ثُمَّ ذَكَرَ أُمُورًا أَرْبَعَةً: أَوَّلُهَا: الْمَيِّتَةُ وَثَانِيهَا: الدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَثَالِثُهَا: لَحْمُ الْخِنْزِيرِ فَإِنَّهُ رِجْسٌ وَرَابِعُهَا: الْفِسْقُ وَهُوَ الَّذِي أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ مُبَالَغَةٌ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُحَلَّلَاتِ إِلَّا بِالْوَحْيِ وَثَبَتَ أَنَّهُ لَا وَحْيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا إِلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُهُ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ كَانَ هَذَا مُبَالَغَةً فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ أَنَّهُ لَا مُحَرَّمَ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ ثُمَّ أَكَدَّ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: 115] وَكَلِمَةُ (إِنَّمَا) تُفِيدُ الْحَصْرَ فَقَدْ حَصَلَتْ لَنَا آيَتَانِ مَكِّيَّتَانِ يَدُلَّانِ عَلَى حَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَبَيَّنَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ أَيْضًا أَنَّهُ لَا مُحَرَّمَ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ فَقَالَ: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة: 173] وَكَلِمَةُ (إِنَّمَا) تُفِيدُ الْحَصْرَ فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْمَدَنِيَّةُ مُطَابِقَةً لِتِلْكَ الْآيَةِ الْمَكِّيَّةِ لِأَنَّ كَلِمَةَ: (إِنَّمَا) تُفِيدُ الْحَصْرَ فَكَلِمَةُ إِنَّما فِي الْآيَةِ الْمَدَنِيَّةِ مُطَابِقَةٌ لِقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً إِلَّا كَذَا وَكَذَا فِي الْآيَةِ الْمَكِّيَّةِ ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ قَوْلَهُ تَعَالَى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ [الْمَائِدَةِ: 1] وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَلِيلٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ [المائدة: 3] وَكُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَقْسَامُ الْمَيْتَةِ وَأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَعَادَهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْكُمُونَ عَلَيْهَا بِالتَّحْلِيلِ فَثَبَتَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا/ كَانَتْ مُسْتَقِرَّةً عَلَى هَذَا الْحُكْمِ وَعَلَى هَذَا الْحَصْرِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَيَلْزَمُكُمْ فِي الْتِزَامِ هَذَا الْحَصْرِ تَحْلِيلُ النَّجَاسَاتِ وَالْمُسْتَقْذَرَاتِ وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَيْضًا تَحْلِيلُ الْخَمْرِ وَأَيْضًا فَيَلْزَمُكُمْ تَحْلِيلُ الْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِتَحْرِيمِهَا. قُلْنَا: هَذَا لَا يَلْزَمُنَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا حَرَّمَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ لِكَوْنِهِ نَجِسًا فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ النَّجَاسَةَ عِلَّةٌ لِتَحْرِيمِ الْأَكْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ نَجِسٍ يَحْرُمُ أَكْلُهُ وَإِذَا كَانَ هَذَا مَذْكُورًا فِي الْآيَةِ كَانَ السُّؤَالُ سَاقِطًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:

وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الْأَعْرَافِ: 157] وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ الْخَبَائِثِ وَالنَّجَاسَاتُ خَبَائِثُ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِهَا. الثَّالِثُ: أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى حُرْمَةِ تَنَاوُلِ النَّجَاسَاتِ فَهَبْ أَنَّا الْتَزَمْنَا تَخْصِيصَ هَذِهِ السُّورَةِ بِدَلَالَةِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ فِي بَابِ النَّجَاسَاتِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَا سِوَاهَا عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ تَمَسُّكًا بِعُمُومِ كِتَابِ اللَّهِ فِي الْآيَةِ الْمَكِّيَّةِ وَالْآيَةِ الْمَدَنِيَّةِ فَهَذَا أَصْلٌ مُقَرَّرٌ كَامِلٌ فِي بَابِ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ وَأَمَّا الْخَمْرُ فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهَا نَجِسَةٌ فَيَكُونُ مِنَ الرِّجْسِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: رِجْسٌ وَتَحْتَ قَوْلِهِ: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَأَيْضًا ثَبَتَ تَخْصِيصُهُ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ دِينِ محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في تحريمه وبقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: 90] وَبِقَوْلِهِ: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [الْبَقَرَةِ: 219] وَالْعَامُّ الْمَخْصُوصُ حُجَّةٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ فَتَبْقَى هَذِهِ الْآيَةُ فِيمَا عَدَاهَا حُجَّةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَيَلْزَمُ تَحْلِيلُ الْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّهَا مَيْتَاتٌ فَكَانَتْ دَاخِلَةً تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّا نَخُصُّ عُمُومَ هَذِهِ الْآيَةِ بِتِلْكَ الْآيَةِ وَثَالِثُهَا: أَنْ نَقُولَ إِنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَيْتَةً دَخَلَتْ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَيْتَةً فَنُخَصِّصُهَا بِتِلْكَ الْآيَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْمُحَرَّمَاتُ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ أَكْثَرُ مِمَّا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَمَا وجهها؟ أجابوا عنه من وجه: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى لَا أَجِدُ مُحَرَّمًا مِمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُهُ مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَغَيْرِهَا إِلَّا مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمٌ غَيْرَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ وُجِدَتْ مُحَرَّمَاتٌ أُخْرَى بَعْدَ ذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: هَبْ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ إِلَّا أَنَّ تَخْصِيصَ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ فَنَحْنُ نُخَصِّصُ هَذَا الْعُمُومَ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ نَقُولَ إِنَّهُ لَا يَجِدُ فِي الْقُرْآنِ وَيَجُوزُ أَنْ يُحَرِّمَ اللَّهُ تَعَالَى مَا سِوَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الْأَجْوِبَةُ ضَعِيفَةٌ. أَمَّا الْجَوَابُ الْأَوَّلُ: فَضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً مَا كَانَ يُحَرِّمُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ السَّوَائِبِ وَالْبَحَائِرِ وغيرها إذا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَمَا كَانَتِ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ دَاخِلَةً تَحْتَهُ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ دَاخِلَةً تَحْتَ قَوْلَهُ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً لَمَا حَسُنَ اسْتِثْنَاؤُهَا وَلَمَّا رَأَيْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُسْتَثْنَاةٌ عَنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ مَا ذَكَرُوهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِفَسَادِ قَوْلِهِمْ فِي تَحْرِيمِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَصَّصَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ وَتَحْلِيلُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي حَرَّمَهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَحْلِيلِ غَيْرِهَا فَوَجَبَ إِبْقَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عُمُومِهَا لِأَنَّ تَخْصِيصَهَا يُوجِبُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِعُمُومِهَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ في سورة البقرة: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ [البقرة: 173] وذكره هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْأَرْبَعَةَ وَكَلِمَةُ (إِنَّمَا) تُفِيدُ الْحَصْرَ وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ غَيْرُ مَسْبُوقَةٍ بِحِكَايَةِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي تَحْرِيمِ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ فَسَقَطَ هَذَا الْعُذْرُ. وَأَمَّا جَوَابُهُمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ. فَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة: 173] آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الشَّرِيعَةِ وَكَلِمَةُ: (إِنَّمَا) تُفِيدُ الْحَصْرَ فَدَلَّ

هَاتَانِ الْآيَتَانِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ فِي شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا لَيْسَ إِلَّا حَصْرَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِمُقْتَضَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ حَصْرُ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ كان هذا اعترافا يحل مَا سِوَاهَا فَالْقَوْلُ بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ خَامِسٍ يَكُونُ نَسْخًا وَلَا شَكَّ أَنَّ مَدَارَ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ احْتِمَالُ طَرَيَانِ النَّاسِخِ مُعَادِلًا لِاحْتِمَالِ بَقَاءِ الْحُكْمِ عَلَى مَا كَانَ فَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِشَيْءٍ مِنَ النُّصُوصِ فِي إِثْبَاتِ شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا إِلَّا أَنَّهُ زَالَ وَلَمَّا اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ وَأَنَّ الْقَائِلَ بِهِ وَالذَّاهِبَ إِلَيْهِ هُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَى الدَّلِيلِ عَلِمْنَا فَسَادَ هَذَا السُّؤَالِ. وَأَمَّا جَوَابُهُمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّا نُخَصِّصُ عُمُومَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَنَقُولُ: لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ بَلْ هُوَ صَرِيحُ النَّسْخِ لِأَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ مُبَالَغَةٌ فِي أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ سِوَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَكَذَا وَكَذَا تَصْرِيحٌ بِحَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ كَلِمَةَ (إِنَّمَا) تُفِيدُ الْحَصْرَ فَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ يَكُونُ دَفْعًا لِهَذَا الَّذِي ثَبَتَ بِمُقْتَضَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا فِي أَوَّلِ الشَّرِيعَةِ بِمَكَّةَ/ وَفِي آخِرِهَا بِالْمَدِينَةِ وَنَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا جَوَابُهُمُ الرَّابِعُ: فَضَعِيفٌ أَيْضًا لِأَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا كَانَ وَحْيًا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْوَحْيُ قُرْآنًا أَوْ غَيْرَهُ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ يُزِيلُ هَذَا الِاحْتِمَالَ فَثَبَتَ بِالتَّقْرِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا قُوَّةُ هَذَا الْكَلَامِ وَصِحَّةُ هَذَا الْمَذْهَبِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَقُولُ بِهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمِنَ السُّؤَالَاتِ الضَّعِيفَةِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ خَصَّصُوا عُمُومَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا نُقِلَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَا اسْتَخْبَثَهُ الْعَرَبُ فَهُوَ حَرَامٌ» وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الَّذِي يَسْتَخْبِثُهُ الْعَرَبُ فَهُوَ غَيْرُ مَضْبُوطٍ فَسَيِّدُ الْعَرَبِ بَلْ سَيِّدُ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لما رآهم يأكلون الضب وقال: «يَعَافُهُ طَبْعِي» ثُمَّ إِنَّ هَذَا الِاسْتِقْذَارَ مَا صَارَ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ الضَّبِّ. وَأَمَّا سَائِرُ الْعَرَبِ فَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَقْذِرُ شَيْئًا وَقَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ فَيَسْتَقْذِرُهَا قَوْمٌ وَيَسْتَطِيبُهَا آخَرُونَ فَعَلِمْنَا أَنَّ أَمْرَ الِاسْتِقْذَارِ غَيْرُ مَضْبُوطٍ بَلْ هُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ فَكَيْفَ يَجُوزُ نَسْخُ هَذَا النَّصِّ الْقَاطِعِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ ضَابِطٌ مُعَيَّنٌ وَلَا قَانُونٌ مَعْلُومٌ؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا الْمَسَائِلَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ: فَأَوَّلُهَا: الْمَيْتَةُ وَدَخَلَهَا التَّخْصِيصُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ» وَثَانِيهَا: الدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَالسَّفْحُ الصَّبُّ يُقَالُ: سَفَحَ الدَّمَ سَفْحًا وَسَفَحَ هُوَ سُفُوحًا إِذَا سَالَ وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِكُثَيِّرٍ: أَقُولُ وَدَمْعِي وَاكِفٌ عِنْدَ رَسْمِهَا ... عَلَيْكِ سَلَامُ اللَّهِ وَالدَّمْعُ يَسْفَحُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مَا خَرَجَ مِنَ الْأَنْعَامِ وَهِيَ أَحْيَاءٌ وَمَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَوْدَاجِ عِنْدَ الذَّبْحِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَلَا يَدْخُلُ في الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ لِجُمُودِهِمَا وَلَا مَا يَخْتَلِطُ بِاللَّحْمِ من الدم فإنه غير سائل وسئل او مِجْلَزٍ عَمَّا يَتَلَطَّخُ مِنَ اللَّحْمِ بِالدَّمِ. وَعَنِ الْقَدَرِيِّ: يُرَى فِيهَا حُمْرَةُ الدَّمِ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ إِنَّمَا نُهِيَ عَنِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ. وَثَالِثُهَا: لَحْمُ الْخِنْزِيرِ فَإِنَّهُ رِجْسٌ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَهُوَ منسوق على

قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً فَسُمِّيَ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ- فِسْقًا- لِتَوَغُّلِهِ فِي بَابِ الْفِسْقِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ كَرَمٌ وَجُودٌ إِذَا كَانَ كَامِلًا فِيهِمَا وَمِنْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الانعام: 121] . وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ. أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ بَيَّنَ أَنْ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ يَزُولُ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ وَهَذِهِ الْآيَةُ قَدِ اسْتَقْصَيْنَا تَفْسِيرَهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَوْلُهُ عَقِيبَ ذَلِكَ: فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الرُّخْصَةِ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى الْيَهُودِ أَشْيَاءَ أُخْرَى سِوَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ نَوْعَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ كُلَّ ذِي ظُفُرٍ. وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فِي الظُّفُرِ لُغَاتٌ ظُفُرٌ بِضَمِّ الْفَاءِ وَهُوَ أَعْلَاهَا وَظُفْرٌ بِسُكُونِ الْفَاءِ وَظِفْرٌ بِكَسْرِ الظَّاءِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَظِفِرٌ بِكَسْرِهِمَا وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي السَّمَّالِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي كُلِّ ذِي ظُفُرٍ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْيَهُودِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ الْإِبِلُ فَقَطْ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ الْإِبِلُ وَالنَّعَامَةُ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ: إِنَّهُ كُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَكُلُّ ذي حافر من الدواب. ثم قال: ذلِكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَقَالَ: وَسُمِّيَ الْحَافِرُ ظُفُرًا عَلَى الِاسْتِعَارَةِ. وَأَقُولُ: أَمَّا حَمْلُ الظُّفُرِ عَلَى الْحَافِرِ فَبَعِيدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَافِرَ لَا يَكَادُ يُسَمَّى ظُفُرًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ كُلَّ حَيَوَانٍ لَهُ حَافِرٌ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَنَمَ والبقر مباحان لهم من لحصول الْحَافِرِ لَهُمَا. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَجَبَ حمل الظفر على المخالب والبراثن لان المخاطب آلَاتُ الْجَوَارِحِ فِي الِاصْطِيَادِ وَالْبَرَاثِنَ آلَاتُ السِّبَاعِ فِي الِاصْطِيَادِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: يَدْخُلُ فِيهِ أَنْوَاعُ السِّبَاعِ وَالْكِلَابِ وَالسَّنَانِيرِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الطُّيُورُ الَّتِي تَصْطَادُ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ تَعُمُّ هَذِهِ الْأَجْنَاسَ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ يُفِيدُ تَخْصِيصَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ. بِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كَذَا وَكَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ فِي اللُّغَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي حَقِّ الْكُلِّ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا فَائِدَةٌ فَثَبَتَ أَنَّ تَحْرِيمَ السِّبَاعِ وَذَوِي الْمَخَالِبِ مِنَ الطَّيْرِ مُخْتَصٌّ بِالْيَهُودِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ مُحَرَّمَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَصَارَتْ هذه الآية دالة على هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ: ما روي انه صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ حَرَّمَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطُّيُورِ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ عَلَى خِلَافِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَقْبُولًا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: يَقْوَى قَوْلُ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْيَهُودِ خَاصَّةً قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى الْيَهُودِ شُحُومَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ثُمَّ فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: إِنَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَى عَنْ هَذَا التَّحْرِيمِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا مَا عَلِقَ بِالظَّهْرِ مِنَ الشَّحْمِ فَإِنِّي لَمْ أُحَرِّمْهُ وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَّا مَا عَلِقَ بِالظَّهْرِ وَالْجَنْبِ/ مِنْ دَاخِلِ بُطُونِهَا وَأَقُولُ لَيْسَ عَلَى الظَّهْرِ وَالْجَنْبِ شَحْمٌ إِلَّا اللَّحْمُ الْأَبْيَضُ السَّمِينُ الْمُلْتَصِقُ بِاللَّحْمِ الْأَحْمَرِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فذلك اللحم

[سورة الأنعام (6) : الآيات 148 إلى 149]

السمين الملتصق مسمم بِالشَّحْمِ وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ: لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الشَّحْمَ وَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ بِأَكْلِ ذَلِكَ اللَّحْمِ السَّمِينِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوِ الْحَوايا قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهِيَ الْمَبَاعِرُ وَالْمَصَارِينُ وَاحِدَتُهَا حَاوِيَةٌ وَحَوِيَّةٌ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: هِيَ الْحَوِيَّةُ أَوِ الْحَاوِيَةُ وَهِيَ الدَّوَّارَةُ الَّتِي فِي بَطْنِ الشَّاةِ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ حَاوِيَةٌ وَحَوَايَا مِثْلُ رواية وَرَوَايَا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا: فَالْمُرَادُ أَنَّ الشُّحُومَ الْمُلْتَصِقَةَ بِالْمَبَاعِرِ وَالْمَصَارِينِ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ. وَالِاسْتِثْنَاءُ الثَّالِثُ: قوله: أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ قَالُوا: إِنَّهُ شَحْمُ الْأَلْيَةِ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كُلُّ شَحْمٍ فِي الْقَائِمِ وَالْجَنْبِ وَالرَّأْسِ وَفِي الْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ يَقُولُ: إِنَّهُ اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ فَهُوَ حَلَالٌ لَهُمْ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَالشَّحْمُ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُوَ الثَّرَبُ وَشَحْمُ الْكُلْيَةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: أَوِ الْحَوايا غَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلَى الْمُسْتَثْنَى بَلْ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالتَّقْدِيرُ: حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ شُحُومُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا فَإِنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ قَالُوا: وَدَخَلَتْ كَلِمَةُ «أَوْ» كَدُخُولِهَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الْإِنْسَانِ: 24] وَالْمَعْنَى كُلُّ هَؤُلَاءِ أَهْلٌ أَنْ يُعْصَى فَاعْصِ هَذَا وَاعْصِ هَذَا فَكَذَا هَاهُنَا الْمَعْنَى حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ هَذَا وَهَذَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَالْمَعْنَى: أَنَّا إِنَّمَا خَصَّصْنَاهُمْ بِهَذَا التَّحْرِيمِ جَزَاءً عَلَى بَغْيِهِمْ وَهُوَ قَتْلُهُمُ الْأَنْبِيَاءَ وَأَخْذُهُمُ الرِّبَا وَأَكْلُهُمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النِّسَاءِ: 160] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّا لَصادِقُونَ أَيْ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ بَغْيِهِمْ وَفِي الْإِخْبَارِ عَنْ تَخْصِيصِهِمْ بِهَذَا التَّحْرِيمِ بِسَبَبِ بَغْيِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي: نَفْسُ التَّحْرِيمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً عَلَى جُرْمٍ صَدَرَ عَنْهُمْ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ تَعْرِيضٌ لِلثَّوَابِ وَالتَّعْرِيضُ لِلثَّوَابِ إِحْسَانٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ جَزَاءً عَلَى الْجُرْمِ الْمُتَقَدِّمِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الِانْتِفَاعِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِمَزِيدِ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لِلْجُرْمِ الْمُتَقَدِّمِ وَكُلُّ وَاحِدٍ منهما غير مستبعد. [قوله تعالى فَإِنْ كَذَّبُوكَ إلى قوله عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ يَعْنِي إِنْ كَذَّبُوكَ فِي ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَكَذَّبُوكَ فِي تَبْلِيغِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ فَلِذَلِكَ لَا يُعَجِّلُ عَلَيْكُمْ بِالْعُقُوبَةِ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ أَيْ عَذَابُهُ إِذَا جَاءَ الْوَقْتُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ يَعْنِي الَّذِينَ كَذَّبُوكَ فِيمَا تقول. والله اعلم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 148 الى 149] سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِقْدَامَهُمْ عَلَى الْحُكْمِ فِي دِينِ اللَّهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا دَلِيلٍ حكى

عَنْهُمْ عُذْرَهُمْ فِي كُلِّ مَا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِيَّاتِ فَيَقُولُونَ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مِنَّا أَنْ لَا نَكْفُرَ لَمَنَعَنَا عَنْ هَذَا الْكُفْرِ وَحَيْثُ لَمْ يَمْنَعْنَا عَنْهُ ثَبَتَ أَنَّهُ مُرِيدٌ لِذَلِكَ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنَّا امْتَنَعَ مِنَّا تَرْكُهُ فَكُنَّا مَعْذُورِينَ فِيهِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ زَعَمُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ إِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ مِنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ: فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ صَرِيحَ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مِنَّا أَنْ لَا نُشْرِكَ لَمْ نُشْرِكْ وَإِنَّمَا حَكَى عَنْهُمْ هَذَا الْقَوْلَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ وَالتَّقْبِيحِ فَوَجَبَ كَوْنُ هَذَا الْمَذْهَبِ مَذْمُومًا بَاطِلًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: كَذَّبَ وَفِيهِ قِرَاءَتَانِ بِالتَّخْفِيفِ وَبِالتَّثْقِيلِ. أَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالتَّخْفِيفِ فَهِيَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي تَقُولُهُ الْمُجْبِرَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَذِبٌ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ فلا يمكن حملها على ان القول اسْتَوْجَبُوا الذَّمَّ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا أَهْلَ الْمَذَاهِبِ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَيْهِ لَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى ضِدًّا لِمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ كَذَبَ بِالتَّخْفِيفِ وَحِينَئِذٍ تَصِيرُ إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ ضِدًّا لِلْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى وَذَلِكَ يُوجِبُ دُخُولَ التَّنَاقُضِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنْ كُلَّ مَنْ كَذَّبَ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ فَإِنَّهُ كَذَّبَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ يَقُولُ الْكُلُّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا الَّذِي/ أَنَا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ إِنَّمَا حَصَلَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنْهُ فَهَذَا طَرِيقٌ مُتَعَيِّنٌ لِكُلِّ الْكُفَّارِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ فِي تَكْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي دَفْعِ دَعَوْتِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَإِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ صَارَتِ الْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ مُؤَكِّدَةً لِلْقِرَاءَةِ بِالتَّخْفِيفِ وَيَصِيرُ مَجْمُوعُ الْقِرَاءَتَيْنِ دَالًّا عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَوْجَبُوا الْوَعِيدَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَهَابِهِمْ إِلَى هذا المذهب. الوجه الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَلَا حُجَّةٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْمَذْهَبِ لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ حَقًّا كَانَ الْقَوْلُ بِهِ عِلْمًا. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ: إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [يونس: 36] . وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ وَالْخَرَصُ أَقْبَحُ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [الذَّارِيَاتِ: 10] . وَالْوَجْهُ السَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُمُ احْتَجُّوا فِي دَفْعِ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنْ قَالُوا: كُلُّ مَا حَصَلَ فَهُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا شَاءَ اللَّهُ مِنَّا ذَلِكَ فَكَيْفَ يُمْكِنُنَا تَرْكُهُ؟ وَإِذَا كُنَّا عَاجِزِينَ عَنْ تَرْكِهِ فَكَيْفَ يَأْمُرُنَا بِتَرْكِهِ؟ وَهَلْ فِي وُسْعِنَا وَطَاقَتِنَا أَنْ نَأْتِيَ بِفِعْلٍ عَلَى خِلَافِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى؟ فَهَذَا هُوَ حُجَّةُ الْكُفَّارِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ تَعَالَى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَاكُمْ عُقُولًا كَامِلَةً وَأَفْهَامًا وَافِيَةً وَآذَانًا سَامِعَةً وَعُيُونًا بَاصِرَةً وَأَقْدَرَكُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَأَزَالَ الْأَعْذَارَ وَالْمَوَانِعَ بِالْكُلِّيَّةِ عَنْكُمْ فَإِنْ شِئْتُمْ ذَهَبْتُمْ إِلَى عَمَلِ الْخَيْرَاتِ وَإِنْ شِئْتُمْ إِلَى عَمَلِ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ وَهَذِهِ الْقُدْرَةُ وَالْمُكْنَةُ مَعْلُومَةُ الثُّبُوتِ بِالضَّرُورَةِ وَزَوَالُ الْمَوَانِعِ وَالْعَوَائِقِ مَعْلُومُ الثُّبُوتِ أَيْضًا بِالضَّرُورَةِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ ادِّعَاؤُكُمْ أَنَّكُمْ عَاجِزُونَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ دَعْوَى بَاطِلَةً فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَالِغَةٌ! بَلْ لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَيْكُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: لَوْ كَانَتْ أَفْعَالُنَا وَاقِعَةً عَلَى خِلَافِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَكُنَّا قَدْ غَلَبْنَا اللَّهَ وَقَهَرْنَاهُ وَأَتَيْنَا بِالْفِعْلِ عَلَى مُضَادَّتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَهُ عَاجِزًا ضَعِيفًا وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ إِلَهًا. فَأَجَابَ تَعَالَى عَنْهُ: بِأَنَّ الْعَجْزَ وَالضَّعْفَ إِنَّمَا يَلْزَمُ إِذَا لَمْ أَكُنْ قَادِرًا عَلَى حَمْلِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْإِلْجَاءِ وَأَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا أَنِّي لَا أَحْمِلُكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْإِلْجَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ الْحِكْمَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنَ التَّكْلِيفِ فَثَبَتَ بِهَذَا الْبَيَانِ أَنَّ الَّذِي يَقُولُونَهُ مِنْ أَنَّا لَوْ أَتَيْنَا بِعَمَلٍ عَلَى خِلَافِ مَشِيئَةِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ تَعَالَى عَاجِزًا ضَعِيفًا كَلَامٌ بَاطِلٌ فَهَذَا أَقْصَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يُذْكَرَ فِي تَمَسُّكِ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَالْجَوَابُ الْمُعْتَمَدَ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا وَمَذْهَبِنَا وَنَقَلْنَا فِي كُلِّ آيَةٍ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ وَأَجَبْنَا عَنْهَا بِأَجْوِبَةٍ وَاضِحَةٍ قَوِيَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرْتُمْ لَوَقَعَ التَّنَاقُضُ الصَّرِيحُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الطَّعْنِ فِيهِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْقَوْمِ أَنَّهُمْ قَالُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا لَمَّا كَانَ الْكُلُّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيرِهِ كَانَ التَّكْلِيفُ عَبَثًا فَكَانَتْ دَعْوَى الْأَنْبِيَاءِ بَاطِلَةً وَنُبُوَّتُهُمْ وَرِسَالَتُهُمْ بَاطِلَةً ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْتَمَسُّكَ بِهَذَا الطَّرِيقِ فِي إِبْطَالِ النُّبُوَّةِ بَاطِلٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِلَهٌ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ فِي فِعْلِهِ فَهُوَ تَعَالَى يَشَاءُ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ وَمَعَ هَذَا فَيَبْعَثُ إِلَيْهِ الْأَنْبِيَاءَ وَيَأْمُرُهُ بِالْإِيمَانِ وَوُرُودُ الْأَمْرِ عَلَى خِلَافِ الْإِرَادَةِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ. فَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ يَتَمَسَّكُونَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِبْطَالِ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ فَاسِدٌ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْمَشِيئَةِ لِلَّهِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ دَفْعُ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فَقَطْ سَقَطَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِالْكُلِّيَّةِ وَجَمِيعُ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا فِي التَّقْبِيحِ وَالتَّهْجِينِ عَائِدٌ إِلَى تَمَسُّكِكُمْ بِثُبُوتِ الْمَشِيئَةِ لِلَّهِ عَلَى دَفْعِ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ فَيَكُونُ الْحَاصِلُ: أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بَاطِلٌ وَلَيْسَ فِيهِ البتة ما يدل على ان القول بالمشية بَاطِلٌ. فَإِنْ قَالُوا: هَذَا الْعُذْرُ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إِذْ قَرَأْنَا قَوْلَهُ تَعَالَى: كَذلِكَ كَذَّبَ بِالتَّشْدِيدِ وَأَمَّا إِذَا قَرَأْنَاهُ بِالتَّخْفِيفِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ هَذَا الْعُذْرُ بِالْكُلِّيَّةِ فَنَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّا نَمْنَعُ صِحَّةَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا تَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا: فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى قَوْلِهِمْ لَوَقَعَ التَّنَاقُضُ

وَلَخَرَجَ الْقُرْآنُ عَنْ كَوْنِهِ كَلَامًا لِلَّهِ تَعَالَى وَيَنْدَفِعُ هَذَا التَّنَاقُضُ/ بِأَنْ لَا تُقْبَلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ الثَّانِي: سَلَّمْنَا صِحَّةَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَكِنَّا نَحْمِلُهَا عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ كَذَبُوا فِي أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ أَفْعَالِ الْعِبَادِ سُقُوطُ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَبُطْلَانُ دَعْوَتِهِمْ وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَبْقَ لِلْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ تَمَسُّكٌ الْبَتَّةَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعَانَنَا عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ هَذِهِ الْعُهْدَةِ الْقَوِيَّةِ وَمِمَّا يُقَوِّي مَا ذَكَرْنَاهُ مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَهَابِ بَصَرِهِ مَا تَقُولُ فِيمَنْ يَقُولُ: لَا قَدَرَ فَقَالَ إِنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَتَيْتُ عَلَيْهِ وَيْلَهُ أَمَا يَقْرَأُ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49] إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ [يس: 12] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ اكْتُبِ الْقَدَرَ فَجَرَى بِمَا يَكُونُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: «الْمُكَذِّبُونَ بِالْقَدَرِ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: زَعَمَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ عَطْفَ الظَّاهِرِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَرْفُوعِ فِي الْفِعْلِ قَبِيحٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: قُمْتُ وَزَيْدٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ أَصْلٌ وَالْمَعْطُوفَ فَرْعٌ وَالْمُضْمَرَ ضَعِيفٌ وَالْمُظْهَرَ قَوِيٌّ وَجَعْلُ الْقَوِيِّ فَرْعًا لِلضَّعِيفِ لَا يَجُوزُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فَنَقُولُ: إِنْ جَاءَ الْكَلَامُ فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ وَجَبَ تَأْكِيدُ الضَّمِيرِ فَنَقُولُ قُمْتُ أَنَا وَزَيْدٌ وَإِنْ جَاءَ فِي جَانِبِ النَّفْيِ قُلْتَ مَا قُمْتُ وَلَا زَيْدٌ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا فَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَلا آباؤُنا عَلَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: مَا أَشْرَكْنا إِلَّا أَنَّهُ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا كَلِمَةُ لَا فَلَا جَرَمَ حَسُنَ هَذَا الْعَطْفُ. قَالَ فِي جَامِعِ الْأَصْفَهَانِيِّ: إِنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنِ اللَّفْظَةِ الْمُؤَكِّدَةِ لِلضَّمِيرِ حَتَّى يَحْسُنَ الْعَطْفُ وَيَنْدَفِعَ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ مِنْ عَطْفِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا قُلْنَا: (مَا أَشْرَكْنَا نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا) حَتَّى تَكُونَ كَلِمَةُ (لَا) مُقَدَّمَةً عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ. أَمَّا هَاهُنَا حَرْفُ الْعَطْفِ مُقَدَّمٌ عَلَى كَلِمَةِ (لَا) وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ كَلِمَةَ (لَا) لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى قَوْلِهِ: آباؤُنا كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا إِضْمَارَ فِعْلٍ هُنَاكَ لِأَنَّ صَرْفَ النَّفْيِ إِلَى ذَوَاتِ الْآبَاءِ مُحَالٌ بَلْ يَجِبُ صَرْفُ هَذَا النَّفْيِ إِلَى فِعْلٍ يَصْدُرُ مِنْهُمْ وَذَلِكَ هُوَ الْإِشْرَاكُ فَكَانَ التَّقْدِيرُ: مَا أَشْرَكْنَا وَلَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْإِشْكَالُ زَائِلٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلِهِمُ الْكُلُّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ فَكَلِمَةُ «لَوْ» فِي اللُّغَةِ تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ وَمَا هَدَاهُمْ أَيْضًا. وَتَقْرِيرُهُ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ قُدْرَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْكُفْرِ إِنْ لَمْ تَكُنْ قُدْرَةً عَلَى الْإِيمَانِ فَاللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مَا أَقْدَرَهُ عَلَى الْإِيمَانِ فَلَوْ شَاءَ الْإِيمَانَ مِنْهُ فَقَدْ شَاءَ الْفِعْلَ/ مِنْ غَيْرِ قُدْرَةٍ عَلَى الْفِعْلِ وَذَلِكَ مُحَالٌ وَمَشِيئَةُ الْمُحَالِ مُحَالٌ وَإِنْ كَانَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْكُفْرِ قُدْرَةً عَلَى الْإِيمَانِ تَوَقَّفَ رُجْحَانُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى حُصُولِ الدَّاعِيَةِ الْمُرَجِّحَةِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ تِلْكَ الدَّاعِيَةَ فَقَدْ حَصَلَتِ الدَّاعِيَةُ الْمُرَجِّحَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَمَجْمُوعُهُمَا مُوجِبٌ لِلْفِعْلِ فَحَيْثُ لَمْ يَحْصُلِ الْفِعْلُ عَلِمْنَا أَنَّ تِلْكَ الدَّاعِيَةَ لَمْ تَحْصُلْ وَإِذَا لَمْ تَحْصُلِ امْتَنَعَ مِنْهُ فِعْلُ الْإِيمَانِ وَإِذَا

[سورة الأنعام (6) : آية 150]

امْتَنَعَ ذَلِكَ مِنْهُ امْتَنَعَ أَنْ يُرِيدَهُ اللَّهُ مِنْهُ لِأَنَّ إِرَادَةَ الْمُحَالِ مُحَالٌ مُمْتَنِعٌ فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَرَادَ الْإِيمَانَ مِنَ الْكَافِرِ وَالْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ من كل الوجوه او ما قَوْلُهُ: تُحْمَلُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى مَشِيئَةِ الْإِلْجَاءِ فَنَقُولُ: هَذَا التَّأْوِيلُ إِنَّمَا يَحْسُنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ لَوْ ثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ امْتِنَاعُ الْحَمْلِ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْكَلَامِ أَمَّا لَوْ قَامَ الْبُرْهَانُ العقلي على أن الحق ليس إلا ما دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الظَّاهِرُ فَكَيْفَ يُصَارُ إِلَيْهِ؟ ثُمَّ نَقُولُ: هَذَا الدَّلِيلُ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِضْمَارٍ فَنَحْنُ نَقُولُ: التَّقْدِيرُ: لَوْ شَاءَ الْهِدَايَةَ لَهَدَاكُمْ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ التَّقْدِيرُ: لَوْ شَاءَ الْهِدَايَةَ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ لَهَدَاكُمْ فَإِضْمَارُكُمْ أَكْثَرُ فَكَانَ قَوْلُكُمْ مَرْجُوحًا. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ مِنَ الْكَافِرِ الْإِيمَانَ الِاخْتِيَارِيَّ وَالْإِيمَانُ الْحَاصِلُ بِالْإِلْجَاءِ غَيْرُ الْإِيمَانِ الْحَاصِلِ بِالِاخْتِيَارِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَلْزَمُ كَوْنُهُ تَعَالَى عَاجِزًا عَنْ تَحْصِيلِ مُرَادِهِ لِأَنَّ مُرَادَهُ هُوَ الْإِيمَانُ الِاخْتِيَارِيُّ وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ الْبَتَّةَ عَلَى تَحْصِيلِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ بِالْعَجْزِ لَازِمًا. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِيمَانِ الْحَاصِلِ بِالِاخْتِيَارِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ الْحَاصِلِ بِالْإِلْجَاءِ. أَمَّا الْإِيمَانُ الْحَاصِلُ بِالِاخْتِيَارِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ حُصُولُهُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ دَاعِيَةٍ جَازِمَةٍ وَإِرَادَةٍ لَازِمَةٍ فَإِنَّ الدَّاعِيَةَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُصُولُ الْفِعْلِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ يَجِبُ تَرَتُّبُ الْفِعْلِ عَلَيْهَا أَوْ لَا يَجِبُ فَإِنْ وَجَبَ فَهِيَ الدَّاعِيَةُ الضَّرُورِيَّةُ وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى بينهما وَبَيْنَ الدَّاعِيَةِ الْحَاصِلَةِ بِالْإِلْجَاءِ فَرْقٌ وَإِنْ لَمْ تجب تَرَتُّبُ الْفِعْلِ عَلَيْهَا فَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ تَخَلُّفُ الْفِعْلِ عَنْهَا فَلْنَفْرِضْ تَارَةً ذَلِكَ الْفِعْلَ مُتَخَلِّفًا عَنْهَا وَتَارَةً غَيْرَ مُتَخَلِّفٍ فَامْتِيَازُ أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ عَنِ الْآخَرِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِمُرَجِّحٍ زَائِدٍ فَالْحَاصِلُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا كَانَ تَمَامَ الدَّاعِيَةِ وَقَدْ فَرَضْنَاهُ كَذَلِكَ وَهَذَا خُلْفٌ ثُمَّ عِنْدَ انْضِمَامِ هَذَا الْقَيْدِ الزَّائِدِ إِنْ وَجَبَ الْفِعْلُ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الضَّرُورِيَّةِ فَرْقٌ وَإِنْ لَمْ يَجِبِ افْتَقَرَ إِلَى قَيْدٍ زَائِدٍ وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّ الْفَرْقَ الَّذِي ذَكَرُوهُ بَيْنَ الدَّاعِيَةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَبَيْنَ الدَّاعِيَةِ الضَّرُورِيَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مُعْتَبَرًا إِلَّا أَنَّهُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ وَالْبَحْثِ لَا يَبْقَى لَهُ مَحْصُولٌ. [سورة الأنعام (6) : آية 150] قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَبْطَلَ عَلَى الْكُفَّارِ جَمِيعَ انواع حجهم بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ شُهُودٌ الْبَتَّةَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَلُمَّ كَلِمَةُ دَعْوَةٍ إِلَى الشَّيْءِ وَالْمَعْنَى: هَاتُوا شُهَدَاءَكُمْ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَالْجَمْعُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى قَالَ تَعَالَى: قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ وَقَالَ: وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا [الْأَحْزَابِ: 18] وَاللُّغَةُ الثَّانِيَةُ يُقَالُ لِلِاثْنَيْنِ: هَلُمَّا وَلِلْجَمْعِ: هَلُمُّوا وَلِلْمَرْأَةِ: هَلُمِّي وَلِلِاثْنَيْنِ: هَلُمَّا وللجمع: هلمن وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي أَصْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ قَوْلَانِ: قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ إِنَّهَا «هَا» ضُمَّتْ إِلَيْهَا «لُمَّ» أَيْ جَمِّعْ وَتَكُونُ بِمَعْنَى ادْنُ يُقَالُ: لِفُلَانٍ لَمَّةٌ أَيْ دُنُوٌّ ثُمَّ جُعِلَتَا كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْفَائِدَةُ فِي قَوْلِنَا: «هَا» اسْتِعْطَافُ الْمَأْمُورِ وَاسْتِدْعَاءُ إِقْبَالِهِ عَلَى الْأَمْرِ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ حُذِفَ عَنْهُ الْأَلِفُ عَلَى سَبِيلِ التَّخْفِيفِ كَقَوْلِكَ: لَمْ أُبْلَ وَلَمْ أَرَ وَلَمْ تَكُ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَصْلُهَا «هَلْ» أُمَّ أَرَادُوا «بِهَلْ» حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ وَبِقَوْلِنَا: «أُمَّ» اي اقصد؟

[سورة الأنعام (6) : آية 151]

وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ قَصَدَ؟ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْأَمْرُ بِالْقَصْدِ كَأَنَّكَ تَقُولُ: اقْصِدْ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: كَانَ الْأَصْلُ أَنْ قَالُوا: هَلْ لَكَ فِي الطَّعَامِ أَمٌّ أَيْ قَصْدٌ؟ ثُمَّ شَاعَ فِي الْكُلِّ كَمَا أَنَّ كَلِمَةَ «تَعَالَى» كَانَتْ مَخْصُوصَةً بِصُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ ثُمَّ عَمَّتْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ بِاسْتِدْعَاءِ إِقَامَةِ الشُّهَدَاءِ مِنَ الْكَافِرِينَ لِيُظْهِرَ أَنْ لَا شَاهِدَ لَهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوهُ وَمَعْنَى هَلُمَّ أَحْضِرُوا شُهَدَاءَكُمْ. ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ تَنْبِيهًا عَلَى كَوْنِهِمْ كَاذِبِينَ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ إِنْ وَقَعَتْ مِنْهُمْ تِلْكَ الشَّهَادَةُ فَعَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى فَأَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ لَا يَتَّبِعَ أَهْوَاءَهُمْ ثُمَّ زَادَ فِي تَقْبِيحِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَكَانُوا مِمَّنْ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَالنُّشُورَ وَزَادَ فِي تَقْبِيحِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَعْدِلُونَ بِرَبِّهِمْ/ فَيَجْعَلُونَ لَهُ شُرَكَاءَ. وَاللَّهُ اعلم [سورة الأنعام (6) : آية 151] قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فَسَادَ مَا يَقُولُ الْكُفَّارُ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْنَا كَذَا وَكَذَا أَرْدَفَهُ تَعَالَى بِبَيَانِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : «تَعَالَ» مِنَ الْخَاصِّ الَّذِي صَارَ عَامًّا وَأَصْلُهُ ان يقوله من كان في مكان عال لِمَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُ ثُمَّ كَثُرَ وَعَمَّ وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ مَنْصُوبٌ وَفِي نَاصِبِهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: أَتْلُ وَالتَّقْدِيرُ: أَتْلُ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَيْكُمْ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِحَرَّمَ وَالتَّقْدِيرُ: أَتْلُ الْأَشْيَاءَ الَّتِي حَرَّمَ عَلَيْكُمْ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً كَالتَّفْصِيلِ لِمَا أَجْمَلَهُ فِي قَوْلِهِ: مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ تَرْكَ الشِّرْكِ وَالْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ لَا مُحَرَّمٌ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّحْرِيمِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ حَرِيمًا مُعَيَّنًا وَذَلِكَ بِأَنْ بَيَّنَهُ بَيَانًا مَضْبُوطًا مُعَيَّنًا فَقَوْلُهُ: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ معناه: اتل عليكم ما بينه شَافِيًا بِحَيْثُ يَجْعَلُ لَهُ حَرِيمًا مُعَيَّنًا وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ تَمَّ وَانْقَطَعَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا كَمَا يُقَالُ: عَلَيْكُمُ السَّلَامُ أَوْ أَنَّ الْكَلَامَ تَمَّ وَانْقَطَعَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً بِمَعْنَى لِئَلَّا تُشْرِكُوا وَالتَّقْدِيرُ: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ لِئَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ «أَنْ» / فِي قَوْلِهِ: أَلَّا تُشْرِكُوا مُفَسِّرَةً بِمَعْنَى: أَيْ وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَيْ لَا تُشْرِكُوا أَيْ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ هُوَ قَوْلُهُ: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً. فَإِنْ قِيلَ: فَقَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً مُفَسِّرًا لِقَوْلِهِ: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْإِحْسَانُ بِالْوَالِدَيْنِ حَرَامًا وَهُوَ باطل.

قُلْنَا: لَمَّا أَوْجَبَ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِمَا فَقَدْ حَرَّمَ الْإِسَاءَةَ إِلَيْهِمَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ في هذه الآية امور خَمْسَةً: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ شَرَحَ فِرَقَ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَجْعَلُونَ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِلَيْهِمُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الْأَنْعَامِ: 74] . وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَبَدَةُ الْكَوَاكِبِ وَهُمُ الَّذِينَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبْطَلَ قَوْلَهُمْ بِقَوْلِهِ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الانعام: 76] . وَالطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِينَ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ انهم جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَامِ: 100] وَهُمُ الْقَائِلُونَ بِيَزْدَانَ وَأَهْرِمَنْ. وَالطَّائِفَةُ الرَّابِعَةُ: الَّذِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ بَنِينَ وَبَنَاتٍ وَأَقَامَ الدَّلَائِلَ عَلَى فَسَادِ أَقْوَالِ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ وَالْفِرَقِ فَلَمَّا بَيَّنَ بِالدَّلِيلِ فَسَادَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ قَالَ هَاهُنَا: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي أَوْجَبَهَا هَاهُنَا قَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَإِنَّمَا ثَنَّى بِهَذَا التَّكْلِيفِ لِأَنَّ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ النِّعَمِ عَلَى الْإِنْسَانِ نِعْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتْلُوهَا نِعْمَةُ الْوَالِدَيْنِ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ الْحَقِيقِيَّ فِي وُجُودِ الْإِنْسَانِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَفِي الظَّاهِرِ هُوَ الْأَبَوَانِ ثُمَّ نِعَمُهُمَا عَلَى الْإِنْسَانِ عَظِيمَةٌ وَهِيَ نِعْمَةُ التَّرْبِيَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالْحِفْظِ عَنِ الضَّيَاعِ وَالْهَلَاكِ فِي وَقْتِ الصِّغَرِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ فَأَوْجَبَ بَعْدَ رِعَايَةِ حُقُوقِ الْأَبَوَيْنِ رِعَايَةَ حُقُوقِ الْأَوْلَادِ وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ أَيْ مِنْ خَوْفِ الْفَقْرِ وَقَدْ صَرَّحَ بِذِكْرِ الْخَوْفِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاءِ: 31] وَالْمُرَادُ منه النهي عن الواد إذا كَانُوا يَدْفِنُونَ الْبَنَاتِ أَحْيَاءً بَعْضُهُمْ لِلْغَيْرَةِ وَبَعْضُهُمْ خَوْفَ الْفَقْرِ وَهُوَ السَّبَبُ الْغَالِبُ فَبَيَّنَ تَعَالَى فَسَادَ هَذِهِ الْعِلَّةِ بِقَوْلِهِ: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا كَانَ مُتَكَفِّلًا بِرِزْقِ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ فَكَمَا وَجَبَ عَلَى الْوَالِدَيْنِ تَبْقِيَةُ النَّفْسِ وَالِاتِّكَالُ فِي رِزْقِهَا عَلَى اللَّهِ فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي حَالِ الْوَلَدِ قَالَ شِمْرٌ: أَمْلَقَ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ يُقَالُ: أَمْلَقَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُمْلِقٌ إِذَا افْتَقَرَ فَهَذَا لَازِمٌ وَأَمْلَقَ/ الدَّهْرُ مَا عِنْدَهُ إِذَا أَفْسَدَهُ وَالْإِمْلَاقُ الْفَسَادُ. وَالنَّوْعُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَكْرَهُونَ الزِّنَا عَلَانِيَةً وَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ سِرًّا فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنِ الزِّنَا عَلَانِيَةً وَسِرًّا وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُخَصَّصَ هَذَا النَّهْيُ بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ بَلْ يَجْرِي عَلَى عُمُومِهِ فِي جَمِيعِ الْفَوَاحِشِ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَالْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِهَذَا النَّهْيِ وَهُوَ كَوْنُهُ فَاحِشَةً عَامٌّ أَيْضًا وَمَعَ عُمُومِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى يَكُونُ التَّخْصِيصُ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ وَفِي قَوْلِهِ: مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ دَقِيقَةٌ وَهِيَ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا احْتَرَزَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فِي الظَّاهِرِ وَلَمْ يَحْتَرِزْ عَنْهَا فِي الْبَاطِنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ احْتِرَازَهُ عَنْهَا لَيْسَ لِأَجْلِ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَلَكِنْ لِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنْ مَذَمَّةِ النَّاسِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مَذَمَّةُ النَّاسِ عِنْدَهُ أَعْظَمَ وَقْعًا مِنْ عِقَابِ اللَّهِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَمَنْ تَرَكَ الْمَعْصِيَةَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَهَا تَعْظِيمًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَوْفًا مِنْ عَذَابِهِ وَرَغْبَةً فِي عبوديته.

[سورة الأنعام (6) : آية 152]

وَالنَّوْعُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ الْفَوَاحِشِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ لِفَائِدَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْإِفْرَادَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ كَقَوْلِهِ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْهُ وَلَا يَتَأَتَّى هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي جُمْلَةِ الْفَوَاحِشِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: إِلَّا بِالْحَقِّ أَيْ قَتْلُ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ قَدْ يَكُونُ حَقًّا لِجُرْمٍ يَصْدُرُ مِنْهَا. وَالْحَدِيثُ أَيْضًا مُوَافِقٌ لَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ وَزِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» وَالْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى سَبَبٍ رَابِعٍ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [الْمَائِدَةِ: 33] . وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي قَتْلِ النَّفْسِ هُوَ الْحُرْمَةُ وَحِلُّهُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَحْوَالَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ أَتْبَعَهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي يُقَرِّبُ إِلَى الْقَلْبِ الْقَبُولَ فَقَالَ: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لِمَا فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ مِنَ اللُّطْفِ وَالرَّأْفَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ لِيَكُونَ الْمُكَلَّفُ أَقْرَبَ إِلَى الْقَبُولِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أَيْ لِكَيْ تَعْقِلُوا فَوَائِدَ هَذِهِ التَّكَالِيفِ وَمَنَافِعَهَا في الدين والدنيا. [سورة الأنعام (6) : آية 152] وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ التَّكَالِيفِ وَهِيَ أُمُورٌ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ لَا حَاجَةَ فِيهَا إِلَى الْفِكْرِ وَالِاجْتِهَادِ ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ التَّكَالِيفِ وَهِيَ أُمُورٌ خَفِيَّةٌ يَحْتَاجُ الْمَرْءُ الْعَاقِلُ فِي مَعْرِفَتِهِ بِمِقْدَارِهَا إِلَى التَّفَكُّرِ والتأمل والاجتهاد. فالنوع الاولى: مِنَ التَّكَالِيفِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قال في سورة البقرة: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [الْبَقَرَةِ: 220] وَالْمَعْنَى: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِأَنْ يَسْعَى فِي تَنْمِيَتِهِ وَتَحْصِيلِ الرِّبْحِ بِهِ وَرِعَايَةِ وُجُوهِ الْغِبْطَةِ لَهُ ثُمَّ إِنْ كَانَ الْقَيِّمُ فَقِيرًا مُحْتَاجًا أَخَذَ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَاحْتَرَزَ عَنْهُ كَانَ أَوْلَى فَقَوْلُهُ: إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مَعْنَاهُ كَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النِّسَاءِ: 6] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ فَالْمَعْنَى احْفَظُوا مَالَهُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ فَإِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ فَادْفَعُوا إِلَيْهِ مَالَهُ. وَأَمَّا مَعْنَى الْأَشُدِّ وَتَفْسِيرُهُ: قَالَ اللَّيْثُ: الْأَشُدُّ مَبْلَغُ الرَّجُلِ الْحِكْمَةَ وَالْمَعْرِفَةَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَشُدُّ. وَاحِدُهَا شَدٌّ فِي الْقِيَاسِ وَلَمْ أَسْمَعْ لَهَا بِوَاحِدٍ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: وَاحِدَةُ الْأَشُدِّ شِدَّةٌ كَمَا أَنَّ وَاحِدَةَ الْأَنْعُمِ نِعْمَةٌ وَالشِّدَّةُ: الْقُوَّةُ وَالْجَلَادَةُ وَالشَّدِيدُ الرَّجُلُ الْقَوِيُّ وَفَسَّرُوا بُلُوغَ الْأَشُدِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بالاحتلام بشرط ان يونس مِنْهُ الرُّشْدُ وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ.

وَالنَّوْعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ. اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بَلَغَ تَمَامَ الْكَمَالِ فَقَدْ وَفَى وَتَمَّ. يُقَالُ: دِرْهَمٌ وَافٍ وَكَيْلٌ وَافٍ وَأَوْفَيْتُهُ حَقَّهُ وَوَفَّيْتُهُ إِذَا أَتْمَمْتَهُ وَأَوْفَى الْكَيْلَ إِذَا أَتَمَّهُ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْئًا وَقَوْلُهُ: وَالْمِيزانَ أَيِ الْوَزْنَ بِالْمِيزَانِ وَقَوْلُهُ: بِالْقِسْطِ أَيْ بِالْعَدْلِ لَا بَخْسَ وَلَا نُقْصَانَ. فَإِنْ قِيلَ: إِيفَاءُ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ هُوَ عَيْنُ الْقِسْطِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّكْرِيرِ؟ قُلْنَا: أَمَرَ اللَّهُ الْمُعْطِيَ بِإِيفَاءِ ذِي الْحَقِّ حَقَّهُ من غير نقصان وَأَمَرَ صَاحِبَ الْحَقِّ بِأَخْذِ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ الزِّيَادَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَهَّمَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى التَّحْقِيقِ وذلك صعب شديدة فِي الْعَدْلِ أَتْبَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا يُزِيلُ هَذَا التَّشْدِيدَ فَقَالَ: لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أَيِ الْوَاجِبُ فِي إِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ هذا القدر الممكن في إيفاء الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ أَمَّا التَّحْقِيقُ فَغَيْرُ وَاجِبٍ. قَالَ الْقَاضِي: إِذَا كَانَ تَعَالَى قَدْ خَفَّفَ عَلَى الْمُكَلَّفِ هَذَا التَّخْفِيفَ مَعَ أَنَّ مَا هُوَ التَّضْيِيقُ مَقْدُورٌ لَهُ فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ تَعَالَى يُكَلِّفُ الْكَافِرَ الْإِيمَانَ مَعَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ؟ بَلْ قَالُوا: يَخْلُقُ الْكُفْرَ فِيهِ وَيُرِيدُهُ مِنْهُ وَيَحْكُمُ بِهِ عَلَيْهِ وَيَخْلُقُ فِيهِ الْقُدْرَةَ الْمُوجِبَةَ لِذَلِكَ الْكُفْرِ وَالدَّاعِيَةَ الْمُوجِبَةَ لَهُ ثُمَّ يَنْهَاهُ عَنْهُ فَهُوَ تَعَالَى لَمَّا لَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنَ التَّشْدِيدِ وَالتَّضْيِيقِ عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ إِيفَاءُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ عَلَى سَبِيلِ التحقيق فكيف يُضِيفَ عَلَى الْعَبْدِ مِثْلَ هَذَا التَّضْيِيقِ وَالتَّشْدِيدِ؟ وَاعْلَمْ أَنَّا نُعَارِضُ الْقَاضِيَ وَشُيُوخَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَسْأَلَةِ الْعِلْمِ وَمَسْأَلَةِ الدَّاعِي وَحِينَئِذٍ يَنْقَطِعُ وَلَا يَبْقَى لِهَذَا الْكَلَامِ رُوَاءٌ وَلَا رَوْنَقٌ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ التَّكَالِيفِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا أَيْضًا مِنَ الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا أَدَاءَ الْأَمَانَةِ وَالْمُفَسِّرُونَ حَمَلُوهُ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَقَطْ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَقَطْ قَالَ الْقَاضِي وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا يَتَّصِلُ بِالْقَوْلِ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا يَقُولُ الْمَرْءُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ وَتَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ بِأَنْ يَذْكُرَ الدَّلِيلَ مُلَخَّصًا عَنِ الْحَشْوِ وَالزِّيَادَةِ بِأَلْفَاظٍ مَفْهُومَةٍ مُعْتَادَةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ الْأَفْهَامِ وَيَدْخُلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاقِعًا عَلَى وَجْهِ الْعَدْلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي الْإِيذَاءِ وَالْإِيحَاشِ وَنُقْصَانٍ عَنِ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْحِكَايَاتُ الَّتِي يَذْكُرُهَا الرَّجُلُ حَتَّى لَا يَزِيدَ فِيهَا وَلَا يَنْقُصَ عَنْهَا وَمِنْ جُمْلَتِهَا تَبْلِيغُ الرِّسَالَاتِ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَيَدْخُلُ فِيهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِالْقَوْلِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُسَوَّى فِيهِ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ طَلَبَ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَخْتَلِفْ ذَلِكَ بِالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ. وَالنَّوْعُ الرَّابِعُ: مِنْ هَذِهِ التَّكَالِيفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا وَهَذَا مِنْ خَفِيَّاتِ الْأُمُورِ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَحْلِفُ مَعَ نَفْسِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْحَلِفُ خَفِيًّا وَيَكُونُ بِرُّهُ وَحِنْثُهُ أَيْضًا خَفِيًّا وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْأَقْسَامَ قَالَ: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا السَّبَبُ فِي أَنْ جَعَلَ خَاتِمَةَ الْآيَةِ الْأُولَى بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الانعام: 151] وَخَاتِمَةَ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .

قُلْنَا: لِأَنَّ التَّكَالِيفَ الْخَمْسَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْأُولَى أُمُورٌ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ فَوَجَبَ تَعَقُّلُهَا وَتَفَهُّمُهَا وَأَمَّا التَّكَالِيفُ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَأُمُورٌ خَفِيَّةٌ غَامِضَةٌ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الِاجْتِهَادِ وَالْفِكْرِ حَتَّى يَقِفَ عَلَى مَوْضِعِ الِاعْتِدَالِ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ تَذَكَّرُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَالْبَاقُونَ تَذَكَّرُونَ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ وَهُمَا بِمَعْنًى واحد. تم الجزء الثالث عَشَرَ وَيَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْجُزْءُ الرابع عشر واوله قوله تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً من سورة الانعام. أعان الله على إكماله

الجزء الرابع عشر

الجزء الرابع عشر [تتمة سورة الأنعام] بسم الله الرحمن الرحيم [سورة الأنعام (6) : آية 153] وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَنَّ هَذَا بِفَتْحِ الْأَلِفِ وَسُكُونِ النُّونِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَإِنَّ بِكَسْرِ الْأَلِفِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ أَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ فَأَصْلُهَا وَإِنَّهُ هَذَا صِرَاطِي وَالْهَاءُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَالْحَدِيثِ وَعَلَى هَذَا الشَّرْطِ تُخَفَّفُ. قَالَ الْأَعْشَى: فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الْهِنْدِ قَدْ عَلِمُوا ... أَنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى وَيَنْتَعِلُ أَيْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ هَالِكٌ وَأَمَّا كَسْرُ أَنَّ فالتقدير أَتْلُ ما حَرَّمَ [الانعام: 151] وَأَتْلُ أَنَّ هَذَا صِراطِي بِمَعْنَى أَقُولُ وَقِيلَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَأَمَّا فَتْحُ أَنَّ فَقَالَ الْفَرَّاءُ فَتْحُ أَنَّ مِنْ وُقُوعِ أَتْلُ عَلَيْهَا يَعْنِي وَأَتْلُ عَلَيْكُمْ أَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً قَالَ: وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهَا خَفْضًا وَالتَّقْدِيرُ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ وَبِأَنَّ هَذَا صِرَاطِي. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: من فتح أَنَّ فقياس قوله سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ حَمَلَهَا عَلَى قَوْلِهِ: فَاتَّبِعُوهُ وَالتَّقْدِيرُ لِأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً [الْمُؤْمِنُونَ: 52] وَقَالَ سِيبَوَيْهِ لِأَنَّ هَذِهِ أُمَتُّكُمْ وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الْجِنِّ: 18] وَالْمَعْنَى وَلِأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقُرَّاءُ أَجْمَعُوا عَلَى سُكُونِ الْيَاءِ مِنْ صِراطِي غَيْرَ ابْنِ عَامِرٍ فَإِنَّهُ فَتَحَهَا وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ سِرَاطِي بِالسِّينِ وَحَمْزَةُ بَيْنَ الصَّادِ وَالزَّايِ وَالْبَاقُونَ بِالصَّادِّ صَافِيَةً وَكُلُّهَا لُغَاتٌ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَهَذَا صِرَاطِي وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكُمْ وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَتَيْنِ المتقدمين مَا وَصَّى بِهِ أَجْمَلَ فِي آخِرِهِ إِجْمَالًا يَقْتَضِي دُخُولَ مَا تَقَدَّمَ فِيهِ وَدُخُولَ سَائِرِ الشَّرِيعَةِ فِيهِ فَقَالَ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَدَخَلَ فِيهِ كُلُّ مَا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْمَنْهَجُ الْقَوِيمُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ فَاتَّبِعُوا جُمْلَتَهُ وَتَفْصِيلَهُ وَلَا تَعْدِلُوا عَنْهُ فَتَقَعُوا فِي الضَّلَالَاتِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَطَّ خَطًّا ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ الرُّشْدِ ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ خُطُوطًا ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كل سبيل منها شيطان يدعوا إِلَيْهِ؟ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْآيَاتُ مُحْكَمَاتٌ لَمْ يَنْسَخْهُنَّ شَيْءٌ مِنْ جَمِيعِ الْكُتُبِ مَنْ عَمِلَ بِهِنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ تركهن دخل النار. ثم قال: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ اي بالكتاب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ المعاصي والضلالات.

[سورة الأنعام (6) : آية 154]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ حَقًّا فَهُوَ وَاحِدٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كُلَّ مَا كَانَ وَاحِدًا فَهُوَ حَقٌّ فَإِذَا كَانَ الْحَقُّ وَاحِدًا كَانَ كُلُّ مَا سِوَاهُ بَاطِلًا وَمَا سِوَى الْحَقِّ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِأَنَّ كُلَّ كَثِيرٍ بَاطِلٌ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ بَاطِلٍ كَثِيرًا بِعَيْنِ مَا قَرَّرْنَاهُ في القضية الاولى. [سورة الأنعام (6) : آية 154] ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ آتَيْنا فِيهِ وُجُوهٌ: / الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ: ثُمَّ إِنِّي أُخْبِرُكُمْ بَعْدَ تَعْدِيدِ الْمُحَرَّمَاتِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ أَنَّا آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَذُكِرَتْ كَلِمَةُ «ثُمَّ» لِتَأْخِيرِ الْخَبَرِ عَنِ الْخَبَرِ لَا لِتَأْخِيرِ الْوَاقِعَةِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْأَعْرَافِ: 11] وَالثَّانِي: إِنَّ التَّكَالِيفَ التِّسْعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ التكليف لَا يَجُوزُ اخْتِلَافُهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ بَلْ هِيَ أَحْكَامٌ وَاجِبَةُ الثُّبُوتِ مِنْ أَوَّلِ زَمَانِ التَّكْلِيفِ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ. وَأَمَّا الشَّرَائِعُ الَّتِي كَانَتِ التَّوْبَةُ مُخْتَصَّةً بِهَا فَهِيَ إِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَ تِلْكَ التَّكَالِيفِ التِّسْعَةِ فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَهَا قَالَ: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ يَا بَنِي آدَمَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ. الثَّالِثُ: إِنَّ/ فِيهِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ: ثُمَّ قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّا آتَيْنَا مُوسَى فَتَقْدِيرُهُ: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ ثُمَّ اتْلُ عَلَيْهِمْ خَبَرَ مَا آتَيْنَا مُوسَى. أَمَّا قَوْلُهُ: تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ تَمَامًا لِلْكَرَامَةِ وَالنِّعْمَةِ عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ. أَيْ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ مُحْسِنًا صَالِحًا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنُوا وَالثَّانِي: الْمُرَادُ تَمَامًا لِلنِّعْمَةِ وَالْكَرَامَةِ عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي أَحْسَنَ الطَّاعَةَ بِالتَّبْلِيغِ وَفِي كُلِّ مَا أُمِرَ بِهِ وَالثَّالِثُ: تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ مُوسَى مِنَ الْعِلْمِ وَالشَّرَائِعِ مِنْ أَحْسَنَ الشَّيْءَ إِذَا أَجَادَ مَعْرِفَتَهُ أَيْ زِيَادَةً عَلَى عِلْمِهِ عَلَى وَجْهِ التَّتْمِيمِ وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ أَيْ عَلَى الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ بِحَذْفِ الْمُبْتَدَأِ كَقِرَاءَةِ من قرا مَثَلًا ما بَعُوضَةً [البقرة: 26] بِالرَّفْعِ وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: عَلَى الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ دِينًا وَأَرْضَاهُ أَوْ يُقَالُ الْمُرَادُ: آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا أَيْ تَامًّا كَامِلًا عَلَى أَحْسَنِ مَا تَكُونُ عَلَيْهِ الْكُتُبُ أَيْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْكَلْبِيِّ: أَتَمَّ لَهُ الْكِتَابَ عَلَى أَحْسَنِهِ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنَ النِّعَمِ فِي الدِّينِ وَهُوَ تَفْصِيلُ كُلِّ شَيْءٍ وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَخْتَصُّ بِالدِّينِ فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ بَيَانُ نبوة رسولنا صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ دِينِهِ وَشَرْعِهِ وَسَائِرِ الْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ إِلَّا مَا نُسِخَ مِنْهَا وَلِذَلِكَ قَالَ: وَهُدىً وَرَحْمَةً وَالْهُدَى مَعْرُوفٌ وَهُوَ الدَّلَالَةُ وَالرَّحْمَةُ هِيَ النِّعْمَةُ لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ أَيْ لِكَيْ يُؤْمِنُوا بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ وَالْمُرَادُ بِهِ لِقَاءُ مَا وَعَدَهُمُ الله به من ثواب وعقاب. [سورة الأنعام (6) : الآيات 155 الى 157] وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)

[سورة الأنعام (6) : آية 158]

اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهذا كِتابٌ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْقُرْآنُ وَفَائِدَةُ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ مُبَارَكٌ أَنَّهُ ثَابِتٌ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ النَّسْخُ كَمَا فِي الْكِتَابَيْنِ أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَثِيرُ الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ. ثُمَّ قَالَ: فَاتَّبِعُوهُ وَالْمُرَادُ ظَاهِرٌ. ثُمَّ قَالَ: وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَيْ لِكَيْ تُرْحَمُوا. وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قِيلَ اتَّقُوا مُخَالَفَتَهُ عَلَى رَجَاءِ الرَّحْمَةِ وَقِيلَ: اتَّقُوا لِتُرْحَمُوا أَيْ لِيَكُونَ الْغَرَضُ بِالتَّقْوَى رَحْمَةَ اللَّهِ وَقِيلَ: اتَّقُوا لِتُرْحَمُوا جَزَاءً عَلَى التَّقْوَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالتَّقْدِيرُ: أَنْزَلْنَاهُ لِئَلَّا تَقُولُوا ثُمَّ حَذَفَ الْجَارَّ وَحَرْفَ النَّفْيِ كَقَوْلِهِ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النِّسَاءِ: 176] وَقَوْلِهِ: رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النَّحْلِ: 15] أَيْ لِئَلَّا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ مَعْنَاهُ: أَنْزَلْنَاهُ كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا وَلَا يُجِيزُونَ إِضْمَارَ «لَا» فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: جِئْتُ أَنْ أُكْرِمَكَ بِمَعْنَى: أَنْ لَا أُكْرِمَكَ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَحْقِيقَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «أَنْ» مُتَعَلِّقَةً بِاتَّقُوا وَالتَّأْوِيلُ: وَاتَّقُوا أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: أَنْ تَقُولُوا خِطَابٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَعْنَى: كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولَ أَهْلُ مَكَّةَ أُنْزِلَ الْكِتَابُ وَهُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَإِنْ كُنَّا «ان» هي المخففة مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ وَالْأَصْلُ وَأَنَّهُ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ إِثْبَاتُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ كَيْ لَا يَقُولُوا يَوْمَ القيامة ان التوراة والإنجيلى أُنْزِلَا عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَكُنَّا غَافِلِينَ عَمَّا فِيهِمَا فَقَطَعَ اللَّهُ عُذْرَهُمْ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَيْ لَا نَعْلَمُ مَا هِيَ لِأَنَّ كِتَابَهُمْ مَا كَانَ بِلُغَتِنَا وَمَعْنَى أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ مُفَسِّرٌ لِلْأَوَّلِ فِي أَنَّ مَعْنَاهُ لِئَلَّا يَقُولُوا وَيَحْتَجُّوا بِذَلِكَ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى قَطْعَ احْتِجَاجِهِمْ بِهَذَا وَقَالَ: فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: الْبَيِّنَةُ وَالْهُدَى وَاحِدٌ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّكْرِيرِ؟ / قُلْنَا: الْقُرْآنُ بَيِّنَةٌ فِيمَا يُعْلَمُ سَمْعًا وَهُوَ هُدًى فِيمَا يُعْلَمُ سَمْعًا وَعَقْلًا فَلَمَّا اخْتَلَفَتِ الْفَائِدَةُ صَحَّ هَذَا الْعَطْفُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى رَحْمَةٌ أَيْ إِنَّهُ نِعْمَةٌ فِي الدِّينِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَالْمُرَادُ تَعْظِيمُ كُفْرِ مَنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا أَيْ مَنَعَ عَنْهَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ ضَلَالٌ وَالثَّانِيَ: مَنْعٌ عَنِ الْحَقِّ وَإِضْلَالٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ [النحل: 88] . [سورة الأنعام (6) : آية 158] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)

[سورة الأنعام (6) : آية 159]

قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: يَأْتِيَهُمْ بِالْيَاءِ وَفِي النَّحْلِ مِثْلَهُ وَالْبَاقُونَ تَأْتِيَهُمُ بِالتَّاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْزَلَ الْكِتَابَ إِزَالَةً لِلْعُذْرِ وَإِزَاحَةً لِلْعِلَّةِ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَلْبَتَّةَ وَشَرَحَ أَحْوَالًا تُوجِبُ الْيَأْسَ عَنْ دُخُولِهِمْ فِي الْإِيمَانِ فَقَالَ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ [الانعام: 158] ومعنى ينظرون ينتظرون وهل اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ النَّفْيُ وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِكَ إِلَّا إِذَا جَاءَهُمْ أَحَدُ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ مَجِيءُ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مَجِيءُ الرَّبِّ أَوْ مَجِيءُ الْآيَاتِ الْقَاهِرَةِ مِنَ الرَّبِّ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ هَلْ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمَجِيءِ وَالْغَيْبَةِ عَلَى اللَّهِ. قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا حِكَايَةً عَنْهُمْ وَهُمْ كَانُوا كُفَّارًا وَاعْتِقَادُ الْكَافِرِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَالثَّانِي: إِنَّ هَذَا مَجَازٌ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ [النَّحْلِ: 26] وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ [الْأَحْزَابِ: 57] وَالثَّالِثُ: قِيَامُ الدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ عَلَى أَنَّ الْمَجِيءَ وَالْغَيْبَةَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ وَأَقْرَبُهَا قَوْلُ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الرَّدِّ عَلَى عَبَدَةِ الكواكب لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الانعام: 76] . فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى إِثْبَاتِ أَثَرٍ مِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: يَصِيرُ هَذَا عين قوله: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ إِتْيَانُ الرَّبِّ. قُلْنَا: الْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ أَنَّ هَذَا حِكَايَةُ مَذْهَبِ الْكُفَّارِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً وَقِيلَ: يَأْتِي رَبُّكَ بِالْعَذَابِ أَوْ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ وَهُوَ الْمُعْجِزَاتُ الْقَاهِرَةُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ عَلَامَاتُ الْقِيَامَةِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كُنَّا نَتَذَاكَرُ امر الساعة إذا أَشْرَفَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا تَتَذَاكَرُونَ؟ قُلْنَا: نَتَذَاكَرُ السَّاعَةَ قَالَ: «إِنَّهَا لَا تَقُومُ حَتَّى تَرَوْا قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ الدُّخَانَ وَدَابَّةَ الْأَرْضِ وَخَسْفًا بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفًا بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفًا بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَالدَّجَّالَ وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَنُزُولَ عِيسَى ونار تَخْرُجُ مِنْ عَدَنَ» وَقَوْلُهُ: لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: نَفْساً وَقَوْلُهُ: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً صِفَةٌ ثَانِيَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الصِّفَةِ الْأُولَى وَالْمَعْنَى: إِنَّ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ إِذَا ظَهَرَتْ ذَهَبَ أَوَانُ التَّكْلِيفِ عِنْدَهَا فَلَمْ يَنْفَعِ الْإِيمَانُ نَفْسًا مَا آمَنَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَمَا كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قَبْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ وعيد وتهديد. [سورة الأنعام (6) : آية 159] إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فَارَقُوا بِالْأَلِفِ وَالْبَاقُونَ فَرَّقُوا وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ وَاحِدٌ لِأَنَّ الَّذِي فَرَّقَ دِينَهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَقَرَّ بِبَعْضٍ وَأَنْكَرَ بَعْضًا فَقَدْ فَارَقَهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَفِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ سَائِرُ الْمِلَلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْمُشْرِكِينَ بَعْضُهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ

[سورة الأنعام (6) : آية 160]

بَنَاتُ اللَّهِ وَبَعْضُهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ فَهَذَا مَعْنَى فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا أَيْ فِرَقًا وَأَحْزَابًا فِي الضَّلَالَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّصَارَى تَفَرَّقُوا فِرَقًا وَكَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ وَهُمْ أَهْلُ/ كِتَابٍ وَاحِدٍ وَالْيَهُودُ تُكَفِّرُ النَّصَارَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ أَخَذُوا بِبَعْضٍ وَتَرَكُوا بَعْضًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [الْبَقَرَةِ: 85] وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ [النساء: 150] . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالشُّبَهَاتِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الْحَثُّ عَلَى أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةً وَأَنْ لَا يَتَفَرَّقُوا فِي الدِّينِ وَلَا يَبْتَدِعُوا الْبِدَعَ وَقَوْلُهُ: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْتَ مِنْهُمْ بَرِيءٌ وَهُمْ مِنْكَ بُرَآءُ وَتَأْوِيلُهُ: إِنَّكَ بَعِيدٌ عَنْ أَقْوَالِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ وَالْعِقَابُ اللَّازِمُ عَلَى تِلْكَ الْأَبَاطِيلِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ وَلَا يَتَعَدَّاهُمْ. وَالثَّانِي: لَسْتَ مِنْ قِتَالِهِمْ فِي شَيْءٍ. قَالَ السُّدِّيُّ: يَقُولُونَ لَمْ يُؤْمَرْ بِقِتَالِهِمْ فَلَمَّا أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ نُسِخَ وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَسْتَ مِنْ قِتَالِهِمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ فِي شيء فورد الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ فِي وَقْتٍ آخَرَ لَا يُوجِبُ النَّسْخَ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ أَيْ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْإِمْهَالِ وَالْإِنْظَارِ وَالِاسْتِئْصَالِ وَالْإِهْلَاكِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ وَالْمُرَادُ الْوَعِيدُ. [سورة الأنعام (6) : آية 160] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْحَسَنَةُ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالسَّيِّئَةُ هِيَ الشِّرْكُ وَهَذَا بَعِيدٌ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْعُمُومِ إِمَّا تَمَسُّكًا بِاللَّفْظِ وَإِمَّا لِأَجْلِ أَنَّهُ حُكْمٌ مُرَتَّبٌ عَلَى وَصْفٍ مُنَاسِبٍ لَهُ فَيَقْتَضِي كَوْنَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ فَوَجَبَ أَنْ يَعُمَّ لِعُمُومِ الْعِلَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: حُذِفَتِ الْهَاءُ مِنْ عَشْرٍ وَالْأَمْثَالُ جَمْعُ مِثْلٍ وَالْمِثْلُ مُذَكَّرٌ لِأَنَّهُ أُرِيدَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمْثَالِهَا ثُمَّ حُذِفَتِ الْحَسَنَاتُ وَأُقِيمَتِ الْأَمْثَالُ الَّتِي هِيَ صِفَتُهَا مَقَامَهَا وَحَذْفُ الْمَوْصُوفِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ وَيُقَوِّي هَذَا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ عَشْرٌ أَمْثَالُهَا بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَذْهَبُنَا أَنَّ الثَّوَابَ تَفَضَّلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَقِيقَةِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ الثَّوَابِ وَالتَّفَضُّلِ بِأَنَّ الثواب هو المنفعة المستحقة/ والتفضيل هُوَ الْمَنْفَعَةُ الَّتِي لَا تَكُونُ مُسْتَحَقَّةً ثُمَّ انهم على تقريع مَذَاهِبِهِمُ اخْتَلَفُوا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْعَشَرَةُ تَفَضُّلٌ وَالثَّوَابُ غَيْرُهَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُبَّائِيِّ قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَاحِدُ ثَوَابًا وَكَانَتِ التِّسْعَةُ تَفَضُّلًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ دُونَ التَّفَضُّلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ التَّفَضُّلُ مُسَاوِيًا لِلثَّوَابِ فِي الْكَثْرَةِ وَالشَّرَفِ لَمْ يَبْقَ فِي التَّكْلِيفِ فَائِدَةٌ أَصْلًا فَيَصِيرُ عَبَثًا وَقَبِيحًا وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الثَّوَابَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ فِي الْقَدْرِ وَفِي التَّعْظِيمِ مِنَ التَّفَضُّلِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ مِنْ هَذِهِ التِّسْعَةِ ثَوَابًا وَتَكُونَ التِّسْعَةُ الْبَاقِيَةُ تَفَضُّلًا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْوَاحِدَ يَكُونُ أَوْفَرَ وَأَعْظَمَ وَأَعْلَى شَأْنًا مِنَ التسعة الباقية.

[سورة الأنعام (6) : آية 161]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: التَّقْدِيرُ بِالْعَشَرَةِ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّحْدِيدَ بَلْ أَرَادَ الْأَضْعَافَ مُطْلَقًا كَقَوْلِ الْقَائِلِ لَئِنْ أَسْدَيْتَ إِلَيَّ مَعْرُوفًا لَأُكَافِئَنَّكَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهِ وَفِي الْوَعِيدِ يُقَالُ: لَئِنْ كَلَّمْتَنِي وَاحِدَةً لَأُكَلِّمَنَّكَ عَشْرًا وَلَا يُرِيدُ التَّحْدِيدَ فَكَذَا هاهنا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّحْدِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [البقرة: 261] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها أَيِ الْإِجْزَاءُ يُسَاوِيهَا وَيُوَازِيهَا. رَوَى أَبُو ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ الْحَسَنَةُ عشر او أزيد والسيئة واحدة او عفو فَالْوَيْلُ لِمَنْ غَلَبَ آحَادُهُ أَعْشَارَهُ» وَقَالَ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهَا فَإِنْ عَمِلَهَا فَعَشْرٌ أَمْثَالُهَا وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَا تَكْتُبُوهَا وَإِنَّ عَمِلَهَا فَسَيِّئَةً وَاحِدَةً» وَقَوْلُهُ: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ أَيْ لَا يُنْقَصُ مِنْ ثَوَابِ طَاعَتِهِمْ وَلَا يُزَادُ عَلَى عِقَابِ سَيِّئَاتِهِمْ فِي الآية سؤالات: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كُفْرُ سَاعَةٍ كَيْفَ يُوجِبُ عِقَابَ الْأَبَدِ عَلَى نِهَايَةِ التَّغْلِيظِ. جَوَابُهُ: أَنَّهُ كَانَ الْكَافِرُ عَلَى عَزْمٍ أَنَّهُ لَوْ عَاشَ أَبَدًا لَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ أَبَدًا فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْعَزْمُ مُؤَبَّدًا عُوقِبَ بِعِقَابِ الْأَبَدِ خِلَافَ الْمُسْلِمِ الْمُذْنِبِ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى عَزْمِ الْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ فَلَا جَرَمَ كَانَتْ عُقُوبَتُهُ مُنْقَطِعَةً. السُّؤَالُ الثَّانِي: إِعْتَاقُ الرَّقَبَةِ الْوَاحِدَةِ تَارَةً جُعِلَ بَدَلًا عَنْ صِيَامِ سِتِّينَ يَوْمًا وَهُوَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَتَارَةً جُعِلَ بَدَلًا عَنْ صِيَامِ أَيَّامٍ قَلَائِلَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسَاوَاةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ. جَوَابُهُ: إِنَّ الْمُسَاوَاةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِوَضْعِ الشَّرْعِ وَحُكْمِهِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: إِذَا أَحْدَثَ فِي رَأْسِ إِنْسَانٍ مُوضِحَتَيْنِ: وَجَبَ فِيهِ أَرْشَانِ فَإِنْ رَفَعَ الْحَاجِزَ بَيْنَهُمَا صَارَ الْوَاجِبُ أَرْشَ مُوضِحَةٍ وَاحِدَةٍ فَهَهُنَا ازْدَادَتِ الْجِنَايَةُ وَقَلَّ الْعِقَابُ فَالْمُسَاوَاةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ. وَجَوَابُهُ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ تَعَبُّدَاتِ الشَّرْعِ وَتَحَكُّمَاتِهِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَجِبُ فِي مُقَابَلَةِ تَفْوِيتِ أَكْثَرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ثُمَّ إِذَا قَتَلَهُ وَفَوَّتَ كُلَّ الْأَعْضَاءِ وَجَبَتْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَذَلِكَ يمتنع الْقَوْلَ مِنْ رِعَايَةِ الْمُمَاثَلَةِ. جَوَابُهُ: أَنَّهُ مِنْ باب تحكمات الشريعة. والله اعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 161] قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلَّمَ رَسُولَهُ أَنْوَاعَ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالرَّدَّ عَلَى الْقَائِلِينَ بِالشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ وَالْأَضْدَادِ وَبَالَغَ فِي تَقْرِيرِ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالرَّدَّ عَلَى الْقَائِلِينَ بِالشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ وَالْأَضْدَادِ وَبَالَغَ فِي تَقْرِيرِ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالنَّافِينَ لِلْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَرَدَّ عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَبَاطِيلِهِمْ أَمَرَهُ أَنْ يَخْتِمَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِاللَّهِ وَانْتَصَبَ دِينًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَحَلِّ صِرَاطٍ لِأَنَّ مَعْنَاهُ هَدَانِي رَبِّي صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا كَمَا قَالَ: وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً [الْفَتْحِ: 2] وَالثَّانِي: ان يكون التقدير الزموا دينا وقوله: فيما قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْقَيِّمُ فَيْعِلٌ مِنْ قَامَ كَسَيِّدٍ مِنْ سَادَ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْقَائِمِ وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ قِيَمًا مَكْسُورَةَ الْقَافِ خَفِيفَةَ الْيَاءِ قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْقِيَامِ كالصغر

[سورة الأنعام (6) : الآيات 162 إلى 163]

وَالْكِبَرِ وَالْحِوَلِ وَالشِّبَعِ وَالتَّأْوِيلُ دِينًا ذَا قِيَمٍ وَوَصَفَ الدِّينَ بِهَذَا الْوَصْفِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَقَوْلُهُ: مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فَقَوْلُهُ: مِلَّةَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: دِيناً قِيَماً وَحَنِيفًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَالْمَعْنَى هَدَانِي رَبِّي وَعَرَّفَنِي مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَالَ كَوْنِهَا مَوْصُوفَةً بِالْحَنِيفِيَّةِ ثُمَّ قَالَ فِي صِفَةِ إِبْرَاهِيمَ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ والمقصود منه الرد على المشركين. [سورة الأنعام (6) : الآيات 162 الى 163] قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا عرفه الذين الْمُسْتَقِيمَ عَرَّفَهُ كَيْفَ يَقُومُ بِهِ وَيُؤَدِّيهِ فَقَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي/ وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُؤَدِّيهِ مَعَ الْإِخْلَاصِ وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: لَا شَرِيكَ لَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي الْعِبَادَاتِ أَنْ يُؤْتَى بِهَا كَيْفَ كَانَتْ بَلْ يَجِبُ أَنْ يُؤْتَى بِهَا مَعَ تَمَامِ الْإِخْلَاصِ وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الصَّلَاةِ أَنْ يُؤْتَى بِهَا مَقْرُونَةً بِالْإِخْلَاصِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَنُسُكِي فَقِيلَ الْمُرَادُ بِالنُّسُكِ الذَّبِيحَةُ بِعَيْنِهَا يَقُولُ: مَنْ فَعَلَ كَذَا فَعَلَيْهِ نُسُكٌ أَيْ دَمٌ يُهَرِيقُهُ وَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالذَّبْحِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الْكَوْثَرِ: 2] وَرَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ قَالَ: النُّسُكُ سَبَائِكُ الْفِضَّةِ كُلُّ سَبِيكَةٍ مِنْهَا نَسِيكَةٌ وَقِيلَ: لِلْمُتَعَبِّدِ نَاسِكٌ لِأَنَّهُ خَلَّصَ نَفْسَهُ مِنْ دَنَسِ الْآثَامِ وَصَفَّاهَا كَالسَّبِيكَةِ الْمُخَلَّصَةِ مِنَ الْخَبَثِ وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَالنُّسُكُ كُلُّ مَا تَقَرَّبْتَ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ فِي الْعُرْفِ الذَّبْحُ وَقَوْلُهُ: وَمَحْيايَ وَمَماتِي أَيْ حَيَاتِي وَمَوْتِي لِلَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فَأَثْبَتَ كَوْنَ الْكُلِّ لِلَّهِ وَالْمَحْيَا وَالْمَمَاتُ لَيْسَا لِلَّهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُؤْتَى بِهِمَا لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ بَلْ مَعْنَى كَوْنِهِمَا لِلَّهِ أَنَّهُمَا حَاصِلَانِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَوْنُ الصَّلَاةِ وَالنُّسُكِ لِلَّهِ مُفَسَّرًا بِكَوْنِهِمَا وَاقِعَيْنِ بِخَلْقِ اللَّهِ وَذَلِكَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ طَاعَاتِ الْعَبْدِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ نَافِعٌ مَحْيايَ سَاكِنَةَ الْيَاءِ وَنَصَبَهَا فِي مَمَاتِي وَإِسْكَانُ الْيَاءِ فِي مَحْيَايَ شَاذٌّ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ لِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ سَاكِنَيْنِ لَا يَلْتَقِيَانِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ فِي نَثْرٍ وَلَا نَظْمٍ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لُغَةٌ لِبَعْضِهِمْ وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ صَلَاتَهُ وَسَائِرَ عِبَادَاتِهِ وَحَيَاتَهُ وَمَمَاتَهُ كُلَّهَا وَاقِعَةٌ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وتقديره وقضاءه وحكمه ثم نص على انه لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرُ: ثُمَّ يَقُولُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ أَيْ وَبِهَذَا التَّوْحِيدِ أُمِرْتُ. ثُمَّ يَقُولُ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ أَيِ الْمُسْتَسْلِمِينَ لِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ أَوَّلًا لِكُلِّ مُسْلِمٍ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَوْنَهُ أولا لمسلمي زمانه. [سورة الأنعام (6) : آية 164] قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ بِالتَّوْحِيدِ الْمَحْضِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي إِلَى قَوْلِهِ: لَا شَرِيكَ لَهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَذْكُرَ مَا يَجْرِي مَجْرَى الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّوْحِيدِ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الاول: ان

[سورة الأنعام (6) : آية 165]

أَصْنَافَ الْمُشْرِكِينَ أَرْبَعَةٌ لِأَنَّ عَبْدَةَ الْأَصْنَامِ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ وَعَبَدَةَ الْكَوَاكِبِ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ وَالْقَائِلُونَ: بِيَزْدَانُ وَأَهْرَمَنُ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّهِمْ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَامِ: 100] أَشْرَكُوا بِاللَّهِ وَالْقَائِلُونَ: بِأَنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةَ بَنَاتُهُ أَشْرَكُوا أَيْضًا بِاللَّهِ فَهَؤُلَاءِ هُمْ فِرَقُ الْمُشْرِكِينَ وَكُلُّهُمْ مُعْتَرِفُونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْكُلِّ وَذَلِكَ لِأَنَّ عَبْدَةَ الْأَصْنَامِ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هو الخالق للسموات وَالْأَرْضِ وَلِكُلِّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَهُوَ الْخَالِقُ لِلْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ بِأَسْرِهَا. وَأَمَّا عَبْدَةُ الْكَوَاكِبِ فَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهَا وَمُوجِدُهَا. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِيَزْدَانُ وَأَهْرَمَنُ فَهُمْ أَيْضًا مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ مُحْدَثٌ وَأَنَّ مُحْدِثَهُ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْمَسِيحِ وَالْمَلَائِكَةِ فَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْكُلِّ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ طَوَائِفَ الْمُشْرِكِينَ أَطْبَقُوا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ لَهُ يَا مُحَمَّدُ: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا مَعَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا رَبًّا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى أَقَرُّوا بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَهَلْ يَدْخُلُ فِي الْعَقْلِ جَعْلُ الْمَرْبُوبِ شَرِيكًا لِلرَّبِّ وَجَعْلُ الْعَبْدِ شَرِيكًا لِلْمَوْلَى وَجَعْلُ الْمَخْلُوقِ شَرِيكًا لِلْخَالِقِ؟ وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ثَبَتَ بِهَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ اتِّخَاذَ رَبٍّ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلٌ فَاسِدٌ وَدِينٌ بَاطِلٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ وَإِمَّا مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ فَثَبَتَ أَنَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَثَبَتَ أَنَّ الْمُمْكِنَ لِذَاتِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِإِيجَادِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ تَعَالَى رَبًّا لِكُلِّ شَيْءٍ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: صَرِيحُ الْعَقْلِ يَشْهَدُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ جَعْلُ الْمَرْبُوبِ شَرِيكًا لِلرَّبِّ وَجَعْلُ الْمَخْلُوقِ شَرِيكًا لِلْخَالِقِ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بِهَذَا الدَّلِيلِ الْقَاهِرِ الْقَاطِعِ هَذَا التَّوْحِيدَ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ ذَمٌّ وَلَا عِقَابٌ فَقَالَ: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَمَعْنَاهُ أَنَّ إِثْمَ الْجَانِي عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أَيْ لَا تُؤْخَذُ نَفْسٌ آثِمَةٌ بِإِثْمِ أُخْرَى ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ رُجُوعَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى مَوْضِعٍ لَا حَاكِمَ فِيهِ وَلَا آمِرَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. [سورة الأنعام (6) : آية 165] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وجوها: أحدها: جعلكهم خَلَائِفَ الْأَرْضِ لِأَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ فَخَلَفَتْ أُمَّتُهُ سَائِرَ الْأُمَمِ. وَثَانِيهَا: جَعَلَهُمْ يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ خُلَفَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ يَمْلِكُونَهَا وَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا. ثُمَّ قَالَ: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ فِي الشَّرَفِ وَالْعَقْلِ وَالْمَالِ وَالْجَاهِ وَالرِّزْقِ وَإِظْهَارُ هَذَا التَّفَاوُتِ لَيْسَ لِأَجْلِ الْعَجْزِ وَالْجَهْلِ وَالْبُخْلِ فَإِنَّهُ تَعَالَى مُتَعَالٍ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَإِنَّمَا هُوَ لأجل الابتلاء

وَالِامْتِحَانِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ حَقِيقَةَ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ التَّكْلِيفُ وَهُوَ عَمَلٌ لَوْ صَدَرَ مِنَ الْوَاحِدِ مِنَّا لَكَانَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِالِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ فسمى لهذا الِاسْمِ لِأَجْلِ هَذِهِ الْمُشَابَهَةِ ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمُكَلَّفَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَصِّرًا فِيمَا كُلِّفَ بِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَفِّرًا فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ نَصِيبُهُ مِنَ التَّخْوِيفِ وَالتَّرْهِيبِ وهو قَوْلَهُ: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَوَصَفَ الْعِقَابَ بِالسُّرْعَةِ لِأَنَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُوَفِّرًا فِي تِلْكَ الطَّاعَاتِ كَانَ نَصِيبُهُ مِنَ التَّشْرِيفِ وَالتَّرْغِيبِ هُوَ قَوْلَهُ: وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَيَسْتُرُ الْعُيُوبَ فِي الدُّنْيَا بِسَتْرِ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَرَحْمَتِهِ وَفِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يُفِيضَ عَلَيْهِ أَنْوَاعَ نِعَمِهِ وَهَذَا الْكَلَامُ بَلَغَ فِي شَرْحِ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ إِلَى حَيْثُ لَا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَهَذَا آخِرُ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ.

سورة الأعراف

بسم الله الرحمن الرحيم سُورَةُ الْأَعْرَافِ مَكِّيَّةٌ إِلَّا مِنْ آيَةِ: 163 إِلَى غَايَةِ آيَةِ 170 فَمَدَنِيَّةٌ وَآيَاتُهَا 206 نَزَلَتْ بَعْدَ ص [سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) [في قوله تعالى المص كتاب أنزل إليك] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ المص أَنَا اللَّهُ أَفْصِلُ وَعَنْهُ أَيْضًا: أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ وَأَفْصِلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَهَذِهِ الْحُرُوفُ وَاقِعَةٌ فِي مَوْضِعِ جمل والجمل إذا كانت ابتداء وخيرا فَقَطْ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ فَقَوْلُهُ: أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ فَقَوْلُهُ: «أَنَا» مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: «اللَّهُ» وَقَوْلُهُ: «أَعْلَمُ» خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ وَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى المص أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ كَانَ إِعْرَابُهَا كَإِعْرَابِ الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ تَأْوِيلٌ لَهَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: المص عَلَى هِجَاءِ قَوْلِنَا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّهُ الْمُصَوِّرُ. قَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى قَوْلِنَا: أَنَا اللَّهُ أَفْصِلُ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى قَوْلِهِ: أَنَا اللَّهُ أُصْلِحُ أَنَا اللَّهُ أَمْتَحِنُ أَنَا اللَّهُ الْمَلِكُ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْعِبْرَةُ بِحَرْفِ الصَّادِ فَهُوَ/ مَوْجُودٌ فِي قَوْلِنَا أَنَا اللَّهُ أُصْلِحُ وَإِنْ كَانَتِ الْعِبْرَةُ بِحَرْفِ الْمِيمِ فَكَمَا أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْعِلْمِ فَهُوَ أَيْضًا مَوْجُودٌ فِي الْمُلْكِ وَالِامْتِحَانِ فَكَانَ حَمْلُ قَوْلِنَا: المص عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ مَحْضَ التَّحَكُّمِ وَأَيْضًا فَإِنْ جَاءَ تَفْسِيرُ الْأَلْفَاظِ بِنَاءً عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْحُرُوفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ اللَّفْظَةُ مَوْضُوعَةً فِي اللُّغَةِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى انْفَتَحَتْ طَرِيقَةُ الْبَاطِنِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ سَائِرِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ بِمَا يُشَاكِلُ هَذَا الطَّرِيقَ. وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَبْعَدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ جَعْلُهُ اسْمًا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ اسْمًا لِبَعْضِ رُسُلِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ الِاسْمَ إِنَّمَا يَصِيرُ اسْمًا لِلْمُسَمَّى بِوَاسِطَةِ الوضع والاصطلاح وذلك مفقود هاهنا بَلِ الْحَقُّ أَنَّ قَوْلَهُ: المص اسْمٌ لَقَبٌ لِهَذِهِ السُّورَةِ وَأَسْمَاءُ الْأَلْقَابِ لَا تُفِيدُ فَائِدَةً فِي الْمُسَمَّيَاتِ، بَلْ هِيَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْإِشَارَاتِ وَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُسَمِّيَ هَذِهِ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ: المص كَمَا أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا إِذَا حَدَثَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنَّهُ يُسَمِّيهِ بِمُحَمَّدٍ. إِذَا عَرَفَتْ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: المص مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: كِتابٌ خَبَرُهُ وَقَوْلُهُ: أُنْزِلَ إِلَيْكَ صِفَةٌ لِذَلِكَ الْخَبَرِ: أَيِ السُّورَةُ الْمُسَمَّاةُ بِقَوْلِنَا: المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ. فَإِنْ قِيلَ: الدَّلِيلُ الَّذِي دَلَّ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُ بِإِنْزَالِ هَذَا الْقُرْآنِ عَلَيْهِ فَمَا لَمْ

نَعْرِفْ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْرِفَ نُبُوَّتَهُ وَمَا لَمْ نَعْرِفْ نُبُوَّتَهُ لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَحْتَجَّ بِقَوْلِهِ فَلَوْ أَثْبَتْنَا كَوْنَ هَذِهِ السُّورَةِ نَازِلَةً عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: لَزِمَ الدَّوْرُ. قُلْنَا: نَحْنُ بِمَحْضِ الْعَقْلِ نَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا تَلْمَذَ لِأُسْتَاذٍ وَلَا تَعَلَّمَ مِنْ مُعَلِّمٍ وَلَا طَالَعَ كِتَابًا وَلَمْ يُخَالِطِ الْعُلَمَاءَ وَالشُّعَرَاءَ وَأَهْلَ الْأَخْبَارِ وَانْقَضَى مِنْ عُمُرِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ ثُمَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعِينَ ظَهَرَ عَلَيْهِ هَذَا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى عُلُومِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَصَرِيحُ الْعَقْلِ يَشْهَدُ بِأَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِطَرِيقِ الْوَحْيِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى. فَثَبَتَ بِهَذَا الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ المص كِتَابٌ أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ وَإِلَهِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ مُنَزَّلًا وَالْإِنْزَالُ يَقْتَضِي الِانْتِقَالَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْقَدِيمِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُحْدَثٌ. وَجَوَابُهُ: إِنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْإِنْزَالِ وَالتَّنْزِيلِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ هُوَ هَذِهِ الْحُرُوفُ وَلَا نِزَاعَ فِي كَوْنِهَا مُحْدَثَةً مَخْلُوقَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَبْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْحُرُوفُ إِلَّا أَنَّ الْحُرُوفَ أَعْرَاضٌ غَيْرُ بَاقِيَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّهَا مُتَوَالِيَةٌ/ وَكَوْنُهَا مُتَوَالِيَةً يُشْعِرُ بِعَدَمِ بَقَائِهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْعَرَضُ الَّذِي لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ كَيْفَ يُعْقَلُ وَصْفُهُ بِالنُّزُولِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَحْدَثَ هَذِهِ الرُّقُومَ وَالنُّقُوشَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ثُمَّ إِنَّ الْمَلَكَ يُطَالِعُ تِلْكَ النُّقُوشَ وَيَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَيُعَلِّمُ مُحَمَّدًا تِلْكَ الْحُرُوفَ وَالْكَلِمَاتِ فَكَانَ الْمُرَادُ بِكَوْنِ تِلْكَ الْحُرُوفِ نَازِلَةً هُوَ أَنَّ مُبَلِّغَهَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ بِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِينَ أَثْبَتُوا لِلَّهِ مَكَانًا تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: إِنَّ كَلِمَةَ «مِنْ» لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَكَلِمَةَ «إِلَى» لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ فَقَوْلُهُ: أُنْزِلَ إِلَيْكَ يَقْتَضِي حُصُولَ مَسَافَةٍ مَبْدَؤُهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَغَايَتُهَا مُحَمَّدٌ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِجِهَةِ فَوْقُ لِأَنَّ النُّزُولَ هُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. وَجَوَابُهُ: لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ أَنَّ الْمَكَانَ وَالْجِهَةَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ الْمَلَكَ انْتَقَلَ بِهِ مِنَ الْعُلُوِّ إِلَى أَسْفَلَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ وَفِي تَفْسِيرِ الْحَرَجِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْحَرَجُ الضِّيقُ وَالْمَعْنَى: لَا يَضِيقُ صَدْرُكَ بِسَبَبِ أَنْ يُكَذِّبُوكَ فِي التَّبْلِيغِ. وَالثَّانِي: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أَيْ شَكٌّ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ [يُونُسَ: 94] وَسُمِّي الشَّكُّ حَرَجًا لِأَنَّ الشَّاكَّ ضَيِّقُ الصَّدْرِ حَرِجُ الصَّدْرِ كَمَا أَنَّ الْمُتَيَقِّنَ مُنْشَرِحُ الصَّدْرِ مُنْفَسِحُ الْقَلْبِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِتُنْذِرَ بِهِ هَذِهِ «اللَّامُ» بِمَاذَا تَتَعَلَّقُ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أُنْزِلَ إِلَيْكَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالتَّقْدِيرُ: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ لِتُنْذِرَ بِهِ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ هَذَا التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ؟. قُلْنَا: لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْإِنْذَارِ وَالتَّبْلِيغِ لَا يَتِمُّ وَلَا يَكْمُلُ إِلَّا عِنْدَ زَوَالِ الْحَرَجِ عَنِ الصَّدْرِ فَلِهَذَا السبب

[سورة الأعراف (7) : آية 3]

أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِزَالَةِ الْحَرَجِ عَنِ الصَّدْرِ ثُمَّ أَمَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْإِنْذَارِ وَالتَّبْلِيغِ. الثَّانِي: قال ابن الأنباري: اللام هاهنا بِمَعْنَى: كَيْ. وَالتَّقْدِيرُ: فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ شَكٌّ كَيْ تُنْذِرَ غَيْرَكَ. الثَّالِثُ: قَالَ صَاحِبُ «النظم» : اللام هاهنا: بِمَعْنَى: أَنْ. وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَضِقْ صَدْرُكَ وَلَا يَضْعُفْ عَنْ أَنْ تُنْذِرَ بِهِ وَالْعَرَبُ تَضَعُ هَذِهِ اللَّامَ فِي مَوْضِعِ «أَنْ» قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [التَّوْبَةِ: 32] وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا [الصَّفِّ: 8] وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ: وَالرَّابِعُ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إِنَّ هَذَا الْكِتَابَ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ وَإِذَا علمت انه تنزيل الله تعالى فاعلم انه عِنَايَةَ اللَّهِ مَعَكَ وَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ لِأَنَّ مَنْ كَانَ اللَّهُ حَافِظًا لَهُ وَنَاصِرًا لَمْ يَخَفْ أَحَدًا وَإِذَا زَالَ الْخَوْفُ/ وَالضِّيقُ عَنِ الْقَلْبِ فَاشْتَغَلَ بِالْإِنْذَارِ وَالتَّبْلِيغِ وَالتَّذْكِيرِ اشْتِغَالَ الرِّجَالِ الْأَبْطَالِ وَلَا تُبَالِ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ وَالْإِبْطَالِ. ثُمَّ قَالَ: وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مَوَاعِظَ لِلْمُصَدِّقِينَ: قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهُوَ اسْمٌ فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ. قَالَ اللَّيْثُ: الذِّكْرَى اسْمٌ لِلتَّذْكِرَةِ وَفِي مَحَلِّ ذِكْرَى مِنَ الْإِعْرَابِ وُجُوهٌ قَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى مَعْنَى: لِتَنْذُرَ بِهِ وَلِتُذَكِّرَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفْعًا بِالرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِ: كِتابٌ وَالتَّقْدِيرُ: كِتَابٌ حَقٌّ وَذِكْرَى وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَهُوَ ذِكْرَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَفْضًا لِأَنَّ مَعْنَى لِتُنْذِرَ بِهِ لِأَنْ تُنْذِرَ بِهِ فَهُوَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ لِأَنَّ الْمَعْنَى لِلْإِنْذَارِ وَالذِّكْرَى. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَيَّدَ هَذِهِ الذِّكْرَى بِالْمُؤْمِنِينَ. قُلْنَا: هُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] وَالْبَحْثُ الْعَقْلِيُّ فِيهِ أَنَّ النُّفُوسَ الْبَشَرِيَّةَ عَلَى قسمين: نفوس بليدة جاهلية بَعِيدَةٌ عَنْ عَالَمِ الْغَيْبِ غَرِيقَةٌ فِي طَلَبِ اللَّذَّاتِ الْجِسْمَانِيَّةِ وَالشَّهَوَاتِ الْجَسَدَانِيَّةِ وَنُفُوسٌ شَرِيفَةٌ مُشْرِقَةٌ بِالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ مُسْتَعِدَّةٌ بِالْحَوَادِثِ الرُّوحَانِيَّةِ فَبَعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ فِي حَقِّ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ إِنْذَارٌ وَتَخْوِيفٌ فَإِنَّهُمْ لَمَّا غَرِقُوا فِي نَوْمِ الْغَفْلَةِ وَرَقْدَةِ الْجَهَالَةِ احْتَاجُوا إِلَى مُوقِظٍ يُوقِظُهُمْ وَإِلَى مُنَبِّهٍ يُنَبِّهُهُمْ. وَأَمَّا فِي حَقِّ الْقِسْمِ الثَّانِي فَتَذْكِيرٌ وَتَنْبِيهٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ النُّفُوسَ بِمُقْتَضَى جَوَاهِرِهَا الْأَصْلِيَّةِ مُسْتَعِدَّةٌ لِلِانْجِذَابِ إِلَى عَالَمِ الْقُدُسِ وَالِاتِّصَالِ بِالْحَضْرَةِ الصَّمَدِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا غَشِيَهَا غَوَاشٍ مِنْ عَالَمِ الْجِسْمِ فَيَعْرِضُ لَهَا نَوْعُ ذُهُولٍ وَغَفْلَةٍ فَإِذَا سَمِعَتْ دَعْوَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَاتَّصَلَ بِهَا أَنْوَارُ أَرْوَاحِ رُسُلِ اللَّهِ تَعَالَى تَذَكَّرَتْ مَرْكَزَهَا وَأَبْصَرَتْ مَنْشَأَهَا وَاشْتَاقَتْ إِلَى مَا حَصَلَ هُنَالِكَ مِنَ الرُّوحِ وَالرَّاحَةِ وَالرَّيْحَانِ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْزَلَ هَذَا الْكِتَابَ عَلَى رَسُولِهِ لِيَكُونَ إِنْذَارًا فِي حَقِّ طَائِفَةٍ وَذِكْرَى فِي حَقِّ طائفة اخرى. والله اعلم. [سورة الأعراف (7) : آية 3] اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (3) اعْلَمْ أَنَّ أَمْرَ الرِّسَالَةِ إِنَّمَا يَتِمُّ بِالْمُرْسِلِ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْمُرْسَلِ وَهُوَ الرَّسُولُ وَالْمُرْسَلِ إِلَيْهِ وَهُوَ الْأُمَّةُ فَلَمَّا أَمَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى الرَّسُولَ بِالتَّبْلِيغِ وَالْإِنْذَارِ مَعَ قَلْبٍ قَوِيٍّ وَعَزْمٍ/ صَحِيحٍ أَمَرَ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِ وَهُمُ الْأُمَّةُ بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ فَقَالَ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْحَسَنُ: يَا ابْنَ آدَمَ أُمِرْتَ بِاتِّبَاعِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ يَتَنَاوَلُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ.

فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا قَالَ: أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِنَّمَا أُنْزِلَ عَلَى الرَّسُولِ. قُلْنَا: إِنَّهُ مُنَزَّلٌ عَلَى الْكُلِّ بِمَعْنَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْكُلِّ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ عُمُومَ الْقُرْآنِ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاللَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ مُتَابَعَتَهُ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ وَلَمَّا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ امْتَنَعَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّنَاقُضُ. فَإِنْ قَالُوا: لَمَّا وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْقِيَاسِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَاعْتَبِرُوا [الْحَشْرِ: 2] كَانَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ عَمَلًا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ. قُلْنَا: هَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: الْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ الْمُثْبَتِ بِالْقِيَاسِ لَا ابْتِدَاءً بَلْ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ. وَأَمَّا عُمُومُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً لَا بِوَاسِطَةٍ وَلَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ كَانَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ ابْتِدَاءً أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ مِنَ الْحُكْمِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِوَاسِطَةِ شَيْءٍ آخَرَ فَكَانَ التَّرْجِيحُ مِنْ جَانِبِنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَالُوا مَعْنَاهُ وَلَا تَتَوَلَّوْا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَيَحْمِلُوكُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَتْبُوعَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الشَّيْءَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ غَيْرَهُ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنِ اتِّبَاعِهِ فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَا يُغَايِرُ الْحُكْمَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ نُفَاةَ الْقِيَاسِ تَمَسَّكُوا بِهِ فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ فَقَالُوا الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُتَابَعَةُ غَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ مُتَابَعَةٌ لِغَيْرِ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ. فَإِنْ قَالُوا: لَمَّا دَلَّ قَوْلُهُ: فَاعْتَبِرُوا عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ كَانَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ عَمَلًا بِمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ لَوْ كَانَ عَمَلًا بِمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَكَانَ تَارِكُ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْقِيَاسِ كَافِرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [الْمَائِدَةِ: 44] وَحَيْثُ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى عَدَمِ التَّكْفِيرِ عَلِمْنَا أَنَّ الْعَمَلَ بِحُكْمِ الْقِيَاسِ لَيْسَ عَمَلًا بِمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَحِينَئِذٍ يَتِمُّ الدَّلِيلُ. وَأَجَابَ عَنْهُ مُثْبِتُو الْقِيَاسِ: بِأَنَّ كَوْنَ الْقِيَاسِ حُجَّةً ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالْإِجْمَاعُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ تَمَسُّكٌ بِظَاهِرِ الْعُمُومِ وَهُوَ دَلِيلٌ مَظْنُونٌ وَالْقَاطِعُ أَوْلَى مِنَ الْمَظْنُونِ. وَأَجَابَ: الْأَوَّلُونَ بِأَنَّكُمْ أَثْبَتُّمْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النِّسَاءِ: 115] وَعُمُومِ قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَةِ: 143] وَعُمُومِ قَوْلِهِ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آلِ عِمْرَانَ: 110] وَبِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» وَعَلَى هَذَا فَإِثْبَاتُ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً فَرْعٌ عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْعُمُومَاتِ وَالْفَرْعُ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنَ الْأَصْلِ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 4 إلى 5]

فَأَجَابَ مُثْبِتُو الْقِيَاسِ: بِأَنَّ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ وَالْإِجْمَاعَ لَمَّا تَعَاضَدَتْ فِي إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ قَوِيَتِ الْقُوَّةُ وَحَصَلَ التَّرْجِيحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْحَشْوِيَّةُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ النَّظَرَ الْعَقْلِيَّ وَالْبَرَاهِينَ الْعَقْلِيَّةَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ حُجَّةً مَوْقُوفٌ عَلَى صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ فَلَوْ جَعَلْنَا الْقُرْآنَ طَاعِنًا فِي صِحَّةِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ لَزِمَ التَّنَاقُضُ وَهُوَ بَاطِلٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ قَلِيلًا مَا يَتَذَكَّرُونَ بِالْيَاءِ تَارَةً وَالتَّاءِ أُخْرَى وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالتَّاءِ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: تَذَكَّرُونَ أَصْلُهُ تَتَذَكَّرُونَ فَأُدْغِمَ تَاءُ تَفَّعَّلَ فِي الذَّالِ لِأَنَّ التَّاءَ مَهْمُوسَةٌ وَالذَّالَ مَجْهُورَةٌ وَالْمَجْهُورُ أَزْيَدُ صَوْتًا مِنَ الْمَهْمُوسِ فَحَسُنَ إِدْغَامُ الْأَنْقَصِ فِي الْأَزْيَدِ وَمَا مَوْصُولَةٌ بِالْفِعْلِ وَهِيَ مَعَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ فَالْمَعْنَى: قَلِيلًا تَذَكُّرُكُمْ وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ يَتَذَكَّرُونَ بِيَاءٍ وَتَاءٍ فَوَجْهُهَا أَنَّ هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَيْ قَلِيلًا مَا يَتَذَكَّرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذُكِّرُوا بِهَذَا الْخِطَابِ وَأَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَحَفْصٍ خَفِيفَةَ الذَّالِ شَدِيدَةَ الْكَافِ فَقَدْ حَذَفُوا التَّاءَ الَّتِي أَدْغَمَهَا الْأَوَّلُونَ وَذَلِكَ حَسَنٌ لِاجْتِمَاعِ ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ مُتَقَارِبَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقَرَأَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وَلَا تَبْتَغُوا مِنَ الِابْتِغَاءِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً [آل عمران: 85] . [سورة الأعراف (7) : الآيات 4 الى 5] وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) [قَوْلُهُ تَعَالَى وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْإِنْذَارِ وَالتَّبْلِيغِ وَأَمَرَ الْقَوْمَ بِالْقَبُولِ وَالْمُتَابَعَةِ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا فِي تَرْكِ الْمُتَابَعَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهَا مِنَ الْوَعِيدِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَوْضِعُ كَمْ رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ أَهْلَكْناها قَالَ: وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِأَنَّ قَوْلَكَ زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ أَجْوَدُ مِنْ قَوْلِكَ زَيْدًا ضَرَبْتُهُ وَالنَّصْبُ جَيِّدٌ عَرَبِيٌّ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَرِ: 49] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قِيلَ: فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَكَمْ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: فَجاءَها بَأْسُنا وَالْبَأْسُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْأَهْلِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: أَوْ هُمْ قائِلُونَ فَعَادَ الضَّمِيرُ إِلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ. وَثَالِثُهَا: إِنَّ الزَّجْرَ وَالتَّحْذِيرَ لَا يَقَعُ لِلْمُكَلَّفِينَ إِلَّا بِإِهْلَاكِهِمْ. وَرَابِعُهَا: إِنَّ مَعْنَى الْبَيَاتِ وَالْقَائِلَةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِيهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَاذَا قَالَ أَهْلَكْنَاهَا؟ أَجَابُوا بِأَنَّهُ تَعَالَى رَدَّ الْكَلَامَ عَلَى اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ [الطَّلَاقِ: 8] فَرَدَّهُ عَلَى اللَّفْظِ ثُمَّ قَالَ: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ [الطلاق: 10] فَرَدَّهُ عَلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَوْ قَالَ فَجَاءَهُمْ بَأْسُنَا لَكَانَ صَوَابًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا مَحْذُوفَ فِي الْآيَةِ وَالْمُرَادُ إِهْلَاكُ نَفْسِ الْقَرْيَةِ لِأَنَّ فِي إِهْلَاكِهَا بِهَدْمٍ أَوْ خَسْفٍ أَوْ غَيْرِهِمَا إِهْلَاكَ مَنْ فِيهَا وَلِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ قَوْلُهُ: فَجاءَها بَأْسُنا مَحْمُولًا عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى التَّأْوِيلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْإِهْلَاكُ مُتَقَدِّمًا عَلَى مجيء البأس

وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ مَجِيءَ الْبَأْسِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِهْلَاكِ وَالْعُلَمَاءُ أَجَابُوا عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَهْلَكْناها أَيْ حَكَمْنَا بِهَلَاكِهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا. وَثَانِيهَا: كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَرَدْنَا إِهْلَاكَهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَةِ: 6] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَوْ قَالَ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهُمْ إِهْلَاكُنَا لَمْ يَكُنِ السُّؤَالُ وَارِدًا فكذا هاهنا لِأَنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْإِهْلَاكِ بِلَفْظِ الْبَأْسِ. فَإِنْ قَالُوا: السُّؤَالُ بَاقٍ لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَجاءَها بَأْسُنا فَاءُ التَّعْقِيبِ وَهُوَ يُوجِبُ الْمُغَايَرَةَ. فَنَقُولُ: الْفَاءُ قَدْ تَجِيءُ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ» فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَيَغْسِلُ لِلتَّفْسِيرِ لِأَنَّ غَسْلَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ كَالتَّفْسِيرِ لِوَضْعِ الطهور مواضعة فكذلك هاهنا الْبَأْسُ جَارٍ مَجْرَى التَّفْسِيرِ لِذَلِكَ الْإِهْلَاكِ لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ قَدْ يَكُونُ بِالْمَوْتِ الْمُعْتَادِ وَقَدْ يَكُونُ بِتَسْلِيطِ الْبَأْسِ وَالْبَلَاءِ عَلَيْهِمْ فَكَانَ ذِكْرُ الْبَأْسِ تَفْسِيرًا لِذَلِكَ الْإِهْلَاكِ. الرَّابِعُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ الْبَأْسُ وَالْهَلَاكُ يَقَعَانِ مَعًا كَمَا يُقَالُ: أَعْطَيْتَنِي فَأَحْسَنْتَ وَمَا كَانَ الْإِحْسَانُ بَعْدَ الْإِعْطَاءِ/ وَلَا قَبْلَهُ وَإِنَّمَا وَقَعَا مَعًا فكذا هاهنا وَقَوْلُهُ: بَياتاً قَالَ الْفَرَّاءُ يُقَالُ: بَاتَ الرَّجُلُ يَبِيتُ بَيْتًا وَرُبَّمَا قَالُوا بَيَاتًا قَالُوا: وَسُمِّيَ الْبَيْتُ لِأَنَّهُ يَبَاتُ فِيهِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ: بَياتاً مَصْدَرٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْحَالِ بِمَعْنَى بَائِتِينَ وَقَوْلُهُ: أَوْ هُمْ قائِلُونَ فِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حَالٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: بَياتاً كَأَنَّهُ قِيلَ: فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَائِتِينَ أَوْ قَائِلِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَفِيهِ وَاوٌ مُضْمَرَةٌ وَالْمَعْنَى: أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ وَهُمْ قَائِلُونَ إِلَّا أَنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوا الْجَمْعَ بَيْنَ حَرْفَيِ الْعَطْفِ وَلَوْ قِيلَ: كَانَ صَوَابًا وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِصَوَابٍ لِأَنَّ وَاوَ الْحَالِ قَرِيبَةٌ مِنْ وَاوِ الْعَطْفِ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يُوجِبُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمِثْلَيْنِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَوْ قُلْتَ: جَاءَنِي زَيْدٌ رَاجِلًا وَهُوَ فَارِسٌ لَمْ يَحْتَجْ فِيهِ إِلَى وَاوِ الْعَطْفِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: كَلِمَةُ «أَوْ» دخلت هاهنا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا مَرَّةً لَيْلًا وَمَرَّةً نَهَارًا وَفِي الْقَيْلُولَةِ قَوْلَانِ: قَالَ اللَّيْثُ: الْقَيْلُولَةُ نَوْمَةُ نِصْفِ النَّهَارِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْقَيْلُولَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ الِاسْتِرَاحَةُ نِصْفَ النَّهَارِ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ ذَلِكَ نَوْمٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ الْجَنَّةَ لَا نَوْمَ فِيهَا وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الْفُرْقَانِ: 24] وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا وَهُمْ غَيْرُ مُتَوَقِّعِينَ لَهُ إِمَّا لَيْلًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوْ نَهَارًا وَهُمْ قَائِلُونَ وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُمْ جَاءَهُمُ الْعَذَابُ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ أَمَارَةٍ تَدُلُّهُمْ عَلَى نُزُولِ ذَلِكَ الْعَذَابِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لِلْكَفَّارِ لَا تَغْتَرُّوا بِأَسْبَابِ الْأَمْنِ وَالرَّاحَةِ وَالْفَرَاغِ فَإِنَّ عَذَابَ اللَّهِ إِذَا وَقَعَ وَقَعَ دَفْعَةً مِنْ غَيْرِ سَبْقِ أَمَارَةٍ فَلَا تَغْتَرُّوا بِأَحْوَالِكُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَما كانَ دَعْواهُمْ [إلى آخر الآية] قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الدَّعْوَى اسْمٌ يَقُومُ مَقَامَ الِادِّعَاءِ وَمَقَامَ الدُّعَاءِ. حَكَى سِيبَوَيْهِ: اللَّهُمَّ أَشْرِكْنَا فِي صَالِحِ دُعَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَدَعْوَى الْمُسْلِمِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَا كَانَ تَضَرُّعُهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالشِّرْكِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: فَمَا كَانَ قَوْلُهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا الِاعْتِرَافَ بِالظُّلْمِ وَالْإِقْرَارَ بِالْإِسَاءَةِ وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ قالُوا الِاخْتِيَارُ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ (أَنْ) رَفْعًا بِكَانَ وَيَكُونَ قَوْلُهُ: دَعْواهُمْ نَصْبًا كَقَوْلِهِ: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا [النَّمْلِ: 56] وَقَوْلِهِ: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ [الْحَشْرِ: 17] وَقَوْلُهُ: مَا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ [الْجَاثِيَةِ: 25] قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 6 إلى 7]

يَكُونَ أَيْضًا عَلَى الضِّدِّ مِنْ هَذَا بِأَنْ يَكُونَ الدَّعْوَى رَفْعًا وأَنْ قالُوا نَصْبًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا [الْبَقَرَةِ: 177] عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ الْبِرَّ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ بَعْدَ كَلِمَةِ كَانَ مَعْرِفَتَانِ فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي رَفْعِ أَيِّهِمَا شِئْتَ وَفِي نَصْبِ الْآخَرِ كَقَوْلِكَ كَانَ زَيْدٌ أَخَاكَ وَإِنْ شِئْتَ كَانَ زَيْدًا أَخُوكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِلَّا أَنَّ الِاخْتِيَارَ إِذَا جَعَلْنَا قَوْلَهُ: دَعْواهُمْ فِي مَوْضِعِ/ رَفْعٍ أَنْ يَقُولَ: (فَمَا كَانَتْ دَعْوَاهُمْ) فَلَمَّا قَالَ: كانَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الدَّعْوَى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ تَذْكِيرُ الدَّعْوَى وَإِنْ كَانَتْ رَفْعًا فَتَقُولُ: كَانَ دَعْوَاهُ بَاطِلًا وَبَاطِلَةً وَاللَّهُ اعلم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 6 الى 7] فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَقْرِيرِ وَجْهِ النَّظْمِ وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الرُّسُلَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِالتَّبْلِيغِ وَأَمَرَ الْأُمَّةَ بِالْقَبُولِ وَالْمُتَابَعَةِ وَذَكَرَ التَّهْدِيدَ عَلَى تَرْكِ الْقَبُولِ وَالْمُتَابَعَةِ بِذِكْرِ نُزُولِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا أَتْبَعَهُ بِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ التَّهْدِيدِ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَسْأَلُ الْكُلَّ عَنْ كَيْفِيَّةِ أَعْمَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ [الأعراف: 5] أَتْبَعَهُ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْهُمْ مِنَ الِاعْتِرَافِ بَلْ يَنْضَافُ إِلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى يَسْأَلُ الْكُلَّ عَنْ كَيْفِيَّةِ أَعْمَالِهِمْ وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ لَا يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْعِقَابِ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي أَهْلِ الْعِقَابِ وَأَهْلِ الثَّوَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ هُمُ الْأُمَّةُ وَالْمُرْسَلُونَ هُمُ الرُّسُلُ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يَسْأَلُ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ وَنَظِيرُ هذه الآية قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْحِجْرِ: 92] . وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْمَقْصُودُ مِنَ السُّؤَالِ أَنْ يُخْبِرَ الْمَسْؤُولُ عَنْ كَيْفِيَّةِ أَعْمَالِهِ فَلَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا السُّؤَالِ بَعْدَهُ؟ وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ فَإِذَا كَانَ يَقُصُّهُ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ فَمَا مَعْنَى هَذَا السُّؤَالِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُمْ لَمَّا أَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ مُقَصِّرِينَ سُئِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ الظُّلْمِ وَالتَّقْصِيرِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي سُؤَالِ الرُّسُلِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمْ تَقْصِيرٌ أَلْبَتَّةَ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُمْ إِذَا أَثْبَتُوا أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمْ تَقْصِيرٌ البتة التحق التقصير بكلية بِالْأُمَّةِ فَيَتَضَاعَفُ/ إِكْرَامُ اللَّهِ فِي حَقِّ الرُّسُلِ لِظُهُورِ بَرَاءَتِهِمْ عَنْ جَمِيعِ مُوجِبَاتِ التَّقْصِيرِ وَيَتَضَاعَفُ أَسْبَابُ الْخِزْيِ وَالْإِهَانَةِ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ التَّقْصِيرِ كَانَ مِنْهُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى يُكَرِّرُ وَيُبَيِّنُ لِلْقَوْمِ مَا أَعْلَنُوهُ وَأَسَرُّوهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَنْ يَقُصَّ الْوُجُوهَ الَّتِي لِأَجْلِهَا أَقْدَمُوا عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَقُصَّ

تِلْكَ الْأَحْوَالَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ مَا كَانَ غَائِبًا عَنْ أَحْوَالِهِمْ بَلْ كَانَ عَالِمًا بِهَا وَمَا خَرَجَ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ مِنْهَا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِلَهِيَّةَ لَا تَكْمُلُ إِلَّا إِذَا كان الإله عَالِمًا بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ حَتَّى يُمْكِنَهُ أَنْ يُمَيِّزَ المطيع عن المعاصي وَالْمُحْسِنَ عَنِ الْمُسِيءِ فَظَهَرَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَنْكَرَ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِالْجُزْئِيَّاتِ امْتَنَعَ مِنْهُ الِاعْتِرَافُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى آمِرًا نَاهِيًا مُثِيبًا مُعَاقِبًا وَلِهَذَا السَّبَبِ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَيْنَمَا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ بَيَّنَ كَوْنَهُ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْعِلْمِ وَأَنَّ قوله من يقول: انه لا علم لله قوله بَاطِلٌ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ وبين قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرَّحْمَنِ: 39] وَقَوْلِهِ: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [الْقَصَصِ: 78] . قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: إِنَّ الْقَوْمَ لَا يُسْأَلُونَ عَنِ الْأَعْمَالِ لِأَنَّ الْكُتُبَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهَا وَلَكِنَّهُمْ يُسْأَلُونَ عَنِ الدَّوَاعِي الَّتِي دَعَتْهُمْ إِلَى الْأَعْمَالِ وَعَنِ الصَّوَارِفِ التي صرفتم عَنْهَا. وَثَانِيهَا: إِنَّ السُّؤَالَ قَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ الِاسْتِرْشَادِ وَالِاسْتِفَادَةِ وَقَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ التَّوْبِيخِ وَالْإِهَانَةِ كقول القائم أَلَمْ أُعْطِكَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ [يس: 60] قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَسْأَلُ أَحَدًا لِأَجْلِ الِاسْتِفَادَةِ وَالِاسْتِرْشَادِ وَيَسْأَلُهُمْ لِأَجْلِ تَوْبِيخِ الْكُفَّارِ وَإِهَانَتِهِمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصَّافَّاتِ: 27] ثُمَّ قَالَ: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 101] فَإِنَّ الْآيَةَ الْأُولَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْحَاصِلَةَ بَيْنَهُمْ إِنَّمَا كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَلُومُ بَعْضًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قول: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ [الْقَلَمِ: 30] وَقَوْلُهُ: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى سَبِيلِ الشَّفَقَةِ وَاللُّطْفِ لِأَنَّ النَّسَبَ يُوجِبُ الْمَيْلَ وَالرَّحْمَةَ وَالْإِكْرَامَ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ: إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ طَوِيلٌ وَمَوَاقِفَهَا كَثِيرَةٌ فَأَخْبَرَ عَنْ بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بِحُصُولِ السُّؤَالِ وَعَنْ بَعْضِهَا بِعَدَمِ السُّؤَالِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُحَاسِبُ كُلَّ عِبَادِهِ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ أَنْ يَكُونُوا رُسُلًا أَوْ مُرْسَلًا إِلَيْهِمْ وَيُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا حِسَابَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْكُفَّارِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُتَعَالِيًا عَنِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما كُنَّا غائِبِينَ وَلَوْ كَانَ تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ لَكَانَ غَائِبًا عَنَّا. فَإِنْ قَالُوا: نَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا كَانَ غَائِبًا عَنْهُمْ بِالْعِلْمِ وَالْإِحَاطَةِ. قُلْنَا: هَذَا تَأْوِيلٌ وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ. فَإِنْ قَالُوا: فَأَنْتُمْ لَمَّا قُلْتُمْ أَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَحْيَازِ وَالْجِهَاتِ فَقَدْ قُلْتُمْ أَيْضًا بِكَوْنِهِ غَائِبًا. قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْغَائِبَ هُوَ الَّذِي يَعْقِلُ أَنْ يَحْضُرَ بَعْدَ غَيْبَةٍ وَذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِهِ مُخْتَصًّا بمكان

[سورة الأعراف (7) : الآيات 8 إلى 9]

وَجِهَةٍ فَأَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ مُخْتَصًّا بِمَكَانٍ وَجِهَةٍ وَكَانَ ذَلِكَ مُحَالًا فِي حَقِّهِ امْتَنَعَ وَصْفُهُ بِالْغَيْبَةِ وَالْحُضُورِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 8 الى 9] وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) [قَوْلُهُ تَعَالَى وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ السُّؤَالَ وَالْحِسَابَ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ أَيْضًا وَزْنَ الْأَعْمَالِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَزْنُ مبتدا ويَوْمَئِذٍ ظرف له والْحَقُّ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَئِذٍ الْخَبَرَ والْحَقُّ صِفَةً لِلْوَزْنِ أَيْ وَالْوَزْنُ الْحَقُّ أَيِ الْعَدْلُ يَوْمَ يَسْأَلُ اللَّهُ الْأُمَمَ وَالرُّسُلَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ وَزْنِ الْأَعْمَالِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ تَعَالَى يَنْصِبُ مِيزَانًا لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُوزَنُ بِهِ أَعْمَالُ الْعِبَادِ خَيْرُهَا وَشَرُّهَا ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُؤْتَى بِعَمَلِهِ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَتُوضَعُ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ فَتَثْقُلُ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ النَّاجُونَ قَالَ وَهَذَا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: وَنَضَعُ/ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [الْأَنْبِيَاءِ: 47] وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وَزْنِ الْأَعْمَالِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ أَعْمَالَ الْمُؤْمِنِ تَتَصَوَّرُ بِصُورَةٍ حَسَنَةٍ وَأَعْمَالَ الْكَافِرِ بِصُورَةٍ قَبِيحَةٍ فَتُوزَنُ تِلْكَ الصُّورَةُ: كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْوَزْنَ يَعُودُ إِلَى الصُّحُفِ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا أَعْمَالُ الْعِبَادِ مَكْتُوبَةً وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ عَمَّا يُوزَنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: «الصُّحُفُ» وَهَذَا الْقَوْلُ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّ مِيزَانَ رَبِّ الْعَالَمِينَ يُنْصَبُ بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يُسْتَقْبَلُ بِهِ الْعَرْشُ إِحْدَى كِفَّتَيِ الْمِيزَانِ عَلَى الْجَنَّةِ وَالْأُخْرَى عَلَى جَهَنَّمَ وَلَوْ وُضِعَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ فِي إِحْدَاهُمَا لَوَسِعَتْهُنَّ وَجِبْرِيلُ آخِذٌ بِعَمُودِهِ يَنْظُرُ إِلَى لِسَانِهِ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِرَجُلٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْمِيزَانِ وَيُؤْتَى لَهُ بِتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِنْهَا مَدَّ الْبَصَرِ فِيهَا خَطَايَاهُ وَذُنُوبُهُ فَتُوضَعُ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ ثُمَّ يُخْرَجُ لَهُ قِرْطَاسٌ كَالْأُنْمُلَةِ فِيهِ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ يُوضَعُ فِي الْأُخْرَى فَتَرْجُحُ» وَعَنِ الْحَسَنِ: بَيْنَمَا الرَّسُولُ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَاضِعٌ رَأْسَهُ فِي حِجْرِ عائشة رضى الله عنها قَدْ أَغْفَى فَسَالَتِ الدُّمُوعُ مِنْ عَيْنِهَا فَقَالَ: «مَا أَصَابَكِ مَا أَبْكَاكِ؟» فَقَالَتْ: ذَكَرْتُ حَشْرَ النَّاسِ وَهَلْ يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَدًا فَقَالَ لَهَا: «يُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عَبَسَ: 37] لَا يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَدًا عِنْدَ الصُّحُفِ وَعِنْدَ وَزْنِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْعَظِيمِ الْأَكُولِ الشَّرُوبِ فَلَا يَكُونُ لَهُ وَزْنُ بَعُوضَةٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَالْأَعْمَشِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمِيزَانِ الْعَدْلُ وَالْقَضَاءُ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ذَهَبُوا إِلَى هَذَا الْقَوْلِ وَقَالُوا حَمْلُ لَفْظِ الْوَزْنِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ حَمْلَ لَفْظِ الْوَزْنِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ فَلِأَنَّ الْعَدْلَ فِي الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ لَا يَظْهَرُ إِلَّا بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فِي الدُّنْيَا فَلَمْ يَبْعُدْ جَعْلُ الْوَزْنِ كِنَايَةً عَنِ الْعَدْلِ وَمِمَّا يُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قُدْرَةٌ وَلَا قِيمَةٌ عِنْدَ غَيْرِهِ يُقَالُ: إِنَّ فُلَانًا لَا يُقِيمُ لِفُلَانٍ وَزْنًا قَالَ تَعَالَى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً

[الْكَهْفِ: 105] وَيُقَالُ أَيْضًا فُلَانٌ اسْتَخَفَّ بِفُلَانٍ، وَيُقَالُ هَذَا الْكَلَامُ فِي وَزْنِ هَذَا وَفِي وِزَانِهِ أَيْ يُعَادِلُهُ وَيُسَاوِيهِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ وَزْنٌ فِي الْحَقِيقَةِ قَالَ الشَّاعِرُ: قَدْ كُنْتُ قَبْلَ لِقَائِكُمْ ذَا قُوَّةٍ ... عِنْدِي لِكُلِّ مُخَاصِمٍ مِيزَانُهُ أَرَادَ عِنْدِي لِكُلِّ مُخَاصِمٍ كَلَامٌ يُعَادِلُ كَلَامَهُ فَجَعَلَ الْوَزْنَ مَثَلًا لِلْعَدْلِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هَذَا الْمَعْنَى فَقَطْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ/ الْمِيزَانَ إِنَّمَا يُرَادُ لِيُتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الشَّيْءِ وَمَقَادِيرُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَا يُمْكِنُ إِظْهَارُهَا بِالْمِيزَانِ لِأَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ أَعْرَاضٌ وَهِيَ قَدْ فَنِيَتْ وَعُدِمَتْ وَوَزْنُ الْمَعْدُومِ مُحَالٌ وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ بَقَائِهَا كَانَ وَزْنُهَا مُحَالًا وَأَمَّا قَوْلُهُمُ الْمَوْزُونُ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ أَوْ صُوَرٌ مَخْلُوقَةٌ عَلَى حَسَبِ مَقَادِيرِ الْأَعْمَالِ. فَنَقُولُ: الْمُكَلَّفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا بِأَنَّهُ تَعَالَى عَادِلٌ حَكِيمٌ أَوْ لَا يَكُونَ مُقِرًّا بِذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ كَفَاهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَقَادِيرِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي عِلْمِهِ بِأَنَّهُ عَدْلٌ وَصَوَابٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِذَلِكَ لَمْ يُعْرَفْ مِنْ رُجْحَانِ كِفَّةِ الْحَسَنَاتِ عَلَى كِفَّةِ السَّيِّئَاتِ أَوْ بِالْعَكْسِ حُصُولُ الرُّجْحَانِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَعَالَى أَظْهَرَ ذَلِكَ الرُّجْحَانَ لَا عَلَى سَبِيلِ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْوَزْنَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ أَجَابَ الْأَوَّلُونَ وَقَالُوا إِنَّ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ يَعْلَمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ وَالْفَائِدَةُ فِي وَضْعِ ذَلِكَ الْمِيزَانِ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ الرُّجْحَانُ لِأَهْلِ الْقِيَامَةِ فَإِنْ كَانَ ظُهُورُ الرُّجْحَانِ فِي طَرَفِ الْحَسَنَاتِ ازْدَادَ فَرَحُهُ وَسُرُورُهُ بِسَبَبِ ظُهُورِ فَضْلِهِ وَكَمَالِ دَرَجَتِهِ لِأَهْلِ الْقِيَامَةِ وَإِنْ كَانَ بِالضِّدِّ فَيَزْدَادُ غَمُّهُ وَحُزْنُهُ وَخَوْفُهُ وَفَضِيحَتُهُ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ الرُّجْحَانِ فَبَعْضُهُمْ قَالَ يَظْهَرُ هُنَاكَ نُورٌ فِي رُجْحَانِ الْحَسَنَاتِ وَظُلْمَةٌ فِي رُجْحَانِ السَّيِّئَاتِ وَآخَرُونَ قَالُوا بَلْ بِظُهُورِ رُجْحَانٍ فِي الْكِفَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَظْهَرُ إِثْبَاتُ مَوَازِينَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا مِيزَانٍ وَاحِدٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الْأَنْبِيَاءِ: 47] وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ وَعَلَى هَذَا فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ مِيزَانٌ وَلِأَفْعَالِ الْجَوَارِحِ مِيزَانٌ وَلِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَوْلِ مِيزَانٌ آخَرُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّمَا جَمَعَ اللَّهُ الموازين هاهنا فَقَالَ: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ وَلَمْ يَقُلْ مِيزَانُهُ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: إِنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُوقِعُ لَفْظَ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ فَيَقُولُونَ: خَرَجَ فُلَانٌ إِلَى مَكَّةَ عَلَى الْبِغَالِ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الموازين هاهنا جَمْعُ مَوْزُونٍ لَا جَمْعُ مِيزَانٍ وَأَرَادَ بِالْمَوَازِينِ الْأَعْمَالَ الْمَوْزُونَةَ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ يُوجِبَانِ الْعُدُولَ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى ظاهره ولا مانع هاهنا مِنْهُ فَوَجَبَ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَكَمَا لَمْ يَمْتَنِعْ إِثْبَاتُ مِيزَانٍ لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ إِثْبَاتُ مَوَازِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَمَا الْمُوجِبُ لِتَرْكِ الظَّاهِرِ وَالْمَصِيرِ إِلَى التَّأْوِيلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ. اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِيهَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ فَرِيقَانِ مِنْهُمْ مَنْ يَزِيدُ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَزِيدُ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الَّذِي تَكُونُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ مُتَعَادِلَةً مُتَسَاوِيَةً/ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ الْكَافِرُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ وَالْأَثَرُ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ ولا معنى

[سورة الأعراف (7) : آية 10]

لِكَوْنِ الْإِنْسَانِ ظَالِمًا بِآيَاتِ اللَّهِ إِلَّا كَوْنُهُ كَافِرًا بِهَا مُنْكِرًا لَهَا فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَهْلُ الْكُفْرِ وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَا رُوِيَ أَنَّهُ إِذَا خَفَّتْ حَسَنَاتُ الْمُؤْمِنِ أَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ مِنْ حُجْرَتِهِ بِطَاقَةً كَالْأُنْمُلَةِ فَيُلْقِيهَا فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ الْيُمْنَى الَّتِي فِيهَا حَسَنَاتُهُ فَتَرْجَحُ الْحَسَنَاتُ فَيَقُولُ ذَلِكَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا أَحْسَنَ وَجْهَكَ وَأَحْسَنَ خُلُقَكَ فَمَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: «أَنَا نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ وَهَذِهِ صَلَاتُكَ الَّتِي كُنْتَ تُصَلِّي عَلَيَّ قَدْ وَفَّيْتُكَ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْهَا» وَهَذَا الْخَبَرُ رَوَاهُ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» وَأَمَّا جُمْهُورُ العلماء فرووا هاهنا الْخَبَرَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى يُلْقِي فِي كِفَّةِ الْحَسَنَاتِ الْكِتَابَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى أَنَّهُ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ بِحَقِّهِمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ لَكَانَ مَنْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَعَاصِيَ لَا تَضُرُّهُ وَذَلِكَ إِغْرَاءٌ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْخَبَرُ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ كُلَّمَا كَانَ. أَشْرَفَ وَأَعْلَى دَرَجَةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ ثَوَابًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَحَبَّتَهُ أَعْلَى شَأْنًا وَأَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوْفَى ثَوَابًا وَأَعْلَى دَرَجَةً مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ. وَأَمَّا الْأَثَرُ فَلِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلُوا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ: إِنَّ الْمُرْجِئَةَ الَّذِينَ يَقُولُونَ الْمَعْصِيَةُ لَا تَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى حَصَرَ أَهْلَ مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ فِي قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِينَ رَجَحَتْ كِفَّةُ حَسَنَاتِهِمْ وَحُكِمَ عَلَيْهِمْ بِالْفَلَاحِ. وَالثَّانِي: الَّذِينَ رَجَحَتْ كِفَّةُ سَيِّئَاتِهِمْ وَحُكِمَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ الَّذِينَ كَانُوا يَظْلِمُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُعَاقَبُ أَلْبَتَّةَ. وَنَحْنُ نَقُولُ فِي الْجَوَابِ: أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْقِسْمَ الثَّالِثَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ فَقَالَ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 116] وَالْمَنْطُوقُ رَاجِحٌ عَلَى الْمَفْهُومِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى إِثْبَاتِهِ وَأَيْضًا فَقَالَ تَعَالَى فِي هَذَا الْقِسْمِ: فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْكَافِرِ وَأَمَّا الْعَاصِي الْمُؤْمِنُ فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ أَيَّامًا ثُمَّ يُعْفَى عَنْهُ وَيَتَخَلَّصُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَا خَسِرَ نَفْسَهُ بَلْ فَازَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ أَبَدَ الْآبَادِ مِنْ غير زوال وانقطاع. والله اعلم. [سورة الأعراف (7) : آية 10] وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (10) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْخَلْقَ بِمُتَابَعَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَبِقَبُولِ دَعَوْتِهِمْ ثُمَّ خَوَّفَهُمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَهُوَ قَوْلُهُ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [الأعراف: 4] ثُمَّ خَوَّفَهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: السؤال وهو قوله: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ [الأعراف: 6] وَالثَّانِي: بِوَزْنِ الْأَعْمَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [الأعراف: 8] رَغَّبَهُمْ فِي قَبُولِ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِطَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ كَثُرَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَكَثْرَةُ النِّعَمِ تُوجِبُ الطَّاعَةَ فَقَالَ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ فَقَوْلُهُ: مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ أَيْ جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَكَانًا وَقَرَارًا وَمَكَّنَّاكُمْ فِيهَا وَأَقْدَرْنَاكُمْ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهَا وَجَعَلَنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَالْمُرَادُ مِنَ الْمَعَايِشِ: وُجُوهُ الْمَنَافِعِ وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا مَا يَحْصُلُ بِخَلْقِ الله تعالى ابتداء مثل خلق السماء وَغَيْرِهَا وَمِنْهَا مَا يَحْصُلُ بِالِاكْتِسَابِ وَكِلَاهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا حَصَلَ

[سورة الأعراف (7) : آية 11]

بِفَضْلِ اللَّهِ وَإِقْدَارِهِ وَتَمْكِينِهِ فَيَكُونُ الْكُلُّ إِنْعَامًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَثْرَةُ الْإِنْعَامِ لَا شَكَّ أَنَّهَا تُوجِبُ الطَّاعَةَ وَالِانْقِيَادَ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ مَعَ هَذَا الْإِفْضَالِ وَالْإِنْعَامِ عَالِمٌ بِأَنَّهُمْ لَا يَقُومُونَ بِشُكْرِهِ كَمَا يَنْبَغِي فَقَالَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ يَشْكُرُونَ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِوُجُودِ الصَّانِعِ كَالْأَمْرِ الضَّرُورِيِّ اللَّازِمِ لِجِبِلَّةِ عَقْلِ كُلِّ عَاقِلٍ وَنِعَمُ اللَّهِ عَلَى الْإِنْسَانِ كَثِيرَةٌ فَلَا إِنْسَانَ إِلَّا وَيَشْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ عَلَى نِعَمِهِ إِنَّمَا التَّفَاوُتُ فِي أَنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ يَكُونُ كَثِيرَ الشُّكْرِ وَبَعْضَهُمْ يَكُونُ قليل الشُّكْرِ وَبَعْضَهُمْ يَكُونُ قَلِيلَ الشُّكْرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى خَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ هَمَزَ مَعَائِشَ قَالَ الزَّجَّاجُ: جَمِيعُ النَّحْوِيِّينَ الْبَصْرِيِّينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ هَمْزَ مَعَائِشَ خَطَأٌ وَذَكَرُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَجُوزُ جَعْلُ الْيَاءِ هَمْزَةً إِذَا كَانَتْ زَائِدَةً نَحْوَ صَحِيفَةٍ وَصَحَائِفَ فَأَمَّا مَعَايِشُ فَمِنَ الْعَيْشِ وَالْيَاءُ أَصْلِيَّةٌ وَقِرَاءَةُ نَافِعٍ لَا أَعْرِفُ لَهَا وَجْهًا إِلَّا أَنَّ لَفْظَةَ هَذِهِ الْيَاءِ الَّتِي هِيَ مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ أُسْكِنَ فِي مَعِيشَةٍ فَصَارَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ مُشَابِهَةً لِقَوْلِنَا صَحِيفَةٌ فَجُعِلَ قَوْلُهُ: مَعايِشَ شَبِيهًا لِقَوْلِنَا صَحَائِفُ فَكَمَا أَدْخَلُوا الْهَمْزَةَ فِي قَوْلِنَا: - صَحَائِفُ- فَكَذَا فِي قَوْلِنَا مَعَائِشُ عَلَى سبيل التشبيهة إِلَّا أَنَّ الْفَرْقَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْيَاءَ في- معيشة اصلية وفي- صحفيفة زائدة. [سورة الأعراف (7) : آية 11] وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى رَغَّبَ الْأُمَمَ فِي قَبُولِ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِالتَّخْوِيفِ أَوَّلًا ثُمَّ بِالتَّرْغِيبِ ثَانِيًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَالتَّرْغِيبُ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ التَّنْبِيهِ عَلَى كَثْرَةِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخَلْقِ فَبَدَأَ فِي شَرْحِ تِلْكَ النِّعَمِ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ [الأعراف: 10] ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ أَنَّهُ خَلَقَ أَبَانَا آدَمَ وَجَعَلَهُ مَسْجُودًا لِلْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْعَامُ عَلَى الْأَبِ يَجْرِي مَجْرَى الْإِنْعَامِ عَلَى الِابْنِ فَهَذَا هُوَ وَجْهُ النَّظْمِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [الْبَقَرَةِ: 28] فَمَنَعَ تَعَالَى مِنَ الْمَعْصِيَةِ بِقَوْلِهِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ الْمَنْعَ بِكَثْرَةِ نِعَمِهِ عَلَى الْخَلْقِ وَهُوَ انهم فِي الْأَرْضِ مَسْجُودًا لِلْمَلَائِكَةِ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكُلِّ تَقْرِيرُ أَنَّ مَعَ هَذِهِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ لَا يَلِيقُ بِهِمُ التَّمَرُّدُ وَالْجُحُودُ فَكَذَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ ذَكَرَ تَعَالَى عَيْنَ هَذَا الْمَعْنَى بِغَيْرِ هَذَا التَّرْتِيبِ فَهَذَا بَيَانُ وَجْهِ النَّظْمِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قِصَّةَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ قِصَّةِ إِبْلِيسَ فِي الْقُرْآنِ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ: أَوَّلُهَا: فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَثَانِيهَا: فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَثَالِثُهَا: فِي سُورَةِ الْحِجْرِ وَرَابِعُهَا: فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَامِسُهَا: فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَسَادِسُهَا: فِي سُورَةِ طه وَسَابِعُهَا: فِي سُورَةِ ص. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ يُفِيدُ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا الْخِطَابِ نَحْنُ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وَكَلِمَةُ (ثُمَّ) تُفِيدُ التَّرَاخِي فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ أَمْرَ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَقَعَ بَعْدَ خَلْقِنَا وَتَصْوِيرِنَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي

تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ أَيْ/ خَلَقْنَا أَبَاكُمْ آدَمَ وَصَوَّرْنَاكُمْ أَيْ صَوَّرْنَا آدَمَ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَيُوسُفَ النَّحْوِيِّ وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَمْرَ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ تَأَخَّرَ عَنْ خَلْقِ آدَمَ وَتَصْوِيرِهِ وَلَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْ خَلْقِنَا وَتَصْوِيرِنَا أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ يَحْسُنُ جَعْلُ خَلْقِنَا وَتَصْوِيرِنَا كِنَايَةً عَنْ خَلْقِ آدَمَ وَتَصْوِيرِهِ؟ فَنَقُولُ: إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَصْلُ الْبَشَرِ فَوَجَبَ أَنْ تَحْسُنَ هَذِهِ الْكِنَايَةُ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [الْبَقَرَةِ: 63] أَيْ مِيثَاقَ أَسْلَافِكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيُقَالُ: قَتَلَتْ بَنُو أَسَدٍ فُلَانًا وَإِنَّمَا قَتَلَهُ أَحَدُهُمْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ أَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ وَإِنَّمَا قَتَلَهُ أَحَدُهُمْ وَقَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلْيَهُودِ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [الْأَعْرَافِ: 141] وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً [الْبَقَرَةِ: 72] وَالْمُرَادُ مِنْ جَمِيعِ هذه الخطابات أسلافهم فكذا هاهنا الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: خَلَقْناكُمْ آدَمَ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أَيْ صَوَّرْنَا ذُرِّيَّةَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ظَهْرِهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ أَوَّلًا ثُمَّ أَخْرَجَ أَوْلَادَهُ مِنْ ظَهْرِهِ فِي صُورَةِ الذَّرِّ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ إِنَّا نُخْبِرُكُمْ أَنَّا قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَهَذَا الْعَطْفُ يُفِيدُ تَرْتِيبَ خَبَرٍ عَلَى خَبَرٍ وَلَا يُفِيدُ تَرْتِيبَ الْمُخْبَرِ عَلَى الْمُخْبَرِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: إِنَّ الْخَلْقَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَتَقْدِيرُ اللَّهِ عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئة لِتَخْصِيصِ كُلِّ شَيْءٍ بِمِقْدَارِهِ الْمُعَيَّنِ فَقَوْلُهُ: خَلَقْناكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ لِإِحْدَاثِ الْبَشَرِ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَقَوْلُهُ صَوَّرْناكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ صُورَةَ كُلِّ شَيْءٍ كَائِنٍ مُحْدَثٍ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَخَلْقُ اللَّهِ عِبَارَةٌ عَنْ حُكْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَالتَّصْوِيرُ عِبَارَةٌ عَنْ إِثْبَاتِ صُوَرِ الْأَشْيَاءِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ثُمَّ بَعْدَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَحْدَثَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ وَهَذَا التَّأْوِيلُ عِنْدِي أَقْرَبُ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ هَذِهِ السَّجْدَةَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا مُجَرَّدُ التَّعْظِيمِ لَا نَفْسُ السَّجْدَةِ وَثَانِيهَا: إِنَّ الْمُرَادَ هُوَ السَّجْدَةُ إِلَّا أَنَّ الْمَسْجُودَ لَهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَآدَمُ كَانَ كَالْقِبْلَةِ وَثَالِثُهَا: إِنَّ الْمَسْجُودَ لَهُ هُوَ آدَمُ وَأَيْضًا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالسُّجُودِ لِآدَمَ هل هم ملائكة السموات وَالْعَرْشِ أَوِ الْمُرَادُ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ فَفِيهِ خِلَافٌ وَهَذِهِ الْمَبَاحِثُ قَدْ سَبَقَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَى إِبْلِيسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَوَجَبَ كَوْنُهُ مِنْهُمْ وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا أَيْضًا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: إِبْلِيسُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَالْمَلَائِكَةُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ وَلَا يَعْصُونَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِبْلِيسُ فَقَدْ عَصَى وَاسْتَكْبَرَ وَالْمَلَائِكَةُ لَيْسُوا مِنَ الْجِنِّ وَإِبْلِيسُ مِنَ الْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةُ رُسُلُ الله وإبليس ليس كذلك وإبليس أول خليفة الْجِنِّ وَأَبُوهُمْ كَمَا أَنَّ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وسلم أول خليفة الْإِنْسِ وَأَبُوهُمْ قَالَ الْحَسَنُ: وَلَمَّا كَانَ إِبْلِيسُ

[سورة الأعراف (7) : آية 12]

مَأْمُورًا مَعَ الْمَلَائِكَةِ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ اسْمُ إِبْلِيسَ شَيْئًا آخَرَ، فَلَمَّا عَصَى اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ بِذَلِكَ وَكَانَ مُؤْمِنًا عَابِدًا فِي السَّمَاءِ حَتَّى عَصَى رَبَّهُ فَأُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ. [سورة الأعراف (7) : آية 12] قالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ قَدْ تَنَاوَلَ إِبْلِيسَ، وَظَاهِرُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِلَّا أَنَّ الدَّلَائِلَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَقَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى، طَلَبَ مِنْ إِبْلِيسَ مَا مَنَعَهُ مِنْ تَرْكِ السُّجُودِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ طَلَبُ مَا مَنَعَهُ مِنَ السُّجُودِ، وَلِهَذَا الْإِشْكَالِ حَصَلَ فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ كَلِمَةَ (لَا) صِلَةٌ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ؟ وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: 1] مَعْنَاهُ: أُقْسِمُ. وَقَوْلِهِ: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 95] أَيْ يَرْجِعُونَ. وقوله: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد: 29] . أَيْ لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَهَذَا قَوْلُ الْكِسَائِيِّ، وَالْفَرَّاءِ، وَالزَّجَّاجِ، وَالْأَكْثَرِينَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ كَلِمَةَ (لا) هاهنا مُفِيدَةٌ وَلَيْسَتْ لَغْوًا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الْحُكْمَ/ بِأَنَّ كَلِمَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَغْوٌ لَا فَائِدَةَ فِيهَا مُشْكِلٌ صَعْبٌ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ مَنَعَكَ عَنْ تَرْكِ السُّجُودِ؟ وَيَكُونُ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ مَا مَنَعَكَ عَنْ تَرْكِ السُّجُودِ؟ كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِمَنْ ضَرَبَهُ ظُلْمًا: مَا الَّذِي مَنَعَكَ مِنْ ضَرْبِي، أَدِينُكَ، أَمْ عَقْلُكَ، أَمْ حَيَاؤُكَ؟! وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أَحَدُ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَمَا امْتَنَعْتَ مِنْ ضَرْبِي. الثَّانِي: قَالَ الْقَاضِي: ذَكَرَ اللَّهُ الْمَنْعَ وَأَرَادَ الدَّاعِيَ فَكَأَنَّهُ قال: ما دعاك الله إِلَى أَنْ لَا تَسْجُدَ؟ لِأَنَّ مُخَالَفَةَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى حَالَةٌ عَظِيمَةٌ يَتَعَجَّبُ مِنْهَا وَيَسْأَلُ عَنِ الدَّاعِي إِلَيْهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ تُفِيدُ الْوُجُوبَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ إِبْلِيسَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَرْكِ مَا أُمِرَ بِهِ وَلَوْ لَمْ يُفِدِ الْأَمْرُ الْوُجُوبَ لَمَا كَانَ مُجَرَّدُ تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ مُوجِبًا لِلذَّمِّ فَإِنْ قَالُوا: هَبْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ كَانَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ، فَلَعَلَّ تِلْكَ الصِّيغَةَ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ كَانَتْ تُفِيدُ الْوُجُوبَ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ جَمِيعَ الصِّيَغِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ؟ قُلْنَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ يُفِيدُ تَعْلِيلَ ذَلِكَ الذَّمِّ بِمُجَرَّدِ تَرْكِ الْأَمْرِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِذْ أَمَرْتُكَ مَذْكُورٌ فِي مَعْرِضِ التَّعْلِيلِ، وَالْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ أَمَرْتُكَ هُوَ الْأَمْرُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَمْرٌ لَا كَوْنُهُ أَمْرًا مَخْصُوصًا فِي صُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الْأَمْرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَمْرٌ مُوجِبًا لِلذَّمِّ، وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَمْرَ يُفِيدُ الْفَوْرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ إِبْلِيسَ عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ

فِي الْحَالِ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ لَا يُفِيدُ الْفَوْرَ لَمَا اسْتَوْجَبَ هَذَا الذَّمَّ بِتَرْكِ السُّجُودِ فِي الْحَالِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ طَلَبَ الدَّاعِيَ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى تَرْكِ السُّجُودِ فَحَكَى تَعَالَى عَنْ إِبْلِيسَ ذِكْرَ ذَلِكَ الدَّاعِي وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ وَمَعْنَاهُ: إِنَّ إِبْلِيسَ قَالَ إِنَّمَا لَمْ أَسْجُدْ لِآدَمَ لِأَنِّي خَيْرٌ مِنْهُ وَمَنْ كَانَ خَيْرًا مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَمْرُ ذَلِكَ الْأَكْمَلِ بِالسُّجُودِ لِذَلِكَ الْأَدْوَنِ! ثُمَّ بَيَّنَ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ بِأَنْ قَالَ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ وَالنَّارُ أَفْضَلُ مِنَ الطِّينِ وَالْمَخْلُوقُ مِنَ الْأَفْضَلِ أَفْضَلُ فَوَجَبَ كَوْنُ إِبْلِيسَ خَيْرًا مِنْ آدَمَ. أَمَّا بَيَانُ أَنَّ النَّارَ أَفْضَلُ مِنَ الطِّينِ فَلِأَنَّ النَّارَ مُشْرِقٌ عُلْوِيٌّ لطيف خفيف/ حار يابس مجاور لجواهر السموات مُلَاصِقٌ لَهَا وَالطِّينَ مُظْلِمٌ سُفْلِيٌّ كَثِيفٌ ثَقِيلٌ بارد يابس بعيد عن مجاورة السموات وَأَيْضًا فَالنَّارُ مُنَاسِبَةٌ لِلْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَهِيَ مَادَّةُ الْحَيَاةِ وَأَمَّا الْأَرْضِيَّةُ وَالْبَرَدُ وَالْيُبْسُ فَهُمَا مُنَاسِبَانِ الموت وَالْحَيَاةُ أَشْرَفُ مِنَ الْمَوْتِ وَأَيْضًا فَنُضْجُ الثِّمَارِ مُتَعَلِّقٌ بِالْحَرَارَةِ وَأَيْضًا فَسِنُّ النُّمُوِّ مِنَ النَّبَاتِ لَمَّا كَانَ وَقْتَ كَمَالِ الْحَرَارَةِ كَانَ غَايَةُ كَمَالِ الْحَيَوَانِ حَاصِلًا فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَأَمَّا وَقْتُ الشَّيْخُوخَةِ فَهُوَ وَقْتُ الْبَرْدِ وَالْيُبْسِ الْمُنَاسِبُ للارضية لَا جَرَمَ كَانَ هَذَا الْوَقْتُ أَرْدَأَ أَوْقَاتِ عُمُرِ الْإِنْسَانِ فَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْمَخْلُوقَ مِنَ الْأَفْضَلِ أَفْضَلُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ شَرَفَ الْأُصُولِ يُوجِبُ شرف الفروع. واما بيان ان الأشراف لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ بِخِدْمَةِ الْأَدْوَنِ فَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ أَنَّ مَنْ أَمَرَ أَبَا حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّ وَسَائِرَ أَكَابِرِ الْفُقَهَاءِ بِخِدْمَةِ فَقِيهٍ نَازِلِ الدَّرَجَةِ كَانَ ذَلِكَ قَبِيحًا فِي الْعُقُولِ فَهَذَا هُوَ تَقْرِيرٌ لِشُبْهَةِ إِبْلِيسَ. فَنَقُولُ: هَذِهِ الشُّبْهَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ ثَلَاثَةٍ. أَوَّلُهَا: إِنَّ النَّارَ أَفْضَلُ مِنَ التُّرَابِ فَهَذَا قَدْ تَكَلَّمْنَا فِيهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَنْ مَنْ كَانَتْ مَادَّتُهُ أَفْضَلَ فَصُورَتُهُ أَفْضَلُ فَهَذَا هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ وَالْبَحْثِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْفَضِيلَةُ عَطِيَّةً مِنَ اللَّهِ ابْتِدَاءً لَمْ يَلْزَمْ مِنْ فَضِيلَةِ الْمَادَّةِ فَضِيلَةُ الصُّورَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَخْرُجُ الْكَافِرُ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ وَالنُّورُ مِنَ الظُّلْمَةِ وَالظُّلْمَةُ مِنَ النُّورِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَضِيلَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِسَبَبِ فَضِيلَةِ الْأَصْلِ وَالْجَوْهَرِ وَأَيْضًا التَّكْلِيفُ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْحَيَّ بَعْدَ انْتِهَائِهِ إِلَى حَدِّ كَمَالِ الْعَقْلِ فَالْمُعْتَبَرُ بِمَا انْتَهَى إِلَيْهِ لَا بِمَا خُلِقَ مِنْهُ وَأَيْضًا فَالْفَضْلُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْأَعْمَالِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا لَا بِسَبَبِ الْمَادَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَبَشِيَّ الْمُؤْمِنَ مُفَضَّلٌ عَلَى الْقُرَشِيِّ الْكَافِرِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَخْصِيصُ عُمُومِ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ جَائِزًا لَمَا اسْتَوْجَبَ إِبْلِيسُ هَذَا الذَّمَّ الشَّدِيدَ وَالتَّوْبِيخَ الْعَظِيمَ وَلَمَّا حَصَلَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ عُمُومِ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ وَبَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ [الأعراف: 11] خِطَابٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ إِنَّ إِبْلِيسَ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ وَهُوَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ النَّارِ وَالنَّارُ أَشْرَفُ مِنَ الطِّينِ وَمَنْ كَانَ أَصْلُهُ أَشْرَفَ فَهُوَ أَشْرَفُ فَيَلْزَمُ كَوْنُ إِبْلِيسَ أَشْرَفَ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ كَانَ أَشْرَفَ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ بِخِدْمَةِ الْأَدْوَنِ الْأَدْنَى. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ النَّظَائِرِ وَلَا مَعْنَى لِلْقِيَاسِ إِلَّا ذَلِكَ فَثَبَتَ أَنَّ إِبْلِيسَ مَا عَمِلَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ شَيْئًا إِلَّا أَنَّهُ خَصَّصَ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى/ لِلْمَلَائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ بِهَذَا الْقِيَاسِ فَلَوْ كَانَ تَخْصِيصُ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ جَائِزًا لَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ إِبْلِيسُ الذَّمَّ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ وَحَيْثُ اسْتَحَقَّ الذَّمَّ الشَّدِيدَ عَلَيْهِ عَلِمْنَا أَنَّ تَخْصِيصَ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ لَا

[سورة الأعراف (7) : آية 13]

يَجُوزُ وَأَيْضًا فَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَذَلِكَ لِأَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْقِيَاسَ قَالَ تَعَالَى: فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها [الأعراف: 13] فَوَصَفَ تَعَالَى إِبْلِيسَ بِكَوْنِهِ مُتَكَبِّرًا بَعْدَ أَنْ حَكَى عَنْهُ ذَلِكَ الْقِيَاسَ الَّذِي يُوجِبُ تَخْصِيصَ النَّصِّ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ حَاوَلَ تَخْصِيصَ عُمُومِ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ تَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ وَلَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ عُمُومِ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ تَكَبُّرٌ عَلَى اللَّهِ وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ التَّكَبُّرَ عَلَى اللَّهِ يُوجِبُ الْعِقَابَ الشَّدِيدَ وَالْإِخْرَاجَ مِنْ زُمْرَةِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْإِدْخَالَ فِي زُمْرَةِ الْمَلْعُونِينَ ثَبَتَ أَنَّ تَخْصِيصَ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِمَّا نَقَلَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتِ الطَّاعَةُ أَوْلَى بِإِبْلِيسَ مِنَ الْقِيَاسِ فَعَصَى رَبَّهُ وَقَاسَ وَأَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ فَكَفَرَ بِقِيَاسِهِ فَمَنْ قَاسَ الدِّينَ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِهِ قَرَنَهُ اللَّهُ مَعَ إِبْلِيسَ. هَذَا جُمْلَةُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي نَقَلَهَا الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. فَإِنْ قِيلَ: الْقِيَاسُ الَّذِي يُبْطِلُ النَّصَّ بِالْكُلِّيَّةِ بَاطِلٌ. أَمَّا الْقِيَاسُ الَّذِي يُخَصِّصُ النَّصَّ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ بَاطِلٌ؟ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ لَوْ قَبُحَ أَمْرُ مَنْ كَانَ مَخْلُوقًا مِنَ النَّارِ بِالسُّجُودِ لِمَنْ كَانَ مَخْلُوقًا مِنَ الْأَرْضِ لَكَانَ قُبْحُ أَمْرِ مَنْ كَانَ مَخْلُوقًا مِنَ النُّورِ الْمَحْضِ بِالسُّجُودِ لِمَنْ كَانَ مَخْلُوقًا مِنَ الْأَرْضِ أَوْلَى وَأَقْوَى لِأَنَّ النُّورَ أَشْرَفُ مِنَ النَّارِ وَهَذَا الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ يَقْبُحَ أَمْرُ أَحَدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَهَذَا الْقِيَاسُ يَقْتَضِي رَفْعَ مَدْلُولِ النَّصِّ بِالْكُلِّيَّةِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ الَّذِي يَقْتَضِي تَخْصِيصَ مَدْلُولِ النَّصِّ الْعَامِّ لِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ بَاطِلٌ؟ فَهَذَا سُؤَالٌ حَسَنٌ أَوْرَدْتُهُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا ذَكَرَ هَذَا السُّؤَالَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ فَيُقَالُ: إِنَّ كَوْنَهُ أَشْرَفَ مِنْ غَيْرِهِ يَقْتَضِي قُبْحَ أَمْرِ مَنْ لَا يَرْضَى أَنْ يَلْجَأَ إِلَى خِدْمَةِ الْأَدْنَى الْأَدْوَنِ أَمَّا لَوْ رَضِيَ ذَلِكَ الشَّرِيفُ بِتِلْكَ الْخِدْمَةِ لَمْ يَقْبُحْ لِأَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ يُسْقِطُ حَقَّ نَفْسِهِ أَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَقَدْ رَضُوا بِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَأَمَّا إِبْلِيسُ فَإِنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِإِسْقَاطِ هَذَا الْحَقِّ فَوَجَبَ أَنْ يَقْبُحَ أَمْرُهُ بِذَلِكَ السُّجُودِ فَهَذَا قِيَاسٌ مُنَاسِبٌ وَأَنَّهُ يُوجِبُ تَخْصِيصَ النَّصِّ وَلَا يُوجِبُ رَفْعَهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا إِبْطَالَهُ فَلَوْ كَانَ تَخْصِيصُ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ جَائِزًا لَمَا اسْتَوْجَبَ الذَّمَّ الْعَظِيمَ فَلَمَّا اسْتَوْجَبَ اسْتِحْقَاقَ هَذَا الذَّمِّ الْعَظِيمِ فِي حَقِّهِ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ تَخْصِيصَ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ غَيْرُ جَائِزٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ لَا شَكَّ أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ اللَّهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِذْ أَمَرْتُكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ فَلَا شَكَّ أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ إِبْلِيسُ. [سورة الأعراف (7) : آية 13] قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) وَأَمَّا قَوْلُهُ: قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَلَا شَكَّ أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِثْلُ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ بَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَبَيْنَ إِبْلِيسَ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ ص عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ مِنْ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مُكَالَمَةٌ مَعَ اللَّهِ مِثْلَ مَا اتَّفَقَ لِإِبْلِيسَ وَقَدْ عَظَّمَ اللَّهُ تَشْرِيفَ مُوسَى بِأَنْ كَلَّمَهُ حَيْثُ قَالَ: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الْأَعْرَافِ: 143] وَقَالَ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النِّسَاءِ: 164] فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُكَالَمَةُ تُفِيدُ الشَّرَفَ الْعَظِيمَ فَكَيْفَ حَصَلَتْ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 14 إلى 17]

عَلَى أَعْظَمِ الْوُجُوهِ لِإِبْلِيسَ؟ وَإِنْ لَمْ تُوجِبِ الشَّرَفَ الْعَظِيمَ فَكَيْفَ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ التَّشْرِيفِ الْكَامِلِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِإِبْلِيسَ عَلَى لِسَانِ مَنْ يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا مَنَعَكَ مِنَ السُّجُودِ؟ وَلَمْ يُسَلَّمْ أنه تعالى تكلم مع إبليس بلا واسطة. قَالُوا: لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يُخَاطِبُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا بِوَاسِطَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى تَكَلَّمَ مَعَ إِبْلِيسَ بِلَا وَاسِطَةٍ وَلَكِنْ عَلَى وَجْهِ الْإِهَانَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ: فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ وَتَكَلَّمَ مَعَ مُوسَى وَمَعَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ طه: 13 وَقَالَ لَهُ: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه: 41] وَهَذَا نِهَايَةُ الْإِكْرَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاهْبِطْ مِنْها قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مِنَ الْجَنَّةِ وَكَانُوا فِي جَنَّةِ عَدْنٍ وَفِيهَا خُلِقَ آدَمُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّهُ إِنَّمَا أُمِرَ بِالْهُبُوطِ مِنَ السَّمَاءِ وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها أَيْ فِي السَّمَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يريد ان اهل السموات مَلَائِكَةٌ مُتَوَاضِعُونَ خَاشِعُونَ فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ وَالصَّغَارُ الذِّلَّةُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ إِبْلِيسَ طَلَبَ التَّكَبُّرَ فَابْتَلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ تَنْبِيهًا عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ: «مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ وَمَنْ تَكَبَّرَ وَضَعَهُ اللَّهُ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا أَظْهَرَ الاستكبار البس الصغار. والله اعلم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 14 الى 17] قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) [قَوْلُهُ تَعَالَى قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ إلى قوله صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ طَلَبَ الْإِنْظَارَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى وَقْتِ الْبَعْثِ وَهُوَ وَقْتُ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ حِينَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَقْصُودُهُ أَنَّهُ لَا يَذُوقُ الْمَوْتَ فَلَمْ يُعْطِهِ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بل قال انك من المنظرين ثم هاهنا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْظَرَهُ إِلَى النَّفْخَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [الْحِجْرِ: 37 38] وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْيَوْمُ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ الْأَحْيَاءُ كُلُّهُمْ وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يُوَقِّتِ اللَّهُ لَهُ أَجَلًا بَلْ قَالَ: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ وقوله في الاخرى: إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْوَقْتُ الْمَعْلُومُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مُكَلَّفًا وَالْمُكَلَّفُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخَّرَ أَجَلَهُ إِلَى الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُكَلَّفَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَتَى تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ وَقْتَ مَوْتِهِ هُوَ الْوَقْتُ الْفُلَانِيُّ أَقْدَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِقَلْبٍ فَارِغٍ فَإِذَا قَرُبَ وَقْتُ أَجَلِهِ تَابَ عَنْ تِلْكَ الْمَعَاصِي فَثَبَتَ أَنَّ تَعْرِيفَ وَقْتِ الْمَوْتِ بِعَيْنِهِ يَجْرِي مَجْرَى الْإِغْرَاءِ بِالْقَبِيحِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ: بِأَنَّ تَعْرِيفَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَوْنَهُ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَقْتَضِي إِغْرَاءَهُ بِالْقَبِيحِ لِأَنَّهُ

تَعَالَى كَانَ يَعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ سَوَاءٌ أَعْلَمَهُ بِوَقْتِ مَوْتِهِ أَوْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْإِعْلَامُ مُوجِبًا إِغْرَاءَهُ بِالْقَبِيحِ وَمِثَالُهُ أَنَّهُ تَعَالَى عَرَّفَ أَنْبِيَاءَهُ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى الطَّهَارَةِ وَالْعِصْمَةِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا إِغْرَاءَهُمْ بِالْقَبِيحِ لِأَجْلِ أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ مِنْهُمْ سَوَاءٌ عَرَّفَهُمْ تِلْكَ الْحَالَةَ أَوْ لَمْ يُعَرِّفْهُمْ هَذِهِ الْحَالَةَ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى الطَّهَارَةِ وَالْعِصْمَةِ فَلَمَّا كَانَ/ لَا يَتَفَاوَتُ حَالُهُمْ بِسَبَبِ هَذَا التَّعْرِيفِ لَا جَرَمَ مَا كَانَ ذَلِكَ التَّعْرِيفُ إِغْرَاءً بِالْقَبِيحِ فكذا هاهنا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُ إِبْلِيسَ: فَبِما أَغْوَيْتَنِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَضَافَ إِغْوَاءَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 82] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَضَافَ إِغْوَاءَ الْعِبَادِ إِلَى نَفْسِهِ. فَالْأَوَّلُ: يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ عَلَى مَذْهَبِ الْجَبْرِ. وَالثَّانِي: يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ عَلَى مَذْهَبِ الْقَدَرِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَحَيِّرًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِغْوَاءَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْمُغْوِي فَجَعَلَ نَفْسَهُ مُغْوِيًا لِغَيْرِهِ مِنَ الْغَاوِينَ ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ الْمُغْوِيَ لَهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ في تفسيره هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَمَّا أَصْحَابُنَا فَقَالُوا: الْإِغْوَاءُ إِيقَاعُ الْغَيِّ فِي الْقَلْبِ وَالْغَيُّ هُوَ الِاعْتِقَادُ الْبَاطِلُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ مِنَ الله تعالى. اما المعتزلة فلهم هاهنا مَقَامَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُفَسِّرُوا الْغَيَّ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَذْكُرُوا فِي تَفْسِيرِهِ وَجْهًا آخَرَ. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَلَهُمْ فِيهِ أَعْذَارٌ. الْأَوَّلُ: إِنْ قَالُوا هَذَا قَوْلُ إِبْلِيسَ فَهَبْ أَنَّ إِبْلِيسَ اعْتَقَدَ أَنَّ خَالِقَ الْغَيِّ وَالْجَهْلِ وَالْكُفْرِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. الثَّانِي: قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَعِنْدَ ذَلِكَ ظَهَرَ غَيُّهُ وَكُفْرُهُ فَجَازَ أَنْ يُضِيفَ ذَلِكَ الْغَيَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الْمَعْنَى وَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ: لَا تَحْمِلْنِي عَلَى ضَرْبِكَ أَيْ لَا تَفْعَلْ مَا أَضْرِبُكَ عِنْدَهُ. الثَّالِثُ: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ بِمَا لَعَنْتَنِي بِسَبَبِ آدَمَ فَأَنَا لِأَجْلِ هَذِهِ الْعَدَاوَةِ أُلْقِي الْوَسَاوِسَ في قلوبهم. الرابع: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي [الحجر: 39] أَيْ خَيَّبْتَنِي مِنْ جَنَّتِكَ عُقُوبَةً عَلَى عَمَلِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْإِغْوَاءِ- الْإِهْلَاكُ- وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مَرْيَمَ: 59] أَيْ هَلَاكًا وَوَيْلًا وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُهُمْ: غَوَى الْفَصِيلُ يَغْوِي غَوًى إِذَا أَكْثَرَ مِنَ اللَّبَنِ حَتَّى يَفْسُدَ جَوْفُهُ وَيُشَارِفَ الْهَلَاكَ وَالْعَطَبَ وَفَسَّرُوا قَوْلَهُ: إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هُودٍ: 34] إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يهلككم بعنادكم الحق فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّا لَا نُبَالِغُ فِي بَيَانِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِغْوَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْإِضْلَالُ لِأَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ إِبْلِيسَ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ إِلَّا أَنَّا نُقِيمُ الْبُرْهَانَ الْيَقِينِيَّ عَلَى أَنَّ الْمُغْوِيَ لِإِبْلِيسَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَاوِيَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُغْوٍ كَمَا أَنَّ الْمُتَحَرِّكَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحَرِّكٍ وَالسَّاكِنَ لَا بُدَّ لَهُ مَنْ مُسَكِّنٍ وَالْمُهْتَدِيَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ هَادٍ. فَلَمَّا كَانَ إِبْلِيسُ غاويا فلا بد له من مغوي وَالْمُغْوِي لَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْسَهُ أَوْ مَخْلُوقًا آخَرَ أَوِ اللَّهَ تَعَالَى وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَخْتَارُ الْغَوَايَةَ مَعَ/ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا غَوَايَةً. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ وَإِلَّا لَزِمَ إِمَّا التَّسَلْسُلُ وَإِمَّا الدَّوْرُ. وَالثَّالِثُ: هُوَ الْمَقْصُودُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَبِما أَغْوَيْتَنِي فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بَاءُ الْقَسَمِ أَيْ بِإِغْوَائِكَ إِيَّايَ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ أَيْ بِقُدْرَتِكَ عَلَيَّ وَنَفَاذِ سُلْطَانِكَ فِيَّ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي يَسْلُكُونَهُ

إِلَى الْجَنَّةِ بِأَنْ أُزَيِّنَ لَهُمُ الْبَاطِلَ وَمَا يُكْسِبُهُمُ الْمَآثِمَ وَلَمَّا كَانَتِ (الْبَاءُ) بَاءَ الْقَسَمِ كَانَتِ (اللَّامُ) جَوَابَ الْقَسَمِ (وَمَا) بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ واغويتني صِلَتُهَا. وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ: فَبِما أَغْوَيْتَنِي أَيْ فَبِسَبَبِ إِغْوَائِكَ إِيَّايَ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّكَ لَمَّا أَغْوَيْتَنِي فَأَنَا أَيْضًا أَسْعَى فِي إِغْوَائِهِمْ الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: (مَا) فِي قَوْلِهِ: فَبِما أَغْوَيْتَنِي لِلِاسْتِفْهَامِ كَأَنَّهُ قِيلَ: بِأَيِّ شَيْءٍ أَغْوَيْتَنِي ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ وَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ إِثْبَاتَ الْأَلِفِ إِذَا أُدْخِلَ حَرْفُ الْجَرِّ عَلَى «مَا» الِاسْتِفْهَامِيَّةِ قَلِيلٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ لَا خِلَافَ بَيْنِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ «عَلَى» مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ عَلَى صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيمِ. قَالَ الزَّجَّاجُ. مِثَالُهُ قَوْلُكَ ضَرَبَ زَيْدٌ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ وَالْمَعْنَى عَلَى الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَإِلْقَاءُ كَلِمَةِ «عَلَى» جَائِزٌ لِأَنَّ الصِّرَاطَ ظَرْفٌ فِي الْمَعْنَى: فَاحْتَمَلَ مَا يَحْتَمِلُهُ لِلْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فِي قَوْلِكَ آتِيكَ غَدًا وَفِي غَدٍ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ فِيهِ أَبْحَاثٌ. الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ يُوَاظِبُ عَلَى الْإِفْسَادِ مُوَاظَبَةً لَا يَفْتُرُ عَنْهَا وَلِهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَ الْقُعُودَ لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُبَالِغَ فِي تَكْمِيلِ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ قَعَدَ حَتَّى يَصِيرَ فَارِغَ الْبَالِ فَيُمْكِنُهُ إِتْمَامُ الْمَقْصُودِ وَمُوَاظَبَتُهُ عَلَى الْإِفْسَادِ هي مواظبة عَلَى الْوَسْوَسَةِ حَتَّى لَا يَفْتُرَ عَنْهَا. وَالْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِالدِّينِ الْحَقِّ وَالْمَنْهَجِ الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ قَالَ: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ وَصِرَاطُ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ دِينُهُ الْحَقُّ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالِاعْتِقَادِ هُوَ مَحْضُ الْغَوَايَةِ وَالضَّلَالِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كذلك لما قال: فَبِما أَغْوَيْتَنِي وَأَيْضًا كَانَ عَالِمًا بِالدِّينِ الْحَقِّ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَالَ: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَكَيْفَ يُمْكِنُ: أَنْ يَرْضَى إِبْلِيسُ بِذَلِكَ الْمَذْهَبِ مَعَ عِلْمِهِ بِكَوْنِهِ ضَلَالًا وَغَوَايَةً وَبِكَوْنِهِ مُضَادًّا لِلدِّينِ الْحَقِّ وَمُنَافِيًا لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَإِنَّ الْمَرْءَ إِنَّمَا يَعْتَقِدُ الْفَاسِدَ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ كَوْنُهُ حَقًّا فَأَمَّا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ وَغَوَايَةٌ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَخْتَارَهُ وَيَرْضَى بِهِ وَيَعْتَقِدَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّ كُفْرَ إِبْلِيسَ كُفْرُ عِنَادٍ لَا كُفْرُ جَهْلٍ لِأَنَّهُ مَتَى عَلِمَ أَنَّ مَذْهَبَهُ ضَلَالٌ وَغَوَايَةٌ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّ ضِدَّهُ هُوَ الْحَقُّ فَكَانَ إِنْكَارُهُ إِنْكَارًا بِمَحْضِ اللِّسَانِ فَكَانَ ذَلِكَ كُفْرَ عِنَادٍ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا بَلْ كُفْرُهُ كُفْرُ جَهْلٍ وَقَوْلُهُ: فَبِما أَغْوَيْتَنِي وَقَوْلُهُ: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ يُرِيدُ بِهِ فِي زَعْمِ الْخَصْمِ وَفِي اعْتِقَادِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ رِعَايَةُ مَصَالِحِ الْعَبْدِ فِي دِينِهِ وَلَا فِي دُنْيَاهُ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ إِبْلِيسَ اسْتَمْهَلَ الزَّمَانَ الطَّوِيلَ فَأَمْهَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا اسْتَمْهَلَهُ لِإِغْوَاءِ الْخَلْقِ وَإِضْلَالِهِمْ وَإِلْقَاءِ الْوَسَاوِسِ فِي قُلُوبِهِمْ وَكَانَ تَعَالَى عَالِمًا بِأَنَّ أَكْثَرَ الْخَلْقِ يُطِيعُونَهُ وَيَقْبَلُونَ وَسْوَسَتَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سَبَأٍ: 20] فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ إِنْظَارَ إِبْلِيسَ وَإِمْهَالَهُ هَذِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ يَقْتَضِي حُصُولَ الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ وَالْكُفْرَ الْكَبِيرَ فَلَوْ كَانَ تَعَالَى مُرَاعِيًا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ

لَامْتَنَعَ أَنْ يُمْهِلَهُ وَأَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ فَحَيْثُ أَنْظَرَهُ وَأَمْهَلَهُ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ أَصْلًا وَمِمَّا يُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى بَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ دُعَاةً إِلَى الْخَلْقِ وَعَلِمَ مِنْ حَالِ إِبْلِيسَ أَنَّهُ لَا يَدْعُو إِلَّا إِلَى الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَاتَ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ هُمُ الدُّعَاةُ لِلْخَلْقِ وَأَبْقَى إِبْلِيسَ وَسَائِرَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ هُمُ الدُّعَاةُ لِلْخَلْقِ إِلَى الْكُفْرِ وَالْبَاطِلِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ مَصَالِحَ الْعِبَادِ امْتَنَعَ مِنْهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: اخْتَلَفَ شُيُوخُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: إِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ بِسَبَبِ وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ وَلَا يَضِلُّ بِقَوْلِهِ أَحَدٌ إِلَّا مَنْ لَوْ فَرَضْنَا عَدَمَ إِبْلِيسَ لَكَانَ يَضِلُّ أَيْضًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ [الصَّافَّاتِ: 162 163] وَلِأَنَّهُ لَوْ ضَلَّ بِهِ أَحَدٌ لَكَانَ بَقَاؤُهُ مَفْسَدَةً: وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ يَجُوزُ أَنْ يَضِلَّ بِهِ قَوْمٌ وَيَكُونُ خَلْقُهُ جَارِيًا مَجْرَى خَلْقِ زِيَادَةِ الشَّهْوَةِ فَإِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنَ الشَّهْوَةِ لَا تُوجِبُ فِعْلَ الْقَبِيحِ إِلَّا أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْهَا يَصِيرُ أَشَقَّ وَلِأَجْلِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ مِنَ الْمَشَقَّةِ تَحْصُلُ الزِّيَادَةُ فِي الثَّوَابِ فكذا هاهنا بِسَبَبِ إِبْقَاءِ إِبْلِيسَ يَصِيرُ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْقَبَائِحِ أَشَدَّ وَأَشَقَّ وَلَكِنَّهُ لَا يَنْتَهِي إِلَى حَدِّ الْإِلْجَاءِ وَالْإِكْرَاهِ. وَالْجَوَابُ: أَمَّا قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ فَضَعِيفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا بُدَّ وَأَنْ يُزَيِّنَ الْقَبَائِحَ فِي قَلْبِ الْكَافِرِ وَيُحَسِّنَهَا إِلَيْهِ وَيُذَكِّرَهُ مَا فِي الْقَبَائِحِ مِنْ أَنْوَاعِ اللَّذَّاتِ وَالطَّيِّبَاتِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ حَالَ الْإِنْسَانِ مَعَ حُصُولِ هَذَا التَّذْكِيرِ وَالتَّزْيِينِ لَا يَكُونُ مُسَاوِيًا لِحَالِهِ عِنْدَ عَدَمِ هَذَا التَّذْكِيرِ وَهَذَا التَّزْيِينِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْعُرْفُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا حَصَلَ لَهُ جُلَسَاءُ يُرَغِّبُونَهُ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ وَيُحَسِّنُونَهُ فِي عَيْنِهِ وَيُسَهِّلُونَ طَرِيقَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ وَيُوَاظِبُونَ عَلَى دَعْوَتِهِ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ حَالُهُ فِي/ الْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ كَحَالِهِ إذا لم يوجد هذا التذكير والتزيين وَالتَّزْيِينُ وَالْعِلْمُ بِهِ ضَرُورِيٌّ وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي هَاشِمٍ فَضَعِيفٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ إِذَا صَارَ حُصُولُ هَذَا التَّذْكِيرِ وَالتَّزْيِينِ حَاصِلًا لِلْمَرْءِ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ الْقَبِيحِ كَانَ ذَلِكَ سَعْيًا فِي إِلْقَائِهِ فِي الْمَفْسَدَةِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ خَلْقِ الزِّيَادَةِ فِي الشَّهْوَةِ فَهُوَ حُجَّةٌ أُخْرَى لَنَا فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُرَاعِي الْمَصْلَحَةَ فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ؟ وَالَّذِي يُقَرِّرُهُ غَايَةَ التَّقْرِيرِ: أَنَّ لِسَبَبِ حُصُولِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فِي الشَّهْوَةِ يَقَعُ فِي الْكُفْرِ وَعِقَابِ الْأَبَدِ وَلَوِ احْتَرَزَ عَنْ تِلْكَ الشَّهْوَةِ فَغَايَتُهُ أَنَّهُ يَزْدَادُ ثَوَابُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ زِيَادَةِ تِلْكَ الْمَشَقَّةِ وَحُصُولُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ مِنَ الثَّوَابِ شَيْءٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ الْبَتَّةَ أَمَّا دَفْعُ الْعِقَابِ الْمُؤَبَّدِ فَإِلَيْهِ أَعْظَمُ الْحَاجَاتِ فَلَوْ كَانَ إِلَهُ الْعَالَمِ مُرَاعِيًا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ لَاسْتَحَالَ أَنْ يُهْمِلَ الْأَهَمَّ الْأَكْمَلَ الْأَعْظَمَ لِطَلَبِ الزِّيَادَةِ الَّتِي لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا وَلَا ضَرُورَةَ فَثَبَتَ فَسَادُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ أَصْلًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُخْتَصٌّ بِنَوْعٍ مِنَ الْآفَةِ فِي الدِّينِ. وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ يَعْنِي أُشَكِّكُهُمْ فِي صِحَّةِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أُلْقِي إِلَيْهِمْ أَنَّ الدُّنْيَا قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ. وَثَانِيهَا: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَالْمَعْنَى أُفَتِّرُهُمْ عَنِ الرَّغْبَةِ فِي سَعَادَاتِ الْآخِرَةِ وَمِنْ خَلْفِهِمْ يَعْنِي أُقَوِّي رَغْبَتَهُمْ فِي لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا وَأُحَسِّنُهَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الْآخِرَةُ لِأَنَّهُمْ يَرِدُونَ عَلَيْهَا وَيَصِلُونَ إِلَيْهَا فَهِيَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَإِذَا كَانَتِ الْآخِرَةُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ

كَانَتِ الدُّنْيَا خَلْفَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَخْلُفُونَهَا. وَثَالِثُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْحَاكِمِ وَالسُّدِّيِّ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ يَعْنِي الدُّنْيَا وَمِنْ خَلْفِهِمْ الْآخِرَةَ وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ بِالدُّنْيَا لِأَنَّهَا بَيْنَ يَدَيِ الْإِنْسَانِ يَسْعَى فِيهَا وَيُشَاهِدُهَا وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَهِيَ تَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ وَرَابِعُهَا: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ فِي تَكْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ الَّذِينَ يَكُونُونَ حَاضِرِينَ وَمِنْ خَلْفِهِمْ فِي تَكْذِيبِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ فَفِيهِ وجوه: أحدها: عَنْ أَيْمانِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ فِي انواع المعاصي وثانيها: عَنْ أَيْمانِهِمْ فِي الصَّرْفِ عَنِ الْحَقِّ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ في الترغيب في الباطل وثالثها: عَنْ أَيْمانِهِمْ يعني افترهم عَنِ الْحَسَنَاتِ/ وَالشَّمَائِلُ عَنِ السَّيِّئَاتِ قَوْلٌ حَسَنٌ لان قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَقَوْلُ مَنْ قَالَ الْأَيْمَانُ كِنَايَةٌ عَنِ الْحَسَنَاتِ/ وَالشَّمَائِلُ عَنِ السَّيِّئَاتِ قَوْلٌ حَسَنٌ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: اجْعَلْنِي فِي يَمِينِكَ وَلَا تَجْعَلْنِي فِي شِمَالِكَ يُرِيدُ اجْعَلْنِي مِنَ الْمُقَدَّمِينَ عِنْدَكَ وَلَا تَجْعَلْنِي مِنَ الْمُؤَخَّرِينَ وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ يُقَالُ: هُوَ عِنْدَنَا بِالْيَمِينِ أَيْ بِمَنْزِلَةٍ حَسَنَةٍ وَإِذَا خَبُثَتْ مَنْزِلَتُهُ قَالَ: أَنْتَ عِنْدِي بِالشِّمَالِ فَهَذَا تَلْخِيصُ مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ أَمَّا حُكَمَاءُ الْإِسْلَامِ فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهَا وُجُوهًا أُخْرَى أَوَّلُهَا: وَهُوَ الْأَقْوَى الْأَشْرَفُ أَنَّ فِي الْبَدَنِ قُوًى أَرْبَعًا هِيَ الْمُوجِبَةُ لِقُوَّاتِ السعادات الروحانية فإحداها: القوة الخالية الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا مِثْلُ الْمَحْسُوسَاتِ وَصُوَرِهَا وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ فِي الْبَطْنِ الْمُقَدَّمِ مِنَ الدِّمَاغِ وَصُوَرُ الْمَحْسُوسَاتِ إِنَّمَا تَرِدُ عَلَيْهَا مِنْ مُقَدَّمِهَا وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ. وَالْقُوَّةُ الثَّانِيَةُ: الْقُوَّةُ الْوَهْمِيَّةُ الَّتِي تَحْكُمُ فِي غَيْرِ الْمَحْسُوسَاتِ بِالْأَحْكَامِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْمَحْسُوسَاتِ وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ فِي الْبَطْنِ الْمُؤَخَّرِ مِنَ الدِّمَاغِ وَإِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ خَلْفِهِمْ. وَالْقُوَّةُ الثَّالِثَةُ: الشَّهْوَةُ وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ فِي الْكَبِدِ وَهِيَ مِنْ يَمِينِ الْبَدَنِ. وَالْقُوَّةُ الرَّابِعَةُ: الْغَضَبُ وَهُوَ مَوْضُوعٌ فِي الْبَطْنِ الْأَيْسَرِ مِنَ الْقَلْبِ فَهَذِهِ الْقُوَى الْأَرْبَعُ هِيَ الَّتِي تَتَوَلَّدُ عَنْهَا أَحْوَالٌ تُوجِبُ زَوَالَ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالشَّيَاطِينُ الْخَارِجَةُ مَا لَمْ تَسْتَعِنْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقُوَى الْأَرْبَعِ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى إِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ وَهُوَ وَجْهٌ حَقِيقِيٌّ شَرِيفٌ وَثَانِيهَا: إِنَّ قَوْلَهُ: لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الْمُرَادُ مِنْهُ الشُّبُهَاتُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى التَّشْبِيهِ إِمَّا فِي الذَّاتِ والصفات مثل شبه المجسمة واما الْأَفْعَالِ: مِثْلُ شُبَهِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّخْوِيفِ وَالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ وَمِنْ خَلْفِهِمْ الْمُرَادُ مِنْهُ الشُّبُهَاتُ النَّاشِئَةُ عَنِ التَّعْطِيلِ وَإِنَّمَا جَعَلْنَا قَوْلَهُ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ لِشُبُهَاتِ التَّشْبِيهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُشَاهِدُ هَذِهِ الْجِسْمَانِيَّاتِ وَأَحْوَالَهَا فَهِيَ حَاضِرَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَعْتَقِدُ أَنَّ الْغَائِبَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِهَذَا الشَّاهِدِ وَإِنَّمَا جَعَلْنَا قَوْلَهُ: وَمِنْ خَلْفِهِمْ كِنَايَةً عَنِ التَّعْطِيلِ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ عَيْنُ التَّعْطِيلِ فَلَمَّا جَعَلْنَا قَوْلَهُ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ كِنَايَةً عَنِ التَّشْبِيهِ وَجَبَ أَنْ نَجْعَلَ قَوْلَهُ: وَمِنْ خَلْفِهِمْ كِنَايَةً عَنِ التَّعْطِيلِ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ فَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّرْغِيبُ فِي تَرْكِ الْمَأْمُورَاتِ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ التَّرْغِيبُ فِي فِعْلِ الْمَنْهِيَّاتِ وَثَالِثُهَا: نُقِلَ عَنْ شَقِيقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ صَبَاحٍ إِلَّا وَيَأْتِينِي الشَّيْطَانُ مِنَ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي أَمَّا مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ فَيَقُولُ: لَا تَخَفْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَأَقْرَأُ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [طه: 82] وَأَمَّا مِنْ خَلْفِي: فَيُخَوِّفُنِي مِنْ وُقُوعِ أَوْلَادِي فِي الْفَقْرِ فَأَقْرَأُ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هُودٍ: 6] وَأَمَّا مِنْ قِبَلِ يَمِينِي فَيَأْتِينِي من قبل الثناء فاقرأ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:

وَأَمَّا مِنْ قِبَلِ شَمَالِي: فَيَأْتِينِي مِنْ قِبَلِ الشَّهَوَاتِ فَأَقْرَأُ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سَبَأٍ: 54] وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الشَّيْطَانِ ذِكْرَ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّهُ يُبَالِغُ فِي إِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ وَلَا يُقَصِّرُ فِي وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُمْكِنَةِ الْبَتَّةَ وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ الْمُمْكِنَةِ بِجَمِيعِ الِاعْتِبَارَاتِ الْمُمْكِنَةِ وَعَنْ رسول الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ لَهُ: تَدَعُ دِينَ آبَائِكَ فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الهجرة فقال له: تدع ديارك وتتغارب فَعَصَاهُ وَهَاجَرَ ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ لَهُ: تُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ وَيُقَسَّمُ مَالُكَ وَتُنْكَحُ امْرَأَتُكَ فَعَصَاهُ فَقَاتَلَ» وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتْرُكُ جِهَةً مِنْ جِهَاتِ الْوَسْوَسَةِ إِلَّا وَيُلْقِيهَا فِي الْقَلْبِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَذْكُرْ مَعَ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِهِمْ. قُلْنَا: أَمَّا فِي التَّحْقِيقِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقُوَى الَّتِي يَتَوَلَّدُ مِنْهَا مَا يُوجِبُ تَفْوِيتَ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ فَهِيَ مَوْضُوعَةٌ فِي هَذِهِ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الْبَدَنِ وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ: فَيُرْوَى أَنَّ الشَّيْطَانَ لَمَّا قَالَ هَذَا الْكَلَامَ رَقَّتْ قُلُوبُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ فَقَالُوا: يَا إِلَهَنَا كَيْفَ يَتَخَلَّصُ الْإِنْسَانُ مِنَ الشَّيْطَانِ مَعَ كَوْنِهِ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ أَنَّهُ بَقِيَ لِلْإِنْسَانِ جِهَتَانِ: الْفَوْقُ وَالتَّحْتُ فَإِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى فَوْقُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْخُضُوعِ أَوْ وَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَى الْأَرْضِ عَلَى سَبِيلِ الْخُشُوعِ غَفَرْتُ لَهُ ذَنْبَ سَبْعِينَ سَنَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ قَالَ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ فَذَكَرَ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ بِكَلِمَةِ (مِنْ) ثُمَّ قَالَ: وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ فَذَكَرَ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ بِكَلِمَةِ (عَنْ) وَلَا بُدَّ فِي هَذَا الْفَرْقِ مِنْ فَائِدَةٍ فَنَقُولُ: إِذَا قَالَ الْقَائِلُ جَلَسَ عَنْ يَمِينِهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَلَسَ مُتَجَافِيًا عَنْ صَاحِبِ الْيَمِينِ غَيْرَ مُلْتَصِقٍ بِهِ قَالَ تَعَالَى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق: 17] فَبَيَّنَ أَنَّهُ حَضَرَ عَلَى هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ مَلَكَانِ وَلَمْ يَحْضُرْ فِي الْقُدَّامِ وَالْخَلْفِ مَلَكَانِ وَالشَّيْطَانُ يَتَبَاعَدُ عَنِ الْمَلَكِ فَلِهَذَا الْمَعْنَى خَصَّ الْيَمِينَ وَالشِّمَالَ بِكَلِمَةِ (عَنْ) لِأَجْلِ أَنَّهَا تُفِيدُ الْبُعْدَ وَالْمُبَايَنَةَ وَأَيْضًا فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ الْخَيَالُ وَالْوَهْمُ وَالضَّرَرُ النَّاشِئُ مِنْهُمَا هُوَ حُصُولُ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَذَلِكَ هُوَ حُصُولُ الْكُفْرِ وَقَوْلِهِ: وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ الشَّهْوَةُ والغضب والضرر الناشي مِنْهُمَا هُوَ حُصُولُ الْأَعْمَالِ الشَّهْوَانِيَّةِ وَالْغَضَبِيَّةِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْصِيَةُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الضَّرَرَ الْحَاصِلَ مِنَ الْكُفْرِ لَازِمٌ لِأَنَّ عِقَابَهُ دَائِمٌ أَمَّا الضرر الحاصل من المعصية فسهل لأنه عِقَابَهُ مُنْقَطِعٌ فَلِهَذَا السَّبَبِ خَصَّ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ بِكَلِمَةِ (عَنْ) تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ فِي اللُّزُومِ وَالِاتِّصَالِ دُونَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الْقَوْلُ مِنْ إِبْلِيسَ كَالدَّلَالَةِ عَلَى بُطْلَانِ مَا يُقَالُ: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِي بَدَنِ ابْنِ آدَمَ وَيُخَالِطُهُ لِأَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ لَكَانَ بِأَنْ يَذْكُرَهُ فِي بَابِ الْمُبَالَغَةِ أَحَقَّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْلِيسَ أَنَّهُ قَالَ: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْغَيْبِ فَكَيْفَ عَرَفَ إِبْلِيسُ ذَلِكَ فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ كَانَ قَدْ رَآهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَقَالَ لَهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ لِأَنَّهُ كَانَ عَازِمًا عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي تَزْيِينِ الشَّهَوَاتِ وَتَحْسِينِ الطَّيِّبَاتِ وَعَلِمَ أَنَّهَا أَشْيَاءُ يَرْغَبُ فِيهَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُمْ يَقْبَلُونَ قَوْلَهُ فِيهَا عَلَى سَبِيلِ الْأَكْثَرِ

[سورة الأعراف (7) : آية 18]

وَالْأَغْلَبِ وَيُؤَكِّدُ هَذَا الْقَوْلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً [سَبَأٍ: 20] وَالْعَجَبُ أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ فَقَالَ الْحَقُّ مَا يُطَابِقُ ذَلِكَ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سَبَأٍ: 13] وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ حَصَلَ لِلنَّفْسِ تِسْعَ عَشْرَةَ قُوَّةً وَكُلُّهَا تَدْعُو النَّفْسَ إِلَى اللَّذَّاتِ الْجِسْمَانِيَّةِ وَالطَّيِّبَاتِ الشَّهْوَانِيَّةِ فَخَمْسَةٌ مِنْهَا هِيَ الْحَوَاسُّ الظَّاهِرَةُ وَخَمْسَةٌ أُخْرَى هِيَ الْحَوَاسُّ الْبَاطِنَةُ وَاثْنَانِ الشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ وَسَبْعَةٌ هِيَ الْقُوَى الْكَامِنَةُ وَهِيَ الْجَاذِبَةُ وَالْمَاسِكَةُ وَالْهَاضِمَةُ وَالدَّافِعَةُ وَالْغَاذِيَةُ وَالنَّامِيَةُ وَالْمُوَلِّدَةُ فَمَجْمُوعُهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَهِيَ بِأَسْرِهَا تَدْعُو النَّفْسَ إِلَى عَالَمِ الْجِسْمِ وَتُرَغِّبُهَا فِي طَلَبِ اللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَأَمَّا الْعَقْلُ فَهُوَ قُوَّةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الَّتِي تَدْعُو النَّفْسَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَلَبَ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ اسْتِيلَاءَ تِسْعَ عَشْرَةَ قُوَّةً أَكْمَلُ مِنِ اسْتِيلَاءِ الْقُوَّةِ الْوَاحِدَةِ لَا سِيَّمَا وَتِلْكَ الْقُوَى التِّسْعَةَ عَشَرَ تَكُونُ فِي أَوَّلِ الْخِلْقَةِ قَوِيَّةً وَيَكُونُ الْعَقْلُ ضَعِيفًا جِدًّا وَهِيَ بَعْدَ قُوَّتِهَا يَعْسُرُ جَعْلُهَا ضَعِيفَةً مَرْجُوحَةً فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ أَكْثَرَ الْخَلْقِ يَكُونُونَ طَالِبِينَ لِهَذِهِ اللَّذَّاتِ الْجِسْمَانِيَّةِ مُعْرِضِينَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَمَحَبَّتِهِ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ والله اعلم. [سورة الأعراف (7) : آية 18] قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) اعْلَمْ أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا وَعَدَ بِالْإِفْسَادِ الَّذِي ذَكَرَهُ خَاطَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا يَدُلُّ عَلَى الزَّجْرِ وَالْإِهَانَةِ فَقَالَ: اخْرُجْ مِنْها مِنَ الجنة او من السماء مَذْؤُماً قَالَ اللَّيْثَ: ذَأَمْتُ الرَّجُلَ فَهُوَ مَذْءُومٌ أَيْ مَحْقُورٌ وَالذَّامُ الِاحْتِقَارُ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: ذَأَمْتُهُ إِذَا عِبْتَهُ يَقُولُونَ فِي الْمَثَلِ لَا تَعْدَمُ الْحَسْنَاءُ ذَامًا وَقَالَ ابْنُ/ الْأَنْبَارِيِّ الْمَذْءُومُ الْمَذْمُومُ قَالَ ابن قتيبة مذؤما مَذْمُومًا بِأَبْلَغِ الذَّمِّ قَالَ أُمَيَّةُ: وَقَالَ لِإِبْلِيسَ رب العباد ... ان اخرج دحيرا لعينا ذؤما وَقَوْلُهُ: مَدْحُوراً الدَّحْرُ فِي اللُّغَةِ الطَّرْدُ وَالتَّبْعِيدُ يقال دحره دحرا إِذَا طَرَدَهُ وَبَعَّدَهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً [الصافات: 8 9] وَقَالَ أُمَيَّةُ: وَبِإِذْنِهِ سَجَدُوا لِآدَمَ كُلُّهُمْ ... إِلَّا لَعِينًا خَاطِئًا مَدْحُورَا وَقَوْلُهُ: لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ اللَّامُ فِيهِ لَامُ الْقَسَمِ وَجَوَابُهُ قَوْلُهُ: لَأَمْلَأَنَّ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» رَوَى عِصْمَةُ عَنْ عَاصِمٍ: لَمَنْ تَبِعَكَ بِكَسْرِ اللَّامِ بِمَعْنَى لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ هَذَا الْوَعِيدُ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ وَقِيلَ: إِنَّ لَأَمْلَأَنَّ فِي مَحَلِّ الِابْتِدَاءِ ولَمَنْ تَبِعَكَ خَبَرُهُ قَالَ أَبُو بَكْرِ الْأَنْبَارِيِّ الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ عَائِدٌ عَلَى وَلَدِ آدَمَ لِأَنَّهُ حِينَ قَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ [الأعراف: 11] كَانَ مُخَاطِبًا لِوَلَدِ آدَمَ فَرَجَعَتِ الْكِنَايَةُ إِلَيْهِمْ قَالَ الْقَاضِي: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ التَّابِعَ وَالْمَتْبُوعَ مَعْنِيَّانِ فِي أَنَّ جَهَنَّمَ تُمْلَأُ منها ثُمَّ إِنَّ الْكَافِرَ تَبِعَهُ فَكَذَلِكَ الْفَاسِقُ تَبِعَهُ فَيَجِبُ الْقَطْعُ بِدُخُولِ الْفَاسِقِ النَّارَ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى يَمْلَأُ جَهَنَّمَ مِمَّنْ تَبِعَهُ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَبِعَهُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ جَهَنَّمَ فَسَقَطَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ وَنَقُولُ هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَصْحَابِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ يَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ لِأَنَّ كلهم متابعون لإبليس والله اعلم. [سورة الأعراف (7) : آية 19] وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَسَائِلَ: أَحَدُهَا: إِنَّ قَوْلَهُ: اسْكُنْ أَمْرُ تَعَبُّدٍ أَوْ أَمْرُ إِبَاحَةٍ وَإِطْلَاقٍ مِنْ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 20 إلى 22]

حَيْثُ إِنَّهُ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ فَلَا يَتَعَلَّقُ به التكيف وثانيها: ان زوج آدم وحواء وَيَجِبُ أَنْ نَذْكُرَ أَنَّهُ تَعَالَى كَيْفَ خَلَقَ حَوَّاءَ وَثَالِثُهَا: إِنَّ تِلْكَ الْجَنَّةَ كَانَتْ جَنَّةَ الْخُلْدِ أَوْ جَنَّةً مِنْ جِنَانِ السَّمَاءِ أَوْ جَنَّةً مِنْ جِنَانِ الْأَرْضِ وَرَابِعُهَا: إِنَّ قَوْلَهُ: فَكُلا أَمْرُ إِبَاحَةٍ لَا أَمْرُ تَكْلِيفٍ وَخَامِسُهَا: إِنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَقْرَبا نَهْيُ تَنْزِيهٍ أَوْ نَهْيُ تَحْرِيمٍ. وَسَادِسُهَا: إِنَّ قَوْلَهُ: هذِهِ الشَّجَرَةَ الْمُرَادُ شَجَرَةٌ وَاحِدَةٌ بِالشَّخْصِ أَوِ النَّوْعِ. وَسَابِعُهَا: إِنَّ تِلْكَ الشَّجَرَةَ أَيُّ شَجَرَةٍ كَانَتْ وَثَامِنُهَا: إِنَّ ذَلِكَ الذَّنْبَ/ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا وَتَاسِعُهَا: أَنَّهُ مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ وَهَلْ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ ظَالِمًا بِهَذَا الْقُرْبَانِ الدُّخُولُ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هُودٍ: 18] وَعَاشِرُهَا: إِنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ وَقَعَتْ قَبْلَ نُبُوَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ بَعْدَهَا فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الْعَشَرَةُ قَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهَا وَتَقْرِيرُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَلَا نُعِيدُهَا وَالَّذِي بَقِيَ عَلَيْنَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حرف واحد وهو انه تعال قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَكُلا مِنْها رَغَداً [البقرة: 35] بالواو وقال هاهنا: فَكُلا بِالْفَاءِ فَمَا السَّبَبُ فِيهِ، وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: إِنَّ الْوَاوَ تُفِيدُ الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ وَالْفَاءَ تُفِيدُ الْجَمْعَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْقِيبِ فَالْمَفْهُومُ مِنَ الْفَاءِ نَوْعٌ دَاخِلٌ تَحْتَ الْمَفْهُومِ مِنَ الْوَاوِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ النَّوْعِ وَالْجِنْسِ فَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ذَكَرَ الْجِنْسَ وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ ذكر النوع. [سورة الأعراف (7) : الآيات 20 الى 22] فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) [في قَوْلُهُ تَعَالَى فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما] يُقَالُ: وَسْوَسَ إِذَا تَكَلَّمَ كَلَامًا خَفِيًّا يُكَرِّرُهُ وَبِهِ سُمِّيَ صَوْتُ الْحُلِيِّ وَسْوَاسًا وَهُوَ فِعْلٌ غير متعد كقولنا: ولو لوت الْمَرْأَةُ وَقَوْلِنَا: وَعْوَعَ الذِّئْبُ وَرَجُلٌ مُوَسْوِسٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَلَا يُقَالُ مُوَسْوَسٌ بِالْفَتْحِ وَلَكِنْ مُوَسْوَسٌ لَهُ وَمُوَسْوَسٌ إِلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي يُلْقَى إِلَيْهِ الْوَسْوَسَةُ، وَمَعْنَى وَسْوَسَ لَهُ فَعَلَ الْوَسْوَسَةَ لِأَجْلِهِ ووسوس إليه ألقاها إليه، وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ وَسْوَسَ إِلَيْهِ وَآدَمُ كَانَ فِي الْجَنَّةِ وَإِبْلِيسُ أُخْرِجَ مِنْهَا. وَالْجَوَابُ: قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ يُوَسْوِسُ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ وَإِلَى الْجَنَّةِ بِالْقُوَّةِ الْفَوْقِيَّةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: بَلْ كَانَ آدَمُ وَإِبْلِيسُ فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّ هذه الْجَنَّةِ فَتِلْكَ الْقِصَّةُ الرَّكِيكَةُ مَشْهُورَةٌ وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ رُبَّمَا قَرُبَا مِنْ بَابِ الْجَنَّةِ، وَكَانَ إِبْلِيسُ وَاقِفًا مِنْ خَارِجِ الْجَنَّةِ على بابها فيقرب فَيَقْرُبُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ وَتَحْصُلُ الْوَسْوَسَةُ هُنَاكَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْرِفُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِبْلِيسَ مِنَ الْعَدَاوَةِ فكيف قبل قوله والجواب: لا يعبد أَنْ يُقَالَ إِنَّ إِبْلِيسَ لَقِيَ آدَمَ مِرَارًا كَثِيرَةً وَرَغَّبَهُ فِي أَكْلِ الشَّجَرَةِ بِطُرُقٍ كَثِيرَةٍ فلأجل

الْمُوَاظَبَةِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى هَذَا التَّمْوِيهِ أَثَّرَ كَلَامُهُ فِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ وَالْجَوَابُ: مَعْنَى وَسْوَسَ لَهُ أَيْ فَعَلَ الْوَسْوَسَةَ لِأَجْلِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُبْدِيَ لَهُما فِي هَذَا اللَّامِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَامُ الْعَاقِبَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَصِ: 8] وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَمْ يَقْصِدْ بِالْوَسْوَسَةِ ظُهُورَ عَوْرَتِهِمَا وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُمَا إِنْ أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ بَدَتْ عَوْرَاتُهُمَا وَإِنَّمَا كان قصده ان يحملها عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَقَطْ الثَّانِي: لَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَامُ الْغَرَضِ ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُجْعَلَ بُدُوُّ الْعَوْرَةِ كِنَايَةً عَنْ سُقُوطِ الْحُرْمَةِ وَزَوَالِ الْجَاهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ غَرَضَهُ مِنْ إِلْقَاءِ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ إِلَى آدَمَ زَوَالُ حُرْمَتِهِ وَذَهَابُ مَنْصِبِهِ وَالثَّانِي: لَعَلَّهُ رَأَى فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ سَمِعَ مِنْ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُ إِذَا أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ بَدَتْ عَوْرَتُهُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الضَّرَرِ وَسُقُوطِ الْحُرْمَةِ فَكَانَ يُوَسْوِسُ إِلَيْهِ لِحُصُولِ هَذَا الْغَرَضِ وَقَوْلُهُ: مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما فِيهِ مباحث: البحث الاول: ما وري مَأْخُوذٌ مِنَ الْمُوَارَاةِ يُقَالُ:: وَارَيْتُهُ أَيْ سَتَرْتُهُ قال تعالى: يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ [المائدة: 31] وقال النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ لَمَّا أَخْبَرَهُ بِوَفَاةِ أَبِيهِ: «اذْهَبْ فواره» . البحث الثاني: السوأة فَرْجُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ ظُهُورَهُ يَسُوءُ الْإِنْسَانَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَأَنَّهُمَا قَدْ أُلْبِسَا ثَوْبًا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُمَا فَلَمَّا عَصَيَا زَالَ عَنْهُمَا ذَلِكَ الثَّوْبُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُسْتَهْجَنًا/ فِي الطِّبَاعِ مُسْتَقْبَحًا فِي الْعُقُولِ وَقَوْلُهُ: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ ذَكَرَهُ إِبْلِيسُ بِحَيْثُ خَاطَبَ بِهِ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ وَسْوَسَةً أَوْقَعَهَا فِي قُلُوبِهِمَا وَالْأَمْرَانِ ومرويان إِلَّا أَنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُخَاطَبَةِ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ لَهُمَا فِي الْوَسْوَسَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ ملكين واراده بِهِ أَنْ تَكُونَا بِمَنْزِلَةِ الْمَلَائِكَةِ إِنْ أَكَلْتُمَا مِنْهَا أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ إِنْ أَكَلْتُمَا فَرَغَّبَهُمَا بِأَنْ أَوْهَمَهُمَا أَنَّ مَنْ أَكَلَهَا صَارَ كَذَلِكَ وَأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا نَهَاهُمَا عَنْهَا لِكَيْ لَا يَكُونَا بِمَنْزِلَةِ الْمَلَائِكَةِ وَلَا يَخْلُدَا وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ أَطْمَعَ إِبْلِيسُ آدَمَ فِي أَنْ يَكُونَ مَلَكًا عِنْدَ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ مَعَ أَنَّهُ شَاهَدَ الْمَلَائِكَةَ مُتَوَاضِعِينَ سَاجِدِينَ لَهُ مُعْتَرِفِينَ بِفَضْلِهِ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: إِنَّ هَذَا الْمَعْنَى أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ سَجَدُوا لِآدَمَ هُمْ ملائكة الأرض اما الملائكة السموات وَسُكَّانُ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ فَمَا سَجَدُوا الْبَتَّةَ لِآدَمَ وَلَوْ كَانُوا سَجَدُوا لَهُ لَكَانَ هَذَا التَّطْمِيعُ فَاسِدًا مُخْتَلًّا وَثَانِيهَا: نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ آدَمَ عَلِمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَمُوتُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَعَرَضَ عَلَيْهِ إِبْلِيسُ أَنْ يَصِيرَ مِثْلَ الْمَلَكِ فِي الْبَقَاءِ وَأَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْمَطْلُوبُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ هُوَ الْخُلُودُ وَحِينَئِذٍ لَا يبقى فرق بين قوله: أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ مَلَكَيْنِ وَيَقُولُ: مَا طَمِعَا فِي أَنْ يَكُونَا مَلَكَيْنِ لَكِنَّهُمَا اسْتَشْرَفَا إِلَى أَنْ يَكُونَا مَلِكَيْنِ وَإِنَّمَا أَتَاهُمَا الْمَلْعُونُ مِنْ جِهَةِ الْمُلْكِ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى [طه: 120] وَأَقُولُ هَذَا الْجَوَابُ أَيْضًا ضَعِيفٌ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: هَبْ أَنَّهُ حَصَلَ الْجَوَابُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: فَهَلْ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ تِلْكَ الْقِرَاءَةَ الْمَشْهُورَةَ بَاطِلَةٌ أَوْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ؟ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ تِلْكَ الْقِرَاءَةَ قِرَاءَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ فَكَيْفَ يُمْكِنُ الطَّعْنُ فِيهَا وَأَمَّا الثَّانِي: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْإِشْكَالُ بَاقٍ لِأَنَّ عَلَى تِلْكَ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ بِالتَّطْمِيعِ قَدْ وَقَعَ فِي أَنْ يَصِيرَ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْأَكْلِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَلَائِكَةِ وَحِينَئِذٍ يَعُودُ السُّؤَالُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ سُجُودَ الْمَلَائِكَةِ وَالْخَلْقِ لَهُ فِي أَنْ يَسْكُنَ الْجَنَّةَ وَأَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا رَغَدًا كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ وَلَا مَزِيدَ فِي الْمُلْكِ عَلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ دَرَجَةَ الْمَلَائِكَةِ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ مِنْ دَرَجَةِ النُّبُوَّةِ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ كَانَتْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ لَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ/ وَلِأَنَّ آدَمَ حِينَ طَلَبَ الْوُصُولَ إِلَى دَرَجَةِ الْمَلَائِكَةِ مَا كَانَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فزال الِاسْتِدْلَالُ وَالثَّانِي: إِنَّ بِتَقْدِيرِ «أَنْ» تَكُونَ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ وَقَعَتْ فِي زَمَانِ النُّبُوَّةِ فَلَعَلَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَغِبَ فِي أَنْ يَصِيرَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ أَوْ فِي خلقة اللذات بِأَنْ يَصِيرَ جَوْهَرًا نُورَانِيًّا وَفِي أَنْ يَصِيرَ مِنْ سُكَّانِ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: نُقِلَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ قَالَ لِلْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ وَفِي قَوْلِهِ: وَقاسَمَهُما قَالَ عَمْرٌو قُلْتُ لِلْحَسَنِ: فَهَلْ صَدَّقَاهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ الْحَسَنُ مَعَاذَ اللَّهِ لَوْ صَدَّقَاهُ لَكَانَا مِنَ الْكَافِرِينَ وَوَجْهُ السُّؤَالِ: أَنَّهُ كَيْفَ يَلْزَمُ هَذَا التَّكْفِيرُ بِتَقْدِيرِ أَنْ يُصَدِّقَا إِبْلِيسَ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ وَالْجَوَابُ: ذَكَرُوا فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ التَّكْفِيرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوْ صَدَّقَ إِبْلِيسَ فِي الْخُلُودِ لَكَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ إِنْكَارَ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَإِنَّهُ كُفْرٌ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ التَّصْدِيقِ حُصُولُ الْكُفْرِ؟ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: إِنَّ لَفْظَ الْخُلُودِ مَحْمُولٌ عَلَى طُولِ الْمُكْثِ لَا عَلَى الدَّوَامِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَنْدَفِعُ مَا ذَكَرُوهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: هَبْ ان الخلود مفسر بالدوام الا انا نُسَلِّمُ أَنَّ اعْتِقَادَ الدَّوَامِ يُوجِبُ الْكُفْرَ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ تَعَالَى هَلْ يُمِيتُ هَذَا الْمُكَلَّفَ أَوْ لَا يُمِيتُهُ عِلْمٌ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنْ دَلِيلِ السَّمْعِ فَلَعَلَّهُ تَعَالَى مَا بَيَّنَ فِي وَقْتِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ يُمِيتُ الْخَلْقَ وَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ كَانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُجَوِّزُ دَوَامَ الْبَقَاءِ فَلِهَذَا السَّبَبِ رَغِبَ فِيهِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَالتَّكْفِيرُ غَيْرُ لَازِمٍ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: ثَبَتَ بِمَا سَبَقَ أَنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ لَوْ صَدَّقَا إِبْلِيسَ فِيمَا قَالَ لَمْ يَلْزَمْ تَكْفِيرُهُمَا فَهَلْ يَقُولُونَ إِنَّهُمَا صَدَّقَاهُ فِيهِ قَطْعًا؟ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلِ الْقَطْعُ فَهَلْ يَقُولُونَ إِنَّهُمَا ظَنَّا أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ؟ أَوْ يُنْكِرُونَ هَذَا الظَّنَّ أَيْضًا وَالْجَوَابُ: إِنَّ الْمُحَقِّقِينَ أَنْكَرُوا حُصُولَ هَذَا التصديق قطعا وظنّا بل الصواب إِنَّمَا أَقْدَمَا عَلَى الْأَكْلِ لِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ لَا أَنَّهُمَا صَدَّقَاهُ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا كَمَا نَجِدُ أَنْفُسَنَا عِنْدَ الشَّهْوَةِ نُقْدِمُ عَلَى الْفِعْلِ إِذَا زَيَّنَ لَنَا الْغَيْرُ مَا نَشْتَهِيهِ وَإِنْ لَمْ نَعْتَقِدْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ.

السُّؤَالُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ هَذَا التَّرْغِيبُ وَالتَّطْمِيعُ وَقَعَ فِي مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ أَوْ فِي أَحَدِهِمَا. وَالْجَوَابُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: التَّرْغِيبُ كَانَ فِي مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ لِأَنَّهُ أُدْخِلَ فِي التَّرْغِيبِ وَقِيلَ: بَلْ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّخْيِيرِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ أَيْ وَأَقْسَمَ لَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُقَاسَمَةُ أَنْ تُقْسِمَ لِصَاحِبِكَ وَيُقْسِمَ لَكَ تَقُولُ: قَاسَمْتُ فُلَانًا أَيْ حَالَفَتْهُ وَتَقَاسَمَا تَحَالَفَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ [النَّمْلِ: 49] . قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ أَنَّهُ قَالَ: أُقْسِمُ لَكُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ وَقَالَا لَهُ: أَتُقْسِمُ بِاللَّهِ إِنَّكَ لَمِنَ النَّاصِحِينَ؟ فَجَعَلَ ذَلِكَ مُقَاسَمَةً بَيْنَهُمْ وَالثَّانِي: أَقْسَمَ لَهُمَا بِالنَّصِيحَةِ وَأَقْسَمَا لَهُ بِقَبُولِهَا الثَّالِثُ: إِنَّهُ أَخْرَجَ قَسَمَ إِبْلِيسَ عَلَى زِنَةِ الْمُفَاعَلَةِ لِأَنَّهُ اجْتَهَدَ فِيهِ اجْتِهَادَ الْمُقَاسِمِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ قَتَادَةُ: حَلَفَ لَهُمَا بِاللَّهِ حَتَّى خَدَعَهُمَا وَقَدْ يُخْدَعُ الْمُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَقَوْلُهُ: إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ أَيْ قَالَ إِبْلِيسُ: إِنِّي خُلِقْتُ قَبْلَكُمَا وَأَنَا أَعْلَمُ أَحْوَالًا كَثِيرَةً مِنَ المصالح والمفاسد لا تعرفانها فامتثلا قولي ارشد كما. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ وَذَكَرَ أَبُو منصور الازهري لهذه الكلمة اصلين: أحدهما: اصل الرَّجُلُ الْعَطْشَانُ يُدَلِّي رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ لِيَأْخُذَ الْمَاءَ فَلَا يَجِدُ فِيهَا مَاءً فَوُضِعَتِ التَّدْلِيَةُ مَوْضِعَ الطَّمَعِ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَيُقَالُ: دَلَّاهُ إِذَا أَطْمَعَهُ الثَّانِي: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ أَيْ أَجْرَأَهُمَا إِبْلِيسُ عَلَى أَكْلِ الشَّجَرَةِ بِغُرُورٍ وَالْأَصْلُ فِيهِ دَلَّلَهُمَا مِنَ الدَّلِّ وَالدَّالَّةُ وَهِيَ الْجُرْأَةُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ أَيْ غَرَّهُمَا بِالْيَمِينِ وَكَانَ آدَمُ يَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا لَا يَحْلِفُ بِاللَّهِ كَاذِبًا وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى مِنْ عَبْدِهِ طَاعَةً وَحُسْنَ صَلَاةٍ أَعْتَقَهُ فَكَانَ عَبِيدُهُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ طَلَبًا لِلْعِتْقِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ يَخْدَعُونَكَ فَقَالَ: مَنْ خَدَعَنَا بِاللَّهِ انْخَدَعْنَا لَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا تَنَاوَلَا الْيَسِيرَ قَصْدًا إِلَى مَعْرِفَةِ طَعْمِهِ وَلَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمَا أَكَلَا مِنْهَا لَكَانَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْأَكْلِ لِأَنَّ الذَّائِقَ قَدْ يَكُونُ ذَائِقًا مِنْ دُونِ أَكْلٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أَيْ ظَهَرَتْ عَوْرَاتُهُمَا وَزَالَ النُّورُ عَنْهُمَا وَطَفِقا يَخْصِفانِ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى طَفِقَ: أَخَذَ فِي الْفِعْلِ يَخْصِفانِ أَيْ يَجْعَلَانِ وَرَقَةً عَلَى وَرَقَةٍ وَمِنْهُ قِيلَ لِلَّذِي يُرَقِّعُ النَّعْلَ خَصَّافٌ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ قَبِيحٌ مِنْ لَدُنْ آدَمَ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا كَيْفَ بَادَرَا إِلَى السَّتْرِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي عَقْلِهِمَا مِنْ قُبْحِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَناداهُما رَبُّهُما قَالَ عَطَاءٌ: بَلَغَنِي: أَنَّ اللَّهَ نَادَاهُمَا أَفِرَارًا مِنِّي يَا آدَمُ قَالَ بَلْ حَيَاءً مِنْكَ يَا رَبِّ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَدًا يُقْسِمُ بِاسْمِكَ كَاذِبًا ثُمَّ نَادَاهُ رَبُّهُ أَمَا خَلَقْتُكَ بِيَدَيَّ أَمَا نَفَخْتُ فِيكَ مِنْ رُوحِي أَمَا أَسْجَدْتُ لَكَ مَلَائِكَتِي أَمَا أَسْكَنْتُكَ فِي جَنَّتِي فِي جِوَارِي!

[سورة الأعراف (7) : آية 23]

ثُمَّ قَالَ: وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيَّنَ الْعَدَاوَةَ حَيْثُ أَبَى السُّجُودَ وَقَالَ: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف: 16] . [سورة الأعراف (7) : آية 23] قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُفَسَّرَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى صُدُورِ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: هَذَا الذَّنْبُ إِنَّمَا صَدَرَ عَنْهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالسُّؤَالُ زائل. [سورة الأعراف (7) : الآيات 24 الى 25] قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ هُوَ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَإِبْلِيسُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ: اهْبِطُوا يَجِبُ أَنْ يَتَنَاوَلَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ يَعْنِي الْعَدَاوَةُ ثَابِتَةٌ بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَا تَزُولُ الْبَتَّةَ وَقَوْلُهُ: فِيها تَحْيَوْنَ الْكِنَايَةُ عَائِدَةٌ إِلَى الْأَرْضِ فِي قَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَالْمُرَادُ فِي الْأَرْضِ تَعِيشُونَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ إِلَى الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ تَخْرُجُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَكَذَلِكَ فِي الروم والزخرف والجاثية وقرا ابن عامر هاهنا وَفِي الزُّخْرُفِ بِفَتْحِ التَّاءِ وَفِي الرُّومِ وَالْجَاثِيَةِ بِضَمِّ التَّاءِ وَالْبَاقُونَ جَمِيعَ ذَلِكَ بِضَمِّ التَّاءِ. [سورة الأعراف (7) : آية 26] يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) فِي نَظْمِ الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ أَمَرَ آدَمَ وَحَوَّاءَ بِالْهُبُوطِ إِلَى الْأَرْضِ وَجَعَلَ الْأَرْضَ لَهُمَا مُسْتَقَرًّا بَيَّنَ بَعْدَهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ كُلَّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَمِنْ جُمْلَتِهَا اللِّبَاسُ الَّذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَاقِعَةَ آدَمَ فِي انْكِشَافِ الْعَوْرَةِ أَنَّهُ كَانَ يَخْصِفُ الْوَرَقَ عَلَيْهَا أَتْبَعَهُ بِأَنْ بَيَّنَ أَنَّهُ خَلَقَ اللِّبَاسَ لِلْخَلْقِ لِيَسْتُرُوا بِهَا عَوْرَتَهُمْ وَنَبَّهَ بِهِ عَلَى الْمِنَّةِ الْعَظِيمَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَقْدَرَهُمْ عَلَى التَّسَتُّرِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى إِنْزَالِ اللِّبَاسِ؟ قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الْمَطَرَ وَبِالْمَطَرِ تَتَكَوَّنُ الْأَشْيَاءُ الَّتِي مِنْهَا يَحْصُلُ اللِّبَاسُ فَصَارَ كَأَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ اللِّبَاسَ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تَحْدُثُ فِي الْأَرْضِ لَمَّا كَانَتْ مُعَلَّقَةً بِالْأُمُورِ النَّازِلَةِ مِنَ السَّمَاءِ صَارَ كَأَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَهَا مِنَ السَّمَاءِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزُّمَرِ: 6] وَقَوْلُهُ: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الْحَدِيدِ: 25] وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَرِيشاً فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الرِّيشُ لِبَاسُ الزِّينَةِ اسْتُعِيرَ مِنْ رِيشِ الطَّيْرِ لِأَنَّهُ لِبَاسُهُ وَزِينَتُهُ أَيْ أَنْزَلَنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسَيْنِ

[سورة الأعراف (7) : آية 27]

لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَلِبَاسًا يُزَيِّنُكُمْ لِأَنَّ الزِّينَةَ غَرَضٌ صَحِيحٌ كَمَا قَالَ: لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [النَّحْلِ: 8] وَقَالَ: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ [النَّحْلِ: 6] . الْبَحْثُ الثَّانِي: رُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ رِوَايَةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ وَرِيَاشًا وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْبَاقُونَ وَرِيشاً وَاخْتَلَفُوا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الريش والرياش فقيل: رياش جمع ريش وكذياب وَذَيبٍ وَقِدَاحٍ وَقِدْحٍ وَشِعَابٍ وَشِعْبٍ وَقِيلَ: هُمَا وَاحِدٌ كَلِبَاسٍ وَلِبْسٍ وَجِلَالٍ وَجِلٍّ رَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ يَعِيشُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ مَتَاعٍ أَوْ مَالٍ أَوْ مَأْكُولٍ فَهُوَ رِيشٌ وَرِيَاشٌ وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الرِّيَاشُ مُخْتَصٌّ بِالثِّيَابِ وَالْأَثَاثِ وَالرِّيشُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِباسُ التَّقْوى فِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَلِبَاسَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: لِباساً وَالْعَامِلُ فِيهِ أَنْزَلْنا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ: ذلِكَ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: خَيْرٌ خَبَرُهُ وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ: وَلِباسُ التَّقْوى مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: ذلِكَ صِفَةٌ أَوْ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ وَقَوْلُهُ: خَيْرٌ خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: وَلِباسُ التَّقْوى وَمَعْنَى قَوْلِنَا صِفَةٌ أَنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ أُشِيرَ بِهِ إِلَى اللِّبَاسِ كَأَنَّهُ قِيلَ وَلِبَاسُ التَّقْوَى الْمُشَارُ إِلَيْهِ خَيْرٌ. الْبَحْثُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَلِباسُ التَّقْوى وَالضَّابِطُ فِيهِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى/ نَفْسِ الْمَلْبُوسِ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى غَيْرِهِ. أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللِّبَاسَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِيُوَارِيَ سَوْآتِكُمْ هُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلِبَاسُ التَّقْوَى هُوَ اللِّبَاسُ الْأَوَّلُ وَإِنَّمَا أَعَادَهُ اللَّهُ لِأَجْلِ أَنْ يُخْبِرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ خَيْرٌ لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَعَبَّدُونَ بِالتَّعَرِّي وَخَلْعِ الثِّيَابِ فِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَجَرَى هَذَا فِي التَّكْرِيرِ مَجْرَى قَوْلِ الْقَائِلِ: قَدْ عَرَّفْتُكَ الصِّدْقَ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ وَالصِّدْقُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ غَيْرِهِ فَيُعِيدُ ذِكْرَ الصِّدْقِ لِيُخْبِرَ عَنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى. وَثَانِيهَا: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْ لِبَاسِ التقوى ما يلبس من الدورع والجوشن وَالْمَغَافِرِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُتَّقَى بِهِ فِي الْحُرُوبِ وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ مِنْ لِبَاسِ التَّقْوَى الْمَلْبُوسَاتُ الْمُعَدَّةُ لأجل اقامة الصلوات والقول الثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: وَلِباسُ التَّقْوى عَلَى الْمَجَازَاتِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ جريح: لباس التقوى الايمان. وقال ابن عباس: ولباس التَّقْوَى الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَقِيلَ هُوَ السَّمْتُ الْحَسَنُ وَقِيلَ هُوَ الْعَفَافُ وَالتَّوْحِيدُ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا تَبْدُو عَوْرَتُهُ وَإِنْ كَانَ عَارِيًا مِنَ الثِّيَابِ وَالْفَاجِرُ لَا تَزَالُ عَوْرَتُهُ مَكْشُوفَةً وَإِنْ كَانَ كَاسِيًا وَقَالَ مَعْبَدٌ هُوَ الْحَيَاءُ. وَقِيلَ هُوَ مَا يَظْهَرُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنَ السَّكِينَةِ وَالْإِخْبَاتِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَإِنَّمَا حَمَلْنَا لَفْظَ اللِّبَاسِ عَلَى هَذِهِ الْمَجَازَاتِ لِأَنَّ اللِّبَاسَ الَّذِي يُفِيدُ التَّقْوَى لَيْسَ إِلَّا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَمَّا قَوْلُهُ: ذلِكَ خَيْرٌ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: مَعْنَى الْآيَةِ وَلِبَاسُ التَّقْوَى خَيْرٌ لِصَاحِبِهِ إِذَا أَخَذَ بِهِ وَأَقْرَبُ لَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا خَلَقَ مِنَ اللِّبَاسِ وَالرِّيَاشِ الَّذِي يَتَجَمَّلُ بِهِ. قَالَ: وَأُضِيفَ اللِّبَاسُ إِلَى التَّقْوَى كَمَا أُضِيفَ إِلَى الْجُوعِ فِي قَوْلِهِ: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النَّحْلِ: 112] وَقَوْلِهِ: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَعْنَاهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضْلِهِ ورحمته على عباده يعني إنزال عَلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَيَعْرِفُونَ عَظِيمَ النِّعْمَةِ فِيهِ. [سورة الأعراف (7) : آية 27] يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)

[في قوله تعالى يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ] اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ حُصُولُ الْعِبْرَةِ لِمَنْ يَسْمَعُهَا فَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ آدَمَ وَبَيَّنَ فِيهَا شِدَّةَ عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِآدَمَ وَأَوْلَادِهِ أَتْبَعَهَا بِأَنْ حَذَّرَ أَوْلَادَ آدَمَ مِنْ قَبُولِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فقال: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لما بلغ اثر كيده ولطف وسوسة وَشِدَّةُ اهْتِمَامِهِ إِلَى أَنْ قَدَرَ عَلَى إِلْقَاءِ آدَمَ فِي الزَّلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِإِخْرَاجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ فَبِأَنْ يَقْدِرَ عَلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَضَارِّ فِي حَقِّ بَنِي آدَمَ أَوْلَى فَبِهَذَا الطَّرِيقِ حَذَّرَ تَعَالَى بَنِي آدَمَ بِالِاحْتِرَازِ عَنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فَقَالَ: لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ كَمَا فَتَنَ أَبَوَيْكُمْ فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ خُرُوجُهُمَا مِنْهَا وَأَصْلُ الْفُتُونِ عَرْضُ الذَّهَبِ عَلَى النَّارِ وَتَخْلِيصُهُ مِنَ الْغِشِّ ثُمَّ أَتَى في القرآن بمعنى المحنة وهاهنا بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ نَسَبَ خُرُوجَ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَسَائِرَ وُجُوهِ الْمَعَاصِي إِلَى الشَّيْطَانِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى بَرِيءٌ مِنْهَا. فَيُقَالُ لَهُ لِمَ قُلْتُمْ أَنَّ كَوْنَ هَذَا الْعَمَلِ مَنْسُوبًا إِلَى الشَّيْطَانِ يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ مَنْسُوبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْقُدْرَةَ وَالدَّاعِيَةَ الْمُوجِبَتَيْنِ لِذَلِكَ الْعَمَلِ كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ وَلَمَّا أَجْرَى عَادَتَهُ بِأَنَّهُ يَخْلُقُ تِلْكَ الدَّاعِيَةَ بَعْدَ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ وَتَحْسِينِهِ تِلْكَ الْأَعْمَالَ عِنْدَ ذَلِكَ الْكَافِرِ كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى الشَّيْطَانِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَخْرَجَ آدَمَ وَحَوَّاءَ مِنَ الْجَنَّةِ عُقُوبَةً لَهُمَا عَلَى تِلْكَ الزَّلَّةِ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَةِ: 30] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمَا لِخِلَافَةِ الْأَرْضِ وَأَنْزَلَهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ لِهَذَا الْمَقْصُودِ فَكَيْفَ الْجَمْعُ بين الوجهين؟ وجواب: أَنَّهُ رُبَّمَا قِيلَ حَصَلَ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ: يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما حَالٌ أَيْ أَخْرَجَهُمَا نَازِعًا لِبَاسَهُمَا وَأَضَافَ نَزْعَ اللِّبَاسِ إِلَى الشَّيْطَانِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ بِسَبَبٍ مِنْهُ فَأُسْنِدَ إِلَيْهِ كَمَا تَقُولُ أَنْتَ فَعَلَتْ هَذَا؟ لِمَنْ حَصَلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْفِعْلُ بِسَبَبٍ وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْهُ وَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَ نَزْعُ لِبَاسِهِمَا بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَغُرُورِهِ أُسْنِدَ إِلَيْهِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيُرِيَهُما لَامُ الْعَاقِبَةِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي قوله: لِيُبْدِيَ لَهُما [الأعراف: 20] قال ابن عباس رضي الله عنهما: يرى آدم سوأة حواء وترى حواء سوأة آدَمَ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: اخْتَلَفُوا فِي اللِّبَاسِ الَّذِي نُزِعَ مِنْهُمَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ النُّورُ وَبَعْضُهُمْ التُّقَى وَبَعْضُهُمْ اللِّبَاسُ الَّذِي هُوَ ثِيَابُ الْجَنَّةِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبُ لِأَنَّ إِطْلَاقَ اللِّبَاسِ يَقْتَضِيهِ وَالْمَقْصُودُ/ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَأْكِيدُ التَّحْذِيرِ لِبَنِي آدَمَ لِأَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ تَأْثِيرُ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فِي حَقِّ آدَمَ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ آحَادِ الْخَلْقِ؟ ثُمَّ أَكَّدَ تَعَالَى هَذَا التَّحْذِيرَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: إِنَّهُ يَراكُمْ يَعْنِي إِبْلِيسَ هُوَ وَقَبِيلُهُ أَعَادَ الْكِنَايَةَ لِيَحْسُنَ الْعَطْفُ كقوله: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [الأعراف: 19] . الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ: «الْقَبِيلُ» الْجَمَاعَةُ يَكُونُونَ مِنَ الثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا من قوم شتى

وجمعه قبل. والقبلية: بَنُو أَبٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ قَبِيلُهُ أَصْحَابُهُ وَجُنْدُهُ وَقَالَ اللَّيْثُ: هُوَ وَقَبِيلُهُ أَيْ هُوَ وَمَنْ كَانَ مِنْ نَسْلِهِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُمْ يَرَوْنَ الْإِنْسَ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِي عُيُونِهِمْ إِدْرَاكًا وَالْإِنْسُ لَا يَرَوْنَهُمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ هَذَا الْإِدْرَاكَ فِي عُيُونِ الْإِنْسِ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْوَجْهُ فِي أَنَّ الْإِنْسَ لَا يَرَوْنَ الْجِنَّ رِقَّةُ أَجْسَامِ الْجِنِّ ولطافتها. والوجه في رؤية الجن الانس كَثَافَةُ أَجْسَامِ الْإِنْسِ وَالْوَجْهُ فِي أَنْ يَرَى بَعْضُ الْجِنِّ بَعْضًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقَوِّي شُعَاعَ أَبْصَارِ الْجِنِّ وَيَزِيدُ فِيهِ وَلَوْ زَادَ اللَّهُ فِي قُوَّةِ. أَبْصَارِنَا لَرَأَيْنَاهُمْ كَمَا يَرَى بَعْضُنَا بَعْضًا وَلَوْ أَنَّهُ تَعَالَى كَثَّفَ أَجْسَامَهُمْ وَبَقِيَتْ أَبْصَارُنَا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لَرَأَيْنَاهُمْ فَعَلَى هَذَا كَوْنُ الْإِنْسِ مُبْصِرًا لِلْجِنِّ مَوْقُوفٌ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ إِمَّا عَلَى زِيَادَةِ كَثَافَةِ أَجْسَامِ الْجِنِّ أَوْ عَلَى زِيَادَةِ قُوَّةِ أَبْصَارِ الْإِنْسِ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَ لَا يَرَوْنَ الْجِنَّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ يَتَنَاوَلُ أَوْقَاتَ الِاسْتِقْبَالِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ قَدَرَ الْجِنُّ عَلَى تَغْيِيرِ صُوَرِ أَنْفُسِهِمْ بِأَيِّ صُورَةٍ شَاءُوا وَأَرَادُوا لَوَجَبَ أَنَّ تَرْتَفِعَ الثِّقَةُ عَنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِ فَلَعَلَّ هَذَا الَّذِي أُشَاهِدُهُ وَأَحْكُمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ وَلَدِي أَوْ زَوْجَتِي جِنِّيٌّ صَوَّرَ نَفْسَهُ بِصُورَةِ وَلَدِي أَوْ زَوْجَتِي وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَرْتَفِعُ الْوُثُوقُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأَشْخَاصِ وَأَيْضًا فَلَوْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى تَخْبِيطِ النَّاسِ وَإِزَالَةِ الْعَقْلِ عَنْهُمْ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ الْعَدَاوَةَ الشَّدِيدَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِنْسِ فَلِمَ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي حَقِّ أَكْثَرِ الْبَشَرِ؟ وَفِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ وَالْأَفَاضِلِ وَالزُّهَّادِ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ أَكْثَرُ وَأَقْوَى وَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الْبَشَرِ بوجه من الوجوه. ويتأكد هذا بقوله: ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إِبْرَاهِيمَ: 22] قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَ إِبْلِيسُ أُعْطِينَا أَرْبَعَ خِصَالٍ: نَرَى وَلَا نُرَى وَنَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ الثَّرَى وَيَعُودُ شَيْخُنَا فَتًى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فَقَدِ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذَا النَّصِّ عَلَى/ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي سَلَّطَ الشَّيْطَانَ الرَّجِيمَ عَلَيْهِمْ حَتَّى أَضَلَّهُمْ وَأَغْوَاهُمْ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَتَأَكَّدُ هَذَا النَّصُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ [مَرْيَمَ: 83] قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَى قَوْلِهِ: جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ هُوَ أَنَّا حَكَمْنَا بِأَنَّ الشَّيْطَانَ وَلِيٌّ لِمَنْ لَا يُؤْمِنُ قَالَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ هُوَ أَنَّا خَلَّيْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ كَمَا يُقَالُ فِيمَنْ يَرْبُطُ الْكَلْبَ فِي دَارِهِ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنَ التَّوَثُّبِ عَلَى الدَّاخِلِ إِنَّهُ أَرْسَلَ عَلَيْهِ كَلْبَهُ. وَالْجَوَابُ: إِنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: إِنَّ فُلَانًا جَعَلَ هَذَا الثَّوْبَ أَبْيَضَ أَوْ أَسْوَدَ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ أَنَّهُ حُكْمٌ بِهِ بَلْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ حَصَلَ السَّوَادُ أَوِ الْبَيَاضُ فيه فكذلك هاهنا وَجَبَ حَمْلُ الْجَعْلِ عَلَى التَّأْثِيرِ وَالتَّحْصِيلِ لَا عَلَى مُجَرَّدِ الْحُكْمِ وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِذَلِكَ لَكِنَّ مُخَالَفَةَ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى توجب كونه كاذبا وهو محال فالمضي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ فَكَوْنُ الْعَبْدِ قَادِرًا عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحَالًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ أَيْ خَلَّيْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكَافِرِينَ فَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ السُّوقِ يُؤْذِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَشْتُمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ثُمَّ إِنَّ زَيْدًا وَعَمْرًا إِذَا لَمْ يَمْنَعْ بَعْضُهُمْ عَنِ الْبَعْضِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ أَرْسَلَ بَعْضَهُمْ عَلَى الْبَعْضِ بَلْ لَفْظُ الْإِرْسَالِ إِنَّمَا يَصْدُقُ إِذَا كَانَ تَسْلِيطُ بَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ بسبب من جهته فكذا هاهنا. والله اعلم.

[سورة الأعراف (7) : آية 28]

[سورة الأعراف (7) : آية 28] وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ] اعْلَمْ أَنَّ فِي النَّاسِ مَنْ حَمَلَ الْفَحْشَاءَ عَلَى مَا كَانُوا يُحَرِّمُونَهُ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَغَيْرِهِمَا وَفِيهِمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالْأَوْلَى أَنْ يحكم بالتعميم والفحشاء عبارة من كُلِّ مَعْصِيَةٍ كَبِيرَةٍ فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْكَبَائِرِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ كَوْنَ تِلْكَ الْأَفْعَالِ فَوَاحِشَ ثُمَّ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ كَانَتْ فِي أَنْفُسِهَا فَوَاحِشَ وَالْقَوْمُ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا طَاعَاتٌ وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِهَا ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْتَجُّونَ عَلَى إِقْدَامِهِمْ عَلَى تِلْكَ الْفَوَاحِشِ بِأَمْرَيْنِ/ أَحَدُهُمَا: إِنَّا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا. وَالثَّانِي: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِهَا. أَمَّا الْحُجَّةُ الْأُولَى: فَمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهَا جَوَابًا لِأَنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى مَحْضِ التَّقْلِيدِ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عَقْلِ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُ طَرِيقَةٌ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ حَاصِلٌ فِي الْأَدْيَانِ الْمُتَنَاقِضَةِ فَلَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ طَرِيقًا حَقًّا لَلَزِمَ الْحُكْمُ بِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ حَقًّا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَلَمَّا كَانَ فَسَادُ هَذَا الطَّرِيقِ ظَاهِرًا جَلِيًّا لِكُلِّ أَحَدٍ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى الْجَوَابَ عَنْهُ. وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ قَوْلُهُمْ: وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها فَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ ثَبَتَ عَلَى لِسَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ كَوْنُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مُنْكَرَةً قَبِيحَةً فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِهَا؟ وَأَقُولُ لِلْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يَحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يَقْبُحُ لِوَجْهٍ عَائِدٍ إِلَيْهِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْهُ لِكَوْنِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ لِأَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَوْصُوفًا فِي نَفْسِهِ بِكَوْنِهِ مِنَ الْفَحْشَاءِ امْتَنَعَ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِهِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْفَحْشَاءِ مُغَايِرًا لتعلق الأمر والنهي بِهِ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ. وَجَوَابُهُ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا يَكُونُ مَصْلَحَةً لِلْعِبَادِ وَلَا يَنْهَى إِلَّا عَمَّا يَكُونُ مَفْسَدَةً لَهُمْ فَقَدْ صَحَّ هَذَا التَّعْلِيلُ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمَخْصُوصَةِ فَعِلْمُكُمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِهَا حَصَلَ لِأَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ أَوْ عَرَفْتُمْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ؟ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَمَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَبَاطِلٌ عَلَى قَوْلِكُمْ لِأَنَّكُمْ تُنْكِرُونَ نُبُوَّةَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ وَقَعَتْ مَعَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ أَصْلَ النُّبُوَّةِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا طَرِيقَ لَهُمْ إِلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ قَوْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِهَا قَوْلًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا وَإِنَّهُ بَاطِلٌ. الْبَحْثُ الثَّانِي: نُفَاةُ الْقِيَاسِ قَالُوا: الْحُكْمُ الْمُثْبَتُ بِالْقِيَاسِ مَظْنُونٌ وَغَيْرُ مَعْلُومٍ وَمَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا لَمْ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 29 إلى 30]

يَجُزِ الْقَوْلُ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ وَالسُّخْرِيَةِ: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَجَوَابُ مُثْبِتِي الْقِيَاسِ عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الدلالة قد ذكرناه مرارا. والله اعلم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 29 الى 30] قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) [في قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَمْرَ الْأَمْرِ بِالْفَحْشَاءِ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يَأْمُرُ بِالْقِسْطِ وَالْعَدْلِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ قِسْطًا لِوُجُوهٍ عَائِدَةٍ إِلَيْهِ فِي ذَاتِهِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُ بِهِ لِكَوْنِهِ كَذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْحُسْنَ إِنَّمَا يَحْسُنُ لِوُجُوهٍ عَائِدَةٍ إِلَيْهِ وَجَوَابُهُ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ عَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ بِالْقِسْطِ بِالْعَدْلِ وَبِمَا ظَهَرَ فِي الْمَعْقُولِ كَوْنُهُ حَسَنًا صَوَابًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ [آلِ عِمْرَانَ: 18] وَذَلِكَ الْقِسْطُ لَيْسَ إِلَّا شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَثَبَتَ أَنَّ الْقِسْطَ لَيْسَ إِلَّا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ أَمَرَ بِالْقِسْطِ وَهُوَ قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ ثُمَّ عَلَى مَعْرِفَةِ أَنَّهُ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ خَبَرٌ وَقَوْلُهُ: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ أَمْرٌ وَعَطْفُ الْأَمْرِ عَلَى الْخَبَرِ لَا يَجُوزُ. وَجَوَابُهُ التَّقْدِيرُ: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ. وَقُلْ: أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَقِيمُوا هُوَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْإِخْلَاصُ وَالسَّبَبُ فِي ذِكْرِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ إِقَامَةَ الْوَجْهِ فِي الْعِبَادَةِ قَدْ/ تَكُونُ بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَقَدْ تَكُونُ بِالْإِخْلَاصِ فِي تِلْكَ الْعِبَادَةِ وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْإِخْلَاصَ مَذْكُورٌ مِنْ بَعْدُ وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَعْنَى الْإِخْلَاصِ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَخْلِصُوا عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ. فَإِنْ قِيلَ: يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ إِذَا عَلَّقْتَ الْإِخْلَاصَ بِالدُّعَاءِ فَقَطْ. قُلْنَا: لَمَّا أَمْكَنَ رُجُوعُهُ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا لَمْ يَجُزْ قَصْرُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا خُصُوصًا مَعَ قَوْلِهِ: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَإِنَّهُ يَعُمُّ كُلَّ مَا يُسَمَّى دِينًا. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ زَمَانُ الصَّلَاةِ أَوْ مَكَانُهُ وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ إِقَامَةُ الْوَجْهِ لِلْقِبْلَةِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لَنَا أَنْ لَا نَعْتَبِرَ الْأَمَاكِنَ بل نعتبر

الْقِبْلَةَ فَكَانَ الْمَعْنَى: وَجِّهُوا وُجُوهَكُمْ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فِي الصَّلَاةِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَأَنْتُمْ عِنْدَ مَسْجِدٍ فَصَلُّوا فِيهِ وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ لَا أُصَلِّي إِلَّا فِي مَسْجِدِ قَوْمِي. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حَمْلُ لَفْظِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إِقَامَةِ الْوَجْهِ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ مِنْ مَسْجِدٍ إِلَى مَسْجِدٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ أَمَرَ بَعْدَهُ بِالدُّعَاءِ وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَعْمَالُ الصَّلَاةِ وَسَمَّاهَا دُعَاءً لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الدُّعَاءِ وَلِأَنَّ أَشْرَفَ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ هُوَ الدُّعَاءُ وَالذِّكْرُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُؤْتَى بِذَلِكَ الدُّعَاءِ مَعَ الْإِخْلَاصِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الْبَيِّنَةِ: 5] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَما بَدَأَكُمْ خَلَقَكُمْ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا تَعُودُونَ فَبَعَثَ الْمُؤْمِنَ مُؤْمِنًا وَالْكَافِرَ كَافِرًا فَإِنَّ مَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لِلشَّقَاوَةِ أَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ وَكَانَتْ عَاقِبَتَهُ الشَّقَاوَةُ وَإِنْ خَلَقَهُ لِلسَّعَادَةِ أَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَكَانَتْ عَاقِبَتَهُ السَّعَادَةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: كَما بَدَأَكُمْ خَلَقَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا كَذَلِكَ تَعُودُونَ أَحْيَاءً فَالْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ: احْتَجُّوا عَلَى صِحَّتِهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَقِيبَهُ قَوْلَهُ: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ وَذَلِكَ يُوجِبُ مَا قُلْنَاهُ. قال القاضي: هذا القول الباطل لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى بَدَأَنَا مُؤْمِنِينَ أَوْ كَافِرِينَ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ أَنْ يَكُونَ طَارِئًا وَهَذَا السُّؤَالُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ جَوَابَهُ أَنْ/ يُقَالَ: كَمَا بَدَأَكُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ فَكَذَلِكَ يَكُونُ الْحَالُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ في الآية أولا بكلمة «قسط» وَهِيَ كَلِمَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ ثَانِيًا ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي الْإِتْيَانِ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «طه» لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها [طه: 14 15] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْهُدَى وَالضَّلَالَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْمُرَادُ فَرِيقًا هَدَى إِلَى الْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ أَيِ الْعَذَابُ وَالصَّرْفُ عَنْ طَرِيقِ الثَّوَابِ. قَالَ الْقَاضِي: لِأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَحِقُّ عَلَيْهِمْ دون غيرهم إذا الْعَبْدُ لَا يَسْتَحِقُّ لِأَنْ يَضِلَّ عَنِ الدِّينِ إِذْ لَوِ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَأْمُرَ أَنْبِيَاءَهُ بِإِضْلَالِهِمْ عَنِ الدِّينِ كَمَا أَمَرَهُمْ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ الْمُسْتَحَقَّةِ وَفِي ذَلِكَ زَوَالُ الثِّقَةِ بِالنُّبُوَّاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: إِنَّ قَوْلَهُ: فَرِيقاً هَدى إِشَارَةٌ إِلَى الْمَاضِي وَعَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى سَيَهْدِيهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ فِي الْمَاضِي بِأَنَّهُ سَيَهْدِيهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ كَانَ هَذَا عُدُولًا عَنِ الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لِأَنَّا بَيَّنَّا بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ أَنَّ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 31 إلى 32]

الْهُدَى وَالضَّلَالَ لَيْسَا إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: نَقُولُ هَبْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْهِدَايَةِ وَالضَّلَالِ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ هَذَا الْحُكْمُ امْتَنَعَ مِنَ الْعَبْدِ صُدُورُ غَيْرِهِ وَإِلَّا لَزِمَ انْقِلَابُ ذَلِكَ الْحُكْمِ كَذِبًا وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَالْمُفْضِي إِلَى المحال فَكَانَ صُدُورُ غَيْرِ ذَلِكَ الْفِعْلِ مِنَ الْعَبْدِ مُحَالًا وَذَلِكَ يُوجِبُ فَسَادَ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: انْتِصَابُ قَوْلِهِ: وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَخَذَلَ فَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي لِأَجْلِهِ حَقَّتْ عَلَى هَذِهِ الْفِرْقَةِ الضَّلَالَةُ هُوَ إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله فَقَبِلُوا مَا دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ وَلَمْ يَتَأَمَّلُوا فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا التَّفْصِيلُ مَعَ قَوْلِكُمْ بِأَنَّ الْهُدَى وَالضَّلَالَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً. فَنَقُولُ: عِنْدَنَا مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِي يُوجِبُ الْفِعْلَ وَالدَّاعِيَةُ الَّتِي دَعَتْهُمْ إِلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ هِيَ: انهم اتخذوا الشيطان أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مَا بَيَّنَ لَهُمْ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ وَهَذَا بَعِيدٌ/ بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى عُمُومِهِ فَكُلُّ مَنْ شَرَعَ فِي بَاطِلٍ فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ وَالْعَذَابَ سَوَاءٌ حَسِبَ كَوْنَهُ حَقًّا أَوْ لَمْ يَحْسَبْ ذَلِكَ وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ لَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ الدِّينِ بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْجَزْمِ وَالْقَطْعِ وَالْيَقِينِ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَابَ الْكُفَّارَ بِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ كَوْنَهُمْ مُهْتَدِينَ وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْحُسْبَانَ مَذْمُومٌ وَإِلَّا لَمَا ذَمَّهُمْ بِذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 31 الى 32] يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) [في قوله تعالى يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ] اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْقِسْطِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْقِسْطِ أَمَرَ اللِّبَاسَ وَأَمَرَ الْمَأْكُولَ وَالْمَشْرُوبَ لَا جَرَمَ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِهِمَا وَأَيْضًا لَمَّا أَمَرَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف: 29] وَكَانَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ لَا جَرَمَ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ اللِّبَاسِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً الرِّجَالُ بِالنَّهَارِ وَالنِّسَاءُ بِاللَّيْلِ وَكَانُوا إِذَا وَصَلُوا إِلَى مَسْجِدِ مِنًى طَرَحُوا ثِيَابَهُمْ وَأَتَوُا الْمَسْجِدَ عُرَاةً وَقَالُوا: لَا نَطُوفُ فِي ثِيَابٍ أَصَبْنَا فِيهَا الذُّنُوبَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: نَفْعَلُ ذَلِكَ تَفَاؤُلًا حَتَّى نَتَعَرَّى عَنِ الذُّنُوبِ كَمَا تَعَرَّيْنَا عَنِ الثِّيَابِ وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ تَتَّخِذُ سِتْرًا تُعَلِّقُهُ عَلَى حِقْوَيْهَا لِتَسْتَتِرَ بِهِ عَنِ الْحُمْسِ وَهُمْ قُرَيْشٌ فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَكَانُوا يُصَلُّونَ فِي ثِيَابِهِمْ وَلَا يَأْكُلُونَ مِنَ الطَّعَامِ إِلَّا قُوتًا وَلَا يَأْكُلُونَ دَسَمًا فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنَّ نَفْعَلَ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ أَيْ: «الْبَسُوا ثِيَابَكُمْ وَكُلُوا اللَّحْمَ وَالدَّسَمَ وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الزِّينَةِ لُبْسُ الثِّيَابِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النُّورِ: 31] يَعْنِي الثِّيَابَ وَأَيْضًا فَالزِّينَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالسَّتْرِ التَّامِّ لِلْعَوْرَاتِ وَلِذَلِكَ صَارَ التَّزْيِينُ بِأَجْوَدِ الثِّيَابِ فِي

الْجَمْعِ وَالْأَعْيَادِ سُنَّةً وَأَيْضًا إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً [الأعراف: 26] فبين ان اللباس الذي يواري السوأة مِنْ قَبِيلِ الرِّيَاشِ وَالزِّينَةِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِأَخْذِ الزِّينَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَوَجَبَ أَنَّ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الزِّينَةِ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي تِلْكَ الْآيَةِ فَوَجَبَ حَمْلُ هَذِهِ الزِّينَةِ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَأَيْضًا فقد اجمع المفسرين على ان المراد بالزينة هاهنا لُبْسُ الثَّوْبِ الَّذِي يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: خُذُوا زِينَتَكُمْ أَمْرٌ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ فَثَبَتَ أَنَّ أَخْذَ الزِّينَةِ وَاجِبٌ وَكُلُّ مَا سِوَى اللُّبْسِ فَغَيْرُ وَاجِبٍ فَوَجَبَ حَمْلُ الزِّينَةِ عَلَى اللُّبْسِ عَمَلًا بِالنَّصِّ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: خُذُوا زِينَتَكُمْ أَمْرٌ وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ عنه اقامة كل صلاة وهاهنا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: إِنَّهُ: تَعَالَى عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرُ إِبَاحَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: خُذُوا زِينَتَكُمْ أَمْرَ إِبَاحَةٍ أَيْضًا وَجَوَابُهُ: إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الظَّاهِرِ فِي الْمَعْطُوفِ تَرْكُهُ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَأَيْضًا فَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ قَدْ يَكُونَانِ وَاجِبَيْنِ أَيْضًا فِي الْحُكْمِ: السُّؤَالُ الثَّانِي: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمَنْعِ مِنَ الطواف حال العربي. وَالْجَوَابُ: أَنَّا بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ يَقْتَضِي وُجُوبَ اللُّبْسِ التَّامِّ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ لِأَنَّ اللُّبْسَ التَّامَّ هُوَ الزِّينَةُ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْقَدْرِ الَّذِي لَا يَجِبُ سَتْرُهُ مِنَ الْأَعْضَاءِ إِجْمَاعًا فَبَقِيَ الْبَاقِي دَاخِلًا تَحْتَ اللَّفْظِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ وَجَبَ أَنْ تَفْسُدَ الصَّلَاةُ عِنْدَ تَرْكِهِ لِأَنَّ تَرْكَهُ يُوجِبُ تَرْكَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكُ الْمَأْمُورِ بِهِ مَعْصِيَةٌ وَالْمَعْصِيَةُ تُوجِبُ الْعِقَابَ عَلَى مَا شَرَحْنَا هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فِي الْأُصُولِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةِ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِمَاءِ الْوَرْدِ فَقَالُوا: أَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ: أَقِيمُوا الصَّلاةَ [الْأَنْعَامِ: 72] وَالصَّلَاةُ عِبَارَةٌ عَنِ الدُّعَاءِ وَقَدْ أَتَى بِهَا وَالْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ يُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنِ الْعُهْدَةِ فَمُقْتَضَى هَذَا الدَّلِيلِ أَنْ لَا تَتَوَقَّفَ صِحَّةُ الصَّلَاةِ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ إِلَّا أَنَّا أَوْجَبْنَا هَذَا الْمَعْنَى عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَلُبْسُ الثَّوْبِ الْمَغْسُولِ بِمَاءِ الْوَرْدِ عَلَى أَقْصَى وُجُوهِ النَّظَافَةِ أَخْذُ الزِّينَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَافِيًا/ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ. وَجَوَابُنَا: إِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ: أَقِيمُوا الصَّلاةَ يَنْصَرِفَانِ إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ وَذَلِكَ هُوَ عَمَلُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وسلم لم قُلْتُمْ إِنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى فِي الثَّوْبِ الْمَغْسُولِ بِمَاءِ الْوَرْدِ؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا فَاعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ مِنَ الطَّعَامِ فِي أَيَّامِ حَجِّهِمْ إِلَّا الْقَلِيلَ وَكَانُوا لَا يَأْكُلُونَ الدَّسَمَ يُعَظِّمُونَ بِذَلِكَ حَجَّهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ لِبَيَانِ فَسَادِ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِمَّا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ فَحَرَّمَ عَلَيْهِمُ الْبَحِيرَةَ

وَالسَّائِبَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ بَيَانًا لِفَسَادِ قَوْلِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ الْأَوْقَاتَ وَالْأَحْوَالَ وَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَطْعُومَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ فِيهَا هُوَ الْحِلَّ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ وَفِي كُلِّ الْمَطْعُومَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ الْمُنْفَصِلُ وَالْعَقْلُ أَيْضًا مُؤَكِّدٌ لَهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْحِلُّ وَالْإِبَاحَةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُسْرِفُوا فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ بِحَيْثُ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الحرم وَلَا يُكْثِرُ الْإِنْفَاقَ الْمُسْتَقْبَحَ وَلَا يَتَنَاوَلُ مِقْدَارًا كَثِيرًا يَضُرُّهُ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ: وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِسْرَافِ قَوْلُهُمْ بِتَحْرِيمِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ فَإِنَّهُمْ أَخْرَجُوهَا عَنْ مِلْكِهِمْ وَتَرَكُوا الِانْتِفَاعَ بِهَا وَأَيْضًا إِنَّهُمْ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي وَقْتِ الْحَجِّ أَيْضًا أَشْيَاءَ أَحَلَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ وَذَلِكَ إِسْرَافٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَمْلَ لَفْظِ الْإِسْرَافِ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ على المنع من لَا يَجُوزُ وَيَنْبَغِي. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وَهَذَا نِهَايَةُ التَّهْدِيدِ لِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى بَقِيَ مَحْرُومًا عَنِ الثَّوَابِ لِأَنَّ مَعْنَى مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى الْعَبْدَ إِيصَالُهُ الثَّوَابَ إِلَيْهِ فَعَدَمُ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ حُصُولِ الثَّوَابِ وَمَتَى لَمْ يَحْصُلِ الثَّوَابُ فَقَدْ حَصَلَ الْعِقَابُ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ مُكَلَّفٌ لَا يُثَابُ وَلَا يُعَاقَبُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ ظَاهِرُهَا اسْتِفْهَامٌ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ تَقْرِيرُ الْإِنْكَارِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ الْإِنْكَارِ وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الزِّينَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اللِّبَاسُ الَّذِي تُسْتَرُ بِهِ الْعَوْرَةُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَكَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الزِّينَةِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ الزِّينَةِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ التَّزْيِينِ وَيَدْخُلُ تَحْتَهَا تَنْظِيفُ الْبَدَنِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَيَدْخُلُ تَحْتَهَا الْمَرْكُوبُ وَيَدْخُلُ تَحْتَهَا أَيْضًا أَنْوَاعُ الْحُلِيِّ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ زِينَةٌ وَلَوْلَا النَّصُّ الْوَارِدُ فِي تَحْرِيمِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْإِبْرِيسَمِ عَلَى الرِّجَالِ لَكَانَ ذَلِكَ دَاخِلًا تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ وَيَدْخُلُ تَحْتَ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ كُلُّ مَا يُسْتَلَذُّ وَيُشْتَهَى مِنْ أَنْوَاعِ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ وَيَدْخُلُ أَيْضًا تَحْتَهُ التَّمَتُّعُ بِالنِّسَاءِ وَبِالطِّيبِ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ: أَنَّهُ أَتَى الرَّسُولَ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَقَالَ: غَلَبَنِي حَدِيثُ النَّفْسِ عَزَمْتُ عَلَى أَنْ أَخْتَصِيَ فَقَالَ: «مَهْلًا يَا عُثْمَانُ إِنَّ خِصَاءَ أُمَّتِي الصِّيَامُ» قَالَ: فَإِنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي بِالتَّرَهُّبِ. قَالَ: «إِنَّ تَرَهُّبَ أُمَّتِي الْقُعُودُ فِي الْمَسَاجِدِ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: تُحَدِّثُنِي نَفْسِي بِالسِّيَاحَةِ» . فَقَالَ: «سِيَاحَةُ أُمَّتِي الْغَزْوُ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ» فَقَالَ: إِنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أَنْ أَخْرُجَ مِمَّا أَمْلِكُ فَقَالَ: «الْأَوْلَى أَنْ تَكْفِيَ نَفْسَكَ وَعِيَالَكَ وَأَنْ تَرْحَمَ الْيَتِيمَ وَالْمِسْكِينَ فَتُعْطِيَهُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» فَقَالَ: إِنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أَنْ أُطَلِّقَ خَوْلَةَ فَقَالَ: «إِنَّ الْهِجْرَةَ فِي

أُمَّتِي هِجْرَةُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ» قَالَ: فَإِنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أَنْ لَا أَغْشَاهَا. قَالَ: «إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا غَشِيَ أَهْلَهُ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينَهُ فَإِنْ لَمْ يُصِبْ مِنْ وَقْعَتِهِ تِلْكَ وَلَدًا كَانَ لَهُ وَصَيْفٌ فِي الْجَنَّةِ وَإِذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ مَاتَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ قُرَّةَ عَيْنٍ وَفَرِحَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الْحِنْثَ كَانَ لَهُ شَفِيعًا وَرَحْمَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ: فَإِنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أَنْ لَا آكُلَ اللَّحْمَ قَالَ: «مَهْلًا إِنِّي آكُلُ اللَّحْمَ إِذَا وَجَدْتُهُ وَلَوْ سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُطْعِمَنِيهِ كُلَّ يَوْمٍ فَعَلَهُ» قَالَ: فَإِنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أَنْ لَا أَمَسَّ الطِّيبَ. قَالَ: «مَهْلًا فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَنِي بِالطِّيبِ غَبًّا وَقَالَ لَا تَتْرُكْهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» ثُمَّ قَالَ: «يَا عُثْمَانُ لَا تَرْغَبْ عَنْ سُنَّتِي فَإِنَّ مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ صَرَفَتِ الْمَلَائِكَةُ وَجْهَهُ عَنْ حَوْضِي» . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الْكَامِلَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الزِّينَةِ مُبَاحٌ مَأْذُونٌ فِيهِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ فَلِهَذَا السَّبَبِ أَدْخَلْنَا الْكُلَّ تَحْتَ قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ مَا تَزَيَّنَ الْإِنْسَانُ بِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُسْتَطَابُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا فَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي حِلَّ كُلِّ الْمَنَافِعِ وَهَذَا أَصْلٌ مُعْتَبَرٌ فِي كُلِّ الشَّرِيعَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاقِعَةٍ تَقَعُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّفْعُ فِيهَا خَالِصًا أَوْ رَاجِحًا أَوِ الضَّرَرُ يَكُونُ/ خَالِصًا أَوْ رَاجِحًا أَوْ يَتَسَاوَى الضَّرَرُ وَالنَّفْعُ أَوْ يَرْتَفِعَا. أَمَّا الْقِسْمَانِ الْأَخِيرَانِ وَهُوَ أَنْ يَتَعَادَلَ الضَّرَرُ وَالنَّفْعُ أَوْ لَمْ يُوجَدَا قَطُّ فَفِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ وَجَبَ الْحُكْمُ بِبَقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ وَإِنْ كَانَ النَّفْعُ خَالِصًا وَجَبَ الْإِطْلَاقُ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ النَّفْعُ رَاجِحًا وَالضَّرَرُ مَرْجُوحًا يُقَابَلُ الْمِثْلُ بِالْمِثْلِ وَيَبْقَى الْقَدْرُ الزَّائِدُ نَفْعًا خَالِصًا فَيَلْتَحِقُ بِالْقِسْمِ الَّذِي يَكُونُ النَّفْعُ فِيهِ خَالِصًا وَإِنْ كَانَ الضَّرَرُ خَالِصًا كَانَ تَرْكُهُ خَالِصَ النَّفْعِ، فَيَلْتَحِقُ بِالْقِسْمِ الْمُتَقَدِّمِ وَإِنْ كَانَ الضَّرَرُ رَاجِحًا بَقِيَ الْقَدْرُ الزَّائِدُ ضَرَرًا خَالِصًا فَكَانَ تَرْكُهُ نَفْعًا خَالِصًا، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ صَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ ثُمَّ إِنْ وَجَدْنَا نَصًّا خَالِصًا فِي الْوَاقِعَةِ قَضَيْنَا فِي النَّفْعِ بِالْحِلِّ وَفِي الضَّرَرِ بِالْحُرْمَةِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ صَارَ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا دَاخِلًا تَحْتَ النَّصِّ ثُمَّ قَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ فَلَوْ تَعَبَّدَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْقِيَاسِ لَكَانَ حُكْمُ ذَلِكَ الْقِيَاسِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِحُكْمِ هَذَا النَّصِّ الْعَامِّ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ ضَائِعًا لِأَنَّ هَذَا النَّصَّ مُسْتَقِلٌّ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا كَانَ ذَلِكَ الْقِيَاسُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ هَذَا النَّصِّ فَيَكُونُ مَرْدُودًا لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالنَّصِّ أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ. قَالُوا: وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَكُونُ الْقُرْآنُ وَحْدَهُ وَافِيًا بِبَيَانِ كُلِّ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَلَا حَاجَةَ مَعَهُ إِلَى طَرِيقٍ آخَرَ فَهَذَا تَقْرِيرُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ وَافٍ بِبَيَانِ جَمِيعِ الْوَقَائِعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَفْسِيرُ الْآيَةِ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا غَيْرَ خَالِصَةٍ لَهُمْ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ شُرَكَاؤُهُمْ فِيهَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَشْرَكُهُمْ فِيهَا أَحَدٌ. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا قِيلَ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلِغَيْرِهِمْ؟ قُلْنَا: فُهِمَ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهَا خُلِقَتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا عَلَى طَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَأَنَّ الْكَفَرَةَ تَبَعٌ لَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ [الْبَقَرَةِ: 126] وَالْحَاصِلُ: إِنَّ ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ إِنَّمَا تصفوا عَنْ شَوَائِبِ الرَّحْمَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهَا تَكُونُ مُكَدَّرَةً مَشُوبَةً.

[سورة الأعراف (7) : آية 33]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ خَالِصَةٌ بِالرَّفْعِ وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ قَالَ الزَّجَّاجُ: الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ عَاقِلٌ لَبِيبٌ وَالْمَعْنَى: قُلْ هِيَ ثَابِتَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: خَالِصَةٌ خَبَرَ المبتدا وقوله: لِلَّذِينَ آمَنُوا متعلقا بخالصة. وَالتَّقْدِيرُ: هِيَ خَالِصَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ فَعَلَى الْحَالِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا ثَابِتَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي حَالِ كَوْنِهَا خَالِصَةً لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَمَعْنَى تَفْصِيلِ الْآيَاتِ قَدْ سَبَقَ وَقَوْلُهُ: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أَيْ لِقَوْمٍ يُمْكِنُهُمُ النَّظَرُ بِهِ وَالِاسْتِدْلَالُ حَتَّى يَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى تَحْصِيلِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة الأعراف (7) : آية 33] قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَسْكَنَ حَمْزَةُ الْيَاءَ مِنْ رَبِّيَ وَالْبَاقُونَ فَتَحُوهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الَّذِي حَرَّمُوهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْوَاعَ الْمُحَرَّمَاتِ فَحَرَّمَ أَوَّلًا الْفَوَاحِشَ وَثَانِيًا الْإِثْمَ وَاخْتَلَفُوا فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: إِنَّ الْفَوَاحِشَ عِبَارَةٌ عَنِ الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ قَدْ تَفَاحَشَ قُبْحُهَا أَيْ تَزَايَدَ وَالْإِثْمُ عِبَارَةٌ عَنِ الصَّغَائِرِ فَكَانَ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ حَرَّمَ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ وَطَعَنَ الْقَاضِي فِيهِ فَقَالَ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ: الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَالْكُفْرُ لَيْسَ بِإِثْمٍ وَهُوَ بَعِيدٌ. الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْفَاحِشَةَ اسْمٌ لَا يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ وَالْإِثْمَ اسْمٌ لِمَا يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُغَايِرًا لِلْأَوَّلِ إِلَّا أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْهُ وَالسُّؤَالُ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ الْفَاحِشَةَ اسْمٌ لِلْكَبِيرَةِ وَالْإِثْمُ اسْمٌ لِمُطْلَقِ الذَّنْبِ سَوَاءٌ كَانَ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا. وَالْفَائِدَةُ فِيهِ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الْكَبِيرَةَ أَرْدَفَهَا بِتَحْرِيمِ مُطْلَقِ الذَّنْبِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ التَّحْرِيمَ مَقْصُودٌ عَلَى الْكَبِيرَةِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ اخْتِيَارُ الْقَاضِي. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: إِنَّ الْفَاحِشَةَ وَإِنْ كَانَتْ بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ اسْمًا لِكُلِّ مَا تَفَاحَشَ وَتَزَايَدَ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا أَنَّهُ فِي الْعُرْفِ مَخْصُوصٌ بِالزِّيَادَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الزِّنَا: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً [الإسراء: 32] وَلِأَنَّ لَفْظَ الْفَاحِشَةِ إِذَا أُطْلِقَ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ إِلَّا ذَلِكَ وَإِذَا قِيلَ فُلَانٌ فَحَّاشٌ: فُهِمَ أَنَّهُ يَشْتُمُ النَّاسَ بِأَلْفَاظِ الْوِقَاعِ فَوَجَبَ حَمْلُ لَفْظِ الْفَاحِشَةِ عَلَى الزِّنَا فَقَطْ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي قَوْلِهِ: مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: يُرِيدُ سِرَّ الزِّنَا وَهُوَ الَّذِي يَقَعُ عَلَى سَبِيلِ الْعِشْقِ وَالْمَحَبَّةِ وَمَا ظَهَرَ مِنْهَا بِأَنْ يَقَعَ عَلَانِيَةً. وَالثَّانِي: أَنْ يُرَادَ بِمَا ظهر من الزنا الملاسمة وَالْمُعَانَقَةُ وَما بَطَنَ الدُّخُولُ. وَأَمَّا الْإِثْمُ فَيَجِبُ تَخْصِيصُهُ بِالْخَمْرِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ الْخَمْرِ: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [الْبَقَرَةِ: 219] وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ قَوْلُهُ: وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَنَقُولُ: أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: الْمُرَادُ بِالْفَوَاحِشِ

جَمِيعُ الْكَبَائِرِ وَبِالْإِثْمِ جَمِيعُ الذُّنُوبِ. قَالُوا: إِنَّ الْبَغْيَ وَالشِّرْكَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَا دَاخِلَيْنِ تَحْتَ الْفَوَاحِشِ وَتَحْتَ الْإِثْمِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمَا أَقْبَحُ أَنْوَاعِ الذُّنُوبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: 98] وَفِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الْأَحْزَابِ: 7] وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا الْفَاحِشَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالزِّنَا وَالْإِثْمُ بِالْخَمْرِ قَالُوا: الْبَغْيُ وَالشِّرْكُ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ غَيْرُ دَاخِلَيْنِ تَحْتَ الْفَوَاحِشِ وَالْإِثْمِ فَنَقُولُ: الْبَغْيُ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْغَيْرِ نَفْسًا أَوْ مَالًا أَوْ عِرْضًا وَأَيْضًا قَدْ يُرَادُ بِالْبَغْيِ الْخُرُوجُ عَلَى سُلْطَانِ الْوَقْتِ. فَإِنْ قِيلَ: الْبَغْيُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِغَيْرِ الْحَقِّ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا الشَّرْطِ. قُلْنَا إِنَّهُ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الإسراء: 33] وَالْمَعْنَى: لَا تُقْدِمُوا عَلَى إِيذَاءِ النَّاسِ بِالْقَتْلِ وَالْقَهْرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَكُمْ فِيهِ حَقٌّ فَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَغْيًا. وَالنَّوْعُ الرَّابِعُ: مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا يُوهِمُ أَنَّ فِي الشِّرْكِ بِاللَّهِ مَا قَدْ أَنْزَلَ بِهِ سُلْطَانًا وَجَوَابُهُ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالشَّيْءِ الَّذِي لَيْسَ عَلَى ثُبُوتِهِ حُجَّةٌ وَلَا سُلْطَانٌ مُمْتَنِعٌ فَلَمَّا امْتَنَعَ حُصُولُ الْحُجَّةِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالشِّرْكِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِهِ بَاطِلًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّقْلِيدِ بَاطِلٌ. وَالنَّوْعُ الْخَامِسُ: مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 28] وَبَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَلِمَةُ «إِنَّمَا» تُفِيدُ الْحَصْرَ فَقَوْلُهُ: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ كَذَا وَكَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ وَالْمُحَرَّمَاتُ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَالْجَوَابُ: إِنْ قُلْنَا الْفَاحِشَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى مُطْلَقِ الْكَبَائِرِ وَالْإِثْمُ عَلَى مُطْلَقِ الذَّنْبِ دَخَلَ كُلُّ/ الذُّنُوبِ فِيهِ وَإِنْ حَمْلَنَا الْفَاحِشَةَ عَلَى الزِّنَا وَالْإِثْمَ عَلَى الْخَمْرِ قُلْنَا: الْجِنَايَاتُ مَحْصُورَةٌ فِي خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: الْجِنَايَاتُ عَلَى الْأَنْسَابِ وَهِيَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِالزِّنَا وَهِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ وَثَانِيهَا: الْجِنَايَاتُ عَلَى الْعُقُولِ وَهِيَ شُرْبُ الْخَمْرِ وَإِلَيْهَا الإشارة بقوله: الْإِثْمَ وَثَالِثُهَا: الْجِنَايَاتُ عَلَى الْأَعْرَاضِ. وَرَابِعُهَا: الْجِنَايَاتُ عَلَى النُّفُوسِ وَعَلَى الْأَمْوَالِ وَإِلَيْهِمَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَخَامِسُهَا: الْجِنَايَاتُ عَلَى الْأَدْيَانِ وَهِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهَا: الطَّعْنُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَثَانِيهَا: الْقَوْلُ فِي دِينِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ فَلَمَّا كَانَتْ أُصُولُ الْجِنَايَاتِ هِيَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَكَانَتِ الْبَوَاقِي كَالْفُرُوعِ وَالتَّوَابِعِ لَا جَرَمَ جَعَلَ تَعَالَى ذِكْرَهَا جَارِيًا مَجْرَى ذِكْرِ الْكُلِّ فَأَدْخَلَ فِيهَا كَلِمَةَ «إِنَّمَا» الْمُفِيدَةِ لِلْحَصْرِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: الْفَاحِشَةُ وَالْإِثْمُ هُوَ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ كَلَامٌ خَالٍ عَنِ الْفَائِدَةِ وَالْجَوَابُ كَوْنُ الْفِعْلِ فَاحِشَةً هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ اشْتِمَالِهِ فِي ذَاتِهِ عَلَى أُمُورٍ باعتبارها يجب

[سورة الأعراف (7) : آية 34]

[سورة الأعراف (7) : آية 34] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَأَحْوَالَ التَّكْلِيفِ بَيَّنَ أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَجَلًا مُعَيَّنًا لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ وَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ الْأَجَلُ مَاتَ لَا مَحَالَةَ وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّخْوِيفُ لِيَتَشَدَّدَ الْمَرْءُ فِي الْقِيَامِ بِالتَّكَالِيفِ كَمَا يَنْبَغِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَجَلَ هُوَ الْوَقْتُ الْمُوَقَّتُ الْمَضْرُوبُ لِانْقِضَاءِ الْمُهْلَةِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُقَاتِلٍ إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمْهَلَ كُلَّ أُمَّةٍ كَذَّبَتْ رَسُولَهَا إِلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُهُمْ إِلَى أَنْ يَنْظُرُوا ذَلِكَ الْوَقْتَ الَّذِي يَصِيرُونَ فِيهِ مُسْتَحِقِّينَ لِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ نَزَلَ ذَلِكَ الْعَذَابُ لَا مَحَالَةَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْأَجَلِ الْعُمُرُ فَإِذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ الْأَجَلُ وَكَمُلَ امْتَنَعَ وُقُوعُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِيهِ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ وَلَمْ يَقُلْ وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَجَلٌ/ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: إِنَّمَا قَالَ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ وَلَمْ يَقُلْ لِكُلِّ أَحَدٍ لِأَنَّ الْأُمَّةَ هِيَ الْجَمَاعَةُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَعْلُومٌ مِنْ حَالِهَا التَّقَارُبُ فِي الْأَجَلِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْأُمَّةِ فِيمَا يَجْرِي مَجْرَى الْوَعِيدِ أَفْحَمُ وَأَيْضًا فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ فِي نُزُولِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ أُمَّتَنَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: لَزِمَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ أَحَدٍ أَجَلٌ لَا يَقَعُ فِيهِ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فَيَكُونُ الْمَقْتُولُ مَيِّتًا بِأَجَلِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْدِرُ عَلَى تَبْقِيَتِهِ أَزْيَدَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَنْقَصَ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُمِيتَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي خُرُوجَهُ تَعَالَى عَنْ كَوْنِهِ قَادِرًا مُخْتَارًا وَصَيْرُورَتِهِ كَالْمُوجِبِ لِذَاتِهِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُمْتَنِعٌ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ الْأَمْرَ يَقَعُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ ذَلِكَ الْأَجَلِ الْمُعَيَّنِ لَا بِسَاعَةٍ وَلَا بِمَا هُوَ أَقَلُّ مِنْ سَاعَةٍ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ السَّاعَةَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ أَقَلُّ أَسْمَاءِ الْأَوْقَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلا يَسْتَقْدِمُونَ فَإِنَّ عِنْدَ حُضُورِ الْأَجَلِ امْتَنَعَ عَقْلًا وُقُوعُ ذَلِكَ الْأَجَلِ فِي الْوَقْتِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ. قُلْنَا: يُحْمَلُ قَوْلُهُ: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ عَلَى قُرْبِ حُضُورِ الْأَجَلِ. تَقُولُ الْعَرَبُ: جَاءَ الشِّتَاءُ إِذَا قَارَبَ وَقْتُهُ وَمَعَ مُقَارَبَةِ الْأَجَلِ يَصِحُّ التَّقَدُّمُ عَلَى ذلك تارة والتأخر عنه اخرى. [سورة الأعراف (7) : الآيات 35 الى 36] يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَحْوَالَ التَّكْلِيفِ وَبَيَّنَ أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَجَلًا مُعَيَّنًا لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ بَيَّنَ أَنَّهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ كَانُوا مُطِيعِينَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا حُزْنٌ وَإِنْ كَانُوا مُتَمَرِّدِينَ وَقَعُوا فِي أَشَدِّ الْعَذَابِ وَقَوْلُهُ: إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ هِيَ إِنِ الشَّرْطِيَّةُ ضُمَّتْ إِلَيْهَا مَا مُؤَكِّدَةً لِمَعْنَى الشَّرْطِ وَلِذَلِكَ لَزِمَتْ فِعْلَهَا النُّونُ/ الثَّقِيلَةُ وَجَزَاءُ هَذَا الشَّرْطِ هُوَ الْفَاءُ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ وَإِنَّمَا قَالَ رُسُلٌ وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَجْرَى الْكَلَامَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ سُنَّتُهُ فِي الْأُمَمِ وَإِنَّمَا قَالَ: مِنْكُمْ لِأَنَّ كَوْنَ الرَّسُولِ مِنْهُمْ أَقْطَعُ لِعُذْرِهِمْ وَأَبْيَنُ لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ بِأَحْوَالِهِ وَبِطَهَارَتِهِ تَكُونُ مُتَقَدِّمَةً. وَثَانِيهَا: أَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ بِمَا يَلِيقُ بِقُدْرَتِهِ تَكُونُ مُتَقَدِّمَةً فَلَا جَرَمَ لَا يَقَعُ فِي الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي تَظْهَرُ عَلَيْهِ شَكٌّ وَشُبْهَةٌ فِي أَنَّهَا حَصَلَتْ بِقُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى لَا بِقُدْرَتِهِ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الْأَنْعَامِ: 9] . وَثَالِثُهَا: مَا يَحْصُلُ مِنَ الْأُلْفَةِ وَسُكُونِ الْقَلْبِ إِلَى أَبْنَاءِ الْجِنْسِ بِخِلَافِ مَا لَا يَكُونُ مِنَ الْجِنْسِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ مَعَهُ الْأُلْفَةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَقِيلَ تِلْكَ الْآيَاتُ هِيَ الْقُرْآنُ وَقِيلَ الدَّلَائِلُ وَقِيلَ الْأَحْكَامُ وَالشَّرَائِعُ وَالْأَوْلَى دُخُولُ الْكُلِّ فِيهِ لِأَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ آيَاتُ اللَّه تَعَالَى لِأَنَّ الرُّسُلَ إِذَا جَاءُوا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَذْكُرُوا جَمِيعَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ ثُمَّ قَسَّمَ تَعَالَى حَالَ الْأُمَّةِ فَقَالَ: فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ وَجَمْعُ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ مِمَّا يُوجِبُ الثَّوَابَ لان الملتقي هُوَ الَّذِي يَتَّقِي كُلَّ مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ: وَأَصْلَحَ أَنَّهُ أَتَى بِكُلِّ مَا أُمِرَ بِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَتِهِ: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أَيْ بِسَبَبِ الْأَحْوَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أَيْ بِسَبَبِ الْأَحْوَالِ الْمَاضِيَةِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا جُوِّزَ وُصُولُ الْمَضَرَّةِ إِلَيْهِ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ خَافَ وَإِذَا تَفَكَّرَ فَعَلِمَ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِ بَعْضُ مَا لَا يَنْبَغِي فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي حَصَلَ الْحُزْنُ فِي قَلْبِهِ لِهَذَا السَّبَبِ وَالْأَوْلَى فِي نَفْيِ الْحُزْنِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ لَا يَحْزَنَ عَلَى مَا فَاتَهُ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ حُزْنَهُ عَلَى عِقَابِ الْآخِرَةِ يَجِبُ أَنْ يَرْتَفِعَ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ زَوَالِ الْخَوْفِ فَيَكُونُ كَالْمَعَادِ وَحَمْلُهُ عَلَى الْفَائِدَةِ الزَّائِدَةِ أَوْلَى فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ حَالَهُ فِي الْآخِرَةِ تُفَارِقُ حَالَهُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَا يَحْصُلُ فِي قَلْبِهِ خَوْفٌ وَلَا حُزْنٌ الْبَتَّةَ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الطَّاعَاتِ هَلْ يَلْحَقُهُمْ خَوْفٌ وَحُزْنٌ عِنْدَ أَهْوَالِ يَوْمِ القيامة فذهب بعضهم الا أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُمْ ذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الْأَنْبِيَاءِ: 103] وذهب بعضهم الى ان يَلْحَقُهُمْ ذَلِكَ الْفَزَعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى [الْحَجِّ: 2] أَيْ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ. وَأَجَابَ هَؤُلَاءِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: بِأَنَّ مَعْنَاهُ ان أمرهم يئول إِلَى الْأَمْنِ وَالسُّرُورِ كَقَوْلِ الطَّبِيبِ لِلْمَرِيضِ: لَا بأس عليك اي أمرك يئول إِلَى الْعَافِيَةِ وَالسَّلَامَةِ وَإِنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ فِي بَأْسٍ مِنْ/ عِلَّتِهِ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي يَجِيءُ بها الرسل واستكبروا ان انفوا من قبولها وتمردوا عن التزامها فأولئك أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَقَدْ تَمَسَّكَ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ لَا يَبْقَى مُخَلَّدًا فِي النَّارِ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَالْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْ قَبُولِهَا هُمُ الَّذِينَ يَبْقُونَ مُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ وَكَلِمَةُ هُمْ تُفِيدُ الْحَصْرَ فَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ لَا يَكُونُ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِكْبَارِ لَا يَبْقَى مُخَلَّدًا فِي النَّارِ. والله اعلم.

[سورة الأعراف (7) : آية 37]

[سورة الأعراف (7) : آية 37] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) [في قَوْلُهُ تَعَالَى فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ] اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها [الأعراف: 36] وَقَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ أَيْ فَمَنْ أَعْظَمُ ظُلْمًا مِمَّنْ يَقُولُ عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ أَوْ كَذَّبَ مَا قَالَهُ. وَالْأَوَّلُ: هُوَ الْحُكْمُ بِوُجُودِ مَا لَمْ يُوجَدْ. وَالثَّانِي: هُوَ الْحُكْمُ بِإِنْكَارِ مَا وُجِدَ وَالْأَوَّلُ دَخَلَ فِيهِ قَوْلُ مَنْ أَثْبَتَ الشَّرِيكَ لِلَّهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الشَّرِيكُ عِبَارَةً عَنِ الْأَصْنَامِ أَوْ عَنِ الْكَوَاكِبِ أَوْ عَنْ مَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِيَزْدَانُ وَأَهْرَمَنُ. وَيَدْخُلُ فِيهِ قَوْلُ مَنْ أَثْبَتَ الْبَنَاتَ وَالْبَنِينَ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَدْخُلُ فِيهِ قَوْلُ مَنْ أَضَافَ الْأَحْكَامَ الْبَاطِلَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: يَدْخُلُ فِيهِ قَوْلُ مَنْ أَنْكَرَ كَوْنَ الْقُرْآنِ كِتَابًا نَازِلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُ مَنْ أَنْكَرَ نبوة محمد صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ النَّصِيبِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْعَذَابُ وَالْمَعْنَى يَنَالُهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابُ الْمُعَيَّنُ الَّذِي جَعَلَهُ نَصِيبًا لَهُمْ فِي الْكِتَابِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ الْمُعَيَّنِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ سَوَادُ الْوَجْهِ وَزُرْقَةُ الْعَيْنِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزُّمَرِ: 60] وَقَالَ الزَّجَّاجُ: / هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى [اللَّيْلِ: 14] وَفِي قَوْلِهِ: يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً [الْجِنِّ: 17] وَفِي قَوْلِهِ: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غَافِرٍ: 71] فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ هِيَ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ عَلَى قَدْرِ ذُنُوبِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا النَّصِيبِ شَيْءٌ سِوَى الْعَذَابِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَقِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَجِبُ لَهُمْ عَلَيْنَا إِذَا كَانُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ لَنَا ان لا تتعدى عَلَيْهِمْ وَأَنْ نُنْصِفَهُمْ وَأَنْ نَذُبَّ عَنْهُمْ فَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى النَّصِيبِ مِنَ الْكِتَابِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ أَيْ مَا سَبَقَ لَهُمْ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَفِي مَشِيئَتِهِ مِنَ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ فَإِنْ قَضَى اللَّهُ لَهُمْ بِالْخَتْمِ عَلَى الشَّقَاوَةِ أَبْقَاهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَإِنْ قَضَى لَهُمْ بِالْخَتْمِ عَلَى السَّعَادَةِ نَقَلَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَقَالَ الرَّبِيعُ وَابْنُ زَيْدٍ يَعْنِي: مَا كَتَبَ لَهُمْ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَعْمَارِ فَإِذَا فَنِيَتْ وَانْقَرَضَتْ وَفَرَغُوا مِنْهَا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ إِنَّمَا حَصَلَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ وَلَفْظُ «النَّصِيبِ» مُجْمَلٌ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُرِ وَالرِّزْقِ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ وَإِنْ بَلَغُوا فِي الْكُفْرِ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ الْعَظِيمَ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَانِعٍ مِنْ أَنْ يَنَالَهُمْ مَا كُتِبَ لهم من رزق وعمر تفصلا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِكَيْ يُصْلِحُوا وَيَتُوبُوا وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ لِلتَّوَفِّي كَالْغَايَةِ لِحُصُولِ ذَلِكَ النَّصِيبِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُصُولُ ذَلِكَ النَّصِيبِ مُتَقَدِّمًا عَلَى حُصُولِ الْوَفَاةِ وَالْمُتَقَدِّمُ عَلَى حُصُولِ الْوَفَاةِ لَيْسَ إِلَّا الْعُمُرَ وَالرِّزْقَ. أَمَّا قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: لَا يَجُوزُ إِمَالَةُ «حَتَّى» وَ «أَلَّا» وَ «أَمَّا» وَهَذِهِ أَلِفَاتٌ أُلْزِمَتِ الْفَتْحَ لِأَنَّهَا أَوَاخِرُ حُرُوفٍ جَاءَتْ لِمَعَانٍ يُفْصَلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَوَاخِرِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي فِيهَا الْأَلِفُ نَحْوَ: حُبْلَى وَهُدًى إِلَّا أَنَّ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 38 إلى 39]

حَتَّى كُتِبَتْ بِالْيَاءِ لِأَنَّهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَحْرُفٍ فَأَشْبَهَتْ سَكْرَى. وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: لَا يَجُوزُ إِمَالَةُ حَتَّى لِأَنَّهَا حَرْفٌ لَا يَتَصَرَّفُ وَالْإِمَالَةُ ضَرْبٌ مِنَ التَّصَرُّفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ فِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ هُوَ قَبْضُ الْأَرْوَاحِ لِأَنَّ لَفْظَ الْوَفَاةِ يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمَوْتُ قِيَامَةُ الْكَافِرِ فَالْمَلَائِكَةُ يُطَالِبُونَهُمْ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ الْمَوْتِ عَلَى سَبِيلِ الزَّجْرِ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّهْدِيدِ وَهَؤُلَاءِ الرُّسُلُ هُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَعْوَانُهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الزَّجَّاجِ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا أَيْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ يَتَوَفَّوْنَهُمْ أَيْ يَتَوَفَّوْنَ مُدَّتَهُمْ عِنْدَ حَشْرِهِمْ إِلَى/ النَّارِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ يَسْتَكْمِلُونَ عِدَّتَهُمْ حَتَّى لَا يَنْفَلِتَ مِنْهُمْ أَحَدٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ مَعْنَاهُ أَيْنَ الشُّرَكَاءُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَدْعُونَهُمْ وَتَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَلَفْظَةُ «مَا» وَقَعَتْ مَوْصُولَةً بِأَيْنَ فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَكَانَ حَقُّهَا أَنْ تُفْصَلَ لِأَنَّهَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى: أَيْنَ الْآلِهَةُ الَّذِينَ تَدْعُونَ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: ضَلُّوا عَنَّا أَيْ بَطَلُوا وَذَهَبُوا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْمَوْتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ زَجْرُ الْكُفَّارِ عَنِ الْكُفْرِ لِأَنَّ التهويل يذكر هَذِهِ الْأَحْوَالِ مِمَّا يَحْمِلُ الْعَاقِلَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالتَّسَدُّدِ فِي الِاحْتِرَازِ عَنِ التقليد. [سورة الأعراف (7) : الآيات 38 الى 39] قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ بَقِيَّةِ شَرْحِ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُدْخِلُهُمُ النَّارَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ ادْخُلُوا فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: قَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ مِنْ كَلَامِ خَازِنِ النَّارِ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هَلْ يَتَكَلَّمُ مَعَ الْكُفَّارِ أَمْ لَا وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِالِاسْتِقْصَاءِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ: ادْخُلُوا فِي النَّارِ مَعَ أُمَمٍ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ وَمَجَازٌ أَمَّا الْإِضْمَارُ فَلِأَنَّا أَضْمَرْنَا فِيهَا قَوْلَنَا: فِي النَّارِ. وَأَمَّا الْمَجَازُ فَلِأَنَّا حَمَلْنَا كَلِمَةَ «فِي» عَلَى «مَعَ» لِأَنَّا قُلْنَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فِي أُمَمٍ أَيْ مَعَ أُمَمٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَلْتَزِمَ الْإِضْمَارَ وَلَا يَلْتَزِمَ الْمَجَازَ وَالتَّقْدِيرُ: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ فِي النار ومعنى

الدُّخُولِ فِي الْأُمَمِ الدُّخُولُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَقَوْلُهُ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَيْ تَقَدَّمَ زَمَانُهُمْ زَمَانَكُمْ وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُدْخِلُ الْكُفَّارَ بِأَجْمَعِهِمْ فِي النَّارِ دُفْعَةً وَاحِدَةً بَلْ يَدْخُلُ الْفَوْجُ بَعْدَ الْفَوْجِ فَيَكُونُ فِيهِمْ سَابِقٌ وَمَسْبُوقٌ لِيَصِحَّ هَذَا الْقَوْلُ وَيُشَاهِدُ الدَّاخِلُ مِنَ الْأُمَّةِ فِي النَّارِ مَنْ سَبَقَهَا وَقَوْلُهُ: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَيَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزُّخْرُفِ: 67] وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أُخْتَها أَيْ فِي الدِّينِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَلْعَنُونَ الْمُشْرِكِينَ وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ تَلْعَنُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى النَّصَارَى وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَجُوسِ وَالصَّابِئَةِ وَسَائِرِ أَدْيَانِ الضَّلَالَةِ. وَقَوْلُهُ: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً أَيْ تَدَارَكُوا بِمَعْنَى تلاحقوا واجتمعوا في النار وادراك بعضهم بعضا واستقر معه قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ الْأُولَى وَالْأُخْرَى قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ مُقَاتِلٌ أُخْرَاهُمْ يَعْنِي آخِرَهُمْ دُخُولًا فِي النَّارِ لِأُولَاهُمْ دُخُولًا فِيهَا. وَالثَّانِي: أُخْرَاهُمْ مَنْزِلَةً وَهُمُ الْأَتْبَاعُ وَالسَّفَلَةُ لِأُولَاهُمْ مَنْزِلَةً وَهُمُ الْقَادَةُ وَالرُّؤَسَاءُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: «اللَّامُ» فِي قَوْلِهِ: لِأُخْراهُمْ لَامُ أَجْلٍ وَالْمَعْنَى: لِأَجْلِهِمْ وَلِإِضْلَالِهِمْ إِيَّاهُمْ قَالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا هَذَا الْقَوْلَ لِأُولَاهُمْ لِأَنَّهُمْ مَا خَاطَبُوا أُولَاهُمْ وَإِنَّمَا خَاطَبُوا اللَّهَ تَعَالَى بِهَذَا الْكَلَامِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَتْبَاعَ يَقُولُونَ إِنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ أَضَلُّونَا وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْإِضْلَالَ يَقَعُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ لِلْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْبَاطِلِ وَتَزْيِينِهِ فِي أَعْيُنِهِمْ وَالسَّعْيِ فِي إِخْفَاءِ الدَّلَائِلِ الْمُبْطِلَةِ لِتِلْكَ الْأَبَاطِيلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: بِأَنْ يَكُونَ الْمُتَأَخِّرُونَ مُعَظِّمِينَ لِأُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِينَ فَيُقَلِّدُونَهُمْ فِي تِلْكَ الْأَبَاطِيلِ وَالْأَضَالِيلِ الَّتِي لَفَّقُوهَا وَيَتَأَسَّوْنَ بِهِمْ فَيَصِيرُ ذَلِكَ تَشْبِيهًا بِإِقْدَامِ أُولَئِكَ المتقدمين على الإضلال. [في قوله تعالى فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ] ثُمَّ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ عَلَى أُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِينَ بِمَزِيدِ الْعَذَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ وَفِي الضِّعْفِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ «الضِّعْفُ» هُوَ مِثْلُ الشَّيْءِ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا يُقَارِبُ هَذَا فَقَالَ فِي رَجُلٍ أَوْصَى فَقَالَ أَعْطُوا فُلَانًا ضِعْفَ نَصِيبِ وَلَدِي قَالَ: يُعْطَى مِثْلَهُ مَرَّتَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: «الضِّعْفُ» فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْمِثْلُ إِلَى مَا زَادَ وَلَيْسَ بِمَقْصُورٍ عَلَى الْمِثْلَيْنِ وَجَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ تَقُولَ: هَذَا ضِعْفُهُ أَيْ مِثْلَاهُ وَثَلَاثَةُ أَمْثَالِهِ لِأَنَّ الضِّعْفَ فِي الْأَصْلِ زِيَادَةٌ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا [سَبَأٍ: 37] وَلَمْ يُرِدْ بِهِ مِثْلًا وَلَا مِثْلَيْنِ بَلْ أَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِهِ أَنْ يُجْعَلَ عَشْرَةَ أَمْثَالِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الْأَنْعَامِ: 160] فَثَبَتَ أَنَّ أَقَلَّ الضِّعْفِ مَحْصُورٌ وَهُوَ الْمِثْلُ وَأَكْثَرَهُ غَيْرُ مَحْصُورٍ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَاعْلَمْ أَنَّ التَّرِكَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِحُقُوقِ الْوَرَثَةِ إِلَّا أَنَّا لِأَجْلِ الْوَصِيَّةِ صَرَفْنَا طَائِفَةً مِنْهَا إِلَى الْمُوصَى لَهُ وَالْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ فِي الْوَصِيَّةِ هُوَ الْمِثْلُ وَالْبَاقِي مَشْكُوكٌ فَلَا جَرَمَ أَخَذْنَا الْمُتَيَقَّنَ وَطَرَحْنَا

[سورة الأعراف (7) : الآيات 40 إلى 41]

الْمَشْكُوكَ فَلِهَذَا السَّبَبِ حَمَلْنَا الضِّعْفَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْمِثْلَيْنِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ يَعْلَمُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْكِنَايَةِ عَنِ الْغَائِبِ وَالْمَعْنَى: وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُ كُلُّ فَرِيقٍ مِقْدَارَ عَذَابِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ فَيُحْمَلُ الْكَلَامُ عَلَى كُلٍّ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لِلْمُخَاطَبِينَ فَهُوَ اسْمٌ ظَاهِرٌ مَوْضُوعٌ لِلْغَيْبَةِ فَحُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى وَأَمَّا الباقون فقرؤوا بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ وَالْمَعْنَى: وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ مَا لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنْكُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَيَجُوزُ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ يَا أَهْلَ الدُّنْيَا مَا مِقْدَارُ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لِكُلٍّ ضِعْفٌ أَيْ حَصَلَ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْعَذَابِ ضِعْفُ مَا يَسْتَحِقُّهُ فَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ ذَلِكَ فَمَا مَعْنَى كَوْنِهِ ضِعْفًا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ يَزِيدُ فَكُلُّ أَلَمٍ يَحْصُلُ فَإِنَّهُ يَعْقُبُهُ حُصُولُ أَلَمٍ آخَرَ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ فَكَانَتْ تِلْكَ الْآلَامُ مُتَضَاعِفَةً مُتَزَايِدَةً لَا إِلَى آخِرَ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ أُخْرَاهُمْ كَمَا خَاطَبَتْ أُولَاهُمْ فَكَذَلِكَ تُجِيبُ أُولَاهُمْ أُخْرَاهُمْ فَقَالَ: وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أَيْ فِي تَرْكِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَإِنَّا مُتَشَارِكُونَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا مِنْهُمْ كَذِبٌ لِأَنَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ رُؤَسَاءَ وَسَادَةً وَقَادَةً قَدْ دَعَوْا إِلَى الْكُفْرِ وَبَالَغُوا فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ فَكَانُوا ضَالِّينَ وَمُضِلِّينَ وَأَمَّا الْأَتْبَاعُ وَالسَّفَلَةُ فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا ضَالِّينَ إِلَّا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُضِلِّينَ فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ أَنَّهُ لَا فَضْلَ لِلْأَتْبَاعِ عَلَى الرُّؤَسَاءِ فِي تَرْكِ الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْكُفَّارَ كَذَبُوا فِي هَذَا الْقَوْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعِنْدَنَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: 23] . أَمَّا قَوْلُهُ: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ فَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الْقَادَةِ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ جَمِيعًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ التَّخْوِيفُ وَالزَّجْرُ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنِ الرُّؤَسَاءِ وَالْأَتْبَاعِ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَتَبَرَّأُ عَنْ بَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوعِ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ فِي القلب. [سورة الأعراف (7) : الآيات 40 الى 41] إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) [قَوْلُهُ تَعَالَى إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها] اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ إِتْمَامُ الْكَلَامِ فِي وَعِيدِ الْكُفَّارِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الأعراف: 36] ثُمَّ شَرَحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الْخُلُودِ فِي حَقِّ أُولَئِكَ الْمُكَذِّبِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ بِقَوْلِهِ: كَذَّبُوا بِآياتِنا أَيْ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَسَائِلِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ الدِّينِ فَالدَّهْرِيَّةُ يُنْكِرُونَ دَلَائِلَ إِثْبَاتِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْمُشْرِكُونَ يُنْكِرُونَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَمُنْكِرُو النُّبُوَّاتِ يُكَذِّبُونَ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّاتِ/ وَمُنْكِرُو نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ يُنْكِرُونَ الدَّلَائِلَ

الدَّالَّةَ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَمُنْكِرُو الْمَعَادِ يُنْكِرُونَ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى صِحَّةِ الْمَعَادِ فَقَوْلُهُ: كَذَّبُوا بِآياتِنا يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ وَمَعْنَى الِاسْتِكْبَارِ طَلَبُ التَّرَفُّعِ بِالْبَاطِلِ وَهَذَا اللَّفْظُ فِي حَقِّ الْبَشَرِ يَدُلُّ عَلَى الذَّمِّ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ فِرْعَوْنَ: وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [القصص: 39] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو لَا تُفَتَّحُ بِالتَّاءِ خَفِيفَةً وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْيَاءِ خَفِيفَةً وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ مُشَدَّدَةً. أَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ فَوَجْهُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ [الْأَنْعَامِ: 44] فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ [الْقَمَرِ: 11] وَأَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ فَوَجْهُهَا أَنَّ الْفِعْلَ مُتَقَدِّمٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ أَقْوَالٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ لَا تُفَتَّحُ لِأَعْمَالِهِمْ وَلَا لِدُعَائِهِمْ وَلَا لِشَيْءٍ مِمَّا يُرِيدُونَ بِهِ طَاعَةَ اللَّهِ وَهَذَا التَّأْوِيلُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فَاطِرٍ: 10] وَمِنْ قَوْلِهِ: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [الْمُطَفِّفِينَ: 18] وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: لَا تُفَتَّحُ لِأَرْوَاحِهِمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وتُفَتَّحُ لِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ مَا رُوِيَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ: أَنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ وَيُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَيُسْتَفْتَحُ لِرُوحِ الْكَافِرِ فَيُقَالُ لَهَا ارْجِعِي ذَمِيمَةً فَإِنَّهُ لَا تُفْتَحُ لَكِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ فَالْمَعْنَى: لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الصُّعُودِ إِلَى السَّمَاءِ وَلَا تَطَرُّقَ لَهُمْ إِلَيْهَا لِيَدْخُلُوا الْجَنَّةَ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: لَا تَنْزِلُ عَلَيْهِمُ الْبِرْكَةُ وَالْخَيْرُ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ [الْقَمَرِ: 11] وَأَقُولُ هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ إِنَّمَا تَكُونُ سَعِيدَةً إِمَّا بِأَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهَا مِنَ السَّمَاءِ أَنْوَاعُ الْخَيْرَاتِ وَإِمَّا بِأَنْ يصعد اعمال تلك الأرواح الى السموات وذلك يدل على ان السموات. موضع بهجة الأرواح واماكن سعاداتها وَمِنْهَا تَنْزِلُ الْخَيْرَاتُ وَالْبَرَكَاتُ وَإِلَيْهَا تَصْعَدُ الْأَرْوَاحُ حَالَ فَوْزِهَا بِكَمَالِ السَّعَادَاتِ وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «الْوُلُوجُ» الدُّخُولُ. وَالْجَمَلُ مَشْهُورٌ وَ «السَّمُّ» بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّهَا ثُقْبُ الْإِبْرَةِ قَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ سَمِّ بِالضَّمِّ وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يُرْوَى سَمِّ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ وَكُلُّ ثُقْبٍ/ فِي الْبَدَنِ لَطِيفٌ فَهُوَ «سَمٌّ» وَجَمْعُهُ سُمُومٌ وَمِنْهُ قِيلَ: السُّمُّ الْقَاتِلُ لِأَنَّهُ يَنْفُذُ بِلُطْفِهِ فِي مَسَامِّ البدن حتى يصل الى القلب. والْخِياطِ مَا يُخَاطُ بِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيُقَالُ خِيَاطٌ وَمِخْيَطٌ كَمَا يُقَالُ إِزَارٌ وَمِئْزَرٌ وَلِحَافٌ وَمِلْحَفٌ وَقِنَاعٌ وَمِقْنَعٌ وَإِنَّمَا خُصَّ الْجَمَلُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ لِأَنَّهُ أَكْبَرُ الْحَيَوَانَاتِ جِسْمًا عِنْدَ الْعَرَبِ. قَالَ الشَّاعِرُ: جِسْمُ الْجِمَالِ وَأَحْلَامُ الْعَصَافِيرِ فَجِسْمُ الْجَمَلِ أَعْظَمُ الْأَجْسَامِ وَثُقْبُ الْإِبْرَةِ أَضْيَقُ الْمَنَافِذِ فَكَانَ وُلُوجُ الْجَمَلِ فِي تِلْكَ الثُّقْبَةِ الضَّيِّقَةِ مُحَالًا فَلَمَّا وَقَفَ اللَّهُ تَعَالَى دُخُولَهُمُ الْجَنَّةَ عَلَى حُصُولِ هَذَا الشَّرْطِ وَكَانَ هَذَا شَرْطًا مُحَالًا وَثَبَتَ فِي الْعُقُولِ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 42 إلى 43]

ان الموقوف على المحال وَجَبَ أَنْ يَكُونَ دُخُولُهُمُ الْجَنَّةَ مَأْيُوسًا مِنْهُ قَطْعًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْجَمَلُ بِوَزْنِ الْقُمَّلِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْجَمَلُ بِوَزْنِ النُّغَرِ. وَقُرِئَ الْجَمَلُ بِوَزْنِ القفل والْجَمَلُ بوزن النصب والْجَمَلُ بِوَزْنِ الْحَبْلِ وَمَعْنَاهَا: الْقَلْسُ الْغَلِيظُ لِأَنَّهُ حِبَالٌ جُمِعَتْ وَجُعِلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْسَنُ تَشْبِيهًا مِنْ أَنْ يُشَبِّهَ بِالْجَمَلِ يَعْنِي: أَنَّ الْحَبْلَ مُنَاسِبٌ لِلْخَيْطِ الَّذِي يَسْلُكُ فِي سَمِّ الْإِبْرَةِ وَالْبَعِيرُ لَا يُنَاسِبُهُ إِلَّا أَنَّا ذَكَرْنَا الْفَائِدَةَ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَائِلُونَ بِالتَّنَاسُخِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: إِنِ الْأَرْوَاحَ الَّتِي كَانَتْ فِي أَجْسَادِ الْبَشَرِ لَمَّا عَصَتْ وَأَذْنَبَتْ فَإِنَّهَا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبْدَانِ تُرَدُّ مِنْ بَدَنٍ إِلَى بَدَنٍ وَلَا تَزَالُ تَبْقَى فِي التَّعْذِيبِ حَتَّى أَنَّهَا تَنْتَقِلُ مِنْ بَدَنِ الْجَمَلِ إِلَى بَدَنِ الدُّودَةِ الَّتِي تَنْفُذُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ مُطَهَّرَةً عَنْ تِلْكَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي وَحِينَئِذٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَتَصِلُ إِلَى السَّعَادَةِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّنَاسُخِ بَاطِلٌ وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ ضَعِيفٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أَيْ وَمِثْلُ هَذَا الَّذِي وَصَفْنَا نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ والمجرمون والله اعلم هاهنا هُمُ الْكَافِرُونَ لِأَنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ صِفَتِهِمْ هُوَ التَّكْذِيبُ بِآيَاتِ اللَّهِ وَالِاسْتِكْبَارُ عَنْهَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ الْبَتَّةَ بَيَّنَ أَيْضًا أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ النَّارَ فَقَالَ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «الْمِهَادُ» جَمْعُ مَهْدٍ وَهُوَ الْفِرَاشُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَصْلُ الْمَهْدِ فِي اللُّغَةِ الْفَرْشُ يُقَالُ لِلْفِرَاشِ مِهَادٌ لِمُوَاتَاتِهِ وَالْغَوَاشِي جُمَعُ غَاشِيَةٍ وَهِيَ كُلُّ مَا يَغْشَاكَ أَيْ يُجَلِّلُكَ وَجَهَنَّمُ لَا تَنْصَرِفُ لِاجْتِمَاعِ التَّأْنِيثِ فِيهَا وَالتَّعْرِيفِ وَقِيلَ اشْتِقَاقُهَا مِنَ الْجَهْمَةِ وَهِيَ الْغِلَظُ يُقَالُ: / رَجُلٌ جَهْمُ الْوَجْهِ غَلِيظُهُ وَسُمِّيَتْ بِهَذَا لِغِلَظِ أَمْرِهَا فِي الْعَذَابِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْإِخْبَارُ عَنْ إِحَاطَةِ النَّارِ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَلَهُمْ مِنْهَا غِطَاءٌ وَوِطَاءٌ وَفِرَاشٌ وَلِحَافٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ غَوَاشٍ عَلَى وَزْنِ فَوَاعِلَ فَيَكُونُ غَيْرَ مُنْصَرِفٍ فَكَيْفَ دَخَلَهُ التَّنْوِينُ؟ وَجَوَابُهُ عَلَى مَذْهَبِ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ أَنَّ هَذَا جَمْعٌ وَالْجَمْعُ أَثْقَلُ مِنَ الْوَاحِدِ وَهُوَ أَيْضًا الْجَمْعُ الْأَكْبَرُ الَّذِي تَتَنَاهَى الْجُمُوعُ إِلَيْهِ فَزَادَهُ ذَلِكَ ثِقَلًا ثُمَّ وَقَعَتِ الْيَاءُ فِي آخِرِهِ وَهِيَ ثَقِيلَةٌ فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ خَفَّفُوهَا بِحَذْفِ يَائِهِ فَلَمَّا حُذِفَتِ الْيَاءُ نَقَصَ عَنْ مِثَالِ فَوَاعِلَ وَصَارَ غَوَاشٍ بِوَزْنِ جَنَاحٍ فَدَخَلَهُ التَّنْوِينُ لِنُقْصَانِهِ عَنْ هَذَا الْمِثَالِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ إِلَهًا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَالظَّالِمُونَ هاهنا هم الكافرون. [سورة الأعراف (7) : الآيات 42 الى 43] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) [في قَوْلَهُ تَعَالَى لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا اسْتَوْفَى الْكَلَامَ فِي الْوَعِيدِ أَتْبَعَهُ بِالْوَعْدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِ الْمَعَانِي عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها اعْتِرَاضٌ وَقَعَ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَالتَّقْدِيرُ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وَإِنَّمَا حَسُنَ وُقُوعُ هَذَا الْكَلَامِ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْكَلَامِ/ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ عَمَلَهُمُ الصَّالِحَ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ فِي وُسْعِهِمْ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ قُدْرَتِهِمْ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ لِلْكَفَّارِ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ مَعَ عِظَمِ مَحَلِّهَا يُوصَلُ إِلَيْهَا بِالْعَمَلِ السَّهْلِ مِنْ غَيْرِ تَحَمُّلِ الصَّعْبِ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَوْضِعُهُ خَبَرٌ عَنْ ذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا مِنْهُمْ إِلَّا وُسْعَهَا وَإِنَّمَا حُذِفَ الْعَائِدُ لِلْعِلْمِ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الْوُسْعِ مَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ فِي حَالِ السِّعَةِ وَالسُّهُولَةِ لَا فِي حَالِ الضِّيقِ وَالشِّدَّةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا يُسْرَهَا لَا عُسْرَهَا. وَأَمَّا أَقْصَى الطَّاقَةِ يسمى جُهْدًا لَا وُسْعًا وَغَلِطَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْوُسْعَ بَذْلُ الْمَجْهُودِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْمُجْبِرَةِ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّفَ الْعَبْدَ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَذَّبَهُمْ فِي ذَلِكَ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ بَطَلَ قَوْلُهُمْ فِي خَلْقِ الْأَعْمَالِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَالِقُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَكَانَ ذَلِكَ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنْ كَلَّفَهُ بِذَلِكَ الْفِعْلِ حَالَ مَا خَلَقَهُ فِيهِ فَذَلِكَ تَكْلِيفُهُ بِمَا لَا يُطَاقُ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَقْدُورٍ وَإِنْ كَلَّفَهُ بِهِ حَالَ مَا لَمْ يَخْلُقْ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِيهِ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: لَا قُدْرَةَ لِلْعَبْدِ عَلَى تَكْوِينِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَتَحْصِيلِهِ، قَالُوا: وَأَيْضًا إِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ ظَهَرَ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَبْلَ الْفِعْلِ إِذْ لَوْ كَانَتْ حَاصِلَةً مَعَ الْفِعْلِ وَالْكَافِرُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْإِيمَانِ مَعَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ فَكَانَ هَذَا تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ وَلَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى نَفْيِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ ثَبَتَ فَسَادُ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّا نَقُولُ وَهَذَا الْإِشْكَالُ أَيْضًا وَارِدٌ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى يُكَلِّفُ الْعَبْدَ بِإِيجَادِ الْفِعْلِ حَالَ اسْتِوَاءِ الدَّوَاعِي إِلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ أَوْ حَالَ رُجْحَانِ أَحَدِ الدَّاعِيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْإِيجَادَ تَرْجِيحٌ لِجَانِبِ الْفِعْلِ وَحُصُولُ التَّرْجِيحِ حَالَ حُصُولِ الِاسْتِوَاءِ مُحَالٌ وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّ حَالَ حُصُولِ الرُّجْحَانِ كَانَ الْحُصُولُ وَاجِبًا، فَإِنْ وَقَعَ الْأَمْرُ بِالطَّرَفِ الرَّاجِحِ كَانَ أَمْرًا بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَإِنْ وَقَعَ بِالطَّرَفِ الْمَرْجُوحِ كَانَ أَمْرًا بِتَحْصِيلِ الْمَرْجُوحِ حَالَ كَوْنِهِ مَرْجُوحًا فَيَكُونُ أَمْرًا بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ فَكُلُّ مَا تَجْعَلُونَهُ جَوَابًا عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فَهُوَ جَوَابُنَا عَنْ كَلَامِكُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ فَاعْلَمْ أَنَّ نزع الشيء قلعه عن مكانه والغل العقد. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: وَهُوَ الَّذِي يَغُلُّ بِلُطْفِهِ إِلَى صَمِيمِ الْقَلْبِ أَيْ يَدْخُلُ وَمِنْهُ الْغُلُولُ وَهُوَ الْوُصُولُ بِالْحِيلَةِ إِلَى الذُّنُوبِ الدَّقِيقَةِ وَيُقَالُ: انْغَلَّ فِي الشَّيْءِ وَتَغَلْغَلَ فِيهِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ بِلَطَافَةٍ كَالْحُبِّ/ يَدْخُلُ فِي صَمِيمِ الْفُؤَادِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِهَذِهِ الْآيَةِ تَأْوِيلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَزَلْنَا الْأَحْقَادَ الَّتِي كَانَتْ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي دَارِ الدُّنْيَا وَمَعْنَى نَزْعِ الْغِلِّ: تَصْفِيَةُ الطِّبَاعِ وَإِسْقَاطُ الْوَسَاوِسِ وَمَنْعُهَا مِنْ أَنْ تَرِدَ عَلَى الْقُلُوبِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَمَّا كَانَ فِي الْعَذَابِ لَمْ يَتَفَرَّغْ لِإِلْقَاءِ الْوَسَاوِسِ فِي الْقُلُوبِ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ

أَكُونَ أَنَا وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ دَرَجَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مُتَفَاوِتَةٌ بِحَسَبِ الْكَمَالِ وَالنُّقْصَانِ فَاللَّهُ تَعَالَى أَزَالَ الْحَسَدَ عَنْ قُلُوبِهِمْ حَتَّى أَنَّ صَاحِبَ الدَّرَجَةِ النَّازِلَةِ لَا يَحْسُدُ صَاحِبَ الدَّرَجَةِ الْكَامِلَةِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَكُونَ هَذَا فِي مُقَابَلَةِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تَبَرِّي بَعْضِ أَهْلِ النَّارِ مِنْ بَعْضٍ وَلَعْنِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا لِيُعْلَمَ أَنَّ حَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا مُفَارِقَةٌ لِحَالِ أَهْلِ النَّارِ. فَإِنْ قَالُوا: كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُشَاهِدَ الْإِنْسَانُ النِّعَمَ الْعَظِيمَةَ وَالدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةَ وَيَرَى نَفْسَهُ مَحْرُومًا عَنْهَا عَاجِزًا عَنْ تَحْصِيلِهَا ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَمِيلُ طَبْعُهُ إِلَيْهَا وَلَا يَغْتَمُّ بِسَبَبِ الْحِرْمَانِ عَنْهَا فَإِنْ عُقِلَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يُعْقَلُ أَيْضًا أَنْ يُعِيدَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَخْلُقَ فِيهِمْ شَهْوَةَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْوِقَاعِ وَيُغْنِيَهُمْ عَنْهَا؟ قُلْنَا: الْكُلُّ مُمْكِنٌ وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ بِإِزَالَةِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ عَنِ الْقُلُوبِ وَمَا وَعَدَ بِإِزَالَةِ شَهْوَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَنِ النُّفُوسِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا خَلَّصَهُمْ مِنْ رِبْقَةِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْحِرْصِ عَلَى طَلَبِ الزِّيَادَةِ فَقَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بالذات الْعَظِيمَةِ وَقَوْلُهُ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَأَنْوَاعِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالسَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَقَالَ أَصْحَابُنَا: مَعْنَى هَدانَا اللَّهُ أَنَّهُ أَعْطَى الْقُدْرَةَ وَضَمَّ إِلَيْهَا الدَّاعِيَةَ الْجَازِمَةَ وَصَيَّرَ مَجْمُوعَ الْقُدْرَةِ وَتِلْكَ الدَّاعِيَةَ مُوجِبًا لِحُصُولِ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ فَإِنَّهُ لَوْ أَعْطَى الْقُدْرَةَ وَمَا خَلَقَ تِلْكَ الدَّاعِيَةَ لَمْ يَحْصُلِ الْأَثَرُ وَلَوْ خَلَقَ اللَّهُ الدَّاعِيَةَ الْمُعَارِضَةَ أَيْضًا لِسَائِرِ الدَّوَاعِي الصَّارِفَةِ لَمْ يَحْصُلِ الْفِعْلُ أَيْضًا. أَمَّا لَمَّا خَلَقَ الْقُدْرَةَ وَخَلَقَ الدَّاعِيَةَ الْجَازِمَةَ وَكَانَ مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِيَةِ الْمُعَيَّنَةِ مُوجِبًا لِلْفِعْلِ كَانَتِ الْهِدَايَةُ حَاصِلَةً فِي الْحَقِيقَةِ بِتَقْدِيرِ/ اللَّهِ تَعَالَى وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: التَّحْمِيدُ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى الْعَقْلَ وَوَضَعَ الدَّلَائِلَ وَأَزَالَ الْمَوَانِعَ وَعِنْدَ هَذَا يُرْجَعُ إِلَى مَبَاحِثِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ «مَا كُنَّا» بِغَيْرِ وَاوٍ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّامِ وَالْبَاقُونَ بِالْوَاوِ وَالْوَجْهُ فِي قراءة ابن عامر ان قوله: ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ جَارٍ مَجْرَى التَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: هَدانا لِهذا فَلَمَّا كَانَ أَحَدُهُمَا عَيْنَ الْآخَرِ وَجَبَ حَذْفُ الْحَرْفِ الْعَاطِفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُهْتَدِيَ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ وَإِنْ لَمْ يَهْدِهِ اللَّهُ لَمْ يَهْتَدِ بَلْ نَقُولُ: مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالْأَوْلِيَاءِ مِنْ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ فَقَدْ فَعَلَهُ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ وَإِنَّمَا حَصَلَ الِامْتِيَازُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ بِسَعْيِ نَفْسِهِ وَاخْتِيَارِ. نَفْسِهِ فَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمَدَ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَصَلَ لِنَفْسِهِ الْإِيمَانُ وَهُوَ الَّذِي أَوْصَلَ نَفْسَهُ إِلَى دَرَجَاتِ الْجِنَانِ وَخَلَّصَهَا مِنْ دِرْكَاتِ النِّيرَانِ فَلَمَّا لَمْ يَحْمَدْ نَفْسَهُ الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا حَمِدَ اللَّهَ فَقَطْ عَلِمْنَا أَنَّ الْهَادِيَ لَيْسَ إِلَّا اللَّهَ سُبْحَانَهُ.

ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَهَذَا مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حِينَ رَأَوْا مَا وَعَدَهُمُ الرُّسُلُ عِيَانًا وَقَالُوا: لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَلِكَ النِّدَاءُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمُنَادِي هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ الزَّجَّاجُ في كلمة «ان» هاهنا وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهُ وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ وَالْمَعْنَى: نُودُوا بِأَنَّهُ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أَيْ نُودُوا بِهَذَا الْقَوْلِ. وَالثَّانِي: قَالَ: وَهُوَ الْأَجْوَدُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ «أَنْ» فِي مَعْنَى تَفْسِيرِ النِّدَاءِ وَالْمَعْنَى: وَنُودُوا أَيْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ وَالْمَعْنَى: قِيلَ لَهُمْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ كَقَوْلِهِ: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا [ص: 6] يَعْنِي أَيِ امْشُوا. قَالَ: إِنَّمَا قَالَ: «تِلْكُمُ» لِأَنَّهُمْ وُعِدُوا بِهَا فِي الدُّنْيَا. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَهُمْ هَذِهِ تِلْكُمُ الَّتِي وُعِدْتُمْ بِهَا وَقَوْلُهُ: أُورِثْتُمُوها فِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَعَانِي أَنَّ مَعْنَاهُ: صَارَتْ إِلَيْكُمْ كَمَا يَصِيرُ الْمِيرَاثُ إِلَى أَهْلِهِ وَالْإِرْثُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي اللُّغَةِ وَلَا يُرَادُ بِهِ زَوَالُ الْمِلْكِ عَنِ الْمَيِّتِ إِلَى الْحَيِّ كَمَا يُقَالُ: هَذَا الْعَمَلُ/ يُورِثُكَ الشَّرَفَ وَيُورِثُكَ الْعَارَ أَيْ يُصَيِّرُكَ إِلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُمْ أُعْطُوا تِلْكَ الْمَنَازِلَ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ فِي الْحَالِ فَصَارَ شَبِيهًا بِالْمِيرَاثِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُورِثُونَ مَنَازِلَ أَهْلِ النَّارِ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنْ كَافِرٍ وَلَا مُؤْمِنٍ إِلَّا وَلَهُ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَنْزِلٌ فَإِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ رُفِعَتِ الْجَنَّةُ لِأَهْلِ النَّارِ فَنَظَرُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ فِيهَا فَقِيلَ لَهُمْ: هَذِهِ مَنَازِلُكُمْ لَوْ عَمِلْتُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ ثُمَّ يُقَالُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ رِثُوهُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَيُقَسَّمُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنَازِلُهُمْ» وَقَوْلُهُ: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَعَلُّقُ مَنْ قَالَ الْعَمَلُ يُوجِبُ هَذَا الْجَزَاءَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تَدُلُّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ يُوجِبُ هَذَا الْجَزَاءَ وَجَوَابُنَا: أَنَّهُ عِلَّةٌ لِلْجَزَاءِ لَكِنْ بِسَبَبِ أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَهُ عِلَّةً لَهُ لَا لِأَجْلِ أَنَّهُ لِذَاتِهِ مُوجِبٌ لِذَلِكَ الْجَزَاءِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ لَا نِهَايَةَ لَهَا فَإِذَا أَتَى الْعَبْدُ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ وَقَعَتْ هَذِهِ الطَّاعَاتُ فِي مُقَابَلَةِ تِلْكَ النِّعَمِ السَّالِفَةِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَصِيرَ مُوجِبَةً لِلثَّوَابِ الْمُتَأَخِّرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: طَعَنَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى» وَبَيْنَهُمَا تَنَاقُضٌ وَجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا: أَنَّ الْعَمَلَ لا يوجب دخول الجنة لذاته وانما يوجه لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِفَضْلِهِ جَعَلَهُ عَلَامَةً عَلَيْهِ وَمَعْرِفَةً لَهُ وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ الْمُوفِّي لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ دُخُولُ الْجَنَّةِ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ إِلَّا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ خِطَابٌ عَامٌّ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَإِنَّمَا يَدْخُلُهَا بِعَمَلِهِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْفُسَّاقَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ تَفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 44 إلى 45]

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَجَبَ أَنْ لَا يَخْرُجَ الْفَاسِقُ مِنَ النَّارِ لِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَوْ لَا يَدْخُلَهَا. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالْأَوَّلُ: لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِالتَّفَضُّلِ وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ النَّارَ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ فَلَوْ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْقَاقِ لَزِمَ كَوْنُهُ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ حُصُولُ الْجَمْعِ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّ الثَّوَابَ مَنْفَعَةٌ دَائِمَةٌ خَالِصَةٌ عَنْ شَوَائِبِ الضَّرَرِ وَالْعِقَابَ مَضَرَّةٌ دَائِمَةٌ خَالِصَةٌ عَنْ شَوَائِبِ الْمَنْفَعَةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ حُصُولِ اسْتِحْقَاقِهِمَا مُحَالًا. وَالْجَوَابُ: هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَا يَجْتَمِعَانِ. وَقَدْ بَالَغْنَا فِي إِبْطَالِ هَذَا الْكَلَامِ فِي سورة البقرة. والله اعلم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 45] وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ وَعِيدَ الْكُفَّارِ وَثَوَابَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَاتِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الْمُنَاظَرَاتِ الَّتِي تَدُورُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَهِيَ الْأَحْوَالُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَوْلَهُ: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها [الأعراف: 43] دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَقَرُّوا فِي الْجَنَّةِ فِي وَقْتِ هَذَا النِّدَاءِ فَلَمَّا قَالَ بَعْدَهُ: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا النِّدَاءَ إِنَّمَا حَصَلَ بَعْدَ الِاسْتِقْرَارِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا فِي الدُّنْيَا مِنَ الثَّوَابِ حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ مِنَ الْعِقَابِ حَقًّا؟ وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ إِظْهَارُ أَنَّهُ وَصْلٌ إِلَى السَّعَادَاتِ الْكَامِلَةِ وَإِيقَاعُ الْحُزْنِ فِي قَلْبِ العدو وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: إِذَا كَانَتِ الْجَنَّةُ فِي أعلى السموات وَالنَّارُ فِي أَسْفَلِ الْأَرْضِينَ فَمَعَ هَذَا الْبُعْدِ الشَّدِيدِ كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا النِّدَاءُ؟ وَالْجَوَابُ: هَذَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِنَا: لِأَنَّا عِنْدَنَا الْبُعْدَ الشَّدِيدَ وَالْقُرْبَ الشَّدِيدَ لَيْسَ مِنْ مَوَانِعِ الْإِدْرَاكِ وَالْتَزَمَ الْقَاضِي ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّ فِي الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ فِي الصَّوْتِ خَاصِّيَّةُ أَنَّ الْبُعْدَ فِيهِ وَحْدَهُ لَا يَكُونُ مَانِعًا مِنَ السَّمَاعِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَذَا النِّدَاءُ يَقَعُ مِنْ كُلِّ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِكُلِّ أَهْلِ النَّارِ أَوْ مِنَ الْبَعْضِ لِلْبَعْضِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ يُفِيدُ الْعُمُومَ وَالْجَمْعُ إِذَا قُوبِلَ بِالْجَمْعِ يُوَزَّعُ الْفَرْدُ عَلَى الْفَرْدِ وَكُلُّ فَرِيقٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُنَادِي مَنْ كَانَ يَعْرِفُهُ مِنَ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا مَعْنَى (أَنْ) فِي قَوْلِهِ: أَنْ قَدْ وَجَدْنا. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ وَأَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً كَالَّتِي سَبَقَتْ فِي قوله: أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ [الأعراف: 43] وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.

السُّؤَالُ الرَّابِعُ: هَلَّا قِيلَ: (مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا) كَمَا قِيلَ: مَا وَعَدَنا رَبُّنا. وَالْجَوَابُ: قَوْلُهُ: مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَهُمْ بِهَذَا الْوَعْدِ وَكَوْنُهُمْ مُخَاطَبِينَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الْوَعْدِ يُوجِبُ مَزِيدَ التَّشْرِيفِ وَمَزِيدُ التَّشْرِيفِ لَائِقٌ بِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ أَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ لَيْسَ أَهْلًا لِأَنْ يُخَاطِبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ خَاطَبَهُمْ بِهَذَا الْخِطَابِ بَلْ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ بَيَّنَ هَذَا الْحُكْمَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا نَعَمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يَعْتَرِفُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ وَوَعِيدَهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانُوا عَارِفِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانُوا عَارِفِينَ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَثَبَتَ أَنَّ مِنْ صِفَاتِهِ أَنَّهُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَعَلِمُوا بِالضَّرُورَةِ أَنَّ عِنْدَ قَبُولِ التَّوْبَةِ يَتَخَلَّصُونَ مِنَ الْعَذَابِ فَلِمَ لَا يَتُوبُونَ لِيُخَلِّصُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ؟ وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَقْبَلُ التَّوْبَةَ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ [الشُّورَى: 25] عَامٌّ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَأَيْضًا فَالتَّوْبَةُ اعْتِرَافٌ بِالذَّنْبِ وَإِقْرَارٌ بِالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَاللَّائِقُ بِالرَّحِيمِ الْحَكِيمِ التَّجَاوُزُ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ. أَجَابَ الْمُتَكَلِّمُونَ: بِأَنَّ شِدَّةَ اشْتِغَالِهِمْ بِتِلْكَ الْآلَامِ الشَّدِيدَةِ يَمْنَعُهُمْ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى التَّوْبَةِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذَا كَانَتْ تِلْكَ الْآلَامُ لَا تَمْنَعُهُمْ عَنْ هَذِهِ الْمُنَاظَرَاتِ فَكَيْفَ تَمْنَعُهُمْ عَنِ التَّوْبَةِ الَّتِي بِهَا يَتَخَلَّصُونَ عَنْ تِلْكَ الْآلَامِ الشَّدِيدَةِ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ الَّذِينَ يَقُولُونَ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ قَبُولُ التَّوْبَةِ لَا خَلَاصَ لَهُمْ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ. أَمَّا أَصْحَابُنَا لَمَّا قَالُوا إِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَقْلًا قَالُوا لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَقْبَلَ التَّوْبَةَ فِي الدُّنْيَا وَأَنْ لَا يَقْبَلَهَا فِي الْآخِرَةِ فَزَالَ السُّؤَالُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: نَعَمْ عِدَةٌ وَتَصْدِيقٌ وَقَالَ الَّذِينَ شَرَحُوا كَلَامَهُ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ/ يُسْتَعْمَلُ تَارَةً عِدَةً وَتَارَةً تَصْدِيقًا وَلَيْسَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ عِدَةٌ وَتَصْدِيقٌ مَعًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَتُعْطِينِي؟ وَقَالَ نَعَمْ كَانَ عِدَةً وَلَا تَصْدِيقَ فِيهِ وَإِذَا قَالَ: قَدْ كَانَ كَذَا وَكَذَا. فَقُلْتَ: نَعَمْ فَقَدْ صَدَقْتَ وَلَا عِدَةَ فِيهِ وَأَيْضًا إِذَا اسْتَفْهَمْتَ عَنْ مُوجَبٍ كَمَا يُقَالُ: أَيَقُومُ زَيْدٌ؟ قُلْتَ: نَعَمْ وَلَوْ كَانَ مَكَانُ الْإِيجَابِ نَفْيًا لَقُلْتَ: بَلَى وَلَمْ تَقُلْ نَعَمْ فَلَفْظَةُ نَعَمْ مُخْتَصَّةٌ بِالْجَوَابِ عَنِ الْإِيجَابِ وَلَفْظَةُ بَلَى مُخْتَصَّةٌ بِالنَّفْيِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَافِ: 172] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ الْكِسَائِيُّ نَعِمْ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: هُمَا لُغَتَانِ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الْكَسْرُ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ وَاحْتَجَّ الْكِسَائِيُّ بِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَ قَوْمًا عَنْ شَيْءٍ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ عُمَرُ: أَمَّا النَّعَمُ فَالْإِبِلُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ عُمَرَ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى التَّأْذِينِ فِي اللُّغَةِ النِّدَاءُ وَالتَّصْوِيتُ بِالْإِعْلَامِ وَالْأَذَانُ لِلصَّلَاةِ إِعْلَامٌ بِهَا وَبِوَقْتِهَا

[سورة الأعراف (7) : الآيات 46 إلى 47]

وقالوا في: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ نَادَى مُنَادٍ أَسْمَعَ الْفَرِيقَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ الْمُؤَذِّنُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ صَاحِبُ الصُّورِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: بَيْنَهُمْ يَحْتَمِلُ أَنْ يكون ظرفا لقوله: فَأَذَّنَ وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ الْمُؤَذِّنَ أَوْقَعَ ذَلِكَ الْأَذَانَ بَيْنَهُمْ وَفِي وَسَطِهِمْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: مُؤَذِّنٌ وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ مُؤَذِّنًا مِنْ بَيْنِهِمْ أَذَّنَ بِذَلِكَ الْأَذَانِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ أَنْ مُخَفَّفَةً لَعْنَةُ بِالرَّفْعِ وَالْبَاقُونَ مُشَدَّدَةً لَعْنَةَ بِالنَّصْبِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ شَدَّدَ فَهُوَ الْأَصْلُ وَمَنْ خَفَّفَ (أَنْ) فَهِيَ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الشَّدِيدَةِ عَلَى إِرَادَةِ إِضْمَارِ الْقِصَّةِ وَالْحَدِيثُ تَقْدِيرُهُ أَنَّهُ لَعَنَةُ اللَّهِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُسَ: 10] التَّقْدِيرُ: أَنَّهُ وَلَا تُخَفَّفُ أَنْ إِلَّا وَيَكُونُ مَعَهَا إِضْمَارُ الْحَدِيثِ وَالشَّأْنِ. وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْمُخَفَّفَةُ هِيَ الَّتِي لِلتَّفْسِيرِ كَأَنَّهَا تَفْسِيرٌ لِمَا أُذِّنُوا بِهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ قَدْ وَجَدْنا وَرَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّ الْأَعْمَشَ قَرَأَ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ بِكَسْرِ إِنَّ عَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ أَوْ على اجراء فَأَذَّنَ مَجْرَى «قَالَ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمُؤَذِّنَ أَوْقَعَ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِصِفَاتٍ أَرْبَعَةٍ. الصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُمْ ظَالِمِينَ. لِأَنَّهُ قَالَ: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ قَالَ أَصْحَابُنَا الْمُرَادُ مِنْهُ/ الْمُشْرِكُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنَاظَرَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ بدليل ان قول اهل الجنة فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا لَا يَلِيقُ ذِكْرُهُ إِلَّا مَعَ الْكُفَّارِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُ الْمُؤَذِّنِ بَعْدَهُ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُنْصَرِفًا إِلَيْهِمْ فَثَبَتَ ان المراد بالظالمين هاهنا الْمُشْرِكُونَ وَأَيْضًا أَنَّهُ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ بِصِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ. هِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالْكُفَّارِ وَذَلِكَ يُقَوِّي مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَالَ الْقَاضِي الْمُرَادُ مِنْهُ كُلُّ مَنْ كَانَ ظَالِمًا سَوَاءٌ كَانَ كَافِرًا أَوْ كَانَ فَاسِقًا تَمَسُّكًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنْ قَبُولِ الدِّينِ الْحَقِّ تَارَةً بِالزَّجْرِ وَالْقَهْرِ وَأُخْرَى بِسَائِرِ الْحِيَلِ. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَالْمُرَادُ مِنْهُ إِلْقَاءُ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ فِي دَلَائِلِ الدِّينِ الْحَقِّ. وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنْ تِلْكَ اللَّعْنَةَ إِنَّمَا أَوْقَعَهَا ذَلِكَ الْمُؤَذِّنُ عَلَى الظَّالِمِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ كَانَ ذَلِكَ تَصْرِيحًا بِأَنَّ تِلْكَ اللَّعْنَةَ مَا وَقَعَتْ إِلَّا عَلَى الْكَافِرِينَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي مِنْ أَنَّ ذَلِكَ اللَّعْنَ يَعُمُّ الْفَاسِقَ وَالْكَافِرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 46 الى 47] وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)

[في قوله تعالى وَبَيْنَهُما حِجابٌ] اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَبَيْنَهُما حِجابٌ يَعْنِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ أَوْ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَهَذَا الْحِجَابُ هُوَ الْمَشْهُورُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ [الْحَدِيدِ: 13] . فَإِنْ قِيلَ: وَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى ضَرْبِ هَذَا السُّورِ بَيْنَ الْجَنَّةِ والنار؟ وقد ثبت ان الجنة فوق السموات/ وَأَنَّ الْجَحِيمَ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ. قُلْنَا: بُعْدُ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى لَا يَمْنَعُ أَنْ يَحْصُلَ بَيْنَهُمَا سُورٌ وَحِجَابٌ وَأَمَّا الْأَعْرَافُ فَهُوَ جَمْعُ عُرْفٍ وَهُوَ كُلُّ مَكَانٍ عَالٍ مُرْتَفِعٍ وَمِنْهُ عُرْفُ الْفَرَسِ وَعُرْفُ الدِّيكِ وَكُلُّ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ عُرْفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِسَبَبِ ارْتِفَاعِهِ يَصِيرُ اعرف مما انخفض منه. [في قوله تعالى وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي تَفْسِيرِ لَفْظِ الْأَعْرَافِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَعْرَافِ أَعَالِي ذَلِكَ السُّورِ الْمَضْرُوبِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: الْأَعْرَافُ شَرَفُ الصِّرَاطِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَوْلُ الزَّجَّاجِ: فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَعَلَى الْأَعْرافِ أَيْ وَعَلَى مَعْرِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ بِسِيمَاهُمْ. فَقِيلَ لِلْحَسَنِ: هُمْ قَوْمٌ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ فَضَرَبَ عَلَى فَخْذَيْهِ ثُمَّ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى تَعَرُّفِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ يُمَيِّزُونَ الْبَعْضَ مِنَ الْبَعْضِ وَاللَّهِ لَا أَدْرِي لَعَلَّ بَعْضَهُمُ الْآنَ مَعَنَا! أَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الَّذِينَ هُمْ عَلَى الْأَعْرَافِ مَنْ هُمْ؟ وَلَقَدْ كَثُرَتِ الْأَقْوَالُ فِيهِمْ وَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمُ الْأَشْرَافُ مِنْ أَهْلِ الطَّاعَةِ وَأَهْلِ الثَّوَابِ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ أَقْوَامٌ يَكُونُونَ فِي الدَّرَجَةِ السَّافِلَةِ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ هُمْ مَلَائِكَةٌ يَعْرِفُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ فَقِيلَ لَهُ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ وَتَزْعُمُ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ؟ فَقَالَ الْمَلَائِكَةُ ذُكُورٌ لَا إِنَاثٌ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْوَصْفُ بِالرُّجُولِيَّةِ إِنَّمَا يَحْسُنُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَحْصُلُ فِي مُقَابَلَةِ الرَّجُلِ مَنْ يَكُونُ أُنْثَى وَلَمَّا امْتَنَعَ كَوْنُ الْمَلَكِ أُنْثَى امْتَنَعَ وَصْفُهُمْ بِالرُّجُولِيَّةِ. وَثَانِيَهَا: قَالُوا إِنَّهُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَجْلَسَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَعَالِي ذَلِكَ السُّورِ تَمْيِيزًا لَهُمْ عَنْ سَائِرِ أَهْلِ الْقِيَامَةِ وَإِظْهَارًا لِشَرَفِهِمْ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِمْ وَأَجْلَسَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ الْعَالِي لِيَكُونُوا مُشْرِفِينَ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ مُطَّلِعِينَ عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَمَقَادِيرِ ثَوَابِهِمْ وَعِقَابِهِمْ. وَثَالِثُهَا: قَالُوا: إِنَّهُمْ هُمُ الشُّهَدَاءُ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ ثُمَّ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِكَوْنِ وُجُوهِهِمْ ضَاحِكَةً مُسْتَبْشِرَةً وَأَهْلَ النَّارِ بِسَوَادِ وُجُوهِهِمْ وَزُرْقَةِ عُيُونِهِمْ وَهَذَا الْوَجْهُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ أَهْلَ الْأَعْرَافِ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ بِسِيمَاهُمْ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرُوهُ لَمَا بَقِيَ لِأَهْلِ الْأَعْرَافِ/ اخْتِصَاصٌ بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمِنْ أَهْلِ النَّارِ يَعْرِفُونَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمِنْ أَهْلِ النَّارِ وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا الْوَجْهُ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ فِي الدُّنْيَا أَهْلَ الْخَيْرِ وَالْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ وَأَهْلَ الشَّرِّ وَالْكُفْرِ وَالْفَسَادِ وَهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا شُهَدَاءَ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَعَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ فَهُوَ تَعَالَى يُجْلِسُهُمْ عَلَى الْأَعْرَافِ وَهِيَ الْأَمْكِنَةُ الْعَالِيَةُ الرَّفِيعَةُ لِيَكُونُوا مُطَّلِعِينَ عَلَى الْكُلِّ يَشْهَدُونَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ

بِمَا يَلِيقُ بِهِ وَيَعْرِفُونَ أَنَّ أَهْلَ الثَّوَابِ وَصَلُوا إِلَى الدَّرَجَاتِ وَأَهْلَ الْعِقَابِ إِلَى الدِّرْكَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ أَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ أَيْ لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَهُمْ يَطْمَعُونَ فِي دُخُولِهَا وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالشُّهَدَاءِ. أَجَابَ الذَّاهِبُونَ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ بِأَنْ قَالُوا: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ مِنْ صِفَاتِ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ أَنَّ دُخُولَهُمُ الْجَنَّةَ يَتَأَخَّرُ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى مَيَّزَهُمْ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَأَجْلَسَهُمْ عَلَى تِلْكَ الشُّرُفَاتِ الْعَالِيَةِ وَالْأَمْكِنَةِ الْمُرْتَفِعَةِ لِيُشَاهِدُوا أَحْوَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَحْوَالَ أَهْلِ النَّارِ فَيَلْحَقُهُمُ السُّرُورُ الْعَظِيمُ بِمُشَاهَدَةِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ ثُمَّ إِذَا اسْتَقَرَّ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ فَحِينَئِذٍ يَنْقُلُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى أَمْكِنَتِهِمُ الْعَالِيَةِ فِي الْجَنَّةِ فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُمْ غَيْرَ دَاخِلِينَ فِي الْجَنَّةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ كَمَالِ شَرَفِهِمْ وَعُلُوِّ دَرَجَتِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهُمْ يَطْمَعُونَ فَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الطَّمَعِ الْيَقِينُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشُّعَرَاءِ: 82] وذلك الطمع كان طمع يقين فكذا هاهنا. فَهَذَا تَقْرِيرُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ هُمْ أَشْرَافُ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ أَقْوَامٌ يَكُونُونَ فِي الدَّرَجَةِ النَّازِلَةِ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ قَوْمٌ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ فَلَا جَرَمَ مَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَأَوْقَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأَعْرَافِ لِكَوْنِهَا دَرَجَةً مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ الْجَنَّةِ وَبَيْنَ النَّارِ ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ وَرَحِمَتِهِ وَهُمْ آخِرُ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَهَذَا قَوْلُ حُذَيْفَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَطَعَنَ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي فِي هَذَا الْقَوْلِ وَاحْتَجُّوا عَلَى فَسَادِهِ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ قَالُوا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 43] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِدُخُولِهَا وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الْقَوْلِ بِوُجُودِ أَقْوَامٍ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْجَنَّةَ/ وَلَا النَّارَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِمَحْضِ التَّفَضُّلِ لَا بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ كَوْنَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَيَّزَهُمْ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْقِيَامَةِ بان أجلسهم على الإمكان الْعَالِيَةِ الْمُشْرِفَةِ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَذَلِكَ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ وَمِثْلُ هَذَا التَّشْرِيفِ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْأَشْرَافِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِينَ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ فَدَرَجَتُهُمْ قَاصِرَةٌ، فَلَا يَلِيقُ بِهِمْ ذَلِكَ التَّشْرِيفُ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها خطاب مَعَ قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَذَلِكَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَعَالَى أَجْلَسَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ عَلَى سَبِيلِ التَّخْصِيصِ بِمَزِيدِ التَّشْرِيفِ وَالْإِكْرَامِ وَإِنَّمَا أَجْلَسَهُمْ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا كَالْمَرْتَبَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَهَلِ النِّزَاعُ إِلَّا فِي ذَلِكَ؟ فَثَبَتَ أَنَّ الْحُجَّةَ الَّتِي عَوَّلُوا عَلَيْهَا فِي إِبْطَالِ هَذَا الْوَجْهِ ضَعِيفَةٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي تَفْسِيرِ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ قَالُوا: الْمُرَادُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ أَقْوَامٌ خَرَجُوا الى الغز وبغير إِذَنِ آبَائِهِمْ فَاسْتُشْهِدُوا فَحُبِسُوا بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ دَاخِلٌ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا صَارُوا مِنْ أَصْحَابِ الأعراف لان معصيتهم

ساوت طاعتهم باجهاد فَهَذَا أَحَدُ الْأُمُورِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَصِحَّ ذَلِكَ الْوَجْهُ فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ هَذِهِ الصُّورَةِ وَقَصْرِ لَفْظِ الْآيَةِ عَلَيْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَرْثِ: إِنَّهُمْ مَسَاكِينُ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَالَ قَوْمٌ إِنَّهُمُ الْفُسَّاقُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُمْ وَيُسْكِنُهُمْ فِي الْأَعْرَافِ فَهَذَا كُلُّهُ شَرْحُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الْأَعْرَافُ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَمْكِنَةِ الْعَالِيَةِ عَلَى السُّورِ الْمَضْرُوبِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَبَيْنَ النَّارِ. وَأَمَّا الَّذِينَ يَقُولُونَ الْأَعْرَافُ عِبَارَةٌ عَنِ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ فَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا غَيْرُ بَعِيدٍ إِلَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ يُشْرِفُونَ مِنْهُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَحِينَئِذٍ يَعُودُ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَهَذِهِ تَفَاصِيلُ أَقْوَالِ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ يَعْرِفُونَ كُلًّا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ بِسِيمَاهُمْ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: بِسِيماهُمْ عَلَى وُجُوهٍ. فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ سِيمَا الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بَيَاضُ وَجْهِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آلِ عِمْرَانَ: 106] وَكَوْنُ وُجُوهِهِمْ مُسْفِرَةً ضَاحِكَةً مُسْتَبْشِرَةً وَكَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَغَرَّ مُحَجَّلًا مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ وَعَلَامَةُ الْكُفَّارِ سَوَادُ وُجُوهِهِمْ وَكَوْنُ وُجُوهِهِمْ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ وَكَوْنُ عُيُونِهِمْ زُرْقًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُمْ لَمَّا شَاهَدُوا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِهَذِهِ الْعَلَامَاتِ؟ لِأَنَّ هَذَا يَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَا عُلِمَ وَجُودُهُ بِالْحِسِّ وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ مُخْتَصُّونَ بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَبْقَ هَذَا الِاخْتِصَاصُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ أُمُورٌ مَحْسُوسَةٌ فَلَا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهَا شَخْصٌ دُونَ شَخْصٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ كَانُوا يَعْرِفُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا بِظُهُورِ عَلَامَاتِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَاتِ عَلَيْهِمْ وَيَعْرِفُونَ الْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا بِظُهُورِ عَلَامَاتِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ عَلَيْهِمْ فَإِذَا شَاهَدُوا أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ فِي مَحْفِلِ الْقِيَامَةِ مَيَّزُوا الْبَعْضَ عَنِ الْبَعْضِ بِتِلْكَ الْعَلَامَاتِ الَّتِي شَاهَدُوهَا عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمُخْتَارُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ فَالْمَعْنَى إِنَّهُمْ إِذَا نَظَرُوا إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ سَلَّمُوا عَلَى أَهْلِهَا وَعِنْدَ هَذَا تَمَّ كَلَامُ أَهْلِ الْأَعْرَافِ. ثُمَّ قَالَ: لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَ الْأَعْرَافِ لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَمَعَ ذَلِكَ فَهُمْ يَطْمَعُونَ فِي دُخُولِهَا ثُمَّ إِنْ قُلْنَا إِنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ هُمُ الْأَشْرَافُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَجْلَسَهُمْ عَلَى الْأَعْرَافِ وَأَخَّرَ إِدْخَالَهُمُ الْجَنَّةَ لِيَطَّلِعُوا عَلَى أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَنْقُلُهُمْ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ فِي الْجَنَّةِ كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَا لَيَرَاهُمْ مَنْ تَحْتَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ» وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ هُمْ أَشْرَافُ أَهْلِ الْقِيَامَةِ فَعِنْدَ وُقُوفِ أَهْلِ الْقِيَامَةِ فِي الْمَوْقِفِ يُجْلِسُ اللَّهُ أَهْلَ الْأَعْرَافِ فِي الْأَعْرَافِ وَهِيَ الْمَوَاضِعُ الْعَالِيَةُ الشَّرِيفَةُ فَإِذَا أَدْخَلَ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلَ النَّارِ النَّارَ نَقْلَهُمْ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ فِي الْجَنَّةِ فَهُمْ أَبَدًا لَا يَجْلِسُونَ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 48 إلى 49]

إِلَّا فِي الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ. وَأَمَّا إِنْ فَسَّرْنَا أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي الدَّرَجَةِ النَّازِلَةِ مِنْ أَهْلِ النَّجَاةِ قُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى يُجْلِسُهُمْ فِي الْأَعْرَافِ وَهُمْ يَطْمَعُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ أَنْ يَنْقُلَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ التِّلْقَاءُ جِهَةُ اللِّقَاءِ وَهِيَ جِهَةُ الْمُقَابَلَةِ وَلِذَلِكَ كَانَ ظَرْفَا مِنْ ظُرُوفِ الْمَكَانِ يُقَالُ فُلَانٌ تِلْقَاءُكَ كَمَا يُقَالُ هُوَ حِذَاءُكَ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ اسْتُعْمِلَ ظَرْفًا ثُمَّ نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ثَعْلَبٍ عَنِ الْكُوفِيِّينَ وَالْمُبَرَّدِ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُمَا قَالَا: لَمْ يَأْتِ مِنَ الْمَصَادِرِ عَلَى تِفْعَالٍ إِلَّا حَرْفَانِ تِبْيَانٌ وَتِلْقَاءٌ فَإِذَا تَرَكْتُ هَذَيْنِ اسْتَوَى ذَلِكَ الْقِيَاسُ/ فَقُلْتُ فِي كُلِّ مَصْدَرٍ تَفْعَالٌ بِفَتْحِ التَّاءِ مِثْلُ تَسْيَارٍ وَتَرْسَالٍ. وَقُلْتُ فِي كُلِّ اسْمٍ تِفْعَالٌ بِكَسْرِ التَّاءِ مِثْلُ تِمْثَالٍ وَتِقْصَارٍ وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ كُلَّمَا وَقَعَتْ أَبْصَارُ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ عَلَى أَهْلِ النَّارِ تَضَرَّعُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ لَا يَجْعَلَهُمْ مِنْ زُمْرَتِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْآيَاتِ التَّخْوِيفُ حَتَّى يُقْدِمَ الْمَرْءُ عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَلَا يَرْضَى بِالتَّقْلِيدِ لِيَفُوزَ بِالدِّينِ الْحَقِّ فَيَصِلُ بِسَبَبِهِ إِلَى الثَّوَابِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَيَتَخَلَّصُ عَنِ العقاب المذكور فيها. [سورة الأعراف (7) : الآيات 48 الى 49] وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بُقُولِهِ: وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا [الأعراف: 47] أَتْبَعُهُ أَيْضًا بِأَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ يُنَادُونَ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ أَهْلِ النَّارِ لِأَجْلِ أَنَّ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ يُبَكِّتُ وَيُوَبِّخُ وَلَا يَلِيقُ أَيْضًا إِلَّا بِأَكَابِرِهِمْ وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ إِمَّا جَمْعُ الْمَالِ وَإِمَّا الِاجْتِمَاعُ وَالْكَثْرَةُ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ وَالْمُرَادُ: اسْتِكْبَارُهُمْ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَاسْتِكْبَارُهُمْ عَلَى النَّاسِ الْمُحِقِّينَ. وَقُرِئَ تَسْتَكْثِرُونَ مِنَ الْكَثْرَةِ وَهَذَا كَالدَّلَالَةِ عَلَى شَمَاتَةِ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ بِوُقُوعِ أُولَئِكَ الْمُخَاطَبِينَ فِي الْعِقَابِ وَعَلَى تَبْكِيتٍ عَظِيمٍ يَحْصُلُ لِأُولَئِكَ الْمُخَاطَبِينَ بِسَبَبِ هَذَا الْكَلَامِ ثُمَّ زَادُوا عَلَى هَذَا التَّبْكِيتِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ فَأَشَارُوا إِلَى فَرِيقٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَانُوا يَسْتَضْعِفُونَهُمْ وَيَسْتَقِلُّونَ أَحْوَالَهُمْ وربما هزؤا بِهِمْ وَأَنِفُوا مِنْ مُشَارَكَتِهِمْ فِي دِينِهِمْ فَإِذَا رَأَى مَنْ كَانَ يَدَّعِي التَّقَدُّمَ حُصُولَ الْمَنْزِلَةِ الْعَالِيَةِ لِمَنْ كَانَ مُسْتَضْعَفًا عِنْدَهُ قَلِقَ لِذَلِكَ وَعَظُمَتْ حَسْرَتُهُ وَنَدَامَتُهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فِي نَفْسِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقِيلَ هُمْ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُمْ ذَلِكَ أَوْ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا الْقَوْلِ. وَقِيلَ: بَلْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ/ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى يَحُثُّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ بِالدُّخُولِ فِي الْجَنَّةِ وَاللُّحُوقِ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ. وَقَوْلُهُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تعالى ولا بد هاهنا مِنْ إِضْمَارٍ وَالتَّقْدِيرُ: فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ هَذَا كَمَا قَالَ: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ [الأعراف: 110] وانقطع هاهنا كَلَامُ الْمَلَأِ. ثُمَّ قَالَ فِرْعَوْنُ: فَماذا تَأْمُرُونَ [الأعراف: 110] فَاتَّصَلَ كَلَامُهُ بِكَلَامِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِظْهَارِ فَارِقٍ فكذا هاهنا.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 50 إلى 51]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 50 الى 51] وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ لِأَهْلِ النَّارِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ النَّارِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمَّا صَارَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ إِلَى الْجَنَّةِ طَمِعَ أَهْلُ النَّارِ بِفَرَجٍ بَعْدَ الْيَأْسِ فَقَالُوا: يَا رَبِّ إِنَّ لَنَا قَرَابَاتٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَأْذَنْ لَنَا حَتَّى نَرَاهُمْ وَنُكَلِّمَهُمْ فَأَمَرَ اللَّهُ الْجَنَّةَ فَتَزَحْزَحَتْ ثُمَّ نَظَرَ أَهْلُ جَهَنَّمَ إِلَى قَرَابَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ فَعَرَفُوهُمْ وَنَظَرَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى قَرَابَاتِهِمْ مِنْ أَهْلِ جَهَنَّمَ فَلَمْ يَعْرِفُوهُمْ وَقَدِ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ وَصَارُوا خَلْقًا آخَرَ فَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ بِأَسْمَائِهِمْ وَقَالُوا: أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ وَإِنَّمَا طَلَبُوا الْمَاءَ خَاصَّةً لِشِدَّةِ مَا فِي بَوَاطِنِهِمْ مِنَ الِاحْتِرَاقِ وَاللَّهِيبِ بِسَبَبِ شِدَّةِ حَرِّ جَهَنَّمَ. وَقَوْلُهُ: أَفِيضُوا كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ أَعْلَى مَكَانًا مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَإِنْ قِيلَ: أَسَأَلُوا مَعَ الرَّجَاءِ وَالْجَوَازِ ومع الْيَأْسِ؟ قُلْنَا: مَا حَكَيْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ طَلَبُوا الْمَاءَ مَعَ جَوَازِ الْحُصُولِ. وَقَالَ الْقَاضِي: بَلْ مَعَ الْيَأْسِ لِأَنَّهُمْ قَدْ عَرَفُوا دَوَامَ عِقَابِهِمْ وَأَنَّهُ لَا يَفْتُرُ عَنْهُمْ وَلَكِنَّ الْآيِسَ مِنَ الشَّيْءِ قَدْ يَطْلُبُهُ كَمَا/ يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: الْغَرِيقُ يَتَعَلَّقُ بِالزَّبَدِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُغِيثُهُ. وَقَوْلُهُ: أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قِيلَ إِنَّهُ الثِّمَارُ وَقِيلَ إِنَّهُ الطَّعَامُ وَهَذَا الْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْعَطَشِ الشَّدِيدِ وَالْجُوعِ الشَّدِيدِ لَهُمْ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرْسِلُ عَلَى أَهْلِ النَّارِ الْجُوعَ حَتَّى يَزْدَادَ عَذَابُهُمْ فَيَسْتَغِيثُونَ فَيُغَاثُونَ بِالضَّرِيعِ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ثُمَّ يَسْتَغِيثُونَ فَيُغَاثُونَ بِطَعَامٍ ذِي غُصَّةٍ ثُمَّ يذكرون الشراب ويستغيثون فَيُدْفَعُ إِلَيْهِمُ الْحَمِيمُ وَالصَّدِيدُ بِكَلَالِيبِ الْحَدِيدِ فَيَقْطَعُ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَيَسْتَغِيثُونَ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ وَيَقُولُونَ لِمَالِكٍ: لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الزُّخْرُفِ: 77] فَيُجِيبُهُمْ عَلَى مَا قِيلَ بَعْدَ أَلْفِ عَامٍ وَيَقُولُونَ: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها [المؤمنون: 107] فيجيبهم اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 108] فَعِنْدَ ذَلِكَ يَيْأَسُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ وَيَأْخُذُونَ فِي الزَّفِيرِ وَالشَّهِيقِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ ذَكَرَ فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ جُمُعَةٍ وَلِمَنْزِلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَلْفُ بَابٍ فَإِذَا رَأَوُا اللَّهَ تَعَالَى دَخَلَ مِنْ كُلِّ بَابٍ مَلَكٌ مَعَهُ الْهَدَايَا الشَّرِيفَةُ وَقَالَ: إِنَّ نَخْلَ الْجَنَّةِ خَشَبُهَا الزُّمُرُّدُ وَتُرَابُهَا الذَّهَبُ الْأَحْمَرُ وَسَعَفُهَا حُلَلٌ وَكِسْوَةٌ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَثَمَرُهَا أَمْثَالُ الْقِلَالِ أَوِ الدِّلَاءِ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الْفِضَّةِ وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ لَا عَجَمَ لَهُ فَهَذَا صِفَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَصِفَةُ أَهْلِ النَّارِ وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ: أَنَّ قَارِئًا قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْكُفَّارِ: أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ فِي تَذْكِرَةِ الْأُسْتَاذِ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ فَقَالَ الْأُسْتَاذُ: هَؤُلَاءِ كَانَتْ رَغْبَتُهُمْ وَشَهْوَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا فِي الشُّرْبِ وَالْأَكْلِ وَفِي الْآخِرَةِ بَقُوا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ يَمُوتُ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ وَيُحْشَرُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ لَمَّا طَلَبُوا الْمَاءَ وَالطَّعَامَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ الْخَيْبَةَ التَّامَّةَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ

[سورة الأعراف (7) : آية 52]

هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ بِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الَّذِي اعْتَقَدُوا فِيهِ أَنَّهُ دِينُهُمْ تَلَاعَبُوا بِهِ وَمَا كَانُوا فِيهِ مُجِدِّينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ دِينًا لِأَنْفُسِهِمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُرِيدُ الْمُسْتَهْزِئِينَ الْمُقْتَسِمِينَ. ثُمَّ قَالَ: وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَهُوَ مَجَازٌ لِأَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَا تَغُرُّ فِي الْحَقِيقَةِ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ حَصَلَ الْغُرُورُ عِنْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَطْمَعُ فِي طُولِ الْعُمُرِ وَحُسْنِ الْعَيْشِ وَكَثْرَةِ الْمَالِ وَقُوَّةِ الْجَاهِ فَلِشِدَّةِ رَغْبَتِهِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَصِيرُ مَحْجُوبًا عَنْ طَلَبِ الدِّينِ غَرَقًا فِي طَلَبِ الدُّنْيَا ثُمَّ لَمَّا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى أُولَئِكَ الْكُفَّارَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ قَالَ: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَفِي تَفْسِيرِ هَذَا النِّسْيَانِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ النِّسْيَانَ هُوَ التَّرْكُ. وَالْمَعْنَى: نَتْرُكُهُمْ فِي عَذَابِهِمْ كَمَا تَرَكُوا الْعَمَلَ لِلِقَاءِ يَوْمِهِمْ هَذَا وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِ وَالْأَكْثَرِينَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا أَيْ نُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ مَنْ نَسِيَ نَتْرُكُهُمْ فِي النَّارِ كَمَا فَعَلُوا هُمْ فِي الْإِعْرَاضِ بِآيَاتِنَا وَبِالْجُمْلَةِ فَسَمَّى اللَّهُ جَزَاءَ نِسْيَانِهِمْ بِالنِّسْيَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا النِّسْيَانِ أَنَّهُ لَا يُجِيبُ دُعَاءَهُمْ وَلَا يَرْحَمُهُمْ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ هَذِهِ التَّشْدِيدَاتِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بآياتنا يجحدون وهذه الْآيَةِ لَطِيفَةٌ عَجِيبَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ كَانُوا كَافِرِينَ ثُمَّ بَيَّنَ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا أَوَّلًا ثُمَّ لَعِبًا ثَانِيًا ثُمَّ غَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ثَالِثًا ثُمَّ صَارَ عَاقِبَةُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَالدَّرَجَاتِ أَنَّهُمْ جَحَدُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُبَّ الدُّنْيَا مَبْدَأُ كُلِّ آفَةٍ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ» وَقَدْ يُؤَدِّي حُبُّ الدُّنْيَا إِلَى الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ. [سورة الأعراف (7) : آية 52] وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَأَهْلِ الْأَعْرَافِ ثُمَّ شَرَحَ الْكَلِمَاتِ الدَّائِرَةَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ عَلَى وَجْهٍ يَصِيرُ سَمَاعُ تِلْكَ الْمُنَاظَرَاتِ حَامِلًا لِلْمُكَلَّفِ عَلَى الْحَذَرِ وَالِاحْتِرَازِ وَدَاعِيًا لَهُ إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بَيَّنَ شَرَفَ هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَنِهَايَةَ مَنْفَعَتِهِ فَقَالَ: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ وَهُوَ الْقُرْآنُ فَصَّلْناهُ أَيْ مَيَّزْنَا بَعْضَهُ عَنْ بَعْضٍ تَمْيِيزًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ وَيُؤْمِنُ عَنِ الْغَلَطِ وَالْخَبْطِ فَأَمَّا قَوْلُهُ: عَلى عِلْمٍ فَالْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ التَّفْصِيلَ وَالتَّمْيِيزَ إِنَّمَا حَصَلَ مَعَ الْعِلْمِ التَّامِّ بِمَا فِي كُلِّ فَصْلٍ مِنْ تِلْكَ الْفُصُولِ مِنَ الْفَوَائِدِ الْمُتَكَاثِرَةِ وَالْمَنَافِعِ الْمُتَزَايِدَةِ وَقَوْلُهُ: هُدىً وَرَحْمَةً قَالَ الزَّجَّاجُ: هُدىً فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ فَصَّلْنَاهُ هَادِيًا وَذَا رَحْمَةٍ وَقَوْلُهُ: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ جُعِلَ هُدًى لِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: 2] وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ: فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْعِلْمِ خِلَافًا لما يقوله المعتزلة من انه ليس اللَّه علم. واللَّه اعلم. [سورة الأعراف (7) : آية 53] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (53)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ إِزَاحَةَ الْعِلَّةِ بِسَبَبِ إِنْزَالِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُفَصَّلِ الْمُوجِبِ لِلْهِدَايَةِ وَالرَّحْمَةِ بَيَّنَ بَعْدَهُ حَالَ مَنْ كَذَّبَ فَقَالَ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ والنظر هاهنا بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ وَالتَّوَقُّعِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَتَوَقَّعُونَ وَيَنْتَظِرُونَ مَعَ جَحْدِهِمْ لَهُ وَإِنْكَارِهِمْ؟ قُلْنَا: لَعَلَّ فِيهِمْ أَقْوَامًا تَشَكَّكُوا وَتَوَقَّفُوا فَلِهَذَا السَّبَبِ انْتَظَرُوهُ وَأَيْضًا إِنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا جَاحِدِينَ إِلَّا أَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُنْتَظِرِينَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ تِلْكَ الْأَحْوَالَ تَأْتِيهِمْ لَا مَحَالَةَ وَقَوْلُهُ: إِلَّا تَأْوِيلَهُ قَالَ الْفَرَّاءُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: تَأْوِيلَهُ لِلْكِتَابِ يُرِيدُ عَاقِبَةَ مَا وُعِدُوا بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَالتَّأْوِيلُ مَرْجِعُ الشَّيْءِ وَمَصِيرُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ آلَ الشَّيْءُ يَئُولُ وَقَدِ احْتَجَّ بهذه الآية من ذهب الى قَوْلَهُ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: 7] أَيْ مَا يَعْلَمُ عَاقِبَةَ الْأَمْرِ فِيهِ إِلَّا اللَّه وَقَوْلُهُ: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يُرِيدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ الزَّجَّاجُ قَوْلُهُ: يَوْمَ نُصِبَ بِقَوْلِهِ: يَقُولُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ صَارُوا فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ نَسِيَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى نَسُوهُ أَيْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ وَالْإِيمَانَ به وهذا كما ذكر نا فِي قَوْلِهِ: كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا [الأعراف: 51] ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَسُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُونَ: قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِأَنَّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ ثُبُوتِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَالثَّوَابِ، وَالْعِقَابِ، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا، وَإِنَّمَا أَقَرُّوا بِحَقِيقَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوهَا وَعَايَنُوهَا وَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الْعَذَابِ قَالُوا: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَنَا إِلَى الْخَلَاصِ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ إِلَّا أَحَدُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ ان يشفع لنا شفيع فلا جل تِلْكَ الشَّفَاعَةِ يَزُولُ هَذَا الْعَذَابُ أَوْ يَرُدُّنَا اللَّه تَعَالَى إِلَى الدُّنْيَا حَتَّى نَعْمَلَ غَيْرَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ يَعْنِي نُوَحِّدُ اللَّه تَعَالَى بَدَلًا عَنِ الْكُفْرِ وَنُطِيعُهُ بَدَلًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: أَقَالُوا هَذَا الْكَلَامَ مَعَ الرَّجَاءِ أَوْ مَعَ الْيَأْسِ؟ وَجَوَابُنَا عَنْهُ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ [الأعراف: 50] ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ان الذين طَلَبُوهُ لَا يَكُونُ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَطْلُوبَ لَوْ حَصَلَ لَمَا حَكَمَ اللَّه عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ. ثُمَّ قَالَ: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ يُرِيدُ أَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِالْأَصْنَامِ الَّتِي عَبَدُوهَا فِي الدُّنْيَا/ وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِنُصْرَةِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي بَالَغُوا فِي نُصْرَتِهَا قَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى حُكْمَيْنِ: الْحُكْمُ الْأَوَّلُ قَالَ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي حَالِ التَّكْلِيفِ قَادِرِينَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ فَلِذَلِكَ سَأَلُوا الرَّدَّ لِيُؤْمِنُوا وَيَتُوبُوا وَلَوْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا غَيْرَ قَادِرِينَ كَمَا يَقُولُهُ الْمُجْبِرَةُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي الرَّدِّ فَائِدَةٌ وَلَا جَازَ أَنْ يَسْأَلُوا ذَلِكَ. الْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ وَالَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ مُكَلَّفُونَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا

[سورة الأعراف (7) : آية 54]

سَأَلُوا الرَّدَّ إِلَى حَالٍ وَهُمْ فِي الْوَقْتِ عَلَى مِثْلِهَا بَلْ كَانُوا يَتُوبُونَ وَيُؤْمِنُونَ فِي الْحَالِ فَبَطَلَ مَا حُكِيَ عَنِ النَّجَّارِ وَطَبَقَتِهِ مِنْ أَنَّ التَّكْلِيفَ بَاقٍ عَلَى أَهْلِ الآخرة. [سورة الأعراف (7) : آية 54] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ] اعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مَدَارَ أَمْرِ الْقُرْآنِ عَلَى تَقْدِيرِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَالنُّبُوَّةُ وَالْمَعَادُ وَالْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَدَارَ إِثْبَاتِ الْمَعَادِ عَلَى إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ فَلَمَّا بَالَغَ اللَّه تَعَالَى فِي تَقْرِيرِ أَمْرِ الْمَعَادِ عَادَ إِلَى ذِكْرِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ لِتَصِيرَ تِلْكَ الدَّلَائِلُ مُقَرِّرَةً لِأُصُولِ التَّوْحِيدِ وَمُقَرِّرَةً أَيْضًا لِإِثْبَاتِ الْمَعَادِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: حَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ اللَّيْثِ أَنَّهُ قَالَ: الْأَصْلُ فِي السِّتِّ وَالسِّتَّةِ سِدْسٍ وَسِدْسَةٍ أَبْدَلَ السِّينَ تَاءً وَلَمَّا كَانَ مَخْرَجُ الدَّالِ وَالتَّاءِ قَرِيبًا أَدْغَمَ أحدهما في الآخر واكتفى بالتاء عليه انك تَقُولُ فِي تَصْغِيرِ سِتَّةٍ سُدَيْسَةٌ وَكَذَلِكَ الْأَسْدَاسُ وَجَمِيعُ تَصَرُّفَاتِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْخَلْقُ التَّقْدِيرُ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فَخَلْقُ السموات وَالْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى تَقْدِيرِ حَالَةٍ/ مِنْ أَحْوَالِهِمَا وَذَلِكَ التَّقْدِيرُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا كَثِيرَةً: أَوَّلُهَا: تَقْدِيرُ ذَوَاتِهِمَا بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مَعَ أَنَّ الْعَقْلَ يَقْضِي بِأَنَّ الْأَزْيَدَ مِنْهُ وَالْأَنْقَصَ مِنْهُ جَائِزٌ فَاخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِقْدَارِهِ الْمُعَيَّنِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى افتقار خلق السموات وَالْأَرْضِ إِلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْأَجْسَامِ مُتَحَرِّكَةً فِي الْأَزَلِ مُحَالٌ لِأَنَّ الْحَرَكَةَ انْتِقَالٌ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ فَالْحَرَكَةُ يَجِبُ كَوْنُهَا مَسْبُوقَةً بِحَالَةٍ أُخْرَى وَالْأَزَلُ يُنَافِي الْمَسْبُوقِيَّةَ فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَرَكَةِ وَبَيْنَ الْأَزَلِ مُحَالًا. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذِهِ الْأَفْلَاكُ وَالْكَوَاكِبُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: أَنَّ ذَوَاتَهَا كَانَتْ مَعْدُومَةً فِي الْأَزَلِ ثُمَّ وُجِدَتْ أَوْ يُقَالُ: إِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً لَكِنَّهَا كَانَتْ وَاقِفَةً سَاكِنَةً فِي الْأَزَلِ ثُمَّ ابْتَدَأَتْ بِالْحَرَكَةِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَتِلْكَ الْحَرَكَاتُ ابْتَدَأَتْ بِالْحُدُوثِ وَالْوُجُودِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ مَعَ جَوَازِ حُصُولِهَا قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اخْتِصَاصُ ابْتِدَاءِ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ بِتِلْكَ الْأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ تَقْدِيرًا وَخَلْقًا وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصُ إِلَّا بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ قَادِرٍ وَمُخْتَارٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَجْرَامَ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْعَنَاصِرِ مُرَكَّبَةٌ مِنْ أَجْزَاءٍ صَغِيرَةٍ وَلَا بُدَّ وَأَنْ يُقَالَ: إِنَّ بَعْضَ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ حصلت في داخل تلك الاجرام وَبَعْضُهَا حَصَلَتْ عَلَى سُطُوحِهَا فَاخْتِصَاصُ حُصُولِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ بِحَيِّزِهِ الْمُعَيَّنِ وَوَضْعِهِ الْمُعَيَّنِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِتَخْصِيصِ الْمُخَصِّصِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ بَعْضَ الْأَفْلَاكِ أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ وَبَعْضُ الْكَوَاكِبِ حَصَلَ فِي الْمِنْطَقَةِ وَبَعْضُهَا فِي الْقُطْبَيْنِ فَاخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَوْضِعِهِ الْمُعَيَّنِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ قَادِرٍ مُخْتَارٍ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَفْلَاكِ مُتَحَرِّكٌ إِلَى جِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَحَرَكَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الْبُطْءِ وَالسُّرْعَةِ وَذَلِكَ أَيْضًا خَلْقٌ وَتَقْدِيرٌ وَيَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْمُخَصِّصِ الْقَادِرِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَوَاكِبِ مُخْتَصٌّ بِلَوْنٍ مَخْصُوصٍ مِثْلُ كُمُودَةِ زُحَلٍ وَدُرِّيَّةِ الْمُشْتَرِي وَحُمْرَةِ الْمِرِّيخِ وَضِيَاءِ الشَّمْسِ وَإِشْرَاقِ الزهرة وصفرة

عُطَارِدٍ وَزُهُورِ الْقَمَرِ وَالْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ فَكَانَ اخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِلَوْنِهِ الْمُعَيَّنِ خَلْقًا وَتَقْدِيرًا وَدَلِيلًا عَلَى افْتِقَارِهَا إِلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ. وَسَابِعُهَا: أَنَّ الْأَفْلَاكَ وَالْعَنَاصِرَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ الصَّغِيرَةِ وَوَاجِبُ الْوُجُودِ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ فَهِيَ مُمْكِنَةُ الْوُجُودِ فِي ذَوَاتِهَا فَكُلُّ مَا كَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْمُؤَثِّرِ وَالْحَاجَةُ إِلَى الْمُؤَثِّرِ لَا تَكُونُ فِي حَالِ الْبَقَاءِ وَإِلَّا لَزِمَ تَكَوُّنُ الْكَائِنِ فَتِلْكَ الْحَاجَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي زَمَانِ الْحُدُوثِ أَوْ فِي زَمَانِ الْعَدَمِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ مُحْدَثَةً. وَمَتَى كَانَتْ مُحْدَثَةً كَانَ حُدُوثُهَا مُخْتَصًّا بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَذَلِكَ خَلْقٌ وَتَقْدِيرٌ/ وَيَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ إِلَى الصَّانِعِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ. وَثَامِنُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَجْسَامَ لَا تَخْلُو عَنِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَهُمَا مُحْدَثَانِ وَمَا لَا يخلو عن المحدث فهو محدث فَهَذِهِ الْأَجْسَامُ مُحْدَثَةٌ وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَقَدْ حَصَلَ حُدُوثُهُ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَذَلِكَ خَلْقٌ وَتَقْدِيرٌ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الصَّانِعِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ. وَتَاسِعُهَا: أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ فَاخْتِصَاصُ بَعْضِهَا بِالصِّفَاتِ التي لأجلها كانت سموات وَكَوَاكِبَ وَالْبَعْضُ الْآخَرُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لِأَجْلِهَا كَانَتْ أَرْضًا أَوْ مَاءً أَوْ هَوَاءً أَوْ نَارًا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَمْرًا جَائِزًا وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَقْدِيرِ مُقَدِّرٍ وَتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَعَاشِرُهَا: أَنَّهُ كَمَا حَصَلَ الِامْتِيَازُ الْمَذْكُورُ بَيْنَ الْأَفْلَاكِ وَالْعَنَاصِرِ فَقَدْ حَصَلَ أَيْضًا مِثْلُ هَذَا الِامْتِيَازِ بَيْنَ الْكَوَاكِبِ وَبَيْنَ الْأَفْلَاكِ وَبَيْنَ الْعَنَاصِرِ بَلْ حَصَلَ مِثْلُ هَذَا الِامْتِيَازِ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الِافْتِقَارِ إِلَى الْفَاعِلِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَلْقَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ فَإِذَا دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ حَصَلَتْ لِجِسْمٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّ حُصُولَ تِلْكَ الصِّفَةِ مُمْكِنٌ لِسَائِرِ الْأَجْسَامِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ الْجِسْمِ الْمُعَيَّنِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ الْمُعَيَّنَةِ خَلْقًا وَتَقْدِيرًا فَكَانَ دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ فَيَقُولَ: كَوْنُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَخْلُوقَةً فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ دَلِيلًا عَلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ؟ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ وَجْهَ دَلَالَةِ هَذِهِ الْمُحْدَثَاتِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ هُوَ حُدُوثُهَا أَوْ إِمْكَانُهَا أَوْ مَجْمُوعُهُمَا فَأَمَّا وُقُوعُ ذَلِكَ الْحُدُوثِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أَوْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَلَا أَثَرَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْبَتَّةَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُدُوثَ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ جَائِزٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِأَنَّ هَذَا الْحُدُوثَ وَقَعَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ إِلَّا بِإِخْبَارِ مُخْبِرٍ صَادِقٍ وَذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ فَلَوْ جَعَلْنَا هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ مُقَدِّمَةً فِي إِثْبَاتِ الصَّانِعِ لزم الدور. والثالث: ان حدوث السموات وَالْأَرْضِ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَدَلُّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ مِنْ حُدُوثِهَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. إِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فَنَقُولُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَهَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فِي إِثْبَاتِ ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ؟ وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ ما السبب في انه اقتصر هاهنا على ذكر السموات وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَذْكُرْ خَلْقَ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ؟ السُّؤَالُ الْخَامِسُ: الْيَوْمُ إِنَّمَا يَمْتَازُ عَنِ اللَّيْلَةِ بِسَبَبِ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا فَقَبْلَ خَلْقِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ كَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُ الْأَيَّامِ؟ وَالسُّؤَالُ السَّادِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [الْقَمَرِ: 50] وَهَذَا كَالْمُنَاقِضِ لِقَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.

والسؤال السابع: انه تعالى خلق السموات وَالْأَرْضَ فِي مُدَّةٍ مُتَرَاخِيَةٍ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَقْيِيدِهَا وَضَبْطِهَا بِالْأَيَّامِ السِّتَّةِ؟ فَنَقُولُ: أَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا فَالْأَمْرُ فِي الْكُلِّ سَهْلٌ وَاضِحٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيُحْكِمُ مَا يُرِيدُ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ وَكُلُّ شَيْءٍ صُنْعُهُ وَلَا عِلَّةَ لِصُنْعِهِ. ثُمَّ نَقُولُ: أَمَّا السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: فَجَوَابُهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذكر في أول التوراة انه خلق السموات وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَالْعَرَبُ كَانُوا يُخَالِطُونَ الْيَهُودَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ لَا تَشْتَغِلُوا بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ فَإِنَّ رَبَّكُمْ هُوَ الَّذِي سَمِعْتُمْ مِنْ عُقَلَاءِ الناس انه هو الذي خلق السموات وَالْأَرْضَ عَلَى غَايَةِ عَظَمَتِهَا وَنِهَايَةِ جَلَالَتِهَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَكِنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ حَدًّا مَحْدُودًا وَوَقْتًا مُقَدَّرًا فَلَا يُدْخِلُهُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَى الْمُطِيعِينَ فِي الْحَالِ وَعَلَى إِيصَالِ الْعِقَابِ إِلَى الْمُذْنِبِينَ فِي الْحَالِ إِلَّا انه يؤخر هما إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ مُقَدَّرٍ فَهَذَا التَّأْخِيرُ لَيْسَ لِأَجْلِ أَنَّهُ تَعَالَى أَهْمَلَ الْعِبَادَ بَلْ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ خَصَّ كُلَّ شَيْءٍ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ لِسَابِقِ مَشِيئَتِهِ فَلَا يَفْتُرُ عَنْهُ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ ق: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [ق: 38 39] بَعْدَ أَنْ قَالَ قَبْلَ هَذَا: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 36 37] فَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ قَدْ أَهْلَكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِهِ وَالْمُكَذِّبِينَ لِأَنْبِيَائِهِ مَنْ كَانَ أَقْوَى بَطْشًا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إِلَّا أَنَّهُ أَمْهَلَ هَؤُلَاءِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ كَمَا خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ مُتَّصِلَةٍ لَا لِأَجْلِ لُغُوبٍ لَحِقَهُ فِي الْإِمْهَالِ وَلَمَّا بَيَّنَ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ الْعَالَمَ لَا دُفْعَةً لَكِنْ قَلِيلًا قَلِيلًا قَالَ بعده: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّكْذِيبِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَفَوِّضِ الْأَمْرَ إِلَيْهِ وَهَذَا مَعْنَى مَا يَقُولُهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ الْعَالَمَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لِيُعَلِّمَ عِبَادَهُ الرِّفْقَ فِي الْأُمُورِ وَالصَّبْرَ فِيهَا وَلِأَجْلِ أَنْ لَا يَحْمِلَ الْمُكَلَّفُ تَأَخُّرَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْإِهْمَالِ وَالتَّعْطِيلِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ ذَكَرَ فِيهِ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا أُحْدِثَ دُفْعَةً وَاحِدَةً ثُمَّ انْقَطَعَ طَرِيقُ الْإِحْدَاثِ فَلَعَلَّهُ يَخْطُرُ/ بِبَالِ بَعْضِهِمْ أَنَّ ذَاكَ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّفَاقِ أَمَّا إِذَا حَدَثَتِ الْأَشْيَاءُ عَلَى التَّعَاقُبِ وَالتَّوَاصُلِ مَعَ كَوْنِهَا مُطَابِقَةً لِلْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ كَانَ ذَلِكَ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهَا وَاقِعَةً بِإِحْدَاثِ مُحْدِثٍ قَدِيمٍ حَكِيمٍ وَقَادِرٍ عَلِيمٍ رَحِيمٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى يخلق العاقل أولا ثم يخلق السموات وَالْأَرْضَ بَعْدَهُ ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْعَاقِلَ إِذَا شَاهَدَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَحِينَ حُدُوثِ شَيْءٍ آخَرَ عَلَى التَّعَاقُبِ وَالتَّوَالِي كَانَ ذَلِكَ أَقْوَى لِعِلْمِهِ وَبَصِيرَتِهِ لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ عَلَى عَقْلِهِ ظُهُورُ هَذَا الدَّلِيلِ لَحْظَةً بَعْدَ لَحْظَةٍ فَكَانَ ذَلِكَ أَقْوَى فِي إِفَادَةِ الْيَقِينِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الرَّابِعُ: فجوابه ان ذكر السموات وَالْأَرْضِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَشْتَمِلُ أَيْضًا عَلَى ذِكْرِ مَا بَيْنَهُمَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ سَائِرَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ فَقَالَ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ وَقَالَ: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي

لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما [الْفُرْقَانِ: 58 59] وَقَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [ق: 38] . وَأَمَّا السُّؤَالُ الْخَامِسُ: فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى خلق السموات وَالْأَرْضَ فِي مِقْدَارِ سِتَّةِ أَيَّامٍ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مَرْيَمَ: 62] وَالْمُرَادُ عَلَى مِقْدَارِ الْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ لَا لَيْلَ ثَمَّ وَلَا نَهَارَ. وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّادِسُ: فَجَوَابُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [الْقَمَرِ: 50] مَحْمُولٌ عَلَى إِيجَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الذَّوَاتِ وَعَلَى إِعْدَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا لِأَنَّ إِيجَادَ الذَّاتِ الْوَاحِدَةِ وَإِعْدَامَ الْمَوْجُودِ الْوَاحِدِ لَا يَقْبَلُ التَّفَاوُتَ فَلَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ إِلَّا دُفْعَةً وَاحِدَةً وَأَمَّا الْإِمْهَالُ وَالْمُدَّةُ فَذَاكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي الْمُدَّةِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّابِعُ: وَهُوَ تَقْدِيرُ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ فَهُوَ غَيْرُ وَارِدٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَحْدَثَهُ فِي مِقْدَارٍ آخَرَ مِنَ الزَّمَانِ لَعَادَ ذَلِكَ السُّؤَالُ وَأَيْضًا قَالَ بَعْضُهُمْ لِعَدَدِ السَّبْعَةِ شَرَفٌ عَظِيمٌ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي تَقْرِيرِ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ هِيَ لَيْلَةُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا قَالُوا: فَالْأَيَّامُ السِّتَّةُ فِي تَخْلِيقِ الْعَالَمِ وَالْيَوْمُ السَّابِعُ فِي حُصُولِ كَمَالِ الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ حَصَلَ الْكَمَالُ فِي الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ انْتَهَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْعُقَلَاءِ لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي يُرَبِّيكُمْ وَيُصْلِحُ شَأْنَكُمْ وَيُوَصِّلُ إِلَيْكُمُ الْخَيْرَاتِ وَيَدْفَعُ عَنْكُمُ الْمَكْرُوهَاتِ/ هُوَ الَّذِي بَلَغَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ إِلَى حَيْثُ خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْعَظِيمَةَ وَأَوْدَعَ فِيهَا أَصْنَافَ الْمَنَافِعِ وَأَنْوَاعَ الْخَيْرَاتِ وَمَنْ كَانَ لَهُ مُرَبٍّ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الْحِكْمَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ فَكَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى غَيْرِهِ فِي طَلَبِ الْخَيْرَاتِ أَوْ يُعَوِّلَ عَلَى غَيْرِهِ فِي تَحْصِيلِ السَّعَادَاتِ؟ ثُمَّ فِي الْآيَةِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَنْتُمْ عَبِيدُهُ بَلْ قَالَ هُوَ رَبُّكُمْ وَدَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَسَبَ نَفْسَهُ إِلَيْنَا سَمَّى نَفْسَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالرَّبِّ وَهُوَ مُشْعِرٌ بِالتَّرْبِيَةِ وَكَثْرَةِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ مَنْ كَانَ لَهُ مُرَبٍّ مَعَ كَثْرَةِ هَذِهِ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ؟ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ كَوْنَهُ مُسْتَقِرًّا عَلَى الْعَرْشِ وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ وُجُوهٌ عَقْلِيَّةٌ وَوُجُوهٌ نَقْلِيَّةٌ. أَمَّا الْعَقْلِيَّةُ فَأُمُورٌ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْتَقِرًّا عَلَى الْعَرْشِ لَكَانَ مِنَ الْجَانِبِ الَّذِي يَلِي الْعَرْشَ مُتَنَاهِيًا وَإِلَّا لَزِمَ كَوْنُ الْعَرْشِ دَاخِلًا فِي ذَاتِهِ وَهُوَ مُحَالٌ وَكُلُّ مَا كَانَ مُتَنَاهِيًا فَإِنَّ الْعَقْلَ يَقْضِي بِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَصِيرَ أَزْيَدَ مِنْهُ أَوْ أَنْقَصَ مِنْهُ بِذَرَّةٍ وَالْعِلْمُ بِهَذَا الْجَوَازِ ضَرُورِيٌّ فَلَوْ كَانَ الْبَارِي تَعَالَى مُتَنَاهِيًا مِنْ بَعْضِ الْجَوَانِبِ لَكَانَتْ ذَاتُهُ قَابِلَةٌ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اخْتِصَاصُهُ بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ لِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وَتَقْدِيرِ مُقَدِّرٍ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ عَلَى الْعَرْشِ لَكَانَ مِنَ الْجَانِبِ الَّذِي يَلِي الْعَرْشَ مُتَنَاهِيًا وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مُحْدَثًا وَهَذَا مُحَالٌ فَكَوْنُهُ عَلَى الْعَرْشِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُحَالًا. وَثَانِيهَا: لَوْ كَانَ فِي مَكَانٍ وَجِهَةٍ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيًا فِي كُلِّ الْجِهَاتِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيًا مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ دُونَ الْبَعْضِ وَالْكُلُّ بَاطِلٌ فَالْقَوْلُ بِكَوْنِهِ فِي الْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ بَاطِلٌ قَطْعًا. بَيَانُ فَسَادِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ ذَاتُهُ مُخَالِطَةً لِجَمِيعِ الْأَجْسَامِ السُّفْلِيَّةِ وَالْعُلْوِيَّةِ وَأَنْ تَكُونَ

مُخَالِطَةً لِلْقَاذُورَاتِ وَالنَّجَاسَاتِ وَتَعَالَى اللَّه عَنْهُ وَأَيْضًا فعلى هذا التقدير: تكون السموات حَالَّةً فِي ذَاتِهِ وَتَكُونُ الْأَرْضُ أَيْضًا حَالَّةً فِي ذَاتِهِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الشَّيْءُ الذي هو محل السموات إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ عَيْنَ الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْأَرَضِينَ أَوْ غَيْرُهُ فَإِنْ كَانَ الاول لزم كون السموات وَالْأَرَضِينَ حَالَّتَيْنِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ امْتِيَازٍ بَيْنَ مَحَلَّيْهِمَا أَصْلًا وَكُلُّ حَالَّيْنِ حَلَّا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا: مُمْتَازًا عن الآخر فلزم ان يقال: السموات لَا تَمْتَازُ عَنِ الْأَرَضِينَ فِي الذَّاتِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي: لَزِمَ أَنْ تَكُونَ ذَاتُ اللَّه تَعَالَى مُرَكَّبَةً مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ ذَاتَ اللَّه تَعَالَى إِذَا كَانَتْ حَاصِلَةً فِي جَمِيعِ الْأَحْيَازِ وَالْجِهَاتِ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: الشَّيْءُ الَّذِي حَصَلَ فَوْقُ هُوَ/ عَيْنُ الشَّيْءِ الَّذِي حَصَلَ تَحْتُ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الذَّاتُ الْوَاحِدَةُ قَدْ حَصَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي أَحْيَازٍ كَثِيرَةٍ وَإِنْ عُقِلَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يُعْقَلُ أَيْضًا حُصُولُ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ فِي أَحْيَازٍ كَثِيرَةٍ دُفْعَةً وَاحِدَةً؟ وَهُوَ مُحَالٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ. وَأَمَّا إِنْ قِيلَ: الشَّيْءُ الَّذِي حَصَلَ فَوْقُ غَيْرُ الشَّيْءِ الَّذِي حَصَلَ تَحْتُ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ حُصُولُ التَّرْكِيبِ وَالتَّبْعِيضِ فِي ذَاتِ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ مُحَالٌ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ تَعَالَى مُتَنَاهٍ مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ. فَنَقُولُ: كُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ قَابِلٌ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اخْتِصَاصُهُ بِالْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ لِأَجْلِ تَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ وَأَيْضًا فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْمَحْدُودُ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ قَدِيمًا أَزَلِيًّا فَاعِلًا لِلْعَالَمِ فَلِمَ لَا يُعْقَلُ أَنْ يُقَالَ: خَالِقُ الْعَالَمِ هُوَ الشَّمْسُ أَوِ الْقَمَرُ أَوْ كَوْكَبٌ آخَرُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ. وأما القسم الثالث: وهو أن يقال: أنه مُتَنَاهٍ مِنْ بَعْضِ الْجَوَانِبِ وَغَيْرُ مُتَنَاهٍ مِنْ سَائِرِ الْجَوَانِبِ فَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْجَانِبَ الَّذِي صَدَقَ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُتَنَاهِيًا غَيْرُ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ كَوْنُهُ غَيْرَ مُتَنَاهٍ وَإِلَّا لَصَدَقَ النَّقِيضَانِ مَعًا وَهُوَ مُحَالٌ. وَإِذَا حَصَلَ التَّغَايُرُ لَزِمَ كَوْنُهُ تَعَالَى مُرَكَّبًا مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْجَانِبَ الَّذِي صَدَقَ حُكْمُ الْعَقْلِ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ مُتَنَاهِيًا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْجَانِبِ الَّذِي صَدَقَ حُكْمُ الْعَقْلِ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ غَيْرَ مُتَنَاهٍ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُتَسَاوِيَةَ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ كُلُّ مَا صَحَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا صَحَّ عَلَى الْبَاقِي وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَالْجَانِبُ لِلَّذِي هُوَ غَيْرُ مُتَنَاهٍ يُمْكِنُ أَنْ يَصِيرَ مُتَنَاهِيًا وَالْجَانِبُ الَّذِي هُوَ مُتَنَاهٍ يُمْكِنُ أَنْ يَصِيرَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ النُّمُوُّ وَالذُّبُولُ وَالزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ وَالتَّفَرُّقُ وَالتَّمَزُّقُ عَلَى ذَاتِهِ مُمْكِنًا وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ وَذَلِكَ عَلَى الْإِلَهِ الْقَدِيمِ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ حَاصِلًا فِي الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيًا مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ أَوْ كَانَ مُتَنَاهِيًا مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ، وَغَيْرَ مُتَنَاهٍ مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ فَثَبَتَ أَنَّ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ بَاطِلَةٌ فَوَجَبَ أَنْ نَقُولَ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى حَاصِلًا فِي الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ مُحَالٌ. وَالْبُرْهَانُ الثَّالِثُ: لَوْ كَانَ الْبَارِي تَعَالَى حَاصِلًا فِي الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ لَكَانَ الْأَمْرُ الْمُسَمَّى بِالْجِهَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مُشَارًا إِلَيْهِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ فَكَانَ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى حَاصِلًا فِي الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ بَاطِلًا. أَمَّا بَيَانُ فَسَادِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُسَمَّى بِالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ مَوْجُودًا مُشَارًا إِلَيْهِ فحينئذ/ يكون

المسمى بالحيز والجهة بعدا وامتداد وَالْحَاصِلُ فِيهِ أَيْضًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي نَفْسِهِ بُعْدٌ وَامْتِدَادٌ وَإِلَّا لَامْتَنَعَ حُصُولُهُ فِيهِ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ تَدَاخُلُ الْبُعْدَيْنِ وَذَلِكَ مُحَالٌ لِلدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَيْضًا فَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْبَارِي تَعَالَى قَدِيمًا أَزَلِيًّا كَوْنُ الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ أَزَلِيَّيْنِ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ فِي الْأَزَلِ مَوْجُودٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ سِوَى اللَّه تَعَالَى وَذَلِكَ بِإِجْمَاعِ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ بَاطِلٌ. وَأَمَّا بَيَانُ فَسَادِ الْقِسْمِ الثَّانِي: فَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَدَمَ نَفْيٌ مَحْضٌ وَعَدَمٌ صِرْفٌ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ كَوْنُهُ ظَرْفًا لِغَيْرِهِ وَجِهَةً لِغَيْرِهِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ حَاصِلًا فِي جِهَةٍ فَجِهَتُهُ مُمْتَازَةٌ فِي الْحِسِّ عَنْ جِهَةِ غَيْرِهِ فَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْجِهَةُ عَدَمًا مَحْضًا لَزِمَ كَوْنُ الْعَدَمِ الْمَحْضِ مُشَارًا إِلَيْهِ بِالْحِسِّ وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ حَاصِلًا فِي حَيِّزٍ وَجِهَةٍ لَأَفْضَى إِلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ الْبَاطِلَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِهِ بَاطِلًا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا أَيْضًا وَارِدٌ عَلَيْكُمْ فِي قَوْلِكُمْ: الْجِسْمُ حَاصِلٌ فِي الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ. فَنَقُولُ: نَحْنُ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَا نُثْبِتُ لِلْجِسْمِ حَيِّزًا وَلَا جِهَةً أَصْلًا الْبَتَّةَ بِحَيْثُ تَكُونُ ذات الجسم نافذة فِيهِ وَسَارِيَةً فِيهِ بَلِ الْمَكَانُ عِبَارَةٌ عَنِ السَّطْحِ الْبَاطِنِ مِنَ الْجِسْمِ الْحَاوِي الْمُمَاسِّ لِلسَّطْحِ الظَّاهِرِ مِنَ الْجِسْمِ الْمَحْوِيِّ وَهَذَا الْمَعْنَى مُحَالٌ بِالِاتِّفَاقِ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى فَسَقَطَ هَذَا السُّؤَالُ. الْبُرْهَانُ الرَّابِعُ: لَوِ امْتَنَعَ وُجُودُ الْبَارِي تَعَالَى إِلَّا بِحَيْثُ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ لَكَانَتْ ذَاتُ الْبَارِي مُفْتَقِرَةً فِي تَحَقُّقِهَا وَوُجُودِهَا إِلَى الْغَيْرِ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ يَنْتُجُ أَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ وُجُودُ الْبَارِي إِلَّا فِي الْجِهَةِ وَالْحَيِّزِ لَزِمَ كَوْنُهُ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ وَلَمَّا كَانَ هَذَا مُحَالًا كَانَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ حُصُولِهِ فِي الْحَيِّزِ مُحَالًا. بَيَانُ الْمَقَامِ الْأَوَّلِ: هُوَ أَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ حُصُولُ ذَاتِ اللَّه تَعَالَى إِلَّا إِذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ. فَنَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْحَيِّزَ وَالْجِهَةَ أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِذَاتِ اللَّه تَعَالَى فَحِينَئِذٍ تَكُونُ ذَاتُ اللَّه تَعَالَى مُفْتَقِرَةً فِي تَحَقُّقِهَا إِلَى أَمْرٍ يُغَايِرُهَا وَكُلُّ مَا افْتَقَرَ تَحَقُّقُهُ إِلَى مَا يُغَايِرُهُ كَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ الْوَاجِبَ لِذَاتِهِ هُوَ الَّذِي لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ غَيْرِهِ عَدَمُهُ وَالْمُفْتَقِرَ إِلَى الْغَيْرِ هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ غَيْرِهِ عَدَمُهُ فَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ لِذَاتِهِ مُفْتَقِرًا إِلَى الْغَيْرِ لَزِمَ أَنْ يَصْدُقَ عَلَيْهِ النَّقِيضَانِ وَهُوَ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ وَجَبَ حُصُولُهُ فِي الْحَيِّزِ لَكَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ لَا وَاجِبًا لِذَاتِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْحُجَّةِ: هُوَ أَنَّ الْمُمْكِنَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ. أَمَّا عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُ الْخَلَاءَ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَيِّزَ وَالْجِهَةَ تَتَقَرَّرُ مَعَ عَدَمِ التَّمَكُّنِ وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ يَنْفِي الْخَلَاءَ فَلَا لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُتَمَكِّنٍ يَحْصُلُ فِي الْجِهَةِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِتِلْكَ الْجِهَةِ مِنْ مُتَمَكِّنٍ مُعَيَّنٍ/ بَلْ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ فَقَدْ كَفَى فِي كَوْنِهِ شَاغِلًا لِذَلِكَ الْحَيِّزِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَوْ كَانَ ذَاتُ اللَّه تَعَالَى مُخْتَصَّةً بِجِهَةٍ وَحَيِّزٍ لَكَانَتْ ذَاتُهُ مُفْتَقِرَةً إِلَى ذَلِكَ الْحَيِّزِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْحَيِّزُ غَنِيًّا تَحَقُّقُهُ عَنْ ذَاتِ اللَّه تَعَالَى وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ: الْحَيِّزُ وَاجِبٌ لِذَاتِهِ غَنِيٌّ عَنْ غَيْرِهِ وَأَنْ يُقَالَ ذَاتُ اللَّه تَعَالَى مُفْتَقِرَةٌ فِي ذَاتِهَا وَاجِبَةٌ بِغَيْرِهَا وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي قَوْلِنَا: الْإِلَهُ تَعَالَى وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: الْحَيِّزُ وَالْجِهَةُ لَيْسَ بِأَمْرٍ مَوْجُودٍ حَتَّى يُقَالَ ذَاتُ اللَّه تَعَالَى مُفْتَقِرَةٌ إِلَيْهِ وَمُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ فَنَقُولُ: هَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ ذَاتَ اللَّه تَعَالَى مُخْتَصَّةٌ بِجِهَةِ فَوْقٍ فَإِنَّمَا نُمَيِّزُ بِحَسَبِ الْحِسِّ بَيْنَ تِلْكَ الْجِهَةِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْجِهَاتِ وَمَا حَصَلَ فِيهِ الِامْتِيَازُ بِحَسَبِ الْحِسِّ كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ عَدَمٌ مَحْضٌ وَنَفْيٌ صِرْفٌ؟ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ مِثْلُهُ فِي كُلِّ الْمَحْسُوسَاتِ وَذَلِكَ يُوجِبُ حُصُولَ الشَّكِّ فِي وُجُودِ كُلِّ الْمَحْسُوسَاتِ وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. الْبُرْهَانُ الْخَامِسُ: فِي تَقْرِيرِ أَنَّهُ تَعَالَى يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ مُخْتَصًّا بِالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ نَقُولُ: الْحَيِّزُ وَالْجِهَةُ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا الْفَرَاغُ الْمَحْضُ وَالْخَلَاءُ الصِّرْفُ وَصَرِيحُ الْعَقْلِ يَشْهَدُ أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ مَفْهُومٌ وَاحِدٌ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ الْبَتَّةَ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَتِ الْأَحْيَازُ بِأَسْرِهَا مُتَسَاوِيَةً فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَوْ كَانَ الْإِلَهُ تَعَالَى مُخْتَصًّا بِحَيِّزٍ، لَكَانَ مُحْدَثًا وَهَذَا مُحَالٌ فَذَاكَ مُحَالٌ وَبَيَانُ الْمُلَازَمَةِ: أَنَّ الْأَحْيَازَ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهَا بِأَسْرِهَا مُتَسَاوِيَةٌ فَلَوِ اخْتَصَّ ذَاتُ اللَّه تَعَالَى بِحَيِّزٍ مُعَيَّنٍ لَكَانَ اخْتِصَاصُهُ بِهِ لِأَجْلِ أَنَّ مُخَصِّصًا خَصَّصَهُ بِذَلِكَ الْحَيِّزِ وَكُلُّ مَا كَانَ فِعْلًا لِفَاعِلٍ مُخْتَارٍ فَهُوَ مُحْدَثٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اخْتِصَاصُ ذَاتِ اللَّه بِالْحَيِّزِ الْمُعَيَّنِ مُحْدَثًا فَإِذَا كَانَتْ ذَاتُهُ مُمْتَنِعَةَ الْخُلُوِّ عَنِ الْحُصُولِ فِي الْحَيِّزِ وَثَبَتَ أَنَّ الْحُصُولَ فِي الْحَيِّزِ مُحْدَثٌ وَبَدِيهَةُ الْعَقْلِ شَاهِدَةٌ بِأَنَّ مَا لَا يَخْلُو عَنِ الْمُحْدَثِ فَهُوَ مُحْدَثٌ، لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاصِلًا فِي الْحَيِّزِ لَكَانَ مُحْدَثًا وَلَمَّا كَانَ هَذَا مُحَالًا كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مُحَالًا. فَإِنْ قَالُوا: الْأَحْيَازُ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ أَنَّ بَعْضَهَا عُلْوٌ وَبَعْضَهَا سُفْلٌ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَاتُ اللَّه تَعَالَى مُخْتَصَّةٌ بِجِهَةِ عُلْوٍ؟ فَنَقُولُ: هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ كَوْنَ بَعْضِ تِلْكَ الْجِهَاتِ علو وَبَعْضِهَا سُفْلًا أَحْوَالٌ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى وُجُودِ هَذَا الْعَالَمِ فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْعَالَمُ مُحْدَثًا كَانَ قَبْلَ حُدُوثِهِ لَا عُلْوٌ وَلَا سُفْلٌ وَلَا يَمِينٌ وَلَا يَسَارٌ بَلْ لَيْسَ إِلَّا الْخَلَاءُ الْمَحْضُ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْإِلْزَامُ الْمَذْكُورُ بِتَمَامِهِ وَأَيْضًا لَوْ جَازَ الْقَوْلُ بِأَنَّ ذَاتَ اللَّه تَعَالَى مُخْتَصَّةٌ بِبَعْضِ الْأَحْيَازِ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ؟ فَلِمَ لَا يُعْقَلُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ بَعْضَ الْأَجْسَامِ اخْتَصَّ بِبَعْضِ الْأَحْيَازِ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ؟ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَذَلِكَ اسْمٌ لَا يَكُونُ قَابِلًا لِلْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ فَلَا يَجْرِي فِيهِ/ دَلِيلُ حُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَالْقَائِلُ بِهَذَا الْقَوْلِ لَا يُمْكِنُهُ إِقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى حُدُوثِ كُلِّ الْأَجْسَامِ بِطَرِيقِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالْكَرَّامِيَّةُ وَافَقُونَا عَلَى أَنَّ تَجْوِيزَ هَذَا يُوجِبُ الْكُفْرَ. واللَّه أَعْلَمُ. الْبُرْهَانُ السَّادِسُ: لَوْ كَانَ الْبَارِي تَعَالَى حَاصِلًا فِي الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ لَكَانَ مُشَارًا إِلَيْهِ بِحَسَبِ الْحِسِّ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ لَا يَقْبَلَ الْقِسْمَةَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَإِمَّا أَنْ يَقْبَلَ الْقِسْمَةَ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى يُمْكِنُ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِحَسَبِ الْحِسِّ مَعَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ الْمِقْدَارِيَّةَ الْبَتَّةَ كَانَ ذَلِكَ نُقْطَةً لَا تَنْقَسِمُ وَجَوْهَرًا فَرْدًا لَا يَنْقَسِمُ فَكَانَ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ وَالْحَقَارَةِ وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ كَوْنَهُ تَعَالَى فِي الْجِهَةِ يُنْكِرُونَ كَوْنَهُ تَعَالَى كَذَلِكَ وَالَّذِينَ يُثْبِتُونَ كَوْنَهُ تَعَالَى فِي الْجِهَةِ يُنْكِرُونَ كَوْنَهُ تَعَالَى فِي الصِّغَرِ وَالْحَقَارَةِ مِثْلَ الجزء الذي لا يتجزى فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا بِإِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ بَاطِلٌ وَأَيْضًا فَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يُعْقَلُ أَنْ يُقَالَ: إِلَهُ الْعَالَمِ جُزْءٌ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِنْ رَأْسِ إِبْرَةٍ أَوْ ذَرَّةٍ مُلْتَصِقَةٍ بِذَنَبِ قَمْلَةٍ أَوْ نَمْلَةٍ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ يُفْضِي إِلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّ صَرِيحَ الْعَقْلِ يُوجِبُ تَنْزِيهَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ.

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ فَنَقُولُ: كُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَذَاتُهُ مُرَكَّبَةٌ وَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَكُلُّ مُمْكِنٍ لِذَاتِهِ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْمُوجِدِ وَالْمُؤَثِّرِ وَذَلِكَ عَلَى الْإِلَهِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ مُحَالٌ. الْبُرْهَانُ السَّابِعُ: ان نقول: كل ذات قائمة بنفسها مشارا إِلَيْهَا بِحَسَبِ الْحِسِّ فَهُوَ مُنْقَسِمٌ وَكُلُّ مُنْقَسِمٍ مُمْكِنٌ فَكُلُّ ذَاتٍ قَائِمَةٍ بِنَفْسِهَا مُشَارٌ إِلَيْهَا بِحَسَبِ الْحِسِّ فَهُوَ مُمْكِنٌ. فَمَا لَا يَكُونُ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ بَلْ كَانَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ امْتَنَعَ كَوْنُهُ مُشَارًا إِلَيْهِ بِحَسَبِ الْحِسِّ. أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: فَلِأَنَّ كُلَّ ذَاتٍ قَائِمَةٍ بِالنَّفْسِ مُشَارٌ إِلَيْهَا بِحَسَبِ الْحِسِّ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ جَانِبُ يَمِينِهِ مُغَايِرًا لِجَانِبِ يَسَارِهِ وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُنْقَسِمٌ. وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مُنْقَسِمٍ مُمْكِنٌ فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ غَيْرُهُ وَكُلُّ مُنْقَسِمٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا الدَّلِيلِ إِنَّمَا تَتِمُّ بِنَفْيِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ. الْبُرْهَانُ الثَّامِنُ: لَوْ ثَبَتَ كَوْنُهُ تَعَالَى فِي حَيِّزٍ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْعَرْشِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ أَوْ أَصْغَرَ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ مُنْقَسِمًا لِأَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي مِنْهُ يُسَاوِي الْعَرْشَ يَكُونُ مُغَايِرًا لِلْقَدْرِ الَّذِي يَفْضُلُ عَلَى الْعَرْشِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَانَ مُنْقَسِمًا لِأَنَّ الْعَرْشَ مُنْقَسِمٌ وَالْمُسَاوِي لِلْمُنْقَسِمِ مُنْقَسِمٌ وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ أَعْظَمَ مِنْهُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ أَمَّا عِنْدَنَا/ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا عِنْدَ الْخُصُومِ فَلِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ كَوْنَ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى أَعْظَمَ مِنَ اللَّه تَعَالَى فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ بَاطِلٌ. الْبُرْهَانُ التَّاسِعُ: لَوْ كَانَ الْإِلَهُ تَعَالَى حَاصِلًا فِي الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيًا مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ فَالْقَوْلُ بِكَوْنِهِ حَاصِلًا فِي الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ بَاطِلٌ أَيْضًا. أَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيًا مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ فَلِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَحْصُلُ فَوْقَهُ أَحْيَازٌ خَالِيَةٌ وَهُوَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْجِسْمِ فِي ذَلِكَ الْحَيِّزِ الْخَالِي وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَوْ خَلَقَ هُنَاكَ عَالَمًا آخَرَ لَحَصَلَ هُوَ تَعَالَى تَحْتَ الْعَالَمِ وَذَلِكَ عِنْدَ الْخَصْمِ مُحَالٌ وَأَيْضًا فَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْلُقَ مِنَ الْجَوَانِبِ السِّتَّةِ لِتِلْكَ الذَّاتِ أَجْسَامًا أُخْرَى وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَتَحْصُلُ ذَاتُهُ فِي وَسَطِ تِلْكَ الْأَجْسَامِ مَحْصُورَةً فِيهَا وَيَحْصُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَجْسَامِ الِاجْتِمَاعُ تَارَةً وَالِافْتِرَاقُ أُخْرَى وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ فَهَذَا أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ وُجُودُ بُعْدٍ لَا نِهَايَةَ لَهُ وَأَيْضًا فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يُمْكِنُ إِقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعَالَمَ مُتَنَاهٍ لِأَنَّ كُلَّ دَلِيلٍ يُذْكَرُ فِي تَنَاهِي الْأَبْعَادِ فَإِنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ يَنْتَقِضُ بِذَاتِ اللَّه تَعَالَى فَإِنَّهُ عَلَى مَذْهَبِ الْخَصْمِ بُعْدٌ لَا نِهَايَةَ لَهُ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ لَا يَرْضَى بِهَذَا اللَّفْظِ إِلَّا أَنَّهُ يُسَاعِدُ عَلَى الْمَعْنَى وَالْمَبَاحِثُ الْعَقْلِيَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمَعَانِي لَا عَلَى الْمُشَاحَّةِ فِي الْأَلْفَاظِ. الْبُرْهَانُ الْعَاشِرُ: لَوْ كَانَ الْإِلَهُ تَعَالَى حَاصِلًا فِي الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ لَكَانَ كَوْنُهُ تَعَالَى هُنَاكَ إِمَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْ حُصُولِ جِسْمٍ آخَرَ هُنَاكَ أَوْ لَا يَمْنَعَ وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ حَاصِلًا فِي الْحَيِّزِ. أَمَّا فَسَادُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: فَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ كَوْنُهُ هُنَاكَ مَانَعًا مِنْ حُصُولِ جِسْمٍ آخَرَ هُنَاكَ كَانَ هُوَ تَعَالَى مُسَاوِيًا

لِسَائِرِ الْأَجْسَامِ فِي كَوْنِهِ حَجْمًا مُتَحَيِّزًا مُمْتَدًّا فِي الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ مَانِعًا مِنْ حُصُولِ غَيْرِهِ فِي الْحَيِّزِ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَإِذَا ثَبَتَ حُصُولُ الْمُسَاوَاةِ فِي ذَلِكَ الْمَفْهُومِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سائر الأجسام فاما ان يحصل بينه وبينهما مُخَالَفَةٌ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ أَوْ لَا يَحْصُلَ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا حَصَلَتِ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَ ذَاتِهِ تَعَالَى وَبَيْنَ ذَوَاتِ الْأَجْسَامِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَالْمُخَالَفَةُ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ كَانَ مَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ مُغَايِرًا لِمَا بِهِ الْمُخَالَفَةُ وَحِينَئِذٍ تَكُونُ ذَاتُ الْبَارِي تَعَالَى مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَذَيْنِ الِاعْتِبَارَيْنِ وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ مُمْكِنٌ فَوَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ مُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ هَذَا خُلْفٌ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ مَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ وَهُوَ طَبِيعَةُ الْبُعْدِ وَالِامْتِدَادِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِمَا بِهِ الْمُخَالَفَةُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالًّا فِيهِ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَا مَحَلَّ لَهُ وَلَا حَالًّا فِيهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِمَا بِهِ/ الْمُخَالَفَةُ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ طَبِيعَةُ الْبُعْدِ وَالِامْتِدَادِ هِيَ الْجَوْهَرُ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ وَالْأُمُورُ الَّتِي حَصَلَتْ بِهَا الْمُخَالَفَةُ أَعْرَاضٌ وَصِفَاتٌ وَإِذَا كَانَتِ الذَّوَاتُ مُتَسَاوِيَةً فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ فَكُلُّ مَا صَحَّ عَلَى بَعْضِهَا وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ عَلَى الْبَوَاقِي فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ كُلُّ مَا صَحَّ عَلَى جَمِيعِ الْأَجْسَامِ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ عَلَى الْبَارِي تَعَالَى وَبِالْعَكْسِ وَيَلْزَمَ مِنْهُ صِحَّةُ التَّفَرُّقِ وَالتَّمَزُّقِ وَالنُّمُوِّ وَالذُّبُولِ وَالْعُفُونَةِ وَالْفَسَادِ عَلَى ذَاتِ اللَّه تَعَالَى وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا بِهِ الْمُخَالَفَةُ مَحَلٌّ وَذَاتٌ وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ حَالٌّ وَصِفَةٌ فَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ طَبِيعَةُ الْبُعْدِ وَالِامْتِدَادِ صِفَةً قَائِمَةً بِمَحَلٍّ وَذَلِكَ الْمَحَلُّ إِنْ كَانَ لَهُ أَيْضًا اخْتِصَاصٌ بِحَيِّزِ وَجِهَةٍ وَجَبَ افْتِقَارُهُ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ لَا إِلَى نِهَايَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَوْجُودًا مُجَرَّدًا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ وَالْإِشَارَةِ الْحِسِّيَّةِ الْبَتَّةَ وَطَبِيعَةُ الْبُعْدِ وَالِامْتِدَادِ وَاجِبَةُ الِاخْتِصَاصِ بِالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ وَالْإِشَارَةِ الْحِسِّيَّةِ وَحُلُولُ مَا هَذَا شَأْنُهُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ يُوجِبُ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا حَالًّا فِي الْآخَرِ وَلَا مَحَلًّا لَهُ فَنَقُولُ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَبَايِنًا عَنِ الْآخَرِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَتَكُونُ ذَاتُ اللَّه تَعَالَى مُسَاوِيَةً لِسَائِرِ الذَّوَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ لِأَنَّ مَا بِهِ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ ذَاتِهِ وَبَيْنَ سَائِرِ الذَّوَاتِ لَيْسَتْ حَالَّةً فِي هَذِهِ الذَّوَاتِ وَلَا مَحَالًّا لَهَا بَلْ أُمُورٌ أَجْنَبِيَّةٌ عَنْهَا فَتَكُونُ ذَاتُ اللَّه تَعَالَى مُسَاوِيَةً لِذَوَاتِ الْأَجْسَامِ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْإِلْزَامُ الْمَذْكُورُ فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ ذَاتَ اللَّه تَعَالَى مُخْتَصَّةٌ بِالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ جِسْمٍ آخَرَ فِي ذَلِكَ الْحَيِّزِ يُفْضِي إِلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْبَاطِلَةِ فَوَجَبَ كَوْنُهُ بَاطِلًا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَاتَ اللَّه تَعَالَى وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ جِسْمٍ آخَرَ فِي ذَلِكَ الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ فَهَذَا أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّهُ يُوجِبُ كَوْنَ ذَاتِهِ مُخَالِطَةً سَارِيَةً فِي ذَاتِ ذَلِكَ الْجِسْمِ الَّذِي يَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْجَنْبِ وَالْحَيِّزِ وَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ مُحَالٌ وَلِأَنَّهُ لَوْ عُقِلَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يُعْقَلُ حُصُولُ الْأَجْسَامِ الْكَثِيرَةِ فِي الْحَيِّزِ الْوَاحِدِ؟ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ حَاصِلًا فِي حَيِّزٍ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَمْنَعَ حُصُولَ جِسْمٍ آخَرَ فِي ذَلِكَ الْحَيِّزِ أَوْ لَا يَمْنَعَ وَثَبَتَ فَسَادُ الْقِسْمَيْنِ فَكَانَ الْقَوْلُ بِحُصُولِهِ تَعَالَى فِي الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ مُحَالًا بَاطِلًا. الْبُرْهَانُ الْحَادِي عَشَرَ: عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ حُصُولُ ذَاتِ اللَّه تَعَالَى فِي الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ هُوَ أَنْ نَقُولَ: لَوْ كَانَ مُخْتَصًّا بِحَيِّزٍ وَجِهَةٍ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَرَّكَ عَنْ تِلْكَ الْجِهَةِ أَوْ لَا يُمْكِنُهُ/ ذلك والقسمان

بَاطِلَانِ فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ حَاصِلًا فِي الْحَيِّزِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَرَّكَ فَنَقُولُ: هَذِهِ الذَّاتُ لَا تَخْلُو عَنِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَهُمَا مُحْدَثَانِ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ السُّكُونَ جَائِزٌ عَلَيْهِ وَالْحَرَكَةَ جَائِزَةٌ عَلَيْهِ وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْمُؤَثِّرُ فِي تِلْكَ الْحَرَكَةِ وَلَا فِي ذَلِكَ السُّكُونِ ذَاتُهُ وَإِلَّا لَامْتَنَعَ طَرَيَانُ ضِدِّهِ وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ تَقْدِيرُ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَرَّكَ وَأَنْ يَسْكُنَ وَإِذَا كان كذلك ان الْمُؤَثِّرُ فِي حُصُولِ تِلْكَ الْحَرَكَةِ وَذَلِكَ السُّكُونِ هُوَ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ وَكُلُّ مَا كَانَ فِعْلًا لِفَاعِلٍ مُخْتَارٍ فَهُوَ مُحْدَثٌ فَالْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ مُحْدَثَانِ وما لا يخلو عن المحدث فهو محدث فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ ذَاتُهُ تَعَالَى مُحْدَثَةً وَهُوَ مُحَالٌ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِحَيِّزِ وَجِهَةٍ مَعَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَحَرَّكَ عَنْهُ فَهَذَا أَيْضًا مُحَالٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ كَالزَّمِنِ الْمُقْعَدِ الْعَاجِزِ وَذَلِكَ نَقْصٌ وَهُوَ عَلَى اللَّه مُحَالٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَمْتَنِعْ فَرْضُ مَوْجُودٍ حَاصِلٍ فِي حَيِّزٍ مُعَيَّنٍ بِحَيْثُ يَكُونُ حُصُولُهُ فِيهِ وَاجِبَ التَّقَرُّرِ مُمْتَنِعَ الزَّوَالِ لَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا فَرْضُ أَجْسَامٍ أُخْرَى مُخْتَصَّةٍ بَأَحْيَازٍ مُعَيَّنَةٍ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ خُرُوجُهَا عَنْ تِلْكَ الْأَحْيَازِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ حُدُوثِهَا بِدَلِيلِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالْكَرَّامِيَّةُ يُسَاعِدُونَ عَلَى أَنَّهُ كُفْرٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ حَاصِلًا فِي الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ كَانَ مُسَاوِيًا لِلْأَجْسَامِ فِي كَوْنِهِ مُتَحَيِّزًا شَاغِلًا لِلْأَحْيَازِ ثُمَّ نُقِيمُ الدَّلَالَةَ الْمَذْكُورَةَ عَلَى أَنَّ الْمُتَحَيِّزَاتِ لَمَّا كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً فِي صِفَةِ التَّحَيُّزِ وَجَبَ كَوْنُهَا مُتَسَاوِيَةً فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ خَالَفَ بَعْضُهَا بَعْضًا لَكَانَ مَا بِهِ الْمُخَالَفَةُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالًّا فِي الْمُتَحِيِّزِ أَوْ مَحَلًّا لَهُ أَوْ لَا حَالًّا وَلَا مَحَلًّا وَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ بَاطِلَةٌ عَلَى مَا سَبَقَ وَإِذَا كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ فَكَمَا أَنَّ الْحَرَكَةَ صَحِيحَةٌ عَلَى هَذِهِ الْأَجْسَامِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهَا عَلَى ذَاتِ اللَّه تَعَالَى وَحِينَئِذٍ يَتِمُّ الدَّلِيلُ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: لَوْ كَانَ تَعَالَى مُخْتَصًّا بِحَيِّزٍ مُعَيَّنٍ لَكُنَّا إِذَا فَرَضْنَا وُصُولَ إِنْسَانٍ إِلَى طَرَفِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَحَاوَلَ الدُّخُولَ فِيهِ فَإِمَّا أَنْ يُمْكِنَهُ النُّفُوذُ وَالدُّخُولُ فِيهِ أَوْ لَا يُمْكِنَهُ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ كَالْهَوَاءِ اللَّطِيفِ وَالْمَاءِ اللَّطِيفِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَابِلًا لِلتَّفَرُّقِ وَالتَّمَزُّقِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَانَ صُلْبًا كَالْحَجَرِ الصَّلْدِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ النُّفُوذُ فِيهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ مُخْتَصًّا بِمَكَانٍ وَحَيِّزٍ وَجِهَةٍ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَقِيقًا سَهْلَ التَّفَرُّقِ وَالتَّمَزُّقِ كَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صُلْبًا جَاسِئًا كَالْحَجَرِ الصَّلْدِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ إِثْبَاتَ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ فِي حَقِّ الْإِلَهِ كُفْرٌ وَإِلْحَادٌ فِي صِفَتِهِ وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِمَكَانٍ وَجِهَةٍ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نُورَانِيًّا وَظُلْمَانِيًّا وَجُمْهُورُ الْمُشَبِّهَةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ نُورٌ مَحْضٌ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ النُّورَ شَرِيفٌ وَالظُّلْمَةَ خَسِيسَةٌ إِلَّا أَنَّ/ الِاسْتِقْرَاءَ الْعَامَّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ النُّورَانِيَّةَ رَقِيقَةٌ لَا تَمْنَعُ النَّافِذَ مِنَ النُّفُوذِ فِيهَا وَالدُّخُولِ فِيمَا بَيْنَ أَجْزَائِهَا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَإِنَّ ذَلِكَ الَّذِي يُنْفَذُ فِيهِ يُمْتَزَجُ بِهِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ أَجْزَائِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ جَارِيًا مَجْرَى الْهَوَاءِ الَّذِي يَتَّصِلُ تَارَةً وَيَنْفَصِلُ أُخْرَى وَيَجْتَمِعُ تَارَةً وَيَتَمَزَّقُ أُخْرَى وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِالْمُسْلِمِ أَنْ يَصِفَ إِلَهَ الْعَالَمِ بِهِ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ هُوَ بَعْضُ هَذِهِ الرِّيَاحِ الَّتِي تَهُبُّ؟ أَوْ يُقَالَ إِنَّهُ بَعْضُ هَذِهِ الْأَنْوَارِ وَالْأَضْوَاءِ الَّتِي تُشْرِقُ عَلَى الْجُدْرَانِ؟ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّفَرُّقَ وَالتَّمَزُّقَ وَلَا يَتَمَكَّنُ النَّافِذُ مِنَ النُّفُوذِ فَإِنَّهُ يُرْجِعُ حَاصِلُ كَلَامِهِمْ إِلَى أَنَّهُ حَصَلَ فَوْقَ الْعَالَمِ جَبَلٌ صُلْبٌ شَدِيدٌ وَإِلَهُ هَذَا الْعَالَمِ هُوَ ذَلِكَ الْجَبَلُ الصُّلْبُ الْوَاقِفُ فِي الْحَيِّزِ الْعَالِي وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ لَهُ طَرَفٌ وَحَدٌّ وَنِهَايَةٌ فَهَلْ حَصَلَ لِذَلِكَ الشَّيْءِ عُمْقٌ وَثُخْنٌ أَوْ

لَمْ يَحْصُلْ؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ظَاهِرُهُ غَيْرَ بَاطِنِهِ وَبَاطِنُهُ غَيْرَ ظَاهِرِهِ فَكَانَ مُؤَلَّفًا مُرَكَّبًا مِنَ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَعَ أَنَّ بَاطِنَهُ غَيْرُ ظَاهِرِهِ وَظَاهِرَهُ غَيْرُ بَاطِنِهِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذَاتُهُ سَطْحًا رَقِيقًا فِي غَايَةِ الرِّقَّةِ مِثْلَ قِشْرَةِ الثُّومِ بَلْ أَرَقُّ مِنْهُ أَلْفَ أَلْفِ مَرَّةٍ وَالْعَاقِلُ لَا يَرْضَى أَنْ يَجْعَلَ مِثْلَ هَذَا الشَّيْءِ إِلَهَ الْعَالَمِ فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى فِي الْحَيِّزِ والجهة يقضي إِلَى فَتْحِ بَابِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْبَاطِلَةِ الْفَاسِدَةِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: الْعَالَمُ كُرَةٌ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ إِلَهُ الْعَالَمِ حَاصِلًا فِي جِهَةِ فَوْقُ. أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ مُسْتَقْصًى فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ أَنَّا إِذَا اعْتَبَرْنَا كُسُوفًا قَمَرِيًّا حَصَلَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ بِالْبِلَادِ الْغَرْبِيَّةِ كَانَ عَيْنُ ذَلِكَ الْكُسُوفِ حَاصِلًا فِي الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَعَلِمْنَا أَنَّ أَوَّلَ اللَّيْلِ بِالْبِلَادِ الغريبة هُوَ بِعَيْنِهِ أَوَّلُ النَّهَارِ بِالْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ مُسْتَدِيرَةً مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَأَيْضًا إِذَا تَوَجَّهْنَا إِلَى الْجَانِبِ الشَّمَالِيِّ فَكُلَّمَا كَانَ تَوَغُّلُنَا أَكْثَرَ كَانَ ارْتِفَاعُ الْقُطْبِ الشَّمَالِيِّ أَكْثَرَ وَبِمِقْدَارِ مَا يَرْتَفِعُ الْقُطْبُ الشَّمَالِيُّ يَنْخَفِضُ الْقُطْبُ الْجَنُوبِيُّ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ مُسْتَدِيرَةٌ مِنَ الشَّمَالِ إِلَى الْجَنُوبِ وَمَجْمُوعُ هَذَيْنِ الِاعْتِبَارَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ كُرَةٌ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا فَرَضْنَا إِنْسَانَيْنِ وَقَفَ أَحَدُهُمَا عَلَى نُقْطَةِ الْمَشْرِقِ وَالْآخَرُ عَلَى نُقْطَةِ الْمَغْرِبِ صَارَ أَخْمَصُ قَدَمَيْهِمَا مُتَقَابِلَيْنِ وَالَّذِي هُوَ فَوْقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحَدِهِمَا يَكُونُ تَحْتُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّانِي: فَلَوْ فرضنا ان له الْعَالَمِ حَصَلَ فِي الْحَيِّزِ الَّذِي فَوْقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحَدِهِمَا فَذَلِكَ الْحَيِّزُ بِعَيْنِهِ هُوَ تَحْتُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّانِي وَبِالْعَكْسِ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ حَصَلَ فِي حَيِّزٍ مُعَيَّنٍ لَكَانَ ذَلِكَ الْحَيِّزُ تَحْتًا/ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَقْوَامٍ مُعَيَّنِينَ وَكَوْنُهُ تَعَالَى تَحْتَ أَهْلِ الدُّنْيَا مُحَالٌ بِالِاتِّفَاقِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ حَاصِلًا فِي حَيِّزٍ مُعَيَّنٍ وَأَيْضًا فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ فَوْقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَقْوَامٍ كَانَ تَحْتُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَقْوَامٍ آخَرِينَ وَكَانَ يَمِينًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثَالِثٍ وَشِمَالًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى رَابِعٍ وَقُدَّامَ الْوَجْهِ بالنسبة الى خامس وخلق الرَّأْسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَادِسٍ فَإِنَّ كَوْنَ الْأَرْضِ كُرَةً يُوجِبُ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ بِإِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ مُحَالٌ فِي حَقِّ إِلَهِ الْعَالَمِ إِلَّا إِذَا قِيلَ إِنَّهُ مُحِيطٌ بِالْأَرْضِ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ فَيَكُونُ هَذَا فَلَكًا مُحِيطًا بِالْأَرْضِ وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ هُوَ بَعْضُ الْأَفْلَاكِ الْمُحِيطَةِ بِهَذَا الْعَالَمِ وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ واللَّه أَعْلَمُ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: لَوْ كَانَ إِلَهُ الْعَالَمِ فَوْقَ الْعَرْشِ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُمَاسًّا لِلْعَرْشِ أَوْ مُبَايِنًا لَهُ بِبُعْدٍ مُتَنَاهٍ أَوْ بِبُعْدٍ غَيْرِ متناه والأقسام الثلاثة باطلة فالقول بكونه فرق الْعَرْشِ بَاطِلٌ. أَمَّا بَيَانُ فَسَادِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: فَهُوَ أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَصِيرَ مُمَاسًّا لِلْعَرْشِ كَانَ الطَّرَفُ الْأَسْفَلُ مِنْهُ مُمَاسًّا لِلْعَرْشِ فَهَلْ يَبْقَى فَوْقَ ذَلِكَ الطَّرَفِ مِنْهُ شَيْءٌ غَيْرُ مُمَاسٍّ لِلْعَرْشِ أَوْ لَمْ يَبْقَ؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالشَّيْءُ الَّذِي مِنْهُ صَارَ مُمَاسًّا لِطَرَفِ الْعَرْشِ غَيْرُ مَا هُوَ مِنْهُ غَيْرُ مُمَاسٍّ لِطَرَفِ الْعَرْشِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَاتُ اللَّه تَعَالَى مُرَكَّبًا مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ فَتَكُونُ ذَاتُهُ فِي الْحَقِيقَةِ مُرَكَّبَةً مِنْ سُطُوحٍ مُتَلَاقِيَةٍ مَوْضُوعَةٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَذَلِكَ هُوَ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ جِسْمًا مُرَكَّبًا مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ وَذَلِكَ مُحَالٌ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذَاتُ اللَّه تَعَالَى سَطْحًا رَقِيقًا لَا ثُخْنَ لَهُ أَصْلًا ثُمَّ يَعُودُ التَّقْسِيمُ فِيهِ وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ حَصَلَ لَهُ تَمَدُّدٌ فِي الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ وَالْقُدَّامِ وَالْخَلْفِ كَانَ مُرَكَّبًا مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَمَدُّدٌ وَلَا ذَهَابٌ فِي الْأَحْيَازِ بِحَسَبِ الْجِهَاتِ السِّتَّةِ كَانَ ذَرَّةً مِنَ الذرات وجزءا لا يتجزى مخلوطا بالهباءات وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ.

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَالَمِ بُعْدٌ مُتَنَاهٍ فَهَذَا أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَرْتَفِعَ الْعَالَمُ مِنْ حَيِّزِهِ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي فِيهَا حَصَلَتْ ذَاتُ اللَّه تَعَالَى إِلَى أَنْ يَصِيرَ الْعَالَمُ مُمَاسًّا لَهُ وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْمُحَالُ الْمَذْكُورُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ بَيْنُونَةً غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ فَهَذَا أَظْهَرُ فَسَادًا مِنْ كُلِّ الْأَقْسَامِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ كَانْتِ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُ تَعَالَى وَبَيْنَ غَيْرِهِ مَحْدُودَةً بِطَرَفَيْنِ وَهُمَا ذَاتُ اللَّه تَعَالَى وَذَاتُ الْعَالَمِ وَمَحْصُورًا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَاصِرَيْنِ وَالْبُعْدُ الْمَحْصُورُ بَيْنَ الْحَاصِرَيْنِ وَالْمَحْدُودُ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ وَالطَّرَفَيْنِ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ بُعْدًا غَيْرَ مُتَنَاهٍ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَالَمِ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ فَتَقَدُّمُهُ عَلَى الْعَالَمِ مَحْصُورٌ بَيْنَ/ حَاصِرَيْنِ وَمَحْدُودٌ بَيْنَ حَدَّيْنِ وَطَرَفَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْأَزَلُ، وَالثَّانِي: أَوَّلُ وُجُودِ الْعَالَمِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ كَوْنِ هَذَا التَّقَدُّمِ مَحْصُورًا بَيْنَ حَاصِرَيْنِ أَنْ يكون لهذا التقدم أول وبداية فكذا هاهنا وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْهَيْثَمِ فِي دَفْعِ هَذَا الْإِشْكَالِ عَنْ هَذَا الْقِسْمِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا هُوَ مَحْضُ الْمُغَالَطَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْأَزَلُ عِبَارَةً عَنْ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَزَمَانٍ مُعَيَّنٍ حَتَّى يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَالَمِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ الْعَالَمِ فَإِنَّ كُلَّ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ يُفْرَضُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى الْوَقْتِ الْآخَرِ يَكُونُ مَحْدُودًا بَيْنَ حَدَّيْنِ وَمَحْصُورًا بَيْنَ حَاصِرَيْنِ وَذَلِكَ لَا يُعْقَلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ بَلِ الْأَزَلُ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْيِ الْأَوَّلِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشَارَ بِهِ إِلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ الْبَتَّةَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ نَقُولَ أَنَّهُ تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَحَاصِلٌ فِي حَيِّزٍ مُعَيَّنٍ وَإِمَّا أَنْ لَا نَقُولَ ذَلِكَ فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ كَانَ الْبُعْدُ الْحَاصِلُ بَيْنَ ذَيْنِكَ الطَّرَفَيْنِ مَحْدُودًا بَيْنَ ذَيْنِكَ الْحَدَّيْنِ وَالْبُعْدُ الْمَحْصُورُ بَيْنَ الْحَاصِرَيْنِ لَا يُعْقَلُ كَوْنُهُ غَيْرَ مُتَنَاهٍ لِأَنَّ كَوْنَهُ غَيْرَ مُتَنَاهٍ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْحَدِّ وَالْقَطْعِ وَالطَّرَفِ وَكَوْنُهُ مَحْصُورًا بَيْنَ الْحَاصِرَيْنِ مَعْنَاهُ إِثْبَاتُ الْحَدِّ وَالْقَطْعِ وَالطَّرَفِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يُوجِبُ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَنَظِيرُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّا مَتَى عَيَّنَّا قَبْلَ الْعَالَمِ وَقْتًا مُعَيَّنًا كَانَ الْبُعْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَقْتِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ أَوَّلُ الْعَالَمِ بُعْدًا مُتَنَاهِيًا لَا مَحَالَةَ. وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا بِالْقِسْمِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِحَيِّزٍ مُعَيَّنٍ وَغَيْرُ حَاصِلٍ فِي جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَهَذَا عِبَارَةٌ عَنْ نَفْيِ كَوْنِهِ فِي الْجِهَةِ لِأَنَّ كَوْنَ الذَّاتِ الْمُعَيَّنَةِ حَاصِلَةً لَا فِي جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي نَفْسِهَا قَوْلٌ مُحَالٌ وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ الْأَزَلُ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بَلْ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ الْأَوَّلِيَّةِ وَالْحُدُوثِ فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الْهَيْثَمِ تَخْيِيلٌ خَالٍ عَنِ التَّحْصِيلِ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ الْمَكَانَ: إِمَّا السَّطْحُ الْبَاطِنُ مِنَ الْجِسْمِ الْحَاوِي وَإِمَّا الْبُعْدُ الْمُجَرَّدُ وَالْفَضَاءُ الْمُمْتَدُّ وَلَيْسَ يُعْقَلُ فِي الْمَكَانِ قِسْمٌ ثَالِثٌ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنْ كَانَ الْمَكَانُ هُوَ الْأَوَّلَ فَنَقُولُ: ثَبَتَ أَنَّ أَجْسَامَ الْعَالَمِ مُتَنَاهِيَةٌ فَخَارِجُ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ لَا خَلَاءَ وَلَا مَلَاءَ وَلَا مَكَانَ وَلَا جِهَةَ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَحْصُلَ الْإِلَهُ فِي مَكَانٍ خَارِجَ الْعَالَمِ وَإِنْ كَانَ الْمَكَانُ هُوَ الثَّانِيَ: فَنَقُولُ طَبِيعَةُ الْبُعْدِ طَبِيعَةٌ وَاحِدَةٌ مُتَشَابِهَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ فَلَوْ حَصَلَ الْإِلَهُ فِي حَيِّزٍ لَكَانَ مُمْكِنَ الْحُصُولِ فِي سَائِرِ الْأَحْيَازِ وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُحْدَثًا بالدلائل

الْمَشْهُورَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ وَهِيَ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْإِلَهِ مُحْدَثًا وَهُوَ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ تَعَالَى حَاصِلٌ فِي الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ/ قَوْلٌ بَاطِلٌ عَلَى كُلِّ الِاعْتِبَارَاتِ: الْحُجَّةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: وَهِيَ حُجَّةٌ اسْتِقْرَائِيَّةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ لَطِيفَةٌ جِدًّا وَهِيَ أَنَّا رَأَيْنَا أَنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا كَانَ حُصُولُ مَعْنَى الْجِسْمِيَّةِ فِيهِ أَقْوَى وَأَثْبَتَ كَانَتِ الْقُوَّةُ الْفَاعِلِيَّةُ فِيهِ أَضْعَفَ وَأَنْقَصَ وَكُلَّمَا كَانَ حُصُولُ مَعْنَى الْجِسْمِيَّةِ فِيهِ أَقَلَّ وَأَضْعَفَ كَانَ حُصُولُ الْقُوَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ أَقْوَى وَأَكْمَلَ وَتَقْرِيرُهُ أَنْ نَقُولَ وَجَدْنَا الْأَرْضَ أَكْثَفَ الْأَجْسَامِ وَأَقْوَاهَا حَجْمِيَّةً فَلَا جَرَمَ لَمْ يَحْصُلْ فِيهَا إِلَّا خَاصَّةَ قَبُولِ الْأَثَرِ فَقَطْ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْأَرْضِ الْخَالِصَةِ تَأْثِيرٌ فِي غَيْرِهِ فَقَلِيلٌ جِدًّا. وَأَمَّا الْمَاءُ فَهُوَ أَقَلُّ كَثَافَةً وَحَجْمِيَّةً مِنَ الْأَرْضِ فَلَا جَرَمَ حَصَلَتْ فِيهِ قُوَّةٌ مُؤَثِّرَةٌ فَإِنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ بِطَبْعِهِ إِذَا اخْتَلَطَ بِالْأَرْضِ أَثَّرَ فِيهَا أَنْوَاعًا مِنَ التَّأْثِيرَاتِ. وَأَمَّا الْهَوَاءُ فَإِنَّهُ أَقَلُّ حَجْمِيَّةً وَكَثَافَةً مِنَ الْمَاءِ فَلَا جَرَمَ كَانَ أَقْوَى عَلَى التَّأْثِيرِ مِنَ الْمَاءِ فَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْحَيَاةَ لَا تَكْمُلُ إِلَّا بِالنَّفَسِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلرُّوحِ إِلَّا الْهَوَاءُ الْمُسْتَنْشَقُ وَأَمَّا النَّارُ فَإِنَّهَا أَقَلُّ كَثَافَةً مِنَ الْهَوَاءِ فَلَا جَرَمَ كَانَتْ أَقْوَى الْأَجْسَامِ الْعُنْصُرِيَّةِ عَلَى التَّأْثِيرِ فَبِقُوَّةِ الْحَرَارَةِ يَحْصُلُ الطَّبْخُ وَالنُّضْجُ وَتَكُونُ الْمَوَالِيدُ الثَّلَاثَةُ أَعْنِي الْمَعَادِنَ وَالنَّبَاتَ وَالْحَيَوَانَ. وَأَمَّا الْأَفْلَاكُ فَإِنَّهَا أَلْطَفُ مِنَ الْأَجْرَامِ الْعُنْصُرِيَّةِ فَلَا جَرَمَ كَانَتْ هِيَ الْمُسْتَوْلِيَةَ عَلَى مِزَاجِ الْأَجْرَامِ الْعُنْصُرِيَّةِ بَعْضِهَا الْبَعْضِ وَتَوْلِيدِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَصْنَافِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ تِلْكَ التَّمْزِيجَاتِ فَهَذَا الِاسْتِقْرَاءُ الْمُطَّرِدُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا كَانَ أَكْثَرَ حَجْمِيَّةً وَجِرْمِيَّةً وَجِسْمِيَّةً كَانَ أَقَلَّ قُوَّةً وَتَأْثِيرًا وَكُلَّمَا كَانَ أَقْوَى قُوَّةً وَتَأْثِيرًا كَانَ أَقَلَّ حَجْمِيَّةً وَجِرْمِيَّةً وَجِسْمِيَّةً وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ أَفَادَ هَذَا الِاسْتِقْرَاءُ ظَنًّا قَوِيًّا أَنَّهُ حَيْثُ حَصَلَ كَمَالُ الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْإِحْدَاثِ وَالْإِبْدَاعِ لَمْ يَحْصُلْ هُنَاكَ الْبَتَّةَ مَعْنَى الْحَجْمِيَّةِ وَالْجِرْمِيَّةِ وَالِاخْتِصَاصِ بِالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ بَحْثًا اسْتِقْرَائِيًّا إِلَّا أَنَّهُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ التَّامِّ شَدِيدُ الْمُنَاسَبَةِ لِلْقَطْعِ بِكَوْنِهِ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْمَوْضِعِ وَالْحَيِّزِ. وباللَّه التَّوْفِيقُ. فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْوُجُوهِ الْعَقْلِيَّةِ فِي بَيَانِ كَوْنِهِ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الِاخْتِصَاصِ بِالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ. أَمَّا الدَّلَائِلُ السَّمْعِيَّةُ فَكَثِيرَةٌ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاصِ: 1] فَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ أَحَدًا وَالْأَحَدُ مُبَالَغَةٌ فِي كَوْنِهِ وَاحِدًا. وَالَّذِي يَمْتَلِئُ مِنْهُ الْعَرْشُ وَيَفْضُلُ عَنِ الْعَرْشِ يَكُونُ مُرَكَّبًا مِنْ أَجْزَاءٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا فَوْقَ أَجْزَاءِ الْعَرْشِ وَذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَهُ أَحَدًا وَرَأَيْتُ جَمَاعَةً مِنَ الْكَرَّامِيَّةِ عِنْدَ هَذَا الْإِلْزَامِ يَقُولُونَ إِنَّهُ تَعَالَى ذَاتٌ وَاحِدَةٌ وَمَعَ كَوْنِهَا وَاحِدَةً حَصَلَتْ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَحْيَازِ دُفْعَةً وَاحِدَةً. قَالُوا: فَلِأَجْلِ أَنَّهُ حَصَلَ دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي جَمِيعِ الْأَحْيَازِ امْتَلَأَ الْعَرْشُ مِنْهُ. فَقُلْتُ حَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ حُصُولُ الذَّاتِ الشَّاغِلَةِ لِلْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ فِي أَحْيَازٍ كَثِيرَةٍ دُفْعَةً وَاحِدَةً/ وَالْعُقَلَاءُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِفَسَادِ ذَلِكَ مِنْ أَجَلِّ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَأَيْضًا فَإِنْ جَوَّزْتُمْ ذَلِكَ فَلِمَ لَا تُجَوِّزُونَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ جَمِيعَ الْعَالَمِ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى مَا تَحْتَ الثَّرَى جَوْهَرٌ وَاحِدٌ وَمَوْجُودٌ وَاحِدٌ الا ان ذلك الجزء الذي لا يتجزى حَصَلَ فِي جُمْلَةِ هَذِهِ الْأَحْيَازِ فَيُظَنُّ أَنَّهَا أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ جَوَّزَهُ فَقَدِ الْتَزَمَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ عَظِيمًا. فَإِنْ قَالُوا: انما عرفنا هاهنا حُصُولَ التَّغَايُرِ بَيْنَ هَذِهِ الذَّوَاتِ لِأَنَّ بَعْضَهَا يَفْنَى مَعَ بَقَاءِ الْبَاقِي وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّغَايُرَ وَأَيْضًا فَنَرَى بَعْضَهَا مُتَحَرِّكًا وَبَعْضَهَا سَاكِنًا وَالْمُتَحَرِّكُ غَيْرُ السَّاكِنِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالتَّغَايُرِ وَهَذِهِ الْمَعَانِي غَيْرُ حَاصِلَةٍ فِي ذَاتِ اللَّه فَظَهَرَ الْفَرْقُ فَنَقُولُ: أَمَّا قَوْلُكَ بِأَنَّا نُشَاهِدُ أَنَّ هَذَا الْجُزْءَ يَبْقَى مَعَ أَنَّهُ يَفْنَى ذَلِكَ الْجُزْءُ الْآخَرُ وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّغَايُرَ فَنَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ فَنَى شَيْءٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ بَلْ نَقُولُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ

يُقَالَ أَنَّ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ جُزْءٌ وَاحِدٌ فقط؟ ثم انه حصل هاهنا وَهُنَاكَ وَأَيْضًا حَصَلَ مَوْصُوفًا بِالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَجَمِيعِ الْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ فَالَّذِي يَفْنَى إِنَّمَا هُوَ حُصُولُهُ هُنَاكَ فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ فَنَى فِي نَفْسِهِ فَهَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ: نَرَى بَعْضَ الْأَجْسَامِ مُتَحَرِّكًا وَبَعْضَهَا سَاكِنًا وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّغَايُرَ لِأَنَّ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ لَا يَجْتَمِعَانِ. فَنَقُولُ: إِذَا حَكَمْنَا بِأَنَّ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ لَا يَجْتَمِعَانِ لِاعْتِقَادِنَا أَنَّ الْجِسْمَ الْوَاحِدَ لَا يَحْصُلُ دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي حَيِّزَيْنِ فَإِذَا رَأَيْنَا أَنَّ السَّاكِنَ بَقِيَ هُنَا وَأَنَّ الْمُتَحَرِّكَ لَيْسَ هُنَا قَضَيْنَا أَنَّ الْمُتَحَرِّكَ غَيْرُ السَّاكِنِ. وَأَمَّا بِتَقْدِيرِ أَنْ يَجُوزَ كَوْنُ الذَّاتِ الْوَاحِدَةِ حَاصِلَةً فِي حَيِّزَيْنِ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَمْ يَمْتَنِعْ كَوْنُ الذَّاتِ الْوَاحِدَةِ مُتَحَرِّكَةً سَاكِنَةً مَعًا، لِأَنَّ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ بِسَبَبِ السُّكُونِ بَقِيَ هُنَا وَبِسَبَبِ الْحَرَكَةِ حَصَلَ فِي الْحَيِّزِ الْآخَرِ إِلَّا أَنَّا لَمَّا جَوَّزْنَا أَنْ تَحْصُلَ الذَّاتُ الْوَاحِدَةُ دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي حَيِّزَيْنِ مَعًا لَمْ يَبْعُدْ أَنْ تَكُونَ الذَّاتُ السَّاكِنَةُ هِيَ عَيْنَ الذَّاتِ الْمُتَحَرِّكَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ وَاحِدٌ لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَمْتَلِئُ الْعَرْشُ مِنْهُ لَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: الْعَرْشُ فِي نَفْسِهِ جوهر فرد وجزء لا يتجزى وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ فِي كُلِّ تِلْكَ الْأَحْيَازِ وَحَصَلَ مِنْهُ كُلُّ الْعَرْشِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَجْوِيزَهُ يُفْضِي إِلَى فَتْحِ بَابِ الْجَهَالَاتِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الْحَاقَّةِ: 17] فَلَوْ كَانَ إِلَهُ الْعَالَمِ فِي الْعَرْشِ لَكَانَ حَامِلُ الْعَرْشِ حَامِلًا لِلْإِلَهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ مَحْمُولًا حَامِلًا وَمَحْفُوظًا حَافِظًا وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ [مُحَمَّدٍ: 38] حَكَمَ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَهُ تَعَالَى غَنِيًّا عَنِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا طَلَبَ حَقِيقَةَ الْإِلَهِ تَعَالَى مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَزِدْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى ذِكْرِ صِفَةِ الْخَلَّاقِيَّةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: 23] فَفِي الْمَرَّةِ الْأُولَى قَالَ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا/ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ [الدخان: 7] وَفِي الثَّانِيَةِ قَالَ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشُّعَرَاءِ: 26] وَفِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ: قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [الشُّعَرَاءِ: 28] وَكُلُّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْخَلَّاقِيَّةِ وَأَمَّا فِرْعَوْنُ لعنه اللَّه فانه قال: يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى [غَافِرٍ: 36 37] فَطَلَبَ الْإِلَهَ فِي السَّمَاءِ فَعَلِمْنَا أَنَّ وَصْفَ الْإِلَهِ بِالْخَلَّاقِيَّةِ وَعَدَمَ وَصْفِهِ بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ دِينُ مُوسَى وَسَائِرِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَجَمِيعُ وَصْفِهِ تَعَالَى بِكَوْنِهِ فِي السَّمَاءِ دِينُ فِرْعَوْنَ وَإِخْوَانِهِ مِنَ الْكَفَرَةِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَكَلِمَةُ «ثُمَّ» لِلتَّرَاخِي وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ تَخْلِيقِ السموات وَالْأَرْضِ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِوَاءِ الِاسْتِقْرَارَ لَزِمَ أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ مَا كَانَ مُسْتَقِرًّا عَلَى الْعَرْشِ بَلْ كَانَ مُعْوَجًّا مُضْطَرِبًا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَذَلِكَ يُوجِبُ وَصْفَهُ بِصِفَاتِ سَائِرِ الْأَجْسَامِ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالْحَرَكَةِ تَارَةً وَالسُّكُونِ أُخْرَى وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. وَسَادِسُهَا: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ إِنَّمَا طَعَنَ فِي إِلَهِيَّةِ الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ بِكَوْنِهَا آفِلَةً غَارِبَةً فَلَوْ كَانَ إِلَهُ الْعَالَمِ جِسْمًا لَكَانَ أَبَدًا غَارِبًا آفِلًا وَكَانَ مُنْتَقِلًا مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالِاعْوِجَاجِ إِلَى الِاسْتِوَاءِ وَالسُّكُونِ وَالِاسْتِقْرَارِ فَكُلُّ مَا جَعَلَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَعْنًا فِي إِلَهِيَّةِ الشَّمْسِ وَالْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ يَكُونُ حَاصِلًا فِي إِلَهِ الْعَالَمِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ الِاعْتِرَافُ بِإِلَهِيَّتِهِ. وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قَبْلَ قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ شَيْئًا وَبَعْدَهُ شَيْئًا آخَرَ. أَمَّا الَّذِي ذَكَرَهُ قَبْلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ خَلْقَ السموات وَالْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَأَشْيَاءُ:

أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وذلك احد الدلائل عَلَى وُجُودِ اللَّهِ وَعَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ. وَثَانِيهَا: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ وَهُوَ أَيْضًا مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوُجُودِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَهُوَ أَيْضًا إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ. إِذَا ثبت هذا فنقول: أول الآية اشارة ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُودِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَآخِرُهَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا دَلِيلًا عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بَلْ كَانَ الْمُرَادُ كَوْنَهُ مُسْتَقِرًّا عَلَى الْعَرْشِ كَانَ ذَلِكَ كَلَامًا أَجْنَبِيًّا عَمَّا قَبْلَهُ وَعَمَّا بَعْدَهُ فَإِنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى مُسْتَقِرًّا عَلَى الْعَرْشِ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ دَلِيلًا عَلَى كَمَالِهِ فِي الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَلَيْسَ أَيْضًا مِنْ صِفَاتِ المدح الثناء لِأَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُجْلِسَ/ جَمِيعَ أَعْدَادِ الْبَقِّ وَالْبَعُوضِ عَلَى الْعَرْشِ وَعَلَى مَا فَوْقَ الْعَرْشِ فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ جَالِسًا عَلَى الْعَرْشِ لَيْسَ مِنْ دَلَائِلِ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَالذَّاتِ ولا من صفات المدح الثناء فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ كَوْنَهُ جَالِسًا عَلَى الْعَرْشِ لَكَانَ ذَلِكَ كَلَامًا أَجْنَبِيًّا عَمَّا قَبْلَهُ وَعَمَّا بَعْدَهُ وَهَذَا يُوجِبُ نِهَايَةَ الرَّكَاكَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ لَيْسَ ذَلِكَ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ كَمَالُ قدرته في تدابير الملك والملكوت حتى تصبر هَذِهِ الْكَلِمَةُ مُنَاسِبَةً لِمَا قَبْلَهَا وَلِمَا بَعْدَهَا وهو المطولب. وَثَامِنُهَا: أَنَّ السَّمَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا ارْتَفَعَ وَسَمَا وَعَلَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى السَّحَابَ سَمَاءً حَيْثُ قَالَ: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الْأَنْفَالِ: 11] وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَا لَهُ ارْتِفَاعٌ وَعُلُوٌّ وَسُمُوٌّ كَانَ سَمَاءً فَلَوْ كَانَ إِلَهُ الْعَالَمِ مَوْجُودًا فَوْقَ الْعَرْشِ لَكَانَ ذَاتُ الْإِلَهِ تَعَالَى سَمَاءً لِسَاكِنِي الْعَرْشِ. فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ فَوْقَ الْعَرْشِ لَكَانَ سَمَاءً وَاللَّهُ تعالى حكم بكونه خالقا لكل السموات في آيات كثيرة هَذِهِ الْآيَةُ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فَلَوْ كَانَ فَوْقَ الْعَرْشِ سَمَاءً لِسُكَّانِ أَهْلِ الْعَرْشِ لَكَانَ خَالِقًا لِنَفْسِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي يَجِبُ تَأْوِيلُهَا وَهَذِهِ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ وَنَظِيرُ هَذَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ في أول سورة الانعام: هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ [الْأَنْعَامِ: 3] ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الْأَنْعَامِ: 14] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ على ان كل ما في السموات فهو ملك الله فلو كان الله في السموات لزم كونه ملكا لنفسه وذلك مال فكهذا هاهنا فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ عَلَى الْجُلُوسِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَشَغْلِ الْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ وَعِنْدَ هَذَا حَصَلَ لِلْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ مَذْهَبَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ نَقْطَعَ بِكَوْنِهِ تَعَالَى مُتَعَالِيًا عَنِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ وَلَا نَخُوضَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ بَلْ نُفَوِّضُ عِلْمَهَا إِلَى اللَّهِ وَهُوَ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آلِ عِمْرَانَ: 7] وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ وَنَقُولُ بِهِ وَنَعْتَمِدُ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ نَخُوضَ فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ وَفِيهِ قَوْلَانِ مُلَخَّصَانِ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَقَالَ: الْعَرْشِ فِي كَلَامِهِمْ هُوَ السَّرِيرُ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ الْمُلُوكُ ثُمَّ جُعِلَ الْعَرْشُ كِنَايَةً عَنْ نَفْسِ الْمَلِكِ يُقَالُ: ثُلَّ عَرْشُهُ أَيِ انْتَفَضَ مُلْكُهُ وَفَسَدَ. وَإِذَا استقام له ملكه واطراد أَمْرُهُ وَحُكْمُهُ قَالُوا: اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ وَاسْتَقَرَّ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ هَذَا مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ. وَأَقُولُ: إِنَّ الَّذِي قَالَهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَصَوَابٌ ونظيره قولهم

لِلرَّجُلِ الطَّوِيلِ: فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ وَلِلرَّجُلِ الَّذِي يُكْثِرُ/ الضِّيَافَةَ كَثِيرُ الرَّمَادِ وَلِلرَّجُلِ الشَّيْخِ فُلَانٌ اشْتَعَلَ رَأْسُهُ شَيْبًا وَلَيْسَ الْمُرَادُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا إِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْهَا تَعْرِيفُ الْمَقْصُودِ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ فكذا هاهنا يَذْكُرُ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ وَالْمُرَادُ نَفَاذُ الْقُدْرَةِ وَجَرَيَانُ الْمَشِيئَةِ ثُمَّ قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا دَلَّ عَلَى ذَاتِهِ وَعَلَى صِفَاتِهِ وَكَيْفِيَّةِ تَدْبِيرِهِ الْعَالَمَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَلِفُوهُ مِنْ مُلُوكِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمُ اسْتَقَرَّ فِي قُلُوبِهِمْ عَظَمَةُ اللَّهِ وَكَمَالُ جَلَالِهِ إِلَّا أَنَّ كل ذلك مشروط ينفى التَّشْبِيهِ فَإِذَا قَالَ: إِنَّهُ عَالِمٌ فَهِمُوا مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ تَعَالَى شَيْءٌ ثُمَّ عَلِمُوا بِعُقُولِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ الْعِلْمُ بِفِكْرَةٍ وَلَا رَوِيَّةٍ وَلَا بِاسْتِعْمَالِ حَاسَّةٍ وَإِذَا قَالَ: قَادِرٌ عَلِمُوا مِنْهُ أَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إِيجَادِ الْكَائِنَاتِ وَتَكْوِينِ الْمُمْكِنَاتِ ثُمَّ عَلِمُوا بِعُقُولِهِمْ أَنَّهُ غَنِيٌّ فِي ذَلِكَ الْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ عَنِ الْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ وَسَبَقَ الْمَادَّةَ وَالْمُدَّةَ وَالْفِكْرَةَ وَالرَّوِيَّةَ وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ صِفَاتِهِ وَإِذَا أَخْبَرَ أَنَّ لَهُ بَيْتًا يَجِبُ عَلَى عِبَادِهِ حَجُّهُ فَهِمُوا مِنْهُ أَنَّهُ نَصَبَ لَهُمْ مَوْضِعًا يَقْصِدُونَهُ لِمَسْأَلَةِ رَبِّهِمْ وَطَلَبِ حَوَائِجِهِمْ كَمَا يَقْصِدُونَ بُيُوتَ الْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ لِهَذَا الْمَطْلُوبِ ثُمَّ عَلِمُوا بِعُقُولِهِمْ نَفْيَ التَّشْبِيهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ الْبَيْتَ مَسْكَنًا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ فِي دَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ بِعَيْنِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِذَا أَمَرَهُمْ بِتَحْمِيدِهِ وَتَمْجِيدِهِ فَهِمُوا مِنْهُ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِنِهَايَةِ تَعْظِيمِهِ ثُمَّ عَلِمُوا بِعُقُولِهِمْ أَنَّهُ لَا يَفْرَحُ لذلك التَّحْمِيدِ وَالتَّعْظِيمِ وَلَا يَغْتَمُّ بِتَرْكِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى اخبر انه خلق السموات والأرض كما أراد وشاء من غر مُنَازِعٍ وَلَا مُدَافِعٍ ثُمَّ أَخْبَرَ بَعْدَهُ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ أَيْ حَصَلَ لَهُ تَدْبِيرُ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى مَا شَاءَ وَأَرَادَ فَكَانَ قَوْلُهُ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أَيْ بَعْدَ أَنْ خَلَقَهَا اسْتَوَى عَلَى عَرْشِ الْمُلْكِ وَالْجَلَالِ. ثُمَّ قَالَ الْقَفَّالُ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ [يُونُسَ: 3] فَقَوْلُهُ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ جَرَى مَجْرَى التَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا حَمَلْتُمْ قَوْلَهُ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: اسْتَوَى عَلَى الْمُلْكِ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: اللَّهُ لَمْ يكن مستويا قبل خلق السموات وَالْأَرْضِ. قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا كَانَ قَبْلَ خَلْقِ الْعَوَالِمِ قَادِرًا عَلَى تَخْلِيقِهَا وَتَكْوِينِهَا وَمَا كان مكونا ولا موجودا لها بأعيانها بالفعل لان احياء زيد وامانة عَمْرٍو وَإِطْعَامَ هَذَا وَإِرْوَاءَ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ/ إِلَّا عِنْدَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَإِذَا فَسَّرْنَا الْعَرْشَ بِالْمُلْكِ وَالْمُلْكَ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا اسْتَوَى عَلَى مُلْكِهِ بَعْدَ خلق السموات وَالْأَرْضِ بِمَعْنَى أَنَّهُ إِنَّمَا ظَهَرَ تَصَرُّفُهُ فِي هذه الأشياء وتدبيره لها بعد خلق السموات وَالْأَرْضِ وَهَذَا جَوَابُ حَقٍّ صَحِيحٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى وَهَذَا الْوَجْهُ قَدْ أَطَلْنَا فِي شَرْحِهِ فِي سُورَةِ طه فَلَا نُعِيدُهُ هُنَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ نُفَسِّرَ الْعَرْشَ بِالْمُلْكِ وَنُفَسِّرَ اسْتَوَى بِمَعْنَى: عَلَا وَاسْتَعْلَى عَلَى الْمُلْكِ فيكون المعنى:

أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَعْلَى عَلَى الْمُلْكِ بِمَعْنَى أَنَّ قُدْرَتَهُ نَفَذَتْ فِي تَرْتِيبِ الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قَوْلَهُ: اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ في سور سبع. احداها: هاهنا. وَثَانِيهَا: فِي يُونُسَ. وَثَالِثُهَا: فِي الرَّعْدِ. وَرَابِعُهَا: فِي طه. وَخَامِسُهَا: فِي الْفُرْقَانِ. وَسَادِسُهَا: فِي السَّجْدَةِ. وَسَابِعُهَا: فِي الْحَدِيدِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَوَائِدَ كَثِيرَةٍ فَمَنْ ضَمَّ تِلْكَ الْفَوَائِدَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ كَثُرَتْ وَبَلَغَتْ مَبْلَغًا كَثِيرًا وَافِيًا بِإِزَالَةِ شُبَهِ التَّشْبِيهِ عَنِ الْقَلْبِ وَالْخَاطِرِ. أَمَّا قَوْلُهُ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ يُغْشِي بِتَخْفِيفِ الْغَيْنِ وَفِي الرَّعْدِ هَكَذَا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ بِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ بِالتَّشْدِيدِ، وَفِي الرَّعْدِ هَكَذَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْإِغْشَاءُ وَالتَّغْشِيَةُ إِلْبَاسُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، وَقَدْ جَاءَ التَّنْزِيلُ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ فَمِنَ التَّشْدِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَغَشَّاها مَا غَشَّى [النَّجْمِ: 54] وَمِنَ اللُّغَةِ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ: فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ [يس: 9] وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ عَلَى مَعْنَى فَأَغْشَيْنَاهُمُ الْعَمَى وَفَقْدَ الرُّؤْيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يُلْحِقُ اللَّيْلَ بِالنَّهَارِ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ النَّهَارَ بِاللَّيْلِ وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُمَا مَعًا وَلَيْسَ فِيهِ تَغْيِيرٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الثَّانِي قِرَاءَةُ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ يَغْشَى اللَّيْلَ النَّهَارُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَنَصْبِ اللَّيْلِ وَرَفْعِ النَّهَارِ أَيْ يُدْرِكُ النَّهَارُ اللَّيْلَ وَيَطْلُبُهُ قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَخْبَرَ عِبَادَهُ بِاسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ عَنِ اسْتِمْرَارِ أَصْعَبِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى وَفْقِ مَشِيئَتِهِ أَرَاهُمْ ذَلِكَ عِيَانًا فِيمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْهَا لِيَضُمَّ الْعِيَانُ إِلَى الْخَبَرِ وَتَزُولَ الشُّبَهُ عَنْ كُلِّ الْجِهَاتِ فَقَالَ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ بِمَا فِي تَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ وَالْفَوَائِدِ الْجَلِيلَةِ، فَإِنَّ بِتَعَاقُبِهِمَا يَتِمُّ أَمْرُ الْحَيَاةِ، وَتَكْمُلُ المنفعة المصلحة. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: يَطْلُبُهُ حَثِيثاً قَالَ اللَّيْثُ: الْحَثُّ: الْإِعْجَالُ، يُقَالُ: حَثَثْتُ فُلَانًا فَاحْتَثَّ، فَهُوَ حَثِيثٌ وَمَحْثُوثٌ، أَيُ مُجِدٌّ سَرِيعٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَ هَذِهِ الْحَرَكَةَ بِالسُّرْعَةِ وَالشِّدَّةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ، لِأَنَّ تَعَاقُبَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِحَرَكَةِ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ وَتِلْكَ الْحَرَكَةُ أَشَدُّ الْحَرَكَاتِ سُرْعَةً، وَأَكْمَلُهَا شِدَّةً، حَتَّى إِنَّ الْبَاحِثِينَ عَنْ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ. قَالُوا: الْإِنْسَانُ إِذَا كَانَ فِي الْعَدْوِ الشَّدِيدِ الْكَامِلِ، فَإِلَى أَنْ يَرْفَعَ رِجْلَهُ وَيَضَعَهَا يَتَحَرَّكُ الْفَلَكُ الْأَعْظَمُ ثَلَاثَةَ آلَافِ مِيلٍ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَتْ تِلْكَ الْحَرَكَةُ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ وَالسُّرْعَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى: يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 40] فَشَبَّهَ ذَلِكَ السَّيْرَ وَتِلْكَ الْحَرَكَةَ بِالسِّبَاحَةِ فِي الْمَاءِ وَالْمَقْصُودُ: التَّنْبِيهُ عَلَى سُرْعَتِهَا وَسُهُولَتِهَا وَكَمَالِ إِيصَالِهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى الِابْتِدَاءِ وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى وَجَعَلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَالنَّصْبُ هُوَ الْوَجْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ [فُصِّلَتْ: 37] فَكَمَا صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ خَلَقَهَا

فِي قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ... وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ وَهَذَا النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ أَيْ خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ حَالَ كَوْنِهَا مَوْصُوفَةً بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَالْآثَارِ وَالْأَفْعَالِ وَحُجَّةُ ابْنِ عَامِرٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الجاثية: 13] وَمِنْ جُمْلَةِ مَا فِي السَّمَاءِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ تَعَالَى سَخَّرَهَا حَسُنَ الْإِخْبَارُ عَنْهَا بِأَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ ضَرَبْتُ زَيْدًا اسْتَقَامَ أَنْ تَقُولَ زَيْدٌ مَضْرُوبٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَطَائِفُ: فَالْأُولَى: أَنَّ الشَّمْسَ لَهَا نَوْعَانِ مِنَ الْحَرَكَةِ: أَحَدُ النَّوْعَيْنِ: حَرَكَتُهَا بِحَسَبِ ذَاتِهَا وَهِيَ إِنَّمَا تَتِمُّ فِي سَنَةٍ كَامِلَةٍ وَبِسَبَبِ هَذِهِ الْحَرَكَةِ تَحْصُلُ السَّنَةُ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: حَرَكَتُهَا بِسَبَبِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ وَهَذِهِ الْحَرَكَةُ تَتِمُّ فِي الْيَوْمِ بِلَيْلَةٍ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ لَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ حَرَكَةِ الشَّمْسِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ حَرَكَةِ السَّمَاءِ الْأَقْصَى الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْعَرْشُ فهذا السَّبَبِ لَمَّا ذَكَرَ الْعَرْشَ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ رَبَطَ بِهِ قَوْلَهُ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ سَبَبَ حُصُولِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ هُوَ حَرَكَةُ الْفَلَكِ الْأَقْصَى لَا حَرَكَةَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَهَذِهِ دَقِيقَةٌ عَجِيبَةٌ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تعالى لما شرح كيفية تخليق السموات. قَالَ: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها [فُصِّلَتْ: 12] فَدَلَّتْ تِلْكَ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَصَّ كُلَّ ذَلِكَ بِلَطِيفَةٍ نُورَانِيَّةٍ رَبَّانِيَّةٍ مِنْ عَالِمِ الْأَمْرِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ تعالى اما من عالم الخالق أَوْ مِنْ عَالَمِ الْأَمْرِ، أَمَّا الَّذِي هُوَ مِنْ عَالَمِ الْخَلْقِ، فَالْخَلْقُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ، وَكُلُّ مَا كَانَ جِسْمًا أَوْ جُسْمَانِيًّا كَانَ مَخْصُوصًا بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، فَكَانَ مِنْ عَالَمِ الْخَلْقِ، وَكُلُّ مَا كَانَ بَرِيئًا عَنِ الْحَجْمِيَّةِ وَالْمِقْدَارِ كَانَ مِنْ عَالَمِ الْأَرْوَاحِ وَمِنْ عَالَمِ الْأَمْرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْرَامِ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ الَّتِي هِيَ مِنْ عَالَمِ الْخَلْقِ بِمَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهُمْ مِنْ عَالَمِ الْأَمْرِ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مُطَابِقَةٌ لِذَلِكَ، وَهِيَ مَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يُحَرِّكُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَعِنْدَ الْغُرُوبِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الْحَاقَّةِ: 17] إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِحِفْظِ الْعَرْشِ ثَمَانِيَةٌ، ثُمَّ إِذَا دَقَّقْتَ النَّظَرَ عَلِمْتَ أَنَّ عَالَمَ الْخَلْقِ فِي تَسْخِيرِ اللَّهِ وَعَالَمَ الْأَمْرِ فِي تَدْبِيرِ اللَّهِ وَاسْتِيلَاءَ الرُّوحَانِيَّاتِ عَلَى الْجُسْمَانِيَّاتِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وَالْبَرَكَةُ لَهَا تَفْسِيرَانِ: أَحَدُهُمَا: الْبَقَاءُ وَالثَّبَاتُ وَالثَّانِي: كَثْرَةُ الْآثَارِ الْفَاضِلَةِ وَالنَّتَائِجِ الشَّرِيفَةِ وَكِلَا التَّفْسِيرَيْنِ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْحَقِّ سُبْحَانَهُ، فَإِنْ حَمَلْتَهُ عَلَى الثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ، فَالثَّابِتُ وَالدَّائِمُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ الْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ لِذَاتِهِ الْعَالِمُ لِذَاتِهِ الْقَائِمُ بِذَاتِهِ الْغَنِيُّ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ مَقْطَعُ الْحَاجَاتِ وَمَنْهَى الِافْتِقَارَاتِ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ وَأَيْضًا إِنْ فَسَّرْنَا الْبَرَكَةَ بِكَثْرَةِ الْآثَارِ الْفَاضِلَةِ فَالْكُلُّ بِهَذَا التَّفْسِيرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ وَإِمَّا مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ لَيْسَ إِلَّا هُوَ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَلَا يُوجَدُ إِلَّا بِإِيجَادِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ وَكُلُّ الْخَيْرَاتِ مِنْهُ وَكُلُّ الْكَمَالَاتِ فَائِضَةٌ مِنْ وُجُودِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَلَا خَيْرَ إِلَّا مِنْهُ وَلَا إِحْسَانَ إِلَّا مِنْ فَيْضِهِ، وَلَا رَحْمَةَ إِلَّا وَهِيَ حَاصِلَةٌ مِنْهُ فَلَمَّا كَانَ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ لَيْسَ إِلَّا مِنْهُ، لَا جَرَمَ كَانَ الثَّنَاءُ الْمَذْكُورُ بقوله:

فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [غافر: 64] لَا يَلِيقُ إِلَّا بِكِبْرِيَائِهِ وَكَمَالِ فَضْلِهِ وَنِهَايَةِ جُودِهِ وَرَحْمَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَوْنُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ سُبْحَانَهُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْعَالِي الدَّرَجَةِ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ، كَانَ اخْتِصَاصُ جِسْمِ الشَّمْسِ بِذَلِكَ النُّورِ الْمَخْصُوصِ وَالضَّوْءِ الْبَاهِرِ وَالتَّسْخِيرِ الشَّدِيدِ وَالتَّأْثِيرِ الْقَاهِرِ وَالتَّدْبِيرَاتِ الْعَجِيبَةِ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ أَنَّ الْفَاعِلَ الْحَكِيمَ وَالْمُقَدِّرَ الْعَلِيمَ خَصَّ ذَلِكَ الْجِسْمَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَهَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَجِسْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالنَّيِّرَاتِ كَالْمُسَخَّرِ فِي قَبُولِ تِلْكَ الْقُوَى وَالْخَوَاصِّ، عَنْ قُدْرَةِ الْمُدَبِّرِ الْحَكِيمِ، الرَّحِيمِ الْعَلِيمِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يُقَالَ/ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْرَامِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ، سَيْرًا خَاصًّا بَطِيئًا مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ وَسَيْرًا آخَرَ سَرِيعًا بِسَبَبِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ، فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ خَصَّ جِرْمَ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ بِقُوَّةٍ سَارِيَةٍ فِي أَجْرَامِ سَائِرِ الْأَفْلَاكِ بِاعْتِبَارِهَا صَارَتْ مُسْتَوْلِيَةً عَلَيْهَا، قَادِرَةً عَلَى تَحْرِيكِهَا عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ فَأَجْرَامُ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ صَارَتْ كَالْمُسَخَّرَةِ لِهَذَا الْقَهْرِ وَالْقَسْرِ وَلَفْظُ الْآيَةِ مُشْعِرٌ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْعَرْشَ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ رَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ حُدُوثَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِحَرَكَةِ الْعَرْشِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْفَلَكَ الْأَعْظَمَ الَّذِي هُوَ الْعَرْشُ يُحَرِّكُ الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ عَلَى خِلَافِ طَبْعِهَا مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي جِرْمِ الْعَرْشِ قُوَّةً قَاهِرَةً بِاعْتِبَارِهَا قُوًى عَلَى قَهْرِ جَمِيعِ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ وَتَحْرِيكِهَا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى طَبَائِعِهَا، فَهَذِهِ أَبْحَاثٌ مَعْقُولَةٌ وَلَفْظُ الْقُرْآنِ مُشْعِرٌ بِهَا والعلم عند الله. وثالثها: أَنَّ أَجْسَامَ الْعَالَمِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، مِنْهَا مَا هِيَ مُتَحَرِّكَةٌ إِلَى الْوَسَطِ وَهِيَ الثِّقَالُ. وَمِنْهَا مَا هِيَ مُتَحَرِّكَةٌ عَنِ الْوَسَطِ، وَهِيَ الْخِفَافُ، وَمِنْهَا مَا هِيَ مُتَحَرِّكَةٌ عَنِ الْوَسَطِ، وَهِيَ الْأَجْرَامُ الْفَلَكِيَّةُ الْكَوْكَبِيَّةُ، فَإِنَّهَا مُسْتَدِيرَةٌ حَوْلَ الْوَسَطِ فَكَوْنُ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ مُسْتَدِيرَةً حَوْلَ مَرْكَزِ الْأَرْضِ لَا عَنْهُ وَلَا إِلَيْهِ، لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَسْخِيرِ اللَّهِ وَتَدْبِيرِهِ، حَيْثُ خَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَامِ بِخَاصَّةٍ مُعَيَّنَةٍ وَصِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَقُوَّةٍ مَخْصُوصَةٍ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الثَّوَابِتَ تَتَحَرَّكُ فِي كُلِّ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ دَوْرَةً وَاحِدَةً، فَهَذِهِ الْحَرَكَةُ تَكُونُ فِي غَايَةِ البطء. ثم هاهنا دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ كُلَّ كَوْكَبٍ مِنَ الكواكب الثابتة، كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْمِنْطَقَةِ كَانَتْ حَرَكَتُهُ أَسْرَعَ، وكل ما كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْقُطْبِ كَانَتْ حَرَكَتُهُ أَبْطَأَ، فَالْكَوَاكِبُ الَّتِي تَكُونُ فِي غَايَةِ الْقُرْبِ مِنَ الْقُطْبِ مِثْلُ كَوْكَبِ الْجَدْيِ وَهُوَ الَّذِي تَقُولُ الْعَوَامُّ إِنَّهُ هُوَ الْقُطْبُ، يَدُورُ فِي دَائِرَةٍ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ، وَهُوَ إِنَّمَا يُتَمِّمُ تِلْكَ الدَّائِرَةَ الصَّغِيرَةَ جِدًّا فِي مُدَّةِ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. فَإِذَا تَأَمَّلْتَ عَلِمْتَ أَنَّ تِلْكَ الْحَرَكَةَ بَلَغَتْ فِي الْبُطْءِ إِلَى حَيْثُ لَا تُوجَدُ حَرَكَةٌ فِي الْعَالَمِ تُشَارِكُهَا فِي الْبُطْءِ، فَذَلِكَ الْكَوْكَبُ اخْتَصَّ بِأَبْطَأِ حَرَكَاتِ هَذَا الْعَالَمِ وَجِرْمُ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ اخْتَصَّ بِأَسْرَعِ حَرَكَاتِ الْعَالَمِ، وَفِيمَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الدَّرَجَتَيْنِ دَرَجَاتٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا فِي الْبُطْءِ وَالسُّرْعَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالدَّوَائِرِ وَالْحَوَامِلِ وَالْمُمَثِّلَاتِ يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنْ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ، وَأَيْضًا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْكَوَاكِبِ مَدَارَاتٌ مَخْصُوصَةٌ، فَأَسْرَعُهَا هُوَ الْمِنْطَقَةُ وَكُلُّ مَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَسْرَعُ حَرَكَةً مِمَّا هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ رَتَّبَ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهَا وَتَفَاوُتِ مَرَاتِبِهَا سَبَبًا لِحُصُولِ الْمَصَالِحِ فِي هَذَا الْعَالَمِ. كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ/ الْبَقَرَةِ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [الْبَقَرَةِ: 29] أَيْ سَوَّاهُنَّ عَلَى وَفْقِ مَصَالِحِ هَذَا الْعَالَمِ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ

فَيَعْلَمُ أَنَّهُ كَيْفَ يَنْبَغِي تَرْتِيبُهَا وَتَسْوِيَتُهَا حَتَّى تَحْصُلَ مَصَالِحُ هَذَا الْعَالَمِ، فَهَذَا أَيْضًا نَوْعٌ عَجِيبٌ فِي تَسْخِيرِ اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ، فَتَكُونُ دَاخِلَةً تَحْتَ قَوْلِهِ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ وَرُبَّمَا جَاءَ بَعْضُ الْجُهَّالِ وَالْحَمْقَى وَقَالَ إِنَّكَ أَكْثَرْتَ فِي تَفْسِيرِ كِتَابِ الله من عليم الْهَيْئَةِ وَالنُّجُومِ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَادِ! فَيُقَالُ لِهَذَا الْمِسْكِينِ: إِنَّكَ لَوْ تَأَمَّلْتَ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقَّ التَّأَمُّلِ لَعَرَفْتَ فَسَادَ مَا ذَكَرْتَهُ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَلَأَ كِتَابَهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ والحكمة بأحوال السموات وَالْأَرْضِ، وَتَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَكَيْفِيَّةِ أَحْوَالِ الضِّيَاءِ وَالظَّلَامِ، وَأَحْوَالِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ، وَذَكَرَ هَذِهِ الْأُمُورَ فِي أَكْثَرِ السُّوَرِ وَكَرَّرَهَا وَأَعَادَهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْبَحْثُ عَنْهَا، وَالتَّأَمُّلُ فِي أَحْوَالِهَا جَائِزًا لَمَا مَلَأَ اللَّهُ كِتَابَهُ مِنْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ [ق: 6] فَهُوَ تَعَالَى حَثَّ عَلَى التَّأَمُّلِ فِي أَنَّهُ كَيْفَ بَنَاهَا وَلَا مَعْنَى لِعِلْمِ الْهَيْئَةِ إِلَّا التَّأَمُّلُ فِي أَنَّهُ كَيْفَ بَنَاهَا وَكَيْفَ خَلَقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غَافِرٍ: 57] فَبَيَّنَ أَنَّ عَجَائِبَ الخلقة وبدائع الفطرة في اجرام السموات أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ وَأَكْمَلَ مِمَّا فِي أَبْدَانِ النَّاسِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى رَغَّبَ فِي التَّأَمُّلِ فِي أَبْدَانِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذَّارِيَاتِ: 21] فَمَا كَانَ أَعْلَى شَأْنًا وَأَعْظَمَ بُرْهَانًا مِنْهَا أَوْلَى بِأَنْ يَجِبَ التَّأَمُّلُ فِي أَحْوَالِهَا وَمَعْرِفَةُ مَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَ الْمُتَفَكِّرِينَ فِي خلق السموات وَالْأَرْضِ فَقَالَ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا [آلِ عِمْرَانَ: 191] وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَمْنُوعًا مِنْهُ لَمَا فَعَلَ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ مَنْ صَنَّفَ كِتَابًا شَرِيفًا مُشْتَمِلًا عَلَى دَقَائِقِ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ بِحَيْثُ لَا يُسَاوِيهِ كِتَابٌ فِي تِلْكَ الدَّقَائِقِ، فَالْمُعْتَقِدُونَ فِي شَرَفِهِ وَفَضِيلَتِهِ فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ كَوْنَهُ كَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقِفَ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الدَّقَائِقِ وَاللَّطَائِفِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ وَالتَّعْيِينِ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَقَفَ عَلَى تِلْكَ الدَّقَائِقِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ وَالتَّعْيِينِ، وَاعْتِقَادُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى وَإِنْ بَلَغَ إِلَى أَقْصَى الدَّرَجَاتِ فِي الْقُوَّةِ وَالْكَمَالِ إِلَّا أَنَّ اعْتِقَادَ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ أَكْمَلَ وَأَقْوَى وَأَوْفَى. وَأَيْضًا فَكُلُّ مَنْ كَانَ وُقُوفُهُ عَلَى دَقَائِقِ ذَلِكَ الْكِتَابِ وَلَطَائِفِهِ أَكْثَرَ كَانَ اعْتِقَادُهُ فِي عَظَمَةِ ذَلِكَ الْمُصَنَّفِ وَجَلَالَتِهِ أَكْمَلَ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: مِنَ النَّاسِ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ جُمْلَةَ هَذَا الْعَالَمِ مُحْدَثٌ وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَهُ مُحْدِثٌ، / فَحَصَلَ لَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ إِثْبَاتُ الصَّانِعِ تَعَالَى وَصَارَ مِنْ زُمْرَةِ الْمُسْتَدِلِّينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَمَّ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَةِ الْبَحْثَ عَنْ أَحْوَالِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ فَيَظْهَرُ لَهُ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ هَذَا الْعَالَمِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَأَسْرَارٌ عَجِيبَةٌ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى الْبَرَاهِينِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالدَّلَائِلِ الْمُتَوَالِيَةِ عَلَى عَقْلِهِ، فَلَا يَزَالُ يَنْتَقِلُ كُلَّ لَحْظَةٍ وَلَمْحَةٍ مِنْ بُرْهَانٍ إِلَى بُرْهَانٍ آخَرَ، وَمِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ، فَلِكَثْرَةِ الدَّلَائِلِ وَتَوَالِيهَا أَثَرٌ عَظِيمٌ فِي تَقْوِيَةِ الْيَقِينِ وَإِزَالَةِ الشُّبُهَاتِ. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْزَلَ هَذَا الْكِتَابَ لِهَذِهِ الْفَوَائِدِ وَالْأَسْرَارِ لَا لِتَكْثِيرِ النَّحْوِ الْغَرِيبِ وَالِاشْتِقَاقَاتِ الْخَالِيَةِ عَنِ الْفَوَائِدِ وَالْحِكَايَاتِ الْفَاسِدَةِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَوْنَ وَالْعِصْمَةَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْأَمْرُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ قَدْ فَسَّرْنَاهُ بِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَأَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَلَهُمْ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: الْمُرَادُ نَفَاذُ إِرَادَتِهِ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَبْيِينُ عَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْكَلَامَ، وَنَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11]

وَقَوْلِهِ: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ: 40] وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى الْأَمْرِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ الْكَلَامُ، وَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ هَذِهِ الْأَجْرَامَ بِالسَّيْرِ الدَّائِمِ وَالْحَرَكَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مِنَ النُّجُومِ فَذَكَرَهُمَا ثُمَّ عطف على ذكر هما ذِكْرَ النُّجُومِ وَالسَّبَبُ فِي إِفْرَادِهِمَا بِالذِّكْرِ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمَا سَبَبًا لِعِمَارَةِ هَذَا الْعَالَمِ، وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي تَقْرِيرِهِ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، فَالشَّمْسُ سُلْطَانُ النَّهَارِ، وَالْقَمَرُ سُلْطَانُ اللَّيْلِ، وَالشَّمْسُ تَأْثِيرُهَا فِي التَّسْخِينِ وَالْقَمَرُ تَأْثِيرُهُ فِي التَّرْطِيبِ، وَتَوَلُّدُ الْمَوَالِيدِ الثَّلَاثَةِ أَعْنِي الْمَعَادِنَ وَالنَّبَاتَ وَالْحَيَوَانَ لَا يَتِمُّ وَلَا يَكْمُلُ إِلَّا بِتَأْثِيرِ الْحَرَارَةِ فِي الرُّطُوبَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ كُلَّ كَوْكَبٍ بِخَاصَّةٍ عَجِيبَةٍ وَتَدْبِيرٍ غَرِيبٍ لَا يَعْرِفُهُ بِتَمَامِهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَجَعَلَهُ مُعِينًا لَهُمَا فِي تِلْكَ التَّأْثِيرَاتِ وَالْمَبَاحِثُ الْمُسْتَقْصَاةُ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّمْسَ كَالسُّلْطَانِ، وَالْقَمَرَ كَالنَّائِبِ وَسَائِرَ الْكَوَاكِبِ كَالْخَدَمِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ بَدَأَ اللَّهُ سبحانه بذكر الشمس وثنى القمر ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ سَائِرِ النُّجُومِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أنه لا موجد ولا مؤثر إلا الله سُبْحَانَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَوْجَدَ شَيْئًا وَأَثَّرَ فِي حُدُوثِ شَيْءٍ فَقَدْ قَدَرَ عَلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِذَلِكَ الْوَقْتِ فَكَانَ خَالِقًا، ثُمَّ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ لِأَنَّهُ قَالَ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَهَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ يَصْدُرُ عَنْ فَلَكٍ أَوْ مَلَكٍ أَوْ جِنِّيٍّ أَوْ إِنْسِيٍّ، فَخَالِقُ/ ذَلِكَ الْأَمْرِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا غَيْرُ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ تَفَرَّعَتْ عَلَيْهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذْ لَوْ حَصَلَ إِلَهَانِ لَكَانَ الْإِلَهُ الثَّانِي خَالِقًا وَمُدَبِّرًا، وَذَلِكَ يُنَاقِضُ مَدْلُولَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي تَخَصُّصِ الْخَلْقِ بِهَذَا الْوَاحِدِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْكَوَاكِبِ فِي أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ، وَإِلَّا لَحَصَلَ خَالِقٌ سِوَى اللَّهِ، وَذَلِكَ ضِدُّ مَدْلُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقَوْلَ بِإِثْبَاتِ الطَّبَائِعِ، وَإِثْبَاتِ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ وَأَصْحَابُ الطَّلْسَمَاتِ بَاطِلٌ، وَإِلَّا لَحَصَلَ خَالِقٌ غَيْرُ اللَّهِ. وَرَابِعُهَا: خَالِقُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ هُوَ اللَّهُ، وَإِلَّا لَحَصَلَ خَالِقٌ غَيْرُ اللَّهِ. وَخَامِسُهَا: الْقَوْلُ بِأَنَّ الْعِلْمَ يُوجِبُ الْعَالِمِيَّةَ وَالْقُدْرَةَ تُوجِبُ الْقَادِرِيَّةَ بَاطِلٌ وَإِلَّا لَحَصَلَ مُؤَثِّرٌ غَيْرُ اللَّهِ، وَمُقَدِّرٌ غَيْرُ اللَّهِ، وَخَالِقٌ غَيْرُ اللَّهِ، وَإِنَّهُ بَاطِلٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ قَدِيمٌ. قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى مَيَّزَ بَيْنَ الْخَلْقِ وَبَيْنَ الْأَمْرِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مَخْلُوقًا لَمَا صَحَّ هَذَا التَّمْيِيزُ. أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ: عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِفْرَادِ الْأَمْرِ بِالذِّكْرِ عَقِيبَ الْخَلْقِ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَمْرُ دَاخِلًا فِي الْخَلْقِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ [الْحِجْرِ: 1] وَآيَاتُ الْكِتَابِ دَاخِلَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النَّحْلِ: 90] مَعَ أَنَّ الْإِحْسَانَ دَاخِلٌ فِي الْعَدْلِ وَقَالَ: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: 98] وَهُمَا دَاخِلَانِ تَحْتَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ الْكَعْبِيُّ: إِنَّ مَدَارَ هَذِهِ الْحُجَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْكَلَامُ بَطَلَ مَذْهَبُكُمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ [الْأَعْرَافِ: 158] فَعَطَفَ الْكَلِمَاتِ عَلَى اللَّهِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَاتُ غَيْرَ اللَّهِ وَكُلُّ مَا كَانَ غَيْرَ اللَّهِ فَهُوَ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ، فَوَجَبَ كَوْنُ كَلِمَاتِ اللَّهِ مُحْدَثَةً مَخْلُوقَةً. وَقَالَ الْقَاضِي: أَطْبَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْأَمْرِ كَلَامَ التَّنْزِيلِ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ نَفَاذُ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْغَرَضَ بِالْآيَةِ تَعْظِيمُ قُدْرَتِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: الْأَمْرُ وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ الْخَلْقِ إِلَّا أَنَّ الْأَمْرَ بِخُصُوصِ كَوْنِهِ أَمْرًا يَدُلُّ عَلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ فَقَوْلُهُ: لَهُ الْخَلْقُ

وَالْأَمْرُ مَعْنَاهُ: لَهُ الْخَلْقُ وَالْإِيجَادُ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى، ثُمَّ بَعْدَ الْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ فَلَهُ الْأَمْرُ وَالتَّكْلِيفُ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ الْخَلْقُ وَلَهُ التَّكْلِيفُ وَلَهُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا مُفِيدًا مَعَ أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ دَاخِلَانِ تَحْتَ الْخَلْقِ فَكَذَا هاهنا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ هُوَ أَنَّهُ إِنْ شَاءَ خَلَقَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَخْلُقْ فَكَذَا قَوْلُهُ: وَالْأَمْرُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِنْ شَاءَ أَمَرَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَأْمُرْ، وَإِذَا كَانَ حُصُولُ الْأَمْرِ مُتَعَلِّقًا بِمَشِيئَتِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْأَمْرُ مَخْلُوقًا كَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ حُصُولُ الْمَخْلُوقِ مُتَعَلِّقًا بِمَشِيئَتِهِ كَانَ مَخْلُوقًا، أَمَّا لَوْ كَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدِيمًا لَمْ يَكُنْ/ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ، بَلْ كَانَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ فَحِينَئِذٍ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِنْ شَاءَ أَمَرَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَأْمُرْ، وَذَلِكَ يَنْفِي ظَاهِرَ الْآيَةِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ دَاخِلًا تَحْتَ الْخَلْقِ كَانَ إِفْرَادُ الْأَمْرِ بِالذِّكْرِ تَكْرِيرًا مَحْضًا، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّا تَحَمَّلْنَا ذَلِكَ فِي صُوَرٍ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، إِلَّا أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّكْرِيرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُلْزِمَ غَيْرَهُ شَيْئًا إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِعْلُ الطَّاعَةِ لَا يُوجِبُ الثَّوَابَ، وَفِعْلُ الْمَعْصِيَةِ لَا يُوجِبُ الْعِقَابَ، وَإِيصَالُ الْأَلَمِ لَا يُوجِبُ الْعِوَضَ وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ لِأَحَدٍ مِنَ الْعَبِيدِ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، إِذْ لَوْ كَانَ فِعْلُ الطَّاعَةِ يُوجِبُ الثَّوَابَ لَتَوَجَّهَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْعَبْدِ مُطَالَبَةٌ مُلْزِمَةٌ وَإِلْزَامٌ جَازِمٌ وَذَلِكَ يُنَافِي قَوْلَهُ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقَبِيحَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَبَّحَ لِوَجْهٍ عَائِدٍ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الْحَسَنَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحَسَّنَ لِوَجْهٍ عَائِدٍ إِلَيْهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ يُفِيدُ أَنَّهُ تَعَالَى لَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ، وَلَوْ كَانَ الْقَبِيحُ يُقَبَّحُ لِوَجْهٍ عَائِدٍ إِلَيْهِ لَمَا صَحَّ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَأْمُرَ إِلَّا بِمَا حَصَلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْوَجْهُ، وَلَا أَنْ يَنْهَى إِلَّا عَمَّا فِيهِ وَجْهُ الْقُبْحِ فَلَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمَا شَاءَ وَأَرَادَ مَعَ أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي هَذَا الْمَعْنَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ عَوَالِمَ سِوَى هَذَا الْعَالَمِ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ... وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ وَالْخَلْقُ إِذَا أُطْلِقَ أُرِيدَ بِهِ الْجِسْمُ الْمُقَدَّرُ أَوْ مَا يَظْهَرُ تَقْدِيرُهُ فِي الْجِسْمِ الْمُقَدَّرِ. ثُمَّ بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ أَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّصَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ بِأَمْرِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا حَدَثَ بِتَأْثِيرِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَتَمَيَّزَ الْأَمْرُ وَالْخَلْقُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذَا التَّفْصِيلِ وَالْبَيَانِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ يَعْنِي لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْخَلْقِ وَعَلَى الْأَمْرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَعَلَى تَكْوِينِهَا كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ، فَلَوْ أَرَادَ خَلْقَ أَلْفِ عَالَمٍ بِمَا فِيهِ مِنَ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ فِي أَقَلَّ مِنْ لَحْظَةٍ وَلَمْحَةٍ لَقَدَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَاهِيَّاتِ مُمْكِنَةٌ وَالْحَقُّ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ وَلِهَذَا قَالَ الْمَعَرِّيُّ فِي قَصِيدَةٍ طَوِيلَةٍ لَهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كَمْ لِلَّهِ مِنْ فَلَكٍ ... تَجْرِي النُّجُومُ بِهِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ثُمَّ قَالَ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ: هُنَا عَلَى اللَّهِ مَاضِينَا وَغَابِرُنَا ... فَمَا لَنَا فِي نَوَاحِي غَيْرِهِ خَطَرُ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ قَوْمٌ: الْخَلْقُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ وَهُوَ غَيْرُ الْمَخْلُوقُ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْآيَةِ

وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ قَالُوا: وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ الْأَمْرُ لِلَّهِ لَا بِمَعْنَى كَوْنِهِ مَخْلُوقًا لَهُ، بَلْ بِمَعْنَى كَوْنِهِ صِفَةً لَهُ فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ لِلَّهِ لَا بِمَعْنَى كَوْنِهِ مَخْلُوقًا لَهُ بَلْ بِمَعْنَى كَوْنِهِ صِفَةً لَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّا إِذَا قُلْنَا: لِمَ حَدَثَ هَذَا الشَّيْءُ وَلِمَ وُجِدَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ؟ فَنَقُولُ: فِي جَوَابِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُ وَأَوْجَدَهُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا التَّعْلِيلُ صَحِيحًا، فَلَوْ كَانَ كَوْنُهُ تَعَالَى خَالِقًا لَهُ نَفْسُ حُصُولِ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ لَكَانَ قَوْلُهُ إِنَّهُ إِنَّمَا حَدَثَ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُ وَأَوْجَدَهُ جاريا مجرى قوله: إِنَّهُ إِنَّمَا حَدَثَ لِنَفْسِهِ وَلِذَاتِهِ لَا لِشَيْءٍ آخَرَ، وَذَلِكَ مُحَالٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّ صِدْقَ هَذَا الْمَعْنَى يَنْفِي كَوْنَهُ مَخْلُوقًا مِنْ قِبَلَ اللَّهِ تَعَالَى فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى خَالِقًا لِلْمَخْلُوقِ مُغَايِرًا لَذَاتِ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ وَجَوَابُهُ: لَوْ كَانَ الْخَلْقُ غَيْرَ الْمَخْلُوقِ لَكَانَ إِنْ كَانَ قَدِيمًا لَزِمَ مِنْ قِدَمَهِ قِدَمُ الْمَخْلُوقِ، وَإِنْ كَانَ حَادِثًا افْتَقَرَ إِلَى خَلْقٍ آخَرَ وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَمَا لَا خَلْقَ إِلَّا لِلَّهِ، فَكَذَلِكَ لَا أَمْرَ إِلَّا لِلَّهِ، وَهَذَا يَتَأَكَّدُ بِقَوْلِهِ تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام: 57] وَقَوْلِهِ: فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غَافِرٍ: 12] وَقَوْلِهِ: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الرُّومِ: 4] إِلَّا أَنَّهُ مُشْكِلٌ بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ. أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النُّورِ: 63] وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . وَالْجَوَابُ: أَنَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ قَدْ حَصَلَ، فَيَكُونُ الْمُوجِبُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ أَمْرَ اللَّهِ لَا أَمْرَ غَيْرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ أَمْرًا وَنَهْيًا عَلَى عِبَادِهِ، وَأَنَّ لَهُ تَكْلِيفًا عَلَى عِبَادِهِ، وَالْخِلَافُ مَعَ نُفَاةِ التَّكْلِيفِ. وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّ الْمُكَلَّفَ بِهِ إِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ كَانَ وَاجِبَ الْوُقُوعِ. فَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ أَمْرًا بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وأنه محال، وإن كان معلوم اللاوقوع كَانَ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ أَمْرًا بِمَا يَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنْ خَلَقَ الدَّاعِيَ إِلَى فِعْلِهِ، كَانَ وَاجِبَ الْوُقُوعِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْأَمْرِ، وَإِنْ لَمْ يَخْلُقِ الدَّاعِيَ إِلَيْهِ كَانَ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْأَمْرِ بِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَمْرَ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ لَا يُفِيدُ إِلَّا الضَّرَرَ الْمَحْضَ، لِأَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَلَا يُطِيعُ، امْتَنَعَ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ، إِلَّا إِذَا/ صَارَ عِلْمُ اللَّهِ جَهْلًا، وَالْعَبْدُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى تَجْهِيلِ اللَّهِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ اللَّازِمُ تَعَذَّرَ الْمَلْزُومُ فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: لَا قُدْرَةَ لِلْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ أَصْلًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ مِنَ الْأَمْرِ بِهِ إِلَّا مُجَرَّدُ اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ، فَيَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ وَالتَّكْلِيفُ إِضْرَارًا مَحْضًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ الْبَتَّةَ، وَهُوَ لَا يَلِيقُ بِالرَّحِيمِ الْحَكِيمِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْأَمْرَ وَالتَّكْلِيفَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِفَائِدَةٍ فَهُوَ عَبَثٌ، وَإِنْ كَانَ لِفَائِدَةٍ عَائِدَةٍ إِلَى الْمَعْبُودِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ وَلَيْسَ بِإِلَهٍ، وَإِنْ كَانَ لِفَائِدَةٍ عَائِدَةٍ إِلَى الْعَابِدِ فَجَمِيعُ الْفَوَائِدِ مُنْحَصِرَةٌ فِي تَحْصِيلِ النَّفْعِ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِهَا بِالتَّمَامِ وَالْكَمَالِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ التَّكْلِيفِ، فَكَانَ تَوْسِيطُ التَّكْلِيفِ إِضْرَارًا مَحْضًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَحْسُنُ مِنْهُ أَنْ يَأْمُرَ عِبَادَهُ، وَأَنْ يُكَلِّفَهُمْ بِمَا شَاءَ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْخَلْقُ مِنْهُ ثَبَتَ أَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ لِكُلِّ الْعَبِيدِ، وَإِذَا كَانَ خَالِقًا لَهُمْ كَانَ مَالِكًا لَهُمْ، وَإِذَا كَانَ مَالِكًا لَهُمْ حَسُنَ مِنْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ وَيَنْهَاهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرَّفٌ مِنَ الْمَالِكِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 55 إلى 56]

مُسْتَحْسَنٌ، فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ يَجْرِي مَجْرَى الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى أَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَأْمُرَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَأْمُرَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ خَالِقًا لَهُمْ لَا كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ الْفِعْلِ صَلَاحًا، وَلَا كَمَا يَقُولُونَهُ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ الْعِوَضِ وَالثَّوَابِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ الْخَلْقَ لَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُسْنَ الْأَمْرِ مُعَلَّلٌ بِكَوْنِهِ خَالِقًا لَهُمْ مُوجِدًا لَهُمْ، وَإِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِي حُسْنِ الْأَمْرِ وَالتَّكْلِيفِ، هَذَا الْقَدْرَ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ، وَالثَّوَابِ، وَالْعِقَابِ فِي اعْتِبَارِ حُسْنِ الْأَمْرِ وَالتَّكْلِيفِ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ آمِرٌ نَاهٍ مُخْبِرٌ مُسْتَخْبِرٌ، وَكَانَ مِنْ حَقِّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَقَدُّمُهَا عَلَى سَائِرِ الْمَسَائِلِ، إِلَّا أَنَّهَا إِنَّمَا خَطَرَتْ بِالْبَالِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لَهُ الْأَمْرَ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ النَّهْيُ، وَالْخَبَرُ، وَالِاسْتِخْبَارُ، ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كونه تعالى خالقا للسموات، وَالْأَرْضِ، وَالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالنُّجُومِ. ثُمَّ قَالَ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ أَيْ لَا خَالِقَ إِلَّا هُوَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقًا لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَنْ يُقَالَ: لَا خَالِقَ عَلَى الْإِطْلَاقِ إِلَّا هُوَ، فَلِمَ رتب على إثبات كونه خالق لِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ إِثْبَاتَ أَنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا هُوَ عَلَى الْإِطْلَاقِ؟ / فَنَقُولُ: الْحَقُّ أَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ كَوْنُهُ تَعَالَى خَالِقًا لِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ، وَجَبَ كَوْنُهُ خَالِقًا لِكُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ افْتِقَارَ الْمَخْلُوقِ إِلَى الْخَالِقِ لِإِمْكَانِهِ، وَالْإِمْكَانُ وَاحِدٌ فِي كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، وَهَذَا الْإِمْكَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْحَاجَةِ إِلَى مُؤَثِّرٍ مُتَعَيِّنٍ، أَوْ إِلَى مُؤَثِّرٍ غَيْرِ مُتَعَيِّنٍ وَالثَّانِي بَاطِلٌ، لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ، فَهُوَ مُتَعَيِّنٌ فِي نَفْسِهِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ مَا لَا يَكُونُ مُتَعَيِّنًا فِي نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ وَمَا لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِوُجُودِ غَيْرِهِ فِي الْخَارِجِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِمْكَانَ عِلَّةٌ لِلْحَاجَةِ إِلَى مُوجِدٍ وَمُعَيِّنٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمُمْكِنَاتِ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ الْمُعَيِّنِ فَثَبَتَ أَنَّ الَّذِي يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي وُجُودِ شَيْءٍ وَاحِدٍ، هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي وُجُودِ كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فَاعْلَمْ أنه سبحانه لما بين كونه خالقا للسموات، وَالْأَرْضِ، وَالْعَرْشِ، وَاللَّيْلِ، وَالنَّهَارِ، وَالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالنُّجُومِ وَبَيَّنَ كَوْنَ الْكُلِّ مُسَخَّرًا فِي قُدْرَتِهِ وَقَهْرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ لَهُ الْحُكْمَ وَالْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالتَّكْلِيفَ، بَيَّنَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الثَّنَاءَ وَالتَّقْدِيسَ وَالتَّنْزِيهَ، فَقَالَ: تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ (تَبَارَكَ) فَلَا نُعِيدُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بدا في أول الآية: رب السموات وَالْأَرَضِينَ، وَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ، ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وَالْعَالَمُ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، فَبَيَّنَ كَوْنَهُ رَبًّا وَإِلَهًا وَمَوْجُودًا وَمُحْدِثًا لِكُلِّ مَا سِوَاهُ، وَمَعَ كَوْنِهِ كَذَلِكَ فَهُوَ رَبٌّ وَمُرَبٍّ وَمُحْسِنٌ، وَمُتَفَضِّلٌ، وَهَذَا آخِرُ الْكَلَامِ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْآيَةِ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 55 الى 56] ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَعِنْدَ هَذَا تَمَّ التَّكْلِيفُ الْمُتَوَجِّهُ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَعَارِفِ النَّفْسَانِيَّةِ، والعلوم الحقيقة، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الْأَعْمَالِ اللَّائِقَةِ بِتِلْكَ الْمَعَارِفِ وَهُوَ الِاشْتِغَالُ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ مُخُّ الْعِبَادَةِ، فَقَالَ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: ادْعُوا رَبَّكُمْ فِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: اعْبُدُوا وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الدُّعَاءُ، وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ عَقَلَ مِنَ الدُّعَاءِ أَنَّهُ طَلَبُ الْخَيْرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ صِفَةُ الْعِبَادَةِ، لِأَنَّهُ يُفْعَلُ تَقَرُّبًا، وَطَلَبًا لِلْمُجَازَاةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً وَالْمَعْطُوفُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي هُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّ الدُّعَاءَ مُغَايِرٌ لِلْعِبَادَةِ فِي الْمَعْنَى. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الدُّعَاءِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ وَاحْتَجَّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ بِأَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالدُّعَاءِ إِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ كَانَ وَاجِبَ الْوُقُوعِ لِامْتِنَاعِ وُقُوعِ التَّغْيِيرِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا كَانَ وَاجِبَ الْوُقُوعِ لَمْ يَكُنْ فِي طَلَبِهِ فَائِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ معلوم اللاوقوع كَانَ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ فَلَا فَائِدَةَ أَيْضًا فِي طَلَبِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى إِنْ كَانَ قَدْ أَرَادَ فِي الْأَزَلِ إِحْدَاثَ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ، فَهُوَ حَاصِلٌ سَوَاءٌ حَصَلَ هَذَا الدُّعَاءُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَرَادَ فِي الْأَزَلِ أَنْ لَا يُعْطِيَهُ فَهُوَ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الطَّلَبِ، وَإِنْ قُلْنَا أَنَّهُ مَا أَرَادَ فِي الْأَزَلِ إِحْدَاثَ ذَلِكَ الشَّيْءِ لَا وُجُودَهُ وَلَا عَدَمَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ الدُّعَاءِ، صَارَ مُرِيدًا لَهُ لَزِمَ وُقُوعُ التَّغَيُّرِ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَفِي صِفَاتِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: يَصِيرُ إِقْدَامُ الْعَبْدِ عَلَى الدُّعَاءِ عِلَّةً لِحُدُوثِ صِفَةٍ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ الْعَبْدُ مُتَصَرِّفًا فِي صِفَةِ اللَّهِ بِالتَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالدُّعَاءِ إِنِ اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ وَالْمَصْلَحَةُ إِعْطَاءَهُ، فَهُوَ تَعَالَى يُعْطِيهِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الدُّعَاءِ لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ بَخِيلًا وَإِنِ اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ مَنْعَهُ، فَهُوَ لَا يُعْطِيهِ سَوَاءٌ أَقَدَمَ الْعَبْدُ عَلَى الدُّعَاءِ أَوْ لَمْ يُقْدِمْ عَلَيْهِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الدُّعَاءَ غَيْرُ الْأَمْرِ، وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ إِلَّا كَوْنُ الدَّاعِي أَقَلَّ رُتْبَةً، وَكَوْنُ الْآمِرِ أَعْلَى رُتْبَةً وَإِقْدَامُ الْعَبْدِ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ سُوءُ أَدَبٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. الْخَامِسُ: الدُّعَاءُ يُشْبِهُ مَا إِذَا أَقْدَمَ الْعَبْدُ عَلَى إِرْشَادِ رَبِّهِ وَإِلَهِهِ إِلَى فِعْلِ الْأَصْلَحِ وَالْأَصْوَبِ، وَذَلِكَ سُوءُ أَدَبٍ أَوْ أَنَّهُ يُنَبِّهُ الْإِلَهَ عَلَى شَيْءٍ مَا كَانَ مُنْتَبِهًا لَهُ، وَذَلِكَ كُفْرٌ وَأَنَّهُ تَعَالَى قَصَّرَ فِي الْإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ فَأَنْتَ بِهَذَا تَحْمِلُهُ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ، وَذَلِكَ جَهْلٌ. السَّادِسُ: أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الدُّعَاءِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ غَيْرَ رَاضٍ بِالْقَضَاءِ إِذْ لَوْ رَضِيَ بِمَا قَضَاهُ اللَّهُ عَلَيْهِ لَتَرَكَ تَصَرُّفَ نَفْسِهِ، وَلَمَا طَلَبَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا عَلَى التَّعْيِينِ وَتَرْكُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ أَمْرٌ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ. السَّابِعُ: كَثِيرًا مَا يَظُنُّ الْعَبْدُ بِشَيْءٍ كَوْنَهُ نَافِعًا وَخَيِّرًا، ثُمَّ إِنَّهُ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ يَصِيرُ سَبَبًا لِلْآفَاتِ الْكَثِيرَةِ وَالْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ طَلَبُ الشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ مِنَ اللَّهِ غَيْرَ جَائِزٍ، بَلِ الْأَوْلَى طَلَبُ مَا هُوَ الْمَصْلَحَةُ وَالْخَيْرُ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ طَلَبَهُ الْعَبْدُ بِالدُّعَاءِ أَوْ لَمْ يَطْلُبْهُ فَلَمْ يَبْقَ فِي الدُّعَاءِ فَائِدَةٌ. الثَّامِنُ: أَنَّ الدُّعَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ/ تَوَجُّهِ الْقَلْبِ إِلَى طَلَبِ شَيْءٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَوَجُّهُ الْقَلْبِ إِلَى طَلَبِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ يَمْنَعُ الْقَلْبَ مِنَ الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي مَحَبَّتِهِ، وَفِي عُبُودِيَّتِهِ، وَهَذِهِ مَقَامَاتٌ عَالِيَةٌ شَرِيفَةٌ، وَمَا يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ الْمَقَامَاتِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ كَانَ مَذْمُومًا. التَّاسِعُ: رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ حَاكِيًا عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ الدُّعَاءِ. الْعَاشِرُ: أَنَّ عِلْمَ الْحَقِّ مُحِيطٌ بِحَاجَةِ الْعَبْدِ، وَالْعَبْدُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ

مَوْلَاهُ عَالِمٌ بِاحْتِيَاجِهِ، فَسَكَتَ وَلَمْ يَذْكُرْ تِلْكَ الْحَاجَةَ كَانَ ذَلِكَ أَدْخَلَ فِي الْأَدَبِ، وَفِي تَعْظِيمِ الْمَوْلَى مِمَّا إِذَا أَخَذَ يَشْرَحُ كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الْحَالَةِ، وَيَطْلُبُ مَا يَدْفَعُ تِلْكَ الْحَاجَةَ، وَإِذَا كَانَ الْحَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي الشَّاهِدِ، وَجَبَ اعْتِبَارُ مِثْلِهِ فِي حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ إِنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا وُضِعَ فِي الْمَنْجَنِيقِ لِيُرْمَى إِلَى النَّارِ قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ادْعُ رَبَّكَ فَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْبَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الدُّعَاءَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ وَالْأَسْئِلَةُ الْمَذْكُورَةُ وَارِدَةٌ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ إِنْ كَانَ هَذَا الْإِنْسَانُ سَعِيدًا فِي عِلْمِ اللَّهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، وَإِنْ كَانَ شَقِيًّا فِي عِلْمِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي تِلْكَ الْعِبَادَاتِ، وَأَيْضًا يُقَالُ وَجَبَ أَنْ لَا يُقْدِمَ الْإِنْسَانُ عَلَى أَكْلِ الْخُبْزِ وَشُرْبِ الْمَاءِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ هَذَا الْإِنْسَانُ شَبْعَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا حَاجَةَ إِلَى أَكْلِ الْخُبْزِ، وَإِنْ كَانَ جَائِعًا فَلَا فَائِدَةَ فِي أَكْلِ الْخُبْزِ، وَكَمَا أَنَّ هذا الكلام باطل هاهنا، فَكَذَا فِيمَا ذَكَرُوهُ، بَلْ نَقُولُ الدُّعَاءُ يُفِيدُ مَعْرِفَةَ ذِلَّةِ الْعُبُودِيَّةِ وَيُفِيدُ مَعْرِفَةَ عِزَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَشْرَفُ الْأَعْلَى مِنْ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الدَّاعِيَ لَا يُقْدِمُ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَّا إِذَا عَرَفَ مِنْ نَفْسِهِ كَوْنَهُ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ وَكَوْنَهُ عَاجِزًا عَنْ تَحْصِيلِهِ وَعَرَفَ مِنْ رَبِّهِ وَإِلَهِهِ أَنَّهُ يَسْمَعُ دُعَاءَهُ، وَيَعْلَمُ حَاجَتَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى دَفْعِ تِلْكَ الْحَاجَةِ وَهُوَ رَحِيمٌ تَقْتَضِي رَحْمَتُهُ إِزَالَةَ تِلْكَ الْحَاجَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ لَا يُقْدِمُ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَّا إِذَا عَرَفَ كَوْنَهُ مَوْصُوفًا بِالْحَاجَةِ وَبِالْعَجْزِ وَعَرَفَ كَوْنَ الْإِلَهِ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفًا بِكَمَالِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَلَا مَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ إِلَّا مَعْرِفَةُ ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ وَعِزِّ الرُّبُوبِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ الدُّعَاءُ مُسْتَجْمِعًا لِهَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ لَا جَرَمَ كَانَ الدُّعَاءُ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ التَّضَرُّعَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنَ النَّاقِصِ فِي حَضْرَةِ الْكَامِلِ فَمَا لَمْ يَعْتَقِدِ الْعَبْدُ نُقْصَانَ نَفْسِهِ وَكَمَالَ مَوْلَاهُ فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ لَمْ يُقْدِمْ عَلَى التَّضَرُّعِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الدُّعَاءِ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَالَّذِي يُقَوِّي مَا ذَكَرْنَاهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَا مِنْ شَيْءٍ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ وَالدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» ثُمَّ قَرَأَ: إِنَّ/ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غَافِرٍ: 60] وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي حَقَائِقِ الدُّعَاءِ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلَهُ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [الْبَقَرَةِ: 186] وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَقْرِيرِ شَرَائِطِ الدُّعَاءِ. اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الدُّعَاءِ أَنْ يَصِيرَ الْعَبْدُ مُشَاهِدًا لِحَاجَةِ نَفْسِهِ وَلِعَجْزِ نَفْسِهِ وَمُشَاهِدًا لِكَوْنِ مَوْلَاهُ مَوْصُوفًا بِكَمَالِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي دَخَلَتْ تَحْتَ قَوْلِهِ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً ثُمَّ إِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ عَلَى سَبِيلِ الْخُلُوصِ، فَلَا بُدَّ مِنْ صَوْنِهَا عَنِ الرِّيَاءِ الْمُبْطِلِ لِحَقِيقَةِ الْإِخْلَاصِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَخُفْيَةً وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ التَّضَرُّعِ تَحْقِيقُ الْحَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الدُّعَاءِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الْإِخْفَاءِ صَوْنُ ذَلِكَ الْإِخْلَاصِ عَنْ شَوَائِبَ الرِّيَاءِ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْمَعْنَى ظَهَرَ لَكَ أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً مُشْتَمِلٌ عَلَى كُلِّ مَا يُرَادُ تَحْقِيقُهُ وَتَحْصِيلُهُ فِي شَرَائِطِ الدُّعَاءِ، وَأَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ الْبَتَّةَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَأَمَّا تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِي تِلْكَ الشَّرَائِطِ، فَقَدْ بَالَغَ فِي شَرْحِهَا الشَّيْخُ سُلَيْمَانُ الْحَلِيمِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْمِنْهَاجِ فليطلب مِنْ هُنَاكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: «التَّضَرُّعُ» التَّذَلُّلُ وَالتَّخَشُّعُ، وَهُوَ إِظْهَارُ ذُلِّ النَّفْسِ مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَرِعَ فُلَانٌ لِفُلَانٍ، وَتَضَرَّعَ

لَهُ إِذَا أَظْهَرَ الذُّلَّ لَهُ فِي مَعْرِضِ السُّؤَالِ «وَالْخُفْيَةُ» ضِدُّ الْعَلَانِيَةِ. يُقَالُ: أَخْفَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا سَتَرْتُهُ، وَيُقَالُ: خُفْيَةً أَيْضًا بِالْكَسْرِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحْدَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ خفية بكسر الخاء هاهنا وَفِي الْأَنْعَامِ، وَالْبَاقُونَ بِالضَّمِّ، وَهُمَا لُغَتَانِ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِخْفَاءَ مُعْتَبَرٌ فِي الدُّعَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالدُّعَاءِ مَقْرُونًا بِالْإِخْفَاءِ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلِ الْوُجُوبُ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ كَوْنِهِ نَدْبًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ فِي تَرْكِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَهُمَا التَّضَرُّعُ وَالْإِخْفَاءُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهُ وَمَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنِ الثَّوَابِ، فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ فِي الدُّعَاءِ التَّضَرُّعَ وَالْإِخْفَاءَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُثِيبُهُ الْبَتَّةَ، وَلَا يُحْسِنُ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِقَابِ لَا مَحَالَةَ، فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ كَالتَّهْدِيدِ الشَّدِيدِ عَلَى تَرْكِ التَّضَرُّعِ وَالْإِخْفَاءِ فِي الدُّعَاءِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى زَكَرِيَّا فَقَالَ: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مَرْيَمَ: 3] أَيْ أَخْفَاهُ عَنِ الْعِبَادِ وَأَخْلَصَهُ لِلَّهِ وَانْقَطَعَ بِهِ إِلَيْهِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: مَا رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، أَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَزَاةٍ فَأَشْرَفُوا عَلَى وَادٍ فَجَعَلُوا يُكَبِّرُونَ وَيُهَلِّلُونَ رَافِعِي أَصْوَاتِهِمْ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ارْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَإِنَّهُ لَمَعَكُمْ» . الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «دَعْوَةٌ فِي السِّرِّ تَعْدِلُ سَبْعِينَ دَعْوَةً فِي الْعَلَانِيَةِ» وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي» وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَجْمَعُ الْقُرْآنَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ جَارُهُ، يَفْقَهُ الْكَثِيرَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَيُصَلِّي الصَّلَاةَ الطَّوِيلَةَ فِي لَيْلِهِ وَعِنْدَهُ الزَّائِرُونَ وَمَا يَشْعُرُونَ بِهِ وَلَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا كَانُوا يُبَالِغُونَ فِي إِخْفَاءِ الْأَعْمَالِ، وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَمَا يُسْمَعُ صَوْتُهُمْ إِلَّا هَمْسًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وَذَكَرَ اللَّهُ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا فَقَالَ: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مَرْيَمَ: 3] . الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: الْمَعْقُولُ وَهُوَ أَنَّ النَّفْسَ شَدِيدَةُ الْمَيْلِ عَظِيمَةُ الرَّغْبَةِ فِي الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، فَإِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ فِي الدُّعَاءِ امْتَزَجَ الرِّيَاءُ بِذَلِكَ الدُّعَاءِ فَلَا يَبْقَى فِيهِ فَائِدَةٌ الْبَتَّةَ، فَكَانَ الْأَوْلَى إخفاء الدعاء ليبقى مصونا عن الرياء وهاهنا مَسَائِلُ عَظُمَ اخْتِلَافُ أَرْبَابِ الطَّرِيقَةِ فِيهَا، وَهِيَ: أَنَّهُ هَلِ الْأَوْلَى إِخْفَاءُ الْعِبَادَاتِ أَمْ إِظْهَارُهَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ الْأَوْلَى إِخْفَاؤُهَا صَوْنًا لَهَا عَنِ الرِّيَاءِ وَقَالَ آخَرُونَ: الْأَوْلَى إِظْهَارُهَا لِيَرْغَبَ الْغَيْرُ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي أَدَاءِ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ وَتَوَسَّطَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فَقَالَ: إِنْ كَانَ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الرِّيَاءِ الْأَوْلَى الْإِخْفَاءُ صَوْنًا لِعَمَلِهِ عَنِ الْبُطْلَانِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَلَغَ فِي الصَّفَاءِ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ إِلَى حَيْثُ صَارَ آمِنًا عَنْ شَائِبَةِ الرِّيَاءِ كَانَ الْأَوْلَى فِي حَقِّهِ الْإِظْهَارَ لِتَحْصُلْ فَائِدَةُ الِاقْتِدَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ، إِخْفَاءُ التَّأْمِينِ أَفْضَلُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، إِعْلَانُهُ أَفْضَلُ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ، قَالَ: فِي قَوْلِهِ: «آمِينَ» وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ دُعَاءٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ أسماء

اللَّهِ، فَإِنْ كَانَ دُعَاءً وَجَبَ إِخْفَاؤُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وَإِنْ كَانَ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ إِخْفَاؤُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً [الْأَعْرَافِ: 205] فَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ الْوُجُوبُ فَلَا أَقَلَّ مِنَ النَّدْبِيَّةِ وَنَحْنُ بِهَذَا الْقَوْلِ نَقُولُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَطَقَ بِإِثْبَاتِهَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَاهَا شَهْوَةَ النَّفْسِ وَمَيْلَ الطَّبْعِ وَطَلَبَ التَّلَذُّذِ بِالشَّيْءِ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْمَحَبَّةِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ إِيصَالِ اللَّهِ الثَّوَابَ وَالْخَيْرَ وَالرَّحْمَةَ إِلَى الْعَبْدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ تَعَالَى مُرِيدًا لِإِيصَالِ الثَّوَابِ وَالْخَيْرِ إِلَى الْعَبْدِ. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى وَهِيَ: أَنَّهُ تَعَالَى هَلْ هُوَ مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ الْإِرَادَةِ أَمْ لَا؟ قَالَ الْكَعْبِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ: إِنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالْإِرَادَةِ الْبَتَّةَ، فَكَوْنُهُ تَعَالَى مُرِيدًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ أَنَّهُ مُوجِدٌ لَهَا وَفَاعِلٌ لَهَا، وَكَوْنُهُ تَعَالَى مُرِيدًا لِأَفْعَالِ غَيْرِهِ كَوْنُهُ آمِرًا بِهَا وَلَا يَجُوزُ كَوْنُهُ تَعَالَى مَوْصُوفًا بِصِفَةِ الْإِرَادَةِ. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا وَمُعْتَزِلَةُ الْبَصْرَةِ فَقَدْ أَثْبَتُوا كَوْنَهُ تَعَالَى مَوْصُوفًا بِصِفَةِ الْمُرِيدِيَّةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَمَنْ نَفَى الْإِرَادَةَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَسَّرَ مَحَبَّةَ اللَّهِ بِمُجَرَّدِ إِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَى الْعَبْدِ وَمَنْ أَثْبَتَ الْإِرَادَةَ الله تَعَالَى فَسَّرَ مَحَبَّةَ اللَّهِ بِإِرَادَتِهِ لِإِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ صِفَةً وَرَاءَ كَوْنِهِ تَعَالَى مُرِيدًا لِإِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَجِدُ فِي الشَّاهِدِ أَنَّ الْأَبَ يُحِبُّ ابْنَهُ فَيَتَرَتَّبُ عَلَى تِلْكَ الْمَحَبَّةِ إِرَادَةُ إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَى ذَلِكَ الِابْنِ فَكَانَتْ هَذِهِ الْإِرَادَةُ أَثَرًا مِنْ آثَارِ تِلْكَ الْمَحَبَّةِ وَثَمَرَةً مِنْ ثَمَرَاتِهَا وَفَائِدَةً مِنْ فَوَائِدِهَا. أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ فِي الشَّاهِدِ عِبَارَةٌ عَنِ الشَّهْوَةِ وَمَيْلِ الطَّبْعِ وَرَغْبَةِ النَّفْسِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ أُخْرَى، سِوَى الشَّهْوَةِ وَمَيْلِ الطَّبْعِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا إِرَادَةُ إِيصَالِ الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ إِلَى الْعَبْدِ؟ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ، أَنَّا لَا نَعْرِفُ أَنَّ تِلْكَ الْمَحَبَّةَ مَا هِيَ وَكَيْفَ هِيَ؟ إِلَّا أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِعَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يُثْبِتُونَ كَوْنَهُ تَعَالَى مَرْئِيًّا، ثُمَّ يَقُولُونَ أَنَّ تِلْكَ الرُّؤْيَةَ مُخَالِفَةٌ لِرُؤْيَةِ الْأَجْسَامِ وَالْأَلْوَانِ، بَلْ هِيَ رؤية بلا كيف، فلم لا يقولون هاهنا أَيْضًا إِنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ مَحَبَّةٌ مُنَزَّهَةٌ عَنْ مَيْلِ الطَّبْعِ وَشَهْوَةِ النَّفْسِ بَلْ هِيَ مَحَبَّةٌ بِلَا كَيْفٍ؟ فَثَبَتَ أَنَّ جَزْمَ الْمُتَكَلِّمِينَ بِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِمَحَبَّةِ اللَّهِ إِلَّا إِرَادَةُ إِيصَالِ الثَّوَابِ لَيْسَ لَهُمْ عَلَى هَذَا الْحَصْرِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ. بَلْ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ لَا دَلِيلَ عَلَى إِثْبَاتِ صِفَةٍ أُخْرَى سِوَى الْإِرَادَةِ فَوَجَبَ نَفْيُهَا، لَكِنَّا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ نِهَايَةِ الْعُقُولِ أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ ضَعِيفَةٌ سَاقِطَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ أَيِ الْمُجَاوِزِينَ مَا أُمِرُوا بِهِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ: مِنَ الِاعْتِدَاءِ رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الدُّعَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَنَهْيَهُ، فَقَدِ اعْتَدَى وَتَعَدَّى فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يُعَذِّبُهُ، فَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَ أَمْرَ الله

ونهيه، فإن يَكُونُ مُعَاقَبًا، وَالْمُعْتَزِلَةُ تُمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْقَطْعِ بِوَعِيدِ/ الْفُسَّاقِ، وَقَالُوا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْهُ الِاعْتِدَاءُ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ الْمُعْتَدِينَ لَفْظٌ عَامٌّ دَخَلَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، فَيُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ غَايَتُهُ أَنَّهُ إِنَّمَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَكِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. الثَّانِي: أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ لَيْسَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يُقَالَ الْأَوْلَى تَرْكُهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ. وَالْجَوَابُ الْمُسْتَقْصَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ الْعُمُومَاتِ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِالْوَعِيدِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها مَعْنَاهُ وَلَا تُفْسِدُوا شَيْئًا فِي الْأَرْضِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَنْعُ مِنْ إِفْسَادِ النُّفُوسِ بِالْقَتْلِ وَبِقَطْعِ الْأَعْضَاءِ، وَإِفْسَادِ الْأَمْوَالِ بِالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَوُجُوهِ الْحِيَلِ، وَإِفْسَادِ الْأَدْيَانِ بِالْكَفْرِ وَالْبِدْعَةِ، وَإِفْسَادِ الْأَنْسَابِ بِسَبَبِ الْإِقْدَامِ عَلَى الزِّنَا وَالْلِّوَاطَةِ وَسَبَبِ الْقَذْفِ، وَإِفْسَادِ الْعُقُولِ بسبب شرب المكسرات، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَصَالِحَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي الدُّنْيَا هِيَ هَذِهِ الْخَمْسَةُ: النُّفُوسُ وَالْأَمْوَالُ وَالْأَنْسَابُ وَالْأَدْيَانُ وَالْعُقُولُ. فَقَوْلُهُ: وَلا تُفْسِدُوا مَنْعٌ عَنْ إِدْخَالِ مَاهِيَّةِ الْإِفْسَادِ فِي الْوُجُودِ، وَالْمَنْعُ مِنْ إِدْخَالِ الْمَاهِيَّةِ فِي الْوُجُودِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِهِ وَأَصْنَافِهِ، فَيَتَنَاوَلُ الْمَنْعَ مِنَ الْإِفْسَادِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: بَعْدَ إِصْلاحِها فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَعْدَ أَنْ أَصْلَحَ خِلْقَتَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُطَابِقِ لِمَنَافِعِ الْخَلْقِ وَالْمُوَافِقِ لِمَصَالِحِ الْمُكَلَّفِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَعْدَ إِصْلَاحِ الْأَرْضِ بِسَبَبِ إِرْسَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَمَّا أَصْلَحْتُ مَصَالِحَ الْأَرْضِ بِسَبَبِ إِرْسَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَتَفْصِيلِ الشَّرَائِعِ فَكُونُوا مُنْقَادِينَ لَهَا، وَلَا تُقْدِمُوا عَلَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَإِنْكَارِ الْكُتُبِ وَالتَّمَرُّدِ عَنْ قَبُولِ الشَّرَائِعِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي وُقُوعَ الْهَرَجِ وَالْمَرَجِ فِي الْأَرْضِ، فَيَحْصُلُ الْإِفْسَادُ بَعْدَ الْإِصْلَاحِ، وَذَلِكَ مُسْتَكْرَهٌ فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ وَالْمَنْعُ عَلَى الْإِطْلَاقِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنْ وَجَدْنَا نَصًّا خَاصًّا دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْإِقْدَامِ عَلَى بَعْضِ الْمَضَارِّ قَضَيْنَا بِهِ تَقْدِيمًا لِلْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَإِلَّا بَقِيَ عَلَى التَّحْرِيمِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا النَّصُّ. وَاعْلَمْ أَنَّا كُنَّا قَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الْأَعْرَافِ: 32] أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ وَاللَّذَّاتِ الْإِبَاحَةُ وَالْحِلُّ، ثُمَّ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ دَخَلَ تَحْتَ تِلْكَ الْآيَةِ جَمِيعُ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا تَدُلُّ/ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَضَارِّ وَالْآلَامِ، الْحُرْمَةُ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ جَمِيعُ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَبَاحِثِ وَاللَّطَائِفِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ فَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَتِلْكَ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْحِلُّ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي جَمِيعِ الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مُطَابِقَةٌ لِلْأُخْرَى مُؤَكِّدَةٌ لِمَدْلُولِهَا مُقَرِّرَةٌ لِمَعْنَاهَا، وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ جَمِيعِ الْوَقَائِعِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ، وَأَيْضًا هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ وَقَعَ التَّرَاضِي عَلَيْهِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، فَإِنَّهُ انْعَقَدَ وَصَحَّ وَثَبَتَ، لِأَنَّ رَفْعَهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ يَكُونُ إِفْسَادًا بَعْدَ الْإِصْلَاحِ، وَالنَّصُّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لا يجوز.

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَنَّ مَدْلُولَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُتَأَكِّدٌ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [الْمَائِدَةِ: 1] وَبِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفِّ: 2، 3] وَتَحْتَ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [المؤمنون: 8 المعارج: 32] وَتَحْتَ سَائِرِ الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ فِي وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالْعُقُودِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنْ وَجَدْنَا نَصًّا دَالًّا عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْعُقُودِ الَّتِي وَقَعَ التَّرَاضِي بِهِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ، قَضَيْنَا فِيهِ بِالْبُطْلَانِ تَقْدِيمًا لِلْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَإِلَّا حَكَمْنَا فِيهِ بِالصِّحَّةِ رِعَايَةً لِمَدْلُولِ هذه العمومات. وبهذا الطريق البين الواضح ثبن أَنَّ الْقُرْآنَ وَافٍ بِبَيَانِ جَمِيعِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: ادْعُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ قَالَ: وَلا تُفْسِدُوا ثُمَّ قَالَ: وَادْعُوهُ وَهَذَا يَقْتَضِي عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً أَيِ اعْبُدُوهُ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ. فَإِنْ قُلْنَا بِهَذَا التَّفْسِيرِ فَقَدْ زَالَ السُّؤَالُ، وَإِنْ قُلْنَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً هُوَ الدُّعَاءُ كَانَ الْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَقْرُونًا بِالتَّضَرُّعِ وَبِالْإِخْفَاءِ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي قَوْلِهِ: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً أَنَّ فَائِدَةَ الدُّعَاءِ هُوَ أَحَدُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، فَكَانَتِ الْآيَةُ الْأُولَى فِي بَيَانِ شَرْطِ صِحَّةِ الدُّعَاءِ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِي بَيَانِ فَائِدَةِ الدُّعَاءِ وَمَنْفَعَتِهِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ عَبَدَ وَدَعَا لِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنَ الْعِقَابِ وَالطَّمَعِ فِي الثَّوَابِ لَمْ تَصِحَّ عِبَادَتُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ التَّكَالِيفُ إِنَّمَا وَرَدَتْ بِمُقْتَضَى الْإِلَهِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، فَكَوْنُهُ إِلَهًا لَنَا وَكَوْنُنَا عَبِيدًا لَهُ يَقْتَضِي أَنْ يَحْسُنَ منه أن يأمر عبيده بما شاء كيف شَاءَ، فَلَا يُعْتَبَرُ مِنْهُ كَوْنُهُ فِي نَفْسِهِ صَلَاحًا وَحُسْنًا، وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: التَّكَالِيفُ إِنَّمَا وَرَدَتْ لِكَوْنِهَا فِي أَنْفُسِهَا مَصَالِحَ وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: فَوَجْهُ وُجُوبِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ، وَحُرْمَةِ بَعْضِهَا مُجَرَّدُ أَمْرِ اللَّهِ بِمَا أَوْجَبَهُ وَنَهْيِهِ عَمَّا حَرَّمَهُ، فَمَنْ أَتَى بِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ صَحَّتْ. أَمَّا مَنْ أَتَى بِهَا خَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ، أَوْ طَمَعًا فِي الثَّوَابِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ، لِأَنَّهُ مَا أَتَى بِهَا لِأَجْلِ وَجْهِ وُجُوبِهَا، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: فَوَجْهُ وُجُوبِهَا هُوَ كَوْنُهَا فِي أَنْفُسِهَا مَصَالِحَ، فَمَنْ أَتَى بِهَا لِلْخَوْفِ مِنَ الْعِقَابِ، أَوْ لِلطَّمَعِ فِي الثَّوَابِ فَلَمْ يَأْتِ بِهَا لِوَجْهِ وُجُوبِهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ، فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ مَنْ أَتَى بِالدُّعَاءِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ لِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنَ الْعِقَابِ، وَالطَّمَعِ فِي الثَّوَابِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُكَلَّفَ بِأَنْ يَأْتِيَ بِالدُّعَاءِ لِهَذَا الْغَرَضِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ فَسَادُهُ، فَكَيْفَ طَرِيقُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَعْقُولِ. وَالْجَوَابُ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ مَا ظَنَنْتُمْ، بَلِ الْمُرَادُ: وَادْعُوهُ مَعَ الْخَوْفِ مِنْ وُقُوعِ التَّقْصِيرِ، فِي بَعْضِ

الشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي قَبُولِ ذَلِكَ الدُّعَاءِ وَمَعَ الطَّمَعِ فِي حُصُولِ تِلْكَ الشَّرَائِطِ بِأَسْرِهَا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ؟ السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الدَّاعِيَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ فِي قَلْبِهِ هَذَا الْخَوْفُ وَالطَّمَعُ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْطَعَ بِكَوْنِهِ آتِيًا بِجَمِيعِ الشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي قَبُولِ الدُّعَاءِ وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى يَحْصُلُ الْخَوْفُ وَأَيْضًا لَا يَقْطَعُ بِأَنَّ تِلْكَ الشَّرَائِطَ مَفْقُودَةٌ فَوَجَبَ كَوْنُهُ طَامِعًا فِي قَبُولِهَا فَلَا جَرَمَ. قُلْنَا: بِأَنَّ الدَّاعِيَ لَا يَكُونُ دَاعِيًا إِلَّا إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ: خَوْفاً وَطَمَعاً أَيْ أَنْ تَكُونُوا جَامِعِينَ فِي نُفُوسِكُمْ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فِي كُلِّ أَعْمَالِكُمْ وَلَا تَقْطَعُوا أَنَّكُمْ وَإِنِ اجْتَهَدْتُمْ فَقَدْ أَدَّيْتُمْ حَقَّ رَبِّكُمْ. وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ: يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون: 60] . ثم قال تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الرَّحْمَةَ عِبَارَةٌ عَنْ إِيصَالِ الْخَيْرِ وَالنِّعْمَةِ أَوْ عَنْ إِرَادَةِ إِيصَالِ الْخَيْرِ وَالنِّعْمَةِ فَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ تَكُونُ الرَّحْمَةُ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الثَّانِي تَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الْفِاتِحَةِ: 1] . المسألة الثانية: قال بعض أصحابنا: ليس الله فِي حَقِّ الْكَافِرِ رَحْمَةٌ وَلَا نِعْمَةٌ. وَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبَيَانُهُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ رَحْمَةً فَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا لَا يَكُونُ قَرِيبًا مِنَ الْمُحْسِنِينَ أَنْ لَا يَكُونَ رَحْمَةً وَالَّذِي حَصَلَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ غَيْرُ قَرِيبٍ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ رَحْمَةً مِنَ اللَّه وَلَا نِعْمَةً مِنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فَلَمَّا كَانَ كُلُّ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ حَصَلَ لِلْمُحْسِنِينَ وَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ مِنْهَا نَصِيبٌ لِغَيْرِ الْمُحْسِنِينَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ شَيْءٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّه فِي حَقِّ الْكَافِرِينَ وَالْعَفْوُ عَنِ الْعَذَابِ رَحْمَةٌ وَالتَّخَلُّصُ مِنَ النَّارِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا رَحْمَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وَالْعُصَاةُ وَأَصْحَابُ الْكَبَائِرِ لَيْسُوا مُحْسِنِينَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ لَهُمُ الْعَفْوُ عَنِ الْعِقَابِ وَأَنْ لَا يَحْصُلَ لهم الخلاص من النار. الجواب: أَنَّ مَنْ آمَنَ باللَّه وَأَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ فَقَدْ أَحْسَنَ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّبِيَّ إِذَا بَلَغَ وَقْتَ الضَّحْوَةِ وَآمَنَ باللَّه وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَاتَ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى الظُّهْرِ فَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى [يُونُسَ: 26] وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الشَّخْصَ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ سِوَى الْمَعْرِفَةِ وَالْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ بَعْدَ الصُّبْحِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَلَمَّا مَاتَ قَبْلَ الظُّهْرِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَظَاهِرُهُ أَنَّ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ مُحْسِنٌ وَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ إِلَّا الْمَعْرِفَةُ وَالْإِقْرَارُ فَوَجَبَ كَوْنُ هَذَا الْقَدْرِ إِحْسَانًا فَيَكُونُ فَاعِلُهُ مُحْسِنًا. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: كُلُّ مَنْ حَصَلَ لَهُ الْإِقْرَارُ وَالْمَعْرِفَةُ كَانَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ رَحْمَةَ اللَّه قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فَوَجَبَ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ تَصِلَ إِلَى صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ رَحْمَةُ اللَّه وَحِينَئِذٍ تَنْقَلِبُ هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 57 إلى 58]

فَإِنْ قَالُوا: الْمُحْسِنُونَ هُمُ الَّذِينَ أَتَوْا بِجَمِيعِ وُجُوهِ الْإِحْسَانِ. فَنَقُولُ: هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُحْسِنَ مَنْ صَدَرَ عَنْهُ مُسَمَّى الْإِحْسَانِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِهِ مُحْسِنًا أَنْ يَكُونَ آتِيًا بِكُلِّ وُجُوهِ الْإِحْسَانِ كَمَا أَنَّ الْعَالِمَ هُوَ الَّذِي لَهُ الْعِلْمُ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَحْصُلَ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ السُّؤَالَ الَّذِي ذَكَرُوهُ سَاقِطٌ وَأَنَّ الْحَقَّ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ مُقْتَضَى عِلْمِ الْإِعْرَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فَمَا السَّبَبُ فِي حَذْفِ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ؟ وَذَكَرُوا فِي الْجَوَابِ عَنْهُ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّحْمَةَ تَأْنِيثُهَا/ لَيْسَ بِحَقِيقِيٍّ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ. الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّمَا قَالَ: قَرِيبٌ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ وَالْغُفْرَانَ وَالْعَفْوَ وَالْإِنْعَامَ بمعنى واحد فقوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بِمَعْنَى إِنْعَامُ اللَّهِ قَرِيبٌ وَثَوَابُ اللَّهِ قَرِيبٌ فَأَجْرَى حُكْمَ أَحَدِ اللفظين على الآخر. الثالث: قال أنضر بْنُ شُمَيْلٍ: الرَّحْمَةُ مَصْدَرٌ وَمِنْ حَقِّ الْمَصَادِرِ التذكير كقوله: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ [البقرة: 5 ا 2] فَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ لِأَنَّ الْمَوْعِظَةَ أُرِيدَ بِهَا الْوَعْظُ فَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ قَالَ الشَّاعِرُ: إِنَّ السَّمَاحَةَ وَالْمُرُوءَةَ ضُمِّنَا ... قَبْرًا بِمَرْوَ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ قِيلَ: أَرَادَ بِالسَّمَاحَةِ السَّخَاءَ وَبِالْمُرُوءَةِ الْكَرَمَ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ التَّأْوِيلُ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ ذَاتُ مَكَانٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمُحْسِنِينَ كَمَا قالوا: حائض ولا بن تامر أَيْ ذَاتُ حَيْضٍ وَلَبَنٍ وَتَمْرٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَخْبَرَنِي الْعَرُوضِيُّ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ عَنِ الْمُنْذِرِيِّ عَنِ الْحَرَّانِيِّ عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ قَالَ: تَقُولُ الْعَرَبُ: هو قريب من وَهُمَا قَرِيبٌ مِنِّي وَهُمْ قَرِيبٌ مِنِّي وَهِيَ قَرِيبٌ مِنِّي لِأَنَّهُ فِي تَأْوِيلِ هُوَ فِي مَكَانٍ قَرِيبٍ مِنِّي وَقَدْ يَجُوزُ أَيْضًا قَرِيبَةٌ وَبَعِيدَةٌ تَنْبِيهًا عَلَى مَعْنَى قَرَبَتْ وَبَعُدَتْ بِنَفْسِهَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: تَفْسِيرُ هَذَا الْقُرْبِ هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَزْدَادُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ قُرْبًا مِنَ الْآخِرَةِ وَبُعْدًا مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الدُّنْيَا كَالْمَاضِي وَالْآخِرَةَ كَالْمُسْتَقْبَلِ وَالْإِنْسَانُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلَحْظَةٍ وَلَمْحَةٍ يَزْدَادُ بُعْدًا عَنِ الْمَاضِي وَقُرْبًا مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَا زَالَ مَا تَهْوَاهُ أَقْرَبُ مِنْ غَدِ ... وَلَا زَالَ مَا تَخْشَاهُ أَبْعَدُ مِنْ أَمْسِ وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الدُّنْيَا تَزْدَادُ بُعْدًا فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَأَنَّ الْآخِرَةَ تَزْدَادُ قُرْبًا فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَثَبَتَ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ إِنَّمَا تَحْصُلُ بَعْدَ الْمَوْتِ لا جرم ذكر الله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بِنَاءً عَلَى هَذَا التأويل. [سورة الأعراف (7) : الآيات 57 الى 58] وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) [قَوْلُهُ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ] اعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ دَلَائِلَ الْإِلَهِيَّةِ وَكَمَالَ العلم والقدرة من العالم العلوي وهو السموات وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ مِنْ بَعْضِ أَحْوَالِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ.

وَاعْلَمْ أَنَّ أَحْوَالَ هَذَا الْعَالَمِ مَحْصُورَةٌ فِي أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ: الْآثَارُ الْعُلْوِيَّةُ وَالْمَعَادِنُ وَالنَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ وَمِنْ جُمْلَةِ الْآثَارِ الْعُلْوِيَّةِ الرِّيَاحُ وَالسَّحَابُ وَالْأَمْطَارُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى نُزُولِ الْأَمْطَارِ أَحْوَالُ النَّبَاتِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ النَّظْمِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقَامَ الدَّلَالَةَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْعَالِمِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ أَقَامَ الدَّلَالَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ لِيَحْصُلَ بِمَعْرِفَةِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ كُلُّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ الرِّيحَ عَلَى لَفْظِ الْوَاحِدِ وَالْبَاقُونَ الرِّياحَ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ فَمَنْ قَرَأَ الرِّيَاحَ بِالْجَمْعِ حَسُنَ وَصْفُهَا بِقَوْلِهِ: بُشْراً فَإِنَّهُ وَصْفُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ وَمَنْ قَرَأَ الرِّيحَ وَاحِدَةً قَرَأَ بُشُرًا جَمْعًا لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالرِّيحِ الْكَثْرَةَ كَقَوْلِهِمْ كَثِيرُ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ وَالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَكَقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [الْعَصْرِ: 2] ثُمَّ قَالَ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [الْعَصْرِ: 3] فَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بالريح الجمع وصفها بالجمع واما قوله: نَشْراً فَفِيهِ قِرَاءَاتٌ: إِحْدَاهَا: قِرَاءَةُ الْأَكْثَرِينَ نَشْراً بِضَمِّ النُّونِ وَالشِّينِ وَهُوَ جَمْعُ نَشُورٍ مِثْلُ رُسُلٍ وَرَسُولٍ وَالنَّشُورُ بِمَعْنَى الْمُنْشَرِ كَالرَّكُوبِ بِمَعْنَى الْمَرْكُوبِ فَكَانَ الْمَعْنَى رِيَاحٌ مُنَشَّرَةٌ أَيْ مُفَرَّقَةٌ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَالنَّشْرُ التَّفْرِيقُ، وَمِنْهُ نَشْرُ الثَّوْبِ، وَنَشْرُ الْخَشَبَةِ بِالْمِنْشَارِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: النَّشْرُ مِنَ الرِّيَاحِ الطَّيِّبَةُ اللَّيِّنَةُ الَّتِي تَنْشُرُ السَّحَابَ وَاحِدُهَا نُشُورٌ وَأَصْلُهُ مِنَ النَّشْرِ وَهُوَ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ وَنَشْرُ الْعِطْرِ. وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ نَشْراً بِضَمِّ النُّونِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ فَخَفَّفَ الْعَيْنَ كَمَا يُقَالُ كُتْبٌ وَرُسْلٌ. وَالْقِرَاءَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ نَشْراً بِفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ وَالنَّشْرُ مَصْدَرُ نَشَرْتُ الثَّوْبَ/ ضد طويته ويراد بالمصدر هاهنا الْمَفْعُولُ وَالرِّيَاحُ كَأَنَّهَا كَانَتْ مَطْوِيَّةً فَأَرْسَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى مَنْشُورَةً بَعْدَ انْطِوَائِهَا فَقَوْلُهُ: نَشْراً مَصْدَرٌ هُوَ حَالٌ مِنَ الرِّيَاحِ وَالتَّقْدِيرُ: أَرْسَلَ الرِّيَاحَ مُنْشِرَاتٍ وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ النَّشْرُ هُنَا بِمَعْنَى الْحَيَاةِ مِنْ قَوْلِهِمْ أَنْشَرَ اللَّهُ الْمَيِّتَ فَنُشِرَ. قَالَ الْأَعْشَى: يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ. فَإِذَا حَمَلْتَهُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الْوَجْهُ كَانَ الْمَصْدَرُ مُرَادًا بِهِ الْفَاعِلُ كَمَا تَقُولُ: أَتَانِي رَكْضًا أَيْ رَاكِضًا وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَرْسَلَ وَنَشَرَ مُتَقَارِبَانِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَهُوَ الَّذِي يَنْشُرُ الرِّيَاحَ نَشْرًا. وَالْقِرَاءَةُ الرَّابِعَةُ: حَكَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنْ مَسْرُوقٍ نَشْراً بِمَعْنَى مَنْشُورَاتٍ فَعْلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَنَقْضٍ وَحَسْبٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: ضَمَّ نَشْرَهُ. وَالْقِرَاءَةُ الْخَامِسَةُ: قِرَاءَةُ عَاصِمٍ بُشْراً بالباء المنقطة بالنقطة الْوَاحِدَةِ مِنْ تَحْتُ جَمَعَ بَشِيرًا عَلَى بُشْرٍ من قوله تعالى: يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ أَيْ تُبَشِّرُ بِالْمَطَرِ وَالرَّحْمَةِ، وَرَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بُشْراً بضم الشين وتخفيفه وبشرا بِفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ مَصْدَرٌ مِنْ بَشَرَهُ بِمَعْنَى بَشَّرَهُ أَيْ بَاشِرَاتٍ وَبُشْرَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: علم أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ

السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأعراف: 54] ثُمَّ نَقُولُ: حَدُّ الرِّيحِ أَنَّهُ هَوَاءٌ مُتَحَرِّكٌ فَنَقُولُ: كَوْنُ هَذَا الْهَوَاءِ مُتَحَرِّكًا لَيْسَ لِذَاتِهِ وَلَا لِلَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَإِلَّا لَدَامَتِ الْحَرَكَةُ بِدَوَامِ ذَاتِهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِتَحْرِيكِ الْفَاعِلِ المختار وهو اللَّه جل جلاله. قالت الفلاسفة: هاهنا سَبَبٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ يَرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ أَجْزَاءٌ أَرْضِيَّةٌ لَطِيفَةٌ تُسَخِّنُهُ تَسْخِينًا قَوِيًّا شَدِيدًا فَبِسَبَبِ تِلْكَ السُّخُونَةِ الشَّدِيدَةِ تَرْتَفِعُ وَتَتَصَاعَدُ، فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَى الْقُرْبِ مِنَ الْفَلَكِ كَانَ الْهَوَاءُ الْمُلْتَصِقُ بِمُقَعَّرِ الْفَلَكِ مُتَحَرِّكًا عَلَى اسْتِدَارَةِ الْفَلَكِ بِالْحَرَكَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لِتِلْكَ الطَّبَقَةِ مِنَ الْهَوَاءِ فَيَمْنَعُ هَذِهِ الْأَدْخِنَةَ مِنَ الصُّعُودِ بَلْ يَرُدُّهَا عَنْ سَمْتِ حَرَكَتِهَا فَحِينَئِذٍ تَرْجِعُ تِلْكَ الْأَدْخِنَةُ وَتَتَفَرَّقُ فِي الْجَوَانِبِ وَبِسَبَبِ ذَلِكَ التَّفَرُّقِ تَحْصُلُ الرِّيَاحُ، ثُمَّ كَلَّمَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَدْخِنَةُ أَكْثَرَ، وَكَانَ صُعُودُهَا أَقْوَى كَانَ رُجُوعُهَا أَيْضًا أَشَدَّ حَرَكَةً فَكَانَتِ الرِّيَاحُ أَقْوَى وَأَشَدَّ. هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرُوهُ وَهُوَ بَاطِلٌ وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ صُعُودَ الْأَجْزَاءِ الْأَرْضِيَّةِ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَجْلِ شِدَّةِ تَسْخِينِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ التَّسَخُّنَ عَرَضٌ لِأَنَّ الْأَرْضَ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ بِالطَّبْعِ فَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ الْأَرْضِيَّةُ مُتَصَعِّدَةً جِدًّا كَانَتْ سَرِيعَةَ الِانْفِعَالِ فَإِذَا تَصَاعَدَتْ ووصلت الى الطبقة البادرة مِنَ الْهَوَاءِ امْتَنَعَ بَقَاءُ الْحَرَارَةِ فِيهَا بَلْ تَبْرُدُ جِدًّا وَإِذَا بَرَدَتِ امْتَنَعَ بُلُوغُهَا فِي الصُّعُودِ إِلَى الطَّبَقَةِ الْهَوَائِيَّةِ الْمُتَحَرِّكَةِ بِحَرَكَةِ الْفَلَكِ فَبَطَلَ مَا ذَكَرُوهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: هَبْ أَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ الدُّخَّانِيَّةَ صَعَدَتْ إِلَى الطَّبَقَةِ الْهَوَائِيَّةِ الْمُتَحَرِّكَةِ بِحَرَكَةِ الْفَلَكِ لَكِنَّهَا لَمَّا رَجَعَتْ وَجَبَ أَنْ تَنْزِلَ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ لِأَنَّ الْأَرْضَ جِسْمٌ ثَقِيلٌ وَالثَّقِيلُ إِنَّمَا يَتَحَرَّكُ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالرِّيَاحُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَإِنَّهَا تَتَحَرَّكُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ حَرَكَةَ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْأَرْضِيَّةِ النَّازِلَةِ لَا تَكُونُ حَرَكَةً قَاهِرَةً فَإِنَّ الرِّيَاحَ إِذَا أَحْضَرَتِ الْغُبَارَ الْكَثِيرَ ثُمَّ عَادَ ذَلِكَ الْغُبَارُ وَنَزَلَ عَلَى السُّطُوحِ لَمْ يُحِسَّ أَحَدٌ بِنُزُولِهَا وَتَرَى هَذِهِ الرِّيَاحَ تَقْلَعُ الْأَشْجَارَ وَتَهْدِمُ الْجِبَالَ وَتَمُوجُ الْبِحَارُ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوهُ لَكَانَتِ الرِّيَاحُ كُلَّمَا كَانَتْ أَشَدَّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُصُولُ الْأَجْزَاءِ الْغُبَارِيَّةِ الْأَرْضِيَّةِ أَكْثَرَ لَكِنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الرِّيَاحَ قَدْ يَعْظُمُ عُصُوفُهَا وَهُبُوبُهَا فِي وَجْهِ الْبَحْرِ مَعَ أَنَّ الْحِسَّ يَشْهَدُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الْهَوَاءِ الْمُتَحَرِّكِ الْعَاصِفِ شَيْءٌ مِنَ الْغُبَارِ وَالْكُدْرَةِ فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ وَبَطَلَ بِهَذَا الْوَجْهِ الْعِلَّةُ الَّتِي ذَكَرُوهَا فِي حَرَكَةِ الرِّيَاحِ. قَالَ الْمُنَجِّمُونَ: إِنَّ قُوَى الْكَوَاكِبِ هِيَ الَّتِي تُحَرِّكُ هَذِهِ الرِّيَاحَ وَتُوجِبُ هُبُوبَهَا وَذَلِكَ أَيْضًا بَعِيدٌ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِهُبُوبِ الرِّيَاحِ إِنْ كَانَ طَبِيعَةَ الْكَوَاكِبِ وَجَبَ دَوَامُ الرِّيَاحِ بِدَوَامِ تِلْكَ الطَّبِيعَةِ وَإِنْ كَانَ الْمُوجِبُ هُوَ طَبِيعَةَ الْكَوْكَبِ بِشَرْطِ حُصُولِهِ فِي الْبُرْجِ الْمُعَيَّنِ وَالدَّرَجَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَجَبَ أَنْ يَتَحَرَّكَ هَوَاءُ كُلِّ الْعَالَمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَأَيْضًا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ بِاخْتِصَاصِ الْكَوْكَبِ الْمُعَيَّنِ وَالْبُرْجِ الْمُعَيَّنِ فَالطَّبِيعَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا اقْتَضَتْ ذَلِكَ الْأَثَرَ الْخَاصَّ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ بِتَخْصِيصِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ مُحَرِّكَ الرِّيَاحِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ صحة قوله: هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ. المسألة الثالثة: قوله: بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ فِيهِ فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: نَشْراً أَيْ مُنَشَّرَةٌ مُتَفَرِّقَةٌ فَجُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الرِّيحِ يَذْهَبُ يَمْنَةً وَجُزْءٌ آخَرَ يَذْهَبُ يَسْرَةً وَكَذَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْأَجْزَاءِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَذْهَبُ إِلَى جَانِبٍ آخَرَ فَنَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ طَبِيعَةَ الْهَوَاءِ طَبِيعَةٌ وَاحِدَةٌ وَنِسْبَةُ الْأَفْلَاكِ وَالْأَنْجُمِ وَالطَّبَائِعِ

إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تَتَجَزَّأُ مِنْ تِلْكَ الرِّيحِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ فَاخْتِصَاصُ بَعْضِ أَجْزَاءِ الرِّيحِ بِالذَّهَابِ يَمْنَةً وَالْجُزْءِ الْآخَرِ بِالذَّهَابِ يَسْرَةً وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ إِلَّا بِتَخْصِيصِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ. وَالْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَيْ بَيْنَ يَدَيِ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ رَحْمَتُهُ وَالسَّبَبُ فِي حُسْنِ هَذَا الْمَجَازِ أَنَّ الْيَدَيْنِ يَسْتَعْمِلُهُمَا الْعَرَبُ فِي مَعْنَى التَّقْدِمَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ يُقَالُ: إِنَّ الْفِتَنَ تَحْدُثُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ يُرِيدُونَ قَبِيلَهَا وَالسَّبَبُ فِي حُسْنِ هَذَا الْمَجَازِ أَنَّ يَدَيِ الْإِنْسَانِ مُتَقَدِّمَاتِهِ/ فَكُلُّ مَا كَانَ يَتَقَدَّمُ شَيْئًا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْيَدَيْنِ عَلَى سبل الْمَجَازِ لِأَجْلِ هَذِهِ الْمُشَابَهَةِ فَلَمَّا كَانَتِ الرِّيَاحُ تَتَقَدَّمُ الْمَطَرَ لَا جَرَمَ عَبَّرَ عَنْهُ بِهَذَا اللَّفْظِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ نَجِدُ الْمَطَرَ وَلَا تَتَقَدَّمُهُ الرِّيَاحُ فَنَقُولُ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّ هَذَا التَّقَدُّمَ حَاصِلٌ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ فَلَمْ يَتَوَجَّهِ السُّؤَالُ وَأَيْضًا فَيَجُوزُ أَنْ تَتَقَدَّمَهُ هَذِهِ الرِّيَاحُ وَإِنْ كُنَّا لَا نَشْعُرُ بِهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا يُقَالُ: أَقَلَّ فُلَانٌ الشَّيْءَ إِذَا حَمَلَهُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَاشْتِقَاقُ الْإِقْلَالِ مِنَ الْقِلَّةِ لِأَنَّ مَنْ يَرْفَعُ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَرَى مَا يَرْفَعُهُ قَلِيلًا وَقَوْلُهُ: سَحاباً ثِقالًا أَيْ بِالْمَاءِ جَمْعُ سَحَابَةٍ وَالْمَعْنَى حَتَّى إِذَا حَمَلَتْ هَذِهِ الرِّيَاحُ سَحَابًا ثِقَالًا بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ وَالْمَعْنَى أَنَّ السَّحَابَ الْكَثِيفَ الْمُسْتَطِيرَ لِلْمِيَاهِ الْعَظِيمَةِ إِنَّمَا يَبْقَى مُعَلَّقًا فِي الْهَوَاءِ لِأَنَّهُ تَعَالَى دَبَّرَ بِحِكْمَتِهِ أَنْ يُحَرِّكَ الرِّيَاحَ تَحْرِيكًا شَدِيدًا فَلِأَجْلِ الْحَرَكَاتِ الشَّدِيدَةِ الَّتِي فِي تِلْكَ الرِّيَاحِ تَحْصُلُ فَوَائِدُ: إِحْدَاهَا: أَنَّ أَجْزَاءَ السَّحَابِ يَنْضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى الْبَعْضِ وَيَتَرَاكَمُ وَيَنْعَقِدُ السَّحَابُ الْكَثِيفُ الْمَاطِرُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ بِسَبَبِ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ الشَّدِيدَةِ الَّتِي فِي تِلْكَ الرِّيَاحِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً يَمْتَنِعُ عَلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْمَائِيَّةِ النُّزُولُ فَلَا جَرَمَ يَبْقَى مُتَعَلِّقًا فِي الْهَوَاءِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ بِسَبَبِ حَرَكَاتِ تِلْكَ الرِّيَاحِ يَنْسَاقُ السَّحَابُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى احْتِيَاجَهُمْ إِلَى نُزُولِ الْأَمْطَارِ وَانْتِفَاعَهُمْ بِهَا. وَرَابِعُهَا: أَنَّ حَرَكَاتِ الرِّيَاحِ تَارَةً تَكُونُ جَامِعَةً لا جزاء السَّحَابِ مُوجِبَةً لِانْضِمَامِ بَعْضِهَا إِلَى الْبَعْضِ حَتَّى ينعقد السحاب الغليظ وتارة تكون مفرقة لا جزاء السَّحَابِ مُبْطِلَةً لَهَا. وَخَامِسُهَا: أَنَّ هَذِهِ الرِّيَاحَ تَارَةً تَكُونُ مُقَوِّيَةً لِلزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ مُكَمِّلَةً لِمَا فيها من النشو وَالنَّمَاءِ وَهِيَ الرِّيَاحُ اللَّوَاقِحُ وَتَارَةً تَكُونُ مُبْطِلَةً لَهَا كَمَا تَكُونُ فِي الْخَرِيفِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ هَذِهِ الرِّيَاحَ تَارَةً تَكُونُ طَيِّبَةً لَذِيذَةً مُوَافِقَةً للابدان وتارة تكون مهلكة جِدًّا. وَسَابِعُهَا: أَنَّ هَذِهِ الرِّيَاحَ تَارَةً تَكُونُ شَرْقِيَّةً، وَتَارَةً تَكُونُ غَرْبِيَّةً وَشَمَالِيَّةً وَجَنُوبِيَّةً. وَهَذَا ضَبْطٌ ذَكَرَهُ بَعْضُ النَّاسِ وَإِلَّا فَالرِّيَاحُ تَهُبُّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ الْعَالَمِ وَلَا ضَبْطَ لَهَا وَلَا اخْتِصَاصَ لِجَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ الْعَالَمِ بِهَا. وَثَامِنُهَا: أَنَّ هَذِهِ الرِّيَاحَ تَارَةً تَصْعَدُ مِنْ قَعْرِ الْأَرْضِ فَإِنَّ مَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ يُشَاهِدُ أَنَّ الْبَحْرَ يَحْصُلُ غَلَيَانٌ شَدِيدٌ فِيهِ بِسَبَبِ تَوَلُّدِ الرِّيَاحِ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ إِلَى مَا فَوْقَ الْبَحْرِ وَحِينَئِذٍ يَعْظُمُ هُبُوبُ الرِّيَاحِ فِي وَجْهِ الْبَحْرِ وَتَارَةً يُنْزِلُ الرِّيحَ مِنْ جِهَةِ فَوْقٍ فَاخْتِلَافُ الرِّيَاحِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمَعَانِي أَيْضًا عَجِيبٌ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عنهما: الرياح ثمان: اربع مِنْهَا عَذَابٌ وَهُوَ الْقَاصِفُ وَالْعَاصِفُ وَالصَّرْصَرُ وَالْعَقِيمُ وَأَرْبَعَةٌ مِنْهَا رَحْمَةٌ: النَّاشِرَاتُ وَالْمُبَشِّرَاتُ وَالْمُرْسَلَاتُ وَالذَّارِيَاتُ وَعَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : «نُصِرْتُ بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ» وَالْجَنُوبُ مِنْ رِيحِ الْجَنَّةِ وَعَنْ كَعْبٍ: لَوْ حَبَسَ اللَّهُ الرِّيحَ عَنْ عِبَادِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَأَنْتَنَ أَكْثَرُ الْأَرْضِ وَعَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّهُ تَعَالَى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَيَأْتِي بِالسَّحَابِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ ثُمَّ يَفْتَحُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ

فَيُسِيلُ الْمَاءَ عَلَى السَّحَابِ ثُمَّ يُمْطِرُ السَّحَابَ بَعْدَ ذَلِكَ وَرَحْمَتُهُ هُوَ الْمَطَرُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اخْتِلَافُ الرِّيَاحِ فِي الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ أَنَّ طَبِيعَةَ الْهَوَاءِ وَاحِدَةٌ وَتَأْثِيرَاتِ الطَّبَائِعِ وَالْأَنْجُمِ وَالْأَفْلَاكِ وَاحِدَةٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ لَمْ تَحْصُلْ إِلَّا بِتَدْبِيرِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ وَالْمَعْنَى أَنَّا نَسُوقُ ذَلِكَ السَّحَابَ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ غَيْثٌ وَلَمْ يَنْبُتْ فِيهِ خُضْرَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: السَّحَابُ إِنْ كَانَ مُذَكَّرًا يَجِبُ أَنْ يَقُولَ: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثَقِيلًا وَإِنْ كَانَ مُؤَنَّثًا يَجِبُ أَنْ يَقُولَ سُقْنَاهُ فَكَيْفَ التَّوْفِيقُ؟! وَالْجَوَابُ: أَنَّ السَّحَابَ لَفْظُهُ مُذَكَّرٌ وَهُوَ جَمْعُ سَحَابَةٍ فَكَانَ وُرُودُ الْكِنَايَةِ عَنْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّذْكِيرِ جَائِزًا نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ وَعَلَى سَبِيلِ التَّأْنِيثِ أَيْضًا جَائِزًا، نَظَرًا إِلَى كَوْنِهِ جَمْعًا أَمَّا «اللَّامُ» فِي قَوْلِهِ: سُقْناهُ لِبَلَدٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ «اللَّامُ» بِمَعْنَى إِلَى يُقَالُ هَدَيْتُهُ لِلدِّينِ وَإِلَى الدِّينِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هَذِهِ «اللَّامُ» بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِ وَالتَّقْدِيرُ سُقْنَاهُ لِأَجْلِ بَلَدٍ مَيِّتٍ لَيْسَ فِيهِ حَيًّا يَسْقِيهِ. وَأَمَّا الْبَلَدُ فَكُلُّ مَوْضِعٍ مِنَ الْأَرْضِ عَامِرٍ أَوْ غَيْرِ عَامِرٍ خَالٍ أَوْ مَسْكُونٍ فَهُوَ بَلَدٌ وَالطَّائِفَةُ مِنْهُ بَلْدَةٌ وَالْجَمِيعُ الْبِلَادُ وَالْفَلَاةُ تُسَمَّى بَلْدَةً قَالَ الْأَعْشَى: وَبَلْدَةً مِثْلَ ظَهْرِ التُّرْسِ مُوحِشَةً ... لِلْجِنِّ بِاللَّيْلِ فِي حَافَاتِهَا زَجَلُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: بِهِ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ قَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فَأَنْزَلْنَا بِالْبَلَدِ الْمَاءَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فَأَنْزَلْنَا بِالسَّحَابِ الْمَاءَ لِأَنَّ السَّحَابَ آلَةٌ لِإِنْزَالِ الْمَاءِ. ثُمَّ قَالَ: فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ الْكِنَايَةُ عَائِدَةٌ إِلَى الْمَاءِ لِأَنَّ إِخْرَاجَ الثَّمَرَاتِ كَانَ بِالْمَاءِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فَأَخْرَجْنَا بِالْبَلَدِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ لِأَنَّ الْبَلَدَ لَيْسَ يَخُصُّ بِهِ هُنَا بَلَدٌ دُونَ بَلَدٍ وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فاللَّه تَعَالَى إِنَّمَا يَخْلُقُ الثَّمَرَاتِ بِوَاسِطَةِ الْمَاءِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ الثِّمَارَ غَيْرُ مُتَوَلِّدَةٍ مِنَ الْمَاءِ بَلِ اللَّهُ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِخَلْقِ النَّبَاتِ ابْتِدَاءً عَقِيبَ اخْتِلَاطِ الْمَاءِ بِالتُّرَابِ وَقَالَ جُمْهُورُ الْحُكَمَاءِ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي الْمَاءِ قُوَّةً طَبِيعِيَّةً ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْقُوَّةَ الطَّبِيعِيَّةَ تُوجِبُ حُدُوثَ الْأَحْوَالِ الْمَخْصُوصَةِ عِنْدَ امْتِزَاجِ/ الْمَاءِ بِالتُّرَابِ وَحُدُوثِ الطَّبَائِعِ الْمَخْصُوصَةِ. وَالْمُتَكَلِّمُونَ احْتَجُّوا عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ طَبِيعَةَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَاحِدَةٌ. ثُمَّ إِنَّا نَرَى أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ فِي النَّبَاتِ الْوَاحِدِ أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ مِثْلُ الْعِنَبِ فَإِنَّ قِشْرَهُ بَارِدٌ يَابِسٌ وَلَحْمَهُ وَمَاؤُهُ حَارٌّ رَطْبٌ، وَعَجْمُهُ بَارِدٌ يَابِسٌ، فَتَوَلُّدُ الْأَجْسَامِ الْمَوْصُوفَةِ بِالصِّفَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إِنَّمَا حَدَثَتْ بِإِحْدَاثِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ لَا بِالطَّبْعِ وَالْخَاصَّةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا يَخْلُقُ النَّبَاتَ بِوَاسِطَةِ إِنْزَالِ الْأَمْطَارِ فَكَذَلِكَ يُحْيِي الْمَوْتَى بِوَاسِطَةِ مَطَرٍ يُنْزِلُهُ عَلَى تِلْكَ الْأَجْسَامِ الرَّمِيمَةِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ تَعَالَى يُمْطِرُ عَلَى أَجْسَادِ الْمَوْتَى فِيمَا بَيْنَ النفختين مطار كَالْمَنِيِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَنَّهُمْ يَنْبُتُونَ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَصِيرُونَ أَحْيَاءً. قَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ أَمْطَرَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَنْشَقَّ عَنْهُمُ الْأَرْضُ كَمَا يَنْشَقُّ الشَّجَرُ عَنِ النَّوْرِ

وَالثَّمَرِ ثُمَّ يُرْسِلُ الْأَرْوَاحَ فَتَعُودُ كُلُّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ التَّشْبِيهَ إِنَّمَا وَقَعَ بِأَصْلِ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَيِّتًا وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا أَحْيَا هَذَا الْبَلَدَ بعد خرابه فانبت فيه الشجرة وَجَعَلَ فِيهِ الثَّمَرَ فَكَذَلِكَ يُحْيِي الْمَوْتَى بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَمْوَاتًا لِأَنَّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إِحْدَاثِ الْجِسْمِ وَخَلْقِ الرُّطُوبَةِ وَالطَّعْمِ فِيهِ فَهُوَ أَيْضًا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى إِحْدَاثِ الْحَيَاةِ فِي بَدَنِ الْمَيِّتِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إِقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ حَقٌّ. وَاعْلَمْ أَنَّ الذَّاهِبِينَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنِ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَعْثُ الْأَجْسَادِ إِلَّا بِأَنْ يُمْطِرَ عَلَى تِلْكَ الْأَجْسَادِ الْبَالِيَةِ مَطَرًا عَلَى صِفَةِ الْمَنِيِّ فَقَدْ أَبْعَدَ وَلِأَنَّ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُحْدِثَ فِي مَاءِ الْمَطَرِ الصِّفَاتِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا صَارَ الْمَنِيُّ مَنِيًّا ابْتِدَاءً فَلِمَ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ الْحَيَاةِ وَالْجِسْمِ ابْتِدَاءً؟ وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّ ذَلِكَ الْمَطَرَ يَنْزِلُ إِلَّا أَنَّ أَجْزَاءَ الْأَمْوَاتِ غَيْرُ مُخْتَلِطَةٍ فَبَعْضُهَا يَكُونُ بِالْمَشْرِقِ وَبَعْضُهَا يَكُونُ بِالْمَغْرِبِ فَمِنْ أَيْنَ يَنْفَعُ إِنْزَالُ ذَلِكَ الْمَطَرِ فِي تَوْلِيدِ تِلْكَ الْأَجْسَادِ؟ فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى بِقُدْرَتِهِ وَبِحِكْمَتِهِ يُخْرِجُ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ الْمُتَفَرِّقَةَ فَلِمَ لَمْ يَقُولُوا إِنَّهُ بِقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ يَخْلُقُ الْحَيَاةَ فِي تِلْكَ الْأَجْزَاءِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ ذَلِكَ الْمَطَرِ؟ وَإِنِ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ ابْتِدَاءً إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُحْيِيهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَمَا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْأَشْخَاصِ فِي الدُّنْيَا ابْتِدَاءً إِلَّا أَنَّهُ أَجْرَى عَادَتَهُ بِأَنَّهُ لَا يَخْلُقُهُمْ إِلَّا مِنَ الْأَبَوَيْنِ فَهَذَا جَائِزٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَالْمَعْنَى: إِنَّكُمْ لَمَّا شَاهَدْتُمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ كَانَتْ مُزَيَّنَةً وَقْتَ الرَّبِيعِ وَالصَّيْفِ بِالْأَزْهَارِ وَالثِّمَارِ، ثُمَّ صَارَتْ عِنْدَ الشِّتَاءِ مَيِّتَةً عَارِيَةً عَنْ تِلْكَ الزِّينَةِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَحْيَاهَا مَرَّةً أُخْرَى فَالْقَادِرُ عَلَى إِحْيَائِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا يَجِبُ كَوْنُهُ أَيْضًا قَادِرًا عَلَى إِحْيَاءِ الْأَجْسَادِ بَعْدَ مَوْتِهَا فَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَذَكُّرُ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ هَذَا الْمَعْنَى فِي إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ وَجَبَ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ بِالْأَرْضِ الْخَيِّرَةِ وَالْأَرْضِ السَّبِخَةِ وَشَبَّهَ نُزُولَ الْقُرْآنِ بِنُزُولِ الْمَطَرِ فَشَبَّهَ الْمُؤْمِنَ بِالْأَرْضِ الْخَيِّرَةِ الَّتِي نَزَلَ عَلَيْهَا الْمَطَرُ فَيَحْصُلُ فِيهَا أَنْوَاعُ الْأَزْهَارِ وَالثِّمَارِ وَأَمَّا الْأَرْضُ السَّبِخَةِ فَهِيَ وَإِنْ نَزَلَ الْمَطَرُ عَلَيْهَا لَمْ يَحْصُلْ فِيهَا مِنَ النَّبَاتِ إِلَّا النَّزْرُ الْقَلِيلُ فَكَذَلِكَ الرُّوحُ الطَّاهِرَةُ النَّقِيَّةُ عَنْ شَوَائِبَ الْجَهْلِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ إِذَا اتَّصَلَ به نور القرآن ظهرت فيه أَنْوَاعٌ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَارِفِ وَالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ وَالرُّوحُ الْخَبِيثَةُ الْكَدِرَةُ وَإِنِ اتَّصَلَ بِهِ نُورُ الْقُرْآنِ لم يظهر فيه مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ إِلَّا الْقَلِيلُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ تَمْثِيلُ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الْأَرْضَ السَّبِخَةَ يَقِلُّ نَفْعُهَا وَثَمَرَتُهَا وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ صَاحِبَهَا لَا يُهْمِلُ أَمْرَهَا بَلْ يُتْعِبُ نَفْسَهُ فِي إِصْلَاحِهَا طَمَعًا مِنْهُ فِي تَحْصِيلِ مَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ فَمَنْ طَلَبَ هَذَا النَّفْعَ الْيَسِيرَ بِالْمَشَقَّةِ الْعَظِيمَةِ فَلَأَنْ يَطْلُبَ النَّفْعَ الْعَظِيمَ الْمَوْعُودَ بِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ

بِالْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ تَحَمُّلِهَا فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ السَّعِيدَ لَا ينقلب شَقِيًّا وَبِالْعَكْسِ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ قِسْمَانِ: مِنْهَا مَا تَكُونُ فِي أَصْلِ جَوْهَرِهَا طَاهِرَةً نَقِيَّةً مُسْتَعِدَّةً لِأَنْ تَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ وَالْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ وَمِنْهَا مَا تَكُونُ فِي أَصْلِ جَوْهَرِهَا غَلِيظَةً كَدِرَةً بَطِيئَةَ الْقَبُولِ لِلْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ كَمَا أَنَّ الْأَرَاضِيَ مِنْهَا مَا تَكُونُ سَبِخَةً فَاسِدَةً وَكَمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَلَّدَ فِي الْأَرَاضِي السَّبِخَةِ تِلْكَ الْأَزْهَارُ وَالثِّمَارُ الَّتِي تَتَوَلَّدُ فِي الْأَرْضِ الْخَيِّرَةِ، فَكَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَظْهَرَ في النفس البليدة والكدرة الغليطة مِنَ الْمَعَارِفِ الْيَقِينِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ مِثْلُ مَا يَظْهَرُ فِي النَّفْسِ الطَّاهِرَةِ الصَّافِيَةِ وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا الْكَلَامَ أَنَّا نَرَى النُّفُوسَ مُخْتَلِفَةً فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ فَبَعْضُهَا مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ عَالَمِ الصَّفَاءِ وَالْإِلَهِيَّاتِ مُنْصَرِفَةٌ عَنِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [الْمَائِدَةِ: 83] وَمِنْهَا قَاسِيَةٌ شَدِيدَةُ الْقَسْوَةِ وَالنَّفْرَةِ عَنْ قَبُولِ هَذِهِ الْمَعَانِي كَمَا قَالَ: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [الْبَقَرَةِ: 74] وَمِنْهَا مَا تَكُونُ شَدِيدَةَ الْمَيْلِ إِلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ مُتَبَاعِدَةً عَنْ أَحْوَالِ الْغَضَبِ وَمِنْهَا مَا تَكُونُ شَدِيدَةَ الْمَيْلِ إِلَى إِمْضَاءِ الْغَضَبِ وَتَكُونُ مُتَبَاعِدَةً عَنْ أَعْمَالِ الشَّهْوَةِ بَلْ نَقُولُ: مِنَ النُّفُوسِ مَا تَكُونُ عَظِيمَةَ الرَّغْبَةِ فِي الْمَالِ دُونَ/ الْجَاهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ بِالْعَكْسِ، وَالرَّاغِبُونَ فِي طَلَبِ الْمَالِ مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ عَظِيمَ الرَّغْبَةِ فِي الْعَقَارِ وَتَفْضُلُ رَغْبَتَهُ فِي النُّقُودِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَعْظُمُ رَغْبَتُهُ فِي تَحْصِيلِ النُّقُودِ وَلَا يَرْغَبُ فِي الضِّيَاعِ وَالْعَقَارِ وَإِذَا تَأَمَّلْتَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِاعْتِبَارِ تَيَقَّنْتَ أَنَّ أَحْوَالَ النُّفُوسِ مُخْتَلِفَةٌ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ اخْتِلَافًا جَوْهَرِيًّا ذَاتِيًّا لَا يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ وَلَا تَبْدِيلُهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ مِنَ النَّفْسِ الْغَلِيظَةِ الجاهلية الْمَائِلَةِ بِالطَّبْعِ إِلَى أَفْعَالِ الْفُجُورِ أَنْ تَصِيرَ نَفْسًا مُشْرِقَةً بِالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَلَمَّا ثَبَتَ هَذَا كَانَ تَكْلِيفُ هَذِهِ النَّفْسِ بِتِلْكَ الْمَعَارِفِ الْيَقِينِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ جَارِيًا مَجْرَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ فَثَبَتَ بِهَذَا الْبَيَانِ: أَنَّ السعيد من سعيد فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَأَنَّ النَّفْسَ الطَّاهِرَةَ يَخْرُجُ نَبَاتُهَا مِنَ الْمَعَارِفِ الْيَقِينِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَالنَّفْسَ الْخَبِيثَةَ لَا يَخْرُجُ نَبَاتُهَا إِلَّا نَكِدًا قَلِيلَ الْفَائِدَةِ وَالْخَيْرِ كَثِيرَ الْفُضُولِ وَالشَّرِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِإِذْنِ رَبِّهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَعْمَلُهُ الْمُؤْمِنُ مِنْ خَيْرٍ وَطَاعَةٍ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ يَخْرُجُ نَباتُهُ أَيْ يُخْرِجُهُ الْبَلَدُ وَيُنْبِتُهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِي خَبُثَ قال القراء: يُقَالُ: خَبُثَ الشَّيْءُ يَخْبُثُ خُبْثًا وَخَبَاثَةً. وَقَوْلُهُ: إِلَّا نَكِداً النَّكِدُ: الْعَسِرُ الْمُمْتَنِعُ مِنْ إِعْطَاءِ الْخَيْرِ عَلَى جِهَةِ الْبُخْلِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: النَّكِدُ: الشُّؤْمُ وَاللُّؤْمُ وَقِلَّةُ الْعَطَاءِ وَرَجُلٌ أَنْكَدُ وَنَكِدٌ قَالَ: وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَهُ طَيِّبًا ... لَا خَيْرَ فِي الْمَنْكُودِ وَالنَّاكِدِ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَالَّذِي خَبُثَ صِفَةٌ لِلْبَلَدِ وَمَعْنَاهُ وَالْبَلَدُ الْخَبِيثُ لَا يَخْرُجُ نَبَاتُهُ إِلَّا نَكِدًا فَحُذِفَ الْمُضَافُ الَّذِي هُوَ النَّبَاتُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ الَّذِي هُوَ الرَّاجِعُ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ مَقَامَهُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مَجْرُورًا بَارِزًا فَانْقَلَبَ مَرْفُوعًا مُسْتَكِنًّا لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ الْفَاعِلِ أَوْ يُقَدَّرُ وَنَبَاتُ الَّذِي خَبُثَ وَقُرِئَ نَكِداً بِفَتْحِ الْكَافِ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ ذَا نَكَدٍ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 59 إلى 62]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ قُرِئَ يُصَرِّفُ أَيْ يُصَرِّفُهَا اللَّهُ وَإِنَّمَا خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ لِأَنَّ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُحَرِّكُ الرِّيَاحَ اللَّطِيفَةَ النَّافِعَةَ وَيَجْعَلُهَا سَبَبًا لِنُزُولِ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ الرَّحْمَةُ وَيَجْعَلُ تِلْكَ الرِّيَاحَ وَالْأَمْطَارَ سَبَبًا لِحُدُوثِ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ النَّافِعَةِ اللَّطِيفَةِ اللَّذِيذَةِ فَهَذَا مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ذِكْرُ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحَكَمْتِهِ وَمِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي تَنْبِيهٌ عَلَى إِيصَالِ هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ إِلَى الْعِبَادِ فَلَا جَرَمَ كَانَتْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا دَلَائِلُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَصِفَاتِهِ آيَاتٌ وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهَا نِعَمٌ يَجِبُ شُكْرُهَا/ فَلَا جَرَمَ قَالَ: نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ وَإِنَّمَا خَصَّ كَوْنَهَا آيَاتٍ بِالْقَوْمِ الشَّاكِرِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا فَهُوَ كَقَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] . [سورة الأعراف (7) : الآيات 59 الى 62] لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي تَقْرِيرِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ دَلَائِلَ ظَاهِرَةً وَبَيِّنَاتٍ قَاهِرَةً وَبَرَاهِينَ بَاهِرَةً أَتْبَعَهَا بِذِكْرِ قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَفِيهِ فَوَائِدُ: أَحَدُهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ إِعْرَاضَ النَّاسِ عَنْ قَبُولِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ لَيْسَ مِنْ خَوَاصِّ قَوْمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَلْ هَذِهِ الْعَادَةُ الْمَذْمُومَةُ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَالْمُصِيبَةُ إِذَا عَمَّتْ خَفَّتْ. فَكَانَ ذِكْرُ قِصَصِهِمْ وَحِكَايَةِ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْجَهْلِ وَالْعِنَادِ يُفِيدُ تَسْلِيَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَخْفِيفَ ذَلِكَ عَلَى قَلْبِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يَحْكِي فِي هَذِهِ الْقِصَصِ أَنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِ أُولَئِكَ الْمُنْكِرِينَ كَانَ إِلَى الْكُفْرِ وَاللَّعْنِ فِي الدُّنْيَا وَالْخَسَارَةِ فِي الْآخِرَةِ وَعَاقِبَةُ أَمْرِ الْمُحِقِّينَ إِلَى الدَّوْلَةِ فِي الدُّنْيَا وَالسَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ وَذَلِكَ يُقَوِّي قُلُوبَ الْمُحِقِّينَ وَيَكْسِرُ قُلُوبَ الْمُبْطِلِينَ. وَثَالِثُهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ يُمْهِلُ هَؤُلَاءِ الْمُبْطِلِينَ وَلَكِنَّهُ لَا يُهْمِلُهُمْ بَلْ يَنْتَقِمُ مِنْهُمْ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ. وَرَابِعُهَا: بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَصَ دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أُمِّيًّا وَمَا طَالَعَ كِتَابًا وَلَا تلمذ استاذا فَإِذَا ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَصَ عَلَى الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا خَطَأٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا عَرَفَهَا بِالْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْإِخْبَارُ عَنِ الْغُيُوبِ الْمَاضِيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُعْجِزِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ إِبْلِيسَ شَاهَدَ هَذِهِ الْوَقَائِعَ فَأَلْقَاهَا إِلَيْهِ أَمَّا الْإِخْبَارُ عَنِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فَإِنَّهُ مُعْجِزٌ لِأَنَّ عِلْمَ الْغَيْبِ ليس الا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قِصَّةَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ سبق ذكرها. [في قَوْلُهُ تَعَالَى لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ] وَالْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ: قِصَّةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ نُوحُ بْنُ لَمَكَ بْنِ مُتْوَشْلِخَ بْنِ أَخْنُوخَ وَأَخْنُوخُ اسْمُ إِدْرِيسَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ: لَقَدْ أَرْسَلْنا جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. فَإِنْ قَالُوا: مَا السَّبَبُ فِي أَنَّهُمْ لَا يَكَادُونَ يَنْطِقُونَ بِهَذِهِ اللَّامِ إِلَّا مَعَ قَدْ وَذِكْرُ هَذِهِ اللَّامِ بِدُونِ قَدْ نَادِرٌ كَقَوْلِهِ: حَلَفْتُ لَهَا بِاللَّهِ حلفة فاجر ... لناموا ... قلنا: إِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْقَسَمِيَّةَ لَا تُسَاقُ إِلَّا تَأْكِيدًا لِلْجُمْلَةِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهَا الَّتِي هي جوابها فكانت مظنة لمعنى التَّوَقُّعِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى «قَدْ» عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْمُخَاطَبِ كَلِمَةَ الْقَسَمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْكِسَائِيُّ غَيْرِهِ بِكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْإِلَهِ عَلَى اللَّفْظِ وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْإِلَهِ عَلَى الْمَوْضِعِ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ مَا لَكُمْ إِلَهٌ غَيْرُهُ وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَجْهُ مَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ قَوْلُهُ: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: 62] فَكَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا اللَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مَا مِنْ إِلهٍ كَذَلِكَ قَوْلُهُ: غَيْرُهُ يَكُونُ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ إِلهٍ فَيَكُونُ (غَيْرُ) رَفْعًا بِالِاسْتِثْنَاءِ وقال صاحب الكشاف: قرئ (غير) الحركات الثَّلَاثِ وَذَكَرَ وَجْهَ الرَّفْعِ وَالْجَرِّ كَمَا تَقَدَّمَ قَالَ وَأَمَّا النَّصْبُ فَعَلَى الِاسْتِثْنَاءِ بِمَعْنَى مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِيَّاهُ كَقَوْلِكَ مَا فِي الدَّارِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا زَيْدًا وَغَيْرَ زَيْدٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَهُوَ خَبَرُ (مَا) لِأَنَّكَ إِذَا جَعَلْتَ غَيْرُهُ صِفَةً لِقَوْلِهِ: إِلهٍ لَمْ يَبْقَ لِهَذَا الْمَنْفِيِّ خَبَرٌ وَالْكَلَامُ لَا يَسْتَقِلُّ بِالصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ زَيْدٌ الْعَاقِلُ وَسَكَتَّ لَمْ يُفِدْ مَا لَمْ تَذْكُرْ خَبَرَهُ وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ فِي الْوُجُودِ أَقُولُ: اتَّفَقَ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّ قَوْلَنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِضْمَارٍ وَالتَّقْدِيرُ: لَا إِلَهَ فِي الْوُجُودِ أَوْ لَا إِلَهَ لَنَا إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يَذْكُرُوا عَلَى هَذَا الْكَلَامِ حُجَّةً فَإِنَّا نَقُولُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنَّ يُقَالَ دَخَلَ حَرْفُ النَّفْيِ عَلَى هَذِهِ الْحَقِيقَةِ؟ وَعَلَى هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا تَحَقُّقَ لِحَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَّا فِي حَقِّ اللَّهِ وَإِذَا حَمَلْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى اسْتَغْنَيْنَا عَنِ الْإِضْمَارِ الَّذِي ذَكَرُوهُ. فَإِنْ قَالُوا: صَرْفُ النَّفْيِ إِلَى الْمَاهِيَّةِ لَا يُمْكِنُ لِأَنَّ الْحَقَائِقَ لَا يُمْكِنُ نَفْيُهَا، فَلَا يمكن ان يقال/ لاسواد بِمَعْنَى ارْتِفَاعِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ وَإِنَّمَا الْمُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ تِلْكَ الْحَقَائِقَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ وَلَا حاصلة وحينئذ يجب إضمار الخبر. فنقول: هذه الْكَلَامُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَاهِيَّةَ لَا يُمْكِنُ انْتِفَاؤُهَا وَارْتِفَاعُهَا وَذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَوَجَبَ امْتِنَاعُ ارْتِفَاعِ الْوُجُودِ لَأَنَّ الْوُجُودَ أَيْضًا حَقِيقَةٌ مِنَ الْحَقَائِقِ وَمَاهِيَّةٌ فَلِمَ لَا يُمْكِنُ ارْتِفَاعُ سَائِرِ الْمَاهِيَّاتِ؟ فَإِنْ قَالُوا: إِذَا قُلْنَا لَا رَجُلَ وَعَنَيْنَا بِهِ نَفْيَ كَوْنِهِ مَوْجُودًا فَهَذَا النَّفْيُ لَمْ يَنْصَرِفْ إِلَى مَاهِيَّةِ الْوُجُودِ وَإِنَّمَا انْصَرَفَ إِلَى كَوْنِ مَاهِيَّةِ الرَّجُلِ مَوْصُوفَةً بِالْوُجُودِ. فَنَقُولُ: تِلْكَ الْمَوْصُوفِيَّةُ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى الْمَاهِيَّةِ وَعَلَى الْوُجُودِ إِذْ لَوْ كَانَتْ الْمَوْصُوفِيَّةُ مَاهِيَّةً وَالْوُجُودُ مَاهِيَّةً أُخْرَى لَكَانَتْ تِلْكَ الْمَاهِيَّةُ مَوْصُوفَةً أَيْضًا بِالْوُجُودِ وَالْكَلَامُ فِيهِ كَمَا فِيمَا قَبْلَهُ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَوْجُودُ الْوَاحِدُ مَوْجُودًا وَاحِدًا بَلْ مَوْجُودَاتٍ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ وَهُوَ مُحَالٌ. ثُمَّ نَقُولُ مَوْصُوفِيَّةُ الْمَاهِيَّةِ بِالْوُجُودِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مُغَايِرًا لِلْمَاهِيَّةِ وَالْوُجُودِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يكن امرا

مُغَايِرًا لَهَا فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لِذَلِكَ الْمُغَايِرِ مَاهِيَّةٌ وَوُجُودٌ وَمَاهِيَّتُهُ لَا تَقْبَلُ الِارْتِفَاعَ وَحِينَئِذٍ يَعُودُ السُّؤَالُ الْمَذْكُورُ. فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَاهِيَّةَ أَنَّ لَمْ تَقْبَلُ النَّفْيَ وَالرَّفْعَ امْتَنَعَ صَرْفُ حَرْفِ النَّفْيِ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَفْهُومَاتِ فَإِنْ كَانَتِ الْمَاهِيَّةُ قَابِلَةً لِلنَّفْيِ وَالرَّفْعِ فَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ صَرْفُ كَلِمَةِ «لَا» فِي قَوْلِنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَى هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَحِينَئِذٍ لَا يُحْتَاجُ إِلَى الْتِزَامِ الْحَذْفِ وَالْإِضْمَارِ الَّذِي يَذْكُرُهُ النَّحْوِيُّونَ فَهَذَا كَلَامٌ عَقْلِيٌّ صِرْفٌ وَقَعَ فِي هَذَا الْبَحْثِ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَعَثْنَا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى الْإِرْسَالِ أَنَّهُ تَعَالَى حَمَّلَهُ رِسَالَةً يُؤَدِّيهَا فَالرِّسَالَةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ مُتَضَمِّنَةً لِلْبَعْثِ فَيَكُونُ الْبَعْثُ كَالتَّابِعِ لَا أَنَّهُ الْأَصْلُ وَهَذَا الْبَحْثُ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةٍ أُصُولِيَّةٍ وَهِيَ أَنَّهُ هَلْ مِنْ شَرْطِ إِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَى قَوْمٍ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ عَلَى لِسَانِهِ أَحْكَامًا لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى مَعْرِفَتِهَا بِعُقُولِهِمْ أَوْ لَيْسَ ذَلِكَ بِشَرْطٍ؟ بَلْ يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ بَعْثَةِ الرُّسُلِ مُجَرَّدَ تَأْكِيدِ مَا فِي الْعُقُولِ وَهَذَا الْخِلَافُ إِنَّمَا يَلِيقُ بتفاريع المعتزلة ولا يليق بتفاريع مذاهبنا وَأُصُولِنَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي الْآيَةِ فَوَائِدُ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ نُوحٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَكَمَ أَنْ لَا إِلَهَ غَيْرُ اللَّهِ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ إِثْبَاتُ التَّكْلِيفِ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ الثَّانِي الْإِقْرَارُ بِالتَّوْحِيدِ. ثُمَّ قَالَ عَقِيبَهُ: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ إِمَّا عَذَابُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَهُوَ قَدْ خَوَّفَهُمْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَذَا هُوَ الدَّعْوَى الثَّالِثَةُ أَوْ عَذَابُ يَوْمِ الطُّوفَانِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَقَدِ ادَّعَى الْوَحْيَ وَالنُّبُوَّةَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ ذَكَرَ هَذِهِ الدَّعَاوَى الثَّلَاثَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ عَلَى صِحَّةِ وَاحِدٍ مِنْهَا دَلِيلًا وَلَا حُجَّةً فَإِنْ كَانَ قَدْ أَمَرَهُمْ بِالْإِنْذَارِ بِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ فَهَذَا بَاطِلٌ لِمَا أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّقْلِيدِ بَاطِلٌ وَأَيْضًا فَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ مَلَأَ الْقُرْآنَ مِنْ ذَمِّ التَّقْلِيدِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّسُولِ الْمَعْصُومِ الدَّعْوَةُ إِلَى التَّقْلِيدِ؟ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَمَرَهُمْ بِالْإِقْرَارِ بِهَا مَعَ ذِكْرِ الدَّلِيلِ فَهَذَا الدَّلِيلُ غَيْرُ مَذْكُورٍ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَصِحَّةَ الْمَعَادِ وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ مِنْهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَدْعُو أَحَدًا إِلَى هَذِهِ الْأُصُولِ إِلَّا بِذِكْرِ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ. أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ تَعَالَى مَا حَكَى عَنْ نُوحٍ تِلْكَ الدَّلَائِلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الدَّلَائِلَ لَمَّا كَانَتْ مَعْلُومَةً لَمْ يَكُنْ إِلَى ذِكْرِهَا حَاجَةٌ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَتَرَكَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَ الدَّلَائِلِ لِهَذَا السَّبَبِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ أَوَّلًا قَوْلَهُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَثَانِيًا قَوْلَهُ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَالثَّانِي كَالْعِلَّةِ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُهُ كَانَ كُلُّ مَا حَصَلَ عِنْدَهُمْ مِنْ وُجُوهِ النَّفْعِ وَالْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ وَاللُّطْفِ حَاصِلًا مِنَ اللَّهِ وَنِهَايَةُ الْإِنْعَامِ تُوجِبُ نِهَايَةَ التَّعْظِيمِ فَإِنَّمَا وَجَبَتْ عِبَادَةُ اللَّهِ لِأَجْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْبَحْثِ مَسْأَلَةٌ وَهِيَ: إِنَّا قَبْلَ الْعِلْمِ بِأَنْ لَا إِلَهَ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ لَا نَعْلَمُ أَنَّ الْمُنْعِمَ عَلَيْنَا بِوُجُوهِ النِّعَمِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَنَا هُوَ هَذَا أَمْ ذَاكَ؟ وَإِذَا جَهِلْنَا ذَلِكَ فَقَدْ جَهِلْنَا مَنْ كَانَ هُوَ الْمُنْعِمَ فِي حَقِّنَا وَحِينَئِذٍ لَا يَحْسُنُ عِبَادَتُهُ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَانَ الْعِلْمُ بِالتَّوْحِيدِ شَرْطًا لِلْعِلْمِ بِحُسْنِ الْعِبَادَةِ.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِلَهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِثْبَاتٌ وَنَفْيٌ فَيَجِبُ أَنْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَفْهُومٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ الْكَلَامُ فَكَانَ الْمَعْنَى اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ مَعْبُودٍ غَيْرُهُ حَتَّى يَتَطَابَقَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ ثُمَّ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْإِلَهَ لَيْسَ هُوَ الْمَعْبُودَ وَإِلَّا لَوَجَبَ كَوْنُ الْأَصْنَامِ آلِهَةً وَأَنْ لَا يَكُونَ الْإِلَهُ إِلَهًا فِي الْأَزَلِ لِأَجْلِ أَنَّهُ فِي الْأَزَلِ غَيْرُ مَعْبُودٍ فَوَجَبَ حَمْلُ لَفْظِ الْإِلَهِ عَلَى أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ هَلْ هُوَ الْيَقِينُ أَوِ الْخَوْفُ بِمَعْنَى الظَّنِّ وَالشَّكِّ. قَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْجَزْمُ وَالْيَقِينُ لِأَنَّهُ كَانَ جَازِمًا بِأَنَّ الْعَذَابَ يَنْزِلُ بِهِمْ إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي/ الْآخِرَةِ إِنْ لَمْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ الدِّينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ الشَّكُّ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ جَوَّزَ أَنْ يُؤْمِنُوا كَمَا جَوَّزَ أَنْ يَسْتَمِرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَمَعَ هَذَا التَّجْوِيزِ لَا يَكُونُ قَاطِعًا بِنُزُولِ الْعَذَابِ فَوَجَبَ أَنْ يَذْكُرَهُ بِلَفْظِ الْخَوْفِ. وَالثَّانِي: أَنَّ حُصُولَ الْعِقَابِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ أَمْرٌ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالسَّمْعِ وَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا بَيَّنَ لَهُ كَيْفِيَّةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَا جَرَمَ بَقِيَ مُتَوَقِّفًا مُجَوِّزًا أَنَّهُ تَعَالَى هَلْ يُعَاقِبُهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ أَمْ لَا؟ وَالثَّالِثُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْخَوْفِ الْحَذَرَ كَمَا قَالَ فِي الْمَلَائِكَةِ: يَخافُونَ رَبَّهُمْ [النَّحْلِ: 50] أَيْ يَحْذَرُونَ الْمَعَاصِيَ خَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَاطِعًا بِنُزُولِ أَصْلِ الْعَذَابِ لَكِنَّهُ مَا كَانَ عَارِفًا بِمِقْدَارِ ذَلِكَ الْعَذَابِ وَهُوَ أَنَّهُ عَظِيمٌ جِدًّا أَوْ مُتَوَسِّطٌ فَكَانَ هَذَا الشَّكُّ رَاجِعًا إِلَى وَصْفِ الْعِقَابِ وَهُوَ كَوْنُهُ عَظِيمًا أَمْ لَا لَا فِي أَصْلِ حصوله. [في قوله تعالى قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ إلى قوله رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْمِهِ فَقَالَ: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وقال الْمُفَسِّرُونَ: الْمَلَأُ الْكُبَرَاءُ وَالسَّادَاتُ الَّذِينَ جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ أَضْدَادَ الْأَنْبِيَاءِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ قَوْمِهِ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ الْمَلَأَ بَعْضُ قَوْمِهِ وَذَلِكَ الْبَعْضُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُوا مَوْصُوفِينَ بِصِفَةٍ لِأَجْلِهَا اسْتَحَقُّوا هَذَا الْوَصْفَ وَذَلِكَ بِأَنْ يكونوا هم الذين يملؤون صُدُورَ الْمَجَالِسِ وَتَمْتَلِئُ الْقُلُوبُ مِنْ هَيْبَتِهِمْ وَتَمْتَلِئُ الْأَبْصَارُ مِنْ رُؤْيَتِهِمْ وَتَتَوَجَّهُ الْعُيُونُ فِي الْمَحَافِلِ إِلَيْهِمْ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي الرُّؤَسَاءِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَلَأِ الرُّؤَسَاءُ وَالْأَكَابِرُ. وَقَوْلُهُ: إِنَّا لَنَراكَ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ وَالظَّنِّ دُونَ الْمُشَاهَدَةِ وَالرُّؤْيَةِ. وَقَوْلُهُ: فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ فِي خَطَأٍ ظَاهِرٍ وَضَلَالٍ بَيِّنٍ وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ نِسْبَةَ نُوحٍ إِلَى الضَّلَالِ فِي الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ الَّتِي بَيَّنَّا أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَهَا وَهِيَ التَّكْلِيفُ وَالتَّوْحِيدُ وَالنُّبُوَّةُ وَالْمَعَادُ وَلَمَّا ذَكَرُوا هَذَا الْكَلَامَ أجاب نوح عليه السلام بقوله: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ الْقَوْمَ قَالُوا: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ بِي ضَلَالٌ فَلِمَ تَرَكَ هَذَا الْكَلَامَ وَقَالَ: لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ أَيْ لَيْسَ بِي نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّلَالَةِ الْبَتَّةَ فَكَانَ هَذَا أَبْلَغَ فِي عُمُومِ السَّلْبِ ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا نَفَى عَنْ نَفْسِهِ الْعَيْبَ الَّذِي وَصَفُوهُ بِهِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَشْرَفِ الصِّفَاتِ وَأَجَلِّهَا وَهُوَ كَوْنُهُ رَسُولًا إِلَى الْخَلْقِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ذَكَرَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الرِّسَالَةِ وَهُوَ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ. وَالثَّانِي: تَقْرِيرُ النَّصِيحَةِ. فَقَالَ: أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو أُبَلِّغُكُمْ بِالتَّخْفِيفِ مِنْ أَبْلَغَ وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ. قال الواحدي:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 63 إلى 64]

وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ فَالتَّخْفِيفُ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ [هُودٍ: 57] وَالتَّشْدِيدُ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [الْمَائِدَةِ: 67] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفَرْقُ بَيْنَ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَبَيْنَ النَّصِيحَةِ هُوَ أَنَّ تَبْلِيغَ الرِّسَالَةِ مَعْنَاهُ: أَنْ يُعَرِّفَهُمْ أَنْوَاعَ تَكَالِيفِ اللَّهِ وَأَقْسَامَ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَأَمَّا النَّصِيحَةُ: فَهُوَ أَنَّهُ يُرَغِّبُهُ فِي الطَّاعَةِ وَيُحَذِّرُهُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَيَسْعَى في تقرير ذلك الترغيب والترهيب لأبلغ وجوه وَقَوْلُهُ: رِسالاتِ رَبِّي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى حَمَّلَهُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الرِّسَالَةِ وَهِيَ أَقْسَامُ التَّكَالِيفِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَشَرْحُ مَقَادِيرِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ وَمَقَادِيرِ الْحُدُودِ وَالزَّوَاجِرِ فِي الدُّنْيَا وَقَوْلُهُ: وَأَنْصَحُ لَكُمْ قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا تَكَادُ الْعَرَبُ تَقُولُ: نَصَحْتُكَ إِنَّمَا تَقُولُ: نَصَحْتُ لَكَ وَيَجُوزُ أَيْضًا نَصَحْتُكَ. قَالَ النَّابِغَةُ: نَصَحْتُ بَنِي عَوْفٍ فَلَمْ يَتَقَبَّلُوا ... رَسُولِي وَلَمْ تَنْجَحْ لَدَيْهِمْ رَسَائِلِي وَحَقِيقَةُ النُّصْحِ الْإِرْسَالُ إِلَى الْمَصْلَحَةِ مَعَ خُلُوصِ النِّيَّةِ مِنْ شَوَائِبِ الْمَكْرُوهِ وَالْمَعْنَى: أَنِّي أُبَلِّغُ إِلَيْكُمْ تَكَالِيفَ اللَّهِ ثُمَّ أُرْشِدُكُمْ إِلَى الْأَصْوَبِ الْأَصْلَحِ وَأَدْعُوكُمْ إِلَى مَا دَعَانِي وأحب إِلَيْكُمْ مَا أُحِبَّهُ لِنَفْسِي. ثُمَّ قَالَ: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: وَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ إِنْ عَصَيْتُمْ أَمْرَهُ عَاقَبَكُمْ بِالطُّوفَانِ. الثَّانِي: وَأَعْلَمُ أَنَّهُ يُعَاقِبُكُمْ فِي الْآخِرَةِ عِقَابًا شَدِيدًا خَارِجًا عَمَّا تَتَصَوَّرُهُ عُقُولُكُمْ. الثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَأَعْلَمُ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَصِفَاتِ جَلَالِهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ: حَمْلَ الْقَوْمِ عَلَى أَنْ يَرْجِعُوا إِلَيْهِ فِي طَلَبِ تِلْكَ العلوم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 63 الى 64] أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ الْقَوْمِ مِنْ قَوْلِهِمْ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأعراف: 60] هُوَ أَنَّهُمْ نَسَبُوهُ فِي ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ إِلَى الضَّلَالِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ رَسُولٌ إِلَى خَلْقِهِ لِأَجْلِ أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِرْسَالِ هُوَ التَّكْلِيفُ وَالتَّكْلِيفُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلْمَعْبُودِ لِكَوْنِهِ مُتَعَالِيًا عَنِ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلْعَابِدِ لِأَنَّهُ فِي الْحَالِ يُوجِبُ الْمَضَرَّةَ الْعَظِيمَةَ وَكُلُّ مَا يُرْجَى فِيهِ مِنَ الثَّوَابِ وَدَفْعِ الْعِقَابِ فَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِدُونِ وَاسِطَةِ التَّكْلِيفِ فَيَكُونُ التَّكْلِيفُ عَبَثًا وَاللَّهُ مُتَعَالٍ عَنِ الْعَبَثِ وَإِذَا بَطَلَ التَّكْلِيفُ بَطَلَ الْقَوْلُ بِالنُّبُوَّةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ وَإِنْ جَوَّزُوا التَّكْلِيفَ إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا عُلِمَ حُسْنُهُ بِالْعَقْلِ فَعَلْنَاهُ وَمَا عُلِمَ قُبْحُهُ تَرَكْنَاهُ وَمَا لَا نَعْلَمُ فِيهِ لَا حُسْنَهُ وَلَا قُبْحَهُ فَإِنْ كُنَّا مُضْطَرِّينَ إِلَيْهِ فَعَلْنَاهُ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ مُتَعَالٍ عَنْ أَنْ يُكَلِّفَ عَبْدَهُ مَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ وَإِنْ لَمْ نَكُنْ مُضْطَرِّينَ إِلَيْهِ تَرَكْنَاهُ لِلْحَذَرِ عَنْ خَطَرِ الْعِقَابِ وَلَمَّا كَانَ رَسُولُ الْعَقْلِ كَافِيًا فَلَا حَاجَةَ إِلَى بِعْثَةِ رَسُولٍ آخَرَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الرَّسُولِ فَإِنَّ إِرْسَالَ الْمَلَائِكَةِ أَوْلَى لِأَنَّ مَهَابَتَهُمْ أَشَدُّ وَطَهَارَاتِهِمْ أَكْمَلُ وَاسْتِغْنَاءَهُمْ عَنِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ أَظْهَرُ وَبُعْدَهُمْ عَنِ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ أَعْظَمُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ: أَنْ يَبْعَثَ رَسُولًا مِنَ الْبَشَرِ فَلَعَلَّ الْقَوْمَ اعْتَقَدُوا أَنَّ مَنْ كَانَ فَقِيرًا ولم يكن له تبع ورئاسة فَإِنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ

مَنْصِبُ الرِّسَالَةِ وَلَعَلَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ الَّذِي ظَنَّ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْوَحْيِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْجُنُونِ وَالْعَتَهِ وَتَخْيِيلَاتِ الشَّيْطَانِ فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَجَامِعِ الْوُجُوهِ الَّتِي لِأَجْلِهَا أَنْكَرَ الْكُفَّارُ رِسَالَةَ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ حَكَمُوا عَلَى نُوحٍ بِالضَّلَالَةِ ثُمَّ إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَزَالَ تَعَجُّبَهُمْ وَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى خَالِقُ الْخَلْقِ فَلَهُ بِحُكْمِ الْإِلَهِيَّةِ أَنْ يَأْمُرَ عَبِيدَهُ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ بَعْضِهَا وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِتِلْكَ التَّكَالِيفِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْتَهِي إِلَى حَدِّ الْإِلْجَاءِ وَهُوَ يُنَافِي التَّكْلِيفَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرَّسُولُ وَاحِدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الْأَنْعَامِ: 9] فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ إِيصَالُ تِلْكَ التَّكَالِيفِ إِلَى الْخَلْقِ بِوَاسِطَةِ إِنْسَانٍ وَذَلِكَ الْإِنْسَانُ إِنَّمَا يُبَلِّغُهُمْ تِلْكَ التَّكَالِيفَ لِأَجْلِ أَنْ يُنْذِرَهُمْ وَيُحَذِّرَهُمْ وَمَتَى أَنْذَرَهُمُ اتَّقَوْا مُخَالَفَةَ تَكْلِيفِ اللَّهِ وَمَتَى اتَّقَوْا مُخَالَفَةَ تَكْلِيفِ اللَّهِ اسْتَوْجَبُوا رَحْمَةَ اللَّهِ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَوَعَجِبْتُمْ فَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَكَذَّبْتُمْ وَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ؟ أَيْ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ. وَذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ هَذَا الذِّكْرِ وُجُوهًا. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُ الْوَحْيُ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِهَذَا الذِّكْرِ الْمُعْجِزُ ثُمَّ ذَلِكَ الْمُعْجِزُ يَحْتَمِلُ/ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَدْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا وَكَانَ ذَلِكَ الْكِتَابُ مُعْجِزًا فَسَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرًا كَمَا سَمَّى الْقُرْآنَ بِهَذَا الِاسْمِ وَجَعَلَهُ مُعْجِزَةً لِمُحَمَّدٍ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) . وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْمُعْجِزَ كَانَ شَيْئًا آخَرَ سِوَى الْكِتَابِ. وقوله: عَلى رَجُلٍ قال الفراء: عَلى هاهنا بِمَعْنَى مَعَ كَمَا تَقُولُ: جَاءَ بِالْخَبَرِ عَلَى وَجْهِهِ وَمَعَ وَجْهِهِ كِلَاهُمَا جَائِزٌ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَيْ عَلَى لِسَانِ رَجُلٍ مِنْكُمْ كَمَا قَالَ: رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [آلِ عِمْرَانَ: 194] أَيْ عَلَى لِسَانِ رُسُلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ مُنَزَّلٌ عَلَى رَجُلٍ وَقَوْلُهُ: مِنْكُمْ أَيْ تَعْرِفُونَ نَسَبَهُ فَهُوَ مِنْكُمْ نَسَبًا وَذَلِكَ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْهُمْ يُزِيلُ التَّعَجُّبَ لِأَنَّ الْمَرْءَ بِمَنْ هُوَ مِنْ جِنْسِهِ أَعْرَفُ وَبِطَهَارَةِ أَحْوَالِهِ أَعْلَمُ وَبِمَا يَقْتَضِي السُّكُونُ إِلَيْهِ أَبْصَرُ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا لِأَجْلِهِ يُبْعَثُ الرَّسُولُ فَقَالَ: لِيُنْذِرَكُمْ وَمَا لِأَجْلِهِ يُنْذِرُ فَقَالَ: وَلِتَتَّقُوا وَمَا لِأَجْلِهِ يَتَّقُونَ فَقَالَ: وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَهَذَا التَّرْتِيبُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبِعْثَةِ الْإِنْذَارُ وَالْمَقْصُودَ مِنَ الْإِنْذَارِ التَّقْوَى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي وَالْمَقْصُودَ مِنَ التَّقْوَى الْفَوْزُ بِالرَّحْمَةِ فِي دَارِ الْآخِرَةِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَالْكَعْبِيُّ وَالْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنَ الَّذِينَ بَعَثَ الرُّسُلَ إِلَيْهِمُ التَّقْوَى وَالْفَوْزَ بِالرَّحْمَةِ وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْ بَعْضِهِمُ الْكُفْرَ وَالْعِنَادَ وَخَلَقَهُمْ لِأَجْلِ الْعَذَابِ وَالنَّارِ. وَجَوَابُ أَصْحَابِنَا أَنْ نَقُولَ: إِنْ لَمْ يَتَوَقَّفِ الْفِعْلُ عَلَى الدَّاعِي لَزِمَ رُجْحَانُ الْمُمْكِنِ لَا لِمُرَجِّحٍ وَإِنْ تَوَقَّفَ لَزِمَ الْجَبْرُ وَمَتَى لَزِمَ ذَلِكَ وجب القطع فانه تَعَالَى أَرَادَ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ وَذَلِكَ يُبْطِلُ مَذْهَبَكُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ كَذَّبُوهُ فِي ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ وَتَبْلِيغِ التَّكَالِيفِ مِنَ اللَّهِ وَأَصَرُّوا عَلَى ذَلِكَ التَّكْذِيبِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَنْجَاهُ فِي الْفُلْكِ وَأَنْجَى مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَغْرَقَ الْكُفَّارَ وَالْمُكَذِّبِينَ وَبَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَمِيَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يُقَالُ رَجُلٌ عَمٍ فِي الْبَصِيرَةِ وَأَعْمَى فِي البصر فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ [الْقَصَصِ: 66] وَقَالَ: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 65 إلى 69]

فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها [الْأَنْعَامِ: 104] قَالَ زُهَيْرٌ: وَأَعْلَمُ مَا فِي الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ ... وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِي قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ عامَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَمِي وَالْعَامِي أَنَّ الْعَمِيَ يَدُلُّ عَلَى عَمًى ثَابِتٍ. وَالْعَامِيَ عَلَى عَمًى حَادِثٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ عَمَاهُمْ كَانَ ثَابِتًا رَاسِخًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: 36] . [سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 69] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ قِصَّةُ هُودٍ مَعَ قَوْمِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: انْتَصَبَ قَوْلُهُ: أَخاهُمْ بقوله: أَرْسَلْنا [الأعراف: 59] فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ وَالتَّقْدِيرُ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا. الْبَحْثُ الثَّانِي: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هُودًا مَا كَانَ أَخًا لَهُمْ فِي الدِّينِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ أَخَا قَرَابَةٍ قَرِيبَةٍ أَمْ لَا؟ قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّهُ كَانَ وَاحِدًا مِنْ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ بَنِي آدَمَ وَمِنْ جِنْسِهِمْ لَا مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ فَكَفَى هَذَا الْقَدَرُ فِي تَسْمِيَةِ هَذِهِ الْأُخُوَّةِ وَالْمَعْنَى أَنَّا بَعَثْنَا إِلَى عَادٍ وَاحِدًا مِنْ جِنْسِهِمْ وَهُوَ الْبَشَرُ لِيَكُونَ أَلْفُهُمْ وَالْأُنْسُ بِكَلَامِهِ وَأَفْعَالِهِ أَكْمَلَ وَمَا بَعَثْنَا إِلَيْهِمْ شَخْصًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِمْ مِثْلَ مَلِكٍ أَوْ جِنِّيٍّ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَخَاهُمْ: أَيْ صَاحِبَهُمْ وَرَسُولَهُمْ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي صَاحِبَ الْقَوْمِ أَخَ الْقَوْمِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الْأَعْرَافِ: 38] أَيْ صَاحِبَتَهَا وَشَبِيهَتَهَا. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ أَخَا صُدَاءٍ قَدْ أَذَّنَ وَإِنَّمَا يُقِيمُ مَنْ أَذَّنَ» يُرِيدُ صَاحِبَهُمْ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَالُوا نَسَبُ هود هذا: هود بن شالخ بن ارفخشد بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَأَمَّا عَادٌ فَهُمْ قوم كانوا باليمن بالأحقاف قال ابن اسحق: والأحقاف الرمل الذي بين عمان الى حضر موت. الْبَحْثُ الْخَامِسُ: اعْلَمْ أَنَّ أَلْفَاظَ هَذِهِ الْقِصَّةِ مُوَافِقَةٌ لِلْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا فِي أَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ: فِي قِصَّةِ نوح عليه السلام: فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ [الأعراف: 59] وفي قصة هود: قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَالْفَرْقُ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُوَاظِبًا عَلَى دَعْوَاهُمْ وَمَا كَانَ يُؤَخِّرُ الْجَوَابَ عَنْ شُبُهَاتِهِمْ لَحْظَةً وَاحِدَةً. وَأَمَّا هُودٌ فَمَا كَانَتْ مُبَالَغَتُهُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَلَا جَرَمَ جَاءَ «فَاءُ التَّعْقِيبِ» فِي كَلَامِ نُوحٍ دون كلام هود. والثاني: ان فِي قِصَّةِ نُوحٍ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ

[الأعراف: 59] وَقَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ [المؤمنون: 32] وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أَنَّ قَبْلَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَظْهَرْ فِي الْعَالَمِ مِثْلُ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ الْعَظِيمَةِ وَهِيَ الطُّوفَانُ الْعَظِيمُ فَلَا جَرَمَ أَخْبَرَ نُوحٌ عَنْ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ فَقَالَ: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وَأَمَّا وَاقِعَةُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ كَانَتْ مَسْبُوقَةً بِوَاقِعَةِ نُوحٍ وَكَانَ عِنْدَ النَّاسِ عِلْمٌ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ قَرِيبًا فَلَا جَرَمَ اكْتَفَى هُودٌ بِقَوْلِهِ: أَفَلا تَتَّقُونَ وَالْمَعْنَى تَعْرِفُونَ أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا لم يتقوا لله وَلَمْ يُطِيعُوهُ نَزَلَ بِهِمْ ذَلِكَ الْعَذَابُ الَّذِي اشْتَهَرَ خَبَرُهُ فِي الدُّنْيَا فَكَانَ قَوْلُهُ: أَفَلا تَتَّقُونَ إِشَارَةً إِلَى التَّخْوِيفِ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي الدُّنْيَا. وَالْفَرْقُ الثَّالِثُ: قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ نُوحٍ: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ [الأعراف: 60] وَقَالَ فِي قِصَّةِ هُودٍ: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ وَالْفَرْقُ أَنَّهُ كَانَ فِي أَشْرَافِ قَوْمِ هُودٍ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْهُمْ مَرْثَدُ بْنُ سَعْدٍ أَسْلَمَ وَكَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ فَأُرِيدَتِ التَّفْرِقَةُ بِالْوَصْفِ وَلَمْ يَكُنْ فِي أَشْرَافِ قَوْمِ نُوحٍ مُؤْمِنٌ. وَالْفَرْقُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ قَوْمِ نُوحٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَحَكَى عَنْ قَوْمِ هُودٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُخَوِّفُ الْكُفَّارَ بِالطُّوفَانِ الْعَامِّ وَكَانَ أَيْضًا مُشْتَغِلًا بِإِعْدَادِ السَّفِينَةِ وَكَانَ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُتْعِبَ نَفْسَهُ فِي إِعْدَادِ السَّفِينَةِ فَعِنْدَ هَذَا الْقَوْمُ قَالُوا: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأعراف: 60] وَلَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ مِنَ الْعَلَامَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى ظُهُورِ الْمَاءِ فِي تِلْكَ الْمَفَازَةِ أَمَّا هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمَا ذَكَرَ شَيْئًا/ إِلَّا أَنَّهُ زَيَّفَ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ وَنَسَبَ مَنِ اشْتَغَلَ بِعِبَادَتِهَا إِلَى السَّفَاهَةِ وَقِلَّةِ الْعَقْلِ فَلَمَّا ذَكَرَ هُودٌ هَذَا الْكَلَامَ فِي أَسْلَافِهِمْ قَابَلُوهُ بِمِثْلِهِ وَنَسَبُوهُ إِلَى السَّفَاهَةِ ثُمَّ قَالُوا: وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ فِي ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ هَذَا الظَّنِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْقَطْعُ وَالْجَزْمُ وَوُرُودُ الظَّنِّ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَةِ: 46] وَقَالَ الْحَسَنُ وَالزَّجَّاجُ: كَانَ تَكْذِيبُهُمْ إِيَّاهُ عَلَى الظَّنِّ لَا عَلَى الْيَقِينِ فَكَفَرُوا بِهِ ظَانِّينَ لَا مُتَيَقِّنِينَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الشَّكِّ وَالتَّجْوِيزِ فِي أُصُولِ الدِّينِ يُوجِبُ الْكُفْرَ. وَالْفَرْقُ الْخَامِسُ: بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 62] وَأَمَّا هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ فَنُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: أَنْصَحُ لَكُمْ وَهُوَ صِيغَةُ الْفِعْلِ وَهُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ وَهُوَ صِيغَةُ اسْمِ الْفَاعِلِ وَنُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَهُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ زَادَ فِيهِ كَوْنَهُ أَمِينًا وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أَنَّ الشَّيْخَ عَبْدَ الْقَاهِرِ النَّحْوِيَّ ذَكَرَ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ أَنَّ صِيغَةَ الْفِعْلِ تَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ سَاعَةً فَسَاعَةً وَأَمَّا صِيغَةُ اسْمِ الْفَاعِلِ فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى الثَّبَاتِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يُبَالِغُونَ فِي السَّفَاهَةِ عَلَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ إِنَّهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كَانَ يَعُودُ إِلَيْهِمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ذَلِكَ فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً [نُوحٍ: 5] فَلَمَّا كَانَ مِنْ عَادَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْعَوْدُ إِلَى تَجْدِيدِ تِلْكَ الدَّعْوَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ لَا جَرَمَ ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ فَقَالَ: وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَمَّا هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَوْلُهُ: وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُثَبَّتًا فِي تِلْكَ النَّصِيحَةِ مُسْتَقِرًّا فِيهَا. أَمَّا لَيْسَ فِيهَا إِعْلَامٌ بِأَنَّهُ سَيَعُودُ إِلَى ذِكْرِهَا حَالًا فَحَالًا وَيَوْمًا فَيَوْمًا وَأَمَّا الْفَرْقُ الْآخَرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَهُودًا وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ

أَمِينًا. فَالْفَرْقُ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَعْلَى شَأْنًا وَأَعْظَمَ مَنْصِبًا فِي النُّبُوَّةِ مِنْ هُودٍ فَلَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ نُوحًا كَانَ يَعْلَمُ مِنْ أَسْرَارِ حُكْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ هُودٌ فَلِهَذَا السَّبَبِ أَمْسَكَ هُودٌ لِسَانَهُ عَنْ ذِكْرِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ وَاقْتَصَرَ عَلَى أَنَّ وَصْفَ نَفْسِهِ بِكَوْنِهِ أَمِينًا: وَمَقْصُودٌ مِنْهُ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَثَانِيهَا: أَنَّ مَدَارَ أَمْرِ الرِّسَالَةِ وَالتَّبْلِيغِ عَنِ اللَّهِ عَلَى الْأَمَانَةِ فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ أَمِينًا تَقْرِيرًا لِلرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ. وَثَالِثُهَا: كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: كُنْتُ قَبْلَ هَذِهِ الدَّعْوَى أَمِينًا فِيكُمْ مَا وَجَدْتُمْ مِنِّي غَدْرًا وَلَا مَكْرًا وَلَا كَذِبًا وَاعْتَرَفْتُمْ لِي بِكَوْنِي أَمِينًا فَكَيْفَ نَسَبْتُمُونِي الْآنَ إِلَى الْكَذِبِ؟ / وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمِينَ هُوَ الثِّقَةُ وَهُوَ فَعِيلٌ مِنْ أَمِنَ يَأْمَنُ أَمْنًا فَهُوَ آمِنٌ وَأَمِينٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا قَالُوا لَهُ: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ فَهُوَ لَمْ يُقَابِلْ سَفَاهَتَهُمْ بِالسَّفَاهَةِ بَلْ قَابَلَهَا بِالْحِلْمِ وَالْإِغْضَاءِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى قَوْلِهِ: لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الِانْتِقَامِ أَوْلَى كَمَا قَالَ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفُرْقَانِ: 72] . أَمَّا قَوْلَهُ: وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ فَهُوَ مَدْحٌ لِلنَّفْسِ بِأَعْظَمِ صِفَاتِ الْمَدْحِ. وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعْلَامُ الْقَوْمِ بِذَلِكَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَدْحَ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ جَائِزٌ. وَالْفَرْقُ السَّادِسُ: بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف: 63] وَفِي قِصَّةِ هُودٍ أَعَادَ هَذَا الْكَلَامَ بِعَيْنِهِ إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ مِنْهُ قَوْلَهُ: وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ فِي الْقِصَّةِ الْأُولَى أَنَّ فَائِدَةَ الْإِنْذَارِ هِيَ حُصُولُ التَّقْوَى الْمُوجِبَةِ لِلرَّحْمَةِ لَمْ يَكُنْ إِلَى إِعَادَتِهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ حَاجَةٌ وَأَمَّا بَعْدَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَكُلُّهُ مِنْ خَوَاصِّ قِصَّةِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الأعراف: 69] . [في قَوْلُهُ تَعَالَى أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ إلى آخر الآية] وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْخُلَفَاءِ وَالْخَلَائِفِ وَالْخَلِيفَةِ قَدْ مَضَى فِي مَوَاضِعَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ تَذَكُّرَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ يُوجِبُ الرَّغْبَةَ وَالْمَحَبَّةَ وَزَوَالَ النَّفْرَةِ وَالْعَدَاوَةِ وَقَدْ ذَكَرَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هاهنا نَوْعَيْنِ مِنَ الْإِنْعَامِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَذَلِكَ بِأَنْ أَوْرَثَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْخَلْقُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ فَهَذَا اللَّفْظُ إِنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي لَهُ مِقْدَارٌ وَجُثَّةٌ وَحَجْمِيَّةٌ فَكَانَ الْمُرَادُ حُصُولَ الزِّيَادَةِ فِي أَجْسَامِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ هَذَا اللَّفْظَ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْقُوَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُوَى وَالْقُدَرَ مُتَفَاوِتَةٌ فَبَعْضُهَا أَعْظَمُ وَبَعْضُهَا أَضْعَفُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لفظ الآية يدل على حصول الزيادة واعتداد تِلْكَ الزِّيَادَةِ فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ الْبَتَّةَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِلَّا أَنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ زِيَادَةً عَظِيمَةً وَاقِعَةً عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَادِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ فِي مَعْرِضِ الْأَنْعَامِ فَائِدَةٌ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ أَطْوَلُهُمْ مِائَةَ ذِرَاعٍ وَأَقْصَرُهُمْ سِتِّينَ ذِرَاعًا وَقَالَ آخَرُونَ: تِلْكَ الزِّيَادَةُ هِيَ مِقْدَارُ مَا تَبْلُغُهُ يَدَا إِنْسَانٍ إِذَا رَفَعَهُمَا فَفُضِّلُوا عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِمْ بِهَذَا الْقَدْرِ وَقَالَ قَوْمٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً كَوْنَهُمْ مِنْ قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ مُتَشَارِكِينَ فِي الْقُوَّةِ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 70 إلى 72]

وَالشِّدَّةِ وَالْجَلَادَةِ وَكَوْنَ بَعْضِهِمْ مُحِبًّا لِلْبَاقِينَ نَاصِرًا لَهُمْ وَزَوَالَ الْعَدَاوَةِ وَالْخُصُومَةِ مِنْ بَيْنِهِمْ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَصَّهُمْ بِهَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْمَنَاقِبِ فَقَدْ قَرَّرَ لَهُمْ حُصُولَهَا فَصَحَّ أَنْ يقال: وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً وَلَمَّا ذَكَرَ هُودٌ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ النِّعْمَةِ قَالَ: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: لَا بُدَّ فِي الْآيَةِ مِنْ إِضْمَارٍ وَالتَّقْدِيرُ: وَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَاعْمَلُوا عَمَلًا يَلِيقُ بِتِلْكَ الْإِنْعَامَاتِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَإِنَّمَا أَضْمَرْنَا الْعَمَلَ لِأَنَّ الصَّلَاحَ الَّذِي هُوَ الظَّفَرُ بِالثَّوَابِ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ التَّذَكُّرِ بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ وَاسْتَدَلَّ الطَّاعِنُونَ فِي وُجُوبِ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ حُصُولَ الصَّلَاحِ عَلَى مُجَرَّدِ التَّذَكُّرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُجَرَّدُ التَّذَكُّرِ كَافِيًا فِي حُصُولِ الصَّلَاحِ وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ سَائِرَ الْآيَاتِ نَاطِقَةٌ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْعَمَلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آلاءَ اللَّهِ أَيْ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَاحِدُ الْآلَاءِ إِلًى وَأَلْوٌ وَإِلْيٌ. قَالَ الْأَعْشَى: أَبْيَضُ لَا يَرْهَبُ الْهُزَالَ وَلَا ... يَقْطَعُ رَحِمًا وَلَا يَخُونُ إِلًى قَالَ نَظِيرُ الْآلَاءِ الْآنَاءُ، وَاحِدُهَا: أَنًا وَإِنًى وَإِنْيٌ وَزَادَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي الْأَمْثِلَةِ فَقَالَ: ضِلَعٌ وَأَضْلَاعٌ وَعِنَبٌ وَأَعْنَابٌ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 70 الى 72] قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) [قَوْلُهُ تَعَالَى قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ] اعْلَمْ أَنَّ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَتَرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَثِيرَةٌ عَظِيمَةٌ وَصَرِيحُ الْعَقْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَصْنَامِ شَيْءٌ مِنَ النِّعَمِ عَلَى الْخَلْقِ لِأَنَّهَا جَمَادَاتٌ وَالْجَمَادُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا وَظَاهِرٌ أَنَّ الْعِبَادَةَ نِهَايَةُ التَّعْظِيمِ وَنِهَايَةُ التَّعْظِيمِ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ يَصْدُرُ عَنْهُ نِهَايَةُ الْإِنْعَامِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يجب عليهم ان يعبدو اللَّهَ وَأَنْ لَا يَعْبُدُوا شَيْئًا مِنَ الْأَصْنَامِ وَمَقْصُودُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ ذِكْرِ أَقْسَامِ إِنْعَامِهِ عَلَى الْعَبِيدِ هَذِهِ الْحُجَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا ثُمَّ إِنَّ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْحُجَّةَ الْيَقِينِيَّةَ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْقَوْمِ جَوَابٌ عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا إِلَّا التَّمَسُّكَ بطريقة التقليد فقالوا: أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا ثُمَّ قَالُوا: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ [الأعراف: 65] فَقَوْلُهُ: أَفَلا تَتَّقُونَ مُشْعِرٌ بِالتَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ بِالْوَعِيدِ فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالُوا: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ كَوْنَهُ كَاذِبًا بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ [الأعراف: 66] فَلَمَّا اعْتَقَدُوا كَوْنَهُ كَاذِبًا قَالُوا لَهُ: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا وَالْغَرَضُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَأْتِهِمْ بِذَلِكَ الْعَذَابِ ظَهَرَ لِلْقَوْمِ كَوْنُهُ كَاذِبًا وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الْوَعْدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ فَلَا جَرَمَ اسْتَعْجَلُوهُ عَلَى هذا الحد.

[في قوله تعالى قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ] ثُمَّ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ هَذَا الْكَلَامِ: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّهُ وَقَعَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعَذَابَ لِأَنَّ الْعَذَابَ مَا كَانَ حَاصِلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ الْقَاضِي: تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِنَا ظَاهِرٌ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَحْدَثَ ارادة في ذلك الوقت لان بَعْدَ كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ حَدَثَتْ هَذِهِ الْإِرَادَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ عِنْدَنَا بَاطِلٌ بَلْ عِنْدَنَا فِي الْآيَةِ وُجُوهٌ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِنُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا حَدَثَ الْإِعْلَامُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا جَرَمَ قَالَ هُودٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ: وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ جَعَلَ التَّوَقُّعَ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْ نُزُولِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَاقِعِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ لِمَنْ طَلَبَ مِنْكَ شَيْئًا قَدْ كَانَ ذَلِكَ بِمَعْنَى أَنَّهُ سَيَكُونُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل: 1] بِمَعْنَى: سَيَأْتِي أَمْرُ اللَّهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّا نَحْمِلُ قَوْلَهُ: وَقَعَ عَلَى مَعْنَى وُجِدَ وَحَصَلَ وَالْمَعْنَى: إِرَادَةُ إِيقَاعِ الْعَذَابِ عَلَيْكُمْ حَصَلَتْ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ لِأَنَّ قَوْلَنَا: حَصَلَ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِالْحُدُوثِ بَعْدَ مَا لَمْ يَكُنْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الرِّجْسُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَذَابَ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْغَضَبِ/ الْعَذَابُ فَلَوْ حَمَلْنَا الرِّجْسَ عَلَيْهِ لَزِمَ التَّكْرِيرُ وَأَيْضًا الرِّجْسُ ضِدُّ التَّزْكِيَةِ وَالتَّطْهِيرِ. قَالَ تَعَالَى: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التَّوْبَةِ: 103] وَقَالَ فِي صِفَةِ أَهْلِ الْبَيْتِ: وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الْأَحْزَابِ: 33] وَالْمُرَادُ التَّطَهُّرُ مِنَ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمَذْمُومَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرِّجْسُ عِبَارَةً عَنِ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمَذْمُومَةِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّهُمْ بِالْعَقَائِدِ الْمَذْمُومَةِ وَالصِّفَاتِ الْقَبِيحَةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ الْقَفَّالُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرِّجْسُ هُوَ الِازْدِيَادُ فِي الْكُفْرِ بِالرَّيْنِ عَلَى الْقُلُوبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَةِ: 125] أَيْ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ رَيْنٌ عَلَى قُلُوبِكُمْ عُقُوبَةً مِنْهُ لَكُمْ بِالْخِذْلَانِ لِإِلْفِكُمُ الْكُفْرَ وَتَمَادِيكُمْ فِي الْغَيِّ. وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَفَّالُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ ذَلِكَ فَقَدْ جَاءَ بِالْوِفَاقِ إِلَّا أَنَّهُ شَدِيدُ النَّفْرَةِ عَنْ هَذَا الْمَذْهَبِ وَأَكْثَرُ تَأْوِيلِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِهَذَا الْقَوْلِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْجَوَابَ عَمَّا شَرَحْنَاهُ فَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُوجِبُ رَفْعَ الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِي الْآيَةِ: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا أَصَرُّوا عَلَى التَّقْلِيدِ وَعَدَمِ الِانْقِيَادِ لِلدَّلِيلِ زَادَهُمُ اللَّهُ كُفْرًا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ ثُمَّ خَصَّهُمْ بِمَزِيدِ الْغَضَبِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَغَضَبٌ. ثُمَّ قَالَ: أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ وَالْمُرَادُ مِنْهُ: الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ الْأَصْنَامَ بِالْآلِهَةِ مَعَ أَنَّ مَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ فِيهَا مَعْدُومٌ وَسَمَّوْا وَاحِدًا مِنْهَا بِالْعُزَّى مُشْتَقًّا مِنَ الْعِزِّ وَاللَّهُ مَا أَعْطَاهُ عِزًّا أَصْلًا وَسَمَّوْا آخَرَ مِنْهَا بِاللَّاتِ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ شَيْءٌ. وَقَوْلُهُ: مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ عِبَارَةٌ عَنْ خُلُوِّ مَذَاهِبِهِمْ عَنِ الْحُجَّةِ وَالْبَيِّنَةِ ثُمَّ إِنَّهُ عليه

[سورة الأعراف (7) : الآيات 73 إلى 74]

السَّلَامُ ذَكَرَ لَهُمْ وَعِيدًا مُجَدَّدًا فَقَالَ: فَانْتَظِرُوا مَا يَحْصُلُ لَكُمْ مِنْ عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ عَاقِبَةِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ فَقَالَ: فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا إِذْ كَانُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلرَّحْمَةِ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْآيَاتِ الَّتِي جَعَلْنَاهَا مُعْجِزَةً لِهُودٍ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ الَّذِي هُوَ الرِّيحُ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ كَيْفِيَّتَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَطْعُ الدَّابِرِ: هُوَ الِاسْتِئْصَالُ فَدَلَّ بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدًا وَدَابِرُ الشَّيْءِ آخِرُهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ. قُلْنَا: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ وَعَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ بَقُوا لَمْ يُؤْمِنُوا أَيْضًا ولو علم تعالى انهم سيؤمنون لأبقاهم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 73 الى 74] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ الثَّالِثَةُ وَهُوَ قِصَّةُ صَالِحٍ. أَمَّا قوله: وَإِلى ثَمُودَ فالمعنى لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً [الأعراف: 59] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [الْأَعْرَافِ: 65] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً [هود: 61] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو عَمْرِو بن العلاء: سميت ثمودا لِقِلَّةِ مَائِهَا مِنَ الثَّمْدِ وَهُوَ الْمَاءُ الْقَلِيلُ وَكَانَتْ مَسَاكِنُهُمُ الْحِجْرَ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَإِلَى وَادِي الْقُرَى وَقِيلَ سُمِّيَتْ ثَمُودَ لِأَنَّهُ اسْمُ أَبِيهِمُ الْأَكْبَرِ وَهُوَ ثَمُودُ بْنُ عَادِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. المسألة الثانية: قرئ وَإِلى ثَمُودَ يمنع الصَّرْفِ بِتَأْوِيلِ الْقَبِيلَةِ وَإِلى ثَمُودَ بِالصَّرْفِ بِتَأْوِيلِ الْحَيِّ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ اسْمُ أَبِيهِمُ الْأَكْبَرِ وَقَدْ وَرَدَ الْقُرْآنُ بِهِمَا صَرِيحًا. قَالَ تَعَالَى: أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ [هُودٍ: 68] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَنَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ كَمَا ذَكَرَهُ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. ثُمَّ قَالَ: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مَذْكُورَةٌ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا يَذْكُرُونَ الدَّلَائِلَ عَلَى صِحَّةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ وَحْدَهُ لو كان كافيا لكانت تلك البينة هاهنا لَغْوًا ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْبَيِّنَةَ هِيَ النَّاقَةُ فَقَالَ: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَهْلَكَ عَادًا قَامَ ثَمُودُ مَقَامَهُمْ وَطَالَ عُمُرُهُمْ وَكَثُرَ تَنَعُّمُهُمْ ثُمَّ عَصَوُا

اللَّهَ وَعَبَدُوا الْأَصْنَامَ فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ صَالِحًا وَكَانَ مِنْهُمْ فَطَالَبُوهُ بِالْمُعْجِزَةِ فَقَالَ: مَا تُرِيدُونَ فَقَالُوا: تَخْرُجُ مَعَنَا فِي عِيدِنَا وَنُخْرِجُ أَصْنَامَنَا وَتَسْأَلُ إِلَهَكَ وَنَسْأَلُ أَصْنَامَنَا فَإِذَا ظَهَرَ أَثَرُ دُعَائِكَ اتَّبَعْنَاكَ وَإِنْ ظَهَرَ أَثَرُ دُعَائِنَا اتَّبَعْتَنَا فَخَرَجَ مَعَهُمْ فَسَأَلُوهُ أَنْ يُخْرِجَ لَهُمْ نَاقَةً كَبِيرَةً مِنْ صَخْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ أَنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ آمَنُوا فَقَبِلُوا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا اللَّهَ فَتَمَخَّضَتْ تِلْكَ الصَّخْرَةُ كَمَا تَتَمَخَّضُ الْحَامِلُ ثُمَّ انْفَرَجَتْ وَخَرَجَتِ النَّاقَةُ مِنْ وَسَطِهَا وَكَانَتْ فِي غَايَةِ الْكِبَرِ وَكَانَ الْمَاءُ عِنْدَهُمْ قَلِيلًا فَجَعَلُوا ذَلِكَ الْمَاءَ بِالْكُلِّيَّةِ شِرْبًا لَهَا فِي يَوْمٍ وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي شِرْبًا لِكُلِّ الْقَوْمِ قَالَ السُّدِّيُّ: وَكَانَتِ النَّاقَةُ فِي الْيَوْمِ الَّتِي تَشْرَبُ فِيهِ الْمَاءَ تَمُرُّ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ فَتَعْلُوهُمَا ثُمَّ تَأْتِي فَتَشْرَبُ فَتَحْلِبُ مَا يَكْفِي الْكُلَّ وَكَأَنَّهَا كَانَتْ تَصُبُّ اللَّبَنَ صَبًّا وَفِي الْيَوْمِ الَّذِي يَشْرَبُونَ الْمَاءَ فِيهِ لَا تَأْتِيهِمْ وَكَانَ مَعَهَا فَصِيلٌ لَهَا فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: يُولَدُ فِي شَهْرِكُمْ هَذَا غُلَامٌ يَكُونُ هَلَاكُكُمْ عَلَى يَدَيْهِ فَذَبَحَ تِسْعَةُ نَفَرٍ مِنْهُمْ أَبْنَاءَهُمْ ثُمَّ وُلِدَ الْعَاشِرُ فَأَبَى أَنْ يَذْبَحَهُ أَبُوهُ فَنَبَتَ نَبَاتًا سَرِيعًا وَلَمَّا كَبِرَ الْغُلَامُ جَلَسَ مَعَ قَوْمٍ يُصِيبُونَ مِنَ الشَّرَابِ فَأَرَادُوا مَاءً يَمْزُجُونَهُ بِهِ وَكَانَ يَوْمُ شِرْبِ النَّاقَةِ فَمَا وَجَدُوا الْمَاءَ وَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ الْغُلَامُ: هَلْ لَكُمْ فِي أَنْ أَعْقِرَ هَذِهِ النَّاقَةَ؟ فَشَدَّ عَلَيْهَا فَلَمَّا بَصُرَتْ بِهِ شَدَّتْ عَلَيْهِ فَهَرَبَ مِنْهَا إِلَى خَلْفِ صَخْرَةٍ فَأَحَاشُوهَا عَلَيْهِ فَلَمَّا مَرَّتْ بِهِ تَنَاوَلَهَا فَعَقَرَهَا فَسَقَطَتْ فَذَلِكَ قوله: فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ وأظهروا حينئذ كفرهم وعتوا من أَمْرِ رَبِّهِمْ فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: إِنَّ آيَةَ الْعَذَابِ أَنْ تُصْبِحُوا غَدًا حُمْرًا وَالْيَوْمَ الثَّانِيَ صُفْرًا وَالْيَوْمَ الثَّالِثَ سُودًا فَلَمَّا صَبَّحَهُمُ الْعَذَابُ تَحَنَّطُوا وَاسْتَعَدُّوا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجْهِ كَوْنِ النَّاقَةِ آيَةً فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا كَانَتْ آيَةً بِسَبَبِ خُرُوجِهَا بِكَمَالِهَا مِنَ الصَّخْرَةِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا إِنْ صَحَّ فَهُوَ مُعْجِزٌ مِنْ جِهَاتٍ: أَحَدُهَا: خُرُوجُهَا مِنَ الْجَبَلِ وَالثَّانِيَةُ: كَوْنُهَا لَا مِنْ ذِكْرٍ وَأُنْثَى وَالثَّالِثَةُ: كَمَالُ خَلْقِهَا مِنْ غَيْرِ تَدْرِيجٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا إِنَّمَا كَانَتْ آيَةً لِأَجْلِ أَنَّ لَهَا شِرْبُ يَوْمٍ وَلِجَمِيعِ ثَمُودَ شِرْبُ يَوْمٍ وَاسْتِيفَاءُ نَاقَةٍ شِرْبَ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ عَجِيبٌ وَكَانَتْ مَعَ ذَلِكَ تَأْتِي بِمَا يَلِيقُ بِذَلِكَ الْمَاءِ مِنَ/ الْكَلَأِ وَالْحَشِيشِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ وَجْهَ الْإِعْجَازِ فِيهَا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي يَوْمِ شِرْبِهَا يَحْلُبُونَ مِنْهَا الْقَدْرَ الَّذِي يَقُومُ لَهُمْ مَقَامَ الْمَاءِ فِي يَوْمِ شِرْبِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ إِنَّهَا لَمْ تَحْلُبْ قَطْرَةَ لَبَنٍ قَطُّ، وَهَذَا الْكَلَامُ مُنَافٍ لِمَا تَقَدَّمَ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ وَجْهَ الْإِعْجَازِ فِيهَا أَنَّ يَوْمَ مَجِيئِهَا إِلَى الْمَاءِ كَانَ جَمِيعُ الْحَيَوَانَاتِ تَمْتَنِعُ مِنَ الْوُرُودِ عَلَى الْمَاءِ، وَفِي يَوْمِ امْتِنَاعِهَا كَانَتِ الْحَيَوَانَاتُ تَأْتِي. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ فِيهَا آيَةً، فَأَمَّا ذِكْرُ أَنَّهَا كَانَتْ آيَةً مِنْ أَيِّ الْوُجُوهِ فَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ وَالْعِلْمُ حَاصِلٌ بِأَنَّهَا كَانَتْ مُعْجِزَةً مِنْ وَجْهٍ مَا لَا مَحَالَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَقَوْلُهُ: آيَةً نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ أُشِيرَ إِلَيْهَا فِي حَالِ كَوْنِهَا آية، ولفظة (هذه) تتضمن معنى الإشارة، وآيَةً فِي مَعْنَى دَالَّةٍ. فَلِهَذَا جَازَ أَنْ تَكُونَ حَالًا. فَإِنْ قِيلَ: تِلْكَ النَّاقَةُ كَانَتْ آيَةً لِكُلِّ أَحَدٍ، فَلِمَاذَا خَصَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ بِهَا؟ فَقَالَ: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 75 إلى 79]

قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ عَايَنُوهَا وَغَيْرُهُمْ أُخْبِرُوا عَنْهَا، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ. وَثَانِيهَا: لَعَلَّهُ يُثْبِتُ سَائِرَ الْمُعْجِزَاتِ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْمَ الْتَمَسُوا منه هذه المعجزات نَفْسَهَا عَلَى سَبِيلِ الِاقْتِرَاحِ، فَأَظْهَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى حَسُنَ هَذَا التَّخْصِيصُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَخْصِيصِ تِلْكَ النَّاقَةِ بِأَنَّهَا نَاقَةُ اللَّهِ؟ قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ: قِيلَ أَضَافَهَا إِلَى اللَّهِ تَشْرِيفًا وَتَخْصِيصًا كَقَوْلِهِ: بَيْتُ اللَّهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ خَلَقَهَا بِلَا وَاسِطَةٍ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا لَا مَالِكَ لَهَا غَيْرُ اللَّهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْقَوْمِ. ثُمَّ قَالَ: فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ أَيِ الْأَرْضُ أَرْضُ اللَّهِ، وَالنَّاقَةُ نَاقَةُ اللَّهِ، فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ رَبِّهَا، فَلَيْسَتِ الْأَرْضُ لَكُمْ وَلَا مَا فِيهَا مِنَ النَّبَاتِ مِنْ إِنْبَاتِكُمْ، وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ وَلَا تَضْرِبُوهَا وَلَا تَطْرُدُوهَا وَلَا تَقْرَبُوا مِنْهَا شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى عَنِ النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَا عَلِيُّ أَشْقَى الْأَوَّلِينَ عَاقِرُ نَاقَةِ صَالِحٍ وَأَشْقَى الْآخِرِينَ قَاتِلُكَ» . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ قِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَهْلَكَ عادا عمر ثَمُودُ بِلَادَهَا، وَخَلَفُوهُمْ فِي الْأَرْضِ وَكَثُرُوا وَعُمِّرُوا أَعْمَارًا طِوَالًا. ثُمَّ قَالَ: وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أَنْزَلَكُمْ، وَالْمُبَوَّأُ: الْمَنْزِلُ مِنَ الْأَرْضِ، أَيْ فِي أَرْضِ الْحِجْرِ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ. ثُمَّ قَالَ: تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً اى تبوءون القصور من سهولة الأرض، فان القصود إِنَّمَا تُبْنَى مِنَ الطِّينِ وَاللَّبِنِ وَالْآجُرِّ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ إِنَّمَا تُتَّخَذُ مِنْ سُهُولَةِ الْأَرْضِ وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً يُرِيدُ تَنْحِتُونَ بُيُوتًا مِنَ الْجِبَالِ تَسْقُفُونَهَا. فَإِنْ قَالُوا: عَلَامَ انْتَصَبَ بُيُوتًا؟ قُلْنَا: عَلَى الْحَالِ كَمَا يُقَالُ: خَطَّ هَذَا الثَّوْبَ قَمِيصًا وَأَبَّرَ هَذِهِ الْقَصَبَةَ قَلَمًا، وَهِيَ مِنَ الحال المقدرة، لان الجل لَا يَكُونُ بَيْتًا فِي حَالِ النَّحْتِ، وَلَا الثَّوْبَ وَالْقَصَبَةَ قَمِيصًا، وَقَلَمًا فِي حَالِ الْخِيَاطَةِ وَالْبَرْيِ. وَقِيلَ: كَانُوا يَسْكُنُونَ السُّهُولَ فِي الصَّيْفِ والجبال في الشتاء، وهذا يلد عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَنَعِّمِينَ مُتَرَفِّهِينَ. ثُمَّ قَالَ: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ يَعْنِي قَدْ ذَكَرْتُ لَكُمْ بَعْضَ أَقْسَامِ مَا آتَاكُمُ اللَّهُ مِنَ النِّعَمِ، وَذِكْرُ الْكُلِّ طَوِيلٌ فَاذْكُرُوا أَنْتُمْ بِعُقُولِكُمْ مَا فِيهَا وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ قِيلَ الْمُرَادُ مِنْهُ: النَّهْيُ عَنْ عَقْرِ النَّاقَةِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ الْمَنْعُ عَنْ كل انواع الفساد. [سورة الأعراف (7) : الآيات 75 الى 79] قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يَا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إلى قوله كافِرُونَ] اعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَلَأَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَمْتَلِئُ الْقُلُوبُ مِنْ هَيْبَتِهِمْ، وَمَعْنَى الْآيَةِ قَالَ الْمَلَأُ وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينِ اسْتُضْعِفُوا، يُرِيدُ الْمَسَاكِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ، وَقَوْلُهُ: لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِأَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَصَفَ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ بِكَوْنِهِمْ مُسْتَكْبِرِينَ، وَوَصَفَ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ بِكَوْنِهِمْ مُسْتَضْعَفِينَ، وَكَوْنُهُمْ مُسْتَكْبِرِينَ فِعْلٌ اسْتَوْجَبُوا بِهِ الذَّمَّ، وَكَوْنُ الْمُؤْمِنِينَ مُسْتَضْعَفِينَ مَعْنَاهُ: أَنَّ غَيْرَهُمْ يَسْتَضْعِفُهُمْ وَيَسْتَحْقِرُهُمْ، وَهَذَا لَيْسَ فِعْلًا صَادِرًا عَنْهُمْ بَلْ عَنْ غَيْرِهِمْ، فَهُوَ لَا يَكُونُ صفة ذم حَقِّهِمْ، بَلِ الذَّمُّ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ يَسْتَحْقِرُونَهُمْ وَيَسْتَضْعِفُونَهُمْ. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَكْبِرِينَ سألوا المستضعفين عن حال صالح فقال المتضعفون نَحْنُ مُوقِنُونَ مُصَدِّقُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ صَالِحٌ. وَقَالَ الْمُسْتَكْبِرُونَ: بَلْ نَحْنُ كَافِرُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ صَالِحٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي بَيَانِ أَنَّ الْفَقْرَ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِكْبَارَ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، وَالِاسْتِضْعَافُ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ قِلَّتِهِمَا، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ وَالْجَاهِ حَمَلَهُمْ عَلَى التَّمَرُّدِ، وَالْإِبَاءِ، وَالْإِنْكَارِ، وَالْكُفْرِ، وَقِلَّةَ الْمَالِ وَالْجَاهِ حَمَلَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالتَّصْدِيقِ وَالِانْقِيَادِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَقْرَ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْعَقْرُ عِنْدَ الْعَرَبِ، كَشْفُ عُرْقُوبِ الْبَعِيرِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَقْرُ سَبَبًا لِلنَّحْرِ أُطْلِقَ الْعَقْرُ عَلَى النَّحْرِ إِطْلَاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ أَسْنَدَ الْعَقْرَ إِلَى جَمِيعِهِمْ، لِأَنَّهُ كَانَ بِرِضَاهُمْ مَعَ أَنَّهُ مَا بَاشَرَهُ إِلَّا بَعْضُهُمْ، وَقَدْ يُقَالُ لِلْقَبِيلَةِ الْعَظِيمَةِ: أَنْتُمْ فَعَلْتُمْ كَذَا مَعَ أَنَّهُ مَا فَعَلَهُ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْهُمْ. ثُمَّ قَالَ: وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ يُقَالُ: عَتَا يَعْتُو عُتُوًّا، إِذَا اسْتَكْبَرَ. وَمِنْهُ يُقَالُ: جَبَّارٌ عَاتٍ قَالَ مُجَاهِدٌ: الْعُتُوُّ الْغُلُوُّ فِي الْبَاطِلِ وَفِي قَوْلِهِ: عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ اسْتَكْبَرُوا عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَذَلِكَ الْأَمْرُ هُوَ الَّذِي أَوْصَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ [الأعراف: 73] الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَصَدَرَ عُتُوُّهُمْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، فَكَأَنَّ أَمْرَ رَبِّهِمْ بِتَرْكِهَا صَارَ سَبَبًا فِي إِقْدَامِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْعُتُوِّ، كَمَا يقال: الممنوع متبوع وَقالُوا يَا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ لَهُ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: هِيَ الزَّلْزَلَةُ الشَّدِيدَةُ. قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا [الْمُزَّمِّلُ: 14] قَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ رَجَفَ الشَّيْءُ يَرْجُفُ رَجْفًا وَرَجَفَانًا كَرَجَفَانِ الْبَعِيرِ تَحْتَ الرَّحْلِ، وَكَمَا يَرْجُفُ الشَّجَرُ إِذَا أَرْجَفَتْهُ الرِّيحُ. ثُمَّ قَالَ: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ يَعْنِي فِي بَلَدِهِمْ وَلِذَلِكَ وَحَّدَ الدَّارَ كما يقول: دَارُ الْحَرْبِ وَمَرَرْتُ بِدَارِ الْبَزَّازِينَ، وَجَمَعَ فِي آيَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: فِي دِيارِهِمْ [هُودٍ: 94] لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالدَّارِ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِ الْخَاصِّ بِهِ. وَقَوْلُهُ: جاثِمِينَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْجُثُومُ لِلنَّاسِ وَالطَّيْرِ، بِمَنْزِلَةِ الْبُرُوكِ لِلْإِبِلِ،

فَجُثُومِ الطَّيْرِ هُوَ وُقُوعُهُ لَاطِئًا بِالْأَرْضِ فِي حَالِ سُكُونِهِ بِاللَّيْلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أَصْبَحُوا جَاثِمِينَ خَامِدِينَ لَا يَتَحَرَّكُونَ مَوْتَى، يُقَالُ: النَّاسُ جَثْمٌ أَيْ قُعُودٌ لَا حَرَاكَ بِهِمْ وَلَا يُحِسُّونَ بشيء، ومن الْمُجَثَّمَةُ الَّتِي جَاءَ النَّهْيُ عَنْهَا، وَهِيَ الْبَهِيمَةُ الَّتِي تُرْبَطُ لِتُرْمَى، فَثَبَتَ أَنَّ الْجُثُومَ عِبَارَةٌ عَنِ السُّكُونِ وَالْخُمُودِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَمَّا سَمِعُوا الصَّيْحَةَ الْعَظِيمَةَ تَقَطَّعَتْ قُلُوبُهُمْ وَمَاتُوا جَاثِمِينَ عَلَى الرُّكَبِ، وَقِيلَ بَلْ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَقِيلَ وَصَلَتِ الصَّاعِقَةُ إِلَيْهِمْ فَاحْتَرَقُوا وَصَارُوا كَالرَّمَادِ. وَقِيلَ: بَلْ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ سَقَطَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَالْكُلُّ مُتَقَارِبٌ. وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا: يَا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ قَالَ تَعَالَى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجْفَةَ أَخَذَتْهُمْ عَقِيبَ مَا ذَكَرُوا ذَلِكَ الْكَلَامَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هُودٍ: 65] . وَالْجَوَابُ: أَنَّ الَّذِي يَحْصُلُ عَقِيبَ الشَّيْءِ بِمُدَّةٍ قَلِيلَةٍ قَدْ يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُ حَصَلَ عَقِيبَهُ فَزَالَ السُّؤَالُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: طَعَنَ قَوْمٌ مِنَ الْمُلْحِدِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِأَنَّ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ قَدِ اخْتَلَفَتْ فِي حِكَايَةِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَهِيَ الرَّجْفَةُ وَالطَّاغِيَةُ وَالصَّيْحَةُ، وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ التَّنَاقُضَ. وَالْجَوَابُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الطَّاغِيَةُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا تَجَاوَزَ حَدَّهُ سَوَاءٌ كَانَ حَيَوَانًا أَوْ غَيْرَ حَيَوَانٍ وَأَلْحَقَ الْهَاءَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَالْمُسْلِمُونَ يُسَمُّونَ الْمَلِكَ الْعَاتِيَ بِالطَّاغِيَةِ وَالطَّاغُوتِ. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [الْعَلَقِ: 6 7] وَيُقَالُ: طَغَى طُغْيَانًا وَهُوَ طَاغٍ وَطَاغِيَةٌ. وَقَالَ تَعَالَى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها [الشَّمْسِ: 11] وَقَالَ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ [الْحَاقَّةِ: 11] أَيْ غَلَبَ وَتَجَاوَزَ عَنِ الْحَدِّ، وَأَمَّا الرَّجْفَةُ، فَهِيَ الزَّلْزَلَةُ فِي الْأَرْضِ، وَهِيَ حَرَكَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، فَلَمْ يَبْعُدْ إِطْلَاقُ اسْمِ الطَّاغِيَةِ عَلَيْهَا، وَأَمَّا الصَّيْحَةُ، فَالْغَالِبُ أَنَّ الزَّلْزَلَةَ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الصَّيْحَةِ الْعَظِيمَةِ الْهَائِلَةِ وَأَمَّا الصَّاعِقَةُ، فَالْغَالِبُ أَنَّهَا الزَّلْزَلَةُ وَكَذَلِكَ الزَّجْرَةُ قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النَّازِعَاتِ: 13 14] فَبَطَلَ ما قال الطَّاعِنُ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ شَاهَدُوا خروج الناقة عن الصَّخْرَةِ وَذَلِكَ مُعْجِزَةٌ قَاهِرَةٌ تُقَرِّبُ حَالَ الْمُكَلَّفِينَ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ مِنَ الْإِلْجَاءِ، وَأَيْضًا شَاهَدُوا أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي كَانَ شِرْبًا لِكُلِّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ فِي أَحَدِ الْيَوْمَيْنِ، كَانَ شِرْبًا لِتِلْكَ النَّاقَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَذَلِكَ أَيْضًا مُعْجِزَةٌ قَاهِرَةٌ، ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا نَحَرُوهَا، وَكَانَ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ تَوَعَّدَهُمْ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ إِنْ/ نَحَرُوهَا، فَلَمَّا شَاهَدُوا بَعْدَ إِقْدَامِهِمْ عَلَى نَحْرِهَا آثَارَ الْعَذَابِ، وَهُوَ مَا يُرْوَى أَنَّهُمُ احْمَرُّوا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ اصْفَرُّوا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، ثُمَّ اسْوَدُّوا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَمَعَ مُشَاهَدَةِ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ في أول الأمر، ثم شاهدا نُزُولَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، هَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَبْقَى الْعَاقِلُ مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ مُصِرًّا عَلَى كُفْرِهِ غَيْرَ تَائِبٍ مِنْهُ؟ وَالْجَوَابُ الاول أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ قَبْلَ أَنْ شَاهَدُوا تِلْكَ الْعَلَامَاتِ كَانُوا يُكَذِّبُونَ صَالِحًا فِي نُزُولِ الْعَذَابِ فَلَمَّا شَاهَدُوا الْعَلَامَاتِ خَرَجُوا عِنْدَ ذَلِكَ عَنْ حَدِّ التَّكْلِيفِ وَخَرَجُوا عَنْ أَنْ تَكُونَ تَوْبَتُهُمْ مقبولة. ثم قال تعالى: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ [إلى آخر الآية] وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَوَلَّى عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ مَاتُوا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى

[سورة الأعراف (7) : آية 80]

قَالَ: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَالْفَاءُ تَدُلُّ عَلَى التَّعْقِيبِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ هَذَا التَّوَلِّي بَعْدَ جُثُومِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوَلَّى عَنْهُمْ قَبْلَ مَوْتِهِمْ بِدَلِيلِ: انه خاطب القوم وَقَالَ: يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ أَحْيَاءً مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أحدهما: أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: يَا قَوْمِ وَالْأَمْوَاتُ لَا يُوصَفُونَ بِالْقَوْمِ لِأَنَّ اشْتِقَاقَ لَفْظِ الْقَوْمِ مِنَ الِاسْتِقْلَالِ بِالْقِيَامِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ مَفْقُودٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ خِطَابٌ مَعَ أُولَئِكَ وَخِطَابُ الْمَيِّتِ لَا يَجُوزُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: وَلكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونُوا بِحَيْثُ يَصِحُّ حُصُولُ الْمَحَبَّةِ فِيهِمْ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ فَنَقُولُ: قَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ مَيِّتٌ وَكَانَ قَدْ نَصَحَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ تِلْكَ النَّصِيحَةَ حَتَّى أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْهَلَاكِ يَا أَخِي مُنْذُ كَمْ نَصَحْتُكَ فَلَمْ تَقْبَلْ وكم منعتك فلم تمتنع فكذا هاهنا وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ إِمَّا لِأَنْ يَسْمَعَهُ بَعْضُ الْأَحْيَاءِ فَيَعْتَبِرَ بِهِ وَيَنْزَجِرَ عَنْ مِثْلِ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ وَإِمَّا لِأَجْلِ أَنَّهُ احْتَرَقَ قَلْبُهُ بِسَبَبِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ فَإِذَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْكَلَامَ فَرَّجَتْ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ عَنْ قَلْبِهِ. وَقِيلَ: يَخِفُّ عَلَيْهِ أَثَرُ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ وَذَكَرُوا جَوَابًا آخَرَ وَهُوَ: أَنَّ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاطَبَهُمْ بَعْدَ كَوْنِهِمْ جَاثِمِينَ كَمَا أَنَّ نَبِيَّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَاطَبَ قَتْلَى بَدْرٍ. فَقِيلَ: تَتَكَلَّمُ مَعَ هَؤُلَاءِ الْجِيَفِ فَقَالَ: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ منهم لكنهم لا يقدرون على الجواب» . [سورة الأعراف (7) : آية 80] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ الرَّابِعَةُ قَالَ النَّحْوِيُّونَ: إِنَّمَا صُرِفَ لُوطٌ وَنُوحٌ لِخِفَّتِهِ فَإِنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ وَهُوَ سَاكِنُ الْوَسَطِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أَتَفْعَلُونَ السَّيِّئَةَ الْمُتَمَادِيَةَ فِي الْقُبْحِ؟ وَفِي قَوْلِهِ: مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : (مِنَ) الْأُولَى زَائِدَةٌ لِتَوْكِيدِ النَّفْيِ وَإِفَادَةُ مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ وَالثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ مَعَ أَنَّ الشَّهْوَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ أَبَدًا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّا نَرَى كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَسْتَقْذِرُ ذَلِكَ الْعَمَلَ، فَإِذَا جَازَ فِي الْكَثِيرِ مِنْهُمُ اسْتِقْذَارَهُ لَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا انْقِضَاءُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ بِحَيْثُ لَا يُقْدِمُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْأَعْصَارِ عَلَيْهِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّهُمْ بِكُلِّيَّتِهِمْ أَقْبَلُوا عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ وَالْإِقْبَالُ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ مِمَّا لَمْ يُوجَدْ فِي الْأَعْصَارِ السَّابِقَةِ. قَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا يَنْكِحُونَ الرِّجَالَ فِي أَدْبَارِهِمْ وَكَانُوا لَا يَنْكِحُونَ إِلَّا الْغُرَبَاءَ وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اسْتَحْكَمَ ذَلِكَ فِيهِمْ حَتَّى فَعَلَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: مَا سَبَقَكُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا فِي التَّوْبِيخِ لَهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ الْفَاحِشَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37] وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَلَقَدْ أَمُرُّ على اللئيم يسبني ثم قال: [سورة الأعراف (7) : آية 81] إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)

وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ إِنَّكُمْ بِكَسْرِ الْأَلْفٍ وَمَذْهَبُ نَافِعٍ ان يكتفى بالاستفهام بالأولى مِنَ الثَّانِي فِي كُلِّ الْقُرْآنِ. وَقَرَأَ ابْنُ كثير اإنكم بِهَمْزَةٍ غَيْرِ مَمْدُودَةٍ وَبَيْنَ الثَّانِيَةِ وَقَرَأَ أَبُو عمرو بهمزة ممدودة بالتخفيف وبين الثانية وَالْبَاقُونَ بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَنِ اسْتَفْهَمَ كَانَ هَذَا اسْتِفْهَامًا مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ لِقَوْلِهِ: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ [الأعراف: 80] وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الِاسْتِفْهَامَيْنِ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لَا تَحْتَاجُ فِي تَمَامِهَا إِلَى شَيْءٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: شَهْوَةً مَصْدَرٌ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ شَهِيَ يَشْهَى شَهْوَةً وَانْتِصَابُهَا عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَتَأْتُونَ الرِّجالَ مَعْنَاهُ أَتَشْتَهُونَ شَهْوَةً؟ وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ إِنَّهَا مَصْدَرٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الْحَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي بَيَانِ الْوُجُوهِ الْمُوجِبَةِ لَقُبْحِ هَذَا الْعَمَلِ. اعْلَمْ أَنَّ قُبْحَ هَذَا الْعَمَلِ كَالْأَمْرِ الْمُقَرَّرِ فِي الطِّبَاعِ فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى تَعْدِيدِ الْوُجُوهِ عَلَى التَّفْصِيلِ ثُمَّ نَقُولُ مُوجِبَاتُ الْقُبْحِ فِيهِ كَثِيرَةٌ: أَوَّلُهَا: أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَحْتَرِزُونَ عَنْ حُصُولِ الْوَلَدِ لِأَنَّ حُصُولَهُ يَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى طَلَبِ الْمَالِ وَإِتْعَابِ النَّفْسِ فِي الْكَسْبِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْوِقَاعَ سَبَبًا لِحُصُولِ اللَّذَّةِ الْعَظِيمَةِ حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ بِطَلَبِ تِلْكَ اللَّذَّةِ يُقْدِمُ عَلَى الْوِقَاعِ وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الْوَلَدُ شَاءَ أَمْ أَبَى وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَبْقَى النَّسْلُ وَلَا يَنْقَطِعُ النَّوْعُ فَوَضَعَ اللَّذَّةَ فِي الْوِقَاعِ كَشِبْهِ الْإِنْسَانِ الَّذِي وَضَعَ الْفَخَّ لِبَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَضَعَ فِي ذلك الفخ شيئا يشتبهه ذَلِكَ الْحَيَوَانُ حَتَّى يَصِيرَ سَبَبًا لِوُقُوعِهِ فِي ذَلِكَ الْفَخِّ فَوَضْعُ اللَّذَّةِ فِي الْوِقَاعِ يُشْبِهُ وَضْعَ الشَّيْءِ الَّذِي يَشْتَهِيهِ الْحَيَوَانُ فِي الْفَخِّ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إِبْقَاءُ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْأَنْوَاعِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَوْ تَمَكَّنَ الْإِنْسَانُ مِنْ تَحْصِيلِ تِلْكَ اللَّذَّةِ بِطْرِيقٍ لَا تُفْضِي إِلَى الْوَلَدِ لَمْ تَحْصُلِ الْحِكْمَةُ الْمَطْلُوبَةُ وَلَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى انْقِطَاعِ النَّسْلِ وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ حُكْمِ اللَّهِ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِتَحْرِيمِهِ قَطْعًا حَتَّى تَحْصُلَ تِلْكَ اللَّذَّةُ بِالطَّرِيقِ الْمُفْضِي إِلَى الْوَلَدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الذُّكُورَةَ مَظِنَّةُ الْفِعْلِ وَالْأُنُوثَةُ مَظِنَّةُ الِانْفِعَالِ فَإِذَا صَارَ الذَّكَرُ مُنْفَعِلًا وَالْأُنْثَى فَاعِلًا كَانَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ وَعَلَى عَكْسِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: الِاشْتِغَالُ بِمَحْضِ الشَّهْوَةِ تَشَبُّهٌ بِالْبَهِيمَةِ وَإِذَا كَانَ الِاشْتِغَالُ بِالشَّهْوَةِ يُفِيدُ فَائِدَةً أُخْرَى سِوَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ فَلْيَكُنْ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ مِنَ الْمَرْأَةِ يُفِيدُ فَائِدَةً أُخْرَى سِوَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَهُوَ حُصُولُ الْوَلَدِ وَإِبْقَاءُ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْأَنْوَاعِ فَأَمَّا قَضَاءُ الشَّهْوَةِ مِنَ الذَّكَرِ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا مُجَرَّدَ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ فَكَانَ ذَلِكَ تَشَبُّهًا بِالْبَهَائِمِ وَخُرُوجًا عَنِ الْغَرِيزَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ فَكَانَ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: هَبْ أَنَّ الْفَاعِلَ يَلْتَذُّ بِذَلِكَ الْعَمَلِ إِلَّا أَنَّهُ يَبْقَى فِي إِيجَابِ الْعَارِ الْعَظِيمِ وَالْعَيْبِ الْكَامِلِ بِالْمَفْعُولِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَزُولُ ذَلِكَ الْعَيْبُ عَنْهُ أَبَدَ الدَّهْرِ وَالْعَاقِلُ لَا يَرْضَى لِأَجْلِ لَذَّةٍ خَسِيسَةٍ مُنْقَضِيَةٍ فِي الْحَالِ إِيجَابَ الْعَيْبِ الدَّائِمِ الْبَاقِي بِالْغَيْرِ. وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ عَمَلٌ يُوجِبُ اسْتِحْكَامَ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَرُبَّمَا يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى إِقْدَامِ الْمَفْعُولِ عَلَى قَتْلِ الْفَاعِلِ لِأَجْلِ أَنَّهُ يَنْفِرُ طَبْعُهُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ أَوْ عَلَى إِيجَابِ إِنْكَائِهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ. أَمَّا

[سورة الأعراف (7) : آية 82]

حُصُولُ هَذَا الْعَمَلِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ اسْتِحْكَامَ الْأُلْفَةِ وَالْمَوَدَّةِ وَحُصُولِ الْمَصَالِحِ الْكَبِيرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الرُّومِ: 21] . وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي الرَّحِمِ قُوَّةً شَدِيدَةَ الْجَذْبِ لِلْمَنِيِّ فَإِذَا وَاقَعَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ قَوِيَ الْجَذْبُ فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنَ الْمَنِيِّ فِي الْمَجَارِي إِلَّا وَيَنْفَصِلُ. أَمَّا إِذَا وَاقَعَ الرَّجُلَ فَلَمْ يَحْصُلْ فِي ذَلِكَ الْعُضْوِ الْمُعَيَّنِ مِنَ الْمَفْعُولِ قُوَّةً جَاذِبَةً لِلْمَنِيِّ وَحِينَئِذٍ لَا يَكْمُلُ الْجَذْبُ فَيَبْقَى شَيْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَنِيِّ فِي تِلْكَ الْمَجَارِي وَلَا يَنْفَصِلُ وَيَعْفَنُ وَيَفْسُدُ وَيَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْأَوْرَامُ الشَّدِيدَةُ وَالْأَسْقَامُ الْعَظِيمَةُ وَهَذِهِ فَائِدَةٌ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا إِلَّا بالقوانين الطيبة فَهَذِهِ هِيَ الْوُجُوهُ الْمُوجِبَةُ لَقُبْحِ هَذَا الْعَمَلِ وَرَأَيْتُ بَعْضَ مَنْ كَانَ ضَعِيفًا فِي الدِّينِ يَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المؤمنون: 5 المعارج: 29] وَذَلِكَ يَقْتَضِي حِلَّ وَطْءِ الْمَمْلُوكِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى قَالَ: وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّا نُخَصِّصُ هَذَا الْعُمُومَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: 165] وَقَوْلِهِ: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ [الأعراف: 80] قَالَ لِأَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعَمُّ مِنَ الْأُخْرَى مِنْ وَجْهٍ وَأَخَصُّ مِنْ وَجْهٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ قَدْ يَكُونُ ذَكَرًا وَقَدْ يَكُونُ أُنْثَى وَأَيْضًا الذَّكَرُ قَدْ يَكُونُ مَمْلُوكًا وَقَدْ لَا يَكُونُ مَمْلُوكًا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ تَخْصِيصُ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ وَالتَّرْجِيحُ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ شَرْعُ مُحَمَّدٍ وَقِصَّةُ لُوطٍ شَرْعُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَشَرْعُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْلَى مِنْ شَرْعِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَيْضًا الْأَصْلُ فِي الْمَنَافِعِ وَالْمَلَاذِّ الْحِلُّ وَأَيْضًا الْمِلْكُ مُطْلَقٌ للتصرف. فقل لَهُ الِاسْتِدْلَالُ إِنَّمَا يُقْبَلُ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِمَالِ وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ الظَّاهِرِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ حُرْمَةُ هَذَا الْعَمَلِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ وَالِاسْتِدْلَالُ إِذَا وَقَعَ فِي مُقَابَلَةِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ كَانَ بَاطِلًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ لُوطٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَالْمَعْنَى كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ مُسْرِفُونَ فِي كُلِّ الْأَعْمَالِ فَلَا يَبْعُدُ مِنْكُمْ أَيْضًا اقدامكم على هذا الإسراف. [سورة الأعراف (7) : آية 82] وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَخْرِجُوا لُوطًا وَأَتْبَاعَهُ لِأَنَّهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ قَالَ: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النَّمْلِ: 56] وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا سَعَوْا فِي إِخْرَاجِ مَنْ نَهَاهُمْ عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي يَشْتَهُونَهُ وَيُرِيدُونَهُ وَذَلِكَ النَّاهِي لَيْسَ إِلَّا لُوطًا وَقَوْمَهُ وَفِي قَوْلِهِ: يَتَطَهَّرُونَ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: / أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ تَصَرُّفٌ فِي مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ فَمَنْ تَرَكَهُ فَقَدْ تَطَهَّرَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْبُعْدَ عَنِ الْإِثْمِ يُسَمَّى طَهَارَةً فَقَوْلُهُ: يَتَطَهَّرُونَ أَيْ يَتَبَاعَدُونَ عَنِ الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ إِنَّمَا قَالُوا: أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ عَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ بِهِمْ وَتَطَهُّرِهِمْ مِنَ الْفَوَاحِشِ كَمَا يَقُولُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْفَسَقَةِ لِبَعْضِ الصُّلَحَاءِ إِذَا وَعَظَهُمْ: أَبْعِدُوا عَنَّا هَذَا الْمُتَقَشِّفَ وَأَرِيحُونَا مِنْ هذا المتزهد. [سورة الأعراف (7) : الآيات 83 الى 84] فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)

[سورة الأعراف (7) : آية 85]

اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ أَهْلِهِ أَنْصَارَهُ وَأَتْبَاعَهُ الَّذِينَ قَبِلُوا دِينَهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمُتَّصِلِينَ بِهِ بِالنَّسَبِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ ابْنَتَاهُ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا امْرَأَتَهُ أَيْ زَوْجَتَهُ. يُقَالُ: امْرَأَةُ الرَّجُلِ بِمَعْنَى زَوْجَتِهِ. وَيُقَالُ: رَجُلُ الْمَرْأَةِ بِمَعْنَى زَوْجِهَا لِأَنَّ الزَّوْجَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ لَهَا وَلَيْسَتِ الْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ لِلرَّجُلِ فَإِذَا أُضِيفَتْ إِلَى الرَّجُلِ بِالِاسْمِ الْعَامِّ عُرِفَتِ الزَّوْجِيَّةُ وَمِلْكُ النِّكَاحِ وَالرَّجُلُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْمَرْأَةِ بِالِاسْمِ الْعَامِّ تُعْرَفُ الزَّوْجِيَّةُ. وَقَوْلُهُ: كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ يُقَالُ: غير الشَّيْءُ يَغْبُرُ غُبُورًا إِذَا مَكَثَ وَبَقِيَ. قَالَ الْهُذَلِيُّ: فَغَبَرْتُ بَعْدَهُمُ بِعَيْشٍ نَاصِبٍ ... وَأَخَالُ أَنِّي لا حق مُسْتَتْبَعُ يَعْنِي بَقِيتُ فَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهَا كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ عَنِ النَّجَاةِ أَيْ مِنَ الَّذِينَ بَقُوا عَنْهَا وَلَمْ يُدْرِكُوا النَّجَاةَ يُقَالُ فُلَانٌ غَبَرَ هَذَا الْأَمْرَ أَيْ لَمْ يُدْرِكْهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهَا لَمْ تَسْرِ مَعَ لُوطٍ وَأَهْلِهِ بَلْ تَخَلَّفَتْ عَنْهُ وَبَقِيَتْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ الْعَذَابِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً يُقَالُ: مَطَرَتِ السَّمَاءُ وَأَمْطَرَتْ وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ وَأَمْطَرَهُمْ مَطَرًا وَعَذَابًا وَكَذَلِكَ أَمْطَرَ عَلَيْهِمْ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى أَمْطَرَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الْحِجْرِ: 74] . ثُمَّ قَالَ: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَ مَخْصُوصًا بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ سَائِرُ الْمُكَلَّفِينَ لِيَعْتَبِرُوا بِذَلِكَ فَيَنْزَجِرُوا. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَعْتَبِرُونَ بِذَلِكَ وَقَدْ أَمِنُوا مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ؟ قُلْنَا: إِنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ وَأَدْوَنُ مِنْ ذَلِكَ فَعِنْدَ سماع هذه القصة يذكرون عذاب الآخرة مؤنية عَلَى عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَيَكُونُ ذَلِكَ زَجْرًا وَتَحْذِيرًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ اللِّوَاطَةَ تُوجِبُ الْحَدَّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُوجِبُهُ. وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنْ يَحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي شَرِيعَةِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجْمُ اللُّوطِيِّ وَالْأَصْلُ فِي الثَّابِتِ الْبَقَاءُ إِلَّا أَنْ يَظْهَرَ طَرَيَانُ النَّاسِخِ وَلَمْ يَظْهَرْ فِي شَرْعِ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام ناسخ هذا الْحُكْمِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِبَقَائِهِ. الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَامِ: 90] قَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا حُجَّةٌ عَلَيْنَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْعَاقِبَةِ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ وَهُوَ إِنْزَالُ الْحَجَرِ عَلَيْهِمْ وَمِنَ الْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَذْكُورُ السَّابِقُ فَيَنْصَرِفُ إِلَيْهِ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَانْظُرْ كَيْفَ أَمْطَرَ اللَّهُ الْحِجَارَةَ عَلَى مَنْ يَعْمَلُ ذَلِكَ الْعَمَلَ الْمَخْصُوصَ وَذِكْرُ الْحُكْمِ عَقِيبَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ فَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي كَوْنَ هَذَا الْجُرْمِ الْمَخْصُوصِ عِلَّةً لِحُصُولِ هَذَا الزَّاجِرِ الْمَخْصُوصِ وَإِذَا ظَهَرَتِ الْعِلَّةُ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ هَذَا الْحُكْمُ أينما حصلت هذه العلة. [سورة الأعراف (7) : آية 85] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ الْخَامِسَةُ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّقْدِيرَ: (وَأَرْسَلْنَا إِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا) وَذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأُخُوَّةَ كَانَتْ فِي النَّسَبِ لَا فِي الدِّينِ وَذَكَرْنَا الْوُجُوهَ فِيهِ وَاخْتَلَفُوا فِي مَدْيَنَ فَقِيلَ: أَنَّهُ اسْمُ الْبَلَدِ وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْمُ الْقَبِيلَةِ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ أَوْلَادُ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَدِينُ صَارَ/ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ كَمَا يُقَالُ: بَكْرٌ وَتَمِيمٌ وَشُعَيْبٌ مِنْ أَوْلَادِهِ وَهُوَ: شُعَيْبُ بْنُ نُوَيْبِ بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ شُعَيْبٍ أَنَّهُ أَمَرَ قَوْمَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَنَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَهَذَا أَصْلٌ مُعْتَبَرٌ فِي شَرَائِعِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ ادَّعَى النُّبُوَّةَ فَقَالَ: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ المراد من البينة هاهنا الْمُعْجِزَةَ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِمُدَّعِي النُّبُوَّةِ مِنْهَا وَإِلَّا لَكَانَ مُتَنَبِّئًا لَا نَبِيًّا فَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِهِ. فَأَمَّا أَنَّ تِلْكَ الْمُعْجِزَةَ مِنْ أَيِّ الْأَنْوَاعِ كَانَتْ فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ كَمَا لَمْ يَحْصُلْ فِي الْقُرْآنِ الدَّلَالَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مُعْجِزَاتِ رَسُولِنَا. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَمِنْ مُعْجِزَاتِ شُعَيْبٍ أَنَّهُ دَفَعَ إِلَى مُوسَى عَصَاهُ وَتِلْكَ الْعَصَا حَارَبَتِ التِّنِّينَ وَأَيْضًا قَالَ لِمُوسَى: إِنَّ هَذِهِ الْأَغْنَامَ تَلِدُ أَوْلَادًا فِيهَا سَوَادٌ وَبَيَاضٌ وَقَدْ وَهَبْتُهَا مِنْكَ فَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ كَانَتْ مُعْجِزَاتٍ لِشُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ مُوسَى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا ادَّعَى الرِّسَالَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلِفٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَنَا أَنَّ الَّذِي يَصِيرُ نَبِيًّا وَرَسُولًا بَعْدَ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُظْهِرَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَنْوَاعَ الْمُعْجِزَاتِ قَبْلَ إِيصَالِ الْوَحْيِ وَيُسَمَّى ذَلِكَ إِرْهَاصًا لِلنُّبُوَّةِ فَهَذَا الْإِرْهَاصُ عِنْدَنَا جَائِزٌ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ غَيْرُ جَائِزٍ فَالْأَحْوَالُ الَّتِي حَكَاهَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» هِيَ عِنْدَنَا إِرْهَاصَاتٌ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ مُعْجِزَاتٌ لِشُعَيْبٍ لِمَا أَنَّ الْإِرْهَاصَ عِنْدَهُمْ غَيْرُ جَائِزٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَاعْلَمْ أَنَّ عَادَةَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إِذَا رَأَوْا قَوْمَهُمْ مُقْبِلِينَ عَلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ إِقْبَالًا أَكْثَرَ مِنْ إِقْبَالِهِمْ عَلَى سائر انواع المفاسد بداوا يمنعهم عَنْ ذَلِكَ النَّوْعِ وَكَانَ قَوْمُ شُعَيْبٍ مَشْغُوفِينَ بِالْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ فَلِهَذَا السَّبَبِ بَدَأَ بِذِكْرِ هَذِهِ الواقعة فقال: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وهاهنا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَوْفُوا تُوجِبُ أَنْ تَكُونَ لِلْأَمْرِ بِإِيفَاءِ الْكَيْلِ كَالْمَعْلُولِ وَالنَّتِيجَةِ عَمَّا سَبَقَ ذِكْرُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَكَيْفَ الْوَجْهُ فِيهِ؟ وَالْجَوَابُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ الْبَخْسُ وَالتَّطْفِيفُ عِبَارَةٌ عَنِ الْخِيَانَةِ بِالشَّيْءِ الْقَلِيلِ وَهُوَ أَمْرٌ مُسْتَقْبَحٌ فِي الْعُقُولِ وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ جَاءَتِ الْبَيِّنَةُ وَالشَّرِيعَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحُرْمَةِ فَلَمْ يَبْقَ لَكُمْ فِيهِ عُذْرٌ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ قَالَ الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ ولم يقل الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ [هود: 84] كَمَا فِي سُورَةِ هُودٍ؟ وَالْجَوَابُ: أَرَادَ بِالْكَيْلِ آلَةَ الْكَيْلِ وَهُوَ الْمِكْيَالُ أَوْ يُسَمَّى مَا يُكَالُ بِهِ بِالْكَيْلِ كَمَا يُقَالُ الْعَيْشُ لِمَا يعاش وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمَّا مَنَعَ قَوْمَهُ مِنَ الْبَخْسِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ مَنَعَهُمْ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 86 إلى 87]

بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْبَخْسِ وَالتَّنْقِيصِ بِجَمِيعِ الْوُجُوهِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَنْعُ مِنَ الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَأَخْذِ الرِّشْوَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَانْتِزَاعِ الْأَمْوَالِ بِطَرِيقِ الْحِيَلِ. وَالْخَامِسُ: قَوْلُهُ: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَخْذُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِغَيْرِ رِضَاهَا يُوجِبُ الْمُنَازَعَةَ وَالْخُصُومَةَ وَهُمَا يُوجِبَانِ الْفَسَادَ لَا جَرَمَ قَالَ بَعْدَهُ: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا فَقِيلَ: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها بِأَنْ تُقْدِمُوا عَلَى الْبَخْسِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتْبَعُهُ الْفَسَادُ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْمَنْعَ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ فَسَادًا حَمْلًا لِلَّفْظِ عَلَى عُمُومِهِ. وَقِيلَ: قَوْلُهُ: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ مَنْعٌ مِنْ مَفَاسِدِ الدُّنْيَا وَقَوْلُهُ: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ مَنْعٌ مِنْ مَفَاسِدِ الدِّينِ حَتَّى تَكُونَ الْآيَةُ جَامِعَةً لِلنَّهْيِ عَنْ مَفَاسِدِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى بَعْدَ إِصْلاحِها قِيلَ: بَعْدَ أَنْ صَلَحَتِ الْأَرْضُ بِمَجِيءِ النَّبِيِّ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ فَاسِدَةً بِخُلُوِّهَا مِنْهُ فَنَهَاهُمْ عَنِ الْفَسَادِ وَقَدْ صَارَتْ صَالِحَةً. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنْ لَا تُفْسِدُوا بَعْدَ أَنْ أَصْلَحَهَا اللَّهُ بِتَكْثِيرِ النِّعَمِ فِيهِمْ وَحَاصِلُ هَذِهِ التَّكَالِيفِ الْخَمْسَةِ يَرْجِعُ إِلَى أَصْلَيْنِ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِقْرَارُ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ الله ويدخل فيه ترك البخس وترك الفساد وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إِلَى تَرْكِ الْإِيذَاءِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِيصَالُ النَّفْعِ إِلَى الْكُلِّ مُتَعَذِّرٌ. وَأَمَّا كَفُّ الشَّرِّ عَنِ الْكُلِّ فَمُمْكِنٌ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْخَمْسَةَ. قَالَ: ذلِكُمْ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى هَذِهِ الْخَمْسَةِ وَالْمَعْنَى: خَيْرٌ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِالْآخِرَةِ والمراد: اترك الْبَخْسِ وَتَرْكُ الْإِفْسَادِ خَيْرٌ لَكُمْ فِي طَلَبِ الْمَالِ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ النَّاسَ إِذَا عَلِمُوا مِنْكُمُ الْوَفَاءَ وَالصِّدْقَ وَالْأَمَانَةَ رَغِبُوا فِي الْمُعَامَلَاتِ مَعَكُمْ فَكَثُرَتْ أَمْوَالُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ ان كنتم مصدقين لي في قولي. [سورة الأعراف (7) : الآيات 86 الى 87] وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) [في قوله تعالى وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ] اعْلَمْ أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ ضَمَّ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ التَّكَالِيفِ الْخَمْسَةِ أَشْيَاءَ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَنَعَهُمْ مِنْ أَنْ يَقْعُدُوا عَلَى طُرُقِ الدِّينِ وَمَنَاهِجِ الْحَقِّ لِأَجْلِ أَنْ يَمْنَعُوا النَّاسَ عَنْ قَبُولِهِ وَفِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: يُحْمَلُ الصِّرَاطُ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَسْلُكُهُ النَّاسُ. رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْلِسُونَ عَلَى الطُّرُقَاتِ وَيُخَوِّفُونَ مَنْ آمَنَ بِشُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ الصِّرَاطُ عَلَى مَنَاهِجِ الدِّينِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ أَيْ وَلَا تَقْتَدُوا بِالشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الْأَعْرَافِ: 16] قَالَ وَالْمُرَادُ بِالصِّرَاطِ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ مَنَاهِجِ الدِّينِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصِّرَاطِ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ: بِكُلِّ صِراطٍ يُقَالُ قَعَدَ لَهُ بِمَكَانِ كَذَا وَعَلَى مَكَانِ كَذَا وَفِي مَكَانِ كَذَا وَهَذِهِ الْحُرُوفُ تَتَعَاقَبُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِتَقَارُبِ مَعَانِيهَا فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ قَعَدَ بِمَكَانِ كَذَا فَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ وَهُوَ قَدِ الْتَصَقَ بِذَلِكَ الْمَكَانِ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 88 إلى 89]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: تُوعِدُونَ فَمَحَلُّهُ وَمَحَلُّ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَقْعُدُوا مُوعِدِينَ وَلَا صَادِّينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَبْغُوا عِوَجًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنِ الْقُعُودِ عَلَى صِرَاطِ اللَّهِ حَالَ الِاشْتِغَالِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَطَفَ بَعْضَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْبَعْضِ وَجَبَ حُصُولُ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَهَا فَقَوْلُهُ: تُوعِدُونَ يَحْصُلُ بِذَلِكَ إِنْزَالُ الْمَضَارِّ بِهِمْ وَأَمَّا الصَّدُّ فَقَدْ يَكُونُ بِالْإِيعَادِ بِالْمَضَارِّ وَقَدْ يَكُونُ بِالْوَعْدِ بِالْمَنَافِعِ بِمَا لَوْ تَرَكَهُ وَقَدْ يَكُونُ بِأَنْ لَا يُمَكِّنَهُ مِنَ الذَّهَابِ إِلَى الرَّسُولِ لِيَسْمَعَ كَلَامَهُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَتَبْغُونَها عِوَجاً فَالْمُرَادُ إِلْقَاءُ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ شُعَيْبًا مَنَعَ الْقَوْمَ مِنْ أَنْ يَمْنَعُوا النَّاسَ مِنْ قَبُولِ الدِّينِ الْحَقِّ بِأَحَدِ هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ وَإِذَا تَأَمَّلْتَ عَلِمْتَ أَنَّ أَحَدًا لَا يُمْكِنُهُ مَنْعَ غَيْرِهِ مِنْ قَبُولِ مَذْهَبٍ أَوْ مَقَالَةٍ إِلَّا بِأَحَدِ هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّهُمْ إِذَا تَذَكَّرُوا كَثْرَةَ إِنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ كَثَّرَ عَدَدُكُمْ بَعْدَ الْقِلَّةِ وَكَثَّرَكُمْ بِالْغِنَى بَعْدَ الْفَقْرِ وَكَثَّرَكُمْ بِالْقُدْرَةِ بَعْدَ الضَّعْفِ وَوَجْهُ/ ذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ أَوْ ضُعَفَاءَ فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْقَلِيلِ فِي أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مِنْ وُجُودِهِمْ قُوَّةٌ وَشَوْكَةٌ. فَأَمَّا تَكْثِيرُ عَدَدِهِمْ بَعْدَ الْقِلَّةِ فَهُوَ أَنَّ مَدْيَنَ بن ابراهيم تزوج رئيا بِنْتَ لُوطٍ فَوَلَدَتْ حَتَّى كَثُرَ عَدَدُهُمْ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَالْمَعْنَى تَذَكَّرُوا عَاقِبَةَ الْمُفْسِدِينَ وَمَا لَحِقَهُمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ زَاجِرًا لَكُمْ عَنِ الْعِصْيَانِ وَالْفَسَادِ فَقَوْلُهُ: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّهُمْ إِذَا تَذَكَّرُوا نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِمُ انْقَادُوا وَأَطَاعُوا وَقَوْلُهُ: وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّهُمْ إِذَا عَرَفُوا أَنَّ عَاقِبَةَ الْمُفْسِدِينَ الْمُتَمَرِّدِينَ لَيْسَتْ إِلَّا الْخِزْيَ وَالنَّكَالَ احْتَرَزُوا عَنِ الْفَسَادِ وَالْعِصْيَانِ وَأَطَاعُوا فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ حَمْلَهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ بِطَرِيقِ التَّرْغِيبِ أَوَّلًا وَالتَّرْهِيبِ ثَانِيًا. ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَسْلِيَةُ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَزَجْرُ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَاصْبِرُوا تَهْدِيدٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَالْمُرَادُ إِعْلَاءُ دَرَجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِظْهَارُ هَوَانِ الْكَافِرِينَ وَهَذِهِ الْحَالَةُ قَدْ تَظْهَرُ فِي الدُّنْيَا فَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ فِي الدُّنْيَا فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهَا فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ يَعْنِي أَنَّهُ حَاكِمٌ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجَوْرِ وَالْمَيْلِ وَالْحَيْفِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَخُصَّ الْمُؤْمِنَ التَّقِيَّ بِالدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ وَالْكَافِرَ الشَّقِيَّ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ [ص: 28] . [سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 89] قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89)

[في قوله تعالى قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إلى قوله بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها] اعْلَمْ أَنَّ شُعَيْبًا لَمَّا قَرَّرَ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ قَالَ: الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وَأَنِفُوا مِنْ تَصْدِيقِهِ وَقَبُولِ قَوْلِهِ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ ونخرجك وَنُخْرِجَ أَتْبَاعَكَ مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَإِمَّا أَنْ تَعُودَ إِلَى مِلَّتِنَا وَالْإِشْكَالُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُمْ: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَلَى مِلَّتِهِمُ الَّتِي هِيَ الْكُفْرُ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ كَافِرًا قَبْلَ ذَلِكَ وَذَلِكَ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَقَوْلُهُ: قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَتْبَاعَ شُعَيْبٍ كَانُوا قَبْلَ دُخُولِهِمْ فِي دِينِهِ كُفَّارًا فَخَاطَبُوا شُعَيْبًا بِخِطَابِ أَتْبَاعِهِ وَأَجْرَوْا عَلَيْهِ أَحْكَامَهُمْ. الثَّانِي: أَنَّ رُؤَسَاءَهُمْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّلْبِيسِ عَلَى الْعَوَامِّ يُوهِمُونَ أَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ وَأَنَّ شُعَيْبًا ذَكَرَ جَوَابَهُ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ الْإِيهَامِ. الثَّالِثُ: أَنَّ شُعَيْبًا فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ كَانَ يُخْفِي دِينَهُ وَمَذْهَبَهُ، فَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ. الرَّابِعُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ شُعَيْبًا كَانَ عَلَى شَرِيعَتِهِمْ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَسَخَ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ بِالْوَحْيِ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيْهِ. الْخَامِسُ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا أَيْ لَتَصِيرُنَّ إِلَى مِلَّتِنَا فَوَقَعَ الْعَوْدُ بِمَعْنَى الِابْتِدَاءِ. تَقُولُ الْعَرَبُ: قَدْ عَادَ إِلَيَّ مِنْ فُلَانٍ مَكْرُوهٌ يُرِيدُونَ قَدْ صَارَ إِلَيَّ مِنْهُ الْمَكْرُوهُ ابْتِدَاءً قَالَ الشَّاعِرُ: فَإِنْ تَكُنِ الْأَيَّامُ أَحْسَنَ مُدَّةً ... إِلَيَّ فَقَدْ عَادَتْ لَهُنَّ ذُنُوبُ أَرَادَ فَقَدْ صَارَتْ لَهُنَّ ذُنُوبٌ وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ ذُنُوبًا كَانَتْ لَهُنَّ قَبْلَ الْإِحْسَانِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا قَالُوا ذَلِكَ أَجَابَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ كَلَامِهِمْ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قوله: وَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ. تَقْدِيرُهُ: أَتُعِيدُونَنَا فِي مِلَّتِكُمْ فِي حَالِ كَرَاهَتِنَا وَمَعَ كَوْنِنَا كَارِهِينَ: الثَّانِي: قَوْلُهُ: قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ يَجْرِي مَجْرَى الرَّمْزِ فِي أَنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى مِلَّتِهِمْ وَهَذَا الْجَوَابُ الثَّانِي تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهُ إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ فَقَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ. وَأَصْلُ الْبَابِ فِي النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ صِدْقُ اللَّهْجَةِ وَالْبَرَاءَةُ عَنِ الْكَذِبِ فَالْعَوْدُ فِي مِلَّتِكُمْ يُبْطِلُ النُّبُوَّةَ وَيُزِيلُ الرِّسَالَةَ. وَقَوْلُهُ: إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: مَعْنَى إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها عَلَّمَنَا قُبْحَهُ وَفَسَادَهُ وَنَصَبَ الْأَدِلَّةَ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ نَجَّى قَوْمَهُ مِنْ تِلْكَ الْمِلَّةِ إِلَّا أَنَّهُ نَظَمَ نَفْسَهُ فِي جُمْلَتِهِمْ وَإِنْ كَانَ بَرِيئًا مِنْهُ إِجْرَاءَ الْكَلَامِ عَلَى حُكْمِ التَّغْلِيبِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْقَوْمَ أُوهِمُوا أَنَّهُ كَانَ عَلَى مِلَّتِهِمْ أَوِ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ. فَقَوْلُهُ: بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها أَيِ حَسَبَ مُعْتَقَدِكُمْ وَزَعْمِكُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ فَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَشَاءُ الْكُفْرَ وَالْمُعْتَزِلَةُ يَتَمَسَّكُونَ بِهَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَشَاءُ إِلَّا الْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ. أَمَّا وَجْهُ اسْتِدْلَالِ أَصْحَابِنَا بِهَذِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنَجِّيَ مِنَ الْكُفْرِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ يَحْصُلُ بِخَلْقِ الْعَبْدِ لَكَانَتِ النَّجَاةُ مِنَ الْكُفْرِ تَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ لَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى قوله:

بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنَّ نَعُودَ إِلَى مِلَّتِكُمْ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَنْ يُعِيدَنَا إِلَى تِلْكَ الْمِلَّةِ، وَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْمِلَّةُ كُفْرًا، كَانَ هَذَا تَجْوِيزًا مِنْ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُعِيدَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ، فَكَادَ هَذَا يَكُونُ تَصْرِيحًا مِنْ شُعَيْبٍ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ شَاءَ رَدَّ الْمُسْلِمَ إِلَى الْكُفْرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَذْهَبِنَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَلَمْ تَزَلِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَكَابِرُ يَخَافُونَ الْعَاقِبَةَ وَانْقِلَابَ الْأَمْرِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إِبْرَاهِيمَ: 35] وَكَثِيرًا مَا كَانَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ وَطَاعَتِكَ» وَقَالَ يُوسُفُ: تَوَفَّنِي مُسْلِماً [يُوسُفَ: 101] أَجَابَتِ الْمُعْتَزِلَةَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَعُودَ إِلَى تِلْكَ الْمِلَّةِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَنْ يُعِيدَنَا إِلَيْهَا قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ، وَلَيْسَ فِيهَا بَيَانٌ أَنَّهُ تَعَالَى شَاءَ ذَلِكَ أَوْ مَا شَاءَ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا مَذْكُورٌ عَلَى طَرِيقِ التَّبْعِيدِ، كَمَا يُقَالُ: لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا ابْيَضَّ الْقَارُ، وَشَابَ الْغُرَابُ: فَعَلَّقَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَوْدَهُ إِلَى مِلَّتِهِمْ عَلَى مَشِيئَتِهِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ نَفْيًا لِذَلِكَ أَصْلًا، فَهُوَ عَلَى طَرِيقِ التَّبْعِيدِ، لَا عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ الَّذِي شَاءَهُ اللَّهُ مَا هُوَ، فَنَحْنُ نَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا بِأَنْ يُظْهِرَ هَذَا الْكُفْرَ مِنْ أَنْفُسِنَا إِذَا أَكْرَهْتُمُونَا عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ عَلَى إِظْهَارِ الْكُفْرِ بِالْقَتْلِ يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، وَمَا كَانَ جَائِزًا كَانَ مُرَادًا لِلَّهِ تَعَالَى وَكَوْنُ الضَّمِيرِ أَفْضَلَ مِنَ الْإِظْهَارِ، لَا يُخْرِجُ ذَلِكَ الْإِظْهَارَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ غَسْلُ الرجلين أفضل. الرابع: ان قوله: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ الْمُرَادُ الْإِخْرَاجُ عَنِ الْقَرْيَةِ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها أَيِ الْقَرْيَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ كَانَ حَرَّمَ عَلَيْهِ إِذَا أَخْرَجُوهُ عَنِ الْقَرْيَةِ أَنْ يَعُودَ فِيهَا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ. الْخَامِسُ: أَنْ نَقُولَ يَجِبُ حمل المشيئة هاهنا عَلَى الْأَمْرِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِذَا شَاءَ كَانَ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا. وَقَوْلُهُ: لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها أَيْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَوْدُ جَائِزًا، وَالْمَشِيئَةُ عِنْدَ اهل السنة لا يوجب جَوَازَ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَشَاءُ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ عِنْدَهُمْ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ، إِنَّمَا الَّذِي يُوجِبُ/ الْجَوَازَ هُوَ الْأَمْرُ فَثَبَتَ أَنَّ المراد من المشيئة هاهنا الْأَمْرُ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ: إِلَّا أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِعَوْدِنَا فِي مِلَّتِكُمْ فَإِنَّا نَعُودُ إِلَيْهَا، وَالشَّرِيعَةُ الَّتِي صَارَتْ مَنْسُوخَةً، لَا يَبْعُدُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِالْعَمَلِ بِهَا مَرَّةً أُخْرَى، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ اسْتِدْلَالُكُمْ. وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: لِلْقَوْمِ فِي الْجَوَابِ مَا ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ، فَقَالَ: الْمُرَادُ مِنَ الْمِلَّةِ الشَّرِيعَةُ الَّتِي يَجُوزُ اخْتِلَافُ الْعِبَادَةِ فِيهَا بِالْأَوْقَاتِ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِهِمَا، فَقَالَ شُعَيْبٌ: وَمَا يكون لنا ان نعود في ملتكم وَلَمَّا دَخَلَ فِي ذَلِكَ كُلُّ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَكَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ تِلْكَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ بَاقِيًا غَيْرَ مَنْسُوخٍ، لَا جَرَمَ قَالَ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِبْقَاءَ بَعْضِهَا فَيَدُلَّنَا عَلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ نَعُودُ إِلَيْهَا فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ عَائِدٌ إِلَى الْأَحْكَامِ الَّتِي يَجُوزُ دُخُولُ النَّسْخِ وَالتَّغْيِيرِ فِيهَا، وَغَيْرُ عَائِدٍ إِلَى مَا لَا يَقْبَلُ التَّغَيُّرَ الْبَتَّةَ فَهَذِهِ أَسْئِلَةُ الْقَوْمِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَهِيَ جَيِّدَةٌ، وَفِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا كَثْرَةٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ضَعْفِ اسْتِدْلَالِ أَصْحَابِنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ دُخُولُ الضَّعْفِ فِي الْمَذْهَبِ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: لَمَّا قَالُوا ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ شَاءَ اللَّهُ عَوْدَنَا إِلَيْهَا لَكَانَ لَنَا أَنْ نَعُودَ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وُجُودَهُ، كَانَ فِعْلُهُ جَائِزًا مَأْذُونًا فِيهِ، وَلَمْ

يَكُنْ حَرَامًا. قَالُوا: وَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِنَا أَنَّ كُلَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ حُصُولَهُ، كَانَ حَسَنًا مَأْذُونًا فِيهِ، وَمَا كَانَ حَرَامًا مَمْنُوعًا مِنْهُ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُمْ أَنْ قَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ: لَنُخْرِجَنَّكَ ... أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا لَا وَجْهَ لِلْفَصْلِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ عَلَى قَوْلِ الْخَصْمِ، لِأَنَّ عَلَى قَوْلِهِمْ خُرُوجُهُمْ مِنَ الْقَرْيَةِ بِخَلْقِ اللَّهِ وَعَوْدُهُمْ إِلَى تِلْكَ الْمِلَّةِ أَيْضًا بِخَلْقِ اللَّهِ، وَإِذَا كَانَ حُصُولُ الْقِسْمَيْنِ بِخَلْقِ اللَّهِ، لَمْ يَبْقَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ فَائِدَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ اسْتِدْلَالُ الْفَرِيقَيْنِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى سَائِرِ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْبَابِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِ هَذَا الْكَلَامِ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ وُجُوهٌ: قَالَ الْقَاضِي: قَدْ نَقَلْنَا عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ أَنَّ قَوْلَ شُعَيْبٍ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا مَعْنَاهُ: إِلَّا أَنْ يَخْلُقَ الْمَصْلَحَةَ فِي تِلْكَ الْعِبَادَاتِ، فَحِينَئِذٍ يُكَلِّفُنَا بِهَا، وَالْعَالِمُ بِالْمَصَالِحِ لَيْسَ إِلَّا مَنْ وَسِعَ عِلْمُهُ كُلَّ شَيْءٍ، فَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِهَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: وَجْهُ تَعَلُّقِ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ، هُوَ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا قَالُوا لِشُعَيْبٍ: إِمَّا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ قَرْيَتِنَا وَإِمَّا أَنْ تَعُودَ إِلَى مِلَّتِنَا، فَقَالَ شُعَيْبٌ: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فَرُبَّمَا كَانَ فِي عِلْمِهِ حُصُولُ قِسْمٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ أَنَّ نَبْقَى فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَعُودَ إِلَى مِلَّتِكُمْ بَلْ يَجْعَلُكُمْ مَقْهُورِينَ تَحْتَ/ أَمْرِنَا ذَلِيلِينَ خَاضِعِينَ تَحْتَ حُكْمِنَا، وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ الْقَاضِي، لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا لَائِقٌ بِهَذَا الْوَجْهِ، لَا بِمَا قَالَهُ الْقَاضِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا فِي الْأَزَلِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَسِعَ فِعْلٌ مَاضٍ، فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَاضٍ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَزَلِ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَثَبَتَ أَنَّ تَغَيُّرَ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، لَزِمَ أَنَّهُ ثَبَتَتِ الْأَحْكَامُ وَجَفَّتِ الْأَقْلَامُ وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي عِلْمِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ الْمَاضِيَ، وَالْحَالَ وَالْمُسْتَقْبَلَ وَعَلِمَ الْمَعْدُومَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ، فَهَذِهِ أَقْسَامٌ أَرْبَعَةٌ، ثُمَّ كَلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ يَقَعُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ. أَمَّا الْمَاضِي: فَإِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَاضِيًا، فَإِنَّهُ كَيْفَ كَانَ. وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَاضِيًا، بَلْ كَانَ حَاضِرًا، فَإِنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْتَقْبَلًا كَيْفَ يَكُونُ. وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَدَمًا مَحْضًا كَيْفَ يَكُونُ، فَهَذِهِ أَقْسَامٌ أَرْبَعَةٌ بِحَسَبِ الْمَاضِي، وَاعْتَبَرَ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الْأَرْبَعَةَ بِحَسَبِ الْحَالِ، وَبِحَسَبِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَبِحَسَبِ الْمَعْدُومِ الْمَحْضِ، فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ سِتَّةَ عَشَرَ، ثُمَّ اعْتَبَرَ هَذِهِ الْأَقْسَامَ السِّتَّةَ عَشَرَ بِحَسَبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الذَّوَاتِ وَالْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْمُفْرَدَاتِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَعْرَاضِ وَأَجْنَاسِهَا، فَحِينَئِذٍ يَلُوحُ لِعَقْلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً بَحْرٌ لَا يَنْتَهِي مَجْمُوعُ عُقُولِ الْعُقَلَاءِ إِلَى أَوَّلِ خَطْوَةٍ مِنْ خُطُوَاتِ سَاحِلِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَوْلُهُ: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَتَمَ كَلَامَهُ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فَقَالَ: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا فَهَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا لَا عَلَى غَيْرِهِ، وَكَأَنَّهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَزَلَ الْأَسْبَابَ، وَارْتَقَى عَنْهَا إِلَى مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ. وَالثَّانِي: الدُّعَاءُ فَقَالَ: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ،

[سورة الأعراف (7) : الآيات 90 إلى 93]

وَالسُّدِّيُّ: احْكُمْ وَاقْضِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ عَمَّانَ يُسَمُّونَ الْقَاضِيَ الْفَاتِحَ وَالْفَتَّاحَ لِأَنَّهُ يَفْتَحُ مَوَاضِعَ الْحَقِّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: مَا كُنْتُ أَدْرِي قَوْلَهُ: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ حَتَّى سَمِعْتُ ابْنَةَ ذِي يَزَنٍ تَقُولُ لِزَوْجِهَا: تَعَالَ أُفَاتِحْكَ أَيْ أُحَاكِمْكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ أَيْ أَظْهِرْ أَمْرَنَا حَتَّى يَنْفَتِحَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا وَيَنْكَشِفَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ: أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابًا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ مُبْطِلِينَ، وَعَلَى كَوْنِ شُعَيْبٍ وقومه محقين، وعلى هذا الوجه فالفتح يُرَادُ بِهِ الْكَشْفُ وَالتَّبْيِينُ، ثُمَّ قَالَ: وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذَا اللَّفْظِ عَلَى أَنَّهُ/ هُوَ الذي يخلق الايمان من الْعَبْدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَشْرَفُ الْمُحْدَثَاتِ، وَلَوْ فسرنا لفتح بِالْكَشْفِ وَالتَّبْيِينِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ كَذَلِكَ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَوْ كَانَ الْمُوجِدُ لِلْإِيمَانِ هُوَ الْعَبْدَ، لَكَانَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ هُوَ الْعَبْدَ، وَذَلِكَ يَنْفِي كَوْنَهُ تَعَالَى خَيْرَ الْفَاتِحِينَ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 90 الى 93] وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إلى قوله فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ عِظَمَ ضَلَالَتِهِمْ بِتَكْذِيبِ شُعَيْبٍ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى أَضَلُّوا غَيْرَهُمْ، وَلَامُوهُمْ عَلَى مُتَابَعَتِهِ فَقَالُوا: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ وَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَاسِرُونَ فِي الدِّينِ وَقَالَ آخَرُونَ: خَاسِرُونَ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ يَمْنَعُكُمْ مِنْ أَخْذِ الزِّيَادَةِ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَعِنْدَ هَذَا الْمَقَالِ كَمُلَ حَالَهُمْ فِي الضَّلَالِ أَوَّلًا وَفِي الْإِضْلَالِ ثَانِيًا، فَاسْتَحَقُّوا الْإِهْلَاكَ فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وَهِيَ الزَّلْزَلَةُ الشَّدِيدَةُ الْمُهْلِكَةُ، فَإِذَا انْضَافَ إِلَيْهَا الْجَزَاءُ الشَّدِيدُ الْمُخَوِّفُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قِصَّةِ الظَّلَمَةِ، كَانَ الْهَلَاكُ أَعْظَمَ، لِأَنَّهُ أَحَاطَ بِهِمُ الْعَذَابَ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أَيْ فِي مَسَاكِنِهِمْ جاثِمِينَ أَيْ خَامِدِينَ سَاكِنِينَ بِلَا حَيَاةٍ وَقَدْ سَبَقَ الِاسْتِقْصَاءُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي قَوْلِهِ: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقَالُ غَنِيَ الْقَوْمُ فِي دَارِهِمْ إِذَا طَالَ مَقَامُهُمْ فِيهَا. وَالثَّانِي: الْمَنَازِلُ الَّتِي كَانَ بِهَا أَهْلُوهَا وَاحِدُهَا مَغْنًى. قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَقَدْ غَنُوا فِيهَا بِأَنْعَمِ عِيشَةٍ ... فِي ظِلِّ مُلْكٍ ثَابِتِ الْأَوْتَادِ أَرَادَ أَقَامُوا فِيهَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ قَوْلُهُ: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا كَأَنْ لَمْ يُقِيمُوا بِهَا وَلَمْ يَنْزِلُوا فِيهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فيها، كَأَنْ لَمْ يَعِيشُوا فِيهَا مُسْتَغْنِينَ، يُقَالُ غَنِيَ الرَّجُلُ يَغْنَى إِذَا اسْتَغْنَى، وَهُوَ مِنَ الْغِنَى الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْفَقْرِ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 94 إلى 95]

وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ شَبَّهَ اللَّهُ حَالَ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِحَالِ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَطُّ فِي تِلْكَ الدِّيَارِ. قَالَ الشَّاعِرُ: كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إِلَى الصَّفَا ... أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرٌ بَلَى نَحْنُ كُنَّا أَهْلَهَا فَأَبَادَنَا ... صُرُوفُ اللَّيَالِي وَالْجُدُودُ الْعَوَاثِرُ الْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ كَانَ مُخْتَصًّا بِأُولَئِكَ الْمُكَذِّبِينَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ إِنَّمَا حَدَثَ بِتَخْلِيقِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ أَثَرُ الْكَوَاكِبِ وَالطَّبِيعَةِ، وَإِلَّا لَحَصَلَ فِي أَتْبَاعِ شُعَيْبٍ، كَمَا حَصَلَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ. وَالثَّانِي: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ، عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ، حَتَّى يُمْكِنَهُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي. وَثَالِثُهَا: يَدُلُّ عَلَى الْمُعْجِزِ الْعَظِيمِ فِي حَقِّ شُعَيْبٍ، لِأَنَّ الْعَذَابَ النَّازِلَ مِنَ السَّمَاءِ لَمَّا وَقَعَ عَلَى قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ مَعَ كَوْنِهِمْ مُجْتَمِعِينَ فِي بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعْجِزَاتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ وَإِنَّمَا كَرَّرَ قَوْلَهُ: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً لِتَعْظِيمِ الْمَذَلَّةِ لَهُمْ وَتَفْظِيعِ مَا يَسْتَحِقُّونَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى جَهْلِهِمْ، وَالْعَرَبُ تُكَرِّرُ مِثْلَ هَذَا فِي التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: أَخُوكَ الَّذِي ظَلَمَنَا، أَخُوكَ الَّذِي أَخَذَ أَمْوَالَنَا، أَخُوكَ الَّذِي هَتَكَ أَعْرَاضَنَا، وَأَيْضًا أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا قَالُوا: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَتَّبِعُوهُ وَخَالَفُوهُ هُمُ الْخَاسِرُونَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ تَوَلَّى بَعْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَلَمْ يُعَذَّبْ قَوْمُ نَبِيٍّ حَتَّى أُخْرِجَ مِنْ بَيْنِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: فَكَيْفَ آسَى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ الْأَسَى شِدَّةُ الْحُزْنِ. قَالَ الْعَجَّاجُ: وَانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ فَرْطِ الْأَسَى إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اشْتَدَّ حُزْنُهُ عَلَى قَوْمِهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا كَثِيرِينَ، وَكَانَ يَتَوَقَّعُ مِنْهُمُ الِاسْتِجَابَةَ لِلْإِيمَانِ، فَلَمَّا أَنْ نَزَلَ بِهِمْ ذَلِكَ الْهَلَاكُ الْعَظِيمُ، حَصَلَ فِي قَلْبِهِ مِنْ جِهَةِ الْوَصْلَةِ وَالْقَرَابَةِ وَالْمُجَاوَرَةِ وَطُولِ الْأُلْفَةِ. ثُمَّ عَزَّى نَفْسَهُ وَقَالَ: فَكَيْفَ آسَى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ أَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ بِسَبَبِ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ لَقَدْ أَعْذَرْتُ إِلَيْكُمْ فِي الْإِبْلَاغِ وَالنَّصِيحَةِ وَالتَّحْذِيرِ مِمَّا حَلَّ بِكُمْ، فَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلِي، وَلَمْ تَقْبَلُوا نَصِيحَتِي فَكَيْفَ آسَى عَلَيْكُمْ يَعْنِي أَنَّهُمْ لَيْسُوا مُسْتَحِقِّينَ بِأَنْ يَأْسَى الْإِنْسَانُ عَلَيْهِمْ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ فَكَيْفَ إِيسَى بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 94 الى 95] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَرَّفَنَا أَحْوَالَ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَحْوَالَ مَا جَرَى عَلَى أُمَمِهِمْ، كَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يُظَنَّ انه

[سورة الأعراف (7) : الآيات 96 إلى 99]

تَعَالَى مَا أَنْزَلَ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ، إِلَّا فِي زَمَنِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ فَقَطْ، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مِنَ الْهَلَاكِ قَدْ فَعَلَهُ بِغَيْرِهِمْ، وَبَيَّنَ الْعِلَّةَ الَّتِي بِهَا يَفْعَلُ ذَلِكَ: قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْقَرْيَةَ لِأَنَّهَا مُجْتَمَعُ الْقَوْمِ الَّذِينَ إِلَيْهِمْ يُبْعَثُ الرُّسُلُ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا اللَّفْظِ الْمَدِينَةُ، لِأَنَّهَا مُجْتَمَعُ الْأَقْوَامِ وَقَوْلُهُ: مِنْ نَبِيٍّ فِيهِ حَذْفٌ وَإِضْمَارٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ نَبِيٍّ فَكُذِّبَ أَوْ كَذَّبَهُ أَهْلُهَا، إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْبَأْسَاءُ كُلُّ مَا نَالَهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ فِي أَحْوَالِهِمْ، وَالضَّرَّاءُ مَا نَالَهُمْ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَقِيلَ عَلَى الْعَكْسِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِكَيْ يَضَّرَّعُوا، مَعْنَاهُ: يَتَضَرَّعُوا، وَالتَّضَرُّعُ هُوَ الْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَعَلَّهُمْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الشَّكِّ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ/ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ لِكَيْ يَتَضَرَّعُوا. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْ كُلِّ الْمُكَلَّفِينَ الْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ تَعْلِيلَ أَفْعَالِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ مُحَالٌ وَجَبَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَ، مَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ لَكَانَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِالْعِلَّةِ وَالْغَرَضِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ تَدْبِيرَهُ فِي أَهْلِ الْقُرَى لَا يَجْرِي عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا يُدَبِّرُهُمْ بِمَا يَكُونُ إِلَى الْإِيمَانِ أَقْرَبَ فَقَالَ: ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ لِأَنَّ وُرُودَ النِّعْمَةِ فِي الْبَدَنِ وَالْمَالِ بَعْدَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، يَدْعُو إِلَى الِانْقِيَادِ وَالِاشْتِغَالِ بالشكر، ومعنى الحسنة والسيئة هاهنا الشِّدَّةُ وَالرَّخَاءُ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: (السَّيِّئَةُ) كُلُّ مَا يَسُوءُ صَاحِبَهُ، وَ (الْحَسَنَةُ) مَا يَسْتَحْسِنُهُ الطَّبْعُ وَالْعَقْلُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ يَأْخُذُ أَهْلَ الْمَعَاصِي بِالشِّدَّةِ تَارَةً، وَبِالرَّخَاءِ أُخْرَى. وَقَوْلُهُ: حَتَّى عَفَوْا قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ: قَدْ عَفَا الشَّعَرُ وَغَيْرُهُ، إِذَا كَثُرَ، يَعْفُو فَهُوَ عَافٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى عَفَوْا يَعْنِي كَثُرُوا وَمِنْهُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَمَرَ أَنْ تُحَفَّ الشَّوَارِبُ، وَتُعْفَى اللِّحَى يَعْنِي تَوَفَّرَ وَتُكَثَّرَ وَقَوْلُهُ: وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ مَتَى نَالَهُمْ شِدَّةٌ قَالُوا: لَيْسَ هَذَا بِسَبَبِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ وَالْعَمَلِ وَتِلْكَ عَادَةُ الدَّهْرِ، وَلَمْ يَكُنْ مَا مَسَّنَا مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ عُقُوبَةً مِنَ اللَّهِ وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا دَبَّرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ رَخَاءٍ بَعْدَ شِدَّةٍ، وَأَمْنٍ بَعْدَ خَوْفٍ، بَلْ عَدَلُوا إِلَى أَنَّ هَذِهِ عَادَةَ الزَّمَانِ فِي أَهْلِهِ، فَمَرَّةً يَحْصُلُ فِيهِمُ الشِّدَّةُ وَالنَّكَدُ، وَمَرَّةً يَحْصُلُ لَهُمُ الرَّخَاءُ وَالرَّاحَةُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ أَزَالَ عُذْرَهُمْ وَأَزَاحَ عِلَّتَهُمْ، فَلَمْ يَنْقَادُوا وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ الْإِمْهَالِ، وَقَوْلُهُ: فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمَّا تَمَرَّدُوا عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، أَخَذَهُمُ اللَّهُ بَغْتَةً أَيْنَمَا كَانُوا، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَعْظَمَ فِي الْحَسْرَةِ. وَقَوْلُهُ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَيْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ وَالْحِكْمَةَ فِي حِكَايَةِ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَحْصُلَ الِاعْتِبَارُ لِمَنْ سَمِعَ هذه القصة وعرفها. [سورة الأعراف (7) : الآيات 96 الى 99] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الَّذِينَ عَصَوْا وَتَمَرَّدُوا أَخَذَهُمُ اللَّهُ بَغْتَةً، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَوْ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 100 إلى 101]

أَطَاعُوا لَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الْخَيْرَاتِ فَقَالَ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا أَيْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَاتَّقَوْا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَحَرَّمَهُ لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ بَرَكَاتُ السَّمَاءِ بِالْمَطَرِ، وَبَرَكَاتُ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ وَالثِّمَارِ، وَكَثْرَةِ الْمَوَاشِي وَالْأَنْعَامِ، وَحُصُولِ الْأَمْنِ وَالسَّلَامَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّمَاءَ تَجْرِي مجرى الأب، والأرض تجري مجرى الام، ومنها يَحْصُلُ جَمِيعُ الْمَنَافِعِ وَالْخَيْرَاتِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَدْبِيرِهِ. وَقَوْلُهُ: وَلكِنْ كَذَّبُوا يَعْنِي الرُّسُلَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْجُدُوبَةِ وَالْقَحْطِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَعَادَ التَّهْدِيدَ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ فَقَالَ: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى خَوَّفَهُمْ بِنُزُولِ ذَلِكَ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُونَ فِيهِ فِي غَايَةِ الْغَفْلَةِ، وَهُوَ حَالُ النَّوْمِ بِاللَّيْلِ، وَحَالُ الضُّحَى بِالنَّهَارِ لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الْمَرْءِ التَّشَاغُلُ بِاللَّذَّاتِ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَلْعَبُونَ يَحْتَمِلُ التَّشَاغُلَ بِأُمُورِ الدُّنْيَا، فَهِيَ لَعِبٌ وَلَهْوٌ، وَيَحْتَمِلُ خَوْضَهُمْ فِي كُفْرِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَاللَّعِبِ فِي أَنَّهُ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ. قَرَأَ أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ أَوَأَمِنَ بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَهُوَ حَرْفُ الْعَطْفِ دَخَلَتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ، كَمَا دَخَلَ فِي قَوْلِهِ: أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ [يُونُسَ: 51] وَقَوْلِهِ: أَوَكُلَّما عاهَدُوا [الْبَقَرَةِ: 100] وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَشْبَهُ بِمَا قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، لِأَنَّ قَبْلَهُ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى وَمَا بَعْدَهُ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ [الأعراف: 99] أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ [الأعراف: 100] وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ أَوْ أَمِنَ سَاكِنَةَ الْوَاوِ، وَاسْتُعْمِلَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ، كَقَوْلِهِ: زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو جَاءَ، وَالْمَعْنَى أَحَدُهُمَا جَاءَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ لِلْإِضْرَابِ عَمَّا قَبْلَهَا، كَقَوْلِكَ: أَنَا أَخْرُجُ أَوْ أُقِيمُ، أَضْرَبْتَ عَنِ الْخُرُوجِ، وَأَثْبَتَّ الْإِقَامَةَ، كَأَنَّكَ قُلْتَ: لَا بَلْ أُقِيمُ فَوَجْهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ جَعَلَ «أَوْ» لِلْإِضْرَابِ لَا عَلَى أَنَّهُ أَبْطَلَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ [السَّجْدَةِ: 1، 2] فَكَانَ/ الْمَعْنَى مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِوَاءُ هَذِهِ الضُّرُوبِ مِنَ الْعَذَابِ، وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ «او» هاهنا الَّتِي لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَفَأَمِنُوا إِحْدَى هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ، وَقَوْلُهُ: ضُحًى الضُّحَى صَدْرُ النَّهَارِ، وَأَصْلُهُ الظُّهُورُ مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَحَا لِلشَّمْسِ إِذَا ظَهَرَ لَهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُ الْمَكْرِ فِي اللُّغَةِ، وَمَعْنَى الْمَكْرِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: 54] وَيَدُلُّ قَوْلُهُ: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. قَالَهُ عَلَى وَجْهِ التَّحْذِيرِ، وَسَمَّى هَذَا الْعَذَابَ مَكْرًا تَوَسُّعًا، لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا إِذَا أَرَادَ الْمَكْرَ بِصَاحِبِهِ، فَإِنَّهُ يُوقِعُهُ فِي الْبَلَاءِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ، فَسَمَّى الْعَذَابَ مَكْرًا لِنُزُولِهِ بِهِمْ مِنْ حَيْثُ لا يشعرون، وبين انه لا يامن من نُزُولَ عَذَابِ اللَّهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ وَهُمُ الَّذِينَ لِغَفْلَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ لَا يَعْرِفُونَ رَبَّهُمْ، فَلَا يَخَافُونَهُ، وَمَنْ هَذِهِ سَبِيلُهُ، فَهُوَ أَخْسَرُ الْخَاسِرِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لِأَنَّهُ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا فِي الضَّرَرِ، وَفِي الآخرة في أشد العذاب. [سورة الأعراف (7) : الآيات 100 الى 101] أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101)

[في قوله تعالى أَوَلَمْ يَهْدِ إلى قوله فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ حَالَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِالِاسْتِئْصَالِ مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْقَصَصِ حُصُولُ الْعِبْرَةِ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ فِي مَصَالِحِ أَدْيَانِهِمْ وَطَاعَاتِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فَقَرَأَ بَعْضُهُمْ أَوَلَمْ يَهْدِ بِالْيَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ تَحْتِهَا، وَبَعْضُهُمْ بِالنُّونِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: إِذَا قُرِئَ بِالْيَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ تَحْتُ كَانَ قَوْلُهُ: أَنْ لَوْ نَشاءُ مرفوعا بانه فاعله/ بمعنى او لم يَهْدِ لِلَّذِينِ يَخْلُفُونَ أُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَيَرِثُونَ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ، وَهَذَا الشَّأْنُ وَهُوَ أَنَّا لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ كَمَا أَصَبْنَا مَنْ قَبْلَهُمْ وَأَهْلَكْنَا الْوَارِثِينَ كَمَا أَهْلَكْنَا الْمُوَرِّثِينَ، إِذَا قُرِئَ بِالنُّونِ فهو منصوب، كأنه قيل او لم نهد للوارثين هذا الشان بمعنى او لم نُبَيِّنْ لَهُمْ أَنَّ قُرَيْشًا أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ كَمَا أَصَبْنَا مَنْ قَبْلَهُمْ؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَعْنَى أَوَلَمْ نُبَيِّنْ لِلَّذِينِ نَبْعَثُهُمْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِهْلَاكِنَا مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ فِيهَا فَنُهْلِكُهُمْ بَعْدَهُمْ؟ وَهُوَ مَعْنَى لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، أَيْ عِقَابِ ذُنُوبِهِمْ، وَقَوْلُهُ: وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ أَيْ إِنْ لَمْ نُهْلِكْهُمْ بِالْعِقَابِ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ أَيْ لَا يَقْبَلُونَ، وَلَا يَتَّعِظُونَ، وَلَا يَنْزَجِرُونَ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ إِمَّا الْإِهْلَاكُ وَإِمَّا الطَّبْعُ عَلَى الْقَلْبِ، لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الطَّبْعِ عَلَى الْقَلْبِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَهْلَكَهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَطْبَعَ عَلَى قَلْبِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَمْنَعُ الْعَبْدَ عَنِ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ: وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَالطَّبْعُ وَالْخَتْمُ وَالرَّيْنُ وَالْكِنَانُ وَالْغِشَاوَةُ وَالصَّدُّ وَالْمَنْعُ وَاحِدٌ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الطَّبْعِ أَنَّهُ تَعَالَى يَسِمُ قُلُوبَ الْكُفَّارِ بِسِمَاتٍ وَعَلَامَاتٍ تَعْرِفُ الْمَلَائِكَةُ بِهَا أَنَّ أَصْحَابَهَا لَا يُؤْمِنُونَ، وَتِلْكَ الْعَلَامَةُ غَيْرُ مَانِعَةٍ مِنَ الْإِيمَانِ. وَقَالَ الْكَعْبِيُّ: إِنَّمَا أَضَافَ الطَّبْعَ إِلَى نَفْسِهِ لِأَجْلِ أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا صَارُوا إِلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَامْتِحَانِهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نُوحٍ: 6] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَحْثَ عَنْ حَقِيقَةِ الطَّبْعِ وَالْخَتْمِ قَدْ مَرَّ مِرَارًا كَثِيرَةً فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَنَطْبَعُ هَلْ هُوَ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَنِ الَّذِي قَبْلَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَصَبْناهُمْ مَاضٍ وَقَوْلَهُ: وَنَطْبَعُ مُسْتَقْبَلٌ وَهَذَا الْعَطْفُ لَيْسَ بِمُسْتَحْسَنٍ، بَلْ هُوَ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَنَحْنُ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى أَوَلَمْ يَهْدِ كَأَنَّهُ قِيلَ يَغْفُلُونَ عَنِ الْهِدَايَةِ، وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: يَرِثُونَ الْأَرْضَ ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَصَبْناهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا وَكُلُّ كَافِرٍ فَهُوَ مَطْبُوعٌ عَلَى قَلْبِهِ، فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ يَجْرِي مَجْرَى تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ، هَذَا تَقْرِيرُ قَوْلِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» عَلَى أَقْوَى الْوُجُوهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ كَوْنَهُ مَطْبُوعًا عَلَيْهِ إِنَّمَا يَحْصُلُ حَالَ اسْتِمْرَارِهِ وَثَبَاتِهِ عَلَيْهِ، فَهُوَ يَكْفُرُ أَوَّلًا، ثُمَّ يَصِيرُ مَطْبُوعًا عَلَيْهِ فِي الْكُفْرِ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا مُنَافِيًا لِصِحَّةِ الْعَطْفِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها قَوْلُهُ: تِلْكَ مبتدا والْقُرى صفة ونَقُصُّ

[سورة الأعراف (7) : آية 102]

عَلَيْكَ خَبَرٌ، وَالْمُرَادُ بِتِلْكَ الْقُرَى قُرَى الْأَقْوَامِ الْخَمْسَةِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ فِيمَا سَبَقَ، وَهُمْ: قَوْمُ نُوحٍ، وَهُودٍ، وَصَالِحٍ، وَلُوطٍ، وَشُعَيْبٍ، نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَخْبَارِهَا كَيْفَ أُهْلِكَتْ. وَأَمَّا أَخْبَارُ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ، فَلَمْ نَقُصَّهَا عَلَيْكَ، وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّهُ أَنْبَاءَ هَذِهِ الْقُرَى لِأَنَّهُمُ اغْتَرُّوا بِطُولِ الْإِمْهَالِ مَعَ كَثْرَةِ النِّعَمِ فَتَوَهَّمُوا أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، فَذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى تَنْبِيهًا لِقَوْمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ الِاحْتِرَازِ مِنْ مِثْلِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ. ثُمَّ عَزَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ يُرِيدُ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ وَقَوْلُهُ: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: فَمَا كَانَ أُولَئِكَ الْكُفَّارُ لِيُؤْمِنُوا عِنْدَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ بِمَا كَذَّبُوا بِهِ يَوْمَ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، فَآمَنُوا كُرْهًا، وَأَقَرُّوا بِاللِّسَانِ وَأَضْمَرُوا التَّكْذِيبَ. الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بَعْدَ رُؤْيَةِ الْمُعْجِزَاتِ بِمَا كَذَّبُوا بِهِ قَبْلَ رُؤْيَةِ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ. الثَّالِثُ: مَا كَانُوا لَوْ أَحْيَيْنَاهُمْ بَعْدَ إِهْلَاكِهِمْ وَرَدَدْنَاهُمْ إِلَى دَارِ التَّكْلِيفِ لِيُؤْمِنُوا بما ما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلِ إِهْلَاكِهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الْأَنْعَامِ: 28] الرَّابِعُ: قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ، فَهَؤُلَاءِ مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بَعْدَ مَجِيءِ الرُّسُلِ أَيْضًا. الْخَامِسُ: لِيُؤْمِنُوا فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ السَّبَبَ فِي عَدَمِ هَذَا الْقَبُولُ فَقَالَ: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْكَافُ فِي كَذلِكَ نَصْبٌ، وَالْمَعْنَى: مِثْلَ ذَلِكَ الَّذِي طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ كُفَّارِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، يَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا أَبَدًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ. [سورة الأعراف (7) : آية 102] وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ فِي صُلْبِ آدَمَ، حَيْثُ قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَافِ: 172] فَلَمَّا أَخَذَ اللَّهُ مِنْهُمْ هَذَا الْعَهْدَ وَأَقَرُّوا بِهِ، ثُمَّ خَالَفُوا ذَلِكَ، صَارَ كَأَنَّهُ مَا كَانَ لَهُمْ عَهْدٌ، فَلِهَذَا قَالَ: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَالثَّانِي: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْعَهْدُ هُنَا الْإِيمَانُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً [مَرْيَمَ: 87] يَعْنِي آمَنَ وَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْعَهْدَ عِبَارَةٌ عَنْ وَضْعِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمُرَادُ/ مَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنَ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ أَيْ وَإِنَّ الشَّأْنَ وَالْحَدِيثَ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ فَاسِقِينَ خَارِجِينَ عَنِ الطَّاعَةِ، صارفين عن الدين. [سورة الأعراف (7) : آية 103] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ السَّادِسَةُ مِنَ الْقِصَصِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الشَّرْحِ وَالتَّفْصِيلِ مَا لَمْ يَذْكُرْ فِي سَائِرِ الْقِصَصِ، لِأَجْلِ أَنَّ مُعْجِزَاتِ مُوسَى كَانَتْ أَقْوَى مِنْ مُعْجِزَاتِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَجَهْلَ قَوْمِهِ كَانَ أَعْظَمَ وَأَفْحَشَ مِنْ جَهْلِ سَائِرِ الْأَقْوَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكِنَايَةَ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِهِمْ يَجُوزُ أَنْ تَعُودَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ جَرَى ذِكْرُهُمْ، وَيَجُوزُ ان تعود

[سورة الأعراف (7) : الآيات 104 إلى 106]

إِلَى الْأُمَمِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ بِإِهْلَاكِهِمْ وَقَوْلُهُ: بِآياتِنا فِيهِ مَبَاحِثُ. الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ آيَةٍ وَمُعْجِزَةٍ بِهَا يَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَصًّا بِهَذِهِ الْآيَةِ لم يكن قبول قول أَوْلَى مِنْ قَبُولِ قَوْلِ غَيْرِهِ. وَالْبَحْثُ الثَّانِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى آتَاهُ آيَاتٍ كَثِيرَةً وَمُعْجِزَاتٍ كَثِيرَةً. وَالْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَوَّلُ آيَاتِهِ الْعَصَا ثُمَّ الْيَدُ ضَرَبَ بِالْعَصَا بَابَ فِرْعَوْنَ فَفَزِعَ مِنْهَا فَشَابَ رَأْسُهُ فَاسْتَحْيَا فَخَضَّبَ بِالسَّوَادِ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَضَّبَ. قَالَ: وَآخِرُ الْآيَاتِ الطَّمْسُ. قَالَ: وَلِلْعَصَا فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى [طه: 18] وَذَكَرَ اللَّهُ مِنْ تِلْكَ الْمَآرِبِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلَهُ: اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [الْبَقَرَةِ: 60] وَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَشْيَاءَ أُخْرَى مِنْهَا: أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ الْأَرْضَ بِهَا فَتَنْبُتُ وَمِنْهَا: أَنَّهُ كَانَتْ تُحَارِبُ اللُّصُوصَ وَالسِّبَاعَ الَّتِي كَانَتْ تَقْصِدُ غَنَمَهُ وَمِنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ تَشْتَعِلُ فِي اللَّيْلِ كَاشْتِعَالِ الشَّمْعَةِ وَمِنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ تَصِيرُ كَالْحَبْلِ الطَّوِيلِ فَيَنْزَحُ بِهِ الْمَاءَ مِنَ الْبِئْرِ الْعَمِيقَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَوَائِدَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ مَعْلُومَةٌ فَأَمَّا الْأُمُورُ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ/ فَكُلُّ مَا وَرَدَ بِهِ خَبَرٌ صَحِيحٌ فَهُوَ مَقْبُولٌ وَمَا لَا فَلَا وَقَوْلُهُ إِنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ بِهَا الْأَرْضَ فَتُخْرِجُ النَّبَاتَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَفْزَعُ إِلَى الْعَصَا فِي الْمَاءِ الْخَارِجِ مِنَ الْحَجَرِ وَمَا كَانَ يَفْزَعُ إِلَيْهَا فِي طَلَبِ الطَّعَامِ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَظَلَمُوا بِها أَيْ فَظَلَمُوا بِالْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْهُمْ لِأَنَّ الظُّلْمَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْآيَاتُ قَاهِرَةً ظَاهِرَةً ثُمَّ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِهَا فَوَضَعُوا الْإِنْكَارَ فِي مَوْضِعِ الْإِقْرَارِ وَالْكُفْرَ فِي مَوْضِعِ الْإِيمَانِ كَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا مِنْهُمْ عَلَى تِلْكَ الْآيَاتِ. ثُمَّ قَالَ: فَانْظُرْ أَيْ بِعَيْنِ عَقْلِكَ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَكَيْفَ فَعَلْنَا بهم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 104 الى 106] وَقالَ مُوسى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ لِمُلُوكِ مِصْرَ: الْفَرَاعِنَةُ كَمَا يُقَالُ لِمُلُوكِ فَارِسَ: الْأَكَاسِرَةُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا مَلِكَ مِصْرَ وَكَانَ اسْمُهُ قَايُوسَ وَقِيلَ: الْوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ الرَّيَّانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ تَعَالَى فَإِنَّ قَوْلَهُ: رَبِّ الْعالَمِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَالَمَ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتٍ لِأَجْلِهَا افْتَقَرَ إِلَى رَبٍّ يُرَبِّيهِ وَإِلَهٍ يُوجِدُهُ وَيَخْلُقُهُ. ثُمَّ قَالَ: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَالْمَعْنَى أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ، فَصَارَ نَظْمُ الْكَلَامِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ وَرَسُولُ اللَّهِ لَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ يَنْتِجُ أَنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ وَلَمَّا كَانَتِ

الْمُقَدِّمَةُ الْأَوْلَى خَفِيَّةً وَكَانَتِ الْمُقْدِّمَةُ الثَّانِيَةُ جَلِيَّةً ظَاهِرَةً ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى وَهُوَ قَوْلُهُ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وهي المعجزة الظاهرة وَلَمَّا قَرَّرَ رِسَالَةَ نَفْسِهِ فَرَّعَ عَلَيْهِ تَبْلِيغَ الْحُكْمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمَّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ هَذَا/ الْكَلَامَ قَالَ: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ وَاعْلَمْ أَنَّ دَلِيلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى مُقَدِّمَاتٍ: إِحْدَاهَا: أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ إِلَهًا قَادِرًا عَالِمًا حَكِيمًا. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَظْهَرَ الْمُعْجِزَ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا حَقًّا. وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ كُلُّ مَا يُبَلِّغُهُ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ فَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ. ثُمَّ إِنَّ فِرْعَوْنَ مَا نَازَعَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ إِلَّا فِي طَلَبِ الْمُعْجِزَةِ وَهَذَا يُوهِمُ أَنَّهُ كَانَ مُسَاعِدًا عَلَى صِحَّةِ سَائِرِ الْمُقَدِّمَاتِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ طه أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ فِرْعَوْنَ هَلْ كَانَ عَارِفًا بِرَبِّهِ أَمْ لَا؟ وَلِمُجِيبٍ أَنْ يُجِيبَ فَيَقُولَ: إِنَّ ظُهُورَ الْمُعْجِزَةِ يَدُلُّ أَوَّلًا عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ، وَثَانِيًا: عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ جَعَلَهُ قَائِمًا مَقَامَ تَصْدِيقِ ذَلِكَ الرَّسُولِ، فَلَعَلَّ فِرْعَوْنَ كَانَ جَاهِلًا بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ، وَطَلَبَ مِنْهُ إِظْهَارَ تِلْكَ الْبَيِّنَةِ حَتَّى إِنَّهُ إِنْ أَظْهَرَهَا وَأَتَى بِهَا كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ أَوَّلًا وَعَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ ثَانِيًا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: لَا يَلْزَمُ مِنَ اقْتِصَارِ فِرْعَوْنَ عَلَى طَلَبِ الْبَيِّنَةِ كَوْنُهُ مُقِرًّا بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ حَقِيقٌ عَلى مُشَدَّدَ الْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِسُكُونِ الْيَاءِ وَالتَّخْفِيفِ. أَمَّا قِرَاءَةُ نَافِعٍ فَحَقِيقٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ. قَالَ اللَّيْثُ: حَقَّ الشَّيْءُ مَعْنَاهُ وَجَبَ وَيَحِقُّ عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا وَحَقِيقٌ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَهُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَالْمَعْنَى: وَاجِبٌ عَلَيَّ تَرْكُ الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ إِلَّا بِالْحَقِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وُضِعَ فَعِيلٌ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ. تَقُولُ الْعَرَبُ: حَقٌّ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا وَإِنِّي لَمَحْقُوقٌ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ خَيْرًا أَيْ حَقٌّ عَلَيَّ ذَلِكَ بِمَعْنَى اسْتَحَقَّ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: حُجَّةُ نَافِعٍ فِي تَشْدِيدِ الْيَاءِ أَنَّ حَقَّ يَتَعَدَّى بِعَلَى قَالَ تَعَالَى: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا [الصَّافَّاتِ: 31] وَقَالَ: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ [الْإِسْرَاءِ: 16] فَحَقِيقٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولًا بِحَرْفِ عَلَى مَنْ هَذَا الْوَجْهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: حَقِيقٌ بِمَعْنَى وَاجِبٍ فَكَمَا أَنَّ وَجَبَ يَتَعَدَّى بِعَلَى كَذَلِكَ حَقِيقٌ إِنْ أُرِيدَ بِهِ وَجَبَ يَتَعَدَّى بِعَلَى. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ حَقِيقٌ عَلى بِسُكُونِ الْيَاءِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ الْبَاءَ فِي مَوْضِعِ «عَلَى» تَقُولُ: رَمَيْتَ عَلَى الْقَوْسِ وَبِالْقَوْسِ وَجِئْتُ عَلَى حَالٍ حَسَنَةٍ وَبِحَالٍ حَسَنَةٍ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ [الْأَعْرَافِ: 86] فَكَمَا وَقَعَتِ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِكُلِّ صِراطٍ مَوْضِعَ «عَلَى» كَذَلِكَ وَقَعَتْ كَلِمَةُ «عَلَى» مَوْقِعَ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ يُؤَكِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ حَقِيقٌ بِأَنْ لَا أَقُولَ وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالتَّقْدِيرُ: أَنَا حَقِيقٌ بِأَنْ لَا أَقُولَ وَعَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ يَرْتَفِعُ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ أَنْ لَا أَقُولَ الثَّانِي: أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الثَّابِتُ الدَّائِمُ وَالْحَقِيقُ مُبَالَغَةٌ فِيهِ وَكَانَ الْمَعْنَى: أَنَا ثَابِتٌ مُسْتَمِرٌّ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ إِلَّا الْحَقَّ. الثالث: الحقيق هاهنا/ بِمَعْنَى الْمَحْقُوقِ وَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: حَقَقْتُ الرَّجُلَ إِذَا مَا تَحَقَّقْتَهُ وَعَرَفْتَهُ عَلَى يَقِينٍ وَلَفْظَةُ (على) هاهنا هِيَ الَّتِي تُقْرَنُ بِالْأَوْصَافِ اللَّازِمَةِ الْأَصْلِيَّةِ كَقَوْلِهِ تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الرُّومِ: 30] وَتَقُولُ: جَاءَنِي فُلَانٌ عَلَى هَيْئَتِهِ وَعَادَتِهِ وَعَرَفْتُهُ وَتَحَقَّقْتُهُ عَلَى كَذَا وَكَذَا مِنَ الصِّفَاتِ فَمَعْنَى الْآيَةِ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْ وَلَمْ أَتَحَقَّقْ إِلَّا عَلَى قَوْلِ الْحَقِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ أَيْ أَطْلِقْ عَنْهُمْ وَخَلِّهِمْ وَكَانَ فِرْعَوْنُ قَدِ اسْتَخْدَمَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 107 إلى 110]

الشَّاقَّةِ مِثْلِ ضَرْبِ اللَّبَنِ وَنَقْلِ التُّرَابِ فَعِنْدَ هَذَا الْكَلَامِ قَالَ فِرْعَوْنُ: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ قَالَ لَهُ: فَأْتِ بِها بَعْدَ قوله: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ وَجَوَابُهُ: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ مِنْ عِنْدِ مَنْ أَرْسَلَكَ بِآيَةٍ فَأْتِنِي بِهَا وَأَحْضِرْهَا عِنْدِي لِيَصِحَّ دَعْوَاكَ وَيَثْبُتُ صِدْقُكَ وَالْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ جَزَاءٌ وَقَعَ بَيْنَ شَرْطَيْنِ فَكَيْفَ حُكْمُهُ؟ وَجَوَابُهُ أَنَّ نَظِيرَهُ قَوْلُهُ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا. وهاهنا الْمُؤَخَّرُ فِي اللَّفْظِ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا فِي الْمَعْنَى وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا تَقَدَّمَ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 107 الى 110] فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) اعْلَمْ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا طَالَبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مُعْجِزَتَهُ كَانَتْ قَلْبَ الْعَصَا ثُعْبَانًا وَإِظْهَارَ الْيَدِ الْبَيْضَاءِ وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمَاعَةَ الطَّبِيعِيِّينَ يُنْكِرُونَ إِمْكَانَ انْقِلَابِ الْعَصَا ثُعْبَانًا وَقَالُوا: الدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِهِ أَنَّ تَجْوِيزَ انْقِلَابِ الْعَصَا ثُعْبَانًا يُوجِبُ ارْتِفَاعَ الْوُثُوقِ عَنِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَمَا يُفْضِي إِلَى الْبَاطِلِ فَهُوَ بَاطِلٌ. إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ تَجْوِيزَهُ يُوجِبُ ارْتِفَاعَ الْوُثُوقِ عَلَى الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا أَنْ يَتَوَلَّدَ الثُّعْبَانُ الْعَظِيمُ مِنَ الْعَصَا الصَّغِيرَةِ لَجَوَّزْنَا أَيْضًا أَنْ يَتَوَلَّدَ الْإِنْسَانُ الشَّابُّ الْقَوِيُّ عَنِ التِّبْنَةِ/ الْوَاحِدَةِ وَالْحَبَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الشَّعِيرِ وَلَوْ جَوَّزَ ذَلِكَ لَجَوَّزْنَاهُ فِي هَذَا الْإِنْسَانِ الَّذِي نُشَاهِدُهُ الْآنَ أَنَّهُ إِنَّمَا حَدَثَ الْآنَ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَا مِنَ الْأَبَوَيْنِ وَلَجَوَّزْنَا فِي زَيْدٍ الَّذِي نُشَاهِدُهُ الْآنَ أَنَّهُ لَيْسَ هو زيد الَّذِي شَاهَدْنَاهُ بِالْأَمْسِ بَلْ هُوَ شَخْصٌ آخَرُ حَدَثَ الْآنَ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ فَتَحَ عَلَى نَفْسِهِ أَبْوَابَ هَذِهِ التَّجْوِيزَاتِ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُقَلَاءِ يَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْخَبَلِ وَالْعَتَهِ وَالْجُنُونِ ولان لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَجَوَّزْنَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْجِبَالَ انْقَلَبَتْ ذَهَبًا وَمِيَاهَ الْبِحَارِ انْقَلَبَتْ دَمًا ولجوزنا في التراب الَّذِي كَانَ فِي مَزْبَلَةِ الْبَيْتِ أَنَّهُ انْقَلَبَ دَقِيقًا وَفِي الدَّقِيقِ الَّذِي كَانَ فِي الْبَيْتِ أَنَّهُ انْقَلَبَ تُرَابًا وَتَجْوِيزُ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِمَّا يُبْطِلُ الْعُلُومَ الضَّرُورِيَّةَ وَيُوجِبُ دُخُولَ الْإِنْسَانِ فِي السَّفْسَطَةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا فَمَا يُفْضِي إِلَيْهِ كَانَ أَيْضًا بَاطِلًا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: تَجْوِيزُ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُخْتَصٌّ بِزَمَانِ دَعْوَةِ الأنبياء وهذا لزمان لَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ الْأَمَانُ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَنْ تَجْوِيزِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا التَّجْوِيزَ إِذَا كَانَ قَائِمًا فِي الْجُمْلَةِ كَانَ تَخْصِيصُ هَذَا التَّجْوِيزِ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ مِمَّا لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِدَلِيلٍ غَامِضٍ فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْجَاهِلُ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ الْغَامِضِ جَاهِلًا بِاخْتِصَاصِ ذَلِكَ التَّجْوِيزِ بِذَلِكَ الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ فَكَانَ يَلْزَمُ مِنْ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ الدَّلِيلَ الْغَامِضَ أَنْ يُجَوِّزُوا كُلَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْجِهَاتِ وَأَنْ لَا يَكُونُوا قَاطِعِينَ بِامْتِنَاعِ وُقُوعِهَا وَحَيْثُ نَرَاهُمْ قَاطِعِينَ

بِامْتِنَاعِ وُقُوعِهَا عَلِمْنَا أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ فَاسِدٌ. وَالثَّانِي: أَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي زَمَانِ دَعْوَةِ النُّبُوَّةِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ أَيْضًا بِهِ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ فَإِنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ تَنْقَلِبَ الْعَصَا ثُعْبَانًا جَازَ فِي الشَّخْصِ الَّذِي شَاهَدْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الشَّخْصَ الْأَوَّلَ بَلِ اللَّهُ أَعْدَمَ الشَّخْصَ الْأَوَّلَ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَأَوْجَدَ شَخْصًا آخَرَ يُسَاوِيهِ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ هَذَا الَّذِي نَرَاهُ الْآنَ هُوَ الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِالْأَمْسِ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ وُقُوعُ الشَّكِّ فِي الَّذِينَ رَأَوْا مُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدًا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ هَلْ هُوَ الَّذِي رَأَوْهُ بِالْأَمْسِ أَمْ لَا؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَجْوِيزَهُ يُوجِبُ الْقَدْحَ فِي النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا الزَّمَانَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَمَانَ جَوَازِ الْمُعْجِزَاتِ إِلَّا أَنَّهُ زَمَانُ جَوَازِ الْكَرَامَاتِ عِنْدَكُمْ فَيَلْزَمُكُمْ تَجْوِيزُهُ فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَجْوِيزِ انْقِلَابِ الْعَادَاتِ عَنْ مَجَارِيهَا صَعْبٌ مُشْكِلٌ وَالْعُقَلَاءُ اضْطَرَبُوا فِيهِ وَحَصَلَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَوْلُ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ جَوَّزُوا/ تَوَلُّدَ الْإِنْسَانِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ دُفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ مَادَّةٍ وَلَا مُدَّةٍ وَلَا أَصْلٍ وَلَا تَرْبِيَةٍ وَجَوَّزُوا فِي الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ أَنْ يَكُونَ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا عَاقِلًا قَاهِرًا مِنْ غَيْرِ حُصُولِ بِنْيَةٍ وَلَا مِزَاجٍ وَلَا رُطُوبَةٍ وَلَا تَرْكِيبٍ وَجَوَّزُوا فِي الْأَعْمَى الَّذِي يَكُونُ بِالْأَنْدَلُسِ أَنْ يُبْصِرَ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْبُقْعَةَ الَّتِي تَكُونُ بِأَقْصَى الْمَشْرِقِ مَعَ أَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي يَكُونُ سَلِيمَ الْبَصَرِ لَا يَرَى الشَّمْسَ الطَّالِعَةَ فِي ضِيَاءِ النَّهَارِ فَهَذَا هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ الطَّبِيعِيِّينَ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حُدُوثُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَدُخُولُهَا فِي الْوُجُودِ إِلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ وَالطَّرِيقِ الْمُعَيَّنِ. وَقَالُوا: وَبِهَذَا الطَّرِيقِ دَفَعْنَا عَنْ أَنْفُسِنَا الْتِزَامَ الْجَهَالَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَالْمُحَالَاتِ الَّتِي شَرَحْنَاهَا وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ لُزُومًا لَا دَافِعَ لَهُ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ هَذِهِ الْحَوَادِثَ الَّتِي تَحْدُثُ فِي عَالَمِنَا هَذَا إِمَّا أَنْ تَحْدُثَ لَا لِمُؤَثِّرٍ أَوْ لِمُؤَثِّرٍ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: فَالْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَازِمٌ أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا تَحْدُثُ لَا عَنْ مُؤَثِّرٍ فَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ إِلَّا أَنَّ مَعَ تَجْوِيزِهِ فَالْإِلْزَامُ الْمَذْكُورُ لَازِمٌ لِأَنَّا إِذَا جَوَّزْنَا حُدُوثَ الْأَشْيَاءِ لَا عَنْ مُؤَثِّرٍ وَلَا عَنْ مُوجِدٍ فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَمَانُ مِنْ تَجْوِيزِ حُدُوثِ إِنْسَانٍ لَا عَنِ الْأَبَوَيْنِ وَمِنْ تَجْوِيزِ انْقِلَابِ الْجَبَلِ ذَهَبًا وَالْبَحْرِ دَمًا؟ فَإِنَّ تَجْوِيزَ حُدُوثِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ لَا عَنْ مُؤَثِّرٍ لَيْسَ أَبْعَدَ عِنْدَ الْعَقْلِ مِنْ تَجْوِيزِ حُدُوثِ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ لَا عَنْ مُؤَثِّرٍ فَثَبَتَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ الْإِلْزَامَ الْمَذْكُورَ لَازِمٌ أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي وَهُوَ إِثْبَاتُ مُؤَثِّرٍ وَمُدَبِّرٍ لِهَذَا الْعَالَمِ فَذَلِكَ الْمُؤَثِّرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا بِالذَّاتِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا بِالِاخْتِيَارِ. أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَالْإِلْزَامَاتُ الْمَذْكُورَةُ لَازِمَةٌ وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُؤَثِّرًا وَمُرَجِّحُهُ مُوجِبًا بِالذَّاتِ وَجَبَ الْجَزْمُ بِأَنَّ اخْتِصَاصَ كُلِّ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بِالْحَادِثِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَشْكَالِ الْفَلَكِيَّةِ تَخْتَلِفُ حَوَادِثُ هَذَا الْعَالَمِ إِذْ لَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ هَذَا الْمَعْنَى لَامْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الْقَدِيمَةُ الدَّائِمَةُ سَبَبًا لِحُدُوثِ الْمَعْلُولِ الْحَادِثِ الْمُتَغَيِّرِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: كَيْفَ الْأَمَانُ مِنْ أَنْ يَحْدُثَ فِي الْفَلَكِ شَكْلٌ غَرِيبٌ يَقْتَضِي حُدُوثَ إِنْسَانٍ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَا عَنِ الْأَبَوَيْنِ وَانْتِقَالَ مَادَّةِ الْجَبَلِ مِنَ الصُّورَةِ الْجَبَلِيَّةِ إِلَى الصُّورَةِ الذَّهَبِيَّةِ أَوْ لِلصُّورَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ؟ وَحِينَئِذٍ تَعُودُ جَمِيعُ الْإِلْزَامَاتِ الْمَذْكُورَةِ. وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرُ الْعَالِمِ وَمُرَجِّحُهُ فَاعِلًا مُخْتَارًا فَلَا

شَكَّ أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ مُحْتَمَلَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ ذَلِكَ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ يَخْلُقُ بِإِرَادَتِهِ إِنْسَانًا دُفْعَةً وَاحِدَةً لَا عَنِ الْأَبَوَيْنِ وَانْتِقَالُ مَادَّةِ الْجَبَلِ ذَهَبًا وَالْبَحْرِ دَمًا فَثَبَتَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي أَلْزَمُوهَا عَلَيْنَا وَارِدَةٌ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ وَعَلَى جَمِيعِ الْفِرَقِ وَأَنَّهُ لَا دَافِعَ لَهَا الْبَتَّةَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ انْخِرَاقَ الْعَادَاتِ وَانْقِلَابَهَا عَنْ مَجَارِيهَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ دُونَ بَعْضٍ فَأَكْثَرُ شُيُوخِهِمْ يُجَوِّزُونَ حُدُوثَ الْإِنْسَانِ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَا عَنِ الْأَبَوَيْنِ وَيُجَوِّزُونَ انْقِلَابَ الْمَاءِ نَارًا وَبِالْعَكْسِ وَيُجَوِّزُونَ حُدُوثَ الزَّرْعِ لَا عَنْ سَابِقَةِ بَذْرٍ. ثُمَّ قَالُوا إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ مَوْصُوفًا بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ بَلْ صِحَّةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَشْرُوطَةٌ بِحُصُولِ بِنْيَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَمِزَاجٍ مَخْصُوصٍ وَزَعَمُوا أَنَّ عِنْدَ كَوْنِ الْحَاسَّةِ سَلِيمَةً وَكَوْنِ الْمَرْئِيِّ حَاضِرًا وَعَدَمِ الْقُرْبِ الْقَرِيبِ وَالْبُعْدِ الْبَعِيدِ يَجِبُ حُصُولُ الْإِدْرَاكِ وَعِنْدَ فِقْدَانِ أَحَدِ هَذِهِ الشُّرُوطِ يَمْتَنِعُ حُصُولُ الْإِدْرَاكِ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُعْتَزِلَةُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لَا يَعْتَبِرُونَ مَجَارِيَ الْعَادَاتِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ انْقِلَابَهَا مُمْكِنٌ وَانْخِرَاقَهَا جَائِزٌ وَفِي سَائِرِ الصُّوَرِ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَيَمْتَنِعُ زَوَالُهَا وَانْقِلَابُهَا وَلَيْسَ لَهُمْ بَيْنَ النَّاسِ قَانُونٌ مَضْبُوطٌ وَلَا ضَابِطٌ مَعْلُومٌ فَلَا جَرَمَ كَانَ قَوْلُهُمْ أَدْخَلَ الْأَقَاوِيلِ فِي الْفَسَادِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ التَّفَاصِيلَ فَنَقُولُ: ذَوَاتُ الْأَجْسَامِ مُتَمَاثِلَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ وَكُلُّ مَا صَحَّ عَلَى الشَّيْءِ صَحَّ عَلَى مِثْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ عَلَى كُلِّ جِسْمٍ مَا صَحَّ عَلَى غَيْرِهِ فَإِذَا صَحَّ عَلَى بَعْضِ الْأَجْسَامِ صِفَةٌ مِنَ الصِّفَاتِ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ عَلَى كُلِّهَا مِثْلُ تِلْكَ الصِّفَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ جِسْمُ الْعَصَا قَابِلًا لِلصِّفَاتِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا تَصِيرُ ثُعْبَانًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ انْقِلَابُ الْعَصَا ثُعْبَانًا أَمْرًا مُمْكِنًا لِذَاتِهِ وَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ فَلَزِمَ الْقَطْعُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى قَلْبِ الْعَصَا ثُعْبَانًا وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ وَهَذَا الدَّلِيلُ مَوْقُوفٌ عَلَى إِثْبَاتِ مُقَدِّمَاتٍ ثَلَاثٍ: إِثْبَاتُ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ فِي تَمَامِ الذَّاتِ وَإِثْبَاتُ أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ وَإِثْبَاتُ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ وَمَتَى قَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الثَّلَاثَةِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ التَّامُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ: فَإِذا هِيَ أَيِ الْعَصَا وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ وَالثُّعْبَانُ الْحَيَّةُ الضَّخْمَةُ الذَّكَرُ فِي قَوْلِ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ. فَأَمَّا مِقْدَارُهَا فَغَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْقُرْآنِ وَنُقِلَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ فِي صِفَتِهَا أَشْيَاءُ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهَا مَلَأَتْ ثَمَانِينَ ذِرَاعًا ثُمَّ شَدَّتْ عَلَى فِرْعَوْنَ لِتَبْتَلِعَهُ فَوَثَبَ فِرْعَوْنُ عَنْ سَرِيرِهِ هَارِبًا وَأَحْدَثَ وَانْهَزَمَ النَّاسُ وَمَاتَ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا. وَقِيلَ: كَانَ بَيْنَ لَحْيَيْهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا وَوُضِعَ لَحْيُهَا الْأَسْفَلُ عَلَى الْأَرْضِ وَالْأَعْلَى عَلَى سُورِ الْقَصْرِ وَصَاحَ فرعون يا موسى خذها فانا أومن بِكَ فَلَمَّا أَخَذَهَا مُوسَى عَادَتْ عَصًا كَمَا كَانَتْ وَفِي وَصْفِ ذَلِكَ الثُّعْبَانِ بِكَوْنِهِ مُبِينًا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: تَمْيِيزُ ذَلِكَ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ السَّحَرَةُ مِنَ التَّمْوِيهِ الَّذِي يَلْتَبِسُ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُ سَبَبَهُ وَبِذَلِكَ تَتَمَيَّزُ مُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ من الحيل والتمويهات. والثاني: في الْمُرَادُ أَنَّهُمْ شَاهَدُوا كَوْنَهُ حَيَّةً لَمْ يَشْتَبِهِ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ فِيهِ. الثَّالِثُ: الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الثُّعْبَانَ أَبَانَ قَوْلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ قَوْلِ الْمُدَّعِي الْكَاذِبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَنَزَعَ يَدَهُ فَالنَّزْعُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إِخْرَاجِ الشَّيْءِ عَنْ مَكَانِهِ فَقَوْلُهُ: نَزَعَ يَدَهُ أَيْ أَخْرَجَهَا مِنْ جَيْبِهِ أَوْ مِنْ جَنَاحِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ وقوله: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ وَقَوْلِهِ: فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ لَهَا نُورٌ سَاطِعٌ يُضِيءُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْبَيَاضُ كَالْعَيْبِ بَيَّنَ الله تعالى في غير هذه الأيد أَنَّهُ كَانَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ. فَإِنْ قِيلَ: بِمَ يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: لِلنَّاظِرِينَ. قُلْنَا: يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: بَيْضاءُ وَالْمَعْنَى: فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّظَّارَةِ وَلَا تَكُونُ بَيْضَاءَ لِلنَّظَّارَةِ إِلَّا إِذَا كَانَ بَيَاضُهَا بَيَاضًا عَجِيبًا خَارِجًا عَنِ الْعَادَةِ يَجْتَمِعُ النَّاسُ لِلنَّظَرِ إِلَيْهِ كَمَا تَجْتَمِعُ النَّظَّارَةُ لِلْعَجَائِبِ. وَبَقِيَ هاهنا مَبَاحِثُ: فَأَوَّلُهَا: أَنَّ انْقِلَابَ الْعَصَا ثُعْبَانًا مِنْ كَمْ وَجْهٍ يَدُلُّ عَلَى الْمُعْجِزِ؟ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْمُعْجِزَ كَانَ أَعْظَمَ أَمِ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ؟ وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَيْنِ الْمَطْلُوبَيْنِ فِي سُورَةِ طه. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُعْجِزَ الْوَاحِدَ كَانَ كَافِيًا. فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَانَ عَبَثًا. وَجَوَابُهُ: أَنَّ كَثْرَةَ الدَّلَائِلِ تُوجِبُ الْقُوَّةَ فِي الْيَقِينِ وَزَوَالِ الشَّكِّ وَمِنَ الْمُلْحِدِينَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالثُّعْبَانِ وَبِالْيَدِ الْبَيْضَاءِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ حُجَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ قَوِيَّةً ظَاهِرَةً قَاهِرَةً فَتِلْكَ الْحُجَّةُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا أَبْطَلَتْ أَقْوَالَ الْمُخَالِفِينَ وَأَظْهَرَتْ فَسَادَهَا كَانَتْ كَالثُّعْبَانِ الْعَظِيمِ الَّذِي يَتَلَقَّفُ حُجَجَ الْمُبْطِلِينَ وَمِنْ حَيْثُ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي نَفْسِهَا وُصِفَتْ بِالْيَدِ الْبَيْضَاءِ كَمَا يُقَالُ فِي الْعُرْفِ: لِفُلَانٍ يَدٌ بَيْضَاءُ فِي الْعِلْمِ الْفُلَانِيِّ أَيْ قُوَّةٌ كَامِلَةٌ وَمَرْتَبَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَمْلَ هَذَيْنِ الْمُعْجِزَيْنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجْرِي مَجْرَى دَفْعِ التَّوَاتُرِ وَتَكْذِيبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَلَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ انْقِلَابَ الْعَصَا حَيَّةً أَمْرٌ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ فَأَيُّ حَامِلٍ يَحْمِلُنَا عَلَى الْمَصِيرِ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ؟ وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَظْهَرَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ. حُكِيَ عَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ السِّحْرَ كَانَ غَالِبًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَرَاتِبَ السَّحَرَةِ كَانَتْ مُتَفَاضِلَةً مُتَفَاوِتَةً وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَحْصُلُ فِيهِمْ مَنْ يَكُونُ غَايَةً فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ وَنِهَايَةً فِيهِ فَالْقَوْمُ زَعَمُوا أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِكَوْنِهِ فِي النِّهَايَةِ مِنْ عِلْمِ السِّحْرِ أَتَى بِتِلْكَ الصِّفَةِ ثُمَّ ذَكَرُوا أَنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِذَلِكَ السِّحْرِ لِكَوْنِهِ طَالِبًا لِلْمُلْكِ وَالرِّيَاسَةِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ أَنَّهُ قَالَهُ فِرْعَوْنُ لقومه وحكى هاهنا أَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ قَالُوهُ فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَا يَمْتَنِعُ أَنَّهُ قَدْ قَالَهُ هُوَ وَقَالُوهُ هُمْ فَحَكَى اللَّهُ تعالى قوله ثم وقولهم هاهنا والثاني: لعل فرعون قاله ابتداء/ فتلقنه الْمَلَأُ مِنْهُ فَقَالُوهُ لِغَيْرِهِ أَوْ قَالُوهُ عَنْهُ لِسَائِرِ النَّاسِ عَلَى طَرِيقِ التَّبْلِيغِ فَإِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا رَأَوْا رَأْيًا ذَكَرُوهُ لِلْخَاصَّةِ وَهُمْ يَذْكُرُونَهُ للعامة فكذا هاهنا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَماذا تَأْمُرُونَ فَقَدْ ذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلَامَ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ ثُمَّ عِنْدَ هَذَا الْكَلَامِ قَالَ فِرْعَوْنُ مُجِيبًا لَهُمْ: فَماذا تَأْمُرُونَ وَاحْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: فَماذا تَأْمُرُونَ خِطَابٌ لِلْجَمْعِ لَا لِلْوَاحِدِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامَ فِرْعَوْنَ لِلْقَوْمِ. أَمَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ كَلَامَ الْقَوْمِ مَعَ فِرْعَوْنَ لَكَانُوا قَدْ خَاطَبُوهُ بِخِطَابِ الْوَاحِدِ لَا بِخِطَابِ الْجَمْعِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا خَاطَبُوهُ بِخِطَابِ الْجَمْعِ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ لِأَنَّ الْعَظِيمَ إِنَّمَا يُكَنَّى عَنْهُ بِكِنَايَةِ الْجَمْعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الْحِجْرِ: 9] إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً [نُوحٍ: 1] إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: 1] . وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ: فَماذا تَأْمُرُونَ قَالَ بَعْدَهُ: قالُوا أَرْجِهْ وَلَا شَكَّ أَنَّ هذا كلام

[سورة الأعراف (7) : الآيات 111 إلى 114]

الْقَوْمِ وَجَعَلَهُ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ فَماذا تَأْمُرُونَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ لِقَوْلِهِ: فَماذا تَأْمُرُونَ غَيْرَ الَّذِي قَالُوا أَرْجِهْ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَماذا تَأْمُرُونَ كَلَامٌ لِغَيْرِ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ. وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا: إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ثم قالوا لفرعون ولا كابر خَدَمِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ ثُمَّ أَتْبَعُوهُ بِقَوْلِهِمْ: أَرْجِهْ وَأَخاهُ فَإِنَّ الْخَدَمَ وَالْأَتْبَاعَ يُفَوِّضُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ إِلَى الْمَخْدُومِ وَالْمَتْبُوعِ أَوَّلًا ثُمَّ يَذْكُرُونَ مَا حَضَرَ فِي خَوَاطِرِهِمْ مِنَ الْمَصْلَحَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فَماذا تَأْمُرُونَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ الْقَوْمِ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَنْسُوقٌ عَلَى كَلَامِ الْقَوْمِ مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرُّتْبَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْأَمْرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَماذا تَأْمُرُونَ خِطَابًا مِنَ الْأَدْنَى مَعَ الْأَعْلَى وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ فِرْعَوْنَ مَعَهُ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا الثَّانِي: بِأَنَّ الرَّئِيسَ الْمَخْدُومَ قَدْ يَقُولُ لِلْجَمْعِ الْحَاضِرِ عِنْدَهُ مِنْ رَهْطِهِ وَرَعِيَّتِهِ مَاذَا تَأْمُرُونَ؟ وَيَكُونُ غَرَضُهُ مِنْهُ تَطْيِيبَ قُلُوبِهِمْ وَإِدْخَالَ السُّرُورِ فِي صُدُورِهِمْ وَأَنْ يُظْهِرَ مِنْ نَفْسِهِ كَوْنَهُ مُعَظِّمًا لَهُمْ وَمُعْتَقِدًا فِيهِمْ ثُمَّ إِنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ ذَكَرُوا وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا الْخِطَابِ هُوَ فِرْعَوْنُ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلرَّئِيسِ الْمُطَاعِ مَا تَرَوْنَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ أَيْ مَا تَرَى أَنْتَ وَحْدَكَ وَالْمَقْصُودُ أَنَّكَ وَحْدَكَ قَائِمٌ مَقَامَ الْجَمَاعَةِ. وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى كَمَالِهِ وَرِفْعَةِ شَأْنِهِ وَحَالِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ بِهَذَا الْخِطَابِ هُوَ فِرْعَوْنَ وَأَكَابِرَ دَوْلَتِهِ وَعُظَمَاءَ حَضْرَتِهِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُسْتَقِلُّونَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ والله اعلم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 111 الى 114] قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) [في قوله تعالى قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ أَرْجِهْ بِغَيْرِ هَمْزٍ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَالْإِشْبَاعِ وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ أَرْجِهْ بِغَيْرِ الْهَمْزِ وَسُكُونِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عامر وابو عمر وارجئه بِالْهَمْزِ وَضَمِّ الْهَاءِ ثُمَّ إِنَّ ابْنَ كَثِيرٍ أَشْبَعَ الْهَاءَ عَلَى أَصْلِهِ وَالْبَاقُونَ لَا يُشْبِعُونَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ أَرْجِهْ مَهْمُوزٌ وَغَيْرُ مَهْمُوزٍ لُغَتَانِ يُقَالُ أَرْجَأْتُ الْأَمْرَ وَأَرْجَيْتُهُ إِذَا أَخَّرْتَهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ [التَّوْبَةِ: 106] وتُرْجِي مَنْ تَشاءُ [الْأَحْزَابِ: 51] قُرِئَ فِي الْآيَتَيْنِ بِاللُّغَتَيْنِ وَأَمَّا قِرَاءَةُ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ بِغَيْرِ الْهَمْزِ وَسُكُونِ الْهَاءِ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ لُغَةُ الْعَرَبِ يَقِفُونَ عَلَى الْهَاءِ الْمُكَنَّى عَنْهَا فِي الْوَصْلِ إِذَا تَحَرَّكَ مَا قَبْلَهَا وَأَنْشَدَ: فَيُصْلِحُ الْيَوْمَ وَيُفْسِدُهُ غَدًا قَالَ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ بِهَاءِ التَّأْنِيثِ فَيَقُولُونَ: هَذِهِ طَلْحَهْ قَدْ أَقْبَلَتْ وَأَنْشَدَ لَمَّا رَأَى أَنْ لَا دَعَهْ وَلَا شِبَعْ

ثُمَّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَلَا وَجْهَ لِهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ فِي الْقِيَاسِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا شِعْرٌ لَا نَعْرِفُ قَائِلَهُ وَلَوْ قَالَهُ شَاعِرٌ مَذْكُورٌ لَقِيلَ لَهُ أَخْطَأْتَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أَرْجِهْ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْإِرْجَاءُ التَّأْخِيرُ فَقَوْلُهُ: أَرْجِهْ أَيْ أَخِّرْهُ وَمَعْنَى أَخِّرْهُ: أَيْ أَخِّرْ أَمْرَهُ وَلَا تَعْجَلْ فِي أَمْرِهِ بِحُكْمٍ فَتَصِيرَ عَجَلَتُكَ حُجَّةً عَلَيْكَ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ حَاوَلُوا مُعَارَضَةَ مُعْجِزَتِهِ بِسِحْرِهِمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقْوَى فِي إِبْطَالِ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قول الكلبي وقتادة أَرْجِهْ احسبه. قَالَ الْمُحَقِّقُونَ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِرْجَاءَ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّأْخِيرُ لَا الْحَبْسُ، وَالثَّانِي: أَنَّ فِرْعَوْنَ مَا كَانَ قَادِرًا/ عَلَى حَبْسِ مُوسَى بَعْدَ مَا شَاهَدَ حَالَ الْعَصَا. أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّحَرَةَ كَانُوا كَثِيرِينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ: وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي طِبَاعِ الْخَلْقِ مَعْرِفَةَ الْمُعَارَضَةِ وَأَنَّهَا إِذَا أَمْكَنَتْ فَلَا نُبُوَّةَ وَإِذَا تَعَذَّرَتْ فَقَدْ صَحَّتِ النُّبُوَّةُ وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ السِّحْرَ مَا هُوَ وَهَلْ لَهُ حَقِيقَةٌ أَمْ لَا بَلْ هُوَ مَحْضُ التَّمْوِيهِ فَقَدْ سَبَقَ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيِّ: أَنَّهُ قَالَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَدِينَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا فَعِيلَةٌ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ مَدَنَ بِالْمَكَانِ يَمْدُنُ مُدُونًا إِذَا أَقَامَ بِهِ وَهَذَا الْقَائِلُ يَسْتَدِلُّ بِإِطْبَاقِ الْقُرَّاءِ عَلَى همزه الْمَدَائِنِ وَهِيَ فَعَائِلُ كَصَحَائِفَ وَصَحِيفَةٍ وَسَفَائِنَ وَسَفِينَةٍ وَالْيَاءُ إِذَا كَانَتْ زَائِدَةً فِي الْوَاحِدِ هُمِزَتْ فِي الْجَمْعِ كَقَبَائِلَ وَقَبِيلَةٍ وَإِذَا كَانَتْ مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ لَمْ تُهْمَزْ فِي الْجَمْعِ نَحْوَ مَعَايِشَ وَمَعِيشَةٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مَفْعِلَةٌ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَمَعْنَى الْمَدِينَةِ الْمَمْلُوكَةُ مِنْ دَانَهُ يَدِينُهُ فَقَوْلُنَا مَدِينَةٌ مِنْ دَانَ مِثْلُ مَعِيشَةٍ مِنْ عَاشَ وَجَمْعُهَا مَدَايِنُ عَلَى مَفَاعِلَ كَمَعَايِشَ غير مهموز ويكون اسما لمكان وَالْأَرْضِ الَّتِي دَانَهُمُ السُّلْطَانَ فِيهَا أَيْ سَاسَهُمْ وَقَهَرَهُمْ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ الْمُبَرِّدُ مَدِينَةٌ أَصْلُهَا مديونة من دانه إذا قهره وساسه فاستقلوا حَرَكَةَ الضَّمَّةِ عَلَى الْيَاءِ فَسَكَّنُوهَا وَنَقَلُوا حَرَكَتَهَا إِلَى مَا قَبْلَهَا وَاجْتَمَعَ سَاكِنَانِ الْوَاوُ الْمَزِيدَةُ الَّتِي هِيَ وَاوُ الْمَفْعُولِ وَالْيَاءُ الَّتِي هِيَ مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ فَحُذِفَتِ الْوَاوُ لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ وَحَذْفُ الزَّائِدِ أَوْلَى مِنْ حَذْفِ الْحَرْفِ الْأَصْلِيِّ ثُمَّ كَسَرُوا الدَّالَ لِتَسْلَمَ الْيَاءُ فَلَا تَنْقَلِبُ وَاوًا لِانْضِمَامِ مَا قَبْلَهَا فَيَخْتَلِطُ ذَوَاتُ الْوَاوِ بِذَوَاتِ الْيَاءِ وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَبِيعِ وَالْمَخِيطِ وَالْمَكِيلِ ثُمَّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا فَعِيلَةٌ لِاجْتِمَاعِ الْقُرَّاءِ عَلَى هَمْزِ الْمَدَائِنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يُرِيدُ وَأَرْسِلْ فِي مَدَائِنِ صَعِيدِ مِصْرَ رِجَالًا يَحْشُرُوا إِلَيْكَ مَا فِيهَا مِنَ السَّحَرَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ رُؤَسَاءُ السَّحَرَةِ بِأَقْصَى مَدَائِنِ الصَّعِيدِ وَنَقَلَ الْقَاضِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا سَبْعِينَ سَاحِرًا سِوَى رَئِيسِهِمْ وَكَانَ الَّذِي يُعَلِّمُهُمْ رَجُلًا مَجُوسِيًّا مِنْ أَهْلِ نِينَوَى بَلْدَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ قَرْيَةٌ بِالْمَوْصِلِ. وَأَقُولُ هَذَا النَّقْلُ مُشْكِلٌ لِأَنَّ الْمَجُوسَ أَتْبَاعُ زَرَادِشْتَ وَزَرَادِشْتُ إِنَّمَا جَاءَ بعد

مَجِيءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. أَمَّا قَوْلُهُ: يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكُلِّ سَحَّارٍ وَالْبَاقُونَ بِكُلِّ سَاحِرٍ فَمَنْ قَرَأَ سَحَّارٍ فَحُجَّتُهُ أَنَّهُ قَدْ وُصِفَ بِعَلِيمٍ وَوَصْفُهُ بِهِ يَدُلُّ عَلَى تَنَاهِيهِ فِيهِ وَحِذْقِهِ بِهِ فَحَسُنَ لِذَلِكَ أَنْ يُذْكَرَ بِالِاسْمِ الدَّالِّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي السِّحْرِ وَمَنْ قَرَأَ سَاحِرٍ فَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ [الْأَعْرَافِ: 120] ولَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ [الشعراء: 40] وَالسَّحَرَةُ جَمْعُ سَاحِرٍ مِثْلَ كَتَبَةٍ وَكَاتِبٍ وَفَجَرَةٍ وَفَاجِرٍ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الأعراف: 116] وَاسْمُ الْفَاعِلِ مِنْ سَحَرُوا سَاحِرٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِكُلِّ ساحِرٍ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى مَعَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بَاءُ التَّعْدِيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّحَرَةَ كَانُوا كَثِيرِينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا يَقُولُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ مُعْجِزَةَ كُلِّ نَبِيِّ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ غَالِبًا عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ فَلَمَّا كَانَ السِّحْرُ غَالِبًا عَلَى أَهْلِ زَمَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ مُعْجِزَتُهُ شَبِيهَةً بِالسِّحْرِ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلسِّحْرِ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَمَّا كَانَ الطِّبُّ غَالِبًا عَلَى أَهْلِ زَمَانِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ مُعْجِزَتُهُ مِنْ جِنْسِ الطِّبِّ وَلَمَّا كَانَتِ الْفَصَاحَةُ غَالِبَةً عَلَى أَهْلِ زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا جَرَمَ كَانَتْ مُعْجِزَتُهُ مِنْ جِنْسِ الْفَصَاحَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ إِنَّ لَنا لَأَجْراً بِكَسْرِ الْأَلْفِ عَلَى الْخَبَرِ وَالْبَاقُونَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ عَلَى أَصْلِهِ وَالْبَاقُونَ بِهَمْزَتَيْنِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الِاسْتِفْهَامُ أَحْسَنُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَعْلَمُوا هَلْ لَهُمْ أَجْرٌ أَمْ لَا؟ وَيَقْطَعُونَ عَلَى أَنَّ لَهُمُ الْأَجْرَ وَيُقَوِّي ذَلِكَ إِجْمَاعُهُمْ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ عَلَى الْهَمْزِ لِلِاسْتِفْهَامِ وَحُجَّةُ نَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ عَلَى أَنَّهُمَا أَرَادَا هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ وَلَكِنَّهُمَا حَذَفَا ذَلِكَ مِنَ اللَّفْظِ وَقَدْ تُحْذَفُ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مِنَ اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ [الشُّعَرَاءِ: 22] فَإِنَّهُ يَذْهَبُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ او تلك بالاستفهام وكما في قوله: هذا رَبِّي [الانعام: 78] وَالتَّقْدِيرُ أَهَذَا رَبِّي وَقِيلَ: أَيْضًا الْمُرَادُ أَنَّ السَّحَرَةَ أَثْبَتُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا لِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا بُدَّ لَنَا مِنْ أَجْرٍ وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّعْظِيمِ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: إِنَّ لَهُ لَإِبِلًا وَإِنَّ لَهُ لَغَنَمًا يَقْصِدُونَ الْكَثْرَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يقول: هلا قل: وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا وَجَوَابُهُ: هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ: سَائِلٌ سَأَلَ: مَا قَالُوا إِذْ جَاءُوهُ. فَأُجِيبَ بِقَوْلِهِ: قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً أَيْ جُعْلًا عَلَى الْغَلَبَةِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ مَعْطُوفٌ وَمَا الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ؟ وَجَوَابُهُ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ سَدَّ مَسَدَّهُ حَرْفُ الْإِيجَابِ كَأَنَّهُ قَالَ إِيجَابًا لِقَوْلِهِمْ إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا نَعَمْ إِنَّ لَكُمْ لَأَجْرًا وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. أَرَادَ أَنِّي لَا أَقْتَصِرُ بِكُمْ عَلَى الثَّوَابِ بَلْ أَزِيدُكُمْ عَلَيْهِ وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 115 إلى 119]

أَنِّي أَجْعَلُكُمْ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدِي. قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ إِنَّمَا يَعْظُمُ مَوْقِعُهُ إِذَا كَانَ مَقْرُونًا بِالتَّعْظِيمِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا وَعَدَهُمْ بِالْأَجْرِ قَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ وَهُوَ حُصُولُ الْقُرْبَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ الْخَلْقِ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَبْدًا ذَلِيلًا مَهِينًا عَاجِزًا وَإِلَّا لَمَا احْتَاجَ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالسَّحَرَةِ فِي دَفْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ السَّحَرَةَ مَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى قَلْبِ الْأَعْيَانِ وَإِلَّا لَمَا احْتَاجُوا إِلَى طَلَبِ الْأَجْرِ وَالْمَالِ مِنْ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَدَرُوا عَلَى قَلْبِ الْأَعْيَانِ فَلِمَ لَمْ يَقْلِبُوا التُّرَابَ ذَهَبًا وَلِمَ لَمْ يَنْقُلُوا مُلْكَ فِرْعَوْنَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَلِمَ لَمْ يَجْعَلُوا أَنْفُسَهُمْ مُلُوكَ الْعَالَمِ وَرُؤَسَاءَ الدُّنْيَا وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَنْبِيهُ الْإِنْسَانِ لِهَذِهِ الدَّقَائِقِ وَأَنْ لَا يَغْتَرَّ بِكَلِمَاتِ أَهْلِ الْأَبَاطِيلِ وَالْأَكَاذِيبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 115 الى 119] قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) [في قوله تعالى قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ: فِي بَابِ «أَمَّا وَإِمَّا» إِذَا كُنْتَ آمِرًا أَوْ نَاهِيًا أَوْ مُخْبِرًا فَهِيَ مَفْتُوحَةٌ وَإِذَا كُنْتَ مُشْتَرِطًا أَوْ شَاكًّا أَوْ مُخَيِّرًا فَهِيَ مَكْسُورَةٌ تَقُولُ فِي الْمَفْتُوحَةِ أَمَّا اللَّهُ فَاعْبُدُوهُ وَأَمَّا الْخَمْرُ فَلَا تَشْرَبُوهَا وَأَمَّا زَيْدٌ فَقَدْ خَرَجَ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَتَقُولُ: إِذَا كُنْتَ مُشْتَرِطًا إِمَّا تُعْطِيَنَّ زَيْدًا فَإِنَّهُ يَشْكُرُكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ [الْأَنْفَالِ: 57] وَتَقُولُ فِي الشَّكِّ لَا أَدْرِي مَنْ قَامَ إِمَّا زَيْدٌ وَإِمَّا عَمْرٌو وَتَقُولُ فِي التَّخْيِيرِ لِي بِالْكُوفَةِ دَارٌ فَإِمَّا أَنْ أَسْكُنَهَا وَإِمَّا أَنْ أَبِيعَهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ إِمَّا إِذَا أَتَتْ لِلشَّكِّ وَبَيْنَ أَوْ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَدْ بَنَيْتَ كَلَامَكَ عَلَى الْيَقِينِ ثم أدرك الشَّكُّ فَقُلْتَ أَوْ عَمْرٌو فَصَارَ الشَّكُّ فِيهِمَا جَمِيعًا فَأَوَّلُ الِاسْمَيْنِ فِي «أَوْ» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَعْرِضُ الشَّكُّ فَتَسْتَدْرِكُ بِالِاسْمِ الْآخَرِ أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: قَامَ أَخُوكَ وَتَسْكُتُ ثُمَّ تَشُكُّ فَتَقُولُ: أَوْ أَبُوكَ وَإِذَا ذَكَرْتَ إِمَّا فَإِنَّمَا تَبْنِي كَلَامَكَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى الشَّكِّ وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ ضَرَبْتَ إِمَّا عَبْدَ اللَّهِ وَتَسْكُتُ وَأَمَّا دُخُولُ (أَنْ) فِي قَوْلِهِ: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَسُقُوطُهَا مِنْ قَوْلِهِ: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَةِ: 106] فَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَدْخَلَ (أَنْ) فِي إِمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ أَمْرٍ بِالِاخْتِيَارِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: اخْتَرْ ذَا أَوْ ذَا كَأَنَّهُمْ قَالُوا اخْتَرْ أَنْ تُلْقِيَ أَوْ نُلْقِيَ وَقَوْلُهُ: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ بِالتَّخْيِيرِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ لا يصلح هاهنا فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ «أَنْ» وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ يُرِيدُ عَصَاهُ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ أَيْ مَا مَعَنَا مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ فَمَفْعُولُ الْإِلْقَاءِ مَحْذُوفٌ وَفِي الْآيَةِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْقَوْمَ رَاعَوْا حُسْنَ الْأَدَبِ حَيْثُ قَدَّمُوا مُوسَى

عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الذِّكْرِ وَقَالَ أَهْلُ التَّصَوُّفِ إِنَّهُمْ لَمَّا رَاعَوْا هَذَا الْأَدَبَ لَا جَرَمَ رَزَقَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى الْإِيمَانَ بِبَرَكَةِ رِعَايَةِ هَذَا الْأَدَبِ ثُمَّ ذَكَرُوا مَا يَدُلُّ عَلَى رَغْبَتِهِمْ فِي أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْإِلْقَاءِ مِنْ جَانِبِهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا الضَّمِيرَ الْمُتَّصِلَ وَأَكَّدُوهُ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ وَجَعَلُوا الْخَبَرَ مَعْرِفَةً لَا نَكِرَةً وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا رَاعَوُا الْأَدَبَ أَوَّلًا وَأَظْهَرُوا مَا يَدُلُّ عَلَى رَغْبَتِهِمْ فِي الِابْتِدَاءِ بِالْإِلْقَاءِ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ إِلْقَاءَهُمْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ مُعَارَضَةٌ لِلْمُعْجِزَةِ بِالسِّحْرِ وَذَلِكَ كُفْرٌ وَالْأَمْرُ بِالْكُفْرِ كُفْرٌ وَحَيْثُ كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَجُوزُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَقُولَ أَلْقُوا؟ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمُوا فِي فِعْلِهِمْ أَنْ يَكُونَ حَقًّا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا أَمْرَ هُنَاكَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ مِنَّا لِغَيْرِهِ اسْقِنِي الْمَاءَ مِنَ الْجَرَّةِ فَهَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَكُونُ أَمْرًا بِشَرْطِ حُصُولِ الْمَاءِ فِي الْجَرَّةِ فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَاءً فَلَا امر البتة كذلك هاهنا. الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا جَاءُوا لِإِلْقَاءِ تِلْكَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ وَعَلِمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ/ لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّخْيِيرُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَذِنَ لَهُمْ فِي التَّقْدِيمِ ازْدِرَاءً لِشَأْنِهِمْ وَقِلَّةَ مُبَالَاةٍ بِهِمْ وَثِقَةً بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ التَّأْيِيدِ وَالْقُوَّةِ وَأَنَّ الْمُعْجِزَةَ لَا يَغْلِبُهَا سِحْرٌ أَبَدًا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُرِيدُ إِبْطَالَ مَا أَتَوْا بِهِ مِنَ السِّحْرِ وَإِبْطَالُهُ مَا كَانَ يُمْكِنُ إِلَّا بِإِقْدَامِهِمْ عَلَى إِظْهَارِهِ فَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْإِتْيَانِ بِذَلِكَ السِّحْرِ لِيُمْكِنَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى إِبْطَالِهِ وَمِثَالُهُ أَنَّ مَنْ يُرِيدُ سَمَاعَ شُبْهَةِ مُلْحِدٍ لِيُجِيبَ عَنْهَا وَيَكْشِفَ عَنْ ضَعْفِهَا وَسُقُوطِهَا يَقُولُ لَهُ هَاتِ وَقُلْ وَاذْكُرْهَا وَبَالِغْ فِي تَقْرِيرِهَا وَمُرَادُهُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا أَجَابَ عَنْهَا بَعْدَ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ ضَعْفُهَا وَسُقُوطُهَا فَكَذَا هاهنا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاحْتَجَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ السِّحْرَ مَحْضُ التَّمْوِيهِ. قَالَ الْقَاضِي: لَوْ كَانَ السِّحْرُ حَقًّا لَكَانُوا قَدْ سَحَرُوا قُلُوبَهُمْ لَا أَعْيُنَهُمْ؟ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ تَخَيَّلُوا أَحْوَالًا عَجِيبَةً مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْحَقِيقَةِ مَا كَانَ عَلَى وَفْقِ مَا تَخَيَّلُوهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: بَلِ الْمُرَادُ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ أَيْ قَلَبُوهَا عَنْ صِحَّةِ إِدْرَاكِهَا بِسَبَبِ تِلْكَ التَّمْوِيهَاتِ وَقِيلَ إِنَّهُمْ أَتَوْا بِالْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ وَلَطَّخُوا تِلْكَ الْحِبَالَ بالزئبق وجعلوا الزئيق فِي دَوَاخِلِ تِلْكَ الْعِصِيِّ فَلَمَّا أَثَّرَ تَسْخِينُ الشَّمْسِ فِيهَا تَحَرَّكَتْ وَالْتَوَى بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَكَانَتْ كَثِيرَةً جِدًّا فَالنَّاسُ تَخَيَّلُوا أَنَّهَا تَتَحَرَّكُ وَتَلْتَوِي بِاخْتِيَارِهَا وَقُدْرَتِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاسْتَرْهَبُوهُمْ فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْعَوَامَّ خَافُوا مِنْ حَرَكَاتِ تِلْكَ الْحِبَالِ والعصي قال المبرد: اسْتَرْهَبُوهُمْ أَرْهَبُوهُمْ وَالسِّينُ زَائِدَةٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: اسْتَدْعُوا رَهْبَةَ النَّاسِ حَتَّى رَهِبَهُمُ النَّاسُ وَذَلِكَ بِأَنْ بَعَثُوا جَمَاعَةً يُنَادُونَ عِنْدَ إِلْقَاءِ ذَلِكَ: أَيُّهَا النَّاسُ احْذَرُوا فَهَذَا هُوَ الِاسْتِرْهَابُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ خُيِّلَ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ حَيَّاتٌ مِثْلُ عَصَا مُوسَى فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إِنَّ هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَانَ نَبِيًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ عَلَى ثِقَةٍ وَيَقِينٍ مِنْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يُغَالِبُوهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّ مَا أَتَوْا بِهِ عَلَى وَجْهِ الْمُعَارَضَةِ فَهُوَ مِنْ بَابِ السِّحْرِ وَالْبَاطِلِ وَمَعَ هَذَا الْجَزْمِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ حُصُولُ الْخَوْفِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى [طه: 67] قُلْنَا: لَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ الْخِيفَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ لِأَجْلِ هَذَا السَّبَبِ بَلْ لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَافَ مِنْ وُقُوعِ

التَّأْخِيرِ فِي ظُهُورِ حُجَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى سِحْرِهِمْ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صفة سحرهم: وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ رُوِيَ أَنَّ السَّحَرَةَ قَالُوا قَدْ عَلِمْنَا/ سِحْرًا لَا يُطِيقُهُ سَحَرَةُ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مِنَ السَّمَاءِ فَإِنَّهُ لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا ثَمَانِينَ أَلْفًا. وَقِيلَ: سَبْعِينَ أَلْفًا. وَقِيلَ: بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فَمِنْ مُقِلٍّ وَمِنْ مُكْثِرٍ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمِقْدَارِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَالْعَدَدِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْوَحْيِ حَقِيقَةَ الْوَحْيِ. وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ قَالَ: يُرِيدُ وَأَلْهَمْنَا مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ. ثُمَّ قَالَ: فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِيهِ حَذْفٌ وَإِضْمَارٌ وَالتَّقْدِيرُ (فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حفص عن عاصم تَلْقَفُ ساكنة اللام خفيف الْقَافِ وَالْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ مَفْتُوحَةَ اللَّامِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ. تَلَقَّفُ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ فِي طه وَالشُّعَرَاءِ. أَمَّا مَنْ خَفَّفَ فَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: اللَّقْفُ مَصْدَرُ لَقَفْتُ الشَّيْءَ أَلْقَفُهُ لَقْفًا إِذَا أَخَذْتَهُ فَأَكَلْتَهُ أَوِ ابْتَلَعْتَهُ وَرَجُلٌ لَقِفٌ سَرِيعُ الْأَخْذِ وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: وَمِثْلُهُ ثَقُفَ يَثْقِفُ ثَقْفًا وَثَقِيفٌ كَلَقِيفٍ بَيْنَ الثقافة والقافة وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ فَهُوَ مِنْ تَلَقَّفَ يَتَلَقَّفُ وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ فَأَصْلُهَا تَتَلَقَّفُ أَدْغَمَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا أَلْقَى مُوسَى الْعَصَا صَارَتْ حَيَّةً عَظِيمَةً حَتَّى سَدَّتِ الْأُفُقَ ثُمَّ فَتَحَتْ فَكَّهَا فَكَانَ مَا بَيْنَ فَكَّيْهَا ثَمَانِينَ ذِرَاعًا وَابْتَلَعَتْ مَا أَلْقَوْا مِنْ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ فَلَمَّا أَخَذَهَا مُوسَى صَارَتْ عَصًا كَمَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ فِي الْحَجْمِ وَالْمِقْدَارِ أَصْلًا. وَاعْلَمْ أَنَّ هذا مما يدل على وجود الا له الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ وَعَلَى الْمُعْجِزِ الْعَظِيمِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ الثُّعْبَانَ الْعَظِيمَ لَمَّا ابْتَلَعَتْ تِلْكَ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ مَعَ كَثْرَتِهَا ثُمَّ صَارَتْ عَصًا كَمَا كَانَتْ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَعْدَمَ أَجْسَامَ تِلْكَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ أَوْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ وَجَعَلَهَا ذَرَّاتٍ غَيْرَ مَحْسُوسَةٍ وَأَذْهَبَهَا فِي الْهَوَاءِ بِحَيْثُ لَا يُحَسُّ بِذَهَابِهَا وَتَفَرُّقِهَا وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: مَا يَأْفِكُونَ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: مَعْنَى الْإِفْكِ فِي اللُّغَةِ قَلْبُ الشَّيْءِ عَنْ وَجْهِهِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْكَذِبِ إِفْكٌ لِأَنَّهُ مَقْلُوبٌ عَنْ وَجْهِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا يَأْفِكُونَ يُرِيدُ يَكْذِبُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْعَصَا تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَهُ أَيْ يَقْلِبُونَهُ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ وَيُزَوِّرُونَهُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَفْظَةُ (مَا) مَوْصُولَةٌ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ إِفْكَهُمْ تَسْمِيَةً لِلْمَأْفُوكِ بالإفك. ثم قال تعالى: فَوَقَعَ الْحَقُّ [إلى آخر الآية] قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: ظَهَرَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فَتَبَيَّنَ الْحَقُّ مِنَ السِّحْرِ. قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: الْوُقُوعُ ظُهُورُ الشَّيْءِ بِوُجُودِهِ نَازِلًا إِلَى مُسْتَقَرِّهِ وَسَبَبُ هَذَا الظُّهُورِ أَنَّ السَّحَرَةَ قَالُوا لَوْ كَانَ مَا صَنَعَ مُوسَى سِحْرًا لَبَقِيَتْ حِبَالُنَا وَعِصِيُّنَا وَلَمْ تُفْقَدْ فَلَمَّا فُقِدَتْ ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَقْدِيرِهِ لَا لِأَجْلِ السِّحْرِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي لِأَجْلِهِ تَمَيَّزَ الْمُعْجِزُ عَنِ السِّحْرِ. قَالَ الْقَاضِي قَوْلُهُ: فَوَقَعَ الْحَقُّ يُفِيدُ قُوَّةَ الثُّبُوتِ وَالظُّهُورِ بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ فِيهِ الْبُطْلَانُ كَمَا لَا يَصِحُّ فِي الْوَاقِعِ أَنْ يَصِيرَ لَا وَاقِعًا.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 120 إلى 122]

فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: فَوَقَعَ الْحَقُّ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ هَذَا الظُّهُورِ فَكَانَ قَوْلُهُ: وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ تَكْرِيرًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ! قُلْنَا: الْمُرَادُ أَنَّ مَعَ ثُبُوتِ هَذَا الْحَقِّ زَالَتِ الْأَعْيَانُ الَّتِي أَفَكُوهَا وَهِيَ تِلْكَ الْحِبَالُ وَالْعِصِيُّ فَعِنْدَ ذَلِكَ ظَهَرَتِ الْغَلَبَةُ فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَغُلِبُوا هُنالِكَ لِأَنَّهُ لَا غَلَبَةَ أَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ لِأَنَّهُ لَا ذُلَّ وَلَا صَغَارَ أَعْظَمُ فِي حَقِّ الْمُبْطِلِ مِنْ ظُهُورِ بُطْلَانِ قَوْلِهِ وَحُجَّتِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ فِيهِ حِيلَةٌ وَلَا شُبْهَةٌ أَصْلًا قَالَ الْوَاحِدِيُّ: لَفْظَةُ (مَا) فِي قَوْلِهِ: وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى «الَّذِي» فَيَكُونُ الْمَعْنَى بَطَلَ الْحِبَالُ وَالْعِصِيُّ الَّذِي عَمِلُوا بِهِ السِّحْرَ أَيْ زَالَ وَذَهَبَ بِفِقْدَانِهَا وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ قِيلَ بَطَلَ عَمَلُهُمْ والله اعلم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 120 الى 122] وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ تِلْكَ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ كَانَتْ حِمْلَ ثَلَاثِمِائَةِ بَعِيرٍ فَلَمَّا ابْتَلَعَهَا ثُعْبَانُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَارَتْ عَصًا كَمَا كَانَتْ قَالَ بَعْضُ السَّحَرَةِ لِبَعْضٍ هَذَا خَارِجٌ عَنِ السِّحْرِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ إِلَهِيٌّ فَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبِيٌّ صَادِقٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ كَانُوا عَالِمِينَ بِحَقِيقَةِ السِّحْرِ وَاقِفِينَ عَلَى مُنْتَهَاهُ فَلَمَّا كَانُوا كَذَلِكَ وَوَجَدُوا مُعْجِزَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَارِجَةً عَنْ حَدِّ السِّحْرِ عَلِمُوا أَنَّهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْإِلَهِيَّةِ لَا مِنْ جِنْسِ التَّمْوِيهَاتِ الْبَشَرِيَّةِ وَلَوْ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا كَامِلِينَ فِي عِلْمِ السِّحْرِ لَمَا قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: لَعَلَّهُ أَكْمَلُ/ مِنَّا فِي عِلْمِ السِّحْرِ فَقَدَرَ عَلَى مَا عَجَزْنَا عَنْهُ فَثَبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا كَامِلِينَ فِي عِلْمِ السِّحْرِ. فَلِأَجْلِ كَمَالِهِمْ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ انْتَقَلُوا مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ فَإِذَا كَانَ حَالُ عِلْمِ السِّحْرِ كَذَلِكَ فَمَا ظَنُّكَ بِكَمَالِ حَالِ الْإِنْسَانِ فِي عِلْمِ التَّوْحِيدِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قَالُوا: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ أَلْقَاهُمْ سَاجِدِينَ وَمَا ذَاكَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ مُقَاتِلٌ: أَلْقَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى سَاجِدِينَ. وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ لَمَّا شَاهَدُوا الْآيَاتِ الْعَظِيمَةَ وَالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةَ لَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ وَقَعُوا سَاجِدِينَ فَصَارَ كَأَنَّ مُلْقِيًا أَلْقَاهُمْ الثَّانِي: قَالَ الْأَخْفَشُ: مِنْ سُرْعَةِ مَا سَجَدُوا صَارُوا كَأَنَّهُمْ أَلْقَاهُمْ غَيْرُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ وَقَعُوا سَاجِدِينَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ أَلْقَاهُمْ مُلْقٍ إِلَى السُّجُودِ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ الْمُلْقِي هُوَ أَنْفُسُهُمْ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ خَالِقَ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ الله تعالى والا لا فتقروا فِي خَلْقِ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ الْجَازِمَةِ إِلَى دَاعِيَةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ. ثُمَّ إِنَّ أَصْلَ تِلْكَ الْقُدْرَةِ مَعَ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ الْجَازِمَةِ تَصِيرُ مُوجِبَةً لِلْفِعْلِ وَخَالِقُ ذَلِكَ الْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَكَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ وَالْأَثَرُ مُسْنَدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 123 إلى 126]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلًا أَنَّهُمْ صَارُوا سَاجِدِينَ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ أَنَّهُمْ قَالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ مَعَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى السُّجُودِ؟ وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ لَمَّا ظَفِرُوا بِالْمَعْرِفَةِ سَجَدُوا لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْحَالِ وَجَعَلُوا ذَلِكَ السُّجُودَ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْفَوْزِ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ وَعَلَامَةً أَيْضًا عَلَى انْقِلَابِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ وَإِظْهَارِ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ لِلَّهِ تَعَالَى فَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ السُّجُودَ الْوَاحِدَ عَلَامَةً عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَبْعُدُ أَنَّهُمْ عِنْدَ الذَّهَابِ إِلَى السُّجُودِ قَالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ وَالْوَجْهُ الصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَهْلُ التَّعْلِيمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِقَوْلِ النَّبِيِّ أَنَّ أُولَئِكَ السَّحَرَةَ لَمَّا قَالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ لَمْ يَتِمَّ إِيمَانُهُمْ فَلَمَّا قَالُوا: رَبِّ مُوسى وَهارُونَ تَمَّ إِيمَانُهُمْ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا. وَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْهُ: بِأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ لَهُمْ فِرْعَوْنُ إِيَّايَ تَعْنُونَ فَلَمَّا قَالُوا: رَبِّ مُوسى قَالَ إِيَّايَ تَعْنُونَ لِأَنِّي أَنَا الَّذِي رَبَّيْتُ مُوسَى فَلَمَّا قَالُوا: وَهارُونَ زَالَتِ الشُّبْهَةُ، وَعَرَفَ الْكُلُّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِفِرْعَوْنَ وَآمَنُوا بِإِلَهِ السَّمَاءِ وَقِيلَ إِنَّمَا خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ بَعْدَ دُخُولِهِمَا فِي جُمْلَةِ الْعَالِمَيْنِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَهُوَ الَّذِي دَعَا إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ مُوسَى وَهَارُونُ. وَقِيلَ: خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ تَفْضِيلًا وَتَشْرِيفًا كَقَوْلِهِ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] . [سورة الأعراف (7) : الآيات 123 الى 126] قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) [فِي قوله تعالى قالَ فِرْعَوْنُ إلى قوله لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ آمَنْتُمْ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى لَفْظِ الْخَبَرِ وَكَذَلِكَ فِي طه وَالشُّعَرَاءِ وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ أَأَمِنْتُمْ بِهَمْزَتَيْنِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بهمزة واحدة ممدودة في جميع عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَمَّا قِرَاءَةُ حَفْصٍ آمَنْتُمْ بِلَفْظِ الْخَبَرِ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ فَالْوَجْهُ فِيهَا أَنَّهُ يُخْبِرُهُمْ بِإِيمَانِهِمْ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيعِ لَهُمْ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْهَمْزَتَيْنِ فَأَصْلُهُ أَأَمِنْتُمْ عَلَى وَزْنِ أَفَعِلْتُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا رَأَى أَنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالسِّحْرِ أَقَرَّ بِنُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ خَافَ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ حُجَّةً قَوِيَّةً عِنْدَ قَوْمِهِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَلْقَى فِي الْحَالِ نَوْعَيْنِ مِنَ الشُّبْهَةِ إِلَى أَسْمَاعِ الْعَوَامِّ لِتَصِيرَ تِلْكَ الشُّبْهَةُ مَانِعَةً لِلْقَوْمِ مِنَ اعْتِقَادِ صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.

فَالشُّبْهَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِيمَانَ هَؤُلَاءِ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ لِقُوَّةِ الدَّلِيلِ بَلْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ تَوَاطَئُوا مَعَ مُوسَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِكَ وَنُقِرُّ بِنُبُوَّتِكَ فَهَذَا الْإِيمَانُ إِنَّمَا حَصَلَ بِهَذَا الطَّرِيقِ. وَالشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ غَرَضَ مُوسَى وَالسَّحَرَةِ فِيمَا تَوَاطَئُوا عَلَيْهِ إِخْرَاجُ الْقَوْمِ مِنَ الْمَدِينَةِ وَإِبْطَالُ مُلْكِهِمْ وَمَعْلُومٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ مُفَارَقَةَ الْوَطَنِ وَالنِّعْمَةِ الْمَأْلُوفَةِ مِنْ أَصْعَبِ الْأُمُورِ فَجَمَعَ فِرْعَوْنُ اللَّعِينُ بَيْنَ الشُّبْهَتَيْنِ اللَّتَيْنِ لَا يُوجَدُ أَقْوَى مِنْهُمَا فِي هَذَا الْبَابِ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي حَدِيثٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ مُوسَى وَأَمِيرَ السَّحَرَةِ الْتَقَيَا فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَرَأَيْتُكَ إِنْ غَلَبْتُكَ أَتُؤْمِنُ بِي وَتَشْهَدُ أَنَّ مَا جِئْتُ بِهِ الْحَقُّ؟ قَالَ السَّاحِرُ: لَآتِيَنَّ غَدًا بِسِحْرٍ لَا يغلبه سحر فو الله لَئِنْ غَلَبْتَنِي لَأُومِنَنَّ بِكَ وَفِرْعَوْنُ يَنْظُرُ إِلَيْهِمَا وَيَسْمَعُ قَوْلَهُمَا فَهَذَا هُوَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ حَصَلَ وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنَّ فِرْعَوْنَ أَلْقَى هَذَا الْكَلَامَ فِي الْبَيْنِ لِيَصِيرَ صَارِفًا لِلْعَوَامِّ عَنِ التَّصْدِيقِ بِنُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ الْقَاضِي: وَقَوْلُهُ: قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ دَلِيلٌ عَلَى مُنَاقَضَةِ فِرْعَوْنَ فِي ادِّعَاءِ الْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ إِلَهًا لَمَا جَازَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ مَعَ أَنَّهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى إِلَهِيَّةِ غَيْرِهِ ثُمَّ قَالَ: وَذَلِكَ مِنْ خِذْلَانِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي يَظْهَرُ عَلَى الْمُبْطِلِينَ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ إلى قوله أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّهُ ابْتِدَاءُ وَعِيدٍ ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى هَذَا الْوَعِيدِ الْمُجْمَلِ بَلْ فَسَّرَهُ فَقَالَ: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ وَقَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ مَعْرُوفُ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنْ يَقْطَعَهُمَا مِنْ جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ إِمَّا مِنَ الْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى أَوْ مِنَ الْيَدِ الْيُسْرَى وَالرِّجْلِ الْيُمْنَى وَأَمَّا الصَّلْبُ فَمَعْرُوفٌ فَتَوَعَّدَهُمْ بِهَذَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ؟ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَى وُقُوعِهِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [الأعراف: 127] وَلَوْ أَنَّهُ تَرَكَ أُولَئِكَ السَّحَرَةَ وَقَوْمَهُ أَحْيَاءً وَمَا قَتَلَهُمْ لَذَكَرَهُمْ أَيْضًا وَلَحَذَّرَهُمْ عَنِ الْإِفْسَادِ الْحَاصِلِ مِنْ جِهَتِهِمْ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُمْ دَخَلُوا تَحْتَ قَوْمِهِ فَلَا وَجْهَ لِإِفْرَادِهِمْ بِالذِّكْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ نَزَلَ بِهِمْ بَلَاءٌ شَدِيدٌ عَظِيمٌ حَتَّى طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُصَبِّرَهُمْ عَلَيْهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الصَّبْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَعَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَى وَعِيدِهِ. الثَّالِثُ: مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ/ مُبَالَغَةً مِنْهُ فِي تَحْذِيرِ الْقَوْمِ عَنْ قَبُولِ دِينِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْ فِرْعَوْنَ ذَلِكَ بَلِ اسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمُ الدُّعَاءَ فِي قَوْلِهِمْ: وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ تَوَفِّيهِمْ مِنْ جِهَتِهِ لَا بِهَذَا الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ قَرِيبٌ. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنِ الْقَوْمِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مِنَ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ هَذَا الْوَعِيدِ أَحْسَنُ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ لِفِرْعَوْنَ: وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا فَبَيَّنُوا أَنَّ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ لَا يُوجِبُ الْوَعِيدَ وَلَا إِنْزَالَ النِّقْمَةِ بِهِمْ بَلْ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَتَأَسَّى بِهِمْ فِي الْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْبَاطِلِ عِنْدَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ يُقَالُ: نَقَمْتُ أَنْقِمُ إِذَا بَالَغْتَ فِي كَرَاهِيَةِ الشَّيْءِ وَقَدْ مَرَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 127 إلى 128]

مِنَّا [الْمَائِدَةِ: 59] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مَا أَتَيْنَا بِذَنْبٍ تُعَذِّبُنَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا. وَالْمُرَادُ: مَا أَتَى بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ قَالُوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً مَعْنَى الْإِفْرَاغِ فِي اللُّغَةِ الصَّبُّ. يُقَالُ: دِرْهَمٌ مُفْرَغٌ إِذَا كَانَ مَصْبُوبًا فِي قَالَبِهِ وَلَيْسَ بِمَضْرُوبٍ وَأَصْلُهُ من الفراغ الْإِنَاءِ وَهُوَ صَبُّ مَا فِيهِ حَتَّى يَخْلُوَ الْإِنَاءُ وَهُوَ مِنَ الْفَرَاغِ فَاسْتُعْمِلَ فِي الصَّبْرِ عَلَى التَّشْبِيهِ بِحَالِ إِفْرَاغِ الْإِنَاءِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى صُبَّ عَلَيْنَا الصَّبْرَ عِنْدَ الصَّلْبِ وَالْقَطْعِ وَفِي الْآيَةِ فَوَائِدُ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أَكْمَلُ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْزِلْ عَلَيْنَا صَبْرًا لِأَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ إِفْرَاغَ الْإِنَاءِ هُوَ صَبُّ مَا فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ فَكَأَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ كُلَّ الصَّبْرِ لَا بَعْضَهُ. وَالْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ صَبْراً مَذْكُورٌ بِصِيغَةِ التَّنْكِيرِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ أَيْ صَبْرًا كَامِلًا تَامًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ [الْبَقَرَةِ: 96] أَيْ عَلَى حَيَاةٍ كَامِلَةٍ تَامَّةٍ. وَالْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ ذَلِكَ الصَّبْرَ مِنْ قِبَلِهِمْ وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ ثُمَّ إِنَّهُمْ طَلَبُوهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَخْلِيقِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ. قَالَ الْقَاضِي: إِنَّمَا سَأَلُوهُ تَعَالَى الْأَلْطَافَ الَّتِي تَدْعُوهُمْ إِلَى الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فِي الْأَدْعِيَةِ. وَالْجَوَابُ: هَذَا عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ ثُمَّ الدَّلِيلُ يَأْبَاهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الدَّاعِيَةِ الْجَازِمَةِ وَحُصُولُهَا لَيْسَ إِلَّا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَكُونُ الْكُلُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ فَمَعْنَاهُ تَوَفَّنَا عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ ظَاهِرٌ. وَالْمُعْتَزِلَةُ يَحْمِلُونَهُ عَلَى فِعْلِ الْأَلْطَافِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مِمَّا سَبَقَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْقَاضِي بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ وَاحِدٌ. فَقَالَ إِنَّهُمْ قَالُوا أَوَّلًا آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا ثُمَّ قَالُوا ثَانِيًا: وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ فوجب ان يكون هذا الإسلام هو ذلك الْإِيمَانَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا هُوَ الآخر. والله اعلم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 127 الى 128] وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) اعْلَمْ أَنَّ بَعْدَ وُقُوعِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى وَلَا أَخَذَهُ وَلَا حَبَسَهُ بَلْ خَلَّى سَبِيلَهُ فَقَالَ قَوْمُهُ لَهُ: أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ كُلَّمَا رَأَى مُوسَى خَافَهُ أَشَدَّ الْخَوْفِ فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ إِلَّا أَنَّ قَوْمَهُ لَمْ

يَعْرِفُوا ذَلِكَ فَحَمَلُوهُ عَلَى أَخْذِهِ وَحَبْسِهِ. وَقَوْلُهُ: لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أَيْ يُفْسِدُوا عَلَى النَّاسِ دِينَهُمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ وَإِذَا أَفْسَدُوا عَلَيْهِمْ أَدْيَانَهُمْ تَوَسَّلُوا بِذَلِكَ إِلَى أَخْذِ الْمُلْكِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَيَذَرَكَ فَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ فِيهِ وَيَذَرَكَ بِالنَّصْبِ. وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فِيهِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَيَذَرَكَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: لِيُفْسِدُوا لِأَنَّهُ إِذَا تَرَكَهُمْ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ كَانَ ذَلِكَ مُؤَدِّيًا إِلَى تَرْكِهِ وَتَرْكِ آلِهَتِهِ فَكَأَنَّهُ تَرَكَهُمْ لِذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ جَوَابٌ لِلِاسْتِفْهَامِ بِالْوَاوِ وَكَمَا يُجَابُ بِالْفَاءِ مِثْلَ قَوْلِ الْحُطَيْئَةِ: أَلَمْ أَكُ جَارَكُمْ وَيَكُونَ بَيْنِي ... وَبَيْنَكُمُ الْمَوَدَّةُ وَالْإِخَاءُ؟ وَالتَّقْدِيرُ: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ فَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْمَعْنَى/ أَيَكُونُ مِنْكَ أَنْ تَذَرَ مُوسَى وَأَنْ يَذَرَكَ مُوسَى؟ وَثَالِثُهَا: النَّصْبُ بِإِضْمَارِ أَنْ تَقْدِيرُهُ: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا وَأَنْ يَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ؟ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقُرِئَ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى أَتَذَرُ بِمَعْنَى أَتَذَرُهُ وَيَذَرُكَ؟ أَيِ انْطَلِقْ لَهُ وَذَلِكَ يَكُونُ مُسْتَأْنَفًا أَوْ حَالًا عَلَى مَعْنَى أَتَذَرُهُ هُوَ يَذَرُكَ وَآلِهَتَكَ؟ وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَذَرْكَ بِالْجَزْمِ وَقَرَأَ أَنَسٌ وَنَذَرَكَ بِالنُّونِ وَالنُّصْبِ أَيْ يَصْرِفُنَا عَنْ عِبَادَتِكَ فَنَذَرُهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَآلِهَتَكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُنْكِرُ قِرَاءَةَ الْعَامَّةِ وَيَقْرَأُ إِلَاهَتَكَ أَيْ عِبَادَتَكَ وَيَقُولُ إِنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يُعْبَدُ وَلَا يَعْبُدُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ وَآلِهَتَكَ فَالْمُرَادُ جَمْعُ إِلَهٍ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ. فَقِيلَ إِنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ قَدْ وَضَعَ لقومه أصناما صغارا وأمرهم بِعِبَادَتِهَا. وَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وَرَبُّ هَذِهِ الأصنام فذلك قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ فِرْعَوْنُ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ. وَأَقُولُ: الَّذِي يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ فِرْعَوْنَ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَا كَانَ كَامِلَ الْعَقْلِ لَمْ يَجُزْ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِرْسَالُ الرَّسُولِ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَقِدَ في نفسه كونه خالقا للسموات وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَجُزْ فِي الْجَمْعِ الْعَظِيمِ مِنَ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَعْتَقِدُوا فِيهِ ذَلِكَ لِأَنَّ فَسَادَهُ مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ. بَلِ الْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ دَهْرِيًّا يُنْكِرُ وُجُودَ الصَّانِعِ وَكَانَ يَقُولُ مُدَبِّرُ هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ هُوَ الْكَوَاكِبُ واما المجدي في هذا العلم لِلْخَلْقِ وَلِتِلْكَ الطَّائِفَةِ وَالْمُرَبِّي لَهُمْ فَهُوَ نَفْسُهُ فَقَوْلُهُ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى أَيْ مُرَبِّيكُمْ وَالْمُنْعِمُ عَلَيْكُمْ وَالْمُطْعِمُ لَكُمْ. وَقَوْلُهُ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَصِ: 38] أَيْ لَا أَعْلَمَ لَكُمْ أَحَدًا يَجِبُ عَلَيْكُمْ عِبَادَتُهُ إِلَّا أَنَا وَإِذَا كَانَ مَذْهَبُهُ ذَلِكَ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ قَدِ اتَّخَذَ أَصْنَامًا عَلَى صُوَرِ الْكَوَاكِبِ وَيَعْبُدُهَا وَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهَا عَلَى مَا هُوَ دِينُ عَبْدَةِ الْكَوَاكِبِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَلَا امْتِنَاعَ فِي حَمْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَالِاحْتِمَالَاتِ فَالْقَوْمُ أَرَادُوا بِذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ حَمْلَ فِرْعَوْنَ عَلَى أَخْذِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحَبْسِهِ وَإِنْزَالِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ بِهِ فَعِنْدَ هَذَا لَمْ يَذْكُرْ فِرْعَوْنُ مَا هُوَ حَقِيقَةُ الْحَالِ وَهُوَ كَوْنُهُ خَائِفًا مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَلَكِنَّهُ قَالَ: سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ سَنُقَتِّلُ بِفَتْحِ النُّونِ وَالتَّخْفِيفِ وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ النُّونِ وَالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْثِيرِ. يَعْنِي أَبْنَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَنْ آمَنَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا يُمْكِنُهُ الْإِفْسَادُ بِوَاسِطَةِ الرَّهْطِ وَالشِّيعَةِ فَنَحْنُ نَسْعَى فِي تَقْلِيلِ

[سورة الأعراف (7) : آية 129]

رَهْطِهِ وَشِيعَتِهِ وَذَلِكَ بِأَنْ نَقْتُلَ أَبْنَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَرْكُ مُوسَى وَقَوْمِهِ لَا مِنْ عَجْزٍ وَخَوْفٍ وَلَوْ أَرَادَ بِهِ الْبَطْشَ لَقَدَرَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ يُوهِمُ قَوْمَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يَحْبِسْهُ وَلَمْ يَمْنَعْهُ لِعَدَمِ الْتِفَاتِهِ إِلَيْهِ وَلِعَدَمِ خَوْفِهِ مِنْهُ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَهُ ابْتِدَاءً عِنْدَ وِلَادَةِ مُوسَى وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلْ مُنِعَ مِنْهُ وَاتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّهْدِيدَ وَقَعَ فِي غَيْرِ الزَّمَانِ الْأَوَّلِ ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي قَالَهُ الْمَلَأُ لِفِرْعَوْنَ وَالَّذِي قَالَ فِرْعَوْنُ لَهُمْ قَدْ عَرَفَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوَصَلَ إِلَيْهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ فَهَهُنَا أَمَرَهُمْ بِشَيْئَيْنِ وبشرهم بشيئين. اما الذان أَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِمَا فَالْأَوَّلُ: الِاسْتِعَانَةُ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: الصَّبْرُ عَلَى بَلَاءِ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ أَوَّلًا بِالِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ لَا مُدَبِّرَ فِي الْعَالَمِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى انْشَرَحَ صَدْرُهُ بِنُورِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِينَئِذٍ يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْوَاعُ الْبَلَاءِ وَلِأَنَّهُ يَرَى عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ أَنَّهُ إِنَّمَا حصل بقضاء تَعَالَى وَتَقْدِيرِهِ. وَاسْتِعْدَادُهُ بِمُشَاهَدَةِ قَضَاءِ اللَّهِ خَفَّفَ عليه انواع البلاء واما الذان بَشَّرَ بِهِمَا فَالْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهَذَا إِطْمَاعٌ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْمَهُ فِي أَنْ يُورِثَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَرْضَ فِرْعَوْنَ بَعْدَ إِهْلَاكِهِ وَذَلِكَ مَعْنَى الْإِرْثِ وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ لِلْخَلَفِ بَعْدَ السَّلَفِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ فَقِيلَ: الْمُرَادُ أَمْرُ الْآخِرَةِ فَقَطْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَمْرُ الدُّنْيَا فَقَطْ وَهُوَ: الْفَتْحُ وَالظَّفَرُ وَالنَّصْرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَقِيلَ الْمُرَادُ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ وَقَوْلُهُ: لِلْمُتَّقِينَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ تَعَالَى وَخَافَهُ فَاللَّهُ يُعِينُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. [سورة الأعراف (7) : آية 129] قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) اعْلَمْ أَنَّ قَوْمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَمِعُوا مَا ذَكَرَهُ فِرْعَوْنُ مِنَ التَّهْدِيدِ والوعيد خافوا وفزعوا وَقَالُوا قَدْ أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا وَذَلِكَ لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا قَبْلَ/ مَجِيءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُسْتَضْعَفِينَ فِي يَدِ فِرْعَوْنَ اللَّعِينِ فَكَانَ يَأْخُذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ وَيَسْتَعْمِلُهُمْ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ وَيَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّرَفُّهِ وَالتَّنَعُّمِ وَيَقْتُلُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوِيَ رَجَاؤُهُمْ فِي زَوَالِ تِلْكَ الْمَضَارِّ وَالْمَتَاعِبِ فَلَمَّا سَمِعُوا أَنَّ فِرْعَوْنَ أَعَادَ التَّهْدِيدَ مَرَّةً ثَانِيَةً عَظُمَ خَوْفُهُمْ وَحُزْنُهُمْ فَقَالُوا هَذَا الْكَلَامَ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَرِهُوا مَجِيءَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ يُوجِبُ كُفْرَهُمْ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا جَاءَ وَعَدَهُمْ بِزَوَالِ تِلْكَ الْمَضَارِّ فَظَنُّوا أَنَّهَا تَزُولُ عَلَى الْفَوْرِ. فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهَا مَا زَالَتْ رَجَعُوا إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ الْوَعْدِ فَبَيَّنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الْوَعْدَ بِإِزَالَتِهَا لَا يُوجِبُ الْوَعْدَ بِإِزَالَتِهَا فِي الْحَالِ وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى سَيُنْجِزُ لَهُمْ ذَلِكَ الْوَعْدَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَدَّرَهُ لَهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا مَا كَانَ بِنَفْرَةٍ عَنْ مَجِيءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالرِّسَالَةِ بَلِ اسْتِكْشَافًا لِكَيْفِيَّةِ ذَلِكَ الْوَعْدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا ذَكَرُوا ذَلِكَ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: عَسى رَبُّكُمْ قَالَ سِيبَوَيْهِ: (عَسَى) طَمَعٌ وَإِشْفَاقٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَا يَطْمَعُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 130 إلى 131]

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ لَفْظَ عَسى هاهنا لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ هُوَ حِكَايَةً عَنْ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ إِذَا صَدَرَ عَنْ رَسُولٍ ظَهَرَتْ حُجَّةُ نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ أَفَادَ قُوَّةَ النَّفْسِ وَأَزَالَ مَا خَامَرَهَا مِنَ الِانْكِسَارِ وَالضَّعْفِ فَقَوَّى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قُلُوبَهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ وَحَقَّقَ عِنْدَهُمُ الْوَعْدَ لِيَتَمَسَّكُوا بِالصَّبْرِ وَيَتْرُكُوا الْجَزَعَ الْمَذْمُومَ ثُمَّ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْحَثِّ لَهُمْ عَلَى التَّمَسُّكِ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّظَرَ قَدْ يُرَادُ بِهِ النَّظَرُ الَّذِي يُفِيدُ الْعِلْمَ. وَهُوَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ تَقْلِيبُ الْحَدَقَةِ نَحْوَ الْمَرْئِيِّ الْتِمَاسًا لِرُؤْيَتِهِ. وَهُوَ أَيْضًا عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الِانْتِظَارُ. وَهُوَ أَيْضًا عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الرُّؤْيَةُ وَيَجِبُ حمل اللفظ هاهنا عَلَيْهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ يَرَى ذَلِكَ بِوُقُوعِ ذَلِكَ مِنْكُمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُجَازِيهِمْ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا يُجَازِيهِمْ عَلَى مَا يَقَعُ مِنْهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا حَمَلْتُمْ هَذَا النَّظَرَ عَلَى الرُّؤْيَةِ لَزِمَ الْإِشْكَالُ لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَيَنْظُرَ لِلتَّعْقِيبِ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِتِلْكَ الْأَعْمَالِ مُتَأَخِّرَةً عَنْ حُصُولِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ وَذَلِكَ يُوجِبُ حُدُوثَ صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْنَا: تَعَلُّقُ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ الشَّيْءِ نِسْبَةٌ حَادِثَةٌ وَالنَّسَبُ وَالْإِضَافَاتُ لَا وُجُودَ لَهَا فِي/ الْأَعْيَانِ فَلَمْ يَلْزَمْ حدوث الصفة الحقيقة في ذات الله تعالى والله اعلم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 130 الى 131] وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ [الأعراف: 129] لا جرم بدا هاهنا بِذِكْرِ مَا أَنْزَلَهُ بِفِرْعَوْنَ وَبِقَوْمِهِ مِنَ الْمِحَنِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ إِلَى أَنْ وَصَلَ الْأَمْرُ إِلَى الْهَلَاكِ تَنْبِيهًا لِلْمُكَلَّفِينَ عَلَى الزَّجْرِ عَنِ الْكُفْرِ وَالتَّمَسُّكِ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ خَوْفًا مِنْ نُزُولِ هَذِهِ الْمِحَنِ بِهِمْ فَقَالَ: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: السنين جميع السَّنَةِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: السَّنَةُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُرَادُ بِهَا- الْحَوْلُ وَالْعَامُ- وَالْآخَرُ يُرَادُ بِهَا- الْجَدْبُ- وَهُوَ خِلَافُ الْخِصْبِ فَمِمَّا أُرِيدَ بِهِ الْجَدْبُ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَوْلُهُ صَلَّى الله عليه وآله وسلم: «اللهم اجعلها عليهم سنينا كسنين يُوسُفَ» وَقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّا لَا نَقَعُ فِي عَامِ السَّنَةِ فَلَمَّا كَانَتِ السَّنَةُ يُعْنَى بِهَا الْجَدْبُ اشْتَقُّوا مِنْهَا كَمَا يُشْتَقُّ مِنَ الْجَدَبِ وَيُقَالُ: أَسْنَتُوا كَمَا يُقَالُ أَجْدَبُوا. قَالَ الشَّاعِرُ: وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ قَالَ أَبُو زَيْدٍ: بَعْضُ الْعَرَبِ تَقُولُ هَذِهِ سِنِينٌ وَرَأَيْتُ سِنِينًا فَتُعْرِبُ النُّونَ. وَنَحْوَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: دَعَانِيَ مِنْ نَجْدٍ فان سنينه ... لعبن بنا وَشَيَّبْنَنَا مُرْدًا قَالَ الزَّجَّاجُ: السِّنِينُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْجُدُوبُ يُقَالُ مَسَّتْهُمُ السَّنَةُ وَمَعْنَاهُ: جَدْبُ السَّنَةِ وَشِدَّةُ السَّنَةِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ يُرِيدُ الْجُوعَ وَالْقَحْطَ عَامًا بَعْدَ عَامٍ فَالسُّنُونُ لِأَهْلِ الْبَوَادِي وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لِأَهْلِ الْقُرَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْمَضَارَّ لِأَجْلِ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ طَرِيقَةِ التَّمَرُّدِ وَالْعِنَادِ إِلَى الِانْقِيَادِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحْوَالَ الشِّدَّةِ تُرَقِّقُ الْقَلْبَ وَتُرَغِّبُ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاءِ: 67] وَقَوْلُهُ: وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [فُصِّلَتْ: 51] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَ ذَلِكَ إِرَادَةً مِنْهُ أَنْ يَتَذَكَّرُوا لَا أَنْ يُقِيمُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ. أَجَابَ الْوَاحِدِيُّ عَنْهُ: بِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ لَفْظُ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ فِي الْقُرْآنِ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَمْتَحِنُهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى عَامَلَهُمْ مُعَامَلَةً تُشْبِهُ الِابْتِلَاءَ والامتحان فكذا هاهنا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ عِنْدَ نُزُولِ تِلْكَ الْمِحَنِ عَلَيْهِمْ يُقْدِمُونَ عَلَى مَا يَزِيدُ فِي كُفْرِهِمْ وَمَعْصِيَتِهِمْ فَقَالَ: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ بِالْحَسَنَةِ الْعُشْبَ وَالْخِصْبَ وَالثِّمَارَ وَالْمَوَاشِيَ وَالسَّعَةَ في الرزق والعافية والسلامة وقالُوا لَنا هذِهِ أَيْ نَحْنُ مُسْتَحِقُّونَ عَلَى الْعَادَةِ الَّتِي جَرَتْ مِنْ كَثْرَةِ نِعَمِنَا وَسَعَةِ أَرْزَاقِنَا وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ فَيَشْكُرُوهُ عَلَيْهِ وَيَقُومُوا بِحَقِّ النِّعْمَةِ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يُرِيدُ الْقَحْطَ وَالْجَدْبَ وَالْمَرَضَ وَالضُّرَّ وَالْبَلَاءَ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَيْ يَتَشَاءَمُوا بِهِ. وَيَقُولُوا إِنَّمَا أَصَابَنَا هَذَا الشَّرُّ بِشُؤْمِ مُوسَى وَقَوْمِهِ وَالتَّطَيُّرُ التَّشَاؤُمُ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ وَقَوْلُهُ: يَطَّيَّرُوا هُوَ فِي الْأَصْلِ يَتَطَيَّرُوا أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الطَّاءِ لِأَنَّهُمَا مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ وَأُصُولِ الثَّنَايَا وَقَوْلُهُ: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فِي الطَّائِرِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ شُؤْمَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ أَيْ إِنَّمَا جَاءَهُمُ الشَّرُّ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ فالطائر هاهنا الشُّؤْمُ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ ثَمُودَ: قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ قَالَ الْفَرَّاءُ: وَقَدْ تَشَاءَمَتِ الْيَهُودُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فَقَالُوا غَلَتْ أَسْعَارُنَا وَقَلَّتْ أَمْطَارُنَا مُذْ أَتَانَا قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَقِيلَ لِلشُّؤْمِ طَائِرٌ وَطَيْرٌ وَطِيرَةٌ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَ مِنْ شَأْنِهَا عِيَافَةُ الطَّيْرِ وَزَجْرُهَا وَالتَّطَيُّرُ بِبَارِحِهَا وَنَعِيقِ غِرْبَانِهَا وَأَخْذِهَا ذَاتِ الْيَسَارِ إِذَا أَثَارُوهَا فَسَمَّوُا الشُّؤْمَ طَيْرًا وَطَائِرًا وَطِيَرَةً لِتَشَاؤُمِهِمْ بِهَا. ثُمَّ أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ أَنَّ طِيَرَتَهُمْ بَاطِلَةٌ فَقَالَ: (لَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَ) وَكَانَ النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ يَتَفَاءَلُ وَلَا يَتَطَيَّرُ. وَأَصْلُ الْفَأْلِ الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ وَكَانَتِ الْعَرَبُ مَذْهَبُهَا فِي الْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ واحد فاثبت النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ الْفَأْلَ وَأَبْطَلَ الطِّيَرَةَ قَالَ مُحَمَّدٌ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: / وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْبَابَيْنِ. وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَرْوَاحَ الْإِنْسَانِيَّةَ أَصْفَى وَأَقْوَى مِنَ الْأَرْوَاحِ الْبَهِيمِيَّةِ وَالطَّيْرِيَّةِ. فَالْكَلِمَةُ الَّتِي تَجْرِي عَلَى لِسَانِ الْإِنْسَانِ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا بِخِلَافِ طَيَرَانِ الطَّيْرِ وَحَرَكَاتِ الْبَهَائِمِ فَإِنَّ أَرْوَاحَهَا ضَعِيفَةٌ فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 132 إلى 133]

الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الطَّائِرِ قَالَ أَبُو عبيدة: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ حَظُّهُمْ. وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا طَائِرُهُمْ مَا قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَقُدِّرَ لَهُمْ وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَطَرْتُ الْمَالَ وَطَيَّرْتُهُ بَيْنَ الْقَوْمِ فَطَارَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ سَهْمُهُ. أَيْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ السَّهْمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ الْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَهُوَ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِتَقْدِيرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْخَلْقِ يُضِيفُونَ الْحَوَادِثَ إِلَى الْأَسْبَابِ لمحسوسة وَيَقْطَعُونَهَا عَنْ قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيرِهِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَهُوَ إِمَّا وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ أَوْ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَالْوَاجِبُ وَاحِدٌ وَمَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِإِيجَادِ الْوَاجِبِ لذته وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَكُونُ الْكُلُّ مِنَ اللَّهِ فَإِسْنَادُهَا إِلَى غَيْرِ اللَّهِ يَكُونُ جَهْلًا بِكَمَالِ اللَّهِ تعالى. [سورة الأعراف (7) : الآيات 132 الى 133] وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُمْ لِجَهْلِهِمْ أَسْنَدُوا حَوَادِثَ هَذَا الْعَالَمِ لَا إِلَى قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ فَحَكَى عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَوْعًا آخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ الْجَهَالَةِ وَالضَّلَالَةِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْمُعْجِزَاتِ وَبَيْنَ السِّحْرِ وَجَعَلُوا جُمْلَةَ الْآيَاتِ مِثْلَ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً مِنْ بَابِ السِّحْرِ مِنْهُمْ. وَقَالُوا لِمُوسَى: إِنَّا لَا نَقْبَلُ شَيْئًا مِنْهَا الْبَتَّةَ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَلِمَةِ مَهْما قولان: الاول: ان أصلها «ماما» الْأُولَى هِيَ «مَا» الْجَزَاءُ وَالثَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي تُزَادُ تَوْكِيدًا لِلْجَزَاءِ كَمَا تُزَادُ فِي سَائِرِ حُرُوفِ الْجَزَاءِ كَقَوْلِهِمْ: إِمَّا وَمِمَّا وَكَيْفَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ [الْأَنْفَالِ: 59] وَهُوَ كَقَوْلِكَ: إِنْ تَثْقَفَنَّهُمْ ثُمَّ أَبْدَلُوا مِنْ أَلْفِ «مَا» الْأُولَى «هَا» كَرَاهَةً/ لِتَكْرَارِ اللَّفْظِ فَصَارَ «مَهْمَا» هَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ وَالْبَصْرِيِّينَ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ الْأَصْلُ «مَهِ» الَّتِي بِمَعْنَى الْكَفِّ أَيِ اكْفُفْ دَخَلَتْ عَلَى «مَا» الَّتِي لِلْجَزَاءِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا اكْفُفْ مَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ فَهُوَ كَذَا وَكَذَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا قَالُوا لِمُوسَى: مَهْمَا أَتَيْتَنَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ فَهِيَ عِنْدَنَا مِنْ بَابِ السِّحْرِ، وَنَحْنُ لَا نُؤْمِنُ بِهَا الْبَتَّةَ وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجُلًا حَدِيدًا فَعِنْدَ ذَلِكَ دَعَا عَلَيْهِمْ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ الدَّائِمَ لَيْلًا وَنَهَارًا سَبْتًا إِلَى سَبْتٍ، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَا يَرَى شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ مِنْ دَارِهِ وَجَاءَهُمُ الْغَرَقُ فَصَرَخُوا إِلَى فِرْعَوْنَ وَاسْتَغَاثُوا بِهِ فَأَرْسَلَ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ فَقَدْ صَارَتْ مِصْرُ بَحْرًا وَاحِدًا فَإِنْ كَشَفْتَ هَذَا الْعَذَابَ آمَنَّا بِكَ فَأَزَالَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمَطَرَ وَأَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَجَفَّفَتِ الْأَرْضَ وَخَرَجَ مِنَ النَّبَاتِ مَا لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ قَطُّ. فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي جَزِعْنَا مِنْهُ خَيْرٌ لَنَا لَكِنَّا لَمْ نَشْعُرْ. فَلَا وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِكَ وَلَا نُرْسِلُ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَكَثُوا الْعَهْدَ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَرَادَ فَأَكَلَ النَّبَاتَ وَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ حَتَّى صَارَتْ عِنْدَ طَيَرَانِهَا تُغَطِّي الشَّمْسَ وَوَقَعَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأَرْضِ ذِرَاعًا فَأَكَلَتِ النَّبَاتَ فَصَرَخَ أَهْلُ مِصْرَ فَدَعَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى رِيحًا فَاحْتَمَلَتِ الْجَرَادَ فَأَلْقَتْهُ فِي الْبَحْرِ فَنَظَرَ أَهْلُ مِصْرَ إِلَى أَنَّ بَقِيَّةً مِنْ كَلَئِهِمْ وَزَرْعِهِمْ تَكْفِيهِمْ. فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي بَقِيَ يَكْفِينَا وَلَا نُؤْمِنُ

بِكَ. فَأَرْسَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِمُ الْقُمَّلَ سَبْتًا إِلَى سَبْتٍ فَلَمْ يَبْقَ فِي أَرْضِهِمْ عود أَخْضَرَ إِلَّا أَكْلَتْهُ فَصَاحُوا وَسَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا رِيحًا حَارَّةً فَأَحْرَقَتْهَا وَاحْتَمَلَتْهَا الرِّيحُ فَأَلْقَتْهَا فِي الْبَحْرِ فَلَمْ يُؤْمِنُوا فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الضَّفَادِعَ بَعْدَ ذَلِكَ فَخَرَجَ مِنَ الْبَحْرِ مِثْلَ اللَّيْلِ الدَّامِسِ وَوَقَعَ فِي الثِّيَابِ وَالْأَطْعِمَةِ فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَسْقُطُ وَعَلَى رَأْسِهِ ذِرَاعٌ مِنَ الضَّفَادِعِ فَصَرَخُوا إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحَلَفُوا بِإِلَهِهِ لَئِنْ رَفَعْتَ عَنَّا هَذَا الْعَذَابَ لَنُؤْمِنَنَّ بِكَ فَدَعَا اللَّهُ تعالى فامات الضفادع وأرسل عليها المطر فاحتملها إِلَى الْبَحْرِ ثُمَّ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ وَالْفَسَادَ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الدَّمَ فَجَرَتْ أَنْهَارُهُمْ دَمًا فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْمَاءِ الْعَذْبِ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ يَجِدُونَ الْمَاءَ الْعَذْبَ الطَّيِّبَ حَتَّى بَلَغَ مِنْهُمُ الْجُهْدُ فَصَرَخُوا وَرَكِبَ فِرْعَوْنُ وَأَشْرَافُ قَوْمِهِ إِلَى أَنْهَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَعَلَ يَدْخُلُ الرَّجُلُ مِنْهُمُ النَّهْرَ فَإِذَا اغْتَرَفَ صَارَ فِي يَدِهِ دَمًا وَمَكَثُوا سبعة ايام في ذلك لَا يَشْرَبُونَ إِلَّا الدَّمَ. فَقَالَ فِرْعَوْنُ: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ [الأعراف: 134] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَرْضِيُّ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَقَدْ وَقَعَ فِي أَكْثَرِهَا اخْتِلَافَاتٌ. أَمَّا الطُّوفَانُ فَقَالَ الزَّجَّاجُ: الطُّوفَانُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَا كَانَ كَثِيرًا مُحِيطًا مُطْبِقًا بِالْقَوْمِ كُلِّهِمْ كَالْغَرَقِ الَّذِي يَشْمَلُ الْمُدُنَ الْكَثِيرَةَ/ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ طُوفَانٌ وَكَذَلِكَ الْقَتْلُ الذَّرِيعُ طُوفَانٌ وَالْمَوْتُ الْجَارِفُ طُوفَانٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ فُعْلَانٌ مِنَ الطَّوْفِ لِأَنَّهُ يَطُوفُ بِالشَّيْءِ حَتَّى يَعُمَّ قَالَ: وَوَاحِدُهُ فِي الْقِيَاسِ طُوفَانَةٌ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الطُّوفَانُ مَصْدَرٌ مِثْلُ «الرُّجْحَانِ وَالنُّقْصَانِ» فَلَا حَاجَةَ إِلَى أَنْ يَطْلُبَ لَهُ وَاحِدًا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الطُّوفَانَ هُوَ الْمَطَرُ الْكَثِيرُ عَلَى مَا رُوِّينَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ رَوَى عَطَاءٌ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الطُّوفَانُ هُوَ الْمَوْتُ، وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِإِسْنَادِهِ خَبَرًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الطُّوفَانُ هُوَ الْمَوْتُ» . وَهَذَا الْقَوْلُ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُمْ لَوْ أُمِيتُوا لَمْ يَكُنْ لِإِرْسَالِ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ فَائِدَةٌ بَلْ لَوْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ لَوَجَبَ حَمْلُ لَفْظِ الْمَوْتِ عَلَى حُصُولِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ مِثْلَ الْمَطَرِ الشَّدِيدِ وَالسَّيْلِ الْعَظِيمِ وَغَيْرِهِمَا وَأَمَّا الْجَرَادُ فَهُوَ مَعْرُوفٌ وَالْوَاحِدَةُ جَرَادَةٌ وَنَبْتٌ مَجْرُودٌ قَدْ أَكَلَ الْجَرَادُ وَرَقَهُ. وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: أَرْضٌ جَرْدَةٌ وَمَجْرُودَةٌ قَدْ لَحَسَهَا الْجَرَادُ وَإِذَا أَصَابَ الْجَرَادُ الزَّرْعَ قِيلَ جَرَدَ الزَّرْعَ وَأَصْلُ هَذَا كُلُّهُ مِنَ الْجَرْدِ وَهُوَ أَخْذُكَ الشَّيْءَ عَنِ الشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ النَّحْتِ وَالسَّحْقِ وَمِنْهُ يُقَالُ لِلثَّوْبِ الَّذِي قَدْ ذَهَبَ وَبَرُهُ جَرْدٌ وَأَرْضٌ جَرِدَةٌ لَا نَبَاتَ فِيهَا وَأَمَّا الْقُمَّلُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ. فَقِيلَ هُوَ الدَّبَى الصِّغَارُ الَّذِي لَا أَجْنِحَةَ لَهُ وَهِيَ بَنَاتُ الْجَرَادِ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ كَانَ إِلَى جَنْبِهِمْ كَثِيبٌ أَعْفَرُ فَضَرَبَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعَصَاهُ فَصَارَ قُمَّلًا. فَأَخَذَتْ فِي أَبْشَارِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ وَأَشْفَارِ عُيُونِهِمْ وَحَوَاجِبِهِمْ وَلَزِمَ جُلُودَهُمْ كَأَنَّهُ الْجُدَرِيُّ فَصَاحُوا وَصَرَخُوا وَفَزِعُوا إِلَى مُوسَى فَرَفَعَ عَنْهُمْ فَقَالُوا: قَدْ تَيَقَّنَّا الْآنَ أَنَّكَ سَاحِرٌ عَلِيمٌ. وَعِزَّةِ فِرْعَوْنَ لَا نُؤْمِنُ بِكَ أَبَدًا وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْقُمَّلَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْمِيمِ. يُرِيدُ الْقَمْلَ الْمَعْرُوفَ. وَأَمَّا الدَّمُ فَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَنَقَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ قِيلَ: سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرُّعَافَ. وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَكَثَ فِيهِمْ بَعْدَ مَا غَلَبَ السَّحَرَةَ عِشْرِينَ سَنَةً يُرِيهِمْ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مُفَصَّلاتٍ أَيْ مُبَيَّنَاتٍ ظَاهِرَاتٍ لَا يُشْكِلُ عَلَى عَاقِلٍ أَنَّهَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ وَثَانِيهَا: مُفَصَّلاتٍ أَيْ فُصِلَ بَيْنَ بَعْضِهَا وَبَعْضٍ بِزَمَانٍ يَمْتَحِنُ فِيهِ أَحْوَالَهُمْ وَيَنْظُرُ أَيَقْبَلُونَ الْحُجَّةَ؟ وَالدَّلِيلَ: أَوْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى الْخِلَافِ وَالتَّقْلِيدِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 134 إلى 135]

الْعَذَابُ يَبْقَى عَلَيْهِمْ مِنَ السَّبْتِ إِلَى السَّبْتِ وَبَيْنَ الْعَذَابِ إِلَى الْعَذَابِ شَهْرٌ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: آياتٍ مُفَصَّلاتٍ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَقَوْلُهُ: آياتٍ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْحَالِ وَقَوْلُهُ: فَاسْتَكْبَرُوا يُرِيدُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ مُصِرِّينَ عَلَى الْجُرْمِ وَالذَّنْبِ وَنَقَلَ أَيْضًا أَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الْمَذْكُورَةَ مِنَ الْعَذَابِ كَانَتْ عِنْدَ وُقُوعِهَا مُخْتَصَّةً بِقَوْمِ فِرْعَوْنَ وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْهَا فِي أَمَانٍ وَفَرَاغٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا فَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُعْجِزٌ وَاخْتِصَاصُهُ بِالْقِبْطِيِّ دُونَ الْإِسْرَائِيلِيِّ مُعْجِزٌ آخَرُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَمَّا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَالِ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِتِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَوَالِيهَا وَإِظْهَارِ الْكَثِيرِ مِنْهَا؟ وَأَيْضًا فَقَوْمُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَبُوا الْمُعْجِزَاتِ فَمَا أُجِيبُوا فَمَا الْفَرْقُ. وَالْجَوَابُ: أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا فَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي رِعَايَةِ الصَّلَاحِ فَلَعَلَّهُ عَلِمَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يُؤْمِنُ عِنْدَ ظُهُورِ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الزَّائِدَةِ وَعَلِمَ مِنْ قَوْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يَزْدَادُ بَعْدَ ظُهُورِ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ إِلَّا كُفْرًا وَعِنَادًا فَظَهَرَ الْفَرْقُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 134 الى 135] وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) اعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا مَعْنَى الرِّجْزِ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ [الْبَقَرَةِ: 59] فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْعَذَابِ ثُمَّ إِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الرِّجْزِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَنْوَاعِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي كَانَ نَازِلًا بِهِمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ الرِّجْزُ مَعْنَاهُ: الطَّاعُونُ وَهُوَ الْعَذَابُ الَّذِي أَصَابَهُمْ فَمَاتَ بِهِ مِنَ الْقِبْطِ سَبْعُونَ أَلْفَ إِنْسَانٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَتُرِكُوا غَيْرَ مَدْفُونِينَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَقْوَى لِأَنَّ لَفْظَ الرِّجْزُ لَفْظٌ مُفْرَدٌ مُحَلًّى بِالْأَلِفِ واللام فينصرف الى المعهود السابق وهاهنا الْمَعْهُودُ السَّابِقُ هُوَ الْأَنْوَاعُ الْخَمْسَةُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا وَأَمَّا غَيْرُهَا فَمَشْكُوكٌ فِيهِ فَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْلُومِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَشْكُوكِ فِيهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمُنَاقَضَةِ الْقَبِيحَةِ لِأَنَّهُمْ تَارَةً يُكَذِّبُونَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأُخْرَى عند الشدائد يفزعون اليه نزع الْأُمَّةِ إِلَى نَبِيِّهَا وَيَسْأَلُونَهُ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ رَفْعَ ذَلِكَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ سَلَّمُوا إِلَيْهِ كَوْنَهُ نَبِيًّا مُجَابَ الدَّعْوَةِ ثُمَّ بَعْدَ زَوَالِ تِلْكَ الشَّدَائِدِ يَعُودُونَ إِلَى تَكْذِيبِهِ وَالطَّعْنِ فِيهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَصِلُ إِلَى مُطَالَبَةٍ بِسِحْرِهِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَظْهَرُ/ أَنَّهُمْ يُنَاقِضُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مَا فِي قَوْلِهِ: بِما عَهِدَ عِنْدَكَ مَصْدَرِيَّةٌ وَالْمَعْنَى: بِعَهْدِهِ عِنْدَكَ وَهُوَ النُّبُوَّةُ وَفِي هَذِهِ الْبَاءِ وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: ادْعُ لَنا رَبَّكَ وَالتَّقْدِيرُ ادْعُ لَنا مُتَوَسِّلًا إِلَيْهِ بِعَهْدِهِ عِنْدَكَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي هَذِهِ الْبَاءِ أَنْ تَكُونَ قَسَمًا وَجَوَابُهَا قَوْلُهُ: لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ أَيْ أَقْسَمْنَا بِعَهْدِ اللَّهِ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَقَوْلُهُ: وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ كَانُوا قَدْ أَخَذُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْكَدِّ

[سورة الأعراف (7) : آية 136]

الشَّدِيدِ فَوَعَدُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى دُعَائِهِ بِكَشْفِ الْعَذَابِ عَنْهُمُ الْإِيمَانَ بِهِ وَالتَّخْلِيَةَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِرْسَالَهُمْ مَعَهُ يَذْهَبُ بِهِمْ أَيْنَ شَاءَ. وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ الْمَعْنَى أَنَّا مَا أَزَلْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ مُطْلَقًا وَمَا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ فِي جَمِيعِ الْوَقَائِعِ بَلْ إِنَّمَا أَزَلْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أَجَلٍ مُعَيَّنٍ وَعِنْدَ ذَلِكَ الْأَجَلِ لَا نُزِيلُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ بَلْ نُهْلِكُهُمْ بِهِ وقوله: إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ هو جواب لما يعني فلما كشفنا عنهم فاجؤا النَّكْثَ وَبَادَرُوهُ وَلَمْ يُؤَخِّرُوهُ كَمَا كَشَفْنَا عَنْهُمْ نكثوا. [سورة الأعراف (7) : آية 136] فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ مِنْ قَبْلُ مَرَّاتٍ وَكَرَّاتٍ وَلَمْ يَمْتَنِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ وَجَهْلِهِمْ ثُمَّ بَلَغُوا الْأَجَلَ الْمُؤَقَّتَ انْتَقَمَ مِنْهُمْ بِأَنْ أَهْلَكَهُمْ بِالْغَرَقِ وَالِانْتِقَامُ فِي اللُّغَةِ سَلْبُ النِّعْمَةِ بِالْعَذَابِ وَالْيَمُّ الْبَحْرُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْيَمُّ الْبَحْرُ الَّذِي لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ وَقِيلَ: هُوَ لُجَّةُ الْبَحْرِ وَمُعْظَمُ مَائِهِ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ التَّيَمُّمِ لِأَنَّ الْمُسْتَقِينَ بِهِ يَقْصِدُونَهُ وَبَيَّنَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا أَنَّ ذَلِكَ الِانْتِقَامَ هُوَ لِذَلِكَ التَّكْذِيبِ. وَقَوْلُهُ: وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِنَايَةِ فِي عَنْهَا فَقِيلَ إِنَّهَا عَائِدَةٌ إِلَى النِّقْمَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: فَانْتَقَمْنا وَالْمَعْنَى وَكَانُوا عَنِ النِّقْمَةِ قَبْلَ حُلُولِهَا غَافِلِينَ وَقِيلَ الْكِنَايَةُ عَائِدَةٌ إِلَى الْآيَاتِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ. قَالَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْتَبِرُونَ بِالْآيَاتِ الَّتِي تَنْزِلُ بِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: الْغَفْلَةُ لَيْسَتْ مِنْ فِعْلِ الْإِنْسَانِ وَلَا تَحْصُلُ بِاخْتِيَارِهِ فَكَيْفَ جَاءَ الْوَعِيدُ عَلَى الْغَفْلَةِ. قُلْنَا: الْمُرَادُ بِالْغَفْلَةِ هُنَا الْإِعْرَاضُ عَنِ الْآيَاتِ وَعَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا فَهُمْ أَعْرَضُوا عَنْهَا حَتَّى صَارُوا كَالْغَافِلِينَ عَنْهَا. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ ضَمُّوا إِلَى التَّكْذِيبِ وَالْغَفْلَةِ مَعَاصِيَ كَثِيرَةً؟ فَكَيْفَ يَكُونُ الِانْتِقَامُ لِهَذَيْنَ دون غير هما. قُلْنَا: لَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانٌ أَنَّهُ تَعَالَى انْتَقَمَ مِنْهُمْ لِهَذَيْنَ مَعًا دَلَالَةً عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْآيَاتِ النَّظَرُ فِيهَا وَلِذَلِكَ ذَمَّهُمْ بِأَنْ غَفَلُوا عَنْهَا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ طريق مذموم. [سورة الأعراف (7) : آية 137] وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) اعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ ذَكَرَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْلَهُ: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ [الْأَعْرَافِ: 129] فَهَهُنَا لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى إِهْلَاكَ الْقَوْمِ بِالْغَرَقِ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ بَيَّنَ مَا فَعَلَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْرَثَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ فَقَالَ: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِضْعَافِ أَنَّهُ كَانَ يُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَيَأْخُذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ وَيَسْتَعْمِلُهُمْ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَبَعْضُهُمْ حَمَلَهُ عَلَى مَشَارِقِ أَرْضِ الشَّامِ. وَمِصْرَ وَمَغَارِبِهَا لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ تَصَرُّفِ فِرْعَوْنَ لَعَنَهُ اللَّهُ وَأَيْضًا قَوْلُهُ: الَّتِي بارَكْنا فِيها الْمُرَادُ بَارَكْنَا فِيهَا بِالْخِصْبِ وَسَعَةِ الْأَرْزَاقِ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِأَرْضِ الشَّامِ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 138 إلى 139]

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ جُمْلَةُ الْأَرْضِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ جُمْلَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ قَدْ مَلَكَ الْأَرْضَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأرض هاهنا اسم الجنس. وقوله: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ قيل المراد من كَلِمَتُ رَبِّكَ قَوْلُهُ: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي/ الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: مَا كانُوا يَحْذَرُونَ [الْقَصَصِ: 6] وَالْحُسْنَى تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ صِفَةٌ لِلْكَلِمَةِ وَمَعْنَى تَمَّتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مَضَتْ عَلَيْهِمْ وَاسْتَمَرَّتْ مِنْ قَوْلِهِمْ تَمَّ عَلَيْكَ الْأَمْرُ إِذَا مَضَى عَلَيْكَ. وَقِيلَ: مَعْنَى تَمَامِ الْكَلِمَةِ الْحُسْنَى إِنْجَازُ الْوَعْدِ الَّذِي تَقَدَّمَ بِإِهْلَاكِ عَدُوِّهِمْ وَاسْتِخْلَافِهِمْ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّمَا كَانَ الْإِنْجَازُ تَمَامًا لِلْكَلَامِ لِأَنَّ الْوَعْدَ بِالشَّيْءِ يَبْقَى كَالشَّيْءِ الْمُعَلَّقِ فَإِذَا حَصَلَ الْمَوْعُودُ بِهِ فَقَدْ تَمَّ لَكَ الْوَعْدُ وَكَمُلَ وَقَوْلُهُ: بِما صَبَرُوا أَيْ إِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ التَّمَامُ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ وَحَسْبُكَ بِهِ حَاثًّا عَلَى الصَّبْرِ وَدَالًّا عَلَى أَنَّ مَنْ قَابَلَ الْبَلَاءَ بِالْجَزَعِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَمَنْ قَابَلَهُ بِالصَّبْرِ وَانْتِظَارِ النَّصْرِ ضَمِنَ اللَّهُ لَهُ الْفَرَجَ وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى وَنَظِيرُهُ مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النَّجْمِ: 18] وَقَوْلُهُ: وَدَمَّرْنا قَالَ اللَّيْثُ: الدَّمَارُ الْهَلَاكُ التَّامُّ. يُقَالُ: دُمِّرَ الْقَوْمُ يُدَمَّرُونَ دَمَارًا أَيْ هَلَكُوا وَقَوْلُهُ: مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ الصَّانِعَ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ عَرَشَ يَعْرِشُ وَيَعْرُشُ إِذَا بَنَى قِيلَ: وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ مِنَ الْجَنَّاتِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ [الْأَنْعَامِ: 141] وَقِيلَ: وَما كانُوا يَعْرِشُونَ يَرْفَعُونَ مِنَ الْأَبْنِيَةِ الْمُشَيَّدَةِ فِي السَّمَاءِ كَصَرْحِ هَامَانَ وَفِرْعَوْنَ. وَقُرِئَ يَعْرِشُونَ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ وَذَكَرَ الْيَزِيدِيُّ أَنَّ الْكَسْرَ أَفْصَحُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَبَلَغَنِي أَنَّهُ قَرَأَ بَعْضُ النَّاسِ يَغْرِسُونَ مِنْ غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَمَا أَحْسَبُهُ إِلَّا تَصْحِيفًا مِنْهُ وَهَذَا آخَرُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قِصَّةِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَتَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. [سورة الأعراف (7) : الآيات 138 الى 139] وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (139) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنْوَاعَ نِعَمِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنْ أَهْلَكَ عَدُوَّهُمْ وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالنِّعْمَةِ الْعُظْمَى وَهِيَ أَنْ جَاوَزَ بِهِمُ الْبَحْرَ مَعَ السَّلَامَةِ: وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فِي سَائِرِ السُّوَرِ كَيْفَ سَيَّرَهُمْ فِي الْبَحْرِ مَعَ السَّلَامَةِ وَذَلِكَ بِأَنْ فَلَقَ الْبَحْرَ عِنْدَ ضَرْبِ مُوسَى الْبَحْرَ بِالْعَصَا وَجَعْلَهُ يَبَسًا بَيَّنَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا شَاهَدُوا قَوْمًا يَعْكُفُونَ عَلَى عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ جَهِلُوا وَارْتَدُّوا وَقَالُوا: / لِمُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا شَاهَدُوا الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةَ الَّتِي أَظْهَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ: ثُمَّ شَاهَدُوا أَنَّهُ تَعَالَى أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ وَخَصَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنْوَاعِ السَّلَامَةِ وَالْكَرَامَةِ ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْمَوَاقِفِ وَالْمَقَامَاتِ يَذْكُرُونَ هَذَا الْكَلَامَ الْفَاسِدَ الْبَاطِلَ كَانُوا فِي نِهَايَةِ الْجَهْلِ وَغَايَةِ الْخِلَافِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ يُقَالُ: جَاوَزَ الْوَادِيَ. إِذَا قَطَعَهُ وَخَلَفَهُ وَرَاءَهُ وَجَاوَزَ بِغَيْرِهِ عَبَرَ بِهِ وَقُرِئَ جَوَّزْنَا بِمَعْنَى: أَجَزْنَا. يُقَالُ: أَجَازَ الْمَكَانَ وَجَوَّزَهُ بِمَعْنَى: جَازَهُ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قَالَ الزَّجَّاجُ: يُوَاظِبُونَ عَلَيْهَا وَيُلَازِمُونَهَا. يُقَالُ: لِكُلِّ مَنْ لَزِمَ شَيْئًا وَوَاظَبَ عَلَيْهِ عَكَفَ يَعْكِفُ وَيَعْكُفُ وَمِنْ هَذَا قِيلَ لملازم المسجد متعكف. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ مِنْ لَخْمٍ وكانوا

نُزُولًا بِالرِّيفِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَتْ تِلْكَ الْأَصْنَامُ تَمَاثِيلَ بَقَرٍ وَذَلِكَ أَوَّلُ بَيَانِ قِصَّةِ الْعِجْلِ. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ يَقُولَ: الْعَاقِلُ لِمُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ وَخَالِقًا وَمُدَبِّرًا لِأَنَّ الَّذِي يَحْصُلُ بِجَعْلِ مُوسَى وَتَقْدِيرُهُ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِلْعَالَمِ وَمُدَبِّرًا لَهُ وَمَنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كَامِلَ الْعَقْلِ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُمْ أَصْنَامًا وَتَمَاثِيلَ يَتَقَرَّبُونَ بِعِبَادَتِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ حَيْثُ قَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزُّمَرِ: 3] . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ كُفْرًا؟ فَنَقُولُ: أَجْمَعَ كُلُّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى أَنَّ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كُفْرٌ سَوَاءٌ اعْتَقَدَ فِي ذَلِكَ الْغَيْرِ كَوْنَهُ إِلَهًا لِلْعَالَمِ أَوِ اعْتَقَدُوا فِيهِ أَنَّ عِبَادَتَهُ تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْعِبَادَةَ نِهَايَةُ التَّعْظِيمِ وَنِهَايَةُ التَّعْظِيمِ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ يَصْدُرُ عَنْهُ نِهَايَةُ الْإِنْعَامِ وَالْإِكْرَامِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الْقَوْلُ صَدَرَ مِنْ كُلِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ مِنْ بَعْضِهِمْ؟ قُلْنَا: بَلْ مِنْ بَعْضِهِمْ لِأَنَّهُ كَانَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ السَّبْعُونَ الْمُخْتَارُونَ وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَرْتَفِعُ عَنْ مِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ الْبَاطِلِ. ثُمَّ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَجَابَهُمْ فَقَالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَهْلِ مَا ذُكِرَ أَنَّ الْعِبَادَةَ غَايَةُ التَّعْظِيمِ فَلَا تَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ يَصْدُرُ عَنْهُ غَايَةُ الْإِنْعَامِ وَهِيَ بِخَلْقِ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ وَالشَّهْوَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعَقْلِ وَخَلْقِ الْأَشْيَاءِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا وَالْقَادِرُ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلِيقَ الْعِبَادَةُ إِلَّا بِهِ. فَإِنْ قَالُوا: إِذَا كَانَ مُرَادُهُمْ بِعِبَادَةِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ التَّقَرُّبَ بِهَا إِلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَا الْوَجْهُ فِي قُبْحِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ؟ قُلْنَا: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: لَمْ يَتَّخِذُوهَا آلِهَةً أَصْلًا وَإِنَّمَا جَعَلُوهَا كَالْقِبْلَةِ وَذَلِكَ يُنَافِي قَوْلَهُمْ: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ وَاعْلَمْ أَنَّ (مَا) فِي قَوْلِهِ: كَما لَهُمْ آلِهَةٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً أَيْ كَمَا ثَبَتَ لَهُمْ آلِهَةٌ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وَفِي قَوْلِهِمْ: لَهُمْ ضَمِيرٌ يعود اليه وآلِهَةٌ بَدَلٌ مِنْ ذَلِكَ الضَّمِيرِ تَقْدِيرُهُ: كَالَّذِي هُوَ لَهُمْ آلِهَةٌ. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ قَالَ اللَّيْثُ: التَّبَارُ الْهَلَاكُ. يُقَالُ: تَبِرَ الشَّيْءُ يَتْبَرُ تَبَارًا وَالتَّتْبِيرُ الْإِهْلَاكُ، ومنه قوله تعالى: تَبَّرْنا تَتْبِيراً وَيُقَالُ لِلذَّهَبِ الْمُنْكَسِرِ الْمُتَفَتِّتِ: التِّبْرُ فَقَوْلُهُ: مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ أَيْ مُهْلَكٌ مُدَمَّرٌ وَقَوْلُهُ: وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ قِيلَ: الْبُطْلَانُ عَدَمُ الشَّيْءِ إِمَّا بِعَدَمِ ذَاتِهِ أَوْ بِعَدَمِ فَائِدَتِهِ وَمَقْصُودِهِ وَالْمُرَادُ مِنْ بُطْلَانِ عَمَلِهِمْ: أَنَّهُ لَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ نَفْعٌ وَلَا دَفْعُ ضَرَرٍ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِبَادَةِ أَنْ تَصِيرَ الْمُوَاظَبَةُ على تلك الأعمال سببا الاستحكام ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقَلْبِ حَتَّى تَصِيرَ تِلْكَ الرُّوحُ سَعِيدَةً بِحُصُولِ تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ فِيهَا. فَإِذَا اشْتَغَلَ الْإِنْسَانُ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِغَيْرِ اللَّهِ وَيَصِيرُ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ سَبَبًا لِإِعْرَاضِ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا التَّحْقِيقُ ظَهَرَ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ مُتَبَّرٌ وَبَاطِلٌ وَضَائِعٌ وَسَعْيٌ فِي تَحْصِيلِ ضِدِّ هَذَا الشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ

[سورة الأعراف (7) : آية 140]

لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِبَادَةِ رُسُوخُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقَلْبِ وَالِاشْتِغَالَ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ يُزِيلُ مَعْرِفَةَ اللَّهِ عَنِ الْقَلْبِ فَكَانَ هَذَا ضِدًّا لِلْغَرَضِ وَنَقِيضًا لِلْمَطْلُوبِ وَاللَّهُ اعلم. [سورة الأعراف (7) : آية 140] قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لَهُ: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ فَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ فِي الْجَوَابِ وُجُوهًا: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْجَهْلِ فَقَالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ أَيْ سَبَبٌ لِلْخُسْرَانِ وَالْهَلَاكِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ: وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ هَذَا الْعَمَلُ الشَّاقُّ لَا يُفِيدُهُمْ نَفْعًا فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ. وَرَابِعُهَا: مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ التَّعَجُّبِ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْإِنْكَارَ وَالتَّوْبِيخَ فَقَالَ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْإِلَهَ لَيْسَ شَيْئًا يُطْلَبُ وَيُلْتَمَسُ وَيُتَّخَذُ بَلِ الْإِلَهُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي يَكُونُ/ قَادِرًا عَلَى الْإِنْعَامِ بِالْإِيجَادِ وَإِعْطَاءِ الْحَيَاةِ وَجَمِيعِ النِّعَمِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ فَهَذَا الْمَوْجُودُ هُوَ الْإِلَهُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ عِبَادَتُهُ فَكَيْفَ يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ عِبَادَتِهِ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُقَالُ: بَغَيْتُ فُلَانًا شَيْئًا وَبَغَيْتُ لَهُ. قَالَ تَعَالَى: يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [التَّوْبَةِ: 47] أَيْ يَبْغُونَ لَكُمْ وَفِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ: إِلهاً وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْحَالُ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَطْلُبُ لَكُمْ غَيْرَ اللَّهِ مَعْبُودًا وَنَصْبُ (غَيْرَ) فِي هَذَا الْوَجْهِ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ. الثَّانِي: أَنْ يُنْصَبَ إِلهاً عَلَى الْمَفْعُولِ به وغَيْرَ عَلَى الْحَالِ الْمُقَدَّمَةِ الَّتِي لَوْ تَأَخَّرَتْ كَانَتْ صِفَةً كَمَا تَقُولُ: أَبْغِيكُمْ إِلَهًا غَيْرَ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى فَضَّلَهُمْ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّهُمْ بِتِلْكَ الْآيَاتِ الْقَاهِرَةِ وَلَمْ يَحْصُلْ مِثْلُهَا لِأَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ فَضَلَهُمْ بِسَائِرِ الْخِصَالِ وَمِثَالُهُ: رَجُلٌ تَعْلَّمَ عِلْمًا وَاحِدًا وَآخَرُ تَعَلَّمَ عُلُومًا كَثِيرَةً سِوَى ذَلِكَ الْعِلْمِ فَصَاحِبُ الْعِلْمِ الْوَاحِدِ مُفَضَّلٌ عَلَى صَاحِبِ الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ بِذَلِكَ الْوَاحِدِ إِلَّا أَنَّ صَاحِبَ الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ مُفَضَّلٌ عَلَى صاحب العلم الواحد في الحقيقة. [سورة الأعراف (7) : آية 141] وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُفَسَّرَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِكُمُ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. والله اعلم. [سورة الأعراف (7) : آية 142] وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) [في قوله تعالى وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: وَعَدْنَا بِغَيْرِ أَلْفٍ وَالْبَاقُونَ واعَدْنا بِالْأَلْفِ عَلَى الْمُفَاعَلَةِ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ بِمِصْرَ: إِنْ أَهْلَكَ اللَّهُ عَدُوَّهُمْ

أَتَاهُمْ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِيهِ بَيَانُ مَا يَأْتُونَ وَمَا يَذَرُونَ فَلَمَّا هَلَكَ فِرْعَوْنُ سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ الْكِتَابَ فَهَذِهِ الْآيَةُ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ نُزُولِ التَّوْرَاةِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَذِكْرُ تَفْصِيلِ تِلْكَ الْأَرْبَعِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فان قيل: وما الحكمة هاهنا فِي ذِكْرِ الثَّلَاثِينَ ثُمَّ إِتْمَامِهَا بِعَشْرٍ؟ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً كَلَامٌ عَارٍ عَنِ الْفَائِدَةِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الثَّلَاثِينَ مَعَ الْعَشْرِ يَكُونُ أَرْبَعِينَ. قُلْنَا: أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ فَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِصَوْمِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَهُوَ شَهْرُ ذِي الْقَعْدَةِ فَلَمَّا أَتَمَّ الثَّلَاثِينَ أَنْكَرَ خُلُوفَ فِيهِ فَتَسَوَّكَ فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ كُنَّا نَشَمُّ مِنْ فِيكَ رَائِحَةَ الْمِسْكِ فَأَفْسَدْتَهُ بِالسِّوَاكِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ خُلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدِي مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ لِهَذَا السَّبَبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي فَائِدَةِ هَذَا التَّفْضِيلِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَأَنْ يَعْمَلَ فِيهَا مَا يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَيْهِ فِي الْعَشْرِ الْبَوَاقِي وَكَلَّمَهُ أَيْضًا فِيهِ. فَهَذَا هُوَ الْفَائِدَةُ فِي تَفْصِيلِ الْأَرْبَعِينَ إِلَى الثَّلَاثِينَ وَإِلَى الْعَشْرَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي سُورَةِ طه مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَادَرَ إِلَى مِيقَاتِ رَبِّهِ قَبْلَ قَوْمِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُوسَى أَتَى الطُّورَ عِنْدَ تَمَامِ الثَّلَاثِينَ فَلَمَّا أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى خَبَرَ قَوْمِهِ مَعَ السَّامِرِيِّ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ قَبْلَ تَمَامِ مَا وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ فِي عَشْرَةٍ أُخْرَى فَتَمَّ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْوَعْدُ الْأَوَّلُ حَضَرَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحْدَهُ وَالْوَعْدُ الثَّانِي حَضَرَ الْمُخْتَارُونَ مَعَهُ لِيَسْمَعُوا كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى فَصَارَ الْوَعْدُ مُخْتَلِفًا لِاخْتِلَافِ حَالِ الْحَاضِرِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا قَالَ: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ازالة التوهم أَنَّ ذَلِكَ الْعَشْرَ مِنَ الثَّلَاثِينَ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ مِنَ الثَّلَاثِينَ كَأَنَّهُ كَانَ عِشْرِينَ ثُمَّ أَتَمَّهُ بِعَشْرٍ فَصَارَ ثَلَاثِينَ فَأَزَالَ هَذَا الْإِيهَامَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَبَيْنَ الْوَقْتِ أَنَّ الْمِيقَاتَ مَا قُدِّرَ فِيهِ عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْوَقْتَ وَقْتٌ للشيء قدرة مُقَدَّرٍ أَوَّلًا. وَالْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ تَمَّ بَالِغًا هَذَا الْعَدَدَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ [إلى آخر الآية] فَقَوْلُهُ: هارُونَ عَطْفُ بَيَانٍ لِأَخِيهِ وَقُرِئَ بِالضَّمِّ عَلَى النِّدَاءِ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي كُنْ خَلِيفَتِي فِيهِمْ وَأَصْلِحْ وَكُنْ مُصْلِحًا أَوْ وَأَصْلِحْ مَا يَجِبُ أَنْ يَصْلُحَ مِنْ أُمُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَنْ دَعَاكَ مِنْهُمْ إِلَى الْإِفْسَادِ فَلَا تَتْبَعْهُ وَلَا تُطِعْهُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَارُونَ كَانَ شَرِيكَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي النُّبُوَّةِ فَكَيْفَ جَعَلَهُ خَلِيفَةً لِنَفْسِهِ فَإِنَّ شَرِيكَ

[سورة الأعراف (7) : آية 143]

الْإِنْسَانِ أَعْلَى حَالًا مِنْ خَلِيفَتِهِ وَرَدُّ الْإِنْسَانِ مِنَ الْمَنْصِبِ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْوَنِ يَكُونُ إِهَانَةً. قُلْنَا الْأَمْرُ وَإِنْ كَانَ كَمَا ذَكَرْتُمْ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الْأَصْلَ فِي تِلْكَ النُّبُوَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ هَارُونُ نَبِيًّا وَالنَّبِيُّ لَا يَفْعَلُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ فَكَيْفَ وَصَّاهُ بِالْإِصْلَاحِ. قُلْنَا: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ التَّأْكِيدُ كَقَوْلِهِ: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَةِ: 260] والله اعلم. [سورة الأعراف (7) : آية 143] وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ الْفَائِدَةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا حَضَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمِيقَاتَ وَهِيَ أَنْ كَلَّمَهُ رَبُّهُ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ شَرِيفَةٌ عَالِيَةٌ مِنَ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَلَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَلَامُهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْحُرُوفِ الْمُؤَلَّفَةِ الْمُنْتَظِمَةِ ومنهم من قال: كلامه صفة حقيقة مُغَايِرَةٌ لِلْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ. أَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فالعقلاء المحصلون أنفقوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ كَوْنُهُ حَادِثًا كَائِنًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. وَزَعَمَتِ الْحَنَابِلَةُ وَالْحَشْوِيَّةُ أَنَّ الْكَلَامَ الْمُرَكَّبَ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ قَدِيمٌ وَهَذَا الْقَوْلُ أَخَسُّ مِنْ أَنْ يَلْتَفِتَ الْعَاقِلُ إِلَيْهِ وَذَلِكَ أَنِّي قُلْتُ يَوْمًا إِنَّهُ تَعَالَى إِمَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ عَلَى الْجَمْعِ أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ وَالتَّوَالِي، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْمَسْمُوعَةَ الْمَفْهُومَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مَفْهُومَةً إِذَا كَانَتْ حُرُوفُهَا مُتَوَالِيَةً فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ حُرُوفُهَا تُوجَدُ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَذَاكَ لَا يَكُونُ مُفِيدًا الْبَتَّةَ، وَالثَّانِي: يُوجِبُ كَوْنَهَا حَادِثَةً لِأَنَّ الْحُرُوفَ إِذَا كَانَتْ مُتَوَالِيَةً فَعِنْدَ مَجِيءِ الثَّانِي يَنْقَضِي الْأَوَّلُ، فَالْأَوَّلُ حَادِثٌ لِأَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ عَدَمُهُ امْتَنَعَ قِدَمُهُ وَالثَّانِي حَادِثٌ لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ وُجُودُهُ مُتَأَخِّرًا عَنْ وُجُودِ غَيْرِهِ فَهُوَ حَادِثٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى عِبَارَةً عَنْ مُجَرَّدِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ مُحْدَثٌ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ لِلنَّاسِ هاهنا مَذْهَبَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَحَلَّ تِلْكَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ الْحَادِثَةِ هُوَ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ الْكَرَّامِيَّةُ. الثَّانِي: أَنَّ مَحَلَّهَا جِسْمٌ مُبَايِنٌ لِذَاتِ الله تعالى كالشجرة وغير وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ. أَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ مُغَايِرَةٌ لِهَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَتِلْكَ الصِّفَةُ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ. وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي الشَّيْءِ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَقَالَتِ الْأَشْعَرِيَّةُ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمِعَ تِلْكَ الصِّفَةَ الْحَقِيقِيَّةَ الْأَزَلِيَّةَ قَالُوا: وَكَمَا لَا يَتَعَذَّرُ رُؤْيَةُ ذَاتِهِ مَعَ أَنَّ ذَاتَهُ لَيْسَتْ جِسْمًا وَلَا عَرَضًا فَكَذَلِكَ لَا يَبْعُدُ سَمَاعُ كَلَامِهِ مَعَ أَنَّ كَلَامَهُ لَا يَكُونُ حَرْفًا وَلَا صَوْتًا. وَقَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ: الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَصْوَاتٌ مُقَطَّعَةٌ وَحُرُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ قَائِمَةٌ بِالشَّجَرَةِ فَأَمَّا الصِّفَةُ الازلية التي ليست بحرف ولا صوت فداك مَا سَمِعَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْبَتَّةَ فَهَذَا تَفْصِيلُ مَذَاهِبِ النَّاسِ فِي سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ تَعَالَى كَلَّمَ مُوسَى وَحْدَهُ أَوْ كَلَّمَهُ مَعَ أَقْوَامٍ آخَرِينَ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ. لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذَا التَّشْرِيفِ وَالتَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ

يدا عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ وَقَالَ الْقَاضِي: بَلِ السَّبْعُونَ الْمُخْتَارُونَ لِلْمِيقَاتِ سَمِعُوا أَيْضًا كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ: لِأَنَّ الْغَرَضَ بِإِحْضَارِهِمْ أَنْ يُخْبِرُوا قَوْمَ مُوسَى/ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَمَّا يَجْرِي هُنَاكَ وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَتِمُّ إِلَّا عِنْدَ سَمَاعِ الْكَلَامِ وَأَيْضًا فَإِنَّ تَكْلِيمَ اللَّهِ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُعْجِزٌ وقد تقدمت نبوة موسى عليه السلام لا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ هَذَا الْمَعْنَى لِغَيْرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَى وَتَقْرِيرُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ وَلَا شَكَّ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَكُونُ عَارِفًا بِمَا يَجِبُ وَيَجُوزُ وَيَمْتَنِعُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَوْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ مُمْتَنِعَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمَا سَأَلَهَا وَحَيْثُ سَأَلَهَا، عَلِمْنَا أَنَّ الرُّؤْيَةَ جَائِزَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْقَاضِي: الَّذِي قَالَهُ الْمُحَصِّلُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: مَا قَالَهُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا عَرَفَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ غَيْرُ جَائِزَةٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ وَمَعَ الْجَهْلِ بِهَذَا الْمَعْنَى قَدْ يَكُونُ الْمَرْءُ عَارِفًا بِرَبِّهِ وَبِعَدْلِهِ وَتَوْحِيدِهِ فَلَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِامْتِنَاعِ الرُّؤْيَةِ وَجَوَازِهَا مَوْقُوفًا عَلَى السَّمْعِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ عَلَى لِسَانِ قَوْمِهِ فَقَدْ كَانُوا جَاهِلِينَ بِذَلِكَ يُكَرِّرُونَ الْمَسْأَلَةَ عَلَيْهِ يَقُولُونَ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [الْبَقَرَةِ: 55] فَسَأَلَ مُوسَى الرؤية لا لنفسه فلما ورد المنع منها ظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ رَبَّهُ مِنْ عِنْدِهِ مَعْرِفَةً بَاهِرَةً بِاضْطِرَارٍ وَأَهْلُ هَذَا التَّأْوِيلِ مُخْتَلِفُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ سَأَلَ رَبَّهُ الْمَعْرِفَةَ الضَّرُورِيَّةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ سَأَلَهُ إِظْهَارَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي عِنْدَهَا تَزُولُ الْخَوَاطِرُ وَالْوَسَاوِسُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ فِعْلِهِ كَمَا نَقُولُهُ فِي مَعْرِفَةِ أَهْلِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْكَعْبِيُّ. وَرَابِعُهَا: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ أَنْ يَذْكُرَ تَعَالَى مِنَ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ رُؤْيَتِهِ حَتَّى يَتَأَكَّدَ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ. وَتَعَاضُدُ الدَّلَائِلِ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ لِلْعُقَلَاءِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ فَهَذَا مَجْمُوعُ أَقْوَالِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ أَصْحَابُنَا أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَضَعِيفٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: إِجْمَاعُ الْعُقَلَاءِ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ فِي الْعِلْمِ بِاللَّهِ أَقَلَّ مَنْزِلَةً وَمَرْتَبَةً مِنْ أَرَاذِلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَمَّا كَانَ كُلُّهُمْ عَالِمِينَ بِامْتِنَاعِ الرُّؤْيَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَفَرَضْنَا أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ كَانَتْ مَعْرِفَتُهُ بِاللَّهِ أَقَلَّ دَرَجَةٍ مِنْ مَعْرِفَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَرَاذِلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يَدَّعُونَ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَرْئِيًّا فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلًا أَوْ فِي حُكْمِ الْمُقَابِلِ. فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَصَلَ لَهُ هَذَا الْعِلْمُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الْعِلْمُ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ تَجْوِيزُهُ لِكَوْنِهِ تَعَالَى مَرْئِيًّا يُوجِبُ تَجْوِيزَ كَوْنِهِ تَعَالَى حَاصِلًا فِي الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ وَتَجْوِيزُ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى يُوجِبُ الْكُفْرَ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَيَلْزَمُهُمْ كَوْنُ/ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَافِرًا وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَنَقُولُ: لَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِأَنَّ كُلَّ مَرْئِيٍّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلًا أَوْ فِي حُكْمِ الْمُقَابِلِ عِلْمًا بَدِيهِيًّا ضَرُورِيًّا ثُمَّ فَرَضْنَا أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ مَا كَانَ حَاصِلًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَزِمَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُحَصِّلْ فِيهِ جَمِيعَ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَجْنُونٌ فَيَلْزَمُهُمِ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ كَامِلَ الْعَقْلِ بَلْ كَانَ مَجْنُونًا وَذَلِكَ كُفْرٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ عَالِمًا بِامْتِنَاعِ الرُّؤْيَةِ مَعَ فَرْضِ أَنَّهُ تَعَالَى مُمْتَنِعُ الرُّؤْيَةِ يُوجِبُ أَحَدَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ الْبَاطِلَيْنِ فَكَانَ الْقَوْلُ بِهِ بَاطِلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا سَأَلَ الرُّؤْيَةَ لِقَوْمِهِ لَا لِنَفَسِهِ فَهُوَ أَيْضًا فَاسِدٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَقَالَ مُوسَى: أَرِهِمْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ وَلَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَنْ يَرَوْنِي فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَطَلَ هَذَا التَّأْوِيلُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا السُّؤَالُ طَلَبًا لِلْمُحَالِ لَمَنَعَهُمْ عَنْهُ كَمَا أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الْأَعْرَافِ: 138] منعهم عنه بقوله: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف: 138] وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَى مُوسَى إِقَامَةُ الدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ وَأَنْ يَمْنَعَ قَوْمَهُ بِتِلْكَ الدَّلَائِلِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فَأَمَّا أَنْ لَا يَذْكُرَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الدَّلَائِلِ الْبَتَّةَ مَعَ أَنَّ ذِكْرَهَا كَانَ فَرْضًا مُضَيَّقًا كَانَ هَذَا نِسْبَةً لِتَرْكِ الْوَاجِبِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ الَّذِينَ طَلَبُوا الرُّؤْيَةَ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ آمَنُوا بِنُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ مَا آمَنُوا بِهَا فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَفَاهُمْ فِي الِامْتِنَاعِ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ الْبَاطِلِ مُجَرَّدُ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا السُّؤَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَذَا الْجَوَابِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّهَ مَنَعَ مِنَ الرُّؤْيَةِ بَلْ هَذَا قَوْلٌ افْتَرَيْتَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ لَا فَائِدَةَ لِلْقَوْمِ فِي قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: فَبَعِيدٌ أَيْضًا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ أَرِنِي أَمْرًا أَنْظُرْ إِلَى أَمْرِكَ ثُمَّ حُذِفَ الْمَفْعُولُ وَالْمُضَافُ إِلَّا أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي [الأعراف: 143] فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ جَمِيعُ هَذَا عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَرَاهُ مِنَ الْآيَةِ مَا لَا غَايَةَ بَعْدَهَا كَالْعَصَا وَالْيَدِ الْبَيْضَاءِ وَالطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ وَالْقُمَّلِ وَالضَّفَادِعِ وَالدَّمِ وَإِظْلَالِ الْجَبَلِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ بَعْدَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ طَلَبُ آيَةٍ ظَاهِرَةٍ قَاهِرَةٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَتَكَلَّمُ مَعَ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ. فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَقُولَ: أَظْهِرْ لِي آيَةً قَاهِرَةً ظَاهِرَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّكَ مَوْجُودٌ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَطْلُوبُ آيَةً تَدُلُّ عَلَى وُجُودِهِ لَأَعْطَاهُ تِلْكَ الْآيَةَ كَمَا أَعْطَاهُ سَائِرَ الْآيَاتِ/ وَلَكَانَ لَا مَعْنَى لِمَنْعِهِ عَنْ ذَلِكَ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ فَاسِدٌ. وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِظْهَارُ آيَةٍ سَمْعِيَّةٍ تُقَوِّي مَا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَيْهِ، فَهُوَ أَيْضًا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ، لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ: أُرِيدُ يَا إِلَهِي أَنْ يَقْوَى امْتِنَاعُ رُؤْيَتِكَ بِوُجُوهٍ زَائِدَةٍ عَلَى مَا ظَهَرَ فِي الْعَقْلِ، وَحَيْثُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ بَلْ طَلَبَ الرُّؤْيَةَ. عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ بِأَسْرِهَا فَاسِدَةٌ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الْوُجُوهِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَائِزُ الرُّؤْيَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ مُسْتَحِيلَ الرُّؤْيَةِ لَقَالَ: لَا أُرَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ حَجَرٌ فَقَالَ لَهُ إِنْسَانٌ نَاوِلْنِي هَذَا لِآكُلَهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ لَهُ هَذَا لَا يُؤْكَلُ وَلَا يَقُولُ لَهُ لَا تَأْكُلْ. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ بَدَلَ الْحَجَرِ تُفَّاحَةٌ لَقَالَ لَهُ: لَا تَأْكُلْهَا أَيْ هَذَا مِمَّا يُؤْكَلُ وَلَكِنَّكَ لَا تَأْكُلُهُ. فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: لَنْ تَرانِي وَلَمْ يَقُلْ لَا أُرَى عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ جَائِزُ الرُّؤْيَةِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: مِنَ الْوُجُوهِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ رُؤْيَتَهُ عَلَى أَمْرٍ جَائِزٍ وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الْجَائِزِ جَائِزٌ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الرُّؤْيَةِ فِي نَفْسِهَا جَائِزَةً. إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ رُؤْيَتَهُ عَلَى أَمْرٍ جَائِزٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ رُؤْيَتَهُ عَلَى اسْتِقْرَارِ الْجَبَلِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي وَاسْتِقْرَارُ الْجَبَلِ أَمْرٌ جَائِزُ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ رُؤْيَتَهُ عَلَى أَمْرٍ جَائِزِ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ.

إِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَتُهُ جَائِزَةَ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهَا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الشَّرْطُ أَمْرًا جَائِزَ الْوُجُودِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ فَبِتَقْدِيرِ حُصُولِ ذَلِكَ الشَّرْطِ إِمَّا أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ الَّذِي هُوَ حُصُولُ الرُّؤْيَةِ أَوْ لَا يَتَرَتَّبَ فَإِنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُصُولُ الرُّؤْيَةِ لَزِمَ الْقَطْعُ بِكَوْنِ الرُّؤْيَةِ جَائِزَةَ الْحُصُولِ وَإِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُصُولُ الرُّؤْيَةِ قَدَحَ هَذَا فِي صِحَّةِ قَوْلِهِ، إِنَّهُ مَتَى حَصَلَ ذَلِكَ الشَّرْطُ حَصَلَتِ الرُّؤْيَةُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ حُصُولَ الرُّؤْيَةِ عَلَى اسْتِقْرَارِ الْجَبَلِ حَالَ حَرَكَتِهِ وَاسْتِقْرَارُ الْجَبَلِ حَالَ حَرَكَتِهِ مُحَالٌ. فَثَبَتَ أَنَّ حُصُولَ الرُّؤْيَةِ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ مُمْتَنِعِ الْحُصُولِ لَا عَلَى شَرْطٍ جَائِزِ الْحُصُولِ فَلَمْ يَلْزَمْ صِحَّةُ مَا قُلْتُمُوهُ؟ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ اسْتِقْرَارُ الْجَبَلِ حَالَ حَرَكَتِهِ أَنَّ الْجَبَلَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَالَ مَا جَعَلَ اسْتِقْرَارَهُ شَرْطًا لِحُصُولِ الرُّؤْيَةِ كَانَ سَاكِنًا أَوْ مُتَحَرِّكًا فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَزِمَ حُصُولُ الرُّؤْيَةِ بِمُقْتَضَى الِاشْتِرَاطِ وَحَيْثُ لَمْ تَحْصُلْ عَلِمْنَا أَنَّ الْجَبَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا كَانَ مُسْتَقِرًّا وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِرًّا كَانَ مُتَحَرِّكًا. فَثَبَتَ أَنَّ الْجَبَلَ حَالَ مَا جَعَلَ اسْتِقْرَارَهُ شَرْطًا لِحُصُولِ الرُّؤْيَةِ كَانَ مُتَحَرِّكًا لَا سَاكِنًا. فَثَبَتَ أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ كَوْنُ الْجَبَلِ مُسْتَقِرًّا حَالَ كَوْنِهِ سَاكِنًا/ فَثَبَتَ أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي عَلَّقَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى حُصُولِهِ حُصُولَ الرُّؤْيَةِ هُوَ كَوْنُ الْجَبَلِ مُسْتَقِرًّا حَالَ كَوْنِهِ مُتَحَرِّكًا وَأَنَّهُ شَرْطٌ مُحَالٌ. وَالْجَوَابُ: هُوَ أَنَّ اعْتِبَارَ حَالِ الْجَبَلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُغَايِرٌ لِاعْتِبَارِ حَالِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُتَحَرِّكٌ أَوْ سَاكِنٌ وَكَوْنُهُ مُمْتَنِعَ الْخُلُوِّ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ لَا يَمْنَعُ اعْتِبَارَ حَالِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُتَحَرِّكٌ أَوْ سَاكِنٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْءَ لَوْ أَخَذْتَهُ بِشَرْطِ كَوْنِهِ مَوْجُودًا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَلَوْ أَخَذْتَهُ بِشَرْطِ كَوْنِهِ مَعْدُومًا كَانَ وَاجِبَ الْعَدَمِ فَلَوْ أَخَذْتَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِ مَوْجُودًا أَوْ كَوْنِهِ معدوما كان ممكن الوجود فكذا هاهنا الَّذِي جُعِلَ شَرْطًا فِي اللَّفْظِ هُوَ اسْتِقْرَارُ الْجَبَلِ وَهَذَا الْقَدْرُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ فَثَبَتَ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي جُعِلَ شَرْطًا أَمْرٌ مُمْكِنُ الْوُجُودِ جَائِزُ الْحُصُولِ وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي لِبِنَاءِ الْمَطْلُوبِ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: مِنَ الْوُجُوهِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ جَوَازِ الرُّؤْيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَهَذَا التَّجَلِّي هُوَ الرُّؤْيَةُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعِلْمَ بِالشَّيْءِ يُجَلِّي لِذَلِكَ الشَّيْءِ وَإِبْصَارَ الشَّيْءِ أَيْضًا يُجَلِّي لِذَلِكَ الشَّيْءِ. إِلَّا أَنَّ الْإِبْصَارَ فِي كَوْنِهِ مُجَلِّيًا أَكْمَلُ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ وَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَفْهُومِ الْأَكْمَلِ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ تَقْرِيرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُطِيقُ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِدَلِيلِ أَنَّ الْجَبَلَ مَعَ عَظَمَتِهِ لَمَّا رَأَى اللَّهَ تَعَالَى انْدَكَّ وَتَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ وَلَوْلَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّجَلِّي مَا ذَكَرْنَاهُ وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْمَقْصُودُ. فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا هُوَ أَنَّ الْجَبَلَ لَمَّا رَأَى اللَّهَ تَعَالَى انْدَكَّتْ أَجْزَاؤُهُ وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى جَائِزُ الرُّؤْيَةِ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: الْجَبَلُ جَمَادٌ وَالْجَمَادُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَرَى شَيْئًا إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِي ذَاتِ الْجَبَلِ الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ وَالْفَهْمَ ثُمَّ خَلَقَ فِيهِ رُؤْيَةً مُتَعَلِّقَةً بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سَبَأٍ: 10] وَكَوْنُهُ مُخَاطَبًا بِهَذَا الْخِطَابِ مَشْرُوطٌ بِحُصُولِ الْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ فِيهِ فَكَذَا هاهنا فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَائِزُ الرُّؤْيَةِ. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: إِنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ أَنَّهُ تَعَالَى تَمْتَنِعُ رُؤْيَتُهُ فَوَجَبَ صَرْفُ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ إِلَى التَّأْوِيلَاتِ. أَمَّا دَلَائِلُهُمُ الْعَقْلِيَّةُ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ ضَعْفَهَا وَسُقُوطَهَا فَلَا حَاجَةَ هُنَا إِلَى ذِكْرِهَا. وَأَمَّا دَلَائِلُهُمُ السَّمْعِيَّةُ فَأَقْوَى مَا لَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تعالى: لا تُدْرِكُهُ

الْأَبْصارُ [الانعام: 103] قد سَبَقَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمَبَاحِثِ الدَّقِيقَةِ وَاللَّطَائِفِ الْعَمِيقَةِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عَدَمِ الرُّؤْيَةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ تَرانِي وَتَقْرِيرُ الِاسْتِدْلَالِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَرَى اللَّهَ الْبَتَّةَ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْقِيَامَةِ وَمَتَى ثَبَتَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَرَاهُ الْبَتَّةَ/ وَمَتَى ثَبَتَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى يَمْتَنِعُ أَنْ يُرَى فَهَذِهِ مُقَدِّمَاتٌ ثَلَاثَةٌ. أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: فَتَقْرِيرُهَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: مَا نُقِلَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ كَلِمَةَ «لَنْ» لِلتَّأْبِيدِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَةٌ عَلَى أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَيْسَ يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ كِتَابٌ مُعْتَبَرٌ وَلَا نَقْلٌ صَحِيحٌ وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْيَهُودِ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [الْبَقَرَةِ: 95] مَعَ أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: لَنْ تَرانِي يَتَنَاوَلُ الْأَوْقَاتَ كُلَّهَا بِدَلِيلِ صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ أَيِّ وَقْتٍ أُرِيدَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَمُقْتَضَى الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ تَحْتَ اللَّفْظِ وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي صَرْفِ الصِّحَّةِ لَا فِي صَرْفِ الْوُجُوبِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ لَنْ أَفْعَلَ كَذَا يُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ فِعْلَهُ يُنَافِي حَالَتَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الْحَجِّ: 73] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ مُنَافِيَةٌ لِلْإِلَهِيَّةِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ (لَنْ) لِتَأْكِيدِ نَفْيِ مَا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ وَالسُّؤَالُ إِنَّمَا وَقَعَ عَنْ تَحْصِيلِ الرُّؤْيَةِ فِي الْحَالِ فَكَانَ قَوْلُهُ: لَنْ تَرانِي نَفْيًا لِذَلِكَ الْمَطْلُوبِ فَأَمَّا أَنْ يُفِيدَ النَّفْيَ الدَّائِمَ فَلَا. فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: فَقَالُوا: الْقَائِلُ اثْنَانِ: قَائِلٌ يَقُولُ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ وَمُوسَى أَيْضًا يَرَاهُ وَقَائِلٌ يَنْفِي الرُّؤْيَةَ عَنِ الْكُلِّ أَمَّا الْقَوْلُ بِإِثْبَاتِهِ لِغَيْرِ مُوسَى وَنَفْيِهِ عَنْ مُوسَى فَهُوَ قَوْلٌ خَارِقٌ لِلْإِجْمَاعِ وَهُوَ بَاطِلٌ. وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ: فَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَنْ نَفَى الْوُقُوعَ نَفَى الصِّحَّةَ فَالْقَوْلُ بِثُبُوتِ الصِّحَّةِ مَعَ نَفْيِ الْوُقُوعِ قَوْلٌ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ بَاطِلٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ بِنَاءَ هَذِهِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ الْمُقَدِّمَةِ الْأَوْلَى فَلَمَّا ثَبَتَ ضَعْفُهَا سَقَطَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِالْكُلِّيَّةِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ لِلْقَوْمِ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ خَرَّ صَعِقًا وَلَوْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ جَائِزَةً. فَلِمَ خَرَّ عِنْدَ سُؤَالِهَا صَعِقًا؟ وَالْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ لِلتَّنْزِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَنْزِيهَ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَالَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ هُوَ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ قَوْلُهُ: سُبْحانَكَ تَنْزِيهًا لَهُ عَنِ الرُّؤْيَةِ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهُ اللَّهِ إِنَّمَا يَكُونُ عَنِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ، فَوَجَبَ كَوْنُ الرُّؤْيَةِ مِنَ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ، وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ عَلَى اللَّهِ مُمْتَنِعَةٌ. وَالْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى لَمَّا أَفَاقَ أَنَّهُ قَالَ: تُبْتُ إِلَيْكَ وَلَوْلَا أَنَّ طَلَبَ الرُّؤْيَةِ ذَنْبٌ لَمَا تَابَ مِنْهُ وَلَوْلَا أَنَّهُ ذَنْبٌ يُنَافِي صِحَّةَ الْإِسْلَامِ لَمَا قَالَ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: الرُّؤْيَةُ كَانَتْ جَائِزَةً إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَهَا بِغَيْرِ الْإِذْنِ وَحَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ

سيئات المقربين فكانت التوبة عَنْ هَذَا الْمَعْنَى لَا عَمَّا ذَكَرُوهُ فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْبَحْثِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ. نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَعَهُ السَّبْعُونَ وَصَعِدَ مُوسَى الْجَبَلَ وَبَقِيَ السَّبْعُونَ فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى وَكَتَبَ لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ كِتَابًا وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى صَرِيرَ الْقَلَمِ عَظُمَ شَوْقُهُ فَقَالَ: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : ثَانِي مَفْعُولَيْ أَرِنِي مَحْذُوفٌ أَيْ أَرِنِي نَفْسَكَ أَنْظُرْ إِلَيْكَ وَفِي لَفْظِ الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: النَّظَرُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنِ الرُّؤْيَةِ أَوْ عَنْ مُقَدِّمَتِهَا وَهِيَ تَقْلِيبُ الْحَدَقَةِ السَّلِيمَةِ إِلَى جَانِبِ الْمَرْئِيِّ الْتِمَاسًا لِرُؤْيَتِهِ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ: يَكُونُ الْمَعْنَى أَرِنِي حَتَّى أَرَاكَ وَهَذَا فَاسِدٌ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي: يَكُونُ الْمَعْنَى أَرِنِي حَتَّى أُقَلِّبَ الْحَدَقَةَ إِلَى جَانِبِكَ وَهَذَا فَاسِدٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْجِهَةِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: أَنَّ تَقْلِيبَ الْحَدَقَةِ إِلَى جِهَةِ الْمَرْئِيِّ مُقَدِّمَةٌ لِلرُّؤْيَةِ فَجَعَلَهُ كَالنَّتِيجَةِ عَنِ الرُّؤْيَةِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَرِنِي مَعْنَاهُ اجْعَلْنِي مُتَمَكِّنًا مِنْ رُؤْيَتِكَ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْكَ وَأَرَاكَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ قَالَ: لَنْ تَرانِي وَلَمْ يَقُلْ لَنْ تَنْظُرَ إِلَيَّ حَتَّى يَكُونَ مُطَابِقًا لِقَوْلِهِ: أَنْظُرْ إِلَيْكَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ النَّظَرَ لَمَّا كَانَ مُقَدِّمَةً لِلرُّؤْيَةِ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الرُّؤْيَةَ لَا النَّظَرَ الَّذِي لَا رُؤْيَةَ مَعَهُ. وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ اتَّصَلَ الِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ بِمَا قَبْلَهُ؟ وَالْجَوَابُ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَعْظِيمُ أَمْرِ الرُّؤْيَةِ وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَقْوَى عَلَى رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا إِذَا قَوَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَعُونَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَثَرُ التَّجَلِّي وَالرُّؤْيَةِ لِلْجَبَلِ انْدَكَّ وَتَفَرَّقَ فَهَذَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ أَمْرِ الرُّؤْيَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ فَقَالَ الزَّجَّاجُ: تَجَلَّى أَيْ ظَهَرَ وَبَانَ وَمِنْهُ يُقَالُ جَلَوْتُ الْعَرُوسَ إِذَا أَبْرَزْتَهَا وَجَلَوْتُ الْمِرْآةَ وَالسَّيْفَ إِذَا أَزَلْتَ مَا عَلَيْهِمَا مِنَ الصَّدَأِ، وَقَوْلُهُ: جَعَلَهُ دَكًّا قَالَ الزَّجَّاجُ: يجوز دَكًّا بالتنوين ودَكَّاءَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ أَيْ جَعَلَهُ مَدْقُوقًا مَعَ الْأَرْضِ يُقَالُ: دَكَكْتُ الشَّيْءَ إِذَا دَقَقْتَهُ أَدُكُّهُ دَكًّا وَالدَّكَّاءُ وَالدَّكَّاوَاتُ: الرَّوَابِي الَّتِي تَكُونُ مَعَ الْأَرْضِ نَاشِزَةً. فَعَلَى هَذَا الدَّكُّ مَصْدَرٌ وَالدَّكَّاءُ اسْمٌ. ثُمَّ رَوَى الْوَاحِدِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الْأَخْفَشِ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَهُ دَكًّا أَنَّهُ قَالَ: دَكَّهُ دَكًّا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ وَيَجُوزُ جَعْلُهُ ذَا دَكٍّ. قَالَ وَمَنْ قَرَأَ دَكَّاءَ مَمْدُودًا أَرَادَ جَعْلَهُ دَكَّاءَ أَيْ أَرْضًا مُرْتَفِعَةً وَهُوَ/ مُوَافِقٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: جَعَلَهُ تُرَابًا. وَقَوْلُهُ: وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً قَالَ اللَّيْثُ: الصَّعْقُ مِثْلُ الْغَشْيِ يَأْخُذُ الْإِنْسَانَ وَالصَّعْقَةُ الْغَشْيَةُ. يُقَالُ: صَعِقَ الرَّجُلُ وَصُعِقَ فَمَنْ قَالَ صَعِقَ فَهُوَ صَعِقٌ. وَمَنْ قَالَ صُعِقَ فَهُوَ مَصْعُوقٌ. وَيُقَالُ أَيْضًا: صَعِقَ إِذَا مَاتَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الزُّمَرِ: 68] فَسَّرُوهُ بِالْمَوْتِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ أَيْ يَمُوتُونَ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : صَعِقَ أَصْلُهُ من الصاعقة ويقال لها: الصاقعة من صقعه إِذَا ضَرَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً بِالْغَشْيِ وَفَسَّرَهُ قَتَادَةُ بِالْمَوْتِ وَالْأَوَّلُ أَقْوَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا أَفاقَ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَا يَكَادُ يُقَالُ لِلْمَيِّتِ: قَدْ أَفَاقَ مِنْ مَوْتِهِ وَلَكِنْ يُقَالُ

[سورة الأعراف (7) : آية 144]

لِلَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ: إِنَّهُ أَفَاقَ مِنْ غَشْيِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي الَّذِينَ مَاتُوا: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 56] . أَمَّا قَوْلُهُ: قالَ سُبْحانَكَ أَيْ تَنْزِيهًا لَكَ عَنْ أَنْ يَسْأَلَكَ غَيْرُكَ شَيْئًا بِغَيْرِ إِذْنِكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: تُبْتُ إِلَيْكَ مِنْ سُؤَالِ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا. الثَّانِي: تُبْتُ إِلَيْكَ مِنْ سُؤَالِ الرُّؤْيَةِ بِغَيْرِ إِذْنِكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّكَ لَا تُرَى فِي الدُّنْيَا أَوْ يُقَالُ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ السؤال منك الا بإذنك. [سورة الأعراف (7) : آية 144] قالَ يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) اعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا طَلَبَ الرُّؤْيَةَ وَمَنَعَهُ اللَّهُ مِنْهَا، عَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِ وُجُوهَ نِعَمِهِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَهُ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِشُكْرِهَا كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ إِنْ كُنْتُ قَدْ مَنَعْتُكَ الرُّؤْيَةَ فَقَدْ أَعْطَيْتُكَ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ كَذَا وَكَذَا فَلَا يَضِيقُ صَدْرُكَ بِسَبَبِ مَنْعِ الرُّؤْيَةِ وَانْظُرْ إِلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ النِّعَمِ الَّتِي خَصَصْتُكَ بِهَا وَاشْتَغِلْ بِشُكْرِهَا. وَالْمَقْصُودُ تَسْلِيَةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ مَنْعِ الرُّؤْيَةِ وَهَذَا أَيْضًا أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَا جَائِزَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذْ لَوْ كَانَتْ مُمْتَنِعَةً فِي نَفْسِهَا لَمَا كَانَ إِلَى ذِكْرِ هَذَا الْقَدْرِ حَاجَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الِاصْطِفَاءَ اسْتِخْلَاصُ الصَّفْوَةِ فَقَوْلُهُ: اصْطَفَيْتُكَ أَيِ اتَّخَذْتُكَ صَفْوَةً عَلَى النَّاسِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ فَضَّلْتُكَ عَلَى النَّاسِ وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى اصْطَفَاهُ ذَكَرَ الْأَمْرَ الَّذِي بِهِ حَصَلَ هَذَا الِاصْطِفَاءُ فَقَالَ: بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ بِرِسَالَتِي عَلَى الْوَاحِدِ وَالْبَاقُونَ بِرِسالاتِي عَلَى الْجَمْعِ وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَمَنْ قَرَأَ بِرِسَالَتِي فَلِأَنَّ الرِّسَالَةَ تَجْرِي مَجْرَى الْمَصْدَرِ فَيَجُوزُ إِفْرَادُهَا فِي مَوْضِعِ الْجَمْعِ وَإِنَّمَا قَالَ: اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ وَلَمْ يَقُلْ عَلَى الْخَلْقِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ تَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ اصْطَفَاهُ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِهِ مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ قَدْ سَاوَاهُ فِي الرِّسَالَةِ؟ قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ خَصَّهُ مِنْ دُونِ النَّاسِ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ الرِّسَالَةُ مَعَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَهَذَا الْمَجْمُوعُ مَا حَصَلَ لِغَيْرِهِ فَثَبَتَ انه انما حصل التخصيص هاهنا لِأَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ الْكَلَامَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَإِنَّمَا كَانَ الْكَلَامُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ سَبَبًا لِمَزِيدِ الشَّرَفِ بِنَاءً عَلَى الْعُرْفِ الظَّاهِرِ لِأَنَّ مَنْ سَمِعَ كَلَامَ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ مِنْ فَلْقِ فِيهِ كَانَ أَعْلَى حَالًا وَأَشْرَفَ مَرْتَبَةً مِمَّنْ سَمِعَهُ بِوَاسِطَةِ الْحُجَّابِ وَالنُّوَّابِ وَلَمَّا ذَكَرَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ. قَالَ: فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ يَعْنِي فَخُذْ هَذِهِ النِّعْمَةَ وَلَا يَضِيقُ قَلْبُكَ بِسَبَبِ مَنْعِكَ الرُّؤْيَةَ وَاشْتَغِلْ بِشُكْرِ الْفَوْزِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَالِاشْتِغَالُ بِشُكْرِهَا إِنَّمَا يَكُونُ بالقيام بلوازمها علما وعملا. والله اعلم. [سورة الأعراف (7) : آية 145] وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ خَصَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالرِّسَالَةِ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَفْصِيلَ تِلْكَ الرِّسَالَةِ فَقَالَ:

وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ نَقَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ مُوسَى خَرَّ صَعِقًا يَوْمَ عَرَفَةَ. وَأَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى التَّوْرَاةَ يَوْمَ النَّحْرِ وذكروا في عدد الألواح وكفى جَوْهَرِهَا وَطُولِهَا أَنَّهَا كَانَتْ عَشَرَةَ أَلْوَاحٍ. وَقِيلَ: سَبْعَةٌ وَقِيلَ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ زُمُرُّدَةٍ جَاءَ بِهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ مِنْ زَبَرْجَدَةٍ خَضْرَاءَ وَيَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَتْ مِنْ خَشَبٍ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ. وَقَالَ وَهْبٌ: كَانَتْ مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيَّنَهَا اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْكِتَابَةِ فَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ كَتَبَهَا جِبْرِيلُ بِالْقَلَمِ الَّذِي كَتَبَ بِهِ الذِّكْرَ وَاسْتَمَدَّ مِنْ نَهْرِ النُّورِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَيْفِيَّةِ تِلْكَ الْأَلْوَاحِ، وَعَلَى كَيْفِيَّةِ تِلْكَ الْكِتَابَةِ فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ التَّفْصِيلُ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ قَوِيٍّ، وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَإِلَّا وَجَبَ السُّكُوتُ عَنْهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا شُبْهَةَ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْعُمُومِ بَلِ الْمُرَادُ مِنْ كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مُوسَى وَقَوْمُهُ فِي دِينِهِمْ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْمَحَاسِنِ وَالْمَقَابِحِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ كَالْبَيَانِ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَدَّمَهَا بِقَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَسَمَهُ إِلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَوْعِظَةً وَالْآخَرُ تَفْصِيلًا لِمَا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ مِنَ الْأَحْكَامِ فَيَدْخُلُ فِي الْمَوْعِظَةِ كُلُّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُوجِبُ الرَّغْبَةَ فِي الطَّاعَةِ وَالنَّفْرَةِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَذَلِكَ بِذِكْرِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَلَمَّا قَرَّرَ ذَلِكَ أَوَّلًا أَتْبَعَهُ بِشَرْحِ أَقْسَامِ الْأَحْكَامِ وَتَفْصِيلِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَقَالَ: وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَلَمَّا شَرَحَ ذَلِكَ قَالَ لِمُوسَى: فَخُذْها بِقُوَّةٍ أَيْ بِعَزِيمَةٍ قَوِيَّةٍ وَنِيَّةٍ صَادِقَةٍ ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَأْمُرَ قَوْمَهُ بِأَنْ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّ بَيْنَ التَّكْلِيفَيْنِ فَرْقًا لِيَكُونَ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ فَائِدَةٌ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ التَّكْلِيفَ كَانَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَشَدَّ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرَخِّصْ لَهُ مَا رَخَّصَ لِغَيْرِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ خَصَّهُ مِنْ حَيْثُ كَلَّفَهُ الْبَلَاغَ وَالْأَدَاءَ. وَإِنْ كَانَ مُشَارِكًا لِقَوْمِهِ فِيمَا عَدَاهُ وَفِي قَوْلِهِ: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها. سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تُعُبِّدَ بِكُلِّ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَجَبَ كَوْنُ الْكُلِّ مَأْمُورًا بِهِ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها يَقْتَضِي ان فيه ما لبس بِأَحْسَنَ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمُ الْأَخْذُ بِهِ وَذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ تِلْكَ التَّكَالِيفَ مِنْهَا مَا هُوَ حَسَنٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ أَحْسَنُ كَالْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ وَالِانْتِصَارِ وَالصَّبْرِ، أَيْ فَمُرْهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْأَخْذِ بِمَا هُوَ أَدْخَلُ فِي الْحُسْنِ وَأَكْثَرُ لِلثَّوَابِ كَقَوْلِهِ: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ [الزُّمَرِ: 55] وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزُّمَرِ: 18] . فَإِنْ قَالُوا: فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأَخْذِ بِالْأَحْسَنِ فَقَدْ مَنَعَ مِنَ الْأَخْذِ بِذَلِكَ الْحَسَنِ وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ حَسَنًا فَنَقُولُ يُحْمَلُ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَخْذِ بِالْأَحْسَنِ عَلَى النَّدْبِ حَتَّى يَزُولَ هَذَا التَّنَاقُضُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ قَالَ قُطْرُبٌ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أَيْ بِحُسْنِهَا وَكُلُّهَا حَسَنٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [الْعَنْكَبُوتِ: 45] وَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ: بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْحَسَنُ يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ وَالْمُبَاحُ وَأَحْسَنُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْوَاجِبَاتُ وَالْمَنْدُوبَاتُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ دَارُ الْفَاسِقِينَ هِيَ جَهَنَّمُ أَيْ فَلْيَكُنْ ذِكْرُ جَهَنَّمَ حَاضِرًا فِي خَاطِرِكُمْ لِتَحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا منهم. والثاني: قال قتادة: سأدخلكم الشام وأراكم مَنَازِلَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ كَانُوا مُتَوَطِّنِينَ فِيهَا مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَالْعَمَالِقَةِ لِتَعْتَبِرُوا بِهَا وَمَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنَ النَّكَالِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: دارَ الْفاسِقِينَ هِيَ الْمَسَاكِنُ الَّتِي كَانُوا يَمُرُّونَ عَلَيْهَا إِذَا سَافَرُوا مِنْ مَنَازِلِ عَادٍ وَثَمُودَ وَالْقُرُونِ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ الْوَعْدُ وَالْبِشَارَةُ بِأَنَّهُ تَعَالَى سَيُورِثُهُمْ أَرْضَ أَعْدَائِهِمْ وَدِيَارَهُمْ. والله اعلم. تم الجزء الرابع عشر ويليه ان شاء الله الجزء الخامس عشر، واوله قَوْلُهُ تَعَالَى سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يتَكَبَّرُونَ من سورة الأعراف. أعان الله على إكماله.

الجزء الخامس عشر

الجزء الخامس عشر [تتمة سورة الأعراف] بسم الله الرحمن الرحيم [سورة الأعراف (7) : آية 146] سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) [في قَوْلُهُ تَعَالَى سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها] في الآية مسائل: المسألة الاولى: [ذكر في الآية ما يعاملهم به] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَوْلَهُ: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ [الْأَعْرَافِ: 145] ذَكَرَ في الْآيَةِ مَا يُعَامِلُهُمْ بِهِ فَقَالَ: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَمْنَعُ عَنِ الْإِيمَانِ وَيَصُدُّ عَنْهُ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَصْرِفُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِآيَاتِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: سَأَصْرِفُ يَتَنَاوَلُ الْمُسْتَقْبَلَ وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ كَفَرُوا فَكَذَّبُوا مِنْ قَبْلِ هَذَا الصَّرْفِ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ مُتَكَبِّرِينَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِأَنَّهُمْ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ قَدْ حَصَلَ لَهُمْ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الصَّرْفِ الْكُفْرَ بِاللَّهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ مَذْكُورٌ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ عَلَى التَّكَبُّرِ وَالْكُفْرِ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الصَّرْفِ هُوَ كُفْرَهُمْ لَكَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى/ خَلَقَ فِيهِمُ الْكُفْرَ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى إِقْدَامِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعُقُوبَةَ عَلَى الْكُفْرِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُعَاقَبِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الصَّرْفِ الْكُفْرَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ صَرَفَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَصَدَّهُمْ عَنْهُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ مَعَ ذَلِكَ فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الِانْشِقَاقِ: 20] فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [الْمُدَّثِّرِ: 49] وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا [الإسراء: 94 الْكَهْفِ: 55] فَثَبَتَ أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَوَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى وُجُوهٍ أُخْرَى. فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ وَأَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ تَمَامٌ لِمَا وَعَدَ اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِ مِنْ إِهْلَاكِ أَعْدَائِهِ وَمَعْنَى صَرْفِهِمْ إِهْلَاكُهُمْ فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى منع موسى من تبليغها ولا على منع الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْإِيمَانِ بِهَا وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ

[سورة الأعراف (7) : آية 147]

النَّاسِ [الْمَائِدَةِ: 67] فَأَرَادَ تَعَالَى أَنْ يَمْنَعَ أَعْدَاءَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ إِيذَائِهِ وَمَنْعِهِ مِنَ الْقِيَامِ بِمَا يَلْزَمُهُ فِي تَبْلِيغِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ مَا ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ فقال: سأصرف هؤلاء المتكبرين على نَيْلِ مَا فِي آيَاتِي مِنَ الْعِزِّ وَالْكَرَامَةِ الْمُعَدَّيْنِ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّمَا يَصْرِفُهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ إِنْزَالِ الذُّلِّ وَالْإِذْلَالِ بِهِمْ وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْعُقُوبَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَتَكَبُّرِهِمْ عَلَى اللَّهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ مِنَ الْآيَاتِ آيَاتٍ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ سَبْقِ الْإِيمَانِ. فَإِذَا كَفَرُوا فَقَدْ صَيَّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُمُ الِانْتِفَاعُ بِتِلْكَ الْآيَاتِ فَحِينَئِذٍ يَصْرِفُهُمُ اللَّهُ عَنْهَا. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا عَلِمَ مِنْ حَالِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ إِذَا شَاهَدَ تِلْكَ الْآيَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَدِلُّ بِهَا بَلْ يَسْتَخِفُّ بِهَا وَلَا يَقُومُ بِحَقِّهَا فَإِذَا عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُ صَحَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَصْرِفَهُ عَنْهَا. وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ: نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ يُبَالِغُ فِي كُفْرِهِ وَيَنْتَهِي إِلَى الْحَدِّ الَّذِي إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ مَاتَ قَلْبُهُ فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ هَؤُلَاءِ. فَهَذَا جُمْلَةُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ وَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى صِحَّةِ مَا يَقُولُ بِهِ فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَعْمَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى يَتَكَبَّرُونَ: أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَنَّ لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ وَهَذِهِ الصِّفَةُ أَعْنِي التَّكَبُّرَ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَهُ الْقُدْرَةُ وَالْفَضْلُ الَّذِي لَيْسَ لِأَحَدٍ فَلَا جَرَمَ يَسْتَحِقُّ كَوْنَهُ مُتَكَبِّرًا، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: التَّكَبُّرُ: إِظْهَارُ كِبْرِ النَّفْسِ عَلَى غَيْرِهَا. وَصِفَةُ التَّكَبُّرِ صِفَةُ ذَمٍّ فِي جَمِيعِ الْعِبَادِ وَصِفَةُ مَدْحٍ فِي اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ إِظْهَارَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ سِوَاهُ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ حَقٌّ. وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ بَاطِلٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ: بِغَيْرِ الْحَقِّ لِأَنَّ إِظْهَارَ الْكِبْرِ عَلَى الْغَيْرِ قَدْ يَكُونُ بِالْحَقِّ فَإِنَّ لِلْمُحِقِّ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَى الْمُبْطِلِ وَفِي الْكَلَامِ الْمَشْهُورِ التَّكَبُّرُ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ صَدَقَةٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا فَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ الرَّشَدِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالشِّينِ وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ. وَفَرَّقَ أَبُو عَمْرٍو بَيْنَهُمَا فَقَالَ: الرُّشْدِ بِضَمِّ الرَّاءِ الصَّلَاحُ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً [النِّسَاءِ: 6] أَيْ صَلَاحًا، والرشد فتحهما الِاسْتِقَامَةُ فِي الدِّينِ. قَالَ تَعَالَى: مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الْكَهْفِ: 66] وَقَالَ الْكِسَائِيُّ هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ مِثْلُ الْحَزَنِ وَالْحُزْنِ وَالسَّقَمِ وَالسُّقُمِ وَقِيلَ: الرُّشْدِ بِالضَّمِّ الِاسْمُ وَبِالْفَتْحَتَيْنِ الْمَصْدَرُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: سَبِيلَ الرُّشْدِ عِبَارَةٌ عَنْ سَبِيلِ الْهُدَى وَالدِّينِ الحق والصواب في العلم والعمل وسَبِيلَ الغَيِّ مَا يَكُونُ مُضَادًّا لِذَلِكَ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الصَّرْفَ إِنَّمَا كَانَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُمْ مُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ. وَالثَّانِي: كَوْنُهُمْ غَافِلِينَ عَنْهَا وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ وَاظَبُوا عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهَا حَتَّى صَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْغَافِلِ عَنْهَا. وَاللَّهُ اعلم. [سورة الأعراف (7) : آية 147] وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (147)

[سورة الأعراف (7) : آية 148]

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا لِأَجْلِهِ صَرَفَ الْمُتَكَبِّرِينَ عَنْ آيَاتِهِ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ [الأعراف: 146] بَيَّنَ حَالَ أُولَئِكَ الْمُكَذِّبِينَ فَقَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي بَابِ الْعِقَابِ لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَعْمَلُ بَعْضَ أَعْمَالِ الْبِرِّ فَبَيَّنَ تَعَالَى حَالَ جَمِيعِهِمْ سَوَاءٌ كَانَ مُتَكَبِّرًا أَوْ مُتَوَاضِعًا أَوْ كَانَ قَلِيلَ الْإِحْسَانِ أَوْ كَانَ كَثِيرَ الْإِحْسَانِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ يَعْنِي بِذَلِكَ جَحْدَهُمْ لِلْمِيعَادِ وَجَرَاءَتَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ أَعْمَالَهُمْ مُحْبَطَةٌ وَالْكَلَامُ فِي حَقِيقَةِ الْإِحْبَاطِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ وَفِيهِ حَذْفٌ وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ؟ أَوْ عَلَى مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ أَبِي هَاشِمٍ فِي أَنَّ تَارِكَ الْوَاجِبِ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ بِمُجَرَّدِ أَنْ لَا يَفْعَلَ الْوَاجِبَ وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ فِعْلٌ عِنْدَ ذَلِكَ الْوَاجِبِ قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا جَزَاءَ إِلَّا عَلَى الْعَمَلِ وَلَيْسَ تَرْكُ الْوَاجِبِ بِعَمَلٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجَازَى/ عَلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا حَصَلَ عَلَى فِعْلِ ضِدِّهِ. وَأَجَابَ أَبُو هَاشِمٍ: بِأَنِّي لَا أُسَمِّي ذَلِكَ الْعِقَابَ جَزَاءً فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ. وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ هَذَا الْجَوَابِ: بِأَنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا سُمِّيَ جَزَاءً لِأَنَّهُ يَجْزِي وَيَكْفِي فِي الْمَنْعِ مِنَ النَّهْيِ وَفِي الْحَثِّ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ فَإِنْ تَرَتَّبَ الْعِقَابُ عَلَى مُجَرَّدِ تَرْكِ الْوَاجِبِ كَانَ ذَلِكَ الْعِقَابُ كَافِيًا فِي الزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ التَّرْكِ فَكَانَ جَزَاءً، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ تَسْمِيَتِهِ جَزَاءً. والله اعلم. [سورة الأعراف (7) : آية 148] وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) [في قوله تعالى وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ] اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ قِصَّةُ اتِّخَاذِ السَّامِرِيِّ الْعِجْلَ وَفِيهَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ حُلِيِّهِمْ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَاللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ لِلْإِتْبَاعِ كَدُلِيٍّ. وَالْبَاقُونَ حُلِيِّهِمْ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ جَمْعُ حَلْيٍ كَثَدْيٍ وَثُدِيٍّ وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ مِنْ حُلِيِّهِمْ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْحُلِيُّ اسْمُ مَا يُتَحَسَّنُ بِهِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قِيلَ إِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ لَهُمْ عِيدٌ يَتَزَيَّنُونَ فِيهِ وَيَسْتَعِيرُونَ مِنَ الْقِبْطِ الْحُلِيَّ فَاسْتَعَارُوا حُلِيَّ الْقِبْطِ لِذَلِكَ الْيَوْمِ فَلَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ الْقِبْطَ بَقِيَتْ تِلْكَ الْحُلِيُّ فِي أَيْدِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَمَعَ السَّامِرِيُّ تِلْكَ الْحُلِيَّ وَكَانَ رَجُلًا مُطَاعًا فِيهِمْ ذَا قَدْرٍ وَكَانُوا قَدْ سَأَلُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ إِلَهًا يَعْبُدُونَهُ فَصَاغَ السَّامِرِيُّ عِجْلًا. ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ فَقَالَ قَوْمٌ كَانَ قَدْ أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابِ حَافِرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَلْقَاهُ فِي جَوْفِ ذَلِكَ الْعِجْلِ فَانْقَلَبَ لَحْمًا وَدَمًا وَظَهَرَ مِنْهُ الْخُوَارُ مَرَّةً وَاحِدَةً. فَقَالَ السَّامِرِيُّ: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى! وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ إِنَّهُ كَانَ قَدْ جَعَلَ ذَلِكَ الْعِجْلَ مُجَوَّفًا وَوَضَعَ فِي جَوْفِهِ أَنَابِيبَ عَلَى شَكْلٍ مَخْصُوصٍ وَكَانَ قَدْ وَضَعَ ذَلِكَ التِّمْثَالَ عَلَى مَهَبِّ الرِّيَاحِ فَكَانَتِ الرِّيحُ تَدْخُلُ فِي جَوْفِ الْأَنَابِيبِ وَيَظْهَرُ مِنْهُ صَوْتٌ مَخْصُوصٌ يُشْبِهُ خُوَارَ الْعِجْلِ وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ التِّمْثَالَ أَجْوَفَ وَجَعَلَ تَحْتَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي نَصَبَ فِيهِ الْعِجْلَ مَنْ يَنْفُخُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ فَسَمِعُوا الصَّوْتَ مِنْ جَوْفِهِ كَالْخُوَارِ. قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ وَالنَّاسُ قَدْ يَفْعَلُونَ الْآنَ فِي هَذِهِ التَّصَاوِيرِ الَّتِي يُجْرُونَ فِيهَا الْمَاءَ عَلَى سَبِيلِ الْفَوَّارَاتِ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ وَغَيْرِهِ

أَظْهَرَ الصَّوْتَ مِنْ ذَلِكَ التِّمْثَالِ ثُمَّ أَلْقَى إِلَى النَّاسِ/ أَنَّ هَذَا الْعِجْلَ إِلَهُهُمْ وَإِلَهُ مُوسَى. بَقِيَ فِي لَفْظِ الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قِيلَ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً وَالْمُتَّخِذُ هُوَ السَّامِرِيُّ وَحْدَهُ؟ وَالْجَوَابُ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ نَسَبَ الْفِعْلَ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ بَاشَرَهُ كَمَا يُقَالُ: بَنُو تَمِيمٍ قَالُوا كَذَا وَفَعَلُوا كَذَا وَالْقَائِلُ وَالْفَاعِلُ وَاحِدٌ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا مُرِيدِينَ لِاتِّخَاذِهِ رَاضِينَ بِهِ فَكَأَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ: مِنْ حُلِيِّهِمْ وَلَمْ يَكُنِ الْحُلِيُّ لَهُمْ وَإِنَّمَا حَصَلَ فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْعَارِيَّةِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَهْلَكَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ بَقِيَتْ تِلْكَ الْأَمْوَالُ فِي أَيْدِيهِمْ وَصَارَتْ مِلْكًا لَهُمْ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الدخان: 25] وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ [الشعراء: 58] وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ [الدُّخَانِ: 27 28] . السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ هُمْ كُلُّ قَوْمِ مُوسَى أَوْ بَعْضُهُمْ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا يُفِيدُ الْعُمُومَ. قَالَ الْحَسَنُ: كُلُّهُمْ عَبَدُوا الْعِجْلَ غَيْرَ هَارُونَ. وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: عُمُومُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالثَّانِي: قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذِهِ القصة رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي قَالَ خَصَّ نَفْسَهُ وَأَخَاهُ بِالدُّعَاءِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مُغَايِرًا لَهُمَا مَا كَانَ أَهْلًا لِلدُّعَاءِ وَلَوْ بَقُوا عَلَى الْإِيمَانِ لَمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ قَدْ بَقِيَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَنْ ثَبَتَ عَلَى إِيمَانِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْكُفْرَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الْأَعْرَافِ: 181] . السُّؤَالُ الرَّابِعُ: هَلِ انْقَلَبَ ذَلِكَ التِّمْثَالُ لَحْمًا وَدَمًا عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ أَوْ بَقِيَ ذَهَبًا كَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ: الذَّاهِبُونَ إِلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ احْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ وَالْجَسَدُ اسْمٌ لِلْجِسْمِ الَّذِي يَكُونُ مِنَ اللَّحْمِ وَالدَّمِ وَمِنْهُمْ مَنْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ وَقَالَ بَلِ الْجَسَدُ اسْمٌ لِكُلِّ جِسْمٍ كَثِيفٍ سَوَاءٌ كَانَ مِنَ اللَّحْمِ وَالدَّمِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ لَهُ خُوَارًا وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَأَتَّى فِي الْحَيَوَانِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ ذَلِكَ الصَّوْتَ لَمَّا أَشْبَهَ الْخُوَارَ لَمْ يَبْعُدْ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْخُوَارِ عَلَيْهِ وَقَرَأَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (جُؤَارٌ) بِالْجِيمِ وَالْهَمْزَةِ مِنْ جَأَرَ إِذَا صَاحَ فَهَذَا مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ. [في قوله تعالى أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ هَذَا الْمَذْهَبَ وَالْمَقَالَةَ احْتَجَّ عَلَى فَسَادِ كَوْنِ ذَلِكَ الْعِجْلِ إِلَهًا بِقَوْلِهِ: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ وَتَقْرِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ هَذَا الْعِجْلَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ إِلَى الصَّوَابِ وَالرُّشْدِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ إِمَّا جَمَادًا وَإِمَّا حَيَوَانًا عَاجِزًا وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يَكُونُ متكلما ولا هاديا الى السبيل لَمْ يَكُنْ إِلَهًا لِأَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي لَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا كَانَ مُتَكَلِّمًا فَمَنْ لَا يَكُونُ

[سورة الأعراف (7) : آية 149]

مُتَكَلِّمًا لَمْ يَصْحَّ مِنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْعِجْلُ عَاجِزٌ عَنِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَلَمْ يَكُنْ إِلَهًا. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرْطَ كَوْنِهِ إِلَهًا أَنْ يَكُونَ هَادِيًا إِلَى الصِّدْقِ وَالصَّوَابِ فَمَنْ كَانَ مُضِلًّا عَنْهُ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ إِلَهًا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يُوجِبُ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَيَهْدِيَ يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَ إِلَهًا وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ إِثْبَاتُ ذَلِكَ كَنَفْيِهِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَ إِلَهًا فَلَا فَائِدَةَ فِيمَا ذَكَرْتُمْ. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَرْطًا لِحُصُولِ الْإِلَهِيَّةِ فَيَلْزَمَ مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُ الْإِلَهِيَّةِ وَإِنْ كَانَ لَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِهِ حُصُولُ الْإِلَهِيَّةِ. الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى أَنْ يُكَلِّمَهُمْ وَعَلَى أَنْ يَهْدِيَهُمْ إِلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَهُوَ إِلَهٌ وَالْخَلْقُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْهِدَايَةِ إِنَّمَا يَقْدِرُونَ عَلَى وَصْفِ الْهِدَايَةِ فَأَمَّا عَلَى وَضْعِ الدَّلَائِلِ وَنَصْبِهَا فَلَا قَادِرَ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّهُ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَكانُوا ظالِمِينَ أَيْ كَانُوا ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ حَيْثُ أَعْرَضُوا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاشْتَغَلُوا بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ. وَاللَّهُ اعلم. [سورة الأعراف (7) : آية 149] وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) اعْلَمْ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أَنَّهُ اشْتَدَّ نَدَمُهُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَجْهِ الَّذِي لِأَجْلِهِ حَسُنَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ. فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ سَقَطَ النَّدَمُ فِي أَيْدِيهِمْ، أَيْ فِي قُلُوبِهِمْ كَمَا يُقَالُ حَصَلَ فِي يَدِيهِ مَكْرُوهٌ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُحَالِ حُصُولُ الْمَكْرُوهِ الْوَاقِعِ فِي الْيَدِ إِلَّا أَنَّهُمْ أَطْلَقُوا عَلَى الْمَكْرُوهِ الْوَاقِعِ فِي الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ كَوْنَهُ وَاقِعًا فِي الْيَدِ فَكَذَا هاهنا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّمَا يُقَالُ لِمَنْ نَدِمَ سُقِطَ فِي يَدِهِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ مَنِ اشْتَدَّ نَدَمُهُ أَنْ يَعَضَّ يَدَهُ غَمًّا فَيَصِيرُ نَدَمُهُ مَسْقُوطًا فِيهَا لِأَنَّ فَاهُ قَدْ وَقَعَ فِيهَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ السُّقُوطَ عِبَارَةٌ عَنْ نُزُولِ الشَّيْءِ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلُ وَلِهَذَا قَالُوا سَقَطَ الْمَطَرُ وَيُقَالُ: سَقَطَ مِنْ يَدِكَ شَيْءٌ وَأَسْقَطَتِ الْمَرْأَةُ فَمَنْ أَقْدَمَ عَلَى عَمَلٍ فَهُوَ إِنَّمَا يَقْدِمُ عَلَيْهِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ خَيْرٌ وَصَوَابٌ وَأَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ يُورِثُهُ شَرَفًا وَرِفْعَةً فَإِذَا بَانَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ كَانَ بَاطِلًا فَاسِدًا فَكَأَنَّهُ قَدِ انْحَطَّ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ وَسَقَطَ مِنْ فَوْقُ إِلَى تَحْتُ فَلِهَذَا السَّبَبِ يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَخْطَأَ: كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ سَقْطَةً شَبَّهُوا ذَلِكَ بِالسَّقْطَةِ عَلَى الْأَرْضِ فَثَبَتَ أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ السُّقُوطِ عَلَى الْحَالَةِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَ النَّدَمِ جَائِزٌ مُسْتَحْسَنٌ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الْيَدِ؟ فَنَقُولُ: الْيَدُ هِيَ الْآلَةُ الَّتِي بِهَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَى الْأَخْذِ وَالضَّبْطِ وَالْحِفْظِ فَالنَّادِمُ كَأَنَّهُ يَتَدَارَكُ الْحَالَةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا حَصَلَ لَهُ النَّدَمُ وَيَشْتَغِلُ بِتَلَافِيهَا فَكَأَنَّهُ قَدْ سَقَطَ فِي يَدِ نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ ان بَعْدَ حُصُولِ ذَلِكَ النَّدَمِ اشْتَغَلَ بِالتَّدَارُكِ وَالتَّلَافِي. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: حَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ هَذَا مَأْخُوذٌ مِنَ السَّقِيطِ وَهُوَ مَا يَغْشَى الْأَرْضَ بِالْغَدَوَاتِ شِبْهَ الثَّلْجِ. يُقَالُ: مِنْهُ سَقَطَتِ الْأَرْضُ كَمَا يُقَالُ: مِنَ الثَّلْجِ ثَلَجَتِ الْأَرْضُ وَثُلِجْنَا أَيْ أَصَابَهَا الثَّلْجُ وَمَعْنَى سُقِطَ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 150 إلى 151]

فِي يَدِهِ أَيْ وَقَعَ فِي يَدِهِ السَّقِيطُ، وَالسَّقِيطُ يَذُوبُ بِأَدْنَى حَرَارَةٍ وَلَا يَبْقَى فَمَنْ وَقَعَ فِي يَدِهِ السَّقِيطُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ قَطُّ فَصَارَ هَذَا مَثَلًا لِكُلِّ مَنْ خَسِرَ فِي عَاقِبَتِهِ وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْ سَعْيِهِ عَلَى طَائِلٍ وَكَانَتِ النَّدَامَةُ آخِرَ أَمْرِهِ. وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: النَّادِمُ إِنَّمَا يُقَالُ لَهُ سُقِطَ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ يَتَحَيَّرُ فِي أَمْرِهِ وَيَعْجَزُ عَنْ أَعْمَالِهِ وَالْآلَةُ الْأَصْلِيَّةُ فِي الْأَعْمَالِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ هِيَ الْيَدُ. وَالْعَاجِزُ فِي حُكْمِ السَّاقِطِ فَلَمَّا قُرِنَ السُّقُوطُ بِالْأَيْدِي عُلِمَ أَنَّ السُّقُوطَ فِي الْيَدِ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ الْعَجْزِ التَّامِّ وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ لِمَنْ لَا يَهْتَدِي لِمَا يَصْنَعُ، ضَلَّتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ. وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ مِنْ عَادَةِ النَّادِمِ أَنْ يُطَأْطِئَ رَأْسَهُ وَيَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ وَتَارَةً يَضَعَهَا تَحْتَ ذَقَنِهِ وَشَطْرٍ مِنْ وجه عَلَى هَيْئَةٍ لَوْ نُزِعَتْ يَدُهُ لَسَقَطَ عَلَى وجه فكانت اليد مسقوط فِيهَا لِتَمَكُّنِ السُّقُوطِ فِيهَا وَيَكُونُ قَوْلُهُ سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ بِمَعْنَى سُقِطَ عَلَى أَيْدِيهِمْ كَقَوْلِهِ: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه: 71] أَيْ عَلَيْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا أَيْ قَدْ تَبَيَّنُوا ضَلَالَهَمْ تَبْيِينًا كَأَنَّهُمْ أَبْصَرُوهُ بِعُيُونِهِمْ قَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَخَّرُ مُقَدَّمًا لِأَنَّ النَّدَمَ وَالتَّحَيُّرَ إِنَّمَا يقطعان بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ. / وَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ لِمَا نَالَهُمْ مِنْ عَظِيمِ الْحَسْرَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا صَارَ شَاكًّا فِي أَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي أَقْدَمَ عَلَيْهِ هَلْ هُوَ صَوَابٌ أَوْ خَطَأٌ؟ فَقَدْ يَنْدَمُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ صَوَابًا أَوْ خَطَأً فَاسِدًا أَوْ بَاطِلًا غَيْرُ جَائِزٍ فَعِنْدَ ظُهُورِ هَذِهِ الْحَالَةِ يَحْصُلُ النَّدَمُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَكَامَلُ الْعِلْمُ وَيَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ خَطَأً وَفَاسِدًا وَبَاطِلًا فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا حَاجَةَ إِلَى الْتِزَامِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ عِنْدَ ظُهُورِ هَذَا النَّدَمِ وَحُصُولِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الَّذِي عَمِلُوهُ كَانَ بَاطِلًا أَظْهَرُوا الِانْقِطَاعَ إِلَى اللَّهِ تعالى ف قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ وَهَذَا كَلَامُ مَنِ اعْتَرَفَ بِعَظِيمِ مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ وَنَدِمَ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ وَرَغِبَ إِلَى رَبِّهِ فِي إِقَالَةِ عَثْرَتِهِ ثُمَّ صَدَّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَوْنَهُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ إِنْ لَمْ يَغْفِرِ اللَّهُ لَهُمْ، وَهَذَا النَّدَمُ وَالِاسْتِغْفَارُ إِنَّمَا حَصَلَ بَعْدَ رُجُوعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَيْهِمْ، وَقُرِئَ (لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنَا رَبَّنَا وَتَغْفِرْ لَنَا) بِالتَّاءِ وَرَبَّنَا بِالنَّصْبِ عَلَى النِّدَاءِ وَهَذَا كَلَامُ التَّائِبِينَ كَمَا قَالَ آدَمُ وَحَوَّاءُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا. [سورة الأعراف (7) : الآيات 150 الى 151] وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) [قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَ خَبَرَهُمْ مِنْ قَبْلُ فِي عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَمُشَاهَدَةِ أَحْوَالِهِمْ صَارَ

كَذَلِكَ فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ عِنْدَ هُجُومِهِ عَلَيْهِمْ عَرَفَ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: بَلْ كَانَ عَارِفًا بِذَلِكَ مِنْ قَبْلُ وَهَذَا أَقْرَبُ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَالَ مَا كَانَ رَاجِعًا كَانَ غَضْبَانَ أَسِفًا وَهُوَ إِنَّمَا كَانَ رَاجِعًا إِلَى قَوْمِهِ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهِمْ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهِمْ كَانَ عَالِمًا بِهَذِهِ الْحَالَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي سُورَةِ طه أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِوُقُوعِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ فِي الْمِيقَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْأَسَفِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَسَفَ الشَّدِيدَ الْغَضَبُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزُّخْرُفِ: 55] أَيْ أَغْضَبُونَا. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ إِنَّ الْآسِفَ هُوَ الْحَزِينُ: وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ أَيْ حَزِينٌ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْقَوْلَانِ مُتَقَارِبَانِ لِأَنَّ الْغَضَبَ مِنَ الْحُزْنِ وَالْحُزْنَ مِنَ الْغَضَبِ فَإِذَا جَاءَكَ مَا تَكْرَهُ مِمَّنْ هُوَ دُونَكَ غَضِبْتَ وَإِذَا جَاءَكَ مِمَّنْ هُوَ فَوْقَكَ حَزِنْتَ. فَتُسَمَّى إِحْدَى هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ حُزْنًا وَالْأُخْرَى غَضَبًا فَعَلَى هَذَا كَانَ مُوسَى غَضْبَانَ عَلَى قَوْمِهِ لِأَجْلِ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ أَسِفًا حَزِينًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَتَنَهُمْ. وَقَدْ كَانَ تَعَالَى قَالَ لَهُ: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ [طه: 85] . أَمَّا قَوْلُهُ: بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي فَمَعْنَاهُ بِئْسَمَا قُمْتُمْ مَقَامِي وَكُنْتُمْ خُلَفَائِي مِنْ بَعْدِي وَهَذَا الْخِطَابُ إِنَّمَا يَكُونُ لِعَبَدَةِ الْعِجْلِ مِنَ السَّامِرِيِّ وَأَشْيَاعِهِ أَوْ لِوُجُوهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ: هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي [الْأَعْرَافِ: 142] وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي حَيْثُ عَبَدْتُمُ الْعِجْلَ مَكَانَ عِبَادَةِ اللَّهِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الثَّانِي يَكُونُ الْمَعْنَى بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي حَيْثُ لَمْ تُمْنَعُوا مِنْ عِبَادَةِ غير الله تعالى، وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَيْنَ مَا يَقْتَضِيهِ «بِئْسَ» مِنَ الْفَاعِلِ وَالْمَخْصُوصِ بِالذَّمِّ. وَالْجَوَابُ: الْفَاعِلُ مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: «مَا خَلَفْتُمُونِي» وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ بِئْسَ خِلَافَةً خَلَفْتُمُونِيهَا مِنْ بَعْدِي خِلَافَتُكُمْ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَيُّ مَعْنًى لِقَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِي بَعْدَ قَوْلِهِ: خَلَفْتُمُونِي. وَالْجَوَابُ: مَعْنَاهُ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَيْتُمْ مِنِّي مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَفْيِ الشُّرَكَاءِ عَنْهُ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ. أَوْ مِنْ بَعْدِ مَا كُنْتُ أَحْمِلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْبَقَرِ حِينَ قَالُوا اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ وَمِنْ حَقِّ الْخُلَفَاءِ أَنْ يَسِيرُوا سِيرَةَ الْمُسْتَخْلَفِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ فَمَعْنَى الْعَجَلَةِ التَّقَدُّمُ بِالشَّيْءِ قَبْلَ وَقْتِهِ وَلِذَلِكَ صَارَتْ مَذْمُومَةً/ وَالسُّرْعَةُ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ لِأَنَّ مَعْنَاهَا عَمَلُ الشَّيْءِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِهِ. هَكَذَا قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَتِ الْعَجَلَةُ مَذْمُومَةً فَلِمَ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى [طه: 84] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمَعْنَى: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ يَعْنِي مِيعَادَ رَبِّكُمْ فَلَمْ تَصْبِرُوا لَهُ؟ وَقَالَ الْحَسَنُ: وَعْدُ رَبِّكُمُ الَّذِي وَعَدَكُمْ مِنَ الْأَرْبَعِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَدَّرُوا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَأْتِ عَلَى رَأْسِ الثَّلَاثِينَ لَيْلَةً فَقَدْ مَاتَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ أَعْجِلْتُمْ سُخْطَ رَبِّكُمْ؟ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَعْجِلْتُمْ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمْ أَمْرُ رَبِّكُمْ وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى

أَنَّ مُوسَى رَجَعَ غَضْبَانَ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا كَانَ ذَلِكَ الْغَضَبُ مُوجِبًا لَهُ وَهُوَ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَالَ: وَأَلْقَى الْأَلْواحَ يُرِيدُ الَّتِي فِيهَا التَّوْرَاةُ وَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْأَلْوَاحُ أَعْظَمَ مَعَاجِزِهِ ثُمَّ إِنَّهُ أَلْقَاهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى شِدَّةِ الْغَضَبِ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَقْدِمُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الْغَضَبِ الْمُدْهِشِ. رُوِيَ أَنَّ التَّوْرَاةَ كَانَتْ سَبْعَةَ أَسْبَاعٍ فَلَمَّا أَلْقَى الْأَلْوَاحَ تَكَسَّرَتْ فَرَفَعَ مِنْهَا سِتَّةَ أَسِبَاعِهَا وَبَقِيَ سُبُعٌ وَاحِدٌ. وَكَانَ فِيمَا رَفَعَ تَفْصِيلُ كُلِّ شَيْءٍ وَفِيمَا بَقِيَ الْهُدَى وَالرَّحْمَةُ، وعن النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ أَخِي مُوسَى لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ لَقَدْ أَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِفِتْنَةِ قَوْمِهِ فَعَرَفَ أَنَّ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ حَقٌّ وَأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ مُتَمَسِّكٌ بِمَا فِي يَدِهِ» . وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا أَنَّهُ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ فَأَمَّا أَنَّهُ أَلْقَاهَا بِحَيْثُ تَكَسَّرَتْ فَهَذَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَإِنَّهُ لَجَرَاءَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَمِثْلُهُ لَا يَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي: مِنَ الْأُمُورِ الْمُتَوَلِّدَةِ عَنْ ذَلِكَ الْغَضَبِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ سُؤَالٌ لِمَنْ يَقْدَحُ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ طه مَعَ الْجَوَابِ الصَّحِيحِ وَبِالْجُمْلَةِ فَالطَّاعِنُونَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ يَقُولُونَ إِنَّهُ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِهَانَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ وَالْمُثْبِتُونَ لِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ قَالُوا إِنَّهُ جَرَّ رَأْسَ أَخِيهِ إِلَى نَفْسِهِ لِيُسَارَّهُ وَيَسْتَكْشِفَ مِنْهُ كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَاذَا قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي. قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَافَ أَنْ يَتَوَهَّمَ جُهَّالُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ غَضْبَانُ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّهُ غَضْبَانُ عَلَى عَبَدَةِ الْعِجْلِ فَقَالَ لَهُ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَمَا أَطَاعُونِي فِي تَرْكِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَقَدْ نَهَيْتُهُمْ وَلَمْ يَكُنْ مَعِي مِنَ الْجَمْعِ مَا أَمْنَعُهُمْ بِهِمْ عَنْ هَذَا الْعَمَلِ، فَلَا تَفْعَلْ بِي مَا تَشْمَتُ أَعْدَائِي بِهِ فَهُمْ أَعْدَاؤُكَ فَإِنَّ الْقَوْمَ يَحْمِلُونَ هَذَا الْفِعْلَ الَّذِي تَفْعَلُهُ بِي عَلَى الْإِهَانَةِ لَا عَلَى الْإِكْرَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ابْنَ أُمَّ فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ ابْنَ أُمَّ/ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفِي طه مِثْلُهُ عَلَى تَقْدِيرِ أُمِّي فَحَذَفَ يَاءَ الْإِضَافَةِ لِأَنَّ مَبْنَى النِّدَاءِ عَلَى الْحَذْفِ وَبَقِيَ الْكَسْرُ عَلَى الْمِيمِ لِيَدُلَّ عَلَى الْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِ: يَا عِبادِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْمِيمِ فِي السُّورَتَيْنِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا جُعِلَا اسْمًا وَاحِدًا وَبُنِي لِكَثْرَةِ اصْطِحَابِ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ نَحْوَ حَضْرَمَوْتَ وَخَمْسَةَ عَشَرَ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ الْأَلِفِ الْمُبْدَلَةِ مِنْ يَاءِ الْإِضَافَةِ وَأَصْلُهُ يَا ابْنَ أَمَّا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: يَا ابْنَةَ عَمَّا لَا تَلُومِي وَاهْجَعِي وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي أَيْ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى كَلَامِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ يَعْنِي أَصْحَابَ الْعِجْلِ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ أَيْ لَا تَجْعَلْنِي شَرِيكًا لَهُمْ فِي عُقُوبَتِكَ لَهُمْ عَلَى فِعْلِهِمْ فَعِنْدَ هَذَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي أَيْ فِيمَا أَقْدَمْتُ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْغَضَبِ وَالْحِدَّةِ وَلِأَخِي فِي تَرْكِهِ التَّشْدِيدَ الْعَظِيمَ عَلَى عَبَدَةِ الْعِجْلِ وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَمَامَ هَذِهِ السُّؤَالَاتِ وَالْجَوَابَاتِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَذْكُورٌ فِي سورة طه. والله اعلم.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 152 إلى 153]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 152 الى 153] إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ شَرْحُ حَالِ مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ مِنْ مَفْعُولَيِ- الِاتِّخَاذِ- مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إِلَهًا وَمَعْبُودًا وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى [طه: 88] وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ طَرِيقَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ هُمُ الَّذِينَ بَاشَرُوا عِبَادَةَ الْعِجْلِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ تَابَ اللَّه عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مَعْرِضِ التَّوْبَةِ عَنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ، وَإِذَا تَابَ اللَّه/ عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: فِي حَقِّهِمْ إِنَّهُ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ ذَلِكَ الْغَضَبَ إِنَّمَا حَصَلَ فِي الدُّنْيَا لَا فِي الْآخِرَةِ، وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ الْغَضَبِ هُوَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا هُوَ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا فَذَلُّوا. فَإِنْ قَالُوا: السِّينُ فِي قَوْلِهِ: سَيَنالُهُمْ لِلِاسْتِقْبَالِ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ هَذَا عَلَى حُكْمِ الدُّنْيَا؟ قُلْنَا: هَذَا الْكَلَامُ حِكَايَةٌ عَمَّا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَخْبَرَهُ بافتنان قَوْمِهِ وَاتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ، فَأَخْبَرَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إنه سينالهم غضب من ربهم وذلة في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ سَابِقًا عَلَى وُقُوعِهِمْ فِي الْقَتْلِ وَفِي الذِّلَّةِ، فَصَحَّ هَذَا التَّأْوِيلُ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ أَبْنَاؤُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَفِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَرَبَ تُعَيِّرُ الْأَبْنَاءَ بِقَبَائِحِ أَفْعَالِ الْآبَاءِ كَمَا تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْمَنَاقِبِ. يَقُولُونَ لِلْأَبْنَاءِ: فَعَلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ من مضى من آبائهم، فكذا هاهنا وُصِفَ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّخَاذِ الْعِجْلِ، وَإِنْ كَانَ آبَاؤُهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَا قَالَ تَعَالَى في صفتهم: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [الْبَقَرَةِ: 61] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ أَيِ الَّذِينَ بَاشَرُوا ذَلِكَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ أَيْ سَيَنَالُ أَوْلَادُهُمْ، ثُمَّ حَذَفَ الْمُضَافَ بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ فَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مُفْتَرٍ فِي دِينِ اللَّه فَجَزَاؤُهُ غَضَبُ اللَّه وَالذِّلَّةُ فِي الدُّنْيَا، قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: مَا مِنْ مُبْتَدِعٍ إِلَّا وَيَجِدُ فَوْقَ رَأْسِهِ ذِلَّةً، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُبْتَدِعَ مُفْتَرٍ فِي دِينِ اللَّه. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا فَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ مَنْ عَمِلَ السَّيِّئَاتِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَتُوبَ عَنْهَا أَوَّلًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَتْرُكَهَا أَوَّلًا وَيَرْجِعَ عَنْهَا، ثُمَّ يُؤْمِنَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَثَانِيًا: يُؤْمِنُ باللَّه تَعَالَى، وَيُصَدِّقُ

[سورة الأعراف (7) : آية 154]

بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّيِّئَاتِ بِأَسْرِهَا مُشْتَرِكَةٌ فِي أَنَّ التَّوْبَةَ مِنْهَا تُوجِبُ الْغُفْرَانَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ. وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ مَنْ أَتَى بِجَمِيعِ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابَ فَإِنَّ اللَّه يَغْفِرُهَا لَهُ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يُفِيدُ الْبِشَارَةَ والفرح للمذنبين، واللَّه أعلم. [سورة الأعراف (7) : آية 154] وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ لَنَا مَا كَانَ مِنْهُ مَعَ الْغَضَبِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا كَانَ مِنْهُ عِنْدَ سُكُوتِ الْغَضَبِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَقْوَالٌ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ خَرَجَ عَلَى قَانُونِ الِاسْتِعَارَةِ كَأَنَّ الْغَضَبَ كَانَ يُقَوِّيهِ عَلَى مَا فَعَلَ وَيَقُولُ لَهُ: قُلْ لِقَوْمِكَ كَذَا وَكَذَا، وَأَلْقِ الْأَلْوَاحَ وَخُذْ بِرَأْسِ أَخِيكَ إِلَيْكَ، فَلَمَّا زَالَ الْغَضَبُ، صَارَ كَأَنَّهُ سَكَتَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ، إِنَّ الْمَعْنَى: سَكَتَ مُوسَى عَنِ الْغَضَبِ وَقُلِبَ كَمَا قَالُوا: أَدْخَلْتُ الْقَلَنْسُوَةَ فِي رَأْسِي، وَالْمَعْنَى: أَدْخَلْتُ رَأْسِي فِي الْقَلَنْسُوَةِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ بِالسُّكُوتِ السُّكُونُ وَالزَّوَالُ، وَعَلَى هَذَا جَازَ سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ وَلَا يَجُوزُ صَمَتَ لِأَنَّ سَكَتَ بِمَعْنَى سَكَنَ، وَأَمَّا صَمَتَ فَمَعْنَاهُ سَدَّ فَاهُ عَنِ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْغَضَبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا عَرَفَ أَنَّ أَخَاهُ هَارُونَ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ تَقْصِيرٌ وَظَهَرَ لَهُ صِحَّةُ عُذْرِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ سَكَنَ غَضَبُهُ. وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي قَالَ فِيهِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي [الأعراف: 151] وَكَمَا دَعَا لِأَخِيهِ مُنَبِّهًا بِذَلِكَ عَلَى زَوَالِ غَضَبِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَوَّلُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمَارَاتِ غَضَبِهِ عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، فَجُعِلَ ضِدَّ ذَيْنِكَ الْفِعْلَيْنِ كَالْعَلَامَةِ لِسُكُونِ غَضَبِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: أَخَذَ الْأَلْواحَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْأَلْوَاحُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْقَى الْأَلْواحَ [الأعراف: 15] وَظَاهِرُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا لَمْ يَنْكَسِرْ وَلَمْ يَبْطَلْ، وَأَنَّ الَّذِي قِيلَ مِنْ أَنَّ سِتَّةَ أَسْبَاعِ التَّوْرَاةِ رُفِعَتْ إِلَى السَّمَاءِ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَقَوْلُهُ: وَفِي نُسْخَتِها النَّسْخُ عِبَارَةٌ عَنِ النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ فَإِذَا كَتَبْتَ كِتَابًا عَنْ كِتَابٍ حَرْفًا بَعْدَ حَرْفٍ. قُلْتَ: نَسَخْتُ ذَلِكَ الْكِتَابَ، كَأَنَّكَ نَقَلْتَ مَا فِي الْأَصْلِ/ إِلَى الْكِتَابِ الثَّانِي. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا أَلْقَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْأَلْوَاحَ تَكَسَّرَتْ فَصَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَأَعَادَ اللَّه تَعَالَى الْأَلْوَاحَ وَفِيهَا عَيْنُ مَا فِي الْأُولَى، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَفِي نُسْخَتِها أَيْ وَفِيمَا نُسِخَ مِنْهَا. وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْأَلْوَاحَ لَمْ تَتَكَسَّرْ وأخذها موسى بأعيانها بعد ما أَلْقَاهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا كَانَتْ مَكْتُوبَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَهِيَ أَيْضًا تَكُونُ نَسْخًا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَقَوْلُهُ: هُدىً وَرَحْمَةٌ أَيْ هُدًى مِنَ الضَّلَالَةِ وَرَحْمَةٌ مِنَ الْعَذَابِ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ يُرِيدُ الْخَائِفِينَ مِنْ رَبِّهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: التَّقْدِيرُ لِلَّذِينِ يَرْهَبُونَ رَبَّهُمْ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِرَبِّهِمْ. قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَأْخِيرَ الْفِعْلِ عَنْ مَفْعُولِهِ يُكْسِبُهُ ضَعْفًا فَدَخَلَتِ اللَّامُ لِلتَّقْوِيَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يُوسُفَ: 43] الثَّانِي: أَنَّهَا لَامُ الْأَجْلِ وَالْمَعْنَى: لِلَّذِينِ هُمْ لِأَجْلِ رَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ لَا رِيَاءً ولا

[سورة الأعراف (7) : آية 155]

سُمْعَةً. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ يُزَادُ حَرْفُ الْجَرِّ فِي الْمَفْعُولِ، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا كَقَوْلِكَ قَرَأْتُ فِي السُّورَةِ وَقَرَأْتُ السُّورَةَ، وَأَلْقَى يَدَهُ وَأَلْقَى بِيَدِهِ، وَفِي الْقُرْآنِ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى [الْعَلَقِ: 14] وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ لِرَبِّهِمْ اللَّامُ صِلَةٌ وَتَأْكِيدٌ كقوله: رَدِفَ لَكُمْ وَقَدْ ذَكَرْنَا مِثْلَ هَذَا فِي قَوْلِهِ: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 73] . [سورة الأعراف (7) : آية 155] وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) [فِي قَوْلُهُ تَعَالَى وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ] فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الِاخْتِيَارُ: افْتِعَالٌ مِنْ لَفْظِ الْخَيْرِ يُقَالُ: اخْتَارَ الشَّيْءَ إِذَا أَخَذَ خَيْرَهُ وَخِيَارَهُ، وَأَصْلُ اخْتَارَ: اخْتَيَرَ، فَلَمَّا تَحَرَّكَتِ الْيَاءُ وَقَبْلَهَا فَتْحَةٌ قُلِبَتْ أَلِفًا نَحْوَ قَالَ وَبَاعَ، وَلِهَذَا السَّبَبِ اسْتَوَى لَفْظُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ فَقِيلَ فِيهِمَا، مُخْتَارٌ، وَالْأَصْلُ مُخْتَيِرٌ وَمُخْتَيَرٌ فَقُلِبَتِ الْيَاءُ فِيهِمَا أَلِفًا فَاسْتَوَيَا فِي/ اللَّفْظِ. وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْأَعْضَاءَ السَّلِيمَةَ بِحَسَبِ سَلَامَتِهَا الْأَصْلِيَّةِ صَالِحَةٌ لِلْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَصَالِحَةٌ لِلْفِعْلِ وَلِضِدِّهِ، وَمَا دَامَ يَبْقَى عَلَى هَذَا الِاسْتِوَاءِ امْتَنَعَ أَنْ يَصِيرَ مَصْدَرًا لِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الثَّانِي، وَإِلَّا لَزِمَ رُجْحَانُ الْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، فَإِذَا حَكَمَ الْإِنْسَانُ بِأَنَّ لَهُ فِي الْفِعْلِ نَفْعًا زَائِدًا وَصَلَاحًا رَاجِحًا، فَقَدْ حَكَمَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْجَانِبَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ضِدِّهِ. فَعِنْدَ حُصُولِ هَذَا الِاعْتِقَادِ فِي الْقَلْبِ يَصِيرُ الْفِعْلُ رَاجِحًا عَلَى التَّرْكِ، فَلَوْلَا الْحُكَمُ بِكَوْنِ ذَلِكَ الطَّرَفِ خَيْرًا مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ امْتَنَعَ أَنْ يَصِيرَ فَاعِلًا، فَلَمَّا كَانَ صُدُورُ الْفِعْلِ عَنِ الْحَيَوَانِ مَوْقُوفًا عَلَى حُكْمِهِ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْفِعْلِ خَيْرًا من تركه، لا جَرَمَ سُمِّيَ الْفِعْلُ الْحَيَوَانِيُّ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا. واللَّه أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقْتُلُ نَفْسَهُ مِنْ شَاهِقِ جَبَلٍ مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الْخَيْرَاتِ بَلْ مِنَ الشُّرُورِ. فَنَقُولُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقْدِمُ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقَتْلِ يَتَخَلَّصُ عَنْ ضَرَرٍ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ الْقَتْلِ، وَالضَّرَرُ الْأَسْهَلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الضَّرَرِ الْأَعْظَمِ يَكُونُ خَيْرًا لَا شَرًّا. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ جَمَاعَةُ النَّحْوِيِّينَ: مَعْنَاهُ وَاخْتَارَ مُوسَى مِنْ قَوْمِهِ سَبْعِينَ. فَحُذِفَتْ كَلِمَةُ «مِنْ» وَوُصِلَ الْفِعْلُ فنسب، يُقَالُ: اخْتَرْتُ مِنَ الرِّجَالِ زَيْدًا وَاخْتَرْتُ الرِّجَالَ زَيْدًا، وَأَنْشَدُوا قَوْلَ الْفَرَزْدَقِ: وَمِنَّا الَّذِي اخْتَارَ الرِّجَالَ سَمَاحَةً وَجُودًا إِذَا هَبَّ الرِّيَاحُ الزُّعَازِعُ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ مِنَ الْأَفْعَالِ مَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِحَرْفٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يُتَّسَعُ فَيُحْذَفُ حَرْفُ الْجَرِّ فَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُكَ اخْتَرْتُ مِنَ الرِّجَالِ زَيْدًا ثُمَّ يُتَّسَعُ فَيُقَالُ اخْتَرْتُ الرِّجَالَ زَيْدًا وَقَوْلُكَ أَسْتَغْفِرُ اللَّه مِنْ ذَنْبِي وَأَسْتَغْفِرُ اللَّه ذَنْبِي قَالَ الشَّاعِرُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّه ذَنْبًا لَسْتُ أُحْصِيهِ وَيُقَالُ أَمَرْتُ زَيْدًا بِالْخَيْرِ وَأَمَرْتُ زَيْدًا الْخَيْرَ قَالَ الشاعر:

أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ واللَّه أَعْلَمُ. وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ لِمِيقَاتِنَا وَأَرَادَ بِقَوْمِهِ الْمُعْتَبِرِينَ مِنْهُمْ إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْجِنْسِ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُمْ وَقَوْلُهُ: سَبْعِينَ رَجُلًا عَطْفُ بَيَانٍ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّكَلُّفَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اخْتَارَ مِنْ قَوْمِهِ اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا مِنْ كُلِّ سِبْطٍ سِتَّةً، فَصَارُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، فَقَالَ لِيَتَخَلَّفْ مِنْكُمْ رَجُلَانِ فَتَشَاجَرُوا، فَقَالَ إِنَّ لِمَنْ قَعَدَ مِنْكُمْ مِثْلَ أَجْرِ/ مَنْ خَرَجَ، فَقَعَدَ كَالِبٌ وَيُوشَعُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ إِلَّا سِتِّينَ شَيْخًا، فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ مِنَ الشُّبَّانِ عَشَرَةً فَاخْتَارَهُمْ فَأَصْبَحُوا شُيُوخًا فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَصُومُوا وَيَتَطَهَّرُوا، وَيُطَهِّرُوا ثِيَابَهُمْ ثُمَّ خَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمِيقَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذَا الِاخْتِيَارُ هَلْ هُوَ لِلْخُرُوجِ إِلَى الْمِيقَاتِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّه تَعَالَى مُوسَى فِيهِ وَسَأَلَ مُوسَى مِنَ اللَّه الرُّؤْيَةَ أَوْ هُوَ لِلْخُرُوجِ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ لِلْمُفَسِّرِينَ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّهُ لِمِيقَاتِ الْكَلَامِ وَالرُّؤْيَةِ قَالُوا: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ بِهَؤُلَاءِ السَّبْعِينَ إِلَى طُورِ سَيْنَاءَ، فَلَمَّا دَنَا مُوسَى مِنَ الْجَبَلِ وَقَعَ عَلَيْهِ عَمُودٌ مِنَ الْغَمَامِ، حَتَّى أَحَاطَ بِالْجَبَلِ كُلِّهِ وَدَنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَدَخَلَ فِيهِ، وَقَالَ لِلْقَوْمِ: ادْنُوا، فَدَنَوْا، حَتَّى إِذَا دَخَلُوا الْغَمَامَ وَقَعُوا سُجَّدًا، فَسَمِعُوهُ وَهُوَ يُكَلِّمُ مُوسَى يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ. ثُمَّ انْكَشَفَ الْغَمَامُ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ فَطَلَبُوا الرؤية وقالوا يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ [الْبَقَرَةِ: 55] وَهِيَ الْمُرَادُ مِنَ الرَّجْفَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا فَالْمُرَادُ منه قولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْمِيقَاتِ مِيقَاتٌ مُغَايِرٌ لِمِيقَاتِ الْكَلَامِ وَطَلَبِ الرُّؤْيَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعِينَ وَإِنْ كَانُوا مَا عَبَدُوا الْعِجْلَ إِلَّا أَنَّهُمْ مَا فَارَقُوا عَبَدَةَ الْعِجْلِ عِنْدَ اشْتِغَالِهِمْ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ مَا بَالَغُوا فِي النَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا خَرَجُوا إِلَى الْمِيقَاتِ لِيَتُوبُوا دَعَوْا رَبَّهُمْ وَقَالُوا أَعْطِنَا مَا لَمْ تُعْطِهِ أَحَدًا قَبْلَنَا، وَلَا تُعْطِيهِ أَحَدًا بَعْدَنَا، فَأَنْكَرَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الْكَلَامَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ بِأُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قِصَّةَ مِيقَاتِ الْكَلَامِ وَطَلَبِ الرُّؤْيَةِ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِذِكْرِ قِصَّةِ الْعِجْلِ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَظَاهِرُ الْحَالِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْقِصَّةُ مُغَايِرَةً لِلْقِصَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي لَا يُنْكَرُ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَوْدًا إِلَى تَتِمَّةِ الْكَلَامِ فِي الْقِصَّةِ الْأَوْلَى إِلَّا أَنَّ الْأَلْيَقَ بِالْفَصَاحَةِ إِتْمَامُ الكلام في القصة الواحدة في موضع وَاحِدٍ. ثُمَّ الِانْتِقَالُ مِنْهَا بَعْدَ تَمَامِهَا إِلَى غيرها، فأما ما ذِكْرُ بَعْضِ الْقِصَّةِ، ثُمَّ الِانْتِقَالُ مِنْهَا إِلَى قِصَّةٍ أُخْرَى، ثُمَّ الِانْتِقَالُ مِنْهَا بَعْدَ تَمَامِهَا إِلَى بَقِيَّةِ الْكَلَامِ فِي الْقِصَّةِ الْأُولَى، فَإِنَّهُ يُوجِبُ نَوْعًا مِنَ الْخَبْطِ وَالِاضْطِرَابِ، وَالْأَوْلَى صَوْنُ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ. الثَّانِي: أَنَّ فِي مِيقَاتِ الْكَلَامِ وَطَلَبِ الرُّؤْيَةِ لَمْ يَظْهَرْ هُنَاكَ منكر، إلا أنهم قالوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَلَوْ كَانَتِ الرَّجْفَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقَوْلِ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: أَتُهْلِكُنَا بِمَا يَقُولُهُ السُّفَهَاءُ مِنَّا؟ فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ مُوسَى كَذَلِكَ بَلْ قَالَ: أَتُهْلِكُنا بِما/ فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الرَّجْفَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ لَا بِسَبَبِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى طَلَبِ الرُّؤْيَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ فِي مِيقَاتِ الْكَلَامِ وَالرُّؤْيَةِ أَنَّهُ خَرَّ موسى صعقاً

وَأَنَّهُ جَعَلَ الْجَبَلَ دَكًّا، وَأَمَّا الْمِيقَاتُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ الْقَوْمَ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ موسى عليه السلام أَخَذَتْهُ الرَّجْفَةُ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ؟ وَاخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْمِيقَاتَيْنِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ يُفِيدُ ظَنَّ أَنَّ أَحَدَهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذَا الْمِيقَاتَ هُوَ مِيقَاتُ الْكَلَامِ وَطَلَبِ الرُّؤْيَةِ بِأَنْ قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا [الْأَعْرَافِ: 143] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْمِيقَاتِ مَخْصُوصٌ بِذَلِكَ الْمِيقَاتِ، فَلَمَّا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْمِيقَاتِ هُوَ عَيْنُ ذَلِكَ الْمِيقَاتِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ ضَعِيفٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوُجُوهَ الْمَذْكُورَةَ فِي تَقْوِيَةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَقْوَى. واللَّه أَعْلَمُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْمِيقَاتِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ انْطَلَقَا إِلَى سَفْحِ جَبَلٍ، فَنَامَ هَارُونُ فَتَوَفَّاهُ اللَّه تَعَالَى، فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالُوا إِنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ هَارُونَ، فَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا وَذَهَبُوا إِلَى هَارُونَ فَأَحْيَاهُ اللَّه تَعَالَى وَقَالَ مَا قَتَلَنِي أَحَدٌ، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ هُنَالِكَ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الرَّجْفَةِ فَقِيلَ: إِنَّهَا رَجْفَةٌ أَوْجَبَتِ الْمَوْتَ. قَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ مُوسَى يَا رَبِّ كَيْفَ أَرْجِعُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَدْ أَهْلَكْتَ خِيَارَهُمْ وَلَمْ يَبْقَ مَعِي مِنْهُمْ وَاحِدٌ؟ فَمَاذَا أَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَيْفَ يَأْمَنُونِي عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَأَحْيَاهُمُ اللَّه تَعَالَى. فَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَافَ أَنْ يَتَّهِمَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى السَّبْعِينَ إِذَا عَادَ إِلَيْهِمْ وَلَمْ يُصَدِّقُوا أَنَّهُمْ مَاتُوا، فَقَالَ لِرَبِّهِ: لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَنَا قَبْلَ خُرُوجِنَا لِلْمِيقَاتِ، فَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يُعَايِنُونَ ذلك ولا يتهموني. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ تِلْكَ الرَّجْفَةَ مَا كَانَتْ مَوْتًا، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا رَأَوْا تِلْكَ الْحَالَةَ الْمَهِيبَةَ أَخَذَتْهُمُ الرِّعْدَةُ وَرَجَفُوا حَتَّى كَادَتْ تَبِينُ مِنْهُمْ مَفَاصِلُهُمْ، وَتَنْقَصِمُ ظُهُورُهُمْ، وَخَافَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَوْتَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ بَكَى وَدَعَا فَكَشَفَ اللَّه عَنْهُمْ تِلْكَ الرَّجْفَةَ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا فَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يُهْلِكُ قَوْمًا بِذُنُوبِ غَيْرِهِمْ، فَيَجِبُ تَأْوِيلُ الْآيَةِ، وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ/ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْجَحْدِ، وَأَرَادَ أَنَّكَ لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ. كَمَا تَقُولُ: أَتُهِينُ مَنْ يَخْدِمُكَ؟ أَيْ لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ. الثَّانِي: قَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ اسْتِفْهَامُ اسْتِعْطَافٍ، أَيْ لَا تُهْلِكْنَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: هِيَ عَائِدَةٌ إِلَى الْفِتْنَةِ كَمَا تَقُولُ: إِنْ هُوَ إِلَّا زَيْدٌ وَإِنْ هِيَ إِلَّا هِنْدُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ تِلْكَ الْفِتْنَةَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا السُّفَهَاءُ لَمْ تَكُنْ إِلَّا فِتْنَتُكَ أَضْلَلْتَ بِهَا قَوْمًا فَافْتَتَنُوا، وَعَصَمْتَ قَوْمًا عَنْهَا فَثَبَتُوا عَلَى الْحَقِّ، ثُمَّ أَكَّدَ بَيَانَ أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّه تَعَالَى، فَقَالَ: تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ ثم قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْحُجَجِ الظَّاهِرَةِ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الَّتِي لَا يَبْقَى لَهُمْ مَعَهَا عُذْرٌ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا تَعَلُّقَ لِلْجَبْرِيَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ مِنْ عِبَادِكَ عَنِ الدِّينِ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: تُضِلُّ بِها أَيْ بِالرَّجْفَةِ، وَمَعْلُومٌ أن الرجفة لا يضل اللَّه بِهَا، مَنْ تَشَاءُ مِنْ عِبَادِكَ عَنِ الدِّينِ، فوجب حمل هذا الْآيَةِ عَلَى التَّأْوِيلِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ فَالْمَعْنَى: امْتِحَانُكَ وَشِدَّةُ تَعَبُّدِكَ، لِأَنَّهُ لما أظهر الرجفة كلفهم بالصبر.

[سورة الأعراف (7) : آية 156]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: تَهْدِي بِهَذَا الِامْتِحَانِ إِلَى الْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ بِشَرْطِ أَنْ يُؤْمِنَ ذَلِكَ الْمُكَلَّفُ وَيَبْقَى عَلَى الْإِيمَانِ، وَتُعَاقِبُ مَنْ تَشَاءُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُؤْمِنَ، أَوْ إِنْ آمَنَ لَكِنْ لَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِضْلَالِ الْإِهْلَاكَ، وَالتَّقْدِيرُ: تُهْلِكُ مَنْ تَشَاءُ بِهَذِهِ الرَّجْفَةِ وَتَصْرِفُهَا عَمَّنْ تَشَاءُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا الِامْتِحَانُ كَالسَّبَبِ فِي هِدَايَةِ مَنِ اهْتَدَى، وَضَلَالِ مَنْ ضَلَّ، جَازَ أَنْ يُضَافَا إِلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ مُتَّسِعَةٌ، وَالدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَتَقْرِيرُهَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُدْرَةَ الصَّالِحَةَ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ لَا يَتَرَجَّحُ تَأْثِيرُهَا فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى تَأْثِيرِهَا فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ، إِلَّا لِأَجْلِ دَاعِيَةٍ مُرَجَّحَةٍ، وَخَالِقُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَعِنْدَ حُصُولِ تِلْكَ الداعية يجب الفعل وإذا ثبتت هذا الْمُقَدِّمَاتُ ثَبَتَ أَنَّ الْهِدَايَةَ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَأَنَّ الْإِضْلَالَ مِنَ اللَّه تَعَالَى. الثَّانِي: أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْعُقَلَاءِ لَا يُرِيدُ إِلَّا الْإِيمَانَ وَالْحَقَّ وَالصِّدْقَ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِاخْتِيَارِهِ وَقَصْدِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مُؤْمِنًا مُحِقًّا، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّه تَعَالَى. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُصُولُ الْهِدَايَةِ وَالْمَعْرِفَةِ بِفِعْلِ الْعَبْدِ فَمَا لَمْ يَتَمَيَّزْ عِنْدَهُ الِاعْتِقَادُ الْحَقُّ عَنِ الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ، امْتَنَعَ أَنْ يَخُصَّ أَحَدَ الِاعْتِقَادَيْنِ بِالتَّحْصِيلِ وَالتَّكْوِينِ، لَكِنَّ عِلْمَهُ بِأَنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ الْآخَرَ هُوَ الْبَاطِلُ، يَقْتَضِي كَوْنَهُ عَالِمًا بِذَلِكَ الْمُعْتَقَدِ أَوَّلًا كَمَا هُوَ عَلَيْهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْقُدْرَةُ عَلَى تَحْصِيلِ الِاعْتِقَادِ مَشْرُوطَةً بِكَوْنِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ حَاصِلًا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ الشَّيْءِ مَشْرُوطًا بِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ/ يَكُونَ حُصُولُ الْهِدَايَةِ وَالْعِلْمِ بِتَخْلِيقِ الْعَبْدِ، وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي إِبْطَالِ تِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ فَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ غَيْرَ مَرَّةٍ. واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتَ وَلِيُّنا يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا وَلِيَّ لَنَا وَلَا نَاصِرَ وَلَا هَادِيَ إِلَّا أَنْتَ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ: تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ وَقَوْلُهُ: فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى قَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ جَرَاءَةٌ عَظِيمَةٌ، فَطَلَبَ مِنَ اللَّه غُفْرَانَهَا وَالتَّجَاوُزَ عَنْهَا وَقَوْلُهُ: وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ سِوَاكَ فَإِنَّمَا يَتَجَاوَزُ عَنِ الذَّنْبِ إِمَّا طَلَبًا لِلثَّنَاءِ الْجَمِيلِ أَوْ لِلثَّوَابِ الْجَزِيلِ، أَوْ دَفْعًا لِلرِّبْقَةِ الْخَسِيسَةِ عَنِ الْقَلْبِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَذَلِكَ الْغُفْرَانُ يَكُونُ لِطَلَبِ نَفْعٍ أَوْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ، أَمَّا أَنْتَ فَتَغْفِرُ ذُنُوبَ عِبَادِكَ لَا لِطَلَبِ عِوَضٍ وَغَرَضٍ، بَلْ لِمَحْضِ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِكَوْنِهِ خَيْرُ الْغافِرِينَ واللَّه أعلم. [سورة الأعراف (7) : آية 156] وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ دُعَاءِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الرَّجْفَةِ. فَقَوْلُهُ: وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَرَّرَ أَوَّلًا أَنَّهُ لَا وَلِيَّ لَهُ إِلَّا اللَّه تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْتَ وَلِيُّنا ثُمَّ إِنَّ الْمُتَوَقَّعَ مِنَ الْوَلِيِّ وَالنَّاصِرِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: دَفْعُ الضَّرَرِ. وَالثَّانِي: تَحْصِيلُ النَّفْعِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ مُقَدَّمٌ عَلَى تَحْصِيلِ النَّفْعِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ بَدَأَ بِطَلَبِ دَفْعِ الضَّرَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِطَلَبِ تَحْصِيلِ النَّفْعِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ وَقَوْلُهُ: وَاكْتُبْ أي وجب لَنَا وَالْكِتَابَةُ تُذْكَرُ بِمَعْنَى الْإِيجَابِ وَسُؤَالُهُ الْحَسَنَةَ في

[سورة الأعراف (7) : آية 157]

الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَسُؤَالِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ حَيْثُ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [الْبَقَرَةِ: 201] . وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى وَلِيًّا لِلْعَبْدِ يُنَاسِبُ أَنْ يَطْلُبَ الْعَبْدُ مِنْهُ دَفْعَ الْمَضَارِّ وَتَحْصِيلَ الْمَنَافِعِ لِيُظْهِرَ آثَارَ كَرَمِهِ وَفَضْلِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ، وَأَيْضًا اشْتِغَالُ الْعَبْدِ بِالتَّوْبَةِ وَالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ يُنَاسِبُ طَلَبَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَذَكَرَ السَّبَبَ الْأَوَّلَ أَوَّلًا، وَهُوَ كَوْنُهُ تَعَالَى وَلِيًّا لَهُ وَفَرَّعَ عَلَيْهِ طَلَبَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ السَّبَبَ الثَّانِيَ، وَهُوَ اشْتِغَالُ الْعَبْدِ بِالتَّوْبَةِ وَالْخُضُوعِ فَقَالَ: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُدْنا أَيْ تُبْنَا وَرَجَعْنَا إِلَيْكَ، قَالَ اللَّيْثُ: «الْهَوْدُ» التَّوْبَةُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا السَّبَبَ أَيْضًا لِأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي يَقْتَضِي حُسْنَ طَلَبِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ إِلَّا مَجْمُوعَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ كَوْنُهُ إِلَهًا وَرَبًّا وَوَلِيًّا، وَكَوْنُنَا عَبِيدًا لَهُ تَائِبِينَ خَاضِعِينَ خَاشِعِينَ، فَالْأَوَّلُ: عَهْدُ عِزَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَالثَّانِي: عَهْدُ ذِلَّةِ الْعُبُودِيَّةِ، فَإِذَا حَصَلَا وَاجْتَمَعَا فَلَا سَبَبَ أَقْوَى مِنْهُمَا. وَلَمَّا حَكَى اللَّه تَعَالَى دُعَاءَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا كَانَ جَوَابًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فقال تعالى قَالَ: عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ مَعْنَاهُ أَنِّي أُعَذِّبُ مَنْ أَشَاءُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيَّ اعْتِرَاضٌ لِأَنَّ الْكُلَّ مِلْكِي، وَمَنْ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ مَنْ أَسَاءَ مِنَ الْإِسَاءَةِ، وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ وَقَوْلُهُ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ. قِيلَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ هُوَ أَنَّ رَحْمَتَهُ فِي الدُّنْيَا عَمَّتِ الْكُلَّ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَقِيلَ: الْوُجُودُ خَيْرٌ مِنَ الْعَدَمِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا مَوْجُودَ إِلَّا وقد وصل إليه. رحمته وأقل المراتب وجوده،. قيل الْخَيْرُ مَطْلُوبٌ بِالذَّاتِ، وَالشَّرُّ مَطْلُوبٌ بِالْعَرَضِ وَمَا بِالذَّاتِ رَاجِحٌ غَالِبٌ، وَمَا بِالْعَرَضِ مَرْجُوحٌ مَغْلُوبٌ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الرَّحْمَةُ عِبَارَةٌ عَنْ إِرَادَةِ الْخَيْرِ، وَلَا حَيَّ إِلَّا وَقَدْ خَلَقَهُ اللَّه تَعَالَى لِلرَّحْمَةِ وَاللَّذَّةِ وَالْخَيْرِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُنْتَفِعًا أَوْ مُتَمَكِّنًا مِنَ الِانْتِفَاعِ فَهُوَ بِرَحْمَةِ اللَّه مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ وَإِنْ حَصَلَ هُنَاكَ أَلَمٌ فَلَهُ الْأَعْوَاضُ الْكَثِيرَةُ، وَهِيَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّه تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وَقَالَ أَصْحَابُنَا قَوْلُهُ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، كَقَوْلِهِ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْلِ: 23] . أَمَّا قَوْلُهُ: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ فَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ تَكَالِيفِ اللَّه مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ: الْأَوَّلُ: التُّرُوكُ، وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ تَرْكُهَا، وَالِاحْتِرَازُ عَنْهَا وَالِاتِّقَاءُ مِنْهَا، وَهَذَا النَّوْعُ إِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَالثَّانِي: الْأَفْعَالُ وَتِلْكَ التَّكَالِيفُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَوَجِّهَةً عَلَى مَالِ الْإِنْسَانِ أَوْ عَلَى نَفْسِهِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ الزَّكَاةُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ عِلْمًا وَعَمَلًا أَمَّا الْعِلْمُ فَالْمَعْرِفَةُ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَالْعَمَلُ بِالْأَرْكَانِ وَيَدْخُلُ فِيهَا الصَّلَاةُ وَإِلَى هَذَا الْمَجْمُوعِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 2، 3] . [سورة الأعراف (7) : آية 157] الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ مِنْ صِفَةِ مَنْ تُكْتَبُ لَهُ الرَّحْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ التَّقْوَى وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَالْإِيمَانَ بِالْآيَاتِ، ضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَتِهِ اتِّبَاعُ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنْ يَتَّبِعُوهُ بِاعْتِقَادِ نُبُوَّتِهِ مِنْ حَيْثُ وَجَدُوا صِفَتَهُ فِي التَّوْرَاةِ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّبِعُوهُ فِي شَرَائِعِهِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ إِلَى الْخَلْقِ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: وَالْإِنْجِيلِ إِنَّ الْمُرَادَ سَيَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا فِي الْإِنْجِيلِ، لِأَنَّ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَجِدُوهُ فِيهِ قَبْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّه الْإِنْجِيلَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْمُرَادُ مَنْ لَحِقَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيَّامَ الرَّسُولِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ اللَّاحِقِينَ لَا يَكْتُبُ لَهُمْ رَحْمَةَ الْآخِرَةِ إِلَّا إِذَا اتَّبَعُوا الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَقْرَبُ، لِأَنَّ اتِّبَاعَهُ قَبْلَ أَنْ بُعِثَ وَوُجِدَ لَا يُمْكِنُ. فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ الرَّحْمَةَ لَا يَفُوزُ بِهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَنِ اتَّقَى وَآتَى الزَّكَاةَ وَآمَنَ بِالدَّلَائِلِ فِي زَمَنِ مُوسَى، وَمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فِي أَيَّامِ الرَّسُولِ إِذَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ مُتَبِّعًا لِلنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ فِي شَرَائِعِهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِصِفَاتٍ تِسْعٍ. الصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُ رَسُولًا، وَقَدِ اخْتَصَّ هَذَا اللَّفْظُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ بِمَنْ أَرْسَلَهُ اللَّه إِلَى الْخَلْقِ لِتَبْلِيغِ التَّكَالِيفِ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُ نَبِيًّا، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ رَفِيعَ الْقَدْرِ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: كَوْنُهُ أُمِّيًّا. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى الْأُمِّيَّ الَّذِي هُوَ عَلَى صِفَةِ أُمَّةِ الْعَرَبِ. قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ» فَالْعَرَبُ أَكْثَرُهُمْ مَا كَانُوا يَكْتُبُونَ وَلَا يَقْرَءُونَ وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ كَذَلِكَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ أُمِّيًّا. قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ وَكَوْنُهُ أُمِّيًّا بِهَذَا التَّفْسِيرِ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مُعْجِزَاتِهِ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ كِتَابَ اللَّه تَعَالَى مَنْظُومًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ تَبْدِيلِ أَلْفَاظِهِ وَلَا تَغْيِيرِ كَلِمَاتِهِ وَالْخَطِيبُ مِنَ الْعَرَبِ إِذَا ارْتَجَلَ خُطْبَةً ثُمَّ أَعَادَهَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُزِيدَ فِيهَا وَأَنْ يُنْقِصَ عَنْهَا بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ أَنَّهُ مَا كَانَ يَكْتُبُ وَمَا كَانَ يَقْرَأُ يَتْلُو كِتَابَ اللَّه مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَلَا تَغْيِيرٍ. فَكَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الْأَعْلَى: 6] وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ يُحْسِنُ الْخَطَّ وَالْقِرَاءَةَ لَصَارَ مُتَّهَمًا فِي أَنَّهُ رُبَّمَا طَالَعَ كُتُبَ الْأَوَّلِينَ فَحَصَّلَ هَذِهِ الْعُلُومَ مِنْ تِلْكَ الْمُطَالَعَةِ فَلَمَّا أَتَى بِهَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ وَلَا مُطَالَعَةٍ، كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَهَذَا هُوَ المراد من قوله: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: 48] الثَّالِثُ: أَنَّ تَعَلُّمَ الْخَطِّ شَيْءٌ سَهْلٌ فَإِنَّ أَقَلَّ النَّاسِ ذَكَاءً وَفِطْنَةً يَتَعَلَّمُونَ الْخَطَّ بِأَدْنَى سَعْيٍ، فَعَدَمُ تَعَلُّمِهِ يَدُلُّ عَلَى نُقْصَانٍ عَظِيمٍ فِي الْفَهْمِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى آتَاهُ عُلُومَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ وَأَعْطَاهُ مِنَ الْعُلُومِ وَالْحَقَائِقِ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ، وَمَعَ تِلْكَ الْقُوَّةِ الْعَظِيمَةِ فِي الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ جَعَلَهُ بِحَيْثُ لَمْ يَتَعَلَّمِ الْخَطَّ الَّذِي يَسْهُلُ تَعَلُّمُهُ عَلَى أَقَلِّ الْخَلْقِ عَقْلًا وَفَهْمًا، فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ

الْمُتَضَادَّتَيْنِ جَارِيًا مَجْرَى الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ وَجَارٍ مَجْرَى الْمُعْجِزَاتِ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَعْتَهُ وَصِحَّةَ نُبُوَّتِهِ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا لَكَانَ ذِكْرُ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنَفِّرَاتِ لليهود النصارى عَنْ قَبُولِ قَوْلِهِ، لِأَنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الْكَذِبِ والبهتان من أعظم النفرات، وَالْعَاقِلُ لَا يَسْعَى فِيمَا يُوجِبُ نُقْصَانَ حَالِهِ، وَيُنَفِّرُ النَّاسَ عَنْ قَبُولِ قَوْلِهِ: فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ النَّعْتَ كَانَ مَذْكُورًا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ اسْتِئْنَافًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَأَقُولُ مَجَامِعُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ مَحْصُورَةٌ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّه وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّه» وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَإِمَّا مُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ. أَمَّا الْوَاجِبُ لِذَاتِهِ فَهُوَ اللَّه جَلَّ جَلَالُهُ، وَلَا مَعْرُوفَ أَشْرَفُ مِنْ تَعْظِيمِهِ وَإِظْهَارِ عُبُودِيَّتِهِ وَإِظْهَارِ الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ عَلَى بَابِ عِزَّتِهِ وَالِاعْتِرَافِ بِكَوْنِهِ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مُبَرَّأً عَنِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ مُنَزَّهًا عَنِ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ، وَأَمَّا الْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَيَوَانًا، فَلَا سَبِيلَ إِلَى إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَيْهِ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ مَشْرُوطٌ بالحياة، ومع هذا فإن يَجِبُ النَّظَرُ إِلَى كُلِّهَا بِعَيْنِ التَّعْظِيمِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ للَّه تَعَالَى، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ الْمَخْلُوقَاتِ لَمَّا كَانَتْ دَلِيلًا قَاهِرًا وَبُرْهَانًا بَاهِرًا عَلَى تَوْحِيدِهِ وَتَنْزِيهِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ النَّظَرُ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الِاحْتِرَامِ. ومن حيث أن اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ الْمَخْلُوقَاتِ أسراراً عجيبة وحكماً خفية فيحب النَّظَرُ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الِاحْتِرَامِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ مِنْ جِنْسِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ يَجِبُ إِظْهَارُ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِ بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ وَبَثُّ الْمَعْرُوفِ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّه وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّه» كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ جِهَاتِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ. الصِّفَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَضْدَادُ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ، وَالْقَوْلُ فِي صِفَاتِ اللَّه بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَالْكُفْرُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى النَّبِيِّينَ، وَقَطْعُ الرَّحِمِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ. الصِّفَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالطَّيِّبَاتِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي حَكَمَ اللَّه بِحِلِّهَا وَهَذَا بِعِيدٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تصير الآية ويحل لهم المحللات وهذ مَحْضُ التَّكْرِيرِ. الثَّانِي: أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَخْرُجُ الْآيَةُ عَنِ الْفَائِدَةِ، لِأَنَّا لَا نَدْرِي أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّه مَا هِيَ وَكَمْ هِيَ؟ بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الْأَشْيَاءَ الْمُسْتَطَابَةَ بِحَسَبِ الطَّبْعِ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَنَاوُلَهَا يُفِيدُ اللَّذَّةَ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَنَافِعِ الْحِلُّ فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مَا تَسْتَطِيبُهُ النَّفْسُ وَيَسْتَلِذُّهُ الطَّبْعُ الْحِلُّ إِلَّا لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. الصِّفَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يُرِيدُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَمَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكُمْ فِسْقٌ وَأَقُولُ: كُلُّ مَا يَسْتَخْبِثُهُ الطَّبْعُ وَتَسْتَقْذِرُهُ النَّفْسُ كَانَ تَنَاوُلُهُ سَبَبًا لِلْأَلَمِ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ، فَكَانَ مُقْتَضَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا يَسْتَخْبِثُهُ الطَّبْعُ فَالْأَصْلُ فِيهِ/ الْحُرْمَةُ إِلَّا لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ: فَرَّعَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه تَحْرِيمَ بَيْعِ الْكَلْبِ، لِأَنَّهُ رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه سلم

[سورة الأعراف (7) : آية 158]

فِي كِتَابِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: «الْكَلْبُ خَبِيثٌ، وَخَبِيثٌ ثَمَنُهُ» وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ثَمَنَهُ خَبِيثٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَأَيْضًا الْخَمْرُ مُحَرَّمَةٌ لِأَنَّهَا رِجْسٌ بدليل قوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إِلَى قَوْلِهِ: رِجْسٌ [الْمَائِدَةِ: 90] وَالرِّجْسُ خَبِيثٌ بِدَلِيلِ إِطْبَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَيْهِ، وَالْخَبِيثُ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ. الصِّفَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحْدَهُ (آصَارَهُمْ) عَلَى الْجَمْعِ، وَالْبَاقُونَ إِصْرَهُمْ عَلَى الْوَاحِدِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْإِصْرُ مَصْدَرٌ يَقَعُ عَلَى الْكَثْرَةِ مَعَ إِفْرَادِ لَفْظِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إِضَافَتُهُ، وَهُوَ مُفْرَدٌ إِلَى الْكَثْرَةِ، كَمَا قَالَ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 20] وَمَنْ جَمَعَ، أَرَادَ ضُرُوبًا مِنَ الْعُهُودِ مُخْتَلِفَةً، وَالْمَصَادِرُ قَدْ تُجْمَعُ إِذَا اخْتَلَفَتْ ضُرُوبُهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الْأَحْزَابِ: 10] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِصْرُ الثِّقَلُ الَّذِي يَأْصِرُ صَاحِبَهُ، أَيْ يَحْبِسُهُ مِنَ الْحَرَاكِ لِثِقَلِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ: أَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ شَدِيدَةً. وَقَوْلُهُ: وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ الْمُرَادُ مِنْهُ: الشَّدَائِدُ الَّتِي كَانَتْ فِي عِبَادَاتِهِمْ كَقَطْعِ أَثَرِ الْبَوْلِ، وَقَتْلِ النَّفْسِ فِي التَّوْبَةِ، وَقَطْعِ الأعضاء الخاطئة، وتتبع العروف مِنَ اللَّحْمِ وَجَعَلَهَا اللَّه أَغْلَالًا، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَمْنَعُ مِنَ الْفِعْلِ، كَمَا أَنَّ الْغِلَّ يَمْنَعُ عَنِ الْفِعْلِ، وَقِيلَ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا قَامَتْ إِلَى الصَّلَاةِ لَبِسُوا الْمُسُوحَ، وَغَلُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ تَوَاضُعًا للَّه تَعَالَى، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْأَغْلَالُ غَيْرُ مُسْتَعَارَةٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأصل في المضار أَنْ لَا تَكُونَ مَشْرُوعَةً، لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ ضَرَرًا كَانَ إِصْرًا وَغِلًّا، وَظَاهِرُ هَذَا النَّصِّ يَقْتَضِي عَدَمَ الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَهَذَا نَظِيرٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» فِي الْإِسْلَامِ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ» وَهُوَ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا وَصَفَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ التِّسْعِ. قَالَ بَعْدَهُ: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي مِنَ الْيَهُودِ وَعَزَّرُوهُ يَعْنِي وَقَّرُوهُ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَصْلُ التَّعْزِيرِ الْمَنْعُ وَمِنْهُ التَّعْزِيرُ وَهُوَ الضَّرْبُ، دُونَ الْحَدِّ، لِأَنَّهُ مَنْعٌ مِنْ مُعَاوَدَةِ الْقَبِيحِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَنَصَرُوهُ أَيْ عَلَى عَدُوِّهِ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَقِيلَ الْهُدَى وَالْبَيَانُ وَالرِّسَالَةُ. وَقِيلَ الْحَقُّ الَّذِي بَيَانُهُ فِي الْقُلُوبِ كَبَيَانِ النُّورِ. فَإِنْ قيل: كيف يمكن حمل النور هاهنا عَلَى الْقُرْآنِ؟ وَالْقُرْآنُ مَا أُنْزِلَ مَعَ مُحَمَّدٍ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَ مَعَ جِبْرِيلَ. قُلْنَا: مَعْنَاهُ إِنَّهُ أُنْزِلَ مَعَ نُبُوَّتِهِ لِأَنَّ نُبُوَّتَهُ ظَهَرَتْ مَعَ ظُهُورِ الْقُرْآنِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الصِّفَاتِ قَالَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيْ هم الفائزون بالمطلوب في الدنيا والآخرة. [سورة الأعراف (7) : آية 158] قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ حُصُولِ الرَّحْمَةِ لِأُولَئِكَ الْمُتَّقِينَ، كَوْنَهُمْ مُتَّبِعِينَ لِلرَّسُولِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، حَقَّقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رِسَالَتَهُ إلى الخلق بالكلية. فقال: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً وَفِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ. وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُمُ الْعِيسَوِيَّةُ وَهُمْ أَتْبَاعُ عِيسَى الْأَصْفَهَانِيِّ: إِنَّ مُحَمَّدًا رَسُولٌ صَادِقٌ مَبْعُوثٌ إِلَى الْعَرَبِ. وَغَيْرُ مَبْعُوثٍ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَدَلِيلُنَا عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ هَذِهِ الآية. لأن قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ خِطَابٌ يَتَنَاوَلُ كُلَّ النَّاسِ. ثُمَّ قَالَ: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ مَبْعُوثًا إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، وَأَيْضًا فَمَا يُعْلَمُ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ دِينِهِ، أَنَّهُ كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ. فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ رَسُولًا حَقًّا أَوْ مَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ رَسُولًا حَقًّا، امْتَنَعَ الْكَذِبُ عَلَيْهِ. وَوَجَبَ الْجَزْمُ بِكَوْنِهِ صَادِقًا فِي كُلِّ مَا يَدَّعِيهِ، فَلَمَّا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ وَبِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ كَانَ يَدَّعِي كَوْنَهُ مَبْعُوثًا إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ وَجَبَ كَوْنُهُ صَادِقًا فِي هَذَا الْقَوْلِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْعَرَبِ فَقَطْ، لَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إِنَّهُ مَا كَانَ رَسُولًا حَقًّا، فَهَذَا يَقْتَضِي الْقَدْحَ فِي كَوْنِهِ رَسُولًا إِلَى الْعَرَبِ وَإِلَى غَيْرِهِمْ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ رَسُولٌ إِلَى بَعْضِ الْخَلْقِ دُونَ بَعْضٍ كَلَامٌ بَاطِلٌ مُتَنَاقِضٌ. إِذَا ثبت هذا فنقول: قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ عَامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، أَمَّا الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا: إِنَّهُ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رَسُولٌ إِلَى النَّاسِ إِذَا كَانُوا مِنْ جُمْلَةِ الْمُكَلَّفِينَ فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ جُمْلَةِ الْمُكَلَّفِينَ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ» والثاني: أَنَّهُ رَسُولُ اللَّه إِلَى كُلِّ مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ خَبَرُ وُجُودِهِ وَخَبَرُ مُعْجِزَاتِهِ وَشَرَائِعِهِ، حَتَّى يُمْكِنَهُ عِنْدَ ذَلِكَ مُتَابَعَتُهُ، أَمَّا لَوْ قَدَّرْنَا حُصُولَ قَوْمٍ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ الْعَالَمِ لم يبلغهم خبر وجوده ولا خبر مُعْجِزَاتِهِ، فَهُمْ لَا يَكُونُونَ مُكَلَّفِينَ بِالْإِقْرَارِ بِنُبُوَّتِهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ الْقَوْلَ بِدُخُولِ التَّخْصِيصِ فِي الْآيَةِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: أَمَّا الْأَوَّلُ: فتقريره أن قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ خِطَابٌ وَهَذَا الْخِطَابُ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْمُكَلَّفِينَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالنَّاسُ الَّذِينَ دَخَلُوا تحت قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ لَيْسُوا إِلَّا الْمُكَلَّفِينَ مِنَ النَّاسِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ عَامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ يَبْعُدُ جِدًّا أَنْ يُقَالَ: حَصَلَ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ الْأَرْضِ قَوْمٌ لَمْ يَبْلُغْهُمْ خَبَرُ ظُهُورِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَخَبَرُ مُعْجِزَاتِهِ وَشَرَائِعِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَالْمُسْتَبْعَدِ لَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إِلَى الْتِزَامِ هَذَا التَّخْصِيصِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَبْعُوثٌ إِلَى كُلِّ الْخَلْقِ فَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَا كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى كُلِّ الْخَلْقِ، بَلْ يَجِبُ الرُّجُوعُ فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى كُلِّ الْخَلْقِ أَمْ لَا؟ إِلَى سَائِرِ الدَّلَائِلِ. فَنَقُولُ: تَمَسَّكَ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ

أَحَدًا غَيْرَهُ مَا كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى كُلِّ الْخَلْقِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي، أُرْسِلْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَنُصِرْتُ عَلَى عَدُوِّي بِالرُّعْبِ يُرْعَبُ مِنِّي مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَأُطْعِمْتُ الْغَنِيمَةَ دُونَ مَنْ قَبْلِي. وَقِيلَ لِي سَلْ تُعْطَهُ فَاخْتَبَأْتُهَا شَفَاعَةً لِأُمَّتِي» . وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْخَبَرُ لَا يَتَنَاوَلُ دَلَالَتَهُ عَلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ، لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْخَمْسَةِ مِنْ خَوَاصِّ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ سِوَاهُ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ كَوْنِ هَذَا الْمَجْمُوعِ مِنْ خَوَاصِّهِ كَوْنُ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ هَذَا الْمَجْمُوعِ مِنْ خَوَاصِّهِ، وَأَيْضًا قِيلَ إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى جَمِيعِ أَوْلَادِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَدْ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، وَإِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا خَرَجَ مِنَ السَّفِينَةِ، كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ، مَعَ أَنَّ جَمِيعَ/ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَا كَانَ إِلَّا ذَلِكَ الْقَوْمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [إلى قوله وَاتَّبِعُوهُ] فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ إِنِّي رَسُولُ اللَّه إِلَيْكُمْ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَى. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى لَا تَتِمُّ وَلَا تَظْهَرُ فَائِدَتُهَا إِلَّا بِتَقْرِيرِ أُصُولٍ أَرْبَعَةٍ. الْأَصْلُ الْأَوَّلُ: إِثْبَاتُ أَنَّ لِلْعَالَمِ إِلَهًا حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وذلك لأن أجسام السموات وَالْأَرْضِ، تَدُلُّ عَلَى افْتِقَارِهَا إِلَى الصَّانِعِ الْحَيِّ الْعَالِمِ الْقَادِرِ، مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَشَرْحُهَا وَتَقْرِيرُهَا مَذْكُورٌ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ، وَإِنَّمَا افْتَقَرْنَا فِي حُسْنِ التَّكْلِيفِ وَبَعْثَةِ الرُّسُلِ إِلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْأَصْلِ، لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَحْصُلَ لِلْعَالَمِ مُؤَثِّرٌ يُؤَثِّرُ فِي وُجُودِهِ، أَوْ إِنْ حَصَلَ لَهُ مُؤَثِّرٌ، لَكِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُؤَثِّرُ مُوجِبًا بِالذَّاتِ لَا فَاعِلًا بِالِاخْتِيَارِ لَمْ يَكُنِ الْقَوْلُ بِبَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مُمْكِنًا. وَالْأَصْلُ الثَّانِي: إِثْبَاتُ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ مُنَزَّهٌ عَنِ الشَّرِيكِ وَالضِّدِّ وَالنِّدِّ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَإِنَّمَا افْتَقَرْنَا فِي حُسْنِ التَّكْلِيفِ وَجَوَازِ بَعْثَةِ الرُّسُلِ إِلَى تَقْرِيرِ هَذَا الْأَصْلِ، لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ لِلْعَالَمِ إِلَهَانِ، وَأَرْسَلَ أَحَدُ الْإِلَهَيْنِ نَبِيًّا إِلَى الْخَلْقِ فَلَعَلَّ هَذَا الْإِنْسَانَ الَّذِي يَدْعُوهُ الرَّسُولُ إِلَى عِبَادَةِ هَذَا الْإِلَهِ مَا كَانَ مَخْلُوقًا لَهُ، بَلْ كَانَ مَخْلُوقًا لِلْإِلَهِ الثَّانِي، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى هَذَا الْإِنْسَانِ عِبَادَةُ هَذَا الْإِلَهِ وَطَاعَتُهُ، فكان بَعْثَةُ الرَّسُولِ إِلَيْهِ، وَإِيجَابُ الطَّاعَةِ عَلَيْهِ ظُلْمًا وَبَاطِلًا. أَمَّا إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ جَمِيعُ الْخَلْقِ عَبِيدًا لَهُ، وَيَكُونُ تَكْلِيفُهُ فِي الْكُلِّ نَافِذًا وَانْقِيَادُ الْكُلِّ لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ لَازِمًا، فَثَبَتَ أَنَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُ الْإِلَهِ تَعَالَى وَاحِدًا لَمْ يَكُنْ إِرْسَالُ الرُّسُلِ وَإِنْزَالُ الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التَّكَالِيفِ جَائِزًا. وَالْأَصْلُ الثَّالِثُ: إِثْبَاتُ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَثْبُتَ ذَلِكَ، كَانَ الِاشْتِغَالُ بِالطَّاعَةِ وَالِاحْتِرَازُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ عَبَثًا وَلَغْوًا، وَإِلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْأَصْلِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: يُحيِي وَيُمِيتُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَحْيَا أَوَّلًا، ثَبَتَ كَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى الْإِحْيَاءِ ثَانِيًا، فَيَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْإِعَادَةِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْإِحْيَاءُ الْأَوَّلُ إِنْعَامًا عَظِيمًا، فَلَا يَبْعُدُ مِنْهُ تَعَالَى أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، لِيَكُونَ قِيَامُهُ بِتِلْكَ الطَّاعَةِ قَائِمًا مَقَامَ الشُّكْرِ عَنِ الْإِحْيَاءِ الْأَوَّلِ، وَأَيْضًا لَمَّا دَلَّ الْإِحْيَاءُ الْأَوَّلُ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِحْيَاءِ الثَّانِي، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى إِيصَالِ الْجَزَاءِ إِلَيْهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ. ثَبَتَ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنَ اللَّه تَعَالَى إِرْسَالُ الرُّسُلِ وَمُطَالَبَةُ الْخَلْقِ بِالتَّكَالِيفِ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَبِيدُهُ وَلَا مَوْلًى لَهُمْ سِوَاهُ، / وَأَيْضًا إِنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى الْكُلِّ بِأَعْظَمِ النِّعَمِ، وَأَيْضًا إِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِيصَالِ الْجَزَاءِ إِلَيْهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ سَبَبٌ تَامٌّ، فِي أَنَّهُ يَحْسُنُ مِنْهُ تَكْلِيفُ الْخَلْقِ، أَمَّا بِحَسَبِ السَّبَبِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ الْمَوْلَى مُطَالَبَةُ عَبْدِهِ بِطَاعَتِهِ وَخِدْمَتِهِ، وَأَمَّا بِحَسَبِ السَّبَبِ الثَّانِي فَلِأَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ الْمُنْعِمِ مُطَالَبَةُ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِالشُّكْرِ وَالطَّاعَةِ، وَأَمَّا بِحَسَبِ السَّبَبِ الثَّالِثِ فَلِأَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى إِيصَالِ الْجَزَاءِ التَّامِّ إِلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يُكَلِّفَهُ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَةِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَتِ الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ اللَّه إِرْسَالُ الرُّسُلِ، وَيَجُوزُ مِنْهُ تَعَالَى أَنْ يَخُصَّهُمْ بِأَنْوَاعِ التَّكَالِيفِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ لِلْعَالِمِ إِلَهًا حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا، وَعَلَى أَنَّ هَذَا الْإِلَهَ وَاحِدٌ، وَعَلَى أَنَّهُ يَحْسُنُ مِنْهُ إِرْسَالُ الرُّسُلِ وَإِنْزَالُ الْكُتُبِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَثْبَتَ هَذِهِ الْأُصُولَ الْمَذْكُورَةَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَ بَعْدَهُ قَوْلَهُ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهَذَا التَّرْتِيبُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَوَّلًا أَنَّ الْقَوْلَ بِبَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَمْرٌ جَائِزٌ مُمْكِنٌ، أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولٌ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّه لِأَنَّ مَنْ حَاوَلَ إِثْبَاتَ مَطْلُوبٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ جَوَازَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ حُصُولَهُ ثَانِيًا، ثُمَّ إِنَّهُ بَدَأَ بِقَوْلِهِ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ لِأَنَّا بَيِّنَا أَنَّ الْإِيمَانَ باللَّه أَصْلٌ، وَالْإِيمَانَ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ فَرْعٌ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ. فَلِهَذَا السَّبَبِ بَدَأَ بِقَوْلِهِ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى ذِكْرِ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهِ نَبِيًّا حَقًّا، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ مُعْجِزَاتِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ عَلَى نَوْعَيْنِ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي ذَاتِهِ الْمُبَارَكَةِ، وَأَجَلُّهَا وَأَشْرَفُهَا أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا أُمِّيًّا لَمْ يَتَعَلَّمْ مِنْ أُسْتَاذٍ، وَلَمْ يُطَالِعْ كِتَابًا، وَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ مُجَالَسَةُ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّهُ مَا كَانَتْ مَكَّةُ بَلْدَةَ الْعُلَمَاءِ، وَمَا غَابَ رَسُولُ اللَّه عَنْ مَكَّةَ غَيْبَةً طَوِيلَةً يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ فِي مُدَّةِ تِلْكَ الْغَيْبَةِ تَعَلَّمَ الْعُلُومَ الْكَثِيرَةَ، ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ فَتَحَ اللَّه عَلَيْهِ بَابَ الْعِلْمِ وَالتَّحْقِيقِ وَأَظْهَرَ عَلَيْهِ هَذَا الْقُرْآنَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى عُلُومِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، فَكَانَ ظُهُورُ هَذِهِ الْعُلُومِ الْعَظِيمَةِ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا أُمِّيًّا لَمْ يَلْقَ أُسْتَاذًا وَلَمْ يُطَالِعْ كِتَابًا مِنْ أَعْظَمِ الْمُعْجِزَاتِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ مُعْجِزَاتِهِ الْأُمُورُ الَّتِي ظَهَرَتْ مِنْ مَخَارِجِ ذَاتِهِ مِثْلُ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَنُبُوعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ. وَهِيَ تُسَمَّى بِكَلِمَاتِ اللَّه تَعَالَى، أَلَا تَرَى أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا كَانَ حُدُوثُهُ أمراً غربياً مُخَالِفًا لِلْمُعْتَادِ، لَا جَرَمَ سَمَّاهُ اللَّه تَعَالَى كَلِمَةً. فَكَذَلِكَ الْمُعْجِزَاتُ لَمَّا كَانَتْ أُمُورًا غَرِيبَةً خَارِقَةً لِلْعَادَةِ لَمْ يَبْعُدْ تَسْمِيَتُهَا بِكَلِمَاتِ اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ أَيْ يُؤْمِنُ باللَّه وَبِجَمِيعِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَظْهَرَهَا اللَّه عَلَيْهِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى كَوْنِهِ نَبِيًّا صَادِقًا مِنْ عِنْدِ اللَّه. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ الَّتِي قَرَّرْنَاهَا بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَبَ أَنْ يَذْكُرَ عَقِيبَهُ الطَّرِيقَ الَّذِي به

يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ شَرْعِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُتَابَعَةَ تَتَنَاوَلُ الْمُتَابَعَةَ فِي الْقَوْلِ وَفِي الْفِعْلِ. أَمَّا الْمُتَابَعَةُ فِي الْقَوْلِ فَهُوَ أَنْ يَمْتَثِلَ الْمُكَلَّفُ كُلَّ مَا يَقُولُهُ فِي طَرَفَيِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ. وَأَمَّا الْمُتَابَعَةُ فِي الْفِعْلِ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ مَا أَتَى الْمَتْبُوعُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي طَرَفِ الْفِعْلِ أَوْ فِي طَرَفِ التَّرْكِ، فَثَبَتَ أَنَّ لَفَظَ وَاتَّبِعُوهُ يَتَنَاوَلُ الْقِسْمَيْنِ. وَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوهُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الِانْقِيَادُ لَهُ فِي كُلِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَيَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي كُلِّ مَا فَعَلَهُ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَهُوَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْمُنْفَصِلِ أَنَّهَا مِنْ خَوَاصِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ قِيلَ: الشَّيْءُ الَّذِي أَتَى بِهِ الرَّسُولُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَتَى بِهِ عَلَى سَبِيلِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنَّهُ أَتَى بِهِ عَلَى سَبِيلِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَنْدُوبًا، فَبِتَقْدِيرِ أَنَّهُ أَتَى بِهِ عَلَى سَبِيلِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَنْدُوبًا، فَلَوْ أَتَيْنَا بِهِ عَلَى سَبِيلِ أَنَّهُ وَاجِبٌ علينا، كان ذلك تركاً لمتابعته، وَنَقْضًا لِمُبَايَعَتِهِ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مُتَابَعَتِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ إِقْدَامَ الرَّسُولِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَيْنَا. قُلْنَا: الْمُتَابَعَةُ فِي الْفِعْلِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْفِعْلِ الَّذِي أَتَى بِهِ الْمَتْبُوعُ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ أَتَى بِفِعْلٍ ثُمَّ إِنْ غَيْرُهُ وَافَقَهُ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ، قِيلَ: إِنَّهُ تَابَعُهُ عَلَيْهِ. وَلَوْ لَمْ يَأْتِ بِهِ. قِيلَ: إِنَّهُ خَالَفَهُ فِيهِ. فَلَمَّا كَانَ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِ فِعْلِ الْمَتْبُوعِ مُتَابَعَةً، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ لَزِمَ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْأُمَّةِ مِثْلُ فِعْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عليه وسلّم. بقي هاهنا أَنَّا لَا نَعْرِفُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى بِذَلِكَ عَلَى قَصْدِ الْوُجُوبِ أَوْ عَلَى قَصْدِ النَّدْبِ. فَنَقُولُ: حَالُ الدَّوَاعِي وَالْعَزَائِمِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَحَالُ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ الظَّاهِرِ وَالْعَمَلِ الْمَحْسُوسِ مَعْلُومٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ حَالِ الْعَزَائِمِ وَالدَّوَاعِي، لِكَوْنِهَا أُمُورًا مَخْفِيَّةً عَنَّا، وَأَنْ نَحْكُمَ بِوُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ فِي الْعَمَلِ الظَّاهِرِ. لِكَوْنِهَا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يُمْكِنُ رِعَايَتُهَا، فَزَالَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ فِعْلٍ فَعَلَهُ الرَّسُولُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ إِلَّا إِذَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّا إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَحْكُمَ بِوُجُوبِ عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ. قُلْنَا: إِنَّ هَذَا الْعَمَلَ فِعْلُهُ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ: فَحِينَئِذٍ نَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ/ قَدْ أَتَى بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ حَاصِلٌ بِأَنَّ الرَّسُولَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَاظِبَ طُولَ عُمْرِهِ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَتَى بِهَذَا الطَّرِيقِ الْأَفْضَلِ. وَأَمَّا أَنَّهُ هَلْ أَتَى بِالطَّرَفِ الْأَحْسَنِ فَهُوَ مَشْكُوكٌ، وَالْمَشْكُوكُ لَا يُعَارِضُ الْمَعْلُومَ، فَثَبَتَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى بِالْجَانِبِ الْأَفْضَلِ. وَمَتَى ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَاتَّبِعُوهُ فَهَذَا أَصْلٌ شَرِيفٌ، وَقَانُونٌ كُلِّيٌّ فِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ، دَالٌّ عَلَى النُّصُوصِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النَّجْمِ: 3، 4] فَوَجَبَ عَلَيْنَا مِثْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فقيه بَحْثَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كَلِمَةَ «لَعَلَّ» لِلتَّرَجِّي، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ باللَّه، فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْ كُلِّ الْمُكَلَّفِينَ الْهِدَايَةَ وَالْإِيمَانَ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْكَلَامُ فِي تَقْرِيرِ هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ قَدْ سَبَقَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا كَثِيرَةً، فَلَا فائدة في الإعادة.

[سورة الأعراف (7) : آية 159]

[سورة الأعراف (7) : آية 159] وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الرَّسُولَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ مُتَابَعَتُهُ، ذَكَرَ أَنَّ مِنْ قَوْمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنِ اتَّبَعَ الْحَقَّ وَهُدِيَ إِلَيْهِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ جَمَاعَةٌ، لِأَنَّ لَفْظَ الْأُمَّةِ يُنْبِئُ عَنِ الْكَثْرَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ مَتَى حَصَلَتْ، وَفِي أَيِّ زَمَانٍ كَانَتْ؟ فَقِيلَ هُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَسْلَمُوا مِثْلَ عَبْدِ اللَّه بْنِ سَلَامٍ، وَابْنِ صُورِيَا وَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا قَلِيلِينَ فِي الْعَدَدِ، وَلَفْظُ الْأُمَّةِ يَقْتَضِي الْكَثْرَةَ، يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ، جَازَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النَّحْلِ: 120] وَقِيلَ: إِنَّهُمْ قَوْمٌ مَشَوْا عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى وَدَعَوُا النَّاسَ إِلَيْهِ وَصَانُوهُ عَنِ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ فِي زَمَنِ تَفَرُّقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِحْدَاثِهِمُ الْبِدَعَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ جَاءَ الْمَسِيحُ فَدَخَلُوا فِي دِينِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا هَلَكُوا قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا كَفَرُوا وَقَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ، بَقِيَ سِبْطٌ فِي جُمْلَةِ الِاثْنَيْ عَشَرَ فَمَا صَنَعُوا وَسَأَلُوا اللَّه أَنْ يُنْقِذَهُمْ مِنْهُمْ. فَفَتَحَ اللَّه لَهُمْ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ فَسَارُوا فِيهِ حَتَّى خَرَجُوا مِنْ وَرَاءِ الصِّينِ ثُمَّ هَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ بَقُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِ الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْآنِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُمُ الْآنَ عَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَقْبِلُونَ الْكَعْبَةَ، وَتَرَكُوا السَّبْتَ وَتَمَسَّكُوا بِالْجُمُعَةِ، لَا يَتَظَالَمُونَ وَلَا يَتَحَاسَدُونَ وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ مِنَّا أَحَدٌ وَلَا/ إِلَيْنَا مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: هَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: وَصَلَ إِلَيْهِمْ خَبَرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ هَذَا الْخَبَرُ. فَإِنْ قُلْنَا: وَصَلَ خَبَرُهُ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ فَهُمْ كُفَّارٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ وَصْفُهُمْ بِكَوْنِهِمْ أُمَّةً يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ؟ وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ خَبَرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَذَا بِعِيدٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ خَبَرُهُمْ إِلَيْنَا، مَعَ أَنَّ الدَّوَاعِيَ لَا تَتَوَفَّرُ عَلَى نَقْلِ أَخْبَارِهِمْ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ لَا يَصِلَ إِلَيْهِمْ خَبَرُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ أَنَّ الدُّنْيَا قَدِ امْتَلَأَتْ مِنْ خَبَرِهِ وَذِكْرِهِ؟ فإن قالوا: أليس إن يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ قَدْ وَصَلَ خَبَرُهُمْ إِلَيْنَا وَلَمْ يَصِلْ خَبَرُنَا إِلَيْهِمْ؟ قُلْنَا: هَذَا مَمْنُوعٌ، فَمِنْ أَيْنَ عُرِفَ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ خَبَرُنَا إِلَيْهِمْ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: يَهْدُونَ بِالْحَقِّ أَيْ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الْهِدَايَةِ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْعَدْلُ الْحُكْمُ بِالْحَقِّ. يُقَالُ: هُوَ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَيَعْدِلُ وَهُوَ حَكَمٌ عَادِلٌ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ: 129] وَقَوْلُهُ: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [الأنعام: 152] . [سورة الأعراف (7) : آية 160] وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، شَرْحُ نَوْعَيْنِ مِنْ أَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمُ اثْنَيْ

عَشَرَ سِبْطًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى فَرَقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةٌ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ، فَمَيَّزَهُمْ وَفَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَتَحَاسَدُوا فَيَقَعَ فِيهِمُ الْهَرْجُ وَالْمَرْجُ. وَقَوْلُهُ: وَقَطَّعْناهُمُ أَيْ صَيَّرْنَاهُمْ قِطَعًا أَيْ فِرَقًا وَمَيَّزْنَا بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَقُرِئَ وَقَطَّعْناهُمُ بالتخفيف وهاهنا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مُمَيَّزُ مَا عَدَا الْعَشَرَةَ مُفْرَدٌ، فَمَا وَجْهُ مَجِيئِهِ مَجْمُوعًا، وَهَلَّا قِيلَ: اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا؟ وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قَبِيلَةً، وَكُلُّ قَبِيلَةٍ أَسْبَاطٌ، فَوَضَعَ أَسْبَاطًا مَوْضِعَ قَبِيلَةٍ. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَالَ: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً مَعَ أَنَّ السِّبْطَ مُذَكَّرٌ لَا مُؤَنَّثٌ. الْجَوَابُ قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَهُ أُمَماً فَذَهَبَ التَّأْنِيثُ إِلَى الْأُمَمِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ قَالَ: اثْنَيْ عَشَرَ لِأَجْلِ أَنَّ السِّبْطَ مُذَكَّرٌ كَانَ جَائِزًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً أَسْباطاً فَقَوْلُهُ: أَسْباطاً نَعْتٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، وَهُوَ الْفِرْقَةُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَيْسَ قَوْلُهُ: أَسْباطاً تَمْيِيزًا، وَلَكِنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أُمَماً قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هُوَ بَدَلٌ مِنْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ بِمَعْنَى: وَقَطَّعْنَاهُمْ أُمَمًا لِأَنَّ كُلَّ سِبْطٍ كَانَتْ أُمَّةً عَظِيمَةً وَجَمَاعَةً كَثِيفَةَ الْعَدَدِ، وَكُلَّ وَاحِدَةٍ كَانَتْ تَؤُمُّ خِلَافَ مَا تَؤُمُّهُ الْأُخْرَى وَلَا تَكَادُ تَأْتَلِفُ. وَقُرِئَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ بِكَسْرِ الشِّينِ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ شرح أخوال بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ وَهَذِهِ الْقِصَّةُ أَيْضًا قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. قَالَ الْحَسَنُ: مَا كَانَ إِلَّا حَجَرًا اعْتَرَضَهُ وَإِلَّا عَصًا أَخَذَهَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ كَانُوا رُبَّمَا احْتَاجُوا فِي التِّيهِ إِلَى مَاءٍ يَشْرَبُونَهُ، فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ الْحَجَرَ. وَكَانُوا يُرِيدُونَهُ مَعَ أَنْفُسِهِمْ فَيَأْخُذُوا مِنْهُ قَدْرَ الْحَاجَةِ، وَقَوْلُهُ: فَانْبَجَسَتْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَانْبَجَسَ الْمَاءُ وَانْبِجَاسُهُ انْفِجَارُهُ. يُقَالُ: بَجَسَ الْمَاءُ يَبْجُسُ وَانْبَجَسَ وَتَبَجَّسَ إِذَا تَفَجَّرَ، هَذَا قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَالِانْبِجَاسُ وَالِانْفِجَارُ سَوَاءٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا تَنَاقُضَ بين الانبجاس المذكور هاهنا وَبَيْنَ الِانْفِجَارِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الِانْبِجَاسُ خُرُوجُ الْمَاءِ بِقِلَّةٍ، وَالِانْفِجَارُ خُرُوجُهُ بِكَثْرَةٍ، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ: أَنَّ الْمَاءَ ابْتَدَأَ بِالْخُرُوجِ قَلِيلًا، ثُمَّ صَارَ كَثِيرًا، وَهَذَا الْفَرْقُ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ كَيْفَ كَانَ يَسْقِيهِمْ، ذَكَرَ ثَانِيًا أَنَّهُ ظَلَّلَ الْغَمَامَ عَلَيْهِمْ، وَثَالِثًا: أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى سَهَّلَ عَلَيْهِمُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَدَفَعَ عَنْهُمْ مَضَارَّ الشَّمْسِ. ثُمَّ قَالَ: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَالْمُرَادُ قَصْرُ أَنْفُسِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْمَطْعُومِ وَتَرْكُ غَيْرِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما ظَلَمُونا وَفِيهِ حَذْفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ لَوْ أَنَّهُمْ تَعَدَّوْا مَا أَمَرَهُمُ اللَّه بِهِ، وَذَلِكَ إِمَّا بِأَنْ تَقُولَ إِنَّهُمُ ادَّخَرُوا مَعَ أَنَّ اللَّه مَنَعَهُمْ مِنْهُ، أَوْ أَقْدَمُوا عَلَى الْأَكْلِ فِي وَقْتٍ مَنَعَهُمُ اللَّه عَنْهُ، أَوْ لِأَنَّهُمْ سَأَلُوا غَيْرَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ اللَّه مَنَعَهُمْ مِنْهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا ارْتَكَبَ الْمَحْظُورَ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ،

[سورة الأعراف (7) : الآيات 161 إلى 162]

فَلِذَلِكَ وَصَفَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِهِ وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ مَا أَضَرَّ إِلَّا نَفْسَهُ حَيْثُ سَعَى فِي صيرورة نفسه مستحقة للعقاب العظيم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 161 الى 162] وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ أَيْضًا مَذْكُورَةٌ مَعَ الشَّرْحِ وَالْبَيَانِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَلْفَاظَ هَذِهِ الْآيَةِ تُخَالِفُ أَلْفَاظَ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ من وجوه: الأول: فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ [البقرة: 58] وهاهنا قَالَ: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: فَكُلُوا بالفاء وهاهنا وَكُلُوا بِالْوَاوِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ رَغَداً وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ البقرة: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ وقال هاهنا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ قَالَ فِي البقرة نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وقال هاهنا: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ قَالَ فِي سورة البقرة: وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وهاهنا حَذَفَ حَرْفَ الْوَاوِ. وَالسَّابِعُ: أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الْبَقَرَةِ: 59] وقال هاهنا: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ وَالثَّامِنُ: أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ البقرة: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وقال هاهنا: بِما كانُوا يَظْلِمُونَ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مُتَقَارِبَةٌ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهَا الْبَتَّةَ، وَيُمْكِنُ ذِكْرُ فَوَائِدِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وقال هاهنا: اسْكُنُوا فَالْفَرْقُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ الْقَرْيَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ سُكُونِهَا ثَانِيًا. وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْبَقَرَةِ: ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا [البقرة: 58] بالفاء. وقال هاهنا: اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا بِالْوَاوِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الدُّخُولَ حَالَةٌ مَخْصُوصَةٌ، كَمَا يُوجَدُ بَعْضُهَا يَنْعَدِمُ. فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي أَوَّلِ دُخُولِهِ، وَأَمَّا مَا بَعْدُ ذَلِكَ فَيَكُونُ سُكُونًا لَا دُخُولًا. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الدُّخُولُ حَالَةٌ مُنْقَضِيَةٌ زَائِلَةٌ وَلَيْسَ لَهَا اسْتِمْرَارٌ. فَلَا جَرَمَ يَحْسُنُ ذِكْرُ فَاءِ التَّعْقِيبِ بَعْدَهُ، فَلِهَذَا قَالَ: ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَأَمَّا السُّكُونُ فَحَالَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ بَاقِيَةٌ. فَيَكُونُ الْأَكْلُ حَاصِلًا مَعَهُ لَا عَقِيبَهُ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ رَغَداً وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا فالفرق الْأَكْلَ عَقِيبَ دُخُولِ الْقَرْيَةِ يَكُونُ أَلَذَّ، لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ الْأَكْلِ كَانَتْ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْأَكْلُ أَلَذَّ لَا جَرَمَ ذَكَرَ فِيهِ قَوْلَهُ: رَغَداً وَأَمَّا الْأَكْلُ حَالَ سُكُونِ الْقَرْيَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ الشَّدِيدَةِ مَا لَمْ تَكُنِ اللَّذَّةُ فِيهِ مُتَكَامِلَةً، فَلَا جَرَمَ تَرَكَ قَوْلَهُ: رَغَدًا فِيهِ. وَأَمَّا الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ عَلَى

[سورة الأعراف (7) : آية 163]

الْعَكْسِ مِنْهُ، فَالْمُرَادُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ يَحْسُنُ تَقْدِيمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الذِّكْرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُمَا تَعْظِيمَ اللَّه تَعَالَى، وَإِظْهَارَ الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ لَمْ يَتَفَاوَتِ الْحَالُ بِحَسَبِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. وَأَمَّا الْخَامِسُ: وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: خَطاياكُمْ [البقرة: 58] وقال هاهنا: خَطِيئاتِكُمْ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الذُّنُوبَ سَوَاءٌ كَانَتْ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً، فَهِيَ مَغْفُورَةٌ عِنْدَ الْإِتْيَانِ بِهَذَا الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ. وَأَمَّا السَّادِسُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَسَنَزِيدُ [البقرة: 58] بالواو وهاهنا حَذَفَ الْوَاوَ فَالْفَائِدَةُ فِي حَذْفِ الْوَاوِ أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ، وَالتَّقْدِيرُ: كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: وَمَاذَا حَصَلَ بَعْدَ الْغُفْرَانِ؟ فَقِيلَ لَهُ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ. وَأَمَّا السابع: وهو الفرق بين قوله: أَنْزَلْنا وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنا فَلِأَنَّ الْإِنْزَالَ لَا يُشْعِرُ بِالْكَثْرَةِ، وَالْإِرْسَالَ يُشْعِرُ بِهَا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بِإِنْزَالِ الْعَذَابِ الْقَلِيلِ، ثُمَّ جَعَلَهُ كَثِيرًا، وَهُوَ نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ قَوْلِهِ: فَانْبَجَسَتْ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَانْفَجَرَتْ. وَأَمَّا الثَّامِنُ: وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: يَظْلِمُونَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: يَفْسُقُونَ فَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مَوْصُوفُونَ بِكَوْنِهِمْ ظَالِمِينَ، لِأَجْلِ أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَبِكَوْنِهِمْ فَاسِقِينَ، لِأَجْلِ أَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى، فَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ التَّنْبِيهُ عَلَى حُصُولِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، فَهَذَا مَا خَطَرَ بِالْبَالِ فِي ذِكْرِ فَوَائِدِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَتَمَامِ الْعِلْمِ بِهَا عِنْدَ اللَّه تعالى. [سورة الأعراف (7) : آية 163] وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ أَيْضًا مَذْكُورَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وفيها مسائل: المسألة الأولى: قوله تعالى: وَسْئَلْهُمْ الْمَقْصُودُ تَعْرِفُ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ قَبْلِهِمْ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ قَدْ صَارَتْ مَعْلُومَةً لِلرَّسُولِ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا السُّؤَالِ أَحَدُ أَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذَا السُّؤَالِ تَقْرِيرُ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَقْدَمُوا عَلَى هَذَا الذَّنْبِ الْقَبِيحِ وَالْمَعْصِيَةِ الْفَاحِشَةِ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى أَنَّ إِصْرَارَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمُعْجِزَاتِهِ لَيْسَ شَيْئًا حَدَثَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، بَلْ هَذَا الْكُفْرُ وَالْإِصْرَارُ كَانَ حَاصِلًا فِي أَسْلَافِهِمْ مِنَ الزَّمَانِ الْقَدِيمِ. وَالْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقُولُ لِغَيْرِهِ هَلْ هَذَا الْأَمْرُ كَذَا وَكَذَا؟ لِيَعْرِفَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مُحِيطٌ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَغَيْرُ ذَاهِلٍ عَنْ دَقَائِقِهَا، وَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا أُمِّيًّا لَمْ يَتَعَلَّمْ عِلْمًا، وَلَمْ يُطَالِعْ كِتَابًا، ثُمَّ أَنَّهُ يَذْكُرُ هَذِهِ الْقَصَصَ عَلَى وَجْهِهَا مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ وَلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، كَانَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى الْمُعْجِزِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْقَرْيَةَ أَيْلَةُ. وَقِيلَ: مَدْيَنُ. وَقِيلَ طَبَرِيَّةُ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمَدِينَةَ قَرْيَةً، وَعَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ مَا رَأَيْتُ قَرَوِيِّينَ أَفْصَحَ مِنَ الْحَسَنِ وَالْحَجَّاجِ يَعْنِي رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْمُدُنِ، وَقَوْلُهُ: كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ يَعْنِي قَرِيبَةً مِنَ الْبَحْرِ وَبِقُرْبِهِ وَعَلَى شَاطِئِهِ وَالْحُضُورُ نَقِيضُ الْغَيْبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْبَقَرَةِ: 196] وَقَوْلُهُ: إِذْ يَعْدُونَ/ فِي السَّبْتِ يَعْنِي

[سورة الأعراف (7) : الآيات 164 إلى 165]

يُجَاوِزُونَ حَدَّ اللَّه فِيهِ، وَهُوَ اصْطَيَادُهُمْ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ، وَقُرِئَ يَعْدُونَ بِمَعْنَى يَعْتَدُونَ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ وَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إلى العين ويَعْدُونَ مِنَ الْإِعْدَادِ وَكَانُوا يُعِدُّونَ آلَاتِ الصَّيْدِ يَوْمَ السَّبْتِ وَهُمْ مَأْمُورُونَ بِأَنْ لَا يَشْتَغِلُوا فِيهِ بغير العبادة والسَّبْتِ مَصْدَرُ سَبَتَتِ الْيَهُودُ إِذَا عَظَّمَتْ سَبْتَهَا فَقَوْلُهُ: إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ مَعْنَاهُ يَعْدُونَ فِي تَعْظِيمِ هَذَا الْيَوْمِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَوْمَ سَبْتِهِمْ مَعْنَاهُ: يَوْمَ تَعْظِيمِهِمْ أَمْرَ السَّبْتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ وَيُؤَكِّدُهُ أَيْضًا قِرَاءَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ (يَوْمَ أَسْبَاتِهِمْ) وَقُرِئَ لَا يَسْبِتُونَ بِضَمِّ الْبَاءِ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَا يَسْبِتُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ مَنْ أَسْبَتُوا، وَعَنِ الْحَسَنِ لَا يَسْبِتُونَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقَوْلُهُ: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ نُصِبَ بِقَوْلِهِ: يَعْدُونَ وَالْمَعْنَى: سَلْهُمْ إِذْ عَدُوا فِي وَقْتِ الْإِتْيَانِ، وَقَوْلُهُ: يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً أَيْ ظَاهِرَةً عَلَى الْمَاءِ وَشُرَّعٌ جَمْعُ شَارِعٍ وَشَارِعَةٍ وَكُلُّ شَيْءٍ دَانَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ شَارِعٌ، وَدَارٌ شَارِعَةٌ أَيْ دَنَتْ مِنَ الطَّرِيقِ، وَنُجُومٌ شَارِعَةٌ أَيْ دَنَتْ مِنَ الْمَغِيبِ. وَعَلَى هَذَا فَالْحِيَتَانُ كَانَتْ تَدْنُو مِنَ الْقَرْيَةِ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُمْ صَيْدُهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: إِنِّ الْيَهُودَ أُمِرُوا بِالْيَوْمِ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ، يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فَتَرَكُوهُ وَاخْتَارُوا السَّبْتَ فَابْتَلَاهُمُ اللَّه بِهِ وَحُرِّمَ عَلَيْهِمُ الصَّيْدُ فِيهِ وَأُمِرُوا بِتَعْظِيمِهِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ شَرَعَتْ لَهُمُ الْحِيتَانُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا فِي الْبَحْرِ. فَإِذَا انْقَضَى السَّبْتُ ذَهَبَتْ وَمَا تَعُودُ إِلَّا فِي السَّبْتِ الْمُقْبِلِ. وَذَلِكَ بَلَاءٌ ابْتَلَاهُمُ اللَّه بِهِ، فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْبَلَاءِ الشَّدِيدِ نَبْلُوهُمْ بِسَبَبِ فِسْقِهِمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَطَاعَ اللَّه تَعَالَى خَفَّفَ اللَّه عَنْهُ أَحْوَالَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ومن عصاه ابْتَلَاهُ بِأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ وَالْمِحَنِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ رِعَايَةُ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ لَا فِي الدِّينِ وَلَا فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ تَكْثِيرَ الْحِيتَانِ يَوْمَ السَّبْتِ رُبَّمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْكُفْرِ، فَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ رِعَايَةُ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ، لَوَجَبَ أَنْ لَا يُكْثِرَ هَذِهِ الْحِيتَانَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ صَوْنًا لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ. فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يُبَالِ بِكُفْرِهِمْ وَمَعْصِيَتِهِمْ عَلِمْنَا أَنَّ رِعَايَةَ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ غير واجبة على اللَّه تعالى. [سورة الأعراف (7) : الآيات 164 الى 165] وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذْ قالَتْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِذْ يَعْدُونَ وَحُكْمُهُ حُكْمُهُ فِي الْإِعْرَابِ وَقَوْلُهُ: أُمَّةٌ مِنْهُمْ أَيْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ مِنْ صُلَحَائِهِمُ الَّذِينَ رَكِبُوا الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ فِي مَوْعِظَةِ أُولَئِكَ الصَّيَّادِينَ حَتَّى أَيِسُوا مِنْ قَبُولِهِمْ لِأَقْوَامٍ آخَرِينَ مَا كَانُوا يُقْلِعُونَ عَنْ وَعْظِهِمْ. وَقَوْلُهُ: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَيْ مُخْتَرِمُهُمْ وَمُطَهِّرُ الْأَرْضِ مِنْهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً لِتَمَادِيهِمْ فِي الشَّرِّ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ الْوَعْظَ لَا يَنْفَعُهُمْ وَقَوْلُهُ: قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ فِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ مَعْذِرَةً بِالنَّصْبِ وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ، أَمَّا مَنْ نَصَبَ مَعْذِرَةً فَقَالَ الزَّجَّاجُ مَعْنَاهُ: نَعْتَذِرُ مَعْذِرَةً، وَأَمَّا مَنْ رَفَعَ فَالتَّقْدِيرُ: هَذِهِ مَعْذِرَةٌ أَوْ قَوْلُنَا مَعْذِرَةٌ وَهِيَ خَبَرٌ لِهَذَا الْمَحْذُوفِ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: الْمَعْذِرَةُ مَصْدَرٌ كَالْعُذْرِ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: عَذَرْتُهُ أَعْذُرُهُ عُذْرًا وَمَعْذِرَةً، وَمَعْنَى عَذَرَهُ فِي اللُّغَةِ أَيْ قَامَ بِعُذْرِهِ، وَقِيلَ: عُذْرُهُ، يُقَالُ: مَنْ يَعْذُرُنِي أَيْ يَقُومُ بِعُذْرِي، وَعَذَرْتُ فُلَانًا فِيمَا صَنَعَ أَيْ قُمْتُ بِعُذْرِهِ، فَعَلَى هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ أَيْ قِيَامٌ مِنَّا بِعُذْرِ أَنْفُسِنَا إِلَى اللَّه تَعَالَى، فَإِنَّا إِذَا طَوَّلْنَا بِإِقَامَةِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. قُلْنَا: قَدْ فَعَلْنَا فَنَكُونُ بِذَلِكَ مَعْذُورِينَ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْمَعْذِرَةُ اسْمٌ عَلَى مَفْعِلَةٍ مِنْ عَذَرَ يَعْذُرُ وَأُقِيمَ مُقَامَ الِاعْتِذَارِ. كَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَوْعِظَتُنَا اعْتِذَارٌ إِلَى رَبِّنَا. فَأُقِيمَ الِاسْمُ مُقَامَ الِاعْتِذَارِ، وَيُقَالُ: اعْتَذَرَ فُلَانٌ اعْتِذَارًا وَعُذْرًا وَمَعْذِرَةً مِنْ ذَنْبِهِ فَعَذَرْتُهُ، وَقَوْلُهُ: وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَيْ وَجَائِزٌ عِنْدَنَا أَنْ يَنْتَفِعُوا بِهَذَا الْوَعْظِ فَيَتَّقُوا اللَّه وَيَتْرُكُوا هَذَا الذَّنْبَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ مِنْهُمْ مَنْ صَادَ السَّمَكَ وَأَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ الذَّنْبِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي صَارُوا قِسْمَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ وَعَظَ الْفِرْقَةَ الْمُذْنِبَةَ، وَزَجَرَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَكَتَ عَنْ ذَلِكَ الْوَعْظِ، وأنكروا على الواعظين وقالوا لهم: لم تعظوهم، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ/ اللَّه مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ؟ يَعْنِي: أَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوا فِي الْإِصْرَارِ عَلَى هَذَا الذَّنْبِ إِلَى حَدٍّ لَا يَكَادُونَ يُمْنَعُونَ عَنْهُ، فَصَارَ هَذَا الْوَعْظُ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ عَدِيمَ الْأَثَرِ، فَوَجَبَ تَرْكُهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ كَانُوا فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٌ أَقْدَمَتْ عَلَى الذَّنْبِ، وَفِرْقَةٌ أَحْجَمُوا عَنْهُ وَوَعَظُوا الْأَوَّلِينَ، فَلَمَّا اشْتَغَلَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ بِوَعْظِ الْفِرْقَةِ الْمُذْنِبَةِ الْمُتَعَدِّيَةِ الْمُقْدِمَةِ عَلَى الْقَبِيحِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَتِ الْفِرْقَةُ الْمُذْنِبَةُ لِلْفِرْقَةِ الْوَاعِظَةِ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ بِزَعْمِكُمْ؟ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا فِرْقَتَيْنِ وَكَانَ قَوْلُهُ: مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ خِطَابًا مِنَ الْفِرْقَةِ النَّاهِيَةِ لِلْفِرْقَةِ الْمُعْتَدِيَةِ لَقَالُوا: (وَلَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) . أَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ يَعْنِي: أَنَّهُمْ لَمَّا تَرَكُوا مَا ذَكَّرَهُمْ بِهِ الصَّالِحُونَ تَرْكَ النَّاسِي لِمَا يَنْسَاهُ، أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الظَّالِمِينَ الْمُقْدِمِينَ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِرْقَةَ الْمُتَعَدِّيَةَ هَلَكَتْ، وَالْفِرْقَةَ النَّاهِيَةَ عَنِ الْمُنْكَرِ نَجَتْ. أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: لِمَ تَعِظُونَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّهُمْ مِنْ أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ كَانُوا؟ فَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِيهِ. وَنُقِلَ عَنْهُ أَيْضًا: هَلَكَتِ الْفِرْقَتَانِ وَنَجَتِ النَّاهِيَةُ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ بَكَى وَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَكَتُوا عَنِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ هَلَكُوا، وَنَحْنُ نَرَى أَشْيَاءَ نُنْكِرُهَا، ثُمَّ نَسْكُتُ وَلَا نَقُولُ شَيْئًا. قَالَ الْحَسَنُ: الْفِرْقَةُ السَّاكِتَةُ نَاجِيَةٌ، فَعَلَى هَذَا نَجَتْ فِرْقَتَانِ وَهَلَكَتِ الثَّالِثَةُ. وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا تَرَكُوا وَعْظَهُمْ لِأَنَّهُ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى ذَلِكَ الْوَعْظِ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ تَرْكَ الْوَعْظِ مَعْصِيَةٌ، وَالنَّهْيَ عَنْهُ أَيْضًا مَعْصِيَةٌ، فَوَجَبَ دُخُولُ هَؤُلَاءِ التَّارِكِينَ لِلْوَعْظِ النَّاهِينَ عَنْهُ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا.

[سورة الأعراف (7) : آية 166]

قُلْنَا: هَذَا غَيْرُ لَازِمٍ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ المنكر إنما يجب عَلَى الْكِفَايَةِ. فَإِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخَذَهُمْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ غَيْرُ الْمَسْخِ الْمُتَأَخِّرِ ذِكْرُهُ. وَقَوْلُهُ: بِعَذابٍ بَئِيسٍ أَيْ شَدِيدٍ وَفِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ قِرَاءَاتٌ: أَحَدُهَا: بَئِيسٍ بِوَزْنِ فَعِيلٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا مِنْ بَؤُسَ يَبْؤُسُ بَأْسًا إِذَا اشْتَدَّ. وَالْآخَرُ: مَا قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ مِنَ الْبُؤْسِ وَهُوَ الْفَقْرُ يُقَالُ بَئِسَ الرَّجُلُ يَبْأَسُ بُؤْسًا وَبَأْسًا وَبَئِيسًا إِذَا افْتَقَرَ فَهُوَ بَائِسٌ، أَيْ فَقِيرٌ. فَقَوْلُهُ: بِعَذابٍ بَئِيسٍ أَيْ ذِي بُؤْسٍ. وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ (بَئِسٍ) بِوَزْنِ حَذِرٍ. وَالثَّالِثَةُ: (بَيِسٍ) عَلَى قَلْبِ الْهَمْزَةِ يَاءً، كَالذِّيبِ فِي ذِئْبٍ، وَالرَّابِعَةُ: (بَيْئَسٍ) عَلَى فَيْعَلٍ. وَالْخَامِسَةُ: (بَيِّسٍ) كَوَزْنِ/ رَيِّسٍ عَلَى قَلْبِ هَمْزَةِ بَئِيسٍ يَاءً وَإِدْغَامِ الْيَاءِ فِيهَا. وَالسَّادِسَةُ: (بَيْسٍ) عَلَى تَخْفِيفِ بَيِّسٍ كَهَيْنٍ فِي هين، وهذه القراآت نَقَلَهَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» . ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مع نزول هذا العذاب بهم تمردوا. فقال عز من قائل: [سورة الأعراف (7) : آية 166] فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْعُتُوُّ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِبَاءِ وَالْعِصْيَانِ، وَإِذَا عَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ فَقَدْ أَطَاعُوا، لِأَنَّهُمْ أَبَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارٍ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ تَرْكِ مَا نُهُوا عَنْهُ، ثُمَّ حُذِفَ الْمُضَافُ، وَإِذَا أَبَوْا تَرْكَ الْمَنْهِيِّ كَانَ ذَلِكَ ارْتِكَابًا لِلْمَنْهِيِّ. الْبَحْثُ الثَّانِي: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً لَيْسَ مِنَ الْمَقَالِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ: أَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَ ذَلِكَ. قَالَ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ قَوْلِهِ: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ: 40] هُوَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ لَا الْكَلَامِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أُمِرُوا بِأَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ بِقَوْلٍ سُمِعَ فَيَكُونُ أَبْلَغَ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَمْلَ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى هَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِالْفِعْلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ، وَالْقَوْمُ مَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى أَنْ يَقْلِبُوا أَنْفُسَهُمْ قِرَدَةً. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَصْبَحَ الْقَوْمُ وَهُمْ قِرَدَةٌ صَاغِرُونَ، فَمَكَثُوا كَذَلِكَ ثَلَاثًا فَرَآهُمُ النَّاسُ ثُمَّ هَلَكُوا. وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَنَّ شَبَابَ الْقَوْمِ صَارُوا قِرَدَةً، وَالشُّيُوخَ خَنَازِيرَ، وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الَّذِينَ مُسِخُوا هَلْ بَقُوا قِرَدَةً؟ وَهَلْ هَذِهِ الْقِرَدَةُ مِنْ نَسْلِهِمْ أَوْ هَلَكُوا، وَانْقَطَعَ نَسْلُهُمْ، وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَيْهِ، وَالْكَلَامُ فِي الْمَسْخِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمُبَاحَثَاتِ قَدْ سَبَقَ بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. واللَّه أعلم. [سورة الأعراف (7) : آية 167] وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) اعْلَمْ أَنَّهُ تعالى لما شرح هاهنا بَعْضَ مَصَالِحِ أَعْمَالِ الْيَهُودِ وَقَبَائِحِ أَفْعَالِهِمْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالذُّلِّ وَالصَّغَارِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: أذن أعلم. وأذن نادى وصاح لإعلام وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ [الْأَعْرَافِ: 44] وَقَوْلُهُ: تَأَذَّنَ بِمَعْنَى أَذَّنَ أَيْ أَعْلَمَ. وَلَفْظَةُ تفعل، هاهنا ليس

مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَظْهَرَ شَيْئًا لَيْسَ فِيهِ، بَلْ مَعْنَاهُ فَعَلَ فَقَوْلُهُ: تَأَذَّنَ بِمَعْنَى أَذِنَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يُونُسَ: 18] مَعْنَاهُ عَلَا وَارْتَفَعَ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ أَظْهَرَ مِنْ نَفْسِهِ الْعُلُوَّ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ فِيهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لَيَبْعَثَنَّ جَوَابُ الْقَسَمِ لِأَنَّ قَوْلَهُ وإِذْ تَأَذَّنَ جَارٍ مَجْرَى الْقَسَمِ فِي كَوْنِهِ جَازِمًا بِذَلِكَ الْخَبَرِ. البحث الثاني: الضمير في عَلَيْهِمْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى قَوْلِهِ: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [الأعراف: 166] لَكِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الَّذِينَ مُسِخُوا لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَيْهِمُ التَّكْلِيفُ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ نَسْلُهُمْ وَالَّذِينَ بَقُوا مِنْهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ سَائِرُ الْيَهُودِ فَإِنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ كَانُوا بَيْنَ صَالِحٍ وَبَيْنَ مُتَعَدٍّ فَمُسِخَ الْمُتَعَدِّي وَأُلْحِقَ الذُّلُّ بِالْبَقِيَّةِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ أَدْرَكَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَاهُمْ إِلَى شَرِيعَتِهِ، وَهَذَا أَقْرَبُ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَخْوِيفُ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَجْرُهُمْ عَنِ الْبَقَاءِ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا بَقَاءَ الذُّلِّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ انْزَجَرُوا. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ الْيَهُودُ الَّذِينَ ثَبَتُوا عَلَى الْكُفْرِ وَالْيَهُودِيَّةِ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَارِجُونَ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ. أما قوله: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ [إلى آخر الآية] فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ مَمْدُودٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَخْذُ الْجِزْيَةِ. وَقِيلَ: الِاسْتِخْفَافُ وَالْإِهَانَةُ وَالْإِذْلَالُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا وَقِيلَ: الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ. وَقِيلَ: الْإِخْرَاجُ وَالْإِبْعَادُ مِنَ الْوَطَنِ، وَهَذَا الْقَائِلُ جَعَلَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَهْلِ خَيْبَرَ وَبَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ عَلَى أَنَّهُ لَا دَوْلَةَ وَلَا عِزَّ، وَأَنَّ الذُّلَّ يَلْزَمُهُمْ، وَالصَّغَارُ لَا يُفَارِقُهُمْ. وَلَمَّا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَنْ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ. ثُمَّ شَاهَدْنَا بِأَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا إِخْبَارًا صِدْقًا عَنِ الْغَيْبِ، فَكَانَ مُعْجِزًا، وَالْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ فِي أَنَّ أتباع الرجال هُمُ الْيَهُودُ إِنْ صَحَّ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ خُرُوجِهِ يَهُودًا ثُمَّ دَانُوا بِإِلَهِيَّتِهِ، فَذُكِرُوا بِالِاسْمِ الْأَوَّلِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ فِي وَقْتِ اتِّبَاعِهِمُ الدَّجَّالَ قَدْ خَرَجُوا عَنِ الذِّلَّةِ وَالْقَهْرِ، وَذَلِكَ خِلَافُ هَذِهِ الْآيَةِ. وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ/ عَلَى لُزُومِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ لِلْيَهُودِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران: 112] إِلَّا أَنَّ دَلَالَتَهَا لَيْسَتْ قَوِيَّةً لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَمْنَعُ مِنَ الْقَطْعِ عَلَى لُزُومِ الذُّلِّ لَهُمْ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ. أَمَّا الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا لَمْ يَحْصُلْ فِيهَا تَقْيِيدٌ وَلَا اسْتِثْنَاءٌ، فَكَانَتْ دَلَالَتُهَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوِيَّةً جِدًّا. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الَّذِينَ يُلْحِقُونَ هَذَا الذُّلَّ بِهَؤُلَاءِ الْيَهُودِ مَنْ هُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الرَّسُولُ وَأَمَتُّهُ وَقِيلَ يَحْتَمِلُ دُخُولَ الْوُلَاةِ الظَّلَمَةِ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالْقِيَامِ بِذَلِكَ إِذَا أَذَلُّوهُمْ. وَهَذَا الْقَائِلُ حَمَلَ قَوْلَهُ: لَيَبْعَثَنَّ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ [مَرْيَمَ: 83] فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِرْسَالِ التَّخْلِيَةَ، وَتَرْكَ الْمَنْعِ، فَكَذَلِكَ الْبَعْثَةُ، وَهَذَا الْقَائِلُ. قَالَ: الْمُرَادُ بُخْتُنَصَّرُ وَغَيْرُهُ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَالْمُرَادُ التَّحْذِيرُ مِنْ عِقَابِهِ فِي الْآخِرَةِ مَعَ الذِّلَّةِ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ تَابَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْيَهُودِيَّةِ، وَدَخَلَ فِي الْإِيمَانِ باللَّه وبمحمد صلى الله عليه وسلم.

[سورة الأعراف (7) : آية 168]

[سورة الأعراف (7) : آية 168] وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَقَطَّعْناهُمْ أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ [الأعراف: 167] الْمُرَادُ جُمْلَةُ الْيَهُودِ، وَمَعْنَى قَطَّعْناهُمْ أَيْ فَرَّقْنَاهُمْ تَفْرِيقًا شَدِيدًا. فَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: فِي الْأَرْضِ أُمَماً وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا أَرْضَ مَسْكُونَةً إِلَّا وَمِنْهُمْ فِيهَا أُمَّةٌ، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ مِنْ حَالِ الْيَهُودِ، وَمَعْنَى قَطَّعْنَاهُمْ، فَإِنَّهُ قَلَّمَا يُوجَدُ بَلَدٌ إِلَّا وَفِيهِ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ. ثُمَّ قَالَ: مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ قِيلَ الْمُرَادُ الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: يُرِيدُ الَّذِينَ أَدْرَكُوا النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم وآمنوا به وَقَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ أَيْ وَمِنْهُمْ قَوْمٌ دُونَ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ مَنْ أَقَامَ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ مَنْ يَكُونُ صَالِحًا إِلَّا أَنَّ صَلَاحَهُ كَانَ دُونَ صَلَاحِ الْأَوَّلِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ إِلَى الظَّاهِرِ أَقْرَبُ. قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَنْ ثَبَتَ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ وَخَرَجَ مِنَ الصَّلَاحِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ أَيْ عَامَلْنَاهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُبْتَلَى الْمُخْتَبَرِ بِالْحَسَنَاتِ، وَهِيَ النِّعَمُ وَالْخِصْبُ وَالْعَافِيَةُ، وَالسَّيِّئَاتُ هِيَ الْجَدْبُ وَالشَّدَائِدُ، قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ يَدْعُو إِلَى الطَّاعَةِ، أَمَّا النِّعَمُ فَلِأَجْلِ التَّرْغِيبِ، وَأَمَّا النِّقَمُ فَلِأَجْلِ التَّرْهِيبِ. وَقَوْلُهُ: يَرْجِعُونَ يريد كي يتوبوا. [سورة الأعراف (7) : الآيات 169 الى 170] فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْأَوَّلَ مَمْدُوحٌ. وَالثَّانِي مَذْمُومٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِ الصَّالِحِينَ مِنْهُمُ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ خَلْفٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْخَلْفُ مَا أَخْلَفَ عَلَيْكَ مِمَّا أُخِذَ مِنْكَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ يُقَالُ لِلْقَرْنِ الَّذِي يَجِيءُ فِي إِثْرِ قَرْنٍ خَلْفٌ، وَيُقَالُ فِيهِ أَيْضًا خَلَفٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: النَّاسُ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ خَلْفُ صِدْقٍ وَخَلْفُ سُوءٍ، وَخَلْفٌ لِلسُّوءِ لَا غَيْرُ. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ: أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مَنْ قَالَ الْخَلْفُ وَالْخَلَفُ قَدْ يُذْكَرُ فِي الصَّالِحِ وَفِي الرَّدِيءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْخَلْفُ مَخْصُوصٌ بِالذَّمِّ قَالَ لَبِيَدٌ. وَبَقِيتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْخَلْفُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الذَّمِّ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخُلْفِ، وَهُوَ الْفَسَادُ، يُقَالُ لِلرَّدِيءِ مِنَ الْقَوْلِ خُلْفٌ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ الْمَشْهُورُ سَكَتَ أَلْفًا وَنَطَقَ خَلْفًا، وَخَلَفَ الشَّيْءُ يَخْلَفُ خُلُوفًا وَخَلَفًا إِذَا فَسَدَ/ وَكَذَلِكَ الْفَمُ إِذَا تَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهُ. وَقَوْلُهُ: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ جَمِيعُ مَتَاعِ الدُّنْيَا عَرَضٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ، يُقَالُ الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ يَأْكُلُ مِنْهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَأَمَّا الْعَرْضُ بِسُكُونِ الرَّاءِ فَمَا خَالَفَ الْعَيْنَ، أَعْنِي الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَجَمْعُهُ عُرُوضٌ، فَكَانَ كُلُّ عَرْضٍ عَرَضًا وَلَيْسَ كُلُّ عَرَضٍ عَرْضًا، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: عَرَضَ هذَا الْأَدْنى أَيْ حُطَامَ هَذَا الشَّيْءِ الْأَدْنَى يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمَا يَتَمَتَّعُ بِهِ مِنْهَا، وَفِي قَوْلِهِ: هذَا الْأَدْنى تخسيس وتحقير، والْأَدْنى إِمَّا مِنَ الدُّنُوِّ بِمَعْنَى الْقُرْبِ لِأَنَّهُ عَاجِلٌ قَرِيبٌ، وَإِمَّا مِنْ دُنُوِّ الْحَالِ وَسُقُوطِهَا وَقِلَّتِهَا. وَالْمُرَادُ مَا كَانُوا يَأْخُذُونَهُ مِنَ الرِّشَا فِي الْأَحْكَامِ عَلَى تَحْرِيفِ الْكَلَامِ. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَسْتَحْقِرُونَ ذَلِكَ الذَّنْبَ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا. ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ وَالْمُرَادُ الْإِخْبَارُ عَنْ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الذُّنُوبِ. وَقَالَ الْحَسَنُ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ حِرْصِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَمْتِعُونَ مِنْهَا. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى قُبْحَ فِعْلِهِمْ فَقَالَ: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَيِ التَّوْرَاةِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قِيلَ الْمُرَادُ مَنْعُهُمْ عَنْ تَحْرِيفِ الْكِتَابِ وَتَغْيِيرِ الشَّرَائِعِ لِأَجْلِ أَخْذِ الرِّشْوَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ قَالُوا سَيُغْفَرُ لَنَا هَذَا الذَّنْبُ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَذَلِكَ قَوْلٌ بَاطِلٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ التَّوْرَاةِ هُوَ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يُغْفَرُ لَهُ. قُلْنَا: إِنَّهُمْ كَانُوا يَقْطَعُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْكَبِيرَةَ مَغْفُورَةٌ، وَنَحْنُ لَا نَقْطَعُ بِالْغُفْرَانِ بَلْ نَرْجُو الْغُفْرَانَ، وَنَقُولُ: إِنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يُعَذِّبَ اللَّه عَلَيْهَا فَذَلِكَ الْعَذَابُ مُنْقَطِعٌ غَيْرُ دَائِمٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَدَرَسُوا مَا فِيهِ أَيْ فَهُمْ ذَاكِرُونَ لِمَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ قَدْ قَرَءُوهُ وَدَرَسُوهُ. ثُمَّ قَالَ: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ تِلْكَ الرِّشْوَةِ الْخَبِيثَةِ الْمُحَقَّرَةِ أَفَلا يَعْقِلُونَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ يُقَالُ مَسَكْتُ بِالشَّيْءِ وَتَمَسَّكْتُ بِهِ وَاسْتَمْسَكْتُ بِهِ وَامْتَسَكْتُ بِهِ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ يُمَسِّكُونَ مُخَفَّفَةً وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ. أَمَّا حُجَّةُ عَاصِمٍ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ [الْبَقَرَةِ: 229] وَقَوْلُهُ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الْأَحْزَابِ: 37] وَقَوْلُهُ: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [الْمَائِدَةِ: 4] قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالتَّشْدِيدُ أقوى، لأن التشديد للكثرة وهاهنا أُرِيدَ بِهِ الْكَثْرَةُ، وَلِأَنَّهُ يُقَالُ: أَمْسَكْتُهُ، وَقَلَّمَا يُقَالُ أَمْسَكْتُ بِهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ وَالْمَعْنَى: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَهُمْ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الْكَهْفِ: 30] وَهَذَا الْوَجْهُ حَسَنٌ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ مَنْ تَرَكَ التَّمَسُّكَ بِالْكِتَابِ أَرْدَفَهُ بِوَعْدِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: إِنَّا لَا نُضِيعُ/ زِيَادَةً مَذْكُورَةً لِتَأْكِيدِ مَا قَبْلَهُ. فَإِنْ قِيلَ: التَّمَسُّكُ بِالْكِتَابِ يَشْتَمِلُ عَلَى كُلِّ عِبَادَةٍ، وَمِنْهَا إِقَامَةُ الصَّلَاةِ فَكَيْفَ أَفُرِدَتْ بِالذِّكْرِ؟

[سورة الأعراف (7) : آية 171]

قُلْنَا: إِظْهَارًا لِعُلُوِّ مَرْتَبَةِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهَا أَعْظَمُ العبادات بعد الإيمان. [سورة الأعراف (7) : آية 171] وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَصْلُ النَّتْقِ قَلْعُ الشَّيْءِ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَالرَّمْيُ بِهِ. يُقَالُ: نَتَقَ مَا فِي الْجِرَابِ إِذَا رَمَى بِهِ وَصَبَّهُ وَامْرَأَةٌ نَاتِقٌ وَمِنْتَاقٌ إِذَا كَثُرَ وَلَدُهَا لِأَنَّهَا تَرْمِي بِأَوْلَادِهَا رَمْيًا فَمَعْنَى نَتَقْنَا الْجَبَلَ أَيْ قَلَعْنَاهُ مِنْ أَصْلِهِ وَجَعَلْنَاهُ فَوْقَهُمْ وَقَوْلُهُ: كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَأَنَّهُ سَقِيفَةٌ وَالظُّلَّةُ كُلُّ مَا أَظَلَّكَ مِنْ سَقْفِ بَيْتٍ أَوْ سَحَابَةٍ أَوْ جَنَاحِ حَائِطٍ، وَالْجَمْعُ ظُلَلٌ وَظِلَالٌ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَذْكُورَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: عَلِمُوا وَأَيْقَنُوا. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: قَوِيَ فِي نُفُوسِهِمْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ إِنْ خَالَفُوهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ فِي مَعْنَى الظَّنِّ، وَمَضَى الْكَلَامُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَةِ: 46] رُوِيَ أَنَّهُمْ أَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ لِغِلَظِهَا وَثِقَلِهَا، فَرَفَعَ اللَّه الطُّورَ على رؤوسهم مِقْدَارَ عَسْكَرِهِمْ، وَكَانَ فَرْسَخًا فِي فَرْسَخٍ، وَقِيلَ لَهُمْ: إِنْ قَبِلْتُمُوهَا بِمَا فِيهَا وَإِلَّا لَيَقَعَنَّ عَلَيْكُمْ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَى الْجَبَلِ خَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَاجِدًا عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْسَرِ، وَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنِهِ الْيُمْنَى خَوْفًا مِنْ سُقُوطِهِ، فَلِذَلِكَ لَا تَرَى يَهُودِيًّا يَسْجُدُ إِلَّا عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْسَرِ وَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنِهِ الْيُمْنَى، وَيَقُولُونَ هِيَ السَّجْدَةُ الَّتِي رُفِعَتْ عَنَّا بِهَا الْعُقُوبَةُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أَيْ وَقُلْنَا خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ أَوْ قَائِلِينَ: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ مِنَ الْكِتَابِ بِقُوَّةٍ وَعَزْمٍ عَلَى احْتِمَالِ مَشَاقِّهِ وَتَكَالِيفِهِ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، أَيْ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ مِنَ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ بِقُوَّةٍ، إِنْ كُنْتُمْ تُطِيقُونَهُ كَقَوْلِهِ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا [الرَّحْمَنِ: 33] وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ لَعَلَّكُمْ تتقون ما أنتم عليه. [سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 174] وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ تَوَابِعِهَا عَلَى أَقْصَى الْوُجُوهِ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَجْرِي مَجْرَى تَقْرِيرِ الْحُجَّةِ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلِ الْأَثَرِ مَا رَوَى مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ الْجُهَنِيُّ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ: «إِنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ» فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّه فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّه إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ

اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ اللَّه النَّارَ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّه آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَقَالَ مُقَاتِلٌ: «إِنَّ اللَّه مَسَحَ صَفْحَةَ ظَهْرِ آدَمَ الْيُمْنَى فَخَرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةٌ بَيْضَاءُ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ تَتَحَرَّكُ، ثُمَّ مَسَحَ صَفْحَةَ ظَهْرِهِ الْيُسْرَى فَخَرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةٌ سَوْدَاءُ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ فَقَالَ يَا آدَمُ هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى فَقَالَ لِلْبِيضِ هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ بِرَحْمَتِي وَهُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ، وَقَالَ لِلسُّودِ هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي وَهُمْ أصحاب الشمال وأصحاب الْمَشْأَمَةِ ثُمَّ أَعَادَهُمْ جَمِيعًا فِي صُلْبِ آدَمَ، فَأَهْلُ الْقَبُولِ مَحْبُوسُونَ حَتَّى يَخْرُجَ أَهْلُ الْمِيثَاقِ كُلُّهُمْ مِنْ أَصْلَابِ الرِّجَالِ، وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ. وَقَالَ تَعَالَى فِيمَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ الْأَوَّلَ وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ [الْأَعْرَافِ: 102] وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ قُدَمَاءِ الْمُفَسِّرِينَ كَسَعِيدِ بن المسيب، وسعيد بن جبير، والضحاك، وعكرة، وَالْكَلْبِيِّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَنَّهُ أَبْصَرَ آدَمَ فِي ذُرِّيَّتِهِ قَوْمًا لَهُمْ نُورٌ. فَقَالَ يَا رَبِّ مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ الْأَنْبِيَاءُ، وَرَأَى وَاحِدًا هُوَ أَشَدُّهُمْ نُورًا فَقَالَ مَنْ هُوَ؟ قَالَ دَاوُدُ، قَالَ فَكَمْ عُمْرُهُ قَالَ سَبْعُونَ سَنَةً قَالَ آدَمُ: هُوَ قَلِيلٌ قَدْ وَهَبْتُهُ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ عُمُرُ آدَمَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَلَمَّا تَمَّ عُمُرُ آدَمَ تِسْعَمِائَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً أَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ، فَقَالَ بَقِيَ مِنْ أَجَلِي أَرْبَعُونَ سنة، فقال: ألست قد وَهَبْتَهُ مِنَ ابْنِكَ دَاوُدَ؟ فَقَالَ مَا كُنْتُ لِأَجْعَلَ لِأَحَدٍ مِنْ أَجَلِي شَيْئًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ كُتِبَ لِكُلِّ نَفْسٍ أَجَلُهَا. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ: فَقَدْ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذَا الْوَجْهِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ بِوُجُوهٍ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: لَهُمْ قَالُوا: قَوْلُهُ: مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ لَا شَكَّ أن قوله: مِنْ ظُهُورِهِمْ يدل مِنْ قَوْلِهِ: بَنِي آدَمَ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ شَيْئًا. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ شَيْئًا مِنَ الذُّرِّيَّةِ لَمَا قَالَ: مِنْ ظُهُورِهِمْ بَلْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ: مِنْ ظَهْرِهِ، لِأَنَّ آدَمَ لَيْسَ لَهُ إِلَّا ظَهْرٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ذُرِّيَّتَهُمْ لَوْ كَانَ آدَمُ لَقَالَ ذُرِّيَّتَهُ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ أُولَئِكَ الذُّرِّيَّةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَهَذَا الْكَلَامُ يَلِيقُ بِأَوْلَادِ آدَمَ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ مُشْرِكًا. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا مِنَ الْعَاقِلِ، فَلَوْ أَخَذَ اللَّه الْمِيثَاقَ مِنْ أُولَئِكَ الذَّرِّ لَكَانُوا عُقَلَاءَ، وَلَوْ كَانُوا عُقَلَاءَ وَأُعْطُوا ذَلِكَ الْمِيثَاقَ حَالَ عَقْلِهِمْ لَوَجَبَ أَنْ يَتَذَكَّرُوا فِي هَذَا الْوَقْتِ أَنَّهُمْ أُعْطُوا الْمِيثَاقَ قَبْلَ دُخُولِهِمْ فِي هَذَا الْعَالَمِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ عَظِيمَةٌ مَهِيبَةٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ مَعَ كَوْنِهِ عَاقِلًا أَنْ يَنْسَاهَا نِسْيَانًا كُلِّيًّا لَا يَتَذَكَّرُ مِنْهَا شَيْئًا لَا بِالْقَلِيلِ وَلَا بِالْكَثِيرِ، وَبِهَذَا الدَّلِيلِ يَبْطُلُ الْقَوْلُ بِالتَّنَاسُخِ. فَإِنَّا نَقُولُ لَوْ كَانَتْ أَرْوَاحُنَا قَدْ حَصَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ الْأَجْسَادِ فِي أَجْسَادٍ أُخْرَى لَوَجَبَ أَنْ نَتَذَكَّرَ الْآنَ أَنَّا كُنَّا قَبْلَ هَذَا الْجَسَدِ فِي جَسَدٍ آخَرَ، وَحَيْثُ لَمْ نَتَذَكَّرْ ذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ/ بِالتَّنَاسُخِ بَاطِلًا. فَإِذَا كَانَ اعْتِمَادُنَا فِي إِبْطَالِ التَّنَاسُخِ لَيْسَ إِلَّا عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ وَهَذَا الدَّلِيلُ بِعَيْنِهِ قَائِمٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَجَبَ الْقَوْلُ بِمُقْتَضَاهُ، فَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ إِنَّا فِي وَقْتِ الْمِيثَاقِ أُعْطِينَا الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ مَعَ أَنَّا فِي هَذَا الْوَقْتِ لَا نَتَذَكَّرُ شَيْئًا مِنْهُ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ إِنَّا كُنَّا قَبْلَ هَذَا الْبَدَنِ

فِي بَدَنٍ آخَرَ مَعَ أَنَّا فِي هَذَا الْبَدَنِ لَا نَتَذَكَّرُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ مَذْهَبِ أَهْلِ التَّنَاسُخِ فَإِنْ لَمْ يَبْعُدِ الْتِزَامُ هَذَا الْقَوْلِ لَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا الْتِزَامُ مَذْهَبِ التَّنَاسُخِ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ الَّذِينَ خَلَقَهُمُ اللَّه مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ عَدَدٌ عَظِيمٌ وكثيرة، فالمجموع الحاصل من تلك الذرات يَبْلُغُ مَبْلَغًا عَظِيمًا فِي الْحَجْمِيَّةِ وَالْمِقْدَارِ وَصُلْبُ آدَمَ عَلَى صِغَرِهِ يَبْعُدُ أَنْ يَتَّسِعَ لِذَلِكَ الْمَجْمُوعِ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ الْبِنْيَةَ شَرْطٌ لِحُصُولِ الْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ وَالْفَهْمِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَبْعُدْ فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ الْهَبَاءِ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَاهِمًا مُصَنِّفًا لِلتَّصَانِيفِ الْكَثِيرَةِ فِي الْعُلُومِ الدَّقِيقَةِ. وَفَتْحُ هَذَا الْبَابِ يُفْضِي إِلَى الْتِزَامِ الْجَهَالَاتِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبِنْيَةَ شَرْطٌ لِحُصُولِ الْحَيَاةِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الذَّرَّاتِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا فَاهِمًا عَاقِلًا إِلَّا إِذَا حَصَلَتْ لَهُ قُدْرَةٌ مِنَ الْبِنْيَةِ وَاللَّحْمِيَّةِ وَالدَّمِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَجْمُوعُ تِلْكَ الْأَشْخَاصِ الَّذِينَ خَرَجُوا إِلَى الْوُجُودِ مَنْ أَوَّلِ تَخْلِيقِ آدَمَ إِلَى آخِرِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ لَا تَحْوِيهِمْ عَرْصَةُ الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ بِأَسْرِهِمْ حَصَلُوا دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: قَالُوا هَذَا الْمِيثَاقُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَهُ اللَّه مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِيَصِيرَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ لِيَصِيرَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ عِنْدَ دُخُولِهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْمِيثَاقِ لَا يَصِيرُونَ مُسْتَحِقِّينَ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ عِنْدَ دُخُولِهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ الْمِيثَاقَ فِي الدُّنْيَا فَكَيْفَ يَصِيرُ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي التَّمَسُّكِ بِالْإِيمَانِ؟ الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ: إِنَّ حَالَ أُولَئِكَ الذُّرِّيَّةِ لَا يَكُونُ أَعْلَى فِي الْفَهْمِ وَالْعِلْمِ مِنْ حَالِ الْأَطْفَالِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ تَوْجِيهُ التَّكْلِيفِ عَلَى الطِّفْلِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ عَلَى أُولَئِكَ الذَّوَاتِ؟ وَأَجَابَ الزَّجَّاجُ عَنْهُ فَقَالَ: لَمَّا لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُؤْتِيَ اللَّه النمل العقل كما قال: قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ [النَّمْلِ: 18] وَأَنْ يُعْطِيَ الْجَبَلَ الْفَهْمَ حَتَّى يُسَبِّحَ كَمَا قَالَ: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ [الْأَنْبِيَاءِ: 79] وَكَمَا أَعْطَى اللَّه الْعَقْلَ لِلْبَعِيرِ حَتَّى سَجَدَ لِلرَّسُولِ، وَلِلنَّخْلَةِ حَتَّى سَمِعَتْ وَانْقَادَتْ حين دعيت فكذا هاهنا. الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّ أُولَئِكَ الذَّرِّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا كَامِلِي الْعُقُولِ وَالْقَدْرِ أَوْ مَا كَانُوا/ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانُوا مُكَلَّفِينَ لَا مَحَالَةَ وَإِنَّمَا يَبْقُونَ مُكَلَّفِينَ إِذَا عَرَفُوا اللَّه بِالِاسْتِدْلَالِ وَلَوْ كَانُوا كَذَلِكَ لَمَا امْتَازَتْ أَحْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَلَوِ افْتَقَرَ التَّكْلِيفُ فِي الدُّنْيَا إِلَى سَبْقِ ذَلِكَ الْمِيثَاقِ لا فتقر التَّكْلِيفُ فِي وَقْتِ ذَلِكَ الْمِيثَاقِ إِلَى سَبْقِ مِيثَاقٍ آخَرَ وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ فِي وَقْتِ ذَلِكَ الْمِيثَاقِ مَا كَانُوا كَامِلِي الْعُقُولِ وَلَا كَامِلِي الْقَدْرِ، فَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ تَوْجِيهُ الْخِطَابِ وَالتَّكْلِيفُ عَلَيْهِمْ. الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ [الطَّارِقِ: 5، 6] وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الذَّرَّاتُ عُقَلَاءَ فَاهِمِينَ كَامِلِينَ، لَكَانُوا مَوْجُودِينَ قَبْلَ هَذَا الْمَاءِ الدَّافِقِ وَلَا مَعْنَى لِلْإِنْسَانِ إِلَّا ذَلِكَ الشَّيْءُ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ مَخْلُوقًا مِنَ الْمَاءِ الدَّافِقِ وَذَلِكَ رَدٌّ لِنَصِّ الْقُرْآنِ.

فَإِنْ قَالُوا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى خلقه كامل العقل والفهم والقدرة عِنْدَ الْمِيثَاقِ ثُمَّ أَزَالَ عَقْلَهُ وَفَهْمَهُ وَقُدْرَتَهُ؟ ثُمَّ إِنَّهُ خَلَقَهُ مَرَّةً أُخْرَى فِي رَحِمِ الْأُمِّ وَأَخْرَجَهُ إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ. قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ خَلَقَهُ مِنَ النُّطْفَةِ خَلْقًا عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ خَلْقًا عَلَى سَبِيلِ الْإِعَادَةِ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ خَلْقَهُ مِنَ النُّطْفَةِ هُوَ الْخَلْقُ الْمُبْتَدَأُ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ بَاطِلٌ. الْحُجَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: هِيَ أَنَّ تِلْكَ الذَّرَّاتِ إِمَّا أَنْ يُقَالَ هِيَ عَيْنُ هَؤُلَاءِ النَّاسِ أَوْ غَيْرِهِمْ وَالْقَوْلُ الثَّانِي بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، بَقِيَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ بَقُوا فُهَمَاءَ عُقَلَاءَ قَادِرِينَ حَالَ مَا كَانُوا نُطْفَةً وَعَلَقَةً وَمُضْغَةً أَوْ مَا بَقُوا كَذَلِكَ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ. وَالثَّانِي: يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ الْإِنْسَانُ حَصَلَ لَهُ الْحَيَاةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَوَّلُهَا وَقْتَ الْمِيثَاقِ، وَثَانِيهَا فِي الدُّنْيَا، وَثَالِثُهَا فِي الْقَبْرِ، وَرَابِعُهَا فِي الْقِيَامَةِ. وَأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ الْمَوْتُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. مَوْتٌ بَعْدَ الْحَيَاةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْمِيثَاقِ الْأَوَّلِ، وَمَوْتٌ فِي الدُّنْيَا، وَمَوْتٌ فِي الْقَبْرِ، وَهَذَا الْعَدَدُ مُخَالِفٌ لِلْعَدَدِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غَافِرٍ: 11] . الْحُجَّةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنين: 12] فَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ بِهَذَا الذَّرِّ صَحِيحًا لَكَانَ ذَلِكَ الذَّرُّ هُوَ الْإِنْسَانُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُكَلَّفُ الْمُخَاطَبُ الْمُثَابُ الْمُعَاقَبُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ. لِأَنَّ ذَلِكَ الذَّرَّ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنَ النُّطْفَةِ، وَالْعَلَقَةِ، وَالْمُضْغَةِ، وَنَصُّ الْكِتَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ مِنَ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ وَقَوْلُهُ: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ [عَبَسَ: 17- 19] فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُ أَصْحَابِ النَّظَرِ وَأَرْبَابِ الْمَعْقُولَاتِ: إِنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ الذُّرِّيَّةَ وَهُمُ الْأَوْلَادُ مِنْ أَصْلَابِ آبَائِهِمْ وَذَلِكَ الْإِخْرَاجُ أَنَّهُمْ كَانُوا نُطْفَةً فَأَخْرَجَهَا اللَّه تَعَالَى فِي أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ، وَجَعَلَهَا عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ جَعَلَهُمْ بَشَرًا سَوِيًّا، وَخَلْقًا كَامِلًا ثُمَّ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا رَكَّبَ فِيهِمْ مِنْ دَلَائِلِ وَحْدَانِيَّتِهِ، وَعَجَائِبِ خَلْقِهِ، وَغَرَائِبِ صُنْعِهِ. فَبِالْإِشْهَادِ صَارُوا كَأَنَّهُمْ قَالُوا بَلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ مِنْهَا قوله تَعَالَى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فُصِّلَتْ: 11] وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] وَقَوْلُ الْعَرَبِ: قَالَ الْجِدَارُ لِلْوَتِدِ لِمَ تَشُقُّنِي ... قَالَ سَلْ مَنْ يَدُقُّنِي فَإِنَّ الَّذِي وَرَايِي ... مَا خَلَّانِي وَرَايِي وَقَالَ الشَّاعِرُ: امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَةِ مَشْهُورٌ فِي الْكَلَامِ، فَوَجَبَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي تَقْرِيرِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي لَا طَعْنَ فِيهِ الْبَتَّةَ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَصِحَّ هَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِصِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: إِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ هَلْ يَصِحُّ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا الْمُخْتَارُ عِنْدَكُمْ فيه؟

قلنا: هاهنا مَقَامَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَنِ الذَّرِّ؟ وَالثَّانِي: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يصح القول به، فهل يمكن جعله تفسير الألفاظ هَذِهِ الْآيَةِ؟ أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَالْمُنْكِرُونَ لَهُ قَدْ تَمَسَّكُوا بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَقَرَّرْنَاهَا، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِوَجْهٍ مُقْنِعٍ. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: مِنَ الْوُجُوهِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ الْقَوْلُ بِأَخْذِ هَذَا الْمِيثَاقِ لَوَجَبَ أَنْ نَتَذَكَّرَهُ الْآنَ. قُلْنَا: خَالِقُ الْعِلْمِ بِحُصُولِ الْأَحْوَالِ الْمَاضِيَةِ هُوَ اللَّه تَعَالَى لِأَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ عَقْلِيَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ. وَالْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ خَالِقُهَا هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ مِنْهُ تَعَالَى أَنْ يَخْلُقَهَا. فَإِنْ قَالُوا: فَإِذَا جَوَّزْتُمْ هَذَا، فَجَوِّزُوا أَنْ يُقَالَ: إن قَبْلَ هَذَا الْبَدَنِ كُنَّا فِي أَبْدَانٍ أُخْرَى عَلَى سَبِيلِ التَّنَاسُخِ وَإِنْ كُنَّا لَا نَتَذَكَّرُ الْآنَ أَحْوَالَ تِلْكَ الْأَبْدَانِ! قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ظَاهِرٌ وَذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا كُنَّا فِي أَبْدَانٍ أُخْرَى، وَبَقِينَا فِيهَا سِنِينَ وَدُهُورًا، امْتَنَعَ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ نِسْيَانُهَا، أَمَّا أَخْذُ هَذَا الْمِيثَاقِ إِنَّمَا حَصَلَ فِي أَسْرَعِ زَمَانٍ، وَأَقَلِّ وَقْتٍ فَلَمْ/ يَبْعُدْ حُصُولُ النِّسْيَانِ فِيهِ، وَالْفَرْقُ الظَّاهِرُ حَاكِمٌ بِصِحَّةِ هَذَا الْفَرْقِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا بَقِيَ عَلَى الْعَمَلِ الْوَاحِدِ سِنِينَ كَثِيرَةً يَمْتَنِعُ أَنْ يَنْسَاهُ، أَمَّا إِذَا مَارَسَ الْعَمَلَ الْوَاحِدَ لَحْظَةً وَاحِدَةً فَقَدْ يَنْسَاهُ، فَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَجْمُوعُ تِلْكَ الذَّرَّاتِ يَمْتَنِعُ حُصُولُهَا بِأَسْرِهَا فِي ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قُلْنَا: عِنْدَنَا الْبِنْيَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا لِحُصُولِ الْحَيَاةِ، وَالْجَوْهَرُ الْفَرْدُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ، قَابِلٌ لِلْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ، فَإِذَا جَعَلْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الذَّرَّاتِ جَوْهَرًا فَرْدًا، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ ظَهْرَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَتَّسِعُ لِمَجْمُوعِهَا؟ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا قُلْنَا: الْإِنْسَانُ جَوْهَرٌ فَرْدٌ. وَجُزْءٌ لَا يَتَجَزَّأُ فِي الْبَدَنِ. عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْقُدَمَاءِ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: الْإِنْسَانُ هُوَ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ، وَإِنَّهُ جَوْهَرٌ غَيْرُ مُتَحَيِّزٍ، وَلَا حَالَ فِي الْمُتَحَيِّزِ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ فَائِدَةُ أَخْذِ الْمِيثَاقِ هِيَ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؟ فَجَوَابُنَا أَنْ نَقُولَ: يَفْعَلُ اللَّه مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَأَيْضًا أَلَيْسَ أَنَّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ إِذَا أَرَادُوا تَصْحِيحَ الْقَوْلِ بِوَزْنِ الْأَعْمَالِ، وَإِنْطَاقِ الْجَوَارِحِ قَالُوا: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِبَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ فِي إِسْمَاعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لُطْفٌ؟ فَكَذَا هاهنا لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِبَعْضِ الْمَلَائِكَةِ فِي تَمْيِيزِ السُّعَدَاءِ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ فِي وَقْتِ أَخْذِ الْمِيثَاقِ لُطْفٌ. وَقِيلَ أَيْضًا إِنَّ اللَّه تَعَالَى يُذَكِّرُهُمْ ذَلِكَ الْمِيثَاقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَقِيَّةُ الْوُجُوهِ ضَعِيفَةٌ وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا سَهْلٌ هَيِّنٌ. وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَصِحَّ الْقَوْلُ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ مِنَ الذَّرِّ. فَهَلْ يُمْكِنُ جَعْلُهُ تَفْسِيرًا لِأَلْفَاظِ هَذِهِ الْآيَةِ؟ فَنَقُولُ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ أَوَّلًا دَافِعَةٌ لِذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فقد بينا أن المراد منه، وإذا أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الذُّرِّيَّةُ مَأْخُوذَةً مَنْ ظَهْرِ آدَمَ لَقَالَ مِنْ ظَهْرِهِ ذُرِّيَّتَهُ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ. أَجَابَ النَّاصِرُونَ لِذَلِكَ الْقَوْلِ: بِأَنَّهُ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَذَا الْوَجْهِ وَالطَّعْنُ فِي تَفْسِيرِ رَسُولِ اللَّه غَيْرُ مُمْكِنٍ. فَنَقُولُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ الذَّرَّ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ فَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ الشَّخْصَ الْفُلَانِيَّ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ فُلَانٌ

وَذَلِكَ الْفُلَانُ فُلَانٌ آخَرُ، فَعَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي عُلِمَ دُخُولُهُمْ فِي الْوُجُودِ يُخْرِجُهُمْ وَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَأَمَّا أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُ كُلَّ تِلْكَ الذُّرِّيَّةِ مِنْ صُلْبِ آدَمَ، فَلَيْسَ فِي لَفْظِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ، إِلَّا أَنَّ الْخَبَرَ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ إِخْرَاجُ الذُّرِّيَّةِ مِنْ ظُهُورِ/ بَنِي آدَمَ بِالْقُرْآنِ، وَثَبَتَ إِخْرَاجُ الذُّرِّيَّةِ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِالْخَبَرِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَلَا مُدَافَعَةَ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِمَا مَعًا. صَوْنًا لِلْآيَةِ. وَالْخَبَرُ عَنِ الطَّعْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، فَهَذَا مُنْتَهَى الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَقَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثانية: قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو ذُرِّيَّاتِهِمْ بِالْأَلْفِ عَلَى الْجَمْعِ وَالْبَاقُونَ ذُرِّيَّتَهُمْ عَلَى الْوَاحِدِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الذُّرِّيَّةُ تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. فَمَنْ أَفْرَدَ فَإِنَّهُ قَدِ اسْتَغْنَى عَنْ جمعه بوقوعه عَلَى الْجَمْعِ فَصَارَ كَالْبَشَرِ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَى الواحد كقوله: ما هذا بَشَراً وَعَلَى الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا [التَّغَابُنِ: 6] وَقَوْلُهُ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَكَمَا لَمْ يُجْمَعْ بَشَرٌ بِتَصْحِيحٍ وَلَا تَكْسِيرٍ كَذَلِكَ لَا يُجْمَعُ الذُّرِّيَّةُ وَمَنْ جَمَعَ قَالَ: إِنَّ الذُّرِّيَّةَ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَلَا إِشْكَالَ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ جَمْعًا فَجَمْعُهُ أَيْضًا حَسُنٌ، لِأَنَّكَ قَدْ رَأَيْتَ الْجُمُوعَ الْمُكَسَّرَةَ قَدْ جُمِعَتْ. نَحْوَ الطُّرُقَاتِ وَالْجَدَرَاتِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ يُونُسَ أَمَّا قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى فَنَقُولُ: أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ أَثْبَتَ الْمِيثَاقَ الْأَوَّلَ فَكُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ أَنْكَرَهُ قَالَ: إِنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّمْثِيلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى نَصَبَ لَهُمُ الْأَدِلَّةَ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ، وَشَهِدَتْ بِهَا عُقُولُهُمْ، فَصَارَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى مَا إِذَا أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا وَإِقْرَارِنَا بِوَحْدَانِيَّتِهِ، أَمَّا قَوْلُهُ: شَهِدْنا فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا بَلى قَالَ اللَّه لِلْمَلَائِكَةِ اشْهَدُوا فَقَالُوا شَهِدْنَا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: قالُوا بَلى لِأَنَّ كَلَامَ الذرية قد انقطع هاهنا وَقَوْلُهُ: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ تَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا شَهِدْنَا عَلَيْهِمْ بِالْإِقْرَارِ، لِئَلَّا يَقُولُوا مَا أَقْرَرْنَا، فَأَسْقَطَ كَلِمَةَ «لَا» كَمَا قَالَ: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النَّحْلِ: 15] يُرِيدُ لِئَلَّا تَمِيدَ بِكُمْ، هَذَا قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ، وَعِنْدَ البصريين تقريره: شَهِدْنَا كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولُوا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: شَهِدْنا مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ الذُّرِّيَّةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ، فَقَوْلُهُ: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَالتَّقْدِيرُ: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، بِكَذَا وَكَذَا، لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ أَوْ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، فَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: شَهِدْنا لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ يَقُولُوا مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَأَشْهَدَهُمْ فَلَمْ يَجُزْ قَطْعُهُ مِنْهُ. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَقُولُوا أَوْ تَقُولُوا: فَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِالْيَاءِ جَمِيعًا، لِأَنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى الْغَيْبَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ... - وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ لِئَلَّا يَقُولُوا وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ، لِأَنَّهُ قَدْ جَرَى فِي الْكَلَامِ خِطَابٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ حَسَنٌ، لِأَنَّ الْغَائِبِينَ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ فِي الْمَعْنَى. أَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمَعْنَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْإِشْهَادِ أَنْ لَا يَقُولَ الْكُفَّارُ إِنَّمَا أَشْرَكْنَا، لِأَنَّ آبَاءَنَا أَشْرَكُوا، فَقَلَّدْنَاهُمْ فِي ذَلِكَ الشِّرْكِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ امْتَنَعَ عَلَيْهِمُ التَّمَسُّكُ بِهَذَا الْقَدْرِ. وَأَمَّا الذين

[سورة الأعراف (7) : الآيات 175 إلى 176]

حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مُجَرَّدُ نَصْبِ الدَّلَائِلِ. قَالُوا: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّا نَصَبْنَا هذه هَذِهِ الدَّلَائِلَ، وَأَظْهَرْنَاهَا لِلْعُقُولِ كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ فَمَا نَبَّهَنَا عَلَيْهِ مُنَبِّهٌ أَوْ كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكْنَا عَلَى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ لِأَسْلَافِنَا، لِأَنَّ نَصْبَ الْأَدِلَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ قَائِمٌ مَعَهُمْ، فَلَا عُذْرَ لَهُمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهُ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى التَّقْلِيدِ وَالِاقْتِدَاءِ بِالْآبَاءِ. ثُمَّ قَالَ: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِثْلَ مَا فَصَّلْنَا وَبَيَّنَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، بَيَّنَّا سَائِرَ الْآيَاتِ لِيَتَدَبَّرُوهَا فَيَرْجِعُوا إِلَى الْحَقِّ وَيُعْرِضُوا عَنِ الْبَاطِلِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقِيلَ: أَيْ مَا أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمِيثَاقِ فِي التَّوْحِيدِ، وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ مَوْجُودَةٌ قَبْلَ الْأَبْدَانِ، وَالْإِقْرَارَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ مِنْ لَوَازِمِ ذَوَاتِهَا وَحَقَائِقِهَا، وَهَذَا الْعِلْمُ لَيْسَ يَحْتَاجُ فِي تَحْصِيلِهِ إِلَى كَسْبٍ وَطَلَبٍ، وَهَذَا الْبَحْثُ إِنَّمَا يَنْكَشِفُ تَمَامَ الِانْكِشَافِ بِأَبْحَاثٍ عَقْلِيَّةٍ غَامِضَةٍ، لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهَا فِي هَذَا الكتاب. واللَّه أعلم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 175 الى 176] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) [في قوله تعالى وَاتْلُ عَلَيْهِمْ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ رَحِمَهُمُ اللَّه: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي بَلْعَمَ/ بْنِ بَاعُورَاءَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَصَدَ بَلَدَهُ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَغَزَا أَهْلَهُ وَكَانُوا كُفَّارًا، فَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْمِهِ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَعِنْدَهُ اسْمُ اللَّه الْأَعْظَمُ فَامْتَنَعَ مِنْهُ، فَمَا زَالُوا يَطْلُبُونَهُ مِنْهُ حَتَّى دَعَا عَلَيْهِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ وَوَقَعَ مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيلَ فِي التِّيهِ بِدُعَائِهِ، فَقَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ بِأَيِّ ذَنْبٍ وَقَعْنَا فِي التِّيهِ. فَقَالَ: بِدُعَاءِ بَلْعَمَ. فَقَالَ: كَمَا سَمِعْتَ دُعَاءَهُ عَلَيَّ، فَاسْمَعْ دُعَائِي عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَا مُوسَى عَلَيْهِ أَنْ يَنْزِعَ مِنْهُ اسْمَ اللَّه الْأَعْظَمَ وَالْإِيمَانَ، فَسَلَخَهُ اللَّه مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَنَزَعَ مِنْهُ الْمَعْرِفَةَ. فَخَرَجَتْ مِنْ صَدْرِهِ كَحَمَامَةٍ بَيْضَاءَ فَهَذِهِ قِصَّتُهُ. وَيُقَالُ أَيْضًا: إِنَّهُ كَانَ نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّه، فَلَمَّا دَعَا عَلَيْهِ مُوسَى انْتَزَعَ اللَّه مِنْهُ الْإِيمَانَ وَصَارَ كَافِرًا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَأَبُو رَوْقٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَكَانَ قَدْ قَرَأَ الْكُتُبَ، وَعَلِمَ أَنَّ اللَّه مُرْسِلٌ رَسُولًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَرَجَا أَنْ يَكُونَ هُوَ، فَلَمَّا أَرْسَلَ اللَّه مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَسَدَهُ، ثُمَّ مَاتَ كَافِرًا، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آمن شعره وكفر قبله» يُرِيدُ أَنَّ شِعْرَهُ كَشِعْرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُوَحِّدُ اللَّه فِي شِعْرِهِ، وَيَذْكُرُ دَلَائِلَ تَوْحِيدِهِ من خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَأَحْوَالِ الْآخِرَةِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبِ الَّذِي سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَاسِقَ كَانَ يَتَرَهَّبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ وَأَمَرَ الْمُنَافِقِينَ بِاتِّخَاذِ مَسْجِدِ ضِرَارٍ، وَأَتَى قَيْصَرَ وَاسْتَنْجَدَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَاتَ هُنَاكَ طَرِيدًا وَحِيدًا، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي مُنَافِقِي أَهْلِ الْكِتَابِ، كَانُوا يَعْرِفُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ الْحَسَنِ وَالْأَصَمِّ وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِيمَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَعِكْرِمَةَ، وَأَبِي مُسْلِمٍ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ نَبِيًّا، ثُمَّ صَارَ كَافِرًا؟ قُلْنَا: هَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَامِ: 124] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُشَرِّفُ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ بِالرِّسَالَةِ، إِلَّا إِذَا عَلِمَ امْتِيَازَهُ عَنْ سَائِرِ الْعَبِيدِ بِمَزِيدِ الشَّرَفِ، وَالدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ، وَالْمَنَاقِبِ الْعَظِيمَةِ، فَمَنْ كَانَ هَذَا حَالَهُ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ الْكُفْرُ؟ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: آتَيْناهُ آياتِنا يَعْنِي: عَلَّمْنَاهُ حُجَجَ التَّوْحِيدِ، وَفَهَّمْنَاهُ أَدِلَّتَهُ، حَتَّى صَارَ عَالِمًا بِهَا فَانْسَلَخَ مِنْها أَيْ خَرَجَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّه إِلَى مَعْصِيَتِهِ، وَمِنْ رَحْمَةِ اللَّه إِلَى سُخْطِهِ، وَمَعْنَى انْسَلَخَ: خَرَجَ مِنْهَا. يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ فَارَقَ شَيْئًا بِالْكُلِّيَّةِ انْسَلَخَ مِنْهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّه، فَقَالَ قَوْلُهُ: آتَيْناهُ آياتِنا أَيْ بَيَّنَاهَا فَلَمْ يَقْبَلْ وَعَرِيَ مِنْهَا، وَسَوَاءٌ قَوْلُكَ: انْسَلَخَ، وَعَرِيَ، وَتَبَاعَدَ، وَهَذَا يَقَعُ عَلَى كُلِّ كَافِرٍ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْأَدِلَّةِ، وَأَقَامَ عَلَى الْكُفْرِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً [النِّسَاءِ: 47] وَقَالَ فِي حَقِّ فِرْعَوْنَ: وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى [طه: 56] وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَوْصُوفُ فِرْعَوْنَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ إِلَيْهِ مُوسَى وَهَارُونَ، فَأَعْرَضَ وَأَبَى، وَكَانَ عَادِيًا ضَالًّا مُتَّبِعًا لِلشَّيْطَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ: هُوَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، كَانَ عَالِمًا بِدِينِ اللَّه وَتَوْحِيدِهِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي لَمَّا آتَاهُ اللَّه الدَّلَائِلَ وَالْبَيِّنَاتِ امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ انْسَلَخَ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِيهَا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا، وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي إِنْسَانٍ كَانَ عَالِمًا بِدِينِ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ إِلَى الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ كُفَّارَ الْإِنْسِ وَغُوَاتَهُمْ، أَيِ الشَّيْطَانُ جَعَلَ كُفَّارَ الْإِنْسِ أَتْبَاعًا لَهُ. وَالثَّانِي: قَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ مُسْلِمٍ فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ أَيْ أَدْرَكَهُ. يُقَالُ: أَتْبَعْتُ الْقَوْمَ. أَيْ لَحِقْتُهُمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَيُقَالُ: أَتْبَعْتُ الْقَوْمَ، مِثَالُ: أَفْعَلْتُ إِذَا كَانُوا قَدْ سَبَقُوكَ فَلَحِقْتَهُمْ. وَيُقَالُ: مَا زِلْتُ أَتْبَعُهُمْ حَتَّى أَتْبَعْتُهُمْ. أَيْ حَتَّى أَدْرَكْتُهُمْ. وَقَوْلُهُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ أَيْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ فَكَانَ مِنَ الظَّالِمِينَ. قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: الْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ مَنْ أُوتِيَ الْهُدَى، فَانْسَلَخَ مِنْهُ إِلَى الضَّلَالِ وَالْهَوَى وَالْعَمَى، وَمَالَ إِلَى الدُّنْيَا، حَتَّى تَلَاعَبَ بِهِ الشَّيْطَانُ كَانَ مُنْتَهَاهُ إِلَى الْبَوَارِ وَالرَّدَى، وَخَابَ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، فَذَكَرَ اللَّه قِصَّتَهُ لِيَحْذَرَ النَّاسُ عَنْ مِثْلِ حَالَتِهِ. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها قَالَ أَصْحَابُنَا مَعْنَاهُ: وَلَوْ شِئْنَا رَفَعْنَاهُ لِلْعَمَلِ بِهَا، فَكَانَ يَرْفَعُ بِوَاسِطَةِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَنْزِلَتَهُ، وَلَفْظَةُ (لَوْ) تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ لَا يُرِيدُ الْإِيمَانَ، وَقَدْ يُرِيدُ الْكُفْرَ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَفْظُ الْآيَةِ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أُخْرَى سِوَى هَذَا الْوَجْهِ. فَالْأَوَّلُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ مَعْنَاهُ: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِأَعْمَالِهِ، بِأَنْ نُكْرِمَهُ، وَنُزِيلَ التَّكْلِيفَ عَنْهُ، قَبْلَ ذَلِكَ الْكُفْرِ حَتَّى نُسَلِّمَ لَهُ الرِّفْعَةَ، لَكِنَّا رَفَعْنَاهُ بِزِيَادَةِ التَّكْلِيفِ بِمَنْزِلَةٍ زَائِدَةٍ، فَأَبَى أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى الْإِيمَانِ. الثَّانِي: لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ، بِأَنْ نَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُفْرِ، قَهْرًا وَجَبْرًا، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي التَّكْلِيفَ. فَلَا جَرَمَ تَرَكْنَاهُ مَعَ اخْتِيَارِهِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ حَمْلَ الرِّفْعَةِ عَلَى الإماتة بَعِيدٌ، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا مَنَعَهُ مِنْهُ قَهْرًا، لَمْ يَكُنْ

ذَلِكَ مُوجِبًا لِلثَّوَابِ وَالرِّفْعَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ قَالَ أَصْحَابُ الْعَرَبِيَّةِ: أَصْلُ الْإِخْلَادِ اللُّزُومُ عَلَى/ الدَّوَامِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَزِمَ الْمَيْلُ إِلَى الْأَرْضِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: أَخْلَدَ فُلَانٌ بِالْمَكَانِ، إِذَا لَزِمَ الْإِقَامَةَ بِهِ. قَالَ مَالِكُ بْنُ سُوِيدٍ: بِأَبْنَاءِ حَيٍّ مِنْ قَبَائِلِ مَالِكٍ ... وَعَمْرِو بْنِ يَرْبُوعٍ أَقَامُوا فَأَخْلَدُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ يُرِيدُ مَالَ إِلَى الدُّنْيَا، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بِالدُّنْيَا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: سَكَنَ إِلَى الدُّنْيَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَهَؤُلَاءِ فَسَّرُوا الْأَرْضَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالدُّنْيَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدُّنْيَا هِيَ الْأَرْضُ، لِأَنَّ مَا فِيهَا مِنَ الْعَقَارِ وَالضِّيَاعِ وَسَائِرِ أَمْتِعَتِهَا مِنَ الْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ مُسْتَخْرَجٌ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا يَقْوَى وَيَكْمُلُ بِهَا، فَالدُّنْيَا كُلُّهَا هِيَ الْأَرْضُ، فَصَحَّ أَنْ يُعَبَّرَ عَنِ الدُّنْيَا بِالْأَرْضِ، وَنَقُولُ: لَوْ جَاءَ الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَقِيلَ لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ، وَلَكِنَّا لَمْ نَشَأْ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ لَمَّا دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا جَرَمَ أُقِيمَ مُقَامَهُ قَوْلُهُ: وَاتَّبَعَ هَواهُ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنِ التَّمَسُّكِ بِمَا آتَاهُ اللَّه مِنَ الْآيَاتِ وَاتَّبَعَ الْهَوَى، فَلَا جَرَمَ وَقَعَ فِي هَاوِيَةِ الرَّدَى، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَشَدِّ الْآيَاتِ عَلَى أَصْحَابِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ خَصَّ هَذَا الرَّجُلَ بِآيَاتِهِ وَبَيِّنَاتِهِ، وَعَلَّمَهُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَخَصَّهُ بِالدَّعَوَاتِ الْمُسْتَجَابَةِ، لَمَّا اتَّبَعَ الْهَوَى انْسَلَخَ مِنَ الدِّينِ وَصَارَ فِي دَرَجَةِ الْكَلْبِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَتْ نِعَمُ اللَّه فِي حَقِّهِ أَكْثَرَ، فَإِذَا أَعْرَضَ عَنْ مُتَابَعَةِ الْهُدَى وَأَقْبَلَ عَلَى مُتَابَعَةِ الْهَوَى، كَانَ بُعْدُهُ عَنِ اللَّه أَعْظَمَ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنِ ازْدَادَ عِلْمًا، وَلَمْ يَزْدَدْ هُدًى لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّه إِلَّا بُعْدًا» أَوْ لَفْظٌ هَذَا مَعْنَاهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ قال الليث: هو اللَّهْثُ هُوَ أَنَّ الْكَلْبَ إِذَا نَالَهُ الْإِعْيَاءُ عِنْدَ شِدَّةِ الْعَدْوِ وَعِنْدَ شِدَّةِ الْحَرِّ، فَإِنَّهُ يُدْلِعُ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّمْثِيلَ مَا وَقَعَ بِجَمِيعِ الْكِلَابِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ بِالْكَلْبِ اللَّاهِثِ، وَأَخَسُّ الْحَيَوَانَاتِ هُوَ الْكَلْبُ، وَأَخَسُّ الْكِلَابِ هُوَ الْكَلْبُ اللَّاهِثُ، فَمَنْ آتَاهُ اللَّه الْعِلْمَ وَالدِّينَ فَمَالَ إِلَى الدُّنْيَا، وَأَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ، كَانَ مُشَبَّهًا بِأَخَسِّ الْحَيَوَانَاتِ، وَهُوَ الْكَلْبُ اللاهث، وفي تقرير هذا التمثيل وجوه: لأول: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَلْهَثُ فَإِنَّمَا يَلْهَثُ مِنْ إِعْيَاءٍ أَوْ عَطَشٍ إِلَّا الْكَلْبَ اللَّاهِثَ فَإِنَّهُ يَلْهَثُ فِي حَالِ الْإِعْيَاءِ، وَفِي حَالِ الرَّاحَةِ، وَفِي حَالِ الْعَطَشِ، وَفِي حَالِ الرِّيِّ، فَكَانَ ذَلِكَ عَادَةً مِنْهُ وَطَبِيعَةً، وَهُوَ مُوَاظِبٌ عَلَيْهِ كعادته الأصلية، وطبيعة الْخَسِيسَةِ، لَا لِأَجْلِ حَاجَةٍ وَضَرُورَةٍ، فَكَذَلِكَ مَنْ آتاه اللَّه العلم والدين أغناه عَنِ التَّعَرُّضِ لِأَوْسَاخِ أَمْوَالِ النَّاسِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَمِيلُ إِلَى طَلَبِ الدُّنْيَا، وَيُلْقِي نَفْسَهُ فِيهَا، كَانَتْ حَالُهُ كَحَالِ ذَلِكَ اللَّاهِثِ، حَيْثُ وَاظَبَ عَلَى الْعَمَلِ الْخَسِيسِ، وَالْفِعْلِ الْقَبِيحِ، لِمُجَرَّدِ نَفْسِهِ الْخَبِيثَةِ. وَطَبِيعَتِهِ الْخَسِيسَةِ، لَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّجُلَ الْعَالِمَ إِذَا تَوَسَّلَ/ بِعِلْمِهِ إِلَى طَلَبِ الدُّنْيَا، فَذَاكَ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَجْلِ أَنَّهُ يُورِدُ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعَ عُلُومِهِ وَيُظْهِرُ عِنْدَهُمْ فَضَائِلَ نَفْسِهِ وَمَنَاقِبَهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عِنْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ، وَتَقْرِيرِ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ يُدْلِعُ لِسَانَهُ، وَيُخْرِجُهُ لِأَجْلِ مَا تَمَكَّنَ فِي قَلْبِهِ مِنْ حَرَارَةِ الْحِرْصِ وَشِدَّةِ الْعَطَشِ إِلَى الْفَوْزِ بِالدُّنْيَا، فَكَانَتْ حَالَتُهُ شَبِيهَةً بِحَالَةِ ذَلِكَ الْكَلْبِ الَّذِي أَخْرَجَ لِسَانَهُ أَبَدًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا ضَرُورَةٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ الطَّبِيعَةِ الْخَسِيسَةِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْكَلْبَ اللَّاهِثَ لَا يَزَالُ لَهْثُهُ الْبَتَّةَ، فَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ الْحَرِيصُ لَا يَزَالُ حِرْصُهُ الْبَتَّةَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْكَلْبَ إِنْ شُدَّ عَلَيْهِ وَهُيِّجَ لَهَثَ وَإِنْ تُرِكَ أَيْضًا

[سورة الأعراف (7) : آية 177]

لَهَثَ، لِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ الْقَبِيحَ طَبِيعَةٌ أَصْلِيَّةٌ لَهُ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْحَرِيصُ الضَّالُّ إِنْ وَعَظْتَهُ فَهُوَ ضَالٌّ، وَإِنْ لَمْ تَعِظْهُ فَهُوَ ضال لأجل أن ذلك الضلال والخسارة عادة أصلية وطبيعة ذَاتِيَّةٌ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا مَحَلُّ قَوْلِهِ: إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ. قُلْنَا: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، كَأَنَّهُ قِيلَ كَمَثَلِ الْكَلْبِ ذَلِيلًا لَاهِثًا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَعَمَّ بِهَذَا التَّمْثِيلِ جَمِيعَ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللَّه قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ هَادِيًا يَهْدِيهِمْ وَدَاعِيًا يَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَةِ اللَّه، ثُمَّ جَاءَهُمْ مَنْ لَا يَشُكُّونَ فِي صِدْقِهِ وَدِيَانَتِهِ فَكَذَّبُوهُ، فَحَصَلَ التَّمْثِيلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكَلْبِ الَّذِي إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا لَمَّا تُرِكُوا وَلَمْ يَهْتَدُوا لَمَّا جَاءَهُمُ الرَّسُولُ فَبَقُوا عَلَى الضَّلَالِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ مِثْلَ هَذَا الْكَلْبِ الَّذِي بَقِيَ عَلَى اللَّهْثِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ. ثُمَّ قَالَ: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ يُرِيدُ قَصَصَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا أَنْبِيَاءَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ يُرِيدُ يتعظون. [سورة الأعراف (7) : آية 177] ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ بَعْدَ تَمْثِيلِهِمْ بِالْكَلْبِ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَزَجَرَ بِذَلِكَ عَنِ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ أَكَّدَهُ فِي بَابِ الزَّجْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ساءَ مَثَلًا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ اللَّيْثُ: ساء يسوء فعل لازم ومتعد يقال: ساءت الشيء يسوء فهو سيء إِذَا قَبُحَ وَسَاءَهُ يَسُوءُهُ مَسَاءَةً. قَالَ النَّحْوِيُّونَ: تَقْدِيرُهُ سَاءَ مَثَلًا، مَثَلُ الْقَوْمِ انْتَصَبَ مَثَلًا عَلَى التَّمْيِيزِ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ سَاءَ جَازَ أَنْ تَذْكُرَ شَيْئًا آخَرَ سِوَى مَثَلًا، فَلَمَّا ذَكَرْتَ نَوْعًا، فَقَدْ مَيَّزْتَهُ مِنْ سَائِرِ/ الْأَنْوَاعِ وَقَوْلُكَ الْقَوْمُ ارْتِفَاعُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَيَكُونُ قَوْلُكَ سَاءَ مَثَلًا خَبَرُهُ وَالثَّانِي: أَنَّكَ لَمَّا قُلْتَ سَاءَ مَثَلًا. قِيلَ لَكَ: مَنْ هُوَ؟ قُلْتَ الْقَوْمُ، فَيَكُونُ رَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: سَاءَ مَثَلُ الْقَوْمِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: ساءَ مَثَلًا يَقْتَضِي كَوْنَ ذَلِكَ الْمَثَلِ مَوْصُوفًا بِالسُّوءِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ هَذَا الْمَثَلَ ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى، فَكَيْفَ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِالسُّوءِ، وَأَيْضًا فَهُوَ يُفِيدُ الزَّجْرَ عَنِ الْكُفْرِ وَالدَّعْوَةَ إِلَى الْإِيمَانِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِالسُّوءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ بِالسُّوءِ مَا أَفَادَهُ الْمَثَلُ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِ اللَّه تَعَالَى وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهَا، حَتَّى صَارُوا فِي التَّمْثِيلِ بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلْبِ اللَّاهِثِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: كَذَّبُوا فَيَدْخُلَ حِينَئِذٍ فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ بِمَعْنَى الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ التَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اللَّه وَظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُنْقَطِعًا عَنِ الصِّلَةِ بِمَعْنَى وَمَا ظَلَمُوا إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بِالتَّكْذِيبِ، وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ، فَهُوَ لِلِاخْتِصَاصِ كَأَنَّهُ قِيلَ وَخَصُّوا أَنْفُسَهُمْ بِالظُّلْمِ وَمَا تَعَدَّى أَثَرُ ذَلِكَ الظُّلْمِ عنهم إلى غيرهم. [سورة الأعراف (7) : آية 178] مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178)

المسألة الأولى: [في أن الهداية من اللَّه، وأن الضلال من اللَّه تعالى] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الضَّالِّينَ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ وَعَرَّفَ حَالَهُمْ بِالْمَثَلِ الْمَذْكُورِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْهِدَايَةَ مِنَ اللَّه، وَأَنَّ الضلال مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَعِنْدَ هَذِهِ اضْطَرَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ، وَذَكَرُوا فِي التَّأْوِيلِ وُجُوهًا كَثِيرَةً: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ وَارْتَضَاهُ الْقَاضِي أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ يَهْدِهِ اللَّه إِلَى الْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ الْمُهْتَدِي فِي الدُّنْيَا، السَّالِكُ طَرِيقَةَ الرُّشْدِ فِيمَا كُلِّفَ، فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَهْدِي إِلَى الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَنْ هَذَا وَصْفُهُ، وَمَنْ يُضْلِلْهُ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَالثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ فِي الْآيَةِ حَذْفًا، وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ يَهْدِهِ اللَّه فَقَبِلَ وَتَمَسَّكَ بِهُدَاهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي، وَمَنْ يُضَلِلْ بِأَنْ لَمْ يَقْبَلْ فَهُوَ الْخَاسِرُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّه بِمَعْنَى أَنَّ مَنْ وَصَفَهُ اللَّه بِكَوْنِهِ مُهْتَدِيًا فَهُوَ الْمُهْتَدِي، لِأَنَّ ذَلِكَ كَالْمَدْحِ وَمَدْحُ اللَّه لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ الْمَمْدُوحِ، وَمَنْ يُضْلِلْ أَيْ وَمَنْ وَصَفَهُ اللَّه بِكَوْنِهِ ضَالًّا فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّه بِالْأَلْطَافِ وَزِيَادَةِ الْهُدَى/ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ عَنْ ذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْهُ مِنْ سُوءِ اخْتِيَارِهِ، فَأُخْرِجَ لِهَذَا السَّبَبِ بِتِلْكَ الْأَلْطَافِ مِنْ أَنْ يُؤَثَّرَ فِيهِ فَهُوَ مِنَ الْخَاسِرِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ الْقَاطِعَةَ، قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ وَالْإِضْلَالَ لَا يَكُونَانِ إِلَّا مِنَ اللَّه مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفِعْلَ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ الدَّاعِي وَحُصُولُ الدَّاعِي لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّه فَالْفِعْلُ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّه. الثَّانِي: أَنَّ خِلَافَ مَعْلُومِ اللَّه مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ، فَمَنْ عَلِمَ اللَّه مِنْهُ الْإِيمَانَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكُفْرِ وَبِالضِّدِّ. الثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَقْصِدُ حُصُولَ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَإِذَا حَصَلَ الْكُفْرُ عَقِيبَهُ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ بَلْ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ نَقُولُ: أَمَّا التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ: فَضَعِيفٌ لِأَنَّهُ حَمَلَ قَوْلَهُ: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ عَلَى الْهِدَايَةِ فِي الْآخِرَةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَقَوْلَهُ: فَهُوَ الْمُهْتَدِي عَلَى الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ يُوجِبُ رَكَاكَةً فِي النَّظْمِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْهِدَايَةُ وَالِاهْتِدَاءُ رَاجِعَيْنِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، حَتَّى يَكُونَ الْكَلَامُ حَسَنَ النَّظْمِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنَّهُ الْتِزَامٌ لِإِضْمَارِ زَائِدٍ، وَهُوَ خِلَافُ اللَّفْظِ، وَلَوْ جَازَ فَتْحُ بَابِ أمثال هذه الإضمارات لا نقلب النَّفْيُ إِثْبَاتًا وَالْإِثْبَاتُ نَفْيًا، وَيَخْرُجُ كَلَامُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً، فَإِنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُضْمِرَ فِي الْآيَةِ مَا يَشَاءُ، وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ الْكُلُّ عَنِ الْإِفَادَةِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ فُلَانٌ هَدَى فُلَانًا لَا يُفِيدُ فِي اللُّغَةِ الْبَتَّةَ أَنَّهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ مُهْتَدِيًا، وَقِيَاسُ هَذَا عَلَى قَوْلِهِ فُلَانٌ ضَلَّلَ فُلَانًا وَكَفَّرَهُ، قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ وَأَنَّهُ فِي نِهَايَةِ الْفَسَادِ وَالرَّابِعُ: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ كُلَّ مَا فِي مَقْدُورِ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْأَلْطَافِ، فَقَدْ فَعَلَهُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْكُفَّارِ، فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بِعِيدٌ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَهُوَ الْمُهْتَدِي يَجُوزُ إِثْبَاتُ الْيَاءِ فِيهِ عَلَى الْأَصْلِ، وَيَجُوزُ حَذْفُهَا طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ كَمَا قِيلَ فِي بَيْتِ الْكِتَابِ: فَطِرْتُ بِمُنْصُلِي فِي يَعْمَلَاتٍ ... دَوَامِي الْأَيْدِ يَخْبِطْنَ السَّرِيحَا وَمِنْ أَبْيَاتِهِ أَيْضًا: كخوف رِيشِ حَمَامَةٍ نَجْدِيَّةٍ ... مَسَحَتْ بِمَاءِ الْبَيْنِ عَطْفَ الْأَثْمَدِ قَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْمَوْصِلِيُّ يُرِيدُ كَخَوَافِ محذوف الياء.

[سورة الأعراف (7) : آية 179]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ يُضْلِلْ يُرِيدُ وَمَنْ يُضْلِلْهُ اللَّه وَيَخْذُلْهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أَيْ خَسِرُوا الدنيا والآخرة. [سورة الأعراف (7) : آية 179] وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) [في قوله تَعَالَى وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ] هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ أَنَّهُ خَلَقَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لِجَهَنَّمَ، وَلَا مَزِيدَ عَلَى بَيَانِ اللَّه. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ النَّارِ انْقَلَبَ عِلْمُ اللَّه جَهْلًا وَخَبَرُهُ الصِّدْقُ كَذِبًا وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ وَالْمُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَعَدَمُ دُخُولِهِمْ فِي النَّارِ مُحَالٌ، وَمَنْ عَلِمَ كَوْنَ الشَّيْءِ مُحَالًا امْتَنَعَ أَنْ يُرِيدَهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى يَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدَ أَنْ لَا يُدْخِلَهُمْ فِي النَّارِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يُدْخِلَهُمْ فِي النَّارِ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ لفظ الآية. الثالث: أن القار عَلَى الْكُفْرِ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِيمَانِ، فَالَّذِي خَلَقَ فِيهِ الْقُدْرَةَ عَلَى الْكُفْرِ، فَقَدْ أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَهُ فِي النَّارِ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكُفْرِ وَعَلَى الْإِيمَانِ مَعًا امْتَنَعَ رُجْحَانُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ، وَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ إِنْ حَصَلَ مِنْ قِبَلِهِ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ حَصَلَ مَنْ قِبَلِهِ تَعَالَى، فَلَمَّا كان هو الخالق للداعية الموجبة للظفر، فَقَدْ خَلَقَهُ لِلنَّارِ قَطْعًا. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ خَلَقَهُ لِلْجَنَّةِ وَأَعَانَهُ عَلَى اكْتِسَابِ تَحْصِيلِ مَا يُوجِبُ دُخُولَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ قَدَّرْنَا أَنَّ الْعَبْدَ سَعَى فِي تَحْصِيلِ الْكُفْرِ الْمُوجِبِ لِلدُّخُولِ فِي النَّارِ، فَحِينَئِذٍ حَصَلَ مُرَادُ الْعَبْدِ، وَلَمْ يَحْصُلْ مُرَادُ اللَّه تَعَالَى، فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْعَبْدِ أَقْدَرَ وَأَقْوَى مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يُرِيدُ الْكُفْرَ وَالْجَهْلَ الْمُوجِبَ لِاسْتِحْقَاقِ النَّارِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْإِيمَانَ وَالْمَعْرِفَةَ الْمُوجِبَةَ لِاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَالدُّخُولِ فِي الْجَنَّةِ، فَلَمَّا حَصَلَ الْكُفْرُ وَالْجَهْلُ عَلَى خِلَافِ قَصْدِ الْعَبْدِ وَضِدِّ جَهْدِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ حُصُولُهُ مِنْ قِبَلِ الْعَبْدِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُصُولُهُ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى. فَإِنْ قَالُوا: الْعَبْدُ إِنَّمَا سَعَى فِي تَحْصِيلِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ الْبَاطِلِ، لِأَنَّهُ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ وَظَنَّ أَنَّهُ هُوَ الِاعْتِقَادُ الْحَقُّ الصَّحِيحُ. فَنَقُولُ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: إِنَّمَا وَقَعَ فِي هَذَا الْجَهْلِ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْجَهْلِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنْ كَانَ إِقْدَامُهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَهْلِ السَّابِقِ لِجَهْلٍ آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنِ انْتَهَى إِلَى جَهْلٍ حَصَلَ ابْتِدَاءً لَا لِسَابِقَةِ جَهْلٍ آخَرَ، فَقَدْ تَوَجَّهَ الْإِلْزَامُ وَتَأَكَّدَ الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْبَرَاهِينَ الْعَقْلِيَّةَ نَاطِقَةٌ بِصِحَّةِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ صَرِيحُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرْتُمْ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مِنَ الْكُلِّ الطَّاعَةَ. وَالْعِبَادَةَ وَالْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الْفَتْحِ: 8، 9] وَقَالَ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النِّسَاءِ: 64] وَقَالَ: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا [الْفُرْقَانِ: 50] وَقَالَ: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الْحَدِيدِ: 9] وَقَالَ: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الْحَدِيدِ: 25] وَقَالَ: يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [إِبْرَاهِيمَ: 10] وَقَالَ: وَما خَلَقْتُ

الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْآيَاتِ كَثِيرَةٌ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ التَّنَاقُضِ فِي الْقُرْآنِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ عَلَى ظَاهِرِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِها وَهُوَ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمْ، وَلَوْ كانوا مخلوقين للنار، ولما كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْإِيمَانِ الْبَتَّةَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَقْبُحُ ذَمُّهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ خَلَقَهُمْ لِلنَّارِ لَمَا كَانَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْكُفَّارِ نِعْمَةٌ أَصْلًا، لِأَنَّ مَنَافِعَ الدُّنْيَا بِالْقِيَاسِ إِلَى الْعَذَابِ الدَّائِمِ، كَالْقَطْرَةِ فِي الْبَحْرِ، وَكَانَ كَمَنْ دَفَعَ إِلَى إِنْسَانٍ حَلْوًا مَسْمُومًا فَإِنَّهُ لَا يكون منعماً عليه، فكذا هاهنا. وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ مَمْلُوءًا مِنْ كَثْرَةِ نِعْمَةِ اللَّه عَلَى كُلِّ الْخَلْقِ، عَلِمْنَا أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَمَا ذَكَرْتُمْ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَدْحَ وَالذَّمَّ، وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، وَالتَّرْغِيبَ وَالتَّرْهِيبَ يُبْطِلُ هَذَا الْمَذْهَبَ الَّذِي يَنْصُرُونَهُ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: لَوْ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمْ لِلنَّارِ، لَوَجَبَ أَنْ يَخْلُقَهُمُ ابْتِدَاءً فِي النَّارِ، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي أَنْ يَسْتَدْرِجَهُمْ إِلَى النَّارِ بِخَلْقِ الْكُفْرِ فِيهِمْ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ جَهَنَّمَ اسْمٌ لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ/ الْمُعَيَّنِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الْمُعَيَّنُ مُرَادًا مِنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا أَرَادَ اللَّه تَعَالَى بِخَلْقِهِمْ مِنْهُمْ مَحْذُوفٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِكَيْ يَكْفُرُوا فَيَدْخُلُوا جَهَنَّمَ، فَصَارَتِ الْآيَةُ عَلَى قَوْلِهِمْ مَتْرُوكَةَ الظَّاهِرِ، فَيَجِبُ بِنَاؤُهَا عَلَى قَوْلِهِ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ لِأَنَّ ظَاهِرَهَا يَصِحُّ دُونَ حَذْفٍ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا ذَرَأَهُمْ لِكَيْ يَكْفُرُوا فَيَصِيرُوا إِلَى جَهَنَّمَ، عَادَ الْأَمْرُ فِي تَأْوِيلِهِمْ إِلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّامَ لِلْعَاقِبَةِ، لَكِنَّهُمْ يَجْعَلُونَهَا لِلْعَاقِبَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا اسْتِحْقَاقَ لِلنَّارِ، وَنَحْنُ قَدْ قُلْنَاهَا عَلَى عَاقِبَةٍ حَاصِلَةٍ مَعَ اسْتِحْقَاقِ النَّارِ، فَكَانَ قَوْلُنَا أَوْلَى، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ فِيهِ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ عَاقِبَةُ كَثِيرٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، هِيَ الدُّخُولُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، جَائِزٌ ذِكْرُ هَذِهِ اللَّامِ بِمَعْنَى الْعَاقِبَةِ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَالشِّعْرِ: أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ [الْأَنْعَامِ: 105] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ تَعَالَى مَا صَرَّفَهَا لِيَقُولُوا ذَلِكَ، لَكِنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا ذَلِكَ، حَسُنَ وُرُودُ هَذَا اللَّفْظِ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ [يُونُسَ: 88] وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَصِ: 8] وَهُمْ مَا الْتَقَطُوهُ لِهَذَا الْغَرَضِ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ ذَلِكَ، حَسُنَ هَذَا اللَّفْظُ، وَأَمَّا الشِّعْرُ فَأَبْيَاتٌ قَالَ: وَلِلْمَوْتِ تَغْدُوا الْوَالِدَاتُ سِخَالَهَا ... كَمَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ تُبْنَى الْمَسَاكِنُ وَقَالَ: أَمْوَالُنَا لِذَوِي الْمِيرَاثِ نَجْمَعُهَا ... وَدُورُنَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا وَقَالَ:

لَهُ مَلَكٌ يُنَادِي كُلَّ يَوْمٍ ... لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ وَقَالَ: وَأُمَّ سِمَاكٍ فَلَا تَجْزَعِي ... فَلِلْمَوْتِ مَا تَلِدُ الْوَالِدَةُ هَذَا مُنْتَهَى كَلَامِ الْقَوْمِ فِي الْجَوَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَصِيرَ فِي التَّأْوِيلِ إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ امْتِنَاعُ الْعَقْلِ حَمْلَ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَمَّا لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ لَا حَقَّ إِلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، كَانَ الْمَصِيرُ إِلَى التَّأْوِيلِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ عَبَثًا. وَأَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي إِثْبَاتِ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَهِيَ: مُعَارَضَةٌ بِالْبِحَارِ الزَّاخِرَةِ الْمَمْلُوءَةِ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [الأعراف: 178] وَهُوَ صَرِيحُ مَذْهَبِنَا، وَمَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الْأَعْرَافِ: 182، 183] وَلَمَّا كَانَ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا لَيْسَ، إِلَّا مَا يُقَوِّي قَوْلَنَا وَيُشَيِّدُ مَذْهَبَنَا، كَانَ كَلَامُ/ الْمُعْتَزِلَةِ فِي وُجُوبِ تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ ضَعِيفًا جِدًّا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِها فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فِي خَلْقِ الْأَعْمَالِ فَقَالُوا: لَا شَكَّ أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ كَانَتْ لَهُمْ قُلُوبٌ يَفْقَهُونَ بِهَا مَصَالِحَهُمُ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالدُّنْيَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا الْمَرْئِيَّاتِ، وَآذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا الْكَلِمَاتِ، فَوَجَبَ أَنَّ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَقْيِيدَهَا بِمَا يَرْجِعُ إِلَى الدِّينِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَفْقَهُونَ بِقُلُوبِهِمْ مَا يَرْجِعُ إِلَى مَصَالِحِ الدِّينِ، وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ وَيَسْمَعُونَ مَا يَرْجِعُ إِلَى مَصَالِحِ الدِّينِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى كَلَّفَهُمْ بِتَحْصِيلِ الدِّينِ مَعَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ وَأَسْمَاعَهُمْ مَا كَانَتْ صَالِحَةً لِذَلِكَ، وَهُوَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَنْعِ عَنِ الشَّيْءِ وَالصَّدِّ عَنْهُ مَعَ الْأَمْرِ بِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ لَوْ كَانُوا كَذَلِكَ، لَقَبُحَ مِنَ اللَّه تَكْلِيفُهُمْ، لَأَنَّ تَكْلِيفَ مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْعَمَلِ قَبِيحٌ غَيْرُ لَائِقٍ بِالْحَكِيمِ. فَوَجَبَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُمْ بِكَثْرَةِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الدَّلَائِلِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا صَارُوا مُشْبِهِينَ بِمَنْ لَا يَكُونُ لَهُ قَلْبٌ فَاهِمٌ وَلَا عَيْنٌ بَاصِرَةٌ وَلَا أُذُنٌ سَامِعَةٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَأَكَّدَتْ نَفْرَتُهُ عَنْ شَيْءٍ، صَارَتْ تِلْكَ النَّفْرَةُ الْمُتَأَكِّدَةُ الرَّاسِخَةُ مَانِعَةً لَهُ عَنْ فَهْمِ الْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَى صِحَّةِ الشَّيْءِ، وَمَانِعَةً عَنْ إِبْصَارِ مَحَاسِنِهِ وَفَضَائِلِهِ، وَهَذِهِ حَالَةٌ وِجْدَانِيَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ يَجِدُهَا كُلُّ عَاقِلٍ مِنْ نَفْسِهِ. وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالُوا فِي الْمَثَلِ الْمَشْهُورِ- حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ-. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ أَقْوَامًا مِنَ الْكُفَّارِ بَلَغُوا فِي عَدَاوَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفِي بُغْضِهِ وَفِي شِدَّةِ النَّفْرَةِ عَنْ قَبُولِ دِينِهِ وَالِاعْتِرَافِ بِرِسَالَتِهِ هَذَا الْمَبْلَغَ وَأَقْوَى مِنْهُ، وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلٌ بِأَنَّ حُصُولَ الْبُغْضِ وَالْحُبِّ فِي الْقَلْبِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ، بَلْ هُوَ حَاصِلٌ فِي الْقَلْبِ شَاءَ الْإِنْسَانُ أَمْ كَرِهَ.

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَهَرَ أَنَّ حُصُولَ هَذِهِ النَّفْرَةِ وَالْعَدَاوَةِ فِي الْقَلْبِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ مَتَى حَصَلَتْ هَذِهِ النَّفْرَةُ وَالْعَدَاوَةُ فِي الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ مَعَ تِلْكَ النَّفْرَةِ الرَّاسِخَةِ وَالْعَدَاوَةِ الشَّدِيدَةِ تَحْصِيلُ الْفَهْمِ وَالْعِلْمِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ثَبَتَ الْقَوْلُ بِالْجَبْرِ لُزُومًا لَا مَحِيصَ عَنْهُ. وَنُقِلَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ خُطْبَةٌ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ. رَوَى الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ «مناقب الشافعي» رضي اللَّه تعالى عَنْهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ/ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ وَأَعْجَبُ مَا فِي الْإِنْسَانِ قَلْبُهُ فِيهِ مَوَادٌّ مِنَ الْحِكْمَةِ وَأَضْدَادِهَا، فَإِنْ سَنَحَ لَهُ الرَّجَاءُ أَوْلَهَهُ الطَّمَعُ، وَإِنْ هَاجَ لَهُ الطَّمَعُ أَهْلَكَهُ الْحِرْصُ، وَإِنْ أَهْلَكَهُ الْيَأْسُ قَتَلَهُ الْأَسَفُ، وَإِنْ عَرَضَ لَهُ الْغَضَبُ اشْتَدَّ بِهِ الْغَيْظُ، وَإِنْ سَعِدَ بِالرِّضَا شَقِيَ بِالسُّخْطِ، وَإِنْ نَالَهُ الْخَوْفُ شَغَلَهُ الْحُزْنُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ الْمُصِيبَةُ قَتَلَهُ الْجَزَعُ، وَإِنْ وَجَدَ مَالًا أَطْغَاهُ الْغِنَى، وَإِنْ عَضَّتْهُ فَاقَةٌ شَغَلَهُ الْبَلَاءُ، وَإِنْ أَجْهَدَهُ الْجُوعُ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ، فَكُلُّ تَقْصِيرٍ بِهِ مُضِرٌّ وَكُلُّ إِفْرَاطٍ لَهُ مُفْسِدٌ وَأَقُولُ: هَذَا الْفَصْلُ فِي غَايَةِ الْجَلَالَةِ وَالشَّرَفِ، وَهُوَ كَالْمُطَّلِعِ عَلَى سِرِّ مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، لِأَنَّ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ مَرْبُوطَةٌ بِأَحْوَالِ الْقُلُوبِ، وَكُلُّ حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ الْقَلْبِ فَإِنَّهَا مُسْتَنِدَةٌ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى حَصَلَتْ قَبْلَهَا، وَإِذَا وَقَفَ الْإِنْسَانُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا خَلَاصَ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالْجَبْرِ، وَذَكَرَ الشَّيْخِ الْغَزَالِيِّ رَحِمَهُ اللَّه فِي كِتَابِ «الْإِحْيَاءِ» فَصْلًا فِي تَقْرِيرِ مَذْهَبِ الْجَبْرِ. ثُمَّ قَالَ فَإِنْ قِيلَ: إِنِّي أَجِدُ مِنْ نَفْسِي أَنِّي إِنْ شِئْتُ الْفِعْلَ فَعَلْتُ، وَإِنْ شِئْتُ التَّرْكَ تَرَكْتُ، فَيَكُونُ فِعْلِي حَاصِلًا بِي لَا بِغَيْرِي ثُمَّ قَالَ: وَهَبْ أَنَّكَ وَجَدْتَ مِنْ نَفْسِكَ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: وَهَلْ تَجِدُ مِنْ نَفْسِكَ أَنَّكَ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَشَاءَ شَيْئًا شِئْتَهُ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ لَا تَشَاءَ لَمْ تَشَأْهُ، مَا أَظُنُّكَ أَنْ تَقُولَ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَذَهَبَ الْأَمْرُ فِيهِ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ: بَلْ شِئْتَ أَوْ لَمْ تَشَأْ فَإِنَّكَ تَشَاءُ ذَلِكَ الشَّيْءَ، وَإِذَا شِئْتَهُ فَشِئْتَ أَوْ لَمْ تَشَأْ فَعَلْتَهُ، فَلَا مَشِيئَتَكَ بِهِ وَلَا حُصُولَ فِعْلِكَ بَعْدَ حُصُولِ مَشِيئَتِكَ بِكَ فَالْإِنْسَانُ مُضْطَرٌّ فِي صُورَةِ مُخْتَارٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْعِلْمِ هُوَ الْقَلْبُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى نَفَى الْفِقْهُ وَالْفَهْمُ عَنْ قُلُوبِهِمْ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ مَحَلُّ الْفَهْمِ وَالْفِقْهِ هُوَ الْقَلْبُ واللَّه أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ فَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ وَسَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ مُتَشَارِكَةٌ فِي قُوَى الطَّبِيعَةِ الْغَاذِيَةِ وَالنَّامِيَةِ وَالْمُوَلِّدَةِ، وَمُتَشَارِكَةٌ أَيْضًا فِي مَنَافِعِ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَفِي أَحْوَالِ التَّخَيُّلِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّذَكُّرِ، وَإِنَّمَا حَصَلَ الِامْتِيَازُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ فِي الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ الَّتِي تَهْدِيهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ لِذَاتِهِ، وَالْخَيْرِ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ: فَلَمَّا أَعْرَضَ الْكُفَّارُ عَنِ اعْتِبَارِ أَحْوَالِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِالْخَيْرِ كَانُوا كَالْأَنْعَامِ. ثُمَّ قَالَ: بَلْ هُمْ أَضَلُّ لِأَنَّ الْحَيَوَانَاتِ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى تَحْصِيلِ هَذِهِ الْفَضَائِلِ، وَالْإِنْسَانُ أُعْطِيَ الْقُدْرَةَ عَلَى تَحْصِيلِهَا، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنِ اكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ الْعَظِيمَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِهَا كَانَ أَخَصَّ حَالًا مِمَّنْ لَمْ يَكْتَسِبْهَا مَعَ الْعَجْزِ عَنْهَا. فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى: بَلْ هُمْ أَضَلُّ وَقَالَ حَكِيمُ الشُّعَرَاءِ: الرُّوحُ عِنْدَ إِلَهِ الْعَرْشِ مَبْدَؤُهُ ... وَتُرْبَةُ الْأَرْضِ أَصْلُ الْجِسْمِ وَالْبَدَنِ قَدْ أَلَّفَ الْمَلِكُ الْحَنَّانُ بَيْنَهُمَا ... لِيَصْلُحَا لِقَبُولِ الْأَمْرِ وَالْمِحَنِ فَالرُّوحُ فِي غُرْبَةٍ وَالْجِسْمُ فِي وَطَنٍ ... فَاعْرِفْ ذِمَامَ الْغَرِيبِ النَّازِحِ الْوَطَنِ

[سورة الأعراف (7) : آية 180]

وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: بَلْ هُمْ أَضَلُّ وُجُوهٌ أُخْرَى فَقِيلَ: لِأَنَّ الْأَنْعَامَ مُطِيعَةٌ للَّه تَعَالَى وَالْكَافِرَ غَيْرُ مُطِيعٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ أَخْطَأُ طَرِيقًا مِنَ الْأَنْعَامِ، لِأَنَّ الْأَنْعَامَ تَعْرِفُ رَبَّهَا وَتَذْكُرُهُ، وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ رَبَّهُمْ وَلَا يَذْكُرُونَهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: بَلْ هُمْ أَضَلُّ لِأَنَّ الْأَنْعَامَ تُبْصِرُ مَنَافِعَهَا وَمَضَارَّهَا فَتَسْعَى فِي تَحْصِيلِ مَنَافِعِهَا وَتَحْتَرِزُ عَنْ مَضَارِّهَا، وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ وَأَهْلُ الْعِنَادِ أَكْثَرُهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مُعَانِدُونَ وَمَعَ ذَلِكَ فَيُصِرُّونَ عَلَيْهِ، وَيُلْقُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي النَّارِ وَفِي الْعَذَابِ، وَقِيلَ إِنَّهَا تَفِرُّ أَبَدًا إِلَى أَرْبَابِهَا، وَمَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهَا، وَالْكَافِرُ يَهْرُبُ عَنْ رَبِّهِ وَإِلَهِهِ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِنِعَمٍ لَا حَدَّ لَهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تَضِلُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مُرْشِدٌ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهَا مُرْشِدٌ قلما تضل، وهؤلاء الكفاء قَدْ جَاءَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ وَهُمْ يَزْدَادُونَ فِي الضَّلَالِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ فَقَالَ: أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ قَالَ عَطَاءٌ: عَمَّا أَعَدَّ اللَّه لِأَوْلِيَائِهِ مِنَ الثَّوَابِ وَلِأَعْدَائِهِ من العقاب. [سورة الأعراف (7) : آية 180] وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (180) [فِي قَوْلُهُ تَعَالَى وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْمَخْلُوقِينَ لِجَهَنَّمَ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ أَمَرَ بَعْدَهُ بِذِكْرِ اللَّه تَعَالَى فَقَالَ: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَهَذَا كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِدُخُولِ جَهَنَّمَ هُوَ الْغَفْلَةُ عَنْ ذِكْرِ اللَّه. وَالْمُخَلِّصُ عَنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ هُوَ ذِكْرُ اللَّه تَعَالَى وَأَصْحَابُ الذَّوْقِ وَالْمُشَاهَدَةِ يَجِدُونَ مِنْ أَرْوَاحِهِمْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا غَفَلَ عَنْ ذِكْرِ اللَّه، وَأَقْبَلَ عَلَى الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا وَقَعَ فِي بَابِ الْحِرْصِ وَزَمْهَرِيرِ الْحِرْمَانِ، وَلَا يَزَالُ يَنْتَقِلُ مِنْ رَغْبَةٍ إِلَى رَغْبَةٍ وَمِنْ طَلَبٍ إِلَى طَلَبٍ، وَمِنْ ظُلْمَةٍ إِلَى ظُلْمَةٍ، فَإِذَا انْفَتَحَ عَلَى قَلْبِهِ بَابُ ذِكْرِ اللَّه وَمَعْرِفَةِ اللَّه تَخَلَّصَ عَنْ نِيرَانِ الْآفَاتِ وَعَنْ حَسَرَاتِ الخسارات، واستشعر بمعرفة رب الأرض والسموات وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى مَذْكُورٌ فِي سُوَرٍ أَرْبَعَةٍ: أَوَّلُهَا: هَذِهِ/ السُّورَةُ. وَثَانِيهَا: فِي آخِرِ سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قَوْلُهُ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الْإِسْرَاءِ: 110] وَثَالِثُهَا: فِي أَوَّلِ طه وَهُوَ قَوْلُهُ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [طه: 8] وَرَابِعُهَا: فِي آخِرِ الْحَشْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الْحَشْرِ: 24] . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْأَسْماءُ أَلْفَاظٌ دَالَّةٌ عَلَى الْمَعَانِي فَهِيَ إِنَّمَا تَحْسُنُ بِحُسْنِ مَعَانِيهَا وَمَفْهُومَاتِهَا، وَلَا مَعْنَى لِلْحُسْنِ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى إِلَّا ذِكْرُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ، وَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ: عَدَمُ افْتِقَارِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَثُبُوتُ افْتِقَارِ غَيْرِهِ إِلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ لَنَا فِي تَفْسِيرِ أَسْمَاءِ اللَّه كتاباً كبيراً كَثِيرَ الدَّقَائِقِ شَرِيفَ الْحَقَائِقِ سَمَّيْنَاهُ «بِلَوَامِعِ الْبَيِّنَاتِ فِي تَفْسِيرِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ» ، مَنْ أَرَادَ الِاسْتِقْصَاءَ فيه فليرجع إليه، ونحن نذكر هاهنا لُمَعًا وَنُكَتًا مِنْهَا. فَنَقُولُ: إِنَّ أَسْمَاءَ اللَّه يُمْكِنُ تَقْسِيمُهَا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ: الِاسْمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلذَّاتِ، أَوْ لِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الذَّاتِ، أَوْ لِصِفَةٍ خَارِجَةٍ عَنِ الذَّاتِ قَائِمَةٍ بِهَا. أَمَّا اسْمُ الذَّاتِ فَهُوَ الْمُسَمَّى بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَفِي كَشْفِ الْغِطَاءِ عَمَّا فِيهِ مِنَ الْمُبَاحَثَاتِ أَسْرَارٌ. وَأَمَّا اسْمُ جُزْءِ الذَّاتِ فَهُوَ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ، لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يُفْعَلُ فِي الذَّاتِ الْمُرَكَّبَةِ مِنَ الْأَجْزَاءِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُمْكِنٌ، فَوَاجِبُ الْوُجُودِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ جُزْءٌ.

وَأَمَّا اسْمُ الصِّفَةِ فَنَقُولُ: الصِّفَةُ إِمَّا أَنْ تكون حقيقة أَوْ إِضَافِيَّةً أَوْ سَلْبِيَّةً، أَوْ مَا يَتَرَكَّبُ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صِفَةً حَقِيقِيَّةً مَعَ إِضَافَةٍ أَوْ مَعَ سَلْبٍ أَوْ صِفَةً سَلْبِيَّةً مَعَ إِضَافَةٍ أَوْ مَجْمُوعَ صِفَةٍ حَقِيقِيَّةٍ وَإِضَافَةٍ وَسَلْبِيَّةٍ. أَمَّا الصِّفَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الْعَارِيَةُ عَنِ الْإِضَافَةِ فَكَقَوْلِنَا مَوْجُودٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: الْوُجُودُ صِفَةٌ، أَوْ قَوْلُنَا وَاحِدٌ، عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: الْوَحْدَةُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ، وَكَقَوْلِنَا حَيٌّ، فَإِنَّ الْحَيَاةَ صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ عَارِيَةٌ عَنِ النَّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ، وَأَمَّا الصِّفَةُ الْإِضَافِيَّةُ الْمَحْضَةُ فَكَقَوْلِنَا: مَذْكُورٌ وَمَعْلُومٌ، وَأَمَّا الصِّفَةُ السَّلْبِيَّةُ، فَكَقَوْلِنَا: الْقُدُّوسُ السَّلَامُ. وَأَمَّا الصِّفَةُ الْحَقِيقِيَّةُ مَعَ الْإِضَافَةِ، فَكَقَوْلِنَا: عَالِمٌ وَقَادِرٌ، فَإِنَّ الْعِلْمَ صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِالْمَعْلُومِ وَالْقَادِرِ، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَلَهَا تَعَلُّقٌ بِالْمَقْدُورِ، وَأَمَّا الصِّفَةُ الْحَقِيقِيَّةُ مَعَ السَّلْبِيَّةِ. فَكَقَوْلِنَا: قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ، لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَوْجُودٍ لَا أَوَّلَ لَهُ. وَأَمَّا الصِّفَةُ الْإِضَافِيَّةُ مَعَ السَّلْبِيَّةِ، فَكَقَوْلِنَا: أَوَّلُ. فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي سَبَقَ غَيْرَهُ وَمَا سَبَقَهُ غَيْرُهُ، وَأَمَّا الصِّفَةُ الْحَقِيقِيَّةُ مَعَ الْإِضَافَةِ وَالسَّلْبِ، فَكَقَوْلِنَا: حَكِيمٌ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ، وَلَا يَفْعَلُ مَا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ فَصِفَةُ الْعِلْمِ صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَكَوْنُ هَذِهِ الصِّفَةِ مُتَعَلِّقَةً بِالْمَعْلُومَاتِ، نَسَبٌ وَإِضَافَاتٌ، وَكَوْنُهُ غَيْرَ فَاعِلٍ لِمَا لَا يَنْبَغِي سَلْبٌ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: السُّلُوبُ، غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالْإِضَافَاتُ أَيْضًا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، فَكَوْنُهُ خَالِقًا/ لِلْمَخْلُوقَاتِ صِفَةٌ إِضَافِيَّةٌ، وَكَوْنُهُ مُحْيِيًا وَمُمِيتًا إِضَافَاتٌ مَخْصُوصَةٌ، وَكَوْنُهُ رَازِقًا أَيْضًا إِضَافَةٌ أُخْرَى مَخْصُوصَةٌ. فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الِاعْتِبَارَاتِ أَسْمَاءٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا للَّه تَعَالَى، لِأَنَّ مَقْدُورَاتِهِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَلَمَّا كَانَ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ كُنْهِ ذَاتِهِ، وَإِنَّمَا السَّبِيلُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِمَعْرِفَةِ أَفْعَالِهِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ وُقُوفُهُ عَلَى أَسْرَارِ حِكْمَتِهِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ أَكْثَرَ، كَانَ عِلْمُهُ بِأَسْمَاءِ اللَّه أَكْثَرَ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا بَحْرًا لَا سَاحِلَ لَهُ وَلَا نِهَايَةَ لَهُ، فكذلك لا نِهَايَةَ لَهُ، فَكَذَلِكَ لَا نِهَايَةَ لِمَعْرِفَةِ أَسْمَاءِ اللَّه الْحُسْنَى. النَّوْعُ الثَّانِي: فِي تَقْسِيمِ أَسْمَاءِ اللَّه مَا قَالَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ: وَهُوَ أَنَّ صِفَاتِ اللَّه تَعَالَى ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: مَا يَجِبُ، وَيَجُوزُ، وَيَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّه تَعَالَى. وللَّه تَعَالَى بِحَسَبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ أَسْمَاءٌ مَخْصُوصَةٌ. وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: فِي تَقْسِيمِ أَسْمَاءِ اللَّه أَنَّ صِفَاتِ اللَّه تَعَالَى إِمَّا أَنْ تَكُونَ ذَاتِيَّةً، أَوْ مَعْنَوِيَّةً، أَوْ كَانَتْ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. وَالنَّوْعُ الرَّابِعُ: فِي تَقْسِيمِ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى إِمَّا أَنْ يَجُوزَ إِطْلَاقُهَا عَلَى غَيْرِ اللَّه تَعَالَى، أَوْ لَا يَجُوزُ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ كَقَوْلِنَا: الْكَرِيمُ الرَّحِيمُ الْعَزِيزُ اللَّطِيفُ الْكَبِيرُ الْخَالِقُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ يَجُوزُ إِطْلَاقُهَا عَلَى الْعِبَادِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى مُغَايِرًا لِمَعْنَاهَا فِي حَقِّ الْعِبَادِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَهُوَ كَقَوْلِنَا: اللَّه الرَّحْمَنُ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَإِنَّهَا إِذَا قُيِّدَتْ بِقُيُودٍ مَخْصُوصَةٍ صَارَتْ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ إِطْلَاقُهَا إِلَّا فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى كَقَوْلِنَا: يَا أَرْحَمَ الراحمين، ويا أكرم الأكرمين، ويا خالق السموات وَالْأَرْضِينَ. النَّوْعُ الْخَامِسُ: فِي تَقْسِيمِ أَسْمَاءِ اللَّه أَنْ يُقَالَ: مِنْ أَسْمَاءِ اللَّه مَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ وَحْدَهُ، كَقَوْلِنَا: يَا اللَّه يَا رَحْمَنُ يَا حَيُّ يَا حَكِيمُ، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، كَقَوْلِنَا: مُمِيتٌ وَضَارٌّ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِفْرَادُهُ بِالذِّكْرِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: يَا مُحْيِي يَا مُمِيتُ يَا ضَارُّ يَا نَافِعُ. النَّوْعُ السَّادِسُ: فِي تَقْسِيمِ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُقَالَ: أَوَّلُ مَا يُعْلَمُ مِنْ صِفَاتِ اللَّه تَعَالَى كَوْنُهُ مُحْدِثًا لِلْأَشْيَاءِ

مُرَجِّحًا لِوُجُودِهَا عَلَى عَدَمِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنَّمَا نَعْلَمُ وُجُودَهُ سُبْحَانَهُ بِوَاسِطَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِوُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ عَلَيْهِ، فَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ الْمَحْسُوسَ مُمْكِنُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ لِذَاتِهِ، قَضَى الْعَقْلُ بِافْتِقَارِهِ إِلَى مُرَجِّحٍ يُرَجِّحُ وَجُودَهُ عَلَى عَدَمِهِ، وَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ لَيْسَ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُعْلَمُ مِنْهُ تَعَالَى هُوَ كَوْنُهُ مُرَجِّحًا وَمُؤَثِّرًا، ثُمَّ نَقُولُ ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ إِمَّا أَنْ يُرَجِّحَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الصِّحَّةِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَإِلَّا لَدَامَ الْعَالِمُ بِدَوَامِهِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَبَقِيَ أَنَّهُ إِنَّمَا رُجِّحَ عَلَى سَبِيلِ الصِّحَّةِ وَكَوْنُهُ مُرَجِّحًا عَلَى سَبِيلِ الصِّحَّةِ، لَيْسَ إِلَّا كَوْنُهُ تَعَالَى قَادِرًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ مُرَجِّحًا، هُوَ كَوْنُهُ/ قَادِرًا. ثُمَّ إِنَّا بَعْدَ هَذَا نَسْتَدِلُّ بِكَوْنِ أَفْعَالِهِ مُحْكَمَةً مُتْقَنَةً عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا، ثُمَّ إِنَّا إِذَا عَلِمْنَا كَوْنَهُ تَعَالَى قَادِرًا عَالِمًا، وَعَلِمْنَا أَنَّ الْعَالِمَ الْقَادِرَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا حَيًّا، عَلِمْنَا مِنْ كَوْنِهِ قَادِرًا عَالِمًا، كَوْنَهُ حَيًّا. فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّهُ لَيْسَ الْعِلْمُ بِصِفَاتِهِ تَعَالَى وَبِأَسْمَائِهِ وَاقِعًا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلِ الْعِلْمُ بِهَا عُلُومٌ مُتَرَتَّبَةٌ يُسْتَفَادُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى لَيْسَتْ إِلَّا للَّه تَعَالَى، وَالْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ قَدْ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَإِمَّا مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ لَيْسَ إِلَّا الْوَاحِدُ وَهُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ، وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ الْوَاحِدِ، فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ لِذَاتِهِ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ فِي ماهيته وفي وجوده وفي جميع صفاته الحقيقة وَالْإِضَافِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ إِلَى تَكْوِينِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، وَلَوْلَاهُ لَبَقِيَ عَلَى الْعَدَمِ الْمَحْضِ وَالسَّلْبِ الصِّرْفِ، فاللَّه سُبْحَانَهُ كَامِلٌ لِذَاتِهِ، وَكَمَالُ كُلِّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ حَاصِلٌ بِجُودِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَكُلُّ كَمَالٍ وَجَلَالٍ وَشَرَفٍ، فَهُوَ لَهُ سُبْحَانَهُ بِذَاتِهِ وَلِذَاتِهِ وَفِي ذَاتِهِ، وَلِغَيْرِهِ عَلَى سَبِيلِ الْعَارِيَةِ، وَالَّذِي لِغَيْرِهِ مِنْ ذَاتِهِ، فَهُوَ الْفَقْرُ وَالْحَاجَةُ وَالنُّقْصَانُ وَالْعَدَمُ، فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْبَيِّنِ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى لَيْسَتْ إِلَّا للَّه، وَالصِّفَاتِ الْحُسْنَى لَيْسَتْ إِلَّا للَّه، وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ، فَهُوَ غَرَقٌ فِي بَحْرِ الْفَنَاءِ وَالنُّقْصَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّه لَيْسَتْ إِلَّا للَّه، وَالصِّفَاتِ الْحُسْنَى لَيْسَتْ إِلَّا للَّه، فَيَجِبُ كَوْنُهَا مَوْصُوفَةً بِالْحُسْنِ وَالْكَمَالِ فَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ لَا يُفِيدُ فِي الْمُسَمَّى صِفَةَ كَمَالٍ وَجَلَالٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّه سُبْحَانَهُ، وَعِنْدَ هَذَا نُقِلَ عَنْ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ أَنَّهُ قَالَ: لَا أُطْلِقُ عَلَى ذَاتِ اللَّه تَعَالَى اسْمَ الشَّيْءِ. قَالَ: لِأَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ يَقَعُ عَلَى أَخَسِّ الْأَشْيَاءِ وَأَكْثَرِهَا حَقَارَةً وَأَبْعَدِهَا عَنْ دَرَجَاتِ الشَّرَفِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فِي الْمُسَمَّى شَرَفًا وَرُتْبَةً وَجَلَالَةً. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ثَبَتَ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّه يَجِبُ أَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى الشَّرَفِ وَالْكَمَالِ، وَثَبَتَ أَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَامْتَنَعَ تَسْمِيَةُ اللَّه بِكَوْنِهِ شَيْئًا. قَالَ وَمَعَاذَ اللَّه أَنْ يَكُونَ هَذَا نِزَاعًا فِي كَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ حَقِيقَةً وَذَاتًا وَمَوْجُودًا، إِنَّمَا النِّزَاعُ وَقَعَ فِي مَحْضِ اللَّفْظِ، وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ أَمْ لَا؟ فَأَمَّا قَوْلُنَا إِنَّهُ مُنْشِئُ الْأَشْيَاءِ، فَهُوَ اسْمٌ يُفِيدُ الْمَدْحَ وَالْجَلَالَ وَالشَّرَفَ، فَكَانَ إِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَى اللَّه حَقًّا، ثُمَّ أَكَّدَ هَذِهِ الْحُجَّةَ بِأَنْوَاعٍ أُخَرَ مِنَ الدَّلَائِلِ. فَالْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تعلى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: 11] مَعْنَاهُ لَيْسَ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَيْنَ الشَّيْءِ مِثْلٌ لِمِثْلِ/ نَفْسِهِ. فَلَمَّا ثَبَتَ بِالْعَقْلِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فَهُوَ مِثْلُ مِثْلِ نَفْسِهِ، وَدَلَّ الدَّلِيلُ الْقُرْآنِيُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ مِثْلِ اللَّه لَيْسَ بِشَيْءٍ، كَانَ هَذَا تَصْرِيحًا بِأَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مُسَمًّى بِاسْمِ الشَّيْءِ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يقول «الكاف» في قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ حَرْفٌ زَائِدٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، لِأَنَّ حَمْلَ كَلَامِ اللَّه عَلَى اللَّغْوِ وَالْعَبَثِ وَعَدَمِ الْفَائِدَةِ بعيد.

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 102 الرعد: 16 غافر: 62] وَلَوْ كَانَ تَعَالَى دَاخِلًا تَحْتَ اسْمِ الشَّيْءِ لَزِمَ كَوْنُهُ تَعَالَى خَالِقًا لِنَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ. لَا يُقَالُ هَذَا عَامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ، لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا كَلَامٌ لَا بُدَّ مِنَ الْبَحْثِ عَنْهُ فَنَقُولُ: ثَبَتَ بِحَسَبِ الْعُرْفِ الْمَشْهُورِ أَنَّهُمْ يُقِيمُونَ الْأَكْثَرَ مُقَامَ الْكُلِّ، وَيُقِيمُونَ الشَّاذَّ النَّادِرَ مُقَامَ الْعَدَمِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ إِذَا حَصَلَ الْأَكْثَرُ الْأَغْلَبُ وَكَانَ الْغَالِبُ الشَّاذُّ الْخَارِجُ نَادِرًا، أَلْحَقُوا ذَلِكَ الْأَكْثَرَ بِالْكُلِّ، وَأَلْحَقُوا ذَلِكَ النَّادِرَ بِالْمَعْدُومِ، وَأَطْلَقُوا لَفْظَ الْكُلِّ عَلَيْهِ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ الشَّاذَّ النَّادِرَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَصْدُقَ عَلَى اللَّه تَعَالَى اسْمُ الشَّيْءِ كَانَ أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَإِدْخَالُ التَّخْصِيصِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمُسَمَّى يَكُونُ مِنْ بَابِ الْكَذِبِ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ مُسَمًّى بِاسْمِ الشَّيْءِ حَتَّى لَا يَلْزَمَنَا هَذَا الْمَحْذُورُ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: هَذَا الِاسْمُ مَا وَرَدَ فِي كِتَابِ اللَّه وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَمَا رَأَيْنَا أَحَدًا مِنَ السَّلَفِ قَالَ فِي دُعَائِهِ يَا شَيْءُ، فَوَجَبَ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَارِدٍ فِي كِتَابِ اللَّه أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي يُتَوَهَّمُ اشْتِمَالُهَا عَلَى هَذَا الِاسْمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الْأَنْعَامِ: 19] وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ، فَسَقَطَ الْكَلَامُ فِيهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَقَوْلُنَا: مَوْجُودٌ وَمَذْكُورٌ وَذَاتٌ وَمَعْلُومٌ، أَلْفَاظٌ لَا تَدُلُّ عَلَى الشَّرَفِ وَالْجَلَالِ فَوَجَبَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهَا عَلَى اللَّه تَعَالَى. فَنَقُولُ: الْحَقُّ فِي هَذَا الْبَابِ التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنَّا نَقُولُ: مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِكَ: إِنَّهُ تَعَالَى شَيْءٌ، وَذَاتٌ، وَحَقِيقَةٌ؟ إِنْ عَنَيْتَ أَنَّهُ تَعَالَى فِي نَفْسِهِ ذَاتٌ وَحَقِيقَةٌ وَثَابِتٌ وَمَوْجُودٌ وَشَيْءٌ، فَهُوَ كَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا شُبْهَةٍ، وَإِنْ عَنَيْتَ بِهِ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنَادَى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَمْ لَا؟ فَنَقُولُ لَا يَجُوزُ. لِأَنَّا رَأَيْنَا السَّلَفَ يَقُولُونَ: يَا اللَّه يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيمُ إِلَى سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الشَّرِيفَةِ، وَمَا رَأَيْنَا وَلَا سَمِعْنَا أَنَّ أَحَدًا يَقُولُ: يَا ذَاتُ يَا حَقِيقَةُ يَا مَفْهُومُ وَيَا مَعْلُومُ، فَكَانَ الِامْتِنَاعُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي مَعْرِضِ النِّدَاءِ وَالدُّعَاءِ وَاجِبًا للَّه تَعَالَى. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى حَصَلَتْ لَهُ أَسْمَاءٌ حَسَنَةٌ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَدْعُوَ اللَّه بِهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّه تَوْقِيفِيَّةٌ لَا اصْطِلَاحِيَّةٌ. وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَا جَوَادُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَا سَخِيُّ، وَلَا أَنْ يُقَالَ يَا عَاقِلُ يَا طَبِيبُ يَا فَقِيهُ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أسماء اللَّه تعالى توقيفة لَا اصْطِلَاحِيَّةٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّه كَثِيرَةٌ لِأَنَّ لَفْظَ الْأَسْمَاءِ لفظ الْجَمْعُ، وَهِيَ تُفِيدُ الثَّلَاثَةَ فَمَا فَوْقَهَا، فَثَبَتَ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّه كَثِيرَةٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّه وَاحِدٌ، فَلَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى وَأَيْضًا قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يَقْتَضِي إِضَافَةَ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّه، وَإِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مُحَالٌ. وَأَيْضًا فَلَوْ قِيلَ: وللَّه الذَّوَاتُ لَكَانَ بَاطِلًا. وَلَمَّا قَالَ: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ كَانَ حَقًّا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ المسمى.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَدْعُو رَبَّهُ إِلَّا بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ لَا تَتَأَتَّى إِلَّا إِذَا عَرَفَ مَعَانِيَ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ، وَعَرَفَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ لَهُ إِلَهًا وَرَبًّا خَالِقًا مَوْصُوفًا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الشَّرِيفَةِ الْمُقَدَّسَةِ، فَإِذَا عَرَفَ بِالدَّلِيلِ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ أَنْ يَدْعُوَ رَبَّهُ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، ثُمَّ إِنَّ لِتِلْكَ الدَّعْوَةِ شَرَائِطَ كَثِيرَةً مَذْكُورَةً بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي كِتَابِ «الْمِنْهَاجِ» لِأَبِي عَبْدِ اللَّه الْحَلِيمِيِّ، وَأَحْسَنُ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحْضِرًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عِزَّةُ الربوبية. والثانية: ذلة العبودية. فهناك يحسن ذلك الدُّعَاءُ وَيَعْظُمُ مَوْقِعُ ذَلِكَ الذِّكْرِ. فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ قَلِيلَ الْفَائِدَةِ، وَأَنَا أَذْكُرُ لِهَذَا الْمَعْنَى مِثَالًا، وَهُوَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ فِي تَحْرِيمَةِ صَلَاتِهِ اللَّه أَكْبَرُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ فِي النِّيَّةِ جميع ما أمكنه من معرفة آثار حكمة اللَّه تَعَالَى فِي تَخْلِيقِ نَفْسِهِ وَبَدَنِهِ وَقُوَاهُ الْعَقْلِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ أَوِ الْحَرَكِيَّةِ، ثُمَّ يَتَعَدَّى مِنْ نَفْسِهِ إِلَى اسْتِحْضَارِ آثَارِ حِكْمَةِ اللَّه فِي تَخْلِيقِ جَمِيعِ النَّاسِ، وَجَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، وَجَمِيعِ أَصْنَافِ النَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ، وَالْآثَارِ الْعُلْوِيَّةِ مِنَ الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالصَّوَاعِقِ الَّتِي تُوجَدُ فِي كُلِّ أَطْرَافِ الْعَالَمِ، ثُمَّ يَسْتَحْضِرُ آثَارَ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى فِي تَخْلِيقِ الْأَرْضِينَ وَالْجِبَالِ وَالْبِحَارِ وَالْمَفَاوِزِ، ثُمَّ يَسْتَحْضِرُ آثَارَ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى فِي تَخْلِيقِ طَبَقَاتِ الْعَنَاصِرِ السُّفْلِيَّةِ وَالْعُلْوِيَّةِ، ثُمَّ يَسْتَحْضِرُ آثَارَ قُدْرَةِ اللَّه تعالى في تخليق أطباق السموات عَلَى سَعَتِهَا وَعِظَمِهَا، وَفِي تَخْلِيقِ أَجْرَامِ النَّيِّرَاتِ مِنَ الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ، ثُمَّ يَسْتَحْضِرُ آثَارَ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى فِي تَخْلِيقِ الْكُرْسِيِّ وَسِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، ثُمَّ يَسْتَحْضِرُ آثَارَ قُدْرَتِهِ فِي تَخْلِيقِ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الْمُحِيطِ بِكُلِّ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ، ثُمَّ يَسْتَحْضِرُ آثَارَ قُدْرَتِهِ فِي تَخْلِيقِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَجُنُودِ عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ، فَلَا يَزَالُ يَسْتَحْضِرُ مِنْ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ وَالْمَرَاتِبِ أَقْصَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ فَهْمُهُ وَعَقْلُهُ وَذِكْرُهُ وَخَاطِرُهُ وَخَيَالُهُ، ثُمَّ عِنْدَ اسْتِحْضَارِ جَمِيعِ هَذِهِ الرُّوحَانِيَّاتِ/ وَالْجُسْمَانِيَّاتِ على تفاوت درجاتها وتباين منازلها ومراتبها، ويقول اللَّه أَكْبَرُ، وَيُشِيرُ بِقَوْلِهِ- اللَّه- إِلَى الْمَوْجُودِ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَأَخْرَجَهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَرَتَّبَهَا بِمَا لَهَا مِنَ الصِّفَاتِ وَالنُّعُوتِ، وَبِقَوْلِهِ- أَكْبَرُ- أَيْ أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ لِكِبْرِيَائِهِ وَجَبَرُوتِهِ وَعِزِّهِ وَعُلُوِّهِ وَصَمَدِيَّتِهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بَلْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْمِثَالَ الْوَاحِدَ فَقِسِ الذِّكْرَ الْحَاصِلَ مَعَ الْعِرْفَانِ والشعور، وعند هذا يَنْفَتِحُ عَلَى عَقْلِكَ نَسَمَةٌ مِنَ الْأَسْرَارِ الْمُودَعَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ فقيه مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ يُلْحِدُونَ وَوَافَقَهُ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ فِي النَّحْلِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يُلْحِدُونَ ويُلْحِدُونَ لُغَتَانِ: يُقَالُ: لَحَدْتُ لَحْدًا وَأَلْحَدْتُ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: مَعْنَى الْإِلْحَادِ فِي اللُّغَةِ الْمَيْلُ عَنِ الْقَصْدِ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الْمُلْحِدُ الْعَادِلُ عَنِ الْحَقِّ الْمُدْخِلُ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ. يُقَالُ: قَدْ أَلْحَدَ فِي الدِّينِ وَلَحَدَ، وَقَالَ أبو عمرو من أهل اللغة: الإلحاد: العدول عَنِ الِاسْتِقَامَةِ وَالِانْحِرَافُ عَنْهَا. وَمِنْهُ اللَّحْدُ الَّذِي يُحْفَرُ فِي جَانِبِ الْقَبْرِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: وَالْأَجْوَدُ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ [الحج: 25] وَالْإِلْحَادُ أَكْثَرُ فِي كَلَامِهِمْ لِقَوْلِهِمْ: مُلْحِدٌ، وَلَا تكاد تسمع العرب يقولون لا حد. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: الْإِلْحَادُ فِي أَسْمَاءِ اللَّه يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: إِطْلَاقُ أَسْمَاءِ اللَّه الْمُقَدَّسَةِ الطَّاهِرَةِ عَلَى غَيْرِ اللَّه، مِثْلَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُسَمُّونَ الْأَوْثَانَ بِآلِهَةٍ، ومن ذلك أنهم سموا أصناماً لهم بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَالْمَنَاةِ، وَاشْتِقَاقُ اللَّاتِ مِنَ الْإِلَهِ، وَالْعُزَّى مِنَ الْعَزِيزِ، وَاشْتِقَاقُ مَنَاةَ مِنَ الْمَنَّانِ. وكان مسيلمة

[سورة الأعراف (7) : آية 181]

الْكَذَّابُ لَقَّبَ نَفْسَهُ بِالرَّحْمَنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُسَمُّوا اللَّه بِمَا لَا يَجُوزُ تَسْمِيَتُهُ بِهِ، مِثْلَ تَسْمِيَةِ مَنْ سَمَّاهُ- أَبًا- لِلْمَسِيحِ. وَقَوْلُ جُمْهُورِ النَّصَارَى: أَبٌ، وَابْنٌ، وَرُوحُ الْقُدُسِ، وَمِثْلَ أَنَّ الْكَرَّامِيَّةَ يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْجِسْمِ عَلَى اللَّه سُبْحَانَهُ وَيُسَمُّونَهُ بِهِ، وَمِثْلَ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ قَدْ يَقُولُونَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِمْ، لَوْ فَعَلَ تَعَالَى كَذَا وَكَذَا لَكَانَ سَفِيهًا مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُشْعِرَةٌ بِسُوءِ الْأَدَبِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَيْسَ كُلُّ مَا صَحَّ مَعْنَاهُ جَازَ إِطْلَاقُهُ بِاللَّفْظِ فِي حَقِّ اللَّه، فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ الْأَجْسَامِ، ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَا خَالِقَ الدِّيدَانِ وَالْقُرُودِ وَالْقِرْدَانِ، بل الواجب تنزيه اللَّه عن مثل هذا الأذكار، وأن يقال: يا خالق الأرض والسموات يَا مُقِيلَ الْعَثَرَاتِ يَا رَاحِمَ الْعَبَرَاتِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأَذْكَارِ الْجَمِيلَةِ الشَّرِيفَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَذْكُرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ بِلَفْظٍ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ وَلَا يَتَصَوَّرُ مُسَمَّاهُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ مُسَمَّاهُ أَمْرًا غَيْرَ لَائِقٍ بِجَلَالِ/ اللَّه، فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ هِيَ الْإِلْحَادُ فِي الْأَسْمَاءِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَلْ يَلْزَمُ مِنْ وُرُودِ الْأَوَّلِ فِي إِطْلَاقِ لَفْظِهِ عَلَى اللَّه تَعَالَى أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ؟ قُلْنَا: الْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ لا فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى، وَلَا فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ لَفْظَ «عَلَّمَ» وَرَدَ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى فِي آيَاتٍ مِنْهَا قوله: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: 31] عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النِّسَاءِ: 113] وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الْكَهْفِ: 65] الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرَّحْمَنِ: 1، 2] ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى يَا مُعَلِّمُ، وَأَيْضًا وَرَدَ قَوْلُهُ: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [الْمَائِدَةِ: 54] ثُمَّ لَا يَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ يَا مُحِبُّ. وَأَمَّا فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي حَقِّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: 121] ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ آدَمَ كَانَ عَاصِيًا غَاوِيًا، وَوَرَدَ فِي حَقِّ مُوسَى عَلَيْهِ السلام: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ [طه: 26] ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَجِيرًا، وَالضَّابِطُ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الْمُوهِمَةَ يَجِبُ الِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى الْوَارِدِ، فَأَمَّا التَّوَسُّعُ بِإِطْلَاقِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْهَا فَهِيَ عِنْدِي مَمْنُوعَةٌ غَيْرُ جَائِزَةٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ فَهُوَ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لِمَنْ أَلْحَدَ فِي أَسْمَاءِ اللَّه. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ قَدْ دَلَّتْ عَلَى إِثْبَاتِ الْعَمَلِ لِلْعَبْدِ، وَعَلَى أن الجزاء مفرع على عمله وفعله. [سورة الأعراف (7) : آية 181] وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) اعلم أنه تعالى لما قال: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الأعراف: 179] فَأَخْبَرَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الثَّقَلَيْنِ مَخْلُوقُونَ لِلنَّارِ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ لِيُبَيِّنَ أَيْضًا أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلْجَنَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي قِصَّةِ مُوسَى قَوْلَهُ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الْأَعْرَافِ: 159] فَلَمَّا أَعَادَ اللَّه تعالى هذا الكلام هاهنا حَمَلَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ قوم محمد صَلَّى الله عليه وسلّم، روى قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «هَذِهِ فِيهِمْ وَقَدْ أَعْطَى اللَّه قَوْمَ مُوسَى مِثْلَهَا» وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَرَأَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةُ فَقَالَ: «إِنَّ مِنْ أُمَّتِي قَوْمًا عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو زَمَانٌ الْبَتَّةَ عَمَّنْ يَقُومُ بِالْحَقِّ وَيَعْمَلُ بِهِ وَيَهْدِي إِلَيْهِ وَأَنَّهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَزْمِنَةِ عَلَى الْبَاطِلِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ زَمَانَ وُجُودِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، / وهو

[سورة الأعراف (7) : الآيات 182 إلى 183]

الزَّمَانُ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ. أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ زَمَانٌ مِنَ الْأَزْمِنَةِ حَصَلَ فِيهِ قَوْمٌ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، أَوِ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَخْلُو زَمَانٌ مِنَ الْأَزْمِنَةِ عَنْ قَوْمٍ مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ. لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ ظَاهِرًا لِكُلِّ النَّاسِ أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ عَلَى الْحَقِّ، فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى يُخْرِجُهُ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ أَيْضًا، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ زَمَانٌ مَا فِي الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ حَصَلَ فِيهِ جَمْعٌ مَنِ الْمُحِقِّينَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ. وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا خَلَا زَمَانٌ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْمُحِقِّينَ وَأَنَّ إِجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ سَائِرِ الْأُمَمِ حجة. [سورة الأعراف (7) : الآيات 182 الى 183] وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْأُمَّةِ الْهَادِيَةَ الْعَادِلَةَ، أَعَادَ ذِكْرَ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللَّه تَعَالَى، وَمَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَعِيدِ، فَقَالَ: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَهَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمُكَذِّبِينَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: الْمُرَادُ أَهْلُ مَكَّةَ، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ صِفَةَ الْعُمُومِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، إِلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى خُرُوجِهِ مِنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ فَالِاسْتِدْرَاجُ الِاسْتِفْعَالُ مِنَ الدَّرَجَةِ بِمَعْنَى الِاسْتِصْعَادِ أَوِ الِاسْتِنْزَالِ، دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ، وَمِنْهُ دَرَجَ الصَّبِيُّ إِذَا قَارَبَ بَيْنَ خُطَاهُ، وَأَدْرَجَ الْكِتَابَ طَوَاهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَدَرَجَ الْقَوْمُ، مَاتَ بَعْضُهُمْ عَقِيبَ بَعْضِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا اللَّفْظُ مَأْخُوذٌ مِنَ الدَّرْجِ وَهُوَ لف الشيء وطيه جزأ فجزأ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالْمَعْنَى سَنُقَرِّبُهُمْ إِلَى مَا يُهْلِكُهُمْ، وَنُضَاعِفُ عِقَابَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ مَا يُرَادُ بِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كُلَّمَا أَتَوْا بِجُرْمٍ أَوْ أَقْدَمُوا عَلَى ذَنْبٍ فَتَحَ اللَّه عَلَيْهِمْ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ النِّعْمَةِ وَالْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا، فَيَزْدَادُونَ بَطَرًا وَانْهِمَاكًا فِي الْفَسَادِ وَتَمَادِيًا فِي الْغَيِّ، وَيَتَدَرَّجُونَ فِي الْمَعَاصِي بِسَبَبِ تَرَادُفِ تِلْكَ النِّعَمِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُمُ اللَّه دُفْعَةً وَاحِدَةً عَلَى غِرَّتِهِمْ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَمَّا حُمِلَ إِلَيْهِ كُنُوزُ كِسْرَى: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَكُونَ مُسْتَدْرَجًا فَإِنِّي سَمِعْتُكَ تَقُولُ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ الْإِمْلَاءُ فِي اللُّغَةِ الْإِمْهَالُ وَإِطَالَةُ الْمُدَّةِ وَنَقِيضُهُ الْإِعْجَالُ وَالْمَلِيُّ زَمَانٌ طَوِيلٌ مِنَ الدَّهْرِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مَرْيَمَ: 46] أَيْ طَوِيلًا. وَيُقَالُ مَلْوَةٌ وَمُلْوَةٌ وَمِلَاوَةٌ مِنَ الدَّهْرِ أَيْ زَمَانٌ طَوِيلٌ، فَمَعْنَى وَأُمْلِي لَهُمْ أي أمهلهم وأطيل لهم مدة عمر هم لِيَتَمَادُوا فِي الْمَعَاصِي وَلَا أُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لِيُقْلِعُوا عَنْهَا بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ إِنَّ مَكْرِي شَدِيدٌ، وَالْمَتِينُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الْقَوِيُّ يُقَالُ مَتُنَ مَتَانَةً. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا احْتَجُّوا فِي مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ الِاسْتِدْرَاجُ وَالْإِمْلَاءُ وَالْكَيْدُ الْمَتِينُ، وَكُلُّهَا تَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِالْعَبْدِ مَا يسوقه إلى الكفر والعبد عَنِ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ ضِدُّ مَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ. أَجَابَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ، بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الِاسْتِدْرَاجِ، أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَدْرَجَهُمْ إِلَى الْعُقُوبَاتِ حَتَّى يَقَعُوا فِيهَا مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ حَتَّى يَقَعُوا فِيهِ بَغْتَةً، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا كَالْقَتْلِ وَالِاسْتِئْصَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَذَابَ الْآخِرَةِ. قَالَ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُجْبِرَةِ الْمُرَادُ: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ إِلَى الْكُفْرِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ. قَالَ: وَذَلِكَ فَاسِدٌ، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْبَرَ بِتَقَدُّمِ كُفْرِهِمْ، فَالَّذِي يَسْتَدْرِجُهُمْ إِلَيْهِ فِعْلٌ

[سورة الأعراف (7) : آية 184]

مُسْتَقْبَلٌ، لِأَنَّ السِّينَ فِي قَوْلِهِ: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ يُفِيدُ الِاسْتِقْبَالَ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَنْ يَسْتَدْرِجَهُمْ إِلَى كُفْرٍ آخَرَ لِجَوَازِ أَنْ يُمِيتَهُمْ قَبْلَ أَنْ يُوقِعَهُمْ فِي كُفْرٍ آخَرَ، فَالْمُرَادُ إِذَنْ: مَا قُلْنَاهُ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعَاقِبُ الْكَافِرَ بِأَنْ يَخْلُقَ فِيهِ كُفْرًا آخَرَ، وَالْكُفْرُ هُوَ فِعْلُهُ، وَإِنَّمَا يُعَاقِبُهُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأُمْلِي لَهُمْ فَمَعْنَاهُ: أَنِّي أُبْقِيهِمْ فِي الدُّنْيَا مَعَ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَا أُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَفُوتُونَنِي وَلَا يُعْجِزُونَنِي، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ لِأَنَّ كَيْدَهُ هُوَ عَذَابُهُ، وَسَمَّاهُ كَيْدًا لِنُزُولِهِ بِالْعِبَادِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مَعْنَاهُ: مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ كُلَّمَا زَادُوا تَمَادِيًا فِي الذَّنْبِ وَالْكُفْرِ، زَادَهُمُ اللَّه نِعْمَةً وَخَيْرًا فِي الدُّنْيَا، فَيَصِيرُ فَوْزُهُمْ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا سَبَبًا لِتَمَادِيهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِ اللَّه وَبُعْدًا عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى طَاعَةِ اللَّه، هَذِهِ حَالَةٌ نُشَاهِدُهَا فِي بَعْضِ النَّاسِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا أَمْرًا مَحْسُوسًا مُشَاهَدًا فَكَيْفَ يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ. الثَّانِي: هَبْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الِاسْتِدْرَاجُ إِلَى الْعِقَابِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا أَيْضًا يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ تَعَالَى مَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ إِلَّا الْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْرَاجَ، وَهَذَا الْإِمْهَالَ مِمَّا قَدْ يَزِيدُ بِهِ عُتُوًّا وَكُفْرًا وَفَسَادًا وَاسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ الشَّدِيدِ، فَلَوْ أَرَادَ بِهِ الْخَيْرَ لَأَمَاتَهُ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُسْتَوْجِبًا لِتِلْكَ/ الزِّيَادَاتِ مِنَ الْعُقُوبَةِ بَلْ لَكَانَ يَجِبُ فِي حِكْمَتِهِ وَرِعَايَتِهِ لِلْمَصَالِحِ أَنْ لَا يَخْلُقَهُ ابْتِدَاءً صَوْنًا لَهُ عَنْ هَذَا الْعِقَابِ، أَوْ أَنْ يَخْلُقَهُ لَكِنَّهُ يُمِيتُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ فِي حَدِّ التَّكْلِيفِ، أَوْ أَنْ لَا يَخْلُقَهُ إِلَّا فِي الْجَنَّةِ، صَوْنًا لَهُ عَنِ الْوُقُوعِ فِي آفَاتِ الدُّنْيَا وَفِي عِقَابِ الْآخِرَةِ، فَلَمَّا خَلَقَهُ فِي الدُّنْيَا وَأَلْقَاهُ فِي وَرْطَةِ التَّكْلِيفِ. وَأَطَالَ عُمُرَهُ وَمَكَّنَهُ مِنَ الْمَعَاصِي مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ إِلَّا مَزِيدَ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ وَاسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا خَلَقَهُ إِلَّا لِلْعَذَابِ وَإِلَّا لِلنَّارِ، كَمَا شَرَحَهُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الأعراف: 179] وَأَنَا شَدِيدُ التَّعَجُّبِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ الْقُرْآنَ كَالْبَحْرِ الَّذِي لَا سَاحِلَ لَهُ مملوءا من هذه الآيات والدلائل العقلية القاهرة الْقَاطِعَةِ مُطَابِقَةً لَهَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَكْتَفُونَ فِي تَأْوِيلَاتِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الضَّعِيفَةِ وَالْكَلِمَاتِ الْوَاهِيَةِ، إِلَّا أَنَّ عِلْمِي بِأَنَّ مَا أَرَادَهُ اللَّه كَائِنٌ يُزِيلُ هَذَا التَّعَجُّبَ. واللَّه أَعْلَمُ. [سورة الأعراف (7) : آية 184] أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي تَهْدِيدِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ آيَاتِهِ، الْغَافِلِينَ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي دَلَائِلِهِ وَبَيِّنَاتِهِ، عَادَ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ شُبَهَاتِهِمْ. فَقَالَ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ وَالتَّفَكُّرُ طَلَبُ الْمَعْنَى بِالْقَلْبِ وَذَلِكَ لِأَنَّ فِكْرَةَ الْقَلْبِ هُوَ الْمُسَمَّى بِالنَّظَرِ، وَالتَّعَقُّلِ فِي الشَّيْءِ وَالتَّأَمُّلِ فِيهِ وَالتَّدَبُّرِ لَهُ، وَكَمَا أَنَّ الرُّؤْيَةَ بِالْبَصَرِ حَالَةٌ مَخْصُوصَةٌ مِنَ الِانْكِشَافِ وَالْجَلَاءِ، وَلَهَا مُقَدِّمَةٌ وَهِيَ تَقْلِيبُ الْحَدَقَةِ إِلَى جِهَةِ الْمَرْئِيِّ: طَلَبًا لِتَحْصِيلِ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ بِالْبَصَرِ، فَكَذَلِكَ الرُّؤْيَةُ بِالْبَصِيرَةِ، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْعِلْمِ وَالْيَقِينِ، حَالَةٌ مَخْصُوصَةٌ فِي الِانْكِشَافِ وَالْجَلَاءِ، وَلَهَا مُقَدِّمَةٌ وَهِيَ تَقْلِيبُ حَدَقَةِ الْعَقْلِ إِلَى الْجَوَانِبِ، طَلَبًا لِذَلِكَ الِانْكِشَافِ وَالتَّجَلِّي، وَذَلِكَ هُوَ الْمُسَمَّى بِنَظَرِ الْعَقْلِ وَفِكْرَتِهِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا أَمْرٌ بِالْفِكْرِ وَالتَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ وَالتَّرَوِّي لِطَلَبِ معرفة الأشياء كما هي عرفاناً حقيقياً تَامًّا، وَفِي اللَّفْظِ مَحْذُوفٌ. وَالتَّقْدِيرُ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فَيَعْلَمُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ، وَالْجِنَّةُ حَالَةٌ مِنَ الْجُنُونِ، كَالْجِلْسَةِ وَالرِّكْبَةِ وَدُخُولُ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنْ جِنَّةٍ يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْجُنُونِ.

[سورة الأعراف (7) : آية 185]

وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْجُهَّالِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا يَنْسُبُونَهُ إِلَى الْجُنُونِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِعْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُخَالِفًا لِفِعْلِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُعْرِضًا عَنِ الدُّنْيَا مُقْبِلًا عَلَى الْآخِرَةِ، مُشْتَغِلًا بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّه، فَكَانَ الْعَمَلُ مُخَالِفًا لِطَرِيقَتِهِمْ، فَاعْتَقَدُوا فِيهِ أَنَّهُ مَجْنُونٌ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ لَيْلًا عَلَى الصَّفَا يَدْعُو فَخِذًا فَخِذًا مِنْ قُرَيْشٍ. فَقَالَ يَا بَنِي فُلَانٍ يَا بَنِي فُلَانٍ، / وَكَانَ يُحَذِّرُهُمْ بَأْسَ اللَّه وَعِقَابَهُ، فَقَالَ قَائِلُهُمْ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا لَمَجْنُونٌ، وَاظَبَ عَلَى الصِّيَاحِ طُولَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَحَثَّهُمْ عَلَى التَّفَكُّرِ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا دَعَا لِلْإِنْذَارِ لَا لِمَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ الْجُهَّالُ. الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَغْشَاهُ حَالَةٌ عَجِيبَةٌ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ فيتغير وجه وَيَصْفَرُّ لَوْنُهُ، وَتَعْرِضُ لَهُ حَالَةٌ شَبِيهَةٌ بِالْغَشْيِ، فَالْجُهَّالُ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّهُ جُنُونٌ فاللَّه تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْجُنُونِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّه، وَيُقِيمُ الدَّلَائِلَ الْقَاطِعَةَ وَالْبَيِّنَاتِ الْبَاهِرَةَ، بِأَلْفَاظٍ فَصِيحَةٍ بَلَغَتْ فِي الْفَصَاحَةِ إِلَى حَيْثُ عَجَزَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهَا، وَكَانَ حَسَنَ الْخُلُقِ، طَيِّبَ الْعِشْرَةِ، مَرْضِيَّ الطَّرِيقَةِ نَقِيَّ السِّيرَةِ، مُوَاظِبًا عَلَى أَعْمَالٍ حَسَنَةٍ صَارَ بِسَبَبِهَا قُدْوَةً لِلْعُقَلَاءِ الْعَالِمِينَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِنْسَانِ لَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ بِالْجُنُونِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ اجْتِهَادَهُ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَرْسَلَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِتَرْهِيبِ الْكَافِرِينَ، وَتَرْغِيبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمَّا كَانَ النَّظَرُ فِي أَمْرِ النُّبُوَّةِ مُفَرَّعًا عَلَى تَقْرِيرِ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، لَا جَرَمَ ذُكِرَ عَقِيبَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى التوحيد. [سورة الأعراف (7) : آية 185] أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) فَقَالَ: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ واعلم أن دلائل ملكوت السموات وَالْأَرْضِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ الْقَدِيمِ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ فَصَّلْنَاهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا وَأَطْوَارًا فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الدَّلَائِلَ عَلَى التَّوْحِيدِ غَيْرُ مَقْصُورَةٍ عَلَى السموات وَالْأَرْضِ. بَلْ كُلُّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ عَالَمِ الْأَجْسَامِ وَالْأَرْوَاحِ فَهِيَ بُرْهَانٌ بَاهِرٌ، وَدَلِيلٌ قَاهِرٌ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَلِنُقَرِّرْ هَذَا الْمَعْنَى بِمِثَالٍ. فَنَقُولُ: إِنَّ الضَّوْءَ إِذَا وَقَعَ عَلَى كُوَّةِ الْبَيْتِ ظهر الذرات والهباآت، فَلْنَفْرِضِ الْكَلَامَ فِي ذَرَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الذَّرَّاتِ فَنَقُولُ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ الْحَكِيمِ مِنْ جِهَاتٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِحَيِّزٍ مُعَيَّنٍ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْيَازِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا فِي الْخَلَاءِ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَكُلُّ حَيِّزٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحْيَازِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ، فَرَضْنَا وُقُوعَ تِلْكَ الذَّرَّةِ فِيهِ كَانَ اخْتِصَاصُهَا بِذَلِكَ الْحَيِّزِ الْمُعَيَّنِ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ وَالْجَائِزَاتِ، وَالْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُخَصِّصٍ وَمُرَجِّحٍ وَذَلِكَ الْمُخَصَّصُ إِنْ كَانَ جِسْمًا عَادَ السُّؤَالُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِسْمًا فَهُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ، وَأَيْضًا فَتِلْكَ/ الذَّرَّةُ لَا تَخْلُو عَنِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَإِنَّ حُدُوثَهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ مَعَ جَوَازِ حُصُولِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ، فَاخْتِصَاصُهُ بِذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ قَدِيمٍ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُخَصِّصُ جِسْمًا عَادَ السُّؤَالُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِسْمًا فَهُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَيْضًا إِنَّ تِلْكَ الذَّرَّةَ مُسَاوِيَةٌ لِسَائِرِ الْأَجْسَامِ فِي التَّحَيُّزِ وَالْحَجْمِيَّةِ. وَمُخَالِفَةٌ لَهَا فِي اللَّوْنِ وَالشَّكْلِ وَالطَّبْعِ وَالطَّعْمِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ. وَاخْتِصَاصُهَا بِكُلِّ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا خَالَفَتْ سَائِرَ

الْأَجْسَامِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الْجَائِزَاتِ، وَالْجَائِزُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ، وَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ إِنْ كَانَ جِسْمًا عَادَ الْبَحْثُ الْأَوَّلُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِسْمًا فَهُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الذَّرَّةَ دَالَّةٌ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ مِنْ جِهَاتٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ، وَاعْتِبَارَاتٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ وَالرُّوحَانِيِّ، مُفْرَدَاتِهِ وَمُرَكَّبَاتِهِ وَسُفْلِيَّاتِهِ وَعُلْوِيَّاتِهِ وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ لَكَ صِدْقُ مَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَحِينَئِذٍ ظَهَرَتِ الْفَائِدَةُ لَكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَلَمَّا نَبَّهَ اللَّه تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأَسْرَارِ الْعَجِيبَةِ وَالدَّقَائِقِ اللَّطِيفَةِ، أَرْدَفَهُ بِمَا يُوجِبُ التَّرْغِيبَ الشَّدِيدَ فِي الْإِتْيَانِ بِهَذَا النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ فَقَالَ: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ وَلَفْظَةُ (أَنْ) فِي قَوْلِهِ: وَأَنْ عَسى هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ تقديره: وأنه عَسَى، وَالضَّمِيرُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْمَعْنَى: لَعَلَّ آجَالَهُمْ قَرُبَتْ فَهَلَكُوا عَلَى الْكُفْرِ وَيَصِيرُوا إِلَى النَّارِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الِاحْتِمَالُ قَائِمًا وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ الْمُسَارَعَةُ إِلَى هَذِهِ الْفِكْرَةِ، وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى هَذِهِ الرُّؤْيَةِ، سَعْيًا فِي تَخْلِيصِ النَّفْسِ مِنْ هَذَا الْخَوْفِ الشَّدِيدِ وَالْخَطَرِ الْعَظِيمِ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْبَيَانَاتِ الْجَلِيَّةَ وَالدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ قَالَ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 185] وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْقُرْآنِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ هَذِهِ التَّنْبِيهَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَيِّنَاتِ الْبَاهِرَةِ، فَكَيْفَ يَرْضَى مِنْهُمُ الْإِيمَانَ بِغَيْرِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى مَطَالِبَ كَثِيرَةٍ. الْمَطْلَبُ الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّقْلِيدَ غَيْرُ جَائِزٍ وَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا. وَالْمَطْلَبُ الثَّانِي: أَنَّ أَمْرَ النُّبُوَّةِ مُتَفَرِّعٌ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَلَوْلَا أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، لَمَا كَانَ إِلَى هَذَا الْكَلَامِ حَاجَةٌ. وَالْمَطْلَبُ الثَّالِثُ: تَمَسَّكَ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ قَدِيمًا قَالُوا: لِأَنَّ الْحَدِيثَ ضِدُّ الْقَدِيمِ، وَأَيْضًا فَلَفْظُ الْحَدِيثِ يُفِيدُ مِنْ جِهَةِ الْعَادَةِ حُدُوثُهُ عَنْ قُرْبٍ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: إِنَّ هَذَا الشَّيْءَ حَدِيثٌ، وَلَيْسَ بِعَتِيقٍ فَيَجْعَلُونَ الْحَدِيثَ ضِدَّ الْعَتِيقِ الَّذِي طَالَ زَمَانُ وُجُودِهِ، وَيُقَالُ: فِي الْكَلَامِ إِنَّهُ حَدِيثٌ، لِأَنَّهُ يَحْدُثُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ عَلَى الْأَسْمَاعِ. وَجَوَابُنَا عَنْهُ: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَلْفَاظِ مِنَ الْكَلِمَاتِ وَلَا نِزَاعَ فِي حُدُوثِهَا. الْمَطْلَبُ الرابع: أن النظر في ملكوت السموات وَالْأَرْضِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِهَا وَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِي شَرْحِ أَقْسَامِهَا، أَنْ يُقَالَ كُلُّ مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى، فَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا أَوْ حَالًّا فِي الْمُتَحَيِّزِ أَوْ لَا مُتَحَيِّزًا، وَلَا حَالًّا فِي الْمُتَحَيِّزِ، أَمَّا الْمُتَحَيِّزُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَسِيطًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا، أَمَّا الْبَسَائِطُ فَهِيَ إِمَّا عُلْوِيَّةٌ وَإِمَّا سُفْلِيَّةٌ، أَمَّا الْعُلْوِيَّةُ فَهِيَ الْأَفْلَاكُ وَالْكَوَاكِبُ، وَيَنْدَرِجُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ الْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَيْضًا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، وَالْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَالسَّقْفُ الْمَرْفُوعُ وَاسْتَقْصِ فِي تَفْصِيلِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَأَمَّا السُّفْلِيَّةُ فَهِيَ: طَبَقَاتُ الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا الْبِحَارُ وَالْجِبَالُ وَالْمَفَاوِزُ، وَأَمَّا الْمُرَكَّبَاتُ فَهِيَ أَرْبَعَةٌ الْآثَارُ الْعُلْوِيَّةُ وَالْمَعَادِنُ وَالنَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ، وَاسْتَقْصِ فِي تَفْصِيلِ أَنْوَاعِ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَمَّا الْحَالُ فِي الْمُتَحَيِّزِ وَهِيَ الْأَعْرَاضُ، فَيَقْرُبُ أَجْنَاسُهَا مِنْ أَرْبَعِينَ جِنْسًا، وَيَدْخُلُ تَحْتَ كُلِّ جِنْسٍ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ إِذَا تَأَمَّلَ الْعَاقِلُ فِي عَجَائِبِ أحكامها

[سورة الأعراف (7) : آية 186]

وَلَوَازِمِهَا وَآثَارِهَا وَمُؤَثِّرَاتِهَا فَكَأَنَّهُ خَاضَ فِي بَحْرٍ لَا سَاحِلَ لَهُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَكُونُ مُتَحَيِّزًا وَلَا حَالًّا فِي الْمُتَحَيِّزِ، فَهُوَ قِسْمَانِ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِأَجْسَامٍ بِالتَّدْبِيرِ وَالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْأَرْوَاحِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، وَهِيَ الْجَوَاهِرُ الْقُدْسِيَّةُ الْمُبَرَّأَةُ عَنْ عَلَائِقِ الْأَجْسَامِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَأَعْلَاهَا وَأَشْرَفُهَا الْأَرْوَاحُ الثَّمَانِيَةُ الْمُقَدَّسَةُ الْحَامِلَةُ لِلْعَرْشِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الْحَاقَّةِ: 17] وَيَتْلُوهَا الْأَرْوَاحُ الْمُقَدَّسَةُ الْمُشَارَةُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الزُّمَرِ: 75] وَيَتْلُوهَا سُكَّانُ الْكُرْسِيِّ، وَإِلَيْهِمُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْبَقَرَةِ: 255] وَيَتْلُوهَا الْأَرْوَاحُ المقدسة في طبقات السموات السَّبْعِ. وَإِلَيْهِمُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً [الصَّافَّاتِ: 1- 3] وَمِنْ صِفَاتِهِمْ، أَنَّهُمْ لَا يَعْصُونَ اللَّه مَا أَمَرَهُمْ وَيُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتَرُونَ، لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَفَصَّلْنَاهُ مِنْ مُلْكِ اللَّه وَمَلَكُوتِهِ كَالْقَطْرَةِ فِي الْبَحْرِ فَلَعَلَّ اللَّه سُبْحَانَهُ/ لَهُ أَلْفُ أَلْفُ عَالَمٍ وَرَاءَ هَذَا الْعَالَمِ، وَلَهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَرْشٌ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا الْعَرْشِ، وكرسي أعلى من هذا الكرسي، وسموات أوسع من هذه السموات، وَكَيْفَ يُمْكِنُ إِحَاطَةُ عَقْلِ الْبَشَرِ بِكَمَالِ مُلْكِ اللَّه وَمَلَكُوتِهِ، بَعْدَ أَنْ سَمِعَ قَوْلَهُ: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [الْمُدَّثِّرِ: 31] فَإِذَا اسْتَحْضَرَ الْإِنْسَانُ هَذِهِ الْأَقْسَامَ فِي عَقْلِهِ وَأَرَادَ الْخَوْضَ فِي مَعْرِفَةِ أَسْرَارِ حِكْمَتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ فُهِمَ قَوْلُهُمْ: سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا [الْبَقَرَةِ: 32] وَنِعْمَ مَا قَالَ أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيِّ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كَمْ للَّه مِنْ فَلَكٍ ... تَجْرِي النُّجُومُ بِهِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ هُنَّا عَلَى اللَّه مَاضِينَا وَغَابِرُنَا ... فَمَا لَنَا فِي نواحي غيره خطر [سورة الأعراف (7) : آية 186] مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى عَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى نَعْتِ أَحْوَالِ الضَّالِّينَ الْمُكَذِّبِينَ فَقَالَ: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَاعْلَمْ أَنَّ اسْتِدْلَالَ أَصْحَابِنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْهُدَى وَالضَّلَالَ مِنَ اللَّه مِثْلُ مَا سَبَقَ فِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ، وَتَأْوِيلَاتُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَجَوَابُنَا عَنْهَا مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ، وَقَوْلُهُ: وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ رَفْعٌ بِالِاسْتِئْنَافِ وَهُوَ مَقْطُوعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو «وَيَذَرُهُمْ» بِالْيَاءِ وَرَفْعِ الرَّاءِ لِتَقَدُّمِ اسْمِ اللَّه سُبْحَانَهُ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْيَاءِ وَالْجَزْمِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ فِيمَا يَقُولُ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَوْضِعِ الْفَاءِ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَلا هادِيَ لَهُ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْفَاءِ وَمَا بَعْدَهَا جَزْمٌ لِجَوَابِ الشَّرْطِ، فَحَمْلُ «ويذرهم» على موضع الذي هو جزم. [سورة الأعراف (7) : آية 187] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) اعْلَمْ أَنَّ فِي نَظْمِ الْآيَةِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَكَلَّمَ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ أَتْبَعَهُ بِالْكَلَامِ فِي الْمَعَادِ، لِمَا بَيَّنَّا أن المطالب الكلية في القرآن ليس إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ فِي

الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [الأعراف: 185] بَاعِثًا بِذَلِكَ عَنِ الْمُثَابَرَةِ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِصْلَاحِ قال بعده: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها لِيَتَحَقَّقَ فِي الْقُلُوبِ أَنَّ وَقْتَ السَّاعَةِ مَكْتُومٌ عَنِ الْخَلْقِ، فَيَصِيرَ ذَلِكَ حَامِلًا لِلْمُكَلَّفِينَ عَلَى الْمُسَارَعَةِ إِلَى التَّوْبَةِ وَأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ السَّائِلَ مَنْ هُوَ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ قَوْمًا مِنَ الْيَهُودِ قَالُوا يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: إِنَّ قُرَيْشًا قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ بيننا وبينك قرابة، فاذكر لنا متى الساعة؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : السَّاعَةُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْغَالِبَةِ كَالنَّجْمِ لِلثُّرَيَّا وَسُمِّيَتِ الْقِيَامَةُ بِالسَّاعَةِ لِوُقُوعِهَا بَغْتَةً، أَوْ لِأَنَّ حِسَابَ الْخَلْقِ يُقْضَى فِيهَا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَسُمِّيَ بِالسَّاعَةِ لِهَذَا السَّبَبِ أَوْ لِأَنَّهَا عَلَى طُولِهَا كَسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ الْخَلْقِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَيَّانَ مَعْنَاهُ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي يَجِيءُ، وَهُوَ سُؤَالٌ عَنِ الزَّمَانِ وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ أَيَّانَ بِمَعْنَى مَتَى، وَفِي اشْتِقَاقِهِ قَوْلَانِ: الْمَشْهُورُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَيْنِ وَأَنْكَرَهُ ابْنُ جِنِّي وَقَالَ: أَيَّانَ سُؤَالٌ عَنِ الزَّمَانِ، وَأَيْنَ سُؤَالٌ عَنِ الْمَكَانِ، فَكَيْفَ يكون أحد هما مَأْخُوذًا مِنَ الْآخَرِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جِنِّي أَنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنْ أَيِّ فَعْلَانَ مِنْهُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَيُّ وَقْتٍ وَلَفْظَةُ أَيٍّ، فَعْلٌ مِنْ أَوَيْتُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْبَعْضَ آوٍ إِلَى مَكَانِ الْكُلِّ مُتَسَانِدًا إِلَيْهِ هَكَذَا. قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ إِيَانَ بِكَسْرِ الْهَمْزِ. المسألة الرابعة: مرساها «المرسي» هاهنا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْإِرْسَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هُودٍ: 41] أَيْ إِجْرَاؤُهَا وَإِرْسَاؤُهَا، وَالْإِرْسَاءُ الإثبات يقال رسى يرسوا إِذَا ثَبَتَ. قَالَ تَعَالَى: وَالْجِبالَ أَرْساها [النَّازِعَاتِ: 32] فَكَانَ الرُّسُوُّ لَيْسَ اسْمًا لِمُطْلَقِ الثَّبَاتِ، بَلْ هُوَ اسْمٌ لِثَبَاتِ الشَّيْءِ إِذَا كَانَ ثَقِيلًا وَمِنْهُ إِرْسَاءُ الْجَبَلِ، وَإِرْسَاءُ السَّفِينَةِ، وَلَمَّا كَانَ أَثْقَلُ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْخَلْقِ هُوَ السَّاعَةَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا جَرَمَ سَمَّى اللَّه تَعَالَى وُقُوعَهَا وَثُبُوتَهَا بِالْإِرْسَاءِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أَيْ لَا يَعْلَمُ الْوَقْتَ الَّذِي فِيهِ يَحْصُلُ قِيَامُ الْقِيَامَةِ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لُقْمَانَ: 34] وَقَوْلِهِ: أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها [الْحَجِّ: 7] وَقَوْلُهُ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها [طَهَ: 15] وَلَمَّا سَأَلَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ليس المسؤول عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ» قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: وَالسَّبَبُ فِي إِخْفَاءِ السَّاعَةِ عَنِ الْعِبَادِ؟ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا مَتَى تَكُونُ، كَانُوا عَلَى حَذَرٍ مِنْهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى الطَّاعَةِ، / وَأَزْجَرَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها التَّجْلِيَةُ إِظْهَارُ الشَّيْءِ وَالتَّجَلِّي ظُهُورُهُ، وَالْمَعْنَى: لَا يُظْهِرُهَا فِي وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ إِلَّا هُوَ أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ بِالْإِعْلَامِ وَالْإِخْبَارِ إِلَّا هُوَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْمُرَادُ وَصْفُ السَّاعَةِ بِالثِّقَلِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا [الْإِنْسَانِ: 27] وَأَيْضًا وَصَفَ اللَّه تَعَالَى زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ بِالْعِظَمِ فَقَالَ: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الْحَجِّ: 1] وَوَصَفَ عَذَابَهَا بِالشِّدَّةِ فَقَالَ: وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الْحَجِّ: 2] .

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وُجُوهٌ: قَالَ الحسن: ثقل مجيئها على السموات والأرض، لأجل أن عند مجيئها شققت السموات وَتَكَوَّرَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَانْتَثَرَتِ النُّجُومُ وَثَقُلَتْ عَلَى الْأَرْضِ لِأَجْلِ أَنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ، وَتَبْطُلُ الْجِبَالُ وَالْبِحَارُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: إِنَّ هَذَا الْيَوْمَ ثَقِيلٌ جِدًّا عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، لِأَنَّ فِيهِ فَنَاءَهُمْ وَهَلَاكَهُمْ وَذَلِكَ ثَقِيلٌ عَلَى الْقُلُوبِ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ هَذَا الْيَوْمَ عَظِيمُ الثِّقَلِ عَلَى الْقُلُوبِ بِسَبَبِ أَنَّ الْخَلْقَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ بَعْدَهَا إِلَى الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالسُّؤَالِ وَالْخَوْفُ مِنَ اللَّه فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ شَدِيدٌ. وَقَالَ السدي: ثَقُلَتْ أي خفيت في السموات وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ مَتَى يَكُونُ حُدُوثُهَا وَوُقُوعُهَا. وَقَالَ قَوْمٌ: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ ثَقُلَ تحصيل العلم بوقتها المعين على أهل السموات وَالْأَرْضِ، وَكَمَا يُقَالُ فِي الْمَحْمُولِ الَّذِي يَتَعَذَّرُ حَمْلُهُ أَنَّهُ قَدْ ثَقُلَ عَلَى حَامِلِهِ، فَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْعِلْمِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّه تَعَالَى بِهِ أَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قَالَ: لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً وَهَذَا أَيْضًا تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَتَقْرِيرٌ لِكَوْنِهَا بِحَيْثُ لَا تَجِيءُ إِلَّا بَغْتَةً فَجْأَةً عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنَ الْخَلْقِ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ السَّاعَةَ تَفْجَأُ النَّاسَ، فَالرَّجُلُ يُصْلِحُ مَوْضِعَهُ، وَالرَّجُلُ يَسْقِي مَاشِيَتَهُ، وَالرَّجُلُ يَقُومُ بِسِلْعَتِهِ في سوقه. والرجل يخفض ميزانه ويرفعه «و روى الْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَإِنَّ الرَّجُلَ لِيَرْفَعُ اللُّقْمَةَ إِلَى فِيهِ حَتَّى تَحُولَ السَّاعَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ» . ثُمَّ قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْحَفِيِّ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْحَفِيُّ الْبَارُّ اللَّطِيفُ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: يُقَالُ حَفَى بِي حَفَاوَةً وَتَحَفَّى بِي تَحَفِّيًا، وَالْحَفَى الْكَلَامُ وَاللِّقَاءُ الْحَسَنُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا أَيْ بَارًّا لَطِيفًا يُجِيبُ دُعَائِي إِذَا دَعَوْتُهُ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ بَارٌّ بِهِمْ لَطِيفُ الْعِشْرَةِ مَعَهُمْ/ وَعَلَى هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ مَا رُوِيَ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ قُرَيْشًا قَالَتْ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ قَرَابَةً، فَاذْكُرْ لَنَا متى الساعة. فقال تعالى: يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها أَيْ كَأَنَّكَ صَدِيقٌ لَهُمْ بَارٌّ بِمَعْنَى أَنَّكَ لَا تَكُونُ حَفِيًّا بِهِمْ مَا دَامُوا عَلَى كُفْرِهِمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: حَفِيٌّ عَنْها أَيْ كَثِيرُ السُّؤَالِ عَنْهَا شَدِيدُ الطَّلَبِ لِمَعْرِفَتِهَا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ حَفِيٌّ فَعِيلٌ مِنَ الْإِحْفَاءِ وَهُوَ الْإِلْحَاحُ وَالْإِلْحَافُ فِي السُّؤَالِ، وَمَنْ أَكْثَرَ السُّؤَالَ وَالْبَحْثَ عَنِ الشَّيْءِ عَلِمَهُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ تَحَفَّى فِي الْمَسْأَلَةِ، أَيِ اسْتَقْصَى. فَقَوْلُهُ: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها أَيْ كَأَنَّكَ أَكْثَرْتَ السُّؤَالَ عَنْهَا وَبَالَغْتَ فِي طَلَبِ عِلْمِهَا. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هَذَا التَّرْتِيبُ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ وَمِنْهُ إِحْفَاءُ الشَّارِبِ، وَإِحْفَاءُ الْبَقْلِ اسْتِئْصَالُهُ، وَأَحْفَى فِي الْمَسْأَلَةِ إِذَا أَلْحَفَ، وَحَفِيَ بِفُلَانٍ وَتَحَفَّى بِهِ بَالَغَ فِي الْبِرِّ بِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَالْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ مُتَقَارِبَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: عَنْها وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَالتَّقْدِيرُ: يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا كَأَنَّكَ حَفِيٌّ بِهَا ثُمَّ حَذَفَ قَوْلَهُ: «بِهَا» لِطُولِ الْكَلَامِ وَلِأَنَّهُ مَعْلُومٌ لَا يَحْصُلُ الِالْتِبَاسُ بِسَبَبِ حَذْفِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ بِهِمْ لِأَنَّ لَفْظَ الْحَفِيِّ يَجُوزُ أَنْ يُعَدَّى تَارَةً بِالْبَاءِ وَأُخْرَى بِكَلِمَةِ عَنْ وَيُؤَكَّدُ هَذَا الْوَجْهُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ (كَأَنَّكَ حفي بها) .

[سورة الأعراف (7) : آية 188]

المسألة الثالثة: قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها سُؤَالٌ عَنْ وَقْتِ قيام الساعة وقوله ثانياً: يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها سُؤَالٌ عَنْ كُنْهِ ثِقَلِ السَّاعَةِ وَشِدَّتِهَا وَمَهَابَتِهَا، فَلَمْ يَلْزَمِ التَّكْرَارُ: أَجَابَ عَنِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ: إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي. وَأَجَابَ عَنِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ: إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أَنَّ السُّؤَالَ الْأَوَّلَ كَانَ وَاقِعًا عَنْ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ. وَالسُّؤَالُ الثَّانِي كَانَ وَاقِعًا عَنْ مِقْدَارِ شِدَّتِهَا وَمَهَابَتِهَا، وَأَعْظَمُ أَسْمَاءِ اللَّه مَهَابَةً وَعَظَمَةً هُوَ قَوْلُهُ عِنْدَ السُّؤَالِ عَنْ مِقْدَارِ شِدَّةِ الْقِيَامَةِ الِاسْمُ الدَّالُّ عَلَى غَايَةِ الْمَهَابَةِ، وَهُوَ قَوْلُنَا اللَّه ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ أَخْفَيْتُ مَعْرِفَةَ وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ عَنِ الخلق. [سورة الأعراف (7) : آية 188] قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) [في قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا أَيْ أَنَا لَا أَدَّعِي عِلْمَ الْغَيْبِ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ [يونس: 48، 49] الثاني: رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَلَا يُخْبِرُكَ رَبُّكَ بِالرُّخْصِ وَالْغَلَاءِ حَتَّى نَشْتَرِيَ فَنَرْبَحَ، وَبِالْأَرْضِ الَّتِي تَجْدُبُ لِنَرْتَحِلَ إِلَى الْأَرْضِ الْخِصْبَةِ. فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا رَجَعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ جَاءَتْ رِيحٌ فِي الطَّرِيقِ فَفَرَّتِ الدَّوَابُّ مِنْهَا، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَوْتِ رِفَاعَةَ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ فِيهِ غَيْظٌ لِلْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ انْظُرُوا أَيْنَ نَاقَتِي، فَقَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ أُبَيٍّ مَعَ قَوْمِهِ أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ يُخْبِرُ عَنْ مَوْتِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ وَلَا يَعْرِفُ أَيْنَ نَاقَتُهُ. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ نَاسًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ. قَالُوا كَيْتَ وَكَيْتَ وَنَاقَتِي فِي هَذَا الشِّعْبِ قَدْ تَعَلَّقَ زِمَامُهَا بِشَجَرَةٍ» فَوَجَدَهَا عَلَى مَا قَالَ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا طَالَبُوهُ بِالْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ وَطَالَبُوهُ بِإِعْطَاءِ الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ وَالدَّوْلَةِ الْعَظِيمَةِ ذَكَرَ أَنَّ قُدْرَتَهُ قَاصِرَةٌ وَعِلْمَهُ قَلِيلٌ، وَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ عَبْدًا كَانَ كَذَلِكَ وَالْقُدْرَةُ الْكَامِلَةُ وَالْعِلْمُ الْمُحِيطُ لَيْسَا إِلَّا للَّه تَعَالَى، فَالْعَبْدُ كَيْفَ يَحْصُلُ لَهُ هَذِهِ الْقُدْرَةُ، وَهَذَا الْعِلْمُ؟ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَعْمَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ وَالْإِيمَانُ نَفْعٌ وَالْكُفْرُ ضُرٌّ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَا إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّه سُبْحَانَهُ، وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى/ الْكُفْرِ إِنْ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً لِلْإِيمَانِ، فَخَالِقُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ يَكُونُ مُرِيدًا لِلْكُفْرِ، وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِلْإِيمَانِ، فَخَالِقُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ يَكُونُ مُرِيدًا للكفر، وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِلْإِيمَانِ امْتَنَعَ صُدُورُ الْكُفْرِ عَنْهَا بَدَلًا عَنِ الْإِيمَانِ إِلَّا عِنْدَ حُدُوثِ دَاعِيَةٍ جَازِمَةٍ، فَخَالِقُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ الْجَازِمَةِ يَكُونُ مُرِيدًا لِلْكُفْرِ، فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ: لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضُرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 189 إلى 190]

أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ وَإِنْ كَانَ عَامًّا بِحَسَبِ اللَّفْظِ إِلَّا أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهِ هُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَلَا يُخْبِرُكَ رَبُّكَ بِوَقْتِ السِّعْرِ الرَّخِيصِ قَبْلَ أَنْ يَغْلُوَ، حَتَّى نَشْتَرِيَ الرَّخِيصَ فَنَرْبَحَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْغَلَاءِ، فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ الْعَامُّ عَلَى سَبَبِ نُزُولِهِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّفْعِ: تَمَلُّكُ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا، وَالْمُرَادُ بِالضَّرِّ وَقْتُ الْقَحْطِ، وَالْأَمْرَاضِ وَغَيْرِهَا. الثَّانِي: الْمُرَادُ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا فِيمَا يَتَّصِلُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ: لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي مِنَ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ إِلَّا قَدْرَ مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يُقَدِّرَنِي عَلَيْهِ وَيُمَكِّنَنِي مِنْهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا إِذَا أَقْدَرَهُ اللَّه عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ بِأَسْرِهَا عُدُولٌ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَكَيْفَ يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ مَعَ أَنَّا أَقَمْنَا الْبُرْهَانَ الْقَاطِعَ الْعَقْلِيَّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ لَيْسَ إِلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ لَفْظِ هَذِهِ الْآيَةِ، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَدَمِ عِلْمِهِ بِالْغَيْبِ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ. فَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْهُ: جَلْبُ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَخَيْرَاتِهَا، وَدَفْعُ آفَاتِهَا وَمَضَرَّاتِهَا، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا يَتَّصِلُ بِالْخِصْبِ وَالْجَدْبِ وَالْأَرْبَاحِ وَالْأَكْسَابِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَتَّصِلُ بِأَمْرِ الدِّينِ، يَعْنِي: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّ الدَّعْوَى إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ تُؤَثِّرُ فِي هَذَا وَلَا تُؤَثِّرُ فِي ذَاكَ، فَكَيْفَ أَشْتَغِلُ بِدَعْوَةِ هَذَا دُونَ ذَاكَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ: مَا يَتَّصِلُ بِالْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالَاتِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ. وَالْجَوَابُ: عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي سَأَلُوهُ عَنْهَا مِثْلَ السُّؤَالِ عَنْ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ وَغَيْرِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ثم قَالَ: وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ أَيْ لَيْسَ بِي جُنُونٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ نَسَبُوهُ إِلَى الْجُنُونِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ: / مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي بَعِيدٌ جِدًّا وَيُوجِبُ تَفَكُّكَ نَظْمِ الْآيَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَمَامُ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنْ تَحْصِيلِ الْخَيْرِ، وَلَاحْتَرَزْتُ عَنِ الشَّرِّ حَتَّى صِرْتُ بِحَيْثُ لَا يَمَسُّنِي سُوءٌ. وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ عِلْمَ الْغَيْبِ غَيْرُ حَاصِلٍ عِنْدِي، وَلَمَّا بَيَّنَ بِمَا سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ إِلَّا عَلَى مَا أَقْدَرَهُ اللَّه عَلَيْهِ، وَلَا يَعْلَمُ إِلَّا مَا أَعْطَاهُ اللَّه الْعِلْمَ بِهِ قَالَ: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَالنَّذِيرُ مُبَالَغَةٌ فِي الْإِنْذَارِ بِالْعِقَابِ عَلَى فِعْلِ الْمَعَاصِي وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، وَالْبَشِيرُ مُبَالَغَةٌ فِي الْبِشَارَةِ بِالثَّوَابِ عَلَى فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمَعَاصِي وَقَوْلُهُ: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَتَرَكَ ذِكْرَ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ ذِكْرَ إِحْدَاهُمَا، يُفِيدُ ذِكْرَ الْأُخْرَى كَقَوْلِهِ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْلِ: 81] وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِنْ كَانَ نَذِيرًا وَبَشِيرًا لِلْكُلِّ إِلَّا أَنَّ الْمُنْتَفِعَ بِتِلْكَ النِّذَارَةِ وَالْبِشَارَةِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ. فَلِهَذَا السَّبَبِ خَصَّهُمُ اللَّه بِالذِّكْرِ، وَقَدْ بَالَغْنَا فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: 2] . [سورة الأعراف (7) : الآيات 189 الى 190] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى رَجَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إلى تقرير أمر التوحيد وإبطال الشرك وفيه مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَهِيَ نَفْسُ آدَمَ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها أَيْ حَوَّاءَ خَلَقَهَا اللَّه مِنْ ضِلْعِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ غَيْرِ أَذًى فَلَمَّا تَغَشَّاها آدَمُ حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً ... فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أَيْ ثَقُلَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا أَتَاهَا إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ وَقَالَ: مَا هَذَا يَا حَوَّاءُ/ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ كَلْبًا أَوْ بَهِيمَةً وَمَا يُدْرِيكِ مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ؟ أَمِنْ دُبُرِكِ فَيَقْتُلُكِ أَوْ يَنْشَقُّ بَطْنُكِ؟ فَخَافَتْ حَوَّاءُ، وَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمْ يَزَالَا فِي هَمٍّ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَاهَا وَقَالَ: إِنْ سَأَلْتِ اللَّه أَنْ يَجْعَلَهُ صَالِحًا سَوِيًّا مِثْلَكِ وَيُسَهِّلَ خُرُوجَهُ مِنْ بَطْنِكِ تسميه عبد الحرث، وكان اسم إبليس في الملائكة الحرث فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أَيْ لَمَّا آتَاهُمَا اللَّه وَلَدًا سَوِيًّا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شَرِيكًا أَيْ جَعَلَ آدَمُ وَحَوَّاءُ له شريكاً، والمراد به الحرث هَذَا تَمَامُ الْقِصَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ فَاسِدٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَتَوْا بِهَذَا الشِّرْكِ جَمَاعَةٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الْأَعْرَافِ: 191] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ للَّه تَعَالَى، وَمَا جَرَى لِإِبْلِيسَ اللَّعِينِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرٌ. الثَّالِثُ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ إِبْلِيسَ لَقَالَ: أَيُشْرِكُونَ مَنْ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا، وَلَمْ يَقُلْ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا، لِأَنَّ الْعَاقِلَ إِنَّمَا يُذْكَرُ بِصِيغَةِ «مَنْ» لَا بِصِيغَةِ «مَا» الرَّابِعُ: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَشَدَّ النَّاسِ مَعْرِفَةً بِإِبْلِيسَ، وَكَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَسْمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها فَكَانَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ أن اسم إبليس هو الحرث فَمَعَ الْعَدَاوَةِ الشَّدِيدَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ ومع علمه بأن اسمه هو الحرث كيف سمى ولد نفسه بعبد الحرث؟ وَكَيْفَ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَسْمَاءُ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَجِدْ سِوَى هَذَا الِاسْمِ؟ الْخَامِسُ: أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا لَوْ حَصَلَ لَهُ وَلَدٌ يَرْجُو مِنْهُ الْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ، فَجَاءَهُ إِنْسَانٌ وَدَعَاهُ إِلَى أَنْ يُسَمِّيَهُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَزَجَرَهُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ. فَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ نُبُوَّتِهِ وَعِلْمِهِ الْكَثِيرِ الَّذِي حَصَلَ مِنْ قَوْلِهِ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: 31] وَتَجَارِبِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ بِسَبَبِ الزَّلَّةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا لِأَجْلِ وَسْوَسَةِ إِبْلِيسَ، كَيْفَ لَمْ يَتَنَبَّهْ لِهَذَا الْقَدْرِ وَكَيْفَ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا السَّادِسُ: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أن آدم عليه السلام، سماه بعبد الحرث، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ جَعَلَ هَذَا اللَّفْظَ اسْمَ عَلَمٍ لَهُ، أَوْ جَعَلَهُ صِفَةً لَهُ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهَذَا اللَّفْظِ أنه عبد الحرث وَمَخْلُوقٌ مِنْ قِبَلِهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ هَذَا شِرْكًا باللَّه لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَعْلَامِ وَالْأَلْقَابِ لَا تُفِيدُ فِي الْمُسَمَّيَاتِ فَائِدَةً، فَلَمْ يَلْزَمْ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ حُصُولُ الْإِشْرَاكِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَانَ هَذَا قَوْلًا بِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اعْتَقَدَ أَنَّ للَّه شَرِيكًا فِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْجَزْمَ بِتَكْفِيرِ آدَمَ، وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ فَاسِدٌ وَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الْمُسْلِمِ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَيْهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ وُجُوهٌ صَحِيحَةٌ سَلِيمَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ.

التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَلَى تَمْثِيلِ ضَرْبِ الْمَثَلِ/ وَبَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ صُورَةُ حَالَةِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي جَهْلِهِمْ، وَقَوْلِهِمْ بِالشِّرْكِ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا إِنْسَانًا يُسَاوِيهِ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ، فَلَمَّا تَغَشَّى الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ وَظَهَرَ الْحَمْلُ، دَعَا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا وَلَدًا صَالِحًا سَوِيًّا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لِآلَائِكَ وَنَعْمَائِكَ. فَلَمَّا آتَاهُمَا اللَّه وَلَدًا صَالِحًا سَوِيًّا، جَعَلَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ للَّه شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا، لِأَنَّهُمْ تَارَةً يَنْسُبُونَ ذَلِكَ الْوَلَدَ إِلَى الطَّبَائِعِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الطَّبَائِعِيِّينَ، وَتَارَةً إِلَى الْكَوَاكِبِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمُنَجِّمِينَ، وَتَارَةً إِلَى الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ كَمَا هُوَ قَوْلُ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ تَنَزَّهَ اللَّه عَنْ ذَلِكَ الشِّرْكِ، وَهَذَا جَوَابٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ. التَّأْوِيلُ الثَّانِي: بِأَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ آلُ قُصَيٍّ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسِ قُصَيٍّ وَجَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا عَرَبِيَّةً قُرَشِيَّةً لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا آتَاهُمَا مَا طَلَبَا مِنَ الْوَلَدِ الصَّالِحِ السَّوِيِّ جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا حَيْثُ سَمَّيَا أَوْلَادَهُمَا الْأَرْبَعَةَ بِعَبْدِ مَنَافٍ، وَعَبْدِ الْعُزَّى، وَعَبْدِ قُصَيٍّ، وَعَبْدِ اللَّاتِ، وَجَعَلَ الضَّمِيرَ فِي يُشْرِكُونَ لَهُمَا وَلِأَعْقَابِهِمَا الَّذِينَ اقْتَدَوْا بِهِمَا فِي الشِّرْكِ. التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنْ نُسَلِّمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي شَرْحِ قِصَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي دَفْعِ هَذَا الْإِشْكَالِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَيَرْجِعُ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ إِلَيْهَا، فَذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَحَكَى عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي ذكرا أنه تعالى لو آتاهما ولداً سوياً صَالِحًا لَاشْتَغَلُوا بِشُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ، ثُمَّ قَالَ: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فَقَوْلُهُ: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ وَرَدَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَالتَّبْعِيدِ، وَالتَّقْرِيرُ: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا أجعلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا؟ ثُمَّ قَالَ: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ تَعَالَى اللَّه عَنْ شِرْكِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالشِّرْكِ وَيَنْسُبُونَهُ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنَظِيرُهُ أَنْ يُنْعِمَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْإِنْعَامِ، ثُمَّ يُقَالُ لِذَلِكَ الْمُنْعِمِ: إِنَّ ذَلِكَ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِ يَقْصِدُ ذَمَّكَ وَإِيصَالَ الشَّرِّ إِلَيْكَ، فَيَقُولُ ذَلِكَ الْمُنْعِمُ: فَعَلْتُ فِي حَقِّ فُلَانٍ كَذَا وأحسنت إليه بكذا وكذا وَأَحْسَنْتُ إِلَيْهِ بِكَذَا وَكَذَا، ثُمَّ إِنَّهُ يُقَابِلُنِي بالشر والإساءة والبغي؟ على التبعيد فكذا هاهنا. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا فِي حَقِّ آدَمَ وَحَوَّاءَ/ وَلَا إِشْكَالَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَلْفَاظِهَا إِلَّا قَوْلِهِ: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَنَقُولُ: التَّقْدِيرُ، فَلَمَّا آتَاهُمَا وَلَدًا صَالِحًا سَوِيًّا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ أَيْ جَعَلَ أَوْلَادَهُمَا لَهُ شُرَكَاءَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَكَذَا فِيمَا آتَاهُمَا، أَيْ فِيمَا آتَى أَوْلَادَهُمَا وَنَظِيرُهُ قوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] أَيْ وَاسْأَلْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَا الْفَائِدَةُ فِي التَّثْنِيَةِ فِي قَوْلِهِ: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ. قُلْنَا: لِأَنَّ وَلَدَهُ قِسْمَانِ ذَكَرٌ وَأُنْثَى فَقَوْلُهُ: جَعَلا الْمُرَادُ مِنْهُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مَرَّةً عَبَّرَ عَنْهُمَا بلفظ التثنية

لِكَوْنِهِمَا صِنْفَيْنِ وَنَوْعَيْنِ، وَمَرَّةً عَبَّرَ عَنْهُمَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ سَلَّمْنَا أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما عَائِدٌ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، إِلَّا أَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا آتَاهُمَا الْوَلَدَ الصَّالِحَ عَزَمَا عَلَى أَنْ يَجْعَلَاهُ وَقْفًا عَلَى خِدْمَةِ اللَّه وَطَاعَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. ثُمَّ بَدَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَتَارَةً كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَمَنَافِعِهَا، وَتَارَةً كَانُوا يَأْمُرُونَهُ بِخِدْمَةِ اللَّه وَطَاعَتِهِ. وَهَذَا الْعَمَلُ وَإِنْ كَانَ مِنَّا قُرْبَةً وَطَاعَةً، إِلَّا أَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا نُقِلَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ حَاكِيًا عَنِ اللَّه سُبْحَانَهُ: «أَنَا أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي تَرْكُتُهُ وَشِرْكَهُ» وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَالْإِشْكَالُ زَائِلٌ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي التَّأْوِيلِ أَنْ نَقُولَ: سَلَّمْنَا صِحَّةَ تِلْكَ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ، إلا أنا نقول: إنهم سموا بعيد الحرث لِأَجْلِ أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ إِنَّمَا سَلِمَ مِنَ الْآفَةِ وَالْمَرَضِ بِسَبَبِ دُعَاءِ ذَلِكَ الشَّخْصِ الْمُسَمَّى بالحرث، وَقَدْ يُسَمَّى الْمُنْعَمُ عَلَيْهِ عَبْدًا لِلْمُنْعِمِ. يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: أَنَا عَبْدُ مَنْ تَعَلَّمْتُ مِنْهُ حَرْفًا، وَرَأَيْتُ بَعْضَ الْأَفَاضِلِ كَتَبَ عَلَى عُنْوَانٍ: كِتَابَةُ عَبْدِ وُدِّهِ فُلَانٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنِّي لَعَبْدُ الضَّيْفِ مَا دَامَ ثَاوِيًا ... وَلَا شِيمَةَ لِي بَعْدَهَا تُشْبِهُ الْعَبْدَا فَآدَمُ وَحَوَّاءُ عَلَيْهِمَا السلام سميا ذلك الولد بعبد الحرث تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا سَلِمَ مِنَ الْآفَاتِ بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ، وَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ عَبْدَ اللَّه مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَمْلُوكُهُ وَمَخْلُوقُهُ، إِلَّا أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ فَلَمَّا حَصَلَ الِاشْتِرَاكُ فِي لَفْظِ الْعَبْدِ لَا جَرَمَ صَارَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُعَاتَبًا فِي هَذَا الْعَمَلِ بِسَبَبِ الِاشْتِرَاكِ الْحَاصِلِ فِي مُجَرَّدِ لَفْظِ الْعَبْدِ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا نَقُولُهُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ وَفِيهَا مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ المشهور أنها نفس آدم وقوله: / خَلَقَ مِنْها زَوْجَها الْمُرَادُ حَوَّاءُ. قَالُوا وَمَعْنَى كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً مِنْ نَفْسِ آدَمَ، أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ. قَالُوا: وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْجِنْسَ إِلَى الْجِنْسِ أَمْيَلُ، وَالْجِنْسِيَّةُ عِلَّةُ الضَّمِّ، وَأَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ ابْتِدَاءً فَمَا الَّذِي حَمَلَنَا عَلَى أَنْ نَقُولَ إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ جُزْءٍ أَجْزَاءِ آدَمَ؟ وَلِمَ لَا نَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ حَوَّاءَ أَيْضًا ابْتِدَاءً؟ وَأَيْضًا الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ إِنْسَانٍ مِنْ عَظْمِ وَاحِدٍ فَلِمَ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِهِ ابْتِدَاءً، وَأَيْضًا الَّذِي يُقَالُ: إِنَّ عَدَدَ أَضْلَاعِ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ أَنْقَصُ مِنْ عَدَدِ أَضْلَاعِ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ فِيهِ مُؤَاخَذَةٌ تُنْبِي عَنْ خِلَافِ الْحِسِّ وَالتَّشْرِيحِ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إِذًا لَمْ نَقُلَ بِذَلِكَ، فَمَا الْمُرَادُ من كلمة (من) في قوله: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها فَنَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِشَارَةَ إلى الشيء تارة تكون بِحَسَبِ شَخْصِهِ، وَأُخْرَى بِحَسَبِ نَوْعِهِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّه الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ» وَلَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ الْفَرْدَ الْمُعَيَّنَ بَلِ الْمُرَادُ ذَلِكَ النَّوْعُ. وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ هَذَا هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أَظْهَرَ اللَّه فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ» وَالْمُرَادُ خَلَقَ مِنَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ زَوْجَةَ آدَمَ، وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ زَوْجَ آدَمَ إِنْسَانًا مِثْلَهُ قَوْلُهُ: فَلَمَّا تَغَشَّاها أَيْ جَامَعَهَا، وَالْغِشْيَانُ إِتْيَانُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ وَقَدْ غَشَّاهَا وَتَغَشَّاهَا إِذَا عَلَاهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا عَلَاهَا فَقَدْ صَارَ كَالْغَاشِيَةِ لَهَا، وَمِثْلُهُ يُجَلِّلُهَا، وَهُوَ يُشْبِهُ التَّغَطِّيَ وَاللُّبْسَ. قَالَ تَعَالَى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 191 إلى 194]

لِباسٌ لَهُنَ وَقَوْلُهُ: حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً قَالُوا يُرِيدُ النُّطْفَةَ وَالْمَنِيَّ وَالْحَمْلُ بِالْفَتْحِ مَا كَانَ فِي الْبَطْنِ أَوْ عَلَى رَأْسِ الشَّجَرِ، وَالْحِمْلُ بِكَسْرِ الْحَاءِ مَا حُمِلَ عَلَى ظَهْرٍ أَوْ عَلَى الدَّابَّةِ. وَقَوْلُهُ: فَمَرَّتْ بِهِ أَيِ اسْتَمَرَّتْ بِالْمَاءِ وَالْحَمْلِ عَلَى سَبِيلِ الْخِفَّةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُومُ وَتَقْعُدُ وَتَمْشِي مِنْ غَيْرِ ثِقَلٍ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ فَمَرَّتْ بِهِ بِالتَّخْفِيفِ وَقَرَأَ غَيْرُهُ (فَمَارَتْ بِهِ) مِنَ الْمِرْيَةِ. كقوله: أَفَتُمارُونَهُ [النجم: 12] وفي قراءة أخرى أفتمرونه مَعْنَاهُ وَقَعَ فِي نَفْسِهَا ظَنُّ الْحَمْلِ وَارْتَابَتْ فِيهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أَيْ صَارَتْ إِلَى حَالِ الثِّقَلِ وَدَنَتْ وِلَادَتُهَا دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما يَعْنِي آدَمَ وَحَوَّاءَ لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً أَيْ وَلَدًا سَوِيًّا مِثْلَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لِآلَائِكَ وَنَعْمَائِكَ فَلَمَّا آتاهُما اللَّه صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما وَالْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِهِ قَدْ مَرَّ بِالِاسْتِقْصَاءِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَعَاصِمٌ، فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ (عَنْهُ شُرَكَاءَ) بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ (عَنْهُ شِرْكًا) بِكَسْرِ الشِّينِ وَتَنْوِينِ الْكَافِ وَمَعْنَاهُ جَعَلَا لَهُ نُظَرَاءَ ذَوِي شِرْكٍ وَهُمُ الشُّرَكَاءُ، أَوْ يُقَالُ مَعْنَاهُ أَحْدَثَا للَّه إِشْرَاكًا فِي الْوَلَدِ وَمَنْ قَرَأَ شُرَكاءَ فَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا [الرَّعْدِ: 16] وَأَرَادَ بِالشُّرَكَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِبْلِيسَ لِأَنَّ مَنْ أَطَاعَ إِبْلِيسَ فَقَدْ أَطَاعَ جَمِيعَ الشَّيَاطِينِ، هَذَا إِذَا حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْقِصَّةِ الْمَشْهُورَةِ، أَمَّا إِذَا لَمْ نَقُلْ بِهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ واللَّه أَعْلَمُ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 191 الى 194] أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) [في قَوْلُهُ تَعَالَى أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ] اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ قِصَّةِ إِبْلِيسَ إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَجْنَبِيَّةً عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ غَايَةَ الْفَسَادِ فِي النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ، بَلِ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي سَائِرِ الْأَجْوِبَةِ مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ الرَّدُّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَوْثَانَ لَا تَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ فَقَوْلُهُ: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ مَعْنَاهُ أَيَعْبُدُونَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا؟ وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَيْ وَهُمْ مَخْلُوقُونَ يَعْنِي الْأَصْنَامَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ وَحَّدَ يَخْلُقُ ثُمَّ جَمَعَ فَقَالَ: وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَأَيْضًا فَكَيْفَ ذَكَرَ الْوَاوَ وَالنُّونَ فِي جَمْعِ غَيْرِ النَّاسِ؟ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ لَفْظَ (مَا) تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ والجمع، فهذه من صيغ الوحدان يحسب ظَاهِرِ لَفْظِهَا. وَمُحْتَمِلَةٌ لِلْجَمْعِ فاللَّه تَعَالَى اعْتَبَرَ الْجِهَتَيْنِ فَوَحَّدَ قَوْلَهُ: يَخْلُقُ رِعَايَةً لِحُكْمِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَجَمَعَ قَوْلَهُ: وَهُمْ يُخْلَقُونَ رِعَايَةً لِجَانِبِ المعنى.

وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْجَمْعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ فِي غَيْرِ مَنْ يَعْقِلُ كَيْفَ يَجُوزُ؟ فَنَقُولُ: لَمَّا اعْتَقَدَ عَابِدُوهَا أَنَّهَا تَعْقِلُ وَتُمَيِّزُ فَوَرَدَ هَذَا اللَّفْظُ بِنَاءً عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ وَيَتَصَوَّرُونَهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 33] وَقَوْلُهُ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يُوسُفَ: 4] وقوله: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النَّمْلِ: 18] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُوجِدٍ وَلَا خَالِقٍ لِأَفْعَالِهِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى طَعَنَ فِي إِلَهِيَّةِ الْأَجْسَامِ بِسَبَبِ أَنَّهَا لَا تَخْلُقُ شَيْئًا وَهَذَا الطَّعْنُ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ قُلْنَا إِنَّ بِتَقْدِيرِ أَنَّهَا كَانَتْ خَالِقَةً لِشَيْءٍ لَمْ يَتَوَجَّهِ الطَّعْنُ فِي إِلَهِيَّتِهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ خَالِقًا كَانَ إِلَهًا، فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ خَالِقًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ كَانَ إِلَهًا وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا، عَلِمْنَا أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ خَالِقٍ لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً يُرِيدُ أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَنْصُرُ مَنْ أَطَاعَهَا وَلَا تَنْتَصِرُ مِمَّنْ عَصَاهَا. وَالنَّصْرُ: الْمَعُونَةُ عَلَى الْعَدُوِّ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَعْبُودَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِيصَالِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ عِبَادَتُهَا؟ ثُمَّ قَالَ: وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ أَيْ وَلَا يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَكْرُوهًا فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ كَسْرَهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى دَفْعِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ [إلى آخر الآية] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَثْبَتَ بِالْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِهَذِهِ الْأَصْنَامِ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهَا بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْمَعْبُودَ الَّذِي يَعْبُدُهُ الْمُشْرِكُونَ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ كَمَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، فكذا لا يصح فيه إذا دعى إِلَى الْخَيْرِ الِاتِّبَاعُ. وَلَا يُفَصِّلُ حَالَ مَنْ يُخَاطِبُهُ مِمَّنْ يَسْكُتُ عَنْهُ، ثُمَّ قَوَّى هَذَا الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ وَهَذَا مِثْلُ قَوْلُهُ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [الْبَقَرَةِ: 6] وَذَكَرْنَا مَا فِيهِ مِنَ الْمَبَاحِثِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ إِلَّا أَنَّ الْفَرْقَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ عَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الفعل، وهاهنا عَطَفَ الِاسْمَ عَلَى الْفِعْلِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَدَعَوْتُمُوهُمْ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ: وَقَوْلَهُ: أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ عَطْفَ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِفَائِدَةٍ وَحِكْمَةٍ، وَتِلْكَ الْفَائِدَةُ هِيَ أَنَّ صِيغَةَ الْفِعْلِ مُشْعِرَةٌ بِالتَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَصِيغَةُ الِاسْمِ مُشْعِرَةٌ بِالدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ وَالِاسْتِمْرَارِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا إِذَا وَقَعُوا فِي مُهِمٍّ وَفِي مُعْضِلَةٍ تَضَرَّعُوا إِلَى تِلْكَ الْأَصْنَامِ، وَإِذَا لَمْ تَحْدُثْ تِلْكَ الْوَاقِعَةُ بَقُوا سَاكِتِينَ صَامِتِينَ، فَقِيلَ لَهُمْ لَا فَرْقَ بين إحدائكم دُعَاءَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ تَسْتَمِرُّوا عَلَى صَمْتِكُمْ وَسُكُوتِكُمْ، فَهَذَا هُوَ الْفَائِدَةُ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ، ثُمَّ أَكَّدَ اللَّه بَيَانَ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ يَحْسُنُ وَصْفُهَا بِأَنَّهَا عِبَادٌ مَعَ أَنَّهَا جَمَادَاتٌ؟ وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا/ ادَّعَوْا أَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ، وَجَبَ أَنْ يَعْتَقِدُوا فِيهَا كَوْنَهَا عَاقِلَةً فَاهِمَةً، فَلَا جَرَمَ وَرَدَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ عَلَى وَفْقِ مُعْتَقَدَاتِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ وَلَمْ يَقُلْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِبْنَ لَكُمْ وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ وَلَمْ يَقُلِ الَّتِي.

[سورة الأعراف (7) : آية 195]

وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا اللَّغْوَ أُورِدَ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ أَيْ قُصَارَى أَمْرِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَحْيَاءً عُقَلَاءَ، فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَهُمْ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ وَلَا فَضْلَ لَهُمْ عَلَيْكُمْ، فَلِمَ جَعَلْتُمْ أَنْفُسَكُمْ عَبِيدًا وَجَعَلْتُمُوهَا آلِهَةً وَأَرْبَابًا؟ ثُمَّ أَبْطَلَ أَنْ يَكُونُوا عِبَادًا أَمْثَالَكُمْ. فَقَالَ: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها [الأعراف: 195] ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْبَيَانَ بِقَوْلِهِ: فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ وَمَعْنَى هَذَا الدُّعَاءِ طَلَبُ الْمَنَافِعِ وَكَشْفُ الْمَضَارِّ مِنْ جِهَتِهِمْ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَسْتَجِيبُوا لَامُ الْأَمْرِ عَلَى مَعْنَى التَّعْجِيزِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى الْإِجَابَةِ ظَهَرَ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلْمَعْبُودِيَّةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبِيهِ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مَرْيَمَ: 42] وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ فِي ادِّعَاءِ أَنَّهَا آلِهَةٌ وَمُسْتَحِقَّةٌ للعبادة، ولما ثبت بهذه الدلائل الثلاثة اليقينة أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلْمَعْبُودِيَّةِ، وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَيْهَا، وَأَنْ لَا يَشْتَغِلَ إِلَّا بِعِبَادَةِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْعَالِمِ الْحَيِّ الْحَكِيمِ الضار النافع. [سورة الأعراف (7) : آية 195] أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الدَّلِيلِ فِي بَيَانِ أَنَّهُ يَقْبُحُ مِنَ الْإِنْسَانِ الْعَاقِلِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِعِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعْضَاءً أَرْبَعَةً، وَهِيَ الْأَرْجُلُ وَالْأَيْدِي وَالْأَعْيُنُ وَالْآذَانُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ إِذَا حَصَلَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْقُوَى الْمُحَرِّكَةِ وَالْمُدْرِكَةِ تَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهَا إِذَا كَانَتْ خَالِيَةً عَنْ هَذِهِ الْقُوَى، فَالرِّجْلُ الْقَادِرَةُ عَلَى الْمَشْيِ وَالْيَدُ الْقَادِرَةُ عَلَى الْبَطْشِ أَفْضَلُ مِنَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ الْخَالِيَتَيْنِ عَنْ قُوَّةِ الْحَرَكَةِ وَالْحَيَاةِ، وَالْعَيْنُ الْبَاصِرَةُ وَالْأُذُنُ السَّامِعَةُ أَفْضَلُ مِنَ الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ الْخَالِيَتَيْنِ عَنِ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ وَالسَّامِعَةِ، وَعَنْ قُوَّةِ الْحَيَاةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ أَفْضَلُ بِكَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَامِ، بَلْ لَا نِسْبَةَ لِفَضِيلَةِ الْإِنْسَانِ إِلَى/ فَضْلِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الْبَتَّةَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْأَفْضَلِ الْأَكْمَلِ الْأَشْرَفِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِعِبَادَةِ الْأَخَسِّ الْأَدْوَنِ الَّذِي لَا يُحِسُّ مِنْهُ فَائِدَةً الْبَتَّةَ، لَا فِي جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَلَا فِي دَفْعِ الْمَضَرَّةِ. هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بَعْضُ أَغْمَارِ الْمُشَبِّهَةِ وَجْهًا لَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ للَّه تَعَالَى. فَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ عَدَمَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ لِهَذِهِ الْأَصْنَامِ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ إِلَهِيَّتِهَا، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ مَوْجُودَةً للَّه تَعَالَى لَكَانَ عَدَمُهَا دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْإِلَهِيَّةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِإِثْبَاتِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ للَّه تَعَالَى. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: بَيَانُ أَنَّ الْإِنْسَانَ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ حَالًا مِنَ الصَّنَمِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ رِجْلٌ مَاشِيَةٌ، وَيَدٌ بَاطِشَةٌ، وَعَيْنٌ بَاصِرَةٌ، وَأُذُنٌ سَامِعَةٌ، وَالصَّنَمُ رِجْلُهُ غَيْرُ مَاشِيَةٍ، وَيَدُهُ غَيْرُ بَاطِشَةٍ، وَعَيْنُهُ غَيْرُ مُبْصِرَةٍ، وَأُذُنُهُ غَيْرُ سَامِعَةٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْإِنْسَانُ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ حَالًا مِنَ الصَّنَمِ، وَاشْتِغَالُ الْأَفْضَلِ الْأَكْمَلِ بِعِبَادَةِ الْأَخَسِّ الْأَدْوَنِ جَهْلٌ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ، لَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَهْمُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ: تَقْرِيرُ الْحُجَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ [الأعراف: 192] يَعْنِي كَيْفَ تَحْسُنُ عِبَادَةُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى النَّفْعِ وَالضَّرَرِ، ثُمَّ قَرَّرَ تَعَالَى ذَلِكَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ لَمْ يَحْصُلْ لَهَا أَرْجُلٌ مَاشِيَةٌ، وَأَيْدٍ بَاطِشَةٌ، وَأَعْيُنٌ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 196 إلى 198]

بَاصِرَةٌ، وَآذَانٌ سَامِعَةٌ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ قَادِرَةً عَلَى الْإِنْفَاعِ وَالْإِضْرَارِ، فَامْتَنَعَ كَوْنُهَا آلِهَةً. أَمَّا إِلَهُ الْعَالَمِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُتَعَالِيًا عَنْ هَذِهِ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ إِلَّا أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّفْعِ وَالضَّرَرِ وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِكَمَالِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُخَوِّفُونَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِآلِهَتِهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ لِيَظْهَرَ لَكُمْ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى إِيصَالِ الْمَضَارِّ إِلَيَّ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَأَثْبَتَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو الْيَاءَ فِي كِيدُونِي وَالْبَاقُونَ حَذَفُوهَا وَمِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ: فَلا تُنْظِرُونِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ، وَالْقَوْلُ فِيهِ أَنَّ الْفَوَاصِلَ تُشْبِهُ الْقَوَافِيَ، وَقَدْ حَذَفُوا هَذِهِ الْيَاءَاتِ إِذَا كَانَتْ فِي الْقَوَافِي كَقَوْلِهِ: يَلْمِسُ الْأَحْلَاسَ فِي مَنْزِلِهِ ... بِيَدَيْهِ كَالْيَهُودِيِّ الْمُمِلِّ وَالَّذِينَ أَثْبَتُوهَا فَلِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْإِثْبَاتُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَلا تُنْظِرُونِ أَيْ لَا تمهلوني واعجلوا في كيدي أنتم وشركاؤكم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 196 الى 198] إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ] اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ عِبَادَةُ اللَّه تَعَالَى، لِأَنَّهُ هو الذي يتولى تحصيل منافع الدُّنْيَا أَمَّا تَحْصِيلُ مَنَافِعِ الدِّينِ، فَبِسَبَبِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ، وَأَمَّا تَحْصِيلُ مَنَافِعِ الدُّنْيَا، فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: قَرَأَ الْقُرَّاءُ وَلِيِّي بِثَلَاثِ يَاءَاتٍ، الْأُولَى يَاءُ فَعِيلٍ وَهِيَ ساكنة، والثانية لام الفعل وهي كسورة، قَدْ أُدْغِمَتِ الْأُولَى فِيهَا فَصَارَ يَاءً مُشَدَّدَةً، وَالثَّالِثَةُ يَاءُ الْإِضَافَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَلِيَّ اللَّه بِيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ حَذَفَ الْيَاءَ الَّتِي هِيَ لَامُ فَعِيلٍ، كَمَا حَذَفَ اللَّامَ مِنْ قَوْلِهِمْ فاماليت بِهِ فَالْهَ، ثُمَّ أُدْغِمَتْ يَاءُ فَعِيلٍ فِي يَاءِ الْإِضَافَةِ، فَقِيلَ وَلِيَّ اللَّه وَهَذِهِ الْفَتْحَةُ فَتْحَةُ يَاءِ الْإِضَافَةِ، وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَأَجَازُوا اجْتِمَاعَ ثَلَاثِ يَاءَاتٍ، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّه أَيِ الَّذِي يَتَوَلَّى حِفْظِي وَنُصْرَتِي هُوَ اللَّه الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى هَذِهِ الْعُلُومِ العظيمة النافعة في الدين ويتولى الصالحين ينصرهم، فَلَا تَضُرُّهُمْ عَدَاوَةُ مَنْ عَادَاهُمْ، وَفِي ذَلِكَ يَأْمَنُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَنْ يَضُرَّهُ كَيْدُهُمْ. وَسَمِعْتُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا كَانَ يَدَّخِرُ لِأَوْلَادِهِ شَيْئًا، فَقِيلَ لَهُ فِيهِ فَقَالَ: وَلَدِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الصَّالِحِينَ أَوْ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ فَوَلِيُّهُ اللَّه ومن كان اللَّه لَهُ وَلِيًّا فَلَا حَاجَةَ لَهُ إِلَى مَالِي، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُجْرِمِينَ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ [الْقَصَصِ: 17] وَمَنْ رَدَّهُ اللَّه لَمْ أَشْتَغِلْ بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ وَصْفُ الْأَصْنَامِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ.

[سورة الأعراف (7) : آية 199]

فَإِنْ قَالُوا: فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ قَدْ صَارَتْ مَذْكُورَةً فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَكْرِيرِهَا؟ فَنَقُولُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّمَا أُعِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَذْكُورٌ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيعِ وَهَذَا مَذْكُورٌ عَلَى جِهَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَنْ تَجُوزُ لَهُ الْعِبَادَةُ، وَبَيْنَ مَنْ لَا تَجُوزُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَلَا تكن صَالِحَةً لِلْإِلَهِيَّةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ الْمَذْكُورَةَ صِفَاتٌ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ غَيْرَ اللَّه، يَعْنِي أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُخَوِّفُونَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ. بَلْ إِنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوا فِي الْجَهْلِ وَالْحَمَاقَةِ إِلَى أَنَّكَ لَوْ دَعَوْتَهُمْ وَأَظْهَرْتَ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ لَمْ يَسْمَعُوا بِعُقُولِهِمْ ذَلِكَ الْبَتَّةَ. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَتَقَدَّمُ ذِكْرُ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّمَا تَقَدَّمَ ذَكْرُ الْأَصْنَامِ فَكَيْفَ يَصِحُّ مَا ذُكِرَ؟ قُلْنَا: قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ [الأعراف: 195] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ فَإِنْ حَمَلْنَا هَذِهِ الصِّفَاتِ عَلَى الْأَصْنَامِ. قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهَا نَاظِرَةً كَوْنُهَا مُقَابِلَةً بِوَجْهِهَا وُجُوهَ الْقَوْمِ مِنْ قَوْلِهِمْ: جَبَلَانِ متناظران أي متقابلان، فإن حَمَلْنَاهَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا يَنْظُرُونَ إِلَى النَّاسِ إِلَّا أَنَّهُمْ لِشِدَّةِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْحَقِّ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ النَّظَرِ وَالرُّؤْيَةِ، فَصَارُوا كَأَنَّهُمْ عُمْيٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ غَيْرُ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ النَّظَرَ وَنَفَى الرُّؤْيَةَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى التَّغَايُرِ، وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ فَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَحْسَبُهُمْ أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ مَعَ أَنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَنْظُرُونَ، أَيْ تَظُنُّ أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَكَ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يُبْصِرُونَكَ، وَالرُّؤْيَةُ بِمَعْنَى الْحُسْبَانِ وَارِدَةٌ قَالَ تَعَالَى: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى [الْحَجِّ: 2] . [سورة الأعراف (7) : آية 199] خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ اللَّه هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّاهُ، وَأَنَّ الْأَصْنَامَ وَعَابِدِيهَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْإِيذَاءِ وَالْإِضْرَارِ، بين فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا هُوَ الْمَنْهَجُ الْقَوِيمُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ فِي مُعَامَلَةِ النَّاسِ فَقَالَ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْعَفْوُ الْفَضْلُ وَمَا أَتَى مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْحُقُوقُ الَّتِي تُسْتَوْفَى مِنَ النَّاسِ وَتُؤْخَذُ مِنْهُمْ، إِمَّا أَنْ يَجُوزَ إِدْخَالُ الْمُسَاهَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ فِيهَا، وَإِمَّا أَنْ لَا يَجُوزَ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: خُذِ الْعَفْوَ وَيَدْخُلُ فِيهِ تَرْكُ التَّشَدُّدِ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَيَدْخُلُ فِيهِ أَيْضًا التَّخَلُّقُ مَعَ النَّاسِ بِالْخُلُقِ الطَّيِّبِ، وَتَرْكُ الْغِلْظَةِ وَالْفَظَاظَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آلِ عِمْرَانَ: 159] ومن هذا الباب أن يدعو الْخَلْقَ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ بِالرِّفْقِ وَاللُّطْفِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْلِ: 125] . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي لَا يَجُوزُ دُخُولُ الْمُسَاهَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ فِيهِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْعُرْفُ، وَالْعَارِفَةُ، وَالْمَعْرُوفُ هُوَ كُلُّ أَمْرٍ عُرِفَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهِ، وَأَنَّ وُجُودَهُ خَيْرٌ مِنْ عَدَمِهِ، وَذَلِكَ لأن في هَذَا الْقِسْمَ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَخْذِ بِالْعَفْوِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَلَمْ يَكْشِفْ عَنْ حَقِيقَةِ الْحَالِ، لَكَانَ ذَلِكَ سَعْيًا فِي تَغْيِيرِ الدِّينِ وَإِبْطَالِ الْحَقِّ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، ثُمَّ إِنَّهُ إِذَا أَمَرَ بِالْعُرْفِ وَرَغَّبَ فِيهِ وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَنَفَّرَ عَنْهُ، فَرُبَّمَا

[سورة الأعراف (7) : آية 200]

أَقْدَمَ بَعْضَ الْجَاهِلِينَ عَلَى السَّفَاهَةِ وَالْإِيذَاءِ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفُرْقَانِ: 72] وَقَالَ: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 3] وَقَالَ فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً [الْوَاقِعَةِ: 25] وَإِذَا أَحَاطَ عَقْلُكَ بِهَذَا التَّقْسِيمِ، عَلِمْتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَامَلَةِ الْإِنْسَانِ مَعَ الْغَيْرِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا؟ قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَبَّكَ يَقُولُ هُوَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ» قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: تَفْسِيرُ جِبْرِيلَ مُطَابِقٌ لِلَفْظِ الْآيَةِ لِأَنَّكَ لَوْ وَصَلْتَ مَنْ قَطَعَكَ، فَقَدْ عَفَوْتَ عَنْهُ، وَإِذَا آتَيْتَ مَنْ حَرَمَكَ فَقَدْ آتَيْتَ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِذَا عَفَوْتَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ فَقَدْ أَعْرَضْتَ عَنِ الْجَاهِلِينَ، وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعُ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ طَرِيقٌ آخَرُ فَقَالُوا: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أَيْ مَا عَفَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، أَيْ مَا أَتَوْكَ بِهِ عَفْوًا فَخُذْهُ، وَلَا تَسْأَلْ عَمَّا وَرَاءَ ذَلِكَ. قَالُوا: كَانَ هَذَا قَبْلَ فَرِيضَةِ الصَّدَقَةِ فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ صَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً إِلَّا قَوْلَهُ: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أَيْ بِإِظْهَارِ الدِّينِ الْحَقِّ، وَتَقْرِيرِ دَلَائِلِهِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أَيِ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ فَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ جَمِيعُ الْآيَةِ مَنْسُوخَةٌ إِلَّا قَوْلَهُ: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَخْصِيصَ قَوْلِهِ: خُذِ الْعَفْوَ بِمَا ذَكَرَهُ تَقْيِيدٌ لِلْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَأَيْضًا فَهَذَا الْكَلَامُ إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى أَدَاءِ الزَّكَاةِ لَمْ يَكُنْ إِيجَابُ الزَّكَاةِ بِالْمَقَادِيرِ الْمَخْصُوصَةِ مُنَافِيًا لِذَلِكَ، لِأَنَّ آخِذَ الزَّكَاةِ مَأْمُورٌ بِأَنْ لَا يَأْخُذَ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ وَلَا يُشَدِّدِ الْأَمْرَ عَلَى الْمُزَكِّي فَلَمْ يَكُنْ إِيجَابُ الزَّكَاةِ سَبَبًا لِصَيْرُورَةِ هَذِهِ الآية منسوخة. وأما قَوْلُهُ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَمْرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَصْبِرَ عَلَى سُوءِ أَخْلَاقِهِمْ، وَأَنْ لَا يُقَابِلَ أَقْوَالَهُمُ الرَّكِيكَةَ وَلَا أَفْعَالَهُمُ الْخَسِيسَةَ بِأَمْثَالِهَا، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى امْتِنَاعِهِ مِنَ الْقِتَالِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُؤْمَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِينَ مَعَ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمُتَنَاقِضِ أَنْ يُقَالَ الشَّارِعُ لَا يُقَابِلُ سَفَاهَتَهُمْ بِمِثْلِهَا؟ وَلَكِنْ قَاتَلَهُمْ وَإِذَا كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مُمْكِنًا فَحِينَئِذٍ لَا حَاجَةَ إِلَى الْتِزَامِ النَّسْخِ، إِلَّا أَنَّ الظَّاهِرِيَّةَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَشْغُوفُونَ بِتَكْثِيرِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ولا حاجة. [سورة الأعراف (7) : آية 200] وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: [في شأن نزول الآية] قَالَ أَبُو زَيْدٍ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 199] قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ يَا رَبِّ وَالْغَضَبُ؟ فَنَزَلَ قَوْلُهُ: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ نَزْغَ الشَّيْطَانِ، عِبَارَةٌ عَنْ وَسَاوِسِهِ وَنَخْسِهِ فِي الْقَلْبِ بِمَا يُسَوِّلُ للإنسان من المعاصي، عن أبي زيد نزعت بَيْنَ الْقَوْمِ إِذَا أَفْسَدْتُ مَا بَيْنَهُمْ، وَقِيلَ النَّزْغُ الْإِزْعَاجُ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَأَصْلُهُ الْإِزْعَاجُ بِالْحَرَكَةِ إِلَى الشَّرِّ، وَتَقْرِيرُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِالْعُرْفِ فَعِنْدَ ذَلِكَ رُبَّمَا يُهَيِّجُ سَفِيهٌ وَيُظْهِرُ السَّفَاهَةَ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُ تَعَالَى بِالسُّكُوتِ عَنْ مُقَابَلَتِهِ فَقَالَ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ عِنْدَ إِقْدَامِ السَّفِيهِ عَلَى السَّفَاهَةِ يُهَيِّجُ الْغَضَبَ وَالْغَيْظَ وَلَا يَبْقَى الْإِنْسَانُ عَلَى حَالَةِ السَّلَامَةِ وعند تلك

[سورة الأعراف (7) : الآيات 201 إلى 202]

الْحَالَةِ يَجِدُ الشَّيْطَانُ مَجَالًا فِي حَمْلِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي، لَا جَرَمَ بَيَّنَ تَعَالَى مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعِلَاجِ لِهَذَا الْغَرَضِ فَقَالَ: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَالْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِعَاذَةِ قَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الطَّاعِنُونَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: لَوْلَا أَنَّهُ يَجُوزُ مِنَ الرَّسُولِ الْإِقْدَامُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ أَوِ الذَّنْبِ، وَإِلَّا لَمْ يَقُلْ لَهُ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ حَاصِلَ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ: إِنْ حَصَلَ فِي قَلْبِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ، كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: 65] وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَشْرَكَ. وَقَالَ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ فِيهِمَا آلِهَةٌ. الثَّانِي: هَبْ أَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ الشَّيْطَانَ يُوَسْوِسُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَّا أَنَّ هَذَا لَا يَقْدَحُ فِي عِصْمَتِهِ، إِنَّمَا الْقَادِحُ/ فِي عِصْمَتِهِ لَوْ قَبِلَ الرَّسُولُ وَسْوَسَتَهُ، وَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ إِنْسَانٍ إِلَّا وَمَعَهُ شَيْطَانٌ» قَالُوا: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّه قَالَ: وَأَنَا وَلَكِنَّهُ أَسْلَمَ بِعَوْنِ اللَّه، فَلَقَدْ أَتَانِي فَأَخَذْتُ بِحَلْقِهِ، وَلَوْلَا دَعْوَةُ سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ فِي الْمَسْجِدِ طَرِيحًا، وَهَذَا كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يُوَسْوِسُ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الْحَجِّ: 52] الثَّالِثُ: هَبْ أَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ الشَّيْطَانَ يُوَسْوِسُ. وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقْبَلُ أَثَرَ وَسْوَسَتِهِ، إِلَّا أَنَّا نَخُصُّ هَذِهِ الْحَالَةَ بِتَرْكِ الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى. قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَإِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّه فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً» . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الِاسْتِعَاذَةُ باللَّه عِنْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَتَذَكَّرَ الْمَرْءُ عَظِيمَ نِعَمِ اللَّه عَلَيْهِ وَشَدِيدَ عِقَابِهِ فَيَدْعُوهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ مُقْتَضَى الطَّبْعِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى أَمْرِ الشَّرْعِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَذَا الْخِطَابُ وَإِنْ خَصَّ اللَّه بِهِ الرَّسُولَ إِلَّا أَنَّهُ تَأْدِيبٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ لِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ باللَّه عَلَى السَّبِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لُطْفٌ مَانِعٌ مِنْ تَأْثِيرِ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النَّحْلِ: 97، 98] إذا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ لِهَذِهِ الِاسْتِعَاذَةِ أَثَرًا فِي دفع نزع الشَّيْطَانِ، وَجَبَتِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَدُلُّ على أن الاستعاذة بلسان لَا تُفِيدُ إِلَّا إِذَا حَضَرَ فِي الْقَلْبِ الْعِلْمُ بِمَعْنَى الِاسْتِعَاذَةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: اذْكُرْ لَفْظَ الِاسْتِعَاذَةِ بِلِسَانِكَ فَإِنِّي سَمِيعٌ وَاسْتَحْضِرْ مَعَانِيَ الِاسْتِعَاذَةِ بِعَقْلِكَ وَقَلْبِكَ فَإِنِّي عَلِيمٌ بِمَا فِي ضَمِيرِكَ، وَفِي الْحَقِيقَةِ الْقَوْلُ اللِّسَانِيُّ بِدُونِ الْمَعَارِفِ القلبية عديم الفائدة والأثر. [سورة الأعراف (7) : الآيات 201 الى 202] إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) [في قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ يَنْزَغُهُ الشَّيْطَانُ وَبَيَّنَ أَنَّ عِلَاجَ هَذِهِ الْحَالَةِ الِاسْتِعَاذَةُ باللَّه، ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ حَالَ الْمُتَّقِينَ يَزِيدُ عَلَى حَالِ الرَّسُولِ فِي هَذَا الْبَابِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ لَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا النَّزْغُ الَّذِي هُوَ كَالِابْتِدَاءِ فِي الْوَسْوَسَةِ، وَجَوَّزَ فِي الْمُتَّقِينَ مَا يَزِيدُ عَلَيْهِ وهو

أَنْ يَمَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَهَذَا الْمَسُّ يَكُونُ لَا مَحَالَةَ أَبْلَغَ مِنَ النَّزْغِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ طَيْفٌ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَالْبَاقُونَ طائِفٌ بِالْأَلِفِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: اخْتَلَفُوا فِي الطَّيْفِ فَقِيلَ إنه مصدر، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ يُقَالُ: طَافَ يَطُوفُ طَوْفَا وَطَوَافًا إِذَا أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ. وَأَطَافَ يُطِيفُ إِطَافَةً إِذَا جَعَلَ يَسْتَدِيرُ بِالْقَوْمِ وَيَأْتِيهِمْ مِنْ نَوَاحِيهِمْ، وَطَافَ الْخَيَالُ يَطِيفُ طَيْفًا إِذَا أَلَمَّ فِي الْمَنَامِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ طَيْفٌ أَصْلُهُ طَيِّفٌ. إِلَّا أَنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوا التَّشْدِيدَ، فَحَذَفُوا إِحْدَى الْيَاءَيْنِ وَأَبْقَوْا يَاءً سَاكِنَةً، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ هُوَ مَصْدَرٌ، وَعَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ هُوَ مِنْ بَابٍ هَيْنٍ وَهَيِّنٍ وَمَيْتٍ وَمَيِّتٍ، وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ قَوْلِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ قِرَاءَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إِذَا مَسَّهُمْ طَيِّفٌ بِالتَّشْدِيدِ. هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الطَّيْفِ، ثُمَّ سُمِّيَ الْجُنُونُ وَالْغَضَبُ وَالْوَسْوَسَةُ طَيْفًا، لِأَنَّهُ لَمَّةٌ مِنْ لَمَّةِ الشَّيْطَانِ تُشْبِهُ لَمَّةَ الْخَيَالِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الطَّيْفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْجُنُونُ، ثُمَّ قِيلَ لِلْغَضَبِ طَيْفٌ، لِأَنَّ الْغَضْبَانَ يُشْبِهُ الْمَجْنُونَ. وَأَمَّا الطَّائِفُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الطَّيْفِ، مِثْلَ الْعَافِيَةِ وَالْعَاقِبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ الْمَصْدَرُ فِيهِ عَلَى فَاعِلٍ وَفَاعِلَةٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الطَّائِفُ وَالطَّيْفُ سَوَاءٌ، وَهُوَ مَا كَانَ كَالْخَيَالِ الَّذِي يُلِمُّ بِالْإِنْسَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الطَّيْفُ كَالْخَطْرَةِ وَالطَّائِفُ كَالْخَاطِرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْغَضَبَ إِنَّمَا يَهِيجُ بِالْإِنْسَانِ إِذَا اسْتَقْبَحَ مِنَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ عَمَلًا مِنَ الْأَعْمَالِ، ثُمَّ اعْتَقَدَ فِي نَفْسِهِ كَوْنَهُ قَادِرًا، وَاعْتَقَدَ فِي الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ كَوْنَهُ عَاجِزًا عَنِ الدَّفْعِ، فَعِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتِ الثَّلَاثَةِ إِذَا كان واقعاً في ظلمات عالم الأجسام فيغتروا بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ، فَأَمَّا إِذَا انْكَشَفَ لَهُ نُورٌ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ زَالَتْ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتُ الثَّلَاثَةُ مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ. أَمَّا الِاعْتِقَادُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ اسْتِقْبَاحُ ذَلِكَ الْفِعْلِ مِنَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ، فَإِذَا انْكَشَفَ لَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِيهِ دَاعِيَةً جَازِمَةً رَاسِخَةً، وَمَتَى خَلَقَ اللَّه فِيهِ تِلْكَ الدَّاعِيَةَ امْتَنَعَ مِنْهُ أَنْ لَا يَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، فَإِذَا تَجَلَّى هَذَا الْمَعْنَى زَالَ الْغَضَبُ، وَأَيْضًا فَقَدْ يَخْطُرُ بِبَالِ الْإِنْسَانِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَلِمَ مِنْهُ هَذِهِ الْحَالَةَ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى تَرْكِهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَفِرُّ غَضَبُهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ عَرَفَ سِرَّ اللَّه فِي الْقَدَرِ هَانَتْ عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ» / وَأَمَّا الِاعْتِقَادُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ: وَهُوَ اعْتِقَادُهُ فِي نَفْسِهِ كَوْنَهُ قَادِرًا، وَكَوْنَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ عَاجِزًا، فَهَذَانِ الِاعْتِقَادَانِ أَيْضًا فَاسِدَانِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَمْ أَسَاءَ فِي الْعَمَلِ، واللَّه كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، وَهُوَ كَانَ أَسِيرًا فِي قَبْضَةِ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّهُ تَجَاوَزَ عَنْهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّهُ عَاجِزٌ فِي يَدِ الْغَضْبَانِ، فَكَذَلِكَ الْغَضْبَانُ عَاجِزٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّه. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَتَذَكَّرَ الْغَضْبَانُ مَا أَمَرَهُ اللَّه بِهِ مِنْ تَرْكِ إِمْضَاءِ الْغَضَبِ وَالرُّجُوعِ إِلَى تَرْكِ الْإِيذَاءِ وَالْإِيحَاشِ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يَتَذَكَّرَ أَنَّهُ إِذَا أَمْضَى الْغَضَبَ وَانْتَقَمَ كَانَ شريكاً للسباع المؤذية والحياة الْقَاتِلَةِ، وَإِنْ تَرَكَ الِانْتِقَامَ وَاخْتَارَ الْعَفْوَ كَانَ شَرِيكًا لِأَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ. وَخَامِسُهَا: أَنْ يَتَذَكَّرَ أَنَّهُ رُبَّمَا انْقَلَبَ ذَلِكَ الضَّعِيفُ قَوِيًّا قَادِرًا عَلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ يَنْتَقِمُ مِنْهُ عَلَى أَسْوَأِ الْوُجُوهِ، أَمَّا إِذَا عَفَا كَانَ ذَلِكَ إِحْسَانًا مِنْهُ إِلَيْهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: تَذَكَّرُوا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي تُفِيدُ ضَعْفَ تِلْكَ الِاعْتِقَادَاتِ وَقَوْلُهُ: فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا حَضَرَتْ هَذِهِ التَّذَكُّرَاتُ فِي عُقُولِهِمْ، فَفِي الْحَالِ يَزُولُ مَسُّ طَائِفِ الشَّيْطَانِ، وَيَحْصُلُ الِاسْتِبْصَارُ وَالِانْكِشَافُ وَالتَّجَلِّي وَيَحْصُلُ الْخَلَاصُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشيطان.

[سورة الأعراف (7) : آية 203]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ مَعْنَى (إذا) هاهنا لِلْمُفَاجَأَةِ، كَقَوْلِكَ خَرَجْتُ فَإِذَا زَيْدٌ وَإِذَا فِي قَوْلِهِ: إِذا مَسَّهُمْ يَسْتَدْعِي جَزَاءً، كَقَوْلِكَ آتِيكَ إِذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْكِنَايَةَ فِي قَوْلِهِ: وَإِخْوانُهُمْ إِلَى مَاذَا تَعُودُ عَلَى قَوْلَيْنِ. الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى: وَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ يَمُدُّونَ الشَّيَاطِينَ فِي الْغَيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ إِخْوَانٌ لِشَيَاطِينِ الْجِنِّ، فَشَيَاطِينُ الْإِنْسِ يُغْوُونَ النَّاسَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إِمْدَادًا مِنْهُمْ لِشَيَاطِينِ الْجِنِّ عَلَى الْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ هُمُ النَّاسُ الَّذِينَ لَيْسُوا بِمُتَّقِينَ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ يَكُونُونَ مَدَدًا لَهُمْ فِيهِ، وَالْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ كَافِرٍ أَخًا مِنَ الشَّيَاطِينِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ الْإِمْدَادِ تَقْوِيَةُ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ وَالْإِقَامَةُ عَلَيْهَا وَشَغْلُ النَّفْسِ عَنِ الْوُقُوفِ عَلَى قَبَائِحِهَا وَمَعَايِبِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ يَمُدُّونَهُمْ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مِنَ الْإِمْدَادِ، وَالْبَاقُونَ يَمُدُّونَهُمْ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْمِيمِ، وَهُمَا لُغَتَانِ مَدَّ يَمُدُّ وَأَمَدَّ يُمِدُّ، وَقِيلَ مَدَّ مَعْنَاهُ جَذَبَ، وَأَمَدَّ مَعْنَاهُ مِنَ الْإِمْدَادِ. / قَالَ الْوَاحِدِيُّ، عَامَّةُ مَا جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ مِمَّا يُحْمَدُ وَيُسْتَحَبُّ أَمْدَدْتُ عَلَى أَفْعَلْتُ، كَقَوْلِهِ: أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 55] وَقَوْلِهِ: وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ [الطور: 22] وقوله: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ [النَّمْلِ: 36] وَمَا كَانَ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ يَجِيءُ عَلَى مَدَدْتُ قَالَ: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة: 15] فالوجه هاهنا قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ وَهِيَ فَتْحُ الْيَاءِ وَمَنْ ضَمَّ الْيَاءَ اسْتَعْمَلَ مَا هُوَ الْخَيْرُ لِضِدِّهِ كَقَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الانشقاق: 24] وَقَوْلِهِ: ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ قَالَ اللَّيْثُ: الْإِقْصَارُ الْكَفُّ عَنِ الشَّيْءِ قَالَ أَبُو زَيْدٍ: أَقْصَرَ فُلَانٌ عَنِ الشَّرِّ يُقْصِرُ إِقْصَارًا إِذَا كَفَّ عَنْهُ وَانْتَهَى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ عَنِ الضَّلَالِ، وَالْإِضْلَالِ، أَمَّا الْغَاوِي فَفِي الضلال وأما المغوي ففي الإضلال. [سورة الأعراف (7) : آية 203] وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى: لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ شَيَاطِينَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَا يُقْصِرُونَ فِي الْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ آيَاتٍ مُعَيَّنَةً وَمُعْجِزَاتٍ مَخْصُوصَةً عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ كَقَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاءِ: 90] ثُمَّ أَعَادَ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا كَانَ يَأْتِيهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا: لَوْلا اجْتَبَيْتَها قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ اجْتَبَيْتُ الْكَلَامَ وَاخْتَلَقْتُهُ وَارْتَجَلْتُهُ إِذَا افْتَعَلْتَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ، وَالْمَعْنَى لَوْلَا تَقَوَّلْتَهَا وَافْتَعَلْتَهَا وَجِئْتَ بِهَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً [سَبَأٍ: 43] أَوْ يُقَالُ هَلَّا اقْتَرَحْتَهَا عَلَى إِلَهِكَ وَمَعْبُودِكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فِي أَنَّ اللَّه يَقْبَلُ دُعَاءَكَ وَيُجِيبُ الْتِمَاسَكَ وَعِنْدَ هَذَا أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَذْكُرَ الْجَوَابَ الشَّافِيَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي وَمَعْنَاهُ لَيْسَ لِي أَنْ أَقْتَرِحَ عَلَى رَبِّي فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَإِنَّمَا أَنْتَظِرُ الْوَحْيَ فَكُلُّ شَيْءٍ

[سورة الأعراف (7) : آية 204]

أَكْرَمَنِي بِهِ قُلْتُهُ، وَإِلَّا فَالْوَاجِبُ السُّكُوتُ وَتَرْكُ الِاقْتِرَاحِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ عَدَمَ الْإِتْيَانِ بِتِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي اقْتَرَحَهَا لَا يَقْدَحُ فِي الْغَرَضِ، لِأَنَّ ظُهُورَ الْقُرْآنِ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ مُعْجِزَةٌ بَالِغَةٌ بَاهِرَةٌ، فَإِذَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْمُعْجِزَةُ الْوَاحِدَةُ كَانَتْ كَافِيَةً فِي تَصْحِيحِ النُّبُوَّةِ، فَكَانَ طَلَبُ الزِّيَادَةِ مِنْ بَابِ التَّعَنُّتِ، فَذَكَرَ فِي وَصْفِ الْقُرْآنِ أَلْفَاظًا ثَلَاثَةً: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ أَصْلُ الْبَصِيرَةِ الْإِبْصَارُ، وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ سَبَبًا لِبَصَائِرِ الْعُقُولِ فِي دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظَ الْبَصِيرَةِ، تَسْمِيَةً لِلسَّبَبِ بِاسْمِ الْمُسَبِّبِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَهُدىً وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَمَا قَبْلَهَا أَنَّ النَّاسَ فِي مَعَارِفِ/ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِينَ بَلَغُوا فِي هَذِهِ الْمَعَارِفِ إِلَى حَيْثُ صَارُوا كَالْمُشَاهِدِينَ لَهَا وَهُمْ أَصْحَابُ عَيْنِ الْيَقِينِ. وَالثَّانِي: الَّذِينَ مَا بَلَغُوا إِلَى ذَلِكَ الْحَدِّ إِلَّا أَنَّهُمْ وَصَلُوا إِلَى دَرَجَاتِ الْمُسْتَدِلِّينَ: وَهُمْ أَصْحَابُ عِلْمِ الْيَقِينِ، فَالْقُرْآنُ فِي حَقِّ الْأَوَّلِينَ وَهُمُ السَّابِقُونَ بَصَائِرُ، وَفِي حَقِّ الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُمُ الْمُقْتَصِدُونَ هَدًى، وَفِي حَقِّ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ رَحْمَةٌ، وَلَمَّا كَانَتِ الْفِرَقُ الثَّلَاثُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لا جرم قال: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. [سورة الأعراف (7) : آية 204] وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَظَّمَ شَأْنَ القرآن بقوله: هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف: 203] أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْإِنْصَاتُ السُّكُوتُ وَالِاسْتِمَاعُ، يُقَالُ: نَصَتَ، وَأَنْصَتَ، وَانْتَصَتَ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا شَكَّ أن قوله: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا أمره، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، فَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِمَاعُ وَالسُّكُوتُ وَاجِبًا، وَلِلنَّاسِ فِيهِ أَقْوَالٌ. الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّا نُجْرِي هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى عُمُومِهَا فَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ قَرَأَ الْإِنْسَانُ الْقُرْآنَ وَجَبَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ اسْتِمَاعُهُ وَالسُّكُوتُ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجِبُ الْإِنْصَاتُ لِعَابِرِي الطَّرِيقِ، وَمُعَلِّمِي الصِّبْيَانِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأُمِرُوا بِالْإِنْصَاتِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَيَسْأَلُهُمْ، كَمْ صَلَّيْتُمْ وَكَمْ بَقِيَ؟ وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ بِحَوَائِجِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي تَرْكِ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ وَرَاءَ الْإِمَامِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَرَأَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَقَرَأَ أَصْحَابُهُ وَرَاءَهُ رَافِعِينَ أَصْوَاتَهُمْ، فَخَلَطُوا عَلَيْهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. والقول الرَّابِعُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي السُّكُوتِ عِنْدَ الْخُطْبَةِ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْقُولٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ قَدِ اسْتَبْعَدَ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَالَ اللَّفْظُ/ عَامٌّ وَكَيْفَ يَجُوزُ قَصْرُهُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الْوَاحِدَةِ. وَأَقُولُ هَذَا الْقَوْلُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِأَنَّ لَفْظَةَ إِذَا تُفِيدُ الِارْتِبَاطَ، وَلَا تُفِيدُ التَّكْرَارَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتِ الدَّارَ مَرَّةً وَاحِدَةً طُلِّقَتْ طَلْقَةً وَاحِدَةً، فَإِذَا دَخَلَتِ الدَّارَ ثَانِيًا لَمْ تُطَلَّقْ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ كَلِمَةَ (إِذَا) لَا تُفِيدُ التَّكْرَارَ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَا يُفِيدُ إِلَّا وُجُوبَ الْإِنْصَاتِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَمَّا أَوْجَبْنَا الِاسْتِمَاعَ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْخُطْبَةِ، فَقَدْ وَفَّيْنَا بِمُوجَبِ اللَّفْظِ وَلَمْ يَبْقِ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ

عَلَى مَا وَرَاءَ هَذِهِ الصُّورَةِ، سَلَّمْنَا أَنَّ اللَّفْظَ يُفِيدُ الْعُمُومَ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه: يَسْكُتُ الْإِمَامُ، وَحِينَئِذٍ يَقْرَأُ الْمَأْمُومُ الْفَاتِحَةَ فِي حَالِ سَكْتَةِ الْإِمَامِ كَمَا قَالَ أَبُو سَلَمَةَ لِلْإِمَامِ سَكْتَتَانِ، فَاغْتَنِمِ الْقِرَاءَةَ فِي أَيِّهِمَا شِئْتَ، وَهَذَا السُّؤَالُ أَوْرَدَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» . وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: سُكُوتُ الْإِمَامِ إِمَّا أَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ مِنَ الْوَاجِبَاتِ أَوْ لَيْسَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالثَّانِي يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ لَهُ أَنْ لَا يَسْكُتَ. فَبِتَقْدِيرِ: أَنْ لَا يَسْكُتَ يَلْزَمُ أَنْ تَحْصُلَ قِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ مَعَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى تَرْكِ الِاسْتِمَاعِ، وَإِلَى تَرْكِ السُّكُوتِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ، وَأَيْضًا فَهَذَا السُّكُوتُ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَمِقْدَارٌ مَخْصُوصٌ وَالسَّكْتَةُ لِلْمَأْمُومِينَ مُخْتَلِفَةٌ بِالثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ، فَرُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ الْمَأْمُومُ مِنْ إِتْمَامِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي مِقْدَارِ سُكُوتِ الْإِمَامِ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ، وَأَيْضًا فَالْإِمَامُ إِنَّمَا يَبْقَى سَاكِتًا لِيَتَمَكَّنَ الْمَأْمُومُ مِنْ إِتْمَامِ الْقِرَاءَةِ، وَحِينَئِذٍ يَنْقَلِبُ الْإِمَامُ مَأْمُومًا، وَالْمَأْمُومُ إِمَامًا، لِأَنَّ الْإِمَامَ فِي هَذَا السُّكُوتِ يَصِيرُ كَالتَّابِعِ لِلْمَأْمُومِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْوَاحِدِيُّ غَيْرُ جَائِزٍ، وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ سُؤَالًا ثَانِيًا عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْآيَةِ. فَقَالَ: إِنَّ الْإِنْصَاتَ هُوَ تَرْكُ الْجَهْرِ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي تَارِكَ الْجَهْرِ مُنْصِتًا، وَإِنْ كَانَ يَقْرَأُ فِي نَفْسِهِ إِذَا لَمْ يُسْمِعْ أَحَدًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ أَوَّلًا بِالِاسْتِمَاعِ وَاشْتِغَالُهُ بِالْقِرَاءَةِ يَمْنَعُهُ مِنَ الِاسْتِمَاعِ، لِأَنَّ السَّمَاعَ غَيْرٌ، وَالِاسْتِمَاعَ غَيْرٌ، فَالِاسْتِمَاعُ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ بِحَيْثُ يُحِيطُ بِذَلِكَ الْكَلَامِ الْمَسْمُوعِ عَلَى الْوَجْهِ الْكَامِلِ، قَالَ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى [طه: 13] وَالْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَظَهَرَ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْقِرَاءَةِ مِمَّا يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِمَاعِ عَلِمْنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاسْتِمَاعِ يُفِيدُ النَّهْيَ عَنِ الْقِرَاءَةِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ أَنْ نَقُولَ: الْفُقَهَاءُ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ/ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَهَبْ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا يُوجِبُ سُكُوتَ الْمَأْمُومِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَقَوْلَهُ: «لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ، وَثَبَتَ أَنَّ تَخْصِيصَ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَازِمٌ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى تَخْصِيصِ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذَا الْخَبَرِ، وَهَذَا السُّؤَالُ حَسَنٌ. وَالسُّؤَالُ الرَّابِعُ: أَنْ نَقُولَ: مَذْهَبُ مَالِكٍ وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ فِي الصَّلَوَاتِ الْجَهْرِيَّةِ، عَمَلًا بِمُقْتَضَى هَذَا النَّصِّ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَوَاتِ السِّرِّيَّةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، وَهَذَا أَيْضًا سُؤَالٌ حَسَنٌ، وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ خَامِسٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا خِطَابٌ مَعَ الْكُفَّارِ فِي ابْتِدَاءِ التَّبْلِيغِ وَلَيْسَ خِطَابًا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ مُنَاسِبٌ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَكَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَقْوَامًا مِنَ الْكُفَّارِ يَطْلُبُونَ آيَاتٍ مَخْصُوصَةً وَمُعْجِزَاتٍ مَخْصُوصَةً، فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَأْتِيهِمْ بِهَا قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا، فَأَمَرَ اللَّه رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَ جَوَابًا عَنْ كَلَامِهِمْ إِنَّهُ لَيْسَ لِي أَنْ أَقْتَرِحَ عَلَى رَبِّي، وَلَيْسَ لِي إِلَّا أَنْ أَنْتَظِرَ الْوَحْيَ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا تَرَكَ الْإِتْيَانَ بِتِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا فِي صِحَّةِ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزَةٌ تَامَّةٌ كَافِيَةٌ فِي إِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَعَبَّرَ اللَّه تَعَالَى عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 203] فَلَوْ قُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا الْمُرَادُ مِنْهُ قِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الْإِمَامِ لَمْ يَحْصُلْ بَيْنَ هَذِهِ

[سورة الأعراف (7) : آية 205]

الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا تَعَلُّقٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَانْقَطَعَ النَّظْمُ، وَحَصَلَ فَسَادُ التَّرْتِيبِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِكَلَامِ اللَّه تَعَالَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ شَيْئًا آخَرَ سِوَى هَذَا الْوَجْهِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى كَوْنَ الْقُرْآنِ بَصَائِرَ وَهُدًى وَرَحْمَةً، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ معجزة دالة على صدق محمد عليه الصلاة وَالسَّلَامُ، وَكَوْنُهُ كَذَلِكَ لَا يَظْهَرُ إِلَّا بِشَرْطٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى أُولَئِكَ الْكُفَّارِ اسْتَمَعُوا لَهُ وَأَنْصَتُوا حَتَّى يَقِفُوا عَلَى فَصَاحَتِهِ، وَيُحِيطُوا بِمَا فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ، فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ لَهُمْ كَوْنُهُ مُعْجِزًا دَالًّا عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَسْتَعِينُوا بِهَذَا الْقُرْآنِ عَلَى طَلَبِ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ، وَيَظْهَرُ لَهُمْ صِدْقُ قَوْلِهِ فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ: أَنَّهُ بَصَائِرُ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَثَبَتَ أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ اسْتَقَامَ النَّظْمُ وَحَصَلَ التَّرْتِيبُ الْحَسَنُ الْمُفِيدُ، وَلَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى مَنْعِ الْمَأْمُومِ مِنَ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فَسَدَ النَّظْمُ وَاخْتَلَّ التَّرْتِيبُ، فَثَبَتَ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ خِطَابٌ مَعَ الْكُفَّارِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ فِي مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ/ بِكَوْنِهِ مُعْجِزًا عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِ، وَعِنْدَ هَذَا يَسْقُطُ اسْتِدْلَالُ الْخُصُومِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَمِمَّا يُقَوِّي أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فُصِّلَتْ: 26] فَلَمَّا حَكَى عَنْهُمْ ذَلِكَ نَاسَبَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالِاسْتِمَاعِ وَالسُّكُوتِ، حَتَّى يُمْكِنَهُمُ الْوُقُوفُ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ الْبَالِغَةِ إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فَحَكَمَ تَعَالَى بِكَوْنِ هَذَا الْقُرْآنِ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ وَالْجَزْمِ. ثُمَّ قَالَ: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَلَوْ كَانَ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ لَمَا قَالَ: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لِأَنَّهُ جَزَمَ تَعَالَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ قَطْعًا فَكَيْفَ يَقُولُ بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ لَعَلَّ اسْتِمَاعَ الْقُرْآنِ يَكُونُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ؟ أَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا هُمُ الْكَافِرُونَ، صَحَّ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لِأَنَّ الْمَعْنَى فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا فَلَعَلَّكُمْ تَطَّلِعُونَ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ، فَتُؤْمِنُوا بِالرَّسُولِ فَتَصِيرُوا مَرْحُومِينَ، فَثَبَتَ أَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ حَسُنَ قَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَلَوْ قُلْنَا إِنَّ الْخِطَابَ خِطَابٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَحْسُنْ ذِكْرُ لَفْظِ «لَعَلَّ» فِيهِ. فَثَبَتَ أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، وَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ اسْتِدْلَالُ الْخَصْمِ بِهِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ مَا يَتَنَاوَلُ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا تَنَاوَلَ الْكُفَّارَ فِي أَوَّلِ زَمَانِ تَبْلِيغِ الوحي والدعوة. [سورة الأعراف (7) : آية 205] وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: [في أن الْآيَةُ جَارِيَةً مَجْرَى أَمْرِ اللَّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى القوم بصوت عال رفيع] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا [الْأَعْرَافِ: 204] اعْلَمْ أَنَّ قَارِئًا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِصَوْتٍ عَالٍ حَتَّى يُمْكِنَهُمُ اسْتِمَاعُ الْقُرْآنَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ الْقَارِئَ لَيْسَ إِلَّا الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَارِيَةً مَجْرَى أَمْرِ اللَّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى الْقَوْمِ بِصَوْتٍ عَالٍ رَفِيعٍ،

وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ مِنْ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ/ تَعَالَى أَرْدَفَ ذَلِكَ الْأَمْرَ، بِأَنْ أَمَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنْ يَذْكُرَ رَبَّهُ فِي نَفْسِهِ، وَالْفَائِدَةُ فِيهِ: أَنَّ انْتِفَاعَ الْإِنْسَانِ بِالذِّكْرِ إِنَّمَا يَكْمُلُ إِذَا وَقَعَ الذِّكْرُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، لِأَنَّهُ بِهَذَا الشَّرْطِ أَقْرَبُ إِلَى الْإِخْلَاصِ وَالتَّضَرُّعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ بِالذِّكْرِ مُقَيَّدًا بِقُيُودٍ. الْقَيْدُ الْأَوَّلُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ اللَّه فِي نَفْسِهِ كَوْنُهُ عَارِفًا بِمَعَانِي الْأَذْكَارِ الَّتِي يَقُولُهَا بِلِسَانِهِ مُسْتَحْضِرًا لِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْعِزِّ وَالْعُلُوِّ وَالْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ إِذَا كَانَ عَارِيًا عَنِ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ كَانَ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُقَهَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ: بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَعَانِيَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَلَا يَفْهَمُ مِنْهَا شَيْئًا، فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ والشراء، فكذا هاهنا وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَحْكَامٌ: الْحُكْمُ الْأَوَّلُ سَمِعْتُ أَنَّ بَعْضَ الْأَكَابِرِ مِنْ أَصْحَابِ الْقُلُوبِ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْمُرَ وَاحِدًا مِنَ الْمُرِيدِينَ بِالْخَلْوَةِ وَالذِّكْرِ، أَمَرَهُ بِالْخَلْوَةِ وَالتَّصْفِيَةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عِنْدَ اسْتِكْمَالِ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَحُصُولِ التَّصْفِيَةِ التَّامَّةِ، يَقْرَأُ عَلَيْهِ الْأَسْمَاءَ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ، وَيَقُولُ لِذَلِكَ الْمُرِيدِ اعْتَبِرْ حَالَ قَلْبِكَ عِنْدَ سَمَاعِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، فَكُلُّ اسْمٍ وَجَدْتَ قَلْبَكَ عِنْدَ سَمَاعِهِ قَوِيَ تَأَثُّرُهُ وَعَظُمَ شَوْقُهُ، فَاعْرِفْ أَنَّ اللَّه إِنَّمَا يَفْتَحُ أَبْوَابَ الْمُكَاشَفَاتِ عَلَيْكَ بِوَاسِطَةِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذِكْرِ ذَلِكَ الِاسْمِ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا طَرِيقٌ حَسَنٌ لَطِيفٌ فِي هَذَا الْبَابِ. الْحُكْمُ الثَّانِي قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ كَلَامِ النَّفْسِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يَذْكُرَ رَبَّهُ فِي نَفْسِهِ وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِحُصُولِ الذِّكْرِ النَّفْسَانِيِّ وَلَا مَعْنَى لِكَلَامِ النَّفْسِ إِلَّا ذَلِكَ. فَإِنْ قَالُوا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الذِّكْرِ النَّفْسَانِيِّ الْعِلْمَ وَالْمَعْرِفَةَ؟ قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَطْلُبَهُ حَالَ حُصُولِهِ أَوْ حَالَ عَدَمِ حُصُولِهِ. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَالثَّانِي بَاطِلٌ لأن ما لا يكون منصوراً، كَانَ الذِّهْنُ غَافِلًا عَنْهُ وَالْغَافِلُ عَنِ الشَّيْءِ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ طَالِبًا لَهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ عَلَى تَحْصِيلِ التَّصَوُّرَاتِ، فَامْتَنَعَ وُرُودُ الْأَمْرِ بِهِ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُرُودِ الْأَمْرِ بِالذِّكْرِ النَّفْسَانِيِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ النَّفْسَانِيُّ مَعْنًى مُغَايِرًا لِلْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ وَالتَّصَوُّرِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ. الْحُكْمُ الثَّالِثُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ وَلَمْ يَقُلْ: وَاذْكُرْ إِلَهَكَ وَلَا سَائِرَ الْأَسْمَاءِ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِاسْمِ كَوْنِهِ رَبًّا، وَأَضَافَ نَفْسَهُ إِلَيْهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الرَّحْمَةِ وَالتَّقْرِيبِ وَالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ، أَنْ يَصِيرَ الْعَبْدُ فرحاً مبتهجاً عِنْدَ سَمَاعِ هَذَا الِاسْمِ، لِأَنَّ لَفْظَ الرَّبِّ مُشْعِرٌ بِالتَّرْبِيَةِ وَالْفَضْلِ، وَعِنْدَ

سَمَاعِ هَذَا الِاسْمِ يَتَذَكَّرُ الْعَبْدُ أَقْسَامَ نِعَمِ اللَّه عَلَيْهِ، وَبِالْحَقِيقَةِ لَا يَصِلُ عَقْلُهُ إِلَى أَقَلِّ أَقْسَامِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: 34] فَعِنْدَ انْكِشَافِ هَذَا الْمَقَامِ فِي الْقَلْبِ يَقْوَى الرَّجَاءُ، فَإِذَا سَمِعَ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلَهُ: تَضَرُّعاً وَخِيفَةً عَظُمَ الْخَوْفُ، وَحِينَئِذٍ تَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ مُوجِبَاتُ الرَّجَاءِ وَمُوجِبَاتُ الْخَوْفِ، وَعِنْدَهُ يَكْمُلُ الْإِيمَانُ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَوْ وُزِنَ خَوْفُ الْمُؤْمِنِ ورجاؤه لاعتدلا» إلا أن هنا دَقِيقَةً، وَهِيَ أَنَّ سَمَاعَ لَفْظِ الرَّبِّ يُوجِبُ الرَّجَاءَ وَسَمَاعَ لَفْظِ التَّضَرُّعِ وَالْخِيفَةِ يُوجِبُ الْخَوْفَ، فَلَمَّا وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِمَا يُوجِبُ الرَّجَاءَ، عَلِمْنَا أَنْ جَانِبَ الرَّجَاءِ أَقْوَى. الْقَيْدُ الثَّانِي: مِنَ الْقُيُودِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الذِّكْرِ حُصُولُ التَّضَرُّعِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: تَضَرُّعاً وَهَذَا الْقَيْدُ مُعْتَبَرٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَالْمَعْقُولُ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الْأَنْعَامِ: 63] وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَلِأَنَّ كَمَالَ حَالِ الْإِنْسَانِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِانْكِشَافِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عِزَّةُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ، إِنَّمَا يَتِمُّ بِقَوْلِهِ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ الثَّانِي: بِمُشَاهَدَةِ ذِلَّةِ الْعُبُودِيَّةِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكْمُلُ بِقَوْلِهِ: تَضَرُّعاً فَالِانْتِقَالُ مِنَ الذِّكْرِ إِلَى التَّضَرُّعِ يُشْبِهُ النُّزُولَ مِنَ الْمِعْرَاجِ، وَالِانْتِقَالُ مِنَ التَّضَرُّعِ إِلَى الذِّكْرِ يُشْبِهُ الصُّعُودَ، وَبِهِمَا يَتِمُّ معراج الأرواح القدسية وهاهنا بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّه مِنْ لَوَازِمِهَا التَّضَرُّعُ، وَالْخَوْفُ، وَالذِّكْرُ الْقَلْبِيُّ يَمْتَنِعُ انْفِكَاكُهُ عَنِ التَّضَرُّعِ وَالْخَوْفِ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي اعْتِبَارِ هَذَا التَّضَرُّعِ وَالْخَوْفِ؟ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا يَلْزَمُهَا التَّضَرُّعُ وَالْخَوْفُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا اسْتَحْكَمَ فِي عَقْلِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا لِأَنَّ ذَلِكَ الْعِقَابَ إِيذَاءٌ لِلْغَيْرِ، وَلَا فَائِدَةَ لِلْحَقِّ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُعَذِّبُ فَإِذَا اعْتَقَدَ هَذَا، لَمْ يَكْمُلِ التَّضَرُّعُ وَالْخَوْفُ. فَلِهَذَا السَّبَبِ نَصَّ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْخَوْفَ عَلَى قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: خَوْفُ الْعِقَابِ، وهو مقام المبتدين. وَالثَّانِي: خَوْفُ الْجَلَالِ وَهُوَ مَقَامُ الْمُحَقِّقِينَ، وَهَذَا الْخَوْفُ مُمْتَنِعُ الزَّوَالِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْرَفَ بِجَلَالِ اللَّه كَانَ هَذَا الْخَوْفُ فِي قَلْبِهِ أَكْمَلَ، وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ بِأَنَّ لِأَصْحَابِ الْمُكَاشَفَاتِ مَقَامَيْنِ: مُكَاشَفَةُ الْجَمَالِ، وَمُكَاشَفَةُ/ الْجَلَالِ، فَإِذَا كُوشِفُوا بِالْجَمَالِ عَاشُوا، وَإِذَا كُوشِفُوا بِالْجَلَالِ طَاشُوا، وَلَا بُدَّ فِي مَقَامِ الذِّكْرِ مِنْ رِعَايَةِ الْجَانِبَيْنِ. الْقَيْدُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَخِيفَةً وَفِي قِرَاءَةٍ أخرى وَخِيفَةً وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُهَا «خِوْفَةً» فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، أَقُولُ هَذَا الْخَوْفُ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: خَوْفُ التَّقْصِيرِ فِي الْأَعْمَالِ. وَثَانِيهَا: خَوْفُ الْخَاتِمَةِ. وَالْمُحَقِّقُونَ خَوْفُهُمْ مِنَ السَّابِقَةِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الْخَاتِمَةِ مَا سَبَقَ الْحُكْمُ بِهِ فِي الْفَاتِحَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَثَالِثُهَا: خَوْفُ أَنِّي كَيْفَ أُقَابِلُ نِعْمَةَ اللَّه الَّتِي لَا حَصْرَ لَهَا وَلَا حَدَّ بِطَاعَاتِي النَّاقِصَةِ وَأَذْكَارِي الْقَاصِرَةِ؟ وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الْوَاسِطِيُّ يَقُولُ: الشُّكْرُ شِرْكٌ، فَسَأَلُونِي عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَقُلْتُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ واللَّه أَعْلَمُ أَنَّ مَنْ حَاوَلَ مُقَابَلَةَ وُجُوهِ إِحْسَانِ اللَّه بِشُكْرِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ. لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ كَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: مِنْكَ النِّعْمَةُ وَمِنِّي الشُّكْرُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا شِرْكٌ، فَأَمَّا إِذَا أَتَى بِالشُّكْرِ مَعَ خَوْفِ التَّقْصِيرِ وَمَعَ الِاعْتِرَافِ بِالذُّلِّ وَالْخُضُوعِ، فَهُنَاكَ يُشَمُّ فِيهِ رَائِحَةُ الْعُبُودِيَّةِ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: وَخُفْيَةً فَالْإِخْفَاءُ فِي حَقِّ الْمُبْتَدِينَ يُرَادُ لِصَوْنِ الطَّاعَاتِ عَنْ شَوَائِبِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَفِي حَقِّ الْمُنْتَهِينَ الْمُقَرَّبِينَ مَنْشَؤُهُ الْغَيْرَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ إِذَا اسْتَكْمَلَتْ أَوْجَبَتِ الْغَيْرَةَ، فَإِذَا كَمُلَ هَذَا التَّوَغُّلُ وَحَصَلَ الْفَنَاءُ، وَقَعَ الذِّكْرُ فِي حِينِ الْإِخْفَاءِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ عَرَفَ اللَّه كَلَّ لِسَانُهُ» .

الْقَيْدُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ الذِّكْرُ بِحَيْثُ يَكُونُ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا [الْإِسْرَاءُ: 110] وَقَالَ عَنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مَرْيَمَ: 3] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ: وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ الْمَعْنَى أَنْ يَذْكُرَ رَبَّهُ عَلَى وَجْهٍ يُسْمِعُ نَفْسَهُ، فَإِنَّ الْمُرَادَ حُصُولُ الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ، وَالذِّكْرُ اللِّسَانِيُّ إِذَا كَانَ بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ، فَإِنَّهُ يَتَأَثَّرُ الْخَيَالُ مِنْ ذَلِكَ الذِّكْرِ، وَتَأَثُّرُ الْخَيَالِ يُوجِبُ قُوَّةً فِي الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ الرُّوحَانِيِّ، وَلَا يَزَالُ يَتَقَوَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ، وَتَنْعَكِسُ أَنْوَارُ هَذِهِ الْأَذْكَارِ مِنْ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَتَصِيرُ هَذِهِ الِانْعِكَاسَاتُ سَبَبًا لِمَزِيدِ الْقُوَّةِ وَالْجَلَاءِ وَالِانْكِشَافِ وَالتَّرَقِّي مِنْ حَضِيضِ ظُلُمَاتِ عَالَمِ الْأَجْسَامِ إِلَى أَنْوَارِ مُدَبِّرِ النُّورِ وَالظَّلَامِ. وَالْقَيْدُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي لَفْظِ «الْغُدُوِّ» قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَصْدَرٌ يُقَالُ غَدَوْتُ أَغْدُو غدواً غدوا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: غُدُوُّها شَهْرٌ [سَبَأٍ: 12] / أَيْ غُدُوُّهَا لِلسَّيْرِ، ثُمَّ سُمِّيَ وَقْتُ الْغُدُوِّ غُدُوًّا، كَمَا يُقَالُ: دَنَا الصَّبَاحُ أَيْ وَقْتُهُ، وَدَنَا الْمَسَاءُ أَيْ وَقْتُهُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْغُدُوُّ جَمْعُ غُدْوَةٍ، قَالَ اللَّيْثُ: الْغُدُوُّ جَمْعٌ مثل الغدوات وواحد الغدوات غدوة، وأما الْآصالِ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَاحِدُهَا أُصُلٌ وَوَاحِدُ الْأُصُلِ الْأَصِيلُ. قَالَ يُقَالُ جِئْنَاهُمْ مُؤَصِّلِينَ أَيْ عِنْدَ الْآصَالِ، وَيُقَالُ الْأَصِيلُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَصْلِ وَالْيَوْمُ بِلَيْلَتِهِ، إنما يبتدأ بِالشُّرُوعِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَآخَرُ نَهَارِ كُلِّ يَوْمٍ مُتَّصِلٌ بِأَوَّلِ لَيْلِ الْيَوْمِ الثَّانِي، فَسُمِّيَ آخِرُ النَّهَارِ أَصِيلًا، لِكَوْنِهِ مُلَاصِقًا لِمَا هُوَ الْأَصْلُ لِلْيَوْمِ الثَّانِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: خُصَّ الْغُدُوُّ وَالْآصَالُ بِهَذَا الذِّكْرِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنْ عِنْدَ الْغَدْوَةِ انْقَلَبَ الْإِنْسَانُ مِنَ النَّوْمِ الَّذِي هُوَ كَالْمَوْتِ إِلَى الْيَقَظَةِ الَّتِي هِيَ كَالْحَيَاةِ، وَالْعَالَمُ انْقَلَبَ مِنَ الظُّلْمَةِ الَّتِي هِيَ طَبِيعَةٌ عَدَمِيَّةٌ إِلَى النُّورِ الَّذِي هُوَ طَبِيعَةٌ وُجُودِيَّةٌ. وَأَمَّا عِنْدَ الْآصَالِ فَالْأَمْرُ بِالضِّدِّ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْقَلِبُ فِيهِ مِنَ الْحَيَاةِ إِلَى الْمَوْتِ، وَالْعَالَمُ يَنْقَلِبُ فِيهِ مِنَ النُّورِ الْخَالِصِ إِلَى الظُّلْمَةِ الْخَالِصَةِ، وَفِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ يَحْصُلُ هَذَانِ النَّوْعَانِ مِنَ التَّغْيِيرِ الْعَجِيبِ الْقَوِيِّ الْقَاهِرِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ هَذَا التَّغْيِيرِ إِلَّا الْإِلَهُ الْمَوْصُوفُ بِالْحِكْمَةِ الْبَاهِرَةِ وَالْقُدْرَةِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ، فَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ الْعَجِيبَةِ خَصَّ اللَّه تَعَالَى هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ بِالْأَمْرِ بِالذِّكْرِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: ذَكَرَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَالْمُرَادُ مُدَاوَمَةُ الذِّكْرِ وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [الْأَعْرَافِ: 191] لَوْ حَصَلَ لِابْنِ آدَمَ حَالَةٌ رَابِعَةٌ سِوَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَأَمَرَ اللَّه بِالذِّكْرِ عِنْدَهَا وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالذِّكْرِ عَلَى الدَّوَامِ. وَالْقَيْدُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّ قَوْلَهُ: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ حَاصِلًا فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ وَقَوْلُهُ: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ الْقَلْبِيَّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ دَائِمًا، وَأَنْ لَا يَغْفُلَ الْإِنْسَانُ لَحْظَةً وَاحِدَةً عَنِ اسْتِحْضَارِ جَلَالِ اللَّه وَكِبْرِيَائِهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَالْقُوَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ، أَنَّ بَيْنَ الرُّوحِ وَبَيْنَ الْبَدَنِ عَلَاقَةً عَجِيبَةً، لِأَنَّ كُلَّ أَثَرٍ حَصَلَ فِي جَوْهَرِ الرُّوحِ نَزَلَ مِنْهُ أَثَرٌ إِلَى الْبَدَنِ، وَكُلُّ حَالَةٍ حَصَلَتْ فِي الْبَدَنِ صَعَدَتْ مِنْهَا نَتَائِجُ إِلَى الرُّوحِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَخَيَّلَ الشَّيْءَ الْحَامِضَ ضَرِسَ سِنُّهُ، وَإِذَا تَخَيَّلَ حَالَةً مَكْرُوهَةً وَغَضِبَ سَخِنَ بَدَنُهُ، فَهَذِهِ آثَارٌ تَنْزِلُ مِنَ الرُّوحِ إِلَى الْبَدَنِ، وَأَيْضًا

[سورة الأعراف (7) : آية 206]

إِذَا وَاظَبَ الْإِنْسَانُ عَلَى عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ وكرر مَرَّاتٍ وَكَرَّاتٍ حَصَلَتْ مَلَكَةٌ قَوِيَّةٌ رَاسِخَةٌ فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ فَهَذِهِ آثَارٌ صَعِدَتْ مِنَ الْبَدَنِ إِلَى النَّفْسِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا حَضَرَ الذِّكْرَ اللِّسَانِيَّ بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ، حَصَلَ أَثَرٌ مِنْ ذَلِكَ الذِّكْرِ/ اللِّسَانِيِّ فِي الْخَيَالِ، ثُمَّ يَصْعَدُ مِنْ ذَلِكَ الْأَثَرِ الْخَيَالِيِّ مَزِيدُ أَنْوَارٍ وَجَلَايَا إِلَى جَوْهَرِ الرُّوحِ، ثُمَّ تَنْعَكِسُ مِنْ تِلْكَ الْإِشْرَاقَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ آثَارٌ زَائِدَةٌ إِلَى اللِّسَانِ وَمِنْهُ إِلَى الْخَيَالِ، ثُمَّ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى الْعَقْلِ، وَلَا يَزَالُ تَنْعَكِسُ هَذِهِ الْأَنْوَارُ مِنْ هَذِهِ الْمَرَايَا بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَيَتَقَوَّى بعضها بعض وَيَسْتَكْمِلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَلَمَّا كَانَ لَا نِهَايَةَ لِتَزَايُدِ أَنْوَارِ الْمَرَاتِبِ، لَا جَرَمَ لَا نِهَايَةَ لِسَفَرِ الْعَارِفِينَ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ الْعَالِيَةِ الْقُدْسِيَّةِ وَذَلِكَ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، وَمَطْلُوبٌ لَا نِهَايَةَ لَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ خِطَابًا مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَّا أَنَّهُ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ الْمُكَلَّفِينَ وَلِكُلِّ أَحَدٍ دَرَجَةٌ مَخْصُوصَةٌ وَمَرْتَبَةٌ مُعَيَّنَةٌ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِ جَوْهَرِ نَفْسِهِ النَّاطِقَةِ كَمَا قَالَ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصَّافَّاتِ: 164] . [سورة الأعراف (7) : آية 206] إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَمَّا رَغَّبَ اللَّه رَسُولَهُ فِي الذِّكْرِ وَفِي الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ ذَكَرَ عَقِيبَهُ مَا يُقَوِّي دَوَاعِيَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ نِهَايَةِ شَرَفِهِمْ وَغَايَةِ طَهَارَتِهِمْ وَعِصْمَتِهِمْ وَبَرَاءَتِهِمْ عَنْ بَوَاعِثِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ، وَحَوَادِثِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، لَمَّا كَانُوا مُوَاظِبِينَ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ وَالسُّجُودِ وَالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ، فَالْإِنْسَانُ مَعَ كَوْنِهِ مُبْتَلًى بِظُلُمَاتِ عَالَمِ الْجُسْمَانِيَّاتِ وَمُسْتَعِدًّا لِلَّذَّاتِ الْبَشَرِيَّةِ وَالْبَوَاعِثِ الْإِنْسَانِيَّةِ أَوْلَى بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مَرْيَمَ: 31] وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحِجْرِ: 99] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُشَبِّهَةُ تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ وَقَالُوا لَفْظُ عِنْدَ مُشْعِرٌ بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ. وَجَوَابُهُ أَنَّا ذَكَرْنَا الْبَرَاهِينَ الْكَثِيرَةَ الْعَقْلِيَّةَ وَالنَّقْلِيَّةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54 يونس: 3] عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ تَعَالَى حَاصِلًا فِي الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى التَّأْوِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: / الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَهُوَ مَعَكُمْ [الْحَدِيدِ: 4] وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ المعية بالفضل والرحمة لا بالجهة فكذا هاهنا، وَأَيْضًا جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ الرَّبَّانِيَّةِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: «أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ لِأَجْلِي» وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْعِنْدِيَّةَ لَيْسَتْ لِأَجْلِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ، فَكَذَا هُنَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ القرب بالشرف. يقال: لِلْوَزِيرِ قُرْبَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْأَمِيرِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقُرْبَ بِالْجِهَةِ، لِأَنَّ الْبَوَّابَ وَالْفَرَّاشَ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْمَلِكِ فِي الْجِهَةِ وَالْحَيِّزِ وَالْمَكَانِ مِنَ الْوَزِيرِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْقُرْبَ

الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْقُرْبُ بِالشَّرَفِ لَا الْقُرْبُ بِالْجِهَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا تَشْرِيفٌ لِلْمَلَائِكَةِ بِإِضَافَتِهِمْ إِلَى اللَّه مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَسْكَنَهُمْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي كَرَّمَهُ وَشَرَّفَهُ وَجَعَلَهُ مَنْزِلَ الْأَنْوَارِ وَمَصْعَدَ الْأَرْوَاحِ وَالطَّاعَاتِ وَالْكَرَامَاتِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: إِنَّمَا قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ: الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لِأَنَّهُمْ رُسُلُ اللَّه إِلَى الْخَلْقِ كَمَا يُقَالُ: إِنَّ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ جَيْشًا عَظِيمًا، وَإِنْ كانوا متفرقين في البلد، فكذا هاهنا. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ رَحِمَهُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ بِالْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَالْمَعْنَى فَأَنْتَ أَوْلَى وَأَحَقُّ بِالْعِبَادَةِ، وَهَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ أَفْضَلَ مِنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرَ مِنْ طَاعَاتِهِمْ أَوَّلًا كَوْنَهُمْ يُسَبِّحُونَ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ التَّسْبِيحَ عِبَارَةٌ عَنْ تَنْزِيهِ اللَّه تَعَالَى مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ التَّسْبِيحَ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ السُّجُودِ، وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ أَعْمَالُ الْقُلُوبِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ: وَلَهُ يَسْجُدُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ لَا يَسْجُدُونَ لِغَيْرِ اللَّه. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الْحِجْرِ: 30 ص: 73] وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ سَجَدُوا لِآدَمَ؟ وَالْجَوَابُ: قَالَ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ: الَّذِينَ سَجَدُوا لِآدَمَ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ. فَأَمَّا عظماء ملائكة السموات فَلَا. وَقِيلَ أَيْضًا: إِنَّ قَوْلَهُ: وَلَهُ يَسْجُدُونَ يُفِيدُ أَنَّهُمْ مَا سَجَدُوا لِغَيْرِ اللَّه، فَهَذَا يُفِيدُ الْعُمُومَ. وَقَوْلُهُ: فَسَجَدُوا لِآدَمَ خَاصٌّ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى كَوْنِ الْمَلَائِكَةِ مُسْتَغْرِقِينَ فِي الْعُبُودِيَّةِ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [الصَّافَّاتِ: 165، 166] وَقَوْلِهِ: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الزُّمَرِ: 75] واللَّه أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّه عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تسليماً كثيراً.

سورة الأنفال

بِسمِ اللَّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ سُورَةُ الْأَنْفَالِ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا مِنْ آيَةِ: 30 إِلَى غاية 36 فمكية وآياتها 75 نزلت بعد البقرة [سورة الأنفال (8) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) اعلم أن قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ يَقْتَضِي الْبَحْثَ عَنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ، السَّائِلِ وَالْمَسْؤُولِ وَحَقِيقَةِ النَّفْلِ، وَكَوْنِ ذَلِكَ السُّؤَالِ عَنْ أَيِّ الْأَحْكَامِ كَانَ، وَأَنَّ الْمُفَسِّرِينَ بِأَيِّ شَيْءٍ فَسَّرُوا الْأَنْفَالَ. أَمَّا الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنَّ السَّائِلِينَ مَنْ كَانُوا؟ فَنَقُولُ إِنَّ قَوْلَهُ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ إِخْبَارٌ عَمَّنْ لَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُهُمْ وحسن ذلك هاهنا، لِأَنَّ حَالَةَ النُّزُولِ كَانَ السَّائِلُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مَعْلُومًا مُعَيَّنًا فَانْصَرَفَ هَذَا اللَّفْظُ إِلَيْهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا أَقْوَامًا لَهُمْ تُعَلُّقٌ بِالْغَنَائِمِ وَالْأَنْفَالِ وَهُمْ أَقْوَامٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَأَمَّا الْبَحْثُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمَسْؤُولَ مَنْ كَانَ؟ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا الْبَحْثُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الْأَنْفَالَ مَا هِيَ فَنَقُولُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: النَّفْلُ وَالنَّافِلَةُ مَا كَانَ زِيَادَةً عَلَى الْأَصْلِ، وَسُمِّيَتِ الْغَنَائِمُ أَنْفَالًا، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ فُضِّلُوا بِهَا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ الَّذِينَ لَمْ تَحِلَّ لَهُمُ الْغَنَائِمُ، وَصَلَاةُ التَّطَوُّعِ نَافِلَةٌ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى الْفَرْضِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ. وَقَالَ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً [الْأَنْبِيَاءِ: 72] أَيْ زِيَادَةً عَلَى مَا سَأَلَ. وَأَمَّا الْبَحْثُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ هذا السُّؤَالَ عَنْ أَيِّ أَحْكَامِ الْأَنْفَالِ كَانَ؟ فَنَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: لَفْظُ السُّؤَالِ، وَإِنْ كَانَ مُبْهَمًا إِلَّا أَنَّ تَعْيِينَ الْجَوَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ وَاقِعًا عَنْ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، ونظيره قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة: 222] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى [الْبَقَرَةِ: 220] فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ سُؤَالٌ عَنْ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الْمَحِيضِ وَالْيَتَامَى، وَذَلِكَ الْحُكْمُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، إِلَّا أَنَّ الْجَوَابَ كَانَ مُعَيَّنًا لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْمَحِيضِ: قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ [الْبَقَرَةِ: 222] فَدَلَّ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السُّؤَالَ كَانَ سُؤَالًا عَنْ مُخَالَطَةِ النِّسَاءِ فِي الْمَحِيضِ. وَقَالَ فِي الْيَتَامَى: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ

فَإِخْوانُكُمْ [الْبَقَرَةِ: 220] فَدَلَّ هَذَا الْجَوَابُ الْمُعَيَّنُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السُّؤَالَ الْمُعَيَّنَ كَانَ وَاقِعًا عَنِ التصرف في مالهم ومخالطتهم في المواكلة. وأيضاً قال تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء: 85] وليس فيه ما يدل على أن ذلك السؤال عن أي الأحكام إلا أنه تعالى قال في الجواب: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي فَدَلَّ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السُّؤَالَ كَانَ عَنْ كَوْنِ الرُّوحِ مُحْدَثًا أَوْ قَدِيمًا، فكذا هاهنا لَمَّا قَالَ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ عَنِ الْأَنْفَالِ: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ الْأَنْفَالِ كَيْفَ مَصْرِفُهَا وَمَنِ المستحق لها. والقول الثاني: أن قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ أَيْ مِنَ الْأَنْفَالِ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ: الِاسْتِعْطَاءُ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ يَا رَسُولَ اللَّه أَعْطِنِي كَذَا، وَلَا يَبْعُدُ إِقَامَةُ عَنْ مَقَامَ مِنْ هَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّه (يَسْأَلُونَكَ الْأَنْفَالَ) . وَالْبَحْثُ الْخَامِسُ: وَهُوَ شَرْحُ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُرَادِ بِالْأَنْفَالِ. فَنَقُولُ: إِنَّ الْأَنْفَالَ الَّتِي سَأَلُوا عَنْهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَدْ وَقَعَ بَيْنَهُمُ التَّنَازُعُ وَالتَّنَافُسُ فِيهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وجوه: الأول: أن قوله: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ يدل على أن المقصود من ذكر مَنْعُ الْقَوْمِ عَنِ الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُنَازَعَةِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا سَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ وَقَعَتِ الْخُصُومَةُ بَيْنَهُمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْأَنْفَالِ الْغَنَائِمَ، وَهِيَ الْأَمْوَالُ الْمَأْخُوذَةُ مِنَ الْكُفَّارِ قَهْرًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غَيْرَهَا. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَفِيهِ وُجُوهٌ: أحدها: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَّمَ مَا غَنِمُوهُ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى مَنْ حَضَرَ وَعَلَى أَقْوَامٍ لَمْ يَحْضُرُوا أَيْضًا، وَهُمْ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَخَمْسَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ فَأَحَدُهُمْ عُثْمَانُ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَرَكَهُ عَلَى ابْنَتِهِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَرِيضَةً، وَطَلْحَةُ وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ. فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ بَعَثَهُمَا لِلتَّجَسُّسِ عَنْ خَبَرِ الْعِيرِ وَخَرَجَا فِي طَرِيقِ الشَّامِ، وَأَمَّا الْخَمْسَةُ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَحَدُهُمْ أَبُو لُبَابَةَ مَرْوَانُ بْنُ عَبَدِ الْمُنْذِرِ، خَلَّفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَعَاصِمٌ خَلَّفَهُ عَلَى العالية، والحرث بْنُ حَاطِبٍ: رَدَّهُ مِنَ الرَّوْحَاءِ إِلَى عَمْرِو بن عوف لشيء بلغه عنه، والحرث بْنُ الصِّمَّةِ أَصَابَتْهُ عِلَّةٌ بِالرَّوْحَاءِ، وَخَوَّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ، فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَحْضُرُوا، وَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْغَنَائِمِ بِسَهْمٍ، فَوَقَعَ مِنْ غَيْرِهِمْ فِيهِ مُنَازَعَةٌ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِسَبَبِهَا، وَثَانِيهَا: رُوِيَ أَنَّ يَوْمَ بَدْرٍ الشُّبَّانُ قَتَلُوا وَأَسَرُوا وَالْأَشْيَاخُ وَقَفُوا مَعَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الْمَصَافِّ، فَقَالَ الشُّبَّانُ: الْغَنَائِمُ لَنَا لِأَنَّا قَتَلْنَا وَهَزَمْنَا، وَقَالَ الْأَشْيَاخُ: كُنَّا رِدْءًا لَكُمْ وَلَوِ انْهَزَمْتُمْ لَانْحَزْتُمْ إِلَيْنَا، فَلَا تَذْهَبُوا بِالْغَنَائِمِ دُونَنَا، فَوَقَعَتِ الْمُخَاصَمَةُ بِهَذَا السَّبَبِ. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَنْفَالُ الْغَنَائِمُ. وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَنْهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ حَرَامًا عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ، وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ طَلَبَ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى فَقَطْ، وَقَدْ بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ كَانَ مَسْبُوقًا بِالْمُنَازَعَةِ وَالْمُخَاصَمَةِ. وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَنْفَالِ شَيْئًا سِوَى الْغَنَائِمِ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِي تَفْسِيرِ الْأَنْفَالِ أَيْضًا وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: الْمُرَادُ مِنَ الْأَنْفَالِ مَا شَذَّ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، مِنْ دَابَّةٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ مَتَاعٍ، فَهُوَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ، وَثَانِيهَا: الْأَنْفَالُ الْخُمُسُ الَّذِي يَجْعَلُهُ اللَّه لِأَهْلِ الْخُمُسِ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، قَالَ: فَالْقَوْمُ إِنَّمَا سَأَلُوا عَنِ الْخُمُسِ. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، وَثَالِثُهَا:

أَنَّ الْأَنْفَالَ هِيَ السَّلَبُ وَهُوَ الَّذِي يُدْفَعُ إِلَى الْغَازِي زَائِدًا عَلَى سَهْمِهِ مِنَ الْمَغْنَمِ، تَرْغِيبًا لَهُ فِي الْقِتَالِ، كَمَا إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» أَوْ قَالَ لِسَرِيَّةٍ مَا أَصَبْتُمْ فَهُوَ لَكُمْ، أَوْ يَقُولُ فَلَكُمْ نِصْفُهُ أَوْ ثُلُثُهُ أَوْ رُبُعُهُ، وَلَا يُخَمِّسُ النَّفْلَ، وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ: قُتِلَ أَخِي عُمَيْرٌ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَتَلْتُ بِهِ سَعْدَ بْنَ الْعَاصِي وَأَخَذْتُ سَيْفَهُ فَأَعْجَبَنِي فَجِئْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ شَفَى صَدْرِي مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَهَبْ لِي هَذَا السَّيْفَ. فَقَالَ: «لَيْسَ هَذَا لِي وَلَا لَكَ اطْرَحْهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وُضِعَتْ فِيهِ الْغَنَائِمُ» فَطَرَحْتُهُ وَبِي مَا يَعْلَمُهُ اللَّه مِنْ قَتْلِ أَخِي وَأَخْذِ سَلَبِي، فَمَا جَاوَزْتُ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى جَاءَنِي رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أُنْزِلَتْ سُورَةُ الْأَنْفَالِ فَقَالَ: يَا سَعْدُ «إِنَّكَ سَأَلْتَنِي السَّيْفَ وَلَيْسَ لِي وَإِنَّهُ قَدْ/ صَارَ لِي فَخُذْهُ» قَالَ الْقَاضِي: وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ، وَلَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى تَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. وَإِنْ صَحَّ فِي الْأَخْبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى التعين قُضِيَ بِهِ، وَإِلَّا فَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ، وَكَمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا جَائِزٌ، فَكَذَلِكَ إِرَادَةُ الْجَمِيعِ جَائِزَةٌ فَإِنَّهُ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَهَا، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مَا لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُنَفِّلَ غَيْرَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ حُصُولِهَا وَبَعْدَ حُصُولِهَا، لِأَنَّهُ يَسُوغُ لَهُ تَحْرِيضًا عَلَى الْجِهَادِ وَتَقْوِيَةً لِلنُّفُوسِ كَنَحْوِ مَا كَانَ يُنَفِّلُ وَاحِدًا فِي ابْتِدَاءِ الْمُحَارَبَةِ. لِيُبَالِغَ فِي الْحَرْبِ. أَوْ عِنْدَ الرَّجْعَةِ. أَوْ يُعْطِيَهُ سَلَبَ الْقَاتِلِ، أَوْ يَرْضَخَ لِبَعْضِ الْحَاضِرِينَ، وَيُنَفِّلَهُ مِنَ الْخُمُسِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَخْتَصُّ بِهِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الْمُرَادُ الْأَمْرُ الزَّائِدُ عَلَى مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لِلْمُجَاهِدِينَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ حُكْمَهَا مُخْتَصٌّ باللَّه وَالرَّسُولِ يَأْمُرُهُ اللَّه بِقِسْمَتِهَا عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي قِسْمَتِهَا مُفَوَّضًا إِلَى رَأْيِ أَحَدٍ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ فَأَنَّ للَّه خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْغَنَائِمُ كُلُّهَا لِلرَّسُولِ، فَنَسَخَهَا اللَّه بِآيَاتِ الْخُمُسِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مَعْنَاهُ أَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا للَّه وَلِلرَّسُولِ. وَهَذَا الْمَعْنَى بَاقٍ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِيرَ مَنْسُوخًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنْ يَكُونَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا مِلْكًا لِلْغَانِمِينَ. الثَّانِي: أَنَّ آيَةَ الْخُمُسِ. تَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْغَنِيمَةِ مِلْكًا لِلْغَانِمِينَ، وَالْأَنْفَالُ هاهنا مُفَسَّرَةٌ لَا بِالْغَنَائِمِ، بَلْ بِالسَّلَبِ. وَإِنَّمَا يُنَفِّلُهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبَعْضِ النَّاسِ لِمَصْلَحَةٍ مِنَ الْمَصَالِحِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ فَاتَّقُوا عِقَابَ اللَّه وَلَا تُقْدِمُوا عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّه، وَاتْرُكُوا الْمُنَازَعَةَ وَالْمُخَاصَمَةَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ. وَارْضَوْا بِمَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي قَوْلِهِ: وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أَيْ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْأَقْوَالُ وَاقِعَةً فِي الْبَيْنِ، قِيلَ لَهَا ذَاتُ الْبَيْنِ، كَمَا أَنَّ الْأَسْرَارَ لَمَّا كَانَتْ مُضْمَرَةً فِي الصُّدُورِ قِيلَ لَهَا ذَاتُ الصُّدُورِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى نَهَاهُمْ عَنْ مُخَالَفَةِ حُكْمِ الرَّسُولِ بِقَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ أَمَرَهُمْ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ بِقَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا/ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ بَالَغَ فِي هَذَا التَّأْكِيدِ فَقَالَ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَالْمُرَادُ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي دَعَاكُمُ الرَّسُولُ إِلَيْهِ وَرَغِبْتُمْ

[سورة الأنفال (8) : الآيات 2 إلى 4]

فِيهِ لَا يَتِمُّ حُصُولُهُ إِلَّا بِالْتِزَامِ هَذِهِ الطَّاعَةِ، فَاحْذَرُوا الْخُرُوجَ عَنْهَا، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: تَرْكُ الطَّاعَةِ يُوجِبُ زَوَالَ الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِكَلِمَةِ إِنَّ عَلَى الشَّيْءِ عُدِمَ عند عدم ذلك الشيء، وهاهنا الْإِيمَانُ مُعَلَّقٌ عَلَى الطَّاعَةِ بِكَلِمَةِ (إِنْ) فَيَلْزَمُ عَدَمُ الْإِيمَانِ عِنْدَ عَدَمِ الطَّاعَةِ وَتَمَامُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النِّسَاءِ: 31] واللَّه أَعْلَمُ. [سورة الأنفال (8) : الآيات 2 الى 4] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَاقْتَضَى ذَلِكَ كَوْنَ الْإِيمَانِ مُسْتَلْزِمًا لِلطَّاعَةِ، شَرَحَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَزِيدَ شَرْحٍ وَتَفْصِيلٍ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ فَقَالَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الْآيَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ أُمُورٍ خَمْسَةٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ يُقَالُ: وَجِلَ يَوْجَلُ وَجَلًا، فَهُوَ وَجِلٌ، وَأَوْجَلَ إِذَا خَافَ. قَالَ الشَّاعِرُ: لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَأَوْجَلُ ... عَلَى أَيِّنَا تَعْدُو الْمَنِيَّةُ أَوَّلُ وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِنَّمَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إِذَا كَانَ خَائِفًا مِنَ اللَّه، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزُّمَرِ: 23] وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 57] وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 2] وَقَالَ أَصْحَابُ الْحَقَائِقِ: الْخَوْفُ عَلَى قِسْمَيْنِ: خَوْفُ الْعِقَابِ، وَخَوْفُ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ. أَمَّا خَوْفُ الْعِقَابِ فَهُوَ لِلْعُصَاةِ. وَأَمَّا خَوْفُ الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ فَهُوَ لَا يَزُولُ عَنْ قَلْبِ أَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، سَوَاءً كَانَ مَلَكًا مُقَرَّبًا أَوْ نَبِيًّا مُرْسَلًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ لِذَاتِهِ عَنْ كُلِّ الْمَوْجُودَاتِ/ وَمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ فَمُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَالْمُحْتَاجُ إِذَا حَضَرَ عِنْدَ الْمَلِكِ الْغَنِيِّ يَهَابُهُ وَيَخَافُهُ، وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْهَيْبَةُ مِنَ الْعِقَابِ، بَلْ مُجَرَّدُ عِلْمِهِ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُ، وَكَوْنِهِ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ يُوجِبُ تِلْكَ الْمَهَابَةَ، وَذَلِكَ الْخَوْفَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْوَجَلِ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ، فَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ مِنْ مُجَرَّدِ ذِكْرِ اللَّه، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ ذِكْرِ عِقَابِ اللَّه. وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِلْزَامُ أَصْحَابِ بَدْرٍ طَاعَةَ اللَّه وَطَاعَةَ الرَّسُولِ فِي قِسْمَةِ الْأَنْفَالِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْوَجَلِ الْقِسْمَ الثَّانِيَ، فَذَلِكَ لَازِمٌ مِنْ مُجَرَّدِ ذِكْرِ اللَّه، وَلَا حَاجَةَ فِي الْآيَةِ إِلَى الإضمار. فإن قيل: إنه تعالى قال هاهنا وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ [الرَّعْدِ: 28] فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ وَأَيْضًا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزُّمَرِ: 23] قُلْنَا: الِاطْمِئْنَانُ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ ثَلْجِ الْيَقِينِ، وَشَرْحِ الصَّدْرِ بِمَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ، وَالْوَجَلُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ خَوْفِ الْعُقُوبَةِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، بَلْ نَقُولُ: هَذَانِ الْوَصْفَانِ اجْتَمَعَا فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزُّمَرِ: 23] وَالْمَعْنَى:

تَقْشَعِرُّ الْجُلُودُ مِنْ خَوْفِ عَذَابِ اللَّه، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ عِنْدَ رَجَاءِ ثَوَابِ اللَّه. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً [التَّوْبَةِ: 124] ثُمَّ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: زِيَادَةُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا حَكَاهُ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَتِ الدَّلَائِلُ عِنْدَهُ أَكْثَرَ وَأَقْوَى كَانَ أَزْيَدَ إِيمَانًا، لِأَنَّ عِنْدَ حُصُولِ كَثْرَةِ الدَّلَائِلِ وَقُوَّتِهَا يَزُولُ الشَّكُّ وَيَقْوَى الْيَقِينُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَوْ وُزِنَ إِيمَانُ أَبِي بَكْرٍ بِإِيمَانِ أَهْلِ الْأَرْضِ لَرَجَحَ» يُرِيدُ أَنَّ مَعْرِفَتَهُ باللَّه أَقْوَى. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ: إِمَّا قُوَّةُ الدَّلِيلِ أَوْ كَثْرَةُ الدَّلَائِلِ. أَمَّا قُوَّةُ الدَّلِيلِ فَبَاطِلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ دَلِيلٍ فَهُوَ مُرَكَّبٌ لَا مَحَالَةَ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ، وَتِلْكَ الْمُقَدِّمَاتُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا بِهَا جَزْمًا مَانِعًا مِنَ النَّقِيضِ أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كَانَ الْجَزْمُ الْمَانِعُ مِنَ النَّقِيضِ حَاصِلًا فِي كُلِّ الْمُقَدِّمَاتِ، امْتَنَعَ كَوْنُ بَعْضِ الدَّلَائِلِ أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، لِأَنَّ الْجَزْمَ الْمَانِعَ مِنَ النَّقِيضِ لَا يَقْبَلُ التَّفَاوُتَ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْجَزْمُ الْمَانِعُ مِنَ النَّقِيضِ غَيْرَ حَاصِلٍ إِمَّا فِي الْكُلِّ أَوْ فِي الْبَعْضِ فَذَلِكَ لَا يَكُونُ دَلِيلًا، بَلْ أَمَارَةً، وَالنَّتِيجَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْهَا لَا تَكُونُ عِلْمًا بَلْ ظَنًّا، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حُصُولَ التَّفَاوُتِ فِي/ الدَّلَائِلِ بِسَبَبِ الْقُوَّةِ مُحَالٌ، وَأَمَّا حُصُولُ التَّفَاوُتِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الدَّلَائِلِ فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْجَزْمَ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ الدَّلِيلِ الْوَاحِدِ، إِنْ كَانَ مَانِعًا مِنَ النقيض فيمتنع أن يصير أقوى عند اجتماع الدلائل الكثيرة، وإن كان غير مانع مِنَ النَّقِيضِ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا، بَلْ كَانَ أَمَارَةً وَلَمْ تَكُنِ النَّتِيجَةُ مَعْلُومَةً بَلْ مَظْنُونَةً، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ ضَعِيفٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ الدَّوَامُ وَعَدَمُ الدَّوَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَعْضَ الْمُسْتَدِلِّينَ لَا يَكُونُ مُسْتَحْضِرًا لِلدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ إِلَّا لَحْظَةً وَاحِدَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ مُدَاوِمًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ وَبَيْنَ هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ أَوْسَاطٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَمَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الزِّيَادَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنْ زِيَادَةِ التَّصْدِيقِ أَنَّهُمْ يُصَدِّقُونَ بِكُلِّ مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ مِنْ عِنْدِ اللَّه، وَلَمَّا كَانَتِ التَّكَالِيفُ مُتَوَالِيَةً فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَعَاقِبَةً، فَعِنْدَ حُدُوثِ كُلِّ تَكْلِيفٍ كَانُوا يَزِيدُونَ تَصْدِيقًا وَإِقْرَارًا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ صَدَّقَ إِنْسَانًا فِي شَيْئَيْنِ كَانَ تَصْدِيقُهُ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ تَصْدِيقِ مَنْ صَدَّقَهُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ. وَقَوْلُهُ: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ كُلَّمَا سَمِعُوا آيَةً جَدِيدَةً أَتَوْا بِإِقْرَارٍ جَدِيدٍ فَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أن كما قُدْرَةِ اللَّه وَحِكْمَتِهِ، إِنَّمَا تُعْرَفُ بِوَاسِطَةِ آثَارِ حِكْمَةِ اللَّه فِي مَخْلُوقَاتِهِ، وَهَذَا بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، وَكُلَّمَا وَقَفَ عَقْلُ الْإِنْسَانِ عَلَى آثَارِ حِكْمَةِ اللَّه فِي تَخْلِيقِ شَيْءٍ آخَرَ، انتقل منه إلى طلب حكمة فِي تَخْلِيقِ شَيْءٍ آخَرَ، فَقَدِ انْتَقَلَ مِنْ مَرْتَبَةٍ إِلَى مَرْتَبَةٍ أُخْرَى أَعْلَى مِنْهَا وَأَشْرَفَ وَأَكْمَلَ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَرَاتِبُ لَا نِهَايَةَ لَهَا، لَا جَرَمَ لَا نِهَايَةَ لِمَرَاتِبِ التَّجَلِّي وَالْكَشْفِ وَالْمَعْرِفَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْإِيمَانَ هَلْ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ أَمْ لَا؟ أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: الْإِيمَانُ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الِاعْتِقَادِ وَالْإِقْرَارِ وَالْعَمَلِ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: زادَتْهُمْ إِيماناً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ، وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِبَارَةً عَنِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِقْرَارِ لَمَا قَبِلَ الزِّيَادَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ

تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْأُمُورَ الْخَمْسَةَ. قَالَ: فِي الْمَوْصُوفِينَ بِهَا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ تِلْكَ الْخِصَالِ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ» وَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ. قَالُوا: لِأَنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ، وَالْمَعْرِفَةُ وَالْإِقْرَارُ لَا يَقْبَلَانِ التَّفَاوُتَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ عِبَارَةً عَنْ مَجْمُوعِ الْإِقْرَارِ وَالِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ، حَتَّى أَنَّ بِسَبَبِ دُخُولِ التَّفَاوُتِ فِي الْعَمَلِ يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ فِي الْإِيمَانِ، / وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ ضَعِيفٌ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّفَاوُتَ بِالدَّوَامِ وَعَدَمِ الدَّوَامِ حَاصِلٌ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْإِقْرَارِ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي فِي حُصُولِ التَّفَاوُتِ فِي الْإِيمَانِ، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً ظَاهِرُهُ مُشْعِرٌ بِأَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ هِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي حُصُولِ الزِّيَادَةِ فِي الْإِيمَانِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ نَفْسَ تِلْكَ الْآيَاتِ لَا تُوجِبُ الزِّيَادَةَ، بَلْ إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَالْمُوجِبُ هُوَ سَمَاعُ تِلْكَ الْآيَاتِ أَوْ مَعْرِفَةُ تِلْكَ الْآيَاتِ تُوجِبُ زِيَادَةً فِي الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ واللَّه أَعْلَمُ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: لِلْمُؤْمِنِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَاعْلَمْ أَنَّ صِفَةَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا وَاثِقِينَ بِالصِّدْقِ فِي وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَأَنْ يَقُولُوا صَدَقَ اللَّه وَرَسُولُهُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ قَوْلُهُمْ كَقَوْلِ الْمُنَافِقِينَ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الْأَحْزَابِ: 12] ثُمَّ نَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ لَا يَتَوَكَّلُونَ إِلَّا عَلَى رَبِّهِمْ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ مَرْتَبَةٌ عَالِيَةٌ وَدَرَجَةٌ شَرِيفَةٌ، وَهِيَ: أَنَّ الْإِنْسَانَ بِحَيْثُ يَصِيرُ لَا يَبْقَى لَهُ اعْتِمَادٌ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا عَلَى اللَّه. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى أَحْسَنِ جِهَاتِ التَّرْتِيبِ، فَإِنَّ الْمَرْتَبَةَ الْأُولَى هِيَ: الْوَجَلُ مِنْ عِقَابِ اللَّه. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ الِانْقِيَادُ لِمَقَامَاتِ التَّكَالِيفِ للَّه. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: هِيَ الِانْقِطَاعُ بِالْكُلِّيَّةِ عَمَّا سِوَى اللَّه، وَالِاعْتِمَادُ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى فَضْلِ اللَّه، بَلِ الْغِنَى بِالْكُلِّيَّةِ عَمَّا سِوَى اللَّه تَعَالَى. وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَرَاتِبَ الثَّلَاثَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ أَحْوَالٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْقُلُوبِ وَالْبَوَاطِنِ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى رِعَايَةِ أَحْوَالِ الظَّاهِرِ وَرَأْسُ الطَّاعَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الظَّاهِرِ، وَرَئِيسُهَا بَذْلُ النَّفْسِ فِي الصَّلَاةِ، وَبَذْلُ الْمَالِ فِي مرضاة اللَّه، ويدخل فيه الزكوات والصدقات والصلاة، وَالْإِنْفَاقُ فِي الْجِهَادِ، وَالْإِنْفَاقُ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّهُ تَعَالَى مَدَحَ مَنْ يُنْفِقُ مَا رَزَقَهُ اللَّه، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِنْفَاقُ مِنَ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَرَامَ لَا يَكُونُ رِزْقًا، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ هَذَا الْكَلَامِ مِرَارًا. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْخَمْسَ: أَثْبَتَ لِلْمَوْصُوفِينَ بِهَا أُمُورًا ثَلَاثَةً: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا وفيه مسائل: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: حَقًّا بِمَاذَا يَتَّصِلُ. فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بِقَوْلِهِ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ أَيْ هُمُ

الْمُؤْمِنُونَ بِالْحَقِيقَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ: حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي انْتِصَابِ حَقًّا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: التَّقْدِيرُ: أُخْبِرُكُمْ بِذَلِكَ حَقًّا، أَيْ إِخْبَارًا حَقًّا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا [النِّسَاءِ: 151] وَالثَّانِي: قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّ الَّذِي فَعَلُوهُ كَانَ حَقًّا صِدْقًا. الثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ. التَّقْدِيرُ: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ أُحِقُّ ذَلِكَ حَقًّا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَقُولَ أَنَا مُؤْمِنٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّه، وَلَا يَقُولُ أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّه، أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّه، فَلَهُمْ فِيهِ مَقَامَانِ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِأَجْلِ حُصُولِ الشَّكِّ فِي حُصُولِ الْإِيمَانِ. الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ، فَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الِاعْتِقَادِ وَالْإِقْرَارِ وَالْعَمَلِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ آتِيًا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَمْرٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَالشَّكُّ فِي أَحَدِ أَجْزَاءِ الْمَاهِيَّةِ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي حُصُولِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ، فَالْإِنْسَانُ وَإِنْ كَانَ جَازِمًا بِحُصُولِ الِاعْتِقَادِ وَالْإِقْرَارِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ شَاكًّا فِي حُصُولِ الْعَمَلِ كَانَ هَذَا الْقَدْرُ يُوجِبُ كَوْنَهُ شَاكًّا فِي حُصُولِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه، فَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ اسْمًا لِلِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ، وَكَانَ الْعَمَلُ خَارِجًا عَنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ، لَمْ يَلْزَمْ مِنَ الشَّكِّ فِي حُصُولِ الْأَعْمَالِ الشَّكُّ فِي الْإِيمَانِ. فَثَبَتَ أَنَّ مَنْ قَالَ إِنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ يَلْزَمُهُ وُقُوعُ الشك في الإيمان، ومن قال العمل خارج عن مسمى الإيمان يلزمه نفي الشك عن الْإِيمَانِ، وَعِنْدَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ إِلَّا فِي اللَّفْظِ فَقَطْ. وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ قَوْلَهُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إن شاء اللَّه ليس لأجل الشك، فيه وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَوْنَ الرَّجُلِ مُؤْمِنًا أَشْرَفُ صِفَاتِهِ وَأَعْرَفُ نُعُوتِهِ وَأَحْوَالِهِ، فَإِذَا قَالَ أَنَا مُؤْمِنٌ، فَكَأَنَّهُ مَدَحَ نَفْسَهُ بِأَعْظَمِ الْمَدَائِحِ. فَوَجَبَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّه لِيَصِيرَ هَذَا سَبَبًا لِحُصُولِ الِانْكِسَارِ فِي الْقَلْبِ وَزَوَالِ الْعُجْبِ. رُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه، قَالَ لِقَتَادَةَ: لِمَ تَسْتَثْنِي فِي إِيمَانِكَ. قَالَ اتِّبَاعًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشُّعَرَاءِ: 82] فقال أبو حنيفة رحمه اللَّه: هلا اقتديت به فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى [الْبَقَرَةِ: 260] وَأَقُولُ: كَانَ لِقَتَادَةَ أَنْ يُجِيبَ، وَيَقُولَ: إِنَّهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: بَلَى قَالَ: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فَطَلَبَ مَزِيدَ الطُّمَأْنِينَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ قَوْلِ إِنْ شَاءَ اللَّه. الثَّانِي: / إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إِلَّا إذا كان موصوفاً بالصفات الخمسة، وَهِيَ الْخَوْفُ مِنَ اللَّه، وَالْإِخْلَاصُ فِي دِينِ اللَّه، وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّه، وَالْإِتْيَانُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لِوَجْهِ اللَّه تَعَالَى. وَذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ كَذَا وَكَذَا. وَذَكَرَ فِي آخِرِ الْآيَةِ قَوْلَهُ: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا وَهَذَا أَيْضًا يُفِيدُ الْحَصْرَ، فَلَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ الْقَطْعُ عَلَى نَفْسِهِ بِحُصُولِ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْخَمْسِ، لَا جَرَمَ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّه. رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ سَأَلَهُ رَجُلٌ وَقَالَ: أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ فَقَالَ: الْإِيمَانُ إِيمَانَانِ، فَإِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْإِيمَانِ باللَّه وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَأَنَا مُؤْمِنٌ، وَإِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ

قُلُوبُهُمْ فو اللَّه لَا أَدْرِي أَمِنْهُمْ أَنَا أَمْ لَا؟ الثَّالِثُ: أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ دَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا، كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَالْقَطْعُ بِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، فَكَذَا هَذَا. وَنُقِلَ عَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ باللَّه حَقًّا، ثُمَّ لَمْ يَشْهَدْ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَقَدْ آمَنَ بِنِصْفِ الْآيَةِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ كَمَا لَا سَبِيلَ إِلَى الْقَطْعِ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَذَلِكَ لَا سَبِيلَ إِلَى الْقَطْعِ بِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَعَنِ الْمَعْرِفَةِ، وَعَلَى هَذَا فَالرَّجُلُ إِنَّمَا يَكُونُ مُؤْمِنًا في الحقيقة عند ما يَكُونُ هَذَا التَّصْدِيقُ وَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ حَاصِلَةً فِي الْقَلْبِ حَاضِرَةً فِي الْخَاطِرِ، فَأَمَّا عِنْدُ زَوَالِ هَذَا الْمَعْنَى، فَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِحَسَبِ حُكْمِ اللَّه، أَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلَا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ إِنْ شَاءَ اللَّه عَائِدًا إِلَى اسْتِدَامَةِ مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَاسْتِحْضَارِ مَعْنَاهُ أَبَدًا دَائِمًا مِنْ غَيْرِ حُصُولِ ذُهُولٍ وَغَفْلَةٍ عَنْهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُحْتَمَلٌ. الْخَامِسُ: أَنَّ أَصْحَابَ الْمُوَافَاةِ يَقُولُونَ: شَرْطُ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا فِي الْحَالِ حُصُولُ الْمُوَافَاةِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَهَذَا الشَّرْطُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَيَكُونُ مَجْهُولًا، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْمَجْهُولِ مجهل. فَلِهَذَا السَّبَبِ حَسُنَ أَنْ يُقَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّه. السَّادِسُ: أَنْ يَقُولَ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّه عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالْمُرَادُ صَرْفُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْخَاتِمَةِ وَالْعَاقِبَةِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ وَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا فِي الْحَالِ، إِلَّا أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَبْقَى ذَلِكَ الْإِيمَانُ فِي الْعَاقِبَةِ كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَلَمْ تَحْصُلْ فَائِدَةٌ أَصْلًا، فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ هَذَا الْمَعْنَى. السَّابِعُ: أَنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَا يُنَافِي حُصُولَ الْجَزْمِ وَالْقَطْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الْفَتْحِ: 27] وَهُوَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ. فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ تَعْلِيمًا مِنْهُ لِعِبَادِهِ، هَذَا الْمَعْنَى، فكذا/ هاهنا الْأَوْلَى ذِكْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَفْوِيضِ الْأُمُورِ إِلَى اللَّه، حَتَّى يَحْصُلَ بِبَرَكَةِ هَذِهِ الكلمة دوام الإيمان. الثامن: أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ السَّلَفِ ذَكَرُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَرَأَيْنَا لَهُمْ مَا يُقَوِّيهِ فِي كِتَابِ اللَّه وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ فِي عِلْمِ اللَّه وَفِي حُكْمِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ جَمْعٍ يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ، وَعَلَى وُجُودِ جَمْعٍ لَا يَكُونُونَ كَذَلِكَ. فَالْمُؤْمِنُ يَقُولُ: إِنْ شَاءَ اللَّه حَتَّى يَجْعَلَهُ اللَّه بِبَرَكَةِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَا مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي. أَمَّا الْقَائِلُونَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ ذِكْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُتَحَرِّكَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: أَنَا مُتَحَرِّكٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَنَا مُتَحَرِّكٌ إِنْ شَاءَ اللَّه، وَكَذَا القول في القائم والقاعد، فكذا هاهنا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِنًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّه، وَكَمَا أَنَّ خُرُوجَ الْجِسْمِ عَنْ كَوْنِهِ مُتَحَرِّكًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ مُتَحَرِّكًا حَالَ قِيَامِ الْحَرَكَةِ بِهِ فَكَذَلِكَ احْتِمَالُ زَوَالِ الْإِيمَانِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ مُؤْمِنًا فِي الْحَالِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فَقَدْ حَكَمَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِكَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ حَقًّا فَكَانَ قَوْلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّه يُوجِبُ الشَّكَّ فِيمَا قَطَعَ اللَّه عَلَيْهِ بِالْحُصُولِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ وَصْفِ الْإِنْسَانِ بِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا، وَبَيْنَ وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ مُتَحَرِّكًا، حَاصِلٌ مِنَ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَعِنْدَ حُصُولِ الْفَرْقِ يَتَعَذَّرُ الْجَمْعُ، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى الْمَوْصُوفِينَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ بِكَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ حَقًّا، وَذَلِكَ الشَّرْطُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَالشَّكُّ فِي الشَّرْطِ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي الْمَشْرُوطِ. فَهَذَا يُقَوِّي عَيْنَ مَذْهَبِنَا. واللَّه أَعْلَمُ.

الْحُكْمُ الثَّانِي مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي أَثْبَتَهَا اللَّه تعالى للموصوفين بالصفات الخمسة قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَالْمَعْنَى: لَهُمْ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ قِسْمَانِ: الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ: هِيَ الصِّفَاتُ الْقَلْبِيَّةُ وَالْأَحْوَالُ الرُّوحَانِيَّةُ، وَهِيَ الْخَوْفُ وَالْإِخْلَاصُ وَالتَّوَكُّلُ. وَالِاثْنَتَانِ الْأَخِيرَتَانِ هُمَا الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ وَالْأَخْلَاقُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ تَأْثِيرَاتٌ فِي تَصْفِيَةِ الْقَلْبِ، وَفِي تَنْوِيرِهِ بِالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ كُلَّمَا كَانَ أَقْوَى كَانَتِ الْآثَارُ أَقْوَى وَبِالضِّدِّ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ وَالْأَعْمَالُ لَهَا دَرَجَاتٌ وَمَرَاتِبُ. كَانَتِ الْمَعَارِفُ أَيْضًا لَهَا دَرَجَاتٌ وَمَرَاتِبُ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَالثَّوَابُ الْحَاصِلُ فِي الْجَنَّةِ أَيْضًا مُقَدَّرٌ بِمِقْدَارِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ. فَثَبَتَ أَنَّ مَرَاتِبَ السَّعَادَاتِ/ الرُّوحَانِيَّةِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ، وَمَرَاتِبَ السَّعَادَاتِ الْحَاصِلَةِ فِي الْجَنَّةِ كَثِيرَةٌ وَمُخْتَلِفَةٌ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ الْمَفْضُولَ إِذَا عَلِمَ حُصُولَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ لِلْفَاضِلِ وحرمانه عنها، فإنه يتألم قلبه، ويتنغض عَيْشُهُ. وَذَلِكَ مُخِلٌّ بِكَوْنِ الثَّوَابِ رِزْقًا كَرِيمًا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ اسْتِغْرَاقَ كُلِّ وَاحِدٍ فِي سَعَادَتِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ تَمْنَعُهُ مِنْ حُصُولِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَأَحْوَالُ الْآخِرَةِ لَا تُنَاسِبُ أَحْوَالَ الدُّنْيَا إِلَّا بِالِاسْمِ. الْحُكْمُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ الْمُرَادُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّه عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ وَمِنَ الرِّزْقِ الْكَرِيمِ نَعِيمُ الْجَنَّةِ. قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: أَمَّا كَوْنُهُ رِزْقًا كَرِيمًا فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِ تِلْكَ الْمَنَافِعِ خَالِصَةً دَائِمَةً مَقْرُونَةً بِالْإِكْرَامِ وَالتَّعْظِيمِ، وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ هُوَ حَدُّ الثَّوَابِ. وَقَالَ الْعَارِفُونَ: الْمُرَادُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ إِزَالَةُ الظُّلُمَاتِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِ اللَّه، وَمِنَ الرِّزْقِ الْكَرِيمِ الْأَنْوَارُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّه وَمَحَبَّتِهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْكَرِيمُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحْمَدُ وَيُسْتَحْسَنُ، وَالْكَرِيمُ الْمَحْمُودُ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، واللَّه تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ كَرِيمٌ وَالْقُرْآنُ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ كَرِيمٌ. قَالَ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ [النَّمْلِ: 29] وَقَالَ: مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [الشعراء: 7 لقمان: 10] وَقَالَ: وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً [النِّسَاءِ: 31] وَقَالَ: وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً [الْإِسْرَاءِ: 23] فَالرِّزْقُ الْكَرِيمُ هُوَ الشَّرِيفُ الْفَاضِلُ الْحَسَنُ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: يَعْنِي مَا أَعَدَّ اللَّه لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ لَذِيذِ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَهَنَاءِ الْعَيْشِ، وَأَقُولُ يجب هاهنا أَنَّ نُبَيِّنَ أَنَّ اللَّذَّاتِ الرُّوحَانِيَّةَ أَكْمَلُ مِنَ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الرِّزْقَ الْكَرِيمَ هُوَ اللَّذَّاتُ الرُّوحَانِيَّةُ وَهِيَ مَعْرِفَةُ اللَّه وَمَحَبَّتُهُ وَالِاسْتِغْرَاقُ فِي عُبُودِيَّتِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْأُمُورِ الْخَمْسَةِ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْعِقَابِ وَبِالْفَوْزِ بِالثَّوَابِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَكْلِيفَ عَلَى الْعَبْدِ فِيمَا سِوَى هَذِهِ الْخَمْسَةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَأَدَاءِ سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 5 إلى 6]

قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَجَمِيعُ التَّكَالِيفِ دَاخِلٌ تَحْتَ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ مِنَ الصِّفَاتِ الْبَاطِنَةِ التَّوَكُّلَ بِالذِّكْرِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَمِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ عَلَى التَّعْيِينِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ أَشْرَفَ الْأَحْوَالِ الْبَاطِنَةِ، التَّوَكُّلُ وَأَشْرَفَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ. [سورة الأنفال (8) : الآيات 5 الى 6] كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ يَقْتَضِي تَشْبِيهَ شَيْءٍ بِهَذَا الْإِخْرَاجِ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى كَثْرَةَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَقِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا» لِيُرَغِّبَهُمْ فِي الْقِتَالِ، فَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِكَ وَقَوْمِكَ فَدَوْكَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَتَأَخَّرُوا عَنِ الْقِتَالِ جُبْنًا وَلَا بُخْلًا بِبَذْلِ مُهَجِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ أَشْفَقُوا عَلَيْكَ مِنْ أَنْ تُغْتَالَ فَمَتَى أَعْطَيْتَ هَؤُلَاءِ مَا سَمَّيْتَهُ لَهُمْ بَقِيَ خَلْقٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بغير شيء فأنزل اللَّه تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الْأَنْفَالِ: 1] يَصْنَعُ فِيهَا مَا يَشَاءُ، فَأَمْسَكَ الْمُسْلِمُونَ عَنِ الطَّلَبِ وَفِي أَنْفُسِ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْكَرَاهِيَةِ وَأَيْضًا حِينَ خَرَجَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ كَانُوا كَارِهِينَ لِتِلْكَ الْمُقَاتَلَةِ عَلَى مَا سَنَشْرَحُ حَالَةَ تِلْكَ الْكَرَاهِيَةِ، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ كَانَ التَّقْدِيرُ أَنَّهُمْ رَضُوا بِهَذَا الْحُكْمِ فِي الْأَنْفَالِ وَإِنْ كَانُوا كَارِهِينَ لَهُ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكِ بِالْحَقِّ إِلَى الْقِتَالِ وَإِنْ كَانُوا كَارِهِينَ لَهُ وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ ثَبَتَ الْحُكْمُ بِأَنَّ الْأَنْفَالَ للَّه، وَإِنْ كَرِهُوهُ كَمَا ثَبَتَ حُكْمُ اللَّه بِإِخْرَاجِكَ إِلَى الْقِتَالِ وَإِنْ كَرِهُوهُ. الثَّالِثُ: لَمَّا قَالَ: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا كَانَ التَّقْدِيرُ: أَنَّ الْحُكْمَ بِكَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ حَقٌّ، كَمَا أَنَّ حُكْمَ اللَّه بِإِخْرَاجِكَ مِنْ بَيْتِكَ لِلْقِتَالِ حَقٌّ. الرَّابِعُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ: «الْكَافُ» مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ وَالتَّقْدِيرُ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ عَلَى كُرْهِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ هُمْ يَكْرَهُونَ الْقِتَالَ وَيُجَادِلُونَكَ فِيهِ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مِنْ بَيْتِكَ يُرِيدُ بَيْتَهُ بِالْمَدِينَةِ أَوِ الْمَدِينَةَ نَفْسَهَا، لِأَنَّهَا مَوْضِعُ هِجْرَتِهِ/ وَسُكْنَاهُ بِالْحَقِّ، أَيْ إِخْرَاجًا مُتَلَبِّسًا بِالْحِكْمَةِ وَالصَّوَابُ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ فِي مَحَلِّ الْحَالِ، أَيْ أَخْرَجَكَ فِي حَالِ كَرَاهِيَتِهِمْ. رُوِيَ أَنَّ عِيرَ قُرَيْشٍ أَقْبَلَتْ مِنَ الشَّامِ وَفِيهَا أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ وَمَعَهَا أَرْبَعُونَ رَاكِبًا مِنْهُمْ أَبُو سُفْيَانَ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَأَقْوَامٌ آخَرُونَ، فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَ الْمُسْلِمِينَ فَأَعْجَبَهُمْ تَلَقِّي الْعِيرِ لِكَثْرَةِ الْخَيْرِ، وَقِلَّةِ الْقَوْمِ، فَلَمَّا أَزْمَعُوا وَخَرَجُوا، بَلَغَ أَهْلَ مَكَّةَ خَبَرُ خُرُوجِهِمْ، فَنَادَى أَبُو جَهْلٍ فَوْقَ الْكَعْبَةِ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ النَّجَاءَ النَّجَاءَ عَلَى كُلِّ صَعْبٍ وَذَلُولٍ! إِنْ أَخَذَ مُحَمَّدٌ عِيرَكُمْ لَنْ تَفْلَحُوا أَبَدًا، وَقَدْ رَأَتْ أُخْتُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رُؤْيَا، فَقَالَتْ لِأَخِيهَا: إِنِّي رَأَيْتُ عَجَبًا رَأَيْتُ كَأَنَّ مَلَكًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ فَأَخَذَ صَخْرَةً مِنَ الْجَبَلِ، ثُمَّ حلق بها فلم يبق رجالهم بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِ مَكَّةَ إِلَّا أَصَابَهُ حَجَرٌ مِنْ تِلْكَ الصَّخْرَةِ، فَحَدَّثَ بِهَا الْعَبَّاسُ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: مَا تَرْضَى رِجَالُهُمْ بِالنُّبُوَّةِ حَتَّى ادَّعَى نِسَاؤُهُمُ النُّبُوَّةَ! فَخَرَجَ أَبُو جَهْلٍ بِجَمِيعِ أَهْلِ مَكَّةَ وَهُمُ النَّفِيرُ، وَفِي الْمَثَلِ السَّائِرِ

[سورة الأنفال (8) : الآيات 7 إلى 8]

- لَا فِي الْعِيرِ وَلَا فِي النَّفِيرِ- فَقِيلَ لَهُ: الْعِيرُ أَخَذَتْ طَرِيقَ السَّاحِلِ وَنَجَتْ، فَارْجِعْ إِلَى مَكَّةَ بِالنَّاسِ. فَقَالَ: لَا واللَّه لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَدًا حَتَّى نَنْحَرَ الْجَزُورَ وَنَشْرَبَ الْخُمُورَ، وَتُغَنِّي الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ بِبَدْرٍ فَتَتَسَامَعُ جَمِيعُ الْعَرَبِ بِخُرُوجِنَا، وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُصِبِ الْعِيرَ فَمَضَى إِلَى بَدْرٍ بِالْقَوْمِ. وَبَدْرٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تَجْتَمِعُ فِيهِ لِسُوقِهِمْ يَوْمًا فِي السَّنَةِ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّه وَعَدَكُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا الْعِيرُ وَإِمَّا النَّفِيرُ مِنْ قُرَيْشٍ، وَاسْتَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه فقال: «مال تَقُولُونَ إِنَّ الْقَوْمَ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ عَلَى كُلِّ صَعْبٍ وَذَلُولٍ. فَالْعِيرُ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ أَمِ النَّفِيرُ؟ قَالُوا بَلِ الْعِيرُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ لِقَاءِ الْعَدُوِّ. فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنَّ الْعِيرَ قَدْ مَضَتْ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ وَهَذَا أَبُو جَهْلٍ قَدْ أَقْبَلَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّه عَلَيْكَ بِالْعِيرِ وَدَعِ الْعَدُوَّ، فَقَامَ عِنْدَ غَضَبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَأَحْسَنَا، ثُمَّ قَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ امْضِ إِلَى مَا أَمَرَكَ اللَّه بِهِ فَإِنَّا معك حيثما أردت. فو اللَّه لَوْ سِرْتَ إِلَى عَدَنَ لَمَا تَخَلَّفَ عَنْكَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ. ثُمَّ قَالَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو: يَا رَسُولَ اللَّه امْضِ إِلَى مَا أَمَرَكَ اللَّه بِهِ، فَإِنَّا مَعَكَ حَيْثُمَا أَرَدْتَ، لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: 24] ولكنا نَقُولُ: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ مَا دَامَتْ مِنَّا عَيْنٌ تَطْرِفُ. فَضَحِكَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: «سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّه واللَّه لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ» ، وَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّه مِنْ بَدْرٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَيْكَ بِالْعِيرِ. فَنَادَاهُ الْعَبَّاسُ وَهُوَ فِي وَثَاقِهِ، لَا يَصْلُحُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّه وَعَدَكَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَقَدْ أَعْطَاكَ مَا وَعَدَكَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْقِصَّةَ فَنَقُولُ: كَانَتْ كَرَاهِيَةُ الْقِتَالِ حَاصِلَةً لِبَعْضِهِمْ لَا لِكُلِّهِمْ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ وَالْحَقُّ الَّذِي جَادَلُوا فِيهِ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَقِّي النَّفِيرِ لإيثارهم العير. وقوله: بَعْدَ ما تَبَيَّنَ الْمُرَادُ مِنْهُ: إِعْلَامُ رَسُولِ اللَّه بِأَنَّهُمْ يُنْصَرُونَ. وَجِدَالُهُمْ قَوْلُهُمْ: مَا كَانَ خُرُوجُنَا إِلَّا لِلْعِيرِ، وَهَلَّا قُلْتَ لَنَا؟ لِنَسْتَعِدَّ وَنَتَأَهَّبَ لِلْقِتَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْقِتَالَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ حَالَهُمْ فِي فَرْطِ فَزَعِهِمْ وَرُعْبِهِمْ بِحَالِ مَنْ يُجَرُّ إِلَى الْقَتْلِ وَيُسَاقُ إِلَى الْمَوْتِ، وَهُوَ شَاهِدٌ لِأَسْبَابِهِ نَاظِرٌ إِلَى مُوجِبَاتِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَنْظُرُونَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزْمِ وَالْقَطْعِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ نَفَى ابْنَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ» أَيْ يَعْلَمُ أَنَّهُ ابنه. وقوله تعالى: وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ [النَّبَأِ: 40] أَيْ يَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ خَوْفُهُمْ لِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: قِلَّةُ الْعَدَدِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا رَجَّالَةً. رُوِيَ أَنَّهُ مَا كَانَ فِيهِمْ إِلَّا فَارِسَانِ. وَثَالِثُهَا: قِلَّةُ السِّلَاحِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ ذَلِكَ الْخُرُوجَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى إِمَّا ابْتِدَاءً أَوْ بِوَاسِطَةِ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِيَةِ اللَّذَيْنِ مَجْمُوعُهُمَا يُوجِبُ الْفِعْلَ كَمَا هُوَ قَوْلُنَا. قَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ: أَنَّهُ حَصَلَ ذَلِكَ الْخُرُوجُ بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَإِلْزَامِهِ، فَأُضِيفَ إِلَيْهِ. قُلْنَا: لَا شَكَّ أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مَجَازٌ، وَالْأَصْلُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى حقيقته. [سورة الأنفال (8) : الآيات 7 الى 8] وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)

اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِذْ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ أَنَّهَا لَكُمْ بَدَلٌ مِنْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ. قَالَ الْفَرَّاءُ/ وَالزَّجَّاجُ: وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً [الزخرف: 66] وأَنَّ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ كَمَا نَصَبَ السَّاعَةَ، وَقَوْلُهُ أَيْضًا: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ [الْفَتْحِ: 25] أَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِلَوْلَا. وَالطَّائِفَتَانِ: الْعِيرُ وَالنَّفِيرُ: وَغَيْرُ ذَاتِ الشَّوْكَةِ. الْعِيرُ. لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا أَرْبَعُونَ فَارِسًا وَالشَّوْكَةُ كَانَتْ فِي النَّفِيرِ لِعَدَدِهِمْ وَعُدَّتِهِمْ. وَالشَّوْكَةُ الْحِدَّةُ مُسْتَعَارَةٌ مِنْ وَاحِدَةِ الشَّوْكِ، وَيُقَالُ شَوْكُ الْقَنَا لِسِنَانِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ شَاكِي السِّلَاحِ. أَيْ تَتَمَنَّوْنَ أَنْ يَكُونَ لَكُمُ الْعِيرُ لِأَنَّهَا الطَّائِفَةُ الَّتِي لَا حِدَّةَ لَهَا وَلَا شِدَّةَ، وَلَا تُرِيدُونَ الطَّائِفَةَ الْأُخْرَى وَلَكِنَّ اللَّه أَرَادَ التَّوَجُّهَ إِلَى الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى لِيُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ، وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السؤال الأول: أليس أن قوله: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ثُمَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ تَكْرِيرٌ مَحْضٌ؟ وَالْجَوَابُ: ليس هاهنا تَكْرِيرٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ سَبَبُ مَا وَعَدَ بِهِ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِالْأَعْدَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالثَّانِي تَقْوِيَةُ الْقُرْآنِ وَالدِّينِ وَنُصْرَةُ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّ الَّذِي وَقَعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ بِالْكَافِرِينَ كَانَ سَبَبًا لِعِزَّةِ الدِّينِ وَقُوَّتِهِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَرَنَهُ بِقَوْلِهِ: وَيُبْطِلَ الْباطِلَ الَّذِي هُوَ الشِّرْكُ، وَذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ الْحَقَّ الَّذِي هُوَ الدِّينُ وَالْإِيمَانُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: الْحَقُّ حَقٌّ لِذَاتِهِ، وَالْبَاطِلُ بَاطِلٌ لِذَاتِهِ، وَمَا ثَبَتَ لِلشَّيْءِ لِذَاتِهِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ تَحْصِيلُهُ بِجَعْلِ جَاعِلٍ وَفِعْلِ فَاعِلٍ فَمَا الْمُرَادُ مِنْ تَحْقِيقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ؟ وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ مِنْ تَحْقِيقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، بِإِظْهَارِ كَوْنِ ذَلِكَ الْحَقِّ حَقًّا، وَإِظْهَارِ كَوْنِ ذَلِكَ الْبَاطِلِ بَاطِلًا، وَذَلِكَ تَارَةً يَكُونُ بِإِظْهَارِ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَتَارَةً بِتَقْوِيَةِ رُؤَسَاءِ الْحَقِّ وَقَهْرِ رُؤَسَاءِ الْبَاطِلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا تَمَسَّكُوا فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيُحِقَّ الْحَقَّ قَالُوا وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ يُوجَدُ الْحَقُّ وَيَكُونُهُ، وَالْحَقُّ لَيْسَ إِلَّا الدِّينَ وَالِاعْتِقَادَ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الِاعْتِقَادَ الْحَقَّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَكْوِينِ اللَّه تَعَالَى. قَالُوا: وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ تَحْقِيقِ الْحَقِّ عَلَى إِظْهَارِ آثَارِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الظُّهُورَ حَصَلَ بِفِعْلِ الْعِبَادِ، فَامْتَنَعَ أَيْضًا إِضَافَةُ ذَلِكَ الْإِظْهَارِ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْ إِظْهَارِهِ وَضْعُ الدَّلَائِلِ عَلَيْهَا، لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَافِرِ وَإِلَى الْمُسْلِمِ. وَقَبْلَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَبَعْدَهَا فَلَا يَحْصُلُ لِتَخْصِيصِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى فَائِدَةٌ أَصْلًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ أَيْضًا تَمَسَّكُوا بِعَيْنِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ. فَقَالُوا هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ/ لَا يُرِيدُ تَحْقِيقَ الْبَاطِلِ وَإِبْطَالَ الْحَقِّ الْبَتَّةَ، بَلْ إِنَّهُ تَعَالَى أَبَدًا يُرِيدُ تَحْقِيقَ الْحَقِّ وَإِبْطَالَ الْبَاطِلِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ لَا بَاطِلَ وَلَا كُفْرَ إِلَّا واللَّه تَعَالَى مُرِيدٌ لَهُ. وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ فَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ تَحْقِيقَ الْحَقِّ وَإِبْطَالَ الْبَاطِلِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ؟ بَلْ قَدْ بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 9 إلى 10]

أَمَّا قَوْلُهُ: وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ فَالدَّابِرُ الْآخِرُ فَاعِلٌ مِنْ دَبَرَ إِذَا أَدْبَرَ، وَمِنْهُ دَابِرَةُ الطَّائِرِ وَقَطْعُ الدَّابِرِ عِبَارَةٌ عَنِ الِاسْتِئْصَالِ، وَالْمُرَادُ أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ الْعِيرَ لِلْفَوْزِ بِالْمَالِ، واللَّه تَعَالَى يُرِيدُ أَنْ تَتَوَجَّهُوا إِلَى النَّفِيرِ، لِمَا فِيهِ من إعلاء الدين الحق واستئصال الكافرين. [سورة الأنفال (8) : الآيات 9 الى 10] إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ يُحِقُّ الْحَقَّ وَيُبْطِلُ الْبَاطِلَ، بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى نَصَرَهُمْ عِنْدَ الِاسْتِغَاثَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي إِذْ هُوَ قَوْلُهُ: وَيُبْطِلَ الْباطِلَ فَتَكُونُ الْآيَةُ مُتَّصِلَةً بِمَا قَبْلَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مُسْتَأْنَفَةً عَلَى تَقْدِيرِ وَاذْكُرُوا إِذْ تَسْتَغِيثُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِغَاثَةَ كَانَتْ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَنَظَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَإِلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَنَيِّفٌ، اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَمَدَّ يَدَهُ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ» وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ وَرَدَّهُ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ الْتَزَمَهُ ثُمَّ قَالَ: كَفَاكَ يَا نَبِيَّ اللَّه مُنَاشَدَتَكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَمَّا اصْطَفَّتِ/ الْقَوْمُ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: اللَّهُمَّ أَوْلَانَا بِالْحَقِّ فَانْصُرْهُ وَرَفَعَ رَسُولُ اللَّه يَدَهُ بِالدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِغَاثَةَ كَانَتْ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْوَجْهَ الَّذِي لِأَجْلِهِ أَقْدَمَ الرَّسُولُ عَلَى الِاسْتِغَاثَةِ كَانَ حَاصِلًا فِيهِمْ، بَلْ خَوْفُهُمْ كَانَ أَشَدَّ مِنْ خَوْفِ الرَّسُولِ، فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَضَّرَّعَ عَلَى مَا رُوِيَ، وَالْقَوْمُ كَانُوا يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ تَابِعِينَ لَهُ فِي الدُّعَاءِ فِي أَنْفُسِهِمْ فَنَقَلَ دُعَاءَ رَسُولِ اللَّه لِأَنَّهُ رَفَعَ بِذَلِكَ الدُّعَاءِ صَوْتَهُ، وَلَمْ يَنْقُلْ دُعَاءَ الْقَوْمِ، فَهَذَا هُوَ طَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي هَذَا الْبَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ أَيْ تَطْلُبُونَ الْإِغَاثَةَ يَقُولُ الْوَاقِعُ فِي بَلِيَّةٍ أغثني أي فرج عني. [في قوله تعالى أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمُ الِاسْتِغَاثَةَ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَهُمْ. وَقَالَ: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَنِّي مُمِدُّكُمْ أَصْلُهُ بِأَنِّي مُمِدُّكُمْ، فَحَذَفَ الْجَارَّ وَسَلَّطَ عَلَيْهِ اسْتَجَابَ، فَنَصَبَ مَحَلَّهُ، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو: أَنَّهُ قَرَأَ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِالْكَسْرِ عَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ أَوْ عَلَى إِجْرَاءِ اسْتَجَابَ مَجْرَى قَالَ لِأَنَّ الِاسْتِجَابَةَ مِنَ الْقَوْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ مُرْدِفِينَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: مُرْدِفِينَ أَيْ مُتَتَابِعِينَ يَأْتِي بَعْضُهُمْ فِي أَثَرِ بَعْضٍ كَالْقَوْمِ الَّذِينَ أُرْدِفُوا عَلَى الدَّوَابِّ ومُرْدِفِينَ أَيْ فُعِلَ بِهِمْ

[سورة الأنفال (8) : الآيات 11 إلى 13]

ذَلِكَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَرْدَفَ الْمُسْلِمِينَ وَأَيَّدَهُمْ بِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ هَلْ قَاتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ؟ فَقَالَ قَوْمٌ نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي خَمْسِمِائَةِ مَلَكٍ عَلَى الْمَيْمَنَةِ وَفِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَمِيكَائِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ عَلَى الْمَيْسَرَةِ، وَفِيهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي صُورَةِ الرِّجَالِ عَلَيْهِمْ ثِيَابُهُمْ بِيضٌ وَقَاتَلُوا. وَقِيلَ قَاتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَلَمْ يُقَاتِلُوا يَوْمَ الْأَحْزَابِ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ، وَعَنْ أَبِي جَهْلٍ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: مِنْ أَيْنَ كَانَ الصَّوْتُ الَّذِي كُنَّا نَسْمَعُ وَلَا نَرَى شَخْصًا قَالَ هُوَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هُمْ غَلَبُونَا لَا أَنْتُمْ، وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَمَا هُوَ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ من المشركين إذ سمع صوت ضربة بالصوت فَوْقَهُ فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ وَقَدْ خَرَّ مُسْتَلْقِيًا وَقَدْ شُقَّ وَجْهُهُ فَحَدَّثَ الْأَنْصَارِيُّ رَسُولَ اللَّه فَقَالَ صَدَقْتَ. ذَاكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يُقَاتِلُوا وَإِنَّمَا كَانُوا يُكَثِّرُونَ السَّوَادَ وَيُثَبِّتُونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِلَّا فَمَلَكٌ وَاحِدٌ كَافٍ فِي إِهْلَاكِ الدُّنْيَا كُلِّهَا فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَهْلَكَ بِرِيشَةٍ مِنْ جَنَاحِهِ مَدَائِنَ قَوْمِ لُوطٍ وَأَهْلَكَ بِلَادَ ثَمُودَ وَقَوْمَ صَالِحٍ بِصَيْحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا الْإِمْدَادِ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ آلَ عِمْرَانَ بِالِاسْتِقْصَاءِ/ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَا نَزَلُوا لِلْقِتَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى قَالَ الْفَرَّاءُ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْإِرْدَافِ وَالتَّقْدِيرُ: مَا جَعَلَ اللَّه الْإِرْدَافَ إِلَّا بُشْرَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَا جَعَلَ اللَّه الْمُرْدِفِينَ إِلَّا بُشْرَى، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الْإِمْدَادَ بِالْمَلَائِكَةِ حَصَلَ بِالْبُشْرَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الْعَرِيشِ قَاعِدًا يَدْعُو، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ قَاعِدًا عَنْ يَمِينِهِ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، فَخَفَقَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَفْسِهِ نَعِسًا، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَمِينِهِ عَلَى فَخْذِ أَبِي بَكْرٍ وَقَالَ: «أَبْشِرْ بِنَصْرِ اللَّه وَلَقَدْ رَأَيْتُ فِي مَنَامِي جِبْرِيلَ يَقْدَمُ الْخَيْلَ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا غَرَضَ مِنْ إِنْزَالِهِمْ إِلَّا حُصُولُ هَذِهِ الْبُشْرَى، وَذَلِكَ يَنْفِي إِقْدَامَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَإِنْ كَانُوا قَدْ نَزَلُوا فِي مُوَافَقَةِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَّا أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يَعْتَمِدَ عَلَى ذَلِكَ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ اعْتِمَادُهُ عَلَى إِغَاثَةِ اللَّه وَنَصْرِهِ وَهِدَايَتِهِ وَكِفَايَتِهِ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّه هُوَ الْعَزِيزُ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يُغْلَبُ، وَالْقَاهِرُ الَّذِي لَا يُقْهَرُ، وَالْحَكِيمُ فِيمَا يُنْزِلُ مِنَ من النصرة فيضعها في موضعها. [سورة الأنفال (8) : الآيات 11 الى 13] إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِذْ مَوْضِعُهَا نَصْبٌ عَلَى مَعْنَى وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى [آل عمران: 126] / فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: اذْكُرُوا إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي يُغَشِّيكُمُ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ: الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَسُكُونِ الْغَيْنِ، وَتَخْفِيفِ الشِّينِ النُّعاسَ بِالنَّصْبِ. الثَّانِيَةُ: يَغْشَاكُمْ بِالْأَلِفِ وَفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ النُّعَاسُ بِالرَّفْعِ وَهِيَ قِرَاءَةُ

أَبِي عَمْرٍو وَابْنِ كَثِيرٍ. الثَّالِثَةُ: قَرَأَ الْبَاقُونَ يُغَشِّيكُمُ بِتَشْدِيدِ الشِّينِ وَضَمِّ الْيَاءِ مِنَ التَّغْشِيَةِ النُّعاسَ بِالنَّصْبِ، أَيْ يُلْبِسَكُمُ النَّوْمَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْقِرَاءَةُ الْأُولَى مِنْ أَغْشَى، وَالثَّانِيَةُ مِنْ غَشِيَ، وَالثَّالِثَةُ مِنْ غَشَّى فَمَنْ قَرَأَ (يَغْشَاكُمْ) فَحُجَّتُهُ قوله: أَمَنَةً نُعاساً يَعْنِي: فَكَمَا أَسْنَدَ الْفِعْلَ هُنَاكَ إِلَى النُّعَاسِ وَالْأَمَنَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ النُّعَاسِ كَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ قَرَأَ يُغَشِّيكُمُ أَوْ يُغَشِّيكُمُ فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَقَدْ جَاءَ التَّنْزِيلُ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ [يس: 9] وَقَالَ: فَغَشَّاها مَا غَشَّى [النَّجْمِ: 54] وَقَالَ: كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ [يُونُسَ: 27] وَعَلَى هَذَا فَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى اللَّه. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ اسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ وَوَعَدَهُمْ بِالنَّصْرِ فَقَالَ: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ذَكَرَ عَقِيبَهُ وُجُوهَ النَّصْرِ وَهِيَ سِتَّةُ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ أَيْ مِنْ قِبَلِ اللَّه، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ نَوْمٍ وَنُعَاسٍ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى فَتَخْصِيصُ هَذَا النُّعَاسِ بِأَنَّهُ مِنَ اللَّه تَعَالَى لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مَزِيدِ فَائِدَةٍ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الْخَائِفَ إِذَا خَافَ مِنْ عَدُوِّهِ الْخَوْفَ الشَّدِيدَ عَلَى نفسه وأهله فإنه لا يؤخذه النَّوْمُ، وَإِذَا نَامَ الْخَائِفُونَ أَمِنُوا، فَصَارَ حُصُولُ النَّوْمِ لَهُمْ فِي وَقْتِ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ يَدُلُّ عَلَى إِزَالَةِ الْخَوْفِ وَحُصُولِ الْأَمْنِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ خَافُوا مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ. أَحَدُهَا: قِلَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةُ الْكُفَّارِ. وَثَانِيهَا: الْأُهْبَةُ وَالْآلَةُ وَالْعُدَّةُ لِلْكَافِرِينَ وَقِلَّتُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ. وَثَالِثُهَا: الْعَطَشُ الشَّدِيدُ فَلَوْلَا حُصُولُ هَذَا النُّعَاسِ وَحُصُولُ الِاسْتِرَاحَةِ حَتَّى تَمَكَّنُوا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنَ الْقِتَالِ لَمَا تَمَّ الظَّفَرُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي بَيَانِ كَوْنِ ذَلِكَ النُّعَاسِ نِعْمَةً فِي حَقِّهِمْ، أَنَّهُمْ مَا نَامُوا نَوْمًا غرقاً يتمكن العدو من معاقصتهم بَلْ كَانَ ذَلِكَ نُعَاسًا يَحْصُلُ لَهُمْ زَوَالُ الأعيان وَالْكَلَالِ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا بِحَيْثُ لَوْ قَصَدَهُمُ الْعَدُوُّ لَعَرَفُوا وُصُولَهُ وَلَقَدَرُوا عَلَى دَفْعِهِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ غَشِيَهُمْ هَذَا النُّعَاسُ دُفْعَةً وَاحِدَةً مَعَ كَثْرَتِهِمْ، وَحُصُولُ النُّعَاسِ لِلْجَمْعِ الْعَظِيمِ فِي الْخَوْفِ الشَّدِيدِ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ. فَلِهَذَا السَّبَبِ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ النُّعَاسَ كَانَ فِي حُكْمِ الْمُعْجِزِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ فَلِمَ خَافُوا بَعْدَ ذَلِكَ النُّعَاسِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَجْعَلُ جُنْدَ الْإِسْلَامِ مُظَفَّرًا مَنْصُورًا وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ صَيْرُورَةِ قَوْمٍ مِنْهُمْ مَقْتُولِينَ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا قُرِئَ يُغَشِّيكُمُ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ وَنَصَبَ النُّعاسَ فَالضَّمِيرُ للَّه عز وجل وأَمَنَةً/ مَفْعُولٌ لَهُ. أَمَّا إِذَا قُرِئَ (يَغْشَاكُمُ النُّعَاسُ) فَكَيْفَ يُمْكِنُ جَعْلُ قَوْلِهِ: أَمَنَةً مَفْعُولًا لَهُ، مَعَ أَنَّ الْمَفْعُولَ لَهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فعلًا لفاعل الفعل المعلل؟ قلنا: قوله: يُغَشِّيكُمُ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مُسْنَدًا إِلَى النُّعَاسِ، إِلَّا أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ مُسْنَدٌ إِلَى اللَّه تَعَالَى، فَصَحَّ هَذَا التَّعْلِيلُ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقُرِئَ أَمَنَةً بِسُكُونِ الْمِيمِ، ونظير أمن أمنة، حي حَيَاةً، وَنَظِيرُ أَمِنَ أَمَنَةً، رَحِمَ رَحْمَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النُّعَاسُ فِي الْقِتَالِ أَمَنَةٌ مِنَ اللَّه، وفي الصلاة وسوسة من الشيطان. [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ] النَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ أَنْوَاعِ نِعَمِ اللَّه تَعَالَى الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلَا شُبْهَةَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمَطَرُ، وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ الْقَوْمَ سبقوا إلى

مَوْضِعِ الْمَاءِ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ، وَطَمِعُوا لِهَذَا السَّبَبِ أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الْغَلَبَةُ، وَعَطِشَ الْمُؤْمِنُونَ وَخَافُوا، وَأَعْوَزَهُمُ الْمَاءُ لِلشُّرْبِ وَالطَّهَارَةِ، وَأَكْثَرُهُمُ احْتَلَمُوا وَأَجْنَبُوا، وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ كَانَ رَمْلًا تَغُوصُ فِيهِ الْأَرْجُلُ وَيَرْتَفِعُ مِنْهُ الْغُبَارُ الْكَثِيرُ، وَكَانَ الْخَوْفُ حَاصِلًا فِي قُلُوبِهِمْ، بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْعَدُوِّ وَسَبَبِ كَثْرَةِ آلَاتِهِمْ وَأَدَوَاتِهِمْ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ الْمَطَرَ صَارَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى حُصُولِ النُّصْرَةِ وَالظَّفَرِ، وَعَظُمَتِ النِّعْمَةُ بِهِ مِنْ جِهَاتٍ: أَحَدُهَا: زَوَالُ الْعَطَشِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ حَفَرُوا مَوْضِعًا فِي الرَّمْلِ، فَصَارَ كَالْحَوْضِ الْكَبِيرِ، وَاجْتَمَعَ فِيهِ الْمَاءُ حَتَّى شَرِبُوا مِنْهُ وَتَطَهَّرُوا وَتَزَوَّدُوا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمُ اغْتَسَلُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، وَزَالَتِ الْجَنَابَةُ عَنْهُمْ، وَقَدْ عُلِمَ بِالْعَادَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَكَادُ يَسْتَقْذِرُ نَفْسَهُ إِذَا كَانَ جُنُبًا، وَيَغْتَمُّ إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الِاغْتِسَالِ وَيَضْطَرِبُ قَلْبُهُ لِأَجْلِ هَذَا السَّبَبِ فَلَا جَرَمَ عَدَّ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ تَمْكِينَهُمْ مِنَ الطَّهَارَةِ مِنْ جُمْلَةِ نِعَمِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا عَطِشُوا وَلَمْ يَجِدُوا الْمَاءَ ثُمَّ نَامُوا وَاحْتَلَمُوا تَضَاعَفَتْ حَاجَتُهُمْ إِلَى الْمَاءِ ثُمَّ إِنَّ الْمَطَرَ نَزَلَ فَزَالَتْ عَنْهُمْ تِلْكَ الْبَلِيَّةُ وَالْمِحْنَةُ وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ. وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَا قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى زَوَالِ الْعُسْرِ وَحُصُولِ الْيُسْرِ وَالْمَسَرَّةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الِاحْتِلَامُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ. الثَّانِي: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا نَزَلُوا عَلَى الْمَاءِ، وَسْوَسَ الشَّيْطَانُ إِلَيْهِمْ وَخَوَّفَهُمْ مِنَ الْهَلَاكِ، فَلَمَّا نَزَلَ الْمَطَرُ زَالَتْ تِلْكَ الْوَسْوَسَةُ، رُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا نَامُوا وَاحْتَلَمَ أَكْثَرُهُمْ، تَمَثَّلَ لَهُمْ إِبْلِيسُ وَقَالَ أَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنْتُمْ تُصَلُّونَ عَلَى الْجَنَابَةِ، وَقَدْ عَطِشْتُمْ وَلَوْ كُنْتُمْ عَلَى الْحَقِّ لَمَا غَلَبُوكُمْ عَلَى الْمَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى الْمَطَرَ حَتَّى جَرَى الْوَادِي وَاتَّخَذَ الْمُسْلِمُونَ حِيَاضًا وَاغْتَسَلُوا وَتَلَبَّدَ الرَّمْلُ حَتَّى ثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْأَقْدَامُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ رِجْزِ الشَّيْطَانِ سَائِرُ مَا يَدْعُو الشَّيْطَانُ إِلَيْهِ مِنْ مَعْصِيَةٍ وَفَسَادٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ أَوْلَى؟ قُلْنَا: قَوْلُهُ: لِيُطَهِّرَكُمْ مَعْنَاهُ لِيُزِيلَ الْجَنَابَةَ عَنْكُمْ، فَلَوْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ: وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ عَلَى الْجَنَابَةِ لَزِمَ مِنْهُ التَّكْرِيرُ وَأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ فَيُقَالَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لِيُطَهِّرَكُمْ حُصُولُ الطَّهَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ إِزَالَةُ جَوْهَرِ الْمَنِيِّ عن أعضائهم فإنه شيء مستخبث، ثم تقول: حَمْلُهُ عَلَى إِزَالَةِ أَثَرِ الِاحْتِلَامِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى إِزَالَةِ الْوَسْوَسَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْمَاءِ فِي إِزَالَةِ الْعَيْنِ عَنِ الْعُضْوِ تَأْثِيرٌ حَقِيقِيٌّ أَمَّا تَأْثِيرُهُ فِي إِزَالَةِ الْوَسْوَسَةِ عَنِ الْقَلْبِ فَتَأْثِيرٌ مَجَازِيٌّ وَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ، وَاعْلَمْ أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمَنِيَّ رِجْزُ الشَّيْطَانِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِكَوْنِهِ نَجِسًا مُطْلَقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر: 5] . [في قوله تعالى وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ] النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ النِّعَمِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّ بِسَبَبِ نُزُولِ هَذَا الْمَطَرِ قَوِيَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَالَ الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ عَنْهُمْ، وَمَعْنَى الرَّبْطِ فِي اللُّغَةِ الشَّدُّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تعالى: وَرابِطُوا [آل عمران: 200] وَيُقَالُ لِكُلِّ مَنْ صَبَرَ عَلَى أَمْرٍ، رَبَطَ قَلْبَهُ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ حَبَسَ قَلْبَهُ عَنْ أَنْ يَضْطَرِبَ يُقَالُ: رَجُلٌ رَابِطٌ أَيْ حَابِسٌ. قَالَ الواحدي: ويشبه أن يكون (على) هاهنا صِلَةٌ وَالْمَعْنَى- وَلِيَرْبِطَ قُلُوبَكُمْ بِالنَّصْرِ- وَمَا وَقَعَ مِنْ تَفْسِيرِهِ يُشْبِهُ أَنْ لَا يَكُونَ صِلَةً لِأَنَّ كَلِمَةَ (عَلَى) تُفِيدُ الِاسْتِعْلَاءَ. فَالْمَعْنَى أَنَّ الْقُلُوبَ امْتَلَأَتْ مِنْ ذَلِكَ الرَّبْطِ حَتَّى كَأَنَّهُ علا عليها وارتفع فوقها. [في قوله تعالى وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ] والنوع الرابع: من النعم المذكورة هاهنا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ

ذَلِكَ الْمَطَرَ لَبَّدَ ذَلِكَ الرَّمْلَ وَصَيَّرَهُ بِحَيْثُ لَا تَغُوصُ أَرْجُلُهُمْ فِيهِ، فَقَدَرُوا عَلَى الْمَشْيِ عَلَيْهِ كَيْفَ أَرَادُوا، وَلَوْلَا هَذَا الْمَطَرُ لَمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بِهِ عَائِدٌ إِلَى الْمَطَرِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ رَبْطَ قُلُوبِهِمْ أَوْجَبَ ثَبَاتَ أَقْدَامِهِمْ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ قَلْبُهُ ضَعِيفًا فَرَّ وَلَمْ يَقِفْ، فَلَمَّا قَوَّى اللَّه تَعَالَى قُلُوبَهُمْ لَا جَرَمَ ثَبَّتَ أَقْدَامَهُمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بِهِ عَائِدٌ إِلَى الرَّبْطِ. وَثَالِثُهَا: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ الْمَطَرُ حَصَلَ لِلْكَافِرِينَ ضِدُّ مَا حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي نَزَلَ الْكُفَّارُ فِيهِ كَانَ مَوْضِعَ التُّرَابِ وَالْوَحْلِ، فَلَمَّا نَزَلَ الْمَطَرُ عَظُمَ الْوَحْلُ، فَصَارَ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُمْ مِنَ الْمَشْيِ كَيْفَمَا أَرَادُوا فَقَوْلُهُ: وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ يَدُلُّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ عَلَى أَنَّ حَالَ الْأَعْدَاءِ كَانَتْ بِخِلَافِ ذَلِكَ. [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا] النوع الخامس: من النعم المذكورة هاهنا قَوْلُهُ: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِذْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ/ الْأَقْدَامَ حَالَ مَا يُوحِي إِلَى الملائكة بكذا وكذا، ويجوز أيضاً أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ اذْكُرُوا. الثَّانِي: قَوْلُهُ: أَنِّي مَعَكُمْ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ المراد أنه تعالى أوحى إلى الملائكة بأنه تعالى معهم أي مع الملائكة حال ما أرسلهم ردأ للمسلمين. والثاني: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فَانْصُرُوهُمْ وَثَبِّتُوهُمْ، وَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِزَالَةُ التَّخْوِيفِ وَالْمَلَائِكَةُ مَا كَانُوا يَخَافُونَ الْكُفَّارَ، وَإِنَّمَا الْخَائِفُ هُمُ الْمُسْلِمُونَ. ثُمَّ قَالَ: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّثْبِيتِ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ عَرَّفُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّه نَاصِرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالرَّسُولُ عَرَّفَ الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ، فَهَذَا هُوَ التَّثْبِيتُ وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّيْطَانَ كَمَا يُمْكِنُهُ إِلْقَاءُ الْوَسْوَسَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ، فَكَذَلِكَ الْمَلَكُ يُمْكِنُهُ إِلْقَاءُ الْإِلْهَامِ إِلَيْهِ فَهَذَا هُوَ التَّثْبِيتُ فِي هَذَا الْبَابِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا يَتَشَبَّهُونَ بِصُوَرِ رِجَالٍ مِنْ مَعَارِفِهِمْ وَكَانُوا يَمُدُّونَهُمْ بِالنَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَالظَّفَرِ. [في قوله تعالى سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] وَالنَّوْعُ السَّادِسُ: مِنَ النِّعَمِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ وَهَذَا مِنَ النِّعَمِ الْجَلِيلَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَمِيرَ النَّفْسِ هُوَ الْقَلْبُ فَلَمَّا بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ رَبَطَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَوَّاهَا وَأَزَالَ الْخَوْفَ عَنْهَا ذَكَرَ أَنَّهُ أَلْقَى الرُّعْبَ وَالْخَوْفَ فِي قُلُوبِ الْكَافِرِينَ فَكَانَ ذَلِكَ من أعظم نعم اللَّه تعالى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَمْرٌ لِلْمَلَائِكَةِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَثَبِّتُوا وَقِيلَ: بَلْ أَمْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ لِأَجْلِ الْمُقَاتَلَةِ وَالْمُحَارَبَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعُ مُوجِبَاتِ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ، فَعِنْدَ هَذَا أَمَرَهُمْ بِمُحَارَبَتِهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَا فَوْقَ الْعُنُقِ هُوَ الرَّأْسُ، فَكَانَ هَذَا أَمْرًا بِإِزَالَةِ الرَّأْسِ عَنِ الْجَسَدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ أَيْ فَاضْرِبُوا الْأَعْنَاقَ. ثُمَّ قَالَ: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ يَعْنِي الْأَطْرَافَ مِنَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ المراد أن يضربوهم كما شاؤوا، لِأَنَّ مَا فَوْقَ الْعُنُقِ هُوَ الرَّأْسُ، وَهُوَ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ، وَالْبَنَانُ عِبَارَةٌ عَنْ أَضْعَفِ الْأَعْضَاءِ، فَذَكَرَ الْأَشْرَفَ وَالْأَخَسَّ تَنْبِيهًا عَلَى كُلِّ الْأَعْضَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْمُرَادُ إِمَّا الْقَتْلُ، وَهُوَ ضَرْبُ مَا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ أَوْ قَطْعُ الْبَنَانِ، لِأَنَّ الْأَصَابِعَ هِيَ الْآلَاتُ فِي أَخْذِ السُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ وَسَائِرِ الْأَسْلِحَةِ، فَإِذَا قَطَعَ بَنَانَهُمْ عَجَزُوا عَنِ الْمُحَارَبَةِ.

[سورة الأنفال (8) : آية 14]

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْوُجُوهَ الكثيرة من النعم على المسلمين. قال: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا/ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَلْقَاهُمْ فِي الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّه وَرَسُولَهُ. قَالَ الزجاج: اقُّوا جَانَبُوا، وَصَارُوا فِي شِقٍّ غَيْرِ شِقِّ الْمُؤْمِنِينَ، والشق الجانب واقُّوا اللَّهَ مَجَازٌ، وَالْمَعْنَى: شَاقُّوا أَوْلِيَاءَ اللَّه، وَدِينَ اللَّه. ثم قال: مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ يَعْنِي أَنَّ هَذَا الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ شَيْءٌ قَلِيلٌ مِمَّا أَعَدَّهُ اللَّه لَهُمْ مِنَ الْعِقَابِ فِي الْقِيَامَةِ، وَالْمَقْصُودُ منه الزجر عن الكفر والتهديد عليه. [سورة الأنفال (8) : آية 14] ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ: ذلِكُمْ رُفِعَ لكونه خبر لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: الْأَمْرُ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذلِكُمْ ابْتِدَاءً، وَقَوْلُهُ: فَذُوقُوهُ خَبَرٌ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ لَا يَكُونُ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدَأُ اسْمًا مَوْصُولًا أَوْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، نَحْوَ: الَّذِي يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ، وَكُلُّ رَجُلٍ فِي الدَّارِ فَمُكْرَمٌ. أَمَّا أَنْ يُقَالَ: زَيْدٌ فَمُنْطَلِقٌ، فَلَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ نَجْعَلَ زَيْدًا خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: هَذَا زَيْدٌ فَمُنْطَلِقٌ، أَيْ فَهُوَ مُنْطَلِقٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ مَنْ يُشَاقِقِ اللَّه وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّه شَدِيدُ الْعِقَابِ، بَيَّنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ صِفَةَ عِقَابِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُعَجَّلًا فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ يَكُونُ مُؤَجَّلًا فِي الْآخِرَةِ، وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَهُوَ الْمُعَجَّلُ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمُؤَجَّلِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ ذَوْقًا، لِأَنَّ الذَّوْقَ لَا يَكُونُ إِلَّا تَعَرُّفَ طَعْمِ الْيَسِيرِ لِيُعْرَفَ بِهِ حَالُ الْكَثِيرِ، فَعَاجِلُ مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْآلَامِ فِي الدُّنْيَا كَالذَّوْقِ الْقَلِيلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الْمُعَدِّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ: فَذُوقُوهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذَّوْقَ يَحْصُلُ بِطَرِيقٍ آخَرَ سِوَى إِدْرَاكِ الطُّعُومِ الْمَخْصُوصَةِ، وَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدُّخَانِ: 49] وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: «أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الذَّوْقِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِطَرِيقٍ رُوحَانِيٍّ مُغَايِرٍ لِلطَّرِيقِ الجسماني. [سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 16] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَصْلُ الزَّحْفِ لِلصَّبِيِّ، وَهُوَ أَنْ يَزْحَفَ عَلَى إِسْتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ، وَشَبَّهَ بِزَحْفِ الصَّبِيِّ مَشْيَ الطَّائِفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَذْهَبُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبَتِهَا لِلْقِتَالِ، فَيَمْشِي كُلُّ فِئَةٍ مَشْيًا رُوَيْدًا إِلَى الْفِئَةِ الأخرى قبل التدني لِلضِّرَابِ. قَالَ ثَعْلَبٌ: الزَّحْفُ الْمَشْيُ قَلِيلًا قَلِيلًا إِلَى الشَّيْءِ، وَمِنْهُ الزِّحَافُ فِي الشِّعْرِ يَسْقُطُ مِمَّا بَيْنَ حَرْفَيْنِ. حَرْفٌ فَيَزْحَفُ أَحَدُهُمَا إِلَى الآخر.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً أَيْ مُتَزَاحِفِينَ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا لِلْكُفَّارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا لِلْمُخَاطَبِينَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَالزَّحْفُ مَصْدَرٌ مَوْصُوفٌ بِهِ كَالْعَدْلِ وَالرِّضَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ، وَالْمَعْنَى: إِذَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِلْقِتَالِ، فَلَا تَنْهَزِمُوا، وَمَعْنَى فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ أَيْ لَا تَجْعَلُوا ظُهُورَكُمْ مِمَّا يَلِيهِمْ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنْ هَذَا الِانْهِزَامِ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الِانْهِزَامَ مُحَرَّمٌ إِلَّا فِي حَالَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّفًا لِلْقِتَالٍ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يُخَيِّلَ إِلَى عَدُوِّهِ أَنَّهُ مُنْهَزِمٌ. ثُمَّ يَنْعَطِفُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَحَدُ أَبْوَابِ خُدَعِ الْحَرْبِ وَمَكَايِدِهَا، يُقَالُ: تَحَرَّفَ وَانْحَرَفَ إِذَا زَالَ عَنْ جِهَةِ الِاسْتِوَاءِ. وَالثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: التَّحَيُّزُ التَّنَحِّي وَفِيهِ لُغَتَانِ: التَّحَيُّزُ وَالتَّحَوُّزُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا الْحَوْزُ، وَهُوَ الْجَمْعُ. يُقَالُ: حُزْتُهُ فَانْحَازَ وَتَحَوَّزَ وَتَحَيَّزَ إِذَا انْضَمَّ وَاجْتَمَعَ، ثُمَّ سُمِّيَ التَّنَحِّي تَحَيُّزًا، لِأَنَّ الْمُتَنَحِّيَ عَنْ جَانِبٍ يَنْفَصِلُ عَنْهُ وَيَمِيلُ إِلَى غَيْرِهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْفِئَةُ الْجَمَاعَةُ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْمُتَحَيِّزُ كَالْمُنْفَرِدِ، وَفِي الْكُفَّارِ كَثْرَةٌ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّ ذَلِكَ الْمُنْفَرِدِ أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ قُتِلَ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَإِنْ تَحَيَّزَ إِلَى جَمْعٍ كَانَ رَاجِيًا لِلْخَلَاصِ، وَطَامِعًا فِي الْعَدُوِّ بِالْكَثْرَةِ، فَرُبَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ التَّحَيُّزُ إِلَى هَذِهِ الْفِئَةِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَائِزًا/ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِانْهِزَامَ مِنَ الْعَدُوِّ حَرَامٌ إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّه وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْقَاضِي بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْقَطْعِ بِوَعِيدِ الْفُسَّاقِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنِ انْهَزَمَ إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ اسْتَوْجَبَ غَضَبَ اللَّه وَنَارَ جَهَنَّمَ. قَالَ وَلَيْسَ لِلْمُرْجِئَةِ أَنْ يَحْمِلُوا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْكُفَّارِ دُونَ أَهْلِ الصَّلَاةِ، كَصُنْعِهِمْ فِي سَائِرِ آيَاتِ الْوَعِيدِ، لِأَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الصَّلَاةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الظَّوَاهِرِ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَيْضًا أَنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِعُمُومَاتِ الْوَعْدِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ التَّرْجِيحَ بِجَانِبِ عُمُومَاتِ الْوَعْدِ مِنَ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ هَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِيَوْمِ بَدْرٍ أَوْ هُوَ حَاصِلٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَنُقِلَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُخْتَصٌّ بِمَنْ كَانَ انْهَزَمَ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالُوا: وَالسَّبَبُ فِي اخْتِصَاصِ يَوْمِ بَدْرٍ بِهَذَا الْحُكْمِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَاضِرًا يَوْمَ بَدْرٍ وَمَعَ حُضُورِهِ لَا يُعَدُّ غَيْرُهُ فِيهِ، إِمَّا لِأَجْلِ أَنَّهُ لَا يُسَاوَى بِهِ سَائِرُ الْفِئَاتِ. بَلْ هُوَ أَشْرَفُ وَأَعْلَى مِنَ الْكُلِّ، وَإِمَّا لِأَجْلِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَعَدَهُ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ التَّحَيُّزُ إِلَى فِئَةٍ أُخْرَى. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ الْجِهَادِ وَلَوِ اتَّفَقَ لِلْمُسْلِمِينَ انْهِزَامٌ فِيهِ، لَزِمَ مِنْهُ الْخَلَلُ الْعَظِيمُ، فَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِمُ التَّشَدُّدُ وَالْمُبَالَغَةُ، وَلِهَذَا السَّبَبِ مَنَعَ اللَّه فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ أَخْذِ الْفِدَاءِ مِنَ الْأَسْرَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْحُرُوبِ، بِدَلِيلِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يا

[سورة الأنفال (8) : آية 17]

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا عام فيتناول جميع الصور، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ نَزَلَ فِي وَاقِعَةِ بَدْرٍ، لَكِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ جَوَازَ التَّحَيُّزِ إِلَى فِئَةٍ هَلْ يُحْظَرُ إِذَا كَانَ الْعَسْكَرُ عَظِيمًا أَوْ إِنَّمَا يَثْبُتُ إِذَا كَانَ فِي الْعَسْكَرِ خِفَّةٌ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا عَظُمَ الْعَسْكَرُ فَلَيْسَ لَهُمْ هَذَا التَّحَيُّزُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْكُلُّ سَوَاءٌ، وَهَذَا أَلْيَقُ بِالظَّاهِرِ لأنه لم يفصل. [سورة الأنفال (8) : آية 17] فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ مُجَاهِدٌ: اخْتَلَفُوا يَوْمَ بَدْرٍ. فَقَالَ: هَذَا أَنَا قَتَلْتُ. وَقَالَ الْآخَرُ أَنَا قَتَلْتُ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْكَسْرَةَ الْكَبِيرَةَ لَمْ تَحْصُلْ مِنْكُمْ، وَإِنَّمَا حَصَلَتْ بِمَعُونَةِ اللَّه رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا طَلَعَتْ قُرَيْشٌ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ قُرَيْشٌ، قَدْ جَاءَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا يُكَذِّبُونَ رَسُولَكَ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مَا وَعَدْتَنِي» فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَقَالَ: خُذْ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَارْمِهِمْ بِهَا، فَلَمَّا الْتَقَى الْجَمْعَانِ قَالَ لِعَلِيٍّ أَعْطِنِي قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ مِنْ حَصْبَاءِ الْوَادِي، فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِهِمْ، وَقَالَ شَاهَتِ الْوُجُوهُ، فَلَمْ يَبْقَ مُشْرِكٌ إِلَّا شُغِلَ بِعَيْنِهِ فَانْهَزَمُوا. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ إِنِ افْتَخَرْتُمْ بِقَتْلِهِمْ فَأَنْتُمْ لَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّه قَتَلَهُمْ. ثُمَّ قَالَ: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى يَعْنِي أَنَّ الْقَبْضَةَ مِنَ الْحَصْبَاءِ الَّتِي رَمَيْتَهَا، فَأَنْتَ مَا رَمَيْتَهَا فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ رَمْيَكَ لَا يَبْلُغُ أَثَرُهُ إِلَّا مَا يَبْلُغُهُ رَمْيُ سَائِرِ الْبَشَرِ، وَلَكِنَّ اللَّه رَمَاهَا حَيْثُ نَفَّذَ أَجْزَاءَ ذَلِكَ التُّرَابِ وَأَوْصَلَهَا إِلَى عُيُونِهِمْ، فَصُورَةُ الرَّمْيَةِ صَدَرَتْ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَثَرُهَا إِنَّمَا صَدَرَ مِنَ اللَّه، فَلِهَذَا الْمَعْنَى صَحَّ فِيهِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ للَّه عالى، وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ جُرِحُوا، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ حُدُوثَ تِلْكَ الْأَفْعَالِ إِنَّمَا حَصَلَ مِنَ اللَّه. وَأَيْضًا قَوْلُهُ: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ أَثْبَتَ كَوْنَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَامِيًا، وَنَفَى عَنْهُ كَوْنَهُ رَامِيًا، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ رَمَاهُ كَسْبًا وَمَا رَمَاهُ خَلْقًا. فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَتْلَ الْكُفَّارِ إِنَّمَا تَيَسَّرَ بِمَعُونَةِ اللَّه وَنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ، فَصَحَّتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ. الثَّانِي: أَنَّ الْجُرْحَ كَانَ إِلَيْهِمْ، وَإِخْرَاجُ الرُّوحِ كَانَ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَمْ تُمِيتُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّه أَمَاتَهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى قَالَ الْقَاضِي فِيهِ أَشْيَاءُ: مِنْهَا أَنَّ الرَّمْيَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تُوجِبُ وُصُولَ التُّرَابِ إِلَى عُيُونِهِمْ، وَكَانَ إِيصَالُ أَجْزَاءِ التُّرَابِ إِلَى عُيُونِهِمْ لَيْسَ إِلَّا بِإِيصَالِ اللَّه تَعَالَى، وَمِنْهَا أَنَّ التُّرَابَ الَّذِي رَمَاهُ كَانَ قَلِيلًا، فَيَمْتَنِعُ وَصُولُ ذَلِكَ الْقَدْرِ إِلَى عُيُونِ الْكُلِّ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى ضَمَّ إِلَيْهَا أَشْيَاءَ أُخَرَ مِنْ أَجْزَاءِ التُّرَابِ وَأَوْصَلَهَا إِلَى عُيُونِهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّ عِنْدَ رَمْيَتِهِ أَلْقَى اللَّه تَعَالَى الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَكَانَ الْمُرَادُ

[سورة الأنفال (8) : الآيات 18 إلى 19]

مِنْ قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى رَمَى قُلُوبَهُمْ بِذَلِكَ الرُّعْبِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ، وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ. فَإِنْ قَالُوا: الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ تَمْنَعُ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ للَّه تَعَالَى. فَنَقُولُ: هَيْهَاتَ فَإِنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ فِي جَانِبِنَا وَالْبَرَاهِينَ النَّقْلِيَّةَ قَائِمَةٌ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا، فَلَا يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَعْدِلُوا عَنِ الظَّاهِرِ إِلَى الْمَجَازِ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ... وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى بِتَخْفِيفِ وَلَكِنْ وَرَفْعِ مَا بَعْدَهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَذَ قَبْضَةً مِنَ الْحَصْبَاءِ، وَرَمَى بِهَا وُجُوهَ الْقَوْمِ وَقَالَ شَاهَتِ الْوُجُوهُ، فَلَمْ يَبْقَ مُشْرِكٌ إِلَّا وَدَخَلَ فِي عَيْنَيْهِ وَمَنْخَرَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ، فَكَانَتْ تِلْكَ الرَّمْيَةُ سَبَبًا لِلْهَزِيمَةِ، وَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ خَيْبَرَ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَذَ قَوْسًا وَهُوَ عَلَى بَابِ خَيْبَرَ. فَرَمَى سَهْمًا. فَأَقْبَلَ السَّهْمُ حَتَّى قَتَلَ ابْنَ أَبِي الْحَقِيقِ، وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ، فَنَزَلَتْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ أُحُدٍ فِي قَتْلِ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَظْمٍ رَمِيمٍ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ مَنْ يُحْيِي هَذَا وَهُوَ رَمِيمٌ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُحْيِيهِ اللَّه ثُمَّ يُمِيتُكَ ثُمَّ يُحْيِيكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ النَّارَ فَأُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمَّا افْتُدِيَ. قَالَ لِرَسُولِ اللَّه إِنَّ عِنْدِي فَرَسًا أَعْتَلِفُهَا كُلَّ يَوْمٍ فَرْقًا مِنْ ذُرَةٍ، كَيْ أَقْتُلَكَ عَلَيْهَا. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ إن شاء اللَّه» فلما كان يوم أُحُدٌ أَقْبَلَ أُبَيٌّ يَرْكُضُ عَلَى ذَلِكَ الْفَرَسِ حَتَّى دَنَا مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَاعْتَرَضَ لَهُ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَقْتُلُوهُ. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اسْتَأْخِرُوا» وَرَمَاهُ بِحَرْبَةٍ فَكَسَرَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ، فَحُمِلَ فَمَاتَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَفِي ذَلِكَ نَزَلَتِ الْآيَةُ وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، وَإِلَّا لَدَخَلَ فِي أَثْنَاءِ الْقِصَّةِ كَلَامٌ أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بَلْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَهُ سَائِرُ الْوَقَائِعِ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً فَهَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى / وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْبَلَاءِ الْإِنْعَامُ، أَيْ يُنْعِمُ عَلَيْهِمْ نِعْمَةً عَظِيمَةً بِالنُّصْرَةِ وَالْغَنِيمَةِ وَالْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، قَالَ الْقَاضِي: وَلَوْلَا أَنَّ المفسرين اتفقوا على حمل الابتلاء هاهنا عَلَى النِّعْمَةِ، وَإِلَّا لَكَانَ يَحْتَمِلُ الْمِحْنَةَ بِالتَّكْلِيفِ فِيمَا بَعْدَهُ مِنَ الْجِهَادِ، حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ الَّذِي فَعَلَهُ تَعَالَى يَوْمَ بَدْرٍ، كَانَ السَّبَبَ فِي حُصُولِ تَكْلِيفٍ شَاقٍّ عَلَيْهِمْ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْغَزَوَاتِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ هَذَا بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ سَمِيعٌ لِكَلَامِكُمْ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِ قُلُوبِكُمْ، وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّحْذِيرِ وَالتَّرْهِيبِ، لِئَلَّا يَغْتَرَّ الْعَبْدُ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ، وَيَعْلَمَ أَنَّ الْخَالِقَ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى كل ما في الضمائر والقلوب. [سورة الأنفال (8) : الآيات 18 الى 19] ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) [في قَوْلُهُ تَعَالَى ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو مُوَهِّنُ بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ مِنَ التَّوْهِينِ كَيْدِ بِالنَّصْبِ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ مُوهِنُ كَيْدِ بِالْإِضَافَةِ، وَالْبَاقُونَ مُوهِنُ بِالتَّخْفِيفِ كَيْدِ بِالنَّصْبِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: كاشِفاتُ ضُرِّهِ [الزُّمَرِ: 38] بِالتَّنْوِينِ وَبِالْإِضَافَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ وَمَحَلُّهُ مِنَ الْإِعْرَابِ كما في قوله: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ [الأنفال: 14] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَوْهِينُ اللَّه تَعَالَى كَيْدَهَمْ يَكُونُ بِأَشْيَاءَ بِإِطْلَاعِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ، وَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَتَفْرِيقِ كَلِمَتِهِمْ، وَنَقْضِ مَا أَبْرَمُوا بِسَبَبِ اخْتِلَافِ عَزَائِمِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُنْبِئُ رَسُولَ اللَّه وَيَقُولُ: إِنِّي قَدْ أَوْهَنْتُ كَيْدَ عَدُوِّكَ حَتَّى قَتَلْتَ خِيَارَهُمْ وَأَسَرْتَ أَشْرَافَهُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ فيه قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ، رُوِيَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: اللَّهُمَّ انْصُرْ أَفْضَلَ الدِّينَيْنِ وَأَحَقَّهُ بِالنَّصْرِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ أَيُّنَا كَانَ أَقْطَعَ/ لِلرَّحِمِ وَأَفْجَرَ، فَأَهْلِكْهُ الْغَدَاةَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَرَادُوا الْخُرُوجَ إِلَى بَدْرٍ أَخَذُوا أَسْتَارَ الْكَعْبَةِ وَقَالُوا اللَّهُمَّ انْصُرْ أَعْلَى الْجُنْدَيْنِ وَأَهْدَى الْفِئَتَيْنِ وَأَكْرَمَ الْحِزْبَيْنِ وَأَفْضَلَ الدِّينَيْنِ، فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَةَ، وَالْمَعْنَى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا أَيْ تَسْتَنْصِرُوا لِأَهْدَى الْفِئَتَيْنِ وَأَكْرَمِ الْحِزْبَيْنِ، فَقَدْ جَاءَكُمُ النَّصْرُ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنْ تَسْتَقْضُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْقَضَاءُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَأَى الْمُشْرِكِينَ وَكَثْرَةَ عَدَدِهِمُ اسْتَغَاثَ باللَّه، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَطَلَبَ مَا وَعَدَهُ اللَّه بِهِ مِنْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَتَضَرَّعَ إِلَى اللَّه فَقَالَ: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ طَلَبَ النُّصْرَةَ الَّتِي تَقَدَّمَ بِهَا الْوَعْدُ، فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ، أَيْ حَصَلَ مَا وُعِدْتُمْ بِهِ فَاشْكُرُوا اللَّه وَالْزَمُوا طَاعَتَهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْمُؤْمِنِينَ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَا الْفَتْحَ على البيات وَالْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ، لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكُفَّارُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فَتَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ، يَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ أَوْ لِلْمُؤْمِنِينَ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ، كَانَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ إِنْ تَنْتَهُوا عَنْ قِتَالِ الرَّسُولِ وَعَدَاوَتِهِ وَتَكْذِيبِهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، أَمَّا فِي الدِّينِ فَبِالْخَلَاصِ مِنَ الْعِقَابِ وَالْفَوْزِ بِالثَّوَابِ. وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَبِالْخَلَاصِ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالنَّهْبِ. ثم قال: وَإِنْ تَعُودُوا أي إلى القتال نَعُدْ أَيْ نُسَلِّطْهُمْ عَلَيْكُمْ، فَقَدْ شَاهَدْتُمْ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ وَعَرَفْتُمْ تَأْثِيرَ نُصْرَةِ اللَّه لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْكُمْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ أَيْ كَثْرَةُ الْجُمُوعِ كَمَا لَمْ يُغْنِ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كَانَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنْ تَنْتَهُوا عَنِ الْمُنَازَعَةِ فِي أَمْرِ الْأَنْفَالِ وَتَنْتَهُوا عَنْ طَلَبِ الْفِدَاءِ عَلَى الْأَسْرَى فَقَدْ كَانَ وَقَعَ مِنْهُمْ نِزَاعٌ يَوْمَ بَدْرٍ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى عَاتَبَهُمُ اللَّه بِقَوْلِهِ: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ [الأنفال: 68] فقال تعالى: إِنْ تَنْتَهُوا عَنْ مِثْلِهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا إِلَى تِلْكَ الْمُنَازَعَاتِ نَعُدْ إِلَى تَرْكِ نُصْرَتِكُمْ لِأَنَّ الْوَعْدَ بِنُصْرَتِكُمْ مَشْرُوطٌ بِشَرْطِ اسْتِمْرَارِكُمْ عَلَى الطَّاعَةِ وَتَرْكِ الْمُخَالَفَةِ، ثُمَّ لَا تَنْفَعُكُمُ الْفِئَةُ وَالْكَثْرَةُ، فَإِنَّ اللَّه لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا يَرْتَكِبُونَ الذُّنُوبَ.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 20 إلى 23]

وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلُوا قَوْلَهُ: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ فَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْقِتَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ الْحَمْلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ، فَسَقَطَ هَذَا التَّرْجِيحُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَنَّ اللَّهَ بِفَتْحِ الْأَلِفِ فِي أَنَّ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا. أَمَّا الْفَتْحُ فَقِيلَ: عَلَى تَقْدِيرِ، وَلِأَنَّ اللَّه مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وقيل هو معطوف على قوله: أَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ وَأَمَّا الْكَسْرُ فَعَلَى الابتداء. واللَّه أعلم. [سورة الأنفال (8) : الآيات 20 الى 23] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) اعْلَمْ أنه تعالى لما خاطب المؤمنين بقوله: إِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً [الأنفال: 19] أتبعه بتأديبهم فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُمْ مَاذَا يَسْمَعُونَ إِلَّا أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا لَمَّا كَانَ وَاقِعًا فِي الْجِهَادِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ دُعَاءَهُ إِلَى الْجِهَادِ، ثُمَّ إِنَّ الْجِهَادَ اشْتَمَلَ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمُخَاطَرَةُ بِالنَّفْسِ. وَالثَّانِي: الْفَوْزُ بِالْأَمْوَالِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمُخَاطَرَةُ بِالنَّفْسِ شَاقَّةٌ شَدِيدَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَكَانَ تَرْكُ الْمَالِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَخْذِهِ شَاقًّا شَدِيدًا، لَا جَرَمَ بَالَغَ اللَّه تَعَالَى فِي التَّأْدِيبِ فِي هَذَا الْبَابِ فَقَالَ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي الْإِجَابَةِ إِلَى الْجِهَادِ، وَفِي الْإِجَابَةِ إِلَى تَرْكِ الْمَالِ إِذَا أَمَرَهُ اللَّه بِتَرْكِهِ وَالْمَقْصُودُ تَقْرِيرُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الْأَنْفَالِ: 1] . فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قَالَ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ فَجَعَلَ الْكِنَايَةَ وَاحِدَةً مَعَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ اللَّه وَرَسُولِهِ. قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِطَاعَةِ اللَّه وَبِطَاعَةِ رَسُولِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَلا تَوَلَّوْا لِأَنَّ التَّوَلِّيَ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الرَّسُولِ بِأَنْ يُعْرِضُوا عَنْهُ وَعَنْ قَبُولِ قَوْلِهِ وَعَنْ مَعُونَتِهِ فِي الْجِهَادِ. ثُمَّ قَالَ مُؤَكِّدًا لِذَلِكَ: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْإِنْسَانَ/ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْبَلَ التَّكْلِيفَ وَأَنْ يَلْتَزِمَهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَسْمَعَهُ، فَجَعَلَ السَّمَاعَ كِنَايَةً عَنِ الْقَبُولِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ سَمِعَ اللَّه لِمَنْ حَمِدَهُ، وَالْمَعْنَى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ أَنَّا قَبِلْنَا تَكَالِيفَ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّهُمْ بِقُلُوبِهِمْ لَا يَقْبَلُونَهَا. وَهُوَ صِفَةٌ لِلْمُنَافِقِينَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 14] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَاخْتَلَفُوا فِي الدَّوَابِّ. فَقِيلَ: شَبَّهَهُمْ بِالدَّوَابِّ لِجَهْلِهِمْ وَعُدُولِهِمْ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِمَا يَقُولُونَ. وَيُقَالُ لَهُمْ: وَلِذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِالصُّمِّ وَالْبُكْمِ وَبِأَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ. وَقِيلَ: بَلْ هُمْ مِنَ الدَّوَابِّ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا دَبَّ عَلَى الْأَرْضِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي مَعْرِضِ التَّشْبِيهِ، بَلْ وَصَفَهُمْ بِصِفَةٍ تَلِيقُ بِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الذَّمِّ، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ لَا يَفْهَمُ الْكَلَامَ، هُوَ شَبَحٌ وَجَسَدٌ وَطَلَلٌ عَلَى جِهَةِ الذَّمِّ.

ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ حَاصِلًا فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَعْلَمَهُ اللَّه فَعَدَمُ عِلْمِ اللَّه بِوُجُودِهِ مِنْ لَوَازِمِ عَدَمِهِ، فَلَا جَرَمَ حَسُنَ التَّعْبِيرُ عَنْ عَدَمِهِ فِي نَفْسِهِ بِعَدَمِ عِلْمِ اللَّه بِوُجُودِهِ، وَتَقْرِيرُ الْكَلَامِ لَوْ حَصَلَ فِيهِمْ خَيْرٌ، لَأَسْمَعَهُمُ اللَّه الْحُجَجَ وَالْمَوَاعِظَ سَمَاعَ تَعْلِيمٍ وَتَفْهِيمٍ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا، وَلَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ. قِيلَ: إِنَّ الْكُفَّارَ سَأَلُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُحْيِيَ لَهُمْ قُصَيَّ بْنَ كِلَابٍ وَغَيْرَهُ مِنْ أَمْوَاتِهِمْ لِيُخْبِرُوهُمْ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا، وَهُوَ انْتِفَاعُهُمْ بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ الْأَمْوَاتِ لَأَحْيَاهُمْ حَتَّى يَسْمَعُوا كَلَامَهُمْ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ هَذَا الْكَلَامَ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْعِنَادِ والتعنت، وأنه لم أَسْمَعَهُمُ اللَّه كَلَامَهُمْ لَتَوَلَّوْا عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَلَأَعْرَضُوا عَنْهُ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالتَّوَلِّي عَنِ الدَّلَائِلِ وَبِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ وَأَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَهُ الْبَتَّةَ، وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ الْبَتَّةَ. فَنَقُولُ: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ صُدُورُ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ مُحَالًا، لِأَنَّهُ لَوْ صَدَرَ الْإِيمَانُ، لَكَانَ إِمَّا أَنْ يُوجَدَ ذَلِكَ الْإِيمَانُ مَعَ بَقَاءِ هَذَا الْخَبَرِ صِدْقًا أَوْ مَعَ انْقِلَابِهِ كَذِبًا وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ، لِأَنَّ وُجُودَ الْإِيمَانِ مَعَ الْإِخْبَارِ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَالثَّانِي مُحَالٌ، لِأَنَّ انْقِلَابَ خَبَرِ اللَّه الصِّدْقِ كَذِبًا مُحَالٌ. لَا سِيَّمَا فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي الْمُنْقَضِي، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي انْقِلَابِ عِلْمِ اللَّه جَهْلًا، وَتَقْرِيرُهُ سَبَقَ مراراً. المسألة الثانية: النحويون يقولون: كلمة (لو) وُضِعَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى انْتِفَاءِ الشَّيْءِ لِأَجْلِ انْتِفَاءِ غَيْرِهِ، فَإِذَا قُلْتَ: لَوْ جِئْتَنِي لَأَكْرَمْتُكَ، أَفَادَ أَنَّهُ مَا حَصَلَ الْمَجِيءُ، وَمَا حَصَلَ الْإِكْرَامُ. وَمِنَ/ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا الِاسْتِلْزَامَ، فَأَمَّا الِانْتِفَاءُ لِأَجْلِ انْتِفَاءِ الْغَيْرِ، فَلَا يُفِيدُهُ هَذَا اللَّفْظُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْخَبَرُ، أَمَّا الْآيَةُ، فَهِيَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَتَقْرِيرُهُ: أن كلمة (لو) لَوْ أَفَادَتْ مَا ذَكَرُوهُ لَكَانَ قَوْلَهُ: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى مَا عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا وَمَا أَسْمَعَهُمْ. ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ مَا أَسْمَعَهُمْ وَأَنَّهُمْ مَا تَوَلَّوْا لَكِنَّ عَدَمَ التَّوَلِّي خَيْرٌ مِنَ الْخَيْرَاتِ، فَأَوَّلُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْخَيْرِ، وَآخِرُهُ يَقْتَضِي حُصُولَ الْخَيْرِ، وَذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ. فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلِمَةَ (لَوْ) تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ يُوجِبُ هَذَا التَّنَاقُضَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُصَارَ إِلَيْهِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نِعْمَ الرَّجُلُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّه لَمْ يَعْصِهِ» فَلَوْ كَانَتْ لَفْظَةُ «لَوْ» تُفِيدُ مَا ذَكَرُوهُ لَصَارَ الْمَعْنَى أَنَّهُ خَافَ اللَّه وَعَصَاهُ، وَذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ. فثبت أن كلمة (لو) لَا تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا تُفِيدُ مُجَرَّدَ الِاسْتِلْزَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ أَحْسَنُ إِلَّا أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ جُمْهُورِ الْأُدَبَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَعْلُومَاتِ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: جُمْلَةُ الْمَوْجُودَاتِ. وَالثَّانِي: جُمْلَةُ الْمَعْدُومَاتِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ لَوْ كَانَ مَعْدُومًا فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ. الرَّابِعُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَعْدُومَاتِ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ، وَالْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ علم بالواقع، والقسمان الثانيان عم بِالْمُقَدَّرِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ، فَقَوْلُهُ: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْمُقَدَّرَاتِ، وَلَيْسَ مِنْ أَقْسَامِ الْعِلْمِ بِالْوَاقِعَاتِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمُنَافِقِينَ: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ... وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَقَالَ تَعَالَى: لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ [الْحَشْرِ: 11، 12] فَعَلِمَ تَعَالَى فِي الْمَعْدُومِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ، وَأَيْضًا قوله:

[سورة الأنفال (8) : آية 24]

وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الْأَنْعَامِ: 28] فَأَخْبَرَ عَنِ الْمَعْدُومِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا كيف يكون حاله. [سورة الأنفال (8) : آية 24] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالزَّجَّاجُ اسْتَجِيبُوا مَعْنَاهُ أَجِيبُوا وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَتَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ أَمَرَهُ اللَّه بِفِعْلٍ فَقَدْ دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِجَابَةِ فِي كُلِّ مَا دَعَاهُ اللَّه إِلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ أَمْرٌ. فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ؟ وَهَلِ النِّزَاعُ إِلَّا فِيهِ، فَيَرْجِعُ حَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ، وَهُوَ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ كُلَّ مَا أَمَرَ اللَّه بِهِ فَهُوَ مُرَغَّبٌ فِيهِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، فَلَوْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَانَ هَذَا جَارِيًا مَجْرَى إِيضَاحِ الْوَاضِحَاتِ وَأَنَّهُ عَبَثٌ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ، وَهِيَ الْوُجُوبُ صَوْنًا لِهَذَا النَّصِّ عَنِ التَّعْطِيلِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ جَارٍ مَجْرَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْإِيجَابِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ. مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى بَابِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَنَادَاهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَعَجَّلَ فِي صَلَاتِهِ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: «مَا مَنَعَكَ عَنْ إِجَابَتِي» قَالَ كُنْتُ أُصَلِّي قَالَ: «أَلَمْ تُخْبَرْ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ اسْتَجِيبُوا للَّه وَلِلرَّسُولِ» فَقَالَ: لَا جَرَمَ لَا تَدْعُونِي إِلَّا أُجِيبُكَ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَعَاهُ فَلَمْ يُجِبْهُ لَامَهُ عَلَى تَرْكِ الْإِجَابَةِ، وَتَمَسَّكَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ اللَّوْمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَلَوْلَا دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَإِلَّا لَمَا صَحَّ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ مَسْأَلَةُ أَنَّ الْأَمْرَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ، مَسْأَلَةٌ قَطْعِيَّةٌ، فَلَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ فِيهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ضَعِيفٌ، لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْأَمْرِ يُفِيدُ الْوُجُوبَ مَسْأَلَةٌ قَطْعِيَّةٌ، بَلْ هِيَ عِنْدَنَا مَسْأَلَةٌ ظَنِّيَّةٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الْعَمَلُ، وَالدَّلَائِلُ الظَّنِّيَّةُ كَافِيَةٌ فِي الْمَطَالِبِ الْعَمَلِيَّةِ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى مَا أَمَرَ بِالْإِجَابَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ بِشَرْطٍ خَاصٍّ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ حَاصِلٌ فِي جَمِيعِ الْأَوَامِرِ؟ قُلْنَا: قِصَّةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ عَامٌّ وَغَيْرُ مَخْصُوصٍ بِشَرْطٍ مُعَيَّنٍ، وأيضاً فلا يمكن حمل الحياة هاهنا عَلَى نَفْسِ الْحَيَاةِ. لِأَنَّ إِحْيَاءَ الْحَيِّ مُحَالٌ. فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ الْفَوْزُ/ بالثواب، وكل

مَا دَعَا اللَّه إِلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهِ فَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَوَابٍ، فَكَانَ هَذَا الْحُكْمُ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْأَوَامِرِ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ وَفِيهِ الْحَيَاةُ لِأَنَّ الْإِيمَانَ حَيَاةُ الْقَلْبِ وَالْكُفْرُ مَوْتُهُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الروم: 19] قِيلَ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ. الثَّانِي: قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي الْقُرْآنَ أَيْ أَجِيبُوهُ إِلَى مَا فِي الْقُرْآنِ فَفِيهِ الْحَيَاةُ وَالنَّجَاةُ وَالْعِصْمَةُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْقُرْآنُ بِالْحَيَاةِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ سَبَبُ الْعِلْمِ. وَالْعِلْمُ حَيَاةٌ، فَجَازَ أَنْ يُسَمَّى سَبَبُ الْحَيَاةِ بِالْحَيَاةِ. الثَّالِثُ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ: لِما يُحْيِيكُمْ هُوَ الْجِهَادُ، ثُمَّ فِي سَبَبِ تَسْمِيَةِ الْجِهَادِ بِالْحَيَاةِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: هُوَ أَنَّ وَهَنَ أَحَدِ الْعَدُوَّيْنِ حَيَاةٌ لِلْعَدُوِّ الثَّانِي. فَأَمْرُ الْمُسْلِمِينَ إِنَّمَا يَقْوَى وَيَعْظُمُ بِسَبَبِ الْجِهَادِ مَعَ الْكُفَّارِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْجِهَادَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ تُوجِبُ الْحَيَاةَ الدَّائِمَةَ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 169] وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْجِهَادَ قَدْ يُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ، وَالْقَتْلُ يُوصِلُ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالدَّارُ الْآخِرَةُ مَعْدِنُ الْحَيَاةِ. قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ [الْعَنْكَبُوتِ: 64] أَيِ الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: لِما يُحْيِيكُمْ أَيْ لِكُلِّ حَقٍّ وَصَوَابٍ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْقُرْآنُ وَالْإِيمَانُ وَالْجِهَادُ وَكُلُّ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالطَّاعَةِ. وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لِما يُحْيِيكُمْ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ الدَّائِمَةُ قَالَ تَعَالَى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النَّحْلِ: 97] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ يَخْتَلِفُ تَفْسِيرُهُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ. أَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْجَبْرِ، فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ حِكَايَةً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ: يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ الْكَافِرِ وَطَاعَتِهِ، ويجول بَيْنَ الْمَرْءِ الْمُطِيعِ وَمَعْصِيَتِهِ، فَالسَّعِيدُ مَنْ أَسْعَدَهُ اللَّه، وَالشَّقِيُّ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّه. وَالْقُلُوبُ بِيَدِ اللَّه يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ، فَإِذَا أَرَادَ الْكَافِرُ أَنْ يُؤْمِنَ واللَّه تَعَالَى لَا يُرِيدُ إِيمَانَهُ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَلْبِهِ. وَإِذَا أَرَادَ الْمُؤْمِنُ أَنْ يَكْفُرَ واللَّه لَا يُرِيدُ كُفْرَهُ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَلْبِهِ. قُلْتُ: وَقَدْ دَلَّلْنَا بِالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى صِحَّةِ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَحْوَالَ الْقَلْبِيَّةَ إِمَّا الْعَقَائِدَ وَإِمَّا الْإِرَادَاتِ وَالدَّوَاعِيَ. أَمَّا الْعَقَائِدُ: فَهِيَ إِمَّا الْعِلْمُ، وَإِمَّا الْجَهْلُ. أَمَّا الْعِلْمُ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقْصِدَ الْفَاعِلُ إِلَى تَحْصِيلِهِ إِلَّا إِذَا عَلِمَ كَوْنَهُ عِلْمًا وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا عَلِمَ كَوْنَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ مُطَابِقًا لِلْمَعْلُومِ وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا سَبَقَ عِلْمُهُ بِالْمَعْلُومِ وَذَلِكَ يُوجِبُ تَوَقُّفَ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَمَّا الْجَهْلُ فَالْإِنْسَانُ الْبَتَّةَ لَا يَخْتَارُهُ وَلَا يُرِيدُهُ إِلَّا إِذَا ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ عِلْمٌ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ هَذَا الظَّنُّ/ إِلَّا بِسَبْقِ جَهْلٍ آخَرَ، وَذَلِكَ أَيْضًا يُوجِبُ تَوَقُّفَ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَمَّا الدَّوَاعِي وَالْإِرَادَاتُ فَحُصُولُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ بِفَاعِلٍ يَلْزَمُ الْحُدُوثُ لَا عَنْ مُحْدِثٍ، وَإِنْ كَانَ بِفَاعِلٍ فَذَلِكَ الْفَاعِلُ إِمَّا الْعَبْدُ وَإِمَّا اللَّه تَعَالَى، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَإِلَّا لَزِمَ تَوَقُّفُ ذَلِكَ الْقَصْدِ عَلَى قَصْدٍ آخَرَ وَهُوَ مُحَالٌ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْإِرَادَاتِ وَالدَّوَاعِي هُوَ اللَّه تَعَالَى، فَنَصُّ الْقُرْآنِ دَلَّ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَ الْقُلُوبِ مِنَ اللَّه، وَالدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ مَا ذَكَرْنَاهُ. أَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْقَدَرِ فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرْتُمْ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: إِنَّ مَنْ حَالَ اللَّه بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ فَهُوَ عَاجِزٌ، وَأَمْرُ الْعَاجِزِ سَفَهٌ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَأْمُرَنَا اللَّه بِصُعُودِ السَّمَاءِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الزَّمِنَ لَا يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ قَائِمًا، فَكَيْفَ يَجُوزُ ذَلِكَ

[سورة الأنفال (8) : آية 25]

عَلَى اللَّه تَعَالَى؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَةِ: 286] وَقَالَ فِي الْمُظَاهِرِ: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً [الْمُجَادَلَةِ: 4] فَأَسْقَطَ فَرْضَ الصَّوْمِ عَمَّنْ لَا يَسْتَطِيعُهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ بِالِاسْتِجَابَةِ للَّه وَلِلرَّسُولِ. وَذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ الذِّكْرِ وَالتَّحْذِيرِ عَنْ تَرْكِ الْإِجَابَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْتُمْ لَكَانَ ذَلِكَ عُذْرًا قَوِيًّا فِي تَرْكِ الْإِجَابَةِ، وَلَا يَكُونُ زَجْرًا عَنْ تَرْكِ الْإِجَابَةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لِيَكُونَ حُجَّةً لِلرَّسُولِ عَلَى الْكُفَّارِ، لَا لِيَكُونَ حُجَّةً لِلْكُفَّارِ عَلَى الرَّسُولِ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى مَا ذَكَرْتُمْ لَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ لِلْكُفَّارِ عَلَى الرَّسُولِ وَلَقَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَنَعَنَا مِنَ الْإِيمَانِ فَكَيْفَ يَأْمُرُنَا بِهِ؟ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَا قَالَهُ أَهْلُ الْجَبْرِ، قَالُوا وَنَحْنُ نَذْكُرُ فِي الْآيَةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ الِانْتِفَاعِ بِقَلْبِهِ بِسَبَبِ الْمَوْتِ، يَعْنِي بِذَلِكَ أَنْ تُبَادِرُوا فِي الِاسْتِجَابَةِ فِيمَا أَلْزَمْتُكُمْ مِنَ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْمَوْتُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ وَيَحُولَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الطَّاعَةِ وَالتَّوْبَةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى عَقِيبَهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْحَثُّ عَلَى الطَّاعَةِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْهَا. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ مَا يَتَمَنَّاهُ وَيُرِيدُهُ بِقَلْبِهِ، فَإِنَّ الْأَجَلَ يَحُولُ دُونَ الْأَمَلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَادِرُوا إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَلَا تَعْتَمِدُوا عَلَى مَا يَقَعُ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ تَوَقُّعِ طُولِ الْبَقَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ، وَإِنَّمَا حَسُنَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْقَلْبِ عَلَى الْأَمَانِي الْحَاصِلَةِ فِي الْقَلْبِ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الشَّيْءِ بِاسْمِ ظَرْفِهِ جَائِزَةٌ كَقَوْلِهِمْ، سَالَ الْوَادِي. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا خَائِفِينَ مِنَ الْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ، سَارِعُوا إِلَى الطَّاعَةِ وَلَا تَتَمَنَّعُوا عَنْهَا/ بِسَبَبِ مَا تَجِدُونَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنَ الضَّعْفِ وَالْجُبْنِ، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يُغَيِّرُ تِلْكَ الْأَحْوَالَ فَيُبَدِّلُ الضَّعْفَ بِالْقُوَّةِ، وَالْجُبْنَ بِالشَّجَاعَةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى مُقَلِّبُ الْقُلُوبِ. الرَّابِعُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُرَادُ مِنَ القلب هاهنا الْعَقْلُ فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ. وَالْمَعْنَى فَبَادِرُوا إِلَى الْأَعْمَالِ وَأَنْتُمْ تَعْقِلُونَ، فإنكم لا تؤمنون زَوَالَ الْعُقُولِ الَّتِي عِنْدَ ارْتِفَاعِهَا يَبْطُلُ التَّكْلِيفُ. وَجَعْلُ الْقَلْبِ كِنَايَةً عَنِ الْعَقْلِ جَائِزٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: 37] أَيْ لِمَنْ كَانَ لَهُ عَقْلٌ. الْخَامِسُ: قَالَ الْحَسَنُ مَعْنَاهُ، أَنَّ اللَّه حَائِلٌ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ قُرْبَهُ تَعَالَى مِنْ عَبْدِهِ أَشَدُّ مِنْ قُرْبِ قَلْبِ الْعَبْدِ مِنْهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا فِي بَاطِنِ الْعَبْدِ وَمِمَّا فِي ضَمِيرِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ لِأَصْحَابِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أَيْ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أَيْ إِلَى اللَّه وَلَا تُتْرَكُونَ مُهْمَلِينَ مُعَطَّلِينَ، وَفِيهِ تَرْغِيبٌ شَدِيدٌ فِي الْعَمَلِ وتحذير عن الكسل والغفلة. [سورة الأنفال (8) : آية 25] وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا حَذَّرَ الْإِنْسَانَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَلْبِهِ، فَكَذَلِكَ حَذَّرَهُ مِنَ الْفِتَنِ، وَالْمَعْنَى: وَاحْذَرُوا فِتْنَةً إِنْ نَزَلَتْ بِكُمْ لَمْ تَقْتَصِرْ عَلَى الظَّالِمِينَ خَاصَّةً بَلْ تَتَعَدَّى إِلَيْكُمْ جَمِيعًا وَتَصِلُ إِلَى الصَّالِحِ وَالطَّالِحِ. عَنِ الْحَسَنِ: نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ وَعَمَّارٍ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَهُوَ يَوْمُ الْجَمَلِ خَاصَّةً. قَالَ الزُّبَيْرُ: نَزَلَتْ فِينَا وَقَرَأْنَاهَا زَمَانًا وَمَا ظَنَنَّا أَنَّا أَهْلُهَا فَإِذَا نَحْنُ الْمَعْنِيُّونَ بِهَا، وَعَنِ السُّدِّيِّ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ اقْتَتَلُوا يَوْمَ الْجَمَلِ، وَرُوِيَ أَنَّ الزبير كان

[سورة الأنفال (8) : آية 26]

يُسَامِرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا إِذْ أَقْبَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فَضَحِكَ إِلَيْهِ الزُّبَيْرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه: «كَيْفَ حُبُّكَ لِعَلِيٍّ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه أُحِبُّهُ كَحُبِّي لِوَلَدِي أَوْ أَشَدَّ فَقَالَ: «كَيْفَ أَنْتَ إِذَا سِرْتَ إِلَيْهِ تُقَاتِلُهُ» . فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ دُخُولُ النُّونِ الْمُؤَكِّدَةِ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ؟ قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ جَوَابَ الْأَمْرِ جَاءَ بِلَفْظِ النَّهْيِ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ حَسُنَ إِدْخَالُ النُّونِ الْمُؤَكَّدَةِ فِي ذَلِكَ النَّهْيِ، كَقَوْلِكَ انْزِلْ عَنِ الدَّابَّةِ لَا تَطْرَحْكَ أَوْ لَا تَطْرَحَنَّكَ، وكقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ [النَّمْلِ: 18] الثَّانِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً/ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً، إِلَّا أَنَّهُ جِيءَ بِصِيغَةِ النَّهْيِ مُبَالَغَةً فِي نَفْيِ اخْتِصَاصِ الْفِتْنَةِ بِالظَّالِمِينَ كَأَنَّ الْفِتْنَةَ نُهِيَتْ عَنْ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصِ. وَقِيلَ لَهَا لَا تُصِيبِي الَّذِينَ ظَلَمُوا خَاصَّةً، وَالْمُرَادُ مِنْهُ: الْمُبَالَغَةُ فِي عَدَمِ الِاخْتِصَاصِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ: الْحَثُّ عَلَى لُزُومِ الِاسْتِقَامَةِ خَوْفًا مِنْ عِقَابِ اللَّه. فَإِنْ قِيلَ: حَاصِلُ الْكَلَامِ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى يُخَوِّفُهُمْ مِنْ عَذَابٍ لَوْ نَزَلَ لَعَمَّ الْمُذْنِبَ وَغَيْرَهُ، وَكَيْفَ يَلِيقُ بِرَحْمَةِ الرَّحِيمِ الْحَكِيمِ أَنْ يُوصِلَ الْفِتْنَةَ وَالْعَذَابَ إِلَى مَنْ لَمْ يُذْنِبْ؟ قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى قَدْ يُنْزِلُ الْمَوْتَ وَالْفَقْرَ وَالْعَمَى وَالزَّمَانَةَ بِعَبْدِهِ ابْتِدَاءً، إِمَّا لِأَنَّهُ يَحْسُنُ مِنْهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِحُكْمِ الْمَالِكِيَّةِ، أَوْ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ اشْتِمَالَ ذَلِكَ عَلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّلَاحِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ، وَإِذَا جَازَ ذلك لأحد هذين الوجهين فكذا هاهنا. واللَّه أعلم. [سورة الأنفال (8) : آية 26] وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّه وَطَاعَةِ الرَّسُولِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِاتِّقَاءِ الْمَعْصِيَةِ، أَكَّدَ ذَلِكَ التَّكْلِيفَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ظُهُورِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَبَعْدَ ظُهُورِهِ صَارُوا فِي غَايَةِ الْعِزَّةِ وَالرِّفْعَةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ عَلَيْهِمُ الطَّاعَةَ وَتَرْكَ الْمُخَالَفَةِ. أَمَّا بَيَانُ الْأَحْوَالِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قَبْلَ ظُهُورِ مُحَمَّدٍ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا قَلِيلِينَ فِي الْعَدَدِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ، وَالْمُرَادُ أَنَّ غَيْرَهُمْ يَسْتَضْعِفُهُمْ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الِاسْتِضْعَافِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَهُمُ النَّاسُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا خَرَجُوا مِنْ بَلَدِهِمْ خَافُوا أَنْ يَتَخَطَّفَهُمُ الْعَرَبُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَخَافُونَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِقُرْبِهِمْ مِنْهُمْ وَشِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لَهُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا كَذَلِكَ قُلِبَتْ تِلْكَ الْأَحْوَالُ بِالسَّعَادَاتِ وَالْخَيْرَاتِ، فَأَوَّلُهَا: أَنَّهُ آوَاهُمْ وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى نَقَلَهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَصَارُوا آمِنِينَ مِنْ شَرِّ الْكُفَّارِ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ والمراد منه وجوه النَّصْرِ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى/ أَحَلَّ لَهُمُ الْغَنَائِمَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ. ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَيْ نَقَلْنَاكُمْ مِنَ الشِّدَّةِ إِلَى الرَّخَاءِ، وَمِنَ الْبَلَاءِ إِلَى النَّعْمَاءِ وَالْآلَاءِ، حَتَّى تَشْتَغِلُوا بِالشُّكْرِ وَالطَّاعَةِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِكُمْ أَنْ تَشْتَغِلُوا بالمنازعة والمخاصمة بسبب الأنفال؟

[سورة الأنفال (8) : الآيات 27 إلى 28]

[سورة الأنفال (8) : الآيات 27 الى 28] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) [في قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ رَزَقَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، فَهَهُنَا مَنَعَهُمْ مِنَ الْخِيَانَةِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِتِلْكَ الْخِيَانَةِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي لُبَابَةَ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قُرَيْظَةَ لَمَّا حَاصَرَهُمْ، وَكَانَ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ فِيهِمْ. فَقَالُوا يَا أَبَا لُبَابَةَ مَا تَرَى لَنَا أَنَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِينَا؟ فَأَشَارَ أَبُو لُبَابَةَ إِلَى حَلْقِهِ، أَيْ إِنَّهُ الذَّبْحُ فَلَا تَفْعَلُوا، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ خِيَانَةً للَّه وَرَسُولِهِ. الثَّانِي: قَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا يَسْمَعُونَ الشَّيْءَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وو سلّم فَيَشُقُّونَهُ وَيُلْقُونَهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَنَهَاهُمُ اللَّه عَنْ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَهَاهُمُ اللَّه أَنْ يَخُونُوا كَمَا صَنَعَ الْمُنَافِقُونَ، يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَيُسِرُّونَ الْكُفْرَ. الرَّابِعُ: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ، فَعَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُرُوجَهُ وَعَزَمَ عَلَى الذَّهَابِ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَنَّ مُحَمَّدًا يُرِيدُكُمْ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَةَ. الْخَامِسُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ حِينَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ لَمَّا هَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُرُوجِ إِلَيْهَا، حَكَاهُ الْأَصَمُّ. وَالسَّادِسُ: قَالَ الْقَاضِي: الْأَقْرَبُ أَنَّ خِيَانَةَ اللَّه غَيْرُ خِيَانَةِ رَسُولِهِ، وَخِيَانَةَ الرَّسُولِ غَيْرُ خِيَانَةِ الْأَمَانَةِ، لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَخُونُوا الْغَنَائِمَ، وَجَعَلَ ذَلِكَ خِيَانَةً لَهُ، لِأَنَّهُ خِيَانَةٌ لِعَطِيَّتِهِ وَخِيَانَةٌ لِرَسُولِهِ لِأَنَّهُ الْقَيِّمُ بِقَسْمِهَا، فَمَنْ خَانَهَا فَقَدْ خَانَ الرَّسُولَ، وَهَذِهِ الْغَنِيمَةُ قَدْ جَعَلَهَا الرَّسُولُ أَمَانَةً فِي أَيْدِي الْغَانِمِينَ وَأَلْزَمَهُمْ أَنْ لَا يَتَنَاوَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنْهَا شَيْئًا فَصَارَتْ وَدِيعَةً، وَالْوَدِيعَةُ/ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُودِعِ، فَمِنْ خَانَ مِنْهُمْ فِيهَا فَقَدْ خَانَ أَمَانَةَ النَّاسِ، إِذِ الْخِيَانَةُ ضِدُّ الْأَمَانَةِ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَمَانَةِ كُلَّ مَا تُعُبِّدَ بِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَيَدْخُلُ فِيهِ الْغَنِيمَةُ وَغَيْرُهَا، فَكَانَ مَعْنَى الْآيَةِ: إِيجَابُ أَدَاءِ التَّكَالِيفِ بِأَسْرِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ وَلَا إِخْلَالٍ. وَأَمَّا الْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِيهَا، لَكِنْ لَا يَجِبُ قَصْرُ الْآيَةِ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مَعْنَى الْخَوْنِ النَّقْصُ. كَمَا أَنَّ مَعْنَى الْوَفَاءِ التَّمَامُ. وَمِنْهُ تَخَوَّنَهُ إِذَا انْتَقَصَهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي ضِدِّ الْأَمَانَةِ وَالْوَفَاءِ. لِأَنَّكَ إِذَا خُنْتَ الرَّجُلَ فِي شَيْءٍ فَقَدْ أَدْخَلْتَ عَلَيْهِ النُّقْصَانَ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ (وَلَا تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ) وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّه وَلَا تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ الثَّانِي: التَّقْدِيرُ: لَا تَخُونُوا اللَّه وَالرَّسُولَ، فَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ خُنْتُمْ أَمَانَاتِكُمْ، وَالْعَرَبُ قَدْ تَذْكُرُ الْجَوَابَ تَارَةً بِالْفَاءِ، وَأُخْرَى بِالْوَاوِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ تَخُونُونَ يَعْنِي أَنَّ الْخِيَانَةَ تُوجَدُ مِنْكُمْ عَنْ تَعَمُّدٍ لَا عَنْ سَهْوٍ. الثَّانِي: وَأَنْتُمْ عُلَمَاءُ تَعْلَمُونَ قُبْحَ الْقَبِيحِ، وَحُسْنَ الْحَسَنِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الدَّاعِي إِلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْخِيَانَةِ هُوَ حُبُّ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ. نَبَّهَ تَعَالَى على أنه يجب على العاقل يحترز عن المضار المتولدة مِنْ ذَلِكَ الْحُبِّ. فَقَالَ: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ لِأَنَّهَا تَشْغَلُ الْقَلْبَ بِالدُّنْيَا، وَتَصِيرُ حِجَابًا عَنْ خِدْمَةِ الْمَوْلَى.

[سورة الأنفال (8) : آية 29]

ثُمَّ قَالَ: وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ سِعَادَاتِ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِنْ سِعَادَاتِ الدُّنْيَا لِأَنَّهَا أَعْظَمُ فِي الشَّرَفِ، وَأَعْظَمُ فِي الْفَوْزِ، وَأَعْظَمُ فِي الْمُدَّةِ، لِأَنَّهَا تَبْقَى بَقَاءً لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ وَصْفِ اللَّه الْأَجْرَ الَّذِي عِنْدَهُ بِالْعِظَمِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالنَّوَافِلِ أَفْضَلُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالنِّكَاحِ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالنَّوَافِلِ يُفِيدُ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ عِنْدَ اللَّه، وَالِاشْتِغَالُ بِالنِّكَاحِ يُفِيدُ الْوَلَدَ وَيُوجِبُ الْحَاجَةَ إِلَى الْمَالِ، وَذَلِكَ فِتْنَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا أَفْضَى إِلَى الْأَجْرِ الْعَظِيمِ عِنْدَ اللَّه، فَالِاشْتِغَالُ به خير مما أفضى إلى الفتنة. [سورة الأنفال (8) : آية 29] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَذَّرَ عَنِ الْفِتْنَةِ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، رَغَّبَ فِي التَّقْوَى الَّتِي تُوجِبُ تَرْكَ الْمَيْلِ وَالْهَوَى فِي مَحَبَّةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِدْخَالُ الشَّرْطِ فِي الْحُكْمِ إِنَّمَا يَحْسُنُ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ جَاهِلًا بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ باللَّه تَعَالَى. وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَنَا إِنْ كَانَ كَذَا كَانَ كَذَا، لَا يُفِيدُ إِلَّا كَوْنَ الشَّرْطِ مُسْتَلْزِمًا لِلْجَزَاءِ، فَأَمَّا أَنَّ وُقُوعَ الشَّرْطِ مَشْكُوكٌ فِيهِ أَوْ مَعْلُومٌ فَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ يُفِيدُ هَذَا الشَّكَّ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى يُعَامِلُ الْعِبَادَ فِي الْجَزَاءِ مُعَامَلَةَ الشَّاكِّ، وَعَلَيْهِ يَخْرُجُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [مُحَمَّدٍ: 31] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ شَرْطُهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ تَقْوَى اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ اتِّقَاءَ اللَّه فِي جَمِيعِ الْكَبَائِرِ. وَإِنَّمَا خَصَصْنَا هَذَا بِالْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْجَزَاءِ تَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ، وَالْجَزَاءُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِلشَّرْطِ، فَحَمَلْنَا التَّقْوَى عَلَى تَقْوَى الْكَبَائِرِ وَحَمَلْنَا السَّيِّئَاتِ عَلَى الصَّغَائِرِ لِيَظْهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَأَمَّا الْجَزَاءُ الْمُرَتَّبُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَأُمُورٌ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يُفَرِّقُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ. وَلَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُطْلَقًا وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى جَمِيعِ الْفُرُوقِ الْحَاصِلَةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ فَنَقُولُ: هَذَا الْفُرْقَانُ إِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا أَوْ فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ. أَمَّا فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا فَإِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ فِي أَحْوَالِ الْقُلُوبِ وَهِيَ الْأَحْوَالُ الْبَاطِنَةُ أَوْ فِي الْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ، أَمَّا فِي أَحْوَالِ الْقُلُوبِ فَأُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يَخُصُّ الْمُؤْمِنِينَ بِالْهِدَايَةِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَخُصُّ قُلُوبَهُمْ وَصُدُورَهُمْ بِالِانْشِرَاحِ كَمَا قَالَ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزُّمَرِ: 22] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ يُزِيلُ الْغِلَّ وَالْحِقْدَ وَالْحَسَدَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَيُزِيلُ الْمَكْرَ وَالْخِدَاعَ عَنْ صُدُورِهِمْ، مَعَ أَنَّ الْمُنَافِقَ وَالْكَافِرَ يَكُونُ قَلْبُهُ مَمْلُوءًا مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْخَسِيسَةِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَالسَّبَبُ فِي حُصُولِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَنَّ الْقَلْبَ إِذَا صَارَ مُشْرِقًا بِطَاعَةِ/ اللَّه تَعَالَى زَالَتْ عَنْهُ كُلُّ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّه نُورٌ، وَهَذِهِ الْأَخْلَاقُ ظُلُمَاتٌ، وَإِذَا ظَهَرَ النُّورُ فَلَا بُدَّ مِنْ زَوَالِ الظُّلْمَةِ. وَأَمَّا فِي الْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يَخُصُّ الْمُسْلِمِينَ بِالْعُلُوِّ وَالْفَتْحِ وَالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، كَمَا قَالَ: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقين: 8] وَكَمَا قَالَ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التَّوْبَةِ: 33] وَأَمْرُ الْفَاسِقِ وَالْكَافِرِ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ، فَالثَّوَابُ وَالْمَنَافِعُ الدَّائِمَةُ وَالتَّعْظِيمُ مِنَ اللَّه وَالْمَلَائِكَةِ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ دَاخِلَةٌ في الفرقان.

[سورة الأنفال (8) : آية 30]

وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأَجْزِيَةِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى التَّقْوَى قَوْلُهُ: وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ فَنَقُولُ: إِنْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ عَلَى الِاتِّقَاءِ مِنَ الْكُفْرِ، كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ جَمِيعُ السَّيِّئَاتِ الَّتِي وُجِدَتْ قَبْلَ الْكُفْرِ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الِاتِّقَاءِ عَنِ الْكَبَائِرِ، كَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا تَكْفِيرَ الصَّغَائِرِ. وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ سَتْرُهَا فِي الدُّنْيَا وَمِنَ الْمَغْفِرَةِ إِزَالَتُهَا فِي الْقِيَامَةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ إِذَا وَعَدَ بِشَيْءٍ وَفَّى بِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ أَفْضَالَ اللَّه أَعْظَمُ مِنْ أَفْضَالِ غَيْرِهِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى الحق سبحانه فَإِنَّهُ لَا يَتَفَضَّلُ وَلَا يُحْسِنُ إِلَّا إِذَا حَصَلَتْ فِي قَلْبِهِ دَاعِيَةُ الْإِفْضَالِ وَالْإِحْسَانِ، وَتِلْكَ الدَّاعِيَةُ حَادِثَةٌ فَلَا تَحْصُلُ إِلَّا بِتَخْلِيقِ اللَّه تَعَالَى، وَعِنْدَ هَذَا يَنْكَشِفُ أَنَّ الْمُتَفَضِّلَ لَيْسَ إِلَّا اللَّه الَّذِي خَلَقَ تِلْكَ الدَّاعِيَةَ الْمُوجِبَةَ لِذَلِكَ الْفِعْلِ. الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ تَفَضَّلَ يَسْتَفِيدُ بِهِ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْكَمَالِ إِمَّا عِوَضًا مِنَ الْمَالِ أَوْ عِوَضًا مِنَ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، وَإِمَّا عِوَضًا مِنْ نَوْعٍ آخَرَ وَهُوَ دَفْعُ الْأَلَمِ الْحَاصِلِ فِي الْقَلْبِ بِسَبَبِ الرِّقَّةِ الْجِنْسِيَّةِ واللَّه تَعَالَى يُعْطِي وَيَتَفَضَّلُ وَلَا يَطْلُبُ بِهِ شَيْئًا مِنَ الْأَعْوَاضِ لِأَنَّهُ كَامِلٌ لِذَاتِهِ، وَمَا كَانَ حَاصِلًا لِلشَّيْءِ لِذَاتِهِ امْتَنَعَ أَنْ يَسْتَفِيدَهُ مِنْ غَيْرِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ تَفَضَّلَ عَلَى الْغَيْرِ فَإِنَّ الْمُتَفَضَّلَ عَلَيْهِ يَصِيرُ مَمْنُونًا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْمُتَفَضِّلِ، وَذَلِكَ مُنَفِّرٌ، أَمَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَهُوَ الْمُوجِدُ لِذَاتِ كُلِّ أَحَدٍ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ، فَلَا يَحْصُلُ الِاسْتِنْكَافُ مِنْ قَبُولِ إِحْسَانِهِ الرَّابِعُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ تَفَضَّلَ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ الْمُتَفَضَّلُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ التَّفَضُّلِ إِلَّا إِذَا حَصَلَتْ لَهُ عَيْنٌ بَاصِرَةٌ وَأُذُنٌ سَامِعَةٌ وَمَعِدَةٌ هَاضِمَةٌ. حَتَّى يَنْتَفِعَ بِذَلِكَ الْإِحْسَانِ، وَعِنْدَ هَذَا يَنْكَشِفُ أَنَّ الْمُتَفَضِّلَ هُوَ اللَّه فِي الْحَقِيقَةِ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْبَرَاهِينِ صِحَّةُ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. [سورة الأنفال (8) : آية 30] وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَّرَ الْمُؤْمِنِينَ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ [الأنفال: 26] فَكَذَلِكَ ذَكَّرَ رَسُولَهُ نِعَمَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ دَفْعُ كَيْدِ الْمُشْرِكِينَ وَمَكْرِ الْمَاكِرِينَ عَنْهُ، وَهَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ تَآمَرُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ وَدَخَلَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَيِّدُوهُ نَتَرَبَّصْ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، فَقَالَ إِبْلِيسُ: لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ يَغْضَبُ لَهُ قَوْمُهُ فَتُسْفَكُ لَهُ الدِّمَاءُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَخْرِجُوهُ عَنْكُمْ تَسْتَرِيحُوا مِنْ أَذَاهُ لَكُمْ، فَقَالَ إِبْلِيسُ: لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ طَائِفَةً عَلَى نَفْسِهِ وَيُقَاتِلُكُمْ بِهِمْ. وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: الرَّأْيُ أَنْ نَجْمَعَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلًا فَيَضْرِبُوهُ بِأَسْيَافِهِمْ ضَرْبَةً وَاحِدَةً فَإِذَا قَتَلُوهُ تَفَرَّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ فَلَا يَقْوَى بَنُو هَاشِمٍ عَلَى مُحَارَبَةِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، فَيَرْضَوْنَ بِأَخْذِ الدِّيَةِ، فَقَالَ إِبْلِيسُ: هَذَا هُوَ الرَّأْيُ الصَّوَابُ، فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَى نَبِيِّهِ بِذَلِكَ وَأُذِنَ لَهُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَبِيتَ فِي مَضْجَعِهِ وَأَذِنَ اللَّه لَهُ فِي الْهِجْرَةِ، وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَبِيتَ فِي مَضْجَعِهِ، وَقَالَ لَهُ: تَسَجَّ بِبُرْدَتِي فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إِلَيْكَ أَمْرٌ تَكْرَهُهُ وَبَاتُوا مُتَرَصِّدِينَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا إِلَى مَضْجَعِهِ فَأَبْصَرُوا عَلِيًّا فَبُهِتُوا وَخَيَّبَ اللَّه سَعْيَهُمْ. وَقَوْلُهُ: لِيُثْبِتُوكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِيُوثِقُوكَ وَيَشُدُّوكَ وَكُلُّ مَنْ شُدَّ فَقَدْ أُثْبِتَ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْحَرَكَةِ وَلِهَذَا يُقَالُ لِمَنِ اشْتَدَّتْ بِهِ عِلَّةٌ أَوْ جِرَاحَةٌ تَمْنَعُهُ مِنَ الْحَرَكَةِ. قَدْ أُثْبِتَ فُلَانٌ فَهُوَ مُثْبَتٌ، وَقِيلَ ليسجنوك، وقيل

[سورة الأنفال (8) : الآيات 31 إلى 34]

ليجسوك، وَقِيلَ لِيُثْبِتُوكَ فِي بَيْتٍ فَحَذَفَ الْمَحَلَّ لِوُضُوحِ مَعْنَاهُ، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ لِيُثْبِتُوكَ بِالتَّشْدِيدِ وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ لِيُبَيِّتُوكَ مِنَ الْبَيَاتِ وَقَوْلُهُ: أَوْ يَقْتُلُوكَ وَهُوَ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّه أَوْ يُخْرِجُوكَ أَيْ مِنْ مَكَّةَ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ قَالَ: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 54] تَفْسِيرُ الْمَكْرِ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمُ احْتَالُوا عَلَى إِبْطَالِ أَمْرِ مُحَمَّدٍ واللَّه تَعَالَى نَصَرَهُ وَقَوَّاهُ، فَضَاعَ فِعْلُهُمْ وَظَهَرَ صُنْعُ اللَّه تَعَالَى. قَالَ الْقَاضِي: الْقِصَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ مُوَافِقَةٌ لِلْقُرْآنِ إِلَّا مَا فِيهَا مِنْ حَدِيثِ إِبْلِيسَ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَتْ صُورَتُهُ مُوَافِقَةً لِصُورَةِ الْإِنْسِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ التَّصْوِيرَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ فِعْلِ اللَّه أَوْ مِنْ فِعْلِ إِبْلِيسَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِيَفْتِنَ الْكُفَّارَ فِي الْمَكْرِ، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَقْدِرَ إِبْلِيسُ عَلَى تَغْيِيرِ صُورَةِ نَفْسِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النِّزَاعَ عَجِيبٌ، فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْعُدْ مِنَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُقْدِرَ إِبْلِيسَ عَلَى أَنْوَاعِ الْوَسَاوِسِ فَكَيْفَ يَبْعُدُ مِنْهُ أَنْ يُقْدِرَهُ عَلَى تَغْيِيرِ صُورَةِ نَفْسِهِ؟ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ وَلَا خَيْرَ فِي مَكْرِهِمْ. قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَقْوَى الْمَاكِرِينَ فَوَضَعَ خَيْرُ مَوْضِعَ أَقْوَى وَأَشَدَّ، لِيُنَبِّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَكْرٍ فَهُوَ يَبْطُلُ فِي مُقَابَلَةِ فِعْلِ اللَّه تَعَالَى. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ لَوْ قُدِّرَ فِي مَكْرِهِمْ مَا يَكُونُ خَيْرًا وَحَسَنًا. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: خَيْرُ الْماكِرِينَ لَيْسَ هُوَ التَّفْضِيلَ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ خَيْرٌ كَمَا يقال: الثريد خير من اللَّه تعالى. [سورة الأنفال (8) : الآيات 31 الى 34] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى مَكْرَهُمْ فِي ذَاتِ مُحَمَّدٍ. حَكَى مَكْرَهُمْ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ، رُوِيَ أن النضر بن الحرث خَرَجَ إِلَى الْحَيْرَةِ تَاجِرًا، وَاشْتَرَى أَحَادِيثَ كَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ، وَكَانَ يَقْعُدُ مَعَ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَالْمُقْتَسِمِينَ وَهُوَ مِنْهُمْ، فَيَقْرَأُ عَلَيْهِمْ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ، وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّهَا مِثْلُ مَا يَذْكُرُهُ مُحَمَّدٌ مِنْ قِصَصِ الْأَوَّلِينَ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وهاهنا مَوْضِعُ بَحْثٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا عَنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَدَّى الْعَرَبَ/ بِالْمُعَارَضَةِ، فَلَمْ يَأْتُوا بِهَا، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ أَتَوْا بِتِلْكَ الْمُعَارَضَةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ سُقُوطَ الدَّلِيلِ الْمُعَوَّلِ عَلَيْهِ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ كَلِمَةَ (لَوْ) تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ. فَقَوْلُهُ: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا شَاءَ ذَلِكَ الْقَوْلَ، وَمَا قَالَ. فَثَبَتَ أَنَّ النَّضْرَ بْنَ الحرث أَقَرَّ أَنَّهُ مَا أَتَى بِالْمُعَارَضَةِ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَهَا لَأَتَى بِهَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ. لَأَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا يَحْصُلُ لَوْ أَتَى بِالْمُعَارَضَةِ، أَمَّا مُجَرَّدُ هَذَا الْقَوْلِ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَالشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: لَهُمْ قَوْلُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ أَيْ بِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْعَذَابِ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَشَقَّ مِنْهُ عَلَيْنَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْكَلَامُ يُوجِبُ الْإِشْكَالَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قوله اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ حَكَاهُ اللَّه عَنِ الْكُفَّارِ، وَكَانَ هَذَا كَلَامَ الْكُفَّارِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ نَظْمِ الْقُرْآنِ فَقَدْ حَصَلَتِ الْمُعَارَضَةُ فِي هَذَا الْقَدْرِ، وَأَيْضًا حُكِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاءِ: 90] وَذَلِكَ أَيْضًا كَلَامُ الْكُفَّارِ فَقَدْ حَصَلَ مِنْ كَلَامِهِمْ مَا يُشْبِهُ نَظْمَ الْقُرْآنِ وَمُعَارَضَتَهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْمُعَارَضَةِ. الثَّانِي: أَنَّ كَفَّارَ قُرَيْشٍ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَكَانُوا قَدْ سَمِعُوا التَّهْدِيدَ الْكَثِيرَ مِنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي نُزُولِ الْعَذَابِ، فَلَوْ كَانَ نُزُولُ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا لَعَرَفُوا كَوْنَهُ مُعْجِزًا لِأَنَّهُمْ أَرْبَابُ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، وَلَوْ عَرَفُوا ذَلِكَ لَكَانَ أَقَلَّ الْأَحْوَالِ أَنْ يَصِيرُوا شَاكِّينَ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَوْ كَانُوا كَذَلِكَ لَمَا أَقْدَمُوا عَلَى قَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ لِأَنَّ الْمُتَوَقِّفَ الشَّاكَّ لَا يَتَجَاسَرُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ، وَحَيْثُ أَتَوْا بِهَذِهِ الْمُبَالَغَةِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا لَاحَ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ وَجْهٌ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُعْجِزَةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْإِتْيَانَ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْكَلَامِ لَا يَكْفِي فِي حُصُولِ الْمُعَارَضَةِ، لِأَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ كَلَامٌ قَلِيلٌ لَا يَظْهَرُ فِيهِ وُجُوهُ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يَتَمَشَّى إِلَّا إِذَا قُلْنَا التَّحَدِّي مَا وَقَعَ بِجَمِيعِ السُّوَرِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ بِالسُّورَةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي يَظْهَرُ فِيهَا قُوَّةُ الْكَلَامِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: هَبْ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُمُ الْوَجْهُ في كون القرآن معجز إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُعْجِزًا فِي نَفْسِهِ، فَسَوَاءٌ عَرَفُوا ذَلِكَ الْوَجْهَ أَوْ لَمْ يَعْرِفُوا فَإِنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ الْحَالُ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قوله: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْقِرَاءَةُ بِنَصْبِ الْحَقَّ عَلَى خَبَرِ كانَ وَدَخَلَتْ هُوَ لِلْفَصْلِ وَلَا مَوْضِعَ لَهَا، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ «مَا» الْمُؤَكِّدَةِ وَدَخَلَتْ/ لِيُعْلَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: الْحَقَّ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِهَذَا وَأَنَّهُ خَبَرٌ. قَالَ: وَيَجُوزُ هُوَ الْحَقُّ رَفْعًا وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَرَأَ بِهَا وَلَا خِلَافَ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ فِي إِجَازَتِهَا، وَلَكِنَّ الْقِرَاءَةَ سُنَّةٌ، وروى صاحب «الكشاف» عن الأعمش أنه قرأ بِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى هَاتَيْنِ الشُّبْهَتَيْنِ لَمْ يَذْكُرِ الْجَوَابَ عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ الْجَوَابَ عَنِ الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ، وَهُوَ قوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ تَقْرِيرَ وَجْهِ الْجَوَابِ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا بَالَغُوا وَقَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ مُحِقًّا فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ، ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مُحَمَّدًا وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا فِي قَوْلِهِ إِلَّا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يُمْطِرُ الْحِجَارَةَ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَعَلَى مُنْكِرِي نُبُوَّتِهِ، لِسَبَبَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا دَامَ يَكُونُ حَاضِرًا مَعَهُمْ، فإنه

[سورة الأنفال (8) : آية 35]

تَعَالَى لَا يَفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَهَذَا أَيْضًا عَادَةُ اللَّه مَعَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعَذِّبْ أَهْلَ قَرْيَةٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَخْرُجَ رَسُولُهُمْ مِنْهَا، كَمَا كَانَ فِي حَقِّ هُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ حُضُورُهُ فِيهِمْ مَانِعًا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، فَكَيْفَ قَالَ: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التَّوْبَةِ: 14] . قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنَ الْأَوَّلِ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ، وَمِنَ الثَّانِي: الْعَذَابُ الْحَاصِلُ بِالْمُحَارَبَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ. وَالسَّبَبُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: وَمَا كَانَ اللَّه مُعَذِّبَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ وَفِيهِمْ مُؤْمِنُونَ يَسْتَغْفِرُونَ، فَاللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ عَامًّا إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُهُمْ كَمَا يُقَالُ: قَتَلَ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ رَجُلًا، وَأَقْدَمَ أَهْلُ الْبَلْدَةِ الْفُلَانِيَّةِ عَلَى الْفَسَادِ، وَالْمُرَادُ بَعْضُهُمْ. الثَّانِي: وَمَا كَانَ اللَّه مُعَذِّبَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، وَفِي عِلْمِ اللَّه أَنَّهُ يَكُونُ لَهُمْ أَوْلَادٌ يُؤْمِنُونَ باللَّه وَيَسْتَغْفِرُونَهُ، فَوُصِفُوا بِصِفَةِ أَوْلَادِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ. الثَّالِثُ: قَالَ قَتَادَةُ وَالسَّدِّيُّ: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أَيْ لَوِ اسْتَغْفَرُوا لَمْ يُعَذَّبُوا، فَكَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ اسْتِدْعَاءَ الِاسْتِغْفَارِ مِنْهُمْ. أَيْ لَوِ اشْتَغَلُوا بِالِاسْتِغْفَارِ لَمَا عَذَّبَهُمُ اللَّه. وَلِهَذَا ذَهَبَ بعضهم إلى أن الاستغفار هاهنا بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ قَوْمٌ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّه أَنْ يُسْلِمُوا. مِنْهُمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ. وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الحرث بن عبد المطلب. والحرث بن هشام. وحكيم بن حزام. وعده كثير، والمعنى وما كان اللَّه معذبهم وأنت فيهم مع أن في عِلْمَ اللَّه أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَئُولُ أَمْرُهُ إِلَى الْإِيمَانِ. قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ أَمَانٌ وَسَلَامَةٌ مِنَ الْعَذَابِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِيهِمْ أَمَانَانِ نَبِيُّ اللَّه/ وَالِاسْتِغْفَارُ، أَمَّا النَّبِيُّ فَقَدْ مَضَى، وَأَمَّا الِاسْتِغْفَارُ فَهُوَ بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُمْ مَا دَامَ رَسُولُ اللَّه فِيهِمْ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ إِذَا خَرَجَ الرَّسُولُ مِنْ بَيْنِهِمْ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْعَذَابِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَحِقَهُمْ هَذَا الْعَذَابُ الْمُتَوَعَّدُ بِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقِيلَ بَلْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا الْعَذَابُ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَالْعَذَابُ الَّذِي نَفَاهُ عَنْهُمْ هُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا لِأَجْلِهِ يُعَذِّبُهُمْ، فَقَالَ: وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَقَدْ ظَهَرَتِ الْأَخْبَارُ أَنَّهُمْ كَيْفَ صَدُّوا عَنْهُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُمْ يَصُدُّونَ لِادِّعَائِهِمْ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ، ثُمَّ بَيَّنَ بُطْلَانَ هَذِهِ الدَّعْوَى بِقَوْلِهِ: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ يَتَحَرَّزُونَ عَنِ الْمُنْكَرَاتِ، كَالَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ عِنْدَ الْبَيْتِ مِنَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَهُمْ إِذَنْ أَهْلٌ لِأَنْ يُقْتَلُوا بِالسَّيْفِ وَيُحَارَبُوا، فَقَتَلَهُمُ اللَّه يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَعَزَّ الْإِسْلَامَ بِذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. [سورة الأنفال (8) : آية 35] وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا أَوْلِيَاءَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ. وَقَالَ: إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الأنفال: 34] بَيَّنَ بَعْدَهُ مَا بِهِ خَرَجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا أَوْلِيَاءَ الْبَيْتِ، وَهُوَ أَنَّ صَلَاتَهُمْ عِنْدَ البيت وتقربهم وعبادتهم إنما كان بِالْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْمُكَاءُ فُعَالٌ بِوَزْنِ النُّغَاءِ وَالرُّغَاءِ مِنْ مَكَا يَمْكُو إِذَا صفر،

[سورة الأنفال (8) : الآيات 36 إلى 37]

وَالْمُكَاءُ الصَّفِيرُ. وَمِنْهُ الْمُكَّاءُ وَهُوَ طَائِرٌ يَأْلَفُ الريف، وجمعه المكاكي سمى بذلك لكثرة مكانه. وَأَمَّا التَّصْدِيَةُ فَهِيَ التَّصْفِيقُ. يُقَالُ: صَدَّى يُصَدِّي تَصْدِيَةً إِذَا صَفَّقَ بِيَدَيْهِ، وَفِي أَصْلِهَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مِنَ الصَّدَى وَهُوَ الصَّوْتُ الَّذِي يَرْجِعُ مِنْ جَبَلٍ. الثَّانِي: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَصْلُهَا تَصْدِدَةٌ، فَأُبْدِلَتِ الْيَاءُ مِنَ الدَّالِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزُّخْرُفِ: 57] أَيْ يَعْجِزُونَ، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْكَلَامَ، وَالْأَزْهَرِيُّ صَحَّحَ قَوْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَقَالَ: صَدَى أَصْلُهُ صَدَّى، فَكَثُرَتِ الدَّالَاتُ الدَّالَّةُ فَقُلِبَتْ إِحْدَاهُنَّ يَاءً. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ قُرَيْشٌ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً يُصَفِّرُونَ وَيُصَفِّقُونَ/ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يُعَارِضُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّوَافِ وَيَسْتَهْزِءُونَ بِهِ وَيُصَفِّرُونَ وَيَخْلِطُونَ عَلَيْهِ طَوَافَهُ وَصَلَاتَهُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ إِذَا صَلَّى الرَّسُولُ فِي الْمَسْجِدِ يَقُومُونَ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ بِالتَّصْفِيرِ وَالتَّصْفِيقِ لِيَخْلِطُوا عَلَيْهِ صَلَاتَهُ. فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ الْمُكَاءُ وَالتَّصْدِيَةُ نَوْعَ عِبَادَةٍ لَهُمْ، وَعَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلٍ، كَانَ إِيذَاءً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً. فَإِنْ قِيلَ: الْمُكَاءُ وَالتَّصْدِيَةُ مَا كَانَا مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ فَكَيْفَ يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُمَا عَنِ الصَّلَاةِ؟ قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمُكَاءَ وَالتَّصْدِيَةَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ، فَخَرَجَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى حَسَبِ مُعْتَقَدِهِمْ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا كَقَوْلِكَ وَدِدْتُ الْأَمِيرَ فَجَعَلَ جَفَائِي صِلَتِي. أَيْ أَقَامَ الجفاء مقام الصلة فكذا هاهنا. الثَّالِثُ: الْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ كَانَ الْمُكَاءُ وَالتَّصْدِيَةُ صَلَاتَهُ فَلَا صَلَاةَ لَهُ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ، مَا لِفُلَانٍ عَيْبٌ إِلَّا السَّخَاءُ. يُرِيدُ مَنْ كَانَ السَّخَاءُ عَيْبَهُ فَلَا عَيْبَ لَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أَيْ عَذَابَ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقِيلَ: يُقَالُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. [سورة الأنفال (8) : الآيات 36 الى 37] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ فِي الطَّاعَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، أَتْبَعَهَا بِشَرْحِ أَحْوَالِهِمْ فِي الطَّاعَاتِ الْمَالِيَّةِ. قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْمُطْعِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ كِبَارِ قُرَيْشٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ وَإِنْفَاقِهِ الْمَالَ عَلَى حَرْبِ مُحَمَّدٍ يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانَ قَدِ اسْتَأْجَرَ أَلْفَيْنِ مِنَ الْأَحَابِيشِ سِوَى مَنِ اسْتَجَاشَ مِنَ الْعَرَبِ، وَأَنْفَقَ عَلَيْهِمْ/ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً وَالْأُوقِيَّةُ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ مِثْقَالًا، هَكَذَا قَالَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» . ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُنْفِقُونَ هَذَا الْمَالَ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّه، أَيْ كَانَ غَرَضُهُمْ فِي الْإِنْفَاقِ الصَّدَّ عَنِ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ سَبِيلُ اللَّه، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ كَذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَعْنِي: أَنَّهُ سَيَقَعُ هَذَا الْإِنْفَاقُ وَيَكُونُ عَاقِبَتُهُ الْحَسْرَةَ، لِأَنَّهُ يَذْهَبُ الْمَالُ وَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، بَلْ يَصِيرُونَ مَغْلُوبِينَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [الْمُجَادَلَةِ: 21] وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ففيه بحثان:

[سورة الأنفال (8) : آية 38]

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: وَإِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ، لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ أَسْلَمَ، بَلْ ذَكَرَ أَنَّ الَّذِينَ بَقُوا عَلَى الْكُفْرِ يَكُونُونَ كَذَلِكَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَشْرُهُمْ إِلَّا إِلَى جَهَنَّمَ، لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْخَبَرِ يُفِيدُ الْحَصْرَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ بَذْلِهِمْ أَمْوَالَهُمْ فِي تِلْكَ الْإِنْفَاقَاتِ إِلَّا الْحَسْرَةَ وَالْخَيْبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَابَ الشَّدِيدَ فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الزَّجْرَ الْعَظِيمَ عَنْ ذَلِكَ الْإِنْفَاقِ، ثُمَّ قَالَ: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لِيَمِيزَ اللَّه الْفَرِيقَ الْخَبِيثَ مِنَ الْكُفَّارِ مِنَ الْفَرِيقِ الطَّيِّبِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَجْعَلَ الْفَرِيقَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْجَمْعِ وَالضَّمِّ حَتَّى يَتَرَاكَمُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الْجِنِّ: 19] يَعْنِي لِفَرْطِ ازْدِحَامِهِمْ فَقَوْلُهُ: أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْفَرِيقِ الْخَبِيثِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ بِالْخَبِيثِ نَفَقَةُ الْكَافِرِ عَلَى عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ، وَبِالطَّيِّبِ نَفَقَةُ الْمُؤْمِنِ فِي جِهَادِ الْكُفَّارِ، كَإِنْفَاقِ أَبِي بَكْرٍ وَعُثْمَانَ فِي نُصْرَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيَضُمُّ تَعَالَى تِلْكَ الْأُمُورَ الْخَبِيثَةَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ فَيُلْقِيهَا فِي جَهَنَّمَ وَيُعَذِّبُهُمْ بِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ [التَّوْبَةِ: 35] وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: يُحْشَرُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّه الْفَرِيقَ الْخَبِيثَ مِنَ الْفَرِيقِ الطَّيِّبِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ قَالَ: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَهُوَ إشارة إلى الذين كفروا. [سورة الأنفال (8) : آية 38] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ صَلَاتَهُمْ فِي عِبَادَاتِهِمُ الْبَدَنِيَّةِ، وَعِبَادَاتِهِمُ الْمَالِيَّةِ، أَرْشَدَهُمْ إِلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ وَقَالَ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ قُلْ لِأَجْلِهِمْ هَذَا الْقَوْلَ، وَهُوَ: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى خَاطِبْهُمْ بِهِ لَقِيلَ: إِنْ تَنْتَهُوا يُغْفَرْ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ هَكَذَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ إِنِ انْتَهَوْا عَنِ الْكُفْرِ وَعَدَاوَةِ الرَّسُولِ، وَدَخَلُوا الْإِسْلَامَ وَالْتَزَمُوا شَرَائِعَهُ غَفَرَ اللَّه لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ لِلرَّسُولِ وَإِنْ عَادُوا إِلَيْهِ وَأَصَرُّوا عَلَيْهِ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ. وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ مِنْهُمُ الَّذِينَ حَاقَ بِهِمْ مَكْرُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. الثَّانِي: فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ قَدْ مَرُّوا فَلْيَتَوَقَّعُوا مِثْلَ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا. الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا انْتَهَوْا عَنِ الْكُفْرِ وَأَسْلَمُوا غُفِرَ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وَهِيَ قَوْلُهُ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [الْمُجَادَلَةِ: 21] وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا [الصَّافَّاتِ: 171] وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 105] .

[سورة الأنفال (8) : الآيات 39 إلى 40]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ تَوْبَةَ الزِّنْدِيقِ هَلْ تُقْبَلُ أَمْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: هَذِهِ الْآيَةُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ. فَإِنْ قِيلَ: الزِّنْدِيقُ لَا يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ هَلِ انْتَهَى مِنْ زَنْدَقَتِهِ أَمْ لَا؟ قُلْنَا: أَحْكَامُ الشَّرْعِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظَّوَاهِرِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ» فَلَمَّا رَجَعَ وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ فِيهِ. الثَّانِي: لَا شَكَّ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِالرُّجُوعِ وَلَا طَرِيقَ لَهُ إِلَيْهِ إِلَّا بِهَذِهِ التَّوْبَةِ فَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ لَزِمَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ [الشُّورَى: 25] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ، قَالُوا لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مُخَاطَبِينَ بِهَا، لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُخَاطَبِينَ بِهَا مَعَ الْكُفْرِ أَوْ بَعْدَ زَوَالِ الْكُفْرِ. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مِمَّا مَرَّ عَلَيْهِ فِي زَمَانِ الْكُفْرِ وَإِيجَابُ قَضَاءِ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ يُنَافِي ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا أَسْلَمَ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَرَكَهَا فِي حَالَةِ الرِّدَّةِ وَقَبْلَهَا، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ ظَاهِرٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» فَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ وَمَا كَانَ لَهُ مِنْ جِنَايَةٍ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ وَهُوَ سَاعَةَ إِسْلَامِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّ تَوْحِيدَ سَاعَةٍ يَهْدِمُ كُفْرَ سَبْعِينَ سَنَةً، وَتَوْحِيدُ سَبْعِينَ سَنَةً كَيْفَ لَا يَقْوَى عَلَى هدم ذنب ساعة؟! [سورة الأنفال (8) : الآيات 39 الى 40] وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ إِنِ انْتَهَوْا عَنْ كُفْرِهِمْ حَصَلَ لَهُمُ الْغُفْرَانُ، وَإِنْ عَادُوا فَهُمْ مُتَوَعَّدُونَ بِسُنَّةِ الْأَوَّلِينَ، أَتْبَعَهُ بِأَنْ أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ إِذَا أَصَرُّوا فَقَالَ: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: كَانَ الْمُؤْمِنُونَ فِي مَبْدَأِ الدَّعْوَةِ يُفْتَنُونَ عَنْ دِينِ اللَّه، فَافْتَتَنَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَخْرُجُوا إِلَى الْحَبَشَةِ، وَفِتْنَةٌ ثَانِيَةٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا بَايَعَتِ الْأَنْصَارُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم بيعة العقبة، توامرت قُرَيْشٌ أَنْ يَفْتِنُوا الْمُؤْمِنِينَ بِمَكَّةَ عَنْ دِينِهِمْ، فَأَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ جَهْدٌ شَدِيدٌ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْفِتْنَةِ، فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِقِتَالِهِمْ حَتَّى تَزُولَ هَذِهِ الْفِتْنَةُ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ مُبَالَغَةَ النَّاسِ فِي حُبِّهِمْ أَدْيَانَهُمْ أَشَدُّ مِنْ مُبَالَغَتِهِمْ فِي حُبِّهِمْ أَرْوَاحَهُمْ، فَالْكَافِرُ أَبَدًا يَسْعَى بِأَعْظَمِ وُجُوهِ السَّعْيِ فِي إِيذَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَفِي إِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ فِي قُلُوبِهِمْ وَفِي إِلْقَائِهِمْ فِي وُجُوهِ الْمِحْنَةِ وَالْمَشَقَّةِ، وَإِذَا وَقَعَتِ الْمُقَاتَلَةُ زَالَ الْكُفْرُ وَالْمَشَقَّةُ، وَخَلَصَ الْإِسْلَامُ وَزَالَتْ تِلْكَ الْفِتَنُ بِالْكُلِّيَّةِ. قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ ثُمَّ بَيَّنَ الْعِلَّةَ الَّتِي بِهَا أَوْجَبَ قِتَالَهُمْ، فَقَالَ: حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَخْلُصُ الدِّينُ الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّه مِنْ سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ إِذَا زَالَ الْكُفْرُ بِالْكُلِّيَّةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ وَقاتِلُوهُمْ لِأَجْلِ أَنْ يَحْصُلَ هَذَا الْمَعْنَى أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَقاتِلُوهُمْ لِغَرَضِ أَنْ

[سورة الأنفال (8) : آية 41]

يَحْصُلَ هَذَا الْمَعْنَى فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ هُوَ الْأَوَّلُ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْقِتَالِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ/ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فِي أَرْضِ مَكَّةَ وَمَا حَوَالَيْهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَصَلَ هُنَا، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى جَمِيعِ الْبِلَادِ، إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُرَادًا لَمَا بَقِيَ الْكُفْرُ فِيهَا مَعَ حُصُولِ الْقِتَالِ الَّذِي أَمَرَ اللَّه بِهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ هُوَ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُهُ: قَاتِلُوهُمْ لِغَرَضِ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للَّه، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَمْتَنِعْ حَمْلُهُ عَلَى إِزَالَةِ الْكُفْرِ عَنْ جَمِيعِ الْعَالَمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ غَرَضًا لِلْإِنْسَانِ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ، فَكَانَ الْمُرَادُ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ لِحُصُولِ هَذَا الْغَرَضِ سَوَاءٌ حَصَلَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ. ثُمَّ قَالَ: فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالْمَعْنَى فَإِنِ انْتَهَوْا عَنِ الْكُفْرِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي بِالتَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ عَالِمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ يُوَصِّلُ إِلَيْهِمْ ثَوَابَهُمْ وَإِنْ تَوَلَّوْا يَعْنِي عَنِ التَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ أَيْ وَلِيُّكُمُ الَّذِي يَحْفَظُكُمْ وَيَرْفَعُ الْبَلَاءَ عَنْكُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ وَكُلُّ مَا كَانَ فِي حِمَايَةِ هَذَا الْمَوْلَى وَفِي حِفْظِهِ وَكِفَايَتِهِ، كَانَ آمِنًا من الآفات مصوناً عن المخوفات. [سورة الأنفال (8) : آية 41] وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْمُقَاتَلَةِ فِي قَوْلِهِ: وَقاتِلُوهُمْ وَكَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ عِنْدَ الْمُقَاتَلَةِ قَدْ تَحْصُلُ الْغَنِيمَةُ، لَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى حُكْمَ الْغَنِيمَةِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْغُنْمُ: الْفَوْزُ بِالشَّيْءِ، يُقَالُ: غَنِمَ يَغْنَمُ غُنْمًا فَهُوَ غَانِمٌ، وَالْغَنِيمَةُ فِي الشَّرِيعَةِ مَا دَخَلَتْ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : (مَا) فِي قَوْلِهِ: أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ مَوْصُولَةٌ وَقَوْلُهُ: مِنْ شَيْءٍ يَعْنِي أي شيء كان حتى الخيط والمخيط فَأَنَّ لِلَّهِ خبر مبتدأ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَحَقٌّ أَوْ فَوَاجِبٌ/ أَنَّ للَّه خُمُسَهُ، وَرَوَى النَّخَعِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ بِالْكَسْرِ، وَتَقْدِيرُهُ: عَلَى قِرَاءَةِ النَّخَعِيِّ فَلِلَّهِ خُمُسُهُ وَالْمَشْهُورُ آكَدُ وَأَثْبَتُ لِلْإِيجَابِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ الْخُمُسِ فِيهِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْإِخْلَالِ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا حُذِفَ الْخَبَرُ وَاحْتَمَلَ وُجُوهًا كَثِيرَةً مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ كَقَوْلِكَ ثَابِتٌ: وَاجِبٌ، حَقٌّ، لَازِمٌ، كَانَ أَقْوَى لِإِيجَابِهِ مِنَ النَّصِّ عَلَى وَاحِدٍ، وَقُرِئَ خُمُسَهُ بِالسُّكُونِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ. اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنْ يُؤْخَذَ خُمْسُهَا، وَفِي كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ ذَلِكَ الْخُمْسِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ الْخُمْسَ يُخْمَسُ، فَسَهْمٌ لِرَسُولِ اللَّه، وَسَهْمٌ لِذَوِي قُرْبَاهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُمَا قَالَا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَؤُلَاءِ إِخْوَتُكَ بَنُو هَاشِمٍ لَا يُنْكَرُ فَضْلُهُمْ لِكَوْنِكَ مِنْهُمْ أَرَأَيْتَ إِخْوَانَنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَحَرَمْتَنَا،

وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّهُ يُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، سَهْمٌ لِرَسُولِ اللَّه، يُصْرَفُ إِلَى مَا كَانَ يَصْرِفُهُ إِلَيْهِ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، كَعُدَّةِ الْغُزَاةِ مِنَ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَسَهْمٌ لِذَوِي الْقُرْبَى مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَفُقَرَائِهِمْ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَالْبَاقِي لِلْفِرَقِ الثَّلَاثَةِ وَهُمْ: الْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينُ، وَابْنُ السَّبِيلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: إِنَّ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَهْمُهُ سَاقِطٌ بِسَبَبِ مَوْتِهِ، وَكَذَلِكَ سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى، وإنما يعطون لفقرهم، فهو أُسْوَةُ سَائِرِ الْفُقَرَاءِ، وَلَا يُعْطَى أَغْنِيَاؤُهُمْ فَيُقْسَمُ عَلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ فِي الْخُمْسِ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ إِنْ رَأَى قِسْمَتَهُ عَلَى هَؤُلَاءِ فَعَلَ، وَإِنْ رَأَى إِعْطَاءَ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، فَلَهُ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ مُطَابِقٌ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه وَصَرِيحٌ فِيهِ، فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَّا لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ أَقْوَى مِنْهَا، وَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ يَعْنِي: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ باللَّه فَاحْكُمُوا بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَحْصُلِ الْحُكْمُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ، لَمْ يَحْصُلِ الْإِيمَانُ باللَّه. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ: إِنَّ خُمْسَ الْغَنِيمَةِ يُقَسَّمُ عَلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ، فَوَاحِدٌ مِنْهَا للَّه، وَوَاحِدٌ لِرَسُولِ اللَّه، وَالثَّالِثُ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَالثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ خُمْسَ الْغَنِيمَةِ للَّه، ثُمَّ لِلطَّوَائِفِ الْخَمْسَةِ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ/ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُصْرَفُ سَهْمُ اللَّه إِلَى الرَّسُولِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُصْرَفُ إِلَى عِمَارَةِ الْكَعْبَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَضْرِبُ يَدَهُ فِي هَذَا الْخُمْسِ، فَمَا قَبَضَ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ جَعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ، وَهُوَ الَّذِي سُمِّيَ للَّه تَعَالَى. وَالْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَجَابُوا عَنْهُ: بِأَنَّ قَوْلَهُ: لِلَّهِ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِثْبَاتَ نَصِيبٍ للَّه. فَإِنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا مُلْكٌ للَّه، وَمِلْكُهُ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِذِكْرِ اللَّه عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَاحْتَجَّ الْقَفَّالُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ فِي غَنَائِمِ خَيْبَرَ: «مالي مِمَّا أَفَاءَ اللَّه عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسَ وَالْخُمُسُ مردود فيكم» فقوله: مالي إِلَّا الْخُمُسُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَهْمَ اللَّه وَسَهْمَ الرَّسُولِ وَاحِدٌ، وَعَلَى الْإِضْمَامِ سَهْمُهُ السُّدْسُ لَا الْخُمْسُ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ السَّهْمَيْنِ يَكُونَانِ لِلرَّسُولِ. صَارَ سَهْمُهُ أَزْيَدَ مِنَ الْخُمْسِ، وَكِلَا القولين ينافي ظاهر قوله: «مالي إِلَّا الْخُمْسُ» هَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي قِسْمَةِ خُمْسِ الْغَنِيمَةِ، وَأَمَّا الْبَاقِي وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ فَهِيَ لِلْغَانِمِينَ. لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ حَازُوهُ وَاكْتَسَبُوهُ كَمَا يُكْتَسَبُ الْكَلَأُ بِالِاحْتِشَاشِ، وَالطَّيْرُ بِالِاصْطِيَادِ، وَالْفُقَهَاءُ اسْتَنْبَطُوا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلَ كَثِيرَةً مَذْكُورَةً فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ قِسْمَةُ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ قَوْلَهُ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِهَؤُلَاءِ فِي الْغَنِيمَةِ، وَإِذَا حَصَلَ الْمِلْكُ لَهُمْ فِيهِ، وَجَبَ جَوَازُ الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ لَا مَعْنًى لِلْقِسْمَةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِلَّا صَرْفُ الْمِلْكِ إِلَى الْمَالِكِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي ذَوِي الْقُرْبَى. قِيلَ: هُمْ بَنُو هَاشِمٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: هُمْ بَنُو هَاشِمٍ

[سورة الأنفال (8) : آية 42]

وَبَنُو الْمُطَّلِبِ. وَاحْتَجَّ بِالْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ. وَقِيلَ: آلُ عَلِيٍّ، وَجَعْفَرٍ، وَعَقِيلٍ، وَآلُ عَبَّاسٍ، وَوَلَدُ الحرث بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: حَكَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنِ الْكَلْبِيِّ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِبَدْرٍ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: كَانَ الْخُمْسُ فِي غَزْوَةِ بَنِي قَيْنُقَاعَ بَعْدَ بَدْرٍ بِشَهْرٍ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ عَلَى رَأْسِ عِشْرِينَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَالْمَعْنَى اعْلَمُوا أَنَّ خُمْسَ الْغَنِيمَةِ مَصْرُوفٌ إِلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ فَاقْطَعُوا عَنْهُ أَطْمَاعَكُمْ وَاقْنَعُوا بِالْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَعْنِي: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ باللَّه وَبِالْمُنْزَلِ عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ، يَوْمَ بَدْرٍ. وَالْجَمْعَانِ: الْفَرِيقَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالْفَتْحِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ يَقْدِرُ عَلَى نَصْرِكُمْ وأنتم قليلون ذليلون واللَّه أعلم. [سورة الأنفال (8) : آية 42] إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمُضْمَرٍ مَعْنَاهُ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ كَذَا وَكَذَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ [الْأَنْفَالِ: 26] وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: إِذْ بَدَلًا عَنْ يَوْمَ الْفُرْقانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو بِالْعِدْوَةِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْحَرْفَيْنِ. وَالْبَاقُونَ بِالضَّمِّ، وَهُمَا لُغَتَانِ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: عُدْوَةُ الْوَادِي وَعِدْوَتُهُ جَانِبُهُ، وَالْجَمْعُ عُدًى، وَعِدًى. قَالَ الْأَخْفَشُ: الْكَسْرُ كَلَامُ الْعَرَبِ لَمْ يُسْمَعْ عَنْهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: الضَّمُّ فِي الْعُدْوَةِ أَكْثَرُ اللُّغَتَيْنِ. وَحَكَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الضَّمَّ وَالْفَتْحَ وَالْكَسْرَ. قال: وقرئ بهن وبالعدية عَلَى قَلْبِ الْوَاوِ يَاءً، لِأَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْكَسْرِ حَاجِزًا غَيْرَ حَصِينٍ، كَمَا فِي الْفِتْيَةِ. وَأَمَّا الدُّنْيا فَتَأْنِيثُ الْأَدْنَى وَضِدُّهُ الْقُصْوى وَهُوَ تَأْنِيثُ الْأَقْصَى، وَكُلُّ شَيْءٍ تَنَحَّى عَنْ شَيْءٍ، فَقَدْ قَصَا، وَالْأَقْصَى وَالْقُصْوَى كَالْأَكْبَرِ وَالْكُبْرَى. فَإِنْ قِيلَ: كِلْتَاهُمَا فُعْلَى مِنْ بَابِ الْوَاوِ، فَلِمَ جَاءَتْ إِحْدَاهُمَا بِالْيَاءِ وَالثَّانِيَةُ بِالْوَاوِ؟ قُلْنَا: الْقِيَاسُ قَلْبُ الْوَاوِ يَاءً، كَالْعُلْيَا. وَأَمَّا الْقُصْوَى، فَقَدْ جَاءَ شَاذًّا، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى أَصْلِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا، مَا يَلِي جَانِبَ الْمَدِينَةِ، وَبِالْقُصْوَى، مَا يَلِي جَانِبَ مَكَّةَ وَكَانَ الْمَاءُ فِي الْعُدْوَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ، وَكَانَ اسْتِظْهَارُهُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَشَدَّ وَالرَّكْبُ الْعِيرُ الَّتِي خَرَجُوا لَهَا كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ أَسْفَلَ مِنْكُمْ إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ أَنْتُمْ وَأَهْلُ/ مَكَّةَ عَلَى الْقِتَالِ، لَخَالَفَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا لِقِلَّتِكُمْ وَكَثْرَتِهِمْ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا أَيْ أَنَّهُ يُثَبِّتُكُمُ اللَّه، وَيَنْصُرُكُمْ، لِيَقْضِيَ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا، وَاجِبًا أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْفِعْلِ وَقَوْلُهُ: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَقْضِيَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

[سورة الأنفال (8) : آية 43]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا شَكَّ أَنَّ عَسْكَرَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَانُوا فِي غَايَةِ الْخَوْفِ وَالضَّعْفِ بِسَبَبِ الْقِلَّةِ وَعَدَمِ الْأُهْبَةِ، وَنَزَلُوا بَعِيدِينَ عَنِ الْمَاءِ، وَكَانَتِ الْأَرْضُ الَّتِي نَزَلُوا فِيهَا أَرْضًا رَمْلِيَّةً تَغُوصُ فِيهَا أَرْجُلُهُمْ. وَأَمَّا الْكُفَّارُ، فَكَانُوا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ بِسَبَبِ الْكَثْرَةِ فِي الْعَدَدِ، وَبِسَبَبِ حُصُولِ الْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَرِيبِينَ مِنَ الْمَاءِ، وَلِأَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي نَزَلُوا فِيهَا كَانَتْ صَالِحَةً لِلْمَشْيِ، وَلِأَنَّ الْعِيرَ كَانُوا خَلْفَ ظُهُورِهِمْ، وَكَانُوا يَتَوَقَّعُونَ مَجِيءَ الْمَدَدِ مِنَ الْعِيرِ إِلَيْهِمْ سَاعَةً فَسَاعَةً، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَلَبَ الْقِصَّةَ وَعَكَسَ الْقَضِيَّةَ، وَجَعَلَ الْغَلَبَةَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالدَّمَارَ عَلَى الْكَافِرِينَ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعْجِزَاتِ وَأَقْوَى الْبَيِّنَاتِ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا أَخْبَرَ عَنْ رَبِّهِ مِنْ وَعْدِ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَالظَّفَرِ. فَقَوْلُهُ: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ الَّذِينَ هَلَكُوا إِنَّمَا هَلَكُوا بَعْدَ مُشَاهَدَةِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ، وَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ بَقُوا فِي الْحَيَاةِ شَاهَدُوا هَذِهِ الْمُعْجِزَةَ الْقَاهِرَةَ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْبَيِّنَةِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وَفِي قَوْلِهِ: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ لَامُ الْغَرَضِ، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي تَعْلِيلَ أَفْعَالِ اللَّه وَأَحْكَامِهِ بِالْأَغْرَاضِ وَالْمَصَالِحِ، إِلَّا أَنَّا نَصْرِفُ هَذَا الْكَلَامَ عَنْ ظَاهِرِهِ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنَ الْكُلِّ الْعِلْمَ وَالْمَعْرِفَةَ وَالْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ، وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ، لَكِنَّا نَتْرُكُ هَذَا الظَّاهِرَ بالدلائل المعلومة. المسألة الرابعة: قوله: وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَالْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَنُصَيْرُ عَنِ الْكِسَائِيِّ مَنْ حَيِيَ بِإِظْهَارِ الْيَاءَيْنِ وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ بِرِوَايَةِ الْقَوَّاسِ، وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَالْكِسَائِيُّ بِيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ عَلَى الْإِدْغَامِ. فَأَمَّا الْإِدْغَامُ فَلِلُزُومِ الْحَرَكَةِ فِي الثَّانِي، فَجَرَى مَجْرَى رَدَّ لِأَنَّهُ فِي الْمُصْحَفِ مَكْتُوبٌ بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ. وَأَمَّا الْإِظْهَارُ فَلِامْتِنَاعِ الْإِدْغَامِ فِي مُضَارِعِهِ مِنْ «يَحْيَى» فَجَرَى عَلَى مُشَاكَلَتِهِ، وَأَجَازَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ الْإِدْغَامَ فِي يَحْيى. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ يَسْمَعُ دُعَاءَكُمْ وَيَعْلَمُ حَاجَتَكُمْ وضعفكم، فأصلح مهمكم. [سورة الأنفال (8) : آية 43] إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّه بِهَا عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ، أَوْ هُوَ بَدَلٌ ثَانٍ مِنْ يَوْمَ الْفُرْقَانِ أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ يَعْلَمُ الْمَصَالِحَ إِذْ يُقَلِّلُهُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَى اللَّه النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كُفَّارَ قُرَيْشٍ فِي مَنَامِهِ قَلِيلًا فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ. فَقَالُوا: رُؤْيَا النَّبِيِّ حَقٌّ، الْقَوْمُ قَلِيلٌ، فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِجَرَاءَتِهِمْ وقوة قلوبهم.

[سورة الأنفال (8) : آية 44]

فَإِنْ قِيلَ: رُؤْيَةُ الْكَثِيرِ قَلِيلًا غَلَطٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مِنَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؟ قُلْنَا: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيُحْكِمُ مَا يُرِيدُ، وَأَيْضًا لَعَلَّهُ تَعَالَى أَرَاهُ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَحَكَمَ الرَّسُولُ عَلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ رَآهُمْ بِأَنَّهُمْ قَلِيلُونَ. وَعَنِ الْحَسَنِ: هَذِهِ الْإِرَاءَةُ كَانَتْ فِي الْيَقَظَةِ. قَالَ: وَالْمُرَادُ مِنَ الْمَنَامِ الْعَيْنُ الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ النَّوْمِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَذَكَرْتَهُ لِلْقَوْمِ وَلَوْ سَمِعُوا ذَلِكَ لَفَشِلُوا وَلَتَنَازَعُوا، وَمَعْنَى التَّنَازُعِ فِي الْأَمْرِ، الِاخْتِلَافُ الَّذِي يُحَاوِلُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ نَزْعَ صَاحِبِهِ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: لَاضْطَرَبَ أَمْرُكُمْ وَاخْتَلَفَتْ كَلِمَتُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أَيْ سَلَّمَكُمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فِيمَا بَيْنَكُمْ. وَقِيلَ: سَلَّمَ اللَّه لَهُمْ أَمْرَهُمْ حَتَّى أَظْهَرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَقِيلَ سَلَّمَهُمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ يَوْمَ بَدْرٍ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ، وَلَكِنَّ اللَّه سَلَّمَكُمْ مِنَ التَّنَازُعِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يَعْلَمُ مَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنَ الْجَرَاءَةِ وَالْجُبْنِ وَالصَّبْرِ وَالْجَزَعِ. [سورة الأنفال (8) : آية 44] وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ النِّعَمِ الَّتِي أَظْهَرَهَا اللَّه لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْقَلِيلَ الَّذِي حَصَلَ فِي النَّوْمِ تَأَكَّدَ ذَلِكَ بِحُصُولِهِ فِي الْيَقَظَةِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ الضَّمِيرَانِ مَفْعُولَانِ يَعْنِي إِذْ يُبَصِّرُكُمْ إِيَّاهُمْ، وقَلِيلًا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَلَّلَ عَدَدَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَلَّلَ أَيْضًا عَدَدَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ. وَالْحِكْمَةُ فِي التَّقْلِيلِ الْأَوَّلِ، تَصْدِيقَ رُؤْيَا الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَيْضًا لِتَقْوَى قُلُوبُهُمْ وَتَزْدَادَ جَرَاءَتُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَالْحِكْمَةُ فِي التَّقْلِيلِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا اسْتَقَلُّوا عَدَدَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُبَالِغُوا فِي الِاسْتِعْدَادِ وَالتَّأَهُّبِ وَالْحَذَرِ، فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاسْتِيلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُرِيَهُمُ الْكَثِيرَ قَلِيلًا؟ قُلْنَا: أَمَّا عَلَى مَا قُلْنَا فَذَاكَ جَائِزٌ، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ الْإِدْرَاكَ فِي حَقِّ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: لَعَلَّ الْعَيْنَ مُنِعَتْ مِنْ إِدْرَاكِ الْكُلِّ، أَوْ لَعَلَّ الْكَثِيرَ مِنْهُمْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ فَمَا حَصَلَتْ رُؤْيَتُهُمْ. ثُمَّ قَالَ: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا. فَإِنْ قِيلَ: ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَكَانَ ذكره هاهنا مَحْضَ التَّكْرَارِ. قُلْنَا: الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَ تِلْكَ الْأَفْعَالَ لِيَحْصُلَ اسْتِيلَاءُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُعْجِزَةً دَالَّةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِ هاهنا، لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ تعالى ذكر هاهنا أَنَّهُ قَلَّلَ عَدَدَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ، فبين هاهنا أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِئَلَّا يُبَالِغَ الْكُفَّارُ فِي تَحْصِيلِ الِاسْتِعْدَادِ وَالْحَذَرِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِانْكِسَارِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَ الدُّنْيَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِذَوَاتِهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْهَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ زَادًا ليوم المعاد.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 45 إلى 47]

[سورة الأنفال (8) : الآيات 45 الى 47] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنْوَاعَ نِعَمِهِ عَلَى الرَّسُولِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَّمَهُمْ إِذَا الْتَقَوْا بِالْفِئَةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ مِنَ الْمُحَارِبِينَ نَوْعَيْنِ مِنَ الْأَدَبِ: الْأَوَّلُ: الثَّبَاتُ وَهُوَ أَنْ يُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى اللِّقَاءِ وَلَا يُحَدِّثُوهَا بِالتَّوَلِّي. وَالثَّانِي: أَنْ يَذْكُرُوا اللَّه كَثِيرًا، وَفِي تَفْسِيرِ هَذَا الذِّكْرِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونُوا بِقُلُوبِهِمْ ذَاكِرِينَ اللَّه وَبِأَلْسِنَتِهِمْ ذَاكِرِينَ اللَّه. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَ اللَّه أَوْلِيَاءَهُ بِذِكْرِهِ فِي أَشَدِّ أَحْوَالِهِمْ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْلِيَ قَلْبَهُ وَلِسَانَهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّه، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَقْبَلَ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ يُنْفِقُ الْأَمْوَالَ سَخَاءً، وَالْآخَرَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ يَضْرِبُ بِسَيْفِهِ فِي سَبِيلِ اللَّه، كَانَ الذَّاكِرُ للَّه أَعْظَمَ أَجْرًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الذِّكْرِ الدُّعَاءُ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّ مُقَاتَلَةَ الْكَافِرِ إِنْ كَانَتْ لِأَجْلِ طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى بَذْلِ الرُّوحِ فِي طَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ أَعْظَمُ مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ، فَإِنْ غَلَبَ الْخَصْمَ فَازَ بِالثَّوَابِ وَالْغَنِيمَةِ، وَإِنْ صَارَ مَغْلُوبًا فَازَ بِالشَّهَادَةِ وَالدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ، أَمَّا إِنْ كَانَتِ الْمُقَاتَلَةُ لَا للَّه بَلْ لِأَجْلِ الثَّنَاءِ فِي الدُّنْيَا وَطَلَبِ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَسِيلَةً إِلَى الْفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الْآيَةُ تُوجِبُ الثَّبَاتَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهَذَا يُوهِمُ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِآيَةِ التَّحَرُّفِ وَالتَّحَيُّزِ. قُلْنَا: هَذِهِ الْآيَةُ تُوجِبُ الثَّبَاتَ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الثَّبَاتِ الْجِدُّ فِي الْمُحَارَبَةِ. وَآيَةُ التَّحَرُّفِ وَالتَّحَيُّزِ لَا تَقْدَحُ فِي حُصُولِ الثَّبَاتِ فِي الْمُحَارَبَةِ بَلْ كَانَ الثَّبَاتُ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ، لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِذَلِكَ التَّحَرُّفِ وَالتَّحَيُّزِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُؤَكِّدًا لِذَلِكَ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي سَائِرِ مَا يَأْمُرُ بِهِ، لِأَنَّ الْجِهَادَ لَا يَنْفَعُ إِلَّا مَعَ التَّمَسُّكِ بِسَائِرِ الطَّاعَاتِ. ثُمَّ قَالَ: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ النِّزَاعَ يُوجِبُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُوجِبُ حُصُولَ الْفَشَلِ وَالضَّعْفِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِالرِّيحِ الدَّوْلَةُ، شُبِّهَتِ الدَّوْلَةُ وَقْتَ نَفَاذِهَا وَتَمْشِيَةِ أَمْرِهَا بِالرِّيحِ وَهُبُوبِهَا. يُقَالُ: هَبَّتْ رِيَاحُ فُلَانٍ، إِذَا دَانَتْ لَهُ الدَّوْلَةُ ونفد أَمْرُهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ نَصْرٌ إِلَّا بِرِيحٍ يَبْعَثُهَا اللَّه، وَفِي الْحَدِيثِ «نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ» وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْوَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ تَنَازُعَهُمْ مُؤَثِّرًا فِي ذَهَابِ الرِّيحِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ لَا يُؤَثِّرُ فِي هُبُوبِ الصَّبَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ أَيْ نُصْرَتُكُمْ، وَذَهَبَتْ رِيحُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ حِينَ تَنَازَعُوا يوم أحد.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: الْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ يُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَالْمُنَازَعَةُ مُحَرَّمَةٌ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ حَرَامًا، بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ الْمُشَاهَدَةُ، فَإِنَّا نَرَى أَنَّ الدُّنْيَا صَارَتْ مَمْلُوءَةً مِنَ الِاخْتِلَافَاتِ بِسَبَبِ الْقِيَاسَاتِ، وَبَيَانُ أَنَّ الْمُنَازَعَةَ مُحَرَّمَةٌ. قَوْلُهُ: وَلا تَنازَعُوا وَأَيْضًا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ النَّصَّ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالُوا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ طَاعَةِ اللَّه وَرَسُولِهِ فِي كُلِّ مَا نَصَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِأَنْ قَالَ: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْقِيَاسِ الْمُخَصَّصِ بِالنَّصِّ فَقَدْ تَرَكَ طَاعَةَ اللَّه وَطَاعَةَ رَسُولِهِ. وَتَمَسَّكَ بِالْقِيَاسِ الَّذِي يُوجِبُ التَّنَازُعَ وَالْفَشَلَ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ، وَمُثْبِتُو الْقِيَاسِ أَجَابُوا عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ قِيَاسٍ يُوجِبُ الْمُنَازَعَةَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كَمَالَ أَمْرِ الْجِهَادِ مَبْنِيٌّ عَلَى الصَّبْرِ، فَأَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ. كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا [آلِ عِمْرَانَ: 200] وَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى مَعَ الصَّابِرِينَ، وَلَا شُبْهَةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْمَعِيَّةِ النُّصْرَةُ وَالْمَعُونَةُ. ثُمَّ قَالَ: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ قُرَيْشٌ حِينَ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ لحفظ العير، فلما وردوا الجحفة بعث الخفاف الْكِنَانِيُّ وَكَانَ صَدِيقًا لِأَبِي جَهْلٍ إِلَيْهِ بِهَدَايَا مَعَ ابْنٍ لَهُ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ: إِنَّ أَبِي يُنْعِمُكَ صَبَاحًا وَيَقُولُ لَكَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أَمُدَّكَ بِالرِّجَالِ أَمْدَدْتُكَ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ أَزْحَفَ إِلَيْكَ بِمَنْ مَعِي مِنْ قَرَابَتِي فَعَلْتُ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: قُلْ لِأَبِيكَ جَزَاكَ اللَّه وَالرَّحِمَ خَيْرًا، إِنْ كُنَّا نُقَاتِلُ اللَّه كَمَا يزعم محمد فو اللَّه مَا لَنَا باللَّه مِنْ طَاقَةٍ، وَإِنْ كُنَّا نقاتل الناس، فو اللَّه إِنَّ بِنَا عَلَى النَّاسِ لَقُوَّةً، واللَّه مَا نَرْجِعُ عَنْ قِتَالِ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا فَنَشْرَبَ فِيهَا الْخُمُورَ وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا فِيهَا الْقِيَانُ، فَإِنَّ بَدْرًا مَوْسِمٌ مِنْ مَوَاسِمِ الْعَرَبِ، / وَسُوقٌ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ حَتَّى تَسْمَعَ الْعَرَبُ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ. قال المفسرون: فوردوا بدراً وشربوا كؤوس الْمَنَايَا مَكَانَ الْخَمْرِ، وَنَاحَتْ عَلَيْهِمُ النَّوَائِحُ مَكَانَ الْقِيَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ: الْبَطَرُ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْبَطَرُ الطُّغْيَانُ فِي النِّعْمَةِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ النِّعَمَ إِذَا كَثُرَتْ مِنَ اللَّه عَلَى الْعَبْدِ فَإِنْ صَرَفَهَا إِلَى مَرْضَاتِهِ وَعَرَفَ أَنَّهَا مِنَ اللَّه تَعَالَى فَذَاكَ هُوَ الشُّكْرُ. وَأَمَّا إِنْ تَوَسَّلَ بِهَا إِلَى الْمُفَاخَرَةِ عَلَى الْأَقْرَانِ وَالْمُكَاثَرَةِ عَلَى أَهْلِ الزَّمَانِ فَذَاكَ هُوَ الْبَطَرُ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَرِئاءَ النَّاسِ وَالرِّئَاءُ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَصْدِ إِلَى إِظْهَارِ الْجَمِيلِ مَعَ أَنَّ بَاطِنَهُ يَكُونُ قَبِيحًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النِّفَاقِ أَنَّ النِّفَاقَ إِظْهَارُ الْإِيمَانِ مَعَ إِبْطَانِ الْكُفْرِ، وَالرِّئَاءُ إِظْهَارُ الطَّاعَةِ مَعَ إِبْطَانِ الْمَعْصِيَةِ. رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَآهُمْ فِي مَوْقِفِ بَدْرٍ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا أَقْبَلَتْ بِفَخْرِهَا وَخُيَلَائِهَا لِمُعَارَضَةِ دِينِكَ وَمُحَارَبَةِ رَسُولِكَ» وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فِعْلٌ مُضَارِعٌ وَعَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ غَيْرُ حَسَنٍ. وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ صَادِّينَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: بَطَراً وَرِئاءَ بمنزلة يبطرون ويراؤن، وَأَقُولُ: إِنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَا يَشْفِي الْغَلِيلَ، لِأَنَّهُ تَارَةً يُقِيمُ الْفِعْلَ مَقَامَ الِاسْمِ وَأُخْرَى يُقِيمُ الِاسْمَ مَقَامَ الْفِعْلِ، لِيَصِحَّ لَهُ كَوْنُ الْكَلِمَةِ مَعْطُوفَةً عَلَى جِنْسِهَا، وَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ عَبَّرَ عَنِ الْأَوَّلَيْنِ بِالْمَصْدَرِ، وَعَنِ الثَّالِثِ بِالْفِعْلِ. وَأَقُولُ: إِنَّ الشَّيْخَ عَبْدَ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيَّ، ذَكَرَ أَنَّ الِاسْمَ يَدُلُّ عَلَى التَّمْكِينِ وَالِاسْتِمْرَارِ وَالْفِعْلَ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ، قَالَ وَمِثَالُهُ فِي الِاسْمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الْكَهْفِ: 18] وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ تِلْكَ الْحَالَةِ ثَابِتَةً رَاسِخَةً، وَمِثَالُ الْفِعْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ

[سورة الأنفال (8) : آية 48]

يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [يُونُسَ: 31] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُوصِلُ الرِّزْقَ إِلَيْهِمْ سَاعَةً فَسَاعَةً، هَذَا مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ أَبَا جَهْلٍ وَرَهْطَهُ وَشِيعَتَهُ كَانُوا مَجْبُولِينَ عَلَى الْبَطَرِ وَالْمُفَاخَرَةِ وَالْعُجْبِ، وَأَمَّا صَدُّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّه فَإِنَّمَا حَصَلَ فِي الزَّمَانِ الَّذِي ادَّعَى مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ النُّبُوَّةَ. وَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ الْبَطَرَ وَالرِّئَاءَ بِصِيغَةِ الِاسْمِ، وَذَكَرَ الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّه بِصِيغَةِ الْفِعْلِ واللَّه أَعْلَمُ. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ بِالثَّبَاتِ وَالِاشْتِغَالِ بِذِكْرِ اللَّه، وَمَنَعَهَمْ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الثَّبَاتِ الْبَطَرَ وَالرِّئَاءَ، بَلْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَيْهِ طَلَبَ عُبُودِيَّةِ اللَّه. وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ الْقُرْآنِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ دَعْوَةُ الْخَلْقِ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْخَلْقِ، وَأَمْرُهُمْ بِالْعَنَاءِ فِي طَرِيقِ عُبُودِيَّةِ الْحَقِّ، وَالْمَعْصِيَةُ مَعَ الِانْكِسَارِ أَقْرَبُ إِلَى الْإِخْلَاصِ مِنَ الطَّاعَةِ مَعَ الِافْتِخَارِ، ثُمَّ/ خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا أَظْهَرَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ الْحَامِلَ لَهُ وَالدَّاعِيَ إِلَى الْفِعْلِ الْمَخْصُوصِ طَلَبُ مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى كَوْنَهُ عَالِمًا بِمَا فِي دَوَاخِلِ الْقُلُوبِ، وَذَلِكَ كالتهديد والزجر عن الرئاء والتصنع. [سورة الأنفال (8) : آية 48] وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ النِّعَمِ الَّتِي خُصَّ أَهْلُ بَدْرٍ بِهَا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَامِلُ فِي إِذْ فِيهِ وُجُوهٌ: قِيلَ: تَقْدِيرُهُ اذْكُرْ إِذْ زَيَّنَ لَهُمْ، وَقِيلَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَذْكِيرِ النِّعَمِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرُوا إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ وَإِذْ زَيَّنَ، وَقِيلَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: خَرَجُوا بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ. وَتَقْدِيرُهُ: لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّزْيِينِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ زَيَّنَ بِوَسْوَسَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَحَوَّلَ فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالْأَصَمِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ ظَهَرَ فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ. قَالُوا: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ حِينَ أَرَادُوا الْمَسِيرَ إِلَى بَدْرٍ خَافُوا مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ كِنَانَةَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَتَلُوا مِنْهُمْ وَاحِدًا، فَلَمْ يَأْمَنُوا أَنْ يَأْتُوهُمْ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَتَصَوَّرَ لَهُمْ إِبْلِيسُ بِصُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ وَهُوَ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ كِنَانَةَ وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ فِي جُنْدٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَمَعَهُ رَايَةٌ، وَقَالَ: لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ مُجِيرُكُمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، فَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ نُزُولَ الملائكة نكص على عقيبه. وقيل: كانت يده في يد الحرث بن هشام، فلما نكص قال له الحرث: أتخذ لنا فِي هَذِهِ الْحَالِ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَرَى مَا لا ترون! ودفع في صدر الحرث وَانْهَزَمُوا. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَغْيِيرِ صُورَةِ إِبْلِيسَ إِلَى صُورَةِ سُرَاقَةَ؟ وَالْجَوَابُ فِيهِ مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ لِأَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ لَمَّا رَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ/ قَالُوا هَزَمَ

النَّاسَ سُرَاقَةُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ سُرَاقَةَ فَقَالَ: واللَّه مَا شَعُرْتُ بِمَسِيرِكُمْ حَتَّى بَلَغَتْنِي هَزِيمَتُكُمْ. فَعِنْدَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ لِلْقَوْمِ أَنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ مَا كَانَ سُرَاقَةَ بَلْ كَانَ شَيْطَانًا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذًا حَضَرَ إِبْلِيسُ لِمُحَارَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ، فَلِمَ لَمْ يَهْزِمُوا جُيُوشَ الْمُسْلِمِينَ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ رَأَى فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ جِبْرِيلَ مَعَ أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَافَ وَفَرَّ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ وَجَبَ أَنْ يَنْهَزِمَ جَمِيعُ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ يَتَشَبَّهُ بِصُورَةِ الْبَشَرِ وَيَحْضُرُ وَيُعِينُ جَمْعَ الْكُفَّارِ وَيَهْزِمُ جُمُوعَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَلِمَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ وَقَائِعِ الْمُسْلِمِينَ؟ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَكَيْفَ أَضَفْتُمْ إِلَيْهِ هَذَا الْعَمَلَ فِي وَاقِعَةِ بَدْرٍ؟ الْجَوَابُ: لَعَلَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا غَيَّرَ صُورَتَهُ إِلَى صُورَةِ الْبَشَرِ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ أَمَّا فِي سَائِرِ الْوَقَائِعِ فَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ التَّغْيِيرَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا غَيَّرَ صُورَتَهُ إِلَى صُورَةِ الْبَشَرِ فَمَا بَقِيَ شَيْطَانًا بَلْ صَارَ بَشَرًا. الْجَوَابُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا كَانَ إِنْسَانًا بِجَوْهَرِ نَفْسِهِ النَّاطِقَةِ، وَنُفُوسُ الشَّيَاطِينِ مُخَالِفَةٌ لِنُفُوسِ الْبَشَرِ فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ تَغْيِيرِ الصُّورَةِ تَغْيِيرُ الْحَقِيقَةِ، وَهَذَا الْبَابُ أَحَدُ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ إِنْسَانًا بِحَسَبِ بِنْيَتِهِ الظَّاهِرَةِ وَصُورَتِهِ الْمَخْصُوصَةِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْطَانِ لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا الْكَلَامِ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا كَثِيرِينَ غَالِبِينَ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا كَثِيرِينَ فِي الْعَدَدِ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يُشَاهِدُونَ أَنَّ دَوْلَةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلَّ يَوْمٍ فِي التَّرَقِّي وَالتَّزَايُدِ، وَلِأَنَّ مُحَمَّدًا كُلَّمَا أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ فَقَدْ وَقَعَ فَكَانُوا لِهَذَا السَّبَبِ خَائِفِينَ جِدًّا مِنْ قَوْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ إِبْلِيسُ هَذَا الْكَلَامَ إِزَالَةً لِلْخَوْفِ عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يُؤَمِّنُهُمْ مِنْ شَرِّ بَنِي بَكْرِ بْنِ كِنَانَةَ خُصُوصًا وَقَدْ تصور بصورة زعيم منهم، وقال: إِنِّي جارٌ لَكُمْ وَالْمَعْنَى: إِنِّي إِذَا كُنْتُ وَقَوْمِي ظَهِيرًا لَكُمْ فَلَا يَغْلِبُكُمْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ ومعنى الجار هاهنا: الدَّافِعُ عَنْ صَاحِبِهِ أَنْوَاعَ الضَّرَرِ كَمَا يَدْفَعُ الْجَارُ عَنْ جَارِهِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَنَا جَارٌ لك من فلان أي حافظ مِنْ مَضَرَّتِهِ فَلَا يَصِلُ إِلَيْكَ مَكْرُوهٌ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ أَيِ الْتَقَى الْجَمْعَانِ بِحَيْثُ رَأَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ الْأُخْرَى نكص على عقيبه، وَالنُّكُوصُ الْإِحْجَامُ عَنِ الشَّيْءِ، وَالْمَعْنَى: رَجَعَ وَقَالَ: إني أرى مالا تَرَوْنَ، وَفِيهِ/ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رُوحَانِيٌّ، فَرَأَى الْمَلَائِكَةَ فَخَافَهُمْ. قِيلَ: رَأَى جِبْرِيلَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقِيلَ: رَأَى أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ. الثَّانِي: أَنَّهُ رَأَى أَثَرَ النُّصْرَةِ وَالظَّفَرِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ لَنَزَلَتْ عَلَيْهِ بَلِيَّةٌ. ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ قَالَ قَتَادَةُ صَدَقَ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ وَكَذَبَ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَقِيلَ لَمَّا رَأَى الْمَلَائِكَةَ يَنْزِلُونَ مِنَ السَّمَاءِ خَافَ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ الَّذِي أُنْظِرَ إِلَيْهِ قَدْ حَضَرَ فَقَالَ: مَا قَالَ إِشْفَاقًا عَلَى نَفْسِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ إِبْلِيسَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقَطِعَ كَلَامُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ أخاف اللَّه.

[سورة الأنفال (8) : آية 49]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ. [سورة الأنفال (8) : آية 49] إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا لَمْ تَدْخُلِ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ يَقُولُ وَدَخَلَتْ فِي قوله: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ [الأنفال: 48] لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذْ زَيَّنَ عَطْفٌ عَلَى هَذَا التَّزْيِينِ عَلَى حَالِهِمْ وَخُرُوجِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءً، وَأَمَّا هُنَا وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ فَلَيْسَ فِيهِ عَطْفٌ لِهَذَا الْكَلَامِ عَلَى مَا قَبْلَهُ بَلْ هُوَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وَعَامِلُ الْإِعْرَابِ فِي إِذْ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ واللَّه شَدِيدُ الْعِقَابِ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالثَّانِي: اذْكُرُوا إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَهُمْ قَوْمٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَسْلَمُوا وَمَا قَوِيَ إِسْلَامُهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ وَلَمْ يُهَاجِرُوا. ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا لَمَّا خَرَجُوا لِحَرْبِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أُولَئِكَ نَخْرُجُ مَعَ قَوْمِنَا فَإِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ فِي كَثْرَةٍ خَرَجْنَا إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي قِلَّةٍ أَقَمْنَا فِي قَوْمِنَا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ قُتِلَ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَوْلُهُ: غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ خَرَجَ بِثَلَاثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ يُقَاتِلُونَ أَلْفَ رَجُلٍ، / وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهُمُ اعْتَمَدُوا عَلَى دِينِهِمْ. وَقِيلَ الْمُرَادُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ يَسْعَوْنَ فِي قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، رَجَاءَ أَنْ يُجْعَلُوا أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ وَيُثَابُونَ عَلَى هَذَا الْقَتْلِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أَيْ وَمَنْ يُسَلِّمْ أَمْرَهُ إِلَى اللَّه وَيَثِقْ بِفَضْلِهِ وَيُعَوِّلْ عَلَى إِحْسَانِ اللَّه، فَإِنَّ اللَّه حَافِظُهُ وَنَاصِرُهُ، لِأَنَّهُ عَزِيزٌ لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، حَكِيمٌ يُوَصِّلُ الْعَذَابَ إِلَى أَعْدَائِهِ، وَالرَّحْمَةَ وَالثَّوَابَ إلى أوليائه: [سورة الأنفال (8) : الآيات 50 الى 51] وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ شَرَحَ أَحْوَالَ مَوْتِهِمْ، وَالْعَذَابَ الَّذِي يَصِلُ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحْدَهُ إِذْ تَتَوَفَّى بِالتَّاءِ عَلَى تَأْنِيثِ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ وَالْجَمْعِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْمَعْنَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: جَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ. وَالتَّقْدِيرُ: لَرَأَيْتَ مَنْظَرًا هَائِلًا، وَأَمْرًا فَظِيعًا، وَعَذَابًا شَدِيدًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَلَوْ تَرى وَلَوْ عَايَنْتَ وَشَاهَدْتَ، لِأَنَّ لَوْ تَرُدُّ الْمُضَارِعَ إِلَى الْمَاضِي كَمَا تَرُدُّ إِنْ الْمَاضِيَ إِلَى الْمُضَارِعِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمَلَائِكَةُ رَفْعُهَا بِالْفِعْلِ، وَيَضْرِبُونَ حَالٌ مِنْهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ: يَتَوَفَّى

ضَمِيرٌ للَّه تَعَالَى، وَالْمَلَائِكَةُ مَرْفُوعَةٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَيَضْرِبُونَ خَبَرٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَى يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا يَقْبِضُونَ أَرْوَاحَهُمْ عَلَى اسْتِيفَائِهَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ شَيْءٌ مُغَايِرٌ لِهَذَا الْجَسَدِ، وَأَنَّهُ هُوَ الرُّوحُ فَقَطْ لِأَنَّ قَوْلَهُ: يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْتَوْفَى الذَّاتَ الْكَافِرَةَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذَّاتَ الْكَافِرَةَ هِيَ الَّتِي اسْتُوفِيَتْ/ مِنْ هَذَا الْجَسَدِ، وَهَذَا بُرْهَانٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ شَيْءٌ مُغَايِرٌ لِهَذَا الْجَسَدِ، وَقَوْلُهُ: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا أَقْبَلُوا بِوُجُوهِهِمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ ضَرَبُوا وُجُوهَهُمْ بِالسَّيْفِ، وَإِذَا وَلَّوْا ضَرَبُوا أَدْبَارَهُمْ، فَلَا جَرَمَ قَابَلَهُمُ اللَّه بِمِثْلِهِ فِي وَقْتِ نَزْعِ الرُّوحِ، وَأَقُولُ فِيهِ مَعْنًى آخَرُ أَلْطَفُ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ رُوحَ الْكَافِرِ إِذَا خَرَجَ مِنْ جَسَدِهِ فَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْ عَالَمِ الدُّنْيَا مُقْبِلٌ عَلَى الْآخِرَةِ، وَهُوَ لِكُفْرِهِ لَا يُشَاهِدُ فِي عَالَمِ الْآخِرَةِ إِلَّا الظُّلُمَاتِ، وَهُوَ لِشِدَّةِ حُبِّهِ لِلْجُسْمَانِيَّاتِ، وَمُفَارَقَتِهِ لَهَا لَا يَنَالُ مِنْ مُبَاعَدَتِهِ عَنْهَا إِلَّا الْآلَامَ والحسرات، فسبب مُفَارَقَتِهِ لِعَالَمِ الدُّنْيَا تَحْصُلُ لَهُ الْآلَامُ بَعْدَ الْآلَامِ وَالْحَسَرَاتِ، وَبِسَبَبِ إِقْبَالِهِ عَلَى الْآخِرَةِ مَعَ عَدَمِ النُّورِ وَالْمَعْرِفَةِ، يَنْتَقِلُ مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى ظُلُمَاتٍ، فَهَاتَانِ الْجِهَتَانِ هُمَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ وَفِيهِ إِضْمَارٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا [الْبَقَرَةِ: 127] أَيْ وَيَقُولَانِ رَبَّنَا، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا [السَّجْدَةِ: 12] أَيْ يَقُولُونَ رَبَّنَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ: وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ إِنَّمَا صَحَّ لِأَنَّهُ كَانَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ مَقَامِعُ، وَكُلَّمَا ضَرَبُوا بِهَا الْتَهَبَتِ النَّارُ فِي الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ، فَذَاكَ قَوْلُهُ: وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا تَقُولُهُ الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَأَقُولُ: أَمَّا الْعَذَابُ الْجُسْمَانِيُّ فَحَقٌّ وَصِدْقٌ. وَأَمَّا الرُّوحَانِيُّ فَحَقٌّ أَيْضًا لِدَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْجَاهِلَ إِذَا فَارَقَ الدُّنْيَا حَصَلَ لَهُ الْحُزْنُ الشَّدِيدُ بِسَبَبِ مُفَارَقَةِ الدُّنْيَا الْمَحْبُوبَةِ، وَالْخَوْفُ الشَّدِيدُ بِسَبَبِ تَرَاكُمِ الظُّلُمَاتِ عَلَيْهِ فِي عَالَمِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ. وَالْخَوْفُ وَالْحُزْنُ كِلَاهُمَا يُوجِبَانِ الْحُرْقَةَ الرُّوحَانِيَّةَ، وَالنَّارَ الرُّوحَانِيَّةَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ قِيلَ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ ذَلِكَ نَصْبًا، وَالتَّقْدِيرُ: فَعَلْنَا ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: ذلِكَ هَذَا أَيْ هَذَا الْعَذَابُ الَّذِي هُوَ عَذَابُ الْحَرِيقِ، حَصَلَ بِسَبَبِ مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ، وذكرنا في قوله: الم ذلِكَ الْكِتابُ أَنَّ مَعْنَاهُ هَذَا الْكِتَابُ وَهَذَا الْمَعْنَى جَائِزٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَقْتَضِي أَنَّ فَاعِلَ هَذَا الْفِعْلِ هُوَ الْيَدُ، وَذَلِكَ/ مُمْتَنِعٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ إِنَّمَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَمَحَلُّ الْكُفْرِ هُوَ الْقَلْبُ لَا الْيَدُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْيَدَ لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ، فَلَا يَتَوَجَّهُ التَّكْلِيفُ عَلَيْهَا، فَلَا يُمْكِنُ إِيصَالُ الْعَذَابِ إِلَيْهَا، فوجب حمل اليد هاهنا على القدرة، وسبب هذا المجازان الْيَدَ آلَةُ الْعَمَلِ وَالْقُدْرَةُ هِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي الْعَمَلِ، فَحَسُنَ جَعْلُ الْيَدِ كِنَايَةً عَنِ الْقُدْرَةِ.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 52 إلى 54]

وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْإِنْسَانَ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ وهو الفعل وَهُوَ الدَّرَّاكُ وَهُوَ الْمُؤْمِنُ وَهُوَ الْكَافِرُ وَهُوَ الْمُطِيعُ وَالْعَاصِي، وَهَذِهِ الْأَعْضَاءُ آلَاتٌ لَهُ وَأَدَوَاتٌ لَهُ فِي الْفِعْلِ فَأُضِيفَ الْفِعْلُ فِي الظَّاهِرِ إِلَى الْآلَةِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُضَافٌ إِلَى جوهر ذات الإنسان. المسألة الرابعة: قوله: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ الْعِقَابَ كَالْأَمْرِ الْمُتَوَلِّدِ مِنَ الْفِعْلِ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْعِقَابَ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ العقائد الباطلة التي يكتبها الْإِنْسَانُ، وَمِنَ الْمَلَكَاتِ الرَّاسِخَةِ الَّتِي يَكْتَسِبُهَا الْإِنْسَانُ، فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ مُطَابِقًا لِلْمَعْقُولِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَحَلِّ أَنَّ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: النَّصْبُ بِنَزْعِ الْخَافِضِ يَعْنِي بِأَنَّ اللَّه: وَالثَّانِي: أَنَّكَ إِنْ جَعَلْتَ قَوْلَهُ: ذلِكَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ جَعَلْتَ أَنَّ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ أَيْضًا، بِمَعْنَى وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه قَالَ الْكِسَائِيُّ وَلَوْ كَسَرْتَ أَلِفَ أَنَّ عَلَى الِابْتِدَاءِ كَانَ صَوَابًا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: يَكُونُ هَذَا كَلَامًا مُبْتَدَأً مُنْقَطِعًا عَمَّا قَبْلَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَوْ كَانَ تَعَالَى يَخْلُقُ الْكُفْرَ فِي الْكَافِرِ، ثُمَّ يُعَذِّبُهُ عَلَيْهِ لَكَانَ ظَالِمًا، وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا بِهَذَا الْعَذَابِ، لِأَنَّهُ قَدَّمَ مَا اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ هَذَا الْعَذَابَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ ذَلِكَ التَّقْدِيمُ لَكَانَ اللَّه تَعَالَى ظَالِمًا فِي هَذَا الْعَذَابِ، فَلَوْ كَانَ الْمُوجِدُ لِلْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ هُوَ اللَّه لَا الْعَبْدُ لَوَجَبَ كَوْنُ اللَّه ظَالِمًا، وَأَيْضًا تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الظُّلْمِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ لَمَا كَانَ فِي التَّمَدُّحِ بِنَفْيِهِ فَائِدَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَدْ سَبَقَ ذِكْرُهَا عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، فلا فائدة في الإعادة. واللَّه أعلم. [سورة الأنفال (8) : الآيات 52 الى 54] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54) [في قَوْلُهُ تَعَالَى كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مَا أَنْزَلَهُ بِأَهْلِ بَدْرٍ مِنَ الْكُفَّارِ عَاجِلًا وَآجِلًا كَمَا شَرَحْنَاهُ أَتْبَعَهُ بِأَنْ بَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ طَرِيقَتُهُ وَسُنَّتُهُ فِي الْكُلِّ. فَقَالَ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالْمَعْنَى: عَادَةُ هَؤُلَاءِ فِي كُفْرِهِمْ كَعَادَةِ آلِ فِرْعَوْنَ فِي كُفْرِهِمْ. فَجُوزِيَ هَؤُلَاءِ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ كَمَا جُوزِيَ أُولَئِكَ بِالْإِغْرَاقِ وَأَصْلُ الدَّأْبِ فِي اللُّغَةِ إِدَامَةُ الْعَمَلِ يُقَالُ: فُلَانٌ يَدْأَبُ فِي كَذَا، أَيْ يُدَاوِمُ عَلَيْهِ وَيُوَاظِبُ وَيُتْعِبُ نَفْسَهُ، ثُمَّ سُمِّيَتِ الْعَادَةُ دَأْبًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مُدَاوِمٌ عَلَى عَادَتِهِ وَمُوَاظِبٌ عَلَيْهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ لَهُمْ عَذَابًا مُدَّخَرًا سِوَى مَا نَزَلَ بِهِمْ

مِنَ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَجْرِي الْعِلَّةِ فِي الْعِقَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ بِهِمْ، فَقَالَ: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: لَمْ يَكُ أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ يَقُولُونَ إِنَّمَا حُذِفَتِ النُّونُ. لِأَنَّهَا لَمْ تُشْبِهِ الْغُنَّةَ الْمَحْضَةَ، فَأَشْبَهَتْ حُرُوفَ اللِّينِ وَوَقَعَتْ طَرَفًا، فَحُذِفَتْ تَشْبِيهًا بِهَا كَمَا تَقُولُ لَمْ يَدْعُ وَلَمْ يَرْمِ وَلَمْ يَلِ وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا يَنْتَقِضُ بِقَوْلِهِمْ لَمْ يَزِنْ وَلَمْ يخن فلم يسمع حذف النون هاهنا. وَأَجَابَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى عَنْهُ. فَقَالَ إِنَّ كَانَ وَيَكُونُ أُمُّ الْأَفْعَالِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ كَلَّ فِعْلٍ قَدْ حَصَلَ/ فِيهِ مَعْنَى كَانَ فَقَوْلُنَا ضَرَبَ مَعْنَاهُ كَانَ ضَرْبٌ وَيَضْرِبُ مَعْنَاهُ يَكُونُ ضَرْبٌ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْكُلِّ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ أُمُّ الْأَفْعَالِ. فَاحْتِيجَ إِلَى استعمالها في أكثر الأوقات، فاحتمك هَذَا الْحَذْفَ بِخِلَافِ قَوْلِنَا لَمْ يَخُنْ وَلَمْ يَزِنْ، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهَا كَثِيرًا فَظَهَرَ الْفَرْقُ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ وَإِزَالَةِ الْمَوَانِعِ وَتَسْهِيلِ السُّبُلِ وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِالْعِبَادَةِ وَالشُّكْرِ وَيَعْدِلُوا عَنِ الْكُفْرِ، فَإِذَا صَرَفُوا هَذِهِ الْأَحْوَالَ إِلَى الْفِسْقِ وَالْكُفْرِ، فَقَدْ غَيَّرُوا نِعْمَةَ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَلَا جَرَمَ اسْتَحَقُّوا تَبْدِيلَ النِّعَمِ بِالنِّقَمِ وَالْمَنْحِ بِالْمِحَنِ قَالَ: وَهَذَا مِنْ أَوْكَدِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَبْتَدِئُ أَحَدًا بِالْعَذَابِ والمضرة، والذي يفعله لا يكون الأجزاء عَلَى مَعَاصٍ سَلَفَتْ، وَلَوْ كَانَ تَعَالَى خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ جُسْمَانَهُمْ وَعُقُولَهُمُ ابْتِدَاءً لِلنَّارِ كَمَا يَقُولُهُ الْقَوْمُ، لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، قَالَ أَصْحَابُنَا: ظَاهِرُ الْآيَةِ مُشْعِرٌ بِمَا قَالَهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ إِلَّا أنا لو حملنا الآية عَلَيْهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ صِفَةُ اللَّه تَعَالَى مُعَلَّلَةً بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ، وَذَلِكَ لَأَنَّ حُكْمَ اللَّه بِذَلِكَ التَّغْيِيرِ وَإِرَادَتَهُ لِمَا كَانَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ إِتْيَانِ الْإِنْسَانِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ، فَلَوْ لَمْ يَصْدُرْ عِنْدَ ذَلِكَ الْفِعْلِ لَمْ يَحْصُلْ للَّه تَعَالَى ذَلِكَ الْحُكْمُ وَتِلْكَ الْإِرَادَةُ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِعْلُ الْإِنْسَانِ مُؤَثِّرًا فِي حُدُوثِ صِفَةٍ فِي ذَاتِ اللَّه تَعَالَى، وَيَكُونُ الْإِنْسَانُ مُغَيِّرًا صِفَةَ اللَّه وَمُؤَثِّرًا فِيهَا، وَذَلِكَ مُحَالٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ صِفَةَ اللَّه غَالِبَةٌ عَلَى صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ، فَلَوْلَا حُكْمُهُ وَقَضَاؤُهُ أَوَّلًا لَمَا أَمْكَنَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَرَّةً أُخْرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا كَثِيرَةً: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَلَامَ الثَّانِيَ يَجْرِي مَجْرَى التَّفْصِيلِ لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ فِيهِ ذِكْرُ أَخْذِهِمْ، وَفِي الثَّانِي ذِكْرُ إِغْرَاقِهِمْ وَذَلِكَ تَفْصِيلٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْأَوَّلِ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي حَالِ الْمَوْتِ، وَبِالثَّانِي مَا يَنْزِلُ بِهِمْ فِي الْقَبْرِ فِي الْآخِرَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ هُوَ قَوْلُهُ: كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَالْكَلَامَ الثَّانِيَ هُوَ قَوْلُهُ: كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَالْأَوَّلُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الدَّلَائِلَ الْإِلَهِيَّةَ، وَالثَّانِي إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَبَّاهُمْ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ، فَأَنْكَرُوا دَلَائِلَ التَّرْبِيَةِ وَالْإِحْسَانِ مَعَ كَثْرَتِهَا وَتَوَالِيهَا عَلَيْهِمْ، فَكَانَ الْأَثَرُ اللَّازِمُ مِنَ الْأَوَّلِ هُوَ الْأَخْذُ وَالْأَثَرُ اللَّازِمُ مِنَ الثَّانِي هُوَ الْإِهْلَاكُ وَالْإِغْرَاقُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِكُفْرَانِ النِّعْمَةِ أَثَرًا عَظِيمًا فِي حُصُولِ الْهَلَاكِ وَالْبَوَارِ، ثُمَّ خَتَمَ تَعَالَى الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَظَالِمِي سَائِرِ النَّاسِ بِسَبَبِ الْإِيذَاءِ وَالْإِيحَاشِ، وَأَنَّ اللَّه تَعَالَى/ إنما هلكهم بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ، وَأَقُولُ فِي هَذَا الْمَقَامِ اللَّهُمَّ أَهْلِكِ الظَّالِمِينَ وَطَهِّرْ وَجْهَ الْأَرْضِ مِنْهُمْ فَقَدْ عَظُمَتْ فِتْنَتُهُمْ وَكَثُرَ شَرُّهُمْ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى دَفْعِهِمْ إِلَّا أَنْتَ، فَادْفَعْ يَا قَهَّارُ يا جبار يا منتقم.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 55 إلى 56]

[سورة الأنفال (8) : الآيات 55 الى 56] إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ كُلَّ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ: وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ أَفْرَدَ بَعْضَهُمْ بِمَزِيَّةٍ فِي الشَّرِّ وَالْعِنَادِ. فَقَالَ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ فِي حُكْمِهِ وَعِلْمِهِ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ صِفَتَانِ: الصِّفَةُ الْأُولَى: الْكَافِرُ الَّذِي يَكُونُ مُسْتَمِرًّا عَلَى كُفْرِهِ مُصِرًّا عَلَيْهِ لَا يَتَغَيَّرُ عَنْهُ الْبَتَّةَ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ عَلَى الدَّوَامِ فَقَوْلُهُ: الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا أَيِ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَهُمْ شَرُّ الدَّوَابِّ وَقَوْلُهُ: مِنْهُمْ لِلتَّبْعِيضِ فَإِنَّ الْمُعَاهَدَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ أَشْرَافِهِمْ وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي إِنَّمَا عُطِفَ الْمُسْتَقْبَلُ عَلَى الْمَاضِي، لِبَيَانِ أَنَّ مِنْ شَأْنِهِمْ نَقْضَ الْعَهْدِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ قُرَيْظَةُ فَإِنَّهُمْ نَقَضُوا عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعَانُوا عَلَيْهِ الْمُشْرِكِينَ بِالسِّلَاحِ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، ثُمَّ قَالُوا: أَخْطَأْنَا فَعَاهَدَهُمْ مَرَّةً أُخْرَى فَنَقَضُوهُ أَيْضًا يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَقَوْلُهُ: وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ عَادَةَ مَنْ رَجَعَ إِلَى عَقْلٍ وَحَزْمٍ أَنْ يَتَّقِيَ نَقْضَ الْعَهْدِ حَتَّى يَسْكُنَ النَّاسُ إِلَى قَوْلِهِ وَيَثِقُوا بِكَلَامِهِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْكُفْرِ الدَّائِمِ وَبَيْنَ نَقْضِ الْعَهْدِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ شَرَّ الدواب. [سورة الأنفال (8) : الآيات 57 الى 58] فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى تَارَةً يُرْشِدُ رَسُولَهُ إِلَى الرِّفْقِ وَاللُّطْفِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. مِنْهَا قَوْلُهُ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 107] وَمِنْهَا قَوْلُهُ: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آلِ عِمْرَانَ: 159] وَتَارَةً يُرْشِدُ إِلَى التَّغْلِيظِ/ وَالتَّشْدِيدِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، بَيَّنَ مَا يَجِبُ أَنْ يُعَامَلُوا بِهِ فَقَالَ: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ قَالَ اللَّيْثُ: ثَقِفْنَا فُلَانًا فِي مَوْضِعِ كَذَا، أَيْ أَخَذْنَاهُ وَظَفِرْنَا بِهِ، وَالتَّشْرِيدُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّفْرِيقِ مَعَ الِاضْطِرَابِ. يُقَالُ: شَرَدَ يَشْرُدُ شُرُودًا، وَشَرَّدَهُ تَشْرِيدًا، فَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّكَ إِنْ ظَفِرْتَ فِي الْحَرْبِ بِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ الْعَهْدَ فَافْعَلْ بِهِمْ فِعْلًا يُفَرِّقُ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ. قَالَ عَطَاءٌ: تُثْخِنُ فِيهِمُ الْقَتْلَ حَتَّى يَخَافَكَ غَيْرُهُمْ، وَقِيلَ: نَكِّلْ بِهِمْ تَنْكِيلًا يُشَرِّدُ غَيْرَهُمْ مِنْ نَاقِضِي الْعَهْدِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أَيْ لَعَلَّ مَنْ خَلْفَهُمْ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ النَّكَالَ فَيَمْنَعُهُمْ ذَلِكَ عَنْ نَقْضِ الْعَهْدِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَشَرِّذْ بِالذَّالِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ فَوْقُ بِمَعْنَى فَفَرِّقْ وَكَأَنَّهُ مَقْلُوبُ شَذِّرْ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَالْمَعْنَى: فَشَرِّدْ تَشْرِيدًا مُتَلَبِّسًا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ لِأَنَّ أَحَدَ الْعَسْكَرَيْنِ إِذَا كَسَرُوا الثاني، فالكاسرون يعدون خلف المكسرين فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُشَرِّدَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً يَعْنِي مِنْ قَوْمٍ مُعَاهِدِينَ خِيَانَةً وَنَكْثًا بِأَمَارَاتٍ ظَاهِرَةٍ فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ فَاطْرَحْ إِلَيْهِمُ الْعَهْدَ عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَوٍ ظَاهِرٍ، وَذَلِكَ أَنْ تُظْهِرَ لَهُمْ نَبْذَ الْعَهْدِ وَتُخْبِرَهُمْ إِخْبَارًا مَكْشُوفًا بَيِّنًا أَنَّكَ قَطَعْتَ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، وَلَا تُبَادِرْهُمُ الْحَرْبَ وَهُمْ عَلَى تَوَهُّمِ بَقَاءِ الْعَهْدِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ خِيَانَةً مِنْكَ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ فِي الْعُهُودِ وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِنَبْذِ مَنْ يَنْقُضُ الْعَهْدَ عَلَى أَقْبَحِ الوجوه

[سورة الأنفال (8) : آية 59]

وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَبَاعَدَ عَلَى أَقْصَى الْوُجُوهِ مَنْ كُلِّ مَا يُوهِمُ نَكْثَ الْعَهْدِ وَنَقْضَهُ. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: آثَارُ نَقْضِ الْعَهْدِ إِذَا ظَهَرَتْ، فَإِمَّا أَنْ تَظْهَرَ ظُهُورًا مُحْتَمَلًا أَوْ ظُهُورًا مَقْطُوعًا بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وَجَبَ الْإِعْلَامُ عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قُرَيْظَةَ عَاهَدُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَجَابُوا أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى مُظَاهَرَتِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّه فَحَصَلَ لِرَسُولِ اللَّه خَوْفُ الْغَدْرِ مِنْهُمْ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ فَهَهُنَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عُهُودَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَيُؤْذِنَهُمْ بِالْحَرْبِ، أَمَّا إِذَا ظَهَرَ نَقْضُ الْعَهْدِ ظُهُورًا مَقْطُوعًا بِهِ فَهَهُنَا لَا حَاجَةَ إِلَى نَبْذِ الْعَهْدِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّه بِأَهْلِ مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ لَمَّا نَقَضُوا الْعَهْدَ بِقَتْلِ خُزَاعَةَ وَهُمْ مِنْ ذِمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَ إِلَيْهِمْ جَيْشُ رَسُولِ اللَّه بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، وَذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ مِنْ مَكَّةَ. واللَّه تَعَالَى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب. [سورة الأنفال (8) : آية 59] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) في الآية مسائل: المسألة الأولى: [بيان حال من فاته بدر وغيره] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مَا يَفْعَلُ الرَّسُولُ فِي حَقِّ مَنْ يَجِدُهُ فِي الْحَرْبِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْهُ وَذَكَرَ أَيْضًا مَا يَجِبُ أَنْ يَفْعَلَهُ فِيمَنْ ظَهَرَ مِنْهُ نَقْضُ الْعَهْدِ، بَيَّنَ أَيْضًا حَالَ مَنْ فَاتَهُ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَغَيْرِهِ، لِئَلَّا يَبْقَى حَسْرَةً فِي قَلْبِهِ فَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ بَلَغَ فِي أَذِيَّةِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام مبلغاً عظيماً فقال: لا تحسبن الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمَّا سَبَقُوا فَقَدَ فَاتُوكَ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى إِنْزَالِ مَا يستحقونه بهم، ثم هاهنا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّهُمُ انْفَلَتُوا مِنْكَ، فَإِنَّ اللَّه يُظْفِرُكَ بِعِيرِهِمْ. وَالثَّانِي: لَا تَحْسَبَنَّ أَنَّهُمْ لَمَّا تَخَلَّصُوا مِنَ الْأَسْرِ وَالْقَتْلِ أَنَّهُمْ قَدْ تَخَلَّصُوا مِنْ عِقَابِ اللَّه وَمِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ أَيْ أَنَّهُمْ بِهَذَا السَّبْقِ لَا يُعْجِزُونَ اللَّه مِنَ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ وَالْمَقْصُودُ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ فِيمَنْ فَاتَهُ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ مِنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ «لَا يَحْسَبَنَّ» بِالْيَاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ تَحْتُ، وَفِي تَصْحِيحِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَسْبِقُونَا، لِأَنَّهَا فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمْ سَبَقُونَا فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ حَسِبْتُ أَنْ أَقُومَ، وَحَسِبْتُ أَقُومُ وَحَذْفُ أَنْ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ [الزُّمَرِ: 64] وَالْمَعْنَى: أَنْ أَعْبُدَ. الثَّانِي: أَنْ نُضْمِرَ فَاعِلًا لِلْحُسْبَانِ وَنَجْعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا يَحْسَبَنَّ أَحَدٌ الَّذِينَ كَفَرُوا. الثالث: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُضْمَرَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْفُسَهُمْ سَبَقُوا أَوْ إِيَّاهُمْ سَبَقُوا، وَأَمَّا أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ فَقَرَءُوا وَلَا تَحْسَبَنَّ بِالتَّاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ فَوْقُ عَلَى مُخَاطَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَسَبَقُوا الْمَفْعُولُ الثَّانِي وَمَوْضِعُهُ نَصْبٌ وَالْمَعْنَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَابِقِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ عَلَى كَسْرِ (إِنَّ) فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ وَهُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ غَيْرِ مُتَّصِلٍ بِالْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا وَتَمَّ الْكَلَامُ ثُمَّ قَالَ: ساءَ مَا يَحْكُمُونَ فَكَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: ساءَ مَا يَحْكُمُونَ مُنْقَطِعٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، كَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ إِنَّهُمْ بِفَتْحِ الْأَلِفِ، وَجَعَلَهُ مُتَعَلِّقًا بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ لَا تَحْسَبَنَّهُمْ سَبَقُوا، لِأَنَّهُمْ لَا يَفُوتُونَ فَهُمْ يُجْزَوْنَ عَلَى كُفْرِهِمْ. الثَّانِي: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَجْعَلُ (لَا) صِلَةً، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تحسبن أنهم يعجزون.

[سورة الأنفال (8) : آية 60]

[سورة الأنفال (8) : آية 60] وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ عَلَى رَسُولِهِ أَنْ يُشَرِّدَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ نَقْضُ الْعَهْدِ، وَأَنْ يَنْبِذَ الْعَهْدَ إِلَى مَنْ خَافَ مِنْهُ النَّقْضَ، أَمَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْإِعْدَادِ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ. قِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا اتَّفَقَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ أَنْ قَصَدُوا الْكُفَّارَ بِلَا آلَةٍ وَلَا عُدَّةٍ أَمَرَهُمُ اللَّه أَنْ لَا يَعُودُوا لِمِثْلِهِ وَأَنْ يَعُدُّوا لِلْكُفَّارِ مَا يُمْكِنُهُمْ مِنْ آلَةٍ وَعُدَّةٍ وَقُوَّةٍ، وَالْمُرَادُ بالقوة هاهنا: مَا يَكُونُ سَبَبًا لِحُصُولِ الْقُوَّةِ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنَ الْقُوَّةِ أَنْوَاعُ الْأَسْلِحَةِ. الثَّانِي: رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» قَالَهَا ثَلَاثًا. الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْقُوَّةُ هِيَ الْحُصُونُ. الرَّابِعُ: قَالَ أَصْحَابُ الْمَعَانِي الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: هَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُتَقَوَّى بِهِ عَلَى حَرْبِ الْعَدُوِّ، وَكُلُّ مَا هُوَ آلَةٌ لِلْغَزْوِ وَالْجِهَادِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْقُوَّةِ. وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْقُوَّةُ هِيَ الرَّمْيُ» لَا يَنْفِي كَوْنَ غَيْرِ الرَّمْيِ مُعْتَبَرًا، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْحَجُّ عَرَفَةُ» وَ «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» لَا يَنْفِي اعْتِبَارَ غَيْرِهِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَذْكُورَ جُزْءٌ شَرِيفٌ مِنَ الْمَقْصُودِ فَكَذَا هاهنا، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِعْدَادَ لِلْجِهَادِ بِالنَّبْلِ وَالسِّلَاحِ وَتَعْلِيمِ الْفُرُوسِيَّةِ وَالرَّمْيِ فَرِيضَةٌ، إِلَّا أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ. وَقَوْلُهُ: وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ الرِّبَاطُ الْمُرَابَطَةُ أَوْ جَمْعُ رَبِيطٍ، كَفِصَالٍ وَفَصِيلٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ رَبْطَ الْخَيْلِ مِنْ أَقْوَى آلَاتِ الْجِهَادِ. رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لا بن سِيرِينَ: إِنَّ فُلَانًا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْحُصُونِ. فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: يُشْتَرَى بِهِ الْخَيْلُ فَتُرْبَطُ فِي سَبِيلِ اللَّه وَيُغْزَى عَلَيْهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ إِنَّمَا أَوْصَى لِلْحُصُونِ، فَقَالَ هِيَ الْخَيْلُ أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ الشَّاعِرِ: وَلَقَدْ عَلِمْتُ عَلَى تَجَنُّبِيَ الرَّدَى ... أَنَّ الْحُصُونَ الْخَيْلُ لَا مَدَرُ الْقُرَى قَالَ عِكْرِمَةُ: وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ الْإِنَاثُ وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْخَيْلَ إِذَا رُبِطَتْ فِي الْأَفْنِيَةِ وَعُلِفَتْ رُبُطًا وَاحِدُهَا رَبِيطٌ، وَيُجْمَعُ رُبُطٌ عَلَى رِبَاطٍ وهو جمع الجمع، / فمعنى الرباط هاهنا، الْخَيْلُ الْمَرْبُوطُ فِي سَبِيلِ اللَّه، وَفُسِّرَ بِالْإِنَاثِ لِأَنَّهَا أَوْلَى مَا يُرْبَطُ لِتَنَاسُلِهَا وَنَمَائِهَا بِأَوْلَادِهَا، فَارْتِبَاطُهَا أَوْلَى مِنَ ارْتِبَاطِ الْفُحُولِ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: بَلْ حَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى الْفُحُولِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ الْمُحَارَبَةُ عَلَيْهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفُحُولَ أَقْوَى عَلَى الْكَرِّ وَالْفَرِّ وَالْعَدْوِ، فَكَانَتِ الْمُحَارَبَةُ عَلَيْهَا أَسْهَلَ، فَوَجَبَ تَخْصِيصُ هَذَا اللَّفْظِ بِهَا، وَلَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَفْهُومِهِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ كَوْنُهُ خَيْلًا مَرْبُوطًا، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْفُحُولِ أَوْ مِنَ الْإِنَاثِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَا لِأَجْلِهِ أَمَرَ بِإِعْدَادِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. فَقَالَ: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا عَلِمُوا كَوْنَ الْمُسْلِمِينَ مُتَأَهِّبِينَ لِلْجِهَادِ وَمُسْتَعِدِّينَ لَهُ مُسْتَكْمِلِينَ لِجَمِيعِ الْأَسْلِحَةِ وَالْآلَاتِ خَافُوهُمْ، وَذَلِكَ الْخَوْفُ يُفِيدُ أُمُورًا كَثِيرَةً: أَوَّلُهَا: أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ دُخُولَ دَارِ الْإِسْلَامِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ إِذَا اشْتَدَّ خَوْفُهُمْ فَرُبَّمَا الْتَزَمُوا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ جِزْيَةً. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ رُبَّمَا صَارَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمْ لَا يُعِينُونَ سَائِرَ الْكُفَّارِ. وَخَامِسُهَا: أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَزِيدِ الزِّينَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّ تَكْثِيرَ آلَاتِ الْجِهَادِ وَأَدَوَاتِهَا كَمَا

[سورة الأنفال (8) : آية 61]

يُرْهِبُ الْأَعْدَاءَ الَّذِينَ نَعْلَمُ كَوْنَهُمْ أَعْدَاءً، كَذَلِكَ يُرْهِبُ الْأَعْدَاءَ الَّذِينَ لَا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ أَعْدَاءٌ، ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ تَكْثِيرَ أَسْبَابِ الْغَزْوِ كَمَا يُوجِبُ رَهْبَةَ الْكُفَّارِ فَكَذَلِكَ يُوجِبُ رَهْبَةَ الْمُنَافِقِينَ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُنَافِقُونَ لَا يَخَافُونَ الْقِتَالَ فَكَيْفَ يُوجِبُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ الْإِرْهَابَ؟ قُلْنَا: هَذَا الْإِرْهَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ إِذَا شَاهَدُوا قُوَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةَ آلَاتِهِمْ وَأَدَوَاتِهِمُ انْقَطَعَ عَنْهُمْ طَمَعُهُمْ مِنْ أَنْ يَصِيرُوا مَغْلُوبِينَ، وَذَلِكَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى أَنْ يَتْرُكُوا الْكُفْرَ فِي قُلُوبِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ وَيَصِيرُوا مُخْلِصِينَ فِي الْإِيمَانِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُنَافِقَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَتَرَبَّصَ ظُهُورَ الْآفَاتِ وَيَحْتَالَ فِي إِلْقَاءِ الْإِفْسَادِ وَالتَّفْرِيقِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا شَاهَدَ كَوْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ خَافَهُمْ وَتَرَكَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ الْمَذْمُومَةَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي هَذَا الْبَابِ مَا رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى قَالَ: الْمُرَادُ كُفَّارُ الْجِنِّ. رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ فَقَالَ إِنَّهُمُ الْجِنُّ. ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَخْبِلُ أَحَدًا فِي دَارٍ فِيهَا فَرَسٌ عَتِيقٌ» وَقَالَ الْحَسَنُ: صَهِيلُ الْفَرَسِ يُرْهِبُ الْجِنَّ، وَهَذَا الْقَوْلُ مُشْكِلٌ، لِأَنَّ تَكْثِيرَ آلَاتِ الْجِهَادِ لَا يُعْقَلُ تَأْثِيرُهُ فِي إِرْهَابِ الْجِنِّ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُسْلِمَ كَمَا يُعَادِيهِ الْكَافِرُ، فَكَذَلِكَ قَدْ يُعَادِيهِ الْمُسْلِمُ أَيْضًا، فَإِذَا كَانَ قَوِيَّ/ الْحَالِ كَثِيرَ السِّلَاحِ، فَكَمَا يَخَافُهُ أَعْدَاؤُهُ مِنَ الْكُفَّارِ، فَكَذَلِكَ يَخَافُهُ كُلُّ مَنْ يُعَادِيهِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ عَامٌّ فِي الْجِهَادِ وَفِي سَائِرِ وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُوَفَّ لَكُمْ أَجْرُهُ، أَيْ لَا يَضِيعُ فِي الْآخِرَةِ أَجْرُهُ، وَيُعَجِّلُ اللَّه عِوَضَهُ فِي الدُّنْيَا وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ أَيْ لَا تُنْقَصُونَ مِنْ الثَّوَابِ، وَلَمَّا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذَا التَّفْسِيرَ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الكهف: 33] . [سورة الأنفال (8) : آية 61] وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ مَا يُرْهِبُ بِهِ الْعَدُوَّ مِنَ الْقُوَّةِ وَالِاسْتِظْهَارِ، بَيَّنَ بَعْدَهُ أَنَّهُمْ عِنْدَ الْإِرْهَابِ إِذَا جَنَحُوا أَيْ مَالُوا إِلَى الصُّلْحِ، فَالْحُكْمُ قَبُولُ الصُّلْحِ. قَالَ النَّضْرُ: جَنَحَ الرَّجُلُ إِلَى فلان، وأجنح لَهُ إِذَا تَابَعَهُ وَخَضَعَ لَهُ، وَالْمَعْنَى: إِنْ مَالُوا إِلَى الصُّلْحِ فَمِلْ إِلَيْهِ وَأَنَّثَ الْهَاءَ فِي لَهَا، لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهَا قَصْدَ الْفَعْلَةِ وَالْجَنْحَةِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أَرَادَ مِنْ بَعْدِ فَعْلَتِهِمْ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : السَّلْمُ تُؤَنَّثُ تَأْنِيثَ نَقِيضِهَا وَهِيَ الْحَرْبُ. قَالَ الشَّاعِرُ: السَّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ ... وَالْحَرْبُ تَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ لِلسِّلْمِ بِكَسْرِ السِّينِ، وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ وَهُمَا لُغَتَانِ. قَالَ قَتَادَةُ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التَّوْبَةِ: 5] وَقَوْلِهِ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [التَّوْبَةِ: 29] وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْآيَةُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ لَكِنَّهَا تَضَمَّنَتِ الْأَمْرَ بِالصُّلْحِ إِذَا كَانَ الصَّلَاحُ فِيهِ، فَإِذَا رَأَى مُصَالَحَتَهُمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُهَادِنَهُمْ سَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ كَانَتِ الْقُوَّةُ لِلْمُشْرِكِينَ جَازَ مُهَادَنَتُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَشْرَ سِنِينَ وَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ هَادَنَ أَهْلَ مَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ نَقَضُوا الْعَهْدَ قَبْلَ كَمَالِ الْمُدَّةِ.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 62 إلى 63]

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَالْمَعْنَى فَوِّضِ الْأَمْرَ فِيمَا عَقَدْتَهُ مَعَهُمْ إِلَى اللَّه لِيَكُونَ عَوْنًا لَكَ عَلَى السَّلَامَةِ، وَلِكَيْ يَنْصُرَكَ عَلَيْهِمْ إِذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ وَعَدَلُوا عَنِ الْوَفَاءِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تَنْبِيهًا بِذَلِكَ عَلَى الزَّجْرِ عَنْ نَقْضِ الصُّلْحِ، لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يُضْمِرُهُ الْعِبَادُ، وَسَامِعٌ لِمَا/ يَقُولُونَ. قَالَ مُجَاهِدٌ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ. وَوُرُودُهَا فِيهِمْ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِجْرَائِهَا عَلَى ظاهر عمومها. واللَّه أعلم. [سورة الأنفال (8) : الآيات 62 الى 63] وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِالصُّلْحِ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الصُّلْحِ وَهُوَ أَنَّهُمْ إِنْ صَالَحُوا عَلَى سَبِيلِ الْمُخَادَعَةِ، وَجَبَ قَبُولُ ذَلِكَ الصُّلْحِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ يُبْنَى عَلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ الصُّلْحَ لَا يَكُونُ أَقْوَى حَالًا مِنَ الْإِيمَانِ، فَلَمَّا بنينا أمر الإيمان عن الظَّاهِرِ لَا عَلَى الْبَاطِنِ، فَهَهُنَا أَوْلَى وَلِذَلِكَ قَالَ: وَإِنْ يُرِيدُوا الْمُرَادُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَالَ: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ أَيْ أَظْهِرْ نَقْضَ ذَلِكَ الْعَهْدِ، وَهَذَا يُنَاقِضُ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؟ قُلْنَا: قَوْلُهُ: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا تَأَكَّدَ ذَلِكَ الْخَوْفُ بِأَمَارَاتٍ قَوِيَّةٍ دَالَّةٍ عَلَيْهَا، وَتُحْمَلُ هَذِهِ الْمُخَادَعَةُ عَلَى مَا إِذَا حَصَلَ فِي قُلُوبِهِمْ نَوْعُ نِفَاقٍ وَتَزْوِيرٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ تَظْهَرْ أَمَارَاتٌ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ قَاصِدِينَ لِلشَّرِّ وَإِثَارَةِ الْفِتْنَةِ، بَلْ كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ أَحْوَالِهِمُ الثَّبَاتَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ وَتَرْكَ الْمُنَازَعَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ. قَالَ: فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ أَيْ فاللَّه يَكْفِيكَ، وَهُوَ حَسْبُكَ وَسَوَاءٌ قَوْلُكَ هَذَا يَكْفِينِي، وَهَذَا حَسْبِي. هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يرد قَوَّاكَ وَأَعَانَكَ بِنَصْرِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَقُولُ هَذَا التَّقْيِيدُ خَطَأٌ لِأَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَوَّلِ حَيَاتِهِ إِلَى آخِرِ وَقْتِ وَفَاتِهِ، سَاعَةً فَسَاعَةً. كَانَ أَمْرًا إِلَهِيًّا وَتَدْبِيرًا عُلْوِيًّا، وَمَا كَانَ لِكَسْبِ الْخَلْقِ فِيهِ مَدْخَلٌ، ثُمَّ قَالَ: وَبِالْمُؤْمِنِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْأَنْصَارَ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ فَأَيُّ حَاجَةٍ مَعَ نَصْرِهِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى قَالَ: وَبِالْمُؤْمِنِينَ. قُلْنَا: التَّأْيِيدُ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّه لَكِنَّهُ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ أَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ مُعْتَادَةٍ. وَالثَّانِي: مَا يَحْصُلُ بِوَاسِطَةِ أَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ مُعْتَادَةٍ. فَالْأَوَّلُ: هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ، وَالثَّانِي: هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَبِالْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ كَيْفَ أَيَّدَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ. فقال: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَى قَوْمٍ أَنَفَتُهُمْ شَدِيدَةٌ وَحَمِيَّتُهُمْ عَظِيمَةٌ حَتَّى لَوْ لُطِمَ رَجُلٌ مِنْ قَبِيلَةٍ لَطْمَةً قَاتَلَ عَنْهُ قَبِيلَتُهُ حَتَّى يُدْرِكُوا ثَأْرَهُ، ثُمَّ إِنَّهُمُ انْقَلَبُوا عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ حَتَّى قَاتَلَ الرَّجُلُ أَخَاهُ وَأَبَاهُ وَابْنَهُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى الطَّاعَةِ وَصَارُوا أَنْصَارًا، وَعَادُوا أَعْوَانًا. وَقِيلَ هُمُ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، فَإِنَّ الْخُصُومَةَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ

شَدِيدَةً وَالْمُحَارَبَةُ دَائِمَةً، ثُمَّ زَالَتِ الضَّغَائِنُ، وَحَصَلَتِ الْأُلْفَةُ وَالْمَحَبَّةُ، فَإِزَالَةُ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ الشَّدِيدَةِ وَتَبْدِيلُهَا بِالْمَحَبَّةِ الْقَوِيَّةِ وَالْمُخَالَصَةِ التَّامَّةِ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّه تَعَالَى، وَصَارَتْ تِلْكَ مُعْجِزَةً ظَاهِرَةً عَلَى صِدْقِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَ الْقُلُوبِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْكَرَامَاتِ كُلُّهَا مِنْ خَلْقِ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ تِلْكَ الْأُلْفَةَ وَالْمَوَدَّةَ وَالْمَحَبَّةَ الشَّدِيدَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ وَمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ فِعْلًا لِلْعَبْدِ لَا فِعْلًا للَّه تَعَالَى، لَكَانَتِ الْمَحَبَّةُ الْمُرَتَّبَةُ عَلَيْهِ فِعْلًا لِلْعَبْدِ لَا فِعْلًا للَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ صَرِيحِ الْآيَةِ. قَالَ الْقَاضِي: لَوْلَا أَلْطَافُ اللَّه تَعَالَى سَاعَةً فَسَاعَةً، لَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ، فَأُضِيفَتْ تِلْكَ الْمُخَالَصَةُ إِلَى اللَّه تَعَالَى عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ يُضَافُ عِلْمُ الْوَلَدِ وَأَدَبُهُ إِلَى أَبِيهِ، لِأَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ إِلَّا بِمَعُونَةِ الْأَبِ وتربيته، فكذا هاهنا. وَالْجَوَابُ: كُلُّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ وَحَمْلٌ لِلْكَلَامِ عَلَى الْمَجَازِ، وَأَيْضًا كُلُّ هَذِهِ الْأَلْطَافِ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي حَقِّ الْكُفَّارِ، مِثْلَ حُصُولِهَا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ هُنَاكَ شَيْءٌ سِوَى الْأَلْطَافِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْمَعَانِي فَائِدَةٌ، وَأَيْضًا فَالْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ مُقَوٍّ لِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَلْبَ يَصِحُّ أَنْ يَصِيرَ مَوْصُوفًا بِالرَّغْبَةِ بَدَلًا عَنِ النَّفْرَةِ وَبِالْعَكْسِ، فَرُجْحَانُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ هُوَ الْعَبْدُ عَادَ التَّقْسِيمُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ اللَّه تَعَالَى، فَهُوَ الْمَقْصُودُ، فَعُلِمَ أَنَّ صَرِيحَ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَأَكِّدٌ بِصَرِيحِ الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي هَذَا الْبَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا قَبْلَ شُرُوعِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ/ فِي الْخُصُومَةِ الدَّائِمَةِ وَالْمُحَارَبَةِ الشَّدِيدَةِ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْبَعْضِ، فَلَمَّا آمَنُوا باللَّه وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. زَالَتِ الْخُصُومَاتُ، وَارْتَفَعَتِ الْخُشُونَاتُ، وَحَصَلَتِ الْمَوَدَّةُ التَّامَّةُ وَالْمَحَبَّةُ الشَّدِيدَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ تَصَوُّرِ حُصُولِ خَيْرٍ وَكَمَالٍ، فَالْمَحَبَّةُ حَالَةٌ مُعَلَّلَةٌ بِهَذَا التَّصَوُّرِ الْمَخْصُوصِ، فَمَتَى كَانَ هَذَا التَّصَوُّرُ حَاصِلًا كَانَتِ الْمَحَبَّةُ حَاصِلَةً، وَمَتَى حَصَلَ تَصْوِيرُ الشَّرِّ وَالْبَغْضَاءِ: كَانَتِ النَّفْرَةُ حَاصِلَةً، ثُمَّ إِنَّ الْخَيْرَاتِ وَالْكَمَالَاتِ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْخَيْرَاتُ وَالْكَمَالَاتُ الْبَاقِيَةُ الدَّائِمَةُ، الْمُبَرَّأَةُ عَنْ جِهَاتِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَذَلِكَ هُوَ الْكَمَالَاتُ الرُّوحَانِيَّةُ وَالسَّعَادَاتُ الْإِلَهِيَّةُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْكَمَالَاتُ الْمُتَبَدِّلَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ، وَهِيَ الْكَمَالَاتُ الجسمانية والسعادات البدنية، فإنها سريعة التغيير والتبديل، كَالزِّئْبَقِ يَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، فَالْإِنْسَانُ يَتَصَوَّرُ أَنَّ لَهُ فِي صُحْبَةِ زَيْدٍ مَالًا عَظِيمًا فَيُحِبُّهُ، ثُمَّ يَخْطُرُ بِبَالِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ لَا يَحْصُلُ فَيُبْغِضُهُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ إِنَّ الْعَاشِقَ وَالْمَعْشُوقَ رُبَّمَا حَصَلَتِ الرَّغْبَةُ وَالنَّفْرَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ مِرَارًا لِأَنَّ الْمَعْشُوقَ إِنَّمَا يُرِيدُ الْعَاشِقَ لِمَالِهِ، وَالْعَاشِقَ إِنَّمَا يُرِيدُ الْمَعْشُوقَ لِأَجْلِ اللَّذَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ مُسْتَعِدَّانِ لِلتَّغَيُّرِ وَالِانْتِقَالِ، فَلَا جَرَمَ كَانَتِ الْمَحَبَّةُ الْحَاصِلَةُ بَيْنَهُمَا وَالْعَدَاوَةُ الْحَاصِلَةُ بَيْنَهُمَا غَيْرَ بَاقِيَتَيْنِ بَلْ كَانَتَا سَرِيعَتَيِ الزَّوَالِ وَالِانْتِقَالِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُوجِبُ لِلْمَحَبَّةِ وَالْمَوَدَّةِ، إِنْ كَانَ طَلَبَ الْخَيْرَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالسَّعَادَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ كَانَتْ تِلْكَ الْمَحَبَّةُ سَرِيعَةَ الزَّوَالِ وَالِانْتِقَالِ، لِأَجْلِ أَنَّ الْمَحَبَّةَ تَابِعَةٌ لِتَصَوُّرِ الْكَمَالِ، وَتَصَوُّرُ الْكَمَالِ تَابِعٌ لِحُصُولِ ذَلِكَ الْكَمَالِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْكَمَالُ سَرِيعَ الزَّوَالِ وَالِانْتِقَالِ، كَانَتْ مَعْلُولَاتُهُ سَرِيعَةَ التَّبَدُّلِ وَالزَّوَالِ، وَأَمَّا إِنْ كان

[سورة الأنفال (8) : الآيات 64 إلى 65]

الْمُوجِبُ لِلْمَحَبَّةِ تَصَوُّرَ الْكَمَالَاتِ الْبَاقِيَةِ الْمُقَدَّسَةِ عَنِ التَّغَيُّرِ وَالزَّوَالِ، كَانَتْ تِلْكَ الْمَحَبَّةُ أَيْضًا بَاقِيَةً آمِنَةً مِنَ التَّغَيُّرِ، لِأَنَّ حَالَ الْمَعْلُولِ فِي الْبَقَاءِ وَالتَّبَدُّلِ تَبَعٌ لِحَالَةِ الْعِلَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزُّخْرُفِ: 67] . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْعَرَبُ كَانُوا قَبْلَ مَقْدِمِ الرَّسُولِ طَالِبِينَ لِلْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْمُفَاخَرَةِ، وَكَانَتْ مَحَبَّتُهُمْ مُعَلَّلَةً بِهَذِهِ الْعِلَّةِ، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ تِلْكَ الْمَحَبَّةُ سَرِيعَةَ الزَّوَالِ، وَكَانُوا بِأَدْنَى سَبَبٍ يَقَعُونَ فِي الْحُرُوبِ وَالْفِتَنِ، فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْآخِرَةِ، زَالَتِ الْخُصُومَةُ وَالْخُشُونَةُ عَنْهُمْ. وَعَادُوا إِخْوَانًا مُتَوَافِقِينَ، ثُمَّ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا انْفَتَحَتْ عَلَيْهِمْ أَبْوَابُ الدُّنْيَا وَتَوَجَّهُوا إِلَى طَلَبِهَا عَادُوا إِلَى مُحَارَبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَمُقَاتَلَةِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ/ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أَيْ قَادِرٌ قَاهِرٌ، يُمْكِنُهُ التَّصَرُّفُ فِي الْقُلُوبِ. وَيُقَلِّبُهَا مِنَ الْعَدَاوَةِ إِلَى الصَّدَاقَةِ، وَمِنَ النَّفْرَةِ إِلَى الرَّغْبَةِ، حَكِيمٌ بِفِعْلِ مَا يَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ. أَوْ مُطَابِقًا لِلْمَصْلَحَةِ وَالصَّوَابِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي الجبر والقدر. [سورة الأنفال (8) : الآيات 64 الى 65] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) [في قوله تعالى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَهُ بِالنَّصْرِ عِنْدَ مُخَادَعَةِ الْأَعْدَاءِ. وَعَدَهُ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُطْلَقًا عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَلْزَمُ حُصُولُ التَّكْرَارِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى، إِنْ أَرَادُوا خِدَاعَكَ كَفَاكَ اللَّه أَمْرَهُمْ. وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِالْبَيْدَاءِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ قَبْلَ الْقِتَالِ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَنْصَارُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، نَزَلَتْ فِي إِسْلَامِ عُمَرَ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَسْلَمَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا وَسِتُّ نِسْوَةٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ عُمَرُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ هَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ، كُتِبَتْ فِي سُورَةٍ مَدَنِيَّةٍ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ، اللَّه كَافِيكَ وَكَافِي أَتْبَاعِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْكَافُ فِي حَسْبُكَ خفض و (من) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَالْمَعْنَى: يَكْفِيكَ اللَّه وَيَكْفِي مَنِ اتَّبَعَكَ، قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا كَانَتِ الْهَيْجَاءُ وَانْشَقَّتِ الْعَصَا ... فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ قَالَ وَلَيْسَ بِكَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنْ يَقُولُوا حَسْبُكَ وَأَخَاكَ، بَلِ الْمُعْتَادُ أَنْ يُقَالَ حَسْبُكَ وَحَسْبُ أَخِيكَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى كَفَاكَ اللَّه وَكَفَاكَ أَتْبَاعُكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَهَذَا أَحْسَنُ الْوَجْهَيْنِ، أَيْ وَيُمْكِنُ أَنْ يُنْصَرَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ مَنْ كَانَ اللَّه نَاصِرَهُ امْتَنَعَ أَنْ يَزْدَادَ حَالُهُ أَوْ يَنْقُصَ بِسَبَبِ نُصْرَةِ غَيْرِ اللَّه، وَأَيْضًا إِسْنَادُ الْحُكْمِ إِلَى الْمَجْمُوعِ يُوهِمُ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ لَا يَكْفِي فِي حُصُولِ ذَلِكَ الْمُهِمِّ. وَتَعَالَى اللَّه عَنْهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّه، إِلَّا أَنَّ/ مِنْ أَنْوَاعِ النُّصْرَةِ مَا لَا يَحْصُلُ بِنَاءً عَلَى الْأَسْبَابِ الْمَأْلُوفَةِ الْمُعْتَادَةِ، وَمِنْهَا مَا يَحْصُلُ بِنَاءً عَلَى الْأَسْبَابِ الْمَأْلُوفَةِ الْمُعْتَادَةِ. فَلِهَذَا الْفَرْقِ اعْتَبَرَ نُصْرَةَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ يَكْفِيكَ بِنَصْرِهِ وَبِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ تَتَّكِلَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ تُحَرِّضَ

الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ فَإِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَكْفِيكَ بِالْكِفَايَةِ بِشَرْطِ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُمْ بَذْلُ النَّفْسِ والمال في المجاهدة. فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ وَالتَّحْرِيضُ فِي اللُّغَةِ كَالتَّحْضِيضِ وَهُوَ الْحَثُّ عَلَى الشَّيْءِ، وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِي اشْتِقَاقِهِ وَجْهًا آخَرَ بَعِيدًا، فَقَالَ: التَّحْرِيضُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَحُثَّ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ عَلَى شَيْءٍ حَثًّا يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إِنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ كَانَ حَارِضًا، وَالْحَارِضُ الَّذِي قَارَبَ الْهَلَاكَ، أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ تَخَلَّفُوا عَنِ الْقِتَالِ بَعْدَ حَثِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانُوا حَارِضِينَ، أَيْ هَالِكِينَ. فَعِنْدَهُ التَّحْرِيضُ مُشْتَقٌّ مِنْ لَفْظِ الْحَارِضِ وَالْحَرِضِ. ثُمَّ قَالَ: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْخَبَرَ بَلِ الْمُرَادُ الْأَمْرُ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ فَلْيَصْبِرُوا وَلْيَجْتَهِدُوا فِي الْقِتَالِ حَتَّى يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ الْخَبَرَ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْخَبَرَ، لَزِمَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَغْلِبْ قَطُّ مِائَتَانِ مِنَ الْكُفَّارِ عِشْرِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ بَاطِلٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ [الْأَنْفَالِ: 66] وَالنَّسْخُ أَلْيَقُ بِالْأَمْرِ مِنْهُ بِالْخَبَرِ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ مِنْ بَعْدُ: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [الْأَنْفَالِ: 66] وَذَلِكَ تَرْغِيبًا فِي الثَّبَاتِ عَلَى الْجِهَادِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ الْأَمْرُ وَإِنْ كَانَ وَارِدًا بِلَفْظِ الْخَبَرِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ [الْبَقَرَةِ: 233] وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ [الْبَقَرَةِ: 228] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يدل على أنه تعالى ما أوجب هذا الحكم إلا بشرط كونه صابراً قاهراً على ذلك، وإنما يحصل هذا الشرط عند حصول أشياء منها: أن يكون شديد الأعضاء قوياً جلداً، ومنها: أن يكون قوي القلب شجاعاً غير جبان، ومنها: أن يكون غير منحرف إلا لقتال أو متحيزاً إلى فئة، فإن اللَّه استثنى هاتين الحالتين في الآيات المتقدمة فعند حصول هذه الشرائط كان يجب على الواحد أن يثبت للعشرة. واعلم أن هذا التكليف إنما حسن لأنه مسبوق بقوله تَعَالَى: حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فلما وعد المؤمنين بالكفاية والنصر كان هذا التكليف سهلًا لأن من تكفل اللَّه بنصره فإن أهل العالم لا يقدرون على إيذائه. المسألة الثانية: قوله: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا حَاصِلُهُ وُجُوبُ ثَبَاتِ الْوَاحِدِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَشَرَةِ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي الْعُدُولِ عَنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ الْوَجِيزَةِ إِلَى تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الطَّوِيلَةِ؟ وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا وَرَدَ عَلَى وَفْقِ الْوَاقِعَةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّه يَبْعَثُ السَّرَايَا، وَالْغَالِبُ أَنَّ تِلْكَ السَّرَايَا مَا كَانَ يَنْتَقِصُ عَدَدُهَا عَنِ الْعِشْرِينَ وَمَا كَانَتْ تَزِيدُ عَلَى الْمِائَةِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَ اللَّه هَذَيْنِ العددين. المسألة الثالثة: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ إِنْ تَكُنْ بِالتَّاءِ، وَكَذَلِكَ الَّذِي بَعْدَهُ وَإِنْ تَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ وَقَرَأَ أَبُو عَمْرِو الْأَوَّلَ بِالْيَاءِ وَالثَّانِيَ بِالتَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ فِيهِمَا. الْمَسْأَلَةُ الرابعة: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي هَذِهِ الْغَلَبَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ وُجُوهٍ:

[سورة الأنفال (8) : آية 66]

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ لَا يُؤْمِنُ باللَّه وَلَا يُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ، فَإِنَّ غَايَةَ السَّعَادَةِ وَالْبَهْجَةِ عِنْدَهُ لَيْسَتْ إِلَّا هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَوِيَّةَ. وَمَنْ كَانَ هَذَا مُعْتَقَدَهُ فَإِنَّهُ يَشِحُّ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ وَلَا يُعَرِّضُهَا لِلزَّوَالِ، أَمَّا مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا سَعَادَةَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ وَأَنَّ السَّعَادَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي بِهَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا وَلَا يُقِيمُ لَهَا وَزْنًا، فَيُقْدِمُ عَلَى الْجِهَادِ بِقَلْبٍ قَوِيٍّ وَعَزْمٍ صَحِيحٍ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، كَانَ الْوَاحِدُ مِنْ هَذَا الْبَابِ يُقَاوِمُ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْكُفَّارَ إِنَّمَا يُعَوِّلُونَ عَلَى قُوَّتِهِمْ وَشَوْكَتِهِمْ، وَالْمُسْلِمُونَ يَسْتَعِينُونَ بِرَبِّهِمْ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ بِهِ أَلْيَقَ وَأَوْلَى. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ وَجْهٌ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا أَصْحَابُ الرِّيَاضَاتِ وَالْمُكَاشَفَاتِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ قَلْبٍ اخْتَصَّ بِالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ كَانَ صَاحِبُهُ مَهِيبًا عِنْدَ الْخَلْقِ، وَلِذَلِكَ إِذَا حَضَرَ الرَّجُلُ الْعَالِمُ عِنْدَ عَالَمٍ مِنَ النَّاسِ الْأَقْوِيَاءِ الْجُهَّالِ الْأَشِدَّاءِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوِيَاءَ الْأَشِدَّاءَ الْجُهَّالَ يَهَابُونَ ذَلِكَ الْعَالِمَ وَيَحْتَرِمُونَهُ وَيَخْدِمُونَهُ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ السِّبَاعَ الْقَوِيَّةَ إِذَا رَأَتِ الْآدَمِيَّ هَابَتْهُ وَانْحَرَفَتْ عَنْهُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ الْآدَمِيَّ بِسَبَبِ مَا فِيهِ مِنْ نُورِ الْعَقْلِ يَكُونُ مَهِيبًا، وَأَيْضًا الرَّجُلُ الْحَكِيمُ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى قَلْبِهِ نُورُ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى، فَإِنَّهُ تَقْوَى أَعْضَاؤُهُ وَتَشْتَدُّ جَوَارِحُهُ، وَرُبَّمَا قَوِيَ عِنْدَ ظُهُورِ التَّجَلِّي فِي قَلْبِهِ عَلَى أَعْمَالٍ يَعْجِزُ عَنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالْمُؤْمِنُ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى الْجِهَادِ فَكَأَنَّهُ بَذَلَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ فِي طَلَبِ رِضْوَانِ اللَّه. فَكَانَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْمُشَاهِدِ لِنُورِ جَلَالِ اللَّه فَيَقْوَى قَلْبُهُ وَتَكْمُلُ رُوحُهُ وَيَقْدِرُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ، فَهَذِهِ أَحْوَالٌ مِنْ بَابِ الْمُكَاشَفَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى قُوَّةً مِنَ الْكَافِرِ/ فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ فَذَاكَ لِأَنَّ ظُهُورَ هَذَا التَّجَلِّي لَا يَحْصُلُ إِلَّا نادراً وللفرد بعد الفرد. واللَّه أعلم. [سورة الأنفال (8) : آية 66] الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ الْعَشَرَةَ إِلَى وَجْهِ الْمِائَةِ، بَعَثَ حَمْزَةَ فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا قِبَلَ بَدْرٍ إِلَى قَوْمٍ فَلَقِيَهُمْ أَبُو جَهْلٍ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَاكِبٍ وَأَرَادُوا قِتَالَهُمْ، فَمَنَعَهُمْ حَمْزَةُ وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّه عَبْدَ اللَّه بْنَ أُنَيْسٍ إِلَى خَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ الْهُذَلِيِّ وَكَانَ فِي جَمَاعَةٍ، فَابْتَدَرَ عَبْدُ اللَّه وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه صِفْهُ لِي، فَقَالَ: «إِنَّكَ إِذَا رَأَيْتَهُ ذَكَرْتَ الشَّيْطَانَ وَوَجَدْتَ لِذَلِكَ قَشْعَرِيرَةً وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ جَمَعَ لِي فَاخْرُجْ إِلَيْهِ وَاقْتُلْهُ» قَالَ: فَخَرَجْتُ نَحْوَهُ فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ وَجَدْتُ الْقَشْعَرِيرَةَ فَقَالَ لِي: مَنِ الرَّجُلُ؟ قُلْتُ لَهُ مِنَ الْعَرَبِ سَمِعْتُ بِكَ وَبِجَمْعِكَ؟ وَمَشَيْتُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا تَمَكَّنْتُ مِنْهُ قَتَلْتُهُ بِالسَّيْفِ وَأَسْرَعْتُ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرْتُ أَنِّي قَتَلْتُهُ. فَأَعْطَانِي عَصًا وَقَالَ: «أَمْسِكْهَا فَإِنَّهَا آيَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ثُمَّ إِنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ شَقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَزَالَهُ اللَّه عَنْهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَ التَّكْلِيفُ الْأَوَّلُ ضَجَّ الْمُهَاجِرُونَ، وَقَالُوا: يَا رَبِّ نَحْنُ جِيَاعٌ وَعَدُوُّنَا شِبَاعٌ، وَنَحْنُ فِي غُرْبَةٍ وَعَدُوُّنَا فِي أَهْلِيهِمْ، وَنَحْنُ قَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَمْوَالِنَا وَأَوْلَادِنَا وَعَدُوُّنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَالَ الْأَنْصَارُ: شُغِلْنَا بِعَدُوِّنَا وَوَاسَيْنَا إِخْوَانَنَا، فَنَزَلَ التَّخْفِيفُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّمَا أُمِرَ الرَّجُلُ أَنْ يَصْبِرَ لِعَشَرَةٍ، وَالْعَشَرَةُ لِمِائَةٍ حَالَ مَا

كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَلِيلِينَ، فَلَمَّا كَثُرُوا خَفَّفَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيُّمَا رَجُلٍ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَمْ يَفِرَّ، فَإِنْ فَرَّ مِنَ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْجُمْهُورَ ادَّعَوْا أَنَّ قَوْلَهُ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ نَاسِخٌ لِلْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَأَنْكَرَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ هَذَا النَّسْخَ، وَتَقْرِيرُ قَوْلِهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ فَهَبْ أَنَّا نَحْمِلُ هَذَا الْخَبَرَ عَلَى الْأَمْرِ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ/ كَانَ مَشْرُوطًا بِكَوْنِ الْعِشْرِينَ قَادِرِينَ عَلَى الصَّبْرِ فِي مُقَابَلَةِ الْمِائَتَيْنِ، وَقَوْلُهُ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ غَيْرُ حَاصِلٍ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ، فَصَارَ حَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى دَلَّتْ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمٍ عِنْدَ شَرْطٍ مَخْصُوصٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ مَفْقُودٌ فِي حَقِّ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ الْحُكْمُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَحْصُلِ النَّسْخُ الْبَتَّةَ. فَإِنْ قَالُوا: قَوْلُهُ: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ مَعْنَاهُ: لِيَكُنِ الْعِشْرُونَ الصَّابِرُونَ فِي مُقَابَلَةِ الْمِائَتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالنَّسْخُ لَازِمٌ. قُلْنَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ إِنْ حَصَلَ عِشْرُونَ صَابِرُونَ فِي مُقَابَلَةِ الْمِائَتَيْنِ، فَلْيَشْتَغِلُوا بِجِهَادِهِمْ؟ وَالْحَاصِلُ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ وَرَدَ عَلَى صُورَةِ الْخَبَرِ خالفنا هَذَا الظَّاهِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْأَمْرِ، أَمَّا فِي رِعَايَةِ الشَّرْطِ فَقَدْ تَرَكْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَتَقْدِيرُهُ إِنْ حَصَلَ مِنْكُمْ عِشْرُونَ مَوْصُوفُونَ بِالصَّبْرِ عَلَى مُقَاوَمَةِ الْمِائَتَيْنِ فَلْيَشْتَغِلُوا بِمُقَاوَمَتِهِمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا نَسْخَ. فَإِنْ قَالُوا: قَوْلُهُ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ مُشْعِرٌ بِأَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ كَانَ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِمْ قَبْلَ هَذَا التَّكْلِيفِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ لَفْظَ التَّخْفِيفِ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ التَّثْقِيلِ قَبْلَهُ، لِأَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ الرُّخْصَةُ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عِنْدَ الرُّخْصَةِ لِلْحُرِّ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النِّسَاءِ: 28] وَلَيْسَ هُنَاكَ نَسْخٌ وَإِنَّمَا هُوَ إِطْلَاقُ نِكَاحِ الْأَمَةِ لِمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ نِكَاحَ الحرائر، فكذا هاهنا. وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْعِشْرِينَ كَانُوا فِي مَحَلِّ أَنْ يُقَالَ إِنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ حَاصِلٌ فِيهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ لَازِمًا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا بَيَّنَ اللَّه أَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ غَيْرُ حَاصِلٍ وَأَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ فِيهِمْ ضُعَفَاءَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ تَخَلَّصُوا عَنْ ذَلِكَ الْخَوْفِ، فَصَحَّ أَنْ يُقَالَ خَفَّفَ اللَّه عَنْكُمْ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ النَّسْخِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ مُقَارِنَةً لِلْآيَةِ الْأُولَى، وَجَعْلُ النَّاسِخِ مُقَارِنًا لِلْمَنْسُوخِ لَا يَجُوزُ. فَإِنْ قَالُوا: الْعِبْرَةُ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ بِالنُّزُولِ دُونَ التِّلَاوَةِ فَإِنَّهَا قَدْ تَتَقَدَّمُ وَقَدْ تَتَأَخَّرُ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ النَّاسِخَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَنْسُوخِ. قُلْنَا: لَمَّا كَانَ كَوْنُ النَّاسِخِ مُقَارِنًا لِلْمَنْسُوخِ غَيْرَ جَائِزٍ فِي الْوُجُودِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ جَائِزًا فِي الذِّكْرِ، اللَّهُمَّ إِلَّا لِدَلِيلٍ قَاهِرٍ وَأَنْتُمْ مَا ذَكَرْتُمْ ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ النَّاسِخُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَنْسُوخِ فَنَقُولُ: إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ يُنْكِرُ كُلَّ أَنْوَاعِ النَّسْخِ فِي الْقُرْآنِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ إِلْزَامُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَيْهِ؟ فَهَذَا تَقْرِيرُ قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ. وَأَقُولُ: إِنْ ثَبَتَ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ قَبْلَ أَبِي مُسْلِمٍ عَلَى حُصُولِ هَذَا النَّسْخِ فَلَا كَلَامَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْإِجْمَاعُ الْقَاطِعُ فَنَقُولُ: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ صَحِيحٌ حَسَنٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ هِشَامٌ عَلَى قَوْلِهِ إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ إِلَّا عِنْدَ وُقُوعِهَا بِقَوْلِهِ: الْآنَ

[سورة الأنفال (8) : الآيات 67 إلى 69]

خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً قَالَ: فَإِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: الْآنَ عَلِمَ اللَّه أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عِلْمَهُ بِضَعْفِهِمْ مَا حَصَلَ إِلَّا فِي هَذَا الْوَقْتِ. وَالْمُتَكَلِّمُونَ أَجَابُوا بِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ تَعَالَى قَبْلَ حُدُوثِ الشَّيْءِ لَا يَعْلَمُهُ حَاصِلًا وَاقِعًا، بَلْ يَعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ سَيَحْدُثُ، أَمَّا عِنْدَ حدوثه ووقوعه فإن يَعْلَمُهُ حَادِثًا وَاقِعًا، فَقَوْلُهُ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً معنا: أَنَّ الْآنَ حَصَلَ الْعِلْمُ بِوُقُوعِهِ وَحُصُولِهِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ كَانَ الْحَاصِلُ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ سَيَقَعُ أَوْ سَيَحْدُثُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً بِفَتْحِ الضَّادِ وَفِي الرَّوْمِ مِثْلَهُ، وَالْبَاقُونَ فِيهِمَا بِالضَّمِّ، وَهُمَا لُغَتَانِ صَحِيحَتَانِ، الضَّعْفُ وَالضُّعْفُ كَالْمَكْثِ وَالْمُكْثِ. وَخَالَفَ حَفْصٌ عَاصِمًا فِي هَذَا الْحَرْفِ وَقَرَأَهُمَا بِالضَّمِّ وَقَالَ: مَا خَالَفْتُ عَاصِمًا فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا فِي هَذَا الْحَرْفِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الَّذِي اسْتَقَرَّ حُكْمُ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ مُكَلَّفٍ وَقَفَ بِإِزَاءِ مُشْرِكَيْنِ، عَبْدًا كَانَ أَوْ حُرًّا فَالْهَزِيمَةُ عَلَيْهِ مُحَرَّمَةٌ مَا دَامَ مَعَهُ سِلَاحٌ يُقَاتِلُ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِلَاحٌ فَلَهُ أَنْ يَنْهَزِمَ، وَإِنْ قَاتَلَهُ ثَلَاثَةٌ حَلَّتْ لَهُ الْهَزِيمَةُ وَالصَّبْرُ أَحْسَنُ. رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» أَنَّهُ وَقَفَ جَيْشُ مُؤْتَةَ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَأُمَرَاؤُهُمْ عَلَى التَّعَاقُبِ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ثُمَّ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ثُمَّ عَبْدُ اللَّه بْنُ رَوَاحَةَ فِي مُقَابَلَةِ مِائَتَيْ أَلْفٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِائَةُ أَلْفٍ مِنَ الرُّومِ وَمِائَةُ أَلْفٍ مِنَ الْمُسْتَعْرِبَةِ وَهُمْ لَخْمٌ وَجُذَامُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: بِإِذْنِ اللَّهِ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ لَا تقع الغلبة إلا بإذن اللَّه. والإذن هاهنا هُوَ الْإِرَادَةُ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَالْمُرَادُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ قوله: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الْأَنْفَالِ: 65] فَبَيَّنَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّه مَعَ الصَّابِرِينَ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْعِشْرِينَ لَوْ صَبَرُوا وَوَقَفُوا فَإِنَّ نُصْرَتِي مَعَهُمْ وَتَوْفِيقِي مُقَارِنٌ لَهُمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ أَبِي مُسْلِمٍ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مَا صَارَ مَنْسُوخًا بَلْ هُوَ ثَابِتٌ كَمَا كَانَ، فَإِنَّ الْعِشْرِينَ إِنْ قَدَرُوا عَلَى مُصَابَرَةِ الْمِائَتَيْنِ بَقِيَ ذَلِكَ الْحُكْمُ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى مصابرتهم فالحكم المذكور هاهنا زائل. [سورة الأنفال (8) : الآيات 67 الى 69] مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) [في قوله تعالى مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى] وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَعْلِيمُ حُكْمٍ آخَرَ مِنْ أَحْكَامِ الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عمر تَكُونَ بِالتَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، أَمَّا قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو بِالتَّاءِ فَعَلَى لَفْظِ الْأَسْرَى، لِأَنَّ الْأَسْرَى وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ التَّذْكِيرَ لِلرِّجَالِ فَهُوَ مُؤَنَّثُ اللَّفْظِ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْيَاءِ فَلِأَنَّ الْفِعْلَ مُتَقَدِّمٌ، وَالْأَسْرَى مُذَكَّرُونَ فِي الْمَعْنَى، وَقَدْ وَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إِذَا انْفَرَدَ

أَوْجَبَ تَذْكِيرَ الْفِعْلِ كَقَوْلِكَ جَاءَ الرِّجَالُ وَحَضَرَ قَبِيلَتُكَ وَحَضَرَ الْقَاضِيَ امْرَأَةٌ. فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ كَانَ التَّذْكِيرُ أَوْلَى. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قرئ للنبي صَلَّى الله عليه وو سلّم على التعريف وأُسارى ويُثْخِنَ بِالتَّشْدِيدِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِسَبْعِينَ أَسِيرًا فِيهِمُ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ وَعَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَاسْتَشَارَ أَبَا بَكْرٍ فِيهِمْ فَقَالَ: قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ اسْتَبْقِهِمْ لَعَلَّ اللَّه أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، وَخُذْ مِنْهُمْ فِدْيَةً تُقَوِّي بِهَا أَصْحَابَكَ، فَقَامَ عُمَرُ وَقَالَ: كَذَّبُوكَ وَأَخْرَجُوكَ فَقَدِّمْهُمْ وَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَإِنَّ اللَّه أَغْنَاكَ عَنِ الْفِدَاءِ. فَمَكِّنْ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ وَحَمْزَةَ مِنَ الْعَبَّاسِ وَمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ يُنْسَبُ لَهُ فَنَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمْ. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّه لَيُلَيِّنُ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ، وَإِنَّ اللَّه لَيُشَدِّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إِبْرَاهِيمَ: 36] وَمَثَلُ عِيسَى فِي قَوْلِهِ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الْمَائِدَةِ: 118] وَمَثَلُكَ يَا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نُوحٍ: 26] وَمَثَلُ مُوسَى حَيْثُ قَالَ: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ [يُونُسَ: 88] وَمَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ. رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ يَا أَبَا حَفْصٍ وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا كَنَّاهُ، تَأْمُرُنِي أَنْ أَقْتُلَ الْعَبَّاسَ، فَجَعَلَ عُمَرُ يَقُولُ: وَيْلٌ لِعُمَرَ ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ، وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنَ رَوَاحَةَ أَشَارَ بِأَنْ تُضْرَمَ عَلَيْهِمْ نَارٌ كَثِيرَةُ الْحَطَبِ فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ قَطَعْتَ رَحِمَكَ. وَرُوِيَ/ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُخْرِجُوا أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ بِضَرْبِ الْعُنُقِ» فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِلَّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ. فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَدَّ خَوْفِي. ثُمَّ قَالَ مِنْ بَعْدُ: «إِلَّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ» وَعَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْقَوْمِ: «إِنْ شِئْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَادَيْتُمُوهُمْ وَاسْتُشْهِدَ مِنْكُمْ بِعِدَّتِهِمْ» فَقَالُوا: بَلْ نَأْخُذُ الْفِدَاءَ فَاسْتُشْهِدُوا بِأُحُدٍ. وَكَانَ فِدَاءُ الْأُسَارَى عِشْرِينَ أُوقِيَّةً وَفِدَاءُ الْعَبَّاسِ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ كَانَ فِدَاؤُهُمْ مِائَةَ أُوقِيَّةٍ وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا أَوْ سِتَّةُ دَنَانِيرَ. وروي أنهم أَخَذُوا الْفِدَاءَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ يَبْكِيَانِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه أَخْبِرْنِي فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ وإن لم أجد تباكيت، فقال أبكي عَلَى أَصْحَابِكَ فِي أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، وَلَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ- لِشَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْهُ- وَلَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ لَمَا نَجَا مِنْهُ غَيْرُ عُمَرَ وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. هَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكَ الطَّاعِنُونَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى صَرِيحٌ فِي أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَمَمْنُوعٌ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمَعْنَى قَدْ حَصَلَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قوله تعالى بعد هذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى [الْأَنْفَالِ: 70] الثَّانِي: أَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا قَتَلَ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ، بَلْ أَسَرَهُمْ، فَكَانَ الذَّنْبُ لَازِمًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَجَمِيعَ قَوْمِهِ يَوْمَ بَدْرٍ بِقَتْلِ الْكُفَّارِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الْأَنْفَالِ: 12] وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، فَلَمَّا لَمْ يَقْتُلُوا بَلْ أَسَرُوا كَانَ الْأَسْرُ مَعْصِيَةً. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِأَخْذِ الْفِدَاءِ، وَكَانَ أَخْذُ الْفِدَاءِ مَعْصِيَةً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ

تَعَالَى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ عَرَضِ الدنيا هاهنا هُوَ أَخْذُ الْفِدَاءِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: أَخَذْتُمْ ذَلِكَ الْفِدَاءُ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ بَكَيَا، وَصَرَّحَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إِنَّمَا بَكَى لِأَجْلِ أَنَّهُ حَكَمَ بِأَخْذِ الْفِدَاءِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ذَنْبٌ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْعَذَابَ قَرُبَ نُزُولُهُ وَلَوْ نَزَلَ لَمَا نَجَا مِنْهُ إِلَّا عُمَرُ» وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الذَّنْبِ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ وُجُوهِ تَمَسُّكِ الْقَوْمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرُوهُ أَوَّلًا: أَنَّ قَوْلَهُ: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ الْأَسْرُ مَشْرُوعًا، وَلَكِنْ بِشَرْطِ سَبْقِ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِثْخَانِ هُوَ الْقَتْلُ وَالتَّخْوِيفُ الشَّدِيدُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ خَلْقًا عَظِيمًا، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ قَتْلُ جَمِيعِ النَّاسِ. ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ الْقَتْلِ الْكَثِيرِ أَسَرُوا جَمَاعَةً، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْدَ الْإِثْخَانِ يَجُوزُ الْأَسْرُ فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً دَلَالَةً بَيِّنَةً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْأَسْرَ كَانَ جَائِزًا بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْأَسْرَ كَانَ ذَنْبًا وَمَعْصِيَةً؟ وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الْكَلَامُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [مُحَمَّدٍ: 4] . فَإِنْ قَالُوا: فَعَلَى مَا شَرَحْتُمُوهُ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْأَسْرَ كَانَ جَائِزًا وَالْإِتْيَانُ بِالْجَائِزِ الْمَشْرُوعِ لَا يَلِيقُ تَرْتِيبُ الْعِقَابِ عَلَيْهِ، فَلِمَ ذَكَرَ اللَّه بَعْدَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعِقَابِ؟ فَنَقُولُ: الْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ الْإِثْخَانَ فِي الْأَرْضِ لَيْسَ مَضْبُوطًا بِضَابِطٍ مَعْلُومٍ مُعَيَّنٍ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِكْثَارُ الْقَتْلِ بِحَيْثُ يُوجِبُ وُقُوعَ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْكَافِرِينَ، وَأَنْ لَا يَجْتَرِئُوا عَلَى مُحَارَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَبُلُوغُ الْقَتْلِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ الْمُعَيَّنِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَكُونُ مُفَوَّضًا إِلَى الِاجْتِهَادِ، فَلَعَلَّهُ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنَ الْقَتْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ كَفَى فِي حُصُولِ هَذَا الْمَقْصُودِ، مَعَ أَنَّهُ مَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَانَ هَذَا خَطَأً وَاقِعًا فِي الِاجْتِهَادِ فِي صُورَةٍ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ، وَحَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ. فَحَسُنَ تَرْتِيبُ الْعِقَابِ عَلَى ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ لِهَذَا السَّبَبِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ الْبَتَّةَ ذَنْبًا وَلَا مَعْصِيَةً. وَالْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرُوهُ ثَانِيًا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ إِنَّمَا كَانَ مَعَ الصَّحَابَةِ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا كَانَ مَأْمُورًا أَنْ يُبَاشِرَ قَتْلَ الْكُفَّارِ بِنَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْخِطَابُ مُخْتَصًّا بِالصَّحَابَةِ، فَهُمْ لَمَّا تَرَكُوا الْقَتْلَ وَأَقْدَمُوا عَلَى الْأَسْرِ، كَانَ الذَّنْبُ صَادِرًا مِنْهُمْ لَا مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَنُقِلَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا هَزَمُوا الْكُفَّارَ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمْعًا عَظِيمًا وَالْكُفَّارُ فَرُّوا ذَهَبَ الصَّحَابَةُ خَلْفَهُمْ وَتَبَاعَدُوا عَنِ الرَّسُولِ وَأَسَرُوا أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ، وَلَمْ يَعْلَمِ الرَّسُولُ بِإِقْدَامِهِمْ عَلَى الْأَسْرِ إِلَّا بَعْدَ رُجُوعِ الصَّحَابَةِ إِلَى حَضْرَتِهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أَسَرَ وَمَا أَمَرَ بِالْأَسْرِ، فَزَالَ هَذَا السُّؤَالُ. فَإِنْ قَالُوا: هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، لَكِنَّهُمْ لَمَّا حَمَلُوا الْأُسَارَى إِلَى حَضْرَتِهِ فَلِمَ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِهِمُ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ.

قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ: فَاضْرِبُوا تَكْلِيفٌ مُخْتَصُّ بِحَالَةِ الْحَرْبِ عِنْدَ اشْتِغَالِ الْكُفَّارِ بِالْحَرْبِ، فَأَمَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ فَهَذَا التَّكْلِيفُ مَا كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ. وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَشَارَ/ الصَّحَابَةَ فِي أَنَّهُ بِمَاذَا يُعَامِلُهُمْ؟ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ النَّصُّ مُتَنَاوِلًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ، لَكَانَ مَعَ قِيَامِ النَّصِّ الْقَاطِعِ تَارِكًا لِحُكْمِهِ وَطَالِبًا ذَلِكَ الْحُكْمَ مِنْ مُشَاوَرَةِ الصَّحَابَةِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ لَا يُفِيدُ إِلَّا الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ، وَثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ وَاجِبًا حَالَ الْمُحَارَبَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَدِيمَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا وَرَاءَ وَقْتِ الْمُحَارَبَةِ، وَهَذَا الْجَوَابُ شَافٍ. وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ ثَالِثًا، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَكَمَ بِأَخْذِ الْفِدَاءِ، وَأَخْذُ الْفِدَاءِ مُحَرَّمٌ. فَنَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَخْذَ الْفِدَاءِ مُحَرَّمٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ فَنَقُولُ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِكُمْ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حُصُولُ الْعِتَابِ عَلَى الْأَسْرِ لِغَرَضِ أَخْذِ الْفِدَاءِ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَخْذَ الْفِدَاءِ مُحَرَّمٌ مُطْلَقًا. الثَّانِي: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ الْأَوْلَى: أَنْ نَأْخُذَ الْفِدَاءَ لِتَقْوَى الْعَسْكَرُ بِهِ عَلَى الْجِهَادِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا طَلَبُوا ذَلِكَ الْفِدَاءَ لِلتَّقَوِّي بِهِ عَلَى الدِّينِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى ذَمِّ مَنْ طَلَبَ الْفِدَاءَ لِمَحْضِ عَرَضِ الدُّنْيَا وَلَا تَعَلُّقَ لِأَحَدِ الْبَابَيْنِ بِالثَّانِي. وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ بِعَيْنِهِمَا هُمَا الْجَوَابَانِ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ رَابِعًا: أَنَّ بُكَاءَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ لَمَّا خَالَفَ أَمْرَ اللَّه فِي الْقَتْلِ، وَاشْتَغَلَ بِالْأَسْرِ اسْتَوْجَبَ الْعَذَابَ، فَبَكَى الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَوْفًا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اجْتَهَدَ فِي أَنَّ الْقَتْلَ الَّذِي حَصَلَ هَلْ بَلَغَ مَبْلَغَ الْإِثْخَانِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّه بِهِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ وَوَقَعَ الْخَطَأُ فِي ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ، وَحَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، فَأَقْدَمَ عَلَى الْبُكَاءِ لِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى. وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ خَامِسًا: أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ إِنَّمَا نَزَلَ بِسَبَبِ أَنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّه بِالْقَتْلِ، وَأَقْدَمُوا عَلَى الْأَسْرِ حَالَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمُ الِاشْتِغَالُ بِالْقَتْلِ، فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي شَرْحِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ حَسُنَ إِدْخَالُ لَفْظَةِ كَانَ على لفظة تكون فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْجَوَابُ: قَوْلُهُ مَا كانَ مَعْنَاهُ النَّفْيُ وَالتَّنْزِيهُ، أَيْ مَا يَجِبُ وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ وَنَظِيرُهُ مَا كَانَ للَّه أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ لِنَبِيٍّ ذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ لَكَ، وَأَمَّا/ مَنْ قَرَأَ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ فَمَعْنَاهُ: أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَا كَانَ يَنْبَغِي حُصُولُهُ لِهَذَا النَّبِيِّ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: (أَسْرَى) جَمْعٌ، وَ (أُسَارَى) جَمْعُ الْجَمْعِ. قَالَ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَرَأَ (أَسَارَى) وَهِيَ جَائِزَةٌ كَمَا نَقَلْنَا عَنْ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» : أَنَّهُ نَقَلَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَرَأَ بِهِ وَقَوْلُهُ: حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ فِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْإِثْخَانُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عِبَارَةٌ عَنْ قُوَّتِهِ وَشِدَّتِهِ، يُقَالُ: قَدْ أَثْخَنَهُ الْمَرَضُ إِذَا

اشْتَدَّ قُوَّةُ الْمَرَضِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَثْخَنَهُ الْجِرَاحُ، وَالثَّخَانَةُ الْغِلْظَةُ فَكُلُّ شَيْءٍ غَلِيظٍ، فَهُوَ ثَخِينٌ. فَقَوْلُهُ: حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ مَعْنَاهُ حَتَّى يَقْوَى وَيَشْتَدَّ وَيَغْلِبَ وَيُبَالِغَ وَيَقْهَرَ، ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. قَالُوا الْمُرَادُ مِنْهُ: أَنْ يُبَالِغَ فِي قَتْلِ أَعْدَائِهِ. قَالُوا وَإِنَّمَا حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُلْكَ وَالدَّوْلَةَ إِنَّمَا تَقْوَى وَتَشْتَدُّ بِالْقَتْلِ. قَالَ الشَّاعِرُ: لَا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفِيعُ مِنَ الْأَذَى ... حَتَّى يُرَاقَ عَلَى جَوَانِبِهِ الدَّمُ وَلِأَنَّ كَثْرَةَ الْقَتْلِ تُوجِبُ قُوَّةَ الرُّعْبِ وَشِدَّةَ الْمَهَابَةِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الْجَرَاءَةِ، وَمِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ كَلِمَةَ (حَتَّى) لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ. فَقَوْلُهُ: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْدَ حُصُولِ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الْأَسْرِ. أَمَّا قَوْلُهُ: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا فَالْمُرَادُ الْفِدَاءُ، وَإِنَّمَا سَمَّى مَنَافِعَ الدُّنْيَا وَمَتَاعَهَا عَرَضًا، لِأَنَّهُ لَا ثَبَاتَ لَهُ وَلَا دَوَامَ، فَكَأَنَّهُ يَعْرِضُ ثُمَّ يَزُولُ، وَلِذَلِكَ سَمَّى الْمُتَكَلِّمُونَ الْأَعْرَاضَ أَعْرَاضًا، لِأَنَّهُ لَا ثَبَاتَ لَهَا كَثَبَاتِ الْأَجْسَامِ لِأَنَّهَا تَطْرَأُ عَلَى الْأَجْسَامِ، وَتَزُولُ عَنْهَا مَعَ كَوْنِ الْأَجْسَامِ بَاقِيَةً، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ مَا يُفْضِي إِلَى السَّعَادَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي تَعْرِضُ وَتَزُولُ وَإِنَّمَا يُرِيدُ مَا يُفْضِي إِلَى السَّعَادَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ الْبَاقِيَةِ الدَّائِمَةِ الْمَصُونَةِ عَنِ التَّبْدِيلِ وَالزَّوَالِ. وَاحْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: لَا كَائِنَ مِنَ الْعَبْدِ إِلَّا واللَّه يُرِيدُهُ لِأَنَّ هَذَا الْأَسْرَ وَقَعَ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَنَصَّ اللَّه عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ بَلْ يُرِيدُ مِنْهُمْ مَا يُؤَدِّي إِلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الطَّاعَةُ دُونَ مَا يَكُونُ فِيهِ عِصْيَانٌ. وَأَجَابَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَنْهُ بِأَنْ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى مَا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْأَسْرُ مِنْهُمْ طَاعَةً، وَعَمَلًا جَائِزًا مَأْذُونًا. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ إِرَادَةِ كَوْنِ هَذَا الْأَسْرِ طَاعَةً، نَفِيُ كَوْنِهِ مُرَادَ الْوُجُودِ، وَأَمَّا الْحُكَمَاءُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ الشَّيْءُ مُرَادٌ بِالْعَرَضِ مَكْرُوهٌ بِالذَّاتِ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَالْمُرَادُ أَنَّكُمْ إِنْ طَلَبْتُمُ الْآخِرَةَ لَمْ يَغْلِبْكُمْ عَدُوُّكُمْ لِأَنَّ اللَّه عَزِيزٌ لَا يُقْهَرُ/ وَلَا يُغْلَبُ حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِ مَصَالِحِ الْعَالَمِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا الْحُكْمُ إِنَّمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَلِيلِينَ، فَلَمَّا كَثُرُوا وَقَوِيَ سُلْطَانُهُمْ أَنْزَلَ اللَّه بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأُسَارَى حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها [مُحَمَّدٍ: 4] وَأَقُولُ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُوهِمُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً يَزِيدُ عَلَى حُكْمِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ كِلْتَا الْآيَتَيْنِ متوافقتان، فإن كلتاهما يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْإِثْخَانِ، ثُمَّ بَعْدَهُ أَخْذُ الْفِدَاءِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَثُرَ أَقَاوِيلُ النَّاسِ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْكِتَابِ السَّابِقِ. وَنَحْنُ نَذْكُرُهَا وَنَذْكُرُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَبَاحِثِ: فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّه سَبَقَ يَا مُحَمَّدُ بِحِلِّ الْغَنَائِمِ لَكَ وَلِأُمَّتِكَ، لَمَسَّكُمُ الْعَذَابُ. وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّ تَحْلِيلَ الْغَنَائِمِ وَالْفِدَاءَ هَلْ كَانَ حَاصِلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ مَا كَانَ حَاصِلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؟ فَإِنْ كَانَ التَّحْلِيلُ وَالْإِذْنُ حَاصِلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ امْتَنَعَ إِنْزَالُ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَا كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ قَبْلُ لَمْ يَحْصُلِ الْعِقَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْإِذْنَ مَا كَانَ حَاصِلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ حراماً

فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّه أَنَّهُ سَيَحْكُمُ بِحِلِّهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ هَذَا لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ حَرَامًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ كَوْنَهُ بِحَيْثُ سَيَصِيرُ حَلَالًا بَعْدَ ذَلِكَ يُوجِبُ تَخْفِيفَ الْعِقَابِ. قُلْنَا: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ إِنْزَالُ الْعِقَابِ بِسَبَبِهِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ التَّخْوِيفِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعِقَابِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أَنِّي لَا أُعَذِّبُ إِلَّا بَعْدَ النَّهْيِ لَعَذَّبْتُكُمْ فِيمَا صَنَعْتُمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى مَا نَهَاهُمْ عَنْ أَخْذِ الْفِدَاءِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّا نَقُولُ حَاصِلُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ مَا وُجِدَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يُوجِبُ حُرْمَةَ ذَلِكَ الْفِدَاءِ، فَهَلْ حَصَلَ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ يَقْتَضِي حُرْمَتَهُ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا حَصَلَ، فَيَكُونُ اللَّه تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ تَحْرِيمَهُ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْ تِلْكَ الْحُرْمَةَ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ وَلَا فِي الشَّرْعِ مَا يَقْتَضِي الْمَنْعَ، فَحِينَئِذٍ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ حَاصِلًا، وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَنْعُ حَاصِلًا كَانَ الْإِذْنُ حَاصِلًا، وَإِذَا كَانَ الْإِذْنُ حَاصِلًا، فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَرْتِيبُ الْعِقَابِ عَلَى فِعْلِهِ؟ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ قَوْمٌ قَدْ سَبَقَ حُكْمُ اللَّه بِأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا أَيْضًا مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ مَا مُنِعُوا عَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَالزِّنَا/ وَالْخَمْرِ وَمَا هُدِّدُوا بِتَرْتِيبِ الْعِقَابِ عَلَى هَذِهِ الْقَبَائِحِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ سُقُوطَ التَّكَالِيفِ عَنْهُمْ وَلَا يَقُولُهُ عاقل. وأيضاً فلو صاروا كَذَلِكَ، فَكَيْفَ آخَذَهُمُ اللَّه تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِعَيْنِهِ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ بِعَيْنِهَا، وَكَيْفَ وَجَّهَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْعِقَابَ الْقَوِيَّ؟ وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّه سَبَقَ فِي أَنَّ مَنْ أَتَى ذَنْبًا بِجَهَالَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخِذُهُ بِهِ لَمَسَّهُمُ الْعَذَابُ، وَهَذَا مِنْ جِنْسِ مَا سَبَقَ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ قَدْ أَكْثَرُوا فِيهِ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ نَقُولَ: أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا: فَنَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَعْفُوَ اللَّه عَنِ الْكَبَائِرِ. فَقَوْلُهُ: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ مَعْنَاهُ لَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ فِي الْأَزَلِ بِالْعَفْوِ عَنْ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ لَمَسَّهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الْأَنْعَامِ: 54] وَمِنْ قَوْلِهِ: «سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي» وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَهُمْ لَا يُجَوِّزُونَ الْعَفْوَ عَنِ الْكَبَائِرِ، فَكَانَ مَعْنَاهُ لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ فِي أَنَّ مَنِ احْتَرَزَ عَنِ الْكَبَائِرِ صَارَتْ صَغَائِرُهُ مَغْفُورَةً وَإِلَّا لَمَسَّهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وَهَذَا الْحُكْمُ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا أَنَّ طَاعَاتِ أَهْلِ بَدْرٍ كَانَتْ عَظِيمَةً وَهُوَ قَبُولُهُمُ الْإِسْلَامَ، وَانْقِيَادُهُمْ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِقْدَامُهُمْ عَلَى مُقَاتَلَةِ الْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ سِلَاحٍ وَأُهْبَةٍ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الثَّوَابَ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ عَلَى هَذِهِ الطَّاعَاتِ كَانَ أَزْيَدَ مِنَ الْعِقَابِ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ عَلَى هَذَا الذَّنْبِ، فَلَا جَرَمَ صَارَ هَذَا الذَّنْبُ مَغْفُورًا، وَلَوْ قَدَّرْنَا صُدُورَ هَذَا الذَّنْبِ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ لَمَا صَارَ مَغْفُورًا، فَبِسَبَبِ هَذَا الْقَدْرِ مِنَ التَّفَاوُتِ حَصَلَ لِأَهْلِ بَدْرٍ هَذَا الِاخْتِصَاصُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً رُوِيَ أَنَّهُمْ أَمْسَكُوا عَنِ الْغَنَائِمِ وَلَمْ يَمُدُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلَيْهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقِيلَ هُوَ إِبَاحَةُ الْفِدَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَكُلُوا. قُلْنَا التَّقْدِيرُ: قَدْ أَبَحْتُ لَكُمُ الْغَنَائِمَ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَغْنُومِ أَوْ صِفَةٍ لِلْمَصْدَرِ، أَيْ أَكْلًا حَلَالًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَالْمَعْنَى: وَاتَّقُوا اللَّه فَلَا تُقْدِمُوا عَلَى الْمَعَاصِي بَعْدَ

[سورة الأنفال (8) : الآيات 70 إلى 71]

ذلك، واعلموا أن اللَّه غفور ما أَقْدَمْتُمْ عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي مِنَ الزَّلَّةِ، رَحِيمٌ ما أَتَيْتُمْ مِنَ الْجُرْمِ وَالْمَعْصِيَةِ، فَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إشارة إلى الحالة الماضية. [سورة الأنفال (8) : الآيات 70 الى 71] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) [في قوله تعالى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى] اعْلَمْ أَنَّ الرَّسُولَ لَمَّا أَخَذَ الْفِدَاءَ مِنَ الْأُسَارَى وَشَقَّ عَلَيْهِمْ أَخْذُ أَمْوَالِهِمْ مِنْهُمْ، ذَكَرَ اللَّه هَذِهِ الْآيَةَ اسْتِمَالَةً لَهُمْ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: نَزَلَتْ فِي الْعَبَّاسِ، وَعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، ونوفل بن الحرث، كَانَ الْعَبَّاسُ أَسِيرًا يَوْمَ بَدْرٍ وَمَعَهُ عِشْرُونَ أُوقِيَّةً مِنَ الذَّهَبِ أَخْرَجَهَا لِيُطْعِمَ النَّاسَ، وَكَانَ أَحَدَ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ ضَمِنُوا الطَّعَامَ لِأَهْلِ بَدْرٍ فَلَمْ تَبْلُغْهُ التَّوْبَةُ حَتَّى أُسِرَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: كُنْتُ مُسْلِمًا إِلَّا أَنَّهُمْ أَكْرَهُونِي، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنْ يَكُنْ مَا تَذْكُرُهُ حَقًّا فاللَّه يَجْزِيكَ» فَأَمَّا ظَاهِرُ أَمْرِكَ فَقَدْ كَانَ عَلَيْنَا. قَالَ الْعَبَّاسُ: فَكَلَّمْتُ رَسُولَ اللَّه أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ الذَّهَبَ عَلَيَّ، فَقَالَ: «أَمَّا شَيْءٌ خَرَجْتَ لِتَسْتَعِينَ بِهِ عَلَيْنَا فَلَا» قَالَ: وَكَلَّفَنِي الرَّسُولُ فِدَاءَ ابْنِ أَخِي عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عشرين أوقية، وفداء نوفل بن الحرث، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: تَرَكْتَنِي يَا مُحَمَّدُ أَتَكَفَّفُ قُرَيْشًا، فقال رسول اللَّه صَلَّى الله عليه سلّم: «أَيْنَ الذَّهَبُ الَّذِي دَفَعْتَهُ إِلَى أُمِّ الْفَضْلِ وَقْتَ خُرُوجِكَ مِنْ مَكَّةَ وَقُلْتَ لَهَا: لَا أَدْرِي مَا يُصِيبُنِي، فَإِنْ حَدَثَ بِي حَادِثٌ فَهُوَ لَكِ وَلِعَبْدِ اللَّه وَعُبَيْدِ اللَّه وَالْفَضْلِ» فَقَالَ الْعَبَّاسُ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ قَالَ: «أَخْبَرَنِي بِهِ رَبِّي» قَالَ الْعَبَّاسُ: فَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه وَأَنَّكَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، واللَّه لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا اللَّه، وَلَقَدْ دَفَعْتُهُ إِلَيْهَا فِي سَوَادِ اللَّيْلِ، وَلَقَدْ كُنْتُ مُرْتَابًا فِي أَمْرِكَ، فَأَمَّا إِذْ أَخْبَرْتَنِي بِذَلِكَ فَلَا رَيْبَ. قَالَ الْعَبَّاسُ: فَأَبْدَلَنِي اللَّه خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ، لِي الْآنَ عِشْرُونَ عَبْدًا، وَإِنَّ أَدْنَاهُمْ لَيَضْرِبُ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا، وَأَعْطَانِي زَمْزَمَ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ بِهَا جَمِيعَ أَمْوَالِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْمَغْفِرَةَ مِنْ رَبِّي. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّه مَالُ الْبَحْرَيْنِ ثَمَانُونَ أَلْفًا، فَتَوَضَّأَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَمَا صَلَّى حَتَّى فَرَّقَهُ، وَأَمَرَ الْعَبَّاسَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ، فَأَخَذَ مَا قَدَرَ عَلَى حَمْلِهِ، وَكَانَ يَقُولُ: هَذَا خَيْرٌ مِمَّا أُخِذَ مِنِّي، وَأَنَا أَرْجُو الْمَغْفِرَةَ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّ الْآيَةَ نَازِلَةٌ فِي الْعَبَّاسِ خَاصَّةً، أَوْ فِي جُمْلَةِ الْأُسَارَى. قَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا فِي الْعَبَّاسِ خَاصَّةً، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْكُلِّ، وَهَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: مِنَ الْأَسْرى وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: فِي قُلُوبِكُمْ/ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: يُؤْتِكُمْ خَيْراً وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ: وَيَغْفِرْ لَكُمْ فَلَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ السِّتَّةُ عَلَى الْعُمُومِ، فَمَا الْمُوجِبُ لِلتَّخْصِيصِ؟ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ هُوَ الْعَبَّاسُ، إِلَّا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ: الْإِيمَانُ وَالْعَزْمُ عَلَى طَاعَةِ اللَّه وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فِي جَمِيعِ التَّكَالِيفِ، وَالتَّوْبَةُ عَنِ الْكُفْرِ وَعَنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْعَزْمُ عَلَى نُصْرَةِ الرَّسُولِ، وَالتَّوْبَةُ عَنْ مُحَارَبَتِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ الشَّيْءَ إِلَّا عِنْدَ حُدُوثِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً فَعَلَ كَذَا وَكَذَا شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَالشَّرْطُ هُوَ حُصُولُ هَذَا الْعِلْمِ، وَالشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ لَا يَصِحُّ وُجُودُهُمَا إِلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ حُدُوثَ عِلْمِ اللَّه تَعَالَى. وَالْجَوَابُ: أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي مَا ذَكَرَهُ هِشَامٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ عِلْمَ اللَّه يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: ذَكَرَ الْعِلْمَ وَأَرَادَ بِهِ الْمَعْلُومَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَدُلُّ حُصُولُ الْعِلْمِ عَلَى حُصُولِ الْمَعْلُومِ. أَمَّا قَوْلُهُ: يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَرَأَ الْحَسَنُ مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِي هَذَا الْخَيْرِ أَقْوَالٌ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ: الْخُلْفُ مِمَّا أُخِذَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا. قَالَ الْقَاضِي: لِأَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ عَلَيْهِ أَمْرَ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: وَيَغْفِرْ لَكُمْ فَمَا تَقَدَّمَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَنَافِعَ الدُّنْيَا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَيَغْفِرْ لَكُمْ الْمُرَادُ مِنْهُ إِزَالَةُ الْعِقَابِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا الثَّوَابَ وَالتَّفَضُّلَ فِي الْآخِرَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ ثَوَابُ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَيَغْفِرْ لَكُمْ الْمُرَادُ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ، فَالْخَيْرُ الَّذِي تُقَدِّمُهُ يَجِبُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْكُلِّ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا حَمَلْتُمُ الْخَيْرَ عَلَى خَيْرَاتِ الدُّنْيَا، فَهَلْ تَقُولُونَ إِنَّ كُلَّ مَنْ أَخْلَصَ مِنَ الْأُسَارَى قَدْ آتَاهُ اللَّه خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْهُ؟ قُلْنَا: هَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِحُكْمِ الْآيَةِ، إِلَّا أَنَّا لَا نَعْلَمُ مَنِ الْمُخْلِصُ بِقَلْبِهِ. حَتَّى يَتَوَجَّهَ عَلَيْنَا فِيهِ السُّؤَالُ، وَلَا نَعْلَمُ أَيْضًا مَنِ الَّذِي آتَاهُ اللَّه عِلْمًا، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ قَلِيلَ الدُّنْيَا مَعَ الْإِيمَانِ أَعْظَمُ مِنْ كَثِيرِ الدُّنْيَا مَعَ الْكُفْرِ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا مَضَى ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهُ: وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالْمَعْنَى: كيف لا يفي بوعده الْمَغْفِرَةِ وَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ؟ أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْخِيَانَةِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْخِيَانَةُ فِي الدِّينِ وَهُوَ الْكُفْرُ، يَعْنِي إِنْ كَفَرُوا بِكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّه مِنْ قَبْلُ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْخِيَانَةِ مَنْعُ مَا ضَمِنُوا مِنَ الْفِدَاءِ. الثَّالِثُ: رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَطْلَقَهُمْ مِنَ الْأَسْرِ عَهِدَ مَعَهُمْ أَنْ لا تعودوا إِلَى مُحَارَبَتِهِ وَإِلَى مُعَاهَدَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَهَذَا هُوَ الْعَادَةُ فِيمَنْ يُطْلَقُ مِنَ الْحَبْسِ وَالْأَسْرِ، فَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ أَيْ نَكْثَ هَذَا الْعَهْدِ فَقَدْ خَانُوا اللَّه مِنْ قَبْلُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [يونس: 22] ولَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الْأَعْرَافِ: 189] ثُمَّ إِذَا وَصَلُوا إِلَى النِّعْمَةِ وَتَخَلَّصُوا مِنَ الْبَلِيَّةِ نَكَثُوا الْعَهْدَ وَنَقَضُوا الْمِيثَاقَ، وَلَا يَمْنَعُ دُخُولَ الْكُلِّ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَظْهَرُ هُوَ هَذَا الأخير.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 72 إلى 75]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: يُقَالُ أَمْكَنَنِي الْأَمْرُ يُمْكِنُنِي فَهُوَ مُمْكِنٌ وَمَفْعُولُ الْإِمْكَانِ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى: فَأَمْكَنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ خَانُوا اللَّه بِمَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنْ مُحَارَبَةِ الرَّسُولِ يَوْمَ بَدْرٍ فَأَمْكَنَ اللَّه مِنْهُمْ قَتْلًا وَأَسْرًا، وَذَلِكَ نِهَايَةُ الْإِمْكَانِ وَالظَّفَرِ. فَنَبَّهَ اللَّه بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ ذَاقُوا وَبَالَ مَا فَعَلُوهُ ثَمَّ، فَإِنْ عَادُوا كَانَ التَّمْكِينُ مِنْهُمْ ثَابِتًا حَاصِلًا، وَفِيهِ بِشَارَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ كُلِّ مَنْ يَخُونُهُ وَيَنْقُضُ عَهْدَهُ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ أَيْ بِبَوَاطِنِهِمْ وَضَمَائِرِهِمْ حَكِيمٌ يُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ. [سورة الأنفال (8) : الآيات 72 الى 75] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَسَّمَ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، وَذَكَرَ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْقِسْمَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ظَهَرَتْ نُبُوَّتُهُ بِمَكَّةَ وَدَعَا النَّاسَ هُنَاكَ إِلَى الدِّينِ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَحِينَ هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ صَارَ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ وَافَقَهُ فِي تِلْكَ الْهِجْرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُوَافِقْهُ فِيهَا بَلْ بَقِيَ هُنَاكَ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ، وَقَدْ وَصَفَهُمْ بقول: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمُ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مَوْصُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعَةِ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُمْ آمَنُوا باللَّه وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَقَبِلُوا جَمِيعَ التَّكَالِيفِ الَّتِي بَلَّغَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَتَمَرَّدُوا، فَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَهاجَرُوا يَعْنِي: فَارَقُوا الْأَوْطَانَ، وَتَرَكُوا الْأَقَارِبَ وَالْجِيرَانَ فِي طَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّه، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ حَالَةٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ تَعَالَى: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ [النِّسَاءِ: 66] جَعَلَ مُفَارَقَةَ الْأَوْطَانِ مُعَادِلَةً لِقَتْلِ النَّفْسِ، فَهَؤُلَاءِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى تَرَكُوا الْأَدْيَانَ الْقَدِيمَةَ لِطَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى، وَفِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ تَرَكُوا الْأَقَارِبَ وَالْخِلَّانَ وَالْأَوْطَانَ وَالْجِيرَانَ لِمَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمَّا الْمُجَاهَدَةُ بِالْمَالِ فَلِأَنَّهُمْ لَمَّا فَارَقُوا الْأَوْطَانَ فَقَدْ ضَاعَتْ دُورُهُمْ وَمَسَاكِنُهُمْ وَضِيَاعُهُمْ وَمَزَارِعُهُمْ، وَبَقِيَتْ فِي أَيْدِي الْأَعْدَاءِ، وَأَيْضًا فَقَدِ احْتَاجُوا إِلَى الْإِنْفَاقِ الْكَثِيرِ بِسَبَبِ تِلْكَ الْعَزِيمَةِ، وَأَيْضًا كَانُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْغَزَوَاتِ، وَأَمَّا الْمُجَاهَدَةُ بِالنَّفْسِ

فَلِأَنَّهُمْ كَانُوا أَقْدَمُوا عَلَى مُحَارَبَةِ بَدْرٍ مِنْ غَيْرِ آلَةٍ وَلَا أُهْبَةٍ وَلَا عُدَّةٍ مَعَ الْأَعْدَاءِ الْمَوْصُوفِينَ بِالْكَثْرَةِ وَالشِّدَّةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَزَالُوا أَطْمَاعَهُمْ عَنِ الْحَيَاةِ وَبَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه. وَأَمَّا الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: فَهِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَوَّلَ النَّاسِ إِقْدَامًا عَلَى هَذِهِ الأفعال والتزاماً لهذه الأحوال، ولهذه السابقة أَثَرٌ عَظِيمٌ فِي تَقْوِيَةِ الدِّينِ. قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [الْحَدِيدِ: 10] وَقَالَ: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التَّوْبَةِ: 100] وَإِنَّمَا كَانَ السَّبْقُ مُوجِبًا لِلْفَضِيلَةِ، لِأَنَّ إِقْدَامَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ يُوجِبُ اقْتِدَاءَ غَيْرِهِمْ بِهِمْ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْقُوَّةِ أَوِ الْكَمَالِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [الْمَائِدَةِ: 32] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَمِنْ عَادَةِ النَّاسِ أَنَّ دَوَاعِيَهُمْ تَقْوَى بِمَا يَرَوْنَ مِنْ أَمْثَالِهِمْ فِي أَحْوَالِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ الْمِحَنَ تَخِفُّ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِالْمُشَارَكَةِ فِيهَا، فَثَبَتَ أَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعَةِ لِلْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الْفَضِيلَةِ وَنِهَايَةِ الْمَنْقَبَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الِاعْتِرَافَ بِكَوْنِهِمْ رُؤَسَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَسَادَةً لَهُمْ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمُ الْأَنْصَارُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا هَاجَرَ إِلَيْهِمْ مَعَ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَوْلَا أَنَّهُمْ آوَوْا وَنَصَرُوا وَبَذَلُوا النَّفْسَ وَالْمَالَ فِي خِدْمَةِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِ أَصْحَابِهِ لَمَا تَمَّ الْمَقْصُودُ الْبَتَّةَ، / وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْمُهَاجِرِينَ أَعْلَى فِي الْفَضِيلَةِ مِنْ حَالِ الْأَنْصَارِ لِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُمْ هُمُ السَّابِقُونَ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ رَئِيسُ الْفَضَائِلِ وَعُنْوَانُ الْمَنَاقِبِ: وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا الْعَنَاءَ وَالْمَشَقَّةَ دَهْرًا دَهِيرًا، وَزَمَانًا مَدِيدًا مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَصَبَرُوا عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْحَالُ مَا حَصَلَتْ لِلْأَنْصَارِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا الْمَضَارَّ النَّاشِئَةَ مِنْ مُفَارَقَةِ الْأَوْطَانِ وَالْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ، وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لِلْأَنْصَارِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ فَتْحَ الْبَابِ فِي قَبُولِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا حَصَلَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارُ اقْتَدَوْا بِهِمْ وَتَشَبَّهُوا بِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَدِي أَقَلَّ مَرْتَبَةً مِنَ الْمُقْتَدَى بِهِ، فَجُمْلَةُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ تُوجِبُ تَقْدِيمَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ عَلَى الْأَنْصَارِ فِي الْفَضْلِ وَالدَّرَجَةِ وَالْمَنْقَبَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَيْنَمَا ذَكَرَ اللَّه هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ قَدَّمَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الْأَنْصَارِ وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ وَرَدَ ذِكْرُهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْوِلَايَةِ، فَنَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمُفَسِّرِينَ كُلِّهِمْ، أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْوِلَايَةُ فِي الْمِيرَاثِ. وَقَالُوا جَعَلَ اللَّه تَعَالَى سَبَبَ الْإِرْثِ الْهِجْرَةَ وَالنُّصْرَةَ دُونَ الْقَرَابَةِ. وَكَانَ الْقَرِيبُ الَّذِي آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ لَمْ يَرِثْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يُهَاجِرْ وَلَمْ يَنْصُرْ، وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْوِلَايَةِ غَيْرُ مُشْعِرٍ بِهَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُشْعِرٌ بِالْقُرْبِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. وَيُقَالُ: «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» وَلَا يُفِيدُ الْإِرْثَ وَقَالَ تَعَالَى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يُونُسَ: 62] وَلَا يُفِيدُ الْإِرْثَ بَلِ الْوِلَايَةُ تُفِيدُ الْقُرْبَ فَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ الْإِرْثِ، وَهُوَ كَوْنُ بَعْضِهِمْ مُعَظِّمًا لِلْبَعْضِ مُهْتَمًّا بِشَأْنِهِ مَخْصُوصًا بِمُعَاوَنَتِهِ وَمُنَاصَرَتِهِ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونُوا يَدًا وَاحِدَةً عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ حُبُّ كُلِّ وَاحِدٍ لِغَيْرِهِ جَارِيًا مَجْرَى حَبْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ

مُحْتَمِلًا لِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِرْثِ بَعِيدًا عَنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، لَا سِيَّمَا وَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ صَارَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تعالى في آخر الآية: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ وَأَيُّ حَاجَةٍ تَحْمِلُنَا عَلَى حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنَى لَا إِشْعَارَ لِذَلِكَ اللَّفْظِ بِهِ، ثُمَّ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ صَارَ مَنْسُوخًا بِآيَةٍ أُخْرَى مَذْكُورَةٍ مَعَهُ، هَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا حَصَلَ إِجْمَاعُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ المصير إليه إلا أن دعوى الإجماع بعيد. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مِنْ أَقْسَامِ مُؤْمِنِي زَمَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ مَا وَافَقُوا الرَّسُولَ فِي الْهِجْرَةِ وَبَقُوا فِي مَكَّةَ وَهُمُ المعنيون بقول: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا فَبَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَهُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْوَلَايَةَ الْمَنْفِيَّةَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، هِيَ الْوَلَايَةُ الْمُثْبَتَةُ فِي الْقِسْمِ الَّذِي تَقَدَّمَ، فَمَنْ حَمَلَ تِلْكَ الْوَلَايَةَ عَلَى الإرث، زعم أن الولاية المنفية هاهنا هِيَ الْإِرْثُ، وَمَنْ حَمَلَ تِلْكَ الْوَلَايَةَ عَلَى سائر الاعتبارات المذكورة، فكذا هاهنا. وَاحْتَجَّ الذَّاهِبُونَ، إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْوَلَايَةِ الْإِرْثُ، بِأَنْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا الْوَلَايَةَ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُوَالَاةِ فِي الدِّينِ وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْوَلَايَةِ الْمَذْكُورَةِ أَمْرًا مُغَايِرًا لِمَعْنَى النُّصْرَةِ وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّا حَمَلْنَا تِلْكَ الْوَلَايَةَ عَلَى التَّعْظِيمِ وَالْإِكْرَامِ وَهُوَ أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِلنُّصْرَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَنْصُرُ بَعْضَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي بَعْضِ الْمُهِمَّاتِ وَقَدْ يَنْصُرُ عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ بِمَعْنَى الْإِعَانَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يو اليه بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ فَسَقَطَ هَذَا الدَّلِيلُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى يُهاجِرُوا. وَاعْلَمْ أَنَّ قوله تعالى: ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يُوهِمُ أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يُهَاجِرُوا مَعَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَقَطَتْ وِلَايَتُهُمْ مُطْلَقًا، فَأَزَالَ اللَّه تَعَالَى هَذَا الْوَهْمَ بِقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا يَعْنِي أَنَّهُمْ لَوْ هَاجَرُوا لَعَادَتْ تِلْكَ الْوَلَايَةُ وَحَصَلَتْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْحَمْلُ عَلَى الْمُهَاجَرَةِ وَالتَّرْغِيبُ فِيهَا، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَتَى سَمِعَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُولُ: إِنْ قَطَعَ الْمُهَاجَرَةَ انْقَطَعَتِ الْوِلَايَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ هَاجَرَ حَصَلَتْ تِلْكَ الْوِلَايَةُ وَعَادَتْ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا يَصِيرُ مُرَغِّبًا لَهُ فِي الْهِجْرَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْمُهَاجَرَةِ كَثْرَةُ الْمُسْلِمِينَ واجتماعهم وإعانة بعضهم لبعض، وحصول الألفة الشوكة وَعَدَمُ التَّفْرِقَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ مِنْ وَلايَتِهِمْ بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ فَتَحَ جَعَلَهَا مِنَ النُّصْرَةِ وَالنَّسَبِ. وَقَالَ: وَالْوِلَايَةُ الَّتِي بِمَنْزِلَةِ الْإِمَارَةِ مَكْسُورَةٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ وَقَدْ يَجُوزُ كَسْرُ الْوَلَايَةِ لِأَنَّ فِي تَوَلِّي بَعْضِ الْقَوْمِ بَعْضًا جِنْسًا مِنَ الصِّنَاعَةِ كَالْقِصَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ فَهِيَ مَكْسُورَةٌ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الفارسي: الفتح أجود، لأن الولاية هاهنا مِنَ الدِّينِ وَالْكَسْرُ فِي السُّلْطَانِ. وَالْحُكْمُ الثَّانِي: مِنْ أَحْكَامِ هَذَا الْقِسْمِ الثَّالِثِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْحُكْمَ فِي قَطْعِ الْوَلَايَةِ بَيْنَ تِلْكَ الطَّائِفَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُقَاطَعَةَ التَّامَّةَ كَمَا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ بَلْ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا لَوِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فَانْصُرُوهُمْ/ وَلَا

تَخْذُلُوهُمْ. رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا قَامَ الزُّبَيْرُ وَقَالَ: فَهَلْ نُعِينُهُمْ عَلَى أَمْرٍ إِنِ اسْتَعَانُوا بِنَا؟ فَنَزَلَ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَكُمْ نَصْرُهُمْ عَلَيْهِمْ إِذِ الْمِيثَاقُ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ الَّذِي اعْتَبَرَهُ اللَّه فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي غَايَةِ الحسن لأنه ذكر هاهنا أَقْسَامًا ثَلَاثَةً: فَالْأَوَّلُ: الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَهُمْ أَفْضَلُ النَّاسِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُوَالِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا فَهَؤُلَاءِ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ لَهُمْ فَضْلٌ وَكَرَامَةٌ وَبِسَبَبِ تَرْكِ الْهِجْرَةِ لَهُمْ حَالَةٌ نَازِلَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمْ حُكْمًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْإِجْلَالِ وَالْإِذْلَالِ وَذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْوَلَايَةَ الْمُثْبَتَةَ لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ، تَكُونُ مَنْفِيَّةً عَنْ هَذَا الْقِسْمِ، إِلَّا أَنَّهُمْ يَكُونُونَ بِحَيْثُ لَوِ اسْتَنْصَرُوا الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتَعَانُوا بِهِمْ نَصَرُوهُمْ وَأَعَانُوهُمْ. فَهَذَا الْحُكْمُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْإِجْلَالِ وَالْإِذْلَالِ. وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَلَيْسَ لَهُمُ الْبَتَّةَ مَا يُوجِبُ شَيْئًا مِنْ أَسْبَابِ الْفَضِيلَةِ. فَوَجَبَ كَوْنُ الْمُسْلِمِينَ مُنْقَطِعِينَ عَنْهُمْ مِنْ كُلِّ الوجوه فلا يكون بينهم ولاية ولا مناصلة بوجه من الوجوه، فظهر أن هذا التريب فِي غَايَةِ الْحُسْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ فِي الْمُوَارَثَةِ مَعَ اخْتِلَافِ مِلَلِهِمْ كَأَهْلِ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَالْمَجُوسِيُّ يَرِثُ الْوَثَنِيَّ، وَالنَّصْرَانِيُّ يَرِثُ الْمَجُوسِيَّ، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إِذَا حَمَلْنَا الْوَلَايَةَ عَلَى الْإِرْثِ وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِ، بَلِ الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَانُوا فِي غَايَةِ الْعَدَاوَةِ لِلْيَهُودِ فَلَمَّا ظَهَرَتْ دَعْوَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَاصَرُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى إِيذَائِهِ وَمُحَارَبَتِهِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ ذَلِكَ. وَتَمَامُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أَنَّ الْجِنْسِيَّةَ عِلَّةُ الضَّمِّ وَشَبِيهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إِلَيْهِ، وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَمَّا اشْتَرَكُوا فِي عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَتْ هَذِهِ الْجِهَةُ مُوجِبَةً لِانْضِمَامِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ وَقُرْبِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَا أَقْدَمُوا عَلَى تِلْكَ الْعَدَاوَةِ لِأَجْلِ الدِّينِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ فِي نِهَايَةِ الْإِنْكَارِ لِدِينِ صَاحِبِهِ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْعَدَاوَةَ لِمَحْضِ الْحَسَدِ وَالْبَغْيِ وَالْعِنَادِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ قَالَ: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ وَالْمَعْنَى: إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فِي هَذِهِ التَّفَاصِيلِ الْمَذْكُورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ تَحْصُلُ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ/ وَمَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْفِتْنَةِ وَالْفَسَادِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَوِ اخْتَلَطُوا بِالْكُفَّارِ فِي زَمَانِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، وَزَمَانِ قُوَّةِ الْكُفَّارِ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ، فَرُبَّمَا صَارَتْ تِلْكَ الْمُخَالَطَةُ سَبَبًا لِالْتِحَاقِ الْمُسْلِمِ بِالْكُفَّارِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَوْ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ جَمْعٌ عَظِيمٌ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِجَرَاءَةِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِمْ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ جَمْعُ الْمُسْلِمِينَ كُلَّ يوم في الزيادة في العدة وَالْعُدَّةِ، صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَزِيدِ رَغْبَتِهِمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ وَرَغْبَةِ الْمُخَالِفِ فِي الِالْتِحَاقِ بِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْقِسْمَ الثَّالِثَ، عَادَ إِلَى ذِكْرِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مَرَّةً أُخْرَى فَقَالَ: وَالَّذِينَ

آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَكْرَارٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُمْ أَوَّلًا لِيُبَيِّنَ حُكْمَهُمْ وَهُوَ وَلَايَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، ثُمَّ إِنَّهُ تعالى ذكرهم هاهنا لِبَيَانِ تَعْظِيمِ شَأْنِهِمْ وَعُلُوِّ دَرَجَتِهِمْ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِعَادَةَ تَدُلُّ عَلَى مَزِيدِ الاهتمام بحالهم وذلك يدل على الشرف التعظيم. والثاني: وهو أنه تعالى أثنى عليهم هاهنا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فَقَوْلُهُ: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَقَوْلُهُ: حَقًّا يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِهِمْ بِكَوْنِهِمْ مُحِقِّينَ مُحَقِّقِينَ فِي طَرِيقِ الدِّينِ، وَالْأَمْرُ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُحِقًّا فِي دِينِهِ لَمْ يَتَحَمَّلْ تَرْكَ الْأَدْيَانِ السَّالِفَةِ، وَلَمْ يُفَارِقِ الْأَهْلَ وَالْوَطَنَ وَلَمْ يَبْذُلِ النَّفْسَ وَالْمَالَ وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ مِنَ الْمُتَسَارِعِينَ الْمُتَسَابِقِينَ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَتَنْكِيرُ لَفْظِ الْمَغْفِرَةِ يَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ كَمَا أَنَّ التَّنْكِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ [الْبَقَرَةِ: 96] يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ تِلْكَ الْحَيَاةِ، وَالْمَعْنَى: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ تَامَّةٌ كَامِلَةٌ عَنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ وَالتَّبِعَاتِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الثَّوَابُ الرَّفِيعُ الشَّرِيفُ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ تَعَالَى شَرَحَ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَالْمَقْصُودُ إِمَّا دَفْعُ الْعِقَابِ، وَإِمَّا جَلْبُ الثَّوَابِ، أَمَّا دَفْعُ الْعِقَابِ فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَمَّا جَلْبُ الثَّوَابِ فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَهَذِهِ السَّعَادَاتُ الْعَالِيَةُ إِنَّمَا حَصَلَتْ لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَتَرَكُوا الْأَهْلَ وَالْوَطَنَ وَبَذَلُوا النَّفْسَ وَالْمَالَ، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى تَحْصِيلِ السَّعَادَاتِ إِلَّا بِالْإِعْرَاضِ عَنْ هَذِهِ الْجُسْمَانِيَّاتِ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مِنْ مُؤْمِنِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يُوَافِقُوا الرَّسُولَ فِي الْهِجْرَةِ إِلَّا أَنَّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ هَاجَرُوا إِلَيْهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَعْدُ نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَهِيَ الْهِجْرَةُ الثَّانِيَةُ، وَقِيلَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقِيلَ: بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُرَادَ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا بَعْدَ الْهِجْرَةِ الْأُولَى، وَهَؤُلَاءِ هُمُ التَّابِعُونَ بِإِحْسَانٍ كَمَا قَالَ: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التَّوْبَةِ: 100] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَصَحُّ أَنَّ الْهِجْرَةَ انْقَطَعَتْ بِفَتْحِ مَكَّةَ لِأَنَّ عِنْدَهُ صَارَتْ مَكَّةُ بَلَدَ الْإِسْلَامِ وَقَالَ الْحَسَنُ: الْهِجْرَةُ غَيْرُ مُنْقَطِعَةٍ أَبَدًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» فَالْمُرَادُ الْهِجْرَةُ الْمَخْصُوصَةُ، فَإِنَّهَا انْقَطَعَتْ بِالْفَتْحِ وَبِقُوَّةِ الْإِسْلَامِ. أَمَّا لَوِ اتَّفَقَ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ كَوْنُ الْمُؤْمِنِينَ فِي بَلَدٍ وَفِي عَدَدِهِمْ قِلَّةٌ، وَيَحْصُلُ لِلْكُفَّارِ بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ مَعَهُمْ شَوْكَةٌ وَإِنْ هَاجَرَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ تِلْكَ الْبَلْدَةِ وَانْتَقَلُوا إِلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى ضَعُفَتْ شَوْكَةُ الْكُفَّارِ، فَهَهُنَا تَلْزَمُهُمُ الْهِجْرَةُ عَلَى مَا قَالَهُ الْحَسَنُ، لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ فِيهِمْ مِثْلُ الْعِلَّةِ فِي الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَأُولئِكَ مِنْكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَرْتَبَةَ هَؤُلَاءِ دُونَ مَرْتَبَةِ الْمُهَاجِرِينَ السَّابِقِينَ لِأَنَّهُ أَلْحَقَ هَؤُلَاءِ بِهِمْ وَجَعَلَهُمْ مِنْهُمْ فِي مَعْرِضِ التَّشْرِيفِ، وَلَوْلَا كَوْنُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَشْرَفَ وَإِلَّا لَمَا صَحَّ هَذَا الْمَعْنَى. فَهَذَا شَرْحُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ.

ثم قال تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الَّذِينَ قَالُوا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وِلَايَةُ الْمِيرَاثِ قَالُوا هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لَهُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْإِرْثَ كَانَ بِسَبَبِ النُّصْرَةِ وَالْهِجْرَةِ، وَالْآنَ قَدْ صَارَ ذَلِكَ مَنْسُوخًا فَلَا يَحْصُلُ الْإِرْثُ إِلَّا بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ وَقَوْلُهُ: فِي كِتابِ اللَّهِ الْمُرَادُ مِنْهُ السِّهَامُ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَّرُوا تِلْكَ الْآيَةَ بِالنُّصْرَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ قَالُوا: إِنَّ تِلْكَ الْوِلَايَةَ لَمَّا كَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِلْوِلَايَةِ بِسَبَبِ الْمِيرَاثِ بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ وِلَايَةَ الْإِرْثِ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ، إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِزَالَةَ هَذَا الْوَهْمِ، وَهَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ تَكْثِيرَ النَّسْخِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا حَاجَةٍ لَا يَجُوزُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّه بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ فِي كِتَابِهِ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ الْإِمَامَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أبي طالب فقال: قوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْكُلِّ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَحِينَئِذٍ يَنْدَرِجُ فِيهِ الْإِمَامَةُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ مِنْ أُولِي الْأَرْحَامِ لِمَا نُقِلَ أَنَّهُ عَلَيْهِ/ السَّلَامُ أَعْطَاهُ سُورَةَ بَرَاءَةَ لِيُبَلِّغَهَا إِلَى الْقَوْمِ، ثُمَّ بَعَثَ عَلِيًّا خَلْفَهُ وَأَمَرَ بِأَنْ يَكُونَ الْمُبَلِّغَ هُوَ عَلِيٌّ، وَقَالَ: «لَا يُؤَدِّيهَا إِلَّا رَجُلٌ مِنِّي» وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ مَا كَانَ مِنْهُ، فَهَذَا هُوَ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَالْجَوَابُ: إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ كَانَ الْعَبَّاسُ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ، لِأَنَّهُ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّه مِنْ عَلِيٍّ. وَبِهَذَا الْوَجْهِ أَجَابَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ عَنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ، فِي تَوْرِيثِ ذَوِي الأرحام، وأجاب أصحابنا عنه بأن قوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ مُجْمَلٌ فِي الشَّيْءِ الَّذِي حَصَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةُ، فَلَمَّا قَالَ: فِي كِتابِ اللَّهِ كَانَ مَعْنَاهُ فِي الْحُكْمِ الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّه فِي كِتَابِهِ، فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةُ مُقَيَّدَةً بِالْأَحْكَامِ الَّتِي بَيَّنَهَا اللَّه فِي كِتَابِهِ، وَتِلْكَ الْأَحْكَامُ لَيْسَتْ إِلَّا مِيرَاثَ الْعَصَبَاتِ. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْمُجْمَلِ هُوَ ذَلِكَ فَقَطْ فَلَا يَتَعَدَّى إِلَى تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ. ثُمَّ قَالَ فِي خَتْمِ السُّورَةِ: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَالْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الَّتِي ذَكَرْتُهَا وَفَصَّلْتُهَا كُلُّهَا حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ وَصَلَاحٌ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْعَبَثِ وَالْبَاطِلِ، لِأَنَّ الْعَالِمَ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالصَّوَابِ. وَنَظِيرُهُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ قَالَ مُجِيبًا لَهُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: 30] يَعْنِي لَمَّا عَلِمْتُمْ كَوْنِي عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، فَاعْلَمُوا أَنَّ حُكْمِي يَكُونُ مُنَزَّهًا عن الغلط كذا هاهنا. واللَّه أَعْلَمُ. تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ وللَّه الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ، كَمَا هُوَ أَهْلُهُ وَمُسْتَحِقُّهُ. يَوْمَ الْأَحَدِ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا بَغْدَانُ. وَنَسْأَلُ اللَّه الْخَلَاصَ مِنَ الْأَهْوَالِ وَشِدَّةِ الزَّمَانِ، وَكَيْدِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَالْخِذْلَانِ، إِنَّهُ الْمَلِكُ الدَّيَّانُ. وَصَلَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى حَبِيبِ الرَّحْمَنِ، مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى صَاحِبِ الْمُعْجِزَاتِ وَالْبُرْهَانِ.

سورة التوبة

سُورَةُ التَّوْبَةِ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا الْآيَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فَمَكِّيَّتَانِ وآياتها 129 نزلت بعد المائدة سورة التوبة مائة وثلاثة وثلاثون قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : لَهَا عِدَّةُ أَسْمَاءٍ: بَرَاءَةُ، وَالتَّوْبَةُ وَالْمُقَشْقِشَةُ، وَالْمُبَعْثِرَةُ، وَالْمُشَرِّدَةُ، وَالْمُخْزِيَةُ، وَالْفَاضِحَةُ، وَالْمُثِيرَةُ، وَالْحَافِرَةُ، وَالْمُنَكِّلَةُ، وَالْمُدَمْدِمَةُ، وَسُورَةُ الْعَذَابِ. قَالَ لِأَنَّ فِيهَا التَّوْبَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ تُقَشْقِشُ مِنَ النِّفَاقِ أَيْ تُبَرِّئُ مِنْهُ، وَتُبَعْثِرُ عَنْ أَسْرَارِ الْمُنَافِقِينَ، وَتَبْحَثُ عَنْهَا، وَتُثِيرُهَا. وَتَحْفِرُ عَنْهَا، وَتَفْضَحُهُمْ، وَتُنَكِّلُ بِهِمْ، وَتُشَرِّدُهُمْ وَتُخْزِيهِمْ، وَتُدَمْدِمُ عَلَيْهِمْ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ: إِنَّكُمْ تُسَمُّونَهَا سُورَةَ التَّوْبَةِ، واللَّه مَا تَرَكَتْ أَحَدًا إِلَّا نَالَتْ مِنْهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَالَ: إِنَّهَا الْفَاضِحَةُ مَا زَالَتْ تَنْزِلُ فِيهِمْ وَتَنَالُ مِنْهُمْ حَتَّى خَشِينَا أَنْ لَا تَدَعَ أَحَدًا، وَسُورَةُ الْأَنْفَالِ نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ، وَسُورَةُ الْحَشْرِ نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا السَّبَبُ فِي إِسْقَاطِ التَّسْمِيَةِ مِنْ أَوَّلِهَا؟ قُلْنَا: ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى سُورَةِ بَرَاءَةَ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ، وَإِلَى سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا وَمَا فَصَلْتُمْ بِبِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ فَقَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةٌ يَقُولُ: «ضَعُوهَا فِي مَوْضِعِ/ كَذَا» وَكَانَتْ بَرَاءَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا. فَتُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَوْضِعَهَا، وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا فَقُرِنَ بَيْنَهُمَا. قَالَ الْقَاضِي يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُبَيِّنْ كَوْنَ هَذِهِ السُّورَةِ تَالِيَةً لِسُورَةِ الْأَنْفَالِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُرَتَّبٌ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى وَمِنْ قِبَلِ رَسُولِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي نُقِلَ، وَلَوْ جَوَّزْنَا فِي بَعْضِ السُّوَرِ أَنْ لَا يَكُونَ تَرْتِيبُهَا مِنَ اللَّه عَلَى سَبِيلِ الْوَحْيِ، لَجَوَّزْنَا مِثْلَهُ في سائر السور وفي آيات السور الْوَاحِدَةِ، وَتَجْوِيزُهُ يُطَرِّفُ مَا يَقُولُهُ الْإِمَامِيَّةُ مِنْ تَجْوِيزِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي الْقُرْآنِ. وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ مِنْ كَوْنِهِ حُجَّةً، بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ بِوَضْعِ هَذِهِ السُّورَةِ، بَعْدَ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَحْيًا، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَذَفَ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَحْيًا. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي هَذَا الْبَابِ مَا يُرْوَى عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا تَوَهَّمُوا ذَلِكَ، لِأَنَّ فِي الْأَنْفَالِ ذِكْرَ الْعُهُودِ، وَفِي بَرَاءَةَ نَبْذَ الْعُهُودِ. فَوُضِعَتْ إِحْدَاهُمَا بجنب الأخرى والسؤال المذكور عائد هاهنا، لِأَنَّ هَذَا الْوَجْهَ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا قُلْنَا إِنَّهُمْ إِنَّمَا وَضَعُوا هَذِهِ السُّورَةَ بَعْدَ الْأَنْفَالِ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ سُورَةَ الْأَنْفَالِ وَسُورَةَ التَّوْبَةِ سُورَةٌ وَاحِدَةٌ أَمْ سُورَتَانِ؟ فَقَالَ

[سورة التوبة (9) : الآيات 1 إلى 2]

بَعْضُهُمْ: هُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ كِلْتَيْهِمَا نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ وَمَجْمُوعُهُمَا هَذِهِ السُّورَةُ السَّابِعَةُ مِنَ الطِّوَالِ وَهِيَ سَبْعٌ، وَمَا بَعْدَهَا الْمِئُونَ. وَهَذَا قَوْلٌ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُمَا مَعًا مِائَتَانِ وَسِتُّ آيَاتٍ، فَهُمَا بِمَنْزِلَةِ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُمَا سُورَتَانِ، فَلَمَّا ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا الْبَابِ تَرَكُوا بَيْنَهُمَا فُرْجَةً تَنْبِيهًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ هُمَا سُورَتَانِ، وَمَا كَتَبُوا بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَيْنَهُمَا تَنْبِيهًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ هُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَلْزَمُنَا تَجْوِيزُ مَذْهَبِ الْإِمَامِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى بَيْنَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَقْطَعُوا بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَعَمِلُوا عَمَلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الِاشْتِبَاهَ كَانَ حَاصِلًا، فَلَمَّا لَمْ يَتَسَامَحُوا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الشُّبْهَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُشَدِّدِينَ فِي ضَبْطِ الْقُرْآنِ عَنِ التَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ الْإِمَامِيَّةِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي هَذَا الْبَابِ: أَنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ سُورَةَ الْأَنْفَالِ بِإِيجَابِ أَنْ يُوَالِيَ الْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَأَنْ يَكُونُوا مُنْقَطِعِينَ عَنِ الْكُفَّارِ بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة: 1] فَلَمَّا كَانَ هَذَا عَيْنَ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَتَأْكِيدًا لَهُ وَتَقْرِيرًا لَهُ، لَزِمَ وُقُوعُ الْفَاصِلِ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ إِيقَاعُ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا تَنْبِيهًا عَلَى كَوْنِهِمَا سُورَتَيْنِ مُتَغَايِرَتَيْنِ، وَتُرِكَ كَتْبُ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَيْنَهُمَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ عَيْنُ ذَلِكَ الْمَعْنَى. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لِمَ لَمْ يُكْتَبْ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: لِأَنَّ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَانٌ، وَهَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ بِالسَّيْفِ وَنَبْذِ الْعُهُودِ/ وَلَيْسَ فِيهَا أَمَانٌ. وَيُرْوَى أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى، وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النِّسَاءِ: 94] فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْحَرْبِ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَأَجَابَ عَنْهُ: بِأَنَّ ذَلِكَ ابْتِدَاءٌ مِنْهُ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى اللَّه، وَلَمْ يَنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ. أَلَا تَرَاهُ قَالَ فِي آخِرِ الْكِتَابِ: «وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى» وَأَمَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى الْمُقَاتَلَةِ وَنَبْذِ الْعُهُودِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَعَلَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَتَنَازَعُونَ فِي كَوْنِ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنَ الْقُرْآنِ، أمر بأن لا تكتب هاهنا، تَنْبِيهًا عَلَى كَوْنِهَا آيَةً مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، وَأَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَكُنْ آيَةً مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، لَا جَرَمَ لَمْ تُكْتَبْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمَّا كُتِبَتْ فِي أَوَّلِ سَائِرِ السُّوَرِ وَجَبَ كَوْنُهَا آيَةً مِنْ كُلِّ سورة. [سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 2] بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) [في قَوْلُهُ تَعَالَى بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى الْبَرَاءَةِ انْقِطَاعُ الْعِصْمَةِ. يُقَالُ: بَرِئْتُ مِنْ فُلَانٍ أَبْرَأُ بَرَاءَةً، أَيِ انْقَطَعَتْ بَيْنَنَا الْعِصْمَةُ وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَنَا عُلْقَةٌ، وَمِنْ هُنَا يُقَالُ بَرِئْتُ مِنَ الدِّينِ، وَفِي رَفْعِ قَوْلِهِ: بَراءَةٌ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هَذِهِ بَرَاءَةٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى رَجُلٍ جَمِيلٍ، جَمِيلٌ واللَّه، أَيْ هَذَا جَمِيلٌ واللَّه، وَقَوْلُهُ: مِنَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالْمَعْنَى: هَذِهِ بَرَاءَةٌ وَاصِلَةٌ مِنَ اللَّه وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ، كَمَا تَقُولُ كِتَابٌ مِنْ فُلَانٍ إِلَى فُلَانٍ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: بَراءَةٌ مُبْتَدَأً وَقَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صِفَتُهَا وَقَوْلُهُ: إِلَى

الَّذِينَ عاهَدْتُمْ هُوَ الْخَبَرُ كَمَا تَقُولُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فِي الدَّارِ. فَإِنْ قَالُوا: مَا السَّبَبُ فِي أَنْ نَسَبَ الْبَرَاءَةَ إِلَى اللَّه وَرَسُولِهِ، وَنَسَبَ الْمُعَاهَدَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ؟ قُلْنَا قَدْ أَذِنَ اللَّه فِي مُعَاهَدَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَاهَدَهُمْ ثُمَّ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ فَأَوْجَبَ اللَّه النَّبْذَ إِلَيْهِمْ، فَخُوطِبَ الْمُسْلِمُونَ بِمَا يُحَذِّرُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّه وَرَسُولَهُ قَدْ بَرِئَا مِمَّا عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ وَتَخَلَّفَ الْمُنَافِقُونَ وَأَرْجَفُوا بِالْأَرَاجِيفِ، جَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَنْقُضُونَ الْعَهْدَ، فَنَبَذَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَهْدَ إِلَيْهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَنْقُضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَهْدَ؟ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْقُضَ الْعَهْدَ إِلَّا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَظْهَرَ لَهُ مِنْهُمْ خِيَانَةٌ مَسْتُورَةٌ وَيَخَافَ ضَرَرَهُمْ فَيَنْبِذَ الْعَهْدَ إِلَيْهِمْ، حَتَّى يَسْتَوُوا فِي مَعْرِفَةِ نَقْضِ الْعَهْدِ لِقَوْلِهِ: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الْأَنْفَالِ: 58] وَقَالَ أَيْضًا: الَّذِينَ ... يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ [الْأَنْفَالِ: 56] وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ شَرَطَ لِبَعْضِهِمْ فِي وَقْتِ الْعَهْدِ أَنْ يُقِرَّهُمْ عَلَى الْعَهْدِ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْمُدَّةِ إِلَى أَنْ يَأْمُرَ اللَّه تَعَالَى بِقَطْعِهِ. فَلَمَّا أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِقَطْعِ الْعَهْدِ بَيْنَهُمْ قَطَعَ لِأَجْلِ الشَّرْطِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا فَتَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ وَيَنْقَضِيَ الْعَهْدُ وَيَكُونَ الْغَرَضُ مِنْ إِظْهَارِ هَذِهِ الْبَرَاءَةِ أَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى الْعَهْدِ، وَأَنَّهُ عَلَى عَزْمِ الْمُحَارَبَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ، فَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ لَا يَجُوزُ نَقْضُ الْعَهْدِ الْبَتَّةَ، لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْغَدْرِ وَخُلْفِ الْقَوْلِ، واللَّه وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ اللَّه تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ [التَّوْبَةِ: 4] وَقِيلَ: إِنَّ أَكْثَرَ الْمُشْرِكِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ إِلَّا أُنَاسًا مِنْهُمْ وَهُمْ بَنُو ضَمْرَةَ وَبَنُو كِنَانَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رُوِيَ أَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ كَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَكَانَ الْأَمِيرَ فِيهَا عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ، وَنُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ سَنَةَ تِسْعٍ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ سَنَةَ تِسْعٍ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَوْسِمِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ أَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَهْلِ الْمَوْسِمِ لِيَقْرَأَهَا عَلَيْهِمْ. فَقِيلَ لَهُ لَوْ بَعَثْتَ بِهَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: لَا يُؤَدِّي عَنِّي إِلَّا رَجُلٌ مِنِّي، فَلَمَّا دَنَا عَلِيٌّ سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ الرُّغَاءَ، فَوَقَفَ وَقَالَ: هَذَا رُغَاءُ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا لَحِقَهُ قَالَ: أَمِيرٌ أَوْ مَأْمُورٌ؟ قَالَ: مَأْمُورٌ، ثُمَّ سَارُوا، فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ وَحَدَّثَهُمْ عَنْ مَنَاسِكِهِمْ، وَقَامَ عَلِيٌّ يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّه إِلَيْكُمْ، فَقَالُوا بِمَاذَا فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً، وَعَنْ مُجَاهِدٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً، ثُمَّ قَالَ: أُمِرْتُ بِأَرْبَعٍ أَنْ لَا يَقْرَبَ هَذَا البيت بعد هذه الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلَا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا كُلُّ نَفْسٍ مُؤْمِنَةٍ، وَأَنْ يَتِمَّ إِلَى كُلِّ ذِي عَهْدٍ عَهْدُهُ. فَقَالُوا عِنْدَ ذَلِكَ يَا عَلِيُّ أَبْلِغِ ابْنَ عَمِّكَ أَنَّا قَدْ نَبَذْنَا الْعَهْدَ وَرَاءَ ظُهُورِنَا وَأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَهْدٌ إِلَّا طَعْنٌ بِالرِّمَاحِ وَضَرْبٌ بِالسُّيُوفِ، وَاخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ أَمَرَ عَلِيًّا بِقِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَيْهِمْ وَتَبْلِيغِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ أَنْ لَا يَتَوَلَّى تَقْرِيرَ الْعَهْدِ وَنَقْضَهُ إِلَّا رَجُلٌ مِنَ الْأَقَارِبِ فَلَوْ تَوَلَّاهُ أَبُو بَكْرٍ لَجَازَ أَنْ يَقُولُوا هَذَا خِلَافُ مَا نَعْرِفُ فِينَا مِنْ نَقْضِ الْعُهُودِ فَرُبَّمَا لَمْ يَقْبَلُوا، فَأُزِيحَتْ عِلَّتُهُمْ بِتَوْلِيَةِ ذَلِكَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَقِيلَ لَمَّا خَصَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِتَوْلِيَتِهِ أَمِيرَ الْمَوْسِمِ خَصَّ عَلِيًّا بِهَذَا التَّبْلِيغِ تَطْيِيبًا لِلْقُلُوبِ وَرِعَايَةً للجوانب،

/ وَقِيلَ قَرَّرَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْمَوْسِمِ وَبَعَثَ عَلِيًّا خَلْفَهُ لِتَبْلِيغِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ، حَتَّى يُصَلِّيَ عَلِيٌّ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَيَكُونَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى التَّنْبِيهِ عَلَى إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ، واللَّه أَعْلَمُ. وَقَرَّرَ الْجَاحِظُ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا بكر أميراً على الحاج وَوَلَّاهُ الْمَوْسِمَ وَبَعَثَ عَلِيًّا يَقْرَأُ عَلَى النَّاسِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةَ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْإِمَامَ وَعَلِيٌّ الْمُؤْتَمَّ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبَ وَعَلِيٌّ الْمُسْتَمِعَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّافِعَ بِالْمَوْسِمِ وَالسَّابِقَ لَهُمْ وَالْآمِرَ لَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يُبَلِّغُ عَنِّي إِلَّا رَجُلٌ مِنِّي» فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ عَلِيٍّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلَكِنَّهُ عَامَلَ الْعَرَبَ بِمَا يَتَعَارَفُونَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَكَانَ السَّيِّدُ الْكَبِيرُ مِنْهُمْ إِذَا عَقَدَ لِقَوْمٍ حِلْفًا أَوْ عَاهَدَ عَهْدًا لَمْ يَحِلَّ ذَلِكَ الْعَهْدَ وَالْعَقْدَ إِلَّا هُوَ أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَقَارِبِهِ الْقَرِيبِينَ مِنْهُ كَأَخٍ أَوْ عَمٍّ. فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الْقَوْلَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ: أَصْلُ السِّيَاحَةِ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ وَالِاتِّسَاعُ فِي السَّيْرِ وَالْبُعْدُ عَنِ الْمُدُنِ وَمَوْضِعِ الْعِمَارَةِ مَعَ الْإِقْلَالِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. يُقَالُ لِلصَّائِمِ سَائِحٌ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ السَّائِحَ لِتَرْكِهِ الْمَطْعَمَ وَالْمَشْرَبَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ يَعْنِي اذْهَبُوا فِيهَا كَيْفَ شِئْتُمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ، بَلِ الْمَقْصُودُ الْإِبَاحَةُ وَالْإِطْلَاقُ وَالْإِعْلَامُ بِحُصُولِ الْأَمَانِ وَإِزَالَةِ الْخَوْفِ، يَعْنِي أَنْتُمْ آمِنُونَ مِنَ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذَا تَأْجِيلٌ مِنَ اللَّه لِلْمُشْرِكِينَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَمَنْ كَانَتْ مُدَّةُ عَهْدِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ حَطَّهُ إِلَى الْأَرْبَعَةِ، وَمَنْ كَانَتْ مُدَّتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ رَفَعَهُ إِلَى الْأَرْبَعَةِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْإِعْلَامِ أُمُورٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَتَفَكَّرُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَيَحْتَاطُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ إِلَّا أَحَدُ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: إِمَّا الْإِسْلَامُ أَوْ قَبُولُ الْجِزْيَةِ أَوِ السَّيْفُ، فَيَصِيرَ ذَلِكَ حَامِلًا لَهُمْ عَلَى قَبُولِ الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا. وَالثَّانِي: لِئَلَّا يُنْسَبَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى نَكْثِ الْعَهْدِ، وَالثَّالِثُ: أَرَادَ اللَّه أَنْ يَعُمَّ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ بِالْجِهَادِ، فَعَمَّ الْكُلَّ بِالْبَرَاءَةِ وَأَجَّلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَذَلِكَ لِقُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَتَخْوِيفِ الْكُفَّارِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِلَّا بِنَقْضِ الْعُهُودِ. وَالرَّابِعُ: أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ يَحُجَّ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، فَأَمَرَ بِإِظْهَارِ هَذِهِ الْبَرَاءَةِ لِئَلَّا يُشَاهِدَ الْعُرَاةَ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: قَوْلُهُ: فَسِيحُوا الْقَوْلُ فِيهِ مُضْمَرٌ وَالتَّقْدِيرُ: فَقُلْ لَهُمْ سِيحُوا أَوْ يَكُونُ هَذَا رُجُوعًا مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ كَقَوْلِهِ: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً إِنَّ هَذَا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً [الْإِنْسَانِ: 21، 22] . الْبَحْثُ الرَّابِعُ: اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ، وَعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ بَرَاءَةَ نَزَلَتْ فِي شَوَّالٍ، / وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَقِيلَ هِيَ عِشْرُونَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَصَفَرُ، وَرَبِيعٌ الْأَوَّلُ، وَعَشْرٌ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ حُرُمًا لِأَنَّهُ كَانَ يَحْرُمُ فِيهَا الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ، فَهَذِهِ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ لَمَّا حُرِّمَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ فِيهَا كَانَتْ حُرُمًا، وَقِيلَ إِنَّمَا سُمِّيَتْ حُرُمًا لِأَنَّ أَحَدَ أَقْسَامِ هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لِأَنَّ عِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مَعَ الْمُحَرَّمِ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. وَقِيلَ: ابْتِدَاءُ تِلْكَ الْمُدَّةِ كَانَ مِنْ عَشْرِ ذِي الْقِعْدَةِ إِلَى عَشْرٍ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْحَجَّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِسَبَبِ النَّسِيءِ الَّذِي كَانَ فِيهِمْ، ثُمَّ صَارَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ وَهِيَ حَجَّةُ الْوَدَاعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّه السموات والأرض» .

[سورة التوبة (9) : آية 3]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ فقيل: اعلموا أن أَنَّ هَذَا الْإِمْهَالَ لَيْسَ لِعَجْزٍ وَلَكِنْ لِمَصْلَحَةٍ وَلُطْفٍ لِيَتُوبَ مَنْ تَابَ. وَقِيلَ تَقْدِيرُهُ: فَسِيحُوا عَالِمِينَ أَنَّكُمْ لَا تُعْجِزُونَ اللَّه فِي حَالٍ. وَالْمَقْصُودُ: أَنِّي أَمْهَلْتُكُمْ وَأَطْلَقْتُ لَكُمْ فَافْعَلُوا كُلَّ مَا أَمْكَنَكُمْ فِعْلُهُ مِنْ إِعْدَادِ الْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ، فَإِنَّكُمْ لَا تُعْجِزُونَ اللَّه بَلِ اللَّه يُعْجِزُكُمْ ويقهركم. وقيل: اعملوا أَنَّ هَذَا الْإِمْهَالَ لِأَجْلِ أَنَّهُ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ، لِأَنَّكُمْ حَيْثُ كُنْتُمْ فَأَنْتُمْ فِي مُلْكِ اللَّه وَسُلْطَانِهِ، وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالْقَتْلِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا ضَمَانٌ مِنَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِنُصْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْإِخْزَاءِ وَالْإِذْلَالِ مَعَ إِظْهَارِ الْفَضِيحَةِ وَالْعَارِ، وَالْخِزْيِ النكال الفاضح. [سورة التوبة (9) : آية 3] وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ] اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 1] جُمْلَةٌ تَامَّةٌ، مَخْصُوصَةٌ بِالْمُشْرِكِينَ، وَقَوْلَهُ: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ جُمْلَةٌ أُخْرَى تَامَّةٌ مَعْطُوفَةٌ/ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى وَهِيَ عَامَّةٌ فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يَعْرِفَهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُشْرِكُ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِذَلِكَ يَلْزَمُهُمَا جَمِيعًا، فَيَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْرِفُوا الْوَقْتَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْقِتَالُ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي يَحْرُمُ فِيهِ، فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِهَذَا الْإِعْلَامِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ الْجَمْعُ الْأَعْظَمُ لِيَصِلَ ذَلِكَ الْخَبَرُ إِلَى الْكُلِّ وَيَشْتَهِرَ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأَذَانُ الْإِعْلَامُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: يُقَالُ آذَنْتُهُ أُوذِنُهُ إِيذَانًا، فَالْأَذَانُ اسْمٌ يَقُومُ مَقَامَ الْإِيذَانِ، وَهُوَ الْمَصْدَرُ الْحَقِيقِيُّ، وَمِنْهُ أَذَانُ الصَّلَاةِ. وَقَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ أَيْ أَذَانٌ صَادِرٌ مِنَ اللَّه وَرَسُولِهِ، وَاصِلٌ إِلَى النَّاسِ، كَقَوْلِكَ: إِعْلَامٌ صَادِرٌ مِنْ فُلَانٍ إِلَى فُلَانٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ إِنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ: وَرِوَايَةٌ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَنَّهُ، قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَشِيَّةَ عَرَفَةَ. فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالسُّدِّيِّ وَأَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ، وَقَوْلُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ مَا رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَيَّامُ مِنَى كُلُّهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَكَانَ يَقُولُ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَيَّامُهُ كُلُّهَا، وَيَقُولُ يَوْمُ صِفِّينَ، وَيَوْمُ الْجَمَلِ يُرَادُ بِهِ الْحِينُ وَالزَّمَانُ، لِأَنَّ كُلَّ حَرْبٍ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوبِ دَامَتْ أَيَّامًا كَثِيرَةً. حُجَّةُ مَنْ قَالَ يَوْمُ عَرَفَةَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْحَجُّ عَرَفَةُ» وَلِأَنَّ أَعْظَمَ أَعْمَالِ الْحَجِّ هُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، لِأَنَّ مَنْ أَدْرَكَهُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ. وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي هَذَا الْيَوْمِ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ، هِيَ أَنَّ أَعْمَالَ الْحَجِّ إِنَّمَا تَتِمُّ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَهِيَ الطَّوَافُ وَالنَّحْرُ وَالْحَلْقُ وَالرَّمْيُ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا أَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ فَقَالَ: مَا الْحَجُّ الْأَكْبَرُ. قَالَ: يَوْمُكَ هَذَا، خَلِّ عَنْ دَابَّتِي، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَفَ يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ الْجَمَرَاتِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. فَقَالَ هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ

قَالَ الْمُرَادُ مَجْمُوعُ تِلْكَ الْأَيَّامِ، فَبَعِيدٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَفْسِيرَ الْيَوْمِ بِالْأَيَّامِ الْكَثِيرَةِ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ سُمِّيَ ذَلِكَ بِالْحَجِّ الْأَكْبَرِ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ، لِأَنَّ الْعُمْرَةَ تُسَمَّى الْحَجَّ الْأَصْغَرَ. الثَّانِي: / أَنَّهُ جَعَلَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ هُوَ الْحَجَّ الْأَكْبَرَ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ وَاجِبَاتِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا فَاتَ الْحَجُّ، وَكَذَلِكَ إِنْ أُرِيدَ بِهِ يَوْمُ النَّحْرِ، لِأَنَّ مَا يُفْعَلُ فِيهِ مُعْظَمُ أَفْعَالِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ الثَّالِثُ: قَالَ الْحَسَنُ: سُمِّيَ ذَلِكَ الْيَوْمُ بِيَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ لِاجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فِيهِ، وَمُوَافَقَتِهِ لِأَعْيَادِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، فَعَظُمَ ذَلِكَ الْيَوْمُ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ. طَعَنَ الْأَصَمُّ فِي هَذَا الْوَجْهِ وَقَالَ: عِيدُ الْكُفَّارِ فِيهِ سُخْطٌ، وَهَذَا الطَّعْنُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنْ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَوْمٌ اسْتَعْظَمَهُ جَمِيعُ الطَّوَائِفِ، وَكَانَ مَنْ وَصَفَهُ بِالْأَكْبَرِ أُولَئِكَ. وَالرَّابِعُ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ حَجُّوا فِي تِلْكَ السَّنَةِ. وَالْخَامِسُ: الْأَكْبَرُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَالْأَصْغَرُ النَّحْرُ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ. السَّادِسُ: الْحَجُّ الْأَكْبَرُ الْقِرَانُ وَالْأَصْغَرُ الْإِفْرَادُ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ مُجَاهِدٍ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَذَانَ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ؟ فَقَالَ: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّكْرِيرِ؟ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ الْإِخْبَارُ بِثُبُوتِ الْبَرَاءَةِ، وَالْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِعْلَامُ جَمِيعِ النَّاسِ بِمَا حَصَلَ وَثَبَتَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ الْبَرَاءَةُ مِنَ الْعَهْدِ، وَمِنَ الْكَلَامِ الثَّانِي الْبَرَاءَةُ الَّتِي هِيَ نَقِيضُ الْمُوَالَاةِ الْجَارِيَةِ مَجْرَى الزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ هَذَا الْفَرْقِ أَنَّ فِي الْبَرَاءَةِ الْأُولَى برىء إليهم، وفي الثانية: برىء مِنْهُمْ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يُوَالِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَنَبَّهَ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُوَالُوا الْكُفَّارَ وَأَنْ يَتَبَرَّءُوا مِنْهُمْ، فَهَهُنَا بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا يَتَوَلَّى الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ يَتَبَرَّأُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَيَذُمُّهُمْ وَيَلْعَنُهُمْ، وَكَذَلِكَ الرَّسُولُ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ الْمُزِيلَةِ لِلْبَرَاءَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْفَرْقِ أَنَّهُ تَعَالَى فِي الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، أَظْهَرَ الْبَرَاءَةَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَاهَدُوا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَظْهَرَ الْبَرَاءَةَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ وَصَفَهُمْ بِوَصْفٍ مُعَيَّنٍ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِهَذِهِ الْبَرَاءَةِ كُفْرُهُمْ وَشِرْكُهُمْ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ حَذْفٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِأَنَّ اللَّه بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الْبَاءَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عليه. واعلم أن في رفع قوله: وَرَسُولِهِ وجوها: الأول: أنه رفع بالابتداء وخبره مضمر، والتقدير ورسوله أيضاً بريء والخبر عن اللَّه دل على الخبر عن الرسول. والثاني: أنه عطف على المنوي في بريء فإن التقدير بريء هو ورسوله من المشركين. الثالث: أن قوله: أَنَّ اللَّهَ رفع بالابتداء وقوله: بَرِيءٌ خبره وقوله: وَرَسُولِهِ عطف على المبتدأ الأول. قال صاحب «الكشاف» : وقد قرئ بالنصب عطفاً على اسم أن لأن الواو

[سورة التوبة (9) : آية 4]

بمعنى مع، أي برىء مع رسوله منهم، وقرئ بالجر على الجوار وقيل على القسم والتقدير أن اللَّه بريء من المشركين وحق رسوله. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ تُبْتُمْ أَيْ عَنِ الشِّرْكِ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَذَلِكَ تَرْغِيبٌ مِنَ اللَّه فِي التَّوْبَةِ وَالْإِقْلَاعِ عَنِ الشِّرْكِ الْمُوجِبِ لِكَوْنِ اللَّه وَرَسُولِهِ مَوْصُوفَيْنِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَيْ أَعْرَضْتُمْ عَنِ التَّوْبَةِ عَنِ الشِّرْكِ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَذَلِكَ وَعِيدٌ عَظِيمٌ، لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى إِنْزَالِ أَشَدِّ الْعَذَابِ بِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ فِي الْآخِرَةِ لِكَيْ لَا يَظُنَّ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا لَمَّا فَاتَ وَزَالَ، فَقَدْ تَخَلَّصَ عَنِ الْعَذَابِ، بَلِ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ مُعَدٌّ لَهُ يَوْمَ القيامة ولفظ البشارة ورد هاهنا على سبيل استهزاء كما يقال: تحيتهم الضرب وإكرامهم الشتم. [سورة التوبة (9) : آية 4] إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ عَادَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ: بَراءَةٌ وَالتَّقْدِيرُ بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُعَاهِدِينَ إِلَّا مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ. وَالثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، وَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ الْكَلَامَ خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالتَّقْدِيرُ: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّه وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْهُمْ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَوَّلِ أَنْ يُقْدِمُوا عَلَى الْمُحَارَبَةِ بِأَنْفُسِهِمْ، وَمِنَ الثَّانِي: / أَنْ يُهَيِّجُوا أَقْوَامًا آخَرِينَ وَيَنْصُرُوهُمْ وَيُرَغِّبُوهُمْ فِي الْحَرْبِ. ثُمَّ قَالَ: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ والمعنى أن الذين ما غادروا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ، وَلَا تَجْعَلُوا الْوَافِينَ كَالْغَادِرِينَ. وَقَوْلُهُ: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ أَيْ أَدُّوهُ إِلَيْهِمْ تَامًّا كَامِلًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَقِيَ لِحَيٍّ مِنْ كِنَانَةَ مِنْ عَهْدِهِمْ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ فَأَتَمَّ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يَعْنِي أَنَّ قَضِيَّةَ التَّقْوَى أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ لَمَّا أَنِفُوا النَّكْثَ وَنَقْضَ الْعَهْدِ، اسْتَحَقُّوا مِنَ اللَّه أَنْ يُصَانَ عَهْدُهُمْ أَيْضًا عَنِ النَّقْضِ وَالنَّكْثِ. رُوِيَ أَنَّهُ عَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلَى بَنِي خُزَاعَةَ فِي حَالِ غَيْبَةِ رَسُولِ اللَّه وَظَاهَرَتْهُمْ قُرَيْشٌ بِالسِّلَاحِ، حَتَّى وَفَدَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيُّ عَلَى رَسُولِ اللَّه فأنشده: لا هم إني ناشد محمداً ... حلف أبينا وأبيك ألا تلدا إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا ... وَنَقَضُوا ذِمَامَكَ الْمُؤَكَّدَا هُمْ بَيَّتُونَا بِالْحَطِيمِ هُجَّدَا ... وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا نُصِرْتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرْكُمْ» وَقُرِئَ لَمْ يَنْقُضُوكُمْ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أي لم ينقضوا عهدكم.

[سورة التوبة (9) : آية 5]

[سورة التوبة (9) : آية 5] فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) [في قَوْلُهُ تَعَالَى فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ سَلَخْتُ الشَّهْرَ إِذَا خَرَجْتَ مِنْهُ، وَكَشَفَ أَبُو الْهَيْثَمِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: يُقَالُ أَهْلَلْنَا هِلَالَ شَهْرِ كَذَا، أَيْ دَخَلْنَا فِيهِ وَلَبِسْنَاهُ، فَنَحْنُ نَزْدَادُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى مُضِيِّ نِصْفِهِ لِبَاسًا مِنْهُ، ثُمَّ نَسْلَخُهُ عَنْ أَنْفُسِنَا بعد تكامل النصف منه جزءاً فجزءاً، حَتَّى نَسْلَخَهُ عَنْ أَنْفُسِنَا وَأَنْشَدَ: إِذَا مَا سلخت الشهر أهللت مثله ... كفى قائلًا سَلْخِي الشُّهُورَ وَإِهْلَالِي وَأَقُولُ تَمَامُ الْبَيَانِ فِيهِ أَنَّ الزَّمَانَ مُحِيطٌ بِالشَّيْءِ وَظَرْفٌ لَهُ، كَمَا أَنَّ الْمَكَانَ مُحِيطٌ بِهِ وَظَرْفٌ لَهُ وَمَكَانُ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنِ السَّطْحِ الْبَاطِنِ مِنَ الْجِسْمِ الْحَاوِي الْمُمَاسِّ لِلسَّطْحِ الظَّاهِرِ وَمِنَ الْجِسْمِ الْمَحْوِيِّ فَإِذَا انْسَلَخَ الشَّيْءُ مِنْ جِلْدِهِ فَقَدِ انْفَصَلَ مِنَ السَّطْحِ الْبَاطِنِ مِنْ ذَلِكَ الْجِلْدِ وَذَلِكَ السَّطْحِ، وَهُوَ مَكَانُهُ فِي الْحَقِيقَةِ فَكَذَلِكَ إِذَا تَمَّ الشَّهْرُ فَقَدِ انْفَصَلَ عَنْ إِحَاطَةِ ذَلِكَ الشَّهْرِ بِهِ، وَدَخَلَ فِي شَهْرٍ آخَرَ، وَالسَّلْخُ اسْمٌ لِانْفِصَالِ الشَّيْءِ عَنْ مَكَانِهِ الْمُعَيَّنِ، فَجُعِلَ أَيْضًا اسْمًا لِانْفِصَالِهِ عَنْ زَمَانِهِ الْمُعَيَّنِ، لِمَا بَيْنَ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ التَّامَّةِ الشَّدِيدَةِ. وَأَمَّا الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَقَدْ فَسَّرْنَاهَا فِي قَوْلِهِ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة: 2] وَهِيَ يَوْمُ النَّحْرِ إِلَى الْعَاشِرِ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهَا حُرُمًا، أَنَّ اللَّه حَرَّمَ الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ فِيهَا. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عِنْدَ انْقِضَاءِ هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَذِنَ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [النِّسَاءِ: 89] وَذَلِكَ أَمْرٌ بِقَتْلِهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فِي أَيِّ وَقْتٍ، وَأَيِّ مَكَانٍ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَخُذُوهُمْ أَيْ بِالْأَسْرِ، وَالْأَخِيذُ الْأَسِيرُ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَاحْصُرُوهُمْ مَعْنَى الْحَصْرِ الْمَنْعُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ مُحِيطٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ إِنْ تَحَصَّنُوا فَاحْصُرُوهُمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: حَصْرُهُمْ أَنْ يُمْنَعُوا مِنَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ وَالْمَرْصَدُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُرْقَبُ فِيهِ الْعَدُوُّ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَصَدْتُ فُلَانًا أَرْصُدُهُ إِذَا تَرَقَّبْتُهُ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمَعْنَى اقْعُدُوا لَهُمْ عَلَى كُلِّ طَرِيقٍ يَأْخُذُونَ فِيهِ إِلَى الْبَيْتِ أَوْ إِلَى الصَّحْرَاءِ أَوْ إِلَى التِّجَارَةِ، قَالَ الْأَخْفَشُ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: اقْعُدُوا لَهُمْ عَلَى كُلِّ مَرْصَدٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يُقْتَلُ، قَالَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ دِمَاءَ الْكُفَّارِ مُطْلَقًا بِجَمِيعِ الطُّرُقِ، ثُمَّ حَرَّمَهَا عِنْدَ مَجْمُوعِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ التَّوْبَةُ عَنِ الْكُفْرِ، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزكاة، فعند ما لَمْ يُوجَدُ هَذَا الْمَجْمُوعُ، وَجَبَ أَنْ يَبْقَى إِبَاحَةُ الدَّمِ عَلَى الْأَصْلِ. فَإِنْ قَالُوا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْإِقْرَارَ بِهِمَا وَاعْتِقَادَ وُجُوبِهِمَا؟ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ تَارِكَ الزَّكَاةِ لَا يُقْتَلُ. أَجَابُوا عَنْهُ: بِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ، وَأَمَّا فِي تَارِكِ الزَّكَاةِ فَقَدْ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ.

[سورة التوبة (9) : آية 6]

فَإِنْ قَالُوا: لِمَ كَانَ حَمْلُ التَّخْصِيصِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى اعْتِقَادِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ مَهْمَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْمَجَازِ وَبَيْنَ التَّخْصِيصِ، فَالتَّخْصِيصُ أَوْلَى بِالْحَمْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نُقِلَ عن أب بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ لَا أُفَرِّقُ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّه، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ كَانَ هَذِهِ الْآيَةَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ إِلَّا لِمَنْ تَابَ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ، فَأَوْجَبَ مُقَاتَلَةَ أَهْلِ الرِّدَّةِ لَمَّا امْتَنَعُوا مِنَ الزكاة وهذا بين أَنْ جَحَدُوا وُجُوبَهَا أَمَّا إِنْ أَقَرُّوا بِوُجُوبِهَا وَامْتَنَعُوا مِنَ الدَّفْعِ إِلَيْهِ خَاصَّةً، فَمِنَ الْجَائِزِ أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى وُجُوبِ مُقَاتَلَتِهِمْ مِنْ حَيْثُ امْتَنَعُوا مِنْ دَفْعِ الزَّكَاةِ إِلَى الْإِمَامِ. وَقَدْ كَانَ مَذْهَبُهُ أَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا يُعْلَمُ سَائِرُ الشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَدْ تَكَلَّمْنَا فِي حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ [الْبَقَرَةِ: 37] رَوَى الْحَسَنُ أَنَّ أَسِيرًا نَادَى بِحَيْثُ يُسْمِعُ الرَّسُولَ أَتُوبُ إِلَى اللَّه وَلَا أَتُوبُ إِلَى مُحَمَّدٍ ثَلَاثًا، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: عَرَفَ الْحَقَّ لِأَهْلِهِ فَأَرْسِلُوهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ قِيلَ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَقِيلَ إِلَى التَّصَرُّفِ فِي مُهِمَّاتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ. وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ الْخَيْرَاتِ وَأَلْقَاهُمْ فِي جَمِيعِ الْآفَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَوْ تَابُوا عَنِ الْكُفْرِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَقَدْ تَخَلَّصُوا عَنْ كُلِّ تِلْكَ الْآفَاتِ فِي الدُّنْيَا، فَنَرْجُو مِنْ فَضْلِ اللَّه أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْضًا فَالتَّوْبَةُ عِبَارَةٌ عَنْ تَطْهِيرِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ عَنِ الْجَهْلِ، وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ عِبَارَةٌ عَنْ تَطْهِيرِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَمَالَ السَّعَادَةِ منوط بهذا المعنى. [سورة التوبة (9) : آية 6] وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَقْرِيرِ وَجْهِ النَّظْمِ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَأْتِيَ الرَّسُولَ بَعْدَ انْقِضَاءِ هَذَا الْأَجَلِ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّه أَوْ لِحَاجَةٍ أُخْرَى فَهَلْ نُقْتَلُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: «لَا» إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ أَيْ فَأَمِّنْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّه، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ: أَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ بَعْدَ انْسِلَاخِ الْأَشْهُرِ/ الْحُرُمِ قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُجَّةَ اللَّه تَعَالَى قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ وَأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ كَفَى فِي إِزَاحَةِ عُذْرِهِمْ وَعِلَّتِهِمْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَوْ طَلَبَ الدَّلِيلَ وَالْحُجَّةَ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، بَلْ يُطَالَبُ إِمَّا بِالْإِسْلَامِ وَإِمَّا بِالْقَتْلِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ وَاقِعًا فِي الْقَلْبِ لَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّه هَذِهِ الْآيَةَ إِزَالَةً لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا جَاءَ طَالِبًا لِلْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ أَوْ جَاءَ طَالِبًا لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ إِمْهَالُهُ وَيَحْرُمُ قَتْلُهُ وَيَجِبُ إِيصَالُهُ إِلَى مَأْمَنِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِ الْقَتْلِ قَبُولُ الدِّينِ وَالْإِقْرَارُ بِالتَّوْحِيدِ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ النَّظَرَ فِي دِينِ اللَّه أَعْلَى الْمَقَامَاتِ وَأَعْلَى الدَّرَجَاتِ، فَإِنَّ الْكَافِرَ الَّذِي صَارَ دَمُهُ مُهْدَرًا لَمَّا أَظْهَرَ مِنْ نَفْسِهِ كَوْنَهُ طَالِبًا لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ زَالَ ذَلِكَ الْإِهْدَارُ، وَوَجَبَ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يُبْلِغَهُ مَأْمَنَهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَحَدٌ مُرْتَفِعٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ، وَتَقْدِيرُهُ: وَإِنِ اسْتَجَارَكَ أَحَدٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالِابْتِدَاءِ لِأَنَّ إِنْ مِنْ عَوَامِلِ الْفِعْلِ لَا يَدْخُلُ عَلَى غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ التَّقْدِيرُ مَا ذَكَرْتُمْ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَرْكِ هَذَا التَّرْتِيبِ الْحَقِيقِيِّ؟ قُلْنَا: الْحِكْمَةُ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ، وَهُوَ إِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ وَالَّذِي هُمْ بِشَأْنِهِ، أَعْنَى وَقَدْ بَيَّنَّا هاهنا أَنَّ ظَاهِرَ الدَّلِيلِ يَقْتَضِي إِبَاحَةَ دَمِ الْمُشْرِكِينَ، فَقُدِّمَ ذِكْرُهُ لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى مَزِيدِ الْعِنَايَةِ بِصَوْنِ دَمِهِ عَنِ الْإِهْدَارِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى إِنْ طَلَبَ مِنْكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ تُجِيرَهُ مِنَ الْقَتْلِ إِلَى أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّه فَأَجِرْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّه يَسْمَعُهُ الْكَافِرُ وَالْمُؤْمِنُ وَالزِّنْدِيقُ وَالصِّدِّيقُ وَالَّذِي يَسْمَعُهُ جُمْهُورُ الْخَلْقِ لَيْسَ إِلَّا هَذِهِ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّه لَيْسَ إِلَّا هَذِهِ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ، ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ لَا تَكُونُ قَدِيمَةً، لِأَنَّ تَكَلُّمَ اللَّه بِهَذِهِ الْحُرُوفِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعًا أَوْ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَإِنْ تَكَلَّمَ بِهَا مَعًا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ هَذَا الْكَلَامُ الْمُنْتَظِمُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَحْصُلُ مُنْتَظِمًا إِلَّا عِنْدَ دُخُولِ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِي الْوُجُودِ عَلَى التَّعَاقُبِ، فَلَوْ حَصَلَتْ مَعًا لَا مُتَعَاقِبَةً لَمَا حَصَلَ الِانْتِظَامُ، فَلَمْ يَحْصُلِ الْكَلَامُ. وَأَمَّا إِنْ حَصَلَتْ مُتَعَاقِبَةً، لَزِمَ أَنْ يَنْقَضِيَ الْمُتَقَدِّمُ وَيَحْدُثَ الْمُتَأَخِّرُ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحُدُوثَ، فَدَلَّ هَذَا عَنْ أَنَّ كَلَامَ اللَّه مُحْدَثٌ. قَالُوا: فَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ كَلَامَ اللَّه شَيْءٌ مُغَايِرٌ لِهَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الرَّسُولَ مَا كَانَ يُشِيرُ بِقَوْلِهِ كلام اللَّه إلا هذه الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، وَأَمَّا الْحَشْوِيَّةُ وَالْحَمْقَى مِنَ النَّاسِ، فَقَالُوا ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كَلَامَ اللَّه لَيْسَ إِلَّا هَذِهِ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ، وَثَبَتَ أَنَّ كَلَامَ اللَّه قَدِيمٌ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِقِدَمِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُسْتَاذَ أَبَا بَكْرِ بْنَ فُورَكَ زَعَمَ أَنَّا إِذَا سَمِعْنَا هَذِهِ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ فَقَدْ سَمِعْنَا مَعَ ذَلِكَ كَلَامَ اللَّه تَعَالَى وَأَمَّا سَائِرُ الْأَصْحَابِ فَقَدْ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ هَذَا الْقَوْلَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْسَ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا آخَرَ مُغَايِرًا لَهَا. وَالْأَوَّلُ: هُوَ قَوْلُ الرَّعَاعِ وَالْحَشْوِيَّةِ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْعُقَلَاءِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَبَاطِلٌ لِأَنَّا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمَّا سَمِعْنَا هَذِهِ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ، فَقَدْ سَمِعْنَا شَيْئًا آخَرَ يُخَالِفُ مَاهِيَّةَ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، لَكِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ عِنْدَ سَمَاعِ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ لَمْ نَسْمَعْ شَيْئًا آخَرَ سِوَاهَا وَلَمْ نُدْرِكْ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ أَمْرًا آخَرَ مُغَايِرًا لَهَا فَسَقَطَ هَذَا الْكَلَامُ. وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ عَنْ كَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنْ نَقُولَ: هَذَا الَّذِي نَسْمَعُهُ لَيْسَ عَيْنَ كَلَامِ اللَّه عَلَى مَذْهَبِكُمْ، لِأَنَّ كَلَامَ اللَّه لَيْسَ إِلَّا الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ الَّتِي خَلَقَهَا أَوَّلًا، بَلْ تِلْكَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ انْقَضَتْ وَهَذِهِ الَّتِي نَسْمَعُهَا حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ فَعَلَهَا الْإِنْسَانُ، فَمَا أَلْزَمْتُمُوهُ عَلَيْنَا فَهُوَ لَازِمٌ عَلَيْكُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْجُبَّائِيَّ لِقُوَّةِ هَذَا الْإِلْزَامِ ارْتَكَبَ مَذْهَبًا عَجِيبًا فَقَالَ: كَلَامُ اللَّه شَيْءٌ مُغَايِرٌ لِلْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَهُوَ بَاقٍ مَعَ قِرَاءَةِ كُلِّ قَارِئٍ، وَقَدْ أَطْبَقَ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى سُقُوطِ هَذَا الْمَذْهَبِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ غَيْرُ كَافٍ فِي الدِّينِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ كَافِيًا، لَوَجَبَ أَنْ لَا يُمْهَلَ هَذَا الْكَافِرُ، بَلْ يُقَالُ لَهُ إِمَّا أَنْ تُؤْمِنَ، وَإِمَّا أَنْ

[سورة التوبة (9) : آية 7]

نَقْتُلَكَ فَلَمَّا لَمْ يُقَلْ لَهُ ذَلِكَ، بَلْ أَمْهَلْنَاهُ وَأَزَلْنَا الْخَوْفَ عَنْهُ وَوَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نُبْلِغَهُ مَأْمَنَهُ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الدِّينِ غَيْرُ كَافٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ فَأَمْهَلْنَاهُ وَأَخَّرْنَاهُ لِيَحْصُلَ لَهُ مُهْلَةُ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِقْدَارَ هَذِهِ الْمُهْلَةِ كَمْ يَكُونُ وَلَعَلَّهُ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ إِلَّا بِالْعُرْفِ، فَمَتَى ظَهَرَ عَلَى الْمُشْرِكِ عَلَامَاتُ كَوْنِهِ طَالِبًا لِلْحَقِّ بَاحِثًا عَنْ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ أُمْهِلَ وَتُرِكَ وَمَتَّى ظَهَرَ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُعْرِضًا عَنِ الْحَقِّ دَافِعًا لِلزَّمَانِ بِالْأَكَاذِيبِ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَوْنُهُ طَالِبًا لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ فَنَقُولُ: وَيَلْتَحِقُ بِهِ كَوْنُهُ طَالِبًا لِسَمَاعِ الدَّلَائِلِ، وَكَوْنُهُ طَالِبًا لِلْجَوَابِ عَنِ الشُّبُهَاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّلَ وُجُوبَ تِلْكَ الْإِجَارَةِ بِكَوْنِهِ غَيْرَ عَالِمٍ لِأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ وَكَانَ الْمَعْنَى فَأَجِرْهُ، لِكَوْنِهِ طَالِبًا لِلْعِلْمِ مُسْتَرْشِدًا لِلْحَقِّ وَكُلُّ مَنْ حَصَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْعِلَّةُ وَجَبَتْ إِجَارَتُهُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ وُجُوهٌ: قِيلَ: أَرَادَ سَمَاعَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ تَمَامَ الدَّلِيلِ وَالْبَيِّنَاتِ فِيهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ سَمَاعَ سُورَةِ بَرَاءَةَ، لِأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كَيْفِيَّةِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: أَرَادَ سَمَاعَ كُلِّ الدَّلَائِلِ. وَإِنَّمَا خَصَّ الْقُرْآنَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُ الْكِتَابُ الْجَارِي لِمُعْظَمِ الدَّلَائِلِ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ مَعْنَاهُ أَوْصِلْهُ إِلَى دِيَارِ قَوْمِهِ الَّتِي يَأْمَنُونَ فِيهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ وَقَتْلُهُمْ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ الفقهاء: والكافر الْحَرْبِيُّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ كَانَ مَغْنُومًا مَعَ مَالِهِ، إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ مُسْتَجِيرًا لِغَرَضٍ شرعي كاستماع كلام اللَّه رجا الْإِسْلَامِ، أَوْ دَخَلَ لِتِجَارَةٍ. فَإِنْ دَخَلَ بِأَمَانِ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ فَأَمَانُهُمَا شُبْهَةُ أَمَانٍ، فَيَجِبُ تَبْلِيغُهُ مَأْمَنَهُ. وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ مَحْرُوسًا فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ إِلَى مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ مَأْمَنٌ لَهُ، وَمَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ دَارَ الْإِسْلَامِ رَسُولًا فَالرِّسَالَةُ أَمَانٌ، وَمَنْ دَخَلَ لِيَأْخُذَ مَالًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلِمَالِهِ أَمَانٌ فَأَمَانٌ لَهُ واللَّه أعلم. [سورة التوبة (9) : آية 7] كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) قَوْلُهُ: كَيْفَ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ كَمَا تَقُولُ: كَيْفَ يَسْبِقُنِي مِثْلُكَ، أَيْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْبِقَنِي وَفِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ مَعَ إِضْمَارِ الْغَدْرِ فِيمَا وَقَعَ مِنَ الْعَهْدِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لِأَجْلِ أَنَّهُمْ مَا نَكَثُوا وَمَا نَقَضُوا قِيلَ: إِنَّهُمْ بَنُو كِنَانَةَ وَبَنُو ضَمْرَةَ فَتَرَبَّصُوا أَمْرَهُمْ وَلَا تَقْتُلُوهُمْ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ عَلَى الْعَهْدِ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ عَلَى مِثْلِهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يَعْنِي مَنِ اتَّقَى اللَّه يُوفِي بِعَهْدِهِ لِمَنْ عَاهَدَ واللَّه أَعْلَمُ. [سورة التوبة (9) : الآيات 8 الى 10] كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)

اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: كَيْفَ تِكْرَارٌ لِاسْتِبْعَادِ ثَبَاتِ المشركين على العهد، وحذف الفعل كونه مَعْلُومًا أَيْ كَيْفَ يَكُونُ عَهْدُهُمْ وَحَالُهُمْ أَنَّهُمْ إن يظهروا عليكم بعد ما سَبَقَ لَهُمْ مِنْ تَأْكِيدِ الْإِيمَانِ وَالْمَوَاثِيقِ لَمْ يَنْظُرُوا إِلَى حِلْفٍ وَلَا عَهْدٍ وَلَمْ يُبْقُوا عَلَيْكُمْ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى، وَلَا بُدَّ مِنْ تَفْسِيرِ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ يُقَالُ: ظَهَرْتُ عَلَى فُلَانٍ إِذَا عَلَوْتُهُ، وَظَهَرْتُ عَلَى السَّطْحِ إِذَا صِرْتُ فَوْقَهُ. قَالَ اللَّيْثُ: الظُّهُورُ الظَّفَرُ بِالشَّيْءِ. وَأَظْهَرَ اللَّه الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَيْ أَعْلَاهُمْ عَلَيْهِمْ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ [الصَّفِّ: 14] وَقَوْلُهُ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التَّوْبَةِ: 33] أَيْ لِيُعْلِيَهُ، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ مَنْ غَلَبَ غَيْرَهُ حَصَلَتْ لَهُ صِفَةُ كَمَالٍ، وَمَنْ كان كذلك أظهر نفسه ومنه صَارَ مَغْلُوبًا صَارَ كَالنَّاقِصِ، وَالنَّاقِصُ لَا يُظْهِرُ نَفْسَهُ وَيُخْفِي نُقْصَانَهُ فَصَارَ الظُّهُورُ كِنَايَةً لِلْغَلَبَةِ لكونه من لوازمها فقوله: إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يُرِيدُ إِنْ يَقْدِرُوا عَلَيْكُمْ وَقَوْلُهُ: لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ قَالَ اللَّيْثُ: رَقَبَ الْإِنْسَانَ يَرْقُبُهُ رِقْبَةً وَرُقُوبًا وَهُوَ أَنْ يَنْتَظِرَهُ وَرَقِيبُ القوم حارسهم وقوله: لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه: 94] أَيْ لَمْ تَحْفَظْهُ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْعَهْدُ قَالَ الشَّاعِرُ: وَجَدْنَاهُمْ كَاذِبًا إِلُّهُمْ ... وَذُو الْإِلِّ وَالْعَهْدِ لَا يَكْذِبُ يَعْنِي الْعَهْدَ الثَّانِي. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْإِلُّ الْقَرَابَةُ. قَالَ حَسَّانُ: لَعَمْرُكَ إِنَّ إِلَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ ... كَإِلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأْلِ النَّعَامِ يَعْنِي الْقَرَابَةَ وَالثَّالِثُ الْإِلُّ الْحِلْفُ. قَالَ أَوْسُ بْنُ حُجْرٍ: لَوْلَا بَنُو مَالِكٍ وَالْإِلُّ مَرْقَبَةٌ ... وَمَالِكٌ فِيهِمُ الْآلَاءُ وَالشَّرَفُ يَعْنِي الْحِلْفَ. وَالرَّابِعُ: الْإِلُّ هُوَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ هَذَيَانَ مُسَيْلِمَةَ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إِلٍّ، وَطَعَنَ الزَّجَّاجُ فِي هَذَا الْقَوْلِ وَقَالَ: أَسْمَاءُ اللَّه مَعْلُومَةٌ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْقُرْآنِ وَلَمْ يُسْمَعْ أَحَدٌ يَقُولُ: يَا إِلُّ. الْخَامِسُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: حَقِيقَةُ الْإِلِّ عِنْدِي عَلَى مَا تُوجِبُهُ اللُّغَةُ تَحْدِيدُ الشَّيْءِ، فَمِنْ ذَلِكَ الْإِلَّةُ الْحَرْبَةُ. وَأُذُنٌ مُؤَلَّلَةٌ، فَالْإِلُّ يَخْرُجُ فِي جَمِيعِ/ مَا فُسِّرَ مِنَ الْعَهْدِ وَالْقَرَابَةِ. السَّادِسُ: قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: إِيلْ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عُرِّبَ. فَقِيلَ إِلٌّ. السَّابِعُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِلُّ مَأْخُوذٌ من قولهم إل يئول أَلًّا، إِذَا صَفَا وَلَمَعَ وَمِنْهُ الْآلُ لِلَمَعَانِهِ، وأذن مؤللة شبيهة بالحرية في تحديدها وله أليل أي أنين يرفه بِهِ صَوْتَهُ، وَرَفَعَتِ الْمَرْأَةُ أَلِيلَهَا إِذَا وَلْوَلَتْ، فَالْعَهْدُ سُمِّيَ إِلًّا، لِظُهُورِهِ وَصَفَائِهِ مِنْ شَوَائِبِ الْغَدْرِ، أَوْ لِأَنَّ الْقَوْمَ إِذَا تَحَالَفُوا رَفَعُوا بِهِ أَصْوَاتَهُمْ وَشَهَرُوهُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا ذِمَّةً فَالذِّمَّةُ الْعَهْدُ، وَجَمْعُهَا ذِمَمٌ وَذِمَامٌ، كُلُّ أَمْرٍ لَزِمَكَ، وَكَانَ بِحَيْثُ لَوْ ضَيَّعْتَهُ لَزِمَتْكَ مَذَمَّةٌ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه الذِّمَّةُ مَا يُتَذَمَّمُ مِنْهُ، يَعْنِي مَا يُجْتَنَبُ فِيهِ الذَّمُّ يُقَالُ: تَذَمَّمَ فُلَانٌ، أَيْ أَلْقَى عَلَى نَفْسِهِ الذَّمَّ، وَنَظِيرُهُ تَحَوَّبَ، وَتَأَثَّمَ وَتَحَرَّجَ. أَمَّا قَوْلُهُ: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ أَيْ: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ كَلَامًا حُلْوًا طَيِّبًا، وَالَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ لَا يُضْمِرُونَ إِلَّا الشَّرَّ وَالْإِيذَاءَ إِنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ وَفِيهِ سُؤَالَانِ:

[سورة التوبة (9) : الآيات 11 إلى 12]

السؤال الأول: الموصوفين بِهَذِهِ الصِّفَةِ كُفَّارٌ. وَالْكُفْرُ أَقْبَحُ وَأَخْبَثُ مِنَ الْفِسْقِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ وَصْفُهُمْ بِالْفِسْقِ فِي مَعْرِضِ الْمُبَالَغَةِ فِي الذَّمِّ. السُّؤَالُ الثَّانِي: إِنَّ الْكُفَّارَ كُلَّهُمْ فَاسِقُونَ، فَلَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ: وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ فائدة. والجواب عن الأول: أن الكفار قَدْ يَكُونُ عَدْلًا فِي دِينِهِ، وَقَدْ يَكُونُ فاسقاً خبيث النفس في دينه، فالمراد هاهنا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ الَّذِينَ مِنْ عَادَتِهِمْ نَقْضُ العهود أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ فِي دِينِهِمْ وَعِنْدَ أَقْوَامِهِمْ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمُبَالَغَةَ فِي الذَّمِّ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: عَيْنُ مَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ الْكَافِرَ قَدْ يَكُونُ مُحْتَرِزًا عَنِ الْكَذِبِ، وَنَقْضِ الْعَهْدِ وَالْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّخْصِ يَكُونُ مَذْمُومًا عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ وَفِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ مَوْصُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ، وَأَيْضًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ قَدْ أَسْلَمَ وَتَابَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ حَتَّى يَخْرُجَ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ أُولَئِكَ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ. أَمَّا قَوْلُهُ: اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَطْعَمَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ حُلَفَاءَهُ، وَتَرَكَ حُلَفَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَقَضُوا الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ بِسَبَبِ تِلْكَ الْأَكْلَةِ. الثَّانِي: لَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ أَعَانُوا/ الْمُشْرِكِينَ عَلَى نَقْضِ تِلْكَ الْعُهُودِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ذَمَّ أُولَئِكَ الْيَهُودِ، وَهَذَا اللَّفْظُ فِي الْقُرْآنِ كَالْأَمْرِ الْمُخْتَصِّ بِالْيَهُودِ وَيَقْوَى هَذَا الْوَجْهُ بِمَا أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَعَادَ قَوْلَهُ: لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة: 10] وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُشْرِكِينَ لَكَانَ هَذَا تِكْرَارًا مَحْضًا، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْيَهُودَ لَمْ يَكُنْ هَذَا تِكْرَارًا، فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى. ثم قال: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ [التوبة: 10] يَعْنِي يَعْتَدُونَ مَا حَدَّهُ اللَّه فِي دِينِهِ وَمَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ وَالْعَهْدُ، وَفِي ذَلِكَ نِهَايَةُ الذم. واللَّه أعلم. [سورة التوبة (9) : الآيات 11 الى 12] فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ مَنْ لَا يَرْقُبُ فِي اللَّه إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، وَيَنْقُضُ الْعَهْدَ وَيَنْطَوِي عَلَى النِّفَاقِ وَيَتَعَدَّى مَا حُدَّ لَهُ، بَيَّنَ مِنْ بَعْدُ أَنَّهُمْ إِنْ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ كَيْفَ حُكْمُهُمْ، فَجَمَعَ ذَلِكَ الشَّيْءَ بِقَوْلِهِ: فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَهُوَ يُفِيدُ جُمْلَةَ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ، وَلَوْ شُرِحَ لَطَالَ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّيْءِ بِكَلِمَةِ (إِنْ) عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مَتَى لَمْ تُوجَدُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ لَا يَحْصُلُ الْأُخُوَّةُ فِي الدِّينِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فَقِيرًا، أَوْ إِنْ كَانَ غَنِيًّا، لَكِنْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ.

قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النِّسَاءِ: 31] أَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى الشَّيْءِ بِكَلِمَةِ (إِنْ) لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَزَالَ هَذَا السُّؤَالُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ الْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّيْءِ بِكَلِمَةِ (إِنْ) عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ ذلك الشيء، فههنا قال المواخاة بِالْإِسْلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ جَمِيعًا، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى شَرَطَهَا فِي إثبات المواخاة، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُقِرَّ بِحُكْمِهَا، فَإِذَا أَقَرَّ بِهَذَا الْحُكْمِ دَخَلَ فِي الشَّرْطِ الَّذِي بِهِ تَجِبُ الْأُخُوَّةُ، وَكَانَ/ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ رَحِمَ اللَّه أَبَا بَكْرٍ مَا أَفْقَهَهُ فِي الدِّينِ، أَرَادَ بِهِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي حَقِّ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ واللَّه لَا أُفَرِّقُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ جَمَعَ اللَّه بَيْنَهُمَا بَقِيَ فِي قَوْلِهِ: فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: فَإِخْوانُكُمْ قَالَ الْفَرَّاءُ مَعْنَاهُ، فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ بِإِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [الْأَحْزَابِ: 5] أَيْ فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ. الثَّانِي: قَالَ أَبُو حَاتِمٍ قَالَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ أَجْمَعُونَ الْإِخْوَةُ فِي النَّسَبِ وَالْإِخْوَانُ فِي الصَّدَاقَةِ، وَهَذَا غَلَطٌ يُقَالُ لِلْأَصْدِقَاءِ، وَغَيْرِ الْأَصْدِقَاءِ إِخْوَةٌ وَإِخْوَانٌ. قَالَ اللَّه تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الْحُجُرَاتِ: 10] وَلَمْ يَعْنِ النَّسَبَ. وَقَالَ تَعَالَى: أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ [النُّورِ: 61] وَهَذَا فِي النَّسَبِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَرَّمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَهَذَا اعْتِرَاضٌ وَقَعَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ الْحَثُّ وَالتَّحْرِيضُ عَلَى تَأَمُّلِ مَا فُصِّلَ مِنْ أَحْكَامِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَاهِدِينَ، وَعَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا. ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ يُقَالُ نَكَثَ فُلَانٌ عَهْدَهُ إِذَا نَقَضَهُ بَعْدَ إِحْكَامِهِ كَمَا يُنْكَثُ خَيْطُ الصُّوفِ بَعْدَ إِبْرَامِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً [النَّحْلِ: 92] وَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ بِمَعْنَى الْحَلِفِ وَالْقَسَمِ. وَقِيلَ: لِلْحَلِفِ يَمِينٌ، وَهُوَ اسْمُ الْيَدِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَبْسُطُونَ أَيْمَانَهُمْ إِذَا حَلَفُوا أَوْ تَحَالَفُوا. وَقِيلَ: سُمِّيَ الْقَسَمُ يَمِينًا لِيَمِينِ الْبِرِّ فِيهِ. فَقَوْلُهُ: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ أَيْ نَقَضُوا عُهُودَهُمْ. وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ إِنَّ الْمُرَادَ نَكْثُهُمْ لِعَهْدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ حَمْلُ الْعَهْدِ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ رِدَّتَهُمْ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ قَرَأَ بَعْضُهُمْ وَإِنْ نَكَثُوا. أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِلْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَلِأَنَّ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي نَاقِضِي الْعَهْدِ لِأَنَّهُ تَعَالَى صَنَّفَهُمْ صِنْفَيْنِ، فَإِذَا مَيَّزَ مِنْهُمْ مَنْ تَابَ لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ أَقَامَ عَلَى نَقْضِ الْعَهْدِ. وَقَوْلُهُ: وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ يُقَالُ طَعَنَهُ بِالرُّمْحِ يطعنه، وطعن بالقول السيء يَطْعُنُ. قَالَ اللَّيْثُ: وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: يَطْعُنُ بِالرُّمْحِ، وَيَطْعَنُ بِالْقَوْلِ: فَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ عَابُوا دِينَكُمْ، وَقَدَحُوا فِيهِ. ثُمَّ قَالَ: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أَيْ مَتَى فَعَلُوا ذَلِكَ فَافْعَلُوا هَذَا، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كثير وأبو عمرو أَئِمَّةَ الْكُفْرِ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرِ مَمْدُودَةٍ وَتَلْيِينِ الثَّانِيَةِ وَالْبَاقُونَ بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى التَّحْقِيقِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَصْلُ في الأئمة أأمة، لِأَنَّهَا جَمْعُ إِمَامٍ، مِثْلَ مِثَالٍ وَأَمْثِلَةٍ، لَكِنَّ الْمِيمَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَتَا أُدْغِمَتِ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ، وألقيت حركتها على الهمزة، فصارت أأمة، فَأُبْدِلَتْ مِنَ الْمَكْسُورَةِ الْيَاءُ لِكَرَاهَةِ اجْتِمَاعِ الْهَمْزَتَيْنِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. هَذَا هُوَ/ الِاخْتِيَارُ عِنْدَ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : لَفْظَةُ «أَئِمَّةٍ» هَمْزَةٌ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ بَيْنَ بَيْنَ، وَالْمُرَادُ بَيْنَ مَخْرَجِ الْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ. أَمَّا بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ فَقِرَاءَةٌ مَشْهُورَةٌ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَقْبُولَةً عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ. وَأَمَّا التَّصْرِيحُ

[سورة التوبة (9) : آية 13]

بِالْيَاءِ فَلَيْسَ بِقِرَاءَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قِرَاءَةً، وَمَنْ صَرَّحَ بِهَا فَهُوَ لَاحِنٌ مُحَرِّفٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ مَعْنَاهُ قَاتِلُوا الْكُفَّارَ بِأَسْرِهِمْ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الأئمة والسادة منهم الذكر، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُحَرِّضُونَ الْأَتْبَاعَ عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْبَاطِلَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذِهِ الْآيَةُ تُوجِبُ قَتْلَ الذِّمِّيِّ إِذَا أَظْهَرَ الطَّعْنَ فِي الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ عَهْدَهُ مَشْرُوطٌ بِأَنْ لَا يَطْعَنُ، فَإِنْ طَعَنَ فَقَدْ نَكَثَ وَنَقَضَ عَهْدَهُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ لَا أَيْمانَ لَهُمْ بِكَسْرِ الألف ولها وجهان: أحدها: لَا أَمَانَ لَهُمْ، أَيْ لَا تُؤَمِّنُوهُمْ. فَيَكُونُ مَصْدَرًا مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْإِخَافَةِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَفَرَةٌ لَا إِيمَانَ لَهُمْ، أَيْ لَا تَصْدِيقَ وَلَا دِينَ لَهُمْ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ جَمْعُ يَمِينٍ، وَمَعْنَاهُ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَأَيْمَانُهُمْ لَيْسَتْ بِأَيْمَانٍ، وَبِهِ تَمَسَّكَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فِي أَنَّ يَمِينَ الْكَافِرِ لَا يَكُونُ يَمِينًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه يَمِينُهُمْ يَمِينٌ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَهُ: أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَفُوا بِهَا صَارَتْ أَيْمَانُهُمْ كَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَيْمَانٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أيمانهم أيمان، أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهَا بِالنَّكْثِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُنْعَقِدًا لَمَا صَحَّ وَصْفُهَا بِالنَّكْثِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعد ما وجد منهم ما وُجِدَ مِنَ الْعَظَائِمِ أَنْ تَكُونَ الْمُقَاتَلَةُ سَبَبًا فِي انْتِهَائِهِمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَهَذَا مِنْ غَايَةِ كَرَمِ اللَّه وَفَضْلِهِ عَلَى الإحسان. [سورة التوبة (9) : آية 13] أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قال: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ [التوبة: 12] أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ السَّبَبِ الَّذِي يَبْعَثُهُمْ عَلَى مُقَاتَلَتِهِمْ فَقَالَ: أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَسْبَابٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُوجِبُ مُقَاتَلَتَهُمْ لَوِ انْفَرَدَ، فَكَيْفَ بِهَا حَالَ الِاجْتِمَاعِ: أَحَدُهَا: نَكْثُهُمُ الْعَهْدَ، وَكُلُّ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلَهُ عَلَى نَقْضِ الْعَهْدِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ مَكَّةَ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ بَعْدَ عَهْدِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَعَانُوا بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِتَالَ النَّاكِثِينَ أَوْلَى مِنْ قِتَالِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ لِيَكُونَ ذَلِكَ زَجْرًا لِغَيْرِهِمْ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَوْكَدِ مَا يَجِبُ الْقِتَالُ لِأَجْلِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ إِخْرَاجُهُ مِنْ مَكَّةَ حِينَ هَاجَرَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْمُرَادُ مِنَ الْمَدِينَةِ لِمَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمَشُورَةِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى قَصْدِهِ بِالْقَتْلِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هَمُّوا بِإِخْرَاجِهِ مِنْ حَيْثُ أَقْدَمُوا عَلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى الْخُرُوجِ وَهُوَ نَقْضُ الْعَهْدِ، وَإِعَانَةُ أَعْدَائِهِ، فَأُضِيفَ الْإِخْرَاجُ إِلَيْهِمْ تَوَسُّعًا لِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ الْأُمُورِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ إِمَّا بِالْفِعْلِ وَإِمَّا بِالْعَزْمِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الفعل بتمامه، وثالثها: قوله: وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ يَعْنِي بِالْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ، لِأَنَّهُمْ حِينَ سَلِمَ الْعِيرُ قَالُوا: لَا نَنْصَرِفُ حَتَّى نَسْتَأْصِلَ مُحَمَّدًا وَمَنْ مَعَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَرَادَ أَنَّهُمْ قَاتَلُوا حُلَفَاءَ خُزَاعَةَ فَبَدَءُوا بِنَقْضِ الْعَهْدِ، وهذا قول الأكثرين، وإنما قال: بَدَؤُكُمْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْبَادِئَ أَظْلَمُ، وَلَمَّا شَرَحَ تَعَالَى هَذِهِ الْمُوجِبَاتِ الثَّلَاثَةَ زَادَ فِيهَا، فَقَالَ: أَتَخْشَوْنَهُمْ

فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَهَذَا الْكَلَامُ يُقَوِّي دَاعِيَةَ الْقِتَالِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَعْدِيدَ الْمُوجِبَاتِ الْقَوِيَّةِ وَتَفْصِيلَهَا مِمَّا يُقَوِّي هَذِهِ الدَّاعِيَةَ، وَالثَّانِي: أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ لِلرَّجُلِ: أَتَخْشَى خَصْمَكَ كَانَ ذَلِكَ تَحْرِيكًا مِنْهُ لِأَنْ يَسْتَنْكِفَ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى كَوْنِهِ خَائِفًا مِنْ خَصْمِهِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ يُفِيدُ ذَلِكَ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ كُنْتَ تَخْشَى أَحَدًا فاللَّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ لِكَوْنِهِ فِي غَايَةِ الْقُدْرَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْجَلَالَةِ، وَالضَّرَرُ الْمُتَوَقَّعُ مِنْهُمْ غَايَتُهُ الْقَتْلُ. أَمَّا الْمُتَوَقَّعُ مِنَ اللَّه فَالْعِقَابُ الشَّدِيدُ فِي الْقِيَامَةِ، وَالذَّمُّ اللَّازِمُ فِي الدُّنْيَا، وَالرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مَعْنَاهُ: أَنَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِالْأَيْمَانِ وَجَبَ عَلَيْكُمْ أَنْ تُقْدِمُوا عَلَى هَذِهِ الْمُقَاتَلَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُقْدِمُوا عَلَيْهَا وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى سَبْعَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَحْمِلُهُمْ عَلَى مُقَاتَلَةِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ النَّاقِضِينَ لِلْعَهْدِ. بَقِيَ فِي الْآيَةِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: حَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَهْلِ الْمَعَانِي أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا قُلْتَ لَا تَفْعَلْ كَذَا، فَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي فِعْلٍ مُقَدَّرٍ وُجُودُهُ، وَإِذَا قُلْتَ أَلَسْتَ تَفْعَلُ فَإِنَّمَا تَقُولُ ذَلِكَ فِي فِعْلٍ تَحَقَّقَ وُجُودُهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ لَا يُنْفَى بِهَا الْمُسْتَقْبَلُ، فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهَا الْأَلِفُ صَارَ تَحْضِيضًا عَلَى فِعْلِ مَا يُسْتَقْبَلُ، وَلَيْسَ إِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ لِنَفْيِ الْحَالِ. فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهَا الْأَلِفُ صَارَ لِتَحْقِيقِ الْحَالِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً تَرْغِيبٌ فِي فَتْحِ مَكَّةَ وَقَوْلُهُ: قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ أَيْ عَهْدَهُمْ، يَعْنِي قُرَيْشًا حِينَ أَعَانُوا بَنِي الدِّيلِ بْنِ بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ خُلَفَاءِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَأَمَرَ اللَّه رَسُولَهُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِمْ فَيَنْصُرَ خُزَاعَةَ، فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَجَهَّزُوا إِلَى مَكَّةَ وَأَبُو سُفْيَانَ عِنْدَ هِرَقْلَ بِالرُّومِ، فَرَجَعَ وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ وَدَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عليه وسلّم يستجير بها فأبت، وقالت ذَلِكَ لِابْنَيْهَا الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ فَأَبَيَا، فَخَاطَبَ أَبَا بَكْرٍ فَأَبَى، ثُمَّ خَاطَبَ عُمَرَ فَتَشَدَّدَ، ثُمَّ خَاطَبَ عَلِيًّا فَلَمْ يُجِبْهُ، فَاسْتَجَارَ بِالْعَبَّاسِ وَكَانَ مُصَافِيًا لَهُ فَأَجَارَهُ، وَأَجَارَهُ الرَّسُولُ لِإِجَارَتِهِ وَخَلَّى سَبِيلَهُ. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ فِيهِ أُبَّهَةٌ فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا، فَقَالَ مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، فَعَادَ إِلَى مَكَّةَ وَنَادَى مَنْ دَخَلَ دَارِي فَهُوَ آمِنٌ فَقَامُوا إِلَيْهِ وَضَرَبُوهُ ضَرْبًا شَدِيدًا وَحَصَلَ الْفَتْحُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَهَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ بِسَنَةٍ، وَتَمْيِيزُ حَقِّ هَذَا الْبَابِ مِنْ بَاطِلِهِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالْأَخْبَارِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُمْ كَرِهُوا هَذَا الْقِتَالَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 216] فَآمَنَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَاتِ. قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَحُثُّ عَلَى فِعْلِ الْوَاجِبِ مَنْ لَا يَكُونُ كَارِهًا لَهُ وَلَا مُقَصِّرًا فِيهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّحْرِيضِ عَلَىَ الْجِهَادِ لَا يَنْفَعُ إِلَّا وَهُنَاكَ كُرْهٌ لِلْقِتَالِ لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحُثَّ اللَّه تَعَالَى بِهَذَا الْجِنْسِ عَلَى الْجِهَادِ لِكَيْ لَا يَحْصُلَ الْكُرْهُ الَّذِي لَوْلَا هَذَا التَّحْرِيضُ كَانَ يَقَعُ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْبَغِي أَنْ يَخْشَى رَبَّهُ، وَأَنْ لَا يخشى أحداً سواه. تَمَّ الْجُزْءُ الْخَامِسَ عَشَرَ، وَيَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى الْجُزْءُ السَّادِسَ عَشَرَ، وَأَوَّلُهُ قَوْلُهُ تعالى قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ من سورة التوبة. أعان اللَّه على إكماله

الجزء السادس عشر

الجزء السادس عشر [تتمة سورة التوبة] بسم اللَّه الرحمن الرّحيم [سورة التوبة (9) : الآيات 14 الى 15] قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً [التَّوْبَةِ: 13] ذَكَرَ عَقِيبَهُ سَبْعَةَ أَشْيَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُوجِبُ إِقْدَامَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعَادَ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ الْقِتَالِ خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْفَوَائِدِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَعْظُمُ مَوْقِعُهُ إِذَا انْفَرَدَ فَكَيْفَ بِهَا إِذَا اجْتَمَعَتْ؟ فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى ذَلِكَ عَذَابًا وَهُوَ حَقٌّ فَإِنَّهُ تَعَالَى يُعَذِّبُ الْكَافِرِينَ فَإِنْ شَاءَ عَجَّلَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَهُ إِلَى الْآخِرَةِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا التَّعْذِيبِ الْقَتْلُ تَارَةً وَالْأَسْرُ أُخْرَى وَاغْتِنَامُ الْأَمْوَالِ ثَالِثًا، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ. فَإِنْ قَالُوا: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَالِ: 33] فكيف قال هاهنا: يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ. قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ عَذَابُ الْقَتْلِ وَالْحَرْبِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ أَنَّ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ قَدْ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِ الْمُذْنِبِ وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّهِ سَبَبًا لِمَزِيدِ الثَّوَابِ، أَمَّا عَذَابُ الْقَتْلِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَبْقَى مَقْصُورًا عَلَى الْمُذْنِبِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلِهِمْ بِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ للَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا التَّعْذِيبِ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ وَظَاهِرُ النَّصِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَتْلَ وَالْأَسْرَ فِعْلُ اللَّه تَعَالَى، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى يُدْخِلُهُ فِي الْوُجُودِ عَلَى أَيْدِي الْعِبَادِ، وَهُوَ صَرِيحُ قَوْلِنَا وَمَذْهَبِنَا أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ فَقَالَ: لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى يُعَذِّبُ الْكُفَّارَ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ/ يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَيْدِي الْكَافِرِينَ، وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ يُكَذِّبُ أَنْبِيَاءَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْكُفَّارِ وَيَلْعَنُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ لِذَلِكَ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُجْبِرَةِ، عُلِمَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ أَعْمَالَ الْعِبَادِ وَإِنَّمَا نَسَبَ مَا ذَكَرْنَاهُ إِلَى نَفْسِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ حَصَلَ بِأَمْرِهِ وَأَلْطَافِهِ، كَمَا يُضِيفُ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ إِلَيْهِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ، وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ فَقَالُوا: أَمَّا الَّذِي أَلْزَمْتُمُوهُ عَلَيْنَا فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّا لَا نَقُولُهُ بِاللِّسَانِ، كَمَا أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ الْأَجْسَامِ ثُمَّ إِنَّا لَا نَقُولُ يَا خَالِقَ الْأَبْوَالِ والعذرات، ويا مكون الخنافس والديدان، فكذا هاهنا وَأَيْضًا أَنَّا تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّ الزِّنَا

وَاللِّوَاطَ وَسَائِرَ الْقَبَائِحِ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِأَقْدَارِ اللَّه تَعَالَى وَتَيْسِيرِهِ، ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَا مُسَهِّلَ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ، وَيَا دَافِعَ الْمَوَانِعِ عَنْهَا، فَكَذَا هُنَا، أَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الْمُرَادَ إِذَنِ الْأَقْدَارُ فَنَقُولُ هَذَا صَرْفٌ لِلْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِدَلِيلٍ قَاهِرٍ، والدليل القاهر من جانبنا هاهنا، فَإِنَّ الْفِعْلَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عِنْدَ الدَّاعِيَةِ الْحَاصِلَةِ، وَحُصُولُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُخْزِهِمْ مَعْنَاهُ: مَا يَنْزِلُ بِهِمْ مِنَ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ حَيْثُ شَاهَدُوا أَنْفُسَهُمْ مَقْهُورِينَ فِي أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ذَلِيلِينَ مَهِينِينَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَوْلُهُ: وَيُخْزِهِمْ أَيْ بَعْدَ قَتْلِكُمْ إِيَّاهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِخْزَاءَ إِنَّمَا وَقَعَ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِخْزَاءَ وَاقِعٌ فِي الدُّنْيَا. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ الْخِزْيُ لَهُمْ بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ مَقْهُورِينَ فَقَدْ حَصَلَ النَّصْرُ لِلْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ قَاهِرِينَ. فَإِنْ قَالُوا: لَمَّا كَانَ حُصُولُ ذَلِكَ الْخِزْيِ مُسْتَلْزِمًا لِحُصُولِ هَذَا النَّصْرِ، كَانَ إِفْرَادُهُ بالذكر عبثا فنقول: ليس الأمل كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنْ يَحْصُلَ الْخِزْيُ لَهُمْ مِنْ جِهَةِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَّا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَحْصُلُ لَهُمْ آفَةٌ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلَمَّا قَالَ: وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهَذَا النَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَالظَّفَرِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ خُزَاعَةَ أَسْلَمُوا، فَأَعَانَتْ قُرَيْشٌ بَنِي بَكْرٍ عَلَيْهِمْ حَتَّى نَكَّلُوا بِهِمْ، فَشَفَى اللَّه صُدُورَهُمْ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ طَالَ تَأَذِّيهِ مِنْ خَصْمِهِ، ثُمَّ مَكَّنَهُ اللَّه مِنْهُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ فَإِنَّهُ يَعْظُمُ سُرُورُهُ بِهِ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِقُوَّةِ النَّفْسِ، وَثَبَاتِ الْعَزِيمَةِ. وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَشْفِي مِنْ أَلَمِ الْغَيْظِ وَهَذَا هُوَ عَيْنُ إِذْهَابِ الغيظ، فكان قوله: وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ تكرار. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَهُمْ بِحُصُولِ هَذَا الْفَتْحِ فَكَانُوا فِي زَحْمَةِ الِانْتِظَارِ، كَمَا قِيلَ الِانْتِظَارُ الْمَوْتُ الْأَحْمَرُ، فَشَفَى صُدُورَهُمْ مِنْ زَحْمَةِ الِانْتِظَارِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: وَيَشْفِ/ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ فَهَذِهِ هِيَ الْمَنَافِعُ الْخَمْسَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي هَذَا الْقِتَالِ، وَكُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى تَسْكِينِ الدَّوَاعِي النَّاشِئَةِ مِنَ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ، وَهِيَ التَّشَفِّي وَدَرْكُ الثَّأْرِ وَإِزَالَةُ الْغَيْظِ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَعَالَى فِيهَا وِجْدَانَ الْأَمْوَالِ وَالْفَوْزَ بِالْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ قَوْمٌ جُبِلُوا عَلَى الْحَمِيَّةِ وَالْأَنَفَةِ، فَرَغَّبَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي لكونها لائقة بطباعهم، بقي هاهنا مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ مُنَاسِبَةٌ لفتح مكة، لأن ذلك جَرَى فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ مُشَاكِلٌ لِهَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَازَ أَنْ يُقَالَ: الْآيَةُ وَارِدَةٌ فِيهِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى الْمُعْجِزَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ حُصُولِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ وَقَعَتْ مُوَافِقَةً لِهَذِهِ الْأَخْبَارِ فَيَكُونُ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ، وَالْأَخْبَارُ عَنِ الْغَيْبِ مُعْجِزٌ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الصَّحَابَةِ مُؤْمِنِينَ فِي عِلْمِ اللَّه تَعَالَى إِيمَانًا حَقِيقِيًّا لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قُلُوبَهُمْ كَانَتْ مَمْلُوءَةً مِنَ الْغَضَبِ، وَمِنَ الْحَمِيَّةِ لِأَجْلِ الدِّينِ، وَمِنَ الرَّغْبَةِ الشَّدِيدَةِ فِي عُلُوِّ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي قُلُوبِ المؤمنين.

[سورة التوبة (9) : آية 16]

وَاعْلَمْ أَنَّ وَصْفَ اللَّه لَهُمْ بِذَلِكَ لَا يَنْفِي كَوْنَهُمْ مَوْصُوفِينَ بِالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَتِهِمْ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [الْمَائِدَةِ: 54] وَقَالَ أَيْضًا: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الْفَتْحِ: 29] . ثُمَّ قَالَ: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: هَذَا مَذْكُورٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِقَوْلِهِ: قاتِلُوهُمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ جَزَاءً لِمُقَاتَلَتِهِمْ مَعَ الْكُفَّارِ. قَالُوا وَنَظِيرُهُ: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ [الشُّورَى: 24] وتم الكلام هاهنا، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ [الشُّورَى: 24] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ يُمْكِنُ جَعْلُ هَذِهِ التَّوْبَةِ جَزَاءً لِتِلْكَ الْمُقَاتَلَةِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْمُقَاتَلَةِ، فَرُبَّمَا شَقَّ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِهِمْ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَصَمُّ، فَإِذَا أَقْدَمُوا عَلَى الْمُقَاتَلَةِ صَارَ ذَلِكَ الْعَمَلُ جَارِيًا مَجْرَى التَّوْبَةِ عَنْ تِلْكَ الْكَرَاهِيَةِ. الثَّانِي: أَنَّ حُصُولَ النُّصْرَةِ وَالظَّفَرِ إِنْعَامٌ عَظِيمٌ، وَالْعَبْدُ إِذَا شَاهَدَ تَوَالِيَ نِعَمِ اللَّه لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ، الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ وَالْفَتْحُ وَكَثُرَتِ الْأَمْوَالُ وَالنِّعَمُ وَكَانَتْ لَذَّاتُهُ تُطْلَبُ بِالطَّرِيقِ الْحَرَامِ، فَإِنَّ عِنْدَ حُصُولِ الْمَالِ وَالْجَاهِ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا بِطَرِيقٍ حَلَالٍ، فَيَصِيرُ كَثْرَةُ الْمَالِ وَالْجَاهِ دَاعِيًا إِلَى التَّوْبَةِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ. الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ النَّفْسَ شَدِيدَةُ الْمَيْلِ إِلَى الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، فَإِذَا انْفَتَحَتْ أَبْوَابُ الدُّنْيَا عَلَى الْإِنْسَانِ وَأَرَادَ اللَّه بِهِ خَيْرًا عَرَفَ أَنَّ لَذَّاتِهَا حَقِيرَةٌ يَسِيرَةٌ، فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الدُّنْيَا حَقِيرَةً فِي عَيْنِهِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِانْقِبَاضِ النَّفْسِ عَنِ الدُّنْيَا، وَهَذَا هُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص: 35] يَعْنِي أَنَّ بَعْدَ حُصُولِ هَذَا الْمُلْكِ لَا يَبْقَى لِلنَّفْسِ اشْتِغَالٌ بِطَلَبِ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَعْرِفُ أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ هَذَا الْمُلْكِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْمَمَالِكِ لَا حَاصِلَ لِلدُّنْيَا وَلَا فَائِدَةَ فِي لَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا، فَحِينَئِذٍ يُعْرِضُ الْقَلْبُ عَنِ الدُّنْيَا وَلَا يُقِيمُ لَهَا وَزْنًا، فَثَبَتَ أَنَّ حُصُولَ الْمُقَاتَلَةِ يُفْضِي إِلَى الْمَنَافِعِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ وَتِلْكَ الْمَنَافِعُ حُصُولُهَا يُوجِبُ التَّوْبَةَ، فَكَانَتِ التَّوْبَةُ مُتَعَلِّقَةً بِتِلْكَ الْمُقَاتَلَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: عَلى مَنْ يَشاءُ لِأَنَّ وِجْدَانَ الدُّنْيَا وَانْفِتَاحَ أَبْوَابِهَا عَلَى الْإِنْسَانِ قَدْ يَصِيرُ سَبَبًا لِانْقِبَاضِ الْقَلْبِ عَنِ الدُّنْيَا وَذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ أَرَادَ بِهِ الْخَيْرَ، وَقَدْ يَصِيرُ سَبَبًا لِاسْتِغْرَاقِ الْإِنْسَانِ فِيهَا وَتَهَالُكِهِ عَلَيْهَا وَانْقِطَاعِهِ بِسَبَبِهَا عَنْ سَبِيلِ اللَّه، فَلَمَّا اخْتَلَفَ الْأَمْرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَالَ: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ أَيْ بِكُلِّ مَا يُعْمَلُ وَيُفْعَلُ فِي مُلْكِهِ وَمَلَكُوتِهِ حَكِيمٌ مُصِيبٌ في أحكامه وأفعاله. [سورة التوبة (9) : آية 16] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) اعْلَمْ أَنَّ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ كَانَتْ مُرَغِّبَةً فِي الْجِهَادِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي التَّرْغِيبِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْفَرَّاءُ: قَوْلُهُ: أَمْ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يَتَوَسَّطُ الْكَلَامَ، وَلَوْ أُرِيدَ بِهِ الِابْتِدَاءُ لَكَانَ بِالْأَلِفِ أَوْ بِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ شَيْءٍ أَدْخَلْتَهُ فِي شَيْءٍ لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ وَلِيجَةٌ وَأَصْلُهُ مِنَ الولوج فالداخل

[سورة التوبة (9) : الآيات 17 إلى 18]

الَّذِي يَكُونُ فِي الْقَوْمِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ وَلِيجَةٌ، فَالْوَلِيجَةُ فَعِيلَةٌ مِنْ وَلَجَ كَالدَّخِيلَةِ مِنْ دَخَلَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُقَالُ هُوَ وَلِيجَتِي وَهُمْ وَلِيجَتِي لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ الْمُكَلَّفَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ لَا يَتَخَلَّصُ عَنِ الْعِقَابِ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَعْلَمَ اللَّه الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ، وَذُكِرَ الْعِلْمُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمَعْلُومُ، وَالْمُرَادُ أَنْ يَصْدُرَ الْجِهَادُ عَنْهُمْ إِلَّا أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ وُجُودُ الشَّيْءِ يَلْزَمُهُ مَعْلُومُ الْوُجُودِ عِنْدَ اللَّه، لَا جَرَمَ جَعَلَ عِلْمَ اللَّه بِوُجُودِهِ كِنَايَةً عَنْ وُجُودِهِ، وَاحْتَجَّ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ الشَّيْءَ إِلَّا حَالَ وُجُودِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ يُوهِمُ مَا ذَكَرَهُ إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مَا بَيَّنَّاهُ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الشَّرْطِ أَنَّ الْمُجَاهِدَ قَدْ يُجَاهِدُ وَلَا يَكُونُ مُخْلِصًا بَلْ يَكُونُ مُنَافِقًا، بَاطِنُهُ خِلَافُ ظَاهِرِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّخِذُ الْوَلِيجَةَ مِنْ دُونِ اللَّه وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَتْرُكُهُمْ إِلَّا إِذَا أَتَوْا بِالْجِهَادِ مَعَ الْإِخْلَاصِ خَالِيًا عَنِ النِّفَاقِ وَالرِّيَاءِ وَالتَّوَدُّدِ إِلَى الْكُفَّارِ وَإِبْطَالِ مَا يُخَالِفُ طَرِيقَةَ الدِّينِ وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ مِنْ إِيجَابِ الْقِتَالِ نَفْسَ الْقِتَالِ فَقَطْ، بَلِ الْغَرَضُ أَنْ يُؤْتَى بِهِ انْقِيَادًا لِأَمْرِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَلِحُكْمِهِ وَتَكْلِيفِهِ، لِيَظْهَرَ بِهِ بَذْلُ النَّفْسِ وَالْمَالِ فِي طَلَبِ رِضْوَانِ اللَّه تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ بِهِ الِانْتِفَاعُ، وَأَمَّا الْإِقْدَامُ عَلَى الْقِتَالِ لِسَائِرِ الْأَغْرَاضِ فَذَاكَ مِمَّا لَا يُفِيدُ أَصْلًا. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أَيْ عَالِمٌ بِنِيَّاتِهِمْ وَأَغْرَاضِهِمْ مُطَّلِعٌ عَلَيْهَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ، فَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُبَالِغَ فِي أَمْرِ النِّيَّةِ وَرِعَايَةِ الْقَلْبِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: إِنَّ اللَّه لَا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ الْبَاطِنُ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ اللَّه مِنْ خَلْقِهِ الِاسْتِقَامَةَ كَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: 30 الأحقاف: 13] قَالَ: وَلَمَّا فُرِضَ الْقِتَالُ تَبَيَّنَ الْمُنَافِقُ مِنْ غَيْرِهِ وَتَمَيَّزَ مَنْ يُوَالِي الْمُؤْمِنِينَ مِمَّنْ يُعَادِيهِمْ. [سورة التوبة (9) : الآيات 17 الى 18] مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) [فِي قَوْلُهُ تَعَالَى مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ السُّورَةَ بِذِكْرِ الْبَرَاءَةِ عَنِ الْكُفَّارِ وَبَالَغَ فِي إِيجَابِ ذَلِكَ وَذَكَرَ مِنْ أَنْوَاعِ فَضَائِحِهِمْ وَقَبَائِحِهِمْ مَا يُوجِبُ تِلْكَ الْبَرَاءَةَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ شُبَهًا احْتَجُّوا بِهَا/ فِي أَنَّ هَذِهِ الْبَرَاءَةَ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْمُخَالَطَةُ وَالْمُنَاصَرَةُ حَاصِلَةً، فَأَوَّلُهَا مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ مَوْصُوفُونَ بِصِفَاتٍ حَمِيدَةٍ وَخِصَالٍ مَرْضِيَةٍ وَهِيَ تُوجِبُ مُخَالَطَتَهُمْ وَمُعَاوَنَتَهُمْ وَمُنَاصَرَتَهُمْ، وَمِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الصِّفَاتِ كَوْنُهُمْ عَامِرِينَ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لَمَّا أُسِرَ الْعَبَّاسُ يَوْمَ بَدْرٍ، أَقْبَلَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَعَيَّرُوهُ بِكُفْرِهِ باللَّه وقطعية الرَّحِمِ، وَأَغْلَظَ لَهُ عَلِيٌّ وَقَالَ: أَلَكُمْ مَحَاسِنُ فَقَالَ: نَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَنَحْجُبُ الْكَعْبَةَ وَنَسَقِي الْحَاجَّ وَنَفُكُّ الْعَانِيَ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى رَدًّا عَلَى الْعَبَّاسِ مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عِمَارَةُ الْمَسَاجِدِ قِسْمَانِ: إِمَّا بِلُزُومِهَا وَكَثْرَةِ إِتْيَانِهَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَعْمُرُ مَجْلِسَ فُلَانٍ إِذَا كَثُرَ غِشْيَانُهُ إِيَّاهُ، وَإِمَّا بِالْعِمَارَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْبِنَاءِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الثَّانِيَ، كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْكَافِرِ أَنْ يُقْدِمَ على مرمة الْمَسَاجِدِ وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَوْضِعُ الْعِبَادَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُعَظَّمًا وَالْكَافِرُ يُهِينُهُ وَلَا يُعَظِّمُهُ، وَأَيْضًا الْكَافِرُ نَجِسٌ فِي الْحُكْمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التَّوْبَةِ: 28] وَتَطْهِيرُ الْمَسَاجِدِ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [الْبَقَرَةِ: 125] وَأَيْضًا الْكَافِرُ لَا يَحْتَرِزُ مِنَ النَّجَاسَاتِ، فَدُخُولُهُ فِي الْمَسْجِدِ تَلْوِيثٌ لِلْمَسْجِدِ، وَذَلِكَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى فَسَادِ عِبَادَةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَيْضًا إِقْدَامُهُ عَلَى مَرَمَّةِ الْمَسْجِدِ يَجْرِي مَجْرَى الْإِنْعَامِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ الْكَافِرُ صَاحِبَ الْمِنَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو أَنْ يَعْمُرُوا مَسْجِدَ اللَّه عَلَى الْوَاحِدِ، وَالْبَاقُونَ مَساجِدَ اللَّهِ عَلَى الْجَمْعِ حُجَّةُ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عمرو قوله: عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [التوبة: 19] وَحُجَّةُ مَنْ قَرَأَ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُرَادَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَإِنَّمَا قِيلَ: مَساجِدَ لِأَنَّهُ قِبْلَةُ الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا وَإِمَامُهَا، فَعَامِرُهُ كَعَامِرِ جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ مَعْنَاهُ: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا شَيْئًا مِنْ مَسَاجِدِ اللَّه، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يُمَكَّنُوا مِنْ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْمَسَاجِدِ وَأَعْظَمُهَا. الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ قَدْ يَضَعُونَ الْوَاحِدَ مَكَانَ الْجَمْعِ وَالْجَمْعَ مَكَانَ الْوَاحِدِ أَمَّا وَضْعُ الْوَاحِدِ مَكَانَ الْجَمْعِ فَفِي قَوْلِهِمْ فُلَانٌ كَثِيرُ الدِّرْهَمِ وَأَمَّا وَضْعُ الْجَمْعِ مَكَانَ الْوَاحِدِ فَفِي قَوْلِهِمْ فُلَانٌ يُجَالِسُ الْمُلُوكَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجْلِسُ إِلَّا مَعَ مَلِكٍ وَاحِدٍ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَسْجِدَ مَوْضِعُ السُّجُودِ، فَكُلُّ بُقْعَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَهِيَ مسجد. المسألة الرابعة: قال الواحدي: دلت عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مَمْنُوعُونَ مِنْ عِمَارَةِ مَسْجِدٍ مِنْ مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ أَوْصَى بِهَا لَمْ تُقْبَلْ وَصِيَّتُهُ وَيُمْنَعُ عَنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ، وَإِنْ دَخَلَ بِغَيْرِ إِذْنِ/ مُسْلِمٍ اسْتَحَقَّ التَّعْزِيرَ، وَإِنْ دَخَلَ بِإِذْنٍ لَمْ يُعَزَّرْ، وَالْأَوْلَى تَعْظِيمُ الْمَسَاجِدِ، وَمَنْعُهُمْ مِنْهَا، وَقَدْ أَنْزَلَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُمْ كُفَّارٌ وَشَدَّ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ الْحَنَفِيَّ فِي سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهُوَ كَافِرٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ قَالَ الزَّجَّاجُ: قَوْلُهُ: شاهِدِينَ حَالٌ وَالْمَعْنَى مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَعْمُرُوا الْمَسَاجِدَ حَالَ كَوْنِهِمْ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ، وَذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَتَكْذِيبِ الْقُرْآنِ وَإِنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكُلُّ ذَلِكَ كُفْرٌ، فَمَنْ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِكُلِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَقَدْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا هُوَ كُفْرٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَيْسَ المراد أنهم شهدوا على أنفسهم بأنهم كافرين الثَّانِي: قَالَ السُّدِّيُّ: شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ، هُوَ أَنَّ النَّصْرَانِيَّ إِذَا قِيلَ لَهُ مَنْ أَنْتَ فَيَقُولُ: نَصْرَانِيٌّ وَالْيَهُودِيُّ يَقُولُ يَهُودِيٌّ وَعَابِدُ الْوَثَنِ يَقُولُ: أَنَا عَابِدُ الْوَثَنِ، وَهَذَا الْوَجْهُ إِنَّمَا يَتَقَرَّرُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْغُلَاةَ مِنْهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ كَفَرْنَا بِدِينِ مُحَمَّدٍ وَبِالْقُرْآنِ فَلَعَلَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ. الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً يَقُولُونَ لَا نَطُوفُ عَلَيْهَا بِثِيَابٍ عَصَيْنَا اللَّه فِيهَا، وَكُلَّمَا طَافُوا شَوْطًا سَجَدُوا لِلْأَصْنَامِ، فَهَذَا هُوَ شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالشِّرْكِ. الْخَامِسُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. السَّادِسُ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ قَالَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى الرَّسُولِ بِالْكُفْرِ. قَالَ: وَإِنَّمَا جَازَ هَذَا التَّفْسِيرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ

[التَّوْبَةِ: 128] قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الْوَجْهُ عُدُولٌ عَنِ الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ لَوْ تَعَذَّرَ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ. أَمَّا لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَمْ يَجُزِ الْمَصِيرُ إِلَى هَذَا الْمَجَازِ. وَأَقُولُ: لَوْ قَرَأَ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ مِنْ قَوْلِكَ: زَيْدٌ نَفِيسٌ وَعَمْرٌو أَنْفَسُ مِنْهُ، لَصَحَّ هَذَا الْوَجْهُ مِنْ عُدُولٍ فِيهِ عَنِ الظَّاهِرِ. ثُمَّ قَالَ: أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَالْمُرَادُ مِنْهُ: مَا هُوَ الْفَصْلُ الْحَقُّ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ صَدَرَ عَنْهُمْ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، مِثْلُ إِكْرَامِ الْوَالِدَيْنِ، وَبِنَاءِ الرِّبَاطَاتِ، وَإِطْعَامِ الْجَائِعِ، وَإِكْرَامِ الضَّيْفِ فَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ عِقَابَ كُفْرِهِمْ زَائِدٌ عَلَى ثَوَابِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَا يَبْقَى لِشَيْءٍ مِنْهَا أَثَرٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَالتَّعْظِيمِ مَعَ الْكُفْرِ وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْإِحْبَاطِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا فَلَا نُعِيدُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِمْ مُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ لَا يَبْقَى مُخَلَّدًا فِي النَّارِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَفِي النَّارِ/ هُمْ خالِدُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لَا غَيْرُهُمْ، ولما كان هذا الكلام وارد فِي حَقِّ الْكُفَّارِ، ثَبَتَ أَنَّ الْخُلُودَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِلْكَافِرِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْخُلُودَ فِي النَّارِ جَزَاءً لِلْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتًا لِغَيْرِ اللَّه لَمَا صَحَّ تَهْدِيدُ الْكَافِرِ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ، بَيَّنَ أَنَّ الْمُشْتَغِلَ بِهَذَا الْعَمَلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِصِفَاتٍ أَرْبَعَةٍ: الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِيمَانِ باللَّه لِأَنَّ الْمَسْجِدَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُعْبَدُ اللَّه فِيهِ، فَمَا لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا باللَّه، امْتَنَعَ أَنْ يَبْنِيَ مَوْضِعًا يُعْبَدُ اللَّه فِيهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا باللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِعِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا تُفِيدُ فِي الْقِيَامَةِ، فَمَنْ أَنْكَرَ الْقِيَامَةَ لَمْ يَعْبُدِ اللَّه، وَمَنْ لَمْ يَعْبُدِ اللَّه لَمْ يَبْنِ بِنَاءً لِعِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يَذْكُرِ الْإِيمَانَ بِرَسُولِ اللَّه؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا إِنَّمَا ادَّعَى رِسَالَةَ اللَّه طَلَبًا لِلرِّيَاسَةِ وَالْمُلْكِ، فَهَهُنَا ذَكَرَ الْإِيمَانَ باللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتَرَكَ النُّبُوَّةَ كَأَنَّهُ يَقُولُ مَطْلُوبِي مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ لَيْسَ إِلَّا الْإِيمَانَ بِالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، فَذَكَرَ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ وَحَذَفَ ذِكْرَ النُّبُوَّةِ تَنْبِيهًا لِلْكُفَّارِ عَلَى أَنَّهُ لَا مَطْلُوبَ لَهُ مِنَ الرِّسَالَةِ إِلَّا هَذَا الْقَدْرَ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الصَّلَاةَ، وَالصَّلَاةُ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالتَّشَهُّدِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْرِ النُّبُوَّةِ كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ، وَالْمُفْرَدُ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ، ثُمَّ الْمَعْهُودُ السَّابِقُ مِنَ الصَّلَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ إِلَّا الْأَعْمَالَ الَّتِي كَانَ أَتَى بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ ذِكْرُ الصَّلَاةِ دَلِيلًا عَلَى النُّبُوَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَأَقامَ الصَّلاةَ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ إِقَامَةُ الصَّلَوَاتِ، فَالْإِنْسَانُ مَا لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ امْتَنَعَ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ. الصِّفَةُ الثالثة: قوله: وَآتَى الزَّكاةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ اعْتِبَارَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ فِي عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ كَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحُضُورُ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ مُقِيمًا لِلصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَحْضُرُ فِي الْمَسْجِدِ فَتَحْصُلُ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ بِهِ، وإذا

كَانَ مُؤْتِيًا لِلزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يَحْضُرُ فِي الْمَسْجِدِ طَوَائِفُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لِطَلَبِ أَخْذِ الزَّكَاةِ فَتَحْصُلُ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ بِهِ. وَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَا الْعِمَارَةَ عَلَى مَصَالِحِ الْبِنَاءِ فَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ مُعْتَبَرٌ فِي هَذَا/ الْبَابِ أَيْضًا لِأَنَّ إِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَاجِبٌ وَبِنَاءَ الْمَسْجِدِ نَافِلَةٌ، وَالْإِنْسَانُ مَا لَمْ يَفْرَغْ عَنِ الْوَاجِبِ لَا يَشْتَغِلُ بِالنَّافِلَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا لِلزَّكَاةِ لَمْ يَشْتَغِلْ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ. وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بَنَى فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى بَابِ دَارِهِ مَسْجِدًا وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَالْكَفَّارُ يُؤْذُونَهُ بِسَبَبِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ تِلْكَ الْحَالَةَ، يعني إنا وَإِنْ خَافَ النَّاسُ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَخْشَاهُمْ وَلَكِنَّهُ يَبْنِي الْمَسْجِدَ لِلْخَوْفِ مِنَ اللَّه تَعَالَى. الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَبْنِيَ الْمَسْجِدَ لَا لِأَجْلِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَأَنْ يُقَالَ إِنَّ فُلَانًا يَبْنِي مَسْجِدًا، وَلَكِنَّهُ يَبْنِيهِ لِمُجَرَّدِ طَلَبِ رِضْوَانِ اللَّه تَعَالَى وَلِمُجَرَّدِ تَقْوِيَةِ دِينِ اللَّه. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ وَالْمُؤْمِنُ قَدْ يَخَافُ الظَّلَمَةَ وَالْمُفْسِدِينَ؟ قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْخَشْيَةِ الْخَوْفُ وَالتَّقْوَى فِي بَابِ الدِّينِ، وَأَنْ لَا يَخْتَارَ عَلَى رِضَا اللَّه رِضَا غَيْرِهِ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ أَيْ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الأربعة وكلما إِنَّما تُفِيدُ الْحَصْرَ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ يَجِبُ صَوْنُهُ عَنْ غَيْرِ الْعِبَادَةِ فَيَدْخُلُ فِيهِ فُضُولُ الْحَدِيثِ وَإِصْلَاحُ مُهِمَّاتِ الدُّنْيَا. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ الْمَسَاجِدَ يَقْعُدُونَ فِيهَا حِلَقًا ذِكْرُهُمُ الدُّنْيَا وَحُبُّ الدُّنْيَا لَا تُجَالِسُوهُمْ، فَلَيْسَ للَّه بِهِمْ حَاجَةٌ» وَفِي الْحَدِيثِ «الْحَدِيثُ فِي الْمَسْجِدِ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ الْبَهِيمَةُ الْحَشِيشَ» قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: قَالَ اللَّه تَعَالَى: «إِنَّ بُيُوتِي فِي الْأَرْضِ الْمَسَاجِدُ وَإِنَّ زُوَّارِي فِيهَا عُمَّارُهَا طُوبَى لِعَبْدٍ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ زَارَنِي فِي بَيْتِي فَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ أَنْ يُكْرِمَ زَائِرَهُ» وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَلِفَ الْمَسْجِدَ أَلِفَهُ اللَّه تَعَالَى» وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَتَعَاهَدُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ» وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَسْرَجَ فِي مَسْجِدٍ سِرَاجًا لَمْ تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ وحملة العرش يستغفرون له مادام فِي الْمَسْجِدِ ضَوْؤُهُ» وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ نَقَلَهَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» . ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ قَالَ: فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: (عَسَى) مِنَ اللَّه وَاجِبٌ لِكَوْنِهِ مُتَعَالِيًا عَنِ الشَّكِّ والتردد. الثاني: قال أبو مسلم: فَعَسى هاهنا رَاجِعٌ إِلَى الْعِبَادِ وَهُوَ يُفِيدُ الرَّجَاءَ فَكَانَ الْمَعْنَى إِنَّ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِهَذِهِ الطَّاعَاتِ إِنَّمَا يَأْتُونَ بِهَا عَلَى رَجَاءِ الْفَوْزِ بِالِاهْتِدَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السَّجْدَةِ: 16] وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَ الْإِتْيَانِ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ لَا يَقْطَعُ عَلَى الْفَوْزِ بِالثَّوَابِ، لِأَنَّهُ يُجَوِّزُ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ أَخَلَّ بِقَيْدٍ/ مِنَ الْقُيُودِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي حُصُولِ الْقَبُولِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ تَبْعِيدُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ مَوَاقِفِ الِاهْتِدَاءِ، وَحَسْمُ أَطْمَاعِهِمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي اسْتَعْظَمُوهَا وَافْتَخَرُوا بِهَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَضَمُّوا إِلَى إِيمَانِهِمُ الْعَمَلَ بِالشَّرَائِعِ وَضَمُّوا إِلَيْهَا الْخَشْيَةَ مِنَ اللَّه، فَهَؤُلَاءِ صَارَ حُصُولُ الِاهْتِدَاءِ لَهُمْ دَائِرًا بَيْنَ- لَعَلَّ وَعَسَى- فَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَقْطَعُونَ بِأَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ وَيَجْزِمُونَ بِفَوْزِهِمْ بِالْخَيْرِ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى وَفِي هَذَا الْكَلَامِ وَنَحْوِهِ لُطْفٌ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي ترجيح الخشية على الرجاء.

[سورة التوبة (9) : آية 19]

[سورة التوبة (9) : آية 19] أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَقْوَالًا فِي نُزُولِ الْآيَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ إِنَّ عَلِيًّا لَمَّا أَغْلَظَ الْكَلَامَ لِلْعَبَّاسِ، قَالَ الْعَبَّاسُ: إِنْ كُنْتُمْ سَبَقْتُمُونَا بِالْإِسْلَامِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالْجِهَادِ فَلَقَدْ كُنَّا نَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَنَسَقِي الْحَاجَّ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقِيلَ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلْيَهُودِ، نَحْنُ سُقَاةُ الْحَاجِّ وَعُمَّارُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَنَحْنُ أَفْضَلُ أَمْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ؟ فَقَالَتِ الْيَهُودُ لَهُمْ أَنْتُمْ أَفْضَلُ. وَقِيلَ: إِنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ: يَا عَمِّي أَلَا تُهَاجِرُونَ أَلَا تَلْحَقُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: أَلَسْتُ فِي أَفْضَلِ مِنَ الْهِجْرَةِ؟ أَسْقِي حَاجَّ بَيْتِ اللَّهِ وَأَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ: مَا أَرَانِي إِلَّا تَارِكَ سِقَايَتِنَا. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَقِيمُوا عَلَى سِقَيَاتِكُمْ فَإِنَّ لَكُمْ فِيهَا خَيْرًا» وَقِيلَ افْتَخَرَ طَلْحَةُ بْنُ شَيْبَةَ وَالْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ، فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا صَاحِبُ الْبَيْتِ بِيَدِي مِفْتَاحُهُ، وَلَوْ أَرَدْتُ بت فيه. قال الْعَبَّاسُ: أَنَا صَاحِبُ السِّقَايَةِ وَالْقَائِمُ عَلَيْهَا. قَالَ عَلِيٌّ: أَنَا صَاحِبُ الْجِهَادِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُفَاضَلَةٌ جَرَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا جَرَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ. أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهَا جَرَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَدِ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ المهاجرين: أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 20] وَهَذَا يَقْتَضِي أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْجُوحِ أَيْضًا/ دَرَجَةٌ عِنْدَ الله، وَهَذَا يَقْتَضِي أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْجُوحِ أَيْضًا دَرَجَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْمُؤْمِنِ وَسَنُجِيبُ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهَا جَرَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ، فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبَيَّنَ مَنْ آمن بالله وهذا هو الأقرب عندي. تقرير الْكَلَامِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّا قَدْ نَقَلْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [التوبة: 18] أَنَّ الْعَبَّاسَ احْتَجَّ عَلَى فَضَائِلِ نَفْسِهِ، بِأَنَّهُ عَمَّرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَسَقَى الْحَاجَّ فَأَجَابَ اللَّهُ عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: مَا بُيِّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ، إِنَّمَا تُوجِبُ الْفَضِيلَةَ إِذَا كَانَتْ صَادِرَةً عَنِ الْمُؤْمِنِ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ صَادِرَةً عَنِ الْكَافِرِ فَلَا فَائِدَةَ فِيهَا أَلْبَتَّةَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْجَوَابِ كُلُّ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَسَقْيَ الْحَاجِّ، يُوجِبُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْفَضِيلَةِ، إِلَّا أَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَالْجِهَادِ قَلِيلٌ جِدًّا فَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَعْمَالِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْجِهَادِ خَطَأً، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي مُقَابَلَةَ الشَّيْءِ الشَّرِيفِ الرَّفِيعِ جِدًّا بِالشَّيْءِ الْحَقِيرِ التَّافِهِ جِدًّا، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ، فَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَحْصُلُ النَّظْمُ الصَّحِيحُ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : السِّقَايَةُ وَالْعِمَارَةُ مَصْدَرَانِ مِنْ سَقَى وَعَمَرَ كَالصِّيَانَةِ وَالْوِقَايَةِ. وَاعْلَمْ أن السقاية والعمارة فعل، قوله: كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْفَاعِلِ، فَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي تَشْبِيهَ الْفِعْلِ بِالْفَاعِلِ، وَالصِّفَةِ بِالذَّاتِ وَإِنَّهُ مُحَالٌ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ التَّقْدِيرُ أَجَعَلْتُمْ

[سورة التوبة (9) : الآيات 20 إلى 22]

أَهْلَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كم آمَنَ بِاللَّهِ؟ وَيُقَوِّيهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ سُقَاةُ الْحَاجِّ وَعَمَرَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالثَّانِي: أَنْ نَقُولَ التَّقْدِيرُ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ كَإِيمَانِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ؟ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 177] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: كَانَتِ السِّقَايَةُ بِنَبِيذِ الزَّبِيبِ، وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ وَجَدَ نَبِيذَ السِّقَايَةِ مِنَ الزَّبِيبِ شَدِيدًا فَكَسَرَ مِنْهُ بِالْمَاءِ ثَلَاثًا، وَقَالَ إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْكُمْ فَاكْسِرُوا مِنْهُ بِالْمَاءِ وَأَمَّا عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَالْمُرَادُ تَجْهِيزُهُ وَتَحْسِينُ صُورَةِ جُدْرَانِهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى وَصْفَ الْفَرِيقَيْنِ قَالَ: لَا يَسْتَوُونَ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا لَا يُفِيدُ أَنَّ الرَّاجِحَ مَنْ هُوَ؟ نَبَّهَ عَلَى الرَّاجِحِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَبَيَّنَ أَنَّ الْكَافِرِينَ ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فَإِنَّهُمْ خُلِقُوا لِلْإِيمَانِ وَهُمْ/ رَضُوا بِالْكُفْرِ وَكَانُوا ظَالِمِينَ، لِأَنَّ الظُّلْمَ عِبَارَةٌ عَنْ وَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَأَيْضًا ظَلَمُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُ لِيَكُونَ مَوْضِعًا لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَجَعَلُوهُ موضعا لعبادة الأوثان، فكان هذا ظلما. [سورة التوبة (9) : الآيات 20 الى 22] الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ تَرْجِيحَ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ عَلَى السِّقَايَةِ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، عَلَى طَرِيقِ الرَّمْزِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ هَذَا التَّرْجِيحِ عَلَى سَبِيلِ التَّصْرِيحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: إِنَّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعَةِ كَانَ أَعْظَمَ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ مِمَّنِ اتَّصَفَ بِالسِّقَايَةِ وَالْعِمَارَةِ وَتِلْكَ الصِّفَاتُ الْأَرْبَعَةُ هِيَ هَذِهِ: فَأَوَّلُهَا الْإِيمَانُ، وَثَانِيهَا الْهِجْرَةُ، وَثَالِثُهَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالْمَالِ وَرَابِعُهَا الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعَةِ فِي غَايَةِ الْجَلَالَةِ وَالرِّفْعَةِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَجْمُوعَ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: الرُّوحُ، وَالْبَدَنُ، وَالْمَالُ. أَمَّا الرُّوحُ فَلَمَّا زَالَ عَنْهُ الْكُفْرُ وَحَصَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ، فَقَدْ وَصَلَ إِلَى مَرَاتِبِ السَّعَادَاتِ اللَّائِقَةِ بِهَا. وَأَمَّا الْبَدَنُ وَالْمَالُ فَبِسَبَبِ الْهِجْرَةِ وَقَعَا فِي النُّقْصَانِ، وَبِسَبَبِ الِاشْتِغَالِ بِالْجِهَادِ صَارَا مُعَرَّضَيْنِ لِلْهَلَاكِ وَالْبُطْلَانِ وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّفْسَ وَالْمَالَ مَحْبُوبُ الْإِنْسَانِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يُعْرِضُ عَنْ مَحْبُوبِهِ إِلَّا لِلْفَوْزِ بِمَحْبُوبٍ أَكْمَلَ مِنَ الْأَوَّلِ، فَلَوْلَا أَنَّ طَلَبَ الرِّضْوَانِ أَتَمُّ عِنْدَهُمْ مِنَ النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَإِلَّا لَمَا رَجَّحُوا جَانِبَ الْآخِرَةِ عَلَى جَانِبِ النَّفْسِ وَالْمَالِ وَلَمَا رَضُوا بِإِهْدَارِ النَّفْسِ وَالْمَالِ لِطَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى فَثَبَتَ أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعَةِ صَارَ الْإِنْسَانُ وَاصِلًا إِلَى آخِرِ دَرَجَاتِ الْبَشَرِيَّةِ وَأَوَّلِ مَرَاتِبِ دَرَجَاتِ/ الْمَلَائِكَةِ، وَأَيُّ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَبَيْنَ الْإِقْدَامِ عَلَى السِّقَايَةِ وَالْعِمَارَةِ لِمُجَرَّدِ الِاقْتِدَاءِ بِالْآبَاءِ وَالْأَسْلَافِ ولطلب الرياسة والسمعة؟ فثبت بهذا البرهان اليقين صِحَّةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالسِّقَايَةِ وَالْعِمَارَةِ لِأَنَّهُ لَوْ عَيَّنَ ذِكْرَهُمْ لَأَوْهَمَ أَنَّ فَضِيلَتَهُمْ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ، وَلَمَّا تَرَكَ ذِكْرَ الْمَرْجُوحِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ مَنْ سِوَاهُمْ عَلَى

الْإِطْلَاقِ، لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ حُصُولُ سَعَادَةٍ وَفَضِيلَةٍ لِلْإِنْسَانِ أَعْلَى وَأَكْمَلَ مِنْ هَذَا الصِّفَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: عِنْدَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِ الْعَبْدِ عِنْدَ اللَّهِ الِاسْتِغْرَاقُ فِي عُبُودِيَّتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعِنْدِيَّةَ بِحَسَبِ الْجِهَةِ وَالْمَكَانِ، وَعِنْدَ هَذَا يَلُوحُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَمَا حَصَلَتْ لَهُمْ مَنْقَبَةُ الْعِنْدِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الْأَنْبِيَاءِ: 19] فَكَذَلِكَ الْأَرْوَاحُ الْقُدُسِيَّةُ الْبَشَرِيَّةُ إِذَا تَطَهَّرَتْ عَنْ دَنَسِ الْأَوْصَافِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْقَاذُورَاتِ الْجَسَدَانِيَّةِ، أَشْرَقَتْ بِأَنْوَارِ الْجَلَالَةِ وَتَجَلَّى فِيهَا أَضْوَاءُ عَالَمِ الْكَمَالِ وَتَرَقَّتْ مِنَ الْعَبْدِيَّةِ إِلَى الْعِنْدِيَّةِ، بَلْ كَأَنَّهُ لَا كَمَالَ فِي الْعَبْدِيَّةِ إِلَّا مُشَاهَدَةَ حَقِيقَةِ الْعِنْدِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الْإِسْرَاءِ: 1] . فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا أَخْبَرْتُمْ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ كَانَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ، فَكَيْفَ قال في وصفهم أَعْظَمُ دَرَجَةً مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْكُفَّارِ دَرَجَةٌ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا وَرَدَ عَلَى حَسَبِ مَا كَانُوا يُقَدِّرُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الدَّرَجَةِ وَالْفَضِيلَةِ عِنْدَ اللَّهِ، وَنَظِيرُهُ قوله: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النَّمْلِ: 59] وَقَوْلُهُ: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصَّافَّاتِ: 62] الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أن أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ كُلِّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا أَفْضَلَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَا كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَبِأَنْ لَا يُقَاسُوا إِلَى الْكُفَّارِ أَوْلَى. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُجَاهِدَ الْمُهَاجِرَ أَفْضَلُ مِمَّنْ عَلَى السِّقَايَةِ وَالْعِمَارَةِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَرْجِيحُ تِلْكَ الْأَعْمَالِ عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ السِّقَايَةَ وَالْعِمَارَةَ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، وَإِنَّمَا بَطَلَ إِيجَابُهُمَا لِلثَّوَابِ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ لِأَنَّ قِيَامَ الْكُفْرِ الذي هو أَعْظَمُ الْجِنَايَاتِ يَمْنَعُ ظُهُورَ ذَلِكَ الْأَثَرِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِالْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ وَهَذَا لِلْحَصْرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ بِالدَّرَجَةِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي وقعت الإشارة إليها بقوله تعالى: عند ربهم وَهِيَ دَرَجَةُ الْعِنْدِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَعَرَفَهُ فَقَلَّ أَنْ يَبْقَى قَلْبُهُ مُلْتَفِتًا إِلَى الدُّنْيَا، ثُمَّ عِنْدَ هَذَا يَحْتَالُ إِلَى إِزَالَةِ هَذِهِ الْعُقْدَةِ عَنْ جَوْهَرِ الرُّوحِ، وَإِزَالَةُ/ حُبِّ الدُّنْيَا لَا يَتِمُّ لَهُ إِلَّا بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ النَّفْسِ وَبَيْنَ لَذَّاتِ الدُّنْيَا، فَإِذَا دَامَ ذَلِكَ التَّفْرِيقُ وَانْتَقَصَ تَعَلُّقُهُ بِحُبِّ الدُّنْيَا، فَهَذَا التَّفْرِيقُ وَالنَّقْصُ يَحْصُلَانِ بِالْهِجْرَةِ ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَهُ لَا بُدَّ مِنَ اسْتِحْقَارِ الدُّنْيَا وَالْوُقُوفِ عَلَى مَعَايِبِهَا وَصَيْرُورَتِهَا فِي عَيْنِ الْعَاقِلِ بِحَيْثُ يُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ تَرْكَهَا وَرَفْضَهَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتِمُّ بِالْجِهَادِ لِأَنَّهُ تَعْرِيضُ النَّفْسِ وَالْمَالِ لِلْهَلَاكِ وَالْبَوَارِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ اسْتَحْقَرَ الدُّنْيَا وَإِلَّا لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ، وَعِنْدَ هَذَا يَتِمُّ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَهُوَ أَنَّ الْعِرْفَانَ مُبْتَدَأٌ مِنْ تَفْرِيقٍ وَنَقْصٍ وَتَرْكٍ وَرَفْضٍ، ثُمَّ عِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ الْحَالَةِ يَصِيرُ الْقَلْبُ مُشْتَغِلًا بِالنَّظَرِ إِلَى صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَفِي مُشَاهَدَتِهَا يَحْصُلُ بَذْلُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَيَصِيرُ الْإِنْسَانُ شَهِيدًا مُشَاهِدًا لِعَالَمِ الْجَلَالِ مُكَاشِفًا بِنُورِ الْجَلَالَةِ مَشْهُودًا لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعِنْدَ هَذَا يَحْصُلُ الِانْتِهَاءُ إِلَى حَضْرَةِ الْأَحَدِ الصَّمَدِ، وهو المراد من قوله: عند ربهم وَهُنَا يَحِقُّ الْوُقُوفُ فِي الْوُصُولِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْإِشَارَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ وَأَنَّهُ تَعَالَى ابْتَدَأَ فِيهَا بِالْأَشْرَفِ فَالْأَشْرَفِ، نَازِلًا إِلَى الْأَدْوَنِ فَالْأَدْوَنِ، وَنَحْنُ نُفَسِّرُهَا تَارَةً عَلَى طَرِيقِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأُخْرَى عَلَى طَرِيقَةِ الْعَارِفِينَ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ: فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى مِنْهَا وَهِيَ أَعْلَاهَا وَأَشْرَفُهَا كَوْنُ تِلْكَ الْبِشَارَةِ حَاصِلَةً مِنْ رَبِّهِمْ بِالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ، وَهَذَا هُوَ التَّعْظِيمُ وَالْإِجْلَالُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: وَجَنَّاتٍ لَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى حُصُولِ الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ وَقَوْلُهُ: فِيها نَعِيمٌ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِ الْمَنَافِعِ خَالِصَةً عَنِ الْمُكَدِّرَاتِ لِأَنَّ النَّعِيمَ مُبَالَغَةٌ فِي النِّعْمَةِ، وَلَا مَعْنَى لِلْمُبَالَغَةِ فِي النِّعْمَةِ إِلَّا خَلُوُّهَا عَنْ مُمَازَجَةِ الْكُدُورَاتِ وَقَوْلُهُ: مُقِيمٌ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهَا دَائِمَةً غَيْرَ مُنْقَطِعَةٍ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ عَنْ دَوَامِهَا بِثَلَاثِ عِبَارَاتٍ: أَوَّلُهَا: مُقِيمٌ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: أَبَداً فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى يُبَشِّرُ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ الْمُجَاهِدِينَ بِمَنْفَعَةٍ خَالِصَةٍ دَائِمَةٍ مَقْرُونَةٍ بِالتَّعْظِيمِ، وَذَلِكَ هُوَ حَدُّ الثَّوَابِ. وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِكَوْنِ هَذَا الثَّوَابِ كَامِلَ الدَّرَجَةِ عَالِيَ الرُّتْبَةِ بِحَسْبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْقُيُودِ الْأَرْبَعَةِ. وَمِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنْ قَالَ قَوْلُهُ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ الْمُرَادُ منه خيرات الدنيا وقوله: وَرِضْوانٍ لهم الْمُرَادُ مِنْهُ كَوْنُهُ تَعَالَى رَاضِيًا عَنْهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَقَوْلُهُ: وَجَنَّاتٍ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَنَافِعُ وَقَوْلُهُ: لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ الْمُرَادُ مِنْهُ كَوْنُ تِلْكَ النِّعَمِ خَالِصَةً عَنِ الْمُكَدِّرَاتِ، لِأَنَّ النَّعِيمَ مُبَالَغَةٌ فِي النِّعْمَةِ/ وَقَوْلُهُ: مُقِيمٌ خالِدِينَ فِيها أَبَداً الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِجْلَالُ وَالتَّعْظِيمُ الَّذِي يَجِبُ حُصُولُهُ فِي الثَّوَابِ. وَأَمَّا تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَارِفِينَ الْمُحِبِّينَ الْمُشْتَاقِينَ فَنَقُولُ: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى مِنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَرَحَ بِالنِّعْمَةِ يَقَعُ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَفْرَحَ بِالنِّعْمَةِ لِأَنَّهَا نِعْمَةٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَفْرَحَ بِهَا لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُنْعِمَ خَصَّهُ بِهَا وَشَرَّفَهُ وَإِنْ عَجَزَ ذِهْنُكَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ فَتَأَمَّلْ فِيمَا إِذَا كَانَ الْعَبْدُ وَاقِفًا فِي حَضْرَةِ السُّلْطَانِ الْأَعْظَمِ وَسَائِرُ الْعَبِيدِ كَانُوا وَاقِفِينَ فِي خِدْمَتِهِ، فَإِذَا رَمَى ذَلِكَ السُّلْطَانُ تُفَّاحَةً إِلَى أَحَدِ أُولَئِكَ الْعَبِيدِ عَظُمَ فَرَحُهُ بِهَا فَذَلِكَ الْفَرَحُ الْعَظِيمُ مَا حَصَلَ بِسَبَبِ حُصُولِ تِلْكَ التُّفَّاحَةِ، بَلْ بِسَبَبِ أَنَّ ذَلِكَ السلطان خصه بذلك الإكرام، فكذلك هاهنا. قَوْلُهُ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ فَرَحُهُمْ بِسَبَبِ الْفَوْزِ بِتِلْكَ الرَّحْمَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَفْرَحْ بِالْفَوْزِ بِتِلْكَ الرَّحْمَةِ، وَإِنَّمَا فَرِحَ لِأَنَّ مَوْلَاهُ خَصَّهُ بِتِلْكَ الرَّحْمَةِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فَرَحُهُ لَا بِالرَّحْمَةِ بَلْ بِمَنْ أَعْطَى الرَّحْمَةَ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمَقَامَ يَحْصُلُ فِيهِ أَيْضًا دَرَجَاتٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ فَرَحُهُ بِالرَّاحِمِ لِأَنَّهُ رَحِمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَغَّلُ فِي الْخُلُوصِ فَيَنْسَى الرَّحْمَةَ وَلَا يَكُونُ فَرَحُهُ إِلَّا بِالْمَوْلَى لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصِدُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَا دَامَ مَشْغُولًا بِالْحَقِّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رَاحِمٌ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ فِي الْحَقِّ، بَلْ تارة مع الحق وتارة مع الخلق، وفإذا تَمَّ الْأَمْرُ انْقَطَعَ عَنِ الْخَلْقِ وَغَرِقَ فِي بَحْرِ نُورِ الْحَقِّ وَغَفَلَ عَنِ الْمَحَبَّةِ وَالْمِحْنَةِ، وَالنِّقْمَةِ وَالنِّعْمَةِ، وَالْبَلَاءِ وَالْآلَاءِ، وَالْمُحَقِّقُونَ وَقَفُوا عِنْدَ قَوْلِهِ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ فَكَانَ ابْتِهَاجُهُمْ بِهَذَا وَسُرُورُهُمْ بِهِ وَتَعْوِيلُهُمْ عَلَيْهِ وَرُجُوعُهُمْ إِلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَةِ الْعَالِيَةِ فَلَا تَقْنَعُ نَفْسُهُ إِلَّا بِمَجْمُوعِ قَوْلِهِ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ فَلَا يَعْرِفُ أَنَّ الِاسْتِبْشَارَ بِسَمَاعِ قَوْلِ رَبِّهِمْ، بَلْ إِنَّمَا يَسْتَبْشِرُ بِمَجْمُوعِ كَوْنِهِ مُبَشَّرًا بِالرَّحْمَةِ، وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ أَنْ يَكُونَ اسْتِبْشَارُهُ بِالرَّحْمَةِ وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ النَّازِلَةُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ. وَاللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ لَطَائِفِ هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَنْوَاعٍ

[سورة التوبة (9) : آية 23]

مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْكَرَامَةِ. أَوَّلُهَا: أَنَّ الْبِشَارَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّ بِشَارَةَ كُلِّ أَحَدٍ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ لَائِقَةً بِحَالِهِ، فلما كان المبشر هاهنا هُوَ أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْبِشَارَةُ بِخَيْرَاتٍ تَعْجَزُ الْعُقُولُ عَنْ وَصْفِهَا وَتَتَقَاصَرُ الْأَفْهَامُ عَنْ نَعْتِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى نَفْسَهُ هاهنا بِالرَّبِّ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّرْبِيَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: الَّذِي رَبَّاكُمْ فِي الدُّنْيَا بِالنِّعَمِ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا وَلَا حَصْرَ لَهَا يُبَشِّرُكُمْ بِخَيْرَاتٍ عَالِيَةٍ وَسِعَادَاتٍ كَامِلَةٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: رَبُّهُمْ فَأَضَافَ نَفْسَهُ إِلَيْهِمْ، وَمَا أَضَافَهُمْ إِلَى نَفْسِهِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَهُمْ عَلَى ذكب نَفْسِهِ فَقَالَ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ وَالسَّادِسُ: أَنَّ الْبِشَارَةَ هِيَ الْإِخْبَارُ عَنْ حُدُوثِ/ شَيْءٍ مَا كَانَ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ، أَمَّا لَوْ كَانَ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ لَمْ يَكُنْ بِشَارَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا، لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ مَنْ يُبَشِّرُنِي مِنْ عَبِيدِي بِقُدُومِ وَلَدِي فَهُوَ حُرٌّ، فَأَوَّلُ مَنْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ الْخَبَرِ يُعْتَقُ، وَالَّذِينَ يُخْبِرُونَ بَعْدَهُ لَا يُعْتَقُونَ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ: يُبَشِّرُهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا عَنْ حُصُولِ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبَ السَّعَادَاتِ مَا عَرَفُوهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَجَمِيعُ لَذَّاتِ الْجَنَّةِ وَخَيْرَاتِهَا وَطَيِّبَاتِهَا قَدْ عَرَفُوهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَالْإِخْبَارِ عَنْ حُصُولِ بِشَارَةٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْبِشَارَةُ بِشَارَةً عَنْ سَعَادَاتٍ لَا تَصِلُ الْعُقُولُ إِلَى وَصْفِهَا أَلْبَتَّةَ. رَزَقَنَا اللَّهُ تَعَالَى الْوُصُولَ إِلَيْهَا بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بَيَّنَ الشَّيْءَ الَّذِي بِهِ يُبَشِّرُهُمْ وَهُوَ أُمُورٌ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَرِضْوانٍ وَأَنَا أَظُنُّ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً [الْفَجْرِ: 28] وَالرَّحْمَةُ كَوْنُ الْعَبْدِ رَاضِيًا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ الْحَالَةُ كَانَ نَظَرُهُ عَلَى الْمُبْلِي وَالْمُنْعِمِ لَا عَلَى النِّعْمَةِ وَالْبَلَاءِ، وَمَنْ كَانَ نَظَرُهُ عَلَى الْمُبْلِي وَالْمُنْعِمِ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ، لِأَنَّ الْمُبْلِيَ وَالْمُنْعِمَ مُنَزَّهٌ عَنِ التَّغَيُّرِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ حَالَهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنِ التَّغَيُّرِ، أَمَّا مَنْ كَانَ طَالِبًا لِمَحْضِ النَّفْسِ كَانَ أَبَدًا فِي التَّغَيُّرِ مِنَ الْفَرَحِ إِلَى الْحُزْنِ، وَمِنَ السُّرُورِ إِلَى الْغَمِّ، وَمِنَ الصِّحَّةِ إِلَى الْجِرَاحَةِ، وَمِنَ اللَّذَّةِ إِلَى الْأَلَمِ، فَثَبَتَ أَنَّ الرحمة التامة لا تحصل إلا عند ما يَصِيرُ الْعَبْدُ رَاضِيًا بِقَضَاءِ اللَّهِ فَقَوْلُهُ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ هُوَ أَنَّهُ يُزِيلُ عَنْ قَلْبِهِ الِالْتِفَاتَ إِلَى غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَيَجْعَلُهُ رَاضِيًا بِقَضَائِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَصِيرُ رَاضِيًا وَهُوَ قَوْلُهُ: وَرِضْوانٍ وَعِنْدَ هَذَا تَصِيرُ هَاتَانِ الْحَالَتَانِ هُمَا الْمَذْكُورَتَانِ فِي قَوْلِهِ: راضِيَةً مَرْضِيَّةً وهذه هي الجنة الروحانية النوانية الْعَقْلِيَّةُ الْقُدُسِيَّةُ الْإِلَهِيَّةُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذِهِ الْجَنَّةَ الْعَالِيَةَ الْمُقَدَّسَةَ ذَكَرَ الْجَنَّةَ الْجُسْمَانِيَّةَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ، وَلَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ وَالْمَقْصُودُ شَرْحُ تَعْظِيمِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَلْنَخْتِمْ هَذَا الْفَصْلَ بِبَيَانِ أَنَّ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ إِنَّ الْخُلُودَ يَدُلُّ عَلَى طُولِ الْمُكْثِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَلَوْ كَانَ الْخُلُودُ يُفِيدُ التَّأْبِيدَ، لَكَانَ ذِكْرُ التَّأْبِيدِ بَعْدَ ذِكْرِ الْخُلُودِ تِكْرَارًا وَأَنَّهُ لَا يجوز. [سورة التوبة (9) : آية 23] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ شُبْهَةٍ أُخْرَى ذَكَرُوهَا فِي أَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْكُفَّارِ غَيْرُ

[سورة التوبة (9) : آية 24]

مُمْكِنَةٍ وَتِلْكَ الشُّبْهَةُ أَنْ قَالُوا إِنَّ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ قَدْ يَكُونُ أَبُوهُ كَافِرًا وَالرَّجُلُ الْكَافِرُ قَدْ يَكُونُ أَبُوهُ أَوْ أَخُوهُ مُسْلِمًا، وَحُصُولُ الْمُقَاطَعَةِ التَّامَّةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَأَبِيهِ وَأَخِيهِ كَالْمُتَعَذَّرِ الْمُمْتَنِعِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَتْ تِلْكَ الْبَرَاءَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا، كَالشَّاقِّ الْمُمْتَنِعِ الْمُتَعَذَّرِ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ لِيُزِيلَ هَذِهِ الشُّبْهَةَ. وَنَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا أُمِرَ الْمُؤْمِنُونَ بِالْهِجْرَةِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ فَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ إِيمَانَهُ حَتَّى يُجَانِبَ الْآبَاءَ وَالْأَقَارِبَ إِنْ كَانُوا كُفَّارًا، قَالَ الْمُصَنِّفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا مُشْكِلٌ، لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ؟ وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّبَرِّي عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَبَالَغَ فِي إِيجَابِهِ، قَالُوا كَيْفَ تُمْكِنُ هَذِهِ الْمُقَاطَعَةُ التَّامَّةُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَأَخِيهِ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّ الِانْقِطَاعَ عَنِ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ وَالْإِخْوَانِ وَاجِبٌ بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَالِاسْتِحْبَابُ طَلَبُ الْمَحَبَّةِ يُقَالُ: اسْتَحَبَّ لَهُ، بِمَعْنَى أَحَبَّهُ، كَأَنَّهُ طَلَبَ مَحَبَّتَهُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ نَهَى عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ، وَكَانَ لَفْظُ النَّهْيِ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَهْيَ تَنْزِيهٍ وَأَنْ يَكُونَ نَهْيَ تَحْرِيمٍ، ذَكَرَ مَا يُزِيلُ الشُّبْهَةَ فَقَالَ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مُشْرِكًا مِثْلَهُمْ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِشِرْكِهِمْ، وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، كَمَا أَنَّ الرِّضَا بِالْفِسْقِ فِسْقٌ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا النَّهْيُ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَتَبَرَّأَ الْمَرْءُ مِنْ أَبِيهِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا لَا يَمْنَعُ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِ الْكَافِرِ وَمِنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي أعماله. [سورة التوبة (9) : آية 24] قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ تَقْرِيرُ الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُمْكِنُ الْبَرَاءَةُ مِنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ؟ وَإِنَّ هَذِهِ الْبَرَاءَةَ تُوجِبُ انْقِطَاعَنَا عَنْ آبَائِنَا وَإِخْوَانِنَا وَعَشِيرَتِنَا وَذَهَابَ تِجَارَتِنَا، وَهَلَاكَ أَمْوَالِنَا وَخَرَابَ دِيَارِنَا، وَإِبْقَاءَنَا ضَائِعِينَ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يَجِبُ تَحَمُّلُ جَمِيعِ هَذِهِ الْمَضَارِّ الدُّنْيَوِيَّةِ لِيَبْقَى الدِّينُ سَلِيمًا، وَذَكَرَ أَنَّهُ إِنْ كَانَتْ رِعَايَةُ هَذِهِ الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ عِنْدَكُمْ أَوْلَى مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَمِنَ الْمُجَاهَدَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَتَرَبَّصُوا بِمَا تُحِبُّونَ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، أَيْ بِعُقُوبَةٍ عَاجِلَةٍ أَوْ آجِلَةٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْوَعِيدُ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أَيِ الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ إِلَى مَعْصِيَتِهِ وَهَذَا أَيْضًا تَهْدِيدٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ مَصْلَحَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَبَيْنَ جَمِيعِ مُهِمَّاتِ الدُّنْيَا، وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِ تَرْجِيحُ الدِّينِ عَلَى الدُّنْيَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَوْلُهُ: وَعَشِيرَتُكُمْ عَشِيرَةُ الرَّجُلِ أَهْلُهُ الْأَدْنَوْنَ، وَهُمُ الَّذِينَ يُعَاشِرُونَهُ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَعَشِيرَاتُكُمْ بِالْجَمْعِ وَالْبَاقُونَ عَلَى الْوَاحِدِ. أَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْجَمْعِ، فَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ لَهُ عشيرة، فإذا جمعت قلت: عشيراتكم. ومن أفراد قَالَ الْعَشِيرَةُ وَاقِعَةٌ عَلَى الْجَمْعِ وَاسْتَغْنَى عَنْ جَمْعِهَا، وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ الْأَخْفَشَ قَالَ: لَا تَكَادُ الْعَرَبُ تَجْمَعُ عَشِيرَةً عَلَى عَشِيرَاتٍ إِنَّمَا يَجْمَعُونَهَا عَلَى عَشَائِرَ، وَقَوْلُهُ: وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها الِاقْتِرَافُ الِاكْتِسَابُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْأُمُورَ الدَّاعِيَةَ إِلَى مُخَالَطَةِ الْكُفَّارِ، وَهِيَ أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ: أَوَّلُهَا: مُخَالَطَةُ الْأَقَارِبِ، وَذَكَرَ

[سورة التوبة (9) : الآيات 25 إلى 27]

مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ عَلَى التَّفْصِيلِ وَهُمُ الْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ وَالْإِخْوَانُ وَالْأَزْوَاجُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْبَقِيَّةَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَهِيَ لَفْظُ الْعَشِيرَةِ. وَثَانِيهَا: الْمَيْلُ إِلَى إِمْسَاكِ الْأَمْوَالِ الْمُكْتَسَبَةِ. وَثَالِثُهَا: الرَّغْبَةُ فِي تَحْصِيلِ الْأَمْوَالِ بِالتِّجَارَةِ. وَرَابِعُهَا: الرَّغْبَةُ فِي الْمَسَاكِنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ تَرْتِيبٌ حَسَنٌ، فَإِنَّ أَعْظَمَ الْأَسْبَابِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الْمُخَالَطَةِ الْقَرَابَةُ ثُمَّ إِنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِتِلْكَ الْمُخَالَطَةِ إِلَى إِبْقَاءِ الْأَمْوَالِ الْحَاصِلَةِ ثُمَّ إِنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِالْمُخَالَطَةِ إِلَى اكْتِسَابِ الْأَمْوَالِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ حَاصِلَةٍ، وَفِي آخِرِ الْمَرَاتِبِ الرَّغْبَةُ فِي الْبِنَاءِ فِي الْأَوْطَانِ وَالدُّورِ الَّتِي بُنِيَتْ لِأَجْلِ السُّكْنَى، فَذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الْوَاجِبِ، وَبَيَّنَ بِالْآخِرَةِ أَنَّ رِعَايَةَ الدِّينِ خَيْرٌ مِنْ رعاية جملة هذه الأمور. [سورة التوبة (9) : الآيات 25 الى 27] لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) [في قَوْلُهُ تَعَالَى لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ] وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِعْرَاضُ عَنْ مُخَالَطَةِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْإِخَوَانِ وَالْعَشَائِرِ وَعَنِ الْأَمْوَالِ وَالتِّجَارَاتِ وَالْمَسَاكِنِ، رِعَايَةً لِمَصَالِحِ الدِّينِ، وَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا يَشُقُّ جِدًّا عَلَى النُّفُوسِ وَالْقُلُوبِ، ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الدُّنْيَا لِأَجْلِ الدِّينِ فَإِنَّهُ يُوصِلُهُ إِلَى مَطْلُوبِهِ مِنَ الدُّنْيَا أَيْضًا، وَضَرَبَ تَعَالَى لِهَذَا مَثَلًا، وَذَلِكَ أَنَّ عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي وَاقِعَةِ حُنَيْنٍ كَانُوا فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ وَالْقُوَّةِ، فَلَمَّا أُعْجِبُوا بِكَثْرَتِهِمْ صَارُوا مُنْهَزِمِينَ، ثُمَّ فِي حَالِ الِانْهِزَامِ لَمَّا تَضَّرَّعُوا إِلَى اللَّهِ قَوَّاهُمْ حَتَّى هَزَمُوا عَسْكَرَ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَتَى اعْتَمَدَ عَلَى الدُّنْيَا فَاتَهُ الدِّينُ وَالدُّنْيَا، وَمَتَى أَطَاعَ اللَّهَ وَرَجَّحَ الدِّينَ عَلَى الدُّنْيَا آتَاهُ اللَّهُ الدِّينَ وَالدُّنْيَا عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، فَكَانَ ذِكْرُ هَذَا تَسْلِيَةً لِأُولَئِكَ الَّذِينَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِمُقَاطَعَةِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْمَسَاكِنِ، لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الدِّينِ وَتَصْبِيرًا لَهُمْ عَلَيْهَا، وَوَعْدًا لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الرَّمْزِ بِأَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَاللَّهُ تَعَالَى يُوصِلُهُمْ إِلَى أَقَارِبِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، هَذَا تَقْرِيرُ النَّظْمِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: النَّصْرُ: الْمَعُونَةُ عَلَى الْعَدُوِّ خَاصَّةً، وَالْمُوَاطِنُ جَمْعُ مَوْطِنٍ، وَهُوَ/ كُلُّ مَوْضِعٍ أَقَامَ بِهِ الْإِنْسَانُ لِأَمْرٍ، فَعَلَى هَذَا: مَوَاطِنُ الحرب مقاماتها مواقفها وَامْتِنَاعُهَا مِنَ الصَّرْفِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ عَلَى صِيغَةٍ لَمْ يَأْتِ عَلَيْهَا وَاحِدٌ، وَالْمَوَاطِنُ الْكَثِيرَةُ غَزَوَاتُ رَسُولِ اللَّهِ. وَيُقَالُ: إِنَّهَا ثَمَانُونَ مَوْطِنًا، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي نَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ نَصَرَهُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَهُ. ثُمَّ قَالَ: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ أَيْ وَاذْكُرُوا يَوْمَ حُنَيْنٍ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ حال ما أعجبتكم كثرتكم. المسألة الثالثة: [في شأن نزول الآية] لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، وَقَدْ بَقِيَتْ أَيَّامٌ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، خَرَجَ مُتَوَجِّهًا إِلَى حُنَيْنٍ

لِقِتَالِ هَوَازِنَ وَثَقِيفٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ عَسْكَرِ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا عشر آلَافٍ الَّذِينَ حَضَرُوا مَكَّةَ، وَأَلْفَانِ مِنَ الطُّلَقَاءِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانُوا عَشَرَةَ آلَافٍ وَبِالْجُمْلَةِ فَكَانُوا عَدَدًا كَثِيرِينَ، وَكَانَ هَوَازِنُ وَثَقِيفٌ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، فَلَمَّا الْتَقَوْا قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: لَنْ تغلب الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ، فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ سَاءَتْ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ وَقِيلَ إِنَّهُ قَالَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ قَالَهَا أَبُو بَكْرٍ وَإِسْنَادُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّه مُنْقَطِعَ الْقَلْبِ عَنِ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَمَعْنَى الْإِغْنَاءِ إِعْطَاءُ مَا يَدْفَعُ الْحَاجَةَ فَقَوْلُهُ: فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً أَيْ لَمْ تُعْطِكُمْ شَيْئًا يَدْفَعُ حَاجَتَكُمْ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَغْلِبُونَ بِكَثْرَتِهِمْ، وَإِنَّمَا يَغْلِبُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ، فَلَمَّا أُعْجِبُوا بِكَثْرَتِهِمْ صَارُوا مُنْهَزِمِينَ، وَقَوْلُهُ: وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ يُقَالُ رَحُبَ يَرْحُبُ رَحْبًا وَرَحَابَةً، فقوله: بِما رَحُبَتْ أي يرحبها، ومعناه مع رحبها «فما» هنا مَعَ الْفِعْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ لِشِدَّةِ مَا لَحِقَكُمْ مِنَ الْخَوْفِ ضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ فَلَمْ تَجِدُوا فِيهَا مَوْضِعًا يَصْلُحُ لِفِرَارِكُمْ عَنْ عَدُوِّكُمْ. قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: كَانَتْ هَوَازِنُ رُمَاةً فَلَمَّا حَمَلْنَا عَلَيْهِمُ انْكَشَفُوا وَكَبَبْنَا عَلَى الْغَنَائِمِ فَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبُو سفيان بن الحرث قَالَ الْبَرَاءُ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُبُرَهُ قَطُّ، قَالَ: وَرَأَيْتُهُ وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بِالرِّكَابِ، وَالْعَبَّاسُ آخِذٌ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ وَهُوَ يَقُولُ: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» وَطَفِقَ يُرْكِضُ بَغْلَتَهُ نَحْوَ الْكُفَّارِ لَا يُبَالِي، وَكَانَتْ بَغْلَتُهُ شَهْبَاءَ، ثُمَّ قَالَ لِلْعَبَّاسِ: نَادِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ رَجُلًا صَيِّتًا، فَجَعَلَ يُنَادِي يَا عِبَادَ اللَّه يَا أَصْحَابَ الشَّجَرَةِ، يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَجَاءَ/ الْمُسْلِمُونَ حِينَ سَمِعُوا صَوْتَهُ عُنُقًا وَاحِدًا، وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ كَفًّا مِنَ الْحَصَى فَرَمَاهُمْ بِهَا وَقَالَ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ» فَمَا زَالَ أَمْرُهُمْ مُدْبِرًا، وَحَدُّهُمْ كَلِيلًا حَتَّى هَزَمَهُمُ اللَّه تَعَالَى، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدِ امْتَلَأَتْ عَيْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْكَثْرَةَ لَا تَنْفَعُ، وَأَنَّ الَّذِي أَوْجَبَ النَّصْرَ مَا كَانَ إِلَّا مِنَ اللَّه ذَكَرَ أُمُورًا ثَلَاثَةً: أَحَدُهَا: إِنْزَالُ السَّكِينَةِ وَالسَّكِينَةُ مَا يَسْكُنُ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَالنَّفْسُ، وَيُوجِبُ الْأَمَنَةَ وَالطُّمَأْنِينَةَ، وَأَظُنُّ وَجْهَ الِاسْتِعَارَةِ فِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا خَافَ فَرَّ وَفُؤَادُهُ مُتَحَرِّكٌ، وَإِذَا أَمِنَ سَكَنَ وَثَبَتَ، فَلَمَّا كَانَ الْأَمْنُ مُوجِبًا لِلسُّكُونِ جَعَلَ لَفْظَ السَّكِينَةِ كِنَايَةً عَنِ الْأَمْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ مَوْقُوفٌ عَلَى حُصُولِ الدَّاعِي، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الدَّاعِي، لَيْسَ إِلَّا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى. أَمَّا بَيَانُ الْأَوَّلِ: فَهُوَ أَنَّ حَالَ انْهِزَامِ الْقَوْمِ لَمْ تَحْصُلْ دَاعِيَةُ السُّكُونِ وَالثَّبَاتِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَحْصُلِ السُّكُونُ وَالثَّبَاتُ، بَلْ فَرَّ الْقَوْمُ وَانْهَزَمُوا وَلَمَّا حَصَلَتِ السَّكِينَةُ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ دَاعِيَةِ السُّكُونِ وَالثَّبَاتِ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ الله على الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَثَبَتُوا عِنْدَهُ وَسَكَنُوا فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْفِعْلِ مَوْقُوفٌ عَلَى حُصُولِ الدَّاعِيَةِ. وَأَمَّا بَيَانُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ حُصُولَ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ صَرِيحٌ.

[سورة التوبة (9) : آية 28]

قوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَالْعَقْلُ أَيْضًا دَلَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُصُولُ ذَلِكَ الدَّاعِي فِي الْقَلْبِ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ، لَتَوَقَّفَ عَلَى حُصُولِ دَاعٍ آخَرَ وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَهُوَ مُحَالٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَمْرُ الثَّانِي الَّذِي فَعَلَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ إِنْزَالُ الْمَلَائِكَةِ، وَلَيْسَ فِي الظَّاهِرِ مَا يَدُلُّ على عدد الْمَلَائِكَةِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَمَدَّ اللَّهُ نَبِيَّهَ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْعَدَدَ قِيَاسًا عَلَى يَوْمِ بَدْرٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ كَانَ فِي الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَالَ: لَمَّا كَشَفْنَا الْمُسْلِمِينَ جَعَلْنَا نَسُوقُهُمْ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى صَاحِبِ الْبَغْلَةِ الشَّهْبَاءِ، تَلَقَّانَا رِجَالٌ بِيضُ الْوُجُوهِ حِسَانٌ، فَقَالُوا شَاهَتِ الْوُجُوهُ ارْجِعُوا فَرَجَعْنَا فَرَكِبُوا أَكْتَافَنَا، وَأَيْضًا اخْتَلَفُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ هَلْ قَاتَلُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ؟ وَالرِّوَايَةُ الَّتِي نَقَلْنَاهَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَاتَلُوا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ مَا قَاتَلُوا إِلَّا يَوْمَ بَدْرٍ وَأَمَّا فَائِدَةُ نُزُولِهِمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَهُوَ إِلْقَاءُ الْخَوَاطِرِ الْحَسَنَةِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَهَذَا هُوَ الْأَمْرُ الثَّالِثُ الَّذِي فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّعْذِيبِ قَتْلُهُمْ وَأَسْرُهُمْ وَأَخْذُ أَمْوَالِهِمْ وَسَبْيُ ذَرَارِيِّهِمْ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذَا عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقُ اللَّهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّعْذِيبِ لَيْسَ إِلَّا الْأَخْذَ وَالْأَسْرَ وَهُوَ تَعَالَى نَسَبَ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ إِلَى نَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَصَارَ مَجْمُوعُ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ دَلِيلًا بَيِّنًا ثَابِتًا، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّمَا نَسَبَ تَعَالَى ذَلِكَ الْفِعْلَ إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِأَمْرِهِ، وَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. ثُمَّ قَالَ: وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ وَالْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ التَّعْذِيبَ هُوَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْحَقِيقَةِ تَمَسَّكُوا فِي مَسْأَلَةِ الْجَلْدِ مَعَ التَّعْزِيرِ بِقَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النُّورِ: 2] قَالُوا الْفَاءُ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْجَلْدِ جَزَاءً، وَالْجَزَاءُ اسْمٌ لِلْكَافِي، وَكَوْنُ الْجَلْدِ كَافِيًا يَمْنَعُ كَوْنَ غَيْرِهِ مَشْرُوعًا مَعَهُ فَنَقُولُ: فِي الْجَوَابِ عَنْهُ الْجَزَاءُ لَيْسَ اسْمًا لِلْكَافِي، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى هَذَا التَّعْذِيبَ جَزَاءً، مَعَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْعُقُوبَةَ الدَّائِمَةَ فِي الْقِيَامَةِ مُدَّخَرَةٌ لَهُمْ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ لَيْسَ اسْمًا لِمَا يَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ يَعْنِي أَنَّ مَعَ كُلِّ مَا جَرَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْخِذْلَانِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ. قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ تعالى قد يتوب على تعضهم بِأَنْ يُزِيلَ عَنْ قَلْبِهِ الْكُفْرَ وَيَخْلُقَ فِيهِ الْإِسْلَامَ. قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ فَإِنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ جَرَى عَلَيْهِمْ مَا جَرَى، إِذَا أَسْلَمُوا وَتَابُوا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ التَّوْبَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ لَهُمْ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ في قوله: فَتابَ عَلَيْهِ [البقرة: 37] ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ غَفُورٌ لِمَنْ تَابَ، رَحِيمٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا. والله أعلم. [سورة التوبة (9) : آية 28] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) [في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي قُلُوبِ الْقَوْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَ عَلِيًّا

أَنْ يَقْرَأَ عَلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ، أَوَّلَ سُورَةِ بَرَاءَةَ وَيَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، قَالَ أُنَاسٌ يَا أَهْلَ مَكَّةَ سَتَعْلَمُونَ مَا تَلْقَوْنَهُ مِنَ الشِّدَّةِ لِانْقِطَاعِ السُّبُلِ وَفَقْدِ الْحُمُولَاتِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لِدَفْعِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا بِقَوْلِهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أَيْ فَقْرًا وَحَاجَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَهَذَا وَجْهُ النَّظْمِ وَهُوَ حَسَنٌ مُوَافِقٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ لَفْظُ الْمُشْرِكِينَ يَتَنَاوَلُ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ. وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْكُفَّارِ وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَصَحَّحْنَا هَذَا الْقَوْلَ بِالدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ، وَالَّذِي يفيد هاهنا التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 116] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ بَاطِلٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : النَّجَسُ مَصْدَرُ نَجِسَ نَجَسًا وَقَذِرَ قَذَرًا، وَمَعْنَاهُ ذُو نَجَسٍ. وَقَالَ اللَّيْثُ: النَّجَسُ الشَّيْءُ الْقَذِرُ مِنَ النَّاسِ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَرَجُلٌ نَجِسٌ، وَقَوْمٌ أَنْجَاسٌ، وَلُغَةٌ أُخْرَى رَجُلٌ نَجِسٌ وَقَوْمٌ نُجْسٌ وَفُلَانٌ نَجِسٌ وَرَجُلٌ نَجَسٌ وَامْرَأَةٌ نَجَسٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ كَوْنِ الْمُشْرِكِ نَجَسًا نَقَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَعْيَانَهُمْ نَجِسَةٌ كَالْكِلَابِ وَالْخَنَازِيرِ، وَعَنِ الْحَسَنِ مَنْ صَافَحَ مُشْرِكًا تَوَضَّأَ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْهَادِي مِنْ أَئِمَّةِ الزَّيْدِيَّةِ، وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى طَهَارَةِ أَبْدَانِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ أَنْجَاسًا فَلَا يُرْجَعُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَلَا يُمْكِنُ ادِّعَاءُ الْإِجْمَاعِ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ حَاصِلٌ. وَاحْتَجَّ الْقَاضِي عَلَى طَهَارَتِهِمْ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ مِنْ أَوَانِيهِمْ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ جِسْمُهُ نَجِسًا لَمْ يُبَدَّلْ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ. وَالْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَجَابُوا عَنْهُ: بِأَنَّ الْقُرْآنَ أَقْوَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ صِحَّةِ الْخَبَرِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ حِلَّ الشُّرْبِ مِنْ أَوَانِيهِمْ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَيْضًا كَانَتِ الْمُخَالَطَةُ مَعَ الْكُفَّارِ جَائِزَةً فَحَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَتِ الْمُعَاهَدَاتُ مَعَهُمْ حَاصِلَةً فَأَزَالَهَا اللَّهُ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا الشُّرْبُ مِنْ أَوَانِيهِمْ كَانَ جَائِزًا فَحَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ حِلُّ الشُّرْبِ مِنْ أَيِّ إِنَاءٍ كَانَ، فَلَوْ قُلْنَا: إِنَّهُ حُرِّمَ بِحُكْمِ الْآيَةِ ثُمَّ حَلَّ بِحُكْمِ الْخَبَرِ فَقَدْ حَصَلَ نَسْخَانِ. أما إذا قلنا: إنه كان حلالا بِحُكْمِ الْأَصْلِ، وَالرَّسُولُ شَرِبَ مِنْ آنِيَتِهِمْ بِحُكْمِ الْأَصْلِ، ثُمَّ جَاءَ التَّحْرِيمُ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَحْصُلِ النَّسْخُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَوْلَى. أَمَّا قَوْلُ الْقَاضِي: لَوْ كَانَ الْكَافِرُ نَجِسَ الْجِسْمِ لَمَا تَبَدَّلَتِ النَّجَاسَةُ بِالطَّهَارَةِ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُعَارَضَةِ النَّصِّ الصَّرِيحِ، وَأَيْضًا أَنَّ أَصْحَابَ هَذَا الْمَذْهَبِ/ يَقُولُونَ إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاغْتِسَالُ إِزَالَةً لِلنَّجَاسَةِ الْحَاصِلَةِ بِحُكْمِ الْكُفْرِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الْقَوْلِ، وَأَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ حَكَمُوا بِكَوْنِ الْكَافِرِ طَاهِرًا فِي جِسْمِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يَغْتَسِلُونَ مِنَ الْجَنَابَةِ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ مِنَ الْحَدَثِ. الثَّانِي: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ النَّجِسِ فِي وُجُوبِ النُّفْرَةِ عَنْهُ، الثَّالِثُ: أَنَّ كُفْرَهُمُ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ النَّجَاسَةِ الْمُلْتَصِقَةِ بِالشَّيْءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَعْضَاءُ الْمُحْدِثِ نَجِسَةٌ نَجَاسَةً حُكْمِيَّةً وَبَنَوْا عَلَيْهِ أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي الْوُضُوءِ وَالْجَنَابَةِ نَجِسٌ. ثُمَّ رَوَى أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً، وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: أَنَّهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ طَاهِرٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّ كَلِمَةَ «إِنَّمَا» لِلْحَصْرِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا نَجَسَ إِلَّا الْمُشْرِكُ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّ أَعْضَاءَ الْمُحْدِثِ نَجِسَةٌ مُخَالِفٌ لِهَذَا النَّصِّ، وَالْعَجَبُ أَنَّ هَذَا النَّصَّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُشْرِكَ نَجَسٌ وَفِي أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَيْسَ بِنَجَسٍ، ثُمَّ إِنَّ قَوْمًا مَا قَلَبُوا الْقَضِيَّةَ وَقَالُوا الْمُشْرِكُ طَاهِرٌ وَالْمُؤْمِنُ حَالَ كَوْنِهِ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا نَجِسٌ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْمِيَاهَ الَّتِي اسْتَعْمَلَهَا الْمُشْرِكُونَ فِي أَعْضَائِهِمْ بَقِيَتْ طَاهِرَةً مُطَهِّرَةً: وَالْمِيَاهَ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا أَكَابِرُ الْأَنْبِيَاءِ فِي أَعْضَائِهِمْ نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً، وَهَذَا مِنَ الْعَجَائِبِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ الْقَوْلَ بِطَهَارَةِ أَعْضَاءِ الْمُسْلِمِ قوله عليه السلام: «المؤمن لا ينجس حيا وَلَا مَيِّتًا» فَصَارَ هَذَا الْخَبَرُ مُطَابِقًا لِلْقُرْآنِ، ثُمَّ الِاعْتِبَارَاتُ الْحُكْمِيَّةُ طَابَقَتِ الْقُرْآنَ، وَالْأَخْبَارَ فِي هَذَا الْبَابِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ إِنْسَانًا لَوْ حَمَلَ مُحْدِثًا فِي صَلَاتِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَلَوْ كَانَتْ يَدُهُ رَطْبَةً فَوَصَلَتْ إِلَى يَدِ مُحْدِثٍ لَمْ تَنْجُسْ يَدُهُ وَلَوْ عَرِقَ الْمُحْدِثُ وَوَصَلَتْ تِلْكَ النَّدَاوَةُ إِلَى ثَوْبِهِ لَمْ يَنْجُسْ ذَلِكَ الثَّوْبُ، فَالْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ وَالْإِجْمَاعُ تَطَابَقَتْ عَلَى الْقَوْلِ بِطَهَارَةِ أَعْضَاءِ الْمُحْدِثِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ مُخَالَفَتُهُ، وَشُبْهَةُ الْمُخَالِفِ أَنَّ الْوُضُوءَ يُسَمَّى طَهَارَةً وَالطَّهَارَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ سَبْقِ النَّجَاسَةِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي إِزَالَةِ الْأَوْزَارِ وَالْآثَامِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ أَهْلِ الْبَيْتِ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الْأَحْزَابِ: 33] وَلَيْسَتْ هَذِهِ الطَّهَارَةُ إِلَّا عَنِ الْآثَامِ وَالْأَوْزَارِ وَقَالَ فِي صِفَةِ مَرْيَمَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ [آلِ عِمْرَانَ: 42] وَالْمُرَادُ تَطْهِيرُهَا عَنِ التُّهْمَةِ الْفَاسِدَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: جَاءَتِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ فِي أَنَّ الْوُضُوءَ تَطْهِيرُ الْأَعْضَاءِ عَنِ الْآثَامِ/ وَالْأَوْزَارِ، فَلَمَّا فَسَّرَ الشَّارِعُ كَوْنَ الْوُضُوءِ طَهَارَةً بِهَذَا الْمَعْنَى، فَمَا الَّذِي حَمَلَنَا عَلَى مُخَالَفَتِهِ، وَالذَّهَابِ إِلَى شَيْءٍ يُبْطِلُ الْقُرْآنَ وَالْأَخْبَارَ وَالْأَحْكَامَ الْإِجْمَاعِيَّةَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: الْكُفَّارُ يُمْنَعُونَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَاصَّةً، وَعِنْدَ مَالِكٍ: يُمْنَعُونَ مِنْ كُلِّ الْمَسَاجِدِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يُمْنَعُونَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلَا مِنْ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَالْآيَةُ بِمَنْطُوقِهَا تُبْطِلُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَبِمَفْهُومِهَا تُبْطِلُ قَوْلَ مَالِكٍ، أَوْ نَقُولُ الْأَصْلُ عَدَمُ الْمَنْعِ، وَخَالَفْنَاهُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِهَذَا النَّصِّ الصَّرِيحِ الْقَاطِعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى فِي غَيْرِهِ عَلَى وِفْقِ الْأَصْلِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هَلْ هُوَ نَفْسُ الْمَسْجِدِ أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ جَمِيعُ الْحَرَمِ؟ وَالْأَقْرَبُ هُوَ هَذَا الثَّانِي. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَوْضِعَ التِّجَارَاتِ لَيْسَ هُوَ عَيْنَ الْمَسْجِدِ، فَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْمَنْعَ مِنَ الْمَسْجِدِ خَاصَّةً لَمَا خَافُوا بِسَبَبِ هَذَا الْمَنْعِ مِنَ الْعَيْلَةِ، وَإِنَّمَا يَخَافُونَ الْعَيْلَةَ إِذَا مُنِعُوا مِنْ حُضُورِ الْأَسْوَاقِ وَالْمَوَاسِمِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ حَسَنٌ مِنَ الْآيَةِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الْقَوْلُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الْإِسْرَاءِ: 1] مَعَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا رُفِعَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ وَأَيْضًا يَتَأَكَّدُ هَذَا بِمَا رُوِيَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: الْحَرَمُ حَرَامٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ بِمَكَّةَ، فَجَاءَ رَسُولُ الْمُشْرِكِينَ فَلْيَخْرُجْ إِلَى الْحِلِّ لِاسْتِمَاعِ الرِّسَالَةِ، وَإِنْ دَخَلَ مُشْرِكٌ الْحَرَمَ مُتَوَارِيًا فَمَرِضَ فِيهِ أَخْرَجْنَاهُ مَرِيضًا، وَإِنْ مَاتَ وَدُفِنَ وَلُمْ يُعْلَمْ نَبَشْنَاهُ وَأَخْرَجْنَا عِظَامَهُ إِذَا أَمْكَنَ.

[سورة التوبة (9) : آية 29]

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا السَّنَةُ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا النِّدَاءُ بِالْبَرَاءَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهِيَ السَّنَةُ التَّاسِعَةُ مِنَ الْهِجْرَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً وَالْعَيْلَةُ الْفَقْرُ يُقَالُ: عَالَ الرَّجُلُ يَعِيلُ عَيْلَةً إِذَا افْتَقَرَ، وَالْمَعْنَى: إِنْ خِفْتُمْ فَقْرًا بِسَبَبِ مَنْعِ الْكُفَّارِ فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْفَضْلِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: أَسْلَمَ أَهْلُ جُدَّةَ وَصَنْعَاءَ وَحُنَيْنٍ، وَحَمَلُوا الطَّعَامَ إِلَى مَكَّةَ وَكَفَاهُمُ اللَّهُ الْحَاجَةَ إِلَى مُبَايَعَةِ الْكُفَّارِ. وَالثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ: جَعَلَ اللَّهُ ما يوجد من الجرية بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: أَغْنَاهُمْ بِالْفَيْءِ. الثَّالِثُ: قَالَ عِكْرِمَةُ: أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ، وَكَثُرَ خَيْرُهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِخْبَارٌ عَنْ غَيْبٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ فِي حَادِثَةٍ عَظِيمَةٍ، وَقَدْ وَقَعَ الْأَمْرُ مُطَابِقًا لِذَلِكَ الْخَبَرِ فَكَانَ مُعْجِزَةً. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ شاءَ وَلِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ فَيَقُولَ: الْغَرَضُ بِهَذَا الْخَبَرِ إِزَالَةُ الْخَوْفِ بِالْعَيْلَةِ، وَهَذَا الشَّرْطُ يَمْنَعُ مِنْ إِفَادَةِ هَذَا الْمَقْصُودِ، وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَحْصُلَ الِاعْتِمَادُ عَلَى حُصُولِ هَذَا الْمَطْلُوبِ، فَيَكُونَ الْإِنْسَانُ أَبَدًا مُتَضَرِّعًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي طَلَبِ الْخَيْرَاتِ وَدَفْعِ الْآفَاتِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الشَّرْطِ تَعْلِيمُ رِعَايَةِ الْأَدَبِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الْفَتْحِ: 27] الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ حُصُولَ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَكُونُ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ وَفِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ فِي دُعَائِهِ: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ [الْبَقَرَةِ: 126] وَكَلِمَةُ «مِنْ» تُفِيدُ التَّبْعِيضَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنْ شاءَ المراء مِنْهُ ذَلِكَ التَّبْعِيضُ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أَيْ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِكُمْ، وَحَكِيمٌ لَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ إِلَّا عَنْ حِكْمَةٍ وَصَوَابٍ، والله أعلم. [سورة التوبة (9) : آية 29] قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) [في قَوْلُهُ تَعَالَى قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إلى قوله أُوتُوا الْكِتابَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الْمُشْرِكِينَ فِي إِظْهَارِ الْبَرَاءَةِ عَنْ عَهْدِهِمْ، وَفِي إِظْهَارِ الْبَرَاءَةِ عَنْهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَفِي وُجُوبِ مُقَاتَلَتِهِمْ، وَفِي تَبْعِيدِهِمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَوْرَدَ الْإِشْكَالَاتِ الَّتِي ذَكَرُوهَا، وَأَجَابَ عَنْهَا بِالْجَوَابَاتِ الصَّحِيحَةِ ذَكَرَ بَعْدَهُ حُكْمَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُوَ أَنْ يُقَاتَلُوا إِلَى أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، فَحِينَئِذٍ يُقَرُّونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ بِشَرَائِطَ، وَيَكُونُونَ عِنْدَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْعَهْدِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إِذَا كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِصِفَاتٍ أَرْبَعَةٍ، وَجَبَتْ مُقَاتَلَتُهُمْ إِلَى أَنْ يُسْلِمُوا، أَوْ إِلَى أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ. فَالصِّفَةُ الْأُولَى: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ يَقُولُونَ: نَحْنُ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ إِلَّا أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ أَكْثَرَ الْيَهُودِ مُشَبِّهَةٌ، وَالْمُشَبِّهُ يَزْعُمُ أَنْ لَا مَوْجُودَ إِلَّا الْجِسْمُ وَمَا يَحِلُّ فِيهِ فَأَمَّا الْمَوْجُودُ الَّذِي لَا يَكُونُ جِسْمًا وَلَا

حَالًّا فِيهِ فَهُوَ مُنْكِرٌ لَهُ، وَمَا ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ أَنَّ الْإِلَهَ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا حَالًّا فِي جِسْمٍ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُشَبِّهُ مُنْكِرًا لِوُجُودِ الْإِلَهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْيَهُودَ مُنْكِرُونَ لِوُجُودِ الْإِلَهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْيَهُودُ قِسْمَانِ: مِنْهُمْ مُشَبِّهَةٌ، وَمِنْهُمْ مُوَحِّدَةٌ، كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَذَلِكَ فَهَبْ أَنَّ الْمُشَبِّهَةَ مِنْهُمْ مُنْكِرُونَ لِوُجُودِ الْإِلَهِ، فَمَا قَوْلُكُمْ فِي مُوَحِّدَةِ الْيَهُودِ؟ قُلْنَا: أُولَئِكَ لَا يَكُونُونَ دَاخِلِينَ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَكِنَّ إِيجَابَ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُقَالَ: لَمَّا ثَبَتَ وُجُوبُ الْجِزْيَةِ عَلَى بَعْضِهِمْ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ فِي حَقِّ الْكُلِّ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. وَأَمَّا النَّصَارَى: فَهُمْ يَقُولُونَ: بِالْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُنَافِي الْإِلَهِيَّةَ. فَإِنْ قِيلَ: حَاصِلُ الْكَلَامِ: أَنَّ كُلَّ مَنْ نَازَعَ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، كَانَ مُنْكِرًا لِوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ تَقُولُوا: إِنَّ أَكْثَرَ الْمُتَكَلِّمِينَ مُنْكِرُونَ لِوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ اخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا شَدِيدًا فِي هَذَا الْبَابِ، فَالْأَشْعَرِيُّ أَثْبَتَ الْبَقَاءَ صِفَةً، وَالْقَاضِي أَنْكَرَهُ، وَعَبْدُ اللَّه بْنُ سَعِيدٍ أَثْبَتَ الْقِدَمَ صِفَةً، وَالْبَاقُونَ أَنْكَرُوهُ، وَالْقَاضِي أَثْبَتَ إِدْرَاكَ الطُّعُومِ، وَإِدْرَاكَ الرَّوَائِحِ، وَإِدْرَاكَ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى فِي حَقِّ الْبَشَرِ بِإِدْرَاكِ الشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَاللَّمْسِ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ أَنْكَرَهُ، وَأَثْبَتَ الْقَاضِي لِلصِّفَاتِ السَّبْعِ أَحْوَالًا سَبْعَةً مُعَلَّلَةً بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَنُفَاةُ الْأَحْوَالِ أَنْكَرُوهُ، وَعَبْدُ اللَّه بْنُ سَعِيدٍ زَعَمَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ في الأول مَا كَانَ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا وَلَا خَبَرًا، ثُمَّ صَارَ ذَلِكَ فِي الْإِنْزَالِ، وَالْبَاقُونَ أَنْكَرُوهُ، وَقَوْمٌ مِنْ قُدَمَاءِ الْأَصْحَابِ أَثْبَتُوا لِلَّهِ خَمْسَ كَلِمَاتٍ، فِي الْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ، وَالْخَبَرِ، وَالِاسْتِخْبَارِ، وَالنِّدَاءِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ هَلْ هُوَ مَقْدُورٌ أَمْ لَا؟ فَثَبَتَ بِهَذَا حُصُولُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ، وَأَمَّا اخْتِلَافَاتُ الْمُعْتَزِلَةِ وَسَائِرِ الْفِرَقِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُمْكِنَ ذِكْرُهُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ فِي الصِّفَاتِ مُوجِبًا إِنْكَارَ الذَّاتِ أَوْ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ؟ فَإِنْ أَوْجَبَهُ لَزِمَ فِي أَكْثَرِ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْإِلَهَ، وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَهَابِ بَعْضِ الْيَهُودِ وَذَهَابِ النَّصَارَى إِلَى الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ كَوْنُهُمْ مُنْكِرِينَ لِلْإِيمَانِ باللَّه، وَأَيْضًا فَمَذْهَبُ النَّصَارَى أَنَّ أُقْنُومَ الْكَلِمَةِ حَلَّ فِي عِيسَى، وَحَشْوِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ مَنْ قَرَأَ/ كَلَامَ اللَّهِ فَالَّذِي يَقْرَؤُهُ هُوَ عَيْنُ كَلَامِ تَعَالَى، وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّهُ صِفَةُ اللَّهِ يَدْخُلُ فِي لِسَانِ هَذَا الْقَارِئِ وَفِي لِسَانِ جَمِيعِ الْقُرَّاءِ، وَإِذَا كُتِبَ كَلَامُ اللَّهِ فِي جِسْمٍ فَقَدْ حَلَّ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْجِسْمِ فَالنَّصَارَى إِنَّمَا أَثْبَتُوا الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ فِي حَقِّ عِيسَى. وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْحَمْقَى فَأَثْبَتُوا كَلِمَةَ اللَّهِ فِي كُلِّ إِنْسَانٍ قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَفِي كُلِّ جِسْمٍ كُتِبَ فِيهِ الْقُرْآنُ، فَإِنْ صَحَّ فِي حَقِّ النَّصَارَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ باللَّه بِهَذَا السَّبَبِ، وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ الْحُرُوفِيَّةِ وَالْحُلُولِيَّةِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ باللَّه، فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذَا السُّؤَالِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ إِنَّ الْإِلَهَ جِسْمٌ فَهُوَ مُنْكِرٌ لِلْإِلَهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا حَالٍّ فِي الْجِسْمِ، فَإِذَا أَنْكَرَ الْمُجَسِّمُ هَذَا الْمَوْجُودَ فَقَدْ أَنْكَرَ ذَاتَ الْإِلَهِ تَعَالَى، فَالْخِلَافُ بَيْنَ الْمُجَسِّمِ وَالْمُوَحِّدِ لَيْسَ فِي الصِّفَةِ، بَلْ فِي الذَّاتِ، فَصَحَّ فِي الْمُجَسِّمِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ باللَّه أَمَّا الْمَسَائِلُ الَّتِي حَكَيْتُمُوهَا فَهِيَ اخْتِلَافَاتٌ فِي الصِّفَةِ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ. وَأَمَّا إِلْزَامُ مَذْهَبِ الْحُلُولِيَّةِ وَالْحُرُوفِيَّةِ، فَنَحْنُ نُكَفِّرُهُمْ قَطْعًا،

فَإِنَّهُ تَعَالَى كَفَّرَ النَّصَارَى بِسَبَبِ أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا حُلُولَ كَلِمَةِ اللَّهِ فِي عِيسَى وَهَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا حُلُولَ كَلِمَةِ اللَّهِ فِي أَلْسِنَةِ جَمِيعِ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَفِي جَمِيعِ الْأَجْسَامِ الَّتِي كُتِبَ فِيهَا الْقُرْآنُ، فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ بِالْحُلُولِ فِي حَقِّ الذَّاتِ الْوَاحِدَةِ يُوجِبُ التَّكْفِيرَ، فَلِأَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِالْحُلُولِ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَجْسَامِ مُوجِبًا لِلْقَوْلِ بِالتَّكْفِيرِ كَانَ أَوْلَى. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ صِفَاتِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: إِنْكَارُ الْبَعْثِ الْجُسْمَانِيِّ، فَكَأَنَّهُمْ يَمِيلُونَ إِلَى الْبَعْثِ الرُّوحَانِيِّ. وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنْوَاعَ السَّعَادَاتِ وَالشَّقَّاوَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَدَلَّلْنَا عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِهَا وَبَيَّنَّا دَلَالَةَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ عَلَيْهَا، إِلَّا أَنَّا مَعَ ذَلِكَ نُثْبِتُ السَّعَادَاتِ وَالشَّقَّاوَاتِ الْجُسْمَانِيَّةَ، وَنَعْتَرِفُ بِأَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ أَهْلَ الْجَنَّةِ، بِحَيْثُ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَبِالْجَوَارِي يَتَمَتَّعُونَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْحَشْرَ وَالْبَعْثَ الْجُسْمَانِيَّ، فَقَدْ أَنْكَرَ صَرِيحَ الْقُرْآنِ، وَلَمَّا كَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مُنْكِرِينَ لِهَذَا الْمَعْنَى، ثَبَتَ كَوْنُهُمْ مُنْكِرِينَ لِلْيَوْمِ الْآخِرِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ صِفَاتِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ لَا يُحَرِّمُونَ مَا حُرِّمَ فِي الْقُرْآنِ وَسُنَّةِ الرَّسُولِ. وَالثَّانِي: قَالَ أَبُو رَوْقٍ: لَا يَعْمَلُونَ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، بَلْ حَرَّفُوهُمَا وَأَتَوْا بِأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يُقَالُ: فُلَانٌ يَدِينُ بِكَذَا، إِذَا اتَّخَذَهُ دِينًا فَهُوَ مُعْتَقَدُهُ، فَقَوْلُهُ: وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أَيْ لَا يَعْتَقِدُونَ فِي صِحَّةِ دِينِ/ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ الدِّينُ الْحَقُّ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعَةَ قَالَ: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعَةِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْمَقْصُودُ تَمْيِيزُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحُكْمِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْمُشْرِكِينَ الْقِتَالُ أَوِ الْإِسْلَامُ، وَالْوَاجِبُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الْقِتَالُ أَوِ الْإِسْلَامُ أَوِ الْجِزْيَةُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْجِزْيَةُ هِيَ مَا يُعْطِي الْمَعَاهَدُ عَلَى عَهْدِهِ، وَهِيَ فِعْلَةٌ مِنْ جَزَى يَجْزِي إِذَا قَضَى مَا عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: عَنْ يَدٍ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَوْلُهُ: عَنْ يَدٍ إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ يَدُ الْمُعْطِي أَوْ يَدُ الْآخِذِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُعْطِيَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عَنْ يَدٍ مُؤَاتِيَةٍ غَيْرِ مُمْتَنِعَةٍ، لِأَنَّ مَنْ أَبَى وَامْتَنَعَ لَمْ يُعْطِ يَدَهُ بِخِلَافِ الْمُطِيعِ الْمُنْقَادِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: أَعْطَى يَدَهُ إِذَا انْقَادَ وَأَطَاعَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ نَزَعَ يَدَهُ عَنِ الطَّاعَةِ، كَمَا يُقَالُ: خَلَعَ رِبْقَةَ الطَّاعَةِ مِنْ عُنُقِهِ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حَتَّى يُعْطُوهَا عَنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ نَقْدًا غَيْرَ نَسِيئَةٍ وَلَا مَبْعُوثًا عَلَى يَدِ أَحَدٍ، بَلْ عَلَى يَدِ الْمُعْطِي إِلَى يَدِ الْآخِذِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ يَدَ الْآخِذِ فَفِيهِ أَيْضًا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ قَاهِرَةٍ مُسْتَوْلِيَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ كَمَا تَقُولُ: الْيَدُ فِي هَذَا لِفُلَانٍ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عَنْ إِنْعَامٍ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ وَتَرْكَ أَرْوَاحِهِمْ عَلَيْهِمْ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهُمْ صاغِرُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى الصَّغَارِ وَالذُّلِّ وَالْهَوَانِ بِأَنْ يَأْتِيَ بِهَا بِنَفْسِهِ مَاشِيًا غَيْرَ رَاكِبٍ، وَيُسَلِّمَهَا وَهُوَ قَائِمٌ وَالْمُتَسَلِّمُ جَالِسٌ وَيُؤْخَذُ بِلِحْيَتِهِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَدِّ الْجِزْيَةَ وَإِنْ كَانَ

يُؤَدِّيهَا وَيُزَجُّ فِي قَفَاهُ، فَهَذَا مَعْنَى الصَّغَارِ. وقيل: معنى الصغار هاهنا هُوَ نَفْسُ إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، وَلِلْفُقَهَاءِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ مِنْ تَوَابِعِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ. الْحُكْمُ الْأَوَّلُ اسْتَدْلَلْتُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ وَالْوَجْهُ فِي تَقْرِيرِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: «قَاتِلُوهُمْ» يَقْتَضِي إِيجَابَ مُقَاتَلَتِهِمْ، وَذَلِكَ مُشْتَمِلٌ عَلَى إِبَاحَةِ قَتْلِهِمْ وَعَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِسَبَبِ قَتْلِهِمْ، فَلَمَّا قَالَ: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ عَلِمْنَا أَنَّ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ قَدِ انْتَهَتْ عِنْدَ إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، وَيَكْفِي فِي انْتِهَاءِ الْمَجْمُوعِ ارْتِفَاعُ أَحَدِ أَجْزَائِهِ، فَإِذَا ارْتَفَعَ وُجُوبُ قَتْلِهِ وَإِبَاحَةُ دَمِهِ، فَقَدِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ الْمَجْمُوعُ، وَلَا حَاجَةَ فِي ارْتِفَاعِ الْمَجْمُوعِ إِلَى ارْتِفَاعِ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْمَجْمُوعِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: قاتلوا الموصوفين مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِقَتْلِهِمْ وَقَوْلُهُ: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ لَا يُوجِبُ ارْتِفَاعَ ذَلِكَ الْحُكْمِ، لِأَنَّهُ كَفَى فِي انْتِهَاءِ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ انْتِهَاءُ أَحَدِ أَجْزَائِهِ وَهُوَ وُجُوبُ قَتْلِهِمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ عَدَمُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ كَمَا كَانَ. الْحُكْمُ الثَّانِي الْكُفَّارُ فَرِيقَانِ، فَرِيقٌ عَبْدَةُ الْأَوْثَانِ وَعَبَدَةُ مَا اسْتَحْسَنُوا، فَهَؤُلَاءِ لَا يُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ، وَيَجِبُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، وَفَرِيقٌ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالسَّامِرَةُ وَالصَّابِئُونَ، وَهَذَانَ الصِّنْفَانِ سَبِيلُهُمْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ سَبِيلُ أَهْلِ الْبِدَعِ فِينَا، وَالْمَجُوسُ أَيْضًا سَبِيلُهُمْ سَبِيلُ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، فَهَؤُلَاءِ يَجِبُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ وَيُعَاهِدُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ لَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعَةَ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ قَيَّدَهُمْ بِكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَإِثْبَاتُ ذَلِكَ الحكم في غير هم يَقْتَضِي إِلْغَاءَ هَذَا الْقَيْدِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. الْحُكْمُ الثَّالِثُ فِي قَدْرِ الْجِزْيَةِ. قَالَ أَنَسٌ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ دِينَارًا، وَقَسَمَ عُمَرُ عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ اثْنَيْ عشر درهما، وعلى الأوسط أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَعَلَى أَهْلِ الثَّرْوَةِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَأَقَلُّ الْجِزْيَةِ دِينَارٌ، وَلَا يُزَادُ عَلَى الدِّينَارِ إِلَّا بِالتَّرَاضِي، فَإِذَا رَضُوا وَالْتَزَمُوا الزِّيَادَةَ ضَرَبْنَا عَلَى الْمُتَوَسِّطِ دِينَارَيْنِ، وَعَلَى الْغَنِيِّ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا: أَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ أَخْذِ مَالِ الْمُكَلَّفِ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى يُعْطُوا

[سورة التوبة (9) : آية 30]

الْجِزْيَةَ يَدُلُّ عَلَى أَخْذِ شَيْءٍ، فَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ هُوَ الْقَدْرُ الْأَقَلُّ، فَيَجُوزُ أَخْذُهُ وَالزَّائِدُ عَلَيْهِ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْجِزْيَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحُرْمَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَيْهَا. الْحُكْمُ الرَّابِعُ تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السَّنَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِهَا. الْحُكْمُ الْخَامِسُ تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ بِالْإِسْلَامِ وَالْمَوْتِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ جِزْيَةٌ» وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَسْقُطُ. الْحُكْمُ السَّادِسُ قَالَ أَصْحَابُنَا: هَؤُلَاءِ إِنَّمَا أُقِرُّوا عَلَى دِينِهِمُ الْبَاطِلِ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ حُرْمَةً لِآبَائِهِمُ الَّذِينَ انْقَرَضُوا عَلَى الْحَقِّ مِنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَأَيْضًا مَكَّنَّاهُمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَرُبَّمَا يَتَفَكَّرُونَ فَيَعْرِفُونَ صِدْقَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُبُوَّتِهِ، فَأُمْهِلُوا لِهَذَا الْمَعْنَى وَاللَّهُ أعلم. وبقي هاهنا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَانَ ابْنُ الرَّاوِنْدِيِّ يَطْعَنُ فِي الْقُرْآنِ وَيَقُولُ: إِنَّهُ ذَكَرَ فِي تَعْظِيمِ كُفْرِ النَّصَارَى قَوْلَهُ: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً [مَرْيَمَ: 90- 92] فَبَيَّنَ أَنَّ إِظْهَارَهُمْ لِهَذَا الْقَوْلِ بَلَغَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا أَخَذَ مِنْهُمْ دِينَارًا وَاحِدًا قَرَّرَهُمْ عَلَيْهِ وَمَا مَنَعَهُمْ مِنْهُ. وَالْجَوَابُ: لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ أَخْذِ الْجِزْيَةِ تَقْرِيرُهُ عَلَى الْكُفْرِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهَا حَقْنُ دَمِهِ وَإِمْهَالُهُ مُدَّةً، رَجَاءَ أَنَّهُ رُبَّمَا وَقَفَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَقُوَّةِ دَلَائِلِهِ، فَيَنْتَقِلُ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يَكْفِي فِي حَقْنِ الدَّمِ دَفْعُ الْجِزْيَةِ أَمْ لَا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ إِلْحَاقِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ لِلْكُفْرِ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ طَبْعَ الْعَاقِلِ يَنْفِرُ عَنْ تَحَمُّلِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ، فَإِذَا أُمْهِلَ الْكَافِرُ مُدَّةً وَهُوَ يُشَاهِدُ عِزَّ الْإِسْلَامِ وَيَسْمَعُ دَلَائِلَ صِحَّتِهِ، وَيُشَاهِدُ الذُّلَّ وَالصَّغَارَ فِي الْكُفْرِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الِانْتِقَالِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَهَذَا هو المقصود من شرع الجزية. [سورة التوبة (9) : آية 30] وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ باللَّه، شَرَحَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَذَلِكَ بِأَنْ نَقَلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا للَّه ابْنًا، وَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْإِلَهِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ قد

أَنْكَرَ الْإِلَهَ، وَأَيْضًا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي الشِّرْكِ، وَإِنْ كَانَتْ طُرُقُ الْقَوْلِ بِالشِّرْكِ مُخْتَلِفَةً، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ يَعْبُدُ الصَّنَمَ وَبَيْنَ مَنْ يَعْبُدُ الْمَسِيحَ وَغَيْرَهُ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلشِّرْكِ إِلَّا أَنْ يَتَّخِذَ الْإِنْسَانُ مَعَ اللَّهِ مَعْبُودًا، فَإِذَا حَصَلَ هَذَا الْمَعْنَى فَقَدْ حَصَلَ الشِّرْكُ، بَلْ إِنَّا لَوْ تَأَمَّلْنَا لَعَلِمْنَا أَنَّ كُفْرَ عَابِدِ الْوَثَنِ أَخَفُّ مِنْ كُفْرِ النَّصَارَى، لَأَنَّ عَابِدَ الْوَثَنِ لَا يَقُولُ إِنَّ هَذَا الْوَثَنَ خَالِقُ الْعَالَمِ وَإِلَهُ الْعَالَمِ، بَلْ يُجْرِيهِ مَجْرَى الشَّيْءِ الَّذِي يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ. أَمَّا النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ وَذَلِكَ كُفْرٌ قَبِيحٌ جِدًّا، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْحُلُولِيَّةِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا خَصَّهُمْ بِقَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ فِي الظَّاهِرِ أَلْصَقُوا أَنْفُسَهُمْ بموسى وعيسى، وادعى أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَلِأَجْلِ تَعْظِيمِ هَذَيْنِ الرَّسُولَيْنِ الْمُعَظَّمَيْنِ وَتَعْظِيمِ كِتَابَيْهِمَا وَتَعْظِيمِ أَسْلَافِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ، حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ، وَإِلَّا فَفِي الْحَقِيقَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: إِنَّمَا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنَ الْيَهُودِ اسْمُهُ فِنْحَاصُ بْنُ عَازُورَاءَ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ: أَتَى جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ: سَلَّامُ بْنُ مِشْكَمٍ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ أَوْفَى، وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، وَقَالُوا: كَيْفَ نَتَّبِعُكَ وَقَدْ تركت قبلتنا، ولا تزعم أن عزيزا ابْنُ اللَّهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ بَعْضُ الْيَهُودِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ نَسَبَ ذَلِكَ الْقَوْلَ إِلَى الْيَهُودِ بِنَاءً عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي إِيقَاعِ اسْمِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ، يُقَالُ فُلَانٌ يَرْكَبُ الْخُيُولَ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَرْكَبْ إِلَّا وَاحِدًا مِنْهَا، وَفُلَانٌ يُجَالِسُ السَّلَاطِينَ وَلَعَلَّهُ لَا يُجَالِسُ إِلَّا وَاحِدًا. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: لَعَلَّ هَذَا الْمَذْهَبَ كَانَ فَاشِيًا فِيهِمْ ثُمَّ انْقَطَعَ، فَحَكَى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَلَا عِبْرَةَ بِإِنْكَارِ الْيَهُودِ ذَلِكَ، فَإِنَّ حِكَايَةَ اللَّهِ عَنْهُمْ أَصْدَقُ. وَالسَّبَبُ الَّذِي لِأَجْلِهِ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْيَهُودَ أَضَاعُوا التَّوْرَاةَ وَعَمِلُوا بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَأَنْسَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى التَّوْرَاةَ وَنَسَخَهَا مِنْ صُدُورِهِمْ فَتَضَرَّعَ عزيز إِلَى اللَّهِ وَابْتَهَلَ إِلَيْهِ فَعَادَ حِفْظُ التَّوْرَاةِ إِلَى قَلْبِهِ، فَأَنْذَرَ قَوْمَهُ بِهِ، فَلَمَّا جَرَّبُوهُ وَجَدُوهُ صَادِقًا فِيهِ، فَقَالُوا مَا تَيَسَّرَ هَذَا لِعُزَيْرٍ إِلَّا أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَتَلَ بُخَتُنَصَّرُ عُلَمَاءَهُمْ فَلَمْ يَبْقَ/ فِيهِمْ أَحَدٌ يَعْرِفُ التَّوْرَاةَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْعَمَالِقَةُ قَتَلُوهُمْ فَلَمْ يَبْقَ فِيهِمْ أَحَدٌ يَعْرِفُ التَّوْرَاةَ، فَهَذَا مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَأَمَّا حِكَايَةُ اللَّهِ عَنِ النَّصَارَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، فَهِيَ ظَاهِرَةٌ لَكِنْ فِيهَا إِشْكَالٌ قَوِيٌّ، وَهِيَ أَنَّا نَقْطَعُ أَنَّ الْمَسِيحَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ كَانُوا مُبَرَّئِينَ مِنْ دَعْوَةِ النَّاسِ إِلَّا الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ، فَإِنَّ هَذَا أَفْحَشُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِأَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ؟ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُعْقَلُ إِطْبَاقُ جُمْلَةِ مُحِبِّي عِيسَى مِنَ النَّصَارَى عَلَى هَذَا الْكُفْرِ، وَمَنِ الَّذِي وَضَعَ هَذَا الْمَذْهَبَ الْفَاسِدَ، وَكَيْفَ قَدِرَ عَلَى نِسْبَتِهِ إِلَى الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: إِنَّ أَتْبَاعَ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ بَعْدَ رَفْعِ عِيسَى حَتَّى وَقَعَ حَرْبٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ، وَكَانَ فِي الْيَهُودِ رَجُلٌ شُجَاعٌ يُقَالُ لَهُ بُولَسُ قَتَلَ جَمْعًا مِنْ أَصْحَابِ عِيسَى، ثُمَّ قَالَ لِلْيَهُودِ إِنْ كَانَ الْحَقُّ مَعَ عِيسَى فَقَدْ كَفَرْنَا وَالنَّارُ مَصِيرُنَا وَنَحْنُ مَغْبُونُونَ إِنْ دَخَلُوا الْجَنَّةَ وَدَخَلْنَا النار، وإني أحتال فأضلهم، فعوقب فَرَسَهُ وَأَظْهَرَ النَّدَامَةَ مِمَّا كَانَ يَصْنَعُ وَوَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ التُّرَابَ وَقَالَ: نُودِيتُ مِنَ السَّمَاءِ لَيْسَ لَكَ تَوْبَةٌ إِلَّا أَنْ تَتَنَصَّرَ، وَقَدْ تُبْتُ فَأَدْخَلَهُ النَّصَارَى الْكَنِيسَةَ وَمَكَثَ سَنَةً لَا يَخْرُجُ وَتَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَ فَصَدَّقُوهُ وَأَحَبُّوهُ، ثُمَّ مَضَى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ

وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا اسْمُهُ نَسْطُورُ، وَعَلَّمَهُ أَنَّ عِيسَى وَمَرْيَمَ وَالْإِلَهَ كَانُوا ثَلَاثَةً، وَتَوَجَّهَ إِلَى الرُّومِ وَعَلَّمَهُمُ اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ، وَقَالَ: مَا كَانَ عِيسَى إِنْسَانًا وَلَا جِسْمًا وَلَكِنَّهُ اللَّهُ، وَعَلَّمَ رَجُلًا آخَرَ يُقَالُ لَهُ يَعْقُوبُ ذَلِكَ، ثُمَّ دَعَا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مَلَكَا فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْإِلَهَ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ عِيسَى، ثُمَّ دَعَا لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ وَقَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْتَ خَلِيفَتِي فَادْعُ النَّاسَ إِلَى إِنْجِيلِكَ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ عِيسَى فِي الْمَنَامِ وَرَضِيَ عَنِّي، وإني غدا أذبح نفس لِمَرْضَاةِ عِيسَى، ثُمَّ دَخَلَ الْمَذْبَحَ فَذَبَحَ نَفْسَهُ، ثُمَّ دَعَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ النَّاسَ إِلَى قَوْلِهِ وَمَذْهَبِهِ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي وُقُوعِ هَذَا الْكُفْرِ فِي طَوَائِفِ النَّصَارَى، هَذَا مَا حَكَاهُ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ لَعَلَّهُ وَرَدَ لَفْظُ الِابْنِ فِي الْإِنْجِيلِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ، كَمَا وَرَدَ لَفْظُ الْخَلِيلِ فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ، ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ لِأَجْلِ عَدَاوَةِ الْيَهُودِ وَلِأَجْلِ أَنْ يُقَابِلُوا غُلُوَّهُمُ الْفَاسِدَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ بِغُلُوٍّ فَاسِدٍ فِي الطَّرَفِ الثَّانِي، فَبَالَغُوا وَفَسَّرُوا لَفْظَ الِابْنِ بِالْبُنُوَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْجُهَّالُ، قَبِلُوا ذَلِكَ، وَفَشَا هَذَا الْمَذْهَبُ الْفَاسِدُ فِي أَتْبَاعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيٌّ وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو عُزَيْرٌ بِالتَّنْوِينِ وَالْبَاقُونَ بِغَيْرِ التَّنْوِينِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْوَجْهُ إِثْبَاتُ التَّنْوِينُ. فَقَوْلُهُ: عُزَيْرٌ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: ابْنُ اللَّهِ خَبَرُهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّنْوِينِ فِي حَالِ السِّعَةِ لِأَنَّ عُزَيْرًا يَنْصَرِفُ سَوَاءٌ كَانَ أَعْجَمِيًّا أَوْ عَرَبِيًّا، وَسَبَبُ كَوْنِهِ مُنْصَرِفًا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْمٌ خَفِيفٌ فَيَنْصَرِفُ، وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا كَهُودٍ وَلُوطٍ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى صِيغَةِ التَّصْغِيرِ وَأَنَّ الْأَسْمَاءَ الْأَعْجَمِيَّةَ لَا تُصَغَّرُ، وَأَمَّا الَّذِينَ تَرَكُوا التَّنْوِينَ فَلَهُمْ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ وَمَعْرِفَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: ابْنُ صِفَةٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ مَعْبُودُنَا، وَطَعَنَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ فِي هَذَا الْوَجْهِ فِي كِتَابِ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» ، وَقَالَ الِاسْمُ إِذَا وُصِفَ بِصِفَةٍ ثُمَّ أُخْبِرَ عَنْهُ فَمَنْ كَذَّبَهُ انْصَرَفَ التَّكْذِيبُ إِلَى الْخَبَرِ، وَصَارَ ذَلِكَ الْوَصْفُ مُسَلَّمًا فَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْإِنْكَارِ هُوَ قَوْلَهُمْ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ مَعْبُودُنَا، لَتَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ إِلَى كَوْنِهِ مَعْبُودًا لَهُمْ، وَحَصَلَ كَوْنُهُ ابْنًا للَّه، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ، وَهَذَا الطَّعْنُ عِنْدِي ضَعِيفٌ. أَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ ذَاتٍ مَوْصُوفَةٍ بِصِفَةٍ بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ وَأَنْكَرَهُ مُنْكِرٌ، تَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ إِلَى الْخَبَرِ فَهَذَا مُسَلَّمٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَكُونُ ذَلِكَ تَسْلِيمًا لِذَلِكَ الْوَصْفِ فَهَذَا مَمْنُوعٌ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مُكَذِّبًا لِذَلِكَ الْخَبَرِ بِالتَّكْذِيبِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ مَا سِوَاهُ لَا يُكَذِّبُهُ بَلْ يُصَدِّقُهُ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى دَلِيلِ الْخِطَابِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: نُونُ التَّنْوِينِ سَاكِنَةٌ مِنْ عُزَيْرٌ، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: ابْنُ اللَّهِ ساكنة فحصل هاهنا الْتِقَاءُ السَّاكِنَيْنِ، فَحُذِفَ نُونُ التَّنْوِينِ لِلتَّخْفِيفِ، وَأَنْشَدَ الفراء: فألفيته غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ... وَلَا ذَاكِرَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ بِهَذِهِ الْحِكَايَةِ قَالَ: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ كُلَّ قَوْلٍ إِنَّمَا يُقَالُ بِالْفَمِ فَمَا مَعْنَى تَخْصِيصِهِمْ لِهَذَا الْقَوْلِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُرَادَ بِهِ قَوْلٌ لَا يُعَضِّدُهُ بُرْهَانٌ فَمَا هُوَ إِلَّا لَفْظٌ يَفُوهُونَ بِهِ فَارِغٌ مِنْ مَعْنًى مُعْتَبَرٍ لِحَقِّهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ قَالُوا بِاللِّسَانِ قَوْلًا، وَلَكِنْ لَمْ يَحْصُلْ عِنْدَ الْعَقْلِ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ أَثَرٌ، لأن إثبات

[سورة التوبة (9) : آية 31]

الْوَلَدِ لِلْإِلَهِ مَعَ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَاجَةِ وَالشَّهْوَةِ وَالْمُضَاجَعَةِ وَالْمُبَاضَعَةِ قَوْلٌ بَاطِلٌ، لَيْسَ عِنْدَ الْعَقْلِ مِنْهُ أَثَرٌ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آلِ عمران: 167] وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَخْتَارُ مَذْهَبًا إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ الرَّمْزِ وَالتَّعْرِيضِ، فَإِذَا صَرَّحَ بِهِ وَذَكَرَهُ بِلِسَانِهِ، فَذَلِكَ هُوَ الْغَايَةُ فِي اخْتِيَارِهِ لِذَلِكَ الْمَذْهَبِ، وَالنِّهَايَةُ فِي كَوْنِهِ ذَاهِبًا إِلَيْهِ قَائِلًا بِهِ. وَالْمُرَادُ هاهنا أَنَّهُمْ يُصَرِّحُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ وَلَا يُخْفُونَهُ الْبَتَّةَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ دَعَوُا الْخَلْقَ إِلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ حَتَّى وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ فِي الْأَفْوَاهِ وَالْأَلْسِنَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ مُبَالَغَتُهُمْ فِي دَعْوَةِ الخلق إلى المذهب. ثم قال تعالى: يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يُضَاهِي قَوْلَ الْمُشْرِكِينَ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ لِلنَّصَارَى أَيْ قَوْلُهُمُ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ يُضَاهِي قَوْلَ الْيَهُودِ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ أَقْدَمُ مِنْهُمْ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنَ النَّصَارَى يُضَاهِي قَوْلَ قُدَمَائِهِمْ، يَعْنِي أَنَّهُ كُفْرٌ قَدِيمٌ، فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحْدَثٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُضَاهَاةُ: الْمُشَابَهَةُ. قَالَ الْفَرَّاءُ يُقَالُ ضَاهَيْتُهُ ضَهِيًّا وَمُضَاهَاةً، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي الْمُضَاهَاةِ. وَقَالَ شِمْرٌ: الْمُضَاهَاةُ: الْمُتَابَعَةُ، يُقَالُ: فُلَانٌ يُضَاهِي فُلَانًا أَيْ يُتَابِعُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثالثة: قرأ عاصم يُضاهِؤُنَ بِالْهَمْزَةِ وَبِكَسْرِ الْهَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ وَضَمِّ الْهَاءِ، يُقَالُ ضَاهَيْتُهُ وَضَاهَأْتُهُ لُغَتَانِ مِثْلَ أَرَجِيتُ وَأَرْجَأْتُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى لَمْ يُتَابِعْ عَاصِمًا أَحَدٌ عَلَى الْهَمْزَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أَيْ هُمْ أَحِقَّاءُ بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ تَعَجُّبًا مِنْ بَشَاعَةِ قَوْلِهِمْ كَمَا يُقَالُ الْقَوْمُ رَكِبُوا سَبُعًا، قَاتَلَهُمُ اللَّهُ مَا أَعْجَبَ فِعْلَهُمْ! أَنَّى يُؤْفَكُونَ الْإِفْكُ الصَّرْفُ يُقَالُ أَفِكَ الرَّجُلُ عَنِ الْخَيْرِ، أَيْ قُلِبَ وَصُرِفَ، وَرَجُلٌ مَأْفُوكٌ أَيْ مَصْرُوفٌ عَنِ الْخَيْرِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنَّى يُؤْفَكُونَ مَعْنَاهُ كَيْفَ يُصَدُّونَ وَيُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ وُضُوحِ الدَّلِيلِ، حَتَّى يَجْعَلُوا لِلَّهِ وَلَدًا! وَهَذَا التَّعَجُّبُ إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْخَلْقِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَتَعَجَّبُ مِنْ شَيْءٍ، وَلَكِنَّ هَذَا الْخِطَابَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى عَجَّبَ نَبِيَّهُ مِنْ تَرْكِهِمُ الْحَقَّ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى الباطل. [سورة التوبة (9) : آية 31] اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) [في قَوْلُهُ تَعَالَى اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِضَرْبٍ آخَرَ مِنَ الشِّرْكِ بِقَوْلِهِ: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْأَحْبَارُ: الْفُقَهَاءُ، وَاخْتَلَفُوا فِي وَاحِدِهِ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ حَبْرٌ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ حِبْرٌ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: لَا أَدْرِي أَهُوَ الْحَبْرُ أَوِ الْحِبْرُ؟ وَكَانَ أَبُو الْهَيْثَمِ يَقُولُ وَاحِدُ الْأَحْبَارِ حَبْرٌ بِالْفَتْحِ لَا غَيْرَ، وَيُنْكِرُ الْكَسْرَ، وَكَانَ اللَّيْثُ وَابْنُ السِّكِّيتِ يَقُولَانِ حَبْرٌ وَحِبْرٌ لِلْعَالِمِ ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ مُسْلِمًا، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي الْحَبْرُ الْعَالِمُ الَّذِي بِصِنَاعَتِهِ يُحَبِّرُ الْمَعَانِيَ، وَيُحْسِنُ الْبَيَانَ عَنْهَا. وَالرَّاهِبُ الَّذِي تَمَكَّنَتِ الرَّهْبَةُ وَالْخَشْيَةُ فِي قَلْبِهِ وَظَهَرَتْ آثَارُ الرَّهْبَةِ عَلَى وَجْهِهِ وَلِبَاسِهِ. وَفِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ، صَارَ الْأَحْبَارُ

[سورة التوبة (9) : آية 32]

مُخْتَصًّا بِعُلَمَاءِ الْيَهُودِ مِنْ وَلَدِ هَارُونَ، وَالرُّهْبَانُ بِعُلَمَاءِ النَّصَارَى أَصْحَابِ الصَّوَامِعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَكْثَرُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَرْبَابِ أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا فِيهِمْ أَنَّهُمْ آلِهَةُ الْعَالَمِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي أَوَامِرِهِمْ وَنَوَاهِيهِمْ، نُقِلَ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ كَانَ نَصْرَانِيًّا فَانْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ بَرَاءَةَ، فَوَصَلَ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ: فَقُلْتُ: لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ فَقَالَ: «أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ» فَقُلْتُ: بَلَى قَالَ: «فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ» وَقَالَ الرَّبِيعُ: قُلْتُ لِأَبِي الْعَالِيَةِ كَيْفَ كَانَتْ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ فَقَالَ: إِنَّهُمْ رُبَّمَا وَجَدُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا يُخَالِفُ أَقْوَالَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ، فَكَانُوا يَأْخُذُونَ بِأَقْوَالِهِمْ وَمَا كَانُوا يَقْبَلُونَ حُكْمَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ شَيْخُنَا وَمَوْلَانَا خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ وَالْمُجْتَهِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدْ شَاهَدْتُ جَمَاعَةً مِنْ مُقَلِّدَةِ الْفُقَهَاءِ، قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ آيَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، وَكَانَتْ مَذَاهِبُهُمْ بِخِلَافِ تِلْكَ الْآيَاتِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا تِلْكَ الْآيَاتِ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا وَبَقُوا يَنْظُرُونَ إِلَيَّ كَالْمُتَعَجِّبِ، يَعْنِي كَيْفَ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ سَلَفِنَا وَرَدَتْ عَلَى خِلَافِهَا، وَلَوْ تَأَمَّلْتَ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَجَدْتَ هَذَا الدَّاءَ سَارِيًا فِي عُرُوقِ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَفَّرَهُمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ أَطَاعُوا الْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ فَالْفَاسِقُ يُطِيعُ الشَّيْطَانَ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِكُفْرِهِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ الْخَوَارِجِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْفَاسِقَ، وَإِنْ كَانَ يَقْبَلُ دَعْوَةَ الشَّيْطَانِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُعَظِّمُهُ لَكِنْ يَلْعَنُهُ، وَيَسْتَخِفُّ بِهِ أَمَّا أُولَئِكَ الْأَتْبَاعُ كَانُوا يَقْبَلُونَ قَوْلَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ وَيُعَظِّمُونَهُمْ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الرُّبُوبِيَّةِ أَنَّ الْجُهَّالَ وَالْحَشْوِيَّةَ إِذَا بَالَغُوا فِي تَعْظِيمِ شَيْخِهِمْ وَقُدْوَتِهِمْ، فَقَدْ يَمِيلُ طَبْعُهُمْ إِلَى الْقَوْلِ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَذَلِكَ الشَّيْخُ إِذَا كَانَ طَالِبًا لِلدُّنْيَا بَعِيدًا عَنِ الدِّينِ، فَقَدْ يُلْقِي إِلَيْهِمْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا يَقُولُونَ وَيَعْتَقِدُونَ، وَشَاهَدْتُ بَعْضَ الْمُزَوِّرِينَ مِمَّنْ كَانَ/ بَعِيدًا عَنِ الدِّينِ كَانَ يَأْمُرُ أَتْبَاعَهُ وَأَصْحَابَهُ بِأَنْ يَسْجُدُوا لَهُ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ أَنْتُمْ عَبِيدِي، فَكَانَ يُلْقِي إِلَيْهِمْ مِنْ حَدِيثِ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ أَشْيَاءَ، وَلَوْ خَلَا بِبَعْضِ الْحَمْقَى مِنْ أَتْبَاعِهِ، فَرُبَّمَا ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ، فَإِذَا كَانَ مُشَاهَدًا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَكَيْفَ يَبْعُدُ ثُبُوتُهُ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ؟ وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِيمَا كَانُوا مُخَالِفِينَ فِيهِ لِحُكْمِ اللَّهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا أَنَّهُمْ قَبِلُوا أَنْوَاعَ الْكُفْرِ، فَكَفَرُوا باللَّه، فَصَارَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى أَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا فِي حَقِّهِمُ الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ. وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ مُشَاهَدٌ وَوَاقِعٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ نَاطِقَةٌ بِذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ سُبْحَانَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْأَمْرِ وَالتَّكْلِيفِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي كَوْنِهِ مَسْجُودًا وَمَعْبُودًا، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي وُجُوبِ نِهَايَةِ التَّعْظِيمِ والإجلال. [سورة التوبة (9) : آية 32] يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32)

[سورة التوبة (9) : آية 33]

اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ بَيَانُ نَوْعٍ ثَالِثٍ مِنَ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ الصَّادِرَةِ عَنْ رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهُوَ سَعْيُهُمْ فِي إِبْطَالِ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَدُّهُمْ فِي إِخْفَاءِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ شَرْعِهِ وَقُوَّةِ دِينِهِ، وَالْمُرَادُ مِنَ النُّورِ: الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَهِيَ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا. أَحَدُهَا: الْمُعْجِزَاتُ الْقَاهِرَةُ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدِهِ، فَإِنَّ الْمُعْجِزَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى الصِّدْقِ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى الصِّدْقِ، فَحَيْثُ ظَهَرَ الْمُعْجِزُ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الصِّدْقِ، فَوَجَبَ كَوْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقًا، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الصِّدْقِ قَدَحَ ذَلِكَ فِي نُبُوَّةِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَثَانِيهَا: الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي ظَهَرَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهِ إِلَى آخِرِهِ مَا تَعَلَّمَ وَمَا طَالَعَ وَمَا اسْتَفَادَ وَمَا نَظَرَ فِي كِتَابٍ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعْجِزَاتِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ/ حَاصِلَ شَرِيعَتِهِ تَعْظِيمُ اللَّهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ، وَالِانْقِيَادُ لِطَاعَتِهِ وَصَرْفُ النَّفْسِ عَنْ حُبِّ الدُّنْيَا، وَالتَّرْغِيبُ فِي سَعَادَاتِ الْآخِرَةِ. وَالْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى اللَّهِ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ شَرْعَهُ كَانَ خَالِيًا عَنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ، فَلَيْسَ فِيهِ إِثْبَاتُ مَا لَا يَلِيقُ باللَّه، وَلَيْسَ فِيهِ دَعْوَةٌ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَقَدْ مَلَكَ الْبِلَادَ الْعَظِيمَةَ، وَمَا غَيَّرَ طَرِيقَتَهُ فِي اسْتِحْقَارِ الدُّنْيَا، وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ طَلَبَ الدُّنْيَا لَمَا بَقِيَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ دَلَائِلُ نَيِّرَةٌ وَبَرَاهِينُ قَاهِرَةٌ فِي صِحَّةِ قَوْلِهِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ بِكَلِمَاتِهِمُ الرَّكِيكَةِ وَشُبُهَاتِهِمُ السَّخِيفَةِ، وَأَنْوَاعِ كَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ، أَرَادُوا إِبْطَالَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ، فَكَانَ هَذَا جَارِيًا مَجْرَى مَنْ يُرِيدُ إِبْطَالَ نُورِ الشَّمْسِ بِسَبَبِ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا، وَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ وعمل ضائع، فكذا هاهنا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَزِيدَ النُّصْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَإِعْلَاءَ الدَّرَجَةِ وَكَمَالَ الرُّتْبَةِ فَقَالَ: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ أَبَى اللَّهُ إِلَّا كَذَا، وَلَا يُقَالُ كَرِهْتُ أَوْ أَبْغَضْتُ إِلَّا زَيْدًا؟ قُلْنَا: أَجْرَى (أَبَى) مَجْرَى لَمْ يُرِدْ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا أَرَادَ اللَّهُ إِلَّا ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ الْإِبَاءَ يُفِيدُ زِيَادَةَ عَدَمِ الْإِرَادَةِ وَهِيَ الْمَنْعُ وَالِامْتِنَاعُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنْ أَرَادُوا ظُلْمَنَا أَبَيْنَا» فَامْتُدِحَ بِذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمْتَدَحَ بِأَنَّهُ يَكْرَهُ الظُّلْمَ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ مِنَ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ أَبَى الضَّيْمَ، وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنَّمَا سَمَّى الدَّلَائِلَ بِالنُّورِ لِأَنَّ النُّورَ يَهْدِي إِلَى الصَّوَابِ فَكَذَلِكَ الدَّلَائِلُ تَهْدِي إِلَى الصواب في الأديان. [سورة التوبة (9) : آية 33] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْأَعْدَاءِ أَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ إِبْطَالَ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يَأْبَى ذَلِكَ الْإِبْطَالَ وَأَنَّهُ يُتِمُّ أَمْرَهُ، بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الْإِتْمَامِ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَمَالَ حَالِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِمَجْمُوعِ أُمُورٍ: أَوَّلُهَا: كَثْرَةُ الدَّلَائِلِ وَالْمُعْجِزَاتِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَثَانِيهَا: كَوْنُ دِينِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى أُمُورٍ يَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ كَوْنُهَا مَوْصُوفَةً بِالصَّوَابِ وَالصَّلَاحِ وَمُطَابَقَةِ الْحِكْمَةِ وَمُوَافَقَةِ الْمَنْفَعَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَدِينِ الْحَقِّ وَثَالِثُهَا: صَيْرُورَةُ دِينِهِ مُسْتَعْلِيًا عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ غَالِبًا عَلَيْهَا غَالِبًا لِأَضْدَادِهَا قَاهِرًا لِمُنْكِرِيهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ ظُهُورَ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ قَدْ يَكُونُ بِالْحُجَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْكَثْرَةِ وَالْوُفُورِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْغَلَبَةِ

[سورة التوبة (9) : الآيات 34 إلى 35]

وَالِاسْتِيلَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ تَعَالَى بَشَّرَ بِذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ أَنَّ يُبَشِّرَ إِلَّا بِأَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ غَيْرِ حَاصِلٍ، وَظُهُورُ هَذَا الدِّينِ بِالْحُجَّةِ مُقَرَّرٌ مَعْلُومٌ، فالواجب جمله عَلَى الظُّهُورِ بِالْغَلَبَةِ. فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ غَالِبًا لِكُلِّ الْأَدْيَانِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَصِرْ غَالِبًا لِسَائِرِ الْأَدْيَانِ فِي أَرْضِ الْهِنْدِ وَالصِّينِ وَالرُّومِ، وَسَائِرِ أَرَاضِي الْكَفَرَةِ. قُلْنَا أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا دِينَ بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ إِلَّا وَقَدْ قَهَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَوَاضِعِهِمْ، فَقَهَرُوا الْيَهُودَ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، وَغَلَبُوا النَّصَارَى عَلَى بِلَادِ الشَّامِ وَمَا وَالَاهَا إِلَى نَاحِيَةِ الرُّومِ وَالْغَرْبِ، وَغَلَبُوا الْمَجُوسَ عَلَى مُلْكِهِمْ، وَغَلَبُوا عُبَّادَ الْأَصْنَامِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِهِمْ مِمَّا يَلِي التُّرْكَ وَالْهِنْدَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَدْيَانِ فَثَبَتَ أَنَّ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ وَقَعَ وَحَصَلَ وَكَانَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ فَكَانَ مُعْجِزًا. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنْ نَقُولَ: رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ الْإِسْلَامَ عَالِيًا عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ. وَتَمَامُ هَذَا إِنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ خُرُوجِ عِيسَى، وَقَالَ السُّدِّيُّ: ذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِ الْمَهْدِيِّ، لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ أَدَّى الْخَرَاجَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ: لِيُظْهِرَ الْإِسْلَامَ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ تَعَالَى مَا أَبْقَى فِيهَا أَحَدًا مِنَ الْكُفَّارِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أَنْ يُوقِفَهُ عَلَى جَمِيعِ شَرَائِعِ الدِّينِ وَيُطْلِعَهُ عَلَيْهَا بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ إِلَّا أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ هَذَا وَعْدٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى سَيَفْعَلُهُ وَالتَّقْوِيَةُ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ كَانَتْ حَاصِلَةً مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ فِي مَبْدَأِ الْأَمْرِ كَثُرَتِ الشُّبُهَاتُ بِسَبَبِ ضَعْفِ الْمُؤْمِنِينَ/ وَاسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ، وَمَنْعِ الْكُفَّارِ سَائِرَ النَّاسِ مِنَ التَّأَمُّلِ فِي تِلْكَ الدَّلَائِلِ. أَمَّا بَعْدَ قُوَّةِ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ عَجَزَتِ الْكُفَّارُ فَضَعُفَتِ الشُّبُهَاتُ، فَقَوِيَ ظُهُورُ دَلَائِلِ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ تِلْكَ الْبِشَارَةِ هَذِهِ الزِّيَادَةُ. [سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 35] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) [في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ رُؤَسَاءَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِالتَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ وَادِّعَاءِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالتَّرَفُّعِ عَلَى الْخَلْقِ، وَصَفَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالطَّمَعِ وَالْحِرْصِ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِظْهَارِ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةِ

وَالتَّجَبُّرِ وَالْفَخْرِ، أَخْذُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَلَعَمْرِي مَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ أَهْلِ النَّامُوسِ وَالتَّزْوِيرِ فِي زَمَانِنَا وَجَدَ هَذِهِ الْآيَاتِ كَأَنَّهَا مَا أُنْزِلَتْ إِلَّا فِي شَأْنِهِمْ وَفِي شَرْحِ أَحْوَالِهِمْ، فَتَرَى الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الدُّنْيَا وَلَا يَتَعَلَّقُ خَاطِرُهُ بِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَنَّهُ فِي الطَّهَارَةِ وَالْعِصْمَةِ مِثْلُ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ حَتَّى إِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى الرَّغِيفِ الْوَاحِدِ تَرَاهُ يَتَهَالَكُ عَلَيْهِ وَيَتَحَمَّلُ نِهَايَةَ الذُّلِّ وَالدَّنَاءَةِ فِي تَحْصِيلِهِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْأَحْبَارَ مِنَ الْيَهُودِ، وَالرُّهْبَانَ مِنَ النَّصَارَى بِحَسَبِ الْعُرْفِ، فاللَّه تَعَالَى حَكَى عَنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: كَثِيراً لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ طَرِيقَةُ بَعْضِهِمْ لَا طَرِيقَةُ الْكُلِّ، فَإِنَّ الْعَالَمَ لَا يَخْلُو عَنِ الْحَقِّ وَإِطْبَاقُ الْكُلِّ عَلَى الْبَاطِلِ كَالْمُمْتَنِعِ هَذَا يُوهِمُ أَنَّهُ كَمَا أَنَّ إِجْمَاعَ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْبَاطِلِ لَا يَحْصُلُ، فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأُمَمِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ عَنْ أَخْذِ الْأَمْوَالِ بِالْأَكْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَيَأْكُلُونَ وَالسَّبَبُ فِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ، أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنْ جَمْعِ الْأَمْوَالِ هُوَ الْأَكْلُ، فَسُمِّيَ الشَّيْءُ بِاسْمِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مَقَاصِدِهِ، أَوْ يُقَالُ مَنْ أَكَلَ شَيْئًا فَقَدْ ضَمِنَهُ إِلَى نَفْسِهِ وَمَنَعَهُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى غَيْرِهِ، وَمَنْ جَمَعَ الْمَالَ فَقَدْ ضَمَّ تِلْكَ الْأَمْوَالَ إِلَى نَفْسِهِ، وَمَنَعَهَا مِنَ الْوُصُولِ إِلَى غَيْرِهِ، فَلَمَّا حَصَلَتِ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الْأَكْلِ وَبَيْنَ الْأَخْذِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، سُمِّيَ الْأَخْذُ بِالْأَكْلِ أَوْ يُقَالُ: إِنَّ مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ، فَإِذَا طُولِبَ بِرَدِّهَا، قَالَ أَكَلْتُهَا وَمَا بَقِيَتْ، فَلَا أَقْدِرُ عَلَى رَدِّهَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ سُمِّيَ الْأَخْذُ بِالْأَكْلِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْبَاطِلِ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الرُّشَا فِي تَخْفِيفِ الْأَحْكَامِ وَالْمُسَامَحَةِ فِي الشَّرَائِعِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ عِنْدَ الْحَشَرَاتِ وَالْعَوَامِّ مِنْهُمْ، أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إِلَى الْفَوْزِ بِمَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِخِدْمَتِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ، وَبَذْلِ الْأَمْوَالِ فِي طَلَبِ مَرْضَاتِهِمْ وَالْعَوَامُّ كَانُوا يَغْتَرُّونَ بِتِلْكَ الْأَكَاذِيبِ. الثَّالِثُ: التَّوْرَاةُ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى آيَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُولَئِكَ الْأَحْبَارُ وَالرُّهْبَانُ، كَانُوا يَذْكُرُونَ فِي تَأْوِيلِهَا وُجُوهًا فَاسِدَةً، وَيَحْمِلُونَهَا عَلَى مُحَامِلَ بَاطِلَةٍ، وَكَانُوا يُطَيِّبُونَ قُلُوبَ عَوَامِّهِمْ بِهَذَا السَّبَبِ، وَيَأْخُذُونَ الرِّشْوَةَ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَرِّرُونَ عِنْدَ عَوَامِّهِمْ أَنَّ الدِّينَ الْحَقَّ هُوَ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ فَإِذَا قَرَّرُوا ذَلِكَ قَالُوا وَتَقْوِيَةُ الدِّينِ الْحَقِّ وَاجِبٌ ثُمَّ قَالُوا: وَلَا طَرِيقَ إِلَى تَقْوِيَتِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ أُولَئِكَ الْفُقَهَاءُ أَقْوَامًا عُظَمَاءَ أَصْحَابَ الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ وَالْجَمْعِ الْعَظِيمِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَحْمِلُونَ الْعَوَامَّ عَلَى أَنْ يَبْذُلُوا فِي خِدْمَتِهِمْ نُفُوسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَهَذَا هُوَ الْبَاطِلُ الَّذِي كَانُوا بِهِ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ، وَهِيَ بِأَسْرِهَا حَاضِرَةٌ فِي زَمَانِنَا، وَهُوَ الطَّرِيقُ لِأَكْثَرِ الْجُهَّالِ وَالْمُزَوِّرِينَ إِلَى أَخْذِ أَمْوَالِ الْعَوَامِّ وَالْحَمْقَى مِنَ الْخَلْقِ. ثُمَّ قَالَ: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ عَلَى مُتَابَعَتِهِمْ وَيَمْنَعُونَ عَنْ مُتَابَعَةِ الْأَخْيَارِ مِنَ الْخَلْقِ وَالْعُلَمَاءِ فِي الزَّمَانِ، وَفِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانُوا يُبَالِغُونَ فِي الْمَنْعِ عَنْ مُتَابَعَتِهِ بِجَمِيعِ وُجُوهِ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: غَايَةُ مَطْلُوبِ الْخَلْقِ فِي الدُّنْيَا الْمَالُ وَالْجَاهُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ كَوْنَهُمْ مَشْغُوفِينَ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، فَالْمَالُ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَمَّا الْجَاهُ

فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ لَوْ أَقَرُّوا بِأَنَّ مُحَمَّدًا عَلَى الْحَقِّ لَزِمَهُمْ/ مُتَابَعَتُهُ، وَحِينَئِذٍ فَكَانَ يَبْطُلُ حُكْمُهُمْ وَتَزُولُ حُرْمَتُهُمْ فَلِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنْ هَذَا الْمَحْذُورِ كَانُوا يُبَالِغُونَ فِي الْمَنْعِ مِنْ مُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وو سلّم، وَيُبَالِغُونَ فِي إِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ وَفِي اسْتِخْرَاجِ وُجُوهِ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ، وَفِي مَنْعِ الْخَلْقِ مِنْ قَبُولِ دِينِهِ الْحَقِّ وَالِاتِّبَاعِ لِمَنْهَجِهِ الصَّحِيحِ. ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ احْتِمَالَاتٌ ثَلَاثَةٌ: لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ أُولَئِكَ الْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَلَامًا مُبْتَدَأً عَلَى مَا قَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ مِنْهُ مَانِعُو الزَّكَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ كُلَّ مَنْ كَنَزَ الْمَالَ وَلَمْ يُخْرِجْ مِنْهُ الْحُقُوقَ الْوَاجِبَةَ سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ أَوْ كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: مَرَرْتُ بِأَبِي ذَرٍّ فَقُلْتُ يَا أَبَا ذَرٍّ مَا أَنْزَلَكَ هَذِهِ الْبِلَادَ؟ فَقَالَ: كُنْتُ بِالشَّامِ فَقَرَأْتُ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ فَقُلْتُ: إِنَّهَا فِيهِمْ وَفِينَا، فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْوَحْشَةِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ أَنْ أَقْبِلْ إِلَيَّ، فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ انْحَرَفَ النَّاسُ عَنِّي، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي مِنْ قَبْلُ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى عُثْمَانَ فَقَالَ لِي تَنَحَّ قَرِيبًا إِنِّي وَاللَّهِ لَنْ أَدَعَ مَا كُنْتُ أَقُولُ. وَعَنِ الْأَحْنَفِ، قَالَ: لَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ رَأَيْتُ أَبَا ذَرٍّ يَقُولُ: بَشِّرِ الْكَافِرِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُوضَعَ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ نُغَضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَرْفَضَّ بَدَنُهُ، وَتُوضَعَ عَلَى نُغَضِ كَتِفِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْقَوْمُ ذَلِكَ تَرَكُوهُ فَاتَّبَعْتُهُ وَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ هَؤُلَاءِ إِلَّا كَرِهُوا مَا قُلْتَ لَهُمْ: فَقَالَ مَا عَسَى أَنْ يَصْنَعَ فِيَّ قُرَيْشٌ. قَالَ مَوْلَانَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ تَخْصِيصَ هَذَا الْوَعِيدِ بِمَنْ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، كَانَ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِالْحِرْصِ الشَّدِيدِ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ: لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَوَصَفَهُمْ أَيْضًا بِالْبُخْلِ الشَّدِيدِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْ إِخْرَاجِ الْوَاجِبَاتِ عَنْ أَمْوَالِ أَنْفُسِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مَانِعِي الزَّكَاةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَانَ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ قُبْحَ طَرِيقَتِهِمْ فِي الْحِرْصِ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، ثُمَّ نَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى إِخْرَاجِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَبَيَّنَ مَا فِي تَرْكِهِ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْكُلَّ، كَانَ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِالْحِرْصِ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِوَعِيدِ كُلِّ مَنِ امْتَنَعَ عَنْ إِخْرَاجِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ مِنْ مَالِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ حَالُ مَنْ أَمْسَكَ مَالَ نَفْسِهِ بِالْبَاطِلِ كَذَلِكَ/ فَمَا ظَنُّكَ بِحَالِ مَنْ سَعَى فِي أَخْذِ مَالِ غَيْرِهِ بِالْبَاطِلِ وَالتَّزْوِيرِ وَالْمَكْرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَصْلُ الْكَنْزِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الْجَمْعُ، وَكُلُّ شَيْءٍ جُمِعَ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ فَهُوَ مَكْنُوزٌ، يُقَالُ: هَذَا جِسْمٌ مُكْتَنِزُ الْأَجْزَاءِ إِذَا كَانَ مُجْتَمِعَ الْأَجْزَاءِ، وَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْكَنْزِ الْمَذْمُومِ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هُوَ الْمَالُ الَّذِي لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كُلُّ مَا أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ تَحْتَ سَبْعِ أَرَضِينَ، وَكُلُّ مَا لَمْ تُؤَدِّ زَكَاتَهُ فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ كَانَ فَوْقَ الْأَرْضِ، وَقَالَ جَابِرٌ: إِذَا أَخْرَجْتَ الصَّدَقَةَ مِنْ مالك فَقَدْ أَذْهَبْتَ عَنْهُ شَرَّهُ وَلَيْسَ بِكَنْزٍ. وَقَالَ ابن عباس:

فِي قَوْلِهِ: وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُرِيدُ الَّذِينَ لَا يُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي: تَخْصِيصُ هَذَا الْمَعْنَى بِمَنْعِ الزَّكَاةِ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: الْكَنْزُ هُوَ الْمَالُ الَّذِي مَا أُخْرِجَ عَنْهُ مَا وَجَبَ إِخْرَاجُهُ عَنْهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الزَّكَاةِ وَبَيْنَ مَا يَجِبُ مِنَ الْكَفَّارَاتِ، وَبَيْنَ مَا يَلْزَمُ مِنْ نَفَقَةِ الْحَجِّ أَوِ الْجُمُعَةِ، وَبَيْنَ مَا يَجِبُ إِخْرَاجُهُ فِي الدَّيْنِ وَالْحُقُوقِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَهْلِ أَوِ الْعِيَالِ وَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ فَيَجِبُ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْوَعِيدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَالَ الْكَثِيرَ إِذَا جُمِعَ فَهُوَ الْكَنْزُ الْمَذْمُومُ، سَوَاءٌ أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ أَوْ لَمْ تُؤَدِّ. وَاحْتَجَّ الذَّاهِبُونَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِأُمُورٍ: الْأَوَّلُ: عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَها مَا كَسَبَتْ [الْبَقَرَةِ: 286] فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا اكْتَسَبَهُ الْإِنْسَانُ فَهُوَ حَقُّهُ وَكَذَا قوله تعالى: وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ [مُحَمَّدٍ: 36] وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كُلُّ امْرِئٍ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ» وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ بَاطِنًا، وَمَا بَلَغَ أَنْ يُزَكَّى وَلَمْ يُزَكَّ فَهُوَ كَنْزٌ» وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا. الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَمَاعَةٌ كَعُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعُدُّهُمْ مِنْ أَكَابِرِ الْمُؤْمِنِينَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَدَبَ إِلَى إِخْرَاجِ الثُّلُثِ أَوْ أَقَلَّ فِي الْمَرَضِ، وَلَوْ كَانَ جَمْعُ الْمَالِ مُحَرَّمًا لَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقَرَّ الْمَرِيضَ بِالتَّصَدُّقِ بِكُلِّهِ، بَلْ كَانَ يَأْمُرُ الصَّحِيحَ فِي حَالِ صِحَّتِهِ بِذَلِكَ. وَاحْتَجَّ الذَّاهِبُونَ إِلَى الْقَوْلِ الثَّانِي بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: عُمُومُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ظَاهِرَهَا دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ جَمْعِ الْمَالِ، فَالْمَصِيرُ إِلَى أَنَّ الْجَمْعَ مُبَاحٌ بَعْدَ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ تَرْكٌ لِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. وَالثَّانِي: مَا رَوَى سَالِمُ بْنُ الْجَعْدِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَبًّا لِلذَّهَبِ تَبًّا لِلْفِضَّةِ، قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالُوا لَهُ أَيُّ مَالٍ نَتَّخِذُ؟ قَالَ: لِسَانًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا خَاشِعًا، وَزَوْجَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى دِينِهِ» . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ برك صَفْرَاءَ أَوْ بَيْضَاءَ كُوِيَ بِهَا، وَتُوُفِّيَ رَجُلٌ فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارٌ فَقَالَ/ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كَيَّةٌ» وَتُوُفِّيَ آخَرُ فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارَانِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كَيَّتَانِ» وَالثَّالِثُ: مَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا الْبَابِ فَقَالَ عَلِيٌّ: كُلُّ مَالٍ زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافٍ فَهُوَ كَنْزٌ أَدَّيْتَ مِنْهُ الزَّكَاةَ أَوْ لَمْ تُؤَدِّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كُلُّ صَفْرَاءَ أَوْ بَيْضَاءَ أَوْكَى عَلَيْهَا صَاحِبُهَا فَهِيَ كَنْزٌ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى أَنَّ العسير تَقْدُمُ بِالْمَالِ صَعِدَ عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ وَيَقُولُ جَاءَتِ الْقِطَارُ تَحْمِلُ النَّارَ وَبَشِّرِ الْكَنَّازِينَ بِكَيٍّ فِي الْجِبَاهِ وَالْجُنُوبِ وَالظُّهُورِ وَالْبُطُونِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ الْأَمْوَالَ لِيُتَوَسَّلَ بِهَا إِلَى دَفْعِ الْحَاجَاتِ، فَإِذَا حَصَلَ لِلْإِنْسَانِ قَدْرُ مَا يَدْفَعُ بِهِ حَاجَتَهُ ثُمَّ جَمَعَ الْأَمْوَالَ الزَّائِدَةَ عَلَيْهِ فَهُوَ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا لِكَوْنِهَا زَائِدَةً عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ وَمَنَعَهَا مِنَ الْغَيْرِ الَّذِي يُمْكِنُهُ أَنْ يَدْفَعَ حَاجَتَهُ بِهَا، فَكَانَ هَذَا الْإِنْسَانُ بِهَذَا الْمَنْعِ مَانِعًا مِنْ ظُهُورِ حِكْمَتِهِ وَمَانِعًا مِنْ وُصُولِ إِحْسَانِ اللَّهِ إِلَى عَبِيدِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّرِيقَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَجْمَعَ الرَّجُلُ الطَّالِبُ لِلدِّينِ الْمَالَ الْكَثِيرَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُمْنَعْ عَنْهُ فِي ظَاهِرِ الشَّرْعِ، فَالْأَوَّلُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّقْوَى وَالثَّانِي عَلَى ظَاهِرِ الْفَتْوَى، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْأَوْلَى الِاحْتِرَازُ عَنْ طَلَبِ الْمَالِ الْكَثِيرِ فَبِوُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَحَبَّ شَيْئًا فَكُلَّمَا كَانَ وُصُولُهُ إِلَيْهِ أَكْثَرَ وَالْتِذَاذُهُ بِوِجْدَانِهِ أَكْثَرَ، كَانَ حُبُّهُ لَهُ أَشَدَّ وَمَيْلُهُ أَقْوَى فَالْإِنْسَانُ إِذَا كَانَ فَقِيرًا فَكَأَنَّهُ لَمْ يَذُقْ لَذَّةَ الِانْتِفَاعِ بِالْمَالِ وَكَأَنَّهُ غَافِلٌ عَنْ تِلْكَ اللَّذَّةِ، فَإِذَا مَلَكَ الْقَلِيلَ مِنَ الْمَالِ وَجَدَ بِقَدْرِهِ اللَّذَّةَ، فَصَارَ مَيْلُهُ أَشَدَّ، فَكُلَّمَا صَارَتْ أَمْوَالُهُ أَزْيَدَ، كَانَ الْتِذَاذُهُ بِهِ أَكْثَرَ وَكَانَ حِرْصُهُ

فِي طَلَبِهِ وَمَيْلُهُ إِلَى تَحْصِيلِهِ أَشَدَّ، فَثَبَتَ أَنَّ تَكْثِيرَ الْمَالِ سَبَبٌ لِتَكْثِيرِ الْحِرْصِ فِي الطَّلَبِ، فَالْحِرْصُ مُتْعِبٌ لِلرُّوحِ وَالنَّفْسِ وَالْقَلْبِ وَضَرَرُهُ شَدِيدٌ، فَوَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ الْإِضْرَارِ بِالنَّفْسِ وَأَيْضًا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الْمَالُ أَكْثَرَ كَانَ الْحِرْصُ أَشَدَّ، فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ كَانَ يَنْتَهِي طَلَبُ الْمَالِ إِلَى حَدٍّ يَنْقَطِعُ عِنْدَهُ الطَّلَبُ وَيَزُولُ الْحِرْصُ، لَقَدْ كَانَ الْإِنْسَانُ يَسْعَى فِي الْوُصُولِ إِلَى ذَلِكَ الْحَدِّ. أَمَّا لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ تَمَلُّكُ الْأَمْوَالِ أَكْثَرَ كَانَ الضَّرَرُ النَّاشِئُ مِنَ الْحِرْصِ أَكْبَرَ، وَأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِهَذَا الضَّرَرِ وَلِهَذَا الطَّلَبِ، فَوَجَبَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتْرُكَهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَمَا قَالَ: رَأَى الْأَمْرَ يُفْضِي إِلَى آخَرَ ... فَيُصَيَّرُ آخِرُهُ أَوَّلَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ كَسْبَ الْمَالِ شَاقٌّ شَدِيدٌ، وَحِفْظَهُ بَعْدَ حُصُولِهِ أَشَدُّ وَأَشَقُّ وَأَصْعَبُ، فَيَبْقَى الْإِنْسَانُ طُولَ عُمُرِهِ تَارَةً فِي طَلَبِ التَّحْصِيلِ، وَأُخْرَى فِي تَعَبِ الْحِفْظِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا إِلَّا بِالْقَلِيلِ وَبِالْآخَرِ يَتْرُكُهَا مَعَ الْحَسَرَاتِ وَالزَّفَرَاتِ، وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ وَالْجَاهِ تُورِثُ الطُّغْيَانَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ/ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [الْعَلَقِ: 6، 7] وَالطُّغْيَانُ يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْعَبْدِ إِلَى مَقَامِ رِضْوَانِ الرَّحْمَنِ، وَيُوقِعُهُ فِي الْخُسْرَانِ وَالْخِذْلَانِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الزَّكَاةَ وَذَلِكَ سَعْيٌ فِي تَنْقِيصِ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَ تَكْثِيرُهُ فَضِيلَةً لَمَا سَعَى الشَّرْعُ فِي تَنْقِيصِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى» . قُلْنَا: الْيَدُ الْعُلْيَا إِنَّمَا أَفَادَتْهُ صِفَةَ الْخَيْرِيَّةِ، لِأَنَّهُ أَعْطَى ذَلِكَ الْقَلِيلَ، فَبِسَبَبِ أَنَّهُ حَصَلَ فِي ماله ذلك النقصان القليلة حَصَلَتْ لَهُ الْخَيْرِيَّةُ، وَبِسَبَبِ أَنَّهُ حَصَلَ لِلْفَقِيرِ تلك الزيادة القليل حَصَلَتِ الْمَرْجُوحِيَّةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: جَاءَتِ الْأَخْبَارُ الْكَثِيرَةُ فِي وَعِيدِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، أَمَّا مَنْعُ زَكَاةِ النُّقُودِ فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ وَأَمَّا مَنْعُ زَكَاةِ الْمَوَاشِي فَمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَعَالَى يُعَذِّبُ أَصْحَابَ الْمَوَاشِي إِذَا لَمْ يُؤَدُّوا زَكَاتَهَا بِأَنْ يَسُوقَ إِلَيْهِ تِلْكَ الْمَوَاشِيَ كَأَعْظَمِ مَا تَكُونُ فِي أَجْسَامِهَا فَتَمُرُّ عَلَى أَرْبَابِهَا فَتَطَؤُهُمْ بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُمْ بِقُرُونِهَا كُلَّمَا نَفِدَتْ أُخْرَاهَا عَادَتْ إِلَيْهِمْ أُولَاهَا فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَفْرَغَ النَّاسُ مِنَ الْحِسَابِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الصَّحِيحُ عِنْدَنَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْوَعِيدُ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ لَا النِّسَاءَ. قُلْنَا: نَتَكَلَّمُ فِي الرَّجُلِ الَّذِي اتَّخَذَ الْحُلِيَّ لِنِسَائِهِ، وَأَيْضًا تَرْتِيبُ هَذَا الْوَعِيدِ عَلَى جَمْعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حُكْمٌ مُرَتَّبٌ عَلَى وَصْفٍ يُنَاسِبُهُ، وَهُوَ أَنَّ جَمْعَ ذَلِكَ الْمَالِ يَمْنَعُهُ مِنْ صَرْفِهِ إِلَى الْمُحْتَاجِينَ مَعَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، إِذْ لَوِ احْتَاجَ إِلَى إِنْفَاقِهِ لَمَا قَدَرَ عَلَى جَمْعِهِ، وَإِقْدَامُ غَيْرِ الْمُحْتَاجِ عَلَى مَنْعِ الْمَالِ مِنَ الْمُحْتَاجِ يُنَاسِبُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُرَتَّبٌ عَلَى وَصْفٍ يُنَاسِبُهُ، وَالْحُكْمُ الْمَذْكُورُ عَقِيبَ وَصْفٍ يُنَاسِبُهُ يَجِبُ كَوْنُهُ مُعَلَّلًا بِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ لِذَلِكَ الْجَمْعِ، فَأَيْنَمَا حَصَلَ ذَلِكَ الْوَصْفُ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ ذَلِكَ الْوَعِيدُ، وأيضا

إِنَّ الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةَ فِي إِيجَابِ الزَّكَاةِ مَوْجُودَةٌ فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «هَاتُوا رُبْعَ عُشْرِ أَمْوَالِكُمْ» وَقَالَ: «فِي الرِّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ» وَقَالَ: «يَا عَلِيُّ عَلَيْكَ زَكَاةٌ، فَإِذَا مَلَكْتَ عِشْرِينَ مِثْقَالَا، فَأَخْرِجْ نِصْفَ مِثْقَالٍ» وَقَالَ: «لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ وَقَالَ لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» فَهَذِهِ الْآيَةُ مَعَ جَمِيعِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ تُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ، ثُمَّ نَقُولُ وَلَمْ يُوجَدْ لِهَذَا الدَّلِيلِ مُعَارِضٌ مِنَ الْكِتَابِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أنه لا زَكَاةٌ فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْأَخْبَارِ أَيْضًا مَعَارِضٌ إِلَّا أَنَّ/ أَصْحَابَنَا نَقَلُوا فِيهِ خَبَرًا، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ» إِلَّا أَنَّ أَبَا عِيسَى التِّرْمِذِيَّ قَالَ: لَمْ يَصِحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُلِيِّ خَبَرٌ صَحِيحٌ، وَأَيْضًا بِتَقْدِيرِ أَنْ يَصِحَّ هَذَا الخبر فنحمله على اللئالئ لِأَنَّهُ قَالَ: لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ، وَلَفْظُ الْحُلِيِّ مُفْرَدٌ مُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ مَعْهُودٌ سَابِقٌ، وَجَبَ انْصِرَافُهُ إِلَيْهِ وَالْمَعْهُودُ فِي الْقُرْآنِ فِي لفظ الحلي اللئالئ. قَالَ تَعَالَى: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها [النَّحْلِ: 14] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ انْصَرَفَ لَفْظُ الْحُلِيِّ إِلَى اللئالئ، فَسَقَطَتْ دَلَالَتُهُ، وَأَيْضًا الِاحْتِيَاطُ فِي الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَأَيْضًا لَا يُمْكِنُ مُعَارَضَةُ هَذَا النَّصِّ بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّ النَّصَّ خَيْرٌ مِنَ الْقِيَاسِ فَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ مَا ذَكَرْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ شَيْئَيْنِ وَهُمَا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ. ثُمَّ قَالَ: وَلا يُنْفِقُونَها وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْمَعْنَى مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُمْلَةٌ وَآنِيَةٌ دَنَانِيرُ وَدَرَاهِمُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الْحُجُرَاتِ: 9] وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ، وَلَا يُنْفِقُونَ الْكُنُوزَ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ: وَلَا يُنْفِقُونَ تِلْكَ الْأَمْوَالَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى اللَّفْظِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَلَا يُنْفِقُونَ الْفِضَّةَ، وَحُذِفَ الذَّهَبُ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْفِضَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمَا مَعًا يَشْتَرِكَانِ فِي ثَمَنَيَّةِ الْأَشْيَاءِ، وَفِي كَوْنِهِمَا جَوْهَرَيْنِ شَرِيفَيْنِ، وَفِي كَوْنِهِمَا مَقْصُودَيْنِ بِالْكَنْزِ، فَلَمَّا كَانَا مُتَشَارِكَيْنِ فِي أَكْثَرِ الصِّفَاتِ كَانَ ذِكْرُ أَحَدِهِمَا مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ الْآخَرِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ ذِكْرَ أَحَدِهِمَا قَدْ يُغْنِي عَنِ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الْجُمُعَةِ: 11] جَعَلَ الضَّمِيرَ لِلتِّجَارَةِ. وَقَالَ: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً [النِّسَاءِ: 112] فَجَعَلَ الضَّمِيرَ لِلْإِثْمِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَلَا يُنْفِقُونَهَا وَالذَّهَبُ كَذَلِكَ كَمَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ أَيْ وَقَيَّارٌ كَذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: مَا السَّبَبُ فِي أَنْ خُصَّا بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُمَا الْأَصْلُ الْمُعْتَبَرُ فِي الْأَمْوَالِ وَهُمَا اللَّذَانِ يُقْصَدَانِ بِالْكَنْزِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ قَالَ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أَيْ فَأَخْبِرْهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ لِأَنَّ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ إِنَّمَا يَكْنِزُونَهُمَا لِيَتَوَسَّلُوا بِهِمَا إِلَى تَحْصِيلِ الْفَرَجِ يَوْمَ الْحَاجَةِ. فَقِيلَ هَذَا هُوَ الْفَرَجُ كَمَا يُقَالُ تَحِيَّتُهُمْ لَيْسَ إِلَّا الضَّرْبَ وَإِكْرَامُهُمْ لَيْسَ/ إِلَّا الشَّتْمَ، وَأَيْضًا فَالْبِشَارَةُ عَنِ الْخَيْرِ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ، فَيَتَغَيَّرُ بِسَبَبِهِ لَوْنُ بَشَرَةِ الْوَجْهِ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ مَا إِذَا تَغَيَّرَتِ الْبَشَرَةُ بِسَبَبِ الْفَرَحِ أَوْ بِسَبَبِ الْغَمِّ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ وَبُطُونُهُمْ وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَا يُقَالُ أَحْمَيْتُ عَلَى الْحَدِيدِ، بَلْ يُقَالُ: أَحْمَيْتُ الْحَدِيدَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها. وَالْجَوَابُ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ تِلْكَ الْأَمْوَالَ تُحْمَى عَلَى النَّارِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ النَّارَ تُحْمَى عَلَى تِلْكَ الْأَمْوَالِ الَّتِي هِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، أَيْ يُوقَدُ عَلَيْهَا نَارٌ ذَاتُ حُمَّى وَحَرٍّ شَدِيدٍ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ: نارٌ حامِيَةٌ [القارعة: 11] وَلَوْ قِيلَ يَوْمَ تُحْمَى لَمْ يُفِدْ هَذِهِ الْفَائِدَةَ. فَإِنْ قَالُوا: لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ يَوْمَ تُحْمَى النَّارُ عَلَيْهَا، فَلِمَ ذُكِرَ الْفِعْلُ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ النَّارَ تَأْنِيثُهَا لَفْظِيٌّ، وَالْفِعْلُ غَيْرُ مُسْنَدٍ فِي الظَّاهِرِ إِلَيْهِ، بَلْ إِلَى قَوْلِهِ: عَلَيْها فَلَا جَرَمَ حَسُنَ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَعَنِ ابْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَرَأَ تُحْمَى بِالتَّاءِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا النَّاصِبُ لِقَوْلِهِ: يَوْمَ. الْجَوَابُ: التَّقْدِيرُ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ خُصَّتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ؟ وَالْجَوَابُ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ كَسْبِ الْأَمْوَالِ حُصُولُ فَرَحٍ فِي الْقَلْبِ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْوُجُوهِ، وَحُصُولُ شِبَعٍ يَنْتَفِخُ بِسَبَبِهِ الْجَنْبَانِ، وَلَبْسُ ثِيَابٍ فَاخِرَةٍ يَطْرَحُونَهَا عَلَى ظُهُورِهِمْ، فَلَمَّا طَلَبُوا تَزَيُّنَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ، لَا جَرَمَ حَصَلَ الْكَيُّ عَلَى الْجِبَاهِ وَالْجُنُوبِ وَالظُّهُورِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ الثَّلَاثَةَ مُجَوَّفَةٌ، قَدْ حَصَلَ فِي دَاخِلِهَا آلَاتٌ ضَعِيفَةٌ يَعْظُمُ تَأَلُّمُهَا بِسَبَبِ وُصُولِ أَدْنَى أَثَرٍ إِلَيْهَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: خُصَّتْ هَذِهِ الْمَوَاضِعُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ إِذَا رَأَى الْفَقِيرَ بِجَنْبِهِ تَبَاعَدَ عَنْهُ وَوَلَّى ظَهْرَهُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُكْوَوْنَ عَلَى الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ، إِمَّا مِنْ مُقَدَّمِهِ فعلى الجبهة، وإما من خلفه فَعَلَى الْجَبْهَةِ، وَإِمَّا مِنْ خَلْفِهِ فَعَلَى الظُّهُورِ، وَإِمَّا مِنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ فَعَلَى الْجَنْبَيْنِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ أَلْطَفَ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ جَبِينُهُ وَالْعُضْوُ الْمُتَوَسِّطُ فِي اللَّطَافَةِ وَالصَّلَابَةِ جَنْبُهُ، وَالْعُضْوُ الَّذِي هُوَ أَصْلَبُ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ ظَهْرُهُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ مِنْ أَعْضَائِهِ تَصِيرُ مَغْمُورَةً فِي الْكَيِّ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْكَيَّ يَحْصُلُ فِي تِلْكَ الْأَعْضَاءِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ كَمَالَ حَالِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ فِي جَمَالِهِ وَقُوَّتِهِ أَمَّا الْجَمَالُ فَمَحَلُّهُ الْوَجْهُ، وَأَعَزُّ الْأَعْضَاءِ فِي الْوَجْهِ الْجَبْهَةُ، فَإِذَا وَقَعَ الْكَيُّ/ فِي الْجَبْهَةِ، فَقَدْ زَالَ الْجَمَالُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَمَّا الْقُوَّةُ فَمَحَلُّهَا الظَّهْرُ وَالْجَنْبَانِ، فَإِذَا حَصَلَ الْكَيُّ عَلَيْهَا فَقَدْ زَالَتِ الْقُوَّةُ عَنِ الْبَدَنِ، فَالْحَاصِلُ: أَنَّ حُصُولَ الْكَيِّ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ يُوجِبُ زَوَالَ الْجَمَالِ وَزَوَالَ الْقُوَّةِ، وَالْإِنْسَانُ إِنَّمَا طَلَبَ الْمَالَ لِحُصُولِ الْجَمَالِ وَلِحُصُولِ الْقُوَّةِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: الَّذِي يُجْعَلُ كَيًّا عَلَى بَدَنِ الْإِنْسَانِ هُوَ كُلُّ ذَلِكَ الْمَالِ أَوِ الْقَدْرُ الْوَاجِبُ مِنَ الزَّكَاةِ. وَالْجَوَابُ: مُقْتَضَى الْآيَةِ: الْكُلُّ لِأَنَّهُ لَمَّا يَخْرُجْ مِنْهُ لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ مِنْهُ جُزْءًا مُعَيَّنًا، بَلْ لَا جُزْءَ إِلَّا وَالْحَقُّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُعَذِّبَهُ اللَّهُ بِكُلِّ الْأَجْزَاءِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَالتَّقْدِيرُ: فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنفسكم فذوقوا

[سورة التوبة (9) : آية 36]

وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَعْظِيمُ الْوَعِيدِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا عَايَنُوا مَا يُعَذَّبُونَ بِهِ مِنْ دِرْهَمٍ أَوْ مِنْ دِينَارٍ أَوْ مِنْ صَفِيحَةٍ مَعْمُولَةٍ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا جَوَّزُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي مَنَعَهُ وَجَوَّزُوا خِلَافَ ذَلِكَ، فَعَظَّمَ اللَّهُ تَبْكِيتَهُمْ بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ لَمْ تُؤْثِرُوا بِهِ رِضَا رَبِّكُمْ وَلَا قَصَدْتُمْ بِالْإِنْفَاقِ مِنْهُ نَفْعَ أَنْفُسِكُمْ وَالْخَلَاصَ بِهِ مِنْ عِقَابِ رَبِّكُمْ فَصِرْتُمْ كَأَنَّكُمُ ادَّخَرْتُمُوهُ لِيُجْعَلَ عِقَابًا لَكُمْ عَلَى مَا تُشَاهِدُونَهُ، ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى: فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ وَمَعْنَاهُ لَمْ تَصْرِفُوهُ لِمَنَافِعِ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ عَلَى مَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ فَذُوقُوا وَبَالَ ذَلِكَ بِهِ لا بغيره. [سورة التوبة (9) : آية 36] إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا شَرْحُ النَّوْعِ الثَّالِثِ مِنْ قَبَائِحِ أَعْمَالِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ إِقْدَامُهُمْ عَلَى السَّعْيِ فِي تَغْيِيرِهِمْ أَحْكَامَ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِحُكْمٍ خَاصٍّ، فَإِذَا غَيَّرُوا تِلْكَ الْأَحْكَامَ بِسَبَبِ النَّسِيءِ فَحِينَئِذٍ كَانَ ذَلِكَ سَعْيًا مِنْهُمْ فِي تَغْيِيرِ حُكْمِ السُّنَّةِ بِحَسَبَ أَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ فَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي كُفْرِهِمْ وَحَسْرَتِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ السَّنَةَ عِنْدَ الْعَرَبِ عِبَارَةٌ عَنِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ الْقَمَرِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يُونُسَ: 5] فَجَعَلَ تَقْدِيرَ الْقَمَرِ بِالْمَنَازِلِ عِلَّةً لِلسِّنِينَ وَالْحِسَابِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَتِ السَّنَةُ مُعَلَّقَةً بِسَيْرِ الْقَمَرِ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [الْبَقَرَةِ: 189] وَعِنْدَ سَائِرِ الطَّوَائِفِ: عِبَارَةٌ عَنِ الْمُدَّةِ الَّتِي تَدُورُ الشَّمْسُ فِيهَا دَوْرَةً تَامَّةً، وَالسَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ أَقَلُّ مِنَ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ النُّقْصَانِ تَنْتَقِلُ الشُّهُورُ الْقَمَرِيَّةُ مِنْ فَصْلٍ إِلَى فَصْلٍ، فَيَكُونُ الْحَجُّ وَاقِعًا فِي الشِّتَاءِ مَرَّةً، وَفِي الصَّيْفِ أُخْرَى، وَكَانَ يَشُقُّ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ بِهَذَا السَّبَبِ، وَأَيْضًا إِذَا حَضَرُوا الْحَجَّ حَضَرُوا لِلتِّجَارَةِ، فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ غَيْرَ مُوَافِقٍ لِحُضُورِ التِّجَارَاتِ مِنَ الْأَطْرَافِ، وَكَانَ يُخِلُّ أَسْبَابَ تِجَارَاتِهِمْ بِهَذَا السَّبَبِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَقْدَمُوا عَلَى عَمَلِ الْكَبِيسَةِ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي عِلْمِ الزِّيجَاتِ، وَاعْتَبَرُوا السَّنَةَ الشَّمْسِيَّةَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ بَقِيَ زَمَانُ الْحَجِّ مُخْتَصًّا بِوَقْتٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ مُوَافِقٍ لِمَصْلَحَتِهِمْ وَانْتَفَعُوا بِتِجَارَاتِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ، فَهَذَا النَّسِيءُ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِحُصُولِ الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَزِمَ مِنْهُ تَغَيُّرُ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَصَّ الْحَجَّ بِأَشْهُرٍ مَعْلُومَةٍ عَلَى التَّعْيِينِ، وَكَانَ بِسَبَبِ ذَلِكَ النَّسِيءِ، يَقَعُ فِي سَائِرِ الشُّهُورِ تَغَيُّرُ حُكْمِ اللَّهِ وَتَكْلِيفِهِ. فَالْحَاصِلُ: أَنَّهُمْ لِرِعَايَةِ مَصَالِحِهِمْ فِي الدُّنْيَا سَعَوْا فِي تَغْيِيرِ أَحْكَامِ اللَّهِ وَإِبْطَالِ تَكْلِيفِهِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى اسْتَوْجَبُوا الذَّمَّ الْعَظِيمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ السَّنَةَ الشَّمْسِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ زَائِدَةً عَلَى السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ جَمَعُوا تِلْكَ الزِّيَادَةَ، فَإِذَا بَلَغَ مِقْدَارُهَا إِلَى شَهْرٍ جَعَلُوا تِلْكَ السَّنَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا، فَأَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: إِنَّ حُكْمَ اللَّهِ أَنْ تَكُونَ السَّنَةُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا لَا أَقَلَّ وَلَا أَزْيَدَ، وَتَحَكُّمُهُمْ عَلَى بَعْضِ السِّنِينَ، أَنَّهُ صَارَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا حُكْمٌ وَاقِعٌ عَلَى خِلَافِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُوجِبُ تَغْيِيرَ تَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الدِّينِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الْعَرَبِ مِنَ الزَّمَانِ الْأَوَّلِ أَنْ تَكُونَ السَّنَةُ قَمَرِيَّةً لَا شَمْسِيَّةً، وهذا حكم تورثوه عن إبراهيم

وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَمَّا عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَلَيْسَ كَذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ تَعَلَّمَ صِفَةَ الْكَبِيسَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَظْهَرَ ذَلِكَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: عِدَّةَ الشُّهُورِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْفَصْلَ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْمَوْصُولِ بِالْخَبَرِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: اثْنا عَشَرَ شَهْراً وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَأَقُولُ فِي إِعْرَابِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ قَوْلُهُ: عِدَّةَ الشُّهُورِ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: / اثْنا عَشَرَ شَهْراً خَبَرٌ. وَقَوْلُهُ: عِنْدَ اللَّهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ظُرُوفٌ أُبْدِلَ الْبَعْضُ مِنَ الْبَعْضِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا عِنْدَ اللَّهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ. وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْإِبْدَالَاتِ الْمُتَوَالِيَةِ تَقْرِيرُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَدَدَ وَاجِبٌ مُتَقَرِّرٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ أَوَّلِ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَالَمَ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي كِتابِ اللَّهِ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ يَكُونُ صِفَةً لِلْخَبَرِ تَقْدِيرُهُ: اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مُثْبَتَةً فِي كِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ لَا يجوز أن يكون المراد بهذا الكتاب كتاب مِنَ الْكُتُبِ، لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ وَأَسْمَاءُ الْأَعْيَانِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالظُّرُوفِ، فَلَا تَقُولُ: غُلَامُكَ يَوْمَ الجمعة، بل الكتاب هاهنا مَصْدَرٌ وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ، أَيْ في حكمه الواقع يوم خلق السموات. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ اسْمًا وَقَوْلُهُ: يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مَكْتُوبًا فِي كِتَابِ اللَّهِ كَتَبَهُ يَوْمَ خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَفْسِيرِ أَحْكَامِ الْآيَةِ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ فِي عِلْمِهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ وَفِي تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابن عباس: إن اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ الَّذِي كَتَبَ فِيهِ أَحْوَالَ مَخْلُوقَاتِهِ بِأَسْرِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَهُوَ الْأَصْلُ لِلْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ الْقُرْآنُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا آيَاتٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّنَةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ مَكْتُوبًا فِي الْقُرْآنِ. الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: فِي كِتابِ اللَّهِ أَيْ فِيمَا أَوْجَبَهُ وَحَكَمَ بِهِ، وَالْكِتَابُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ الْحُكْمُ وَالْإِيجَابُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ [الْبَقَرَةِ: 216] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [الْبَقَرَةِ: 178] كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الْأَنْعَامِ: 54] قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الْوَجْهُ بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْكِتَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَالظَّرْفِ، وَإِذَا حُمِلَ الْكِتَابُ عَلَى الْحِسَابِ لَمْ يَسْتَقِمْ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ: بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَجَازًا، إِلَّا أَنَّهُ مَجَازٌ مُتَعَارَفٌ يُقَالُ: إِنَّ الْأَمْرَ كَذَا وَكَذَا فِي حِسَابِ فُلَانٍ وَفِي حُكْمِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وُجُوهًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَالْأَقْرَبُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَتَبَ هَذَا الْحُكْمَ وَحَكَمَ بِهِ يوم خلق السموات وَالْأَرْضَ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ حُكْمٌ مَحْكُومٌ بِهِ مِنْ أَوَّلِ خَلْقِ الْعَالَمِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا سَرْدٌ، وَهِيَ ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَوَاحِدٌ فَرْدٌ، وَهُوَ رَجَبٌ، وَمَعْنَى الْحُرُمِ: أَنَّ الْمَعْصِيَةَ فِيهَا أَشَدُّ عِقَابًا، وَالطَّاعَةَ فِيهَا أَكْثَرُ ثَوَابًا، وَالْعَرَبُ كَانُوا يُعَظِّمُونَهَا جِدًّا حَتَّى لَوْ لَقِيَ الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: أَجْزَاءُ الزَّمَانِ مُتَشَابِهَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ، فَمَا السَّبَبُ فِي هَذَا التمييز؟.

قُلْنَا: إِنَّ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ فِي الشَّرَائِعِ، فَإِنَّ أَمْثِلَتَهُ كَثِيرَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى مَيَّزَ الْبَلَدَ الْحَرَامَ عَنْ سَائِرِ الْبِلَادِ بِمَزِيدِ الْحُرْمَةِ، وَمَيَّزَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَنْ سَائِرِ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ بِمَزِيدِ الْحُرْمَةِ، وَمَيَّزَ يَوْمَ عَرَفَةَ عَنْ سَائِرِ الْأَيَّامِ بِتِلْكَ الْعِبَادَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَمَيَّزَ شَهْرَ رَمَضَانَ عَنْ سَائِرِ الشُّهُورِ بِمَزِيدِ حُرْمَةٍ وَهُوَ وُجُوبُ الصَّوْمِ وَمَيَّزَ بَعْضَ سَاعَاتِ الْيَوْمِ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ فِيهَا وَمَيَّزَ بَعْضَ اللَّيَالِي عَنْ سَائِرِهَا وَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَمَيَّزَ بَعْضَ الْأَشْخَاصِ عَنْ سَائِرِ النَّاسِ بِإِعْطَاءِ خُلْعَةِ الرِّسَالَةِ. وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ ظَاهِرَةً مَشْهُورَةً، فَأَيُّ اسْتِبْعَادٍ فِي تَخْصِيصِ بَعْضِ. الْأَشْهُرِ بِمَزِيدِ الْحُرْمَةِ، ثُمَّ نَقُولُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ وُقُوعَ الطَّاعَةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا فِي طَهَارَةِ النَّفْسِ، وَوُقُوعَ الْمَعَاصِي فِيهَا أَقْوَى تَأْثِيرًا فِي خُبْثِ النَّفْسِ، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِيهِمْ مَنْ صَنَّفَ كُتُبًا فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي تُرْجَى فِيهَا إِجَابَةُ الدَّعَوَاتِ، وَذَكَرُوا أَنَّ تِلْكَ الْأَوْقَاتَ الْمُعَيَّنَةَ حَصَلَتْ فِيهَا أَسْبَابٌ تُوجِبُ ذَلِكَ. وَسُئِلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَيُّ الصِّيَامِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُهُ بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ صِيَامُ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ صَامَ يَوْمًا مِنْ أَشْهُرِ اللَّهِ الْحُرُمِ كَانَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثُونَ يَوْمًا» وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ غَلَّظُوا الدِّيَةَ عَلَى الْقَاتِلِ بِسَبَبِ وُقُوعِ الْقَتْلِ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ، وَفِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى: وَهِيَ أَنَّ الطِّبَاعَ مَجْبُولَةٌ عَلَى الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ وَامْتِنَاعُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْقَبَائِحِ عَلَى الْإِطْلَاقِ شَاقٌّ عَلَيْهِمْ، فاللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَصَّ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ بِمَزِيدِ التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ، وَخَصَّ بَعْضَ الْأَمَاكِنِ بِمَزِيدِ التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ، حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا امْتَنَعَ فِي تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ وَفِي تِلْكَ الْأَمْكِنَةِ مِنَ الْقَبَائِحِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْفَوَائِدِ: أَحَدُهَا: أَنَّ تَرْكَ تِلْكَ الْقَبَائِحِ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ، لِأَنَّهُ يُقِلُّ الْقَبَائِحَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمَّا تَرَكَهَا فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ فَرُبَّمَا صَارَ تَرْكُهُ لَهَا فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ سَبَبًا لِمَيْلِ طَبْعِهِ إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهَا مُطْلَقًا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَتَى بِالطَّاعَاتِ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ وَأَعْرَضَ عَنِ الْمَعَاصِي فِيهَا، فَبَعْدَ انْقِضَاءِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ لَوْ شَرَعَ فِي الْقَبَائِحِ وَالْمَعَاصِي صَارَ شُرُوعُهُ فِيهَا سَبَبًا لِبُطْلَانِ مَا تَحَمَّلَهُ مِنَ الْعَنَاءِ وَالْمَشَقَّةِ فِي أَدَاءِ تِلْكَ الطَّاعَاتِ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ فَيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاجْتِنَابِهِ عَنِ الْمَعَاصِي بِالْكُلِّيَّةِ، فَهَذَا هُوَ الْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِ بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَبَعْضِ/ الْبِقَاعِ بِمَزِيدِ التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً لَا أَزْيَدُ وَلَا أَنْقَصُ أَوْ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ وَعِنْدِي أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى، لِأَنَّ الْكُفَّارَ سَلَّمُوا أَنَّ أربعة منها حرم، إلا أنهم بسبب الكبسة رُبَّمَا جَعَلُوا السَّنَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانُوا يُغَيِّرُونَ مَوَاقِعَ الشُّهُورِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الرَّدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ لَفْظِ الدِّينِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الدِّينَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْحِسَابُ. يُقَالُ: الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ أَيْ حَاسَبَهَا، وَالْقَيِّمُ مَعْنَاهُ الْمُسْتَقِيمُ فَتَفْسِيرُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، ذَلِكَ الْحِسَابُ الْمُسْتَقِيمُ الصَّحِيحُ وَالْعَدْلُ الْمُسْتَوْفَى. الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ الَّذِي لا يبدل ولا يغير، فالقيم هاهنا بِمَعْنَى الْقَائِمِ الَّذِي لَا يُبَدَّلُ وَلَا يُغَيَّرُ، الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَزُولُ، وَهُوَ الدِّينُ الَّذِي فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا التَّعَبُّدَ هُوَ الدِّينُ اللَّازِمُ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الْقَاضِي: حَمْلُ لَفْظِ الدِّينِ عَلَى الْعِبَادَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْحِسَابِ، لِأَنَّهُ مَجَازٌ فِيهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْأَصْلُ فِي لَفْظِ الدِّينِ الِانْقِيَادُ يُقَالُ: يَا مَنْ دَانَتْ لَهُ الرِّقَابُ، أَيِ

انْقَادَتْ، فَالْحِسَابُ يُسَمَّى دِينًا، لِأَنَّهُ يُوجِبُ الِانْقِيَادَ، وَالْعِدَّةُ تُسَمَّى دِينًا، فَلَمْ يَكُنْ حَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى التَّعَبُّدِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْحِسَابِ. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: الْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَعْتَبِرُوا فِي بُيُوعِهِمْ وَمُدَدِ دُيُونِهِمْ وَأَحْوَالِ زَكَوَاتِهِمْ وَسَائِرِ أَحْكَامِهِمُ السَّنَةَ الْعَرَبِيَّةَ بِالْأَهِلَّةِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمُ اعْتِبَارُ السَّنَةِ الْعَجَمِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فِيهِنَّ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُرَادَ: فَلَا تَظْلِمُوا فِي الشُّهُورِ الِاثْنَيْ عَشَرَ أَنْفُسَكُمْ، وَالْمَقْصُودُ مَنْعُ الْإِنْسَانِ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْفَسَادِ مُطْلَقًا فِي جَمِيعِ الْعُمُرِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فِيهِنَّ عَائِدٌ إِلَى الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ قَالُوا: وَالسَّبَبُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ لِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ أَثَرًا فِي زِيَادَةِ الثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْمَحْظُورَاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فِيهِنَّ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ السَّابِقِ فَوَجَبَ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا قَوْلُهُ: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ هَذِهِ الْأَشْهُرَ بِمَزِيدِ الِاحْتِرَامِ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهُوَ قَوْلُهُ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [الْبَقَرَةِ: 197] فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ غَيْرُ جَائِزَةٍ فِي غَيْرِ الْحَجِّ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ فِي الْمَنْعِ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ تَنْبِيهًا عَلَى زِيَادَتِهَا فِي الشَّرَفِ. / الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَوْلَى رُجُوعُهَا إِلَى الْأَرْبَعَةِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ فِيمَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ (فِيهِنَّ) فَإِذَا جَاوَزَ هَذَا الْعَدَدَ قَالُوا (فِيهَا) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ جَمْعَ الْقِلَّةِ يُكَنَّى عَنْهُ كَمَا يُكَنَّى عَنْ جَمَاعَةٍ مُؤَنَّثَةٍ، وَيُكَنَّى عَنْ جَمْعِ الْكَثْرَةِ، كَمَا يُكَنَّى عَنْ وَاحِدَةٍ مُؤَنَّثَةٍ، كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: لَنَا الْجَفَنَاتُ الْغُرُّ يَلْمَعْنَ فِي الضُّحَى ... وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دَمَا قَالَ: يَلْمَعْنَ وَيَقْطُرْنَ، لِأَنَّ الْأَسْيَافَ وَالْجَفَنَاتِ جَمْعُ قِلَّةٍ، وَلَوْ جَمَعَ جَمْعَ الْكَثْرَةِ لَقَالَ: تَلْمَعُ وَتَقْطُرُ، هَذَا هُوَ الِاخْتِيَارُ، ثُمَّ يَجُوزُ إِجْرَاءُ أَحَدِهِمَا مَجْرَى الْآخَرِ كَقَوْلِ النَّابِغَةُ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ فَقَالَ بِهِنَّ وَالسُّيُوفُ جَمْعُ كَثْرَةٍ. الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذَا الظُّلْمِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ النَّسِيءُ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَهُ فَيَنْقُلُونَ الْحَجَّ مِنَ الشَّهْرِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِإِقَامَتِهِ فِيهِ إِلَى شَهْرٍ آخَرَ، وَيُغَيِّرُونَ تَكَالِيفَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْمُقَاتَلَةِ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي بِسَبَبِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ لِهَذِهِ الْأَشْهُرِ مَزِيدَ أَثَرٍ فِي تَعْظِيمِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي حَمْلُهُ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ النَّسِيءِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهُ عَقِيبَ الْآيَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: كَافَّةً أَيْ جَمِيعًا، وَالْكَافَّةُ لَا تَكُونُ مُذَكَّرَةً وَلَا مَجْمُوعَةً عَلَى عَدَدِ الرِّجَالِ فَنَقُولُ: كَافِّينَ، أَوْ كَافَّاتٍ لِلنِّسَاءِ وَلَكِنَّهَا (كَافَّةً) بِالْهَاءِ وَالتَّوْحِيدِ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ عَلَى لَفْظِ فَاعِلَةٍ فَإِنَّهَا فِي تَرْتِيبِ مَصْدَرٍ مِثْلَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُدْخِلِ الْعَرَبُ فِيهَا الْأَلِفَ وَاللَّامَ، لِأَنَّهَا فِي مَذْهَبِ قَوْلِكَ قَامُوا مَعًا، وَقَامُوا جَمِيعًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كَافَّةً مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعَ، كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: قَاتِلُوهُمْ عَامَّةً، لَمْ تُثَنِّ وَلَمْ تَجْمَعْ، وَكَذَلِكَ خَاصَّةً.

[سورة التوبة (9) : آية 37]

الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي قَوْلِهِ: كَافَّةً قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَاتِلُوهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ مُجْتَمِعِينَ عَلَى قِتَالِهِمْ، كَمَا أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَكُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، يُرِيدُ تَعَاوَنُوا وَتَنَاصَرُوا عَلَى ذَلِكَ وَلَا تَتَخَاذَلُوا وَلَا تَتَقَاطَعُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ مُجْتَمِعِينَ مُتَوَافِقِينَ فِي مُقَاتَلَةِ الْأَعْدَاءِ. وَالثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَاتِلُوهُمْ بِكُلِّيَّتِهِمْ وَلَا تُحَابُوا بَعْضَهُمْ بِتَرْكِ الْقِتَالِ، كَمَا أَنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ قِتَالَ جَمِيعِكُمْ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ حَتَّى يَصِحَّ قِيَاسُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الآخر. البحث الثالث: ظاهر قوله: قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً إِبَاحَةُ قِتَالِهِمْ فِي جَمِيعِ الْأَشْهُرِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الْمُقَاتَلَةُ مَعَ الْكُفَّارِ محرمة، بدليل قوله: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ... فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أَيْ فَلَا/ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بِاسْتِحْلَالِ الْقِتَالِ وَالْغَارَةِ فِيهِنَّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تفسير قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ [الْبَقَرَةِ: 217] . ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ يُرِيدُ مَعَ أَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَهُ فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ وَالِاجْتِنَابِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ ضامن لهم النصر. [سورة التوبة (9) : آية 37] إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37) [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي النَّسِيءُ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ التَّأْخِيرُ. قَالَ أَبُو زيد: نسأت الإبل عن الحوض أنسأها نَسْأً إِذَا أَخَّرْتَهَا وَأَنْسَأْتُهُ إِنْسَاءً إِذَا أَخَّرْتَهُ عَنْهُ، وَالِاسْمُ النَّسِيئَةُ وَالنَّسْءُ، وَمِنْهُ: أَنْسَأَ اللَّهُ فُلَانًا أَجَلَهَ، وَنَسَأَ فِي أَجَلِهِ قَالَ أَبُو علي الفارسي: النسيء مَصْدَرٌ كَالنَّذِيرِ وَالنَّكِيرِ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ نسئ بِمَعْنَى مَنْسُوءٍ كَقَتِيلٍ: بِمَعْنَى مَقْتُولٍ، إِلَّا أَنَّهُ لا يمكن أن يكون المراد منه هاهنا الْمَفْعُولَ، لِأَنَّهُ إِنْ حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مَعْنَاهُ: إِنَّمَا الْمُؤَخَّرُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ، وَالْمُؤَخَّرُ الشَّهْرُ، فَيَلْزَمُ كَوْنُ الشَّهْرِ كُفْرًا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، بل المراد من النسيء هاهنا الْمَصْدَرُ بِمَعْنَى الْإِنْسَاءِ، وَهُوَ التَّأْخِيرُ. وَكَانَ النَّسِيءُ فِي الشُّهُورِ عِبَارَةً عَنْ تَأْخِيرِ حُرْمَةِ شَهْرٍ إِلَى شَهْرٍ آخَرَ، لَيْسَتْ لَهُ تِلْكَ الْحُرْمَةُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ مِنْ طَرِيقِ شِبْلٍ: النَّسْءُ بِوَزْنِ النَّفْعِ وَهُوَ الْمَصْدَرُ الْحَقِيقِيُّ، كَقَوْلِهِمْ: نسأت، أي أخرت وروي عنه أيضا: النسيء مخففة الياء، ولعله لغة في النسء بِالْهَمْزَةِ مِثْلَ: أَرْجَيْتُ وَأَرْجَأْتُ. وَرُوِيَ عَنْهُ: النَّسِيُّ مُشَدَّدَ الْيَاءِ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ وَهَذَا عَلَى التَّخْفِيفِ الْقِيَاسِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ قُطْرُبٌ: النَّسِيءُ أَصْلُهُ من الزيادة يقال: نسأل فِي الْأَجَلِ وَأَنْسَأَ إِذَا زَادَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ قِيلَ لِلَّبَنِ النَّسْءُ لِزِيَادَةِ الْمَاءِ فِيهِ، وَنَسَأَتِ الْمَرْأَةُ حَبِلَتْ، جَعَلَ زِيَادَةَ الْوَلَدِ فِيهَا كَزِيَادَةِ/ الْمَاءِ فِي اللَّبَنِ، وَقِيلَ لِلنَّاقَةِ: نَسَأْتُهَا، أَيْ زَجَرْتُهَا لِيَزْدَادَ سَيْرُهَا وَكُلُّ زِيَادَةٍ حَدَثَتْ فِي شَيْءٍ فَهُوَ نَسِيءٌ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الصَّحِيحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّ أَصْلَ النَّسِيءِ التَّأْخِيرُ، وَنَسَأَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا حَبِلَتْ لِتَأَخُّرِ حَيْضِهَا، وَنَسَأْتُ النَّاقَةَ أَيْ أَخَّرْتُهَا عَنْ غَيْرِهَا، لِئَلَّا يَصِيرَ اخْتِلَاطُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مَانِعًا مِنْ حُسْنِ الْمَسِيرِ، وَنَسَأْتُ اللَّبَنَ إِذَا أَخَّرْتَهُ حَتَّى كَثُرَ الْمَاءُ فِيهِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فَنَقُولُ: إِنَّ الْقَوْمَ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَوْ رَتَّبُوا حِسَابَهُمْ عَلَى السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ حَجُّهُمْ تَارَةً فِي الصَّيْفِ وَتَارَةً فِي الشِّتَاءِ، وَكَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمُ الْأَسْفَارُ وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا فِي الْمُرَابَحَاتِ وَالتِّجَارَاتِ، لِأَنَّ سَائِرَ النَّاسِ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ مَا كَانُوا يَحْضُرُونَ إِلَّا فِي الْأَوْقَاتِ اللَّائِقَةِ الْمُوَافِقَةِ، فَعَلِمُوا أَنَّ بِنَاءَ الْأَمْرِ عَلَى رِعَايَةِ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ يُخِلُّ بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا، فَتَرَكُوا ذَلِكَ وَاعْتَبَرُوا السَّنَةَ الشَّمْسِيَّةَ، وَلَمَّا كَانَتِ السَّنَةُ الشَّمْسِيَّةُ زَائِدَةً عَلَى السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، احْتَاجُوا إِلَى الْكَبِيسَةِ وَحَصَلَ لَهُمْ بِسَبَبِ تِلْكَ الْكَبِيسَةِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ بَعْضَ السِّنِينَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا بِسَبَبِ اجْتِمَاعِ تِلْكَ الزِّيَادَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَنْتَقِلُ الْحَجُّ مِنْ بَعْضِ الشُّهُورِ الْقَمَرِيَّةِ إِلَى غَيْرِهِ، فَكَانَ الْحَجُّ يَقَعُ فِي بَعْضِ السِّنِينَ فِي ذِي الْحِجَّةِ وَبَعْدَهُ فِي الْمُحَرَّمِ وَبَعْدَهُ فِي صَفَرٍ، وَهَكَذَا فِي الدَّوْرِ حَتَّى يَنْتَهِيَ بَعْدَ مُدَّةٍ مَخْصُوصَةٍ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى ذِي الْحِجَّةِ، فَحَصَلَ بِسَبَبِ الْكَبِيسَةِ هَذَانِ الْأَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: الزِّيَادَةُ فِي عِدَّةِ الشُّهُورِ. وَالثَّانِي: تَأْخِيرُ الْحُرْمَةِ الْحَاصِلَةِ لِشَهْرٍ إِلَى شَهْرٍ آخَرَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ النَّسِيءِ يُفِيدُ التَّأْخِيرَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَيُفِيدُ الزِّيَادَةَ عِنْدَ الْبَاقِينَ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَإِنَّهُ مُنْطَبِقٌ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ. وَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ بِنَاءَ الْعِبَادَاتِ عَلَى السَّنَةِ القمرية يخل مصالح الدنيا، وبناؤها عَلَى السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ يُفِيدُ رِعَايَةَ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ مِنْ وَقْتِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِبِنَاءِ الْأَمْرِ عَلَى رِعَايَةِ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ، فَهُمْ تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ فِي رِعَايَةِ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ، وَاعْتَبَرُوا السَّنَةَ الشَّمْسِيَّةَ رِعَايَةً لِمَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَأَوْقَعُوا الْحَجَّ فِي شَهْرٍ آخَرَ سِوَى الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ عَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِزِيَادَةِ كُفْرِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْكُفْرِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِإِيقَاعِ الْحَجِّ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ بسبب هذه الكبيسة أوقعوا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَشْهُرِ، وَذَكَرُوا لِأَتْبَاعِهِمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي عَمِلْنَاهُ هُوَ الْوَاجِبُ، وَأَنَّ إِيقَاعَهُ في الشهور القمرية غير وواجب، فَكَانَ هَذَا إِنْكَارًا مِنْهُمْ لِحُكْمِ اللَّهِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ وَتَمَرُّدًا عَنْ طَاعَتِهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْكُفْرَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَثَبَتَ أَنَّ عَمَلَهُمْ فِي ذَلِكَ النَّسِيءِ يُوجِبُ زِيَادَةً فِي الْكُفْرِ، وَأَمَّا الْحِسَابُ الَّذِي بِهِ يُعْرَفُ مَقَادِيرُ الزِّيَادَةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ تِلْكَ الْكَبَائِسِ فَمَذْكُورٌ فِي الزِّيجَاتِ، وَأَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ/ هَذَا التَّأْخِيرِ وَجْهًا آخَرَ فَقَالُوا: إِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُحَرِّمُ الشُّهُورَ الْأَرْبَعَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ شَرِيعَةً ثَابِتَةً مِنْ زَمَانِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَكَانَ الْعَرَبُ أَصْحَابَ حُرُوبٍ وَغَارَاتٍ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَمْكُثُوا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مُتَوَالِيَةٍ لَا يَغْزُونَ فِيهَا وَقَالُوا: إِنْ تَوَالَتْ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ حُرُمٍ لَا نُصِيبُ فِيهَا شَيْئًا لِنَهْلِكَنَّ، وَكَانُوا يُؤَخِّرُونَ تَحْرِيمَ الْمُحَرَّمِ إِلَى صَفَرٍ فَيُحَرِّمُونَهُ وَيَسْتَحِلُّونَ الْمُحَرَّمَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّأْخِيرَ مَا كَانَ يَخْتَصُّ بِشَهْرٍ وَاحِدٍ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ حَاصِلًا فِي كُلِّ الشُّهُورِ، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدَنَا هُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ. وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ فِي سَنَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَادَ الْحَجُّ إِلَى شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خلق السموات والأرض السنة إثنا عشر شرا» وَأَرَادَ أَنَّ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ رَجَعَتْ إِلَى مَوَاضِعِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الْكُفْرِ، فَلَمَّا ضَمُّوا إِلَيْهَا هَذَا الْعَمَلَ وَنَحْنُ قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ كُفْرٌ كَانَ ضَمُّ هَذَا الْعَمَلِ إِلَى تِلْكَ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ سَالِفًا مِنَ الْكُفْرِ زِيَادَةً فِي الْكُفْرِ. احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الْإِيمَانُ مُجَرَّدُ الِاعْتِقَادِ وَالْإِقْرَارِ، قَالَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْكُفْرِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ إِتْمَامًا، فَكَانَ تَرْكُ هَذَا التَّأْخِيرِ إِيمَانًا، وَظَاهِرٌ أَنَّ هَذَا التَّرْكَ لَيْسَ بِمَعْرِفَةٍ وَلَا بِإِقْرَارٍ فَثَبَتَ أَنَّ غَيْرَ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِقْرَارِ قد يكون

[سورة التوبة (9) : آية 38]

إِيمَانًا قَالَ الْمُصَنِّفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا الِاسْتِدْلَالُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ إِيقَاعَ الْحَجِّ فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ مَثَلًا مِنَ الْأَشْهُرِ الْقَمَرِيَّةِ، فَإِذَا اعْتَبَرْنَا السَّنَةَ الشَّمْسِيَّةَ، فَرُبَّمَا وَقَعَ الْحَجُّ فِي الْمُحَرَّمِ مَرَّةً وَفِي صَفَرٍ أُخْرَى. فَقَوْلُهُمْ: بِأَنَّ هَذَا الْحَجَّ صَحِيحٌ يَجْزِي، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ إِيقَاعُ الْحَجِّ فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ إِنْ كَانَ مِنْهُمْ بِحُكْمٍ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهُ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَكَانَ هَذَا كُفْرًا بِسَبَبِ عَدَمِ الْعِلْمِ وَبِسَبَبِ عَدَمِ الْإِقْرَارِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهَذَا قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ وَهِيَ حَسَنَةٌ لِإِسْنَادِ الضَّلَالِ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا لِأَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا ضَالِّينَ فِي أَنْفُسِهِمْ فَقَدْ حَسُنَ إِسْنَادُ الضَّلَالِ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مُضِلِّينَ لِغَيْرِهِمْ حَسُنَ أَيْضًا، لِأَنَّ المضل لغيره ضال في نفسه لا محال. وَقِرَاءَةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ يُضَلُّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الضَّادِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ كُبَرَاءَهُمْ يُضِلُّونَهُمْ بِحَمْلِهِمْ عَلَى هَذَا التَّأْخِيرِ فِي الشُّهُورِ، فَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ أَيْ زَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ حَامِلُوهُمْ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مِقْسَمٍ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: / أَحَدُهَا: يُضِلُّ اللَّهُ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَالثَّانِي: يُضِلُّ الشَّيْطَانُ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ أَقْوَاهَا يُضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا تَابِعِيهِمْ وَالْآخِذِينَ بِأَقْوَالِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْوَجْهُ أَقْوَى لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُ اللَّهِ وَلَا ذِكْرُ الشَّيْطَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكِنَايَةَ فِي قَوْلِهِ: يُضَلُّ بِهِ يَعُودُ إِلَى النَّسِيءِ. وَقَوْلُهُ: يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى النَّسِيءِ وَالْمَعْنَى: يُحِلُّونَ ذَلِكَ الْإِنْسَاءَ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُحِلُّونَ التَّأْخِيرَ عَامًا وَهُوَ الْعَامُ الَّذِي يُرِيدُونَ أَنْ يُقَاتِلُوا فِي الْمُحَرَّمِ، وَيُحَرِّمُونَ التَّأْخِيرَ عَامًا آخَرَ وَهُوَ الْعَامُ الَّذِي يَدَعُونَ الْمُحَرَّمَ عَلَى تَحْرِيمِهِ. قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا التَّأْوِيلُ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا فَسَّرْنَا النَّسِيءَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الْمُحَرَّمَ فِي بَعْضِ السِّنِينَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَنْقَلِبَ الشَّهْرُ الْمُحَرَّمُ إِلَى الْحِلِّ وَبِالْعَكْسِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَصْلُحُ لَوْ حَمَلْنَا النَّسِيءَ عَلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ الْمَنْسُوءُ الْمُؤَخَّرُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الشَّهْرُ الْمُؤَخَّرُ كُفْرًا وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إِلَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ النَّسِيءِ الْمَنْسُوءُ وَهُوَ الْمَفْعُولُ، وَحَمَلْنَا قَوْلَهُ: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْعَمَلُ الَّذِي بِهِ يَصِيرُ النَّسِيءُ سَبَبًا فِي زِيَادَةِ الْكُفْرِ، وَبِسَبَبِ هَذَا الْإِضْمَارِ يَقْوَى هَذَا التَّأْوِيلُ. أَمَّا قوله: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ [إلى آخر الآية] قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ: وَاطَأْتُ فُلَانًا عَلَى كَذَا إِذَا وَافَقْتَهُ عَلَيْهِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ: تَوَاطَأَ الْقَوْمُ عَلَى كَذَا إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَطَأُ حَيْثُ يَطَأُ صَاحِبُهُ وَالْإِيطَاءُ فِي الشِّعْرِ مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ فِي الْقَصِيدَةِ بِقَافِيَتَيْنِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَمَعْنًى وَاحِدٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّهُمْ مَا أَحَلُّوا شَهْرًا مِنَ الْحَرَامِ إِلَّا حَرَّمُوا مَكَانَهُ شَهْرًا مِنَ الْحَلَالِ، وَلَمْ يُحَرِّمُوا شَهْرًا مِنَ الْحَلَالِ إِلَّا أَحَلُّوا مَكَانَهُ شَهْرًا مِنَ الْحَرَامِ، لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَرْبَعَةً، مُطَابِقَةً لِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْمُوَاطَأَةِ وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى كَوْنَ هَذَا الْعَمَلِ كُفْرًا وَمُنْكَرًا قَالَ: زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: يُرِيدُ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ هَذَا الْعَمَلَ وَاللَّهُ لا يرشد كل كفار أثيم. [سورة التوبة (9) : آية 38] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38)

فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شرح معايب هؤلاء الكفاء وَفَضَائِحَهُمْ، عَادَ إِلَى التَّرْغِيبِ فِي مُقَاتَلَتِهِمْ وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ وَتَقْرِيرُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أَسْبَابًا كَثِيرَةً مُوجِبَةً لِقِتَالِهِمْ، وَذَكَرَ مَنَافِعَ كَثِيرَةً تَحْصُلُ مِنْ مُقَاتَلَتِهِمْ كَقَوْلِهِ: يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَةِ: 14] وذكر أقو الهم الْمُنْكَرَةَ وَأَعْمَالَهُمُ الْقَبِيحَةَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَعِنْدَ هَذَا لَا يَبْقَى لِلْإِنْسَانِ مَانِعٌ مِنْ قِتَالِهِمْ إِلَّا مُجَرَّدُ أَنْ يَخَافَ الْقَتْلَ وَيُحِبَّ الْحَيَاةَ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْمَانِعَ خَسِيسٌ لِأَنَّ سَعَادَةَ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَعَادَةِ الْآخِرَةِ كَالْقَطْرَةِ فِي الْبَحْرِ، وَتَرْكُ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ لِأَجْلِ الشَّرِّ الْقَلِيلِ جَهْلٌ وَسَفَهٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَجَعَ مِنَ الطَّائِفِ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ وَأَمَرَ بِجِهَادِ الرُّومِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ زَمَانَ شِدَّةِ الْحَرِّ وَطَابَتْ ثِمَارُ الْمَدِينَةِ وَأَيْنَعَتْ، وَاسْتَعْظَمُوا غَزْوَ الرُّومِ وَهَابُوهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: وَإِنَّمَا اسْتَثْقَلَ النَّاسُ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: شِدَّةُ الزَّمَانِ فِي الصَّيْفِ وَالْقَحْطِ. وَثَانِيهَا: بُعْدُ الْمَسَافَةِ وَالْحَاجَةُ إِلَى الِاسْتِعْدَادِ الْكَثِيرِ الزَّائِدِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي سَائِرِ الْغَزَوَاتِ. وَثَالِثُهَا: إِدْرَاكُ الثِّمَارِ بِالْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَرَابِعُهَا: شِدَّةُ الْحَرِّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَخَامِسُهَا: مَهَابَةُ عَسْكَرِ الرُّومِ فَهَذِهِ الْجِهَاتُ الْكَثِيرَةُ اجْتَمَعَتْ فَاقْتَضَتْ تَثَاقُلَ النَّاسِ عَنْ ذَلِكَ الْغَزْوِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُقَالُ: اسْتَنْفَرَ الْإِمَامُ النَّاسَ لِجِهَادِ الْعَدُوِّ فَنَفَرُوا يَنْفِرُونَ نَفْرًا وَنُفُورًا، إِذَا حَثَّهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» وَأَصْلُ النَّفْرِ الْخُرُوجُ إِلَى مَكَانٍ لِأَمْرٍ وَاجِبٍ، وَاسْمُ ذَلِكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ النَّفِيرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ لَا فِي الْعِيرِ وَلَا فِي النَّفِيرِ. وَقَوْلُهُ: اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَصْلُهُ تَثَاقَلْتُمْ، وَبِهِ قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَمَعْنَاهُ: تَبَاطَأْتُمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: فَادَّارَأْتُمْ [الْبَقَرَةِ: 72] وَقَوْلُهُ: اطَّيَّرْنا بِكَ [النَّمْلِ: 47] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَضُمِّنَ مَعْنَى الْمَيْلِ وَالْإِخْلَادِ فَعُدِّيَ بِإِلَى، وَالْمَعْنَى مِلْتُمْ إِلَى الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا وَكَرِهْتُمْ مَشَاقَّ السَّفَرِ وَمَتَاعِبَهُ، وَنَظِيرُهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ [الْأَعْرَافِ: 176] وقيل معناه ملتم إلى الإقامة بأرضكم والبقاء فيها، وقوله: ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ اسْتِفْهَامًا إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِنْكَارِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ وَالْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ قَدْ ذَكَرْنَا الْمُوجِبَاتِ الْكَثِيرَةَ الدَّاعِيَةَ إِلَى الْقِتَالِ، وَقَدْ شَرَحْنَا الْمَنَافِعَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي/ تَحْصُلُ عِنْدَ الْقِتَالِ، وَبَيَّنَّا أَنْوَاعَ فَضَائِحِهِمْ وَقَبَائِحِهِمُ الَّتِي تَحْمِلُ الْعَاقِلَ عَلَى مُقَاتَلَتِهِمْ، فَتَرَكْتُمْ جَمِيعَ هَذِهِ الْأُمُورِ، أَلَيْسَ أَنَّ مَعْبُودَكُمْ يَأْمُرُكُمْ بِمُقَاتَلَتِهِمْ وَتَعْلَمُونَ أَنَّ طَاعَةَ الْمَعْبُودِ تُوجِبُ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ فِي الْآخِرَةِ؟ فَهَلْ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ تَرْكُ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ فِي الْآخِرَةِ، لِأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ الْيَسِيرَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الدُّنْيَا؟ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَتَاعَ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ قَلِيلٌ، أَنَّ لَذَّاتِ الدُّنْيَا خَسِيسَةٌ فِي أَنْفُسِهَا وَمَشُوبَةٌ بِالْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ وَمُنْقَطِعَةٌ عَنْ قَرِيبٍ لَا مَحَالَةَ، وَمَنَافِعَ الْآخِرَةِ شَرِيفَةٌ عَالِيَةٌ خَالِصَةٌ عَنْ كُلِّ الْآفَاتِ، وَدَائِمَةٌ أَبَدِيَّةٌ سَرْمَدِيَّةٌ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنَّ مَتَاعَ الدُّنْيَا قَلِيلٌ حَقِيرٌ خَسِيسٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْجِهَادِ فِي كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى أَنَّ تثاقلهم

[سورة التوبة (9) : آية 39]

عَنِ الْجِهَادِ أَمْرٌ مُنْكَرٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْجِهَادُ وَاجِبًا لَمَا كَانَ هَذَا التَّثَاقُلُ مُنْكَرًا، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْجِهَادُ إِنَّمَا يَجِبُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُخَافُ هُجُومُ الْكُفَّارِ فِيهِ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَخَافُ هُجُومَ الرُّومِ عَلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَوْجَبَ الْجِهَادَ مَعَهُمْ، وَمَنَافِعُ الْجِهَادِ مُسْتَقْصَاةٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَأَيْضًا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ. الْمَسْأَلَةُ الخامسة: لقائل أن يقول إن قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خِطَابٌ مَعَ كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ قَالَ: مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا مُتَثَاقِلِينَ فِي ذَلِكَ التَّكْلِيفِ، وَذَلِكَ التَّثَاقُلُ مَعْصِيَةٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إِطْبَاقِ كُلِّ الْأُمَّةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ. الْجَوَابُ: أَنَّ خِطَابَ الْكُلِّ لِإِرَادَةِ الْبَعْضِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي سَائِرِ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ كقوله: إياك أعني واسمعي يا جاره [سورة التوبة (9) : آية 39] إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا رَغَّبَهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُولَى فِي الْجِهَادِ بِنَاءً عَلَى التَّرْغِيبِ فِي ثَوَابِ الْآخِرَةِ، رَغَّبَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْجِهَادِ بِنَاءً عَلَى أَنْوَاعٍ أُخَرَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُقَوِّيَةِ لِلدَّوَاعِي، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تعالى: يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً. واعلم أن يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَذَابَ الدُّنْيَا، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَذَابَ الْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: اسْتَنْفَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَوْمَ فَتَثَاقَلُوا، فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمَطَرَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِالْعَذَابِ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَذَابُ الْآخِرَةِ إِذِ الْأَلِيمُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِهِ. وَقِيلَ إِنَّهُ تَهْدِيدٌ بِكُلِّ الْأَقْسَامِ، وَهِيَ عَذَابُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْآخِرَةِ، وَقَطْعُ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَمَنَافِعِ الْآخِرَةِ. الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَالْمُرَادُ تَنْبِيهُهُمْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُتَكَفِّلٌ بِنَصْرِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ، فَإِنْ سَارَعُوا مَعَهُ إِلَى الْخُرُوجِ حَصَلَتِ النُّصْرَةُ بِهِمْ، وَإِنْ تَخَلَّفُوا وَقَعَتِ النُّصْرَةُ بِغَيْرِهِمْ، وَحَصَلَ الْعُتْبَى لَهُمْ لِئَلَّا يَتَوَهَّمُوا أَنَّ غَلَبَةَ أَعْدَاءِ الدِّينَ وَعِزَّ الْإِسْلَامِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهِمْ، وَلَيْسَ فِي النَّصِّ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْهُمْ، وَنَظِيرُهُ قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [الْمَائِدَةِ: 54] ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ التَّابِعُونَ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُمْ أَبْنَاءُ فَارِسَ. وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ لَيْسَتْ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ، لِأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا إِشْعَارٌ بِهَا، بَلْ حُمِلَ ذَلِكَ الْكَلَامُ الْمُطْلَقُ عَلَى صُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ شَاهَدُوهَا. قَالَ الْأَصَمُّ: مَعْنَاهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، وَهِيَ الْمَدِينَةُ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُنْقَلُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى غَيْرِهَا، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُظْهِرَ اللَّهُ فِي الْمَدِينَةِ أَقْوَامًا يُعِينُونَهُ عَلَى الْغَزْوِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُعِينَهُ بِأَقْوَامٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَيْضًا حَالَ كَوْنِهِ هُنَاكَ، وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَالْكِنَايَةُ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ: رَاجِعَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ لَا تَضُرُّوا اللَّهَ لِأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، وَفِي قَوْلِ الْبَاقِينَ يَعُودُ إِلَى الرَّسُولِ، أَيْ لَا

[سورة التوبة (9) : آية 40]

تَضُرُّوا الرَّسُولَ لِأَنَّ اللَّهَ عَصَمَهُ مِنَ النَّاسِ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْذُلُهُ إِنْ تَثَاقَلْتُمْ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى شِدَّةِ الزَّجْرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْعَجْزُ، فَإِذَا تَوَعَّدَ بِالْعِقَابِ فَعَلَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التَّوْبَةِ: 122] قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خِطَابٌ لِمَنِ اسْتَنْفَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَنْفِرُوا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا نَسْخَ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وَعِيدِ أَهْلِ الصَّلَاةِ حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ لَمْ يَنْفِرُوا يُعَذِّبْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ، فَإِنَّ تَرْكَ الْجِهَادِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فبطل بذلك قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ إِنَّ أَهَّلَ الصَّلَاةِ لَا وَعِيدَ لَهُمْ، وَإِذَا ثَبَتَ الْوَعِيدُ لَهُمْ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ/ فَكَذَا فِي غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْوَعِيدِ ذَكَرْنَاهَا بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الْجِهَادِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَ الرَّسُولِ أَوْ لَا مَعَهُ، لِأَنَّهُ تعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ هُوَ الرَّسُولُ. فَإِنْ قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الرَّسُولَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ولقوله: وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ إِلَّا الرَّسُولَ. قُلْنَا: خُصُوصُ آخَرِ الْآيَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ أَوَّلِهَا عَلَى مَا قَرَّرْنَا في أصول الفقه. [سورة التوبة (9) : آية 40] إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) اعلم أَنَّ هَذَا ذِكْرُ طَرِيقٍ آخَرَ فِي تَرْغِيبِهِمْ فِي الْجِهَادِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَنْفِرُوا بِاسْتِنْفَارِهِ، وَلَمْ يَشْتَغِلُوا بِنُصْرَتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُ بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ نَصَرَهُ وَقَوَّاهُ، حَالَ مَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَهَهُنَا أَوْلَى، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ: فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ؟ وَجَوَابُهُ أَنَّ التَّقْدِيرَ إِلَّا تَنْصُرُوهُ، فسينصره من نصره حين مَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَلَا أَقَلَّ مِنَ الْوَاحِدِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَنْصُرُهُ الْآنَ كَمَا نَصَرَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَعْنِي قَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَكَّةَ وَقَوْلُهُ: ثانِيَ اثْنَيْنِ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، أَيْ فِي الْحَالِ الَّتِي كَانَ فِيهَا ثانِيَ اثْنَيْنِ وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ: ثانِيَ اثْنَيْنِ سَبَقَ فِي قَوْلِهِ: ثالِثُ ثَلاثَةٍ [الْمَائِدَةِ: 73] وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ أَنَّهُ إِذَا حَضَرَ اثْنَانِ فَكُلُّ/ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ ثَانِيًا فِي ذَيْنِكَ الِاثْنَيْنِ الآخر فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالُوا: يُقَالُ فُلَانٌ ثَانِي اثْنَيْنِ، أَيْ هُوَ أَحَدُهُمَا. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقُرِئَ ثانِيَ اثْنَيْنِ بالسكون وإِذْ هُما بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: إِذْ أَخْرَجَهُ وَالْغَارُ ثقب

عَظِيمٌ فِي الْجَبَلِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْجَبَلُ يُقَالُ لَهُ ثَوْرٌ، فِي يَمِينِ مَكَّةَ عَلَى مَسِيرَةِ سَاعَةٍ، مَكَثَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ ثَلَاثًا. وَقَوْلُهُ: إِذْ يَقُولُ: بَدَلٌ ثَانٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا أَنَّ قُرَيْشًا وَمَنْ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى قَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْفَالِ: 30] فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَخْرُجَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ أَوَّلَ اللَّيْلِ إِلَى الْغَارِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا هُوَ أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ كَالْمُضْطَرِّ إِلَى الْخُرُوجِ. وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ أَوَّلَ اللَّيْلِ إِلَى الْغَارِ، وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى فِرَاشِهِ لِيَمْنَعَهُمُ السَّوَادُ مِنْ طَلَبِهِ، حَتَّى يَبْلُغَ هُوَ وَصَاحِبُهُ إِلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، فَلَمَّا وَصَلَا إِلَى الْغَارِ دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ الْغَارَ أَوَّلًا، يَلْتَمِسُ مَا فِي الْغَارِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مالك؟ فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، الْغِيرَانُ مَأْوَى السِّبَاعِ وَالْهَوَامِّ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ كَانَ بِي لَا بِكَ، وَكَانَ فِي الْغَارِ جُحْرٌ، فَوَضَعَ عَقِبَهُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَخْرُجَ مَا يُؤْذِي الرَّسُولَ، فَلَمَّا طَلَبَ الْمُشْرِكُونَ الْأَثَرَ وَقَرُبُوا، بَكَى أَبُو بَكْرٍ خَوْفًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ اللَّهَ لَمَعَنَا، فَقَالَ الرَّسُولُ: «نَعَمْ» فَجَعَلَ يَمْسَحُ الدُّمُوعَ عَنْ خَدِّهِ. وَيُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا ذَكَرَ بُكَاءَ أَبِي بَكْرٍ بَكَى، وَإِذَا ذَكَرَ مَسْحَهُ الدُّمُوعَ مَسَحَ هُوَ الدُّمُوعَ عَنْ خَدِّهِ. وَقِيلَ: لَمَّا طَلَعَ الْمُشْرِكُونَ فَوْقَ الْغَارِ أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنْ تُصَبِ الْيَوْمَ ذَهَبَ دِينُ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» وَقِيلَ لَمَّا دَخَلَ الْغَارَ وَضَعَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَامَةً عَلَى بَابِ الْغَارِ، وَبَعَثَ اللَّهُ حَمَامَتَيْنِ فَبَاضَتَا فِي أَسْفَلِهِ وَالْعَنْكَبُوتُ نَسَجَتْ عَلَيْهِ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ أَعْمِ أَبْصَارَهُمْ» فَجَعَلُوا يَتَرَدَّدُونَ حَوْلَ الْغَارِ وَلَا يَرَوْنَ أَحَدًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى فَضِيلَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَهَبَ إِلَى الْغَارِ لِأَجْلِ أَنَّهُ كَانَ يَخَافُ الْكُفَّارَ مِنْ أَنْ يُقْدِمُوا عَلَى قَتْلِهِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَاطِعًا عَلَى بَاطِنِ أَبِي بَكْرٍ، بِأَنَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُحَقِّقِينَ الصَّادِقِينَ الصِّدِّيقِينَ، وَإِلَّا لَمَا أَصْحَبَهُ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، لِأَنَّهُ لَوْ جُوِّزَ أَنْ يَكُونَ بَاطِنُهُ بِخِلَافِ ظَاهِرِهِ، لَخَافَهُ مِنْ أَنْ يَدُلَّ أَعْدَاءَهُ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا لَخَافَهُ مِنْ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى قَتْلِهِ فَلَمَّا اسْتَخْلَصَهُ لِنَفْسِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَاطِعًا بِأَنَّ بَاطِنَهُ عَلَى وَفْقِ ظَاهِرِهِ. الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ فِي خِدْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُخْلِصِينَ، وَكَانُوا فِي النَّسَبِ إِلَى شَجَرَةِ رَسُولَ اللَّهِ أَقْرَبَ/ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ بِأَنْ يَسْتَصْحِبَ أَبَا بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ الصَّعْبَةِ الْهَائِلَةِ، وَإِلَّا لَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ لَا يَخُصَّهُ بِهَذِهِ الصُّحْبَةِ، وَتَخْصِيصُ اللَّهِ إِيَّاهُ بِهَذَا التَّشْرِيفِ دَلَّ عَلَى مَنْصِبٍ عَالٍ لَهُ فِي الدِّينِ. الثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ سِوَى أَبِي بَكْرٍ فَارَقُوا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا هُوَ فَمَا سَبَقَ رَسُولَ اللَّهِ كَغَيْرِهِ، بَلْ صَبَرَ عَلَى مُؤَانَسَتِهِ وَمُلَازَمَتِهِ وَخِدْمَتِهِ عِنْدَ هَذَا الْخَوْفِ الشَّدِيدِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ مَعَهُ أَحَدٌ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْفَضْلَ الْعَظِيمَ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ ثانِيَ اثْنَيْنِ فجعل ثَانِيَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَالَ كَوْنِهِمَا فِي الْغَارِ، وَالْعُلَمَاءُ أَثْبَتُوا أَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ ثَانِيَ مُحَمَّدٍ فِي أَكْثَرِ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُرْسِلَ إِلَى الْخَلْقِ وَعَرَضَ الْإِسْلَامَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ آمَنَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ ذَهَبَ وَعَرَضَ الْإِسْلَامَ عَلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَجَمَاعَةٍ آخَرِينَ مِنْ أَجِلَّةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَالْكُلُّ آمَنُوا عَلَى يَدَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ جَاءَ بِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَيَّامٍ قَلَائِلَ، فَكَانَ هُوَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثانِيَ اثْنَيْنِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَأَيْضًا كُلَّمَا وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ، كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقِفُ فِي خِدْمَتِهِ وَلَا يُفَارِقُهُ، فَكَانَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ فِي مَجْلِسِهِ، وَلَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ مَقَامَهُ فِي إِمَامَةِ

النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ فَكَانَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ دُفِنَ بِجَنْبِهِ، فَكَانَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ هُنَاكَ أَيْضًا، وَطَعَنَ بَعْضُ الْحَمْقَى مِنَ الرَّوَافِضِ فِي هَذَا الْوَجْهِ وَقَالَ: كَوْنُهُ ثَانِيَ اثْنَيْنِ لِلرَّسُولِ لَا يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ كَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى رابعا لكل ثلاثة فِي قَوْلِهِ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ [الْمُجَادَلَةِ: 7] ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحُكْمَ عَامٌّ فِي حَقِّ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى دَالًّا عَلَى فَضِيلَةِ الْإِنْسَانِ فَلِأَنْ لَا يَدُلَّ مِنَ النَّبِيِّ عَلَى فَضِيلَةِ الْإِنْسَانِ كَانَ أَوْلَى. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا تَعَسُّفٌ بَارِدٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَاكَ كَوْنُهُ تَعَالَى مَعَ الْكُلِّ بِالْعِلْمِ وَالتَّدْبِيرِ، وَكَوْنُهُ مُطَّلِعًا على ضمير كل أحد، أما هاهنا فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثانِيَ اثْنَيْنِ تَخْصِيصُهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي مَعْرِضِ التَّعْظِيمِ وَأَيْضًا قَدْ دَلَّلْنَا بِالْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ مَعَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَاطِعًا بِأَنَّ بَاطِنَهُ كَظَاهِرِهِ، فَأَيْنَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ مِنَ الْآخَرِ؟ وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ: مِنَ التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا حَزِنَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مَنْصِبٌ عَلِيٌّ، وَدَرَجَةٌ رَفِيعَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّوَافِضَ فِي الدِّينِ كَانُوا إِذَا حَلَفُوا قَالُوا: وَحَقِّ خَمْسَةٍ سَادِسُهُمْ جِبْرِيلُ، وَأَرَادُوا بِهِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِيًّا، وَفَاطِمَةَ، وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، كَانُوا قَدِ احْتَجَبُوا تَحْتَ/ عَبَاءَةٍ يَوْمَ الْمُبَاهَلَةِ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ وَجَعَلَ نَفْسَهُ سَادِسًا لَهُمْ، فَذَكَرُوا لِلشَّيْخِ الْإِمَامِ الْوَالِدِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْقَوْمَ هَكَذَا يَقُولُونَ، فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَكُمْ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: «مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ هَذَا أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ. وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ أَبَا بَكْرٍ بِكَوْنِهِ صَاحِبًا لِلرَّسُولِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْفَضْلِ. قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ فُضَيْلٍ الْبَجَلِيُّ: مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ صَاحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَافِرًا، لِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ صَاحِبًا لَهُ، اعْتَرَضُوا وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْكَافِرَ بِكَوْنِهِ صَاحِبًا لِلْمُؤْمِنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ [الْكَهْفِ: 37] . وَالْجَوَابُ: أَنَّ هُنَاكَ وَإِنْ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ صَاحِبًا لَهُ ذِكْرًا إِلَّا أَنَّهُ أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْإِهَانَةِ وَالْإِذْلَالِ، وهو قوله: أَكَفَرْتَ أما هاهنا فَبَعْدَ أَنْ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ صَاحِبًا لَهُ، ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَيُّ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَ الْبَابَيْنِ لَوْلَا فَرْطُ الْعَدَاوَةِ؟ وَالْوَجْهُ السَّابِعُ: فِي دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ. قَوْلُهُ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْمَعِيَّةِ، الْمَعِيَّةُ بِالْحِفْظِ وَالنُّصْرَةِ وَالْحِرَاسَةِ وَالْمَعُونَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَرَكَ بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ فِي هَذِهِ الْمَعِيَّةِ، فَإِنْ حَمَلُوا هَذِهِ الْمَعِيَّةَ عَلَى وَجْهٍ فَاسِدٍ، لَزِمَهُمْ إِدْخَالُ الرَّسُولِ فِيهِ، وَإِنْ حَمَلُوهَا عَلَى مَحْمَلِ رَفِيعٍ شَرِيفٍ، لَزِمَهُمْ إِدْخَالُ أَبِي بَكْرٍ فِيهِ، وَنَقُولُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنَ الْمُتَّقِينَ الْمُحْسِنِينَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النَّحْلِ: 128] وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْحُصْرُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا لَا مَعَ غَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ مِنَ الْمُتَّقِينَ الْمُحْسِنِينَ.

وَالْوَجْهُ الثَّامِنُ: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَطْلُوبِ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ ثَانِيَ اثْنَيْنِ فِي الشَّرَفِ الْحَاصِلِ مِنْ هَذِهِ الْمَعِيَّةِ، كَمَا كَانَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ، وَذَلِكَ مَنْصِبٌ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ. الوجه التَّاسِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَحْزَنْ نَهْيٌ عَنِ الْحُزْنِ مُطْلَقًا، وَالنَّهْيُ يُوجِبُ الدَّوَامَ وَالتِّكْرَارَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَحْزَنَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ الْبَتَّةَ، قَبْلَ الْمَوْتِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَ الموت. الوجه الْعَاشِرُ: قَوْلُهُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَمَنْ قال الضمير في قوله: عَلَيْهِ عائدا إِلَى الرَّسُولِ فَهَذَا بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ وَالتَّقْدِيرُ: إِذْ يَقُولُ مُحَمَّدٌ لِصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ/ لَا تَحْزَنْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَأَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ السَّابِقَةِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ، فَوَجَبَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْحُزْنَ وَالْخَوْفَ كَانَ حَاصِلًا لِأَبِي بَكْرٍ لَا لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ آمِنًا سَاكِنَ الْقَلْبِ بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ أَنْ يَنْصُرَهُ عَلَى قُرَيْشٍ فَلَمَّا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ لَا تَحْزَنْ صَارَ آمِنًا، فَصَرَفَ السَّكِينَةَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ لِيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِزَوَالِ خَوْفِهِ، أَوْلَى مِنْ صَرْفِهَا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، مع أنه قبل ذلك سَاكِنَ الْقَلْبِ قَوِيَّ النَّفْسِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ إِنْزَالَ السَّكِينَةِ عَلَى الرَّسُولِ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الرَّسُولَ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ خَائِفًا، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَقُولَ لِأَبِي بَكْرٍ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَمَنْ كَانَ خَائِفًا كَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُزِيلَ الْخَوْفَ عَنْ قَلْبِ غَيْرِهِ؟ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوهُ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، بَلْ ذَكَرَ أَوَّلًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ، ثُمَّ ذَكَرَ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ نُزُولَ السَّكِينَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ عَلِمْنَا أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ السَّكِينَةِ مَسْبُوقٌ بِحُصُولِ السَّكِينَةِ فِي قَلْبِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ السَّكِينَةُ نَازِلَةً عَلَى قَلْبِ أَبِي بَكْرٍ. فَإِنْ قِيلَ: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ أَنْزَلَ سَكِينَتَهُ عَلَى قَلْبِ الرَّسُولِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَهَذَا لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالرَّسُولِ، وَالْمَعْطُوفُ يَجِبُ كَوْنُهُ مُشَارِكًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَعْطُوفُ عَائِدًا إِلَى الرَّسُولِ وَجَبَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الرَّسُولِ. قُلْنَا: هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها إِشَارَةٌ إِلَى قِصَّةِ بَدْرٍ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ فِي وَاقِعَةِ الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا فِي وَاقِعَةِ بَدْرٍ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَ هَذَا السُّؤَالُ. الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: مِنَ الْوُجُوهِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِطْبَاقُ الْكُلِّ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ هُوَ الَّذِي اشْتَرَى الرَّاحِلَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ وَأَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ هُمَا اللَّذَانِ كَانَا يَأْتِيَانِهِمَا بِالطَّعَامِ. رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «لَقَدْ كُنْتُ أَنَا وَصَاحِبِي فِي الْغَارِ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَيْسَ لنا

طَعَامٌ إِلَّا التَّمْرَ» وَذَكَرُوا أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ وَهُوَ جَائِعٌ فَقَالَ هَذِهِ أَسْمَاءُ قَدْ أَتَتْ بِحَيْسٍ، فَفَرِحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَأَخْبَرَ بِهِ أَبَا بَكْرٍ وَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَظْهَرَهُ لِأَبِي بَكْرٍ، فَأَمَرَ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَنْ يَشْتَرِيَ جَمَلَيْنِ وَرَحْلَيْنِ وَكُسْوَتَيْنِ، وَيَفْصِلَ أَحَدَهُمَا لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَمَّا قَرُبَا مِنَ الْمَدِينَةِ وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى الْأَنْصَارِ فَخَرَجُوا مُسْرِعِينَ، فَخَافَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَلْبَسَ رَسُولَ اللَّهِ ثَوْبَهُ، لِيَعْرِفُوا أَنَّ الرَّسُولَ هُوَ هُوَ، فَلَمَّا دَنَوْا خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا فَقَالَ لَهُمْ: «اسْجُدُوا لِرَبِّكُمْ وَأَكْرِمُوا أَخًا لَكُمْ» ثُمَّ أَنَاخَتْ نَاقَتُهُ بِبَابِ أَبِي أَيُّوبَ رَوَيْنَا هَذِهِ الرِّوَايَاتِ مِنْ تَفْسِيرِ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ. الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ مَا كَانَ مَعَهُ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ، وَالْأَنْصَارُ مَا رَأَوْا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا إِلَّا أَبَا بَكْرٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَإِنَّ أَصْحَابَنَا زَادُوا عَلَيْهِ وَقَالُوا: لَمَّا لَمْ يَحْضُرْ مَعَهُ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ أَحَدٌ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ، فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ لَزِمَ أَنْ لَا يَقُومَ بِأَمْرِهِ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ وَأَنْ لَا يَكُونَ وَصِّيَهُ عَلَى أُمَّتِهِ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ، وَأَنْ لَا يُبَلِّغَ مَا حَدَثَ مِنَ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ إِلَى أُمَّتِهِ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْفَضَائِلِ الْعَالِيَةِ وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةِ لِأَبِي بَكْرٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّوَافِضَ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الطَّعْنِ فِي أَبِي بَكْرٍ مِنْ وُجُوهٍ ضَعِيفَةٍ حَقِيرَةٍ جَارِيَةٍ مَجْرَى إِخْفَاءِ الشَّمْسِ بِكَفٍّ مِنَ الطِّينِ: فَالْأَوَّلُ: قَالُوا إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: لَا تَحْزَنْ فَذَلِكَ الْحُزْنُ إِنْ كَانَ حَقًّا فَكَيْفَ نَهَى الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْهُ؟ وَإِنْ كَانَ خَطَأً، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ مُذْنِبًا وَعَاصِيًا فِي ذَلِكَ الْحُزْنِ، وَالثَّانِي: قَالُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ اسْتَخْلَصَهُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَخَافُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ فِي مَكَّةَ أَنْ يَدُلَّ الْكُفَّارَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُوقِفَهُمْ عَلَى أَسْرَارِهِ وَمَعَانِيهِ، فَأَخَذَهُ مَعَ نَفْسِهِ دَفْعًا لهذا الشر. والثالث: وَإِنْ دَلَّتْ هَذِهِ الْحَالَةُ عَلَى فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا أَنَّهُ أَمَرَ عَلِيًّا بِأَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاضْطِجَاعَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في مِثْلِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ مَعَ كَوْنِ الْكُفَّارِ قَاصِدِينَ قَتْلَ رَسُولِ اللَّهِ تَعْرِيضُ النَّفْسِ لِلْفِدَاءِ، فَهَذَا الْعَمَلُ مِنْ عَلِيٍّ، أَعْلَى وَأَعْظَمُ مِنْ كَوْنِ أَبِي بَكْرٍ صَاحِبًا لِلرَّسُولِ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا ذَكَرُوهُ فِي ذَلِكَ الْبَابِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْجُبَّائِيَّ لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ تِلْكَ الشُّبْهَةَ، قَالَ: فَيُقَالُ لَهُمْ يَجِبُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه: 68] أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَاصِيًا فِي خَوْفِهِ، وَذَلِكَ طَعْنٌ فِي الْأَنْبِيَاءِ، وَيَجِبُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ، حَيْثُ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لَهُ: لَا تَخَفْ [هود: 69] فِي قِصَّةِ الْعِجْلِ الْمَشْوِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ، وَفِي قولهم لوط: لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ [الْعَنْكَبُوتِ: 33] مِثْلُ ذَلِكَ. فَإِذَا قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ الْخَوْفَ إِنَّمَا حَصَلَ بِمُقْتَضَى الْبَشَرِيَّةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لَا تَخَفْ لِيُفِيدَ الْأَمْنَ، وَفَرَاغَ الْقَلْبِ. قُلْنَا لَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَذَلِكَ. فَإِنْ قَالُوا: أَلَيْسَ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [الْمَائِدَةِ: 67] فَكَيْفَ خَافَ مَعَ سَمَاعِ هَذِهِ الْآيَةِ؟ فَنَقُولُ: هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ، وَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ سَابِقَةٌ عَلَى نُزُولِهَا، وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّهُ كَانَ آمِنًا عَلَى عَدَمِ الْقَتْلِ، وَلَكِنَّهُ مَا كَانَ آمِنًا مِنَ الضَّرْبِ، وَالْجَرْحِ وَالْإِيلَامِ الشَّدِيدِ وَالْعَجَبُ مِنْهُمْ، فَإِنَّا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَبَا بكر

مَا كَانَ خَائِفًا، لَقَالُوا إِنَّهُ فَرِحَ بِسَبَبِ وُقُوعِ الرَّسُولِ فِي الْبَلَاءِ، وَلَمَّا خَافَ وَبَكَى قَالُوا: هَذَا السُّؤَالَ الرَّكِيكَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَطْلُبُونَ الْحَقَّ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُمْ مَحْضُ الطَّعْنِ! وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي قَالُوهُ أَخَسُّ مِنْ شُبُهَاتِ السُّوفِسْطَائِيَّةِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَوْ كَانَ قَاصِدًا لَهُ، لَصَاحَ بِالْكُفَّارِ عِنْدَ وُصُولِهِمْ إِلَى بَابِ الْغَارِ، وَقَالَ لَهُمْ نَحْنُ هاهنا، وَلَقَالَ ابْنُهُ وَابْنَتُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَسْمَاءُ لِلْكُفَّارِ نَحْنُ نَعْرِفُ مَكَانَ مُحَمَّدٍ فَنَدُلُّكُمْ عَلَيْهِ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعِصْمَةَ مِنْ عَصَبِيَّةٍ تَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ الرَّكِيكِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّا لَا نُنْكِرُ أَنَّ اضْطِجَاعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ طَاعَةٌ عَظِيمَةٌ وَمَنْصِبٌ رَفِيعٌ، إِلَّا أَنَّا نَدَّعِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ بِمُصَاحَبَتِهِ كَانَ حَاضِرًا فِي خِدْمَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِيٌّ كَانَ غَائِبًا، وَالْحَاضِرُ أَعْلَى حَالًا مِنَ الْغَائِبِ. الثَّانِي: أَنَّ عَلِيًّا مَا تَحَمَّلَ الْمِحْنَةَ إِلَّا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، أَمَّا بَعْدَهَا لَمَّا عَرَفُوا أَنَّ مُحَمَّدًا غَابَ تَرَكُوهُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ. أَمَّا أَبُو بَكْرٍ، فَإِنَّهُ بِسَبَبِ كَوْنِهِ مَعَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْغَارِ كَانَ فِي أَشَدِّ أَسْبَابِ الْمِحْنَةِ، فَكَانَ بَلَاؤُهُ أَشَدَّ. الثَّالِثُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مَشْهُورًا فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ بِأَنَّهُ يُرَغِّبُ النَّاسَ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، وَشَاهَدُوا مِنْهُ أَنَّهُ دَعَا جَمْعًا مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَى ذَلِكَ الدِّينِ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا قَبِلُوا ذَلِكَ الدِّينَ بِسَبَبِ دَعْوَتِهِ، وَكَانَ يُخَاصِمُ الْكُفَّارَ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَكَانَ يَذُبُّ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ. وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ صَغِيرَ السِّنِّ، وَمَا ظَهَرَ مِنْهُ دَعْوَةٌ لَا بِالدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ، وَلَا جِهَادٌ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، لِأَنَّ مُحَارَبَتَهُ مَعَ الْكُفَّارِ إِنَّمَا ظَهَرَتْ بَعْدَ انْتِقَالِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ بِمُدَّةٍ مَدِيدَةٍ، فَحَالَ الْهِجْرَةِ مَا ظَهَرَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ غَضَبُ الْكُفَّارِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ لَا مَحَالَةَ أَشَدَّ مِنْ غَضَبِهِمْ عَلَى عَلِيٍّ، وَلِهَذَا السَّبَبِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا أَنَّ الْمُضْطَجِعَ عَلَى ذَلِكَ الْفِرَاشِ هُوَ عَلِيٌّ/ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ الْبَتَّةَ، وَلَمْ يَقْصِدُوهُ بِضَرْبٍ وَلَا أَلَمٍ، فَعَلِمْنَا أَنَّ خَوْفَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى نَفْسِهِ فِي خِدْمَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدُّ مِنْ خَوْفِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، فَكَانَتْ تِلْكَ الدَّرَجَةُ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ. هَذَا مَا نَقُولُهُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها فَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ أَنْ يُقَالَ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَلَا بُدَّ لَهُ ذَلِكَ بِدَلِيلِ صُورَتَيْنِ. الصُّورَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ قَدْ نَصَرَهُ فِي وَاقِعَةِ الْهِجْرَةِ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ. وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: وَاقِعَةُ بَدْرٍ، وَهِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها لِأَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَيَّدَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ، فَقَوْلُهُ: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَلِمَةَ الشِّرْكِ سَافِلَةً دَنِيئَةً حَقِيرَةً، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَهِيَ قَوْلُهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالِاخْتِيَارُ فِي قَوْلِهِ: وَكَلِمَةُ اللَّهِ الرَّفْعُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، قَالَ الْفَرَّاءُ، وَيَجُوزُ كَلِمَةُ اللَّهِ بِالنَّصْبِ، ولا

[سورة التوبة (9) : آية 41]

أُحِبُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لِأَنَّهُ لَوْ نَصَبَهَا لَكَانَ الْأَجْوَدَ أَنْ يُقَالَ: وَكَلِمَةَ اللَّهِ الْعُلْيَا، أَلَا ترى أنك تقول أعتق أبوك غلامك، وَلَا تَقُولُ أَعْتَقَ غُلَامَهُ أَبُوكَ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أَيْ قَاهِرٌ غَالِبٌ لَا يفعل إلا الصواب. [سورة التوبة (9) : آية 41] انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَوَعَّدَ مَنْ لَا يَنْفِرُ مَعَ الرَّسُولِ، وَضَرَبَ لَهُ مِنَ الْأَمْثَالِ مَا وَصَفْنَا، أَتْبَعَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ الْجَزْمِ. فَقَالَ: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَالْمُرَادُ انْفِرُوا سَوَاءٌ كُنْتُمْ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يَخِفُّ عَلَيْكُمُ الْجِهَادُ أَوْ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يَثْقُلُ، وَهَذَا الْوَصْفُ يَدْخُلُ تَحْتَهُ أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوهَا. فَالْأَوَّلُ: خِفافاً فِي النُّفُورِ لِنَشَاطِكُمْ لَهُ وَثِقالًا عَنْهُ ولمشقته عَلَيْكُمْ. الثَّانِي: خِفافاً لِقِلَّةِ عِيَالِكُمْ وَثِقالًا/ لِكَثْرَتِهَا. الثَّالِثُ: خِفافاً مِنَ السِّلَاحِ وَثِقالًا مِنْهُ. الرَّابِعُ: رُكْبَانًا وَمُشَاةً. الْخَامِسُ: شُبَّانًا وَشُيُوخًا. السَّادِسُ: مَهَازِيلَ وَسِمَانًا. السَّابِعُ: صِحَاحًا وَمِرَاضًا وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا إِذِ الْكُلُّ دَاخِلٌ فِيهِ لِأَنَّ الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ وَصْفٌ كُلِّيٌّ، يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ. فَإِنْ قِيلَ: أَتَقُولُونَ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ النَّاسِ حَتَّى الْمَرْضَى وَالْعَاجِزِينَ؟ قُلْنَا: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعَلَيَّ أَنْ أَنْفِرَ، قَالَ: «مَا أَنْتَ إِلَّا خَفِيفٌ أَوْ ثَقِيلٌ» فَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ وَلَبِسَ سِلَاحَهُ وَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ [الفتح: 17 النُّورِ: 61] وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ أَبَا أَيُّوبَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ غَزَوَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَقُولُ: قَالَ اللَّهُ: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا فَلَا أَجِدُنِي إِلَّا خَفِيفًا أَوْ ثَقِيلًا. وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كُنْتُ وَالِيًا عَلَى حِمْصَ، فَلَقِيتُ شَيْخًا قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ، مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ عَلَى رَاحِلَتِهِ يُرِيدُ الْغَزْوَ، قُلْتُ يَا عَمِّ أَنْتَ مَعْذُورٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَرَفَعَ حَاجِبَيْهِ وَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي اسْتَنْفَرَنَا اللَّهُ خِفَافًا وَثِقَالًا، أَلَا إِنَّ مَنْ أَحَبَّهُ ابْتَلَاهُ. وَعَنِ الزُّهْرِيِّ: خَرَجَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ إِلَى الْغَزْوِ وَقَدْ ذَهَبَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّكَ عَلِيلٌ صَاحِبُ ضَرَرٍ، فَقَالَ: اسْتَنْفَرَ اللَّهُ الْخَفِيفَ وَالثَّقِيلَ، فَإِنْ عَجَزْتُ عَنِ الْجِهَادِ كَثَّرْتُ السَّوَادَ وَحَفِظْتُ الْمَتَاعَ. وَقِيلَ لِلْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ وَهُوَ يُرِيدُ الْغَزْوَ: أَنْتَ مَعْذُورٌ، فَقَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَقُولُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ [الفتح: 17 النور: 61] وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التَّوْبَةِ: 122] . وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَلَّفَ النِّسَاءَ وَخَلَّفَ مِنَ الرِّجَالِ أَقْوَامًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوُجُوبَ لَيْسَ عَلَى الْأَعْيَانِ، لَكِنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فَمَنْ أَمَرَهُ الرَّسُولُ بِأَنْ يَخْرُجَ، لَزِمَهُ ذَلِكَ خِفَافًا وَثِقَالًا، وَمَنْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَبْقَى هُنَاكَ، لَزِمَهُ أَنْ يَبْقَى وَيَتْرُكَ النَّفْرَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْتِزَامِ النَّسْخِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وفيه قولان:

[سورة التوبة (9) : آية 42]

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَهُ الْمَالُ وَالنَّفْسُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْسٌ سَلِيمَةٌ صَالِحَةٌ لِلْجِهَادِ، وَلَا مَالٌ يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى تَحْصِيلِ آلَاتِ الْجِهَادِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْجِهَادَ يَجِبُ بِالنَّفْسِ إِذَا انْفَرَدَ وَقَوِيَ عَلَيْهِ، وَبِالْمَالِ إِذَا ضَعُفَ عَنِ الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ، فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ مَنْ عَجَزَ أَنْ يُنِيبَ عَنْهُ نَفَرًا بِنَفَقَةٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيَكُونُ مُجَاهِدًا/ بِمَالِهِ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: الْجِهَادُ خَيْرٌ مِنَ الْقُعُودِ عَنْهُ، وَلَا خَيْرَ فِي الْقُعُودِ عَنْهُ. قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ خَيْرٌ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِمَعْنَى هَذَا خَيْرٌ مِنْ ذَاكَ. وَالثَّانِي: بِمَعْنَى أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ خَيْرٌ كَقَوْلِهِ: إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [الْقَصَصِ: 24] وَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [الْعَادِيَاتِ: 8] وَيُقَالُ: الثَّرِيدُ خَيْرٌ مِنَ اللَّهِ، أَيْ هُوَ خَيْرٌ فِي نَفْسِهِ، وَقَدْ حَصَلَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَوْلُهُ: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ الْمُرَادُ هَذَا الثَّانِي، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَسْقُطُ السُّؤَالُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ كَوْنُهُ خَيْرًا مِنْ غَيْرِهِ، إِلَّا أَنَّ التَّقْدِيرَ: أَنَّ مَا يُسْتَفَادُ بِالْجِهَادِ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا يَسْتَفِيدُهُ الْقَاعِدُ عَنْهُ مِنَ الرَّاحَةِ وَالدَّعَةِ وَالتَّنَعُّمِ بِهِمَا، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ مِنَ الْخَيْرَاتِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْجِهَادِ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالتَّأَمُّلِ، وَلَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْمُؤْمِنُ الَّذِي عَرَفَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْقِيَامَةِ حَقٌّ، وَأَنَّ الْقَوْلَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ حق وصدق. [سورة التوبة (9) : آية 42] لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي تَرْغِيبِهِمْ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وكان قد ذكر قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التَّوْبَةِ: 38] عَادَ إِلَى تَقْرِيرِ كَوْنِهِمْ مُتَثَاقِلِينَ، وَبَيَّنَ أَنَّ أَقْوَامًا، مَعَ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَعِيدِ وَالْحَثِّ عَلَى الْجِهَادِ، تَخَلَّفُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَرَضُ مَا عَرَضَ لَكَ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا، يُقَالُ: الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ يَأْكُلُ مِنْهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فِيهِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ كَانَ الْمَدْعُوُّ إِلَيْهِ سَفَرًا قَاصِدًا، فَحُذِفَ/ اسْمُ (كَانَ) لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عليه. وقوله: سَفَراً قاصِداً قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ سَهْلًا قَرِيبًا. وَإِنَّمَا قِيلَ لِمِثْلِ هَذَا قَاصِدًا، لِأَنَّ الْمُتَوَسِّطَ، بَيْنَ الْإِفْرَاطِ، وَالتَّفْرِيطِ، يُقَالُ لَهُ: مُقْتَصِدٌ. قَالَ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [فَاطِرٍ: 32] وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمُتَوَسِّطَ بَيْنَ الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ يَقْصِدُهُ كُلُّ أَحَدٍ، فَسُمِّيَ قَاصِدًا، وَتَفْسِيرُ الْقَاصِدِ: ذُو قَصْدٍ، كَقَوْلِهِمْ لَابِنٌ وَتَامِرٌ وَرَابِحٌ. قَوْلُهُ: وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ قَالَ اللَّيْثُ: الشُّقَّةُ بُعْدُ مَسِيرِهِ إِلَى أَرْضٍ بَعِيدَةٍ يُقَالُ: شُقَّةٌ شَاقَّةٌ، وَالْمَعْنَى: بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشَّاقَّةُ الْبَعِيدَةُ، وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاسْمِ أَنَّهُ شَقَّ عَلَى الْإِنْسَانِ سُلُوكُهَا. وَنَقَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ قَرَأَ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَالشِّينِ.

[سورة التوبة (9) : آية 43]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْمَنَافِعُ قَرِيبَةً وَالسَّفَرُ قَرِيبًا لَاتَّبَعُوكَ طَمَعًا مِنْهُمْ فِي الْفَوْزِ بِتِلْكَ الْمَنَافِعِ، وَلَكِنْ طَالَ السَّفَرُ فَكَانُوا كَالْآيِسِينَ مِنَ الْفَوْزِ بِالْغَنِيمَةِ، بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْظِمُونَ غَزْوَ الرُّومِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ تَخَلَّفُوا. ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أنه إذا رجع من الجهاد يجدهم يحلفون باللَّه لو استطعنا لخرجنا معكم إما عند ما يُعَاتِبُهُمْ بِسَبَبِ التَّخَلُّفِ، وَإِمَّا ابْتِدَاءً عَلَى طَرِيقَةِ إِقَامَةِ الْعُذْرِ فِي التَّخَلُّفِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْكَذِبِ وَالنِّفَاقِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَيْمَانَ الْكَاذِبَةَ تُوجِبُ الْهَلَاكَ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْيَمِينُ الْغَمُوسُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ» . ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ مَا كُنَّا نَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَطِيعِينَ الْخُرُوجَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ قَادِرًا مُتَمَكِّنًا، إِذْ عَدَمُ الِاسْتِطَاعَةِ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اسْتَدَلَّ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى بُطْلَانِ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مَعَ الْفِعْلِ، فَقَالَ: لَوْ كَانَتْ الِاسْتِطَاعَةُ مَعَ الْفِعْلِ لَكَانَ مَنْ يَخْرُجُ إِلَى الْقِتَالِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَطِيعًا إِلَى الْقِتَالِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانُوا صَادِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ: مَا كُنَّا نَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، وَلَمَّا كَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْقَوْلِ، عَلِمْنَا أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَبْلَ الْفِعْلِ. وَاسْتَدَلَّ الْكَعْبِيُّ بِهَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا لَهُ، وَسَأَلَ نَفْسَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ: مَا كَانَ لَهُمْ زَادٌ وَلَا رَاحِلَةٌ، وَمَا أَرَادُوا بِهِ نَفْسَ الْقُدْرَةِ. وَأَجَابَ: إِنْ كَانَ مَنْ لَا رَاحِلَةَ لَهُ يُعْذَرُ فِي تَرْكِ الْخُرُوجِ، فَمَنْ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُ أَوْلَى بِالْعُذْرِ. وَأَيْضًا الظَّاهِرُ مِنَ الِاسْتِطَاعَةِ قُوَّةُ الْبَدَنِ دُونَ وُجُودِ الْمَالِ، وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَالُ، فَإِنَّمَا يُرَادُ لِأَنَّهُ يُعِينُ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ بِقُوَّةِ الْبَدَنِ، فَلَا مَعْنَى لِتَرْكِ الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا: بِأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ سَلَّمُوا أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْفِعْلِ لَا تَتَقَدَّمُ عَلَى الْفِعْلِ، إِلَّا بِوَقْتٍ/ وَاحِدٍ، فَأَمَّا أَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ بِأَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ فَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْجَالِسَ فِي الْمَكَانِ لَا يَكُونُ قَادِرًا فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ عَنْهُ، بَلْ إِنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا فِي الْمَكَانِ الْمُلَاصِقِ لِمَكَانِهِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقُدْرَةَ عِنْدَ الْقَوْمِ لَا تَتَقَدَّمُ الْفِعْلَ إِلَّا بِزَمَانٍ وَاحِدٍ، فَالْقَوْمُ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَيَلْزَمُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا أَلْزَمُوهُ عَلَيْنَا، وَعِنْدَ هَذَا يَجِبُ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ، أَنْ نَحْمِلَ الِاسْتِطَاعَةَ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالُوا الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ سَيَحْلِفُونَ، وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ غَيْبٍ يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْأَمْرُ لَمَّا وَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ، كَانَ هَذَا إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ، فَكَانَ مُعْجِزًا. وَاللَّهُ أعلم. [سورة التوبة (9) : آية 43] عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ [التوبة: 42] أَنَّهُ تَخَلَّفَ قَوْمٌ مِنْ ذَلِكَ الْغَزْوِ، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ التَّخَلُّفَ، كَانَ بِإِذْنِ الرَّسُولِ أَمْ لَا؟ فَلَمَّا قَالَ بَعْدَهُ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ دَلَّ هَذَا، عَلَى أَنَّ فِيهِمْ مَنْ تَخَلَّفَ بِإِذْنِهِ وَفِيهِ مسائل:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صُدُورِ الذَّنْبِ عَنِ الرَّسُولِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ وَالْعَفْوُ يَسْتَدْعِي سَابِقَةَ الذَّنْبِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِذْنَ كَانَ مَعْصِيَةً وَذَنْبًا. قَالَ قَتَادَةُ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: اثْنَانِ فَعَلَهُمَا الرَّسُولُ، لَمْ يُؤْمَرْ بِشَيْءٍ فِيهِمَا، إِذْنُهُ لِلْمُنَافِقِينَ، وَأَخْذُهُ الْفِدَاءَ مِنَ الْأَسَارَى، فَعَاتَبَهُ اللَّهُ كَمَا تَسْمَعُونَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَهُ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ يُوجِبُ الذَّنْبَ، وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مُبَالَغَةِ اللَّهِ فِي تَعْظِيمِهِ وَتَوْقِيرِهِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ إِذَا كَانَ مُعَظَّمًا عِنْدَهُ، عَفَا اللَّهُ عَنْكَ مَا صَنَعْتَ فِي أَمْرِي وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، مَا جَوَابُكَ عَنْ كَلَامِي؟ وَعَافَاكَ اللَّهُ مَا عَرَفْتَ حَقِّي فَلَا يَكُونُ غَرَضُهُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، إِلَّا مَزِيدَ التَّبْجِيلِ وَالتَّعْظِيمِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ: فِيمَا يُخَاطِبُ بِهِ الْمُتَوَكِّلَ وَقَدْ أَمَرَ بِنَفْيِهِ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ أَلَا حُرْمَةٌ ... تَعُودُ بِعَفْوِكَ أَنْ أُبْعَدَا أَلَمْ تَرَ عَبْدًا عَدَا طَوْرَهُ ... وَمَوْلًى عَفَا وَرَشِيدًا هَدَى أَقِلْنِي أَقَالَكَ مَنْ لَمْ يَزَلْ ... يَقِيكَ وَيَصْرِفُ عَنْكَ الرَّدَى وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي أَنْ نَقُولَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ الْإِنْكَارُ لِأَنَّا نَقُولُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَدَرَ عَنِ الرَّسُولِ ذَنْبٌ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ أَوْ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ ذَنْبٌ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَا صَدَرَ عَنْهُ ذَنْبٌ، امْتَنَعَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أن يكون قوله: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ إنكار عَلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ كَانَ قَدْ صَدَرَ عَنْهُ ذَنْبٌ، فَقَوْلُهُ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْعَفْوِ عَنْهُ، وَبَعْدَ حُصُولِ الْعَفْوِ عَنْهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الرَّسُولِ مُذْنِبًا، وَهَذَا جَوَابٌ شَافٍ قَاطِعٌ. وَعِنْدَ هَذَا، يُحْمَلُ قَوْلُهُ: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى وَالْأَكْمَلِ، لَا سِيَّمَا وَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُرُوبِ وَمَصَالِحِ الدُّنْيَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَحْكُمُ بِمُقْتَضَى الِاجْتِهَادِ فِي بَعْضِ الْوَقَائِعِ. واحتج عليه بأن قوله: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الْحَشْرِ: 2] أَمْرٌ لِأُولِي الْأَبْصَارِ بِالِاعْتِبَارِ وَالِاجْتِهَادِ، وَالرَّسُولُ كَانَ سَيِّدًا لَهُمْ، فَكَانَ دَاخِلًا تَحْتَ هَذَا الْأَمْرِ، ثُمَّ أَكَّدُوا ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْإِذْنِ أَوْ مَنَعَهُ عَنْهُ، أَوْ مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ وَمَا مَنَعَهُ عَنْهُ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَإِلَّا امْتَنَعَ أَنْ يَقُولَ لَهُ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ وَالثَّانِي بَاطِلٌ أَيْضًا، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَيَلْزَمُ دُخُولُهُ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة: 44] فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: 45] فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [الْمَائِدَةِ: 47] وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِصَرِيحِ الْقَوْلِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ، وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَذِنَ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَبْنِيًّا عَلَى الِاجْتِهَادِ أَوْ مَا كَانَ كَذَلِكَ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَهُوَ بَاطِلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ [مَرْيَمَ: 59] فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَذِنَ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، بِنَاءً عَلَى الِاجْتِهَادِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ يَحْكُمُ بِمُقْتَضَى الِاجْتِهَادِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا بِأَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى مَنَعَهُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ.

[سورة التوبة (9) : الآيات 44 إلى 46]

قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى مَا مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ الْإِذْنِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ قَالَ: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ وَالْحُكْمُ الْمَمْدُودُ إِلَى غَايَةٍ بِكَلِمَةِ حَتَّى يَجِبُ انْتِهَاؤُهُ عِنْدَ حُصُولِ تِلْكَ الْغَايَةِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا. فَإِنْ قَالُوا: فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ التَّبَيُّنِ هُوَ التَّبَيُّنَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ؟ قُلْنَا: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُحْتَمَلٌ إِلَّا أَنَّ عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ، يَصِيرُ تَكْلِيفُهُ، أَنْ لَا يَحْكُمَ الْبَتَّةَ، وَأَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَنْزِلَ الْوَحْيُ وَيَظْهَرَ النَّصُّ، فَلَمَّا تَرَكَ ذَلِكَ، كَانَ ذَلِكَ كَبِيرَةً، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا كَانَ ذَلِكَ الْخَطَأُ خَطَأً وَاقِعًا فِي الِاجْتِهَادِ، فَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: «وَمَنِ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ» ، فَكَانَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ الِاحْتِرَازِ عَنِ الْعَجَلَةِ، وَوُجُوبِ التَّثَبُّتِ وَالتَّأَنِّي وَتَرْكِ الِاغْتِرَارِ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّفَحُّصِ، حَتَّى يُمْكِنَهُ أَنْ يُعَامِلَ كُلَّ فَرِيقٍ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ التَّقْرِيبِ أَوِ الْإِبْعَادِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ قَتَادَةُ: عَاتَبَهُ اللَّهُ كَمَا تَسْمَعُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ رَخَّصَ لَهُ فِي سُورَةِ النُّورِ فَقَالَ: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النُّورِ: 62] . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: قَوْلُهُ: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ لَيْسَ فِيهِ ما يدل على أن ذلك الإذن فيما ذا؟ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَأْذَنَ فِي الْقُعُودِ فَأَذِنَ لَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَأْذَنَ فِي الْخُرُوجِ فَأَذِنَ لَهُ، مَعَ أَنَّهُ مَا كَانَ خُرُوجُهُمْ مَعَهُ صَوَابًا، لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا عُيُونًا لِلْمُنَافِقِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَانُوا يُثِيرُونَ الْفِتَنَ وَيَبْغُونَ الْغَوَائِلَ فَلِهَذَا السَّبَبِ، مَا كَانَ فِي خُرُوجِهِمْ مَعَ الرَّسُولِ مَصْلَحَةٌ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ لِلْمُتَخَلِّفِينَ وَالْمَدْحِ لِلْمُبَادِرِينَ، وَأَيْضًا مَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ الْقَاعِدِينَ وبيان حالهم. [سورة التوبة (9) : الآيات 44 الى 46] لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) [في قَوْلُهُ تَعَالَى لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ أَيْ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَقَالَ الْبَاقُونَ: هَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا وَرَدَتْ فِي قِصَّةِ تَبُوكَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَمْيِيزُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ مَتَى أُمِرُوا بِالْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ تَبَادَرُوا إِلَيْهِ وَلَمْ يَتَوَقَّفُوا، وَالْمُنَافِقُونَ يَتَوَقَّفُونَ وَيَتَبَلَّدُونَ وَيَأْتُونَ بِالْعِلَلِ وَالْأَعْذَارِ. وَهَذَا الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ سَوَاءٌ عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ أَوِ الْمَاضِي، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ علامة النفاق في ذلك لوقت الِاسْتِئْذَانَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا فِيهِ مَحْذُوفٌ،

وَالتَّقْدِيرُ: فِي أَنْ يُجَاهِدُوا إِلَّا أَنَّهُ حَسُنَ الْحَذْفُ لِظُهُورِهِ، ثُمَّ هَاهُنَا قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِجْرَاءُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ إِضْمَارٍ آخَرَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْتَأْذِنُوكَ فِي أَنْ يُجَاهِدُوا، وَكَانَ الْأَكَابِرُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ يَقُولُونَ لَا نَسْتَأْذِنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجِهَادِ، فَإِنَّ رَبَّنَا نَدَبَنَا إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي الِاسْتِئْذَانِ؟ وَكَانُوا بِحَيْثُ لَوْ أَمَرَهُمُ الرَّسُولُ بِالْقُعُودِ لَشَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَبْقَى فِي الْمَدِينَةِ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْضَ إِلَى أَنْ قَالَ لَهُ الرَّسُولُ: «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى» . الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا بُدَّ هاهنا من إضمار آخر، وقالوا لِأَنَّ تَرْكَ اسْتِئْذَانِ الْإِمَامِ فِي الْجِهَادِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَهَؤُلَاءِ ذَمَّهُمُ اللَّهُ فِي تَرْكِ هَذَا الِاسْتِئْذَانِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِضْمَارِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ هَؤُلَاءِ فِي أَنْ لَا يجاهدوا، إلا أنه حذف حرف النفي، ونظير قَوْلُهُ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النِّسَاءِ: 176] وَالَّذِي دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ أَنَّ مَا قَبْلَ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُصُولَ هَذَا الذَّمِّ إِنَّمَا كَانَ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ فِي الْقُعُودِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الِانْتِقَالَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ثُمَّ لَمَّا كَانَ عَدَمُ الْإِيمَانِ قَدْ يَكُونُ بِسَبَبِ الشَّكِّ فِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِسَبَبِ الْجَزْمِ وَالْقَطْعِ بِعَدَمِهِ، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ عَدَمَ إِيمَانِ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّاكَّ الْمُرْتَابَ غَيْرُ مُؤْمِنٍ بِاللَّهِ. وَهَاهُنَا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعِلْمَ إِذَا كَانَ اسْتِدْلَالِيًّا كَانَ وُقُوعُ الشَّكِّ فِي الدَّلِيلِ يُوجِبُ وُقُوعَ الشَّكِّ في المدلول، ووقع الشَّكِّ فِي مُقَدِّمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ يَكْفِي فِي حُصُولِ الشَّكِّ فِي صِحَّةِ الدَّلِيلِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ إِذَا وَقَعَ لَهُ سُؤَالٌ وَإِشْكَالٌ فِي مُقَدِّمَةٍ مِنْ مُقَدِّمَاتِ دَلِيلِهِ أَنْ يَصِيرَ شَاكًّا فِي الْمَدْلُولِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَخْرُجَ الْمُؤْمِنُ عَنْ إِيمَانِهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، بِسَبَبِ أَنَّهُ خَطَرَ بِبَالِهِ سُؤَالٌ وَإِشْكَالٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، فَثَبَتَ أَنَّ بِنَاءَ الْإِيمَانِ لَيْسَ عَلَى الدَّلِيلِ بَلْ عَلَى التَّقْلِيدِ فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِيمَانِ هُوَ التَّقْلِيدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُسْلِمَ وَإِنَّ عَرَضَ لَهُ الشَّكُّ فِي صِحَّةِ بَعْضِ مُقَدِّمَاتِ دَلِيلٍ وَاحِدٍ إِلَّا أَنَّ سَائِرَ الدَّلَائِلِ سَلِيمَةٌ عِنْدَهُ مِنَ الطَّعْنِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ بَقِيَ إِيمَانُهُ دَائِمًا مُسْتَمِرًّا. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَلَيْسَ أَنَّ أَصْحَابَكُمْ يَقُولُونَ: إِنَّا مؤمن إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ يَقْتَضِي حُصُولَ الشَّكِّ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّا اسْتَقْصَيْنَا فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الْأَنْفَالِ: 74] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْكَرَّامِيَّةُ: الْإِيمَانُ هُوَ مُجَرَّدُ الْإِقْرَارِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى شَهِدَ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الرَّيْبِ هُوَ الْقَلْبُ فَقَطْ، وَمَتَى كَانَ مَحَلُّ الرَّيْبِ هُوَ الْقَلْبَ كَانَ مَحَلُّ الْمَعْرِفَةِ، وَالْإِيمَانِ أَيْضًا هُوَ الْقَلْبَ، لِأَنَّ مَحَلَّ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مَحَلًّا

لِلضِّدِّ الْآخَرِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [الْمُجَادَلَةِ: 22] وَإِذَا كَانَ مَحَلُّ الْمَعْرِفَةِ وَالْكُفْرِ الْقَلْبَ، كَانَ الْمُثَابُ وَالْمُعَاقَبُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْقَلْبَ وَالْبَوَاقِي تَكُونُ تَبَعًا لَهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّاكَّ الْمُرْتَابَ يَبْقَى مُتَرَدِّدًا بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، غَيْرَ حَاكِمٍ بِأَحَدِ الْقِسْمَيْنِ وَلَا جَازِمٍ بِأَحَدِ النَّقِيضَيْنِ وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الِاعْتِقَادَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَازِمًا أَوْ لَا يَكُونُ، فَالْجَازِمُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُطَابِقٍ فَهُوَ الْجَهْلُ وإن كان مطابقا، فإن كان غير يَقِينٍ فَهُوَ الْعِلْمُ، وَإِلَّا فَهُوَ اعْتِقَادُ الْمُقَلِّدِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَازِمٍ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ رَاجِحًا فَالرَّاجِحُ هُوَ الظَّنُّ وَالْمَرْجُوحُ هُوَ الْوَهْمُ وَإِنِ اعْتَدَلَ الطَّرَفَانِ فَهُوَ الرَّيْبُ وَالشَّكُّ، وَحِينَئِذٍ يَبْقَى الْإِنْسَانُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وقرئ عُدَّتَهُ وَقُرِئَ أَيْضًا عِدَّةً بِكَسْرِ الْعَيْنِ بِغَيْرِ إِضَافَةٍ وَبِإِضَافَةٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مِنَ الزَّادِ وَالْمَاءِ وَالرَّاحِلَةِ، لِأَنَّ سَفَرَهُمْ بَعِيدٌ وَفِي زَمَانٍ شَدِيدٍ، وَتَرْكَهُمُ الْعُدَّةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا التَّخَلُّفَ. وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَيَاسِيرَ قَادِرِينَ عَلَى تَحْصِيلِ الْأُهْبَةِ وَالْعُدَّةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الِانْبِعَاثُ: الِانْطِلَاقُ فِي الْأَمْرِ، يُقَالُ بَعَثْتُ الْبَعِيرَ فَانْبَعَثَ وَبَعَثْتُهُ لِأَمْرِ كَذَا فَانْبَعَثَ، وَبَعَثَهُ لِأَمْرِ كَذَا أي نفذه فيه، والتثبيط رد الإنسان على الْفِعْلِ الَّذِي هَمَّ بِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى كَرِهَ خُرُوجَهُمْ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَرَفَهُمْ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ خُرُوجَهُمْ مَعَ الرَّسُولِ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ مَفْسَدَةً وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ مَصْلَحَةً. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ كَانَ مَفْسَدَةً، فَلِمَ عَاتَبَ الرَّسُولَ فِي إِذْنِهِ إِيَّاهُمْ فِي الْقُعُودِ؟ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ كَانَ مَصْلَحَةً، فَلِمَ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى كَرِهَ انْبِعَاثَهُمْ وَخُرُوجَهُمْ؟ وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ: أَنَّ خُرُوجَهُمْ مَعَ الرَّسُولِ مَا كَانَ مَصْلَحَةً، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَشَرَحَ تِلْكَ الْمَفَاسِدَ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا [التَّوْبَةِ: 47] بَقِيَ أَنْ يُقَالَ فَلَمَّا كَانَ الْأَصْوَبُ الْأَصْلَحُ أَنْ لَا يَخْرُجُوا، فَلِمَ عَاتَبَ الرَّسُولَ فِي الْإِذْنِ؟ فَنَقُولُ: قَدْ حَكَيْنَا عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ: ليس في قوله لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ قَدْ أَذِنَ لَهُمْ فِي الْقُعُودِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمُ اسْتَأْذَنُوهُ فِي الْخُرُوجِ مَعَهُ فَأَذِنَ لَهُمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ السُّؤَالُ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ خُرُوجَهُمْ مَعَهُ كَانَ مَفْسَدَةً، فَوَجَبَ حَمْلُ ذَلِكَ الْعِتَابِ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَذِنَ لَهُمْ فِي الْخُرُوجِ مَعَهُ، وَتَأَكَّدَ ذَلِكَ بِسَائِرِ الْآيَاتِ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً [التَّوْبَةِ: 83] وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى قوله: قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا [الفتح: 15] فَهَذَا دَفْعُ هَذَا السُّؤَالِ عَلَى طَرِيقَةِ أَبِي مُسْلِمٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْجَوَابِ أَنْ نُسَلِّمَ أَنَّ الْعِتَابَ فِي قَوْلِهِ: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ إِنَّمَا تَوَجَّهَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَذِنَ لَهُمْ فِي الْقُعُودِ، فَنَقُولُ: ذَلِكَ الْعِتَابُ مَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ الْقُعُودَ كَانَ مَفْسَدَةً، بَلْ لِأَجْلِ أَنَّ إِذْنَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَلِكَ الْقُعُودِ كَانَ مَفْسَدَةً وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَذِنَ قَبْلَ إِتْمَامِ التَّفَحُّصِ وَإِكْمَالِ التَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ

الْكاذِبِينَ وَالثَّانِي: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا كَانَ يَأْذَنُ لَهُمْ فِي الْقُعُودِ فَهُمْ كَانُوا يَقْعُدُونَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ يَصِيرُ ذَلِكَ الْقُعُودُ؟ عَلَامَةً عَلَى نِفَاقِهِمْ، وَإِذَا ظَهَرَ نِفَاقُهُمُ احْتَرَزَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَغْتَرُّوا بِقَوْلِهِمْ، فَلَمَّا أَذِنَ الرَّسُولُ فِي الْقُعُودِ بَقِيَ نِفَاقُهُمْ مَخْفِيًّا وَفَاتَتْ تِلْكَ الْمَصَالِحُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ لَمَّا اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضِبَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ عَلَى سَبِيلِ الزَّجْرِ كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ ثُمَّ إِنَّهُمُ اغْتَنَمُوا هَذِهِ اللَّفْظَةَ وَقَالُوا: قَدْ أَذِنَ لَنَا فَقَالَ تَعَالَى: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ أَيْ لِمَ ذَكَرْتَ عِنْدَهُمْ هَذَا اللَّفْظَ الَّذِي أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَتَوَسَّلُوا بِهِ إِلَى تَحْصِيلِ غَرَضِهِمْ؟ الرَّابِعُ: أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ الِاجْتِهَادُ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَالُوا: إِنَّهُ إِنَّمَا أَذِنَ بِمُقْتَضَى الِاجْتِهَادِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا تَمَكَّنُوا مِنَ الْوَحْيِ وَكَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى الِاجْتِهَادِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْوَحْيِ جَارِيًا مَجْرَى الْإِقْدَامِ عَلَى الِاجْتِهَادِ مَعَ حُصُولِ النَّصِّ، فَكَمَا أَنَّ هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ فَكَذَا ذَاكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْبَصْرِيَّةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ الْمُرِيدِيَّةِ هُوَ مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ الْكَارِهِيَّةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ قَالَ أَصْحَابُنَا: مَعْنَى كَرِهَ اللَّهُ أَرَادَ عَدَمَ ذَلِكَ الشيء. قال الْبَصْرِيَّةُ: الْعَدَمُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ عِبَارَةٌ عَنْ صِفَةٍ تَقْتَضِي تَرْجِيحَ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ، وَالْعَدَمُ نَفْيٌ مَحْضٌ، وَأَيْضًا فَالْعَدَمُ الْمُسْتَمِرُّ لَا تَعَلُّقَ لِلْإِرَادَةِ بِالْعَدَمِ بِهِ، لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، وَجَعْلَ الْعَدَمِ عَدَمًا مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ تَعَلُّقَ الْإِرَادَةِ بِالْعَدَمِ مُحَالٌ، فَامْتَنَعَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكَرَاهَةِ إِرَادَةُ الْعَدَمِ. أَجَابَ أَصْحَابُنَا: بِأَنَّا نُفَسِّرُ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ اللَّه بِإِرَادَةِ ضِدِّ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَهُوَ تَعَالَى أَرَادَ مِنْهُمُ السُّكُونَ، فَوَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْ هَذِهِ الْإِرَادَةِ بِكَوْنِهِ تَعَالَى كَارِهًا لِخُرُوجِهِمْ مَعَ الرَّسُولِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَثَبَّطَهُمْ أَيْ فَكَسَّلَهُمْ وَضَعَّفَ رَغْبَتَهُمْ فِي الِانْبِعَاثِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِيهِ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا صَرَّحْنَا بِالْحَقِّ، وَهُوَ أَنَّ صُدُورَ الْفِعْلِ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ الدَّاعِي إِلَيْهِ، فَإِذَا صَارَتِ الدَّاعِيَةُ فَاتِرَةً مَرْجُوحَةً امْتَنَعَ صُدُورُ الْفِعْلِ عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّ صَيْرُورَةَ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ جَازِمَةٌ أَوْ فَاتِرَةٌ، إِنْ كَانَتْ مِنَ الْعَبْدِ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ اللَّه فَحِينَئِذٍ لَزِمَ الْمَقْصُودُ لِأَنَّ تَقْوِيَةَ الدَّاعِيَةِ لَيْسَتْ إِلَّا مِنَ اللَّه، وَمَتَى حَصَلَتْ تِلْكَ التَّقْوِيَةُ لَزِمَ حُصُولُ الْفِعْلِ، وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ قَوْلُنَا فِي مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَمِّهِمْ وَإِلْحَاقِهِمْ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَاجِزِينَ الَّذِينَ شَأْنُهُمُ الْقُعُودُ فِي الْبُيُوتِ، وَهُمُ الْقَاعِدُونَ وَالْخَالِفُونَ وَالْخَوَالِفُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ. [التَّوْبَةِ: 87، 93] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِمَّنْ كَانَ؟ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ بِذَلِكَ هُوَ الشَّيْطَانُ عَلَى سَبِيلِ الْوَسْوَسَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ قَالَ ذَلِكَ لِبَعْضٍ لَمَّا أَرَادُوا الِاجْتِمَاعَ عَلَى التَّخَلُّفِ، لِأَنَّ مَنْ يَتَوَلَّى الْفَسَادَ يُحِبُّ التَّكَثُّرَ بِأَشْكَالِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ هُوَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَذِنَ لَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ فَعَاتَبَهُ اللَّه، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ هُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ لِأَنَّهُ قَدْ كَرِهَ خُرُوجَهُمْ لِلْإِفْسَادِ، وَكَانَ الْمُرَادُ إِذَا كُنْتُمْ مُفْسِدِينَ فَقَدْ كَرِهَ اللَّه انْبِعَاثَكُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَأَمَرَكُمْ بِالْقُعُودِ عَنْ هَذَا الْخُرُوجِ المخصوص.

[سورة التوبة (9) : آية 47]

[سورة التوبة (9) : آية 47] لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) [في قوله تَعَالَى لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْوَاعَ الْمَفَاسِدِ الْحَاصِلَةِ مِنْ خُرُوجِهِمْ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْخَبَالُ والشر وَالْفَسَادُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْهُ يُسَمَّى الْعَتَهُ بِالْخَبَلِ، وَالْمَعْتُوهُ بِالْمَخْبُولِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ عِبَارَاتٌ قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِلَّا شَرًّا، وَقَالَ يَمَانٌ: إِلَّا مَكْرًا، وَقِيلَ: إِلَّا غَيًّا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِلَّا غَدْرًا، وَقِيلَ: الْخَبَالُ الِاضْطِرَابُ فِي الرَّأْيِ، وَذَلِكَ بِتَزْيِينِ أَمْرٍ لِقَوْمٍ وَتَقْبِيحِهِ لِقَوْمٍ آخَرِينَ، لِيَخْتَلِفُوا وَتَفْتَرِقَ كَلِمَتُهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ قَوْلُهُ: إِلَّا خَبالًا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، كَقَوْلِكَ: ما زادوكم خيرا إلا خبالا، وهاهنا الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ وَإِذَا لَمْ يُذْكَرْ وَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْأَعَمِّ وَالْعَامُّ هُوَ الشَّيْءُ، فَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا، وَالتَّقْدِيرُ: مَا زَادُوكُمْ شَيْئًا إِلَّا خَبَالًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ كَرِهَ انْبِعَاثَهُمْ، وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ إِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ الِانْبِعَاثَ لِكَوْنِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى هَذَا الْخَبَالِ وَالشَّرِّ وَالْفِتْنَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَكْرَهُ الشَّرَّ وَالْفِتْنَةَ وَالْفَسَادَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا يَرْضَى إِلَّا بِالْخَيْرِ، وَلَا يُرِيدُ إِلَّا الطاعة. النوع الثاني: من المفساد النَّاشِئَةِ مِنْ خُرُوجِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وفي الإيضاح قَوْلَانِ نَقَلَهُمَا الْوَاحِدِيُّ. الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ، أَنَّ الْإِيضَاعَ حَمْلُ الْبَعِيرِ عَلَى الْعَدْوِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَوْضَعَ الرَّجُلُ إِذَا سَارَ بِنَفْسِهِ سَيْرًا حَثِيثًا. يُقَالُ: وَضَعَ الْبَعِيرُ إِذَا عَدَا وَأَوْضَعَهُ الرَّاكِبُ إِذَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَقُولُ: وَضَعَتِ النَّاقَةُ، وَأَوْضَعَ الرَّاكِبُ، وَرُبَّمَا قَالُوا لِلرَّاكِبِ وَضَعَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَأَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَوْضَعَ الرَّجُلُ إِذَا سَارَ بِنَفْسِهِ سَيْرًا حَثِيثًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ وَضَعَ نَاقَتَهُ، رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَأَوْضَعَ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ وَقَالَ لَبِيدٌ: أُرَانَا مُوضِعِينَ لِحُكْمِ غَيْبٍ ... وَنَسْخُو بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ أَرَادَ مُسْرِعِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يُرِيدُ مُوضِعِينَ الْإِبِلَ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدِ السَّيْرَ فِي الطَّرِيقِ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: تَبَالَهْنَ بِالْعُدْوَانِ لَمَّا عَرَفْنَنِي ... وَقُلْنَ امْرُؤٌ بَاغٍ أَكَلَّ وَأَوْضَعَا قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْآيَةُ تَشْهَدُ لِقَوْلِ الْأَخْفَشِ وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ: فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ السَّعْيُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّضْرِيبِ وَالنَّمَائِمِ، فَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْقَوْلَ الْأَوَّلَ كَانَ الْمَعْنَى: وَلَأَوْضَعُوا رَكَائِبَهُمْ بَيْنَكُمْ، وَالْمُرَادُ الْإِسْرَاعُ بِالنَّمَائِمِ، لِأَنَّ الرَّاكِبَ أَسْرَعُ مِنَ الْمَاشِي، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْقَوْلَ الثَّانِيَ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يُسْرِعُونَ فِي هَذَا التَّضْرِيبِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: نَقَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَرَأَ وَلَأَوْقَصُوا مِنْ وَقَصَتِ النَّاقَةُ وَقْصًا إِذَا أَسْرَعَتْ وَأَوْقَصْتُهَا، وَقُرِئَ وَلَأَرْفَضُوا. فَإِنْ قيل: كيف كتب في المصحف (ولا أوضعوا) بِزِيَادَةِ الْأَلِفِ؟ أَجَابَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِأَنَّ الْفَتْحَةَ كَانَتْ أَلِفًا قَبْلَ الْخَطِّ الْعَرَبِيِّ وَالْخَطُّ الْعَرَبِيُّ اخْتُرِعَ قَرِيبًا مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَقَدْ بَقِيَ في ذَلِكَ الْأَلِفِ أَثَرٌ فِي الطِّبَاعِ، فَكَتَبُوا صُورَةَ الْهَمْزَةِ أَلِفًا وَفَتْحَتَهَا أَلِفًا أُخْرَى وَنَحْوُهُ (أَوْ لأذبحنه) . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: خِلالَكُمْ أَيْ فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً [الْكَهْفِ: 33] وَقَوْلُهُ: فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ [الْإِسْرَاءِ: 5] وَأَصْلُهُ مِنَ الْخَلَلِ، وَهُوَ الْفُرْجَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَجَمْعُهُ خِلَالٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [النُّورِ: 43] وَقُرِئَ مِنْ خَلَلِهِ وَهِيَ مَخَارِجُ مَصَبِّ الْقَطْرِ، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: تَخَلَّلْتُ الْقَوْمَ إِذَا دَخَلْتَ بَيْنَ خَلَلِهِمْ وَخِلَالِهِمْ. وَيُقَالُ: جَلَسْنَا خِلَالَ بُيُوتِ الْحَيِّ وَخِلَالَ دُورِهِمْ أَيْ جَلَسْنَا بَيْنَ الْبُيُوتِ وَوَسَطَ الدُّورِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ أَيْ بِالنَّمِيمَةِ وَالْإِفْسَادِ وَقَوْلُهُ: يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أَيْ يَبْغُونَ لَكُمْ، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ابْغِنِي كَذَا أَيْ اطْلُبْهُ لِي، وَمَعْنَى ابْغِنِي وَابْغِ لِي، سَوَاءٌ، وَإِذَا قَالَ ابْغِنِي، فَمَعْنَاهُ: أَعِنِّي عَلَى ما بغيته، ومعنى الْفِتْنَةَ هاهنا افْتِرَاقُ الْكَلِمَةِ وَظُهُورُ التَّشْوِيشِ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ الْكَلَامِ هُوَ أَنَّهُمْ لَوْ خَرَجُوا فِيهِمْ مَا زَادُوهُمْ إِلَّا خَبَالًا، وَالْخَبَالُ هُوَ الْإِفْسَادُ الَّذِي يُوجِبُ اخْتِلَافَ الرَّأْيِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ الَّتِي يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا فِي الْحُرُوبِ لِأَنَّ عِنْدَ حُصُولِ الِاخْتِلَافِ فِي الرَّأْيِ يَحْصُلُ الِانْهِزَامُ وَالِانْكِسَارُ عَلَى أَسْهَلِ الْوُجُوهِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى ذَلِكَ بَلْ يَمْشُونَ بَيْنَ الْأَكَابِرِ بِالنَّمِيمَةِ فَيَكُونُ الْإِفْسَادُ أَكْثَرَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ: فِيكُمْ عُيُونٌ لَهُمْ يَنْقُلُونَ إِلَيْهِمْ مَا يَسْمَعُونَ مِنْكُمْ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَابْنِ زَيْدٍ. وَالثَّانِي: قَالَ قَتَادَةُ: فِيكُمْ مَنْ يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ وَيَقْبَلُ قَوْلَهُمْ، فَإِذَا أَلْقَوْا إِلَيْهِمْ أَنْوَاعًا مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُوجِبَةِ لِضَعْفِ الْقَلْبِ قَبِلُوهَا وَفَتَرُوا بِسَبَبِهَا عَنِ الْقِيَامِ بِأَمْرِ الْجِهَادِ كَمَا يَنْبَغِي. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مَعَ قُوَّةِ دِينِهِمْ وَنِيَّتِهِمْ فِي الْجِهَادِ؟ قُلْنَا: لَا يَمْتَنِعُ فِيمَنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالْإِسْلَامِ أَنْ يُؤَثِّرَ قَوْلُ الْمُنَافِقِينَ فِيهِمْ وَلَا يَمْتَنِعُ كَوْنُ بَعْضِ النَّاسِ مَجْبُولِينَ عَلَى الْجُبْنِ وَالْفَشَلِ وَضَعْفِ الْقَلْبِ، فَيُؤَثِّرُ قَوْلُهُمْ فِيهِمْ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَقَارِبِ رُؤَسَاءِ الْمُنَافِقِينَ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ بِعَيْنِ الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ يُؤَثِّرُ قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْأَكَابِرِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِيهِمْ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: الْمُنَافِقُونَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى النِّفَاقِ وَلَا يَسْعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، ثُمَّ إِنَّ الْفَرِيقَ الثَّانِيَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَحْمِلُونَهُمْ عَلَى السَّعْيِ بِالْفَسَادِ بِسَبَبِ إِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ وَالْأَرَاجِيفِ إِلَيْهِمْ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ، وَظَلَمُوا غَيْرَهُمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ سَعَوْا فِي إِلْقَاءِ غَيْرِهِمْ فِي وُجُوهِ الْآفَاتِ والمخالفات. واللَّه أعلم.

[سورة التوبة (9) : الآيات 48 إلى 49]

[سورة التوبة (9) : الآيات 48 الى 49] لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) اعْلَمْ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَوْعٌ آخَرُ مِنْ مَكْرِ الْمُنَافِقِينَ وخبث باطنهم فَقَالَ: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ وَاقِعَةِ تَبُوكَ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ أَنَّ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَقَفُوا عَلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ لِيَفْتِكُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ الْمُرَادُ مَا فَعَلَهُ عَبْدُ اللَّه بْنُ أُبَيٍّ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ انْصَرَفَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ، وَقِيلَ: طَلَبُوا صَدَّ أَصْحَابِكَ عَنِ الدِّينِ وَرَدَّهُمْ إِلَى الْكُفْرِ وَتَخْذِيلَ النَّاسِ عَنْكَ، وَمَعْنَى الْفِتْنَةِ هُوَ الِاخْتِلَافُ الْمُوجِبُ لِلْفُرْقَةِ بَعْدَ الْأُلْفَةِ، وَهُوَ الَّذِي طَلَبَهُ الْمُنَافِقُونَ لِلْمُسْلِمِينَ وَسَلَّمَهُمُ اللَّه مِنْهُ، وَقَوْلُهُ: وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ تَقْلِيبُ الْأَمْرِ تَصْرِيفُهُ وَتَرْدِيدُهُ لِأَجْلِ التَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ فِيهِ، يَعْنِي اجْتَهَدُوا فِي الْحِيلَةِ عَلَيْكَ وَالْكَيْدِ بِكَ. يُقَالُ: فِي الرَّجُلِ الْمُتَصَرِّفِ فِي وُجُوهِ الْحِيَلِ فُلَانٌ حُوَّلٌ قُلَّبٌ، أَيْ يَتَقَلَّبُ فِي وُجُوهِ الْحِيَلِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا مُوَاظِبِينَ عَلَى وَجْهِ الْكَيْدِ وَالْمَكْرِ وَإِثَارَةِ الْفِتْنَةِ وَتَنْفِيرِ النَّاسِ عَنْ قَبُولِ الدِّينِ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ الَّذِي كَانَ فِي حُكْمِ الْمَذَاهِبِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْقُرْآنُ وَدَعْوَةُ مُحَمَّدٍ، وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّه الَّذِي كَانَ كَالْمَسْتُورِ وَالْمُرَادُ بِأَمْرِ اللَّه الْأَسْبَابُ الَّتِي أَظْهَرَهَا اللَّه تَعَالَى وَجَعَلَهَا مُؤَثِّرَةً فِي قُوَّةِ شَرْعِ محمد عليه الصلاة والسلام، وهم لها كَارِهُونَ أَيْ وَهُمْ لِمَجِيءِ هَذَا الْحَقِّ وَظُهُورِ أَمْرِ اللَّهِ كَارِهُونَ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِمَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي إِثَارَةِ الشَّرِّ، فَإِنَّهُمْ مُنْذُ كَانُوا فِي طَلَبِ هَذَا الْمَكْرِ وَالْكَيْدِ، واللَّه تَعَالَى رَدَّهُ فِي نَحْرِهِمْ وَقَلَبَ مُرَادَهُمْ وَأَتَى بِضِدِّ مَقْصُودِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْمَاضِي، فَهَذَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي يُرِيدُ ائْذَنْ لِي فِي الْقُعُودِ وَلَا تَفْتِنِّي بِسَبَبِ الْأَمْرِ بِالْخُرُوجِ، وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: لَا تَفْتِنِّي أَيْ لَا تُوقِعْنِي فِي الْفِتْنَةِ وَهِيَ الْإِثْمُ بِأَنْ لَا تَأْذَنَ لِي، فَإِنَّكَ إِنْ مَنَعْتَنِي مِنَ الْقُعُودِ وَقَعَدْتُ بِغَيْرِ إِذْنِكَ وَقَعْتُ فِي الْإِثْمِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا ذَكَرُوهُ عَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ، وَأَنْ يَكُونُوا أَيْضًا ذَكَرُوهُ عَلَى سَبِيلِ الْجِدِّ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُنَافِقُ مُنَافِقًا كَانَ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ كَوْنُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَادِقًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ قَاطِعٍ بِذَلِكَ. وَالثَّانِي: لَا تَفْتِنِّي أَيْ لَا تُلْقِنِي فِي الْهَلَاكِ فَإِنَّ الزَّمَانَ زَمَانُ شِدَّةِ الْحَرِّ وَلَا طَاقَةَ لِي بِهَا. وَالثَّالِثُ: لَا تَفْتِنِّي فَإِنِّي إِنْ خَرَجْتُ مَعَكَ هَلَكَ مَالِي وَعِيَالِي. وَالرَّابِعُ: قَالَ الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ: قَدْ عَلِمَتِ الأنصار أني مغرم/ بانساء فَلَا تَفْتِنِّي بِبَنَاتِ الْأَصْفَرِ، يَعْنِي نِسَاءَ الرُّومِ، وَلَكِنِّي أُعِينُكَ بِمَالٍ فَاتْرُكْنِي، وَقُرِئَ وَلا تَفْتِنِّي مِنْ أَفْتَنَهُ أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَحْتَرِزُونَ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ، وَهُمْ فِي الْحَالِ مَا وَقَعُوا إِلَّا فِي الْفِتْنَةِ، فَإِنَّ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْفِتْنَةِ الْكُفْرُ باللَّه وَرَسُولِهِ، وَالتَّمَرُّدُ عَنْ قَبُولِ التَّكْلِيفِ. وَأَيْضًا فَهُمْ يَبْقَوْنَ خَالِفِينَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، خَائِفِينَ مِنْ أَنْ يَفْضَحَهُمُ اللَّه، وَيُنْزِلَ آيَاتٍ فِي شَرْحِ نِفَاقِهِمْ وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ سَقَطَ لِأَنَّ لَفْظَ مَنْ مُوَحَّدُ اللَّفْظِ مَجْمُوعُ الْمَعْنَى. قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَنْ عَصَى اللَّه لِغَرَضٍ مَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَبْطُلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْغَرَضُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا اخْتَارُوا الْقُعُودَ لِئَلَّا يَقَعُوا فِي الْفِتْنَةِ،

[سورة التوبة (9) : الآيات 50 إلى 51]

فاللَّه تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ فِي عَيْنِ الْفِتْنَةِ وَاقِعُونَ سَاقِطُونَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ قِيلَ: إِنَّهَا تُحِيطُ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ إِنَّ أَسْبَابَ تِلْكَ الْإِحَاطَةِ حَاصِلَةٌ فِي الْحَالِ، فَكَأَنَّهُمْ فِي وَسَطِهَا. وَقَالَ الْحُكَمَاءُ الإسلاميون: إِنَّهُمْ كَانُوا مَحْرُومِينَ مِنْ نُورِ مَعْرِفَةِ اللَّه وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ كَمَالًا وَسَعَادَةً سِوَى الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ، ثُمَّ إِنَّهُمُ اشْتَهَرُوا بَيْنَ النَّاسِ بِالنِّفَاقِ وَالطَّعْنِ فِي الدِّينِ. وَقَصْدِ الرَّسُولِ بِكُلِّ سُوءٍ، وَكَانُوا يُشَاهِدُونَ أَنَّ دَوْلَةَ الْإِسْلَامِ أَبَدًا فِي التَّرَقِّي وَالِاسْتِعْلَاءِ وَالتَّزَايُدِ، وَكَانُوا فِي أَشَدِّ الْخَوْفِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَوْلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ كَانُوا مَحْرُومِينَ عَنْ كُلِّ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ، فَكَانُوا فِي أَشَدِّ الْخَوْفِ، بِسَبَبِ الْأَحْوَالِ الْعَاجِلَةِ، وَالْخَوْفُ الشَّدِيدُ مَعَ الْجَهْلِ الشَّدِيدِ، أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ، فَعَبَّرَ اللَّه تَعَالَى عَنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ. [سورة التوبة (9) : الآيات 50 الى 51] إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ كَيْدِ الْمُنَافِقِينَ وَمِنْ خُبْثِ بَوَاطِنِهِمْ، وَالْمَعْنَى: إِنْ تُصِبْكَ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ حَسَنَةٌ سَوَاءً كَانَ ظَفَرًا، أَوْ كَانَ غَنِيمَةً، أَوْ كَانَ انْقِيَادًا لِبَعْضِ مُلُوكِ الْأَطْرَافِ، يَسُؤْهُمْ ذَلِكَ، وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ مِنْ نَكْبَةٍ وَشِدَّةٍ وَمُصِيبَةٍ وَمَكْرُوهٍ يَفْرَحُوا بِهِ، وَيَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا الَّذِي نَحْنُ مَشْهُورُونَ بِهِ، وَهُوَ الْحَذَرُ وَالتَّيَقُّظُ وَالْعَمَلُ بِالْحَزْمِ، مِنْ قَبْلُ أَيْ قَبْلَ مَا وَقَعَ وَتَوَلَّوْا عَنْ/ مَقَامِ التَّحَدُّثِ بِذَلِكَ، وَالِاجْتِمَاعِ لَهُ إِلَى أَهَالِيهِمْ، وَهُمْ فَرِحُونَ مَسْرُورُونَ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْحَسَنَةَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، وَالْمُصِيبَةَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ، فَإِنْ ثَبَتَ بِخَبَرٍ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَالْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَى كُلِّ حَسَنَةٍ، وَعَلَى كُلِّ مُصِيبَةٍ، إِذِ الْمَعْلُومُ مِنْ حَالِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ حَسَنَةٍ وَعِنْدَ كُلِّ مُصِيبَةٍ بالوصف الذي ذكره الله هاهنا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا وَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَنَا خَيْرٌ وَلَا شَرٌّ، وَلَا خَوْفٌ وَلَا رَجَاءٌ، وَلَا شِدَّةٌ وَلَا رَخَاءٌ، إِلَّا وَهُوَ مُقَدَّرٌ عَلَيْنَا مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَوْنُهُ مَكْتُوبًا عِنْدَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَعْلُومًا عِنْدَ اللَّهِ مَقْضِيًّا بِهِ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ، وَالْمُمْكِنُ لَا يَتَرَجَّحُ إِلَّا بِتَرْجِيحِ الْوَاجِبِ، وَالْمُمْكِنَاتُ بِأَسْرِهَا مُنْتَهِيَةٌ إِلَى قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ قَضَاءَ اللَّهِ شَامِلٌ لِكُلِّ الْمُحْدَثَاتِ وَأَنَّ تَغَيُّرَ الشَّيْءِ عَمَّا قَضَى اللَّهُ بِهِ مُحَالٌ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ، وَالْمُمْكِنُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ عَلَى الْآخَرِ لِنَفْسِهِ، فَوَجَبَ انْتِهَاؤُهُ إِلَى تَرْجِيحِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، وَمَا سِوَاهُ فَوَاجِبٌ بِإِيجَادِهِ وَتَأْثِيرِهِ وَتَكْوِينِهِ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا كَتَبَ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَقَدْ عَلِمَهَا وَحَكَمَ بِهَا، فَلَوْ وَقَعَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهَا لَزِمَ انْقِلَابُ الْعِلْمِ جَهْلًا وَالْحُكْمِ الصِّدْقِ كَذِبًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ، وَقَدْ أَطْنَبْنَا فِي شَرْحِ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَةِ: 6] .

[سورة التوبة (9) : آية 52]

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ تَسْلِيَةً لِلرَّسُولِ فِي فَرَحِهِمْ بِحُزْنِهِ وَمَكَارِهِهِ فَأَيُّ تَعَلُّقِ لِهَذَا الْمَذْهَبِ بِذَلِكَ؟ قُلْنَا: السَّبَبُ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَلِمَ سِرَّ اللَّه فِي الْقَدَرِ هَانَتْ عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ» فَإِنَّهُ إِذَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ أَنَّ الَّذِي وَقَعَ امْتَنَعَ أَنْ لَا يَقَعَ، زَالَتِ الْمُنَازَعَةُ عَنِ النَّفْسِ وَحَصَلَ الرِّضَا بِهِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا أَيْ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِنَا مِنَ الظَّفَرِ بِالْعَدُوِّ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِمْ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَظْهَرَ لِلْمُنَافِقِينَ أَنَّ أَحْوَالَ الرَّسُولِ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي السُّرُورِ وَالْغَمِّ، إِلَّا أَنَّ فِي الْعَاقِبَةِ الدَّوْلَةَ لَهُمْ وَالْفَتْحَ وَالنَّصْرَ وَالظَّفَرَ مِنْ جَانِبِهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ اغْتِيَاظًا لِلْمُنَافِقِينَ وَرَدًّا عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْفَرَحِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى إِذَا صِرْنَا مَغْلُوبِينَ صِرْنَا مُسْتَحِقِّينَ لِلْأَجْرِ الْعَظِيمِ، / وَالثَّوَابِ الْكَثِيرِ، وَإِنْ صِرْنَا غَالِبِينَ، صِرْنَا مُسْتَحِقِّينَ لِلثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَفُزْنَا بِالْمَالِ الْكَثِيرِ وَالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، صَارَتْ تِلْكَ الْمَصَائِبُ وَالْمُحْزِنَاتُ فِي جَنْبِ هَذَا الْفَوْزِ بِهَذِهِ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ مُتَحَمَّلَةً، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَإِنْ كَانَتْ حَسَنَةً، إِلَّا أَنَّ الْحَقَّ الصَّحِيحَ هُوَ الْأَوَّلُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هُوَ مَوْلانا وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَحْسُنُ مِنْهُ التَّصَرُّفُ فِي الْعَالَمِ كَيْفَ شَاءَ، وَأَرَادَ لِأَجْلِ أَنَّهُ مَالِكٌ لَهُمْ وَخَالِقٌ لَهُمْ، وَلِأَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ، فَهَذَا الْكَلَامُ يَنْطَبِقُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَلِذَا قُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ أَوْصَلَ إِلَى بَعْضِ عَبِيدِهِ أَنْوَاعًا مِنَ الْمَصَائِبِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الرِّضَا بِهَا لِأَنَّهُ تَعَالَى مَوْلَاهُمْ وَهُمْ عَبِيدُهُ، فَحَسُنَ مِنْهُ تَعَالَى تِلْكَ التَّصَرُّفَاتُ، بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مَوْلًى لَهُمْ، وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ مِنَ الْعَبِيدِ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَلَا أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا أَنَّهُ مَعَ هَذَا عَظِيمُ الرَّحْمَةِ كَثِيرُ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَوَكَّلَ الْمُؤْمِنُ فِي الْأَصْلِ إِلَّا عَلَيْهِ، وَأَنْ يَقْطَعَ طَمَعَهُ إِلَّا مِنْ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَهَذَا كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ حَالَ الْمُنَافِقِينَ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ لَا يَتَوَكَّلُونَ إِلَّا عَلَى الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَاللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ الْفَانِيَةِ. [سورة التوبة (9) : آية 52] قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ الثَّانِي عَنْ فَرَحِ الْمُنَافِقِينَ بِمَصَائِبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا ذَهَبَ إِلَى الْغَزْوِ، فَإِنْ صَارَ مَغْلُوبًا مَقْتُولًا فَازَ بِالِاسْمِ الْحَسَنِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ الْعَظِيمِ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّه لِلشُّهَدَاءِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ صَارَ غَالِبًا فَازَ فِي الدُّنْيَا بِالْمَالِ الْحَلَالِ وَالِاسْمِ الْجَمِيلِ، وَهِيَ الرُّجُولِيَّةُ وَالشَّوْكَةُ وَالْقُوَّةُ، وَفِي الْآخِرَةِ، بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُ إِذَا قَعَدَ فِي بَيْتِهِ فَهُوَ فِي الْحَالِ فِي بَيْتِهِ مَذْمُومًا مَنْسُوبًا إِلَى الْجُبْنِ وَالْفَشَلِ وَضَعْفِ الْقَلْبِ وَالْقَنَاعَةِ بِالْأُمُورِ الْخَسِيسَةِ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى وَجْهٍ يُشَارِكُهُ فِيهَا النِّسْوَانُ وَالصِّبْيَانُ وَالْعَاجِزُونَ مِنَ النِّسَاءِ، ثُمَّ يَكُونُونَ أَبَدًا خَائِفِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَفِي الْآخِرَةِ إِنْ مَاتُوا فَقَدِ انْتَقَلُوا إِلَى الْعَذَابِ الدَّائِمِ فِي

[سورة التوبة (9) : آية 53]

الْقِيَامَةِ، وَإِنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي قَتْلِهِمْ/ وَقَعُوا فِي الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالنَّهْبِ، وَانْتَقَلُوا مِنَ الدُّنْيَا إِلَى عَذَابِ النَّارِ، فَالْمُنَافِقُ لَا يَتَرَبَّصُ بِالْمُؤْمِنِ إِلَّا إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي غَايَةِ الْجَلَالَةِ وَالرِّفْعَةِ وَالشَّرَفِ، وَالْمُسْلِمُ يَتَرَبَّصُ بِالْمُنَافِقِ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، أَعْنِي الْبَقَاءَ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْخِزْيِ وَالذُّلِّ وَالْهَوَانِ، ثُمَّ الِانْتِقَالَ إِلَى عَذَابِ الْقِيَامَةِ وَالْوُقُوعُ فِي الْقَتْلِ وَالنَّهْبِ مَعَ الْخِزْيِ وَالذُّلِّ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ فِي غَايَةِ الْخَسَاسَةِ وَالدَّنَاءَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى لِلْمُنَافِقِينَ: فَتَرَبَّصُوا بِنَا إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ الشَّرِيفَتَيْنِ إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ وُقُوعَكُمْ فِي إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ الْخَسِيسَتَيْنِ النَّازِلَتَيْنِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُقَالُ فُلَانٌ يَتَرَبَّصُ بفلان الدوائر، وإذا كَانَ يَنْتَظِرُ وُقُوعَ مَكْرُوهٍ بِهِ، وَهَذَا قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: التَّرَبُّصُ، التَّمَسُّكُ بِمَا يُنْتَظَرُ بِهِ مَجِيءُ حِينِهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: فُلَانٌ يَتَرَبَّصُ بِالطَّعَامِ إِذَا تَمَسَّكَ بِهِ إِلَى حِينِ زِيَادَةِ سِعْرِهِ، وَالْحُسْنَى تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا قِيلَ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. أَيْ بِعَذَابٍ يُنْزِلُهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، أَوْ بِأَيْدِينَا بِأَنْ يَأْذَنَ لَنَا فِي قَتْلِكُمْ. وَقِيلَ: بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يَتَنَاوَلُ عَذَابَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَوْ بِأَيْدِينَا الْقَتْلُ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانُوا مُنَافِقِينَ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُمْ مَعَ إِظْهَارِهِمُ الْإِيمَانَ، فَكَيْفَ يَقُولُ تَعَالَى ذَلِكَ؟ قُلْنَا قَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ بِأَيْدِينَا إِنْ ظَهَرَ نِفَاقُكُمْ، لِأَنَّ نِفَاقَهُمْ إِذَا ظَهَرَ كَانُوا كَسَائِرِ الْمُشْرِكِينَ فِي كَوْنِهِمْ حَرْبًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقَوْلُهُ: فَتَرَبَّصُوا وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّهْدِيدُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ والله أعلم. [سورة التوبة (9) : آية 53] قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ عَاقِبَةَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ هِيَ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، بَيَّنَ أَنَّهُمْ وَإِنْ أَتَوْا بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ فَإِنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ أَسْبَابَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مُجْتَمِعَةٌ فِي حَقِّهِمْ، وَأَنَّ أَسْبَابَ الرَّاحَةِ وَالْخَيْرِ زَائِلَةٌ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ والكسائي كرها بضم الكاف هاهنا، وَفِي النِّسَاءِ وَالْأَحْقَافِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ فِي الْأَحْقَافِ بِالضَّمِّ مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَفِي النِّسَاءِ وَالتَّوْبَةِ بِالْفَتْحِ مِنَ الْإِكْرَاهِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْكَافِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. فَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ. وَقِيلَ: بِالضَّمِّ الْمَشَقَّةُ وَبِالْفَتْحِ مَا أُكْرِهْتَ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ حِينَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ائْذَنْ لِي فِي الْقُعُودِ وَهَذَا ما لي أُعِينُكَ بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ السَّبَبَ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا إِلَّا أَنَّ الْحُكَمَ عَامٌّ، فَقَوْلُهُ: أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظَ أَمْرٍ، إِلَّا أَنَّ مَعْنَاهُ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ. وَالْمَعْنَى: سَوَاءٌ أَنْفَقْتُمْ طَائِعِينَ أَوْ مُكْرَهِينَ فَلَنْ يُقْبَلَ ذَلِكَ مِنْكُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَبَرَ وَالْأَمْرَ يَتَقَارَبَانِ، فَيَحْسُنُ إِقَامَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ. أَمَّا إِقَامَةُ الْأَمْرِ مَقَامَ الْخَبَرِ، فَكَمَا هاهنا، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: 80] وَفِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا [مَرْيَمَ: 75] وَأَمَّا إِقَامَةُ الْخَبَرِ مَقَامَ الْأَمْرِ، فَكَقَوْلِهِ: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ [الْبَقَرَةِ: 233] وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ [الْبَقَرَةِ: 228] وَقَالَ كُثَيِّرٌ:

[سورة التوبة (9) : آية 54]

أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةً ... لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيَّةٌ إِنْ تَقَلَّتِ وَقَوْلُهُ: طَوْعاً أَوْ كَرْهاً يُرِيدُ طَائِعِينَ أَوْ كَارِهِينَ. وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: طَائِعِينَ مِنْ غَيْرِ إِلْزَامٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْ مُكْرَهِينَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَسَمَّى الْإِلْزَامَ إِكْرَاهًا لِأَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ، فَكَانَ إِلْزَامُ اللَّهِ إِيَّاهُمُ الْإِنْفَاقَ شَاقًّا عَلَيْهِمْ كَالْإِكْرَاهِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: طَائِعِينَ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ مِنْ رُؤَسَائِكُمْ، لِأَنَّ رُؤَسَاءَ أَهْلِ النِّفَاقِ كَانُوا يَحْمِلُونَ الِاتِّبَاعَ عَلَى الْإِنْفَاقِ لِمَا يَرَوْنَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ أَوْ مُكْرَهِينَ مِنْ جِهَتِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَقَبَّلُ تِلْكَ الْأَمْوَالَ مِنْهُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهَا لَا تَصِيرُ مَقْبُولَةً عِنْدَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَدَمَ الْقَبُولِ مُعَلَّلٌ بِكَوْنِهِمْ فَاسِقِينَ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْفِسْقَ يُحْبِطُ الطَّاعَاتِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ نَفَقَتَهُمْ لَا تُقْبَلُ الْبَتَّةَ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِمْ فَاسِقِينَ، وَمَعْنَى التَّقَبُّلِ هُوَ الثَّوَابُ وَالْمَدْحُ، وَإِذَا لَمْ يُتَقَبَّلْ ذَلِكَ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا ثَوَابَ وَلَا مَدْحَ، فَلَمَّا عَلَّلَ ذَلِكَ بِالْفِسْقِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْفِسْقَ يُؤَثِّرُ فِي إِزَالَةِ هَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ إِنَّ الْجُبَّائِيَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِدَلِيلِهِمُ الْمَشْهُورِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْفِسْقَ يُوجِبُ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ الدَّائِمَيْنِ، وَالطَّاعَةَ تُوجِبُ الْمَدْحَ وَالثَّوَابَ الدَّائِمَيْنِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ. فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ حُصُولِ اسْتِحْقَاقِهِمَا مُحَالًا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لا يذكر هذا الاستدلال بعد ما أَزَالَ اللَّهُ هَذِهِ الشُّبْهَةَ عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ فَبَيَّنَ تَعَالَى/ بِصَرِيحِ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ لَا مُؤَثِّرَ فِي مَنْعِ قَبُولِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ إِلَّا الْكُفْرُ، وَعِنْدَ هَذَا يَصِيرُ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ أَوْضَحِ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْفِسْقَ لَا يُحْبِطُ الطَّاعَاتِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ فَكَأَنَّهُ سَأَلَ سَائِلٌ وَقَالَ: هَذَا الْحُكْمُ مُعَلَّلٌ بِعُمُومِ كَوْنِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ فِسْقًا، أَوْ بِخُصُوصِ كَوْنِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مَوْصُوفَةً بِذَلِكَ الْفِسْقِ؟ فَبَيَّنَ تَعَالَى بِهِ مَا أَزَالَ هَذِهِ الشُّبْهَةَ، وَهُوَ أَنَّ عَدَمَ الْقَبُولِ غَيْرُ مُعَلَّلٍ بِعُمُومِ كَوْنِهِ فِسْقًا، بَلْ بِخُصُوصِ وَصْفِهِ وَهُوَ كَوْنُ ذَلِكَ الْفِسْقِ كُفْرًا. فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ باطل. [سورة التوبة (9) : آية 54] وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: دَلَّ صَرِيحُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْفِسْقِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِسْقٌ فِي هَذَا الْمَنْعِ، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي بُطْلَانِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى ما لحصناه وَبَيَّنَّاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْعَ الْقَبُولِ بِمَجْمُوعِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَعَدَمُ الْإِتْيَانِ بِالصَّلَاةِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْكَسَلِ، وَالْإِنْفَاقُ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهِيَةِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْكُفْرُ بِاللَّهِ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْقَبُولِ، وَعِنْدَ حُصُولِ السَّبَبِ الْمُسْتَقِلِّ لَا يَبْقَى لِغَيْرِهِ أَثَرٌ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ إِسْنَادُ هَذَا الْحُكَمِ إِلَى السَّبَبَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ؟

وَجَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ الْكُفْرَ لِكَوْنِهِ كُفْرًا يُؤَثِّرُ فِي هَذَا الْحُكْمِ، أَمَّا عِنْدَنَا فَإِنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَفْعَالِ لَا يُوجِبُ ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا هِيَ مُعَرِّفَاتٌ وَاجْتِمَاعُ الْمُعَرِّفَاتِ الْكَثِيرَةِ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مُحَالٌ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ لِوُجُوهٍ عَائِدَةٍ إِلَيْهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ حَصَلَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ فِي حَقِّهِمْ، فَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُوجِبًا تَامًّا لِهَذَا الْحُكْمِ، لَزِمَ أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَى الْأَثَرِ الْوَاحِدِ أَسْبَابٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّ الْمَعْلُولَ يَسْتَغْنِي بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، فَيَلْزَمُ افْتِقَارُهُ إِلَيْهَا بِأَسْرِهَا حَالَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهَا بِأَسْرِهَا، وَذَلِكَ/ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِكَوْنِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مُؤَثِّرَةً فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ يُفْضِي إِلَى هَذَا الْمُحَالِ، فَكَانَ الْقَوْلُ بِهِ بَاطِلًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ لَا يَكُونُ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ مَعَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7] . قُلْنَا: وَجَبَ أَنْ يُصْرَفَ ذَلِكَ إِلَى تَأْثِيرِهِ فِي تَخْفِيفِ الْعِقَابِ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَازِمَةٌ لِلْكَافِرِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ذَمَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى فِعْلِهَا عَلَى وَجْهِ الْكَسَلِ. فَإِنْ قَالُوا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمُوجِبُ لِلذَّمِّ لَيْسَ هُوَ تَرْكَ الصَّلَاةِ؟ بَلِ الْمُوجِبُ لِلذَّمِّ هُوَ الْإِتْيَانُ بِهَا عَلَى وَجْهِ الْكَسَلِ جَارِيًا مَجْرَى سَائِرِ تَصَرُّفَاتِهَا مِنْ قِيَامٍ وَقُعُودٍ، وَكَمَا لَا يَكُونُ قُعُودُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْكَسَلِ مَانِعًا مِنْ تَقَبُّلِ طَاعَتِهِمْ، فَكَذَلِكَ كَانَ يَجِبُ فِي صَلَاتِهِمْ لَوْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَضَى تَفْسِيرُ الْكُسَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : كُسالى بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ جَمْعُ الْكَسْلَانِ: نَحْوُ سُكَارَى وَحَيَارَى فِي سَكْرَانَ وَحَيْرَانَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذَا الْكَسَلُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ صَلَّى، وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ لَمْ يُصَلِّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: إِنَّ هَذَا الْمَعْنَى إِنَّمَا أَثَّرَ فِي مَنْعِ قَبُولِ الطَّاعَاتِ، لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلِّي طَاعَةً لِأَمْرِ اللَّهِ وَإِنَّمَا يُصَلِّي خَوْفًا مِنْ مَذَمَّةِ النَّاسِ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْكُفْرِ. أَمَّا لَمَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ وَصَفَهُمْ بِالْكُفْرِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَسَلَ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْكُفْرَ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُنْفِقُونَ لِغَرَضِ الطَّاعَةِ، بَلْ رِعَايَةً لِلْمَصْلَحَةِ الظَّاهِرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ الْإِنْفَاقَ مَغْرَمًا وَضَيْعَةً بَيْنَهُمْ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ النَّفْسُ طَيِّبَةً عِنْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ الْمُنَافِقِينَ بِكَرَاهَتِهِمُ الْإِنْفَاقَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا نُفُوسُكُمْ» فَإِنْ أَدَّاهَا وَهُوَ كَارِهٌ لِذَلِكَ كَانَ مِنْ عَلَامَاتِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَاصِلُ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رُوحَ الطَّاعَاتِ الْإِتْيَانُ بِهَا لِغَرَضِ الْعُبُودِيَّةِ وَالِانْقِيَادِ فِي الطَّاعَةِ، فَإِنْ لَمْ يُؤْتَ بِهَا لِهَذَا الْغَرَضِ، فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، بَلْ رُبَّمَا صَارَتْ وَبَالًا عَلَى صَاحِبِهَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ أَنْ يُقْبَلَ بِالْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى التَّأْنِيثِ. وَجْهُ الْأَوَّلَيْنِ: أَنَّ النَّفَقَاتِ فِي مَعْنَى الْإِنْفَاقِ، كَقَوْلِهِ: فَمَنْ جاءَهُ/ مَوْعِظَةٌ وَوَجْهُ مَنْ قَرَأَ بِالتَّأْنِيثِ أَنَّ الْفِعْلَ مُسْنَدٌ إِلَى مُؤَنَّثٍ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ نَفَقاتُهُمْ ونفقتهم على الجمع

[سورة التوبة (9) : آية 55]

وَالتَّوْحِيدِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتِهِمْ عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. [سورة التوبة (9) : آية 55] فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) [في قَوْلُهُ تَعَالَى فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَطَعَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى رَجَاءَ الْمُنَافِقِينَ عَنْ جَمِيعِ مَنَافِعِ الْآخِرَةِ، بَيَّنَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي يَظُنُّونَهَا مِنْ بَابِ الْمَنَافِعِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا أَسْبَابَ تَعْظِيمِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَسْبَابَ اجْتِمَاعِ الْمِحَنِ وَالْآفَاتِ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَرَفَ أَنَّهَا مُرَتَّبَةٌ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ قَبَائِحَ أَفْعَالِهِمْ وَفَضَائِحَ أَعْمَالِهِمْ، بَيَّنَ مالهم في الآخرة من العذاب الشديد ومالهم فِي الدُّنْيَا مِنْ وُجُوهِ الْمِحْنَةِ وَالْبَلِيَّةِ، ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْبَتَّةَ. ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَا يَظُنُّونَ أَنَّهُ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ سَبَبٌ لِعَذَابِهِمْ وَبَلَائِهِمْ وَتَشْدِيدِ الْمِحْنَةِ عَلَيْهِمْ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ النِّفَاقَ جَالِبٌ لِجَمِيعِ الْآفَاتِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَمُبْطِلٌ لِجَمِيعِ الْخَيْرَاتِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَإِذَا وَقَفَ الْإِنْسَانُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ عَرَفَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَرْتِيبُ الْكَلَامِ عَلَى وَجْهٍ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا. وَمِنَ اللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا الْخِطَابُ، وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مُخْتَصًّا بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كُلُّ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَعْجَبُوا بِأَمْوَالِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَلَا بِأَوْلَادِهِمْ وَلَا بِسَائِرِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ [طه: 131] الْآيَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الإعجاب: السرور بالشيء كه مَعَ نَوْعِ الِافْتِخَارِ بِهِ، وَمَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ مَا يُسَاوِيهِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ تَدُلُّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ النَّفْسِ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ وَانْقِطَاعِهَا عَنِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ فِي حُكْمِ اللَّهِ أَنْ يُزِيلَ ذَلِكَ الشَّيْءَ عَنْ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ وَيَجْعَلَهُ لِغَيْرِهِ، وَالْإِنْسَانُ مَتَى كَانَ مُتَذَكِّرًا لِهَذَا الْمَعْنَى زَالَ إِعْجَابُهُ بِالشَّيْءِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ» وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: «هَلَكَ الْمُكْثِرُونَ» وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا لَكَ مِنْ مَالِكَ/ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ» وَذَكَرَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَرَفَعَهُ إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ كَثُرَ مَالُهُ اشْتَدَّ حِسَابُهُ، وَمَنْ كَثُرَ بَيْعُهُ كَثُرَتْ شَيَاطِينُهُ، وَمَنِ ازْدَادَ مِنَ السُّلْطَانِ قُرْبًا، ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا» وَالْأَخْبَارُ الْمُنَاسِبَةُ لِهَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا الزَّجْرُ عَنِ الِارْتِكَانِ إِلَى الدُّنْيَا، وَالْمَنْعُ مِنَ التَّهَالُكِ فِي حُبِّهَا وَالِافْتِخَارِ بِهَا. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الْمَوْجُودَاتُ بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: الَّذِي يَكُونُ أَزَلِيًّا أَبَدِيًّا، وَهُوَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ وَالثَّانِي: الَّذِي لَا يَكُونُ أَزَلِيًّا وَلَا أَبَدِيًّا وَهُوَ الدُّنْيَا. وَالثَّالِثُ: الَّذِي يَكُونُ أَزَلِيًّا وَلَا يَكُونُ أَبَدِيًّا وَهَذَا مُحَالُ الْوُجُودِ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ مَا ثَبَتَ قِدَمُهُ امْتَنَعَ عَدَمُهُ. وَالرَّابِعُ: الَّذِي يَكُونُ أَبَدِيًّا وَلَا يَكُونُ أَزَلِيًّا وَهُوَ الْآخِرَةُ وَجَمِيعُ الْمُكَلَّفِينَ، فَإِنَّ الْآخِرَةَ لَهَا أَوَّلٌ، لَكِنْ لَا آخِرَ لَهَا، وَكَذَلِكَ الْمُكَلَّفُ سَوَاءً كَانَ مُطِيعًا أَوْ كَانَ عَاصِيًا فَلِحَيَاتِهِ أَوَّلٌ، وَلَا آخِرَ لَهَا. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ الْحَاصِلَةَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ الْمُكَلَّفِ وَبَيْنَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّنْيَا، وَيَظْهَرُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ خُلِقَ لِلْآخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْتَدَّ عَجَبُهُ بِالدُّنْيَا، وَأَنْ لَا يَمِيلَ قَلْبُهُ إِلَيْهَا فَإِنَّ الْمَسْكَنَ الْأَصْلِيَّ لَهُ هُوَ الْآخِرَةُ لا الدنيا. أما قوله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ففيه مسائل:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ النَّحْوِيُّونَ: فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُمْلِيَ لَهُمْ فِيهَا لِيُعَذِّبَهُمْ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ هَذَا اللَّامُ بِمَعْنَى «أَنْ» كَقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النِّسَاءِ: 26] أَيْ أَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. وَالتَّقْدِيرُ: فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: وَهَهُنَا سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْمَالُ وَالْوَلَدُ لَا يَكُونَانِ عَذَابًا، بَلْ هُمَا مِنْ جُمْلَةِ النِّعَمِ الَّتِي مَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ، فَعِنْدَ هَذَا الْتَزَمَ هَؤُلَاءِ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الِالْتِزَامَ لَا يَدْفَعُ هَذَا السُّؤَالَ. لِأَنَّهُ يُقَالُ: بَعْدَ هَذَا التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْمَالُ وَالْوَلَدُ عَذَابًا؟ فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ تَقْدِيرِ حَذْفٍ فِي الْكَلَامِ بِأَنْ يَقُولُوا أَرَادَ التَّعْذِيبَ بِهَا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ سَبَبًا لِلْعَذَابِ، وَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَغْنَوْا عَنِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ سَبَبًا لِلْعَذَابِ، وَأَيْضًا فَلَوْ أَنَّهُ قَالَ: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ، لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِعْجَابَ بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الْعَذَابِ، فَإِنَّهَا قَدْ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا كَمَا تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِهَذَا التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ لَيْسَ بِشَيْءٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِلْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِلْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. أَمَّا كَوْنُهَا سَبَبًا لِلْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا فَمِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ حُبُّهُ لِلشَّيْءِ أَشَدَّ وَأَقْوَى، كَانَ حُزْنُهُ وَتَأَلُّمُ قَلْبِهِ عَلَى فَوَاتِهِ أَعْظَمَ وَأَصْعَبَ، وَكَانَ خَوْفُهُ عَلَى فَوَاتِهِ أَشَدَّ وَأَصْعَبَ، فَالَّذِينَ حَصَلَتْ لَهُمُ الْأَمْوَالُ الْكَثِيرَةُ وَالْأَوْلَادُ إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ بَاقِيَةً عِنْدَهُمْ كَانُوا فِي أَلَمِ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ مِنْ فَوَاتِهَا، وَإِنْ فَاتَتْ وَهَلَكَتْ كَانُوا فِي أَلَمِ الْحُزْنِ الشَّدِيدِ بِسَبَبِ فَوَاتِهَا. فَثَبَتَ أَنَّهُ بِحُصُولِ مُوجِبَاتِ السِّعَادَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ تِلْكَ الْقَلْبُ إِمَّا بِسَبَبِ خَوْفِ فَوَاتِهَا وَإِمَّا بِسَبَبِ الْحُزْنِ مِنْ وُقُوعِ فَوَاتِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ يُحْتَاجُ فِي اكْتِسَابِهَا وَتَحْصِيلِهَا إِلَى تَعَبٍ شَدِيدٍ وَمَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ، ثُمَّ عِنْدَ حُصُولِهَا يَحْتَاجُ إِلَى مَتَاعِبَ أَشَدَّ وَأَشَقَّ وَأَصْعَبَ وَأَعْظَمَ فِي حِفْظِهَا، فَكَانَ حِفْظُ الْمَالِ بَعْدَ حُصُولِهِ أَصْعَبَ مِنِ اكْتِسَابِهِ، فَالْمَشْغُوفُ بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ أَبَدًا يَكُونُ فِي تَعَبِ الْحِفْظِ وَالصَّوْنِ عَنِ الْهَلَاكِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ إِلَّا بِالْقَلِيلِ مِنْ تِلْكَ الْأَمْوَالِ، فَالتَّعَبُ كَثِيرٌ وَالنَّفْعُ قَلِيلٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَظُمَ حُبُّهُ لِهَذِهِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، فَإِمَّا أَنْ تَبْقَى عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ إِلَى آخِرِ عُمُرِهِ، أَوْ لَا تَبْقَى، بَلْ تَهْلِكُ وَتَبْطُلُ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَعِنْدَ الْمَوْتِ يَعْظُمُ حُزْنُهُ وَتَشْتَدُّ حَسْرَتُهُ، لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْمَحْبُوبِ شَدِيدَةٌ، وَتَرْكَ الْمَحْبُوبِ أَشَدُّ وَأَشَقُّ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَهْلِكُ وَتَبْطُلُ حَالَ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ عَظُمَ أَسَفُهُ عَلَيْهَا، وَاشْتَدَّ تَأَلُّمُ قَلْبِهِ بِسَبَبِهَا، فَثَبَتَ أَنَّ حُصُولَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا. الرَّابِعُ: أَنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَالْحَوَاسُّ مَائِلَةٌ إِلَيْهَا، فَإِذَا كَثُرَتْ وَتَوَالَتِ اسْتَغْرَقْتَ فِيهَا وَانْصَرَفَتِ النَّفْسُ بِكُلِّيَّتِهَا إِلَيْهَا، فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِحِرْمَانِهِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَحْصُلُ فِي قَلْبِهِ نَوْعُ قَسْوَةٍ وَقُوَّةٍ وَقَهْرٍ، وَكُلَّمَا كَانَ الْمَالُ وَالْجَاهُ أَكْثَرَ. كَانَتْ تِلْكَ الْقَسْوَةُ أَقْوَى، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [الْعَلَقِ: 6، 7] فَظَهَرَ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ سَبَبٌ قَوِيٌّ فِي زَوَالِ حُبِّ اللَّهِ وَحُبِّ الْآخِرَةِ عَنِ الْقَلْبِ وَفِي حُصُولِ حُبِّ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا فِي الْقَلْبِ، فَعِنْدَ الْمَوْتِ كَأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْتَقِلُ مِنَ الْبُسْتَانِ إِلَى السِّجْنِ وَمِنَ مُجَالَسَةِ الْأَقْرِبَاءِ وَالْأَحِبَّاءِ إِلَى مَوْضِعِ الْكُرْبَةِ وَالْغُرْبَةِ، فَيَعْظُمُ تَأَلُّمُهُ وَتَقْوَى حَسْرَتُهُ، ثُمَّ عِنْدَ الْحَشْرِ حَلَالُهَا حِسَابٌ، وَحَرَامُهَا عِقَابٌ. فَثَبَتَ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ لِلْكُلِّ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَخْصِيصِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ بِهَذَا الْعَذَابِ؟ قُلْنَا: الْمُنَافِقُونَ مَخْصُوصُونَ بِزِيَادَاتٍ فِي هَذَا الْبَابِ: أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عَلِمَ أَنَّهُ خُلِقَ لِلْآخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا، فَبِهَذَا الْعِلْمِ يَفْتُرُ حُبُّهُ لِلدُّنْيَا، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ لَمَّا اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا سَعَادَةَ/ إِلَّا فِي هَذِهِ الْخَيْرَاتِ الْعَاجِلَةِ عَظُمَتْ رَغْبَتُهُ فِيهَا، وَاشْتَدَّ حُبُّهُ لَهَا، وَكَانَتِ الْآلَامُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِ فَوَاتِهَا أَكْثَرَ فِي حَقِّهِ، وَتَقْوَى عِنْدَ قُرْبِ الْمَوْتِ وَظُهُورِ عَلَامَاتِهِ، فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعَذَابِ حَاصِلٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ حُبِّ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكَلِّفُهُمْ إِنْفَاقَ تِلْكَ الْأَمْوَالِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ، وَيُكَلِّفُهُمْ إِرْسَالَ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ إِلَى الْجِهَادِ وَالْغَزْوِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ تَعْرِيضَ أَوْلَادِهِمْ لِلْقَتْلِ، وَالْقَوْمُ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ بِصَادِقٍ فِي كَوْنِهِ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ إِنْفَاقَ تِلْكَ الْأَمْوَالِ تَضْيِيعٌ لَهَا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَأَنَّ تَعْرِيضَ أَوْلَادِهِمْ لِلْقَتْلِ الْتِزَامٌ لِهَذَا الْمَكْرُوهِ الشَّدِيدِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا أَشَقُّ عَلَى الْقَلْبِ جِدًّا، فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنَ التَّعْذِيبِ، كَانَتْ حَاصِلَةً لِلْمُنَافِقِينَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يُبْغِضُونَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقُلُوبِهِمْ، ثُمَّ كَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَى بَذْلِ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَنُفُوسِهِمْ فِي خِدْمَتِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ شَاقَّةٌ شَدِيدَةٌ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا خَائِفِينَ مِنْ أَنْ يَفْتَضِحُوا وَيَظْهَرَ نِفَاقُهُمْ وَكُفْرُهُمْ ظُهُورًا تَامًّا، فَيَصِيرُونَ أَمْثَالَ سَائِرِ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَحِينَئِذٍ يَتَعَرَّضُ الرَّسُولُ لَهُمْ بِالْقَتْلِ، وَسَبْيِ الْأَوْلَادِ وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ، وَكُلَّمَا نَزَلَتْ آيَةٌ خَافُوا مِنْ ظُهُورِ الْفَضِيحَةِ، وَكُلَّمَا دَعَاهُمُ الرَّسُولُ خَافُوا مِنْ أَنَّهُ رُبَّمَا وَقَفَ عَلَى وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ مَكْرِهِمْ وَخُبْثِهِمْ وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ تَأَلُّمَ الْقَلْبِ وَمَزِيدَ الْعَذَابِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانَ لَهُمْ أَوْلَادٌ أَتْقِيَاءُ، كَحَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، شَهِدَ بَدْرًا وَكَانَ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ، وَهُمْ خلق كثير مبرؤن عَنِ النِّفَاقِ وَهُمْ كَانُوا لَا يَرْتَضُونَ طَرِيقَةَ آبَائِهِمْ فِي النِّفَاقِ، وَيَقْدَحُونَ فِيهِمْ، وَيَعْتَرِضُونَ عَلَيْهِمْ، وَالِابْنُ إِذَا صَارَ هَكَذَا عَظُمَ تَأَذِّي الْأَبِ بِهِ وَاسْتِيحَاشُهُ مِنْهُ، فَصَارَ حُصُولُ تِلْكَ الْأَوْلَادِ سَبَبًا لِعَذَابِهِمْ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ فُقَرَاءَ الصَّحَابَةِ وَضِعَافَهُمْ كَانُوا يَذْهَبُونَ فِي خِدْمَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى الْغَزَوَاتِ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ مَعَ الِاسْمِ الشَّرِيفِ وَالثَّنَاءِ الْعَظِيمِ وَالْفَوْزِ بِالْغَنَائِمِ. وَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ مَعَ الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ وَالْأَوْلَادِ الْأَقْوِيَاءِ، كَانُوا يَبْقَوْنَ فِي زَوَايَا بُيُوتِهِمْ أَشْبَاهَ الزَّمْنَى وَالضُّعَفَاءِ مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ إِنَّ الْخَلْقَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ بِعَيْنِ الْمَقْتِ وَالِازْدِرَاءِ وَالسِّمَةِ بِالنِّفَاقِ، وَكَأَنَّ كَثْرَةَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ صَارَتْ سَبَبًا لِحُصُولِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ كَثْرَةَ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ صَارَتْ سَبَبًا لِمَزِيدِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا فِي حَقِّهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي إِثْبَاتِ أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ فَهُوَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ قَالُوا: لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ إِزْهَاقَ أَنْفُسِهِمْ مَعَ الْكُفْرِ وَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَادَ الْكُفْرَ. أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ فَقَالَ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ إِزْهَاقَ أَنْفُسِهِمْ حَالَ مَا كَانُوا كَافِرِينَ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَعَالَى مُرِيدًا لِلْكُفْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرِيضَ قَدْ يَقُولُ لِلطَّبِيبِ: أُرِيدُ أَنْ تَدْخُلَ عَلَيَّ فِي وَقْتِ مَرَضِي، فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ لَا تُوجِبُ كَوْنَهُ مُرِيدًا لِمَرَضِ نَفْسِهِ، وَقَدْ يَقُولُ لِلطَّبِيبِ: أُرِيدُ أَنْ تُطَيِّبَ جِرَاحَتِي، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِحُصُولِ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ، وَقَدْ يَقُولُ السُّلْطَانُ لِعَسْكَرِهِ: اقْتُلُوا الْبُغَاةَ، حَالَ إِقْدَامِهِمْ عَلَى الْحَرْبِ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى كونه مريدا لذلك الحرب، فكذا هاهنا.

[سورة التوبة (9) : الآيات 56 إلى 57]

وَالْجَوَابُ: أَنَّ الَّذِي قَالَهُ تَمْوِيهٌ عَجِيبٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا حَاصِلُهَا يَرْجِعُ إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يُرِيدُ إِزَالَةَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَإِذَا قَالَ الْمَرِيضُ لِلطَّبِيبِ: أُرِيدُ أَنْ تَدْخُلَ عَلَيَّ فِي وَقْتِ مَرَضِي، كَانَ مَعْنَاهُ: أُرِيدُ أَنْ تَسْعَى فِي إِزَالَةِ مَرَضِي، وَإِذَا قَالَ لَهُ: أُرِيدُ أَنْ تُطَيِّبَ جِرَاحَتِي كَانَ مَعْنَاهُ: أُرِيدُ أَنْ تُزِيلَ عَنِّي هَذِهِ الْجِرَاحَةَ، وَإِذَا قَالَ السُّلْطَانُ: اقْتُلُوا الْبُغَاةَ حَالَ إِقْدَامِهِمْ عَلَى الْحَرْبِ، كَانَ مَعْنَاهُ: طَلَبَ إِزَالَةِ تِلْكَ الْمُحَارَبَةِ وَإِبْطَالِهَا وَإِعْدَامِهَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ وَالْمَطْلُوبَ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ إِعْدَامُ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَإِزَالَتُهُ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَجُودُهُ مُرَادًا بِخِلَافِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِزْهَاقَ نَفْسِ الْكَافِرِ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ إِزَالَةِ كُفْرِهِ، وَلَيْسَ أَيْضًا مُسْتَلْزِمًا لِتِلْكَ الْإِزَالَةِ، بَلْ هُمَا أَمْرَانِ مُتَنَاسِبَانِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا الْبَتَّةَ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ أَرَادَ إِزْهَاقَ أَنْفُسِهِمْ حَالَ كَوْنِهِمْ كَافِرِينَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِكَوْنِهِمْ كَافِرِينَ حَالَ حُصُولِ ذَلِكَ الْإِزْهَاقِ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَلْقَى فُلَانًا حَالَ كَوْنِهِ فِي الدَّارِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَدْ أَرَادَ كَوْنَهُ فِي الدَّارِ، وَتَمَامُ التَّحْقِيقِ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ: أَنَّ الْإِزْهَاقَ فِي حَالِ الْكُفْرِ يَمْتَنِعُ حُصُولُهُ إِلَّا حَالَ حُصُولِ الْكُفْرِ، وَمُرِيدُ الشَّيْءِ مُرِيدٌ لِمَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ الْإِزْهَاقَ حَالَ الْكُفْرِ، وَثَبَتَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ شَيْئًا فَقَدْ أَرَادَ جَمِيعَ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ، لَزِمَ كَوْنُهُ تَعَالَى مُرِيدًا لِذَلِكَ الْكُفْرِ، فَثَبَتَ أَنَّ الأمثلة التي أوردها الجبائي محض التمويه. [سورة التوبة (9) : الآيات 56 الى 57] وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَوْنَهُمْ مُسْتَجْمِعِينَ لِكُلِّ مَضَارِّ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، خَائِبِينَ عَنْ جَمِيعِ مَنَافِعِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، عَادَ إِلَى ذِكْرِ قَبَائِحِهِمْ وَفَضَائِحِهِمْ، وَبَيَّنَ إِقْدَامَهُمْ عَلَى الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ فَقَالَ: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أَيِ الْمُنَافِقُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ إِذَا جَالَسُوهُمْ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أَيْ عَلَى دِينِكُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما هُمْ مِنْكُمْ أَيْ لَيْسُوا عَلَى دِينِكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ الْقَتْلَ، فَأَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَأَسَرُّوا النِّفَاقَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [الْبَقَرَةِ: 14] وَالْفَرَقُ الْخَوْفُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: رَجُلٌ فَرُوقٌ. وَهُوَ الشَّدِيدُ الْخَوْفِ، وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ لَوْ وَجَدُوا مَفَرًّا يَتَحَصَّنُونَ فِيهِ آمِنِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْكُمْ لَفَرُّوا إِلَيْهِ وَلَفَارَقُوكُمْ، فَلَا تَظُنُّوا أَنَّ مُوَافَقَتَهُمْ إِيَّاكُمْ فِي الدَّارِ وَالْمَسْكَنِ عَنِ الْقَلْبِ، فَقَوْلُهُ: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً الْمَلْجَأُ: الْمَكَانُ الَّذِي يُتَحَصَّنُ فِيهِ، وَمِثْلُهُ اللَّجَأُ مَقْصُورًا مَهْمُوزًا، وَأَصْلُهُ مِنْ لَجَأَ إِلَى كَذَا يَلْجَأُ لَجْأً بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، وَمِثْلُهُ الْتَجَأَ وَأَلْجَأْتُهُ إِلَى كَذَا، أَيْ جَعَلْتُهُ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: أَوْ مَغاراتٍ هِيَ جَمْعُ مَغَارَةٍ، وَهِيَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَغُورُ الْإِنْسَانُ فِيهِ، أَيْ يَسْتَتِرُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كُلُّ شَيْءٍ جُزْتَ فِيهِ فَغِبْتَ فَهُوَ مَغَارَةٌ لَكَ، وَمِنْهُ غَارَ الْمَاءُ فِي الْأَرْضِ وَغَارَتِ الْعَيْنُ. وَقَوْلُهُ: مُدَّخَلًا قَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُهُ مُدْتَخَلٌ وَالتَّاءُ بَعْدَ الدَّالِ تُبْدَلُ دَالًا، لِأَنَّ التَّاءَ مهموسة، والدال مهجورة، وَهُمَا مِنْ مَخْرَجٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مُفْتَعَلٌ مِنَ الدُّخُولِ، كَالْمُتَّلَجِ مِنَ الْوُلُوجِ. وَمَعْنَاهُ: الْمَسْلَكُ الَّذِي يُسْتَتَرُ بِالدُّخُولِ فِيهِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: نفقا كنفق اليربوع. والمعنى: أنهم لوجدوا مَكَانًا عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، مَعَ أَنَّهَا شَرُّ الْأَمْكِنَةِ لَوَلَّوْا إِلَيْهِ أَيْ رَجَعُوا إِلَيْهِ. يُقَالُ: وَلَّى بِنَفْسِهِ إِذَا انْصَرَفَ وَوَلَّى غَيْرَهُ إِذَا صَرَفَهُ وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَجْمَحُونَ أَيْ يُسْرِعُونَ إِسْرَاعًا لَا يَرُدُّ وُجُوهَهُمْ شَيْءٌ، وَمِنْ هَذَا يُقَالُ: جَمَحَ الْفَرَسُ وَهُوَ فَرَسٌ جَمُوحٌ، وَهُوَ الَّذِي إِذَا حَمَلَ لَمْ

[سورة التوبة (9) : الآيات 58 إلى 59]

يَرُدَّهُ اللِّجَامُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُمْ مِنْ شِدَّةِ تَأَذِّيهِمْ مِنَ الرَّسُولِ وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ صَارُوا بِهَذِهِ الْحَالَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَهِيَ: الْمَلْجَأُ، وَالْمَغَارَاتُ، وَالْمُدَّخَلُ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُحْمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى غَيْرِ مَا يُحْمَلُ الْآخَرُ عَلَيْهِ، فَالْمَلْجَأُ يَحْتَمِلُ الْحُصُونَ، وَالْمَغَارَاتُ الْكُهُوفُ فِي الْجِبَالِ، وَالْمُدَّخَلُ السِّرْبُ تَحْتَ الْأَرْضِ نَحْوُ الْآبَارِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ مُدَّخَلًا من دخل ومدخلا مِنْ أَدْخَلَ وَهُوَ مَكَانٌ يُدْخِلُونَ فِيهِ أَنْفُسَهُمْ، وقرأ أبي بن كعب متدخلا وقرأ لوألو إليه أي لالتجاؤا، وَقَرَأَ أَنَسٌ يَجْمِزُونَ فَسُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: يَجْمَحُونَ ويجمزون ويشتدون واحد. [سورة التوبة (9) : الآيات 58 الى 59] وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا شَرْحُ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ قَبَائِحِهِمْ وَفَضَائِحِهِمْ، وَهُوَ طَعْنُهُمْ فِي الرَّسُولِ بِسَبَبِ أَخْذِ الصَّدَقَاتِ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ يُؤْثِرُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ أَقَارِبِهِ وَأَهْلِ مَوَدَّتِهِ وَيَنْسُبُونَهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُرَاعِي العدل، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: [في شأن نزول الآية] قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ مَالًا إِذْ جَاءَهُ الْمِقْدَادُ بْنُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ، وَهُوَ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ، أَصْلُ الْخَوَارِجِ فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْجَوَّاظِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم: تزعم أَنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ أَنْ تَضَعَ الصَّدَقَاتِ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلَمْ تَضَعْهَا فِي رِعَاءِ الشَّاءِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أَبَا لَكَ أَمَا كَانَ مُوسَى رَاعِيًا أَمَا كَانَ دَاوُدُ رَاعِيًا» فَلَمَّا ذَهَبَ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «احْذَرُوا هَذَا وَأَصْحَابَهُ فَإِنَّهُمْ مُنَافِقُونَ» وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي «تَفْسِيرِهِ» : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: «مَا عِلْمُكَ بفلان» فقال: مالي بِهِ عِلْمٌ إِلَّا أَنَّكَ تُدْنِيهِ فِي الْمَجْلِسِ وَتُجْزِلُ لَهُ الْعَطَاءَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّهُ مُنَافِقٌ أُدَارِي عَنْ نِفَاقِهِ وَأَخَافُ أَنْ يُفْسِدَ عَلَى غَيْرِهِ» فَقَالَ: لَوْ أَعْطَيْتَ فُلَانًا بَعْضَ مَا تُعْطِيهِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّهُ مُؤْمِنٌ أَكِلُهُ إِلَى إِيمَانِهِ، وَأَمَّا هَذَا فَمُنَافِقٌ أُدَارِيهِ خَوْفَ إِفْسَادِهِ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: يَلْمِزُكَ قَالَ اللَّيْثُ: اللَّمْزُ كَالْهَمْزِ فِي الْوَجْهِ. يُقَالُ: رَجُلٌ لُمَزَةٌ يَعِيبُكَ فِي وَجْهِكَ، وَرَجُلٌ هُمَزَةٌ يَعِيبُكَ بِالْغَيْبِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ لَمَزْتُ الرَّجُلَ أَلْمِزُهُ بِالْكَسْرِ، وَأَلْمُزُهُ بِضَمِّ الْمِيمِ إِذَا عَيَّبْتَهُ، وَكَذَلِكَ هَمَزْتُهُ أَهْمِزُهُ هَمْزًا. إِذَا عَيَّبْتَهُ، وَالْهُمَزَةُ اللُّمَزَةُ: الَّذِي يَغْتَابُ النَّاسَ وَيَعِيبُهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّجَّاجَ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْهَمْزِ وَاللَّمْزِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَأَصْلُ الْهَمْزِ/ وَاللَّمْزِ الدَّفْعُ. يُقَالُ: هَمَزْتُهُ وَلَمَزْتُهُ إِذَا دَفَعْتَهُ، وَفَرَّقَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: اللَّمْزُ أَنْ يُشِيرَ إِلَى صَاحِبِهِ بِعَيْبِ جَلِيسِهِ، وَالْهَمْزُ أَنْ يَكْسِرَ عَيْنَهُ عَلَى جَلِيسِهِ إِلَى صَاحِبِهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَلْمِزُكَ يَغْتَابُكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَطْعَنُ عَلَيْكَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعِيبُكَ فِي أَمْرٍ مَا، وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ إِلَّا فِي الْأَلْفَاظِ. قَالَ أَبُو علي الفارسي: هاهنا مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: يَعِيبُكَ فِي تَفْرِيقِ الصَّدَقَاتِ. قَالَ مَوْلَانَا الْعَلَّامَةُ الدَّاعِي إِلَى اللَّهِ: لَفْظُ الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي

الصَّدَقاتِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ اللَّمْزَ كَانَ لِهَذَا السَّبَبِ، إِلَّا أَنَّ الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا دَلَّتْ أَنَّ سَبَبَ اللَّمْزِ هُوَ ذَلِكَ، وَلَوْلَا هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لَكَانَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أُخَرَ سِوَاهَا. فَأَحَدُهَا: أَنْ يَقُولُوا أَخْذُ الزَّكَوَاتِ مُطْلَقًا غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ انْتِزَاعَ كَسْبِ الْإِنْسَانِ مِنْ يَدِهِ غَيْرُ جَائِزٍ. أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: يَأْخُذُهَا لِيَصْرِفَهَا إِلَى الْفُقَرَاءِ إِلَّا أَنَّ الْجُهَّالَ مِنْهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُتَكَفِّلَ بِمَصَالِحِ عَبِيدِهِ الْفُقَرَاءِ: فَأَمَّا أَنْ يَأْمُرَنَا بِذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ. فَهَذَا هُوَ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَعْضِ الْيَهُودِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ وَثَانِيهَا: أَنْ يَقُولُوا هَبْ أَنَّكَ تَأْخُذُ الزَّكَوَاتِ إلا أن الذي تأخذه كثير، فَوَجَبَ أَنْ تَقْنَعَ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَقُولُوا هَبْ أَنَّكَ تَأْخُذُ هَذَا الْكَثِيرَ إِلَّا أَنَّكَ تَصْرِفُهُ إِلَى غَيْرِ مَصْرِفِهِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّتِ الْأَخْبَارُ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ أَرَادُوهُ. قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى رَكَاكَةِ أَخْلَاقِ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ وَدَنَاءَةِ طِبَاعِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لِشِدَّةِ شَرَهِهِمْ إِلَى أَخْذِ الصَّدَقَاتِ عَابُوا الرَّسُولَ فَنَسَبُوهُ إِلَى الْجَوْرِ فِي الْقِسْمَةِ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ أَبْعَدَ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْمَيْلِ إِلَى الدُّنْيَا. قَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَهُمْ مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنْ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ، وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَرْضَوْنَ بِمَا أُعْطُوا وَيَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ: فَإِنْ أُعْطُوا كَثِيرًا فَرِحُوا وَإِنْ أُعْطُوا قَلِيلًا سَخِطُوا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِضَاهُمْ وَسُخْطَهُمْ لِطَلَبِ النَّصِيبِ لَا لِأَجْلِ الدِّينِ. وَقِيلَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَعْطِفُ قُلُوبَ أَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ بِتَوَفُّرِ الْغَنَائِمِ عَلَيْهِمْ، فَسَخِطَ الْمُنَافِقُونَ. وَقَوْلُهُ: إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ كَلِمَةُ إِذا لِلْمُفَاجَأَةِ، أَيْ وإن لم يعطوا منها فاجؤا السخط. ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا الْآيَةَ وَالْمَعْنَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا بِمَا أَعْطَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَطَابَتْ نُفُوسُهُمْ وَإِنْ قَلَّ، وَقَالُوا: كَفَانَا ذَلِكَ وَسَيَرْزُقُنَا اللَّهُ غَنِيمَةً أُخْرَى، فَيُعْطِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَانَا الْيَوْمَ، إِنَّا إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَإِفْضَالِهِ وَإِحْسَانِهِ لَرَاغِبُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّ جَوَابَ «لَوْ» مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَعْوَدَ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ غَلَبَ/ عَلَيْهِمُ النِّفَاقُ وَلَمْ يَحْضُرِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ، فَيَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، وَتَرْكُ الْجَوَابِ فِي هَذَا الْمَعْرِضِ أَدَلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ، وَهُوَ كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ: لَوْ جِئْتَنَا، ثُمَّ لَا تَذْكُرُ الْجَوَابَ، أَيْ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَرَأَيْتَ أمرا عظيما. المسألة الثالثة: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا آلَ أَمْرُهُ فِي الدِّينِ إِلَى النِّفَاقِ. وَأَمَّا مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا بِقَدْرِ مَا أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ، وَكَانَ غَرَضُهُ مِنَ الدُّنْيَا أَنْ يَتَوَسَّلَ إِلَى مَصَالِحِ الدِّينِ فَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الْحَقُّ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِقَضَاءِ اللَّهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ فَذَكَرَ فِيهِ مَرَاتِبَ أَرْبَعَةً: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: الرِّضَا بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى حَكِيمٌ مُنَزَّهٌ عَنِ الْعَبَثِ وَالْخَطَأِ، وَحَكِيمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ عَلِيمٌ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَكُلُّ مَا كَانَ حُكْمًا لَهُ وَقَضَاءً كَانَ حَقًّا وَصَوَابًا وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَظْهَرَ آثَارُ ذَلِكَ الرِّضَا عَلَى لِسَانِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ يَعْنِي أَنَّ غَيْرَنَا أَخَذُوا الْمَالَ وَنَحْنُ لَمَّا رَضِينَا بِحُكْمِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ فَقَدْ فُزْنَا بِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ العظيمة في العبودية، فحسبنا الله. المرتبة الثَّالِثَةُ: وَهِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَبْلُغْ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَةِ الْعَالِيَةِ الَّتِي عِنْدَهَا يَقُولُ: حَسْبُنَا اللَّهُ نَزَلَ

[سورة التوبة (9) : آية 60]

مِنْهَا إِلَى مَرْتَبَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنْ يَقُولَ: سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِمَّا فِي الدُّنْيَا إِنِ اقْتَضَاهُ التَّقْدِيرُ، وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ وَهِيَ أَوْلَى وَأَفْضَلُ. وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَقُولَ: إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ فَنَحْنُ لَا نَطْلُبُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ أَخْذَ الْأَمْوَالِ وَالْفَوْزَ بِالْمَنَاصِبِ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ إِمَّا اكْتِسَابُ سَعَادَاتِ الْآخِرَةِ. وَإِمَّا الِاسْتِغْرَاقُ فِي الْعُبُودِيَّةِ عَلَى مَا دَلَّ لَفْظُ الْآيَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّا إِلَى ثَوَابِ اللَّهِ رَاغِبُونَ. وَنُقِلَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِقَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى فَقَالَ: مَا الَّذِي يَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ؟ قَالُوا: الْخَوْفُ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ، فَقَالَ: أَصَبْتُمْ ثُمَّ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ، فَقَالَ: مَا الَّذِي يَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: الرَّغْبَةُ فِي الثَّوَابِ، فَقَالَ: أَصَبْتُمْ، ثُمَّ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ ثَالِثٍ مُشْتَغِلِينَ بِالذِّكْرِ فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: لَا نَذْكُرُهُ لِلْخَوْفِ مِنَ الْعِقَابِ، وَلَا لِلرَّغْبَةِ فِي الثَّوَابِ، بَلْ لِإِظْهَارِ ذِلَّةِ الْعُبُودِيَّةِ، وَعِزَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَشْرِيفِ الْقَلْبِ بِمَعْرِفَتِهِ، وَتَشْرِيفِ اللِّسَانِ بِالْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى صِفَاتِ قُدْسِهِ وعزته. فقال: أنتم المحقون المحققون. [سورة التوبة (9) : آية 60] إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) اعْلَمْ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا لَمَزُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّدَقَاتِ، بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مَصْرِفَ الصَّدَقَاتِ هَؤُلَاءِ، وَلَا تَعَلُّقَ لِي بِهَا، وَلَا آخُذُ لِنَفْسِي نَصِيبًا مِنْهَا، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ طَعْنٌ فِي الرَّسُولِ بِسَبَبِ أخذ الصدقات. وهاهنا مَقَامَاتٌ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: بَيَانُ الْحِكْمَةِ فِي أَخْذِ الْقَلِيلِ مِنْ أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ، وَصَرْفِهَا إِلَى الْمُحْتَاجِينَ مِنَ النَّاسِ. وَالْمَقَامُ الثَّانِي: بَيَانُ حَالِ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ: الْحِكْمَةُ فِي إِيجَابِ الزَّكَاةِ أُمُورٌ، بَعْضُهَا مَصَالِحُ عَائِدَةٌ إِلَى مُعْطِي الزَّكَاةِ. وَبَعْضُهَا عَائِدَةٌ إِلَى آخِذِ الزَّكَاةِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ أُمُورٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَالَ مَحْبُوبٌ بِالطَّبْعِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْقُدْرَةَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَحْبُوبَةٌ لِذَاتِهَا، وَلِعَيْنِهَا لَا لِغَيْرِهَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ فَهُوَ مَحْبُوبٌ لِمَعْنًى آخَرَ وَإِلَّا لَزِمَ، إِمَّا التَّسَلْسُلُ وَإِمَّا الدَّوْرُ، وَهُمَا مُحَالَانِ، فَوَجَبَ الِانْتِهَاءُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَحْبُوبَةِ إِلَى مَا يَكُونُ مَحْبُوبًا لِذَاتِهِ. وَالْكَمَالُ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ، وَالنُّقْصَانُ مَكْرُوهٌ لِذَاتِهِ فَلَمَّا كَانَتِ الْقُدْرَةُ صِفَةَ كَمَالٍ، وَصِفَةُ الْكَمَالِ مَحْبُوبَةٌ لِذَاتِهَا، كَانَتِ الْقُدْرَةُ مَحْبُوبَةً لِذَاتِهَا. وَالْمَالُ سَبَبٌ لِحُصُولِ تِلْكَ الْقُدْرَةِ، وَلِكَمَالِهَا فِي حَقِّ الْبَشَرِ فَكَانَ أَقْوَى أَسْبَابِ الْقُدْرَةِ فِي حَقِّ الْبَشَرِ هُوَ الْمَالَ، وَالَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَحْبُوبُ فَهُوَ مَحْبُوبٌ، فَكَانَ الْمَالُ مَحْبُوبًا، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي كَوْنِهِ مَحْبُوبًا إِلَّا أَنَّ الاستغراق في حبه يذهل النَّفْسَ عَنْ حُبِّ اللَّهِ وَعَنِ التَّأَهُّبِ لِلْآخِرَةِ فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ تَكْلِيفَ مَالِكِ الْمَالِ بِإِخْرَاجِ طَائِفَةٍ مِنْهُ مِنْ يَدِهِ، لِيَصِيرَ ذَلِكَ الْإِخْرَاجُ كَسْرًا مِنْ شِدَّةِ الْمَيْلِ إِلَى الْمَالِ، وَمَنْعًا مِنِ انْصِرَافِ النَّفْسِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَيْهَا وَتَنْبِيهًا لَهَا عَلَى أَنَّ سَعَادَةَ الْإِنْسَانِ لَا تَحْصُلُ عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِطَلَبِ الْمَالِ وَإِنَّمَا تَحْصُلُ/ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي طَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِيجَابُ الزَّكَاةِ عِلَاجٌ صَالِحٌ مُتَعَيِّنٌ لِإِزَالَةِ مَرَضِ حُبِّ الدُّنْيَا عَنِ الْقَلْبِ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ. وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التَّوْبَةِ: 103] أَيْ تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ عَنِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ، تُوجِبُ شِدَّةَ الْقُوَّةِ وَكَمَالَ الْقُدْرَةِ، وَتَزَايُدَ الْمَالِ يُوجِبُ تَزَايُدَ الْقُدْرَةِ، وَتَزَايُدَ الْقُدْرَةِ يُوجِبُ تَزَايُدَ الِالْتِذَاذِ بِتِلْكَ الْقُدْرَةِ، وَتَزَايُدَ تِلْكَ اللَّذَّاتِ، يَدْعُو الْإِنْسَانَ إِلَى أَنْ يَسْعَى فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ الَّذِي صَارَ سَبَبًا لِحُصُولِ هَذِهِ اللَّذَّاتِ الْمُتَزَايِدَةِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَصِيرُ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةَ الدَّوْرِ، لِأَنَّهُ إِذَا بَالَغَ فِي السَّعْيِ ازْدَادَ الْمَالُ وَذَلِكَ يُوجِبُ ازْدِيَادَ الْقُدْرَةِ، وَهُوَ يُوجِبُ ازْدِيَادَ اللَّذَّةِ وَهُوَ يَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى أَنْ يَزِيدَ فِي طَلَبِ الْمَالِ، وَلَمَّا صَارَتِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةَ الدَّوْرِ، لَمْ يَظْهَرْ لَهَا مَقْطَعٌ وَلَا آخَرُ، فَأَثْبَتَ الشَّرْعُ لها مقطعا وآخرا وَهُوَ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى صَاحِبِهِ صَرْفَ طَائِفَةٍ مِنْ تِلْكَ الْأَمْوَالِ إِلَى الْإِنْفَاقِ فِي طَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى لِيَصْرِفَ النَّفْسَ عَنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ الظَّلْمَانِيِّ الَّذِي لَا آخِرَ لَهُ وَيَتَوَجَّهَ إِلَى عَالَمِ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ وَطَلَبِ رِضْوَانِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الطُّغْيَانِ وَالْقَسْوَةِ فِي الْقَلْبِ، وَسَبَبُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْقُدْرَةِ، وَالْقُدْرَةُ مَحْبُوبَةٌ لِذَاتِهَا، وَالْعَاشِقُ إِذَا وَصَلَ لِمَعْشُوقِهِ اسْتَغْرَقَ فِيهِ، فَالْإِنْسَانُ يَصِيرُ غَرِقًا فِي طَلَبِ الْمَالِ، فَإِنْ عَرَضَ لَهُ مَانِعٌ يَمْنَعُهُ عَنْ طَلَبِهِ اسْتَعَانَ بِمَالِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى دَفْعِ ذَلِكَ الْمَانِعِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالطُّغْيَانِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [الْعَلَقِ: 6، 7] فَإِيجَابُ الزَّكَاةِ يُقَلِّلُ الطُّغْيَانَ وَيَرُدُّ الْقَلْبَ إِلَى طَلَبِ رِضْوَانِ الرَّحْمَنِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ النَّفْسَ النَّاطِقَةَ لَهَا قُوَّتَانِ، نَظَرِيَّةٌ وَعَمَلِيَّةٌ، فَالْقُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ كَمَالُهَا فِي التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالْقُوَّةُ الْعَمَلِيَّةُ كَمَالُهَا فِي الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، فَأَوْجَبَ اللَّهُ الزَّكَاةَ لِيَحْصُلَ لِجَوْهَرِ الرُّوحِ هَذَا الْكَمَالُ وَهُوَ اتِّصَافُهُ بِكَوْنِهِ مُحْسِنًا إِلَى الْخَلْقِ سَاعِيًا فِي إِيصَالِ الْخَيْرَاتِ إِلَيْهِمْ دَافِعًا لِلْآفَاتِ عَنْهُمْ، وَلِهَذَا السِّرِّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ» . وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْخَلْقَ إِذَا عَلِمُوا فِي الْإِنْسَانِ كَوْنَهُ سَاعِيًا فِي إِيصَالِ الْخَيْرَاتِ إِلَيْهِمْ، وَفِي دَفْعِ الْآفَاتِ عَنْهُمْ أَحَبُّوهُ بِالطَّبْعِ وَمَالَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهِ لَا مَحَالَةَ، عَلَى مَا قَالَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا وَبُغْضِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهَا» فَالْفُقَرَاءُ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ الرَّجُلَ الْغَنِيَّ يَصْرِفُ إِلَيْهِمْ طَائِفَةً مِنْ مَالِهِ، وَأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ مَالُهُ أَكْثَرَ كَانَ الَّذِي يَصْرِفُهُ إِلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ أَكْثَرَ، أَمَدُّوهُ بِالدُّعَاءِ وَالْهِمَّةِ، وَلِلْقُلُوبِ آثَارٌ وَلِلْأَرْوَاحِ حَرَارَةٌ فَصَارَتْ تِلْكَ الدَّعَوَاتُ سَبَبًا لِبَقَاءِ ذَلِكَ/ الْإِنْسَانِ فِي الْخَيْرِ وَالْخِصْبِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرَّعْدِ: 17] وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ» . وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ الشَّيْءِ أَعْظَمُ مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ بِالشَّيْءِ، فَإِنَّ الِاسْتِغْنَاءَ بِالشَّيْءِ يُوجِبُ الِاحْتِيَاجَ إِلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُ يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ غَيْرِهِ، فَأَمَّا الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الشَّيْءِ فَهُوَ الْغِنَى التَّامُّ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ الشَّيْءِ صِفَةُ الْحَقِّ، وَالِاسْتِغْنَاءَ بِالشَّيْءِ صِفَةُ الْخَلْقِ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَعْطَى بَعْضَ عَبِيدِهِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً فَقَدْ رَزَقَهُ نَصِيبًا وَافِرًا مِنْ بَابِ الِاسْتِغْنَاءِ بِالشَّيْءِ. فَإِذَا أَمَرَهُ بِالزَّكَاةِ كَانَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَنْقُلَهُ مِنْ دَرَجَةِ الِاسْتِغْنَاءِ بِالشَّيْءِ، إِلَى الْمَقَامِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، وَأَشْرَفُ مِنْهُ وَهُوَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الشَّيْءِ. وَالْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ الْمَالَ سُمِّيَ مَالًا لِكَثْرَةِ مَيْلِ كُلِّ أَحَدٍ إِلَيْهِ، فَهُوَ غَادٍ وَرَائِحٌ، وَهُوَ سَرِيعُ الزَّوَالِ مُشْرِفٌ عَلَى التَّفَرُّقِ، فَمَا دَامَ يَبْقَى فِي يَدِهِ كَانَ كَالْمُشْرِفِ عَلَى الْهَلَاكِ وَالتَّفَرُّقِ. فَإِذَا أَنْفَقَهُ الْإِنْسَانُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ وَالْمَصَالِحِ بَقِيَ بَقَاءً لَا يُمْكِنُ زَوَالُهُ، فَإِنَّهُ يوجب المدح الدائم فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابَ الدَّائِمَ فِي الْآخِرَةِ، وَسَمِعْتُ

وَاحِدًا يَقُولُ: الْإِنْسَانُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَذْهَبَ بِذَهَبِهِ إِلَى الْقَبْرِ، فَقُلْتُ بَلْ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ إِذَا أَنْفَقَهُ فِي طَلَبِ الرِّضْوَانِ الْأَكْبَرِ فَقَدْ ذَهَبَ بِهِ إِلَى الْقَبْرِ وَإِلَى الْقِيَامَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّامِنُ: وَهُوَ أَنَّ بَذْلَ الْمَالِ تَشَبُّهٌ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ، وَإِمْسَاكُهُ تَشَبُّهٌ بِالْبُخَلَاءِ الْمَذْمُومِينَ، فَكَانَ الْبَذْلُ أَوْلَى. وَالْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّ إِفَاضَةَ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ مِنْ صِفَاتِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالسَّعْيُ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الصِّفَةِ بِقَدْرِ الْقُدْرَةِ تَخَلُّقٌ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ، وَذَلِكَ مُنْتَهَى كَمَالَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ. وَالْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ لَهُ إِلَّا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: الرُّوحُ وَالْبَدَنُ وَالْمَالُ. فَإِذَا أُمِرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ صَارَ جَوْهَرُ الرُّوحِ مُسْتَغْرِقًا فِي هَذَا التَّكْلِيفِ. وَلَمَّا أُمِرَ بِالصَّلَاةِ فَقَدْ صَارَ اللِّسَانُ مُسْتَغْرِقًا بِالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ، وَالْبَدَنُ مُسْتَغْرِقًا فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ، بَقِيَ الْمَالُ، فَلَوْ لَمْ يَصِرِ الْمَالُ مَصْرُوفًا إِلَى أَوْجُهِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ شُحُّ الْإِنْسَانِ بِمَالِهِ فَوْقَ شُحِّهِ بِرُوحِهِ وبدنه، وذلك جهل، لأن مراتب السعادات ثلاثة: أولها: السِّعَادَاتُ الرُّوحَانِيَّةُ. وَثَانِيهَا: السِّعَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الْوُسْطَى. وَثَالِثُهَا: السَّعَادَاتُ الْخَارِجِيَّةُ وَهِيَ الْمَالُ وَالْجَاهُ. فَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ تَجْرِي مَجْرَى خَادِمِ السَّعَادَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ، فَإِذَا صَارَ الرُّوحُ مَبْذُولًا فِي مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ، ثُمَّ حَصَلَ الشُّحُّ بِبَذْلِ الْمَالِ لَزِمَ جَعْلُ الْخَادِمِ فِي مَرْتَبَةٍ أَعْلَى مِنَ الْمَخْدُومِ الْأَصْلِيِّ، وَذَلِكَ جَهْلٌ. فَثَبَتَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَيْضًا بَذْلُ الْمَالِ فِي طَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: شُكْرُ النِّعْمَةِ عِبَارَةٌ عَنْ صَرْفِهَا إِلَى طَلَبِ مَرْضَاةِ الْمُنْعِمِ، وَالزَّكَاةُ شُكْرُ النِّعْمَةِ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهَا لِمَا ثَبَتَ أَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ إِيجَابَ الزَّكَاةِ يُوجِبُ حُصُولَ الْأُلْفِ بِالْمَوَدَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَزَوَالَ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ عَنْهُمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي بَيَانِ الْحِكْمَةِ النَّاشِئَةِ مِنْ إيجاب الزكاة العائدة إلى معطي الزكاة، [القسم الثاني] فَأَمَّا الْمَصَالِحُ الْعَائِدَةُ مِنْ إِيجَابِ الزَّكَاةِ إِلَى مَنْ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ فَهِيَ كَثِيرَةٌ، الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْأَمْوَالَ، وَلَيْسَ الْمَطْلُوبُ مِنْهَا أَعْيَانَهَا وَذَوَاتِهَا. فَإِنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِمَا فِي أَعْيَانِهِمَا إِلَّا فِي الْأَمْرِ الْقَلِيلِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْ خَلْقِهِمَا أَنْ يُتَوَسَّلَ بِهِمَا إِلَى تَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ، فَالْإِنْسَانُ إِذَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْمَالِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ كَانَ هُوَ أَوْلَى بِإِمْسَاكِهِ لِأَنَّهُ يُشَارِكُهُ سَائِرَ الْمُحْتَاجِينَ فِي صِفَةِ الْحَاجَةِ، وَهُوَ مُمْتَازٌ عَنْهُمْ بِكَوْنِهِ سَاعِيًا فِي تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْمَالِ، فَكَانَ اخْتِصَاصُهُ بِذَلِكَ الْمَالِ أَوْلَى مِنِ اخْتِصَاصِ غَيْرِهِ، وَأَمَّا إِذَا فَضَلَ الْمَالُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، وَحَضَرَ إِنْسَانٌ آخَرُ مُحْتَاجٌ، فَهَهُنَا حَصَلَ سَبَبَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوجِبُ تَمَلُّكَ ذَلِكَ الْمَالِ. أَمَّا فِي حَقِّ الْمَالِكِ، فَهُوَ أَنَّهُ سَعَى فِي اكْتِسَابِهِ وَتَحْصِيلِهِ، وَأَيْضًا شِدَّةُ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ التَّعَلُّقَ أَيْضًا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَاجَةِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ الْفَقِيرِ، فَاحْتِيَاجُهُ إِلَى ذَلِكَ الْمَالِ يُوجِبُ تَعَلُّقَهُ بِهِ، فَلَمَّا وُجِدَ هَذَانِ السَّبَبَانِ الْمُتَدَافِعَانِ اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ رِعَايَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. فَيُقَالُ حَصَلَ لِلْمَالِكِ حَقُّ الِاكْتِسَابِ وَحَقُّ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِهِ، وَحَصَلَ لِلْفَقِيرِ حَقُّ الِاحْتِيَاجِ، فَرَجَّحْنَا جَانِبَ الْمَالِكِ، وَأَبْقَيْنَا عَلَيْهِ الْكَثِيرَ وَصَرَفْنَا إِلَى الْفَقِيرِ يَسِيرًا مِنْهُ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَالَ الْفَاضِلَ عَنِ الْحَاجَاتِ الْأَصْلِيَّةِ إِذَا أَمْسَكَهُ الْإِنْسَانُ فِي بَيْتِهِ بقي مُعَطَّلًا عَنِ الْمَقْصُودِ الَّذِي لِأَجْلِهِ خُلِقَ الْمَالُ، وَذَلِكَ سَعْيٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ ظُهُورِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِصَرْفِ طَائِفَةٍ مِنْهُ إِلَى الْفَقِيرِ حَتَّى لَا تَصِيرَ تِلْكَ الْحِكْمَةُ مُعَطَّلَةً بِالْكُلِّيَّةِ. الثَّالِثُ:

أَنَّ الْفُقَرَاءَ عِيَالُ اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هُودٍ: 6] وَالْأَغْنِيَاءُ خُزَّانُ اللَّهِ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ أَمْوَالُ اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْقَاهَا فِي أَيْدِيهِمْ وَإِلَّا لَمَا مَلَكُوا مِنْهَا حَبَّةً، فَكَمْ مِنْ عَاقِلٍ ذَكِيٍّ يَسْعَى أَشَدَّ السَّعْيِ، وَلَا يَمْلِكُ مِلْءَ بَطْنِهِ طَعَامًا، وَكَمْ مِنْ أَبْلَهٍ جِلْفٍ تَأْتِيهِ الدُّنْيَا عَفْوًا صَفْوًا. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَيْسَ بِمُسْتَبْعَدٍ أَنْ يَقُولَ الْمَلِكُ لِخَازِنِهِ: اصْرِفْ طَائِفَةً مِمَّا فِي تِلْكَ الْخِزَانَةِ إِلَى الْمُحْتَاجِينَ مِنْ عَبِيدِي. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: الْمَالُ بِالْكُلِّيَّةِ فِي يَدِ الْغَنِيِّ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، وَإِهْمَالُ جَانِبِ الْفَقِيرِ/ الْعَاجِزِ عَنِ الْكَسْبِ بِالْكُلِّيَّةِ، لَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْغَنِيِّ صَرْفُ طَائِفَةٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ إِلَى الْفَقِيرِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا أَبْقَى فِي يَدِ الْمَالِكِ أَكْثَرَ ذَلِكَ المال وصرف إلى الفقير منه جزأ قَلِيلًا، تَمَكَّنَ الْمَالِكُ مِنْ جَبْرِ ذَلِكَ النُّقْصَانِ بِسَبَبِ أَنْ يَتَّجِرَ بِمَا بَقِيَ فِي يَدِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ وَيَرْبَحَ وَيَزُولَ ذَلِكَ النُّقْصَانُ. أَمَّا الْفَقِيرُ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ أَصْلًا، فَلَوْ لَمْ يُصْرَفْ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ لَبَقِيَ مُعَطَّلًا وَلَيْسَ لَهُ مَا يَجْبُرُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ الْأَغْنِيَاءَ لَوْ لَمْ يَقُومُوا بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِ الْفُقَرَاءِ فَرُبَّمَا حَمَلَهُمْ شِدَّةُ الْحَاجَةِ وَمَضَرَّةُ الْمَسْكَنَةِ عَلَى الِالْتِحَاقِ بِأَعْدَاءِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ كَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِهَا فَكَانَ إِيجَابُ الزَّكَاةِ يُفِيدُ هَذِهِ الْفَائِدَةَ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهَا. الْوَجْهُ السَّابِعُ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْإِيمَانُ نِصْفَانِ، نِصْفُ صَبْرٌ وَنِصْفٌ شُكْرٌ» وَالْمَالُ مَحْبُوبٌ بِالطَّبْعِ، فَوِجْدَانُهُ يُوجِبُ الشُّكْرَ وَفُقْدَانُهُ يُوجِبُ الصَّبْرَ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُّهَا الْغَنِيُّ أَعْطَيْتُكَ الْمَالَ فَشَكَرْتَ فَصِرْتَ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَأَخْرِجْ مِنْ يَدِكَ نَصِيبًا مِنْهُ حَتَّى تَصْبِرَ عَلَى فُقْدَانِ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ فَتَصِيرَ بِسَبَبِهِ مِنَ الصَّابِرِينَ، وَأَيُّهَا الْفَقِيرُ مَا أَعْطَيْتُكَ الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ فصبرت فصرت من الصابرين، ولكني أُوجِبُ عَلَى الْغَنِيِّ أَنْ يَصْرِفَ إِلَيْكَ طَائِفَةً من ذلك المال حتى إذا دخل ذَلِكَ الْمِقْدَارُ فِي مِلْكِكَ شَكَرْتَنِي، فَصِرْتَ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَكَانَ إِيجَابُ الزَّكَاةِ سَبَبًا فِي جَعْلِ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ مَوْصُوفِينَ بِصِفَةِ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ مَعًا. الْوَجْهُ الثَّامِنُ: كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ لِلْفَقِيرِ إِنْ كُنْتُ قَدْ مَنَعْتُكَ الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ، وَلَكِنِّي جَعَلْتُ نَفْسِي مَدْيُونًا مِنْ قِبَلِكَ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ أَعْطَيْتُ الْغَنِيَّ أَمْوَالًا كَثِيرَةً لَكِنِّي كَلَّفْتُهُ أَنْ يعدوا خَلْفَكَ، وَأَنْ يَتَضَرَّعَ إِلَيْكَ حَتَّى تَأْخُذَ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْهُ، فَتَكُونَ كَالْمُنْعِمِ عَلَيْهِ بِأَنْ خَلَّصْتَهُ مِنَ النَّارِ. فَإِنْ قَالَ الْغَنِيُّ: قَدْ أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ بِهَذَا الدِّينَارِ، فَقُلْ أَيُّهَا الْفَقِيرُ بَلْ أَنَا الْمُنْعِمُ عَلَيْكَ حَيْثُ خَلَّصْتُكَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الذَّمِّ وَالْعَارِ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنَ الْوُجُوهِ فِي حِكْمَةِ إِيجَابِ الزَّكَاةِ بَعْضُهَا يَقِينِيَّةٌ، وَبَعْضُهَا إِقْنَاعِيَّةٌ، وَالْعَالِمُ بِأَسْرَارِ حُكْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَقَامُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا حَقَّ فِي الصَّدَقَاتِ/ لِأَحَدٍ إِلَّا لِهَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا فَلَفْظَةُ (إِنَّمَا) تُفِيدُ الْحَصْرَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كلمة

(إِنَّمَا) مُرَكَّبَةٌ مِنْ «إِنَّ» وَ «مَا» وَكَلِمَةُ إِنَّ لِلْإِثْبَاتِ وَكَلِمَةُ مَا لِلنَّفْيِ، فَعِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا وَجَبَ بَقَاؤُهُمَا عَلَى هَذَا الْمَفْهُومِ، فَوَجَبَ أَنْ يفيدا ثبوت الْمَذْكُورَ، وَعَدَمَ مَا يُغَايِرُهُ. الثَّانِي: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ تَمَسَّكَ فِي نَفْيِ رِبَا الْفَضْلِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَأَيْضًا تَمَسَّكَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ فِي أَنَّ الْإِكْسَالَ لَا يُوجِبُ الِاغْتِسَالَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» وَلَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تُفِيدُ الْحَصْرَ وَإِلَّا لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ [النِّسَاءِ: 171] وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ نَفْيِ الْإِلَهِيَّةِ لِلْغَيْرِ وَالثَّالِثُ: الشِّعْرُ. قَالَ الْأَعْشَى: وَلَسْتُ بِالْأَكْثَرِ مِنْهُمْ حَصًى ... وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ وَقَالَ الْفَرَزْدَقِ: أَنَا الذَّائِدُ الْحَامِي الذِّمَارَ وَإِنَّمَا ... يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ أَنَا أَوْ مِثْلِي فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ كَلِمَةَ (إِنَّمَا) لِلْحَصْرِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَاتِ لَا تُصْرَفُ إِلَّا لِهَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِرَجُلٍ: «إِنْ كُنْتَ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فَلَكَ فِيهَا حَقٌّ وَإِلَّا فَهُوَ صُدَاعٌ فِي الرَّأْسِ، وَدَاءٌ فِي الْبَطْنِ» وَقَالَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ يَلْمِزُونَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَخْذِ الصَّدَقَاتِ، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَأْخُذُهَا لِهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَلَا يَأْخُذُهَا لِنَفْسِهِ وَلَا لِأَقَارِبِهِ وَمُتَّصِلِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَخْذَ الْقَلِيلِ مِنْ مَالِ الْغَنِيِّ لِيُصْرَفَ إِلَى الْفَقِيرِ فِي دَفْعِ حَاجَتِهِ هُوَ الْحِكْمَةُ الْمُعَيَّنَةُ، وَالْمَصْلَحَةُ اللَّازِمَةُ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ هَمْزُ الْمُنَافِقِينَ وَلَمْزُهُمْ عَيْنَ السَّفَهِ وَالْجَهَالَةِ. فَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ: «مَا أُوتِيكُمْ شَيْئًا وَلَا أَمْنَعُكُمْ، إِنَّمَا أَنَا خَازِنٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إِلَى بَعْضِ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ فَقَطْ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَحُذَيْفَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالنَّخَعِيِّ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ لَوْ نَظَرْتُ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فُقَرَاءَ مُتَعَفِّفِينَ فَحَبَوْتُهُمْ بِهَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهَا إِلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْقِسْمَةَ فِي نَصِّ الْكِتَابِ. ثُمَّ أَكَّدَهَا بِقَوْلِهِ: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ قَالَ: / وَلَا بُدَّ فِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ، لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، فَإِنْ دَفَعَ سَهْمَ الْفُقَرَاءِ إِلَى فَقِيرَيْنِ ضَمِنَ نَصِيبَ الثَّالِثِ وَهُوَ ثُلُثُ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ. قَالَ: وَلَا بُدَّ مِنَ التَّسْوِيَةِ فِي أَنْصِبَاءِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، مِثْلُ أَنَّكَ إِنْ وَجَدْتَ خَمْسَةَ أَصْنَافٍ وَلَزِمَكَ أَنْ تَتَصَدَّقَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، جُعِلَتِ الْعَشَرَةُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ كُلُّ سَهْمٍ دِرْهَمَانِ، وَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ. ثُمَّ يَلْزَمُكَ أَنْ تَدْفَعَ إِلَى كُلِّ صِنْفٍ دِرْهَمَيْنِ وَأَقَلُّ عَدَدِهِمْ ثَلَاثَةٌ، وَلَا يَلْزَمُكَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ، فَلَكَ أَنْ تُعْطِيَ فَقِيرًا دِرْهَمًا وَفَقِيرًا خَمْسَةَ أَسْدَاسِ دِرْهَمٍ وَفَقِيرًا سُدُسَ دِرْهَمٍ، هَذِهِ صِفَةُ قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ الدَّاعِي إِلَى اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْآيَةُ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى جعل جملة الصَّدَقَاتِ لِهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي فِي صَدَقَةِ زَيْدٍ بِعَيْنِهِ أَنْ تَكُونَ لِجُمْلَةِ هَؤُلَاءِ الثَّمَانِيَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ. أَمَّا النَّقْلُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَالِ: 41] الْآيَةَ، فَأَثْبَتَ خُمُسَ الْغَنِيمَةِ لِهَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ الْخَمْسِ، ثُمَّ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُغْنَمُ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ تَفْرِقَتُهُ عَلَى هَذِهِ

الطَّوَائِفِ، بَلِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِثْبَاتُ مَجْمُوعِ الْغَنِيمَةِ لِهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْغَنِيمَةِ مُوَزَّعًا عَلَى كل هؤلاء فلا، فكذا هاهنا مَجْمُوعُ الصَّدَقَاتِ تَكُونُ لِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ. فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ صَدَقَةَ زَيْدٍ بِعَيْنِهَا يَجِبُ تَوْزِيعُهَا عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، فَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْبَتَّةَ. وَأَمَّا الْعَقْلُ: فَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ فِي مَجْمُوعٍ لَا يُوجَبُ ثُبُوتُهُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَبْقَى فَرْقٌ بَيْنَ الْكُلِّ وَبَيْنَ الْجُزْءِ. فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي لَا يَمْلِكُ إِلَّا عِشْرِينَ دِينَارًا لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ نِصْفُ دِينَارٍ، فَلَوْ كَلَّفْنَاهُ أَنْ نَجْعَلَهُ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ قِسْمًا لَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ حَقِيرًا صَغِيرًا غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ فِي مُهِمٍّ مُعْتَبَرٍ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا التَّوْقِيفَ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لَكَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِرِعَايَتِهِ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَوَصَلَ هَذَا الْخَبَرُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَإِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ وَسَائِرِ الْأَكَابِرِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا خَالَفُوا فِيهِ، وَحَيْثُ خَالَفُوا فِيهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ. الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُ اخْتِلَافُ رَأْيٍ فِي جَوَازِ نَقْلِ الصَّدَقَاتِ أَمَّا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِوُجُوبِ نَقْلِ الصَّدَقَاتِ، فَالْإِنْسَانُ إِذَا كَانَ فِي بَعْضِ الْقُرَى وَلَا يَكُونُ هُنَاكَ مُكَاتَبٌ وَلَا مُجَاهِدٌ غَازٍ وَلَا عَامِلٌ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ، وَلَا يَمُرُّ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْغُرَبَاءِ، وَاتَّفَقَ أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ فِي تِلْكَ الْقَرْيَةِ مَنْ كَانَ مَدْيُونًا فَكَيْفَ تَكْلِيفُهُ؟ فَإِنْ قُلْنَا: وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُسَافِرَ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ/ مِنَ الزَّكَاةِ إِلَى بَلَدٍ يَجِدُ هَذِهِ الْأَصْنَافَ فِيهِ، فَذَاكَ قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ! وَإِذَا أَسْقَطْنَا عَنْهُ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ قَوْلُنَا فَهَذَا مَا نَقُولُهُ فِي هَذَا الْبَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَعْرِيفِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، فَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي هُمُ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُحْتَاجُونَ الَّذِي لَا يَفِي خَرْجُهُمْ بِدَخْلِهِمْ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الَّذِي يَكُونُ أَشَدَّ حَاجَةً هُوَ الْفَقِيرُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَصْحَابِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الَّذِي أَشَدُّ حَاجَةً هُوَ الْمِسْكِينُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَاللَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَاخْتِيَارُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ، وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِفُلَانٍ وَلِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَالَّذِينَ قَالُوا: الْفُقَرَاءُ غَيْرُ الْمَسَاكِينِ قَالُوا لِفُلَانٍ الثُّلُثَ، وَالَّذِينَ قَالُوا: الْفُقَرَاءُ هُمُ الْمَسَاكِينُ قالوا الفلان النِّصْفُ. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُمْ بِاسْمَيْنِ لِتَوْكِيدِ أَمْرِهِمْ فِي الصَّدَقَاتِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْأُصُولُ فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ. وَأَيْضًا الْفَائِدَةُ فِيهِ أَنْ يُصْرَفَ إِلَيْهِمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ سَهْمَانِ لَا كَسَائِرِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ فَائِدَةَ هَذَا الِاخْتِلَافِ لَا تَظْهَرُ فِي تَفْرِقَةِ الصَّدَقَاتِ وَإِنَّمَا تَظْهَرُ فِي الْوَصَايَا، وَهُوَ أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لِلْفُقَرَاءِ بِمِائَتَيْنِ وَلِلْمَسَاكِينِ بِخَمْسِينَ، وَجَبَ دَفْعُ الْمِائَتَيْنِ عِنْدَ الشافعي رحمه الله مَنْ كَانَ أَشَدَّ حَاجَةً، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى مَنْ كَانَ أَقَلَّ حَاجَةً، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أنه تعالى إنما أثبت الصدقات لهولاء الْأَصْنَافِ دَفْعًا لِحَاجَتِهِمْ وَتَحْصِيلًا لِمَصْلَحَتِهِمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِهِ يَكُونُ أَشَدَّ حَاجَةً، لِأَنَّ الظَّاهِرَ وُجُوبُ تَقْدِيمِ الْأَهَمِّ عَلَى الْمُهِمِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَنْ فَضَّلَ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ فِي ذِكْرِهِمَا عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَمَنْ فَضَّلَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ يَقُولُ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ، وَأَنْشَدَ عُمَرُ قَوْلَ الشَّاعِرِ: كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا

فَقَالَ هَلَّا قَدَّمَ الْإِسْلَامَ عَلَى الشَّيْبِ؟ فَلَمَّا وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ الْفُقَرَاءِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ حَاجَتُهُمْ أَشَدَّ مِنْ حَاجَةِ الْمَسَاكِينِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْفَقِيرُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ، لِأَنَّ الْفَقِيرَ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْمَفْقُورُ الَّذِي نُزِعَتْ فِقْرَةٌ مِنْ فِقَارِ ظَهْرِهِ، فَصُرِفَ عَنْ مَفْقُورٍ إِلَى فَقِيرٍ كَمَا قِيلَ: مَطْبُوخٌ وَطَبِيخٌ، وَمَجْرُوحٌ وَجَرِيحٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْفَقِيرَ إِنَّمَا سُمِّيَ فَقِيرًا لِزَمَانَتِهِ مَعَ حَاجَتِهِ الشَّدِيدَةِ وَتَمْنَعُهُ الزَّمَانَةُ مِنَ/ التَّقَلُّبِ فِي الْكَسْبِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا حَالَ فِي الْإِقْلَالِ وَالْبُؤْسِ آكَدُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ وَأَنْشَدُوا لِلَبِيدٍ: لَمَّا رَأَى لُبَدُ النُّسُورَ تَطَايَرَتْ ... رَفَعَ الْقَوَادِمَ كَالْفَقِيرِ الْأَعْزَلِ «1» قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ فِي هَذَا الْبَيْتِ الْفَقِيرُ الْمَكْسُورُ الْفَقَارِ، يُضْرَبُ مَثَلًا لِكُلِّ ضَعِيفٍ لَا يَتَقَلَّبُ فِي الْأُمُورِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى إِشْعَارِ لفظ الفقير بالشدة العظيمة قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ [الْقِيَامَةِ: 24، 25] جَعَلَ لَفْظَ الْفَاقِرَةِ كِنَايَةً عَنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الشَّرِّ وَالدَّوَاهِي. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنَ الْفَقْرِ، وَقَالَ: «كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا» ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ» فَلَوْ كَانَ الْمِسْكِينُ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ لَتَنَاقَضَ الْحَدِيثَانِ، لِأَنَّهُ تَعَوَّذَ مِنَ الْفَقْرِ، ثُمَّ سَأَلَ حَالًا أَسْوَأَ مِنْهُ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا الْفَقْرُ أَشَدُّ مِنَ الْمَسْكَنَةِ فَلَا تَنَاقُضَ الْبَتَّةَ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ كَوْنَهُ مِسْكِينًا، لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مَالِكًا لِلْمَالِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ [الْكَهْفِ: 79] فَوَصَفَ بِالْمَسْكَنَةِ مَنْ لَهُ سَفِينَةٌ مِنْ سُفُنِ الْبَحْرِ تُسَاوِي جُمْلَةً مِنَ الدَّنَانِيرِ، وَلَمْ نَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ سُمِّيَ فَقِيرًا مَعَ أَنَّهُ يَمْلِكُ شَيْئًا. فَإِنْ قَالُوا: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ [مُحَمَّدٍ: 38] فَوَصَفَ الْكُلَّ بِالْفَقْرِ مَعَ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ أَشْيَاءَ. قُلْنَا: هَذَا بِالضِّدِّ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ فُقَرَاءَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ أَحَدًا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَمْلِكُ الْبَتَّةَ شَيْئًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ فَصَحَّ قَوْلُنَا. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد: 14- 16] والمراد منه الْمِسْكِينِ ذِي الْمَتْرَبَةِ الْفَقِيرُ الَّذِي قَدْ أُلْصِقَ بِالتُّرَابِ مِنْ شِدَّةِ الْفَقْرِ، فَتَقْيِيدُ الْمِسْكِينِ بِهَذَا الْقَيْدِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ مِسْكِينٌ خَالٍ عَنْ وَصْفِ كَوْنِهِ ذَا مَتْرَبَةٍ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَمْلِكَ شَيْئًا، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ مِسْكِينًا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مَالِكًا لِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، الْفَقِيرُ هُوَ الْمُحْتَاجُ الَّذِي لَا يَجِدُ شَيْئًا، قَالَ: وَهُمْ أَهْلُ الصُّفَّةِ، صُفَّةِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةِ رَجُلٍ لَا مَنْزِلَ لَهُمْ، فَمَنْ كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَهُ فَضْلٌ أَتَاهُمْ بِهِ إِذَا أَمْسَوْا، وَالْمَسَاكِينُ هُمُ الطَّوَّافُونَ الَّذِينَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ. وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ: أَنَّ شِدَّةَ فَقْرِ أَهْلِ الصُّفَّةِ مَعْلُومَةٌ بِالتَّوَاتُرِ، فَلَمَّا فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْفُقَرَاءَ بِهِمْ وَفَسَّرَ المساكين

_ (1) في المطبوع: الأعزب والتصويب من «تاج العروس» مادة فقر.

بِالطَّوَّافِينَ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ أَحْوَالَ الْمُحْتَاجِ الَّذِي لَا يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا أَشَدُّ مِنْ أَحْوَالِ مَنْ يَحْتَاجُ، ثُمَّ يَسْأَلُ النَّاسَ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ، ظَهَرَ أَنَّ الْفَقِيرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ الْمَسْكَنَةَ لَفْظٌ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّكُونِ، فَالْفَقِيرُ إِذَا سَأَلَ النَّاسَ وَتَضَرَّعَ إِلَيْهِمْ وَعَلِمَ أَنَّهُ مَتَى تَضَرَّعَ إِلَيْهِمْ أَعْطَوْهُ شَيْئًا فَقَدْ سَكَنَ قَلْبُهُ، وَزَالَ عَنْهُ الْخَوْفُ وَالْقَلَقُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ، لِأَنَّهُ إِذَا أُجِيبَ بِالرَّدِّ وَمُنِعَ سَكَنَ وَلَمْ يَضْطَرِبْ وَأَعَادَ السُّؤَالَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ جَعَلَ الْتَمَسْكُنَ كِنَايَةً عَنِ السُّؤَالِ وَالتَّضَرُّعِ عِنْدَ الْغَيْرِ، وَيُقَالُ: تَمَسْكَنَ الرَّجُلُ إِذَا لَانَ وَتَوَاضَعَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمُصَلِّي: «تَأَنَّ وَتَمَسْكَنْ» يريد تَوَاضَعْ وَتَخَشَّعْ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ هُوَ السَّائِلُ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذَّارِيَاتِ: 19] فَلَمَّا ثَبَتَ بِمَا ذكرنا هاهنا أَنَّ الْمِسْكِينَ هُوَ السَّائِلُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَحْرُومُ هُوَ الْفَقِيرَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَحْرُومَ مُبَالَغَةٌ فِي تَقْرِيرِ أَمْرِ الْحِرْمَانِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «أَحْيِنِي مِسْكِينًا» الْحَدِيثَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ دُعَاءَهُ فَأَمَاتَهُ مِسْكِينًا، وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ تُوُفِّيَ كَانَ يَمْلِكُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ مِسْكِينًا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مَالِكًا لِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ، أَمَّا الْفَقِيرُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ الشَّدِيدَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا» فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْفَقْرَ أَشَدُّ حَالًا مِنَ الْمَسْكَنَةِ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّ النَّاسَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْفَقْرَ وَالْغِنَى ضِدَّانِ، كَمَا أَنَّ السَّوَادَ وَالْبَيَاضَ ضِدَّانِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّ الْغِنَى وَالْمَسْكَنَةَ ضِدَّانِ بَلْ قَالُوا: التَّرَفُّعُ وَالتَّمَسُكُنَ ضِدَّانِ، فَمَنْ كَانَ مُنْقَادًا لِكُلِّ أَحَدٍ خَائِفًا مِنْهُمْ مُتَحَمِّلًا لِشَرِّهِمْ سَاكِتًا عَنْ جَوَابِهِمْ مُتَضَرِّعًا إِلَيْهِمْ. قَالُوا: إِنَّ فُلَانًا يُظْهِرُ الذُّلَّ وَالْمَسْكَنَةَ، وَقَالُوا: إِنَّهُ مِسْكِينٌ عَاجِزٌ، وَأَمَّا الْفَقِيرُ فَجَعَلُوهُ عِبَارَةً عَنْ ضِدِّ الْغَنِيِّ، وَعَلَى هَذَا فَقَدَ يَصِفُونَ الرَّجُلَ الْغَنِيَّ بِكَوْنِهِ مِسْكِينًا، إِذَا كَانَ يُظْهِرُ مِنْ نَفْسِهِ الْخُضُوعَ وَالطَّاعَةَ وَتَرْكَ الْمُعَارَضَةِ، وَقَدْ يَصِفُونَ الرَّجُلَ الْفَقِيرَ بِكَوْنِهِ مُتَرَفِّعًا عَنِ التَّوَاضُعِ وَالْمَسْكَنَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْفَقْرَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْمَالِ وَالْمَسْكَنَةَ عِبَارَةٌ عَنْ إِظْهَارِ التَّوَاضُعِ، وَالْأَوَّلُ يُنَافِي حُصُولَ الْمَالِ، وَالثَّانِي لَا يُنَافِي حُصُولَهُ. الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمُعَاذٍ فِي الزَّكَاةِ: «خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِهِمْ» وَلَوْ كَانَتِ الْحَاجَةُ فِي الْمَسَاكِينِ أَشَدَّ، لَوَجَبَ أَنْ يَقُولَ: وَرُدَّهَا عَلَى مَسَاكِينِهِمْ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَهَمِّ أَوْلَى، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الفقير أسوأ حالا مِنَ الْمِسْكِينِ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمِسْكِينَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ [الْبَلَدِ: 16] وَصَفَ الْمِسْكِينَ بِكَوْنِهِ ذَا مَتْرَبَةٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الضُّرِّ وَالشِّدَّةِ، وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْكَفَّارَاتِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ لَهُ، وَلَا فَاقَةَ أَعْظَمُ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى إِزَالَةِ الْجُوعِ. الثَّانِي: احْتَجُّوا بِقَوْلِ الرَّاعِي: أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ ... وفق العيال فلم يترك له سيد سَمَّاهُ فَقِيرًا وَلَهُ حَلُوبَةٌ. الثَّالِثُ: قَالُوا الْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي يَسْكُنُ حَيْثُ يَحْضُرُ لِأَجْلِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ بَيْتٌ يَسْكُنُ فِيهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الضُّرِّ وَالْبُؤْسِ. الرَّابِعُ: نَقَلُوا عَنِ الْأَصْمَعِيِّ وَعَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ أَنَّهُمَا

قَالَا: الْفَقِيرُ الَّذِي لَهُ مَا يَأْكُلُ. وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ، وَقَالَ يُونُسُ: الْفَقِيرُ قَدْ يَكُونُ لَهُ بَعْضُ مَا يَكْفِيهِ وَالْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ، وَقُلْتُ لِأَعْرَابِيٍّ أَفَقِيرٌ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ بَلْ مِسْكِينٌ. وَالْجَوَابُ: عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِالْآيَةِ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ حُجَّةٌ لَنَا، فَإِنَّهُ لَمَّا قَيَّدَ المسكين المذكور هاهنا بِكَوْنِهِ ذَا مَتْرَبَةٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ مِسْكِينٌ لَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَإِلَّا لَمْ يَبْقَ لِهَذَا الْقَيْدِ فَائِدَةٌ قَوْلُهُ: إِنَّهُ صَرْفُ الطَّعَامِ الْوَاجِبِ فِي الْكَفَّارَاتِ إِلَيْهِ، قُلْنَا: نَعَمْ إِنَّهُ أَوْجَبَ صَرْفَهُ إِلَى الْمِسْكِينِ الْمُقَيَّدِ بِقَيْدِ كَوْنِهِ ذَا مَتْرَبَةٍ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَوْجَبَ الصَّرْفَ إِلَى مُطْلَقِ الْمِسْكِينِ. وَالْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِبَيْتِ الرَّاعِي أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الَّذِي هُوَ الْآنَ مَوْصُوفٌ بِكَوْنِهِ فَقِيرًا فَقَدْ كَانَتْ لَهُ حَلُوبَةٌ ثُمَّ السَّيِّدُ لَمْ يَتْرُكْ لَهُ شَيْئًا، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ كَانَتْ لَهُ حَلُوبَةٌ ثُمَّ لَمَّا لَمْ يُتْرَكْ لَهُ شَيْءٌ وُصِفَ بِكَوْنِهِ فَقِيرًا؟ وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: الْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي يَسْكُنُ حَيْثُ يَحْضُرُ لِأَجْلِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ بَيْتٌ. قُلْنَا: بَلِ الْمِسْكِينُ هُوَ الطَّوَّافُ عَلَى النَّاسِ الَّذِي يَكْثُرُ إِقْدَامُهُ عَلَى السُّؤَالِ، وَسُمِّيَ مِسْكِينًا إما لسكونه عند ما يَنْتَهِرُونَهُ وَيَرُدُّونَهُ، وَإِمَّا لِسُكُونِ قَلْبِهِ بِسَبَبِ عِلْمِهِ أَنَّ النَّاسَ لَا يُضَيِّعُونَهُ مَعَ كَثْرَةِ سُؤَالِهِ إِيَّاهُمْ، وَأَمَّا الرِّوَايَاتُ الَّتِي ذَكَرُوهَا عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَيُونُسَ فَهَذَا مُعَارَضٌ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَأَيْضًا نَقَلَ الْقَفَّالُ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: الْفُقَرَاءُ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْمَسَاكِينُ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا، وَعَنِ الْحَسَنِ الْفَقِيرُ الْجَالِسُ فِي بَيْتِهِ، وَالْمِسْكِينُ الَّذِي يَسْعَى وَعَنْ مُجَاهِدٍ الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ، وَالْمِسْكِينُ الَّذِي يَسْأَلُ، وَعَنِ الزُّهْرِيِّ الْفُقَرَاءُ هُمُ الْمُتَعَفِّفُونَ الَّذِينَ لَا يَخْرُجُونَ، وَالْمَسَاكِينُ الَّذِينَ يَسْأَلُونَ، قَالَ مَوْلَانَا الدَّاعِي إِلَى اللَّهِ: هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَوَافِقَةٌ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ لَا يَسْأَلُ، وَالْمِسْكِينَ يَسْأَلُ، وَمَنْ سَأَلَ وَجَدَ، فَكَانَ الْمِسْكِينُ أَسْهَلَ وَأَقَلَّ حَاجَةً. الصِّنْفُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَهُمُ السُّعَاةُ لِجِبَايَةِ الصَّدَقَةِ، وَهَؤُلَاءِ يُعْطَوْنَ مِنَ الصَّدَقَاتِ بِقَدْرِ أُجُورِ أَعْمَالِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ زَيْدٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: يُعْطَوْنَ الثُّمُنَ مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَظَاهِرُ اللَّفْظِ مَعَ مُجَاهِدٍ إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ هَذَا أُجْرَةُ الْعَمَلِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْعَمَلِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَوْلَى الْهَاشِمِيِّ وَالْمُطَّلِبِيِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا عَلَى الصَّدَقَاتِ لِيَنَالَهُ مِنْهَا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَى أَنْ يَبْعَثَ أَبَا رَافِعٍ عَامِلًا على/ الصدقات، وقال: أما عملت أَنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ. وَإِنَّمَا قَالَ: وَالْعامِلِينَ عَلَيْها لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَى تُفِيدُ الْوَلَايَةِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ عَلَى بَلَدِ كَذَا إِذَا كَانَ وَالِيًا عَلَيْهِ. الصِّنْفُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ قَوْمٌ أَشْرَافٌ مِنَ الْأَحْيَاءِ أَعْطَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَكَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا، أَبُو سُفْيَانَ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَسَهْلُ بن عمرو من بني عامر، والحرث بْنُ هِشَامٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِيُّ، وَأَبُو السَّنَابِلِ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ. وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَرْبُوعٍ، وَالْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وَعَمْرُو بْنُ مِرْدَاسٍ. وَالْعَلَاءُ بن الحرث أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ وَرَغَّبَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، إِلَّا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَرْبُوعٍ أَعْطَاهُ خَمْسِينَ مِنَ الْإِبِلِ وَأَعْطَى حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ سَبْعِينَ مِنَ الْإِبِلِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله

مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ أَحَقُّ بِعَطَائِكَ مِنِّي فَزَادَهُ عَشَرَةً، ثُمَّ سَأَلَهُ فَزَادَهُ عَشَرَةً، وَهَكَذَا حَتَّى بَلَغَ مِائَةً، ثُمَّ قَالَ حَكِيمٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَطِيَّتُكَ الْأُولَى الَّتِي رَغِبْتُ عَنْهَا خَيْرٌ أَمْ هَذِهِ الَّتِي قَنِعْتُ بِهَا؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «بَلِ الَّتِي رَغِبْتَ عَنْهَا» فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا آخُذُ غَيْرَهَا: فَقِيلَ مَاتَ حَكِيمٌ وَهُوَ أَكْثَرُ قُرَيْشٍ مَالًا وَشَقَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْعَطَايَا لَكِنْ أَلَّفَهُمْ بِذَلِكَ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذِهِ الْعَطَايَا إِنَّمَا كَانَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالصَّدَقَاتِ، وَلَا أَدْرِي لِأَيِّ سَبَبٍ ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِي الْجُمْلَةِ صَرْفُ الْأَمْوَالِ إِلَى الْمُؤَلَّفَةِ، فَأَمَّا أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِصَرْفِ الزَّكَاةِ إِلَيْهِمْ فَلَا يَلِيقُ بِابْنِ عَبَّاسٍ، وَنَقَلَ الْقَفَّالُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْطَى عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ لَمَّا جَاءَهُ بِصَدَقَاتِهِ وَصَدَقَاتِ قَوْمِهِ أَيَّامَ الرِّدَّةِ، وَقَالَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَسْتَعِينَ الْإِمَامُ بِهِمْ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الصَّدَقَاتِ مِنَ الْمُلَّاكِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْنَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ تَأَلُّفِ قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُؤَلِّفَ قُلُوبَ قَوْمٍ لِبَعْضِ الْمَصَالِحِ الَّتِي يَعُودُ نَفْعُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ جَازَ إِذْ لَا يَجُوزُ صَرْفُ شَيْءٍ مِنْ زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَأَمَّا الْمُؤَلَّفَةُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّمَا يُعْطَوْنَ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ لَا مِنَ الصَّدَقَاتِ وَأَقُولُ إِنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِيِّ إِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ تَأَلُّفِ قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ رُبَّمَا يُوهَمُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَفَعَ قِسْمًا مِنَ الزَّكَاةِ إِلَيْهِمْ لَكِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لَمْ يَحْصُلِ الْبَتَّةَ. وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمُؤَلَّفَةِ مُشْرِكِينَ بَلْ قَالَ: وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَهَذَا عَامٌّ فِي الْمُسْلِمِ وَغَيْرِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَأَلَّفَ قَوْمًا عَلَى هَذَا الْوَصْفِ وَيَدْفَعَ إِلَيْهِمْ سَهْمَ الْمُؤَلَّفَةِ لِأَنَّهُ [لَا] دَلِيلَ عَلَى نَسْخِهِ الْبَتَّةَ، الصِّنْفُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: وَفِي الرِّقابِ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَفِيهِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَفِي فَكِّ الرِّقَابِ وَقَدْ مَضَى الِاسْتِقْصَاءُ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ [الْبَقَرَةِ: 177] ثُمَّ فِي تَفْسِيرِ الرِّقَابِ أَقْوَالٌ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّ سَهْمَ الرِّقَابِ مَوْضُوعٌ فِي الْمُكَاتَبِينَ لِيَعْتِقُوا بِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: قَوْلُهُ: وَفِي الرِّقابِ يُرِيدُ الْمُكَاتَبَ وَتَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ [النُّورِ: 33] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِعِتْقِ الرِّقَابِ يُشْتَرَى بِهِ عَبِيدٌ فَيَعْتِقُونَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَقَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيِّ، أَنَّهُ لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ولكنه يُعْطَى مِنْهَا فِي رَقَبَةٍ وَيُعَانُ بِهَا مُكَاتَبٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَفِي الرِّقابِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ مَدْخَلٌ وَذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَهُ تَامًّا فِيهِ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَوْلُ الزُّهْرِيِّ: قَالَ سَهْمُ الرِّقَابِ نِصْفَانِ، نِصْفٌ لِلْمُكَاتَبِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَنِصْفٌ يُشْتَرَى بِهِ رِقَابٌ مِمَّنْ صَلَّوْا وَصَامُوا، وَقَدُمَ إِسْلَامُهُمْ فَيَعْتِقُونَ مِنَ الزَّكَاةِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالِاحْتِيَاطُ فِي سَهْمِ الرِّقَابِ دَفْعُهُ إِلَى السَّيِّدِ بِإِذْنِ الْمُكَاتَبِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ الصَّدَقَاتِ لِلْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ بِلَامِ التَّمْلِيكِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَلَمَّا ذَكَرَ الرِّقَابَ أَبْدَلَ حَرْفَ اللَّامِ بِحَرْفِ فِي فَقَالَ: وَفِي الرِّقابِ فَلَا بُدَّ لِهَذَا الْفَرْقِ مِنْ فَائِدَةٍ، وَتِلْكَ الْفَائِدَةُ هِيَ أَنَّ تِلْكَ الْأَصْنَافَ الْأَرْبَعَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ حتى يتصرفوا فيها كما شاؤوا وأما فِي الرِّقابِ فَيُوضَعُ نَصِيبُهُمْ فِي تَخْلِيصِ رَقَبَتِهِمْ عَنِ الرق،

وَلَا يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُمَكَّنُوا مِنَ التَّصَرُّفِ في ذلك النصيب كيف شاؤوا، بَلْ يُوضَعُ فِي الرِّقَابِ بِأَنْ يُؤَدَّى عَنْهُمْ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْغَارِمِينَ يُصْرَفُ الْمَالُ فِي قَضَاءِ دُيُونِهِمْ، وَفِي الْغُزَاةِ يُصْرَفُ الْمَالُ إِلَى إِعْدَادِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي الْغَزْوِ وَابْنُ السَّبِيلِ كَذَلِكَ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ فِي الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ الْأُوَلِ، يُصْرَفُ الْمَالُ إِلَيْهِمْ حَتَّى يَتَصَرَّفُوا فِيهِ كما شاؤوا، وَفِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَةِ لَا يُصْرَفُ الْمَالُ إِلَيْهِمْ، بَلْ يُصْرَفُ إِلَى جِهَاتِ الْحَاجَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الصِّفَاتِ الَّتِي لِأَجْلِهَا اسْتَحَقُّوا سَهْمَ الزَّكَاةِ. الصِّنْفُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْغارِمِينَ قَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُ الْغُرْمِ فِي اللُّغَةِ لُزُومُ مَا يَشُقُّ وَالْغَرَامُ الْعَذَابُ اللَّازِمُ، وَسُمِّيَ الْعِشْقُ غَرَامًا لِكَوْنِهِ أَمْرًا شَاقًّا وَلَازِمًا، وَمِنْهُ: فُلَانٌ مُغْرَمٌ بِالنِّسَاءِ إِذَا كَانَ مُولَعًا بِهِنَّ، وَسُمِّيَ الدَّيْنُ غَرَامًا لِكَوْنِهِ شَاقًّا عَلَى الْإِنْسَانِ وَلَازِمًا لَهُ، فَالْمُرَادُ بِالْغَارِمِينَ الْمَدْيُونُونَ، وَنَقُولُ: الدَّيْنُ إِنْ حَصَلَ بِسَبَبِ مَعْصِيَةٍ لَا يَدْخُلُ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ صَرْفِ/ الْمَالِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْإِعَانَةُ، وَالْمَعْصِيَةُ لَا تَسْتَوْجِبُ الْإِعَانَةَ، وَإِنْ حَصَلَ لَا بِسَبَبِ مَعْصِيَةٍ فَهُوَ قِسْمَانِ: دَيْنٌ حَصَلَ بِسَبَبِ نَفَقَاتٍ ضَرُورِيَّةٍ أَوْ فِي مَصْلَحَةٍ، وَدَيْنٌ حَصَلَ بِسَبَبِ حَمَالَاتٍ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنٍ، وَالْكُلُّ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ، وَرَوَى الْأَصَمُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَضَى بِالْغُرَّةِ في الجنين، قال الْعَاقِلَةُ: لَا نَمْلِكُ الْغُرَّةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لِحَمْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ: «أَعِنْهُمْ بِغُرَّةٍ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ» وَكَانَ حَمْدٌ عَلَى الصَّدَقَةِ يَوْمَئِذٍ. الصِّنْفُ السَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَعْنِي الْغُزَاةَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: لَا يُعْطَى الْغَازِي إِلَّا إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا. وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يُوجِبُ الْقَصْرَ عَلَى كُلِّ الْغُزَاةِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى نَقَلَ الْقَفَّالُ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ أَجَازُوا صَرْفَ الصَّدَقَاتِ إِلَى جَمِيعِ وُجُوهِ الْخَيْرِ مِنْ تَكْفِينِ الْمَوْتَى وَبِنَاءِ الْحُصُونِ وَعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ عَامٌّ فِي الْكُلِّ. وَالصِّنْفُ الثَّامِنُ: ابْنُ السَّبِيلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: ابْنُ السَّبِيلِ الْمُسْتَحِقُّ لِلصَّدَقَةِ وَهُوَ الَّذِي يُرِيدُ السَّفَرَ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ فَيَعْجِزُ عَنْ بُلُوغِ سَفَرِهِ إِلَّا بِمَعُونَةٍ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَمَنْ أَنْشَأَ السَّفَرَ مِنْ بَلَدِهِ لِحَاجَةٍ، جَازَ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ سَهْمُ ابْنِ السَّبِيلِ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي أَحْكَامِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ. الْحُكْمُ الْأَوَّلُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ دَخَلَ فِيهِ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ مُسَمَّاةٌ بِالصَّدَقَةِ، قَالَ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التَّوْبَةِ: 103] وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ ذَوْدٍ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ تُدْخُلُ فِيهَا الصَّدَقَةُ الْمَنْدُوبَةُ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: تَدْخُلُ فِيهَا لِأَنَّ لَفْظَ الصَّدَقَةِ مُخْتَصٌّ بِالْمَنْدُوبَةِ فَإِذَا أَدْخَلْنَا فِيهِ الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ تَدْخُلَ فِيهِ أَيْضًا الصَّدَقَةُ الْمَنْدُوبَةُ وَتَكُونُ الْفَائِدَةُ أَنَّ مَصَارِفَ جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ لَيْسَ إِلَّا هَؤُلَاءِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ لَفْظِ الصدقات هاهنا هو

الزَّكَوَاتُ الْوَاجِبَةُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ بِلَامِ التَّمْلِيكِ لِلْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَالصَّدَقَةُ الْمَمْلُوكَةُ لَهُمْ لَيْسَتْ إِلَّا الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ، الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَصْرِفَ الصَّدَقَاتِ لَيْسَ إِلَّا لِهَؤُلَاءِ الثَّمَانِيَةِ، وَهَذَا الْحَصْرُ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ حَمَلْنَا هَذِهِ الصَّدَقَاتِ عَلَى الزَّكَوَاتِ الْوَاجِبَةِ، أَمَّا لَوْ أَدْخَلْنَا فِيهَا الْمَنْدُوبَاتِ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْحَصْرُ، لِأَنَّ الصَّدَقَاتِ الْمَنْدُوبَةَ يَجُوزُ صَرْفُهَا إِلَى بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَالرِّبَاطَاتِ، وَالْمَدَارِسِ، وَتَكْفِينِ/ الْمَوْتَى وَتَجْهِيزِهِمْ وَسَائِرِ الْوُجُوهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ إِنَّمَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ لَوْ كَانَ قَدْ سَبَقَ بَيَانُ تِلْكَ الصَّدَقَاتِ وَأَقْسَامِهَا حَتَّى يَنْصَرِفَ هَذَا الْكَلَامُ إِلَيْهِ، وَالصَّدَقَاتُ الَّتِي سَبَقَ بَيَانُهَا وَتَفْصِيلُهَا هِيَ الصَّدَقَاتُ الْوَاجِبَةُ فَوَجَبَ انْصِرَافُ هَذَا الْكَلَامِ إِلَيْهَا. الْحُكْمُ الثَّانِي دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزَّكَاةَ يَتَوَلَّى أَخْذَهَا وَتَفْرِقَتَهَا الْإِمَامُ وَمَنْ يَلِي مِنْ قِبَلِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلْعَامِلِينَ سَهْمًا فِيهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي أَدَاءِ هَذِهِ الزَّكَوَاتِ مِنْ عَامِلٍ وَالْعَامِلُ هُوَ الَّذِي نَصَبَهُ الْإِمَامُ لِأَخْذِ الزَّكَوَاتِ، فَدَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ هَذِهِ الزَّكَوَاتِ، وَتَأَكَّدَ هَذَا النَّصُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَالِكَ يَجُوزُ لَهُ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ بِنَفْسِهِ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُتَمَسَّكَ فِي إِثْبَاتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذَّارِيَاتِ: 19] فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْحَقُّ حَقًّا لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لَهُ دَفْعُهُ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً. الْحُكْمُ الثَّالِثُ نَصُّ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ لَهُ فِي مَالِ الزَّكَاةِ حَقٌّ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْإِمَامَ هَلْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهُ قَالَ: لِأَنَّ الْعَامِلَ إِنَّمَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ بِتَقْوِيَتِهِ وَإِمَارَتِهِ، فَالْعَامِلُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْإِمَامُ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ وَقَالَ: الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى حَصْرِ مَالِ الزَّكَاةِ فِي هَؤُلَاءِ الثَّمَانِيَةِ، وَالْإِمَامُ خَارِجٌ عَنْهُمْ فَلَا يُصْرَفُ هَذَا الْمَالُ إِلَيْهِ. الْحُكْمُ الرَّابِعُ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْعَامِلِ إِذَا كَانَ غَنِيًّا هَلْ يَأْخُذُ النَّصِيبَ؟ قَالَ الْحَسَنُ: لَا يَأْخُذُ إِلَّا مَعَ الْحَاجَةِ وَقَالَ الْبَاقُونَ: يَأْخُذُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ أُجْرَةً عَلَى الْعَمَلِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِلْعَامِلِ فِي مَالِ الزَّكَاةِ الثُّمُنُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَّمَ الزَّكَاةَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَصْنَافٍ فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الثُّمُنُ، كَمَا أَنَّ مَنْ أَوْصَى بِمَالٍ لِثَمَانِيَةِ أَنْفُسٍ حَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُمُنُهُ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: بَلْ حَقُّهُ بِقَدْرِ مُؤْنَتِهِ عِنْدَ الْجِبَايَةِ وَالْجَمْعِ. الْحُكْمُ الْخَامِسُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الثَّمَانِيَةِ وَاخْتَلَفُوا أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ وَضْعُهُ فِي بعض الأصناف فقط؟ وقد سبق ذكر دَلَائِلُ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ، إِلَّا أَنَّا إِذَا قُلْنَا يَجُوزُ وَضْعُهُ فِي بَعْضِ/ الْأَصْنَافِ فَقَطْ فَهَذَا إنما

[سورة التوبة (9) : آية 61]

يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْعَامِلِ، وَأَمَّا وَضْعُهُ بِالْكُلِّيَّةِ في العالم فَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ بِالِاتِّفَاقِ. الْحُكْمُ السَّادِسُ أَنَّ الْعَامِلَ وَالْمُؤَلَّفَةَ مَفْقُودَانِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَفِيهِ الْأَصْنَافُ السِّتَّةُ وَالْأَوْلَى صَرْفُ الزَّكَاةِ إِلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّهُ الْغَايَةُ فِي الِاحْتِيَاطِ، أَمَّا إِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. الْحُكْمُ السَّابِعُ عُمُومُ قَوْلِهِ: لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ وَالْمُسْلِمَ إِلَّا أَنَّ الْأَخْبَارَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَغَيْرِهِمْ إِلَّا إِذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ وَشَرَحَ أَحْوَالَهُمْ. قَالَ: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ قَالَ الزَّجَّاجُ: فَرِيضَةً مَنْصُوبٌ عَلَى التَّوْكِيدِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِهَؤُلَاءِ جَارٍ مَجْرَى قَوْلِهِ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّدَقَاتِ لِهَؤُلَاءِ فَرِيضَةً، وَذَلِكَ كَالزَّجْرِ عَنْ مُخَالَفَةِ هَذَا الظَّاهِرِ، وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ بِقِسْمَةِ الزَّكَاةِ أَنْ يَتَوَلَّاهَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ حَتَّى تَوَلَّى قِسْمَتَهَا بِنَفْسِهِ» وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ التَّأْكِيدَاتِ تَحْرِيمُ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ عَنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ أَيْ أَعْلَمُ بِمَقَادِيرِ الْمَصَالِحِ حَكِيمٌ لَا يُشَرِّعُ إِلَّا ما هو الأصوب الأصلح والله أعلم. [سورة التوبة (9) : آية 61] وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ جَهَالَاتِ الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ إِنَّهُ أُذُنٌ عَلَى وَجْهِ الطَّعْنِ وَالذَّمِّ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي عِكْرِمَةَ عَنْهُ أُذُنُ خَيْرٍ مَرْفُوعَيْنِ مُنَوَّنَيْنِ، عَلَى تَقْدِيرِ: إِنْ كَانَ كَمَا تَقُولُونَ إِنَّهُ أُذُنٌ. فَأُذُنٌ خَيْرٌ لَكُمْ يَقْبَلُ مِنْكُمْ وَيَصْدُقُكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ يَكْذِبَكُمْ، وَالْبَاقُونَ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ بِالْإِضَافَةِ، أَيْ هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ، لَا أُذُنُ شَرٍّ، وقرأ نافع أذن ساكنته الذَّالِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَالْبَاقُونَ بِالضَّمِّ وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ عُنُقٍ وَظُفُرٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُنَافِقِينَ، ذَكَرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْقَوْلِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا تَفْعَلُوا فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَبْلُغَهُ مَا نَقُولُ، فَقَالَ الْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدٍ: بَلْ نَقُولُ مَا شِئْنَا، ثُمَّ نَذْهَبُ إِلَيْهِ وَنَحْلِفُ أَنَّا مَا قُلْنَا، فَيَقْبَلُ قَوْلَنَا، وَإِنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ سَامِعَةٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَقُولُونَ مَا هَذَا الرَّجُلُ إِلَّا أُذُنٌ، مَنْ شَاءَ صَرَفَهُ حَيْثُ شَاءَ لَا عَزِيمَةَ لَهُ. وَرَوَى الْأَصَمُّ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا، فَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ فَسَمِعَهَا ابْنُ امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَحَقٌّ وَإِنَّكَ أَشَرُّ من حمارك،

ثُمَّ بَلَغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ وَلَوْ لَقِيتَهُ وَحَلَفْتَ لَهُ لَيُصَدِّقَنَّكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وَفْقِ قَوْلِهِ. فَقَالَ الْقَائِلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أُسْلِمْ قَطُّ قَبْلَ الْيَوْمِ، وَإِنَّ هَذَا الْغُلَامَ لَعَظِيمُ الثَّمَنِ عَلَيَّ وَاللَّهِ لَأَشْكُرَنَّهُ ثُمَّ قَالَ الْأَصَمُّ: أَظْهَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ وُجُوهَ كُفْرِهِمُ الَّتِي كَانُوا يُسِرُّونَهَا لِتَكُونَ حُجَّةً لِلرَّسُولِ وَلِيَنْزَجِرُوا. فَقَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ. ثُمَّ قَالَ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ثُمَّ قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ دَلَائِلُ عَلَى كَوْنِهِ نَبِيًّا حَقًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى أَنَّ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يُؤْذِي النَّبِيَّ، ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ الْإِيذَاءَ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ إِنَّهُ أُذُنٌ، وَغَرَضُهُمْ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَكَاءٌ وَلَا بُعْدُ غَوْرٍ، بَلْ هُوَ سَلِيمُ الْقَلْبِ سَرِيعُ الِاغْتِرَارِ بِكُلِّ مَا يَسْمَعُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ سَمَّوْهُ بِأَنَّهُ أُذُنٌ، كَمَا أَنَّ الْجَاسُوسَ يُسَمَّى بِالْعَيْنِ يُقَالُ: جَعَلَ فُلَانٌ عَلَيْنَا عَيْنًا، أَيْ جَاسُوسًا مُتَفَحِّصًا عَنِ الْأُمُورِ، فكذا هاهنا. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ وَالتَّقْدِيرُ: هَبْ أَنَّهُ أُذُنٌ لكنه خير لكم وقوله: أُذُنُ خَيْرٍ مثل ما يُقَالُ فُلَانٌ رَجُلُ صِدْقٍ وَشَاهِدُ عَدْلٍ، ثُمَّ بَيَّنَ كَوْنَهُ أُذُنُ خَيْرٍ بِقَوْلِهِ: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ جَعَلَ تَعَالَى هَذِهِ الثَّلَاثَةَ كَالْمُوجِبَةِ لِكَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُذُنُ خَيْرٍ فَلْنُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ اقْتِضَاءِ هَذِهِ الْمَعَانِي لِتِلْكَ الْخَيْرِيَّةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ فَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ خَائِفًا مِنَ اللَّهِ، وَالْخَائِفُ مِنَ اللَّهِ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْإِيذَاءِ بِالْبَاطِلِ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُسَلِّمُ لِلْمُؤْمِنِينَ قَوْلَهُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِذَا تَوَافَقُوا عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، سَلَّمَ لَهُمْ ذَلِكَ الْقَوْلَ، وَهَذَا يُنَافِي كَوْنَهُ سَلِيمَ الْقَلْبِ سَرِيعَ الِاغْتِرَارِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ عَدَّى الْإِيمَانَ إِلَى اللَّهِ بِالْبَاءِ وَإِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّامِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْمُعَدَّى إِلَى اللَّهِ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّصْدِيقُ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْكُفْرِ، فَعَدَّى بِالْبَاءِ، وَالْإِيمَانُ الْمُعَدَّى إِلَى الْمُؤْمِنِينَ مَعْنَاهُ الِاسْتِمَاعُ مِنْهُمْ وَالتَّسْلِيمُ لِقَوْلِهِمْ فَيَتَعَدَّى بِاللَّامِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا [يوسف: 17] وقوله: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ [يونس: 83] وقوله: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشُّعَرَاءِ: 111] وَقَوْلِهِ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [الشعراء: 49] . وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ فَهَذَا أَيْضًا يُوجِبُ الْخَيْرِيَّةَ لِأَنَّهُ يُجْرِي أَمْرَكُمْ عَلَى الظَّاهِرِ، وَلَا يُبَالِغُ فِي التَّفْتِيشِ عَنْ بَوَاطِنِكُمْ، وَلَا يَسْعَى فِي هَتْكِ أَسْتَارِكُمْ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ يُوجِبُ كَوْنَهُ أُذُنُ خَيْرٍ وَلَمَّا بَيَّنَ كَوْنَهُ سَبَبًا لِلْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ بَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مَنْ آذَاهُ اسْتَوْجَبَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يَسْعَى فِي إِيصَالِ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ إِلَيْهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ فِي غَايَةِ الْخُبْثِ وَالْخِزْيِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ يُقَابِلُونَ إِحْسَانَهُ بِالْإِسَاءَةِ وَخَيْرَاتِهِ بِالشُّرُورِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ أُذُنُ خَيْرٍ بِالتَّنْوِينِ فِي الْكَلِمَتَيْنِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ قُلْ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ سَامِعَةٌ لِلْحَقِّ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ هَذَا الطَّعْنِ الْفَاسِدِ الَّذِي تَذْكُرُونَ، ثُمَّ ذَكَرَ

[سورة التوبة (9) : آية 62]

بَعْدَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الطَّعْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الطَّعْنُ فِيهِ، وَكَيْفَ يَجُوزُ وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ سَلِيمَ الْقَلْبِ سَرِيعَ الِاغْتِرَارِ؟ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُضْمِرَ مُبْتَدَأً، وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ أُذُنٌ خَيْرٌ لَكُمْ، أَيْ هُوَ أُذُنٌ مَوْصُوفٌ بِالْخَيْرِيَّةِ فِي حَقِّكُمْ، لِأَنَّهُ يَقْبَلُ مَعَاذِيرَكُمْ، وَيَتَغَافَلُ عَنْ جَهَالَاتِكُمْ، فَكَيْفَ جَعَلْتُمْ هَذِهِ الصِّفَةَ طَعْنًا فِي حَقِّهِ؟ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ وَجْهٌ مُتَكَلَّفٌ ذَكَرَهُ صَاحِبُ «النَّظْمِ» . فَقَالَ: أُذُنٌ وَإِنْ كَانَ رَفْعًا بِالِابْتِدَاءِ فِي الظَّاهِرِ لَكِنَّ مَوْضِعَهُ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ وَتَأْوِيلُهُ قُلْ هُوَ أُذُنًا خير إِذَا كَانَ أُذُنًا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ مَعَاذِيرَكُمْ، وَنَظِيرُهُ، وَهُوَ حَافِظًا خَيْرٌ لَكُمْ، أي هو حال كونه حافظا خير لَكُمْ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَحْذُوفًا وَضَعَ الْحَالَ مَكَانَ الْمُبْتَدَأِ تَقْدِيرُهُ، وَهُوَ حَافِظٌ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِضْمَارُ «هُوَ» فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. / قَالَ تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ أَيْ هُمْ ثَلَاثَةٌ، وَهَذَا الْوَجْهُ شَدِيدُ التَّكَلُّفِ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَحْسَنَهُ الْوَاحِدِيُّ جِدًّا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَرَحْمَةٍ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى خَيْرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: أُذُنُ خَيْرٍ وَرَحْمَةٍ، أَيْ مُسْتَمِعُ كَلَامٍ يَكُونُ سَبَبًا لِلْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ. فَإِنْ قِيلَ: وَكُلُّ رَحْمَةٍ خَيْرٌ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي ذِكْرِ الرَّحْمَةِ عَقِيبَ ذِكْرِ الْخَيْرِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ أَشْرَفَ أَقْسَامِ الْخَيْرِ هُوَ الرَّحْمَةُ، فَجَازَ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ عَقِيبَ ذِكْرِ الْخَيْرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: 98] قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ بَعِيدَةٌ لِأَنَّهُ تَبَاعَدَ الْمَعْطُوفُ عَنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْبُعْدُ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْعَطْفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَرَأَ وَقِيلِهِ يَا رَبِّ [الزخرف: 88] إِنَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: 34] تَقْدِيرُهُ: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَعِلْمُ قِيلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَرَحْمَةً بِالنَّصْبِ؟ قُلْنَا: هِيَ عِلَّةٌّ مُعَلِّلُهَا مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَرَحْمَةً لَكُمْ يَأْذَنُ إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ، لِأَنَّ قوله: أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يدل عليه. [سورة التوبة (9) : آية 62] يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ قَبَائِحِ أَفْعَالِ الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ إِقْدَامُهُمْ عَلَى الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ. قِيلَ: هَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ، يَعْنِي يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيُسِيئُونَ الْقَوْلَ فِيهِ ثُمَّ يَحْلِفُونَ لَكُمْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي رَهْطٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَتَوْهُ وَاعْتَذَرُوا وَحَلَفُوا، فَفِيهِمْ نَزَلَتِ الْآيَةُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ حَلَفُوا عَلَى أَنَّهُمْ مَا قَالُوا مَا حُكِيَ عَنْهُمْ، لِيُرْضُوا الْمُؤْمِنِينَ بِيَمِينِهِمْ، وَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ يُرْضُوا اللَّهَ بِالْإِخْلَاصِ وَالتَّوْبَةِ، لَا بِإِظْهَارِ مَا يَسْتَسِرُّونَ خِلَافَهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا [الْبَقَرَةِ: 76] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: يُرْضُوهُ بَعْدَ تَقَدُّمِ ذِكْرِ اللَّهِ وَذِكْرِ الرَّسُولِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُذْكَرُ مَعَ غَيْرِهِ بِالذِّكْرِ الْمُجْمَلِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُفْرَدَ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ هُوَ اللَّهُ،

[سورة التوبة (9) : آية 63]

فَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهِ. وَيُرْوَى أَنَّ وَاحِدًا مِنَ الْكُفَّارِ رَفَعَ صَوْتَهُ. وَقَالَ: / إِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَلَا أَتُوبُ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَسَمِعَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ وَقَالَ: «وَضَعَ الْحَقَّ فِي أَهْلِهِ» الثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يُرْضُوهُمَا فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْوَاحِدِ كَقَوْلِهِ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْعَالِمَ بِالْأَسْرَارِ وَالضَّمَائِرِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِخْلَاصُ الْقَلْبِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَصَّ تَعَالَى نَفْسَهُ بِالذِّكْرِ. الْخَامِسُ: لَمَّا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ رِضَا الرَّسُولِ مُطَابِقًا لِرِضَا اللَّهِ تَعَالَى وَامْتَنَعَ حُصُولُ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَهُمَا وَقَعَ الِاكْتِفَاءُ بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا كَمَا يُقَالُ: إِحْسَانُ زَيْدٍ وَإِجْمَالُهُ نَعَشَنِي وَجَبَرَنِي. السَّادِسُ: التَّقْدِيرُ: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وَرَسُولُهُ كَذَلِكَ وَقَوْلُهُ: إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ عَلَى مَا ادَّعَوْا. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِصِحَّةِ دِينِ الرَّسُولِ إِلَّا أَنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ حَسَدًا وَعِنَادًا، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى رِضَا اللَّهِ لَا يَحْصُلُ بِإِظْهَارِ الْإِيمَانِ، مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، وَيَبْطُلُ قَوْلُ الْكَرَّامِيَّةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ إِلَّا القول باللسان. [سورة التوبة (9) : آية 63] أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا، شَرْحُ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: قَوْلُهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ خِطَابٌ لِمَنْ حَاوَلَ الْإِنْسَانُ تَعْلِيمَهُ مُدَّةً وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ التَّعْلِيمِ ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ فَيُقَالُ لَهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ بَعْدَ هَذِهِ السَّاعَاتِ الطَّوِيلَةِ وَالْمُدَّةِ الْمَدِيدَةِ، وَإِنَّمَا حَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ طَالَ مَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ، وَكَثُرَتْ نِهَايَاتُهُ لِلتَّحْذِيرِ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالتَّرْغِيبِ فِي طَاعَتِهِ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ ضَمِيرُ الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَمْرَ وَالشَّأْنَ كَذَا وَكَذَا. وَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا الضَّمِيرِ هُوَ أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ بَعْدَ كَلِمَةِ (أَنَّ) ذَلِكَ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَثِيرُ وَقْعٍ. فَأَمَّا إِذَا قُلْتَ الْأَمْرُ وَالشَّأْنُ كَذَا وَكَذَا أَوْجَبَ مَزِيدَ تَعْظِيمٍ وَتَهْوِيلٍ لِذَلِكَ الْكَلَامِ. وَقَوْلُهُ: مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ قَالَ اللَّيْثُ: حَادَدْتُهُ أَيْ خَالَفْتُهُ، وَالْمُحَادَدَةُ كَالْمُجَانَبَةِ وَالْمُعَادَاةِ وَالْمُخَالَفَةِ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْحَدِّ، وَمَعْنَى حَادَّ فُلَانٌ فُلَانًا، أَيْ صَارَ فِي حَدٍّ غَيْرِ حَدِّهِ كَقَوْلِهِ: شَاقَّهُ أَيْ صَارَ/ فِي شِقٍّ غَيْرِ شِقِّهِ، وَمَعْنَى يُحادِدِ اللَّهَ أَيْ يَصِيرُ فِي حَدٍّ غَيْرِ حَدِّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ بِالْمُخَالَفَةِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُحَادَّةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْحَدِيدِ حديد السلاح، ثم للمفسرين هاهنا عِبَارَاتٌ: يُخَالِفُ اللَّهَ، وَقِيلَ يُحَارِبُ اللَّهَ، وَقِيلَ يعاند الله. وقيل يعاد اللَّهَ. ثُمَّ قَالَ: فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ: فَحَقٌّ أَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ. الثَّانِي: مَعْنَاهُ فَلَهُ نَارُ جَهَنَّمَ، وَأَنَّ تُكَرَّرُ لِلتَّوْكِيدِ. الثَّالِثُ: أَنْ نَقُولَ جَوَابُ (مَنْ) مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَهْلِكْ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ كَسْرُ (أَنَّ) عَلَى الِاسْتِئْنَافِ مِنْ بَعْدِ الْفَاءِ وَالْقِرَاءَةُ بِالْفَتْحِ. وَنَقَلَ الْكَعْبِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالْكَسْرِ مَوْجُودَةٌ. قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ جَهَنَّمُ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَحْكُونَ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّ الْبِئْرَ الْبَعِيدَةَ الْقَعْرِ تُسَمَّى الْجِهِنَّامَ عِنْدَهُمْ، فَجَازَ فِي جَهَنَّمَ أَنْ تَكُونَ مَأْخُوذَةً مِنْ هَذَا اللَّفْظِ، ومعنى

[سورة التوبة (9) : آية 64]

بُعْدِ قَعْرِهَا أَنَّهُ لَا آخِرَ لِعَذَابِهَا، وَالْخَالِدُ: الدَّائِمُ، وَالْخِزْيُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى النَّدَمِ وَبِمَعْنَى الِاسْتِحْيَاءِ، وَالنَّدَمُ هُنَا أَوْلَى. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ [يونس: 54] . [سورة التوبة (9) : آيَةٌ 64] يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ كانوا يسمون سورة براءة، الحافرة حَفَرَتْ عَمَّا فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ قَالَ الْحَسَنُ: اجْتَمَعَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى أَمْرٍ مِنَ النِّفَاقِ، فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَسْمَائِهِمْ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ أُنَاسًا اجْتَمَعُوا عَلَى كَيْتَ وَكَيْتَ، فَلْيَقُومُوا وَلِيَعْتَرِفُوا وَلِيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ حَتَّى أَشْفَعَ لَهُمْ» فَلَمْ يَقُومُوا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ: «قُمْ يَا فُلَانُ وَيَا فُلَانُ» حَتَّى أَتَى عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالُوا: نَعْتَرِفُ وَنَسْتَغْفِرُ فَقَالَ: «الْآنَ أَنَا كُنْتُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَطْيَبَ نَفْسًا بِالشَّفَاعَةِ، وَاللَّهُ كَانَ أَسْرَعَ فِي الْإِجَابَةِ، اخْرُجُوا عَنِّي اخْرُجُوا عَنِّي» فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ حَتَّى خَرَجُوا بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَالَ الْأَصَمُّ: إِنَّ عِنْدَ رُجُوعِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ تَبُوكَ وَقَفَ لَهُ عَلَى الْعَقَبَةِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا لِيَفْتِكُوا بِهِ فَأَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ، وَكَانُوا مُتَلَثِّمِينَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مَنْ يَضْرِبُ وُجُوهَ رَوَاحِلِهِمْ، فَأَمَرَ حُذَيْفَةَ بِذَلِكَ فَضَرَبَهَا حَتَّى نَحَّاهُمْ، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ عَرَفْتَ مِنَ الْقَوْمِ» فَقَالَ: / لَمْ أَعْرِفْ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَاءَهُمْ وَعَدَّهُمْ لَهُ، وَقَالَ: «إِنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ» فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَلَا تَبْعَثُ إِلَيْهِمْ لِيُقْتَلُوا، فَقَالَ: «أَكْرَهُ أَنْ تَقُولَ الْعَرَبُ قَاتَلَ مُحَمَّدٌ بِأَصْحَابِهِ حَتَّى إِذَا ظَفِرَ صَارَ يَقْتُلُهُمْ بَلْ يَكْفِينَا اللَّهُ ذَلِكَ» . فَإِنْ قِيلَ: الْمُنَافِقُ كَافِرٌ فَكَيْفَ يَحْذَرُ نُزُولَ الْوَحْيِ عَلَى الرَّسُولِ؟ قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: هَذَا حَذَرٌ أَظْهَرَهُ الْمُنَافِقُونَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهْزَاءِ حِينَ رَأَوُا الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَذْكُرُ كُلَّ شَيْءٍ وَيَدَّعِي أَنَّهُ عَنِ الْوَحْيِ، وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يُكَذِّبُونَ بِذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِذَلِكَ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْلِمَهُمْ أَنَّهُ يُظْهِرُ سِرَّهُمُ الَّذِي حَذِرُوا ظُهُورَهُ، وفي قوله: اسْتَهْزِؤُا دَلَالَةٌ عَلَى مَا قُلْنَاهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْمَ وَإِنْ كَانُوا كَافِرِينَ بِدِينِ الرَّسُولِ إِلَّا أَنَّهُمْ شَاهَدُوا أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُخْبِرُهُمْ بِمَا يُضْمِرُونَهُ وَيَكْتُمُونَهُ، فَلِهَذِهِ التَّجْرِبَةِ وَقَعَ الْحَذَرُ وَالْخَوْفُ فِي قُلُوبِهِمْ. الثَّالِثُ: قَالَ الْأَصَمُّ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ كَوْنَهُ رَسُولًا صَادِقًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِهِ حَسَدًا وَعِنَادًا. قَالَ الْقَاضِي: يَبْعُدُ فِي الْعَالِمِ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَصِحَّةِ دِينِهِ أَنْ يَكُونَ مُحَادًّا لَهُمَا. قَالَ الدَّاعِي إِلَى اللَّهِ: هَذَا غَيْرُ بَعِيدٍ لِأَنَّ الْحَسَدَ إِذَا قَوِيَ فِي الْقَلْبِ صَارَ بِحَيْثُ يُنَازِعُ فِي الْمَحْسُوسَاتِ، الرَّابِعُ: مَعْنَى الْحَذَرِ الْأَمْرُ بِالْحَذَرِ، أَيْ لِيَحْذَرِ الْمُنَافِقُونَ ذَلِكَ. الْخَامِسُ: أَنَّهُمْ كَانُوا شَاكِّينَ فِي صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَمَا كَانُوا قَاطِعِينَ بِفَسَادِهَا. وَالشَّاكُّ خَائِفٌ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَافُوا أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ فِي أَمْرِهِمْ مَا يَفْضَحُهُمْ، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الضَّمِيرُ في قوله: عَلَيْهِمْ وتُنَبِّئُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي قَوْلِهِ: فِي قُلُوبِهِمْ لِلْمُنَافِقِينَ وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الضَّمَائِرُ كُلُّهَا لِلْمُنَافِقِينَ، لِأَنَّ السُّورَةَ إِذَا نَزَلَتْ فِي مَعْنَاهُمْ فَهِيَ نَازِلَةٌ عَلَيْهِمْ، وَمَعْنَى تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ أَنَّ السُّورَةَ كَأَنَّهَا تَقُولُ لَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ كَيْتَ وَكَيْتَ، يَعْنِي أَنَّهَا تُذِيعُ أَسْرَارَهُمْ إِذَاعَةً ظَاهِرَةً فكأنها تخبرهم. ثم قال: قُلِ اسْتَهْزِؤُا وَهُوَ أَمْرُ تَهْدِيدٍ كَقَوْلِهِ: وَقُلِ اعْمَلُوا [التَّوْبَةِ: 105] إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما

[سورة التوبة (9) : الآيات 65 إلى 66]

تَحْذَرُونَ [التوبة: 64] أَيْ ذَلِكَ الَّذِي تَحْذَرُونَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يُخْرِجُهُ إِلَى الْوُجُودِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ إِذَا حَصَلَ بَعْدَ عَدَمِهِ، فَكَأَنَّ فَاعِلَهُ أَخْرَجَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الوجود. [سورة التوبة (9) : الآيات 65 الى 66] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ أُمُورًا: الْأَوَّلُ: رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَرْعَبَ قُلُوبًا وَلَا أَكْذَبَ أَلْسُنًا وَلَا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ وَاحِدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: كَذَبْتَ وَلَأَنْتَ مُنَافِقٌ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيُخْبِرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجِدَ الْقُرْآنَ قَدْ سَبَقَهُ. فَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ وَكَانَ قَدْ رَكِبَ نَاقَتَهُ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كُنَّا نَلْعَبُ وَنَتَحَدَّثُ بِحَدِيثِ الرَّكْبِ نَقْطَعُ بِهِ الطَّرِيقَ، وَكَانَ يقول إنما كان نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم يقول: «أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون» وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَمَا يَزِيدُهُ عَلَيْهِ. الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَمَّا سَارَ الرَّسُولُ إِلَى تَبُوكَ قَالَ الْمُنَافِقُونَ بَيْنَهُمْ أَتُرَاهُ يَظْهَرُ عَلَى الشأن وَيَأْخُذُ حُصُونَهَا وَقُصُورَهَا هَيْهَاتَ، هَيْهَاتَ، فَعِنْدَ رُجُوعِهِ دَعَاهُمْ وَقَالَ: أَنْتُمُ الْقَائِلُونَ بِكَذَا وَكَذَا فَقَالُوا: مَا كَانَ ذَلِكَ بِالْجِدِّ فِي قُلُوبِنَا وَإِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. الثَّالِثُ: رُوِيَ أَنَّ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلُوا عَمَّا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَعَنْ سَبَبِ تَخَلُّفِهِمْ، فَقَالُوا هَذَا الْقَوْلَ. الرَّابِعُ: حُكِّينَا عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ [التوبة: 64] أَظْهَرُوا هَذَا الْحَذَرَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لِمَ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ؟ قَالُوا: لَمْ نَقُلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الطَّعْنِ، بَلْ لِأَجْلِ أَنَّا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. الْخَامِسُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِي مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ ذَكَرُوا كَلَامًا فَاسِدًا عَلَى سَبِيلِ الطَّعْنِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمُ الرَّسُولُ بِأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ خَافُوا وَاعْتَذَرُوا عَنْهُ بِأَنَّا إِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْجِدِّ وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ أَيْ مَا قُلْنَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَجْلِ اللَّعِبِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ «إِنَّمَا» تُفِيدُ الْحَصْرَ إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ كَوْنِهِمْ لَاعِبِينَ أَنْ لَا يَكُونُوا مُسْتَهْزِئِينَ فَحِينَئِذٍ لَا يَتِمُّ هَذَا الْعُذْرُ. وَالْجَوَابُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَصْلُ الْخَوْضِ الدُّخُولُ فِي مَائِعٍ مِنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى صَارَ اسْمًا لِكُلِّ دُخُولٍ فِيهِ تَلْوِيثٌ وَأَذًى، وَالْمَعْنَى: أَنَّا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ فِي الْبَاطِلِ مِنَ الْكَلَامِ/ كَمَا يَخُوضُ الرَّكْبُ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ، فَأَجَابَهُمُ الرَّسُولُ بِقَوْلِهِ: أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِكَ أَتَسْتَهْزِئُ بِاللَّهِ، وَبَيْنَ قَوْلِكَ أَبِاللَّهِ تَسْتَهْزِئُ، فَالْأَوَّلُ يَقْتَضِي الْإِنْكَارَ عَلَى عَمَلِ الِاسْتِهْزَاءِ، وَالثَّانِي: يَقْتَضِي الْإِنْكَارَ عَلَى إِيقَاعِ الِاسْتِهْزَاءِ فِي اللَّهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ هَبْ أَنَّكَ قَدْ تُقْدِمُ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ وَلَكِنْ كَيْفَ أَقْدَمْتَ عَلَى إِيقَاعِ الِاسْتِهْزَاءِ فِي اللَّهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا فِيها غَوْلٌ [الصَّافَّاتِ: 47] وَالْمَقْصُودُ: لَيْسَ نَفْيَ الْغَوْلِ، بَلْ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ خَمْرُ الْجَنَّةِ مَحَلًّا لِلْغَوْلِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِاللَّهِ مُحَالٌ. فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَأْوِيلٍ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِاللَّهِ هُوَ الِاسْتِهْزَاءُ بِتَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى. الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الِاسْتِهْزَاءَ بِذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ قَدْ يَسْتَهْزِئُ الْكَافِرُ بِهَا كَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُعَظِّمُهَا وَيُمَجِّدُهَا. قَالَ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: 1] فَأَمَرَ الْمُؤْمِنَ بِتَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ. وَقَالَ: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ [الْأَعْرَافِ: 180] فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: أَبِاللَّهِ وَيُرَادُ: أَبِذِكْرِ اللَّهِ. الثَّالِثُ: لَعَلَّ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا قَالُوا: كَيْفَ يَقْدِرُ مُحَمَّدٌ عَلَى أَخْذِ حُصُونِ الشَّأْمِ وَقُصُورِهَا. قَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: اللَّهُ يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَنْصُرُهُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ الْجُهَّالِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ ذَكَرَ كَلَامًا مُشْعِرًا بِالْقَدْحِ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ كَمَا هُوَ عَادَاتُ الْجُهَّالِ وَالْمُلْحِدَةِ، فَكَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَآياتِهِ فَالْمُرَادُ بِهَا الْقُرْآنُ، وَسَائِرُ مَا يَدُلُّ عَلَى الدِّينِ. وَقَوْلُهُ: وَرَسُولِهِ مَعْلُومٌ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا ذَكَرُوا مَا ذَكَرُوهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي لَفْظِ الِاعْتِذَارِ قَوْلَيْنِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَحْوِ الذَّنْبِ مِنْ قَوْلِهِمْ: اعْتَذَرَتِ الْمَنَازِلُ إِذَا دَرَسَتْ. يُقَالُ: مَرَرْتُ بِمَنْزِلٍ مُعْتَذِرٍ، وَالِاعْتِذَارُ هُوَ الدَّرْسُ وَأَخْذُ الِاعْتِذَارِ مِنْهُ. لِأَنَّ الْمُعْتَذِرَ يُحَاوِلُ إِزَالَةَ أَثَرِ ذَنْبِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: حَكَى ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّ الِاعْتِذَارَ هُوَ الْقَطْعُ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْقُلْفَةِ عُذْرَةٌ لِأَنَّهَا تُقْطَعُ، وَعُذْرَةُ الْجَارِيَةِ سُمِّيَتْ عُذْرَةً لِأَنَّهَا تُعْذَرُ أَيْ تُقْطَعُ، وَيُقَالُ اعْتَذَرَتِ الْمِيَاهُ إِذَا انْقَطَعَتْ، فَالْعُذْرُ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِقَطْعِ اللَّوْمِ سُمِّيَ عُذْرًا، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْقَوْلَانِ مُتَقَارِبَانِ، لِأَنَّ مَحْوَ أَثَرِ الذَّنْبِ وَقَطْعَ اللَّوْمِ يَتَقَارَبَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنْ ذَلِكَ الِاسْتِهْزَاءَ كَانَ كُفْرًا، وَالْعَقْلُ يَقْتَضِي أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى/ الْكُفْرِ لِأَجْلِ اللَّعِبِ غَيْرُ جَائِزٍ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُمْ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ مَا كَانَ عُذْرًا حَقِيقِيًّا فِي الْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِهْزَاءِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا فِي نَفْسِهِ نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ أَنْ يَعْتَذِرُوا بِهِ لِأَنَّ الْمَنْعَ عَنِ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ وَاجِبٌ. فَقَالَ: لَا تَعْتَذِرُوا أَيْ لَا تَذْكُرُوا هَذَا الْعُذْرَ فِي دَفْعِ هَذَا الْجُرْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَحْكَامٍ. الْحُكْمُ الْأَوَّلُ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِالدِّينِ كَيْفَ كَانَ كُفْرًا بِاللَّهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ وَالْعُمْدَةُ الْكُبْرَى فِي الْإِيمَانِ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَقْصَى الْإِمْكَانِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ. الْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ، الْكُفْرُ لَا يَدْخُلُ إِلَّا فِي أَفْعَالِ الْقُلُوبِ.

الْحُكْمُ الثَّالِثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمُ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُمْ كُفْرٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كَانُوا مُنَافِقِينَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ الْكُفْرَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَجَدَّدَ مِنَ الْكَافِرِ حَالًا فَحَالًا. الْحُكْمُ الرَّابِعُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ إِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْقَوْمُ لَمَّا كَانُوا مُنَافِقِينَ فَكَيْفَ يَصِحُّ وَصْفُهُمْ بِذَلِكَ؟ قُلْنَا: قَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمُ الَّذِي أَظْهَرْتُمُوهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: ظَهَرَ كُفْرُكُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ عِنْدَهُمْ مُسْلِمِينَ، وَالْقَوْلَانِ مُتَقَارِبَانِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ إِنْ نَعْفُ وَنُعَذِّبْ بِالنُّونِ وَكَسْرِ الذَّالِ، وَطَائِفَةً بِالنَّصْبِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَقُولُ إِنْ يَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ يُعَذِّبْ طَائِفَةً وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا، وَفَتْحِ الْفَاءِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، إِنْ يُعْفَ عَنْ طَائِفَةٍ بِالتَّذْكِيرِ، وَتُعَذَّبْ طَائِفَةٌ بِالتَّأْنِيثِ، وَحَكَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنْ مُجَاهِدٍ، إِنْ تُعْفَ عَنْ طَائِفَةٍ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مَعَ التَّأْنِيثِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْوَجْهُ التَّذْكِيرُ لِأَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ الظَّرْفُ كَمَا تَقُولُ سِيرَ بِالدَّابَّةِ، وَلَا تَقُولُ سِيرَتْ بِالدَّابَّةِ، وَأَمَّا تَأْوِيلُ قِرَاءَتِهِ فَهُوَ أَنَّ مُجَاهِدًا لَعَلَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ تُرْحَمْ طَائِفَةٌ فَأَنْتِ كَذَلِكَ، وَهُوَ غَرِيبٌ وَالْجَيِّدُ الْقِرَاءَةُ الْعَامَّةُ إِنْ يُعْفَ عَنْ طَائِفَةٍ بِالتَّذْكِيرِ وَتُعَذَّبْ طَائِفَةٌ بِالتَّأْنِيثِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ، أَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ كَانُوا ثَلَاثَةً، اسْتَهْزَأَ اثْنَانِ وَضَحِكَ وَاحِدٌ، فَالطَّائِفَةُ الْأُولَى الضَّاحِكُ، وَالثَّانِيَةُ الهازيان، وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا كَانَ ذَنْبُ الضَّاحِكِ أَخَفَّ لا جرم عفا الله عنه، وذنب الهازيين أَغْلَظَ، فَلَا جَرَمَ مَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ الْقَاضِي: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْكُفْرِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْفُو عَنِ الْكَافِرِ إِلَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَيْضًا لَا يُعَذِّبُ الْكَافِرَ إِلَّا بَعْدَ إِصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ، أَمَّا لَوْ تَابَ عَنْهُ وَرَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَعْفُو عَنْ طَائِفَةٍ وَيُعَذِّبُ الْأُخْرَى، كَانَ فِيهِ إِضْمَارُ أَنَّ الطَّائِفَةَ الَّتِي أَخْبَرَ أَنَّهُ يَعْفُو عَنْهُمْ تَابُوا عَنِ الْكُفْرِ وَرَجَعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ الطَّائِفَةَ الَّتِي أَخْبَرَ أَنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ وَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ الْوَاحِدَ لَمَّا لَمْ يُبَالِغْ فِي الطَّعْنِ وَلَمْ يُوَافِقِ الْقَوْمَ فِي الذِّكْرِ خَفَّ كُفْرُهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَفَّقَهُ لِلْإِيمَانِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الْكُفْرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ خَاضَ فِي عَمَلٍ بَاطِلٍ، فَلْيَجْتَهِدْ فِي التَّقْلِيلِ فَإِنَّهُ يُرْجَى لَهُ بِبَرَكَةِ ذَلِكَ التَّقْلِيلِ أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْكُلِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالُوا: ثَبَتَ بِالرِّوَايَاتِ أَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ كَانُوا ثَلَاثَةً، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِنْسَانًا وَاحِدًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالطَّائِفَةُ فِي اللُّغَةِ أَصْلُهَا الْجَمَاعَةُ، لِأَنَّهَا الْمِقْدَارُ الَّذِي يُمْكِنُهَا أَنْ تُطِيفَ بِالشَّيْءِ ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الْوَاحِدُ بِالطَّائِفَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النُّورِ: 2] وَأَقَلُّهُ الْوَاحِدُ، وَرَوَى الْفَرَّاءُ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: الطَّائِفَةُ الْوَاحِدُ فَمَا فَوْقَهُ، وَفِي جَوَازِ تَسْمِيَةِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ بِالطَّائِفَةِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنِ اخْتَارَ مَذْهَبًا وَنَصَرَهُ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَكُونُ ذَابًّا عَنْهُ نَاصِرًا لَهُ، فَكَأَنَّهُ

[سورة التوبة (9) : آية 67]

بِقَلْبِهِ يَطُوفُ عَلَيْهِ وَيَذُبُّ عَنْهُ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُسَمَّى الْوَاحِدُ طَائِفَةً لِهَذَا السَّبَبِ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْعَرَبُ تُوقِعُ لَفْظَ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ فَتَقُولُ: خَرَجَ فُلَانٌ إِلَى مَكَّةَ عَلَى الْجِمَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آلِ عِمْرَانَ: 173] يَعْنِي نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ. الثَّالِثُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ إِذَا أُرِيدَ بِهَا الْوَاحِدُ يَكُونُ أَصْلُهَا طَائِفًا، ثُمَّ أَدْخَلَ الْهَاءَ عَلَيْهِ لِلْمُبَالَغَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَلَّلَ كَوْنَهُ مُعَذِّبًا لِلطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ لَمَّا اشْتَرَكَتَا فِي الْكُفْرِ، فَقَدِ اشْتَرَكَتَا فِي الْجُرْمِ، وَالتَّعْذِيبُ يَخْتَصُّ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَتَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْخَاصِّ بِالْعِلَّةِ الْعَامَّةِ لَا يَجُوزُ، وَأَيْضًا التَّعْذِيبُ حُكْمٌ حَاصِلٌ فِي الْحَالِ وَقَوْلُهُ: كانُوا مُجْرِمِينَ يَدُلُّ عَلَى صُدُورِ الْجُرْمِ عَنْهُمْ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَتَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْحَاصِلِ فِي الْحَالِ بِالْعِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَا يَجُوزُ، بَلْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ مُجْرِمُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ أَنَّ هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ جُرْمَ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ كَانَ أَغْلَظَ وَأَقْوَى مِنْ جُرْمِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى، فَوَقَعَ التَّعْلِيلُ بِذَلِكَ الْجُرْمِ الْغَلِيظِ، وَأَيْضًا فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْجُرْمَ بَقِيَ وَاسْتَمَرَّ وَلَمْ يَزَلْ، فَأَوْجَبَ التَّعْذِيبَ. [سورة التوبة (9) : آية 67] الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا شَرْحُ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ فَضَائِحِهِمْ وَقَبَائِحِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ إِنَاثَهُمْ كَذُكُورِهِمْ فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ الْمُنْكَرَةِ وَالْأَفْعَالِ الْخَبِيثَةِ، فَقَالَ: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أَيْ فِي صِفَةِ النِّفَاقِ، كَمَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ: أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ، أَيْ أَمْرُنَا وَاحِدٌ لَا مُبَايَنَةَ فِيهِ وَلَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ ذَكَرَ تَفْصِيلَهُ فَقَالَ: يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَلَفْظُ الْمُنْكَرِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ قبيح، إلا أن الأعظم هاهنا تَكْذِيبُ الرَّسُولِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَلَفْظُ الْمَعْرُوفِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلَّ حَسَنٍ إِلَّا أَنَّ الْأَعْظَمَ هاهنا الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ، قِيلَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَقِيلَ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ وَاجِبٍ مِنْ زَكَاةٍ وَصَدَقَةٍ وَإِنْفَاقٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهَذَا أَقْرَبُ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَذُمُّهُمْ إِلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ وَيَدْخُلُ فِيهِ تَرْكُ الْإِنْفَاقِ فِي الْجِهَادِ، وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى تَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْجِهَادِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْمُعْطِيَ يَمُدُّ يَدَهُ وَيَبْسُطُهَا بِالْعَطَاءِ. فَقِيلَ لِمَنْ مَنَعَ وَبَخِلَ قَدْ قَبَضَ يَدَهُ. ثُمَّ قَالَ: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى النِّسْيَانِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَمَا اسْتَحَقُّوا عَلَيْهِ ذَمًّا، لِأَنَّ النِّسْيَانَ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْبَشَرِ، وَأَيْضًا فَهُوَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ تَرَكُوا أَمْرَهُ حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْسِيِّ، فَجَازَاهُمْ بِأَنْ صَيَّرَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْسِيِّ مِنْ ثَوَابِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَجَاءَ هَذَا عَلَى أَوْجُهِ الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] الثَّانِي: النِّسْيَانُ ضِدُّ الذِّكْرِ، فَلَمَّا تَرَكُوا ذِكْرَ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، تَرَكَ اللَّهُ ذِكْرَهُمْ بِالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَإِنَّمَا حَسُنَ جَعْلُ النِّسْيَانِ كِنَايَةً عَنْ تَرْكِ الذِّكْرِ لِأَنَّ مَنْ نَسِيَ شَيْئًا لَمْ يَذْكُرْهُ، فَجَعَلَ اسْمَ الْمَلْزُومِ كِنَايَةً عَنِ اللَّازِمِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ أَيْ هُمُ الْكَامِلُونَ فِي الْفِسْقِ. والله أعلم.

[سورة التوبة (9) : الآيات 68 إلى 69]

[سورة التوبة (9) : الآيات 68 الى 69] وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مِنْ قَبْلُ فِي المنافقين والمنافقات أنه نسبهم، أَيْ جَازَاهُمْ عَلَى تَرْكِهِمُ التَّمَسُّكَ بِطَاعَةِ اللَّهِ أَكَّدَ هَذَا الْوَعِيدَ وَضَمَّ الْمُنَافِقِينَ إِلَى الْكُفَّارِ فِيهِ، فَقَالَ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّارَ الْمُخَلَّدَةَ مِنْ أَعْظَمِ الْعُقُوبَاتِ. ثُمَّ قَالَ: هِيَ حَسْبُهُمْ وَالْمَعْنَى: أَنَّ تِلْكَ الْعُقُوبَةَ كَافِيَةٌ لَهُمْ وَلَا شَيْءَ أَبْلَغُ مِنْهَا، وَلَا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا. ثُمَّ قَالَ: وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ أَيْ أَلْحَقَ بِتِلْكَ الْعُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ الْإِهَانَةَ وَالذَّمَّ وَاللَّعْنَ. ثُمَّ قَالَ: وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَعْنَى كَوْنِ الْعَذَابِ مُقِيمًا وَكَوْنِهِ خَالِدًا وَاحِدٌ، فَكَانَ هَذَا تَكْرَارًا؟ وَالْجَوَابُ: لَيْسَ ذَلِكَ تَكْرِيرًا، وَبَيَانُ الْفَرْقِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَهُمْ نَوْعًا آخَرَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُقِيمِ الدَّائِمِ سِوَى الْعَذَابِ بِالنَّارِ وَالْخُلُودِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ بِالنَّارِ دَائِمٌ. وَقَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ نَوْعًا آخَرَ مِنَ الْعَذَابِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا التَّأْوِيلُ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ قَالَ فِي النَّارِ الْمُخَلَّدَةِ: هِيَ حَسْبُهُمْ وَكَوْنُهَا حَسْبًا بمنع مِنْ ضَمِّ شَيْءٍ آخَرَ إِلَيْهِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّهَا حَسْبُهُمْ فِي الْإِيلَامِ وَالْإِيجَاعِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَيُضَمُّ إِلَيْهِ نَوْعٌ آخَرُ زِيَادَةً فِي تَعْذِيبِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ الْعَذَابُ الْعَاجِلُ الَّذِي لَا يَنْفَكُّونَ عَنْهُ، وَهُوَ مَا يُقَاسُونَهُ مِنْ تَعَبِ النِّفَاقِ وَالْخَوْفِ مِنِ اطِّلَاعِ الرَّسُولِ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ، وَمَا يَحْذَرُونَهُ أَبَدًا مِنْ أَنْوَاعِ الْفَضَائِحِ. ثُمَّ قَالَ: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا رُجُوعٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَهَذَا الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: فَعَلْتُمْ كَأَفْعَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ الْمُنَافِقِينَ بِالْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ فِي الْأَمْرِ بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمَعْرُوفِ، وَقَبْضِ الْأَيْدِي عَنِ الْخَيْرَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ قُوَّةً مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا، ثُمَّ اسْتَمْتَعُوا مُدَّةً بِالدُّنْيَا ثُمَّ هَلَكُوا وَبَادُوا وَانْقَلَبُوا إِلَى الْعِقَابِ الدَّائِمِ، فَأَنْتُمْ مَعَ ضَعْفِكُمْ وَقِلَّةِ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا عِنْدَكُمْ أَوْلَى أَنْ تَكُونُوا كَذَلِكَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ الْمُنَافِقِينَ فِي عُدُولِهِمْ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَجْلِ طَلَبِ لَذَّاتِ الدُّنْيَا بِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ تَعَالَى بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَبِأَنَّهُمُ اسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ، وَالْخَلَاقُ النَّصِيبُ، وَهُوَ مَا خُلِقَ لِلْإِنْسَانِ، أَيْ قُدِّرَ لَهُ مِنْ خَيْرٍ، كَمَا قِيلَ لَهُ: قَسْمٌ لِأَنَّهَا قَسْمٌ وَنَصِيبٌ، لِأَنَّهُ نُصِبَ أَيْ ثَبَتَ، فَذَكَرَ تَعَالَى

[سورة التوبة (9) : آية 70]

أنهم استمتعوا بخلاقهم فأنتم أيها المنافقون استمتعم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ أُولَئِكَ بِخَلَاقِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْخَلَاقِ فِي حَقِّ الْأَوَّلِينَ مَرَّةً ثُمَّ ذِكْرِهِ فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ ثَانِيًا ثُمَّ ذِكْرِهِ فِي حَقِّ الْأَوَّلِينَ ثَالِثًا. قُلْنَا: الْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ الْأَوَّلِينَ بِالِاسْتِمْتَاعِ بِمَا أُوتُوا مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا وَحِرْمَانِهِمْ عَنْ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ بِسَبَبِ اسْتِغْرَاقِهِمْ فِي تِلْكَ الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ، فَلَمَّا قَرَّرَ تَعَالَى هَذَا الذَّمَّ عَادَ فَشَبَّهَ حَالَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ بِحَالِهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ نِهَايَةً فِي الْمُبَالَغَةِ، وَمِثَالُهُ: أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَ بَعْضَ الظَّلَمَةِ عَلَى قُبْحِ ظُلْمِهِ يَقُولُ لَهُ: أَنْتَ مِثْلُ فِرْعَوْنَ، كَانَ يَقْتُلُ بِغَيْرِ جُرْمٍ وَيُعَذِّبُ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ، وَأَنْتَ تَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَهُ، وَبِالْجُمْلَةِ فالتكرير هاهنا لِلتَّأْكِيدِ، وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى مُشَابَهَةَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ لِأُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا، وَفِي الْإِعْرَاضِ عَنْ طَلَبِ الْآخِرَةِ، بَيَّنَ حُصُولَ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي تَكْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ وَالْغَدْرِ بِهِمْ. فَقَالَ: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا قَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ كَخَوْضِهِمُ الَّذِي خَاضُوا، فَ (الَّذِي) صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أَيْ بَطَلَتْ حَسَنَاتُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ الْمَوْتِ وَالْفَقْرِ وَالِانْتِقَالِ مِنَ الْعِزِّ إِلَى الذُّلِّ وَمِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الضَّعْفِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ/ لَا يُثَابُونَ بَلْ يُعَاقَبُونَ أَشَدَّ الْعِقَابِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ حَيْثُ أَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الرَّدِّ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، فَمَا وَجَدُوا مِنْهُ إِلَّا فَوَاتَ الْخَيْرَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِلَّا حُصُولَ الْعِقَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَبَّهَ حَالَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ بِأُولَئِكَ الْكُفَّارِ بَيَّنَ أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ إِلَّا حُبُوطُ الْأَعْمَالِ وَإِلَّا الْخِزْيُ وَالْخَسَارُ، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَقْوَى مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا مِنْهُمْ، فَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الْمُشَارِكُونَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ أَوْلَى أَنْ يَكُونُوا وَاقِعِينَ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مَحْرُومِينَ من خيرات الدنيا والآخرة. [سورة التوبة (9) : آية 70] أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَبَّهَ الْمُنَافِقِينَ بِالْكُفَّارِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا وَفِي تَكْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي إِيذَائِهِمْ بَيَّنَ أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهُمْ، فَذَكَرَ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفَ السِّتَّةَ، فَأَوَّلُهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَاللَّهُ أَهْلَكَهُمْ بِالْإِغْرَاقِ، وَثَانِيهِمْ: عَادٌ وَاللَّهُ تَعَالَى أَهْلَكَهُمْ بِإِرْسَالِ الرِّيحِ الْعَقِيمِ عَلَيْهِمْ. وَثَالِثُهُمْ: ثَمُودُ وَاللَّهُ أَهْلَكَهُمْ بِإِرْسَالِ الصَّيْحَةِ وَالصَّاعِقَةِ. وَرَابِعُهُمْ: قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِسَبَبِ سَلْبِ النِّعْمَةِ عَنْهُمْ، وَبِمَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّهُ تَعَالَى سَلَّطَ الْبَعُوضَةَ عَلَى دِمَاغِ نُمْرُوذَ. وَخَامِسُهُمْ: قَوْمُ شُعَيْبٍ وَهُمْ أَصْحَابُ مَدْيَنَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَهْلَكَهُمْ بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَالْمُؤْتَفِكَاتُ قَوْمُ لُوطٍ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ جَعَلَ عَالِيَ أَرْضِهِمْ سَافِلَهَا، وَأَمْطَرَ عليهم الحجارة، وقال الواحدي: الْمُؤْتَفِكاتِ جَمْعُ مُؤْتَفِكَةٍ، وَمَعْنَى الِائْتِفَاكِ فِي اللُّغَةِ الِانْقِلَابُ، وَتِلْكَ الْقُرَى ائْتَفَكَتْ بِأَهْلِهَا، أَيِ انْقَلَبَتْ فَصَارَ أَعْلَاهَا أَسْفَلَهَا، يُقَالُ أَفَكَهُ فَائْتَفَكَ أَيْ قَلَبَهُ فَانْقَلَبَ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَالْمُؤْتَفِكَاتُ صِفَةُ الْقُرَى، وَقِيلَ ائْتِفَاكُهُنَّ انْقِلَابُ أَحْوَالِهِنَّ مِنَ الْخَيْرِ إِلَى الشَّرِّ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَذَكَرَ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفَ السِّتَّةَ وَإِنَّمَا

[سورة التوبة (9) : آية 71]

قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَتَاهُمْ نَبَأُ هَؤُلَاءِ تَارَةً، بِأَنْ سَمِعُوا هَذِهِ الْأَخْبَارَ مِنَ الْخَلْقِ، وَتَارَةً لِأَجْلِ أَنَّ/ بِلَادَ هَذِهِ الطَّوَائِفِ، وَهِيَ بِلَادُ الشَّامِ، قَرِيبَةٌ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، وَقَدْ بَقِيَتْ آثَارُهُمْ مُشَاهَدَةً، وَقَوْلُهُ: أَلَمْ يَأْتِهِمْ وَإِنْ كَانَ فِي صِفَةِ الِاسْتِفْهَامِ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ التَّقْرِيرُ، أَيْ أَتَاهُمْ نَبَأُ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ. ثُمَّ قَالَ: أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى كُلِّ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ. ثُمَّ قَالَ: بِالْبَيِّناتِ أَيْ بِالْمُعْجِزَاتِ وَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارٍ فِي الْكَلَامِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَكَذَّبُوا فَعَجَّلَ اللَّهُ هَلَاكَهُمْ. ثُمَّ قَالَ: فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ والمعنى: أن العذاب الذي أو صله اللَّهُ إِلَيْهِمْ مَا كَانَ ظُلْمًا مِنَ اللَّهِ لِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوهُ بِسَبَبِ أَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي تَكْذِيبِ أَنْبِيَائِهِمْ، بَلْ كَانُوا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَصِحُّ مِنْهُ فِعْلُ الظُّلْمِ وَإِلَّا لَمَا حَسُنَ التَّمَدُّحُ بِهِ، وَذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَظْلِمُ الْبَتَّةَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْلُقُ الْكُفْرَ فِي الْكَافِرِ ثُمَّ يُعَذِّبُهُ عَلَيْهِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ فَاعِلَ الظُّلْمِ هُوَ الْعَبْدُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَهَذَا الْكَلَامُ قَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ فِي هذا الكتاب مرارا خارجة عن الإحصاء. [سورة التوبة (9) : آية 71] وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي وَصْفِ الْمُنَافِقِينَ بِالْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَفْعَالِ الْخَبِيثَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ أَنْوَاعَ الْوَعِيدِ فِي حَقِّهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ذَكَرَ بَعْدَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَوْنَ الْمُؤْمِنِينَ مَوْصُوفِينَ بِصِفَاتِ الْخَيْرِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ، عَلَى ضِدِّ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْوَاعَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ الدَّائِمِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَأَمَّا صِفَاتُ الْمُؤْمِنِينَ فَهِيَ قَوْلُهُ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ المنافقين الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وهاهنا قَالَ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ فَلِمَ ذَكَرَ فِي الْمُنَافِقِينَ لَفْظَ (مِنْ) وَفِي الْمُؤْمِنِينَ لَفْظَ أَوْلِياءُ. قُلْنَا: قَوْلُهُ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِفَاقَ الْأَتْبَاعِ، كَالْأَمْرِ الْمُتَفَرِّعِ عَلَى نِفَاقِ الْأَسْلَافِ، وَالْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ نِفَاقَ الْأَتْبَاعِ وَكُفْرَهُمْ حَصَلَ بِسَبَبِ التَّقْلِيدِ لِأُولَئِكَ الْأَكَابِرِ، وَبِسَبَبِ مُقْتَضَى الْهَوَى وَالطَّبِيعَةِ وَالْعَادَةِ، أَمَّا الْمُوَافَقَةُ الْحَاصِلَةُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّمَا حَصَلَتْ لَا بِسَبَبِ الْمَيْلِ وَالْعَادَةِ، بَلْ بِسَبَبِ الْمُشَارَكَةِ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَقَالَ فِي الْمُؤْمِنِينَ: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوِلَايَةَ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي لَفْظِ الْوِلَايَةِ الْقُرْبُ، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ بِأَنَّ ضِدَّ الْوِلَايَةِ هُوَ الْعَدَاوَةُ، وَلَفْظَةُ الْعَدَاوَةِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ عَدَا الشَّيْءَ إِذَا جَاوَزَ عَنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ بِكَوْنِ بَعْضِهِمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ، ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يَجْرِي مَجْرَى التَّفْسِيرِ وَالشَّرْحِ لَهُ فَقَالَ: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَذَكَرَ هَذِهِ الْأُمُورَ الْخَمْسَةَ الَّتِي بِهَا يَتَمَيَّزُ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْمُنَافِقِ، فَالْمُنَافِقُ عَلَى مَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ المتقدمة

[سورة التوبة (9) : آية 72]

يَأْمُرُ بِالْمُنْكَرِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمَعْرُوفِ، وَالْمُؤْمِنُ بِالضِّدِّ مِنْهُ. وَالْمُنَافِقُ لَا يَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ إِلَّا مَعَ نَوْعٍ مِنَ الْكَسَلِ وَالْمُؤْمِنُ بِالضِّدِّ مِنْهُ. وَالْمُنَافِقُ يَبْخَلُ بِالزَّكَاةِ وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ كَمَا قَالَ: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَالْمُنَافِقُ إِذَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْجِهَادِ فَإِنَّهُ يَتَخَلَّفُ بِنَفْسِهِ وَيُثَبِّطُ غَيْرَهُ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَالْمُؤْمِنُونَ بِالضِّدِّ مِنْهُمْ. وَهُوَ الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بَيَّنَ أَنَّهُ كَمَا وَعَدَ الْمُنَافِقِينَ نَارَ جَهَنَّمَ فَقَدْ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ الرَّحْمَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ وَهِيَ ثَوَابُ الْآخِرَةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ وَذَكَرَ حَرْفَ السِّينِ فِي قَوْلِهِ: سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ لِلتَّوْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ كَمَا تُؤَكِّدُ الْوَعِيدَ فِي قَوْلِكَ سَأَنْتَقِمُ مِنْكَ يَوْمًا، يَعْنِي أَنَّكَ لَا تَفُوتُنِي وَإِنْ تَبَاطَأَ ذَلِكَ، وَنَظِيرُهُ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا [مريم: 96] لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضُّحَى: 5] سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ [النِّسَاءِ: 152] . ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ لِأَنَّ الْعَزِيزَ هُوَ مَنْ لَا يُمْنَعُ مِنْ مُرَادِهِ فِي عِبَادِهِ مِنْ رَحْمَةٍ أَوْ عُقُوبَةٍ، وَالْحَكِيمَ هُوَ الْمُدَبِّرُ أَمْرَ عِبَادِهِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ العدل والصواب. [سورة التوبة (9) : آية 72] وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْوَعْدَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ بِالرَّحْمَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ تِلْكَ الرَّحْمَةَ هِيَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ. فَأَوَّلُهَا قَوْلُهُ: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِهَا الْبَسَاتِينَ الَّتِي يَتَنَاوَلُهَا الْمَنَاظِرُ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ: وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَالْمَعْطُوفُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَتَكُونُ مَسَاكِنُهُمْ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَمَنَاظِرُهُمُ الْجَنَّاتِ الَّتِي هِيَ الْبَسَاتِينُ، فَتَكُونُ فَائِدَةُ وَصْفِهَا بِأَنَّهَا عَدْنٌ، أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الدَّارِ الَّتِي يَسْكُنُهَا الْإِنْسَانُ. وَأَمَّا الْجَنَّاتُ الْآخِرَةُ فَهِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْبَسَاتِينِ الَّتِي قَدْ يَذْهَبُ الْإِنْسَانُ إِلَيْهَا لِأَجْلِ التَّنَزُّهِ وَمُلَاقَاةِ الْأَحْبَابِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ قَدْ كَثُرَ كَلَامُ أَصْحَابِ الْآثَارِ فِي صِفَةِ جَنَّاتِ عَدْنٍ. قَالَ الْحَسَنُ: سَأَلْتُ عِمْرَانَ بْنَ الْحُصَيْنِ وَأَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ قَوْلِهِ: وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فَقَالَا: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ، سَأَلْنَا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ قَصْرٌ فِي الْجَنَّةِ مِنَ اللُّؤْلُؤِ، فِيهِ سَبْعُونَ دَارًا مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، فِي كُلِّ دَارٍ سَبْعُونَ بَيْتًا مِنْ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيرًا، عَلَى كُلِّ سَرِيرٍ سَبْعُونَ فِرَاشًا، عَلَى كُلِّ فِرَاشٍ زَوْجَةٌ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ مَائِدَةً، عَلَى كُلِّ مَائِدَةٍ سَبْعُونَ لَوْنًا مِنَ الطَّعَامِ، وَفِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ وَصِيفَةً، يُعْطَى الْمُؤْمِنُ مِنَ الْقُوَّةِ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ مَا يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ أَجْمَعَ» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا دَارُ اللَّهِ الَّتِي لَمْ تَرَهَا عَيْنٌ وَلَمْ تَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. وَأَقُولُ لَعَلَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّهَا دَارُ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ بِاللَّهِ مِنْ أَنْ يُثْبِتَ لَهُ دَارًا، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنِي عَنِ الْجَنَّةِ مَا بِنَاؤُهَا فَقَالَ: «لَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَلَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ وَحَصَاؤُهَا الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ. فِيهَا النَّعِيمُ بِلَا بُؤْسٍ وَالْخُلُودُ بِلَا مَوْتٍ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ» وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: / جَنَّاتُ عَدْنٍ بُطْنَانُ الْجَنَّةِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: بُطْنَانُهَا وَسَطُهَا، وَبُطْنَانُ الْأَوْدِيَةِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي يستنفع فِيهَا مَاءُ السَّيْلِ وَاحِدُهَا بَطْنٌ، وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ قَصَبَةُ الْجَنَّةِ وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَهِيَ الْمَدِينَةُ الَّتِي فِيهَا الرُّسُلُ والأنبياء

وَالشُّهَدَاءُ وَأَئِمَّةُ الْهُدَى، وَسَائِرُ الْجَنَّاتِ حَوْلَهَا وَفِيهَا عَيْنُ التَّسْنِيمِ وَفِيهَا قُصُورُ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالذَّهَبِ فَتَهُبُّ رِيحٌ طَيِّبَةٌ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ فَتُدْخِلُ عَلَيْهِمْ كُثْبَانَ الْمِسْكِ الْأَذْفَرِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ قَصْرًا يُقَالُ لَهُ عَدْنٌ، حَوْلَهُ الْبُرُوجُ وَلَهُ خَمْسَةُ آلَافِ بَابٍ عَلَى كُلِّ بَابٍ خَمْسَةُ آلَافِ حَرَّةٍ، لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ، وَأَقُولُ حَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ فِي جَنَّاتِ عدن قولان: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ لِمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ فِي الْجَنَّةِ، وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ الَّتِي نَقَلْنَاهَا تُقَوِّي هَذَا الْقَوْلَ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَعَدْنٌ عَلَمٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ [مَرْيَمَ: 61] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْجَنَّةِ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْعَدْنُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِكَ عَدَنَ فُلَانٌ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ، يَعْدِنُ عُدُونًا. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: تَرَكْتُ إِبِلَ بَنِي فُلَانٍ عَوَادِنَ بِمَكَانِ كَذَا، وَهُوَ أَنْ تَلْزَمَ الْإِبِلُ الْمَكَانَ فَتَأْلَفَهُ وَلَا تَبْرَحَهُ، وَمِنْهُ الْمَعْدِنُ وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي تُخْلَقُ الْجَوَاهِرُ فِيهِ وَمَنْبَعُهَا مِنْهُ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الِاشْتِقَاقِ قَالُوا: الْجَنَّاتُ كُلُّهَا جَنَّاتُ عَدْنٍ. وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الْمَوَاعِيدِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ وَالْمَعْنَى أَنَّ رِضْوَانَ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ مَا سَلَفَ ذِكْرُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ عَلَى أَنَّ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةَ أَشْرَفُ وَأَعْلَى مِنَ السَّعَادَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الِابْتِهَاجُ بِكَوْنِ مَوْلَاهُ رَاضِيًا عَنْهُ، وَأَنْ يَتَوَسَّلَ بِذَلِكَ الرِّضَا إِلَى شَيْءٍ مِنَ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ أَوْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ عِلْمُهُ بِكَوْنِهِ رَاضِيًا عَنْهُ يُوجِبُ الِابْتِهَاجَ وَالسَّعَادَةَ لِذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِهِ إِلَى مَطْلُوبٍ آخَرَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ مَا كَانَ وَسِيلَةً إِلَى الشَّيْءِ لَا يَكُونُ أَعْلَى حَالًا مِنْ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ، فَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ أَنْ يُتَوَسَّلَ بِهِ إِلَى اللَّذَّاتِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الأكل والشرب لكان الابتهاج بالرضوان ابتهاجا بحصول الوسيلة. ولكان الابتهاج بتلك اللذات ابْتِهَاجًا بِالْمَقْصُودِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِابْتِهَاجَ بِالْوَسِيلَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَقَلَّ حَالًا مِنَ الِابْتِهَاجِ بِالْمَقْصُودِ. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رِضْوَانُ اللَّهِ أَقَلَّ حَالًا وَأَدْوَنَ مَرْتَبَةً مِنَ الْفَوْزِ بِالْجَنَّاتِ وَالْمَسَاكِنِ الطَّيِّبَةِ، لَكِنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى أَنَّ الْفَوْزَ بِالرِّضْوَانِ أَعْلَى وَأَعْظَمُ وَأَجَلُّ وَأَكْبَرُ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةَ أَكْمَلُ وَأَشْرَفُ مِنَ السَّعَادَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ الْحَقَّ وُجُوبُ الْإِقْرَارِ بِهِمَا مَعًا كَمَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. / وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ قَالَ: ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ مِنْ جَوْهَرَيْنِ، لَطِيفٌ عُلْوِيٌّ رُوحَانِيٌّ، وَكَثِيفٌ سُفْلِيٌّ جُسْمَانِيٌّ وَانْضَمَّ إِلَيْهِمَا حُصُولُ سَعَادَةٍ وَشَقَاوَةٍ، فَإِذَا حَصَلَتِ الْخَيْرَاتُ الْجُسْمَانِيَّةُ وَانْضَمَّ إِلَيْهَا حُصُولُ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ كَانَتِ الرُّوحُ فَائِزَةً بِالسَّعَادَاتِ اللَّائِقَةِ بِهَا، وَالْجَسَدُ وَاصِلًا إِلَى السَّعَادَاتِ اللَّائِقَةِ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. الثَّانِي: أَنَّهُ تعالى بين في وصفه الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ تَشَبَّهُوا بِالْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ فِي التَّنَعُّمِ بِالدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَصْفَ ثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ قَالَ: ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، لَا مَا يَطْلُبُهُ الْمُنَافِقُونَ وَالْكُفَّارُ مِنَ التَّنَعُّمِ بِطَيِّبَاتِ الدُّنْيَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: «هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ أَمَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ أَبَدًا»

[سورة التوبة (9) : آية 73]

وَاعْلَمْ أَنَّ دَلَالَةَ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةَ أَفْضَلُ مِنَ الْجُسْمَانِيَّةِ كَدَلَالَةِ الْآيَةِ وقد تقدم تقريره على الوجه الكامل. [سورة التوبة (9) : آية 73] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) وَاعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْمُنَافِقِينَ بِالصِّفَاتِ الْخَبِيثَةِ وَتَوَعَّدَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعِقَابِ، وَكَانَتْ عَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ جَارِيَةً بِذِكْرِ الْوَعْدِ مَعَ الْوَعِيدِ، لَا جَرَمَ ذَكَرَ عَقِيبَهُ وَصْفَ الْمُؤْمِنِينَ بِالصِّفَاتِ الشَّرِيفَةِ الطَّاهِرَةِ الطَّيِّبَةِ، وَوَعَدَهُمْ بِالثَّوَابِ الرَّفِيعِ وَالدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ، ثُمَّ عَادَ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى شَرْحِ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي هذه الآية فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مُجَاهَدَةِ الْمُنَافِقِينَ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَإِنَّ الْمُنَافِقَ هُوَ الَّذِي يَسْتُرُ كَفْرَهُ وَيُنْكِرُهُ بِلِسَانِهِ وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ مُحَارَبَتُهُ وَمُجَاهَدَتُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ ذَكَرُوا أَقْوَالًا بِسَبَبِ هَذَا الْإِشْكَالِ. فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْجِهَادُ مَعَ الْكُفَّارِ وَتَغْلِيظُ الْقَوْلِ مَعَ الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ. وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِجِهَادِهِمَا مَعًا، وَكَذَا ظَاهِرُ قَوْلِهِ: / وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ رَاجِعٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَحْكُمَ بِالظَّاهِرِ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ» وَالْقَوْمُ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُنْكِرُونَ الْكُفْرَ، فَكَانَتِ الْمُحَارَبَةُ مَعَهُمْ غَيْرَ جَائِزَةٍ» . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْجِهَادَ عِبَارَةٌ عَنْ بَذْلِ الْجُهْدِ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْجِهَادَ بِالسَّيْفِ أَوْ بِاللِّسَانِ أَوْ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَنَقُولُ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْجِهَادِ مَعَ الْفَرِيقَيْنِ، فأما كيفية تلك المجاهد فَلَفْظُ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، بَلْ إِنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: دَلَّتِ الدَّلَائِلُ الْمُنْفَصِلَةُ عَلَى أَنَّ الْمُجَاهَدَةَ مَعَ الْكُفَّارِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِالسَّيْفِ، وَمَعَ الْمُنَافِقِينَ بِإِظْهَارِ الْحُجَّةِ تَارَةً، وَبِتَرْكِ الرِّفْقِ ثَانِيًا، وَبِالِانْتِهَارِ ثَالِثًا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ قَالَ تَارَةً بِالْيَدِ، وَتَارَةً بِاللِّسَانِ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُكَشِّرْ فِي وَجْهِهِ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِالْقَلْبِ، وَحَمَلَ الْحَسَنُ جِهَادَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ إِذَا تَعَاطَوْا أَسْبَابَهَا. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمُنَافِقٍ، فَلَا يَكُونُ لِهَذَا تَعَلُّقٌ بِالنِّفَاقِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا قَالَ الْحَسَنُ ذَلِكَ، لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا لِأَنَّ كُلَّ فَاسِقٍ مُنَافِقٌ، وَإِمَّا لِأَجْلِ أَنَّ الْغَالِبَ مِمَّنْ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي زَمَنِ الرسول عليه السلام كانوا منافقين. [سورة التوبة (9) : آية 74] يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَقْوَامًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ، قَالُوا كَلِمَاتٍ فَاسِدَةً، ثُمَّ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ إِنَّكُمْ ذَكَرْتُمْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ خَافُوا، وَحَلَفُوا أَنَّهُمْ مَا قَالُوا، وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: رُوِيَ أَنَّ

النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ شَهْرَيْنِ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَيَعِيبُ الْمُنَافِقِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ. فَقَالَ الْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدٍ: وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ مَا يَقُولُهُ مُحَمَّدٌ فِي إِخْوَانِنَا الَّذِينَ خَلَّفْنَاهُمْ فِي الْمَدِينَةِ حَقًّا مَعَ أَنَّهُمْ أَشْرَافُنَا، فَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، فَقَالَ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيُّ لِلْجُلَاسِ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا صَادِقٌ، وَأَنْتَ شَرٌّ مِنَ الْحِمَارِ. وَبَلَغَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَحْضَرَ الْجُلَاسَ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ أَنَّهُ مَا قَالَ، فَرَفَعَ عَامِرٌ يَدَهُ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَى عَبْدِكَ وَنَبِيِّكَ تَصْدِيقَ الصَّادِقِ وَتَكْذِيبَ الْكَاذِبِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. فَقَالَ الْجُلَاسُ: لَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ التَّوْبَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَقَدْ قُلْتُ هَذَا الْكَلَامَ وَصَدَقَ عَامِرٌ، فَتَابَ الْجُلَاسُ، وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ. الثَّانِي: رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ لَمَّا قَالَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لِيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، وَأَرَادَ بِهِ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَسَمِعَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ ذَلِكَ وَبَلَّغَهُ إِلَى الرَّسُولِ، فَهَمَّ عُمَرُ بِقَتْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَجَاءَ عَبْدُ اللَّهِ وَحَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الثَّالِثُ: رَوَى قَتَادَةُ أَنَّ رَجُلَيْنِ اقْتَتَلَا أَحَدُهُمَا مِنْ جُهَيْنَةَ وَالْآخَرُ مِنْ غِفَارٍ، فَظَهَرَ الْغِفَارِيُّ عَلَى الْجُهَيْنِيِّ، فَنَادَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: يَا بَنِي الْأَوْسِ انْصُرُوا أَخَاكُمْ، وَاللَّهِ مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُ مُحَمَّدٍ إِلَّا كَمَا قِيلَ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ. فَذَكَرُوهُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَنْكَرَ عَبْدُ اللَّهِ، وَجَعَلَ يَحْلِفُ. قَالَ الْقَاضِي: يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ هَذِهِ الْوَقَائِعَ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلِهِ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ كُلُّهَا صِيَغُ الْجُمُوعِ، وَحَمْلُ صِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ، خِلَافُ الْأَصْلِ. فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّ ذَلِكَ الْوَاحِدَ. قَالَ فِي مَحْفِلٍ وَرَضِيَ بِهِ الْبَاقُونَ. قُلْنَا: هَذَا أَيْضًا خِلَافُ الظَّاهِرِ لِأَنَّ إِسْنَادَ الْقَوْلِ إِلَى مَنْ سَمِعَهُ وَرَضِيَ بِهِ خِلَافُ الْأَصْلِ، ثُمَّ قَالَ: بَلَى الْأَوْلَى أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى مَا رُوِيَ: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ هَمُّوا بِقَتْلِهِ عِنْدَ رُجُوعِهِ مِنْ تَبُوكَ وَهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ تَعَاهَدُوا أَنْ يَدْفَعُوهُ عَنْ رَاحِلَتِهِ إِلَى الْوَادِي إِذَا تَسَنَّمَ الْعَقَبَةَ بِاللَّيْلِ، وَكَانَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ آخِذًا بِالْخِطَامِ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَحُذَيْفَةُ خَلْفَهَا يَسُوقُهَا، فَسَمِعَ حُذَيْفَةُ وَقْعَ أَخْفَافِ الْإِبِلِ وَقَعْقَعَةَ السِّلَاحِ، فَالْتَفَتَ، فَإِذَا قَوْمٌ مُتَلَثِّمُونَ. فَقَالَ: إِلَيْكُمْ إِلَيْكُمْ يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ، فَهَرَبُوا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَمَّا اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ الْغَرَضِ، فَقَدْ طَعَنُوا فِي نُبُوَّتِهِ وَنَسَبُوهُ إِلَى الْكَذِبِ وَالتَّصَنُّعِ فِي ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ، وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُمْ أَسْلَمُوا، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِمْ هَذَا الْكَلَامُ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنَ الْإِسْلَامِ السِّلْمُ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْحَرْبِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا/ نَافَقُوا، فَقَدْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ، وَجَنَحُوا إِلَيْهِ، فَإِذَا جَاهَرُوا بِالْحَرْبِ، وَجَبَ حَرْبُهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ بَعْدَ أَنْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا الْمُرَادُ إِطْبَاقُهُمْ عَلَى الْفَتْكِ بِالرَّسُولِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ حَتَّى احْتَرَزَ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَصِلُوا إِلَى مَقْصُودِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي هَذَا الْفَضْلِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا قَبْلَ قُدُومِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فِي ضَنْكٍ مِنَ الْعَيْشِ، لَا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ وَلَا يَحُوزُونَ الْغَنِيمَةَ، وَبَعْدَ قُدُومِهِ أَخَذُوا الْغَنَائِمَ وَفَازُوا بِالْأَمْوَالِ وَوَجَدُوا الدَّوْلَةَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا مُحِبِّينَ لَهُ مُجْتَهِدِينَ فِي بَذْلِ النَّفْسِ وَالْمَالِ لِأَجْلِهِ. وَالثَّانِي: رُوِيَ أَنَّهُ قُتِلَ لِلْجُلَاسِ مَوْلًى، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَتِهِ اثْنَيْ عَشَرَ ألفا فاستغنى.

[سورة التوبة (9) : الآيات 75 إلى 78]

الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ يَنْقِمُونَ مِنْهُ، وَهَذَا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَّا ... أنهم يحلمون إن غضبوا وكقوله النَّابِغَةُ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ أَيْ لَيْسَ فِيهِمْ عَيْبٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ والمراد استعطاف قلوبهم بعد ما صَدَرَتِ الْجِنَايَةُ الْعَظِيمَةُ عَنْهُمْ، وَلَيْسَ فِي الظَّاهِرِ إِلَّا أَنَّهُمْ إِنْ تَابُوا فَازُوا بِالْخَيْرِ، فَأَمَّا أَنَّهُمْ تَابُوا فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا قَالُوهُ فِي تَوْبَةِ الْجُلَاسِ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ يَتَوَلَّوْا أَيْ عَنِ التَّوْبَةِ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ، فَمَعْلُومٌ. وَأَمَّا الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا، فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ كُفْرُهُمْ بَيْنَ النَّاسِ صَارُوا مِثْلَ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَيَحِلُّ قِتَالُهُمْ وَقَتْلُهُمْ وَسَبْيُ أَوْلَادِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَاغْتِنَامُ أَمْوَالِهِمْ. وَقِيلَ بِمَا يَنَالُهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ وَمُعَايَنَةِ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ عَذَابُ الْقَبْرِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ يَعْنِي أَنَّ عَذَابَ اللَّهِ إِذَا حُقَّ لَمْ يَنْفَعْهُ وَلِيٌّ ولا نصير. [سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 78] وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) [في قَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ] [المسألة الأولى] اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أَكْثَرُهَا فِي شَرْحِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ أَقْسَامٌ وَأَصْنَافٌ، فَلِهَذَا السَّبَبِ يَذْكُرُهُمْ عَلَى التَّفْصِيلِ فَيَقُولُ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ [التَّوْبَةِ: 61]- وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ [التَّوْبَةِ: 58]- وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [التَّوْبَةِ: 49]- وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ أَبْطَأَ عَنْهُ مَالُهُ بِالشَّأْمِ، فَلَحِقَهُ شِدَّةٌ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ وَهُوَ وَاقِفٌ بِبَعْضِ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ، لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَأَصَّدَّقَنَّ وَلَأُؤَدِّيَنَّ مِنْهُ حَقَّ اللَّهِ، إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَالْمَشْهُورُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ثَعْلَبَةَ بْنَ حَاطِبٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالًا. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَا ثَعْلَبَةُ قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ» فَرَاجَعَهُ وَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ رَزَقَنِي اللَّهُ مَالًا لَأُعْطِيَنَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَدَعَا لَهُ، فَاتَّخَذَ غَنَمًا، فَنَمَتْ كَمَا يَنْمُو الدُّودُ، حَتَّى ضَاقَتْ بِهَا الْمَدِينَةُ، فَنَزَلَ وَادِيًا بِهَا، فَجَعَلَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَيَتْرُكُ مَا سِوَاهُمَا، ثُمَّ نَمَتْ وَكَثُرَتْ حَتَّى تَرَكَ الصَّلَوَاتِ إِلَّا الْجُمُعَةَ ثُمَّ تَرَكَ الْجُمُعَةَ. وَطَفِقَ يَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ يَسْأَلُ عَنِ الْأَخْبَارِ، وَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، فَأُخْبِرَ بِخَبَرِهِ فَقَالَ: «يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ» فنزل قوله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ وَقَالَ: «مُرَّا بِثَعْلَبَةَ فَخُذَا صَدَقَاتِهِ» فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ لَهُمَا: مَا هَذِهِ إِلَّا جِزْيَةٌ أَوْ أُخْتُ الْجِزْيَةِ، فَلَمْ يَدْفَعِ الصَّدَقَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ فَقِيلَ لَهُ: قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ كَذَا وَكَذَا، فَأَتَى الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَأَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ صَدَقَتَهُ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ مَنَعَنِي مِنْ قَبُولِ ذَلِكَ فَجَعَلَ يَحْثِي التُّرَابَ عَلَى

رَأْسِهِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قَدْ قُلْتُ لَكَ فَمَا أَطَعْتَنِي» فَرَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَقُبِضَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ أَتَى أَبَا بَكْرٍ بِصَدَقَتِهِ، فَلَمْ يَقْبَلْهَا اقْتِدَاءً بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ/ ثُمَّ لَمْ يَقْبَلْهَا عُمَرُ اقْتِدَاءً بِأَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ لَمْ يَقْبَلْهَا عُثْمَانُ، وَهَلَكَ ثَعْلَبَةُ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ بِإِخْرَاجِ الصَّدَقَةِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ لَا يَقْبَلَهَا مِنْهُ؟ قُلْنَا: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى مَنَعَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ قَبُولِ الصَّدَقَةِ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِهَانَةِ لَهُ لِيَعْتَبِرَ غَيْرُهُ بِهِ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَنْ أَدَاءِ الصَّدَقَاتِ، وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِتِلْكَ الصَّدَقَةِ عَلَى وَجْهِ الرِّيَاءِ، لَا عَلَى وَجْهِ الْإِخْلَاصِ، وَأَعْلَمَ اللَّهُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْبَلْ تِلْكَ الصَّدَقَةَ، لِهَذَا السَّبَبِ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَكَانَ هَذَا الْمَقْصُودُ غَيْرَ حَاصِلٍ فِي ثَعْلَبَةَ مَعَ نِفَاقِهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ امْتَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَخْذِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ عَاهَدَ اللَّهَ فِي أَنَّهُ لَوْ آتَاهُ مَالًا لَصَرَفَ بَعْضَهُ إِلَى مَصَارِفِ الْخَيْرَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى آتَاهُ الْمَالَ، وَذَلِكَ الْإِنْسَانُ مَا وَفَى بِذَلِكَ الْعَهْدِ، وَهَهُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْمُنَافِقُ كَافِرٌ، وَالْكَافِرُ كَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَاهِدَ اللَّهَ تَعَالَى؟ وَالْجَوَابُ: الْمُنَافِقُ قَدْ يَكُونُ عَارِفًا بِاللَّهِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مُنْكِرًا لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلِكَوْنِهِ عَارِفًا بِاللَّهِ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَاهِدَ اللَّهَ، وَلِكَوْنِهِ مُنْكِرًا لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ كَافِرًا. وَكَيْفَ لَا أَقُولُ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ هَذَا الْعَالَمِ مَقْرُونٌ بِوُجُودِ الصَّانِعِ الْقَادِرِ؟ وَيَقِلُّ فِي أَصْنَافِ الْكُفَّارِ مَنْ يُنْكِرُهُ، وَالْكُلُّ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَفْتَحُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَبْوَابَ الْخَيْرَاتِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ يُمْكِنُ التَّقَرُّبُ إِلَيْهِ بِالطَّاعَاتِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ، فَهَذِهِ أُمُورٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْأَكْثَرِينَ، وَأَيْضًا فَلَعَلَّهُ حِينَ عَاهَدَ اللَّهَ تَعَالَى بِهَذَا الْعَهْدِ كَانَ مُسْلِمًا، ثُمَّ لَمَّا بَخِلَ بِالْمَالِ، وَلَمْ يَفِ بِالْعَهْدِ صَارَ مُنَافِقًا، وَلَفْظُ الْآيَةِ مُشْعِرٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ حَيْثُ قَالَ: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ مِنْ شَرْطِ هَذِهِ الْمُعَاهَدَةِ أَنْ يَحْصُلَ التَّلَفُّظُ بِهَا بِاللِّسَانِ، أَوْ لَا حَاجَةَ إِلَى التَّلَفُّظِ حَتَّى لَوْ نَوَاهُ بِقَلْبِهِ دَخَلَ تَحْتَ هَذِهِ الْمُعَاهَدَةِ؟ الْجَوَابُ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كُلُّ مَا ذَكَرَهُ بِاللِّسَانِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَلَكِنْ نَوَاهُ بِقَلْبِهِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْعَهْدِ. يُرْوَى عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سليمان قَالَ: أَصَابَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ فِي الْبَحْرِ، فَنَذَرَ قَوْمٌ مِنَّا أَنْوَاعًا مِنَ النُّذُورِ، وَنَوَيْتُ أَنَا شَيْئًا وَمَا تَكَلَّمْتُ بِهِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ الْبَصْرَةَ سَأَلْتُ أَبِي، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ فِ بِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ إِنَّ قَوْلَهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ كَانَ شَيْئًا نَوَوْهُ فِي أَنْفُسِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ/ تَعَالَى قَالَ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: هَذِهِ الْمُعَاهَدَةُ مُقَيَّدَةٌ بِمَا إِذَا حَصَلَ التَّلَفُّظُ بِهَا بِاللِّسَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ نُفُوسَهَا وَلَمْ يَتَلَفَّظُوا بِهِ» أَوْ لَفْظُ هَذَا مَعْنَاهُ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ إِخْبَارٌ عَنْ تَكَلُّمِهِ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَظَاهِرُهُ مُشْعِرٌ بِالْقَوْلِ بِاللِّسَانِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: لَنَصَّدَّقَنَّ الْمُرَادُ مِنْهُ إِخْرَاجُ مَالٍ، ثُمَّ إِنَّ إِخْرَاجَ الْمَالِ عَلَى قِسْمَيْنِ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ وَاجِبٍ. وَالْوَاجِبُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ وَجَبَ بِإِلْزَامِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً، كَإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ، وَإِخْرَاجِ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ، وَقِسْمٌ لَمْ يَجِبْ إِلَّا إِذَا الْتَزَمَهُ الْعَبْدُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ مِثْلُ النُّذُورِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ، فَقَوْلُهُ: لَنَصَّدَّقَنَّ هَلْ يَتَنَاوَلُ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ، أَوْ لَيْسَ الْأَمْرُ كذلك؟

وَالْجَوَابُ: قُلْنَا أَمَّا الصَّدَقَاتُ الَّتِي لَا تَكُونُ وَاجِبَةً، فَغَيْرُ دَاخِلَةٍ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: بَخِلُوا بِهِ وَالْبُخْلُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ مَنْعِ الْوَاجِبِ، وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّهُمْ بِهَذَا التَّرْكِ وَتَارِكُ الْمَنْدُوبِ لَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ. وَأَمَّا الْقِسْمَانِ الْبَاقِيَانِ، فَالَّذِي يَجِبُ بِإِلْزَامِ الشَّرْعِ دَاخِلٌ تَحْتَ الْآيَةِ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ مِثْلُ الزَّكَوَاتِ وَالْمَالِ الَّذِي يُحْتَاجُ إِلَى إِنْفَاقِهِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ وَالْغَزْوِ، وَالْمَالِ الَّذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ، كَانَ قَدِ الْتَزَمَ إِخْرَاجَ مَالٍ عَلَى سَبِيلِ النَّذْرِ؟ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي اللَّفْظِ لَيْسَ إِلَّا قَوْلَهُ: لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَهَذَا لَا يُشْعِرُ بِالنَّذْرِ، لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يُعَاهِدُ رَبَّهُ فِي أَنْ يَقُومَ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْإِنْفَاقَاتِ الْوَاجِبَةِ إِنْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الَّذِي لَزِمَهُمْ إِنَّمَا لَزِمَهُمْ بِسَبَبِ هَذَا الِالْتِزَامِ، وَالزَّكَاةُ لَا تَلْزَمُ بِسَبَبِ هَذَا الِالْتِزَامِ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُ بِسَبَبِ مِلْكِ النِّصَابِ وَحَوَلَانِ الْحَوْلِ. قُلْنَا: قَوْلُهُ: لَنَصَّدَّقَنَّ لَا يُوجِبُ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ، لِأَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ إِيقَاعِ هَذَا الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يُوجِبُ الْفَوْرَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: لَنَصَّدَّقَنَّ فِي وَقْتٍ كَمَا قَالُوا وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ أَيْ فِي أَوْقَاتِ لُزُومِ الصَّلَاةِ، فَخَرَجَ مِنَ التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ هَذَا الْعَهْدِ، إِخْرَاجُ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَجِبُ إِخْرَاجُهَا بِمُقْتَضَى إِلْزَامِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ بِمَا رُوِّينَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي حَقِّ مَنِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ كَمَا يُنَافِقُونَ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَكَذَلِكَ يُنَافِقُونَ رَبَّهُمْ فِيمَا يُعَاهِدُونَهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَقُومُونَ بِمَا يَقُولُونَ/ وَالْغَرَضُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِهِمْ بِالنِّفَاقِ، وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْفُصُولِ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا الْمُرَادُ مِنَ الْفَضْلِ فِي قَوْلِهِ: لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ إِيتَاءُ الْمَالِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، سَوَاءٌ كَانَ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ، أَوْ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْتَاجِ أَوْ بِغَيْرِهِمَا. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: كَيْفَ اشْتِقَاقُ لَنَصَّدَّقَنَّ الْجَوَابُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَصْلُ لَنَتَصَدَّقَنَّ. وَلَكِنَّ التَّاءَ أُدْغِمَتْ فِي الصَّادِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا. قَالَ اللَّيْثُ: الْمُصَّدِّقُ الْمُعْطِي وَالْمُتَصَدِّقُ السَّائِلُ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَالْفَرَّاءُ: هَذَا خَطَأٌ فَالْمُتَصَدِّقُ هُوَ الْمُعْطِي قَالَ تَعَالَى: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يُوسُفَ: 88] . السُّؤَالُ السَّادِسُ: مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ الْجَوَابُ: الصَّالِحُ ضِدُّ الْمُفْسِدِ، وَالْمُفْسِدُ عِبَارَةٌ عَنِ الَّذِي بَخِلَ بِمَا يَلْزَمُهُ فِي التَّكْلِيفِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الصَّالِحُ عِبَارَةً عَمَّا يَقُومُ بِمَا يَلْزَمُهُ فِي التَّكْلِيفِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ ثَعْلَبَةُ قَدْ عَاهَدَ اللَّهَ تَعَالَى لَئِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ أبواب الخير ليصدقن وليجعن، وَأَقُولُ التَّقْيِيدُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. بَلْ قَوْلُهُ: لَنَصَّدَّقَنَّ إِشَارَةٌ إِلَى إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ وَقَوْلُهُ: وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ إِشَارَةٌ إِلَى إِخْرَاجِ كُلِّ مَالٍ يَجِبُ إِخْرَاجُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِصِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ:

الصِّفَةُ الْأُولَى: الْبُخْلُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَنْعِ الْحَقِّ. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: التَّوَلِّي عَنِ الْعَهْدِ. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: الْإِعْرَاضُ عَنْ تَكَالِيفِ اللَّهِ وَأَوَامِرِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِعْلٌ وَلَا بُدَّ مِنْ إِسْنَادِهِ إِلَى شَيْءٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَالَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ هُوَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ، وَالْمُعَاهَدَةُ وَالتَّصَدُّقُ وَالصَّلَاحُ وَالْبُخْلُ وَالتَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضُ وَلَا يَجُوزُ إِسْنَادُ إِعْقَابِ النِّفَاقِ إِلَى الْمُعَاهَدَةِ أَوِ التَّصَدُّقِ أَوِ الصَّلَاحِ، لِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ أَعْمَالُ الْخَيْرِ فَلَا يَجُوزُ جَعْلُهَا مُؤَثِّرَةً فِي حُصُولِ النِّفَاقِ، وَلَا يَجُوزُ إِسْنَادُ هَذَا الْإِعْقَابِ إِلَى الْبُخْلِ وَالتَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ، لِأَنَّ حَاصِلَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ كَوْنُهُ تَارِكًا لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ مُؤَثِّرًا فِي حُصُولِ النِّفَاقِ فِي الْقَلْبِ، لِأَنَّ ذَلِكَ النِّفَاقَ عِبَارَةٌ عَنِ الْكُفْرِ وَهُوَ جَهْلٌ وَتَرْكُ بَعْضِ الْوَاجِبِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي حُصُولِ الْجَهْلِ فِي الْقَلْبِ. أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّ ترك الواجب عدم، والجهل وجود العدم/ لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي الْوُجُودِ. وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ هَذَا الْبُخْلَ وَالتَّوَلِّيَ وَالْإِعْرَاضَ قَدْ يُوجَدُ فِي حَقِّ كَثِيرٍ مِنَ الْفُسَّاقِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مَعَهُ النِّفَاقُ. وَأَمَّا ثَالِثًا: فَلِأَنَّ هَذَا التَّرْكَ لَوْ أَوْجَبَ حُصُولَ الْكُفْرِ فِي الْقَلْبِ لَأَوْجَبَهُ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا التَّرْكُ جَائِزًا شَرْعًا أَوْ كَانَ مُحَرَّمًا شَرْعًا، لِأَنَّ سَبَبَ اخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَا يُخْرِجُ الْمُؤَثِّرَ عَنْ كَوْنِهِ مُؤَثِّرًا. وَأَمَّا رَابِعًا: فَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ فَلَوْ كَانَ فِعْلُ الأعقاب مسند إِلَى الْبُخْلِ وَالتَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ لَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ فأعقبهم بخلهم وَإِعْرَاضِهِمْ وَتَوَلِّيهِمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ التَّوَلِّي وَحُصُولِ النِّفَاقِ فِي الْقَلْبِ بِسَبَبِ التَّوَلِّي وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَلَامٌ بَاطِلٌ. فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِسْنَادُ هَذَا الْإِعْقَابِ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا إِلَّا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَوَجَبَ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ، فَصَارَ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُعْقِبُ النِّفَاقَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَالِقَ الْكُفْرِ فِي الْقُلُوبِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَ الزَّجَّاجُ إِنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ لَمَّا ضَلُّوا فِي الْمَاضِي، فَهُوَ تَعَالَى أَضَلَّهُمْ عَنِ الدِّينِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ الْقَوْلَ بِأَنَّ قَوْلَهُ فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً مُسْنَدٌ إِلَى اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنَّهُ قَالَ: إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَلْقَوْنَهُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَأَعْقَبَهُمْ مُسْنَدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ أَيْ فَأَعْقَبَهُمُ الْعُقُوبَةَ عَلَى النِّفَاقِ، وَتِلْكَ الْعُقُوبَةُ هِيَ حُدُوثُ الْغَمِّ فِي قُلُوبِهِمْ وَضِيقُ الصَّدْرِ وَمَا يَنَالُهُمْ مِنَ الذُّلِّ وَالذَّمِّ، وَيَدُومُ ذَلِكَ بِهِمْ إِلَى الْآخِرَةِ. قُلْنَا: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا شُبْهَةٍ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَخْلُقُ الْكُفْرَ، قَابَلْنَا دَلَائِلَهُمْ بِدَلَائِلَ عَقْلِيَّةٍ، لَوْ وُضِعَتْ عَلَى الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ لَانْدَكَّتْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ: أَعْقَبْتُ فُلَانًا نَدَامَةً إِذَا صَيَّرْتَ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ ذَلِكَ. قَالَ الْهُذَلِيُّ: أَوْدَى بَنِيَّ وَأَعْقَبُونِي حَسْرَةً ... بَعْدَ الرقاد وعبرة لا تقلع ويقاتل: أَكَلَ فُلَانٌ أَكْلَةً أَعْقَبَتْهُ سَقَمًا، وَأَعْقَبَهُ اللَّهُ خَيْرًا. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ شَيْءٌ عَقِيبَ شَيْءٍ آخَرَ يُقَالُ أَعْقَبَهُ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَقْضَ الْعَهْدِ وَخُلْفَ الْوَعْدِ يُورِثُ النِّفَاقَ فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ

أَنْ يُبَالِغَ فِي الِاحْتِرَازِ عَنْهُ فَإِذَا عَاهَدَ اللَّهَ فِي أَمْرٍ فَلْيَجْتَهِدْ فِي الْوَفَاءِ بِهِ، وَمَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُوجِبُ النِّفَاقَ لَا مَحَالَةَ، وَتَمَسَّكَ فِيهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ثَلَاثٌ مَنْ/ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ» وَعَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تَقَبَّلُوا لِي سِتًّا أَتَقَبَّلْ لَكُمُ الْجَنَّةَ إِذَا حَدَّثْتُمْ فَلَا تَكْذِبُوا وَإِذَا وَعَدْتُمْ فَلَا تُخْلِفُوا وَإِذَا ائْتُمِنْتُمْ فَلَا تَخُونُوا وَكُفُّوا أَبْصَارَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وَفُرُوجَكُمْ. أَبْصَارَكُمْ عَنِ الْخِيَانَةِ وَأَيْدِيَكُمْ عَنِ السَّرِقَةِ وَفُرُوجَكُمْ عَنِ الزِّنَا» قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا ذَكَرَ قَوْلَهُ ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ فِي الْمُنَافِقِينَ خَاصَّةً الَّذِينَ حَدَّثُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَذَبُوهُ وَائْتَمَنَهُمْ عَلَى سِرِّهِ فَخَانُوهُ وَوَعَدُوا أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ فَأَخْلَفُوهُ، وَنُقِلَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ فَسَّرَ الْحَدِيثَ فَقَالَ: إِذَا حَدَّثَ عَنِ اللَّهِ كَذَبَ عَلَيْهِ وَعَلَى دِينِهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ كَمَا ذَكَرَهُ فِيمَنْ عَاهَدَ اللَّهَ وَإِذَا ائْتُمِنَ عَلَى دِينِ اللَّهِ خَانَ فِي السِّرِّ فَكَانَ قَلْبُهُ عَلَى خِلَافِ لِسَانِهِ وَنُقِلَ أَنَّ وَاصِلَ بْنَ عَطَاءٍ قَالَ: أَتَى الْحَسَنَ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَوْلَادَ يَعْقُوبَ حَدَّثُوهُ فِي قَوْلِهِمْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَكَذَبُوهُ ووعدوه في قولهم: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ فَأَخْلَفُوهُ وَائْتَمَنَهُمْ أَبُوهُمْ عَلَى يُوسُفَ فَخَانُوهُ فَهَلْ نَحْكُمُ بِكَوْنِهِمْ مُنَافِقِينَ؟ فَتَوَقَّفَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمُعَاهَدَ مَاتَ مُنَافِقًا، وَهَذَا الْخَبَرُ وَقَعَ مَخْبَرُهُ مُطَابِقًا لَهُ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ ثَعْلَبَةَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَنِي أَنْ أَقْبَلَ صَدَقَتَكَ، وَبَقِيَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، وَمَا قَبِلَ صَدَقَتَهُ أَحَدٌ حَتَّى مَاتَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَخْبَرَ هَذَا الْخَبَرِ وَقَعَ مُوَافِقًا، فَكَانَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ فَكَانَ مُعْجِزًا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: إِنَّ الْمُشَبِّهَةَ تَمَسَّكُوا فِي إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ قَالَ وَاللِّقَاءُ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الرُّؤْيَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ: إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَرَوْنَهُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللِّقَاءَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الرُّؤْيَةِ. قَالَ: وَالَّذِي يُقَوِّيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ لِيَقْطَعَ بِهَا حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ اللقاء هاهنا: لِقَاءُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعِقَابِ فَكَذَا هاهنا. وَالْقَاضِي اسْتَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ. وَأَقُولُ: أَنَا شَدِيدُ التَّعَجُّبِ مِنْ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الْأَفَاضِلِ كَيْفَ قَنِعَتْ نُفُوسُهُمْ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الضَّعِيفَةِ؟! وَذَلِكَ لِأَنَّا تَرَكْنَا حَمْلَ لَفْظِ اللِّقَاءِ عَلَى الرُّؤْيَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي هَذَا الْخَبَرِ لَدَلِيلٌ مُنْفَصِلٌ، فَلَمْ يَلْزَمْنَا ذَلِكَ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ. أَلَا تَرَى أَنَّا لَمَّا أَدْخَلْنَا التَّخْصِيصَ فِي بَعْضِ الْعُمُومَاتِ لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، لَمْ يَلْزَمْنَا مِثْلُهُ فِي جَمِيعِ الْعُمُومَاتِ أَنْ نُخَصِّصَهَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَكَمَا لَا يَلْزَمُ هَذَا لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ فَإِنْ قَالَ هَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَقْوَى لَوْ ثَبَتَ أَنَّ اللِّقَاءَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الرُّؤْيَةِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ. فَنَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ اللِّقَاءَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوُصُولِ وَمَنْ رَأَى شَيْئًا فَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ فَكَانَتِ/ الرُّؤْيَةُ لِقَاءً، كَمَا أَنَّ الْإِدْرَاكَ هُوَ الْبُلُوغُ. قَالَ تَعَالَى: قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشُّعَرَاءِ: 61] أَيْ لَمُلْحَقُونَ، ثم حملناه على الرؤية فكذا هاهنا، ثم نقول: لا شك أن اللقاء هاهنا لَيْسَ هُوَ الرُّؤْيَةَ، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً ... إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ أَيْ حُكْمَهُ وَقَضَاءَهُ، وَهُوَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ سَتَلْقَى عَمَلَكَ غَدًا، أَيْ تُجَازَى عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى عَاقَبَهُمْ بِتَحْصِيلِ ذَلِكَ النِّفَاقِ فِي قُلُوبِهِمْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ أَقْدَمُوا قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى خُلْفِ الْوَعْدِ وَعَلَى الْكَذِبِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَالسِّرُّ مَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ صُدُورُهُمْ، وَالنَّجْوَى مَا

[سورة التوبة (9) : آية 79]

يُفَاوِضُ فِيهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّجْوَةِ وَهُوَ الْكَلَامُ الْخَفِيُّ كَأَنَّ الْمُتَنَاجِيَيْنِ مَنَعَا إِدْخَالَ غَيْرِهِمَا مَعَهُمَا وَتَبَاعَدَا مِنْ غَيْرِهِمَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا [مَرْيَمَ: 52] وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا [يُوسُفَ: 80] وقوله: فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ... وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى [الْمُجَادَلَةِ: 9] وَقَوْلُهُ: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً [الْمُجَادَلَةِ: 12] . إِذَا عَرَفْتَ الْفَرْقَ بَيْنَ السِّرِّ وَالنَّجْوَى، فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ فَكَيْفَ يَتَجَرَّءُونَ عَلَى النِّفَاقِ الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ الِاسْتِسْرَارُ وَالتَّنَاجِي فِيمَا بَيْنَهُمْ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ حَالِهِمْ كَمَا يَعْلَمُ الظَّاهِرَ، وَأَنَّهُ يُعَاقِبُ عَلَيْهِ كَمَا يُعَاقِبُ عَلَى الظَّاهِرِ؟ ثُمَّ قَالَ: وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ وَالْعَلَّامُ مُبَالَغَةٌ فِي الْعَالِمِ، وَالْغَيْبُ مَا كَانَ غَائِبًا عَنِ الْخَلْقِ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَاتُهُ تَقْتَضِي الْعِلْمَ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الْعِلْمُ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فَيَجِبُ كَوْنُهُ عَالِمًا بِمَا فِي الضَّمَائِرِ وَالسَّرَائِرِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْإِخْفَاءُ مِنْهُ؟ وَنَظِيرُ لفظ علام الغيوب هاهنا قَوْلُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [الْمَائِدَةِ: 116] فَأَمَّا وَصْفُ اللَّهِ بِالْعَلَّامَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مُشْعِرٌ بِنَوْعِ تَكَلُّفٍ فِيهَا يعلم والتكلف في حق الله محال. [سورة التوبة (9) : آية 79] الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، وَهُوَ لَمْزُهُمْ مَنْ يَأْتِي بِالصَّدَقَاتِ طَوْعًا وَطَبْعًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَحَثَّ عَلَى أَنْ/ يَجْمَعُوا الصَّدَقَاتِ، فَجَاءَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ: كَانَ لِي ثَمَانِيَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَأَمْسَكْتُ لِنَفْسِي وَعِيَالِي أَرْبَعَةً وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ أَقْرَضْتُهَا رَبِّي، فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَفِيمَا أَمْسَكْتَ. قِيلَ: قَبِلَ اللَّهُ دُعَاءَ الرَّسُولِ فيه حتى صالحت امرأته ناضر عَنْ رُبُعِ الثُّمُنِ عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفًا، وَجَاءَ عُمَرُ بِنَحْوِ ذَلِكَ، وَجَاءَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ بِسَبْعِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، وَجَاءَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بِصَدَقَةٍ عَظِيمَةٍ، وَجَاءَ أَبُو عَقِيلٍ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وَقَالَ: آجَرْتُ اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَةَ نَفْسِي مِنْ رَجُلٍ لِإِرْسَالِ الْمَاءِ إِلَى نَخِيلِهِ، فَأَخَذْتُ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ، فَأَمْسَكْتُ أَحَدَهُمَا لِعِيَالِي وَأَقْرَضْتُ الْآخَرَ رَبِّي، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضْعِهِ فِي الصَّدَقَاتِ. فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى وَجْهِ الطَّعْنِ مَا جَاءُوا بِصَدَقَاتِهِمْ إِلَّا رِيَاءً وَسُمْعَةً. وَأَمَّا أَبُو عَقِيلٍ فَإِنَّمَا جَاءَ بِصَاعِهِ لِيُذْكَرَ مَعَ سَائِرِ الْأَكَابِرِ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ صَاعِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَالْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ اللَّمْزِ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ وَالْمُطَّوِّعُونَ الْمُتَطَوِّعُونَ، وَالتَّطَوُّعُ التَّنَفُّلُ، وَهُوَ الطَّاعَةُ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَسَبَبُ إِدْغَامِ التَّاءِ فِي الطَّاءِ قُرْبُ الْمَخْرَجِ. قَالَ اللَّيْثُ: الْجُهْدُ شَيْءٌ قَلِيلٌ يَعِيشُ بِهِ الْمُقِلُّ، قَالَ الزَّجَّاجُ: إِلَّا جُهْدَهُمْ وَجُهْدُهُمْ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الضَّمُّ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْفَتْحُ لِغَيْرِهِمْ، وَحَكَى ابْنُ السِّكِّيتِ عَنْهُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ الْجُهْدُ الطَّاقَةُ. تَقُولُ هَذَا جُهْدِي أَيْ طَاقَتِي. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالْمُرَادُ بِالْمُطَّوِّعِينَ فِي الصَّدَقَاتِ، أُولَئِكَ الْأَغْنِيَاءُ الَّذِينَ أَتَوْا بِالصَّدَقَاتِ الْكَثِيرَةِ وَبِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ أَبُو عَقِيلٍ حَيْثُ جَاءَ بِالصَّاعِ مِنَ التَّمْرِ. ثُمَّ حَكَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَخِرَ مِنْهُمْ.

[سورة التوبة (9) : آية 80]

وَاعْلَمْ أَنَّ إِخْرَاجَ الْمَالِ لِطَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّهِ، قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَمَا فِي الزَّكَوَاتِ وَسَائِرِ الْإِنْفَاقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَقَدْ يَكُونُ نَافِلَةً، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ الْآتِي بِالصَّدَقَةِ النَّافِلَةِ قَدْ يَكُونُ غَنِيًّا فَيَأْتِي بِالْكَثِيرِ، كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. وَقَدْ يَكُونُ فَقِيرًا فَيَأْتِي بِالْقَلِيلِ وَهُوَ جُهْدُ الْمُقِلِّ وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ كَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ وَاعْتِبَارُ حَالِ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ. فَقَدْ يَكُونُ الْقَلِيلُ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْفَقِيرُ أَكْثَرَ مَوْقِعًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْكَثِيرِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْغَنِيُّ. ثُمَّ إِنَّ أُولَئِكَ الْجُهَّالَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مَا كَانَ يَتَجَاوَزُ نَظَرُهُمْ عَنْ ظَوَاهِرِ الْأُمُورِ فَعَيَّرُوا ذَلِكَ الْفَقِيرَ الَّذِي جَاءَ بِالصَّدَقَةِ الْقَلِيلَةِ، وَذَلِكَ التَّعْيِيرُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنْ يَقُولُوا إِنَّهُ لِفَقْرِهِ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، فَكَيْفَ يَتَصَدَّقُ بِهِ؟ إِلَّا أَنَّ هَذَا مِنْ مُوجِبَاتِ الْفَضِيلَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الْحَشْرِ: 9] وَثَانِيهَا: أَنْ يَقُولُوا أَيُّ أَثَرٍ لِهَذَا الْقَلِيلِ؟ وَهَذَا أَيْضًا جَهْلٌ، لِأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَمَّا لَمْ يَقْدِرْ إِلَّا عَلَيْهِ فَإِذَا جَاءَ بِهِ فَقَدْ بَذَلَ كُلَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَهُوَ أَعْظَمُ مَوْقِعًا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ عَمَلِ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ قَطَعَ تَعَلُّقَ قَلْبِهِ عَمَّا كَانَ فِي يَدِهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَاكْتَفَى بِالتَّوَكُّلِ عَلَى الْمَوْلَى. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَقُولُوا إِنَّ هَذَا الْفَقِيرَ إِنَّمَا جَاءَ بِهَذَا الْقَلِيلِ لِيَضُمَّ نَفْسَهُ إِلَى الْأَكَابِرِ مِنَ النَّاسِ فِي هَذَا الْمَنْصِبِ، وَهَذَا أَيْضًا جَهْلٌ، لِأَنَّ سَعْيَ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَضُمَّ نَفْسَهُ إِلَى أَهْلِ الْخَيْرِ وَالدِّينِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْعَى فِي أَنْ يَضُمَّ نَفْسَهُ إِلَى أَهْلِ الْكَسَلِ وَالْبَطَالَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ فَقَدْ عَرَفْتَ الْقَانُونَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى قَبِلَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ مَا أَظْهَرُوهُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ مَعَ أَنَّهُ لَا يُثِيبُهُمْ عليها، فكان ذلك كالسخرية. [سورة التوبة (9) : آية 80] اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ الْأُولَى فِي الْمُنَافِقِينَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكُمْ، وَاشْتَغَلَ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِغْفَارَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا يَأْتُونَ رَسُولَ اللَّهِ، فَيَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَقُولُونَ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَمَا أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَرَوَى الْأَصَمُّ: أَنَّهُ كَانَ عَبْدُ الله بن أبي بن سَلُولَ إِذَا خَطَبَ الرَّسُولُ. قَامَ وَقَالَ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ أَكْرَمَهُ اللَّهُ وَأَعَزَّهُ وَنَصَرَهُ، فَلَمَّا قَامَ ذَلِكَ الْمَقَامَ بَعْدَ أُحُدٍ قَالَ لَهُ عُمَرُ: اجْلِسْ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، فَقَدْ ظَهَرَ كُفْرُكَ وَجَبَهَهُ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، فَخَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يُصَلِّ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ. فَقَالَ لَهُ: مَا صَرَفَكَ؟ فَحَكَى الْقِصَّةَ. فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ يَسْتَغْفِرْ لَكَ. فَقَالَ: مَا أُبَالِي أَسْتَغْفَرَ لِي أَوْ لَمْ يَسْتَغْفِرْ لِي فَنَزَلَ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ [الْمُنَافِقُونَ: 5] وَجَاءَ الْمُنَافِقُونَ بَعْدَ أُحُدٍ يَعْتَذِرُونَ وَيَتَعَلَّلُونَ بِالْبَاطِلِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وروى الشَّعْبِيُّ قَالَ: دَعَا عَبْدُ اللَّهِ/ بْنُ عَبْدِ الله بن أبي بن سَلُولَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِنَازَةِ أَبِيهِ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ أَنْتَ؟» فَقَالَ: أَنَا الْحُبَابُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَلْ أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، إِنَّ الْحُبَابَ هُوَ الشَّيْطَانُ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ

قَوْلِهِ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ كَالدَّلَالَةِ عَلَى طَلَبِ الْقَوْمِ مِنْهُ الِاسْتِغْفَارَ، وَقَدْ حَكَيْتُ مَا رُوِيَ فِيهِ مِنَ الْأَخْبَارِ، وَالْأَقْرَبُ فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَلْمِزُونَ هُمُ الَّذِينَ طَلَبُوا الِاسْتِغْفَارَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّ التَّخْصِيصَ بِالْعَدَدِ الْمُعَيَّنِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَالَ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ الْعَدَدِ بِخِلَافِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَائِلِينَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ. قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَاللَّهِ لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ» وَلَمْ يَنْصَرِفْ عَنْهُ حَتَّى نَزَلَ قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [الْمُنَافِقُونَ: 6] الْآيَةَ فَكَفَّ عَنْهُمْ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِالْعَكْسِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُمُ الْبَتَّةَ. ثَبَتَ أَنَّ الْحَالَ فِيمَا وَرَاءَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ مُسَاوٍ لِلْحَالِ فِي الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْعَدَدِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيمَا وَرَاءَهُ بِخِلَافِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اشْتَغَلَ بِالِاسْتِغْفَارِ لِلْقَوْمِ فَمَنَعَهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ طَلَبُوا مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فَاللَّهُ تَعَالَى نَهَاهُ عَنْهُ وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَنْهِيِّ مُقَدَّمًا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا اشْتَغَلَ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُنَافِقَ كَافِرٌ، وَقَدْ ظَهَرَ فِي شَرْعِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ لَا يَجُوزُ. وَلِهَذَا السَّبَبِ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا فِي قَوْلِهِ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الْمُمْتَحَنَةِ: 4] وَإِذَا كَانَ هَذَا مَشْهُورًا فِي الشَّرْعِ فَكَيْفَ يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ؟ الثَّانِي: أَنَّ اسْتِغْفَارَ الْغَيْرِ لِلْغَيْرِ لَا يَنْفَعُهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مُصِرًّا عَلَى الْقُبْحِ وَالْمَعْصِيَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُنَافِقِينَ يَجْرِي مَجْرَى إِغْرَائِهِمْ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الذَّنْبِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا كَانَ لَا يُجِيبُهُ إِلَيْهِ بَقِيَ دُعَاءُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرْدُودًا عِنْدَ اللَّهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ نُقْصَانَ مَنْصِبِهِ. الْخَامِسُ: أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ لَوْ كَانَ مَقْبُولًا مِنَ الرَّسُولِ لَكَانَ قَلِيلُهُ مِثْلَ كَثِيرِهِ فِي حُصُولِ الْإِجَابَةِ. فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ مَنَعَهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْعَدَدِ تَحْدِيدَ الْمَنْعِ، بَلْ هُوَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِمَنْ سَأَلَهُ الْحَاجَةَ: لَوْ سَأَلْتَنِي سَبْعِينَ مَرَّةً لَمْ أَقْضِهَا لَكَ، وَلَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا زاد قضاها فكذا هاهنا، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ ذَلِكَ/ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ فَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا لَا يَنْفَعُهُمُ اسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ وَإِنْ بَلَغَ سَبْعِينَ مَرَّةً، كُفْرُهُمْ وَفِسْقُهُمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى السَّبْعِينَ، فَصَارَ هَذَا التَّعْلِيلُ شَاهِدًا بِأَنَّ الْمُرَادَ إِزَالَةُ الطَّمَعِ فِي أَنْ يَنْفَعَهُمُ اسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَيُؤَكِّدُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّ فِسْقَهُمْ مَانِعٌ مِنَ الْهِدَايَةِ. فَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ مَا ذَكَرْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، السَّبْعُونَ عِنْدَ الْعَرَبِ غَايَةٌ مُسْتَقْصَاةٌ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ جَمْعِ الْسَبْعَةِ عَشْرَ مَرَّاتٍ، والسبعة عدد شريف لأن عدد السموات وَالْأَرْضِ وَالْبِحَارِ وَالْأَقَالِيمِ وَالنُّجُومِ وَالْأَعْضَاءِ، هُوَ هَذَا الْعَدَدُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الْعَدَدُ إِنَّمَا خُصَّ بالذكر هاهنا لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَبَّرَ عَلَى حَمْزَةَ سَبْعِينَ تَكْبِيرَةً، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً بِإِزَاءِ صَلَاتِكَ عَلَى حمزة، وقيل: الأصل فيه قوله تعالى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [الْبَقَرَةِ: 261] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الحسنة

[سورة التوبة (9) : الآيات 81 إلى 82]

بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةٍ» فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْعَدَدَ فِي مَعْرِضِ التَّضْعِيفِ لِرَسُولِهِ صار أصلا فيه. [سورة التوبة (9) : الآيات 81 الى 82] فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ قَبَائِحِ أعمال المنافقين، وهو فرحهم بالعقود وَكَرَاهَتُهُمُ الْجِهَادَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَالْمُخَلَّفُ الْمَتْرُوكُ مِمَّنْ مَضَى. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمُ احْتَالُوا حَتَّى تَخَلَّفُوا، فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ فَرِحَ الْمُتَخَلِّفُونَ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنَعَ أَقْوَامًا مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ وَيُشَوِّشُونَ، فَهَؤُلَاءِ كَانُوا مُخَلَّفِينَ لَا مُتَخَلِّفِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّ أُولَئِكَ الْمُتَخَلِّفِينَ صَارُوا مُخَلَّفِينَ فِي الْآيَةِ الَّتِي تَأْتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [التَّوْبَةِ: 83] فَلَمَّا مَنَعَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهُ صَارُوا بِهَذَا السَّبَبِ مُخَلَّفِينَ. الثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ يَتَخَلَّفُ عَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ خُرُوجِهِ إِلَى الْجِهَادِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُخَلَّفٌ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَنْهَضْ فَبَقِيَ وَأَقَامَ. وَقَوْلُهُ: بِمَقْعَدِهِمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ الْمَدِينَةَ، فَعَلَى هَذَا الْمَقْعَدُ اسْمٌ لِلْمَكَانِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بِمَقْعَدِهِمْ بِقُعُودِهِمْ وَعَلَى هَذَا، هُوَ اسْمٌ لِلْمَصْدَرِ. وَقَوْلُهُ: خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ قُطْرُبٍ وَالْمُؤَرِّجِ وَالزَّجَّاجِ، يَعْنِي مُخَالَفَةً لِرَسُولِ اللَّهِ حِينَ سَارَ وَأَقَامُوا. قَالُوا: وَهُوَ مَنْصُوبٌ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى بِأَنْ قَعَدُوا لِمُخَالَفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّانِي: قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ خِلافَ بِمَعْنَى خَلْفَ، وَإِنَّ يُونُسَ رَوَاهُ عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَرَ وَمَعْنَاهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ، وَيُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، الْخِلَافُ اسْمٌ لِلْجِهَةِ الْمُعَيَّنَةِ كَالْخَلْفِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى قُدَّامِهِ فَجِهَةُ خَلْفِهِ مُخَالِفَةٌ لِجِهَةِ قُدَّامِهِ فِي كَوْنِهَا جِهَةً مُتَوَجِّهًا إِلَيْهَا، وَخِلَافَ بِمَعْنَى خَلْفَ مُسْتَعْمَلٌ أَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِلْأَحْوَصِ: عَقَبَ الرَّبِيعُ خِلَافَهُمْ فَكَأَنَّمَا ... بَسَطَ الشَّوَاطِبُ بَيْنَهُنَّ حَصِيرَا وَقَوْلُهُ: وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ فَرِحُوا بِسَبَبِ التَّخَلُّفِ وَكَرِهُوا الذَّهَابَ إِلَى الْغَزْوِ. وَاعْلَمْ أن الفرح بالإقامة يدل عَلَى كَرَاهَةِ الذَّهَابِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَعَادَهُ لِلتَّأْكِيدِ، وَأَيْضًا لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ مَالَ طَبْعُهُ إِلَى الْإِقَامَةِ لِأَجْلِ إِلْفِهِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ وَاسْتِئْنَاسِهِ بِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَكَرِهَ الْخُرُوجَ إِلَى الْغَزْوِ لِأَنَّهُ تَعْرِيضٌ لِلْمَالِ وَالنَّفْسِ لِلْقَتْلِ وَالْإِهْدَارِ، وَأَيْضًا مِمَّا مَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْخُرُوجِ شِدَّةُ الْحَرِّ فِي وَقْتِ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ. فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا السَّبَبِ الْأَخِيرِ بِقَوْلِهِ: قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ أَيْ إِنَّ بَعْدَ هَذِهِ الدَّارِ دَارًا أُخْرَى، وَإِنَّ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ حَيَاةً أُخْرَى، وَأَيْضًا هَذِهِ مَشَقَّةٌ مُنْقَضِيَةٌ، وَتِلْكَ مَشَقَّةٌ بَاقِيَةٌ، وَرَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لبعضهم:

[سورة التوبة (9) : آية 83]

مَسَرَّةُ أَحْقَابٍ تَلَقَّيْتُ بَعْدَهَا ... مَسَاءَةَ يَوْمٍ إِنَّهَا شِبْهُ أَنْصَابِ فَكَيْفَ بِأَنْ تَلْقَى مَسَرَّةَ سَاعَةٍ ... وَرَاءَ تَقَضِّيهَا مَسَاءَةَ أَحْقَابِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً وَهَذَا وَإِنْ وَرَدَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ إِلَّا أَنَّ مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ سَتَحْصُلُ هَذِهِ الْحَالَةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ، وَإِنْ فَرِحُوا وَضَحِكُوا فِي كُلِّ عُمُرِهِمْ، فَهَذَا قَلِيلٌ لِأَنَّ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا قَلِيلَةٌ، وَأَمَّا حُزْنُهُمْ وَبُكَاؤُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَكَثِيرٌ، لِأَنَّهُ عِقَابٌ دَائِمٌ لَا يَنْقَطِعُ، وَالْمُنْقَطِعُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدَّائِمِ قَلِيلٌ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً قَالَ الزَّجَّاجُ: قَوْلُهُ: جَزاءً مَفْعُولٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى وَلْيَبْكُوا لِهَذَا الْغَرَضِ. وَقَوْلُهُ: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أَيْ فِي الدُّنْيَا مِنَ النِّفَاقِ وَاسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِ الْعَبْدِ مُوجِدًا لِأَفْعَالِهِ، وَعَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَوْصَلَ الضَّرَرَ إِلَيْهِمِ ابْتِدَاءً لَا بِوَاسِطَةِ كَسْبِهِمْ لَكَانَ ظَالِمًا، مَشْهُورٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ مرارا تغني عن الإعادة. [سورة التوبة (9) : آية 83] فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مَخَازِيَ الْمُنَافِقِينَ وَسُوءَ طَرِيقَتِهِمْ بَيَّنَ بعد ما عَرَّفَ بِهِ الرَّسُولَ أَنَّ الصَّلَاحَ فِي أَنْ لَا يَسْتَصْحِبَهُمْ فِي غَزَوَاتِهِ، لِأَنَّ خُرُوجَهُمْ مَعَهُ يُوجِبُ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَسَادِ. فَقَالَ: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ أَيْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً قَوْلُهُ: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ يُرِيدُ إِنْ رَدَّكَ اللَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَمَعْنَى الرَّجْعِ مَصِيرُ الشَّيْءِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، يُقَالُ رَجَعْتُهُ رَجْعًا كَقَوْلِكَ رَدَدْتُهُ رَدًّا. وَقَوْلُهُ: إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ إِنَّمَا خَصَّصَ لِأَنَّ جَمِيعَ مَنْ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ مَا كَانُوا مُنَافِقِينَ، بَلْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُخْلِصِينَ مَعْذُورِينَ. وَقَوْلُهُ: فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ أَيْ لِلْغَزْوِ مَعَكَ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً إِلَى غَزْوَةٍ، وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى الذَّمِّ وَاللَّعْنِ لَهُمْ، وَمَجْرَى إِظْهَارِ نِفَاقِهِمْ وَفَضَائِحِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَرْغِيبَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجِهَادِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ إِذَا مُنِعُوا مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْغَزْوِ بَعْدَ إِقْدَامِهِمْ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ، كَانَ ذَلِكَ تَصْرِيحًا بِكَوْنِهِمْ خَارِجِينَ عَنِ الْإِسْلَامِ/ مَوْصُوفِينَ بِالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا مَنَعَهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ حَذَرًا مِنْ مَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ وَخِدَاعِهِمْ، فَصَارَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ جَارِيًا مَجْرَى اللَّعْنِ وَالطَّرْدِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها إِلَى قَوْلِهِ: قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا [الْفَتْحِ: 15] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَلَّلَ ذَلِكَ الْمَنْعَ بِقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْقُعُودُ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، يَعْنِي أَنَّ الْحَاجَةَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى إِلَى مُوَافَقَتِكُمْ كَانَتْ أَشَدَّ، وَبَعْدَ ذَلِكَ زَالَتْ تِلْكَ الْحَاجَةُ، فَلَمَّا تَخَلَّفْتُمْ عِنْدَ مَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَى حُضُورِكُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا نَقْبَلُكُمْ، وَلَا نَلْتَفِتُ إِلَيْكُمْ، وَفِي اللَّفْظِ بَحْثٌ ذَكَرَهُ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: مَرَّةٍ فِي أَوَّلَ مَرَّةٍ وُضِعَتْ مَوْضِعَ الْمَرَّاتِ، ثُمَّ أُضِيفَ لَفْظُ الْأَوَّلِ إِلَيْهَا، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَرَّاتِ، فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ أُولَى مَرَّةٍ. وَأَجَابَ: عَنْهُ بِأَنَّ أَكْثَرَ اللُّغَتَيْنِ أن يقال: عند أَكْبَرُ النِّسَاءِ، وَلَا يُقَالُ هِنْدٌ كُبْرَى النِّسَاءِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْخَالِفِ أَقْوَالًا: الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَخْفَشُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: الْخَالِفُونَ جَمْعٌ. وَاحِدُهُمْ خَالِفٌ، وَهُوَ مَنْ يَخْلُفُ الرَّجُلَ فِي قَوْمِهِ، وَمَعْنَاهُ مَعَ الْخَالِفِينَ مِنَ الرِّجَالِ

[سورة التوبة (9) : آية 84]

الَّذِينَ يَخْلُفُونَ فِي الْبَيْتِ، فَلَا يَبْرَحُونَ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَالِفِينَ مُفَسَّرٌ بِالْمُخَالِفِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ يُقَالُ عَبْدٌ خَالِفٌ وَصَاحِبٌ خَالِفٌ إِذَا كَانَ مُخَالِفًا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: فُلَانٌ خَالَفَهُ أَهْلُ بَيْتِهِ إِذَا كَانَ مُخَالِفًا لَهُمْ. وَقَالَ اللَّيْثُ هَذَا الرَّجُلُ خَالِفَةٌ، أَيْ مُخَالِفٌ كَثِيرُ الْخِلَافِ، وَقَوْمٌ خَالِفُونَ، فَإِذَا جَمَعْتَ قُلْتَ الْخَالِفُونَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْخَالِفُ هُوَ الْفَاسِدُ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ: خَلَفَ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ يَخْلُفُ خُلُوفًا إِذَا فَسَدَ، وَخَلَفَ اللبن وخلف النبيذ إِذَا فَسَدَ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ: فَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّفْظَ يَصْلُحُ حَمْلُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، لِأَنَّ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِجَمِيعِ هَذِهِ الصِّفَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ بَعْضِ مُتَعَلِّقِيهِ مَكْرٌ وَخِدَاعٌ وَكَيْدٌ وَرَآهُ مُشَدَّدًا فِيهِ مُبَالَغًا فِي تَقْرِيرِ مُوجِبَاتِهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ الْعَلَقَةَ بَيْنَهُ وبينه، وأن يحترز عن مصاحبته. [سورة التوبة (9) : آية 84] وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يَسْعَى فِي تَخْذِيلِهِمْ وَإِهَانَتِهِمْ وَإِذْلَالِهِمْ، فَالَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَهُوَ مَنْعُهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهُ إِلَى الْغَزَوَاتِ سَبَبٌ قَوِيٌّ مِنْ أَسْبَابِ إِذْلَالِهِمْ وَإِهَانَتِهِمْ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ مَنْعُ الرَّسُولِ مِنْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ، سَبَبٌ آخَرُ قَوِيٌّ فِي إِذْلَالِهِمْ وَتَخْذِيلِهِمْ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ لما اشتكى عبد الله بن أبي بن سَلُولَ عَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ إِذَا مَاتَ وَيَقُومَ عَلَى قَبْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَطْلُبُ مِنْهُ قَمِيصَهُ لِيُكَفَّنَ فِيهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْقَمِيصَ الْفَوْقَانِيَّ فَرَدَّهُ وَطَلَبَ الَّذِي يَلِي جِلْدَهُ لِيُكَفَّنَ فِيهِ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لِمَ تُعْطِي قَمِيصَكَ الرِّجْسَ النَّجِسَ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ قَمِيصِي لَا يُغْنِي عَنْهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَ بِهِ أَلْفًا فِي الْإِسْلَامِ» وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ لَا يُفَارِقُونَ عَبْدَ اللَّهِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ يَطْلُبُ هَذَا الْقَمِيصَ وَيَرْجُو أَنْ يَنْفَعَهُ، أَسْلَمَ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ أَلْفٌ. فَلَمَّا مَاتَ جَاءَ ابْنُهُ يَعْرِفُهُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِابْنِهِ: «صَلِّ عَلَيْهِ وَادْفِنْهُ» فَقَالَ: إِنْ لَمْ تُصَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ، فَقَامَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَرُ فَحَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ لِئَلَّا يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأَخَذَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِثَوْبِهِ وَقَالَ: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى مَنْقَبَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ مَنَاقِبِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَحْيَ نَزَلَ عَلَى وَفْقِ قَوْلِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا آيَةُ أَخْذِ الْفِدَاءِ عَنْ أُسَارَى بَدْرٍ وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُهُ. وَثَانِيهَا: آيَةُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ. وَثَالِثُهَا: آيَةُ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ. وَرَابِعُهَا: آيَةُ أَمْرِ النِّسْوَانِ بِالْحِجَابِ. وَخَامِسُهَا: هَذِهِ الْآيَةُ. فَصَارَ نُزُولُ الْوَحْيِ عَلَى مُطَابَقَةِ قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْصِبًا عَالِيًا وَدَرَجَةً رَفِيعَةً لَهُ فِي الدِّينِ. فَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَقِّهِ: «لَوْ لَمْ أُبْعَثْ لَبُعِثْتَ يَا عُمَرُ نَبِيًّا» . فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الرَّسُولَ رَغِبَ فِي أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ كَوْنَهُ كَافِرًا وَقَدْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ، وَأَنَّ صَلَاةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ تَجْرِي مَجْرَى الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُ، وَأَيْضًا إِذَا صَلَّى عَلَيْهِ فَقَدْ دَعَا لَهُ، وَذَلِكَ مَحْظُورٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمَهُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لِلْكُفَّارِ الْبَتَّةَ، وَأَيْضًا دَفْعُ الْقَمِيصِ إِلَيْهِ يوجب إعزازه؟

وَالْجَوَابُ: لَعَلَّ السَّبَبَ فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ مِنَ الرَّسُولِ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ قَمِيصَهُ الَّذِي مَسَّ جِلْدَهُ لِيُدْفَنَ فِيهِ، غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَى الْإِيمَانِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ وَقْتٌ يَتُوبُ فِيهِ الْفَاجِرُ وَيُؤْمِنُ فِيهِ الْكَافِرُ، فَلَمَّا رَأَى مِنْهُ إِظْهَارَ الْإِسْلَامِ وَشَاهَدَ مِنْهُ هَذِهِ الْأَمَارَةَ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى دُخُولِهِ فِي الْإِسْلَامِ، غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ صَارَ مُسْلِمًا، فَبَنَى عَلَى هَذَا الظَّنِّ وَرَغِبَ فِي أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ وَنِفَاقِهِ، امْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ/ عَلَيْهِ. وَأَمَّا دَفْعُ الْقَمِيصِ إِلَيْهِ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَبَّاسَ عَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُخِذَ أَسِيرًا بِبَدْرٍ، لَمْ يَجِدُوا لَهُ قَمِيصًا، وَكَانَ رَجُلًا طَوِيلًا، فَكَسَاهُ عَبْدُ اللَّهِ قَمِيصَهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لَهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، إِنَّا لَا نَنْقَادُ لِمُحَمَّدٍ وَلَكِنَّا نَنْقَادُ لَكَ، فَقَالَ لَا، إِنَّ لِي فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةً حَسَنَةً، فَشَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ لَهُ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ أَنْ لَا يَرُدَّ سَائِلًا بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضُّحَى: 10] فَلَمَّا طَلَبَ الْقَمِيصَ مِنْهُ دَفَعَهُ إِلَيْهِ لِهَذَا الْمَعْنَى. الرَّابِعُ: أَنَّ مَنْعَ الْقَمِيصِ لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الْكَرَمِ. الْخَامِسُ: أَنَّ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، كَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَأَنَّ الرَّسُولَ أَكْرَمَهُ لِمَكَانِ ابْنِهِ. السَّادِسُ: لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ أَنَّكَ إِذَا دَفَعْتَ قَمِيصَكَ إِلَيْهِ صَارَ ذَلِكَ حَامِلًا لِأَلْفِ نَفَرٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ فَفَعَلَ ذَلِكَ لِهَذَا الْغَرَضِ، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا شَاهَدُوا ذَلِكَ أَسْلَمَ أَلْفٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. السَّابِعُ: أَنَّ الرَّحْمَةَ وَالرَّأْفَةَ كَانَتْ غَالِبَةً عَلَيْهِ كَمَا قَالَ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 107] وَقَالَ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 159] فَامْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ رِعَايَةً لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَدَفَعَ إِلَيْهِ الْقَمِيصَ لِإِظْهَارِ الرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً قَالَ الْوَاحِدِيُّ: ماتَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِلنَّكِرَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَيِّتٍ وَقَوْلُهُ: أَبَداً مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَحَدٍ وَالتَّقْدِيرُ وَلَا تُصَلِّ أَبَدًا عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: ولا تصل أبدا يحتمل تأبيد النفي ويحتمل تأبيد الْمَنْفِيِّ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ قَرَائِنَ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مَنْعُهُ مِنْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَنْعًا كُلِّيًّا دَائِمًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دَفَنَ الْمَيِّتَ وَقَفَ عَلَى قَبْرِهِ وَدَعَا لَهُ، فمنع هاهنا مِنْهُ. الثَّانِي: قَالَ الْكَلْبِيُّ لَا تَقُمْ بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِ قَبْرِهِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ، قَامَ فُلَانٌ بِأَمْرِ فُلَانٍ إِذَا كَفَاهُ أَمْرَهُ وَتَوَلَّاهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَلَّلَ الْمَنْعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالْقِيَامِ عَلَى قَبْرِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْفِسْقُ أَدْنَى حَالًا مِنَ الْكُفْرِ، وَلَمَّا ذَكَرَ فِي تَعْلِيلِ هَذَا النَّهْيِ كَوْنَهُ كَافِرًا فَمَا الْفَائِدَةُ فِي وَصْفِهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ فَاسِقًا؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْكَافِرُ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا فِي دِينِهِ. وَقَدْ يَكُونُ فَاسِقًا فِي دِينِهِ خَبِيثًا مَمْقُوتًا عِنْدَ قَوْمِهِ، وَالْكَذِبُ وَالنِّفَاقُ وَالْخِدَاعُ وَالْمَكْرُ وَالْكَيْدُ، أَمْرٌ مُسْتَقْبَحٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، فَالْمُنَافِقُونَ لَمَّا كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْفِسْقِ بَعْدَ أَنْ وَصَفَهُمْ بِالْكُفْرِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ/ طَرِيقَةَ النِّفَاقِ طَرِيقَةٌ مَذْمُومَةٌ عِنْدَ كُلِّ أَهْلِ الْعَالَمِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَلَيْسَ أَنَّ الْمُنَافِقَ يُصَلَّى عَلَيْهِ إِذَا أَظْهَرَ الْإِيمَانَ مَعَ قِيَامِ الْكُفْرِ فِيهِ؟

[سورة التوبة (9) : آية 85]

وَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّكَالِيفَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظَّاهِرِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ» . السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ تَصْرِيحٌ بِكَوْنِ ذَلِكَ النَّهْيِ مُعَلَّلًا بِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَعْلِيلَ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ قَدِيمٌ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُحْدَثَةٌ، وَتَعْلِيلُ الْقَدِيمِ بِالْمُحْدَثِ مُحَالٌ. وَالْجَوَابُ: الْكَلَامُ فِي أَنَّ تَعْلِيلَ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَصَالِحِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ بَحْثٌ طَوِيلٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هذا الظاهر يدل عليه. [سورة التوبة (9) : آية 85] وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ سَبَقَ ذِكْرُهَا بِعَيْنِهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَذُكِرَتْ هاهنا، وَقَدْ حَصَلَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي أَلْفَاظٍ: فَأَوَّلُهَا: فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَالَ: فَلا تُعْجِبْكَ بِالْفَاءِ. وَهَهُنَا قَالَ: وَلا تُعْجِبْكَ بِالْوَاوِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قال هناك أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ وهاهنا كَلِمَةُ (لَا) مَحْذُوفَةٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وهاهنا حَذَفَ اللَّامَ وَأَبْدَلَهَا بِكَلِمَةِ (أَنْ) وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ قال هناك فِي الْحَياةِ وهاهنا حَذَفَ لَفْظَ الْحَيَاةِ وَقَالَ: فِي الدُّنْيا فَقَدْ حَصَلَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ، فَوَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَذْكُرَ فَوَائِدَ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ فِي التَّفَاوُتِ، ثُمَّ نَذْكُرَ فَائِدَةَ هَذَا التَّكْرِيرِ. أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ: أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مِنَ التَّفَاوُتِ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قَوْلَهُ: فَلا تُعْجِبْكَ بِالْفَاءِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَبِالْوَاوِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، فَالسَّبَبُ أَنَّ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ كَارِهِينَ لِلْإِنْفَاقِ، وَإِنَّمَا كَرِهُوا ذَلِكَ الْإِنْفَاقَ لِكَوْنِهِمْ مُعْجَبِينَ/ بِكَثْرَةِ تِلْكَ الْأَمْوَالِ. فَلِهَذَا الْمَعْنَى نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ الْإِعْجَابِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، فَقَالَ: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ وأما هاهنا فَلَا تَعَلُّقَ لِهَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ فَجَاءَ بِحَرْفِ الْوَاوِ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ فَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّرْتِيبِ يُبْتَدَأُ بِالْأَدْوَنِ ثُمَّ يُتَرَقَّى إِلَى الْأَشْرَفِ، فَيُقَالُ لَا يُعْجِبُنِي أَمْرُ الْأَمِيرِ وَلَا أَمْرُ الْوَزِيرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ إِعْجَابُ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ بِأَوْلَادِهِمْ فَوْقَ إِعْجَابِهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهُمْ. أَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وهاهنا قَالَ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ فَالْفَائِدَةُ فِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ التَّعْلِيلَ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، وَأَنَّهُ أَيْنَمَا وَرَدَ حَرْفُ التَّعْلِيلِ فَمَعْنَاهُ «أَنْ» كَقَوْلِهِ: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ [الْبَيِّنَةِ: 5] أَيْ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا بأن يَعْبُدُوا اللَّهَ. وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهاهنا ذَكَرَ فِي الدُّنْيا وَأَسْقَطَ لَفْظَ الْحَيَاةِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بَلَغَتْ فِي الْخِسَّةِ إِلَى أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ أَنْ تُسَمَّى حَيَاةً، بَلْ يَجِبُ الِاقْتِصَارُ عِنْدَ

[سورة التوبة (9) : الآيات 86 إلى 87]

ذِكْرِهَا عَلَى لَفْظِ الدُّنْيَا تَنْبِيهًا عَلَى كَمَالِ دَنَاءَتِهَا، فَهَذِهِ وُجُوهٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَالْعَالِمُ بِحَقَائِقِ الْقُرْآنِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ بَيَانُ حِكْمَةِ التَّكْرِيرِ فَهُوَ أَنَّ أَشَدَّ الْأَشْيَاءِ جَذْبًا لِلْقُلُوبِ وَجَلْبًا لِلْخَوَاطِرِ، إِلَى الِاشْتِغَالِ بِالدُّنْيَا، هُوَ الِاشْتِغَالُ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ يَجِبُ التَّحْذِيرُ عَنْهُ مرة بعد أُخْرَى، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ فِي الْمَطْلُوبِيَّةِ وَالْمَرْغُوبِيَّةِ لِلرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ هُوَ مَغْفِرَةَ اللَّهِ تَعَالَى، لَا جَرَمَ أَعَادَ اللَّهُ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مَرَّتَيْنِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالتَّكْرِيرُ يَكُونُ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ فَهَهُنَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّحْذِيرِ، وَفِي آية المغفرة للمبالغة في التفريح، وَقِيلَ أَيْضًا إِنَّمَا كَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْآيَةِ الْأُولَى قَوْمًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ لَهُمْ أَمْوَالٌ وَأَوْلَادٌ فِي وَقْتِ نُزُولِهَا، وَأَرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَامًا آخَرِينَ، وَالْكَلَامُ الْوَاحِدُ إِذَا احْتِيجَ إِلَى ذِكْرِهِ مَعَ أَقْوَامٍ كَثِيرِينَ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُ مَعَ بَعْضِهِمْ مُغْنِيًا عن ذكره مع الآخرين. [سورة التوبة (9) : الآيات 86 الى 87] وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ احْتَالُوا فِي رُخْصَةِ التَّخَلُّفِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُعُودِ عَنِ الْغَزْوِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ زَادَ دَقِيقَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ مَتَى نَزَلَتْ آيَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ مَعَ الرَّسُولِ، اسْتَأْذَنَ أُولُو الثَّرْوَةِ وَالْقُدْرَةِ مِنْهُمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ، وَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ أَيْ مَعَ الضُّعَفَاءِ مِنَ النَّاسِ وَالسَّاكِنِينَ فِي الْبَلَدِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالسُّورَةِ تَمَامُهَا وَأَنْ يُرَادَ بَعْضُهَا، كَمَا يَقَعُ الْقُرْآنُ وَالْكِتَابُ عَلَى كُلِّهِ وَبَعْضِهِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالسُّورَةِ هِيَ سُورَةُ بَرَاءَةٌ، لِأَنَّ فِيهَا الْأَمْرَ بِالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ. الْبَحْثُ الثَّانِي قَوْلُهُ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ قَالَ الواحدي: مزضع (أَنْ) نَصْبٌ بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَالتَّقْدِيرُ بِأَنْ آمنوا أي الإيمان؟ الْبَحْثُ الثَّالِثُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ كَيْفَ يَأْمُرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيمَانِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ. أَجَابُوا عَنْهُ: بِأَنَّ مَعْنَى أَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيمَانِ الدَّوَامُ عَلَيْهِ وَالتَّمَسُّكُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَقُولُ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْجَوَابِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ مُتَوَجِّهٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْأَمْرَ بِالْإِيمَانِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ كَأَنَّهُ قِيلَ لِلْمُنَافِقِينَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْجِهَادِ قَبْلَ الْإِيمَانِ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً أَصْلًا، فَالْوَاجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا أَوَّلًا، ثُمَّ تَشْتَغِلُوا بِالْجِهَادِ ثَانِيًا حَتَّى يُفِيدَكُمُ اشْتِغَالُكُمْ بِالْجِهَادِ فَائِدَةً فِي الدِّينِ، ثُمَّ حَكَى تَعَالَى أَنَّ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ السورة ماذا يقولون، فقال: اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ وفي أُولُوا الطَّوْلِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: الْمُرَادُ أَهْلُ السَّعَةِ فِي الْمَالِ: الثَّانِي: قَالَ الْأَصَمُّ: يَعْنِي الرُّؤَسَاءَ وَالْكُبَرَاءَ

[سورة التوبة (9) : الآيات 88 إلى 89]

المنظور إليهم، وفي تخصيص أُولُوا الطَّوْلِ بِالذِّكْرِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الذَّمَّ لَهُمْ أُلْزِمَ لِأَجْلِ كَوْنِهِمْ قَادِرِينَ عَلَى السَّفَرِ وَالْجِهَادِ، والثاني: أنه تعالى ذكر أولوا الطَّوْلِ لِأَنَّ مَنْ لَا مَالَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ عَلَى السَّفَرِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَذَكَرْنَا الْكَلَامَ الْمُسْتَقْصَى فِي الْخَالِفِ فِي قوله: فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ وهاهنا فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْخَوالِفِ عِبَارَةٌ عَنِ النِّسَاءِ اللَّاتِي تَخَلَّفْنَ فِي الْبَيْتِ فَلَا يَبْرَحْنَ، وَالْمَعْنَى: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا فِي تَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْجِهَادِ كَالنِّسَاءِ. الثَّانِي: يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْخَوَالِفُ جَمْعَ خَالِفَةٍ فِي حَالٍ. وَالْخَالِفَةُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ نَجِيبٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَمْ يَأْتِ فَاعِلٌ صِيغَةُ جَمْعِهِ فَوَاعِلُ، إِلَّا حَرْفَانِ: فَارِسٌ وَفَوَارِسُ، وَهَالِكٌ وَهَوَالِكُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لأن أَدَلُّ عَلَى الْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَكَانَ يَصْعُبُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ تَشْبِيهَهُمْ بِالْخَوَالِفِ. ثُمَّ قَالَ: وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الطَّبْعَ وَالْخَتْمَ عِبَارَةٌ عِنْدَنَا عَنْ حُصُولِ الدَّاعِيَةِ الْقَوِيَّةِ لِلْكُفْرِ الْمَانِعَةِ مِنْ حُصُولِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِدُونِ الدَّاعِي لَمَّا كَانَ مُحَالًا، فَعِنْدَ حُصُولِ الدَّاعِيَةِ الرَّاسِخَةِ الْقَوِيَّةِ لِلْكُفْرِ، صَارَ الْقَلْبُ كَالْمَطْبُوعِ عَلَى الْكُفْرِ، ثُمَّ حُصُولُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ إِنْ كَانَ مِنَ الْعَبْدِ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ اللَّهِ فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الطَّبْعُ عِبَارَةٌ عَنْ بُلُوغِ الْقَلْبِ فِي الْمَيْلِ فِي الْكُفْرِ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي كَأَنَّهُ مَاتَ عَنِ الْإِيمَانِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ عِبَارَةٌ عَنْ عَلَامَةٍ تَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ، وَالِاسْتِقْصَاءُ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَقَوْلِهِ: فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ أَيْ لَا يَفْهَمُونَ أَسْرَارَ حِكْمَةِ اللَّهِ في الأمر بالجهاد. [سورة التوبة (9) : الآيات 88 الى 89] لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ فِي الْفِرَارِ عَنِ الْجِهَادِ بَيَّنَ أَنَّ حَالَ الرَّسُولِ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِالضِّدِّ مِنْهُ، حَيْثُ بَذَلُوا الْمَالَ وَالنَّفْسَ فِي طَلَبِ رِضْوَانِ اللَّهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: لكِنِ فِيهِ فَائِدَةٌ، وَهِيَ: أَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّهُ إِنْ تَخَلَّفَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الغزو، فقد توجه إليه مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَأَخْلَصُ نِيَّةً وَاعْتِقَادًا، كَقَوْلِهِ: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً [الْأَنْعَامِ: 89] وَقَوْلُهُ: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [فُصِّلَتْ: 38] وَلَمَّا وَصَفَهُمْ بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْجِهَادِ ذَكَرَ مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَنَافِعِ. وَهُوَ أَنْوَاعٌ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْخَيْرَاتِ، يَتَنَاوَلُ مَنَافِعَ الدَّارَيْنِ، لِأَجْلِ/ أَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ. وَقِيلَ: الْخَيْراتُ الْحُورُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ [الرَّحْمَنِ: 70] وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فَقَوْلُهُ: لَهُمُ الْخَيْراتُ الْمُرَادُ مِنْهُ الثَّوَابُ. وَقَوْلُهُ: هُمُ الْمُفْلِحُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّخَلُّصُ مِنَ الْعِقَابِ وَالْعَذَابِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجَنَّاتُ كَالتَّفْسِيرِ لِلْخَيْرَاتِ وَلِلْفَلَاحِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُحْمَلَ تِلْكَ الْخَيْرَاتُ وَالْفَلَاحُ عَلَى مَنَافِعِ الدُّنْيَا، مِثْلِ الْغَزْوِ، وَالْكَرَامَةِ، وَالثَّرْوَةِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْغَلَبَةِ، وَتُحْمَلُ الجنات على ثواب الآخرة والْفَوْزُ

[سورة التوبة (9) : آية 90]

الْعَظِيمُ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ تِلْكَ الْحَالَةِ مَرْتَبَةً رفيعة، ودرجة عالية. [سورة التوبة (9) : آية 90] وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ ابْتَدَأَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِشَرْحِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ فِي قَوْلِهِ: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ وَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْمُعَذِّرِينَ، وَذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُعْذِرَ هُوَ الْمُجْتَهِدُ الَّذِي لَهُ عُذْرٌ، وَالْمُعَذِّرُ بِالتَّشْدِيدِ الَّذِي يَعْتَذِرُ بِلَا عُذْرٍ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْمُعْذِرَ هُوَ الْمُجْتَهِدُ الْبَالِغُ فِي الْعُذْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: قَدْ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَصَلَ بَيْنَ أَصْحَابِ الْعُذْرِ وَبَيْنَ الْكَاذِبِينَ، فَالْمُعَذِّرُونَ هُمُ الَّذِينَ أَتَوْا بِالْعُذْرِ. قِيلَ: هُمْ أَسَدٌ وَغَطَفَانُ. قَالُوا: إِنَّ لَنَا عِيَالًا وَإِنَّا بِنَا جَهْدًا فَائْذَنْ لَنَا فِي التَّخَلُّفِ. وَقِيلَ: هُمْ رَهْطُ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، قَالُوا: إِنْ غَزَوْنَا مَعَكَ أَغَارَتْ أَعْرَابُ طَيِّءٍ عَلَيْنَا، فَأَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ لَهُمْ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: نَفَرٌ مِنْ غَطَفَانَ اعْتَذَرُوا. وَالَّذِينَ قَرَءُوا الْمُعَذِّرُونَ بِالتَّشْدِيدِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ فَلَهُ وَجْهَانِ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا اللَّفْظِ الْمُعْتَذِرُونَ فَحُوِّلَتْ فَتْحَةُ التَّاءِ إِلَى الْعَيْنِ، وَأُبْدِلَتِ الذَّالُ مِنَ التَّاءِ، وَأُدْغِمَتْ فِي الذَّالِ الَّتِي بَعْدَهَا، فَصَارَتِ التَّاءُ ذَالًا مُشَدَّدَةً. وَالِاعْتِذَارُ قَدْ يَكُونُ بِالْكَذِبِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ [التَّوْبَةِ: 94] فَبَيَّنَ كَوْنَ هَذَا الِاعْتِذَارِ فَاسِدًا بِقَوْلِهِ: قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا وَقَدْ يَكُونُ بِالصِّدْقِ كَمَا فِي قَوْلِ لَبِيدٍ: وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرَ يُرِيدُ فَقَدْ جَاءَ بِعُذْرٍ صَحِيحٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُعَذِّرُونَ عَلَى وَزْنِ قَوْلِنَا: مُفَعِّلُونَ مِنَ التَّعْذِيرِ الَّذِي هُوَ التَّقْصِيرُ. يقال: عذرا تَعْذِيرًا إِذَا قَصَّرَ وَلَمْ يُبَالِغْ. يُقَالُ: قَامَ فلان قيام تعذير، إذا اسكتفيته فِي أَمْرٍ فَقَصَّرَ فِيهِ، فَإِنْ أَخَذْنَا بِقِرَاءَةِ الخفيف، كَانَ الْمُعَذِّرُونَ كَاذِبِينَ. وَأَمَّا إِنْ أَخَذْنَا بِقِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ، وَفَسَّرْنَاهَا بِالْمُعْتَذِرِينَ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا صَادِقِينَ وَأَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: الْمُعَذِّرُونَ كَانُوا صَادِقِينَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَهُمْ قَالَ بَعْدَهُمْ: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَمَّا مَيَّزَهُمْ عَنِ الْكَاذِبِينَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِكَاذِبِينَ. وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: أَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ هَذَا الْكَلَامُ قَالَ: إِنْ أَقْوَامًا تَكَلَّفُوا عُذْرًا بِبَاطِلٍ، فَهُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ وَتَخَلَّفَ الْآخَرُونَ لَا لِعُذْرٍ وَلَا لِشُبْهَةِ عُذْرٍ جَرَاءَةً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِي قَالَهُ أَبُو عَمْرٍو مُحْتَمَلٌ، إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ. وَقَوْلُهُ: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَهُمْ مُنَافِقُو الْأَعْرَابِ الَّذِينَ مَا جَاءُوا وَمَا اعْتَذَرُوا، وَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي ادِّعَائِهِمُ الْإِيمَانَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ كَذَّبُوا بِالتَّشْدِيدِ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ، وَإِنَّمَا قَالَ: مِنْهُمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ بَعْضَهُمْ سَيُؤْمِنُ وَيَتَخَلَّصُ عَنْ هَذَا الْعِقَابِ، فَذَكَرَ لَفْظَةَ مِنْ الدَّالَّةِ عَلَى التبعيض. [سورة التوبة (9) : الآيات 91 الى 92] لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْوَعِيدَ فِي حَقِّ مَنْ يُوهِمُ الْعُذْرَ، مَعَ أَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ، ذَكَرَ أَصْحَابَ الْأَعْذَارِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ تَكْلِيفَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْغَزْوِ وَالْجِهَادِ عَنْهُمْ سَاقِطٌ، وَهُمْ أَقْسَامٌ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الصَّحِيحُ فِي بَدَنِهِ، الضَّعِيفُ مِثْلُ الشُّيُوخِ. وَمَنْ خُلِقَ فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ ضَعِيفًا نَحِيفًا، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُرَادُونَ بِالضُّعَفَاءِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِمُ الْمَرْضَى، والمعطوف مباين للمعطوف عليه، فما لَمْ يَحْمِلِ الضُّعَفَاءَ عَلَى الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ، لَمْ يَتَمَيَّزُوا عَنِ الْمَرْضَى. وَأَمَّا الْمَرْضَى: فَيَدْخُلُ فِيهِمْ أَصْحَابُ الْعَمَى، وَالْعَرَجِ، وَالزَّمَانَةِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِمَرَضٍ يَمْنَعُهُ مِنَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْمُحَارَبَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ الْأُهْبَةَ وَالزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ، لِأَنَّ حُضُورَهُ فِي الْغَزْوِ إِنَّمَا يَنْفَعُ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ. إِمَّا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، أَوْ مِنْ مَالِ إِنْسَانٍ آخَرَ يُعِينُهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الْقُدْرَةُ، صَارَ كَلًّا وَوَبَالًا عَلَى الْمُجَاهِدِينَ وَيَمْنَعُهُمْ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْمَقْصُودِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ قَالَ: لَا حَرَجَ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِ الْغَزْوِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الْخُرُوجُ، لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَوْ خَرَجَ لِيُعِينَ الْمُجَاهِدِينَ بِمِقْدَارِ الْقُدْرَةِ. إِمَّا بِحِفْظِ مَتَاعِهِمْ أَوْ بِتَكْثِيرِ سَوَادِهِمْ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَجْعَلَ نَفْسَهُ كَلًّا وَوَبَالًا عَلَيْهِمْ، كَانَ ذَلِكَ طَاعَةً مَقْبُولَةً. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ فِي جَوَازِ هَذَا التَّأْخِيرِ شَرْطًا مُعَيَّنًا وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ إِذَا أَقَامُوا فِي الْبَلَدِ احْتَرَزُوا عَنْ إِلْقَاءِ الْأَرَاجِيفِ، وَعَنْ إِثَارَةِ الْفِتَنِ، وَسَعَوْا فِي إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَى الْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ سَافَرُوا، إِمَّا بِأَنْ يَقُومُوا بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِ بُيُوتِهِمْ، وَإِمَّا بِأَنْ يَسْعَوْا فِي إِيصَالِ الْأَخْبَارِ السَّارَّةِ مِنْ بُيُوتِهِمْ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّ جُمْلَةَ هَذِهِ الْأُمُورِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْإِعَانَةِ عَلَى الْجِهَادِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ هُوَ أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُفِيدُ الْعُمُومَ فِي كُلِّ الْوُجُوهِ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّفْظَ مَقْصُورٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَالْمُحْسِنُ هُوَ الْآتِي بِالْإِحْسَانِ، وَرَأْسُ أَبْوَابِ الْإِحْسَانِ وَرَئِيسُهَا، هُوَ قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَاعْتَقَدَهَا، كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ يَقْتَضِي نَفْيَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَهَذَا بِعُمُومِهِ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَصْلَ فِي حَالِ كُلِّ مُسْلِمٍ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَعَدَمُ تَوَجُّهِ مُطَالَبَةِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي نَفْسِهِ حُرْمَةُ الْقَتْلِ، إِلَّا لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَالْأَصْلُ فِي مَالِهِ حُرْمَةُ الْأَخْذِ، إِلَّا لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَأَنْ لَا يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ التَّكَالِيفِ، إِلَّا لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، فَتَصِيرَ هَذِهِ الْآيَةُ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَصْلًا/ مُعْتَبَرًا فِي الشَّرِيعَةِ، فِي تَقْرِيرِ أَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، فَإِنْ وَرَدَ نَصٌّ خَاصٌّ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ حُكْمٍ خَاصٍّ، فِي وَاقِعَةٍ خَاصَّةٍ، قَضَيْنَا بِذَلِكَ النَّصِّ الْخَاصِّ تَقْدِيمًا لِلْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَإِلَّا فَهَذَا النَّصُّ

كَافٍ فِي تَقْرِيرِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهَذَا عَلَى نَفْيِ الْقِيَاسِ. قَالَ: لِأَنَّ هَذَا النَّصَّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ هو براءة الذمة، هو عدم الْإِلْزَامِ وَالتَّكْلِيفِ، فَالْقِيَاسُ إِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ أَوْ عَلَى شَغْلِ الذِّمَّةِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ لَمَّا ثَبَتَتْ بِمُقْتَضَى هَذَا النَّصِّ، كَانَ إِثْبَاتُهَا بِالْقِيَاسِ عَبَثًا. وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ ذَلِكَ الْقِيَاسُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ هَذَا النَّصِّ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ النَّصَّ أَقْوَى مِنَ الْقِيَاسِ. قَالُوا: وَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَصِيرُ الشَّرِيعَةُ مَضْبُوطَةً، مَعْلُومَةً، مُلَخَّصَةً، بَعِيدَةً عَنِ الِاضْطِرَابِ وَالِاخْتِلَافَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ السُّلْطَانَ إِذَا بَعَثَ وَاحِدًا مِنْ عُمَّالِهِ إِلَى سِيَاسَةِ بَلْدَةٍ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الرَّجُلُ تَكْلِيفِي عَلَيْكَ، وَعَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْمَمْلَكَةِ، كَذَا وَكَذَا، وَعَدَّ عَلَيْهِمْ مِائَةَ نَوْعٍ مِنَ التَّكَالِيفِ مَثَلًا، ثُمَّ قَالَ: وَبَعْدَ هَذِهِ التَّكَالِيفِ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ، كَانَ هَذَا تَنْصِيصًا مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِمْ فِيمَا وَرَاءَ تِلْكَ الْأَقْسَامِ الْمِائَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَوْ أَنَّهُ كَلَّفَ ذَلِكَ السُّلْطَانُ بِأَنْ يَنُصَّ عَلَى مَا سِوَى تِلْكَ الْمِائَةِ بِالنَّفْيِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ كَانَ ذَلِكَ مُحَالًا، لِأَنَّ بَابَ النَّفْيِ لَا نِهَايَةَ لَهُ، بَلْ كَفَاهُ فِي النَّفْيِ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ سَبِيلٌ إِلَّا فِيمَا ذَكَرْتُ وَفَصَّلْتُ، فكذا هاهنا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَتَوَجَّهَ عَلَى أَحَدٍ سَبِيلٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ أَلْفَ تَكْلِيفٍ، أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، كَانَ ذَلِكَ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّ التَّكَالِيفَ مَحْصُورَةٌ فِي ذَلِكَ الْأَلْفِ الْمَذْكُورِ، وَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَهُ فَلَيْسَ لِلَّهِ عَلَى الْخَلْقِ تَكْلِيفٌ وَأَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَصِيرُ الشَّرِيعَةُ مَضْبُوطَةً سَهْلَةَ الْمَؤُنَةِ كَثِيرَةَ الْمَعُونَةِ، وَيَكُونُ الْقُرْآنُ وَافِيًا بِبَيَانِ التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الْمَائِدَةِ: 3] حَقًّا، وَيَصِيرُ قَوْلُهُ: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النَّحْلِ: 44] حَقًّا، وَلَا حَاجَةَ الْبَتَّةَ إِلَى التَّمَسُّكِ بِالْقِيَاسِ فِي حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ أَصْلًا، فَهَذَا مَا يُقَرِّرُهُ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ مِثْلُ دَاوُدَ الْأَصْفَهَانِيِّ وَأَصْحَابِهِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْبَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الضُّعَفَاءَ وَالْمَرْضَى وَالْفُقَرَاءَ، بَيَّنَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجِهَادِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا نَاصِحِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَبَيَّنَ كَوْنَهُمْ مُحْسِنِينَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ، ذَكَرَ قِسْمًا رَابِعًا مِنَ الْمَعْذُورِينَ، فَقَالَ: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ هَؤُلَاءِ دَاخِلُونَ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي إِعَادَتِهِ؟ قُلْنَا: الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ، هُمُ الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ لَيْسَ مَعَهُمْ دُونَ النَّفَقَةِ، وَهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ هُمُ الَّذِينَ مَلَكُوا قَدْرَ النَّفَقَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا الْمَرْكُوبَ، وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ ثَلَاثَةُ إِخْوَةٍ: مَعْقِلٌ، وَسُوَيْدٌ، وَالنُّعْمَانُ بَنُو مُقْرِنٍ، سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى الْخِفَافِ الْمَدْبُوغَةِ، وَالنِّعَالِ الْمَخْصُوفَةِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ» فَتَوَلَّوْا وَهُمْ يَبْكُونَ، وَالثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَأَصْحَابِهِ، أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحْمِلُونَهُ، وَوَافَقَ ذَلِكَ مِنْهُ غَضَبًا، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَاللَّهِ مَا أَحْمِلُكُمْ وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ» فَتَوَلَّوْا وَهُمْ يَبْكُونَ فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم، فأعطاهم خير ذودا، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَلَسْتَ حَلَفْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «أَمَا إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ بِيَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يميني» .

[سورة التوبة (9) : الآيات 93 إلى 94]

وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: سَأَلُوهُ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى الدَّوَابِّ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ» لِأَنَّ الشُّقَّةَ بَعِيدَةٌ. وَالرَّجُلُ يَحْتَاجُ إِلَى بَعِيرَيْنِ، بَعِيرٌ يَرْكَبُهُ وَبَعِيرٌ يَحْمِلُ عَلَيْهِ مَاءَهُ وَزَادَهُ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ: تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً كَقَوْلِكَ: تَفِيضُ دَمْعًا، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ يَفِيضُ دَمْعُهَا، لِأَنَّ الْعَيْنَ جُعِلَتْ كَأَنَّ كُلَّهَا دمع فائض. [سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 94] إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ قَالَ فِي هَذِهِ/ الْآيَةِ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى مَنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ الَّذِينَ قَالُوا فِي الْآيَةِ الْأُولَى الْمُرَادُ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ فِي أَمْرِ الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ، وَأَنَّ نَفْيَ السَّبِيلِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ مَخْصُوصٌ بِهَذَا الْحُكْمِ. قَالُوا: السَّبِيلُ الَّذِي نَفَاهُ عَنِ الْمُحْسِنِينَ، هُوَ الَّذِي أَثْبَتَهُ فِي هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْجِهَادِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَغْنِيَاءَ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ فِي التَّخَلُّفِ سَبِيلُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَازِمٌ، وَتَكْلِيفُهُ عَلَيْهِمْ بِالذِّهَابِ إِلَى الْغَزْوِ مُتَوَجِّهٌ، وَلَا عُذْرَ لَهُمُ الْبَتَّةَ فِي التَّخَلُّفِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: رَضُوا مَا مَوْقِعُهُ؟ قُلْنَا: كَأَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا بَالُهُمُ اسْتَأْذَنُوا وَهُمْ أَغْنِيَاءُ. فَقِيلَ: رَضُوا بِالدَّنَاءَةِ وَالضِّعَةِ وَالِانْتِظَامِ فِي جُمْلَةِ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ يَعْنِي أَنَّ السَّبَبَ فِي نَفْرَتِهِمْ عَنِ الْجِهَادِ، هُوَ أَنَّ اللَّهَ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ الطَّبْعِ لَا يَعْلَمُونَ مَا فِي الْجِهَادِ مِنْ مَنَافِعِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. ثُمَّ قَالَ: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ عِلَّةً لِلْمَنْعِ مِنَ الِاعْتِذَارِ لِأَنَّ غَرَضَ الْمُعْتَذِرِ أَنْ يَصِيرَ عُذْرُهُ مَقْبُولًا. فَإِذَا عَلِمَ بِأَنَّ الْقَوْمَ يُكَذِّبُونَهُ فِيهِ، وَجَبَ عَلَيْهِ تَرْكُهُ. وَقَوْلُهُ: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ عِلَّةٌ لِانْتِفَاءِ التَّصْدِيقِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَطْلَعَ رَسُولَهُ عَلَى مَا فِي ضَمَائِرِهِمْ مِنَ الْخُبْثِ وَالْمَكْرِ وَالنِّفَاقِ، امْتَنَعَ أَنْ يُصَدِّقَهُمُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي تِلْكَ الْأَعْذَارِ. ثُمَّ قَالَ: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ تَقْرِيرِ تِلْكَ الْمَعَاذِيرِ حُبًّا لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمُؤْمِنِينَ وَشَفَقَةً عَلَيْهِمْ وَرَغْبَةً فِي نُصْرَتِهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ أَنَّكُمْ هَلْ تَبْقُونَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي تُظْهِرُونَهَا مِنَ الصِّدْقِ وَالصَّفَاءِ، أَوْ لَا تَبْقُونَ عَلَيْهَا؟ ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَا قَالَ: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ فَلِمَ لَمْ يَقُلْ، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَيْهِ، وَمَا الْفَائِدَةُ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ.

[سورة التوبة (9) : الآيات 95 إلى 96]

قُلْنَا: فِي وَصْفِهِ تَعَالَى بِكَوْنِهِ: عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُطَّلِعًا عَلَى بَوَاطِنِهِمُ الْخَبِيثَةِ وَضَمَائِرِهِمُ الْمَمْلُوءَةِ مِنَ الْكَذِبِ وَالْكَيْدِ، وفيه تخويف شديد، وزجر عظيم لهم. [سورة التوبة (9) : الآيات 95 الى 96] سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُمْ يَعْتَذِرُونَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَكِّدُونَ تِلْكَ الْأَعْذَارَ بِالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ حَلَفُوا بِاللَّهِ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُمْ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ حَلَفُوا؟ فَقِيلَ: إِنَّهُمْ حَلَفُوا عَلَى أَنَّهُمْ مَا قَدَرُوا عَلَى الْخُرُوجِ، وَإِنَّمَا حَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ أَيْ لِتَصْفَحُوا عَنْهُمْ، وَلِتُعْرِضُوا عَنْ ذَمِّهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ تَرْكَ الْكَلَامِ وَالسَّلَامِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ: «لَا تُجَالِسُوهُمْ وَلَا تُكَلِّمُوهُمْ» قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: هَؤُلَاءِ طَلَبُوا إِعْرَاضَ الصَّفْحِ، فَأُعْطُوا إِعْرَاضَ الْمَقْتِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْعِلَّةَ فِي وُجُوبِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَالْمَعْنَى: أَنَّ خُبْثَ بَاطِنِهِمْ رِجْسٌ رُوحَانِيٌّ، فَكَمَا يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْأَرْجَاسِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَوُجُوبُ الِاحْتِرَازِ عَنِ الْأَرْجَاسِ الرُّوحَانِيَّةِ أَوْلَى، خَوْفًا مِنْ سَرَيَانِهَا إِلَى الْإِنْسَانِ، وَحَذَرًا مِنْ أَنْ يَمِيلَ طَبْعُ الْإِنْسَانِ إِلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ، وَلَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لِيُعْرِضَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ إِيذَائِهِمْ، بَيَّنَ أَيْضًا أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ لِيَرْضَى الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ أَنْ يَرْضَوْا عَنْهُمْ، فَقَالَ: فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ إِنْ رَضِيتُمْ عَنْهُمْ مَعَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنْهُمْ، كَانَتْ إِرَادَتُكُمْ مُخَالِفَةً لِإِرَادَةِ اللَّهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ مَذْكُورَةٌ فِي الآيات السالفة، وقد أعادها الله هاهنا مَرَّةً أُخْرَى، وَأَظُنُّ أَنَّ الْأَوَّلَ خِطَابٌ مَعَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ، وَهَذَا خِطَابٌ مَعَ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ وَأَصْحَابِ الْبَوَادِي، وَلَمَّا كَانَتْ طُرُقُ الْمُنَافِقِينَ مُتَقَارِبَةً سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، لَا جَرَمَ كَانَ الْكَلَامُ مَعَهُمْ عَلَى مَنَاهِجَ مُتَقَارِبَةٍ. [سورة التوبة (9) : الآيات 97 الى 98] الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) [في قَوْلُهُ تَعَالَى الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَعَادَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا مُخَاطَبَةُ مُنَافِقِي الْأَعْرَابِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ بَيَّنَ أَنَّ كُفْرَهُمْ وَنِفَاقَهُمْ أَشَدُّ وَجَهْلَهُمْ بِحُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ أَكْمَلُ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، يُقَالُ: رَجُلٌ عَرَبِيٌّ. إِذَا كَانَ نَسَبُهُ فِي الْعَرَبِ وَجَمْعُهُ الْعَرَبُ. كَمَا تَقُولُ مَجُوسِيٌّ وَيَهُودِيٌّ، ثُمَّ يُحْذَفُ يَاءُ النِّسْبَةِ فِي الْجَمْعِ، فَيُقَالُ: الْمَجُوسُ وَالْيَهُودُ، وَرَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ، بِالْأَلِفِ إِذَا كَانَ بَدَوِيًّا، يَطْلُبُ مَسَاقِطَ الْغَيْثِ وَالْكَلَإِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ أَوْ مِنْ مَوَالِيهِمْ، وَيُجْمَعُ الْأَعْرَابِيُّ عَلَى الْأَعْرَابِ وَالْأَعَارِيبِ، فَالْأَعْرَابِيُّ إِذَا قِيلَ لَهُ يَا عَرَبِيُّ: فَرِحَ، وَالْعَرَبِيُّ إِذَا قِيلَ لَهُ: يَا أَعْرَابِيُّ، غَضِبَ لَهُ، فَمَنِ اسْتَوْطَنَ الْقُرَى الْعَرَبِيَّةَ فَهُمْ عَرَبٌ، وَمَنْ نَزَلَ الْبَادِيَةَ فَهُمْ أَعْرَابٌ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «حُبُّ الْعَرَبِ مِنَ الْإِيمَانِ» وَأَمَّا الْأَعْرَابُ فَقَدْ ذَمَّهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَعْرَابٌ، إِنَّمَا هُمْ عَرَبٌ، وَهُمْ مُتَقَدِّمُونَ فِي مَرَاتِبِ الدِّينِ عَلَى الْأَعْرَابِ. قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا وَلَا فَاسِقٌ مُؤْمِنًا وَلَا أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِرًا» الثَّالِثُ: قِيلَ إِنَّمَا سُمِّيَ الْعَرَبُ عَرَبَا لِأَنَّ أَوْلَادَ إِسْمَاعِيلَ نَشَأُوا بِعَرَبَةَ، وَهِيَ مِنْ تِهَامَةَ. فَنُسِبُوا إِلَى بَلَدِهِمْ وَكُلُّ مَنْ يَسْكُنُ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ وَيَنْطِقُ بِلِسَانِهِمْ فَهُوَ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا تَوَلَّدُوا من أولاد إسماعيل وقيل: سموا بالعرب، لأنه أَلْسِنَتَهُمْ مُعْرِبَةٌ عَمَّا فِي ضَمَائِرِهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ مُخْتَصٌّ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْجَزَالَةِ لَا تُوجَدُ فِي سَائِرِ الْأَلْسِنَةِ، وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ عَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ: حِكْمَةُ الرُّومِ فِي أَدْمِغَتِهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى التَّرْكِيبَاتِ الْعَجِيبَةِ، وَحِكْمَةُ الْهِنْدِ فِي أوهامهم، وحكمة يونان فِي أَفْئِدَتِهِمْ. وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا لَهُمْ مِنَ الْمَبَاحِثِ الْعَقْلِيَّةِ، وَحِكْمَةُ الْعَرَبِ فِي أَلْسِنَتِهِمْ، وَذَلِكَ لِحَلَاوَةِ أَلْفَاظِهِمْ وَعُذُوبَةِ عِبَارَاتِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْجَمْعُ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْمَعْهُودُ السَّابِقُ، حُمِلَ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ لِلضَّرُورَةِ. قَالُوا: لِأَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ يَكْفِي فِي حُصُولِ مَعْنَاهَا الثَّلَاثَةُ فَمَا فَوْقَهَا، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلتَّعْرِيفِ، فَإِنْ حَصَلَ جَمْعٌ هُوَ مَعْهُودٌ سَابِقٌ وَجَبَ الِانْصِرَافُ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَحِينَئِذٍ يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ دَفْعًا لِلْإِجْمَالِ. قَالُوا إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: الْأَعْرابُ الْمُرَادُ مِنْهُ جَمْعٌ مُعَيَّنُونَ مِنْ مُنَافِقِي الْأَعْرَابِ، كَانُوا يُوَالُونَ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ فَانْصَرَفَ هَذَا اللَّفْظُ إِلَيْهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى الْأَعْرَابِ بِحُكْمَيْنِ: الْحُكْمُ الْأَوَّلُ أَنَّهُمْ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا، وَالسَّبَبُ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَهْلَ الْبَدْوِ يُشْبِهُونَ الْوُحُوشَ. وَالثَّانِي: اسْتِيلَاءُ الْهَوَاءِ الْحَارِّ الْيَابِسِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ يُوجِبُ مَزِيدَ التِّيهِ وَالتَّكَبُّرِ وَالنَّخْوَةِ وَالْفَخْرِ وَالطَّيْشِ عَلَيْهِمْ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ مَا كَانُوا تَحْتَ سِيَاسَةِ سَائِسٍ، وَلَا تَأْدِيبِ مُؤَدِّبٍ، وَلَا ضبط ضبط فنشاؤا كما شاؤوا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ خَرَجَ عَلَى أَشَدِّ الْجِهَاتِ فسادا. والرابع: أن من أصبح وو أمسى مُشَاهِدًا لِوَعْظِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَيَانَاتِهِ الشَّافِيَةِ، وَتَأْدِيبَاتِهِ الْكَامِلَةِ، كَيْفَ يَكُونُ مُسَاوِيًا لِمَنْ لَمْ يُؤَاثِرْ هَذَا الْخَيْرَ، وَلَمْ يَسْمَعْ خَبَرَهُ. وَالْخَامِسُ: قَابِلْ الْفَوَاكِهَ الْجَبَلِيَّةَ بِالْفَوَاكِهِ الْبُسْتَانِيَّةِ لِتَعْرِفَ الْفَرْقَ بَيْنَ أَهْلِ الْحَضَرِ وَالْبَادِيَةِ.

[سورة التوبة (9) : آية 99]

الْحُكْمُ الثَّانِي قَوْلُهُ: وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وقوله: أَجْدَرُ أَيْ أَوْلَى وَأَحَقُّ، وَفِي الْآيَةِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَجْدُرُ بِأَنْ لَا يَعْلَمُوا. وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مَقَادِيرُ التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ. وَقِيلَ: مَرَاتِبُ أَدِلَّةِ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا فِي قُلُوبِ خَلْقِهِ حَكِيمٌ فِيمَا فَرَضَ مِنْ فَرَائِضِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً [إلى آخر الآية] وَالْمَغْرَمُ مَصْدَرٌ كَالْغَرَامَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الَّذِي يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ غَرَامَةٌ وَخُسْرَانٌ، وَإِنَّمَا يَعْتَقِدُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُنْفِقُ إِلَّا تَقِيَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرِيَاءً، لَا لِوَجْهِ اللَّهِ وَابْتِغَاءِ ثَوَابِهِ وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ يَعْنِي الْمَوْتَ وَالْقَتْلَ، أَيْ يَنْتَظِرُ أَنْ تَنْقَلِبَ الْأُمُورُ عَلَيْكُمْ بِمَوْتِ الرَّسُولِ، وَيَظْهَرَ عَلَيْكُمُ الْمُشْرِكُونَ. ثُمَّ إِنَّهُ أَعَادَهُ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَالدَّائِرَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً غَالِبَةً، وَهِيَ إِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي آفَةٍ تُحِيطُ بِالْإِنْسَانِ كَالدَّائِرَةِ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُ مِنْهَا مُخَلِّصٌ، وَقَوْلُهُ: السَّوْءِ قُرِئَ بِفَتْحِ/ السِّينِ وَضَمِّهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: فَتْحُ السِّينِ هُوَ الْوَجْهُ، لِأَنَّهُ مَصْدَرُ قَوْلِكَ: سَاءَ يسوء سوأ أَوْ مُسَاءَةً وَمَنْ ضَمَّ السِّينَ جَعَلَهُ اسْمًا، كَقَوْلِكَ: عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ الْبَلَاءِ وَالْعَذَابِ، وَلَا يَجُوزُ ضَمُّ السِّينِ فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ [مَرْيَمَ: 28] وَلَا فِي قَوْلِهِ: وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ [الْفَتْحِ: 12] وَإِلَّا لَصَارَ التَّقْدِيرُ: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ عَذَابٍ، وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ الْعَذَابِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَأَبُو عُبَيْدٍ: مَنْ فَتَحَ السِّينَ، فَهُوَ كَقَوْلِكَ: رَجُلُ سَوْءٍ، وَامْرَأَةُ سَوْءٍ. ثُمَّ يُدْخِلُ الْأَلِفَ وَاللَّامَ. فَيَقُولُ: رَجُلُ السَّوْءِ وَأَنْشَدَ الْأَخْفَشُ: وَكُنْتُ كَذِئْبِ السَّوْءَ لَمَّا رَأَى دَمًا ... بِصَاحِبِهِ يَوْمًا أَحَالَ عَلَى الدَّمِ وَمَنْ ضَمَّ السِّينَ أَرَادَ بِالسُّوءِ الْمَضَرَّةَ وَالشَّرَّ وَالْبَلَاءَ وَالْمَكْرُوهَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ الْهَزِيمَةِ وَالْمَكْرُوهِ، وَبِهِمْ يَحِيقُ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَوْ لَمْ تُضَفِ الدَّائِرَةُ إلى السوء أو السوء عُرِفَ مِنْهَا مَعْنَى السُّوءِ، لِأَنَّ دَائِرَةَ الدَّهْرِ لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْمَكْرُوهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَعْنَى يَدُورُ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءُ وَالْحَزَنُ، فَلَا يَرَوْنَ فِي مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ودينه إلا ما يسوءهم. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ لِقَوْلِهِمْ: عَلِيمٌ بِنِيَّاتِهِمْ. [سورة التوبة (9) : آية 99] وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ إِنْفَاقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَغْرَمًا، بَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ فِيهِمْ قَوْمًا مُؤْمِنِينَ صَالِحِينَ مُجَاهِدِينَ يَتَّخِذُ إِنْفَاقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَغْنَمًا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذَا الْفَرِيقَ بِوَصْفَيْنِ: فَالْأَوَّلُ: كَوْنُهُ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي جميع الطاعات من تقدم الْإِيمَانِ، وَفِي الْجِهَادِ أَيْضًا كَذَلِكَ. وَالثَّانِي: كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُهُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ، وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ فِي الْقُرُبَاتِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، ضَمُّ

[سورة التوبة (9) : آية 100]

الرَّاءِ، وَإِسْكَانُهَا وَفَتْحُهَا. الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ/ «الْكَشَّافِ» : قُرُبَاتٌ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِيَتَّخِذَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا يُنْفِقُهُ لِسَبَبِ حُصُولِ الْقُرُبَاتِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ كَانَ يَدْعُو لِلْمُتَصَدِّقِينَ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ. كَقَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» وَقَالَ تَعَالَى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا كَانَ مَا يُنْفَقُ سَبَبًا لِحُصُولِ الْقُرُبَاتِ وَالصَّلَوَاتِ، قِيلَ: إِنَّهُ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ وَصَلَوَاتٍ. وَقَالَ تَعَالَى: أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ وَهَذَا شَهَادَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُتَصَدِّقِ بِصِحَّةِ مَا اعْتَقَدَ مِنْ كَوْنِ نَفَقَتِهِ قُرُبَاتٍ وَصَلَوَاتٍ، وَقَدْ أَكَّدَ تَعَالَى هَذِهِ الشَّهَادَةَ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ، وهو قوله: أَلا وبحرف التحقيق، وهو قوله: إِنَّها ثُمَّ زَادَ فِي التَّأْكِيدِ، فَقَالَ: سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ إِدْخَالَ هَذَا السِّينِ يُوجِبُ مَزِيدَ التَّأْكِيدِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لِسَيِّئَاتِهِمْ رَحِيمٌ بِهِمْ حَيْثُ وَفَّقَهُمْ لِهَذِهِ الطَّاعَاتِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ خُفِّفَتْ نَحْوَ: كُتْبٍ، وَرُسْلٍ، وَطُنْبٍ، وَالْأَصْلُ هُوَ الضَّمُّ، والإسكان تخفيف. [سورة التوبة (9) : آية 100] وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فَضَائِلَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ مَا يُنْفِقُونَ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ، بَيَّنَ أَنَّ فَوْقَ مَنْزِلَتِهِمْ مَنَازِلَ أَعْلَى وَأَعْظَمَ مِنْهَا، وَهِيَ مَنَازِلُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مَنْ هُمْ؟ وَذَكَرُوا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هُمُ الَّذِينَ صَلَّوْا إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ وَشَهِدُوا بَدْرًا وَعَنِ الشَّعْبِيِّ هُمُ الَّذِينَ بَايَعُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُمُ السَّابِقُونَ فِي الْهِجْرَةِ، وَفِي النُّصْرَةِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ ذَكَرَ كَوْنَهُمْ سَابِقِينَ وَلَمْ يُبَيِّنْ أنهم سابقون فيما ذا فَبَقِيَ اللَّفْظُ مُجْمَلًا إِلَّا أَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ مُهَاجِرِينَ وَأَنْصَارًا، فَوَجَبَ صَرْفُ ذَلِكَ اللَّفْظِ إِلَى مَا بِهِ صَارُوا مُهَاجِرِينَ وَأَنْصَارًا وَهُوَ الْهِجْرَةُ وَالنُّصْرَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ فِي الْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ/ إِزَالَةً لِلْإِجْمَالِ عَنِ اللَّفْظِ، وَأَيْضًا فَالسَّبْقُ إِلَى الْهِجْرَةِ طَاعَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْهِجْرَةَ فِعْلٌ شَاقٌّ عَلَى النَّفْسِ، وَمُخَالِفٌ لِلطَّبْعِ، فَمَنْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ أَوَّلًا صار قدوة لغيره من هَذِهِ الطَّاعَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُقَوِّيًا لِقَلْبِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَسَبَبًا لِزَوَالِ الْوَحْشَةِ عَنْ خَاطِرِهِ، وَكَذَلِكَ السَّبْقُ فِي النُّصْرَةِ، فَإِنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِينَ سَبَقُوا إِلَى النُّصْرَةِ وَالْخِدْمَةِ، فَازُوا بِمَنْصِبٍ عَظِيمٍ، فَلِهَذِهِ الْوُجُوهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ فِي الْهِجْرَةِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ أَسْبَقَ النَّاسِ إِلَى الْهِجْرَةِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي خِدْمَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَانَ مُصَاحِبًا لَهُ فِي كُلِّ مَسْكَنٍ وَمَوْضِعٍ، فَكَانَ نَصِيبُهُ مِنْ هَذَا الْمَنْصِبِ أَعْلَى مِنْ نَصِيبِ غَيْرِهِ، وَعَلِيٌّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ إِلَّا أَنَّهُ إِنَّمَا هَاجَرَ بَعْدَ هِجْرَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إِنَّمَا بَقِيَ بِمَكَّةَ لِمُهِمَّاتِ الرَّسُولِ إِلَّا أَنَّ السَّبْقَ إِلَى الْهِجْرَةِ إِنَّمَا حَصَلَ لِأَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ نَصِيبُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ أَوْفَرَ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا صَارَ أَبُو بَكْرٍ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرَضِيَ هُوَ عَنِ اللَّهِ، وَذَلِكَ فِي أَعْلَى الدَّرَجَاتِ مِنَ الْفَضْلِ.

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا حَقًّا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ إِمَامَتُهُ بَاطِلَةً لَاسْتَحَقَّ اللَّعْنَ وَالْمَقْتَ، وَذَلِكَ يُنَافِي حُصُولَ مِثْلِ هَذَا التَّعْظِيمِ، فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعَلَى صِحَّةِ إِمَامَتِهِمَا. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ سَبَقَ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ آمَنُوا، وَفِي عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ قِلَّةٌ وَضَعْفٌ. فَقَوِيَ الْإِسْلَامُ بِسَبَبِهِمْ، وَكَثُرَ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ إِسْلَامِهِمْ، وَقَوِيَ قَلْبُ الرَّسُولِ بِسَبَبِ دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَاقْتَدَى بِهِمْ غَيْرُهُمْ، فَكَانَ حَالُهُمْ فِيهِ كَحَالِ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَيَكُونُ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ ثُمَّ نَقُولُ: هَبْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ بِحُكْمِ كَوْنِهِ أَوَّلَ الْمُهَاجِرِينَ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ أَنَّهُ بَقِيَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ؟ وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَغَيَّرَ عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ، وَزَالَتْ عَنْهُ تِلْكَ الْفَضِيلَةُ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِ عَلَى تِلْكَ الْإِمَامَةِ؟ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ حَمْلَ السَّابِقِينِ عَلَى السَّابِقِينِ فِي الْمُدَّةِ تَحَكُّمٌ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ لَفْظَ السَّابِقِ مُطْلَقٌ، فَلَمْ يَكُنْ حَمْلُهُ عَلَى السَّبْقِ فِي الْمُدَّةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى السَّبْقِ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ، وَنَحْنُ بَيَّنَّا أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى السَّبْقِ فِي الْهِجْرَةِ أَوْلَى. قَوْلُهُ: الْمُرَادُ مِنْهُ السَّبْقُ فِي الْإِسْلَامِ. قُلْنَا: السَّبْقُ فِي الْهِجْرَةِ يَتَضَمَّنُ السَّبْقَ فِي الْإِسْلَامِ، وَالسَّبْقُ فِي الْإِسْلَامِ لَا يَتَضَمَّنُ السَّبْقَ/ فِي الْهِجْرَةِ، فَكَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى السَّبْقِ فِي الْهِجْرَةِ أَوْلَى. وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّا نَحْمِلُ اللَّفْظَ عَلَى السَّبْقِ فِي الْإِيمَانِ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: قَوْلُهُ: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ صِيغَةُ جَمْعٍ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى جَمَاعَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ، وَهَبْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ إِيمَانَ أَبِي بَكْرٍ أَسْبَقُ أَمْ إِيمَانَ عَلِيٍّ؟ لَكِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ أَبُو بَكْرٍ، وَمِنَ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ، وَمِنَ الصِّبْيَانِ عَلَيٌّ، وَمِنَ الْمَوَالِي زِيدٌ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: يَكُونُ أَبُو بَكْرٍ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَأَيْضًا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السَّبْقَ فِي الْإِيمَانِ إِنَّمَا أَوْجَبَ الْفَضْلَ الْعَظِيمَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَتَقَوَّى بِهِ قَلْبُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَصِيرُ هُوَ قُدْوَةً لِغَيْرِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ أَكْمَلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حِينَ أَسْلَمَ كَانَ رَجُلًا كَبِيرَ السِّنِّ مَشْهُورًا فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ، وَاقْتَدَى بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ نُقِلَ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ ذَهَبَ إِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَرَضَ الْإِسْلَامَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ جَاءَ بِهِمْ بَعْدَ أَيَّامٍ إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَسْلَمُوا عَلَى يَدِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَظَهَرَ أَنَّهُ دَخَلَ بِسَبَبِ دُخُولِهِ فِي الْإِسْلَامِ قُوَّةٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَصَارَ هَذَا قُدْوَةً لِغَيْرِهِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي مَا حَصَلَتْ فِي عَلَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لأنه فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَزِيدُ قُوَّةٍ لِلْإِسْلَامِ، وَمَا صَارَ قُدْوَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِغَيْرِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الرَّأْسَ وَالرَّئِيسَ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ لَيْسَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ، أَمَّا قَوْلُهُ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ بَقِيَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ بَعْدَ إِقْدَامِهِ عَلَى طَلَبِ الْإِمَامَةِ؟ قُلْنَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا وَقْتَ وَلَا حَالَ إِلَّا وَيَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ. فَيُقَالُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَّا فِي وَقْتِ طَلَبِ الْإِمَامَةِ، وَمُقْتَضَى الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ تَحْتَ اللَّفْظِ. أَوْ نَقُولُ: إِنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ سَابِقِينَ مُهَاجِرِينَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ كَوْنُهُمْ سَابِقِينَ فِي الْهِجْرَةِ، ثُمَّ لَمَّا وَصَفَهُمْ بِهَذَا الْوَصْفِ أَثْبَتَ لَهُمْ مَا يُوجِبُ التَّعْظِيمَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَالسَّبْقُ فِي الْهِجْرَةِ وَصْفٌ مُنَاسِبٌ لِلتَّعْظِيمِ، وَذِكْرُ الْحُكْمِ عَقِيبَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ التَّعْظِيمَ الْحَاصِلَ مِنْ قَوْلِهِ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ مُعَلَّلٌ بِكَوْنِهِمْ سَابِقِينَ فِي الْهِجْرَةِ، وَالْعِلَّةُ مَا دامت موجودة، وجب ترتب المعلول عليها، وكونهم سابقين في الهجرة وصف دائم في جميع مدة وجودهم، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرِّضْوَانُ حَاصِلًا فِي جَمِيعِ مُدَّةِ وُجُودِهِمْ، أَوْ نَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَعَدَّ تِلْكَ الْجَنَّاتِ/ وَعَيَّنَهَا لَهُمْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي بَقَاءَهُمْ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا صَارُوا مُسْتَحِقِّينَ لِتِلْكَ الْجَنَّاتِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى أَعَدَّهَا لَهُمْ لَوْ بَقُوا عَلَى صِفَةِ الْإِيمَانِ، لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا زِيَادَةُ إِضْمَارٍ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَأَيْضًا فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: لَا يَبْقَى بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذَا الْمَدْحِ، وبين سائر الفرق فرق، لأنه تعالى: أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ وَلِفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأَبِي جَهْلٍ وَأَبِي لَهَبٍ، لَوْ صَارُوا مُؤْمِنِينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ الْعَظِيمِ وَالثَّنَاءِ الْكَامِلِ، وَحَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ يُوجِبُ بُطْلَانَ هَذَا الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، فَسَقَطَ هَذَا السُّؤَالُ. فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِإِمَامَتِهِ قَطْعًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَدْحَ الْحَاصِلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ أَمْ يَتَنَاوَلُ بَعْضَهُمْ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الَّذِينَ سَبَقُوا فِي الْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا قُدَمَاءَ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّ كَلِمَةَ (مِنْ) تُفِيدُ التَّبْعِيضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّ جُمْلَةَ الصَّحَابَةِ مَوْصُوفُونَ بِكَوْنِهِمْ سَابِقِينَ أَوَّلِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَلِمَةُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ لَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ، بَلْ لِلتَّبْيِينِ، أَيْ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ الْمَوْصُوفُونَ بِوَصْفِ كَوْنِهِمْ مُهَاجِرِينَ وَأَنْصَارًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الْحَجِّ: 30] وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ذَهَبُوا إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، رُوِيَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ يَوْمًا لِمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَلَا تُخْبِرُنِي عَنْ أَصْحَابِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا كَانَ بَيْنَهُمْ، وَأَرَدْتُ الْفِتَنَ، فَقَالَ لِي: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لِجَمِيعِهِمْ، وَأَوْجَبَ لَهُمُ الْجَنَّةَ فِي كِتَابِهِ، مُحْسِنُهُمْ وَمُسِيئُهُمْ، قُلْتُ لَهُ: وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ أَوْجَبَ لَهُمُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَلَا تَقْرَأُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ؟ فَأَوْجَبَ اللَّهُ لِجَمِيعِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْجَنَّةَ وَالرِّضْوَانَ، وَشَرَطَ عَلَى التَّابِعِينَ شَرْطًا شَرَطَهُ عَلَيْهِمْ. قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ الشَّرْطُ؟ قَالَ: اشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ فِي الْعَمَلِ، وَهُوَ أَنْ يَقْتَدُوا بِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمُ الْحَسَنَةِ، وَلَا يَقْتَدُوا بِهِمْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ يُقَالُ: الْمُرَادُ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ فِي الْقَوْلِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَقُولُوا فِيهِمْ سُوءًا، وَأَنْ لَا يُوَجِّهُوا الطَّعْنَ فِيمَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ. قَالَ حُمَيْدُ بْنُ زِيَادٍ: فَكَأَنِّي مَا قَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ قَطُّ!. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقْرَأُ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان فكان يعطف قوله: الْأَنْصارِ عَلَى قَوْلِهِ: وَالسَّابِقُونَ وَكَانَ يَحْذِفُ الْوَاوَ مِنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ وَيَجْعَلُهُ وَصْفًا لِلْأَنْصَارِ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يقرأ هذه الآية على هذا الوجه. قال أُبَيٌّ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنَّكَ لَتَبِيعُ الْقَرَظَ يَوْمَئِذٍ بِبَقِيعِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: صدقت، شهدتهم وَغِبْنَا، وَفَرَغْتُمْ وَشُغِلْنَا، وَلَئِنْ شِئْتَ لَتَقُولَنَّ نَحْنُ أوينا

[سورة التوبة (9) : آية 101]

وَنَصَرْنَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ جَرَتْ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ بَيْنَ عمر وبين زيد بن ثابت استشهد زَيْدٌ بِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَالتَّفَاوُتُ أَنَّ عَلَى قِرَاءَةِ عُمَرَ، يَكُونُ التَّعْظِيمُ الْحَاصِلُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مُخْتَصًّا بِالْمُهَاجِرِينَ وَلَا يُشَارِكُهُمُ الْأَنْصَارُ فِيهَا فَوَجَبَ مَزِيدُ التَّعْظِيمِ لِلْمُهَاجِرِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرُوِيَ أَنَّ أُبَيًّا احْتَجَّ عَلَى صِحَّةِ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ بِآخِرِ الْأَنْفَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا [الأنفال: 75] بَعْدَ تَقَدُّمِ ذِكْرِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَبِأَوَاسِطِ سُورَةِ الْحَشْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الحشر: 10] وَبِأَوَّلِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ [الْجُمُعَةِ: 3] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَالسَّابِقُونَ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَعْنَاهُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِأَعْمَالِهِمْ وَكَثْرَةِ طَاعَاتِهِمْ، وَرَضُوا عَنْهُ لِمَا أَفَاضَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ الْجَلِيلَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَفِي مَصَاحِفِ أَهْلِ مَكَّةَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ، وَفِي سَائِرِ الْمَصَاحِفِ تَحْتَهَا مِنْ غَيْرِ كَلِمَةِ (مِنْ) . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهم: يُرِيدُ، يَذْكُرُونَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ بِالْجَنَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَالدُّعَاءِ لَهُمْ، وَيَذْكُرُونَ مَحَاسِنَهُمْ، وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ عَلَى دِينِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنِ اتَّبَعَهُمْ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّونَ الرِّضْوَانَ وَالثَّوَابَ، بِشَرْطِ كَوْنِهِمْ مُتَّبِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَفَسَّرْنَا هَذَا الْإِحْسَانَ بِإِحْسَانِ الْقَوْلِ فِيهِمْ، وَالْحُكْمُ الْمَشْرُوطُ بِشَرْطٍ، يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَاءِ ذَلِكَ الشَّرْطِ، فَوَجَبَ أَنَّ مَنْ لَمْ يُحْسِنِ الْقَوْلَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لِلرِّضْوَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ لِهَذَا السَّبَبِ، فَإِنَّ أَهْلَ الدِّينِ يُبَالِغُونَ فِي تَعْظِيمِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُطْلِقُونَ أَلْسِنَتَهُمْ فِي اغْتِيَابِهِمْ وَذِكْرِهِمْ بِمَا لَا ينبغي. [سورة التوبة (9) : آية 101] وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى شَرَحَ أَحْوَالَ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ أَحْوَالَ مُنَافِقِي الْأَعْرَابِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ فِي الْأَعْرَابِ مَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ صَالِحٌ مُخْلِصٌ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ هُمْ؟ وَهُمُ السَّابِقُونَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ. فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ حَوْلِ الْمَدِينَةِ مَوْصُوفُونَ بِالنِّفَاقِ، وَإِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ كَوْنَهُمْ كَذَلِكَ فَقَالَ: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَهُمْ جُهَيْنَةُ وَأَسْلَمُ وَأَشْجَعُ وَغِفَارٌ، وَكَانُوا نَازِلِينَ حَوْلَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: أَنَّهُ حَصَلَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ وَمِنْ أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التقدير: ومن أهل المدينة من مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ فَأَضْمَرَ «مَنْ» لِدَلَالَةِ (مِنْ) عَلَيْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصَّافَّاتِ: 164] يُرِيدُ إِلَّا مَنْ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ. الْبَحْثُ الثَّانِي: يُقَالُ: مرد يمرد مردوا فَهُوَ مَارِدٌ وَمَرِيدٌ إِذَا عَتَا، وَالْمَرِيدُ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَقَدْ تَمَرَّدَ عَلَيْنَا أَيْ عَتَا، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْمُرَادُ التَّطَاوُلُ بِالْكِبَرِ وَالْمَعَاصِي، وَمِنْهُ: مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ وَأَصْلُ

[سورة التوبة (9) : الآيات 102 إلى 103]

الْمَرُودِ الْمَلَاسَةُ، وَمِنْهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ، وَغُلَامٌ أَمْرَدُ، وَالْمَرْدَاءُ الرَّمْلَةُ الَّتِي لَا تُنْبِتُ شَيْئًا، كَأَنَّ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَ غَيْرِهِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، بَقِيَ كَمَا كَانَ عَلَى صِفَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ تَغَيُّرٍ فِيهِ الْبَتَّةَ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَلَاسَةُ. إِذَا عَرَفْتَ أَصْلَ اللَّفْظِ فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ أَيْ ثَبَتُوا وَاسْتَمَرُّوا فِيهِ وَلَمْ يَتُوبُوا عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ تَمَرَّدُوا فِي حِرْفَةِ النِّفَاقِ فَصَارُوا فِيهَا أُسْتَاذِينِ، وَبَلَغُوا إِلَى حَيْثُ لَا تَعْلَمُ أَنْتَ نِفَاقَهُمْ مَعَ قُوَّةِ خَاطِرِكَ وَصَفَاءِ حَدْسِكَ وَنَفْسِكَ. ثُمَّ قَالَ: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ وَذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْمَرَّتَيْنِ وُجُوهًا كَثِيرَةً: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ الْأَمْرَاضَ فِي الدُّنْيَا، وَعَذَابَ الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَرَضَ الْمُؤْمِنِ يُفِيدُهُ تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ، وَمَرَضُ الْكَافِرِ يُفِيدُهُ زِيَادَةُ الْكُفْرِ وَكُفْرَانُ النِّعَمِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: رَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَامَ خَطِيبًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: «اخْرُجْ يَا فُلَانُ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ اخْرُجْ يَا فُلَانُ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ» فَأَخْرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ نَاسًا وَفَضَحَهُمْ فَهَذَا هُوَ الْعَذَابُ الْأَوَّلُ، وَالثَّانِي عَذَابُ الْقَبْرِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَبَعْدَ ذَلِكَ بِعَذَابِ الْقَبْرِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَالَ قَتَادَةُ بِالدُّبَيْلَةِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَسَرَّ إِلَى حُذَيْفَةَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَقَالَ: سِتَّةٌ يَبْتَلِيهِمُ اللَّهُ بِالدُّبَيْلَةِ سِرَاجٌ مِنْ نَارٍ يَأْخُذُ أَحَدَهُمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ صَدْرِهِ، وَسِتَّةٌ يَمُوتُونَ موتا. والوجه الخامس: قال الحسن: يأخذ الزَّكَاةِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ. وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْظِ الْإِسْلَامِ وَدُخُولُهُمْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ حَسَنَةٍ، ثُمَّ عَذَابُهُمْ فِي الْقُبُورِ. وَالْوَجْهُ السَّابِعُ: أَحَدُ الْعَذَابَيْنِ ضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ الْوُجُوهَ وَالْأَدْبَارَ. وَالْآخَرُ عِنْدَ الْبَعْثِ، يُوَكَّلُ بِهِمْ عُنُقُ النَّارِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ مَرَاتِبُ الْحَيَاةِ ثَلَاثَةٌ: حَيَاةُ الدُّنْيَا، وَحَيَاةُ الْقَبْرِ، وَحَيَاةُ الْقِيَامَةِ، فَقَوْلُهُ: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ الْمُرَادُ مِنْهُ عَذَابُ الدُّنْيَا بِجَمِيعِ أَقْسَامِهِ، وَعَذَابُ الْقَبْرِ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَذَابُ فِي الْحَيَاةِ الثَّالِثَةِ، وَهِيَ الْحَيَاةُ فِي الْقِيَامَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ يعني النار المخلدة المؤبدة. [سورة التوبة (9) : الآيات 102 الى 103] وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) [في قوله تعالى وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. تَابُوا عَنِ النِّفَاقِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، لَا لِلْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، لَكِنْ لِلْكَسَلِ، ثُمَّ نَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا ثُمَّ تَابُوا، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: وَآخَرُونَ عِطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَالْعَطْفُ يُوهِمُ التَّشْرِيكَ إِلَّا أَنَّهُ/ تَعَالَى وَفَّقَهُمْ حَتَّى تَابُوا، فَلَمَّا ذَكَرَ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ بِالْمُرُودِ عَلَى النِّفَاقِ وَالْمُبَالَغَةِ فِيهِ. وَصَفَ هَذِهِ الْفِرْقَةَ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِقْلَاعِ عَنِ النِّفَاقِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَةً: أَبُو لُبَابَةَ مَرْوَانُ بْنُ عَبَدِ الْمُنْذِرِ، وَأَوْسُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَوَدِيعَةُ بْنُ حِزَامٍ، وَقِيلَ: كَانُوا عَشَرَةً. فَسَبْعَةٌ مِنْهُمْ أَوْثَقُوا أَنْفُسَهُمْ لَمَّا بَلَغَهُمْ مَا نَزَلَ فِي الْمُتَخَلِّفِينَ فَأَيْقَنُوا بِالْهَلَاكِ، وَأَوْثَقُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى سَوَارِي الْمَسْجِدِ فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَكَانَتْ هَذِهِ عَادَتَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ ورآهم مؤثقين، سَأَلَ عَنْهُمْ فَذُكِرَ لَهُ أَنَّهُمْ أَقْسَمُوا أَنْ لَا يَحُلُّوا أَنْفُسَهُمْ حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يَحُلُّهُمْ، فَقَالَ: وَأَنَا أُقْسِمُ أَنِّي لا أحلهم حتى أومر فِيهِمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَأَطْلَقَهُمْ وَعَذَرَهُمْ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ أَمْوَالُنَا وَإِنَّمَا تَخَلَّفْنَا عَنْكَ بِسَبَبِهَا، فَتَصَدَّقْ بِهَا وَطَهِّرْنَا، فَقَالَ: مَا أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ شَيْئًا فَنَزَلَ قوله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: 103] الْآيَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الِاعْتِرَافُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالشَّيْءِ عَنْ مَعْرِفَةٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِذَنْبِهِمْ، وَفِيهِ دَقِيقَةٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَمْ يَعْتَذِرُوا عَنْ تَخَلُّفِهِمْ بِالْأَعْذَارِ الْبَاطِلَةِ كَغَيْرِهِمْ، وَلَكِنِ اعْتَرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ بِئْسَمَا فَعَلُوا وَأَظْهَرُوا النَّدَامَةَ وَذَمُّوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى ذَلِكَ التَّخَلُّفِ. فَإِنْ قِيلَ: الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ هَلْ يَكُونُ تَوْبَةً أَمْ لَا؟ قُلْنَا: مُجَرَّدُ الِاعْتِرَافِ بِالذَّنْبِ لَا يَكُونُ تَوْبَةً، فَأَمَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِهِ النَّدَمُ عَلَى الْمَاضِي، وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَكَانَ هَذَا النَّدَمُ وَالتَّوْبَةُ لِأَجْلِ كَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، كَانَ هَذَا الْمَجْمُوعُ تَوْبَةً، إِلَّا أَنَّهُ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ تَابُوا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وَالْمُفَسِّرُونَ قَالُوا: إِنَّ عَسَى مِنَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي هَذَا الْعَمَلِ الصَّالِحِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ وَالنَّدَامَةُ عَلَيْهِ وَالتَّوْبَةُ مِنْهُ، وَالسَّيِّءُ هُوَ التَّخَلُّفُ عَنِ الْغَزْوِ. وَالثَّانِي: الْعَمَلُ الصَّالِحُ خُرُوجُهُمْ مَعَ الرَّسُولِ إِلَى سَائِرِ الْغَزَوَاتِ وَالسَّيِّءُ هُوَ تَخَلُّفُهُمْ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ كَانَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ إِقْدَامَهُمْ عَلَى أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي صَدَرَتْ عَنْهُمْ. الْبَحْثُ الثَّانِي: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ جُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالسَّيِّءِ مَخْلُوطًا. فَمَا الْمَخْلُوطُ بِهِ. وَجَوَابُهُ أَنَّ الْخَلْطَ عِبَارَةٌ عَنِ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، وَأَمَّا قَوْلُكَ خَلَطْتُهُ، فَإِنَّمَا يَحْسُنُ فِي الْمَوْضِعِ/ الَّذِي يَمْتَزِجُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، وَيَتَغَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَبَبِ تِلْكَ الْمُخَالَطَةِ عَنْ صِفَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ كَقَوْلِكَ خَلَطْتُ الْمَاءَ بِاللَّبَنِ. وَاللَّائِقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ الْجَمْعُ الْمُطْلَقُ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْعَمَلَ السَّيِّءَ إِذَا حَصَلَا بَقِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا كَانَ عَلَى مَذْهَبِنَا، فَإِنَّ عِنْدَنَا الْقَوْلَ بِالْإِحْبَاطِ بَاطِلٌ، وَالطَّاعَةَ تَبْقَى مُوجِبَةً لِلْمَدْحِ وَالثَّوَابِ، وَالْمَعْصِيَةَ تَبْقَى مُوجِبَةً لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى نَفْيِ الْقَوْلِ

بِالْمُحَابَطَةِ، وَأَنَّهُ بَقِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَأَثَّرَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَمِمَّا يُعِيِنُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى نَفْيِ الْقَوْلِ بِالْمُحَابَطَةِ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْعَمَلَ السَّيِّءَ بِالْمُخَالَطَةِ. وَالْمُخْتَلِطَانِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَا بَاقِيَيْنِ حَالَ اخْتِلَاطِهِمَا، لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ صِفَةٌ لِلْمُخْتَلِطِينَ، وَحُصُولُ الصِّفَةِ حَالَ عَدَمِ الْمَوْصُوفِ مُحَالٌ، فَدَلَّ عَلَى بَقَاءِ الْعَمَلَيْنِ حَالَ الِاخْتِلَاطِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وَفِيهِ مباحث: البحث الأول: هاهنا سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ كَلِمَةَ (عَسَى) شَكٌّ وَهُوَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَلِمَةُ عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [الْمَائِدَةِ: 52] وَفَعَلَ ذَلِكَ، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى عُرْفِ النَّاسِ فِي الْكَلَامِ، وَالسُّلْطَانُ الْعَظِيمُ إِذَا الْتَمَسَ الْمُحْتَاجُ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يُجِيبُ إِلَيْهِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّرَجِّي مَعَ كَلِمَةِ عَسَى، أَوْ لَعَلَّ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُلْزِمَنِي شَيْئًا وَأَنْ يُكَلِّفَنِي بِشَيْءٍ بَلْ كُلُّ مَا أَفْعَلُهُ فَإِنَّمَا أَفْعَلُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ وَالتَّطَوُّلِ، فَذِكْرُ كَلِمَةِ (عَسَى) الْفَائِدَةُ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى، مَعَ أَنَّهُ يُفِيدُ الْقَطْعَ بِالْإِجَابَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ، الْمَقْصُودِ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ عَلَى الطَّمَعِ وَالْإِشْفَاقِ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالْإِهْمَالِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ أَصْحَابُنَا قَوْلُهُ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ صَرِيحٌ فِي أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْعَقْلُ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّوْبَةِ النَّدَمُ، وَالنَّدَمُ لَا يَحْصُلُ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ لِأَنَّ إِرَادَةَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ إِنْ كَانَتْ فِعْلًا لِلْعَبْدِ افْتَقَرَ فِي فِعْلِهَا إِلَى إِرَادَةٍ أُخْرَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ عَظِيمَ الرَّغْبَةِ فِي فِعْلٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ يَصِيرُ عَظِيمَ النَّدَامَةِ عَلَيْهِ، وَحَالَ كَوْنِهِ رَاغِبًا فِيهِ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ تِلْكَ الرَّغْبَةِ عَنِ الْقَلْبِ، وَحَالَ صَيْرُورَتِهِ نَادِمًا عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ تِلْكَ النَّدَامَةِ عَنِ الْقَلْبِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِلْعَبْدِ عَلَى تَحَصُّلِ النَّدَامَةِ، وَعَلَى تَحْصِيلِ الرَّغْبَةِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَتُوبُ اللَّهُ أَنَّهُ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الصَّرْفَ عَنِ الظَّاهِرِ إِنَّمَا يَحْسُنُ، إِذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى ظاهره، أما هاهنا، فَالدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ إِلَّا عَلَى ظَاهِرِهِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ التَّأْوِيلُ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَقَوْلُهُ: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِرَافَ حَصَلَ فِي الْمَاضِي، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِرَافَ مَا كَانَ نَفْسَ التَّوْبَةِ، بَلْ كَانَ مُقَدِّمَةً لِلتَّوْبَةِ، وَأَنَّ التَّوْبَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بَعْدَهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُرَادِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا رَاجِعٌ إِلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَابُوا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ بَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ لِلصَّدَقَةِ، فَأَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى أَخْذَهَا، وَصَارَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا فِي كَمَالِ تَوْبَتِهِمْ لِتَكُونَ جَارِيَةً فِي حَقِّهِمْ مَجْرَى الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَكَانَ يَقُولُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ، وَإِنَّمَا هِيَ صَدَقَةُ كَفَّارَةِ الذَّنْبِ الَّذِي صَدَرَ منهم.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الزَّكَوَاتِ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا تَابُوا مِنْ تَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْغَزْوِ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ، وَبَذَلُوا الزَّكَاةَ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُمْ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا إِيجَابُ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِذِ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِيجَابِ الزَّكَوَاتِ. وَقَالُوا فِي الزَّكَاةِ إِنَّهَا طُهْرَةٌ، أَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ: فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الْآيَاتِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مُنْتَظِمَةً مُتَنَاسِقَةً، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الزَّكَوَاتِ الْوَاجِبَةِ ابْتِدَاءً، لَمْ يَبْقَ لِهَذِهِ الْآيَةِ تَعَلُّقٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَلَا بِمَا بَعْدَهَا، وَصَارَتْ كَلِمَةً أَجْنَبِيَّةً، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَخْذُ الزَّكَوَاتِ الْوَاجِبَةِ، قَالُوا: الْمُنَاسَبَةُ حَاصِلَةٌ أَيْضًا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَظْهَرُوا التَّوْبَةَ وَالنَّدَامَةَ، عَنْ تَخَلُّفِهِمْ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهُمْ أَقَرُّوا بِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِذَلِكَ التَّخَلُّفِ حُبُّهُمْ لِلْأَمْوَالِ وَشِدَّةُ حِرْصِهِمْ عَلَى صَوْنِهَا عَنِ الْإِنْفَاقِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ إِنَّمَا يَظْهَرُ صِحَّةُ قَوْلِكُمْ فِي ادِّعَاءِ هَذِهِ التَّوْبَةِ وَالنَّدَامَةِ لَوْ أَخْرَجْتُمُ الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ، وَلَمْ تُضَايِقُوا فِيهَا، لِأَنَّ الدَّعْوَى لَا تَتَقَرَّرُ إِلَّا بِالْمَعْنَى، وَعِنْدَ الِامْتِحَانِ يُكْرَمُ الرَّجُلُ أَوْ يُهَانُ، فَإِنْ أَدَّوْا تِلْكَ الزَّكَوَاتِ عَنْ طِيبَةِ النَّفْسِ ظَهَرَ كَوْنُهُمْ صَادِقِينَ فِي تِلْكَ التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ، وَإِلَّا فَهُمْ كَاذِبُونَ مُزَوِّرُونَ بِهَذَا الطَّرِيقِ. لَكِنَّ حَمْلَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى التَّكْلِيفِ بِإِخْرَاجِ الزَّكَوَاتِ الْوَاجِبَةِ مع أنه يبق نَظْمُ هَذِهِ الْآيَاتِ سَلِيمًا أَوْلَى، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الصَّدَقَاتُ/ الْوَاجِبَةُ. قَوْلُهُ: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَالْمَعْنَى تُطَهِّرُهُمْ عَنِ الذَّنْبِ بِسَبَبِ أَخْذِ تِلْكَ الصَّدَقَاتِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ قُلْنَا إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْخُذْ تِلْكَ الصَّدَقَةَ لَحَصَلَ الذَّنْبُ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَصِحُّ حُصُولُهُ فِي الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ: فَقَالُوا: إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا عَذَرَ أُولَئِكَ التَّائِبِينَ وَأَطْلَقَهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ أَمْوَالُنَا الَّتِي بِسَبَبِهَا تَخَلَّفْنَا عَنْكَ فَتَصَدَّقْ بِهَا عَنَّا وَطَهِّرْنَا وَاسْتَغْفِرْ لَنَا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ شَيْئًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَاتِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُلُثَ أَمْوَالِهِمْ، وَتَرَكَ الثُّلُثَيْنِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً وَلَمْ يَقُلْ خُذْ أَمْوَالَهُمْ، وَكَلِمَةُ (مِنْ) تُفِيدُ التَّبْعِيضَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ لَا تَمْنَعُ الْقَوْلَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ إِنَّكُمْ لَمَّا رَضِيتُمْ بِإِخْرَاجِ الصَّدَقَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَلِأَنْ تَصِيرُوا رَاضِينَ بِإِخْرَاجِ الْوَاجِبَاتِ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الزَّكَاةِ. الْحُكْمُ الْأَوَّلُ أَنَّ قَوْلَهُ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَدْرَ الْمَأْخُوذَ بَعْضُ تِلْكَ الْأَمْوَالِ لَا كُلُّهَا إِذْ مِقْدَارُ ذَلِكَ الْبَعْضِ غَيْرُ مذكور هاهنا بصريح اللفظ، بل المذكور هاهنا قَوْلُهُ: صَدَقَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ التنكير حتى يكفي أخد أَيِّ جُزْءٍ كَانَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ، مِثْلُ الْحَبَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْحِنْطَةِ أَوِ الْجُزْءِ الْحَقِيرِ مِنَ الذَّهَبِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ صَدَقَةً مَعْلُومَةَ الصِّفَةِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَالْكِمِّيَّةِ عِنْدَهُمْ، حَتَّى يَكُونَ قَوْلُهُ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً أَمْرًا بِأَخْذِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ الْمَعْلُومَةِ، فَحِينَئِذٍ يَزُولُ الْإِجْمَالُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ لَيْسَتْ إِلَّا الصَّدَقَاتُ الَّتِي وَصَفَهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كَيْفِيَّتَهَا، وَالصَّدَقَةُ الَّتِي بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ أَنَّهُ أَمَرَ بِأَنْ يُؤْخَذَ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَفِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَرَاتِبِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً أَمْرًا بِأَنْ يَأْخُذَ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الْمَخْصُوصَةَ وَالْأَعْيَانَ الْمَخْصُوصَةَ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ لِلْوُجُوبِ، فَدَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى أَنَّ

أَخْذَهَا وَاجِبٌ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيمَةَ لا تكون مجزئة عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. الْحُكْمُ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مَالًا لَهُمْ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْفَقِيرُ شَرِيكًا لِلْمَالِكِ فِي النِّصَابِ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الزَّكَاةُ مُتَعَلِّقَةً بِالذِّمَّةِ. وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهَا تَعَلُّقٌ الْبَتَّةَ بِالنِّصَابِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ إِذَا فَرَّطَ فِي الزَّكَاةِ حَتَّى هَلَكَ النِّصَابُ، فَالَّذِي هَلَكَ مَا كَانَ مَحَلًّا لِلْحَقِّ، بَلْ مَحَلُّ الْحَقِّ بَاقٍ كَمَا كَانَ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى ذَلِكَ الْوُجُوبُ بَعْدَ هَلَاكِ النِّصَابِ كَمَا كَانَ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. الْحُكْمُ الثَّالِثُ ظَاهِرُ هَذَا الْعُمُومِ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي مَالِ الْمَدْيُونِ، وَفِي مَالِ الضَّمَانِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. الْحُكْمُ الرَّابِعُ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ طُهْرَةً عَنِ الْآثَامِ، فَلَا تَجِبُ إِلَّا حَيْثُ تَصِيرُ طُهْرَةً عَنِ الْآثَامِ، وَكَوْنُهَا طُهْرَةً عَنِ الْآثَامِ لَا يَتَقَرَّرُ إِلَّا حَيْثُ يُمْكِنُ حُصُولُ الْآثَامِ، وَذَلِكَ لَا يُعْقَلُ إِلَّا فِي حَقِّ الْبَالِغِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ إِلَّا فِي حَقِّ الْبَالِغِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُجِيبُ وَيَقُولُ إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَأَخْذُ الصَّدَقَةِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهَا طُهْرَةً، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ أَخْذَ الزَّكَاةِ مِنْ أَمْوَالِ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ طُهْرَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ انْتِفَاءِ سَبَبٍ مُعَيَّنٍ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ مُطْلَقًا؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: تُطَهِّرُهُمْ أَقْوَالٌ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: خُذْ يَا مُحَمَّدُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً فَإِنَّكَ تُطَهِّرُهُمْ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تُطَهِّرُهُمْ مُعَلَّقًا بِالصَّدَقَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً مُطَهِّرَةً، وَإِنَّمَا حَسُنَ جَعْلُ الصَّدَقَةِ مُطَهِّرَةً لِمَا جَاءَ أَنَّ الصَّدَقَةَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، فَإِذَا أُخِذَتِ الصَّدَقَةُ فَقَدِ انْدَفَعَتْ تِلْكَ الْأَوْسَاخُ فَكَانَ انْدِفَاعُهَا جَارِيًا مَجْرَى التَّطْهِيرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. إِنَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَجَبَ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَتُزَكِّيهِمْ يَكُونُ مُنْقَطِعًا عَنِ الْأَوَّلِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ خُذْ يَا مُحَمَّدُ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ تِلْكَ الصَّدَقَةُ، وَتُزَكِّيهِمْ أَنْتَ بِهَا. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنْ يُجْعَلَ التَّاءُ فِي تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ ضَمِيرَ الْمُخَاطَبِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: تُطَهِّرُهُمْ أَنْتَ أَيُّهَا الْآخِذُ بِأَخْذِهَا مِنْهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِوَاسِطَةِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ تُطْهِرُهُمْ مِنْ أَطْهَرِهِ بِمَعْنَى طَهَّرَهُ وَتُطْهِرْهُمْ بِالْجَزْمِ جَوَابًا لِلْأَمْرِ، وَلَمْ يُقْرَأْ وَتُزَكِّيهِمْ إِلَّا بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَتُزَكِّيهِمْ وَاعْلَمْ أَنَّ التَّزْكِيَةَ لَمَّا كَانَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى التَّطْهِيرِ وَجَبَ حُصُولُ الْمُغَايَرَةِ، فَقِيلَ: التَّزْكِيَةُ مُبَالَغَةٌ فِي التَّطْهِيرِ، وَقِيلَ: التَّزْكِيَةُ بِمَعْنَى الْإِنْمَاءِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ/ النُّقْصَانَ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ إِخْرَاجِ قَدْرِ الزَّكَاةِ سَبَبًا لِلْإِنْمَاءِ، وَقِيلَ: الصَّدَقَةُ تُطَهِّرُهُمْ عَنْ نَجَاسَةِ الذَّنْبِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَالرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُزَكِّيهِمْ وَيُعَظِّمُ شَأْنَهُمْ وَيُثْنِي عَلَيْهِمْ عِنْدَ إِخْرَاجِهَا إِلَى الْفُقَرَاءِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ إِنَّ صَلاتَكَ بِغَيْرِ وَاوٍ وَفَتْحِ التَّاءِ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْجِنْسُ، وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ هُودٍ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ بِغَيْرِ وَاوٍ وَعَلَى التَّوْحِيدِ، وَالْبَاقُونَ صَلَوَاتِكَ وَكَذَلِكَ فِي هُودٍ عَلَى الْجَمْعِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَوْلَى لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَكْثَرُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَالصَّلَوَاتُ جَمْعُ قِلَّةٍ، تَقُولُ ثَلَاثُ صَلَوَاتٍ وَخَمْسُ صَلَوَاتٍ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ بِنَاءَ الصَّلَوَاتِ لَيْسَ لِلْقِلَّةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [لُقْمَانَ: 27] وَلَمْ يُرِدِ الْقَلِيلَ وَقَالَ: وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ [سَبَأٍ: 37] وَقَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ [الْأَحْزَابِ: 35] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ مَانِعُو الزَّكَاةِ فِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ بِأَخْذِ الصَّدَقَاتِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ وَذَكَرَ أَنَّ صَلَاتَهُ سَكَنٌ لَهُمْ، فَكَانَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ مَشْرُوطًا بِحُصُولِ ذَلِكَ السَّكَنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَيْرَ الرَّسُولِ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي حُصُولِ ذَلِكَ السَّكَنِ. فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَى أَحَدٍ غَيْرَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ سَائِرَ الْآيَاتِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ دَفْعًا لِحَاجَةِ الْفَقِيرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ [التَّوْبَةِ: 60] وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذَّارِيَاتِ: 19] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الدُّعَاءِ، فَإِذَا قُلْنَا صَلَّى فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ، أَفَادَ الدُّعَاءَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ الْأَصْلِيَّةِ. إِلَّا أَنَّهُ صَارَ بِحَسَبِ الْعُرْفِ يُفِيدُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ، فَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ ادْعُ لَهُمْ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالسُّنَّةُ لِلْإِمَامِ إِذَا أَخَذَ الصَّدَقَةَ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُتَصَدِّقِ وَيَقُولَ: آجَرَكَ اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَبْقَيْتَ، وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى فُلَانٍ، وَنَقَلُوا عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَنَّ آلَ أَبِي أَوْفَى لَمَّا أَتَوْهُ بِالصَّدَقَةِ قَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» وَنَقَلَ الْقَاضِي فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنِ الْكَعْبِيِّ فِي «تَفْسِيرِهِ» أَنَّهُ قَالَ عَلِيٌّ لِعُمَرَ وَهُوَ مُسَجًّى عَلَيْكَ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ لَا تَنْبَغِي الصَّلَاةُ مِنْ أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا فِي حَقِّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ أَصْحَابَنَا يَمْنَعُونَ مِنْ ذِكْرِ صَلَوَاتِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَّا فِي حَقِّ الرَّسُولِ، وَالشِّيعَةُ يَذْكُرُونَهُ فِي عَلِيٍّ وَأَوْلَادِهِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ دَلَّ عَلَى أَنَّ/ هَذَا الذِّكْرَ جَائِزٌ فِي حَقِّ مَنْ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ، فَكَيْفَ يُمْنَعُ ذِكْرُهُ فِي حَقِّ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؟ وَرَأَيْتُ بَعْضَهُمْ قَالَ: أَلَيْسَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ سَلَامُ عَلَيْكُمْ يُقَالُ لَهُ وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ؟ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ ذِكْرَ هَذَا اللَّفْظِ جَائِزٌ فِي حَقِّ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ ذِكْرُهُ فِي حَقِّ آلِ بَيْتِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟ قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ جَائِزٌ فِي حَقِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَرَفْنَا السَّلَامَ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ

عَلَيْكَ؟ فَقَالَ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ قُولُوا: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ» وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي آلِ مُحَمَّدٍ نَبِيٌّ، فَيَتَنَاوَلُ عَلِيًّا ذَلِكَ كَمَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي آلِ إِبْرَاهِيمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: كُنْتُ قَدْ ذَكَرْتُ لِطَائِفَ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَهِيَ غَيْرُ لَائِقَةٍ بِهَذَا الْمَوْضِعِ إِلَّا أني رأيت أن أكتبها هاهنا لِئَلَّا تَضِيعَ، فَقُلْتُ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. فَقَوْلُهُ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ مُبْتَدَأٌ وَهُوَ نَكِرَةٌ، وَزَعَمُوا أَنَّ جَعْلَ النَّكِرَةِ مُبْتَدَأٌ لَا يَجُوزُ، قَالُوا لِأَنَّ الْإِخْبَارَ إِنَّمَا يُفِيدُ إِذَا أَخْبَرَ عَلَى الْمَعْلُومِ بِأَمْرٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: النَّكِرَةُ إِذَا كَانَتْ مَوْصُوفَةً حَسُنَ جَعْلُهَا مُبْتَدَأً كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ [الْبَقَرَةِ: 221] . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَهَهُنَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّنْكِيرَ يَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ [الْبَقَرَةِ: 96] وَالْمَعْنَى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ دَائِمَةٍ كَامِلَةٍ غَيْرِ مُنْقَطِعَةٍ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: «سَلَامٌ» لَفْظَةٌ مُنَكَّرَةٌ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ سَلَامٌ كَامِلٌ تَامٌّ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ النَّكِرَةُ مَوْصُوفَةً، فَصَحَّ جَعْلُهَا مُبْتَدَأً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الْخَبَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ: «عَلَيْكُمْ» وَالتَّقْدِيرُ: سَلَامٌ كَامِلٌ تَامٌّ عَلَيْكُمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: «عَلَيْكُمْ» صِفَةً لِقَوْلِهِ: «سَلَامٌ» فَيَكُونُ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ: «سَلَامٌ عَلَيْكُمْ» مُبْتَدَأً وَيُضْمَرُ لَهُ خَبَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَاقِعٌ كَائِنٌ حَاصِلٌ، وَرُبَّمَا كَانَ حَذْفُ الْخَبَرِ أَدَلَّ عَلَى التَّهْوِيلِ وَالتَّفْخِيمِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ عِنْدَ الْجَوَابِ يُقْلَبُ هَذَا التَّرْتِيبُ فَيُقَالُ وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، وَالسَّبَبُ فِيهِ مَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ إِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ وَالَّذِي هُمْ بِشَأْنِهِ أَعَنَى، فَلَمَّا قَالَ وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ دَلَّ عَلَى أَنَّ اهْتِمَامَ هَذَا الْمُجِيبِ بِشَأْنِ ذَلِكَ الْقَائِلِ شَدِيدٌ كَامِلٌ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: «وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ» يُفِيدُ الْحَصْرَ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ إِنْ كُنْتَ قَدْ أَوْصَلْتَ السَّلَامَ إِلَيَّ فَأَنَا أَزِيدُ عَلَيْهِ وَأَجْعَلُ السَّلَامَ مُخْتَصًّا بِكَ وَمَحْصُورًا فِيكَ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها [النِّسَاءِ: 86] وَمِنْ لَطَائِفِ قَوْلِهِ: «سَلَامٌ عَلَيْكُمْ» أَنَّهَا أَكْمَلُ مِنْ قَوْلِهِ: «السَّلَامُ عَلَيْكَ» وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: «سَلَامٌ عَلَيْكَ» مَعْنَاهُ: سَلَامٌ كَامِلٌ/ تَامٌّ شَرِيفٌ رَفِيعٌ عَلَيْكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ، فَالسَّلَامُ لَفْظٌ مُفْرَدٌ مُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا أَصْلَ الْمَاهِيَّةِ، وَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى أَصْلِ الْمَاهِيَّةِ لَا إِشْعَارَ فِيهِ بِالْأَحْوَالِ الْعَارِضَةِ لِلْمَاهِيَّةِ وَبِكِمَالَاتِ الْمَاهِيَّةِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: «سَلَامٌ عَلَيْكَ» أَكْمَلَ مِنْ قَوْلِهِ: «السَّلَامُ عَلَيْكَ» وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ أَيْنَمَا جَاءَ لَفْظُ «السَّلَامِ» مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ، كَقَوْلِهِ: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الْأَنْعَامِ: 54] وَقَوْلِهِ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النَّمْلِ: 59] وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ كَثِيرٌ. أَمَّا لَفْظُ «السَّلَامِ» بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَإِنَّمَا جَاءَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، كَقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه: 47] وَأَمَّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ [مَرْيَمَ: 15] وَهَذَا السَّلَامُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي قِصَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ [مَرْيَمَ: 33] وَهَذَا كَلَامُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ قَوْلَهُ: «سَلَامٌ عَلَيْكَ» أَكْمَلُ مِنْ قَوْلِهِ: «السَّلَامُ عَلَيْكَ» فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَارَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ قَوْلَهُ: سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ، وَمِنْ لَطَائِفِ السَّلَامِ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ مَعْدِنُ الشُّرُورِ وَالْآفَاتِ وَالْمِحَنِ وَالْمُخَالَفَاتِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ الْبَاحِثُونَ

عَنْ أَسْرَارِ الْأَخْلَاقِ، أَنَّ الْأَصْلَ فِي جِبِلَّةِ الْحَيَوَانِ الْخَيْرُ أَوِ الشَّرُّ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأَصْلُ فِيهَا الشَّرُّ، وَهَذَا كَالْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ بَيْنَ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ، بَلْ نَزِيدُ وَنَقُولُ: إِنَّهُ كَالْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ بَيْنَ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَرَى إِنْسَانًا يَعْدُو إِلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ، فَإِنَّ طَبْعَهُ يَحْمِلُهُ على الاحتراز عنه وَالتَّأَهُّبِ لِدَفْعِهِ، وَلَوْلَا أَنَّ طَبْعَهُ يَشْهَدُ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِنْسَانِ الشَّرُّ، وَإِلَّا لَمَا أَوْجَبَتْ فِطْرَةُ الْعَقْلِ التَّأَهُّبَ لِدَفْعِ شَرِّ ذَلِكَ السَّاعِي إِلَيْهِ، بَلْ قَالُوا: هَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ فِي كُلِّ الْحَيَوَانَاتِ، فَإِنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ عَدَا إِلَيْهِ حَيَوَانٌ آخَرُ فَرَّ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ الْأَوَّلُ وَاحْتَرَزَ مِنْهُ، فَلَوْ تَقَرَّرَ فِي طَبْعِهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا الْوَاصِلِ هُوَ الْخَيْرَ لَوَجَبَ أَنْ يَقِفَ، لِأَنَّ أَصْلَ الطَّبِيعَةِ يَحْمِلُ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي وِجْدَانِ الْخَيْرِ، وَلَوْ كَانَ الْأَصْلُ فِي طَبْعِ الْحَيَوَانِ أَنْ يَكُونَ خَيْرُهُ وَشَرُّهُ عَلَى التَّعَادُلِ وَالتَّسَاوِي، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفِرَارُ وَالْوُقُوفُ مُتَعَادِلِينَ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ كل حيوان نوجه إِلَيْهِ حَيَوَانٌ مَجْهُولُ الصِّفَةِ عِنْدَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْأَوَّلَ يَحْتَرِزُ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ فِطْرَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ، عَلِمْنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْحَيَوَانِ هُوَ الشَّرُّ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: دَفْعُ الشَّرِّ أَهَمُّ مِنْ جَلْبِ الْخَيْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أن دفع الشر يقتضي إِبْقَاءَ الْأَصْلِ أَهَمُّ مِنْ تَحْصِيلِ الزَّائِدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ إِيصَالَ الْخَيْرِ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ لَيْسَ فِي الْوُسْعِ، أَمَّا كَفُّ الشَّرِّ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ دَاخِلٌ فِي الْوُسْعِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِعْلٌ وَالثَّانِيَ تَرْكٌ، وَفِعْلُ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، أَمَّا تَرْكُ/ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مُمْكِنٌ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ دَفْعُ الشَّرِّ فَقَدْ حَصَلَ الشَّرُّ، وَذَلِكَ يُوجِبُ حُصُولَ الْأَلَمِ وَالْحُزْنِ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْمَشَقَّةِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ أَيْضًا إِيصَالُ الْخَيْرِ بَقِيَ الْإِنْسَانُ لَا فِي الْخَيْرِ وَلَا فِي الشَّرِّ، بَلْ عَلَى السَّلَامَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَتَحَمُّلُ هَذِهِ الْحَالَةِ سَهْلٌ. فَثَبَتَ أَنَّ دَفْعَ الشَّرِّ أَهَمُّ مِنْ إِيصَالِ الْخَيْرِ، وَثَبَتَ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ الشُّرُورِ وَالْآفَاتِ وَالْمِحَنِ وَالْبَلِيَّاتِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْحَيَوَانَ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَمُوجَبِ الْفِطْرَةِ مَنْشَأٌ لِلشُّرُورِ، وَإِذَا وَصَلَ إِنْسَانٌ إِلَى إِنْسَانٍ كَانَ أَهَمُّ الْمُهِمَّاتِ أَنْ يُعَرِّفَهُ أَنَّهُ مِنْهُ فِي السَّلَامَةِ وَالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَ الِاصْطِلَاحُ عَلَى أَنْ يَقَعَ ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ بِذِكْرِ السَّلَامِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ «سَلَامٌ عَلَيْكُمْ» وَمِنْ لَطَائِفِ قَوْلِنَا «سَلَامٌ عَلَيْكُمْ» أَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي إِيقَاعَ السَّلَامِ عَلَى جَمَاعَةٍ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ بِحَسَبِ الْعَقْلِ، وَبِحَسَبِ الشَّرْعِ. أَمَّا بِحَسَبِ الشَّرْعِ فَلِأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو عَنْ جَمْعٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفَظُونَهُ وَيُرَاقِبُونَ أَمْرَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ [الِانْفِطَارِ: 10، 11] وَالْعَقْلُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَبَعْضُهَا أَرْوَاحٌ خَيِّرَةٌ عَاقِلَةٌ، وَبَعْضُهَا كَدِرَةٌ خَبِيثَةٌ، وَبَعْضُهَا شَهْوَانِيَّةٌ، وَبَعْضُهَا غَضَبِيَّةٌ، وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ السُّفْلِيَّةِ رُوحٌ عُلْوِيٌّ قَوِيٌّ يَكُونُ كَالْأَبِ لِتِلْكَ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْأَرْوَاحُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الرُّوحِ الْعُلْوِيِّ كَالْأَبْنَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَبِ، وَذَلِكَ الرُّوحُ الْعُلْوِيُّ هُوَ الَّذِي يَخُصُّهَا بِالْإِلْهَامَاتِ، تَارَةً فِي الْيَقَظَةِ، وَتَارَةً فِي النَّوْمِ. وَأَيْضًا الْأَرْوَاحُ الْمُفَارِقَةُ عَنْ أَبْدَانِهَا الْمُشَاكِلَةُ لِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ فِي الصِّفَاتِ وَالطَّبِيعَةِ وَالْخَاصِّيَّةِ. يَحْصُلُ لَهَا نَوْعُ تَعَلُّقٍ بِهَذَا الْبَدَنِ بِسَبَبِ الْمُشَاكَلَةِ وَالْمُجَانَسَةِ، وَتَصِيرُ كَالْمُعَاوِنَةِ لِهَذِهِ الرُّوحِ عَلَى أَعْمَالِهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا السِّرَّ فَالْإِنْسَانُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَصْحُوبًا بِتِلْكَ الْأَرْوَاحِ الْمُجَانِسَةِ لَهُ، فَقَوْلُهُ: «سَلَامٌ عَلَيْكُمْ» إِشَارَةٌ إِلَى تَسْلِيمِ هَذَا الشَّخْصِ الْمَخْصُوصِ عَلَى جَمِيعِ الْأَرْوَاحِ الْمُلَازِمَةِ الْمُصَاحِبَةِ إِيَّاهُ بِسَبَبِ الْمُصَاحَبَةِ الرُّوحَانِيَّةِ. وَمِنْ لَطَائِفِ هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْإِنْسَانِيَّةَ إِذَا اتَّصَفَتْ بِالْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَقَوِيَتْ وَتَجَرَّدَتْ، ثُمَّ قَوِيَ تَعَلُّقُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ انْعَكَسَ أَنْوَارُهَا بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ

[سورة التوبة (9) : آية 104]

عَلَى مِثَالِ الْمِرْآةِ الْمُشْرِقَةِ الْمُتَقَابِلَةِ. فَلِهَذَا السَّبَبِ فإن من أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ وَظِيفَةً عَلَى أُسْتَاذِهِ فَالْأَدَبُ أَنْ يَبْدَأَ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ يَدْعُو لِأُسْتَاذِهِ ثُمَّ يَشْرَعُ فِي الْقِرَاءَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنْ يُقَوِّيَ التَّعَلُّقَ بَيْنَ رُوحِهِ وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْمُقَدَّسَةِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى أَنَّ بِسَبَبِ قُوَّةِ ذَلِكَ التَّعَلُّقِ رُبَّمَا ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ أَنْوَارِهَا وَآثَارِهَا فِي رُوحِ هَذَا الطَّالِبِ، فَيَسْتَقِرُّ فِي عَقْلِهِ مِنَ الْأَنْوَارِ الْفَائِضَةِ مِنْهَا، وَيُقَوِّي رُوحَهُ بِمَدَدِ ذَلِكَ الْفَيْضِ عَلَى إِدْرَاكِ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَإِذَا قَالَ لِغَيْرِهِ: «سَلَامٌ عَلَيْكُمْ» حَدَثَ بَيْنَهُمَا تَعَلُّقٌ شَدِيدٌ، وَحَصَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّعَلُّقِ تَطَابُقِ الْأَرْوَاحَ وَتَعَاكُسِ الْأَنْوَارِ، وَلْنَكْتَفِ/ بِهَذَا الْقَدْرِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْفَصْلَ أَجْنَبِيٌّ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: السَّكَنُ فِي اللُّغَةِ مَا سَكَنْتَ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ صَلَاتَكَ عَلَيْهِمْ تُوجِبُ سُكُونَ نُفُوسِهِمْ إِلَيْكَ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ عِبَارَاتٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: دُعَاؤُكَ رَحْمَةٌ لَهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَقَارٌ لَهُمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: طُمَأْنِينَةٌ لَهُمْ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِذَا اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ سَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبِلَ تَوْبَتَهُمْ. وَأَقُولُ: إِنَّ رُوحَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ رُوحًا قَوِيَّةً مُشْرِقَةً صَافِيَةً بَاهِرَةً، فَإِذَا دَعَا مُحَمَّدٌ لَهُمْ وَذَكَرَهُمْ بِالْخَيْرِ فَاضَتْ آثَارٌ مِنْ قُوَّتِهِ الرُّوحَانِيَّةِ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ، فَأَشْرَقَتْ بِهَذَا السَّبَبِ أَرْوَاحُهُمْ وَصَفَتْ أَسْرَارَهُمْ، وَانْتَقَلُوا مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى النُّورِ، وَمِنَ الْجُسْمَانِيَّةِ إِلَى الرُّوحَانِيَّةِ، وَتَقْرِيرُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ لِقَوْلِهِمْ: عَلِيمٌ بنياتهم. [سورة التوبة (9) : آية 104] أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ أَنَّهُمْ تَابُوا عَنْ ذُنُوبِهِمْ وَأَنَّهُمْ تَصَدَّقُوا وَهُنَاكَ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا قَوْلَهُ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وَمَا كَانَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ وَأَنَّهُ يَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ، وَالْمَقْصُودُ تَرْغِيبُ مَنْ لَمْ يَتُبْ فِي التَّوْبَةِ، وَتَرْغِيبُ كُلِّ الْعُصَاةِ فِي الطَّاعَةِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ قَوْلُهُ: أَلَمْ يَعْلَمُوا وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ، إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّقْرِيرُ فِي النَّفْسِ، وَمِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ فِي إِيهَامِ الْمُخَاطَبِ وَإِزَالَةِ الشَّكِّ عَنْهُ أَنْ يَقُولُوا: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ مَنْ عَلَّمَكَ يَجِبُ عَلَيْكَ خِدْمَتُهُ. أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ يَجِبُ عَلَيْكَ شُكْرُهُ، فَبَشَّرَ اللَّهُ تَعَالَى هَؤُلَاءِ التَّائِبِينَ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ وَصَدَقَاتِهِمْ. ثُمَّ زَادَهُ تَأْكِيدًا بِقَوْلِهِ: هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ أَلَمْ يَعْلَمُوا بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَابُوا يَعْنِي أَلَمْ يَعْلَمُوا قَبْلَ أَنْ يُتَابَ عَلَيْهِمْ/ وَتُقْبَلَ صَدَقَاتُهُمْ، أَنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ الصَّحِيحَةَ، وَيَقْبَلُ الصَّدَقَاتِ الصَّادِرَةَ عَنْ خُلُوصِ النِّيَّةِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرَ التَّائِبِينَ تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي التَّوْبَةِ. رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَكَمَ بِصِحَّةِ تَوْبَتِهِمْ قَالَ: «الَّذِينَ لَمْ يَتُوبُوا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَابُوا كَانُوا بِالْأَمْسِ مَعَنَا لَا يُكَلَّمُونَ وَلَا يُجَالَسُونَ فَمَا لَهُمْ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ فِيهِ فَوَائِدُ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى نَفْسَهُ هاهنا بِاسْمِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ عَقِيبَهُ: هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ إِلَهًا يُوجِبُ قَبُولَ التَّوْبَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي يَمْتَنِعُ تَطَرُّقُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ إِلَيْهِ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَزْدَادَ حَالُهُ بِطَاعَةِ الْمُطِيعِينَ وَأَنْ يَنْتَقِصَ حَالُهُ بِمَعْصِيَةِ الْمُذْنِبِينَ، وَيَمْتَنِعَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لَهُ شَهْوَةٌ إِلَى الطَّاعَةِ، وَنَفْرَةٌ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ نَفْرَتَهُ وَغَضَبَهُ يَحْمِلُهُ عَلَى الِانْتِقَامِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَةِ، هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا دَعَا الْقَلْبُ إِلَى عَالَمِ الْآخِرَةِ وَمَنَازِلِ السُّعَدَاءِ، وَنَهَاهُ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالْجُسْمَانِيَّاتِ الْبَاطِلَةِ، فَهُوَ الْعِبَادَةُ وَالْعَمَلُ الْحَقُّ وَالطَّرِيقُ الصَّالِحُ، وَكُلُّ مَا كَانَ بِالضِّدِّ مِنْهُ فَهُوَ الْمَعْصِيَةُ وَالْعَمَلُ الْبَاطِلُ، فَالْمُذْنِبُ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، وَالْمُطِيعُ لَا يَنْفَعُ إِلَّا نَفْسَهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: 7] فَإِنْ كَانَ الْإِلَهُ رَحِيمًا حَكِيمًا كَرِيمًا وَلَمْ يَكُنْ غَضَبُهُ عَلَى الْمُذْنِبِ لِأَجْلِ أَنَّهُ تَضَرَّرَ بِمَعْصِيَتِهِ، فَإِذَا انْتَقَلَ الْعَبْدُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ كَانَ كَرَمُهُ كَالْمُوجِبِ عَلَيْهِ قَبُولَ تَوْبَتِهِ. فَثَبَتَ أَنَّ الْإِلَهِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ عِبَارَةً عَنْ الِاسْتِغْنَاءِ الْمُطْلَقِ، وَكَانَ الِاسْتِغْنَاءُ الْمُطْلَقُ مُمْتَنِعَ الْحُصُولِ لِغَيْرِهِ، كَانَ قَبُولُ التَّوْبَةِ مِنَ الْغَيْرِ كَالْمُمْتَنِعِ إِلَّا لِسَبَبٍ آخَرَ مُنْفَصِلٍ، أَوْ لِمُعَارِضٍ أَوْ لِمُبَايِنٍ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذَا التَّخْصِيصِ هُوَ أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ لَيْسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا إِلَى اللَّهِ الَّذِي هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ تَارَةً وَيَرُدُّهَا أُخْرَى. فَاقْصُدُوا اللَّهَ بِهَا وَوَجِّهُوهَا إِلَيْهِ، وَقِيلَ لِهَؤُلَاءِ التَّائِبِينَ اعْمَلُوا فَإِنَّ عَمَلَكُمْ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: قَبُولُ التَّوْبَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: قَبُولُ التَّوْبَةِ وَاجِبٌ بِحُكْمِ الْوَعْدِ وَالتَّفَضُّلِ وَالْإِحْسَانِ، أَمَّا عَقْلًا فَلَا. وَحُجَّةُ أَصْحَابِنَا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ قَبُولِ التَّوْبَةِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَتَقَرَّرُ مَعْنَاهُ إِلَّا إِذَا كَانَ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ الْفَاعِلُ لَاسْتَحَقَّ الذَّمَّ، فَلَوْ وَجَبَ قَبُولُ التَّوْبَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَكَانَ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَقْبَلْهَا لَصَارَ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ، وَهَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَكْمَلًا بِفِعْلِ الْقَبُولِ، وَالْمُسْتَكْمَلُ بِالْغَيْرِ نَاقِصٌ لِذَاتِهِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ. الثَّانِي: أَنَّ الذَّمَّ إِنَّمَا يَمْنَعُ مِنَ الْفِعْلِ إِذَا كَانَ بِحَيْثُ يَتَأَذَّى عن سماع ذلك الذم وينفر عنه طَبْعِهِ، وَيَظْهَرُ لَهُ بِسَبَبِهِ نُقْصَانُ حَالٍ، أَمَّا مَنْ كَانَ مُتَعَالِيًا عَنِ الشَّهْوَةِ وَالنَّفْرَةِ/ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ لَا يُعْقَلُ تَحَقُّقُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ بِهَذَا الْمَعْنَى، الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى تَمَدَّحَ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا لَمَا تَمَدَّحَ بِهِ، لِأَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ لَا يُفِيدُ الْمَدْحَ وَالثَّنَاءَ وَالتَّعْظِيمَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: (عَنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَنْ عِبادِهِ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: عَنْ عِبادِهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: مِنْ عِبَادِهِ يُقَالُ: أَخَذْتُ هَذَا مِنْكَ وَأَخَذْتُ هَذَا عَنْكَ. وَالثَّانِي: قَالَ الْقَاضِي: لَعَلَّ (عَنْ) أَبْلَغُ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنِ الْقَبُولِ مَعَ تَسْهِيلِ سَبِيلِهِ إِلَى التَّوْبَةِ الَّتِي قُبِلَتْ، وَأَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ دَلَالَةِ لَفْظَةِ (عَنْ) عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَالَّذِي أَقُولُهُ إِنَّ كَلِمَةَ «عَنْ» وَكَلِمَةَ «مِنْ» مُتَقَارِبَتَانِ، إِلَّا أَنَّ كَلِمَةَ «عَنْ» تُفِيدُ الْبُعْدَ، فَإِذَا قِيلَ: جَلَسَ فُلَانٌ عَنْ يَمِينِ الْأَمِيرِ، أَفَادَ أَنَّهُ جَلَسَ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ لَكِنْ مَعَ ضَرْبٍ مِنَ الْبُعْدِ فَقَوْلُهُ: عَنْ عِبادِهِ يُفِيدُ أَنَّ التَّائِبَ يَجِبُ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ صَارَ مُبْعَدًا عَنْ قَبُولِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الذَّنْبِ، وَيَحْصُلُ لَهُ انْكِسَارُ الْعَبْدِ الَّذِي طَرَدَهُ مَوْلَاهُ، وَبَعَّدَهُ عَنْ حَضْرَةِ نَفْسِهِ، فَلَفْظَةُ «عَنْ» كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ هَذَا الْمَعْنَى لِلتَّائِبِ.

[سورة التوبة (9) : آية 105]

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ فِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآخِذَ هُوَ اللَّهُ وَقَوْلُهُ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآخِذَ هُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمُعَاذٍ: «خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آخِذَ تِلْكَ الصَّدَقَاتِ هُوَ مُعَاذٌ وَإِذَا دُفِعَتِ الصَّدَقَةُ إِلَى الْفَقِيرِ فَالْحِسُّ يَشْهَدُ أَنَّ آخِذَهَا هُوَ الْفَقِيرُ فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي قَوْلِهِ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً أَنَّ الْآخِذَ هُوَ الرَّسُولُ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْآخِذَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ أَخْذَ الرَّسُولِ قَائِمٌ مُقَامَ أَخْذِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى تَعْظِيمِ شَأْنِ الرَّسُولِ مِنْ حَيْثُ أَنَّ أَخْذَهُ لِلصَّدَقَةِ جَارٍ مَجْرَى أَنْ يَأْخُذَهَا اللَّهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْحِ: 10] وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ [الْأَحْزَابِ: 57] وَالْمُرَادُ مِنْهُ إِيذَاءُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَأْمُرُ بِأَخْذِهَا وَيُبَلِّغُ حُكْمَ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ إِلَى النَّاسِ، وَأُضِيفَ إِلَى الْفَقِيرِ بِمَعْنَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُبَاشِرُ الْأَخْذَ، وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ التَّوَفِّي إِلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ [الْأَنْعَامِ: 60] وَأَضَافَهُ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ، وَهُوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السَّجْدَةِ: 11] وَأَضَافَهُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ أَتْبَاعُ مَلَكِ الْمَوْتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا [الْأَنْعَامِ: 61] فَأُضِيفَ إِلَى اللَّهِ بِالْخَلْقِ وَإِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ لِلرِّيَاسَةِ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الْعَمَلِ، وَإِلَى أَتْبَاعِ مَلَكِ الْمَوْتِ، يَعْنِي أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُبَاشِرُونَ الْأَعْمَالَ الَّتِي عِنْدَهَا يخلق الله الموت، فكذا هاهنا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لِهَذِهِ الطَّاعَةِ، وَالْأَخْبَارُ فِيهِ كَثِيرَةٌ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ وَلَا يَقْبَلُ مِنْهَا إِلَّا طَيِّبًا وَأَنَّهُ يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ وَيُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ أَوْ فَصِيلَهُ حَتَّى أَنَّ اللُّقْمَةَ تَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ» وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ فَتَصِلُ إِلَى الَّذِي يُتَصَدَّقُ بِهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَقَعَ فِي كَفِّ اللَّهِ، وَلَمَّا رَوَى الْحَسَنُ هَذَيْنِ الْخَبِرَيْنِ قَالَ: وَيَمِينُ اللَّهِ وَكَفُّهُ وَقَبْضَتُهُ لَا تُوصَفُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: 11] وَاعْلَمْ أَنَّ لفظ اليمين والكف من التقديس. [سورة التوبة (9) : آية 105] وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ جَامِعٌ لِلتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْبُودَ إِذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَمْ يَنْتَفِعِ الْعَبْدُ بِفِعْلِهِ، وَلِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبِيهِ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مَرْيَمَ: 42] وَقُلْتُ فِي بَعْضِ الْمَجَالِسِ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْقَدْحَ فِي إِلَهِيَّةِ الصَّنَمِ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ حَجَرٌ وَخَشَبٌ وَأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِتَصَرُّفِ الْمُتَصَرِّفِينَ، فَمَنْ شَاءَ أَحْرَقَهُ، وَمَنْ شَاءَ كَسَرَهُ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَيْفَ يَتَوَهَّمُ الْعَاقِلُ كَوْنَهُ إِلَهًا؟ بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّ أَكْثَرَ عَبْدَةِ

الْأَصْنَامِ كَانُوا فِي زَمَانِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتْبَاعَ الْفَلَاسِفَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ مُوجَبٌ بِالذَّاتِ، وَلَيْسَ بِمُوجَدٍ بِالْمَشِيئَةِ وَالِاخْتِيَارِ، فَقَالَ: الْمُوجَبُ بِالذَّاتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْخَيْرَاتِ وَلَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْإِنْفَاعِ وَالْإِضْرَارِ، وَلَا يَسْمَعُ دُعَاءَ الْمُحْتَاجِينَ وَلَا يَرَى تَضَرُّعَ الْمَسَاكِينِ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي عِبَادَتِهِ؟ فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ دَلِيلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الطَّعْنَ فِي قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِلَهُ الْعَالَمِ مُوجَبٌ بِالذَّاتِ. أَمَّا إِذَا كَانَ فَاعِلًا مُخْتَارًا وَكَانَ عَالِمًا بِالْجُزْئِيَّاتِ فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ لِلْعِبَادِ الْفَوَائِدُ الْعَظِيمَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَطَاعَ عَلِمَ الْمَعْبُودُ طَاعَتَهُ وَقَدَرَ عَلَى إِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ عَصَاهُ عَلِمَ الْمَعْبُودُ ذَلِكَ، وَقَدَرَ عَلَى إِيصَالِ الْعِقَابِ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَوْلُهُ: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ تَرْغِيبٌ عَظِيمٌ لِلْمُطِيعِينَ، وَتَرْهِيبٌ عَظِيمٌ/ لِلْمُذْنِبِينَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: اجْتَهَدُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّ لِعَمَلِكُمْ فِي الدُّنْيَا حُكْمًا وَفِي الْآخِرَةِ حُكْمًا. أَمَّا حُكْمُهُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ أَنَّهُ يَرَاهُ اللَّهُ وَيَرَاهُ الرَّسُولُ وَيَرَاهُ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنْ كَانَ طَاعَةً حَصَلَ مِنْهُ الثَّنَاءُ الْعَظِيمُ وَالثَّوَابُ الْعَظِيمُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً حَصَلَ مِنْهُ الذَّمُّ الْعَظِيمُ فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَابُ الشَّدِيدُ فِي الْآخِرَةِ. فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ الْوَاحِدَةَ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ الْمَرْءُ إِلَيْهِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَمَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى مَسَائِلَ أُصُولِيَّةٍ. الْحُكْمُ الْأَوَّلُ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى رَائِيًا لِلْمَرْئِيَّاتِ، لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ الْمُعَدَّاةَ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، هِيَ الْإِبْصَارُ، وَالْمُعَدَّاةَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ هِيَ العلم، كما تقول رأيت زيدا فقيها، وهاهنا الرُّؤْيَةُ مُعَدَّاةٌ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ فَتَكُونُ بِمَعْنَى الْإِبْصَارِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُبْصِرًا لِلْأَشْيَاءِ كَمَا أَنَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ [مَرْيَمَ: 42] يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُبْصِرًا وَرَائِيًا لِلْأَشْيَاءِ، وَمِمَّا يُقَوِّي أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا هاهنا عَلَى الْعِلْمِ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ هِيَ الْعِلْمُ لَزِمَ حُصُولُ التَّكْرِيرِ الْخَالِي عَنِ الْفَائِدَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ. الْحُكْمُ الثَّانِي مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ رُؤْيَتُهُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُعَدَّاةٌ إِلَى مفعول واحد، والقوانين اللغوية شاهدة بأن الرُّؤْيَةَ الْمُعَدَّاةَ إِلَى الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ مَعْنَاهَا الْإِبْصَارُ. فَكَانَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ مَعْنَاهَا الْإِبْصَارُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَدَّى هَذِهِ الرُّؤْيَةَ إِلَى عَمَلِهِمْ وَالْعَمَلُ يَنْقَسِمُ إِلَى أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، كَالْإِرَادَاتِ وَالْكَرَاهَاتِ وَالْأَنْظَارِ. وَإِلَى أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، كَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ. فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى رَائِيًا لِلْكُلِّ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا مَرْئِيَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الْجُبَّائِيُّ فَإِنَّهُ كَانَ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى رَائِيًا لِلْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَالِاجْتِمَاعَاتِ وَالْاِفْتِرَاقَاتِ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: إِنْ صَحَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ، فَيَلْزَمُكَ كَوْنُهُ تَعَالَى رَائِيًا لِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، فَأَجَابَ عَنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ إِنَّمَا يَرَوْنَ أَفْعَالَ الْجَوَارِحِ، فَلَمَّا تَقَيَّدَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ فِي حَقِّ الْمَعْطُوفِ وَجَبَ تَقْيِيدُهَا بِهَذَا الْقَيْدِ فِي حَقِّ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَهَذَا بِعِيدٌ لِأَنَّ الْعَطْفَ لَا يُفِيدُ إِلَّا أَصْلَ التَّشْرِيكِ. فَأَمَّا التَّسْوِيَةُ فِي كُلِّ الْأُمُورِ فَغَيْرُ

وَاجِبٍ، فَدُخُولُ التَّخْصِيصِ فِي الْمَعْطُوفِ، لَا يُوجِبُ دُخُولَ التَّخْصِيصَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَيُمْكِنُ/ الْجَوَابُ عَنْ أَصْلِ الِاسْتِدْلَالِ فَيُقَالُ: رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى حَاصِلَةٌ فِي الْحَالِ. وَالْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لفظ الآية وهو قَوْلُهُ: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ أَمْرٌ غَيْرُ حَاصِلٍ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ السِّينَ تَخْتَصُّ بِالِاسْتِقْبَالِ. فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ. فَقَوْلُهُ: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ أَيْ فَسَيُوصِلُ لَكُمْ جَزَاءَ أَعْمَالِكُمْ. وَلِمُجِيبٍ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ، بِأَنَّ إِيصَالَ الْجَزَاءِ إِلَيْهِمْ مَذْكُورٌ بِقَوْلِهِ: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَلَوْ حَمَلْنَا هَذِهِ الرُّؤْيَةَ عَلَى إِيصَالِ الْجَزَاءِ لَزِمَ التَّكْرَارُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ عَمَلَهُمْ لَا يَرَاهُ كُلُّ أَحَدٍ، فَمَا مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ؟ وَالْجَوَابُ: مَعْنَاهُ وَصُولُ خَبَرِ ذَلِكَ الْعَمَلِ إِلَى الْكُلِّ. قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ عَمَلًا فِي صَخْرَةٍ لَا بَابَ لَهَا وَلَا كُوَّةَ لَخَرَجَ عَمَلُهُ إِلَى النَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ» . فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ ذِكْرِ اللَّهِ فِي أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَعْمَالَ هَؤُلَاءِ التَّائِبِينَ؟ قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَجْدَرَ مَا يَدْعُو الْمَرْءَ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْعِزِّ الَّذِي يَلْحَقُهُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ عَظَّمَهُ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ، عَظُمَ فَرَحُهُ بِذَلِكَ وَقَوِيَتْ رَغْبَتُهُ فِيهِ، وَمِمَّا يُنَبِّهُ عَلَى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ أَنَّهُ ذَكَرَ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى أَوَّلًا، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهَا رُؤْيَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُحِقِّينَ الْمُحَقِّقِينَ فِي عُبُودِيَّةِ الْحَقِّ، فَاعْمَلِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كُنْتَ مِنَ الضُّعَفَاءِ الْمَشْغُولِينَ بِثَنَاءِ الْخَلْقِ فَاعْمَلِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ لِتَفُوزَ بِثَنَاءِ الْخَلْقِ، وَهُوَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ شُهَدَاءُ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَةِ: 143] الْآيَةَ، وَالرَّسُولُ شَهِيدُ الْأُمَّةِ، كَمَا قَالَ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاءِ: 41] فَثَبَتَ أَنَّ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ شُهَدَاءُ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالشَّهَادَةُ لَا تَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ الرُّؤْيَةِ، فَذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ أَعْمَالَهُمْ، وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ حُضُورِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الصِّدْقِ وَالسَّدَادِ وَالْعَفَافِ وَالرَّشَادِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْغَيْبُ مَا يُسِرُّونَهُ، وَالشَّهَادَةُ مَا يُظْهِرُونَهُ. وَأَقُولُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْغَيْبُ مَا حَصَلَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ، وَالشَّهَادَةُ الْأَعْمَالُ/ الَّتِي تَظْهَرُ عَلَى جَوَارِحِهِمْ، وَأَقُولُ أَيْضًا مَذْهَبُ حُكَمَاءِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ الْغَائِبَةَ عَنِ الْحَوَاسِّ عِلَلٌ أَوْ كَالْعِلَلِ لِلْمَوْجُودَاتِ الْمَحْسُوسَاتِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ عِلَّةٌ لِلْعَلَمِ بِالْمَعْلُولِ. فَوَجَبَ كَوْنُ الْعِلْمِ بِالْغَيْبِ سَابِقًا عَلَى الْعِلْمِ بِالشَّهَادَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَيْنَمَا جَاءَ هَذَا الْكَلَامُ فِي الْقُرْآنِ كَانَ الْغَيْبُ مُقَدَّمًا عَلَى الشَّهَادَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ تَعَالَى: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ عَلَى الرُّؤْيَةِ، فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ مُغَايِرٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ: وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَإِنْ حَمَلْنَا تِلْكَ الرُّؤْيَةَ عَلَى الْعِلْمِ أَوْ عَلَى إِيصَالِ الثَّوَابِ

[سورة التوبة (9) : آية 106]

جَعَلْنَا قَوْلَهُ: وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ جَارِيًا مَجْرَى التَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ مَعْنَاهُ: بِإِظْهَارِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَالْإِعْزَازِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ بِإِظْهَارِ أَضْدَادِهَا. وَقَوْلُهُ: وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ معناه: ما يظره فِي الْقِيَامَةِ مِنْ حَالِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. ثُمَّ قَالَ: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَالْمَعْنَى يُعَرِّفُكُمْ أَحْوَالَ أَعْمَالِكُمْ ثُمَّ يُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْمُجَازَاةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بَعْدَ التَّعْرِيفِ. لِيَعْرِفَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الَّذِي وَصَلَ إِلَيْهِ عَدْلٌ لَا ظُلْمٌ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ كَانَ فَرَحُهُ وَسَعَادَتُهُ أَكْثَرَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِقَابِ كَانَ غَمُّهُ وَخُسْرَانُهُ أَكْثَرَ. وَقَالَ حُكَمَاءُ الْإِسْلَامِ، الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ الْإِشَارَةُ إِلَى الثَّوَابِ الرُّوحَانِيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَحَمَّلَ أَنْوَاعًا مِنَ الْمَشَاقِّ فِي الْأُمُورِ الَّتِي أَمَرَهُ بِهَا مَوْلَاهُ، فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ مَوْلَاهُ يَرَى كَوْنَهُ مُتَحَمِّلًا لِتِلْكَ الْمَشَاقِّ، عَظُمَ فَرَحُهُ وَقَوِيَ ابْتِهَاجُهُ بِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَلَذَّ مِنَ الْخِلَعِ النَّفِيسَةِ وَالْأَمْوَالِ الْعَظِيمَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ تَعْرِيفُ عِقَابِ الْخِزْيِ وَالْفَضِيحَةِ. وَمِثَالُهُ أَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي خَصَّهُ السُّلْطَانُ بِالْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْإِحْسَانِ إِذَا أَتَى بِأَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَعَاصِي، فَإِذَا حَضَرَ ذَلِكَ الْعَبْدُ عِنْدَ ذَلِكَ السُّلْطَانِ وَعَدَّدَ عَلَيْهِ أَنْوَاعَ قَبَائِحِهِ وَفَضَائِحِهِ، قَوِيَ حُزْنُهُ وَعَظُمَ غَمُّهُ وَكَمُلَتْ فَضِيحَتُهُ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الْعَذَابِ الرُّوحَانِيِّ، وَرُبَّمَا رَضِيَ الْعَاقِلُ بِأَشَدِّ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ الْجُسْمَانِيِّ حَذَرًا مِنْهُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَعْرِيفُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعِقَابِ الرُّوحَانِيِّ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعِصْمَةَ مِنْهُ وَمِنْ سَائِرِ الْعَذَابِ. [سورة التوبة (9) : آية 106] وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) [فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ مُرْجَوْنَ بِغَيْرِ هَمْزٍ وَالْبَاقُونَ بِالْهَمْزِ وَهُمَا لُغَتَانِ. أَرْجَأَتُ الْأَمْرَ وَأَرْجَيْتُهُ بِالْهَمْزِ وَتَرْكِهِ، إِذَا أَخَّرْتَهُ. وَسُمِّيَتِ الْمُرْجِئَةُ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّهُمْ لَا يُجْزِمُونَ الْقَوْلَ بِمَغْفِرَةِ التَّائِبِ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُونَهَا إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لِأَنَّهُمْ يُؤَخِّرُونَ الْعَمَلَ عَنِ الْإِيمَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَسَّمَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْجِهَادِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: التَّائِبُونَ وَهُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ قَبِلَ تَوْبَتَهُمْ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: الَّذِينَ بَقُوا مَوْقُوفِينَ وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقِسْمِ الثَّانِي وَبَيْنَ هَذَا الثَّالِثِ، أو أُولَئِكَ سَارَعُوا إِلَى التَّوْبَةِ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُسَارِعُوا إِلَيْهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَمُرَارَةَ بْنِ الرَّبِيعِ، وَهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، فَقَالَ كَعْبٌ: أَنَا أَفْرَهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ جَمَلًا، فَمَتَى شِئْتُ لَحِقْتُ الرَّسُولَ، فَتَأَخَّرَ أَيَّامًا وَأَيِسَ بَعْدَهَا مِنَ اللُّحُوقِ بِهِ فَنَدِمَ عَلَى صَنِيعِهِ وَكَذَلِكَ صَاحِبَاهُ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ قِيلَ لِكَعْبٍ اعْتَذِرْ إِلَيْهِ مِنْ صَنِيعِكَ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ حتى تنزل توبتي، وأما صاحباه فاعتذر إِلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: «مَا خَلَّفَكُمَا عَنِّي» فَقَالَا: لَا عُذْرَ لَنَا إِلَّا الْخَطِيئَةُ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ فَوَقَفَهُمُ الرَّسُولُ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَنَهَى النَّاسَ عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِاعْتِزَالِ نِسَائِهِمْ وَإِرْسَالِهِنَّ إِلَى أَهَالِيهِنَّ، فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلَالٍ تَسْأَلُ أَنْ تَأْتِيَهُ بِطَعَامٍ فَإِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَأَذِنَ لَهَا فِي ذَلِكَ خَاصَّةً، وَجَاءَ رَسُولٌ مِنَ الشَّامِ إِلَى كَعْبٍ يُرَغِّبُهُ فِي

اللَّحَاقِ بِهِمْ، فَقَالَ كَعْبٌ: بَلَغَ مِنْ خَطِيئَتِي أَنْ طَمِعَ فِيَّ الْمُشْرِكُونَ، قَالَ: فَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ. وَبَكَى هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ حَتَّى خِيفَ عَلَى بَصَرِهِ، فَلَمَّا مَضَى خَمْسُونَ يَوْمًا نَزَلَتْ تَوْبَتُهُمْ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ [التَّوْبَةِ: 117] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ [التَّوْبَةِ: 118] الْآيَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ قَوْمًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَرْجَأَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ حَضْرَتِهِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ أَرْجَأَهُمُ اللَّهُ فَلَمْ يُخْبِرْ عَنْهُمْ مَا عَلِمَهُ مِنْهُمْ وَحَذَّرَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا أَنْ يُنَزِّلَ فِيهِمْ قُرْآنًا. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ كَلِمَةَ «إِمَّا» وَ «إِمَّا» لِلشَّكِّ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْهُ. وَجَوَابُهُ الْمُرَادُ/ مِنْهُ لِيَكُنْ أَمْرُهُمْ عَلَى الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَجَعَلَ أُنَاسٌ يَقُولُونَ هَلَكُوا إِذَا لَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ عُذْرًا، وَآخَرُونَ يَقُولُونَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا نَادِمِينَ عَلَى تَأَخُّرِهِمْ عَنِ الْغَزْوِ وَتَخَلُّفِهِمْ عَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَحْكُمْ بِكَوْنِهِمْ تَائِبِينَ بَلْ قَالَ: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّدَمَ وَحْدَهُ لَا يَكُونُ كَافِيًا فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تِلْكَ الشَّرَائِطُ؟ قُلْنَا: لَعَلَّهُمْ خَافُوا مِنْ أَمْرِ الرَّسُولِ بِإِيذَائِهِمْ أَوْ خَافُوا مِنَ الْخَجْلَةِ وَالْفَضِيحَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَتَوْبَتُهُمْ غَيْرُ صَحِيحَةٍ وَلَا مَقْبُولَةٍ، فَاسْتَمَرَّ عَدَمُ قَبُولِ التَّوْبَةِ إِلَى أَنْ سَهُلَ أَحْوَالُ الْخَلْقِ فِي قَدْحِهِمْ وَمَدْحِهِمْ عِنْدَهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَدِمُوا عَلَى الْمَعْصِيَةِ لِنَفْسِ كَوْنِهَا مَعْصِيَةً، وَعِنْدَ ذَلِكَ صَحَّتْ تَوْبَتُهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْفُو عَنْ غَيْرِ التَّائِبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ الْمُذْنِبِينَ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا أَحَدُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ إِمَّا التَّعْذِيبُ وَإِمَّا التَّوْبَةُ، وَأَمَّا الْعَفْوُ عَنِ الذَّنْبِ مِنْ غَيْرِ التَّوْبَةِ، فَهُوَ قِسْمٌ ثَالِثٌ. فَلَمَّا أَهْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ وَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ. وَالْجَوَابُ: أَنَّا لَا نَقْطَعُ بِحُصُولِ الْعَفْوِ عَنْ جَمِيعِ الْمُذْنِبِينَ، بَلْ نَقْطَعُ بِحُصُولِ الْعَفْوِ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، فَذَلِكَ مَشْكُوكٌ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فَقَطَعَ بِغُفْرَانِ مَا سِوَى الشِّرْكِ، لَكِنْ لَا فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، بَلْ فِي حَقِّ مَنْ يَشَاءُ. فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ الْعَفْوِ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ، عَدَمُ الْعَفْوِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَأَيْضًا فَعَدَمُ الذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْعَدَمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عَبَسَ: 38، 39] وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عَبَسَ: 40، 41] فَهَهُنَا الْمَذْكُورُونَ، إِمَّا الْمُؤْمِنُونَ، وَإِمَّا الْكَافِرُونَ، ثُمَّ إِنَّ عَدَمَ ذِكْرِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ، لَمْ يَدُلَّ عِنْدَ الْجُبَّائِيِّ عَلَى نَفْيِهِ، فكذا هاهنا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أَيْ عَلِيمٌ بِمَا فِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ حَكِيمٌ فيما يحكم فيهم ويقضي عليهم.

[سورة التوبة (9) : آية 107]

[سورة التوبة (9) : آية 107] وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَصْنَافَ الْمُنَافِقِينَ وَطَرَائِقَهُمُ الْمُخْتَلِفَةَ قَالَ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ الَّذِينَ اتَّخَذُوا بِغَيْرِ وَاوٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْبَاقُونَ بِالْوَاوِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِ مَكَّةَ والعراف. فَالْأَوَّلُ: عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَعَامَّةُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَنَوْا مَسْجِدًا يُضَارُّونَ بِهِ مَسْجِدَ قُبَاءَ، وَأَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِصِفَاتٍ أَرْبَعَةٍ: الصِّفَةُ الْأُولَى: ضِرَارًا، وَالضِّرَارُ مُحَاوَلَةُ الضُّرِّ، كَمَا أَنَّ الشِّقَاقَ مُحَاوَلَةُ مَا يَشُقُّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ: ضِراراً لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى: اتَّخَذُوهُ لِلضِّرَارِ وَلِسَائِرِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَهُ، فَلَمَّا حُذِفَتِ اللَّامُ اقْتَضَاهُ الْفِعْلُ فَنُصِبَ. قَالَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مَحْمُولًا عَلَى الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ: اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضَرُّوا بِهِ ضِرَارًا. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَكُفْراً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ بِهِ ضِرَارًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَكُفْرًا بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ اتَّخَذُوهُ لِيَكْفُرُوا فِيهِ بِالطَّعْنِ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْإِسْلَامِ. والصفة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ يُفَرِّقُونَ بِوَاسِطَتِهِ جَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا نَبْنِي مَسْجِدًا فَنُصَلِّي فِيهِ، وَلَا نُصَلِّي خَلْفَ مُحَمَّدٍ، فَإِنْ أَتَانَا فِيهِ صَلَّيْنَا مَعَهُ. وَفَرَّقَنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِهِ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى اخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ، وَبُطْلَانِ الْأُلْفَةِ. وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالُوا: الْمُرَادُ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ، وَالِدُ حَنْظَلَةَ الَّذِي غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَاسِقَ، وَكَانَ قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَتَرَهَّبَ وَطَلَبَ الْعِلْمَ، فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَاهُ، لأنه زالت رئاسته/ وَقَالَ: لَا أَجِدُ قَوْمًا يُقَاتِلُونَكَ إِلَّا قَاتَلْتُكَ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَزَلْ يُقَاتِلُهُ إِلَى يَوْمِ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمُنَافِقِينَ أَنِ اسْتَعِدُّوا بِمَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَسِلَاحٍ، وَابْنُوا لِي مَسْجِدًا فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى قَيْصَرَ، وَآتٍ مِنْ عِنْدِهِ بِجُنْدٍ، فَأُخْرِجُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ. فَبَنَوْا هَذَا الْمَسْجِدَ، وَانْتَظَرُوا مَجِيءَ أَبِي عَامِرٍ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْإِرْصَادُ الِانْتِظَارُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْإِرْصَادُ الِانْتِظَارُ مَعَ الْعَدَاوَةِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: الْإِرْصَادُ، الْإِعْدَادُ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الْفَجْرِ: 14] وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلُ يَعْنِي مِنْ قَبْلِ بِنَاءِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ هَذَا الْمَسْجِدَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعَةِ قَالَ: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى أَيْ لَيَحْلِفُنَّ مَا أَرَدْنَا بِبِنَائِهِ إِلَّا الْفِعْلَةَ الْحُسْنَى وَهُوَ الرِّفْقُ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعَةِ قَالَ: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى أَيْ لَيَحْلِفُنَّ مَا أَرَدْنَا بِبِنَائِهِ إِلَّا الْفِعْلَةَ الْحُسْنَى وَهُوَ الرِّفْقُ بِالْمُسْلِمِينَ فِي التَّوْسِعَةِ عَلَى أَهْلِ الضَّعْفِ وَالْعِلَّةِ وَالْعَجْزِ، عَنِ الْمَصِيرِ إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ

[سورة التوبة (9) : الآيات 108 إلى 110]

قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلَّةِ وَالْحَاجَةِ وَاللَّيْلَةِ الْمُمْطِرَةِ وَاللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَعَ الرَّسُولَ عَلَى أَنَّهُمْ حَلَفُوا كَاذِبِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ مَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ وَمِمَّنْ ذَكَرْنَا الَّذِينَ. [سورة التوبة (9) : الآيات 108 الى 110] لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) [في قَوْلُهُ تَعَالَى لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا بَنَوْا ذَلِكَ الْمَسْجِدَ لِتِلْكَ الْأَغْرَاضِ الْفَاسِدَةِ عِنْدَ ذَهَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلَّةِ وَاللَّيْلَةِ الْمُمْطِرَةِ وَالشَّاتِيَةِ، وَنَحْنُ نُحِبُّ أَنْ تُصَلِّيَ لَنَا فِيهِ وَتَدْعُوَ لَنَا بِالْبَرَكَةِ. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ وَإِذَا قَدِمْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَلَّيْنَا فِيهِ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ سَأَلُوهُ إِتْيَانَ الْمَسْجِدِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَدَعَا بَعْضَ الْقَوْمِ وَقَالَ: انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الظَّالِمِ أَهْلُهُ، فَاهْدِمُوهُ وَخَرِّبُوهُ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَأَمَرَ أَنْ يُتَّخَذَ مَكَانُهُ كُنَاسَةً يُلْقَى فِيهَا الْجِيَفُ وَالْقُمَامَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هَمَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْمَسْجِدِ فَنَادَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: لَا تَقُمْ فِيهِ نَهْيٌ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَنْ يقوم فيه. قال ابن جريح: فَرَغُوا مِنْ إِتْمَامِ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَصَلَّوْا فِيهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَيَوْمَ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ، وَانْهَارَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي هَذَا النَّهْيِ، وَهِيَ أَنَّ أَحَدَ الْمَسْجِدَيْنِ لَمَّا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، وَكَانَتِ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ تَمْنَعُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ التَّقْوَى، كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الثَّانِي. فَإِنْ قِيلَ: كَوْنُ أَحَدِ الْمَسْجِدَيْنِ أَفْضَلُ لَا يُوجِبُ الْمَنْعَ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الثَّانِي. قُلْنَا: التَّعْلِيلُ وَقَعَ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، أَعْنِي كَوْنَ مَسْجِدِ الضِّرَارِ سَبَبًا لِلْمَفَاسِدِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَمَسْجِدِ التَّقْوَى مُشْتَمِلًا عَلَى الْخَيْرَاتِ الْكَثِيرَةِ. وَمِنَ الرَّوَافِضِ مَنْ يَقُولُ: بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي بُنِيَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى التَّقْوَى أَحَقُّ بِالْقِيَامِ فِيهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الَّذِي لَا يَكُونُ كَذَلِكَ. وَثَبَتَ أَنَّ عَلِّيًا مَا كَفَرَ بِاللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى بِالْقِيَامِ بِالْإِمَامَةِ مِمَّنْ كَفَرَ بِاللَّهِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ. وَجَوَابُنَا أَنَّ التَّعْلِيلَ وَقَعَ بِمَجْمُوعِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، فَزَالَ هَذَا السُّؤَالُ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ مَسْجِدَ التَّقْوَى مَا هُوَ؟ قِيلَ: إِنَّهُ مَسْجِدُ قُبَاءَ، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْتِيهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ فَيُصَلِّي فِيهِ، وَالْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مَسْجِدُ الرَّسُولِ عليه السلام، وذكر أن الرجلين اخْتَلَفَا فِيهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَسْجِدُ الرَّسُولِ، وَقَالَ آخَرٌ: قُبَاءُ. فَسَأَلَاهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ هُوَ مَسْجِدِي هَذَا. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَمْنَعُ دُخُولُهُمَا جَمِيعًا تَحْتَ هَذَا

الذِّكْرِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى هُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ، لَرَجُلٌ صَالِحٌ أَحَقُّ أَنْ تُجَالِسَهُ. فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلَى وَاحِدٍ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قِيَامُهُ فِي الْآخَرِ؟ قُلْنَا: الْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَكَانَ هَذَا أَوْلَى، لِلسَّبَبِ الْمَذْكُورِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى رَجَّحَ مَسْجِدَ التَّقْوَى بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بُنِيَ عَلَى التَّقْوَى، وَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِيهِ رِجَالًا يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الطَّهَارَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ التَّطَهُّرُ عَنِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَهَذَا الْقَوْلُ مُتَعَيِّنٌ لِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّ التَّطَهُّرَ عَنِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِحْقَاقِ ثَوَابِهِ وَمَدْحِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ أَصْحَابَ مَسْجِدِ الضِّرَارِ بِمُضَارَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَوَجَبَ كَوْنُ هَؤُلَاءِ بِالضِّدِّ مِنْ صِفَاتِهِمْ. وَمَا ذَاكَ إِلَّا كَوْنُهُمْ مُبَرَّئِينَ عَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. وَالثَّالِثُ: أَنَّ طَهَارَةَ الظَّاهِرِ إِنَّمَا يَحْصُلُ لَهَا أَثَرٌ وَقَدْرٌ عِنْدَ اللَّهِ لَوْ حَصَلَتْ طَهَارَةُ الْبَاطِنِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، أَمَّا لَوْ حَصَلَتْ طَهَارَةُ الْبَاطِنِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَلَمْ تَحْصُلْ نَظَافَةُ الظَّاهِرِ، كَأَنَّ طَهَارَةَ الْبَاطِنِ لَهَا أَثَرٌ، فَكَانَ طَهَارَةُ الْبَاطِنِ أَوْلَى. الرَّابِعُ: رَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَشَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى بَابِ مَسْجِدِ قُبَاءَ، فَإِذَا الْأَنْصَارُ جُلُوسٌ، فَقَالَ: «أَمُؤْمِنُونَ أَنْتُمْ» فَسَكَتَ الْقَوْمُ ثُمَّ أَعَادَهَا. فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَمُؤْمِنُونَ وَأَنَا مَعَهُمْ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَتَرْضُونَ بِالْقَضَاءِ» قَالُوا نَعَمْ. قَالَ: «أَتَصْبِرُونَ عَلَى الْبَلَاءِ» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «أَتَشْكُرُونَ فِي الرَّخَاءِ» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مُؤْمِنُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ» ثُمَّ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ إِنَّ اللَّهَ أَثْنَى عَلَيْكُمْ فَمَا الَّذِي تَصْنَعُونَ فِي الْوُضُوءِ» قَالُوا: نُتْبِعُ الْمَاءَ الْحَجَرَ. فَقَرَأَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا الْآيَةَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ بَعْدَ الْحَجَرِ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَخْبَارِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى كِلَا الْأَمْرَيْنِ، وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ لَفْظَ الطَّهَارَةِ حَقِيقَةٌ فِي الطَّهَارَةِ عَنِ النَّجَاسَاتِ الْعَيْنِيَّةِ، وَمَجَازٌ فِي الْبَرَاءَةِ عَنِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ، وَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعًا لَا يَجُوزُ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ لَفْظَ النَّجَسِ اسْمٌ لِلْمُسْتَقْذَرِ، وَهُوَ الْقَدْرُ مَفْهُومٌ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، فَإِنَّهُ يَزُولُ السُّؤَالُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَعَادَ السَّبَبَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ كَوْنُ الْمَسْجِدِ مَبْنِيًّا عَلَى التَّقْوَى، فَقَالَ: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ وَفِيهِ مَبَاحِثُ. الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْبُنْيَانُ مَصْدَرٌ كَالْغُفْرَانِ، والمراد هاهنا الْمَبْنِيُّ، وَإِطْلَاقُ لِفَظِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ، يُقَالُ هَذَا ضَرْبُ الْأَمِيرِ وَنَسْجُ زَيْدٍ، وَالْمُرَادُ مَضْرُوبُهُ وَمَنْسُوجُهُ، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يكون لبيان جَمْعَ بُنْيَانَةٍ إِذَا جَعَلْتَهُ اسْمًا، لِأَنَّهُمْ قَالُوا بُنْيَانَةٌ فِي الْوَاحِدِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَذَلِكَ الْفَاعِلُ هُوَ الْبَانِي وَالْمُؤَسِّسُ، أَمَّا قَوْلُهُ: عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ أَيْ لِلْخَوْفِ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ وَالرَّغْبَةِ فِي ثَوَابِهِ، وَذَلِكَ

لِأَنَّ الطَّاعَةَ لَا تَكُونُ طَاعَةً إِلَّا عِنْدَ هَذِهِ الرَّهْبَةِ وَالرَّغْبَةِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْبَانِيَ لَمَّا بَنَى ذَلِكَ الْبِنَاءَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِلرَّهْبَةِ مِنْ عِقَابِهِ، وَالرَّغْبَةِ فِي ثَوَابِهِ، كَانَ ذَلِكَ الْبِنَاءُ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ مِنَ الْبِنَاءِ الَّذِي بَنَاهُ الْبَانِي لِدَاعِيَةِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالْإِضْرَارِ بِعِبَادِ اللَّهِ، أَمَّا قَوْلُهُ: أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ فَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ جُرُفٍ سَاكِنَةَ الرَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ، جُرُفٌ وَجُرْفٌ كَشُغُلٍ وَشُغْلٍ وَعُنُقٍ وَعُنْقٍ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الشَّفَا الشَّفِيرُ، وَشَفَا الشَّيْءِ حَرْفُهُ، وَمِنْهُ يُقَالُ أَشَفَى عَلَى كَذَا إِذَا دَنَا مِنْهُ، وَالْجُرُفُ هُوَ مَا إِذَا سَالَ السَّيْلُ وَانْحَرَفَ الْوَادِي وَيَبْقَى عَلَى طَرَفِ السَّيْلِ طِينٌ وَاهٍ مُشْرِفٌ عَلَى السُّقُوطِ سَاعَةً فَسَاعَةً. فَذَلِكَ الشَّيْءُ هُوَ الْجُرُفُ، وَقَوْلُهُ: هارٍ قَالَ اللَّيْثُ: الْهَوْرُ مَصْدَرُ هَارَ الْجُرُفُ يَهُورُ، إِذَا انْصَدَعَ مِنْ خَلْفِهِ، وَهُوَ ثَابِتٌ بَعْدُ فِي مَكَانِهِ، وَهُوَ جُرُفٌ هَارٌ هَائِرٌ، فَإِذَا سَقَطَ فَقَدِ انْهَارَ وَتَهَوَّرَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فَنَقُولُ: الْمَعْنَى أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَ دِينِهِ عَلَى قَاعِدَةٍ قَوِيَّةٍ مُحْكَمَةٍ وَهِيَ الْحَقُّ الَّذِي هُوَ تَقْوَى اللَّهِ وَرِضْوَانُهُ خَيْرٌ، أَمَّنْ أَسَّسَ عَلَى قَاعِدَةٍ هِيَ أَضْعَفُ الْقَوَاعِدِ وَأَقَلُّهَا بَقَاءً، وَهُوَ الْبَاطِلُ؟ وَالنِّفَاقُ الَّذِي مِثْلُهُ مِثْلُ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ مِنْ أَوْدِيَةِ جَهَنَّمَ فَلِكَوْنِهِ شَفا جُرُفٍ هارٍ كَانَ مُشْرِفًا عَلَى السُّقُوطِ، وَلِكَوْنِهِ عَلَى طَرَفِ جَهَنَّمَ، كَانَ إِذَا انْهَارَ فَإِنَّمَا يَنْهَارُ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ، وَلَا نَرَى فِي الْعَالَمِ مِثَالَا أَكْثَرَ مُطَابَقَةً لِأَمْرِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ هَذَا الْمِثَالِ! وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ أَحَدَ الْبِنَاءَيْنِ قَصَدَ بَانِيهِ بِبِنَائِهِ تَقْوَى اللَّهِ وَرِضْوَانَهُ، وَالْبِنَاءَ الثَّانِيَ قَصَدَ بَانِيهِ بِبِنَائِهِ الْمَعْصِيَةَ وَالْكُفْرَ، فَكَانَ الْبِنَاءُ الْأَوَّلُ شَرِيفًا وَاجِبَ الْإِبْقَاءِ، وَكَانَ الثَّانِي خَسِيسًا وَاجِبَ الْهَدْمِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَالْمَعْنَى: أَنَّ بِنَاءَ ذَلِكَ الْبُنْيَانِ صَارَ سَبَبًا لِحُصُولِ الرِّيبَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَجَعَلَ نَفْسَ ذَلِكَ الْبُنْيَانِ رِيبَةً لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلرِّيبَةِ. وَفِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِلرِّيبَةِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ عَظُمَ فَرَحُهُمْ بِبِنَاءِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، فَلَمَّا أَمَرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْرِيبِهِ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَازْدَادَ بُغْضُهُمْ لَهُ وَازْدَادَ ارْتِيَابُهُمْ فِي نُبُوَّتِهِ. الثَّانِي: أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَمَرَ بِتَخْرِيبِ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ ظَنُّوا أَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ بِتَخْرِيبِهِ لِأَجْلِ الْحَسَدِ، فَارْتَفَعَ أَمَانُهُمْ عَنْهُ وَعَظُمَ خَوْفُهُمْ مِنْهُ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، وَصَارُوا مُرْتَابِينَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَتْرُكُهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ/ أَوْ يَأْمُرُ بِقَتْلِهِمْ وَنَهْبِ أَمْوَالِهِمْ؟ الثَّالِثُ: أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ كَانُوا مُحْسِنِينَ فِي بِنَاءِ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا أَمَرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِتَخْرِيبِهِ بَقُوا شَاكِّينَ مُرْتَابِينَ فِي أَنَّهُ لِأَيِّ سَبَبٍ أَمَرَ بِتَخْرِيبِهِ؟ الرَّابِعُ: بَقُوا شَاكِّينَ مُرْتَابِينَ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هَلْ يَغْفِرُ تِلْكَ الْمَعْصِيَةَ؟ أَعْنِي سَعْيَهُمْ فِي بِنَاءِ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ. ثُمَّ قَالَ: إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةُ أَنْ تَقَطَّعَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالطَّاءِ مُشَدَّدَةً بِمَعْنَى تَتَقَطَّعُ، فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَعَنِ ابْنِ كَثِيرٍ تَقَطَّعَ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَتَسْكِينِ الْقَافِ قُلُوبِهِمْ بِالنَّصْبِ أَيْ تَفْعَلُ أَنْتَ بِقُلُوبِهِمْ هَذَا الْقَطْعَ، وَقَوْلُهُ: تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ أَيْ تُجْعَلُ قُلُوبُهُمْ قِطَعًا، وَتُفَرَّقُ أَجْزَاءً إِمَّا بِالسَّيْفِ وَإِمَّا بِالْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ، فَحِينَئِذٍ تَزُولُ تِلْكَ الرِّيبَةُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الرِّيبَةَ بَاقِيَةٌ فِي قُلُوبِهِمْ أَبَدًا وَيَمُوتُونَ عَلَى هَذَا النِّفَاقِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِلَّا أَنْ يَتُوبُوا تَوْبَةً تَنْقَطِعُ بِهَا قُلُوبُهُمْ نَدَمًا وَأَسَفًا عَلَى تَفْرِيطِهِمْ. وَقِيلَ حَتَّى تَنْشَقَّ قُلُوبُهُمْ غَمًّا وَحَسْرَةً، وَقَرَأَ الْحَسَنُ إِلَى أَنْ وَفِي قِرَاءَةِ

[سورة التوبة (9) : آية 111]

عَبْدِ اللَّهِ وَلَوْ قُطِّعَتْ قُلُوبُهُمْ وَعَنْ طَلْحَةَ وَلَوْ قَطَّعْتَ قُلُوبَهُمْ عَلَى خِطَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ كُلِّ مُخَاطِبٍ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَالْمَعْنَى: عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ، حَكِيمٌ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي يَحْكُمُ بِهَا عَلَيْهِمْ. [سورة التوبة (9) : آية 111] إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَعَ فِي شَرْحِ فَضَائِحِ الْمُنَافِقِينَ وَقَبَائِحِهِمْ لِسَبَبِ تَخَلُّفِهِمْ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَلَمَّا/ تَمَّمَ ذَلِكَ الشَّرْحَ وَالْبَيَانَ وَذَكَرَ أَقْسَامَهُمْ، وَفَرَّعَ عَلَى كُلِّ قِسْمٍ مَا كَانَ لَائِقًا بِهِ، عَادَ إِلَى بَيَانِ فَضِيلَةِ الْجِهَادِ وَحَقِيقَتِهِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الأولى: [في شأن نزول الآية] قَالَ الْقُرْطُبِيُّ «1» : لَمَّا بَايَعَتِ الْأَنْصَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ بِمَكَّةَ وَهُمْ سَبْعُونَ نَفْسًا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: اِشْتَرِطْ لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتَ. فَقَالَ: «أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَلِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مَا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ» قَالُوا: فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَمَاذَا لَنَا؟ قَالَ: «الْجَنَّةُ» قَالُوا: رَبِحَ الْبَيْعُ لَا نَقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنٌ وَمُقَاتِلٌ: ثَامَنَهُمْ فَأَغْلَى ثَمَنَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ اللَّهُ شَيْئًا فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِنَّمَا يَشْتَرِي مَا لَا يَمْلِكُ، وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ: اشْتَرَى أَنْفُسًا هُوَ خَلَقَهَا، وَأَمْوَالًا هُوَ رَزَقَهَا، لَكِنْ هَذَا ذَكَرَهُ تَعَالَى لِحُسْنِ التَّلَطُّفِ فِي الدُّعَاءِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَحَقِيقَةُ هَذَا، أَنَّ الْمُؤْمِنَ مَتَى قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يُقْتَلَ، فَتَذْهَبَ رُوحُهُ، وَيُنْفَقَ مَالُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَخَذَ مِنَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ الْجَنَّةَ جَزَاءً لِمَا فَعَلَ. فَجَعَلَ هَذَا اسْتِبْدَالًا وَشِرَاءً. هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ أَيْ بِالْجَنَّةِ، وَكَذَا قِرَاءَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَالْأَعْمَشِ. قَالَ الْحَسَنُ: اسْمَعُوا وَاللَّهِ بَيْعَةٌ رَابِحَةٌ وَكَفَّةٌ رَاجِحَةٌ، بَايَعَ اللَّهُ بِهَا كُلَّ مُؤْمِنٍ، وَاللَّهِ مَا عَلَى الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ إِلَّا وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْبَيْعَةِ. وَقَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيْسَ لِأَبْدَانِكُمْ ثَمَنٌ إِلَّا الْجَنَّةُ فَلَا تَبِيعُوهَا إِلَّا بِهَا» وَقَوْلُهُ: وَأَمْوالَهُمْ يُرِيدُ الَّتِي يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَعَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَعِيَالِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ لَطَائِفُ: اللَّطِيفَةُ الْأُولَى: الْمُشْتَرِي لَا بُدَّ له من بائع، وهاهنا الْبَائِعُ هُوَ اللَّهُ وَالْمُشْتَرِي هُوَ اللَّهُ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْقَيِّمِ بِأَمْرِ الطِّفْلِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ رِعَايَةُ الْمَصَالِحِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَصِحَّةُ هَذَا الْبَيْعِ مَشْرُوطَةٌ بِرِعَايَةِ الْغِبْطَةِ الْعَظِيمَةِ، فَهَذَا الْمَثَلُ جَارٍ مَجْرَى التَّنْبِيهِ عَلَى كَوْنِ الْعَبْدِ شَبِيهًا بِالطِّفْلِ الَّذِي لَا يَهْتَدِي إِلَى رِعَايَةِ مَصَالِحِ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُرَاعِي لِمَصَالِحِهِ بِشَرْطِ الْغِبْطَةِ التَّامَّةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى السُّهُولَةِ وَالْمُسَامَحَةِ، وَالْعَفْوِ عَنِ الذُّنُوبِ، والإيصال إلى درجات الخيرات ومراتب السعادات.

_ (1) ولا ندري كيف استطاع الإمام الفخر الرازي (ت 606 هـ) نقل كلام الإمام القرطبي محمد بن أحمد أبي عبد الله (ت 1671 هـ) من تفسيره: الجامع لأحكام القرآن كما وجدناه في (8/ 267) و (14/ 150) كما تدل على ذلك سنين وفاتيهما، فقد توفي الإمام الرازي قبل الإمام القرطبي بخمس وستين سنة فكيف يستطيع أن ينقل عنه!! .. إلا أن يكون الإمام القرطبي قد عاش (100) سنة (ولا ندري سنة ولادته من المصادر تحديدا) وأنه يؤلف تفسيره «الجامع» في سن مبكرة في حدود الثلاثين. وهنا أمر نستبعده، وهناك احتمال أن يكون مقصود الإمام الرازي أبو جعفر القرطبي، أحمد بن علي بن أبي بكر بن عتيق، الشافعي، نزيل دمشق (ت 596 هـ) وهو الإمام المقرئ المحدث نقول: فلعل الإمام القرطبي صاحب التفسير قد نقل عن هذا، وهذا الاحتمال بعيد والله تعالى أعلم بالصواب. المصحح.

وَاللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْأَنْفُسَ وَالْأَمْوَالَ إِلَيْهِمْ فَوَجَبَ أَنَّ كَوْنَ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ مُضَافَةً إِلَيْهِمْ يُوجِبُ أَمْرَيْنِ مُغَايِرَيْنِ لَهُمْ، وَالْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عِبَارَةٌ عَنِ الْجَوْهَرِ الْأَصْلِيِّ الْبَاقِي، وَهَذَا الْبَدَنُ يَجْرِي مَجْرَى الْآلَةِ وَالْأَدَوَاتِ وَالْمُرَكَّبِ، وَكَذَلِكَ الْمَالُ خُلِقَ وَسِيلَةً إِلَى رِعَايَةِ مَصَالِحِ هَذَا الْمُرَكَّبِ، فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ اشْتَرَى مِنَ الْإِنْسَانِ هَذَا الْمُرَكَّبَ وَهَذَا الْمَالَ/ بِالْجَنَّةِ، وَهُوَ التَّحْقِيقُ. لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ يَبْقَى مُتَعَلِّقَ الْقَلْبِ بِمَصَالِحِ عَالَمِ الْجِسْمِ الْمُتَغَيِّرِ الْمُتَبَدِّلِ، وَهُوَ الْبَدَنُ وَالْمَالُ، امْتَنَعَ وُصُولُهُ إِلَى السَّعَادَاتِ الْعَالِيَةِ وَالدَّرَجَاتِ الشَّرِيفَةِ، فَإِذَا انْقَطَعَ الْتِفَاتُهُ إِلَيْهَا وَبَلَغَ ذَلِكَ الِانْقِطَاعُ إِلَى أَنْ عَرَّضَ الْبَدَنَ لِلْقَتْلِ، وَالْمَالَ لِلْإِنْفَاقِ فِي طَلَبِ رِضْوَانِ اللَّهِ، فَقَدْ بَلَغَ إِلَى حَيْثُ رَجَّحَ الْهُدَى عَلَى الْهَوَى، وَالْمَوْلَى عَلَى الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةَ عَلَى الْأُولَى، فَعِنْدَ هَذَا يَكُونُ مِنَ السُّعَدَاءِ الْأَبْرَارِ وَالْأَفَاضِلِ الْأَخْيَارِ، فَالْبَائِعُ هُوَ جَوْهَرُ الرُّوحِ الْقُدْسِيَّةِ وَالْمُشْتَرِي هُوَ اللَّهُ، وَأَحَدُ الْعِوَضَيْنِ الْجَسَدُ الْبَالِي وَالْمَالُ الْفَانِي، وَالْعِوَضُ الثَّانِي الْجَنَّةُ الْبَاقِيَةُ وَالسَّعَادَاتُ الدَّائِمَةُ، فَالرِّبْحُ حَاصِلٌ وَالْهَمُّ وَالْغَمُّ زَائِلٌ، وَلِهَذَا قَالَ: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ. ثُمَّ قَالَ: يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ: يُقاتِلُونَ فِيهِ مَعْنَى الْأَمْرِ كقوله: تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَقِيلَ جَعَلَ يُقاتِلُونَ كَالتَّفْسِيرِ لِتِلْكَ الْمُبَايَعَةِ، وَكَالْأَمْرِ اللَّازِمِ لَهَا. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفَاعِلِ وَهُوَ كَوْنُهُمْ مَقْتُولِينَ عَلَى كَوْنِهِمْ قَاتِلِينَ، وَالْبَاقُونَ بِتَقْدِيمِ الْفَاعِلِ عَلَى الْمَفْعُولِ. أَمَّا تَقْدِيمُ الْفَاعِلِ عَلَى الْمَفْعُولِ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَ الْكُفَّارَ وَلَا يَرْجِعُونَ عَنْهُمْ إِلَى أَنْ يَصِيرُوا مَقْتُولِينَ. وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفَاعِلِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ طَائِفَةً كَبِيرَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ صَارُوا مَقْتُولِينَ لَمْ يَصِرْ ذَلِكَ رَادِعًا لِلْبَاقِينَ عَنِ الْمُقَاتَلَةِ، بَلْ يَبْقُونَ بَعْدَ ذَلِكَ مُقَاتِلِينَ مَعَ الْأَعْدَاءِ. قَاتِلِينَ لَهُمْ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 146] أَيْ مَا وَهَنَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ دَخَلَ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ مُجَاهَدَةُ الْأَعْدَاءِ بِالْحُجَّةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَمْ لَا؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْجِهَادِ بِالْمُقَاتَلَةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى فَسَرَّ تِلْكَ الْمُبَايَعَةَ بِالْمُقَاتَلَةِ بِقَوْلِهِ: يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كُلُّ أَنْوَاعِ الْجِهَادِ دَاخِلٌ فِيهِ، بِدَلِيلِ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ. وَأَيْضًا فَالْجِهَادُ بِالْحُجَّةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ أَكْمَلُ آثَارًا مِنَ الْقِتَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ عَلَى يَدِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» وَلِأَنَّ الْجِهَادَ بِالْمُقَاتَلَةِ لَا يَحْسُنُ أَثَرُهَا إِلَّا بَعْدَ تَقْدِيمِ الْجِهَادِ بِالْحُجَّةِ. وَأَمَّا الْجِهَادُ بِالْحُجَّةِ فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الْجِهَادِ بِالْمُقَاتَلَةِ. وَالْأَنْفُسُ جَوْهَرُهَا جَوْهَرٌ شَرِيفٌ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَزِيدِ الْإِكْرَامِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَلَا فَسَادَ فِي ذَاتِهِ، إِنَّمَا الْفَسَادُ فِي الصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِهِ، وَهِيَ الْكُفْرُ وَالْجَهْلُ. وَمَتَى أَمْكَنَ إِزَالَةُ الصِّفَةِ الْفَاسِدَةِ، مَعَ إِبْقَاءِ الذَّاتِ وَالْجَوْهَرِ كَانَ أَوْلَى. أَلَا تَرَى أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ لَمَّا كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، لَا جَرَمَ حَثَّ الشَّرْعِ عَلَى إِبْقَائِهِ، فَقَالَ: «هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ» فَالْجِهَادُ بِالْحُجَّةِ يَجْرِي مَجْرَى الدِّبَاغَةِ، وَهُوَ إِبْقَاءُ الذَّاتِ مَعَ إِزَالَةِ الصِّفَةِ الْفَاسِدَةِ، وَالْجِهَادُ بِالْمُقَاتَلَةِ يَجْرِي مَجْرَى إِفْنَاءِ الذَّاتِ، فَكَانَ الْمَقَامُ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَفْضَلَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ قَالَ الزَّجَّاجُ: نُصِبَ وَعْداً عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ أَنَّهُ وَعَدَهُمُ الْجَنَّةَ، فَكَانَ وَعْدًا مَصْدَرًا مُؤَكِّدًا. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الَّذِي حَصَلَ فِي الْكُتُبِ ما هو؟

[سورة التوبة (9) : آية 112]

فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْوَعْدَ الَّذِي وَعَدَهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَعْدٌ ثَابِتٌ، فَقَدْ أَثْبَتَهُ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ كَمَا أَثْبَتَهُ فِي الْقُرْآنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، كَمَا بَيَّنَ فِي الْقُرْآنِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ وَالْجِهَادِ هُوَ مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ نَقْضَ الْعَهْدِ كَذِبٌ. وَأَيْضًا أَنَّهُ مَكْرٌ وَخَدِيعَةٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْقَبَائِحِ، وَهِيَ قَبِيحَةٌ مِنَ الْإِنْسَانِ مَعَ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهَا، فَالْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ الْحَاجَاتِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنْهَا. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَيْ لَا أَحَدَ أَوْفَى بِمَا وَعَدَ مِنَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ التَّأْكِيدَاتِ: فَأَوَّلُهَا: قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي هُوَ اللَّهُ الْمُقَدَّسُ عَنِ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ، وَذَلِكَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى تَأْكِيدِ هَذَا الْعَهْدِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ إِيصَالِ هَذَا الثَّوَابِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَذَلِكَ حَقٌّ مُؤَكَّدٌ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَعْداً وَوَعْدُ اللَّهِ حَقٌّ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: عَلَيْهِ وَكَلِمَةُ «عَلَى» لِلْوُجُوبِ. وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: حَقًّا وَهُوَ التَّأْكِيدُ لِلتَّحْقِيقِ. وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ: فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى إِشْهَادِ جَمِيعِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ عَلَى هَذِهِ الْمُبَايَعَةِ. وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ غَايَةٌ فِي التَّأْكِيدِ. وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَهُوَ أَيْضًا مُبَالَغَةٌ فِي التَّأْكِيدِ. وَتَاسِعُهَا: قَوْلُهُ: وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ وَعَاشَرُهَا: قَوْلُهُ: الْعَظِيمُ فَثَبَتَ اشْتِمَالُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الْعَشْرَةِ فِي التَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ وَالتَّحْقِيقِ. وَنَخْتِمُ الْآيَةَ بِخَاتِمَةٍ وَهِيَ أَنَّ أَبَا الْقَاسِمِ الْبَلْخِيَّ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الْأَعْوَاضِ عَنْ آلَامِ الْأَطْفَالِ وَالْبَهَائِمِ. قَالَ لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِيصَالُ أَلَمِ الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ إِلَى الْبَالِغِينَ إِلَّا بِثَمَنٍ هُوَ الْجَنَّةُ، فَلَا جَرَمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ كَذَلِكَ فِي الْأَطْفَالِ وَالْبَهَائِمِ، وَلَوْ جَازَ عَلَيْهِمُ التَّمَنِّي لَتَمَنَّوْا أَنَّ آلَامَهُمْ تَتَضَاعَفُ حَتَّى تَحْصُلَ لَهُمْ تِلْكَ/ الْأَعْوَاضُ الرَّفِيعَةُ الشَّرِيفَةُ، وَنَحْنُ نَقُولُ: لَا نُنْكِرُ حُصُولَ الْخَيْرَاتِ لِلْأَطْفَالِ وَالْحَيَوَانَاتِ فِي مُقَابَلَةِ هَذِهِ الْآلَامِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ وَقَعَ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْعِوَضَ عِنْدَنَا غَيْرُ وَاجِبٍ، وَعِنْدَكُمْ واجب، والآية ساكتة عن بيان الوجوب. [سورة التوبة (9) : آية 112] التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ التِّسْعَةِ. وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي رَفْعِ قَوْلِهِ: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رُفِعَ عَلَى الْمَدْحِ، وَالتَّقْدِيرُ: هُمُ التَّائِبُونَ، يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ هُمُ

التَّائِبُونَ. الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: التَّائِبُونَ مُبْتَدَأً، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيِ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يُجَاهِدُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ. لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْوَعْدُ بِالْجَنَّةِ حَاصِلًا لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا جَعَلْنَا قَوْلَهُ: التَّائِبُونَ تَابِعًا لِأَوَّلِ الْكَلَامِ كَانَ الْوَعْدُ بِالْجَنَّةِ حَاصِلًا لِلْمُجَاهِدِينَ. الثَّالِثُ: التَّائِبُونَ مُبْتَدَأٌ أَوْ رُفِعَ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: يُقاتِلُونَ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: التَّائِبُونَ مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ: الْعابِدُونَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَيِ التَّائِبُونَ مِنَ الْكُفْرِ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُمُ الجامعون لهذه الخصال. وقرأ أبي وعبد التَّائِبِينَ بِالْيَاءِ إِلَى قَوْلِهِ: وَالْحَافِظِينَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَصْبًا عَلَى الْمَدْحِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَرًّا، صِفَةً لِلْمُؤْمِنِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الصِّفَاتِ التِّسْعَةِ. فَالصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: التَّائِبُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: التَّائِبُونَ مِنَ الشِّرْكِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: التَّائِبُونَ مِنَ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ. وَقَالَ الْأُصُولِيُّونَ: التَّائِبُونَ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ، وَهَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ التَّوْبَةَ قَدْ تَكُونُ تَوْبَةً مِنَ الْكُفْرِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ. وَقَوْلُهُ: التَّائِبُونَ صِيغَةُ عُمُومٍ مُحَلَّاةٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَتَتَنَاوَلُ الْكُلَّ فَالتَّخْصِيصُ بِالتَّوْبَةِ عَنِ الْكُفْرِ مَحْضُ التَّحَكُّمِ. وَاعْلَمْ أَنَّا بَالَغْنَا فِي شَرْحِ حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ [الْبَقَرَةِ: 37] . وَاعْلَمْ أَنَّ التَّوْبَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ عِنْدَ حُصُولِ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ: أَوَّلُهَا: احْتِرَاقُ الْقَلْبِ فِي الْحَالِ عَلَى صُدُورِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ عَنْهُ، وَثَانِيهَا: نَدَمُهُ عَلَى مَا مَضَى، وَثَالُثُهَا: عَزْمُهُ عَلَى التَّرْكِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ طَلَبَ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى وَعُبُودِيَّتِهِ، فَإِنْ كَانَ غَرَضُهُ مِنْهَا دَفْعَ مَذَمَّةِ النَّاسِ وَتَحْصِيلَ مَدْحِهِمْ أَوْ سَائِرَ الْأَغْرَاضِ، فَهُوَ لَيْسَ مِنَ التَّائِبِينَ. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: الْعابِدُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الَّذِينَ يَرَوْنَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ هُمُ الَّذِينَ أَتَوْا بِالْعِبَادَةِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِفِعْلٍ مُشْعِرٍ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَقْصَى الْوُجُوهِ فِي التَّعْظِيمِ، وَلِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنْ يَقُولَ إِنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَالْإِقْرَارَ بِوُجُوبِ طَاعَتِهِ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ، وَحُصُولُ الِاسْمِ فِي جَانِبِ الثُّبُوتِ يَكْفِي فِيهِ حُصُولُ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ. قَالَ الْحَسَنُ: الْعابِدُونَ هُمُ الَّذِينَ عَبَدُوا اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَوْمٌ أَخَذُوا مِنْ أَبْدَانِهِمْ فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: الْحامِدُونَ وَهُمُ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِحَقٍّ شُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ دِينًا وَدُنْيَا وَيَجْعَلُونَ إِظْهَارَ ذَلِكَ عادة لهم، وقد ذكرنا التَّسْبِيحَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّحْمِيدَ صِفَةُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ قَبْلَ خَلْقِ الدُّنْيَا، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ، وَهُوَ صِفَةُ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بَعْدَ خَرَابِ الدُّنْيَا. لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُمْ يَحْمَدُونَ اللَّهَ تَعَالَى، وَهُوَ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10] وهم المرادون بقوله: الْحامِدُونَ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: السَّائِحُونَ وَفِيهِ أَقْوَالٌ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ هُمُ الصَّائِمُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ السِّيَاحَةِ، فَهُوَ الصِّيَامُ. وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «سِيَاحَةُ أُمَّتِي الصِّيَامُ» وَعَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ هَذَا صَوْمُ الْفَرْضِ. وَقِيلَ هُمُ الَّذِينَ يُدِيمُونَ الصِّيَامَ، وَفِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ حَسُنَ تَفْسِيرُ السَّائِحِ بِالصَّائِمِ، وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: قِيلَ لِلصَّائِمِ سَائِحٌ، لِأَنَّ الَّذِي يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ مُتَعَبِّدًا لَا زَادَ مَعَهُ، كَانَ مُمْسِكًا عَنِ الْأَكْلِ، وَالصَّائِمُ يُمْسِكُ عَنِ الْأَكْلِ، فَلِهَذِهِ الْمُشَابَهَةِ سُمِّيَ الصَّائِمُ سَائِحًا. الثَّانِي: أَنَّ أَصْلَ السِّيَاحَةِ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الذِّهَابِ فِي الْأَرْضِ كَالْمَاءِ الَّذِي يَسِيحُ وَالصَّائِمُ يَسْتَمِرُّ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ، وَتَرْكِ الْمُشْتَهَى، وَهُوَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْوِقَاعُ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْوِقَاعِ وَسَدَّ عَلَى نَفْسِهِ أَبْوَابَ الشَّهَوَاتِ، انْفَتَحَتْ عَلَيْهِ/ أَبْوَابُ الْحِكْمَةِ، وَتَجَلَّتْ لَهُ أَنْوَارُ عَالَمِ الْجَلَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ» فَيَصِيرُ مِنَ السَّائِحِينَ فِي عَالَمِ جَلَالِ اللَّهِ الْمُنْتَقِلِينَ مِنْ مَقَامٍ إِلَى مَقَامٍ، وَمِنْ دَرَجَةٍ إِلَى دَرَجَةٍ، فَيَحْصُلُ لَهُ سِيَاحَةٌ فِي عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ السَّائِحِينَ طُلَّابُ الْعِلْمِ يَنْتَقِلُونَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: كَانَتِ السِّيَاحَةُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا سَاحَ أَرْبَعِينَ سَنَةً رَأَى مَا كَانَ يَرَى السَّائِحُونَ قَبْلَهُ. فَسَاحَ وَلَدُ بَغِيٍّ مِنْهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَقَالَ: يَا رَبِّ مَا ذَنْبِي بِأَنْ أَسَاءَتْ أُمِّي، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَرَاهُ اللَّهُ مَا أَرَى السَّائِحِينَ وَأَقُولُ لِلسِّيَاحَةِ أَثَرٌ عَظِيمٌ فِي تَكْمِيلِ النَّفْسِ لِأَنَّهُ يَلْقَاهُ أَنْوَاعٌ مِنَ الضُّرِّ وَالْبُؤْسِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَيْهَا، وَقَدْ يَنْقَطِعُ زَادُهُ، فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، وَقَدْ يَلْقَى أَفَاضِلَ مُخْتَلِفِينَ، فَيَسْتَفِيدُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ فَائِدَةً مَخْصُوصَةً، وَقَدْ يَلْقَى الْأَكَابِرَ مِنَ النَّاسِ، فَيَسْتَحْقِرُ نَفْسَهُ فِي مُقَابَلَتِهِمْ، وَقَدْ يَصِلُ إِلَى الْمُرَادَاتِ الْكَثِيرَةِ، فَيَنْتَفِعُ بِهَا وَقَدْ يُشَاهِدُ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ أَهْلِ الدُّنْيَا بِسَبَبِ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كُلِّ طَرَفٍ مِنَ الْأَحْوَالِ الْخَاصَّةِ بِهِمْ فَتَقْوَى مَعْرِفَتُهُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالسِّيَاحَةُ لَهَا آثَارٌ قَوِيَّةٌ فِي الدِّينِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: السَّائِحُونَ السَّائِرُونَ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّيْحِ، سَيْحُ الْمَاءِ الْجَارِي، وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ خَرَجَ مُجَاهِدًا مُهَاجِرًا، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى حَثَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَلَى الْجِهَادِ، ثُمَّ ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي بَيَانِ صِفَاتِ الْمُجَاهِدِينَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا مَوْصُوفِينَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الصِّفَاتِ. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ إِقَامَةُ الصَّلَوَاتِ. قَالَ الْقَاضِي: وَإِنَّمَا جَعَلَ ذِكْرَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ كِنَايَةً عَنِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ سَائِرَ أَشْكَالِ الْمُصَلِّي مُوَافِقٌ لِلْعَادَةِ، وَهُوَ قِيَامُهُ وَقُعُودُهُ. وَالَّذِي يَخْرُجُ عَنِ الْعَادَةِ فِي ذَلِكَ هُوَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَبِهِ يَتَبَيَّنُ الْفَضْلُ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَغَيْرِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْقِيَامُ أَوَّلُ مَرَاتِبِ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالرُّكُوعُ وَسَطُهَا وَالسُّجُودُ غَايَتُهَا. فَخَصَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ بِالذِّكْرِ لِدَلَالَتِهِمَا عَلَى غَايَةِ التَّوَاضُعِ وَالْعُبُودِيَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الصَّلَاةِ نِهَايَةُ الْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ. الصِّفَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاعْلَمْ أَنَّ كِتَابَ أَحْكَامِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، كِتَابٌ كَبِيرٌ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ. فَلَا يمكن إيراده هاهنا. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى إِيجَابِ الْجِهَادِ، لِأَنَّ رَأْسَ الْمَعْرُوفِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَرَأْسَ الْمُنْكِرِ الْكُفْرُ بِاللَّهِ. / وَالْجِهَادُ يُوجِبُ التَّرْغِيبَ فِي الْإِيمَانِ، وَالزَّجْرَ عَنِ الْكُفْرِ. وَالْجِهَادُ دَاخِلٌ فِي بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَأَمَّا دُخُولُ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَفِيهِ وُجُوهٌ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّسْوِيَةَ قَدْ تَجِيءُ بِالْوَاوِ تَارَةً وَبِغَيْرِ الْوَاوِ أُخْرَى. قَالَ تَعَالَى: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ [غَافِرٍ: 3] فَجَاءَ بَعْضٌ بِالْوَاوِ، وَبَعْضٌ بِغَيْرِ الْوَاوِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ التَّرْغِيبُ فِي الْجِهَادِ فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الصِّفَاتِ الستة، ثُمَّ قَالَ: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ والتقدير: أن الموصوفين الصفات السِّتَّةِ، الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ رَأْسَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَرَئِيسَهُ، هُوَ الْجِهَادُ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ إِدْخَالِ الْوَاوِ عَلَيْهِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي إِدْخَالِ الْوَاوِ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ مِنَ الصِّفَاتِ عِبَادَاتٌ يَأْتِي بِهَا الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ، وَلَا تَعَلُّقَ لِشَيْءٍ مِنْهَا بِالْغَيْرِ. أَمَّا النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فَعِبَادَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْغَيْرِ، وَهَذَا النَّهْيُ يُوجِبُ ثَوَرَانَ الْغَضَبِ وَظُهُورَ الْخُصُومَةِ، وَرُبَّمَا أَقْدَمَ ذَلِكَ الْمَنْهِيُّ عَلَى ضَرْبِ النَّاهِي وَرُبَّمَا حَاوَلَ قَتْلَهُ، فَكَانَ النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ أَصْعَبَ أَقْسَامِ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ، فَأَدْخَلَ عَلَيْهَا الْوَاوَ تَنْبِيهًا عَلَى مَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ وَالْمِحْنَةِ. الصِّفَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ تَكَالِيفَ اللَّهِ، كَثِيرَةٌ وَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادَاتِ. وَالثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُعَامَلَاتِ. أَمَّا الْعِبَادَاتُ فَهِيَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا لَا لِمَصْلَحَةٍ مَرْعِيَّةٍ فِي الدُّنْيَا، بَلْ لِمَصَالِحَ مَرْعِيَّةٍ فِي الدِّينِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ وَالْإِعْتَاقُ وَالنُّذُورُ وَسَائِرُ أَعْمَالِ الْبِرِّ. وَأَمَّا الْمُعَامَلَاتُ فَهِيَ: إِمَّا لِجَلْبِ الْمَنَافِعِ وَإِمَّا لِدَفْعِ الْمَضَارِّ. وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِجَلْبِ الْمَنَافِعِ: فَتِلْكَ الْمَنَافِعُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةً بِالْأَصَالَةِ أَوْ بِالتَّبَعِيَّةِ، أَمَّا الْمَنَافِعُ الْمَقْصُودَةُ بِالْأَصَالَةِ، فَهِيَ الْمَنَافِعُ الْحَاصِلَةُ مِنْ طَرَفِ الْحَوَاسِّ الْخَمْسَةِ: فَأَوَّلُهَا: الْمَذُوقَاتُ: وَيَدْخُلُ فِيهَا كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ مِنَ الْفِقْهِ. وَلَمَّا كَانَ الطَّعَامُ قَدْ يَكُونُ نَبَاتًا، وَقَدْ يَكُونُ حَيَوَانًا، وَالْحَيَوَانُ لَا يُمْكِنُ أَكْلُهُ إِلَّا بَعْدَ الذَّبْحِ، وَاللَّهُ تَعَالَى شَرَطَ فِي الذَّبْحِ شَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ، فَلِأَجْلِ هَذَا دَخَلَ فِي الْفِقْهِ كِتَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ، وَكِتَابُ الضَّحَايَا. وَثَانِيهَا: الْمَلْمُوسَاتُ: وَيَدْخُلُ فِيهَا بَابُ أَحْكَامِ الْوِقَاعِ مِنْ جُمْلَتِهَا مَا يُفِيدُ حِلَّهُ، وَهُوَ بَابُ النِّكَاحِ، وَمِنْهُ أَيْضًا بَابُ الرِّضَاعِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ بَحْثٌ عَنْ لَوَازِمِ النِّكَاحِ مِثْلُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالْمَسْكَنِ وَيَتَّصِلُ بِهِ أَحْوَالُ الْقَسْمِ وَالنُّشُوزِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ بَحْثٌ عَنِ الْأَسْبَابِ الْمُزِيلَةِ لِلنِّكَاحِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كِتَابُ الطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ وَالْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ/ وَاللِّعَانِ. وَمِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَلْمُوسَاتِ: الْبَحْثُ عَمَّا يَحِلُّ لِبْسُهُ وَعَمَّا لَا يَحِلُّ، وَعَمَّا يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهُ وَعَمَّا لَا يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهُ، وَمَا لَا يَحِلُّ. كَاسْتِعْمَالِهِ الْأَوَانِيَ الذَّهَبِيَّةَ وَالْفِضِّيَّةَ، وَطَالَ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَثَالِثُهَا: الْمُبْصَرَاتُ وَهِيَ بَابُ مَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ وَمَا لَا يَحِلُّ. وَرَابِعُهَا: الْمَسْمُوعَاتُ: وَهُوَ بَابُ هَلْ يَحِلُّ سَمَاعُهُ أَمْ لَا؟ وَخَامِسُهَا: الْمَشْمُومَاتُ، وَلَيْسَ لِلْفُقَهَاءِ فِيهَا مَجَالٌ. وَأَمَّا الْمَنَافِعُ الْمَقْصُودَةُ بِالتَّبَعِ فَهِيَ الْأَمْوَالُ، وَالْبَحْثُ عَنْهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: الْأَسْبَابُ الْمُفِيدَةُ لِلْمِلْكِ وَهِيَ إِمَّا الْبَيْعُ أَوْ غَيْرُهُ. أَمَّا الْبَيْعُ فَهُوَ إِمَّا بَيْعُ الْأَعْيَانِ، أَوْ بَيْعُ الْمَنَافِعِ وَبَيْعُ الْأَعْيَانِ. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْعُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ، أَوْ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ وَهُوَ السَّلَمُ، أَوْ بَيْعُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ كَمَا إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا فِي الذِّمَّةِ، أَوْ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ. لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، وَلَكِنْ حَصَلَ لَهُ مِثَالٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ تَقَاضِي الدَّيْنَيْنِ. وَأَمَّا بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كِتَابُ الْإِجَارَةِ، وَكِتَابُ الْجَعَالَةِ، وَكِتَابُ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ. وَأَمَّا سَائِرُ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْمِلْكِ

فَهِيَ الْإِرْثُ، وَالْهِبَةُ، وَالْوَصِيَّةُ، وَإِحْيَاءُ الْمَوَاتِ، وَالِالْتِقَاطُ، وأخد الْفَيْءِ وَالْغَنَائِمِ، وَأَخْذُ الزَّكَوَاتِ وَغَيْرِهَا. وَلَا طَرِيقَ إِلَى ضَبْطِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ إِلَّا بِالِاسْتِقْرَاءِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ مَبَاحِثِ الْفُقَهَاءِ الْأَسْبَابُ الَّتِي تُوجِبُ لِغَيْرِ الْمَالِكِ التَّصَرُّفَ فِي الشَّيْءِ، وَهُوَ بَابُ الْوِكَالَةِ وَالْوَدِيعَةِ وَغَيْرِهِمَا. وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: الْأَسْبَابُ الَّتِي تَمْنَعُ الْمَالِكَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَهُوَ الرَّهْنُ وَالتَّفْلِيسُ وَالْإِجَارَةُ وَغَيْرُهَا، فَهَذَا ضَبْطُ أَقْسَامِ تَكَالِيفِ اللَّهِ فِي بَابِ جَلْبِ الْمَنَافِعِ. وَأَمَّا تَكَالِيفُ اللَّهِ تَعَالَى فِي بَابِ دَفْعِ الْمَضَارِّ فَنَقُولُ: أَقْسَامُ الْمَضَارِّ خَمْسَةٌ لِأَنَّ الْمَضَرَّةَ إِمَّا أَنْ تَحْصُلَ فِي النُّفُوسِ أَوْ فِي الْأَمْوَالِ أَوْ فِي الْأَدْيَانِ أَوْ فِي الْأَنْسَابِ أَوْ فِي الْعُقُولِ، أَمَّا الْمَضَارُّ الْحَاصِلَةُ فِي النُّفُوسِ فَهِيَ إِمَّا أَنْ تَحْصُلَ فِي كُلِّ النَّفْسِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ إِمَّا الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ أَوِ الْكَفَّارَةُ، وَإِمَّا فِي بَعْضٍ مِنْ أَبْعَاضِ الْبَدَنِ كَقَطْعِ الْيَدِ وَغَيْرِهَا، وَالْوَاجِبُ فِيهِ إِمَّا الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ أَوِ الْأَرْشُ، وَأَمَّا الْمَضَارُّ الْحَاصِلَةُ فِي الْأَمْوَالِ، فَذَلِكَ الضَّرَرُ إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْلَانِ وَالْإِظْهَارِ، وَهُوَ كِتَابُ الْغَصْبِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَهُوَ كِتَابُ السَّرِقَةِ، وَأَمَّا الْمَضَارُّ الْحَاصِلَةُ فِي الْأَدْيَانِ، فَهِيَ إِمَّا الْكُفْرُ وَإِمَّا الْبِدْعَةُ، أَمَّا الْكُفْرُ فَيَدْخُلُ فِيهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ، وَلَيْسَ لِلْفُقَهَاءِ كِتَابٌ مُقَرَّرٌ فِي أَحْكَامِ الْمُبْتَدِعِينَ وَأَمَّا الْمَضَارُّ الْحَاصِلَةُ فِي الْأَنْسَابِ فَيَتَّصِلُ بِهِ تَحْرِيمُ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَبَيَانُ الْعُقُوبَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهِمَا، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَيْضًا بَابُ حد القذف وباب اللعان، وهاهنا بَحْثٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءَ حُقُوقِهِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَدَفْعَ الْمَضَارِّ بِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ ضَعِيفًا فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ خَصْمُهُ، فَلِهَذَا السِّرِّ/ نَصَّبَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِمَامَ لِتَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ الْإِمَامِ نُوَّابٌ وَهُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْقُضَاةُ فَلَمَّا لَمْ يجز أن يكون قول الغير مقبولا على الغير إِلَّا بِالْحُجَّةِ، فَالشَّرْعُ أَثْبَتَ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ حُجَّةً مَخْصُوصَةً وَهِيَ الشَّهَادَةُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِلدَّعْوَى وَلِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ شَرَائِطُ مَخْصُوصَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ بَابٍ مُشْتَمِلٍ عَلَيْهَا، فَهَذَا ضَبْطُ مَعَاقِدِ تَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ وَحُدُودِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ كَثِيرَةً وَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا بَيَّنَهَا فِي كُلِّ الْقُرْآنِ تَارَةً عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ، وَتَارَةً بِأَنْ أَمَرَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى يُبَيِّنَهَا لِلْمُكَلَّفِينَ، لَا جَرَمَ أَنَّهُ تَعَالَى أَجْمَلَ ذِكْرَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَهُوَ يَتَنَاوَلُ جُمْلَةَ هَذِهِ التَّكَالِيفِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْفُقَهَاءَ ظَنُّوا أَنَّ الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي بَيَانِ التَّكَالِيفِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ أَعْمَالَ الْمُكَلَّفِينَ قِسْمَانِ: أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ وَأَعْمَالُ الْقُلُوبِ، وَكُتُبُ الْفِقْهِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى شَرْحِ أَقْسَامِ التَّكَالِيفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، فَأَمَّا التَّكَالِيفُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ فَلَمْ يَبْحَثُوا عَنْهَا الْبَتَّةَ وَلَمْ يُصَنِّفُوا لَهَا كُتُبًا وَأَبْوَابًا وَفُصُولًا. وَلَمْ يَبْحَثُوا عَنْ دَقَائِقِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبَحْثَ عَنْهَا أَهَمُّ وَالْمُبَالَغَةَ فِي الْكَشْفِ عَنْ حَقَائِقِهَا أَوْلَى. لِأَنَّ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ إِنَّمَا تُرَادُ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَالْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى نَاطِقَةٌ بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ عَلَى سَبِيلِ الشُّمُولِ وَالْإِحَاطَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الصِّفَاتِ التِّسْعَةَ قَالَ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ فَذَكَرَ هَذِهِ الصِّفَاتِ التِّسْعَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهَا قوله: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ تنبيها على أن البشارة المذكورة في قوله: فَاسْتَبْشِرُوا لم تتناول إلا المؤمنين الموصوفين بهذه الصفات.

[سورة التوبة (9) : الآيات 113 إلى 114]

فَإِنْ قِيلَ: مَا السَّبَبُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ تِلْكَ الصِّفَاتِ الثَّمَانِيَةَ عَلَى التَّفْصِيلِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى عَقِيبَهَا سَائِرَ أَقْسَامِ التَّكَالِيفِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ التَّاسِعَةِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ التَّوْبَةَ وَالْعِبَادَةَ وَالِاشْتِغَالَ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ، وَالسِّيَاحَةَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفَ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، أُمُورٌ لَا يَنْفَكُّ الْمُكَلَّفُ عَنْهَا فِي أَغْلَبِ أَوْقَاتِهِ، فَلِهَذَا ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَأَمَّا الْبَقِيَّةُ فَقَدْ يَنْفَكُّ الْمُكَلَّفُ عَنْهَا فِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهِ مِثْلُ أَحْكَامِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَمِثْلُ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْجِنَايَاتِ وَأَيْضًا فَتِلْكَ الْأُمُورُ الثَّمَانِيَةُ أَعْمَالُ الْقُلُوبِ وَإِنْ كَانَتْ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ، إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا ظُهُورُ أَحْوَالِ الْقُلُوبِ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ رِعَايَةَ أَحْوَالِ الْقُلُوبِ أَهَمُّ مِنْ رِعَايَةِ أَحْوَالِ الظَّاهِرِ فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ هَذَا الْقِسْمَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وذكر هذا القسم/ على سبيل الإجمال. [سورة التوبة (9) : الآيات 113 الى 114] مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) [في قَوْلُهُ تَعَالَى مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا إلى قوله أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ وُجُوبَ إِظْهَارِ الْبَرَاءَةِ عَنِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَجِبُ الْبَرَاءَةُ عَنْ أَمْوَاتِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْقُرْبِ مِنَ الْإِنْسَانِ كَالْأَبِ وَالْأُمِّ، كَمَا أَوْجَبَتْ الْبَرَاءَةَ عَنْ أَحْيَائِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ وُجُوبِ مُقَاطَعَتِهِمْ عَلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ وَالْمَنْعِ مِنْ مُوَاصَلَتِهِمْ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا. الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى مَكَّةَ سَأَلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَيُّ أَبَوَيْهِ أَحْدَثُ بِهِ عَهْدًا» قِيلَ أُمُّكَ، فَذَهَبَ إِلَى قَبْرِهَا وَوَقَفَ دُونَهُ، ثُمَّ قَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهَا وَبَكَى فَسَأَلَهُ عُمَرُ وَقَالَ: نَهَيْتَنَا عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالْبُكَاءِ، ثُمَّ زُرْتَ وَبَكَيْتَ، فَقَالَ: قَدْ أُذِنَ لِي فِيهِ، فَلَمَّا عَلِمْتُ مَا هِيَ فِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْهَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا بَكَيْتُ رَحْمَةً لَهَا. الثَّانِي: رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ قَالَ لَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يَا عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ: أَنَا عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَوْلُهُ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَقَدِ اسْتَبْعَدَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا، وَوَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ كَانْتْ بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَأَقُولُ هَذَا الِاسْتِبْعَادُ عِنْدِي مُسْتَبْعَدٌ، فَأَيُّ بَأْسٍ أَنْ يُقَالَ إِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَقِيَ يَسْتَغْفِرُ لِأَبِي طَالِبٍ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ/ التَّشْدِيدَ مَعَ الْكُفَّارِ إِنَّمَا ظَهَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَلَعَلَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِأَبَوَيْهِمْ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَكَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيْضًا يَفْعَلُ ذَلِكَ، ثُمَّ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ مَنَعَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، فَهَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ فِي الْجُمْلَةِ. الثَّالِثُ: يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْهِ الْمُشْرِكَيْنِ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ أَتَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْكَ وَهُمَا مُشْرِكَانِ؟ فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدِ اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الرَّابِعُ:

يُرْوَى أَنَّ رَجُلًا أَتَى الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ: كَانَ أَبِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُقْرِي الضَّيْفَ، وَيَمْنَحُ مِنْ مَالِهِ. وَأَيْنَ أَبِي؟ فَقَالَ: أَمَاتَ مُشْرِكًا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فِي ضِحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ، فَوَلَّى الرَّجُلُ يَبْكِي فَدَعَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَالَ: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ وَأَبَا إِبْرَاهِيمَ فِي النَّارِ، إِنَّ أَبَاكَ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَا يَنْبَغِي لَهُمْ ذَلِكَ فَيَكُونُ كَالْوَصْفِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ: فَالْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ أَنَّ النُّبُوَّةَ وَالْإِيمَانَ يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ. وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ لَا تستغفروا والأمران مقاربان. وَسَبَبُ هَذَا الْمَنْعِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وَأَيْضًا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُ يُدْخِلُهُمُ النَّارَ. فَطَلَبُ الْغُفْرَانَ لَهُمْ جَارٍ مَجْرَى طَلَبِ أَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَأَيْضًا لَمَّا سَبَقَ قَضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ. فَلَوْ طَلَبُوا غُفْرَانَهُ لَصَارُوا مَرْدُودِينَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ نُقْصَانَ دَرَجَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصلاة والسلام وحظ مَرْتَبَتِهِ، وَأَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: 60] وَقَالَ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ فَهَذَا الِاسْتِغْفَارُ يُوجِبُ الْخُلْفَ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَقَدْ جَوَّزَ أَبُو هَاشِمٍ أَنْ يَسْأَلَ الْعَبْدُ رَبَّهُ شَيْئًا بَعْدَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ أَهْلِ النَّارِ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها [الْمُؤْمِنُونَ: 107] مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ لَا يَجْهَلُونَ وَلَا يَكْذِبُونَ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ، بَلْ نَصُّ الْقُرْآنِ يُبْطِلُهُ. وَهُوَ قَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: 23] انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الْأَنْعَامِ: 24] وَالثَّانِي: أَنَّ فِي حَقِّهِمْ يَحْسُنُ رَدُّهُمْ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ وَإِسْكَاتُهُمْ، أَمَّا فِي حَقِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَغَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ نُقْصَانَ مَنْصِبِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مِثْلَ هَذَا السُّؤَالِ الَّذِي يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَبَثًا أَوْ مَعْصِيَةً. وَكِلَاهُمَا جَائِزَانِ عَلَى أَهْلِ النَّارِ وَغَيْرُ جَائِزَيْنِ عَلَى أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَانِعَةَ مِنْ هَذَا الِاسْتِغْفَارِ هُوَ تَبَيُّنُ كَوْنِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ لَا تَخْتَلِفُ بِأَنْ يَكُونُوا مِنَ الْأَقَارِبِ أَوْ مَنِ الْأَبَاعِدِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى وَكَوْنُ سَبَبِ النُّزُولِ مَا حَكَيْنَا، يُقَوِّي هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ أَنْ لَا يَتَوَهَّمَ إِنْسَانٌ أَنَّهُ تَعَالَى مَنَعَ مُحَمَّدًا مِنْ بَعْضِ مَا أَذِنَ لِإِبْرَاهِيمَ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ إِنَّا ذَكَرْنَا فِي سَبَبِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا الْمُبَالَغَةَ فِي إِيجَابِ الِانْقِطَاعِ عَنِ الْكُفَّارِ أَحْيَائِهِمْ وَأَمْوَاتِهِمْ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِدِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بَلِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَقْرِيرِ وُجُوبِ الِانْقِطَاعِ كَانَتْ مَشْرُوعَةً أَيْضًا فِي دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَتَكُونُ الْمُبَالَغَةُ فِي تَقْرِيرِ وُجُوبِ الْمُقَاطَعَةِ وَالْمُبَايَنَةِ مِنَ الْكُفَّارِ أَقْوَى. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِكَوْنِهِ حَلِيمًا أَيْ قَلِيلَ الْغَضَبِ، وَبِكَوْنِهِ أَوَّاهًا أَيْ كَثِيرَ التَّوَجُّعِ وَالتَّفَجُّعِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَضَارِّ بِالنَّاسِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ كَانَ مَيْلُ قَلْبِهِ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ لِأَبِيهِ شَدِيدًا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ

إِبْرَاهِيمَ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ وَمَعَ كَوْنِهِ مَوْصُوفًا بِالْأَوَّاهِيَّةِ وَالْحَلِيمِيَّةِ مَنَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِأَبِيهِ الْكَافِرِ، فَلِأَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مَمْنُوعًا مِنْ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَغْفَرَ لِأَبِيهِ. قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشُّعَرَاءِ: 86] وَأَيْضًا قَالَ عَنْهُ: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ [إِبْرَاهِيمَ: 41] وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ قَالَ: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مَرْيَمَ: 47] وَقَالَ أَيْضًا: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الْمُمْتَحَنَةِ: 4] وَثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ لَا يَجُوزُ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صُدُورِ هَذَا الذَّنْبِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [التوبة: 114] وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْوَاعِدُ أَبَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَبَاهُ وَعَدَهُ أَنْ يُؤْمِنَ، فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَسْتَغْفِرُ له لِأَجْلِ أَنْ يَحْصُلَ هَذَا الْمَعْنَى، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَأَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَتَرَكَ ذَلِكَ الِاسْتِغْفَارَ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْوَاعِدُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَعَدَ أَبَاهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ رَجَاءَ إِسْلَامِهِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَعَدَهَا أَبَاهُ بِالْبَاءِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ ذَكَرَ فِي الْجَوَابِ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنَ اسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ دُعَاؤُهُ لَهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُ آمِنْ حَتَّى تَتَخَلَّصَ مِنَ الْعِقَابِ وَتَفُوزَ بِالْغُفْرَانِ، وَكَانَ يَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ فِي أَنْ يَرْزُقَهُ الْإِيمَانَ/ الَّذِي يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ، فَهَذَا هُوَ الِاسْتِغْفَارُ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَمُوتُ مُصِرًّا عَلَى الْكُفْرِ تَرَكَ تِلْكَ الدَّعْوَةَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: 113] عَلَى صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ فَلَا امْتِنَاعَ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِلْكَافِرِ لِكَوْنِ الْفَائِدَةِ فِي ذَلِكَ الِاسْتِغْفَارِ تَخْفِيفُ الْعِقَابِ. قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْنَاهُ، أَنَّهُ تَعَالَى مَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً [التَّوْبَةِ: 84] وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ عَمَّ هَذَا الْحُكْمَ، وَمَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، سَوَاءٌ كَانَ مُنَافِقًا أَوْ كَانَ مُظْهِرًا لِذَلِكَ الشِّرْكِ وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي بِهِ تَبَيَّنَ لِإِبْرَاهِيمَ أَنَّ أَبَاهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِالْإِصْرَارِ وَالْمَوْتِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِالْإِصْرَارِ وَحْدَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَبْعُدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَرَّفَهُ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَبَرَّأَ مِنْهُ. فَكَانَ تَعَالَى يَقُولُ: لَمَّا تَبَيَّنَ لِإِبْرَاهِيمَ أَنَّ أَبَاهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، فَكُونُوا كَذَلِكَ، لأني أمرتكم بمتابعة إبراهيم في قوله: وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [النساء: 125] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ إِبْرَاهِيمَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ. قَالَ: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة: 114] وَاعْلَمْ أَنَّ اشْتِقَاقَ الْأَوَّاهِ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ عِنْدَ شِدَّةِ حُزْنِهِ أَوَّهْ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ عِنْدَ الْحُزْنِ يَخْتَنِقُ الرُّوحُ الْقَلْبِيُّ فِي دَاخِلِ الْقَلْبِ وَيَشْتَدُّ حَرْقُهُ، فَالْإِنْسَانُ يُخْرِجُ ذَلِكَ النَّفَسَ الْمُحْتَرِقَ مِنَ الْقَلْبِ لِيُخَفِّفَ بَعْضَ مَا بِهِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي اشْتِقَاقِ هَذَا اللَّفْظِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ عِبَارَاتٌ، رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْأَوَّاهُ: الْخَاشِعُ الْمُتَضَرِّعُ» وَعَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْأَوَّاهِ، فَقَالَ: «الدَّعَّاءُ» وَيُرْوَى أَنَّ زَيْنَبَ تَكَلَّمَتْ عِنْدَ الرَّسُولِ عليه الصلاة

[سورة التوبة (9) : الآيات 115 إلى 116]

وَالسَّلَامُ بِمَا يُغَيِّرُ لَوْنَهُ، فَأَنْكَرَ عُمَرُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «دَعْهَا فَإِنَّهَا أَوَّاهَةٌ» قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْأَوَّاهَةُ؟ قَالَ: «الدَّاعِيَةُ الْخَاشِعَةُ الْمُتَضَرِّعَةُ» وَقِيلَ: مَعْنَى كَوْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّاهًا، كُلَّمَا ذَكَرَ لِنَفْسِهِ تَقْصِيرًا أَوْ ذُكِرَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ شَدَائِدِ الْآخِرَةِ كَانَ يَتَأَوَّهُ إِشْفَاقًا مِنْ ذَلِكَ وَاسْتِعْظَامًا لَهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْأَوَّاهُ، الْمُؤْمِنُ بِالْخَشْيَةِ. وَأَمَّا وَصْفُهُ بِأَنَّهُ حَلِيمٌ فَهُوَ مَعْلُومٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا وَصَفَهُ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِشِدَّةِ الرقة والشفقة والخوف والوجل، ومن كَذَلِكَ فَإِنَّهُ تَعْظُمُ رِقَّتُهُ عَلَى أَبِيهِ وَأَوْلَادِهِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ مَعَ هَذِهِ الْعَادَةِ تَبَرَّأَ مِنْ أَبِيهِ وَغَلُظَ قَلْبُهُ عَلَيْهِ، لَمَّا ظَهَرَ لَهُ إِصْرَارُهُ عَلَى الْكُفْرِ، فَأَنْتُمْ بِهَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى، وَكَذَلِكَ وَصَفَهُ أَيْضًا بِأَنَّهُ حَلِيمٌ، لِأَنَّ أَحَدَ أَسْبَابِ الْحِلْمِ رِقَّةُ الْقَلْبِ، وَشِدَّةُ الْعَطْفِ لِأَنَّ الْمَرْءَ إِذَا كَانَ حَالُهُ هَكَذَا اشْتَدَّ حلمه عند الغضب. [سورة التوبة (9) : الآيات 115 الى 116] وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) [في قوله تعالى ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَنَعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ، وَالْمُسْلِمُونَ كَانُوا قَدْ اسْتَغْفَرُوا لِلْمُشْرِكِينَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُمْ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَانُوا يَسْتَغْفِرُونَ لِآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَسَائِرِ أَقْرِبَائِهِمْ مِمَّنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ خَافُوا بِسَبَبِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ أَقْوَامًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اسْتَغْفَرُوا لِلْمُشْرِكِينَ، كَانُوا قَدْ مَاتُوا قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَوَقَعَ الْخَوْفُ عَلَيْهِمْ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ، فَأَزَالُ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْخَوْفَ عَنْهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُهُمْ بِعَمَلٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّقُوهُ وَيَحْتَرِزُوا عَنْهُ. فَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ فِي النَّظْمِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِنَّ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فِي بَيَانِ الْمَنْعِ مِنْ مُخَالَطَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَوُجُوبِ مُبَايِنَتِهِمْ، وَالِاحْتِرَازِ عَنْ مُوَالَاتِهِمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الْإِلَهَ الرَّحِيمَ الْكَرِيمَ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ هَذَا التَّشْدِيدُ الشَّدِيدُ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ؟ فَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُ أَقْوَامًا بِالْعُقُوبَةِ بَعْدَ إِذْ دَعَاهُمْ إِلَى الرُّشْدِ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّقُوهُ، فَأَمَّا بَعْدَ أَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَأَزَاحَ الْعُذْرَ وَأَزَالَ الْعِلَّةَ فَلَهُ أَنْ يُؤَاخِذَهُمْ بِأَشَدِّ أَنْوَاعِ الْمُؤَاخَذَةِ وَالْعُقُوبَةِ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيُضِلَّ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أَضَلَّهُ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ، أَيْ صَرَفَهَ عَنْهُ وَمَنَعَهُ مِنَ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْإِضْلَالِ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالِ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ الْكُمَيْتِ: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَكْفَرُونِي بِحُبِّكُمْ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: هَذَا التَّأْوِيلُ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْعَرَبَ إِذَا أَرَادُوا ذَلِكَ الْمَعْنَى قَالُوا: ضَلَّلَ يُضْلِلُ، وَاحْتِجَاجُهُمْ بِبَيْتِ الْكُمَيْتِ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِنَا أَكْفَرَ فِي الْحُكْمِ صِحَّةُ قَوْلِنَا أَضَلَّ. / وليس كل موضع

[سورة التوبة (9) : آية 117]

صح فيه فعل صح أَفْعَلُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ كَسَرَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَكْسَرَهُ، بَلْ يَجِبُ فِيهِ الرُّجُوعُ إِلَى السَّمَاعِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُوقِعَ الضَّلَالَةَ فِي قُلُوبِهِمْ بَعْدَ الْهُدَى، حَتَّى يَكُونَ مِنْهُمُ الْأَمْرُ الَّذِي بِهِ يُسْتَحَقُّ الْعِقَابُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: حَاصِلُ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ كَوْنَ ذَلِكَ الْفِعْلِ قَبِيحًا، وَمَنْهِيًّا عَنْهُ. وَقَرَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَبِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَكَانَ التَّقْدِيرُ: أَنَّ مَنْ كَانَ عَالِمًا قَادِرًا هَكَذَا، لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا، وَالْعَالِمُ الْقَادِرُ الْغَنِيُّ لَا يَفْعَلُ الْقَبِيحَ وَالْعِقَابَ قَبْلَ الْبَيَانِ. وَإِزَالَةُ الْعُذْرِ قَبِيحٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَنَظْمُ الْآيَةِ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا فَسَّرْنَاهَا بِهَذَا الْوَجْهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَقْبُحُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الِابْتِدَاءُ بِالْعِقَابِ وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعَاقِبُ إِلَّا بَعْدَ التَّبْيِينِ، وَإِزَالَةِ الْعُذْرِ وَإِزَاحَةِ الْعِلَّةِ، وَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، فَسَقَطَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي هَذَا الْبَابِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ فِي ذِكْرِ هذا المعنى هاهنا فَوَائِدُ: إِحْدَاهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْبَرَاءَةِ من الكفار بين أنه له ملك السموات وَالْأَرْضِ، فَإِذَا كَانَ هُوَ نَاصِرًا لَكُمْ، فَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِضْرَارِكُمْ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقَوْمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: لَمَّا أَمَرْتَنَا بِالِانْقِطَاعِ مِنَ الْكُفَّارِ، فَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَخْتَلِطَ بِآبَائِنَا وَأَوْلَادِنَا وَإِخْوَانِنَا لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ كَافِرِينَ، وَالْمُرَادُ أَنَّكُمْ إِنْ صِرْتُمْ مَحْرُومِينَ عَنْ معاونتهم ومناصرتهم. فالإله الذي هو المالك للسموات وَالْأَرْضِ وَالْمُحْيِي وَالْمُمِيتُ نَاصِرُكُمْ، فَلَا يَضُرُّكُمْ أَنْ يَنْقَطِعُوا عَنْكُمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِهَذِهِ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ كَأَنَّهُ قَالَ وَجَبَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْقَادُوا لِحُكْمِي وَتَكْلِيفِي لِكَوْنِي إِلَهَكُمْ وَلِكَوْنِكُمْ عبيدا لي. [سورة التوبة (9) : آية 117] لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا اسْتَقْصَى فِي شَرْحِ أَحْوَالِ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَبَيَّنَ أَحْوَالِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْهَا، وَأَطَالَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي لَخَّصْنَاهُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ، عَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى شَرْحِ مَا بَقِيَ مِنْ أَحْكَامِهَا. وَمِنْ بَقِيَّةِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ أَنَّهُ قَدْ صَدَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نوع زلة جارية مجرى ترك الْأُولَى، وَصَدَرَ أَيْضًا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ نَوْعُ زَلَّةٍ، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ وَتَابَ عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الزَّلَّاتِ. فَقَالَ: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: دَلَّتِ الْأَخْبَارُ عَلَى أَنَّ هَذَا السَّفَرَ كَانَ شَاقًّا شَدِيدًا عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، عَلَى مَا سَيَجِيءُ شَرْحُهَا، وَهَذَا يُوجِبُ الثَّنَاءَ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهَا قَوْلُهُ: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ.

وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ صَدَرَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَيْءٌ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَفْضَلِ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: 43] وَأَيْضًا لَمَّا اشْتَدَّ الزَّمَانُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا سَيَجِيءُ شَرْحُهَا، فَرُبَّمَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِمْ نَوْعُ نَفْرَةٍ عَنْ تِلْكَ السَّفْرَةِ، وَرُبَّمَا وَقَعَ فِي خَاطِرِ بَعْضِهِمْ أَنَّا لَسْنَا نَقْدِرُ عَلَى الْفِرَارِ. وَلَسْتُ أَقُولُ عَزَمُوا عَلَيْهِ، بَلْ أَقُولُ وَسَاوِسٌ كَانَتْ تَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ، فَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّهُ بِفَضْلِهِ عَفَا عَنْهَا. فَقَالَ: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ الْإِنْسَانَ طُولُ عُمُرِهِ لَا يَنْفَكُ عَنْ زَلَّاتٍ وَهَفَوَاتٍ، إِمَّا مِنْ بَابِ الصَّغَائِرِ، وَإِمَّا مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَفْضَلِ. ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وسائر المؤمنون لَمَّا تَحَمَّلُوا مَشَاقَّ هَذَا السَّفَرِ وَمَتَاعِبَهُ، وَصَبَرُوا عَلَى تِلْكَ الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ، أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ تَحَمُّلَ تِلْكَ الشَّدَائِدِ صَارَ مُكَفِّرًا لِجَمِيعِ الزَّلَّاتِ الَّتِي صَدَرَتْ عَنْهُمْ فِي طُولِ الْعُمُرِ، وَصَارَ قَائِمًا مَقَامَ التَّوْبَةِ الْمَقْرُونَةِ بِالْإِخْلَاصِ عَنْ كُلِّهَا. فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ الْآيَةَ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ: أَنَّ الزَّمَانَ لَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ، وَكَانَتِ الْوَسَاوِسُ تَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ، فَكُلَّمَا وَقَعَتْ وَسْوَسَةٌ فِي قَلْبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَابَ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا، وَتَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ فِي إِزَالَتِهَا عَنْ قَلْبِهِ، فَلِكَثْرَةِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى التَّوْبَةِ بِسَبَبِ خَطِرَاتِ تِلْكَ الْوَسَاوِسِ بِبَالِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ الْآيَةَ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَدْ صَدَرَ عَنْ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمَعَاصِي، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى تَابَ عَلَيْهِمْ وَعَفَا عَنْهُمْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا مَشَاقَّ ذَلِكَ السَّفَرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ضَمَّ ذِكْرَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى ذِكْرِهِمْ تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ مَرَاتِبِهِمْ فِي الدِّينِ. وَأَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوا إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي/ لِأَجْلِهَا، ضَمَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَيْهِمْ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِسَاعَةِ الْعُسْرَةِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا الزَّمَانُ الَّذِي صَعُبَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ جِدًّا فِي ذَلِكَ السَّفَرِ وَالْعُسْرَةُ تَعَذُّرُ الْأَمْرِ وَصُعُوبَتُهُ. قَالَ جَابِرٌ: حَصَلَتْ عُسْرَةُ الظَّهْرِ وَعُسْرَةُ الْمَاءِ وَعُسْرَةُ الزَّادِ. أَمَّا عُسْرَةُ الظَّهْرِ: فَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الْعَشَرَةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى بَعِيرٍ يَعْتَقِبُونَهُ بَيْنَهُمْ، وَأَمَّا عُسْرَةُ الزَّادِ، فَرُبَّمَا مَصَّ التَّمْرَةَ الْوَاحِدَةَ جَمَاعَةٌ يتناوبونهما حتى لا يبقى من التمر إِلَّا النَّوَاةَ، وَكَانَ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنْ شَعِيرٍ مُسَوَّسٍ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا وَضَعَ اللُّقْمَةَ فِي فِيهِ أَخَذَ أَنْفَهُ مِنْ نَتَنِ اللُّقْمَةِ. وَأَمَّا عُسْرَةُ الْمَاءِ: فَقَالَ عُمَرُ: خَرَجْنَا فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ وَأَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ شَدِيدٌ، حَتَّى إِنِ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ وَيَشْرَبُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْغَزْوَةَ تُسَمَّى غَزْوَةُ الْعُسْرَةِ، وَمَنْ خَرَجَ فِيهَا فَهُوَ جَيْشُ الْعُسْرَةِ، وَجَهَّزَهُمْ عُثْمَانُ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِسَاعَةِ الْعُسْرَةِ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ الشَّدِيدَةِ عَلَى الرَّسُولِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَيُدْخِلُ فِيهِ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ وَغَيْرُهَا. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَهَا فِي كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ

تَعَالَى: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الْأَحْزَابِ: 10] وقوله: لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 152] الْآيَةَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ وَصْفُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأَوْقَاتِ الشَّدِيدَةِ وَالْأَحْوَالِ الصَّعْبَةِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ نِهَايَةَ الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فَاعِلُ كادَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قُلُوبُ وَالتَّقْدِيرُ: كَادَ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ تَزِيغُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَمِيرُ الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ، وَالْفِعْلُ وَالْفَاعِلُ تَفْسِيرٌ لِلْأَمْرِ وَالشَّأْنِ، وَالْمَعْنَى: كَادُوا لَا يَثْبِتُونَ عَلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ لِشِدَّةِ الْعُسْرَةِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ يَزِيغُ بِالْيَاءِ لِتَقَدُّمِ الْفِعْلِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ قُلُوبٍ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا زَاغَتْ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: (كَادَ) عِنْدَ بَعْضِهِمْ تُفِيدُ الْمُقَارَبَةَ فَقَطْ، وَعِنْدَ آخَرِينَ تُفِيدُ الْمُقَارَبَةَ مَعَ عَدَمِ الْوُقُوعِ، فَهَذِهِ التَّوْبَةُ الْمَذْكُورَةُ تَوْبَةٌ عَنْ تِلْكَ الْمُقَارَبَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الَّذِي وَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ. فَقِيلَ: هَمَّ بَعْضُهُمْ عِنْدَ تِلْكَ الشِّدَّةِ الْعَظِيمَةِ أَنْ يُفَارِقَ الرَّسُولَ، لَكِنَّهُ صَبَرَ وَاحْتَسَبَ. فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: / ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لَمَّا صَبَرُوا وَثَبَتُوا وَنَدِمُوا عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ الْيَسِيرِ. وَقَالَ الْآخَرُونَ بَلْ كَانَ ذَلِكَ لِحَدِيثِ النَّفْسِ الَّذِي يَكُونُ مُقَدِّمَةَ الْعَزِيمَةِ، فَلَمَّا نَالَتْهُمُ الشِّدَّةُ وَقَعَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ وَمَعَ ذَلِكَ تَلَافَوْا هَذَا الْيَسِيرَ خَوْفًا مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً. فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: ذَكَرَ التَّوْبَةَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَفِي آخِرِهَا فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّكْرَارِ؟ قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ابْتَدَأَ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ قَبْلَ ذِكْرِ الذَّنْبِ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ الذَّنْبَ ثُمَّ أَرْدَفَهُ مَرَّةً أُخْرَى بِذِكْرِ التَّوْبَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَعْظِيمُ شَأْنِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا قِيلَ: عَفَا السُّلْطَانُ عَنْ فُلَانٍ ثُمَّ عَفَا عَنْهُ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَفْوَ عَفْوٌ مُتَأَكِّدٌ بَلَغَ الْغَايَةَ الْقُصْوَى فِي الْكَمَالِ وَالْقُوَّةِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَغْفِرُ ذَنْبَ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ عِشْرِينَ مَرَّةً» وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ يُرِيدُ ازْدَادَ عَنْهُمْ رِضًا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ وَهَذَا التَّرْتِيبُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى تَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَسَاوِسِ الَّتِي كَانَتْ تَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى زَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ: مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَفَادَتْ حُصُولَ وَسَاوِسٍ قَوِيَّةٍ، فَلَا جَرَمَ أَتْبَعَهَا تَعَالَى بِذِكْرِ التَّوْبَةِ مَرَّةً أُخْرَى لِئَلَّا يَبْقَى فِي خَاطِرِ أَحَدِهِمْ شَكٌّ فِي كَوْنِهِمْ مُؤَاخَذِينَ بِتِلْكَ الْوَسَاوِسِ. ثُمَّ قال تعالى: إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَهُمَا صِفَتَانِ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبٌ، وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ الرَّأْفَةُ عِبَارَةً عَنِ السَّعْيِ فِي إِزَالَةِ الضُّرِّ، وَالرَّحْمَةُ عِبَارَةً عَنِ السَّعْيِ فِي إِيصَالِ الْمَنْفَعَةِ. وَقِيلَ: إِحْدَاهُمَا لِلرَّحْمَةِ السَّالِفَةِ، والأخرى للمستقبلة.

[سورة التوبة (9) : آية 118]

[سورة التوبة (9) : آية 118] وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) في الآية مسائل: [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْآيَةِ الْأُولَى، وَالتَّقْدِيرُ: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، وَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا الْعَطْفِ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ ضُمَّ ذِكْرُ تَوْبَتِهِ إِلَى تَوْبَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ، وَهَذَا الْعَطْفُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَبُولُ تَوْبَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَوْبَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ يُوجِبُ إِعْلَاءَ شَأْنِهِمْ وَكَوْنَهُمْ مُسْتَحِقِّينَ لِذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَاخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ وُصِفُوا بِكَوْنِهِمْ مُخَلَّفِينَ وَذَكَرُوا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ هَؤُلَاءِ أُمِرُوا بِالتَّخَلُّفِ، أَوْ حَصَلَ الرِّضَا مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَلِكَ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِكَ لِصَاحِبِكَ أَيْنَ خَلَّفْتَ فَلَانًا فَيَقُولُ: بِمَوْضِعِ كَذَا لَا يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالتَّخَلُّفِ بَلْ لَعَلَّهُ نَهَاهُ عَنْهُ وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْهُ. وَثَانِيهَا: لَا يَمْتَنِعُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ كَانُوا عَلَى عَزِيمَةِ الذِّهَابِ إِلَى الْغَزْوِ فَأَذِنَ لَهُمُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْرَ مَا يُحَصِّلُ الْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ فَلَمَّا بَقُوا مُدَّةً ظَهَرَ التَّوَانِي وَالْكَسَلُ فَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: خَلَّفَهُمُ الرَّسُولُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ حَكَى قِصَّةَ أَقْوَامٍ وَهُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ فَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ هَؤُلَاءِ مُخَلَّفِينَ كَوْنُهُمْ مُؤَخَّرِينَ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ عَنِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى. قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَهُوَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّنَا: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا لَيْسَ مِنْ تَخَلُّفِنَا إِنَّمَا هُوَ تَأْخِيرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَنَا لِيُشِيرَ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ خُلِّفُوا أَيْ خَلَفُوا الْغَازِينَ بِالْمَدِينَةِ، أَيْ صَارُوا خُلَفَاءَ لِلَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى الْغَزْوِ وَفَسَدُوا مِنَ الْخَالِفَةِ وَخُلُوفِ الْفَمِ، وَقَرَأَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ خَالَفُوا وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الْمُخَلَّفِينَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ هُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ الشَّاعِرُ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ آيَةُ اللِّعَانِ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَلِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ ذَهَبُوا خَلْفَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ لِأَحَدِهِمْ أَرْضٌ ثَمَنُهَا مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَ: يَا أَرْضَاهُ مَا خَلَّفَنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ إِلَّا أَمْرُكِ، اذْهَبِي فَأَنْتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَأُكَابِدَنَّ الْمَفَاوِزَ حَتَّى أَصِلَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَعَلَ، وَكَانَ لِلثَّانِي: أَهْلٌ فَقَالَ: يَا أَهْلَاهُ مَا خَلَّفَنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَمْرُكِ فَلَأُكَابِدَنَّ الْمَفَاوِزَ حَتَّى أَصِلَ إِلَيْهِ وَفَعَلَ، وَالثَّالِثُ: مَا كَانَ لَهُ مَالَ وَلَا أَهْلٌ فقال: مالي سَبَبٌ إِلَّا الضَّنُّ بِالْحَيَاةِ وَاللَّهِ لَأُكَابِدَنَّ الْمَفَاوِزَ حَتَّى/ أَصِلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَحِقُوا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُمْ مَا ذَهَبُوا خَلْفَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ كَعْبٌ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ حَدِيثِي فَلَمَّا أَبْطَأْتُ عَنْهُ فِي الْخُرُوجِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا الَّذِي حَبَسَ كَعْبًا» فَلَمَّا

قَدِمَ الْمَدِينَةَ اعْتَذَرَ الْمُنَافِقُونَ فَعَذَرَهُمْ وَأَتَيْتُهُ وَقُلْتُ: إِنَّ كُرَاعِي وَزَادِي كَانَ حَاضِرًا وَاحْتَبَسْتُ بِذَنْبِي فَاسْتَغْفِرْ لِي فَأَبَى الرَّسُولُ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ مُجَالَسَةِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَأَمَرَ بِمُبَايَنَتِهِمْ حَتَّى أَمَرَ بِذَلِكَ نِسَاءَهُمْ، فَضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بَكَى هِلَالٌ حَتَّى خِفْتُ عَلَى بَصَرِهِ حَتَّى إِذَا مَضَى خَمْسُونَ يَوْمًا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَأَنْزَلَ قَوْلَهُ: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا فَعِنْدَ ذَلِكَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُجْرَتِهِ وَهُوَ عِنْدُ أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عُذْرَ أَصْحَابِنَا» فَلَمَّا صَلَّى الْفَجْرَ ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَصْحَابِهِ وَبَشَّرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَابَ عَلَيْهِمْ، فَانْطَلَقُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَلَا عَلَيْهِمْ مَا نَزَلَ فِيهِمْ. فَقَالَ كَعْبٌ: تَوْبَتِي إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ أُخْرِجَ مَالِي صَدَقَةً فَقَالَ: «لَا» قُلْتُ: فَنَصِفُهُ قَالَ: «لَا» قُلْتُ: فَثُلْثُهُ قَالَ: «نَعَمْ» وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ بِصِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ. الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ: أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَارَ مُعْرِضًا عَنْهُمْ وَمَنَعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُكَالَمَتِهِمْ وَأَمَرَ أَزْوَاجَهُمْ بِاعْتِزَالِهِمْ وَبَقُوا عَلَى هَذِهِ الحالة خمسين يوما، وقيل: أكثر، ومعنى ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَالْمُرَادُ ضِيقُ صُدُورِهِمْ بِسَبَبِ الْهَمِّ وَالْغَمِّ وَمُجَانَبَةِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَحِبَّاءِ، وَنَظَرِ النَّاسِ لَهُمْ بِعَيْنِ الْإِهَانَةِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ وَيَقْرُبُ مَعْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي دُعَائِهِ: «أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَأَعُوذُ بِعَفْوِكَ مِنْ غَضَبِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ» وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَظَنُّوا أَيْ عَلِمُوا كَمَا في قوله: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَةِ: 46] وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا الْوَصْفَ فِي حَقِّهِمْ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا وَكَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّهُ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: وُقِفَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْوَحْيِ وَهُمْ مَا كَانُوا قَاطِعِينَ أَنَّ اللَّهَ يُنَزِّلُ الْوَحْيَ بِبَرَاءَتِهِمْ عَنِ النِّفَاقِ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يُجَوِّزُونَ أَنْ تَطُولَ الْمُدَّةُ فِي بَقَائِهِمْ فِي الشِّدَّةِ فَالطَّعْنُ/ عَادَ إِلَى تَجْوِيزِ كَوْنِ تِلْكَ الْمُدَّةِ قَصِيرَةً، وَلَمَّا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ، قَالَ: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ [إلى آخر الآية] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا بد هاهنا مِنْ إِضْمَارٍ. وَالتَّقْدِيرُ: حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ. تَابَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّكْرِيرِ؟ قُلْنَا: هَذَا التَّكْرِيرُ حَسَنٌ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا أَنَّ السُّلْطَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُبَالِغَ فِي تَقْرِيرِ الْعَفْوِ لِبَعْضِ عَبِيدِهِ يَقُولُ عَفَوْتُ عَنْكَ ثُمَّ عَفَوْتُ عَنْكَ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا. قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَصْحَابُنَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَوْلُهُ: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ فِعْلُ اللَّهِ وَقَوْلُهُ: لِيَتُوبُوا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فِعْلُ الْعَبْدِ، فَهَذَا صَرِيحُ قَوْلِنَا، ونظيره

[سورة التوبة (9) : آية 119]

فَلْيَضْحَكُوا مَعَ قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وقوله: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مع قوله: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وقوله: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ مع قوله: قُلْ سِيرُوا وَالثَّانِي: الْمُرَادُ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْمَاضِي لِيَكُونَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَالثَّالِثُ: أَصْلُ التَّوْبَةِ الرُّجُوعُ، فَالْمُرَادُ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَرْجِعُوا إِلَى حَالِهِمْ وَعَادَتِهِمْ فِي الِاخْتِلَاطِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَزَوَالِ الْمُبَايَنَةِ فَتَسْكُنَ نُفُوسُهُمْ عِنْدَ ذلك. الرابع: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا أَيْ لِيَدُومُوا عَلَى التَّوْبَةِ، وَلَا يُرَاجِعُوا مَا يُبْطِلُهَا. الْخَامِسُ: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَنْتَفِعُوا بِالتَّوْبَةِ وَيَتَوَفَّرَ عَلَيْهِمْ ثَوَابُهَا وَهَذَانِ النَّفْعَانِ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا بَعْدَ تَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى اللَّهِ عَقْلًا قَالُوا: لِأَنَّ شَرَائِطَ التَّوْبَةِ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ قَدْ حَصَلَتْ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ. ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا قَبِلَهُمْ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ وَتَرَكَهُمْ مُدَّةَ خَمْسِينَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ، وَلَوْ كَانَ قَبُولُ التَّوْبَةِ وَاجِبًا عَقْلًا لَمَا جَازَ ذَلِكَ. أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: يُقَالُ إِنَّ تِلْكَ التَّوْبَةَ صَارَتْ مَقْبُولَةً مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، لَكِنَّهُ يُقَالُ: أَرَادَ تَشْدِيدَ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَتَجَرَّأَ أَحَدٌ عَلَى التَّخَلُّفِ عَنِ الرَّسُولِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ جِهَادٍ وَغَيْرِهِ. وَأَيْضًا لَمْ يَكُنْ نَهْيُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ كَلَامِهِمْ عُقُوبَةً، بَلْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّشْدِيدِ فِي التَّكْلِيفِ. قَالَ الْقَاضِي: وَإِنَّمَا خَصَّ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ بِهَذَا التَّشْدِيدِ، لِأَنَّهُمْ أَذْعَنُوا بِالْحَقِّ وَاعْتَرَفُوا بالذنب، فالذي يجري عليهم، وهذه حالهم يكون فِي الزَّجْرِ أَبْلَغُ مِمَّا يَجْرِي عَلَى مَنْ يُظْهِرُ الْعُذْرَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّا مُتَمَسِّكُونَ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ وَكَلِمَةُ (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي، فَمُقْتَضَى هَذَا اللَّفْظِ تَأْخِيرُ قَبُولِ التَّوْبَةِ، فَإِنْ حَمَلْتُمْ ذَلِكَ عَلَى تَأْخِيرِ إِظْهَارِ هَذَا الْقَبُولِ كَانَ ذَلِكَ عُدُولًا عَنِ الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. فَإِنْ قَالُوا: الْمُوجِبُ لِهَذَا الْعُدُولِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ. قُلْنَا: صِيغَةُ يَقْبَلُ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ لَا يُفِيدُ الْفَوْرَ أَصْلًا بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَ الرَّحِيمِ عَقِيبَ ذِكْرِ التَّوَّابِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ لِأَجْلِ مَحْضِ الرَّحْمَةِ وَالْكَرَمِ، لَا لِأَجْلِ الْوُجُوبِ، وَذَلِكَ يُقَوِّي قَوْلَنَا فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَقْلًا عَلَى الله قبول التوبة. [سورة التوبة (9) : آية 119] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ بِقَبُولِ تَوْبَةِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، ذَكَرَ مَا يَكُونُ كَالزَّاجِرِ عَنْ فِعْلِ مَا مَضَى، وَهُوَ التَّخَلُّفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجهاد فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ فِي مُخَالَفَةِ أَمْرِ الرَّسُولِ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ يَعْنِي مَعَ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ فِي الْغَزَوَاتِ، وَلَا تَكُونُوا مُتَخَلِّفِينَ عَنْهَا وَجَالِسِينَ مَعَ الْمُنَافِقِينَ فِي الْبُيُوتِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْكَوْنِ مَعَ الصَّادِقِينَ، وَمَتَى وَجَبَ الْكَوْنُ مَعَ الصَّادِقِينَ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الصَّادِقِينَ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ إِطْبَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْبَاطِلِ، وَمَتَى امْتَنَعَ إِطْبَاقُ الْكُلِّ عَلَى الْبَاطِلِ، وَجَبَ إِذَا أَطْبَقُوا عَلَى شَيْءٍ أَنْ يَكُونُوا مُحِقِّينَ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الأمة حجة.

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: المراد بقوله: كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ أَيْ كُونُوا عَلَى طَرِيقَةِ الصَّادِقِينَ، كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لِوَلَدِهِ: كُنْ مَعَ الصَّالِحِينَ، لَا يُفِيدُ إِلَّا ذَلِكَ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لَكِنْ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَانِ الرَّسُولِ فَقَطْ، فَكَانَ هَذَا أَمْرًا بِالْكَوْنِ مَعَ الرَّسُولِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ صَادِقٍ فِي سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الصَّادِقُ هُوَ الْمَعْصُومَ الَّذِي يَمْتَنِعُ خُلُوُّ زَمَانِ التَّكْلِيفِ عَنْهُ كَمَا تَقُولُهُ الشِّيعَةُ؟ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أن قوله: كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ أَمْرٌ بِمُوَافَقَةِ الصَّادِقِينَ، وَنَهْيٌ عَنْ مُفَارَقَتِهِمْ، وَذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِوُجُودِ الصَّادِقِينَ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَدَلَّتْ هَذِهِ/ الْآيَةُ عَلَى وُجُودِ الصَّادِقِينَ. وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنْ يَكُونُوا عَلَى طَرِيقَةِ الصَّادِقِينَ. فَنَقُولُ: أَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. قَوْلُهُ: هَذَا الْأَمْرُ مُخْتَصٌّ بِزَمَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ الظَّاهِرِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ التَّكَالِيفَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ مُتَوَجِّهَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ، فَكَانَ الْأَمْرُ فِي هَذَا التَّكْلِيفِ كَذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الصِّيغَةَ تَتَنَاوَلُ الْأَوْقَاتَ كُلَّهَا بِدَلِيلِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَالثَّالِثُ: لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ مَذْكُورًا فِي لَفْظِ الْآيَةِ لَمْ يَكُنْ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْبَاقِي، فَإِمَّا أَنْ لَا يُحْمَلَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ فَيُفْضِي إِلَى التَّعْطِيلِ وَهُوَ بَاطِلٌ، أَوْ عَلَى الْكُلِّ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَالرَّابِعُ: وهو أن قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أَمْرٌ لَهُمْ بِالتَّقْوَى، وَهَذَا الْأَمْرُ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ مُتَّقِيًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ كَانَ جَائِزَ الْخَطَأِ، فَكَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ جَائِزَ الْخَطَأِ وَجَبَ كَوْنُهُ مُقْتَدِيًا بِمَنْ كَانَ وَاجِبَ الْعِصْمَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِكَوْنِهِمْ صَادِقِينَ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى جَائِزِ الْخَطَأِ كَوْنُهُ مَعَ الْمَعْصُومِ عَنِ الْخَطَأِ حَتَّى يَكُونَ الْمَعْصُومُ عَنِ الْخَطَأِ مَانِعًا لِجَائِزِ الْخَطَأِ عَنِ الْخَطَأِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ، فَوَجَبَ حُصُولُهُ فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ. قَوْلُهُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ كَوْنَ الْمُؤْمِنِ مَعَ الْمَعْصُومِ الْمَوْجُودِ فِي كُلِّ زَمَانٍ؟ قُلْنَا: نَحْنُ نَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَعْصُومٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: ذَلِكَ الْمَعْصُومُ هُوَ مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: ذَلِكَ الْمَعْصُومُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَنَقُولُ: هَذَا الثَّانِي بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الصَّادِقِينَ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ ذَلِكَ الصَّادِقَ مَنْ هُوَ لَا الْجَاهِلَ بِأَنَّهُ مَنْ هُوَ، فَلَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِالْكَوْنِ مَعَهُ كَانَ ذَلِكَ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لَكِنَّا لَا نَعْلَمُ إِنْسَانًا مُعَيَّنًا مَوْصُوفًا بِوَصْفِ الْعِصْمَةِ، وَالْعِلْمُ بِأَنَّا لَا نَعْلَمُ هَذَا الْإِنْسَانَ حَاصِلٌ بِالضَّرُورَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ لَيْسَ أَمْرًا بِالْكَوْنِ مَعَ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا بَقِيَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْكَوْنُ مَعَ مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ حَقٌّ وَصَوَابٌ ولا معنى لقولنا الإجماع إِلَّا ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى فَضْلِ الصِّدْقِ وَكَمَالِ دَرَجَتِهِ، وَالَّذِي يُؤَيِّدُهُ مِنَ الْوُجُوهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: رُوِيَ أَنَّ وَاحِدًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ عليه السلام وقال: إني رجل أريد أن أو من بِكَ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ الْخَمْرَ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةَ وَالْكَذِبَ، وَالنَّاسُ يَقُولُونَ إِنَّكَ تُحَرِّمُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَلَا طَاقَةَ لِي عَلَى تَرْكِهَا بِأَسْرِهَا، فَإِنْ قَنِعْتَ مِنِّي بِتَرْكِ وَاحِدٍ مِنْهَا آمَنْتُ بِكَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ/ «اتْرُكِ الْكَذِبَ» فَقَبِلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَسْلَمَ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَرَضُوا عَلَيْهِ الْخَمْرَ، فَقَالَ: إِنْ شَرِبْتُ وَسَأَلَنِي الرَّسُولُ عَنْ شُرْبِهَا وَكَذَبْتُ فَقَدْ نقضت

[سورة التوبة (9) : الآيات 120 إلى 121]

الْعَهْدَ، وَإِنْ صَدَقْتُ أَقَامَ الْحَدَّ عَلَيَّ فَتَرَكَهَا ثُمَّ عَرَضُوا عَلَيْهِ الزِّنَا، فَجَاءَ ذَلِكَ الْخَاطِرُ فَتَرَكَهُ، وَكَذَا فِي السَّرِقَةِ، فَعَادَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: مَا أَحْسَنَ مَا فَعَلْتَ، لَمَّا مَنَعَتْنِي عَنِ الْكَذِبِ انْسَدَّتْ أَبْوَابُ الْمَعَاصِي عَلَيَّ، وَتَابَ عَنِ الْكُلِّ. الثَّانِي: رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّهُ يُقَرِّبُ إِلَى الْبِرِّ وَالْبِرُّ يُقَرِّبُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَصْدُقُ فَيُكْتَبُ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يُقَرِّبُ إِلَى الْفُجُورِ. وَالْفُجُورُ يُقَرِّبُ إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ وَكَذَبْتَ وَفَجَرْتَ، الثَّالِثُ: قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْلِيسَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82، 83] إِنَّ إِبْلِيسَ إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ لَصَارَ كَاذِبًا فِي ادِّعَاءِ إِغْوَاءِ الْكُلِّ، فَكَأَنَّهُ اسْتَنْكَفَ عَنِ الْكَذِبِ فَذَكَرَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ، وَإِذَا كَانَ الْكَذِبُ شَيْئًا يَسْتَنْكِفُ مِنْهُ إِبْلِيسُ، فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى أَنْ يَسْتَنْكِفَ مِنْهُ. الرَّابِعُ: مِنْ فَضَائِلِ الصِّدْقِ أَنَّ الْإِيمَانَ مِنْهُ لَا مِنْ سَائِرِ الطَّاعَاتِ، وَمِنْ مَعَايِبِ الْكَذِبِ أَنَّ الْكُفْرَ مِنْهُ لَا مِنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ الْمُقْتَضِي لِقُبْحِهِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْمُقْتَضِي لِقُبْحِهِ هُوَ كَوْنُهُ مُخِلًّا لِمَصَالِحِ الْعَالَمِ وَمَصَالِحِ النَّفْسِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْمُقْتَضِي لِقُبْحِهِ هُوَ كَوْنُهُ كَذِبًا وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ [الْحُجُرَاتِ: 6] يَعْنِي لَا تَقْبَلُوا قَوْلَ الْفَاسِقِ فَرُبَّمَا كَانَ كَذِبًا، فَيَتَوَلَّدُ عَنْ قَبُولِ ذَلِكَ الْكَذِبِ فِعْلٌ تَصِيرُونَ نَادِمِينَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَوْجَبَ رَدَّ مَا يَجُوزُ كَوْنُهُ كَذِبًا لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ مُفْضِيًا إِلَى مَا يُضَادُّ الْمَصَالِحَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ المقتضى لقبح الكذب إفضاءه إِلَى الْمَفَاسِدِ، وَاحْتَجَّ الْقَاضِي عَلَى قَوْلِهِ بِأَنَّ مَنْ دُفِعَ إِلَى طَلَبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ وَأَمْكَنَهُ الْوُصُولُ إِلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَكْذِبَ وَبِأَنْ يَصْدُقَ فَقَدْ عُلِمَ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الصِّدْقِ إِلَى الْكَذِبِ، وَلَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَصِلَ إِلَى ذَلِكَ بِصِدْقَيْنِ لَجَازَ أَنْ يَعْدِلَ مِنْ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ، فَلَوْ كَانَ الْكَذِبُ يَحْسُنُ لِمَنْفَعَةٍ أَوْ إِزَالَةِ مَضَرَّةٍ لَكَانَ حَالُهُ حَالَ الصِّدْقِ. وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا قَبِيحًا، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَحْسُنَ لَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ إِذَا كَانَ مَصْلَحَةً، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ لَا يُوثَقَ بِأَخْبَارِهِ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي التَّفْسِيرِ فَيُقَالُ لَهُ فِي الْجَوَابِ عَنِ الْأَوَّلِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَمَّا تَقَرَّرَ عِنْدَهُ مِنْ أَوَّلِ عُمُرِهِ تَقْبِيحُ الْكَذِبِ لِأَجْلِ كَوْنِهِ مُخِلًّا لِمَصَالِحِ الْعَالَمِ. صَارَ ذَلِكَ نُصْبَ عَيْنِهِ وَصُورَةَ خَيَالِهِ فَتِلْكَ الصُّورَةُ النَّادِرَةُ إِذَا اتَّفَقْتَ لِلْحُكْمِ عَلَيْهَا حَكَمَتِ الْعَادَةُ الرَّاسِخَةُ عَلَيْهَا بِالْقُبْحِ، فَلَوْ فَرَضْتُمْ كَوْنَ الْإِنْسَانِ خَالِيًا عَنْ هَذِهِ الْعَادَةِ وَفَرَضْتُمُ/ اسْتِوَاءَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الْإِفْضَاءِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا نُسَلِّمُ حُصُولَ التَّرْجِيحِ، وَيُقَالُ لَهُ فِي الْجَوَابِ عَنِ الْحُجَّةِ الثَّانِيَةِ، إِنَّكُمْ تُثْبِتُونَ امْتِنَاعَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِكَوْنِهِ قَبِيحًا لِكَوْنِهِ كَذِبًا، فَلَوْ أَثْبَتُّمْ هَذَا الْمَعْنَى بِامْتِنَاعِ صُدُورِهِ عَنِ اللَّهِ لَزِمَ الدور وهو باطل. [سورة التوبة (9) : الآيات 120 الى 121] مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (121)

اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِقَوْلِهِ: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ بِوُجُوبِ الْكَوْنِ فِي مُوَافَقَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي جَمِيعِ الْغَزَوَاتِ وَالْمَشَاهِدِ، أَكَّدَ ذَلِكَ فَنَهَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنِ التَّخَلُّفِ عَنْهُ. فَقَالَ: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَالْأَعْرَابُ الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَ الْمَدِينَةِ مُزَيْنَةُ، وَجُهَيْنَةُ، وَأَشْجَعُ، وَأَسْلَمُ، وَغِفَارٌ، هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: بَلْ هَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَ الْمَدِينَةِ فَإِنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ، وَالتَّخْصِيصُ تَحَكُّمٌ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَا يَطْلُبُوا لِأَنْفُسِهِمِ الْحِفْظَ وَالدَّعَةَ حَالَ مَا يَكُونُ رَسُولُ اللَّهِ فِي الْحَرِّ وَالْمَشَقَّةِ، وَقَوْلُهُ: وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ يُقَالُ: رَغِبْتُ بِنَفْسِي عَنْ هَذَا الْأَمْرِ أَيْ تَوَقَّفْتُ عَنْهُ/ وَتَرَكْتُهُ، وَأَنَا أَرْغَبُ بِفُلَانٍ عَنْ هَذَا أَيْ أَبْخَلُ بِهِ عَلَيْهِ وَلَا أَتْرُكُهُ. وَالْمَعْنَى: لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَكْرَهُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَا يَرْضَاهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِنَفْسِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وُجُوبُ الْجِهَادِ عَلَى كُلِّ هَؤُلَاءِ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: الْمَرْضَى وَالضُّعَفَاءُ وَالْعَاجِزُونَ مَخْصُوصُونَ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَأَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَةِ: 286] وَأَيْضًا بِقَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ [النور: 61 الفتح: 17] الْآيَةَ وَأَمَّا أَنَّ الْجِهَادَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ، فَقَدْ دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَخْصُوصًا مِنْ هَذَا الْعُمُومِ وَبَقِيَ مَا وَرَاءَ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ دَاخِلًا تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَنَعَ مِنَ التَّخَلُّفِ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُمْ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَشَقَّةِ إِلَّا وَهُوَ يُوجِبُ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ إِنَّهُ ذَكَرَ أُمُورًا خَمْسَةً: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَهُوَ شِدَّةُ الْعَطَشِ يُقَالُ ظَمِئَ فُلَانٌ إِذَا اشْتَدَّ عَطَشُهُ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَلا نَصَبٌ وَمَعْنَاهُ الْإِعْيَاءُ وَالتَّعَبُ. وَثَالِثُهَا: وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُرِيدُ مَجَاعَةً شَدِيدَةً يَظْهَرُ بِهَا ضُمُورُ الْبَطْنِ وَمِنْهُ يُقَالُ: فُلَانٌ خميص البطن. ورابعها: قوله: وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ أَيْ وَلَا يَضَعُ الْإِنْسَانُ قَدَمَهُ وَلَا يَضَعُ فَرَسُهُ حَافِرَهُ، وَلَا يَضَعُ بِعِيرُهُ خُفَّهُ بِحَيْثُ يَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِغَيْظِ الْكُفَّارِ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: يُقَالُ غَاظَهُ وَغَيَّظَهُ وَأَغَاظَهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ أَغْضَبَهُ. وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا أَيْ أَسْرًا وَقَتْلًا وَهَزِيمَةً قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ أَيْ إِلَّا كَانَ ذَلِكَ قُرْبَةً لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَنَقُولُ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَصَدَ طَاعَةَ اللَّهِ كَانَ قِيَامُهُ وَقُعُودُهُ وَمِشْيَتُهُ وَحَرَكَتُهُ وَسُكُونُهُ كُلُّهَا حَسَنَاتٍ مَكْتُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ. وَكَذَا الْقَوْلُ فِي طَرَفِ الْمَعْصِيَةِ فَمَا أَعْظَمَ بَرَكَةُ الطَّاعَةِ وَمَا أَعْظَمَ شُؤْمُ الْمَعْصِيَةِ، وَاخْتَلَفُوا فَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا الْحُكْمُ مِنْ خَوَاصِّ رَسُولِ اللَّهِ إِذَا غَزَا بِنَفْسِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ إِلَّا بِعُذْرٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هَذَا حِينَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَلِيلِينَ فَلَمَّا كَثُرُوا نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التَّوْبَةِ: 122] وَقَالَ عَطِيَّةُ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ إِذَا دَعَاهُمْ وَأَمَرَهُمْ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ تَتَعَيَّنُ الْإِجَابَةُ وَالطَّاعَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ إِذَا أَمَرَ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الْوُلَاةِ وَالْأَئِمَّةِ إِذَا نُدِبُوا وَعُيِّنُوا لِأَنَّا لَوْ سَوَّغْنَا لِلْمَنْدُوبِ أَنْ يَتَقَاعَدَ لَمْ يَخْتَصَّ بِذَلِكَ بَعْضٌ دُونِ بَعْضٍ وَلَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَعْطِيلِ الْجِهَادِ. ثُمَّ قَالَ: وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً يُرِيدُ تَمْرَةً فَمَا فَوْقَهَا وَعَلَاقَةَ سَوْطٍ فَمَا فَوْقَهَا وَلَا يَقْطَعُونَ

[سورة التوبة (9) : آية 122]

وَادِيًا، وَالْوَادِي كُلُّ مُفْرَجٍ بَيْنَ جِبَالٍ وَآكَامٍ يَكُونُ مَسْلَكًا لِلسَّيْلِ، وَالْجَمْعُ الْأَوْدِيَةُ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ الْإِنْفَاقَ وَذَلِكَ الْمَسِيرَ. ثُمَّ قَالَ: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَحْسَنَ مِنْ/ صِفَةِ فِعْلِهِمْ، وَفِيهَا الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ وَالْمُبَاحُ وَاللَّهُ تَعَالَى يَجْزِيهِمْ عَلَى الْأَحْسَنِ، وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ، دُونَ الْمُبَاحِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَحْسَنَ صِفَةٌ لِلْجَزَاءِ، أَيْ يَجْزِيهِمْ جَزَاءً هُوَ أَحْسَنُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَجَلُّ وأفضل، وهو الثواب. [سورة التوبة (9) : آية 122] وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ بَقِيَّةِ أَحْكَامِ الْجِهَادِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْجِهَادِ. أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى الْغَزْوِ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ إِلَّا مُنَافِقٌ أَوْ صَاحِبُ عُذْرٍ. فَلَمَّا بَالَغَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي عُيُوبِ الْمُنَافِقِينَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: وَاللَّهِ لَا نَتَخَلَّفُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْغَزَوَاتِ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا عَنْ سَرِيَّةٍ. فَلَمَّا قَدِمَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَدِينَةَ، وَأَرْسَلَ السَّرَايَا إِلَى الْكُفَّارِ، نَفَرَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا إِلَى الْغَزْوِ وَتَرَكُوهُ وَحْدَهُ بِالْمَدِينَةِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَنْفِرُوا بِكُلِّيَّتِهِمْ إِلَى الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَصِيرُوا طَائِفَتَيْنِ. تَبْقَى طَائِفَةٌ فِي خِدْمَةِ الرَّسُولِ، وَتَنْفِرُ طَائِفَةٌ أُخْرَى إِلَى الْغَزْوِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ مُحْتَاجًا إلى الغزو والجهاد وقهر الكفار، وَأَيْضًا كَانَتِ التَّكَالِيفُ تَحْدُثُ وَالشَّرَائِعُ تَنْزِلُ، وَكَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إِلَى مَنْ يَكُونُ مُقِيمًا بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَتَعَلَّمُ تِلْكَ الشَّرَائِعَ، وَيَحْفَظُ تِلْكَ التَّكَالِيفَ وَيُبَلِّغُهَا إِلَى الْغَائِبِينَ. فَثَبَتَ أَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ الْوَاجِبُ انْقِسَامَ أَصْحَابِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قِسْمَيْنِ، أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ يَنْفِرُونَ إِلَى الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ، وَالثَّانِي: يَكُونُونَ مُقِيمِينَ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ، فَالطَّائِفَةُ النَّافِرَةُ إِلَى الْغَزْوِ يَكُونُونَ نَائِبِينَ عَنِ الْمُقِيمِينَ فِي الْغَزْوِ، وَالطَّائِفَةُ الْمُقِيمَةُ يَكُونُونَ نَائِبِينَ عَنِ النَّافِرِينَ، فِي التَّفَقُّهِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَتِمُّ أَمْرُ الدِّينِ بِهَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ الْمُقِيمَةُ هُمُ الَّذِينَ/ يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ لَمَّا لَازَمُوا خِدْمَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَشَاهَدُوا الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ فَكُلَّمَا نَزَلَ تَكْلِيفٌ وَحَدَثَ شَرْعٌ عَرَفُوهُ وَضَبَطُوهُ، فَإِذَا رَجَعَتِ الطَّائِفَةُ النَّافِرَةُ مِنَ الْغَزْوِ إِلَيْهِمْ، فَالطَّائِفَةُ الْمُقِيمَةُ يُنْذِرُونَهُمْ مَا تَعَلَّمُوهُ مِنَ التَّكَالِيفِ وَالشَّرَائِعِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ فَلَا بُدَّ فِي الْآيَةِ مِنْ إِضْمَارٍ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ، وَأَقَامَتْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهَ الْمُقِيمُونَ فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ، يَعْنِي النَّافِرِينَ إِلَى الْغَزْوِ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ مَعَاصِيَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ التَّعَلُّمِ. وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: هُوَ أَنْ يُقَالَ: التَّفَقُّهُ صِفَةٌ لِلطَّائِفَةِ النَّافِرَةِ وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ حَتَّى تَصِيرَ هَذِهِ الطَّائِفَةُ النَّافِرَةُ فُقَهَاءَ فِي الدِّينِ، وَذَلِكَ التَّفَقُّهُ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُمْ يُشَاهِدُونَ ظُهُورَ

الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ الْعَدَدَ الْقَلِيلَ مِنْهُمْ يَغْلِبُونَ الْعَالَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَحِينَئِذٍ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُمْ بِالنُّصْرَةِ وَالتَّأْيِيدِ وَأَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ إِعْلَاءَ دِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَقْوِيَةَ شَرِيعَتِهِ، فَإِذَا رَجَعُوا مِنْ ذَلِكَ النَّفْرِ إِلَى قَوْمِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ أَنْذَرُوهُمْ بِمَا شَاهَدُوا مِنْ دَلَائِلِ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَالظَّفَرِ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ، فَيَتْرُكُوا الْكُفْرَ وَالشَّكَّ وَالنِّفَاقَ، فَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ، وَطَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْقَوْلِ: قَالَ لِأَنَّ هَذَا الْحِسَّ لَا يُعَدُّ فِقْهًا فِي الدِّينِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُمْ إِذَا شَاهَدُوا أَنَّ الْقَوْمَ الْقَلِيلَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ سِلَاحٌ وَلَا زَادٌ يَغْلِبُونَ الْجَمْعَ الْعَظِيمَ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَثُرَ زَادُهُمْ وَسِلَاحُهُمْ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ، فَحِينَئِذٍ انْتَبَهُوا لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وليس من البشر. إذا لَوْ كَانَ مِنَ الْبَشَرِ لَمَا غَلَبَ الْقَلِيلُ الْكَثِيرَ، وَلَمَا بَقِيَ هَذَا الدِّينُ فِي التَّزَايُدِ وَالتَّصَاعُدِ كُلَّ يَوْمٍ، فَالتَّنَبُّهُ لِفَهْمِ هَذِهِ الدَّقَائِقِ وَاللَّطَائِفِ لَا شَكَّ أَنَّهُ تَفَقَّهٌ. وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَتْ مِنْ بَقَايَا أَحْكَامِ الْجِهَادِ، بَلْ هُوَ حُكْمٌ مُبْتَدَأٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَمْرَ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ أَمْرَ الْجِهَادِ، وَهُمَا عِبَادَتَانِ بِالسَّفَرِ، بَيَّنَ أَيْضًا عِبَادَةَ التَّفَقُّهِ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِالسَّفَرِ. فَقَالَ: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً إِلَى حَضْرَةِ الرَّسُولِ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ بَلْ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ وَغَيْرُ جَائِزٍ، وَلَيْسَ حَالُهُ كَحَالِ الْجِهَادِ مَعَهُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَخْرُجَ فِيهِ كُلُّ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ. ثُمَّ قَالَ: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ يَعْنِي مِنَ الْفِرَقِ السَّاكِنِينَ فِي الْبِلَادِ، طَائِفَةٌ إِلَى حَضْرَةِ الرَّسُولِ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَلِيَعْرِفُوا الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَيَعُودُوا إِلَى أَوْطَانِهِمْ، فَيُنْذِرُوا وَيُحَذِّرُوا قَوْمَهُمْ لِكَيْ يَرْجِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمُرَادُ وُجُوبَ الْخُرُوجِ إِلَى حَضْرَةِ الرَّسُولِ لِلتَّفَقُّهِ وَالتَّعَلُّمِ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَتَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ الْخُرُوجِ لِلتَّفَقُّهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ؟ قُلْنَا: مَتَى عَجَزَ عَنِ التَّفَقُّهِ إِلَّا بِالسَّفَرِ وَجَبَ عَلَيْهِ السَّفَرُ، وَفِي زَمَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ مَا كَانَتْ مُسْتَقِرَّةً، بَلْ كَانَ يَحْدُثُ كُلُّ يَوْمٍ تَكْلِيفٌ جَدِيدٌ وَشَرْعٌ حَادِثٌ. أَمَّا فِي زَمَانِنَا فَقَدْ صَارَتِ الشَّرِيعَةُ مُسْتَقِرَّةً، فَإِذَا أَمْكَنَهُ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ فِي الْوَطَنِ لَمْ يَكُنِ السَّفَرُ وَاجِبًا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَفْظُ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى السَّفَرِ لَا جَرَمَ رَأَيْنَا أَنَّ الْعِلْمَ الْمُبَارَكَ الْمُنْتَفَعَ بِهِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي السَّفَرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ «لَوْلَا» إِذَا دَخَلَ عَلَى الْفِعْلِ كَانَ بِمَعْنَى التَّحْضِيضِ مِثْلَ هَلَّا، وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ لَوْلَا بِمَعْنَى هَلَّا، لِأَنَّ هَلَّا كَلِمَتَانِ هَلْ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ وَعَرْضٌ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ لِلرَّجُلِ هَلْ تَأْكُلُ؟ هَلْ تَدْخُلُ؟ فَكَأَنَّكَ عَرَضْتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَ «لَا» وَهُوَ جَحْدٌ، فَهَلَّا مُرَكَّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ: الْعَرْضُ، وَالْجَحْدُ. فَإِذَا قُلْتَ: هَلَّا فَعَلْتَ كَذَا؟ فَكَأَنَّكَ قُلْتَ: هَلْ فَعَلْتَ. ثُمَّ قُلْتَ مَعَهُ: «لَا» أَيْ مَا فَعَلْتُهُ، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى وُجُوبِ الْفِعْلِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ الْإِخْلَالُ بِهَذَا الْوَاجِبِ، وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِي «لَوْلَا» لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لَوْلَا دَخَلْتَ عَلَيَّ، وَلَوْلَا أَكَلْتَ عِنْدِي. فَمَعْنَاهُ أَيْضًا عَرْضٌ وَإِخْبَارٌ عَنْ سُرُورِكَ بِهِ، لَوْ فَعَلَ، وَهَكَذَا الْكَلَامُ في «لو ما» وَمِنْهُ قَوْلُهُ: لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ [الْحِجْرِ: 7] فثبت أن لولا وهلا ولو ما أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكُلِّ التَّرْغِيبُ وَالتَّحْضِيضُ فَقَوْلُهُ: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ أَيْ فَهَلَّا فَعَلُوا ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ لِمَنْ يَرَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حَجَّةٌ، وَقَدْ أَطْنَبْنَا فِي تَقْرِيرِهِ فِي كِتَابِ «الْمَحْصُولِ مِنَ الْأُصُولِ» ، وَالَّذِي نَقُولُهُ هاهنا أَنَّ كُلَّ ثَلَاثَةٍ، فِرْقَةٌ. وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُخْرَجَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ

[سورة التوبة (9) : آية 123]

طَائِفَةٌ، وَالْخَارِجُ مِنَ الثَّلَاثَةِ يَكُونُ اثْنَيْنِ أَوْ وَاحِدًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطَّائِفَةُ إِمَّا اثْنَيْنِ وَإِمَّا وَاحِدًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الْعَمَلَ بِأَخْبَارِهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ إِخْبَارِهِمْ. وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ إِيجَابٌ عَلَى قَوْمِهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا بِإِخْبَارِهِمْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْوَاحِدِ أَوْ الِاثْنَيْنِ حُجَّةٌ فِي الشَّرْعِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ الطَّائِفَةَ قَدْ تَكُونُ جَمَاعَةً يَقَعُ بِخَبَرِهَا الْحُجَّةُ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يَجِبِ الْقَبُولُ كَمَا أَنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ يَلْزَمُهُ الشَّهَادَةُ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمِ الْقَبُولُ، وَلِأَنَّ الْإِنْذَارَ يَتَضَمَّنُ التَّخْوِيفَ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْعَمَلِ بِهِ. وَالْجَوَابُ: أَمَّا قَوْلُهُ: (الطَّائِفَةُ) قَدْ تَكُونُ جَمَاعَةً، فَجَوَابُهُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ ثَلَاثَةٍ فِرْقَةٌ، فَلَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُخْرَجَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ طَائِفَةٌ لَزِمَ كَوْنُ الطَّائِفَةِ، إِمَّا اثْنَيْنِ أَوْ وَاحِدًا، وَذَلِكَ/ يُبْطِلُ كَوْنَ الطَّائِفَةِ جَمَاعَةً يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الْعَمَلَ بِقَوْلِ أُولَئِكَ الطَّوَائِفِ وَلَعَلَّهُمْ بَلَغُوا فِي الْكَثْرَةِ إِلَى حَيْثُ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِقَوْلِهِمْ. قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ وَذَلِكَ يَقْتَضِي رُجُوعَ كُلِّ طَائِفَةٍ إِلَى قَوْمٍ خَاصٍّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الْعِلْمَ بِقَوْلِ تِلْكَ الطَّائِفَةِ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يَجِبِ الْقَبُولُ. فَنَقُولُ إِنَّا لَا نَتَمَسَّكُ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ: وَلِيُنْذِرُوا بَلْ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ تَرْغِيبٌ مِنْهُ تَعَالَى فِي الْحَذَرِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْذَارَ يَقْتَضِي إِيجَابَ الْعَمَلِ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ الْإِنْذَارِ، وَبِهَذَا الْجَوَابِ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ سُؤَالِهِ الثَّالِثِ وَهُوَ قَوْلُهُ: الْإِنْذَارُ يَتَضَمَّنُ التَّخْوِيفَ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْعَمَلِ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّفَقُّهِ وَالتَّعَلُّمِ دَعْوَةَ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ، وَإِرْشَادَهُمْ إِلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، لِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، لِأَجْلِ أَنَّهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْذَرُوهُمْ بِالدِّينِ الْحَقِّ، وَأُولَئِكَ يَحْذَرُونَ الْجَهْلَ وَالْمَعْصِيَةَ وَيَرْغَبُونَ فِي قَبُولِ الدِّينِ. فَكُلُّ مَنْ تَفَقَّهَ وَتَعَلَّمَ لِهَذَا الْغَرَضِ كَانَ عَلَى الْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَمَنْ عَدَلَ عَنْهُ وَطَلَبَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ كَانَ مِنَ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. [سورة التوبة (9) : آية 123] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) اعْلَمْ أَنَّهُ نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً، ثُمَّ إِنَّهَا صَارَتْ منسوخة بقوله: قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التَّوْبَةِ: 36] وَأَمَّا الْمُحَقِّقُونَ فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا هَذَا النَّسْخَ وَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً أَرْشَدَهُمْ فِي ذَلِكَ الْبَابِ إِلَى الطَّرِيقِ الْأَصْوَبِ الْأَصْلَحِ، وَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئُوا مِنَ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، مُنْتَقِلًا إِلَى الْأَبْعَدِ فَالْأَبْعَدِ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَمْرَ الدَّعْوَةِ وَقَعَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاءِ: 214] وَأَمْرَ الْغَزَوَاتِ وَقَعَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ/ حَارَبَ قَوْمَهُ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُمْ إِلَى غَزْوِ سَائِرِ الْعَرَبِ ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُمْ إِلَى غَزْوِ الشَّامِ، وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا فَرَغُوا مِنْ أَمْرِ

الشَّامِ دَخَلُوا الْعِرَاقَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْغَزْوِ مِنَ الْمَوَاضِعِ الْقَرِيبَةِ أَوْلَى لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُقَابَلَةَ الْكُلِّ دُفْعَةً وَاحِدَةً مُتَعَذِّرَةٌ، وَلَمَّا تَسَاوَى الْكُلُّ فِي وُجُوبِ الْقِتَالِ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمُحَارَبَةِ وَامْتَنَعَ الْجَمْعُ، وَجَبَ التَّرْجِيحُ، وَالْقُرْبُ مُرَجِّحٌ ظَاهِرٌ كَمَا فِي الدَّعْوَةِ، وَكَمَا فِي سَائِرِ الْمُهِمَّاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ الِابْتِدَاءَ بِالْحَاضِرِ أَوْلَى مِنَ الذَّهَابِ إِلَى الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ لِهَذَا الْمُهِمِّ، فَوَجَبَ الِابْتِدَاءُ بِالْأَقْرَبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْأَقْرَبِ أَوْلَى لِأَنَّ النَّفَقَاتِ فِيهِ أَقَلُّ، وَالْحَاجَةَ إِلَى الدَّوَابِّ وَالْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ أَقَلُّ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْفِرْقَةَ الْمُجَاهِدَةَ إِذَا تَجَاوَزُوا مِنَ الْأَقْرَبِ إِلَى الْأَبْعَدِ فَقَدْ عَرَّضُوا الذَّرَارِيَّ لِلْفِتْنَةِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُجَاوِرِينَ لِدَارِ الْإِسْلَامِ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا أَقْوِيَاءَ أَوْ ضُعَفَاءَ، فَإِنْ كَانُوا أَقْوِيَاءَ كَانَ تَعَرُّضُهُمْ لِدَارِ الْإِسْلَامِ أَشَدَّ وَأَكْثَرَ مِنْ تَعَرُّضِ الْكُفَّارِ الْمُتَبَاعِدِينَ، وَالشَّرُّ الْأَقْوَى الْأَكْثَرُ أَوْلَى بِالدَّفْعِ، وَإِنْ كَانُوا ضُعَفَاءَ كَانَ اسْتِيلَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ أَسْهَلَ، وَحُصُولُ عِزِّ الْإِسْلَامِ لِسَبَبِ اِنْكِسَارِهِمْ أَقْرَبَ وَأَيْسَرَ، فَكَانَ الِابْتِدَاءُ بِهِمْ أَوْلَى. الْخَامِسُ: أَنَّ وُقُوفَ الْإِنْسَانِ عَلَى حَالِ مَنْ يَقْرُبُ مِنْهُ أَسْهَلُ مِنْ وُقُوفِهِ عَلَى حَالِ مَنْ يَبْعُدُ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اقْتِدَارُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مُقَاتَلَةِ الْأَقْرَبِينَ أَسْهَلَ لِعِلْمِهِمْ بِكَيْفِيَّةِ أَحْوَالِهِمْ وَبِمَقَادِيرِ أَسْلِحَتِهِمْ وَعَدَدِ عَسَاكِرِهِمْ. السَّادِسُ: أَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ وَاسِعَةٌ، فَإِذَا اشْتَغَلَ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ بِقِتَالِ مَنْ يَقْرُبُ مِنْهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ كَانَتِ الْمُؤْنَةُ أَسْهَلَ، وَحُصُولُ الْمَقْصُودِ أَيْسَرَ. السَّابِعُ: أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ وَاجِبَانِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا أَيْسَرَ حُصُولًا وَجَبَ تَقْدِيمُهُ، وَالْقُرْبُ سَبَبُ السُّهُولَةِ، فَوَجَبَ الِابْتِدَاءُ بِالْأَقْرَبِ. الثَّامِنُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَدَأَ فِي الدَّعْوَةِ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، وَفِي الْغَزْوِ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، وَفِي جَمِيعِ الْمُهِمَّاتِ كَذَلِكَ. فَإِنَّ الْأَعْرَابِيَّ لَمَّا جَلَسَ عَلَى الْمَائِدَةِ وَكَانَ يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى الْجَوَانِبِ الْبَعِيدَةِ مِنْ تِلْكَ الْمَائِدَةِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ: «كُلْ مِمَّا يَلِيكَ» فَدَلَّتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ عَلَى أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ وَاجِبٌ. فَإِنْ قِيلَ: رُبَّمَا كَانَ التَّخَطِّي مِنَ الْأَقْرَبِ إِلَى الْأَبْعَدِ أَصْلَحَ، لِأَنَّ الْأَبْعَدَ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ إِنَّمَا جَاوَزَ الْأَقْرَبَ لِأَنَّهُ لَا يُقِيمُ لَهُ وَزْنًا. قُلْنَا: ذَاكَ احْتِمَالٌ وَاحِدٌ، وَمَا ذَكَرْنَا احْتِمَالَاتٍ كَثِيرَةً، وَمَصَالِحُ الدُّنْيَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَرْجِيحِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مَصْلَحَةً عَلَى مَا هُوَ الْأَقَلُّ، وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ إِنَّمَا قُلْنَاهُ إِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ مُقَاتَلَةِ الْأَقْرَبِ وَالْأَبْعَدِ، أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْكُلِّ، فَلَا كَلَامَ فِي أَنَّ الْأَوْلَى هُوَ الْجَمْعُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ الْبَتَّةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً قَالَ الزَّجَّاجُ: فِيهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ، فَتْحُ الْغَيْنِ وَضَمُّهَا وَكَسْرُهَا. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْغِلْظَةُ بِالْكَسْرِ الشِّدَّةُ الْعَظِيمَةُ، وَالْغِلْظَةُ كَالضَّغْطَةِ، وَالْغِلْظَةُ كَالسُّخْطَةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّغْلِيظِ عَلَيْهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَةِ: 73] وَقَوْلُهُ: وَلا تَهِنُوا [آلِ عِمْرَانَ: 139] ، [النساء: 104] وَقَوْلُهُ فِي صِفَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [الْمَائِدَةِ: 54] وَقَوْلِهِ: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ [الْفَتْحِ: 29] وَلِلْمُفَسِّرِينَ عِبَارَاتٌ فِي تَفْسِيرِ الْغِلْظَةِ، قِيلَ شَجَاعَةً وَقِيلَ شِدَّةً وَقِيلَ غَيْظًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْغِلْظَةَ ضِدُّ الرِّقَّةِ، وَهِيَ الشَّدَّةُ فِي إِحْلَالِ النِّقْمَةِ، وَالْفَائِدَةُ فِيهَا أَنَّهَا أَقْوَى تَأْثِيرًا فِي الزَّجْرِ وَالْمَنْعِ عَنِ الْقَبِيحِ، ثُمَّ إِنَّ الْأَمْرَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا يَكُونُ مُطَّرِدًا، بَلْ قَدْ يَحْتَاجُ تَارَةً إِلَى الرِّفْقِ وَاللُّطْفِ وَأُخْرَى إِلَى الْعُنْفِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْغِلْظَةِ الْبَتَّةَ فَإِنَّهُ يُنَفِّرُ وَيُوجِبُ تَفَرُّقَ الْقَوْمِ، فَقَوْلُهُ: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً يَدُلُّ عَلَى تَقْلِيلِ الْغِلْظَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُوا بِحَيْثُ

[سورة التوبة (9) : الآيات 124 إلى 125]

لَوْ فَتَّشُوا عَلَى أَخْلَاقِكُمْ وَطَبَائِعِكُمْ لَوَجَدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً، وَهَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَصِحُّ فِيمَنْ أَكْثَرُ أَحْوَالِهِ الرَّحْمَةُ وَالرَّأْفَةُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ غِلْظَةٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْغِلْظَةَ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ. وَذَلِكَ إِمَّا بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَالْبَيِّنَةِ، وَإِمَّا بِالْقِتَالِ وَالْجِهَادِ، فَأَمَّا أَنْ يَحْصُلَ هَذَا التَّغْلِيظُ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْمُجَالَسَةِ وَالْمُؤَاكَلَةِ فَلَا. ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَالْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ إِقْدَامُهُ عَلَى الْجِهَادِ وَالْقِتَالِ بِسَبَبِ تَقْوَى اللَّهِ لَا بِسَبَبِ طَلَبِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، فَإِذَا رَآهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَحْجَمَ عَنْ قِتَالِهِ، وإذا رآه مال إلى قبوله الْجِزْيَةِ تَرَكَهُ، وَإِذَا كَثُرَ الْعَدُوُّ أَخَذَ الْغَنَائِمَ على وفق حكم الله تعالى. [سورة التوبة (9) : الآيات 124 الى 125] وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَخَازِي الْمُنَافِقِينَ وَذَكَرَ أَعْمَالَهُمُ الْقَبِيحَةَ فَقَالَ: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ، فَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا؟ وَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَقُولُ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ لِبَعْضٍ، وَمَقْصُودُهُمْ تَثْبِيتُهُمْ قَوْمَهُمْ عَلَى النِّفَاقِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يَقُولُونَهُ لِأَقْوَامٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَغَرَضُهُمْ صَرْفُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَكَرُوهُ عَلَى وَجْهِ الْهُزْءِ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ. وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْكُلِّ، لِأَنَّ حِكَايَةَ الْحَالِ لَا تُفِيدُ الْعُمُومَ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ فَقَالَ إِنَّهُ حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِسَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ أَمْرَانِ، وَحَصَلَ لِلْكَافِرِينَ أَيْضًا أَمْرَانِ. أَمَّا الَّذِي حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ: فَالْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّهَا تَزِيدُهُمْ إِيمَانًا إِذْ لَا بُدَّ عِنْدَ نُزُولِهَا مِنْ أَنْ يُقِرُّوا بِهَا وَيَعْتَرِفُوا بِأَنَّهَا حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالْكَلَامُ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ بِالِاسْتِقْصَاءِ. وَالثَّانِي: مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الِاسْتِبْشَارِ. فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَا يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ تِلْكَ التَّكَالِيفِ الزَّائِدَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى مَزِيدٍ فِي الثَّوَابِ، ثُمَّ جَمَعَ لِلْمُنَافِقِينَ أَمْرَيْنِ مُقَابِلَيْنِ لِلْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَالْمُرَادُ مِنَ الرِّجْسِ إِمَّا الْعَقَائِدُ الْبَاطِلَةُ أَوِ الْأَخْلَاقُ الْمَذْمُومَةُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِالسُّوَرِ النَّازِلَةِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْآنَ صَارُوا مُكَذِّبِينَ بِهَذِهِ السُّورَةِ الْجَدِيدَةِ، فَقَدِ انْضَمَّ كُفْرٌ إِلَى كُفْرٍ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْحَسَدِ وَالْعَدَاوَةِ وَاسْتِنْبَاطِ وُجُوهِ الْمَكْرِ وَالْكَيْدِ، وَالْآنَ ازْدَادَتْ تِلْكَ الْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ بِسَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ الْجَدِيدَةِ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْحَالَةُ كَالْأَمْرِ الْمُضَادِّ لِلِاسْتِبْشَارِ الَّذِي حَصَلَ فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ أَسْوَأُ وَأَقْبَحُ مِنَ الْحَالَةِ الْأُولَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَالَةَ الْأُولَى عِبَارَةٌ عَنِ ازْدِيَادِ الرَّجَاسَةِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ عِبَارَةٌ عَنْ مُدَاوَمَةِ الْكُفْرِ وَمَوْتِهِمْ عَلَيْهِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَصُدُّ عَنِ الْإِيمَانِ وَيَصْرِفُ عَنْهُ، قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ سَمَاعَ هَذِهِ السُّورَةِ يُورِثُ حُصُولَ الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَنَّ حُصُولَ ذَلِكَ الْحَسَدِ يُورِثُ مَزِيدَ الْكُفْرِ فِي قُلُوبِهِمْ، أَجَابُوا وَقَالُوا نزول تلك

[سورة التوبة (9) : آية 126]

السُّورَةِ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ الْكُفْرَ الزَّائِدَ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْآخَرِينَ سَمِعُوا تِلْكَ السُّورَةَ وَازْدَادُوا إِيمَانًا. فَثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الرَّجَاسَةَ هُمْ فَعَلُوهَا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ. قُلْنَا: لَا نَدَّعِي أَنَّ اسْتِمَاعَ هَذِهِ السُّورَةِ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ بِتَرْجِيحِ جَانِبِ الْكُفْرِ عَلَى جَانِبِ الْإِيمَانِ، بَلْ نَقُولُ اسْتِمَاعُ هَذِهِ السُّورَةِ لِلنَّفْسِ الْمَخْصُوصَةِ وَالْمَوْصُوفَةِ بِالْخُلُقِ الْمُعَيَّنِ وَالْعَادَةِ الْمُعَيَّنَةِ. يُوجِبُ/ الْكُفْرَ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ الْحَسُودَ لَوْ أَرَادَ إِزَالَةَ خُلُقِ الْحَسَدِ عَنْ نَفْسِهِ، يُمْكِنُهُ أَنْ يَتْرُكَ الْأَفْعَالَ الْمُشْعِرَةَ بِالْحَسَدِ، وَأَمَّا الْحَالَةُ الْقَلْبِيَّةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْحَسَدِ، فَلَا يُمْكِنُهُ إِزَالَتُهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ فَأَصْلُ الْقُدْرَةِ غَيْرٌ، وَالْفِعْلُ غَيْرٌ، وَالْخُلُقُ غَيْرٌ، فَإِنَّ أَصْلَ الْقُدْرَةِ حَاصِلٌ لِلْكُلِّ أَمَّا الْأَخْلَاقُ فَالنَّاسُ فِيهَا مُتَفَاوِتُونَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّفْسَ الطَّاهِرَةَ النَّقِيَّةَ عَنْ حُبِّ الدُّنْيَا الْمَوْصُوفَةَ بِاسْتِيلَاءِ حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْآخِرَةِ إِذَا سَمِعَتِ السُّورَةَ صَارَ سَمَاعُهَا مُوجِبًا لِازْدِيَادِ رَغْبَتِهِ فِي الْآخِرَةِ وَنَفْرَتِهُ عَنِ الدُّنْيَا، وَأَمَّا النَّفْسُ الْحَرِيصَةُ عَلَى الدُّنْيَا الْمُتَهَالِكَةُ عَلَى لَذَّاتِهَا الرَّاغِبَةُ فِي طَيِّبَاتِهَا الْغَافِلَةُ عَنْ حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْآخِرَةِ، إِذَا سَمِعَتْ هَذِهِ السُّورَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْجِهَادِ وَتَعْرِيضِ النَّفْسِ لِلْقَتْلِ وَالْمَالِ لِلنَّهْبِ ازْدَادَ كُفْرًا عَلَى كُفْرِهِ. فَثَبَتَ أَنَّ إِنْزَالَ هَذِهِ السُّورَةِ فِي حَقِّ هَذَا الْكَافِرِ مُوجِبٌ لِأَنْ يَزِيدَ رِجْسًا عَلَى رِجْسٍ، فَكَانَ إِنْزَالُهَا سَبَبًا فِي تَقْوِيَةِ الْكُفْرِ عَلَى قَلْبِ الْكَافِرِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَصُدُّ الْإِنْسَانَ وَيَمْنَعُهُ عَنِ الْإِيمَانِ وَالرُّشْدِ وَيُلْقِيهِ فِي الْغَيِّ وَالْكُفْرِ. بَقِيَ فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: مَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ صِلَةٌ مُؤَكَّدَةٌ. الثَّانِي: الِاسْتِبْشَارُ اسْتِدْعَاءُ الْبِشَارَةِ، لِأَنَّهُ كُلَّمَا تذكر تلك النعمة حصلت البشارة، فَهُوَ بِوَاسِطَةِ تَجْدِيدِ ذَلِكَ التَّذَكُّرِ يَطْلُبُ تَجْدِيدَ الْبِشَارَةِ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ لَهَا مَرَضٌ، فَمَرَضُهَا الْكُفْرُ وَالْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ، وَصِحَّتُهَا الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاقُ الفاضلة. والله أعلم. [سورة التوبة (9) : آية 126] أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَمُوتُونَ وَهُمْ كَافِرُونَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ، بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَتَخَلَّصُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ عَنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَفِيهِ مسائل: المسألة الأولى: قرأ حمزة أولا تَرَوْنَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ خَبَرًا عَنِ الْمُنَافِقِينَ، فَعَلَى قِرَاءَةِ الْمُخَاطَبَةِ، كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ نُبِّهُوا عَلَى إِعْرَاضِ الْمُنَافِقِينَ عَنِ النَّظَرِ وَالتَّدَبُّرِ، وَمَنْ قَرَأَ عَلَى الْمُغَايَبَةِ، كَانَ الْمَعْنَى تَقْرِيعَ الْمُنَافِقِينَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الِاعْتِبَارِ بِمَا يَحْدُثُ فِي حَقِّهِمْ مِنَ الْأُمُورِ الْمُوجِبَةِ لِلِاعْتِبَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: أَوَلا يَرَوْنَ هَذِهِ أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ عَلَى وَاوِ الْعَطْفِ، فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ خِطَابٌ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ قَالَ سِيبَوَيْهِ عَنِ الْخَلِيلِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً الْمَعْنَى: أَنَّهُ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَكَانَ كَذَا وَكَذَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُمْتَحَنُونَ بِالْمَرَضِ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ مِنْ ذَلِكَ النِّفَاقِ وَلَا يَتَّعِظُونَ بِذَلِكَ الْمَرَضِ، كَمَا يَتَّعِظُ بِذَلِكَ الْمُؤْمِنُ إِذَا

[سورة التوبة (9) : آية 127]

مَرِضَ، فَإِنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ يَتَذَكَّرُ ذُنُوبَهُ وَمَوْقِفَهُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، فَيَزِيدُهُ ذَلِكَ إِيمَانًا وَخَوْفًا مِنَ اللَّهِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِهِ لِمَزِيدِ الرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ: يُفْتَنُونَ بِالْقَحْطِ وَالْجُوعِ. الثَّالِثُ: قَالَ قَتَادَةُ: يفتنون بالغزو والجهاد فإنه تعالى أمر الغزو وَالْجِهَادِ فَهُمْ إِنْ تَخَلَّفُوا وَقَعُوا فِي أَلْسِنَةِ النَّاسِ بِاللَّعْنِ وَالْخِزْيِ وَالذِّكْرِ الْقَبِيحِ، وَإِنْ ذَهَبُوا إِلَى الْغَزْوِ مَعَ كَوْنِهِمْ كَافِرِينَ كَانُوا قَدْ عَرَّضُوا أَنْفُسَهَمْ لِلْقَتْلِ وَأَمْوَالَهُمْ لِلنَّهْبِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ. الرَّابِعُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: يَفْضَحُهُمْ رَسُولُ اللَّهِ بِإِظْهَارِ نِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ذِكْرِ الرَّسُولِ بِالطَّعْنِ فَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ وَيُخْبِرُهُ بِمَا قَالُوهُ فِيهِ، فَكَانَ يَذْكُرُ تِلْكَ الْحَادِثَةَ لَهُمْ وَيُوَبِّخُهُمْ عَلَيْهَا، ويعظهم فما كانوا يتعظون، ولا ينزجرون. [سورة التوبة (9) : آية 127] وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ مَخَازِي الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ أَنَّهُ كُلَّمَا نَزَلَتْ سُورَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وَشَرْحِ فَضَائِحِهِمْ، وَسَمِعُوهَا تَأَذَّوْا مِنْ سَمَاعِهَا، وَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ نَظَرًا مَخْصُوصًا دَالًّا عَلَى الطَّعْنِ فِي تِلْكَ السُّورَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهَا وَتَحْقِيرِ شَأْنِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالسُّورَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى فَضَائِحِ الْمُنَافِقِينَ بَلْ كَانُوا يَسْتَخِفُّونَ بِالْقُرْآنِ، فَكُلَّمَا سَمِعُوا سورة استهزءوا بِهَا وَطَعَنُوا فِيهَا، وَأَخَذُوا فِي التَّغَامُزِ وَالتَّضَاحُكِ عَلَى سَبِيلِ الطَّعْنِ وَالْهُزْءِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ أَيْ لَوْ رَآكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ وَهَذَا فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ النَّظَرَ دَالٌّ عَلَى مَا فِي الْبَاطِنِ مِنَ الْإِنْكَارِ الشَّدِيدِ وَالنَّفْرَةِ التَّامَّةِ، فَخَافُوا أَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ النَّظَرَ وَتِلْكَ الْأَحْوَالَ الدَّالَّةَ عَلَى النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَيْ لَوْ رَآكُمْ أَحَدٌ عَلَى هَذَا النَّظَرِ وَهَذَا الشَّكْلِ لَضَرَّكُمْ/ جِدًّا؟ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا تِلْكَ السُّورَةَ تَأَذَّوْا مِنْ سَمَاعِهَا، فَأَرَادُوا الْخُرُوجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ يعني إن رأوكم فَلَا تَخْرُجُوا، إِنْ كَانَ مَا رَآكُمْ أَحَدٌ فَاخْرُجُوا مِنَ الْمَسْجِدِ، لِتَتَخَلَّصُوا عَنْ هَذَا الْإِيذَاءِ. وَالثَّالِثُ: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَقُولُوا نُحِبُّهُ، فَوَجَبَ عَلَيْنَا الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ. قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ انْصَرَفُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْسَ هَرَبِهِمْ مِنْ مَكَانِ الْوَحْيِ وَاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ إِلَى الطَّعْنِ فِيهِ وَإِنْ ثَبَتُوا فِي مَكَانِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: مَا التَّفَاوُتُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً. قُلْنَا: فِي تِلْكَ الْآيَةِ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا قَوْلَهُمْ: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمُ اكْتَفُوا بِنَظَرِ بَعْضِهِمْ إِلَى بعض على سبيل الهزء، وَطَلَبُوا الْفِرَارَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى صَرَفَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَصَدَّهُمْ عَنْهُ وَهُوَ صَحِيحٌ فِيهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: عَنْ كُلِّ رُشْدٍ وَخَيْرٍ وَهُدًى، وَقَالَ الْحَسَنُ: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَطَبَعَ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَضَلَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَوْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي صَرَفَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ فَكَيْفَ قَالَ: أَنَّى يُصْرَفُونَ وَكَيْفَ عَاقَبَهُمْ عَلَى الِانْصِرَافِ عَنِ الْإِيمَانِ؟

[سورة التوبة (9) : آية 128]

قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الصَّرْفَ عُقُوبَةٌ لَهُمْ عَلَى انْصِرَافِهِمْ، وَالصَّرْفُ عَنِ الْإِيمَانِ لَا يَكُونُ عُقُوبَةً، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَكَانَ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ أَنْبِيَاءَهُ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ، يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِصَرْفِ النَّاسِ عَنِ الْإِيمَانِ. وَتَجْوِيزُ ذَلِكَ يُؤَدِّي أَنْ لَا يُوثَقَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. ثُمَّ قَالَ: هَذَا الصَّرْفُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى صَرَفَ قُلُوبِهِمْ بِمَا أَوْرَثَهُمْ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَيْدِ. الثَّانِي: صَرَفَهُمْ عَنِ الْأَلْطَافِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا مَنْ آمَنَ وَاهْتَدَى. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْقَاضِي ظَاهِرٌ أَنَّهَا مُتَكَلَّفَةٌ جِدًّا، وَأَمَّا الْوَجْهُ الصَّحِيحُ الَّذِي يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ كُلُّ عَقْلٍ سَلِيمٍ، هُوَ أَنَّ الْفِعْلَ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ الدَّاعِي، وَإِلَّا لَزِمَ رُجْحَانُ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَحُصُولُ ذَلِكَ الدَّاعِي لَيْسَ مِنَ الْعَبْدِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، بَلْ هُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. فَالْعَبْدُ إِنَّمَا يُقْدِمُ عَلَى الْكُفْرِ إِذَا حَصَلَ فِي قَلْبِهِ دَاعِيَ الْكُفْرِ، وَذَلِكَ الْحُصُولُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ الدَّاعِي انْصَرَفَ ذَلِكَ الْقَلْبُ مِنْ جَانِبِ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ صَرْفِ الْقَلْبِ وَهُوَ كَلَامٌ مُقَرَّرٌ بِبُرْهَانٍ قَطْعِيٍّ وَهُوَ مُنْطَبِقٌ عَلَى هَذَا/ النَّصِّ، فَبَلَغَ فِي الْوُضُوحِ إِلَى أَعْلَى الْغَايَاتِ، وَمِمَّا بَقِيَ مِنْ مَبَاحِثِ الْآيَةِ مَا نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَقُولُوا انْصَرَفْنَا مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ قَوْمًا انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، لَكِنْ قُولُوا قَدْ قَضَيْنَا الصَّلَاةَ، وَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّفَاؤُلُ بِتَرْكِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ الْوَارِدَةِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي، وَالتَّرْغِيبُ فِي تِلْكَ اللَّفْظَةِ الْوَارِدَةِ فِي الْخَيْرِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الْجُمُعَةِ: 10] . [سورة التوبة (9) : آية 128] لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فيه مسائل: المسألة الأولى: [في بيان ما يوجب سهولة تحمل تلك التكاليف] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُبَلِّغَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى الْخَلْقِ تَكَالِيفَ شَاقَّةً شَدِيدَةً صَعْبَةً يَعْسُرُ تَحَمُّلُهَا، إِلَّا لِمَنْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِوُجُوهِ التَّوْفِيقِ وَالْكَرَامَةِ، خَتَمَ السُّورَةَ بِمَا يُوجِبُ سُهُولَةَ تَحَمُّلِ تِلْكَ التَّكَالِيفِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الرَّسُولَ مِنْكُمْ، فَكُلُّ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْعِزِّ وَالشَّرَفِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ عَائِدٌ إِلَيْكُمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ بِحَالٍ يَشُقُّ عَلَيْهِ ضَرَرُكُمْ وَتَعْظُمُ رَغْبَتُهُ فِي إِيصَالِ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَيْكُمْ، فَهُوَ كَالطَّبِيبِ الْمُشْفِقِ وَالْأَبِ الرَّحِيمِ فِي حَقِّكُمْ، وَالطَّبِيبُ الْمُشْفِقُ رُبَّمَا أَقْدَمَ عَلَى عِلَاجَاتٍ صَعْبَةٍ يَعْسُرُ تَحَمُّلُهَا، وَالْأَبُ الرَّحِيمُ رُبَّمَا أَقْدَمَ عَلَى تَأْدِيبَاتٍ شَاقَّةٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا عُرِفَ أَنَّ الطَّبِيبَ حَاذِقٌ، وَأَنَّ الْأَبَ مُشْفِقٌ، صَارَتْ تِلْكَ الْمُعَالَجَاتُ الْمُؤْلِمَةُ مُتَحَمَّلَةً، وَصَارَتْ تِلْكَ التَّأْدِيبَاتُ جَارِيَةً مَجْرَى الْإِحْسَانِ. فكذا هاهنا لَمَّا عَرَفْتُمْ أَنَّهُ رَسُولُ حَقٍّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَاقْبَلُوا مِنْهُ هَذِهِ التَّكَالِيفَ الشَّاقَّةَ لِتَفُوزُوا بِكُلِّ خَيْرٍ، ثُمَّ قَالَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوهَا بَلْ أَعْرَضُوا عَنْهَا وَتَوَلَّوْا فَاتْرُكْهُمْ وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ وَعَوِّلْ عَلَى اللَّهِ وَارْجِعْ فِي جَمِيعِ أُمُورِكَ إِلَى اللَّهِ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التَّوْبَةِ: 129] وَهَذِهِ الْخَاتِمَةُ لِهَذِهِ السُّورَةِ جَاءَتْ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَنِهَايَةِ الْكَمَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الرَّسُولَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِخَمْسَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الصِّفَاتِ:

الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: مِنْ أَنْفُسِكُمْ وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: يُرِيدُ أَنَّهُ بَشَرٌ مُثُلُكُمْ كَقَوْلِهِ: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ [يُونُسَ: 2] وَقَوْلِهِ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [فُصِّلَتْ: 6] وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ لَصَعُبَ الْأَمْرُ بِسَبَبِهِ عَلَى النَّاسِ، عَلَى مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَالثَّانِي: مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَيْ مِنَ الْعَرَبِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الْعَرَبِ قَبِيلَةٌ إِلَّا وَقَدْ وَلَدَتِ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِسَبَبِ الْجَدَّاتِ، مُضَرِهَا وَرَبِيعِهَا وَيَمَانِيِّهَا، فَالْمُضَرِيُّونَ وَالرَّبِيعِيُّونَ هُمُ الْعَدْنَانِيَّةُ، وَالْيَمَانِيُّونَ هُمُ الْقَحْطَانِيَّةُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 164] وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَرْغِيبُ الْعَرَبِ فِي نُصْرَتِهِ، وَالْقِيَامُ بِخِدْمَتِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: كُلُّ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الدَّوْلَةِ وَالرِّفْعَةِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ سَبَبٌ لِعِزِّكُمْ وَلِفَخْرِكُمْ، لِأَنَّهُ مِنْكُمْ وَمِنْ نَسَبِكُمْ وَالثَّالِثُ: مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِطَابٌ لِأَهْلِ الْحَرَمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يُسَمُّونَ أَهْلَ الْحَرَمِ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ، وَكَانُوا يَخْدِمُونَهُمْ وَيَقُومُونَ بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِهِمْ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لِلْعَرَبِ: كُنْتُمْ قَبْلَ مَقْدِمِهِ مُجِدِّينَ مُجْتَهِدِينَ فِي خِدْمَةِ أَسْلَافِهِ وَآبَائِهِ، فَلِمَ تَتَكَاسَلُونَ فِي خِدْمَتِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا نِسْبَةَ لَهُ فِي الشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ إِلَى أَسْلَافِهِ؟ وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى طَهَارَتِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: هُوَ مِنْ عَشِيرَتِكُمْ تَعْرِفُونَهُ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَالْعَفَافِ وَالصِّيَانَةِ، وَتَعْرِفُونَ كَوْنَهُ حَرِيصًا عَلَى دَفْعِ الْآفَاتِ عَنْكُمْ وَإِيصَالِ الْخَيْرَاتِ إِلَيْكُمْ، وَإِرْسَالُ مَنْ هَذِهِ حَالَتُهُ وَصِفَتُهُ يَكُونُ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. وَقُرِئَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَيْ مِنْ أَشْرَفِكُمْ وَأَفْضَلِكُمْ، وَقِيلَ: هِيَ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ وَفَاطِمَةَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ اعْلَمْ أَنَّ الْعَزِيزَ هُوَ الْغَالِبُ الشَّدِيدُ، وَالْعِزَّةُ هِيَ الْغَلَبَةُ وَالشِّدَّةُ. فَإِذَا وَصَلَتْ مَشَقَّةٌ إِلَى الْإِنْسَانِ عَرَفَ أَنَّهُ كَانَ عَاجِزًا عَنْ دَفْعِهَا إِذْ لَوْ قَدَرَ عَلَى دَفْعِهَا لَمَا قَصَّرَ فِي ذَلِكَ الدَّفْعِ، فَحَيْثُ لَمْ يَدْفَعْهَا، عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ عَاجِزًا عَنْ دَفْعِهَا، وَأَنَّهَا كَانَتْ غَالِبَةً عَلَى الْإِنْسَانِ. فَلِهَذَا السَّبَبِ إِذَا اشْتَدَّ عَلَى الْإِنْسَانِ شَيْءٌ قَالَ: عَزَّ عَلِيَّ هَذَا، وَأَمَّا الْعَنَتُ فَيُقَالُ: عَنِتَ الرَّجُلُ يَعْنَتُ عَنَتًا إِذَا وَقَعَ فِي مَشَقَّةٍ وَشِدَّةٍ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [النِّسَاءِ: 25] وَقَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 220] وَقَالَ الْفَرَّاءُ: (مَا) فِي قَوْلِهِ: مَا عَنِتُّمْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَالْمَعْنَى: عَزِيزٌ عَلَيْهِ عَنَتُكُمْ، أَيْ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَكْرُوهُكُمْ، وَأَوْلَى الْمَكَارِهِ بِالدَّفْعِ مَكْرُوهُ عِقَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ إِنَّمَا أُرْسِلَ لِيَدْفَعَ هَذَا الْمَكْرُوهَ. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ وَالْحِرْصُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِذَوَاتِهِمْ، بَلِ الْمُرَادُ حَرِيصٌ عَلَى إِيصَالِ الْخَيْرَاتِ إِلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ قَوْلُهُ: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ مَعْنَاهُ: شَدِيدَةٌ مَعَزَّتُهُ عَنْ وُصُولِ شَيْءٍ مِنْ آفَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَيْكُمْ، وَبِهَذَا التقدير لا يتصل التَّكْرَارُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْحَرِيصُ الشَّحِيحُ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ شَحِيحٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا النَّارَ، وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْخُلُوَّ عَنِ الْفَائِدَةِ. وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ والخامسة: قوله: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِاِسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَائِهِ. بَقِيَ هاهنا سؤالان:

[سورة التوبة (9) : آية 129]

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَكُونُ كَذَلِكَ، وَقَدْ كَلَّفَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحَمُّلِهَا إِلَّا الْمُوَفَّقُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى؟ قُلْنَا: قَدْ ضَرَبْنَا لِهَذَا الْمَعْنَى مَثَلَ الطَّبِيبِ الْحَاذِقِ وَالْأَبِ الْمُشْفِقِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ لِيَتَخَلَّصُوا مِنَ الْعِقَابِ الْمُؤَبَّدِ، وَيَفُوزُوا بِالثَّوَابِ الْمُؤَبَّدِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لَمَّا قَالَ: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ فَهَذَا النَّسَقُ يُوجِبُ أَنْ يُقَالَ: رَؤُوفٌ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ، فَلِمَ تَرَكَ هَذَا النَّسَقَ وقال: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. الجواب: أن قوله: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ يُفِيدُ الْحَصْرَ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا رَأْفَةَ وَلَا رَحْمَةَ لَهُ إِلَّا بِالْمُؤْمِنِينَ. فَأَمَّا الْكَافِرُونَ فَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهِمْ رَأْفَةٌ وَرَحْمَةٌ، وَهَذَا كَالْمُتَمِّمِ لِقَدْرِ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ التَّغْلِيظِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنِّي وَإِنَّ بَالَغْتُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي التَّغْلِيظِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ التغليظ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. وَأَمَّا رَحْمَتِي وَرَأْفَتِي فَمَخْصُوصَةٌ بالمؤمنين فقط، فلهذه الدقيقة عدل على ذلك النسق. [سورة التوبة (9) : آية 129] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) أَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا يُرِيدُ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. ثُمَّ قِيلَ: تَوَلَّوْا أَيْ أَعْرَضُوا عَنْكَ. وَقِيلَ: تَوَلَّوْا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقِيلَ: تَوَلَّوْا عَنْ قَبُولِ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَقِيلَ: تَوَلَّوْا عَنْ نُصْرَتِكَ فِي الْجِهَادِ. وَاعْلَمْ أَنَّ/ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ الْكُفَّارَ لَوْ أَعْرَضُوا وَلَمْ يَقْبَلُوا هَذِهِ التَّكَالِيفَ، لَمْ يَدْخُلْ فِي قَلْبِ الرَّسُولِ حَزَنٌ وَلَا أَسَفٌ، لِأَنَّ اللَّهَ حَسْبُهُ وَكَافِيهِ فِي نَصْرِهِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَفِي إِيصَالِهِ إِلَى مَقَامَاتِ الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَإِذَا كَانَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَا مُبْدِئَ لِشَيْءٍ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ وَلَا مُحْدِثَ لِشَيْءٍ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ إِلَّا هُوَ، وَإِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَنِي بِهَذِهِ الرِّسَالَةِ، وَأَمَرَنِي بِهَذَا التَّبْلِيغِ كَانَتِ النُّصْرَةُ عَلَيْهِ وَالْمَعُونَةُ مُرْتَقَبَةً مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ يُفِيدُ الْحَصْرَ أَيْ لَا أَتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْهِ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَالسَّبَبُ فِي تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ الْآثَارُ أَعْظَمَ وَأَكْرَمَ، كَانَ ظُهُورُ جَلَالَةِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْعَقْلِ وَالْخَاطِرِ أَعْظَمَ، وَلَمَّا كان أعظم الأجسام هو العرض كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِ تَعْظِيمَ جَلَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. فَإِنْ قَالُوا: الْعَرْشُ غَيْرُ مَحْسُوسٍ فَلَا يُعْرَفُ وُجُودُهُ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الشَّرِيعَةِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ ذِكْرُهُ فِي مَعْرِضِ شَرْحِ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى؟ قُلْنَا: وُجُودُ الْعَرْشِ أَمْرٌ مَشْهُورٌ وَالْكُفَّارُ سَمِعُوهُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ سَمِعُوهُ مِنْ أَسْلَافِهِمْ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَرَأَ قَوْلَهُ: الْعَظِيمِ بِالرَّفْعِ لِيَكُونَ صِفَةً لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَعْجَبُ، لِأَنَّ جَعْلَ الْعَظِيمِ صِفَةً لِلَّهِ تَعَالَى أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ صِفَةً لِلْعَرْشِ، وَأَيْضًا فَإِنْ جَعَلْنَاهُ صِفَةً لِلْعَرْشِ، كَانَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ عَظِيمًا كِبَرَ جُرْمِهِ وَعِظَمَ حَجْمِهِ وَاتِّسَاعَ جَوَانِبِهِ عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْأَخْبَارِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ صِفَةً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَظَمَةِ وُجُوبَ الْوُجُودِ وَالتَّقْدِيسَ عَنِ الْحَجْمِيَّةِ وَالْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ، وَكَمَالَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَكَوْنَهُ مُنَزَّهًا عَنْ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِي الْأَوْهَامِ أَوْ تَصِلَ إِلَيْهِ الْأَفْهَامُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هَاتَانِ الْآيَتَانِ آخِرُ ما

أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمَا أُنْزِلَ بَعْدَهُمَا قُرْآنٌ. وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: أَحْدَثُ الْقُرْآنِ عَهْدًا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هَاتَانِ الْآيَتَانِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: آخِرُ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 281] . وَنُقِلَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَنْتُمْ تُسَمُّونَ هَذِهِ السُّورَةَ بِالتَّوْبَةِ، وَهِيَ سُورَةُ الْعَذَابِ مَا تركتم أحدا إلا نالت منه، والله ما تقرءون رُبْعَهَا. اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ يَجِبُ تَكْذِيبُهَا، لِأَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَطَرُّقِ الزِّيَادَةِ/ وَالنُّقْصَانِ إِلَى الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً، وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْقَوْلَ بِهِ بَاطِلٌ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. وَهَذَا آخِرُ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ. فَرَغَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ تَفْسِيرِهَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحِبَهُ أَجْمَعِينَ. تم الجزء السادس عَشَرَ، وَيَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْجُزْءُ السابع عشر، وأوله قوله تعالى: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ. أَعَانَ اللَّهُ عَلَى إكماله

الجزء السابع عشر

الجزء السابع عشر سُورَةُ يُونُسَ مَكِّيَّةٌ، إِلَّا الْآيَاتِ: 40 وَ 94 وَ 95 وَ 96 فَمَدَنِيَّةٌ وَآيَاتُهَا: 109 نَزَلَتْ بَعْدَ الْإِسْرَاءِ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم سورة يونس عليه السلام وهي مائة وتسع آيات مكية عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ [يونس: 40] فإنها مدنية نزلت في اليهود. [سورة يونس (10) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) قَوْلُهُ جَلَّ جَلَالُهُ الر وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٌ وَعَاصِمٌ الر بِفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى التَّفْخِيمِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَحْيَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ: بِكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى الْإِمَالَةِ. وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَحَمَّادٍ عَنْ عَاصِمٍ، بَيْنَ الْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّهَا لُغَاتٌ صَحِيحَةٌ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْأَصْلُ تَرْكُ الْإِمَالَةِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ نَحْوَ مَا وَلَا، لِأَنَّ أَلِفَاتِهَا لَيْسَتْ مُنْقَلِبَةً عَنِ الْيَاءِ، وَأَمَّا مَنْ أَمَالَ فَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ أَسْمَاءٌ لِلْحُرُوفِ الْمَخْصُوصَةِ، فَقَصَدَ بِذِكْرِ الْإِمَالَةِ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّهَا أَسْمَاءٌ لَا حُرُوفَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ الر وَحْدَهُ لَيْسَ آية، واتفقوا على أن قوله طه [طه: 1] وَحْدَهُ آيَةٌ. وَالْفَرْقُ أَنَّ قَوْلَهُ: الر لَا يُشَاكِلُ مَقَاطِعَ الْآيِ الَّتِي بَعْدَهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: طه فَإِنَّهُ يُشَاكِلُ مَقَاطِعَ الْآيِ الَّتِي بَعْدَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْكَلَامُ الْمُسْتَقْصَى فِي تَفْسِيرِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْكَلِمَاتِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ إِلَّا أَنَّا نَذْكُرُ هَاهُنَا أَيْضًا بَعْضَ مَا قِيلَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الر مَعْنَاهُ أَنَا اللَّهُ أَرَى. وَقِيلَ أَنَا الرب لا رب غيري. وقيل الر وحم [السجدة: 1] ون [القلم: 1] اسْمُ الرَّحْمَنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: تِلْكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْآيَاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَأَيْضًا فَالْكِتَابُ الْحَكِيمُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ هُوَ

الْقُرْآنُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ غَيْرَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ الْكِتَابُ الْمَخْزُونُ الْمَكْنُونُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي مِنْهُ نُسِخَ كُلُّ كِتَابٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ [الْوَاقِعَةِ: 77، 78] وَقَالَ تَعَالَى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [الْبُرُوجِ: 22] وَقَالَ: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزُّخْرُفِ: 4] وَقَالَ: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرَّعْدِ: 39] . وَإِذَا عَرَفْتَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ تَحْصُلُ هَاهُنَا حِينَئِذٍ وُجُوهٌ أَرْبَعَةٌ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ: الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ لَفْظَةِ تِلْكَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْآيَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ تِلْكَ الْآيَاتُ هِيَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِ كِتَابًا لَا يَمْحُوهُ الْمَاءُ، وَلَا يُغَيِّرُهُ كُرُورُ الدَّهْرِ، فَالتَّقْدِيرُ أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ الْحَاصِلَةَ فِي سُورَةِ الر هِيَ آيَاتُ ذَلِكَ الْكِتَابِ الْمُحْكَمِ الَّذِي لَا يَمْحُوهُ الْمَاءُ. الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ الْمَوْجُودَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ هِيَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمَخْزُونِ الْمَكْنُونِ عِنْدَ اللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ تَكُونُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِنَا: تِلْكَ إِلَى آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِيهِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ تِلْكَ يُشَارُ بِهَا إِلَى الْغَائِبِ، وَآيَاتُ هَذِهِ السُّورَةِ حَاضِرَةٌ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِلَفْظِ تِلْكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ قَدْ سَبَقَ مَعَ جَوَابِهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الم ذلِكَ الْكِتابُ [الْبَقَرَةِ: 1، 2] . الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: لَفْظُ تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَالْمُرَادُ بِهَا: هِيَ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا هِيَ آيَاتُ ذَلِكَ الْكِتَابِ الْمَكْنُونِ الْمَخْزُونِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْكِتابِ الْحَكِيمِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ هِيَ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَصَصَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُوَافَقَةٌ لِلْقَصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّوْرَاةِ/ وَالْإِنْجِيلِ، مَعَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا كَانَ عَالِمًا بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَحُصُولُ هَذِهِ الْمُوَافَقَةِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا إِذَا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا بِإِنْزَالِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ: أَنَّ قَوْلَهُ: الر إِشَارَةٌ إِلَى حُرُوفِ التَّهَجِّي، فَقَوْلُهُ: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ يَعْنِي هَذِهِ الْحُرُوفُ هِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي جعلت وعلامات لهذا الكتاب الذي آيات بِهِ وَقَعَ التَّحَدِّي فَلَوْلَا امْتِيَازُ هَذَا الْكِتَابِ عَنْ كَلَامِ النَّاسِ بِالْوَصْفِ الْمُعْجِزِ، وَإِلَّا لَكَانَ اخْتِصَاصُهُ بِهَذَا النَّظْمِ، دُونَ سَائِرِ النَّاسِ الْقَادِرِينَ عَلَى التَّلَفُّظِ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ مُحَالًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي وَصْفِ الْكِتَابِ بِكَوْنِهِ حَكِيمًا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَكِيمَ هُوَ ذُو الْحِكْمَةِ بِمَعْنَى اشْتِمَالِ الْكِتَابِ عَلَى الْحِكْمَةِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَصْفَ الْكَلَامِ بِصِفَةِ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ الْأَعْشَى: وَغَرِيبَةٌ تَأْتِي الْمُلُوكَ حَكِيمَةٌ ... قَدْ قُلْتُهَا لِيُقَالَ مَنْ ذَا قَالَهَا الثَّالِثُ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ الْحَكِيمِ بِمَعْنَى الْحَاكِمِ، فَعِيلُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ [الْبَقَرَةِ: 213] فَالْقُرْآنُ كَالْحَاكِمِ فِي الِاعْتِقَادَاتِ لِتَمَيُّزِ حَقِّهَا عَنْ بَاطِلِهَا، وَفِي الْأَفْعَالِ لِتَمَيُّزِ صَوَابِهَا عَنْ خَطَئِهَا، وَكَالْحَاكِمِ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَادِقٌ فِي دَعْوَى النُّبُوَّةِ، لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ الْكُبْرَى

[سورة يونس (10) : آية 2]

لِرَسُولِنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لَيْسَتْ إِلَّا الْقُرْآنَ الرَّابِعُ: أَنَّ الْحَكِيمِ بِمَعْنَى الْمُحْكَمِ وَالْإِحْكَامُ مَعْنَاهُ الْمَنْعُ مِنَ الْفَسَادِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَمْحُوهُ الْمَاءُ، وَلَا تَحْرِقُهُ النَّارُ، وَلَا تُغَيِّرُهُ الدُّهُورُ أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ بَرَاءَتُهُ عَنِ الْكَذِبِ وَالتَّنَاقُضِ. الْخَامِسُ: قَالَ الْحَسَنُ: وَصَفَ الْكِتَابَ بِالْحَكِيمِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ فِيهِ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، وَحَكَمَ فِيهِ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَبِالنَّارِ لِمَنْ عَصَاهُ، فَعَلَى هَذَا الْحَكِيمِ يَكُونُ مَعْنَاهُ الْمَحْكُومَ فِيهِ. السَّادِسُ: أَنَّ الْحَكِيمِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَنِ الَّذِي يَفْعَلُ الْحِكْمَةَ وَالصَّوَابَ، فَكَانَ وَصْفُ الْقُرْآنِ بِهِ مَجَازًا، وَوَجْهُ الْمَجَازِ هُوَ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ، فَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي صَارَ كأنه هو الحكيم في نفسه. [سورة يونس (10) : آية 2] أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ تَعَجَّبُوا مِنْ تَخْصِيصِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَمَّدًا بِالرِّسَالَةِ وَالْوَحْيِ، فَأَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ التَّعَجُّبَ. أَمَّا بَيَانُ كَوْنِ الْكُفَّارِ تَعَجَّبُوا مِنْ هَذَا التَّخْصِيصِ فمن وجوه: الأول: قوله تعالى: جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ [ص: 5، 6] وَإِذَا بَلَغُوا فِي الْجَهَالَةِ إِلَى أَنْ تَعَجَّبُوا مِنْ كَوْنِ الْإِلَهِ تَعَالَى وَاحِدًا، لَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا أَنْ يَتَعَجَّبُوا مِنْ تَخْصِيصِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَمَّدًا بِالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ! وَالثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا وَجَدَ رَسُولًا إِلَى خَلْقِهِ إِلَّا يَتِيمَ أَبِي طَالِبٍ! وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزُّخْرُفِ: 31] وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا التَّعَجُّبُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَعَجَّبُوا مِنْ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا، كَمَا حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: 94] وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَتَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ بَلْ يَتَعَجَّبُوا مِنْ تَخْصِيصِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةُ مَعَ كَوْنِهِ فَقِيرًا يَتِيمًا، فَهَذَا بَيَانُ أَنَّ الْكُفَّارَ تَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ هَذَا التَّعَجُّبَ فَهُوَ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَإِنَّ قَوْلَهُ: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً لَفْظُهُ لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ، وَمَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ، لِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَجَبًا وَإِنَّمَا وَجَبَ إِنْكَارُ هَذَا التَّعَجُّبِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى مَالِكُ الْخَلْقِ وَمَلِكٌ لَهُمْ وَالْمَالِكُ وَالْمَلِكُ هُوَ الَّذِي لَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْإِذْنُ وَالْمَنْعُ وَلَا بُدَّ مِنْ إِيصَالِ تِلْكَ التَّكَالِيفِ إِلَى أُولَئِكَ الْمُكَلَّفِينَ بِوَاسِطَةِ بَعْضِ الْعِبَادِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ إِرْسَالُ الرَّسُولِ أَمْرًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ، بَلْ كَانَ مُجَوَّزًا فِي الْعُقُولِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ لِلِاشْتِغَالِ بِالْعُبُودِيَّةِ كَمَا قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] وَقَالَ: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ [الْإِنْسَانِ: 2] وَقَالَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الْأَعْلَى: 14، 15] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكْمَلَ عُقُولَهُمْ وَمَكَّنَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، ثُمَّ عَلِمَ تَعَالَى أَنَّ عِبَادَهُ لَا يَشْتَغِلُونَ بِمَا كُلِّفُوا بِهِ، إِلَّا إِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا وَمُنَبِّهًا فَعِنْدَ هَذَا يَجِبُ وُجُوبَ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ وَالرَّحْمَةِ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ الرَّسُولَ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا فَكَيْفَ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ. الثَّالِثُ: أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ أَمْرٌ مَا أَخْلَى اللَّهُ تَعَالَى شَيْئًا مِنْ أَزْمِنَةِ وُجُودِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْهُ، كَمَا قَالَ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [يُوسُفَ: 109] فَكَيْفَ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَهُ النَّظِيرُ، وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الْأَعْرَافِ: 59] وَسَائِرُ

قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَجُلًا عَرَفُوا نَسَبَهُ وَعَرَفُوا كَوْنَهُ أَمِينًا بَعِيدًا عَنْ أَنْوَاعِ التُّهَمِ وَالْأَكَاذِيبِ مُلَازِمًا لِلصِّدْقِ وَالْعَفَافِ. ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا لَمْ يُخَالِطْ أَهْلَ الْأَدْيَانِ، وَمَا قَرَأَ كِتَابًا أَصْلًا الْبَتَّةَ، ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَتْلُو عَلَيْهِمْ أَقَاصِيصَهُمْ وَيُخْبِرُهُمْ عَنْ وَقَائِعِهِمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ/ صَادِقًا مُصَدَّقًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيُزِيلُ التَّعَجُّبَ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْجُمُعَةِ: 2] وَقَالَ: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [الْعَنْكَبُوتِ: 48] الْخَامِسُ: أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّعَجُّبِ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ بِعْثَةِ كُلِّ رَسُولٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [الْأَعْرَافِ: 65] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً [الْأَعْرَافِ: 73] إِلَى قَوْلَهُ: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ [الْأَعْرَافِ: 63] السَّادِسُ: أَنَّ هَذَا التَّعَجُّبَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ إِرْسَالِ اللَّهِ تَعَالَى رَسُولًا مِنَ الْبَشَرِ، أَوْ سَلَّمُوا أَنَّهُ لَا تَعَجُّبَ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَعَجَّبُوا مِنْ تَخْصِيصِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَبَعِيدٌ لِأَنَّ الْعَقْلَ شَاهِدٌ بِأَنَّ مَعَ حُصُولِ التَّكْلِيفِ لَا بُدَّ مِنْ مُنَبِّهٍ وَرَسُولٍ يُعَرِّفُهُمْ تَمَامَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي أَدْيَانِهِمْ كَالْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْأَوْلَى أَنْ يُبْعَثَ إِلَيْهِمْ مَنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِمْ لِيَكُونَ سُكُونُهُمْ إِلَيْهِ أَكْمَلَ وَإِلْفُهُمْ بِهِ أَقْوَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الْأَنْعَامِ: 9] وَقَالَ: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: 95] . وَأَمَّا الثَّانِي: فَبَعِيدٌ لِأَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْخَيْرِ وَالتَّقْوَى وَالْأَمَانَةِ، وَمَا كَانُوا يَعِيبُونَهُ إِلَّا بِكَوْنِهِ يَتِيمًا فَقِيرًا، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْفَقْرُ سَبَبًا لِنُقْصَانِ الْحَالِ عِنْدَهُ، وَلَا أَنْ يَكُونَ الْغِنَى سَبَبًا لِكَمَالِ الْحَالِ عِنْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى [سَبَأٍ: 37] فَثَبَتَ أَنَّ تَعَجُّبَ الْكُفَّارِ مِنْ تَخْصِيصِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَمَّدًا بِالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ كَلَامٌ فَاسِدٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ: أَكانَ لِإِنْكَارِ التعجب ولأجل التعجيب من هذا التعجب وأَنْ أَوْحَيْنا اسم كان وعجبا خَبَرُهُ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَجَبٌ فَجَعَلَهُ اسْمًا وهو نكرة وأَنْ أَوْحَيْنا خَبَرَهُ وَهُوَ مَعْرِفَةٌ كَقَوْلِهِ: يَكُونُ مِزَاجُهَا عَسَلٌ وَمَاءٌ وَالْأَجْوَدُ أَنْ تَكُونَ «كَانَ» تَامَّةً، وأن أوحينا، بدلا من عجب. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً وَلَمْ يَقُلْ أَكَانَ عِنْدَ النَّاسِ عَجَبًا، وَالْفَرْقُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ أُعْجُوبَةً يَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا وَنَصَّبُوهُ وَعَيَّنُوهُ لِتَوْجِيهِ الطِّيَرَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّعَجُّبِ إِلَيْهِ! وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: «أَكَانَ عِنْدَ النَّاسِ عَجَبًا» هَذَا الْمَعْنَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: (أَنْ) مَعَ الْفِعْلِ فِي قَوْلِنَا: أَنْ أَوْحَيْنا فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ وَهُوَ اسْمُ كَانَ وَخَبَرُهُ، هُوَ قَوْلُهُ: عَجَباً وَإِنَّمَا تَقَدَّمَ الْخَبَرُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ هَاهُنَا لِأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ، وَالْمَقْصُودُ بِالْإِنْكَارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ تَعَجُّبُهُمْ، وَأَمَّا (أَنْ) فِي قَوْلِهِ: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ فَمُفَسِّرَةٌ لِأَنَّ الْإِيحَاءَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ، / وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَأَصْلُهُ أَنَّهُ أَنْذَرَ النَّاسَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الشَّأْنَ قَوْلُنَا أَنْذِرِ النَّاسَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى رَسُولِهِ، بَيَّنَ بَعْدَهُ تَفْصِيلَ مَا أَوْحَى إِلَيْهِ وَهُوَ الإنذار والتبشير.

أَمَّا الْإِنْذَارُ فَلِلْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ لِيَرْتَدِعُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ الْإِنْذَارِ عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَأَمَّا التَّبْشِيرُ فَلِأَهْلِ الطَّاعَةِ لِتَقْوَى رَغْبَتُهُمْ فِيهَا وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْإِنْذَارَ عَلَى التَّبْشِيرِ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ، وَإِزَالَةَ مَا لَا يَنْبَغِي مُقَدَّمٌ فِي الرُّتْبَةِ عَلَى فِعْلِ مَا يَنْبَغِي. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: قَدَمَ صِدْقٍ فِيهِ أَقْوَالٌ لِأَهْلِ اللغة وأقوال المفسرين. أَمَّا أَقْوَالُ أَهْلِ اللُّغَةِ فَقَدْ نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» مِنْهَا وُجُوهًا. قَالَ اللَّيْثُ وَأَبُو الْهَيْثَمِ: الْقَدَمُ السَّابِقَةُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَدْ سَبَقَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: وَأَنْتَ امْرُؤٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ ذُؤَابَةٍ ... لَهُمْ قَدَمٌ مَعْرُوفَةٌ وَمَفَاخِرُ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: الْقَدَمُ كُلُّ مَا قَدَّمْتَ مِنْ خَيْرٍ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْقَدَمُ كِنَايَةٌ عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي يَتَقَدَّمُ فِيهِ، وَلَا يَقَعُ فِيهِ تَأْخِيرٌ وَلَا إِبْطَاءٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ السَّبَبَ فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْقَدَمِ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي، أَنَّ السَّعْيَ وَالسَّبْقَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْقَدَمِ، فَسُمِّيَ الْمُسَبَّبُ بِاسْمِ السَّبَبِ، كَمَا سُمِّيَتِ النِّعْمَةُ يَدًا، لِأَنَّهَا تُعْطَى بِالْيَدِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي إِضَافَةِ الْقَدَمِ إِلَى الصِّدْقِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: قَدَمَ صِدْقٍ. قُلْنَا: الْفَائِدَةُ التَّنْبِيهُ عَلَى زِيَادَةِ الْفَضْلِ وَأَنَّهُ مِنَ السَّوَابِقِ الْعَظِيمَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مَقَامُ صِدْقٍ. وَأَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَلَهُمْ أَقْوَالٌ فَبَعْضُهُمْ حَمَلَ قَدَمَ صِدْقٍ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَبَعْضُهُمْ حَمَلَهُ عَلَى الثَّوَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَاخْتَارَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ هَذَا الثَّانِيَ وَأَنْشَدَ: صَلِّ لِذِي الْعَرْشِ واتخذ قدما ... بنجيك يَوْمَ الْعِثَارِ وَالزَّلَلِ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: أَنَّ الْكَافِرِينَ لَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَأَنْذَرَهُمْ وَبَشَّرَهُمْ وَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ اللَّائِقُ بِحِكْمَتِهِ وَفَضْلِهِ قَالُوا مُتَعَجِّبِينَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ مُبِينٌ أَيْ إِنَّ هَذَا الَّذِي يَدَّعِي أَنَّهُ رَسُولٌ هُوَ سَاحِرٌ. وَالِابْتِدَاءُ بِقَوْلِهِ: قالَ الْكافِرُونَ عَلَى تَقْدِيرِ فَلَمَّا أَنْذَرَهُمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَإِضْمَارُ هَذَا، غَيْرُ قَلِيلٍ فِي الْقُرْآنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ وَالْمُرَادُ مِنْهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْبَاقُونَ لَسِحْرٌ وَالْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ. وَاعْلَمْ أَنَّ وَصْفَ الْكُفَّارِ الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ سِحْرًا يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ مَحَلِّ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ، وَكَوْنِهِ مُعْجِزًا/ وَأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ فِيهِ الْمُعَارَضَةُ، فَاحْتَاجُوا إِلَى هَذَا الْكَلَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّ إِقْدَامَهُمْ عَلَى وَصْفِ الْقُرْآنِ بِكَوْنِهِ سِحْرًا، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا ذَكَرُوهُ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ ذَكَرُوهُ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ كَلَامٌ مُزَخْرَفٌ حَسَنُ الظَّاهِرِ، وَلَكِنَّهُ بَاطِلٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَا حَاصِلَ لَهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ لِكَمَالِ فَصَاحَتِهِ وَتَعَذُّرِ مِثْلِهِ، جَارٍ مَجْرَى السِّحْرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمَّا كَانَ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ لَمْ يُذْكَرْ جَوَابُهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْهُمْ، وَنَشَأَ بَيْنَهُمْ وَمَا غَابَ عَنْهُمْ، وَمَا خَالَطَ أَحَدًا سِوَاهُمْ، وَمَا كَانَ مَكَّةُ بَلْدَةَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَذْكِيَاءِ، حَتَّى يُقَالَ: إنه

[سورة يونس (10) : آية 3]

تَعَلَّمَ السِّحْرَ أَوْ تَعَلَّمَ الْعُلُومَ الْكَثِيرَةَ مِنْهُمْ فَقَدَرَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، كَانَ حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَى السِّحْرِ كَلَامًا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ترك جوابه. [سورة يونس (10) : آية 3] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ تَعَجَّبُوا مِنَ الْوَحْيِ وَالْبَعْثَةِ وَالرِّسَالَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَزَالَ ذَلِكَ التَّعَجُّبَ بِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ الْبَتَّةَ فِي أَنْ يَبْعَثَ خَالِقُ الْخَلْقِ إِلَيْهِمْ رَسُولًا يُبَشِّرُهُمْ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِالثَّوَابِ، وَعَلَى الْأَعْمَالِ الْبَاطِلَةِ الْفَاسِدَةِ بِالْعِقَابِ، كَانَ هَذَا الْجَوَابُ إِنَّمَا يَتِمُّ وَيَكْمُلُ بِإِثْبَاتِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُ أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ إِلَهًا قَاهِرًا قَادِرًا نافذا الْحُكْمِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّكْلِيفِ وَالثَّانِي: إِثْبَاتُ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، حَتَّى يَحْصُلَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ اللَّذَانِ أَخْبَرَ الْأَنْبِيَاءُ عَنْ حُصُولِهِمَا، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ هَذَيْنِ الْمَطْلُوبَيْنِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ إِثْبَاتُ الْإِلَهِيَّةِ، فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ إِثْبَاتُ الْمَعَادِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ فَبِقَوْلِهِ: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا [يُونُسَ: 4] فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَنِهَايَةِ الْكَمَالِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَفِي الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ تَعَالَى، إِمَّا الْإِمْكَانُ وَإِمَّا الْحُدُوثُ وَكِلَاهُمَا إِمَّا فِي الذَّوَاتِ وَإِمَّا فِي الصِّفَاتِ، فَيَكُونُ مَجْمُوعُ الطُّرُقِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ أَرْبَعَةً، وَهِيَ إِمْكَانُ الذَّوَاتِ، وَإِمْكَانُ الصِّفَاتِ، وَحُدُوثُ الذَّوَاتِ، وَحُدُوثُ الصِّفَاتِ وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ مُعْتَبَرَةٌ تَارَةً فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وهو عالم السموات وَالْكَوَاكِبِ، وَتَارَةً فِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، وَالْأَغْلَبُ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ التَّمَسُّكُ بِإِمْكَانِ الصِّفَاتِ وَحُدُوثِهَا تَارَةً فِي أَحْوَالِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَتَارَةً فِي أَحْوَالِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، وَالْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ التَّمَسُّكُ بِإِمْكَانِ الْأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ فِي مَقَادِيرِهَا وَصِفَاتِهَا، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَجْرَامَ الْأَفْلَاكِ لَا شَكَّ أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تَتَجَزَّى، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَتْ لَا مَحَالَةَ مُحْتَاجَةً إِلَى الْخَالِقِ وَالْمُقَدِّرِ. أَمَّا بَيَانُ الْمَقَامِ الْأَوَّلِ: فَهُوَ أَنَّ أَجْرَامَ الْأَفْلَاكِ لَا شَكَّ أَنَّهَا قَابِلَةٌ لِلْقِسْمَةِ الْوَهْمِيَّةِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا فِي الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ قَابِلًا لِلْقِسْمَةِ الْوَهْمِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُرَكَّبًا مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ وَدَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الَّذِي تَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ أَنَّ الْجِسْمَ قَابِلٌ لِلْقِسْمَةِ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا وَاحِدًا كَلَامٌ فَاسِدٌ بَاطِلٌ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَجْرَامَ الْأَفْلَاكِ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تَتَجَزَّى، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ افْتِقَارُهَا إِلَى خَالِقٍ وَمُقَدِّرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَمَّا تَرَكَّبَتْ فَقَدْ وَقَعَ بَعْضُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ فِي دَاخِلِ ذَلِكَ الْجِرْمِ، وَبَعْضُهَا حَصَلَتْ عَلَى سَطْحِهَا، وَتِلْكَ الْأَجْزَاءُ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الطَّبْعِ وَالْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ، وَالْفَلَاسِفَةُ أَقَرُّوا لَنَا بِصِحَّةِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ حَيْثُ قَالُوا إِنَّهَا بَسَائِطُ، وَيَمْتَنِعُ كَوْنُهَا مُرَكَّبَةً مِنْ أَجْزَاءَ مُخْتَلِفَةِ الطَّبَائِعِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: حُصُولُ بَعْضِهَا فِي الدَّاخِلِ، وَحُصُولُ بَعْضِهَا فِي الْخَارِجِ، أَمْرٌ مُمْكِنُ الْحُصُولِ جَائِزُ الثُّبُوتِ، يَجُوزُ أَنْ يَنْقَلِبَ الظَّاهِرُ بَاطِنًا، وَالْبَاطِنُ ظَاهِرًا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ افْتِقَارُ هَذِهِ الأجزاء حال

تَرْكِيبِهَا إِلَى مُدَبِّرٍ وَقَاهِرٍ، يُخَصَّصُ بَعْضُهَا بِالدَّاخِلِ وَبَعْضُهَا بِالْخَارِجِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُفْتَقِرَةٌ فِي تَرْكِيبِهَا وَأَشْكَالِهَا وَصِفَاتِهَا إِلَى مُدَبِّرٍ قَدِيرٍ عَلِيمٍ حَكِيمٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الِاسْتِدْلَالِ بِصِفَاتِ الْأَفْلَاكِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ أَنْ نَقُولَ: حَرَكَاتُ هَذِهِ الْأَفْلَاكِ لَهَا بِدَايَةٌ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ افْتَقَرَتْ هَذِهِ الْأَفْلَاكُ فِي حَرَكَاتِهَا إِلَى مُحَرِّكٍ وَمُدَبِّرٍ قَاهِرٍ. أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّ الْحَرَكَةَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّغَيُّرِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَهَذِهِ الْمَاهِيَّةُ تَقْتَضِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْحَالَةِ الْمُنْتَقَلِ عَنْهَا، وَالْأَزَلُ يُنَافِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ، فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَرَكَةِ/ وَبَيْنَ الْأَزَلِ مُحَالًا، فَثَبَتَ أَنَّ لِحَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ أَوَّلًا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْأَجْرَامُ الْفَلَكِيَّةُ كَانَتْ مَعْدُومَةً فِي الْأَزَلِ وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً، لَكِنَّهَا كَانَتْ وَاقِفَةً وَسَاكِنَةً وَمَا كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: فَلِحَرَكَاتِهَا أَوَّلٌ وَبِدَايَةٌ. وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ افْتِقَارُهَا إِلَى مُدَبِّرٍ قَاهِرٍ، فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ ابْتِدَاءَ هَذِهِ الْأَجْرَامِ بِالْحَرَكَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَدُونَ مَا بَعْدَهُ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ، وَتَرْجِيحِ مُرَجِّحٍ وَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا بِالذَّاتِ، وَإِلَّا لَحَصَلَتْ تِلْكَ الْحَرَكَةُ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَجْلِ أَنْ مُوجِبِ تِلْكَ الْحَرَكَةِ كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا، ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ الْمُرَجِّحَ قَادِرٌ مُخْتَارٌ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الِاسْتِدْلَالِ بِصِفَاتِ الْأَفْلَاكِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْمُخْتَارِ، وَهُوَ أَنَّ أَجْزَاءَ الْفَلَكِ حَاصِلَةٌ فِيهِ لَا فِي الْفَلَكِ الْآخَرِ، وَأَجْزَاءَ الْفَلَكِ الْآخَرِ حَاصِلَةٌ فِيهِ لَا فِي الْفَلَكِ الْأَوَّلِ فَاخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِتِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَمْرٌ مُمْكِنٌ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ، وَيَعُودُ التَّقْرِيرُ الْأَوَّلُ فِيهِ. فَهَذَا تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ (الَّذِي) كَلِمَةٌ وُضِعَتْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى شَيْءٍ مُفْرَدٍ عِنْدَ مُحَاوَلَةِ تَعْرِيفِهِ بِقَضِيَّةٍ مَعْلُومَةٍ، كَمَّا إِذَا قِيلَ لَكَ مَنْ زَيْدٌ؟ فَتَقُولُ: الَّذِي أَبَوْهُ مُنْطَلِقٌ، فَهَذَا التَّعْرِيفُ إِنَّمَا يَحْسُنُ لَوْ كَانَ كَوْنُ أَبِيهِ مُنْطَلِقًا، أَمْرًا مَعْلُومًا عِنْدَ السَّامِعِ، فَهُنَا لَمَّا قَالَ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فَهَذَا إِنَّمَا يَحْسُنُ لَوْ كَانَ كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَالِقًا للسموات وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، أَمْرًا مَعْلُومًا عِنْدَ السَّامِعِ، وَالْعَرَبُ مَا كَانُوا عَالِمِينَ بِذَلِكَ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ هَذَا التَّعْرِيفُ؟ وَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْكَلَامُ مَشْهُورٌ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي أَوَّلِ مَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ هُوَ التَّوْرَاةُ وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ وَالْعَرَبُ كَانُوا يُخَالِطُونَهُمْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَيْضًا سَمِعُوهُ مِنْهُمْ، فَلِهَذَا السَّبَبِ حَسُنَ هَذَا التَّعْرِيفُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْفَائِدَةُ فِي بَيَانِ الْأَيَّامِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ فِيهَا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ جَمِيعِ الْعَالَمِ فِي أَقَلَّ مِنْ لَمْحِ الْبَصَرِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَالَمَ مُرَكَّبٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تَتَجَزَّى، وَالْجُزْءُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّى لَا يُمْكِنُ إِيجَادُهُ إِلَّا دُفْعَةً، لِأَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ إِيجَادَهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي زَمَانٍ، فَذَلِكَ الزَّمَانُ مُنْقَسِمٌ لَا مَحَالَةَ مِنْ آنَاتٍ مُتَعَاقِبَةٍ، فَهَلْ حَصَلَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْإِيجَادِ فِي الْآنِ الْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْآنِ الْأَوَّلِ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مُدَّةِ الْإِيجَادِ، وَإِنْ حَصَلَ في ذلك

الْآنِ إِيجَادُ شَيْءٍ وَحَصَلَ فِي الْآنِ الثَّانِي إِيجَادُ شَيْءٍ آخَرَ، فَهُمَا/ إِنْ كَانَا جُزْأَيْنِ مِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّى، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْجُزْءُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّى مُتَجَزِّئًا وَهُوَ مُحَالٌ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا آخَرَ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ إِيجَادُ الْجُزْءِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّى لَا يُمْكِنُ إِلَّا فِي آنٍ وَاحِدٍ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي إِيجَادِ جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِيجَادِ جَمِيعِ الْعَالَمِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَا شَكَّ أَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ عَلَى التَّدْرِيجِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ هَاهُنَا مَذْهَبَانِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ أَصْحَابِنَا وهو أنه يحسن منه كلما أَرَادَ، وَلَا يُعَلَّلُ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَصَالِحِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَسْقُطُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: لِمَ خَلَقَ الْعَالَمَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا خَلَقَهُ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ؟ لِأَنَّا نَقُولُ كُلُّ شَيْءٍ صَنَعَهُ وَلَا عِلَّةَ لِصُنْعِهِ فَلَا يُعَلَّلُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِهِ وَلَا شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِهِ بِعِلَّةٍ، فَسَقَطَ هَذَا السُّؤَالُ. الثَّانِي: قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُهُ تَعَالَى مُشْتَمِلَةً عَلَى الْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ فَعِنْدَ هَذَا قَالَ الْقَاضِي: لَا يَبْعُدُ أن يكون خلق الله تعالى السموات وَالْأَرْضِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْمَخْصُوصَةِ، أَدْخَلَ فِي الِاعْتِبَارِ فِي حَقِّ بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ. ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي: فَإِنْ قِيلَ: فَمَنِ الْمُعْتَبَرُ وَمَا وَجْهُ الِاعْتِبَارِ؟ ثُمَّ أَجَابَ وَقَالَ: أَمَّا الْمُعْتَبَرُ فَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُكَلَّفٍ أَوْ غَيْرِ مُكَلَّفٍ مِنَ الْحَيَوَانِ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ خلقه للسموات وَالْأَرَضِينَ، أَوْ مَعَهُمَا، وَإِلَّا لَكَانَ خَلْقُهُمَا عَبَثًا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَازَ أَنْ يَخْلُقَهُمَا لِأَجْلِ حَيَوَانٍ يَخْلُقُهُ مِنْ بَعْدُ؟! قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَخَافُ الْفَوْتَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدِّمَ خَلْقَ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدٌ، لِأَجْلِ حَيَوَانٍ سَيَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ مِنَّا ذَلِكَ فِي مُقَدَّمَاتِ الْأُمُورِ لِأَنَّا نَخْشَى الْفَوْتَ، وَنَخَافُ الْعَجْزَ وَالْقُصُورَ. قَالَ: وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدَ صَحَّ مَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ خلق الملائكة كان سابقا على خلق السموات وَالْأَرْضِ. فَإِنْ قِيلَ: أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةُ لَا بُدَّ لهم من مكان، فقبل خلق السموات وَالْأَرْضِ لَا مَكَانَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ وُجُودُهُمْ بِلَا مَكَانٍ؟ قُلْنَا: الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى تَسْكِينِ الْعَرْشِ والسموات وَالْأَرْضِ فِي أَمْكِنَتِهَا كَيْفَ يَعْجَزُ عَنْ تَسْكِينِ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ فِي أَحْيَازِهَا بِقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ؟ وَأَمَّا وَجْهُ الِاعْتِبَارِ فِي ذَلِكَ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ هُنَاكَ مُعْتَبَرٌ، لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُهُ بِمَا يُشَاهِدُهُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ أَقْوَى وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ مَا يَحْدُثُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَادِرٌ مِنْ فَاعِلٍ حَكِيمٍ وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ: فَهَلْ هَذِهِ الْأَيَّامُ كَأَيَّامِ الدُّنْيَا أَوْ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا أَلْفُ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ؟ وَالْجَوَابُ: قَالَ الْقَاضِي: الظَّاهِرُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ تَعْرِيفٌ لِعِبَادِهِ مُدَّةَ خَلْقِهِ لَهُمَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَعْرِيفًا، إِلَّا وَالْمُدَّةُ هَذِهِ الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَةُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا وَقَعَ التَّعْرِيفُ بِالْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَكَانَ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ أَيَّامَ الْآخِرَةِ لَا أَيَّامَ الدُّنْيَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَادِحًا فِي صِحَّةِ التَّعْرِيفِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: هَذِهِ الْأَيَّامُ إِنَّمَا تَتَقَدَّرُ بِحَسَبِ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَفْقُودٌ قَبْلَ خَلْقِهَا، فَكَيْفَ يُعْقَلُ هذا التعريف؟

وَالْجَوَابُ التَّعْرِيفُ يَحْصُلُ بِمَا أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ حدوث السموات وَالْأَرْضِ فِي مُدَّةٍ، لَوْ حَصَلَ هُنَاكَ أَفْلَاكٌ دَائِرَةٌ وَشَمْسٌ وَقَمَرٌ، لَكَانَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ مُسَاوِيَةً لِسِتَّةِ أَيَّامٍ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: فَهَذَا يَقْتَضِي حُصُولَ مُدَّةٍ قَبْلَ خَلْقِ الْعَالَمِ، يَحْصُلُ فِيهَا حُدُوثُ الْعَالَمِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ قِدَمَ الْمُدَّةِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ تِلْكَ الْمُدَّةَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ بَلْ هِيَ مَفْرُوضَةٌ مَوْهُومَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ تِلْكَ الْمُدَّةَ الْمُعَيَّنَةَ حَادِثَةٌ، وَحُدُوثُهَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى مُدَّةٍ أُخْرَى، وَإِلَّا لَزِمَ إِثْبَاتُ أَزْمِنَةٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَكُلُّ مَا يَقُولُونَ فِي حُدُوثِ الْمُدَّةِ فَنَحْنُ نَقُولُهُ فِي حُدُوثِ الْعَالَمِ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْيَوْمَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْيَوْمُ مَعَ لَيْلَتِهِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ النَّهَارُ وَحْدَهُ فَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَيُّهُمَا. وَالْجَوَابُ: الْغَالِبُ فِي اللُّغَةِ أَنَّهُ يُرَادُ بِالْيَوْمِ الْيَوْمُ بِلَيْلَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا يُوهِمُ كَوْنَهُ تَعَالَى مُسْتَقِرًّا عَلَى الْعَرْشِ وَالْكَلَامُ الْمُسْتَقْصَى فِيهِ مَذْكُورٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ طه، وَلَكِنَّا نكتفي هاهنا بِعِبَارَةٍ وَجِيزَةٍ فَنَقُولُ: هَذِهِ الْآيَةُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ مَعْنَاهُ كَوْنُهُ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ مُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ، بِحَيْثُ لَوْلَا الْعَرْشُ لَسَقَطَ وَنَزَلَ، كَمَا أَنَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّ فُلَانًا مُسْتَوٍ عَلَى سَرِيرِهِ فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ هَذَا هَذَا الْمَعْنَى إِلَّا أَنَّ إِثْبَاتَ هَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُحْتَاجًا إِلَى الْعَرْشِ، وَأَنَّهُ لَوْلَا الْعَرْشُ لَسَقَطَ وَنَزَلَ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُمْسِكُ لِلْعَرْشِ وَالْحَافِظُ لَهُ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ أَنَّ الْعَرْشَ هُوَ الْمُمْسِكُ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْحَافِظُ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ، / وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَتَغَيَّرُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا كَانَ مُحْدَثًا، وَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ بَاطِلٌ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا حَدَثَ الِاسْتِوَاءُ فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ مُضْطَرِبًا مُتَحَرِّكًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ. الرَّابِعُ: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ بعد أن خلق السموات وَالْأَرْضَ لِأَنَّ كَلِمَةَ (ثَّمَ) تَقْتَضِي التَّرَاخِيَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَبْلَ خَلْقِ الْعَرْشِ غَنِيًّا عَنِ الْعَرْشِ، فَإِذَا خَلَقَ الْعَرْشَ امْتَنَعَ أَنْ تَنْقَلِبَ حَقِيقَتُهُ وَذَاتُهُ مِنْ الِاسْتِغْنَاءِ إِلَى الْحَاجَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ خَلْقِ الْعَرْشِ غَنِيًّا عَنِ الْعَرْشِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِرًّا عَلَى الْعَرْشِ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي إِثْبَاتِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ لِلَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أن فوق السموات جِسْمًا عَظِيمًا هُوَ الْعَرْشُ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْعَرْشُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ ذَلِكَ الْعَرْشُ أَوْ غَيْرُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ، أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ ذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أنه لما خلق السموات وَالْأَرْضَ سَطَحَهَا وَرَفَعَ سَمْكَهَا، فَإِنَّ كُلَّ بِنَاءٍ فَإِنَّهُ يُسَمَّى عَرْشًا، وَبَانِيهِ يُسَمَّى عَارِشًا، قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النَّحْلِ: 68] أَيْ يَبْنُونَ، وَقَالَ فِي صِفَةِ الْقَرْيَةِ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها [الْحَجِّ: 45] وَالْمُرَادُ أَنَّ تِلْكَ الْقَرْيَةَ خَلَتْ مِنْهُمْ مَعَ سَلَامَةِ بِنَائِهَا وَقِيَامِ سُقُوفِهَا، وَقَالَ: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هُودٍ: 7] أَيْ بِنَاؤُهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَعْجَبُ فِي الْقُدْرَةِ، فَالْبَانِي

يَبْنِي الْبِنَاءَ مُتَبَاعِدًا عَنِ الْمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ الصلبة لئلا ينهدم، والله تعالى بنى السموات وَالْأَرْضَ عَلَى الْمَاءِ لِيَعْرِفَ الْعُقَلَاءُ قُدْرَتَهُ وَكَمَالَ جَلَالَتِهِ، وَالِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ هُوَ الِاسْتِعْلَاءُ عَلَيْهِ بِالْقَهْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ [الزُّخْرُفِ: 12، 13] قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: فَثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَنَقُولُ: وَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْعَرْشِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ تَعَالَى، يَجِبُ أَنْ يَحْصُلَ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ مُشَاهَدٍ، وَالْعَرْشُ الَّذِي في السماء ليس كذلك، وأما أجرام السموات وَالْأَرَضِينَ فَهِيَ مُشَاهَدَةٌ مَحْسُوسَةٌ، فَكَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِأَحْوَالِهَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ جَائِزًا صَوَابًا حَسَنًا. ثُمَّ قَالَ: وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ إِشَارَةٌ إِلَى تَخْلِيقِ ذَوَاتِهَا، وَقَوْلَهُ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَكُونُ إِشَارَةً إِلَى تَسْطِيحِهَا وَتَشْكِيلِهَا بِالْأَشْكَالِ الْمُوَافِقَةِ لِمَصَالِحِهَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَصِيرُ هَذِهِ الْآيَةُ مُوَافِقَةً لِقَوْلِهِ/ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها [النَّازِعَاتِ: 27، 28] فَذَكَرَ أَوَّلًا أَنَّهُ بَنَاهَا، ثُمَّ ذَكَرَ ثَانِيًا أَنَّهُ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَكَذَلِكَ هَاهُنَا ذَكَرَ بِقَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنَّهُ خَلَقَ ذَوَاتِهَا ثُمَّ ذَكَرَ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أَنَّهُ قَصَدَ إِلَى تَعْرِيشِهَا وَتَسْطِيحِهَا وَتَشْكِيلِهَا بِالْأَشْكَالِ الْمُوَافِقَةِ لَهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ لِجُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْعَرْشِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْجِسْمُ الْعَظِيمُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْعَرْشَ بعد خلق السموات وَالْأَرَضِينَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هُودٍ: 7] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَكْوِينَ الْعَرْشِ سَابِقٌ عَلَى تخليق السموات وَالْأَرَضِينَ بَلْ يَجِبُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ بِوُجُوهٍ أُخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: ثُمَّ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ وَهُوَ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْعَرْشِ الْمُلْكُ، يُقَالُ فُلَانٌ وَلِيَ عَرْشَهُ أَيْ مُلْكَهُ فَقَوْلُهُ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ وَاسْتَدَارَتِ الْأَفْلَاكُ وَالْكَوَاكِبُ، وَجَعَلَ بِسَبَبِ دَوَرَانِهَا الْفُصُولَ الْأَرْبَعَةَ وَالْأَحْوَالَ الْمُخْتَلِفَةَ مِنَ الْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ، فَفِي هَذَا الْوَقْتِ قَدْ حَصَلَ وُجُودُ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْكَائِنَاتِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَرْشَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُلْكِ، وَمُلْكُ اللَّهِ تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَوُجُودُ مَخْلُوقَاتِهِ إِنَّمَا حَصَلَ بَعْدَ تخليق السموات وَالْأَرْضِ، لَا جَرَمَ صَحَّ إِدْخَالُ حَرْفِ (ثَّمَ) الَّذِي يُفِيدُ التَّرَاخِيَ عَلَى الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَمَّا قَوْلُهُ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقْضِي وَيُقَدِّرُ عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ الْمُصِيبُ فِي أَفْعَالِهِ، النَّاظِرُ فِي أَدْبَارِ الْأُمُورِ وَعَوَاقِبِهَا، كَيْ لَا يَدْخُلَ فِي الْوُجُودِ مَا لَا يَنْبَغِي. وَالْمُرَادُ مِنْ الْأَمْرَ الشَّأْنُ يَعْنِي يُدَبِّرُ أحوال الخلق وأحوال ملكوت السموات وَالْأَرْضِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ؟ قلنا: قد دل بكونه خالقا للسموات وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَبِكَوْنِهِ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ، عَلَى نِهَايَةِ الْعَظَمَةِ وَغَايَةِ الْجَلَالَةِ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَلَا فِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ وَلَا حَادِثٌ مِنَ الْحَوَادِثِ، إِلَّا بِتَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَقَضَائِهِ وَحُكْمِهِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى نِهَايَةِ الْقُدْرَةِ

[سورة يونس (10) : آية 4]

والحكمة والعلم والإحاطة التدبير، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُبْدِعُ جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَإِلَيْهِ تَنْتَهِي الْحَاجَاتُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ تَدْبِيرَهُ لِلْأَشْيَاءِ وَصُنْعَهُ لَهَا، لَا يَكُونُ بِشَفَاعَةِ شَفِيعٍ وَتَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ وَلَا يَسْتَجْرِئُ أَحَدٌ أَنْ يَشْفَعَ إِلَيْهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَوْضِعِ الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوهُ مَا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ صَوَابٌ وَصَلَاحٌ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَلِيقُ ذِكْرُ الشَّفِيعِ بِصِفَةِ مَبْدَئِيَّةِ الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا يَلِيقُ ذِكْرُهُ بِأَحْوَالِ الْقِيَامَةِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ: وَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ كَانُوا مُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَصْنَامَ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ، فَالْمُرَادُ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ [النَّبَأِ: 38] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَوْنَهُ إِلَهًا لِلْعَالَمِ مُسْتَقِلًّا بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ شَرِيكٍ وَلَا مُنَازِعٍ، بَيَّنَ أَمْرَ الْمَبْدَأِ بِقَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ وَبَيَّنَ حَالَ الْمَعَادِ بِقَوْلِهِ: مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: يُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى وَضَعَ تَدْبِيرَ الْأُمُورِ فِي أَوَّلِ خَلْقِ الْعَالَمِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَأَقْرَبِهَا مِنْ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ، مَعَ أَنَّهُ مَا كَانَ هُنَاكَ شَفِيعٌ يَشْفَعُ فِي طَلَبِ تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ نَاظِرٌ لِعِبَادِهِ مُحْسِنٌ إِلَيْهِمْ مُرِيدٌ لِلْخَيْرِ وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ، وَلَا حَاجَةَ فِي كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ كَذَلِكَ إِلَى حُضُورِ شَفِيعٍ يَشْفَعُ فِيهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذَا الشَّفِيعِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو مسلم الأصفهاني، فقال: الشفيع هاهنا هُوَ الثَّانِي، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الشَّفْعِ الَّذِي يُخَالِفُ الْوَتْرَ، كَمَا يُقَالُ الزَّوْجُ وَالْفَرْدُ، فَمَعْنَى الآية خلق السموات وَالْأَرْضَ وَحْدَهُ وَلَا حَيَّ مَعَهُ وَلَا شَرِيكَ يُعِينُهُ، ثُمَّ خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ وَالْبَشَرَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ أَيْ لَمْ يَحْدُثْ أَحَدٌ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْوُجُودِ، إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ قَالَ لَهُ: كُنْ، حَتَّى كَانَ وَحَصَلَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ هَذِهِ الدَّلَائِلَ وَشَرَحَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ، خَتَمَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ مُبَيِّنًا بِذَلِكَ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ، وَمُنَبِّهًا عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِجَمِيعِ الْعِبَادَاتِ لِأَجْلِ أَنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ بِجَمِيعِ النِّعَمِ الَّتِي ذَكَرَهَا وَوَصَفَهَا. ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: أَفَلا تَذَكَّرُونَ دَالًّا بِذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ التَّفَكُّرِ فِي تِلْكَ الدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّفَكُّرَ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِدْلَالَ بِهَا عَلَى جَلَالَتِهِ وَعِزَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ، أعلى/ المراتب وأكمل الدرجات. [سورة يونس (10) : آية 4] إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4)

[في قوله تعالى إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى إِثْبَاتِ الْمَبْدَأِ، أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْمَعَادِ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي بَيَانِ أَنَّ إِنْكَارَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ لَيْسَ مِنَ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأول: أن العقلاء اختلفوا في وُقُوعِهِ وَقَالَ بِإِمْكَانِهِ عَالَمٌ مِنَ النَّاسِ، وَهُمْ جُمْهُورُ أَرْبَابِ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ. وَمَا كَانَ مَعْلُومَ الِامْتِنَاعِ بِالْبَدِيهَةِ امْتَنَعَ وُقُوعُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ. الثَّانِي: أَنَّا إِذَا رَجَعْنَا إِلَى عُقُولِنَا السَّلِيمَةِ، وَعَرَضْنَا عَلَيْهَا أَنَّ الْوَاحِدَ ضِعْفُ الِاثْنَيْنِ، وَعَرَضْنَا عَلَيْهَا أَيْضًا هَذِهِ الْقَضِيَّةَ، لَمْ نَجِدْ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ فِي قُوَّةِ الِامْتِنَاعِ مِثْلَ الْقَضِيَّةِ الْأُولَى. الثَّالِثُ: أَنَّا إِمَّا أَنْ نَقُولَ بِثُبُوتِ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ أَوْ لَا نَقُولَ بِهِ فَإِنْ قُلْنَا بِهِ فَقَدْ زَالَ الْإِشْكَالُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّهُ كَمَا لَا يَمْتَنِعُ تَعَلُّقُ هَذِهِ النَّفْسِ بِالْبَدَنِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، لَمْ يَمْتَنِعْ تَعَلُّقُهَا بِالْبَدَنِ مَرَّةً أُخْرَى وَإِنْ أَنْكَرْنَا الْقَوْلَ بِالنَّفْسِ فَالِاحْتِمَالُ أَيْضًا قَائِمٌ، لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُرَكِّبُ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ الْمُفَرَّقَةَ تَرْكِيبًا ثَانِيًا، وَيَخْلُقُ الْإِنْسَانَ الْأَوَّلَ مَرَّةً أُخْرَى. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ أَمْثِلَةً كَثِيرَةً دَالَّةً عَلَى إِمْكَانِ الْحَشْرِ والنشر ونحن نجمعها هاهنا. فَالْمِثَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّا نَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً وَقْتَ الْخَرِيفِ، وَنَرَى الْيُبْسَ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهَا بِسَبَبِ شِدَّةِ الْحَرِّ فِي الصَّيْفِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُنْزِلُ الْمَطَرَ عَلَيْهَا وَقْتَ الشِّتَاءِ وَالرَّبِيعِ، فَتَصِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَحَلِّيَةً بِالْأَزْهَارِ الْعَجِيبَةِ وَالْأَنْوَارِ الْغَرِيبَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ [فَاطِرٍ: 9] وَثَانِيهَا: قوله تعالى: تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى [الْحَجِّ: 5، 6] وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ/ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ [الزُّمَرِ: 21] وَالْمُرَادُ كَوْنُهُ مُنَبِّهًا عَلَى أَمْرِ الْمَعَادِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ [عَبَسَ: 21- 24] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّبِيعَ فَأَكْثِرُوا ذِكْرَ النُّشُورِ» وَلَمْ تَحْصُلِ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الرَّبِيعِ وَبَيْنَ النُّشُورِ إِلَّا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. الْمِثَالُ الثَّانِي: مَا يَجِدُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مِنْ نَفْسِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّمُوِّ بِسَبَبِ السِّمَنِ، وَمِنَ النُّقْصَانِ وَالذُّبُولِ بِسَبَبِ الْهُزَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ يَعُودُ إِلَى حَالَتِهِ الْأُولَى بِالسِّمَنِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَا جَازَ تَكَوُّنُ بَعْضِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَيْضًا تَكَوُّنُ كُلِّهِ، وَلَمَّا ثَبَتَ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ الْإِعَادَةَ غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْوَاقِعَةِ: 61] يَعْنِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى إِنْشَاءِ ذَوَاتِكُمْ أَوَّلًا ثُمَّ عَلَى إِنْشَاءِ أَجْزَائِكِمْ حَالَ حَيَاتِكُمْ ثَانِيًا شَيْئًا فَشَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونُوا عَالِمِينَ بِوَقْتِ حُدُوثِهِ وَبِوَقْتِ نُقْصَانِهِ فَوَجَبَ الْقَطْعُ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ إِعَادَتُكُمْ بَعْدَ الْبِلَى فِي الْقُبُورِ لِحَشْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. الْمِثَالُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَخْلُقَنَا ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ، فَلَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِنَا مَرَّةً أُخْرَى مَعَ سَبْقِ الْإِيجَادِ الْأَوَّلِ كَانَ أَوْلَى، وَهَذَا الْكَلَامُ قَرَّرَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وهو قوله: إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يس: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ

[يس: 79] وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ [الْوَاقِعَةِ: 62] وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15] وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى [الْقِيَامَةِ: 36، 33] إِلَى قَوْلِهِ: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [القيامة: 40] وسادسها: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ [الْحَجِّ: 5] إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الْحَجِّ: 6، 7] فَاسْتَشْهَدَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ الْحَشْرِ بِأُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ عَلَى إِمْكَانِ الْخَلْقِ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَمَّا حَصَّلَ الْخَلْقُ الْأَوَّلُ بِانْتِقَالِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ مِنْ أَحْوَالٍ إِلَى أَحْوَالٍ أُخْرَى فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ الْخَلْقُ الثَّانِي بَعْدَ تَغَيُّرَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَاخْتِلَافَاتٍ مُتَعَاقِبَةٍ؟ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَهَا بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ الْمَيِّتَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْحَقُّ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ كَانَ كَامِلَ الْقُدْرَةِ تَامَّ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ. فَهَذِهِ هِيَ الْوُجُوهُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِمْكَانِ صِحَّةِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ. وَالْآيَةُ السَّابِعَةُ: فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الْإِسْرَاءِ: 50، 51] . الْمِثَالُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَرَ عَلَى تَخْلِيقِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَبْدَانِ النَّاسِ فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِعَادَتِهَا؟ فَإِنَّ مَنْ كَانَ الْفِعْلُ الْأَصْعَبُ عَلَيْهِ سَهْلًا، فَلَأَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ السَّهْلُ الْحَقِيرُ عَلَيْهِ سَهْلًا كَانَ أَوْلَى وَهَذَا الْمَعْنَى مَذْكُورٌ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ: مِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: 81] وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [الْأَحْقَافِ: 33] وَثَالِثُهَا: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها [النَّازِعَاتِ: 27] . الْمِثَالُ الْخَامِسُ: الِاسْتِدْلَالُ بِحُصُولِ الْيَقَظَةِ بَعْدَ النَّوْمِ عَلَى جَوَازِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، فَإِنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ، وَالْيَقَظَةُ شَبِيهَةٌ بِالْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الْأَنْعَامِ: 60] ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ أَمْرَ الْمَوْتِ وَالْبَعْثِ، فَقَالَ: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [الْأَنْعَامِ: 61، 62] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر: 42] وَالْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِدْلَالُ بِحُصُولِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عَلَى صِحَّةِ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ. الْمِثَالُ السَّادِسُ: أَنَّ الْإِحْيَاءَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُسْتَنْكَرُ إِلَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَحْصُلُ الضِّدُّ بَعْدَ حُصُولِ الضِّدِّ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ حُصُولُ الْمَوْتِ عَقِيبَ الْحَيَاةِ فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ حُصُولُ الْحَيَاةِ مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ الْمَوْتِ؟ فَإِنَّ حُكْمَ الضِّدَّيْنِ وَاحِدٌ قَالَ تَعَالَى مُقَرِّرًا لِهَذَا الْمَعْنَى: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ [الْوَاقِعَةِ: 60] وَأَيْضًا نَجِدُ النَّارَ مَعَ حَرِّهَا وَيُبْسِهَا تَتَوَلَّدُ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ مَعَ بَرْدِهِ وَرُطُوبَتِهِ فَقَالَ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس: 80] فَكَذَا هَاهُنَا، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي بَيَانِ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمَعَادِ، وَحُصُولِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ فِي الْعُقُولِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمَعَادَ حَقٌّ وَاجِبٌ.

اعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ فَرِيقَانِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَجِبُ عَقْلًا أَنْ يَكُونَ إِلَهُ الْعَالَمِ رَحِيمًا عَادِلًا مُنَزَّهًا عَنِ الْإِيلَامِ وَالْإِضْرَارِ، إِلَّا لِمَنَافِعَ أَجَلَّ وَأَعْظَمَ مِنْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ وَيَقُولُ: لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ أَصْلًا، بَلْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. أَمَّا الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ: فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى وُجُودِ الْمَعَادِ مِنْ وُجُوهٍ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ وَأَعْطَاهُمْ عُقُولًا بِهَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ، وَأَعْطَاهُمْ قُدَرًا بِهَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمِنَ الْوَاجِبِ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدْلِهِ/ أَنْ يَمْنَعَ الْخَلْقَ عَنْ شَتْمِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ بِالسُّوءِ، وَأَنْ يَمْنَعَهُمْ عَنِ الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ وَإِيذَاءِ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَالصَّالِحِينَ مِنْ خَلْقِهِ وَمِنَ الْوَاجِبِ فِي حِكْمَتِهِ أَنْ يُرَغِّبَهُمْ فِي الطَّاعَاتِ وَالْخَيْرَاتِ وَالْحَسَنَاتِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَمْنَعْ عَنْ تِلْكَ الْقَبَائِحِ، وَلَمْ يُرَغِّبْ فِي هَذِهِ الْخَيْرَاتِ، قَدَحَ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ مُحْسِنًا عَادِلًا نَاظِرًا لِعِبَادِهِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ التَّرْغِيبَ فِي الطَّاعَاتِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِرَبْطِ الثَّوَابِ بِفِعْلِهَا، وَالزَّجْرِ عَنِ الْقَبَائِحِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِرَبْطِ الْعِقَابِ بِفِعْلِهَا، وَذَلِكَ الثَّوَابُ الْمُرَغَّبُ فِيهِ، وَالْعِقَابُ الْمُهَدَّدُ بِهِ غَيْرُ حَاصِلٍ فِي دَارِ الدُّنْيَا فَلَا بُدَّ مِنْ دَارٍ أُخْرَى يَحْصُلُ فِيهَا هَذَا الثَّوَابُ، وَهَذَا الْعِقَابُ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِلَّا لَزِمَ كَوْنُهُ كَاذِبًا، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَكْفِي فِي التَّرْغِيبِ فِي فِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَفِي الرَّدْعِ عَنِ الْمُنْكَرَاتِ مَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي الْعُقُولِ مَنْ تَحْسِينِ الْخَيْرَاتِ وَتَقْبِيحِ الْمُنْكَرَاتِ وَلَا حَاجَةَ مَعَ ذَلِكَ إِلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ؟ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْغَرَضُ مِنْهُ مُجَرَّدُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ لِيَحْصُلَ بِهِ نِظَامُ الْعَالَمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ [الزُّمَرِ: 16] فَإِمَّا أَنْ يَفْعَلَ تَعَالَى ذَلِكَ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟ قَوْلُهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَصَارَ كَلَامُهُ كَذِبًا فَنَقُولُ: أَلَسْتُمْ تُخَصِّصُونَ أَكْثَرَ عُمُومَاتِ الْقُرْآنِ لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ التَّخْصِيصِ فَإِنْ كَانَ هَذَا كَذِبًا وَجَبَ فِيمَا تَحْكُمُونَ بِهِ مِنْ تِلْكَ التَّخْصِيصَاتِ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا؟ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ عِبَارَةٌ عَمَّا يَصِلُ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْ أَنْوَاعِ الرَّاحَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَمِنْ أَنْوَاعِ الْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ، وَأَقْسَامِ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ؟ وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْعَقْلَ وَإِنْ كَانَ يَدْعُوهُ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ إلا أن الهوى والنفس يدعو إنه إِلَى الِانْهِمَاكِ فِي الشَّهَوَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَاللَّذَّاتِ الْجَسَدَانِيَّةِ، وَإِذَا حَصَلَ هَذَا التَّعَارُضُ فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَجِّحٍ قَوِيٍّ وَمُعَاضِدٍ كَامِلٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا تَرْتِيبَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا جَوَّزَ الْإِنْسَانُ حُصُولَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَحِينَئِذٍ لَا يَحْصُلُ مِنَ الْوَعْدِ رَغْبَةٌ، وَلَا مِنَ الْوَعِيدِ رَهْبَةٌ، لِأَنَّ السَّامِعَ يُجَوِّزُ كَوْنَهُ كَذِبًا. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ: أَنَّ الْعَبْدَ مَا دَامَتْ حَيَاتُهُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَالْأَجِيرِ الْمُشْتَغِلِ بِالْعَمَلِ وَالْأَجِيرُ حَالَ اشْتِغَالِهِ بِالْعَمَلِ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الْأُجْرَةِ بِكَمَالِهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَخَذَهَا فَإِنَّهُ لَا يَجْتَهِدُ فِي الْعَمَلِ وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَحَلُّ أَخْذِ الْأُجْرَةِ هُوَ الدَّارَ الْآخِرَةَ كَانَ الِاجْتِهَادُ فِي الْعَمَلِ أَشَدَّ وَأَكْمَلَ، وَأَيْضًا نَرَى/ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَنَّ أَزْهَدَ النَّاسِ وَأَعْلَمَهُمْ مُبْتَلًى بِأَنْوَاعِ الْغُمُومِ وَالْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، وَأَجْهَلَهُمْ وَأَفْسَقَهُمْ فِي اللَّذَّاتِ وَالْمَسَرَّاتِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ دَارَ الْجَزَاءِ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الدَّارَ فَلَا بُدَّ مِنْ دَارٍ أُخْرَى، وَمِنْ حَيَاةٍ أُخْرَى، لِيَحْصُلَ فِيهَا الْجَزَاءُ.

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ صَرِيحَ الْعَقْلِ يُوجِبُ فِي حِكْمَةِ الْحَكِيمِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُحْسِنِ وَبَيْنَ الْمُسِيءِ، وَأَنْ لَا يَجْعَلَ مَنْ كَفَرَ بِهِ، أَوْ جَحَدَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَطَاعَهُ، وَلَمَّا وَجَبَ إِظْهَارُ هَذِهِ التَّفْرِقَةِ فَحُصُولُ هَذِهِ التَّفْرِقَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي دَارِ الدُّنْيَا، أَوْ فِي دَارِ الْآخِرَةِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّا نَرَى الْكُفَّارَ وَالْفُسَّاقَ فِي الدُّنْيَا فِي أَعْظَمِ الرَّاحَاتِ، وَنَرَى الْعُلَمَاءَ وَالزُّهَّادَ بِالضِّدِّ مِنْهُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ [الزُّخْرُفِ: 33] فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ بَعْدَ هَذِهِ الدَّارِ مِنْ دَارٍ أُخْرَى، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْمُرَادُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ طَهَ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه: 15] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ ص: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] . فَإِنْ قِيلَ: أَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْمُحْسِنِ وَبَيْنَ الْمُسِيءِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ كَمَا لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا فِي حُسْنِ الصُّورَةِ وَفِي كَثْرَةِ الْمَالِ؟. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتَهُ مِمَّا يُقَوِّي دَلِيلَنَا، فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ وُجُوبُ التَّفْرِقَةِ، وَدَلَّ الْحِسُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ التَّفْرِقَةُ فِي الدُّنْيَا، بَلْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى الضِّدِّ مِنْهُ، فَإِنَّا نَرَى الْعَالِمَ وَالزَّاهِدَ فِي أَشَدِّ الْبَلَاءِ، وَنَرَى الْكَافِرَ وَالْفَاسِقَ فِي أَعْظَمِ النِّعَمِ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دَارٍ أُخْرَى يَظْهَرُ فِيهَا هَذَا التَّفَاوُتُ، وَأَيْضًا لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ هَذَا الزَّاهِدَ الْعَابِدَ لَوْ أَعْطَاهُ مَا دُفِعَ إِلَى الْكَافِرِ الْفَاسِقِ لَطَغَى وَبَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَأَنَّ ذَلِكَ الْكَافِرَ الْفَاسِقَ لَوْ زَادَ عَلَيْهِ فِي التَّضْيِيقِ لَزَادَ فِي الشَّرِّ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [الشُّورَى: 27] . الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَلَّفَ عَبِيدَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ فَقَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] وَالْحَكِيمُ إِذَا أَمَرَ عَبْدَهُ بِشَيْءٍ، فلا بد وأن يجعله فارغ الباب مُنْتَظِمَ الْأَحْوَالِ حَتَّى يُمْكِنَهُ الِاشْتِغَالُ بِأَدَاءِ تِلْكَ التَّكَالِيفِ، وَالنَّاسُ جُبِلُوا عَلَى طَلَبِ اللَّذَّاتِ وَتَحْصِيلِ الرَّاحَاتِ لِأَنْفُسِهِمْ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ زَاجِرٌ مِنْ خَوْفِ الْمَعَادِ لَكَثُرَ الْهَرَجُ وَالْمَرَجُ وَلَعَظُمَتِ الْفِتَنُ، وَحِينَئِذٍ لَا يَتَفَرَّغُ الْمُكَلَّفُ لِلِاشْتِغَالِ بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ. فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِحُصُولِ دَارِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لِتَنْتَظِمَ أَحْوَالُ الْعَالَمِ حَتَّى يَقْدِرَ الْمُكَلَّفُ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِأَدَاءِ الْعُبُودِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ يَكْفِي فِي بَقَاءِ نِظَامِ الْعَالَمِ مَهَابَةُ الْمُلُوكِ وَسِيَاسَاتُهُمْ؟ وَأَيْضًا فَالْأَوْبَاشُ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَوْ حَكَمُوا بِحُسْنِ الْهَرَجَ وَالْمَرَجِ لَانْقَلَبَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ وَلَقَدَرَ غَيْرُهُمْ عَلَى قَتْلِهِمْ، وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى يَحْتَرِزُونَ عَنْ إِثَارَةِ الْفِتَنِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ مُجَرَّدَ مَهَابَةِ السَّلَاطِينِ لَا تَكْفِي فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السُّلْطَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلَغَ فِي الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ إِلَى حَيْثُ لَا يَخَافُ مِنَ الرَّعِيَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَائِفًا مِنْهُمْ، فَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُ الرَّعِيَّةَ مَعَ أَنَّهُ لَا خَوْفَ لَهُ مِنَ الْمَعَادِ، فَحِينَئِذٍ يُقْدِمُ عَلَى الظُّلْمِ وَالْإِيذَاءِ عَلَى أَقْبَحِ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ الدَّاعِيَةَ النَّفْسَانِيَّةَ قَائِمَةٌ، وَلَا رَادِعَ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ يَخَافُ الرَّعِيَّةَ فَحِينَئِذٍ الرَّعِيَّةُ لَا يَخَافُونَ مِنْهُ خَوْفًا شَدِيدًا، فَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ رَادِعًا لَهُمْ عَنِ الْقَبَائِحِ وَالظُّلْمِ فَثَبَتَ أَنَّ نِظَامَ الْعَالَمِ لَا يَتِمُّ وَلَا يَكْمُلُ إِلَّا بِالرَّغْبَةِ فِي الْمَعَادِ وَالرَّهْبَةِ عَنْهُ.

الحجة الرابعة: [في وجوب الانتصاف للمظلوم الضعيف من الظالم القادر القوي على السلطان القاهر الرحيم] أَنَّ السُّلْطَانَ الْقَاهِرَ إِذَا كَانَ لَهُ جَمْعٌ مِنَ الْعَبِيدِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ أَقْوِيَاءَ وَبَعْضُهُمْ ضُعَفَاءَ، وَجَبَ عَلَى ذَلِكَ السُّلْطَانِ إِنْ كَانَ رَحِيمًا نَاظِرًا مُشْفِقًا عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْتَصِفَ لِلْمَظْلُومِ الضَّعِيفِ مِنَ الظَّالِمِ الْقَادِرِ الْقَوِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ رَاضِيًا بِذَلِكَ الظُّلْمِ، وَالرِّضَا بِالظُّلْمِ لَا يَلِيقُ بِالرَّحِيمِ النَّاظِرِ الْمُحْسِنِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ سُلْطَانٌ قَاهِرٌ قَادِرٌ حَكِيمٌ مُنَزَّهٌ عَنِ الظُّلْمِ وَالْعَبَثِ فَوَجَبَ أَن يَنْتَصِفَ لِعَبِيدِهِ الْمَظْلُومِينَ مِنْ عَبِيدِهِ الظَّالِمِينَ، وَهَذَا الِانْتِصَافُ لَمْ يَحْصُلْ فِي هَذِهِ الدَّارِ، لِأَنَّ الْمَظْلُومَ قَدْ يَبْقَى فِي غَايَةِ الذِّلَّةِ وَالْمَهَانَةِ، وَالظَّالِمَ يَبْقَى فِي غَايَةِ الْعِزَّةِ وَالْقُدْرَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَارٍ أُخْرَى يَظْهَرُ فِيهَا هَذَا الْعَدْلُ وَهَذَا الْإِنْصَافُ، وَهَذِهِ الْحُجَّةُ يَصْلُحُ جَعْلُهَا تَفْسِيرًا لِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقْدَرَ الظَّالِمَ عَلَى الظُّلْمِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَمَا أَعْجَزَهُ عَنْهُ، دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ رَاضِيًا بِذَلِكَ الظُّلْمِ. قُلْنَا: الْإِقْدَارُ عَلَى الظُّلْمِ عَيْنُ الْإِقْدَارِ عَلَى الْعَدْلِ وَالطَّاعَةِ، فَلَوْ لَمْ يُقْدِرْهُ تَعَالَى عَلَى الظُّلْمِ لَكَانَ قَدْ أَعْجَزَهُ عَنْ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ، فَوَجَبَ فِي الْعَقْلِ إِقْدَارُهُ عَلَى الظُّلْمِ وَالْعَدْلِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَنْتَقِمُ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ وَخَلَقَ كُلَّ مَنْ فِيهِ مِنَ النَّاسِ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمْ لَا لِمَنْفَعَةٍ وَلَا لِمَصْلَحَةِ، أَوْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمْ لِمَصْلَحَةٍ وَمَنْفَعَةٍ. وَالْأَوَّلُ: يَلِيقُ بِالرَّحِيمِ الْكَرِيمِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ خَلَقَهُمْ لِمَقْصُودٍ وَمَصْلَحَةٍ وَخَيْرٍ، فَذَلِكَ الْخَيْرُ وَالْمَصْلَحَةُ إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَوْ فِي دَارٍ أُخْرَى، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَذَّاتِ هَذَا/ الْعَالَمِ جُسْمَانِيَّةٌ، وَاللَّذَّاتُ الْجُسْمَانِيَّةُ لَا حَقِيقَةَ لَهَا إِلَّا إِزَالَةُ الْأَلَمِ، وَإِزَالَةُ الْأَلَمِ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ، وَهَذَا الْعَدَمُ كَانَ حَاصِلًا حَالَ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَلَائِقِ مَعْدُومًا، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِلتَّخْلِيقِ فَائِدَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ لَذَّاتِ هَذَا الْعَالَمِ مَمْزُوجَةٌ بِالْآلَامِ وَالْمِحَنِ، بَلِ الدُّنْيَا طَافِحَةٌ بِالشُّرُورِ وَالْآفَاتِ وَالْمِحَنِ وَالْبَلِيَّاتِ، وَاللَّذَّةُ فِيهَا كَالْقَطْرَةِ فِي الْبَحْرِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الدَّارَ الَّتِي يَصِلُ فِيهَا الْخَلْقُ إِلَى تِلْكَ الرَّاحَاتِ الْمَقْصُودَةِ دَارٌ أُخْرَى سِوَى دَارِ الدُّنْيَا. فَإِنْ قَالُوا: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى يُؤْلِمُ أَهْلَ النَّارِ بِأَشَدِّ الْعَذَابِ لَا لِأَجْلِ مَصْلَحَةٍ وَحِكْمَةٍ؟ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْخَلْقَ فِي هَذَا الْعَالَمِ لَا لِمَصْلَحَةٍ وَلَا لِحِكْمَةٍ. قُلْنَا: الْفَرْقُ أَنَّ ذَلِكَ الضَّرَرَ ضَرَرٌ مُسْتَحَقٌّ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ وَأَمَّا الضَّرَرُ الْحَاصِلُ فِي الدُّنْيَا فَغَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، فَوَجَبَ أَنْ يَعْقُبَهُ خَيْرَاتٌ عَظِيمَةٌ وَمَنَافِعُ جَابِرَةٌ لِتِلْكَ الْمَضَارِّ السَّالِفَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ شِرِّيرًا مُؤْذِيًا، وَذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَأَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: لَوْ لَمْ يَحْصُلْ لِلْإِنْسَانِ مَعَادٌ لَكَانَ الْإِنْسَانُ أَخَسَّ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالشَّرَفِ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ، فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ مَضَارَّ الْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا أَكْثَرُ مِنْ مَضَارِّ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، فَإِنَّ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ قَبْلَ وُقُوعِهَا فِي الْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ تَكُونُ فَارِغَةَ الْبَالِ طَيِّبَةَ النَّفْسِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا فِكْرٌ وَتَأَمُّلٌ أَمَّا الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ بِسَبَبِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْعَقْلِ يَتَفَكَّرُ أَبَدًا فِي الْأَحْوَالِ الْمَاضِيَةِ وَالْأَحْوَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فَيَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ الْمَاضِيَةِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْحُزْنِ وَالْأَسَفِ، وَيَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ الآتية أنواع

مِنَ الْخَوْفِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّهُ كَيْفَ تَحْدُثُ الْأَحْوَالُ فَثَبَتَ أَنَّ حُصُولَ الْعَقْلِ لِلْإِنْسَانِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْمَضَارِّ الْعَظِيمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآلَامِ النَّفْسَانِيَّةِ الشَّدِيدَةِ الْقَوِيَّةِ. وَأَمَّا اللَّذَّاتُ الْجُسْمَانِيَّةُ فَهِيَ مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، لِأَنَّ السِّرْقِينَ فِي مَذَاقِ الْجُعْلِ طَيِّبٌ، كَمَا أَنَّ اللَّوْزِينْجَ فِي مَذَاقِ الْإِنْسَانِ طَيِّبٌ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَوْ لَمْ يَحْصُلْ لِلْإِنْسَانِ مَعَادٌ بِهِ تَكْمُلُ حَالَتُهُ وَتَظْهَرُ سَعَادَتُهُ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَمَالُ الْعَقْلِ، سَبَبًا لِمَزِيدِ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ مِنْ غَيْرِ جَابِرٍ يَجْبُرُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ سَبَبًا لِمَزِيدِ الْخِسَّةِ وَالدَّنَاءَةِ وَالشَّقَاءِ وَالتَّعَبِ الْخَالِيَةِ عَنِ الْمَنْفَعَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَوْلَا حُصُولُ السَّعَادَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ لَكَانَ الْإِنْسَانُ أَخَسَّ الْحَيَوَانَاتِ حَتَّى الْخَنَافِسِ وَالدِّيدَانِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا قَطْعًا، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ لِلْآخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا، وَأَنَّهُ بِعَقْلِهِ يَكْتَسِبُ مُوجِبَاتِ السَّعَادَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ الْعَقْلُ شَرِيفًا. الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِيصَالِ النِّعَمِ إِلَى عَبِيدِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ النِّعَمُ مَشُوبَةً بِالْآفَاتِ وَالْأَحْزَانِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً عَنْهَا، فَلَمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بِالْمَرْتَبَةِ الْأُولَى وَجَبَ أَنْ يُنْعِمَ عَلَيْنَا بِالْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ فِي دَارٍ أُخْرَى، إِظْهَارًا لِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ، فَهُنَاكَ يُنْعِمُ عَلَى الْمُطِيعِينَ وَيَعْفُو عَنِ الْمُذْنِبِينَ، وَيُزِيلُ الْغُمُومَ وَالْهُمُومَ وَالشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ وَالَّذِي يُقَوِّي ذَلِكَ، وَيُقَرِّرُ هَذَا الْكَلَامَ أَنَّ الْإِنْسَانَ حِينَ كَانَ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ، كَانَ فِي أَضْيَقِ الْمَوَاضِعِ وَأَشَدِّهَا عُفُونَةً وَفَسَادًا، ثُمَّ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ كَانَتِ الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَطْيَبَ وَأَشْرَفَ مِنَ الْحَالَةِ الْأُولَى، ثُمَّ إِنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ يُوضَعُ فِي الْمَهْدِ وَيُشَدُّ شَدًّا وَثِيقًا، ثُمَّ بَعْدَ حِينٍ يَخْرُجُ مِنَ الْمَهْدِ وَيَعْدُو يَمِينًا وَشِمَالًا، وَيَنْتَقِلُ مِنْ تَنَاوُلِ اللَّبَنِ إِلَى تَنَاوُلِ الْأَطْعِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ لَا شَكَّ أَنَّهَا أَطْيَبُ مِنَ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ حِينٍ يَصِيرُ أَمِيرًا نَافِذَ الْحُكْمِ عَلَى الْخَلْقِ، أَوْ عَالِمًا مُشْرِفًا عَلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ الرَّابِعَةَ أَطْيَبُ وَأَشْرَفُ مِنَ الْحَالَةِ الثَّالِثَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ بِحُكْمِ هَذَا الِاسْتِقْرَاءِ أَنْ يُقَالَ: الْحَالَةُ الْحَاصِلَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ تَكُونُ أَشْرَفَ وَأَعْلَى وَأَبْهَجَ مِنَ اللَّذَّاتِ الْجَسَدَانِيَّةِ وَالْخَيْرَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ. الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: طَرِيقَةُ الِاحْتِيَاطِ، فَإِنَّا إِذَا آمَنَّا بِالْمَعَادِ وَتَأَهَّبْنَا لَهُ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَذْهَبُ حَقًّا، فَقَدْ نَجَوْنَا وَهَلَكَ الْمُنْكِرُ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا، لَمْ يَضُرَّنَا هَذَا الِاعْتِقَادُ. غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَفُوتُنَا هَذِهِ اللَّذَّاتُ الْجُسْمَانِيَّةُ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يُبَالِيَ بِفَوْتِهَا لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فِي غَايَةِ الْخَسَاسَةِ لِأَنَّهَا مُشْتَرَكٌ فِيهَا بَيْنَ الْخَنَافِسِ وَالدِّيدَانِ وَالْكِلَابِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُنْقَطِعَةٌ سَرِيعَةُ الزَّوَالُ فَثَبَتَ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ لَيْسَ إِلَّا فِي الْإِيمَانِ بِالْمَعَادِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ: قَالَ الْمُنَجِّمُ وَالطَّبِيبُ كِلَاهُمَا ... لَا تُحْشَرُ الْأَمْوَاتُ قُلْتُ إِلَيْكُمَا إِنْ صح لكما فَلَسْتُ بِخَاسِرٍ ... أَوْ صَحَّ قَوْلِي فَالْخَسَارُ عَلَيْكُمَا الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَيَوَانَ مَا دَامَ يَكُونُ حَيَوَانًا، فَإِنَّهُ إِنْ قُطِعَ مِنْهُ شَيْءٌ مِثْلُ ظُفْرٍ أَوْ ظِلْفٍ أَوْ شَعْرٍ، فَإِنَّهُ يَعُودُ ذَلِكَ الشَّيْءُ، وَإِنْ جُرِحَ انْدَمَلَ، وَيَكُونُ الدَّمُ جَارِيًا فِي عُرُوقِهِ وَأَعْضَائِهِ جَرَيَانَ الْمَاءِ فِي عُرُوقِ الشَّجَرِ وَأَغْصَانِهِ، ثُمَّ إِذَا مَاتَ انْقَلَبَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ، فَإِنْ قُطِعَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ شَعْرِهِ أَوْ ظُفْرِهِ لَمْ يَنْبُتْ، وَإِنْ جُرِحَ لَمْ يَنْدَمِلْ وَلَمْ يَلْتَحِمْ، وَرَأَيْتَ الدَّمَ يَتَجَمَّدُ فِي عُرُوقِهِ، ثُمَّ بِالْآخِرَةِ يَؤُولُ حَالُهُ إِلَى الْفَسَادِ وَالِانْحِلَالِ ثُمَّ إِنَّا لَمَّا نَظَرْنَا إلى

الْأَرْضِ وَجَدْنَاهَا شَبِيهَةً بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنَّا نَرَاهَا فِي زَمَانِ الرَّبِيعِ تَفُورُ عُيُونُهَا وَتَرْبُو تِلَالُهَا وَيَنْجَذِبُ الْمَاءُ إِلَى أَغْصَانِ الْأَشْجَارِ وَعُرُوقِهَا، وَالْمَاءُ فِي الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ الْجَارِي فِي بَدَنِ الْحَيَوَانِ، ثُمَّ تَخْرُجُ أَزْهَارُهَا وَأَنْوَارُهَا وَثِمَارُهَا كَمَا/ قَالَ تَعَالَى: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الْحَجِّ: 5] وَإِنْ جُذَّ مِنْ نَبَاتِهَا شَيْءٌ أَخْلَفَ وَنَبَتَ مَكَانَهُ آخَرُ مِثْلُهُ، وَإِنْ قُطِعَ غُصْنٌ مِنْ أَغْصَانِ الْأَشْجَارِ أَخْلَفَ، وَإِنْ جُرِحَ الْتَأَمَ، وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ شَبِيهَةٌ بِالْأَحْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لِلْحَيَوَانِ ثُمَّ إِذَا جَاءَ الشِّتَاءُ وَاشْتَدَّ الْبَرْدُ غَارَتْ عُيُونُهَا وَجَفَّتْ رُطُوبَتُهَا وَفَسَدَتْ بُقُولُهَا، وَلَوْ قَطَعْنَا غُصْنًا مِنْ شَجَرَةٍ مَا أَخْلَفَ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ شَبِيهَةً بِالْمَوْتِ بَعْدَ الْحَيَاةِ. ثُمَّ إِنَّا نَرَى الْأَرْضَ فِي الرَّبِيعِ الثَّانِي تَعُودُ إِلَى تِلْكَ الْحَيَاةِ، فَإِذَا عَقَلْنَا هَذِهِ الْمَعَانِيَ فِي إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ، فَلِمَ لَا نَعْقِلُ مِثْلَهُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، بَلْ نَقُولُ لَا شَكَّ أَنَّ الْإِنْسَانَ أَشْرَفُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَالْحَيَوَانَ أَشْرَفُ مِنَ النَّبَاتِ، وَهُوَ أَشْرَفُ مِنَ الْجَمَادَاتِ فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ فِي الْأَرْضِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ حُصُولُهَا فِي الْإِنْسَانِ. فَإِنْ قَالُوا: إِنْ أَجْسَادَ الْحَيَوَانِ تَتَفَرَّقُ وَتَتَمَزَّقُ بِالْمَوْتِ، وَأَمَّا الْأَرْضُ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ، وَهُوَ جَوْهَرٌ بَاقٍ، أَوْ إِنْ لَمْ نَقُلْ بِهَذَا الْمَذْهَبِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ أَجْزَاءٍ أَصْلِيَّةٍ بَاقِيَةٍ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ تَكَوُّنِ الْجَنِينِ إِلَى آخِرِ الْعُمُرِ، وَهِيَ جَارِيَةٌ فِي الْبَدَنِ، وَتِلْكَ الْأَجْزَاءُ بَاقِيَةٌ، فَزَالَ هَذَا السُّؤَالُ. الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ بَدَنَ الْحَيَوَانِ إِنَّمَا تَوَلَّدَ مِنَ النُّطْفَةِ، وَهَذِهِ النُّطْفَةُ إِنَّمَا اجْتَمَعَتْ مِنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ، بِدَلِيلِ أَنَّ عِنْدَ انْفِصَالِ النُّطْفَةِ يَحْصُلُ الضَّعْفُ وَالْفُتُورُ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ، ثُمَّ إِنَّ مَادَّةَ تِلْكَ النُّطْفَةِ إِنَّمَا تَوَلَّدَتْ مِنَ الْأَغْذِيَةِ الْمَأْكُولَةِ، وَتِلْكَ الْأَغْذِيَةُ إِنَّمَا تَوَلَّدَتْ مِنَ الْأَجْزَاءِ الْعُنْصُرِيَّةِ وَتِلْكَ الْأَجْزَاءُ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَاتَّفَقَ لَهَا أَنِ اجْتَمَعَتْ، فَتَوَلَّدَ مِنْهَا حَيَوَانٌ أَوْ نَبَاتٌ فَأَكَلَهُ إِنْسَانٌ، فَتَوَلَّدَ مِنْهُ دَمٌ فَتَوَزَّعَ ذَلِكَ الدَّمُ عَلَى أَعْضَائِهِ، فَتَوَلَّدَ مِنْهَا أَجْزَاءٌ لَطِيفَةٌ ثُمَّ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الشَّهْوَةِ سَالَ مِنْ تِلْكَ الرُّطُوبَاتِ مِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ، وَهُوَ النُّطْفَةُ، فَانْصَبَّ إِلَى فَمِ الرَّحِمِ، فَتَوَلَّدَ مِنْهُ هَذَا الْإِنْسَانُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَجْزَاءَ الَّتِي مِنْهَا تَوَلَّدَ بَدَنُ الْإِنْسَانِ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي الْبِحَارِ وَالْجِبَالِ وَأَوْجِ الْهَوَاءِ، ثُمَّ إِنَّهَا اجْتَمَعَتْ بِالطَّرِيقِ الْمَذْكُورِ، فَتَوَلَّدَ مِنْهَا هَذَا الْبَدَنُ، فَإِذَا مَاتَ تَفَرَّقَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ عَلَى مِثَالِ التَّفَرُّقِ الْأَوَّلِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ وَجَبَ الْقَطْعُ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْتَمِعَ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى مِثَالِ الِاجْتِمَاعِ الْأَوَّلِ، وَأَيْضًا، فَذَلِكَ الْمَنِيُّ لَمَّا وَقَعَ فِي رَحِمِ الْأُمِّ، فَقَدْ كَانَ قَطْرَةً صَغِيرَةً ثُمَّ تَوَلَّدَ مِنْهُ بَدَنُ الْإِنْسَانِ وَتَعَلَّقَتِ الرُّوحُ بِهِ حَالَ مَا كَانَ ذَلِكَ الْبَدَنُ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْبَدَنَ لَا شَكَّ أَنَّهُ فِي غَايَةِ الرُّطُوبَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ مِنْهُ أَجْزَاءٌ كَثِيرَةٌ بِسَبَبِ عَمَلِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ فِيهَا، وَأَيْضًا فَتِلْكَ الْأَجْزَاءُ الْبَدَنِيَّةُ الْبَاقِيَةُ أَبَدًا فِي طُولِ الْعُمُرِ تَكُونُ فِي التَّحَلُّلِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا حَصَلَ الْجُوعُ، وَلَمَا/ حَصَلَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْغِذَاءِ، مَعَ أَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ الشَّيْخَ، هُوَ عَيْنُ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ الَّذِي كَانَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ثُمَّ انْفَصَلَ، وَكَانَ طِفْلًا ثُمَّ شَابًّا، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَجْزَاءَ الْبَدَنِيَّةَ دَائِمَةُ التَّحَلُّلِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ هُوَ بِعَيْنِهِ فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا مُفَارِقًا مُجَرَّدًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جِسْمًا نُورَانِيًّا لَطِيفًا بَاقِيًا مَعَ تَحَلُّلِ هَذَا الْبَدَنِ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَمْتَنِعُ عَوْدُهُ إِلَى الْجُثَّةِ مَرَّةً أُخْرَى، وَيَكُونُ هَذَا الْإِنْسَانُ الْعَائِدُ عَيْنَ الْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ، فَثَبَتَ أن القول بالمعاد صدق. الحجة الحادية عشر: مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ

وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ [يس: 77] إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْحُجَّةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ أَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، فَجَمَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَخَلَقَ مِنْ تَرْكِيبِهَا هَذَا الْحَيَوَانَ، وَالَّذِي يُقَوِّيهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 12، 13] فإن تفسيره هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا يَصِحُّ بِالْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّ السُّلَالَةَ مِنَ الطِّينِ يَتَكَوَّنُ مِنْهَا نَبَاتٌ، ثُمَّ إِنْ ذَلِكَ النَّبَاتَ يَأْكُلُهُ الْإِنْسَانُ فَيَتَوَلَّدُ مِنْهُ الدَّمُ، ثُمَّ الدَّمُ يَنْقَلِبُ نُطْفَةً، فبهذا الطريق ينظم ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى حَكَى كَلَامَ الْمُنْكِرِ، وهو قوله تعالى: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 78] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ إِمْكَانَ هَذَا الْمَذْهَبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ إِثْبَاتَ إِمْكَانِ الشَّيْءِ لَا يُعْقَلُ إِلَّا بِطَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مِثْلَهُ مُمْكِنٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَيْضًا مُمْكِنًا. وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَأَعْلَى حَالًا مِنْهُ، فَهُوَ أَيْضًا مُمْكِنٌ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ أَوَّلًا فَقَالَ: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: 79] ثُمَّ فِيهِ دَقِيقَةٌ وَهِيَ أَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ يُحْيِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَقَوْلَهُ: وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ إِشَارَةٌ إِلَى كمال العلم. ومنكر والحشر وَالنَّشْرِ لَا يُنْكِرُونَهُ إِلَّا لِجَهْلِهِمْ بِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، لِأَنَّهُمْ تَارَةً يَقُولُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى مُوجَبٌ بِالذَّاتِ، وَالْمُوجَبُ بِالذَّاتِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْقَصْدُ إِلَى التَّكْوِينِ، وَتَارَةً يَقُولُونَ إِنَّهُ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ عَالِمًا بِالْجُزْئِيَّاتِ، فَيَمْتَنِعُ مِنْهُ تَمْيِيزُ أَجْزَاءِ بَدَنِ زَيْدٍ عَنْ أَجْزَاءِ بَدَنِ عَمْرٍو، وَلَمَّا كَانَتْ شُبَهُ الْفَلَاسِفَةِ مُسْتَخْرَجَةً مِنْ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، لَا جَرَمَ كُلَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَسْأَلَةَ الْمَعَادِ أَرْدَفَهُ بِتَقْرِيرِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَهُ الطَّرِيقَ الثَّانِيَ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَيَاةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالْحَرَارَةِ وَالرُّطُوبَةِ، وَالتُّرَابُ بَارِدٌ يَابِسٌ، فَحَصَلَتِ الْمُضَادَّةُ بَيْنَهُمَا إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: الْحَرَارَةُ النَّارِيَّةُ أَقْوَى فِي صِفَةِ الْحَرَارَةِ مِنَ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ، فَلَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ تَوَلُّدُ الْحَرَارَةِ النَّارِيَّةِ عَنِ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ مَعَ كَمَالِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُضَادَّةِ، فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ حُدُوثُ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ/ فِي جِرْمِ التُّرَابِ؟ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: 81] بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا سَلَّمْتُمْ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِأَجْرَامِ الْأَفْلَاكِ والكواكب، فكيف يمكنكم الامتناع عن كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ؟ ثُمَّ إِنَّهُ تعالى جسم مادة الشبهات بقوله: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] وَالْمُرَادُ أَنَّ تَخْلِيقَهُ وَتَكْوِينَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ الْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ وَنُطْفَةِ الْأَبِ وَرَحِمِ الْأُمِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَلَقَ الْأَبَ الْأَوَّلَ، لَا عَنْ أَبٍ سَابِقٍ عَلَيْهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ غَنِيًّا فِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ عَنِ الْوَسَائِطِ وَالْآلَاتِ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس: 83] أَيْ سُبْحَانَهُ مِنْ أَنْ لَا يُعِيدَهُمْ وَيُهْمِلَ أَمْرَ الْمَظْلُومِينَ، وَلَا يَنْتَصِفَ لِلْعَاجِزِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ. الْحُجَّةُ الثانية عشر: دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّ الْعَالَمَ مُحْدَثٌ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ قَادِرٍ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُحْكَمَ الْمُتْقَنَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنَ الْعَالِمِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا عَنْهَا وَإِلَّا لَكَانَ قَدْ خَلَقَهَا فِي الْأَزَلِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ إِلَهًا قَادِرًا عَالِمًا غَنِيًّا، ثُمَّ لَمَّا تَأَمَّلْنَا فَقُلْنَا: هَلْ يَجُوزُ فِي حَقِّ هَذَا الْحَكِيمِ الْغَنِيِّ عَنِ الْكُلِّ أَنْ يُهْمِلَ عَبِيدَهُ وَيَتْرُكَهُمْ سُدًى، وَيُجَوِّزَ لَهُمْ أَنْ يَكْذِبُوا عَلَيْهِ وَيُبِيحَ لَهُمْ أَنْ يَشْتُمُوهُ وَيَجْحَدُوا

رُبُوبِيَّتَهُ، وَيَأْكُلُوا نِعْمَتَهُ، وَيَعْبُدُوا الْجِبْتَ وَالطَّاغُوتَ، وَيَجْعَلُوا لَهُ أَنْدَادًا وَيُنْكِرُوا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ؟ فههنا حَكَمَتْ بَدِيهَةُ الْعَقْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالسَّفِيهِ الْجَاهِلِ الْبَعِيدِ مِنَ الْحِكْمَةِ الْقَرِيبِ مِنَ الْعَبَثِ، فَحَكَمْنَا لِأَجْلِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ أَنَّ لَهُ أَمْرًا وَنَهْيًا، ثُمَّ تَأَمَّلْنَا فَقُلْنَا: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ؟ فَحَكَمَ صَرِيحُ الْعَقْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْرِنِ الْأَمْرَ بِالْوَعْدِ بِالثَّوَابِ، وَلَمْ يَقْرِنِ النَّهْيَ بِالْوَعِيدِ بِالْعِقَابِ لَمْ يَتَأَكَّدِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَلَمْ يَحْصُلِ الْمَقْصُودُ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وَعْدٍ وَوَعِيدٍ، ثُمَّ تَأَمَّلْنَا فَقُلْنَا: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَفِي بِوَعْدِهِ لِأَهْلِ الثَّوَابِ، وَلَا بِوَعِيدِهِ لِأَهْلِ الْعِقَابِ: فَقُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمَا حَصَلَ الْوُثُوقُ بِوَعْدِهِ وَلَا بِوَعِيدِهِ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَبْقَى فَائِدَةٌ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْحَشْرِ وَالْبَعْثِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ فَهَذِهِ مُقَدِّمَاتٌ يَتَعَلَّقُ بَعْضُهَا بِالْبَعْضِ كَالسِّلْسِلَةِ مَتَى صَحَّ بَعْضُهَا صَحَّ كُلُّهَا، وَمَتَى فَسَدَ بَعْضُهَا فَسَدَ كُلُّهَا، فَدَلَّ مُشَاهَدَةُ أَبْصَارِنَا لِهَذِهِ التَّغَيُّرَاتِ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ، وَدَلَّ حُدُوثُ الْعَالَمِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ الْغَنِيِّ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُودِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُودِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْحَشْرِ فَإِنْ لَمْ/ يَثْبُتِ الْحَشْرُ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى بُطْلَانِ جَمِيعِ الْمُقَدِّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَلَزِمَ إِنْكَارُ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ وَإِنْكَارُ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِهَذِهِ الْأَجْسَادِ الْبَالِيَةِ وَالْعِظَامِ النَّخِرَةِ وَالْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ الْمُتَمَزِّقَةِ مِنَ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، لِيَصِلَ الْمُحْسِنُ إِلَى ثَوَابِهِ وَالْمُسِيءُ إِلَى عِقَابِهِ، فَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الْحَالَةُ لَمْ يَحْصُلِ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلَا لَمْ يَحْصُلِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلَا لَمْ تَحْصُلِ الْإِلَهِيَّةُ، وَإِنْ لَمْ تَحْصُلِ الْإِلَهِيَّةُ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ التَّغَيُّرَاتُ فِي الْعَالَمِ وَهَذِهِ الْحُجَّةُ هِيَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ هَذَا كُلُّهُ تَقْرِيرُ إِثْبَاتِ الْمَعَادِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ إِلَهًا رَحِيمًا نَاظِرًا مُحْسِنًا إِلَى الْعِبَادِ. أَمَّا الْفَرِيقُ الثَّانِي: وَهُمُ الَّذِينَ لَا يُعَلِّلُونَ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى بِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ، فَطَرِيقُهُمْ إِلَى إِثْبَاتِ الْمَعَادِ أَنْ قَالُوا: الْمَعَادُ أَمْرٌ جَائِزُ الْوُجُودِ، وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَخْبَرُوا عَنْهُ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِصِحَّتِهِ، أَمَّا إِثْبَاتُ الْإِمْكَانِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ ثَلَاثَةٍ. الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: الْبَحْثُ عَنْ حَالِ الْقَابِلِ فَنَقُولُ: الْإِنْسَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنِ النَّفْسِ أَوْ عَنِ الْبَدَنِ، فَإِنْ كَانَ عِبَارَةً عَنِ النَّفْسِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْحَقُّ، فَنَقُولُ: لَمَّا كَانَ تَعَلُّقُ النَّفْسِ بِالْبَدَنِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، جَائِزًا كَانَ تَعَلُّقُهَا بِالْبَدَنِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا وَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَخْتَلِفُ، سَوَاءٌ قُلْنَا النَّفْسُ عِبَارَةٌ عَنْ جَوْهَرٍ مُجَرَّدٍ، أَوْ قُلْنَا: إِنَّهُ جِسْمٌ لَطِيفٌ مُشَاكِلٌ لِهَذَا الْبَدَنِ بَاقٍ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِ الْبَدَنِ مَصُونٌ عَنِ التَّحَلُّلِ وَالتَّبَدُّلِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ عِبَارَةً عَنِ الْبَدَنِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَبْعَدُ الْأَقَاوِيلِ فَنَقُولُ: إِنَّ تَأَلُّفَ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى كَانَ مُمْكِنًا، فَوَجَبَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ مُمْكِنًا، فَثَبَتَ أَنَّ عَوْدَ الْحَيَاةِ إِلَى هَذَا الْبَدَنِ مَرَّةً أُخْرَى أَمْرُهُ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ. وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: فَهِيَ فِي بَيَانِ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ قَادِرٌ مُخْتَارٌ لَا عِلَّةٌ مُوجِبَةً، وَأَنَّ هَذَا الْقَادِرَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ. وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ: فَهِيَ فِي بَيَانِ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ، فَلَا جَرَمَ أَجْزَاءُ بَدَنِ زَيْدٍ وَإِنِ

اخْتَلَطَتْ بِأَجْزَاءِ التُّرَابِ، وَالْبِحَارِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِالْجُزْئِيَّاتِ أَمْكَنَهُ تَمْيِيزُ بَعْضِهَا عن بعض ومتى ثبتت هذه المقدمات الثلاثة، لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْحَشْرَ وَالنَّشْرَ أَمْرٌ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْإِمْكَانُ فَنَقُولُ: دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ قَطَعُوا بِوُقُوعِ هَذَا الْمُمْكِنِ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِوُقُوعِهِ، وَإِلَّا لَزِمَنَا تَكْذِيبُهُمْ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ، فَهَذَا خُلَاصَةُ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عَقْلُنَا فِي تَقْرِيرِ أَمْرِ الْمَعَادِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْجَوَابِ عَنْ شُبُهَاتِ الْمُنْكِرِينَ لِلْحَشْرِ وَالنَّشْرِ. الشُّبْهَةُ الْأُولَى: قَالُوا: لَوْ بُدِّلَتْ هَذِهِ الدَّارُ بِدَارٍ أُخْرَى لَكَانَتْ تِلْكَ الدَّارُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِثْلَ هَذِهِ الدَّارِ أَوْ شَرًّا مِنْهَا أَوْ خَيْرًا مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ التَّبْدِيلُ عَبَثًا، وَإِنْ كَانَ شَرًّا مِنْهَا كَانَ هَذَا التَّبْدِيلُ سَفَهًا، وَإِنْ كَانَ خَيْرًا مِنْهَا فَفِي أَوَّلِ الْأَمْرِ هَلْ كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ ذَلِكَ الْأَجْوَدِ أَوْ مَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ؟ فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ثُمَّ تَرَكَهُ وَفَعَلَ الْأَرْدَأَ كَانَ ذَلِكَ سَفَهًا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَا كَانَ قَادِرًا ثُمَّ صَارَ قَادِرًا عَلَيْهِ فَقَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْعَجْزِ إِلَى الْقُدْرَةِ، أَوْ مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْحِكْمَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ عَلَى خَالِقِ الْعَالَمِ مُحَالٌ. وَالْجَوَابُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ تَقْدِيمُ هَذِهِ الدَّارِ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ هُوَ الْمَصْلَحَةُ، لِأَنَّ الْكِمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةَ الْمُوجِبَةَ لِلسَّعَادَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا إِلَّا فِي هَذِهِ الدَّارِ، ثُمَّ عِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ الْكَمَالَاتِ كَانَ الْبَقَاءُ فِي هَذِهِ الدَّارِ سَبَبًا لِلْفَسَادِ وَالْحِرْمَانِ عَنِ الْخَيْرَاتِ. الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا: حَرَكَاتُ الْأَفْلَاكِ مُسْتَدِيرَةٌ، وَالْمُسْتَدِيرُ لَا ضِدَّ لَهُ، وَمَا لَا ضِدَّ لَهُ لَا يَقْبَلُ الْفَسَادَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّا أَبْطَلْنَا هَذِهِ الشُّبْهَةَ فِي الْكُتُبِ الْفَلْسَفِيَّةِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِعَادَةِ. وَالْأَصْلُ فِي إِبْطَالِ أَمْثَالِ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ أَنْ نُقِيمَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ أَجْرَامَ الْأَفْلَاكِ مَخْلُوقَةٌ، وَمَتَى ثَبَتَ ذَلِكَ ثَبَتَ كَوْنُهَا قَابِلَةً لِلْعَدَمِ وَالتَّفَرُّقِ وَالتَّمَزُّقِ وَلِهَذَا السِّرِّ، فَإِنَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَدَأَ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى حُدُوثِ الْأَفْلَاكِ، ثُمَّ أَرْدَفَهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْمَعَادِ. الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: الْإِنْسَانُ عِبَارَةٌ عَنْ هَذَا الْبَدَنِ، وَهُوَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ كَيْفَ كَانَتْ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ حُدُوثِ هَذَا الْإِنْسَانِ، مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ مَا كَانَ مَوْجُودًا، وَأَيْضًا أَنَّهُ إِذَا أُحْرِقَ هَذَا الْجَسَدُ، فَإِنَّهُ تَبَقَى تِلْكَ الْأَجْزَاءُ الْبَسِيطَةُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَجْمُوعَ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْبَسِيطَةِ مِنَ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالنَّارِ، مَا كَانَ عِبَارَةً عَنْ هَذَا الْإِنْسَانِ الْعَاقِلِ النَّاطِقِ، فَثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ إِنَّمَا تُكَوِّنُ هَذَا الْإِنْسَانَ بِشَرْطِ وُقُوعِهَا عَلَى تَأْلِيفٍ مَخْصُوصٍ، وَمِزَاجٍ مَخْصُوصٍ، وَصُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ، فَإِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ وَتَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ فَقَدْ عُدِمَتْ تِلْكَ الصُّوَرُ وَالْأَعْرَاضُ، وَعَوْدُ الْمَعْدُومِ مُحَالٌ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ عَوْدُ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي حُصُولِ هَذَا الْإِنْسَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْتَنِعَ عَوْدُهُ بِعَيْنِهِ مَرَّةً أُخْرَى. وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ الْمُعَيَّنَ عِبَارَةٌ عَنْ هَذَا الْجَسَدِ الْمُشَاهَدِ، بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّفْسِ سَوَاءً فَسَّرْنَا النَّفْسَ بِأَنَّهُ جوهر مفارق مجرد، أول قُلْنَا إِنَّهُ جِسْمٌ لَطِيفٌ مَخْصُوصٌ مُشَاكِلٌ لِهَذَا الْجَسَدِ مَصُونٌ عَنِ التَّغَيُّرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ.

الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا قُتِلَ إِنْسَانٌ وَاغْتَذَى بِهِ إِنْسَانٌ آخَرُ فَيَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ فِي بَدَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّخْصَيْنِ وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَالْجَوَابُ: هَذِهِ الشُّبْهَةُ أَيْضًا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ الْمُعَيَّنَ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ هَذَا الْبَدَنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ بَاطِلٌ بَلِ الْحَقُّ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ النَّفْسِ سَوَاءٌ. قُلْنَا: النَّفْسُ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ وَأَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ بَاقِيَةٌ مُشَاكِلَةٌ لِلْجَسَدِ، وَهِيَ الَّتِي سَمَّتْهَا الْمُتَكَلِّمُونَ بِالْأَجْزَاءِ الْأَصْلِيَّةِ. وَهَذَا آخِرُ الْبَحْثِ الْعَقْلِيِّ عَنْ مَسْأَلَةِ الْمَعَادِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ «إِلَى» لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مختصا بحيز وجهة، حتى يصلح أَنْ يُقَالَ: إِلَيْهِ مَرْجِعُ الْخَلْقِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّا إِذَا قُلْنَا النَّفْسُ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ، فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ: أَنَّ مَرْجِعَهُمْ إِلَى حَيْثُ لَا حَاكِمَ سِوَاهُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَنَّ مَرْجِعَهُمْ إِلَى حَيْثُ حَصَلَ الْوَعْدُ فِيهِ بِالْمُجَازَاةِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: ظَاهِرُ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّفْسِ، لَا عَنِ الْبَدَنِ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ النَّفْسَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْبَدَنِ. أَمَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا الْبَدَنِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ [آل عمران: 169] فَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلٌ بِأَنَّ بَدَنَ الْمَقْتُولِ مَيِّتٌ، وَالنَّصُّ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَتُهُ شَيْئًا مُغَايِرًا لِهَذَا الْبَدَنِ الْمَيِّتِ، وَأَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ نَزْعِ رُوحِ الْكُفَّارِ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ [الْأَنْعَامِ: 93] وَأَمَّا أَنَّ النَّفْسَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْبَدَنِ، فَلِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ يَدُلُّ على ما قلنه، لِأَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الْمَوْضِعِ إِنَّمَا يَحْصُلُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ قَدْ كَانَ هُنَاكَ قَبْلَ ذلك، ونظيره قوله تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً [الْفَجْرِ: 27، 28] وَقَوْلُهُ: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [الْأَنْعَامِ: 62] . البحث الثالث: المرجع بمعنى الرجوع وجَمِيعاً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَيْ ذَلِكَ الرُّجُوعُ يَحْصُلُ حَالَ الِاجْتِمَاعِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْمَرْجِعِ الْمَوْتَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْهُ الْقِيَامَةُ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَأَنَّهُ لَا رُجُوعَ إِلَّا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا حُكْمَ إِلَّا حُكْمُهُ وَلَا نَافِذَ إِلَّا أَمْرُهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَعْدَ اللَّهِ مَنْصُوبٌ عَلَى مَعْنَى: وَعَدَكُمُ اللَّهُ وَعْدًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ مَعْنَاهُ: الْوَعْدُ بِالرُّجُوعِ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ قَوْلُهُ: وَعْدَ اللَّهِ مَصْدَرًا مُؤَكِّدًا لِقَوْلِهِ: / إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ وَقَوْلُهُ: حَقًّا مَصْدَرًا مُؤَكِّدًا لِقَوْلِهِ: وَعْدَ اللَّهِ فَهَذِهِ التَّأْكِيدَاتُ قَدْ اجْتَمَعَتْ فِي هَذَا الْحُكْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ وَعَدَ اللَّهُ عَلَى لَفْظِ الْفِعْلِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ وُقُوعِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ مُمْكِنَ الْوُجُودِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِهِ. أَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَى إِمْكَانِهِ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَقْرِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بِالدَّلِيلِ كَوْنَهُ خَالِقًا لِلْأَفْلَاكِ وَالْأَرَضِينَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَيْضًا كَوْنُهُ خَالِقًا لِكُلِّ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْجَمَادَاتِ وَالْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْعَقْلِ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى شَيْءٍ، وَكَانَتْ قُدْرَتُهُ بَاقِيَةً مُمْتَنِعَةَ الزَّوَالِ، وَكَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ إِعَادَتُهُ بِعَيْنِهِ، فَدَلَّ هَذَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِعْدَامِ أَجْسَامِ الْعَالَمِ، واختلفوا في أنه تعالى هل يغدمها أَمْ لَا؟ فَقَالَ قَوْمٌ إِنَّهُ تَعَالَى يَعْدِمُهَا، وَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ بِأَنَّهُ يُعِيدُهَا، فَوَجَبَ أَنْ يُعِيدَ الْأَجْسَامَ أَيْضًا، وَإِعَادَتُهَا لَا تُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ إِعْدَامِهَا، وَإِلَّا لَزِمَ إِيجَادُ الْمَوْجُودِ وَهُوَ مُحَالٌ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الْأَنْبِيَاءِ: 104] فَحَكَمَ بِأَنَّ الْإِعَادَةَ تَكُونُ مِثْلَ الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَخْلُقُهَا فِي الِابْتِدَاءِ مِنَ الْعَدَمِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى يُعِيدُهَا أَيْضًا مِنَ الْعَدَمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِضْمَارٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ لِيَأْمُرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ، ثُمَّ يُمِيتُهُمْ ثُمَّ يُعِيدُهُمْ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الْبَقَرَةِ: 28] إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى حَذَفَ ذِكْرَ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ هَاهُنَا، لِأَجْلِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ [يُونُسَ: 3] وَحَذَفَ ذِكْرَ الْإِمَاتَةِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْإِعَادَةِ يَدُلُّ عَلَيْهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قرأ بعضهم إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بِالْكَسْرِ وَبَعْضُهُمْ بِالْفَتْحِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ كَسَرَ الْهَمْزَةَ مِنْ «إِنِّ» فَعَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَفِي الْفَتْحِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا لِأَنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَعَدَ الله وعدا بدأ الخلق ثم إعادته، وقرئ يبدي مِنْ أَبْدَأَ وَقُرِئَ حَقٌّ إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ كَقَوْلِكَ: حَقٌّ إِنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ إِقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، حَتَّى يَحْصُلَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ، وَحَتَّى يَصِلَ/ الثَّوَابُ إِلَى الْمُطِيعِ وَالْعِقَابُ إِلَى الْعَاصِي، وَقَدْ سَبَقَ الِاسْتِقْصَاءُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْكَعْبِيُّ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْعِبَادَ لِلثَّوَابِ وَالرَّحْمَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ أَدْخَلَ لَامَ التَّعْلِيلِ عَلَى الثَّوَابِ. وَأَمَّا الْعِقَابُ فَمَا أَدْخَلَ فِيهِ لَامَ التَّعْلِيلِ، بَلْ قَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِلرَّحْمَةِ لَا لِلْعَذَابِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا أَرَادَ مِنْهُمُ الْكُفْرَ، وَمَا خَلَقَ فِيهِمُ الْكُفْرَ الْبَتَّةَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ لَامَ التَّعْلِيلِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ فَعَلَ فِعْلًا لِعِلَّةٍ لَكَانَتْ تِلْكَ الْعِلَّةُ، إِنْ كَانَتْ قَدِيمَةً لَزِمَ قِدَمُ الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَتْ حَادِثَةً لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ أَيْضًا: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَبْدَأَ خَلْقَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، لِأَنَّهُ لَوْ حَسُنَ إِيصَالُ تِلْكَ النِّعَمِ إِلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ خَلْقِهِمْ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَمِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ تَكْلِيفِهِمْ، لَمَا كَانَ خَلْقُهُمْ وَتَكْلِيفُهُمْ مُعَلَّلًا بِإِيصَالِ تِلْكَ النِّعَمِ إِلَيْهِمْ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذلك.

وَالْجَوَابُ: هَذَا بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ تَعْلِيلِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ بَاطِلٌ، سَلَّمْنَا صِحَّتَهُ إِلَّا أَنَّ كَلَامَهُ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ عَلَّلْنَا بَدْءَ الْخَلْقِ وَإِعَادَتَهُ بِهَذَا الْمَعْنَى وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ لِمَحْضِ التَّفَضُّلِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُعِيدُهُمْ لِغَرَضِ إِيصَالِ نِعَمِ الْجَنَّةِ إِلَيْهِمْ؟ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: سَقَطَ كَلَامُهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِالْقِسْطِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: بِالْقِسْطِ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: لِيَجْزِيَ وَالْمَعْنَى: لِيَجْزِيَهُمْ بِقِسْطِهِ، وَفِيهِ سُؤَالَانِ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقِسْطَ إِذَا كَانَ مُفَسَّرًا بِالْعَدْلِ، فَالْعَدْلُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ لَا زَائِدًا وَلَا نَاقِصًا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَزِيدُهُمْ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَهُ بِأَعْمَالِهِمْ، وَلَا يُعْطِيهِمْ شَيْئًا عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ ابْتِدَاءً. وَالْجَوَابُ: عِنْدَنَا أَنَّ الثَّوَابَ أَيْضًا مَحْضُ التَّفَضُّلِ. وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُسَاعِدَ عَلَى حُصُولِ الِاسْتِحْقَاقِ، إِلَّا أَنَّ لَفْظَ الْقِسْطَ يَدُلُّ عَلَى تَوْفِيَةِ الْأَجْرِ، فَأَمَّا الْمَنْعُ مِنَ الزِّيَادَةِ فَلَفْظُ (الْقِسْطَ) لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقِسْطِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى يُجَازِي الْكَافِرِينَ أَيْضًا بِالْقِسْطِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ تَخْصِيصَ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَزِيدِ الْعِنَايَةِ فِي حَقِّهِمْ، وَعَلَى كَوْنِهِمْ مَخْصُوصِينَ بِمَزِيدِ هَذَا الِاحْتِيَاطِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا بِقِسْطِهِمْ، وَبِمَا أَقْسَطُوا وَعَدَلُوا وَلَمْ يَظْلِمُوا أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، لِأَنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] وَالْعُصَاةُ أَيْضًا قَدْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ [فَاطِرٍ: 32] وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْوَى، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: بِما كانُوا يَكْفُرُونَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْحَمِيمُ: الَّذِي سُخِّنَ بِالنَّارِ حَتَّى انْتَهَى حَرُّهُ يُقَالُ: حَمَمْتُ الْمَاءَ أَيْ سَخَّنْتُهُ، فَهُوَ حَمِيمٌ وَمِنْهُ الْحَمَّامُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ مُؤْمِنًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا، لِأَنَّهُ تَعَالَى اقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ذِكْرِ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ. وَأَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ: بِأَنَّ ذِكْرَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ [النُّورِ: 45] وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى نَفْيِ الْقِسْمِ الرَّابِعِ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ رُبَّمَا يُذْكَرُ الْمَقْصُودُ أَوِ الْأَكْثَرُ، وَيُتْرَكُ ذِكْرُ مَا عَدَاهُ، إِذَا كَانَ قَدْ بُيِّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْقِسْمَ الثَّالِثَ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ. وَالْجَوَابُ أَنْ نَقُولَ: إِنَّمَا يُتْرَكُ الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي يَجْرِي مَجْرَى النَّادِرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفُسَّاقَ أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الطَّاعَاتِ، وَكَيْفَ يَجُوزُ تَرْكُ ذِكْرِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ؟ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَإِنَّمَا تَرَكَ ذِكْرَ الْقِسْمِ الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ، لِأَنَّ أَقْسَامَ ذَوَاتِ الْأَرْجُلِ كَثِيرَةٌ فَكَانَ ذِكْرُهَا بِأَسْرِهَا يُوجِبُ الْإِطْنَابَ بِخِلَافِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا إِلَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ، وَهُوَ الْفَاسِقُ الَّذِي يَزْعُمُ الْخَصْمُ أَنَّهُ لَا مؤمن ولا كافر فظهر الفرق.

[سورة يونس (10) : آية 5]

[سورة يونس (10) : آية 5] هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: [فِي ذكر الدلائل الدلالة على الإلهية.] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى الْإِلَهِيَّةِ، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَيْهَا صِحَّةَ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، عَادَ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى ذِكْرِ الدلائل الدلالة عَلَى الْإِلَهِيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّلَائِلَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي إثبات التوحيد والإلهية هي التمسك بخلق السموات وَالْأَرْضِ، وَهَذَا النَّوْعُ إِشَارَةٌ إِلَى التَّمَسُّكِ بِأَحْوَالِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَهَذَا النَّوْعُ الْأَخِيرُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يُؤَكِّدُ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى صِحَّةِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَى أَهْلِ الطَّاعَةِ، وَإِيصَالِ الْعِقَابِ إِلَى أَهْلِ الْكُفْرِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ فِي الْحِكْمَةِ تَمْيِيزُ الْمُحْسِنِ عَنِ الْمُسِيءِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِيَتَوَصَّلَ الْمُكَلَّفُ بِذَلِكَ إِلَى مَعْرِفَةِ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ، فَيُمْكِنُهُ تَرْتِيبُ مُهِمَّاتِ مَعَاشِهِ مِنَ الزِّرَاعَةِ وَالْحِرَاثَةِ، وَإِعْدَادِ مُهِمَّاتِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: تَمْيِيزُ الْمُحْسِنِ عَنِ الْمُسِيءِ وَالْمُطِيعِ عَنِ الْعَاصِي، أَوْجَبُ فِي الْحِكْمَةِ مِنْ تَعْلِيمِ أَحْوَالِ السِّنِينَ وَالشُّهُورِ فَلَمَّا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ وَالرَّحْمَةُ خَلْقَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لِهَذَا الْمُهِمِّ الَّذِي لَا نَفْعَ لَهُ إِلَّا فِي الدُّنْيَا فَبِأَنْ تَقْتَضِيَ الْحِكْمَةُ وَالرَّحْمَةُ تَمْيِيزَ الْمُحْسِنِ عَنِ الْمُسِيءِ بَعْدَ الْمَوْتِ، مَعَ أَنَّهُ يَقْتَضِي النَّفْعَ الْأَبَدِيَّ وَالسَّعَادَةَ السَّرْمَدِيَّةَ، كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى فَلَمَّا كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِأَحْوَالِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مِنَ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ مِنْ وَجْهٍ، وَعَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْمَعَادِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، لَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّهُ هَذَا الدَّلِيلَ بَعْدَ ذِكْرِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ الْمَعَادِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الِاسْتِدْلَالُ بِأَحْوَالِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُقَدِّرِ هُوَ أَنْ يُقَالَ: الْأَجْسَامُ فِي ذَوَاتِهَا مُتَمَاثِلَةٌ، وَفِي مَاهِيَّاتِهَا مُتَسَاوِيَةٌ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ اخْتِصَاصُ جِسْمِ الشَّمْسِ بِضَوْئِهِ الْبَاهِرِ وَشُعَاعِهِ الْقَاهِرِ، وَاخْتِصَاصُ جِسْمِ الْقَمَرِ بِنُورِهِ الْمَخْصُوصِ لِأَجْلِ الْفَاعِلِ الْحَكِيمِ الْمُخْتَارِ، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ فِي ذَوَاتِهَا وَمَاهِيَّاتِهَا، فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَجْسَامَ لَا شَكَّ أَنَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْحَجْمِيَّةِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْجِرْمِيَّةِ، فَلَوْ خَالَفَ بَعْضُهَا بَعْضًا لَكَانَتْ تِلْكَ الْمُخَالَفَةُ فِي أَمْرٍ وَرَاءَ الْحَجْمِيَّةِ وَالْجِرْمِيَّةِ ضَرُورَةَ أَنَّ مَا بِهِ الْمُخَالَفَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ إِنَّ مَا بِهِ حَصَلَتِ الْمُخَالَفَةُ مِنَ الْأَجْسَامِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صِفَةً لَهَا أَوْ مَوْصُوفًا بِهَا أَوْ لَا صِفَةً لَهَا وَلَا مَوْصُوفًا بِهَا وَالْكُلُّ بَاطِلٌ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ مَا بِهِ حَصَلَتِ الْمُخَالَفَةُ لَوْ كَانَتْ صِفَاتٍ قَائِمَةً بِتِلْكَ الذَّوَاتِ، فَتَكُونُ/ الذَّوَاتُ فِي أَنْفُسِهَا، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ، مُتَسَاوِيَةً فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَكُلُّ مَا يَصِحُّ عَلَى جِسْمٍ، وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ عَلَى كُلِّ جِسْمٍ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الَّذِي بِهِ خَالَفَ بَعْضُ الْأَجْسَامِ بَعْضًا، أُمُورٌ مَوْصُوفَةٌ بِالْجِسْمِيَّةِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْمِقْدَارِ فَنَقُولُ: هَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْصُوفَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَجْمًا وَمُتَحَيِّزًا أَوْ لَا يَكُونَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَإِلَّا لَزِمَ افْتِقَارُهُ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ، وَيَسْتَمِرُّ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ وَأَيْضًا فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يكون

الْمَحَلُّ مَثَلًا لِلْحَالِّ، وَلَمْ يَكُنْ كَوْنُ أَحَدِهِمَا مَحَلًّا وَالْآخَرِ حَالًّا، أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، فَيَلْزَمُ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحَلًّا لِلْآخَرِ وَحَالًّا فِيهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ غَيْرَ مُتَحَيِّزٍ، وَلَهُ حَجْمٌ فَنَقُولُ: مِثْلُ هَذَا الشَّيْءِ لَا يَكُونُ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِحَيِّزٍ وَلَا تَعَلُّقٌ بِجِهَةٍ وَالْجِسْمُ مُخْتَصٌّ بِالْحَيِّزِ، وَحَاصِلٌ فِي الْجِهَةِ، وَالشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ وَاجِبَ الْحُصُولِ فِي الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ، يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حَالًّا فِي الشَّيْءِ الَّذِي يَمْتَنِعُ حُصُولُهُ فِي الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا بِهِ خَالَفَ جِسْمٌ جِسْمًا، لَا حَالٌّ فِي الْجِسْمِ وَلَا مَحَلٌّ لَهُ، فَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ شَيْئًا مُبَايِنًا عَنِ الْجِسْمِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ ذَوَاتُ الْأَجْسَامِ مِنْ حَيْثُ ذَوَاتِهَا مُتَسَاوِيَةً فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَجْسَامَ بِأَسْرِهَا مُتَسَاوِيَةً فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْأَشْيَاءُ الْمُتَسَاوِيَةُ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ تَكُونُ مُتَسَاوِيَةً فِي جَمِيعِ لَوَازِمَ الْمَاهِيَّةِ، فَكُلُّ مَا صَحَّ عَلَى بَعْضِهَا وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ عَلَى الْبَاقِي، فَلَمَّا صَحَّ عَلَى جِرْمِ الشَّمْسِ اخْتِصَاصُهُ بِالضَّوْءِ الْقَاهِرِ الْبَاهِرِ، وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ مِثْلُ ذَلِكَ الضَّوْءِ الْقَاهِرِ عَلَى جِرْمِ الْقَمَرِ أَيْضًا، وَبِالْعَكْسِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اخْتِصَاصُ جِرْمِ الشَّمْسِ بِضَوْئِهِ الْقَاهِرِ، وَاخْتِصَاصُ الْقَمَرِ بِنُورِهِ الضَّعِيفِ بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وَإِيجَادِ مُوجِدٍ وَتَقْدِيرِ مُقَدِّرٍ وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ، فَثَبَتَ أَنَّ اخْتِصَاصَ الشَّمْسِ بِذَلِكَ الضَّوْءِ بِجَعْلِ جَاعِلٍ، وَأَنَّ اخْتِصَاصَ الْقَمَرِ بِذَلِكَ النَّوْعِ مِنْ النُّورِ بِجَعْلِ جَاعِلٍ، فَثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ صِحَّةُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الضِّيَاءُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَمْعَ ضَوْءٍ كَسَوْطٍ وَسِيَاطٍ وَحَوْضٍ وَحِيَاضٍ، أَوْ مَصْدَرَ ضَاءَ يَضُوءُ ضِيَاءً كَقَوْلِكَ قَامَ قِيَامًا، وَصَامَ صِيَامًا، وَعَلَى أَيِّ الْوَجْهَيْنِ حَمَلْتَهُ، فَالْمُضَافُ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى جَعَلَ الشَّمْسَ ذَاتَ ضِيَاءٍ، وَالْقَمَرَ ذَا نُورٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا عَظُمَ الضَّوْءُ وَالنُّورُ فِيهِمَا جُعِلَا نَفْسَ الضِّيَاءِ وَالنُّورِ كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ الْكَرِيمِ إِنَّهُ كَرَمٌ وَجُودٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ مِنْ طَرِيقِ قُنْبُلٍ ضِئَاءً بِهَمْزَتَيْنِ وَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى تَغْلِيطِهِ فِيهِ، لِأَنَّ يَاءَ ضِيَاءٍ مُنْقَلِبَةٌ مِنْ وَاوٍ مِثْلَ يَاءِ قِيَامٍ وَصِيَامٍ، فَلَا وَجْهَ لِلْهَمْزَةِ فِيهَا. ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى الْبُعْدِ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ قُدِّمَ اللَّامُ الَّتِي هِيَ الْهَمْزَةُ إِلَى مَوْضِعِ الْعَيْنِ، وَأُخِّرَ الْعَيْنُ الَّتِي هِيَ وَاوٌ، إِلَى مَوْضِعِ اللَّامِ، فَلَمَّا وَقَعَتْ طَرَفًا بَعْدَ أَلِفٍ زَائِدَةٍ انْقَلَبَتْ هَمْزَةً، كَمَا انْقَلَبَتْ فِي سِقَاءٍ وَبَابِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ النُّورَ كَيْفِيَّةٌ قَابِلَةٌ لِلْأَشَدِّ وَالْأَضْعَفِ، فَإِنَّ نُورَ الصَّبَاحِ أَضْعَفُ مِنْ النُّورِ الحاصل في أول النهار قبل طلوع الشمس، وهو أَضْعَفُ مِنْ النُّورِ الْحَاصِلِ فِي أَفَنِيَةِ الْجُدْرَانِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَهُوَ أَضْعَفُ مِنَ النُّورِ السَّاطِعِ مِنَ الشَّمْسِ عَلَى الْجُدْرَانِ، وَهُوَ أَضْعَفُ من الضوء القائم بجرم الشمس فكمال هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ الْمُسَمَّاةُ بِالضَّوْءِ عَلَى مَا يُحَسُّ بِهِ فِي جِرْمِ الشَّمْسِ، وَهُوَ فِي الْإِمْكَانِ وُجُودُ مَرْتَبَةٍ فِي الضَّوْءِ أَقْوَى مِنَ الْكَيْفِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِالشَّمْسِ، فَهُوَ مِنْ مَوَاقِفِ الْعُقُولِ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ الشُّعَاعَ الْفَائِضَ مِنَ الشَّمْسِ هَلْ هُوَ جِسْمٌ أَوْ عَرَضٌ؟ وَالْحَقُّ أَنَّهُ عرض، وهو كيفي مَخْصُوصَةٌ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ عَرَضٌ فَهَلْ حُدُوثُهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ بِتَأْثِيرِ قُرْصِ الشَّمْسِ أَوْ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِخَلْقِ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ فِي الْأَجْرَامِ الْمُقَابِلَةِ لِقُرْصِ الشَّمْسِ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ، فَهِيَ مَبَاحِثُ عَمِيقَةٌ، وَإِنَّمَا يَلِيقُ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهَا بِعُلُومِ الْمَعْقُولَاتِ.

وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: النُّورُ اسْمٌ لِأَصْلِ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ، وَأَمَّا الضَّوْءُ، فَهُوَ اسْمٌ لِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ إِذَا كَانَتْ كَامِلَةً تَامَّةً قَوِيَّةً، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى الْكَيْفِيَّةَ الْقَائِمَةَ بِالشَّمْسِ ضِياءً وَالْكَيْفِيَّةَ الْقَائِمَةَ بِالْقَمَرِ نُوراً وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَيْفِيَّةَ الْقَائِمَةَ بِالشَّمْسِ أَقْوَى وَأَكْمَلُ مِنَ الْكَيْفِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِالْقَمَرِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الْفُرْقَانِ: 61] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً [نُوحٍ: 16] وَفِي آيَةٍ أُخْرَى وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً [النَّبَأِ: 13] . الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يس: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس: 39] وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَقَدَّرَ مَسِيرَهُ مَنَازِلَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَقَدَّرَهُ ذَا مَنَازِلَ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَقَدَّرَهُ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَهُمَا، وَإِنَّمَا وَحَّدَ الضَّمِيرَ لِلْإِيجَازِ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي مَعْنَى التَّثْنِيَةِ اكْتِفَاءً بِالْمَعْلُومِ، لِأَنَّ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِسَيْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التَّوْبَةِ: 62] وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هَذَا الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى الْقَمَرِ وَحْدَهُ، لِأَنَّ بِسَيْرِ الْقَمَرِ تُعْرَفُ الشُّهُورُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشُّهُورَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي/ الشَّرِيعَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى رُؤْيَةِ الْأَهِلَّةِ، وَالسَّنَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الشَّرِيعَةِ هِيَ السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 36] . الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اعْلَمْ أَنَّ انْتِفَاعَ الْخَلْقِ بِضَوْءِ الشَّمْسِ وَبِنُورِ الْقَمَرِ عَظِيمٌ، فَالشَّمْسُ سُلْطَانُ النَّهَارِ وَالْقَمَرُ سُلْطَانُ اللَّيْلِ وَبِحَرَكَةِ الشَّمْسِ تَنْفَصِلُ السَّنَةُ إِلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، وَبِالْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ تَنْتَظِمُ مَصَالِحُ هَذَا الْعَالَمِ وَبِحَرَكَةِ الْقَمَرِ تَحْصُلُ الشُّهُورُ، وَبِاخْتِلَافِ حَالِهِ فِي زِيَادَةِ الضَّوْءِ وَنُقْصَانِهِ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُ رُطُوبَاتِ هَذَا الْعَالَمِ وَبِسَبَبِ الْحَرَكَةِ الْيَوْمِيَّةِ يَحْصُلُ النَّهَارُ وَاللَّيْلُ، فَالنَّهَارُ يَكُونُ زَمَانًا لِلتَّكَسُّبِ وَالطَّلَبِ، وَاللَّيْلُ يَكُونُ زَمَانًا لِلرَّاحَةِ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا فِي مَنَافِعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ اللَّائِقَةِ بِهَا فِيمَا سَلَفَ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْخَلْقِ وَعِظَمِ عِنَايَتِهِ بِهِمْ، فَإِنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَسَاوِيَةٌ وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اخْتِصَاصُ كُلِّ جِسْمٍ بِشَكْلِهِ الْمُعَيَّنِ وَوَضْعِهِ الْمُعَيَّنِ، وَحَيِّزِهِ الْمُعَيَّنِ، وَصِفَتِهِ الْمُعَيَّنَةِ، لَيْسَ إِلَّا بِتَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ حَكِيمٍ رَحِيمٍ قَادِرٍ قَاهِرٍ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَنَافِعِ الْحَاصِلَةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ بِسَبَبِ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ وَمَسِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ، مَا حَصَلَ إِلَّا بِتَدْبِيرِ الْمُدَبِّرِ الْمُقَدِّرِ الرَّحِيمِ الْحَكِيمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ هَذِهِ الدَّلَائِلَ خَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ وَمُطَابَقَةِ الْمَصْلَحَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آلِ عِمْرَانَ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا سُبْحانَكَ [آلِ عِمْرَانَ: 191] وَقَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص: 27] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْجَبْرِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ مُرِيدًا لِكُلِّ ظُلْمٍ، وَخَالِقًا لِكُلِّ قَبِيحٍ، وَمُرِيدًا لِإِضْلَالِ مَنْ ضَلَّ، لَمَا صَحَّ أَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ مَا خَلَقَ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ حُكَمَاءُ الْإِسْلَامِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْدَعَ فِي أَجْرَامِ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ خَوَاصَّ مُعَيَّنَةً وَقُوًى مَخْصُوصَةً، بِاعْتِبَارِهَا تَنْتَظِمُ مَصَالِحُ هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا آثَارٌ وَفَوَائِدُ في هذا

[سورة يونس (10) : آية 6]

الْعَالَمِ، لَكَانَ خَلْقُهَا عَبَثًا وَبَاطِلًا وَغَيْرَ مُفِيدٍ، وَهَذِهِ النُّصُوصُ تُنَافِي ذَلِكَ. واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ، وَمَعْنَى التَّفْصِيلِ هُوَ ذِكْرُ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الْبَاهِرَةِ، وَاحِدًا عَقِيبَ الْآخَرِ، فَصْلًا فَصْلًا مَعَ الشَّرْحِ وَالْبَيَانِ. وَفِي قَوْلِهِ: نُفَصِّلُ قِرَاءَتَانِ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ يُفَصِّلُ بِالْيَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنُّونِ. ثُمَّ قَالَ: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْعَقْلُ الَّذِي يَعُمُّ الْكُلَّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَنْ تَفَكَّرَ وَعَلِمِ فَوَائِدَ مَخْلُوقَاتِهِ وَآثَارَ إِحْسَانِهِ، وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: عُمُومُ اللَّفْظِ، وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَخُصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعُلَمَاءَ بِهَذَا الذِّكْرِ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ، فَجَاءَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النَّازِعَاتِ: 45] مَعَ أنه عليه السلام كان منذرا للكل. [سورة يونس (10) : آية 6] إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِلَهِيَّاتِ أولا: بتخليق السموات وَالْأَرْضِ، وَثَانِيًا: بِأَحْوَالِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ: وَثَالِثًا: فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْمَنَافِعِ الْحَاصِلَةِ مِنَ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْبَقَرَةِ: 164] ورابعا: بكل ما خلق الله في السموات وَالْأَرْضِ، وَهِيَ أَقْسَامُ الْحَوَادِثِ الْحَادِثَةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الْأَحْوَالُ الْحَادِثَةُ فِي الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا أَحْوَالُ الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالسَّحَابِ وَالْأَمْطَارِ وَالثُّلُوجِ وَيَدْخُلُ فِيهَا أَيْضًا أَحْوَالُ الْبِحَارِ، وَأَحْوَالُ الْمَدِّ وَالْجَزْرِ، وَأَحْوَالُ الصَّوَاعِقِ وَالزَّلَازِلِ وَالْخَسْفِ. وَثَانِيهَا: أَحْوَالُ الْمَعَادِنِ وَهِيَ عَجِيبَةٌ كَثِيرَةٌ. وَثَالِثُهَا: اخْتِلَافُ أَحْوَالِ النَّبَاتِ. وَرَابِعُهَا: اخْتِلَافُ أَحْوَالِ الْحَيَوَانَاتِ، وَجُمْلَةُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ فِي أَلْفِ مُجَلَّدٍ، بَلْ كُلُّ مَا ذَكَرَهُ الْعُقَلَاءُ فِي أَحْوَالِ أَقْسَامِ هَذَا الْعَالَمِ فَهُوَ جُزْءٌ مُخْتَصَرٌ مِنْ هَذَا الْبَابِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ قَالَ: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ فَخَصَّهَا بِالْمُتَّقِينَ، لِأَنَّهُمْ يَحْذَرُونَ الْعَاقِبَةَ فَيَدْعُوهُمُ الْحَذَرُ إِلَى التَّدَبُّرِ وَالنَّظَرِ. قَالَ الْقَفَّالُ: مَنْ تَدَبَّرَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ عَلِمَ أَنَّ الدُّنْيَا مَخْلُوقَةٌ لِشَقَاءِ النَّاسِ فِيهَا، وَأَنَّ خَالِقَهَا وَخَالِقَهُمْ مَا أَهْمَلَهُمْ، بَلْ جَعَلَهَا لَهُمْ دَارَ عَمَلٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، ثُمَّ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ، لِيَتَمَيَّزَ الْمُحْسِنُ عَنِ الْمُسِيءِ، فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ فِي الْحَقِيقَةِ دَالَّةٌ عَلَى صحة القول بإثبات المبدأ وإثبات المعاد. [سورة يونس (10) : الآيات 7 الى 8] إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقَامَ الدَّلَائِلَ الْقَاهِرَةَ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ الْإِلَهِ الرَّحِيمِ الْحَكِيمِ، وَعَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْمَعَادِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، شَرَعَ بَعْدَهُ فِي شَرْحِ أَحْوَالِ مَنْ يَكْفُرُ بِهَا، وَفِي شَرْحِ أَحْوَالِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهَا فَأَمَّا شَرْحُ أَحْوَالِ الْكَافِرِينَ فَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِصِفَاتٍ أَرْبَعَةٍ: الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ هَذَا الرَّجَاءِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ: مَعْنَاهُ: لَا يَخَافُونَ الْبَعْثَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى تَفْسِيرِ الرَّجَاءِ هَاهُنَا بِالْخَوْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النَّازِعَاتِ: 45] وَقَوْلُهُ: وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 49] وَتَفْسِيرُ الرَّجَاءِ بِالْخَوْفِ جَائِزٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [نُوحٍ: 13] قَالَ الْهُذَلِيُّ: إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَفْسِيرُ الرَّجَاءِ بِالطَّمَعِ، فَقَوْلُهُ: لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا أَيْ لَا يَطْمَعُونَ فِي ثَوَابِنَا، فَيَكُونُ هَذَا الرَّجَاءُ هُوَ الَّذِي ضِدُّهُ الْيَأْسُ، كَمَا قَالَ: قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ [الممتحنة: 13] . وَاعْلَمْ أَنَّ حَمْلَ الرَّجَاءِ عَلَى الْخَوْفِ بَعِيدٌ، لِأَنَّ تَفْسِيرَ الضِّدِّ بِالضِّدِّ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَا مَانِعَ هَاهُنَا مِنْ حَمْلِ الرَّجَاءِ عَلَى ظَاهِرِهِ الْبَتَّةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ لِقَاءَ اللَّهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَجَلِّيَ جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ وَإِشْرَاقَ نُورِ كِبْرِيَائِهِ فِي رُوحِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْوُصُولَ إِلَى ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى رَحْمَتِهِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ أَعْظَمُ الدَّرَجَاتِ وَأَشْرَفُ السَّعَادَاتِ وَأَكْمَلُ الْخَيْرَاتِ، فَالْعَاقِلُ كَيْفَ لَا يَرْجُوهُ، وَكَيْفَ لَا يَتَمَنَّاهُ؟ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَكَذَلِكَ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَرْجُو مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُوَصِّلَهُ إِلَى ثَوَابِهِ وَمَقَامَاتِ رَحْمَتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فَهُوَ يَرْجُو ثَوَابَهُ، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَلَا بِالْمَعَادِ فَقَدْ أَبْطَلَ عَلَى نَفْسِهِ هَذَا الرَّجَاءَ، فَلَا جَرَمَ حَسُنَ جَعْلُ عَدَمِ هَذَا الرَّجَاءِ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اللِّقَاءُ هُوَ الْوُصُولُ إِلَى الشَّيْءِ، وَهَذَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، لِكَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الْحَدِّ وَالنِّهَايَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْعَلَ مَجَازًا عَنِ الرُّؤْيَةِ، وَهَذَا مَجَازٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ يُقَالُ: لَقِيتُ فُلَانًا إِذَا رَأَيْتُهُ، وَحَمْلُهُ عَلَى لِقَاءِ ثَوَابِ اللَّهِ يَقْتَضِي زِيَادَةً فِي الْإِضْمَارِ وَهُوَ خِلَافُ الدَّلِيلِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ أَنَّ سَعَادَةَ النَّفْسِ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي أَنْ تَتَجَلَّى فِيهَا مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَيَكْمُلُ إِشْرَاقُهَا وَيَقْوَى لَمَعَانُهَا، وَذَلِكَ هُوَ الرُّؤْيَةُ، وَهِيَ مَنْ أَعْظَمِ السَّعَادَاتِ فَمَنْ كَانَ غَافِلًا عَنْ طَلَبِهَا مُعْرِضًا عَنْهَا مُكْتَفِيًا بَعْدَ الْمَوْتِ بِوُجْدَانِ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْوِقَاعِ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ صِفَاتِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا. وَاعْلَمْ أَنَّ الصِّفَةَ الْأُولَى إِشَارَةٌ إِلَى خُلُوِّ قَلْبِهِ عَنْ طَلَبِ اللَّذَّاتِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَفَرَاغِهِ عَنْ طَلَبِ السَّعَادَاتِ الْحَاصِلَةِ بِالْمَعَارِفِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَأَمَّا هَذِهِ الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ فَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِغْرَاقِهِ فِي طَلَبِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَاكْتِفَائِهِ بِهَا، وَاسْتِغْرَاقِهِ فِي طَلَبِهَا. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاطْمَأَنُّوا بِها وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: صِفَةُ السُّعَدَاءِ أَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ نَوْعٌ مِنَ الْوَجَلِ وَالْخَوْفِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الْحَجِّ: 35] ثُمَّ إِذَا قَوِيَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ حَصَلَتِ الطُّمَأْنِينَةُ فِي ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْدِ: 28] وَصِفَةُ الْأَشْقِيَاءِ أَنْ تَحْصُلَ لَهُمُ الطُّمَأْنِينَةُ فِي حُبِّ الدُّنْيَا، وَفِي الِاشْتِغَالِ بِطَلَبِ لَذَّاتِهَا كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَاطْمَأَنُّوا بِها

[سورة يونس (10) : الآيات 9 إلى 10]

فَحَقِيقَةُ الطُّمَأْنِينَةِ أَنْ يَزُولَ عَنْ قُلُوبِهِمُ الْوَجَلُ، فَإِذَا سَمِعُوا الْإِنْذَارَ وَالتَّخْوِيفَ لَمْ تَوْجَلْ قُلُوبُهُمْ وَصَارَتْ كَالْمَيِّتَةِ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مُقْتَضَى اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ: وَاطْمَأَنُّوا إِلَيْهَا، إِلَّا أَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يَحْسُنُ إِقَامَةُ بَعْضِهَا مَقَامَ الْبَعْضِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: وَاطْمَأَنُّوا بِها. وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ صَارُوا فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ طَلَبِ لِقَاءِ اللَّهَ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ الْغَافِلِ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ طُولَ عُمُرِهِ ذِكْرُ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الصِّفَاتُ الْأَرْبَعَةُ دَالَّةٌ عَلَى شِدَّةِ بُعْدِهِ عَنْ طَلَبِ الِاسْتِسْعَادِ بِالسَّعَادَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَعَلَى شِدَّةِ اسْتِغْرَاقِهِ فِي طَلَبِ هَذِهِ الْخَيْرَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالسَّعَادَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الأربعة قَالَ: أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: النِّيرَانُ عَلَى أَقْسَامٍ: النَّارُ الَّتِي هِيَ جِسْمٌ مَحْسُوسٌ مُضِيءٌ مُحْرِقٌ، صَاعِدًا بِالطَّبْعِ، وَالْإِقْرَارُ بِهِ وَاجِبٌ، لِأَجْلِ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَقٌّ. الْقِسْمُ الثَّانِي: النَّارُ الرُّوحَانِيَّةُ الْعَقْلِيَّةُ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا حُبًّا شَدِيدًا ثُمَّ ضَاعَ عَنْهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَحْتَرِقُ قَلْبُهُ وَبَاطِنُهُ، وَكُلُّ عَاقِلٍ يَقُولُ: إِنَّ فُلَانًا مُحْتَرِقُ الْقَلْبِ مُحْتَرِقُ الْبَاطِنِ بِسَبَبِ فِرَاقِ ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ وَأَلَمُ هَذِهِ النَّارِ أَقْوَى بِكَثِيرٍ مِنْ أَلَمِ النَّارِ الْمَحْسُوسَةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ الْأَرْوَاحَ الَّتِي كَانَتْ مُسْتَغْرِقَةً فِي حُبِّ الْجُسْمَانِيَّاتِ وَكَانَتْ غَافِلَةً عَنْ حُبِّ عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ، فَإِذَا مَاتَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَ ذَلِكَ الرُّوحِ وَبَيْنَ مَعْشُوقَاتِهِ وَمَحْبُوبَاتِهِ، وَهِيَ أَحْوَالُ هَذَا الْعَالَمِ، وَلَيْسَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِذَلِكَ الْعَالَمِ وَلَا إِلْفٌ مَعَ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَالَمِ، فَيَكُونُ مِثَالُهُ مِثَالَ مَنْ أُخْرِجَ مِنْ مُجَالَسَةِ مَعْشُوقِهِ وَأُلْقِيَ فِي بِئْرٍ ظَلْمَانِيَّةٍ لَا إِلْفَ لَهُ بِهَا، وَلَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِأَحْوَالِهَا، فَهَذَا الْإِنْسَانُ يَكُونُ فِي غَايَةِ الْوَحْشَةِ، وَتَأَلُّمِ الرُّوحِ فَكَذَا هُنَا، أَمَّا لَوْ كان نفورا عَنْ هَذِهِ الْجُسْمَانِيَّاتِ عَارِفًا بِمَقَابِحِهَا وَمَعَايِبِهَا وَكَانَ شَدِيدَ الرَّغْبَةِ فِي اعْتِلَاقِ الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، عَظِيمَ الْحُبِّ لِلَّهِ، كَانَ مِثَالُهُ مِثَالَ مَنْ كَانَ مَحْبُوسًا فِي سِجْنٍ مُظْلِمٍ عَفِنٍ مَمْلُوءٍ مِنَ الْحَشَرَاتِ الْمُؤْذِيَةِ وَالْآفَاتِ الْمُهْلِكَةِ، ثُمَّ اتَّفَقَ أَنْ فُتِحَ بَابُ السِّجْنِ وَأُخْرِجَ مِنْهُ وَأُحْضِرَ فِي مَجْلِسِ السُّلْطَانِ الْأَعْظَمِ مَعَ الْأَحْبَابِ وَالْأَصْدِقَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النِّسَاءِ: 69] فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى تَعْرِيفِ النَّارِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْجَنَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْأَعْمَالَ السَّابِقَةَ هِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي حُصُولِ هَذَا الْعَذَابِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الحج: 10] . [سورة يونس (10) : الآيات 9 الى 10] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ الْمُنْكِرِينَ وَالْجَاحِدِينَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَحْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُحِقِّينَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذكر صفاتهم أولا، ثم ذكر مالهم مِنَ الْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةِ ثَانِيًا، أَمَّا أَحْوَالُهُمْ وَصِفَاتُهُمْ فَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ لَهَا قُوَّتَانِ: الْقُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ: وَكَمَالُهَا فِي مَعْرِفَةِ الْأَشْيَاءِ، وَرَئِيسُ الْمَعَارِفِ وَسُلْطَانُهَا مَعْرِفَةُ اللَّه. وَالْقُوَّةُ الْعَمَلِيَّةُ: وَكَمَالُهَا فِي فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ، وَرَئِيسُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَسُلْطَانُهَا خِدْمَةُ اللَّه. فَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ بِمَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَقَوْلُهُ: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ بِخِدْمَةِ اللَّه تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَتِ الْقُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ مُقَدَّمَةً عَلَى الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ بِالشَّرَفِ وَالرُّتْبَةِ، لَا جَرَمَ وَجَبَ تَقْدِيمُهَا فِي الذِّكْرِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ الْقَفَّالُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَيْ صَدَّقُوا بِقُلُوبِهِمْ، ثُمَّ حَقَّقُوا التَّصْدِيقَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْكُتُبُ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ شَغَلُوا قُلُوبَهُمْ وَأَرْوَاحَهُمْ بِتَحْصِيلِ الْمَعْرِفَةِ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَيْ شَغَلُوا جَوَارِحَهُمْ بِالْخِدْمَةِ، فَعَيْنُهُمْ مَشْغُولَةٌ بِالِاعْتِبَارِ كَمَا قَالَ: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الْحَشْرِ: 2] وَأُذُنُهُمْ مَشْغُولَةٌ بِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى كَمَا قَالَ: وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ [الْمَائِدَةِ: 83] وَلِسَانُهُمْ. مَشْغُولٌ بِذِكْرِ اللَّه كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ [الْأَحْزَابِ: 41] وَجَوَارِحُهُمْ مَشْغُولَةٌ بِنُورِ طَاعَةِ اللَّه كَمَا قَالَ: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النَّمْلِ: 25] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ دَرَجَاتِ كَرَامَاتِهِمْ وَمَرَاتِبَ سَعَادَاتِهِمْ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ. الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى يَهْدِيهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ ثَوَابًا لَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الْحَدِيدِ: 12] وَثَانِيهَا: مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ صُوِّرَ لَهُ عَمَلُهُ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ فَيَقُولُ لَهُ أَنَا عَمَلُكَ فَيَكُونُ لَهُ نُورًا وَقَائِدًا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْكَافِرُ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ صُوِّرَ لَهُ عَمَلُهُ فِي صُورَةٍ سَيِّئَةٍ فَيَقُولُ لَهُ أَنَا عَمَلُكَ فَيَنْطَلِقُ بِهِ حَتَّى يُدْخِلُهُ النَّارَ» وَثَالِثُهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُؤْمِنُونَ يَكُونُ لَهُمْ نُورٌ يَمْشِي بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ. وَرَابِعُهَا: وَهُوَ الْوَجْهُ الْعَقْلِيُّ أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنْ نُورٍ اتَّصَلَ بِهِ مِنْ عَالَمِ الْقُدْسِ، وَذَلِكَ النُّورُ كَالْخَيْطِ الْمُتَّصِلِ بَيْنَ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْعَالَمِ الْمُقَدَّسِ، فَإِنْ حَصَلَ هَذَا الْخَطُّ/ النُّورَانِيُّ قَدَرَ الْعَبْدُ عَلَى أَنْ يَقْتَدِيَ بِذَلِكَ النُّورِ وَيَرْجِعَ إِلَى عَالَمِ الْقُدْسِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُوجَدُ هَذَا الْحَبْلُ النُّورَانِيُّ تَاهَ فِي ظُلُمَاتِ عَالَمِ الضَّلَالَاتِ نُعُوذُ باللَّه مِنْهُ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّ إِيمَانَهُمْ يَهْدِيهِمْ إِلَى خَصَائِصَ فِي الْمَعْرِفَةِ وَمَزَايَا فِي الْأَلْفَاظِ وَلَوَامِعَ مِنَ النُّورِ تَسْتَنِيرُ بِهَا قُلُوبُهُمْ، وَتَزُولُ بِوَاسِطَتِهَا الشُّكُوكُ وَالشُّبُهَاتُ عَنْهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ

هُدىً [مُحَمَّدٍ: 17] وَهَذِهِ الزَّوَائِدُ وَالْفَوَائِدُ وَالْمَزَايَا يَجُوزُ حُصُولُهَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْمَوْتِ، وَيَجُوزُ حُصُولُهَا فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَإِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ الْمَعْنَى يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ وَتَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ في جنات النعيم، إلا أن حُذِفَ الْوَاوُ وَجُعِلَ قَوْلُهُ: تَجْرِي خَبَرًا مُسْتَأْنَفًا مُنْقَطِعًا عَمَّا قَبْلَهُ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِمُقَدَّمَاتٍ. الْمُقَدَّمَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْعِلْمَ نُورٌ وَالْجَهْلَ ظُلْمَةٌ وَصَرِيحُ الْعَقْلِ يَشْهَدُ بِأَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، وَمِمَّا يُقَرِّرُهُ أَنَّكَ إِذَا أَلْقَيْتَ مَسْأَلَةً جَلِيلَةً شَرِيفَةً عَلَى شَخْصَيْنِ، فَاتَّفَقَ أَنْ فَهِمَهَا أَحَدُهُمَا وَمَا فَهِمَهَا الْآخَرُ، فَإِنَّكَ تَرَى وَجْهَ الْفَاهِمِ مُتَهَلِّلًا مُشْرِقًا مُضِيئًا، وَوَجْهَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ عَبُوسًا مُظْلِمًا مُنْقَبِضًا، وَلِهَذَا السَّبَبِ جَرَتْ عادة القرآن بالتعبير عن العلم والإيمان والنور، وَعَنِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ بِالظُّلُمَاتِ. وَالْمُقَدَّمَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الرُّوحَ كَاللَّوْحِ، وَالْعُلُومَ وَالْمَعَارِفَ كَالنُّقُوشِ الْمَنْقُوشَةِ فِي ذَلِكَ اللَّوْحِ. ثُمَّ هَاهُنَا دَقِيقَةٌ، وَهِيَ أَنَّ اللَّوْحَ الْجُسْمَانِيَّ إِذَا رُسِمَتْ فِيهِ نُقُوشٌ جُسْمَانِيَّةٌ فَحُصُولُ بَعْضِ النُّقُوشِ فِي ذَلِكَ اللَّوْحِ مَانِعٌ مِنْ حُصُولِ سَائِرِ النُّقُوشِ فِيهِ، فَأَمَّا لَوْحُ الرُّوحِ فَخَاصِّيَّتُهُ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الرُّوحَ إِذَا كَانَتْ خَالِيَةً عَنْ نُقُوشِ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ فَإِنَّهُ يَصْعُبُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ، فَإِذَا احْتَالَ وَحَصَلَ شَيْءٌ مِنْهَا، كَانَ حُصُولُ مَا حَصَلَ مِنْهَا مُعِينًا لَهُ عَلَى سُهُولَةِ تَحْصِيلِ الْبَاقِي، وَكُلَّمَا كَانَ الْحَاصِلُ أَكْثَرَ كَانَ تَحْصِيلُ الْبَقِيَّةِ أَسْهَلَ، فَالنُّقُوشُ الْجُسْمَانِيَّةُ يَكُونُ بَعْضُهَا مَانِعًا مِنْ حُصُولِ الْبَاقِي، وَالنُّقُوشُ الرُّوحَانِيَّةُ يَكُونُ بَعْضُهَا مُعِينًا عَلَى حُصُولِ الْبَقِيَّةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَ الْعَالَمِ الرُّوحَانِيِّ بِالضِّدِّ مِنْ أَحْوَالِ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ. الْمُقَدَّمَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَحْمِلُ النَّفْسَ عَلَى تَرْكِ الدُّنْيَا وَطَلَبِ الْآخِرَةِ، وَالْأَعْمَالَ الْمَذْمُومَةَ مَا تَكُونُ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدَّمَاتِ فَنَقُولُ: الْإِنْسَانُ إِذَا آمَنَ باللَّه فَقَدْ أَشْرَقَ رُوحُهُ بِنُورِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ، ثُمَّ إِذَا وَاظَبَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ حَصَلَتْ لَهُ مَلَكَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فِي التَّوَجُّهِ إِلَى الْآخِرَةِ وَفِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا، وَكُلَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ أَكْمَلَ كَانَ اسْتِعْدَادُ النَّفْسِ لِتَحْصِيلِ سَائِرِ الْمَعَارِفِ أَشَدَّ، وَكُلَّمَا/ كَانَ الِاسْتِعْدَادُ أَقْوَى وَأَكْمَلَ كَانَتْ مَعَارِجُ الْمَعَارِفِ أَكْثَرَ وَإِشْرَاقُهَا وَلَمَعَانُهَا أَقْوَى، وَلَمَّا كَانَ لَا نِهَايَةَ لِمَرَاتِبِ الْمَعَارِفِ وَالْأَنْوَارِ الْعَقْلِيَّةِ، لَا جَرَمَ لَا نِهَايَةَ لِمَرَاتِبِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ جَالِسِينَ عَلَى سُرُرٍ مَرْفُوعَةٍ فِي الْبَسَاتِينِ وَالْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [مَرْيَمَ: 24] وَهِيَ مَا كَانَتْ قَاعِدَةً عَلَيْهَا، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى بَيْنَ يَدَيْكِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزُّخْرُفِ: 51] الْمَعْنَى بَيْنَ يَدَيَّ فَكَذَا هَاهُنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْإِيمَانُ هُوَ الْمَعْرِفَةُ وَالْهِدَايَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهَا أَيْضًا مِنْ جِنْسِ الْمَعَارِفِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ إِيمَانَهُمْ بَلْ قَالَ: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِالْمُقَدَّمَتَيْنِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالنَّتِيجَةِ، بَلِ الْعِلْمُ بِالْمُقَدَّمَتَيْنِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الِاسْتِعْدَادِ التَّامِّ لِقَبُولِ النَّفْسِ لِلنَّتِيجَةِ ثُمَّ إِذَا حَصَلَ هَذَا

الِاسْتِعْدَادُ، كَانَ التَّكْوِينُ مِنَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْحُكَمَاءِ أَنَّ الْفَيَّاضَ الْمُطْلَقَ وَالْجَوَادَ الْحَقَّ، لَيْسَ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ مَرَاتِبِ سَعَادَاتِهِمْ وَدَرَجَاتِ كَمَالَاتِهِمْ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي دَعْواهُمْ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الدَّعْوَى هَاهُنَا بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، يُقَالُ: دَعَا يَدْعُو دُعَاءً وَدَعْوَى، كَمَا يُقَالُ: شَكَا يَشْكُو شِكَايَةً وَشَكْوَى. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: دَعْواهُمْ أَيْ دُعَاؤُهُمْ. وَقَالَ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [يس: 57] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ [الدُّخَانِ: 55] وَمِمَّا يُقَوِّي أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الدَّعْوَى هَاهُنَا الدُّعَاءُ هُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ وَهَذَا نِدَاءٌ للَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ إِنَّا نُسَبِّحَكَ، كَقَوْلِ الْقَانِتِ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ: «اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ» الثَّانِي: أَنْ يُرَادَ بِالدُّعَاءِ الْعِبَادَةُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مَرْيَمَ: 48] أَيْ وَمَا تَعْبُدُونَ فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ لَا عِبَادَةَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا أَنْ يُسَبِّحُوا اللَّه وَيَحْمَدُوهُ، وَيَكُونُ اشْتِغَالُهُمْ بِذَلِكَ الذِّكْرِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّكْلِيفِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِهَاجِ بِذِكْرِ اللَّه تَعَالَى. الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الدَّعْوَى نَفْسَ الدَّعْوَى الَّتِي تَكُونُ لِلْخَصْمِ عَلَى الْخَصْمِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَدْعُونَ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ تَنْزِيهَ اللَّه تَعَالَى عَنْ كُلِّ الْمَعَايِبِ وَالْإِقْرَارَ لَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ. قَالَ الْقَفَّالُ: أَصِلُ ذَلِكَ أَيْضًا مِنَ الدُّعَاءِ، لِأَنَّ الْخَصْمَ يَدْعُو خَصْمَهُ إِلَى مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا. الرَّابِعُ: قَالَ مُسْلِمٌ: دَعْواهُمْ أَيْ قَوْلُهُمْ وَإِقْرَارُهُمْ وَنِدَاؤُهُمْ، وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُمْ: سُبْحانَكَ/ اللَّهُمَّ الْخَامِسُ: قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: دَعْواهُمْ أَيْ طَرِيقَتُهُمْ فِي تَمْجِيدِ اللَّه تَعَالَى وَتَقْدِيسِهِ وَشَأْنُهُمْ وَسُنَّتُهُمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ لَيْسَ بِدُعَاءٍ وَلَا بِدَعْوَى، إِلَّا أَنَّ الْمُدَّعِيَ لِلشَّيْءِ يَكُونُ مُوَاظِبًا عَلَى ذِكْرِهِ، لَا جَرَمَ جَعَلَ لَفْظَ الدَّعْوَى كِنَايَةً عَنْ تِلْكَ الْمُوَاظَبَةِ وَالْمُلَازَمَةِ فَأَهْلُ الْجَنَّةِ لَمَّا كَانُوا مُوَاظِبِينَ عَلَى هَذَا الذِّكْرِ، لَا جَرَمَ أَطْلَقَ لَفْظَ الدَّعْوَى عَلَيْهَا. السَّادِسُ: قَالَ الْقَفَّالُ: قِيلَ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [يس: 57] أَيْ مَا يَتَمَنَّوْنَهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: ادْعُ مَا شِئْتَ عَلَيَّ، أَيْ تَمَنَّ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أُخْبِرْتُ أَنَّ قَوْلَهُ: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ هُوَ أَنَّهُ إِذَا مَرَّ بِهِمْ طَيْرٌ يَشْتَهُونَهُ قَالُوا سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ فَيَأْتِيهِمُ الْمَلَكُ بِذَلِكَ الْمُشْتَهَى، فَقَدْ خَرَجَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا اشْتَهَوُا الشَّيْءَ قَالُوا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ دَعْوَاهُمْ مَا حَصَلَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ التَّمَنِّي، وَفِي هَذَا التَّفْسِيرِ وَجْهٌ آخَرُ هُوَ أَفْضَلُ وَأَشْرَفُ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ تَمَنِّيَهُمْ فِي الْجَنَّةِ أَنْ يُسَبِّحُوا اللَّه تَعَالَى، أَيْ تَمَنِّيهِمْ لِمَا يَتَمَنَّوْنَهُ، لَيْسَ إِلَّا فِي تَسْبِيحِ اللَّه تَعَالَى وَتَقْدِيسِهِ وَتَنْزِيهِهِ. السَّابِعُ: قَالَ الْقَفَّالُ أَيْضًا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي الدَّعْوَى مَا كَانُوا يَتَدَاعَوْنَهُ فِي الدُّنْيَا فِي أَوْقَاتِ حُرُوبِهِمْ مِمَّنْ يَسْكُنُونَ إِلَيْهِ وَيَسْتَنْصِرُونَهُ، كَقَوْلِهِمْ: يَا آلَ فُلَانٍ، فَأَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ أُنْسَهُمْ فِي الْجَنَّةِ بِذِكْرِهِمُ اللَّه تَعَالَى، وَسُكُونَهِمْ بِتَحْمِيدِهِمُ اللَّه وَلَذَّتَهُمْ بِتَمْجِيدِهِمُ اللَّه تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ جَعَلُوا هَذَا الذِّكْرَ عَلَامَةً عَلَى طَلَبِ الْمُشْتَهَيَاتِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إِذَا مَرَّ بهم طيرا اشْتَهَوْهُ قَالُوا سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ فَيُؤْتَوْنَ بِهِ، فَإِذَا نَالُوا مِنْهُ شَهْوَتَهُمْ قَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ

الْعالَمِينَ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَوْلُهُ: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ عَلَمٌ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالْخُدَّامِ، فَإِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ أَتَوْهُمْ بِمَا يَشْتَهُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ عِنْدِي ضَعِيفٌ جِدًّا، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ حَاصِلَ هَذَا الْكَلَامِ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ جَعَلُوا هَذَا الذِّكْرَ الْعَالِيَ الْمُقَدَّسَ عَلَامَةً عَلَى طَلَبِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَنْكُوحِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْخَسَاسَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ فَإِذَا اشْتَهَوْا أَكْلَ ذَلِكَ الطَّيْرِ، فَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى الطَّلَبِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِهِمْ حَاجَةٌ إِلَى الطَّلَبِ، فَقَدْ سَقَطَ هَذَا الْكَلَامُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي صَرْفَ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ الشَّرِيفِ الْعَالِي إِلَى مَحْمَلٍ خَسِيسٍ لَا إِشْعَارَ لِلَّفْظِ بِهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ نَقُولَ: الْمُرَادُ اشْتِغَالُ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِتَقْدِيسِ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَمْجِيدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، لِأَجْلِ أَنَّ سَعَادَتَهُمْ فِي هَذَا الذِّكْرِ وَابْتِهَاجَهُمْ بِهِ وَسُرُورَهُمْ بِهِ، وَكَمَالَ حَالِهِمْ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنْهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ ثُمَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي الْآيَةِ وُجُوهٌ: / أَحَدُهَا: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ الْمُتَّقِينَ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ، كَمَا ذَكَرَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ [يُونُسَ: 4] فَإِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَوَجَدُوا تِلْكَ النِّعَمَ الْعَظِيمَةَ، عَرَفُوا أَنَّ اللَّه تَعَالَى كَانَ صَادِقًا فِي وَعْدِهِ إِيَّاهُمْ بِتِلْكَ النِّعَمِ، فَعِنْدَ هَذَا قَالُوا: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ أَيْ نُسَبِّحُكَ عَنِ الْخُلْفِ فِي الْوَعْدِ وَالْكَذِبِ فِي الْقَوْلِ. وَثَانِيهَا: أَنْ نَقُولَ: غَايَةُ سَعَادَةِ السُّعَدَاءِ، وَنِهَايَةُ دَرَجَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ اسْتِسْعَادُهُمْ بِمَرَاتِبِ مَعَارِفِ الْجَلَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْرِفَةَ ذَاتِ اللَّه تَعَالَى وَالِاطِّلَاعَ عَلَى كُنْهِ حَقِيقَتِهِ مِمَّا لَا سَبِيلَ لِلْخَلْقِ إِلَيْهِ، بَلِ الْغَايَةُ الْقُصْوَى مَعْرِفَةُ صِفَاتِهِ السَّلْبِيَّةِ أَوْ صِفَاتِهِ الْإِضَافِيَّةِ. أَمَّا الصِّفَاتُ السَّلْبِيَّةُ فَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ، وَأَمَّا الصِّفَاتُ الْإِضَافِيَّةُ فَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِصِفَاتِ الْإِكْرَامِ، فَلِذَلِكَ كَانَ كَمَالُ الذِّكْرِ الْعَالِي مَقْصُورًا عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرَّحْمَنِ: 78] وَكَانَ صلى اللَّه عليه وسلم يقول: «ألظوا بيا ذا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» وَلَمَّا كَانَتِ السُّلُوبُ مُتَقَدِّمَةٌ بِالرُّتْبَةِ عَلَى الْإِضَافَاتِ، لَا جَرَمَ كَانَ ذِكْرُ الْجَلَالِ مُتَقَدِّمًا عَلَى ذِكْرِ الْإِكْرَامِ فِي اللَّفْظِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ غَايَةَ سَعَادَةِ السُّعَدَاءِ لَيْسَ إِلَّا فِي هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ، لَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَوْنَهُمْ مُوَاظِبِينَ عَلَى هَذَا الذِّكْرِ الْعَالِي الْمُقَدَّسِ، وَلَمَّا كَانَ لَا نِهَايَةَ لِمَعَارِجِ جَلَالِ اللَّه وَلَا غَايَةَ لِمَدَارِجِ إِلَهِيَّتِهِ وَإِكْرَامِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَكَذَلِكَ لَا نِهَايَةَ لِدَرَجَاتِ تَرَقِّي الْأَرْوَاحِ الْمُقَدَّسَةِ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ كَانُوا قَبْلَ تَخْلِيقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُشْتَغِلِينَ بِهَذَا الذِّكْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [الْبَقَرَةِ: 30] فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ أَلْهَمَ السُّعَدَاءَ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ، حَتَّى أَتَوْا بِهَذَا التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ، لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَتَى بِهِ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ قَبْلَ خَلْقِ الْعَالَمِ مِنَ الذِّكْرِ الْعَالِي، فَهُوَ بِعَيْنِهِ أَتَى بِهِ السُّعَدَاءُ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَعْدَ انْقِرَاضِ الْعَالَمِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الذِّكْرُ مُشْتَمِلًا عَلَى هَذَا الشَّرَفِ الْعَالِي، لَا جَرَمَ جَاءَتِ الرِّوَايَةُ بِقِرَاءَتِهِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا كَبَّرَ قَالَ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ تَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ» . الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ مَرَاتِبِ سَعَادَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: تَحِيَّةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ تَكُونُ بِالسَّلَامِ، وَتَحِيَّةُ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ بِالسَّلَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرَّعْدِ: 23] وَتَحِيَّةُ اللَّه تَعَالَى لَهُمْ أَيْضًا بِالسَّلَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ

رَحِيمٍ [يس: 58] قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ هَذَا مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ مُوَاظَبَتَهُمْ عَلَى ذِكْرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، مُشْعِرَةٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا فِي مَنْزِلِ الْآفَاتِ وَفِي مَعْرِضِ الْمَخَافَاتِ، فَإِذَا أُخْرِجُوا مِنَ الدُّنْيَا وَوَصَلُوا إِلَى كَرَامَةِ اللَّه تَعَالَى، فَقَدْ صَارُوا سَالِمِينَ/ مِنَ الْآفَاتِ، آمِنِينَ مِنَ الْمَخَافَاتِ وَالنُّقْصَانَاتِ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ [فَاطِرٍ: 34، 35] . الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ مَرَاتِبِ سَعَادَاتِهِمْ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلُوا هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْعَالِيَةَ الْمُقَدَّسَةَ عَلَى أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِسَبَبِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَقَالُوا: إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا اشْتَهَوْا شَيْئًا قَالُوا: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَإِذَا أَكَلُوا وَفَرَغُوا قَالُوا: الْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهَذَا الْقَائِلُ مَا تَرَقَّى نَظَرُهُ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ عَنِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، وَحَقِيقٌ لِمِثْلِ هَذَا الْإِنْسَانِ أَنْ يُعَدَّ فِي زُمْرَةِ الْبَهَائِمِ. وَأَمَّا الْمُحِقُّونَ الْمُحَقِّقُونَ، فَقَدْ تَرَكُوا ذَلِكَ، وَلَهُمْ فِيهِ أَقْوَالٌ. رَوَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُلْهَمُونَ الْحَمْدَ وَالتَّسْبِيحَ كَمَا تُلْهَمُونَ أنفاسكم» وقال الزجاج: أعلم اللَّه تعالى أن أهل الجنة يفتتحون بتعظيم اللَّه تعالى وتنزيهه ويختتمون بشكره والثناء عليه، وأقول: عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ وُجُوهٌ أُخَرُ: فَأَحَدُهَا: أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَمَّا اسْتَسْعَدُوا بِذِكْرِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَعَايَنُوا مَا هُمْ فِيهِ مِنَ السَّلَامَةِ عَنِ الْآفَاتِ وَالْمَخَافَاتِ، عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ وَالْمَقَامَاتِ الْقُدْسِيَّةِ، إِنَّمَا تَيَسَّرَتْ بِإِحْسَانِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَإِفْضَالِهِ وَإِنْعَامِهِ، فَلَا جَرَمَ اشْتَغَلُوا بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ فَقَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخَتْمُ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ لِأَنَّ اشْتِغَالَهُمْ بِتَسْبِيحِ اللَّه تَعَالَى وَتَمْجِيدِهِ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَالِاشْتِغَالُ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ رُؤْيَةِ تِلْكَ النِّعْمَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَ الْخَتْمُ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ بِحَسَبِ قُوَّتِهِ مِعْرَاجًا، فَتَارَةً يَنْزِلُ عَنْ ذَلِكَ الْمِعْرَاجِ، وَتَارَةً يَصْعَدُ إِلَيْهِ وَمِعْرَاجُ الْعَارِفِينَ الصَّادِقِينَ، مَعْرِفَةُ اللَّه تَعَالَى وَتَسْبِيحُ اللَّه وَتَحْمِيدُ اللَّه، فَإِذَا قَالُوا: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ فَهُمْ فِي عَيْنِ الْمِعْرَاجِ، وَإِذَا نَزَلُوا مِنْهُ إِلَى عَالَمِ الْمَخْلُوقَاتِ كَانَ الْحَاصِلُ عِنْدَ ذَلِكَ النُّزُولِ إِفَاضَةُ الْخَيْرِ عَلَى جَمِيعِ الْمُحْتَاجِينَ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ثُمَّ إَنَّهُ مَرَّةً أُخْرَى يَصْعَدُ إِلَى مِعْرَاجِهِ، وَعِنْدَ الصُّعُودِ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ الْعَالِيَةُ إِشَارَةٌ إِلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْعَبْدِ بِسَبَبِ النُّزُولِ وَالْعُرُوجِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ نَقُولَ: إِنَّ قَوْلَنَا اللَّه اسْمٌ لَذَّاتِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، فَتَارَةً يَنْظُرُ الْعَبْدُ إِلَى صِفَاتِ الْجَلَالِ، وَهِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: سُبْحانَكَ ثُمَّ يُحَاوِلُ التَّرَقِّيَ مِنْهَا إِلَى حَضْرَةِ جَلَالِ الذَّاتِ، تَرَقِّيًا يَلِيقُ بِالطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَهِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ فَإِذَا عَرَجَ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَاخْتَرَقَ فِي أَوَائِلِ تِلْكَ الْأَنْوَارِ رَجَعَ إِلَى عَالَمِ الْإِكْرَامِ، وَهُوَ/ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فَهَذِهِ كَلِمَاتٌ خَطَرَتْ بِالْبَالِ وَدَارَتْ فِي الْخَيَالِ، فَإِنْ حَقَّتْ فَالتَّوْفِيقُ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَالتُّكْلَانُ عَلَى رَحْمَةِ اللَّه تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: (أَنْ) فِي قَوْلِهِ: أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الشَّدِيدَةِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَعْمَلْ لِخُرُوجِهَا بِالتَّخْفِيفِ عَنْ شَبَهِ الفعل كقوله:

[سورة يونس (10) : آية 11]

أَنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى وَيَنْتَعِلُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ هَالِكٌ. وَقَالَ صَاحِبُ «النَّظْمِ» (أَنْ) هَاهُنَا زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَآخِرُ دَعْوَاهُمُ الْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَرَأَ بعضهم أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بالتشديد، ونصب الحمد. [سورة يونس (10) : آية 11] وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي أَنَّ ابْتِدَاءَ هَذِهِ السُّورَةِ فِي ذِكْرِ شُبُهَاتِ الْمُنْكِرِينَ لِلنُّبُوَّةِ مَعَ الْجَوَابِ عَنْهَا. فَالشُّبْهَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْقَوْمَ تَعَجَّبُوا مِنْ تَخْصِيصِ اللَّه تَعَالَى مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالنُّبُوَّةِ فَأَزَالَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ التَّعَجُّبَ بِقَوْلِهِ: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ [يُونُسَ: 2] ثُمَّ ذَكَرَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَدَلَائِلَ صِحَّةِ الْمَعَادِ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّهُ يَقُولُ: إِنِّي مَا جِئْتُكُمْ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِقْرَارِ بِالْمَعَادِ، وَقَدْ دَلَّلْتُ عَلَى صِحَّتِهَا، فَلَمْ يَبْقَ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ نُبُوَّتِي مَعْنًى. وَالشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: لِلْقَوْمِ أَنَّهُمْ كَانُوا أَبَدًا يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا فِي ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. فَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ ذَكَرَ فِيهِ وُجُوهًا أُخْرَى: فَالْأَوَّلُ: قَالَ الْقَاضِي: لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فِيمَا تَقَدَّمَ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ أَتْبَعَهُ بِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ مِنْ حَقِّهِمَا أَنْ يَتَأَخَّرَا عَنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِأَنَّ حُصُولَهُمَا فِي الدُّنْيَا كَالْمَانِعِ مِنْ بَقَاءِ التَّكْلِيفِ. وَالثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْكُفَّارَ بِأَنَّهُمْ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّه وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا/ وَاطْمَأَنُّوا بِهَا، وَكَانُوا عَنْ آيَاتِ اللَّه غَافِلِينَ بَيَّنَ أَنَّ مِنْ غَفْلَتِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ مَتَى أَنْذَرَهُمُ اسْتَعْجَلُوا الْعَذَابَ جَهْلًا مِنْهُمْ وَسَفَهًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مَتَى خُوِّفُوا بِنُزُولِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا اسْتَعْجَلُوا ذَلِكَ الْعَذَابَ كَمَا قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَالِ: 32] وَقَالَ تَعَالَى: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ [الْمَعَارِجِ: 1] الْآيَةَ. ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمَّا تُوُعِّدُوا بِعَذَابِ الْآخِرَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [يونس: 8] اسْتَعْجَلُوا ذَلِكَ الْعَذَابَ، وَقَالُوا: مَتَى يَحْصُلُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها [الشُّورَى: 18] وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إِلَى قَوْلِهِ: آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [يُونُسَ: 48- 51] وَقَالَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ [الرَّعْدِ: 6] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا مَصْلَحَةَ لَهُمْ فِي تَعْجِيلِ إِيصَالِ الشَّرِّ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَوْصَلَ ذَلِكَ الْعِقَابَ إِلَيْهِمْ لَمَاتُوا وَهَلَكُوا، لِأَنَّ تَرْكِيبَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَلَا صَلَاحَ فِي إِمَاتَتِهِمْ، فَرُبَّمَا آمَنُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وَرُبَّمَا خَرَجَ مِنْ صُلْبِهِمْ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُعَاجِلَهُمْ بِإِيصَالِ ذَلِكَ الشَّرِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي لَفْظِ الْآيَةِ إشكال، وهو أن يقال: كيف قابل التعجيل بِالِاسْتِعْجَالِ، وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ

[سورة يونس (10) : آية 12]

يُقَابِلَ التَّعْجِيلَ بِالتَّعْجِيلِ، وَالِاسْتِعْجَالَ بِالِاسْتِعْجَالِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَصْلُ هَذَا الْكَلَامِ، وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّه لِلنَّاسِ الشَّرَّ تَعْجِيلَهُ لَهُمُ الْخَيْرَ إِلَّا أَنَّهُ وَضَعَ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ مَوْضِعَ تَعْجِيلِهِ لَهُمُ الْخَيْرَ إِشْعَارًا بِسُرْعَةِ إِجَابَتِهِ وَإِسْعَافِهِ بِطَلَبِهِمْ، حَتَّى كَأَنَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ تَعْجِيلٌ لَهُمْ. الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ حَقِيقَةُ قَوْلِكَ عَجَّلْتُ فُلَانًا طَلَبْتَ عَجَلَتَهُ، وَكَذَلِكَ عَجَّلَتُ الْأَمْرَ إِذَا أَتَيْتَ بِهِ عَاجِلًا، كَأَنَّكَ طَلَبْتَ فِيهِ الْعَجَلَةَ وَالِاسْتِعْجَالُ أَشْهَرُ وَأَظْهَرُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَصِيرُ مَعْنَى الْآيَةِ لَوْ أَرَادَ اللَّه عَجَلَةَ الشَّرِّ لِلنَّاسِ كَمَا أَرَادُوا عَجَلَةَ الْخَيْرِ لَهُمْ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ، قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْوَجْهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْعُدُولِ عَنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ عَجَّلَ شَيْئًا فَقَدْ طَلَبَ تَعْجِيلَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مُعَجِّلًا كَانَ مُسْتَعْجِلًا، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ، وَلَوِ اسْتَعْجَلَ اللَّه لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ بِتَكْوِينِ الْعَجَلَةِ وَوَصَفَهُمْ بِطَلَبِهَا، لِأَنَّ اللَّائِقَ بِهِ تَعَالَى هُوَ التَّكْوِينُ وَاللَّائِقُ بِهِمْ هُوَ الطَّلَبُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى سمى العذاب شرا في هذه الآية، لأن أَذًى فِي حَقِّ الْمُعَاقَبِ وَمَكْرُوهٌ عِنْدَهُ كَمَا أَنَّهُ سَمَّاهُ سَيِّئَةً فِي قَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ [الرعد: 6] وَفِي قَوْلِهِ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ لَقَضَى بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْقَافِ أَجَلَهُمْ بِالنَّصْبِ، يَعْنِي لَقَضَى اللَّه، وينصره قراءة عبد اللَّه لقضينا إِلَيْهِمْ أَجَلَهُمْ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الضَّادِ وَفَتْحِ الْيَاءِ أَجَلُهُمْ بِالرَّفْعِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْمُرَادُ مِنِ اسْتِعْجَالِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْخَيْرَ هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ نُزُولِ الشَّدَائِدِ يَدْعُونَ اللَّه تَعَالَى بِكَشْفِهَا، وَقَدْ حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [النَّمْلِ: 53] وَقَوْلِهِ: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا [يونس: 12] . الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: لِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ فَيَقُولَ: كَيْفَ اتَّصَلَ قَوْلُهُ: فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا بِمَا قَبْلَهُ وَمَا مَعْنَاهُ؟. وَجَوَابُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى نَفْيِ التَّعْجِيلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا يُعَجِّلُ لَهُمُ الشَّرَّ، وَلَا يَقْضِي إِلَيْهِمْ أَجَلَهُمْ فَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ أَيْ فَيُمْهِلُهُمْ مَعَ طُغْيَانِهِمْ إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالطُّغْيَانِ وَالْعَمَهِ امْتَنَعَ أَنْ لَا يَكُونُوا كَذَلِكَ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَنْقَلِبَ خَبَرُ اللَّه الصدق كذبا وعلمه جهله وَحُكْمُهُ بَاطِلًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ، ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ هَذَا كَلَّفَهُمْ وَذَلِكَ يَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى التكليف بالجمع بين الضدين. [سورة يونس (10) : آية 12] وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ الْعَذَابَ

عَلَى الْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا لَهَلَكَ وَلَقُضِيَ عَلَيْهِ، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ ضَعْفِهِ وَنِهَايَةِ عَجْزِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ مُؤَكِّدًا لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْعَذَابَ لَمَاتَ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَسْتَعْجِلُونَ فِي نُزُولِ الْعَذَابِ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي ذَلِكَ الطَّلَبِ وَالِاسْتِعْجَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ نَزَلَ بِالْإِنْسَانِ أَدْنَى شَيْءٍ يَكْرَهُهُ وَيُؤْذِيهِ، فَإِنَّهُ يَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي إِزَالَتِهِ عَنْهُ/ وَفِي دَفْعِهِ عَنْهُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ صَادِقًا فِي هَذَا الطَّلَبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، بَيَانُ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَلِيلُ الصَّبْرِ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ، قَلِيلُ الشُّكْرِ عِنْدَ وِجْدَانِ النَّعْمَاءِ وَالْآلَاءِ، فَإِذَا مَسَّهُ الضُّرُّ أَقْبَلَ عَلَى التَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ مُضْطَجِعًا أَوْ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا مُجْتَهِدًا فِي ذَلِكَ الدُّعَاءِ طَالِبًا مِنَ اللَّه تَعَالَى إزالة تلك المحنة، وتبديلها بالنعمة والمحنة، فَإِذَا كَشَفَ تَعَالَى عَنْهُ ذَلِكَ بِالْعَافِيَةِ أَعْرَضَ عَنِ الشُّكْرِ، وَلَمْ يَتَذَكَّرْ ذَلِكَ الضُّرَّ وَلَمْ يَعْرِفْ قَدْرَ الْإِنْعَامِ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَدْعُ اللَّه تَعَالَى لِكَشْفِ ضُرِّهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ وَشِدَّةِ اسْتِيلَاءِ الْغَفْلَةِ وَالشَّهْوَةِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ مَذْمُومَةٌ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ صَابِرًا عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ شَاكِرًا عِنْدَ الْفَوْزِ بِالنَّعْمَاءِ، وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ كَثِيرَ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ فِي أَوْقَاتِ الرَّاحَةِ وَالرَّفَاهِيَةِ حَتَّى يَكُونَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ فِي وَقْتِ الْمِحْنَةِ، عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ عِنْدَ الْكَرْبِ وَالشَّدَائِدِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ عِنْدَ الرَّخَاءِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا ابْتُلِيَ بِبَلِيَّةٍ وَمِحْنَةٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ رِعَايَةُ أُمُورٍ: فَأَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِقَضَاءِ اللَّه تَعَالَى غَيْرَ مُعْتَرِضٍ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَالِكٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَمَلِكٌ بِالِاسْتِحْقَاقِ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ فِي مُلْكِهِ وَمِلْكِهِ مَا شَاءَ كَمَا يَشَاءُ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى حَكِيمٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ فِعْلِ الْبَاطِلِ وَالْعَبَثِ، فَكُلُّ مَا فَعَلَهُ فَهُوَ حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَالَى إِنْ أَبْقَى عَلَيْهِ تِلْكَ الْمِحْنَةَ فَهُوَ عَدْلٌ، وَإِنْ أَزَالَهَا عَنْهُ فَهُوَ فَضْلٌ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّبْرُ وَالسُّكُوتُ وَتَرْكُ الْقَلَقِ وَالِاضْطِرَابِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِنِ اشْتَغَلَ بِذِكْرِ اللَّه تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بَدَلًا عَنِ الدُّعَاءِ كَانَ أَفْضَلَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِكَايَةً عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» وَلِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالذِّكْرِ اشْتِغَالٌ بِالْحَقِّ، وَالِاشْتِغَالَ بِالدُّعَاءِ اشْتِغَالٌ بِطَلَبِ حَظِّ النَّفْسِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَفْضَلُ، ثُمَّ إِنِ اشْتَغَلَ بِالدُّعَاءِ وَجَبَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ إِزَالَتُهُ صَلَاحًا فِي الدِّينِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ رَاجِحًا عِنْدَهُ عَلَى الدُّنْيَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِذَا أَزَالَ عَنْهُ تِلْكَ الْبَلِيَّةَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَالِغَ فِي الشُّكْرِ وَأَنْ لَا يَخْلُوَ عَنْ ذَلِكَ الشُّكْرِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَأَحْوَالِ الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، فَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الصَّحِيحُ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ. وَهَاهُنَا مَقَامٌ آخَرُ أَعْلَى وَأَفْضَلُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ التَّحْقِيقِ قَالُوا: إِنَّ مَنْ كَانَ فِي وَقْتِ وِجْدَانِ النِّعْمَةِ مَشْغُولًا بِالنِّعْمَةِ لَا بِالْمُنْعِمِ كَانَ عِنْدَ الْبَلِيَّةِ مَشْغُولًا بِالْبَلَاءِ لَا بِالْمُبْلِي، وَمِثْلُ هَذَا الشَّخْصِ يَكُونُ أَبَدًا فِي الْبَلَاءِ، أَمَّا فِي وَقْتِ الْبَلَاءِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْبَلَاءِ، وَأَمَّا فِي وَقْتِ حُصُولِ النَّعْمَاءِ فَإِنَّ خَوْفَهُ مِنْ/ زَوَالِهَا يَكُونُ أَشَدَّ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ، فَإِنَّ النِّعْمَةَ كُلَّمَا كَانَتْ أَكْمَلَ وَأَلَذَّ وَأَقْوَى وَأَفْضَلَ، كَانَ خَوْفُ زَوَالِهَا أَشَدَّ إِيذَاءً وَأَقْوَى إِيحَاشًا، فَثَبَتَ أَنَّ مَنْ كَانَ مَشْغُولًا بِالنِّعْمَةِ كَانَ أَبَدًا فِي لُجَّةِ الْبَلِيَّةِ أَمَّا مَنْ كَانَ فِي وَقْتِ النِّعْمَةِ مَشْغُولًا بِالْمُنْعِمِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِ الْبَلَاءِ مَشْغُولًا بِالْمُبْلِي. وَإِذَا كَانَ الْمُنْعِمُ وَالْمُبْلِي وَاحِدًا، كَانَ نَظَرُهُ أَبَدًا عَلَى مَطْلُوبٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ مَطْلُوبُهُ مُنَزَّهًا عَنِ التَّغَيُّرِ مُقَدَّسًا عَنِ

التَّبَدُّلِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فِي وَقْتِ الْبَلَاءِ وَفِي وَقْتِ النَّعْمَاءِ، غَرِقًا فِي بَحْرِ السَّعَادَاتِ، وَاصِلًا إِلَى أَقْصَى الْكَمَالَاتِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْبَيَانِ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ فَلْيَكُنْ مِنَ الْوَاصِلِينَ إِلَى الْعَيْنِ دُونَ السَّامِعِينَ لِلْأَثَرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْإِنْسَانَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ الْكَافِرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَالَغَ وَقَالَ: كُلُّ مَوْضِعٍ فِي الْقُرْآنِ وَرَدَ فِيهِ ذِكْرُ الْإِنْسَانِ، فَالْمُرَادُ هُوَ الْكَافِرُ، وهذا باطل، لأن قوله: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ [الِانْشِقَاقِ: 6، 7] لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُؤْمِنَ دَاخِلٌ فِيهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ [الدَّهْرِ: 1] وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 12] وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [ق: 16] فَالَّذِي قَالُوهُ بَعِيدٌ، بَلِ الْحَقُّ أَنْ نَقُولَ: اللَّفْظُ الْمُفْرَدُ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ حُكْمُهُ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ هُنَاكَ مَعْهُودٌ سَابِقٌ انْصَرَفَ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ هُنَاكَ مَعْهُودٌ سَابِقٌ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ صَوْنًا لَهُ عَنِ الْإِجْمَالِ وَالتَّعْطِيلِ. وَلَفْظُ الْإِنْسَانَ هَاهُنَا لَائِقٌ بِالْكَافِرِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمَذْكُورَ لَا يَلِيقُ بِالْمُسْلِمِ الْبَتَّةَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ: دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ ذِكْرُ أَحْوَالِ الدُّعَاءِ فَقَوْلُهُ: لِجَنْبِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ بِدَلِيلِ عَطْفِ الْحَالَيْنِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: دَعَانَا مُضْطَجِعًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا. فَإِنْ قَالُوا: فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ؟ قُلْنَا: مَعْنَاهُ: إِنَّ الْمَضْرُورَ لَا يَزَالُ دَاعِيًا لَا يَفْتُرُ عَنِ الدُّعَاءِ إِلَى أَنْ يَزُولَ عَنْهُ الضُّرُّ، سَوَاءٌ كَانَ مُضْطَجِعًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الثَّلَاثَةُ تَعْدِيدًا لِأَحْوَالِ الضُّرِّ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا دَعَانَا وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَالْأَوَّلُ: أَصَحُّ، لِأَنَّ ذِكْرَ الدُّعَاءِ أَقْرَبُ إِلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ مِنْ ذِكْرِ الضُّرِّ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ أَحْوَالٌ لِلدُّعَاءِ يَقْتَضِي مُبَالَغَةَ الْإِنْسَانِ فِي الدُّعَاءِ، ثُمَّ إِذَا تَرَكَ الدُّعَاءَ بِالْكُلِّيَّةِ وَأَعْرَضَ عَنْهُ كَانَ ذَلِكَ أَعْجَبَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قَوْلِهِ: مَرَّ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ مَضَى عَلَى طَرِيقَتِهِ الْأُولَى/ قَبْلَ مَسِّ الضُّرِّ وَنَسِيَ حَالَ الْجُهْدِ. الثَّانِي: مَرَّ عَنْ مَوْقِفِ الِابْتِهَالِ وَالتَّضَرُّعِ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ لَا عَهْدَ لَهُ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ تَقْدِيرُهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَدْعُنَا، ثُمَّ أَسْقَطَ الضَّمِيرَ عَنْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّخْفِيفِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا [يُونُسَ: 45] قَالَ الْحَسَنُ: نَسِيَ مَا دَعَا اللَّه فِيهِ، وَمَا صَنَعَ اللَّه بِهِ فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ الْبَلَاءِ عَنْهُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «النَّظْمِ» : قَوْلُهُ: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ إِذَا مَوْضُوعَةٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ. ثُمَّ قَالَ: فَلَمَّا كَشَفْنا وَهَذَا لِلْمَاضِي، فَهَذَا النَّظْمُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ هَكَذَا كَانَ فِيمَا مَضَى وَهَكَذَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. فَدَلَّ مَا فِي الْآيَةِ مِنَ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْفِعْلِ الْمَاضِي عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَعْنَى الْمَاضِي، وَأَقُولُ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ مُسَاعِدٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَذَلِكَ لأن

[سورة يونس (10) : الآيات 13 إلى 14]

الْإِنْسَانَ جُبِلَ عَلَى الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ وَقِلَّةِ الصَّبْرِ، وَجُبِلَ أَيْضًا عَلَى الْغُرُورِ وَالْبَطَرِ وَالنِّسْيَانِ وَالتَّمَرُّدِ وَالْعُتُوِّ، فَإِذَا نَزَلَ بِهِ الْبَلَاءُ حَمَلَهُ ضَعْفُهُ وَعَجْزُهُ عَلَى كَثْرَةِ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، وَإِظْهَارِ الْخُضُوعِ وَالِانْقِيَادِ، وَإِذَا زَالَ الْبَلَاءُ وَوَقَعَ فِي الرَّاحَةِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ النِّسْيَانُ فَنَسِيَ إِحْسَانَ اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ، وَوَقَعَ فِي الْبَغْيِ وَالطُّغْيَانِ وَالْجُحُودِ وَالْكُفْرَانِ فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ مِنْ نَتَائِجِ طَبِيعَتِهِ وَلَوَازِمِ خِلْقَتِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينُ مَعْذُورُونَ وَلَا عُذْرَ لَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْمُزَيِّنَ هُوَ اللَّه تَعَالَى أَوِ النَّفْسُ أَوِ الشَّيْطَانُ، فَرْعٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ وَالْقَدْرِ وَهُوَ مَعْلُومٌ. الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ سَمَّى اللَّه سُبْحَانَهُ الْكَافِرَ مُسْرِفًا. وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: الْكَافِرُ مُسْرِفٌ فِي نَفْسِهِ وَفِي مَالِهِ وَمُضَيِّعٌ لَهُمَا، أَمَّا فِي النَّفْسِ فَلِأَنَّهُ جَعَلَهَا عَبْدًا لِلْوَثَنِ، وَأَمَّا فِي الْمَالِ فَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يُضَيِّعُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالِحَامِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّ مَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ كَثِيرَ التَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ، وَعِنْدَ زَوَالِ الْبَلَاءِ وَنُزُولِ الْآلَاءِ مُعْرِضًا عَنْ ذِكْرِ اللَّه مُتَغَافِلًا عَنْهُ غَيْرَ مُشْتَغِلٍ بِشُكْرِهِ، كَانَ مُسْرِفًا فِي أَمْرِ دِينِهِ مُتَجَاوِزًا لِلْحَدِّ فِي الْغَفْلَةِ عَنْهُ، وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمَرْءَ كَمَا يَكُونُ مُسْرِفًا فِي الْإِنْفَاقِ فَكَذَلِكَ يَكُونُ مُسْرِفًا فِيمَا يَتْرُكُهُ مِنْ وَاجِبٍ أَوْ يُقْدِمُ عَلَيْهِ مِنْ قَبِيحٍ، إِذَا تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِيهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الَّذِي خَطَرَ بِالْبَالِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، أَنَّ الْمُسْرِفَ هُوَ الَّذِي يُنْفِقُ الْمَالَ/ الْكَثِيرَ لِأَجْلِ الْغَرَضِ الْخَسِيسِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا خَسِيسَةٌ جِدًّا فِي مُقَابَلَةِ سَعَادَاتِ الدَّارِ الْآخِرَةِ. واللَّه تَعَالَى أَعْطَاهُ الْحَوَاسَّ وَالْعَقْلَ وَالْفَهْمَ وَالْقُدْرَةَ لِاكْتِسَابِ تِلْكَ السَّعَادَاتِ الْعَظِيمَةِ، فَمَنْ بَذَلَ هَذِهِ الْآلَاتِ الشَّرِيفَةَ لِأَجْلِ أَنْ يَفُوزَ بِهَذِهِ السَّعَادَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ الْخَسِيسَةِ، كَانَ قَدْ أَنْفَقَ أَشْيَاءَ عَظِيمَةً كَثِيرَةً، لِأَجْلِ أَنْ يَفُوزَ بِأَشْيَاءَ حَقِيرَةٍ خَسِيسَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُسْرِفِينَ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الْكَافُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ لِلتَّشْبِيهِ وَالْمَعْنَى: كَمَا زُيِّنَ لِهَذَا الْكَافِرِ هَذَا الْعَمَلُ الْقَبِيحُ الْمُنْكَرُ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الإعراض عن الذكر ومتابعة الشهوات. [سورة يونس (10) : الآيات 13 الى 14] وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَالِ: 32] ثُمَّ إِنَّهُ أَجَابَ عَنْهُ بِأَنْ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا صَلَاحَ فِي إِجَابَةِ دُعَائِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي هَذَا الطَّلَبِ لِأَنَّهُ لَوْ نَزَلَتْ بِهِمْ آفَةٌ أَخَذُوا فِي التَّضَرُّعِ إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي إِزَالَتِهَا وَالْكَشْفِ لَهَا، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَجْرِي مَجْرَى التَّهْدِيدِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يُنْزِلُ بِهِمْ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ وَلَا يُزِيلُهُ عَنْهُمْ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَادِعًا لَهُمْ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ

[سورة يونس (10) : آية 15]

عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ، لِأَنَّهُمْ مَتَى سَمِعُوا أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ يُجِيبُ دُعَاءَهُمْ وَيُنْزِلُ عَلَيْهِمْ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ، ثُمَّ سَمِعُوا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ مِرَارًا كَثِيرَةً صَارَ ذَلِكَ رَادِعًا لَهُمْ وَزَاجِرًا عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ الْكَلَامِ، فَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ مَقْبُولٌ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صاحب «الكشاف» لما ظرف لأهلكنا، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَجاءَتْهُمْ لِلْحَالِ، أَيْ ظَلَمُوا بِالتَّكْذِيبِ وَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالدَّلَائِلِ وَالشَّوَاهِدِ عَلَى صِدْقِهِمْ وَهِيَ الْمُعْجِزَاتُ، / وَقَوْلُهُ: وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى ظَلَمُوا، وَأَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا، وَاللَّامُ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَأَنَّ اللَّه قَدْ عَلِمَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَهْلَكَهُمْ لِأَجْلِ تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ، فَكَذَلِكَ يَجْزِي كُلَّ مُجْرِمٍ، وَهُوَ وَعِيدٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ رَسُولَ اللَّه، وَقُرِئَ يَجْزِي بِالْيَاءِ وَقَوْلُهُ: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ الْخِطَابُ لِلَّذِينِ بُعِثَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَيْ اسْتَخْلَفْنَاكُمْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ الْقُرُونِ الَّتِي أَهْلَكْنَاهُمْ، لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، خَيْرًا أَوْ شَرًّا، فَنُعَامِلُكُمْ عَلَى حَسَبِ عَمَلِكُمْ. بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ جَازَ النَّظَرُ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَفِيهِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ اسْتُعِيرَ لَفْظُ النَّظَرِ لِلْعِلْمِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي لَا يَتَطَرَّقُ الشَّكُّ إِلَيْهِ، وَشُبِّهَ هَذَا الْعِلْمُ بِنَظَرِ النَّاظِرِ وَعِيَانِ الْمُعَايِنِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى مَا كَانَ عَالِمًا بِأَحْوَالِهِمْ قَبْلَ وُجُودِهِمْ. وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى يُعَامِلُ الْعِبَادَ مُعَامَلَةَ مَنْ يَطْلُبُ الْعِلْمَ بِمَا يَكُونُ مِنْهُمْ، لِيُجَازِيَهُمْ بِحَسَبِهِ كَقَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هُودٍ: 7] وَقَدْ مَرَّ نَظَائِرُ هَذَا. وَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ وَإِنَّ اللَّه مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» وَقَالَ قَتَادَةُ: صَدَقَ اللَّه رَبُّنَا مَا جَعَلَنَا خُلَفَاءَ إِلَّا لِيَنْظُرَ إِلَى أَعْمَالِنَا، فَأَرُوا اللَّه مِنْ أَعْمَالِكُمْ خَيْرًا، بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَوْضِعُ كَيْفَ نَصْبٌ بقوله: تَعْمَلُونَ لأنها حرف لاستفهام وَالِاسْتِفْهَامُ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ، وَلَوْ قُلْتَ: لِنَنْظُرَ خَيْرًا تَعْمَلُونَ أَمْ شَرًّا، كَانَ العامل في خير وشر تعملون. [سورة يونس (10) : آية 15] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ شُبُهَاتِهِمْ وَكَلِمَاتِهِمُ الَّتِي ذَكَرُوهَا فِي الطَّعْنِ فِي نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَكَاهَا اللَّه تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَأَجَابَ عَنْهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الَّذِي نَذْكُرُهُ، عَلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُرَتَّبٌ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَنَّ خَمْسَةً مِنَ الْكُفَّارِ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبِالْقُرْآنِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ،

والأسود بن عبد يغوث، والحرث بْنُ حَنْظَلَةَ، فَقَتَلَ اللَّه كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِطَرِيقٍ آخَرَ، كَمَا قَالَ: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الْحِجْرِ: 95] فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُمْ كُلَّمَا تُلِيَ عَلَيْهِمْ آيَاتٌ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ وَصْفَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّه أُرِيدَ بِهِ كَوْنُهُمْ مُكَذِّبِينَ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، مُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، ثُمَّ فِي تَقْرِيرِ حُسْنِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَصَمُّ: لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا أَيْ لَا يَرْجُونَ فِي لِقَائِنَا خَيْرًا عَلَى طَاعَةٍ، فَهُمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ أَبْعَدُ أَنْ يَخَافُوهَا. الثَّانِي: قَالَ الْقَاضِي: الرَّجَاءُ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْمَنَافِعِ، لَكِنَّهُ قَدْ يَدُلُّ عَلَى الْمَضَارِّ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ مَنْ لَا يَرْجُو لِقَاءَ مَا وَعَدَ رَبُّهُ مِنَ الثَّوَابِ، وَهُوَ الْقَصْدُ بِالتَّكْلِيفِ، لَا يَخَافُ أَيْضًا مَا يُوعِدُهُ بِهِ مِنَ الْعِقَابِ، فَصَارَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ جَحْدِهِمْ لِلْبَعْثِ وَالنُّشُورِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الْقَاضِي قَرِيبٌ مِنْ كَلَامِ الْأَصَمِّ، إِلَّا أَنَّ الْبَيَانَ التَّامَّ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ رَاجِيًا ثَوَابَ اللَّه وَخَائِفًا مِنْ عِقَابِهِ، وَعَدَمُ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَلْزُومِ، فَلَزِمَ مِنْ نَفْيِ الرَّجَاءِ نَفْيُ الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ فَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي حُسْنِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدَ أَمْرَيْنِ عَلَى الْبَدَلِ: فَالْأَوَّلُ: أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُبَدِّلَ هَذَا الْقُرْآنَ وَفِيهِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّهُ إِذَا بَدَّلَ هَذَا الْقُرْآنَ بِغَيْرِهِ، فَقَدْ أَتَى بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا وَاحِدًا. وَأَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ عَيْنُ الْآخَرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اقْتَصَرَ فِي الْجَوَابِ عَلَى نَفْيِ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ هُوَ نَفْسُ الْآخَرِ، كَانَ إِلْقَاءُ اللَّفْظِ عَلَى التَّرْدِيدِ وَالتَّخْيِيرِ فِيهِ بَاطِلًا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ غَيْرُ الْآخَرِ، فَالْإِتْيَانُ بِكِتَابٍ آخَرَ، لَا عَلَى تَرْتِيبِ هَذَا الْقُرْآنَ وَلَا عَلَى نَظْمِهِ، يَكُونُ إِتْيَانًا بِقُرْآنٍ آخَرَ، وَأَمَّا إِذَا أَتَى بِهَذَا الْقُرْآنِ إِلَّا أَنَّهُ وَضَعَ مَكَانَ ذَمِّ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ مَدْحَهَا، وَمَكَانَ آيَةِ رَحْمَةٍ آيَةَ عَذَابٍ، كَانَ هَذَا تَبْدِيلًا، أَوْ نَقُولُ: الْإِتْيَانُ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا هُوَ أَنْ/ يَأْتِيَهُمْ بِكِتَابٍ آخَرَ سِوَى هَذَا الْكِتَابِ مَعَ كَوْنِ هَذَا الْكِتَابِ بَاقِيًا بِحَالِهِ، وَالتَّبْدِيلُ هُوَ أَنْ يُغَيِّرَ هَذَا الْكِتَابَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ اكْتَفَى فِي الْجَوَابِ عَلَى نَفْيِ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ. قُلْنَا: الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ عَنْ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ هُوَ عَيْنُ الْجَوَابِ عَنِ الْقِسْمِ الثَّانِي وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَعَ الِاكْتِفَاءُ بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عَنْ ذِكْرِ الثَّانِي. وَإِنَّمَا قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ عَيْنُ الْجَوَابِ عَنِ الثَّانِي لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ وَارِدٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَلَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ، كَمَا لَا يَقْدِرُ سَائِرُ الْعَرَبِ عَلَى مِثْلِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُتَقَرِّرًا فِي نُفُوسِهِمْ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ من تحديد لَهُمْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ، فَقَدْ دَلَّهُمْ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّبْدِيلَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِمْكَانِ مِنَ الْمَجِيءِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ، فَجَوَابُهُ عَنِ الْأَسْهَلِ يَكُونُ جَوَابًا عَنِ الْأَصْعَبِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِتْيَانِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ وَبَيْنَ تَبْدِيلِ هَذَا الْقُرْآنِ، وَجَعَلَ قَوْلَهُ: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ جَوَابًا عَنِ الْأَمْرَيْنِ، إِلَّا أَنَّهُ ضَعِيفٌ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ.

[سورة يونس (10) : آية 16]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ إِقْدَامَ الْكُفَّارِ عَلَى هَذَا الِالْتِمَاسِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ ذَكَرُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّكَ لَوْ جِئْتَنَا بِقُرْآنٍ آخَرَ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ أَوْ بَدَّلْتَهُ لَآمَنَّا بِكَ، وَغَرَضُهُمْ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ السُّخْرِيَةُ وَالتَّطَيُّرُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا قَالُوهُ عَلَى سَبِيلِ الْجِدِّ، وَذَلِكَ أَيْضًا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ، حَتَّى إِنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، عَلِمُوا أَنَّهُ كَانَ كَذَّابًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللَّه. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِالْتِمَاسِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذَمِّ آلِهَتِهِمْ وَالطَّعْنِ فِي طَرَائِقِهِمْ، وَهُمْ كَانُوا يَتَأَذَّوْنَ مِنْهَا، فَالْتَمَسُوا كِتَابًا آخَرَ لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونُوا قَدْ جَوَّزُوا كَوْنَ هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّه، الْتَمَسُوا مِنْهُ أَنْ يَلْتَمِسَ مِنَ اللَّه نَسْخَ هَذَا الْقُرْآنِ وَتَبْدِيلَهُ بِقُرْآنٍ آخَرَ وَهَذَا الْوَجْهُ أَبْعَدُ الْوُجُوهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا ذَكَرُوا ذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَقُولَ: إِنَّ هَذَا التَّبْدِيلَ غَيْرُ جَائِزٍ مِنِّي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ فِي أَنَّهُ مُتَوَعَدٌ بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ إِنْ عَصَى. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فُرُوعٌ: الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلُهُ: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ مَعْنَاهُ: لَا أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا حَكَمَ إِلَّا بِالْوَحْيِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ قَطُّ بِالِاجْتِهَادِ. الْفَرْعُ الثَّانِي: تَمَسَّكَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: دَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ/ وَالسَّلَامُ مَا حَكَمَ إِلَّا با فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ أَنْ لَا يَحْكُمُوا إِلَّا بِمُقْتَضَى النَّصِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوهُ. [الأعراف: 158] . الْفَرْعُ الثَّالِثُ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الْفَتْحِ: 2] وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْأَحْكَامِ وَالتَّعَبُّدَاتِ لَا فِي تَرْتِيبِ الْعِقَابِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ قَوْلِهِ: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مَشْرُوطٌ بِمَا يَكُونُ وَاقِعًا بِلَا تَوْبَةٍ وَلَا طَاعَةٍ أَعْظَمَ مِنْهَا، وَنَحْنُ نَقُولُ فِيهِ تَخْصِيصٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ لَا يَعْفُوَ عَنْهُ ابْتِدَاءً، لِأَنَّ عِنْدَنَا يجوز من اللَّه تعالى أن يعفو عن أصحاب الكبائر. [سورة يونس (10) : آية 16] قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ، أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا الْتَمَسُوا مِنْهُ ذَلِكَ الِالْتِمَاسَ، لِأَجْلِ أَنَّهُمُ اتَّهَمُوهُ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِهَذَا الْكِتَابِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِلَاقِ وَالِافْتِعَالِ، لَا عَلَى سَبِيلِ كَوْنِهِ وَحْيًا مِنْ عِنْدِ اللَّه فَلِهَذَا الْمَعْنَى احْتَجَّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْوَهْمِ بِمَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ كَانُوا قَدْ شَاهَدُوا رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَوَّلِ عُمُرِهِ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَانُوا عَالِمِينَ بِأَحْوَالِهِ وَأَنَّهُ مَا طَالَعَ كِتَابًا وَلَا تَلْمَذَ لِأُسْتَاذٍ وَلَا تَعَلَّمَ مِنْ أَحَدٍ، ثُمَّ بَعْدَ انْقِرَاضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَاءَهُمْ بِهَذَا الْكِتَابِ الْعَظِيمِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى نَفَائِسِ عِلْمِ الْأُصُولِ، وَدَقَائِقِ عِلْمِ الْأَحْكَامِ، وَلَطَائِفِ عِلْمِ الْأَخْلَاقِ، وَأَسْرَارِ قَصَصِ الْأَوَّلِينَ وَعَجَزَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ الْعُلَمَاءُ وَالْفُصَحَاءُ وَالْبُلَغَاءُ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ عَقْلٌ سَلِيمٌ فَإِنَّهُ يَعْرِفُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا

[سورة يونس (10) : آية 17]

يَحْصُلُ إِلَّا بِالْوَحْيِ وَالْإِلْهَامِ مِنَ اللَّه تَعَالَى، فَقَوْلُهُ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ حُكْمٌ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ وَحَيٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّه تعالى، لا من اختلافي وَلَا مِنِ افْتِعَالِي. وَقَوْلُهُ: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الدَّلِيلِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ، وَقَوْلُهُ: أَفَلا تَعْقِلُونَ يَعْنِي أَنَّ مِثْلَ/ هَذَا الْكِتَابِ الْعَظِيمِ إِذَا جَاءَ عَلَى يَدِ مَنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ وَلَمْ يُتَلْمِذْ وَلَمْ يُطَالِعْ كِتَابًا وَلَمْ يُمَارِسْ مُجَادَلَةً، يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ وَإِنْكَارُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْعَقْلِ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: أَفَلا تَعْقِلُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَلا أَدْراكُمْ بِهِ هُوَ مِنَ الدِّرَايَةِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: يُقَالُ دَرَيْتُهُ وَدَرَيْتُ بِهِ، وَالْأَكْثَرُ هُوَ الِاسْتِعْمَالُ بِالْبَاءِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا أَدْراكُمْ بِهِ وَلَوْ كَانَ عَلَى اللُّغَةِ الْأُخْرَى لَقَالَ وَلَا أَدْرَاكُمُوهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَعْنَى وَلا أَدْراكُمْ بِهِ أَيْ وَلَا أَعْلَمَكُمُ اللَّه بِهِ وَلَا أَخْبَرَكُمْ بِهِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَرَأَ الْحَسَنُ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ أَعْطَأْتُهُ وَأَرْضَأْتُهُ فِي مَعْنَى أَعْطَيْتُهُ وَأَرْضَيْتُهُ وَيُعَضِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا أَنْذَرْتُكُمْ بِهِ وَرَوَاهُ الْفَرَّاءُ وَلَا أَدْرَأْتُكُمْ بِهِ بِالْهَمْزِ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَدَرَأْتُهُ إِذَا دَفَعْتَهُ، وَأَدْرَأْتُهُ إِذَا جَعَلْتَهُ دَارِيًا، وَالْمَعْنَى: وَلَا أَجْعَلُكُمْ بِتِلَاوَتِهِ خُصَمَاءَ تدرءونني بِالْجِدَالِ وَتُكَذِّبُونَنِي، وَعَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَلَأَدْرَأَكُمْ بِلَامِ الِابْتِدَاءِ لِإِثْبَاتِ الْإِدْرَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ فَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ بضم الميم، وقرئ عمرا بسكون الميم. [سورة يونس (10) : آية 17] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَاعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمُ الْتَمَسُوا مِنْهُ قُرْآنًا يَذْكُرُهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَنَسَبُوهُ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَأْتِي بِهَذَا الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَقَامَ الْبُرْهَانَ الْقَاهِرَ الظَّاهِرَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، وَأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَيْسَ إِلَّا بِوَحْيِ اللَّه تَعَالَى وَتَنْزِيلِهِ، فَعِنْدَ هَذَا قَالَ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَالْمُرَادُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عِنْدِ اللَّه، لَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا أَحَدٌ أَظْلَمَ عَلَى نَفْسِهِ مِنِّي، حَيْثُ افْتَرَيْتُهُ عَلَى اللَّه، وَلَمَّا أَقَمْتُ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا أَحَدٌ أَجْهَلَ وَلَا أَظْلَمَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْكُمْ، لِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ بِالْبُرْهَانِ الْمَذْكُورِ كَوْنُهُ مِنْ عِنْدِ اللَّه، فَإِذَا أَنْكَرْتُمُوهُ كُنْتُمْ قَدْ كَذَّبْتُمْ بِآيَاتِ اللَّه فَوَجَبَ أَنْ تَكُونُوا أَظْلَمَ النَّاسِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً الْمَقْصُودُ مِنْهُ نَفْيُ الْكَذِبِ عَنْ نَفْسِهِ وَقَوْلُهُ: / أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِلْحَاقُ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ بِهِمْ حَيْثُ أَنْكَرُوا دَلَائِلَ اللَّه، وَكَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّه تَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ. واللَّه أعلم. [سورة يونس (10) : آية 18] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لَا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) اعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا الْتَمَسُوا مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْآنًا غَيْرَ هَذَا الْقُرْآنِ أَوْ تَبْدِيلَ، هَذَا الْقُرْآنِ لِأَنَّ هَذَا

الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى شَتْمِ الْأَصْنَامِ الَّتِي جَعَلُوهَا آلِهَةً لِأَنْفُسِهِمْ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا يَدُلُّ عَلَى قُبْحِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، لِيُبَيِّنَ أَنَّ تَحْقِيرَهَا وَالِاسْتِخْفَافَ بِهَا أَمْرٌ حَقٌّ وَطَرِيقٌ مُتَيَقَّنٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ نَبَّهَ اللَّه تَعَالَى عَلَى فَسَادِهِ بِقَوْلِهِ: مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا يَضُرُّهُمْ إِنْ لَمْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يَنْفَعْهُمْ إِنْ عَبَدُوهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْبُودَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَكْمَلَ قُدْرَةً مِنَ الْعَابِدِ، وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ الْبَتَّةَ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ فَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي هَذِهِ الْأَصْنَامِ تَارَةً بِالْإِصْلَاحِ وَأُخْرَى بِالْإِفْسَادِ، وَإِذَا كَانَ الْعَابِدُ أَكْمَلَ حَالًا مِنَ الْمَعْبُودِ كَانَتِ الْعِبَادَةُ بَاطِلَةً. الثَّالِثُ: أَنَّ الْعِبَادَةَ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ التَّعْظِيمِ، فَهِيَ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ صَدَرَ عَنْهُ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْإِنْعَامِ، وَذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ وَالْقُدْرَةَ وَمَصَالِحَ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، فَإِذَا كَانَتِ الْمَنَافِعُ وَالْمَضَارُّ كُلُّهَا مِنَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَجَبَ أَنْ لَا تَلِيقَ الْعِبَادَةُ إِلَّا باللَّه سُبْحَانَهُ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: مَا حَكَاهُ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ فَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ تَوَهَّمُوا أَنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ أَشَدُّ فِي تَعْظِيمِ اللَّه مِنْ عِبَادَةِ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقَالُوا لَيْسَتْ لَنَا أَهْلِيَّةٌ أَنْ نَشْتَغِلَ بِعِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى بَلْ نَحْنُ نَشْتَغِلُ/ بِعِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ، وَأَنَّهَا تَكُونُ شُفَعَاءَ لَنَا عِنْدَ اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُمْ كَيْفَ قَالُوا فِي الْأَصْنَامِ إِنَّهَا شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه؟ وَذَكَرُوا فِيهِ أَقْوَالًا كَثِيرَةً: فَأَحَدُهَا: أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لِكُلِّ إِقْلِيمٍ مِنْ أَقَالِيمِ الْعَالَمِ، رُوحٌ مُعَيَّنٌ مِنْ أَرْوَاحِ عَالَمِ الْأَفْلَاكِ، فَعَيَّنُوا لِذَلِكَ الرُّوحِ صَنَمًا مُعَيَّنًا وَاشْتَغَلُوا بِعِبَادَةِ ذَلِكَ الصَّنَمِ، وَمَقْصُودُهُمْ عِبَادَةُ ذَلِكَ الرُّوحِ، ثُمَّ اعْتَقَدُوا أَنَّ ذَلِكَ الرُّوحَ يَكُونُ عَبْدًا لِلْإِلَهِ الْأَعْظَمِ وَمُشْتَغِلًا بِعُبُودِيَّتِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَزَعَمُوا أَنَّ الْكَوَاكِبَ هِيَ الَّتِي لَهَا أَهْلِيَّةُ عُبُودِيَّةِ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْكَوَاكِبَ تَطْلُعُ وَتَغْرُبُ وَضَعُوا لَهَا أَصْنَامًا مُعَيَّنَةً وَاشْتَغَلُوا بِعِبَادَتِهَا، وَمَقْصُودُهُمْ تَوْجِيهُ الْعِبَادَةِ إِلَى الْكَوَاكِبِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ وَضَعُوا طَلْسَمَاتٍ مُعِينَةٍ عَلَى تِلْكَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، ثُمَّ تَقَرَّبُوا إِلَيْهَا كَمَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الطَّلْسَمَاتِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمْ وَضَعُوا هَذِهِ الْأَصْنَامَ وَالْأَوْثَانَ عَلَى صُوَرِ أَنْبِيَائِهِمْ وَأَكَابِرِهِمْ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ مَتَى اشْتَغَلُوا بِعِبَادَةِ هَذِهِ التَّمَاثِيلِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الْأَكَابِرَ تَكُونُ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى، وَنَظِيرُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ اشْتِغَالُ كَثِيرٍ مِنَ الْخَلْقِ بِتَعْظِيمِ قُبُورِ الْأَكَابِرِ، عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُمْ إِذَا عَظَّمُوا قُبُورَهُمْ فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّه. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْإِلَهَ نُورٌ عَظِيمٌ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَنْوَارٌ فَوَضَعُوا عَلَى صُورَةِ الْإِلَهِ الْأَكْبَرِ الصَّنَمَ الْأَكْبَرَ، وَعَلَى صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ صُوَرًا أُخْرَى. وَسَادِسُهَا: لَعَلَّ الْقَوْمَ حُلُولِيَّةٌ، وَجَوَّزُوا حُلُولَ الْإِلَهِ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ بَاطِلَةٌ بِالدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لَا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. اعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَرَّرُوا وَجْهًا وَاحِدًا، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ نَفْيِ عِلْمِ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ تَقْرِيرُ نَفْيِهِ فِي نفسه، وبيان أنه لَا وُجُودَ لَهُ الْبَتَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَكَانَ مَعْلُومًا للَّه تَعَالَى، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا للَّه تَعَالَى وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَوْجُودًا، وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ مَشْهُورٌ فِي الْعُرْفِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَرَادَ نَفْيَ شَيْءٍ عَنْ نَفْسِهِ يَقُولُ:

[سورة يونس (10) : آية 19]

مَا عَلِمَ اللَّه هَذَا مِنِّي، وَمَقْصُودُهُ أَنَّهُ مَا حَصَلَ ذَلِكَ قَطُّ، وَقُرِئَ أَتُنْبِئُونَ بِالتَّخْفِيفِ أَمَّا قَوْلُهُ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ فَالْمَقْصُودُ تَنْزِيهُ اللَّه تَعَالَى نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ الشِّرْكِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ تُشْرِكُونَ بِالتَّاءِ، وَمِثْلُهُ فِي أَوَّلِ النَّحْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَفِي الرُّومِ كُلِّهَا بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» «مَا» مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ عَنِ الشُّرَكَاءِ الَّذِينَ يُشْرِكُونَهُمْ بِهِ أَوْ عَنْ إِشْرَاكِهِمْ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَلِقَوْلِهِ: أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ/ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ أَنْتَ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّه سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي نَزَّهَ نَفْسَهُ عَمَّا قَالُوهُ فَقَالَ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. [سورة يونس (10) : آية 19] وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقَامَ الدَّلَالَةَ الْقَاهِرَةَ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، بَيَّنَ السَّبَبَ فِي كَيْفِيَّةِ حُدُوثِ هَذَا الْمَذْهَبِ الْفَاسِدِ، وَالْمَقَالَةِ الْبَاطِلَةِ، فَقَالَ: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي مَاذَا؟ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا جَمِيعًا عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ بَيَانُ كَوْنِ الْكُفْرِ بَاطِلًا، وَتَزْيِيفُ طَرِيقِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَتَقْرِيرُ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الدِّينُ الْفَاضِلُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً، إِمَّا فِي الْإِسْلَامِ وَإِمَّا فِي الْكُفْرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْكُفْرِ. فَبَقِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْإِسْلَامِ، إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْكُفْرِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النِّسَاءِ: 41] وَشَهِيدُ اللَّه لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا عَدْلًا. فَثَبَتَ أَنَّهُ مَا خَلَتْ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا وَفِيهِمْ مُؤْمِنٌ. الثَّانِي: أَنَّ الْأَحَادِيثَ وَرَدَتْ بِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو عَمَّنْ يَعْبُدُ اللَّه تَعَالَى، وَعَنْ أَقْوَامٍ بِهِمْ يُمْطَرُ أَهْلُ الْأَرْضِ وَبِهِمْ يُرْزَقُونَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْحِكْمَةُ الْأَصْلِيَّةُ فِي الْخَلْقِ هُوَ الْعُبُودِيَّةَ، فَيَبْعُدُ خُلُوُّ أَهْلِ الْأَرْضِ بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ هَذَا الْمَقْصُودِ. رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّه تَعَالَى نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقِيَّةً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قَوْمٍ تَمَسَّكُوا بِالْإِيمَانِ قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَيْفَ يُقَالُ إِنَّهُمْ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْكُفْرِ؟ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً إِمَّا فِي الْكُفْرِ وَإِمَّا فِي الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُمْ مَا كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْكُفْرِ، ثَبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْإِيمَانِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُمْ مَتَى كَانُوا كَذَلِكَ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ كَانُوا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ فِي عَهْدِ آدَمَ وَفِي عَهْدِ وَلَدِهِ، وَاخْتَلَفُوا عِنْدَ/ قَتْلِ أَحَدِ ابْنَيْهِ الِابْنَ الثَّانِيَ، وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُمْ بَقُوا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ إِلَى زَمَنِ نُوحٍ، وَكَانُوا عَشَرَةَ قُرُونٍ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى عَهْدِ نُوحٍ. فَبَعَثَ اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِمْ نُوحًا. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانُوا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ فِي زَمَنِ نُوحٍ بَعْدَ الْغَرَقِ، إِلَى أَنْ ظَهَرَ الْكُفْرُ فِيهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانُوا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنْ غَيَّرَهُ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ، وَهَذَا الْقَائِلُ قَالَ: الْمُرَادُ مِنَ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا الْعَرَبُ خَاصَّةً. إِذَا عَرَفْتَ تَفْصِيلَ هَذَا الْقَوْلِ فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِيمَا قَبْلُ فَسَادَ الْقَوْلِ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي

قَرَّرْنَاهُ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ لَيْسَ مَذْهَبًا لِلْعَرَبِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، بَلْ كَانُوا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَنَفْيِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. ثُمَّ حذف هَذَا الْمَذْهَبُ الْفَاسِدُ فِيهِمْ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ مَا كَانَ أَصْلِيًّا فِيهِمْ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، لَمْ يَتَعَصَّبُوا لِنُصْرَتِهِ، وَلَمْ يَتَأَذَّوْا مِنْ تَزْيِيفِ هَذَا الْمَذْهَبِ، وَلَمْ تَنْفُرْ طِبَاعُهُمْ مِنْ إِبْطَالِهِ. وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا الْقَوْلَ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] ثُمَّ بَالَغَ فِي إِبْطَالِهِ بِالدَّلِيلِ. ثُمَّ قَالَ عَقِيبَهُ: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانَ أَنَّ هَذَا الْكُفْرَ كَانَ حَاصِلًا فِيهِمْ مِنَ الزَّمَانِ الْقَدِيمِ، لَمْ يَصِحَّ جَعْلُ هَذَا الْكَلَامِ دَلِيلًا عَلَى إِبْطَالِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ. أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى أَنَّ النَّاسَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَهَذَا الْكُفْرُ إِنَّمَا حَدَثَ فِيهِمْ مِنْ زَمَانٍ، أَمْكَنَ التَّوَسُّلُ بِهِ إِلَى تَزْيِيفِ اعْتِقَادِ الْكُفَّارِ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَفِي تَقْبِيحِ صُورَتِهَا عِنْدَهُمْ، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ تَحْصِيلًا لِهَذَا الْغَرَضِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا وَعِيدٌ، وَصَرْفُ هَذَا الْوَعِيدِ إِلَى أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ أَوْلَى، وَالْأَقْرَبُ هُوَ ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ، فَوَجَبَ صَرْفُ هَذَا الْوَعِيدِ إِلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، لَا إِلَى مَا سَبَقَ مِنْ كَوْنِ النَّاسِ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْإِسْلَامِ لَا فِي الْكُفْرِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْكُفْرِ لَكَانَ اخْتِلَافُهُمْ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ الْحَاصِلُ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ سَبَبًا لِحُصُولِ الْوَعِيدِ. أَمَّا لَوْ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْإِيمَانِ لَكَانَ اخْتِلَافُهُمْ بِسَبَبِ الْكُفْرِ، وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ جَعْلُ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ سَبَبًا لِلْوَعِيدِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ الْمُرَادُ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْكُفْرِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْقُولٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. قَالُوا: وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفَائِدَةُ هَذَا الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ هِيَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَنَّهُ لَا تَطْمَعُ فِي أَنْ يَصِيرَ كُلُّ مَنْ تَدْعُوهُ إِلَى الدِّينِ مُجِيبًا لَكَ، قَابِلًا لِدِينِكَ/ فَإِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا حَدَثَ الْإِسْلَامُ فِي بَعْضِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَيْفَ تَطْمَعُ فِي اتِّفَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْإِيمَانِ؟ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي أَنَّهُمْ خُلِقُوا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْأَدْيَانِ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْمُرَادُ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الشَّرَائِعِ الْعَقْلِيَّةِ، وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إِلَى أَمْرَيْنِ: التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّه. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْأَنْعَامِ: 151] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَدِ اسْتَقْصَيْنَا فِيهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَلْنَكْتَفِ بِهَذَا الْقَدْرِ هَاهُنَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْكَلِمَةَ مَا هِيَ؟ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ لَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّهُ يَبْقَى التَّكْلِيفُ عَلَى عِبَادِهِ، وَإِنْ كَانُوا بِهِ كَافِرِينَ، لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِتَعْجِيلِ الْحِسَابِ وَالْعِقَابِ لِكُفْرِهِمْ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِزَوَالِ التَّكْلِيفِ، وَيُوجِبُ الْإِلْجَاءَ، وَكَانَ إِبْقَاءُ التَّكْلِيفِ أَصْوَبَ وَأَصْلَحَ، لَا جَرَمَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخَّرَ هَذَا الْعِقَابَ إِلَى الْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِلُ، وَفِي ذَلِكَ تَصْبِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى احْتِمَالِ الْمَكَارِهِ مِنْ قِبَلِ الْكَافِرِينَ وَالظَّالِمِينَ. الثَّانِي: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ فِي أَنَّهُ لَا يُعَاجِلُ الْعُصَاةَ بِالْعُقُوبَةِ إِنْعَامًا عَلَيْهِمْ، لَقُضِيَ بينهم في

[سورة يونس (10) : آية 20]

اخْتِلَافِهِمْ، بِمَا يَمْتَازُ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ وَالْمُصِيبُ مِنَ الْمُخْطِئِ الثَّالِثُ: أَنَّ تِلْكَ الْكَلِمَةَ هِيَ قَوْلُهُ: «سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي» فَلَمَّا كَانَتْ رَحْمَتُهُ غَالِبَةً اقْتَضَتْ تِلْكَ الرَّحْمَةُ الْغَالِبَةُ إِسْبَالَ السَّتْرِ عَلَى الْجَاهِلِ الضَّالِّ وَإِمْهَالَهُ إِلَى وَقْتِ الْوِجْدَانِ. [سورة يونس (10) : آية 20] وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ هُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ شُبُهَاتِ الْقَوْمِ فِي إِنْكَارِهِمْ نُبُوَّتَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي جِئْتَنَا بِهِ كِتَابٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْكَلِمَاتِ، وَالْكِتَابُ لَا يَكُونُ مُعْجِزًا، أَلَا تَرَى أَنَّ كِتَابَ مُوسَى وَعِيسَى مَا كَانَ مُعْجِزَةً لَهُمَا، بَلْ كَانَ لَهُمَا أَنْوَاعٌ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ دَلَّتْ عَلَى نُبُوَّتِهِمَا/ سِوَى الْكِتَابِ. وَأَيْضًا فَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَدَّعِي إِمْكَانَ الْمُعَارَضَةِ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا [الْأَنْفَالِ: 31] وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ طَلَبُوا مِنْهُ شَيْئًا آخَرَ سِوَى الْقُرْآنِ، لِيَكُونَ مُعْجِزَةً لَهُ، فَحَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَأَمَرَ اللَّه رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ هَذَا السُّؤَالِ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: أَقَامَ الدَّلَالَةَ الْقَاهِرَةَ عَلَى أَنَّ ظُهُورَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ مُعْجِزَةٌ قَاهِرَةٌ ظَاهِرَةٌ. لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيَّنَ أَنَّهُ نَشَأَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَتَرَبَّى عِنْدَهُمْ، وَهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَمْ يُطَالِعْ كِتَابًا، وَلَمْ يُتَلْمِذْ لِأُسْتَاذٍ. بَلْ كَانَ مُدَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَعَهُمْ وَمُخَالِطًا لَهُمْ، وَمَا كَانَ مُشْتَغِلًا بِالْفِكْرِ وَالتَّعَلُّمِ قَطُّ، ثُمَّ إِنَّهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً ظَهَرَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَلَيْهِ، وَظُهُورُ مِثْلِ هَذَا الْكِتَابِ الشَّرِيفِ الْعَالِي، عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ الَّذِي لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّعَلُّمِ، لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْوَحْيِ. فَهَذَا بُرْهَانٌ قَاهِرٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ قَاهِرٌ ظَاهِرٌ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ طَلَبُ آيَةٍ أُخْرَى سِوَى الْقُرْآنِ مِنَ الِاقْتِرَاحَاتِ الَّتِي لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَتَقْرِيرِ رِسَالَتِهِ، وَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ مُفَوَّضًا إِلَى مَشِيئَةِ اللَّه تَعَالَى، فَإِنْ شَاءَ أَظْهَرَهَا، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُظْهِرْهَا، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْغَيْبِ، فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَنْتَظِرَ أَنَّهُ هَلْ يَفْعَلُهُ اللَّه أَمْ لَا؟ وَلَكِنْ سَوَاءٌ فَعَلَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ، فَقَدْ ثَبَتَتِ النُّبُوَّةُ، وَظَهَرَ صِدْقُهُ فِي ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ، وَلَا يَخْتَلِفُ هَذَا الْمَقْصُودُ بِحُصُولِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ وَبِعَدَمِهَا، فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ جَوَابٌ ظَاهِرٌ فِي تَقْرِيرِ هَذَا المطلوب. [سورة يونس (10) : آية 21] وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ القوم لما طلبوا مِنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً أُخْرَى سِوَى الْقُرْآنِ، وَأَجَابَ الْجَوَابَ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ [يونس: 20] ذَكَرَ جَوَابًا آخَرَ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ عَادَةَ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ الْمَكْرُ وَاللَّجَاجُ وَالْعِنَادُ/ وَعَدَمُ

الْإِنْصَافِ، وَإِذَا كَانُوا كَذَلِكَ فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُعْطَوْا مَا سَأَلُوهُ مِنْ إِنْزَالِ مُعْجِزَاتٍ أُخْرَى، فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بَلْ يَبْقَوْنَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَجَهْلِهِمْ، فنفتقر هاهنا إِلَى بَيَانِ أَمْرَيْنِ: إِلَى بَيَانِ أَنَّ عَادَةَ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ الْمَكْرُ وَاللَّجَاجُ وَالْعِنَادُ، ثُمَّ إِلَى بَيَانِ أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي إِظْهَارِ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ فَائِدَةٌ. أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى سَلَّطَ الْقَحْطَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ سَبْعَ سِنِينَ ثُمَّ رَحِمَهُمْ، وَأَنْزَلَ الْأَمْطَارَ النَّافِعَةَ عَلَى أَرَاضِيهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَضَافُوا تِلْكَ الْمَنَافِعَ الْجَلِيلَةَ إِلَى الْأَصْنَامِ وَإِلَى الْأَنْوَاءِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ مُقَابَلَةٌ لِلنِّعْمَةِ بِالْكُفْرَانِ. فَقَوْلُهُ: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً الْمُرَادُ مِنْهُ تِلْكَ الْأَمْطَارُ النَّافِعَةُ. وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ الْمُرَادُ مِنْهُ ذَلِكَ الْقَحْطُ الشَّدِيدُ. وَقَوْلُهُ: إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا الْمُرَادُ مِنْهُ إِضَافَتُهُمْ تِلْكَ الْمَنَافِعَ الْجَلِيلَةَ إِلَى الْأَنْوَاءِ وَالْكَوَاكِبِ أَوْ إِلَى الْأَصْنَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يُونُسَ: 12] إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى زَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا دَقِيقَةً أُخْرَى مَا ذَكَرَهَا فِي تِلْكَ الْآيَةِ، وَتِلْكَ الدَّقِيقَةُ هِيَ أَنَّهُمْ يَمْكُرُونَ عِنْدَ وِجْدَانِ الرَّحْمَةِ، وَيَطْلُبُونَ الْغَوَائِلَ، وَفِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّقِيقَةُ مَذْكُورَةً، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ عَادَةَ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ اللَّجَاجُ وَالْعِنَادُ وَالْمَكْرُ وَطَلَبُ الْغَوَائِلِ. وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ بَيَانُ أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي إِظْهَارِ سَائِرِ الْآيَاتِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَظْهَرَ لَهُمْ جَمِيعَ مَا طَلَبُوهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ غَرَضُهُمْ مِنْ هَذِهِ الِاقْتِرَاحَاتِ التَّشَدُّدَ فِي طَلَبِ الدِّينِ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُمُ الدَّفْعُ وَالْمَنْعُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي صَوْنِ مَنَاصِبِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالِامْتِنَاعُ مِنَ الْمُتَابَعَةِ لِلْغَيْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَيْهِمْ وَسَلَّطَ الْبَلَاءَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أَزَالَهَا عَنْهُمْ وَأَبْدَلَ تِلْكَ الْبَلِيَّاتِ بِالْخَيْرَاتِ، فَهُمْ مَعَ ذَلِكَ اسْتَمَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ وَالْجُحُودِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ الَّتِي طَلَبُوهَا لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ جَوَابٌ قَاطِعٌ عَنِ السُّؤَالِ الْمُتَقَدِّمِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْجَوَابِ: أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَدْ حَصَلَ لَهُمْ أَسْبَابُ الرَّفَاهِيَةِ وَطِيبِ الْعَيْشِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ تَمَرَّدَ وَتَكَبَّرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [الْعَلَقِ: 6، 7] وَقَرَّرَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى بِالْمِثَالِ الْمَذْكُورِ، فَإِقْدَامُهُمْ عَلَى طَلَبِ الْآيَاتِ الزَّائِدَةِ وَالِاقْتِرَاحَاتِ الْفَاسِدَةِ، إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ وَالْخَيْرَاتِ الْمُتَوَالِيَةِ، وَقَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُزِيلُ عَنْهُمْ تِلْكَ النِّعَمَ، وَيَجْعَلُهُمْ مُنْقَادِينَ لِلرَّسُولِ مُطِيعِينَ لَهُ، تَارِكِينَ لِهَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ الْفَاسِدَةِ، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً كَلَامٌ وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ إِيصَالُ الرَّحْمَةِ إِلَيْهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّه تَعَالَى لَا تُذَاقُ بِالْفَمِ، وَإِنَّمَا تُذَاقُ بِالْعَقْلِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِوُجُودِ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ حَقٌّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ (إِذَا) فِي قَوْلِهِ: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً للشرط وإِذا فِي قَوْلِهِ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ جَوَابُ الشَّرْطِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ [الرُّومِ: 36]

[سورة يونس (10) : الآيات 22 إلى 23]

وَالْمَعْنَى: إِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مَكَرُوا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ قَنَطُوا. وَاعْلَمْ أَنَّ (إِذَا) فِي قَوْلِهِ: إِذا لَهُمْ مَكْرٌ تُفِيدُ الْمُفَاجَأَةَ، مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ فِي الْحَالِ أَقْدَمُوا عَلَى الْمَكْرِ وَسَارَعُوا إِلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: سَمَّى تَكْذِيبَهُمْ بِآيَاتِ اللَّه مَكْرًا، لِأَنَّ الْمَكْرَ عِبَارَةٌ عَنْ صَرْفِ الشَّيْءِ عَنْ وَجْهِهِ الظَّاهِرِ بِطَرِيقِ الْحِيلَةِ، وَهَؤُلَاءِ يَحْتَالُونَ لِدَفْعِ آيَاتِ اللَّه بِكُلِّ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ إِلْقَاءِ شُبْهَةٍ أَوْ تَخْلِيطٍ فِي مُنَاظَرَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْفَاسِدَةِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْمَكْرِ هُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَقُولُونَ هَذَا رِزْقُ اللَّه، بَلْ يَقُولُونَ سُقِينَا بِنَوْءِ كَذَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ لَمَّا قَابَلُوا نِعْمَةَ اللَّه بِالْمَكْرِ، فاللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَابِلَ مَكْرَهُمْ بِمَكْرٍ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا أَعَدَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، وَفِي الدُّنْيَا مِنَ الْفَضِيحَةِ وَالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّ رُسُلَ اللَّه يَكْتُبُونَ مَكْرَهُمْ وَيَحْفَظُونَهُ، وَتُعْرَضُ عَلَيْهِمْ مَا فِي بواطنهم الخبيئة يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْفَضِيحَةِ التَّامَّةِ والخزي والنكال نعوذ باللَّه تعالى منه. [سورة يونس (10) : الآيات 22 الى 23] هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) [في قَوْلُهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ إلى قوله بِغَيْرِ الْحَقِ] في الآية مسائل: المسألة الأولى: [في ذكر اللَّه تَعَالَى لِنَقْلِ الْإِنْسَانِ مِنَ الضُّرِّ الشَّدِيدِ إلى الرحمة مثالا، ولمكر الإنسان مثالا] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا [يونس: 21] كَانَ هَذَا الْكَلَامُ كَلَامًا كُلِّيًّا لَا يَنْكَشِفُ مَعْنَاهُ تَمَامَ الِانْكِشَافِ إِلَّا بِذِكْرِ مِثَالٍ كَامِلٍ، فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى لِنَقْلِ الْإِنْسَانِ مِنَ الضُّرِّ الشَّدِيدِ إِلَى الرَّحْمَةِ مِثَالًا، وَلِمَكْرِ الْإِنْسَانِ مِثَالًا، حَتَّى تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ كَالْمُفَسِّرَةِ لِلْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْكُلِّيَّ لَا يَصِلُ إِلَى أَفْهَامِ السَّامِعِينَ إِلَّا بِذِكْرِ مِثَالٍ جَلِيٍّ وَاضِحٍ يَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَكِبَ السَّفِينَةَ وَوَجَدَ الرِّيحَ الطَّيِّبَةَ الْمُوَافِقَةَ لِلْمَقْصُودِ، حَصَلَ لَهُ الْفَرَحُ التَّامُّ وَالْمَسَرَّةُ الْقَوِيَّةُ، ثُمَّ قَدْ تَظْهَرُ عَلَامَاتُ الْهَلَاكِ دُفْعَةً وَاحِدَةً. فَأَوَّلُهَا: أَنْ تَجِيئَهُمُ الرِّيَاحُ الْعَاصِفَةُ الشَّدِيدَةُ. وَثَانِيهَا: أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْأَمْوَاجُ الْعَظِيمَةُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظُنُونِهِمْ أَنَّ الْهَلَاكَ وَاقِعٌ، وَأَنَّ النَّجَاةَ لَيْسَتْ مُتَوَقَّعَةً، وَلَا شَكَّ أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الطَّيِّبَةِ الْمُوَافِقَةِ إِلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْقَاهِرَةِ الشَّدِيدَةِ يُوجِبُ الْخَوْفَ الْعَظِيمَ، وَالرُّعْبَ الشَّدِيدَ، وَأَيْضًا مُشَاهَدَةُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَالْأَهْوَالِ فِي الْبَحْرِ مُخْتَصَّةٌ بِإِيجَابِ مَزِيدِ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَطْمَعُ إِلَّا فِي فَضْلِ اللَّه وَرَحْمَتِهِ، وَيَصِيرُ مُنْقَطِعَ الطَّمَعِ عَنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَيَصِيرُ بِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ وَجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُتَضَرِّعًا إِلَى اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ إِذَا نَجَّاهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْبَلِيَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَنَقَلَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَضَرَّةِ الْقَوِيَّةِ إِلَى الْخَلَاصِ وَالنَّجَاةِ، فَفِي الْحَالِ يَنْسَى تِلْكَ النِّعْمَةَ وَيَرْجِعُ إِلَى ما ألفه

وَاعْتَادَهُ مِنَ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَقْرِيرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِمِثَالٍ أَحْسَنَ وَأَكْمَلَ مِنَ الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُحْكَى أَنَّ وَاحِدًا قَالَ لِجَعْفَرٍ الصَّادِقِ: اذْكُرْ لِي دَلِيلًا عَلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ حِرْفَتِكَ: فَقَالَ: أَنَا رَجُلٌ أَتَّجِرُ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ: صِفْ لِي كَيْفِيَّةَ حَالِكَ فَقَالَ: رَكِبْتُ الْبَحْرَ فَانْكَسَرَتِ السَّفِينَةُ وَبَقِيتُ عَلَى لَوْحٍ وَاحِدٍ مِنْ أَلْوَاحِهَا، وَجَاءَتِ الرِّيَاحُ الْعَاصِفَةُ، فَقَالَ/ جَعْفَرٌ: هَلْ وَجَدْتَ فِي قَلْبِكَ تَضَرُّعًا وَدُعَاءً فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ جَعْفَرٌ: فَإِلَهُكَ هُوَ الَّذِي تَضَرَّعْتَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ يَنْشُرُكُمْ مِنَ النَّشْرِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الطَّيِّ كَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الْجُمُعَةِ: 10] وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا يُسَيِّرُكُمْ مِنَ التَّسْيِيرِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ خَلْقًا للَّه تَعَالَى قَالُوا: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ سَيْرَ الْعِبَادِ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَدَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ [الْأَنْعَامِ: 11] عَلَى أَنَّ سَيْرَهُمْ مِنْهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَيْرَهُمْ مِنْهُمْ وَمِنَ اللَّه، فَيَكُونُ كَسْبِيًّا لَهُمْ وَخَلْقًا للَّه وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ [الْأَنْفَالِ: 5] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [التَّوْبَةِ: 40] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً [التَّوْبَةِ: 82] ثُمَّ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى [النَّجْمِ: 43] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الْأَنْفَالِ: 7] قَالَ الْجُبَّائِيُّ: أَمَّا كَوْنُهُ تَعَالَى مُسَيِّرًا لَهُمْ فِي الْبَحْرِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ وَأَمَّا سَيْرُهُمْ فِي الْبَرِّ فَإِنَّمَا أُضِيفَ إِلَى اللَّه تَعَالَى عَلَى التَّوَسُّعِ فَمَا كَانَ مِنْهُ طَاعَةً فَبِأَمْرِهِ وَتَسْهِيلِهِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ مَعْصِيَةً فَلِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَقْدَرَهُ عَلَيْهِ وَزَادَ الْقَاضِي فِيهِ يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ ذَلِكَ إِلَيْهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ تَعَالَى سَخَّرَ لَهُمُ الْمَرْكِبَ فِي الْبَرِّ، وَسَخَّرَ لَهُمُ الْأَرْضَ الَّتِي يَتَصَرَّفُونَ عَلَيْهَا بِإِمْسَاكِهِ لَهَا، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمُ السَّيْرُ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أَيْ هُوَ اللَّه الْهَادِي لَكُمْ إِلَى السَّيْرِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ طَلَبًا لِلْمَعَاشِ لَكُمْ، وَهُوَ الْمُسَيِّرُ لَكُمْ، لِأَجْلِ أَنَّهُ هَيَّأَ لَكُمْ أَسْبَابَ ذَلِكَ السَّيْرِ هَذَا جُمْلَةُ مَا قِيلَ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ وَنَحْنُ نَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمُسَيِّرَ فِي الْبَحْرِ هُوَ اللَّه تَعَالَى، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى هُوَ الْمُحْدِثُ لِتِلْكَ الْحَرَكَاتِ فِي أَجْزَاءِ السَّفِينَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِضَافَةَ الْفِعْلِ إِلَى الْفَاعِلِ هُوَ الْحَقِيقَةُ فَنَقُولُ: وَجَبَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مُسَيِّرًا لَهُمْ فِي الْبَرِّ بِهَذَا التَّفْسِيرِ، إِذْ لَوْ كَانَ مُسَيِّرًا لَهُمْ فِي الْبَرِّ بِمَعْنَى إِعْطَاءِ الْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ لَكَانَ مَجَازًا بِهَذَا الْوَجْهِ، فَيَلْزَمُ كَوْنُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ مذهب الجبائي أنه لامتناع فِي كَوْنِ اللَّفْظِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ. وَأَمَّا أَبُو هَاشِمٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، إِلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهِ مَرَّتَيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الْجُبَّائِيِّ: قَدْ أَبْطَلْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَوْلَ أَبِي هَاشِمٍ أَنَّهُ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهِ مَرَّتَيْنِ أَيْضًا بَعِيدٌ لِأَنَّ هَذَا قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَّةِ مِمَّنْ كَانُوا قَبْلَهُ، فَكَانَ هَذَا عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ فَيَكُونُ بَاطِلًا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ بَقِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ جَعَلَ الْكَوْنَ فِي الْفُلْكِ غَايَةً لِلتَّسْيِيرِ فِي الْبَحْرِ، مَعَ أَنَّ الْكَوْنَ فِي الْفُلْكِ مُتَقَدِّمٌ لَا مَحَالَةَ عَلَى التَّسْيِيرِ فِي الْبَحْرِ؟

وَالْجَوَابُ: لَمْ يَجْعَلِ الْكَوْنَ فِي الْفُلْكِ غَايَةً لِلتَّسْيِيرِ، بَلْ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ كَأَنَّهُ قِيلَ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ حَتَّى إِذَا وَقَعَ فِي جُمْلَةِ تِلْكَ التَّسْيِيرَاتِ الْحُصُولُ فِي الْفُلْكِ كَانَ كَذَا وَكَذَا. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا جَوَابُ إِذا فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ. الْجَوَابُ: هُوَ أَنَّ جَوَابَهَا هُوَ قَوْلُهُ: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَأَمَّا قَوْلُهُ: دَعَوُا اللَّهَ فَهُوَ بَدَلٌ مِنْ ظَنُّوا لِأَنَّ دُعَاءَهُمْ مِنْ لَوَازِمِ ظَنِّهِمُ الْهَلَاكَ. وَقَالَ بَعْضُ الْأَفَاضِلِ لَوْ حُمِلَ قَوْلُهُ: دَعَوُا اللَّهَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ كَانَ أَوْضَحَ، كَأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ قَالَ قَائِلٌ فَمَا صَنَعُوا؟ فَقِيلَ: دَعَوُا اللَّهَ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي صَرْفِ الْكَلَامِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ؟ الْجَوَابُ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْمَقْصُودُ هُوَ الْمُبَالَغَةُ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَذْكُرُ حَالَهُمْ لِغَيْرِهِمْ لِتَعْجِيبِهِمْ مِنْهَا، وَيَسْتَدْعِي مِنْهُمْ مَزِيدَ الْإِنْكَارِ وَالتَّقْبِيحِ. الثَّانِي: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ: إِنَّ مُخَاطَبَتَهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، هِيَ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ وَكُلُّ مَنْ أَقَامَ الْغَائِبَ مَقَامَ الْمُخَاطَبِ، حَسُنَ مِنْهُ أَنْ يَرُدَّهُ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى الْغَائِبِ. الثَّالِثِ: وَهُوَ الَّذِي خَطَرَ بِالْبَالِ فِي الْحَالِ، أَنَّ الِانْتِقَالَ فِي الْكَلَامِ مِنْ لَفْظِ الْغَيْبَةِ إِلَى لَفْظِ الْحُضُورِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَزِيدِ التَّقَرُّبِ وَالْإِكْرَامِ وَأَمَّا ضِدُّهُ وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ لَفْظِ الْحُضُورِ إِلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ، يَدُلُّ عَلَى الْمَقْتِ وَالتَّبْعِيدِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَكَمَا فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الْفَاتِحَةِ: 2، 3] كُلُّهُ مَقَامُ الْغَيْبَةِ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الْفَاتِحَةِ: 5] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ كَأَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ مَقَامِ الْغَيْبَةِ إِلَى مَقَامِ الْحُضُورِ، وَهُوَ يُوجِبُ عُلُوَّ الدَّرَجَةِ، وَكَمَالَ الْقُرْبِ مِنْ خِدْمَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَكَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ خِطَابُ الْحُضُورِ، وقوله: وَجَرَيْنَ بِهِمْ مقام الغيبة، فههنا انْتَقَلَ مِنْ مَقَامِ الْحُضُورِ إِلَى مَقَامِ الْغَيْبَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمَقْتِ وَالتَّبْعِيدِ وَالطَّرْدِ، وَهُوَ اللَّائِقُ بِحَالِ هَؤُلَاءِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ صِفَتُهُ أَنَّهُ يُقَابِلُ إِحْسَانَ اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ بِالْكُفْرَانِ، كَانَ اللَّائِقُ بِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: كَمِ الْقُيُودُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الشَّرْطِ وَالْقُيُودُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْجَزَاءِ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا الْقُيُودُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الشَّرْطِ فَثَلَاثَةٌ: أَوَّلُهَا: الْكَوْنُ فِي الْفُلْكِ، وَثَانِيهَا: جَرْيُ الْفُلْكِ بِالرِّيحِ الطَّيِّبَةِ، وَثَالِثُهَا: فَرَحُهُمْ بِهَا. وَأَمَّا الْقُيُودُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْجَزَاءِ فَثَلَاثَةٌ أَيْضًا: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: جاءَتْها عَائِدٌ إِلَى الْفُلْكِ وَهُوَ ضَمِيرُ الْوَاحِدِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَجَرَيْنَ بِهِمْ عَائِدٌ إِلَى الْفُلْكِ وَهُوَ الضَّمِيرُ الْجَمْعُ، فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الضمير في قوله: جاءَتْها عائد إلى الفلك، بَلْ نَقُولُ إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الرِّيحِ الطَّيِّبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ الثَّانِي: لَوْ سَلَّمْنَا مَا ذَكَرْتُمْ إِلَّا أَنَّ لَفْظَ الْفُلْكِ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، فَحَسُنَ الضَّمِيرَانِ.

السؤال الثاني: ما العاطف؟ الْجَوَابُ: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: يُقَالُ رِيحٌ عَاصِفٌ وَعَاصِفَةٌ، وَقَدْ عَصَفَتْ عُصُوفًا وَأَعْصَفَتْ، فَهِيَ مُعْصِفٌ وَمُعْصِفَةٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْأَلِفُ لُغَةُ بَنِي أَسَدٍ، وَمَعْنَى عَصَفَتِ الرِّيحُ اشْتَدَّتْ، وَأَصْلُ الْعَصْفِ السُّرْعَةُ، يُقَالُ: نَاقَةٌ عَاصِفٌ وَعَصُوفٌ سَرِيعَةٌ، وَإِنَّمَا قِيلَ رِيحٌ عاصِفٌ لِأَنَّهُ يُرَادُ ذَاتُ عُصُوفٍ كَمَا قِيلَ: لَابِنٌ وَتَامِرٌ أَوْ لِأَجْلِ أَنَّ لَفْظَ الرِّيحِ مُذَكَّرٌ. أَمَّا الْقَيْدُ الثَّانِي: فَهُوَ قَوْلُهُ: وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَالْمَوْجُ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْمَاءِ فَوْقَ الْبَحْرِ. أَمَّا الْقَيْدُ الثَّالِثُ: فَهُوَ قَوْلُهُ: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ ظَنُّوا الْقُرْبَ مِنَ الْهَلَاكِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْعَدُوَّ إِذَا أَحَاطَ بِقَوْمٍ أَوْ بَلَدٍ، فَقَدْ دَنَوْا مِنَ الْهَلَاكِ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: مَا الْمُرَادُ مِنَ الْإِخْلَاصِ فِي قَوْلِهِ: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. وَالْجَوَابُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ تَرَكُوا الشِّرْكَ، وَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ مِنْ آلِهَتِهِمْ شَيْئًا، وَأَقَرُّوا للَّه بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ. قَالَ الْحَسَنُ: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ الْإِخْلَاصُ الْإِيمَانُ، لَكِنْ لِأَجْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يُنَجِّيهِمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا اللَّه تَعَالَى، فَيَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى الْإِيمَانِ الِاضْطِرَارِيِّ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّه مَا يَدْعُونَ، فَإِذَا جَاءَ الضُّرُّ وَالْبَلَاءُ لَمْ يَدْعُوا إِلَّا اللَّه وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الدُّعَاءِ قَوْلُهُمْ أَهْيَا شَرَاهْيَا تَفْسِيرُهُ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ. السُّؤَالُ السَّادِسُ: مَا الشَّيْءُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ هذِهِ فِي قَوْلِهِ: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ. وَالْجَوَابُ الْمُرَادُ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَاجِ أَوْ مِنْ هَذِهِ الشَّدَائِدِ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُهَا، إِلَّا أَنَّهُ سَبَقَ ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا. السُّؤَالُ السَّابِعُ: هَلْ يُحْتَاجُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى إِضْمَارٍ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ، وَالتَّقْدِيرُ: دَعَوُا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ مُرِيدِينَ أَنْ يَقُولُوا لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا، وَيُمْكِنُ/ أَنْ يقال: لا حاجة إلا الْإِضْمَارِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: دَعَوُا اللَّهَ يَصِيرُ مُفَسَّرًا بِقَوْلِهِ: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مَا قَالُوا إِلَّا هَذَا الْقَوْلَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ هَذَا التَّضَرُّعَ الْكَامِلَ بَيَّنَ أَنَّهُمْ بَعْدَ الْخَلَاصِ مِنْ تِلْكَ الْبَلِيَّةِ وَالْمِحْنَةِ أَقْدَمُوا فِي الْحَالِ عَلَى الْبَغْيِ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ بِهِ الْفَسَادَ وَالتَّكْذِيبَ وَالْجَرَاءَةَ عَلَى اللَّه تَعَالَى، وَمَعْنَى الْبَغْيِ قَصْدُ الِاسْتِعْلَاءِ بِالظُّلْمِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْبَغْيُ التَّرَقِّي فِي الْفَسَادِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ بَغَى الْجُرْحُ يَبْغِي بَغْيًا إِذَا تَرَقَّى إِلَى الْفَسَادِ، وَبَغَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا فَجَرَتْ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَصْلُ هَذَا اللَّفْظِ مِنَ الطَّلَبِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: بِغَيْرِ الْحَقِّ وَالْبَغْيُ لَا يَكُونُ بِحَقٍّ؟ قُلْنَا: الْبَغْيُ قَدْ يَكُونُ بِالْحَقِّ، وَهُوَ اسْتِيلَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَرْضِ الْكَفَرَةِ وَهَدْمُ دُورِهِمْ وَإِحْرَاقُ زُرُوعِهِمْ وَقَطْعُ أَشْجَارِهِمْ، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَنِي قُرَيْظَةَ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْبَغْيَ أَمْرٌ بَاطِلٌ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْهُ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْأَكْثَرُونَ مَتَاعُ بِرَفْعِ الْعَيْنِ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ مَتاعَ بِنَصْبِ الْعَيْنِ، أَمَّا الرَّفْعُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مُبْتَدَأً، وَقَوْلُهُ: مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا خبرا

[سورة يونس (10) : آية 24]

وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ بَغْيُ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 54] وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ بَغْيَ بَعْضِكُمْ عن بَعْضٍ مَنْفَعَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا بَقَاءَ لَهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ بَغْيُكُمْ مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلَهُ: عَلى أَنْفُسِكُمْ خَبَرُهُ، وَقَوْلُهُ: مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ فَوَجْهُهَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ قَوْلَهُ: بَغْيُكُمْ مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلَهُ: عَلى أَنْفُسِكُمْ خَبَرُهُ، وَقَوْلَهُ: مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ، وَالتَّقْدِيرُ: تَتَمَتَّعُونَ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْبَغْيُ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْمَعَاصِي قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَسْرَعُ الْخَيْرِ ثَوَابًا صِلَةُ الرَّحِمِ، وَأَعْجَلُ الشَّرِّ عِقَابًا الْبَغْيُ وَالْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ» وَرُوِيَ «ثِنْتَانِ يُعَجِّلُهُمَا اللَّه فِي الدُّنْيَا الْبَغْيُ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لَوْ بَغَى جَبَلٌ عَلَى جَبَلٍ لَانْدَكَّ الْبَاغِي. وَكَانَ الْمَأْمُونُ يَتَمَثَّلُ بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ فِي أَخِيهِ: يَا صَاحِبَ الْبَغْيِ إِنَّ الْبَغْيَ مَصْرَعَةٌ ... فَارْبِعْ فَخَيْرُ فِعَالِ الْمَرْءِ أَعْدَلُهُ فَلَوْ بَغَى جَبَلٌ يَوْمًا عَلَى جَبَلٍ ... لَانْدَكَّ مِنْهُ أَعَالِيهِ وَأَسْفَلُهُ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنْ فِيهِ كُنَّ عَلَيْهِ، الْبَغْيُ وَالنَّكْثُ وَالْمَكْرُ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثالثة: حاصل الكلام في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَيْ لَا يَتَهَيَّأُ لَكُمْ بَغْيُ بَعْضِكِمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا أَيَّامًا قَلِيلَةً، وَهِيَ مُدَّةُ حَيَاتِكُمْ مَعَ قِصَرِهَا وَسُرْعَةِ انْقِضَائِهَا ثُمَّ إِلَيْنا أَيْ مَا وَعَدْنَا مِنَ الْمُجَازَاةِ عَلَى أَعْمَالِكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِنْبَاءُ هُوَ الْإِخْبَارُ، وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَعِيدٌ بِالْعَذَابِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ سَأُخْبِرُكَ بِمَا فَعَلْتَ. [سورة يونس (10) : آية 24] إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا [يونس: 23] أَتْبَعَهُ بِهَذَا الْمَثَلِ الْعَجِيبِ الَّذِي ضَرَبَهُ لِمَنْ يَبْغِي فِي الْأَرْضِ وَيَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا، وَيَشْتَدُّ تَمَسُّكُهُ بِهَا، وَيَقْوَى إِعْرَاضُهُ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَالتَّأَهُّبِ لَهَا، فَقَالَ: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ بِسَبَبِ هَذَا الْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا نَزَلَ الْمَطَرُ يَنْبُتُ بِسَبَبِهِ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ مِنَ النَّبَاتِ، وَتَكُونُ تِلْكَ الْأَنْوَاعُ مُخْتَلِطَةً، وَهَذَا فِيمَا لَمْ يَكُنْ نَابِتًا قَبْلَ نُزُولِ الْمَطَرِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الَّذِي نَبَتَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتَرَعْرَعْ، وَلَمْ يَهْتَزَّ وَإِنَّمَا هُوَ فِي أَوَّلِ بُرُوزِهِ مِنَ الْأَرْضِ وَمَبْدَأِ حُدُوثِهِ، فَإِذَا نَزَلَ الْمَطَرُ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَطَ بِذَلِكَ الْمَطَرِ، أَيِ اتصل كل واحد منهما بالآخرة اهْتَزَّ ذَلِكَ النَّبَاتُ وَرَبَا وَحَسُنَ، وَكَمُلَ وَاكْتَسَى كَمَالَ الرَّوْنَقِ وَالزِّينَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ/ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّزَخْرُفَ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ حُسْنِ الشَّيْءِ فَجُعْلَتِ الْأَرْضُ آخِذَةً زُخْرُفَهَا عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْعَرُوسِ إِذَا لَبِسَتِ الثِّيَابَ الْفَاخِرَةَ مِنْ كُلِّ لَوْنٍ، وَتَزَيَّنَتْ بِجَمِيعِ

الْأَلْوَانِ الْمُمْكِنَةِ فِي الزِّينَةِ مِنْ حُمْرَةٍ وَخُضْرَةٍ وَصُفْرَةٍ وَذَهَبِيَّةٍ وَبَيَاضٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَتَى صَارَ الْبُسْتَانُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَبِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنَّهُ يَفْرَحُ بِهِ الْمَالِكُ وَيَعْظُمُ رَجَاؤُهُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَيَصِيرُ قَلْبُهُ مُسْتَغْرِقًا فِيهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُرْسِلُ عَلَى هَذَا الْبُسْتَانِ الْعَجِيبِ آفَةً عَظِيمَةً دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ مِنْ بَرْدٍ، أَوْ رِيحٍ أَوْ سَيْلٍ، فَصَارَتْ تِلْكَ الْأَشْجَارُ وَالزُّرُوعُ بَاطِلَةً هَالِكَةً كَأَنَّهَا مَا حَصَلَتِ الْبَتَّةَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَعْظُمُ حَسْرَةُ مَالِكِ ذَلِكَ الْبُسْتَانِ وَيَشْتَدُّ حُزْنُهُ، فَكَذَلِكَ مَنْ وَضَعَ قَلْبَهُ عَلَى لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا، فَإِذَا فَاتَتْهُ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ يَعْظُمُ حُزْنُهُ وَتَلَهُّفُهُ عَلَيْهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ تَشْبِيهَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِهَذَا النَّبَاتِ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا لَخَّصَهَا الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ عَاقِبَةَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّتِي يُنْفِقُهَا الْمَرْءُ فِي بَابِ الدُّنْيَا كَعَاقِبَةِ هَذَا النَّبَاتِ الَّذِي حِينَ عَظُمَ الرَّجَاءُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ وَقَعَ الْيَأْسُ مِنْهُ، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمُتَمَسِّكَ بِالدُّنْيَا إِذَا وَضَعَ عَلَيْهَا قَلْبَهُ وَعَظُمَتْ رَغْبَتُهُ فِيهَا يَأْتِيهِ الْمَوْتُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [الْأَنْعَامِ: 44] خَاسِرُونَ الدُّنْيَا، وَقَدْ أَنْفَقُوا أَعْمَارَهُمْ فِيهَا، وَخَاسِرُونَ مِنَ الْآخِرَةِ، مَعَ أَنَّهُمْ مُتَوَجِّهُونَ إِلَيْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّشْبِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ كَمَا لَمْ يَحْصُلْ لِذَلِكَ الزَّرْعِ عَاقِبَةٌ تُحْمَدُ، فَكَذَلِكَ الْمُغْتَرُّ بِالدُّنْيَا الْمُحِبُّ لَهَا لَا يَحْصُلُ لَهُ عَاقِبَةٌ تُحْمَدُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ وَجْهُ التَّشْبِيهِ مِثْلَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الْفُرْقَانِ: 23] فَلَمَّا صَارَ سَعْيُ هَذَا الزَّرَّاعِ بَاطِلًا بِسَبَبِ حُدُوثِ الْأَسْبَابِ الْمُهْلِكَةِ، فَكَذَلِكَ سَعْيُ الْمُغْتَرِّ بِالدُّنْيَا. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ مَالِكَ ذَلِكَ الْبُسْتَانِ لَمَّا عَمَرَهُ بِإِتْعَابِ النَّفْسِ وَكَدِّ الرُّوحِ، وَعَلَّقَ قَلْبَهُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ، فَإِذَا حَدَثَ ذَلِكَ السَّبَبُ الْمُهْلِكُ، وَصَارَ الْعَنَاءُ الشَّدِيدُ الَّذِي تَحَمَّلَهُ فِي الْمَاضِي سَبَبًا لِحُصُولِ الشَّقَاءِ الشَّدِيدِ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ مَا يَحْصُلُ لَهُ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْحَسَرَاتِ فَكَذَلِكَ حَالُ مَنْ وَضَعَ قَلْبَهُ عَلَى الدُّنْيَا وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ فِي تَحْصِيلِهَا، فَإِذَا مَاتَ، وَفَاتَهُ كُلُّ مَا نَالَ، صَارَ الْعَنَاءُ الَّذِي تَحَمَّلَهُ فِي تَحْصِيلِ أَسْبَابِ الدُّنْيَا، سَبَبًا لِحُصُولِ الشَّقَاءِ الْعَظِيمِ لَهُ فِي الْآخِرَةِ. وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ: لَعَلَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ضَرَبَ هَذَا الْمَثَلَ لِمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَرَى الزَّرْعَ الَّذِي قَدِ انْتَهَى إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى فِي التَّرْبِيَةِ، قَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الزِّينَةِ وَالْحُسْنِ ثُمَّ يَعْرِضُ/ لِلْأَرْضِ الْمُتَزَيِّنَةِ بِهِ آفَةٌ، فَيَزُولُ ذَلِكَ الْحُسْنُ بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ تَصِيرُ تِلْكَ الْأَرْضُ مَوْصُوفَةً بِتِلْكَ الزِّينَةِ مَرَّةً أُخْرَى فَذَكَرَ هَذَا الْمِثَالَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، كَانَ قَادِرًا عَلَى إِعَادَةِ الْأَحْيَاءِ فِي الْآخِرَةِ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: (الْمَثَلُ) : قَوْلٌ يُشَبَّهُ بِهِ حَالُ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَثَلِ الصِّفَةَ وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّمَا صِفَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَازَّيَّنَتْ فَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْنِي تَزَيَّنَتْ فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الزَّايِ وَسُكِّنَتِ الزَّايُ فَاجْتُلِبَ لَهَا أَلِفُ الْوَصْلِ، وَهَذَا مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ: فَادَّارَأْتُمْ [الْبَقَرَةِ: 72] ادَّارَكُوا [الْأَعْرَافِ: 38] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: يُرِيدُ أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْأَرْضِ قَادِرُونَ عَلَى حَصَادِهَا وَتَحْصِيلِ ثَمَرَاتِهَا وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الضَّمِيرَ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ عَائِدًا إِلَى الْأَرْضِ، إِلَّا أَنَّهُ

[سورة يونس (10) : آية 25]

عَائِدٌ إِلَى النَّبَاتِ الْمَوْجُودِ فِي الْأَرْضِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَتاها أَمْرُنا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: يُرِيدُ عَذَابَنَا وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَعْنَى أَتَاهَا أَمْرُنَا بِهَلَاكِهَا. وَقَوْلُهُ: فَجَعَلْناها حَصِيداً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا شَيْءَ فِيهَا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي الْمَحْصُودَ وَعَلَى هَذَا، الْمُرَادُ بِالْحَصِيدِ الْأَرْضُ الَّتِي حُصِدَ نَبْتُهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْحَصِيدِ النَّبَاتَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْحَصِيدُ الْمُسْتَأْصَلُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْحَصِيدُ الْمَقْطُوعُ وَالْمَقْلُوعُ. وَقَوْلُهُ: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ قَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ لِلشَّيْءِ إِذَا فَنِيَ: كَأَنْ لَمْ يَغْنَ بِالْأَمْسِ أَيْ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَوْلِهِمْ غَنِيَ الْقَوْمُ فِي دَارِهِمْ، إِذَا أَقَامُوا بِهَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ هَذَا صِفَةً لِلنَّبَاتِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ: كَأَنْ لَمْ تُعَمَّرْ بِالْأَمْسِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْمُرَادُ هُوَ الْأَرْضُ، وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أَيْ نَذْكُرُ وَاحِدَةً مِنْهَا بَعْدَ الْأُخْرَى، عَلَى التَّرْتِيبِ لِيَكُونَ تَوَالِيهَا وَكَثْرَتُهَا سَبَبًا لِقُوَّةِ اليقين، وموجبا لزوال الشك والشبهة. [سورة يونس (10) : آية 25] وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَفَّرَ الْغَافِلِينَ عَنِ الْمَيْلِ إِلَى الدُّنْيَا بِالْمَثَلِ السَّابِقِ، رَغَّبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَوَجْهُ التَّرْغِيبِ فِي الْآخِرَةِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ شَبَهُ سَيِّدٍ بَنَى دَارًا وَوَضَعَ مَائِدَةً وأرسل داعيا، فمن أجاب الداعي داخل الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ الْمَائِدَةِ وَرَضِيَ عَنْهُ السَّيِّدُ وَمَنْ لَمْ يُجِبْ لَمْ يَدْخُلْ وَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَرْضَ عَنْهُ السَّيِّدُ فاللَّه السَّيِّدُ، وَالدَّارُ دَارُ الْإِسْلَامِ، وَالْمَائِدَةُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشمس إلا وبجنيبها مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ بِحَيْثُ يَسْمَعُ كُلُّ الْخَلَائِقِ/ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ واللَّه يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا شُبْهَةَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ دَارِ السَّلَامِ الْجَنَّةُ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ حَصَلَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ السَّلَامَ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَالْجَنَّةُ دَارُهُ وَيَجِبُ عَلَيْنَا هَاهُنَا بَيَانُ فَائِدَةِ تَسْمِيَةِ اللَّه تَعَالَى بِالسَّلَامِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ فَقَدْ سَلِمَ مِنَ الْفَنَاءِ وَالتَّغَيُّرِ، وَسَلِمَ مِنِ احْتِيَاجِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ إِلَى الِافْتِقَارِ إِلَى الْغَيْرِ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَيْسَتْ إِلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ [محمد: 38] وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ [فَاطِرٍ: 15] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يُوصَفُ بِالسَّلَامِ بِمَعْنَى أَنَّ الْخَلْقَ سَلِمُوا مِنْ ظُلْمِهِ، قَالَ: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فُصِّلَتْ: 46] وَلِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُلْكُهُ وَمِلْكُهُ، وَتَصَرُّفُ الْفَاعِلِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ ظُلْمًا وَلِأَنَّ الظُّلْمَ إِنَّمَا يَصْدُرُ إِمَّا عَنِ الْعَاجِزِ أَوِ الْجَاهِلِ أَوِ الْمُحْتَاجِ، وَلَمَّا كَانَ الْكُلُّ مُحَالًا عَلَى اللَّه تَعَالَى، كَانَ الظُّلْمُ مُحَالًا فِي حَقِّهِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّهُ تَعَالَى يُوصَفُ بِالسَّلَامِ بِمَعْنَى أَنَّهُ ذُو السَّلَامِ، أَيِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى السَّلَامِ إِلَّا هُوَ، وَالسَّلَامُ عِبَارَةٌ عَنْ تَخْلِيصِ الْعَاجِزِينَ عَنِ الْمَكَارِهِ وَالْآفَاتِ فَالْحَقُّ تَعَالَى هُوَ السَّاتِرُ لِعُيُوبِ الْمَعْيُوبِينَ، وَهُوَ الْمُجِيبُ لِدَعْوَةِ الْمُضْطَرِّينَ، وَهُوَ الْمُنْتَصِفُ لِلْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: السَّلَامُ مَصْدَرُ سَلِمَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: السَّلَامُ جَمْعُ سَلَامَةٍ، وَمَعْنَى دَارِ السَّلَامِ: الدَّارُ الَّتِي مَنْ دَخَلَهَا سَلِمَ مِنَ الْآفَاتِ فَالسَّلَامُ هَاهُنَا بِمَعْنَى السَّلَامَةِ، كَالرَّضَاعِ بِمَعْنَى الرَّضَاعَةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ هُنَاكَ سَلِمَ مِنْ كُلِّ الْآفَاتِ، كَالْمَوْتِ وَالْمَرَضِ وَالْأَلَمِ وَالْمَصَائِبِ وَنَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ وَالْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ وَالْكَدِّ وَالتَّعَبِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ سُمِّيَتِ الْجَنَّةُ بِدَارِ السَّلَامِ لِأَنَّهُ تَعَالَى يُسَلِّمُ عَلَى أَهْلِهَا قَالَ تَعَالَى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] وَالْمَلَائِكَةُ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا، قَالَ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ

[سورة يونس (10) : آية 26]

سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ [الرَّعْدِ: 23، 24] وَهُمْ أَيْضًا يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلَامِ قَالَ تَعَالَى: تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [يونس: 10] وَأَيْضًا فَسَلَامُهُمْ يَصِلُ إِلَى السُّعَدَاءِ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الْوَاقِعَةِ: 90، 91] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ كَمَالَ جُودِ اللَّه تَعَالَى وَكَمَالَ قُدْرَتِهِ وَكَمَالَ رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ مَعْلُومٌ، فَدَعَوَتُهُ عَبِيدَهُ إِلَى دَارِ السَّلَامِ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَارَ السَّلَامِ قَدْ حَصَلَ فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، لِأَنَّ الْعَظِيمَ إِذَا اسْتَعْظَمَ شَيْئًا وَرَغَّبَ فِيهِ وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ التَّرْغِيبِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى كَمَالِ حَالِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ مَلَأَ اللَّه هَذَا الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ مِنْ وَصْفِ الْجَنَّةِ مِثْلَ قَوْلِهِ: فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ [الْوَاقِعَةِ: 89] وَنَحْنُ نَذْكُرُ هَاهُنَا كَلَامًا كُلِّيًّا فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَطْلُوبِ، فَنَقُولُ: الْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَسْعَى/ فِي يَوْمِهِ لِغَدِهِ وَلِكُلِّ إِنْسَانٍ غَدَانِ، غَدٌ فِي الدُّنْيَا وَغَدٌ فِي الْآخِرَةِ فَنَقُولُ: غَدُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِنْ غَدِ الدُّنْيَا مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ لَا يُدْرِكُ غَدَ الدُّنْيَا وَبِالضَّرُورَةِ يُدْرِكُ غَدَ الْآخِرَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يُدْرِكَ غَدَ الدُّنْيَا فَلَعَلَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَا جَمَعَهُ، إِمَّا لِأَنَّهُ يَضِيعُ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَالُ أَوْ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ فِي بَدَنِهِ مَرَضٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ. أَمَّا غد الآخرة فكلما اكْتَسَبَهُ الْإِنْسَانُ لِأَجْلِ هَذَا الْيَوْمِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَجِدَ غَدَ الدُّنْيَا وَيَقْدِرَ عَلَى أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَالِهِ، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْمَنَافِعَ مَخْلُوطَةٌ بِالْمَضَارِّ وَالْمَتَاعِبِ، لِأَنَّ سِعَادَاتِ الدُّنْيَا غَيْرُ خَالِصَةٍ عَنِ الْآفَاتِ، بَلْ هِيَ مَمْزُوجَةٌ بِالْبَلِيَّاتِ، وَالِاسْتِقْرَاءُ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ طَلَبَ مَا لَمْ يُخْلَقْ أَتْعَبَ نَفْسَهُ وَلَمْ يُرْزَقْ» فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّه وَمَا هُوَ؟ قال: «سرور يوم بتمامه» وأما منافع عز الْآخِرَةِ فَهِيَ خَالِصَةٌ عَنِ الْغُمُومِ وَالْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ سَالِمَةٌ عَنْ كُلِّ الْمُنَفِّرَاتِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أن يصل الإنسان إلى عز الدُّنْيَا وَيَنْتَفِعَ بِسَبَبِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ الِانْتِفَاعُ خَالِيًا عَنْ خَلْطِ الْآفَاتِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا وَمَنَافِعُ الْآخِرَةِ دَائِمَةٌ مُبَرَّأَةٌ عَنِ الِانْقِطَاعِ، فَثَبَتَ أَنَّ سَعَادَاتِ الدُّنْيَا مَشُوبَةٌ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَنَّ سَعَادَاتِ الْآخِرَةِ سَالِمَةٌ عَنْهَا فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَتِ الْجَنَّةُ دَارَ السَّلَامِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ بِقَضَاءِ اللَّه تَعَالَى قَالُوا: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ دَعَا جَمِيعَ الْخَلْقِ إِلَى دَارِ السَّلَامِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ مَا هَدَى إِلَّا بَعْضَهُمْ فَهَذِهِ الْهِدَايَةُ الْخَاصَّةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُغَايِرَةً لِتِلْكَ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ، وَلَا شَكَّ أَيْضًا أَنَّ الْإِقْدَارَ وَالتَّمْكِينَ وَإِرْسَالَ الرُّسُلِ وَإِنْزَالَ الْكُتُبِ أُمُورٌ عَامَّةٌ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْهِدَايَةُ الْخَاصَّةُ مُغَايِرَةً لِكُلِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّهُ بِالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ دُونَ غَيْرِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْكِلَةٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَمَا قَدَرُوا عَلَى إِيرَادِ الْأَسْئِلَةِ الْكَثِيرَةِ، وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَيَهْدِي اللَّه مَنْ يَشَاءُ إِلَى إِجَابَةِ تِلْكَ الدَّعْوَةِ، بِمَعْنَى أَنَّ مَنْ أَجَابَ الدُّعَاءَ وَأَطَاعَ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّه يَهْدِيهِ إِلَيْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْأَلْطَافُ. وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّه فِعْلُ هَذِهِ الْهِدَايَةِ، وَمَا كَانَ وَاجِبًا لَا يَكُونُ مُعَلَّقًا بِالْمَشِيئَةِ، وَهَذَا مُعَلَّقٌ بالمشيئة، فامتنع حمله على ما ذكروه. [سورة يونس (10) : آية 26] لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا دَعَا عِبَادَهُ إِلَى دَارِ السَّلَامِ، ذَكَرَ السَّعَادَاتِ الَّتِي تَحْصُلُ لَهُمْ فِيهَا فَقَالَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ فَيُحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ. أَمَّا اللَّفْظُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ: لِلَّذِينِ ذَكَرُوا كَلِمَةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه. وَقَالَ الْأَصَمُّ: مَعْنَاهُ: لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا فِي كُلِّ مَا تَعَبَّدُوا بِهِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ أَتَوْا بِالْمَأْمُورِ بِهِ كَمَا يَنْبَغِي، وَاجْتَنَبُوا الْمَنْهِيَّاتِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي صَارَتْ مَنْهِيًّا عَنْهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ لِأَنَّ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا لِأَهْلِ الطَّاعَاتِ. وَأَمَّا اللَّفْظُ الثَّانِي: وَهُوَ الْحُسْنى فَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْحُسْنَى فِي اللُّغَةِ تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ، وَالْعَرَبُ تُوَقِعُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ عَلَى الْحَالَةِ الْمَحْبُوبَةِ وَالْخَصْلَةِ الْمَرْغُوبِ فِيهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ تُؤَكَّدْ، وَلَمْ تُنْعَتْ بِشَيْءٍ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْمُرَادُ: الْمَثُوبَةُ الْحُسْنَى وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرَّحْمَنِ: 60] . وَأَمَّا اللَّفْظُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الزِّيَادَةُ فَنَقُولُ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ مُبْهَمَةٌ، وَلِأَجْلِ هَذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَحَاصِلُ كَلَامِهِمْ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلَيْنِ: القول الأول: أن المراد من مِنْهَا رُؤْيَةُ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ. أَمَّا النَّقْلُ: فَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْوَارِدُ فِيهِ، وَهُوَ أَنَّ الْحُسْنَى هِيَ الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ هِيَ النَّظَرُ إِلَى اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَأَمَّا الْعَقْلُ: فَهُوَ أَنَّ الْحُسْنَى لَفْظَةٌ مُفْرَدَةٌ دَخَلَ عَلَيْهَا حَرْفُ التَّعْرِيفِ، فَانْصَرَفَ إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ، وَهُوَ دَارُ السَّلَامِ وَالْمَعْرُوفُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُتَقَرِّرِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ هُوَ الْجَنَّةُ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالتَّعْظِيمِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الزِّيَادَةِ أَمْرًا مُغَايِرًا لِكُلِّ مَا فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالتَّعْظِيمِ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّكْرَارُ وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ قَالَ: إِنَّمَا هِيَ رُؤْيَةُ اللَّه تَعَالَى فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ: الرُّؤْيَةُ. وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [الْقِيَامَةِ: 22، 23] فَأَثْبَتَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَضْرَةُ الْوُجُوهِ وَالثَّانِي: النَّظَرُ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَوَجَبَ حَمْلُ الْحُسْنَى هَاهُنَا عَلَى نَضْرَةِ الْوُجُوهِ، وَحَمْلُ الزِّيَادَةِ عَلَى رُؤْيَةِ اللَّه تَعَالَى. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً [الْإِنْسَانِ: 20] أَثْبَتَ لَهُ النَّعِيمَ، ورأية الْمُلْكِ الْكَبِيرِ، فَوَجَبَ هَاهُنَا حَمْلُ الْحُسْنَى وَالزِّيَادَةِ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ عَلَى الرُّؤْيَةِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّه تَعَالَى مُمْتَنِعَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الزِّيَادَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، وَرُؤْيَةُ اللَّه تَعَالَى لَيْسَتْ مِنْ جَنْسِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي تَمَسَّكْتُمْ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ الزِّيَادَةَ، هِيَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا الْخَبَرُ يُوجِبُ التَّشْبِيهَ، لِأَنَّ النَّظَرَ عِبَارَةٌ عَنْ تَقْلِيبِ الْحَدَقَةِ إِلَى جِهَةِ الْمَرْئِيِّ وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ الْمَرْئِيِّ فِي الْجِهَةِ، لِأَنَّ الْوَجْهَ اسْمٌ لِلْعُضْوِ الْمَخْصُوصِ، وَذَلِكَ أَيْضًا يُوجِبُ التَّشْبِيهَ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الرُّؤْيَةِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَعِنْدَ هَذَا قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْحُسْنَى عِبَارَةٌ عَنِ الثَّوَابِ الْمُسْتَحَقِّ، وَالزِّيَادَةُ هِيَ مَا يَزِيدُهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى هَذَا الثَّوَابِ مِنَ التَّفَضُّلِ

قَالَ: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ: الْقُرْآنُ وَأَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ. أَمَّا الْقُرْآنُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [فَاطِرٍ: 30] . وَأَمَّا أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ: فَنُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الزِّيَادَةُ غُرْفَةٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْحُسْنَى هِيَ الْحَسَنَةُ، وَالزِّيَادَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَعَنِ الْحَسَنِ: عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الزِّيَادَةُ مَغْفِرَةُ اللَّه وَرِضْوَانُهُ. وَعَنْ يَزِيدِ بْنِ سَمُرَةَ: الزِّيَادَةُ أَنْ تَمُرَّ السَّحَابَةُ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَتَقُولَ: مَا تُرِيدُونَ أَنْ أُمْطِرَكُمْ فَلَا يُرِيدُونَ شَيْئًا إِلَّا أَمْطَرَتْهُمْ. أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَقَالُوا: أَمَّا قَوْلُكُمْ إِنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى امْتِنَاعِ رُؤْيَةِ اللَّه تَعَالَى فَهَذَا مَمْنُوعٌ، لِأَنَّا بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ تِلْكَ الدَّلَائِلَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَنِهَايَةِ السَّخَافَةِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْعَقْلِ مَا يَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَةِ اللَّه تَعَالَى وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ بِإِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ، وَجَبَ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا. أَمَّا قَوْلُهُ الزِّيَادَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ فَنَقُولُ: الْمَزِيدُ عَلَيْهِ، إِذَا كَانَ مُقَدَّرًا بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مُخَالِفَةً لَهُ. مِثَالُ الْأَوَّلِ: قَوْلُ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ: أَعْطَيْتُكَ عَشَرَةَ أمداد من الحنطة وزيادة، فههنا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الزِّيَادَةُ مِنَ الْحِنْطَةِ. ومثال الثاني: قوله أعطيتك الحنطة وزيادة، فههنا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الزِّيَادَةُ غَيْرَ الْحِنْطَةِ، وَالْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَفْظُ الْحُسْنى وَهِيَ الْجَنَّةُ، وَهِيَ مُطْلَقَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا شَيْئًا مُغَايِرًا لِكُلِّ مَا فِي الْجَنَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْبَابِ، اشْتَمَلَ عَلَى لَفْظِ النَّظَرِ، وَعَلَى إِثْبَاتِ الْوَجْهِ للَّه تَعَالَى، وَكِلَاهُمَا يُوجِبَانِ التَّشْبِيهَ فَنَقُولُ: هَذَا الْخَبَرُ أَفَادَ إِثْبَاتَ الرُّؤْيَةِ، وَأَفَادَ إِثْبَاتَ الْجِسْمِيَّةِ. ثُمَّ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَلَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِ رُؤْيَتِهِ، فَوَجَبَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِمَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهِ فَقَطْ، وَأَيْضًا فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ هَذِهِ الْآيَةِ/ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ هِيَ الرُّؤْيَةُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ تُنَافِي تَقْرِيرَ ذَلِكَ الْخَبَرِ، واللَّه أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ مَا يَحْصُلُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ السَّعَادَاتِ، شَرَحَ بَعْدَ ذَلِكَ الْآفَاتِ الَّتِي صَانَهُمُ اللَّه بِفَضْلِهِ عَنْهَا، فَقَالَ: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ وَالْمَعْنَى: لَا يَغْشَاهَا قَتَرٌ، وَهِيَ غَبَرَةٌ فِيهَا سَوَادٌ وَلا ذِلَّةٌ وَلَا أَثَرُ هَوَانٍ وَلَا كُسُوفٍ. فالصفة الأولى: هي قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عَبَسَ: 40] . وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ [الْغَاشِيَةِ: 2، 3] وَالْغَرَضُ مِنْ نَفْيِ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، نَفْيُ أَسْبَابِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ وَالذُّلِّ عَنْهُمْ، لِيُعْلَمَ أَنَّ نَعِيمَهُمُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى خَالِصٌ غَيْرُ مَشُوبٍ بِالْمَكْرُوهَاتِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ مَا إِذَا حَصَلَ غَيَّرَ صَفْحَةَ الْوَجْهِ، وَيُزِيلُ مَا فِيهَا مِنَ النَّضَارَةِ وَالطَّلَاقَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ خَالِدُونَ فِي الْجَنَّةِ لَا يَخَافُونَ الِانْقِطَاعَ. وَاعْلَمْ أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُصُولِ قَالُوا: الثَّوَابُ مَنْفَعَةٌ خَالِصَةٌ دَائِمَةٌ مَقْرُونَةٌ بِالتَّعْظِيمِ، فَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ [يُونُسَ: 25] يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ التَّعْظِيمِ. وَقَوْلُهُ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْمَنْفَعَةِ وَقَوْلُهُ: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا خَالِصَةً وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهَا دَائِمَةً آمِنَةً مِنَ الِانْقِطَاعِ واللَّه أعلم.

[سورة يونس (10) : آية 27]

[سورة يونس (10) : آية 27] وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) [فِي قَوْلُهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا شَرَحَ حَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، شَرَحَ حَالَ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى السَّيِّئَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَكَرَ تَعَالَى مِنْ أَحْوَالِهِمْ أُمُورًا أَرْبَعَةً أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْقَيْدِ التَّنْبِيهُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَبَيْنَ السَّيِّئَاتِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي أَعْمَالِ الْبِرِّ أَنَّهُ يُوصِلُ إِلَى الْمُشْتَغِلِينَ بِهَا الثَّوَابَ مَعَ الزِّيَادَةِ وَأَمَّا فِي عَمَلِ السَّيِّئَاتِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُجَازِي/ إِلَّا بِالْمِثْلِ، وَالْفَرْقُ هُوَ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّوَابِ تَكُونُ تَفَضُّلًا وَذَلِكَ حَسَنٌ، وَيَكُونُ فِيهِ تَأْكِيدٌ لِلتَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَةِ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي عَمَلِ السَّيِّئَاتِ، فَهُوَ ظُلْمٌ، وَلَوْ فَعَلَهُ لَبَطَلَ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالتَّرْهِيبُ وَالتَّحْذِيرُ، لِأَنَّ الثِّقَةَ بِذَلِكَ إِنَّمَا تَحْصُلُ إِذَا ثَبَتَتْ حِكْمَتُهُ، وَلَوْ فَعَلَ الظُّلْمَ لَبَطَلَتْ حِكْمَتُهُ تَعَالَى اللَّه عَنْ ذَلِكَ، هَكَذَا قَرَّرَهُ الْقَاضِي تَفْرِيعًا عَلَى مَذْهَبِهِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الْهَوَانِ وَالتَّحْقِيرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَمَالَ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ، وَالنُّقْصَانَ مَكْرُوهٌ لِذَاتِهِ، فَالْإِنْسَانُ النَّاقِصُ إِذَا مَاتَ بَقِيَتْ رُوحُهُ نَاقِصَةً خَالِيَةً عَنِ الْكَمَالَاتِ، فَيَكُونُ شُعُورُهُ بِكَوْنِهِ نَاقِصًا، سَبَبًا لِحُصُولِ الذِّلَّةِ وَالْمَهَانَةِ وَالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا عَاصِمَ مِنَ اللَّه لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ قَضَاءَهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، وَقَدَرَهُ نَافِذٌ فِي كُلِّ الْمُحْدَثَاتِ إِلَّا أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الطِّبَاعِ الْعَاصِيَةِ، أَنَّهُمْ فِي الْحَيَاةِ الْعَاجِلَةِ مُشْتَغِلُونَ بِأَعْمَالِهِمْ وَمُرَادَاتِهِمْ أَمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ فَكُلُّ أَحَدٍ يُقِرُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنَ اللَّه مِنْ عَاصِمٍ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِثْبَاتُ مَا نَفَاهُ عَنِ السُّعَدَاءِ حَيْثُ قَالَ: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ [يُونُسَ: 26] . وَاعْلَمْ أَنَّ حُكَمَاءَ الْإِسْلَامِ قَالُوا: الْمُرَادُ مِنْ هذا السواد المذكور هاهنا سَوَادُ الْجَهْلِ وَظُلْمَةُ الضَّلَالَةِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ طَبْعُهُ طَبْعُ النُّورِ، وَالْجَهْلَ طَبْعُهُ طَبْعُ الظُّلْمَةِ، فَقَوْلُهُ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عَبَسَ: 39] الْمُرَادُ مِنْهُ نُورُ الْعِلْمِ، وَرُوحُهُ وَبِشْرُهُ وَبِشَارَتُهُ، وَقَوْلُهُ: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عَبَسَ: 40] الْمُرَادُ مِنْهُ ظُلْمَةُ الْجَهْلِ وَكُدُورَةُ الضَّلَالَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا [يونس: 26] كَأَنَّهُ قِيلَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَلِلَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَجَزَاءُ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا عَلَى مَعْنَى أَنَّ جَزَاءَهُمْ أَنْ يُجَازَى سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ بِسَيِّئَةٍ مِثْلِهَا لَا يُزَادُ عَلَيْهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ اللَّه فِي حَقِّ الْمُحْسِنِينَ لَيْسَ إِلَّا بِالْفَضْلِ، وَفِي حَقِّ الْمُسِيئِينَ لَيْسَ إِلَّا بِالْعَدْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ الْكُفَّارُ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ سَوَادَ الْوَجْهِ مِنْ عَلَامَاتِ الْكُفْرِ، بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ [آل عمران: 106] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عَبَسَ: 40- 42] وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً [يونس: 28] وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (هُمْ) عَائِدٌ إِلَى هَؤُلَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى

[سورة يونس (10) : الآيات 28 إلى 29]

وَصَفَهُمْ بِالشِّرْكِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الْكُفَّارُ، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ نُورٌ وَسُلْطَانُ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ/ هُوَ مَعْرِفَةُ اللَّه تَعَالَى، فَكُلُّ قَلْبٍ حَصَلَ فِيهِ مَعْرِفَةُ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الظُّلْمَةُ أَصْلًا، وَكَانَ الشِّبْلِيُّ رَحْمَةُ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ يَتَمَثَّلُ بِهَذَا وَيَقُولُ: كُلُّ بَيْتٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ ... غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى السَّرْجِ وَجْهُكَ الْمَأْمُولُ حُجَّتُنَا ... يَوْمَ يَأْتِي النَّاسُ بِالْحُجَجِ وَقَالَ الْقَاضِي: إِنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ وَالْفَاسِقَ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: الصِّيغَةُ وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً إِلَّا أَنَّ الدَّلَائِلَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا تُخَصِّصُهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي قَوْلِهِ: جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: فَلَهُمْ جَزَاءُ السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا، كَمَا قَالَ: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ [الْبَقَرَةِ: 196] أَيْ فَعَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُعَلَّقَ الْجَزَاءُ بِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: بِمِثْلِها قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الثَّانِي فَلَا بُدَّ مِنْ عَائِدِ الْمَوْصُولِ وَالتَّقْدِيرُ: فَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ مِنْهُمْ بِمِثْلِهَا. أَمَّا قَوْلُهُ: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى يُجَازِي، لِأَنَّ قَوْلَهُ: جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها تَقْدِيرُهُ: يُجَازِي سَيِّئَةً بِمِثْلِهَا، وَقُرِئَ يَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ بِالْيَاءِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أُغْشِيَتْ أَيْ أُلْبِسَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ قِطَعاً بِسُكُونِ الطَّاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الطَّاءِ، وَالْقِطْعُ بِسُكُونِ الطَّاءِ الْقِطْعَةُ وَهِيَ الْبَعْضُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ [هُودٍ: 81] أَيْ قِطْعَةٍ. وَأَمَّا قِطَعٌ بِفَتْحِ الطَّاءِ، فَهُوَ جَمْعُ قِطْعَةٍ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَصَفَ وُجُوهَهُمْ بِالسَّوَادِ، حَتَّى كَأَنَّهَا أُلْبِسَتْ سَوَادًا مِنَ اللَّيْلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزُّمَرِ: 60] وَكَقَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 106] وَكَقَوْلِهِ: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ [الرَّحْمَنِ: 41] وَتِلْكَ الْعَلَامَةُ هِيَ سَوَادُ الْوَجْهِ وَزُرْقَةُ الْعَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مُظْلِماً قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: هُوَ نَعْتٌ لِقَوْلِهِ: قِطَعاً وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ حَالًا كَأَنَّهُ قِيلَ: أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ الليل في حال ظلمته. [سورة يونس (10) : الآيات 28 الى 29] وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) وفيه مسائل: [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ شَرْحِ فَضَائِحِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ السَّابِقِ، وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ [يُونُسَ: 27] فَلَمَّا وَصَفَ اللَّه هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَحْشُرُهُمْ بِالشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ الْكُفَّارُ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ: أَنَّهُ تَعَالَى يَحْشُرُ الْعَابِدَ وَالْمَعْبُودَ، ثُمَّ إِنَّ الْمَعْبُودَ يَتَبَرَّأُ مِنَ الْعَابِدِ، وَيَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهُ مَا فَعَلَ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ

وَإِرَادَتِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُسَ: 18] فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يَشْفَعُونَ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، بَلْ يَتَبَرَّءُونَ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، وَنَظِيرُهُ آيَاتٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [الْبَقَرَةِ: 166] وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سَبَأٍ: 40، 41] . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُشِيرُ عَلَى سَبِيلِ الرَّمْزِ إِلَى دَقِيقَةٍ عَقْلِيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ مَا سِوَى الْوَاحِدِ الْأَحَدِ الْحَقِّ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ مُحْتَاجٌ بِحَسَبِ مَاهِيَّتِهِ، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا وَفَاعِلًا مَعًا، فَمَا سِوَى الْوَاحِدِ الْأَحَدِ الْحَقِّ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ، فَالْمُمْكِنُ الْمُحْدِثُ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا لِغَيْرِهِ، بَلِ الْمَعْبُودُ الْحَقُّ لَيْسَ إِلَّا الْمُوجِدَ الْحَقَّ، وَذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا الْمَوْجُودَ الْحَقَّ الَّذِي هُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، فَبَرَاءَةُ الْمَعْبُودِ مِنَ الْعَابِدِينَ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. واللَّه أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: (الْحَشْرُ) الْجَمْعُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ إِلَى مَوْقِفٍ وَاحِدٍ وجَمِيعاً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَيْ نَحْشُرُ الْكُلَّ حَالَ اجتماعهم. ومَكانَكُمْ منصوب بإضمار الزموا والتقدير: الزموا مكانكم وأَنْتُمْ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ وَشُرَكاؤُكُمْ عَطْفٌ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: مَكانَكُمْ كَلِمَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِلْعَابِدِينَ وَالْمَعْبُودِينَ مَكَانَكُمْ أَيِ الْزَمُوا مَكَانَكُمْ حَتَّى تُسْأَلُوا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصَّافَّاتِ: 22- 24] . أَمَّا قَوْلُهُ: فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ جَاءَتْ عَلَى لَفْظِ الْمُضِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ: ثُمَّ نَقُولُ وَهُوَ مُنْتَظَرٌ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الَّذِي حَكَمَ اللَّه فيه، بأن سَيَكُونُ صَارَ كَالْكَائِنِ الرَّاهِنِ الْآنَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَافِ: 44] . الْبَحْثُ الثَّانِي: (زَيَّلْنَا) فَرَّقْنَا وَمَيَّزْنَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: قَوْلُهُ: فَزَيَّلْنا لَيْسَ مِنْ أَزَلْتُ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ زِلْتُ إِذَا فَرَّقْتُ تَقُولُ الْعَرَبُ: زِلْتُ الضَّأْنَ مِنَ الْمَعْزِ فَلَمْ تَزِلْ أَيْ مَيَّزْتُهَا فَلَمْ تَتَمَيَّزْ، ثم قال الواحدي: فالزيل والتزييل والمزايلة، والتمييز وَالتَّفْرِيقُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَقُرِئَ فَزَايَلْنَا بَيْنَهُمْ وَهُوَ مِثْلُ فَزَيَّلْنا وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ مِنْ زَالَ يَزُولُ وَأَزَلْتُهُ أَنَا، ثُمَّ حَكَى عَنِ الْأَزْهَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ زَالَ يَزُولُ، وَبَيْنَ زَالَ يَزِيلُ، وَبَيْنَهُمَا بَوْنٌ بَعِيدٌ، وَالْقَوْلُ مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ، ثُمَّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فَزَيَّلْنا أَيْ فَرَّقْنَا بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَبَيْنَ شُرَكَائِهِمْ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَصْنَامِ، وَانْقَطَعَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ التَّوَاصُلِ فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ فَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: إِنَّمَا أَضَافَ الشُّرَكَاءَ إِلَيْهِمْ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ جَعَلُوا نَصِيبًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ لِتِلْكَ الْأَصْنَامِ، فَصَيَّرُوهَا شُرَكَاءَ لِأَنْفُسِهِمْ فِي تِلْكَ الْأَمْوَالِ، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكْفِي فِي الْإِضَافَةِ أَدْنَى تَعَلُّقٍ، فَلَمَّا كَانَ الْكُفَّارُ هُمُ الَّذِينَ أَثْبَتُوا هَذِهِ الشَّرِكَةَ، لَا جَرَمَ حَسُنَتْ إِضَافَةُ الشُّرَكَاءِ إِلَيْهِمْ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ

[سورة يونس (10) : آية 30]

تَعَالَى لَمَّا خَاطَبَ الْعَابِدِينَ وَالْمَعْبُودِينَ بِقَوْلِهِ: مَكانَكُمْ صَارُوا شُرَكَاءَ فِي هَذَا الْخِطَابِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هم الملائكة، واستشهدوا بقوله تعالى: يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [سَبَأٍ: 40] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هِيَ الْأَصْنَامُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ كَيْفَ ذَكَرَتْ هَذَا الْكَلَامَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَخْلُقُ الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ وَالنُّطْقَ فِيهَا، فَلَا جَرَمَ قَدَرَتْ عَلَى ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ. وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ فِيهَا الْكَلَامَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُقَ فِيهَا الْحَيَاةَ حَتَّى يُسْمَعَ مِنْهَا ذَلِكَ الْكَلَامُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ ذَلِكَ الْقَوْلِ هُمُ الشُّرَكَاءُ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا أَحْيَاهُمُ اللَّه تَعَالَى فَهَلْ يُبْقِيهِمْ أَوْ يُفْنِيهِمْ؟ قُلْنَا: الْكُلُّ مُحْتَمَلٌ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى اللَّه فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ، وَأَحْوَالُ الْقِيَامَةِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، إِلَّا الْقَلِيلَ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءِ، كُلُّ مَنْ عُبِدَ مَنْ دُونِ اللَّه تَعَالَى، مِنْ صَنَمٍ وَشَمْسٍ وَقَمَرٍ وَإِنْسِيٍّ وَجِنِّيٍّ وَمَلَكٍ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: هَذَا الْخِطَابُ لَا شَكَّ أَنَّهُ تَهْدِيدٌ فِي حَقِّ الْعَابِدِينَ، فَهَلْ يَكُونُ تَهْدِيدًا فِي حَقِّ الْمَعْبُودِينَ. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ: فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا ذَنْبَ لِلْمَعْبُودِ، وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، فَإِنَّهُ يَقْبُحُ مِنَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُوَجِّهَ التَّخْوِيفَ وَالتَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ إِلَيْهِ. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا، فَإِنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى لَا يسئل عَمَّا يَفْعَلُ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: أَنَّ الشُّرَكَاءَ قَالُوا: مَا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ وَهُمْ كَانُوا قَدْ عَبَدُوهُمْ، فَكَانَ هَذَا كَذِبًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي أَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ هَلْ يَكْذِبُونَ أَمْ لَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هذه المسألة على الاستقصاء، والذي نذكره هاهنا، أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ هُوَ أَنَّكُمْ مَا عَبَدْتُمُونَا بِأَمْرِنَا وَإِرَادَتِنَا؟ قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمُ اسْتَشْهَدُوا باللَّه فِي ذَلِكَ حَيْثُ قَالُوا: فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ فَأَثْبَتُوا لَهُمْ عِبَادَةً، إِلَّا أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا غَافِلِينَ عَنْ تِلْكَ الْعِبَادَةِ، وَقَدْ صَدَقُوا فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْغَفْلَةِ كَوْنَهَا جَمَادَاتٍ لَا حِسَّ لَهَا بِشَيْءٍ وَلَا شُعُورَ أَلْبَتَّةَ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَجْرَى الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا وَقَالُوا: إِنَّ الشُّرَكَاءَ أَخْبَرُوا أَنَّ الْكُفَّارَ مَا عَبَدُوهَا، ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْقِفَ مَوْقِفُ الدَّهْشَةِ وَالْحَيْرَةِ، فَذَلِكَ الْكَذِبُ يَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى كَذِبِ الصِّبْيَانِ، وَمَجْرَى كَذِبِ الْمَجَانِينِ وَالْمَدْهُوشِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ مَا أَقَامُوا لِأَعْمَالِ الْكُفَّارِ وَزْنًا وَجَعَلُوهَا لِبُطْلَانِهَا كَالْعَدَمِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالُوا: إِنَّهُمْ مَا عَبَدُونَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ تَخَيَّلُوا فِي الْأَصْنَامِ الَّتِي عَبَدُوهَا صِفَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا عَبَدُوا ذَوَاتٍ مَوْصُوفَةً بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَلَمَّا كَانَتْ ذَوَاتُهَا خَالِيَةً عَنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ، فَهُمْ مَا عَبَدُوهَا وَإِنَّمَا عَبَدُوا أُمُورًا تَخَيَّلُوهَا وَلَا وُجُودَ لَهَا فِي الْأَعْيَانِ، وَتِلْكَ الصِّفَاتُ الَّتِي تَخَيَّلُوهَا فِي أَصْنَامِهِمْ أَنَّهَا تَضُرُّ وتنفع وتشفع عند اللَّه بغير إذنه. [سورة يونس (10) : آية 30] هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (30)

[سورة يونس (10) : الآيات 31 إلى 33]

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَالتَّتِمَّةِ لِمَا قَبْلَهَا. وَقَوْلُهُ: هُنالِكَ مَعْنَاهُ: فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ وَفِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى اسْتِعَارَةِ اسْمِ الْمَكَانِ لِلزَّمَانِ، وَفِي قوله: تَبْلُوا مباحث: البحث الأول: قرأ حمزة والكسائي تتلوا بتاءين، وقرأ عاصم نبلوا كل نفس بالنون ونصب كل والباقون تَبْلُوا بِالتَّاءِ وَالْبَاءِ. أَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ فَلَهَا وجهان: الأول: أن يكون معنى قوله: تتلوا أَيْ تَتْبَعُ مَا أَسْلَفَتْ، لِأَنَّ عَمَلَهُ هُوَ الَّذِي يَهْدِيهِ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ وَإِلَى طَرِيقِ النَّارِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ تَقْرَأُ مَا فِي صَحِيفَتِهَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الْإِسْرَاءِ: 14] وَقَالَ: فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ [الْإِسْرَاءِ: 71] وَأَمَّا قِرَاءَةُ عَاصِمٍ فَمَعْنَاهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُولُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ نَخْتَبِرُ كُلَّ نَفْسٍ بِسَبَبِ اخْتِبَارِ مَا أَسْلَفَتْ مِنَ الْعَمَلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّا نَعْرِفُ حَالَهَا بِمَعْرِفَةِ حَالِ عَمَلِهَا، إِنْ كَانَ حَسَنًا فَهِيَ سَعِيدَةٌ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا فَهِيَ شَقِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى نَفْعَلُ بِهَا فِعْلَ الْمُخْتَبِرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ فَمَعْنَاهَا: أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ نَخْتَبِرُ أَعْمَالَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: الِابْتِلَاءُ عِبَارَةٌ عَنِ الِاخْتِبَارِ قَالَ تَعَالَى: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ [الْأَعْرَافِ: 168] وَيُقَالُ: الْبَلَاءُ ثُمَّ الِابْتِلَاءُ أَيِ الِاخْتِبَارُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الِابْتِلَاءِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تَنْكَشِفُ نَتَائِجُ الْأَعْمَالِ وَتَظْهَرُ آثَارُ الْأَفْعَالِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ تَسْمِيَةُ حُدُوثِ الْعِلْمِ بِالِابْتِلَاءِ؟ وَجَوَابُهُ: أَنَّ الِابْتِلَاءَ سَبَبٌ لِحُدُوثِ الْعِلْمِ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ فَاعْلَمْ أَنَّ الرَّدَّ عِبَارَةٌ عَنْ صَرْفِ الشَّيْءِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي جاء منه، وهاهنا فِيهِ احْتِمَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ أَيْ وَرُدُّوا إِلَى حَيْثُ لَا حُكْمَ إِلَّا للَّه عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ نَظَائِرِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَرُدُّوا إِلَى مَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنَ اللَّه مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ، مُنَبِّهًا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ اللَّه بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَا يَتَغَيَّرُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ أَيْ جُعِلُوا مُلْجَئِينَ إِلَى الْإِقْرَارِ بِإِلَهِيَّتِهِ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّه تَعَالَى، وَلِذَلِكَ قَالَ: مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَعْنِي أَعْرَضُوا عَنِ الْمَوْلَى الْبَاطِلِ وَرَجَعُوا إِلَى الْمَوْلَى الْحَقِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَوْلاهُمُ الْحَقِّ فَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ فِيمَا يَعْبُدُونَهُ أَنَّهُمْ شُفَعَاءُ وَأَنَّ عِبَادَتَهُمْ مُقَرِّبَةٌ إِلَى اللَّه تَعَالَى، فَنَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَزُولُ فِي الْآخِرَةِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ذلك باطل وافتراء واختلاق. [سورة يونس (10) : الآيات 31 الى 33] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إلى قوله فَأَنَّى تُصْرَفُونَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فَضَائِحَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ أَتْبَعَهَا بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْمَذْهَبِ. فَالْحُجَّةُ الْأُولَى: مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ أَحْوَالُ الرِّزْقِ وَأَحْوَالُ الْحَوَاسِّ وَأَحْوَالُ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ. أَمَّا الرِّزْقُ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَمَّا مِنَ السَّمَاءِ فَبِنُزُولِ الْأَمْطَارِ الْمُوَافِقَةِ وَأَمَّا مِنَ الْأَرْضِ، فَلِأَنَّ الْغِذَاءَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَبَاتًا أَوْ حَيَوَانًا، أَمَّا النَّبَاتُ فَلَا يَنْبُتُ إِلَّا مِنَ الْأَرْضِ وَأَمَّا الْحَيَوَانُ فَهُوَ مُحْتَاجٌ أَيْضًا إِلَى الْغِذَاءِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ غِذَاءُ كُلِّ حَيَوَانٍ حَيَوَانًا آخَرَ وَإِلَّا لَزِمَ الذَّهَابُ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ أَغْذِيَةَ الْحَيَوَانَاتِ يَجِبُ انْتِهَاؤُهَا إِلَى النَّبَاتِ وَثَبَتَ أَنَّ تَوَلُّدَ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ، فَلَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْأَرْزَاقَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنَ السَّمَاءِ والأرض، ومعلوم أن مدبر السموات وَالْأَرَضِينَ لَيْسَ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَثَبَتَ أَنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى، وأما أحوال الحواس فكذلك، فأن أَشْرَفَهَا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَقُولُ: سُبْحَانَ مَنْ بَصَّرَ بِشَحْمٍ، وَأَسْمَعَ بِعَظْمٍ، وَأَنْطَقَ بِلَحْمٍ، وَأَمَّا أَحْوَالُ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُخْرِجُ الْإِنْسَانَ وَالطَّائِرَ مِنَ النُّطْفَةِ وَالْبَيْضَةِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ أَيْ يُخْرِجُ النُّطْفَةَ وَالْبَيْضَةَ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالطَّائِرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرَ/ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ إِلَى الْحَقِيقَةِ أَقْرَبُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا التَّفْصِيلَ ذَكَرَ بَعْدَهُ كَلَامًا كُلِّيًّا، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَقْسَامَ تَدْبِيرِ اللَّه تَعَالَى فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَفِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَفِي عَالَمَيِ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَادِ أُمُورٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَذِكْرُ كُلِّهَا كَالْمُتَعَذِّرِ، فَلَمَّا ذَكَرَ بَعْضَ تِلْكَ التَّفَاصِيلِ لَا جَرَمَ عَقَّبَهَا بِالْكَلَامِ الْكُلِّيِّ لِيَدُلَّ عَلَى الْبَاقِي ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذَا سَأَلَهُمْ عَنْ مُدَبِّرِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَسَيَقُولُونَ إِنَّهُ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْكَلَامِ كَانُوا يَعْرِفُونَ اللَّه وَيُقِرُّونَ بِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا فِي عِبَادَتِهِمْ لِلْأَصْنَامِ إِنَّهَا تُقَرِّبُنَا إِلَى اللَّه زُلْفَى وَإِنَّهُمْ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه وَكَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ يَعْنِي أَفَلَا تَتَّقُونَ أَنْ تَجْعَلُوا هَذِهِ الْأَوْثَانَ شُرَكَاءَ للَّه فِي الْمَعْبُودِيَّةِ، مَعَ اعْتِرَافِكُمْ بِأَنَّ كُلَّ الْخَيْرَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنَّمَا تَحْصُلُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّه وَإِحْسَانِهِ، وَاعْتِرَافِكُمْ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَوْثَانَ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ أَلْبَتَّةَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ هَذِهِ قُدْرَتُهُ وَرَحْمَتُهُ هُوَ رَبُّكُمُ الْحَقُّ الثَّابِتُ رُبُوبِيَّتُهُ ثَبَاتًا لَا رَيْبَ فِيهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا سِوَاهُ ضَلَالًا، لِأَنَّ النَّقِيضَيْنِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَا حَقَّيْنِ وَأَنْ يَكُونَا بَاطِلَيْنِ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا حَقًّا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا سِوَاهُ بَاطِلًا. ثُمَّ قَالَ: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ لَمَّا عَرَفْتُمْ هَذَا الْأَمْرَ الْوَاضِحَ الظَّاهِرَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ وَكَيْفَ تَسْتَجِيزُونَ الْعُدُولَ عَنْ هَذَا الْحَقِّ الظَّاهِرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْجُبَّائِيَّ قَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ أَنَّهُ تَعَالَى يَصْرِفُ الْكُفَّارَ عَنِ الْإِيمَانِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَمَا لَا يَقُولُ إِذَا أَعْمَى بَصَرَ أَحَدِهِمْ إِنِّي عَمِيتُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ سَيَأْتِي عَنْ قَرِيبٍ. أَمَّا قَوْلُهُ: كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ بِقَضَاءِ اللَّه تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ خَبَرًا جَزْمًا قَطْعًا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَلَوْ آمَنُوا لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَبْقَى ذَلِكَ الْخَبَرُ صِدْقًا أَوْ لَا يَبْقَى، وَالْأَوَّلُ باطل، لأن الخبر بأنه لا يؤمن قطعا يَمْتَنِعُ أَنْ يَبْقَى صِدْقًا حَالَ مَا يُوجَدُ الْإِيمَانُ مِنْهُ وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ انْقِلَابَ خبر اللَّه

[سورة يونس (10) : آية 34]

تَعَالَى كَذِبًا مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّ صُدُورَ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ مُحَالٌ وَالْمُحَالُ لَا يَكُونُ مُرَادًا، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَرَادَ الْإِيمَانَ مِنْ هَذَا الْكَافِرِ وَأَنَّهُ أَرَادَ الْكُفْرَ مِنْهُ، ثُمَّ نَقُولُ: إِنْ كَانَ قَوْلُهُ: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ الْمَوْضُوعَةُ بِجَنْبِهِ/ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ، وَقَدْ كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْجُبَّائِيِّ مَعَ قُوَّةِ خَاطِرِهِ حِينَ اسْتَدَلَّ بِتِلْكَ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ أَنْ يَذْكُرَ هَذِهِ الْحُجَّةَ وَيُجِيبَ عَنْهَا حَتَّى يَحْصُلَ مَقْصُودُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ كَلِمَاتُ رَبِّكَ عَلَى الْجَمْعِ وَبَعْدَهُ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عليهم كلمات ربك [يونس: 96] وفي حم المؤمن كذلك حقت كلمات [غافر: 6] كُلُّهُ بِالْأَلِفِ عَلَى الْجَمْعِ وَالْبَاقُونَ كَلِمَةُ رَبِّكَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى لَفْظِ الْوُحْدَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ لِلتَّشْبِيهِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَمَا ثَبَتَ وَحَقَّ أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. الثَّانِي: كَمَا حَقَّ صُدُورُ الْعِصْيَانِ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بَدَلٌ مِنْ كَلِمَةُ أَيْ حَقَّ عَلَيْهِمُ انْتِفَاءُ الْإِيمَانِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمُرَادُ مِنْ كَلِمَةِ اللَّه إِمَّا إِخْبَارُهُ عَنْ ذَلِكَ وَخَبَرُهُ صِدْقٌ لَا يَقْبَلُ التَّغْيُّرَ وَالزَّوَالَ، أَوْ عِلْمُهُ بِذَلِكَ، وَعِلْمُهُ لَا يَقْبَلُ التَّغَيُّرَ وَالْجَهْلَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: عِلْمُ اللَّه تَعَلَّقَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَخَبَرُهُ تَعَالَى تَعَلَّقَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، وَقُدْرَتُهُ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِخَلْقِ الْإِيمَانِ فِيهِ، بَلْ بِخَلْقِ الْكُفْرِ فِيهِ وَإِرَادَتُهُ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِخَلْقِ الْإِيمَانِ فِيهِ، بَلْ بِخَلْقِ الْكُفْرِ فِيهِ، وَأَثْبَتَ ذَلِكَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ مَلَائِكَتَهُ، وَأَنْزَلَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَيْهِ، فَلَوْ حَصَلَ الْإِيمَانُ لَبَطَلَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ، فَيَنْقَلِبُ عِلْمُهُ جَهْلًا، وَخَبَرُهُ الصِّدْقُ كَذِبًا، وَقُدْرَتُهُ عَجْزًا، وَإِرَادَتُهُ كُرْهًا، وَإِشْهَادُهُ بَاطِلًا، وَإِخْبَارُ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ كَذِبًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ. [سورة يونس (10) : آية 34] قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ، وَتَقْرِيرُهَا مَا شَرَحَ اللَّه تَعَالَى فِي سَائِرِ الْآيَاتِ مِنْ كَيْفِيَّةِ ابْتِدَاءِ تَخْلِيقِ الْإِنْسَانِ مِنَ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ وكيفية إعادته، ومن كيفية ابتداء تخليق السموات وَالْأَرْضِ، فَلَمَّا فَصَّلَ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ، لَا جَرَمَ اكتفى تعالى بذكرها هاهنا على سبيل الإجمال، وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْحُجَّةِ عَلَى سَبِيلِ السُّؤَالِ وَالِاسْتِفْهَامِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْكَلَامَ إِذَا كَانَ ظَاهِرًا جَلِيًّا ثُمَّ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ وَتَفْوِيضِ الْجَوَابِ إِلَى المسؤول، كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ وَأَوْقَعَ فِي الْقَلْبِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: الْقَوْمُ كَانُوا مُنْكِرِينَ الْإِعَادَةَ وَالْحَشْرَ وَالنَّشْرَ فَكَيْفَ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ذِكْرَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ وُجُوبُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُحْسِنِ وَبَيْنَ الْمُسِيءِ وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ ظَاهِرَةٌ قَوِيَّةٌ لَا يَتَمَكَّنُ الْعَاقِلُ مِنْ دَفْعِهَا، فَلِأَجْلِ كَمَالِ قُوَّتِهَا وَظُهُورِهَا تَمْسَكَ بِهِ سَوَاءٌ سَاعَدَ الْخَصْمُ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُسَاعِدْ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ أَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يَعْتَرِفَ بِذَلِكَ، وَالْإِلْزَامُ إِنَّمَا يَحْصُلُ لَوِ اعْتَرَفَ الْخَصْمُ بِهِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الدَّلِيلَ لَمَّا كَانَ ظَاهِرًا جَلِيًّا، فَإِذَا أُورِدَ عَلَى الْخَصْمِ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِفْهَامِ، ثُمَّ إِنَّهُ بِنَفْسِهِ

[سورة يونس (10) : الآيات 35 إلى 36]

يَقُولُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، كَانَ هَذَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ بَلَغَ فِي الْوُضُوحِ إِلَى حَيْثُ لَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى إِقْرَارِ الْخَصْمِ بِهِ، وَأَنَّهُ سَوَاءٌ أَقَرَّ أَوْ أَنْكَرَ، فَالْأَمْرُ مُتَقَرِّرٌ ظَاهِرٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالْمُرَادُ التَّعَجُّبُ مِنْهُمْ فِي الذَّهَابِ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْوَاضِحِ الَّذِي دَعَاهُمُ الْهَوَى وَالتَّقْلِيدُ أَوِ الشُّبْهَةُ الضَّعِيفَةُ إِلَى مُخَالَفَتِهِ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ كَوْنِ الْأَوْثَانِ آلِهَةً كَذِبٌ وَإِفْكٌ، وَالِاشْتِغَالُ بِعِبَادَتِهَا مَعَ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ يُشْبِهُ الْإِفْكَ. [سورة يونس (10) : الآيات 35 الى 36] قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: [في قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ إلى قوله كَيْفَ تَحْكُمُونَ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ بِالْخَلْقِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِالْهِدَايَةِ ثَانِيًا، عَادَةٌ مُطَّرِدَةٌ فِي الْقُرْآنِ، فَحَكَى تَعَالَى عَنِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ/ فَقَالَ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشُّعَرَاءِ: 78] وَعَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] وَأَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الْأَعْلَى: 1- 3] وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ دَلِيلٌ شَرِيفٌ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ جَسَدٌ وَلَهُ رُوحٌ، فَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ بِأَحْوَالِ الْجَسَدِ هُوَ الْخَلْقُ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِأَحْوَالِ الرُّوحِ هُوَ الْهِدَايَةُ فَهَهُنَا أَيْضًا لَمَّا ذَكَرَ دَلِيلَ الْخَلْقِ فِي الآية الأولى، وهو قوله: أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [النمل: 64] أَتْبَعَهُ بِدَلِيلِ الْهِدَايَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ خَلْقِ الْجَسَدِ حُصُولُ الْهِدَايَةِ لِلرُّوحِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النَّحْلِ: 78] وَهَذَا كَالتَّصْرِيحِ بِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ الْجَسَدَ، وَإِنَّمَا أَعْطَى الْحَوَاسَّ لِتَكُونَ آلَةً فِي اكْتِسَابِ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ، وَأَيْضًا فَالْأَحْوَالُ الْجَسَدِيَّةُ خَسِيسَةٌ يَرْجِعُ حَاصِلُهَا إِلَى الِالْتِذَاذِ بِذَوْقِ شَيْءٍ مِنَ الطُّعُومِ أَوْ لَمْسِ شَيْءٍ مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ الْمَلْمُوسَةِ، أَمَّا الْأَحْوَالُ الرُّوحَانِيَّةُ وَالْمَعَارِفُ الْإِلَهِيَّةُ، فَإِنَّهَا كَمَالَاتٌ بَاقِيَةٌ أَبَدَ الْآبَادِ مَصُونَةٌ عَنِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْخَلْقَ تَبَعٌ لِلْهِدَايَةِ، وَالْمَقْصُودَ الْأَشْرَفَ الْأَعْلَى حُصُولُ الْهِدَايَةِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْعُقُولُ مُضْطَرِبَةٌ وَالْحَقُّ صَعْبٌ، وَالْأَفْكَارُ مُخْتَلِطَةٌ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنَ الْغَلَطِ إِلَّا الْأَقَلُّونَ، فَوَجَبَ أَنَّ الْهِدَايَةَ وَإِدْرَاكَ الْحَقِّ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهِدَايَتِهِ وَإِرْشَادِهِ، وَلِصُعُوبَةِ هَذَا الْأَمْرِ قَالَ الْكَلِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ اسْتِمَاعِ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه: 25] وَكُلُّ الْخَلْقِ يَطْلُبُونَ الْهِدَايَةَ وَيَحْتَرِزُونَ عَنِ الضَّلَالَةِ، مَعَ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ وَقَعُوا فِي الضَّلَالَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْهِدَايَةِ وَالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْهِدَايَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عِبَارَةً عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عِبَارَةً عَنْ تَحْصِيلِ تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهَا أَشْرَفُ الْمَرَاتِبِ الْبَشَرِيَّةِ وَأَعْلَى السَّعَادَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَدَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى. وَأَمَّا الْأَصْنَامُ فَإِنَّهَا جَمَادَاتٌ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ وَلَا فِي الْإِرْشَادِ إِلَى

الصِّدْقِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُوصِلُ إِلَى جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْمُرْشِدُ إِلَى كُلِّ الْكَمَالَاتِ فِي النَّفْسِ وَالْجَسَدِ، وَأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَتِهَا جَهْلًا مَحْضًا وَسَفَهًا صِرْفًا، فَهَذَا حَاصِلُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ هَدَيْتُ إِلَى الْحَقِّ، وَهَدَيْتُ لِلْحَقِّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، واللَّه تَعَالَى ذَكَرَ هَاتَيْنِ اللُّغَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: أَمَّنْ لَا يَهِدِّي ست قراءات: الأول: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ يَهَدِّي بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ، لِأَنَّ أَصْلَهُ يَهْتَدِي أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ وَنُقِلَتْ فَتْحَةُ التَّاءِ الْمُدْغَمَةِ إِلَى الْهَاءِ. الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ سَاكِنَةَ الْهَاءِ مُشَدَّدَةَ الدَّالِ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ وَتُرِكَتِ الْهَاءُ عَلَى حَالِهَا، فَجَمَعَ فِي قِرَاءَتِهِ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ كَمَا جَمَعُوا فِي يَخِصِّمُونَ [يس: 49] قَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى وَهُوَ غَلَطٌ عَلَى نَافِعٍ. الثَّالِثَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِالْإِشَارَةِ إِلَى فَتْحَةِ الْهَاءِ مِنْ غَيْرِ إِشْبَاعٍ فَهُوَ بَيْنَ الْفَتْحِ وَالْجَزْمِ مُخْتَلَسَةٌ عَلَى أَصْلِ مَذْهَبِهِ اخْتِيَارًا لِلتَّخْفِيفِ، وَذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى أَنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ قِرَاءَةِ نَافِعٍ. الرَّابِعَةُ: قَرَأَ عَاصِمٌ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ فِرَارًا مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَالْجَزْمُ يُحَرَّكُ بِالْكَسْرِ. الْخَامِسَةُ: قَرَأَ حَمَّادٌ وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِكَسْرِ الْيَاءِ وَالْهَاءِ أَتْبَعَ الْكَسْرَةَ لِلْكَسْرَةِ. وَقِيلَ: هُوَ لُغَةُ مَنْ قَرَأَ (نِسْتَعِينُ ونعبد) السادسة: قرأ حمزة والكسائي يَهْدِي سَاكِنَةَ الْهَاءِ وَبِتَخْفِيفِ الدَّالِ عَلَى مَعْنَى يَهْتَدِي وَالْعَرَبُ تَقُولُ: يَهْدِي، بِمَعْنَى يَهْتَدِي يُقَالُ: هَدَيْتُهُ فَهُدِيَ أَيِ اهْتَدَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي لَفْظِ الْآيَةِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الشُّرَكَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَصْنَامُ وَأَنَّهَا جَمَادَاتٌ لَا تَقْبَلُ الْهِدَايَةَ، فَقَوْلُهُ: أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى لَا يَلِيقُ بِهَا. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ هُوَ الْأَصْنَامَ. وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ رُؤَسَاءَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ وَالدُّعَاةَ إِلَيْهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التَّوْبَةِ: 31] وَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَدَى الْخَلْقَ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ بِوَاسِطَةِ مَا أَظْهَرَ مِنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ. وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الدُّعَاةُ وَالرُّؤَسَاءُ فَإِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَهْدُوا غَيْرَهُمْ إِلَّا إِذَا هَدَاهُمُ اللَّه تَعَالَى، فَكَانَ التَّمَسُّكُ بِدِينِ اللَّه تَعَالَى أَوْلَى مِنْ قَبُولِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ يُقَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا اتَّخَذُوهَا آلِهَةً، لَا جَرَمَ عَبَّرَ عَنْهَا كَمَا يُعَبِّرُ عَمَّنْ يَعْلَمُ وَيَعْقِلُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ [الْأَعْرَافِ: 194] مَعَ أَنَّهَا جَمَادَاتٌ وَقَالَ: إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ [فَاطِرٍ: 14] فَأَجْرَى اللَّفْظَ عَلَى الْأَوْثَانِ عَلَى حَسَبِ مَا يجري على من يعقل ويعلم فكذا هاهنا وَصَفَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِصِفَةِ مَنْ يَعْقِلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، الثَّالِثُ: أَنَّا نَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى التَّقْدِيرِ، يَعْنِي أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بِحَيْثُ يُمْكِنُهَا أَنْ تَهْدِيَ، فَإِنَّهَا لَا تَهْدِي غَيْرَهَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَهْدِيَهَا غَيْرُهَا، وَإِذَا حَمَلْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَدْ زَالَ السُّؤَالُ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْبِنْيَةَ عِنْدَنَا لَيْسَتْ شَرْطًا/ لِصِحَّةِ الْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ، فَتِلْكَ الْأَصْنَامُ حَالَ كَوْنِهَا خَشَبًا وَحَجَرًا قَابِلَةٌ لِلْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَصِحُّ مِنَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهَا حَيَّةً عَاقِلَةً ثُمَّ إِنَّهَا تَشْتَغِلُ بِهِدَايَةِ الْغَيْرِ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْهُدَى عِبَارَةٌ عَنِ النَّقْلِ وَالْحَرَكَةِ يُقَالُ: هُدِيَتِ الْمَرْأَةُ

إِلَى زَوْجِهَا هُدًى، إِذَا نُقِلَتْ إِلَيْهِ وَالْهَدْيُ مَا يُهْدَى إِلَى الْحَرَمِ مِنَ النَّعَمِ، وَسُمِّيَتِ الْهَدِيَّةُ هَدِيَّةً لِانْتِقَالِهَا مِنْ رَجُلٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَجَاءَ فُلَانٌ يُهَادِي بَيْنَ اثْنَيْنِ إِذَا كَانَ يَمْشِي بَيْنَهُمَا مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا مِنْ ضَعْفِهِ وَتَمَايُلِهِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى مَكَانٍ إِلَّا إِذَا نُقِلَ إِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمُرَادُ الْإِشَارَةُ إِلَى كَوْنِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ جَمَادَاتٍ خَالِيَةً عَنِ الْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ عَلَى الْكُفَّارِ هَذِهِ الْحُجَّةَ الظَّاهِرَةَ قَالَ: فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ يُعَجِّبُ مِنْ مَذْهَبِهِمُ الْفَاسِدِ وَمَقَالَتِهِمُ الْبَاطِلَةِ أَرْبَابَ الْعُقُولِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ فِي إِقْرَارِهِمْ باللَّه تَعَالَى إِلَّا ظَنًّا، لِأَنَّهُ قَوْلٌ غَيْرُ مُسْتَنِدٍ إِلَى بُرْهَانٍ عِنْدَهُمْ، بَلْ سَمِعُوهُ مِنْ أَسْلَافِهِمْ. الثَّانِي: وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ فِي قَوْلِهِمُ الْأَصْنَامُ آلِهَةٌ وَأَنَّهَا شُفَعَاءُ عِنْدَ اللَّه إِلَّا الظَّنَّ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْوَى، لِأَنَّا فِي الْقَوْلِ الثَّانِي نَحْتَاجُ إِلَى أَنْ نُفَسِّرَ الْأَكْثَرَ بِالْكُلِّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَمَسُّكُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالُوا: الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ عَمَلٌ بِالظَّنِّ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً. أَجَابَ مُثْبِتُو الْقِيَاسِ، فَقَالُوا: الدَّلِيلُ الَّذِي دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، فَكَانَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ مَعْلُومًا، فَلَمْ يَكُنِ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ مَظْنُونًا بَلْ كَانَ مَعْلُومًا. أَجَابَ الْمُسْتَدِلُّ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ الْحُكْمُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْقِيَاسِ يُعْلَمُ كَوْنُهُ حُكْمًا للَّه تَعَالَى لَكَانَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ كُفْرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [الْمَائِدَةِ: 44] وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، بَطُلَ الْعَمَلُ بِهِ وَقَدْ يَعْدُونَ عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ بِأَنَّهُمْ قَالُوا: الْحُكْمُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْقِيَاسِ إِمَّا أَنْ يُعْلَمَ كَوْنُهُ حُكْمًا للَّه تَعَالَى أَوْ يُظَنَّ أَوْ لَا يُعْلَمَ وَلَا يُظَنَّ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ وَإِلَّا لَكَانَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ كَافِرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [الْمَائِدَةِ: 44] وَبِالِاتِّفَاقِ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالظَّنِّ لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً وَالثَّالِثُ: بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْحُكْمُ مَعْلُومًا وَلَا مَظْنُونًا، كَانَ مُجَرَّدَ التَّشَهِّي، فَكَانَ بَاطِلًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ [مَرْيَمَ: 59] . وَأَجَابَ مُثْبِتُو الْقِيَاسِ: بِأَنَّ حَاصِلَ هَذَا الدَّلِيلِ يَرْجِعُ إِلَى التَّمَسُّكِ بِالْعُمُومَاتِ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْعُمُومَاتِ/ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ. فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْعُمُومَاتُ دَالَّةً عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْتَمَسَكِ بِالظَّنِّ، لَزِمَ كَوْنُهَا دَالَّةً عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْتَمَسُّكِ بِهَا، وَمَا أَفْضَى ثُبُوتُهُ إِلَى نَفْيِهِ كَانَ مَتْرُوكًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ ظَانًّا فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ، وَمَا كَانَ قَاطِعًا، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّه يَمْنَعُ مِنَ الْقَطْعِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُمُ الْكُفْرُ. قُلْنَا: هَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّ الْإِيمَانُ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الِاعْتِقَادِ

[سورة يونس (10) : الآيات 37 إلى 39]

والإقرار والعمل، والشك حاصل فِي أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ هَلْ هِيَ مُوَافِقَةٌ لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى؟ وَالشَّكُّ فِي أَحَدِ أَجْزَاءِ الْمَاهِيَّةِ لَا يُوجِبُ الشَّكَّ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ. الثَّانِي: أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ قَوْلِهِ إِنْ شَاءَ اللَّه بَقَاءُ الْإِيمَانِ عِنْدَ الْخَاتِمَةِ. الثَّالِثُ: الْغَرَضُ منه هضم النفس وكسرها. واللَّه أعلم. [سورة يونس (10) : الآيات 37 الى 39] وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ] فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّا حِينَ شرعنا في تفسير قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [يُونُسَ: 20] ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِمُعْجِزٍ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا إِنَّمَا يَأْتِي بِهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ عَلَى سَبِيلِ الِافْتِعَالِ وَالِاخْتِلَاقِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْجَوَابَاتِ الْكَثِيرَةَ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ، وَامْتَدَّتْ تِلْكَ الْبَيَانَاتُ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي شَرَحْنَاهُ وَفَصَّلْنَاهُ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ إِتْيَانَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذَا الْقُرْآنِ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّه تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ وَحْيٌ نَازِلٌ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللَّه، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى احْتَجَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُعْجِزٌ نَازِلٌ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى، وَأَنَّهُ مُبَرَّأٌ عَنِ الِافْتِرَاءِ وَالِافْتِعَالِ فَهَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الصَّحِيحُ فِي نَظْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ يُفْتَرى فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ، وَالْمَعْنَى: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ افْتِرَاءً مِنْ دُونِ اللَّه، كَمَا تَقُولُ: مَا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ إِلَّا كَذِبًا. وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ إن كلمة (أن) جاءت هاهنا بِمَعْنَى اللَّامِ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ لِيُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّه، كَقَوْلِهِ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التَّوْبَةِ: 122] مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ ... وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آلِ عِمْرَانَ: 179] أَيْ لَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ مَا يَنْبَغِي لِهَذَا الْقُرْآنِ أَنْ يُفْتَرَى، أَيْ لَيْسَ وَصْفُهُ وَصْفُ شَيْءٍ يُمْكِنُ أَنْ يُفْتَرَى بِهِ عَلَى اللَّه، لِأَنَّ الْمُفْتَرَى هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْبَشَرُ، وَالْقُرْآنُ مُعْجِزٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَالِافْتِرَاءُ افْتِعَالٌ مِنْ فَرَيْتُ الْأَدِيمَ إِذَا قَدَّرْتُهُ لِلْقَطْعِ، ثُمَّ استعمل في الكذب كما استعمل قولهم: اختلف فُلَانٌ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْكَذِبِ، فَصَارَ حَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى احْتَجَّ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى بِأُمُورٍ: النوع الأول: قَوْلُهُ: وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْحُجَّةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ رَجُلًا أُمِّيًّا مَا سَافَرَ إِلَى بَلْدَةٍ لِأَجْلِ التَّعَلُّمِ، وَمَا كَانَتْ مَكَّةُ بَلْدَةَ الْعُلَمَاءِ، وَمَا كَانَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى بِهَذَا الْقُرْآنِ، فَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ مُشْتَمِلًا عَلَى أَقَاصِيصِ الْأَوَّلِينَ، وَالْقَوْمُ كَانُوا فِي غَايَةِ الْعَدَاوَةِ لَهُ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَقَاصِيصُ مُوَافِقَةً لِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ لَقَدَحُوا فِيهِ وَلَبَالَغُوا فِي الطَّعْنِ فِيهِ، وَلَقَالُوا لَهُ إِنَّكَ جِئْتَ بِهَذِهِ الْأَقَاصِيصِ لَا كَمَا يَنْبَغِي، فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ ذَلِكَ مَعَ شِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى الطعن

فِيهِ، وَعَلَى تَقْبِيحِ صُورَتِهِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ أَتَى بِتِلْكَ الْأَقَاصِيصِ مُطَابِقَةً لِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، مَعَ أَنَّهُ مَا طَالَعَهُمَا وَلَا تُلْمِذَ لِأَحَدٍ فِيهِمَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِوَحْيٍ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ كُتُبَ اللَّه الْمُنَزَّلَةَ دَلَّتْ عَلَى مَقْدَمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى مَا اسْتَقْصَيْنَا فِي تَقْرِيرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 40] وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ/ كَانَ مَجِيءُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَصْدِيقًا لِمَا فِي تِلْكَ الْكُتُبِ، مِنَ الْبِشَارَةِ بِمَجِيئِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ هَذَا عِبَارَةً عَنْ تَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَ فِي الْقُرْآنِ عَنِ الْغُيُوبِ الْكَثِيرَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَوَقَعَتْ مُطَابِقَةً لِذَلِكَ الْخَبَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ [الرُّومِ: 1، 2] الْآيَةَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ [الْفَتْحِ: 27] وَكَقَوْلِهِ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النُّورِ: 55] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ هَذِهِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، إِنَّمَا حَصَلَ بِالْوَحْيِ مِنَ اللَّه تَعَالَى، فَكَانَ ذَلِكَ عِبَارَةً عَنْ تَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، فَالْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ: إِخْبَارٌ عَنِ الْغُيُوبِ الْمَاضِيَةِ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِخْبَارٌ عَنِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَمَجْمُوعُهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هذه الآية قوله تعالى: وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ مِنْ أَيِّ الْوُجُوهِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مُعْجِزٌ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ الْمَاضِيَةِ وَالْمُسْتَقْبَلَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُعْجِزٌ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْعُلُومَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ دِينِيَّةً أَوْ لَيْسَتْ دِينِيَّةً، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ أَرْفَعُ حَالًا وَأَعْظَمُ شَأْنًا وَأَكْمَلُ دَرَجَةً مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي. وَأَمَّا الْعُلُومُ الدِّينِيَّةُ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عِلْمَ الْعَقَائِدِ وَالْأَدْيَانِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عِلْمَ الْأَعْمَالِ. أَمَّا عِلْمُ الْعَقَائِدِ وَالْأَدْيَانِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. أَمَّا مَعْرِفَةُ اللَّه تَعَالَى، فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِ جَلَالِهِ، وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِ إِكْرَامِهِ، وَمَعْرِفَةِ أَفْعَالِهِ، وَمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ، وَمَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى دَلَائِلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَتَفَارِيعِهَا وَتَفَاصِيلِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْكُتُبِ، بَلْ لَا يَقْرُبُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ. وَأَمَّا عِلْمُ الْأَعْمَالِ فَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ عِلْمِ التَّكَالِيفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالظَّوَاهِرِ وَهُوَ عِلْمُ الْفِقْهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَمِيعَ الْفُقَهَاءِ إِنَّمَا اسْتَنْبَطُوا مَبَاحِثَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِلْمًا بِتَصْفِيَةِ الْبَاطِنِ أَوْ رِيَاضَةِ الْقُلُوبِ. وَقَدْ حَصَلَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَبَاحِثِ هَذَا الْعِلْمِ مَا لَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الْأَعْرَافِ: 199] وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النمل: 90] فَثَبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَفَاصِيلِ جَمِيعِ الْعُلُومِ الشَّرِيفَةِ، عَقْلِيِّهَا وَنَقْلِيِّهَا، اشْتِمَالًا يَمْتَنِعُ حُصُولُهُ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ فَكَانَ ذَلِكَ مُعْجِزًا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ. أَمَّا قَوْلُهُ: لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ فَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْكِتَابَ الطَّوِيلَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى هَذِهِ/ الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى نَوْعٍ مِنْ أنواع التناقض، وحيث خلي هَذَا الْكِتَابُ عَنْهُ، عَلِمْنَا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّه بوحيه وَتَنْزِيلِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82] .

[في قَوْلُهُ تَعَالَى أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَا يَلِيقُ بِحَالِهِ وَصِفَتِهِ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُفْتَرًى عَلَى اللَّه تَعَالَى، وَأَقَامَ عَلَيْهِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ، عَادَ مَرَّةً أُخْرَى بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، فَقَالَ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُجَّةً أُخْرَى عَلَى إِبْطَالِ هَذَا الْقَوْلِ، فَقَالَ: قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَهَذِهِ الْحُجَّةُ بَالَغْنَا فِي تَقْرِيرِهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة: 23] وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٍ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ فِي سُورَةِ البقرة: مِنْ مِثْلِهِ وقال هاهنا: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ رَجُلًا أُمِّيًّا، لَمْ يُتَلْمَذْ لِأَحَدٍ وَلَمْ يُطَالِعْ كِتَابًا فَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يَعْنِي فَلْيَأْتِ إِنْسَانٌ يُسَاوِي مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي عَدَمِ التَّلْمَذِ وَعَدَمِ مُطَالَعَةِ الْكُتُبِ وَعَدَمِ الِاشْتِغَالِ بِالْعُلُومِ بِسُورَةٍ تُسَاوِي هَذِهِ السُّورَةَ، وَحَيْثُ ظَهَرَ الْعَجْزُ ظَهَرَ الْمُعْجِزُ فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّورَةَ فِي نَفْسِهَا مُعْجِزَةٌ، وَلَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ظُهُورَ مِثْلِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ إِنْسَانٍ مِثْلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي عَدَمِ التَّلْمَذِ وَالتَّعَلُّمِ مُعْجِزٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ تِلْكَ السُّورَةَ فِي نَفْسِهَا مُعْجِزٌ، فَإِنَّ الْخَلْقَ وَإِنْ تَلْمَذُوا وَتَعَلَّمُوا وَطَالَعُوا وَتَفَكَّرُوا، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُمُ الْإِتْيَانُ بِمُعَارَضَةِ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ السُّوَرِ، فَلَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا تَرْتِيبٌ عَجِيبٌ فِي بَابِ التَّحَدِّي وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ هَلْ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ السُّوَرِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، أَوْ يَخْتَصُّ بِالسُّوَرِ الْكِبَارِ. الْجَوَابُ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ يُونُسَ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، فَالْمُرَادُ مِثْلُ هَذِهِ السُّورَةِ، لِأَنَّهَا أَقْرَبُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، قَالُوا: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَحَدَّى الْعَرَبَ بِالْقُرْآنِ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّحَدِّي: أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُمُ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ، فَإِذَا عَجَزُوا عَنْهُ ظَهَرَ كَوْنُهُ حُجَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّه عَلَى صِدْقِهِ، وَهَذَا إِنَّمَا يُمْكِنُ لَوْ كَانَ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ صَحِيحَ الْوُجُودِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَوْ كَانَ قَدِيمًا لَكَانَ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِ الْقَدِيمِ مُحَالًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ التَّحَدِّي. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقُرْآنَ اسْمٌ يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى الصِّفَةِ الْقَدِيمَةِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِ اللَّه تَعَالَى، وَعَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْكَلِمَاتِ الْمُرَكَّبَةَ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ، وَالتَّحَدِّي إِنَّمَا وَقَعَ بِهَا لَا بِالصِّفَةِ الْقَدِيمَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَالْمُرَادُ مِنْهُ: تَعْلِيمُ أَنَّهُ كَيْفَ يُمْكِنُ الْإِتْيَانُ بِهَذِهِ الْمُعَارَضَةِ لَوْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَيْهَا، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا تَعَاوَنَتْ وَتَعَاضَدَتْ صَارَتْ تِلْكَ الْعُقُولُ الْكَثِيرَةُ كَالْعَقْلِ الْوَاحِدِ، فَإِذَا تَوَجَّهُوا نَحْوَ شَيْءٍ وَاحِدٍ، قَدَرَ مَجْمُوعُهُمْ عَلَى مَا يَعْجَزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هَبْ أَنَّ عَقْلَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ مِنْكُمْ لَا يَفِي بِاسْتِخْرَاجِ مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ فَاجْتَمِعُوا وَلْيُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ، فَإِذَا عَرَفْتُمْ عَجْزَكُمْ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ وَحَالَةَ الِانْفِرَادِ عَنْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ، فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّ تَعَذُّرَ هَذِهِ

الْمُعَارَضَةِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ قُدْرَةَ الْبَشَرِ غَيْرُ وَافِيَةٍ بِهَا، فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ اللَّه لَا فِعْلُ الْبَشَرِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ بِهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ أَنَّ مَرَاتِبَ تَحَدِّي رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ سِتَّةٌ، فَأَوَّلُهَا: أَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِكُلِّ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الْإِسْرَاءِ: 88] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ قَالَ تَعَالَى: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [هُودٍ: 13] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا قَالَ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَةِ: 23] وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ فَقَالَ: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطُّورِ: 34] وَخَامِسُهَا: أَنَّ فِي تِلْكَ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعَةِ، كَانَ يَطْلُبُ مِنْهُمْ أَنْ يَأْتِيَ بِالْمُعَارَضَةِ رَجُلٌ يُسَاوِي رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَدَمِ التَّلْمَذِ وَالتَّعَلُّمِ، ثُمَّ فِي سُورَةِ يُونُسَ طَلَبَ مِنْهُمْ مُعَارَضَةَ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَيِّ إِنْسَانٍ سَوَاءً تَعَلَّمَ الْعُلُومَ أَوْ لَمْ يَتَعَلَّمْهَا. وَسَادِسُهَا: أَنَّ فِي الْمَرَاتِبِ الْمُتَقَدِّمَةِ تَحَدَّى كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ تَحَدَّى جَمِيعَهُمْ، وَجَوَّزَ أَنْ يَسْتَعِينَ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ فِي الْإِتْيَانِ بِهَذِهِ الْمُعَارَضَةِ، كَمَا قَالَ: وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وهاهنا آخِرُ الْمَرَاتِبِ، فَهَذَا مَجْمُوعُ الدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهُ كَذَّبُوا الْقُرْآنَ فَقَالَ: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كُلَّمَا سَمِعُوا شَيْئًا مِنَ الْقَصَصِ قَالُوا: لَيْسَ فِي هَذَا الْكِتَابِ إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَلَمْ يَعْرِفُوا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا لَيْسَ هُوَ نَفْسُ الْحِكَايَةِ بَلْ أُمُورٌ أُخْرَى مُغَايِرَةٌ لَهَا: فَأَوَّلُهَا: بَيَانُ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى عَلَى التَّصَرُّفِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَنَقْلِ أَهْلِهِ مِنَ الْعِزِّ إِلَى الذُّلِّ وَمِنَ الذُّلِّ إِلَى الْعِزِّ/ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَةٍ كَامِلَةٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْعِبْرَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِنْسَانَ يَعْرِفُ بِهَا أَنَّ الدُّنْيَا لَا تَبْقَى، فَنِهَايَةُ كُلِّ مُتَحَرِّكٍ سُكُونٌ، وَغَايَةُ كُلِّ مُتَكَوِّنٍ أَنْ لَا يَكُونَ، فَيَرْفَعَ قَلْبَهُ عَنْ حُبِّ الدُّنْيَا وَتَقْوَى رَغْبَتُهُ فِي طَلَبِ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يُوسُفَ: 111] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذَكَرَ قَصَصَ الْأَوَّلِينَ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَغْيِيرٍ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّمْ وَلَمْ يُتَلْمَذْ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّه تَعَالَى، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْقَصَصَ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشُّعَرَاءِ: 192- 194] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ كُلَّمَا سَمِعُوا حُرُوفَ التَّهَجِّي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْهَا شَيْئًا سَاءَ ظَنُّهُمْ بِالْقُرْآنِ. وَقَدْ أَجَابَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ [آلِ عِمْرَانَ: 7] . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْقُرْآنَ يَظْهَرُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلطَّعْنِ الرَّدِيءِ فَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الْفُرْقَانِ: 32] وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْجَوَابَ في سورة الفرقان. والوجه الرَّابِعُ: أَنَّ الْقُرْآنَ مَمْلُوءٌ مِنْ إِثْبَاتِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَالْقَوْمُ كَانُوا قَدْ أَلِفُوا الْمَحْسُوسَاتِ فَاسْتَبْعَدُوا حُصُولَ الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَمْ يَتَقَرَّرْ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَظَنُّوا أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْكَذِبِ، واللَّه تَعَالَى بَيَّنَ صِحَّةَ الْقَوْلِ بِالْمَعَادِ بِالدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ الْكَثِيرَةِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْقُرْآنَ مَمْلُوءٌ مِنَ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَالْقَوْمُ كَانُوا يَقُولُونَ إِلَهُ الْعَالَمِينَ غَنِيٌّ عَنَّا وَعَنْ طَاعَتِنَا، وَإِنَّهُ تَعَالَى أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَأْمُرَ بِشَيْءٍ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ بقوله:

[سورة يونس (10) : الآيات 40 إلى 41]

أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [الْمُؤْمِنُونَ: 115] وَبِقَوْلِهِ: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: 7] وَبِالْجُمْلَةِ فَشُبُهَاتُ الْكُفَّارِ كَثِيرَةٌ، فَهُمْ لَمَّا رَأَوُا الْقُرْآنَ مُشْتَمِلًا عَلَى أُمُورٍ مَا عَرَفُوا حَقِيقَتَهَا وَلَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهَا لَا جَرَمَ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَوْمَ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ أَسْرَارَ الْإِلَهِيَّاتِ، وَكَانُوا يُجْرُونَ الْأُمُورَ على الأحوال المألوفة في عَالَمِ الْمَحْسُوسَاتِ وَمَا كَانُوا يَطْلُبُونَ حُكْمَهَا وَلَا وُجُوهَ تَأْوِيلَاتِهَا، فَلَا جَرَمَ وَقَعُوا فِي التَّكْذِيبِ وَالْجَهْلِ، فَقَوْلُهُ: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَقَوْلُهُ: وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ جِدِّهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ فِي طَلَبِ تِلْكَ الْأَسْرَارِ. ثُمَّ قَالَ: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ طَلَبُوا الدُّنْيَا وَتَرَكُوا الْآخِرَةَ، فَلَمَّا مَاتُوا فَاتَتْهُمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ فَبَقُوا فِي الْخَسَارِ الْعَظِيمِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ بِالْأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ مِنْ ضُرُوبِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا، قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ قَوْلُهُ: / وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ غَيْرَ عَارِفٍ بِالتَّأْوِيلَاتِ وَقَعَ فِي الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ، لِأَنَّ ظَوَاهِرَ النُّصُوصِ قَدْ يُوجَدُ فِيهَا مَا تَكُونُ مُتَعَارِضَةً، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْإِنْسَانُ وَجْهَ التَّأْوِيلِ فِيهَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ لَيْسَ بِحَقٍّ، أَمَّا إِذَا عَرَفَ وَجْهَ التَّأْوِيلِ طَبَّقَ التَّنْزِيلَ عَلَى التَّأْوِيلِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ نُورًا عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّه لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ. [سورة يونس (10) : الآيات 40 الى 41] وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَوْلَهُ: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَسْلِيطَ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ مُنَبِّهًا عَلَى أَنَّ الصَّلَاحَ عِنْدَهُ تَعَالَى كَانَ فِي هَذِهِ الطَّائِفَةِ التبقية دون الاستئصال، من حَيْثُ كَانَ الْمَعْلُومُ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بِهِ رَاجِعًا إِلَى الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَذْكُورُ مِنْ قَبْلُ، ثُمَّ يُعْلَمُ أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الْإِيمَانُ بِالْقُرْآنِ، فَقَدْ حَصَلَ مَعَهُ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيْضًا. وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ لِأَنَّ كَلِمَةَ يُؤْمِنُ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ وَهُوَ يَصْلُحُ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْحَالِ، وَقَالَ: الْمُرَادُ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ بَاطِنًا، لَكِنَّهُ يَتَعَمَّدُ الْجَحْدَ وَإِظْهَارَ التَّكْذِيبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَاطِنُهُ كَظَاهِرِهِ فِي التَّكْذِيبِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَصْحَابُ الشُّبُهَاتِ، وَأَصْحَابُ التَّقْلِيدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ هُوَ الْمُسْتَقْبَلُ، يَعْنِي أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِأَنْ يتوب عن الفكر ويبدله بالإيمان ومنهم من بصر وَيَسْتَمِرُّ عَلَى الْكُفْرِ. ثُمَّ قَالَ: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ أَيْ هُوَ الْعَالِمُ بِأَحْوَالِهِمْ فِي أَنَّهُ هَلْ يَبْقَى مُصِرًّا عَلَى الْكُفْرِ أَوْ يَرْجِعُ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ قِيلَ فَقُلْ لِي عَمَلِي الطَّاعَةُ وَالْإِيمَانُ، وَلَكُمْ عَمَلُكُمُ الشِّرْكُ، وَقِيلَ: لِي جَزَاءُ عَمَلِي وَلَكُمْ جَزَاءُ عَمَلِكُمْ. ثُمَّ قَالَ: أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ قِيلَ مَعْنَى الْآيَةِ الزَّجْرُ وَالرَّدْعُ، وَقِيلَ بل معناه

[سورة يونس (10) : الآيات 42 إلى 44]

اسْتِمَالَةُ قُلُوبِهِمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ شَرْطَ النَّاسِخِ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا لِحُكْمِ الْمَنْسُوخِ، وَمَدْلُولُ هَذِهِ الْآيَةِ اخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ بِأَفْعَالِهِ وَبِثَمَرَاتِ أَفْعَالِهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي حُرْمَةَ الْقِتَالِ، فَآيَةُ الْقِتَالِ مَا رَفَعَتْ شَيْئًا مِنْ مَدْلُولَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ فَكَانَ الْقَوْلُ بِالنَّسْخِ باطلا. [سورة يونس (10) : الآيات 42 الى 44] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى، قَسَّمَ الْكُفَّارَ إِلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَسَّمَ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ قِسْمَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ فِي غَايَةِ الْبُغْضِ لَهُ وَالْعَدَاوَةِ لَهُ وَنِهَايَةِ النَّفْرَةِ عَنْ قَبُولِ دِينِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَوَصَفَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ كَلَامَكَ مَعَ أَنَّهُ يَكُونُ كَالْأَصَمِّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ أَلْبَتَّةَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَوِيَ بُغْضُهُ لِإِنْسَانٍ آخَرَ، وَعَظُمَتْ نُفْرَتُهُ عَنْهُ، صَارَتْ نَفْسُهُ مُتَوَجِّهَةً إِلَى طَلَبِ مَقَابِحِ كَلَامِهِ مُعْرِضَةً عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ مَحَاسِنِ كَلَامِهِ، فَالصَّمَمُ فِي الْأُذُنِ، مَعْنًى يُنَافِي حُصُولَ إِدْرَاكِ الصَّوْتِ فَكَذَلِكَ حُصُولُ هَذَا الْبُغْضِ الشَّدِيدِ كَالْمُنَافِي لِلْوُقُوفِ عَلَى مَحَاسِنِ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَالْعَمَى فِي الْعَيْنِ مَعْنًى يُنَافِي حُصُولَ إِدْرَاكِ الصُّورَةِ، فَكَذَلِكَ الْبُغْضُ يُنَافِي وُقُوفَ الْإِنْسَانِ عَلَى مَحَاسِنِ مَنْ يُعَادِيهِ وَالْوُقُوفُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْفَضَائِلِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ فِي أُولَئِكَ الْكُفَّارِ مَنْ بَلَغَتْ حَالَتُهُ فِي الْبُغْضِ وَالْعَدَاوَةِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، ثُمَّ كَمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْأَصَمِّ سَمِيعًا وَلَا جَعْلُ الْأَعْمَى بَصِيرًا، / فَكَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْعَدُوِّ الْبَالِغِ فِي الْعَدَاوَةِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ صَدِيقًا تَابِعًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ، قَدْ بَلَغُوا فِي مَرَضِ الْعَقْلِ إِلَى حَيْثُ لَا يَقْبَلُونَ الْعِلَاجَ وَالطَّبِيبُ إِذَا رَأَى مَرِيضًا لَا يَقْبَلُ الْعِلَاجَ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَلَمْ يَسْتَوْحِشْ مِنْ عَدَمِ قَبُولِهِ لِلْعِلَاجِ، فَكَذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْكَ أَنْ لَا تَسْتَوْحِشَ مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ ابْنُ قُتَيْبَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، عَلَى أَنَّ السَّمْعَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَصَرِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَرَنَ بِذَهَابِ السَّمْعِ ذَهَابَ العقل، ولم يقرن بذهاب النظر إلا ذهاب الْبَصَرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ أَفْضَلَ مِنَ الْبَصَرِ. وَزَيَّفَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ هَذَا الدَّلِيلَ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي نَفَاهُ اللَّه مَعَ السَّمْعِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي نَفَاهُ اللَّه مَعَ الْبَصَرِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ إِبْصَارَ الْقُلُوبِ، وَلَمْ يُرِدْ إِبْصَارَ الْعُيُونِ وَالَّذِي يُبْصِرُهُ الْقَلْبُ هُوَ الَّذِي يَعْقِلُهُ. وَاحْتَجَّ ابْنُ قُتَيْبَةَ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ بِحُجَّةٍ أُخْرَى مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: كُلَّمَا ذَكَرَ اللَّه السَّمْعَ وَالْبَصَرَ، فَإِنَّهُ فِي الْأَغْلَبِ يُقَدِّمُ السَّمْعَ عَلَى الْبَصَرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّمْعَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَصَرِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ دَلَائِلَ أُخْرَى: فَأَحَدُهَا: أَنَّ الْعَمَى قَدْ وَقَعَ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَمَّا الصَّمَمُ فَغَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ إِذَا لَمْ يَسْمَعْ كَلَامَ السَّائِلِينَ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ فَيَعْجَزُ عَنْ تَبْلِيغِ شَرَائِعِ اللَّه تَعَالَى. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْقُوَّةَ السَّامِعَةَ تُدْرِكُ الْمَسْمُوعَ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ، وَالْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ لَا تُدْرِكُ الْمَرْئِيَّ إِلَّا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْمُقَابِلُ.

الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَسْتَفِيدُ الْعِلْمَ بِالتَّعَلُّمِ مِنَ الْأُسْتَاذِ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِقُوَّةِ السَّمْعِ، فَاسْتِكْمَالُ النَّفْسِ بِالْكَمَالَاتِ الْعِلْمِيَّةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِقُوَّةِ السَّمْعِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قُوَّةِ الْبَصَرِ، فَكَانَ السَّمْعُ أَفْضَلَ مِنَ الْبَصَرِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37] وَالْمُرَادُ مِنَ القلب هاهنا الْعَقْلُ، فَجَعَلَ السَّمْعَ قَرِينًا لِلْعَقْلِ وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ [الْمَلِكِ: 10] فَجَعَلُوا السَّمْعَ سَبَبًا لِلْخَلَاصِ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ هُوَ النُّطْقُ وَالْكَلَامُ وإنما ينتفع بذلك القوة السَّامِعَةِ، فَمُتَعَلِّقُ السَّمْعِ النُّطْقُ الَّذِي بِهِ حَصَلَ شَرَفُ الْإِنْسَانِ، وَمُتَعَلِّقُ الْبَصَرِ إِدْرَاكُ الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ أَفْضَلَ مِنَ الْبَصَرِ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَرَاهُمُ النَّاسُ وَيَسْمَعُونَ كَلَامَهُمْ، فَنُبُوَّتُهُمْ مَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ مَا مَعَهُمْ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَرْئِيَّةِ، وَإِنَّمَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْأَصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ وَهُوَ الْكَلَامُ وَتَبْلِيغُ الشَّرَائِعِ وَبَيَانُ الْأَحْكَامِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَسْمُوعُ أَفْضَلَ مِنَ الْمَرْئِيِّ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ أَفْضَلَ مِنَ الْبَصَرِ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا تَمَسَّكَ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ السَّمْعَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَصَرِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْبَصَرُ أَفْضَلُ مِنَ السَّمْعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْمَثَلِ الْمَشْهُورِ لَيْسَ وَرَاءَ الْعِيَانِ بَيَانٌ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَكْمَلَ وُجُوهِ الْإِدْرَاكَاتِ هُوَ الْإِبْصَارُ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ آلَةَ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ هُوَ النُّورُ وَآلَةَ الْقُوَّةِ السَّامِعَةِ هِيَ الْهَوَاءُ وَالنُّورُ أَشْرَفُ مِنَ الْهَوَاءِ فَالْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ أَشْرَفُ مِنَ الْقُوَّةِ السَّامِعَةِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ عَجَائِبَ حِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى فِي تَخْلِيقِ الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْإِبْصَارِ أَكْثَرُ مِنْ عَجَائِبِ خِلْقَتِهِ فِي الْأُذُنِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ السَّمَاعِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ تَمَامَ رُوحٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ السَّبْعَةِ الدِّمَاغِيَّةِ مِنَ الْعَصَبِ آلَةً لِلْإِبْصَارِ، وَرَكَّبَ الْعَيْنَ مِنْ سَبْعِ طَبَقَاتٍ وَثَلَاثِ رُطُوبَاتٍ وَخَلَقَ لِتَحْرِيكَاتِ العين عضلات كثيرة على صور مُخْتَلِفَةٍ وَالْأُذُنُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَكَثْرَةُ الْعِنَايَةِ فِي تَخْلِيقِ الشَّيْءِ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْبَصَرَ يَرَى مَا حَصَلَ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتٍ وَالسَّمْعَ لَا يُدْرِكُ مَا بَعُدَ مِنْهُ عَلَى فَرْسَخٍ، فَكَانَ الْبَصَرُ أَقْوَى وَأَفْضَلَ وَبِهَذَا الْبَيَانِ يُدْفَعُ قَوْلُهُمْ إِنَّ السَّمْعَ يُدْرِكُ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ وَالْبَصَرَ لَا يُدْرِكُ إِلَّا مِنَ الْجَانِبِ الْوَاحِدِ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ سَمِعَ كَلَامَ اللَّه فِي الدُّنْيَا، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ رَآهُ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا أَمْ لَا؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمِعَ كَلَامَهُ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ سُؤَالٍ وَالْتِمَاسٍ وَلَمَّا سَأَلَ الرُّؤْيَةَ قَالَ: لَنْ تَرانِي [الْأَعْرَافِ: 143] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَالَ الرُّؤْيَةِ أَعْلَى مِنْ حَالِ السَّمَاعِ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: كَيْفَ يَكُونُ السَّمْعُ أَفْضَلَ مِنَ الْبَصَرِ وَبِالْبَصَرِ يَحْصُلُ جَمَالُ الْوَجْهِ، وَبِذَهَابِهِ عَيْبُهُ، وَذَهَابُ السَّمْعِ لَا يُورِثُ الْإِنْسَانَ عيبا، العرب تُسَمِّي الْعَيْنَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ وَلَا تَصِفُ السَّمْعَ بِمِثْلِ هَذَا؟ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ يَقُولُ اللَّه تَعَالَى: (مَنْ أَذْهَبْتُ كَرِيمَتَهُ فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ لَمْ أَرْضَ لَهُ ثَوَابًا دُونَ الْجَنَّةِ) .

[سورة يونس (10) : الآيات 45 إلى 46]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ، عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ للَّه تَعَالَى، قَالُوا: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ قُلُوبَ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِيمَانِ كَالْأَصَمِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اسْتِمَاعِ الْكَلَامِ، وَكَالْأَعْمَى/ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِبْصَارِ الْأَشْيَاءِ، وَكَمَا أَنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ. قَالُوا: وَالَّذِي يُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ حُصُولَ الْعَدَاوَةِ الْقَوِيَّةِ الشَّدِيدَةِ، وَكَذَلِكَ حُصُولُ الْمَحَبَّةِ الشَّدِيدَةِ فِي الْقَلْبِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ، لِأَنَّ عِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ الْعَدَاوَةِ الشَّدِيدَةِ يَجِدُ وِجْدَانًا ضَرُورِيًّا أَنَّ الْقَلْبَ يَصِيرُ كَالْأَصَمِّ وَالْأَعْمَى فِي اسْتِمَاعِ كَلَامِ الْعَدُوِّ وَفِي مُطَالَعَةِ أَفْعَالِهِ الْحَسَنَةِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ، وَأَيْضًا لَمَّا حَكَمَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهَا حُكْمًا جَازِمًا بِعَدَمِ الْإِيمَانِ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ الْإِيمَانِ انْقِلَابُ عِلْمِهِ جَهْلًا وَخَبَرِهِ الصِّدْقِ كَذِبًا وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ: فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ، أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَلْجَأَ أَحَدًا إِلَى هَذِهِ الْقَبَائِحِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَلَكِنَّهُمْ بِاخْتِيَارِ أَنْفُسِهِمْ يُقْدِمُونَ عَلَيْهَا وَيُبَاشِرُونَهَا. أَجَابَ الْوَاحِدِيُّ عَنْهُ فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا نَفَى الظُّلْمَ عَنْ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِ نَفْسِهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا، وَإِنَّمَا قَالَ: وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ لِأَنَّ الْفِعْلَ منسوب إليهم بسبب الكسب. [سورة يونس (10) : الآيات 45 الى 46] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ (46) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ بِقِلَّةِ الْإِصْغَاءِ وَتَرْكِ التَّدَبُّرِ أَتْبَعَهُ بِالْوَعِيدِ فَقَالَ: ويوم نحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من نهار وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ يَحْشُرُهُمْ بِالْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِالنُّونِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ مُشَابِهِينَ مَنْ لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ. وَقَوْلُهُ: يَتَعارَفُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِيَوْمِ نَحْشُرُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَأَنْ هَذِهِ هِيَ المحففة مِنَ الثَّقِيلَةِ التَّقْدِيرُ: كَأَنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا، فَخُفِّفَتْ كَقَوْلِهِ: وَكَأَنْ قَدْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قِيلَ: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ وَقِيلَ فِي قُبُورِهِمْ، وَالْقُرْآنُ وَارِدٌ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ قَالَ تَعَالَى: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 112- 113] قَالَ الْقَاضِي: وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ كَحَالِ الْكَافِرِينَ فِي أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مِقْدَارَ لُبْثِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى وَقْتِ الْحَشْرِ، فَيَجِبَ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَمْرٍ يَخْتَصُّ بِالْكُفَّارِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِعُمُرِهِمُ اسْتَقَلُّوهُ، وَالْمُؤْمِنُ لَمَّا انْتَفَعَ بِعُمُرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ لِأَنَّ التَّعَارُفَ إِنَّمَا يُضَافُ إِلَى حَالِ الْحَيَاةِ لَا إِلَى حَالِ الْمَمَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ هَذَا الِاسْتِقْلَالِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: لَمَّا ضَيَّعُوا أَعْمَارَهُمْ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَالْحِرْصِ عَلَى لَذَّاتِهَا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِعُمُرِهِمْ أَلْبَتَّةَ، فَكَانَ وُجُودُ ذَلِكَ الْعُمُرِ كَالْعَدَمِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ اسْتَقَلُّوهُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ [الْبَقَرَةِ: 96] الثَّانِي: قَالَ الْأَصَمُّ: قَلَّ

ذَلِكَ عِنْدَهُمْ لِمَا شَاهَدُوا مِنْ أَهْوَالِ الْآخِرَةِ، وَالْإِنْسَانُ إِذَا عَظُمَ خَوْفُهُ نَسِيَ الْأُمُورَ الظَّاهِرَةَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَلَّ عِنْدَهُمْ مُقَامُهُمْ فِي الدُّنْيَا فِي جَنْبِ مُقَامِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَفِي الْعَذَابِ الْمُؤَبَّدِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَلَّ عِنْدَهُمْ مُقَامُهُمْ فِي الدُّنْيَا لِطُولِ وُقُوفِهِمْ فِي الْحَشْرِ. الْخَامِسُ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ يَتَعَارَفُونَ كَمَا كَانُوا يَتَعَارَفُونَ فِي الدُّنْيَا، وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَارَفُوا بِسَبَبِ الْمَوْتِ إِلَّا مُدَّةً قَلِيلَةً لَا تُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ التَّعَارُفِ. وَأَقُولُ: تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ، أَنَّ عَذَابَ الْكَافِرِ مَضَرَّةٌ خَالِصَةٌ دائمة مقرونة بالإهانة والإذلال، والإحسان بِالْمَضَرَّةِ أَقْوَى مِنَ الْإِحْسَاسِ بِاللَّذَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّ أقوى اللذات هي لذات الوقاع، والشعور بأم الْقُولَنْجِ وَغَيْرِهِ وَالْعِيَاذُ باللَّه تَعَالَى أَقْوَى مِنَ الشُّعُورِ بِلَذَّةِ الْوِقَاعِ. وَأَيْضًا لَذَّاتُ الدُّنْيَا مَعَ خَسَاسَتِهَا مَا كَانَتْ خَالِصَةً، بَلْ كَانَتْ مَخْلُوطَةً بِالْهُمُومَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَكَانَتْ تِلْكَ اللَّذَّاتُ مَغْلُوبَةً بِالْمُؤْلِمَاتِ وَالْآفَاتِ، وَأَيْضًا إِنَّ لَذَّاتِ الدُّنْيَا مَا حَصَّلَتْ إِلَّا بَعْضَ أَوْقَاتِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَآلَامُ الْآخِرَةِ أَبَدِيَّةٌ سَرْمَدِيَّةٌ لَا تَنْقَطِعُ أَلْبَتَّةَ وَنِسْبَةُ عُمُرِ جَمِيعِ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ الْأَبَدِيَّةِ أَقَلُّ مِنَ الْجُزْءِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَلْفِ أَلْفِ عَالَمٍ مِثْلِ الْعَالَمِ الْمَوْجُودِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَنَّهُ مَتَى قُوبِلَتِ الْخَيْرَاتُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِ الْحَيَاةِ الْعَاجِلَةِ بِالْآفَاتِ الْحَاصِلَةِ لِلْكَافِرِ وُجِدَتْ أَقَلَّ مِنَ اللَّذَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْعَالَمِ فَقَوْلُهُ: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قِلَّتِهَا وَحَقَارَتِهَا فِي جَنْبِ مَا حَصَلَ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ. أَمَّا قَوْلُهُ: يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا كَانُوا يُعْرَفُونَ فِي الدُّنْيَا. الثَّانِي: يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَأِ وَالْكُفْرِ، ثُمَّ تَنْقَطِعُ الْمَعْرِفَةُ إِذَا/ عَايَنُوا الْعَذَابَ وَتَبَرَّأَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تُوَافِقُ هَذِهِ الْآيَةُ قوله: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [الْمَعَارِجِ: 10] وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ يُوَبِّخُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَيَقُولُ: كُلُّ فَرِيقٍ لِلْآخَرِ أَنْتَ أَضْلَلْتَنِي يَوْمَ كَذَا وَزَيَّنْتَ لِيَ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ مِنَ الْقَبَائِحِ، فَهَذَا تَعَارُفُ تَقْبِيحٍ وَتَعْنِيفٍ وَتَبَاعُدٍ وَتَقَاطُعٍ لَا تَعَارُفُ عطف وشفقة. وأما قوله تعالى: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً فَالْمُرَادُ سُؤَالُ الرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ حَمْلُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى حَالَتَيْنِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَتَعَارَفُونَ إِذَا بُعِثُوا ثُمَّ تَنْقَطِعُ الْمَعْرِفَةُ فَلِذَلِكَ لَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ مُتَعَارِفِينَ، وَحَالَ كَوْنِهِمْ قَائِلِينَ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا كَلَامَ اللَّه، فَيَكُونَ هَذَا شَهَادَةً مِنَ اللَّه عَلَيْهِمْ بِالْخُسْرَانِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِالدُّنْيَا فَقَدْ خَسِرَ، لِأَنَّهُ أَعْطَى الْكَثِيرَ الشَّرِيفَ الْبَاقِيَ وَأَخَذَ الْقَلِيلَ الْخَسِيسَ الْفَانِيَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ مَا اهْتَدَوْا إِلَى رِعَايَةِ مَصَالِحِ هَذِهِ التِّجَارَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمُ اغْتَرُّوا بِالظَّاهِرِ وَغَفَلُوا عَنِ الْحَقِيقَةِ، فَصَارُوا كَمَنْ رَأَى زُجَاجَةً حَسَنَةً فَظَنَّهَا جَوْهَرَةً شَرِيفَةً فَاشْتَرَاهَا بِكُلِّ مَا مَلَكَهُ، فَإِذَا عَرَضَهَا عَلَى النَّاقِدِينَ خَابَ سَعْيُهُ وَفَاتَ أَمَلُهُ وَوَقَعَ فِي حُرْقَةِ الرُّوعِ وَعَذَابِ الْقَلْبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ جَوَابُ نَتَوَفَّيَنَّكَ

[سورة يونس (10) : آية 47]

وَجَوَابُ نُرِيَنَّكَ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَذَاكَ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قَبْلَ أَنْ نُرِيَنَّكَ ذَلِكَ الْمَوْعِدَ فَإِنَّكَ سَتَرَاهُ فِي الْآخِرَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِي رَسُولَهُ أَنْوَاعًا مِنْ ذُلِّ الْكَافِرِينَ وَخِزْيِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَسَيَزِيدُ عَلَيْهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ حَصَلَ الْكَثِيرُ مِنْهُ فِي زَمَانِ حَيَاةِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَصَلَ الْكَثِيرُ أَيْضًا بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَالَّذِي سَيَحْصُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُ، وَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ عَاقِبَةَ الْمُحِقِّينَ مَحْمُودَةٌ وَعَاقِبَةَ الْمُذْنِبِينَ مذمومة. [سورة يونس (10) : آية 47] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ، بَيَّنَ أَنَّ حَالَ كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ كَذَلِكَ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ تَقَدَّمَ قَدْ بَعَثَ اللَّه إِلَيْهِمْ رَسُولًا واللَّه تَعَالَى مَا أَهْمَلَ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ قَطُّ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فَاطِرٍ: 24] . فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا مَعَ مَا يَعْلَمُهُ مِنْ أَحْوَالِ الْفَتْرَةِ وَمَعَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ [يس: 6] . قُلْنَا: الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ حَاضِرًا مَعَ الْقَوْمِ، لِأَنَّ تَقَدُّمَ الرَّسُولِ لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ رَسُولًا إِلَيْهِمْ، كَمَا لَا يَمْنَعُ تَقَدُّمُ رَسُولِنَا مَنْ كَوْنِهِ مَبْعُوثًا إِلَيْنَا إِلَى آخِرِ الْأَبَدِ وَتُحْمَلُ الْفَتْرَةُ عَلَى ضَعْفِ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَوُقُوعِ مُوجِبَاتِ التَّخْلِيطِ فِيهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ وَبَلَّغَ فَكَذَّبَهُ قَوْمٌ وَصَدَّقَهُ آخَرُونَ قَضَى بَيْنَهُمْ أَيْ حَكَمَ وَفَصَلَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بَيَانُ أَنَّ الرَّسُولَ إِذَا بُعِثَ إِلَى كُلِّ أُمَّةٍ فَإِنَّهُ بِالتَّبْلِيغِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ يُزِيحُ كُلَّ عِلَّةٍ فَلَا يَبْقَى لَهُمْ عُذْرٌ فِي مُخَالَفَتِهِ أَوْ تَكْذِيبِهِ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ عَدْلًا وَلَا يَكُونُ ظُلْمًا، لِأَنَّهُمْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ وَقَعُوا فِي ذَلِكَ الْعِقَابِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّ الْقَوْمَ إِذَا اجْتَمَعُوا فِي الْآخِرَةِ جَمَعَ اللَّه بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِهِمْ فِي وَقْتِ الْمُحَاسَبَةِ، وَبَانَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي لِيَشْهَدَ عَلَيْهِمْ بِمَا شَاهَدَ مِنْهُمْ، وَلِيَقَعَ مِنْهُمُ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ بَلَّغَ رِسَالَاتِ رَبِّهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُؤَكِّدُ اللَّه بِهِ الزَّجْرَ فِي الدُّنْيَا كَالْمُسَاءَلَةِ، وَإِنْطَاقِ الْجَوَارِحِ، وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ وَالْمَوَازِينِ وَغَيْرِهَا، وَتَمَامُ التَّقْرِيرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ اللَّه شَهِيدٌ عَلَيْهِمْ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: أَنَا شَهِيدٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَعْمَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنِّي أُحْضِرُ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ مَعَ كُلِّ قَوْمٍ رَسُولَهُمْ، حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي إِظْهَارِ الْعَدْلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ دَلِيلَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: 15] وَقَوْلُهُ: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النِّسَاءِ: 165] وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا [طه: 134] وَدَلِيلُ الْقَوْلِ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً إِلَى قَوْلِهِ: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [الْبَقَرَةِ: 143] وَقَوْلُهُ: وَقالَ

[سورة يونس (10) : الآيات 48 إلى 49]

الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الْفُرْقَانِ: 30] وقوله تعالى: قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فَالتَّكْرِيرُ لِأَجْلِ التأكيد والمبالغة في نفي الظلم. [سورة يونس (10) : الآيات 48 الى 49] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) اعلم أن هذه الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ مِنْ شُبُهَاتِ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كُلَّمَا هَدَّدَهُمْ بِنُزُولِ الْعَذَابِ وَمَرَّ زَمَانٌ وَلَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ الْعَذَابُ، قَالُوا مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَاحْتَجُّوا بِعَدَمِ ظهوره على القدح في نوبته عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ قوله: قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ [يونس: 47] الْقَضَاءُ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولُوا مَتَى هَذَا الْوَعْدُ عِنْدَ حُضُورِهِمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ الْحَالَ فِي الْآخِرَةِ حَالُ يَقِينٍ وَمَعْرِفَةٍ لِحُصُولِ كُلِّ وَعْدٍ وَوَعِيدٍ، وَإِلَّا ظَهَرَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّكْذِيبِ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا أَخْبَرَهُمْ مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ لِلْأَعْدَاءِ وَالنُّصْرَةِ لِلْأَوْلِيَاءِ أَوْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِبْعَادِ لِكَوْنِهِ مُحِقًّا فِي ذَلِكَ الْإِخْبَارِ، وَيَدُلُّ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ قَالَتْ لِرَسُولِهَا مِثْلَ ذَلِكَ الْقَوْلِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَذَلِكَ لَفْظُ جَمْعٍ وهو موافق لقوله: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ [يونس: 47] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِأَنْ يُجِيبَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِجَوَابٍ يَحْسِمُ الْمَادَّةَ وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ وَالْمُرَادُ أَنَّ إِنْزَالَ الْعَذَابِ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَإِظْهَارَ النُّصْرَةِ لِلْأَوْلِيَاءِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى مَا عَيَّنَ لِذَلِكَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَقْتًا مُعَيَّنًا حَتَّى يُقَالَ: لَمَّا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ الْمَوْعُودُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، دَلَّ عَلَى حُصُولِ الْخُلْفِ فَكَانَ تَعْيِينُ الْوَقْتِ مُفَوَّضًا إِلَى اللَّه سُبْحَانَهُ، إِمَّا بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ عِنْدَ مَنْ لَا يُعَلِّلُ أَفْعَالَهُ وَأَحْكَامَهُ بِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ، وَإِمَّا بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ الْمُقَدَّرَةِ عِنْدَ مَنْ يُعَلِّلُ أَفْعَالَهُ وَأَحْكَامَهُ بِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ، ثُمَّ إِذَا حَضَرَ الْوَقْتُ الَّذِي وَقَّتَهُ اللَّه تَعَالَى لِحُدُوثِ ذَلِكَ الْحَادِثِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَحْدُثَ فِيهِ، وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ فَقَالُوا: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ، فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْعَبْدِ مُسْتَقِلًّا بهما. والجواب: قال أصحابنا: هذا الاستثناء مُنْقَطِعٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ مَا شَاءَ اللَّه مِنْ ذَلِكَ كَائِنٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَمُوتُ إِلَّا بِانْقِضَاءِ أَجَلِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَقْتُولُ لَا يُقْتَلُ إِلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ طَوِيلَةٌ وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. المسألة الخامسة: أنه تعالى قال هاهنا: إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ فَقَوْلُهُ: إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ شَرْطٌ وَقَوْلُهُ: فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ جَزَاءٌ وَالْفَاءُ حَرْفُ الْجَزَاءِ، فَوَجَبَ إِدْخَالُهُ

[سورة يونس (10) : الآيات 50 إلى 52]

عَلَى الْجَزَاءِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ يَحْصُلُ مَعَ حُصُولِ الشَّرْطِ لَا مُتَأَخِّرًا عَنْهُ وَأَنَّ حَرْفَ الْفَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّرَاخِي وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ جَزَاءً. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ إِنْ نَكَحْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَا يَصِحُّ هَذَا التَّعْلِيقُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: يَصِحُّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَحْصُلُ حَالَ حُصُولِ الشَّرْطِ، فَلَوْ صَحَّ هَذَا التَّعْلِيقُ لَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ الطَّلَاقُ مُقَارَنًا لِلنِّكَاحِ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الْجَزَاءَ يَجِبُ حُصُولُهُ مَعَ حُصُولِ الشَّرْطِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا اللَّازِمُ بَاطِلًا وَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ هَذَا التَّعْلِيقُ. [سورة يونس (10) : الآيات 50 الى 52] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) [في قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ الثَّانِي عَنْ قَوْلِهِمْ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُسَ: 48] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: حَاصِلُ الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ لِأُولَئِكَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ نُزُولَ الْعَذَابِ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَحْصُلَ هَذَا الْمَطْلُوبُ وَيَنْزِلَ هَذَا الْعَذَابُ مَا الْفَائِدَةُ لَكُمْ فِيهِ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ نُؤْمِنُ عِنْدَهُ، فَذَلِكَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِيمَانٌ حَاصِلٌ فِي وَقْتِ الْإِلْجَاءِ وَالْقَسْرِ، وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ نَفْعًا أَلْبَتَّةَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الَّذِي تَطْلُبُونَهُ لَوْ حَصَلَ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ إِلَّا الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يَحْصُلُ عَقِيبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابٌ آخَرُ أَشَدُّ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ يُقَالُ لِلَّذِينِ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ، ثُمَّ يُقْرَنُ بِذَلِكَ الْعَذَابِ كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَى الْإِهَانَةِ وَالتَّحْقِيرِ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ فَحَاصِلُ هَذَا الْجَوَابِ: أَنَّ هَذَا الَّذِي تَطْلُبُونَهُ هُوَ مَحْضُ الضَّرَرِ الْعَارِي عَنْ جِهَاتِ النَّفْعِ وَالْعَاقِلُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: بَياتاً أَيْ لَيْلًا يُقَالُ بِتُّ لَيْلَتِي أَفْعَلُ كَذَا، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي اللَّيْلِ يَكُونُ ظَاهِرًا فِي الْبَيْتِ، فَجُعِلَ هَذَا اللَّفْظُ كِنَايَةً عَنِ اللَّيْلِ وَالْبَيَاتُ مَصْدَرٌ مِثْلُ التَّبْيِيتِ كَالْوَدَاعِ وَالسَّرَاحِ، وَيُقَالُ فِي النَّهَارِ ظَلِلْتُ أَفْعَلُ كَذَا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي النَّهَارِ يَكُونُ ظَاهِرًا فِي الظِّلِّ. وَانْتَصَبَ بَياتاً عَلَى الظَّرْفِ أَيْ وَقْتَ بَيَاتٍ وَكَلِمَةُ مَاذَا فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ (مَاذَا) اسْمًا وَاحِدًا وَيَكُونَ مَنْصُوبَ الْمَحَلِّ كَمَا لَوْ قَالَ مَاذَا أَرَادَ اللَّه، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (ذَا) بِمَعْنَى الَّذِي، فَيَكُونَ (مَاذَا) كَلِمَتَيْنِ وَمَحَلُّ (مَا) الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ (ذَا) وَهُوَ بِمَعْنَى الَّذِي، فَيَكُونَ مَعْنَاهُ مَا الَّذِي يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ وَمَعْنَاهُ، أَيُّ شَيْءٍ الَّذِي يَسْتَعْجِلُ مِنَ الْعَذَابِ الْمُجْرِمُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً شَرْطٌ. وَجَوَابُهُ: قَوْلُهُ مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ وَهُوَ كَقَوْلِكَ إِنْ أَتَيْتُكَ مَاذَا تُطْعِمُنِي، يَعْنِي: إِنْ حَصَلَ هَذَا الْمَطْلُوبُ، فَأَيُّ مَقْصُودٍ تَسْتَعْجِلُونَهُ مِنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ فَاعْلَمْ أَنَّ دُخُولَ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى ثُمَّ كَدُخُولِهِ عَلَى الْوَاوِ وَالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى [الْأَعْرَافِ: 98] أَفَأَمِنَ [الأعراف: 98] وهو يفيد التفريع وَالتَّوْبِيخَ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِيمَانَ غير واقع لهم بل يعيرون ويوبخون، يقال: آلْآنَ تُؤْمِنُونَ وَتَرْجُونَ الِانْتِفَاعَ بِالْإِيمَانِ

[سورة يونس (10) : الآيات 53 إلى 54]

مَعَ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَبْلَ ذَلِكَ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ عَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَقُرِئَ آلَانَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ الَّتِي بَعْدَ اللَّامِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى اللَّامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمُضْمَرِ قَبْلَ آلْآنَ وَالتَّقْدِيرُ: قِيلَ: آلْآنَ وَقَدْ كنتم به تستعجلون ثم قيل للذين ظلموا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ فَفِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَيْنَمَا ذَكَرَ الْعِقَابَ وَالْعَذَابَ ذَكَرَ هَذِهِ الْعِلَّةَ كَأَنَّ سَائِلًا يسأل يَقُولُ: يَا رَبَّ الْعِزَّةِ أَنْتَ الْغَنِيُّ عَنِ الْكُلِّ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِرَحْمَتِكَ هَذَا التَّشْدِيدُ وَالْوَعِيدُ، فَهُوَ تَعَالَى يَقُولُ: «أَنَا مَا عَامَلْتُهُ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ ابْتِدَاءً بَلْ هَذَا وَصَلَ إِلَيْهِ جَزَاءً عَلَى عَمَلِهِ الْبَاطِلِ» وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ رَاجِحٌ غَالِبٌ، وَجَانِبَ الْعَذَابِ مَرْجُوحٌ مَغْلُوبٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ يُوجِبُ الْعَمَلَ، أَمَّا عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ فَهُوَ أَثَرُ الْعَمَلِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ يُوجِبُ تَنْوِيرَ الْقَلْبِ، وَإِشْرَاقَهُ إِيجَابَ الْعِلَّةِ مَعْلُولَهَا وَأَمَّا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَأَمَّا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَلِأَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ وَاجِبٌ بِحُكْمِ الْوَعْدِ الْمَحْضِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْعَبْدِ مُكْتَسِبًا خِلَافًا لِلْجَبْرِيَّةِ، وَعِنْدَنَا أَنَّ كَوْنَهُ مُكْتَسِبًا مَعْنَاهُ أَنَّ مَجْمُوعَ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِيَةِ الخالصة يوجب الفعل والمسألة الطويلة معروفة بدلائلها. [سورة يونس (10) : الآيات 53 الى 54] وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخَبَرَ عَنِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس: 48] . وَأَجَابَ عَنْهُ بِمَا تَقَدَّمَ فَحَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ رَجَعُوا إِلَى الرَّسُولِ مَرَّةً أُخْرَى فِي عَيْنِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ وَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ مَرَّةً أُخْرَى وَقَالُوا: أَحَقٌّ هُوَ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ جَهْلٌ مَحْضٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ هَذَا السُّؤَالُ مَعَ الْجَوَابِ فَلَا يَكُونُ فِي الْإِعَادَةِ فَائِدَةٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الدَّلَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى كَوْنِ مُحَمَّدٍ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّه، وَهُوَ بَيَانُ كَوْنِ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا، وَإِذَا صَحَّتْ نُبُوَّتُهُ لَزِمَ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ كُلِّ مَا يُخْبِرُ عَنْ وُقُوعِهِ، فَهَذِهِ الْمَعَانِي تُوجِبُ الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ، / وَتَرْكَ الِالْتِفَاتِ إِلَى سُؤَالِهِمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: أَحَقٌّ هُوَ قِيلَ: أَحَقٌّ مَا جِئْتَنَا بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالنُّبُوَّةِ وَالشَّرَائِعِ. وَقِيلَ: مَا تَعِدُنَا مِنَ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: مَا تَعِدُنَا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْنَا فِي الدُّنْيَا. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ والفائدة فيه أمور: أحدها: أن يستمليهم وَيَتَكَلَّمَ مَعَهُمْ بِالْكَلَامِ الْمُعْتَادِ وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ، وَأَكَّدَهُ بِالْقَسَمِ فَقَدْ أَخْرَجَهُ عَنِ الْهَزْلِ وَأَدْخَلَهُ فِي بَابِ الْجِدِّ. وَثَانِيهَا: أَنَّ النَّاسَ طَبَقَاتٌ فَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُقِرُّ بِالشَّيْءِ إِلَّا بِالْبُرْهَانِ الْحَقِيقِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِالْبُرْهَانِ الْحَقِيقِيِّ، بَلْ يَنْتَفِعُ بِالْأَشْيَاءِ الْإِقْنَاعِيَّةِ، نَحْوَ الْقَسَمِ فَإِنَّ الْأَعْرَابِيَّ الَّذِي جَاءَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَسَأَلَ عَنْ نَبُّوتِهِ وَرِسَالَتِهِ اكْتَفَى فِي تَحْقِيقِ تِلْكَ الدَّعْوَى بِالْقَسَمِ، فَكَذَا هاهنا.

[سورة يونس (10) : الآيات 55 إلى 56]

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ لِمَنْ وَعَدَكُمْ بِالْعَذَابِ أَنْ يُنْزِلَهُ عَلَيْكُمْ وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُمَانِعَ رَبَّهُ وَيُدَافِعَهُ عَمَّا أَرَادَ وَقَضَى، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مِنَ الْكَلِمَاتِ، إِنَّمَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ مَا دَامُوا فِي الدُّنْيَا فَأَمَّا إِذَا حَضَرُوا مَحْفِلَ الْقِيَامَةِ وَعَايَنُوا قَهْرَ اللَّه تَعَالَى، وَآثَارَ عَظَمَتِهِ تَرَكُوا ذَلِكَ وَاشْتَغَلُوا بِأَشْيَاءَ أُخْرَى، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ مُتَعَذَّرٌ لِأَنَّهُ فِي مَحْفِلِ الْقِيَامَةِ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مَرْيَمَ: 95] وَبِتَقْدِيرِ: أَنْ يَمْلِكَ خَزَائِنَ الْأَرْضِ لَا يَنْفَعُهُ الْفِدَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [الْبَقَرَةِ: 48] وَقَالَ فِي صِفَةِ هَذَا الْيَوْمِ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [الْبَقَرَةِ: 254] وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ جَاءَ عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي، وَالْقِيَامَةُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ وَاجِبَةَ الْوُقُوعِ، جَعَلَ اللَّه مُسْتَقْبَلَهَا كَالْمَاضِي، وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِسْرَارَ هُوَ الْإِخْفَاءُ وَالْإِظْهَارُ وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ، أَمَّا وُرُودُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ بِمَعْنَى الْإِخْفَاءِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا وُرُودُهَا بِمَعْنَى الْإِظْهَارِ فَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ سَرَّ الشَّيْءَ وَأَسَرَّهُ إِذَا أَظْهَرَهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْهُ إِخْفَاءُ تِلْكَ النَّدَامَةِ، وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الْإِخْفَاءِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ الشَّدِيدَ صَارُوا مَبْهُوتِينَ مُتَحَيِّرِينَ، فَلَمْ يُطِيقُوا عِنْدَهُ بُكَاءً وَلَا صُرَاخًا سِوَى إِسْرَارِ النَّدَمِ كَالْحَالِ فِيمَنْ يُذْهَبُ بِهِ لِيُصْلَبَ فَإِنَّهُ يَبْقَى مَبْهُوتًا مُتَحَيِّرًا لَا يَنْطِقُ بِكَلِمَةٍ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ أَسَرُّوا النَّدَامَةَ مِنْ سَفَلَتِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ حَيَاءً مِنْهُمْ وَخَوْفًا مِنْ تَوْبِيخِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ مَهَابَةَ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ تَمْنَعُ الْإِنْسَانَ عَنْ هَذَا التَّدْبِيرِ فَكَيْفَ قَدِمُوا عَلَيْهِ. قُلْنَا: إِنَّ هَذَا الْكِتْمَانَ إِنَّمَا يَحْصُلُ قَبْلَ الِاحْتِرَاقِ بِالنَّارِ، فَإِذَا احْتَرَقُوا تَرَكُوا هَذَا الْإِخْفَاءَ وَأَظْهَرُوهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا [الْمُؤْمِنُونَ: 106] الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ أَسَرُّوا تِلْكَ النَّدَامَةَ لِأَنَّهُمْ أَخْلَصُوا للَّه فِي تِلْكَ النَّدَامَةِ، وَمَنْ أَخْلَصَ فِي الدُّعَاءِ أَسَرَّهُ، وَفِيهِ تَهَكُّمٌ بِهِمْ وَبِإِخْلَاصِهِمْ يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمَّا أتوا بهذا الإخلاص في غير وقته ولم يَنْفَعْهُمْ، بَلْ كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْتُوا بِهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا وَقْتَ التَّكْلِيفِ، وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ الْإِسْرَارَ بِالْإِظْهَارِ فَقَوْلُهُ: ظَاهِرٌ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا أَخْفَوُا النَّدَامَةَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ فِي الدُّنْيَا لِأَجْلِ حِفْظِ الرِّيَاسَةِ، وَفِي الْقِيَامَةِ بَطُلَ هَذَا الْغَرَضُ فَوَجَبَ الْإِظْهَارُ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فَقِيلَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَقِيلَ بَيْنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْأَتْبَاعِ، وَقِيلَ بَيْنَ الْكُفَّارِ بِإِنْزَالِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ وَإِنِ اشْتَرَكُوا فِي الْعَذَابِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقْضِيَ اللَّه تَعَالَى بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدْ ظَلَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الدُّنْيَا وَخَانَهُ، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْقَضَاءِ تَخْفِيفٌ مِنْ عَذَابِ بَعْضِهِمْ، وَتَثْقِيلٌ لِعَذَابِ الْبَاقِينَ، لِأَنَّ الْعَدْلَ يَقْتَضِي أَنْ يَنْتَصِفَ لِلْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِأَنْ يُخَفِّفَ مِنْ عَذَابِ الْمَظْلُومِينَ وَيُثَقِّلَ في عذاب الظالمين. [سورة يونس (10) : الآيات 55 الى 56] أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)

اعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ: مَنْ قَالَ: أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ [يونس: 54] فَلَا جَرَمَ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ لِلظَّالِمِ شَيْءٌ يَفْتَدِي بِهِ، فَإِنَّ كُلَّ الْأَشْيَاءِ مُلْكُ اللَّه تَعَالَى وَمِلْكُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّوْجِيهَ حَسَنٌ، أَمَّا الْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ النَّاسَ عَلَى طَبَقَاتٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ انْتِفَاعُهُ بِالْإِقْنَاعِيَّاتِ أَكْثَرَ مِنَ انْتِفَاعِهِ بِالْبُرْهَانِيَّاتِ، أَمَّا الْمُحَقِّقُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى الْإِقْنَاعِيَّاتِ، وَإِنَّمَا تَعْوِيلُهُمْ عَلَى الدَّلَائِلِ الْبَيِّنَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ، فَلَمَّا حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا أَحَقٌّ هُوَ؟ أَمَرَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السلام بأن يقول: إِي وَرَبِّي [يونس: 53] وَهَذَا جَارٍ مَجْرَى الْإِقْنَاعِيَّاتِ، فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِمَا هُوَ الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ/ عَلَى صِحَّتِهِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالنُّبُوَّةِ وَالْقَوْلَ بِصِحَّةِ الْمَعَادِ يَتَفَرَّعَانِ عَلَى إِثْبَاتِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُلْكُهُ وَمِلْكُهُ، فَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَذْكُرِ الدَّلِيلَ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدِ اسْتَقْصَى فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ فِيمَا سَبَقَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [يُونُسَ: 6] وَقَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ [يُونُسَ: 5] فَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ اكْتَفَى بِذِكْرِهَا، وَذَكَرَ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنْ نَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ وَجَسَدٍ وَرُوحٍ وَظُلْمَةٍ وَنُورٍ فَهُوَ مُلْكُهُ وَمِلْكُهُ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، كَانَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ غَنِيًّا عَنْ جَمِيعِ الْحَاجَاتِ، مُنَزَّهًا عَنِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ، فَهُوَ تَعَالَى لِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى إِنْزَالِ الْعَذَابِ عَلَى الْأَعْدَاءِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيَكُونُ قَادِرًا عَلَى إِيصَالِ الرَّحْمَةِ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيَكُونُ قَادِرًا عَلَى تَأْيِيدِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ وَالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ وَيَكُونُ قَادِرًا عَلَى إِعْلَاءِ شَأْنِ رَسُولِهِ وَإِظْهَارِ دِينِهِ وَتَقْوِيَةِ شَرْعِهِ، وَلَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ ذَلِكَ فَقَدْ بَطُلَ الِاسْتِهْزَاءُ وَالتَّعَجُّبُ وَلَمَّا كَانَ مُنَزَّهًا عَنِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ، كَانَ مُنَزَّهًا عَنِ الْخُلْفِ وَالْكَذِبِ وَكُلُّ مَا وَعَدَ بِهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَقَعَ، هَذَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى لَا يُرَاعِي مَصَالِحَ الْعِبَادِ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى يُرَاعِيهَا فَنَقُولُ: الْكَذِبُ إِنَّمَا يَصْدُرُ عَنِ الْعَاقِلِ، إِمَّا لِلْعَجْزِ أَوْ لِلْجَهْلِ أَوْ لِلْحَاجَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهًا عَنِ الْكُلِّ كَانَ الْكَذِبُ عَلَيْهِ مُحَالًا، فَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، وَبِحُصُولِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِوُقُوعِهِ، فَثَبَتَ بِهَذَا الْبَيَانِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُقَدِّمَةٌ تُوجِبُ الْجَزْمَ بِصِحَّةِ قَوْلِهِ: أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ثُمَّ قَالَ: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ، مَغْرُورُونَ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ، فَلَا جَرَمَ بَقُوا مَحْرُومِينَ عَنْ هَذِهِ الْمَعَارِفِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَكَّدَ هَذِهِ الدَّلَائِلَ فَقَالَ: هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمَّا قَدَرَ عَلَى الْإِحْيَاءِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَإِذَا أَمَاتَهُ وَجَبَ أَنْ يَبْقَى قَادِرًا عَلَى إِحْيَائِهِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يَقُولَ: إِي وَرَبِّي [يُونُسَ: 53] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَتْبَعَ ذَلِكَ الْكَلَامَ بِذِكْرِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ دَقِيقَةً أُخْرَى وَهِيَ كَلِمَةُ أَلا وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ إِنَّمَا تُذْكَرُ عِنْدَ تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ وَإِيقَاظِ النَّائِمِينَ وَأَهْلُ هَذَا الْعَالَمِ مَشْغُولُونَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ فَيَقُولُونَ الْبُسْتَانُ لِلْأَمِيرِ وَالدَّارُ لِلْوَزِيرِ وَالْغُلَامُ لِزَيْدٍ وَالْجَارِيَةُ لِعَمْرٍو فَيُضِيفُونَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى مَالِكٍ آخَرَ والخلق

[سورة يونس (10) : الآيات 57 إلى 58]

لِكَوْنِهِمْ مُسْتَغْرِقِينَ فِي نَوْمِ الْجَهْلِ وَرَقْدَةِ الْغَفْلَةِ يَظُنُّونَ صِحَّةَ تِلْكَ الْإِضَافَاتِ فَالْحَقُّ نَادَى هَؤُلَاءِ النَّائِمِينَ الْغَافِلِينَ بِقَوْلِهِ: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ/ لَمَّا ثَبَتَ بِالْعَقْلِ أَنَّ مَا سِوَى الْوَاحِدِ الْأَحَدِ الْحَقُّ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْمُمْكِنَ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ إِمَّا ابْتِدَاءً أَوْ بِوَاسِطَةٍ، فَثَبَتَ أَنَّ مَا سِوَاهُ مُلْكُهُ وَمِلْكُهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ فِي الْحَقِيقَةِ مُلْكٌ، فَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُ الْخَلْقِ غَافِلِينَ عَنْ مَعْرِفَةِ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرَ عَالِمِينَ بِهِ، لَا جَرَمَ أَمَرَ اللَّه رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَذْكُرَ هَذَا النِّدَاءَ، لَعَلَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ يَسْتَيْقِظُ مِنْ نوم الجهالة ورقدة الضلالة. [سورة يونس (10) : الآيات 57 الى 58] يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ إِنَّ هَذَا الشَّخْصَ قَدِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَظَهَرَتِ الْمُعْجِزَةُ عَلَى يَدِهِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَهُوَ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّه حَقًّا وَصِدْقًا، وَهَذَا الطَّرِيقُ مِمَّا قَدْ ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَقَرَّرَهُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ فِي قَوْلِهِ: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُسَ: 37، 38] وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُقَوِّي الدِّينَ وَيُورِثُ الْيَقِينَ وَيُزِيلُ الشُّكُوكَ وَالشُّبُهَاتِ وَيُبْطِلُ الْجَهَالَاتِ وَالضَّلَالَاتِ. وَأَمَّا الطَّرِيقُ الثَّانِي فَهُوَ أَنْ نَعْلَمَ بِعُقُولِنَا أَنَّ الِاعْتِقَادَ الْحَقَّ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ مَا هُوَ؟ فَكُلُّ مَنْ جَاءَ وَدَعَا الْخَلْقَ إِلَيْهِمْ وَحَمَلَهُمْ عَلَيْهِ وَكَانَتْ لِنَفْسِهِ قُوَّةٌ قَوِيَّةٌ فِي نَقْلِ النَّاسِ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَمِنَ الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ إِلَى الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ، وَمِنَ الْأَعْمَالِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الدُّنْيَا إِلَى الْأَعْمَالِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الْآخِرَةِ فَهُوَ النَّبِيُّ الْحَقُّ الصَّادِقُ الْمُصَدَّقُ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ نُفُوسَ الْخَلْقِ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا أَنْوَاعُ النَّقْصِ وَالْجَهْلِ وَحُبِّ الدُّنْيَا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِعُقُولِنَا أَنَّ سَعَادَةَ الْإِنْسَانِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالِاعْتِقَادِ الْحَقِّ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا قَوَّى نُفْرَتَكَ عَنِ الدُّنْيَا وَرَغْبَتَكَ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ/ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَكُلُّ مَا كَانَ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ الْعَمَلُ الْبَاطِلُ وَالْمَعْصِيَةُ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ، قَوِيِّ النَّفْسِ، مُشْرِقِ الرُّوحِ، عُلْوِيِّ الطَّبِيعَةِ، وَيَكُونُ بِحَيْثُ يَقْوَى عَلَى نَقْلِ هَؤُلَاءِ النَّاقِصِينَ مِنْ مُقَامِ النُّقْصَانِ إِلَى مُقَامِ الْكَمَالِ، وَذَلِكَ هُوَ النَّبِيُّ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّاسَ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ: النَّاقِصُونَ وَالْكَامِلُونَ الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى تَكْمِيلِ النَّاقِصِينَ، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ هُوَ الْكَامِلُ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى تَكْمِيلِ النَّاقِصِينَ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ هُوَ عَامَّةُ الْخَلْقِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي هُمُ الْأَوْلِيَاءُ، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَلَمَّا كَانَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى نَقْلِ النَّاقِصِينَ مِنْ دَرَجَةِ النُّقْصَانِ إِلَى دَرَجَةِ الْكَمَالِ مَرَاتِبُهَا مُخْتَلِفَةً وَدَرَجَاتُهَا مُتَفَاوِتَةً، لَا جَرَمَ كَانَتْ دَرَجَاتُ الْأَنْبِيَاءِ فِي قُوَّةِ النُّبُوَّةِ مُخْتَلِفَةً وَلِهَذَا السِّرِّ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عُلَمَاءُ أُمَّتِي كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ» . إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقِ الْمُعْجِزَةِ، فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَّنَ صِحَّةَ نُبُوَّتِهِ بِالطَّرِيقِ الثَّانِي، وَهَذَا الطَّرِيقُ طَرِيقٌ كَاشِفٌ عَنْ حَقِيقَةِ النُّبُوَّةِ مُعَرِّفٌ لِمَاهِيَّتِهَا، فَالِاسْتِدْلَالُ

بالمعجز هو الذي يسميه الْمَنْطِقِيُّونَ بُرْهَانَ الْإِنْ، وَهَذَا الطَّرِيقُ هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي يُسَمُّونَهُ بُرْهَانَ اللَّمْ، وَهُوَ أَشْرَفُ وَأَعْلَى وَأَكْمَلُ وَأَفْضَلُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْقُرْآنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِصِفَاتٍ أَرْبَعَةٍ: أَوَّلُهَا: كَوْنُهُ مَوْعِظَةً مِنْ عِنْدِ اللَّه. وَثَانِيهَا: كَوْنُهُ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ. وَثَالِثُهَا: كَوْنُهُ هُدًى. وَرَابِعُهَا: كَوْنُهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ. وَلَا بُدَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنْ فَائِدَةٍ مَخْصُوصَةٍ فَنَقُولُ: إِنَّ الْأَرْوَاحَ لَمَّا تَعَلَّقَتْ بِالْأَجْسَادِ كَانَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ بِسَبَبِ عِشْقٍ طَبِيعِيٍّ وَجَبَ لِلرُّوحِ عَلَى الْجَسَدِ، ثُمَّ إِنَّ جَوْهَرَ الرُّوحِ الْتَذَّ بِمُشْتَهَيَاتِ هَذَا الْعَالَمِ الْجَسَدَانِيِّ وَطَيِّبَاتِهِ بِوَاسِطَةِ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ وَتَمَرَّنَ عَلَى ذَلِكَ وَأَلِفَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَاعْتَادَهَا. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ نُورَ الْعَقْلِ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي آخِرِ الدَّرَجَةِ، حَيْثُ قَوِيَتِ الْعَلَائِقُ الْحِسِّيَّةُ وَالْحَوَادِثُ الْجَسَدَانِيَّةُ، فَصَارَ ذَلِكَ الِاسْتِغْرَاقُ سَبَبًا لِحُصُولِ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ فِي جَوْهَرِ الرُّوحِ، وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ تَجْرِي مَجْرَى الْأَمْرَاضِ الشَّدِيدَةِ لِجَوْهَرِ الرُّوحِ، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ طَبِيبٍ حَاذِقٍ، فَإِنَّ مَنْ وَقَعَ فِي الْمَرَضِ الشَّدِيدِ، فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ طَبِيبٌ حَاذِقٌ يُعَالِجُهُ بِالْعِلَاجَاتِ الصَّائِبَةِ مَاتَ لَا مَحَالَةَ، وَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ صَادَفَهُ مِثْلُ هَذَا الطَّبِيبِ، وَكَانَ هَذَا الْبَدَنُ قَابِلًا لِلْعِلَاجَاتِ الصَّائِبَةِ فَرُبَّمَا حَصَلَتِ الصِّحَّةُ وَزَالَ السُّقْمُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَالطَّبِيبِ الْحَاذِقِ، وَهَذَا الْقُرْآنُ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ أَدْوِيَتِهِ الَّتِي بِتَرْكِيبِهَا تُعَالَجُ الْقُلُوبُ الْمَرِيضَةُ. ثُمَّ إِنَّ الطَّبِيبَ إِذَا وَصَلَ إِلَى الْمَرِيضِ فَلَهُ مَعَهُ مَرَاتِبُ أَرْبَعَةٌ: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَا يَنْبَغِي وَيَأْمُرَهُ بِالِاحْتِرَازِ عَنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي بِسَبَبِهَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ الْمَرَضِ، وَهَذَا هُوَ الْمَوْعِظَةُ فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْوَعْظِ إِلَّا الزَّجْرُ عَنْ كُلِّ مَا يَبْعُدُ عَنْ رِضْوَانِ اللَّه تَعَالَى، وَالْمَنْعُ عَنْ كُلِّ مَا يَشْغَلُ الْقَلْبَ بِغَيْرِ اللَّه. الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الشِّفَاءُ وَهُوَ أَنْ يَسْقِيَهُ أَدْوِيَةً تُزِيلُ عَنْ بَاطِنِهِ تِلْكَ الْأَخْلَاطَ الْفَاسِدَةَ الْمُوجِبَةَ لِلْمَرَضِ، فَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إِذَا مَنَعُوا الْخَلْقَ عَنْ فِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ صَارَتْ ظَوَاهِرُهُمْ مُطَهَّرَةً عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي فَحِينَئِذٍ يَأْمُرُونَهُمْ بِطَهَارَةِ الْبَاطِنِ وَذَلِكَ بِالْمُجَاهَدَةِ فِي إِزَالَةِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَتَحْصِيلِ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، وَأَوَائِلُهَا مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النَّحْلِ: 90] وَذَلِكَ لِأَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَقَائِدَ الْفَاسِدَةَ وَالْأَخْلَاقَ الذَّمِيمَةَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَمْرَاضِ، فَإِذَا زَالَتْ فَقَدْ حَصَلَ الشِّفَاءُ لِلْقَلْبِ وَصَارَ جَوْهَرُ الرُّوحِ مُطَهَّرًا عَنْ جَمِيعِ النُّقُوشِ الْمَانِعَةِ عَنْ مُطَالَعَةِ عَالَمِ الْمَلَكُوتِ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: حُصُولُ الْهُدَى، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهَا إِلَّا بَعْدَ الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ جَوْهَرَ الرُّوحِ النَّاطِقَةِ قَابِلٌ لِلْجَلَايَا الْقُدْسِيَّةِ وَالْأَضْوَاءِ الْإِلَهِيَّةِ وَفَيْضُ الرَّحْمَةِ عَامٌّ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ أَلَا فَتَعَرَّضُوا لَهَا» وَأَيْضًا فَالْمَنْعُ إِنَّمَا يَكُونُ إِمَّا لِلْعَجْزِ أَوْ لِلْجَهْلِ أَوْ لِلْبُخْلِ، وَالْكُلُّ فِي حَقِّ الْحَقِّ مُمْتَنِعٌ، فَالْمَنْعُ فِي حَقِّهِ مُمْتَنِعٌ، فَعَلَى هَذَا عَدَمُ حُصُولِ هَذِهِ الْأَضْوَاءِ الرُّوحَانِيَّةِ، إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ الْعَقَائِدَ الْفَاسِدَةَ وَالْأَخْلَاقَ الذَّمِيمَةَ طَبْعُهَا طَبْعُ الظُّلْمَةِ، وَعِنْدَ قِيَامِ الظُّلْمَةِ يَمْتَنِعُ حُصُولُ النُّورِ، فَإِذَا زَالَتْ تِلْكَ الْأَحْوَالُ، فَقَدْ زَالَ الْعَائِقُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَقَعَ ضَوْءُ عَالَمِ الْقُدْسِ فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ الْقُدْسِيَّةِ، وَلَا مَعْنَى لِذَلِكَ الضَّوْءِ إِلَّا الْهُدَى، فَعِنْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ تَصِيرُ هَذِهِ النَّفْسُ بِحَيْثُ قَدِ انْطَبَعَ فِيهَا نَقْشُ الْمَلَكُوتِ وَتَجَلَّى لها قدس

اللاهوت، وأول هذه المرتبة هو قوله: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 27] أوسطها قَوْلُهُ تَعَالَى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذَّارِيَاتِ: 50] وَآخِرُهَا قَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الْأَنْعَامِ: 91] وَمَجْمُوعُهَا قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هُودٍ: 123] وَسَيَجِيءُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي مَوَاضِعِهَا بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَهُدىً. وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: فَهِيَ أَنْ تَصِيرَ النَّفْسُ الْبَالِغَةُ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْمَعَارِجِ الرَّبَّانِيَّةِ بِحَيْثُ تَفِيضُ أَنْوَارُهَا عَلَى أَرْوَاحِ النَّاقِصِينَ فَيْضَ النُّورِ مِنْ جَوْهَرِ الشَّمْسِ عَلَى أَجْرَامِ هَذَا الْعَالَمِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّمَا خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ أَرْوَاحَ الْمُعَانِدِينَ لَا تَسْتَضِيءُ بِأَنْوَارِ أَرْوَاحِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، لِأَنَّ الْجِسْمَ الْقَابِلَ لِلنُّورِ عَنْ قُرْصِ الشَّمْسِ/ هُوَ الَّذِي يَكُونُ وَجْهُهُ مُقَابِلًا لِوَجْهِ الشَّمْسِ، فَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الْمُقَابَلَةُ لَمْ يَقَعْ ضَوْءُ الشَّمْسِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ كَلُّ رُوحٍ لَمَّا لَمْ تَتَوَجَّهْ إِلَى خِدْمَةِ أَرْوَاحِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُطَهَّرِينَ، لَمْ تَنْتَفِعْ بِأَنْوَارِهِمْ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا آثَارُ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ الْمُطَهَّرَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَكَمَا أَنَّ الْأَجْسَامَ الَّتِي لَا تَكُونُ مُقَابِلَةً لِقُرْصِ الشَّمْسِ مُخْتَلِفَةُ الدَّرَجَاتِ وَالْمَرَاتِبِ فِي الْبُعْدِ عَنْ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ وَلَا تَزَالُ تَتَزَايَدُ دَرَجَاتُ هَذَا الْبُعْدِ حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ الْجِسْمُ إِلَى غَايَةِ بُعْدِهِ عَنْ مُقَابَلَةِ قُرْصِ الشَّمْسِ، فَلَا جَرَمَ يَبْقَى خَالِصَ الظُّلْمَةِ، فَكَذَلِكَ تَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُ النُّفُوسِ فِي قَبُولِ هَذِهِ الْأَنْوَارِ عَنْ أَرْوَاحِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا تَزَالُ تَتَزَايَدُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى النَّفْسِ الَّتِي كَمُلَتْ ظُلْمَتُهَا، وَعَظُمَتْ شَقَاوَتُهَا وَانْتَهَتْ فِي الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ، وَأَبْعَدِ النِّهَايَاتِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَوْعِظَةَ إِشَارَةٌ إِلَى تَطْهِيرِ ظَوَاهِرِ الْخَلْقِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي وَهُوَ الشَّرِيعَةُ، وَالشِّفَاءُ إِشَارَةٌ إِلَى تَطْهِيرِ الْأَرْوَاحِ عَنِ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَهُوَ الطَّرِيقَةُ وَالْهُدَى وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى ظُهُورِ نُورِ الْحَقِّ فِي قُلُوبِ الصِّدِّيقِينَ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ، وَالرَّحْمَةُ وَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهَا بَالِغَةً فِي الْكَمَالِ وَالْإِشْرَاقِ إِلَى حَيْثُ تَصِيرُ مُكَمِّلَةً لِلنَّاقِصِينَ وَهِيَ النُّبُوَّةُ، فَهَذِهِ دَرَجَاتٌ عَقْلِيَّةٌ وَمَرَاتِبُ بُرْهَانِيَّةٌ مَدْلُولٌ عَلَيْهَا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْقُرْآنِيَّةِ لَا يُمْكِنُ تَأْخِيرُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَلَا تَقْدِيمُ مَا تَأَخَّرَ ذِكْرُهُ، وَلَمَّا نَبَّهَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْأَسْرَارِ الْعَالِيَةِ الْإِلَهِيَّةِ قَالَ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا قَرَّرَهُ حُكَمَاءُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَنَّ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ أَفْضَلُ مِنَ السَّعَادَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَقَدْ سَبَقَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ انتهى. المسألة الثالثة: قَوْلُهُ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا وَتَقْدِيرُهُ: بِفَضْلِ اللَّه وَبِرَحْمَتِهِ فَلْيَفْرَحُوا، ثُمَّ يَقُولُ مرة أخرى: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا يُفِيدُ الْحَصْرَ، يَعْنِي يَجِبُ أَنْ لَا يَفْرَحَ الْإِنْسَانُ إِلَّا بِذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَفْرَحَ الْإِنْسَانُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَحْوَالِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُحَقِّقِينَ قَالُوا: لَا مَعْنَى لِهَذِهِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ إِلَّا دَفْعُ الْآلَامِ، وَالْمَعْنَى الْعَدَمِيُّ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُفْرَحَ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّذَّاتُ صِفَاتٍ ثُبُوتِيَّةً، لَكِنَّهَا مَعْنَوِيَّةٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّضَرُّرَ بِآلَامِهَا أَقْوَى مِنَ الِانْتِفَاعِ بِلَذَّاتِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ أَقْوَى اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ لَذَّةَ الْوِقَاعِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الِالْتِذَاذَ بِهَا أَقَلُّ مَرْتَبَةً مِنَ الِاسْتِضْرَارِ بِأَلَمِ الْقُولَنْجِ وَسَائِرِ الْآلَامِ الْقَوِيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَدَاخِلَ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ قَلِيلَةٌ، فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى تَحْصِيلِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ

إِلَّا بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ أَعْنِي لَذَّةَ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ. وَأَمَّا الْآلَامُ: فَإِنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مَعَهُ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْآلَامِ، وَلِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا خَاصِّيَّةٌ لَيْسَتْ لِلنَّوْعِ الْآخَرِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّذَّاتِ/ الْجُسْمَانِيَّةَ لَا تَكُونُ خَالِصَةً أَلْبَتَّةَ بَلْ تَكُونُ مَمْزُوجَةً بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْمَكَارِهِ، فَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ فِي لَذَّةِ الْأَكْلِ وَالْوِقَاعِ إِلَّا إِتْعَابُ النَّفْسِ فِي مُقَدِّمَاتِهَا وَفِي لَوَاحِقِهَا لَكَفَى. الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةَ لَا تَكُونُ بَاقِيَةً، فَكُلَّمَا كَانَ الِالْتِذَاذُ بِهَا أَكْثَرَ كَانَتِ الْحَسَرَاتُ الْحَاصِلَةُ مِنْ خَوْفِ فَوَاتِهَا أَكْثَرَ وَأَشَدَّ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمَعَرِّيُّ: إِنَّ حُزْنًا فِي سَاعَةِ الموت أضعاف ... سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْفَرَحَ الْحَاصِلَ عِنْدَ حُدُوثِ الْوَلَدِ لَا يُعَادِلُ الْحُزْنَ الْحَاصِلَ عِنْدَ مَوْتِهِ. الْخَامِسُ: أَنَّ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةَ حَالَ حُصُولِهَا تَكُونُ مُمْتَنِعَةَ الْبَقَاءِ، لِأَنَّ لذة الأكل لا تبقى بحالها، بل كما زَالَ أَلَمُ الْجُوعِ زَالَ الِالْتِذَاذُ بِالْأَكْلِ وَلَا يُمْكِنُ اسْتِبْقَاءُ تِلْكَ اللَّذَّةِ. السَّادِسُ: أَنَّ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةَ الْتِذَاذٌ بِأَشْيَاءٍ خَسِيسَةٍ، فَإِنَّهَا الْتِذَاذٌ بِكَيْفِيَّاتٍ حَاصِلَةٍ فِي أَجْسَامٍ رَخْوَةٍ سَرِيعَةِ الْفَسَادِ مُسْتَعِدَّةٍ لِلتَّغَيُّرِ، فَأَمَّا اللَّذَّاتُ الرُّوحَانِيَّةُ فَإِنَّهَا بِالضِّدِّ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْجِهَاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْفَرَحَ بِاللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ فَرَحٌ بَاطِلٌ، وَأَمَّا الْفَرَحُ الْكَامِلُ فَهُوَ الْفَرَحُ بِالرُّوحَانِيَّاتِ وَالْجَوَاهِرِ الْمُقَدَّسَةِ وَعَالَمِ الْجَلَالِ وَنُورِ الْكِبْرِيَاءِ. وَالْبَحْثُ الثَّانِي: مِنْ مَبَاحِثِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَتِ اللَّذَّاتُ الرُّوحَانِيَّةُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَفْرَحَ بِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَفْرَحَ بِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مِنَ اللَّه تَعَالَى وَبِفَضْلِ اللَّه وَبِرَحْمَتِهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ الصِّدِّيقُونَ: مَنْ فَرِحَ بِنِعْمَةِ اللَّه مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تِلْكَ النِّعْمَةُ فَهُوَ مُشْرِكٌ، أَمَّا مَنْ فَرِحَ بِنِعْمَةِ اللَّه مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مِنَ اللَّه كَانَ فَرَحُهُ باللَّه، وَذَلِكَ هُوَ غَايَةُ الْكَمَالِ وَنِهَايَةُ السَّعَادَةِ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا يَعْنِي فَلْيَفْرَحُوا بِتِلْكَ النِّعَمِ لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا بِفَضْلِ اللَّه وَبِرَحْمَةِ اللَّه، فَهَذِهِ أَسْرَارٌ عَالِيَةٌ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الَّتِي ظَهَرَتْ مِنْ عَالَمِ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ، هَذَا مَا تَلَخَّصَ عِنْدَنَا فِي هَذَا الْبَابِ، أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَقَالُوا: فَضْلُ اللَّه الْإِسْلَامُ، وَرَحْمَتُهُ الْقُرْآنُ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: فَضْلُ اللَّه الْقُرْآنُ، وَرَحْمَتُهُ أَنْ جَعَلَكُمْ مِنْ أَهْلِهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُرِئَ فَلْتَفْرَحُوا بِالتَّاءِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَرَأَ بِالتَّاءِ وَقَالَ: مَعْنَاهُ فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرِحُوا يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُ الْكُفَّارُ، قَالَ وَقَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ فَبِذَلِكَ فَافْرَحُوا وَالْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ لِلْمُخَاطَبِ وَالْغَائِبِ اللَّامُ نَحْوَ لِتَقُمْ يَا زَيْدُ وَلْيَقُمْ زَيْدٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمْرِ فِي الصُّورَتَيْنِ وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ حَذَفُوا اللَّامَ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ الْمُخَاطَبِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ، وَحَذَفُوا التَّاءَ أَيْضًا وَأَدْخَلُوا أَلِفَ الْوَصْلِ نَحْوَ اضْرِبْ وَاقْتُلْ لِيَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِهِ وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَعِيبُ قَوْلَهُمْ فَلْيَفْرَحُوا لِأَنَّهُ وَجَدَهُ قَلِيلًا فَجَعَلَهُ عَيْبًا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ الْمَشَاهِدِ: «لِتَأْخُذُوا مَصَافَّكُمْ» يُرِيدُ بِهِ خُذُوا، هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ/ الْفَرَّاءِ. وَقُرِئَ تَجْمَعُونَ بِالتَّاءِ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ تَعَالَى عَنَى الْمُخَاطَبِينَ وَالْغَائِبِينَ إِلَّا أَنَّهُ غَلَّبَ الْمُخَاطَبَ عَلَى الْغَائِبِ كَمَا يُغَلَّبُ التَّذْكِيرُ عَلَى التَّأْنِيثِ، فَكَأَنَّهُ أراد المؤمنين هكذا قال أَهْلُ اللُّغَةِ وَفِيهِ دَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ حَصَلَ فِيهِ مَعْنًى يَدْعُوهُ إِلَى خِدْمَةِ اللَّه تَعَالَى وَإِلَى الِاتِّصَالِ بِعَالَمِ الْغَيْبِ وَمَعَارِجِ الرُّوحَانِيَّاتِ، وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ يَدْعُوهُ إِلَى عَالَمِ الْحِسِّ وَالْجِسْمِ وَاللَّذَّاتِ الْجَسَدَانِيَّةِ، وَمَا دَامَ الرُّوحُ مُتَعَلِّقًا بِهَذَا الْجَسَدِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ حُبِّ الْجَسَدِ، وَعَنْ طَلَبِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ الصِّدِّيقِينَ الْعَارِفِينَ،

[سورة يونس (10) : الآيات 59 إلى 60]

وَقَالَ: حَصَلَتِ الْخُصُومَةُ بَيْنَ الْحَوَادِثِ الْعَقْلِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ وَبَيْنَ النَّوَازِعِ النَّفْسَانِيَّةِ الْجَسَدَانِيَّةِ، وَالتَّرْجِيحُ لِجَانِبِ الْعَقْلِ لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى فَضْلِ اللَّه وَرَحْمَتِهِ وَالنَّفْسُ تَدْعُو إِلَى جَمْعِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا وَفَضْلُ اللَّه وَرَحْمَتُهُ خَيْرٌ لَكُمْ مِمَّا تَجْمَعُونَ مِنَ الدُّنْيَا لِأَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فهو أولى بالطلب والتحصيل. [سورة يونس (10) : الآيات 59 الى 60] قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ ذَكَرُوا فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهًا، وَلَا أَسْتَحْسِنُ وَاحِدًا مِنْهَا. وَالَّذِي يَخْطُرُ بِالْبَالِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ ذِكْرُ طَرِيقٍ ثَالِثٍ فِي إِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِلْقَوْمِ: «إِنَّكُمْ تَحْكُمُونَ بِحِلِّ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَحُرْمَةِ بَعْضِهَا فَهَذَا الْحُكْمُ تَقُولُونَهُ عَلَى سَبِيلِ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّه تَعَالَى، أَوْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ حُكْمٌ حَكَمَ اللَّه بِهِ» وَالْأَوَّلُ طَرِيقٌ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الثَّانِي، ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ تَعَالَى مَا خَاطَبَكُمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَلَمَّا بَطُلَ هَذَا، ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ إِنَّمَا وَصَلَتْ إِلَيْكُمْ بِقَوْلِ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللَّه إِلَيْكُمْ وَنَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّه إِلَيْكُمْ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ حُكْمَهُمْ بِحِلِّ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَحُرْمَةِ بَعْضِهَا مَعَ اشْتِرَاكِ الْكُلِّ فِي الصِّفَاتِ الْمَحْسُوسَةِ وَالْمَنَافِعِ الْمَحْسُوسَةِ، يَدُلُّ عَلَى اعْتِرَافِكُمْ بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَإِذَا/ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تُبَالِغُوا هَذِهِ الْمُبَالَغَاتِ الْعَظِيمَةَ فِي إِنْكَارِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَحَمْلِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ طَرِيقٌ حَسَنٌ مَعْقُولٌ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: فِي حُسْنِ تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ الْكَثِيرَةَ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ نَفْسِهِ وَبَيَّنَ فَسَادَ سُؤَالَاتِهِمْ وَشُبُهَاتِهِمْ فِي إِنْكَارِهَا، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَيَانِ فَسَادِ طَرِيقَتِهِمْ فِي شَرَائِعِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ وَبَيَّنَ أَنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ بِذَلِكَ لَا عَقْلٌ وَلَا نَقْلٌ طَرِيقٌ بَاطِلٌ وَمَنْهَجٌ فَاسِدٌ، وَالْمَقْصُودُ إِبْطَالُ مَذَاهِبِ الْقَوْمِ فِي أَدْيَانِهِمْ وَفِي أَحْكَامِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ فِي بَابٍ مِنَ الْأَبْوَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِالشَّيْءِ الَّذِي جَعَلُوهُ حَرَامًا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَحْرِيمِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الْأَنْعَامِ: 138] إِلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الْأَنْعَامِ: 139] وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ [الْأَنْعَامِ: 143] وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً إِشَارَةٌ إِلَى أَمْرٍ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَحْكِ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ إِلَّا هَذَا، فَوَجَبَ تَوَجُّهُ هَذَا الْكَلَامِ إِلَيْهِ، ثُمَّ لَمَّا حَكَى تَعَالَى عَنْهُمْ ذَلِكَ قَالَ لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ صَحِيحَةٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنَ اللَّه تَعَالَى أَوْ لَمْ تَكُنْ مِنَ اللَّه فَإِنْ كَانَتْ مِنَ اللَّه تَعَالَى، فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ وَإِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ مِنَ اللَّه فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ.

[سورة يونس (10) : آية 61]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الِاسْتِعْلَامِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ تَعْظِيمُ وَعِيدِ مَنْ يَفْتَرِي عَلَى اللَّه. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَما ظَنُّ عَلَى لَفْظِ الْفِعْلِ وَمَعْنَاهُ أَيْ ظَنٌّ ظَنُّوهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجِيءَ بِهِ عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَحْوَالَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ كَانَتْ آتِيَةً إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ وَاجِبَةَ الْوُقُوعِ فِي الْحِكْمَةِ وَلَا جَرَمَ عَبَّرَ اللَّه عَنْهَا بِصِيغَةِ الْمَاضِي. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أَيْ بِإِعْطَاءِ الْعَقْلِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ فلا يستعملون للعقل فِي التَّأَمُّلِ فِي دَلَائِلِ اللَّه تَعَالَى وَلَا يَقْبَلُونَ دَعْوَةَ أَنْبِيَاءِ اللَّه وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِاسْتِمَاعِ كُتُبِ اللَّه. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (مَا) فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وجهان: أحدهما: بمعنى الذي فينتصب برأيتم وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى أَيٍّ فِي الِاسْتِفْهَامِ، فينتصب بأنزل وهو قول الزجاج، ومعنى أنزل هاهنا خَلَقَ وَأَنْشَأَ كَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزُّمَرِ: 6] وَجَازَ أَنْ يُعَبِّرَ عَنِ الْخَلْقِ بِالْإِنْزَالِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْأَرْضِ من رزق فما أُنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ ضَرْعٍ وَزَرْعٍ وَغَيْرِهِمَا، فلما كان إيجاده بالإنزال سمي إنزالا. [سورة يونس (10) : آية 61] وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) [في قوله تعالى وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا أَطَالَ الْكَلَامَ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ بِإِيرَادِ الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ مَذَاهِبِ الْكُفَّارِ، وَفِي أَمْرِهِ بِإِيرَادِ الْجَوَابِ عَنْ شُبُهَاتِهِمْ، وَفِي أَمْرِهِ بِتَحَمُّلِ أَذَاهُمْ، وَبِالرِّفْقِ مَعَهُمْ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ لِيَحْصُلَ بِهِ تَمَامُ السَّلْوَةِ وَالسُّرُورِ لِلْمُطِيعِينَ، وَتَمَامُ الْخَوْفِ وَالْفَزَعِ لِلْمُذْنِبِينَ، وَهُوَ كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ عَالِمًا بِعَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ، وَبِمَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا أَظْهَرَ مِنْ نَفْسِهِ نُسُكًا وَطَاعَةً وَزُهْدًا وَتَقْوَى، وَيَكُونُ بَاطِنُهُ مَمَلُوءًا مِنَ الْخَبَثِ وَرُبَّمَا كَانَ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ عَالِمًا بِمَا فِي الْبَوَاطِنِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ السُّرُورِ لِلْمُطِيعِينَ وَمِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ التَّهْدِيدِ لِلْمُذْنِبِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّصَ الرَّسُولَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْخِطَابِ فِي أَمْرَيْنِ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِتَعْمِيمِ الْخِطَابِ مَعَ كُلِّ الْمُكَلَّفِينَ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، أَمَّا الْأَمْرَانِ الْمَخْصُوصَانِ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَالْأَوَّلُ: مِنْهُمَا قَوْلُهُ: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ واعلم أن (ما) هاهنا جَحْدٌ وَالشَّأْنُ الْخَطْبُ وَالْجَمْعُ الشُّئُونُ، تَقُولُ الْعَرَبُ مَا شَأْنُ فُلَانٍ أَيْ مَا حَالُهُ، قَالَ الْأَخْفَشُ: وَتَقُولُ مَا شَأَنْتُ شَأْنَهُ أَيْ مَا عَمِلْتُ عَمَلَهُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وما تكون يا محمد في شأن يريد من أَعْمَالَ الْبِرِّ وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي شَأْنٍ مِنْ شَأْنِ الدُّنْيَا وَحَوَائِجِكَ فِيهَا. وَالثَّانِي: مِنْهُمَا قَوْلُهُ تعالى: وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ وَذَكَرُوا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الشَّأْنِ لِأَنَّ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ شَأْنٌ مِنْ شَأْنِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ هُوَ مُعْظَمُ/ شَأْنِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، فَكَانَ هَذَا دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ إِلَّا أَنَّهُ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: 98] وَكَمَا فِي قَوْلِهِ:

وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ [الأحزاب: 7] والثاني: أَنَّ هَذَا الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا تَتْلُو مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ قُرْآنٍ، وَذَلِكَ لأن كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ اسْمٌ لِلْمَجْمُوعِ، فَكَذَلِكَ هُوَ اسْمٌ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ وَالْإِضْمَارُ قَبْلَ الذِّكْرِ، يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَمَا تَتْلُو مِنْ قُرْآنٍ مِنَ اللَّه أَيْ نَازِلٍ مِنْ عِنْدِ اللَّه. وَأَقُولُ: قوله: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ أَمْرَانِ مَخْصُوصَانِ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ فَهَذَا خِطَابٌ مَعَ النَّبِيِّ وَمَعَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ وَالسَّبَبُ فِي أَنْ خَصَّ الرَّسُولَ بِالْخِطَابِ أَوَّلًا، ثُمَّ عَمَّمَ الْخِطَابَ مَعَ الْكُلِّ، هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَإِنْ كَانَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ خِطَابًا مُخْتَصًّا بِالرَّسُولِ، إِلَّا أَنَّ الْأُمَّةَ دَاخِلُونَ فِيهِ وَمُرَادُونَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ إِذَا خُوطِبَ رَئِيسُ الْقَوْمِ كَانَ الْقَوْمُ دَاخِلِينَ فِي ذَلِكَ الْخِطَابِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطَّلَاقِ: 1] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ خَصَّ الرَّسُولَ بِذَيْنِكَ الْخِطَابَيْنِ عَمَّمَ الْكُلَّ بِالْخِطَابِ الثَّالِثِ فَقَالَ: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِمْ دَاخِلِينَ فِي الْخِطَابَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى شَاهِدٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَعَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، أَمَّا عَلَى أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَالْأَمْرُ فِيهِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ لَا مُحْدِثَ وَلَا خَالِقَ وَلَا مُوجِدَ إِلَّا اللَّه تَعَالَى فَكُلُّ مَا يَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَعْمَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، فَكُلُّهَا حَصَلَتْ بِإِيجَادِ اللَّه تَعَالَى وَإِحْدَاثِهِ وَالْمُوجِدُ لِلشَّيْءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، وَأَمَّا عَلَى أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى حَيٌّ وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيًّا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ، وَالْمُوجِبُ لِتِلْكَ الْعَالِمِيَّةِ، هُوَ ذَاتُهُ سُبْحَانَهُ فَنِسْبَةُ ذَاتِهِ إِلَى اقْتِضَاءِ حُصُولِ الْعَالِمِيَّةِ بِبَعْضِ الْمَعْلُومَاتِ كَنِسْبَةِ ذَاتِهِ إِلَى اقْتِضَاءِ حُصُولِ الْعَالِمِيَّةِ بِسَائِرِ الْمَعْلُومَاتِ، فَلَمَّا اقْتَضَتْ ذَاتُهُ حُصُولَ الْعَالِمِيَّةِ بِبَعْضِ الْمَعْلُومَاتِ وَجَبَ أَنْ تَقْتَضِيَ حُصُولَ الْعَالِمِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ فَثَبَتَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ فاعلم أن الإفاضة هاهنا الدخول في العمل على جهة الأنصاب إِلَيْهِ وَهُوَ الِانْبِسَاطُ فِي الْعَمَلِ، يُقَالُ أَفَاضَ الْقَوْمُ فِي الْحَدِيثِ إِذَا انْدَفَعُوا فِيهِ، وَقَدْ أَفَاضُوا مِنْ عَرَفَةَ إِذَا دَفَعُوا مِنْهُ بِكَثْرَتِهِمْ، فتفرقوا. فإن قيل: إِذْ هاهنا بِمَعْنَى حِينَ، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا حِينَ تُفِيضُونَ فِيهِ، / وَشَهَادَةُ اللَّه تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنْ عِلْمِهِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى مَا عَلِمَ الْأَشْيَاءَ إِلَّا عِنْدَ وُجُودِهَا وَذَلِكَ بَاطِلٌ. قُلْنَا: هَذَا السُّؤَالُ بناء على أن شهادة اللَّه تعالى عبارة عَنْ عِلْمِهِ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ، فَلَا يَمْتَنِعُ تَقَدُّمُهُ عَلَى الشَّيْءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَوْ أَخْبَرَنَا عَنْ زَيْدٍ أَنَّهُ يَأْكُلُ غَدًا كُنَّا مِنْ قَبْلِ حُصُولِ تِلْكَ الْحَالَةِ عَالِمِينَ بِهَا وَلَا نُوصَفُ بِكَوْنِنَا شَاهِدِينَ لَهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ عِلْمِ اللَّه شَيْءٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ هَذَا الْكَلَامَ زِيَادَةَ تَأْكِيدٍ، فَقَالَ: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَصْلُ الْعُزُوبِ مِنَ الْبُعْدِ يُقَالُ: كَلَأٌ عَازِبٌ إِذَا كَانَ بَعِيدَ الْمَطْلَبِ، وَعَزَبَ الرَّجُلُ بِإِبِلِهِ إِذَا أَرْسَلَهَا إِلَى مَوْضِعٍ بَعِيدٍ مِنَ الْمَنْزِلِ، وَالرَّجُلُ سُمِّيَ عَزَبًا لِبُعْدِهِ عَنِ الْأَهْلِ، وَعَزَبَ الشَّيْءُ عَنْ عِلْمِي إِذَا بَعُدَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَما يَعْزُبُ بِكَسْرِ الزَّايِ، وَالْبَاقُونَ بِالضَّمِّ، وَفِيهِ لُغَتَانِ: عَزَبَ يَعْزُبُ، وَعَزَبَ يَعْزِبُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ أَيْ وَزْنِ ذَرَّةٍ، وَمِثْقَالُ الشَّيْءِ مَا يُسَاوِيهِ فِي الثِّقَلِ، وَالْمَعْنَى. مَا يُسَاوِي ذَرَّةً وَالذَّرُّ صِغَارُ النَّمْلِ وَاحِدُهَا ذَرَّةٌ، وَهِيَ تَكُونُ خَفِيفَةَ الْوَزْنِ جِدًّا، وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ فَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قدم اللَّه ذكر الأرض هاهنا عَلَى ذِكْرِ السَّمَاءِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ سَبَأٍ: عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ؟ [سَبَأٍ: 3] . قُلْنَا: حَقُّ السَّمَاءِ أَنْ تُقَدَّمَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَهَادَتَهُ عَلَى أَحْوَالِ أَهْلِ الْأَرْضِ وَأَعْمَالِهِمْ، ثُمَّ وَصَلَ بِذَلِكَ قَوْلَهُ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ، نَاسَبَ أَنْ تُقَدَّمَ الْأَرْضُ عَلَى السَّمَاءِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. ثُمَّ قَالَ: وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ وَفِيهِ قِرَاءَتَانِ قَرَأَ حَمْزَةُ وَلَا أَصْغَرُ وَلَا أَكْبَرُ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا، وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ تَقْدِيرُهُ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فَلَفْظُ مِثْقالِ عِنْدَ دُخُولِ كَلِمَةِ (مِنْ) عَلَيْهِ مَجْرُورٌ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، وَلَكِنَّهُ مَرْفُوعٌ فِي الْمَعْنَى، فَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ إِنْ عُطِفَ عَلَى الظَّاهِرِ كَانَ مَجْرُورًا إِلَّا أَنَّ لَفْظَ أَصْغَرَ وَأَكْبَرَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، فَكَانَ مَفْتُوحًا/ وَإِنْ عُطِفَ عَلَى الْمَحَلِّ، وَجَبَ كَوْنُهُ مَرْفُوعًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ مَا أَتَانِي مِنْ أَحَدٍ عَاقِلٍ وَعَاقِلٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الْأَعْرَافِ: 59] وَغَيْرُهُ وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا هَذَا مَا ذَكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : لَوْ صَحَّ هَذَا الْعَطْفُ لَصَارَ تَقْدِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ إِلَّا فِي كِتَابٍ: وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الَّذِي فِي الْكِتَابِ خَارِجًا عَنْ عِلْمِ اللَّه تَعَالَى وَإِنَّهُ بَاطِلٌ. وَأَجَابَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْعُزُوبَ عِبَارَةٌ عَنْ مُطْلَقِ الْبُعْدِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْأَشْيَاءُ الْمَخْلُوقَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ أَوْجَدَهُ اللَّه تَعَالَى ابْتِدَاءً من غير واسطة كالملائكة والسموات وَالْأَرْضِ، وَقِسْمٌ آخَرُ أَوْجَدَهُ اللَّه بِوَاسِطَةِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، مِثْلُ: الْحَوَادِثِ الْحَادِثَةِ فِي عَالَمِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ الثَّانِيَ قَدْ يَتَبَاعَدُ فِي سِلْسِلَةِ الْعِلِّيَّةِ وَالْمَعْلُولِيَّةِ عَنْ مَرْتَبَةِ وُجُودِ وَاجِبِ الْوُجُودِ فَقَوْلُهُ: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أَيْ لَا يَبْعُدُ عَنْ مَرْتَبَةِ وُجُودِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ إِلَّا وَهُوَ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وَهُوَ كِتَابٌ كَتَبَهُ اللَّه تَعَالَى وَأَثْبَتَ صُوَرَ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ فِيهِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ كَانَ عَالِمًا بِهَا مُحِيطًا بِأَحْوَالِهَا، وَالْغَرَضُ

[سورة يونس (10) : الآيات 62 إلى 64]

مِنْهُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ عَالِمٍ بِالْجُزْئِيَّاتِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الْجَاثِيَةِ: 29] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنْ نَجْعَلَ كَلِمَةَ (إِلَّا) فِي قَوْلِهِ: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا لَكِنْ بِمَعْنَى هُوَ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُرْجَانِيُّ صَاحِبُ «النَّظْمِ» عَنْهُ جَوَابًا آخَرَ فَقَالَ: قَوْلُهُ: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ هاهنا تَمَّ الْكَلَامُ وَانْقَطَعَ ثُمَّ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِكَلَامٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أَيْ وَهُوَ أَيْضًا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ. قَالَ: وَالْعَرَبُ تَضَعُ «إِلَّا» مَوْضِعَ «وَاوِ النَّسَقِ» كَثِيرًا عَلَى مَعْنَى الِابْتِدَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ [النَّمْلِ: 10] يَعْنِي وَمَنْ ظَلَمَ. وَقَوْلُهُ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا [الْبَقَرَةِ: 150] يَعْنِي وَالَّذِينَ ظَلَمُوا، وَهَذَا الْوَجْهُ فِي غَايَةِ التَّعَسُّفِ. وَأَجَابَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : بِوَجْهٍ رَابِعٍ فَقَالَ: الْإِشْكَالُ إِنَّمَا جَاءَ إِذَا عَطَفْنَا قَوْلَهُ: وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ عَلَى قَوْلِهِ: مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ إِمَّا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ أَوْ بِحَسَبِ الْمَحَلِّ، لَكِنَّا لَا نَقُولُ ذَلِكَ، بَلْ نَقُولُ: الْوَجْهُ فِي الْقِرَاءَةِ بِالنَّصْبِ فِي قَوْلِهِ: وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ الْحَمْلُ/ عَلَى نَفْيِ الْجِنْسِ وَفِي الْقِرَاءَةِ بِالرَّفْعِ الْحَمْلُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: فِي كِتابٍ مُبِينٍ وهذا الوجه اختيار الزجاج. [سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 64] أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) [في قوله تَعَالَى أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ] اعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ [يُونُسَ: 61] مِمَّا يُقَوِّي قُلُوبَ الْمُطِيعِينَ، وَمِمَّا يَكْسِرُ قُلُوبَ الْفَاسِقِينَ فَأَتْبَعَهُ اللَّه تَعَالَى بِشَرْحِ أَحْوَالِ الْمُخْلِصِينَ الصَّادِقِينَ الصِّدِّيقِينَ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّا نَحْتَاجُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ الْوَلِيَّ مَنْ هُوَ؟ ثُمَّ نُبَيِّنَ تَفْسِيرَ نَفْيِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُ فَنَقُولُ: أَمَّا إِنَّ الْوَحْيَ مَنْ هُوَ؟ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ وَالْأَثَرُ وَالْمَعْقُولُ. أَمَّا الْقُرْآنُ، فَهُوَ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ فَقَوْلُهُ: آمَنُوا إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ حَالِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَقَوْلُهُ: وَكانُوا يَتَّقُونَ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ حَالِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ. وَفِيهِ قيام آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ الْإِيمَانُ عَلَى مَجْمُوعِ الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ، ثُمَّ نَصِفَ الْوَلِيَّ بِأَنَّهُ كَانَ مُتَّقِيًا فِي الْكُلِّ. أَمَّا التَّقْوَى فِي مَوْقِفِ الْعِلْمِ فَلِأَنَّ جَلَالَ اللَّه أَعْلَى مِنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ عَقْلُ الْبَشَرِ، فَالصِّدِّيقُ إِذَا وَصَفَ اللَّه سُبْحَانَهُ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ، فَهُوَ يُقَدِّسُ اللَّه عَنْ أَنْ يَكُونَ كَمَالُهُ وَجَلَالُهُ مُقْتَصِرًا عَلَى ذَلِكَ الْمِقْدَارِ الَّذِي عَرَفَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ، وَإِذَا عَبَدَ اللَّه تَعَالَى فَهُوَ يُقَدِّسُ اللَّه تَعَالَى عَنْ أَنْ تَكُونَ الْخِدْمَةُ اللَّائِقَةُ بِكِبْرِيَائِهِ مُتَقَدِّرَةً بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ فَثَبَتَ أَنَّهُ أَبَدًا يَكُونُ فِي مَقَامِ الْخَوْفِ وَالتَّقْوَى. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَكَثِيرَةٌ رَوَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا فِي اللَّه عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بينهم ولا أموال يتعاطونها، فو اللَّه إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وَإِنَّهُمْ لَعَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ» ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «هُمُ الَّذِينَ يُذْكَرُ اللَّه تَعَالَى بِرُؤْيَتِهِمْ» قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: السَّبَبُ

فِيهِ أَنَّ مُشَاهَدَتَهُمْ تُذَكِّرُ أَمْرَ الْآخِرَةِ لِمَا يُشَاهَدُ فِيهِمْ مِنْ آيَاتِ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ، وَلِمَا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ/ أَثَرِ السُّجُودِ [الْفَتْحِ: 29] وَأَمَّا الْأَثَرُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: أَوْلِيَاءُ اللَّه هُمُ الَّذِينَ تَوَلَّى اللَّه تَعَالَى هِدَايَتَهُمْ بِالْبُرْهَانِ وَتَوَلَّوُا الْقِيَامَ بِحَقِّ عُبُودِيَّةِ اللَّه تَعَالَى وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَنَقُولُ: ظَهَرَ فِي عِلْمِ الِاشْتِقَاقِ أَنَّ تَرْكِيبَ الْوَاوِ وَاللَّامِ وَالْيَاءِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْقُرْبِ، فَوَلِيُّ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الَّذِي يَكُونُ قَرِيبًا مِنْهُ، وَالْقُرْبُ مِنَ اللَّه تَعَالَى بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ مُحَالٌ، فَالْقُرْبُ مِنْهُ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ الْقَلْبُ مُسْتَغْرِقًا فِي نُورِ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى سُبْحَانَهُ، فَإِنْ رَأَى رَأَى دَلَائِلَ قُدْرَةِ اللَّه، وَإِنْ سَمِعَ سَمِعَ آيَاتِ اللَّه وَإِنْ نَطَقَ نَطَقَ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّه، وإن تحرك تَحَرَّكَ تَحَرَّكَ فِي خِدْمَةِ اللَّه، وَإِنِ اجْتَهَدَ اجْتَهَدَ فِي طَاعَةِ اللَّه، فَهُنَالِكَ يَكُونُ فِي غَايَةِ الْقُرْبِ مِنَ اللَّه، فَهَذَا الشَّخْصُ يَكُونُ وَلِيًّا للَّه تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اللَّه تَعَالَى وَلِيًّا لَهُ أَيْضًا كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الْبَقَرَةِ: 257] وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْقُرْبَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنَ الْجَانِبَيْنِ. وَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: وَلِيُّ اللَّه مَنْ يَكُونُ آتِيًا بِالِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الدَّلِيلِ وَيَكُونُ آتِيًا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ عَلَى وَفْقِ مَا وَرَدَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ، فَهَذَا كَلَامٌ مُخْتَصَرٌ فِي تَفْسِيرِ الْوَلِيِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَتِهِمْ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخَوْفَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَخَافُ حُدُوثَ شَيْءٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْمَخُوفِ، وَالْحُزْنُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْمَاضِي إِمَّا لِأَجْلِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ حَصَلَ فِي الْمَاضِي مَا كَرِهَهُ أَوْ لِأَنَّهُ فَاتَ شَيْءٌ أَحَبَّهُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ نَفْيَ الْحُزْنِ وَالْخَوْفِ إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ لِلْأَوْلِيَاءِ حَالَ كَوْنِهِمْ فِي الدُّنْيَا أَوْ حَالَ انْتِقَالِهِمْ إِلَى الْآخِرَةِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا لَا يَحْصُلُ فِي دَارِ الدُّنْيَا لِأَنَّهَا دَارُ خَوْفٍ وَحُزْنٍ وَالْمُؤْمِنُ خُصُوصًا لَا يَخْلُو مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» وَعَلَى مَا قَالَ: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُؤْمِنَ، وَإِنْ صَفَا عَيْشُهُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ هَمٍّ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ شَدِيدٍ، وَحُزْنٍ عَلَى مَا يَفُوتُهُ مِنَ الْقِيَامِ بِطَاعَةِ اللَّه تَعَالَى، وَإِذَا بَطُلَ هَذَا الْقِسْمُ وَجَبَ حَمْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ، فَهَذَا كَلَامٌ مُحَقَّقٌ، وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّ الْوِلَايَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُرْبِ، فَوَلِيُّ اللَّه تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي غَايَةِ الْقُرْبِ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا التَّقْرِيرُ قَدْ فَسَّرْنَاهُ بِاسْتِغْرَاقِهِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى بِحَيْثُ لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ شَيْءٌ مِمَّا سِوَى اللَّه، فَفِي هَذِهِ السَّاعَةِ تَحْصُلُ الْوِلَايَةُ التَّامَّةُ، وَمَتَى كَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ حَاصِلَةً فَإِنَّ صَاحِبَهَا لَا يَخَافُ شَيْئًا، وَلَا يَحْزَنُ بِسَبَبِ شَيْءٍ، وَكَيْفَ يُعْقَلُ ذَلِكَ وَالْخَوْفُ مِنَ الشَّيْءِ وَالْحُزْنُ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ الشُّعُورِ بِهِ، وَالْمُسْتَغْرِقُ فِي نُورِ جَلَالِ اللَّه غَافِلٌ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَوْفٌ أَوْ حُزْنٌ؟ / وَهَذِهِ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ، وَمَنْ لَمْ يَذُقْهَا لَمْ يَعْرِفْهَا، ثُمَّ إِنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْحَالَةِ قَدْ تَزُولُ عَنْهُ الْحَالَةُ، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ لَهُ الْخَوْفُ وَالْحُزْنُ وَالرَّجَاءُ وَالرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ بِسَبَبِ الْأَحْوَالِ الْجُسْمَانِيَّةِ، كَمَا يَحْصُلُ لِغَيْرِهِ، وَسَمِعْتُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصَ كَانَ بِالْبَادِيَةِ وَمَعَهُ وَاحِدٌ يَصْحَبُهُ، فَاتَّفَقَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي ظُهُورُ حَالَةٍ قَوِيَّةٍ وَكَشْفٍ تَامٍّ لَهُ، فَجَلَسَ فِي موضعه وجاءت السباع وو قفوا بِالْقُرْبِ مِنْهُ، وَالْمُرِيدُ تَسَلَّقَ عَلَى رَأْسِ شَجَرَةِ خَوْفًا مِنْهَا وَالشَّيْخُ مَا كَانَ فَازِعًا مِنْ تِلْكَ السِّبَاعِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَزَالَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ فَفِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ وَقَعَتْ بَعُوضَةٌ عَلَى يَدِهِ فَأَظْهَرَ الْجَزَعَ مِنْ تِلْكَ

الْبَعُوضَةِ، فَقَالَ الْمُرِيدُ: كَيْفَ تَلِيقُ هَذِهِ الْحَالَةُ بِمَا قَبْلَهَا؟ فَقَالَ الشَّيْخُ: إِنَّا إِنَّمَا تَحَمَّلْنَا الْبَارِحَةَ مَا تَحَمَّلْنَاهُ بِسَبَبِ قُوَّةِ الْوَارِدِ الْغَيْبِيِّ، فَلَمَّا غَابَ ذَلِكَ الْوَارِدُ فَأَنَا أَضْعَفُ خَلْقِ اللَّه تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ أَهْلَ الثَّوَابِ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ خَوْفٌ فِي مَحْفِلِ الْقِيَامَةِ وَاحْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [الْأَنْبِيَاءِ: 103] وَأَيْضًا فَالْقِيَامَةُ دَارُ الْجَزَاءِ فَلَا يَلِيقُ بِهِ إِيصَالُ الْخَوْفِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ يَحْصُلُ فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْخَوْفِ، وَذَكَرُوا فِيهِ أَخْبَارًا تَدُلُّ عَلَيْهِ إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ أَوْلَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: النَّصْبُ بِكَوْنِهِ صِفَةً لِلْأَوْلِيَاءِ. وَالثَّانِي: النَّصْبُ عَلَى الْمَدْحِ. وَالثَّالِثُ: الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ لَهُمُ الْبُشْرَى. وأما قوله تعالى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ فَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ قَالَ: «الْبُشْرَى هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ» وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ذَهَبَتِ النُّبُوَّةُ وَبَقِيَتِ الْمُبَشِّرَاتُ» وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّه، وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلْمًا يَخَافُهُ فَلْيَتَعَوَّذْ مِنْهُ وَلْيَبْصُقْ عَنْ شِمَالِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ» وَعَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرُّؤْيَا الصالحة جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» وعن ابن مسعود، والرؤيا ثَلَاثَةٌ: الْهَمُّ يُهَمُّ بِهِ الرَّجُلُ مِنَ النَّهَارِ فَيَرَاهُ فِي اللَّيْلِ، وَحُضُورُ الشَّيْطَانِ، وَالرُّؤْيَا الَّتِي هِيَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ. وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ الرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ، فَالْمُبَشِّرَةُ مِنَ اللَّه جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ وَالشَّيْءُ يُهَمُّ بِهِ أَحَدُكُمْ بِالنَّهَارِ فَلَعَلَّهُ يَرَاهُ بِاللَّيْلِ وَالتَّخْوِيفُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحْزِنُهُ فَلْيَقُلْ أَعُوذُ بِمَا عَاذَتْ بِهِ مَلَائِكَةُ اللَّه مِنْ شَرِّ رُؤْيَايَ الَّتِي رَأَيْتُهَا أَنْ تَضُرَّنِي فِي دُنْيَايَ أَوْ فِي آخِرَتِي. وَاعْلَمْ أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ: هُمُ الْبُشْرى عَلَى الرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ فَظَاهِرُ هَذَا النَّصِّ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَحْصُلَ هَذِهِ الْحَالَةُ إِلَّا لَهُمْ وَالْعَقْلُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وَلِيَّ اللَّه هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُسْتَغْرِقَ الْقَلْبِ/ وَالرُّوحِ بِذِكْرِ اللَّه، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ عِنْدَ النَّوْمِ لَا يَبْقَى فِي رُوحِهِ إِلَّا مَعْرِفَةُ اللَّه، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّه وَنُورَ جَلَالِ اللَّه لَا يُفِيدُهُ إِلَّا الْحَقُّ وَالصِّدْقُ، وَأَمَّا مَنْ يَكُونُ مُتَوَزِّعَ الْفِكْرِ عَلَى أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ الْكَدِرِ الْمُظْلِمِ، فَإِنَّهُ إِذَا نَامَ يَبْقَى كَذَلِكَ، فَلَا جَرَمَ لَا اعْتِمَادَ على رؤياه، فلهذا السبب قال: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ وَالتَّخْصِيصِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْبُشْرَى، أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ مَحَبَّةِ النَّاسِ لَهُ وَعَنْ ذِكْرِهِمْ إِيَّاهُ بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ للَّه وَيُحِبُّهُ النَّاسُ فَقَالَ: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَبَاحِثَ الْعَقْلِيَّةَ تُقَوِّي هَذَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَمَالَ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَكُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، صَارَ مَحْبُوبًا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا كَمَالَ لِلْعَبْدِ أَعْلَى وَأَشْرَفَ مِنْ كَوْنِهِ مُسْتَغْرِقَ الْقَلْبِ بِمَعْرِفَةِ اللَّه، مُسْتَغْرِقَ اللِّسَانِ بِذِكْرِ اللَّه، مُسْتَغْرِقَ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ بِعُبُودِيَّةِ اللَّه، فَإِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ أَمْرٌ مِنْ هَذَا الْبَابِ، صَارَتِ الْأَلْسِنَةُ جَارِيَةً بِمَدْحِهِ، وَالْقُلُوبُ مَجْبُولَةً عَلَى حُبِّهِ، وَكُلَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ الشَّرِيفَةُ أَكْثَرَ، كَانَتْ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ أَقْوَى، وَأَيْضًا فَنُورُ مَعْرِفَةِ اللَّه مَخْدُومٌ بِالذَّاتِ، فَفِي أَيِّ قَلْبٍ حَضَرَ صَارَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ مَخْدُومًا بِالطَّبْعِ أَلَا

[سورة يونس (10) : الآيات 65 إلى 66]

تَرَى أَنَّ الْبَهَائِمَ وَالسِّبَاعَ قَدْ تَكُونُ أَقْوَى مِنَ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ إِنَّهَا إِذَا شَاهَدَتِ الْإِنْسَانَ هَابَتْهُ وَفَرَّتْ مِنْهُ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَهَابَةِ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ الْبُشْرَى أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ حُصُولِ الْبُشْرَى لَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ قَالَ تَعَالَى: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ [فُصِّلَتْ: 30] وَأَمَّا الْبُشْرَى فِي الْآخِرَةِ فَسَلَامُ. الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرَّعْدِ: 23، 24] وَسَلَامُ اللَّه عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا الْبَابِ مَا ذَكَرَهُ اللَّه فِي هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ مِنْ بَيَاضِ وُجُوهِهِمْ وَإِعْطَاءِ الصَّحَائِفِ بِأَيْمَانِهِمْ وَمَا يَلْقُونَ فِيهَا مِنَ الْأَحْوَالِ السَّارَّةِ فَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْمُبَشِّرَاتِ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَمَّا بَشَّرَ اللَّه عِبَادَهُ الْمُتَّقِينَ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ مِنْ جَنَّتِهِ وَكِرِيمِ ثَوَابِهِ وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ [التَّوْبَةِ: 21] . وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْبِشَارَةِ مُشْتَقٌّ مِنْ خَبَرٍ سَارٍّ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي بَشَرَةِ الْوَجْهِ، فَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَجْمُوعُ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ مُشْتَرِكَةٌ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ، فَيَكُونُ الْكُلُّ دَاخِلًا فِيهِ فَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ بِالدُّنْيَا فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتِ قَوْلِهِ: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بالآخرة فهو داخل تحت قوله: فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ صِفَةَ أولياء اللَّه وشرح أحوالهم/ قال تعالى: تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا خُلْفَ فِيهَا، وَالْكَلِمَةُ وَالْقَوْلُ سَوَاءٌ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: 29] وَهَذَا أَحَدُ مَا يُقَوِّي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبُشْرَى وَعْدُ اللَّه بِالثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ لِمَنْ أَطَاعَهُ بِقَوْلِهِ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ ثم بين تعالى أن: لِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً [الْإِنْسَانِ: 20] ثم قال القاضي: قوله: تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا قَابِلَةٌ لِلتَّبْدِيلِ، وَكُلُّ مَا قَبِلَ الْعَدَمَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا وَنَظِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِحُصُولِ النَّسْخِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ اللَّه تَعَالَى لَا يَكُونُ قَدِيمًا وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الوجوه. [سورة يونس (10) : الآيات 65 الى 66] وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) [في قوله تعالى وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ] اعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا أَوْرَدُوا أَنْوَاعَ الشُّبُهَاتِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَأَجَابَ اللَّه عَنْهَا بِالْأَجْوِبَةِ الَّتِي فَسَّرْنَاهَا وَقَرَّرْنَاهَا، عَدَلُوا إِلَى طَرِيقٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ هَدَّدُوهُ وَخَوَّفُوهُ وَزَعَمُوا أَنَّا أَصْحَابُ التَّبَعِ وَالْمَالِ، فَنَسْعَى فِي قَهْرِكَ وَفِي إِبْطَالِ أَمْرِكَ، واللَّه سُبْحَانَهُ أَجَابَ عَنْ هَذَا الطَّرِيقِ بِقَوْلِهِ: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَحْزَنُ مِنْ وَعِيدِ الْغَيْرِ وَتَهْدِيدِهِ وَمَكْرِهِ وَكَيْدِهِ، لَوْ جَوَّزَ كَوْنُهُ مُؤَثِّرًا فِي حَالِهِ، فَإِذَا عَلِمَ مِنْ جِهَةِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ، خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِحُزْنِهِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَمَا أَزَالَ عَنِ الرَّسُولِ حُزْنَ الْآخِرَةِ بِسَبَبِ قَوْلِهِ: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يُونُسَ: 62] فَكَذَلِكَ أَزَالَ حُزْنَ

الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً فَإِذَا كَانَ اللَّه تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَى الْخَلْقِ وَهُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى هَذَا الدِّينِ كَانَ لَا مَحَالَةَ نَاصِرًا لَهُ وَمُعِينًا، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْعِزَّةَ وَالْقَهْرَ وَالْغَلَبَةَ لَيْسَتْ إِلَّا لَهُ، فَقَدْ حَصَلَ الْأَمْنُ وَزَالَ الْخَوْفُ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ آمَنُهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَزَلْ خَائِفًا حَتَّى احْتَاجَ إِلَى الْهِجْرَةِ وَالْهَرَبِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ يَخَافُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ؟ قُلْنَا: إِنَّ اللَّه تَعَالَى وَعَدَهُ الظَّفَرَ وَالنُّصْرَةَ مُطْلَقًا وَالْوَقْتُ مَا كَانَ مُعَيَّنًا، فَهُوَ فِي كُلِّ وَقْتٍ كَانَ يَخَافُ مِنْ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ ذَلِكَ الْوَقْتَ، فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الِانْكِسَارُ وَالِانْهِزَامُ فِي هَذَا الْوَقْتِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّ الْعِزَّةَ بِالْأَلِفِ الْمَكْسُورَةِ وَفِي فَتْحِهَا فَسَادٌ يُقَارِبُ الْكُفْرَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُحْزِنُهُ ذَلِكَ. أَمَّا إِذَا كَسَرْتَ الْأَلِفَ كَانَ ذَلِكَ اسْتِئْنَافًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ عِلْمِ الْإِعْرَابِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ أَنَّ الْعِزَّةَ بِالْفَتْحِ عَلَى حَذْفِ لَامِ الْعِلَّةِ يَعْنِي: لِأَنَّ الْعِزَّةَ عَلَى صَرِيحِ التَّعْلِيلِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: فَائِدَةُ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أُمُورٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ جَمِيعَ الْعِزَّةِ وَالْقُدْرَةِ هِيَ للَّه تَعَالَى يُعْطِي مَا يَشَاءُ لِعِبَادِهِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُعْطِي الْكُفَّارَ قُدْرَةً عَلَيْهِ، بَلْ يُعْطِيهِ الْقُدْرَةَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَكُونَ هُوَ بِذَلِكَ أَعَزَّ مِنْهُمْ، فَآمَنَهُ اللَّه تَعَالَى بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ إِضْرَارِ الْكُفَّارِ بِهِ بِالْقَتْلِ وَالْإِيذَاءِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [الْمُجَادَلَةِ: 21] إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غَافِرٍ: 51] الثَّانِي: قَالَ الْأَصَمُّ: الْمُرَادُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَتَعَزَّزُونَ بِكَثْرَةِ خَدَمِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَيُخَوِّفُونَكَ بِهَا وَتِلْكَ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا للَّه تَعَالَى فَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَسْلُبَ مِنْهُمْ كُلَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَأَنْ يَنْصُرَكَ وَيَنْقُلَ أَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمْ إِلَيْكَ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً كَالْمُضَادَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [الْمُنَافِقُونَ: 8] . قُلْنَا: لَا مُضَادَّةَ، لِأَنَّ عِزَّةَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ كُلَّهَا باللَّه فَهِيَ للَّه. أَمَّا قَوْلُهُ: هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَيْ يَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ وَيَعْلَمُ مَا يَعْزِمُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُكَافِئُهُمْ بِذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [يونس: 55] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَعْقِلُ فَهُوَ مُلْكٌ للَّه تَعَالَى وَمِلْكٌ لَهُ، وأما هاهنا فَكَلِمَةُ (مَنْ) مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ يَعْقِلُ، فَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ الْعُقَلَاءِ دَاخِلُونَ تَحْتَ مُلْكِ اللَّه وَمِلْكِهِ فَيَكُونُ مَجْمُوعُ الْآيَتَيْنِ دَالًّا عَلَى أَنَّ الْكُلَّ مُلْكُهُ وَمِلْكُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ فِي السَّماواتِ الْعُقَلَاءُ الْمُمَيِّزُونَ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالثَّقَلَانِ وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ/ هَؤُلَاءِ إِذَا كَانُوا لَهُ وَفِي مُلْكِهِ فَالْجَمَادَاتُ أَوْلَى بِهَذِهِ الْعُبُودِيَّةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ قَدْحًا فِي جَعْلِ الْأَصْنَامِ شُرَكَاءَ للَّه تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَفِي كَلِمَةِ (مَا) قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نَفْيٌ وَجَحْدٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مَا اتَّبَعُوا شَرِيكَ اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا اتَّبَعُوا شَيْئًا ظَنُّوهُ شَرِيكًا للَّه تَعَالَى. وَمِثَالُهُ أَنَّ أَحَدَنَا لَوْ ظَنَّ أَنَّ زَيْدًا فِي الدَّارِ وَمَا كَانَ فِيهَا، فَخَاطَبَ إِنْسَانًا فِي الدَّارِ ظَنَّهُ زَيْدًا فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: إِنَّهُ خاطب زيدا

[سورة يونس (10) : آية 67]

بَلْ يُقَالُ خَاطَبَ مَنْ ظَنَّهُ زَيْدًا. الثَّانِي: أَنَّ (مَا) اسْتِفْهَامٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُّ شَيْءٍ يتبع الذين يدعون من دون اللَّه شركاء، وَالْمَقْصُودُ تَقْبِيحُ فِعْلِهِمْ يَعْنِي أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا اتَّبَعُوا ظُنُونَهُمُ الْبَاطِلَةَ وَأَوْهَامَهُمُ الْفَاسِدَةَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الظَّنَّ لَا حُكْمَ لَهُ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ وَذَكَرْنَا مَعْنَى الْخَرْصِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الأنعام: 116] . [سورة يونس (10) : آية 67] هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [يونس: 65] احْتَجَّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ اللَّيْلَ لِيَزُولَ التَّعَبُ وَالْكَلَالُ بِالسُّكُونِ فِيهِ، وَجَعَلَ النَّهَارَ مُبْصِرًا أَيْ مُضِيئًا لِتَهْتَدُوا بِهِ فِي حَوَائِجِكُمْ بِالْإِبْصَارِ، وَالْمُبْصِرُ الَّذِي يُبْصِرُ، وَالنَّهَارُ يُبْصَرُ فِيهِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مُبْصِرًا عَلَى طَرِيقِ نَقْلِ الِاسْمِ مِنَ السَّبَبِ إِلَى الْمُسَبِّبِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا خَلَقَهُ إِلَّا لِهَذَا الْوَجْهِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِتَخْلِيقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الدَّلَائِلِ. قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِتَسْكُنُوا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا حِكْمَةَ فِيهِ إِلَّا ذَلِكَ، بَلْ ذَلِكَ يَقْتَضِي حُصُولَ تِلْكَ الْحِكْمَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ فَالْمُرَادُ يَتَدَبَّرُونَ مَا يسمعون ويعتبرون به. [سورة يونس (10) : آية 68] قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْأَبَاطِيلِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّه تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ وَهِيَ قَوْلُهُمْ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حِكَايَةَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: الْأَوْثَانُ أَوْلَادُ اللَّه، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ فِيهِمْ قَوْمٌ مِنَ النَّصَارَى قَالُوا ذَلِكَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا اسْتَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ قَالَ بَعْدَهُ: هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى غَنِيًّا مالكا لكل ما في السموات وَالْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ مُطْلَقًا عَلَى مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْعَقْلُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُحْتَاجًا لَافْتَقَرَ إِلَى صَانِعٍ آخَرَ، وَهُوَ مُحَالٌ وَكُلُّ مَنْ كَانَ غَنِيًّا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فَرْدًا مُنَزَّهًا عَنِ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَالْوَلَدُ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ يَنْفَصِلَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ يَتَوَلَّدُ عَنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ مِثْلُهُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مُحَالًا ثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى غَنِيًّا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْوَلَدِ لَهُ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ وَكُلُّ مَنْ كَانَ غَنِيًّا كَانَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا بَاقِيًا سَرْمَدِيًّا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، امْتَنَعَ

عَلَيْهِ الِانْقِرَاضُ وَالِانْقِضَاءُ، وَالْوَلَدُ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِلشَّيْءِ الَّذِي يَنْقَضِي، وَيَنْقَرِضُ، فَيَكُونُ وَلَدُهُ قَائِمًا مَقَامَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى غَنِيًّا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ وَكُلُّ مَنْ كَانَ غَنِيًّا فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالشَّهْوَةِ وَاللَّذَّةِ وَإِذَا امْتَنَعَ ذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَاحِبَةٌ وَوَلَدٌ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ غَنِيًّا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، لِأَنَّ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي حَقِّ مَنْ يَكُونُ مُحْتَاجًا حَتَّى يُعِينَهُ وَلَدُهُ عَلَى الْمَصَالِحِ الْحَاصِلَةِ وَالْمُتَوَقَّعَةِ، فَمَنْ كَانَ غَنِيًّا مُطْلَقًا امْتَنَعَ عَلَيْهِ اتِّخَاذُ الْوَلَدِ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: وَلَدُ الْحَيَوَانِ إِنَّمَا يَكُونُ وَلَدًا لَهُ بِشَرْطَيْنِ: إِذَا كَانَ مُسَاوِيًا لَهُ فِي الطَّبِيعَةِ وَالْحَقِيقَةِ، وَيَكُونُ ابْتِدَاءُ وُجُودِهِ وَتَكَوُّنِهِ مِنْهُ، وَهَذَا فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ مُطْلَقًا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ غَنِيًّا مُطْلَقًا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، فَلَوْ كَانَ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ وَلَدٌ، لَكَانَ وَلَدُهُ مُسَاوِيًا لَهُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وَلَدُ وَاجِبِ الْوُجُودِ أَيْضًا وَاجِبَ الْوُجُودِ، لَكِنَّ كَوْنَهُ وَاجِبَ الْوُجُودِ يَمْنَعُ مِنْ تَوَلُّدِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَوَلِّدًا مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ وَلَدًا، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى غَنِيًّا مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا وَلَدَ لَهُ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَعَ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ غَنِيًّا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَبٌ وَأُمٌّ، وَكُلُّ مَنْ تَقَدَّسَ عَنِ الْوَالِدَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّسًا عَنِ الْأَوْلَادِ. فَإِنْ قِيلَ: يُشْكِلُ هَذَا بِالْوَالِدِ الْأَوَّلِ؟ قُلْنَا: الْوَالِدُ الْأَوَّلُ لَا يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ وَلَدًا لِغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ الْوَالِدَ الْأَوَّلَ مِنْ أَبَوَيْنِ يَقْدُمَانِهِ أَمَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ يمتنع افتقاره إلى الأبوين، وَإِلَّا لَمَا كَانَ غَنِيًّا مُطْلَقًا. الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: إِنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ مُطْلَقًا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ غَنِيًّا مُطْلَقًا امْتَنَعَ أَنْ يَفْتَقِرَ فِي إِحْدَاثِ الْأَشْيَاءِ إِلَى غَيْرِهِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذَا الْوَلَدَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَوْ حَادِثًا، فَإِنْ كَانَ قَدِيمًا فَهُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ مُمْكِنَ الْوُجُودِ لَافْتَقَرَ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، وَافْتِقَارُ الْقَدِيمِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ يَقْتَضِي إِيجَادَ الْمَوْجُودِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ لَمْ يَكُنْ وَلَدًا لِغَيْرِهِ، بَلْ كَانَ مَوْجُودًا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ هَذَا الْوَلَدُ حَادِثًا وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ مُطْلَقًا فَكَانَ قَادِرًا عَلَى إِحْدَاثِهِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَشْرِيكِ شَيْءٍ آخَرَ، فَكَانَ هَذَا عَبْدًا مُطْلَقًا، وَلَمْ يَكُنْ وَلَدًا، فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْوُجُوهِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ الْغَنِيُّ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ نَظِيرُ قَوْلِهِ: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مَرْيَمَ: 93] وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ مَا سِوَى الْوَاحِدِ الْأَحَدِ الْحَقِّ مُمْكِنٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ مُحْتَاجٌ، وَكُلُّ مُحْتَاجٍ مُحْدَثٌ، فَكُلُّ مَا سِوَى الْوَاحِدِ الْأَحَدِ الْحَقِّ مُحْدَثٌ، واللَّه تَعَالَى مُحْدِثُهُ وَخَالِقُهُ وَمُوجِدُهُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ، وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى بِالدَّلِيلِ الْوَاضِحِ امْتِنَاعَ مَا أَضَافُوا إِلَيْهِ، عَطَفَ عَلَيْهِمْ بِالْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ فَقَالَ: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا مُنَبِّهًا بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ ثُمَّ بَالَغَ فِي ذَلِكَ الْإِنْكَارِ فَقَالَ: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَقَدْ/ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ يُحْتَجُّ بها في

[سورة يونس (10) : الآيات 69 إلى 70]

إِبْطَالِ التَّقْلِيدِ فِي أُصُولِ الدِّيَانَاتِ وَنُفَاةُ الْقِيَاسِ وَأَخْبَارِ الْآحَادِ قَدْ يَحْتَجُّونَ بِهَا فِي إِبْطَالِ هذين الأصلين وقد سبق الكلام فيه. [سورة يونس (10) : الآيات 69 الى 70] قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بِالدَّلِيلِ الْقَاهِرِ أَنَّ إِثْبَاتَ الْوَلَدِ للَّه تَعَالَى قَوْلٌ بَاطِلٌ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ لِهَذَا الْقَائِلِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَذْهَبَ افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّه وَنَسَبُهُ لِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ إِلَيْهِ، فَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ هَذَا حَالُهُ فَإِنَّهُ لَا يُفْلِحُ أَلْبَتَّةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 1] وَقَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 117] . وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ يَدْخُلُ فِيهِ هَذِهِ الصُّورَةُ وَلَكِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الصُّورَةِ بَلْ كُلُّ مَنْ قَالَ فِي ذَاتِ اللَّه تَعَالَى وَفِي صِفَاتِهِ قَوْلًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَبِغَيْرِ حُجَّةٍ بَيِّنَةٍ كَانَ دَاخِلًا فِي هَذَا الْوَعِيدِ، ومعنى قوله: لا يُفْلِحُونَ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 5] وَبِالْجُمْلَةِ فَالْفَلَاحُ عِبَارَةٌ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَقْصُودِ وَالْمَطْلُوبِ، فَمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُفْلِحُ هُوَ أَنَّهُ لَا يَنْجَحُ فِي سَعْيِهِ وَلَا يَفُوزُ بِمَطْلُوبِهِ بَلْ خَابَ وَخَسِرَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ إِذَا فَازَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَطَالِبِ الْعَاجِلَةِ وَالْمَقَاصِدِ الْخَسِيسَةِ، ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ فَازَ بِالْمَقْصِدِ الْأَقْصَى، واللَّه سُبْحَانَهُ أَزَالَ هَذَا الْخَيَالَ بِأَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ الْمَقْصُودَ الْخَسِيسَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنَ الْمَوْتِ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ لَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّه وَعِنْدَ هَذَا الرُّجُوعِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُذِيقَهُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْكُفْرِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةِ الِانْتِظَامِ وَنِهَايَةِ الْحُسْنِ وَالْجَزَالَةِ. واللَّه أعلم. [سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 72] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) [قَوْلُهُ تَعَالَى وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إلى قوله وَلا تُنْظِرُونِ] [المسألة الأولى] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَالَغَ فِي تَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَفِي الْجَوَابِ عَنِ الشُّبَهِ وَالسُّؤَالَاتِ، شَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيَانِ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْكَلَامَ إِذَا أَطَالَ فِي تَقْرِيرِ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ، فَرُبَّمَا حَصَلَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَلَالَةِ فَإِذَا انْتَقَلَ الْإِنْسَانُ مِنْ ذَلِكَ الْفَنِّ مِنَ الْعِلْمِ إِلَى فَنٍّ آخَرَ، انْشَرَحَ صَدْرُهُ وَطَابَ قَلْبُهُ وَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ رَغْبَةً جَدِيدَةً وَقُوَّةً حَادِثَةً وَمَيْلًا قَوِيًّا. وَثَانِيهَا: لِيَكُونَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِأَصْحَابِهِ أُسْوَةٌ بِمَنْ سَلَفَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ الرَّسُولَ إِذَا سَمِعَ أَنَّ مُعَامَلَةَ هَؤُلَاءِ الكفار مع الكل الرُّسُلِ مَا كَانَتْ إِلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ خَفَّ ذَلِكَ عَلَى قَلْبِهِ، كَمَا يُقَالُ: الْمُصِيبَةُ إِذَا عَمَّتْ خَفَّتْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا سَمِعُوا هَذِهِ الْقَصَصَ، وَعَلِمُوا أَنَّ الْجُهَّالَ، وَإِنْ بَالَغُوا فِي إِيذَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ إِلَّا أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَعَانَهُمْ بِالْآخِرَةِ وَنَصَرَهُمْ وَأَيَّدَهُمْ وَقَهَرَ أَعْدَاءَهُمْ، كَانَ سَمَاعُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ لِأَمْثَالِ هَذِهِ الْقَصَصِ سَبَبًا لِانْكِسَارِ قُلُوبِهِمْ، وَوُقُوعِ الْخَوْفِ وَالْوَجَلِ فِي صُدُورِهِمْ، وَحِينَئِذٍ يُقَلِّلُونَ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِيذَاءِ وَالسَّفَاهَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ محمدا عليه

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا لَمْ يَتَعَلَّمْ عِلْمًا، وَلَمْ يُطَالِعْ كِتَابًا ثُمَّ ذَكَرَ هَذِهِ الْأَقَاصِيصَ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ، وَمِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَمِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا عَرَفَهَا بِالْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ثَلَاثَةً. فَالْقِصَّةُ الْأُولَى: قِصَّةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِيهَا وَجْهَانِ مِنَ الْفَائِدَةِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ وَالْجَحْدِ عَجَّلَ اللَّه هَلَاكَهُمْ بِالْغَرَقِ فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى قِصَّتَهُمْ لِتَصِيرَ تِلْكَ الْقِصَّةُ عِبْرَةً لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، وَدَاعِيَةً إِلَى مُفَارَقَةِ الْجَحْدِ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ الْعَذَابَ الَّذِي يَذْكُرُهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ/ السَّلَامُ لَهُمْ وَكَانُوا يَقُولُونَ لَهُ كَذَبْتَ، فَإِنَّهُ مَا جَاءَنَا هَذَا الْعَذَابُ، فاللَّه تَعَالَى ذَكَرَ لَهُمْ قِصَّةَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُخَوِّفُهُمْ بِهَذَا الْعَذَابِ وَكَانُوا يُكَذِّبُونَهُ فِيهِ، ثم بالآخرة وقع كما أخبر فكذا هاهنا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِقَوْمِهِ: إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ وَهَذَا جُمْلَةٌ مِنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، أَمَّا الشَّرْطُ فَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ قَيْدَيْنِ: الْقَيْدُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي قَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» : يُقَالُ كَبِرَ يَكْبَرُ كِبَرًا فِي السِّنِّ، وَكَبُرَ الْأَمْرُ وَالشَّيْءُ إِذَا عَظُمَ يَكْبُرُ كِبَرًا وَكَبَارَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثَقُلَ عَلَيْكُمْ وَشَقَّ عَلَيْكُمْ وَعَظُمَ أَمْرُهُ عِنْدَكُمْ وَالْمَقَامُ بِفَتْحِ الْمِيمِ مَصْدَرٌ كَالْإِقَامَةِ. يُقَالُ: أَقَامَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مَقَامًا وَإِقَامَةً، وَالْمُقَامُ بِضَمِّ الْمِيمِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُقَامُ فِيهِ، وأراد بالمقام هاهنا مُكْثَهُ وَلُبْثَهُ فِيهِمْ وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي جَارٍ مَجْرَى قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ ثَقِيلُ الظِّلِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ سَبَبَ هَذَا الثِّقَلِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَكَثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا. وَالثَّانِي: أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ كَانُوا قَدْ أَلِفُوا تِلْكَ الْمَذَاهِبَ الْفَاسِدَةَ وَالطَّرَائِقَ الْبَاطِلَةَ وَالْغَالِبُ أَنَّ مَنْ أَلِفَ طَرِيقَةً فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ أَنْ يُدْعَى إِلَى خِلَافِهَا، وَيُذْكَرَ لَهُ رَكَاكَتُهَا، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِذَلِكَ طُولُ مُدَّةِ الدُّعَاءِ كَانَ أَثْقَلَ وَأَشَدَّ كَرَاهِيَةً، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ إِيرَادُ الدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ عَلَى فساد تلك الْمَذْهَبِ كَانَتِ النَّفْرَةُ أَشَدَّ فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي حُصُولِ ذَلِكَ الثِّقَلِ. وَالْقَيْدُ الثَّانِي: هُوَ قَوْلُهُ: وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الطِّبَاعَ المشغولة بِالدُّنْيَا الْحَرِيصَةَ عَلَى طَلَبِ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ تَكُونُ شَدِيدَةَ النَّفْرَةِ عَنِ الْأَمْرِ بِالطَّاعَاتِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ، قَوِيَّةَ الْكَرَاهَةِ لِسَمَاعِ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَتَقْبِيحِ صُورَةِ الدُّنْيَا وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَسْتَثْقِلُ الْإِنْسَانَ الَّذِي يَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا وَعَظُوا الْجَمَاعَةَ قَامُوا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يَعِظُونَهُمْ لِيَكُونَ مَكَانُهُمْ ظَاهِرًا وَكَلَامُهُمْ مَسْمُوعًا، كَمَا يُحْكَى عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَعِظُ الْحَوَارِيِّينَ قَائِمًا وَهُمْ قُعُودٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَمَّا الْجَزَاءُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْجَزَاءَ هُوَ قَوْلُهُ: فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ يَعْنِي أَنَّ شِدَّةَ بُغْضِكُمْ لِي تَحْمِلُكُمْ عَلَى الْإِقْدَامِ

عَلَى إِيذَائِي وَأَنَا لَا أُقَابِلُ ذَلِكَ الشَّرَّ إِلَّا بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّه. وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَبَدًا مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا اللَّفْظُ يُوهِمُ أَنَّهُ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّه فِي هَذِهِ السَّاعَةِ، لَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ إِنَّمَا تَوَكَّلَ عَلَى اللَّه فِي دَفْعِ هَذَا الشَّرِّ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ إِنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ هُوَ قَوْلُهُ: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ وَقَوْلُهُ: فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ كَلَامٌ اعْتُرِضَ بِهِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ كَمَا تَقُولُ فِي الْكَلَامِ إِنْ كُنْتَ أَنْكَرْتَ عَلَيَّ شَيْئًا فاللَّه حَسْبِي فَاعْمَلْ مَا تُرِيدُ وَاعْلَمْ أَنَّ جَوَابَ هَذَا الشَّرْطِ مُشْتَمِلٌ عَلَى قُيُودٍ خَمْسَةٍ عَلَى التَّرْتِيبِ. الْقَيْدُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْإِجْمَاعُ الْإِعْدَادُ وَالْعَزِيمَةُ عَلَى الْأَمْرِ وَأَنْشَدَ: يَا لَيْتَ شِعْرِي وَالْمُنَى لَا يَنْفَعُ ... هَلْ أَغْدُوَنْ يَوْمًا وَأَمْرِي مُجْمَعُ فَإِذَا أَرَدْتَ جَمْعَ التَّفَرُّقِ قُلْتَ: جَمَعْتُ الْقَوْمَ فَهُمْ مَجْمُوعُونَ، وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: أَجْمَعَ أَمْرَهُ، أَيْ جَعَلَهَ جَمِيعًا بَعْدَ مَا كَانَ مُتَفَرِّقًا، قَالَ: وَتَفَرَّقَهُ، أَيْ جَعَلَ يَتَدَبَّرُهُ فَيَقُولُ: مَرَّةً أَفْعَلُ كَذَا وَمَرَّةً أَفْعَلُ كَذَا فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ فَقَدْ جَمَعَهُ، أَيْ جَعَلَهُ جَمِيعًا فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْإِجْمَاعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ [يُوسُفَ: 102] ثُمَّ صَارَ بِمَعْنَى الْعَزْمِ حَتَّى وُصِلَ بِعَلَى فَقِيلَ: أَجْمَعْتُ عَلَى الْأَمْرِ، أَيْ عَزَمْتُ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ أَجْمَعْتُ الْأَمْرَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: رَوَى الْأَصْمَعِيُّ عَنْ نَافِعٍ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ بِوَصْلِ الْأَلِفِ مِنَ الْجَمْعِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: فَاجْمَعُوا ذَوِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَحُذِفَ الْمُضَافُ، وَجَرَى عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَا كَانَ يَجْرِي عَلَى الْمُضَافِ لَوْ ثَبَتَ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمُرَادُ مِنَ الأمر هاهنا وُجُوهُ كَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ، فَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَدَعُوا مِنْ أَمْرِكُمْ شَيْئًا إِلَّا أَحْضَرْتُمُوهُ. وَالْقَيْدُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَشُرَكاءَكُمْ وفيه أبحاث: البحث الأول: الواو هاهنا بِمَعْنَى مَعَ، وَالْمَعْنَى: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ مَعَ شُرَكَائِكُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ لَوْ تُرِكَتِ النَّاقَةُ وَفَصِيلَهَا لَرَضَعَهَا، وَلَوْ خَلَّيْتَ نَفْسَكَ وَالْأَسَدَ لَأَكَلَكَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الشُّرَكَاءِ الْأَوْثَانَ الَّتِي سَمَّوْهَا بِالْآلِهَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ قَوْلِهِمْ وَدِينِهِمْ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْأَوَّلُ فَإِنَّمَا حَثَّ الْكُفَّارَ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالْأَوْثَانِ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِمْ مِنْ أَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الثَّانِيَ فَوَجْهُ الِاسْتِعَانَةِ بِهَا ظَاهِرٌ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَرَأَ الْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ وَشُرَكَاؤُكُمْ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ/ الْمَرْفُوعِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَجْمِعُوا أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَجَازَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَأْكِيدِ الضَّمِيرِ كَقَوْلِهِ: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [الْبَقَرَةِ: 35] لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَمْرَكُمْ فَصْلٌ بَيْنَ الضَّمِيرِ وَبَيْنَ الْمَنْسُوقِ، فَكَانَ كَالْعِوَضِ مِنَ التَّوْكِيدِ وَكَانَ الْفَرَّاءُ يَسْتَقْبِحُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، لِأَنَّهَا تُوجِبُ أَنْ يُكْتَبَ وَشُرَكَاؤُكُمْ بِالْوَاوِ وَهَذَا الْحَرْفُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْمَصَاحِفِ. الْقَيْدُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: أَيْ مُبْهَمًا مِنْ قَوْلِهِمْ غُمَّ عَلَيْنَا الْهِلَالُ فَهُوَ مَغْمُومٌ إِذَا الْتَبَسَ قَالَ طَرَفَةُ:

لَعَمْرِيَ مَا أَمْرِي عَلَيَّ بِغُمَّةٍ ... نَهَارِي وَلَا لَيْلِي عَلَيَّ بِسَرْمَدِ وَقَالَ اللَّيْثُ: إِنَّهُ لَفِي غُمَّةٍ مِنْ أَمْرِهِ إِذَا لَمْ يَهْتَدِ لَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ لِيَكُنْ أَمْرُكُمْ ظَاهِرًا مُنْكَشِفًا. الْقَيْدُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ مَعْنَاهُ ثُمَّ امْضُوا إِلَيَّ بِمَكْرُوهِكُمْ وَمَا تُوعِدُونَنِي بِهِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: قَضَى فُلَانٌ، يُرِيدُونَ مَاتَ وَمَضَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَضَاءُ الشَّيْءِ إِحْكَامُهُ وَإِمْضَاؤُهُ وَالْفَرَاغُ مِنْهُ وَبِهِ يُسَمَّى الْقَاضِي، لِأَنَّهُ إِذَا حَكَمَ فَقَدْ فَرَغَ فَقَوْلُهُ: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ أَيِ افْرُغُوا مِنْ أَمْرِكُمْ وَامْضُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ وَاقْطَعُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ [الْإِسْرَاءِ: 4] أَيْ أَعْلَمْنَاهُمْ إِعْلَامًا قَاطِعًا، قَالَ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ [الْحِجْرِ: 66] قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَمَجَازُ دُخُولِ كَلِمَةِ (إِلَى) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ قَوْلِهِمْ بَرِئْتُ إِلَيْكَ وَخَرَجْتُ إِلَيْكَ مِنَ الْعَهْدِ، وَفِيهِ مَعْنَى الْإِخْبَارِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ثُمَّ اقْضُوا مَا يَسْتَقِرُّ رَأْيُكُمْ عَلَيْهِ مُحْكَمًا مَفْرُوغًا مِنْهُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قُرِئَ (ثم اقضوا إِلَيَّ) بِالْفَاءِ بِمَعْنَى ثُمَّ انْتَهُوا إِلَى بِشَرِّكُمْ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ أَفْضَى الرَّجُلُ إِذَا خَرَجَ إِلَى الْفَضَاءِ، أَيْ أَصْحِرُوا بِهِ إِلَيَّ وَأَبْرِزُوهُ إِلَيَّ. الْقَيْدُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: وَلا تُنْظِرُونِ مَعْنَاهُ لَا تُمْهِلُونِ بَعْدَ إِعْلَامِكُمْ إِيَّايَ مَا اتَّفَقْتُمْ عَلَيْهِ فَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَقَدْ نَظَمَ الْقَاضِي هَذَا الْكَلَامَ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ فَقَالَ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَعَلَى اللَّه تَوَكَّلْتُ فَإِنِّي وَاثِقٌ بِوَعْدِ اللَّه جَازِمٌ بِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَلَا تَظُنُّوا أَنَّ تَهْدِيدَكُمْ إِيَّايَ بِالْقَتْلِ وَالْإِيذَاءِ يَمْنَعُنِي مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّه تَعَالَى» ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَتِهِ فَقَالَ: «فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ» فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ أَجْمِعُوا كُلَّ مَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُوجِبُ حُصُولَ مَطْلُوبِكُمْ ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ بَلْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَضُمُّوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ شُرَكَائَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ حَالَهُمْ يقوى بمكانتهم وَبِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى هَذَيْنِ بَلْ ضَمَّ إِلَيْهِمَا ثَالِثًا وَهُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً وَأَرَادَ أَنْ يَبْلُغُوا فِيهِ كُلَّ غَايَةٍ فِي الْمُكَاشَفَةِ وَالْمُجَاهَرَةِ، ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى/ ضَمَّ إِلَيْهَا: رَابِعًا فَقَالَ: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَالْمُرَادُ أَنْ وَجِّهُوا كُلَّ تِلْكَ الشُّرُورِ إِلَيَّ، ثُمَّ ضَمَّ إِلَى ذَلِكَ خَامِسًا وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا تُنْظِرُونِ أَيْ عَجِّلُوا ذَلِكَ بِأَشَدِّ مَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِنْظَارٍ فَهَذَا آخِرُ هَذَا الْكَلَامِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَأَنَّهُ كَانَ قَاطِعًا بِأَنَّ كَيْدَهُمْ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ وَمَكْرَهُمْ لَا يَنْفُذُ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ مَالًا عَلَى دَعْوَتِهِمْ إِلَى دِينِ اللَّه تَعَالَى وَمَتَى كَانَ الْإِنْسَانُ فَارِغًا مِنَ الطَّمَعِ كَانَ قَوْلُهُ أَقْوَى تَأْثِيرًا فِي الْقَلْبِ. وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَخَافُ مِنْهُمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَوْفَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ إِمَّا بِإِيصَالِ الشَّرِّ أَوْ بِقَطْعِ الْمَنَافِعِ، فَبَيَّنَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَخَافُ شَرَّهُمْ وَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَخَافُ مِنْهُمْ بِسَبَبِ أَنْ يَقْطَعُوا عَنْهُ خَيْرًا، لِأَنَّهُ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ شَيْئًا فَكَانَ يَخَافُ أَنْ يَقْطَعُوا مِنْهُ خَيْرًا. ثُمَّ قَالَ: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّكُمْ سَوَاءٌ قَبِلْتُمْ دِينَ الْإِسْلَامِ أَوْ لَمْ تَقْبَلُوا، فَأَنَا مأمور بأن أكون على دين الإسلام. والثاني: أَنِّي مَأْمُورٌ بِالِاسْتِسْلَامِ لِكُلِّ مَا يَصِلُ إِلَيَّ لِأَجْلِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ وَهَذَا الْوَجْهُ أَلْيَقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ مَأْمُورٌ

[سورة يونس (10) : آية 73]

بِالِاسْتِسْلَامِ لِكُلِّ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الباب، واللَّه أعلم. [سورة يونس (10) : آية 73] فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى الْكَلِمَاتِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ نُوحٍ وَبَيْنَ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ، ذَكَرَ مَا إِلَيْهِ رَجَعَتْ عَاقِبَةُ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، أَمَّا فِي حَقِّ نُوحٍ وَأَصْحَابِهِ فَأَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى نَجَّاهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ. الثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَهُمْ خَلَائِفَ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يَخْلُفُونَ مَنْ هَلَكَ بِالْغَرَقِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَغْرَقَهُمْ وَأَهْلَكَهُمْ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ إِذَا سَمِعَهَا مَنْ صَدَّقَ الرَّسُولَ وَمَنْ كَذَّبَ بِهِ كَانَتْ زَجْرًا لِلْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَيْثُ يَخَافُونَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مِثْلُ مَا نَزَلْ بِقَوْمِ نُوحٍ وَتَكُونُ دَاعِيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ، لِيَصِلُوا إِلَى مِثْلِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ قَوْمُ نُوحٍ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّحْذِيرِ إِذَا جَرَتْ عَلَى/ سَبِيلِ الْحِكَايَةِ عَمَّنْ تَقَدَّمَ كَانَتْ أَبْلَغَ مِنَ الْوَعِيدِ الْمُبْتَدَأِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ ذَكَرَ تَعَالَى أَقَاصِيصَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَأَمَّا تَفَاصِيلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي سائر السور. [سورة يونس (10) : آية 74] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِ نُوحٍ رُسُلًا وَلَمْ يُسَمِّهِمْ، وَكَانَ مِنْهُمْ هُودٌ وَصَالِحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَلُوطٌ وَشُعَيْبٌ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ بِالْبَيِّنَاتِ، وَهِيَ الْمُعْجِزَاتُ الْقَاهِرَةُ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ جَرَوْا عَلَى مِنْهَاجِ قَوْمِ نُوحٍ فِي التَّكْذِيبِ، وَلَمْ يَزْجُرْهُمْ مَا بَلَّغَهُمْ مِنْ إِهْلَاكِ اللَّه تَعَالَى الْمُكَذِّبِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ عَنْ ذَلِكَ، فَلِهَذَا قَالَ: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَيْنَ مَا كَذَّبُوا بِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ فِي زَمَانِهِ بَلِ الْمُرَادُ بِمِثْلِ مَا كَذَّبُوا بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ، لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ الظَّاهِرَةَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَجْمَعَ كَأَنَّهَا وَاحِدَةٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ يَمْنَعُ الْمُكَلَّفَ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَتَقْرِيرُهُ ظَاهِرٌ. قَالَ الْقَاضِي: الطَّبْعُ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ الْإِيمَانِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النِّسَاءِ: 155] وَلَوْ كَانَ هَذَا الطَّبْعُ مَانِعًا لَمَا صَحَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَدْ سَبَقَ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 7] فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. القصة الثانية قصة موسى عليه السلام [سورة يونس (10) : الآيات 75 الى 77] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)

[سورة يونس (10) : الآيات 78 إلى 82]

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ غَنِيٌّ عَنِ التَّفْسِيرِ وَفِيهِ سُؤَالٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا قَالُوا: إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ فَكَيْفَ حَكَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَسِحْرٌ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ؟ وَجَوَابُهُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَسِحْرٌ هَذَا بَلْ قَالَ: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ مَا تَقُولُونَ، ثُمَّ حَذَفَ عَنْهُ مَفْعُولَ أَتَقُولُونَ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى أَسِحْرٌ هَذَا وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، ثُمَّ احْتَجَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِسِحْرٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ يَعْنِي أَنَّ حَاصِلَ صُنْعِهِمْ تَخْيِيلٌ وَتَمْوِيهٌ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ وَأَمَّا قَلْبُ الْعَصَا حَيَّةً وَفَلَقُ الْبَحْرِ، فَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّخْيِيلِ وَالتَّمْوِيهِ فَثَبَتَ أنه ليس بسحر. [سورة يونس (10) : الآيات 78 الى 82] قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوا دَعْوَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَّلُوا عَدَمَ الْقَبُولِ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا قَالَ الْوَاحِدِيُّ: اللَّفْتُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الصَّرْفُ عَنْ أَمْرٍ، وَأَصْلُهُ اللَّيُّ يُقَالُ: لَفَتَ عُنُقَهُ إِذَا لَوَاهَا، وَمِنْ هَذَا يُقَالُ: الْتَفَتَ إِلَيْهِ، أَيْ أَمَالَ وَجْهَهُ إِلَيْهِ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: لَفَتَ الشَّيْءَ وَفَتَلَهُ إِذَا لَوَاهُ، وَهَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا نَتْرُكُ الدِّينَ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ، لِأَنَّا وَجَدْنَا آبَائَنَا عَلَيْهِ، فَقَدْ تَمَسَّكُوا بِالتَّقْلِيدِ وَدَفَعُوا الْحُجَّةَ الظَّاهِرَةَ بِمُجَرَّدِ الْإِصْرَارِ. وَالسَّبَبُ الثَّانِي: فِي عَدَمِ الْقَبُولِ قَوْلُهُ: وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمَعْنَى وَيَكُونُ لَكُمَا الْمُلْكُ وَالْعِزُّ فِي أَرْضِ مِصْرَ، وَالْخِطَابُ لِمُوسَى وَهَارُونَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: سَمَّى الْمُلْكَ كِبْرِيَاءً، لِأَنَّهُ أَكْبَرُ مَا يُطْلَبُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَأَيْضًا فَالنَّبِيُّ إِذَا اعْتَرَفَ الْقَوْمُ بِصِدْقِهِ صَارَتْ مَقَالِيدُ أَمْرِ أُمَّتِهِ إِلَيْهِ، فَصَارَ أَكْبَرَ الْقَوْمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ السَّبَبَ الْأَوَّلَ: إِشَارَةٌ إِلَى التَّمَسُّكِ بِالتَّقْلِيدِ، وَالسَّبَبَ الثَّانِيَ: إِشَارَةٌ إِلَى الْحِرْصِ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا، وَالْجِدِّ فِي بَقَاءِ الرِّيَاسَةِ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْقَوْمُ هَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ صَرَّحُوا بِالْحُكْمِ وَقَالُوا: وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا ذَكَرُوا هَذِهِ الْمَعَانِيَ حَاوَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَرَادُوا أَنْ يُعَارِضُوا مُعْجِزَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ السِّحْرِ، لِيُظْهِرُوا عِنْدَ النَّاسِ أَنَّ مَا أَتَى بِهِ مُوسَى مِنْ بَابِ السِّحْرِ، فجمع فرعون السحرة وأحضرهم، فقال لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَمَرَهُمْ بِالْكُفْرِ وَالسِّحْرِ وَالْأَمْرُ بِالْكُفْرِ كفر؟

[سورة يونس (10) : آية 83]

قُلْنَا: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ بِإِلْقَاءِ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ، لِيُظْهِرَ لِلْخَلْقِ أَنَّ مَا أَتَوْا بِهِ عَمَلٌ فَاسِدٌ وَسَعْيٌ بَاطِلٌ، لَا عَلَى طَرِيقِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ بِالسِّحْرِ، فَلَمَّا أَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ قَالَ لَهُمْ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ هُوَ السِّحْرُ الْبَاطِلُ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا لِمُوسَى: إِنَّ مَا جِئْتَ بِهِ سِحْرٌ، فَذَكَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ بَاطِلٌ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الَّذِي جِئْتُمْ بِهِ هُوَ السِّحْرُ وَالتَّمْوِيهُ الَّذِي يَظْهَرُ بُطْلَانُهُ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يُحِقُّ الْحَقَّ وَيُبْطِلُ الْبَاطِلَ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى فِي سَائِرِ السُّوَرِ أَنَّهُ كَيْفَ أَبْطَلَ ذَلِكَ السِّحْرَ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ ذَلِكَ الثُّعْبَانَ قَدْ تَلَقَّفَ كل تلك الجبال وَالْعِصِيِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ما هاهنا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي وَهِيَ مُرْتَفِعَةٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهَا السِّحْرُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَإِنَّمَا قَالَ: السِّحْرُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، لِأَنَّهُ جَوَابُ كَلَامٍ سَبَقَ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى هَذَا سِحْرٌ، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: بَلْ مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ، فَوَجَبَ دُخُولُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، لِأَنَّ النَّكِرَةَ إِذَا عَادَتْ عَادَتْ مَعْرِفَةً، يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: لَقِيِتُ رَجُلًا فَيَقُولُ لَهُ مَنِ الرَّجُلُ فَيُعِيدُهُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَلَوْ قَالَ لَهُ مَنْ رَجُلٌ لَمْ يَقَعْ فِي فَهْمِهِ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَهُ لَهُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: آلسِّحْرُ بِالِاسْتِفْهَامِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَجِئْتُمْ بِهِ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُّ شَيْءٍ جِئْتُمْ بِهِ ثُمَّ قَالَ عَلَى وَجْهِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ: السِّحْرُ كَقَوْلِهِ تعالى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [الْمَائِدَةِ: 116] وَالسِّحْرُ بَدَلٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ، وَلَزِمَ أَنْ يَلْحَقَهُ الِاسْتِفْهَامُ لِيُسَاوِيَ الْمُبْدَلَ مِنْهُ فِي أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ، كَمَا تَقُولُ كَمْ مَالُكَ أَعِشْرُونَ أَمْ ثَلَاثُونَ؟ فَجَعَلْتَ أَعِشْرُونَ بَدَلًا مِنْ كَمْ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُضْمَرَ لِلسِّحْرِ خَبَرٌ، لِأَنَّكَ إِذَا أَبْدَلْتَهُ مِنَ الْمُبْتَدَأِ صَارَ فِي مَوْضِعِهِ وَصَارَ مَا كَانَ خَبَرًا عَنِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ خَبَرًا عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ أَيْ سَيُهْلِكُهُ وَيُظْهِرُ فَضِيحَةَ صَاحِبِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ أَيْ لَا يُقَوِّيهِ وَلَا يُكْمِلُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ وَمَعْنَى إِحْقَاقِ الْحَقِّ إِظْهَارُهُ وَتَقْوِيَتُهُ. وَقَوْلُهُ: بِكَلِماتِهِ أَيْ بِوَعْدِهِ مُوسَى. وَقِيلَ بِمَا سَبَقَ مِنْ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَفِي كَلِمَاتِ اللَّه أَبْحَاثٌ غَامِضَةٌ عَمِيقَةٌ عَالِيَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي بَعْضِ مَوَاضِعَ من هذا الكتاب. [سورة يونس (10) : آية 83] فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) [في قَوْلُهُ تَعَالَى فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِيمَا تَقَدَّمَ مَا كَانَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْعَظِيمَةِ وَمَا ظَهَرَ مِنْ تَلَقُّفِ الْعَصَا لِكُلِّ مَا أَحْضَرُوهُ مِنْ آلَاتِ السِّحْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ مَعَ مُشَاهَدَةِ الْمُعْجِزَاتِ الْعَظِيمَةِ مَا آمَنَ بِهِ مِنْهُمْ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ تَعَالَى ذَلِكَ تَسْلِيَةً لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ كَانَ يَغْتَمُّ بِسَبَبِ إِعْرَاضِ الْقَوْمِ عَنْهُ وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، فَبَيَّنَ أَنَّ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ بِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ أُسْوَةً، لِأَنَّ الَّذِي ظَهَرَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي الْإِعْجَازِ فِي مَرْأَى الْعَيْنِ أَعْظَمَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَمَا آمَنَ بِهِ مِنْهُمْ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالذُّرِّيَّةِ على وجوه: الأول: أن الذرية هاهنا مَعْنَاهَا تَقْلِيلُ الْعَدَدِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَفْظُ الذُّرِّيَّةِ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْقَوْمِ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيرِ وَالتَّصْغِيرِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى حَمْلِهِ عَلَى التَّقْدِيرِ عَلَى وَجْهِ الْإِهَانَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى التَّصْغِيرِ

[سورة يونس (10) : الآيات 84 إلى 86]

بِمَعْنَى قِلَّةِ الْعَدَدِ. الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُرَادُ أَوْلَادُ مَنْ دَعَاهُمْ، لِأَنَّ الْآبَاءَ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ، إِمَّا لِأَنَّ قُلُوبَ الْأَوْلَادِ أَلْيَنُ أَوْ دَوَاعِيهِمْ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَى الْكُفْرِ أَخَفُّ. الثَّالِثُ: أَنَّ الذُّرِّيَّةَ قَوْمٌ كَانَ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَأُمَّهَاتُهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. الرَّابِعُ: الذُّرِّيَّةُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَخَازِنُهُ وَامْرَأَةُ خَازِنِهِ وَمَاشِطَتُهَا. وَأَمَّا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَوْمِهِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى أَوْ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، لِأَنَّ ذِكْرَهُمَا جَمِيعًا قَدْ تَقَدَّمَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مُوسَى، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ وَلِأَنَّهُ نُقِلَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ كَانُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. أَمَّا قَوْلُهُ: عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى كَانُوا خَائِفِينَ مِنْ فِرْعَوْنَ جِدًّا، لِأَنَّهُ كَانَ شَدِيدَ الْبَطْشِ وَكَانَ قَدْ أَظْهَرَ الْعَدَاوَةَ مَعَ مُوسَى، فَإِذَا عَلِمَ مَيْلَ الْقَوْمِ إِلَى مُوسَى كَانَ يُبَالِغُ فِي إِيذَائِهِمْ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانُوا خَائِفِينَ مِنْهُ. الْبَحْثُ الثاني: إنما قال: وَمَلَائِهِمْ مَعَ أَنَّ فِرْعَوْنَ وَاحِدٌ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ التَّعْظِيمُ قَالَ اللَّه تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الْحِجْرِ: 9] الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِفِرْعَوْنَ آلُ فِرْعَوْنَ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ كَأَنَّهُ أُرِيدَ بِفِرْعَوْنَ آلُ فِرْعَوْنَ. ثُمَّ قَالَ: أَنْ يَفْتِنَهُمْ أَيْ يَصْرِفَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ بِتَسْلِيطِ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ أَيْ لَغَالِبٌ فِيهَا قَاهِرٌ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ قِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ كَثِيرُ الْقَتْلِ كَثِيرُ التَّعْذِيبِ لِمَنْ يُخَالِفُهُ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ بَيَانُ السَّبَبِ فِي كَوْنِ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ خَائِفِينَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ مُسْرِفًا لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَخَسِّ الْعَبِيدِ فادعى الإلهية. [سورة يونس (10) : الآيات 84 الى 86] وَقالَ مُوسى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ جَزَاءٌ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُتَقَدِّمٌ وَالْآخَرُ مُتَأَخِّرٌ، وَالْفُقَهَاءُ قَالُوا: الْمُتَأَخِّرُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا وَالْمُتَقَدِّمُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا وَمِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا وَإِنَّمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَجْمُوعَ قَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، صَارَ مَشْرُوطًا بِقَوْلِهِ إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا، وَالْمَشْرُوطُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الشَّرْطِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُتَأَخِّرُ فِي اللَّفْظِ مُتَقَدِّمًا فِي الْمَعْنَى، وَأَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ فِي اللَّفْظِ مُتَأَخِّرًا فِي الْمَعْنَى وَالتَّقْدِيرُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ حَالَ مَا كَلَّمْتِ زَيْدًا إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَلَوْ حَصَلَ هَذَا التَّعْلِيقُ قَبْلَ إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ. إِذَا عرفت هذا فنقول: قَوْلَهُ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُمْ مُسْلِمِينَ شَرْطًا لِأَنْ يَصِيرُوا مُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا فَكَأَنَّهُ/ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمُسْلِمِ حَالَ إِسْلَامِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ باللَّه فَعَلَى اللَّه تَوَكَّلْ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عِبَارَةٌ عَنِ الِاسْتِسْلَامِ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الِانْقِيَادِ لِلتَّكَالِيفِ الصَّادِرَةِ عَنِ اللَّه تَعَالَى وَإِظْهَارِ الْخُضُوعِ وَتَرْكِ التَّمَرُّدِ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ صَيْرُورَةِ الْقَلْبِ عَارِفًا بِأَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ وَأَنَّ مَا سِوَاهُ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ تَحْتَ تَدْبِيرِهِ وَقَهْرِهِ وَتَصَرُّفِهِ، وَإِذَا حَصَلَتْ

[سورة يونس (10) : آية 87]

هَاتَانِ الْحَالَتَانِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُفَوِّضُ الْعَبْدُ جَمِيعَ أُمُورِهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَيَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ نُورُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّه فَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ لَطَائِفِ الْأَسْرَارِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّه عِبَارَةٌ عَنْ تَفْوِيضِ الْأُمُورِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَالِاعْتِمَادِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ عَلَى اللَّه تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّه فِي كُلِّ الْمُهِمَّاتِ كَفَاهُ اللَّه تَعَالَى كُلَّ الْمُلِمَّاتِ لِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطَّلَاقِ: 3] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذَا الَّذِي أَمَرَ مُوسَى قَوْمَهُ بِهِ وَهُوَ التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّه هُوَ الَّذِي حَكَاهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ [يُونُسَ: 71] وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ لِأَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّه تَعَالَى، وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ قَوْمَهُ بِذَلِكَ فَكَانَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَامًّا، وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوْقَ التَّمَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَالَ: فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا وَلَمْ يَقُلْ تَوَكَّلُوا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُفِيدُ الْحَصْرَ كَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّوَكُّلِ عَلَى الْغَيْرِ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُلْكُهُ وَمِلْكُهُ وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ وَتَسْخِيرِهِ وَتَحْتَ حُكْمِهِ وَتَدْبِيرِهِ، امْتَنَعَ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَتَوَكَّلَ الْإِنْسَانُ عَلَى غَيْرِهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ جَاءَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ قَبِلُوا قَوْلَهُ: فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا أَيْ تَوَكَّلْنَا عَلَيْهِ، وَلَا نَلْتَفِتُ إِلَى أَحَدٍ سِوَاهُ، ثُمَّ لَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ اشْتَغَلُوا بِالدُّعَاءِ، فَطَلَبُوا مِنَ اللَّه تَعَالَى شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ قَالُوا: رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ لَا تَفْتِنْ بِنَا فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ لِأَنَّكَ لَوْ سَلَّطْتَهُمْ عَلَيْنَا لَوَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ أَنَّا لَوْ كُنَّا عَلَى الْحَقِّ لَمَا سَلَّطْتَهُمْ عَلَيْنَا، فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً قَوِيَّةً فِي إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ فَيَصِيرُ تَسْلِيطُهُمْ عَلَيْنَا فِتْنَةً لَهُمْ. الثَّانِي: أَنَّكَ لَوْ سَلَّطْتَهُمْ عَلَيْنَا لَاسْتَوْجَبُوا الْعِقَابَ الشَّدِيدَ فِي الْآخِرَةِ وَذَلِكَ يَكُونُ فِتْنَةً لَهُمْ. الثَّالِثُ: (لَا تجعلنا فتنة لهم) أَيْ مَوْضِعَ فِتْنَةٍ لَهُمْ، أَيْ مَوْضِعَ عَذَابٍ لهم. الرابع: أن يكون المراد من فتنة الْمَفْتُونَ، لِأَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ جَائِزٌ، كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، وَالتَّكْوِينِ بِمَعْنَى الْمُكَوَّنِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَجْعَلْنَا مَفْتُونِينَ، أَيْ لَا تُمَكِّنَهُمْ مِنْ أَنْ يَحْمِلُونَا بِالظُّلْمِ وَالْقَهْرِ عَلَى أَنْ نَنْصَرِفَ عَنْ هَذَا الدِّينِ الْحَقِّ الَّذِي قَبِلْنَاهُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُتَأَكِّدٌ بِمَا ذَكَرَهُ اللَّه/ تَعَالَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ [يونس: 83] وَأَمَّا الْمَطْلُوبُ الثَّانِي فِي هَذَا الدُّعَاءِ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ اهْتِمَامُ هَؤُلَاءِ بِأَمْرِ دِينِهِمْ فَوْقَ اهْتِمَامِهِمْ بِأَمْرِ دُنْيَاهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنْ حَمَلْنَا قَوْلَهُمْ: رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ عَلَى أَنَّهُمْ إِنْ سُلِّطُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ صَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهُمْ فِي أَنَّ هَذَا الدِّينَ بَاطِلٌ فَتَضَرَّعُوا إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي أَنْ يَصُونَ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَقَدَّمُوا هَذَا الدُّعَاءَ عَلَى طَلَبِ النَّجَاةِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنَايَتَهُمْ بِمَصَالِحِ دِينِ أَعْدَائِهِمْ فَوْقَ عِنَايَتِهِمْ بِمَصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا يُمَكِّنَ اللَّه تَعَالَى أُولَئِكَ الْكُفَّارَ مِنْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ عَلَى تَرْكِ هَذَا الدِّينِ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ اهْتِمَامَهُمْ بِمَصَالِحِ أَدْيَانِهِمْ فَوْقَ اهْتِمَامِهِمْ بِمَصَالِحِ أَبْدَانِهِمْ وَعَلَى جَمِيعِ التقديرات فهذه لطيفة شريفة. [سورة يونس (10) : آية 87] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)

[سورة يونس (10) : الآيات 88 إلى 89]

اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا شَرَحَ خَوْفَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَمَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مَنَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّه تَعَالَى أَتْبَعَهُ بِأَنْ أَمَرَ مُوسَى وَهَارُونَ بِاتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى الصَّلَوَاتِ يُقَالُ: تَبَوَّأَ الْمَكَانَ، أَيِ اتَّخَذَهُ مُبَوَّأً كَقَوْلِهِ تَوَطَّنَهُ إِذَا اتَّخَذَهُ مَوْطِنًا، وَالْمَعْنَى: اجْعَلَا بِمِصْرَ بُيُوتًا لِقَوْمِكُمَا وَمَرْجِعًا تَرْجِعُونَ إِلَيْهِ لِلْعِبَادَةِ وَالصَّلَاةِ. ثُمَّ قَالَ: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنَ الْبُيُوتِ الْمَسَاجِدُ كَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النُّورِ: 36] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مُطْلَقُ الْبُيُوتِ، أَمَّا الْأَوَّلُونَ فَقَدْ فَسَّرُوا الْقِبْلَةَ بِالْجَانِبِ الَّذِي يُسْتَقْبَلُ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ قَالُوا: وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أَيِ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَسَاجِدَ تَسْتَقْبِلُونَهَا لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً، أَيْ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أَيْ قِبَلًا يَعْنِي مَسَاجِدَ فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْوُحْدَانِ، وَالْمُرَادُ الْجَمْعُ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ الْقِبْلَةَ أَيْنَ كَانَتْ؟ فَظَاهِرٌ أَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِهِ، إِلَّا أَنَّهُ نُقِلَ عَنِ/ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ قِبْلَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: الْكَعْبَةُ قِبْلَةُ كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْعُدُولُ عَنْهَا بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى فِي أَيَّامِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَتْ تِلْكَ الْقِبْلَةُ جِهَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ لَفْظِ الْبُيُوتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُطْلَقُ الْبَيْتِ، فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: قِبْلَةً وَجْهَانِ: الأول: المراد تِلْكَ الْبُيُوتِ قِبْلَةً أَيْ مُتَقَابِلَةً، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ حُصُولُ الْجَمْعِيَّةِ وَاعْتِضَادُ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ وَاجْعَلُوا دُورَكُمْ قِبْلَةً، أَيْ صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ مُوسَى وَهَارُونَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْخِطَابِ فَقَالَ: أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً ثُمَّ عَمَّمَ هَذَا الْخِطَابَ فَقَالَ: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ مُوسَى وَهَارُونَ أَنْ يَتَبَوَّءَا لِقَوْمِهِمَا بُيُوتًا لِلْعِبَادَةِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُفَوَّضُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ جَاءَ الْخِطَابُ بَعْدَ ذَلِكَ عَامًّا لَهُمَا وَلِقَوْمِهِمَا بِاتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ وَالصَّلَاةِ فِيهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْكُلِّ، ثُمَّ خَصَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي آخِرِ الْكَلَامِ بِالْخِطَابِ فَقَالَ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَصْلِيَّ مِنْ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ حُصُولُ هَذِهِ الْبِشَارَةِ، فَخَصَّ اللَّه تَعَالَى مُوسَى بِهَا، لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الرِّسَالَةِ هُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّ هَارُونَ تَبَعٌ لَهُ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي كَيْفِيَّةِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ وُجُوهًا ثَلَاثَةً: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ مَعَهُ كَانُوا فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ مَأْمُورِينَ بِأَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ خُفْيَةً مِنَ الْكَفَرَةِ، لِئَلَّا يَظْهَرُوا عَلَيْهِمْ فَيُؤْذُوهُمْ وَيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، كَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فِي مَكَّةَ. الثَّانِي: قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرْسَلَ مُوسَى إِلَيْهِمْ أَمَرَ فِرْعَوْنُ بِتَخْرِيبِ مَسَاجِدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَنْعِهِمْ مِنَ الصَّلَاةِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَتَّخِذُوا مَسَاجِدَ فِي بُيُوتِهِمْ وَيُصَلُّوا فِيهَا خَوْفًا مِنْ فِرْعَوْنَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرْسَلَ مُوسَى إِلَيْهِمْ وَأَظْهَرَ فِرْعَوْنُ تِلْكَ الْعَدَاوَةَ الشَّدِيدَةَ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى مُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمَهُمَا بِاتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى رَغْمِ الْأَعْدَاءِ وَتَكَفَّلَ تَعَالَى أنه يصونهم عن شر الأعداء. [سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 89] وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)

اعْلَمْ أَنَّ مُوسَى لَمَّا بَالَغَ فِي إِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ الْقَاهِرَةِ وَرَأَى الْقَوْمَ مُصِرِّينَ عَلَى الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ وَالْإِنْكَارِ، أَخَذَ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، وَمِنْ حَقِّ مَنْ يَدْعُو عَلَى الْغَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ أَوَّلًا سَبَبَ إِقْدَامِهِ عَلَى تِلْكَ الْجَرَائِمِ، وَكَانَ جُرْمُهُمْ هُوَ أَنَّهُمْ لِأَجْلِ حُبِّهِمُ الدُّنْيَا تَرَكُوا الدِّينَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا وَالزِّينَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الصِّحَّةِ وَالْجَمَالِ وَاللِّبَاسِ وَالدَّوَابِّ، وأثاث البيت والمال ما يَزِيدُ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الصَّامِتِ وَالنَّاطِقِ. ثُمَّ قَالَ: لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ لِيُضِلُّوا بِضَمِّ الْيَاءِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُضِلُّ النَّاسَ وَيُرِيدُ إِضْلَالَهُمْ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لِيُضِلُّوا لَامُ التَّعْلِيلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مُوسَى قَالَ يَا رَبَّ الْعِزَّةِ إِنَّكَ أَعْطَيْتَهُمْ هَذِهِ الزِّينَةَ وَالْأَمْوَالَ لِأَجْلِ أَنْ يُضِلُّوا، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يُرِيدُ إِضْلَالَ الْمُكَلَّفِينَ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَقَالَ اللَّه تَعَالَى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما وَذَلِكَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ. قَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرْتُمْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ وَإِرَادَةُ الْكُفْرِ قَبِيحَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَكَانَ الْكُفَّارُ مُطِيعِينَ للَّه تَعَالَى بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلطَّاعَةِ إِلَّا الْإِتْيَانُ بِمَا يُوَافِقُ الْإِرَادَةَ وَلَوْ كَانُوا كَذَلِكَ لَمَا اسْتَحَقُّوا الدُّعَاءَ عَلَيْهِمْ بِطَمْسِ الْأَمْوَالِ وَشَدِّ الْقُلُوبِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا أَنْ يُرِيدَ إِضْلَالَ الْعِبَادِ، لَجَوَّزْنَا أَنْ يَبْعَثَ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِلدُّعَاءِ إِلَى الضَّلَالِ، وَلَجَازَ أَنْ يُقَوِّيَ الْكَذَّابِينَ الضَّالِّينَ الْمُضِلِّينَ بِإِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ هَدْمُ الدِّينِ وَإِبْطَالُ الثِّقَةِ بِالْقُرْآنِ وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لِمُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] وَأَنْ يَقُولَ: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الْأَعْرَافِ: 130] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ الضَّلَالَةَ مِنْهُمْ وَأَعْطَاهُمُ النِّعَمَ لِكَيْ يَضِلُّوا، لِأَنَّ ذَلِكَ كَالْمُنَاقَضَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ أَحَدِهِمَا/ عَلَى مُوَافَقَةِ الْآخَرِ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا رَبَّهُ بِأَنْ يَطْمِسَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ لِأَجْلِ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا مَعَ تَشَدُّدِهِ فِي إِرَادَةِ الْإِيمَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّا بَالَغْنَا فِي تَكْثِيرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَجَبَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ لِيُضِلُّوا لَامِ الْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَصِ: 8] وَلَمَّا كَانَتْ عَاقِبَةُ قَوْمِ فِرْعَوْنَ هُوَ الضَّلَالُ، وَقَدْ أَعْلَمَهُ اللَّه تَعَالَى، لَا جَرَمَ عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِهَذَا اللَّفْظِ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ أَيْ لِئَلَّا يُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ، فَحَذْفُ لَا لِدَلَالَةِ الْمَعْقُولِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النِّسَاءِ: 176] وَالْمُرَادُ أَنْ لَا تَضِلُّوا، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ [الْأَعْرَافِ: 172] وَالْمُرَادُ لِئَلَّا تَقُولُوا، وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ الْمَقْرُونِ بِالْإِنْكَارِ وَالتَّقْدِيرُ كَأَنَّكَ آتَيْتَهُمْ ذَلِكَ الْغَرَضَ فَإِنَّهُمْ لَا يُنْفِقُونَ هَذِهِ الْأَمْوَالَ إِلَّا فِيهِ وَكَأَنَّهُ قَالَ: آتَيْتَهُمْ زِينَةً وَأَمْوَالًا لِأَجْلِ أَنْ يُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّه ثُمَّ حَذَفَ حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلَامِ من الرباب خيالا

أراد أكذبتك فكذا هاهنا. الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ اللَّامُ لَامُ الدُّعَاءِ وهي لام مكسورة تجزم المستقل وَيُفْتَتَحُ بِهَا الْكَلَامُ، فَيُقَالُ لِيَغْفِرَ اللَّه لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِيُعَذِّبَ اللَّه الْكَافِرِينَ، وَالْمَعْنَى رَبَّنَا ابْتَلِهِمْ بِالضَّلَالِ عَنْ سَبِيلِكَ. الْخَامِسُ: أَنَّ هَذِهِ اللَّامَ لَامُ التَّعْلِيلِ لَكِنْ بِحَسَبِ ظَاهِرِ الْأَمْرِ لَا فِي نَفْسِ الْحَقِيقَةِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَعْطَاهُمْ هَذِهِ الْأَمْوَالَ وَصَارَتْ تِلْكَ الْأَمْوَالُ سَبَبًا لِمَزِيدِ الْبَغْيِ وَالْكُفْرِ، أَشْبَهَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ حَالَةَ مَنْ أَعْطَى الْمَالَ لِأَجْلِ الْإِضْلَالِ فَوَرَدَ هَذَا الْكَلَامُ بِلَفْظِ التَّعْلِيلِ لِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى. السَّادِسُ: بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً [البقرة: 26] فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الضَّلَالَ قَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْهَلَاكِ يُقَالُ: الْمَاءُ فِي اللَّبَنِ أَيْ هَلَكَ فِيهِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ معناه: ليهلكون وَيَمُوتُوا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [التَّوْبَةِ: 55] فَهَذَا جُمْلَةُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ أَجَبْنَا عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ مِرَارًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ نُعِيدَ بَعْضَهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ فَنَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْإِضْلَالِ مِنَ اللَّه تَعَالَى وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْصِدُ إِلَّا حُصُولَ الْهِدَايَةِ، فَلَمَّا لَمْ تَحْصُلِ الْهِدَايَةُ بَلْ حَصَلَ الضَّلَالُ الَّذِي لَا يُرِيدُهُ، عَلِمْنَا أَنَّ حُصُولَهُ لَيْسَ مِنَ الْعَبْدِ بَلْ مِنَ اللَّه تَعَالَى. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ ظَنَّ بِهَذَا الضَّلَالِ أَنَّهُ هُدًى؟ فَلَا جَرَمَ قَدْ أَوْقَعَهُ وَأَدْخَلَهُ فِي الْوُجُودِ فَنَقُولُ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِقْدَامُهُ عَلَى تَحْصِيلِ هَذَا الْجَهْلِ بِسَبَبِ الْجَهْلِ السَّابِقِ، فَلَوْ كَانَ حُصُولُ ذَلِكَ الْجَهْلِ السَّابِقِ بِسَبَبِ جَهْلٍ آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَاتِ وَالضَّلَالَاتِ لَا بُدَّ مِنَ انْتِهَائِهَا إِلَى جَهْلٍ أَوَّلَ وَضَلَالٍ أَوَّلَ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِإِحْدَاثِ الْعَبْدِ وَتَكْوِينِهِ لِأَنَّهُ كَرِهَهُ وَإِنَّمَا أَرَادَ ضِدَّهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّه تَعَالَى. الثَّانِي: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ بِحَيْثُ يُحِبُّونَ الْمَالَ وَالْجَاهَ حُبًّا شَدِيدًا لَا يُمْكِنُهُ إِزَالَةُ هَذَا الْحُبِّ عَنْ نَفْسِهِ أَلْبَتَّةَ، وَكَانَ حُصُولُ هَذَا الْحُبِّ يُوجِبُ الْإِعْرَاضَ عَمَّنْ يَسْتَخْدِمُهُ وَيُوجِبُ التَّكَبُّرَ عَلَيْهِ وَتَرْكَ الِالْتِفَاتِ إِلَى قَوْلِهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْكُفْرَ، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ بَعْضُهَا يَتَأَدَّى إِلَى الْبَعْضِ تَأَدِّيًا عَلَى سَبِيلِ اللُّزُومِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ هَذَا الْكُفْرِ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ مَجْبُولًا عَلَى حُبِّ الْمَالِ وَالْجَاهِ. الثَّالِثُ: وَهُوَ الْحُجَّةُ الْكُبْرَى أَنَّ الْقُدْرَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الضِّدَّيْنِ عَلَى السَّوِيَّةِ، فَلَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الثَّانِي إِلَّا لِمُرَجِّحٍ، وَذَلِكَ الْمُرَجَّحُ لَيْسَ مِنَ الْعَبْدِ وَإِلَّا لَعَادَ الْكَلَامُ فِيهِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْهِدَايَةُ وَالْإِضْلَالُ مِنَ اللَّه تَعَالَى. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا وَقَوَّى حُبَّ ذَلِكَ الْمَالِ وَالْجَاهِ فِي قُلُوبِهِمْ. وَأَوْدَعَ فِي طِبَاعِهِمْ نَفْرَةً شَدِيدَةً عَنْ خِدْمَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، لَا سِيَّمَا وَكَانَ فِرْعَوْنُ كَالْمُنْعِمِ فِي حَقِّهِ وَالْمُرَبِّي لَهُ وَالنَّفْرَةُ عَنْ خِدْمَةِ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ رَاسِخَةٌ فِي الْقُلُوبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ إِعْرَاضَهُمْ عَنْ قَبُولِ دَعْوَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِصْرَارَهُمْ عَلَى إِنْكَارِ صِدْقِهِ، فَثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ إِعْطَاءَ اللَّه تَعَالَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ زِينَةَ الدُّنْيَا وَأَمْوَالَ الدُّنْيَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِضَلَالِهِمْ فَثَبَتَ أَنَّ مَا أَشْعَرَ بِهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ فَقَدْ ثَبَتَ صِحَّتُهُ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَرْكُ ظَاهِرِ اللَّفْظِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ وَكَيْفَ يَحْسُنُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْوُجُوهِ الْمُتَكَلَّفَةِ الضَّعِيفَةِ جِدًّا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ حَمْلُ اللَّامِ عَلَى لَامِ الْعَاقِبَةِ فَضَعِيفٌ، لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ عَالِمًا بِالْعَوَاقِبِ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ اللَّه تَعَالَى أخبره بذلك؟

قُلْنَا: فَلَمَّا أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ كَانَ صُدُورُ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ مُحَالًا، لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ انْقِلَابَ خَبَرِ اللَّه كَذِبًا وَهُوَ مُحَالٌ وَالْمُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُمْ يُحْمَلُ قَوْلُهُ لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لِئَلَّا يُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ فَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. وَأَقُولُ: إِنَّهُ لَمَّا شرع في تفسيره/ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النِّسَاءِ: 79] ثُمَّ نَقَلَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ قَرَأَ فَمِنْ نَفْسِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، ثُمَّ إِنَّهُ اسْتَبْعَدَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ وَقَالَ إِنَّهَا تَقْتَضِي تَحْرِيفَ الْقُرْآنِ وَتَغْيِيرَهُ وَتَفْتَحُ بَابَ تَأْوِيلَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ وَبَالَغَ فِي إِنْكَارِ تِلْكَ الْقِرَاءَةِ وَهَذَا الوجه الذي ذكره هاهنا شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَلَبَ النَّفْيَ إِثْبَاتًا وَالْإِثْبَاتَ نَفْيًا وَتَجْوِيزُهُ يَفْتَحُ بَابَ أَنْ لَا يَبْقَى الِاعْتِمَادُ عَلَى الْقُرْآنِ لَا فِي نَفْيِهِ وَلَا فِي إِثْبَاتِهِ وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ الْقُرْآنُ بِالْكُلِّيَّةِ هَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ الْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِفْهَامُ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، فَإِنَّ تَجْوِيزَهُ يُوجِبُ تَجْوِيزَ مِثْلِهِ فِي سَائِرِ الْمَوَاطِنِ، فَلَعَلَّهُ تَعَالَى إنما قال: أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [البقرة: 43] عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْجَوَابَاتِ فَلَا يَخْفَى ضَعْفُهَا. ثُمَّ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَذَكَرْنَا مَعْنَى الطَّمْسِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً [النِّسَاءِ: 47] وَالطَّمْسُ هُوَ المسخ. قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما: بَلَغَنَا أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، صَارَتْ حِجَارَةً مَنْقُوشَةً كَهَيْئَتِهَا صِحَاحًا وَأَنْصَافًا وَأَثْلَاثًا، وَجَعَلَ سُكَّرَهُمْ حِجَارَةً. ثُمَّ قَالَ: وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ وَمَعْنَى الشَّدِّ عَلَى الْقُلُوبِ الِاسْتِيثَاقُ مِنْهَا حَتَّى لَا يَدْخُلَهَا الْإِيمَانُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَفْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْ يَشَاءُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا حَسُنَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا السُّؤَالُ. ثُمَّ قَالَ: فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: لِيُضِلُّوا وَالتَّقْدِيرُ: رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ وَقَوْلُهُ: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ يَكُونُ اعْتِرَاضًا. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِقَوْلِهِ: وَاشْدُدْ وَالتَّقْدِيرُ: اطْبَعْ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَقَسِّهَا حَتَّى لَا يُؤْمِنُوا، فَإِنَّهَا تَسْتَحِقُّ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمَا: إِنَّ مُوسَى كَانَ يَدْعُو وَهَارُونَ كَانَ يُؤَمِّنُ، فَلِذَلِكَ قَالَ: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ عِنْدَ دُعَاءِ الدَّاعِي آمِينَ فَهُوَ أَيْضًا دَاعٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ آمِينَ تَأْوِيلُهُ اسْتَجِبْ فَهُوَ سَائِلٌ كَمَا أَنَّ الدَّاعِيَ سَائِلٌ أَيْضًا. الثَّانِي: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَكَرَ هَذَا الدُّعَاءَ غَايَةَ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى هَذَا الدُّعَاءَ عَنْ مُوسَى بِقَوْلِهِ: وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا إِلَّا أَنَّ هَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ هَارُونُ قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الدُّعَاءَ أَيْضًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَاسْتَقِيما يَعْنِي فَاسْتَقِيمَا عَلَى الدَّعْوَةِ وَالرِّسَالَةِ، وَالزِّيَادَةِ فِي إِلْزَامِ الْحُجَّةِ فَقَدْ لَبِثَ/ نُوحٌ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا قَلِيلًا فَلَا تَسْتَعْجِلَا، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إِنَّ فِرْعَوْنَ لَبِثَ بَعْدَ هَذَا الدُّعَاءِ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى: لَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الْجَاهِلِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مَتَى كَانَ الدُّعَاءُ مُجَابًا كَانَ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا فِي الْحَالِ، فَرُبَّمَا أَجَابَ اللَّه تَعَالَى دُعَاءَ إِنْسَانٍ فِي مَطْلُوبِهِ، إِلَّا أَنَّهُ إِنَّمَا يُوصِلُهُ إِلَيْهِ فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ، وَالِاسْتِعْجَالُ لا

[سورة يونس (10) : الآيات 90 إلى 92]

يَصْدُرُ إِلَّا مِنَ الْجُهَّالِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هُودٍ: 46] . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّهْيَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ قَدْ صَدَرَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: 65] لَا يَدُلُّ عَلَى صُدُورِ الشِّرْكِ مِنْهُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: قَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعانِّ مَوْضِعُهُ جَزْمٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَتْبَعَا، إِلَّا أَنَّ النُّونَ الشَّدِيدَةَ دَخَلَتْ عَلَى النَّهْيِ مُؤَكِّدَةً وَكُسِرَتْ لِسُكُونِهَا، وَسُكُونِ النُّونِ الَّتِي قَبْلَهَا فَاخْتِيرَ لَهَا الْكَسْرَةُ، لِأَنَّهَا بَعْدَ الْأَلِفِ تُشْبِهُ نُونَ التَّثْنِيَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَلا تَتَّبِعانِّ بتخفيف النون. [سورة يونس (10) : الآيات 90 الى 92] وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) [في قوله تعالى وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ إلى قوله وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ] اعْلَمْ أَنَّ تَفْسِيرَ اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ [الأعراف: 138] مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَجَابَ دُعَاءَهُمَا أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ فِي الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وَيَسَّرَ لَهُمْ أَسْبَابَهُ، وَفِرْعَوْنُ كَانَ غَافِلًا عَنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا وَعَزَمُوا عَلَى مُفَارَقَةِ مَمْلَكَتِهِ خَرَجَ عَلَى عَقِبِهِمْ وَقَوْلُهُ: فَأَتْبَعَهُمْ أَيْ لَحِقَهُمْ يُقَالُ: أَتْبَعَهُ حَتَّى لَحِقَهُ، وَقَوْلُهُ: بَغْياً وَعَدْواً الْبَغْيُ طَلَبُ الِاسْتِعْلَاءِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْعَدْوُ الظُّلْمُ، رُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا خَرَجَ مَعَ قَوْمِهِ وَصَلُوا إِلَى طَرَفِ الْبَحْرِ وَقَرُبَ فِرْعَوْنُ مَعَ عَسْكَرِهِ مِنْهُمْ، فَوَقَعُوا فِي خَوْفٍ شَدِيدٍ، لِأَنَّهُمْ صَارُوا بَيْنَ بَحْرٍ مُغْرِقٍ وَجُنْدٍ مُهْلِكٍ، فَأَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِمْ بِأَنْ أَظْهَرَ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ عَلَى مَا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْقِصَّةَ بِتَمَامِهَا فِي سَائِرِ السُّوَرِ، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَصْحَابِهِ دَخَلُوا وَخَرَجُوا وَأَبْقَى اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ الطَّرِيقَ يبسا، ليطمع فرعون وجوده فِي التَّمَكُّنِ مِنَ الْعُبُورِ، فَلَمَّا دَخَلَ مَعَ جَمْعِهِ أَغْرَقَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَنْ أَوْصَلَ أَجْزَاءَ الْمَاءِ بِبَعْضِهَا وَأَزَالَ الْفَلْقَ، فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ وَبَيَّنَ مَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْبَغْيِ وَهِيَ مَحَبَّةُ الْإِفْرَاطِ فِي قَتْلِهِمْ وَظُلْمِهِمْ، وَالْعَدْوِ وَهُوَ تَجَاوُزُ الْحَدِّ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ أَظْهَرَ كَلِمَةَ الْإِخْلَاصِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يُنْجِيهِ مِنْ تلك الآفة وهاهنا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا وَقَعَ فِي الْغَرَقِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهَذَا اللَّفْظِ فَكَيْفَ حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ الْكَلَامَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ كَلَامُ النَّفْسِ لَا كَلَامُ اللِّسَانِ فَهُوَ إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ بِالنَّفْسِ، لَا بِكَلَامِ اللِّسَانِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِثْبَاتِ كَلَامِ النَّفْسِ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ، وَثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ مَا قَالَهُ بِاللِّسَانِ، فَوَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِثُبُوتِ كَلَامٍ غَيْرِ كَلَامِ اللِّسَانِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْغَرَقِ مُقَدِّمَاتِهِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ آمَنَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَوَّلُهَا قَوْلُهُ: آمَنْتُ وَثَانِيهَا قَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَثَالِثُهَا قَوْلُهُ: وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَمَا السَّبَبُ فِي عَدَمِ الْقَبُولِ واللَّه تَعَالَى مُتَعَالٍ عَنْ أَنْ يَلْحَقَهُ غَيْظٌ

وَحِقْدٌ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْحِقْدِ لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ هَذَا الْإِقْرَارَ؟ وَالْجَوَابُ: الْعُلَمَاءُ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِنَّمَا آمَنَ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ، وَالْإِيمَانُ فِي هَذَا الْوَقْتِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، لِأَنَّ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ يَصِيرُ الْحَالُ وَقْتَ الْإِلْجَاءِ، وَفِي هَذَا الْحَالِ لَا تَكُونُ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةً، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غَافِرٍ: 85] . الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لِيَتَوَسَّلَ بِهَا إِلَى دَفْعِ تِلْكَ الْبَلِيَّةِ الْحَاضِرَةِ وَالْمِحْنَةِ النَّاجِزَةِ، فَمَا كَانَ مَقْصُودُهُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْإِقْرَارَ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّه تَعَالَى، وَالِاعْتِرَافَ بِعِزَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ/ وَذِلَّةِ الْعُبُودِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَمَا كَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَقْرُونًا بِالْإِخْلَاصِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ مَا كَانَ مَقْبُولًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ ذَلِكَ الْإِقْرَارَ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى مَحْضِ التَّقْلِيدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ فَكَأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّه، إِلَّا أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ لِلْعَالَمِ إِلَهًا، فَهُوَ أَقَرَّ بِذَلِكَ الْإِلَهِ الَّذِي سَمِعَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِوُجُودِهِ، فَكَانَ هَذَا مَحْضَ التَّقْلِيدِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمْ تَصِرِ الْكَلِمَةُ مَقْبُولَةً مِنْهُ، وَمَزِيدُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أَنَّ فِرْعَوْنَ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ فِي سُورَةِ طه كَانَ مِنَ الدَّهْرِيَّةِ، وَكَانَ مِنَ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ الصَّانِعِ تَعَالَى، وَمِثْلُ هَذَا الِاعْتِقَادِ الْفَاحِشِ لَا تَزُولُ ظُلْمَتُهُ، إِلَّا بِنُورِ الْحُجَجِ الْقَطْعِيَّةِ، وَالدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ، وَأَمَّا بِالتَّقْلِيدِ الْمَحْضِ فَهُوَ لَا يُفِيدُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ ضَمًّا لِظُلْمَةِ التَّقْلِيدِ إِلَى ظُلْمَةِ الْجَهْلِ السَّابِقِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: رَأَيْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ بَعْضَ أَقْوَامٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا جَاوَزُوا الْبَحْرَ اشْتَغَلُوا بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ، فَلَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ انْصَرَفَ ذَلِكَ إِلَى الْعِجْلِ الَّذِي آمَنُوا بِعِبَادَتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي حَقِّهِ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْكُفْرِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ مَائِلَةً إِلَى التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ وَلِهَذَا السَّبَبِ اشْتَغَلُوا بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَلَّ فِي جَسَدِ ذَلِكَ الْعِجْلِ وَنَزَلَ فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَقَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ فَكَأَنَّهُ آمَنَ بِالْإِلَهِ الْمَوْصُوفِ بِالْجِسْمِيَّةِ وَالْحُلُولِ وَالنُّزُولِ، وَكُلُّ مَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ كَانَ كَافِرًا فَلِهَذَا السَّبَبِ مَا صَحَّ إِيمَانُ فِرْعَوْنَ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: لَعَلَّ الْإِيمَانَ إِنَّمَا كَانَ يَتِمُّ بِالْإِقْرَارِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّه تَعَالَى، وَالْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهَهُنَا لَمَّا أَقَرَّ فِرْعَوْنُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلَمْ يُقِرَّ بِالنُّبُوَّةِ لَا جَرَمَ لَمْ يَصِحَّ إِيمَانُهُ وَنَظِيرُهُ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَ الْكُفَّارِ لَوْ قَالَ أَلْفَ مَرَّةٍ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه فَإِنَّهُ لا يصح إيمان إِلَّا إِذَا قَالَ مَعَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رسول اللَّه، فكذا هاهنا. الْوَجْهُ السَّابِعُ: رَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى فِرْعَوْنَ بِفُتْيَا فِيهَا مَا قَوْلُ الْأَمِيرِ فِي عَبْدٍ نَشَأَ فِي مَالِ مَوْلَاهُ وَنِعْمَتِهِ، فَكَفَرَ نِعْمَتَهُ وَجَحَدَ حَقَّهُ، وَادَّعَى السِّيَادَةَ دُونَهُ، فَكَتَبَ فِرْعَوْنُ فِيهَا يَقُولُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبٍ جَزَاءُ الْعَبْدِ الْخَارِجِ عَلَى سَيِّدِهِ الْكَافِرِ بِنِعْمَتِهِ أَنْ يَغْرَقَ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا غَرِقَ رَفَعَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فُتْيَاهُ إِلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَنِ الْقَائِلُ لَهُ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ.

الْجَوَابُ: الْأَخْبَارُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ جِبْرِيلُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ قَوْلَهُ: وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ اللَّه تَعَالَى، لِأَنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَهُ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ وَهَذَا الْكَلَامُ لَيْسَ إِلَّا كَلَامَ اللَّه تَعَالَى. السُّؤَالُ الثَّانِي: ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ لِلْمَعْصِيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالْفَسَادِ السَّابِقِ، وَصِحَّةُ هَذَا التَّعْلِيلِ لَا تَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ. وَالْجَوَابُ: مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَقْلًا، وَأَحَدُ دَلَائِلِهِمْ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأَيْضًا فَالتَّعْلِيلُ مَا وَقَعَ بِمُجَرَّدِ الْمَعْصِيَةِ السَّابِقَةِ، بَلْ بِتِلْكَ الْمَعْصِيَةِ مَعَ كَوْنِهِ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَلْ يَصِحُّ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَذَ يَمْلَأُ فَمَهُ مِنَ الطِّينِ لِئَلَّا يَتُوبَ غَضَبًا عَلَيْهِ. وَالْجَوَابُ: الْأَقْرَبُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إِمَّا أَنْ يُقَالَ التَّكْلِيفُ كَانَ ثَابِتًا أَوْ مَا كَانَ ثَابِتًا، فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا لَمْ يَجُزْ عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ التَّوْبَةِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى التَّوْبَةِ وَعَلَى كُلِّ طَاعَةٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ [الْمَائِدَةِ: 2] وَأَيْضًا فَلَوْ مَنَعَهُ بِمَا ذَكَرُوهُ لَكَانَتِ التَّوْبَةُ مُمْكِنَةً، لِأَنَّ الْأَخْرَسَ قَدْ يَتُوبُ بِأَنْ يَنْدَمَ بِقَلْبِهِ وَيَعْزِمَ عَلَى تَرْكِ مُعَاوَدَةِ الْقَبِيحِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِمَا فَعَلَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَائِدَةٌ، وَأَيْضًا لَوْ مَنَعَهُ مِنَ التَّوْبَةِ لَكَانَ قَدْ رَضِيَ بِبَقَائِهِ عَلَى الْكُفْرِ، وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، وَأَيْضًا فَكَيْفَ يَلِيقُ باللَّه تَعَالَى أَنْ يَقُولَ لِمُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] ثُمَّ يَأْمُرُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ لَا بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى، فَهَذَا يُبْطِلُهُ قَوْلُ جِبْرِيلَ وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مَرْيَمَ: 64] وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَتِهِمْ: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 28] وَقَوْلُهُ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 27] وَأَمَّا إِنْ قِيلَ: إِنِ التَّكْلِيفَ كَانَ زَائِلًا عَنْ فِرْعَوْنَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِهَذَا الْفِعْلِ الَّذِي نُسِبَ جِبْرِيلُ إِلَيْهِ فَائِدَةٌ أَصْلًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ أَيْ نُلْقِيكَ بِنَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ وَهِيَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ. الثَّانِي: نُخْرِجُكَ مِنَ الْبَحْرِ وَنُخَلِّصُكَ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ قَوْمُكَ مِنْ قَعْرِ الْبَحْرِ، وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ تَغْرَقَ. وَقَوْلُهُ: بِبَدَنِكَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ فِي الْحَالِ الَّتِي أَنْتَ فِيهِ حِينَئِذٍ لَا رُوحَ فِيكَ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا وَعْدٌ لَهُ بِالنَّجَاةِ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آلِ عِمْرَانَ: 21] كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ نُنَجِّيكَ لَكِنَّ هَذِهِ النَّجَاةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِبَدَنِكَ لَا لِرُوحِكَ، وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ قَدْ/ يُذْكَرُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ كَمَا يُقَالُ: نُعْتِقُكَ وَلَكِنْ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَنُخَلِّصُكَ مِنَ السِّجْنِ وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ تَمُوتَ. الرَّابِعُ: قَرَأَ بَعْضُهُمْ نُنَجِّيكَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ نُلْقِيكَ بِنَاحِيَةٍ مِمَّا يَلِي الْبَحْرَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ طُرِحَ بَعْدَ الْغَرَقِ بِجَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ الْبَحْرِ. قَالَ كَعْبٌ: رَمَاهُ الْمَاءُ إِلَى السَّاحِلِ كَأَنَّهُ ثَوْرٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِبَدَنِكَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ فِي الْحَالِ الَّتِي كُنْتَ بَدَنًا مَحْضًا مِنْ غَيْرِ رُوحٍ. الثَّانِي: الْمُرَادُ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ كَامِلًا سَوِيًّا لَمْ تَتَغَيَّرْ. الثَّالِثُ: نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ أَيْ نُخْرِجُكَ مِنَ الْبَحْرِ عُرْيَانًا مِنْ غَيْرِ لِبَاسٍ. الرَّابِعُ: نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ أَيْ بِدِرْعِكَ، قَالَ اللَّيْثُ: الْبَدَنُ هُوَ الدِّرْعُ الَّذِي يَكُونُ قَصِيرَ الْكُمَّيْنِ، فَقَوْلُهُ: بِبَدَنِكَ أَيْ بِدِرْعِكَ، وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عَلَيْهِ دِرْعٌ مِنْ ذَهَبٍ يُعْرَفُ

[سورة يونس (10) : آية 93]

بِهَا، فَأَخْرَجَهُ اللَّه مِنَ الْمَاءِ مَعَ ذَلِكَ الدِّرْعِ لِيُعْرَفَ. أَقُولُ: إِنْ صَحَّ هَذَا فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْمًا مِمَّنِ اعْتَقَدُوا فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ لَمَّا لَمْ يُشَاهِدُوا غَرَقَهُ كَذَّبُوا بِذَلِكَ وَزَعَمُوا أَنَّ مِثْلَهُ لَا يَمُوتُ، فَأَظْهَرَ اللَّه تَعَالَى أَمْرَهُ بِأَنْ أَخْرَجَهُ مِنَ الْمَاءِ بِصُورَتِهِ حَتَّى شَاهَدُوهُ وَزَالَتِ الشُّبْهَةُ عَنْ قُلُوبِهِمْ. وَقِيلَ كَانَ مَطْرَحُهُ عَلَى مَمَرِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ. الثَّانِي: لَا يَبْعُدُ أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُشَاهِدَهُ الْخَلْقُ على ذلك الذل والمهانة بعد ما سَمِعُوا مِنْهُ قَوْلَهُ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النَّازِعَاتِ: 24] لِيَكُونَ ذَلِكَ زَجْرًا لِلْخَلْقِ عَنْ مِثْلِ طَرِيقَتِهِ، وَيَعْرِفُوا أَنَّهُ كَانَ بِالْأَمْسِ فِي نِهَايَةِ الْجَلَالَةِ وَالْعَظَمَةِ ثُمَّ آلَ أَمْرُهُ إِلَى مَا يَرَوْنَ. الثَّالِثُ: قَرَأَ بَعْضُهُمْ لِمَنْ خَلَقَكَ بِالْقَافِ أَيْ لِتَكُونَ لِخَالِقِكَ آيَةً كَسَائِرِ آيَاتِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَغْرَقَهُ مَعَ جَمِيعِ قَوْمِهِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى مَا أَخْرَجَ أَحَدًا مِنْهُمْ مِنْ قَعْرِ الْبَحْرِ، بَلْ خَصَّهُ بِالْإِخْرَاجِ كَانَ تَخْصِيصُهُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ دَالًّا عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَعَلَى صِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دَعْوَى النُّبُوَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ وَذَكَرَ حَالَ عَاقِبَةِ فِرْعَوْنَ وَخَتَمَ ذَلِكَ بِهَذَا الْكَلَامِ وَخَاطَبَ بِهِ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيَكُونُ ذَلِكَ زَاجِرًا لِأُمَّتِهِ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الدَّلَائِلِ، وَبَاعِثًا لَهُمْ عَلَى التَّأَمُّلِ فِيهَا وَالِاعْتِبَارِ بِهَا، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْقَصَصِ حُصُولُ الِاعْتِبَارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف: 111] . [سورة يونس (10) : آية 93] وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْخَتْمُ فِي وَاقِعَةِ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ، ذَكَرَ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الختم في أمر بني إسرائيل، وهاهنا بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ أَيْ أَسْكَنَّاهُمْ مَكَانَ صِدْقٍ أَيْ مَكَانًا مَحْمُودًا، وَقَوْلُهُ: مُبَوَّأَ صِدْقٍ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ مَصْدَرًا، أَيْ بَوَّأْنَاهُمْ تَبَوُّأَ صِدْقٍ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَنْزِلًا صَالِحًا مَرْضِيًّا، وَإِنَّمَا وُصِفَ الْمُبَوَّأُ بِكَوْنِهِ صِدْقًا، لِأَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ أَنَّهَا إِذَا مَدَحَتْ شَيْئًا أَضَافَتْهُ إِلَى الصِّدْقِ تَقُولُ: رَجُلُ صِدْقٍ، وَقَدَمُ صِدْقٍ. قَالَ تَعَالَى: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ [الْإِسْرَاءِ: 80] وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ إِذَا كان كاملا في وقت صَالِحًا لِلْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ، فَكُلُّ مَا يُظَنُّ فيه من الخبر، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصْدُقَ ذَلِكَ الظَّنُّ. الْبَحْثُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَهُمُ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فَقَدْ قَالَ بِهِ قَوْمٌ وَدَلِيلُهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ عَقِيبَ قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَحْوَالِهِمْ أَوْلَى، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ الشَّامَ وَمِصْرَ، وَتِلْكَ الْبِلَادُ فَإِنَّهَا بِلَادٌ كَثِيرَةُ الْخِصْبِ. قَالَ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ [الْإِسْرَاءِ: 1] وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ تِلْكَ الْمَنَافِعُ، وَأَيْضًا الْمُرَادُ مِنْهَا أَنَّهُ تَعَالَى أَوْرَثَ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَمِيعَ مَا كَانَ تَحْتَ أَيْدِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ مِنَ النَّاطِقِ وَالصَّامِتِ

[سورة يونس (10) : الآيات 94 إلى 97]

وَالْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، كَمَا قَالَ: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا [الْأَعْرَافِ: 137] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ وَالْمُرَادُ أَنَّ قَوْمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَقُوا عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَمَقَالَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافٍ حَتَّى قَرَءُوا التَّوْرَاةَ، فَحِينَئِذٍ تَنَبَّهُوا لِلْمَسَائِلِ وَالْمَطَالِبِ وَوَقَعَ/ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَبْقَى فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهَذَا قَالَ بِهِ قَوْمٌ عَظِيمٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُمْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ وَبَنُو قَيْنُقَاعٍ أَنْزَلْنَاهُمْ مَنْزِلَ صِدْقٍ مَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَالْمُرَادُ مَا فِي تِلْكَ الْبِلَادِ مِنَ الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ الَّتِي لَيْسَ مِثْلُهَا طَيِّبًا فِي الْبِلَادِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ بَقُوا عَلَى دِينِهِمْ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِمُ الِاخْتِلَافُ حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْعِلْمِ الْقُرْآنُ النَّازِلُ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ عِلْمًا، لِأَنَّهُ سَبَبُ الْعِلْمِ وَتَسْمِيَةُ السَّبَبِ بِاسْمِ الْمُسَبِّبِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ. وَفِي كَوْنِ الْقُرْآنِ سَبَبًا لِحُدُوثِ الِاخْتِلَافِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُخْبِرُونَ بِمَبْعَثِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيَفْتَخِرُونَ بِهِ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّه تَعَالَى كَذَّبُوهُ حَسَدًا وَبَغْيًا وَإِيثَارًا لِبَقَاءِ الرِّيَاسَةِ وَآمَنَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ صَارَ نُزُولُ الْقُرْآنِ سَبَبًا لِحُدُوثِ الِاخْتِلَافِ فِيهِمْ. الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ كُفَّارًا مَحْضًا بِالْكُلِّيَّةِ وَبَقُوا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا فَآمَنَ قَوْمٌ وَبَقِيَ أَقْوَامٌ آخَرُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ لَا حِيلَةَ فِي إِزَالَتِهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ يَقْضِي بَيْنَهُمْ، فَيَتَمَيَّزُ الْمُحِقُّ من المبطل والصديق من الزنديق. [سورة يونس (10) : الآيات 94 الى 97] فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) [في قَوْلُهُ تَعَالَى فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ إلى قوله فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ اختلافهم عند ما جَاءَهُمُ الْعِلْمُ أَوْرَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُقَوِّي قَلْبَهُ فِي صِحَّةِ الْقُرْآنِ وَالنُّبُوَّةِ، فَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ الشَّكُّ فِي وَضْعِ اللُّغَةِ، ضَمُّ بَعْضِ الشَّيْءِ إِلَى بَعْضٍ، يُقَالُ: شَكَّ الْجَوَاهِرَ فِي الْعِقْدِ إِذَا ضَمَّ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ. وَيُقَالُ شَكَكْتُ الصَّيْدَ إِذَا رَمَيْتَهُ فَضَمَمْتُ يَدَهُ أَوْ رِجْلَهُ إِلَى رِجْلِهِ وَالشَّكَائِكُ مِنَ الْهَوَادِجِ مَا شُكَّ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَالشِّكَاكُ الْبُيُوتُ الْمُصْطَفَّةُ وَالشَّكَائِكُ الْأَدْعِيَاءُ، لِأَنَّهُمْ يَشُكُّونَ أَنْفُسَهُمْ إِلَى قَوْمٍ لَيْسُوا مِنْهُمْ، أَيْ يَضُمُّونَ، وَشَكَّ الرَّجُلُ فِي السِّلَاحِ، إِذَا دَخَلَ فِيهِ وَضَمَّهُ إِلَى نَفْسِهِ وَأَلْزَمَهُ إِيَّاهَا، فَإِذَا قَالُوا: شَكَّ فُلَانٌ فِي الْأُمُورِ أَرَادُوا أَنَّهُ وَقَفَ نَفْسَهُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَيَجُوزُ هَذَا، وَيَجُوزُ هَذَا فَهُوَ يَضُمُّ إِلَى مَا يَتَوَهَّمُهُ شَيْئًا آخَرَ خِلَافَهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ: فِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا الْخِطَابِ مَنْ هُوَ؟ فَقِيلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقِيلَ غَيْرُهُ، أَمَّا مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ: فَاخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخِطَابَ مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الظاهر، والمراد غيره كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَابِ: 1] وَكَقَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: 65] وكقوله: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [الْمَائِدَةِ: 116] وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الْمَشْهُورَةِ: إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ وُجُوهٌ: الأول: قوله تعالى في آخر السورة يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي [يُونُسَ: 104] فَبَيَّنَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي أول الآية على سبيل الزمر، هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّصْرِيحِ. الثَّانِي: أَنَّ الرَّسُولَ لَوْ كَانَ شَاكًّا فِي نُبُوَّةِ نَفْسِهِ لَكَانَ شَكُّ غَيْرِهِ فِي نُبُوَّتِهِ أَوْلَى وَهَذَا يُوجِبُ سُقُوطَ الشَّرِيعَةِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ شَاكًّا فِي نُبُوَّةِ نَفْسِهِ، فَكَيْفَ يَزُولُ ذَلِكَ الشَّكُّ بِأَخْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ نُبُوَّتِهِ مَعَ أَنَّهُمْ فِي الْأَكْثَرِ كُفَّارٌ، وَإِنْ حَصَلَ فِيهِمْ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لَا سِيَّمَا وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَالْكُلُّ مُصَحَّفٌ مُحَرَّفٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ أَنَّ الْخِطَابَ، وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْأُمَّةُ، وَمِثْلُ هَذَا مُعْتَادٌ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ الْكَبِيرَ إِذَا كَانَ لَهُ أَمِيرٌ، / وَكَانَ تَحْتَ رَايَةِ ذَلِكَ الْأَمِيرِ جَمْعٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْمُرَ الرَّعِيَّةَ بِأَمْرٍ مَخْصُوصٍ، فَإِنَّهُ لَا يُوَجِّهُ خِطَابَهُ عَلَيْهِمْ، بَلْ يُوَجِّهُ ذَلِكَ الْخِطَابَ عَلَى ذَلِكَ الْأَمِيرِ الَّذِي جَعَلَهُ أَمِيرًا عَلَيْهِمْ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقْوَى تَأْثِيرًا فِي قُلُوبِهِمْ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَشُكَّ فِي ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُ مَتَى سَمِعَ هَذَا الْكَلَامَ، فَإِنَّهُ يُصَرِّحُ وَيَقُولُ: «يَا رَبِّ لَا أَشُكُّ وَلَا أَطْلُبُ الْحُجَّةَ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَلْ يَكْفِينِي مَا أَنْزَلْتَهُ عَلَيَّ مِنَ الدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ» وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ: 40] والمقصود أَنْ يُصَرِّحُوا بِالْجَوَابِ الْحَقِّ وَيَقُولُوا: سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سَبَأٍ: 41] وَكَمَا قَالَ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَةِ: 116] وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ يُصَرِّحَ عِيسَى عليه السلام بالبراءة عن ذلك فكذا هاهنا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مِنَ الْبَشَرِ، وَكَانَ حُصُولُ الْخَوَاطِرِ الْمُشَوَّشَةِ وَالْأَفْكَارِ الْمُضْطَرِبَةِ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْجَائِزَاتِ، وَتِلْكَ الْخَوَاطِرُ لَا تَنْدَفِعُ إِلَّا بِإِيرَادِ الدَّلَائِلِ وَتَقْرِيرِ الْبَيِّنَاتِ، فَهُوَ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ التَّقْرِيرَاتِ حَتَّى إِنَّ بِسَبَبِهَا تَزُولُ عَنْ خَاطِرِهِ تِلْكَ الْوَسَاوِسُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [هُودٍ: 12] وَأَقُولُ تَمَامُ التَّقْرِيرِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ فَافْعَلْ كَذَا وَكَذَا قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ وَالْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ لَا إِشْعَارَ فِيهَا الْبَتَّةَ بِأَنَّ الشَّرْطَ وَقَعَ أَوْ لَمْ يَقَعْ. وَلَا بِأَنَّ الْجَزَاءَ وَقَعَ أَوْ لَمْ يَقَعْ بَلْ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا بَيَانُ أَنَّ مَاهِيَّةَ ذَلِكَ الشَّرْطِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِمَاهِيَّةِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ فَقَطْ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ إِنْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ زَوْجًا كَانَتْ مُنْقَسِمَةً بِمُتَسَاوِيَيْنِ، فَهُوَ كَلَامٌ حَقٌّ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ كَوْنَ الْخَمْسَةِ زَوْجًا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهَا مُنْقَسِمَةً بِمُتَسَاوِيَيْنِ، ثُمَّ لَا يَدُلُّ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَنَّ الْخَمْسَةَ زَوْجٌ وَلَا عَلَى أَنَّهَا مُنْقَسِمَةٌ بِمُتَسَاوِيَيْنِ فكذا هاهنا هَذِهِ الْآيَةُ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ هَذَا الشَّكُّ لَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ هُوَ فِعْلَ كَذَا وَكَذَا، فَأَمَّا أَنَّ هَذَا الشَّكَّ وَقَعَ أَوْ لَمْ يَقَعْ، فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، وَالْفَائِدَةُ فِي إِنْزَالِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الرَّسُولِ أَنَّ تَكْثِيرَ الدَّلَائِلِ وَتَقْوِيَتَهَا مِمَّا يَزِيدُ فِي قُوَّةِ الْيَقِينِ وَطُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ وَسُكُونِ الصَّدْرِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ أَكْثَرَ اللَّه فِي كِتَابِهِ مِنْ تَقْرِيرِ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ.

وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ تَقُولَ: الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ اسْتِمَالَةُ قُلُوبِ الْكُفَّارِ وَتَقْرِيبُهُمْ مِنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ طَالَبُوهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَكَأَنَّهُمُ اسْتَحْيَوْا مِنْ تِلْكَ الْمُعَاوَدَاتِ وَالْمُطَالَبَاتِ، وَذَلِكَ الِاسْتِحْيَاءُ صَارَ مَانِعًا لَهُمْ عَنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ فَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِنْ نُبُوَّتِكَ فَتَمَسَّكْ بِالدَّلَائِلِ الْقَلَائِلِ، يَعْنِي أَوْلَى النَّاسِ بِأَنْ لَا يَشُكَّ/ فِي نُبُوَّتِهِ هُوَ نَفْسُهُ، ثُمَّ مَعَ هَذَا إِنْ طَلَبَ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّةِ نفسه بعد ما سَبَقَ مِنَ الدَّلَائِلِ الْبَاهِرَةِ وَالْبَيِّنَاتِ الْقَاهِرَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ عَيْبٌ وَلَا يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ نُقْصَانٌ، فَإِذَا لَمْ يُسْتَقْبَحْ مِنْهُ ذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَأَنْ لَا يُسْتَقْبَحَ مِنْ غَيْرِهِ طَلَبُ الدَّلَائِلِ كَانَ أَوْلَى، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْكَلَامِ اسْتِمَالَةُ الْقَوْمِ وَإِزَالَةُ الْحَيَاءِ عَنْهُمْ فِي تَكْثِيرِ الْمُنَاظَرَاتِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَنَّكَ لَسْتَ شَاكًّا الْبَتَّةَ وَلَوْ كُنْتَ شَاكًّا لَكَانَ لَكَ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ الشَّكِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ ذَلِكَ الْمُمْتَنِعُ وَاقِعًا، لَزِمَ مِنْهُ الْمُحَالُ الفلاني فكذا هاهنا وَلَوْ فَرَضْنَا وُقُوعَ هَذَا الشَّكِّ فَارْجِعْ إِلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ لِتَعْرِفَ بِهِمَا أَنَّ هَذَا الشَّكَّ زَائِلٌ وَهَذِهِ الشُّبْهَةَ بَاطِلَةٌ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ اللَّه خَاطَبَ الرَّسُولَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ وَهُوَ شَامِلٌ لِلْخَلْقِ وهو كقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطَّلَاقِ: 1] قَالَ: وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقَاوِيلِ، قَالَ الْقَاضِي: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ الرَّسُولُ دَاخِلًا تَحْتَ هَذَا الْخِطَابِ فَقَدْ عَادَ السُّؤَالُ، سَوَاءٌ أُرِيدَ مَعَهُ غَيْرُهُ أَوْ لَمْ يُرَدْ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُرَادَ هُوَ مَعَ غَيْرِهِ، فَمَا الَّذِي يَمْنَعُ أَنْ يُرَادَ بِانْفِرَادِهِ كَمَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ، ثُمَّ قَالَ: وَمِثْلُ هَذَا التَّأْوِيلِ يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ التَّحْصِيلِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: هُوَ أَنَّ لَفْظَ (إِنْ) فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ لِلنَّفْيِ أَيْ مَا كُنْتَ فِي شَكٍّ قَبْلُ يَعْنِي لَا نَأْمُرُكَ بِالسُّؤَالِ لِأَنَّكَ شَاكٌّ لَكِنْ لِتَزْدَادَ يَقِينًا كَمَا ازْدَادَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمُعَايَنَةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى يَقِينًا. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ هَذَا الْخِطَابُ لَيْسَ مَعَ الرَّسُولِ فَتَقْرِيرُهُ أَنَّ النَّاسَ فِي زَمَانِهِ كَانُوا فِرَقًا ثَلَاثَةً، الْمُصَدِّقُونَ بِهِ وَالْمُكَذِّبُونَ لَهُ وَالْمُتَوَقِّفُونَ فِي أَمْرِهِ الشَّاكُّونَ فِيهِ، فَخَاطَبَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِهَذَا الْخِطَابِ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْهُدَى عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ فَاسْأَلْ أَهْلَ الْكِتَابِ لِيَدُلُّوكَ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَإِنَّمَا وَحَّدَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ وَهُوَ يريد الجمع، كما في قوله: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ [الانفطار: 6، 7] ويا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ [الِانْشِقَاقِ: 6] وَقَوْلِهِ: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ [الزُّمَرِ: 49] وَلَمْ يُرِدْ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْآيَاتِ إِنْسَانًا بِعَيْنِهِ، بَلِ الْمُرَادُ هُوَ الجماعة فكذا هاهنا وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى لَهُمْ مَا يُزِيلُ ذَلِكَ الشَّكَّ عَنْهُمْ حَذَّرَهُمْ مِنْ أَنْ يُلْحَقُوا بِالْقِسْمِ الثَّانِي وَهُمُ الْمُكَذِّبُونَ فَقَالَ: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ. المسألة الثالثة: اختلفوا في أن المسؤول منه في قوله: فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللَّه بْنِ سَلَامٍ، وَعَبْدِ اللَّه بْنِ صُورِيَا، وَتَمِيمٍ/ الدَّارِيِّ، وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُوثَقُ بِخَبَرِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْكُلُّ سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنَ الْكُفَّارِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا بَلَغُوا عَدَدَ التَّوَاتُرِ ثُمَّ قَرَءُوا آيَةً مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَتِلْكَ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى الْبِشَارَةِ بِمَقْدَمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ حَصَلَ الْغَرَضُ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ مَذْهَبُكُمْ أَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ قَدْ دَخَلَهَا التَّحْرِيفُ وَالتَّغْيِيرُ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهَا.

[سورة يونس (10) : آية 98]

قُلْنَا: إِنَّهُمْ إِنَّمَا حَرَّفُوهَا بِسَبَبِ إِخْفَاءِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنْ بَقِيَتْ فِيهَا آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّهَا لَمَّا بَقِيَتْ مَعَ تَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ عَلَى إِزَالَتِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَإِمَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ مَعْرِفَةُ أَيِّ الْأَشْيَاءِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْقُرْآنُ وَمَعْرِفَةُ نُبُوَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَجَعَ ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ [يُونُسَ: 93] وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ هُوَ الْأَهَمُّ وَالْحَاجَةُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ أَتَمُّ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ هَذَا الطَّرِيقَ قَالَ بَعْدَهُ: لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أَيْ فَاثْبُتْ وَدُمْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنِ انْتِفَاءِ الْمِرْيَةِ عَنْكَ، وَانْتِفَاءِ التَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اللَّه، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّهْيِيجِ وَإِظْهَارِ التَّشَدُّدِ وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ نُزُولِهِ «لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ بَلْ أَشْهَدُ أَنَّهُ الْحَقُّ» . ثُمَّ قَالَ: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِرَقَ الْمُكَلَّفِينَ ثَلَاثَةٌ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُصَدِّقِينَ بِالرَّسُولِ، أَوْ مِنَ الْمُتَوَقِّفِينَ فِي صِدْقِهِ، أَوْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَمْرَ الْمُتَوَقِّفِ أَسْهَلُ مِنْ أَمْرِ الْمُكَذِّبِ، لَا جَرَمَ قَدْ ذَكَرَ الْمُتَوَقِّفَ بِقَوْلِهِ: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الْمُكَذِّبِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنَ الْخَاسِرِينَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا فَصَّلَ هَذَا التَّفْصِيلَ، بَيَّنَ أَنَّ لَهُ عِبَادًا قَضَى عَلَيْهِمْ بِالشَّقَاءِ فَلَا يَتَغَيَّرُونَ وَعِبَادًا قَضَى لَهُمْ بِالْكَرَامَةِ، فَلَا يَتَغَيَّرُونَ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: كَلِمَاتُ عَلَى الْجَمْعِ، وقرأ الباقون: كَلِمَتُ عَلَى لَفْظِ الْوَاحِدِ، وَأَقُولُ إِنَّهَا كَلِمَاتُ بِحَسَبِ الْكَثْرَةِ النَّوْعِيَّةِ أَوِ الصِّنْفِيَّةِ وَكَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ بِحَسَبِ الْوَاحِدَةِ الْجِنْسِيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ حُكْمُ اللَّه بِذَلِكَ وَإِخْبَارُهُ عَنْهُ، وَخَلْقُهُ فِي الْعَبْدِ مَجْمُوعَ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِيَةِ، الَّذِي هُوَ مُوجِبٌ لِحُصُولِ ذَلِكَ الْأَثَرِ، أَمَّا الْحُكْمُ وَالْإِخْبَارُ وَالْعِلْمُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا مَجْمُوعُ/ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِي فَظَاهِرٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الْقُدْرَةَ لَمَّا كَانَتْ صَالِحَةً لِلطَّرَفَيْنِ لَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ، وَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ مِنَ اللَّه تَعَالَى قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، وَعِنْدَ حُصُولِ هَذَا الْمَجْمُوعِ يَجِبُ الْفِعْلُ، وَقَدِ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فِي إِثْبَاتِ الْقَضَاءِ اللَّازِمِ وَالْقَدْرِ الْوَاجِبِ وَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَلَا مَحِيصَ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الْبَتَّةَ، وَلَوْ جَاءَتْهُمُ الدَّلَائِلُ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا وَلَا حَصْرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَا يَهْدِي إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّه تَعَالَى فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ تِلْكَ الْإِعَانَةُ ضَاعَتْ تِلْكَ الدَّلَائِلُ. الْقِصَّةُ الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة، قصة يونس عليه السلام [سورة يونس (10) : آية 98] فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى

يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96، 97] أَتْبَعَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ قَوْمَ يُونُسَ آمَنُوا بَعْدَ كُفْرِهِمْ وَانْتَفَعُوا بِذَلِكَ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِخَاتِمَةِ الْكُفْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِخَاتِمَةِ الْإِيمَانِ وَكُلُّ مَا قَضَى اللَّه بِهِ فَهُوَ وَاقِعٌ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَلِمَةِ فَلَوْلا فِي هَذِهِ الْآيَةِ طَرِيقَانِ: الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَاهُ النَّفْيُ، رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» قَالَ: قَالَ أَبُو مَالِكٍ صَاحِبُ ابْنِ عَبَّاسٍ كُلُّ مَا فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى مِنْ ذِكْرِ لَوْلَا، فَمَعْنَاهُ هَلَّا، إِلَّا حَرْفَيْنِ، فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها مَعْنَاهُ فَمَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ، فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا، وَكَذَلِكَ فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ [هود: 116] مَعْنَاهُ، فَمَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ، فَعَلَى هَذَا تَقْدِيرُ الْآيَةِ، فَمَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ. وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ عَنِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ جَرَى عَلَى الْقَرْيَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَهْلَهَا وَوَقَعَ اسْتِثْنَاءُ الْقَوْلِ مِنَ الْقَرْيَةِ، فَكَانَ كَقَوْلِهِ: وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أحد ... ألا أواري وَقُرِئَ أَيْضًا بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّ (لَوْلَا) مَعْنَاهُ هَلَّا، وَالْمَعْنَى هَلَّا كَانَتْ قرية واحدة من القرى التي أهلكناها تابت عَنِ الْكُفْرِ وَأَخْلَصَتْ فِي الْإِيمَانِ قَبْلَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ. وَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي اسْتِثْنَاءَ قَوْمِ يُونُسَ مِنَ الْقُرَى، إِلَّا أَنَّ الْمَعْنَى اسْتِثْنَاءُ قَوْمِ يُونُسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى وَلَكِنَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا فَعَلْنَا بِهِمْ كَذَا وَكَذَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعَثَ إِلَى نِينَوَى مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ فَكَذَّبُوهُ فَذَهَبَ عَنْهُمْ مُغَاضِبًا، فَلَمَّا فَقَدُوهُ خَافُوا نُزُولَ الْعِقَابِ، فَلَبِسُوا الْمُسُوحَ وَعَجُّوا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ يُونُسُ قَالَ لَهُمْ إِنَّ أَجْلَكُمْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً فَقَالُوا: إِنْ رَأَيْنَا أَسْبَابَ الْهَلَاكِ آمَنَّا بِكَ، فَلَمَّا مَضَتْ خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ لَيْلَةً ظَهَرَ فِي السَّمَاءِ غَيْمٌ أَسْوَدُ شَدِيدُ السَّوَادِ، فَظَهَرَ مِنْهُ دُخَانٌ شَدِيدٌ وَهَبَطَ ذَلِكَ الدُّخَانُ حَتَّى وَقَعَ فِي الْمَدِينَةِ وَسَوَّدَ سُطَوَحَهُمْ فَخَرَجُوا إِلَى الصَّحْرَاءِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَبَيْنَ الدَّوَابِّ وَأَوْلَادِهَا فَحَنَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَعَلَتِ الْأَصْوَاتُ، وَكَثُرَتِ التَّضَرُّعَاتُ وَأَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَالتَّوْبَةَ وَتَضَرَّعُوا إِلَى اللَّه تَعَالَى فَرَحِمَهُمْ وَكَشَفَ عَنْهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بَلَغَ مِنْ تَوْبَتِهِمْ أَنْ يَرُدُّوا الْمَظَالِمَ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَقْلَعُ الْحَجَرَ بَعْدَ أَنْ وَضَعَ عَلَيْهِ بِنَاءَ أَسَاسِهِ فَيَرُدُّهُ إِلَى مَالِكِهِ، وَقِيلَ خَرَجُوا إِلَى شَيْخٍ مِنْ بَقِيَّةِ عُلَمَائِهِمْ فَقَالُوا قَدْ نَزَلَ بِنَا الْعَذَابُ فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَهُمْ قُولُوا يَا حَيُّ حِينَ لَا حَيَّ وَيَا حَيُّ يَا مُحْيِي الْمَوْتَى وَيَا حَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، فَقَالُوا فَكَشَفَ اللَّه الْعَذَابَ عَنْهُمْ، وَعَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنَّ ذُنُوبَنَا قَدْ عَظُمَتْ وَجَلَّتْ وَأَنْتَ أَعْظَمُ مِنْهَا وَأَجَلُّ افْعَلْ بِنَا مَا أَنْتَ أَهْلُهُ وَلَا تَفْعَلْ بِنَا مَا نَحْنُ أَهْلُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْ قَالَ قَائِلٌ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ تَابَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ وَلَمْ يَقْبَلْ تَوْبَتَهُ وَحَكَى عَنْ قَوْمِ يُونُسَ أَنَّهُمْ تَابُوا وَقَبِلَ تَوْبَتَهُمْ فَمَا الْفَرْقُ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ فِرْعَوْنَ إِنَّمَا تَابَ بَعْدَ أَنْ شَاهَدَ الْعَذَابَ، وَأَمَّا قَوْمُ يُونُسَ فَإِنَّهُمْ تَابُوا قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَمَّا ظَهَرَتْ لَهُمْ أَمَارَاتٌ دَلَّتْ عَلَى قُرْبِ الْعَذَابِ تَابُوا قَبْلَ أن شاهدوا فظهر الفرق.

[سورة يونس (10) : الآيات 99 إلى 100]

[سورة يونس (10) : الآيات 99 الى 100] وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فِي بَيَانِ حِكَايَةِ شُبُهَاتِ الْكُفَّارِ فِي إِنْكَارِ النُّبُوَّةِ مَعَ الْجَوَابِ عَنْهَا، وَكَانَتْ إِحْدَى شُبُهَاتِهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُهَدِّدُهُمْ بِنُزُولِ الْعَذَابِ مَعَ الكافرين، وبعد أَتْبَاعَهُ أَنَّ اللَّه يَنْصُرُهُمْ وَيُعْلِي شَأْنَهُمْ وَيُقَوِّي جَانِبَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ الْكُفَّارَ مَا رَأَوْا ذَلِكَ فَجَعَلُوا ذَلِكَ شُبْهَةً فِي الطَّعْنِ فِي نُبُوَّتِهِ، وَكَانُوا يُبَالِغُونَ فِي اسْتِعْجَالِ ذَلِكَ الْعَذَابِ عَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ تَأْخِيرَ الْمَوْعُودِ بِهِ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْوَعْدِ، ثُمَّ ضَرَبَ لِهَذَا أَمْثِلَةً وَهِيَ وَاقِعَةُ نُوحٍ وَوَاقِعَةُ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَامْتَدَّتْ هَذِهِ الْبَيَانَاتُ إِلَى هَذِهِ الْمَقَامَاتِ، ثُمَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَّنَ أَنَّ جِدَّ الرَّسُولِ فِي دُخُولِهِمْ فِي الْإِيمَانِ لَا يَنْفَعُ وَمُبَالَغَتَهُ فِي تَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ، وَفِي الْجَوَابِ عَنِ الشُّبُهَاتِ لَا تُفِيدُ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَخْلِيقِ اللَّه تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ وَإِرْشَادِهِ وَهِدَايَتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَحْصُلِ الْإِيمَانُ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ بِمَشِيئَةِ اللَّه تَعَالَى، فَقَالُوا كَلِمَةَ (لَوْ) تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ، فَقَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَا حَصَلَتْ تِلْكَ الْمَشِيئَةُ وَمَا حَصَلَ إِيمَانُ أَهْلِ الْأَرْضِ بِالْكُلِّيَّةِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَرَادَ إِيمَانَ الْكُلِّ، أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّ الْمُرَادَ مَشِيئَةُ الْإِلْجَاءِ، أَيْ لَوْ شَاءَ اللَّه أَنْ يُلْجِئَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ لَقَدَرَ عَلَيْهِ وَلَصَحَّ ذَلِكَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ مَا فَعَلَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ الصَّادِرَ مِنَ الْعَبْدِ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ لَا يَنْفَعُهُ وَلَا يُفِيدُهُ فَائِدَةٌ، ثُمَّ قَالَ الْجُبَّائِيُّ: وَمَعْنَى إِلْجَاءِ اللَّه تَعَالَى إِيَّاهُمْ إِلَى ذَلِكَ، أَنْ يُعَرِّفَهُمُ اضْطِرَارًا أَنَّهُمْ لَوْ حَاوَلُوا تَرْكَهُ، حَالَ اللَّه بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَعِنْدَ هَذَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْعَلُوا مَا أُلْجِئُوا إِلَيْهِ كَمَا أَنَّ مَنْ عَلِمَ مِنَّا أَنَّهُ إِنْ حَاوَلَ قَتْلَ مَلِكٍ فَإِنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنْهُ قَهْرًا لَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ لِذَلِكَ الْفِعْلِ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْمَدْحِ والثواب فكذا هاهنا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ ضَعِيفٌ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَافِرَ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكُفْرِ فَهَلْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْإِيمَانِ، أَوْ مَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ؟ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْكُفْرِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِيمَانِ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْكُفْرِ مُسْتَلْزِمَةً لِلْكُفْرِ، فَإِذَا كَانَ خَالِقُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ هُوَ اللَّه تَعَالَى لَزِمَ/ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِيهِ قُدْرَةً مُسْتَلْزِمَةً لِلْكُفْرِ فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ أَرَادَ مِنْهُ الْكُفْرَ وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْقُدْرَةُ صَالِحَةً لِلضِّدَّيْنِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْقَوْمِ، فَرُجْحَانُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى الْمُرَجِّحِ فَقَدْ حَصَلَ الرُّجْحَانُ لَا لِمُرَجِّحٍ وَهَذَا بَاطِلٌ، وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى مُرَجِّحٍ فَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَبْدِ أَوْ مِنَ اللَّه فَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَبْدِ عَادَ التَّقْسِيمُ فِيهِ وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ مِنَ اللَّه تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَجْمُوعُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ مَعَ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ مُوجِبًا لِذَلِكَ الْكُفْرِ فَإِذَا كَانَ خَالِقُ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِيَةُ هُوَ اللَّه تَعَالَى فَحِينَئِذٍ عَادَ الْإِلْزَامُ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى مَشِيئَةِ الْإِلْجَاءِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَطْلُبُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ إِيمَانٌ لَا يُفِيدُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِلرَّسُولِ عَلَى تَحْصِيلِ هَذَا الْإِيمَانِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِيمَانِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ هَذَا الْإِيمَانُ النَّافِعُ حَتَّى يَكُونَ الْكَلَامُ مُنْتَظِمًا، فَأَمَّا حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَشِيئَةِ الْقَهْرِ وَالْإِلْجَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ. الثَّالِثُ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْإِلْجَاءِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ هو أن

يُظْهِرَ لَهُ آيَاتٍ هَائِلَةً يَعْظُمُ خَوْفُهُ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا، ثُمَّ يَأْتِي بِالْإِيمَانِ عِنْدَهَا. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ خَلْقَ الْإِيمَانِ فِيهِمْ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ إِنْزَالَ هَذِهِ الْآيَاتِ لَا يُفِيدُ وَهُوَ قوله: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96، 97] وَقَالَ أَيْضًا: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْأَنْعَامِ: 111] وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الثَّانِيَ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْإِلْجَاءُ إِلَى الْإِيمَانِ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ عِبَارَةً عَنْ خَلْقِ الْإِيمَانِ فِيهِمْ، ثُمَّ يُقَالُ لَكِنَّهُ مَا خَلَقَ الْإِيمَانَ فِيهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَا أَرَادَ حُصُولَ الْإِيمَانِ لَهُمْ وَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِنَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ قَالَ: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَكَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي أَحَدٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ الْقُدْرَةَ الْقَاهِرَةَ وَالْمَشِيئَةَ النَّافِذَةَ لَيْسَتْ إِلَّا لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لَا حُكْمَ لِلْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ قَالُوا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ الْإِذْنَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِطْلَاقِ فِي الْفِعْلِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ وَصَرِيحُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ حُصُولِ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى هَذَا الْإِيمَانِ، ثُمَّ قَالُوا: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّه تَعَالَى وَالِاشْتِغَالَ بِشُكْرِهِ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ لَا يَدُلُّ الْعَقْلُ عَلَى حُصُولِ نَفْعٍ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْعَقْلِ، بَيَانُ الْأَوَّلِ أَنَّ ذَلِكَ النَّفْعَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمَشْكُورِ أَوْ إِلَى الشَّاكِرِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ/ فِي الشَّاهِدِ الْمَشْكُورُ يَنْتَفِعُ بِالشُّكْرِ فَيَسُرُّهُ الشُّكْرُ وَيَسُوءُهُ الْكُفْرَانُ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الشُّكْرُ حَسَنًا وَالْكُفْرَانُ قَبِيحًا، أَمَّا اللَّه سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ لَا يَسُرُّهُ الشُّكْرُ وَلَا يَسُوءُهُ الْكُفْرَانُ، فَلَا يَنْتَفِعُ بِهَذَا الشُّكْرِ أَصْلًا. وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ الشَّاكِرَ يَتْعَبُ فِي الْحَالِ بِذَلِكَ الشُّكْرِ وَيَبْذُلُ الْخِدْمَةَ مَعَ أَنَّ الْمَشْكُورَ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْبَتَّةَ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ ذَلِكَ الشُّكْرَ عِلَّةُ الثَّوَابِ، لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ فَإِنَّ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَى الْغَيْرِ إِنَّمَا يُعْقَلُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُعْطِ لَأَوْجَبَ امْتِنَاعُهُ مِنْ إِعْطَاءِ ذَلِكَ الْحَقِّ حُصُولَ نُقْصَانٍ فِي حَقِّهِ، وَلَمَّا كَانَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهًا عَنِ النُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ لَمْ يُعْقَلْ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْإِيمَانِ وَبِالشُّكْرِ، لَا يُفِيدُ نَفْعًا بِحَسَبِ الْعَقْلِ الْمَحْضِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ مُوجِبًا لَهُ، فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ صِحَّةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا بِعِلْمِ اللَّه أَوْ بِتَكْلِيفِهِ أَوْ بِإِقْدَارِهِ عَلَيْهِ. وَجَوَابُنَا: أَنَّ حَمْلَ الْإِذْنِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ الْعَقْلِيَّ يُقَوِّي قَوْلَنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَنَجْعَلُ بِالنُّونِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ كِنَايَةً عَنِ اسْمِ اللَّه تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ خَالِقَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ هُوَ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الرِّجْسَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ الْقَبِيحُ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الْأَحْزَابِ: 33] وَالْمُرَادُ مِنَ الرجس هاهنا الْعَمَلُ الْقَبِيحُ، سَوَاءٌ كَانَ كُفْرًا أَوْ مَعْصِيَةً، وَبِالتَّطْهِيرِ نَقْلُ الْعَبْدِ مِنْ رِجْسِ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ إِلَى طَهَارَةِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّه تَعَالَى وَتَخْلِيقِهِ، ذَكَرَ بَعْدَهُ أَنَّ الرِّجْسَ لَا يَحْصُلُ

[سورة يونس (10) : آية 101]

إِلَّا بِتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ وَالرِّجْسُ الَّذِي يُقَابِلُ الْإِيمَانَ لَيْسَ إِلَّا الْكُفْرَ، فَثَبَتَ دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ مِنَ اللَّه تَعَالَى. أَجَابَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ النَّحْوِيُّ عَنْهُ فَقَالَ: الرِّجْسُ، يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَذَابَ، فَقَوْلُهُ: وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ أَيْ يُلْحِقُ الْعَذَابَ بِهِمْ كَمَا قَالَ: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ [الْفَتْحِ: 6] وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ رِجْسٌ كَمَا قَالَ: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التَّوْبَةِ: 28] وَالْمَعْنَى أَنَّ الطَّهَارَةَ الثَّابِتَةَ لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ تَحْصُلْ لَهُمْ. وَالْجَوَابُ: أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ الْجَهْلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا لِلْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ وَلَا يَقْصِدُ إِلَى تَكْوِينِهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ ضِدَّهُ، وَإِنَّمَا قَصَدَ إِلَى تَحْصِيلِ ضِدِّهِ، فَلَوْ كَانَ بِهِ لَمَا حَصَلَ إِلَّا مَا قَصَدَهُ وَأَوْرَدْنَا السُّؤَالَاتِ عَلَى هَذِهِ الْحُجَّةِ وَأَجَبْنَا عَنْهَا فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. وَأَمَّا حَمْلُ الرِّجْسِ عَلَى الْعَذَابِ، فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الرِّجْسَ عِبَارَةٌ عَنِ الْفَاسِدِ الْمُسْتَقْذَرِ الْمُسْتَكْرَهِ، فَحَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى جَهْلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى عَذَابِ اللَّه مَعَ كَوْنِهِ حَقًّا صِدْقًا صَوَابًا، وَأَمَّا حَمْلُ لَفْظِ الرِّجْسِ عَلَى حُكْمِ اللَّه بِرَجَاسَتِهِمْ، فَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، لِأَنَّ حُكْمَ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ صِفَتُهُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنْ صِفَةَ اللَّه رِجْسٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحُجَّةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ظاهرة. [سورة يونس (10) : آية 101] قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) [في قَوْلُهُ تَعَالَى قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ قُلِ انْظُرُوا بِكَسْرِ اللَّامِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْكَسْرُ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا نَقَلُوا حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ إِلَى اللَّامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَاتِ السَّالِفَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَخْلِيقِ اللَّه تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ، أَمَرَ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي الدَّلَائِلِ حَتَّى لَا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْجَبْرُ الْمَحْضُ فَقَالَ: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى مَطْلُوبَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى إِلَّا بِالتَّدَبُّرِ فِي الدَّلَائِلِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَفَكَّرُوا فِي الْخَلْقِ وَلَا تَتَفَكَّرُوا في الخلق» وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الدَّلَائِلَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ من عالم السموات أَوْ مِنْ عَالَمِ الْأَرْضِ، أَمَّا الدَّلَائِلُ السَّمَاوِيَّةُ، فَهِيَ حَرَكَاتُ الْأَفْلَاكِ وَمَقَادِيرُهَا وَأَوْضَاعُهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ، وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ، وَأَمَّا الدَّلَائِلُ الْأَرْضِيَّةُ، فَهِيَ النَّظَرُ فِي أَحْوَالِ الْعَنَاصِرِ الْعُلْوِيَّةِ، وَفِي أَحْوَالِ الْمَعَادِنِ وَأَحْوَالِ النَّبَاتِ وَأَحْوَالِ الْإِنْسَانِ خَاصَّةً، ثُمَّ يَنْقَسِمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ إِلَى أَنْوَاعٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا. وَلَوْ أَنَّ الْإِنْسَانَ أَخَذَ يَتَفَكَّرُ فِي كَيْفِيَّةِ حِكْمَةِ اللَّه سُبْحَانَهُ فِي تَخْلِيقِ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ لا نقطع عَقْلُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى أَقَلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ تِلْكَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ أَكْثَرُ مَنْ ذَكَرَ هَذِهِ الدَّلَائِلَ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ قَوْلَهُ: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَذْكُرِ التَّفْصِيلَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ، حَتَّى إِنَّ الْعَاقِلَ يَتَنَبَّهُ لِأَقْسَامِهَا وَحِينَئِذٍ يَشْرَعُ فِي تَفْصِيلِ حِكْمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِقَدْرِ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْبَشَرِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِهَذَا التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ بَيَّنَ

[سورة يونس (10) : الآيات 102 إلى 103]

بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا التَّفَكُّرَ وَالتَّدَبُّرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لَا يَنْفَعُ فِي حَقِّ مَنْ حَكَمَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الْأَزَلِ بِالشَّقَاءِ وَالضَّلَالِ، فَقَالَ: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ النَّحْوِيُّونَ: (مَا) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ نَفْيًا بِمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالنُّذُرَ لَا تُفِيدُ الْفَائِدَةَ فِي حَقِّ مَنْ حَكَمَ اللَّه عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، كَقَوْلِكَ: مَا يُغْنِي عَنْكَ الْمَالُ إِذَا لَمْ تُنْفِقْ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامًا كَقَوْلِكَ: أَيُّ شَيْءٍ يُغْنِي عَنْهُمْ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَاتُ هِيَ الدَّلَائِلُ، وَالنُّذُرُ الرُّسُلُ الْمُنْذِرُونَ أَوِ الْإِنْذَارَاتُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ وَما يُغْنِي بالياء من تحت. [سورة يونس (10) : الآيات 102 الى 103] فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَعْنَى هَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا أَيَّامًا مِثْلَ أَيَّامِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَانُوا يَتَوَعَّدُونَ كُفَّارَ زَمَانِهِمْ بِمَجِيءِ أَيَّامٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَهُمْ كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهَا وَيَسْتَعْجِلُونَهَا عَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ، وَكَذَلِكَ الْكُفَّارُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْكِسَائِيُّ فِي رِوَايَةِ نُصَيْرٍ نُنْجِي خَفِيفَةً، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: مُشَدَّدَةً وَهُمَا لُغَتَانِ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: (ثُمَّ) حَرْفُ عَطْفٍ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ كَانَتْ عَادَتُنَا فِيمَا مَضَى أَنْ نُهْلِكَهُمْ سَرِيعًا ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمَّا أَمَرَ الرَّسُولَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنْ يُوَافِقَ الْكُفَّارَ فِي انْتِظَارِ الْعَذَابِ ذَكَرَ التَّفْصِيلَ فَقَالَ: الْعَذَابُ لَا يَنْزِلُ إِلَّا عَلَى الْكُفَّارِ وَأَمَّا الرَّسُولُ وَأَتْبَاعُهُ فَهُمْ أَهْلُ النَّجَاةِ. ثُمَّ قَالَ: كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْإِنْجَاءِ نَنْصُرُ الْمُؤْمِنِينَ وَنُهْلِكُ المشركين وحقا عَلَيْنَا اعْتِرَاضٌ، يَعْنِي حَقَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا حَقًّا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي قَوْلُهُ: حَقًّا عَلَيْنا الْمُرَادُ بِهِ الْوُجُوبُ، لِأَنَّ تَخْلِيصَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَذَابِ إِلَى الثَّوَابِ وَاجِبٌ وَلَوْلَاهُ لَمَا حَسُنَ مِنَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُلْزِمَهُمُ الْأَفْعَالَ الشَّاقَّةَ وَإِذَا ثَبَتَ وَجُوبُهُ لِهَذَا السَّبَبِ جَرَى مَجْرَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لِلسَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّا نَقُولُ إِنَّهُ حَقٌّ بِسَبَبِ الْوَعْدِ وَالْحُكْمِ، وَلَا نَقُولُ إِنَّهُ حَقٌّ بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى خَالِقِهِ شَيْئًا.

[سورة يونس (10) : الآيات 104 إلى 106]

[سورة يونس (10) : الآيات 104 الى 106] قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ عَلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ وَأَبْلَغِ النِّهَايَاتِ، أَمَرَ رَسُولَهُ بِإِظْهَارِ دِينِهِ وَبِإِظْهَارِ الْمُبَايَنَةِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، لِكَيْ تَزُولَ الشُّكُوكُ وَالشُّبُهَاتُ فِي أَمْرِهِ وَتَخْرُجَ عِبَادَةُ اللَّه مِنْ طَرِيقَةِ السِّرِّ إِلَى الإظهار فقال: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ دِينَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الْخَبَرِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ قَدْ صَبَأَ وَهُوَ صَابِئٌ فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّهُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً [النَّحْلِ: 120] وَلِقَوْلِهِ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً [الْأَنْعَامِ: 79] وَلِقَوْلِهِ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الْكَافِرُونَ: 2] وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْرِفُونَ دِينِي فَأَنَا أُبَيِّنُهُ لَكُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ أُمُورًا. فَالْقَيْدُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَإِنَّمَا وَجَبَ تَقْدِيمُ هَذَا النَّفْيِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إِزَالَةَ النُّقُوشِ الْفَاسِدَةِ عَنِ اللَّوْحِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مُقَدَّمَةً عَلَى إِثْبَاتِ النُّقُوشِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ اللَّوْحِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ هَذَا النَّفْيُ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ غَايَةُ التَّعْظِيمِ وَهِيَ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ حَصَلَتْ لَهُ غَايَةُ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَأَمَّا الْأَوْثَانُ فَإِنَّهَا أَحْجَارٌ وَالْإِنْسَانُ أَشْرَفُ حَالًا مِنْهَا، وَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْأَشْرَفِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِعِبَادَةِ الْأَخَسِّ. الْقَيْدُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ تَرْكُ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّه، بَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَةِ اللَّه. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ الْمَعْبُودِ الْحَقِّ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ. قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنِّي أَعْبُدُ اللَّه الَّذِي خَلَقَكُمْ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ثَانِيًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ ثَالِثًا، وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ الثَّلَاثَةُ قَدْ قَرَّرْنَاهَا فِي الْقُرْآنِ مِرَارًا وَأَطْوَارًا فَهَهُنَا اكْتَفَى بِذِكْرِ التَّوَفِّي مِنْهَا لِكَوْنِهِ مُنَبِّهًا عَلَى الْبَوَاقِي. الثَّانِي: أَنَّ الْمَوْتَ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ مَهَابَةً، فَنَخُصُّ هَذَا الْوَصْفَ بِالذِّكْرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، لِيَكُونَ أَقْوَى فِي الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ لَمَّا اسْتَعْجَلُوا نُزُولَ الْعَذَابِ قَالَ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا [يونس: 102، 103] فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُهْلِكُ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ وَيُبْقِي الْمُؤْمِنِينَ وَيُقَوِّي دَوْلَتَهُمْ فَلَمَّا كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ لَا جرم قال هاهنا: وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قَرَّرَهُ وَبَيَّنَهُ فِي تِلْكَ الْآيَةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَعْبُدُ ذَلِكَ الَّذِي وَعَدَنِي بِإِهْلَاكِهِمْ وَبِإِبْقَائِي. وَالْقَيْدُ الثَّالِثُ: مِنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْعِبَادَةَ وَهِيَ مِنْ جِنْسِ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا لَمْ يَصِرِ الظَّاهِرُ مُزَيَّنًا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ نُورُ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ.

[سورة يونس (10) : آية 107]

وَالْقَيْدُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ حَرْفُ عَطْفٍ وَفِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ قَائِمٌ مَقَامَ قَوْلِهِ وَقِيلَ لِي كُنْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ قَائِمٌ مَقَامَ قَوْلِهِ: وَأُمِرْتُ بِإِقَامَةِ الْوَجْهِ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ وَأُمِرْتُ بِأَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبِإِقَامَةِ الْوَجْهِ لِلدِّينِ حَنِيفًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِقَامَةُ الْوَجْهِ كِنَايَةٌ عَنْ تَوْجِيهِ الْعَقْلِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى طَلَبِ الدِّينِ، لِأَنَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَيْءٍ نَظَرًا بِالِاسْتِقْصَاءِ، فَإِنَّهُ يُقِيمُ وَجْهَهُ فِي مُقَابَلَتِهِ بِحَيْثُ لَا يَصْرِفُهُ عَنْهُ لَا بِالْقَلِيلِ وَلَا بِالْكَثِيرِ، لِأَنَّهُ لَوْ صَرَفَهُ عَنْهُ، وَلَوْ بِالْقَلِيلِ فَقَدْ بَطَلَتْ تِلْكَ الْمُقَابَلَةُ، وَإِذَا بَطَلَتْ تِلْكَ الْمُقَابَلَةُ، فَقَدِ اخْتَلَّ الْإِبْصَارُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ حَسُنَ جَعْلُ إِقَامَةِ الْوَجْهِ لِلدِّينِ كِنَايَةً عَنْ صَرْفِ الْعَقْلِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى طَلَبِ الدِّينِ، وَقَوْلُهُ: حَنِيفاً أَيْ مَائِلًا إِلَيْهِ مَيْلًا كُلِّيًّا مُعْرِضًا عَمَّا سِوَاهُ إِعْرَاضًا كُلِّيًّا، وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ الْإِخْلَاصُ التَّامُّ، وَتَرْكُ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِهِ، فَقَوْلُهُ أَوَّلًا: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِشَارَةٌ إِلَى تَحْصِيلِ أَصْلِ الْإِيمَانِ، وَقَوْلُهُ: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً إِشَارَةٌ إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي نُورِ الْإِيمَانِ وَالْإِعْرَاضِ بِالْكُلِّيَّةِ عَمَّا سِوَاهُ. وَالْقَيْدُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا نَهْيًا عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، لِأَنَّ ذَلِكَ صَارَ مَذْكُورًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَوَجَبَ حَمْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ وَهُوَ أَنَّ مَنْ عَرَفَ مَوْلَاهُ، فَلَوِ الْتَفَتَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ كَانَ ذَلِكَ شِرْكًا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ أَصْحَابُ الْقُلُوبِ بِالشِّرْكِ الْخَفِيِّ. وَالْقَيْدُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ مَعْدُومٌ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِ وَمَوْجُودٌ بِإِيجَادِ الْحَقِّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا سوى الحق فلا وجود له إلا إيجاد الْحَقِّ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا نَافِعَ إِلَّا الْحَقُّ وَلَا ضَارَّ إِلَّا الْحَقُّ، فَكُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا حُكْمَ إِلَّا للَّه وَلَا رُجُوعَ فِي الدَّارَيْنِ إِلَّا إِلَى اللَّه. ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ يَعْنِي لَوِ اشْتَغَلْتَ بِطَلَبِ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَضَرَّةِ مِنْ غَيْرِ اللَّه فَأَنْتَ مِنَ الظَّالِمِينَ، لِأَنَّ الظُّلْمَ عِبَارَةٌ عَنْ وَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَإِذَا كَانَ مَا سِوَى/ الْحَقِّ مَعْزُولًا عَنِ التَّصَرُّفِ، كَانَتْ إِضَافَةُ التَّصَرُّفِ إِلَى مَا سِوَى الْحَقِّ وَضْعًا لِلشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَيَكُونُ ظُلْمًا. فَإِنْ قِيلَ: فَطَلَبُ الشِّبَعِ مِنَ الْأَكْلِ وَالرِّيِّ مِنَ الشُّرْبِ هَلْ يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ الْإِخْلَاصِ؟ قُلْنَا: لَا لِأَنَّ وُجُودَ الْخُبْزِ وَصِفَاتَهُ كُلَّهَا بِإِيجَادِ اللَّه وَتَكْوِينِهِ، وَطَلَبُ الِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّه لِلِانْتِفَاعِ بِهِ لَا يَكُونُ مُنَافِيًا لِلرُّجُوعِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى اللَّه، إِلَّا أَنَّ شَرْطَ هَذَا الْإِخْلَاصِ أَنْ لَا يَقَعَ بَصَرُ عَقْلِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ إِلَّا وَيُشَاهِدُ بِعَيْنِ عَقْلِهِ أَنَّهَا مَعْدُومَةٌ بِذَوَاتِهَا وَمَوْجُودَةٌ بِإِيجَادِ الحق وهالكة بِأَنْفُسِهَا وَبَاقِيَةٌ بِإِبْقَاءِ الْحَقِّ، فَحِينَئِذٍ يَرَى مَا سِوَى الْحَقِّ عَدَمًا مَحْضًا بِحَسَبِ أَنْفُسِهَا وَيَرَى نُورَ وُجُودِهِ وَفَيْضَ إِحْسَانِهِ عَالِيًا عَلَى الْكُلِّ. [سورة يونس (10) : آية 107] وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)

[سورة يونس (10) : آية 108]

وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَرَّرَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ جَمِيعَ الْمُمْكِنَاتِ مُسْتَنِدَةٌ إِلَيْهِ وَجَمِيعَ الْكَائِنَاتِ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ، وَالْعُقُولَ وَالِهَةٌ فِيهِ، وَالرَّحْمَةَ وَالْجُودَ وَالْوُجُودَ فَائِضٌ مِنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْءَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَارًّا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَافِعًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَا ضَارًّا وَلَا نَافِعًا، وَهَذَانَ الْقِسْمَانِ مُشْتَرِكَانِ فِي اسْمِ الْخَيْرِ، وَلَمَّا كَانَ الضُّرُّ أَمْرًا وُجُودِيًّا لَا جَرَمَ قَالَ فِيهِ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ وَلَمَّا كَانَ الْخَيْرُ قَدْ يَكُونُ وُجُودِيًّا وَقَدْ يَكُونُ عَدَمِيًّا، لَا جَرَمَ لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ الْإِمْسَاسِ فِيهِ بَلْ قَالَ: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الضُّرَّ وَالْخَيْرَ وَاقِعَانِ بِقُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَبِقَضَائِهِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ وَالْعِصْيَانُ وَالسُّرُورُ وَالْآفَاتُ وَالْخَيْرَاتُ وَالْآلَامُ وَاللَّذَّاتُ وَالرَّاحَاتُ وَالْجِرَاحَاتُ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ إِنْ قَضَى لِأَحَدٍ شَرًّا فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ قَضَى لِأَحَدٍ خَيْرًا فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ الْبَتَّةَ ثُمَّ فِي الْآيَةِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى رَجَّحَ جَانِبَ الْخَيْرِ عَلَى جَانِبِ الشَّرِّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ إِمْسَاسَ الضُّرِّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُزِيلُ الْمَضَارَّ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْخَيْرَ لَمْ/ يَقُلْ بِأَنَّهُ يَدْفَعُهُ بَلْ قَالَ إِنَّهُ لَا رَادَّ لِفَضْلِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَيْرَ مَطْلُوبٌ بِالذَّاتِ، وَأَنَّ الشَّرَّ مَطْلُوبٌ بِالْعَرَضِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِوَايَةً عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ أَنَّهُ قَالَ: «سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي» الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ الْخَيْرِ: يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ أَقْوَى وَأَغْلَبُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ جَانِبِ الرَّحْمَةِ وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ وَالْإِبْدَاعِ، وَأَنَّهُ لَا مُوجِدَ سِوَاهُ وَلَا مَعْبُودَ إِلَّا إِيَّاهُ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْخَيْرَ مُرَادٌ بِالذَّاتِ، وَالشَّرَّ مُرَادٌ بِالْعَرَضِ وَتَحْتَ هَذَا الْبَابِ أَسْرَارٌ عَمِيقَةٌ، فَهَذَا مَا نَقُولُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى فِي صِفَةِ الْأَصْنَامِ أَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا لَا تَقْدِرُ أَيْضًا عَلَى دَفْعِ الضَّرَرِ الْوَاصِلِ مِنَ الْغَيْرِ، وَعَلَى الْخَيْرِ الْوَاصِلِ مِنَ الْغَيْرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ يَعْنِي بِمَرَضٍ وَفَقْرٍ فَلَا دَافِعَ لَهُ إِلَّا هُوَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: هُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ مَعْنَاهُ وَإِنْ يُرِدْ بِكَ الْخَيْرَ وَلَكِنَّهُ لَمَّا تَعَلَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ جَازَ إِبْدَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، وَأَقُولُ التَّقْدِيمُ فِي اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْعِنَايَةِ فَقَوْلُهُ: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْإِنْسَانُ وَسَائِرُ الْخَيْرَاتِ مَخْلُوقَةٌ لِأَجْلِهِ، فَهَذِهِ الدَّقِيقَةُ لَا تُسْتَفَادُ إلا من هذا التركيب. [سورة يونس (10) : آية 108] قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ الدَّلَائِلَ الْمَذْكُورَةَ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَزَيَّنَ آخِرَ هَذِهِ السُّورَةِ بِهَذِهِ الْبَيَانَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُسْتَبِدًّا بِالْخَلْقِ وَالْإِبْدَاعِ وَالتَّكْوِينِ وَالِاخْتِرَاعِ، خَتَمَهَا بِهَذِهِ الْخَاتِمَةِ الشَّرِيفَةِ الْعَالِيَةِ، وَفِي تَفْسِيرِهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَنْ حَكَمَ لَهُ فِي الْأَزَلِ بِالِاهْتِدَاءِ، فَسَيَقَعُ لَهُ ذَلِكَ، وَمَنْ حَكَمَ لَهُ بِالضَّلَالِ فَكَذَلِكَ وَلَا حِيلَةَ فِي دَفْعِهِ. الثَّانِي: وَهُوَ الْكَلَامُ اللَّائِقُ بِالْمُعْتَزِلَةِ قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَكْمَلَ الشَّرِيعَةَ وَأَزَاحَ

[سورة يونس (10) : آية 109]

الْعِلَّةَ وَقَطَعَ الْمَعْذِرَةَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ/ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ فَلَا يَجِبُ عَلَيَّ مِنَ السَّعْيِ فِي إِيصَالِكُمْ إِلَى الثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَفِي تَخْلِيصِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ أَزْيَدُ مِمَّا فَعَلْتُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ القتال. [سورة يونس (10) : آية 109] وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ هَذِهِ الْخَاتِمَةَ بِخَاتِمَةٍ أُخْرَى لَطِيفَةٍ فَقَالَ: وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ، فَإِنْ وَصَلَ إِلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاتِّبَاعِ مَكْرُوهٌ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَحْكُمَ اللَّه فِيهِ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ. وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ فِي الصَّبْرِ شِعْرًا فَقَالَ: سَأَصْبِرُ حَتَّى يَعْجِزَ الصَّبْرُ عَنْ صَبْرِي ... وَأَصْبِرُ حَتَّى يحكم اللَّه في أمري أصبر حَتَّى يَعْلَمَ الصَّبْرُ أَنَّنِي ... صَبَرْتُ عَلَى شَيْءٍ أَمَرَّ مِنَ الصَّبْرِ تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ واللَّه أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ وَبِأَسْرَارِ كِتَابِهِ بِعَوْنِ اللَّه وَحُسْنِ تَوْفِيقِهِ. يَقُولُ جَامِعُ هَذَا الْكِتَابِ: خَتَمْتُ تَفْسِيرَ هَذِهِ السُّورَةِ يَوْمَ السَّبْتِ مِنْ شَهْرِ اللَّه الْأَصَمِّ رَجَبٍ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ وَكُنْتُ ضَيِّقَ الصَّدْرِ كَثِيرَ الْحُزْنِ بِسَبَبِ وَفَاةِ الْوَلَدِ الصَّالِحِ مُحَمَّدٍ أَفَاضَ اللَّه عَلَى رُوحِهِ وَجَسَدِهِ أنواء الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَنَا أَلْتَمِسُ مِنْ كُلِّ مَنْ يَقْرَأُ هَذَا الْكِتَابَ وَيَنْتَفِعُ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَخُصَّ ذَلِكَ الْمِسْكِينَ وَهَذَا الْمِسْكِينَ بِالدُّعَاءِ وَالرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ، وَالْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَاتُهُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

سورة هود

بسم اللَّه الرحمن الرحيم سُورَةُ هُودٍ مَكِّيَّةٌ، إِلَّا الْآيَاتِ: 12 وَ 17 وَ 114 فَمَدَنِيَّةٌ وَآيَاتُهَا 123 نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ يونس [سورة هود (11) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ الر اسْمٌ لِلسُّورَةِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ كِتابٌ خَبَرُهُ، وَقَوْلُهُ: أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ صِفَةٌ لِلْكِتَابِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الر مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ خَبَرٌ، لِأَنَّ الر لَيْسَ هُوَ الْمَوْصُوفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَحْدَهُ وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِ الشَّيْءِ مُبْتَدَأً أَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ مَحْصُورًا فِيهِ، وَلَا أَدْرِي كَيْفَ وَقَعَ لِلزَّجَّاجِ هَذَا السُّؤَالُ، ثُمَّ إِنَّ الزَّجَّاجَ اخْتَارَ قَوْلًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: الر هَذَا كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَقَعُ قَوْلُهُ: الر كَلَامًا بَاطِلًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَالثَّانِي: أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ هَذَا كِتَابٌ، فَقَوْلُهُ: «هَذَا» يَكُونُ إِشَارَةً إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ: الر فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ الر مُخْبَرًا عَنْهُ بِأَنَّهُ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ، فَيَلْزَمُهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَا لَمْ يَرْضَ بِهِ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَثَبَتَ أَنَّ الصَّوَابَ مَا ذَكَرْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: أُحْكِمَتْ آياتُهُ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أُحْكِمَتْ آياتُهُ نُظِمَتْ نَظْمًا رَصِيفًا مُحْكَمًا لَا يَقَعُ فِيهِ نَقْصٌ وَلَا خَلَلٌ، كَالْبِنَاءِ الْمُحْكَمِ الْمُرَصَّفِ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِحْكَامَ عِبَارَةٌ عَنْ مَنْعِ الْفَسَادِ مِنَ الشَّيْءِ فَقَوْلُهُ: أُحْكِمَتْ آياتُهُ أَيْ لَمْ تُنْسَخْ بِكِتَابٍ كَمَا نُسِخَتِ الْكُتُبُ وَالشَّرَائِعُ بِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ كُلُّ الْكِتَابِ مُحْكَمًا، لِأَنَّهُ حَصَلَ فِيهِ آيَاتٌ مَنْسُوخَةٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ كَذَلِكَ صَحَّ إِطْلَاقُ هَذَا الْوَصْفِ عَلَيْهِ إِجْرَاءً لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ فِي الْغَالِبِ مُجْرَى الْحُكْمِ الثَّابِتِ فِي الْكُلِّ. الثَّالِثُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أُحْكِمَتْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَقْلًا بِالْهَمْزَةِ مِنْ حَكُمَ بِضَمِّ الْكَافِ إِذَا صَارَ حَكِيمًا، أَيْ جُعِلَتْ حَكِيمَةً، كَقَوْلِهِ: آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ [يُونُسَ: 1] الرَّابِعُ: جُعِلَتْ آيَاتُهُ مُحْكَمَةً فِي أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَعَانِيَ هَذَا الْكِتَابِ هِيَ التَّوْحِيدُ، وَالْعَدْلُ، وَالنُّبُوَّةُ، وَالْمَعَادُ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي لَا تَقْبَلُ النَّسْخَ، فَهِيَ فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِيهِ غَيْرُ مُتَنَاقِضَةٍ، وَالتَّنَاقُضُ ضِدُّ الْإِحْكَامِ فَإِذَا خَلَتْ آيَاتُهُ عن التناقض

فَقَدْ حَصَلَ الْإِحْكَامُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَلْفَاظَ هَذِهِ الْآيَاتِ بَلَغَتْ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْجَزَالَةِ إِلَى حَيْثُ لَا تَقْبَلُ الْمُعَارَضَةَ، وَهَذَا أَيْضًا مُشْعِرٌ بِالْقُوَّةِ وَالْإِحْكَامِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْعُلُومَ الدِّينِيَّةَ إِمَّا نَظَرِيَّةٌ وَإِمَّا عَمَلِيَّةٌ أَمَّا النَّظَرِيَّةُ فَهِيَ مَعْرِفَةُ الْإِلَهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَةُ الْمَلَائِكَةِ وَالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهَذَا الْكِتَابُ مُشْتَمِلٌ عَلَى شَرَائِفِ هَذِهِ الْعُلُومِ وَلَطَائِفِهَا، وَأَمَّا الْعَمَلِيَّةُ فَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عِبَارَةً عَنْ تَهْذِيبِ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَهُوَ الْفِقْهُ، أو عن تهذيب الأحوال الباطنة وهي علمي التَّصْفِيَةِ وَرِيَاضَةُ النَّفْسِ، وَلَا نَجِدُ كِتَابًا فِي الْعَالَمِ يُسَاوِي هَذَا الْكِتَابَ فِي هَذِهِ الْمَطَالِبِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَشْرَفِ الْمَطَالِبِ الرُّوحَانِيَّةِ وَأَعْلَى الْمَبَاحِثِ الْإِلَهِيَّةِ، فَكَانَ كِتَابًا مُحْكَمًا غَيْرَ قَابِلٍ لِلنَّقْضِ وَالْهَدْمِ. وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ الْمُحْكَمِ ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ [آلِ عِمْرَانَ: 7] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: فُصِّلَتْ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ فُصِّلَ كَمَا تُفَصَّلُ الدَّلَائِلُ بِالْفَوَائِدِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَهِيَ دَلَائِلُ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْأَحْكَامِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْقَصَصِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا جُعِلَتْ فُصُولًا سُورَةً سُورَةً، وَآيَةً آيَةً. الثَّالِثُ: فُصِّلَتْ بِمَعْنَى أَنَّهَا فُرِّقَتْ فِي التَّنْزِيلِ وَمَا نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ [الْأَعْرَافِ: 133] وَالْمَعْنَى مَجِيءُ هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَفَرِّقَةً مُتَعَاقِبَةً. الرَّابِعُ: فَصْلُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعِبَادُ أَيْ جُعِلَتْ مُبَيِّنَةً مُلَخِّصَةً. الْخَامِسُ: جُعِلَتْ فُصُولًا حَلَالًا وَحَرَامًا، وَأَمْثَالًا وَتَرْغِيبًا، وَتَرْهِيبًا وَمَوَاعِظَ، وَأَمْرًا وَنَهْيًا لِكُلِّ مَعْنًى فِيهَا فَصْلٌ، قَدْ أُفْرِدَ بِهِ غَيْرَ مُخْتَلِطٍ بِغَيْرِهِ حَتَّى تُسْتَكْمَلَ فَوَائِدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، / وَيَحْصُلَ الْوُقُوفُ عَلَى كُلِّ بَابٍ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَعْنَى ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ فُصِّلَتْ لَيْسَ لِلتَّرَاخِي فِي الْوَقْتِ، لَكِنْ فِي الْحَالِ كَمَا تَقُولُ: هِيَ مُحْكَمَةٌ أَحْسَنَ الْإِحْكَامِ، ثُمَّ مُفَصَّلَةٌ أَحْسَنَ التَّفْصِيلِ، وَكَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ كَرِيمُ الْأَصْلِ ثُمَّ كَرِيمُ الْفِعْلِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ أَيْ أَحْكَمْتُهَا أَنَا ثُمَّ فَصَّلْتُهَا، وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ ثُمَّ فُصِّلَتْ أَيْ فَرَقْتُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْمُحْكَمُ: هُوَ الَّذِي أَتْقَنَهُ فَاعِلُهُ، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّه تَعَالَى يُحْدِثُ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِحْكَامَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْأَفْعَالِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: كَانَ مَوْجُودًا غَيْرَ مُحْكَمٍ ثُمَّ جَعَلَهُ اللَّه مُحْكَمًا، لِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي فِي بَعْضِهِ الَّذِي جَعَلَهُ مُحْكَمًا أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ الْقُرْآنَ بَعْضُهُ قَدِيمٌ وَبَعْضُهُ مُحْدَثٌ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ فُصِّلَتْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ فِيهِ انْفِصَالٌ وَافْتِرَاقٌ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِانْفِصَالَ وَالِافْتِرَاقَ إِنَّمَا حَصَلَ بِجَعْلِ جَاعِلٍ، وَتَكْوِينِ مُكَوِّنٍ، وَذَلِكَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ وَالْمُرَادُ مِنْ عِنْدِهِ، وَالْقَدِيمُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَصَلَ مِنْ عِنْدِ قَدِيمٍ آخَرَ، لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا قَدِيمَيْنِ لَمْ يَكُنِ الْقَوْلُ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا حَصَلَ مِنْ عِنْدِ الْآخَرِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ. أَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ هَذِهِ النُّعُوتَ عَائِدَةٌ إِلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَنَحْنُ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهَا مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ، وَإِنَّمَا الَّذِي نَدَّعِي قِدَمَهُ أَمْرٌ آخَرُ سِوَى هَذِهِ الحروف والأصوات.

[سورة هود (11) : الآيات 2 إلى 4]

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَوْلُهُ: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّا ذكرنا أن قوله: كِتابٌ خبر وأُحْكِمَتْ صِفَةٌ لِهَذَا الْخَبَرِ، وَقَوْلَهُ: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: الر كِتَابٌ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ وَالتَّقْدِيرُ: الر مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: (أحكمت، وفصلت) أَيْ أُحْكِمَتْ وَفُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَدْ حَصَلَ بَيْنَ أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ آخِرِهَا نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ كَأَنَّهُ يَقُولُ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ وَفُصِّلَتْ من لدن خبير عالم بكيفيات الأمور. [سورة هود (11) : الآيات 2 الى 4] أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) [في قوله تعالى أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ وَالتَّقْدِيرُ: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ لِأَجْلِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّه وَأَقُولُ هَذَا التَّأْوِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الشَّرِيفِ إِلَّا هَذَا الْحَرْفُ الْوَاحِدُ، فَكُلُّ مَنْ صَرَفَ عُمُرَهُ إِلَى سَائِرِ الْمَطَالِبِ، فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ (أَنْ) مُفَسِّرَةً لِأَنَّ فِي تَفْصِيلِ الْآيَاتِ مَعْنَى الْقَوْلِ وَالْحَمْلُ عَلَى هَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَّا تَعْبُدُوا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: أَيْ لَا تَعْبُدُوا لِيَكُونَ الْأَمْرُ مَعْطُوفًا عَلَى النَّهْيِ، فَإِنَّ كَوْنَهُ بِمَعْنَى لِئَلَّا تَعْبُدُوا يَمْنَعُ عَطْفَ الْأَمْرِ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ لِيَأْمُرَ النَّاسَ أَنْ لَا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّه وَيَقُولَ لَهُمْ، إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى التَّكْلِيفِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِأَنْ لَا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّه، وَإِذَا قُلْنَا: الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، كَانَ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ النَّهْيَ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى، وَالْأَمْرَ بِعِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ، لِأَنَّا بَيِّنَّا أَنَّ مَا سِوَى اللَّه فَهُوَ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ مَرْبُوبٌ، وَإِنَّمَا حَصَلَ بِتَكْوِينِ اللَّه وَإِيجَادِهِ، وَالْعِبَادَةُ عِبَارَةٌ عَنْ إِظْهَارِ الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ وَنِهَايَةِ التَّوَاضُعِ وَالتَّذَلُّلِ وَهَذَا لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ الرَّحِيمِ الْمُحْسِنِ، فَثَبَتَ أَنَّ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّه مُنْكَرَةٌ، وَالْإِعْرَاضَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّه مُنْكَرٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ عِبَادَةَ اللَّه مَشْرُوطَةٌ بِتَحْصِيلِ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى قَبْلَ الْعِبَادَةِ، لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَعْبُودَهُ لَا يَنْتَفِعُ بِعِبَادَتِهِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللَّه أَمْرًا بِتَحْصِيلِ الْمَعْرِفَةِ أَوَّلًا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [الْبَقَرَةِ: 21] ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَهُوَ قَوْلُهُ: الَّذِي/ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 21] إنما حَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِتَحْصِيلِ الْمَعْرِفَةِ فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَعْرِفَةِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ، وَالْمَعْنَى: إِنَّنِي لَكُمْ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ مِنْ جِهَتِهِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَنْعِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّه، وَعَلَى التَّرْغِيبِ فِي عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى، فَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَذِيرٌ عَلَى الْأَوَّلِ بِإِلْحَاقِ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ لِمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا وَبَشِيرٌ عَلَى الثَّانِي بِإِلْحَاقِ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ لِمَنْ أَتَى بِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بُعِثَ إِلَّا لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ الْإِنْذَارُ عَلَى فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَالْبِشَارَةُ عَلَى فِعْلِ مَا ينبغي. [في قوله تعالى وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إلى قوله وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ] الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ وَاخْتَلَفُوا فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ عَلَى وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا اطْلُبُوا مِنْ رَبِّكُمُ الْمَغْفِرَةَ لِذُنُوبِكُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْءَ الَّذِي يُطْلَبُ بِهِ ذَلِكَ وَهُوَ التَّوْبَةُ، فَقَالَ: ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ لِأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْمُحَرِّضَ عَلَيْهَا هُوَ الِاسْتِغْفَارُ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّه إِلَّا بِإِظْهَارِ التَّوْبَةِ، وَالْأَمْرُ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُذْنِبَ مُعْرِضٌ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، والمعرض والمتمادي فِي التَّبَاعُدِ مَا لَمْ يَرْجِعْ عَنْ ذَلِكَ الْإِعْرَاضِ لَا يُمْكِنُهُ التَّوَجُّهُ إِلَى الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ، فَالْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى الْمَطْلُوبِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالْإِعْرَاضِ عَمَّا يُضَادُّهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ مَطْلُوبٌ بِالذَّاتِ، وَأَنَّ التَّوْبَةَ مَطْلُوبَةٌ لِكَوْنِهَا مِنْ مُتَمِّمَاتِ الِاسْتِغْفَارِ، وَمَا كَانَ آخِرًا فِي الْحُصُولِ كَانَ أَوَّلًا فِي الطَّلَبِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ ذِكْرَ الِاسْتِغْفَارِ عَلَى التَّوْبَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي فَائِدَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّ الْمُرَادَ: اسْتَغْفِرُوا مِنْ سَالِفِ الذُّنُوبِ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ فِي الْمُسْتَأْنَفِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، ثُمَّ تُوبُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الْبَاطِلَةِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: الِاسْتِغْفَارُ طَلَبٌ مِنَ اللَّه لِإِزَالَةِ مَا لَا يَنْبَغِي وَالتَّوْبَةُ سَعْيٌ مِنَ الْإِنْسَانِ فِي إِزَالَةِ مَا لَا يَنْبَغِي، فَقَدَّمَ الِاسْتِغْفَارَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمَرْءَ يَجِبُ أَنْ لَا يَطْلُبَ الشَّيْءَ إِلَّا مِنْ مَوْلَاهُ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي/ يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهِ، ثُمَّ بَعْدَ الِاسْتِغْفَارِ ذَكَرَ التَّوْبَةَ لِأَنَّهَا عَمَلٌ يَأْتِي بِهِ الْإِنْسَانُ وَيَتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى دَفْعِ الْمَكْرُوهِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِفَضْلِ اللَّه تَعَالَى مُقَدَّمَةٌ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ بِسَعْيِ النَّفْسِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الثَّلَاثَةَ ذَكَرَ بَعْدَهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْآثَارِ النَّافِعَةِ وَالنَّتَائِجِ الْمَطْلُوبَةِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَطَالِبَ مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حُصُولُهَا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، أَمَّا الْمَنَافِعُ الدُّنْيَوِيَّةُ: فَهِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُقْبِلَ عَلَى عِبَادَةِ اللَّه وَالْمُشْتَغِلَ بِهَا يَبْقَى فِي الدُّنْيَا مُنْتَظِمَ الْحَالِ مُرَفَّهَ الْبَالِ، وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَلَيْسَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» وَقَالَ أَيْضًا: «خُصَّ الْبَلَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ الْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ» وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ [الزُّخْرُفِ: 33] فَهَذِهِ النُّصُوصُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ نَصِيبَ الْمُشْتَغِلِ بِالطَّاعَاتِ فِي الدُّنْيَا هُوَ الشِّدَّةُ وَالْبَلِيَّةُ. وَمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ نَصِيبَ الْمُشْتَغِلِ بِالطَّاعَاتِ الرَّاحَةُ فِي الدُّنْيَا فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟

الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُهُمْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ كَمَا اسْتَأْصَلَ أَهْلَ الْقُرَى الَّذِينَ كَفَرُوا. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى يُوَصِّلُ إِلَيْهِمُ الرِّزْقَ كَيْفَ كَانَ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ [طه: 132] الثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَقْوَى عِنْدِي أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْمُشْتَغِلَ بِعِبَادَةِ اللَّه وَبِمَحَبَّةِ اللَّه مُشْتَغِلٌ بِحُبِّ شَيْءٍ يَمْتَنِعُ تَغَيُّرُهُ وَزَوَالُهُ وَفَنَاؤُهُ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ إِمْعَانُهُ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ أَكْثَرَ وَتَوَغُّلُهُ فِيهِ أَتَمَّ كَانَ انْقِطَاعُهُ عَنِ الْخَلْقِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، وَكُلَّمَا كَانَ الْكَمَالُ فِي هَذَا الْبَابِ أَكْثَرَ، كَانَ الِابْتِهَاجُ وَالسُّرُورُ أَتَمَّ، لِأَنَّهُ أَمِنَ مِنْ تَغَيُّرِ مَطْلُوبِهِ، وَأَمِنَ مِنْ زَوَالِ مَحْبُوبِهِ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِحُبِّ غَيْرِ اللَّه، كَانَ أَبَدًا فِي أَلَمِ الْخَوْفِ مِنْ فَوَاتِ الْمَحْبُوبِ وَزَوَالِهِ، فَكَانَ عَيْشُهُ مُنَغَّصًا وَقَلْبُهُ مُضْطَرِبًا، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّه تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُشْتَغِلِينَ بِخِدْمَتِهِ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النَّحْلِ: 97] . السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يَدُلُّ قَوْلُهُ: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى عَلَى أَنَّ لِلْعَبْدِ أَجَلَيْنِ، وَأَنَّهُ يَقَعُ فِي ذَلِكَ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ؟ وَالْجَوَابُ: لَا وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّ هَذَا الْعَبْدَ لَوِ اشْتَغَلَ بِالْعِبَادَةِ لَكَانَ أَجَلُهُ فِي الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ، وَلَوْ أَعْرَضَ عَنْهَا لَكَانَ أَجَلُهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، لَكِنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَنَّهُ لَوِ اشْتَغَلَ بِالْعِبَادَةِ أَمْ لَا فَإِنَّ أَجَلَهُ لَيْسَ إِلَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، فَثَبَتَ أَنَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ أَجَلًا وَاحِدًا فَقَطْ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ سَمَّى مَنَافِعَ الدُّنْيَا بِالْمَتَاعِ؟ الْجَوَابُ: لِأَجْلِ التَّنْبِيهِ عَلَى حَقَارَتِهَا وَقِلَّتِهَا، وَنَبَّهَ عَلَى كَوْنِهَا مُنْقَضِيَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى كَوْنِهَا حَقِيرَةً خَسِيسَةً مُنْقَضِيَةً، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ قَالَ: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ السَّعَادَاتُ الْأُخْرَوِيَّةُ، وَفِيهَا لَطَائِفُ وَفَوَائِدُ. الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ قَوْلَهُ: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ مَعْنَاهُ وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلِ مُوجِبَ فَضْلِهِ وَمَعْلُولَهُ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ فِي نِهَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِ اللَّه وَكَانَ فِي غَايَةِ الرَّغْبَةِ فِي تَحْصِيلِ أَسْبَابِ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ قَلْبُهُ فَصًّا لِنَقْشِ الْمَلَكُوتِ وَمِرْآةً يَتَجَلَّى بِهَا قُدْسُ اللَّاهُوتِ، إِلَّا أَنَّ الْعَلَائِقَ الْجَسَدَانِيَّةَ الظُّلْمَانِيَّةَ تُكَدِّرُ تِلْكَ الْأَنْوَارَ الرُّوحَانِيَّةَ، فَإِذَا زَالَتْ هَذِهِ الْعَلَائِقُ أَشْرَقَتْ تِلْكَ الْأَنْوَارُ وَتَلَأْلَأَتْ تِلْكَ الْأَضْوَاءُ وَتَوَالَتْ مُوجِبَاتُ السَّعَادَاتِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَرَاتِبَ السَّعَادَاتِ فِي الْآخِرَةِ مُخْتَلِفَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِمِقْدَارِ الدَّرَجَاتِ الْحَاصِلَةِ فِي الدُّنْيَا، فَلَمَّا كَانَ الْإِعْرَاضُ عَنْ غَيْرِ الْحَقِّ وَالْإِقْبَالُ عَلَى عُبُودِيَّةِ الْحَقِّ دَرَجَاتٍ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، فَكَذَلِكَ مَرَاتِبُ السَّعَادَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي مَنَافِعِ الدُّنْيَا: يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً وَقَالَ فِي سَعَادَاتِ الْآخِرَةِ وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَيْسَ إِلَّا منه وليس إلا بإيجاده وتكوينه وإعطاءه وَجُودِهِ. وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْوَالِدُ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى يَقُولُ: لَوْلَا الْأَسْبَابُ لَمَا ارْتَابَ مُرْتَابٌ، فَأَكْثَرُ النَّاسِ عُقُولُهُمْ ضَعِيفَةٌ وَاشْتِغَالُ عُقُولِهِمْ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ الْفَانِيَةِ يُعْمِيهَا عَنْ مُشَاهَدَةِ أَنَّ الْكُلَّ مِنْهُ، فَأَمَّا الَّذِينَ تَوَغَّلُوا فِي الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَخَاضُوا فِي بِحَارِ أَنْوَارِ الْحَقِيقَةِ عَلِمُوا أَنَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ مَوْجُودٌ بِإِيجَادِهِ، فَانْقَطَعَ نظرهم

[سورة هود (11) : آية 5]

عَمَّا سِوَاهُ وَعَلِمُوا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الضَّارُّ وَالنَّافِعُ وَالْمُعْطِي وَالْمَانِعُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ قَالَ: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَنِ اشْتَغَلَ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّه صار في الدنيا أعمى، مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا [الإسراء: 72] وَالَّذِي يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَقْبَلَ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا وَطَيِّبَاتِهَا قَوِيَ حُبُّهُ لَهَا وَمَالَ طَبْعُهُ إِلَيْهَا وَعَظُمَتْ رَغْبَتُهُ فِيهَا، فَإِذَا مَاتَ بَقِيَ مَعَهُ ذَلِكَ الْحُبُّ الشَّدِيدُ وَالْمَيْلُ التَّامُّ وَصَارَ عَاجِزًا عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مَحْبُوبِهِ، فَحِينَئِذٍ يَعْظُمُ الْبَلَاءُ وَيَتَكَامَلُ الشَّقَاءُ، فَهَذَا الْقَدْرُ الْمَعْلُومُ عِنْدَنَا مِنْ عَذَابِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَمَّا تَفَاصِيلُ تِلْكَ الْأَحْوَالِ فَهِيَ غَائِبَةٌ عَنَّا مَا دُمْنَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ. ثُمَّ/ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ فِيهِ دَقِيقَةٌ، وَهِيَ: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُفِيدُ الْحَصْرَ، يَعْنِي أَنَّ مَرْجِعَنَا إِلَى اللَّه لَا إِلَى غَيْرِهِ، فَيَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا مُدَبِّرَ وَلَا مُتَصَرِّفَ هُنَاكَ إِلَّا هُوَ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ أَقْوَامًا اشْتَغَلُوا بِالنَّظَرِ إِلَى الْوَسَائِطِ فَعَجَزُوا عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا قَادِرُونَ عَلَى شَيْءٍ، وَأَمَّا فِي دَارِ الْآخِرَةِ، فَهَذَا الْحَالُ الْفَاسِدُ زَائِلٌ أَيْضًا، فَلِهَذَا الْمَعْنَى بَيَّنَ هَذَا الْحَصْرَ بِقَوْلِهِ: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ. ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقُولُ إِنَّ هَذَا تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَبِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ. أَمَّا إِنَّهُ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَرْجِعُنَا إِلَّا إِلَيْهِ، وَقَوْلَهُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ لَا دَافِعَ لِقَضَائِهِ وَلَا مَانِعَ لِمَشِيئَتِهِ وَالرُّجُوعُ إِلَى الْحَاكِمِ الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَعَ الْعُيُوبِ الْكَثِيرَةِ وَالذُّنُوبِ الْعَظِيمَةِ مُشْكِلٌ وَأَمَّا إِنَّهُ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ فَلِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَةٍ غَالِبَةٍ وَجَلَالَةٍ عَظِيمَةٍ لِهَذَا الْحَاكِمِ وَعَلَى ضَعْفٍ تَامٍّ وَعَجْزٍ عَظِيمٍ لِهَذَا الْعَبْدِ، وَالْمَلِكُ الْقَاهِرُ الْعَالِي الْغَالِبُ إِذَا رَأَى عَاجِزًا مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ فَإِنَّهُ يُخَلِّصُهُ مِنَ الْهَلَاكِ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ الْمَشْهُورُ: مَلَكْتَ فَاسْجَحْ. يَقُولُ مُصَنِّفُ هَذَا الْكِتَابِ: قَدْ أَفْنَيْتُ عُمُرِي فِي خِدْمَةِ الْعِلْمِ وَالْمُطَالَعَةِ لِلْكُتُبِ وَلَا رَجَاءَ لِي فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنِّي فِي غَايَةِ الذِّلَّةِ وَالْقُصُورِ وَالْكَرِيمُ إِذَا قَدَرَ غَفَرَ، وَأَسْأَلُكَ يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَسَاتِرَ عُيُوبِ الْمَعْيُوبِينَ وَمُجِيبَ دَعْوَةِ الْمُضْطَرِّينَ أَنْ تُفِيضَ سِجَالَ رَحْمَتِكَ عَلَى وَلَدِي وَفِلْذَةِ كَبِدِي وأن تخلصنا بالفضل والتجاوز والجود والكرم. [سورة هود (11) : آية 5] أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَإِنْ تَوَلَّوْا يَعْنِي عَنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود: 3] بَيَّنَ بَعْدَهُ أَنَّ التَّوَلِّيَ عَنْ ذَلِكَ بَاطِنًا كَالتَّوَلِّي عَنْهُ ظَاهِرًا فَقَالَ: أَلا إِنَّهُمْ يَعْنِي الْكُفَّارَ مِنْ قَوْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يثنون صدورهم ليستخفوا منه. واعلم أنها تَعَالَى حَكَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ شَيْئَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يُقَالُ: ثَنَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا عَطَفْتَهُ وَطَوَيْتَهُ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهَانِ:

[سورة هود (11) : آية 6]

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: رُوِيَ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِذَا أَغْلَقْنَا أَبْوَابَنَا وَأَرْسَلْنَا سُتُورَنَا، وَاسْتَغْشَيْنَا ثِيَابَنَا وَثَنَيْنَا صُدُورَنَا عَلَى عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ، فَكَيْفَ يَعْلَمُ بِنَا؟ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: كَانَ قَوْلُهُ: يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ كِنَايَةً عَنِ النِّفَاقِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يُضْمِرُونَ خِلَافَ مَا يُظْهِرُونَ لِيَسْتَخْفُوا مِنَ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ يَسْتَخْفُونَ مِنْهُ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ. الْوَجْهُ الثَّانِي: رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ كَانَ إِذَا مَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّه ثَنَى صَدْرَهُ وَوَلَّى ظَهْرَهُ وَاسْتَغْشَى ثِيَابَهُ، وَالتَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قيل: إنهم يتصرفون عَنْهُ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ، لِئَلَّا يَسْمَعُوا كَلَامَ رَسُولِ اللَّه وَمَا يَتْلُو مِنَ الْقُرْآنِ، وَلِيَقُولُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ الطَّعْنِ. وَقَوْلُهُ: أَلا لِلتَّنْبِيهِ، فَنَبَّهَ أَوَّلًا عَلَى أنهم ينصرفوا عَنْهُ لِيَسْتَخْفُوا ثُمَّ كَرَّرَ كَلِمَةَ أَلا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى ذِكْرِ الِاسْتِخْفَاءِ لِيُنَبِّهَ عَلَى وَقْتِ اسْتَخْفَائِهِمْ، وَهُوَ حِينُ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَلَا إِنَّهُمْ يَنْصَرِفُونَ عَنْهُ لِيَسْتَخْفُوا مِنَ اللَّه، أَلَا إِنَّهُمْ يَسْتَخْفُونَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي اسْتِخْفَائِهِمْ بِقَوْلِهِ: يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ. [سورة هود (11) : آية 6] وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ رِزْقَ كُلِّ حَيَوَانٍ إِنَّمَا يَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ اللَّه تَعَالَى، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ لَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْمُهِمَّاتُ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ: الدَّابَّةُ اسْمٌ لِكُلِّ حَيَوَانٍ، لِأَنَّ الدَّابَّةَ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الدَّبِيبِ، وَبُنِيَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ عَلَى هَاءِ التَّأْنِيثِ، وَأُطْلِقَ عَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ ذِي رُوحٍ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، إِلَّا أَنَّهُ بِحَسَبِ عُرْفِ الْعَرَبِ اخْتُصَّ بِالْفَرَسِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَوْضُوعُ الْأَصْلِيُّ اللُّغَوِيُّ فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْحَيَوَانَاتِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَقْسَامَ الْحَيَوَانَاتِ/ وَأَنْوَاعَهَا كَثِيرَةٌ، وَهِيَ الْأَجْنَاسُ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالْجِبَالِ، واللَّه يُحْصِيهَا دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ تَعَالَى عَالِمٌ بِكَيْفِيَّةِ طَبَائِعِهَا وَأَعْضَائِهَا وَأَحْوَالِهَا وَأَغْذِيَتِهَا وَسُمُومِهَا وَمَسَاكِنِهَا، وَمَا يُوَافِقُهَا وَمَا يُخَالِفُهَا، فَالْإِلَهُ الْمُدَبِّرُ لِأَطْبَاقِ السموات وَالْأَرَضِينَ وَطَبَائِعِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، كَيْفَ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِأَحْوَالِهَا؟ رُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِأَحْوَالِ أَهْلِهِ، فَأَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ عَلَى صَخْرَةٍ فَانْشَقَّتْ وَخَرَجَتْ صَخْرَةٌ ثَانِيَةٌ. ثُمَّ ضَرَبَ بِعَصَاهُ عَلَيْهَا فَانْشَقَّتْ وَخَرَجَتْ صَخْرَةٌ ثَالِثَةٌ، ثُمَّ ضَرَبَهَا بِعَصَاهُ فَانْشَقَّتْ فَخَرَجَتْ مِنْهَا دُودَةٌ كَالذَّرَّةِ وَفِي فَمِهَا شَيْءٌ يَجْرِي مَجْرَى الْغِذَاءِ لَهَا، وَرُفِعَ الْحِجَابُ عَنْ سَمْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسَمِعَ الدُّودَةَ تَقُولُ: سُبْحَانَ مَنْ يَرَانِي، وَيَسْمَعُ كَلَامِي، وَيَعْرِفُ مَكَانِي، وَيَذْكُرُنِي وَلَا يَنْسَانِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَعَلَّقَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّه تَعَالَى بَعْضُ الْأَشْيَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالَ: إِنَّ كَلِمَةَ (عَلَى) لِلْوُجُوبِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيصَالَ الرِّزْقِ إِلَى الدَّابَّةِ وَاجِبٌ عَلَى اللَّه. وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ وَاجِبٌ بِحَسَبِ الْوَعْدِ وَالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَعَلَّقَ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الرِّزْقَ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا، قَالُوا لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ إِيصَالَ الرِّزْقِ إِلَى كُلِّ حَيَوَانٍ وَاجِبٌ عَلَى اللَّه تَعَالَى بِحَسَبِ الْوَعْدِ وَبِحَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، واللَّه تَعَالَى لَا يُحِلُّ بِالْوَاجِبِ، ثُمَّ قَدْ نَرَى

[سورة هود (11) : آية 7]

إِنْسَانًا لَا يَأْكُلُ مِنَ الْحَلَالِ طُولَ عُمُرِهِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْحَرَامُ رِزْقًا لَكَانَ اللَّه تَعَالَى مَا أَوْصَلَ رِزْقَهُ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ تَعَالَى قَدْ أَخَلَّ بِالْوَاجِبِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْحَرَامَ قَدْ يَكُونُ رِزْقًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها فَالْمُسْتَقَرُّ هُوَ مَكَانُهُ مِنَ الْأَرْضِ وَالْمُسْتَوْدَعُ حَيْثُ كَانَ مُودَعًا قَبْلَ الِاسْتِقْرَارِ فِي صُلْبٍ أَوْ رَحِمٍ أَوْ بَيْضَةٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مُسْتَقَرُّهَا حَيْثُ تَأْوِي إِلَيْهِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، وَمُسْتَوْدَعُهَا مَوْضِعُهَا الَّذِي تَمُوتُ فِيهِ، وَقَدْ مَضَى اسْتِقْصَاءُ تَفْسِيرِ الْمُسْتَقَرِّ وَالْمُسْتَوْدَعِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، ثُمَّ قَالَ: كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي عِلْمِ اللَّه تَعَالَى، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59] . [سورة هود (11) : آية 7] وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَثْبَتَ بِالدَّلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ كَوْنَهُ عَالِمًا بِالْمَعْلُومَاتِ، أَثْبَتَ بِهَذَا الدَّلِيلِ كَوْنَهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ وَفِي الْحَقِيقَةِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ عِلْمِ اللَّه وَعَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ قَدْ مَضَى تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ عَلَى سبيل الاستقصاء. بقي هاهنا أَنْ نَذْكُرَ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ قَالَ كَعْبٌ خَلَقَ اللَّه تَعَالَى يَاقُوتَةً خَضْرَاءَ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهَا بِالْهَيْبَةِ فَصَارَتْ مَاءً يَرْتَعِدُ، ثُمَّ خَلَقَ الرِّيحَ فَجَعَلَ الْمَاءَ عَلَى مَتْنِهَا ثُمَّ وَضَعَ الْعَرْشَ عَلَى الْمَاءِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ كَقَوْلِهِمْ: السَّمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ كَوْنِ أَحَدِهِمَا مُلْتَصِقًا بِالْآخَرِ وَكَيْفَ كَانَتِ الْوَاقِعَةُ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرْشَ وَالْمَاءَ كانا قبل السموات وَالْأَرْضِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُودِ الْمَلَائِكَةِ قَبْلَ خَلْقِهِمَا، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أن يخلق ذلك ولا أحد ينتفع بالعرض وَالْمَاءِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَهُمَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ خَلَقَهُمَا لِمَنْفَعَةٍ أَوْ لَا لِمَنْفَعَةٍ وَالثَّانِي عَبَثٌ، فَبَقِيَ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّهُ خَلَقَهُمَا لِمَنْفَعَةٍ، وَتِلْكَ الْمَنْفَعَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى اللَّه وَهُوَ مُحَالٌ لِكَوْنِهِ مُتَعَالِيًا عَنِ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ أَوْ إِلَى الْغَيْرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْغَيْرُ حَيًّا، لِأَنَّ غَيْرَ الْحَيِّ لَا يَنْتَفِعُ. وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ قَالَ ذَلِكَ الْحَيُّ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ، وَأَمَّا أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ فَقَالَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ أي بناؤه السموات كَانَ عَلَى الْمَاءِ، وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ يُونُسَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا بنى السموات عَلَى الْمَاءِ كَانَتْ أَبْدَعَ وَأَعْجَبَ، فَإِنَّ الْبِنَاءَ الضَّعِيفَ إِذَا لَمْ يُؤَسَّسْ عَلَى أَرْضٍ صُلْبَةٍ لَمْ يَثْبُتْ، فَكَيْفَ بِهَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ إِذَا بسط على الماء؟ وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ أَنَّ عَرْشَهُ كَانَ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ؟ وَالْجَوَابُ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ من وجوه: الأول: أن العرش كونه مع أعظم من السموات وَالْأَرْضِ كَانَ عَلَى الْمَاءِ فَلَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِمْسَاكِ الثَّقِيلِ بِغَيْرِ عَمَدٍ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَمْسَكَ الْمَاءَ لَا عَلَى قَرَارٍ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَقْسَامُ الْعَالَمِ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ

[سورة هود (11) : آية 8]

الْعَرْشَ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ قَدْ أَمْسَكَهُ اللَّه تعالى فوق سبع/ سموات من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه، وَذَلِكَ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يَصِحُّ مَا يُرْوَى أَنَّهُ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّه، أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ خلق السموات وَالْأَرْضِ؟ فَقَالَ كَانَ فِي عَمَاءٍ فَوْقَهُ هَوَاءٌ وَتَحْتَهُ هَوَاءٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ ضَعِيفَةٌ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اللَّه وَمَا كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ، ثُمَّ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا يَقْتَضِي أَنَّهُ تعالى خلق السموات وَالْأَرْضَ لِابْتِلَاءِ الْمُكَلَّفِ فَكَيْفَ الْحَالُ فِيهِ؟ وَالْجَوَابُ ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ الْكَثِيرَ لِمَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِينَ، وَقَدْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ طَوَائِفُ مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ سِوَى الْوَجْهِ الَّذِي قَالَ بِهِ الْآخَرُونَ، وَشَرْحُ تِلْكَ الْمَقَالَاتِ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْكِتَابِ. وَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّ أَفْعَالَهُ وَأَحْكَامَهُ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ بِالْمَصَالِحِ قَالُوا: لَامُ التَّعْلِيلِ وَرَدَتْ عَلَى ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَ فِعْلًا لَوْ كَانَ يَفْعَلُهُ مَنْ تَجُوزُ عَلَيْهِ رِعَايَةُ الْمَصَالِحِ لَمَا فَعَلَهُ إِلَّا لِهَذَا الْغَرَضِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: الِابْتِلَاءُ إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْجَاهِلِ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَذَلِكَ عَلَيْهِ تَعَالَى مُحَالٌ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ فِي حَقِّهِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَةِ: 21] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ لِأَجْلِ ابْتِلَاءِ الْمُكَلَّفِينَ وَامْتِحَانِهِمْ فَهَذَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِحُصُولِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ وَالِامْتِحَانَ يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْمُحْسِنِ بِالرَّحْمَةِ وَالثَّوَابِ وَتَخْصِيصَ الْمُسِيءِ بِالْعِقَابِ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالْمَعَادِ وَالْقِيَامَةِ، فَعِنْدَ هَذَا خَاطَبَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ هَذَا الْكَلَامَ وَيَحْكُمُونَ بِفَسَادِ الْقَوْلِ بِالْبَعْثِ. فَإِنْ قِيلَ: الَّذِي يُمْكِنُ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ سِحْرٌ مَا يَكُونُ فِعْلًا مَخْصُوصًا، وَكَيْفَ يُمْكِنُ وَصْفُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُ سِحْرٌ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَفَّالُ: مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ خَدِيعَةٌ مِنْكُمْ وَضَعْتُمُوهَا لِمَنْعِ النَّاسِ عَنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَإِحْرَازًا لَهُمْ إِلَى الِانْقِيَادِ لَكُمْ وَالدُّخُولِ تَحْتَ طَاعَتِكُمْ. الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ هُوَ أَنَّ السِّحْرَ أَمْرٌ بَاطِلٌ، قَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ [يُونُسَ: 81] فَقَوْلُهُ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَيْ بَاطِلٌ مُبِينٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ/ الْقُرْآنَ هُوَ الْحَاكِمُ بِحُصُولِ الْبَعْثِ وَطَعَنُوا فِي الْقُرْآنِ بِكَوْنِهِ سِحْرًا لِأَنَّ الطَّعْنَ فِي الْأَصْلِ يُفِيدُ الطَّعْنَ فِي الْفَرْعِ. الرَّابِعُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ إِنْ هَذَا إِلَّا سَاحِرٌ يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صلى اللَّه عليه وسلم والساحر كاذب. [سورة هود (11) : آية 8] وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8)

[سورة هود (11) : الآيات 9 إلى 11]

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِمْ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ فَحَكَى عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَوْعًا آخَرَ مِنْ أَبَاطِيلِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُ مَتَى تَأَخَّرَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ الَّذِي تَوَعَّدَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ أَخَذُوا فِي الِاسْتِهْزَاءِ وَيَقُولُونَ: مَا السَّبَبُ الَّذِي حَبَسَهُ عَنَّا؟ فَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ إِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّه لِنُزُولِ ذَلِكَ العذاب الذي كانوا يستهزؤن بِهِ لَمْ يَنْصَرِفْ ذَلِكَ الْعَذَابُ عَنْهُمْ وَأَحَاطَ بهم ذلك العذاب. بقي هاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ هُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا أَوْ عَذَابُ الْآخِرَةِ؟ الْجَوَابُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى حُكْمِ اللَّه فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَأَخَّرَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَمَّا أَخَّرَ اللَّه عَنْهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابَ قَالُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ مَا الَّذِي حَبَسَهُ عَنَّا؟ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ الْأَمْرُ بِالْجِهَادِ وَمَا نَزَلَ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: وَحاقَ بِهِمْ أَيْ نَزَلَ بِهِمْ هَذَا الْعَذَابُ يَوْمَ بَدْرٍ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ. الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأُمَّةِ هُمُ النَّاسُ وَالْفِرْقَةُ فَإِذَا قُلْتَ: جَاءَنِي أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ. فَالْمُرَادُ طَائِفَةٌ مُجْتَمِعَةٌ قَالَ تَعَالَى: وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [الْقَصَصِ: 23] وَقَوْلُهُ: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يُوسُفَ: 45] أَيْ بعد انقضاء أمة وفنائها فكذا هاهنا قَوْلُهُ: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ أَيْ إِلَى حِينِ تَنْقَضِي أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ انْقَرَضَتْ بَعْدَ هَذَا الْوَعِيدِ بِالْقَوْلِ، لَقَالُوا مَاذَا يَحْبِسُهُ عَنَّا وَقَدِ انْقَرَضَ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ كَانُوا مُتَوَعَّدِينَ بِهَذَا الْوَعِيدِ؟ وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يَحْصُلُ فِيهِ كَقَوْلِكَ: كُنْتُ عِنْدَ فُلَانٍ صَلَاةَ الْعَصْرِ، أَيْ فِي ذَلِكَ الْحِينِ. الثَّانِي: أَنَّ اشْتِقَاقَ الْأُمَّةِ مِنَ الْأَمِّ، وَهُوَ الْقَصْدُ، كَأَنَّهُ يَعْنِي الْوَقْتَ الْمَقْصُودَ بِإِيقَاعِ هَذَا الْمَوْعُودِ فِيهِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ: وَحاقَ عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ؟ وَالْجَوَابُ: قَدْ مَرَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَالضَّابِطُ فِيهَا أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ بِلَفْظِ الماضي مبالغة في التأكيد والتقرير. [سورة هود (11) : الآيات 9 الى 11] وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ عَذَابَ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ وَإِنْ تَأَخَّرَ إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَحِيقَ بِهِمْ، ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَعَلَى كَوْنِهِمْ مُسْتَحِقِّينَ لِذَلِكَ الْعَذَابِ فَقَالَ: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَفْظُ الْإِنْسانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مُطْلَقُ الْإِنْسَانِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَى مِنْهُ قَوْلَهُ: إِلَّا

الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَاخِلٌ فِيهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ. الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُوَافِقَةٌ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْعَصْرِ: 1- 3] وَمُوَافِقَةٌ أَيْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [الْمَعَارِجِ: 19- 21] الثَّالِثُ: أَنَّ مِزَاجَ الْإِنْسَانِ مَجْبُولٌ عَلَى الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ يَا ابْنَ آدَمَ إِذَا نزلت لك نِعْمَةٌ مِنَ اللَّه فَأَنْتَ كَفُورٌ، فَإِذَا نُزِعَتْ منك فيؤس قَنُوطٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْكَافِرُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُفْرَدِ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى المعهود السابق لولا المانع، وهاهنا لَا مَانِعَ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ/ وَالْمَعْهُودُ السَّابِقُ هُوَ الْكَافِرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. الثَّانِي: أَنَّ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ لِلْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالْكَافِرِ لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ يؤسا، وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَافِرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يُوسُفَ: 78] وَوَصَفَهُ أَيْضًا بِكَوْنِهِ كَفُورًا، وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِالْكُفْرِ وَوَصَفَهُ أَيْضًا بِأَنَّهُ عِنْدَ وِجْدَانِ الرَّاحَةِ يَقُولُ: ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي، [هود: 10] وذلك جزاءة عَلَى اللَّه تَعَالَى، وَوَصَفَهُ أَيْضًا بِكَوْنِهِ فَرِحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص: 76] وَوَصَفَهُ أَيْضًا بِكَوْنِهِ فَخُورًا، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الدِّينِ. ثُمَّ قَالَ النَّاظِرُونَ لِهَذَا الْقَوْلِ: وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ حَتَّى لَا تَلْزَمْنَا هَذِهِ الْمَحْذُورَاتُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَفْظُ الْإِذَاقَةِ وَالذَّوْقِ يُفِيدُ أَقَلَّ مَا يُوجَدُ بِهِ الطَّعْمُ، فَكَانَ الْمُرَادُ أَنَّ الْإِنْسَانَ بِوِجْدَانِ أَقَلِّ الْقَلِيلِ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْعَاجِلَةِ يَقَعُ فِي التَّمَرُّدِ وَالطُّغْيَانِ، وَبِإِدْرَاكِ أَقَلِّ الْقَلِيلِ مِنَ الْمِحْنَةِ وَالْبَلِيَّةِ يَقَعُ فِي الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ وَالْكُفْرَانِ فَالدُّنْيَا فِي نَفْسِهَا قَلِيلَةٌ، وَالْحَاصِلُ مِنْهَا لِلْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ قَلِيلٌ، وَالْإِذَاقَةُ مِنْ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ خَيْرٌ قَلِيلٌ ثُمَّ إِنَّهُ فِي سُرْعَةِ الزَّوَالِ يُشْبِهُ أَحْلَامَ النَّائِمِينَ وَخَيَالَاتِ الموسوسين، فهذه الإذاقة مِنْ قَلِيلٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا طَاقَةَ لَهُ بِتَحَمُّلِهَا وَلَا صَبْرَ لَهُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالطَّرِيقِ الْحَسَنِ مَعَهَا. وَأَمَّا النَّعْمَاءُ فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّهَا إِنْعَامٌ يَظْهَرُ أَثَرُهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَالضَّرَّاءُ مَضَرَّةٌ يَظْهَرُ أَثَرُهَا عَلَى صَاحِبِهَا، لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مَخْرَجَ الْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ نَحْوُ حَمْرَاءَ وَعَوْرَاءَ، وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ النِّعْمَةِ وَالنَّعْمَاءِ، وَالْمَضَرَّةِ وَالضَّرَّاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ أَحْوَالَ الدُّنْيَا غَيْرُ بَاقِيَةٍ، بَلْ هِيَ أَبَدًا فِي التَّغَيُّرِ وَالزَّوَالِ، وَالتَّحَوُّلِ وَالِانْتِقَالِ، إِلَّا أَنَّ الضَّابِطَ فِيهِ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنَ النِّعْمَةِ إِلَى الْمِحْنَةِ، وَمِنَ اللَّذَّاتِ إِلَى الْآفَاتِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنَ الْمَكْرُوهِ إِلَى الْمَحْبُوبِ، وَمِنَ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَى الطَّيِّبَاتِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى هَذَا الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ يَئُوسٌ كَفُورٌ وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَالَ زَوَالِ تِلْكَ النِّعْمَةِ يَصِيرُ يؤسا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَافِرَ يَعْتَقِدُ أَنَّ السَّبَبَ فِي حُصُولِ تِلْكَ النِّعْمَةِ سَبَبٌ اتِّفَاقِيٌّ، ثُمَّ إِنَّهُ يَسْتَبْعِدُ حُدُوثَ ذَلِكَ الِاتِّفَاقِ مَرَّةً أُخْرَى فَلَا جَرَمَ يَسْتَبْعِدُ عَوْدَ تِلْكَ النِّعْمَةِ فَيَقَعُ فِي الْيَأْسِ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُ الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَطَوْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْيَأْسُ، بَلْ يَقُولُ لَعَلَّهُ تَعَالَى يَرُدُّهَا إِلَيَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَكْمَلَ وَأَحْسَنَ وَأَفْضَلَ مِمَّا كَانَتْ، وَأَمَّا حَالَ كَوْنِ تِلْكَ النِّعْمَةِ حَاصِلَةً فَإِنَّهُ يَكُونُ كَفُورًا لِأَنَّهُ لَمَّا اعْتَقَدَ أَنَّ حُصُولَهَا إِنَّمَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّفَاقِ أَوْ بِسَبَبِ أَنَّ الْإِنْسَانَ حَصَّلَهَا بِسَبَبِ جِدِّهِ وَجُهْدِهِ، فَحِينَئِذٍ لَا يشتغل بشكر

[سورة هود (11) : آية 12]

اللَّه تَعَالَى عَلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الكافر يكون عند زوال تلك النعمة يؤوسا وَعِنْدَ حُصُولِهَا يَكُونُ كَفُورًا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَنْتَقِلَ الْإِنْسَانُ مِنَ الْمَكْرُوهِ إِلَى الْمَحْبُوبِ، وَمِنَ الْمِحْنَةِ إِلَى النِّعْمَةِ، فَهَهُنَا الْكَافِرُ يَكُونُ فَرِحًا فَخُورًا. أَمَّا قُوَّةُ الْفَرَحِ فَلِأَنَّ مُنْتَهَى طَمَعِ الْكَافِرِ هُوَ الْفَوْزُ بِهَذِهِ السَّعَادَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلسَّعَادَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ، فَإِذَا وَجَدَ الدُّنْيَا فَكَأَنَّهُ قَدْ فَازَ بِغَايَةِ السَّعَادَاتِ فَلَا جَرَمَ يَعْظُمُ فَرَحُهُ بِهَا، وَأَمَّا كَوْنُهُ فَخُورًا فَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْفَوْزُ بِسَائِرِ الْمَطْلُوبِ نِهَايَةَ السَّعَادَةِ لَا جَرَمَ يَفْتَخِرُ بِهِ، فَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْكَافِرَ عِنْدَ الْبَلَاءِ لَا يَكُونُ مِنَ الصَّابِرِينَ، وَعِنْدَ الْفَوْزِ بِالنَّعْمَاءِ لَا يَكُونُ مِنَ الشَّاكِرِينَ. ثُمَّ لَمَّا قَرَّرَ ذَلِكَ قَالَ: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ ضِدُّ مَا تَقَدَّمَ فَقَوْلُهُ: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْبَلَاءِ مِنَ الصَّابِرِينَ، وَقَوْلُهُ: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الرَّاحَةِ وَالْخَيْرِ مِنَ الشَّاكِرِينَ. ثُمَّ بَيَّنَ حَالَهُمْ فَقَالَ: أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ فَجَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَطْلُوبَيْنِ. أَحَدُهُمَا: زَوَالُ الْعِقَابِ وَالْخَلَاصُ مِنْهُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَالثَّانِي: الْفَوْزُ بِالثَّوَابِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وَمَنْ وَقَفَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَلِمَ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ الْكَرِيمَ كَمَا أَنَّهُ مُعْجِزٌ بِحَسَبِ أَلْفَاظِهِ فَهُوَ أَيْضًا مُعْجِزٌ بحسب معانيه. [سورة هود (11) : آية 12] فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ كَلِمَاتِ الْكُفَّارِ، واللَّه تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ قَلْبَ الرَّسُولِ ضَاقَ بِسَبَبِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَوَّاهُ وَأَيَّدَهُ بِالْإِكْرَامِ وَالتَّأْيِيدِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ رُؤَسَاءَ مَكَّةَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ اجْعَلْ لَنَا جِبَالَ مَكَّةَ ذَهَبًا إِنْ كُنْتَ رَسُولًا، وَقَالَ آخَرُونَ: ائْتِنَا بِالْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ بِنُبُوَّتِكَ. فَقَالَ: لَا أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ائْتِنَا بِكِتَابٍ لَيْسَ فِيهِ شَتْمُ آلِهَتِنَا حَتَّى نَتَّبِعَكَ وَنُؤْمِنَ بِكَ، وَقَالَ الْحَسَنُ اطْلُبُوا مِنْهُ لَا يَقُولُ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ [طه: 15] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ نِسْبَتُهُمْ إِلَى الْجَهْلِ وَالتَّقْلِيدِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْبَاطِلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَخُونَ فِي الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ وَأَنْ يَتْرُكَ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْهِ، لِأَنَّ تَجْوِيزَهُ يُؤَدِّي إِلَى الشَّكِّ فِي كُلِّ الشَّرَائِعِ وَالتَّكَالِيفِ وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي النُّبُوَّةِ وَأَيْضًا فَالْمَقْصُودُ مِنَ الرِّسَالَةِ تَبْلِيغُ تَكَالِيفِ اللَّه تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ فَقَدْ خَرَجَتِ الرِّسَالَةُ عَنْ أَنْ تُفِيدَ فَائِدَتَهَا الْمَطْلُوبَةَ مِنْهَا، وَإِذَا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ شَيْئًا آخَرَ سِوَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَ ذَلِكَ وَلِلنَّاسِ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْلُومِ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ إنما ترك التَّقْصِيرَ فِي أَدَاءِ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ لِسَبَبٍ يَرِدُ عليه من اللَّه تعالى أمثال هذه التهديدات. الْبَلِيغَةِ الثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْتَقِدُونَ بِالْقُرْآنِ وَيَتَهَاوَنُونَ بِهِ، فَكَانَ يَضِيقُ صَدْرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُلْقِيَ إِلَيْهِمْ مَا لَا يَقْبَلُونَهُ وَيَضْحَكُونَ مِنْهُ، فَهَيَّجَهُ اللَّه تَعَالَى لِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَطَرْحِ الْمُبَالَاةِ بِكَلِمَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَى اسْتِهْزَائِهِمْ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَدَّى ذَلِكَ الْوَحْيَ وَقَعَ فِي سُخْرِيَّتِهِمْ وَسَفَاهَتِهِمْ وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ

[سورة هود (11) : آية 13]

الْوَحْيَ إِلَيْهِمْ وَقَعَ فِي تَرْكِ وَحْيِ اللَّه تَعَالَى وَفِي إِيقَاعِ الْخِيَانَةِ فِيهِ، فَإِذًا لَا بُدَّ مِنْ تَحَمُّلِ أَحَدِ الضَّرَرَيْنِ وَتَحَمُّلُ سَفَاهَتِهِمْ أَسْهَلُ مِنْ تَحَمُّلِ إِيقَاعِ الْخِيَانَةِ فِي وَحْيِ اللَّه تَعَالَى، وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ طَرَفَيِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ يَشْتَمِلُ عَلَى ضَرَرٍ عَظِيمٍ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الضَّرَرَ فِي جَانِبِ التَّرْكِ أَعْظَمُ وَأَقْوَى سَهُلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ وَخَفَّ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ مَا ذَكَرْنَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: فَلَعَلَّكَ كَلِمَةُ شَكٍّ فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهَا؟ قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْهُ الزَّجْرُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادُوا إِبْعَادَهُ عَنْ أَمْرٍ لَعَلَّكَ تَقْدِرُ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا مَعَ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِيهِ، وَيَقُولُ لِوَلَدِهِ لَوْ أَمَرَهُ لَعَلَّكَ تُقَصِّرُ فِيمَا أَمَرْتُكَ بِهِ وَيُرِيدُ تَوْكِيدَ الْأَمْرِ فَمَعْنَاهُ لَا تَتْرُكْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ فَالضَّائِقُ بِمَعْنَى الضَّيِّقِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الضَّائِقَ يَكُونُ بِضِيقٍ عَارِضٍ غَيْرِ لَازِمٍ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَفْسَحَ النَّاسِ صَدْرًا، وَمِثْلُهُ قَوْلُكَ: زَيْدٌ سَيِّدٌ جَوَادٌ تُرِيدُ السِّيَادَةَ وَالْجُودَ الثَّابِتَيْنِ الْمُسْتَقِرَّيْنِ، فَإِذَا أَرَدْتَ الْحُدُوثَ قُلْتَ: سَائِدٌ/ وَجَائِدٌ، وَالْمَعْنَى: ضَائِقٌ صَدْرُكَ لِأَجْلِ أَنْ يَقُولُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْكَنْزُ كَيْفَ يَنْزِلُ؟ قُلْنَا: الْمُرَادُ مَا يُكْنَزُ وَجَرَتِ الْعَادَةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَمَّى الْمَالُ الْكَثِيرُ بِهَذَا الِاسْمِ، فَكَأَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فِي أَنَّكَ رَسُولُ الْإِلَهِ الَّذِي تَصِفُهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّكَ عَزِيزٌ عِنْدَهُ فَهَلَّا أَنْزَلَ عَلَيْكَ مَا تَسْتَغْنِي بِهِ وَتُغْنِي أَحْبَابَكَ مِنَ الْكَدِّ وَالْعَنَاءِ وَتَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مُهِمَّاتِكَ وَتُعِينُ أَنْصَارَكَ وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَهَلَّا أَنْزَلَ اللَّه مَعَكَ مَلَكًا يَشْهَدُ لَكَ عَلَى صِدْقِ قَوْلِكَ وَيُعِينُكَ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِكَ فَتَزُولَ الشُّبْهَةُ فِي أَمْرِكَ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ إِلَهُكَ ذَلِكَ فَأَنْتَ غَيْرُ صَادِقٍ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ رَسُولٌ مُنْذِرٌ بِالْعِقَابِ وَمُبَشِّرٌ بِالثَّوَابِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى إِيجَادِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَالَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ وَفِي حُكْمِهِ. وَمَعْنَى وَكِيلٌ حَفِيظٌ أَيْ يَحْفَظُ عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ، أَيْ يُجَازِيهِمْ بِهَا وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً [الْفُرْقَانِ: 10] وَقَوْلُهُ: قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إِلَى قَوْلِهِ: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: 90- 93] . [سورة هود (11) : آية 13] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) اعلم أن القول لَمَّا طَلَبُوا مِنْهُ الْمُعْجِزَ قَالَ مُعْجِزِي هَذَا الْقُرْآنُ وَلَمَّا حَصَلَ الْمُعْجِزُ الْوَاحِدُ كَانَ طَلَبُ الزِّيَادَةِ بَغْيًا وَجَهْلًا، ثُمَّ قَرَّرَ كَوْنَهُ مُعْجِزًا بِأَنْ تَحَدَّاهُمْ بِالْمُعَارَضَةِ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ بِالِاسْتِقْصَاءِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ وَفِي سُورَةِ يُونُسَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: افْتَراهُ عَائِدٌ إِلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: يُوحى إِلَيْكَ أَيْ إِنْ قَالُوا إِنَّ هَذَا الَّذِي يُوحَى إِلَيْكَ مُفْتَرًى فَقُلْ لَهُمْ حَتَّى يَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَقَوْلُهُ مِثْلِهِ بِمَعْنَى أَمْثَالِهِ حَمْلًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ السُّوَرِ وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْمَجْمُوعَ، لِأَنَّ مَجْمُوعَ السُّوَرِ الْعَشْرَةِ شَيْءٌ وَاحِدٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ السُّورَةُ الَّتِي وَقَعَ بِهَا هَذَا التَّحَدِّي مُعَيَّنَةٌ، وَهِيَ سُورَةُ/ الْبَقَرَةِ وَآلِ

[سورة هود (11) : آية 14]

عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال والتوبة وَيُونُسَ وَهُودٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَوْلُهُ: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ إِشَارَةٌ إِلَى السُّوَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ، وَهَذَا فِيهِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَبَعْضَ السُّوَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ مَدَنِيَّةٌ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْعَشْرِ سُوَرٍ الَّتِي مَا نَزَلَتْ عِنْدَ هَذَا الْكَلَامِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ التَّحَدِّي وَقَعَ بِمُطْلَقِ السُّوَرِ الَّتِي يَظْهَرُ فِيهَا قُوَّةُ تَرْكِيبِ الْكَلَامِ وَتَأْلِيفِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحَدِّيَ بِعَشْرِ سُوَرٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَى التَّحَدِّي بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ مِثْلُ أَنْ يقول الرجل لغيره أكتب عشرة أسطر مثل ما أَكْتُبُ، فَإِذَا ظَهَرَ عَجْزُهُ عَنْهُ قَالَ: قَدِ اقْتَصَرْتُ مِنْهَا عَلَى سَطْرٍ وَاحِدٍ مِثْلِهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: التَّحَدِّي بِالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ وَرَدَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي سُورَةِ يُونُسَ كَمَا تَقَدَّمَ، أَمَّا تَقَدُّمُ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَسُورَةَ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةٌ، وَأَمَّا فِي سُورَةِ يُونُسَ فَالْإِشْكَالُ زَائِلٌ أَيْضًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ مَكِّيَّةٌ، وَالدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ سُورَةُ هُودٍ مُتَقَدِّمَةً فِي النُّزُولِ عَلَى سُورَةِ يُونُسَ حَتَّى يَسْتَقِيمَ الْكَلَامُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْوَجْهِ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ الْقُرْآنُ مُعْجِزًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْفَصَاحَةُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْأُسْلُوبُ، وَقَالَ ثَالِثٌ: هُوَ عَدَمُ التَّنَاقُضِ، وَقَالَ رَابِعٌ: هُوَ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ، وَقَالَ خَامِسٌ: هُوَ الصَّرْفُ، وَقَالَ سَادِسٌ: هُوَ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي وَعِنْدَ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ مُعْجِزٌ بِسَبَبِ الْفَصَاحَةِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَجْهُ الْإِعْجَازِ هُوَ كَثْرَةَ الْعُلُومِ أَوِ الْإِخْبَارَ عَنِ الْغُيُوبِ أَوْ عَدَمَ التَّنَاقُضِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: مُفْتَرَياتٍ مَعْنًى أَمَّا إِذَا كَانَ وَجْهُ الْإِعْجَازِ هُوَ الْفَصَاحَةَ صَحَّ ذَلِكَ لِأَنَّ فَصَاحَةَ الْفَصِيحِ تَظْهَرُ بِالْكَلَامِ، سَوَاءٌ كَانَ الْكَلَامُ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْوَجْهُ فِي كَوْنِهِ مُعْجِزًا هُوَ الصَّرْفَ لَكَانَ دَلَالَةُ الْكَلَامِ الرَّكِيكِ النَّازِلِ فِي الْفَصَاحَةِ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ أَوْكَدَ مِنْ دَلَالَةِ الْكَلَامِ الْعَالِي فِي الْفَصَاحَةِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ وَجْهَ التَّحَدِّي قَالَ: وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَالْمُرَادُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي ادِّعَاءِ كَوْنِهِ مُفْتَرًى كَمَا قَالَ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي إِثْبَاتِ الدِّينِ مِنْ تَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْرَدَ فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا الدَّلِيلَ وَهَذِهِ الْحُجَّةَ، وَلَوْلَا أَنَّ الدِّينَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بالدليل لم يكن في ذكره فائدة. [سورة هود (11) : آية 14] فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) اعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى خِطَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: خِطَابُ الرَّسُولِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَالثَّانِي: خِطَابُ الْكُفَّارِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [هود: 13] فلما أتبعه بقوله: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا فِي الْمُعَارَضَةِ لِتَعَذُّرِهَا عَلَيْهِمْ، وَاحْتَمَلَ أَنَّ مَنْ يَدْعُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّه لَمْ يَسْتَجِيبُوا، فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَبَعْضُهُمْ قَالَ: هَذَا خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْكُفَّارَ إِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فِي الْإِتْيَانِ بِالْمُعَارَضَةِ، فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّه. وَالْمَعْنَى: فَاثْبُتُوا عَلَى الْعِلْمِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَازْدَادُوا يَقِينًا وَثَبَاتَ قَدَمٍ عَلَى أَنَّهُ مُنَزَّلٌ

مِنْ عِنْدِ اللَّه، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَيْ فَهَلْ أَنْتُمْ مُخْلِصُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِيهِ إِضْمَارٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَقُولُوا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ لِلْكُفَّارِ اعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّه. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا خِطَابٌ مَعَ الْكُفَّارِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّه إِذَا لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فِي الْإِعَانَةِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ، فَاعْلَمُوا أَيُّهَا الْكُفَّارُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ إِنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّه فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ بَعْدَ لُزُومِ الْحُجَّةِ عَلَيْكُمْ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ قَالُوا هَذَا أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّكُمْ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ احْتَجْتُمْ إِلَى أَنْ حَمَلْتُمْ قَوْلَهُ: فَاعْلَمُوا عَلَى الْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ أَوْ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى إِضْمَارٍ، فَكَانَ هَذَا أَوْلَى، وَأَيْضًا فَعَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورِينَ وَاجِبٌ، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ هَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي، وَأَيْضًا أَنَّ الْخِطَابَ الْأَوَّلَ كَانَ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَحْدَهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ [هود: 13] وَالْخِطَابَ الثَّانِيَ كَانَ مَعَ جَمَاعَةِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ: وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [هود: 13] وقوله: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ خِطَابٌ مَعَ الْجَمَاعَةِ فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ أَوْلَى. بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَمْ يَسْتَجِيبُوا فِيهِ؟ الْجَوَابُ: الْمَعْنَى فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فِي مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فِي جُمْلَةِ الْإِيمَانِ وَهُوَ بَعِيدٌ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَنِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بقوله: لَكُمْ؟ والجواب: إن حملنا قوله: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَذَلِكَ ظَاهِرٌ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الرَّسُولِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَتَحَدُّونَهُمْ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ لِتَعْظِيمِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَيُّ تَعَلُّقٍ بَيْنَ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا فِيهَا مِنَ الْجَزَاءِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقَوْمَ ادَّعَوْا كَوْنَ الْقُرْآنِ مُفْتَرًى عَلَى اللَّه تَعَالَى، فَقَالَ: لَوْ كَانَ مُفْتَرًى عَلَى اللَّه لَوَجَبَ أَنْ يَقْدِرَ الْخَلْقُ عَلَى مِثْلِهِ وَلَمَّا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّه، فَقَوْلُهُ: أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّه وَمِنْ قِبَلِهِ، كَمَا يَقُولُ الْحَاكِمُ هَذَا الْحُكْمُ جَرَى بِعِلْمِي. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: أَيُّ تَعَلُّقٍ لِقَوْلِهِ: وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يعجزهم عَنِ الْمُعَارَضَةِ. وَالْجَوَابُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَطْلُبَ مِنَ الْكُفَّارِ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِالْأَصْنَامِ فِي تَحْقِيقِ الْمُعَارَضَةِ ثُمَّ ظَهَرَ عَجْزُهُمْ عَنْهَا فَحِينَئِذٍ ظَهَرَ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَطَالِبِ الْبَتَّةَ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ، فَقَدْ بَطَلَ الْقَوْلُ بِإِثْبَاتِ كونهم آلهة، فصار عجز القوم الْمُعَارَضَةِ بَعْدَ الِاسْتِعَانَةِ بِالْأَصْنَامِ مُبْطِلًا لِإِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ وَدَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَأَنْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِشَارَةً إِلَى مَا ظَهَرَ مِنْ فَسَادِ الْقَوْلِ بِإِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ. الثَّانِي: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْقَوْلَ بِنَفْيِ الشَّرِيكِ عَنِ اللَّه مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا بِقَوْلِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى هَذَا فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَمَّا ثَبَتَ عَجْزُ الْخُصُومِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ ثَبَتَ كَوْنُ الْقُرْآنِ حَقًّا، وَثَبَتَ كَوْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقًا فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ يُخْبِرُ عَنْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه فَلَمَّا ثَبَتَ كَوْنُهُ محقا في

[سورة هود (11) : الآيات 15 إلى 16]

دعوى النبوة ثبت قوله: أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الثَّالِثُ: أَنَّ ذِكْرَ قَوْلِهِ: وَأَنْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ جَارٍ مَجْرَى التَّهْدِيدِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَمَّا ثَبَتَ بِهَذَا الدَّلِيلِ كَوْنُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَادِقًا فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ وَعَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، فَكُونُوا خَائِفِينَ مِنْ قَهْرِهِ وَعَذَابِهِ وَاتْرُكُوا الْإِصْرَارَ عَلَى الْكُفْرِ وَاقْبَلُوا الْإِسْلَامَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ ذِكْرِ آيَةِ التَّحَدِّي: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [الْبَقَرَةِ: 24] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ مَعْنَاهُ التَّرْغِيبَ فِي زِيَادَةِ الْإِخْلَاصِ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْكُفَّارِ كَانَ مَعْنَاهُ التَّرْغِيبَ فِي أصل الإسلام. [سورة هود (11) : الآيات 15 الى 16] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (16) اعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُنَازِعُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ، فَكَانُوا يُظْهِرُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّ مُحَمَّدًا مُبْطِلٌ وَنَحْنُ مُحِقُّونَ، وَإِنَّمَا نُبَالِغُ فِي مُنَازَعَتِهِ لِتَحْقِيقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، وَكَانُوا كَاذِبِينَ فِيهِ، بَلْ كَانَ غَرَضُهُمْ مَحْضَ الْحَسَدِ وَالِاسْتِنْكَافِ مِنَ الْمُتَابَعَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ لِتَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الْإِسْرَاءِ: 18] وَقَوْلُهُ: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى: 20] وفيه الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ قَوْلَيْنِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْكُفَّارِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا يَنْدَرِجُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالصِّدِّيقُ وَالزِّنْدِيقُ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُرِيدُ التَّمَتُّعَ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا وَالِانْتِفَاعَ بِخَيْرَاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا، إِلَّا أَنَّ آخِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْعَامِّ الْخَاصُّ وَهُوَ الْكَافِرُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْكُفَّارِ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَقَطْ، أَيْ تَكُونُ إِرَادَتُهُ مَقْصُورَةً عَلَى حُبِّ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وَلَمْ يَكُنْ طَالِبًا لِسَعَادَاتِ الْآخِرَةِ، كَانَ حُكْمُهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْهُمْ مُنْكِرُو الْبَعْثِ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْآخِرَةَ وَلَا يَرْغَبُونَ إِلَّا فِي سَعَادَاتِ الدُّنْيَا، وَهَذَا قَوْلُ الْأَصَمِّ وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ بِغَزْوِهِمْ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْغَنَائِمَ مِنْ دُونِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِالْآخِرَةِ وَثَوَابِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ أَنَسٍ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي أَنَّ الْمُرَادَ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ بِعَمَلِ الْخَيْرِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا، وَعَمَلُ الْخَيْرِ قِسْمَانِ: الْعِبَادَاتُ، وَإِيصَالُ الْمَنْفَعَةِ إِلَى الْحَيَوَانِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ الثَّانِي الْبِرُّ وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَالصَّدَقَةُ وَبِنَاءُ الْقَنَاطِرِ وَتَسْوِيَةُ الطُّرُقِ وَالسَّعْيُ فِي دَفْعِ الشُّرُورِ وَإِجْرَاءُ الْأَنْهَارِ فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ إِذَا أَتَى بِهَا الْكَافِرُ

لِأَجْلِ الثَّنَاءِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ بِسَبَبِهَا تَصِلُ الْخَيْرَاتُ وَالْمَنَافِعُ إِلَى الْمُحْتَاجِينَ، فَكُلُّهَا تَكُونُ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، فَلَا جَرَمَ هَذِهِ الْأَعْمَالُ تَكُونُ طَاعَاتٍ سَوَاءٌ صَدَرَتْ مِنَ الْكَافِرِ أَوِ الْمُسْلِمِ. وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ: فَهِيَ إِنَّمَا تَكُونُ طَاعَاتٍ بِنِيَّاتٍ مَخْصُوصَةٍ، فَإِذَا لَمْ يُؤْتَ بِتِلْكَ النِّيَّةِ، وَإِنَّمَا أَتَى فَاعِلُهَا بِهَا عَلَى طَلَبِ زِينَةِ الدُّنْيَا، وَتَحْصِيلِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فِيهَا صَارَ وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا فَلَا تَكُونُ مِنْ بَابِ الطَّاعَاتِ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها الْمُرَادُ مِنْهُ الطَّاعَاتُ الَّتِي يَصِحُّ صُدُورُهَا مِنَ الْكَافِرِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَجْرِيَ الْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي الْعُمُومِ، وَنَقُولُ: إِنَّهُ يَنْدَرِجُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَأْتِي بِالطَّاعَاتِ عَلَى سَبِيلِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْكَافِرُ الَّذِي هَذَا صِفَتُهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ مُشْكِلٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ لَا يَلِيقُ الْمُؤْمِنَ إِلَّا إِذَا قلنا المراد أولئك الذين ليس فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَفْعَالِ الْبَاطِلَةِ الْمَقْرُونَةِ بِالرِّيَاءِ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا أَخْبَارًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْبَابِ. رُوِيَ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «تَعَوَّذُوا باللَّه مِنْ جُبِّ الْحَزَنِ قِيلَ وَمَا جُبُّ الْحَزَنِ؟ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَادٍ في جهنم يلقى فيه القراء المراؤون» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يَرَى النَّاسُ أَنَّ فِيهِ خَيْرًا وَلَا خَيْرَ فِيهِ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُدْعَى بِرَجُلٍ جَمَعَ الْقُرْآنَ، فَيُقَالُ لَهُ مَا عَمِلْتَ فِيهِ؟ فَيَقُولُ يَا رَبِّ قُمْتُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَيَقُولُ اللَّه تَعَالَى كَذَبْتَ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ قارئ، وقد قيل ذلك، ويؤت بِصَاحِبِ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّه لَهُ أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ فَيَقُولُ: وَصَلْتُ الرَّحِمَ وَتَصَدَّقْتُ، فَيَقُولُ اللَّه تَعَالَى كَذَبْتَ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ جَوَادٌ، وَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ وَيُؤْتَى بِمَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّه فَيَقُولُ قَاتَلْتُ فِي الْجِهَادِ حَتَّى قُتِلْتُ فَيَقُولُ اللَّه تَعَالَى كَذَبْتَ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ جَرِيءٌ وَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُكْبَتِي وَقَالَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقٍ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ قَالَ الرَّاوِي فَبَكَى حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ هَالِكٌ ثُمَّ أَفَاقَ وَقَالَ صَدَقَ اللَّه وَرَسُولُهُ مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنْ تَوْفِيَةِ أُجُورِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهَا مِنَ الثَّوَابِ فَإِنَّهُ يَصِلُ إِلَيْهِمْ حَالَ كَوْنِهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَإِذَا خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْخَيْرَاتِ، بَلْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْهَا إِلَّا النَّارُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَطْعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ أَتَى بِالْأَعْمَالِ لِأَجْلِ طَلَبِ الثَّنَاءِ فِي الدُّنْيَا وَلِأَجْلِ الرِّيَاءِ، فَذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّهُ غَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ حُبُّ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَحْصُلْ فِي قَلْبِهِ حُبُّ الْآخِرَةِ، إِذْ لَوْ عَرَفَ حَقِيقَةَ الْآخِرَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ السَّعَادَاتِ لَامْتَنَعَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْخَيْرَاتِ لِأَجْلِ الدُّنْيَا وَيَنْسَى أَمْرَ الْآخِرَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآتِيَ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ لِأَجْلِ الدُّنْيَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَظِيمَ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا عَدِيمَ الطَّلَبِ لِلْآخِرَةِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا مَاتَ فَإِنَّهُ يَفُوتُهُ جَمِيعُ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَيَبْقَى عَاجِزًا عَنْ وِجْدَانِهَا غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى تَحْصِيلِهَا، وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا ثُمَّ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَطْلُوبِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَشْتَعِلَ فِي قَلْبِهِ نِيرَانُ الْحَسَرَاتِ فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ، أَنَّ كُلَّ مَنْ أَتَى بِعَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ لِطَلَبِ الْأَحْوَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَإِنَّهُ يَجِدُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ اللَّائِقَةَ بِذَلِكَ الْعَمَلِ، ثُمَّ إِذَا مَاتَ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْهُ إلا النار ويصير

[سورة هود (11) : آية 17]

[سورة هود (11) : آية 17] أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) اعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ وَالتَّقْدِيرُ: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ، إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الْجَوَابَ لِظُهُورِهِ وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ [فاطر: 8] وقوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً [الزُّمَرِ: 9] وَقَوْلِهِ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزُّمَرِ: 9] . وَاعْلَمْ أَنَّ أَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَلْفَاظٍ أَرْبَعَةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مجمل. فَالْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الَّذِي/ وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ مَنْ هُوَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ. وَالثَّالِثُ: أن المراد بقوله: يَتْلُوهُ الْقُرْآنُ أَوْ كَوْنُهُ حَاصِلًا عَقِيبَ غَيْرِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الشَّاهِدَ مَا هُوَ؟ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الْأَرْبَعَةُ مُجْمَلَةٌ فَلِهَذَا كَثُرَ اخْتِلَافُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا الَّذِي وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ مَنْ هُوَ؟ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ مَنْ آمَنَ مِنَ الْيَهُودِ كَعَبْدِ اللَّه بْنِ سَلَامٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهَذَا صِيغَةُ جَمْعٍ، فَلَا يَجُوزُ رُجُوعُهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ بِالْبَيِّنَةِ هُوَ الْبَيَانُ وَالْبُرْهَانُ الَّذِي عُرِفَ بِهِ صِحَّةُ الدِّينِ الْحَقِّ والضمير في يَتْلُوهُ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْبَيِّنَةِ، وَهُوَ الْبَيَانُ وَالْبُرْهَانُ وَالْمُرَادُ بِالشَّاهِدِ هُوَ الْقُرْآنُ، وَمِنْهُ أَيْ مِنَ اللَّه وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى، أَيْ وَيَتْلُو ذَلِكَ الْبُرْهَانَ مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ الْقُرْآنِ كِتَابُ مُوسَى. وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ كِتَابِ مُوسَى تَابِعًا لِلْقُرْآنِ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ بَلْ فِي دَلَالَتِهِ على هذا المطلوب وإِماماً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَقُولُ اجْتَمَعَ فِي تَقْرِيرِ صِحَّةِ هَذَا الدِّينِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ أَوَّلُهَا: دَلَالَةُ الْبَيِّنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى صِحَّتِهِ. وَثَانِيهَا: شَهَادَةُ الْقُرْآنِ بِصِحَّتِهِ. وَثَالِثُهَا: شَهَادَةُ التَّوْرَاةِ بِصِحَّتِهِ، فَعِنْدَ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَا يَبْقَى فِي صِحَّتِهِ شَكٌّ وَلَا ارْتِيَابٌ، فَهَذَا الْقَوْلُ أَحْسَنُ الْأَقَاوِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى مُطَابَقَةِ اللَّفْظِ وَفِيهَا أَقْوَالٌ أُخَرُ. فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ هُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْبَيِّنَةُ هو القرآن، والمراد بقوله: يَتْلُوهُ هُوَ التِّلَاوَةُ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الشَّاهِدِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ ذَلِكَ الشَّاهِدَ هُوَ لِسَانُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَرِوَايَةٌ عَنْ محمد بن الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي أَنْتَ التَّالِي قَالَ: وَمَا مَعْنَى التَّالِي قُلْتُ قَوْلُهُ: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قَالَ وَدِدْتُ أَنِّي هُوَ وَلَكِنَّهُ لِسَانِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتْلُوهُ بِلِسَانِهِ لَا جَرَمَ جُعِلَ اللِّسَانُ تَالِيًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ كَمَا يُقَالُ: عَيْنٌ بَاصِرَةٌ وَأُذُنٌ سَامِعَةٌ وَلِسَانٌ نَاطِقٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ،

وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَتْلُو تِلْكَ الْبَيِّنَةَ وَقَوْلُهُ: مِنْهُ أَيْ هَذَا الشَّاهِدُ مِنْ مُحَمَّدٍ وَبَعْضٌ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَشْرِيفُ هَذَا الشَّاهِدِ بِأَنَّهُ بَعْضٌ مِنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَرَابِعُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَيَتْلُوهُ الْقُرْآنَ بَلْ حُصُولَ هَذَا الشَّاهِدِ عَقِيبَ تِلْكَ الْبَيِّنَةِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالُوا إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ صُورَةَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوَجْهَهُ وَمَخايِلَهُ كُلُّ ذَلِكَ يَشْهَدُ بِصِدْقِهِ، لِأَنَّ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ بِعَقْلِهِ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ/ وَلَا كَاهِنٍ وَلَا سَاحِرٍ وَلَا كَذَّابٍ وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ هَذَا الشَّاهِدِ مِنْهُ كَوْنُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ مُتَعَلِّقَةً بِذَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ بِالْبَيِّنَةِ الْقُرْآنُ وَيَتْلُوهُ أَيْ وَيَتْلُو الْكِتَابَ الَّذِي هُوَ الْحُجَّةُ يَعْنِي وَيَعْقُبُهُ شَاهِدٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الشَّاهِدِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ الشَّاهِدُ هُوَ كَوْنُ الْقُرْآنِ وَاقِعًا عَلَى وَجْهٍ يَعْرِفُ كُلُّ مَنْ نَظَرَ فِيهِ أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ وَذَلِكَ الْوَجْهُ هُوَ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْفَصَاحَةِ التَّامَّةِ وَالْبَلَاغَةِ الْكَامِلَةِ وَكَوْنُهُ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ الْبَشَرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَقَوْلُهُ: شاهِدٌ مِنْهُ أَيْ مِنْ تِلْكَ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّ أَحْوَالَ الْقُرْآنِ وَصِفَاتِهِ مِنَ القراآت مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ يَعْنِي الْإِنْجِيلُ يَتْلُو الْقُرْآنَ وَإِنْ كَانَ قَدْ أُنْزِلَ قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَتْلُوهُ فِي التَّصْدِيقِ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِنْجِيلِ، وَأَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَا مُحْتَمَلَيْنِ إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَقْوَى وَأَتَمُّ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ كِتَابَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِكَوْنِهِ إِمَامًا وَرَحْمَةً، وَمَعْنَى كَوْنِهِ إِمَامًا أَنَّهُ كَانَ مُقْتَدَى الْعَالِمِينَ، وَإِمَامًا لَهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ الدِّينِ وَالشَّرَائِعِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ رَحْمَةً فَلِأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الرَّحْمَةِ وَالثَّوَابِ فَلَمَّا كَانَ سَبَبًا لِلرَّحْمَةِ أَطْلَقَ اسْمَ الرَّحْمَةِ عَلَيْهِ إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّه بِأَنَّهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ فِي صِحَّةِ هَذَا الدِّينِ يُؤْمِنُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَطَالِبَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا مَا يُعْلَمُ صِحَّتُهَا بِالْبَدِيهَةِ، وَمِنْهَا مَا يُحْتَاجُ فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِهَا إِلَى طَلَبٍ وَاجْتِهَادٍ، وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي عَلَى قِسْمَيْنِ، لِأَنَّ طَرِيقَ تَحْصِيلِ الْمَعَارِفِ إِمَّا الْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ الْمُسْتَنْبَطُ بِالْعَقْلِ وَإِمَّا الِاسْتِفَادَةُ مِنَ الوحي والإلهام، فهذا الطَّرِيقَانِ هُمَا الطَّرِيقَانِ اللَّذَانِ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِمَا فِي تَعْرِيفِ الْمَجْهُولَاتِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا وَاعْتَضَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ بَلَغَا الْغَايَةَ فِي الْقُوَّةِ وَالْوُثُوقِ، ثُمَّ إِنَّ فِي أَنْبِيَاءِ اللَّه تَعَالَى كَثْرَةً، فَإِذَا تَوَافَقَتْ كَلِمَاتُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى صِحَّتِهِ، وَكَانَ الْبُرْهَانُ الْيَقِينِيُّ قَائِمًا عَلَى صِحَّتِهِ، فَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ قَدْ بَلَغَتْ فِي الْقُوَّةِ إِلَى حَيْثُ لَا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ فَقَوْلُهُ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ الْمُرَادُ بِالْبَيِّنَةِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ الْيَقِينِيَّةُ، وَقَوْلُهُ: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْوَحْيِ الَّذِي حَصَلَ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَوْلُهُ: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً/ إِشَارَةٌ إِلَى الْوَحْيِ الَّذِي حَصَلَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعِنْدَ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ قَدْ بَلَغَ هَذَا الْيَقِينُ فِي الْقُوَّةِ وَالظُّهُورِ وَالْجَلَاءِ إِلَى حَيْثُ لَا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَحْزَابِ أَصْنَافُ الْكُفَّارِ، فَيَدْخُلُ فِيهِمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ. رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَسْمَعُ بِي يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ فَلَا يُؤْمِنُ بِي إِلَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» قَالَ أَبُو مُوسَى: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقُولُ مِثْلَ هَذَا

[سورة هود (11) : الآيات 18 إلى 19]

إِلَّا عَنِ الْقُرْآنِ، فَوَجَدْتُ اللَّه تَعَالَى يَقُولُ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ يَكْفُرُ بِهِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ، دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يَكْفُرُ بِهِ لَمْ تَكُنِ النَّارُ مَوْعِدَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْ صِحَّةِ هَذَا الدِّينِ، وَمِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ نَازِلًا مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى، فَكَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ [هود: 13] الثَّانِي: فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْ أَنَّ موعد الكافر النار أو قرئ مُرْيَةٍ بِضَمِّ الْمِيمِ. ثُمَّ قَالَ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ وَالتَّقْدِيرُ: لَمَّا ظَهَرَ الْحَقُّ ظُهُورًا فِي الْغَايَةِ، فَكُنْ أَنْتَ مُتَابِعًا لَهُ وَلَا تُبَالِ بِالْجُهَّالِ سَوَاءٌ آمَنُوا أَوْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا يُؤْمِنُونَ بما تقدم ذكره من وصف القرآن. [سورة هود (11) : الآيات 18 الى 19] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) [قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً] اعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانَتْ لَهُمْ عَادَاتٌ كَثِيرَةٌ وَطُرُقٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَمِنْهَا شِدَّةُ حِرْصِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا وَرَغْبَتُهُمْ فِي تَحْصِيلِهَا، وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّه هَذِهِ الطَّرِيقَةَ بِقَوْلِهِ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها [هود: 15] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ نُبُوَّةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقْدَحُونَ في معجزاته، وقد أبطل اللَّه تعالى بِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ [هود: 17] وَمِنْهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ فِي الْأَصْنَامِ أَنَّهَا شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّه، وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّه تَعَالَى، فَلَمَّا بَيَّنَ وَعِيدَ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللَّه، فَقَدْ دَخَلَ فِيهِ هَذَا الْكَلَامُ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلُهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنَّمَا يُورَدُ فِي مَعْرِضِ الْمُبَالَغَةِ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الِافْتِرَاءَ عَلَى اللَّه تَعَالَى أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ وَعِيدَ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ [إلى آخر الآية] وَمَا وَصَفَهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مُخْتَصُّونَ بِذَلِكَ الْعَرْضِ، لِأَنَّ الْعَرْضَ عَامٌّ فِي كُلِّ الْعِبَادِ كَمَا قال: عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا [الْكَهْفِ: 48] وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّهُمْ يُعْرَضُونَ فَيُفْتَضَحُونَ بِأَنْ يَقُولَ الْأَشْهَادُ عِنْدَ عَرْضِهِمْ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ فَحَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: إِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ اللَّه تَعَالَى فِي مَكَانٍ، فَكَيْفَ قَالَ: يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَى الْأَمَاكِنِ الْمُعَدَّةِ لِلْحِسَابِ وَالسُّؤَالِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَرْضًا عَلَى مَنْ شَاءَ اللَّه مِنَ الْخَلْقِ بِأَمْرِ اللَّه مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَنِ الْأَشْهَادُ الَّذِينَ أُضِيفَ إِلَيْهِمْ هَذَا الْقَوْلُ؟ الْجَوَابُ قَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ كَانُوا يَحْفَظُونَ أَعْمَالَهُمْ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: الْأَشْهادُ الناس كما يقال على رؤوس الأشهاد، يعني على رؤوس النَّاسِ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ

[سورة هود (11) : الآيات 20 إلى 22]

الصلاة والسلام. قال اللَّه تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الْأَعْرَافِ: 6] وَالْفَائِدَةُ فِي اعْتِبَارِ قَوْلِ الْأَشْهَادِ الْمُبَالَغَةُ فِي إِظْهَارِ الْفَضِيحَةِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: الْأَشْهَادُ جَمْعٌ فَمَا وَاحِدُهُ؟ وَالْجَوَابُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ شَاهِدٍ مِثْلُ صَاحِبٍ وَأَصْحَابٍ، وَنَاصِرٍ وَأَنْصَارٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ شَهِيدٍ مِثْلُ شَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَهَذَا كَأَنَّهُ أَرْجَحُ، لِأَنَّ مَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ فِي التَّنْزِيلِ جَاءَ عَلَى فَعِيلٍ، كَقَوْلِهِ: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [الْبَقَرَةِ: 143] وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاءِ: 41] ثُمَّ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ فِي عَذَابِ الْقِيَامَةِ أَخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ فِي الْحَالِ فَقَالَ: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ فِي الْحَالِ لَمَلْعُونُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّه، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ صِفَاتِهِمْ أَنَّهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا يَعْنِي أَنَّهُمْ كَمَا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْتِزَامِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، فَقَدْ أَضَافُوا إِلَيْهِ الْمَنْعَ مِنَ الدِّينِ الْحَقِّ وَإِلْقَاءَ الشُّبُهَاتِ، وَتَعْوِيجَ الدَّلَائِلِ الْمُسْتَقِيمَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي الْعَاصِي يَبْغِي/ عِوَجًا، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِيمَنْ يَعْرِفُ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِقَامَةِ، وَكَيْفِيَّةَ الْعِوَجِ بِسَبَبِ إِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ وَتَقْرِيرِ الضَّلَالَاتِ. ثُمَّ قَالَ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ قَالَ الزَّجَّاجُ: كَلِمَةُ «هُمْ» كُرِّرَتْ عَلَى جِهَةِ التَّوْكِيدِ لِثَبَاتِهِمْ فِي الْكُفْرِ. [سورة هود (11) : الآيات 20 الى 22] أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ الْجَاحِدِينَ بِصِفَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ. الصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُمْ مُفْتَرِينَ عَلَى اللَّه، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [هود: 18] . وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَى اللَّه فِي مَوْقِفِ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ وَالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ وَهِيَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ [هود: 18] . وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: حُصُولُ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ وَالْفَضِيحَةِ الْعَظِيمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ [هود: 18] . وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: كَوْنُهُمْ مَلْعُونِينَ مِنْ عِنْدِ اللَّه، وَهِيَ قَوْلُهُ: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هُودٍ: 18] . وَالصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: كَوْنُهُمْ صَادِّينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه مَانِعِينَ عَنْ مُتَابَعَةِ الْحَقِّ، وَهِيَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [هود: 19] . وَالصِّفَةُ السَّادِسَةُ: سَعْيُهُمْ فِي إِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ، وَتَعْوِيجِ الدلائل المستقيمة، وهي قوله: وَيَبْغُونَها عِوَجاً [هود: 19] . وَالصِّفَةُ السَّابِعَةُ: كَوْنُهُمْ كَافِرِينَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ [هود: 19] . وَالصِّفَةُ الثَّامِنَةُ: كَوْنُهُمْ عَاجِزِينَ عَنِ الْفِرَارِ مِنْ عَذَابِ اللَّه، وَهِيَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي

الْأَرْضِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَى الْإِعْجَازِ الْمَنْعُ مِنْ تَحْصِيلِ الْمُرَادِ. يُقَالُ أَعْجَزَنِي فُلَانٌ أَيْ مَنَعَنِي عَنْ مُرَادِي، وَمَعْنَى مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أَيْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَهْرُبُوا مِنْ عَذَابِنَا فَإِنَّ هَرَبَ الْعَبْدِ مِنْ عَذَابِ اللَّه مُحَالٌ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَلَا تَتَفَاوَتُ قُدْرَتُهُ بِالْبُعْدِ وَالْقُرْبِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ. وَالصِّفَةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ أَوْلِيَاءُ يَدْفَعُونَ عَذَابَ اللَّه عَنْهُمْ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي وَصْفِهِمُ الْأَصْنَامَ بِأَنَّهَا شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّه وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَهُ: أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الْفِرَارِ وَقَوْلُهُ: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ هُوَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَخْلِيصِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ، فَجَمَعَ تَعَالَى بَيْنَ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ وَبَيْنَ مَا يَرْجِعُ إِلَى غَيْرِهِمْ وَبَيَّنَ بِذَلِكَ انْقِطَاعَ حِيَلِهِمْ فِي الْخَلَاصِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ قَوْمٌ الْمُرَادُ أَنَّ عَدَمَ نُزُولِ الْعَذَابِ لَيْسَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ قَدَرُوا عَلَى مَنْعِ اللَّه مِنْ إِنْزَالِ الْعَذَابِ وَلَا لِأَجْلِ أَنَّ لَهُمْ نَاصِرًا يَمْنَعُ ذَلِكَ الْعَذَابَ عَنْهُمْ، بَلْ إِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ الْإِمْهَالُ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمْهَلَهُمْ كَيْ يَتُوبُوا فَيَزُولُوا عَنْ كُفْرِهِمْ فَإِذَا أَبَوْا إِلَّا الثَّبَاتَ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ للَّه عَمَّا يُرِيدُ إِنْزَالَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَجِدُونَ وَلِيًّا يَنْصُرُهُمْ وَيَدْفَعُ ذَلِكَ عَنْهُمْ. وَالصِّفَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ قِيلَ سَبَبُ تَضْعِيفِ الْعَذَابِ فِي حَقِّهِمْ أَنَّهُمْ كَفَرُوا باللَّه وَبِالْبَعْثِ وَبِالنُّشُورِ، فَكُفْرُهُمْ بِالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ صَارَ سَبَبًا لِتَضْعِيفِ الْعَذَابِ، وَالْأَصْوَبُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ مَعَ ضَلَالِهِمُ الشَّدِيدِ، سَعَوْا فِي الْإِضْلَالِ وَمَنْعِ النَّاسِ عَنِ الدِّينِ الْحَقِّ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى حَصَلَ هَذَا التَّضْعِيفُ عَلَيْهِمْ. الصِّفَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ وَالْمُرَادُ مَا هُمْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ صَمَمِ الْقَلْبِ وَعَمَى النَّفْسِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَخْلُقُ فِي الْمُكَلَّفِ مَا يَمْنَعُهُ الْإِيمَانَ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى مَنَعَ الْكَافِرَ مِنَ الْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فهو قوله: يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [الْقَلَمِ: 42] وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعَ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ/ كَوْنَهُمْ عَاجِزِينَ عَنِ الْوُقُوفِ عَلَى دَلَائِلِ اللَّه تَعَالَى، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْبَدِيهَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُمْ كانوا يسمعون الأصوات والحروف، وجب حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الثَّانِي أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ بِأَنَّ السَّمْعَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنِ الْحَاسَّةِ الْمَخْصُوصَةِ، أَوْ عَنْ مَعْنَى يَخْلُقُهُ اللَّه تَعَالَى فِي صِمَاخِ الْأُذُنِ، وَكِلَاهُمَا لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوِ اجْتَهَدَ فِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ أَوْ يَتْرُكَهُ لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ إِثْبَاتُ الِاسْتِطَاعَةِ فِيهِ مُحَالًا، وَإِذَا كَانَ إِثْبَاتُهَا مُحَالًا كَانَ نَفْيُ الِاسْتِطَاعَةِ عَنْهُ هُوَ الْحَقَّ، فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ لَا يَقْدَحُ فِي قَوْلِنَا. ثُمَّ قَالَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ إِهْمَالُهُمْ لَهُ وَنُفُورُهُمْ عَنْهُ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: هَذَا كَلَامٌ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْمَعَهُ، وَهَذَا مِمَّا يَمُجُّهُ سَمْعِي وَذَكَرَ غَيْرُ الْجُبَّائِيِّ عُذْرًا آخَرَ، فَقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى نَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَوْلِيَاءُ وَالْمُرَادُ الْأَصْنَامُ ثُمَّ بَيَّنَ نَفْيَ كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَ بِقَوْلِهِ: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ فَكَيْفَ يَصْلُحُونَ لِلْوِلَايَةِ. وَالْجَوَابُ: أَمَّا حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى خلق الحاسة وعلى خلق المعنى فيها باطل، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي مَعْرِضِ الْوَعِيدِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْنًى مُخْتَصًّا بِهِمْ، وَالْمَعْنَى الَّذِي قَالُوهُ حَاصِلٌ فِي

الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَثْقِلُونَ سَمَاعَ كَلَامِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِبْصَارَ صُورَتِهِ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ تَعَالَى نَفَى الِاسْتِطَاعَةَ فَحَمَلَهُ عَلَى مَعْنًى آخَرَ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَأَيْضًا أَنَّ حُصُولَ ذَلِكَ الِاسْتِثْقَالِ إِمَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الْفَهْمِ وَالْوُصُولِ إِلَى الْغَرَضِ أَوْ لَمْ يَمْنَعْ، فَإِنْ مَنَعَ فَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ فَحِينَئِذٍ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا أَجْنَبِيًّا عَنِ الْمَعَانِي الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْفَهْمِ وَالْإِدْرَاكِ، وَلَا تَخْتَلِفُ أَحْوَالُ الْقَلْبِ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِسَبَبِهِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ جَعْلُهُ ذَمًّا لَهُمْ فِي هَذَا الْمَعْرِضِ، وَأَيْضًا قَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ حُصُولَ الْفِعْلِ مَعَ قِيَامِ الصَّارِفِ مُحَالٌ، فَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى كَوْنَ هَذَا الْمَعْنَى صَارِفًا عَنْ قَبُولِ الدِّينِ الْحَقِّ وَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُ حَصَلَ حُصُولًا عَلَى سَبِيلِ اللُّزُومِ بِحَيْثُ لَا يَزُولُ الْبَتَّةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ الْمُكَلَّفُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَمْنُوعًا عَنِ الْإِيمَانِ، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فَإِنَّا نَجْعَلُ هَذِهِ الصِّفَةَ مِنْ صِفَةِ الْأَوْثَانِ فَبَعِيدٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ثُمَّ قَالَ: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَائِدًا إِلَى عَيْنِ مَا عَادَ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأُولَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَما كانُوا يُبْصِرُونَ فَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْبَصِيرَةُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُمْ عَدَلُوا عَنْ إِبْصَارِ مَا يَكُونُ حُجَّةً لَهُمْ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمُ اشْتَرَوْا عِبَادَةَ الْآلِهَةِ بِعِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى فَكَانَ هَذَا الْخُسْرَانُ أَعْظَمَ وُجُوهِ الْخُسْرَانِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا بَاعُوا الدِّينَ بِالدُّنْيَا فَقَدْ خَسِرُوا، لِأَنَّهُمْ أَعْطَوُا الشَّرِيفَ، وَرَضُوا بِأَخْذِ الْخَسِيسِ، وَهَذَا عَيْنُ الْخُسْرَانِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ فَهَذَا الْخَسِيسُ يَضِيعُ وَيَهْلَكُ وَلَا يَبْقَى مِنْهُ أَثَرٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ وَتَقْرِيرُهُ مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا أَعْطَى الشَّرِيفَ الرَّفِيعَ وَرَضِيَ بِالْخَسِيسِ الْوَضِيعِ فَقَدْ خَسِرَ فِي التِّجَارَةِ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ هَذَا الْخَسِيسُ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَهْلَكَ وَيَفْنَى انْقَلَبَتْ تِلْكَ التِّجَارَةُ إِلَى النِّهَايَةِ فِي صِفَةِ الْخَسَارَةِ، فَلِهَذَا قَالَ: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ وَقَوْلُهُ لَا جَرَمَ قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِنَا لَا بُدَّ وَلَا مَحَالَةَ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا حَتَّى صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ حَقًّا، تَقُولُ الْعَرَبُ: لَا جَرَمَ أَنَّكَ مُحْسِنٌ، عَلَى مَعْنَى حَقًّا إِنَّكَ مُحْسِنٌ، وَأَمَّا النَّحْوِيُّونَ فَلَهُمْ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَا حَرْفُ نَفْيٍ وَجَزْمٍ، أَيْ قَطْعٍ، فَإِذَا قُلْنَا: لَا جَرَمَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ قَاطِعٍ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ. الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ إِنَّ كَلِمَةَ لَا نفي لما ظنوا أنه ينفعهم، وجَرَمَ مَعْنَاهُ كَسَبَ ذَلِكَ الْفِعْلُ، وَالْمَعْنَى: لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ وَكَسَبَ ذَلِكَ الْفِعْلُ لَهُمُ الْخُسْرَانَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَذَكَرْنَا جَرَمَ بِمَعْنَى كَسَبَ فِي تفسير قوله تعالى: لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [الْمَائِدَةِ: 2] قَالَ الْأَزْهَرِيُّ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ، الثَّالِثُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشُ: لَا رَدٌّ عَلَى أهل الكفر كما ذكرنا وجرم معناه حق وصحح، وَالتَّأْوِيلُ أَنَّهُ حَقُّ كُفْرِهِمْ وُقُوعُ الْعَذَابِ وَالْخُسْرَانِ بِهِمْ. وَاحْتَجَّ سِيبَوَيْهِ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَلَقَدْ طَعَنْتُ أبا عيينة طعنة ... جرمت فزاة بَعْدَهَا أَنْ يَغْضَبُوا أَرَادَ حَقَّتِ الطَّعْنَةُ فَزَارَةَ أن يغضبوا.

[سورة هود (11) : آية 23]

[سورة هود (11) : آية 23] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ عُقُوبَةَ الْكَافِرِينَ وَخُسْرَانَهُمْ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِخْبَاتُ هُوَ الْخُشُوعُ وَالْخُضُوعُ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَبْتِ وَهُوَ الْأَرْضُ الْمُطْمَئِنَّةُ وَخَبَتَ ذِكْرُهُ أَيْ خَفِيَ، / فَقَوْلُهُ: «أَخْبَتَ» أَيْ دَخَلَ فِي الْخَبْتِ، كَمَا يُقَالُ فِيمَنْ صَارَ إِلَى نَجْدٍ أَنْجَدَ وَإِلَى تِهَامَةَ أَتْهَمَ، وَمِنْهُ الْمُخْبِتُ مِنَ النَّاسِ الَّذِي أَخْبَتَ إِلَى رَبِّهِ أَيِ اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَلَفْظُ الْإِخْبَاتِ يَتَعَدَّى بِإِلَى وَبِاللَّامِ، فَإِذَا قُلْنَا: أَخْبَتَ فُلَانٌ إِلَى كَذَا فَمَعْنَاهُ اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَإِذَا قُلْنَا أَخْبَتَ لَهُ فَمَعْنَاهُ خَشَعَ لَهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَقَوْلُهُ وَأَخْبَتُوا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا تَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَعَ الْأَحْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ ثُمَّ إِنْ فَسَرَّنَا الْإِخْبَاتَ بِالطُّمَأْنِينَةِ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّه وَكَانَتْ قُلُوبُهُمْ عِنْدَ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ مُطْمَئِنَّةً بِذِكْرِ اللَّه فَارِغَةً عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى أَوْ يُقَالُ إِنَّمَا قُلُوبُهُمْ صَارَتْ مُطْمَئِنَّةً إِلَى صِدْقِ اللَّه بِكُلِّ مَا وَعَدَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَأَمَّا إِنْ فَسَّرْنَا الْإِخْبَاتَ بِالْخُشُوعِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ خَائِفِينَ وَجِلِينَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا أَتَوْا بِهَا مَعَ وُجُودِ الْإِخْلَالِ وَالتَّقْصِيرِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ حَصَلَ لَهُ هَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثَةُ فَهُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ، وَيَحْصُلُ لَهُمُ الخلود في الجنة. [سورة هود (11) : آية 24] مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْفَرِيقَيْنِ ذَكَرَ فِيهِمَا مِثَالًا مُطَابِقًا ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ ذُكِرَ آخِرًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنْ قَبْلُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ [هُودٍ: 17] ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ بَعْدِهِ الْكَافِرِينَ وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَلَا يُبْصِرُونَ، وَالسَّمِيعُ وَالْبَصِيرُ هُمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّه بِأَنَّهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ التَّشْبِيهِ هُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبًا مِنَ الْجَسَدِ وَمِنَ النَّفْسِ، وَكَمَا أَنَّ لِلْجَسَدِ بَصَرًا وَسَمْعًا فَكَذَلِكَ حَصَلَ لِجَوْهَرِ الرُّوحِ سَمْعٌ وَبَصَرٌ، وَكَمَا أَنَّ الْجَسَدَ إِذَا كَانَ أَعْمَى أَصَمَّ بَقِيَ مُتَحَيِّرًا لَا يَهْتَدِي إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَصَالِحِ، بَلْ يَكُونُ كَالتَّائِهِ فِي حَضِيضِ الظُّلُمَاتِ لَا يُبْصِرُ نُورًا يَهْتَدِي بِهِ وَلَا يَسْمَعُ صَوْتًا، فَكَذَلِكَ الْجَاهِلُ الضَّالُّ الْمُضِلُّ، يَكُونُ أَعْمَى وَأَصَمَّ الْقَلْبِ، فَيَبْقَى فِي ظُلُمَاتِ الضَّلَالَاتِ حَائِرًا تَائِهًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَفَلا تَذَكَّرُونَ مُنَبِّهًا عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُهُ عِلَاجُ هَذَا الْعَمَى وَهَذَا الصَّمَمِ، وَإِذَا كَانَ/ الْعِلَاجُ مُمْكِنًا مِنَ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ حُصُولِ هَذَا الْعَمَى وَهَذَا الصَّمَمِ وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَسْعَى فِي ذَلِكَ الْعِلَاجِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنَّهُ تعالى إذا ورد عَلَى الْكَافِرِ أَنْوَاعَ الدَّلَائِلِ أَتْبَعَهَا بِالْقَصَصِ، لِيَصِيرَ ذِكْرُهَا مُؤَكِّدًا لِتِلْكَ الدَّلَائِلِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ ذَكَرَ أَنْوَاعًا مِنَ الْقَصَصِ.

[سورة هود (11) : الآيات 25 إلى 26]

القصة الأولى قصة نوح عليه السلام [سورة هود (11) : الآيات 25 الى 26] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ بَدَأَ بِذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ يُونُسَ وَقَدْ أَعَادَهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا لِمَا فِيهَا مِنْ زَوَائِدِ الْفَوَائِدِ وَبَدَائِعِ الْحِكَمِ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ أَنِّي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَالْمَعْنَى: أَرْسَلْنَا نُوحًا بِأَنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، وَمَعْنَاهُ أَرْسَلْنَاهُ مُلْتَبِسًا بِهَذَا الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَلَمَّا اتَّصَلَ بِهِ حَرْفُ الْجَرِّ وَهُوَ الْبَاءُ فُتِحَ كَمَا فُتِحَ فِي كَانَ، وَأَمَّا سَائِرُ الْقُرَّاءِ فَقَرَءُوا إِنِّي بِالْكَسْرِ عَلَى مَعْنَى قَالَ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنَ النَّذِيرِ كَوْنُهُ مُهَدِّدًا لِلْعُصَاةِ بِالْعِقَابِ، وَمِنَ الْمُبِينِ كَوْنُهُ مُبَيِّنًا مَا أَعَدَّ اللَّه لِلْمُطِيعِينَ مِنَ الثَّوَابِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ نَذِيرٌ لِلْعُصَاةِ مِنَ الْعِقَابِ وَأَنَّهُ مُبِينٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ الْإِنْذَارَ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَكْمَلِ وَالْبَيَانِ الْأَقْوَى الْأَظْهَرِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْذَارَ إِنَّمَا حَصَلَ فِي النَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّه وَفِي الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّه لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ النَّفْيِ وَهُوَ يُوجِبُ نَفْيَ غَيْرِ الْمُسْتَثْنَى. وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ بهذا الكلام وهو قوله: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. ثُمَّ قَالَ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ فَقَوْلُهُ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ ثُمَّ إِنَّهُ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ الْأَلَمُ الْعَظِيمُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أُسْنِدَ ذَلِكَ الْأَلَمُ إِلَى الْيَوْمِ، كَقَوْلِهِمْ نَهَارُكَ صَائِمٌ، وَلَيْلُكَ قائم. [سورة هود (11) : آية 27] فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ طَعَنُوا في نبوته بثلاثة أنوع مِنَ الشُّبُهَاتِ. فَالشُّبْهَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ، وَالتَّفَاوُتُ الْحَاصِلُ بَيْنَ آحَادِ الْبَشَرِ يَمْتَنِعُ انْتِهَاؤُهُ إلى حيث يصير الواحد منهم واجب الطَّاعَةُ لِجَمِيعِ الْعَالَمِينَ. وَالشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُ مَا اتَّبَعَهُ إِلَّا أَرَاذِلُ مِنَ الْقَوْمِ كَالْحِيَاكَةِ وَأَهْلِ الصَّنَائِعِ الْخَسِيسَةِ، قَالُوا وَلَوْ كُنْتَ صَادِقًا لَاتَّبَعَكَ الْأَكْيَاسُ مِنَ النَّاسِ وَالْأَشْرَافُ مِنْهُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشُّعَرَاءِ: 111] . وَالشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ وَالْمَعْنَى: لَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ لَا فِي الْعَقْلِ وَلَا فِي رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ الْعَاجِلَةِ وَلَا فِي قُوَّةِ الْجَدَلِ فَإِذَا لَمْ نُشَاهِدْ فَضْلَكَ عَلَيْنَا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ

الظَّاهِرَةِ فَكَيْفَ نَعْتَرِفُ بِفَضْلِكَ عَلَيْنَا فِي أَشْرَفِ الدَّرَجَاتِ وَأَعْلَى الْمَقَامَاتِ، فَهَذَا خُلَاصَةُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشُّبْهَةَ الْأُولَى لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالْبَرَاهِمَةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ نُبُوَّةَ الْبَشَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَمَّا الشُّبْهَتَانِ الْبَاقِيَتَانِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِمَا مَنْ أَقَرَّ بِنُبُوَّةِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِي لَفْظِ الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَلَأُ الْأَشْرَافُ وَفِي اشْتِقَاقِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ مَلِيءٌ بِكَذَا إِذَا كَانَ مطيقا لَهُ وَقَدْ مُلْئِوا بِالْأَمْرِ، وَالسَّبَبُ فِي إِطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ مُلِئُوا بِتَرْتِيبِ الْمُهِمَّاتِ/ وَأَحْسَنُوا فِي تَدْبِيرِهَا. الثَّانِي: أَنَّهُمْ وُصِفُوا بِذَلِكَ لأنهم يتمالؤون أَيْ يَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: وُصِفُوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يملؤون الْقُلُوبَ هَيْبَةً وَالْمَجَالِسَ أُبَّهَةً. الرَّابِعُ: وُصِفُوا بِهِ لأنهم ملؤوا الْعُقُولَ الرَّاجِحَةَ وَالْآرَاءَ الصَّائِبَةَ. ثُمَّ حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُمُ الشُّبْهَةَ الْأُولَى، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَهُوَ مِثْلُ مَا حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَامِ: 8] وَهَذَا جَهْلٌ، لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الرَّسُولِ أَنْ يُبَاشِرَ الْأُمَّةَ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ وَالتَّثَبُّتِ وَالْحُجَّةِ، لَا بِالصُّورَةِ وَالْخِلْقَةِ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَوْ بَعَثَ إِلَى الْبَشَرِ مَلَكًا لَكَانَتِ الشُّبْهَةُ أَقْوَى فِي الطَّعْنِ عَلَيْهِ فِي رِسَالَتِهِ لِأَنَّهُ يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ لَعَلَّ هَذَا الْمَلَكَ هُوَ الَّذِي أَتَى بِهَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ بِسَبَبِ أَنَّ قُوَّتَهُ أَكْمَلُ وَقُدْرَتَهُ أَقْوَى، فَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ مَا بَعَثَ اللَّه إِلَى الْبَشَرِ رَسُولًا إِلَّا مِنَ الْبَشَرِ. ثُمَّ حَكَى الشُّبْهَةَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَالْمُرَادُ منه قلة ما لهم وقلة جاههم ودناءة حرفهم وصناعتهم هذا أَيْضًا جَهْلٌ، لِأَنَّ الرِّفْعَةَ فِي الدِّينِ لَا تَكُونُ بِالْحَسَبِ وَالْمَالِ وَالْمَنَاصِبِ الْعَالِيَةِ، بَلِ الْفَقْرُ أَهْوَنُ عَلَى الدِّينِ مِنَ الْغِنَى، بَلْ نَقُولُ: الْأَنْبِيَاءُ مَا بُعِثُوا إِلَّا لِتَرْكِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْآخِرَةِ فَكَيْفَ تُجْعَلُ قِلَّةُ الْمَالِ فِي الدُّنْيَا طَعْنًا فِي النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ. ثُمَّ حَكَى اللَّه تَعَالَى الشُّبْهَةَ الثَّالِثَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ وَهَذَا أَيْضًا جَهْلٌ، لِأَنَّ الْفَضِيلَةَ الْمُعْتَبَرَةَ عِنْدَ اللَّه لَيْسَتْ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، فَكَيْفَ اطَّلَعُوا عَلَى بَوَاطِنِ الْخَلْقِ حَتَّى عَرَفُوا نَفْيَ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ، ثُمَّ قَالُوا بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنِ اتَّبَعَهُ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا خِطَابًا مَعَ نُوحٍ وَمَعَ قَوْمِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَكْذِيبُ نُوحٍ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هَذَا خِطَابًا مَعَ الْأَرَاذِلِ فَنَسَبُوهُمْ إِلَى أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِي أَنْ آمَنُوا بِهِ وَاتَّبَعُوهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْأَرْذَلُ جَمْعُ رَذْلٍ وَهُوَ الدُّونُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَنْظَرِهِ وَحَالَاتِهِ وَرَجُلٌ رَذْلُ الثِّيَابِ وَالْفِعْلِ. وَالْأَرَاذِلُ جَمْعُ الْأَرْذَلِ، كَقَوْلِهِمْ أَكَابِرُ مُجْرِمِيهَا، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا» فَعَلَى هَذَا الْأَرَاذِلُ جَمْعُ الْجَمْعِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: هُوَ أَرْذَلُ مِنْ كَذَا ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى قَالُوا: هُوَ الْأَرْذَلُ فَصَارَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عِوَضًا عَنِ الْإِضَافَةِ وَقَوْلُهُ: بادِيَ الرَّأْيِ الْبَادِي هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِكَ: بَدَا الشَّيْءُ إِذَا ظَهَرَ، وَمِنْهُ يُقَالُ: بَادِيَةٌ لِظُهُورِهَا وَبُرُوزِهَا لِلنَّاظِرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي بَادِيَ الرَّأْيِ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: اتَّبَعُوكَ فِي الظَّاهِرِ وَبَاطِنُهُمْ بِخِلَافِهِ، وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ اتَّبَعُوكَ فِي ابْتِدَاءِ حُدُوثِ الرَّأْيِ وَمَا احْتَاطُوا فِي/ ذَلِكَ الرَّأْيِ وَمَا أَعْطَوْهُ حَقَّهُ مِنَ الْفِكْرِ الصَّائِبِ وَالتَّدَبُّرِ الْوَافِي. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ لَمَّا وَصَفُوا الْقَوْمَ

[سورة هود (11) : آية 28]

بِالرَّذَالَةِ قَالُوا: كَوْنُهُمْ كَذَلِكَ بَادِيَ الرَّأْيِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ لِكُلِّ مَنْ يَرَاهُمْ، وَالرَّأْيُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْ رَأْيِ الْعَيْنِ لَا مِنْ رَأْيِ الْقَلْبِ وَيَتَأَكَّدُ هَذَا التَّأْوِيلُ بِمَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أراذلنا بادي رأي الْعَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَنُصَيْرٌ عَنِ الْكِسَائِيِّ بَادِئَ بِالْهَمْزَةِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ غَيْرَ مَهْمُوزٍ فَمَنْ قَرَأَ بَادِئَ بِالْهَمْزَةِ فَالْمَعْنَى أَوَّلُ الرَّأْيِ وَابْتِدَاؤُهُ وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ غَيْرَ مَهْمُوزٍ كان من بدا يبدو أي ظهر وبادِيَ نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ كَقَوْلِكَ: ضَرَبْتُ أَوَّلَ الضَّرْبِ. [سورة هود (11) : آية 28] قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى شُبُهَاتِ مُنْكِرِي نُبُوَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَكَى بَعْدَهُ مَا يَكُونُ جَوَابًا عَنْ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ. فَالشُّبْهَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُمْ: مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا فَقَالَ نُوحٌ حُصُولُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْبَشَرِيَّةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ الْمُفَارَقَةِ فِي صِفَةِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ الطَّرِيقَ الدَّالَّ عَلَى إِمْكَانِهِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي مِنْ مَعْرِفَةِ ذَاتِ اللَّه وَصِفَاتِهِ وَمَا يَجِبُ وَمَا يَمْتَنِعُ وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى آتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ، وَالْمُرَادُ بِتِلْكَ الرَّحْمَةِ إِمَّا النُّبُوَّةُ وَإِمَّا الْمُعْجِزَةُ الدَّالَّةُ عَلَى النُّبُوَّةِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَيْ صَارَتْ مَظِنَّةً مُشْتَبِهَةً مُلْتَبِسَةً فِي عُقُولِكُمْ، فَهَلْ أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أَجْعَلَكُمْ بِحَيْثُ تَصِلُونَ إِلَى مَعْرِفَتِهَا شِئْتُمْ أَمْ أَبَيْتُمْ؟ وَالْمُرَادُ أَنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ الْبَتَّةَ، وَعَنْ قَتَادَةَ: واللَّه لَوِ اسْتَطَاعَ نَبِيُّ اللَّه لَأُلْزِمَهَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ [هود: 27] ذَكَرَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ الْحُجَّةَ عُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ وَاشْتَبَهَتْ، فَأَمَّا لَوْ تَرَكْتُمُ الْعِنَادَ وَاللَّجَاجَ وَنَظَرْتُمْ فِي الدَّلِيلِ لَظَهَرَ الْمَقْصُودُ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى آتَانَا عَلَيْكُمْ فَضْلًا عَظِيمًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، بِمَعْنَى أُلْبِسَتْ وَشُبِّهَتْ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ مُخَفَّفَةَ الْمِيمِ، أَيِ الْتَبَسَتْ وَاشْتَبَهَتْ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا بَقِيَ مَجْهُولًا مَحْضًا أَشْبَهَ الْمُعَمَّى، لِأَنَّ الْعِلْمَ نُورُ الْبَصِيرَةِ الْبَاطِنَةِ وَالْأَبْصَارَ نُورُ الْبَصَرِ الظَّاهِرِ فَحَسُنَ جَعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَجَازًا عَنِ الْآخَرِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ تُوصَفُ بِالْأَبْصَارِ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً [النَّمْلِ: 13] وَكَذَلِكَ تُوصَفُ بِالْعَمَى، قَالَ تَعَالَى: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ [الْقَصَصِ: 66] وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنُلْزِمُكُمُوها فِيهِ ثَلَاثُ مُضْمَرَاتٍ: ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَضَمِيرُ الْغَائِبِ وَضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ إِسْكَانَ الْمِيمِ الْأُولَى، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ الْحَرَكَاتِ تَوَالَتْ فَسُكِّنَتِ الْمِيمُ وَهِيَ أَيْضًا مَرْفُوعَةٌ وَقَبْلَهَا كَسْرَةٌ وَالْحَرَكَةُ الَّتِي بَعْدَهَا ضَمَّةٌ ثَقِيلَةٌ، قَالَ الزَّجَّاجُ: جَمِيعُ النَّحْوِيِّينَ الْبَصْرِيِّينَ لَا يُجِيزُونَ إِسْكَانَ حَرْفِ الْإِعْرَابِ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ وَمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي عَمْرٍو فَلَمْ يَضْبِطْهُ عَنْهُ الْفَرَّاءُ، وَرُوِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يُخَفِّفُ الْحَرَكَةَ وَيَخْتَلِسُهَا، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْإِسْكَانُ فِي الشِّعْرِ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَالْيَوْمَ أُشْرَبْ غير مستحقب

[سورة هود (11) : الآيات 29 إلى 31]

[سورة هود (11) : الآيات 29 الى 31] وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُمْ لَا يَتَّبِعُكَ إِلَّا الْأَرَاذِلُ مِنَ النَّاسِ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «أَنَا لَا أَطْلُبُ عَلَى تَبْلِيغِ دَعْوَةِ الرِّسَالَةِ مَالًا حَتَّى يَتَفَاوَتَ الْحَالُ بِسَبَبِ كَوْنِ الْمُسْتَجِيبِ فَقِيرًا أَوْ غَنِيًّا وَإِنَّمَا أَجْرِي عَلَى هَذِهِ الطَّاعَةِ الشَّاقَّةِ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ» وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَسَوَاءٌ كَانُوا فُقَرَاءَ أَوْ أَغْنِيَاءَ لَمْ يَتَفَاوَتِ الْحَالُ فِي ذَلِكَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: كَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لَهُمْ إِنَّكُمْ لَمَّا نَظَرْتُمْ إِلَى ظَوَاهِرِ الْأُمُورِ وَجَدْتُمُونِي فَقِيرًا وَظَنَنْتُمْ أَنِّي إِنَّمَا اشْتَغَلْتُ بِهَذِهِ الْحِرْفَةِ لِأَتَوَسَّلَ بِهَا إِلَى أَخْذِ أَمْوَالِكُمْ وَهَذَا الظن منكم خطأ فإني لا أسئلكم عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَا تَحْرِمُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ سَعَادَةِ الدِّينِ بِسَبَبِ هَذَا الظَّنِّ الْفَاسِدِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا إِلَى قَوْلِهِ: وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ [هود: 27] فَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَاهُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً تُوجِبُ فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْعَ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يَسْعَى فِي طَلَبِ الدِّينِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الدُّنْيَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْفَضَائِلِ بِاتِّفَاقِ الْكُلِّ، فَلَعَلَّ الْمُرَادَ تَقْرِيرُ حُصُولِ الْفَضِيلَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا فَهَذَا كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ سَأَلُوهُ طَرْدَهُمْ رَفْعًا لِأَنْفُسِهِمْ عَنْ مُشَارَكَةِ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ. رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ أَحْبَبْتَ يَا نُوحُ أَنْ نَتَّبِعَكَ فَاطْرُدْهُمْ فَإِنَّا لَا نَرْضَى بِمُشَارَكَتِهِمْ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا وَقَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [هُودٍ: 27] كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ طَرْدَهُمْ لِأَنَّهُ كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: لَوِ اتَّبَعَكَ أَشْرَافُ الْقَوْمِ لَوَافَقْنَاهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ مَا طَرَدَهُمْ، وَذَكَرَ فِي بَيَانِ مَا يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ مِنْ هَذَا الطَّرْدِ أُمُورًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا مِنْهَا أَنَّهُمْ قَالُوا هُمْ مُنَافِقُونَ فِيمَا أَظْهَرُوا فَلَا تَغْتَرَّ بِهِمْ فَأَجَابَ بِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَنْكَشِفُ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ جَعَلَهُ عِلَّةً فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ الطرد وأراد أنهم ملاقوا مَا وَعَدَهُمْ رَبُّهُمْ، فَإِنْ طَرَدْتُهُمُ اسْتَخْصَمُونِي فِي الْآخِرَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ نَبَّهَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ عَلَى أَنَّا نَجْتَمِعُ فِي الْآخِرَةِ فَأُعَاقَبُ عَلَى طَرْدِهِمْ فَلَا أَجِدُ مَنْ يَنْصُرُنِي، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ يَبْنُونَ أَمْرَهُمْ عَلَى الْجَهْلِ بِالْعَوَاقِبِ وَالِاغْتِرَارِ بِالظَّوَاهِرِ فَقَالَ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْعَقْلَ والشرع تطابقا

عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَعْظِيمِ الْمُؤْمِنِ الْبَرِّ التَّقِيِّ وَمِنْ إِهَانَةِ الْفَاجِرِ الْكَافِرِ، فَلَوْ قَلَبْتَ الْقِصَّةَ/ وَعَكَسْتَ الْقَضِيَّةَ وَقَرَّبْتَ الْكَافِرَ الْفَاجِرَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ، وَطَرَدْتَ الْمُؤْمِنَ التَّقِيَّ عَلَى سَبِيلِ الْإِهَانَةِ كُنْتَ عَلَى ضِدِّ أَمْرِ اللَّه تَعَالَى، وَعَلَى عَكْسِ حُكْمِهِ وَكُنْتَ فِي هَذَا الْحُكْمِ عَلَى ضِدِّ مَا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى مِنْ إِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَى الْمُحِقِّينَ، وَالْعِقَابِ إِلَى الْمُبْطِلِينَ وَحِينَئِذٍ أَصِيرُ مُسْتَوْجِبًا لِلْعِقَابِ الْعَظِيمِ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّه تَعَالَى وَمَنِ الَّذِي يُخَلِّصُنِي مِنْ عَذَابِ اللَّه أَفَلَا تَذَكَّرُونَ فَتَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْبَيَانَ بِوَجْهٍ ثَالِثٍ فَقَالَ: وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ أَيْ كَمَا لَا أَسْأَلُكُمْ فَكَذَلِكَ لَا أَدَّعِي أَنِّي أَمْلِكُ مَالًا وَلَا لِي غَرَضٌ فِي الْمَالِ لَا أَخْذًا وَلَا دَفْعًا، وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ حَتَّى أَصِلَ بِهِ إِلَى مَا أُرِيدُ لِنَفْسِي وَلَا أَتْبَاعِي وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ حَتَّى أَتَعَظَّمَ بِذَلِكَ عَلَيْكُمْ، بَلْ طَرِيقِي الْخُضُوعُ وَالتَّوَاضُعُ وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ وَطَرِيقَهُ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَنْكِفُ عَنْ مُخَالَطَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَلَا يَطْلُبُ مُجَالَسَةَ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ وَإِنَّمَا شَأْنُهُ طَلَبُ الدِّينَ وَسِيرَتُهُ مُخَالَطَةُ الْخَاضِعِينَ وَالْخَاشِعِينَ فَلَمَّا كَانَتْ طَرِيقَتِي تُوجِبُ مُخَالَطَةَ الْفُقَرَاءِ فَكَيْفَ جَعَلْتُمْ ذَلِكَ عَيْبًا عَلَيَّ، ثُمَّ إِنَّهُ أَكَّدَ هَذَا الْبَيَانَ بِطَرِيقٍ رَابِعٍ فَقَالَ: وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ وَهَذَا كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْسُبُونَ أَتْبَاعَهُ مَعَ الْفَقْرِ وَالذِّلَّةِ إِلَى النِّفَاقِ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَقُولُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْغَيْبِ وَالْغَيْبُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّه، فَرُبَّمَا كَانَ بَاطِنُهُمْ كَظَاهِرِهِمْ فَيُؤْتِيهِمُ اللَّه مُلْكَ الْآخِرَةِ فَأَكُونُ كَاذِبًا فِيمَا أَخْبَرْتُ بِهِ، فَإِنِّي إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ لِنَفْسِي وَمِنَ الظَّالِمِينَ لَهُمْ فِي وَصْفِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا خَيْرَ لَهُمْ مَعَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى آتَاهُمُ الْخَيْرَ فِي الْآخِرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَقَالُوا: إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ: أَنَا لَا أَدَّعِي كَذَا وَكَذَا، فَهَذَا إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ أَشْرَفَ مِنْ أَحْوَالِ ذَلِكَ الْقَائِلِ فَلَمَّا كَانَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ دَرَجَةُ الْمَلَائِكَةِ أَعْلَى وَأَشْرَفَ مِنْ دَرَجَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ قَالُوا: وَكَيْفَ لَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَالْمَلَائِكَةُ دَاوَمُوا عَلَى عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى طُولَ الدُّنْيَا مُذْ خُلِقُوا إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، وَتَمَامُ التَّقْرِيرِ أَنَّ الْفَضَائِلَ الْحَقِيقِيَّةَ الرُّوحَانِيَّةَ لَيْسَتْ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: الِاسْتِغْنَاءُ الْمُطْلَقُ وَجَرَتِ الْعَادَةُ فِي الدُّنْيَا أَنَّ مَنْ مَلَكَ الْمَالَ الْكَثِيرَ فَإِنَّهُ يُوصَفُ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا فَقَوْلُهُ: وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنِّي لَا أَدَّعِي الِاسْتِغْنَاءَ الْمُطْلَقَ وَثَانِيهَا: الْعِلْمُ التَّامُّ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَثَالِثُهَا: الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ الْكَامِلَةُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْخَوَاطِرِ أَنَّ أَكْمَلَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَالْمَقْصُودُ من ذكر هذه الأمور الثلاثة بيان أنه مَا حَصَلَ عِنْدِي مِنْ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ إِلَّا مَا يَلِيقُ بِالْقُوَّةِ الْبَشَرِيَّةِ وَالطَّاقَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَأَمَّا الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ فَأَنَا لَا أَدَّعِيهِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ/ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَكْمَلُ مِنَ الْبَشَرِ، وَأَيْضًا يُمْكِنُ جَعْلُ هَذَا الْكَلَامِ جَوَابًا عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ الشُّبْهَةِ فَإِنَّهُمْ طَعَنُوا فِي أَتْبَاعِهِ بِالْفَقْرِ فَقَالَ: وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ حَتَّى أَجْعَلَهُمْ أَغْنِيَاءَ وَطَعَنُوا فِيهِمْ أَيْضًا بِأَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ فَقَالَ: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ حَتَّى أَعْرِفَ كَيْفِيَّةَ بَاطِنِهِمْ وَإِنَّمَا أُجْرِي الْأَحْوَالَ عَلَى الظَّوَاهِرِ وَطَعَنُوا فِيهِمْ بِأَنَّهُمْ قَدْ يَأْتُونَ بِأَفْعَالٍ لَا كَمَا يَنْبَغِي فَقَالَ: وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ حَتَّى أَكُونَ مُبَرَّأً عَنْ جَمِيعِ الدَّوَاعِي الشَّهْوَانِيَّةِ وَالْبَوَاعِثِ النَّفْسَانِيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صُدُورِ الذَّنْبِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ طَرْدَ الْمُؤْمِنِينَ لِطَلَبِ مَرْضَاةِ الْكُفَّارِ مِنْ أُصُولِ الْمَعَاصِي، ثُمَّ إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَدَ فُقَرَاءَ الْمُؤْمِنِينَ لِطَلَبِ مَرْضَاةِ الْكُفَّارِ

[سورة هود (11) : الآيات 32 إلى 34]

حَتَّى عَاتَبَهُ اللَّه تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الْأَنْعَامِ: 52] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى إِقْدَامِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الذَّنْبِ. وَالْجَوَابُ: يُحْمَلُ الطَّرْدُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الطَّرْدِ الْمُطْلَقِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ، وَالطَّرْدُ الْمَذْكُورُ فِي وَاقِعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى التَّقْلِيلِ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ لِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَ اللَّه فِي دَفْعِ الْعِقَابِ بِقَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ مَعْنَاهُ إِنْ كَانَ هَذَا الطَّرْدُ مُحَرَّمًا فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّه، أَيْ مَنِ الَّذِي يُخَلِّصُنِي مِنْ عِقَابِهِ وَلَوْ كَانَتِ الشَّفَاعَةُ جَائِزَةً لَكَانَتْ فِي حَقِّ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْضًا جَائِزَةً وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ قَوْلُهُ: مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ يُشْبِهُ اسْتِدْلَالَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً إِلَى قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [الْبَقَرَةِ: 48، 123] وَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ هُوَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ. [سورة هود (11) : الآيات 32 الى 34] قالُوا يَا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا أَوْرَدُوا تِلْكَ الشُّبْهَةَ. وَأَجَابَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهَا بِالْجَوَابَاتِ الْمُوَافِقَةِ الصَّحِيحَةِ أَوْرَدَ الْكُفَّارُ عَلَى نُوحٍ كَلَامَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ وَصَفُوهُ بِكَثْرَةِ الْمُجَادَلَةِ فَقَالُوا: يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ أَكْثَرَ فِي الْجِدَالِ مَعَهُمْ، وَذَلِكَ الْجِدَالُ مَا كَانَ إِلَّا فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِدَالَ فِي تَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ وَفِي إِزَالَةِ الشُّبُهَاتِ حِرْفَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ وَالْجَهْلَ وَالْإِصْرَارَ عَلَى الْبَاطِلِ حِرْفَةُ الْكُفَّارِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ اسْتَعْجَلُوا الْعَذَابَ الَّذِي كَانَ يَتَوَعَّدُهُمْ بِهِ، فَقَالُوا: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَجَابَ عَنْهُ بِجَوَابٍ صَحِيحٍ فَقَالَ: إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّ إِنْزَالَ الْعَذَابِ لَيْسَ إِلَيَّ وَإِنَّمَا هُوَ خَلْقُ اللَّه تَعَالَى فَيَفْعَلُهُ إِنْ شَاءَ كَمَا شَاءَ، وَإِذَا أَرَادَ إِنْزَالَ الْعَذَابِ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُعْجِزُهُ، أَيْ لَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ، وَالْمُعْجِزُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا عِنْدَهُ لِتَعَذُّرِ مُرَادِ الْغَيْرِ فَيُوَصَفُ بِأَنَّهُ أَعْجَزَهُ، فَقَوْلُهُ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أَيْ لَا سَبِيلَ لَكُمْ إِلَى فِعْلِ مَا عِنْدَهُ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَى اللَّه تَعَالَى مَا يَشَاءُ مِنَ الْعَذَابِ إِنْ أَرَادَ إِنْزَالَهُ بِكُمْ، وَقَدْ قِيلَ مَعْنَاهُ: وَمَا أَنْتُمْ بِمَانِعِينَ، وَقِيلَ: وَمَا أَنْتُمْ بِمَصُونِينَ، وَقِيلَ: وَمَا أَنْتُمْ بِسَابِقِينَ إِلَى الْخَلَاصِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَجَابَ عَنْ شُبُهَاتِهِمْ خَتَمَ الْكَلَامَ بِخَاتِمَةٍ قَاطِعَةٍ، فَقَالَ: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ أَيْ إِنْ كَانَ اللَّه يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي الْبَتَّةَ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ يُرِيدُ الْكُفْرَ مِنَ الْعَبْدِ، وَأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ مِنْهُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ صُدُورُ الْإِيمَانِ مِنْهُ،

قَالُوا: إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ كَانَ اللَّه يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ وَيُضِلَّكُمْ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي مَذْهَبِنَا، أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى إِنْ أَرَادَ إِغْوَاءَ الْقَوْمِ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِنُصْحِ الرَّسُولِ، وَهَذَا مُسَلَّمٌ، فَإِنَّا نَعْرِفُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَوْ أَرَادَ إِغْوَاءَ عَبْدٍ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ نُصْحُ النَّاصِحِينَ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ هَذَا الْإِغْوَاءَ فَإِنَّ النِّزَاعَ مَا وَقَعَ إِلَّا فِيهِ، بَلْ نَقُولُ إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَغْوَاهُمْ، بَلْ فَوَّضَ الِاخْتِيَارَ إِلَيْهِمْ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ إِغْوَاءَهُمْ لَمَا بَقِيَ فِي النُّصْحِ فَائِدَةٌ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ لَمَا أَمَرَهُ بِأَنْ يَنْصَحَ الْكُفَّارَ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَأْمُورٌ/ بِدَعْوَةِ الْكُفَّارِ وَنَصِيحَتِهِمْ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا النُّصْحَ غَيْرُ خَالٍ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ خَالِيًا عَنِ الْفَائِدَةِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ تَعَالَى مَا أَغْوَاهُمْ، فَهَذَا صَارَ حُجَّةً لَنَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَغْوَاهُمْ لَصَارَ هَذَا عُذْرًا لهم في عدم إتيانهم بالإيمان ولصار نوع مُنْقَطِعًا فِي مُنَاظَرَتِهِمْ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهُ إِنَّكَ سلمت أن اللَّه إذا أَغْوَانَا فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِي نُصْحِكَ وَلَا فِي جِدِّنَا وَاجْتِهَادِنَا فَائِدَةٌ، فَإِذَا ادَّعَيْتَ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ أَغْوَانَا فَقَدْ جَعَلْتَنَا مَعْذُورِينَ فَلَمْ يَلْزَمْنَا قَبُولُ هَذِهِ الدَّعْوَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَهُ الْخَصْمُ، لَصَارَ هَذَا حُجَّةً لِلْكُفَّارِ عَلَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَذْكُرَ كَلَامًا يَصِيرُ بِسَبَبِهِ مُفْحَمًا مُلْزَمًا عَاجِزًا عَنْ تَقْرِيرِ حُجَّةِ اللَّه تَعَالَى، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى قَوْلِ الْمُجَبِّرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ ذَكَرُوا وُجُوهًا مِنَ التَّأْوِيلَاتِ: الْأَوَّلُ: أُولَئِكَ الْكُفَّارُ كَانُوا مُجَبِّرَةً، وَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ كُفْرَهُمْ بِإِرَادَةِ اللَّه تَعَالَى، فَعِنْدَ هَذَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ نُصْحَهُ لَا يَنْفَعُهُمْ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا، وَمِثَالُهُ أَنْ يُعَاقِبَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ عَلَى ذَنْبِهِ فَيَقُولُ الْوَلَدُ: لَا أَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ مَا أَنَا عَلَيْهِ، فَيَقُولُ الْوَالِدُ فَلَنْ يَنْفَعَكَ إِذًا نُصْحِي وَلَا زَجْرِي، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُصَدِّقُهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ بَلْ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ لِذَلِكَ. الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ مَعْنَى يُغْوِيَكُمْ أَيْ يُعَذِّبَكُمْ، وَالْمَعْنَى: لَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي الْيَوْمَ إِذَا نَزَلَ بِكُمُ الْعَذَابُ فَآمَنْتُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ لَا يُقْبَلُ، وَإِنَّمَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِذَا آمَنْتُمْ قَبْلَ مُشَاهَدَةِ الْعَذَابِ. الثَّالِثُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْغَوَايَةُ هِيَ الْخَيْبَةُ مِنَ الطَّلَبِ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مَرْيَمَ: 59] أَيْ خَيْبَةً مِنْ خَيْرِ الْآخِرَةِ قَالَ الشَّاعِرُ: وَمَنْ يَغْوَ لَا يَعْدَمْ عَلَى الْغَيِّ لَائِمَا الرَّابِعُ: أَنَّهُ إِذَا أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ وَتَمَادَى فِيهِ مَنَعَهُ اللَّه تَعَالَى الْأَلْطَافَ وَفَوَّضَهُ إِلَى نَفْسِهِ، فَهَذَا شَبِيهُ مَا إِذَا أَرَادَ إِغْوَاءَهُ فَلِهَذَا السَّبَبِ حَسُنَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَغْوَاهُ هَذَا جُمْلَةُ كَلِمَاتِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَالْجَوَابُ عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا وَأَطْوَارًا فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ جَزَاءٌ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ بَعْدَهُ شَرْطٌ آخَرُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الْمُؤَخَّرُ فِي اللَّفْظِ مُقَدَّمًا فِي الْوُجُودِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، كَانَ الْمَفْهُومُ كَوْنَ ذَلِكَ الطَّلَاقِ مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ الدُّخُولِ، فَإِذَا ذَكَرَ بَعْدَهُ شَرْطًا آخَرَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ أَكَلْتِ الْخُبْزَ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ تَعَلُّقَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ بِذَلِكَ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ مَشْرُوطٌ بِحُصُولِ هَذَا الشَّرْطِ الثَّانِي وَالشَّرْطُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَشْرُوطِ فِي الْوُجُودِ فَعَلَى هَذَا إِنْ حَصَلَ الشَّرْطُ الثَّانِي تَعَلَّقَ ذَلِكَ الْجَزَاءُ بِذَلِكَ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ أَمَّا إِنْ/ لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ ثَانِيًا لَمْ يَتَعَلَّقْ ذَلِكَ الْجَزَاءُ بِذَلِكَ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ،

[سورة هود (11) : آية 35]

هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الشَّرْطَ الْمُؤَخَّرَ فِي اللَّفْظِ مُقَدَّمٌ فِي الْمَعْنَى، وَالْمُقَدَّمَ فِي اللَّفْظِ مُؤَخَّرٌ فِي الْمَعْنَى. وَاعْلَمْ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَرَّرَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ قَالَ: هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَهَذَا نِهَايَةُ الْوَعِيدِ أَيْ هُوَ إِلَهُكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَرَبَّاكُمْ وَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي ذَوَاتِكُمْ وَفِي صِفَاتِكُمْ قَبْلَ الْمَوْتِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ مَرْجِعُكُمْ إِلَيْهِ وَهَذَا يُفِيدُ نهاية التحذير. [سورة هود (11) : آية 35] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) اعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى افْتَرَاهُ اخْتَلَقَهُ وَافْتَعَلَهُ وَجَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَالْهَاءُ تَرْجِعُ إِلَى الْوَحْيِ الَّذِي بَلَّغَهُ إِلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ: فَعَلَيَّ إِجْرامِي الْإِجْرَامُ اقْتِرَاحُ الْمَحْظُورَاتِ وَاكْتِسَابُهَا، وَهَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: فَعَلَيَّ عِقَابُ إِجْرَامِي، وَفِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ عِقَابُ جُرْمِي، وَإِنْ كُنْتُ صَادِقًا وَكَذَّبْتُمُونِي فَعَلَيْكُمْ عِقَابُ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ، إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ هَذِهِ الْبَقِيَّةَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ [الزُّمَرِ: 9] وَلَمْ يَذْكُرِ الْبَقِيَّةَ، وَقَوْلُهُ: وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ أَيْ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ عِقَابِ جُرْمِكُمْ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَقَعَتْ فِي قِصَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَثْنَاءِ حِكَايَةِ نُوحٍ، وَقَوْلُهُمْ بَعِيدٌ جِدًّا، وَأَيْضًا قَوْلُهُ: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ شَاكًّا، إِلَّا أَنَّهُ قَوْلٌ يُقَالُ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ عِنْدَ الْيَأْسِ مِنَ القبول. [سورة هود (11) : آية 36] وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لَمَّا جَاءَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى دَعَا عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نُوحٍ: 26] وَقَوْلُهُ: فَلا تَبْتَئِسْ أَيْ لَا تَحْزَنْ، قَالَ أَبُو زَيْدٍ: ابْتَأَسَ الرَّجُلُ إِذَا بَلَغَهُ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَا يَقْسِمُ اللَّه أَقْبَلْ غَيْرَ مُبْتَئِسٍ ... بِهِ وَأَقْعُدْ كَرِيمًا نَاعِمَ الْبَالِ أَيْ غَيْرَ حَزِينٍ وَلَا كَارِهٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فِي الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ قَوْمِهِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَوْ حَصَلَ إِيمَانُهُمْ لَكَانَ إِمَّا مَعَ بَقَاءِ هَذَا الْخَبَرِ صِدْقًا، وَمَعَ بَقَاءِ هَذَا الْعِلْمِ عِلْمًا أَوْ مَعَ انْقِلَابِ هَذَا الْخَبَرِ كَذِبًا وَمَعَ انْقِلَابِ هَذَا الْعَلَمِ جَهْلًا وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ لِأَنَّ وُجُودَ الْإِيمَانِ مَعَ أَنْ يَكُونَ الْإِخْبَارُ عَنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ صِدْقًا، وَمَعَ كَوْنِ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ حَاصِلًا حَالَ وُجُودِ الْإِيمَانِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ انْقِلَابَ خَبَرِ اللَّه كَذِبًا وَعِلْمِ اللَّه جَهْلًا مُحَالٌ، وَلَمَّا كَانَ صُدُورُ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ وَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَالٌ كَانَ صُدُورُ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ مُحَالًا مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِهِ، وَأَيْضًا الْقَوْمُ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِالْإِيمَانِ وَمِنَ الْإِيمَانِ تَصْدِيقُ اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَيَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الْبَتَّةَ. وَذَلِكَ تَكْلِيفُ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ قَدْ مَرَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا وَأَطْوَارًا.

[سورة هود (11) : آية 37]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْمُعْتَزِلَةُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّه تَعَالَى عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ عَلَى قَوْمٍ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ أَوْ كَانَ فِي أَوْلَادِهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ، فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَاحْتَجُّوا بِمَا حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نُوحٍ: 26، 27] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا حَسُنَ مِنْهُ تَعَالَى إِنْزَالُ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ عَلَيْهِمْ، لِأَجْلِ أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مَنْ يُؤْمِنُ، وَلَا فِي أَوْلَادِهِمْ أَحَدٌ يُؤْمِنُ. قَالَ الْقَاضِي وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: إِنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّه تَعَالَى جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ. وَأَمَّا قَوْلُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ يُضِلُّونَ عِبَادَهُ وَلَا يَلِدُونَ إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ كَانَ قَوْلًا بِمَجْمُوعِ هَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ، وَأَيْضًا فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُمَا لَوْ لَمْ يَحْصُلَا لَمَا جَازَ إِنْزَالُ الْإِهْلَاكِ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لِشِدَّةِ مَحَبَّتِهِ لِإِيمَانِهِمْ كَانَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُبْقِيَهُمْ، فَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ مِنْهُمْ أَحَدٌ لِيَزُولَ عَنْ قَلْبِهِ مَا كَانَ قَدْ حَصَلَ/ فِيهِ مِنْ تِلْكَ الْمَحَبَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى مِنْ بَعْدُ: فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ أَيْ لَا تَحْزَنْ مِنْ ذَلِكَ وَلَا تَغْتَمَّ وَلَا تَظُنَّ أَنَّ فِي ذَلِكَ مَذَلَّةً، فَإِنَّ الدِّينَ عَزِيزٌ، وَإِنْ قَلَّ عَدَدُ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِهِ، وَالْبَاطِلَ ذَلِيلٌ وَإِنْ كثر عدد من يقول به. [سورة هود (11) : آية 37] وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: 36] يَقْتَضِي تَعْرِيفَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ مُعَذِّبُهُمْ وَمُهْلِكُهُمْ، فَكَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِوُجُوهِ التَّعْذِيبِ، فَعَرَّفَهُ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ بِهَذَا الْجِنْسِ الَّذِي هُوَ الْغَرَقُ، وَلَمَّا كَانَ السَّبِيلُ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ النَّجَاةُ مِنَ الْغَرَقِ تَكْوِينَ السَّفِينَةِ. لا جرم أمر اللَّه تَعَالَى بِإِصْلَاحِ السَّفِينَةِ وَإِعْدَادِهَا، فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ أَنْ يَصْنَعَهَا عَلَى مِثَالِ جُؤْجُؤِ الطَّائِرِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ أَمْرُ إِيجَابٍ أَوْ أَمْرُ إِبَاحَةٍ. قُلْنَا: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَمْرُ إِيجَابٍ، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى صَوْنِ رُوحِ نَفْسِهِ وَأَرْوَاحِ غَيْرِهِ عَنِ الْهَلَاكِ إِلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَصَوْنُ النَّفْسِ عَنِ الْهَلَاكِ وَاجِبٌ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الْأَمْرُ أَمْرَ إِيجَابٍ بَلْ كَانَ أَمْرَ إِبَاحَةٍ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَتَّخِذَ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ دَارًا لِيَسْكُنَهَا وَيُقِيمَ بِهَا. أَمَّا قَوْلُهُ: بِأَعْيُنِنا فَهَذَا لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ للَّه تَعَالَى أَعْيُنٌ كَثِيرَةٌ. وَهَذَا يُنَاقِضُ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه: 39] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَصْنَعَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ الْفُلْكَ بِتِلْكَ الْأَعْيُنِ، كَمَا يُقَالُ: قَطَعْتُ بِالسِّكِّينِ، وَكَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ كَوْنُهُ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الْأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ وَالْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ فِيهِ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَى بِأَعْيُنِنا أَيْ بِعَيْنِ الْمَلَكِ الَّذِي كَانَ يُعَرِّفُهُ كَيْفَ يَتَّخِذُ السَّفِينَةَ، يُقَالُ فُلَانٌ عَيْنٌ عَلَى فُلَانٍ نُصِّبَ عليه ليكون منفحصا عَنْ أَحْوَالِهِ وَلَا تُحَوَّلُ عَنْهُ عَيْنُهُ. الثَّانِي: أَنَّ مَنْ كَانَ عَظِيمَ الْعِنَايَةِ بِالشَّيْءِ فَإِنَّهُ يَضَعُ عَيْنَهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ وَضْعُ الْعَيْنِ عَلَى الشَّيْءِ سَبَبًا لِمُبَالَغَةِ الِاحْتِيَاطِ وَالْعِنَايَةِ جَعَلَ الْعَيْنَ كِنَايَةً/ عَنِ الِاحْتِيَاطِ، فَلِهَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مَعْنَاهُ بِحِفْظِنَا إِيَّاكَ حِفْظَ مَنْ يَرَاكَ وَيَمْلِكُ دَفْعَ السُّوءِ عَنْكَ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى عَمَلِ السَّفِينَةِ مَشْرُوطٌ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَمْنَعَهُ أَعْدَاؤُهُ عَنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَنَّهُ كَيْفَ يَنْبَغِي تَأْلِيفُ السَّفِينَةِ وَتَرْكِيبُهَا وَدَفْعُ الشَّرِّ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: وَوَحْيِنا

[سورة هود (11) : الآيات 38 إلى 39]

إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ كَيْفَ يَنْبَغِي عَمَلُ السَّفِينَةِ حَتَّى يَحْصُلَ مِنْهُ الْمَطْلُوبُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: يَعْنِي لَا تَطْلُبْ مِنِّي تَأْخِيرَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ فَإِنِّي قَدْ حَكَمْتُ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْحُكْمِ، فَلَمَّا عَلِمَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ دَعَا عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَالَ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نُوحٍ: 26] الثَّانِي: وَلا تُخاطِبْنِي فِي تَعْجِيلِ ذَلِكَ الْعِقَابِ عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، فَإِنِّي لَمَّا قَضَيْتُ إِنْزَالَ ذَلِكَ الْعَذَابِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ كَانَ تَعْجِيلُهُ مُمْتَنِعًا، الثَّالِثُ: الْمُرَادُ بالذين ظلموا امرأته وابنه كنعان. [سورة هود (11) : الآيات 38 الى 39] وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ أَيْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَصْنَعُ الْفُلْكَ. الثَّانِي: التَّقْدِيرُ وَأَقْبَلَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ فَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي صِفَةِ السَّفِينَةِ أَقْوَالًا كَثِيرَةً: فَأَحَدُهَا: أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ اتَّخَذَ السَّفِينَةَ فِي سَنَتَيْنِ، وَقِيلَ فِي أَرْبَعِ سِنِينَ وَكَانَ طُولُهَا ثلاثمائة ذِرَاعٍ وَعَرْضُهَا خَمْسُونَ ذِرَاعًا وَطُولُهَا فِي السَّمَاءِ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا، وَكَانَتْ مِنْ خَشَبِ السَّاجِ وَجَعَلَ لَهَا ثَلَاثَ بُطُونٍ فَحَمَلَ فِي الْبَطْنِ الْأَسْفَلِ الْوُحُوشَ وَالسِّبَاعَ وَالْهَوَامَّ، وَفِي الْبَطْنِ الْأَوْسَطِ الدَّوَابَّ وَالْأَنْعَامَ، وَفِي الْبَطْنِ الْأَعْلَى جَلَسَ هُوَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مَعَ مَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ مِنَ الزَّادِ، وَحَمَلَ مَعَهُ جَسَدَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ/ كَانَ طُولُهَا أَلْفًا وَمِائَتَيْ ذِرَاعٍ وَعَرْضُهَا سِتَّمِائَةِ ذِرَاعٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ لَا تُعْجِبُنِي لِأَنَّهَا أُمُورٌ لَا حَاجَةَ إِلَى مَعْرِفَتِهَا الْبَتَّةَ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَتِهَا فَائِدَةٌ أَصْلًا وَكَانَ الْخَوْضُ فِيهَا مِنْ بَابِ الْفُضُولِ لَا سِيَّمَا مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَيْسَ هاهنا مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَانِبِ الصَّحِيحِ وَالَّذِي نَعْلَمُهُ أَنَّهُ كَانَ فِي السَّعَةِ بِحَيْثُ يَتَّسِعُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَوْمِهِ وَلِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَلِحُصُولِ زَوْجَيْنِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ، لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ الْقَدْرِ فَغَيْرُ مَذْكُورٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ فَفِي تَفْسِيرِ الْمَلَأِ وَجْهَانِ قِيلَ جَمَاعَةٌ وَقِيلَ طَبَقَةٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لِأَجْلِهِ كَانُوا يَسْخَرُونَ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: يَا نُوحُ كُنْتَ تَدَّعِي رِسَالَةَ اللَّه تَعَالَى فَصِرْتَ بَعْدَ ذَلِكَ نَجَّارًا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ: لَوْ كُنْتَ صَادِقًا فِي دَعْوَاكَ لَكَانَ إِلَهُكَ يُغْنِيكَ عَنْ هَذَا الْعَمَلِ الشَّاقِّ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ مَا رَأَوُا السَّفِينَةَ قَبْلَ ذَلِكَ وَمَا عَرَفُوا كَيْفِيَّةَ الِانْتِفَاعِ بِهَا وَكَانُوا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ وَيَسْخَرُونَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ تِلْكَ السَّفِينَةَ كَانَتْ كَبِيرَةً وَهُوَ كَانَ يَصْنَعُهَا فِي مَوْضِعٍ بَعِيدٍ عَنِ الماء جدا وكانوا يقولون: ليس هاهنا مَاءٌ وَلَا يُمْكِنُكَ نَقْلُهَا إِلَى الْأَنْهَارِ الْعَظِيمَةِ وَإِلَى الْبِحَارِ، فَكَانُوا يَعُدُّونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ السَّفَهِ وَالْجُنُونِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ لَمَّا طَالَتْ مُدَّتُهُ مَعَ الْقَوْمِ وَكَانَ يُنْذِرُهُمْ بِالْغَرَقِ وَمَا شَاهَدُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى خَبَرًا وَلَا أَثَرًا غَلَبَ عَلَى ظُنُونِهِمْ كَوْنُهُ كَاذِبًا فِي ذَلِكَ الْمَقَالِ فَلَمَّا اشْتَغَلَ بِعَمَلِ السَّفِينَةِ لَا جَرَمَ سَخِرُوا مِنْهُ وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ مُحْتَمَلَةٌ.

[سورة هود (11) : آية 40]

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ سُخْرِيَةً مِثْلَ سُخْرِيَتِكُمْ إِذَا وَقَعَ عَلَيْكُمُ الْغَرَقُ فِي الدُّنْيَا وَالْخِزْيُ فِي الْآخِرَةِ. الثَّانِي: إِنْ حَكَمْتُمْ عَلَيْنَا بِالْجَهْلِ فِيمَا نَصْنَعُ فَإِنَّا نَحْكُمُ عَلَيْكُمْ بِالْجَهْلِ فِيمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّعَرُّضِ لِسُخْطِ اللَّه تَعَالَى وَعَذَابِهِ فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالسُّخْرِيَةِ مِنَّا. الثَّالِثُ: إِنْ تَسْتَجْهِلُونَا فَإِنَّا نَسْتَجْهِلُكُمْ وَاسْتِجْهَالُكُمْ أَقْبَحُ وَأَشَدُّ، لِأَنَّكُمْ لَا تَسْتَجْهِلُونَ إِلَّا لِأَجْلِ الْجَهْلِ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَالِاغْتِرَارِ بِظَاهِرِ الْحَالِ كَمَا هُوَ عَادَةُ الْأَطْفَالِ وَالْجُهَّالِ. فَإِنْ قِيلَ: السُّخْرِيَةُ مِنْ آثَارِ الْمَعَاصِي فَكَيْفَ يَلِيقُ ذَلِكَ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى سَمَّى الْمُقَابَلَةَ سُخْرِيَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أَيْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالسُّخْرِيَةِ وَمَنْ هُوَ أَحْمَدُ عَاقِبَةً، وَفِي قَوْلِهِ: مَنْ يَأْتِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا بِمَعْنَى أَيْ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أَيُّنَا يَأْتِيهِ عَذَابٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَمَحَلُّ «مَنْ» رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ. وَالثَّانِي: أَنْ/ يَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي وَيَكُونُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ أَيْ يَجِبُ عَلَيْهِ وَيَنْزِلُ به. [سورة هود (11) : آية 40] حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) [فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» حَتَّى هِيَ الَّتِي يُبْتَدَأُ بَعْدَهَا الْكَلَامُ أُدْخِلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ مِنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَوَقَعَتْ غَايَةً لِقَوْلِهِ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ أَيْ فَكَانَ يَصْنَعُهَا إِلَى أَنْ جَاءَ وَقْتُ الْمَوْعِدِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَحْدُثُ شَيْءٌ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى كَمَا قَالَ: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ: 40] فَكَانَ الْمُرَادُ هَذَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ من الأمر هاهنا هُوَ الْعَذَابَ الْمُوعَدَ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي التَّنُّورِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ التَّنُّورُ الَّذِي يُخْبَزُ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُهُ، أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّهُ التَّنُّورُ الَّذِي يُخْبَزُ فِيهِ فَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ. وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَنُّورٌ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ: كَانَ لِآدَمَ قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ تَنُّورًا مِنْ حِجَارَةٍ، وَكَانَ لِحَوَّاءَ حَتَّى صَارَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِهِ فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِنَّهُ كَانَ بِنَاحِيَةِ الْكُوفَةِ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، قَالَ: وَقَدْ صَلَّى فِيهِ سَبْعُونَ نَبِيًّا، وَقِيلَ بِالشَّامِ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: عين ووردان وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَقِيلَ: فَارَ التَّنُّورُ بِالْهِنْدِ، وَقِيلَ: إِنَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ تَخْبِزُ فِي ذَلِكَ التَّنُّورِ فَأَخْبَرَتْهُ بِخُرُوجِ الْمَاءِ مِنْ ذَلِكَ التَّنُّورِ فَاشْتَغَلَ فِي الْحَالِ بِوَضْعِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ فِي السَّفِينَةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ التَّنُّورِ تَنُّورَ الْخُبْزِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ انْفَجَرَ الْمَاءُ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ كَمَا قَالَ: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [الْقَمَرِ: 11، 12] وَالْعَرَبُ تُسَمِّي وَجْهَ الْأَرْضِ تَنُّورًا. الثَّانِي: أَنَّ التَّنُّورَ أَشْرَفُ مَوْضِعٍ فِي الْأَرْضِ وَأَعْلَى مَكَانٍ فِيهَا وَقَدْ أَخْرَجَ إِلَيْهِ

الْمَاءَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِيَكُونَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لَهُ، وَأَيْضًا/ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا نَبَعَ الْمَاءُ مِنْ أَعَالِي الْأَرْضِ، وَمِنَ الْأَمْكِنَةِ الْمُرْتَفِعَةِ فَشُبِّهَتْ لارتفاعها بالتنانير. الثالث: فارَ التَّنُّورُ أَيْ طَلَعَ الصُّبْحُ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ علي رضي اللَّه عنه. الرابع: فارَ التَّنُّورُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَشَدَّ الْأَمْرِ كَمَا يُقَالُ: حَمِيَ الْوَطِيسُ وَمَعْنَى الْآيَةِ إِذَا رَأَيْتَ الْأَمْرَ يَشْتَدُّ وَالْمَاءَ يَكْثُرُ فَانْجُ بِنَفْسِكَ وَمَنْ مَعَكَ إِلَى السَّفِينَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الأصح من هذه اقوال؟ قُلْنَا: الْأَصْلُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلَفْظُ التَّنُّورِ حَقِيقَةٌ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُخْبَزُ فِيهِ فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ وَلَا امْتِنَاعَ فِي الْعَقْلِ فِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَاءَ نَبَعَ أَوَّلًا مِنْ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ وَكَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ تَنُّورًا. فَإِنْ قِيلَ: ذَكَرَ التَّنُّورَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مَعْهُودٌ سَابِقٌ مُعَيَّنٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ السَّامِعِ وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ تَنُّورٌ هَذَا شَأْنُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِذَا رَأَيْتَ الْمَاءَ يَشْتَدُّ نُبُوعُهُ وَالْأَمْرَ يَقْوَى فَانْجُ بِنَفْسِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ. قُلْنَا: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ التَّنُّورَ كَانَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ كَانَ تَنُّورَ آدَمَ أَوْ حَوَّاءَ أَوْ كَانَ تَنُّورًا عَيَّنَهُ اللَّه تَعَالَى لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَرَّفَهُ أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ الْمَاءَ يَفُورُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ وَقَعَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَعْنَى فارَ نَبَعَ عَلَى قُوَّةٍ وَشِدَّةٍ تَشْبِيهًا بِغَلَيَانِ الْقِدْرِ عِنْدَ قُوَّةِ النَّارِ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ نَفْسَ التَّنُّورِ لَا يَفُورُ فَالْمُرَادُ فَارَ الْمَاءُ مِنَ التَّنُّورِ، وَالَّذِي رُوِيَ أَنَّ فَوْرَ التَّنُّورِ كَانَ عَلَامَةً لِهَلَاكِ الْقَوْمِ لَا يَمْتَنِعُ لِأَنَّ هَذِهِ وَاقِعَةٌ عَظِيمَةٌ، وَقَدْ وَعَدَ اللَّه تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ النَّجَاةَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ عَلَامَةً بِهَا يَعْرِفُونَ الْوَقْتَ الْمُعَيَّنَ، فَلَا يَبْعُدُ جَعَلَ هَذِهِ الْحَالَةَ عَلَامَةً لِحُدُوثِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ اللَّيْثُ: التَّنُّورُ لَفْظَةٌ عَمَّتْ بِكُلِّ لِسَانٍ وَصَاحِبُهُ تَنَّارٌ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ قَدْ يَكُونُ أَعْجَمِيًّا فَتُعَرِّبُهُ الْعَرَبُ فَيَصِيرُ عَرَبِيًّا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ تَنَّارٌ وَلَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَنُّورٌ قَبْلَ هَذَا، وَنَظِيرُهُ مَا دَخَلَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ كَلَامِ الْعَجَمِ الدِّيبَاجُ وَالدِّينَارُ وَالسُّنْدُسُ وَالْإِسْتَبْرَقُ فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمَّا تَكَلَّمُوا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ صَارَتْ عَرَبِيَّةً. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا فَارَ التَّنُّورُ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَنْ يَحْمِلَ فِي السَّفِينَةِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ. فَالْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ قَالَ الْأَخْفَشُ: تَقُولُ الِاثْنَانِ هُمَا زَوْجَانِ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ [الذَّارِيَاتِ: 49] فَالسَّمَاءُ زَوْجٌ وَالْأَرْضُ زَوْجٌ وَالشِّتَاءُ زَوْجٌ وَالصَّيْفُ زَوْجٌ وَالنَّهَارُ زَوْجٌ وَاللَّيْلُ زَوْجٌ، وَتَقُولُ لِلْمَرْأَةِ هِيَ زَوْجٌ وَهُوَ زَوْجُهَا قَالَ تَعَالَى: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النِّسَاءِ: 1] يَعْنِي الْمَرْأَةَ، وَقَالَ: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [النَّجْمِ: 45] فَثَبَتَ أَنَّ الْوَاحِدَ قَدْ يُقَالُ لَهُ: زَوْجٌ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ومِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ [الأنعام: 143] . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الزَّوْجَانِ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ شَيْئَيْنِ يَكُونُ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى وَالتَّقْدِيرُ كُلُّ شَيْئَيْنِ هُمَا كَذَلِكَ فَاحْمِلْ مِنْهُمَا فِي السَّفِينَةِ اثْنَيْنِ وَاحِدٌ ذَكَرٌ وَالْآخَرُ أُنْثَى، وَلِذَلِكَ قَرَأَ حَفْصٌ مِنْ كُلٍّ بِالتَّنْوِينِ

[سورة هود (11) : آية 41]

وَأَرَادُوا حَمَلَ مِنْ كُلِّ شَيْءِ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ الذَّكَرُ زَوْجٌ وَالْأُنْثَى زَوْجٌ لَا يُقَالُ عَلَيْهِ إِنَّ الزَّوْجَيْنِ لَا يَكُونَانِ إِلَّا اثْنَيْنِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا عَلَى مِثَالِ قَوْلِهِ: لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ [النَّحْلِ: 51] وَقَوْلِهِ: نَفْخَةٌ واحِدَةٌ [الْحَاقَّةِ: 13] وَأَمَّا على القراءة المشهورة، فهذا السؤال غير وأراد وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ: زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ غَيْرُ الْحَيَوَانِ أَمْ لَا؟ فَنَقُولُ: أَمَّا الْحَيَوَانُ فَدَاخِلٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ الْحَيَوَانَاتِ، وَأَمَّا النَّبَاتُ فَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُ بِحَسَبِ قَرِينَةِ الْحَالِ لَا يَبْعُدُ بِسَبَبِ أَنَّ النَّاسَ مُحْتَاجُونَ إِلَى النَّبَاتِ بِجَمِيعِ أَقْسَامِهِ، وَجَاءَ فِي الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَسْتَطِعْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَحْمِلَ الْأَسَدَ حَتَّى أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ الْحُمَّى وَذَلِكَ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ فَمِنْ أَيْنَ أُطْعِمُ الْأَسَدَ إِذَا حَمَلْتُهُ قَالَ تَعَالَى: «فَسَوْفَ أَشْغَلُهُ عَنِ الطَّعَامِ» فَسَلَّطَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ الْحُمَّى وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْأَوْلَى تَرْكُهَا، فَإِنَّ حَاجَةَ الْفِيلِ إِلَى الطَّعَامِ أَكْثَرُ وَلَيْسَ بِهِ حُمَّى. الثَّانِي: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي أَمَرَ اللَّه نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِحَمْلِهَا فِي السَّفِينَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ قَالُوا: كَانُوا سَبْعَةً نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَثَلَاثَةُ أَبْنَاءٍ لَهُ وَهُمْ سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَةٌ، وَقِيلَ أَيْضًا كَانُوا ثَمَانِيَةً، هَؤُلَاءِ وَزَوْجَةَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فَالْمُرَادُ ابْنُهُ وَامْرَأَتُهُ وَكَانَا كَافِرَيْنِ، حَكَمَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ. فَإِنْ قِيلَ: الْإِنْسَانُ أَشْرَفُ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ فَمَا السَّبَبُ أَنَّهُ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ الْحَيَوَانَاتِ؟ قُلْنَا: الْإِنْسَانُ عَاقِلٌ وَهُوَ لِعَقْلِهِ كَالْمُضْطَرِّ إِلَى دَفْعِ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّرْغِيبِ، بِخِلَافِ السَّعْيِ فِي تَخْلِيصِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فِي إِثْبَاتِ الْقَضَاءِ اللَّازِمِ وَالْقَدَرِ الْوَاجِبِ، قَالُوا: لِأَنَّ قَوْلَهُ: سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مُشْعِرٌ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فَإِنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ عَنْ حَالِهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «السَّعِيدَ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَالشَّقِيَّ مَنْ شَقِيَ فِي بطن أمه» . [قوله تعالى وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ] النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ قَوْلُهُ: وَمَنْ آمَنَ قَالُوا كَانُوا ثَمَانِينَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: فِي نَاحِيَةِ الْمَوْصِلِ قَرْيَةٌ يُقَالُ لَهَا قَرْيَةُ الثَّمَانِينَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا خَرَجُوا مِنَ السَّفِينَةِ بَنَوْهَا، فَسُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ وَذَكَرُوا مَا هُوَ أَزْيَدُ مِنْهُ وَمَا هُوَ أَنْقَصُ مِنْهُ وَذَلِكَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِالْقِلَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَدَخَلُوا فِي السَّفِينَةِ كَانُوا جَمَاعَةً فَلِمَ لَمْ يَقُلْ قَلِيلُونَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ [الشُّعَرَاءِ: 54] . قُلْنَا: كِلَا اللَّفْظَيْنِ جَائِزٌ، وَالتَّقْدِيرُ هاهنا وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا نَفَرٌ قَلِيلٌ، فَأَمَّا الَّذِي يُرْوَى أَنَّ إِبْلِيسَ دَخَلَ السَّفِينَةَ فَبَعِيدٌ، لِأَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ وَهُوَ جِسْمٌ نَارِيٌّ أَوْ هَوَائِيٌّ وَكَيْفَ يُؤَثِّرُ الْغَرَقُ فِيهِ، وَأَيْضًا كِتَابُ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ وَخَبَرٌ صَحِيحٌ مَا وَرَدَ فِيهِ، فَالْأَوْلَى تَرْكُ الْخَوْضِ فِيهِ. [سورة هود (11) : آية 41] وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) [في قوله تعالى وَقالَ ارْكَبُوا فِيها] أَمَّا قَوْلُهُ: وَقالَ يَعْنِي نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: ارْكَبُوا وَالرُّكُوبُ الْعُلُوُّ عَلَى ظَهْرِ الشَّيْءِ ومنه ركوب

الدَّابَّةِ وَرُكُوبُ السَّفِينَةِ وَرُكُوبُ الْبَحْرِ وَكُلُّ شَيْءٍ عَلَا شَيْئًا فَقَدْ رَكِبَهُ، يُقَالُ رَكِبَهُ الدَّيْنُ قَالَ اللَّيْثُ: وَتُسَمِّي الْعَرَبُ مَنْ يَرْكَبُ السَّفِينَةَ رَاكِبَ السَّفِينَةِ. وَأَمَّا الرُّكْبَانُ وَالرَّكْبُ مَنْ رَكِبُوا الدَّوَابَّ وَالْإِبِلَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَلَفْظَةُ (فِي) فِي قَوْلِهِ: ارْكَبُوا فِيها لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ صِلَةِ الرُّكُوبِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ رَكِبْتُ السَّفِينَةَ وَلَا يُقَالُ رَكِبْتُ فِي السَّفِينَةِ، بَلِ الْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ مَفْعُولُ ارْكَبُوا مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ ارْكَبُوا الْمَاءَ فِي السَّفِينَةِ، وَأَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَائِدَةُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، أَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَكُونُوا فِي جَوْفِ الْفُلْكِ لَا عَلَى ظَهْرِهَا فَلَوْ قَالَ ارْكَبُوهَا: لَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَكُونُوا عَلَى ظَهْرِ السَّفِينَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عن عاصم مجريها بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَاتَّفَقُوا فِي مُرْسَاهَا أَنَّهُ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قرأ مجاهد مَجْراها وَمُرْساها بِلَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ مَجْرُورَيِ الْمَحَلِّ صِفَتَيْنِ للَّه تَعَالَى. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمَجْرَى مَصْدَرٌ كَالْإِجْرَاءِ، وَمِثْلُهُ قوله: مُنْزَلًا مُبارَكاً [المؤمنون: 29] وأَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ [الْإِسْرَاءِ: 80] وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ مَجْراها بِفَتْحِ الْمِيمِ، فَهُوَ أَيْضًا مَصْدَرٌ، مِثْلُ الْجَرْيِ. وَاحْتَجَّ صَاحِبُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِقَوْلِهِ: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ [هُودٍ: 42] وَلَوْ كَانَ مُجْرَاهَا لَكَانَ وَهِيَ تُجَرِّيهِمْ، وَحُجَّةُ مَنْ ضَمَّ الْمِيمَ أَنَّ جَرَتْ بِهِمْ وَأَجْرَتْهُمْ يَتَقَارَبَانِ فِي المعنى، فإذا قال: تَجْرِي/ بِهِمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ: تُجَرِّيهِمْ، وَأَمَّا الْمُرْسَى فَهُوَ أَيْضًا مَصْدَرٌ كَالْإِرْسَاءِ. يُقَالُ: رَسَا الشَّيْءُ يَرْسُو إِذَا ثَبَتَ وَأَرْسَاهُ غَيْرُهُ، قَالَ تَعَالَى: وَالْجِبالَ أَرْساها [النَّازِعَاتِ: 32] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ تَجْرِي بِسْمِ اللَّه وَقُدْرَتِهِ، وَتَرْسُو بِسْمِ اللَّه وَقُدْرَتِهِ، وَقِيلَ: كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ تَجْرِيَ بِهِمْ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها فَتَجْرِي، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ تَرْسُوَ قَالَ: بِسْمِ اللَّه مُرْسَاهَا فَتَرْسُو. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي عَامِلِ الْإِعْرَابِ فِي بِسْمِ اللَّهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: ارْكَبُوا بِسْمِ اللَّه، وَالثَّانِي: ابْدَءُوا بِسْمِ اللَّه، وَالثَّالِثُ: بِسْمِ اللَّه إِجْرَاؤُهَا وَإِرْسَاؤُهَا، وَقِيلَ: إِنَّهَا سَارَتْ لِأَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، وَقِيلَ: لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ رَجَبٍ، فَصَارَتْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَاسْتَوَتْ يَوْمَ الْعَاشِرِ مِنَ الْمُحَرَّمِ عَلَى الْجُودِيِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ احْتِمَالَانِ: الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها كَلَامًا وأحدا، والتقدير: وقال اركبوا فيها بسم مجريها وَمُرْسَاهَا، يَعْنِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرُّكُوبُ مَقْرُونًا بِهَذَا الذِّكْرِ. وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا كَلَامَيْنِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ بِالرُّكُوبِ، ثم أخبرهم بأن مجريها وَمُرْسَاهَا لَيْسَ إِلَّا بِسْمِ اللَّه وَأَمْرِهِ وَقُدْرَتِهِ. فَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ: يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْرَعَ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا وَيَكُونُ فِي وَقْتِ الشُّرُوعِ فِيهِ ذَاكِرًا لِاسْمِ اللَّه تَعَالَى بِالْأَذْكَارِ الْمُقَدَّسَةِ حَتَّى يَكُونَ بِبَرَكَةِ ذَلِكَ الذِّكْرِ سَبَبًا لِتَمَامِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي: يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا رَكِبَ السَّفِينَةَ أَخْبَرَ الْقَوْمَ بِأَنَّ السَّفِينَةَ لَيْسَتْ سَبَبًا لِحُصُولِ النَّجَاةِ بَلِ الْوَاجِبُ رَبْطُ الْهِمَّةِ وَتَعْلِيقُ الْقَلْبِ بِفَضْلِ اللَّه تَعَالَى، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُجِرِي وَالْمُرْسِي لِلسَّفِينَةِ، فَإِيَّاكُمْ أَنْ تُعَوِّلُوا عَلَى السَّفِينَةِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَعْوِيلُكُمْ عَلَى فَضْلِ اللَّه فَإِنَّهُ هُوَ الْمُجِرِي وَالْمُرْسِي لَهَا، فَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ كَانَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقْتَ رُكُوبِ السَّفِينَةِ فِي مَقَامِ الذِّكْرِ، وعلى التقدير الثاني كان في مقام الكفر والبراءة

[سورة هود (11) : الآيات 42 إلى 43]

عَنِ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْأَسْبَابِ وَاسْتِغْرَاقِ الْقَلْبِ فِي نُورِ جَلَالِ مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَفَكَّرَ فِي طَلَبِ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى بِالدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ فَكَأَنَّهُ جَلَسَ فِي سَفِينَةِ التَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ، وَأَمْوَاجُ الظُّلُمَاتِ وَالضَّلَالَاتِ قَدْ عَلَتْ تِلْكَ الْجِبَالَ وَارْتَفَعَتْ إِلَى مَصَاعِدِ الْقِلَالِ، فَإِذَا ابْتَدَأَتْ سَفِينَةُ الْفِكْرَةِ وَالرَّوِيَّةِ بِالْحَرَكَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ اعْتِمَادُهُ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَتَضَرُّعُهُ/ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ بِلِسَانِ الْقَلْبِ وَنَظَرِ الْعَقْلِ. يَقُولُ: بِسْمِ اللَّه مجريها وَمُرْسَاهَا حَتَّى تَصِلَ سَفِينَةُ فِكْرِهِ إِلَى سَاحِلِ النَّجَاةِ وَتَتَخَلَّصَ عَنْ أَمْوَاجِ الضَّلَالَاتِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ وَقْتُ الْإِهْلَاكِ وَإِظْهَارِ الْقَهْرِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ هَذَا الذِّكْرُ؟ وَجَوَابُهُ: لَعَلَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ رَكِبُوا السَّفِينَةَ اعْتَقَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّا إِنَّمَا نَجَوْنَا بِبَرَكَةِ عِلْمِنَا فاللَّه تَعَالَى نَبَّهَهُمْ بِهَذَا الْكَلَامِ لِإِزَالَةِ ذَلِكَ الْعَجَبِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ أَنْوَاعِ الزَّلَّاتِ وَظُلُمَاتِ الشَّهَوَاتِ، وَفِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى إِعَانَةِ اللَّه وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَنْ يَكُونَ رحيما لعقوبته غفورا لذنوبه. [سورة هود (11) : الآيات 42 الى 43] وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) واعلم أن قَوْلِهِ: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا، فَرَكِبُوا فِيهَا يَقُولُونَ: بِسْمِ اللَّه وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَمْوَاجُ الْعَظِيمَةُ إِنَّمَا تَحْدُثُ عِنْدَ حُصُولِ الرِّيَاحِ الْقَوِيَّةِ الشَّدِيدَةِ الْعَاصِفَةِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ رِيَاحٌ عَاصِفَةٌ شَدِيدَةٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: بَيَانُ شِدَّةِ الْهَوْلِ وَالْفَزَعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْجَرَيَانُ فِي الْمَوْجِ، هُوَ أَنْ تَجْرِيَ السَّفِينَةُ دَاخِلَ الْمَوْجِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْغَرَقَ، / فَالْمُرَادُ أَنَّ الْأَمْوَاجَ لَمَّا أَحَاطَتْ بِالسَّفِينَةِ مِنَ الْجَوَانِبِ، شُبِّهَتْ تِلْكَ السَّفِينَةُ بِمَا إِذَا جَرَتْ فِي داخل تلك الأمواج. [في قوله تعالى ونادى نوح ابنه وكان في معزل] ثُمَّ حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ نَادَى ابْنَهُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ كَانَ ابْنًا لَهُ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ابْنُهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ ونوح أيضا نص عليه فقال: يا بُنَيَّ وَصَرْفُ هَذَا اللَّفْظِ إِلَى أَنَّهُ رَبَّاهُ، فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الِابْنِ لِهَذَا السَّبَبِ صَرْفٌ لِلْكَلَامِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَالَّذِينَ خَالَفُوا هَذَا الظَّاهِرَ إِنَّمَا خَالَفُوهُ لِأَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الرَّسُولِ الْمَعْصُومِ كَافِرًا، وَهَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ وَالِدَ رَسُولِنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَافِرًا، وَوَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ كافرا بنص القرآن، فكذلك هاهنا، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نُوحٍ: 26] فَكَيْفَ نَادَاهُ مَعَ كُفْرِهِ؟

فَأَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ يُنَافِقُ أَبَاهُ فَظَنَّ نُوحٌ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَلِذَلِكَ نَادَاهُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا أَحَبَّ نَجَاتَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَافِرٌ، لَكِنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ لَمَّا شَاهَدَ الْغَرَقَ وَالْأَهْوَالَ العظيمة فإنه يقبل الإيمان فصار قوله: يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ الْإِيمَانَ وَتَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ أَيْ تَابِعْهُمْ فِي الْكُفْرِ وَارْكَبْ مَعَنَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ شَفَقَةَ الْأُبُوَّةِ لَعَلَّهَا حَمَلَتْهُ عَلَى ذَلِكَ النِّدَاءِ، وَالَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ كَانَ كَالْمُجْمَلِ فَلَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَوَّزَ أَنْ لَا يَكُونَ هُوَ دَاخِلًا فِيهِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ ابْنَ امْرَأَتِهِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ وَقَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَيُرْوَى أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَرَأَ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهَا وَالضَّمِيرُ لِامْرَأَتِهِ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ابْنَهَ بِفَتْحِ الْهَاءِ يُرِيدُ أَنَّ ابْنَهَا إِلَّا أَنَّهُمَا اكْتَفَيَا بِالْفَتْحَةِ عَنِ الْأَلِفِ، وَقَالَ قَتَادَةُ سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْهُ فَقَالَ: واللَّه مَا كَانَ ابْنَهُ فَقُلْتُ: إِنَّ اللَّه حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هُودٍ: 45] وَأَنْتَ تَقُولُ: مَا كَانَ ابْنًا لَهُ، فَقَالَ: لَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ مِنِّي وَلَكِنَّهُ قَالَ مِنْ أَهْلِي وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِي. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي امْرَأَةِ نُوحٍ وَامْرَأَةِ لُوطٍ فَخَانَتَاهُمَا وَهَذَا قَوْلٌ خَبِيثٌ يَجِبُ صَوْنُ مَنْصِبِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ هَذِهِ الْفَضِيحَةِ لَا سِيَّمَا وَهُوَ عَلَى خِلَافِ نَصِّ الْقُرْآنِ. أما قوله تعالى: فَخانَتاهُما فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ تِلْكَ الْخِيَانَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِالسَّبَبِ الَّذِي ذَكَرُوهُ. قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: مَا كَانَتْ تِلْكَ الْخِيَانَةُ، فَقَالَ: / كَانَتِ امْرَأَةُ نُوحٍ تَقُولُ: زَوْجِي مَجْنُونٌ، وَامْرَأَةُ لُوطٍ تَدُلُّ النَّاسَ عَلَى ضَيْفِهِ إِذَا نَزَلُوا بِهِ. ثُمَّ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْمَذْهَبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ [النُّورِ: 26] وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النُّورِ: 3] وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْحَقَّ هُوَ مَقُولُ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَكانَ فِي مَعْزِلٍ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَعْزِلَ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ: مَوْضِعٌ مُنْقَطِعٌ عَنْ غَيْرِهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْعَزْلِ، وَهُوَ التَّنْحِيَةُ وَالْإِبْعَادُ. تَقُولُ: كُنْتُ بِمَعْزِلٍ عَنْ كَذَا، أَيْ بِمَوْضِعٍ قَدْ عُزِلَ مِنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَكانَ فِي مَعْزِلٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي مَعْزِلٍ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرُوا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ فِي مَعْزِلٍ مِنَ السَّفِينَةِ لِأَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ الْجَبَلَ يَمْنَعُهُ مِنَ الْغَرَقِ. الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ فِي مَعْزِلٍ عَنْ أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ وَقَوْمِهِ: الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ فِي مَعْزِلٍ مِنَ الْكُفَّارِ كَأَنَّهُ انْفَرَدَ عَنْهُمْ فَظَنَّ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ أَحَبَّ مُفَارَقَتَهُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ فَنَقُولُ: قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ يَا بُنَيَّ بِفَتْحِ الْيَاءِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْوَجْهُ الْكَسْرُ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّامَ مِنِ ابْنٍ يَاءٌ أَوْ وَاوٌ فَإِذَا صَغَّرْتَ أَلْحَقْتَ يَاءَ التَّحْقِيرِ، فَلَزِمَ أَنْ تَرُدَّ اللَّامَ الْمَحْذُوفَةَ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تُحَرِّكَ يَاءَ التَّحْقِيرِ بِحَرَكَاتِ الْإِعْرَابِ لَكِنَّهَا لَا تُحَرَّكُ لِأَنَّهَا لَوْ حُرِّكَتْ لَزِمَ أَنْ تَنْقَلِبَ كَمَا تَنْقَلِبُ سَائِرُ حُرُوفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ إِذَا كَانَتْ حُرُوفَ إِعْرَابٍ، نَحْوُ عَصًا وَقَفًا وَلَوِ انْقَلَبَتْ بَطَلَتْ دَلَالَتُهَا عَلَى التَّحْقِيرِ ثُمَّ أَضَفْتَ إِلَى نفسك اجتمعت ثلاث آيات. الْأُولَى: مِنْهَا لِلتَّحْقِيرِ. وَالثَّانِيَةُ: لَامُ الْفِعْلِ. وَالثَّالِثَةُ: الَّتِي لِلْإِضَافَةِ تَقُولُ: هَذَا بُنَيَّ فَإِذَا نَادَيْتَهُ صَارَ فِيهِ وَجْهَانِ: إِثْبَاتُ الْيَاءِ وَحَذْفُهَا وَالِاخْتِيَارُ

حَذْفُ الْيَاءِ الَّتِي لِلْإِضَافَةِ وَإِبْقَاءُ الْكَسْرَةِ دَلَالَةً عَلَيْهِ نَحْوَ يَا غُلَامِ وَمَنْ قَرَأَ يَا بُنَيَّ بِفَتْحِ الْيَاءِ فَإِنَّهُ أَرَادَ الْإِضَافَةَ أَيْضًا كَمَا أَرَادَهَا مَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ لَكِنَّهُ أَبْدَلَ مِنَ الْكَسْرَةِ الْفَتْحَةَ وَمِنَ الْيَاءِ الْأَلِفَ تَخْفِيفًا فَصَارَ يَا بُنَيَّا كَمَا قَالَ: يَا ابْنَةَ عَمَّا لَا تَلُومِي وَاهْجَعِي ثُمَّ حَذَفَ الْأَلِفَ لِلتَّخْفِيفِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ دَعَاهُ إِلَى أَنْ يَرْكَبَ السَّفِينَةَ حَكَى عَنِ ابْنِهِ أَنَّهُ قَالَ: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِابْنَ كَانَ مُتَمَادِيًا فِي الْكُفْرِ مُصِرًّا عَلَيْهِ مُكَذِّبًا لِأَبِيهِ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُ فَعِنْدَ هَذَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي رَحِمَهُ اللَّه مَعْصُومٌ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ اسْتِثْنَاءُ الْمَعْصُومِ مِنَ الْعَاصِمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَذَكَرُوا فِي الْجَوَابِ طُرُقًا كَثِيرَةً. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [هود: 41] فَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى رَحِيمٌ وَأَنَّهُ بِرَحْمَتِهِ يُخَلِّصُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ رَكِبُوا السَّفِينَةَ مِنْ آفَةِ الْغَرَقِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ ابْنَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْطَأْتَ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَالْمَعْنَى: إِلَّا ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْتُ أَنَّهُ بِرَحْمَتِهِ يُخَلِّصُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْغَرَقِ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ عَذَابِ اللَّه إِلَّا اللَّه الرَّحِيمُ وَتَقْدِيرُهُ: لَا فِرَارَ مِنَ اللَّه إِلَّا إِلَى اللَّه، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دُعَائِهِ: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ» وَهَذَا تَأْوِيلٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ «حَلِّ الْعقدِ» أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ وَقَعَ مِنْ مُضْمَرٍ هُوَ فِي حُكْمِ الْمَلْفُوظِ لِظُهُورِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ لِأَحَدٍ مِنْ أَمْرِ اللَّه إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَهُوَ كَقَوْلِكَ لَا نَضْرِبُ الْيَوْمَ إِلَّا زَيْدًا، فَإِنَّ تَقْدِيرَهُ لَا تَضْرِبْ أَحَدًا إِلَّا زَيْدًا إِلَّا أَنَّهُ تَرَكَ التَّصْرِيحَ بِهِ لِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عليه فكذا هاهنا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي التَّأْوِيلِ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا عاصِمَ أَيْ لَا ذَا عِصْمَةٍ كَمَا قَالُوا: رَامِحٌ وَلَابِنٌ وَمَعْنَاهُ ذُو رُمْحٍ، وَذُو لَبَنٍ وقال تعالى: مِنْ ماءٍ دافِقٍ [الطارق: 6] وعِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21] ومعناه ما ذكرنا فكذا هاهنا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: الْعَاصِمُ هُوَ ذُو الْعِصْمَةِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَعْصُومُ، وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ مِنْهُ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ عَنَى بِقَوْلِهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ نَفْسَهُ، لِأَنَّ نُوحًا وَطَائِفَتَهُ هُمُ الَّذِينَ خَصَّهُمُ اللَّه تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ، وَالْمُرَادُ: لَا عَاصِمَ لَكَ إِلَّا اللَّه بِمَعْنَى أَنَّ بِسَبَبِهِ تَحْصُلُ رَحْمَةُ اللَّه، كَمَا أُضِيفَ الْإِحْيَاءُ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السلام في قوله: وَأُحْيِ الْمَوْتى [آلِ عِمْرَانَ: 49] لِأَجْلِ أَنَّ الْإِحْيَاءَ حَصَلَ بِدُعَائِهِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى لَكِنْ مَنْ رَحِمَ اللَّه مَعْصُومٌ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ [النِّسَاءِ: 157] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ أَيْ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحَيْلُولَةِ خَرَجَ مِنْ أن يخاطبه نوح فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ.

[سورة هود (11) : آية 44]

[سورة هود (11) : آية 44] وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَصْفٌ آخَرُ لِوَاقِعَةِ الطُّوفَانِ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ لَمَّا انْتَهَى أَمْرُ الطوفان قيل كذا وكذا يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ يُقَالُ بَلَعَ الْمَاءَ يَبْلَعُهُ بَلْعًا إِذَا شَرِبَهُ وَابْتَلَعَ الطَّعَامَ ابْتِلَاعًا إِذَا لَمْ يَمْضُغْهُ، وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْفَصِيحُ بَلِعَ بِكَسْرِ اللَّامِ يَبْلَعُ بِفَتْحِهَا وَيا سَماءُ أَقْلِعِي يُقَالُ أَقْلَعَ الرَّجُلُ عَنْ عَمَلِهِ إِذَا كَفَّ عَنْهُ، وأقلعت السماء بعد ما مَطَرَتْ إِذَا أَمْسَكَتْ وَغِيضَ الْماءُ يُقَالُ غَاضَ الْمَاءُ يَغِيضُ غَيْضًا وَمَغَاضًا إِذَا نَقَصَ وَغِضْتُهُ أَنَا وَهَذَا مِنْ بَابِ فَعَلَ الشَّيْءُ وَفَعَلْتُهُ أَنَا وَمِثْلُهُ جَبَرَ الْعَظْمُ وَجَبَرْتُهُ وَفَغَرَ الْفَمُ وَفَغَرْتُهُ، وَدَلَعَ اللِّسَانُ وَدَلَعْتُهُ، وَنَقَصَ الشَّيْءُ وَنَقَصْتُهُ، فَقَوْلُهُ: وَغِيضَ الْماءُ أَيْ نَقَصَ وَمَا بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا دَالٌّ عَلَى عَظَمَةِ اللَّه تَعَالَى وَعُلُوِّ كِبْرِيَائِهِ: فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: وَقِيلَ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْجَلَالِ وَالْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ، بِحَيْثُ أَنَّهُ مَتَى قِيلَ قِيلَ لَمْ يَنْصَرِفِ الْعَقْلُ إِلَّا إِلَيْهِ وَلَمْ يَتَوَجَّهِ الْفِكْرُ إِلَّا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ هُوَ هُوَ وَهَذَا تَنْبِيهٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، عَلَى أَنَّهُ تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ أَنَّهُ لَا حَاكِمَ فِي الْعَالَمِينَ وَلَا مُتَصَرِّفَ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ إِلَّا هو. وثانيها: قوله: يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي فَإِنَّ الْحِسَّ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ وَشِدَّتِهَا وَقُوَّتِهَا فَإِذَا شَعَرَ الْعَقْلُ بِوُجُودِ مَوْجُودٍ قَاهِرٍ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا مُتَصَرِّفٍ فِيهَا كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ، صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوفِ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى كَمَالِ جَلَالِ اللَّه تَعَالَى وَعُلُوِّ قَهْرِهِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ السماء والأرض من الجمادات فقوله: يا أَرْضُ وَيَا سَماءُ مُشْعِرٌ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ وَتَكْلِيفَهُ نَافِذٌ فِي الْجَمَادَاتِ فَعِنْدَ هَذَا يَحْكُمُ الْوَهْمُ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلِأَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ نَافِذًا عَلَى الْعُقَلَاءِ كَانَ أَوْلَى وَلَيْسَ مُرَادِي مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُ الْجَمَادَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ تَوْجِيهَ صِيغَةِ الْأَمْرِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ عَلَى هَذِهِ الْجَمَادَاتِ الْقَوِيَّةِ الشَّدِيدَةِ يُقَرِّرُ فِي الْوَهْمِ نَوْعَ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ تَقْرِيرًا كَامِلًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقُضِيَ الْأَمْرُ فَالْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي قَضَى بِهِ وَقَدَّرَهُ فِي الْأَزَلِ قَضَاءٌ جَزْمًا حَتْمًا فَقَدْ وَقَعَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا قَضَى اللَّه تَعَالَى فَهُوَ وَاقِعٌ فِي وَقْتِهِ وَأَنَّهُ لَا دَافِعَ لِقَضَائِهِ وَلَا مَانِعَ مِنْ نَفَاذِ حُكْمِهِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُغْرِقَ الْأَطْفَالَ بِسَبَبِ جُرْمِ الْكُفَّارِ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَعْقَمَ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ قَبْلَ الْغَرَقِ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً فَلَمْ يَغْرَقْ إِلَّا مَنْ بَلَغَ سِنُّهُ إِلَى الْأَرْبَعِينَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ، لَكَانَ ذَلِكَ آيَةً عَجِيبَةً قَاهِرَةً. وَيَبْعُدُ مَعَ ظُهُورِهَا اسْتِمْرَارُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّكُمْ ذَكَرْتُمْ مَا ذَكَرْتُمْ فَمَا قَوْلُكُمْ فِي إِهْلَاكِ الطَّيْرِ وَالْوَحْشِ مَعَ أَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا الْبَتَّةَ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: وَهُوَ الْحَقُّ أَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَى اللَّه تعالى في أفعاله لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 23] وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ تَعَالَى أَغْرَقَ الْأَطْفَالَ وَالْحَيَوَانَاتِ، وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى إِذْنِهِ تَعَالَى فِي ذَبْحِ هَذِهِ الْبَهَائِمِ وَفِي اسْتِعْمَالِهَا فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ الشَّدِيدَةِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ فَالْمَعْنَى وَاسْتَوَتِ السَّفِينَةُ عَلَى جَبَلٍ بِالْجَزِيرَةِ يُقَالُ لَهُ الْجُودِيُّ، وَكَانَ ذَلِكَ الْجَبَلُ جَبَلًا مُنْخَفِضًا، فَكَانَ اسْتِوَاءُ السَّفِينَةِ عَلَيْهِ دَلِيلًا عَلَى انْقِطَاعِ مَادَّةِ ذَلِكَ الْمَاءِ وَكَانَ ذَلِكَ الِاسْتِوَاءُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ اللَّعْنِ وَالطَّرْدِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَصْحَابِهِ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِمَّنْ يَسْلَمُ مِنَ الْأَمْرِ الْهَائِلِ بِسَبَبِ اجْتِمَاعِ قَوْمٍ من الظلمة فإذا هلكوا وَنَجَا مِنْهُمْ قَالَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ وَلِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ فَجَعْلُهُ مِنْ كَلَامِ البشر أليق. تم الجزء السابع عَشَرَ، وَيَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى الْجُزْءُ الثامن عشر وأوله قوله تعالى وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ من سورة هود. أعان اللَّه على إكماله

الجزء الثامن عشر

الجزء الثامن عشر [تتمة سورة هود] بسم اللَّه الرحمن الرحيم [سورة هود (11) : الآيات 45 الى 47] وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي فَقَدْ ذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ ابْنًا لَهُ أَمْ لَا فَلَا نُعِيدُهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّهُ قَالَ: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ كَانَ ابْنًا لَهُ وَجَبَ حَمْلُ قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينِكَ. وَالثَّانِي: الْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الَّذِينَ وَعَدْتُكَ أَنْ أُنَجِّيَهُمْ مَعَكَ وَالْقَوْلَانِ مُتَقَارِبَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِقَرَابَةِ الدِّينِ لَا بِقَرَابَةِ النَّسَبِ فَإِنَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ/ كَانَتْ قَرَابَةُ النَّسَبِ حَاصِلَةً مِنْ أَقْوَى الْوُجُوهِ وَلَكِنْ لَمَّا انْتَفَتْ قَرَابَةُ الدِّينِ لَا جَرَمَ نَفَاهُ اللَّه تَعَالَى بِأَبْلَغِ الْأَلْفَاظِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ قَرَأَ الكسائي: عمل على صيغة الفعل الماضي، وغير بِالنَّصْبِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ ابْنَكَ عَمِلَ عَمَلًا غَيْرَ صَالِحٍ يَعْنِي أَشْرَكَ وَكَذَّبَ، وَكَلِمَةُ غَيْرُ نَصْبٌ، لِأَنَّهَا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: عَمَلٌ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى السُّؤَالِ، يَعْنِي أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ عَمَلٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ غَيْرُ صَالِحٍ، لِأَنَّ طَلَبَ نَجَاةِ الْكَافِرِ بَعْدَ أَنْ سَبَقَ الْحُكْمُ، الْجَزْمُ بِأَنَّهُ لَا يُنَجِّي أَحَدًا مِنْهُمْ سُؤَالٌ بَاطِلٌ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هَذَا الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الِابْنِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ عَمَلًا غَيْرَ صَالِحٍ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَثُرَ عَمَلُهُ وَإِحْسَانُهُ يُقَالُ لَهُ: إِنَّهُ عِلْمٌ وَكَرَمٌ وُجُودٌ، فَكَذَا هاهنا لَمَّا كَثُرَ إِقْدَامُ ابْنِ نُوحٍ عَلَى الْأَعْمَالِ الْبَاطِلَةِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ عَمَلٌ بَاطِلٌ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ ذُو عَمَلٍ بَاطِلٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ أَيْ إِنَّهُ وَلَدُ زِنًا وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ قَطْعًا.

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَدَحَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قِرَاءَةَ عَمَلٌ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ قِرَاءَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ فَهِيَ مُحْكَمَةٌ، وَهَذَا يَقْتَضِي عَوْدَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ إِمَّا إِلَى ابْنِ نُوحٍ وَإِمَّا إِلَى ذَلِكَ السُّؤَالِ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى ابْنِ نُوحٍ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِإِضْمَارٍ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَلَا ضرورة هاهنا، لِأَنَّا إِذَا حَكَمْنَا بِعَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى السُّؤَالِ الْمُتَقَدِّمِ فَقَدِ اسْتَغْنَيْنَا عَنْ هَذَا الضَّمِيرِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى هَذَا السُّؤَالِ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ، أَيْ قَوْلُكَ: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي لِطَلَبِ نَجَاتِهِ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ كَانَ ذَنْبًا وَمَعْصِيَةً. الوجه الثاني: أن قوله: فَلا تَسْئَلْنِ نَهْيٌ لَهُ عَنِ السُّؤَالِ، وَالْمَذْكُورُ السَّابِقُ هُوَ قَوْلُهُ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ فَكَانَ ذَلِكَ السُّؤَالُ ذَنْبًا وَمَعْصِيَةً. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أن قوله: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السُّؤَالَ كَانَ قَدْ صَدَرَ لَا عَنِ الْعِلْمِ، وَالْقَوْلُ بِغَيْرِ الْعِلْمِ ذَنْبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: 169] . الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السُّؤَالَ/ كَانَ مَحْضَ الْجَهْلِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ التَّقْرِيعِ وَنِهَايَةِ الزَّجْرِ، وَأَيْضًا جَعْلُ الْجَهْلِ كِنَايَةً عَنِ الذَّنْبِ مَشْهُورٌ فِي الْقُرْآنِ. قَالَ تَعَالَى: يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ [النِّسَاءِ: 17] وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [الْبَقَرَةِ: 67] . الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ اعْتَرَفَ بِإِقْدَامِهِ عَلَى الذَّنْبِ وَالْمَعْصِيَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فإنه قال: إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ وَاعْتِرَافُهُ بِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُذْنِبًا. الْوَجْهُ السَّادِسُ: فِي التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ نُوحًا نَادَى رَبَّهُ لِطَلَبِ تَخْلِيصِ وَلَدِهِ مِنَ الْغَرَقِ، وَالْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَهِيَ قوله: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وقال: يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا تَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ مِنَ ابْنِهِ الْمُوَافَقَةَ. فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ طَلَبَ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ اللَّه كَانَ سَابِقًا عَلَى طَلَبِهِ مِنَ الْوَلَدِ أَوْ كَانَ بِالْعَكْسِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ طَلَبُ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ اللَّه تَعَالَى سَابِقًا عَلَى طَلَبِهِ مِنَ الِابْنِ لَكَانَ قَدْ سَمِعَ مِنَ اللَّه أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُخَلِّصُ ذَلِكَ الِابْنَ مِنَ الْغَرَقِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ الطلب، وبعد هذا كيف قال له: يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ هَذَا الطَّلَبَ مِنَ الِابْنِ كَانَ مُتَقَدِّمًا فَكَانَ قَدْ سَمِعَ مِنَ الِابْنِ قَوْلَهُ: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ وَظَهَرَ بِذَلِكَ كُفْرُهُ، فَكَيْفَ طَلَبَ مِنَ اللَّه تَخْلِيصَهُ، وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ نُوحًا لَمَّا طَلَبَ ذَلِكَ مِنْهُ وَامْتَنَعَ هُوَ صَارَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ فَكَيْفَ يَطْلُبُ مِنَ اللَّه تَخْلِيصَهُ مِنَ الْغَرَقِ بَعْدَ أَنْ صَارَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ السِّتَّةِ تَدَلُّ عَلَى صُدُورِ الْمَعْصِيَةِ مِنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ عَلَى وُجُوبِ تَنْزِيهِ اللَّه تَعَالَى الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنَ الْمَعَاصِي، وَجَبَ حَمْلُ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ وَالْأَكْمَلِ، وَحَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ حَصَلَ

هَذَا الْعِتَابُ وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى سَابِقَةِ الذَّنْبِ كَمَا قَالَ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النَّصْرِ: 1- 3] وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَجِيءَ نَصْرِ اللَّه وَالْفَتْحِ وَدُخُولَ النَّاسِ فِي دِينِ اللَّه أَفْوَاجًا لَيْسَتْ بِذَنْبٍ يُوجِبُ الِاسْتِغْفَارَ وَقَالَ تَعَالَى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [مُحَمَّدٍ: 19] وَلَيْسَ جَمِيعُهُمْ مُذْنِبِينَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ قَدْ يَكُونُ بِسَبَبِ تَرْكِ لأفضل. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ بِرِوَايَةِ وَرْشٍ وَإِسْمَاعِيلَ بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَإِثْبَاتِ الْيَاءِ تَسْأَلَنِّي وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ بِرِوَايَةِ قَالُونَ بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَكَسْرِهَا مِنْ غَيْرِ إِثْبَاتِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِتَخْفِيفِ/ النُّونِ وَكَسْرِهَا وَحَذْفِ الْيَاءِ تَسْأَلْنِ أَمَّا التَّشْدِيدُ فَلِلتَّأْكِيدِ وَأَمَّا إِثْبَاتُ الْيَاءِ فَعَلَى الْأَصْلِ، وَأَمَّا تَرْكُ التَّشْدِيدِ وَالْحَذْفُ فَلِلتَّخْفِيفِ مِنْ غَيْرِ إخلال. [في قوله تعالى رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ السؤال حكى عنه أَنَّهُ قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تعالى لما قال له: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ قَبِلْتُ يَا رَبِّ هَذَا التَّكْلِيفَ، وَلَا أعوذ إِلَيْهِ إِلَّا أَنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْهُ إِلَّا بِإِعَانَتِكَ وَهِدَايَتِكَ، فَلِهَذَا بَدَأَ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَعُوذُ بِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ إِخْبَارٌ عَمَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ لَا أَعُودُ إِلَى هَذَا الْعَمَلِ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالِاعْتِذَارِ عَمَّا مَضَى، فَقَالَ: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ وَحَقِيقَةُ التَّوْبَةِ تَقْتَضِي أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى التَّرْكِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَالثَّانِي: فِي الْمَاضِي وَهُوَ النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ وَنَخْتِمُ هَذَا الْكَلَامَ بِالْبَحْثِ عَنِ الزَّلَّةِ الَّتِي صَدَرَتْ عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ. فَنَقُولُ: إِنَّ أُمَّةَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ كَافِرٌ يَظْهَرُ كُفْرُهُ وَمُؤْمِنٌ يُعْلَمُ إِيمَانُهُ وَجَمْعٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ كَانَ حُكْمُ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ النَّجَاةُ وَحُكْمُ الْكَافِرِينَ هُوَ الْغَرَقُ، وَكَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا، وَأَمَّا أَهْلُ النِّفَاقِ فَبَقِيَ حُكْمُهُمْ مَخْفِيًّا وَكَانَ ابْنُ نُوحٍ مِنْهُمْ وَكَانَ يَجُوزُ فِيهِ كَوْنُهُ مُؤْمِنًا، وَكَانَتِ الشَّفَقَةُ الْمُفْرِطَةُ الَّتِي تَكُونُ مِنَ الْأَبِ فِي حَقِّ الِابْنِ تَحْمِلُهُ عَلَى حَمْلِ أَعْمَالِهِ وَأَفْعَالِهِ لَا عَلَى كَوْنِهِ كَافِرًا، بَلْ عَلَى الْوُجُوهِ الصَّحِيحَةِ، فَلَمَّا رَآهُ بِمَعْزِلٍ عَنِ الْقَوْمِ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَدْخُلَ السَّفِينَةَ فَقَالَ: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ ظَنَّ أَنَّ الصُّعُودَ عَلَى الْجَبَلِ يَجْرِي مَجْرَى الرُّكُوبِ فِي السَّفِينَةِ فِي أَنَّهُ يَصُونُهُ عَنِ الْغَرَقِ، وَقَوْلُ نُوحٍ: لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُقَرِّرُ عِنْدَ ابْنِهِ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ إِلَّا الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَهَذَا أَيْضًا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ مِنَ ابْنِهِ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا فَعِنْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ كَانَ قَدْ بَقِيَ فِي قَلْبِهِ ظَنُّ أَنَّ ذَلِكَ الِابْنَ مُؤْمِنٌ، فَطَلَبَ مِنَ اللَّه تَعَالَى تَخْلِيصَهُ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ إِمَّا بِأَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ الدُّخُولِ فِي السَّفِينَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَحْفَظَهُ عَلَى قُلَّةِ جَبَلٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخْبَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ مُنَافِقٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ، فَالزَّلَّةُ الصَّادِرَةُ عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَقْصِ فِي تَعْرِيفِ مَا يَدُلُّ عَلَى نِفَاقِهِ وَكُفْرِهِ، بَلِ اجْتَهَدَ فِي ذَلِكَ وَكَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، مَعَ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّهُ كَانَ كَافِرًا فَلَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ إِلَّا الْخَطَأُ فِي هَذَا الِاجْتِهَادِ، كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ تَصْدُرْ عَنْهُ تِلْكَ الزَّلَّةُ إِلَّا لِأَنَّهُ أَخْطَأَ فِي هَذَا الِاجْتِهَادِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّادِرَ عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ مِنْ بَابِ الْكَبَائِرِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ باب الخطأ في الاجتهاد، واللَّه أعلم.

[سورة هود (11) : آية 48]

[سورة هود (11) : آية 48] قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ السَّفِينَةِ أَنَّهَا اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ، فَهُنَاكَ قَدْ خَرَجَ نُوحٌ وَقَوْمُهُ مِنَ السَّفِينَةِ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ نَزَلُوا مِنْ ذَلِكَ الْجَبَلِ إِلَى الْأَرْضِ فَقَوْلُهُ: اهْبِطْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِالْخُرُوجِ مِنَ السَّفِينَةِ إِلَى أَرْضِ الْجَبَلِ وَأَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِالْهُبُوطِ مِنَ الْجَبَلِ إِلَى الْأَرْضِ الْمُسْتَوِيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ بِالسَّلَامَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِالْبَرَكَةِ ثَانِيًا، أَمَّا الْوَعْدُ بِالسَّلَامَةِ فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ تَابَ عَنْ زَلَّتِهِ وَتَضَرَّعَ إِلَى اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ [هود: 47] وَهَذَا التَّضَرُّعُ هُوَ عَيْنُ التَّضَرُّعِ الَّذِي حَكَاهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ تَوْبَتِهِ مِنْ زَلَّتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الْأَعْرَافِ: 23] فَكَانَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُحْتَاجًا إِلَى أَنْ بَشَّرَهُ اللَّه تَعَالَى بِالسَّلَامَةِ من التهديد والوعيد فلما قيل له: يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا حَصَلَ لَهُ الْأَمْنُ مِنْ جَمِيعِ الْمَكَارِهِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدِّينِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْغَرَقَ لَمَّا كَانَ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ فعند ما خَرَجَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ السَّفِينَةِ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنَ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، فَكَانَ كَالْخَائِفِ فِي أَنَّهُ كَيْفَ يَعِيشُ وَكَيْفَ يَدْفَعُ جَمِيعَ الْحَاجَاتِ عَنْ نَفْسِهِ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، فَلَمَّا قَالَ اللَّه تَعَالَى: اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا زَالَ عَنْهُ ذَلِكَ الْخَوْفُ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ السَّلَامَةِ مِنَ الْآفَاتِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا مَعَ الْأَمْنِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَهُ بِالسَّلَامَةِ أَرْدَفَهُ بِأَنْ وَعَدَهُ بِالْبَرَكَةِ هي عِبَارَةٌ عَنِ الدَّوَامِ وَالْبَقَاءِ، وَالثَّبَاتِ، وَنِيلِ الْأَمَلِ، وَمِنْهُ بُرُوكُ الْإِبِلِ، وَمِنْهُ الْبِرْكَةُ لِثُبُوتِ الْمَاءِ فِيهَا، وَمِنْهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَيْ ثَبَتَ تَعْظِيمُهُ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الثَّبَاتِ وَالْبَقَاءِ. فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى صَيَّرَ نُوحًا أَبَا الْبَشَرِ، لِأَنَّ جَمِيعَ مَنْ بَقِيَ كَانُوا مِنْ نَسْلِهِ وَعِنْدَ هَذَا/ قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: إِنَّهُ لَمَّا خَرَجَ نُوحٌ مِنَ السَّفِينَةِ مَاتَ كُلُّ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَلَمْ يَحْصُلِ النَّسْلُ إِلَّا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، فَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ مِنْ نَسْلِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يَكُنْ فِي سَفِينَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْ نَسْلِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ إِنَّمَا تَوَلَّدُوا مِنْهُ وَمِنْ أَوْلَادِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [الصَّافَّاتِ: 77] فَثَبَتَ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ آدَمَ الْأَصْغَرَ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْبَرَكَاتِ الَّتِي وَعَدَهُ اللَّه بِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَهُ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْآفَاتِ، وَعَدَهُ بِأَنَّ مُوجِبَاتِ السَّلَامَةِ، وَالرَّاحَةِ وَالْفَرَاغَةِ يَكُونُ فِي التَّزَايُدِ وَالثَّبَاتِ وَالِاسْتِقْرَارِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَّفَهُ بِالسَّلَامَةِ وَالْبَرَكَةِ شَرَحَ بَعْدَهُ حَالَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فَقَالَ: وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ نَجَوْا مَعَهُ وَجَعَلَهُمْ أُمَمًا وَجَمَاعَاتٍ، لِأَنَّهُ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ إِلَّا هُمْ، فَلِهَذَا السَّبَبِ جَعَلَهُمْ أُمَمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْمُرَادُ مِمَّنْ مَعَكَ نَسْلًا وَتَوَلُّدًا قَالُوا: وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَا كَانَ مَعَهُ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَقَدْ حَكَمَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِالْقِلَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هُودٍ: 40] وَمِنْهُمْ مَنْ

[سورة هود (11) : آية 49]

قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ مَجْمُوعُ الْحَاضِرِينَ مَعَ الَّذِينَ سَيُولَدُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْمُخْتَارُ هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي: وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِمَّنْ مَعَكَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالْمَعْنَى: وَعَلَى أُمَمٍ نَاشِئَةٍ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ تِلْكَ الْأُمَمَ النَّاشِئَةَ مِنَ الَّذِينَ مَعَهُ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِينَ عَطَفَهُمْ عَلَى نُوحٍ فِي وُصُولِ سَلَامِ اللَّه وَبَرَكَاتِهِ إِلَيْهِمْ وَهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ. وَالثَّانِي: أُمَمٌ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُ تَعَالَى سَيُمَتِّعُهُمْ مُدَّةً فِي الدُّنْيَا ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ يَمَسُّهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، فَحَكَمَ تَعَالَى بِأَنَّ الْأُمَمَ النَّاشِئَةَ مِنَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْقَسِمُوا إِلَى مُؤْمِنٍ وَإِلَى كَافِرٍ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: دَخَلَ فِي تِلْكَ السَّلَامَةِ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَكُلُّ مُؤْمِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْمَتَاعِ وَفِي ذَلِكَ الْعَذَابِ كُلُّ كَافِرٍ وَكَافِرَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا عَظَّمَ شَأْنَ نُوحٍ بِإِيصَالِ السَّلَامَةِ وَالْبَرَكَاتِ مِنْهُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَالَ: بِسَلامٍ مِنَّا وهدا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصِّدِّيقِينَ لَا يَفْرَحُونَ بِالنِّعْمَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا نِعْمَةٌ وَلَكِنَّهُمْ إِنَّمَا يَفْرَحُونَ بِالنِّعْمَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مِنَ الْحَقِّ، وَفِي التَّحْقِيقِ يَكُونُ فَرَحُهُمْ بِالْحَقِّ وَطَلَبُهُمْ لِلْحَقِّ وَتَوَجُّهُهُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَهَذَا مَقَامٌ شَرِيفٌ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا خَوَاصُّ اللَّه تَعَالَى، فَإِنَّ الْفَرَحَ بِالسَّلَامَةِ والبركة مِنْ حَيْثُ هُمَا سَلَامَةٌ وَبَرَكَةٌ غَيْرٌ، وَالْفَرَحُ بِالسَّلَامَةِ وَالْبَرَكَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمَا مِنَ الْحَقِّ غَيْرٌ، وَالْأَوَّلُ: نَصِيبُ عَامَّةِ الْخَلْقِ، وَالثَّانِي: نَصِيبُ الْمُقَرَّبِينَ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ آثَرَ الْعِرْفَانَ لِلْعِرْفَانِ فَقَدْ قَالَ بِالثَّانِي، وَمَنْ آثَرَ الْعِرْفَانَ لَا لِلْعِرْفَانِ بَلْ لِلْمَعْرُوفِ فَقَدْ خَاضَ لُجَّةَ/ الْوُصُولِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعِقَابِ فَقَدْ قَالَ فِي شَرْحِ أَحْوَالِهِمْ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ فَحَكَمَ بِأَنَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِمْ نَصِيبًا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى خَسَاسَةِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَذْكُرْ أَلْبَتَّةَ أَنَّهُ يُعْطِيهِمُ الدُّنْيَا أَمْ لَا. وَلَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْكَافِرِينَ ذَكَرَ أَنَّهُ يُعْطِيهِمُ الدُّنْيَا، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَظِيمٌ عَلَى خَسَاسَةِ السَّعَادَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الْمَقَامَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ. [سورة هود (11) : آية 49] تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ قِصَّةَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى التَّفْصِيلِ قَالَ: تِلْكَ أَيْ تِلْكَ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَتِلْكَ التَّفَاصِيلُ الَّتِي شَرَحْنَاهَا مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ، أَيْ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي كَانَتْ غَائِبَةً عَنِ الْخَلْقِ فَقَوْلُهُ: تِلْكَ فِي مَحَلِّ الرفع على الابتداء، ومِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ الخبر ونُوحِيها إِلَيْكَ خَبَرٌ ثَانٍ وَمَا بَعْدَهُ أَيْضًا خَبَرٌ ثَالِثٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ مَا كُنْتَ تَعْرِفُ هَذِهِ الْقِصَّةَ، بَلْ قَوْمُكَ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَهَا أَيْضًا، وَنَظِيرُهُ أَنْ تَقُولَ لِإِنْسَانٍ لَا تَعْرِفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَا أَنْتَ وَلَا أَهْلُ بَلَدِكَ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ كَانَتْ قِصَّةُ طُوفَانِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَشْهُورَةً عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ؟ قُلْنَا: تِلْكَ الْقِصَّةُ بِحَسْبِ الْإِجْمَالِ كَانَتْ مَشْهُورَةً، أَمَّا التَّفَاصِيلُ الْمَذْكُورَةُ فَمَا كَانَتْ مَعْلُومَةً. ثُمَّ قَالَ: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ وَالْمَعْنَى: يَا مُحَمَّدُ اصْبِرْ أَنْتَ وَقَوْمُكَ عَلَى أَذَى هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ كَمَا صَبَرَ نُوحٌ وَقَوْمُهُ عَلَى أَذَى أُولَئِكَ الْكُفَّارِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ عَاقِبَتُهُ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ وَالْفَرَحُ وَالسُّرُورُ كَمَا كَانَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِقَوْمِهِ.

[سورة هود (11) : الآيات 50 إلى 51]

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي سُورَةِ يُونُسَ ثُمَّ إِنَّهُ أَعَادَهَا هاهنا مَرَّةً أُخْرَى، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّكْرِيرِ؟ قُلْنَا: إِنَّ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ قَدْ يُنْتَفَعُ بِهَا مِنْ وُجُوهٍ: فَفِي السُّورَةِ الْأُولَى كَانَ الْكُفَّارُ يَسْتَعْجِلُونَ نُزُولَ الْعَذَابِ، فَذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ نُوحٍ فِي بَيَانِ أَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ بِسَبَبِ أَنَّ الْعَذَابَ مَا كَانَ يَظْهَرُ/ ثُمَّ فِي الْعَاقِبَةِ ظَهَرَ فَكَذَا فِي وَاقِعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ لِأَجْلِ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُبَالِغُونَ فِي الْإِيحَاشِ، فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْقِصَّةَ لِبَيَانِ أَنَّ إِقْدَامَ الْكُفَّارِ عَلَى الْإِيذَاءِ وَالْإِيحَاشِ كَانَ حَاصِلًا فِي زَمَانِ نُوحٍ، إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا صَبَرَ نَالَ الْفَتْحَ وَالظَّفَرَ، فَكُنْ يَا مُحَمَّدُ كَذَلِكَ لِتَنَالَ الْمَقْصُودَ، وَلَمَّا كَانَ وَجْهُ الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ فِي كُلِّ سُورَةٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ تَكْرِيرُهَا خاليا عن الفائدة. [سورة هود (11) : الآيات 50 الى 51] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْقِصَصِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا معطوف على قوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً [الحديد: 26] وَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا وَقَوْلُهُ: هُوداً عَطْفُ بَيَانٍ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هُودًا بِأَنَّهُ أَخُوهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تِلْكَ الْأُخُوَّةَ مَا كَانَتْ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ فِي النَّسَبِ، لِأَنَّ هُودًا كَانَ رَجُلًا مِنْ قَبِيلَةِ عَادٍ، وَهَذِهِ الْقَبِيلَةُ كَانَتْ قَبِيلَةً مِنَ الْعَرَبِ وَكَانُوا بِنَاحِيَةِ الْيَمَنِ، وَنَظِيرُهُ مَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ يَا أَخَا تَمِيمٍ وَيَا أَخَا سُلَيْمٍ، وَالْمُرَادُ رَجُلٌ مِنْهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى، قَالَ فِي ابْنِ نُوحٍ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود: 46] فَبَيَّنَ أَنَّ قَرَابَةَ النِّسَبِ لَا تُفِيدُ إِذَا لم تحصل قرابة الدين، وهاهنا أَثْبَتَ هَذِهِ الْأُخُوَّةَ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ اسْتِمَالَةُ قَوْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا يَسْتَبْعِدُونَ فِي مُحَمَّدٍ مَعَ أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ قَبِيلَتِهِمْ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا إِلَيْهِمْ مِنْ عِنْدِ اللَّه، فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ هُودًا كَانَ وَاحِدًا مِنْ عَادٍ وَأَنَّ صَالِحًا كَانَ وَاحِدًا مِنْ ثَمُودَ لِإِزَالَةِ هَذَا الِاسْتِبْعَادِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى أَنْوَاعٍ مِنَ التَّكَالِيفِ. فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ دَعَاهُمْ إلى التوحيد، فَقَالَ: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ/ إِلَّا مُفْتَرُونَ وَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى قَبْلَ أَنْ أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى ثُبُوتِ الْإِلَهِ تَعَالَى؟ قُلْنَا: دَلَائِلُ وُجُودِ اللَّه تَعَالَى ظَاهِرَةٌ، وَهِيَ دَلَائِلُ الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ وَقَلَّمَا تُوجَدُ فِي الدُّنْيَا طَائِفَةٌ يُنْكِرُونَ وُجُودَ الْإِلَهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ. قَالَ مُصَنِّفُ هَذَا الْكِتَابِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِيُّ رحمه اللَّه وختم له بالحسن، دَخَلْتُ بِلَادَ الْهِنْدِ فَرَأَيْتُ

[سورة هود (11) : آية 52]

أُولَئِكَ الْكُفَّارَ مُطْبِقِينَ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِوُجُودِ الْإِلَهِ، وَأَكْثَرُ بِلَادِ التُّرْكِ أَيْضًا كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَإِنَّهَا آفَةٌ عَمَّتْ أَكْثَرَ أَطْرَافِ الْأَرْضِ وَهَكَذَا الْأَمْرُ كَانَ فِي الزَّمَانِ الْقَدِيمِ، أَعْنِي زَمَانَ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَهَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّه وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، كانوا يمنعونهم من عبادة الأصنام، فكان قوله: اعْبُدُوا اللَّهَ مَعْنَاهُ لَا تَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّه وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ عَقِيبَهُ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مَنْعُهُمْ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فقرىء غَيْرُهُ بِالرَّفْعِ صِفَةً عَلَى مَحَلِّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَقُرِئَ بِالْجَرِّ صِفَةً عَلَى اللَّفْظِ. ثُمَّ قَالَ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ يَعْنِي أَنَّكُمْ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِكُمْ إِنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ تَحْسُنُ عِبَادَتُهَا، أَوْ فِي قَوْلِكُمْ إِنَّهَا تَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ هَذَا كَذِبًا وَافْتِرَاءً وَهِيَ جَمَادَاتٌ لَا حِسَّ لَهَا وَلَا إِدْرَاكَ، وَالْإِنْسَانُ هُوَ الَّذِي رَكَّبَهَا وَصَوَّرَهَا فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْإِنْسَانِ الَّذِي صَنَعَهَا أَنْ يَعْبُدَهَا وَأَنْ يَضَعَ الْجَبْهَةَ عَلَى التُّرَابِ تَعْظِيمًا لَهَا، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَرْشَدَهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَمَنَعَهُمْ عَنْ عبادة الأوثان قال: ويا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي وَهُوَ عَيْنُ مَا ذَكَرَهُ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّه تَعَالَى إِذَا كَانَتْ مُطَهَّرَةً عَنْ دَنَسِ الطَّمَعِ، قَوِيَ تَأْثِيرُهَا فِي الْقَلْبِ. ثُمَّ قَالَ: أَفَلا تَعْقِلُونَ يَعْنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنِّي مُصِيبٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ هَذَا الْمَنْعِ، كَأَنَّهُ مَرْكُوزٌ فِي بَدَائِهِ الْعُقُولِ. [سورة هود (11) : آية 52] وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ التَّكَالِيفِ الَّتِي ذَكَرَهَا هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَفِي هَذَا الْمَقَامِ دَعَاهُمْ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ ثُمَّ إِلَى التَّوْبَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: اسْتَغْفِرُوا: أَيْ سَلُوهُ أَنْ يَغْفِرَ لَكُمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ شِرْكِكُمْ ثُمَّ تُوبُوا مِنْ بَعْدِهِ بِالنَّدَمِ عَلَى ما مضى وبالعزم على أن لا تعدوا إِلَى مِثْلِهِ ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِنَّكُمْ مَتَى فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فاللَّه تَعَالَى يُكْثِرُ النِّعَمَ عِنْدَكُمْ وَيُقَوِّيكُمْ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِتِلْكَ النِّعَمِ» وَهَذَا غَايَةُ مَا يُرَادُ مِنَ السَّعَادَاتِ، فَإِنَّ النِّعَمَ إِنْ لَمْ تَكُنْ حَاصِلَةً تَعَذَّرَ الِانْتِفَاعُ وَإِنْ كَانَتْ حَاصِلَةً، إِلَّا أَنَّ الْحَيَوَانَ قَامَ بِهِ الْمَنْعُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا لَمْ يَحْصُلِ الْمَقْصُودُ أَيْضًا، أَمَّا إِذَا كَثُرَتِ النِّعْمَةُ وَحَصَلَتِ الْقُوَّةُ الْكَامِلَةُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهَا، فَهَهُنَا تَحْصُلُ غَايَةُ السَّعَادَةِ وَالْبَهْجَةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً إِشَارَةٌ إِلَى تَكْثِيرِ النِّعَمِ لِأَنَّ مَادَّةَ حُصُولِ النِّعَمِ هِيَ الْأَمْطَارُ الْمُوَافِقَةُ، وَقَوْلُهُ: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ حَالِ الْقُوَى الَّتِي بِهَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِتِلْكَ النِّعْمَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ جَامِعَةٌ فِي الْبِشَارَةِ بِتَحْصِيلِ السِّعَادَاتِ وَأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا مُمْتَنِعَةٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ، وَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِي هَذِهِ اللَّطَائِفِ لِيَعْرِفَ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ مِنَ الْأَسْرَارِ الْمَخْفِيَّةِ، وَأَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا الْقَوْمُ كَانُوا مَخْصُوصِينَ فِي الدُّنْيَا بِنَوْعَيْنِ مِنَ الْكَمَالِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَسَاتِينَهُمْ وَمَزَارِعَهُمْ كَانَتْ فِي غَايَةِ الطِّيبِ وَالْبَهْجَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ [الْفَجْرِ: 7، 8] وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَالْبَطْشِ وَلِذَلِكَ قَالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فُصِّلَتْ: 15] ، وَلَمَّا كَانَ الْقَوْمُ مُفْتَخِرِينَ عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ

[سورة هود (11) : الآيات 53 إلى 56]

بِهَذَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَعَدَهُمْ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَاشْتَغَلُوا بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يُقَوِّي حَالَهُمْ فِي هَذَيْنِ الْمَطْلُوبَيْنِ وَيَزِيدُهُمْ فِيهَا دَرَجَاتٍ كَثِيرَةً، وَنُقِلَ أَيْضًا أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا بَعَثَ هُودًا عَلَيْهِ السلام إليهم وكذبوه وَحَبَسَ اللَّه عَنْهُمُ الْمَطَرَ سِنِينَ وَأَعْقَمَ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ فَقَالَ لَهُمْ هُودٌ: إِنْ آمَنْتُمْ باللَّه أَحْيَا اللَّه بِلَادَكُمْ وَرَزَقَكُمُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَالْمِدْرَارُ الْكَثِيرُ الدَّرِّ وَهُوَ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ وَقَوْلُهُ: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ فَفَسَّرُوا هَذِهِ الْقُوَّةَ بِالْمَالِ والولد، والشدة في الأعضاء، لأن كل ذلكم ما يَتَقَوَّى بِهِ الْإِنْسَانُ. فَإِنْ قِيلَ: حَاصِلُ الْكَلَامِ هُوَ أَنَّ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لَوِ اشْتَغَلْتُمْ بِعِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى لَانْفَتَحَتْ عَلَيْكُمْ أَبْوَابُ الْخَيْرَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «خُصَّ الْبَلَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ الْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ» فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَأَيْضًا فَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَاتِ بِسَبَبِ تَرْتِيبِ الْخَيْرَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ عَلَيْهَا، فَأَمَّا التَّرْغِيبُ فِي الطَّاعَاتِ، لِأَجْلِ تَرْتِيبِ الْخَيْرَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَيْهَا، فَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْقُرْآنِ بَلْ هُوَ طَرِيقٌ مَذْكُورٌ فِي التَّوْرَاةِ. الْجَوَابُ: أَنَّهُ لَمَّا أَكْثَرَ التَّرْغِيبَ فِي السَّعَادَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ لَمْ يُبْعِدِ التَّرْغِيبَ أَيْضًا فِي خَيْرِ الدُّنْيَا بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ فَمَعْنَاهُ: لَا تُعْرِضُوا عَنِّي وَعَمَّا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ وَأُرَغِّبُكُمْ فِيهِ مُجْرِمِينَ أَيْ مُصِرِّينَ عَلَى إِجْرَامِكُمْ وَآثَامِكُمْ. [سورة هود (11) : الآيات 53 الى 56] قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا ذَكَرَهُ لِلْقَوْمِ، حَكَى أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ الْقَوْمُ لَهُ وَهُوَ أَشْيَاءُ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُمْ: مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ أَيْ بِحُجَّةٍ، وَالْبَيِّنَةُ سُمِّيَتْ بَيِّنَةً لِأَنَّهَا تُبَيِّنُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ أَظْهَرَ الْمُعْجِزَاتِ إِلَّا أَنَّ الْقَوْمَ بِجَهْلِهِمْ أَنْكَرُوهَا، وَزَعَمُوا أَنَّهُ مَا جَاءَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُمْ: وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَهَذَا أَيْضًا رَكِيكٌ، لِأَنَّهُمْ/ كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ النَّافِعَ وَالضَّارَّ هُوَ اللَّه تَعَالَى وَأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ ظَهَرَ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ عِبَادَتُهَا وَتَرْكُهُمْ آلِهَتَهُمْ لَا يَكُونُ عَنْ مُجَرَّدِ قَوْلِهِ بَلْ عَنْ حُكْمِ نَظَرِ الْعَقْلِ وَبَدِيهَةِ النفس. وثالثها: قوله: وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْإِصْرَارِ وَالتَّقْلِيدِ وَالْجُحُودِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُمْ: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ يُقَالُ: اعْتَرَاهُ كَذَا إِذَا غَشِيَهُ وَأَصَابَهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ شَتَمْتَ آلِهَتَنَا فَجَعَلَتْكَ مَجْنُونًا وَأَفْسَدَتْ عَقْلَكَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا ذَلِكَ قَالَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ. ثُمَّ قَالَ: فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ وَهَذَا نَظِيرُ مَا قَالَهُ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لقومه: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ إلى قوله: وَلا تُنْظِرُونِ [يونس: 71] .

[سورة هود (11) : آية 57]

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مُعْجِزَةٌ قَاهِرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ الْوَاحِدَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ الْعَظِيمِ وَقَالَ لَهُمْ: بَالِغُوا فِي عَدَاوَتِي وَفِي مُوجِبَاتِ إِيذَائِي، وَلَا تُؤَجِّلُونِ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ هَذَا إِلَّا إِذَا كَانَ وَاثِقًا مِنْ عِنْدِ اللَّه تعالى بأنه يحفظه ويصونه عن كمد الْأَعْدَاءِ. ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: النَّاصِيَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ مَنْبَتُ الشَّعْرِ فِي مُقَدَّمِ الرَّأْسِ وَيُسَمَّى الشِّعْرُ النَّابِتُ هُنَاكَ نَاصِيَةً بَاسِمِ مَنْبَتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا وَصَفُوا إِنْسَانًا بِالذِّلَّةِ وَالْخُضُوعِ قَالُوا: مَا نَاصِيَةُ فُلَانٍ إِلَّا بِيَدِ فُلَانٍ، أَيْ أَنَّهُ مُطِيعٌ لَهُ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَخَذْتَ بِنَاصِيَتِهِ فَقَدْ قَهَرْتَهُ، وَكَانُوا إِذَا أَسَرُوا الْأَسِيرَ فَأَرَادُوا إِطْلَاقَهُ وَالْمَنَّ عَلَيْهِ جَزُّوا نَاصِيَتَهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ عَلَامَةً لِقَهْرِهِ فَخُوطِبُوا فِي الْقُرْآنِ بِمَا يَعْرِفُونَ فَقَوْلُهُ: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها أَيْ مَا مِنْ حَيَوَانٍ إِلَّا وَهُوَ تَحْتَ قَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَمُنْقَادٌ لِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها أَشْعَرَ ذَلِكَ بِقُدْرَةٍ عَالِيَةٍ وَقَهْرٍ عَظِيمٍ فَأَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَيْ إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِمْ لَكِنَّهُ لَا يَظْلِمُهُمْ وَلَا يَفْعَلُ بِهِمْ إِلَّا مَا هُوَ الْحَقُّ وَالْعَدْلُ وَالصَّوَابُ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها يَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يَدُلُّ عَلَى الْعَدْلِ، فَثَبَتَ أَنَّ الدين إنما يتم بالتوحيد والعدل. الثاني: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ سُلْطَانَهُ قَهَرَ جَمِيعَ الْخَلْقِ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مُسْتَتِرٌ، وَلَا يَفُوتُهُ هَارِبٌ، فَذَكَرَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَهُوَ يَعْنِي بِهِ الطَّرِيقَ الَّذِي لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مَسْلَكٌ إِلَّا عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الْفَجْرِ: 14] الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنَّ رَبِّي يَدُلُّ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، أَيْ يحث، أو يحملكم بالدعاء إليه. [سورة هود (11) : آية 57] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا يَعْنِي فَإِنْ تَتَوَلَّوْا ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فَإِنْ تَتَوَلَّوْا لَمْ أُعَاتَبْ عَلَى تَقْصِيرٍ فِي الْإِبْلَاغِ وَكُنْتُمْ مَحْجُوبِينَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَنْتُمُ الَّذِينَ أَصْرَرْتُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ. الثَّانِي: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ. ثُمَّ قَالَ: وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ يَعْنِي يَخْلُقُ بَعْدَكُمْ مَنْ هُوَ أَطْوَعُ للَّه مِنْكُمْ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى نُزُولِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا، يَعْنِي أَنَّ إِهْلَاكَكُمْ لَا يُنْقِصُ مِنْ مُلْكِهِ شَيْئًا. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: حَفِيظٌ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ حَتَّى يُجَازِيَهُمْ عَلَيْهَا. الثَّانِي: يَحْفَظُنِي مِنْ شَرِّكُمْ وَمَكْرِكُمْ. الثَّالِثُ: حَفِيظٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَحْفَظُهُ مِنَ الْهَلَاكِ إِذَا شَاءَ وَيُهْلِكُهُ إذا شاء. [سورة هود (11) : الآيات 58 الى 60] وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)

اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أَيْ عَذَابُنَا وَذَلِكَ هُوَ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الرِّيحِ الْعَقِيمِ عَذَّبَهُمُ اللَّه بِهَا سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، تَدْخُلُ فِي مَنَاخِرِهِمْ وَتَخْرُجُ مِنْ أَدْبَارِهِمْ وَتَصْرَعُهُمْ عَلَى الْأَرْضِ عَلَى وُجُوهِهِمْ حَتَّى صَارُوا كَأَعْجَازِ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الرِّيحُ كَيْفَ تُؤَثِّرُ فِي إِهْلَاكِهِمْ؟ قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ حَرِّهَا أَوْ لِشِدَّةِ بَرْدِهَا أَوْ لِشَدِّهِ قُوَّتِهَا، فَتَخْطَفُ الْحَيَوَانَ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ تَضْرِبُهُ عَلَى الْأَرْضِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: نَجَّيْنا هُوداً فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ إِتْيَانُ الْبَلِيَّةِ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَعَلَى الْكَافِرِ مَعًا، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ تِلْكَ الْبَلِيَّةُ رَحْمَةً عَلَى الْمُؤْمِنِ وَعَذَابًا عَلَى الْكَافِرِ، فَأَمَّا الْعَذَابُ النَّازِلُ بِمَنْ يُكَذِّبُ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي حِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُنَجِّيَ الْمُؤْمِنَ مِنْهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عُرِفَ كَوْنُهُ عَذَابًا عَلَى كُفْرِهِمْ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ اللَّه تَعَالَى هاهنا: نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِرَحْمَةٍ مِنَّا فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَنْجُو أَحَدٌ وَإِنِ اجْتَهَدَ فِي الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ إِلَّا بِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّه، وَالثَّانِي: الْمُرَادُ مِنَ الرَّحْمَةِ: مَا هَدَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ باللَّه وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ رَحِمَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَمَيَّزَهُمْ عَنِ الْكَافِرِينَ فِي الْعِقَابِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ فَالْمُرَادُ مِنَ النَّجَاةِ الْأُولَى هِيَ النَّجَاةُ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَالنَّجَاةُ الثَّانِيَةِ مِنْ عَذَابِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ غَلِيظًا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَذَابِ الَّذِي وَقَعُوا فِيهِ كَانَ عَذَابًا غَلِيظًا، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَجَّيْناهُمْ أَيْ حَكَمْنَا بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ الْعَذَابَ الْغَلِيظَ وَلَا يَقَعُونَ فِيهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ عَادٍ خَاطَبَ قَوْمَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: وَتِلْكَ عادٌ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى قُبُورِهِمْ وَآثَارِهِمْ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا إِلَيْهَا وَاعْتَبِرُوا. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ أَوْصَافَهُمْ ثُمَّ ذَكَرَ عَاقِبَةَ أَحْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَأَمَّا أَوْصَافُهُمْ فَهِيَ ثَلَاثَةٌ. الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَالْمُرَادُ: جَحَدُوا دَلَالَةَ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى الصِّدْقِ، أَوِ الْجَحَدِ، وَدَلَالَةَ الْمُحْدَثَاتِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ، إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا زَنَادِقَةً. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُمْ إِذَا عَصَوْا رَسُولًا وَاحِدًا، فَقَدْ عَصَوْا جَمِيعَ الرُّسُلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الْبَقَرَةِ: 285] وَقِيلَ: لَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِمْ إِلَّا هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ السَّفَلَةَ كَانُوا يُقَلِّدُونَ الرُّؤَسَاءَ فِي قَوْلِهِمْ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الْمُؤْمِنُونَ: 24] وَالْمُرَادُ مِنَ الْجَبَّارِ الْمُرْتَفِعُ الْمُتَمَرِّدُ الْعَنِيدُ الْعَنُودُ وَالْمُعَانِدُ، وَهُوَ الْمُنَازِعُ الْمَعَارِضُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَوْصَافَهُمْ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَحْوَالَهُمْ فَقَالَ: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ

[سورة هود (11) : الآيات 61 إلى 62]

الْقِيامَةِ أَيْ جُعِلَ اللَّعْنُ رَدِيفًا لَهُمْ، وَمُتَابِعًا وَمُصَاحِبًا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَمَعْنَى اللَّعْنَةِ الْإِبْعَادُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّه تَعَالَى وَمِنْ كُلِّ خَيْرٍ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ السَّبَبَ الْأَصْلِيَّ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْمَكْرُوهَةِ بِهِمْ فَقَالَ: أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ قِيلَ: أَرَادَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ فَحُذِفَ الْبَاءُ، وَقِيلَ: الْكُفْرُ هُوَ الْجَحْدُ فَالتَّقْدِيرُ: أَلَا إِنَّ عَادًا جَحَدُوا رَبَّهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ كَفَرُوا نِعْمَةَ رَبِّهِمْ. ثُمَّ قَالَ: أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ وَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: اللَّعْنُ هُوَ الْبُعْدُ، فَلَمَّا قَالَ: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: أَلا بُعْداً لِعادٍ. وَالْجَوَابُ: التَّكْرِيرُ بِعِبَارَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ التَّأْكِيدِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ. الْجَوَابُ: كَانَ عَادٌ عَادَيْنَ، فَالْأُولَى: الْقَدِيمَةُ هُمْ قَوْمُ هُودٍ، وَالثَّانِيَةُ: هُمْ إِرَمُ ذَاتُ الْعِمَادِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِإِزَالَةِ الِاشْتِبَاهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّنْصِيصِ تَدُلُّ عَلَى مَزِيدِ التَّأْكِيدِ. [سورة هود (11) : الآيات 61 الى 62] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الْقَصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ قِصَّةُ صَالِحٍ مَعَ ثَمُودَ، وَنَظْمُهَا مِثْلُ النَّظْمِ المذكور في قصة هود، إلا أن هاهنا لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ ذَكَرَ فِي تَقْرِيرِهِ دَلِيلَيْنِ: الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكُلَّ مَخْلُوقُونَ مِنْ صُلْبِ آدَمَ، وَهُوَ كَانَ مَخْلُوقًا مِنَ الْأَرْضِ. وَأَقُولُ: هَذَا صَحِيحٌ لَكِنْ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ مِنَ الْمَنِيِّ وَمِنْ دَمِ الطَّمْثِ، وَالْمَنِيُّ إِنَّمَا تَوَلَّدَ مِنَ الدَّمِ، فَالْإِنْسَانُ مَخْلُوقٌ مِنَ الدَّمِ، وَالدَّمُ إِنَّمَا تَوَلَّدَ مِنَ الْأَغْذِيَةِ، وَهَذِهِ الْأَغْذِيَةُ إِمَّا حَيَوَانِيَّةً وَإِمَّا نَبَاتِيَّةً، وَالْحَيَوَانَاتُ حَالُهَا كَحَالِ الْإِنْسَانِ، فَوَجَبَ انْتِهَاءُ الْكُلِّ إِلَى النَّبَاتِ وَظَاهِرٌ أَنَّ تَوَلُّدَ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْشَأَنَا مِنَ الْأَرْضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ (مِنْ) مَعْنَاهَا فِي التَّقْدِيرِ: أَنْشَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى صَرْفِهِ عَنْهُ، وَأَمَّا تَقْرِيرُ أَنَّ تَوَلُّدَ الْإِنْسَانِ مِنَ الْأَرْضِ كَيْفَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ فَقَدْ شَرَحْنَاهُ مِرَارًا كَثِيرَةً. الدَّلِيلُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: جَعَلَكُمْ عُمَّارَهَا، قَالُوا: كَانَ مُلُوكُ فَارِسَ قَدْ أَكْثَرُوا فِي حَفْرِ الْأَنْهَارِ وَغَرْسِ الْأَشْجَارِ، لَا جَرَمَ حَصَلَتْ لَهُمُ الْأَعْمَارُ الطَّوِيلَةُ فَسَأَلَ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ زَمَانِهِمْ رَبَّهُ، مَا سَبَبُ تِلْكَ الْأَعْمَارِ؟ فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ أَنَّهُمْ عَمَّرُوا بِلَادِي فَعَاشَ فِيهَا عِبَادِي، وَأَخَذَ مُعَاوِيَةُ

[سورة هود (11) : آية 63]

فِي إِحْيَاءِ أَرْضٍ فِي آخِرِ عُمْرِهِ فَقِيلَ لَهُ مَا حَمَلَكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا حَمَلَنِي عَلَيْهِ إِلَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: لَيْسَ الْفَتَى بِفَتًى لَا يُسْتَضَاءُ بِهِ ... وَلَا يَكُونُ لَهُ فِي الْأَرْضِ آثَارُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَطَالَ أَعْمَارَكُمْ فِيهَا وَاشْتِقَاقُ وَاسْتَعْمَرَكُمْ مِنَ الْعُمْرِ مِثْلَ اسْتَبْقَاكُمْ مِنَ الْبَقَاءِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُمْرَى، أَيْ جَعَلَهَا لَكُمْ طُولَ أَعْمَارِكُمْ فَإِذَا مُتُّمُ انْتَقَلَتْ إِلَى غَيْرِكُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَوْنِ الْأَرْضِ قَابِلَةً لِلْعِمَارَاتِ النَّافِعَةِ لِلْإِنْسَانِ، وَكَوْنِ الْإِنْسَانِ قَادِرًا عَلَيْهَا دَلَالَةً عَظِيمَةً عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَيَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الْأَعْلَى: 3] وَذَلِكَ لِأَنَّ حُدُوثَ الْإِنْسَانِ مَعَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي ذَاتِهِ الْعَقْلُ الْهَادِي وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الْمُوَافِقَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ وَكَوْنُ الْأَرْضِ مَوْصُوفَةً بِصِفَاتٍ مُطَابِقَةٍ لِلْمَصَالِحِ مُوَافِقَةٍ لِلْمَنَافِعِ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ يَعْنِي أَنَّهُ قَرِيبٌ بِالْعِلْمِ وَالسَّمْعِ مُجِيبٌ دُعَاءَ الْمُحْتَاجِينَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَرَّرَ هَذِهِ الدَّلَائِلَ قالُوا يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ رَجُلًا قَوِيَّ الْعَقْلِ قَوِيَّ الْخَاطِرِ وَكَانَ مِنْ قَبِيلَتِهِمْ قَوِيَ رَجَاؤُهُمْ فِي أَنْ يَنْصُرَ دِينَهُمْ وَيُقَوِّيَ مَذْهَبَهُمْ وَيُقَرِّرَ طَرِيقَتَهُمْ لِأَنَّهُ مَتَى حَدَثَ رَجُلٌ فَاضِلٌ فِي قَوْمٍ/ طَمِعُوا فِيهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمُ الْمُرَادُ أَنَّكَ كُنْتَ تَعْطِفُ عَلَى فُقَرَائِنَا وَتُعِينُ ضُعَفَاءَنَا وَتَعُودُ مَرْضَانَا فَقَوِيَ رَجَاؤُنَا فِيكَ أَنَّكَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَالْأَحْبَابِ، فَكَيْفَ أَظْهَرْتَ الْعَدَاوَةَ وَالْبِغْضَةَ ثُمَّ إِنَّهُمْ أَضَافُوا إِلَى هَذَا الْكَلَامِ التَّعَجُّبَ الشَّدِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ التَّمَسُّكُ بِطَرِيقِ التَّقْلِيدِ وَوُجُوبُ مُتَابِعَةِ الْآبَاءِ وَالْأَسْلَافِ، وَنَظِيرُ هَذَا التَّعَجُّبِ مَا حَكَاهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ كُفَّارِ مَكَّةَ حَيْثُ قَالُوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] ثُمَّ قَالُوا: وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ وَالشَّكُّ هُوَ أَنْ يَبْقَى الْإِنْسَانُ مُتَوَقِّفًا بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَالْمُرِيبُ هُوَ الَّذِي يُظَنُّ بِهِ السُّوءُ فَقَوْلُهُ: وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَتَرَجَّحْ فِي اعْتِقَادِهِمْ صِحَّةُ قَوْلِهِ وَقَوْلُهُ: مُرِيبٍ يَعْنِي أَنَّهُ تَرَجَّحَ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَسَادُ قَوْلِهِ وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي تزييف كلامه. [سورة هود (11) : آية 63] قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَدَ بِحَرْفِ الشَّكِّ وَكَانَ عَلَى يَقِينٍ تَامٍّ فِي أَمْرِهِ إِلَّا أَنَّ خِطَابَ الْمُخَالِفِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَقْرَبُ إِلَى الْقَبُولِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: قَدِّرُوا أَنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَأَنِّي نَبِيٌّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَانْظُرُوا أَنِّي إِنْ تَابَعْتُكُمْ وَعَصَيْتُ رَبِّي فِي أَوَامِرِهِ فَمَنْ يَمْنَعُنِي مِنْ عَذَابِ اللَّه فَمَا تَزِيدُونَنِي عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ غَيْرَ تَخْسِيرٍ، وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تُخْسِرُونَ أَعْمَالِي وَتُبْطِلُونَهَا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فَمَا تَزِيدُونَنِي بِمَا تَقُولُونَ لِي وَتَحْمِلُونِي عَلَيْهِ غَيْرَ أَنْ أُخْسِرَكُمْ أَيْ أَنْسُبُكُمْ إِلَى الْخُسْرَانِ، وَأَقُولُ لَكُمْ إِنَّكُمْ خَاسِرُونَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ [هود: 63] كالدلالة

[سورة هود (11) : الآيات 64 إلى 65]

عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ إِنْ أَتْبَعْكُمْ فِيمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ الَّذِي دَعَوْتُمُونِي إِلَيْهِ لَمْ أَزْدَدْ إِلَّا خُسْرَانًا فِي الدِّينِ فَأَصِيرَ مِنَ الهالكين الخاسرين. [سورة هود (11) : الآيات 64 الى 65] وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) اعْلَمْ أَنَّ الْعَادَةَ فِيمَنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ عِنْدَ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّه ثُمَّ يُتْبِعَهُ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ الْمُعْجِزَةَ وَأَمْرُ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَكَذَا كَانَ يُرْوَى أَنَّ قَوْمَهُ خَرَجُوا فِي عِيدٍ لَهُمْ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَأَنْ يُخْرِجَ لَهُمْ مِنْ صَخْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَشَارُوا إِلَيْهَا نَاقَةً فَدَعَا صَالِحٌ رَبَّهُ فَخَرَجَتِ النَّاقَةُ كَمَا سَأَلُوا. وَاعْلَمْ أَنَّ تِلْكَ النَّاقَةَ كَانَتْ مُعْجِزَةً مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا مِنَ الصَّخْرَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا فِي جَوْفِ الْجَبَلِ ثُمَّ شَقَّ عَنْهَا الْجَبَلَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا حَامِلًا مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ خَلَقَهَا عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ دَفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ وِلَادَةٍ، وَخَامِسُهَا: مَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لَهَا شِرْبُ يَوْمٍ وَلِكُلِّ الْقَوْمِ شِرْبُ يَوْمٍ آخَرَ، وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ كَانَ يَحْصُلُ مِنْهَا لَبَنٌ كَثِيرٌ يَكْفِي الْخَلْقَ الْعَظِيمَ، وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ مُعْجِزٌ قَوِيٌّ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ النَّاقَةَ كَانَتْ آيَةً وَمُعْجِزَةً، فَأَمَّا بَيَانُ أَنَّهَا كَانَتْ مُعْجِزَةً مِنْ أَيِّ الْوُجُوهِ فَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُهُ. ثُمَّ قَالَ: فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَفَعَ عَنِ الْقَوْمِ مُؤْنَتَهَا، فَصَارَتْ مَعَ كَوْنِهَا آيَةً لَهُمْ تَنْفَعُهُمْ وَلَا تَضُرُّهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِلَبَنِهَا عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَافَ عَلَيْهَا مِنْهُمْ لَمَّا شَاهَدَ مِنْ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، فَإِنَّ الْخَصْمَ لَا يُحِبُّ ظُهُورَ حُجَّةِ خَصْمِهِ، بل يسعى في إخفاءها وَإِبْطَالِهَا بِأَقْصَى الْإِمْكَانِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ يَخَافُ مِنْ إِقْدَامِهِمْ عَلَى قَتْلِهَا، فَلِهَذَا احْتَاطَ وَقَالَ: وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ وَتَوَعَّدَهُمْ إِنْ مَسُّوهَا بِسُوءٍ بِعَذَابٍ قَرِيبٍ، وَذَلِكَ تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ لَهُمْ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى قَتْلِهَا، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ عَقَرُوهَا وَذَبَحُوهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ عَقَرُوهَا لِإِبْطَالِ تِلْكَ الْحُجَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ لِأَنَّهَا ضَيَّقَتِ الشُّرْبَ عَلَى الْقَوْمِ، وَأَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُمْ رَغِبُوا فِي شَحْمِهَا وَلَحْمِهَا، وَقَوْلُهُ: فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ يُرِيدُ الْيَوْمَ الثَّالِثَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ/ الْقَوْمَ عَقَرُوهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَمَعْنَى التَّمَتُّعِ: التَّلَذُّذُ بِالْمَنَافِعِ وَالْمَلَاذِّ الَّتِي تُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ، وَلَمَّا كَانَ التَّمَتُّعُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِلْحَيِّ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْحَيَاةِ، وَقَوْلُهُ: فِي دارِكُمْ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الدَّارِ الْبَلَدُ، وَتُسَمَّى الْبِلَادُ بِالدِّيَارِ، لِأَنَّهُ يُدَارُ فِيهَا أَيْ يُتَصَرَّفُ يُقَالُ: دِيَارُ بَكْرٍ أَيْ بِلَادُهُمْ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالدِّيَارِ الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ: ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ أي غير مكذب وَالْمَصْدَرُ قَدْ يَرِدُ بِلَفْظِ الْمَفْعُولِ كَالْمَجْلُودِ وَالْمَعْقُولِ وبأيكم الْمَفْتُونُ، وَقِيلَ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فِيهِ، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمْهَلَهُمْ تِلْكَ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ فَقَدْ رَغَّبَهُمْ فِي الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَقَرُوا النَّاقَةَ أَنْذَرَهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنُزُولِ الْعَذَابِ، فَقَالُوا وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: تَصِيرُ وُجُوهُكُمْ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مُصْفَرَّةً، وَفِي الثَّانِي مُحْمَرَّةً، وَفِي الثَّالِثِ مُسْوَدَّةً، ثُمَّ يَأْتِيكُمُ الْعَذَابُ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ،

[سورة هود (11) : الآيات 66 إلى 68]

فَلَمَّا رَأَوْا وُجُوهَهُمْ قَدِ اسْوَدَّتْ أَيْقَنُوا بِالْعَذَابِ فَاحْتَاطُوا وَاسْتَعَدُّوا لِلْعَذَابِ فَصَبَّحَهُمُ الْيَوْمُ الرَّابِعُ وَهِيَ الصَّيْحَةُ وَالصَّاعِقَةُ وَالْعَذَابُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ تَظْهَرَ فِيهِمْ هَذِهِ الْعَلَامَاتُ مُطَابِقَةً لِقَوْلِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ يَبْقَوْنَ مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ. قُلْنَا: مَا دَامَتِ الْأَمَارَاتُ غَيْرَ بَالِغَةٍ إِلَى حَدِّ الْجَزْمِ وَالْيَقِينِ لَمْ يَمْتَنِعْ بَقَاؤُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَإِذَا صَارَتْ يَقِينِيَّةً قَطْعِيَّةً، فَقَدِ انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى حَدِّ الْإِلْجَاءِ وَالْإِيمَانُ فِي ذلك الوقت غير مقبول. [سورة هود (11) : الآيات 66 الى 68] فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) اعْلَمْ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ مَضَى فِي قِصَّةِ عَادٍ، وَقَوْلُهُ: وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ خِزْيِ وَاوُ الْعَطْفِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ/ التَّقْدِيرُ: نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا مِنَ الْعَذَابِ النَّازِلِ بِقَوْمِهِ وَمِنَ الْخِزْيِ الَّذِي لَزِمَهُمْ وَبَقِيَ الْعَارُ فِيهِ مَأْثُورًا عَنْهُمْ وَمَنْسُوبًا إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَعْنَى الْخِزْيِ الْعَيْبُ الَّذِي تَظْهَرُ فَضِيحَتُهُ وَيُسْتَحْيَا مِنْ مِثْلِهِ فَحُذِفَ مَا حُذِفَ اعْتِمَادًا عَلَى دَلَالَةِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: نَجَّيْنَا صَالِحًا بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْكِسَائِيُّ ونافع في رواية ورش وقالوا وإحدى الروايات عن الأعشى يَوْمَئِذٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَفِي الْمَعَارِجِ عَذَابِ يَوْمَئِذٍ [الْمَعَارِجِ: 11] وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْمِيمِ فِيهِمَا فَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ فَعَلَى أَنَّ يَوْمَ مُضَافٌ إِلَى إِذْ وَأَنَّ إِذْ مَبْنِيٌّ، وَالْمُضَافُ إِلَى الْمَبْنِيِّ يَجُوزُ جَعْلُهُ مَبْنِيًّا أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضَافَ يَكْتَسِبُ من المضاف إليه التعريف والتنكير فكذا هاهنا، وَأَمَّا الْكَسْرُ فِي إِذْ فَالسَّبَبُ أَنَّهُ يُضَافُ إِلَى الْجُمْلَةِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ تَقُولُ: جِئْتُكَ إِذِ الشَّمْسُ طَالِعَةٌ، فَلَمَّا قُطِعَ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ نُوِّنَ لِيَدُلَّ التَّنْوِينُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ كُسِرَتِ الذَّالُ لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ التَّنْوِينِ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْكَسْرِ فَعَلَى إِضَافَةِ الْخِزْيِ إِلَى الْيَوْمِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْمَبْنِيِّ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِأَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْخِزْيُ الذُّلُّ الْعَظِيمُ حَتَّى يَبْلُغَ حَدَّ الْفَضِيحَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي الْمُحَارِبِينَ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا [الْمَائِدَةِ: 33] وَإِنَّمَا سَمَّى اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ الْعَذَابَ خِزْيًا لِأَنَّهُ فَضِيحَةٌ بَاقِيَةٌ يَعْتَبِرُ بِهَا أَمْثَالُهُمْ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَإِنَّمَا حَسُنَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَوْصَلَ ذَلِكَ الْعَذَابَ إِلَى الْكَافِرِ وَصَانَ أَهْلَ الْإِيمَانِ عَنْهُ، وَهَذَا التَّمْيِيزُ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنَ الْقَادِرِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى قَهْرِ طَبَائِعِ الْأَشْيَاءِ فَيَجْعَلُ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِنْسَانٍ بَلَاءً وَعَذَابًا وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى إِنْسَانٍ آخَرَ رَاحَةً وَرَيْحَانًا ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ ذَلِكَ الْأَمْرَ فَقَالَ: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا قَالَ: أَخَذَ وَلَمْ يَقُلْ أَخَذْتُ لِأَنَّ الصَّيْحَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصِّيَاحِ، وَأَيْضًا فُصِلَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالِاسْمِ الْمُؤَنَّثِ بِفَاصِلٍ، فَكَانَ الْفَاصِلُ كَالْعِوَضِ مِنْ تَاءِ التَّأْنِيثِ، وَقَدْ سَبَقَ لَهَا نَظَائِرُ.

[سورة هود (11) : الآيات 69 إلى 71]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي الصَّيْحَةِ وَجْهَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: الْمُرَادُ الصَّاعِقَةُ الثَّانِي: الصَّيْحَةُ صَيْحَةٌ عَظِيمَةٌ هَائِلَةٌ سَمِعُوهَا فَمَاتُوا أَجْمَعُ مِنْهَا فَأَصْبَحُوا وَهُمْ مَوْتَى جَاثِمِينَ فِي دُورِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ، وَجُثُومُهُمْ سُقُوطُهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ، يُقَالُ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَصِيحَ بِهِمْ تِلْكَ الصَّيْحَةَ الَّتِي مَاتُوا بِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّه تَعَالَى خَلَقَهَا، وَالصِّيَاحُ لَا يَكُونُ إِلَّا الصَّوْتَ الْحَادِثَ فِي حَلْقٍ وَفَمٍ وَكَذَلِكَ الصُّرَاخُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّه تَعَالَى فَقَدْ خَلَقَهُ فِي حَلْقِ حَيَوَانٍ وَإِنْ كَانَ فِعْلَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ حَصَلَ فِي فَمِهِ وَحَلْقِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ صَوْتَ الرَّعْدِ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ صَيْحَةٍ وَلَا يُسَمَّى بِذَلِكَ وَلَا بِأَنَّهُ صُرَاخٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا السَّبَبُ فِي كَوْنِ الصَّيْحَةِ مُوجِبَةً لِلْمَوْتِ؟ قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّيْحَةَ الْعَظِيمَةَ إِنَّمَا تَحْدُثُ عِنْدَ سَبَبٍ قَوِيٍّ يُوجِبُ تَمَوُّجَ الْهَوَاءِ وَذَلِكَ التَّمَوُّجُ الشَّدِيدُ رُبَّمَا يَتَعَدَّى إِلَى صِمَاخِ الْإِنْسَانِ فَيُمَزِّقُ غِشَاءَ الدِّمَاغِ فَيُورِثُ الْمَوْتَ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا شَيْءٌ مَهِيبٌ فَتَحْدُثُ الْهَيْبَةُ الْعَظِيمَةُ عِنْدَ حُدُوثِهَا وَالْأَعْرَاضُ النَّفْسَانِيَّةُ إِذَا قَوِيَتْ أَوْجَبَتِ الْمَوْتَ الثَّالِثُ: أَنَّ الصَّيْحَةَ الْعَظِيمَةَ إِذَا حَدَثَتْ من السحاب فلا بد وأن يصحبها بَرْقٌ شَدِيدٌ مُحْرِقٌ، وَذَلِكَ هُوَ الصَّاعِقَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ وَالْجُثُومُ هُوَ السُّكُونُ يُقَالُ لِلطَّيْرِ إِذَا بَاتَتْ فِي أَوْكَارِهَا إِنَّهَا جَثَمَتْ، ثُمَّ إِنَّ الْعَرَبَ أَطْلَقُوا هَذَا اللَّفْظَ عَلَى مَا لَا يَتَحَرَّكُ مِنَ الْمَوْتِ فَوَصَفَ اللَّه تَعَالَى هَؤُلَاءِ الْمُهْلَكِينَ بِأَنَّهُمْ سَكَنُوا عِنْدَ الْهَلَاكِ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ مَا كَانُوا أَحْيَاءً وَقَوْلُهُ: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَيْ كَأَنَّهُمْ لَمْ يُوجَدُوا، وَالْمَغْنَى الْمُقَامُ الَّذِي يُقِيمُ الْحَيُّ بِهِ يُقَالُ: غَنِيَ الرَّجُلُ بِمَكَانِ كَذَا إِذَا أَقَامَ بِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ قَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ أَلا إِنَّ ثَمُودَ غَيْرَ مُنَوَّنٍ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَقَرَأَ الباقون ثمودا بالتنوين ولثمود كِلَاهُمَا بِالصَّرْفِ، وَالصَّرْفُ لِلذَّهَابِ إِلَى الْحَيِّ، أَوْ إِلَى الْأَبِ الْأَكْبَرِ وَمَنْعُهُ لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّأْنِيثِ بِمَعْنَى القبيلة. [سورة هود (11) : الآيات 69 الى 71] وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ الرَّابِعَةُ مِنَ الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السورة وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ النَّحْوِيُّونَ: دَخَلَتْ كَلِمَةُ «قد» هاهنا لِأَنَّ السَّامِعَ لِقَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَتَوَقَّعُ قصة بعد قصة، وقد للتوقع، ودخت اللَّامُ فِي «لَقَدْ» لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ وَلَفْظُ رُسُلُنا جَمْعٌ/ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ فَهَذَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِحُصُولِ ثَلَاثَةٍ، وَأَمَّا الزَّائِدُ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِمْ كَانَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فَقِيلَ: أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَعَهُ اثْنَا عَشَرَ مَلَكًا عَلَى صُورَةِ الْغِلْمَانِ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَقَالَ الضَّحَّاكُ كَانُوا تِسْعَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: كَانُوا

ثَلَاثَةً جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّه فِي سُورَةِ وَالذَّارِيَاتِ فِي قَوْلِهِ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الذَّارِيَاتِ: 24] وَفِي الْحِجْرِ وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الْحِجْرِ: 51] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْبُشْرَى عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مَا بَشَّرَهُ اللَّه بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ بَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِسَلَامَةِ لُوطٍ وَبِإِهْلَاكِ قَوْمِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ قَالُوا سِلْمٌ قَالَ سِلْمٌ بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونِ اللَّامِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَفِي وَالذَّارِيَاتِ مِثْلُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ كَمَا قَالُوا حِلٌّ وَحَلَالٌ وَحَرَمٌ وَحَرَامٌ لِأَنَّ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُمْ لَمَّا جَاءُوا سَلَّمُوا عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سِلْمٌ خِلَافَ الْعَدُوِّ وَالْحَرْبِ كَأَنَّهُمْ لَمَّا امْتَنَعُوا مِنْ تَنَاوُلِ مَا قَدَّمَهُ إِلَيْهِمْ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالَ إِنَّا سِلْمٌ وَلَسْتُ بِحَرْبٍ وَلَا عَدُوٍّ فَلَا تَمْتَنِعُوا مِنْ تَنَاوُلِ طَعَامِي كَمَا يُمْتَنَعُ مِنْ تَنَاوُلِ طَعَامِ الْعَدُوِّ، وَهَذَا الْوَجْهُ عِنْدِي بَعِيدٌ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَكَلُّمُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذَا اللَّفْظِ بَعْدَ إِحْضَارِ الطَّعَامِ، إِلَّا أَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا وُجِدَ قَبْلَ إِحْضَارِ الطَّعَامِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود: 69] وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَجِيئَهُ بِذَلِكَ الْعِجْلِ الْحَنِيذِ كَانَ بَعْدَ ذِكْرِ السَّلَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا سَلَامًا تَقْدِيرُهُ: سَلَّمْنَا عَلَيْكَ سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ تَقْدِيرُهُ: أَمْرِي سَلَامٌ، أَيْ لَسْتُ مُرِيدًا غَيْرَ السَّلَامَةِ وَالصُّلْحِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، فَجَاءَ بِهِ مَرْفُوعًا حِكَايَةً لِقَوْلِهِ كَمَا قَالَ: وَحُذِفَ عَنْهُ الْخَبَرُ كَمَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِهِ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يُوسُفَ: 18] وَإِنَّمَا يَحْسُنُ هَذَا الْحَذْفُ إِذَا كان المقصود معلوما بعد الحذف، وهاهنا الْمَقْصُودُ مَعْلُومٌ فَلَا جَرَمَ حَسُنَ الْحَذْفُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ [الزُّخْرُفِ: 89] عَلَى حَذْفِ الْخَبَرِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا سَلَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، رِعَايَةً لِلْإِذْنِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: خَيْرٌ بَيْنَ يَدَيْكَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ جَعْلُ النَّكِرَةِ مُبْتَدَأً؟ قُلْنَا: النَّكِرَةُ إِذَا كَانَتْ مَوْصُوفَةً جَازَ جَعْلُهَا مُبْتَدَأً، فَإِذَا قُلْتَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ: فَالتَّنْكِيرُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَدُلُّ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: سَلَامٌ كَامِلٌ تَامٌّ عَلَيْكُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُنَا: سَلَامٌ عَلَيْكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مَرْيَمَ: 47] وَقَوْلُهُ: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ [الصافات: 79] الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرَّعْدِ: 23، 24] فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طَه: 47] فَهَذَا أَيْضًا جَائِزٌ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمَاهِيَّةُ وَالْحَقِيقَةُ. وَأَقُولُ: قَوْلُهُ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ أَكْمَلُ مِنْ قَوْلِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، لِأَنَّ التَّنْكِيرَ في قوله: سَلامٌ عَلَيْكُمْ يُفِيدُ الْكَمَالَ وَالْمُبَالَغَةَ وَالتَّمَامَ. وَأَمَّا لَفْظُ السَّلَامِ: فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا الْمَاهِيَّةَ. قَالَ الْأَخْفَشُ: مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ: سَلَامٌ

عَلَيْكُمْ فَيُعَرِّي قَوْلَهُ: سَلَامٌ عَنِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ والتنوين، والسبب في ذلك كَثْرَةَ الِاسْتِعْمَالِ أَبَاحَ هَذَا التَّخْفِيفَ، واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ قَالُوا: مَكَثَ إِبْرَاهِيمُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يَأْتِيهِ ضَيْفٌ فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَهُ الْمَلَائِكَةُ فَرَأَى أَضْيَافًا لَمْ يَرَ مِثْلَهُمْ، فَعَجَّلَ وَجَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ، فَقَوْلُهُ: فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ معناه: فلما لَبِثَ فِي الْمَجِيءِ بِهِ بَلْ عَجَّلَ فِيهِ، أَوِ التَّقْدِيرُ: فَمَا لَبِثَ مَجِيئُهُ وَالْعِجْلُ وَلَدُ الْبَقَرَةِ. أَمَّا الْحَنِيذُ: فَهُوَ الَّذِي يُشْوَى فِي حُفْرَةٍ مِنَ الْأَرْضِ بِالْحِجَارَةِ الْمُحْمَاةِ، وَهُوَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مَحْنُوذٌ فِي الْأَصْلِ كَمَا قِيلَ: طَبِيخٌ وَمَطْبُوخٌ، وَقِيلَ: الْحَنِيذُ الَّذِي يَقْطُرُ دَسَمُهُ. يُقَالُ: حَنَذَتِ الْفَرَسُ إِذَا أَلْقَيْتَ عَلَيْهِ الْجُلَّ حَتَّى تَقْطُرَ عَرَقًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ إلى قوله إِلى قَوْمِ لُوطٍ أَيْ إِلَى الْعِجْلِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِلَى الطَّعَامِ، وَهُوَ ذَلِكَ الْعِجْلُ نَكِرَهُمْ أَيْ أَنْكَرَهُمْ. يُقَالُ: نَكِرَهُ وَأَنْكَرَهُ وَاسْتَنْكَرَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَضْيَافَ إِنَّمَا امْتَنَعُوا مِنَ الطَّعَامِ لِأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ وَالْمَلَائِكَةُ لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ، وَإِنَّمَا أَتَوْهُ فِي صُورَةِ الْأَضْيَافِ لِيَكُونُوا عَلَى صِفَةٍ يُحِبُّهَا، وَهُوَ كَانَ مَشْغُوفًا بِالضِّيَافَةِ. وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ، بَلْ كَانَ يَعْتَقِدُ فِيهِمْ أَنَّهُمْ مِنَ الْبَشَرِ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. أَمَّا عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فَسَبَبُ خَوْفِهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ فِي طَرَفٍ مِنَ الْأَرْضِ بَعِيدٍ عَنِ النَّاسِ، فَلَمَّا امْتَنَعُوا مِنَ الْأَكْلِ خَافَ أن يريدوا به مكروها، وثانيها: أَنَّ مَنْ لَا يُعْرَفُ إِذَا حَضَرَ وَقُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ فَإِنْ أَكَلَ حَصَلَ الْأَمْنُ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ حَصَلَ الْخَوْفُ. وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ عَرَفَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةُ اللَّه تَعَالَى، / فَسَبَبُ خَوْفِهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا أَمْرَانِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهُمْ لِأَمْرٍ أَنْكَرَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ: وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهُمْ لِتَعْذِيبِ قَوْمِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ أَقْرَبُ وَأَظْهَرُ؟ قُلْنَا: أَمَّا الَّذِي يَقُولُ إِنَّهُ مَا عَرَفَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةُ اللَّه تَعَالَى فَلَهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَسَارَعَ إِلَى إِحْضَارِ الطَّعَامِ، وَلَوْ عَرَفَ كَوْنَهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمَّا رَآهُمْ مُمْتَنِعِينَ مِنَ الْأَكْلِ خَافَهُمْ، وَلَوْ عَرَفَ كَوْنَهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمَا اسْتَدَلَّ بِتَرْكِ الْأَكْلِ عَلَى حُصُولِ الشَّرِّ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ رَآهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَأَمَّا الَّذِي يَقُولُ: إِنَّهُ عَرَفَ ذَلِكَ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ: لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا لِمَنْ عَرَفَهُمْ وَلَمْ يَعْرِفْ بِأَيِّ سَبَبٍ أُرْسِلُوا، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَزَالُوا ذَلِكَ الْخَوْفَ عَنْهُ فَقَالُوا: لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَمَعْنَاهُ: أُرْسِلْنَا بِالْعَذَابِ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ، لِأَنَّهُ أَضْمَرَ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ فِي سُورَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً [الذَّارِيَاتِ: 32، 33] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ يَعْنِي سَارَّةَ بِنْتَ آزَرَ بْنِ بَاحُورَا بِنْتَ عَمِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَوْلُهُ: قائِمَةٌ قِيلَ: كَانَتْ قَائِمَةً مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ تَسْتَمِعُ إِلَى الرُّسُلِ، لِأَنَّهَا رُبَّمَا خَافَتْ أَيْضًا. وَقِيلَ: كَانَتْ قَائِمَةً تَخْدِمُ الْأَضْيَافَ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السلام جالس معهم، ويأكد هَذَا التَّأْوِيلَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ وَهُوَ قَاعِدٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَاخْتَلَفُوا فِي الضَّحِكِ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى

نَفْسِ الضَّحِكِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ هَذَا اللَّفْظَ عَلَى مَعْنًى آخَرَ سِوَى الضَّحِكِ. أَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوهُ عَلَى نَفْسِ الضَّحِكِ فَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا لِمَ ضَحِكَتْ، وَذَكَرُوا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَاضِي إِنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ سَبَبًا جَرَى ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهَا فَرِحَتْ بِزَوَالِ ذَلِكَ الْخَوْفِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَعَظُمَ سُرُورُهَا بِسَبَبِ سُرُورِهِ بِزَوَالِ خَوْفِهِ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ قَدْ يَضْحَكُ الْإِنْسَانُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ كَانَ ضَحِكُهَا بِسَبَبِ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا تَخَفْ فَكَانَ كَالْبِشَارَةِ، فَقِيلَ لَهَا: نَجْعَلُ هَذِهِ الْبِشَارَةَ بِشَارَتَيْنِ، فَكَمَا حَصَلَتِ الْبِشَارَةُ بِزَوَالِ الْخَوْفِ، فَقَدْ حَصَلَتِ الْبِشَارَةُ أَيْضًا بِحُصُولِ الْوَلَدِ الَّذِي كُنْتُمْ تَطْلُبُونَهُ مِنْ أَوَّلِ الْعُمْرِ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ وَهَذَا تَأْوِيلٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ. الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَتْ عَظِيمَةَ الْإِنْكَارِ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْعَمَلِ الْخَبِيثِ، فَلَمَّا أَظْهَرُوا أَنَّهُمْ جَاءُوا لِإِهْلَاكِهِمْ لَحِقَهَا السُّرُورُ فَضَحِكَتْ. الثَّالِثُ: قَالَ السُّدِّيُّ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمْ: أَلا تَأْكُلُونَ قَالُوا: / لَا نَأْكُلُ طَعَامًا إِلَّا بِالثَّمَنِ، فَقَالَ: ثَمَنُهُ أَنْ تَذْكُرُوا اسْمَ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَوَّلِهِ وَتَحْمَدُوهُ عَلَى آخِرِهِ، فَقَالَ جِبْرِيلُ لِمِيكَائِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: «حُقَّ لِمِثْلِ هَذَا الرَّجُلِ أَنْ يَتَّخِذَهُ رَبُّهُ خَلِيلًا» فَضَحِكَتِ امْرَأَتُهُ فَرَحًا مِنْهَا بِهَذَا الْكَلَامِ. الرَّابِعُ: أَنَّ سَارَّةَ قَالَتْ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرْسِلْ إِلَى ابْنِ أَخِيكَ وَضُمَّهُ إِلَى نَفْسِكَ، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَتْرُكُ قَوْمَهُ حَتَّى يُعَذِّبَهُمْ، فَعِنْدَ تَمَامِ هَذَا الْكَلَامِ دَخَلَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا أَخْبَرُوهُ بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا جَاءُوا لِإِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ صَارَ قَوْلُهُمْ مُوَافِقًا لِقَوْلِهَا، فَضَحِكَتْ لِشِدَّةِ سُرُورِهَا بِحُصُولِ الْمُوَافَقَةِ بَيْنَ كَلَامِهَا وَبَيْنَ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا أَخْبَرُوا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا مِنَ الْبَشَرِ وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا جَاءُوا لِإِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ طَلَبَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُمْ مُعْجِزَةً دَالَّةً عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَدَعَوْا رَبَّهُمْ بِإِحْيَاءِ الْعِجْلِ الْمَشْوِيِّ فَطَفَرَ ذَلِكَ الْعِجْلُ الْمَشْوِيُّ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ مَوْضُوعًا فِيهِ إِلَى مَرْعَاهُ، وَكَانَتِ امْرَأَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَائِمَةً فَضَحِكَتْ لَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ الْعِجْلَ الْمَشْوِيَّ قَدْ طَفَرَ مِنْ مَوْضِعِهِ. السَّادِسُ: أَنَّهَا ضَحِكَتْ تَعَجُّبًا مِنْ أَنَّ قَوْمًا أَتَاهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ. السَّابِعُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ بَشَّرُوهَا بِحُصُولِ مُطْلَقِ الْوَلَدِ فَضَحِكَتْ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ فَإِنَّهُ يُقَالُ إِنَّهَا كَانَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِنْتَ بِضْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ، وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ السُّرُورِ. ثُمَّ لَمَّا ضَحِكَتْ بَشَّرَهَا اللَّه تَعَالَى بِأَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ هُوَ إِسْحَاقُ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ. الثَّامِنُ: أَنَّهَا ضَحِكَتْ بِسَبَبِ أَنَّهَا تَعَجَّبَتْ مِنْ خَوْفِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ ثَلَاثِ أَنْفُسٍ حَالَ مَا كَانَ مَعَهُ حَشَمُهُ وَخَدَمُهُ. التَّاسِعُ: أَنَّ هَذَا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالتَّقْدِيرُ: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ فَضَحِكَتْ سُرُورًا بِسَبَبِ تِلْكَ الْبِشَارَةِ فَقُدِّمَ الضَّحِكُ، وَمَعْنَاهُ التَّأْخِيرُ. الثاني: هُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى فَضَحِكَتْ حَاضَتْ وَهُوَ منقول عن مجاهد وعكرمة قالا: ضحكت أَيْ حَاضَتْ عِنْدَ فَرَحِهَا بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْخَوْفِ، فَلَمَّا ظَهَرَ حَيْضُهَا بُشِّرَتْ بِحُصُولِ الْوَلَدِ، وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يَكُونَ ضَحِكَتْ بِمَعْنَى حَاضَتْ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ هَذِهِ اللُّغَةُ إِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ عَرَفَهَا غَيْرُهُمْ، حَكَى اللَّيْثُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَضَحِكَتْ طَمِثَتْ، وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ، عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ أَصْلَهُ مِنْ ضِحَاكِ الطَّلْعَةِ يُقَالُ ضَحِكَتِ الطَّلْعَةُ إِذَا انْشَقَّتْ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ كُلَّهَا زَوَائِدُ. وَإِنَّمَا الْوَجْهُ الصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عاصم ويعقوب بِالنَّصْبِ وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ أَمَّا وَجْهُ

[سورة هود (11) : الآيات 72 إلى 73]

النَّصْبِ، فَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: بَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ وَهَبْنَا لَهَا يَعْقُوبَ، وَأَمَّا وَجْهُ الرَّفْعِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ مَوْلُودٌ أَوْ مَوْجُودٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي لَفْظِ وَرَاءَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ مَعْنَاهُ بَعْدَ أَيْ بَعْدَ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الظَّاهِرُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَرَاءَ وَلَدُ الْوَلَدِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ هَذَا ابْنُكَ، فَقَالَ نَعَمْ مِنَ الْوَرَاءِ، وَكَانَ وَلَدَ وَلَدِهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ عِنْدِي شديد التعسف، واللفظ كأنه ينبو عنه. [سورة هود (11) : الآيات 72 الى 73] قالَتْ يَا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) [في قوله تعالى قالت يا ويلتا] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْفَرَّاءُ أصل الويل وي وهو الخزي، ويقال: ويل فلان أَيْ خِزْيٌ لَهُ فَقَوْلُهُ وَيْلَكَ أَيْ خِزْيٌ لَكَ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: وَيْحَ زَجْرٌ لِمَنْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ وَقَعَ فِيهِ. قَالَ الْخَلِيلُ: وَلَمْ أَسْمَعْ عَلَى بِنَائِهِ إِلَّا وَيْحَ، وو يس، وو يك، وَوَيْهَ، وَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى وَأَمَّا قوله: يا وَيْلَتى فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْأَلِفُ أَلِفُ النُّدْبَةِ وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْأَلِفُ فِي وَيْلَتَا مُبْدَلَةٌ مِنْ يَاءِ الْإِضَافَةِ فِي يَا وَيْلَتى وَكَذَلِكَ فِي يَا لَهَفَا وَيَا عَجَبَا ثُمَّ أُبْدِلَ مِنَ الْيَاءِ وَالْكَسْرَةِ الْأَلِفُ وَالْفَتْحَةُ، لِأَنَّ الْفَتْحَ وَالْأَلِفَ أَخَفُّ مِنَ الْيَاءِ وَالْكَسْرَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو آلِدُ بِهَمْزَةٍ وَمَدَّةٍ، وَالْبَاقُونَ بِهَمْزَتَيْنِ بِلَا مَدٍّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّهَا تَعَجَّبَتْ مِنْ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَالتَّعَجُّبُ مِنْ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى يُوجِبُ الْكُفْرَ، بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهَا فِي مَعْرِضِ التَّعَجُّبِ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ وَثَالِثُهَا: قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ لَهَا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَأَمَا بَيَانُ أَنَّ التَّعَجُّبَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى يُوجِبُ الْكُفْرَ، فَلِأَنَّ هَذَا التَّعَجُّبَ يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهَا بِقُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْكُفْرَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهَا إِنَّمَا تَعَجَّبَتْ بِحَسَبِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَا بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ فَإِنَّ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ لَوْ أَخْبَرَهُ/ مُخْبِرٌ صَادِقٌ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقْلِبُ هَذَا الْجَبَلَ ذَهَبًا إِبْرِيزًا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَتَعَجَّبُ نَظَرًا إِلَى أَحْوَالِ الْعَادَةِ لَا لِأَجْلِ أَنَّهُ اسْتَنْكَرَ قُدْرَةَ اللَّه تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً فَاعْلَمْ أَنَّ شَيْخًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: وَهَذَا مِنْ لَطَائِفِ النَّحْوِ وَغَامِضِهِ فَإِنَّ كَلِمَةَ هَذَا لِلْإِشَارَةِ، فَكَأَنَّ قَوْلَهُ: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً قَائِمٌ مَقَامَ أَنْ يُقَالَ أُشِيرَ إِلَى بَعْلِي حَالَ كَوْنِهِ شَيْخًا، وَالْمَقْصُودُ تَعْرِيفُ هَذِهِ الْحَالَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَهِيَ الشَّيْخُوخَةُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ بَعْضُهُمْ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هَذَا بَعْلِي وَهُوَ شَيْخٌ، أَوْ بَعْلِي بَدَلٌ من المبتدأ وشيخ خَبَرٌ أَوْ يَكُونَانِ مَعًا خَبَرَيْنِ، ثُمَّ حَكَى تَعَالَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ تَعَجَّبُوا مِنْ تَعَجُّبِهَا، ثُمَّ قالوا: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ ذِكْرُ مَا يُزِيلُ ذَلِكَ التَّعَجُّبَ وَتَقْدِيرُهُ: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّه عَلَيْكُمْ مُتَكَاثِرَةٌ وَبَرَكَاتِهِ لَدَيْكُمْ مُتَوَالِيَةٌ مُتَعَاقِبَةٌ، وَهِيَ النُّبُوَّةُ وَالْمُعْجِزَاتُ الْقَاهِرَةُ وَالتَّوْفِيقُ لِلْخَيْرَاتِ الْعَظِيمَةِ فَإِذَا رَأَيْتِ أَنَّ اللَّه خَرَقَ الْعَادَاتِ فِي تَخْصِيصِكُمْ بِهَذِهِ

[سورة هود (11) : الآيات 74 إلى 75]

الْكَرَامَاتِ الْعَالِيَةِ الرَّفِيعَةِ وَفِي إِظْهَارِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَإِحْدَاثِ الْبَيِّنَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ التَّعَجُّبُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَهْلَ الْبَيْتِ فَإِنَّهُ مَدْحٌ لَهُمْ فَهُوَ نَصْبٌ عَلَى النِّدَاءِ أَوْ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، ثُمَّ أَكَّدُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَالْحَمِيدُ هُوَ الْمَحْمُودُ وَهُوَ الَّذِي تُحْمَدُ أَفْعَالُهُ، وَالْمَجِيدُ الْمَاجِدُ، وَهُوَ ذُو الشَّرَفِ وَالْكَرَمِ، وَمِنْ مَحَامِدِ الْأَفْعَالِ إِيصَالُ الْعَبْدِ الْمُطِيعِ إِلَى مُرَادِهِ وَمَطْلُوبِهِ، وَمِنْ أَنْوَاعِ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ أَنْ لَا يُمْنَعَ الطَّالِبُ عَنْ مَطْلُوبِهِ، فَإِذَا كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى الْكُلِّ وَأَنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، فَكَيْفَ يَبْقَى هَذَا التَّعَجُّبُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هذه الكلمات إزالة التعجب. [سورة هود (11) : الآيات 74 الى 75] فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ الْخَامِسَةُ وَهِيَ قِصَّةُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّوْعَ هُوَ الْخَوْفُ/ وَهُوَ مَا أَوْجَسَ مِنَ الْخِيفَةِ حِينَ أَنْكَرَ أَضْيَافَهُ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا زَالَ الْخَوْفُ وَحَصَلَ السُّرُورُ بِسَبَبِ مَجِيءِ الْبُشْرَى بِحُصُولِ الْوَلَدِ، أَخَذَ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ وَجَوَابُ لَمَّا هُوَ قَوْلُهُ: أَخَذَ إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ فِي اللَّفْظِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ تَقْدِيرُهُ: لَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ جَادَلَنَا. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: يُجادِلُنا أَيْ يُجَادِلُ رُسُلَنَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْمُجَادَلَةُ إِنْ كَانَتْ مَعَ اللَّه تَعَالَى فَهِيَ جَرَاءَةٌ عَلَى اللَّه، وَالْجَرَاءَةُ عَلَى اللَّه تَعَالَى مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْمُجَادَلَةِ إِزَالَةُ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ رَاضِيًا بِقَضَاءِ اللَّه تَعَالَى وَأَنَّهُ كَفَرَ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُجَادَلَةُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فَهِيَ أَيْضًا عَجِيبَةٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْمُجَادَلَةِ أَنْ يَتْرُكُوا إِهْلَاكَ قَوْمِ لُوطٍ، فَإِنْ كَانَ قَدِ اعْتَقَدَ فِيهِمْ أَنَّهُمْ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ يُجَادِلُونَ فِي هَذَا الْإِهْلَاكِ فَهَذَا سُوءُ ظَنٍّ بِهِمْ. وَإِنِ اعْتَقَدَ فِيهِمْ أَنَّهُمْ بِأَمْرِ اللَّه جَاءُوا فَهَذِهِ الْمُجَادَلَةُ تَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ يَطْلُبُ مِنْهُمْ مُخَالَفَةَ أَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَهَذَا مُنْكَرٌ. وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْجَوَابُ الْإِجْمَالِيُّ أَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَهُ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ وَلَوْ كَانَ هَذَا الْجَدَلُ مِنَ الذُّنُوبِ لَمَا ذُكِرَ عَقِيبَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَدْحِ الْعَظِيمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَوَابُ التَّفْصِيلِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْمُجَادَلَةِ سَعْيُ إِبْرَاهِيمَ فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قالوا: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانَ فِيهَا خَمْسُونَ رَجُلًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَتُهْلِكُونَهَا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَأَرْبَعُونَ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَثَلَاثُونَ قَالُوا لَا. حَتَّى بَلَغَ الْعَشْرَةَ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ فِيهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ أَتُهْلِكُونَهَا؟ قَالُوا: لَا. فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّ فِيهَا لُوطًا وَقَدْ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هَذَا فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ فَقَالَ: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: 31، 32] . ثُمَّ قَالَ: وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ

[سورة هود (11) : الآيات 76 إلى 77]

وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ فَبَانَ بِهَذَا أَنَّ مُجَادَلَةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِنَّمَا كَانَتْ فِي قَوْمِ لُوطٍ بِسَبَبِ مُقَامِ لُوطٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ. الْوَجْهُ الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَمِيلُ إِلَى أَنْ تَلْحَقَهُمْ رَحْمَةُ اللَّه بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ رجاء أنهم أَقْدَمُوا عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَرُبَّمَا وَقَعَتْ تِلْكَ الْمُجَادَلَاتُ/ بِسَبَبِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَقُولُ إِنَّ أَمْرَ اللَّه وَرَدَ بِإِيصَالِ الْعَذَابِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لَا يُوجِبُ الْفَوْرَ بَلْ يَقْبَلُ التَّرَاخِيَ فَاصْبِرُوا مُدَّةً أُخْرَى، وَالْمَلَائِكَةُ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يَقْبَلُ الْفَوْرَ، وَقَدْ حَصَلَتْ هُنَاكَ قَرَائِنُ دَالَّةٌ عَلَى الْفَوْرِ، ثُمَّ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُقَرِّرُ مَذْهَبَهُ بِالْوُجُوهِ الْمَعْلُومَةِ فَحَصَلَتِ الْمُجَادِلَةُ بِهَذَا السَّبَبِ، وَهَذَا الْوَجْهُ عِنْدِي هُوَ الْمُعْتَمَدُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ لَعَلَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ عَنْ لَفْظِ ذَلِكَ الْأَمْرِ وَكَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ مَشْرُوطًا بِشَرْطٍ فَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ هَلْ حَصَلَ فِي ذَلِكَ الْقَوْمِ أَمْ لَا فَحَصَلَتِ الْمُجَادَلَةُ بِسَبَبِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ نَرَى الْعُلَمَاءَ فِي زَمَانِنَا يُجَادِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عِنْدَ التَّمَسُّكِ بِالنُّصُوصِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ القدح في واحد منها فكذا هاهنا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ وَهَذَا مَدْحٌ عَظِيمٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ، أَمَّا الْحَلِيمُ فَهُوَ الَّذِي لَا يَتَعَجَّلُ بِمُكَافَأَةِ غَيْرِهِ، بَلْ يَتَأَنَّى فِيهِ فَيُؤَخِّرُ وَيَعْفُو وَمَنْ هَذَا حَالُهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ مِنْ غَيْرِهِ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، وَهَذَا كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ جِدَالَهُ كَانَ فِي أَمْرٍ مُتَعَلِّقٍ بِالْحِلْمِ وَتَأْخِيرِ الْعِقَابِ، ثُمَّ ضُمَّ إِلَى ذَلِكَ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْحِلْمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَوَّاهٌ مُنِيبٌ لِأَنَّ مَنْ يَسْتَعْمِلُ الْحِلْمَ فِي غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَتَأَوَّهُ إِذَا شَاهَدَ وُصُولَ الشَّدَائِدِ إِلَى الْغَيْرِ فَلَمَّا رَأَى مَجِيءَ الْمَلَائِكَةِ لِأَجْلِ إِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ عَظُمَ حُزْنُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَأَخَذَ يَتَأَوَّهُ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَوَصَفَهُ أَيْضًا بِأَنَّهُ مُنِيبٌ، لِأَنَّ مَنْ ظَهَرَتْ فِيهِ هَذِهِ الشَّفَقَةُ الْعَظِيمَةُ عَلَى الْغَيْرِ فَإِنَّهُ يُنِيبُ وَيَتُوبُ وَيَرْجِعُ إِلَى اللَّه فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ أَوْ يُقَالُ: إِنَّ مَنْ كَانَ لَا يَرْضَى بِوُقُوعِ غَيْرِهِ فِي الشَّدَائِدِ فَأَنْ لَا يَرْضَى بِوُقُوعِ نَفْسِهِ فِيهَا كَانَ أَوْلَى وَلَا طَرِيقَ إِلَى صَوْنِ النَّفْسِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي عَذَابِ اللَّه إِلَّا بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ فَوَجَبَ فِيمَنْ هذا شأنه يكون منيبا. [سورة هود (11) : الآيات 76 الى 77] يَا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: يَا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا مَعْنَاهُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا لَهُ: اتْرُكْ هَذِهِ الْمُجَادَلَةَ لِأَنَّهُ/ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بِإِيصَالِ هَذَا الْعَذَابِ إِلَيْهِمْ وَإِذَا لَاحَ وَجْهُ دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِهِ فَلِذَلِكَ أَمَرُوهُ بِتَرْكِ الْمُجَادَلَةِ، وَلَمَّا ذَكَرُوا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ بِمَاذَا جَاءَ لَا جَرَمَ بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ، أَيْ عَذَابٌ لَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِهِ وَرَدِّهِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَهَؤُلَاءِ الرُّسُلُ هُمُ الرُّسُلُ الَّذِينَ بَشَّرُوا إِبْرَاهِيمَ بِالْوَلَدِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: انْطَلَقُوا مِنْ عِنْدِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى لُوطٍ وَبَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ أَرْبَعُ فَرَاسِخَ وَدَخَلُوا عَلَيْهِ عَلَى صُورَةِ شَبَابٍ مُرْدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ وَكَانُوا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَلَمْ يَعْرِفْ لُوطٌ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةُ اللَّه وَذَكَرُوا فِيهِ سِتَّةَ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُمْ مِنَ الْإِنْسِ فَخَافَ عَلَيْهِمْ خُبْثَ قَوْمِهِ وَأَنْ يَعْجِزُوا عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ.

[سورة هود (11) : الآيات 78 إلى 80]

الثَّانِي: سَاءَهُ مَجِيئُهُمْ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَجِدُ مَا يُنْفِقُهُ عَلَيْهِمْ وَمَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ بِحَقِّ ضِيَافَتِهِمْ. وَالثَّالِثُ: سَاءَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْمَهُ مَنَعُوهُ مِنْ إِدْخَالِ الضَّيْفِ دَارَهُ. الرَّابِعُ: سَاءَهُ مَجِيئُهُمْ، لِأَنَّهُ عَرَفَ بِالْحَذَرِ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا جَاءُوا لِإِهْلَاكِ قَوْمِهِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ [هود: 78] وَبَقِيَ فِي الْآيَةِ أَلْفَاظٌ ثَلَاثَةٌ لَا بُدَّ مِنْ تَفْسِيرِهَا: اللَّفْظُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: سِيءَ بِهِمْ وَمَعْنَاهُ سَاءَ مَجِيئُهُمْ وَسَاءَ يَسُوءُ فِعْلٌ لَازِمٌ مُجَاوِزٌ يُقَالُ سُؤْتُهُ فَسِيءَ مِثْلُ شَغَلْتُهُ فَشُغِلَ وَسَرَرْتُهُ فَسُرَّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُهُ سُوِّئَ بِهِمْ إِلَّا أَنَّ الْوَاوَ سُكِّنَتْ وَنُقِلَتْ كَسْرَتُهَا إِلَى السين. واللفظ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الذَّرْعُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الطَّاقَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْبَعِيرُ يَذْرَعُ بِيَدَيْهِ فِي سَيْرِهِ ذَرْعًا عَلَى قَدْرِ سِعَةِ خُطْوَتِهِ، فَإِذَا حُمِلَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ طَاقَتِهِ ضَاقَ ذَرْعُهُ عَنْ ذَلِكَ فَضَعُفَ وَمَدَّ عُنُقَهُ، فَجُعِلَ ضِيقُ الذَّرْعِ عِبَارَةً عَنْ قَدْرِ الوسع والطاقة. فيقال: مالي به ذرع ولا ذراع أي مالي بِهِ طَاقَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الذِّرَاعَ فِي مَوْضِعِ الذَّرْعِ فَيَقُولُونَ ضِقْتُ بِالْأَمْرِ ذِرَاعًا. وَاللَّفْظُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ أَيْ يَوْمٌ شَدِيدٌ، وَإِنَّمَا قِيلَ للشديد عصيب لأنه يعصب الإنسان بالشر. [سورة هود (11) : الآيات 78 الى 80] وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يَا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَتِ الْمَلَائِكَةُ دَارَ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَضَتِ امْرَأَتُهُ عَجُوزُ السُّوءِ فَقَالَتْ لِقَوْمِهِ دَخَلَ دَارَنَا قَوْمٌ مَا رَأَيْتُ أَحْسَنَ وُجُوهًا وَلَا أَنْظَفَ ثِيَابًا ولا أطيب رائحة منهم ف جاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ أَيْ يُسْرِعُونَ، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ إِسْرَاعَهُمْ رُبَّمَا كَانَ لِطَلَبِ الْعَمَلِ الْخَبِيثِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ نُقِلَ أَنَّ الْقَوْمَ دَخَلُوا دَارَ لُوطٍ وَأَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوا الْبَيْتَ الَّذِي كَانَ فِيهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَوَضَعَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدَهُ عَلَى الْبَابِ، فَلَمْ يُطِيقُوا فَتْحَهُ حَتَّى كَسَرُوهُ، فَمَسَحَ أَعْيُنَهُمْ بِيَدِهِ فَعَمُوا، فَقَالُوا: يَا لُوطُ قَدْ أَدْخَلْتَ عَلَيْنَا السَّحَرَةَ وَأَظْهَرْتَ الْفِتْنَةَ. وَلِأَهْلِ اللُّغَةِ فِي يُهْرَعُونَ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ مَا جَاءَتْ صِيغَةُ الْفَاعِلِ فِيهِ عَلَى لَفْظِ الْمَفْعُولِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ فَاعِلٌ نَحْوُ: أُولِعَ فُلَانٌ فِي الْأَمْرِ، وَأُرْعِدَ زَيْدٌ، وَزُهِيَ عَمْرٌو مِنَ الزَّهْوِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وُرُودُ الْفَاعِلِ عَلَى لَفْظِ الْمَفْعُولِ، وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ حُذِفَ فَاعِلُوهَا فَتَأْوِيلُ أُولِعَ زَيْدٌ أنه أولعه طبعه وأرعد الرجل أرعده غضبه وزهى عمرو معناه جعله ماله زاهيا وأهرع مَعْنَاهُ أَهْرَعَهُ خَوْفُهُ أَوْ حِرْصُهُ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِهْرَاعُ هُوَ الْإِسْرَاعُ مَعَ الرِّعْدَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْعَدْوُ الشَّدِيدُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ يَا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ قَتَادَةُ: الْمُرَادُ بناته لصلبه.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْمُرَادُ نِسَاءُ أُمَّتِهِ لِأَنَّهُنَّ فِي أَنْفُسِهِنَّ بَنَاتٌ وَلَهُنَّ إِضَافَةٌ إِلَيْهِ بِالْمُتَابَعَةِ وَقَبُولِ الدَّعْوَةِ. قَالَ أَهْلُ النَّحْوِ: يَكْفِي فِي حُسْنِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، لِأَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا لَهُمْ فَكَانَ كَالْأَبِ لَهُمْ. قَالَ تَعَالَى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الْأَحْزَابِ: 6] وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي هُوَ الْمُخْتَارُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِقْدَامَ الْإِنْسَانِ عَلَى عَرْضِ بناته على الأوباش والفجار أمر متبعد لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الْمُرُوءَةِ فَكَيْفَ بِأَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ؟ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَبَنَاتُهُ اللَّوَاتِي مِنْ/ صُلْبِهِ لَا تَكْفِي لِلْجَمْعِ الْعَظِيمِ. أَمَّا نِسَاءُ أُمَّتِهِ فَفِيهِنَّ كِفَايَةٌ لِلْكُلِّ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ بِنْتَانِ، وَهُمَا: زَنْتَا، وَزَعُورَا، وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْبَنَاتِ عَلَى الْبِنْتَيْنِ لَا يَجُوزُ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمَعِ ثَلَاثَةٌ، فَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا دَعَا الْقَوْمَ إِلَى الزِّنَا بِالنُّسْوَانِ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى التَّزَوُّجِ بِهِنَّ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى التَّزَوُّجِ بِهِنَّ بِشَرْطِ أَنْ يُقَدِّمُوا الْإِيمَانَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمُؤْمِنَةِ مِنَ الْكَافِرِ فِي شَرِيعَتِهِ، وَهَكَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ زَوَّجَ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ مِنْ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ وَكَانَ مُشْرِكًا وَزَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [الْبَقَرَةِ: 221] وَبِقَوْلِهِ: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [الْبَقَرَةِ: 221] وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: كَانَ لَهُ بِنْتَانِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ذَكَرَ الِاثْنَتَيْنِ بلفظ الجمع، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النِّسَاءِ: 11] فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيمِ: 4] وَقِيلَ: إِنَّهُنَّ كُنَّ أَكْثَرَ مِنَ اثْنَتَيْنِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ يَقْتَضِي كَوْنَ الْعَمَلِ الَّذِي يَطْلُبُونَهُ طَاهِرًا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ فَاسِدٌ وَلِأَنَّهُ لَا طَهَارَةَ فِي نِكَاحِ الرَّجُلِ، بَلْ هَذَا جَارٍ مَجْرَى قَوْلِنَا: اللَّه أَكْبَرُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَبِيرٌ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصَّافَّاتِ: 62] وَلَا خَيْرَ فِيهَا ولما قال أبو سفيان: اعل أحدا واعل هُبَلُ قَالَ النَّبِيُّ: «اللَّه أَعْلَى وَأَجَلُّ» وَلَا مُقَارَبَةَ بَيْنَ اللَّه وَبَيْنَ الصَّنَمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَالْحَسَنِ وَعِيسَى بْنِ عُمَرَ أَنَّهُمْ قَرَءُوا هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي قوله تعالى: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: 72] إِلَّا أَنَّ أَكْثَرَ النَّحْوِيِّينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ خَطَأٌ قَالُوا لَوْ قُرِئَ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ كَانَ هَذَا نَظِيرَ قَوْلِهِ: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِلَّا أَنَّ كَلِمَةَ «هُنَّ» قَدْ وَقَعَتْ فِي الْبَيْنِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ جَعْلِ أَطْهَرُ حَالًا وَطَوَّلُوا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ وَلَا تُخْزُونِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ، وَالْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا لِلتَّخْفِيفِ وَدَلَالَةِ الْكَسْرِ عليه. المسألة الثانية: في لفظ لا تُخْزُونِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لَا تَفْضَحُونِي فِي أَضْيَافِي، يُرِيدُ أَنَّهُمْ إِذَا هَجَمُوا عَلَى أَضْيَافِهِ بِالْمَكْرُوهِ لَحِقَتْهُ الْفَضِيحَةُ. وَالثَّانِي: لَا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَيْ لَا تُخْجِلُونِي فِيهِمْ، لِأَنَّ مُضِيفَ الضَّيْفِ يَلْزَمُهُ الْخَجَالَةُ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ قَبِيحٍ يُوصَلُ إِلَى الضَّيْفِ يُقَالُ: خَزِيَ الرَّجُلُ إِذَا اسْتَحْيَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الضيف هاهنا قَائِمٌ مَقَامَ الْأَضْيَافِ، كَمَا قَامَ الطِّفْلُ مَقَامَ الْأَطْفَالِ. فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوِ

[سورة هود (11) : آية 81]

الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا [النُّورِ: 31] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّيْفُ مَصْدَرًا فَيُسْتَغْنَى عَنْ جَمْعِهِ كَمَا يُقَالُ: رِجَالٌ صُوَّمٌ. ثُمَّ قَالَ: أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: رَشِيدٌ بِمَعْنَى مُرْشِدٍ أَيْ يَقُولُ الْحَقَّ وَيَرُدُّ هَؤُلَاءِ الْأَوْبَاشَ عَنْ أَضْيَافِي. وَالثَّانِي: رَشِيدٌ بِمَعْنَى مُرْشَدٌ، وَالْمَعْنَى: أَلَيْسَ فِيكُمْ رَجُلٌ أَرْشَدَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَى الصَّلَاحِ. وَأَسْعَدَهُ بِالسَّدَادِ وَالرَّشَادِ حَتَّى يَمْنَعَ عَنْ هَذَا الْعَمَلِ الْقَبِيحِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَاجَةٍ وَلَا شَهْوَةٍ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ مَنِ احْتَاجَ إِلَى شَيْءٍ فَكَأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ فِيهِ نَوْعُ حَقٍّ، فَلِهَذَا السَّبَبِ جُعِلَ نَفْيُ الْحَقِّ كِنَايَةً عَنْ نَفْيِ الْحَاجَةِ. الثَّانِي: أَنْ نُجْرِيَ اللَّفْظَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَنَقُولَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُنَّ لَسْنَ لَنَا بِأَزْوَاجٍ وَلَا حَقَّ لَنَا فِيهِنَّ أَلْبَتَّةَ. وَلَا يَمِيلُ أَيْضًا طَبْعُنَا إِلَيْهِنَّ فَكَيْفَ قِيَامُهُنَّ مَقَامَ الْعَمَلِ الَّذِي نُرِيدُهُ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَمَلِ الْخَبِيثِ. الثَّالِثُ: مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ لِأَنَّكَ دَعَوْتَنَا إِلَى نِكَاحِهِنَّ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ وَنَحْنُ لَا نُجِيبُكَ إِلَى ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ لَنَا فِيهِنَّ حَقٌّ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ لُوطٍ أَنَّهُ عِنْدَ سَمَاعِ هَذَا الْكَلَامِ قَالَ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: جَوَابُ «لَوْ» مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَالتَّقْدِيرُ: لَمَنَعْتُكُمْ وَلَبَالَغْتُ فِي دَفْعِكُمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرَّعْدِ: 31] وَقَوْلُهُ: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الْأَنْعَامِ: 27] قَالَ الواحدي وحذف الجواب هاهنا لِأَنَّ الْوَهْمَ يَذْهَبُ إِلَى أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَنْعِ وَالدَّفْعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَيْ لَوْ أَنَّ لِي مَا أَتَقَوَّى بِهِ عَلَيْكُمْ وَتَسْمِيَةُ مُوجِبِ الْقُوَّةِ بِالْقُوَّةِ جَائِزٌ قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ [الْأَنْفَالِ: 60] وَالْمُرَادُ السِّلَاحُ، وَقَالَ آخَرُونَ الْقُدْرَةُ عَلَى دَفْعِهِمْ، وَقَوْلُهُ: أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَوْضِعُ الْحَصِينُ الْمَنِيعُ تَشْبِيهًا لَهُ بِالرُّكْنِ الشَّدِيدِ مِنَ الْجَبَلِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْوَجْهُ هاهنا فِي عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ؟ قُلْنَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ أَوْ آوِي بِالنَّصْبِ بِإِضْمَارِ أَنْ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِيًا. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ لَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ عَلَى فَائِدَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً كَوْنُهُ بِنَفْسِهِ قَادِرًا عَلَى الدَّفْعِ وَكَوْنُهُ مُتَمَكِّنًا إِمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِمُعَاوَنَةِ غَيْرِهِ عَلَى قَهْرِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: / أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ هُوَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الدَّفْعِ لَكِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى التَّحَصُّنِ بِحِصْنٍ لِيَأْمَنَ مِنْ شَرِّهِمْ بِوَاسِطَتِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا شَاهَدَ سَفَاهَةَ الْقَوْمِ وَإِقْدَامَهُمْ عَلَى سُوءِ الْأَدَبِ تَمَنَّى حُصُولَ قُوَّةٍ قَوِيَّةٍ عَلَى الدَّفْعِ، ثُمَّ اسْتَدْرَكَ عَلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: بَلَى الْأَوْلَى أَنْ آوِيَ إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ وَهُوَ الِاعْتِصَامُ بِعِنَايَةِ اللَّه تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ: أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ كَلَامٌ مُنْفَصِلٌ عَمَّا قَبْلَهُ وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ لَا يَلْزَمُ عَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رَحِمَ اللَّه أَخِي لُوطًا كَانَ يَأْوِي إِلَى ركن شديد» . [سورة هود (11) : آية 81] قالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها مَا أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)

اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود: 80] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي غَايَةِ الْقَلَقِ وَالْحُزْنِ بِسَبَبِ إِقْدَامِ أُولَئِكَ الْأَوْبَاشِ عَلَى مَا يُوجِبُ الْفَضِيحَةَ فِي حَقِّ أَضْيَافِهِ، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَلَائِكَةُ تِلْكَ الْحَالَةَ بَشَّرُوهُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْبِشَارَاتِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ رُسُلُ اللَّه. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَصِلُونَ إِلَى مَا هَمُّوا بِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يُهْلِكُهُمْ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يُنَجِّيهِ مَعَ أَهْلِهِ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ رُكْنَكَ شَدِيدٌ وَإِنَّ نَاصِرَكَ هُوَ اللَّه تَعَالَى فَحَصَلَ لَهُ هَذِهِ الْبِشَارَاتُ، وَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُ إِنَّ قَوْمَكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَافْتَحِ الْبَابَ فَدَخَلُوا فَضَرَبَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِجَنَاحِهِ وُجُوهَهُمْ فَطَمَسَ أَعْيُنَهُمْ فَأَعْمَاهُمْ فَصَارُوا لَا يَعْرِفُونَ الطَّرِيقَ وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَى بُيُوتِهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ [الْقَمَرِ: 37] وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ أَيْ بِسُوءٍ وَمَكْرُوهٍ فَإِنَّا نُحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ فَاسْرِ مَوْصُولَةً وَالْبَاقُونَ بِقَطْعِ الْأَلْفِ وَهُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ سَرَيْتُ بِاللَّيْلِ وَأَسْرَيْتُ وَأَنْشَدَ حَسَّانُ: أَسْرَتْ إِلَيْكَ وَلَمْ تَكُنْ تَسْرِي فَجَاءَ بِاللُّغَتَيْنِ فَمَنْ قَرَأَ بِقَطْعِ الْأَلِفِ فَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 1] وَمَنْ وَصَلَ فَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [الْفَجْرِ: 4] وَالسُّرَى السَّيْرُ فِي اللَّيْلِ. يُقَالُ: سَرَى يَسْرِي إِذَا سَارَ بِاللَّيْلِ وَأَسْرَى بِفُلَانٍ إِذَا سِيرَ بِهِ بِاللَّيْلِ، وَالْقِطْعُ مِنَ اللَّيْلِ بَعْضُهُ وَهُوَ مِثْلُ الْقِطْعَةِ، يُرِيدُ اخْرُجُوا لَيْلًا لِتَسْبِقُوا نُزُولَ الْعَذَابِ الَّذِي مَوْعِدُهُ الصُّبْحُ. قَالَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ لِعَبْدِ اللَّه بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّه بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ قال هو آخر الليل سحر، وَقَالَ قَتَادَةُ: بَعْدَ طَائِفَةٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ نِصْفُ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قُطِعَ بِنِصْفَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ نَهَى مَنْ مَعَهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ وَالِالْتِفَاتُ نَظَرُ الْإِنْسَانِ إِلَى مَا وَرَاءَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ فِي الْبَلْدَةِ أَمْوَالٌ وَأَقْمِشَةٌ وَأَصْدِقَاءُ، فَالْمَلَائِكَةُ أَمَرُوهُمْ بِأَنْ يَخْرُجُوا وَيَتْرُكُوا تِلْكَ الْأَشْيَاءَ وَلَا يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا أَلْبَتَّةَ، وَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ قَطْعَ الْقَلْبِ عَنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَقَدْ يُرَادُ مِنْهُ الِانْصِرَافُ أَيْضًا. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا [يُونُسَ: 78] أَيْ لِتَصْرِفَنَا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ النَّهْيُ عَنِ التَّخَلُّفِ. ثُمَّ قَالَ: إِلَّا امْرَأَتَكَ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عمر إِلَّا امْرَأَتَكَ بِالرَّفْعِ وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَنْ نَصَبَ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ فَقَدْ جَعَلَهَا مُسْتَثْنَاةً مِنَ الْأَهْلِ عَلَى مَعْنَى فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ وَالَّذِي يَشْهَدُ بِصِحَّةِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّه فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ فَأَسْقَطَ قَوْلَهُ: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَأَمَّا الَّذِينَ رَفَعُوا فَالتَّقْدِيرُ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُوجِبُ أَنَّهَا أُمِرَتْ بِالِالْتِفَاتِ لِأَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ لَا يَقُمْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا لِزَيْدٍ بِالْقِيَامِ. وَأَجَابَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ عَنْهُ فَقَالَ: معنى إِلَّا هاهنا الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ عَلَى مَعْنَى، لَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أحد،

[سورة هود (11) : الآيات 82 إلى 83]

لَكِنِ امْرَأَتُكَ تَلْتَفِتُ فَيُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ، وَإِذَا ان هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا كَانَ الْتِفَاتُهَا مَعْصِيَةً وَيَتَأَكَّدُ مَا ذَكَرْنَا بِمَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّهَا كَانَتْ مَعَ لُوطٍ حِينَ خَرَجَ مِنَ الْقَرْيَةِ فَلَمَّا سَمِعَتْ هَذَا الْعَذَابَ الْتَفَتَتْ وَقَالَتْ يَا قَوْمَاهُ فَأَصَابَهَا حَجَرٌ فَأَهْلَكَهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالرَّفْعِ أَقْوَى، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالنَّصْبِ تَمْنَعُ مِنْ خُرُوجِهَا مَعَ أَهْلِهِ لَكِنْ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الِاسْتِثْنَاءُ يَكُونُ مِنَ الْأَهْلِ كَأَنَّهُ أَمَرَ لُوطًا بِأَنْ يَخْرُجَ بِأَهْلِهِ وَيَتْرُكَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَإِنَّهَا هَالِكَةٌ مَعَ الْهَالِكِينَ وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ فَإِنَّهَا أَقْوَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعَ الْقِرَاءَةِ بِالنَّصْبِ يَبْقَى الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا/ وَمَعَ الْقِرَاءَةِ بِالرَّفْعِ يَصِيرُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا. ثُمَّ بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مُصِيبُهَا ذَلِكَ الْعَذَابُ الَّذِي أَصَابَهُمْ. ثُمَّ قَالُوا: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ روي أنهم لما قالوا لوط عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ قَالَ أُرِيدُ أَعْجَلَ مِنْ ذَلِكَ بَلِ السَّاعَةَ فَقَالُوا: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ إِنَّ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَمِعَ هَذَا الْكَلَامَ خَرَجَ بِأَهْلِهِ في الليل. [سورة هود (11) : الآيات 82 الى 83] فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْأَمْرِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَا هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ حَقِيقَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ. الثَّانِي: أَنَّ الأمر لا يمكن حمله هاهنا عَلَى الْعَذَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَهَذَا الْجَعْلُ هُوَ الْعَذَابُ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرْطٌ وَالْعَذَابُ جَزَاءٌ، وَالشَّرْطُ غَيْرُ الْجَزَاءِ، فَهَذَا الْأَمْرُ غَيْرُ الْعَذَابِ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ قَالَ إِنَّهُ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ [هُودٍ: 70] فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَأْمُورِينَ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى بِالذَّهَابِ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَبِإِيصَالِ هَذَا الْعَذَابِ إِلَيْهِمْ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ جَمْعًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِأَنْ يُخَرِّبُوا تِلْكَ الْمَدَائِنَ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَلَمَّا جَاءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ أَقْدَمُوا عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا إِشَارَةً إِلَى ذَلِكَ التَّكْلِيفِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلُوا عَالِيَهَا سَافِلَهَا، لِأَنَّ الْفِعْلَ صَدَرَ عَنْ ذَلِكَ الْمَأْمُورِ. قُلْنَا: هَذَا لَا يَلْزَمُ عَلَى مَذْهَبِنَا، لِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ فِعْلُ اللَّه تَعَالَى عِنْدَنَا. وَأَيْضًا أَنَّ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُمْ إِنَّمَا وَقَعَ بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَبِقُدْرَتِهِ، فَلَمْ يَبْعُدْ إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّ الْفِعْلَ كَمَا تَحْسُنُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْمُبَاشِرِ، فَقَدْ تَحْسُنُ أَيْضًا إِضَافَتُهُ إِلَى السَّبَبِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ هاهنا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ: 40] وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ الْأَمْرِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ الْعَذَابَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيُحْتَاجُ إِلَى الْإِضْمَارِ، وَالْمَعْنَى: وَلَمَّا جَاءَ وَقْتُ عَذَابِنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ قَدْ وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِنَوْعَيْنِ مِنَ الْوَصْفِ فَالْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَدْخَلَ جَنَاحَهُ الْوَاحِدَ تَحْتَ مَدَائِنِ قَوْمِ لُوطِ وَقَلَعَهَا وَصَعِدَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ نَهِيقَ الْحَمِيرِ وَنُبَاحَ الْكِلَابِ وَصِيَاحَ الدُّيُوكِ، وَلَمْ تَنْكَفِئْ لَهُمْ جَرَّةٌ وَلَمْ يَنْكَبَّ لَهُمْ إِنَاءٌ، ثُمَّ قَلَبَهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً وَضَرَبَهَا عَلَى الْأَرْضِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ كَانَ مُعْجِزَةً قَاهِرَةً مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَلْعَ الْأَرْضِ وَإِصْعَادَهَا إِلَى قَرِيبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِعْلٌ خَارِقٌ لِلْعَادَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ضَرْبَهَا مِنْ ذَلِكَ الْبُعْدِ الْبَعِيدِ عَلَى الْأَرْضِ بِحَيْثُ لَمْ تَتَحَرَّكْ سَائِرُ الْقُرَى الْمُحِيطَةِ بِهَا أَلْبَتَّةَ، وَلَمْ تَصِلِ الْآفَةُ إِلَى لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَهْلِهِ مَعَ قُرْبِ مَكَانِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مُعْجِزَةٌ قَاهِرَةٌ أَيْضًا. الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ وَاخْتَلَفُوا فِي السِّجِّيلِ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ فَارِسِيٌّ معرب وأصله سنگ گل وَأَنَّهُ شَيْءٌ مُرَكَّبٌ مِنَ الْحَجَرِ وَالطِّينِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فِي غَايَةِ الصَّلَابَةِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: لَمَّا عَرَّبَتْهُ الْعَرَبُ صَارَ عَرَبِيًّا وَقَدْ عَرَّبَتْ حُرُوفًا كَثِيرَةً كَالدِّيبَاجِ وَالدِّيوَانِ وَالْإِسْتَبْرَقِ. وَالثَّانِي: سِجِّيلٌ، أَيْ مِثْلُ السَّجْلِ وَهُوَ الدَّلْوُ الْعَظِيمُ. وَالثَّالِثُ: سِجِّيلٌ، أَيْ شَدِيدٌ مِنَ الْحِجَارَةِ. الرَّابِعُ: مُرْسَلَةٌ عَلَيْهِمْ مِنْ أَسْجَلْتُهُ إِذَا أَرْسَلْتَهُ وَهُوَ فَعِيلٌ مِنْهُ. الْخَامِسُ: مِنْ أَسْجَلْتُهُ، أَيْ أَعْطَيْتُهُ تَقْدِيرُهُ مِثْلُ الْعَطِيَّةِ فِي الْإِدْرَارِ، وَقِيلَ: كَانَ كُتِبَ عَلَيْهَا أَسَامِي الْمُعَذَّبِينَ. السَّادِسُ: وَهُوَ مِنَ السِّجِلِّ وَهُوَ الْكِتَابُ تَقْدِيرُهُ مِنْ مَكْتُوبٍ فِي الْأَزَلِ أَيْ كَتَبَ اللَّه أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا، وَالسِّجِّيلُ أُخِذَ مِنَ السَّجْلِ وَهُوَ الدَّلْوُ الْعَظِيمَةُ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ أَحْكَامًا كَثِيرَةً، وَقِيلَ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْمُسَاجَلَةِ وَهِيَ الْمُفَاخِرَةُ. وَالسَّابِعُ: مِنْ سِجِّيلٍ أَيْ مِنْ جَهَنَّمَ أُبْدِلَتِ النُّونُ لَامًا، وَالثَّامِنُ: مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَتُسَمَّى سِجِّيلًا عَنْ أَبِي زَيْدٍ، وَالتَّاسِعُ: السِّجِّيلُ الطِّينُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: حِجارَةً مِنْ طِينٍ [الذَّارِيَاتِ: 33] وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ. قَالَ الْحَسَنُ كَانَ أَصْلُ الْحَجَرِ هُوَ مِنَ الطِّينِ، إِلَّا أَنَّهُ صَلُبَ بِمُرُورِ الزَّمَانِ، وَالْعَاشِرُ: سِجِّيلٌ مَوْضِعُ الْحِجَارَةِ، وَهِيَ جِبَالٌ مَخْصُوصَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النُّورِ: 43] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ تِلْكَ الْحِجَارَةَ بِصِفَاتٍ: فَالصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهَا مِنْ سِجِّيلٍ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْضُودٍ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هُوَ مَفْعُولٌ مِنَ النَّضْدِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الشَّيْءِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تِلْكَ الْحِجَارَةَ كَانَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ فِي النُّزُولِ فَأُتِيَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ حَجَرٍ فَإِنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْأَجْزَاءِ مَنْضُودٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَمُلْتَصِقٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَدْ خَلَقَهَا فِي مَعَادِنِهَا وَنَضَّدَ بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَأَعَدَّهَا لِإِهْلَاكِ الظَّلَمَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: مَنْضُودٍ صِفَةٌ لِلسِّجِّيلِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: مُسَوَّمَةً، وَهَذِهِ الصِّفَةُ صِفَةٌ لِلْأَحْجَارِ وَمَعْنَاهَا الْمُعَلَّمَةُ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ [آلِ عِمْرَانَ: 14] وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تِلْكَ الْعَلَامَةِ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: كَانَ عَلَيْهَا أَمْثَالُ الْخَوَاتِيمِ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ صَالِحٍ: رَأَيْتُ مِنْهَا عِنْدَ أُمِّ هَانِئٍ حِجَارَةً فِيهَا خُطُوطٌ حُمْرٌ عَلَى هَيْئَةِ الْجِزْعِ. الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ عَلَيْهَا سِيمَا لَا تُشَارِكُ حِجَارَةَ الْأَرْضِ، وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَهَا لِلْعَذَابِ. الرَّابِعُ: قَالَ الرَّبِيعُ: مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ حَجَرٍ اسْمُ مَنْ رُمِيَ بِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: عِنْدَ رَبِّكَ أَيْ فِي خَزَائِنِهِ الَّتِي لَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا أَحَدٌ إِلَّا هُوَ.

[سورة هود (11) : الآيات 84 إلى 86]

ثُمَّ قَالَ: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ يَعْنِي بِهِ كُفَّارَ مَكَّةَ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى يَرْمِيهِمْ بِهَا. عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ هَذَا فَقَالَ: يَعْنِي عَنْ ظَالِمِي أُمَّتِكَ، مَا مِنْ ظَالِمٍ مِنْهُمْ إِلَّا وَهُوَ بِمَعْرِضِ حَجَرٍ يَسْقُطُ عَلَيْهِ مِنْ سَاعَةٍ إِلَى سَاعَةٍ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَما هِيَ لِلْقُرَى. أَيْ وَمَا تِلْكَ الْقُرَى الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا هَذِهِ الْوَاقِعَةُ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ بِبَعِيدٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرَى كَانَتْ فِي الشَّأْمِ، وهي قريب من مكة. [سورة هود (11) : الآيات 84 الى 86] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ السَّادِسَةُ مِنَ الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَدِينَ اسْمُ ابْنٍ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ صَارَ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ مَدْيَنَ اسْمُ مَدِينَةٍ بَنَاهَا مَدْيَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ فَحُذِفَ الْأَهْلُ. وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَشْرَعُونَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ، فَلِهَذَا قَالَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ يَشْرَعُونَ فِي الْأَهَمِّ ثُمَّ الْأَهَمِّ، وَلَمَّا كَانَ الْمُعْتَادُ مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ الْبَخْسَ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، دَعَاهُمْ إِلَى تَرْكِ هَذِهِ الْعَادَةِ فَقَالَ: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ وَالنَّقْصُ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْإِيفَاءُ مِنْ قِبَلِهِمْ فَيَنْقُصُونَ مِنْ قَدْرِهِ. وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الِاسْتِيفَاءُ فَيَأْخُذُونَ أَزْيَدَ مِنَ الْوَاجِبِ وَذَلِكَ يُوجِبُ نُقْصَانَ حَقِّ الْغَيْرِ، وَفِي الْقِسْمَيْنِ حَصَلَ النُّقْصَانُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ. ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حَذَّرَهُمْ مِنْ غَلَاءِ السِّعْرِ وَزَوَالِ النِّعْمَةِ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَكَأَنَّهُ قَالَ: اتْرُكُوا هَذَا التَّطْفِيفَ وَإِلَّا أَزَالَ اللَّه عَنْكُمْ مَا حَصَلَ عِنْدَكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالرَّاحَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ تَعَالَى أَتَاكُمْ بِالْخَيْرِ الْكَثِيرِ وَالْمَالِ وَالرُّخْصِ وَالسَّعَةِ فَلَا حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى هَذَا التَّطْفِيفِ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَخَافُ أَيْ أَعْلَمُ حُصُولَ عَذَابِ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ هُوَ الْخَوْفُ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ الْعَمَلَ خَشْيَةَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُمُ الْعَذَابُ وَلَمَّا كَانَ هَذَا التَّخْوِيفُ قَائِمًا فَالْحَاصِلُ هُوَ الظَّنُّ لَا الْعِلْمُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى تَوَعَّدَهُمْ بِعَذَابٍ يُحِيطُ بِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ أَحَدٌ، وَالْمُحِيطُ مِنْ صِفَةِ الْيَوْمِ فِي الظَّاهِرِ، وَفِي الْمَعْنَى مِنْ صِفَةِ الْعَذَابِ وَذَلِكَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ كَقَوْلِهِ: هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [هُودٍ: 77] . الْبَحْثُ الثَّالِثُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْعَذَابِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَذَابُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي نُصِبَ لِإِحَاطَةِ الْعَذَابِ بِالْمُعَذَّبِينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ عَذَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ/ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا كَمَا فِي حَقِّ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَقْرَبُ دُخُولُ كُلِّ عَذَابٍ فِيهِ وَإِحَاطَةُ الْعَذَابِ بِهِمْ

كَإِحَاطَةِ الدَّائِرَةِ بِمَا فِي دَاخِلِهَا فَيَنَالُهُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي الْوَعْدِ كَقَوْلِهِ: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الْكَهْفِ: 42] ثُمَّ قَالَ: وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ. فَإِنْ قِيلَ: وَقَعَ التَّكْرِيرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ ثُمَّ قَالَ: أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ وَهَذَا عَيْنُ الْأَوَّلِ. ثُمَّ قَالَ: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَهَذَا عَيْنُ مَا تَقَدَّمَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّكْرِيرِ؟ قُلْنَا: إِنَّ فِيهِ وُجُوهًا: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَى ذَلِكَ العمل فاحتج فِي الْمَنْعِ مِنْهُ إِلَى الْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ، وَالتَّكْرِيرُ يُفِيدُ التَّأْكِيدَ وَشِدَّةَ الْعِنَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ نَهْيٌ عَنِ التَّنْقِيصِ وَقَوْلَهُ: أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أَمْرٌ بِإِيفَاءِ الْعَدْلِ، وَالنَّهْيُ عَنْ ضِدِّ الشَّيْءِ مُغَايِرٌ لِلْأَمْرِ بِهِ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: النَّهْيُ عَنْ ضِدِّ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِهِ، فَكَانَ التَّكْرِيرُ لَازِمًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالشَّيْءِ، وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا تَقُولُ: صِلْ قَرَابَتَكَ وَلَا تَقْطَعْهُمْ، فَيَدُلُّ هَذَا الْجَمْعُ عَلَى غَايَةِ التَّأْكِيدِ. الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْتُمْ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَنِ التَّنْقِيصِ وَيَنْهَى أَيْضًا عَنْ أَصْلِ الْمُعَامَلَةِ، فَهُوَ تَعَالَى مَنَعَ مِنَ التَّنْقِيصِ وَأَمَرَ بِإِيفَاءِ الْحَقِّ، لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَمْنَعْ عَنِ الْمُعَامَلَاتِ وَلَمْ يَنْهَ عَنِ الْمُبَايَعَاتِ، وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنَ التَّطْفِيفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ يَقُولُونَ إِنَّ الْمُبَايَعَاتِ لَا تَنْفَكُّ عَنِ التَّطْفِيفِ وَمَنْعِ الْحُقُوقِ فَكَانَتِ الْمُبَايَعَاتُ مُحَرَّمَةً بِالْكُلِّيَّةِ، فَلِأَجْلِ إِبْطَالِ هَذَا الْخَيَالِ، مَنَعَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ التَّطْفِيفِ وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى أَمَرَ بِالْإِيفَاءِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ ثَالِثًا: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ فَلَيْسَ بِتَكْرِيرٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْمَنْعَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِالنُّقْصَانِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَمَّ الْحُكْمَ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فَظَهَرَ بِهَذَا الْبَيَانِ أَنَّهَا غَيْرُ مُكَرَّرَةٍ، بَلْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ وَفِي الثَّانِيَةِ قَالَ: أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ وَالْإِيفَاءُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا أَعْطَى قَدْرًا زَائِدًا عَلَى الْحَقِّ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِغَسْلِ الْوَجْهِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ غَسْلِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الرَّأْسِ. فَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى نَهَى عَنِ النُّقْصَانِ، وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ أَمَرَ بِإِعْطَاءِ قَدْرٍ مِنَ الزِّيَادَةِ وَلَا يَحْصُلُ الْجَزْمُ وَالْيَقِينُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ/ إِلَّا عِنْدَ أَدَاءِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الزِّيَادَةِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى نَهَى أَوَّلًا عَنْ سَعْيِ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَجْعَلَ مَالَ غَيْرِهِ نَاقِصًا لتحصل له تلك الزيادة، وفي الثاني أَمَرَ بِالسَّعْيِ فِي تَنْقِيصِ مَالِ نَفْسِهِ لِيَخْرُجَ بِالْيَقِينِ عَنِ الْعُهْدَةِ وَقَوْلُهُ: بِالْقِسْطِ يَعْنِي بِالْعَدْلِ وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِإِيفَاءِ الْحَقِّ بِحَيْثُ يَحْصُلُ مَعَهُ الْيَقِينُ بِالْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ فَالْأَمْرُ بِإِيتَاءِ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ حَاصِلٍ. ثُمَّ قَالَ: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَالْبَخْسُ هُوَ النَّقْصُ فِي كُلِّ الْأَشْيَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى دَلَّتْ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ النَّقْصِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ النَّقْصِ فِي كُلِّ الْأَشْيَاءِ. ثُمَّ قَالَ: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. فَإِنْ قِيلَ: الْعَثْوُ الْفَسَادُ التَّامُّ فَقَوْلُهُ: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ جَارٍ مَجْرَى أَنْ يُقَالَ: وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.

[سورة هود (11) : آية 87]

قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ سَعَى فِي إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَى الْغَيْرِ فَقَدْ حَمَلَ ذَلِكَ الْغَيْرَ عَلَى السَّعْيِ إِلَى إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَيْهِ فَقَوْلُهُ: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ مَعْنَاهُ وَلَا تَسْعَوْا فِي إِفْسَادِ مَصَالِحِ الْغَيْرِ فَإِنَّ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ سَعْيٌ مِنْكُمْ فِي إِفْسَادِ مَصَالِحِ أَنْفُسِكُمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ مَصَالِحَ دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ. وَالثَّالِثُ: وَلَا تَعْثَوْا فِي الأرض مفسدين مصالح الأديان. ثم قال: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ قُرِئَ تَقِيَّةُ اللَّه وَهِيَ تَقْوَاهُ وَمُرَاقَبَتُهُ الَّتِي تَصْرِفُ عَنِ الْمَعَاصِي. ثُمَّ نَقُولُ الْمَعْنَى: مَا أَبْقَى اللَّه لَكُمْ مِنَ الْحَلَالِ بَعْدَ إِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ خَيْرٌ مِنَ الْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ يَعْنِي الْمَالُ الْحَلَالُ الَّذِي يَبْقَى لَكُمْ خَيْرٌ مِنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ الْحَاصِلَةِ بِطَرِيقِ الْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ وَقَالَ الْحَسَنُ: بَقِيَّةُ اللَّه أَيْ طَاعَةُ اللَّه خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ الْقَلِيلِ، لِأَنَّ ثَوَابَ الطَّاعَةِ يَبْقَى أَبَدًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: حَظُّكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، وَأَقُولُ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْبَقِيَّةِ إِمَّا الْمَالُ الَّذِي يُبْقَى عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا ثَوَابُ اللَّه، وَإِمَّا كَوْنُهُ تَعَالَى رَاضِيًا عَنْهُ وَالْكُلُّ خَيْرٌ مِنْ قَدْرِ التَّطْفِيفِ، أَمَّا الْمَالُ الْبَاقِي فَلِأَنَّ النَّاسَ إِذَا عَرَفُوا إِنْسَانًا بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْخِيَانَةِ اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ وَرَجَعُوا فِي كُلِّ الْمُعَامَلَاتِ إِلَيْهِ فَيُفْتَحُ عَلَيْهِ بَابُ الرِّزْقِ، وَإِذَا عَرَفُوهُ بِالْخِيَانَةِ وَالْمَكْرِ انْصَرَفُوا عَنْهُ وَلَمْ يُخَالِطُوهُ الْبَتَّةَ فَتُضَيَّقُ أَبْوَابُ الرِّزْقِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِنْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْبَقِيَّةَ عَلَى الثَّوَابِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ كُلَّ الدُّنْيَا تَفْنَى وَتَنْقَرِضُ وَثَوَابُ اللَّه بَاقٍ، وَأَمَّا إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى حُصُولِ رِضَا اللَّه تَعَالَى فَالْأَمْرُ فِيهِ ظَاهِرٌ، فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَنَّ بَقِيَّةَ اللَّه خَيْرٌ. ثُمَّ قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّمَا شَرَطَ الْإِيمَانَ فِي كَوْنِهِ خَيْرًا لَهُمْ لِأَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ مُقِرِّينَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَرَفُوا أَنَّ السَّعْيَ فِي تَحْصِيلِ الثَّوَابِ وَفِي الْحَذَرِ مِنَ الْعِقَابِ خَيْرٌ لَهُمْ مِنَ السَّعْيِ فِي تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْقَلِيلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ بِظَاهِرِهَا عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْتَرِزْ/ عَنْ هَذَا التَّطْفِيفِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنِّي نَصَحْتُكُمْ وَأَرْشَدْتُكُمْ إِلَى الْخَيْرِ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أَيْ لَا قُدْرَةَ لِي عَلَى مَنْعِكُمْ عَنْ هَذَا الْعَمَلِ الْقَبِيحِ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ أَشَارَ فِيمَا تَقَدَّمَ إِلَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ يُوجِبُ زَوَالَ نِعْمَةِ اللَّه تَعَالَى فَقَالَ: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ يَعْنِي لَوْ لَمْ تَتْرُكُوا هَذَا الْعَمَلَ الْقَبِيحَ لَزَالَتْ نِعَمُ اللَّه عَنْكُمْ وَأَنَا لَا أَقْدِرُ على حفظها عليكم في تلك الحالة. [سورة هود (11) : آية 87] قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) [في قوله تعالى قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ أَصَلاتُكَ بِغَيْرِ وَاوٍ. وَالْبَاقُونَ أَصَلَوَاتُكَ عَلَى الْجَمْعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ بِشَيْئَيْنِ، بِالتَّوْحِيدِ وَتَرْكِ الْبَخْسِ فَالْقَوْمُ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ أَمْرَهُ بِهَذَيْنَ النَّوْعَيْنِ مِنَ الطَّاعَةِ، فَقَوْلُهُ: أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ وَقَوْلُهُ: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا مَا نَشؤُا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِتَرْكِ الْبَخْسِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَدْ أَشَارُوا فِيهِ إِلَى التَّمَسُّكِ بِطَرِيقَةِ التقليد،

[سورة هود (11) : الآيات 88 إلى 90]

لِأَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا مِنْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِتَرْكِ عِبَادَةِ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ يَعْنِي الطَّرِيقَةَ الَّتِي أَخَذْنَاهَا مِنْ آبَائِنَا وَأَسْلَافِنَا كَيْفَ نَتْرُكُهَا، وَذَلِكَ تَمَسُّكٌ بِمَحْضِ التَّقْلِيدِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي لَفْظِ الصلاة وهاهنا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الدِّينُ وَالْإِيمَانُ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَظْهَرُ شِعَارِ الدِّينِ فَجَعَلُوا ذِكْرَ الصَّلَاةِ كِنَايَةً عَنِ الدِّينِ، أَوْ نَقُولُ: الصَّلَاةُ أَصْلُهَا مِنَ الِاتِّبَاعِ وَمِنْهُ أُخِذَ الْمُصَلِّي مِنَ الْخَيْلِ الَّذِي يَتْلُو السَّابِقَ لِأَنَّ رَأْسَهُ يَكُونُ عَلَى صِلْوَيِ السَّابِقِ وَهُمَا نَاحِيَتَا الْفَخِذَيْنِ وَالْمُرَادُ: دِينُكَ يَأْمُرُكَ بِذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هَذِهِ الْأَعْمَالُ الْمَخْصُوصَةُ، رُوِيَ أَنَّ شُعَيْبًا كَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَكَانَ قَوْمُهُ إِذَا رَأَوْهُ يُصَلِّي تَغَامَزُوا وَتَضَاحَكُوا، فَقَصَدُوا بِقَوْلِهِمْ: أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ السُّخْرِيَةَ وَالْهَزْءَ، وَكَمَا أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ مَعْتُوهًا يُطَالِعُ كُتُبًا ثُمَّ يَذْكُرُ كَلَامًا فَاسِدًا فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مِنْ مُطَالَعَةِ تِلْكَ الْكُتُبِ عَلَى سَبِيلِ الْهَزْءِ والسخرية فكذا هاهنا. فَإِنْ قِيلَ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ وَهُمْ إِنَّمَا ذَكَرُوا هَذَا الْكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَهُمْ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَ كَوْنَهُمْ فَاعِلِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ ما يشاؤن، فَكَيْفَ وَجْهُ التَّأْوِيلِ. قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ: أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَأَنْ نَتْرُكَ فِعْلَ مَا نَشَاءُ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ: مَا يَعْبُدُ آباؤُنا وَالثَّانِي: أَنْ تُجْعَلَ الصَّلَاةُ آمِرَةً وَنَاهِيَةً وَالتَّقْدِيرُ: أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ بِأَنْ نَتْرُكَ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ وَتَنْهَاكَ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ أَوْ أَنْ تَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا تَشَاءُ بِتَاءِ الْخِطَابِ فِيهِمَا وَهُوَ مَا كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ تَرْكِ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ وَالِاقْتِنَاعِ بِالْحَلَالِ الْقَلِيلِ وَأَنَّهُ خَيْرٌ مِنَ الْحَرَامِ الْكَثِيرِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِنَّكَ لَأَنْتَ السَّفِيهُ الْجَاهِلُ إِلَّا أَنَّهُمْ عَكَسُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ بِهِ، كَمَا يُقَالُ لِلْبَخِيلِ الْخَسِيسِ لَوْ رَآكَ حَاتِمٌ لَسَجَدَ لَكَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنَّكَ مَوْصُوفٌ عِنْدَ نَفْسِكَ وَعِنْدَ قَوْمِكَ بِالْحِلْمِ وَالرُّشْدِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ بِأَنَّهُ حَلِيمٌ رَشِيدٌ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِمُفَارَقَةِ طَرِيقَتِهِمْ قَالُوا لَهُ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ الْمَعْرُوفُ الطَّرِيقَةَ فِي هَذَا الْبَابِ، فَكَيْفَ تَنْهَانَا عَنْ دِينٍ أَلْفَيْنَاهُ مِنْ آبَائِنَا وَأَسْلَافِنَا، وَالْمَقْصُودُ اسْتِبْعَادُ مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ مِمَّنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِالْحِلْمِ وَالرُّشْدِ وَهَذَا الْوَجْهُ أصوب الوجوه. [سورة هود (11) : الآيات 88 الى 90] قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تعالى حكى عَنْ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَوَابِ عَنْ كَلِمَاتِهِمْ

فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي إِشَارَةٌ إِلَى مَا آتَاهُ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ وَالدِّينِ وَالنُّبُوَّةِ وَقَوْلُهُ: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً إِشَارَةٌ إِلَى مَا آتَاهُ اللَّه مِنَ الْمَالِ الْحَلَالِ، فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ كَثِيرَ الْمَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّ جَوَابَ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا آتَانِي جَمِيعَ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ وَالسَّعَادَاتِ الْجُسْمَانِيَّةَ وَهِيَ الْمَالُ وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ فَهَلْ يَسَعُنِي مَعَ هَذَا الْإِنْعَامِ الْعَظِيمِ أَنْ أَخُونَ فِي وَحْيِهِ وَأَنْ أُخَالِفَهُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَهَذَا الْجَوَابُ شَدِيدُ الْمُطَابَقَةِ لِمَا تَقَدَّمَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِكَ مَعَ حِلْمِكَ وَرُشْدِكَ أَنْ تَنْهَانَا عَنْ دِينِ آبَائِنَا فَكَأَنَّهُ قَالَ إِنَّمَا أَقْدَمْتُ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ، لِأَنَّ نِعَمَ اللَّه تَعَالَى عِنْدِي كَثِيرَةٌ وَهُوَ أَمَرَنِي بِهَذَا التَّبْلِيغِ وَالرِّسَالَةِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِي مَعَ كَثْرَةِ نِعَمِ اللَّه تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ وَتَكْلِيفَهُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَمَّا ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّه وَالِاشْتِغَالَ بِالْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ عَمَلٌ مُنْكَرٌ، ثُمَّ أَنَا رَجُلٌ أُرِيدُ إِصْلَاحَ أَحْوَالِكُمْ وَلَا أَحْتَاجُ إِلَى أَمْوَالِكُمْ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى آتَانِي رِزْقًا حَسَنًا فَهَلْ يَسَعُنِي مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَنْ أَخُونَ فِي وَحْيِ اللَّه تَعَالَى وَفِي حُكْمِهِ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أَيْ مَا حَصَلَ عِنْدَهُ مِنَ الْمُعْجِزَةِ وَقَوْلُهُ: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُمْ أَجْرًا وَلَا جُعْلًا وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قولهم: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الرِّزْقَ إِنَّمَا حَصَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى وَبِإِعَانَتِهِ وَأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْكَسْبِ فِيهِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِعْزَازَ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَالْإِذْلَالَ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ الْكُلُّ مِنَ اللَّه تَعَالَى فَأَنَا لَا أُبَالِي بِمُخَالَفَتِكُمْ وَلَا أَفْرَحُ بِمُوَافَقَتِكُمْ، وَإِنَّمَا أَكُونُ عَلَى تَقْرِيرِ دِينِ اللَّه تَعَالَى وَإِيضَاحِ شَرَائِعِ اللَّه تَعَالَى. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْأَجْوِبَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَوْلُهُ: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يُقَالُ خَالَفَنِي فُلَانٌ إِلَى كَذَا إِذَا قَصَدَهُ وَأَنْتَ مُوَلٍّ عَنْهُ وَخَالَفَنِي عَنْهُ إِذَا وَلَّى عَنْهُ وَأَنْتَ قَاصِدُهُ، وَيَلْقَاكَ الرَّجُلُ صَادِرًا عَنِ الْمَاءِ فَتَسْأَلُهُ عَنْ صَاحِبِهِ. فَيَقُولُ: خَالَفَنِي إِلَى الْمَاءِ، يُرِيدُ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ وَارِدًا وَأَنَا ذَاهِبٌ عَنْهُ صَادِرًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ يَعْنِي أَنْ أَسْبِقَكُمْ إِلَى شَهَوَاتِكُمُ الَّتِي نَهَيْتُكُمْ عَنْهَا لِأَسْتَبِدَّ بِهَا دُونَكُمْ فَهَذَا بَيَانُ اللُّغَةِ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْقَوْمَ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُ حَلِيمٌ رَشِيدٌ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْعَقْلِ، وَكَمَالُ الْعَقْلِ يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى اخْتِيَارِ الطَّرِيقِ الْأَصْوَبِ الْأَصْلَحِ، فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُمْ لَمَّا اعْتَرَفْتُمْ بِكَمَالِ عَقْلِي فَاعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي اخْتَارَهُ عَقْلِي لِنَفْسِي لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَصْوَبَ الطُّرُقِ وَأَصْلَحَهَا وَالدَّعْوَةُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّه تَعَالَى وَتَرْكُ الْبَخْسِ وَالنُّقْصَانِ يَرْجِعُ حَاصِلُهُمَا إِلَى جُزْأَيْنِ، التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّه تَعَالَى وَأَنَا مُوَاظِبٌ عَلَيْهِمَا غَيْرُ تَارِكٍ لَهُمَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَلْبَتَّةَ فَلَمَّا اعْتَرَفْتُمْ لِي بِالْحِلْمِ وَالرُّشْدِ وَتَرَوْنَ أَنِّي لَا أَتْرُكُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، فَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ خَيْرُ الطُّرُقِ، وَأَشْرَفُ الْأَدْيَانِ وَالشَّرَائِعِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ قَوْلُهُ: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَالْمَعْنَى مَا أُرِيدُ إِلَّا أَنْ أُصْلِحَكُمْ بِمَوْعِظَتِي وَنَصِيحَتِي، وَقَوْلُهُ: مَا اسْتَطَعْتُ فِيهِ وُجُوهٌ: الأول:

أَنَّهُ ظَرْفٌ وَالتَّقْدِيرُ: مُدَّةَ اسْتِطَاعَتِي لِلْإِصْلَاحِ وَمَا دُمْتُ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ لَا آلُو فِيهِ جُهْدًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْإِصْلَاحِ، أَيِ الْمِقْدَارُ الَّذِي اسْتَطَعْتُ مِنْهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ أَيْ مَا أُرِيدُ إِلَّا أَنْ أُصْلِحَ مَا اسْتَطَعْتُ إِصْلَاحَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا قَدْ أَقَرُّوا بأنه حليم رشيد، وإما أَقَرُّوا لَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مَشْهُورًا فِيمَا بَيْنَ الْخَلْقِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُمْ إِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ مِنْ حَالِي أَنِّي لَا أَسْعَى إِلَّا فِي الْإِصْلَاحِ وَإِزَالَةِ الْفَسَادِ وَالْخُصُومَةِ، فَلَمَّا أَمَرْتُكُمْ بِالتَّوْحِيدِ وَتَرْكِ إِيذَاءِ النَّاسِ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ دِينُ حَقٍّ وَأَنَّهُ لَيْسَ غَرَضِي مِنْهُ إِيقَاعَ الْخُصُومَةِ وَإِثَارَةَ الْفِتْنَةِ، فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ أَنِّي أَبْغَضُ ذَلِكَ الطَّرِيقَ وَلَا أَدُورُ إِلَّا عَلَى مَا يُوجِبُ الصُّلْحَ وَالصَّلَاحَ بِقَدْرِ طَاقَتِي، وَذَلِكَ هُوَ الْإِبْلَاغُ وَالْإِنْذَارُ، وَأَمَّا الْإِجْبَارُ عَلَى الطَّاعَةِ فَلَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ وَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ تَوَكُّلَهُ وَاعْتِمَادَهُ فِي تَنْفِيذِ كُلِّ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ عَلَى تَوْفِيقِ اللَّه تَعَالَى وَهِدَايَتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوَكَّلْتُ إِشَارَةٌ إِلَى مَحْضِ التَّوْحِيدِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوَكَّلْتُ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَى اللَّه تَعَالَى وَكَيْفَ وَكُلُّ مَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ فَانٍ بِذَاتِهِ، وَلَا يَحْصُلُ إِلَّا بِإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزِ التَّوَكُّلُ إِلَّا عَلَى اللَّه تَعَالَى وَأَعْظَمُ مَرَاتِبِ مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَعَادِ، وَهُوَ أَيْضًا يُفِيدُ الْحَصْرَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِلَيْهِ أُنِيبُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَرْجِعَ لِلْخَلْقِ إِلَّا إِلَى اللَّه تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا ذُكِرَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «ذَاكَ خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ» لِحُسْنِ مُرَاجَعَتِهِ فِي كَلَامِهِ بَيْنَ قَوْمِهِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَيا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : جَرَمَ مِثْلُ كَسَبَ فِي تَعْدِيَتِهِ تَارَةً إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَأُخْرَى إِلَى مَفْعُولَيْنِ يُقَالُ جَرَمَ ذَنْبًا وَكَسَبَهُ وَجَرَّمَهُ ذَنْبًا وَكَسَّبَهُ إِيَّاهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ أَيْ لَا يُكْسِبَنَّكُمْ شِقَاقِي إِصَابَةَ الْعَذَابِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ يَجْرِمَنَّكُمْ بِضَمِّ الْيَاءِ مَنْ أَجْرَمْتُهُ ذَنْبًا إِذَا جَعَلْتَهُ جَارِمًا لَهُ أَيْ كَاسِبًا لَهُ. وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ جَرَمَ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ جَرَمْتُهُ ذَنْبًا وَأَجْرَمْتُهُ إِيَّاهُ، وَالْقِرَاءَتَانِ مُسْتَوِيَتَانِ فِي الْمَعْنَى لَا تَفَاوُتَ بَيْنِهِمَا إِلَّا أَنَّ الْمَشْهُورَةَ أَفْصَحُ لَفْظًا كَمَا أَنَّ كَسَّبَهُ مَالًا أَفْصَحُ مَنْ أَكْسَبَهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ لَا تُكْسِبَنَّكُمْ مُعَادَاتُكُمْ إِيَّايَ أي يُصِيبَكُمْ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا مِثْلَ مَا حَصَلَ لِقَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْغَرَقِ، وَلِقَوْمِ هُودٍ مِنَ الرِّيحِ الْعَقِيمِ وَلِقَوْمِ صَالِحٍ مِنَ الرَّجْفَةِ، وَلِقَوْمِ لُوطٍ مِنَ الْخَسْفِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْبُعْدِ فِي الْمَكَانِ لِأَنَّ بِلَادَ قَوْمِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَرِيبَةٌ مِنْ مَدْيَنَ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْبُعْدِ فِي الزَّمَانِ لِأَنَّ إِهْلَاكَ قَوْمِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْرَبُ الْإِهْلَاكَاتِ الَّتِي عَرَفَهَا النَّاسُ فِي زَمَانِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ فَإِنَّ الْقُرْبَ فِي الْمَكَانِ وَفِي الزَّمَانِ يُفِيدُ زِيَادَةَ الْمَعْرِفَةِ وَكَمَالَ الْوُقُوفِ عَلَى الْأَحْوَالِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ اعْتَبِرُوا بِأَحْوَالِهِمْ وَاحْذَرُوا مِنْ مُخَالَفَةِ اللَّه تَعَالَى وَمُنَازَعَتِهِ حَتَّى لَا يَنْزِلَ بِكُمْ مِثْلُ ذَلِكَ الْعَذَابِ.

[سورة هود (11) : آية 91]

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ بِبَعِيدِينَ؟ أَجَابَ عَنْهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أن يكون التقدير ما إهلاكهم شيء بعيدو الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسَوَّى فِي قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ وَكَثِيرٍ وَقَلِيلٍ بَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ لِوُرُودِهَا عَلَى زِنَةِ الْمَصَادِرِ الَّتِي هِيَ الصَّهِيلُ وَالنَّهِيقُ وَنَحْوُهُمَا. وَأَمَّا الْوَجْهُ الْخَامِسُ: مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ عَنِ الْبَخْسِ وَالنُّقْصَانِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ بِأَوْلِيَائِهِ وَدُودٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: الْوَدُودُ فِي أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى الْمُحِبُّ لِعِبَادِهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ وَدِدْتُ الرَّجُلَ أَوَدُّهُ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي «كِتَابِ شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى» وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ودود فعولا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَرَكُوبٍ وَحَلُوبٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ يَوَدُّونَهُ وَيُحِبُّونَهُ لِكَثْرَةِ إِفْضَالِهِ وَإِحْسَانِهِ عَلَى الْخَلْقِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ الَّذِي رَاعَاهُ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ تَرْتِيبٌ لَطِيفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بَيَّنَ أَوَّلًا أَنَّ ظُهُورَ الْبَيِّنَةِ لَهُ وَكَثْرَةَ إِنْعَامِ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ يَمْنَعُهُ عَنِ الْخِيَانَةِ فِي وَحْيِ اللَّه تَعَالَى وَيَصُدُّهُ عَنِ التَّهَاوُنِ فِي تَكَالِيفِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ ثَانِيًا أَنَّهُ مُوَاظِبٌ عَلَى الْعَمَلِ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ وَلَوْ كَانَتْ بَاطِلَةً لَمَا اشْتَغَلَ هُوَ بِهَا مَعَ اعْتِرَافِكُمْ بِكَوْنِهِ حَلِيمًا رَشِيدًا، ثُمَّ بَيَّنَ صِحَّتَهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا بِتَحْصِيلِ مُوجِبَاتِ الصَّلَاحِ وَإِخْفَاءِ مُوجِبَاتِ الْفِتَنِ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ بَاطِلَةً لَمَا اشْتَغَلَ بِهَا، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ صِحَّةَ طَرِيقَتِهِ أَشَارَ إِلَى نَفْيِ الْمُعَارِضِ وَقَالَ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَحْمِلَكُمْ عَدَاوَتِي عَلَى مَذْهَبٍ وَدِينٍ تَقَعُونَ بِسَبَبِهِ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ مِنَ اللَّه تَعَالَى، كَمَا وَقَعَ فِيهِ أَقْوَامُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا صَحَّحَ مَذْهَبَ نَفْسِهِ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ عَادَ إِلَى تَقْرِيرِ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا، وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْمَنْعُ مِنَ الْبَخْسِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ سَبْقَ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ مِنْهُمْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى رَحِيمٌ وَدُودٌ يَقْبَلُ الْإِيمَانَ وَالتَّوْبَةَ مِنَ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ لِأَنَّ رَحْمَتَهُ وَحُبَّهُ لَهُمْ يُوجِبُ ذَلِكَ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ فِي غَايَةِ الكمال. [سورة هود (11) : آية 91] قالُوا يا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) اعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَالَغَ فِي التَّقْرِيرِ وَالْبَيَانِ، أَجَابُوهُ بِكَلِمَاتٍ فَاسِدَةٍ. فالأول: قولهم: يا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُخَاطِبُهُمْ بِلِسَانِهِمْ، فَلِمَ قَالُوا: مَا نَفْقَهُ وَالْعُلَمَاءُ ذَكَرُوا عَنْهُ أَنْوَاعًا مِنَ الْجَوَابَاتِ: فَالْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ: مَا نَفْهَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ، لِأَنَّهُمْ/ كَانُوا لَا يُلْقُونَ إِلَيْهِ أَفْهَامَهُمْ لِشِدَّةِ نَفْرَتِهِمْ عَنْ كَلَامِهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الْأَنْعَامِ: 25] الثَّانِي: أَنَّهُمْ فَهِمُوهُ بِقُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ مَا أَقَامُوا لَهُ وَزْنًا، فَذَكَرُوا هَذَا الْكَلَامَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهَانَةِ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ إِذْ لَمْ يَعْبَأْ بِحَدِيثِهِ: مَا أَدْرِي مَا تَقُولُ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ الَّتِي ذَكَرَهَا مَا أَقْنَعَتْهُمْ فِي صِحَّةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ، وَمَا يَجِبُ مِنْ تَرْكِ الظُّلْمِ وَالسَّرِقَةِ، فَقَوْلُهُمْ: مَا نَفْقَهُ أَيْ لَمْ نَعْرِفْ صِحَّةَ الدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ.

[سورة هود (11) : الآيات 92 إلى 93]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْفِقْهُ اسْمٌ لِعِلْمٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ كَلَامِهِ وَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ فَأَضَافَ الْفِقْهَ إِلَى الْقَوْلِ ثُمَّ صَارَ اسْمًا لِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ اسْمٌ لِمُطْلَقِ الْفَهْمِ. يُقَالُ: أُوتِيَ فُلَانٌ فِقْهًا فِي الدِّينِ، أَيْ فَهْمًا. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللَّه بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» أَيْ يُفَهِّمْهُ تَأْوِيلَهُ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرُوهَا قَوْلُهُمْ: وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الضَّعِيفُ الَّذِي يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ مَنْعُ الْقَوْمِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الضَّعِيفَ هُوَ الْأَعْمَى بِلُغَةِ حِمْيَرَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فِينا يُبْطِلُ هَذَا الْوَجْهَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنَّا لَنَرَاكَ أَعْمَى فِينَا كَانَ فَاسِدًا، لِأَنَّ الْأَعْمَى أَعْمَى فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ، الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ قَالُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ فَنَفَوْا عَنْهُ الْقُوَّةَ الَّتِي أَثْبَتُوهَا فِي رَهْطِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِالْقُوَّةِ الَّتِي أَثْبَتُوهَا لِلرَّهْطِ هِيَ النُّصْرَةَ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْقُوَّةُ الَّتِي نَفَوْهَا عَنْهُ هِيَ النُّصْرَةَ، وَالَّذِينَ حَمَلُوا اللَّفْظَ عَلَى ضَعْفِ الْبَصَرِ لَعَلَّهُمْ إِنَّمَا حَمَلُوهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ سَبَبٌ للضعف. واعلم أن أصحابنا يحوزون الْعَمَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَحْسُنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْمَعْنَى لِمَا بَيَّنَّاهُ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِكَوْنِهِ مُتَعَبِّدًا فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنِ النجاسات، ولأنه ينحل بِجَوَازِ كَوْنِهِ حَاكِمًا وَشَاهِدًا، فَلِأَنْ يَمْنَعَ مِنَ النُّبُوَّةِ كَانَ أَوْلَى، وَالْكَلَامُ فِيهِ لَا يَلِيقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْآيَةَ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرُوهَا قَوْلُهُمْ: وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الرَّهْطُ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشْرَةِ، وَقِيلَ إِلَى السَّبْعَةِ، وَقَدْ كَانَ رَهْطُهُ عَلَى مِلَّتِهِمْ. قَالُوا لَوْلَا حُرْمَةُ رَهْطِكَ عِنْدَنَا بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ عَلَى مِلَّتِنَا لَرَجَمْنَاكَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُمْ بَيَّنُوا أَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ عِنْدَهُمْ، وَلَا وَقْعَ لَهُ فِي صُدُورِهِمْ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا لَمْ يَقْتُلُوهُ/ لِأَجْلِ احْتِرَامِهِمْ رَهْطَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الرَّجْمُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الرَّمْيِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِالْحِجَارَةِ عِنْدَ قَصْدِ الْقَتْلِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الرَّجْمُ سَبَبًا لِلْقَتْلِ لَا جَرَمَ سَمَّوُا الْقَتْلَ رَجْمًا، وَقَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ الَّذِي هُوَ الْقَذْفُ، كَقَوْلِهِ: رَجْماً بِالْغَيْبِ [الْكَهْفِ: 22] وَقَوْلِهِ: وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [سَبَأٍ: 53] وَقَدْ يَكُونُ بِالشَّتْمِ وَاللَّعْنِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98] وَقَدْ يَكُونُ بِالطَّرْدِ كَقَوْلِهِ: رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الْمُلْكِ: 5] . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَفِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: لَرَجَمْناكَ لَقَتَلْنَاكَ. الثَّانِي: لَشَتَمْنَاكَ وَطَرَدْنَاكَ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرُوهَا قَوْلُهُمْ: وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ وَمَعْنَاهُ أَنَّكَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ عَلَيْنَا عَزِيزًا سَهُلَ عَلَيْنَا الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِكَ وَإِيذَائِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرُوهَا لَيْسَتْ دَافِعًا لِمَا قَرَّرَهُ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ، بَلْ هِيَ جَارِيَةٌ مجرى مقابلة الدليل والحجة بالشتم والسفاهة. [سورة هود (11) : الآيات 92 الى 93] قالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)

[سورة هود (11) : الآيات 94 إلى 95]

اعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا خَوَّفُوا شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْقَتْلِ وَالْإِيذَاءِ، حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَهُوَ نَوْعَانِ من الكلام: النوع الأول: قوله: يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَوْمَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ تَرَكُوا إِيذَاءَهُ رِعَايَةً لِجَانِبِ قَوْمِهِ. فَقَالَ: أَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تَتْرُكُونَ قَتْلِي إِكْرَامًا لِرَهْطِي، واللَّه تَعَالَى أولى أن يتبع أمره، فكأنه يقول: حفظتكم/ إِيَّايَ رِعَايَةً لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى أَوْلَى مِنْ حِفْظِكُمْ إِيَّايَ رِعَايَةً لِحَقِّ رَهْطِي. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا فَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ نَسِيتُمُوهُ وَجَعَلْتُمُوهُ كَالشَّيْءِ الْمَنْبُوذِ وَرَاءَ الظَّهْرِ لَا يُعْبَأُ بِهِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَالظِّهْرِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى الظَّهْرِ، وَالْكَسْرُ مِنْ تَغَيُّرَاتِ النَّسَبِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ فِي النِّسْبَةِ إِلَى الْأَمْسِ إِمْسِيٌّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ يَعْنِي أَنَّهُ عَالِمٌ بِأَحْوَالِكُمْ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ وَالْمَكَانَةُ الْحَالَةُ يَتَمَكَّنُ بِهَا صَاحِبُهَا مِنْ عَمَلِهِ، وَالْمَعْنَى اعْمَلُوا حَالَ كَوْنِكُمْ مَوْصُوفِينَ بِغَايَةِ الْمُكْنَةِ وَالْقُدْرَةِ وَكُلُّ مَا فِي وُسْعِكُمْ وَطَاقَتِكُمْ مِنْ إِيصَالِ الشُّرُورِ إِلَيَّ فَإِنِّي أَيْضًا عَامِلٌ بِقَدْرِ مَا آتَانِي اللَّه تَعَالَى مِنَ الْقُدْرَةِ. ثُمَّ قَالَ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لِمَ لَمْ يَقُلْ «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» وَالْجَوَابُ: إِدْخَالُ الْفَاءِ وَصْلُ ظَاهِرٍ بِحَرْفٍ مَوْضُوعٍ لِلْوَصْلِ، وَأَمَّا بِحَذْفِ الْفَاءِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا فَمَاذَا يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ فَظَهَرَ أن حذف حرف الفاء هاهنا أَكْمَلُ فِي بَابِ الْفَظَاعَةِ وَالتَّهْوِيلِ. ثُمَّ قَالَ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ وَالْمَعْنَى: فَانْتَظِرُوا الْعَاقِبَةَ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ أَيْ مُنْتَظِرٌ، وَالرَّقِيبُ بِمَعْنَى الرَّاقِبِ مِنْ رَقَبَهُ كَالضَّرِيبِ وَالصَّرِيمِ بِمَعْنَى الضَّارِبِ وَالصَّارِمِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمُرَاقِبِ كَالْعَشِيرِ وَالنَّدِيمِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمُرْتَقِبِ كَالْفَقِيرِ وَالرَّفِيعِ بِمَعْنَى الْمُفْتَقِرِ وَالْمُرْتَفِعِ. [سورة هود (11) : الآيات 94 الى 95] وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: لَمْ يُعَذِّبِ اللَّه تَعَالَى أُمَّتَيْنِ بِعَذَابٍ وَاحِدٍ إِلَّا قَوْمَ شُعَيْبٍ وَقَوْمَ صَالِحٍ فَأَمَّا قَوْمُ صَالِحٍ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مِنْ تَحْتِهِمْ، وَقَوْمُ شُعَيْبٍ أَخَذَتْهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ/ وَقَوْلُهُ: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ وَلَمَّا جَاءَ وَقْتُ أَمْرِنَا مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِتِلْكَ الصَّيْحَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ الْعِقَابَ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَأَخْبَرَ اللَّه أَنَّهُ نَجَّى شُعَيْبًا وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِرَحْمَةٍ منه وفيه

[سورة هود (11) : الآيات 96 إلى 99]

وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَّصَهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ لِمَحْضِ رَحْمَتِهِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَصِلُ إِلَى الْعَبْدِ فَلَيْسَ إِلَّا بِفَضْلِ اللَّه وَرَحْمَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الرَّحْمَةِ الْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ وَسَائِرَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَهِيَ أَيْضًا مَا حَصَلَتْ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ وَصَفَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الْعَذَابِ فَقَالَ: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الصَّيْحَةَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ إِشَارَةً إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ وَهِيَ صَيْحَةُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ وَالْجَاثِمُ الْمُلَازِمُ لِمَكَانِهِ الَّذِي لَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُ يَعْنِي أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا صَاحَ بِهِمْ تِلْكَ الصَّيْحَةَ زَهَقَ رُوحُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحَيْثُ يَقَعُ فِي مَكَانِهِ مَيِّتًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَيْ كَأَنْ لَمْ يُقِيمُوا فِي دِيَارِهِمْ أَحْيَاءً مُتَصَرِّفِينَ مُتَرَدِّدِينَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَإِنَّمَا قَاسَ حَالَهُمْ عَلَى ثَمُودَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تعالى عذبهم مثل عذاب ثمود. [سورة هود (11) : الآيات 96 الى 99] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْقِصَّةُ السَّابِعَةُ مِنَ الْقِصَصِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ آخِرُ الْقَصَصِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، أَمَّا قَوْلُهُ: بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَاتِ التَّوْرَاةُ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ، وَمِنَ السُّلْطَانِ الْمُبِينِ الْمُعْجِزَاتُ الْقَاهِرَةُ الْبَاهِرَةُ/ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِشَرَائِعَ وَأَحْكَامٍ وَتَكَالِيفَ وَأَيَّدْنَاهُ بِمُعْجِزَاتٍ قَاهِرَةٍ وَبَيِّنَاتٍ بَاهِرَةٍ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَاتِ هِيَ الْمُعْجِزَاتُ وَالْبَيِّنَاتُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا [يُونُسَ: 68] وَقَوْلِهِ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النَّجْمِ: 23] وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهَا سُلْطَانٌ مُبِينٌ لِمُوسَى على صدق نبوته. الثاني: أن يراد بالسلطان الْمُبِينُ الْعَصَا، لِأَنَّهُ أَشْهَرُهَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَهِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ وَالطُّوفَانُ وَالْجَرَادُ وَالْقُمَّلُ وَالضَّفَادِعُ وَالدَّمُ وَنَقْصٌ مِنَ الثَّمَرَاتِ وَالْأَنْفُسِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْدَلَ نَقَصَ الثَّمَرَاتِ وَالْأَنْفُسِ بِإِظْلَالِ الْجَبَلِ وَفَلْقِ الْبَحْرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْحُجَّةَ لِمَ سُمِّيَتْ بِالسُّلْطَانِ. فَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: لِأَنَّ صَاحِبَ الْحُجَّةِ يَقْهَرُ مَنْ لَا حُجَّةَ مَعَهُ عِنْدَ النَّظَرِ كَمَا يَقْهَرُ السُّلْطَانُ غَيْرَهُ، فَلِهَذَا تُوصَفُ الْحُجَّةُ بِأَنَّهَا سُلْطَانٌ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: السُّلْطَانُ هُوَ الْحُجَّةُ وَالسُّلْطَانُ سُمِّيَ سُلْطَانًا لِأَنَّهُ حُجَّةُ اللَّه فِي أَرْضِهِ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ السَّلِيطِ وَالسَّلِيطُ مَا يُضَاءُ بِهِ وَمِنْ هَذَا قِيلَ لِلزَّيْتِ السَّلِيطُ وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ السُّلْطَانَ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّسْلِيطِ، وَالْعُلَمَاءُ سَلَاطِينُ بِسَبَبِ كَمَالِهِمْ فِي الْقُوَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْمُلُوكُ سَلَاطِينُ بِسَبَبِ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْمُكْنَةِ، إِلَّا أَنَّ سَلْطَنَةَ الْعُلَمَاءِ أَكْمَلُ وَأَقْوَى مِنْ سَلْطَنَةِ الْمُلُوكِ، لِأَنَّ سَلْطَنَةَ الْعُلَمَاءِ لَا تَقْبَلُ النَّسْخَ وَالْعَزْلَ وَسَلْطَنَةَ الْمُلُوكِ تَقْبَلُهُمَا وَلِأَنَّ سَلْطَنَةَ الْمُلُوكِ تَابِعَةٌ لِسَلْطَنَةِ الْعُلَمَاءِ وَسَلْطَنَةَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جِنْسِ سَلْطَنَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَلْطَنَةُ الْمُلُوكِ مِنْ جِنْسِ سَلْطَنَةِ الْفَرَاعِنَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا حَمَلْتُمُ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ: بِآياتِنا عَلَى الْمُعْجِزَاتِ وَالسُّلْطَانَ أَيْضًا عَلَى الدَّلَائِلِ وَالْمُبِينُ أَيْضًا مَعْنَاهُ كَوْنُهُ سَبَبًا لِلظُّهُورِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ؟ قُلْنَا: الْآيَاتُ اسْمٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْعَلَامَاتِ الَّتِي تُفِيدُ الظَّنَّ، وَبَيْنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي تُفِيدُ الْيَقِينَ وَأَمَّا

السُّلْطَانُ فَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُفِيدُ الْقَطْعَ وَالْيَقِينَ، إِلَّا أَنَّهُ اسْمٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي تُؤَكَّدُ بِالْحِسِّ، وَبَيْنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي لَمْ تَتَأَكَّدْ بِالْحِسِّ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ الَّذِي تَأَكَّدَ بِالْحِسِّ فَهُوَ السُّلْطَانُ الْمُبِينُ، وَلَمَّا كَانَتْ مُعْجِزَاتُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَكَذَا لَا جَرَمَ وَصَفَهَا اللَّه بِأَنَّهَا سُلْطَانٌ مُبِينٌ. ثُمَّ قَالَ: إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ يَعْنِي وَأَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ إلى فرعون وملائه، أَيْ جَمَاعَتِهِ. ثُمَّ قَالَ: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَمْرَهُ إِيَّاهُمْ بِالْكُفْرِ بِمُوسَى وَمُعْجِزَاتِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ الطَّرِيقَ وَالشَّأْنَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أَيْ بِمُرْشِدٍ إِلَى خَيْرٍ، وقيل رشيد أي ذي رُشْدٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ بُعْدَ طَرِيقِ فِرْعَوْنَ مِنَ الرُّشْدِ كَانَ ظَاهِرًا لِأَنَّهُ كَانَ دَهْرِيًّا نَافِيًا لِلصَّانِعِ وَالْمَعَادِ وَكَانَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ لِلْعَالَمِ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِطَاعَةِ سُلْطَانِهِمْ وَعُبُودِيَّتِهِ رِعَايَةً/ لِمَصْلَحَةِ الْعَالَمِ وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الرُّشْدُ فِي عِبَادَةِ اللَّه وَمَعْرِفَتِهِ فَلَمَّا كَانَ هُوَ نَافِيًا لِهَذَيْنَ الْأَمْرَيْنِ كَانَ خَالِيًا عَنِ الرُّشْدِ بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ صِفَتَهُ وَصِفَةَ قَوْمِهِ فَقَالَ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ يُقَالُ: قَدَمَ فُلَانٌ فُلَانًا بِمَعْنَى تَقَدَّمَهُ، وَمِنْهُ قَادِمَةُ الرَّجُلِ كَمَا يُقَالُ قَدَمَهُ بِمَعْنَى تَقَدَّمَهُ، وَمِنْهُ مُقَدِّمَةُ الْجَيْشِ. وَالْبَحْثُ الثَّانِي: مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ قُدْوَةً لِقَوْمِهِ فِي الضَّلَالِ حَالَ مَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ مُقَدَّمُهُمْ إِلَى النَّارِ وَهُمْ يَتْبَعُونَهُ، أَوْ يُقَالُ كَمَا تَقَدَّمَ قَوْمَهُ فِي الدُّنْيَا فَأَدْخَلَهُمْ فِي الْبَحْرِ وَأَغْرَقَهُمْ فَكَذَلِكَ يَتَقَدَّمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُدْخِلُهُمُ النَّارَ وَيُحْرِقُهُمْ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أَيْ وَمَا أَمْرُهُ بِصَالِحٍ حَمِيدِ الْعَاقِبَةِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ تَفْسِيرًا لِذَلِكَ، وَإِيضَاحًا لَهُ، أَيْ كَيْفَ يَكُونُ أَمْرُهُ رَشِيدًا مَعَ أَنَّ عَاقِبَتَهُ هَكَذَا. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ فَيُورِدُهُمُ النَّارَ؟ بَلْ قَالَ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ بِلَفْظِ الْمَاضِي. قُلْنَا: لِأَنَّ الْمَاضِيَ قَدْ وَقَعَ وَدَخَلَ فِي الْوُجُودِ فَلَا سَبِيلَ أَلْبَتَّةَ إِلَى دَفْعِهِ، فَإِذَا عُبِّرَ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي دَلَّ عَلَى غَايَةِ الْمُبَالَغَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: لَفْظُ «النَّارِ» مُؤَنَّثٌ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: وَبِئْسَتِ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ إِلَّا أَنَّ لَفْظَ «الْوِرْدِ» مُذَكَّرٌ، فَكَانَ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ جَائِزَيْنِ كَمَا تَقُولُ: نِعْمَ الْمَنْزِلُ دَارُكَ، وَنَعِمَتِ الْمَنْزِلُ دَارُكَ، فَمَنْ ذَكَّرَ غَلَّبَ الْمَنْزِلَ وَمَنْ أَنَّثَ بَنَى عَلَى تَأْنِيثِ الدَّارِ هَكَذَا قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ. الْبَحْثُ الثَّانِي: الْوِرْدُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْوُرُودِ فَيَكُونُ مَصْدَرًا وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْوَارِدِ. قَالَ تَعَالَى: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً [مَرْيَمَ: 86] وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَوْرُودِ عَلَيْهِ كَالْمَاءِ الَّذِي يُورَدُ عَلَيْهِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ الَّذِي حَصَلَ وُرُودُهُ. فَشَبَّهَ اللَّه تَعَالَى فِرْعَوْنَ بِمَنْ يَتَقَدَّمُ الْوَارِدَةَ إِلَى الْمَاءِ وَشَبَّهَ أَتْبَاعَهُ بِالْوَارِدِينَ إِلَى الْمَاءِ، ثُمَّ قَالَ بِئْسَ الْوِرْدُ الَّذِي يُورَدُونَهُ النَّارُ، لِأَنَّ الْوِرْدَ إِنَّمَا يُرَادُ لِتَسْكِينِ الْعَطَشِ وَتَبْرِيدِ الْأَكْبَادِ، وَالنَّارُ ضِدُّهُ. ثُمَّ قَالَ: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيْضًا، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّعْنَ مِنَ اللَّه وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ مُلْتَصِقٌ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا يَزُولُ عَنْهُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ [الْقَصَصِ: 42] .

[سورة هود (11) : الآيات 100 إلى 101]

ثُمَّ قَالَ: بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ وَالرِّفْدُ هُوَ الْعَطِيَّةُ وَأَصْلُهُ الَّذِي يُعِينُ عَلَى الْمَطْلُوبِ سَأَلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَنْ قَوْلِهِ: بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ قَالَ هُوَ اللَّعْنَةُ بَعْدَ اللَّعْنَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: تَرَادَفَتْ عَلَيْهِمْ لَعْنَتَانِ مِنَ اللَّه تَعَالَى لَعْنَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَعْنَةٌ فِي الْآخِرَةِ وَكُلُّ شَيْءٍ جَعَلْتَهُ عونا لشيء فقد رفدته به. [سورة هود (11) : الآيات 100 الى 101] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قَصَصَ الْأَوَّلِينَ قَالَ: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهَا أُمُورٌ: أَوَّلُهَا: أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْمَحْضِ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ الْكَامِلِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ. فَأَمَّا إِذَا ذَكَرْتَ الدَّلَائِلَ ثُمَّ أَكَّدْتَ بِأَقَاصِيصِ الْأَوَّلِينَ صَارَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَقَاصِيصِ كَالْمُوَصِّلِ لِتِلْكَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ إِلَى الْعُقُولِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَطَ بِهَذِهِ الْأَقَاصِيصِ أَنْوَاعَ الدَّلَائِلِ الَّتِي كَانَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَتَمَسَّكُونَ بِهَا وَيَذْكُرُ مُدَافَعَاتِ الْكُفَّارِ لِتِلْكَ الدَّلَائِلِ وَشُبُهَاتِهِمْ فِي دَفْعِهَا، ثُمَّ يَذْكُرُ عَقِيبَهُمَا أَجْوِبَةَ الْأَنْبِيَاءِ عَنْهَا ثُمَّ يَذْكُرُ عَقِيبَهَا أَنَّهُمْ لَمَّا أَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا وَقَعُوا فِي عَذَابِ الدُّنْيَا وَبَقِيَ عَلَيْهِمُ اللَّعْنُ وَالْعِقَابُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، فَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْقَصَصِ سَبَبًا لِإِيصَالِ الدَّلَائِلِ وَالْجَوَابَاتِ عَنِ الشُّبَهَاتِ إِلَى قُلُوبِ الْمُنْكِرِينَ، وَسَبَبًا لِإِزَالَةِ الْقَسْوَةِ وَالْغِلْظَةِ عَنْ قُلُوبِهِمْ، فَثَبَتَ أَنَّ أَحْسَنَ الطُّرُقِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّه تَعَالَى مَا ذَكَرْنَاهُ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَذْكُرُ هَذِهِ الْقَصَصَ مِنْ غَيْرِ مُطَالَعَةِ كُتُبٍ، وَلَا تَلْمَذَ لِأَحَدٍ وَذَلِكَ مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ تَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ هَذِهِ الْقِصَصَ يَتَقَرَّرُ عِنْدَهُمْ أَنَّ عَاقِبَةَ الصِّدِّيقِ وَالزِّنْدِيقِ وَالْمُوَافِقِ وَالْمُنَافِقِ إِلَى تَرْكِ الدُّنْيَا وَالْخُرُوجِ عَنْهَا، إِلَّا أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا مَعَ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ فِي الدُّنْيَا، وَالثَّوَابِ الْجَزِيلِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْكَافِرَ يَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا مَعَ اللَّعْنِ فِي الدُّنْيَا/ وَالْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ، فَإِذَا تَكَرَّرَتْ هَذِهِ الْأَقَاصِيصُ عَلَى السَّمْعِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَلِينَ الْقَلْبُ وَتَخْضَعَ النَّفْسُ وَتَزُولَ الْعَدَاوَةُ وَيَحْصُلَ فِي الْقَلْبِ خَوْفٌ يَحْمِلُهُ عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَهَذَا كَلَامٌ جَلِيلٌ فِي فَوَائِدِ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَصِ. أَمَّا قَوْلُهُ: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: البحث الأول: أو قَوْلَهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْغَائِبِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هاهنا الْإِشَارَةُ إِلَى هَذِهِ الْقِصَصِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَهِيَ حَاضِرَةٌ، إِلَّا أَنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَةِ: 2] . الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ «ذَلِكَ» يُشَارُ بِهِ إِلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [الْبَقَرَةِ: 68] وَأَيْضًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ كَذَا وَكَذَا. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : «ذَلِكَ» مُبْتَدَأٌ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى خَبَرٌ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ بَعْضُ أَنْبَاءِ الْقُرَى مَقْصُوصٌ عَلَيْكَ. ثُمَّ قَالَ: مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ وَالضَّمِيرُ في قوله:

[سورة هود (11) : الآيات 102 إلى 104]

مِنْها يَعُودُ إِلَى الْقُرَى شَبَّهَ مَا بَقِيَ مِنْ آثَارِ الْقُرَى وَجُدْرَانِهَا بِالزَّرْعِ الْقَائِمِ عَلَى سَاقِهِ وَمَا عَفَا مِنْهَا وَبَطِرَ بِالْحَصِيدِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الْقُرَى بَعْضُهَا بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ وَبَعْضُهَا هَلَكَ وَمَا بَقِيَ مِنْهُ أَثَرٌ أَلْبَتَّةَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ وَالْإِهْلَاكِ، وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ. الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي نَزَلَ بِالْقَوْمِ لَيْسَ بِظُلْمٍ مِنَ اللَّه بَلْ هُوَ عَدْلٌ وَحِكْمَةٌ، لِأَجْلِ أَنَّ الْقَوْمَ أَوَّلًا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي فَاسْتَوْجَبُوا لِأَجْلِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنَ اللَّه ذَلِكَ الْعَذَابَ. الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: يُرِيدُ وَمَا نَقَصْنَاهُمْ مِنَ النَّعِيمِ فِي الدُّنْيَا وَالرِّزْقِ، وَلَكِنْ نَقَصُوا حَظَّ أَنْفُسِهِمْ حَيْثُ اسْتَخَفُّوا بِحُقُوقِ اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أَيْ مَا نَفَعَتْهُمْ تِلْكَ الْآلِهَةُ فِي شَيْءٍ أَلْبَتَّةَ. ثُمَّ قَالَ: وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: غَيْرَ تَخْسِيرٍ. يُقَالُ: تَبَّ إِذَا خَسِرَ وَتَبَّبَهُ غَيْرُهُ إِذَا أَوْقَعَهُ فِي الْخُسْرَانِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي الْأَصْنَامِ أَنَّهَا تُعِينُ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمْ عِنْدَ مَسَاسِ الْحَاجَةِ إِلَى الْمُعِينِ مَا وَجَدُوا مِنْهَا شَيْئًا لَا جَلْبَ نَفْعٍ وَلَا دَفْعَ ضُرٍّ، ثُمَّ كَمَا لَمْ يَجِدُوا ذَلِكَ فَقَدْ وَجَدُوا ضِدَّهُ، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ/ الِاعْتِقَادَ زَالَ عَنْهُمْ بِهِ مَنَافِعُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَجَلَبَ إِلَيْهِمْ مَضَارَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ موجبات الخسران. [سورة هود (11) : الآيات 102 الى 104] وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْجَحْدَرِيُّ: إِذْ أَخَذَ الْقُرَى بِأَلِفٍ وَاحِدَةٍ، وَقَرَأَ الباقون بألفين. المسألة الثانية: [في بيان أَنَّ عَذَابَهُ لَيْسَ بِمُقْتَصِرٍ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كِتَابِهِ بِمَا فَعَلَ بِأُمَمِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَمَّا خَالَفُوا الرُّسُلَ وَرَدُّوا عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَحَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا قَالَ بَعْدَهُ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ فَبَيَّنَ أَنَّ عَذَابَهُ لَيْسَ بِمُقْتَصِرٍ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ، بَلِ الْحَالُ فِي أَخْذِ كُلِّ الظَّالِمِينَ يَكُونُ كَذَلِكَ وَقَوْلُهُ: وَهِيَ ظالِمَةٌ الضَّمِيرُ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرَى وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عَائِدٌ إِلَى أَهْلِهَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً [الْأَنْبِيَاءِ: 11] وَقَوْلُهُ: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها [الْقَصَصِ: 58] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ أَخْذِ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَأْخُذُ جَمِيعَ الظَّالِمِينَ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ أَتْبَعَهُ بِمَا يَزِيدُهُ تَأْكِيدًا وَتَقْوِيَةً فَقَالَ: إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ فَوَصَفَ ذَلِكَ الْعَذَابَ بِالْإِيلَامِ وَبِالشِّدَّةِ، وَلَا مُنَغِّصَةَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا الْأَلَمَ، وَلَا تَشْدِيدَ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَفِي الْوَهْمِ وَالْعَقْلِ إِلَّا تَشْدِيدَ الْأَلَمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى ظُلْمٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَدَارَكَ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي الْأَخْذِ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُظَنَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ/ مُخْتَصَّةٌ بِأُولَئِكَ المتقدمين،

[سورة هود (11) : الآيات 105 إلى 108]

لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى أَحْوَالَ الْمُتَقَدِّمِينَ قَالَ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ فَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مَنْ شَارَكَ أُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُشَارِكَهُمْ فِي ذَلِكَ الْأَخْذِ الْأَلِيمِ الشَّدِيدِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ قَالَ الْقَفَّالُ: تَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا لِأَجْلِ تَكْذِيبِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ وَإِشْرَاكِهِمْ باللَّه، فَإِذَا عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا عَلَى ذَلِكَ وَهِيَ دَارُ الْعَمَلِ، فَلَأَنْ يُعَذَّبُوا عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْجَزَاءِ كَانَ أَوْلَى. وَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ تَنَبَّهَ لِهَذَا الْبَحْثِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَوَّلُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، بَلْ هُوَ ضَعِيفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ يَكُونُ ظُهُورُ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ وَالنَّشْرِ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْقِيَامَةَ حَقٌّ كَالشَّرْطِ فِي حُصُولِ الِاعْتِبَارِ بِظُهُورِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَهَذَا الْمَعْنَى كَالْمُضَادِّ لِمَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ، لِأَنَّ الْقَفَّالَ يَجْعَلُ الْعِلْمَ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ أَصْلًا لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْقِيَامَةَ حَقٌّ، فَبَطَلَ مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ وَالْأَصْوَبُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: الْعِلْمُ بِأَنَّ الْقِيَامَةَ حَقٌّ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُدَبِّرَ لِوُجُودِ هَذِهِ السموات وَالْأَرْضِينَ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ لَا مُوجَبٌ بِالذَّاتِ وَمَا لَمْ يَعْرِفِ الْإِنْسَانُ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ وَقَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ وَأَنَّ جَمِيعَ الحوادث الواقعة في السموات وَالْأَرْضِينَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِتَكْوِينِهِ وَقَضَائِهِ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْتَبِرَ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي وُجُودِ هَذَا العالم موجب بالذات بلا فَاعِلٌ مُخْتَارٌ، يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي أَيَّامِ الْأَنْبِيَاءِ مِثْلُ الْغَرَقِ وَالْحَرَقِ وَالْخَسْفِ وَالْمَسْخِ وَالصَّيْحَةِ كُلُّهَا إِنَّمَا حَدَثَتْ بِسَبَبِ قِرَانَاتِ الْكَوَاكِبِ وَاتِّصَالِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ حُصُولُهَا دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَمَّا الَّذِي يُؤْمِنُ بِالْقِيَامَةِ، فَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ الْإِيمَانُ إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ أنه إِلَهَ الْعَالَمِ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ وَأَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ حُدُوثَ هَذِهِ الْحَوَادِثِ الْهَائِلَةِ وَالْوَقَائِعِ الْعَظِيمَةِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ خَلَقَهَا وَأَوْجَدَهَا وَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِسَبَبِ طَوَالِعِ الْكَوَاكِبِ وَقِرَانَاتِهَا، وَحِينَئِذٍ يَنْتَفِعُ بِسَمَاعِ هَذِهِ الْقِصَصِ، وَيَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ، فَثَبَتَ بِهَذَا صِحَّةُ قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْآخِرَةَ وَصَفَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِوَصْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ خَلْقَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ كُلُّهُمْ يُحْشَرُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيُجْمَعُونَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَوْمٌ مَشْهُودٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا يَشْهَدُهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. وَقَالَ آخَرُونَ يَشْهَدُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ/ وَأَهْلُ الْأَرْضِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الشُّهُودِ الْحُضُورُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِ أَنَّهُ رُبَّمَا وَقَعَ فِي قَلْبِ إِنْسَانٍ أَنَّهُمْ لَمَّا جُمِعُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَعْرِفْ كُلُّ أَحَدٍ إِلَّا وَاقِعَةَ نَفْسِهِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ تِلْكَ الْوَقَائِعَ تَصِيرُ معلومة للكل بسبب المحاسبة والمسألة. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْآخِرَةِ وَإِفْنَاءَ الدُّنْيَا موقوف على أجل معدود وكل ماله عَدَدٌ فَهُوَ مُتَنَاهٍ وَكُلُّ مَا كَانَ مُتَنَاهِيًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْنَى، فَيَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ تَأْخِيرَ الْآخِرَةِ سَيَنْتَهِي إِلَى وَقْتٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يُقِيمَ اللَّه الْقِيَامَةَ فِيهِ، وَأَنْ تَخَرَبَ الدُّنْيَا فِيهِ، وَكُلُّ مَا هُوَ آت قريب. [سورة هود (11) : الآيات 105 الى 108] يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ يَأْتِ بِحَذْفِ الْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَحَذْفُ الْيَاءِ وَالِاجْتِزَاءُ عَنْهَا بِالْكَسْرَةِ كَثِيرٌ فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُمْ لَا أَدْرِ حَكَاهُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فَاعِلُ يَأْتِي هُوَ اللَّه تَعَالَى كَقَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ/ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَةِ: 210] وَقَوْلِهِ: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الْأَنْعَامِ: 158] وَيُعَضِّدُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ وَمَا يُؤَخِّرُهُ بِالْيَاءِ أَقُولُ لَا يُعْجِبُنِي هَذَا التَّأْوِيلُ، لِأَنَّ قَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ حَكَاهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ أَقْوَامٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ هُمُ الْيَهُودُ، وَذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ وَكَذَا قوله: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أما هاهنا فَهُوَ صَرِيحُ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى وَإِسْنَادُ فِعْلِ الْإِتْيَانِ إِلَيْهِ مُشْكِلٌ. فَإِنْ قَالُوا: فَمَا قَوْلُكَ في قوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ. قُلْنَا: هُنَاكَ تَأْوِيلَاتٌ، وَأَيْضًا فَهُوَ صَرِيحٌ، فَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ فَوَجَبَ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْهُ يَوْمَ يَأْتِي الشَّيْءُ الْمَهِيبُ الْهَائِلُ الْمُسْتَعْظَمُ، فَحُذِفَ اللَّه تَعَالَى ذِكْرُهُ بِتَعْيِينِهِ لِيَكُونَ أَقْوَى فِي التَّخْوِيفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْعَامِلُ فِي انْتِصَابِ الظَّرْفِ هُوَ قَوْلُهُ: لَا تَكَلَّمُ أَوْ إِضْمَارُ اذْكُرْ. أَمَّا قَوْلُهُ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَفِيهِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي تُوهِمُ كَوْنَهَا مُنَاقِضَةً لِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [النَّحْلِ: 111] وَمِنْهَا أَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ وَيَحْلِفُونَ باللَّه عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: 23] وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصَّافَّاتِ: 24] وَمِنْهَا قَوْلُهُ: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [الْمُرْسَلَاتِ: 35] . وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حَيْثُ وَرَدَ الْمَنْعُ مِنَ الْكَلَامِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَابَاتِ الْحَقِّيَّةِ الصَّحِيحَةِ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَوْمٌ طَوِيلٌ وَلَهُ مَوَاقِفُ، فَفِي بَعْضِهَا يُجَادِلُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَفِي بَعْضِهَا يَكُفُّونَ عَنِ الْكَلَامِ، وَفِي بَعْضِهَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَتَكَلَّمُونَ، وَفِي بَعْضِهَا يَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَتَكَلَّمُ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ وَلَمْ يُذْكَرْ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ مَرَّ ذِكْرُ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ [هُودٍ: 103] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْمَوْقِفِ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ فِي النَّاسِ مَجَانِينُ وَأَطْفَالٌ وَهُمْ خَارِجُونَ عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ؟ قُلْنَا: الْمُرَادُ مَنْ يُحْشَرُ مِمَّنْ أُطْلِقَ لِلْحِسَابِ وَهُمْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدِ احْتَجَّ الْقَاضِي بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَسَادِ مَا يُقَالُ إِنَّ أَهْلَ الْأَعْرَافِ لَا فِي الْجَنَّةِ وَلَا فِي النَّارِ فَمَا قَوْلُكُمْ فِيهِ؟ قُلْنَا: لَمَّا سُلِّمَ أَنَّ الْأَطْفَالَ وَالْمَجَانِينَ خَارِجُونَ عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ لِأَنَّهُمْ لَا يُحَاسَبُونَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ خَارِجُونَ عَنْهُ لِأَنَّهُمْ أَيْضًا لَا يُحَاسَبُونَ، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى عَلِمَ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّ ثَوَابَهُمْ يُسَاوِي عَذَابَهُمْ، فَلَا فَائِدَةَ فِي حِسَابِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: الْقَاضِي اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ حَضَرَ عَرْصَةَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ثَوَابُهُ زَائِدًا أَوْ يَكُونَ عِقَابُهُ زَائِدًا، فَأَمَّا مَنْ كَانَ ثَوَابُهُ مُسَاوِيًا لِعِقَابِهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي الْعَقْلِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا النَّصَّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ. قُلْنَا: الْكَلَامُ فِيهِ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ السَّعِيدَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ، وَالشَّقِيَّ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْعِقَابِ، وَتَخْصِيصُ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ أَكْثَرَ الْآيَاتِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْرِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فَقَطْ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ ثَالِثٍ لَا يَكُونُ لَا مُؤْمِنًا وَلَا كَافِرًا مَعَ أَنَّ الْقَاضِيَ أَثْبَتَهُ، فَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِ ذَلِكَ الثَّالِثِ عَدَمُهُ فَكَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الثَّالِثِ عَدَمُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ الْآنَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْقِيَامَةِ بِأَنَّهُ سَعِيدٌ وَعَلَى بَعْضِهِمْ بِأَنَّهُ شَقِيٌّ، وَمَنْ حَكَمَ اللَّه عَلَيْهِ بِحُكْمٍ وَعُلِمَ مِنْهُ ذَلِكَ الْأَمْرُ امْتَنَعَ كَوْنُهُ بِخِلَافِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يصير خبر اللَّه تعالى كذبا وعلمه جاهلا وَذَلِكَ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّ السَّعِيدَ لَا يَنْقَلِبُ شَقِيًّا وَأَنَّ الشَّقِيَّ لَا يَنْقَلِبُ سَعِيدًا، وَتَقْرِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ مَرَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا لَا تُحْصَى. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه فَعَلَى مَاذَا نَعْمَلُ عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ أَمْ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يُفْرَغْ مِنْهُ؟ فَقَالَ: «عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ يَا عُمَرُ وَجَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْأَقْدَارُ، وَلَكِنْ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ بِعَمَلِهِ وَسَعِيدٌ بِعَمَلِهِ. قُلْنَا: الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ لَا يَدْفَعُ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَأَيْضًا فَلَا نِزَاعَ أَنَّهُ إِنَّمَا شَقِيَ بِعَمَلِهِ وَإِنَّمَا سَعِدَ بِعَمَلِهِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ حَاصِلًا بِقَضَاءِ اللَّه وَقَدَرِهِ كَانَ الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بَاقِيًا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَسَّمَ أَهْلَ الْقِيَامَةِ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ شَرَحَ حَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَقَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الزَّفِيرِ وَالشَّهِيقِ وُجُوهًا: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ اللَّيْثُ: الزَّفِيرُ أَنْ يَمْلَأَ الرَّجُلُ صَدْرَهُ حَالَ كَوْنِهِ فِي الْغَمِّ الشَّدِيدِ مِنَ النَّفَسِ وَلَمْ يُخْرِجْهُ، وَالشَّهِيقُ أَنْ يُخْرِجَ ذَلِكَ النَّفَسَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ لِلْفَرَسِ إِنَّهُ عَظِيمُ الزَّفْرَةِ أَيْ عَظِيمُ الْبَطْنِ وَأَقُولُ إن

الْإِنْسَانَ إِذَا عَظُمَ غَمُّهُ انْحَصَرَ رَوْحُ قَلْبِهِ فِي دَاخِلِ الْقَلْبِ فَإِذَا انْحَصَرَ الرَّوْحُ قَوِيَتِ الْحَرَارَةُ وَعَظُمَتْ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَى النَّفَسِ الْقَوِيِّ لِأَجْلِ أَنْ يَسْتَدْخِلَ هَوَاءً كَثِيرًا بَارِدًا حَتَّى يَقْوَى عَلَى تَرْوِيحِ تِلْكَ الْحَرَارَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ يَعْظُمُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ اسْتِدْخَالُ الْهَوَاءِ فِي دَاخِلِ الْبَدَنِ وَحِينَئِذٍ يَرْتَفِعُ صَدْرُهُ وَيَنْتَفِخُ جَنْبَاهُ، وَلَمَّا كَانَتِ الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ وَالرَّوْحُ الحيواني محصورا في دَاخِلَ الْقَلْبِ اسْتَوْلَتِ الْبُرُودَةُ عَلَى الْأَعْضَاءِ الْخَارِجَةِ فَرُبَّمَا عَجَزَتْ آلَاتُ النَّفَسِ عَنْ دَفْعِ ذَلِكَ الْهَوَاءِ الْكَثِيرِ الْمُسْتَنْشَقِ فَيَبْقَى ذَلِكَ الْهَوَاءُ الْكَثِيرُ مُنْحَصِرًا فِي الصَّدْرِ وَيَقْرُبُ مِنْ أَنْ يَخْتَنِقَ الْإِنْسَانُ مِنْهُ وَحِينَئِذٍ تَجْتَهِدُ الطَّبِيعَةُ فِي إِخْرَاجِ ذَلِكَ الْهَوَاءِ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْأَطِبَّاءِ الزَّفِيرُ هُوَ اسْتِدْخَالُ الْهَوَاءِ الْكَثِيرِ لِتَرْوِيحِ الْحَرَارَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْقَلْبِ بِسَبَبِ انْحِصَارِ الرُّوحِ فِيهِ، وَالشَّهِيقُ هُوَ إِخْرَاجُ ذَلِكَ الْهَوَاءِ عِنْدَ مُجَاهَدَةِ الطَّبِيعَةِ فِي إِخْرَاجِهِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ تَدُلُّ عَلَى كَرْبٍ شَدِيدٍ وَغَمٍّ عَظِيمٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الزَّفِيرِ وَالشَّهِيقِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: الزَّفِيرُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ صَوْتِ الْحِمَارِ بِالنَّهِيقِ. وَأَمَّا الشَّهِيقُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ آخِرِ صَوْتِ الْحِمَارِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ الْحَسَنُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الزَّفِيرَ عِبَارَةٌ عَنِ الِارْتِفَاعِ. فَنَقُولُ: الزَّفِيرُ لَهِيبُ جَهَنَّمَ يَرْفَعُهُمْ بِقُوَّتِهِ حَتَّى إِذَا وَصَلُوا إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ جَهَنَّمَ وَطَمِعُوا فِي أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا ضَرَبَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِمَقَامِعَ مِنْ حَدِيدٍ وَيَرُدُّونَهُمْ إِلَى الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ جَهَنَّمَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها فَارْتِفَاعُهُمْ فِي النَّارِ هُوَ الزَّفِيرُ وَانْحِطَاطُهُمْ مَرَّةً أُخْرَى هُوَ الشَّهِيقُ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الزَّفِيرُ مَا يَجْتَمِعُ فِي الصَّدْرِ مِنَ النَّفَسِ عِنْدَ الْبُكَاءِ الشَّدِيدِ فَيَنْقَطِعُ النَّفَسُ، وَالشَّهِيقُ هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْكُرْبَةِ وَالْحُزْنِ، وَرُبَّمَا تَبِعَهُمَا الْغَشْيَةُ، وَرُبَّمَا حَصَلَ عَقِيبَهُ الْمَوْتُ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الزَّفِيرُ فِي الْحَلْقِ وَالشَّهِيقُ فِي الصَّدْرِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: قَالَ قَوْمٌ: الزَّفِيرُ الصَّوْتُ الشَّدِيدُ، وَالشَّهِيقُ الصَّوْتُ الضَّعِيفُ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ يُرِيدُ نَدَامَةً وَنَفْسًا عَالِيَةً وَبُكَاءً لَا يَنْقَطِعُ وَحُزْنًا لَا يَنْدَفِعُ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ: الزَّفِيرُ مُشْعِرٌ بِالْقُوَّةِ، وَالشَّهِيقُ بِالضَّعْفِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ بِحَسْبِ اللُّغَةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الزَّفِيرِ قُوَّةَ مَيْلِهِمْ إِلَى عَالَمِ الدُّنْيَا وَإِلَى اللَّذَّاتِ الْجَسَدَانِيَّةِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الشَّهِيقِ ضَعْفُهُمْ عَنِ الِاسْتِسْعَادِ بِعَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ وَالِاسْتِكْمَالُ بِالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَعَارِجِ الْقُدُسِيَّةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ قوم إن عذاب الكفار منقطع ولها نِهَايَةٌ، وَاحْتَجُّوا بِالْقُرْآنِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَآيَاتٌ مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ دَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ عقابهم مساوية لمدة بقاء السموات وَالْأَرْضِ، ثُمَّ تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّ مُدَّةَ بَقَاءِ السموات وَالْأَرْضِ مُتَنَاهِيَةٌ فَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ عِقَابِ الْكُفَّارِ مُنْقَطِعَةً. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مُدَّةِ عِقَابِهِمْ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى زَوَالِ ذَلِكَ الْعَذَابِ فِي وَقْتِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وَمِمَّا تَمَسَّكُوا بِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً [النَّبَأِ: 23] بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ لُبْثَهُمْ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ لَا يَكُونُ إِلَّا أَحْقَابًا مَعْدُودَةً.

وَأَمَّا الْعَقْلُ فَوَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْصِيَةَ الْكَافِرِ مُتَنَاهِيَةٌ وَمُقَابَلَةُ الْجُرْمِ الْمُتَنَاهِي بِعِقَابٍ لَا نِهَايَةَ لَهُ ظُلْمٌ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْعِقَابَ ضَرَرٌ خَالٍ عَنِ النَّفْعِ فَيَكُونُ قَبِيحًا بَيَانُ خُلُّوِّهِ عَنِ النَّفْعِ أَنَّ ذَلِكَ النَّفْعَ لَا يَرْجِعُ إِلَى اللَّه تَعَالَى لِكَوْنِهِ مُتَعَالِيًا عَنِ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ وَلَا إِلَى ذَلِكَ الْمُعَاقَبِ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ ضَرَرٌ مَحْضٌ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مَشْغُولُونَ بِلَذَّاتِهِمْ فَلَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي الِالْتِذَاذِ بِالْعَذَابِ الدَّائِمِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ ضَرَرٌ خَالٍ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ النَّفْعِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ، وَأَمَّا الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْأُمَّةِ، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عَذَابَ الْكَافِرِ دَائِمٌ وَعِنْدَ هَذَا احْتَاجُوا إِلَى الْجَوَابِ عَنِ التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فَذَكَرُوا عَنْهُ جَوَابَيْنِ: الأول: قالوا المراد سموات الْآخِرَةِ وَأَرْضُهَا. قَالُوا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فِي الْآخِرَةِ سَمَاءً وَأَرْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [إِبْرَاهِيمَ: 48] وَقَوْلُهُ: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزُّمَرِ: 74] وَأَيْضًا لَا بُدَّ لِأَهْلِ الْآخِرَةِ مِمَّا يُقِلُّهُمْ وَيُظِلُّهُمْ، وَذَلِكَ هُوَ الْأَرْضُ والسموات. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: التَّشْبِيهُ إِنَّمَا يَحْسُنُ وَيَجُوزُ إِذَا كَانَ حَالُ الْمُشَبَّهِ بِهِ مَعْلُومًا مُقَرَّرًا فَيُشَبَّهُ بِهِ غَيْرُهُ تَأْكِيدًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي المشبه ووجود السموات وَالْأَرْضِ فِي الْآخِرَةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يكون وجوده معلوما إلا أن بقاءها عَلَى وَجْهٍ لَا يَفْنَى الْبَتَّةَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَإِذَا كَانَ أَصْلُ وُجُودِهِمَا مَجْهُولًا لِأَكْثَرِ الْخَلْقِ وَدَوَامُهُمَا أَيْضًا مَجْهُولًا لِلْأَكْثَرِ، كَانَ تَشْبِيهُ عِقَابِ الْأَشْقِيَاءِ بِهِ فِي الدَّوَامِ كَلَامًا عَدِيمَ الْفَائِدَةِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا ثبت بالقرآن وجود سموات وَأَرْضٍ فِي الْآخِرَةِ وَثَبَتَ دَوَامُهُمَا وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِهِ، وَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ التَّشْبِيهُ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: لما كان الطريق في إثبات دوام سموات أَهْلِ الْآخِرَةِ وَدَوَامِ أَرْضِهِمْ هُوَ السَّمْعُ، ثُمَّ السَّمْعُ دَلَّ عَلَى دَوَامِ عِقَابِ الْكَافِرِ، فَحِينَئِذٍ الدَّلِيلُ الَّذِي دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ حَاصِلٌ بِعَيْنِهِ فِي الْفَرْعِ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ ضَائِعٌ وَالتَّشْبِيهَ باطل، فكذا هاهنا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ قَالُوا إِنَّ الْعَرَبَ يُعَبِّرُونَ عَنِ الدَّوَامِ وَالْأَبَدِ بِقَوْلِهِمْ مَا دَامَتِ السموات وَالْأَرْضُ، وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْلُهُمْ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَمَا طَمَا الْبَحْرُ، وَمَا أَقَامَ الْجَبَلُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ الْعَرَبَ عَلَى عُرْفِهِمْ فِي كَلَامِهِمْ فَلَمَّا ذَكَرُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ أَبَدَ الْآبَادِ، عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ بِحَسَبِ عُرْفِهِمْ تُفِيدُ الْأَبَدَ وَالدَّوَامَ الْخَالِيَ عَنِ الِانْقِطَاعِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَلْ تُسَلِّمُونَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دامت السموات وَالْأَرْضُ، يَمْنَعُ مِنْ بَقَائِهَا مَوْجُودَةً بَعْدَ فَنَاءِ السموات، أَوْ تَقُولُونَ إِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَالْإِشْكَالُ لَازِمٌ، لِأَنَّ النَّصَّ لَمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ كَوْنِهِمْ فِي النَّارِ مُسَاوِيَةً لِمُدَّةِ بقاء السموات وَيَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ بَقَائِهِمْ فِي النَّارِ بَعْدَ فناء السموات، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فَنَاءِ السموات فَعِنْدَهَا يَلْزَمُكُمُ الْقَوْلُ بِانْقِطَاعِ ذَلِكَ الْعِقَابِ، وَأَمَّا إِنْ قُلْتُمْ هَذَا الْكَلَامُ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ كونهم في النار بعد فناء السموات وَالْأَرْضِ، فَلَا حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى هَذَا الْجَوَابِ أَلْبَتَّةَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ ضَائِعٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ الْحَقَّ عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ المعهود من الآية أنه متى كانت السموات وَالْأَرْضُ دَائِمَتَيْنِ، كَانَ كَوْنُهُمْ فِي النَّارِ بَاقِيًا فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّمَا حَصَلَ الشَّرْطُ حَصَلَ الْمَشْرُوطُ وَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا عُدِمَ الشَّرْطُ يُعْدَمُ الْمَشْرُوطُ: أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ: إِنْ كَانَ هَذَا إِنْسَانًا فَهُوَ حَيَوَانٌ.

فَإِنْ قُلْنَا: لَكِنَّهُ إِنْسَانٌ فَإِنَّهُ يَنْتُجُ أَنَّهُ حَيَوَانٌ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ لَمْ يَنْتُجْ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيَوَانٍ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْمَنْطِقِ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ نَقِيضِ الْمُقَدَّمِ لا ينتج شيئا، فكذا هاهنا إذا قلنا متى دامت السموات دام عقابهم، فإذا قلنا لكن السموات دَائِمَةٌ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ عِقَابُهُمْ حَاصِلًا، أَمَّا إذا قلنا لكنه ما بقيت السموات لَمْ يَلْزَمْ عَدَمُ دَوَامِ عِقَابِهِمْ. فَإِنْ قَالُوا: فإذا كان العقاب حاصلا سواء بقيت السموات أَوْ لَمْ تَبْقَ لَمْ يَبْقَ لِهَذَا التَّشْبِيهِ فَائِدَةٌ؟ قُلْنَا بَلْ فِيهِ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ وَهُوَ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفَاذِ ذَلِكَ الْعَذَابِ دَهْرًا دَهْرًا، وَزَمَانًا لَا يُحِيطُ الْعَقْلُ بِطُولِهِ وَامْتِدَادِهِ، فَأَمَّا أَنَّهُ هَلْ يَحْصُلُ لَهُ آخِرُ أَمْ لَا فَذَلِكَ يُسْتَفَادُ مِنْ دَلَائِلَ أُخَرَ، وَهَذَا الْجَوَابُ الَّذِي قَرَّرْتُهُ جَوَابٌ حَقٌّ وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا يَفْهَمُهُ إِنْسَانٌ أَلِفَ شَيْئًا مِنَ الْمَعْقُولَاتِ. وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ أَنْوَاعًا مِنَ الْأَجْوِبَةِ. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فِي الْجَوَابِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَالْفَرَّاءُ. قَالُوا هَذَا اسْتِثْنَاءٌ اسْتَثْنَاهُ اللَّه تَعَالَى وَلَا يَفْعَلُهُ أَلْبَتَّةَ، كَقَوْلِكَ: واللَّه لَأَضْرِبَنَّكَ إِلَّا أَنْ أَرَى غَيْرَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ عَزِيمَتَكَ تَكُونُ على ضربه، فكذا هاهنا وَطَوَّلُوا فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْجَوَابِ، وَفِي ضَرْبِ الْأَمْثِلَةِ فِيهِ، وَحَاصِلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: لَأَضْرِبَنَّكَ إِلَّا أَنْ أَرَى غَيْرَ ذَلِكَ، مَعْنَاهُ: لَأَضْرِبَنَّكَ إلا إذا رأيت أن الأولى ترك مضرب، وَهَذَا لَا يَدُلُّ أَلْبَتَّةَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ قَدْ حَصَلَتْ أَمْ لَا بِخِلَافِ قَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْحُكْمُ بِخُلُودِهِمْ فِيهَا إِلَّا الْمُدَّةَ الَّتِي شَاءَ رَبُّكَ، فَهَهُنَا اللفظ تدل عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَشِيئَةَ قَدْ حَصَلَتْ جَزْمًا، فَكَيْفَ يَحْصُلُ قِيَاسُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كلمة إِلَّا هاهنا وَرَدَتْ بِمَعْنَى: سِوَى. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي النَّارِ فِي جميع مدة بقاء السموات وَالْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ سِوَى مَا يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ مِنَ الْخُلُودِ الدَّائِمِ فَذَكَرَ أَوَّلًا فِي خُلُودِهِمْ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْعَرَبِ أَطْوَلُ مِنْهُ، ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ الدَّوَامَ الَّذِي لَا آخِرَ لَهُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ الْمَعْنَى: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنَ الزِّيَادَةِ الَّتِي لَا آخِرَ لَهَا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ زَمَانُ وُقُوفِهِمْ فِي الْمَوْقِفِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ إِلَّا وَقْتَ وُقُوفِهِمْ لِلْمُحَاسَبَةِ فَإِنَّهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا يَكُونُونَ/ فِي النَّارِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ الْمُرَادُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ وَهُوَ حَالُ كَوْنِهِمْ فِي الْقَبْرِ، أَوِ الْمُرَادُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ حَالَ عُمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ مُتَقَارِبَةٌ، وَالْمَعْنَى: خَالِدِينَ فِيهَا بِمِقْدَارِ مُكْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْبَرْزَخِ أَوْ مِقْدَارِ وُقُوفِهِمْ لِلْحِسَابِ ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى النَّارِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي الْجَوَابِ قَالُوا: الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إلى قوله: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هود: 106] وَتَقْرِيرُهُ أَنْ نَقُولَ: قَوْلُهُ: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها يُفِيدُ حُصُولَ الزَّفِيرِ وَالشَّهِيقِ مَعَ الْخُلُودِ فَإِذَا دَخَلَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ وَقْتٌ لَا يَحْصُلُ فِيهِ هَذَا الْمَجْمُوعُ لَكِنَّهُ ثَبَتَ فِي الْمَعْقُولَاتِ أَنَّهُ كَمَا يَنْتَفِي الْمَجْمُوعُ بِانْتِفَاءِ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ فَكَذَلِكَ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ فَرْدٍ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ فَإِذَا انْتَهَوْا آخِرَ الْأَمْرِ إِلَى أَنْ يَصِيرُوا

سَاكِنِينَ هَامِدِينَ خَامِدِينَ فَحِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ فَانْتَفَى أَحَدُ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْحُكْمِ بِانْقِطَاعِ كَوْنِهِمْ فِي النَّارِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: فِي الْجَوَابِ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْعَذَابِ لَا يَكُونُونَ أَبَدًا فِي النَّارِ، بَلْ قَدْ يُنْقَلُونَ إِلَى الْبَرَدِ وَالزَّمْهَرِيرِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَذَلِكَ يَكْفِي فِي صِحَّةِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: فِي الْجَوَابِ قَالَ قَوْمٌ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يُفِيدُ إِخْرَاجَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ مِنَ النَّارِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ يُفِيدُ أَنَّ جُمْلَةَ الْأَشْقِيَاءِ مَحْكُومٌ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْحُكْمِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ يُوجِبُ أَنْ لَا يَبْقَى ذَلِكَ الْحُكْمُ عَلَى ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ. وَيَكْفِي فِي زَوَالِ حُكْمِ الْخُلُودِ عَنِ الْمَجْمُوعِ زَوَالُهُ عَنْ بَعْضِهِمْ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْقَى حُكْمُ الْخُلُودِ لِبَعْضِ الْأَشْقِيَاءِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْخُلُودَ وَاجِبٌ لِلْكُفَّارِ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: الَّذِينَ زَالَ حُكْمُ الْخُلُودِ عَنْهُمْ هُمُ الْفُسَّاقُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا كَلَامٌ قَوِيٌّ فِي هَذَا الْبَابِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الْوَجْهُ إِنَّمَا يَتَعَيَّنُ إِذَا فَسَدَتْ سَائِرُ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهَا، وَأَيْضًا فَمِثْلُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مَذْكُورٌ فِي جَانِبِ السُّعَدَاءِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ. قُلْنَا: إِنَّا بِهَذَا الْوَجْهِ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى انْقِطَاعِ وَعِيدِ الْكُفَّارِ، ثُمَّ إِذَا أَرَدْنَا الِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا فِي أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُ الْفُسَّاقَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ مِنَ النَّارِ. قُلْنَا: أَمَّا حَمْلُ كَلِمَةِ «إِلَّا» عَلَى سِوَى فَهُوَ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ، وَأَمَّا حَمْلُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى حَالِ عُمْرِ الدُّنْيَا وَالْبَرْزَخِ وَالْمَوْقِفِ فَبَعِيدٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَقَعَ عَنِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ كَيْفِيَّةٌ مِنْ كَيْفِيَّاتِ الْحُصُولِ فِي النَّارِ، فَقَبْلَ الْحُصُولِ فِي النَّارِ امْتَنَعَ حُصُولُ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْخُلُودُ لَمْ يَحْصُلِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَامْتَنَعَ حُصُولُ الِاسْتِثْنَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ الِاسْتِثْنَاءُ عَائِدٌ/ إِلَى الزَّفِيرِ وَالشَّهِيقِ فَهَذَا أَيْضًا تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْآيَةِ مَحْمَلٌ صَحِيحٌ إِلَّا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ نَقْلُهُ مِنَ النَّارِ إِلَى الزَّمْهَرِيرِ. فَنَقُولُ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْعَذَابُ بِالزَّمْهَرِيرِ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ مدة السموات وَالْأَرْضِ. وَالْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ النَّقْلَ مِنَ النَّارِ إِلَى الزَّمْهَرِيرِ وَبِالْعَكْسِ يَحْصُلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِرَارًا فَبَطَلَ هَذَا الْوَجْهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ حَاصِلٌ فِي جَانِبِ السُّعَدَاءِ فَنَقُولُ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَحَدًا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا إِلَى النَّارِ، فَلِأَجْلِ هَذَا الْإِجْمَاعِ افْتَقَرْنَا فِيهِ إِلَى حَمْلِ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى أَحَدِ تِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ. أَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْإِجْمَاعُ، فَوَجَبَ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وَهَذَا يَحْسُنُ انْطِبَاقُهُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ إِذَا حَمَلْنَا الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى إِخْرَاجِ الْفُسَّاقِ مِنَ النَّارِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ أَظْهَرْتُ الْقَهْرَ وَالْقُدْرَةَ ثُمَّ أَظْهَرْتُ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ لِأَنِّي فَعَّالٌ لِمَا أُرِيدُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيَّ حُكْمٌ أَلْبَتَّةَ. ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

[سورة هود (11) : آية 109]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ سُعِدُوا بِضَمِّ السِّينِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا وَإِنَّمَا جَازَ ضَمُّ السِّينِ لِأَنَّهُ عَلَى حَذْفِ الزِّيَادَةِ مِنْ أَسْعَدَ وَلِأَنَّ سَعِدَ لَا يَتَعَدَّى وَأَسْعَدَ يَتَعَدَّى وَسَعِدَ وَأَسْعَدَ بِمَعْنًى وَمِنْهُ الْمَسْعُودُ مِنْ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الِاسْتِثْنَاءُ فِي بَابِ السُّعَدَاءِ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فيما تقدم وهاهنا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ رُبَّمَا اتَّفَقَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يُرْفَعَ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْعَرْشِ وَإِلَى الْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّه تَعَالَى. قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَةِ: 72] وَقَوْلُهُ: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: جَذَّهُ يَجُذُّهُ جَذًّا إِذَا قَطَعَهُ وَجَذَّ اللَّه دَابِرَهُمْ، فَقَوْلُهُ: غَيْرَ مَجْذُوذٍ أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الْوَاقِعَةِ: 33] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ كَوْنَ هَذِهِ الْحَالَةِ مُنْقَطِعَةً، فَلَمَّا خَصَّ هَذَا الْمَوْضِعَ بِهَذَا الْبَيَانِ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي جَانِبِ الْأَشْقِيَاءِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ الِانْقِطَاعُ، فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي هذه الآية. [سورة هود (11) : آية 109] فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَقَاصِيصَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِأَحْوَالِ الْأَشْقِيَاءِ وَأَحْوَالِ السُّعَدَاءِ شَرَحَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَحْوَالَ الْكُفَّارِ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ وَالْمَعْنَى: فَلَا تَكُنْ، إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ النُّونَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَلِأَنَّ النُّونَ إِذَا وَقَعَ عَلَى طَرَفِ الْكَلَامِ لَمْ يَبْقَ عِنْدَ التَّلَفُّظِ بِهِ إِلَّا مُجَرَّدُ الْغُنَّةِ فَلَا جَرَمَ أَسْقَطُوهُ، وَالْمَعْنَى: فَلَا تَكُ فِي شَكٍّ مِنْ حَالِ مَا يَعْبُدُونَ فِي أَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَشْبَهُوا آبَاءَهُمْ فِي لُزُومِ الْجَهْلِ وَالتَّقْلِيدِ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنَّا مُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ أَيْ مَا يَخُصُّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ وَإِنْ كَفَرُوا وَأَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ فَإِنَّا مُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ الرِّزْقِ وَالْخَيْرَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ. وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنَّا مُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْ إِزَالَةِ الْعُذْرِ وَإِزَاحَةِ الْعِلَلِ وَإِظْهَارِ الدَّلَائِلِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الكل مرادا. [سورة هود (11) : الآيات 110 الى 111] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِصْرَارَ كُفَّارِ مَكَّةَ عَلَى إِنْكَارِ التَّوْحِيدِ، بَيَّنَ أَيْضًا إِصْرَارَهُمْ عَلَى إِنْكَارِ نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَكْذِيبِهِمْ بِكِتَابِهِ، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ كَانُوا عَلَى/ هَذِهِ السِّيرَةِ الْفَاسِدَةِ مَعَ كل

الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَضَرَبَ لِذَلِكَ مَثَلًا وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَبِلَهُ بَعْضُهُمْ وَأَنْكَرَهُ آخَرُونَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَادَةَ الْخَلْقِ هَكَذَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ: وَلَوْلَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى بِتَأْخِيرِ عَذَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَكَانَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ عِنْدَ عَظِيمِ كُفْرِهِمْ إِنْزَالَ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ عَلَيْهِمْ لَكِنَّ الْمُتَقَدِّمَ مِنْ قَضَائِهِ أَخَّرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ. الثَّانِي: لَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وَهِيَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا يَحْكُمُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِلَّا لَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ تَمْيِيزُ الْمُحِقِّ عَنِ الْمُبْطِلِ فِي دَارِ الدُّنْيَا. الثَّالِثُ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وَهِيَ أَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ وَأَنَّ إِحْسَانَهُ رَاجِحٌ عَلَى قَهْرِهِ وَإِلَّا لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَلَمَّا قَرَّرَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى قَالَ: وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ يَعْنِي أَنَّ كُفَّارَ قَوْمِكَ لَفِي شَكٍّ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ مُرِيبٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ وَمَنْ أُخِّرَتْ وَمَنْ صَدَّقَ الرُّسُلَ وَمَنْ كَذَّبَ فَحَالُهُمْ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ تَعَالَى يُوَفِّيهِمْ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، فَجَمَعَتِ الْآيَةُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ فَإِنَّ تَوْفِيَةَ جَزَاءِ الطَّاعَاتِ وَعْدٌ عَظِيمٌ وَتَوْفِيَةَ جَزَاءِ الْمَعَاصِي وَعِيدٌ عَظِيمٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تَوْكِيدُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ كَانَ عَالِمًا بِمَقَادِيرِ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي فَكَانَ عَالِمًا بِالْقَدْرِ اللَّائِقِ بِكُلِّ عَمَلٍ مِنَ الْجَزَاءِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَضِيعُ شَيْءٌ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْأَجْزِيَةِ وَذَلِكَ نِهَايَةُ الْبَيَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَإِنَّ مُشَدَّدَةَ النُّونِ لَمَا خَفِيفَةً قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: اللَّامُ فِي لَمَّا هِيَ الَّتِي تَقْتَضِيهِ إِنَّ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَرْفَ إِنَّ يَقْتَضِي أَنْ يَدْخُلَ عَلَى خَبَرِهَا أَوِ اسْمِهَا لَامٌ كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النَّحْلِ: 18] وَقَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً [الحجر: 77] وَاللَّامُ الثَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي تَجِيءُ بَعْدَ الْقَسَمِ كَقَوْلِكَ واللَّه لَتَفْعَلَنَّ وَلَمَّا اجْتَمَعَ لَامَانِ دَخَلَتْ مَا لِتَفْصِلَ بَيْنَهُمَا فَكَلِمَةُ مَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ زَائِدَةٌ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى مَنْ وَبَقِيَّةُ التَّقْرِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ وَمِثْلُهُ: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [النِّسَاءِ: 72] . وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا مُخَفَّفَتَانِ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُمْ أَعْمَلُوا إِنَّ مُخَفَّفَةً كَمَا تَعْمَلُ مُشَدَّدَةً لِأَنَّ كَلِمَةَ إِنْ تُشْبِهُ الْفِعْلَ فَكَمَا يَجُوزُ إِعْمَالُ الْفِعْلِ تَامًّا وَمَحْذُوفًا فِي قَوْلِكَ لَمْ يَكُنْ زَيْدٌ قَائِمًا وَلَمْ يَكْ زَيْدٌ قَائِمًا فَكَذَلِكَ إِنَّ وَإِنْ. وَالْقِرَاءَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا [الفجر: 19] مُشَدَّدَتَانِ، قَالُوا: وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ إِنَّ أصل لَمًّا بِالتَّنْوِينِ كَقَوْلِهِ: أَكْلًا لَمًّا وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلًّا مَلْمُومِينَ أَيْ مَجْمُوعِينَ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِنَّ كُلًّا جَمِيعًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْأَفَاضِلِ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ تَوْفِيَةِ الْأَجْزِيَةِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَ فِيهَا سَبْعَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ التَّوْكِيدَاتِ: أَوَّلُهَا: كَلِمَةُ «إِنَّ» وَهِيَ لِلتَّأْكِيدِ. وَثَانِيهَا: كَلِمَةُ «كُلٍّ» وَهِيَ أَيْضًا لِلتَّأْكِيدِ. وَثَالِثُهَا: اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى خَبَرِ «إِنَّ» وَهِيَ تُفِيدُ التَّأْكِيدَ أَيْضًا. وَرَابِعُهَا: حَرْفُ «مَا» إِذَا جَعَلْنَاهُ عَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ مَوْصُولًا. وَخَامِسُهَا: الْقَسَمُ الْمُضْمَرُ، فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ وَإِنَّ جَمِيعَهُمْ واللَّه لَيُوَفِّيَنَّهُمْ. وَسَادِسُهَا: اللَّامُ

[سورة هود (11) : الآيات 112 إلى 113]

الثَّانِيَةُ الدَّاخِلَةُ عَلَى جَوَابِ الْقَسَمِ. وَسَابِعُهَا: النُّونُ الْمُؤَكِّدَةُ فِي قَوْلِهِ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ فَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ السَّبْعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْكِيدِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ تَدَلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَأَمْرِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وهو من أعظم المؤكدات. [سورة هود (11) : الآيات 112 الى 113] فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) [في قوله تعالى فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَطْنَبَ فِي شَرْحِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ قَالَ لرسوله: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وهذ الْكَلِمَةُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ، سَوَاءٌ كَانَ مُخْتَصًّا بِهِ أَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِتَبْلِيغِ الْوَحْيِ وَبَيَانِ الشَّرَائِعِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبَقَاءَ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ الْحَقِيقِيَّةِ مُشْكِلٌ جِدًّا وَأَنَا أَضْرِبُ لِذَلِكَ مِثَالًا يُقَرِّبُ صُعُوبَةَ هَذَا الْمَعْنَى إِلَى الْعَقْلِ السَّلِيمِ، وَهُوَ أَنَّ الْخَطَّ الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنَ الظِّلِّ وَبَيْنَ الضَّوْءِ جُزْءٌ وَاحِدٌ لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ فِي الْعَرْضِ، إِلَّا أَنَّ عَيْنَ ذَلِكَ الْخَطِّ مِمَّا لَا يَتَمَيَّزُ فِي الْحِسِّ عَنْ طَرَفَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَرُبَ طَرَفُ الظِّلِّ مِنْ طَرَفِ الضَّوْءِ اشْتَبَهَ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ فِي الْحِسِّ، فَلَمْ يَقَعِ الْحِسُّ عَلَى إِدْرَاكِ ذَلِكَ الْخَطِّ بِعَيْنِهِ بِحَيْثُ يَتَمَيَّزُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فِي الْمِثَالِ فَاعْرِفْ مِثَالَهُ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الْعُبُودِيَّةِ، فَأَوَّلَهَا: مَعْرِفَةُ اللَّه تَعَالَى وَتَحْصِيلُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى وَجْهٍ يُبْقِي الْعَبْدَ مَصُونًا فِي طَرَفِ الْإِثْبَاتِ عَنِ التَّشْبِيهِ، وَفِي طَرَفِ النَّفْيِ عَنِ التَّعْطِيلِ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ، وَاعْتَبِرْ سَائِرَ مَقَامَاتِ الْمَعْرِفَةِ مِنْ نَفْسِكَ، وَأَيْضًا فَالْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ وَالْقُوَّةُ الشَّهْوَانِيَّةُ حَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا طَرَفَا إِفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ وَهُمَا مَذْمُومَانِ، وَالْفَاصِلُ هُوَ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَهُمَا بِحَيْثُ لَا يَمِيلُ إِلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَالْوُقُوفُ عَلَيْهِ صَعْبٌ ثُمَّ الْعَمَلُ بِهِ أَصْعَبُ، فَثَبَتَ أَنَّ مَعْرِفَةَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ، بِتَقْدِيرِ مَعْرِفَتِهِ فَالْبَقَاءُ عَلَيْهِ وَالْعَمَلُ بِهِ أَصْعَبُ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَقَامُ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ لَا جَرَمَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ وَلَا أَشَقُّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا، وَعَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ فَقُلْتُ لَهُ: رُوِيَ عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا فَقَالَ: «نَعَمْ» فَقُلْتُ: وَبِأَيِّ آيَةٍ؟ فَقَالَ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا وَرَدَ بِالْأَمْرِ بِأَعْمَالِ الْوُضُوءِ مُرَتَّبَةً فِي اللَّفْظِ وَجَبَ اعْتِبَارُ التَّرْتِيبِ فِيهَا لِقَوْلِهِ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلَمَّا وَرَدَ الْأَمْرُ فِي الزَّكَاةِ بِأَدَاءِ الْإِبِلِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ مِنَ الْبَقَرِ وَجَبَ اعْتِبَارُهَا وَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ مَا وَرَدَ أَمْرُ اللَّه تَعَالَى بِهِ وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ لَمَّا دَلَّ عُمُومُ النَّصِّ عَلَى حُكْمٍ وَجَبَ الْحُكْمُ بِمُقْتَضَاهُ لِقَوْلِهِ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَالْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ انْحِرَافٌ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَنْ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَقِمْ وَأَغْنَى الْوَصْلُ بِالْجَارِّ عَنْ تَأْكِيدِهِ بِضَمِيرِ الْمُتَّصِلِ فِي صِحَّةِ الْعَطْفِ أَيْ فَاسْتَقِمْ أنت

[سورة هود (11) : الآيات 114 إلى 115]

وَهُمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي أُمِرْتَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءً عَلَى تَقْدِيرِ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ فَلْيَسْتَقِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْكَافِرَ وَالْفَاسِقَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الرُّجُوعُ عَنِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ فَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يَصِحُّ اشْتِغَالُهُمَا بِالِاسْتِقَامَةِ، وَأَمَّا التَّائِبُ عَنِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ الِاشْتِغَالُ بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى مَنَاهِجِ دِينِ اللَّه تَعَالَى وَالْبَقَاءُ عَلَى طَرِيقِ عُبُودِيَّةِ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ: وَلا تَطْغَوْا وَمَعْنَى الطُّغْيَانِ أَنْ يُجَاوِزَ الْمِقْدَارَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ تَوَاضَعُوا للَّه تَعَالَى وَلَا تَتَكَبَّرُوا عَلَى أَحَدٍ وَقِيلَ وَلَا تَطْغَوْا فِي الْقُرْآنِ فَتُحِلُّوا حَرَامَهُ وَتُحَرِّمُوا حَلَالَهُ، وَقِيلَ: لَا تَتَجَاوَزُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَحُدَّ لَكُمْ، وَقِيلَ: وَلَا تَعْدِلُوا عَنْ طَرِيقِ شُكْرِهِ وَالتَّوَاضُعِ لَهُ عِنْدَ عِظَمِ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ وَالْأَوْلَى دُخُولُ الْكُلِّ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالرُّكُونُ هُوَ السُّكُونُ إِلَى الشَّيْءِ وَالْمَيْلُ إِلَيْهِ بِالْمَحَبَّةِ وَنَقِيضُهُ/ النُّفُورُ عَنْهُ، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْكَافِ وَالْمَاضِي مِنْ هَذَا رَكِنَ كَعَلِمَ وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى رَكَنَ يَرْكَنُ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَلَيْسَتْ بِفَصِيحَةٍ. قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: الرُّكُونُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الرِّضَا بِمَا عَلَيْهِ الظَّلَمَةُ مِنَ الظُّلْمِ وَتَحْسِينُ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ وَتَزْيِينُهَا عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ وَمُشَارَكَتُهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ فَأَمَّا مُدَاخَلَتُهُمْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ أَوِ اجْتِلَابِ مَنْفَعَةٍ عَاجِلَةٍ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي الرُّكُونِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ أَيْ أَنَّكُمْ إِنْ رَكَنْتُمْ إِلَيْهِمْ فَهَذِهِ عَاقِبَةُ الرُّكُونِ، ثُمَّ قَالَ: وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ أَيْ لَيْسَ لَكُمْ أَوْلِيَاءُ يُخَلِّصُونَكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّه. ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ وَالْمُرَادُ لَا تَجِدُونَ مَنْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّ مَنْ رَكَنَ إِلَى الظَّلَمَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فكيف يكون حال الظالم في نفسه. [سورة هود (11) : الآيات 114 الى 115] وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِالِاسْتِقَامَةِ أَرْدَفَهُ بِالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْظَمَ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ باللَّه هُوَ الصَّلَاةُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَأَيْتُ فِي بَعْضِ «كُتُبِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ» أَنَّ الْخَوَارِجَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْوَاجِبَ لَيْسَ إِلَّا الْفَجْرَ وَالْعِشَاءَ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمَا وَاقِعَانِ عَلَى طَرَفَيِ النَّهَارِ واللَّه تَعَالَى أَوْجَبَ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ طَرَفَيِ النَّهَارِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَدْرُ كَافِيًا. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ يُوجِبُ صَلَوَاتٍ أُخْرَى. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ فَإِنَّ طَرَفَيِ النَّهَارِ مَوْصُوفَانِ بِكَوْنِهِمَا زُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ فَإِنَّ مَا لَا يَكُونُ نَهَارًا يَكُونُ لَيْلًا غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي عَطْفَ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَالشِّعْرِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ مَنْ صَلَّى طَرَفَيِ النَّهَارِ كَانَ

إِقَامَتُهُمَا كَفَّارَةً لِكُلِّ ذَنْبٍ سِوَاهُمَا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ وَاجِبَةٌ إِلَّا/ أَنَّ إِقَامَتَهُمَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ كَفَّارَةً لِتَرْكِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَثُرَتِ الْمَذَاهِبُ فِي تَفْسِيرِ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الصلاة التي تقام في طرفي النهار وهي الْفَجْرُ وَالْعَصْرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدَ طَرَفَيِ النَّهَارِ طُلُوعُ الشَّمْسِ وَالطَّرَفُ الثَّانِي مِنْهُ غُرُوبُ الشَّمْسِ فَالطَّرَفُ الْأَوَّلُ هُوَ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَالطَّرَفُ الثَّانِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ فَوَجَبَ حَمْلُ الطَّرَفِ الثَّانِي عَلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا كَانَتِ الْآيَةُ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فِي أَنَّ التَّنْوِيرَ بِالْفَجْرِ أَفْضَلُ، وَفِي أَنَّ تَأْخِيرَ الْعَصْرِ أَفْضَلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ وَبَيَّنَّا أَنَّ طَرَفَيِ النَّهَارِ هُمَا الزَّمَانُ الْأَوَّلُ لِطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَالزَّمَانُ الثَّانِي لِغُرُوبِهَا، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ، فَقَدْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَقِمِ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَقْرُبُ مِنْ طَرَفَيِ النَّهَارِ، لِأَنَّ مَا يَقْرُبُ مِنَ الشَّيْءِ يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ وَقْتٍ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَإِلَى غُرُوبِهَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَإِقَامَةُ صَلَاةِ الْفَجْرِ عِنْدَ التَّنْوِيرِ أَقْرَبُ إِلَى وَقْتِ الطُّلُوعِ مِنْ إِقَامَتِهَا عِنْدَ التَّغْلِيسِ، وَكَذَلِكَ إِقَامَةُ صَلَاةِ العصر عند ما يَصِيرُ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ أَقْرَبُ إِلَى وقت الغروب من إقامتها عند ما يَصِيرُ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَالْمَجَازُ كُلَّمَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْحَقِيقَةِ كَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ أَوْلَى، فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يُقَوِّي قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ فَهُوَ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي ثَلَاثِ زُلَفٍ مِنَ اللَّيْلِ، لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَقْتَانِ، فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِوُجُوبِ الْوَتْرِ حَتَّى يَحْصُلَ زُلَفٌ ثَلَاثَةٌ يَجِبُ إِيقَاعُ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْوَتْرِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لقوله تعالى: وَاتَّبِعُوهُ [سبأ: 20] وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ بِعَيْنِهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها [طَهَ: 30] فَالَّذِي هُوَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ هُوَ صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَالَّذِي هُوَ قَبْلَ غُرُوبِهَا هُوَ صَلَاةُ الْعَصْرِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وهو نظير قَوْلِهِ: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ أَصَابَ مِنَ امْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ كلما يُصِيبُهُ الرَّجُلُ مِنَ امْرَأَتِهِ غَيْرَ الْجِمَاعِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لِيَتَوَضَّأْ وُضُوءًا حَسَنًا ثُمَّ لِيَقُمْ وَلْيُصَلِّ» فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَقِيلَ/ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: هَذَا لَهُ خَاصَّةً، فَقَالَ: «بَلْ هُوَ لِلنَّاسِ عَامَّةً» وَقَوْلُهُ: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ قَالَ اللَّيْثُ: زُلْفَةٌ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ طَائِفَةٌ، وَالْجَمْعُ الزُّلَفُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وأصل الكلمة من الزلف وَالزُّلْفَى هِيَ الْقُرْبَى، يُقَالُ: أَزْلَفْتُهُ فَازْدَلَفْ أَيْ قَرَّبْتُهُ فَاقْتَرَبَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قرئ زُلَفاً بضمتين وزُلَفاً بِإِسْكَانِ اللَّامِ وَزُلْفَى بِوَزْنِ قُرْبَى فَالزُّلَفُ جَمْعُ زُلْفَةٍ كَظُلَمٍ جَمْعُ ظُلْمَةٍ وَالزُّلْفُ بِالسُّكُونِ نَحْوُ بُسْرَةٍ وَبُسْرٍ وَالزُّلُفُ بِضَمَّتَيْنِ نَحْوُ: يُسُرٌ فِي يُسُرٍ، وَالزُّلْفَى بِمَعْنَى الزُّلْفَةِ كَمَا أَنَّ الْقُرْبَى بِمَعْنَى الْقُرْبَةِ وَهُوَ مَا يَقْرُبُ مِنْ آخِرِ النهار من نَحْوُ: يُسُرٌ فِي يُسُرٍ، وَالزُّلْفَى بِمَعْنَى الزُّلْفَةِ كَمَا أَنَّ الْقُرْبَى بِمَعْنَى الْقُرْبَةِ وَهُوَ مَا يَقْرُبُ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ مِنَ اللَّيْلِ، وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ وَقُرَبًا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

[سورة هود (11) : آية 116]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنَاتِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ كَفَّارَاتٌ لِسَائِرِ الذُّنُوبِ بِشَرْطِ الِاجْتِنَابِ عَنِ الْكَبَائِرِ. وَالثَّانِي: رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْحَسَنَاتِ هِيَ قول العبد سبحانه اللَّه وَالْحَمْدُ للَّه وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه واللَّه أَكْبَرُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ إِنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَشْرَفُ الْحَسَنَاتِ وَأَجَلُّهَا وَأَفْضَلُهَا. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، فَالْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْحَسَنَاتِ دَرَجَةً يُذْهِبُ الْكُفْرَ الَّذِي هُوَ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْعِصْيَانِ فَلَأَنْ يَقْوَى عَلَى الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ أَقَلُّ السَّيِّئَاتِ دَرَجَةً كَانَ أَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يُفِدْ إِزَالَةَ الْعِقَابِ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُفِيدَ إِزَالَةَ الْعَذَابِ الدَّائِمِ الْمُؤَبَّدِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ فَقَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ إِلَى آخِرِهَا ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ عِظَةٌ لِلْمُتَّعِظِينَ وَإِرْشَادٌ لِلْمُسْتَرْشِدِينَ. ثُمَّ قَالَ: وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قِيلَ عَلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها [طه: 132] . [سورة هود (11) : آية 116] فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْأُمَمَ الْمُتَقَدِّمِينَ حَلَّ بِهِمْ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ بَيَّنَ أَنَّ السَّبَبَ فِيهِ أَمْرَانِ: السَّبَبُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَا كَانَ فِيهِمْ قَوْمٌ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. فَقَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ وَالْمَعْنَى فَهَلَّا كَانَ، وَحُكِيَ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ كُلُّ مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ كَلِمَةِ لَوْلَا فَمَعْنَاهُ هَلَّا إِلَّا الَّتِي فِي الصَّافَّاتِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَمَا صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ الصَّافَّاتِ لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ [الْقَلَمِ: 49] وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ [الْفَتْحِ: 25] وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [الإسراء: 74] ، وقوله: أُولُوا بَقِيَّةٍ فَالْمَعْنَى أُولُو فَضْلٍ وَخَيْرٍ، وَسُمِّيَ الْفَضْلُ وَالْجُودُ بَقِيَّةً لِأَنَّ الرَّجُلَ يَسْتَبْقِي مِمَّا يُخْرِجُهُ أَجْوَدَهُ وَأَفْضَلَهُ، فَصَارَ هَذَا اللَّفْظُ مَثَلًا فِي الْجَوْدَةِ يُقَالُ فُلَانٌ مِنْ بَقِيَّةِ الْقَوْمِ أَيْ مِنْ خِيَارِهِمْ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الزَّوَايَا خَبَايَا وَفِي الرِّجَالِ بَقَايَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَقِيَّةُ بِمَعْنَى الْبَقْوَى كَالتَّقِيَّةِ بِمَعْنَى التَّقْوَى أَيْ فَهَلَّا كَانَ مِنْهُمْ ذُو بَقَاءٍ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَصِيَانَةٍ لها من سخط اللَّه تعالى وقرئ أُولُوا بَقِيَّةٍ بِوَزْنِ لُقْيَةٍ مِنْ بَقَّاهُ يُبَقِّيهِ إِذَا رَاقَبَهُ وَانْتَظَرَهُ، وَالْبَقِيَّةُ الْمَرَّةُ مِنْ مَصْدَرِهِ، وَالْمَعْنَى فَلَوْلَا كَانَ مِنْهُمْ أُولُو مُرَاقَبَةٍ وَخَشْيَةٍ مِنَ انْتِقَامِ اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ: إِلَّا قَلِيلًا وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ ذَلِكَ تَرْغِيبًا لِأُولِي الْبَقِيَّةِ فِي النَّهْيِ عَنِ الْفَسَادِ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنَ النَّاجِينَ مِنْهُمْ كَمَا تَقُولُ هَلَّا قَرَأَ قَوْمُكَ الْقُرْآنَ إِلَّا الصُّلَحَاءَ مِنْهُمْ تُرِيدُ اسْتِثْنَاءَ الصُّلَحَاءِ مِنَ الْمُرَغَّبِينَ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا قُلْنَا: إِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَكِنَّ قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنَ الْقُرُونِ نَهَوْا عَنِ الْفَسَادِ وَسَائِرَهُمْ تَارِكُونَ لِلنَّهْيِ. وَالسَّبَبُ الثَّانِي: لِنُزُولِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ قَوْلُهُ: وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَالتَّرَفُّهُ النِّعْمَةُ وَصَبِيٌّ مُتْرَفٌ إِذَا كَانَ مُنَعَّمَ الْبَدَنِ، وَالْمُتْرَفُ الَّذِي أَبْطَرَتْهُ النِّعْمَةُ وَسَعَةُ الْمَعِيشَةِ وَأَرَادَ بِالَّذِينِ ظَلَمُوا تَارِكِي النَّهْيِ عن

[سورة هود (11) : الآيات 117 إلى 119]

الْمُنْكَرَاتِ أَيْ لَمْ يَهْتَمُّوا بِمَا هُوَ رُكْنٌ عَظِيمٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاتَّبَعُوا طَلَبَ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَاشْتَغَلُوا بِتَحْصِيلِ الرِّيَاسَاتِ وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةِ الْجُعْفِيِّ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا أَيْ وَاتَّبَعُوا حَرَامًا أَتْرَفُوا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَكانُوا مُجْرِمِينَ ومعناه ظاهر. [سورة هود (11) : الآيات 117 الى 119] وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ مَا أَهْلَكَ أَهْلَ الْقُرَى إِلَّا بِظُلْمٍ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ المراد من الظلم هاهنا الشِّرْكُ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُهْلِكُ أَهْلَ الْقُرَى بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِمْ مُشْرِكِينَ إِذَا كَانُوا مُصْلِحِينَ فِي الْمُعَامَلَاتِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ لَا يَنْزِلُ لِأَجْلِ كَوْنِ الْقَوْمِ مُعْتَقِدِينَ لِلشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، بَلْ إِنَّمَا يَنْزِلُ ذَلِكَ الْعَذَابُ إذا أساؤا فِي الْمُعَامَلَاتِ وَسَعَوْا فِي الْإِيذَاءِ وَالظُّلْمِ. وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ إِنَّ حُقُوقَ اللَّه تَعَالَى مَبْنَاهَا عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ. وَحُقُوقَ الْعِبَادِ مَبْنَاهَا عَلَى الضِّيقِ وَالشُّحِّ. وَيُقَالُ فِي الْأَثَرِ الْمُلْكُ يَبْقَى مَعَ الْكُفْرِ وَلَا يَبْقَى مَعَ الظُّلْمِ، فَمَعْنَى الْآيَةِ: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ أَيْ لَا يُهْلِكُهُمْ بِمُجَرَّدِ شِرْكِهِمْ إِذَا كَانُوا مُصْلِحِينَ يُعَامِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى الصَّلَاحِ وَالسَّدَادِ. وَهَذَا تَأْوِيلُ أَهْلِ السُّنَّةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ إِنَّمَا نَزَلَ عَلَيْهِمْ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ لَمَّا حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ مِنْ إِيذَاءِ النَّاسِ وَظُلْمِ الْخَلْقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ وَهُوَ الَّذِي تَخْتَارُهُ الْمُعْتَزِلَةُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَهْلَكَهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ مُصْلِحِينَ لَمَا كَانَ مُتَعَالِيًا عَنِ الظُّلْمِ فَلَا جَرَمَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بَلْ إِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ لِأَجْلِ سُوءِ أَفْعَالِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَالْمُعْتَزِلَةُ يَحْمِلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى مَشِيئَةِ الْإِلْجَاءِ وَالْإِجْبَارِ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَالْمُرَادُ افْتِرَاقُ النَّاسِ فِي الْأَدْيَانِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى اسْتِقْصَاءِ مَذَاهِبِ الْعَالَمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَلْيُطَالِعْ كِتَابَنَا الَّذِي سميناه «بالرياض المونقة» إلا أنا نذكر هاهنا تَقْسِيمًا جَامِعًا لِلْمَذَاهِبِ. فَنَقُولُ: النَّاسُ فَرِيقَانِ مِنْهُمْ مَنْ أَقَرَّ بِالْعُلُومِ الْحِسِّيَّةِ كَعِلْمِنَا بِأَنَّ النَّارَ حَارَّةٌ، وَالشَّمْسَ مُضِيئَةٌ وَالْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ كَعِلْمِنَا بِأَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُمَا، والمنكرون هم السفسطائية، وَالْمُقِرُّونَ هُمُ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَهْلِ الْعَالَمِ، وَهُمْ فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ سَلَّمَ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَرْكِيبُ تِلْكَ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ بِحَيْثُ يَسْتَنْتِجُ مِنْهَا نَتَائِجَ عِلْمِيَّةً نَظَرِيَّةً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ، وَهُمُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ أَيْضًا النَّظَرَ إِلَى الْعُلُومِ، وَهُمْ قَلِيلُونَ، وَالْأَوَّلُونَ هُمُ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَهْلِ الْعَالَمِ، وَهُمْ فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يُثْبِتُ لِهَذَا الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ مَبْدَأً أَصْلًا وَهُمُ الْأَقَلُّونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ لَهُ مَبْدَأً وَهَؤُلَاءِ فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: ذَلِكَ الْمَبْدَأُ مُوجَبٌ بِالذَّاتِ، وَهُمْ جُمْهُورُ الْفَلَاسِفَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَمِنْهُمْ من يقول:

إِنَّهُ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ وَهُمْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعَالَمِ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ مَا أَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى الْعِبَادِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ أَرْسَلَ الرَّسُولَ، فَالْأَوَّلُونَ هُمُ الْبَرَاهِمَةُ. وَالْقِسْمَ الثَّانِيَ أَرْبَابُ الشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ، وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَالنَّصَارَى وَالْيَهُودُ وَالْمَجُوسُ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ اخْتِلَافَاتٌ لَا حَدَّ لَهَا وَلَا حَصْرَ، وَالْعُقُولُ مُضْطَرِبَةٌ، وَالْمَطَالِبُ غَامِضَةٌ، وَمُنَازَعَاتُ الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ غَيْرُ مُنْقَطِعَةٍ، وَلَمَّا حَسُنَ مِنْ بُقْرَاطَ أَنْ يَقُولَ فِي صِنَاعَةِ الطِّبِّ الْعُمْرُ قَصِيرٌ، وَالصِّنَاعَةُ طَوِيلَةٌ، وَالْقَضَاءُ عُسْرٌ، وَالتَّجْرِبَةُ خَطَرٌ، فَلِأَنْ يَحْسُنَ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ وَالْمَبَاحِثِ الْغَامِضَةِ، كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّكُمْ حَمَلْتُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْأَدْيَانِ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْأَلْوَانِ وَالْأَلْسِنَةِ وَالْأَرْزَاقِ وَالْأَعْمَالِ. قُلْنَا: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً فَيَجِبُ حَمْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى مَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً، وَمَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ فَيَجِبُ حَمْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى مَعْنًى يَصِحُّ أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْهُ قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا مَا قُلْنَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ وَالْإِيمَانَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِتَخْلِيقِ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَوَالَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ خَصَّهُ اللَّه بِرَحْمَتِهِ، وَتِلْكَ الرَّحْمَةُ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ إِعْطَاءِ الْقُدْرَةِ وَالْعَقْلِ، وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، وَإِزَاحَةِ الْعُذْرِ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ/ يُقَالَ: تِلْكَ الرَّحْمَةُ هُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ فِيهِ تِلْكَ الْهِدَايَةَ وَالْمَعْرِفَةَ. قَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ بِأَنْ يَصِيرَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ، فَيَرْحَمُهُ اللَّه بِالثَّوَابِ، وَيَحْتَمِلُ إِلَّا مَنْ رَحِمَهُ اللَّه بِأَلْطَافِهِ، فَصَارَ مُؤْمِنًا بِأَلْطَافِهِ وَتَسْهِيلِهِ، وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ قَوْلِهِ: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ يُفِيدُ أَنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ إِنَّمَا زَالَ بِسَبَبِ هَذِهِ الرَّحْمَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرَّحْمَةُ جَارِيَةً مَجْرَى السَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى زَوَالِ هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَالثَّوَابُ شَيْءٌ مُتَأَخِّرٌ عَنْ زَوَالِ هَذَا الِاخْتِلَافِ، فَالِاخْتِلَافُ جَارٍ مَجْرَى الْمُسَبَّبِ لَهُ، وَمَجْرَى الْمَعْلُولِ، فَحَمْلُ هَذِهِ الرَّحْمَةِ عَلَى الثَّوَابِ بَعِيدٌ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ حَمْلُ هَذِهِ الرَّحْمَةِ عَلَى الْأَلْطَافِ فَنَقُولُ: جَمِيعُ الْأَلْطَافِ الَّتِي فَعَلَهَا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ فَهِيَ مَفْعُولَةٌ أَيْضًا فِي حَقِّ الْكَافِرِ، وَهَذِهِ الرحمة أمر مختص بِهِ الْمُؤْمِنُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى تِلْكَ الْأَلْطَافِ، وَأَيْضًا فَحُصُولُ تِلْكَ الْأَلْطَافِ هَلْ يُوجِبُ رُجْحَانَ وُجُودِ الْإِيمَانِ عَلَى عَدَمِهِ أَوْ لَا يُوجِبُهُ، فَإِنْ لَمْ يُوجِبْهُ كَانَ وُجُودُ تِلْكَ الْأَلْطَافِ وَعَدَمُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى حُصُولِ هَذَا الْمَقْصُودِ سِيَّانِ، فَلَمْ يَكُ لُطْفًا فِيهِ، وَإِنْ أَوْجَبَ الرُّجْحَانَ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي «الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ» أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الرُّجْحَانُ فَقَدْ وَجَبَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ حُصُولُ الْإِيمَانِ مِنَ اللَّه، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْإِيمَانِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّه، أَنَّهُ مَا لَمْ يَتَمَيَّزِ الْإِيمَانُ عَنِ الْكُفْرِ، وَالْعِلْمُ عَنِ الْجَهْلِ، امْتَنَعَ الْقَصْدُ إِلَى تَكْوِينِ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ هَذَا الِامْتِيَازُ إِذَا عُلِمَ كَوْنُ أَحَدِ هَذَيْنِ الِاعْتِقَادَيْنِ مُطَابِقًا لِلْمُعْتَقَدِ وَكَوْنُ الْآخَرِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ حُصُولُ هَذَا الْعِلْمِ، أَنْ لَوْ عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ الْمُعْتَقَدَ فِي نَفْسِهِ كَيْفَ يَكُونُ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنَ الْعَبْدِ الْقَصْدُ إِلَى تَكْوِينِ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ كَانَ عَالِمًا، وَذَلِكَ

[سورة هود (11) : آية 120]

يَقْتَضِي تَكْوِينَ الْكَائِنِ وَتَحْصِيلَ الْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّ زَوَالَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ وَحُصُولَ الْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلِلرَّحْمَةِ خَلَقَهُمْ، وَهَذَا اخْتِيَارُ جُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ. قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: وَلِلِاخْتِلَافِ خَلَقَهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَيْنِ أَوْلَى مِنْ عَوْدِهِ إلى أبعدهما، وأقرب المذكورين هاهنا هُوَ الرَّحْمَةُ، وَالِاخْتِلَافُ أَبْعَدُهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ خَلَقَهُمْ لِلِاخْتِلَافِ وَأَرَادَ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْإِيمَانَ، لكان لا يجوز أن يعذبهم عليه، إذ كَانُوا مُطِيعِينَ لَهُ بِذَلِكَ الِاخْتِلَافِ. الثَّالِثُ: إِذَا فَسَّرْنَا الْآيَةَ بِهَذَا الْمَعْنَى، كَانَ مُطَابِقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] . فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ وَلِلرَّحْمَةِ خَلَقَهُمْ لَقَالَ: وَلِتِلْكَ خَلَقَهُمْ وَلَمْ يَقُلْ: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ. قُلْنَا: إِنَّ تَأْنِيثَ الرَّحْمَةِ لَيْسَ تَأْنِيثًا حَقِيقِيًّا، فَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْفَضْلِ وَالْغُفْرَانِ كَقَوْلِهِ: هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي [الْكَهْفِ: 98] وَقَوْلِهِ: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الْأَعْرَافِ: 56] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ وَلِلِاخْتِلَافِ خَلَقَهُمْ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ خَلَقَ أَهْلَ الرَّحْمَةِ لِلرَّحْمَةِ وَأَهْلَ الِاخْتِلَافِ لِلِاخْتِلَافِ. رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: خَلَقَ اللَّه أَهْلَ الرَّحْمَةِ لِئَلَّا يَخْتَلِفُوا، وَأَهْلَ الْعَذَابِ لِأَنْ يَخْتَلِفُوا، وَخَلَقَ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا، وَخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الدَّلَائِلُ الْقَاطِعَةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ وَالْجَهْلَ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُمَا فِي الْعَبْدِ إِلَّا بِتَخْلِيقِ اللَّه تَعَالَى. الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ عَلَى الْبَعْضِ بِكَوْنِهِمْ مُخْتَلِفِينَ وَعَلَى الْآخَرِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الرَّحْمَةِ وَعَلِمَ ذَلِكَ امْتَنَعَ انْقِلَابُ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَزِمَ انْقِلَابُ الْعِلْمِ جَهْلًا وَهُوَ مُحَالٌ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ أَقْوَامًا لِلْهِدَايَةِ وَالْجَنَّةِ، وَأَقْوَامًا آخَرِينَ لِلضَّلَالَةِ وَالنَّارِ، وَذَلِكَ يُقَوِّي هَذَا التأويل. [سورة هود (11) : آية 120] وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْقِصَصَ الْكَثِيرَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَوْعَيْنِ مِنَ الْفَائِدَةِ. الْفَائِدَةُ الْأُولَى: تَثْبِيتُ الْفُؤَادِ عَلَى أَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَعَلَى الصَّبْرِ وَاحْتِمَالِ الْأَذَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا ابْتُلِيَ بِمِحْنَةٍ وَبَلِيَّةٍ فَإِذَا رَأَى لَهُ فِيهِ مُشَارِكًا خَفَّ ذَلِكَ عَلَى قَلْبِهِ، كَمَا يُقَالُ: الْمُصِيبَةُ إِذَا عَمَّتْ خَفَّتْ، فَإِذَا سَمِعَ الرَّسُولُ هَذِهِ الْقِصَصَ، وَعَلِمَ أَنَّ حَالَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِمْ مَعَ أَتْبَاعِهِمْ هَكَذَا، سَهُلَ عَلَيْهِ تَحَمُّلُ الْأَذَى مِنْ قَوْمِهِ وَأَمْكَنَهُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ. وَالْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي قَوْلِهِ: فِي هذِهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَثَانِيهَا: فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَثَالِثُهَا: فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَهَذَا بَعِيدٌ غَيْرُ لَائِقٍ بِهَذَا الْمَوْضِعِ.

[سورة هود (11) : الآيات 121 إلى 123]

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَخْصِيصِ هَذِهِ السورة بمجيء الحق فيها أن يكون حَالَ سَائِرِ السُّوَرِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَكْمَلَ حَالًا مِمَّا ذُكِرَ فِي سَائِرِ السُّوَرِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا قَوْلُهُ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: 112] لَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ جَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ الْحَقُّ وَالْمَوْعِظَةُ وَالذِّكْرَى. أَمَّا الْحَقُّ: فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوَّةِ. وَأَمَّا الذِّكْرَى: فَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِرْشَادِ إِلَى الْأَعْمَالِ الْبَاقِيَةِ الصَّالِحَةِ. وَأَمَّا الْمَوْعِظَةُ: فَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّنْفِيرِ مِنَ الدُّنْيَا وَتَقْبِيحِ أَحْوَالِهَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْمُذَكِّرَةُ لِمَا هُنَالِكَ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّوحَ إِنَّمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ الْعَالَمِ إِلَّا أَنَّهُ لِاسْتِغْرَاقِهِ فِي مَحَبَّةِ الْجَسَدِ فِي هَذَا الْعَالَمِ نَسِيَ أَحْوَالَ ذَلِكَ الْعَالَمِ فَالْكَلَامُ الْإِلَهِيُّ يُذَكِّرُهُ أَحْوَالَ ذَلِكَ الْعَالَمِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ صَحَّ إِطْلَاقُ لَفْظِ الذِّكْرِ عليه. ثم هاهنا دَقِيقَةٌ أُخْرَى عَجِيبَةٌ: وَهِيَ أَنَّ الْمَعَارِفَ الْإِلَهِيَّةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ قَابِلٍ وَمِنْ مُوجِبٍ، وَقَابِلُهَا هُوَ الْقَلْبُ، وَالْقَلْبُ مَا لَمْ يَكُنْ كَامِلَ الِاسْتِعْدَادِ لِقَبُولِ تِلْكَ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّجَلِّيَاتِ الْقُدْسِيَّةِ، لَمْ يَحْصُلِ الِانْتِفَاعُ بِسَمَاعِ الدَّلَائِلِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ اللَّه تَعَالَى ذِكْرَ إِصْلَاحِ الْقَلْبِ، وَهُوَ تَثْبِيتُ الْفُؤَادِ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ صَلَاحَ حَالِ الْقَابِلِ، أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ الْمُوجِبِ، وَهُوَ مَجِيءُ هَذِهِ السُّورَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْحَقِّ وَالْمَوْعِظَةِ وَالذِّكْرَى، وهذا الترتيب في غاية الشرف والجلالة. [سورة هود (11) : الآيات 121 الى 123] وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ لِلرَّسُولِ: وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِمْ هَذِهِ الْبَيَانَاتُ الْبَالِغَةُ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَهَذَا عَيْنُ مَا حَكَاهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قال لِقَوْمِهِ، وَالْمَعْنَى: افْعَلُوا كُلَّ مَا تَقْدِرُونَ/ عَلَيْهِ فِي حَقِّي مِنَ الشَّرِّ، فَنَحْنُ أَيْضًا عَامِلُونَ. وَقَوْلُهُ: اعْمَلُوا وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ الْأَمْرِ، إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا التَّهْدِيدُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [الْإِسْرَاءِ: 64] وَكَقَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الْكَهْفِ: 29] وَانْتَظِرُوا مَا يَعِدُكُمُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْخِذْلَانِ فَإِنَّا مُنْتَظِرُونَ مَا وَعَدَنَا الرَّحْمَنُ مِنْ أَنْوَاعِ الْغُفْرَانِ وَالْإِحْسَانِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: وَانْتَظِرُوا الْهَلَاكَ فَإِنَّا مُنْتَظِرُونَ لَكُمُ الْعَذَابَ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ خَاتِمَةً شَرِيفَةً عَالِيَةً جَامِعَةً لِكُلِّ الْمَطَالِبِ الشَّرِيفَةِ الْمُقَدَّسَةِ فَقَالَ: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَجْمُوعَ مَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ. وَهِيَ: الْمَاضِي وَالْحَاضِرُ وَالْمُسْتَقْبَلُ. أَمَّا الْمَاضِي فَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ الْمَوْجُودَ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَهُ، وَذَلِكَ الْمَوْجُودُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي نَقَلَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِلَهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَةَ ذَاتِ الْإِلَهِ وَكُنْهَ هَوِيَّتِهِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لِلْبَشَرِ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا الْمَعْلُومُ لِلْبَشَرِ صِفَاتُهُ، ثُمَّ إِنَّ صِفَاتِهِ قِسْمَانِ: صِفَاتُ الْجَلَالِ، وَصِفَاتُ الْإِكْرَامِ. أَمَّا صِفَاتُ الْجَلَالِ، فَهِيَ سُلُوبٌ، كَقَوْلِنَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِجَوْهَرٍ وَلَا جِسْمٍ، وَلَا كَذَا وَلَا كَذَا. وَهَذِهِ السُّلُوبُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، لِأَنَّ السُّلُوبَ عَدَمٌ، وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ وَالنَّفْيُ الصِّرْفُ، لَا كَمَالَ فِيهِ، فَقَوْلُنَا لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ إِنَّمَا أَفَادَ الكلام لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْعِلْمِ الْمُحِيطِ الدَّائِمِ الْمُبَرَّأِ عَنِ التَّغَيُّرِ وَلَوْلَا ذَلِكَ كَانَ عَدَمُ النَّوْمِ لَيْسَ يَدُلُّ عَلَى كَمَالٍ أَصْلًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَيِّتَ وَالْجَمَادَ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ وَقَوْلُهُ: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الْأَنْعَامِ: 14] إِنَّمَا أَفَادَ، الْجَلَالَ وَالْكَمَالَ وَالْكِبْرِيَاءَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا يُطْعَمُ يُفِيدُ كَوْنَهُ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ غَنِيًّا عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بَلْ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَثَبَتَ أَنَّ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْعِزِّ وَالْعُلُوِّ هِيَ الصِّفَاتُ الثُّبُوتِيَّةُ، وَأَشْرَفُ الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ صِفَتَانِ: الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَصَفَ اللَّه تَعَالَى ذَاتَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِهِمَا فِي مَعْرِضِ التَّعْظِيمِ وَالثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ. أَمَّا صِفَةُ الْعِلْمِ فَقَوْلُهُ: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْمُرَادُ أَنَّ عِلْمَهُ نَافِذٌ فِي جَمِيعِ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَالْمَوْجُودَاتِ وَالْحَاضِرَاتِ وَالْغَائِبَاتِ، وَتَمَامُ الْبَيَانِ وَالشَّرْحِ فِي دَلَالَةِ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى نِهَايَةِ الْكَمَالِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَامِ: 59] وَأَمَّا صِفَةُ الْقُدْرَةِ، فَقَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ وَالْمُرَادُ أَنَّ مَرْجِعَ الْكُلِّ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَصْدَرُ الْكُلِّ وَمَبْدَأُ الْكُلِّ هُوَ هُوَ وَالَّذِي يَكُونُ مَبْدَأً لِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ وَإِلَيْهِ يَكُونُ مَرْجِعُ كُلِّ الْمُحْدَثَاتِ وَالْكَائِنَاتِ، كَانَ عَظِيمَ الْقُدْرَةِ نَافِذَ الْمَشِيئَةِ قَهَّارًا لِلْعَدَمِ بِالْوُجُودِ وَالتَّحْصِيلِ جَبَّارًا لَهُ بِالْقُوَّةِ وَالْفِعْلِ وَالتَّكْمِيلِ، فَهَذَانِ الْوَصْفَانِ هُمَا الْمَذْكُورَانِ فِي شَرْحِ جَلَالِ الْمَبْدَأِ وَنَعْتِ كِبْرِيَائِهِ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الْمَرَاتِبِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ كَوْنُهُ عَالِمًا بِهَا أَنْ يَعْرِفَ مَا هُوَ مُهِمٌّ لَهُ فِي زَمَانِ حَيَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا تَكْمِيلُ النَّفْسِ بِالْمَعَارِفِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْجَلَايَا الْقُدْسِيَّةِ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ لَهَا بِدَايَةٌ وَنِهَايَةٌ. أَمَّا بِدَايَتُهَا فَالِاشْتِغَالُ بِالْعِبَادَاتِ الْجَسَدَانِيَّةِ وَالرُّوحَانِيَّةِ. أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْجَسَدَانِيَّةُ، فَأَفْضَلُ الْحَرَكَاتِ الصَّلَاةُ، وَأَكْمَلُ السَّكَنَاتِ الصِّيَامُ، وَأَنْفَعُ الْبِرِّ الصَّدَقَةُ. وَأَمَّا الْعِبَادَةُ الرُّوحَانِيَّةُ فَهِيَ: الْفِكْرُ، وَالتَّأَمُّلُ فِي عَجَائِبِ صُنْعِ اللَّه تَعَالَى في ملكوت السموات وَالْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آلِ عِمْرَانَ: 191] وَأَمَّا نِهَايَةُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، فَالِانْتِهَاءُ مِنَ الْأَسْبَابِ إِلَى مُسَبِّبِهَا، وَقَطْعُ النَّظَرِ عَنْ كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ وَالْمُبْدَعَاتِ، وَتَوْجِيهُ حَدَقَةِ الْعَقْلِ إِلَى نُورِ عَالَمِ الْجَلَالِ، وَاسْتِغْرَاقُ الرُّوحِ فِي أَضْوَاءِ عَالَمِ الْكِبْرِيَاءِ، وَمَنْ وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ رَأَى كُلَّ مَا سِوَاهُ مُهَرْوِلًا تَائِهًا فِي سَاحَةِ كِبْرِيَائِهِ هَالِكًا فَانِيًا فِي فَنَاءِ سَنَاءِ أَسْمَائِهِ. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ: أَنَّ أَوَّلَ دَرَجَاتِ السَّيْرِ إِلَى اللَّه تَعَالَى هُوَ عُبُودِيَّةُ اللَّه، وَآخِرُهَا التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّه، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: مِنَ الْمَرَاتِبِ الْمُهِمَّةِ لِكُلِّ عَامِلٍ مَعْرِفَةُ الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ أَنَّهُ يَعْرِفُ كَيْفَ يَصِيرُ حَالُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَهَلْ لِأَعْمَالِهِ أَثَرٌ فِي السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَا يُضِيعُ طَاعَاتِ الْمُطِيعِينَ وَلَا يُهْمِلُ أَحْوَالَ الْمُتَمَرِّدِينَ الْجَاحِدِينَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُحْضَرُوا فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ وَيُحَاسَبُوا عَلَى النَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ وَيُعَاتَبُوا فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، ثُمَّ يَحْصُلُ عَاقِبَةُ الْأَمْرِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَافِيَةٌ بِالْإِشَارَةِ إِلَى جَمِيعِ الْمَطَالِبِ الْعُلْوِيَّةِ، والمقاصد

الْقُدْسِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَهَا لِلْعُقُولِ مُرْتَقًى وَلَا لِلْخَوَاطِرِ مُنْتَهًى واللَّه الْهَادِي لِلصَّوَابِ، تَمَّتِ السُّورَةُ بِحَمْدِ اللَّه وَعَوْنِهِ، وَقَدْ وُجِدَ بِخَطِّ الْمُصَنِّفِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي النُّسْخَةِ الْمُنْتَقِلِ مِنْهَا تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الصُّبْحِ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ خَتَمَهُ اللَّه بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتُّمِائَةٍ، وَقَدْ كَانَ لي ولد صالح حسن السِّيرَةِ فَتُوُفِّيَ فِي الْغُرْبَةِ فِي عُنْفُوَانِ شَبَابِهِ، وَكَانَ قَلْبِي كَالْمُحْتَرِقِ لِذَلِكَ السَّبَبِ، فَأَنَا أَنْشُدُ اللَّه إِخْوَانِيَ فِي الدِّينِ وَشُرَكَائِيَ فِي طَلَبِ الْيَقِينِ وَكُلَّ مَنْ نَظَرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَانْتَفَعَ بِهِ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ الشَّابَّ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَأَنْ يَذْكُرَ هَذَا الْمِسْكِينَ بِالدُّعَاءِ وَهُوَ يَقُولُ: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آلِ عِمْرَانَ: 8] وَصَلَّى اللَّه عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

سورة يوسف

سُورَةُ يُوسُفَ مَكِّيَّةٌ، إِلَّا الْآيَاتِ: 1 وَ 2 وَ 3 وَ 7، فَمَدَنِيَّةٌ وَآيَاتُهَا: 111، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ هُودٍ بسم اللَّه الرحمن الرحيم [سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) [في قوله تعالى الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ] وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ تَفْسِيرَ: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ [يونس: 1] فَقَوْلُهُ: تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ أَيْ تِلْكَ الْآيَاتُ الَّتِي أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمُسَمَّاةِ الر هِيَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَإِنَّمَا وُصِفَ الْقُرْآنُ بِكَوْنِهِ مُبِينًا لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزَةٌ قَاهِرَةٌ وَآيَةٌ بَيِّنَةٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بَيَّنَ فِيهِ الْهُدَى وَالرُّشْدَ، وَالْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَلَمَّا بُيِّنَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِيهِ كَانَ الْكِتَابُ مُبِينًا لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ بُيِّنَتْ فِيهِ قِصَصُ الْأَوَّلِينَ وَشُرِحَتْ فِيهِ أَحْوَالُ الْمُتَقَدِّمِينَ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ أَنَّ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ قَالُوا لِكُبَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ، سَلُوا مُحَمَّدًا لِمَ انْتَقَلَ آلُ يَعْقُوبَ مِنَ الشَّامِ إِلَى مِصْرَ، وَعَنْ كَيْفِيَّةِ قِصَّةِ يُوسُفَ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَذَكَرَ فِيهَا أَنَّهُ/ تَعَالَى عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِأَلْفَاظٍ عَرَبِيَّةٍ، لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ فَهْمِهَا وَيَقْدِرُوا عَلَى تَحْصِيلِ الْمَعْرِفَةِ بِهَا. وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّا أَنْزَلْنَا هَذَا الْكِتَابَ الَّذِي فِيهِ قِصَّةُ يُوسُفَ فِي حَالِ كَوْنِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، وَسُمِّيَ بَعْضُ الْقُرْآنِ قُرْآنًا، لِأَنَّ الْقُرْآنَ اسْمُ جِنْسٍ يَقَعُ عَلَى الْكُلِّ وَالْبَعْضِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مَخْلُوقًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْقَدِيمَ لَا يَجُوزُ تَنْزِيلُهُ وَإِنْزَالُهُ وَتَحْوِيلُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا وَالْقَدِيمُ لَا يَكُونُ عَرَبِيًّا وَلَا فَارِسِيًّا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُنْزِلَهُ لَا عَرَبِيًّا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنَ الْآيَاتِ وَالْكَلِمَاتِ، وَكُلُّ مَا كَانَ مُرَكَّبًا كَانَ مُحْدَثًا. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ بِأَسْرِهَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَكَّبَ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْكَلِمَاتِ وَالْأَلْفَاظِ وَالْعِبَارَاتِ مُحْدَثٌ وَذَلِكَ لَا نِزَاعَ فِيهِ، إِنَّمَا الَّذِي نَدَّعِي قِدَمَهُ شَيْءٌ آخَرُ فَسَقَطَ هذا الاستدلال.

[سورة يوسف (12) : آية 3]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فَقَالَ: كَلِمَةُ «لَعَلَّ» يَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى الْجَزْمِ وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتَعْقِلُوا مَعَانِيَهُ فِي أَمْرِ الدِّينِ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ؟ الشَّكَّ لِأَنَّهُ عَلَى اللَّه مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ لِإِرَادَةِ أَنْ يَعْرِفُوا دَلَائِلَهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْ كُلِّ الْعِبَادِ أَنْ يَعْقِلُوا تَوْحِيدَهُ وَأَمْرَ دِينِهِ، مَنْ عَرَفَ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ، بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُجَبِّرَةِ. وَالْجَوَابُ: هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ مَا ذَكَرْتُمْ إِلَّا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذِهِ السُّورَةَ، وَأَرَادَ مِنْهُمْ مَعْرِفَةَ كَيْفِيَّةِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنَ الْكُلِّ الْإِيمَانَ والعمل الصالح. [سورة يوسف (12) : آية 3] نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ يَتْلُوهُ عَلَى قَوْمِهِ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّه لَوْ قَصَصْتَ عَلَيْنَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فَتَلَاهَا عَلَيْهِمْ فَقَالُوا لَوْ حَدَّثْتَنَا فَنَزَلَ: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً [الزُّمَرِ: 23] فَقَالُوا لَوْ ذَكَّرْتَنَا فَنَزَلَ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الْحَدِيدِ: 16] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَصَصُ إِتْبَاعُ الْخَبَرِ بَعْضُهُ بَعْضًا وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْمُتَابَعَةُ قَالَ تَعَالَى: وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ [الْقَصَصِ: 11] أَيِ اتْبِعِي أَثَرَهُ وَقَالَ تَعَالَى: فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً [الْكَهْفِ: 64] أَيِ اتِّبَاعًا وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الْحِكَايَةُ قَصَصًا لِأَنَّ الَّذِي يَقُصُّ الْحَدِيثَ يَذْكُرُ تِلْكَ الْقِصَّةَ شَيْئًا فَشَيْئًا كَمَا يُقَالُ تَلَا الْقُرْآنَ إِذَا قَرَأَهُ لِأَنَّهُ يَتْلُو أَيْ يَتْبَعُ مَا حَفِظَ مِنْهُ آيَةً بَعْدَ آيَةٍ وَالْقَصَصُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الِاقْتِصَاصِ يُقَالُ قَصَّ الْحَدِيثَ يَقُصُّهُ قَصًّا وَقَصَصًا إِذَا طَرَدَهُ وَسَاقَهُ كَمَا يُقَالُ أَرْسَلَهُ يُرْسِلُهُ إِرْسَالًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ كَقَوْلِكَ هَذَا قُدْرَةُ اللَّه تَعَالَى أَيْ مَقْدُورُهُ وَهَذَا الْكِتَابُ عِلْمُ فُلَانٍ أَيْ مَعْلُومُهُ وَهَذَا رَجَاؤُنَا أَيْ مَرْجُوُّنَا فَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمَصْدَرِ كَانَ الْمَعْنَى نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الِاقْتِصَاصِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْحُسْنُ يَعُودُ إِلَى حُسْنِ الْبَيَانِ لَا إِلَى الْقِصَّةِ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْحُسْنِ كَوْنُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ فَصِيحَةً بَالِغَةً فِي الْفَصَاحَةِ إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ أَلَا تَرَى أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ التَّوَارِيخِ مَعَ أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا لَا يُشَابِهُ هَذِهِ السُّورَةَ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمَفْعُولِ كَانَ مَعْنَى كَوْنِهِ أَحْسَنَ الْقَصَصِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعِبَرِ وَالنُّكَتِ وَالْحِكَمِ وَالْعَجَائِبِ الَّتِي لَيْسَتْ فِي غَيْرِهَا فَإِنَّ إِحْدَى الْفَوَائِدِ الَّتِي فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ لَا دَافِعَ لِقَضَاءِ اللَّه تَعَالَى وَلَا مَانِعَ مِنْ قَدَرِ اللَّه تَعَالَى وَأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا قَضَى لِلْإِنْسَانِ بِخَيْرٍ وَمَكْرُمَةٍ فَلَوْ أَنَّ أَهْلَ العالم اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى دَفْعِهِ. وَالْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّ الْحَسَدَ سَبَبٌ لِلْخِذْلَانِ وَالنُّقْصَانِ. وَالْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الصَّبْرَ مِفْتَاحُ الْفَرَجِ كَمَا فِي حَقِّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ لَمَّا صَبَرَ فَازَ بِمَقْصُودِهِ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ فَالْمَعْنَى بِوَحْيِنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ إِنْ جَعَلْنَا «مَا» مَعَ الْفِعْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ.

[سورة يوسف (12) : آية 4]

ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ يُرِيدُ مِنْ قَبْلِ أَنْ نُوحِيَ إِلَيْكَ لَمِنَ الْغافِلِينَ عَنْ قِصَّةِ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا عَلِمَ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْغَافِلِينَ عَنِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشُّورَى: 52] . [سورة يوسف (12) : آية 4] إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: اذْكُرْ إِذْ قالَ يُوسُفُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الصَّحِيحُ أَنَّهُ اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَرَبِيًّا لَانْصَرَفَ لِخُلُوِّهِ عَنْ سَبَبٍ آخَرَ سِوَى التَّعْرِيفِ، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ يُوسِفَ بِكَسْرِ السِّينِ وَيُوسَفَ بِفَتْحِهَا. وَأَيْضًا رُوِيَ فِي يُونُسَ هَذِهِ اللُّغَاتُ الثَّلَاثُ، وَعَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قِيلَ مَنِ الْكَرِيمُ فَقُولُوا الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السلام» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ يَا أَبَتَ بِفَتْحِ التَّاءِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ التَّاءِ. أَمَّا الْفَتْحُ فَوَجْهُهُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَصْلِ يَا أَبَتَاهُ عَلَى سَبِيلِ النُّدْبَةِ، فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ وَالْهَاءُ. وَأَمَّا الْكَسْرُ فَأَصْلُهُ يَا أَبِي، فَحُذِفَتِ الْيَاءُ وَاكْتُفِيَ بِالْكَسْرَةِ عَنْهَا ثُمَّ أُدْخِلَ هاء الوقف فقال: يا أَبَتِ ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ فَأَدْخَلُوا عَلَيْهِ الْإِضَافَةَ، وَهَذَا قَوْلُ ثَعْلَبٍ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّحْوِيِّينَ طَوَّلُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَنْ أَرَادَ كَلَامَهُمْ فَلْيُطَالِعْ «كُتُبَهُمْ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ سَجَدَتْ لَهُ، وَكَانَ لَهُ أَحَدَ عَشَرَ نَفَرًا مِنَ الْإِخْوَةِ، فَفَسَّرَ الْكَوَاكِبَ بِالْإِخْوَةِ، والشمس والقمر بالأب والأم، والسجود بتواضعهم به وَدُخُولِهِمْ تَحْتَ أَمْرِهِ، وَإِنَّمَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً عَلَى الرُّؤْيَا لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَوَاكِبَ لَا تَسْجُدُ فِي الْحَقِيقَةِ، فَوَجَبَ حَمْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى الرُّؤْيَا. وَالثَّانِي: قَوْلُ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ [يُوسُفَ: 5] وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ فَقَوْلُهُ: ساجِدِينَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْعُقَلَاءِ، وَالْكَوَاكِبُ جَمَادَاتٌ، فَكَيْفَ جَازَتِ اللَّفْظَةُ الْمَخْصُوصَةُ بِالْعُقَلَاءِ فِي حَقِّ الْجَمَادَاتِ. قُلْنَا: إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ أَحْيَاءٌ نَاطِقَةٌ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَكَذَلِكَ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 33] وَالْجَمْعُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ مُخْتَصٌّ بِالْعُقَلَاءِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَهَا بِالسُّجُودِ صَارَتْ كَأَنَّهَا تَعْقِلُ، فَأَخْبَرَ عَنْهَا كَمَا يُخْبِرُ عَمَّنْ يَعْقِلُ كَمَا قَالَ فِي صِفَةِ الْأَصْنَامِ وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ [الْأَعْرَافِ: 198] وَكَمَا فِي قوله: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النَّمْلِ: 18] . السُّؤَالُ الثَّانِي: قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ثُمَّ أَعَادَ لَفْظَ الرُّؤْيَا مَرَّةً ثَانِيَةً، وَقَالَ: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّكْرِيرِ؟ الْجَوَابُ: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه: ذَكَرَ الرُّؤْيَةَ الْأُولَى لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ شَاهَدَ الْكَوَاكِبَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَالثَّانِيَةَ لِتَدُلَّ عَلَى مُشَاهَدَةِ كَوْنِهَا سَاجِدَةً لَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَمَّا قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ

وَالْقَمَرَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: كَيْفَ رَأَيْتَ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ، وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ أَنْ يكون أحدهما من الرؤية والآخر من الرؤية، وَهَذَا الْقَائِلُ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ أَيَّهُمَا يُحْمَلُ على الرؤيا وَأَيَّهُمَا الرُّؤْيَا فَذَكَرَ قَوْلًا مُجْمَلًا غَيْرَ مُبَيَّنٍ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ أَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ؟ قُلْنَا: أَخَّرَهُمَا لِفَضْلِهِمَا عَلَى الْكَوَاكِبِ، لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى مَزِيدِ الشَّرَفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: 98] . السُّؤَالُ الرَّابِعُ: الْمُرَادُ بِالسُّجُودِ نَفْسُ السُّجُودِ أَوِ التَّوَاضُعُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: تَرَى الْأَكَمَ فِيهِ سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ قُلْنَا: كِلَاهُمَا مُحْتَمَلٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلَا مَانِعَ أَنْ يَرَى فِي الْمَنَامِ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ سَجَدَتْ لَهُ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: مَتَى رَأَى يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الرُّؤْيَا؟ قُلْنَا: لَا شَكَّ أَنَّهُ رَآهَا حَالَ الصِّغَرِ، فَأَمَّا ذَلِكَ الزَّمَانُ بِعَيْنِهِ فَلَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالْإِخْبَارِ. قَالَ وَهْبٌ: رَأَى يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ أَنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ عَصًا طِوَالًا كَانَتْ مَرْكُوزَةً فِي الْأَرْضِ كَهَيْئَةِ الدَّائِرَةِ وَإِذَا عَصًا صَغِيرَةٌ وَثَبَتَ عَلَيْهَا حَتَّى ابْتَلَعَتْهَا فَذَكَرَ ذَلِكَ لِأَبِيهِ فَقَالَ إِيَّاكَ أَنْ تَذْكُرَ هَذَا لِإِخْوَتِكَ ثُمَّ رَأَى وَهُوَ ابْنُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ تَسْجُدُ لَهُ فَقَصَّهَا عَلَى أَبِيهِ فَقَالَ لَا تَذْكُرْهَا لَهُمْ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا. وَقِيلَ: كَانَ بَيْنَ رُؤْيَا يُوسُفَ وَمَصِيرِ إِخْوَتِهِ إِلَيْهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَقِيلَ: ثَمَانُونَ سَنَةً. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُكَمَاءَ يَقُولُونَ إِنَّ الرُّؤْيَا الرَّدِيئَةَ يَظْهَرُ تَعْبِيرُهَا عَنْ قَرِيبٍ، وَالرُّؤْيَا الْجَيِّدَةُ إِنَّمَا يَظْهَرُ تَعْبِيرُهَا بَعْدَ حِينٍ. قَالُوا: وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّه تَقْتَضِي أَنْ لَا يَحْصُلَ الْإِعْلَامُ بِوُصُولِ/ الشَّرِّ إِلَّا عِنْدَ قُرْبِ وُصُولِهِ حَتَّى يَكُونَ الْحُزْنُ وَالْغَمُّ أَقَلَّ، وَأَمَّا الْإِعْلَامُ بِالْخَيْرِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ مُتَقَدِّمًا عَلَى ظُهُورِهِ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ حَتَّى تَكُونَ الْبَهْجَةُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِ تَوَقُّعِ حُصُولِ ذَلِكَ الْخَيْرِ أَكْثَرَ وَأَتَمَّ. السُّؤَالُ السَّادِسُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَبُوهُ وَخَالَتُهُ فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟ قُلْنَا: إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ وَالِدَتَهُ تُوُفِّيَتْ وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ حَالَ مَا كَانَ بِمِصْرَ قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَبَاهُ وَأُمَّهُ لَمَا مَاتَتْ لِأَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ وَحْيًا وَهَذِهِ الْحُجَّةُ غَيْرُ قَوِيَّةٍ لِأَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. السُّؤَالُ السَّابِعُ: وَمَا تِلْكَ الْكَوَاكِبُ؟ قُلْنَا: رَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّ يَهُودِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ النُّجُومِ الَّتِي رَآهُنَّ يُوسُفُ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْيَهُودِيِّ: «إِنْ أَخْبَرْتُكَ هَلْ تُسْلِمُ» قَالَ نَعَمْ قَالَ: «جَرْبَانُ وَالطَّارِقُ وَالذَّيَّالُ وَقَابِسٌ وَعَمُودَانُ وَالْفُلَيْقُ وَالْمُصْبِحُ وَالضَّرُوحُ وَالْفَرْغُ وَوَثَّابٌ وَذُو الْكَتِفَيْنِ رَآهَا يُوسُفُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ وَسَجَدَتْ لَهُ» فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أَيْ واللَّه إِنَّهَا لَأَسْمَاؤُهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي صُورَةِ الْكَوَاكِبِ واللَّه أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الحال.

[سورة يوسف (12) : الآيات 5 إلى 6]

[سورة يوسف (12) : الآيات 5 الى 6] قالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) [فِي قوله تعالى قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَفْصٌ يَا بُنَيَّ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ شَدِيدَ الْحُبِّ لِيُوسُفَ وَأَخِيهِ فَحَسَدَهُ إِخْوَتُهُ لِهَذَا السَّبَبِ وَظَهَرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لِيَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْأَمَارَاتِ الْكَثِيرَةِ فَلَمَّا ذَكَرَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الرُّؤْيَا وَكَانَ تَأْوِيلُهَا أَنَّ إِخْوَتَهُ وَأَبَوَيْهِ يَخْضَعُونَ لَهُ فَقَالَ لَا تُخْبِرْهُمْ بِرُؤْيَاكَ فَإِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ تَأْوِيلَهَا فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الواحدي: الرؤيا مصدر كالبشرى والسقيا وَالشُّورَى إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا صَارَ اسْمًا لِهَذَا الْمُتَخَيَّلِ فِي الْمَنَامِ جَرَى مَجْرَى الْأَسْمَاءِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الرُّؤْيَا بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ إِلَّا أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِمَا كَانَ مِنْهَا فِي الْمَنَامِ دُونَ الْيَقَظَةِ فَلَا جَرَمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِحَرْفَيِ التَّأْنِيثِ، كَمَا قِيلَ: الْقُرْبَةُ وَالْقُرْبَى وَقُرِئَ رُويَاكَ بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ وَاوًا وَسُمِعَ الْكِسَائِيُّ يَقْرَأُ رُيَّاكَ وَرِيَّاكَ بِالْإِدْغَامِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا وَهِيَ ضَعِيفَةٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ وَالْمَعْنَى إِنْ قَصَصْتَهَا عَلَيْهِمْ كَادُوكَ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَقُلْ فَيَكِيدُوكَ كَمَا قَالَ: فَكِيدُونِي [هُودٍ: 55] . قُلْنَا: هَذِهِ اللَّامُ تَأْكِيدٌ للصلة كقوله لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ، وَكَقَوْلِكَ نَصَحْتُكَ وَنَصَحْتُ لَكَ وَشَكَرْتُكَ وَشَكَرْتُ لَكَ، وَقِيلَ هِيَ مِنْ صِلَةِ الْكَيْدِ عَلَى مَعْنَى فَيَكِيدُوا كَيْدًا لَكَ. قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُمْ عِلْمٌ بِتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا وَإِلَّا لَمْ يَعْلَمُوا مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَا مَا يُوجِبُ حِقْدًا وَغَضَبًا. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُمْ لَوْ أَقْدَمُوا عَلَى الْكَيْدِ لَكَانَ ذَلِكَ مُضَافًا إِلَى الشَّيْطَانِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشيطان، [في قوله تعالى وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ إلى قوله إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ثُمَّ إِنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَصَدَ بِهَذِهِ النَّصِيحَةِ تَعْبِيرَ تِلْكَ الرُّؤْيَا وَذَكَرُوا أُمُورًا: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ يَعْنِي وَكَمَا اجْتَبَاكَ بِمِثْلِ هَذِهِ الرُّؤْيَا الْعَظِيمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى شَرَفِ وَعِزِّ وَكِبَرِ شَأْنٍ كَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ لِأُمُورٍ عِظَامٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الِاجْتِبَاءُ مُشْتَقٌّ مِنْ جَبَيْتَ الشَّيْءَ إِذَا خَلَّصْتَهُ لِنَفْسِكَ وَمِنْهُ جَبَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الِاجْتِبَاءِ، فَقَالَ الْحَسَنُ: يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ بِالنُّبُوَّةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ مِنْهُ إِعْلَاءُ الدَّرَجَةِ وَتَعْظِيمُ الْمَرْتَبَةِ فَأَمَّا تَعْيِينُ النُّبُوَّةِ فَلَا دَلَالَةَ فِي اللَّفْظِ عَلَيْهِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا سَمَّاهُ تَأْوِيلًا لأنه يئول أَمْرَهُ إِلَى مَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ يَعْنِي تَأْوِيلَ أَحَادِيثِ النَّاسِ فِيمَا يَرَوْنَهُ فِي مَنَامِهِمْ. قَالُوا: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي عِلْمِ التَّعْبِيرِ غَايَةً، وَالثَّانِي: تَأْوِيلُ الْأَحَادِيثِ فِي كُتُبِ اللَّه تَعَالَى وَالْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، كَمَا أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ عُلَمَاءِ زَمَانِنَا يَشْتَغِلُ بِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَتَأْوِيلِهِ، وَتَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالثَّالِثُ: الْأَحَادِيثُ جَمْعُ حَدِيثٍ، / وَالْحَدِيثُ هُوَ الْحَادِثُ، وَتَأْوِيلُهَا مَآلُهَا، وَمَآلُ الْحَوَادِثِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَتَكْوِينِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ كَيْفِيَّةُ الِاسْتِدْلَالِ بِأَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْجُسْمَانِيَّةِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَجَلَالَتِهِ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ فَسَّرَ الِاجْتِبَاءَ بِالنُّبُوَّةِ لَا يمكنه أن يفسر إتمام النعمة هاهنا بِالنُّبُوَّةِ أَيْضًا وَإِلَّا لَزِمَ التَّكْرَارُ، بَلْ يُفَسَّرُ إتمام النعمة هاهنا بِسَعَادَاتِ الدُّنْيَا وَسَعَادَاتِ الْآخِرَةِ. أَمَّا سَعَادَاتُ الدُّنْيَا فَالْإِكْثَارُ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالْخَدَمِ وَالْأَتْبَاعِ وَالتَّوَسُّعُ فِي الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْحَشَمِ وَإِجْلَالُهُ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ وَحُسْنُ الثَّنَاءِ وَالْحَمْدِ. وَأَمَّا سَعَادَاتُ الْآخِرَةِ: فَالْعُلُومُ الْكَثِيرَةُ وَالْأَخْلَاقُ الْفَاضِلَةُ وَالِاسْتِغْرَاقُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى. وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ الِاجْتِبَاءَ بِنَيْلِ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ، فَهَهُنَا يُفَسِّرُ إِتْمَامَ النِّعْمَةِ بِالنُّبُوَّةِ وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِأُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِتْمَامَ النِّعْمَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا بِهِ تَصِيرُ النِّعْمَةُ تَامَّةً كَامِلَةً خَالِيَةً عَنْ جِهَاتِ النُّقْصَانِ. وَمَا ذَاكَ فِي حَقِّ الْبَشَرِ إِلَّا بِالنُّبُوَّةِ، فَإِنَّ جَمِيعَ مَنَاصِبِ الْخَلْقِ دُونَ مَنْصِبِ الرِّسَالَةِ نَاقِصٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَمَالِ النُّبُوَّةِ، فَالْكَمَالُ الْمُطْلَقُ وَالتَّمَامُ الْمُطْلَقُ فِي حَقِّ الْبَشَرِ لَيْسَ إِلَّا النُّبُوَّةُ، وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ النِّعْمَةَ التَّامَّةَ الَّتِي بِهَا حَصَلَ امْتِيَازُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ عَنْ سَائِرِ الْبَشَرِ لَيْسَ إِلَّا النُّبُوَّةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِإِتْمَامِ النِّعْمَةِ هُوَ النُّبُوَّةَ. وَاعْلَمْ أَنَّا لَمَّا فَسَّرْنَا هَذِهِ الْآيَةَ بِالنُّبُوَّةِ لَزِمَ الْحُكْمُ بِأَنَّ أَوْلَادَ يَعْقُوبَ كُلَّهُمْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ وَهَذَا يَقْتَضِي حُصُولَ تَمَامِ النِّعْمَةِ لِآلِ يَعْقُوبَ، فَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ إِتْمَامِ النِّعْمَةِ هُوَ النُّبُوَّةَ لَزِمَ حُصُولُهَا لِآلِ يَعْقُوبَ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ فِي حَقِّ مَنْ عَدَا أَبْنَاءَهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي حَقِّ أَوْلَادِهِ. وَأَيْضًا أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَكَانَ تَأْوِيلُهُ أَحَدَ عَشَرَ نَفْسًا لَهُمْ فَضْلٌ وَكَمَالٌ وَيَسْتَضِيءُ بِعِلْمِهِمْ وَدِينِهِمْ أَهْلُ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَضْوَأُ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَبِهَا يُهْتَدَى وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ أَنْبِيَاءَ وَرُسُلًا. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ وَقَدْ أَقْدَمُوا عَلَى مَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ فِي حَقِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ قُلْنَا: ذَاكَ وَقَعَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَعِنْدَنَا الْعِصْمَةُ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي وَقْتِ النُّبُوَّةِ لَا قَبْلَهَا. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ خَلَاصُهُ مِنَ الْمِحَنِ، وَيَكُونُ وَجْهُ التَّشْبِيهِ فِي ذَلِكَ بِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ هُوَ إِنْعَامُ اللَّه تَعَالَى عَلَى إِبْرَاهِيمَ بِإِنْجَائِهِ مِنَ النَّارِ وَعَلَى ابْنِهِ إِسْحَاقَ بِتَخْلِيصِهِ مِنَ الذَّبْحِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ إِتْمَامَ النِّعْمَةِ هُوَ وَصْلُ نِعْمَةِ اللَّه عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا بِنِعْمَةِ الْآخِرَةِ بِأَنْ/ جَعَلَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا وَنَقَلَهُمْ عَنْهَا إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي الْجَنَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الصَّحِيحَ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ النِّعْمَةَ التَّامَّةَ فِي حَقِّ الْبَشَرِ لَيْسَتْ إِلَّا النُّبُوَّةَ، وَكُلُّ مَا سِوَاهَا فَهِيَ نَاقِصَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا وَعَدَهُ بِهَذِهِ الدَّرَجَاتِ الثَّلَاثَةِ خَتَمَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فَقَوْلُهُ: عَلِيمٌ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَامِ: 124] وَقَوْلُهُ: حَكِيمٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى مُقَدَّسٌ عَنِ السَّفَهِ وَالْعَبَثِ، لَا يَضَعُ النُّبُوَّةَ إِلَّا فِي نَفْسٍ قُدُسِيَّةٍ وَجَوْهَرَةٍ مُشْرِقَةٍ عُلْوِيَّةٍ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْبِشَارَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ كَانَ قَاطِعًا بِصِحَّتِهَا أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ قَاطِعًا بِصِحَّتِهَا، فَكَيْفَ حَزِنَ عَلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَيْفَ جَازَ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ أَنَّ الذِّئْبَ أَكَلَهُ، وَكَيْفَ خَافَ عَلَيْهِ مِنْ

[سورة يوسف (12) : الآيات 7 إلى 8]

إِخْوَتِهِ أَنْ يُهْلِكُوهُ، وَكَيْفَ قَالَ لِإِخْوَتِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ سَيَجْتَبِيهِ وَيَجْعَلُهُ رَسُولًا، فَأَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ عَالِمًا بِصِحَّةِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَكَيْفَ قَطَعَ بِهَا؟ وَكَيْفَ حَكَمَ بِوُقُوعِهَا حُكْمًا جَازِمًا مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ؟ قُلْنَا: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ مَشْرُوطًا بِأَنْ لَا يَكِيدُوهُ، لِأَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَ، وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَاطِعًا بِأَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَيَصِلُ إِلَى هَذِهِ الْمَنَاصِبِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ فِي الْمَضَايِقِ الشَّدِيدَةِ ثُمَّ يَتَخَلَّصُ مِنْهَا وَيَصِلُ إِلَى تِلْكَ الْمَنَاصِبِ فَكَانَ خَوْفُهُ لِهَذَا السَّبَبِ وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ [يُوسُفَ: 13] الزَّجْرَ عَنِ التَّهَاوُنِ فِي حِفْظِهِ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الذِّئْبَ لَا يَصِلُ إليه. [سورة يوسف (12) : الآيات 7 الى 8] لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) [في قَوْلُهُ تَعَالَى لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ] فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ صاحب «الكشاف» أسماء إخوة يوسف: يهوذا، رُوبِيلُ، شَمْعُونُ لَاوِي، رَبَالُونُ، يَشْجُرُ، دِينَةُ، دَانُ، نَفْتَالِي، جَادُ، آشِرُ. ثُمَّ قَالَ: السَّبْعَةُ الْأَوَّلُونَ مِنْ لَيَا بِنْتِ/ خَالَةِ يَعْقُوبَ وَالْأَرْبَعَةُ الْآخَرُونَ مِنْ سُرِّيَّتَيْنِ زُلْفَةَ وَبَلِهَةَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ لَيَا تَزَوَّجَ يَعْقُوبُ أُخْتَهَا رَاحِيلَ فَوَلَدَتْ لَهُ بِنْيَامِينَ وَيُوسُفَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: آياتٌ لِلسَّائِلِينَ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ آيَةٌ بِغَيْرِ أَلِفٍ حَمَلَهُ عَلَى شَأْنِ يُوسُفَ وَالْبَاقُونَ آياتٌ عَلَى الْجَمْعِ لِأَنَّ أُمُورَ يُوسُفَ كَانَتْ كَثِيرَةً وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا آيَةٌ بِنَفْسِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: آياتٌ لِلسَّائِلِينَ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ دَخَلَ حَبْرٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعَ مِنْهُ قِرَاءَةَ يُوسُفَ فَعَادَ إِلَى الْيَهُودِ فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ سَمِعَهَا مِنْهُ كَمَا هِيَ فِي التَّوْرَاةِ، فَانْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْهُمْ فَسَمِعُوا كَمَا سَمِعَ، فَقَالُوا لَهُ مَنْ عَلَّمَكَ هَذِهِ الْقِصَّةَ؟ فَقَالَ: اللَّه عَلَّمَنِي، فَنَزَلَ: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ وَهَذَا الْوَجْهُ عِنْدِي بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ فِي وَاقِعَةِ يُوسُفَ آيَاتٍ لِلسَّائِلِينَ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي نَقَلْنَاهُ مَا كَانَتِ الْآيَاتُ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ، بَلْ كَانَتِ الْآيَاتُ فِي إِخْبَارِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ سَبْقِ تَعَلُّمٍ وَلَا مُطَالَعَةٍ وَبَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فَرْقٌ ظَاهِرٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَكْثَرُهُمْ كَانُوا أَقَارِبَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَكَانُوا يُنْكِرُونَ نُبُوَّتَهُ وَيُظْهِرُونَ الْعَدَاوَةَ الشَّدِيدَةَ مَعَهُ بِسَبَبِ الْحَسَدِ فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْقِصَّةَ وَبَيَّنَ أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ بَالَغُوا فِي إِيذَائِهِ لِأَجْلِ الْحَسَدِ وَبِالْآخِرَةِ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى نَصَرَهُ وَقَوَّاهُ وَجَعَلَهُمْ تَحْتَ يَدِهِ وَرَايَتِهِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ إِذَا سَمِعَهَا الْعَاقِلُ كَانَتْ زَجْرًا لَهُ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْحَسَدِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ يَعْقُوبَ لَمَّا عَبَّرَ رُؤْيَا يُوسُفَ وَقَعَ ذَلِكَ التَّعْبِيرُ وَدَخَلَ فِي الْوُجُودِ بَعْدَ ثَمَانِينَ سَنَةً فَكَذَلِكَ إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، فَإِذَا تَأَخَّرَ ذَلِكَ الْمَوْعُودُ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَاذِبًا فِيهِ فَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ نَافِعٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ بَالَغُوا فِي إِبْطَالِ أَمْرِهِ، وَلَكِنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا وَعَدَهُ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَدَّرَهُ اللَّه تَعَالَى لَا كَمَا سَعَى فِيهِ الْأَعْدَاءُ، فَكَذَلِكَ وَاقِعَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّه لَمَّا ضَمِنَ لَهُ إِعْلَاءَ الدَّرَجَةِ لَمْ يَضُرَّهُ سَعْيُ الْكُفَّارِ فِي إِبْطَالِ أَمْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ:

لِلسَّائِلِينَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِيهَا آيَاتٌ كَثِيرَةٌ لِمَنْ سَأَلَ عَنْهَا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت: 10] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: لَيُوسُفُ اللَّامُ لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَفِيهَا تَأْكِيدٌ وَتَحْقِيقٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ. أَرَادُوا أَنَّ زِيَادَةَ مَحَبَّتِهِ لَهُمَا أَمْرٌ ثَابِتٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَأَخُوهُ هُوَ بِنْيَامِينُ، وَإِنَّمَا قَالُوا أَخُوهُ، وَهُمْ جَمِيعًا إِخْوَةٌ لِأَنَّ أُمَّهُمَا كَانَتْ وَاحِدَةً وَالْعُصْبَةُ وَالْعِصَابَةُ الْعَشَرَةُ فَصَاعِدًا، وَقِيلَ إِلَى الْأَرْبَعِينَ سُمُّوا بِذَلِكَ/ لِأَنَّهُمْ جَمَاعَةٌ تُعْصَبُ بِهِمُ الْأُمُورُ، وَنُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَرَأَ وَنَحْنُ عُصْبَةً بِالنَّصْبِ قِيلَ: مَعْنَاهُ وَنَحْنُ نَجْتَمِعُ عُصْبَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانُ السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ قَصَدُوا إِيذَاءَ يُوسُفَ، وَذَلِكَ أَنَّ يَعْقُوبَ كَانَ يُفَضِّلُ يُوسُفَ وَأَخَاهُ عَلَى سَائِرِ الْأَوْلَادِ فِي الْحُبِّ وَأَنَّهُمْ تَأَذَّوْا مِنْهُ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا أَكْبَرَ سِنًّا مِنْهُمَا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ قُوَّةً وَأَكْثَرَ قِيَامًا بِمَصَالِحِ الْأَبِ مِنْهُمَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّا نَحْنُ الْقَائِمُونَ بِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ وَالْآفَاتِ، وَالْمُشْتَغِلُونَ بِتَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ وَالْخَيْرَاتِ. إِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِهِمْ مُتَقَدِّمِينَ عَلَى يُوسُفَ وَأَخِيهِ فِي هَذِهِ الْفَضَائِلِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُفَضِّلُ يُوسُفَ وَأَخَاهُ عَلَيْهِمْ لَا جَرَمَ قَالُوا: إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ يَعْنِي هَذَا حَيْفٌ ظاهر وضلال بين. وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: إِنَّ مِنَ الْأُمُورِ الْمَعْلُومَةِ أَنَّ تَفْضِيلَ بَعْضِ الْأَوْلَادِ عَلَى بَعْضٍ يُورِثُ الْحِقْدَ وَالْحَسَدَ، وَيُورِثُ الْآفَاتِ، فَلَمَّا كَانَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَالِمًا بِذَلِكَ فَلِمَ أَقْدَمَ عَلَى هَذَا التَّفْضِيلِ وَأَيْضًا الْأَسَنُّ وَالْأَعْلَمُ وَالْأَنْفَعُ أَفْضَلُ، فَلِمَ قَلَبَ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا فَضَّلَهُمَا عَلَى سَائِرِ الْأَوْلَادِ إِلَّا فِي الْمَحَبَّةِ، وَالْمَحَبَّةُ لَيْسَتْ فِي وُسْعِ الْبَشَرِ فَكَانَ مَعْذُورًا فِيهِ وَلَا يَلْحَقُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ لَوْمٌ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ أَوْلَادَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْ كَانُوا قَدْ آمَنُوا بِكَوْنِهِ رَسُولًا حَقًّا مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى فَكَيْفَ اعْتَرَضُوا عَلَيْهِ، وَكَيْفَ زَيَّفُوا طَرِيقَتَهُ وَطَعَنُوا فِي فِعْلِهِ، وَإِنْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ لِنُبُوَّتِهِ فَهَذَا يُوجِبُ كُفْرَهُمْ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِنُبُوَّةِ أَبِيهِمْ مُقِرِّينَ بِكَوْنِهِ رَسُولًا حَقًّا مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى، إِلَّا أَنَّهُمْ لَعَلَّهُمْ جَوَّزُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَفْعَلُوا أَفْعَالًا مَخْصُوصَةً بِمُجَرَّدِ الِاجْتِهَادِ، ثُمَّ إِنَّ اجْتِهَادَهُمْ أَدَّى إِلَى تَخْطِئَةِ أَبِيهِمْ فِي ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ هُمَا صَبِيَّانِ مَا بَلَغَا الْعَقْلَ الْكَامِلَ وَنَحْنُ مُتَقَدِّمُونَ عَلَيْهِمَا فِي السِّنِّ وَالْعَقْلِ وَالْكِفَايَةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَكَثْرَةِ الْخِدْمَةِ وَالْقِيَامِ بِالْمُهِمَّاتِ وَإِصْرَارُهُ عَلَى تَقْدِيمِ يُوسُفَ عَلَيْنَا يُخَالِفُ هَذَا الدَّلِيلَ. وَأَمَّا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَعَلَّهُ كَانَ يَقُولُ: زِيَادَةُ الْمَحَبَّةِ لَيْسَتْ فِي الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ، فَلَيْسَ للَّه عَلَيَّ فِيهِ تَكْلِيفٌ. وَأَمَّا تَخْصِيصُهُمَا بِمَزِيدِ الْبِرِّ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ أُمَّهُمَا مَاتَتْ وَهُمَا صِغَارٌ. وَثَانِيهَا: لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى فِيهِ مِنْ آثَارِ الرُّشْدِ وَالنَّجَابَةِ مَا لَمْ يَجِدْ فِي سَائِرِ الْأَوْلَادِ، وَثَالِثُهَا: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَخْدِمُ أَبَاهُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْخِدَمِ أَشْرَفَ وَأَعْلَى بِمَا كَانَ يَصْدُرُ عَنْ سَائِرِ الْأَوْلَادِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ كَانَتِ اجْتِهَادِيَّةً، وَكَانَتْ مَخْلُوطَةً بِمَيْلِ النَّفْسِ وَمُوجِبَاتِ الْفِطْرَةِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيهَا طَعْنُ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فِي دِينِ الْآخَرِ أَوْ فِي عِرْضِهِ.

[سورة يوسف (12) : الآيات 9 إلى 10]

السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ نَسَبُوا أَبَاهُمْ إِلَى الضَّلَالِ الْمُبِينِ، وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي الذَّمِّ وَالطَّعْنِ، وَمَنْ بَالَغَ فِي الطَّعْنِ فِي الرَّسُولِ كَفَرَ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الطَّاعِنُ وَلَدًا فَإِنَّ حَقَّ الْأُبُوَّةِ يُوجِبُ مَزِيدَ التَّعْظِيمِ. وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الضَّلَالُ عَنْ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ فِي الدُّنْيَا لَا الْبُعْدُ عَنْ طَرِيقِ الرُّشْدِ وَالصَّوَابِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُمْ: لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا مَحْضُ الْحَسَدِ، وَالْحَسَدُ مِنْ أُمَّهَاتِ الْكَبَائِرِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَقْدَمُوا عَلَى الْكَذِبِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْحَسَدِ، وَعَلَى تَضْيِيعِ ذَلِكَ الْأَخِ الصَّالِحِ وَإِلْقَائِهِ فِي ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ وَتَبْعِيدِهِ عَنِ الْأَبِ الْمُشْفِقِ، وَأَلْقَوْا أَبَاهُمْ فِي الْحُزْنِ الدَّائِمِ وَالْأَسَفِ الْعَظِيمِ، وَأَقْدَمُوا عَلَى الْكَذِبِ فَمَا بَقِيَتْ خَصْلَةٌ مَذْمُومَةٌ وَلَا طَرِيقَةٌ فِي الشَّرِّ وَالْفَسَادِ إِلَّا وَقَدْ أَتَوْا بِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي الْعِصْمَةِ وَالنُّبُوَّةِ. وَالْجَوَابُ: الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ، إِلَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَنَا عِصْمَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي وَقْتِ حُصُولِ النُّبُوَّةِ. وَأَمَّا قَبْلَهَا فَذَلِكَ غير واجب واللَّه أعلم. [سورة يوسف (12) : الآيات 9 الى 10] اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا قَوِيَ الْحَسَدُ وَبَلَغَ النِّهَايَةَ قَالُوا لَا بُدَّ مِنْ تَبْعِيدِ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ: وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِأَحَدِ طَرِيقَيْنِ: الْقَتْلِ أَوِ التَّغْرِيبِ إِلَى أَرْضٍ يَحْصُلُ الْيَأْسُ مِنِ اجْتِمَاعِهِ مَعَ أَبِيهِ وَلَا وَجْهَ فِي الشَّرِّ يَبْلُغُهُ الْحَاسِدُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرُوا الْعِلَّةَ فِيهِ وَهِيَ قَوْلُهُمْ: يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّ يُوسُفَ شَغَلَهُ عَنَّا وَصَرَفَ وَجْهَهُ إِلَيْهِ فَإِذَا أُفْقِدَهُ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِالْمَيْلِ وَالْمَحَبَّةِ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي عَزَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكَبَائِرِ فَقَالُوا: إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ تُبْنَا إِلَى اللَّه وَنَصِيرُ مِنَ القوم الصالحين. والثاني: أنه ليس المقصود هاهنا صَلَاحَ الدِّينِ بَلِ الْمَعْنَى يَصْلُحُ شَأْنُكُمْ عِنْدَ أَبِيكُمْ وَيَصِيرُ أَبُوكُمْ مُحِبًّا لَكُمْ مُشْتَغِلًا بِشَأْنِكُمْ. الثَّالِثُ: الْمُرَادُ أَنَّكُمْ بِسَبَبِ/ هَذِهِ الْوَحْشَةِ صِرْتُمْ مشوشين لا تتفرغون لإصلاح مهم، فَإِذَا زَالَتْ هَذِهِ الْوَحْشَةُ تَفَرَّغْتُمْ لِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِكُمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ الَّذِي أَمَرَ بِالْقَتْلِ مَنْ كَانَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَعْضَ إِخْوَتِهِ قَالَ هَذَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ شَاوَرُوا أَجْنَبِيًّا فَأَشَارَ عَلَيْهِمْ بِقَتْلِهِ، وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ إِخْوَتِهِ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فَقَالَ وَهْبٌ: إِنَّهُ شَمْعُونُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: رُوبِيلُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَلِيقُ هَذَا بِهِمْ وَهُمْ أَنْبِيَاءُ؟ قُلْنَا: مِنَ النَّاسِ مَنْ أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي هَذَا الْوَقْتِ مُرَاهِقِينَ وَمَا كَانُوا بَالِغِينَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ يَبْعُدُ مِنْ مِثْلِ نَبِيِّ اللَّه تَعَالَى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَبْعَثَ جَمَاعَةً مِنَ الصِّبْيَانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ إِنْسَانٌ عَاقِلٌ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْقَبَائِحِ. وَأَيْضًا أَنَّهُمْ قَالُوا: وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ وهدا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَبْلَ التَّوْبَةِ لَا يَكُونُونَ صَالِحِينَ، وَذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَهُمْ مِنَ الصِّبْيَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ بِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الصَّغَائِرِ، وَهَذَا أَيْضًا بَعِيدٌ لِأَنَّ إِيذَاءَ الْأَبِ الَّذِي هو نبي معصوم، والكذب معه وَالسَّعْيَ فِي إِهْلَاكِ الْأَخِ الصَّغِيرِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْكَبَائِرِ، بَلِ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ مَا كَانُوا أَنْبِيَاءَ، وَإِنْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ إِنَّمَا أَقْدَمُوا عَلَيْهَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ.

[سورة يوسف (12) : الآيات 11 إلى 12]

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى أَنَّ قَائِلًا قَالَ: لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ رُوبِيلَ وَكَانَ ابْنَ خَالَةِ يُوسُفَ وَكَانَ أَحْسَنَهُمْ رَأْيًا فيه فمنعهم عن القتل، وقيل يهوذا، وَكَانَ أَقْدَمَهُمْ فِي الرَّأْيِ وَالْفَضْلِ وَالسِّنِّ. ثُمَّ قال: وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ فِي غَيَابَاتِ الْجُبِّ عَلَى الْجَمْعِ فِي الْحَرْفَيْنِ، هذا والذي بعده، والباقون غَيابَتِ عَلَى الْوَاحِدِ فِي الْحَرْفَيْنِ. أَمَّا وَجْهُ الْغَيَابَاتِ فَهُوَ أَنَّ لِلْجُبِّ أَقْطَارًا وَنَوَاحِيَ، فَيَكُونُ فِيهَا غيابات، ومن وحد قال: المقصود موضوع وَاحِدٌ مِنَ الْجُبِّ يَغِيبُ فِيهِ يُوسُفُ، فَالتَّوْحِيدُ أَخَصُّ وَأَدَلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ فِي غَيْبَةِ الْجُبِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْغَيَابَةُ كُلُّ مَا غَيَّبَ شَيْئًا وَسَتَرَهُ، فَغَيَابَةُ الْجُبِّ غَوْرُهُ، وَمَا غَابَ مِنْهُ عَنْ عَيْنِ النَّاظِرِ وَأَظْلَمَ مِنْ أَسْفَلِهِ. وَالْجُبُّ الْبِئْرُ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَطْوِيَّةٍ سُمِّيَتْ جُبًّا، لِأَنَّهَا قَطَعَتْ قَطْعًا وَلَمْ يَحْصُلْ فِيهَا غَيْرُ الْقَطْعِ مِنْ طَيٍّ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ الْغَيَابَةُ مَعَ الْجُبِّ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ الْمُشِيرَ أَشَارَ بِطَرْحِهِ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ مِنَ الْجُبِّ لَا يَلْحَقُهُ نَظَرُ النَّاظِرِينَ فَأَفَادَ ذِكْرُ الْغَيَابَةِ هَذَا الْمَعْنَى إِذْ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُلْقَى فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْجُبِّ لَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاظِرِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْجُبِّ تَقْتَضِي الْمَعْهُودَ السَّابِقَ، اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْجُبِّ فَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ بِئْرٌ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ وَهْبٌ: هُوَ بِأَرْضِ الْأُرْدُنِّ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ مِنْ مَنْزِلِ يَعْقُوبَ، وَإِنَّمَا عَيَّنُوا ذَلِكَ الْجُبَّ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا وَهِيَ قَوْلُهُمْ: يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ تِلْكَ الْبِئْرَ كَانَتْ مَعْرُوفَةً وَكَانُوا يَرِدُونَ عَلَيْهَا كَثِيرًا، وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا طُرِحَ فِيهَا يَكُونُ إِلَى السَّلَامَةِ أَقْرَبَ، لِأَنَّ السَّيَّارَةَ إِذَا جَازُوا وَرَدُوهَا، وَإِذَا وَرَدُوهَا شَاهَدُوا ذَلِكَ الْإِنْسَانَ فِيهَا، وَإِذَا شَاهَدُوهُ أَخْرَجُوهُ وَذَهَبُوا بِهِ فَكَانَ إِلْقَاؤُهُ فِيهَا أَبْعَدَ عَنِ الْهَلَاكِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الِالْتِقَاطُ تَنَاوُلُ الشَّيْءِ مِنَ الطَّرِيقِ، وَمِنْهُ: اللُّقَطَةُ وَاللَّقِيطُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ تَلْتَقِطْهُ بِالتَّاءِ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ بَعْضَ السَّيَّارَةِ أَيْضًا سَيَّارَةٌ، وَالسَّيَّارَةُ الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ يَسِيرُونَ فِي الطَّرِيقِ لِلسَّفَرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْمَارَّةَ وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا تَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَاقْتَصِرُوا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل: 126] يعني الأولى أن لا تفعلوا ذلك. [سورة يوسف (12) : الآيات 11 الى 12] قالُوا يَا أَبانا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَخَافُهُمْ عَلَى يُوسُفَ وَلَوْلَا ذَلِكَ وَإِلَّا لَمَا قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا أَحْكَمُوا الْعَزْمَ ذَكَرُوا هَذَا الْكَلَامَ وَأَظْهَرُوا عِنْدَ أَبِيهِمْ أَنَّهُمْ فِي غَايَةِ الْمَحَبَّةِ لِيُوسُفَ وَفِي غَايَةِ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ أَنْ يَغِيبُوا عَنْهُ مُدَّةً إِلَى الرَّعْيِ فَسَأَلُوهُ أَنْ يُرْسِلَهُ مَعَهُمْ وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُحِبُّ تَطْيِيبَ قَلْبِ يُوسُفَ فَاغْتَرَّ بِقَوْلِهِمْ وَأَرْسَلَهُ مَعَهُمْ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

[سورة يوسف (12) : الآيات 13 إلى 14]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : لَا تَأْمَنَّا قُرِئَ بِإِظْهَارِ النُّونَيْنِ وَبِالْإِدْغَامِ بِإِشْمَامٍ وَبِغَيْرِ إِشْمَامٍ، وَالْمَعْنَى لِمَ تَخَافُنَا عَلَيْهِ وَنَحْنُ نُحِبُّهُ وَنُرِيدُ الْخَيْرَ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ خَمْسُ قِرَاءَاتٍ: الْقِرَاءَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: بِالنُّونِ، وَبِكَسْرِ عَيْنِ نَرْتَعِ مِنَ الِارْتِعَاءِ، وَيَلْعَبْ بِالْيَاءِ وَالِارْتِعَاءُ افْتِعَالٌ مِنْ رَعَيْتُ، يُقَالُ: رَعَتِ الْمَاشِيَةُ الْكَلَأَ تَرْعَاهُ رَعْيًا إِذَا أَكَلَتْهُ، وَقَوْلُهُ: نَرْتَعِ/ الِارْتِعَاءُ لِلْإِبِلِ وَالْمَوَاشِي، وَقَدْ أَضَافُوهُ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ الْمَعْنَى نَرْتَعِ إِبِلَنَا، ثُمَّ نَسَبُوهُ إِلَى أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ هُمُ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ الرَّعْيِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ أَضَافُوا الِارْتِعَاءَ وَالْقِيَامَ بِحِفْظِ الْمَالِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ بَالِغُونَ كَامِلُونَ وَأَضَافُوا اللَّعِبَ إِلَى يُوسُفَ لِصِغَرِهِ. الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ: كِلَاهُمَا بِالْيَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ مِنْ يَرْتَعْ أَضَافَ الِارْتِعَاءَ إِلَى يُوسُفَ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُبَاشِرُ رَعْيَ الْإِبِلِ لِيَتَدَرَّبَ بِذَلِكَ فَمَرَّةً يَرْتَعْ وَمَرَّةً يَلْعَبْ كَفِعْلِ الصِّبْيَانِ. الْقِرَاءَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ نَرْتَعْ بِالنُّونِ وَجَزْمِ الْعَيْنِ وَمِثْلُهُ نَلْعَبْ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الرَّتْعُ الْأَكْلُ بِشَرَهٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الْخِصْبُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ اللَّعِبِ الْإِقْدَامُ عَلَى الْمُبَاحَاتِ وَهَذَا يُوصَفُ بِهِ الْإِنْسَانُ، وَأَمَّا نَلْعَبْ فَرُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِأَبِي عَمْرٍو: كَيْفَ يَقُولُونَ نَلْعَبُ وَهُمْ أَنْبِيَاءُ؟ فَقَالَ لَمْ يَكُونُوا يَوْمَئِذٍ أَنْبِيَاءَ، وَأَيْضًا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ اللَّعِبِ الْإِقْدَامَ عَلَى الْمُبَاحَاتِ لِأَجْلِ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِجَابِرٍ: «فَهَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ» وَأَيْضًا كَانَ لَعِبُهُمُ الِاسْتِبَاقَ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَعَلُّمُ الْمُحَارَبَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ مَعَ الْكُفَّارِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَإِنَّمَا سَمَّوْهُ لَعِبًا لِأَنَّهُ فِي صُورَتِهِ. الْقِرَاءَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: كِلَيْهِمَا بِالْيَاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ، وَمَعْنَاهُ إِسْنَادُ الرَّتْعِ وَاللَّعِبِ إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الْقِرَاءَةُ الْخَامِسَةُ: يَرْتَعْ بِالْيَاءِ وَنَلْعَبُ بِالنُّونِ وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَأَلُوا إِرْسَالَ يُوسُفَ مَعَهُمْ لِيَفْرَحَ هُوَ بِاللَّعِبِ لَا لِيَفْرَحُوا باللعب، واللَّه أعلم. [سورة يوسف (12) : الآيات 13 الى 14] قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) اعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُرْسِلَ يُوسُفَ مَعَهُمُ اعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَهَابَهُمْ بِهِ وَمُفَارَقَتَهُمْ إِيَّاهُ مِمَّا يُحْزِنُهُ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَصْبِرُ عَنْهُ سَاعَةً. وَالثَّانِي: خَوْفُهُ عَلَيْهِ مِنَ الذِّئْبِ إِذَا غَفَلُوا عَنْهُ بِرَعْيِهِمْ أَوْ لَعِبِهِمْ لِقِلَّةِ اهْتِمَامِهِمْ بِهِ. قِيلَ: إِنَّهُ رَأَى فِي النَّوْمِ أَنَّ الذِّئْبَ شَدَّ عَلَى يُوسُفَ، فَكَانَ يُحَذِّرُهُ فَمِنْ هَذَا ذَكَرَ ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ لَقَّنَهُمُ الْحُجَّةَ، وَفِي أَمْثَالِهِمْ الْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ. وَقِيلَ: الذِّئَابُ كَانَتْ فِي أَرَاضِيهِمْ كَثِيرَةً، وَقُرِئَ الذِّئْبُ بِالْهَمْزِ عَلَى الْأَصْلِ وَبِالتَّخْفِيفِ. وَقِيلَ: اشْتِقَاقُهُ مِنْ/ تَذَاءَبَتِ الرِّيحُ إِذَا أَتَتْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، فَلَمَّا ذَكَرَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا الْكَلَامَ أَجَابُوا بِقَوْلِهِمْ: لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا فَائِدَةُ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ إِنْ تُفِيدُ كَوْنَ الشَّرْطِ مُسْتَلْزِمًا لِلْجَزَاءِ، أَيْ إِنْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ فَنَحْنُ خَاسِرُونَ، فَهَذِهِ اللَّامُ دَخَلَتْ لِتَأْكِيدِ هَذَا الِاسْتِلْزَامِ. الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» هَذِهِ اللَّامُ تدل على

[سورة يوسف (12) : آية 15]

إِضْمَارِ الْقَسَمِ تَقْدِيرُهُ: واللَّه لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ لَكُنَّا خَاسِرِينَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا فَائِدَةُ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: وَنَحْنُ عُصْبَةٌ. الْجَوَابُ: أَنَّهَا وَاوُ الْحَالِ حَلَفُوا لَئِنْ حَصَلَ مَا خَافَهُ مِنْ خَطْفِ الذِّئْبِ أَخَاهُمْ مِنْ بَيْنِهِمْ وَحَالُهُمْ أَنَّهُمْ عَشَرَةُ رِجَالٍ بِمِثْلِهِمْ تُعْصَبُ الْأُمُورُ وَتُكْفَى الْخُطُوبُ إِنَّهُمْ إِذًا لَقَوْمٌ خَاسِرُونَ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ. الْجَوَابُ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: خَاسِرُونَ أَيْ هَالِكُونَ ضَعْفًا وعجزا، ونظيره قوله تعالى: لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 34] أَيْ لَعَاجِزُونَ: الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَكُونُونَ مُسْتَحِقِّينَ لِأَنَّ يُدْعَى عَلَيْهِمْ بِالْخَسَارَةِ وَالدَّمَارِ وَأَنْ يُقَالَ خَسَّرَهُمُ اللَّه تَعَالَى وَدَمَّرَهُمْ حِينَ أَكَلَ الذِّئْبُ أَخَاهُمْ وَهُمْ حَاضِرُونَ. الثَّالِثُ: الْمَعْنَى أَنَّا إِنْ لَمْ نَقْدِرْ عَلَى حِفْظِ أَخِينَا فَقَدْ هَلَكَتْ مَوَاشِينَا وَخَسِرْنَاهَا. الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي خِدْمَةِ أَبِيهِمْ وَاجْتَهَدُوا فِي الْقِيَامِ بِمُهِمَّاتِهِ وَإِنَّمَا تَحَمَّلُوا تِلْكَ الْمَتَاعِبَ لِيَفُوزُوا مِنْهُ بِالدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ فَقَالُوا: لَوْ قَصَّرْنَا فِي هَذِهِ الْخِدْمَةِ فَقَدْ أَحْبَطْنَا كُلَّ تِلْكَ الْأَعْمَالِ وَخَسِرْنَا كُلَّ مَا صَدَرَ مِنَّا مِنْ أَنْوَاعِ الْخِدْمَةِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اعْتَذَرَ بِعُذْرَيْنِ فَلِمَ أَجَابُوا عَنْ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ حِقْدَهُمْ وَغَيْظَهُمْ كَانَ بِسَبَبِ الْعُذْرِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ شِدَّةُ حُبِّهِ لَهُ فَلَمَّا سَمِعُوا ذِكْرَ ذلك المعنى تغافلوا عنه. [سورة يوسف (12) : آية 15] فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) [قَوْلُهُ تَعَالَى فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ] اعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِضْمَارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ قَالُوا: لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ فَأَذِنَ لَهُ وَأَرْسَلَهُ مَعَهُمْ ثُمَّ يَتَّصِلُ بِهِ قَوْلُهُ: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا بُدَّ لِقَوْلِهِ: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ مِنْ جَوَابٍ إِذْ جَوَابُ لَمَّا غَيْرُ مَذْكُورٍ وَتَقْدِيرُهُ فَجَعَلُوهُ فِيهَا، وَحَذْفُ الْجَوَابِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ دَلِيلًا عليه وهاهنا كَذَلِكَ. قَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَرَزَ مَعَ إِخْوَتِهِ أَظْهَرُوا لَهُ الْعَدَاوَةَ الشَّدِيدَةَ، وَجَعَلَ هَذَا الْأَخُ يَضْرِبُهُ فَيَسْتَغِيثُ بِالْآخَرِ فَيَضْرِبُهُ وَلَا يَرَى فِيهِمْ رَحِيمًا فَضَرَبُوهُ حَتَّى كَادُوا يَقْتُلُونَهُ وَهُوَ يَقُولُ يَا يَعْقُوبُ لَوْ تعلم ما يصنع بابنك، فقال يهوذا أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتُمُونِي مَوْثِقًا أَنْ لَا تَقْتُلُوهُ فَانْطَلَقُوا بِهِ إِلَى الْجُبِّ يُدْلُونَهُ فِيهِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِشَفِيرِ الْبِئْرِ فَنَزَعُوا قَمِيصَهُ، وَكَانَ غَرَضُهُمْ أَنْ يُلَطِّخُوهُ بِالدَّمِ وَيَعْرِضُوهُ عَلَى يَعْقُوبَ، فَقَالَ لَهُمْ رُدُّوا عَلَيَّ قَمِيصِي لِأَتَوَارَى بِهِ، فَقَالُوا: ادْعُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا لِتُؤْنِسَكَ، ثُمَّ دَلُّوهُ فِي الْبِئْرِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ نِصْفَهَا أَلْقَوْهُ لِيَمُوتَ، وَكَانَ فِي الْبِئْرِ مَاءٌ فَسَقَطَ فِيهِ ثُمَّ آوَى إِلَى صَخْرَةٍ فَقَامَ بها وهو يبكى فنادوه فظن أنه رَحْمَةً أَدْرَكَتْهُمْ فَأَجَابَهُمْ فَأَرَادُوا أَنْ يَرْضَخُوهُ بِصَخْرَةٍ فقام يهوذا فمنعهم وكان يهوذا يَأْتِيهِ بِالطَّعَامِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أُلْقِيَ فِي الْجُبِّ قَالَ يَا شَاهِدًا غَيْرَ غَائِبٍ. وَيَا قَرِيبًا غَيْرَ بَعِيدٍ. وَيَا غَالِبًا غَيْرَ مَغْلُوبٍ. اجْعَلْ لِي مِنْ أَمْرِي فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَرُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أُلْقِيَ فِي النَّارِ جُرِّدَ عَنْ ثِيَابِهِ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَمِيصٍ مِنْ حَرِيرِ الْجَنَّةِ وَأَلْبَسَهُ إِيَّاهُ، فَدَفَعَهُ إِبْرَاهِيمُ إِلَى إِسْحَاقَ، وَإِسْحَاقُ إِلَى يَعْقُوبَ، فَجَعَلَهُ يَعْقُوبُ فِي تَمِيمَةٍ وَعَلَّقَهَا فِي عُنُقِ يُوسُفَ

[سورة يوسف (12) : الآيات 16 إلى 18]

عَلَيْهِ السَّلَامُ فَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخْرَجَهُ وَأَلْبَسَهُ إِيَّاهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْوَحْيُ وَالنُّبُوَّةُ وَالرِّسَالَةُ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بَالِغًا أَوْ كَانَ صَبِيًّا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بَالِغًا وَكَانَ سِنُّهُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ كَانَ صَغِيرًا إِلَّا أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَكْمَلَ عَقْلَهُ وَجَعَلَهُ صَالِحًا لِقَبُولِ الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ كَمَا فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْوَحْيِ الْإِلْهَامُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى [الْقَصَصِ: 7] وَقَوْلِهِ: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النَّحْلِ: 68] وَالْأَوَّلُ: لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْوَحْيِ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجْعَلُهُ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَيْسَ هُنَاكَ أَحَدٌ يُبَلِّغُهُ الرِّسَالَةَ؟ قُلْنَا: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُشَرِّفَهُ بِالْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ وَيَأْمُرَهُ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ بَعْدَ أَوْقَاتٍ وَيَكُونُ فَائِدَةُ/ تَقْدِيمِ الْوَحْيِ تَأْنِيسَهُ وَتَسْكِينَ نَفْسِهِ وَإِزَالَةَ الْغَمِّ وَالْوَحْشَةِ عَنْ قَلْبِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْحَى إِلَى يُوسُفَ إِنَّكَ لَتُخْبِرَنَّ إِخْوَتَكَ بِصَنِيعِهِمْ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنَّكَ يُوسُفُ، وَالْمَقْصُودُ تَقْوِيَةُ قَلْبِهِ بِأَنَّهُ سَيَحْصُلُ لَهُ الْخَلَاصُ عَنْ هَذِهِ الْمِحْنَةِ وَيَصِيرُ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِمْ وَيَصِيرُونَ تَحْتَ قَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ حِينَ دَخَلُوا عَلَيْهِ لِطَلَبِ الْحِنْطَةِ وَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ دَعَا بِالصُّوَاعِ فَوَضَعَهُ عَلَى يده، ثم نقره فظن، فقال: إنه ليخبرني هَذَا الْجَامُ أَنَّهُ كَانَ لَكُمْ أَخٌ مِنْ أَبِيكُمْ يُقَالُ لَهُ يُوسُفُ فَطَرَحْتُمُوهُ فِي الْبِئْرِ وَقُلْتُمْ لِأَبِيكُمْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْبِئْرِ بِأَنَّكَ تُنْبِئُ إِخْوَتَكَ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ، وَهُمْ مَا كَانُوا يَشْعُرُونَ بِنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ، وَالْفَائِدَةُ فِي إِخْفَاءِ نُزُولِ ذَلِكَ الْوَحْيِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ عَرَفُوهُ فَرُبَّمَا ازْدَادَ حَسَدُهُمْ فَكَانُوا يَقْصِدُونَ قَتْلَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، كَانَ هَذَا أَمْرًا مِنَ اللَّه تَعَالَى نَحْوَ يُوسُفَ فِي أَنْ يَسْتُرَ نَفْسَهُ عَنْ أَبِيهِ وَأَنْ لَا يُخْبِرَهُ بِأَحْوَالِ نَفْسِهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَتَمَ أَخْبَارَ نَفْسِهِ عَنْ أَبِيهِ طُولَ تِلْكَ الْمُدَّةِ، مَعَ عِلْمِهِ بِوَجْدِ أَبِيهِ بِهِ خَوْفًا مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّه تَعَالَى، وَصَبَرَ عَلَى تَجَرُّعِ تِلْكَ الْمَرَارَةِ، فَكَانَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ قَضَى عَلَى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُوَصِّلَ إِلَيْهِ تِلْكَ الْغُمُومَ الشَّدِيدَةَ وَالْهُمُومَ الْعَظِيمَةَ لِيَكْثُرَ رُجُوعُهُ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَيَنْقَطِعَ تَعَلُّقُ فِكْرِهِ عَنِ الدُّنْيَا فَيَصِلُ إِلَى دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ فِي الْعُبُودِيَّةِ لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَيْهَا إِلَّا بِتَحَمُّلِ الْمِحَنِ الشديدة. واللَّه أعلم. [سورة يوسف (12) : الآيات 16 الى 18] وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يَا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ (18)

[في قوله تعالى وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ إلى قوله فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ] اعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا طَرَحُوا يُوسُفَ فِي الْجُبِّ رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ وَقْتَ الْعِشَاءِ بَاكِينَ وَرَوَاهُ ابن جني/ عشا بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْقَصْرِ وَقَالَ: عَشَوْا مِنَ الْبُكَاءِ فَعِنْدَ ذَلِكَ فَزِعَ يَعْقُوبُ وَقَالَ: هَلْ أَصَابَكُمْ فِي غَنَمِكُمْ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لَا قَالَ: فَمَا فَعَلَ يُوسُفُ؟ قَالُوا: ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ فَبَكَى وَصَاحَ وَقَالَ: أَيْنَ الْقَمِيصُ؟ فَطَرَحَهُ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى تَخَضَّبَ وَجْهُهُ مِنْ دَمِ الْقَمِيصِ، وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً تَحَاكَمَتْ إِلَى شُرَيْحٍ فَبَكَتْ فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: يَا أَبَا أُمَيَّةَ مَا تَرَاهَا تَبْكِي؟ قَالَ: قَدْ جَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ يَبْكُونَ وَهُمْ ظَلَمَةٌ كَذَبَةٌ لَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقْضِيَ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الِاسْتِبَاقِ قَالَ الزَّجَّاجُ: يُسَابِقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الرَّمْيِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ نَصْلٍ أَوْ حَافِرٍ» يَعْنِي بِالنَّصْلِ الرَّمْيَ، وَأَصْلُ السَّبَقِ فِي الرَّمْيِ بِالسَّهْمِ هُوَ أَنْ يَرْمِيَ اثْنَانِ لِيَتَبَيَّنَ أَيُّهُمَا يَكُونُ أَسْبَقَ سَهْمًا وَأَبْعَدَ غَلْوَةً، ثُمَّ يُوصَفُ الْمُتَرَامِيَانِ بِذَلِكَ فَيُقَالُ: اسْتَبَقَا وَتَسَابَقَا إِذَا فَعَلَا ذَلِكَ لِيَتَبَيَّنَ أَيُّهُمَا أَسْبَقُ سَهْمًا وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّفْسِيرِ مَا رُوِيَ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّه إِنَّا ذَهَبْنَا نَنْتَضِلُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِبَاقِ مَا قَالَهُ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَسْتَبِقُ نَشْتَدُّ وَنَعْدُوَ لِيَتَبَيَّنَ أَيُّنَا أَسْرَعُ عَدْوًا. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يَسْتَبِقُوا وَهُمْ رِجَالٌ بَالِغُونَ وَهَذَا مِنْ فِعْلِ الصِّبْيَانِ؟ قُلْنَا: الِاسْتِبَاقُ مِنْهُمْ كَانَ مِثْلَ الِاسْتِبَاقِ فِي الْخَيْلِ وَكَانُوا يُجَرِّبُونَ بذلك أنفسهم ويدربونها على العدو ولأنه كَالْآلَةِ لَهُمْ فِي مُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ وَمُدَافَعَةِ الذِّئْبِ إِذَا اخْتَلَسَ الشَّاةَ وَقَوْلُهُ: فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ قِيلَ أَكَلَ الذِّئْبُ يُوسُفَ وَقِيلَ عَرَّضُوا وَأَرَادُوا أَكَلَ الذِّئْبُ الْمَتَاعَ، وَالْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلُ. ثُمَّ قَالُوا: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُصَدِّقُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ صَادِقٌ، بَلِ الْمَعْنَى لَوْ كُنَّا عِنْدَكَ مِنْ أَهْلِ الثِّقَةِ وَالصِّدْقِ لَاتَّهَمْتَنَا فِي يُوسُفَ لِشِدَّةِ مَحَبَّتِكَ إِيَّاهُ وَلَظَنَنْتَ أَنَّا قَدْ كَذَبْنَا وَالْحَاصِلُ أَنَّا وَإِنْ كُنَّا صَادِقِينَ لَكِنَّكَ لَا تُصَدِّقُنَا لِأَنَّكَ تَتَّهِمُنَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّا وَإِنْ كُنَّا صَادِقِينَ فَإِنَّكَ لَا تُصَدِّقُنَا لِأَنَّهُ لَمْ تَظْهَرْ عِنْدَكَ أَمَارَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أَيْ بِمُصَدِّقٍ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَجَبَ أَنْ يَبْقَى فِي عُرْفِ الشَّرْعِ كَذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَةِ: 3] . ثُمَّ قَالَ تعالى: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا جَاءُوا بِهَذَا الْقَمِيصِ الْمُلَطَّخِ بِالدَّمِ لِيُوهِمَ كَوْنَهُمْ صَادِقِينَ فِي مَقَالَتِهِمْ. قِيلَ: ذَبَحُوا جِدْيًا وَلَطَّخُوا ذَلِكَ الْقَمِيصَ بِدَمِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَعَلَّ غَرَضَهُمْ فِي نَزْعِ قَمِيصِهِ عِنْدَ إِلْقَائِهِ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ أَنْ يَفْعَلُوا هَذَا تَوْكِيدًا لِصِدْقِهِمْ، لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ طَمَعًا فِي نَفْسِ الْقَمِيصِ وَلَا بُدَّ فِي الْمَعْصِيَةِ مِنْ أَنْ يُقْرَنَ بِهَذَا الْخِذْلَانِ، فَلَوْ خَرَقُوهُ مَعَ لَطْخِهِ بِالدَّمِ لَكَانَ الْإِيهَامُ أَقْوَى، فَلَمَّا شاهد يعقوب الْقَمِيصَ صَحِيحًا عَلِمَ كَذِبَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ أَيْ وَجَاءُوا فَوْقَ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَمَا يُقَالُ: جَاءُوا عَلَى جِمَالِهِمْ بِأَحْمَالٍ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَصْحَابُ الْعَرَبِيَّةِ وَهُمُ الْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ بِدَمٍ كَذِبٍ أَيْ مَكْذُوبٍ فِيهِ، إِلَّا أَنَّهُ وُصِفَ بِالْمَصْدَرِ عَلَى تَقْدِيرِ دَمٍ ذِي كَذِبٍ وَلَكِنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ كَذِبًا لِلْمُبَالَغَةِ قَالُوا: وَالْمَفْعُولُ وَالْفَاعِلُ يُسَمَّيَانِ بِالْمَصْدَرِ كَمَا يُقَالُ: مَاءٌ سَكْبٌ، أَيْ مَسْكُوبٌ وَدِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ وَثَوْبٌ نَسْجُ الْيَمَنِ، وَالْفَاعِلُ كَقَوْلِهِ: إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً [الْمُلْكِ: 30] وَرَجُلٌ عَدْلٌ وَصَوْمٌ، وَنِسَاءٌ نَوْحٌ وَلَمَّا سُمِّيَا بِالْمَصْدَرِ سُمِّيَ الْمَصْدَرُ أَيْضًا بِهِمَا فَقَالُوا: لِلْعَقْلِ الْمَعْقُولُ، وَلِلْجَلْدِ المجلود، ومنه قوله تعالى بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ [الْقَلَمِ: 6] وَقَوْلُهُ: إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سَبَأٍ: 7] قَالَ الشَّعْبِيُّ: قِصَّةُ يُوسُفَ كُلُّهَا فِي قَمِيصِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَلْقَوْهُ فِي الْجُبِّ نَزَعُوا قَمِيصَهُ وَلَطَّخُوهُ بِالدَّمِ وَعَرَضُوهُ عَلَى أَبِيهِ، وَلَمَّا شَهِدَ الشَّاهِدُ قَالَ: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ [يُوسُفَ: 26] وَلَمَّا أُتِيَ بِقَمِيصِهِ إِلَى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأُلْقِيَ عَلَى وَجْهِهِ ارْتَدَّ بَصِيرًا، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ لَمَّا ذَكَرُوا ذَلِكَ الْكَلَامَ وَاحْتَجُّوا عَلَى صِدْقِهِمْ بِالْقَمِيصِ الْمُلَطَّخِ بِالدَّمِ قَالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ: بَلْ زَيَّنَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا. وَالتَّسْوِيلُ تَقْدِيرُ مَعْنًى فِي النَّفْسِ مَعَ الطَّمَعِ فِي إِتْمَامِهِ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: كَأَنَّ التَّسْوِيلَ تَفْعِيلٌ مِنْ سُؤَالِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ أُمْنِيَتُهُ الَّتِي يَطْلُبُهَا فَتُزَيِّنُ لِطَالِبِهَا الْبَاطِلَ وَغَيْرَهُ. وَأَصْلُهُ مَهْمُوزٌ غَيْرَ أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَثْقَلُوا فِيهِ الْهَمْزَ وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : سَوَّلَتْ سَهَّلَتْ مِنَ السَّوْلِ وَهُوَ الِاسْتِرْخَاءُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: بَلْ رد لقولهم: فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ كَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ فِي شَأْنِهِ أَمْراً أَيْ زَيَّنَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا غَيْرَ مَا تَصِفُونَ، وَاخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي بِهِ عَرَفَ كَوْنَهُمْ كَاذِبِينَ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَرَفَ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ الْحَسَدَ الشَّدِيدَ فِي قُلُوبِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ حَيٌّ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِيُوسُفَ: وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ [يُوسُفَ: 6] وَذَلِكَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي ذَلِكَ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمَّا جَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ، وَمَا كَانَ مُتَخَرِّقًا، قَالَ كَذَبْتُمْ لَوْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ لَخَرَقَ قَمِيصَهُ، وَعَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: إِنَّ هَذَا الذِّئْبَ كَانَ رَحِيمًا، فَكَيْفَ أَكَلَ لَحْمَهُ وَلَمْ يَخْرِقْ قَمِيصَهُ؟ وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ قَتَلَهُ اللُّصُوصُ، فَقَالَ كَيْفَ قَتَلُوهُ وَتَرَكُوا قَمِيصَهُ وَهُمْ إِلَى قَمِيصِهِ أَحْوَجُ مِنْهُ إِلَى قَتْلِهِ؟ فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ عَرَفَ بِسَبَبِ ذَلِكَ كَذِبَهُمْ. ثُمَّ قَالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أَوْلَى مِنَ الْجَزَعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَضْمَرَ الْمُبْتَدَأَ قَالَ الْخَلِيلُ: الَّذِي أَفْعَلُهُ صَبْرٌ جَمِيلٌ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: مَعْنَاهُ: فَصَبْرِي صَبْرٌ جَمِيلٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فَهُوَ صَبْرٌ جَمِيلٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ وَكَانَ يَرْفَعُهُمَا بِخِرْقَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ طُولُ الزَّمَانِ وَكَثْرَةُ الْأَحْزَانِ: فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ يَا يَعْقُوبُ أَتَشْكُونِي؟ فَقَالَ يَا رَبِّ خَطِيئَةٌ أَخْطَأْتُهَا فَاغْفِرْهَا لِي. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ أَنَّهَا قَالَتْ: واللَّه لَئِنْ حَلَفْتُ لَا تُصَدِّقُونِي وَإِنِ اعْتَذَرْتُ لَا تَعْذِرُونِي، فَمَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ يَعْقُوبَ وَوَلَدِهِ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي عُذْرِهَا مَا أنزل.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ فَقَالَ: «صَبْرٌ لَا شَكْوَى فِيهِ فَمَنْ بَثَّ لَمْ يَصْبِرْ» وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ قوله تعالى: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يُوسُفَ: 86] وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، أَيْ مِنْ غَيْرِ جَزَعٍ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: مِنَ الصَّبْرِ أَنْ لَا تُحَدِّثَ بِوَجَعِكَ ولا بمصيبتك، ولا تزكي نفسك، وهاهنا بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى قَضَاءِ اللَّه تَعَالَى وَاجِبٌ فَأَمَّا الصَّبْرُ عَلَى ظُلْمِ الظَّالِمِينَ، وَمَكْرِ الْمَاكِرِينَ فَغَيْرُ وَاجِبٍ، بَلِ الْوَاجِبُ إِزَالَتُهُ لَا سِيَّمَا فِي الضَّرَرِ الْعَائِدِ إِلَى الْغَيْرِ، وهاهنا أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ لَمَّا ظَهَرَ كَذِبُهُمْ وَخِيَانَتُهُمْ فَلِمَ صَبَرَ يَعْقُوبُ عَلَى ذَلِكَ؟ وَلِمَ لَمْ يُبَالِغْ فِي التَّفْتِيشِ وَالْبَحْثِ سَعْيًا مِنْهُ فِي تَخْلِيصِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْبَلِيَّةِ وَالشِّدَّةِ إِنْ كَانَ فِي الْأَحْيَاءِ وَفِي إِقَامَةِ الْقِصَاصِ إِنْ صَحَّ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الصَّبْرَ فِي الْمَقَامِ مَذْمُومٌ. وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا السُّؤَالَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ حَيٌّ سَلِيمٌ لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ: وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ [يُوسُفَ: 6] وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ هَذَا الْكَلَامَ مِنَ الْوَحْيِ وَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ حَيٌّ سَلِيمٌ فَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ يَسْعَى فِي طَلَبِهِ. وَأَيْضًا إِنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ رَجُلًا عَظِيمَ الْقَدْرِ فِي نَفْسِهِ، وَكَانَ مِنْ بَيْتٍ عَظِيمٍ شَرِيفٍ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ كَانُوا يَعْرِفُونَهُ وَيَعْتَقِدُونَ فِيهِ وَيُعَظِّمُونَهُ فَلَوْ بَالَغَ فِي الطَّلَبِ وَالتَّفَحُّصِ لَظَهَرَ ذَلِكَ وَاشْتَهَرَ وَلَزَالَ وَجْهُ التَّلْبِيسِ فَمَا السَّبَبُ فِي أَنَّهُ/ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ شِدَّةِ رَغْبَتِهِ فِي حُضُورِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنِهَايَةِ حُبِّهِ لَهُ لَمْ يَطْلُبْهُ مَعَ أَنَّ طَلَبَهُ كَانَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الصَّبْرَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَذْمُومٌ عَقْلًا وَشَرْعًا. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنْ نَقُولَ لَا جَوَابَ عَنْهُ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَنَعَهُ عَنِ الطَّلَبِ تَشْدِيدًا لِلْمِحْنَةِ عَلَيْهِ، وَتَغْلِيظًا لِلْأَمْرِ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا لَعَلَّهُ عَرَفَ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ أَنَّ أَوْلَادَهُ أَقْوِيَاءُ وَأَنَّهُمْ لَا يُمَكِّنُونَهُ مِنَ الطَّلَبِ وَالتَّفَحُّصِ، وَأَنَّهُ لَوْ بَالَغَ فِي الْبَحْثِ فَرُبَّمَا أَقْدَمُوا عَلَى إِيذَائِهِ وَقَتْلِهِ، وَأَيْضًا لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلِمَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَصُونُ يُوسُفَ عَنِ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ وَأَنَّ أَمْرَهُ سَيُعَظَّمُ بِالْآخِرَةِ، ثُمَّ لَمْ يُرِدْ هَتْكَ أَسْتَارِ سَرَائِرِ أَوْلَادِهِ وَمَا رَضِيَ بِإِلْقَائِهِمْ فِي أَلْسِنَةِ النَّاسِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدَ الْوَلَدَيْنِ إِذَا ظَلَمَ الْآخَرَ وَقَعَ الْأَبُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَنْتَقِمْ يَحْتَرِقْ قَلْبُهُ عَلَى الْوَلَدِ الْمَظْلُومِ وَإِنِ انْتَقَمَ فَإِنَّهُ يَحْتَرِقُ قَلْبُهُ عَلَى الْوَلَدِ الَّذِي يَنْتَقِمُ مِنْهُ، فَلَمَّا وَقَعَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْبَلِيَّةِ رَأَى أَنَّ الْأَصْوَبَ الصَّبْرُ وَالسُّكُوتُ وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَى اللَّه تَعَالَى بِالْكُلِّيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُ مَا قَدْ يَكُونُ جَمِيلًا وَمَا قَدْ يَكُونُ غَيْرَ جَمِيلٍ، فَالصَّبْرُ الْجَمِيلُ هُوَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ مُنْزِلَ ذَلِكَ الْبَلَاءِ هُوَ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ مَالِكُ الْمُلْكِ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى الْمَالِكِ فِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَصِيرُ اسْتِغْرَاقُ قَلْبِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَانِعًا لَهُ مِنْ إِظْهَارِ الشِّكَايَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ مُنْزِلَ هَذَا الْبَلَاءِ، حَكِيمٌ لَا يَجْهَلُ، وَعَالِمٌ لَا يَغْفُلُ، عَلِيمٌ لَا يَنْسَى رَحِيمٌ لَا يَطْغَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكَانَ كُلُّ مَا صَدَرَ عَنْهُ حِكْمَةً وَصَوَابًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْكُتُ وَلَا يَعْتَرِضُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَنْكَشِفُ لَهُ أَنَّ هَذَا الْبَلَاءَ مِنَ الْحَقِّ، فَاسْتِغْرَاقُهُ فِي شُهُودِ نُورِ الْمُبْلِي يَمْنَعُهُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالشِّكَايَةِ عَنِ الْبَلَاءِ وَلِذَلِكَ قِيلَ: الْمَحَبَّةُ التَّامَّةُ لَا تَزْدَادُ بِالْوَفَاءِ وَلَا تَنْقُصُ بِالْجَفَاءِ، لِأَنَّهَا لَوِ ازْدَادَتْ

[سورة يوسف (12) : الآيات 19 إلى 20]

بِالْوَفَاءِ لَكَانَ الْمَحْبُوبُ هُوَ النَّصِيبَ وَالْحَظَّ وَمُوصِلُ النَّصِيبِ لَا يَكُونُ مَحْبُوبًا بِالذَّاتِ بَلْ بِالْعَرَضِ، فَهَذَا هُوَ الصَّبْرُ الْجَمِيلُ. أَمَّا إِذَا كَانَ الصَّبْرُ لَا لِأَجْلِ الرِّضَا بِقَضَاءِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ بَلْ كَانَ لِسَائِرِ الْأَغْرَاضِ، فَذَلِكَ الصَّبْرُ لَا يَكُونُ جَمِيلًا، وَالضَّابِطُ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالِاعْتِقَادَاتِ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ لِطَلَبِ عُبُودِيَّةِ اللَّه تعالى كان حسنا وإلا فلا، وهاهنا يَظْهَرُ صِدْقُ مَا رُوِيَ فِي الْأَثَرِ «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَلَوْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ» فَلْيَتَأَمَّلِ الرَّجُلُ تَأَمُّلًا شافيا، أن الذي أتى به هل الحاصل وَالْبَاعِثُ عَلَيْهِ طَلَبُ الْعُبُودِيَّةِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ لَوْ أَفْتَوْنَا بِالشَّيْءِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي نَفْسِهِ كَذَلِكَ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ نَفْعٌ الْبَتَّةَ. وَلَمَّا ذَكَرَ يَعْقُوبُ قَوْلَهُ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ قَالَ: وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى / مَا تَصِفُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى الصَّبْرِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّه تَعَالَى، لِأَنَّ الدَّوَاعِيَ النَّفْسَانِيَّةَ تَدْعُوهُ إِلَى إِظْهَارِ الْجَزَعِ وَهِيَ قَوِيَّةٌ وَالدَّوَاعِي الرُّوحَانِيَّةُ تَدْعُوهُ إِلَى الصَّبْرِ وَالرِّضَا، فَكَأَنَّهُ وقعت المحاربة بين الصنفين، فما لم تحصر إِعَانَةُ اللَّه تَعَالَى لَمْ تَحْصُلِ الْغَلَبَةُ، فَقَوْلُهُ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ يَجْرِي مَجْرَى قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الْفَاتِحَةِ: 5] وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ يجري مجرى قوله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] . [سورة يوسف (12) : الآيات 19 الى 20] وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يَا بُشْرى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كَيْفَ سَهَّلَ السَّبِيلَ فِي خَلَاصِ يُوسُفَ مِنْ تِلْكَ الْمِحْنَةِ، فَقَالَ: وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ يَعْنِي رُفْقَةً تَسِيرُ لِلسَّفَرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَاءَتْ سَيَّارَةٌ أَيْ قَوْمٌ يَسِيرُونَ من مدين إلى مصر فأخطئوا الطَّرِيقَ فَانْطَلَقُوا يَهِيمُونَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، فَهَبَطُوا عَلَى أَرْضٍ فِيهَا جُبُّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ الْجُبُّ فِي قَفْرَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُمْرَانِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِلرُّعَاةِ، وَقِيلَ: كَانَ مَاؤُهُ مِلْحًا فَعَذُبَ حِينَ أُلْقِيَ فِيهِ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَرْسَلُوا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ بْنُ ذُعْرٍ الْخُزَاعِيُّ لِيَطْلُبَ لَهُمُ الْمَاءَ، وَالْوَارِدُ الَّذِي يَرِدُ الْمَاءَ لِيَسْتَقِيَ الْقَوْمُ فَأَدْلى دَلْوَهُ وَنَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنْ عَامَّةِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ يُقَالُ: أَدْلَى دَلْوَهُ إِذَا أَرْسَلَهَا فِي الْبِئْرِ وَدَلَّاهَا إِذَا نَزَعَهَا مِنَ الْبِئْرِ يُقَالُ: أَدْلَى يُدْلِي إِدْلَاءً إِذَا أَرْسَلَ وَدَلَا يَدْلُو دَلْوًا إِذَا جَذَبَ وَأَخْرَجَ، وَالدَّلْوُ مَعْرُوفٌ، وَالْجَمْعُ دِلَاءٌ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وهاهنا مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَظَهَرَ يُوسُفُ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا أَدْلَى الْوَارِدُ دَلْوَهُ وَكَانَ يُوسُفُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ قَعْرِ الْبِئْرِ تَعَلَّقَ بِالْحَبْلِ فَنَظَرَ الْوَارِدُ إليه ورأى حسنه نادى، فَقَالَ: يَا بُشْرَى. وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بُشْرى بِغَيْرِ الْأَلِفِ وَبِسُكُونِ الْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ يَا بُشْرَايَ بِالْأَلِفِ وَفَتْحِ الْيَاءِ عَلَى الْإِضَافَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: يا بُشْرى قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا كَلِمَةٌ تُذْكَرُ عِنْدَ الْبِشَارَةِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: يَا عَجَبًا مِنْ كَذَا وقوله: يا أَسَفى / عَلى يُوسُفَ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِي تَفْسِيرِ النِّدَاءِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى النِّدَاءِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تُجِيبُ تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِينَ وَتَوْكِيدُ الْقِصَّةِ فَإِذَا قُلْتَ: يَا عَجَبَاهُ فَكَأَنَّكَ قُلْتَ اعْجَبُوا. الثَّانِي: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: كَأَنَّهُ

يَقُولُ: يَا أَيَّتُهَا الْبُشْرَى هَذَا الْوَقْتُ وَقْتُكِ، وَلَوْ كُنْتَ مِمَّنْ يُخَاطَبُ لَخُوطِبْتَ الْآنَ وَلَأُمِرْتَ بِالْحُضُورِ. وَاعْلَمْ أَنَّ سَبَبَ الْبِشَارَةِ هُوَ أَنَّهُمْ وَجَدُوا غُلَامًا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَقَالُوا: نَبِيعُهُ بِثَمَنٍ عَظِيمٍ وَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِحُصُولِ الْغِنَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ أَنَّ الَّذِي نَادَى صَاحِبَهُ وَكَانَ اسْمَهُ، فَقَالَ يَا بُشْرَى كَمَا تَقُولُ يَا زَيْدُ. وَعَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَالَ: دَعَا امْرَأَةً اسْمُهَا بُشْرَى يَا بُشْرى قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: إِنْ جَعَلْنَا الْبُشْرَى اسْمًا لِلْبِشَارَةِ، وَهُوَ الْوَجْهُ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ كَمَا قِيلَ: يَا رَجُلُ لِاخْتِصَاصِهِ بِالنِّدَاءِ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ: أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ النِّدَاءَ شَائِعًا فِي جِنْسِ الْبُشْرَى، وَلَمْ يَخُصَّ كما تقول: يا رجلا ويا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ [يس: 30] . وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي وَأَسَرُّوهُ إِلَى مَنْ يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْوَارِدِ وَأَصْحَابُهُ أَخْفَوْا مِنَ الرُّفْقَةِ أَنَّهُمْ وَجَدُوهُ فِي الْجُبِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ قُلْنَا لِلسَّيَّارَةِ الْتَقَطْنَاهُ شَارَكُونَا فِيهِ، وَإِنْ قُلْنَا اشْتَرَيْنَاهُ: سَأَلُونَا الشَّرِكَةَ، فَالْأَصْوَبُ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ أَهْلَ الْمَاءِ جَعَلُوهُ بِضَاعَةً عِنْدَنَا عَلَى أَنْ نَبِيعَهُ لَهُمْ بِمِصْرَ. وَالثَّانِي: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: وَأَسَرُّوهُ يَعْنِي: إِخْوَةُ يُوسُفَ أَسَرُّوا شَأْنَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أَخْفَوْا كَوْنَهُ أَخًا لَهُمْ، بَلْ قَالُوا: إِنَّهُ عَبْدٌ لَنَا أَبَقَ مِنَّا وَتَابَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ يُوسُفُ لِأَنَّهُمْ تَوَعَّدُوهُ بِالْقَتْلِ بِلِسَانِ الْعِبْرَانِيَّةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَسَرُّوهُ حَالَ مَا حَكَمُوا بِأَنَّهُ بِضَاعَةٌ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْوَارِدِ لَا بِإِخْوَةِ يُوسُفَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْبِضَاعَةُ الْقِطْعَةُ مِنَ الْمَالِ تُجْعَلُ لِلتِّجَارَةِ مِنْ بَضَعْتُ اللَّحْمَ إِذَا قَطَعْتُهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَبِضَاعَةٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْحَالِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَسَرُّوهُ حَالَ مَا جَعَلُوهُ بِضَاعَةً. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَأَى الْكَوَاكِبَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فِي النَّوْمِ سَجَدَتْ لَهُ وَذَكَرَ ذَلِكَ حَسَدَهُ إِخْوَتُهُ عَلَيْهِ وَاحْتَالُوا فِي إِبْطَالِ ذَلِكَ الْأَمْرِ عَلَيْهِ فَأَوْقَعُوهُ فِي الْبَلَاءِ الشَّدِيدِ حَتَّى لَا يَتَيَسَّرَ لَهُ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ وُقُوعَهُ فِي ذَلِكَ الْبَلَاءِ سَبَبًا إِلَى وُصُولِهِ إِلَى مِصْرَ، ثُمَّ تَمَادَتْ وَقَائِعُهُ وَتَتَابَعَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ صَارَ مَلِكَ مِصْرَ وَحَصَلَ ذَلِكَ الَّذِي رَآهُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ الْعَمَلُ الَّذِي عَمِلَهُ الْأَعْدَاءُ فِي دَفْعِهِ عَنْ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ صَيَّرَهُ/ اللَّه تَعَالَى سَبَبًا لِحُصُولِ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ أَمَّا قَوْلُهُ: وَشَرَوْهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنَ الشِّرَاءِ هُوَ الْبَيْعُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي ذَلِكَ الْبَائِعِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: إِنَّ إِخْوَةُ يُوسُفَ لَمَّا طَرَحُوا يُوسُفَ فِي الْجُبِّ وَرَجَعُوا عَادُوا بَعْدَ ثَلَاثٍ يَتَعَرَّفُونَ خَبَرَهُ، فَلَمَّا لَمْ يَرَوْهُ فِي الْجُبِّ وَرَأَوْا آثَارَ السَّيَّارَةِ طَلَبُوهُمْ فَلَمَّا رَأَوْا يُوسُفَ قَالُوا: هَذَا عَبْدُنَا أَبَقَ مِنَّا فَقَالُوا لَهُمْ: فَبِيعُوهُ مِنَّا فَبَاعُوهُ مِنْهُمْ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَشَرَوْهُ أَيْ بَاعُوهُ يُقَالُ: شَرَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا بِعْتَهُ، وَإِنَّمَا وَجَبَ حَمْلُ هَذَا الشِّرَاءِ عَلَى الْبَيْعِ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَشَرَوْهُ وَفِي قَوْلِهِ: وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ عَائِدٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَكِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ عَائِدٌ إِلَى الْإِخْوَةِ فَكَذَا فِي

[سورة يوسف (12) : آية 21]

قَوْلِهِ: وَشَرَوْهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْإِخْوَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُمْ بَاعُوهُ فَوَجَبَ حَمْلُ هَذَا الشِّرَاءِ عَلَى الْبَيْعِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ بَائِعَ يُوسُفَ هُمُ الَّذِينَ اسْتَخْرَجُوهُ مِنَ الْبِئْرِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: رَبُّكَ أَعْلَمُ أإخوته باعوه أم السيارة، وهاهنا قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنَ الشِّرَاءِ نَفْسُ الشِّرَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقَوْمَ اشْتَرَوْهُ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ، لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا بِقَرَائِنِ الْحَالِ أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ كَذَّابُونَ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّهُ عَبْدُنَا وَرُبَّمَا عَرَفُوا أَيْضًا أَنَّهُ وَلَدُ يَعْقُوبَ فَكَرِهُوا شِرَاءَهُ خَوْفًا مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَمِنْ ظُهُورِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ اشْتَرَوْهُ بِالْآخِرَةِ لِأَنَّهُمُ اشْتَرَوْهُ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ مَعَ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَوْنَهُمْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ، وَغَرَضُهُمْ أَنْ يَتَوَصَّلُوا بِذَلِكَ إِلَى تَقْلِيلِ الثَّمَنِ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْإِخْوَةَ لَمَّا قَالُوا: إِنَّهُ عَبْدُنَا أَبَقَ صَارَ الْمُشْتَرِي عَدِيمَ الرَّغْبَةِ فِيهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَكَانُوا يَقُولُونَ اسْتَوْثِقُوا مِنْهُ لِئَلَّا يَأْبَقَ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ ذَلِكَ الثَّمَنَ بِصِفَاتٍ ثَلَاثٍ. الصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُ بَخْسًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ حَرَامًا لِأَنَّ ثَمَنَ الْحُرِّ حَرَامٌ، وَقَالَ كُلُّ بَخْسٍ فِي كِتَابِ اللَّه نُقْصَانٌ إِلَّا هَذَا فَإِنَّهُ حَرَامٌ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ سَمَّوُا الْحَرَامَ بَخْسًا لِأَنَّهُ نَاقِصُ الْبَرَكَةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: بَخْسٌ ظُلْمٌ وَالظُّلْمُ نُقْصَانٌ يُقَالُ ظَلَمَهُ أَيْ نَقَصَهُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ قَلِيلٌ وَقِيلَ: نَاقِصٌ عَنِ الْقِيمَةِ نُقْصَانًا ظَاهِرًا، وَقِيلَ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ زُيُوفًا نَاقِصَةَ الْعِيَارِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: وَعَلَى الْأَقْوَالِ كُلِّهَا، فَالْبَخْسُ مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الِاسْمِ، وَالْمَعْنَى بِثَمَنٍ مَبْخُوسٍ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ قِيلَ تُعَدُّ عَدًّا وَلَا تُوزَنُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَزِنُونَ إِلَّا إِذَا بَلَغَ أُوقِيَّةً، وَهِيَ الْأَرْبَعُونَ وَيَعُدُّونَ مَا دُونَهَا فَقِيلَ لِلْقَلِيلِ مَعْدُودٌ، لِأَنَّ الْكَثِيرَةَ يَمْتَنِعُ مِنْ عَدِّهَا/ لِكَثْرَتِهَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَتْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَنِ السُّدِّيِّ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا. قَالُوا وَالْإِخْوَةُ كَانُوا أَحَدَ عَشَرَ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَخَذَ دِرْهَمَيْنِ إِلَّا يَهُوذَا لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ وَمَعْنَى الزُّهْدِ قِلَّةُ الرَّغْبَةِ يُقَالُ زَهِدَ فُلَانٌ فِي كَذَا إِذَا لَمْ يَرْغَبْ فِيهِ وَأَصْلُهُ الْقِلَّةُ. يُقَالُ: رَجُلٌ زَهِيدٌ إِذَا كَانَ قَلِيلَ الطَّمَعِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ بَاعُوهُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّ السَّيَّارَةَ الَّذِينَ بَاعُوهُ كَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ، لِأَنَّهُمُ الْتَقَطُوهُ وَالْمُلْتَقِطُ لِلشَّيْءِ مُتَهَاوِنٌ بِهِ لَا يُبَالِي بِأَيِّ شَيْءٍ يَبِيعُهُ أَوْ لِأَنَّهُمْ خَافُوا أَنْ يَظْهَرَ الْمُسْتَحِقُّ فَيَنْزِعُهُ مَنْ يَدِهِمْ، فَلَا جَرَمَ بَاعُوهُ بِأَوْكَسِ الْأَثْمَانِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْهُ كَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ، وَقَدْ سَبَقَ تَوْجِيهُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فِيهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عائد إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عائدا إلى الثمن البخس واللَّه أعلم. [سورة يوسف (12) : آية 21] وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ الَّذِي اشْتَرَاهُ إِمَّا مِنَ الْإِخْوَةِ أَوْ مِنَ الْوَارِدِينَ عَلَى الْمَاءِ ذَهَبَ بِهِ إِلَى مِصْرَ وَبَاعَهُ هُنَاكَ. وَقِيلَ إِنَّ الَّذِي اشْتَرَاهُ قِطْفِيرُ أَوْ إِطْفِيرُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي كَانَ يَلِي خَزَائِنَ مِصْرَ وَالْمَلِكُ يَوْمَئِذٍ الرَّيَّانُ بْنُ الْوَلِيدِ رَجُلٌ مِنَ الْعَمَالِيقِ، وَقَدْ آمَنَ بِيُوسُفَ وَمَاتَ فِي حَيَاةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمَلَكَ بَعْدَهُ قَابُوسُ بْنُ مُصْعَبٍ فَدَعَاهُ يُوسُفُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَبَى وَاشْتَرَاهُ الْعَزِيزُ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَقَامَ فِي مَنْزِلِهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَاسْتَوْزَرَهُ رَيَّانُ بْنُ الْوَلِيدِ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً وَآتَاهُ اللَّه الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقِيلَ كَانَ الْمَلِكُ فِي أَيَّامِهِ فِرْعَوْنَ مُوسَى عَاشَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ [غَافِرٍ: 34] وَقِيلَ فِرْعَوْنُ مُوسَى مِنْ أَوْلَادِ فِرْعَوْنِ يُوسُفَ، وَقِيلَ اشْتَرَاهُ/ الْعَزِيزُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا، وَقِيلَ أَدْخَلُوهُ السُّوقَ يَعْرِضُونَهُ فَتَرَافَعُوا فِي ثَمَنِهِ حَتَّى بَلَغَ ثَمَنُهُ مَا يُسَاوِيهِ فِي الْوَزْنِ مِنَ الْمِسْكِ وَالْوَرِقِ وَالْحَرِيرِ فَابْتَاعَهُ قِطْفِيرُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ. وَقَالُوا: اسْمُ تِلْكَ الْمَرْأَةِ زَلِيخَا، وَقِيلَ رَاعِيلُ. وَاعْلَمْ أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَيْضًا فِي خَبَرٍ صَحِيحٍ وَتَفْسِيرُ كِتَابِ اللَّه تَعَالَى لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، فَالْأَلْيَقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ ذِكْرِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثانية: قوله: أَكْرِمِي مَثْواهُ [إلى آخر الآية] أَيْ مَنْزِلَهُ وَمَقَامَهُ عِنْدَكِ مِنْ قَوْلِكَ ثَوَيْتُ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَمْتَ بِهِ، وَمَصْدَرُهُ الثَّوَاءُ وَالْمَعْنَى: اجْعَلِي مَنْزِلَهُ عِنْدَكِ كَرِيمًا حَسَنًا مَرْضِيًّا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ [يُوسُفَ: 23] وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: أَمَرَ الْعَزِيزُ امْرَأَتَهُ بِإِكْرَامِ مَثْوَاهُ دُونَ إِكْرَامِ نَفْسِهِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: سَلَامُ اللَّه عَلَى الْمَجْلِسِ الْعَالِي، وَلَمَّا أَمَرَهَا بِإِكْرَامِ مَثْوَاهُ عَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أَيْ يَقُومُ بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِنَا، أَوْ نَتَّخِذُهُ وَلَدًا، لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُولَدُ لَهُ وَلَدٌ، وَكَانَ حَصُورًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أَيْ كَمَا أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْجُبِّ مَكَّنَّاهُ بِأَنْ عَطَّفْنَا عَلَيْهِ قَلْبَ الْعَزِيزِ، حَتَّى تَوَصَّلَ بِذَلِكَ إِلَى أَنْ صَارَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي أَرْضِ مِصْرَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَمَالَاتِ الْحَقِيقِيَّةَ لَيْسَتْ إِلَّا الْقُدْرَةَ وَالْعِلْمَ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا حَاوَلَ إِعْلَاءَ شَأْنِ يُوسُفَ ذَكَرَهُ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، أَمَّا تَكْمِيلُهُ فِي صِفَةِ الْقُدْرَةِ وَالْمُكْنَةِ فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَأَمَّا تَكْمِيلُهُ فِي صِفَةِ الْعِلْمِ، فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أُلْقِيَ فِي الْجُبِّ قَالَ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا [يُوسُفَ: 15] وَذَلِكَ يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَعِنْدَنَا الْإِرْهَاصُ جَائِزٌ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ الْوَحْيَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا كَانَ لِأَجْلِ بِعْثَتِهِ إِلَى الْخَلْقِ، بَلْ لِأَجْلِ تَقْوِيَةِ قَلْبِهِ وَإِزَالَةِ الْحُزْنِ عَنْ صَدْرِهِ وَلِأَجْلِ أَنْ يَسْتَأْنِسَ بِحُضُورِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ إنه تعالى قال هاهنا وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ إِرْسَالُهُ إِلَى الْخَلْقِ بِتَبْلِيغِ التَّكَالِيفِ، وَدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ الْوَحْيَ الْأَوَّلَ كَانَ لِأَجْلِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ بِزِيَادَاتٍ وَدَرَجَاتٍ يَصِيرُ بِهَا كُلَّ يَوْمٍ أَعْلَى حَالًا مِمَّا كَانَ قَبْلَهُ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَشَدُّ النَّاسِ فِرَاسَةً ثَلَاثَةٌ: الْعَزِيزُ حِينَ تَفَرَّسَ فِي يُوسُفَ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا، وَالْمَرْأَةُ لما رأت موسى، فقالت: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ [الْقَصَصِ: 26] / وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ اسْتَخْلَفَ عُمَرَ.

[سورة يوسف (12) : آية 22]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: غَالِبٌ عَلَى أَمْرِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ لَا دَافِعَ لِقَضَائِهِ وَلَا مَانِعَ عَنْ حُكْمِهِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ، وَالثَّانِي: واللَّه غَالِبٌ عَلَى أَمْرِ يُوسُفَ، يَعْنِي أَنَّ انْتِظَامَ أُمُورِهِ كَانَ إِلَهِيًّا، وَمَا كَانَ بِسَعْيِهِ وَإِخْوَتُهُ أَرَادُوا بِهِ كُلَّ سُوءٍ وَمَكْرُوهٍ واللَّه أَرَادَ بِهِ الْخَيْرَ، فَكَانَ كَمَا أَرَادَ اللَّه تَعَالَى وَدَبَّرَ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللَّه. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ تَأَمَّلَ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَعَجَائِبِ أَحْوَالِهَا عَرَفَ وَتَيَقَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ للَّه، وأن قضاء اللَّه غالب. [سورة يوسف (12) : آية 22] وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَجْهُ النَّظْمِ أَنْ يُقَالَ: بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ إخوته لما أساؤا إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ صَبَرَ عَلَى تِلْكَ الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ مَكَّنَهُ اللَّه تَعَالَى فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَاهُ اللَّه الْحُكْمَ وَالْعِلْمَ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ جَمِيعَ مَا فَازَ بِهِ مِنَ النِّعَمِ كَانَ كَالْجَزَاءِ عَلَى صَبْرِهِ عَلَى تِلْكَ الْمِحَنِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ النُّبُوَّةَ جَزَاءٌ عَلَى الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَنِ اجْتَهَدَ وَصَبَرَ عَلَى بَلَاءِ اللَّه تَعَالَى وَشَكَرَ نَعْمَاءَ اللَّه تَعَالَى وَجَدَ مَنْصِبَ الرِّسَالَةِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ: بِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ صَبْرَ يُوسُفَ عَلَى تِلْكَ الْمِحَنِ ذَكَرَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَتَى بِالطَّاعَاتِ الْحَسَنَةِ الَّتِي أَتَى بِهَا يُوسُفُ، فَإِنَّ اللَّه يُعْطِيهِ تِلْكَ الْمَنَاصِبَ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ النُّبُوَّةَ غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ يُوسُفَ مَا كَانَ رَسُولًا وَلَا نَبِيًّا الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا كَانَ عَبْدًا أَطَاعَ اللَّه تَعَالَى فَأَحْسَنَ اللَّه إِلَيْهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُ كَانَ نَبِيًّا مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي قَالَ اللَّه تَعَالَى فِي حَقِّهِ: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا [يُوسُفَ: 15] وَمَا كَانَ رَسُولًا، ثُمَّ إِنَّهُ صَارَ رَسُولًا مِنْ هَذَا الْوَقْتِ أَعْنِي قَوْلَهُ: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً [يوسف: 22] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ رَسُولًا مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي أُلْقِيَ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ تَقُولُ الْعَرَبُ بَلَغَ فُلَانٌ أَشُدَّهُ إِذَا انْتَهَى مُنْتَهَاهُ فِي شَبَابِهِ وَقُوَّتِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي النُّقْصَانِ وَهَذَا اللَّفْظُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ يُقَالُ بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغُوا أَشُدَّهُمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ الْأَشُدِّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام: 152] وَأَمَّا التَّفْسِيرُ فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ قَالَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَأَقُولُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ شَدِيدَةُ/ الِانْطِبَاقِ عَلَى الْقَوَانِينِ الطِّبِّيَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَطِبَّاءَ قَالُوا إِنَّ الْإِنْسَانَ يَحْدُثُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَيَتَزَايَدُ كُلَّ يَوْمٍ شَيْئًا فَشَيْئًا إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى غَايَةِ الْكَمَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي التَّرَاجُعِ وَالِانْتِقَاصِ إِلَى أَنْ لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ، فَكَانَتْ حَالَتُهُ شَبِيهَةً بِحَالِ الْقَمَرِ، فَإِنَّهُ يَظْهَرُ هِلَالًا ضَعِيفًا ثُمَّ لَا يَزَالُ يَزْدَادُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ بَدْرًا تَامًّا، ثُمَّ يَتَرَاجَعُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْعَدَمِ وَالْمُحَاقِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مُدَّةُ دَوْرِ الْقَمَرِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَكَسْرٌ فَإِذَا جُعِلَتْ هَذِهِ الدَّوْرَةُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ، كَانَ كُلُّ قِسْمٍ مِنْهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ، فَلَا جَرَمَ رَتَّبُوا أَحْوَالَ الْأَبْدَانِ عَلَى الْأَسَابِيعِ فَالْإِنْسَانُ إِذَا وُلِدَ كَانَ ضَعِيفَ الْخِلْقَةِ نَحِيفَ التَّرْكِيبِ إِلَى أَنْ يَتِمَّ لَهُ سَبْعُ سِنِينَ، ثُمَّ إِذَا دَخَلَ فِي السَّبْعَةِ الثَّانِيَةِ حَصَلَ فِيهِ آثَارُ الْفَهْمِ وَالذَّكَاءِ وَالْقُوَّةِ ثُمَّ لَا يَزَالُ فِي التَّرَقِّي إِلَى أَنْ يَتِمَّ لَهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً. فَإِذَا دَخَلَ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ دَخَلَ فِي الْأُسْبُوعِ الثَّالِثِ. وَهُنَاكَ يَكْمُلُ الْعَقْلُ وَيَبْلُغُ إِلَى حَدِّ التَّكْلِيفِ وَتَتَحَرَّكُ فِيهِ الشَّهْوَةُ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَرْتَقِي عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ إِلَى أَنْ يُتِمَّ

[سورة يوسف (12) : آية 23]

السَّنَةَ الْحَادِيَةَ وَالْعِشْرِينَ، وَهُنَاكَ يَتِمُّ الْأُسْبُوعُ الثَّالِثُ وَيَدْخُلُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ، وَهَذَا الْأُسْبُوعُ آخِرُ أَسَابِيعِ النُّشُوءِ وَالنَّمَاءِ، فَإِذَا تَمَّتِ السَّنَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ فَقَدْ تَمَّتْ مُدَّةُ النُّشُوءِ وَالنَّمَاءِ، وَيَنْتَقِلُ الْإِنْسَانُ مِنْهُ إِلَى زَمَانِ الْوُقُوفِ وَهُوَ الزَّمَانُ الَّذِي يَبْلُغُ الْإِنْسَانُ فِيهِ أَشُدَّهُ، وَبِتَمَامِ هذا الأسبوع الخامس يحصل للإنسان خمس وَثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ مُخْتَلِفَةٌ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَهَذَا الْأُسْبُوعُ الْخَامِسُ الَّذِي هو أسبوع الشدة والكمال يبتدأ مِنَ السَّنَةِ التَّاسِعَةِ وَالْعِشْرِينَ إِلَى الثَّالِثَةِ وَالثَّلَاثِينَ، وَقَدْ يَمْتَدُّ إِلَى الْخَامِسَةِ وَالثَّلَاثِينَ، فَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الْمَعْقُولُ فِي هَذَا الْبَابِ، واللَّه أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْحُكْمِ وَالْعِلْمِ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُكْمَ وَالْحِكْمَةَ أَصْلُهُمَا حَبْسُ النَّفْسِ عَنْ هَوَاهَا، وَمَنْعُهَا مِمَّا يَشِينُهَا، فَالْمُرَادُ مِنَ الْحُكْمِ الْحِكْمَةُ الْعَمَلِيَّةُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْعِلْمِ الْحِكْمَةُ النَّظَرِيَّةُ. وَإِنَّمَا قَدَّمَ الحكمة العملية هنا على العملية، لِأَنَّ أَصْحَابَ الرِّيَاضَاتِ يَشْتَغِلُونَ بِالْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ ثُمَّ يَتَرَقَّوْنَ مِنْهَا إِلَى الْحِكْمَةِ النَّظَرِيَّةِ. وَأَمَّا أَصْحَابُ الْأَفْكَارِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْأَنْظَارِ الرُّوحَانِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يَصِلُونَ إِلَى الْحِكْمَةِ النَّظَرِيَّةِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَنْزِلُونَ مِنْهَا إِلَى الحكمة العملية، وطريقة يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ صَبَرَ عَلَى الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ فَفَتَحَ اللَّه عَلَيْهِ أَبْوَابَ الْمُكَاشَفَاتِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً. الْقَوْلُ الثَّانِي: الْحُكْمُ هُوَ النُّبُوَّةُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ يَكُونُ حَاكِمًا عَلَى الْخَلْقِ، وَالْعِلْمُ عِلْمُ الدِّينِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحُكْمِ صَيْرُورَةَ نَفْسِهِ الْمُطْمَئِنَّةِ حَاكِمَةً عَلَى نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ مُسْتَعْلِيَةً عَلَيْهَا قَاهِرَةً لَهَا وَمَتَى صَارَتِ الْقُوَّةُ الشَّهْوَانِيَّةُ وَالْغَضَبِيَّةُ مَقْهُورَةً ضَعِيفَةً فَاضَتِ الْأَنْوَارُ الْقُدُسِيَّةُ وَالْأَضْوَاءُ الْإِلَهِيَّةُ مِنْ عَالَمِ الْقُدُسِ عَلَى جَوْهَرِ النَّفْسِ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ جَوْهَرَ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ خُلِقَتْ قَابِلَةً لِلْمَعَارِفِ الْكُلِّيَّةِ وَالْأَنْوَارِ الْعَقْلِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا بِحَسَبِ الْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَبِحَسَبِ الْمُكَاشَفَاتِ الْعُلْوِيَّةِ أَنَّ جَوَاهِرَ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ مُخْتَلِفَةٌ بِالْمَاهِيَّاتِ فَمِنْهَا ذَكِيَّةٌ وَبَلِيدَةٌ وَمِنْهَا حُرَّةٌ وَنَذْلَةٌ وَمِنْهَا شَرِيفَةٌ وَخَسِيسَةٌ، وَمِنْهَا عَظِيمَةُ الْمَيْلِ إِلَى عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ وَعَظِيمَةُ الرَّغْبَةِ فِي الْجُسْمَانِيَّاتِ فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ كَثِيرَةٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ قَابِلٌ لِلْأَشَدِّ وَالْأَضْعَفِ وَالْأَكْمَلِ وَالْأَنْقَصِ فَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ كَانَ جَوْهَرُ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ جَوْهَرًا مُشْرِقًا شَرِيفًا شَدِيدَ الِاسْتِعْدَادِ لِقَبُولِ الْأَضْوَاءِ الْعَقْلِيَّةِ وَاللَّوَائِحِ الْإِلَهِيَّةِ، فَهَذِهِ النَّفْسُ فِي حَالِ الصِّغَرِ لَا يَظْهَرُ مِنْهَا هَذِهِ الْأَحْوَالُ، لِأَنَّ النَّفْسَ النَّاطِقَةَ إِنَّمَا تَقْوَى عَلَى أَفْعَالِهَا بِوَاسِطَةِ اسْتِعْمَالِ الْآلَاتِ الْجَسَدَانِيَّةِ وَهَذِهِ الْآلَاتُ فِي حَالِ الصِّغَرِ تَكُونُ الرُّطُوبَاتُ مُسْتَوْلِيَةً عَلَيْهَا، فَإِذَا كَبِرَ الْإِنْسَانُ وَاسْتَوْلَتِ الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ عَلَى الْبَدَنِ نَضِجَتْ تِلْكَ الرُّطُوبَاتُ وَقَلَّتْ وَاعْتَدَلَتْ، فَصَارَتْ تِلْكَ الْآلَاتُ الْبَدَنِيَّةُ صَالِحَةً لِأَنْ تَسْتَعْمِلَهَا النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ وَإِذَا كَانَتِ النَّفْسُ فِي أَصْلِ جَوْهَرِهَا شَرِيفَةً فَعِنْدَ كَمَالِ الْآلَاتِ الْبَدَنِيَّةِ تَكْمُلُ مَعَارِفُهَا وَتَقْوَى أَنْوَارُهَا وَيَعْظُمُ لَمَعَانُ الْأَضْوَاءِ فِيهَا، فَقَوْلُهُ: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى اعْتِدَالِ الْآلَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِكْمَالِ النَّفْسِ فِي قُوَّتِهَا الْعَمَلِيَّةِ والنظرية، واللَّه أعلم. [سورة يوسف (12) : آية 23] وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)

اعْلَمْ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي غَايَةِ الْجَمَالِ وَالْحُسْنِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ طَمِعَتْ فِيهِ وَيُقَالُ أَيْضًا إِنَّ زَوْجَهَا كَانَ عَاجِزًا يُقَالُ: رَاوَدَ فُلَانٌ جَارِيَتَهُ عَنْ نَفْسِهَا وَرَاوَدَتْهُ هِيَ عَنْ نَفْسِهِ إِذَا حَاوَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْوَطْءَ وَالْجِمَاعَ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَالسَّبَبُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ لَا يُؤْتَى بِهِ إِلَّا فِي الْمَوَاضِعِ الْمَسْتُورَةِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ حَرَامًا، وَمَعَ قِيَامِ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ وَقَوْلُهُ: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ أَيْ أَغْلَقَتْهَا قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ تَشَبَّثَ فِي شَيْءٍ فَلَزِمَهُ قَدْ غَلِقَ يُقَالُ: غَلِقٌ فِي الْبَاطِلِ وَغَلِقٌ فِي غَضَبِهِ، وَمِنْهُ غَلْقُ الرَّهْنِ، ثُمَّ يُعَدَّى بِالْأَلِفِ فَيُقَالُ: أُغْلِقَ الْبَابُ إِذَا جَعَلَهُ بِحَيْثُ يَعْسُرُ فَتْحُهُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَإِنَّمَا جَاءَ غَلَّقَتْ عَلَى التَّكْثِيرِ لِأَنَّهَا غَلَّقَتْ سَبْعَةَ أَبْوَابٍ، ثُمَّ دَعَتْهُ إِلَى نَفْسِهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَيْتَ لَكَ اسْمٌ لِلْفِعْلِ نَحْوَ: رُوَيْدًا، وَصَهْ، وَمَهْ. وَمَعْنَاهُ هَلُمَّ فِي قَوْلِ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هَيْتَ لَكَ مَفْتُوحَةُ الْهَاءِ وَالتَّاءِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا كَسْرُ التَّاءِ وَرَفْعُهَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الْمُنْذِرِيُّ: أَفَادَنِي ابْنُ التَّبْرِيزِيِّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ قَالَ: هيت لك بالعبرانية هيالح، أَيْ تَعَالَ عَرَّبَهُ الْقُرْآنُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهَا لُغَةٌ لَأَهْلِ حَوْرَانَ سَقَطَتْ إِلَى بَكَّةَ فَتَكَلَّمُوا بِهَا. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا وِفَاقٌ بَيْنَ لُغَةِ قُرَيْشٍ وَأَهْلِ حَوْرَانَ كَمَا اتَّفَقَتْ لُغَةُ الْعَرَبِ وَالرُّومِ فِي «الْقِسْطَاسِ» وَلُغَةُ الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ فِي السِّجِّيلِ وَلُغَةُ الْعَرَبِ وَالتُّرْكِ فِي «الْغَسَّاقِ» وَلُغَةُ الْعَرَبِ وَالْحَبَشَةِ فِي «نَاشِئَةَ اللَّيْلِ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ ذَكْوَانَ هِيتَ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَفَتْحِ التَّاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ هَيْتُ لَكَ مِثْلُ حَيْثُ، وَقَرَأَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَامِرٍ هِئْتُ لَكَ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَهَمْزِ الْيَاءِ وَضَمِّ التَّاءِ مِثْلُ جِئْتُ مِنْ تَهَيَّأْتُ لَكَ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ وَفَتْحِ التَّاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا ذَكَرَتْ هَذَا الْكَلَامَ قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ فَقَوْلُهُ: مَعاذَ اللَّهِ أَيْ أَعُوذُ باللَّه مَعَاذًا، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ لِلشَّأْنِ وَالْحَدِيثِ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ أَيْ رَبِّي وَسَيِّدِي وَمَالِكِي أَحْسَنَ مَثْوَايَ حِينَ قَالَ لَكِ: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ، فَلَا يَلِيقُ بِالْعَقْلِ أَنْ أُجَازِيَهُ عَلَى ذَلِكَ الْإِحْسَانِ بِهَذِهِ الْخِيَانَةِ الْقَبِيحَةِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الَّذِينَ يُجَازُونَ الْإِحْسَانَ بِالْإِسَاءَةِ، وَقِيلَ: أَرَادَ الزُّنَاةَ لِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ أَنْفُسَهُمْ أَوْ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ يَقْتَضِي وَضْعَ الشَّيْءِ في غير موضعه، وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ حُرًّا وَمَا كَانَ عَبْدًا لِأَحَدٍ فَقَوْلُهُ: إِنَّهُ رَبِّي يَكُونُ كَذِبًا وَذَلِكَ ذَنْبٌ وَكَبِيرَةٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَجْرَى هَذَا الْكَلَامَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ وَعَلَى وَفْقِ مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ عَبْدًا لَهُ وَأَيْضًا أَنَّهُ رَبَّاهُ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ فَعَنَى بِكَوْنِهِ رَبًّا لَهُ كَوْنَهُ مُرَبِّيًا لَهُ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمَعَارِيضِ الْحَسَنَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ الظَّاهِرِ يَحْمِلُونَهُ عَلَى كَوْنِهِ رَبًّا لَهُ وَهُوَ كَانَ يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ كَانَ مُرَبِّيًا لَهُ وَمُنْعِمًا عَلَيْهِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يَدُلُّ قَوْلُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَعاذَ اللَّهِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا فِي الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً ظَاهِرَةً لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعُوذُ باللَّه مَعَاذًا، طَلَبٌ مِنَ اللَّه أَنْ يُعِيذَهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَتِلْكَ الْإِعَاذَةُ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ إِعْطَاءِ الْقُدْرَةِ وَالْعَقْلِ وَالْآلَةِ، وَإِزَاحَةِ/ الْأَعْذَارِ، وَإِزَالَةِ الْمَوَانِعِ وَفِعْلِ الْأَلْطَافِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ فِي مَقْدُورِ اللَّه تَعَالَى مِنْ هَذَا الْبَابِ فَقَدْ فَعَلَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إِمَّا طَلَبًا لِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، أَوْ طَلَبًا لِتَحْصِيلِ الْمُمْتَنِعِ وَأَنَّهُ مُحَالٌ فَعَلِمْنَا أَنَّ تِلْكَ الْإِعَاذَةَ الَّتِي طَلَبَهَا يُوسُفُ مِنَ اللَّه تَعَالَى لَا مَعْنَى

[سورة يوسف (12) : آية 24]

لَهَا، إِلَّا أَنْ يَخْلُقَ فِيهِ دَاعِيَةً جَازِمَةً فِي جَانِبِ الطَّاعَةِ وَأَنْ يُزِيلَ عَنْ قَلْبِهِ دَاعِيَةَ الْمَعْصِيَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْنَاهُ مَا نُقِلَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى زَيْنَبَ قَالَ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» وَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَقْوِيَةَ دَاعِيَةِ الطَّاعَةِ، وَإِزَالَةَ دَاعِيَةِ الْمَعْصِيَةِ فَكَذَا هاهنا، وَكَذَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ» فَالْمُرَادُ مِنَ الْأُصْبُعَيْنِ دَاعِيَةُ الْفِعْلِ، وَدَاعِيَةُ التَّرْكِ وَهَاتَانِ الدَّاعِيَتَانِ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى، وَإِلَّا لَافْتَقَرَتْ إِلَى دَاعِيَةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَعاذَ اللَّهِ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى قَوْلِنَا واللَّه أَعْلَمُ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: ذَكَرَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْجَوَابِ عَنْ كَلَامِهَا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: مَعاذَ اللَّهِ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُ: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فَمَا وَجْهُ تَعَلُّقِ بَعْضِ هَذَا الْجَوَابِ بِبَعْضٍ؟ وَالْجَوَابُ: هَذَا التَّرْتِيبُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِانْقِيَادَ لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَتَكْلِيفِهِ أَهَمُّ الْأَشْيَاءِ لِكَثْرَةِ إِنْعَامِهِ وَأَلْطَافِهِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَقَوْلُهُ: مَعاذَ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حَقَّ اللَّه تَعَالَى يَمْنَعُ عَنْ هَذَا الْعَمَلِ، وَأَيْضًا حُقُوقُ الْخَلْقِ وَاجِبَةُ الرِّعَايَةِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَدْ أَنْعَمَ فِي حَقِّي يَقْبُحُ مُقَابَلَةُ إِنْعَامِهِ وَإِحْسَانِهِ بِالْإِسَاءَةِ، وَأَيْضًا صَوْنُ النَّفْسِ عَنِ الضَّرَرِ وَاجِبٌ، وَهَذِهِ اللَّذَّةُ لَذَّةٌ قَلِيلَةٌ يَتْبَعُهَا خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا، وَعَذَابٌ شَدِيدٌ فِي الْآخِرَةِ، وَاللَّذَّةُ الْقَلِيلَةُ إِذَا لَزِمَهَا ضَرَرٌ شَدِيدٌ، فَالْعَقْلُ يَقْتَضِي تَرْكَهَا وَالِاحْتِزَازَ عَنْهَا فَقَوْلُهُ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْجَوَابَاتِ الثَّلَاثَةَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِ الترتيب. [سورة يوسف (12) : آية 24] وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ الَّتِي يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِالْبَحْثِ عَنْهَا وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ صَدَرَ عَنْهُ ذَنْبٌ أَمْ لَا؟ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَمَّ بِالْفَاحِشَةِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي كِتَابِ «الْبَسِيطِ» قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمَوْثُوقُ بِعِلْمِهِمُ الْمَرْجُوعُ إِلَى رِوَايَتِهِمْ هَمَّ يُوسُفُ أَيْضًا بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ هَمًّا صَحِيحًا وَجَلَسَ مِنْهَا مَجْلِسَ الرَّجُلِ مِنَ الْمَرْأَةِ، فَلَمَّا رَأَى الْبُرْهَانَ مِنْ رَبِّهِ زَالَتْ كُلُّ شَهْوَةٍ عَنْهُ. قَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: طَمِعَتْ فِيهِ وَطَمِعَ فِيهَا فَكَانَ طَمَعُهُ فِيهَا أَنَّهُ هَمَّ أَنْ يَحِلَّ التِّكَّةَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: حَلَّ الْهِمْيَانَ وَجَلَسَ مِنْهَا مَجْلِسَ الْخَائِنِ وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهَا اسْتَلْقَتْ لَهُ وَجَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا يَنْزِعُ ثِيَابَهُ، ثُمَّ إِنَّ الْوَاحِدِيَّ طَوَّلَ فِي كَلِمَاتٍ عَدِيمَةِ الْفَائِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَمَا ذَكَرَ آيَةً يَحْتَجُّ بِهَا وَلَا حَدِيثًا صَحِيحًا يُعَوِّلُ عَلَيْهِ فِي تَصْحِيحِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَمَا أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الْعَارِيَةِ عَنِ الْفَائِدَةِ رُوِيَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يُوسُفَ: 52] قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا حِينَ هَمَمْتَ يَا يُوسُفُ فَقَالَ يُوسُفُ عِنْدَ ذَلِكَ: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي [يُوسُفَ: 53] ثُمَّ قَالَ وَالَّذِينَ أَثْبَتُوا هَذَا الْعَمَلَ لِيُوسُفَ كَانُوا أَعْرَفَ بِحُقُوقِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَارْتِفَاعِ مَنَازِلِهِمْ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى مِنَ الَّذِينَ نَفَوُا الْهَمَّ عَنْهُ، فَهَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْبَابِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَرِيئًا عَنِ الْعَمَلِ الْبَاطِلِ، وَالْهَمِّ الْمُحَرَّمِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَبِهِ نَقُولُ وَعَنْهُ نَذُبُّ. وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى وُجُوبِ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَثِيرَةٌ، وَلَقَدِ اسْتَقْصَيْنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قِصَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا نُعِيدُهَا إِلَّا أَنَّا نَزِيدُ هاهنا وُجُوهًا: فَالْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الزِّنَا مِنْ مُنْكَرَاتِ الْكَبَائِرِ وَالْخِيَانَةَ فِي مَعْرِضِ الْأَمَانَةِ أَيْضًا مِنْ مُنْكَرَاتِ الذُّنُوبِ، وَأَيْضًا مُقَابَلَةُ الْإِحْسَانِ الْعَظِيمِ بِالْإِسَاءَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْفَضِيحَةِ التَّامَّةِ وَالْعَارِ الشَّدِيدِ أَيْضًا مِنْ مُنْكَرَاتِ الذُّنُوبِ، وَأَيْضًا الصَّبِيُّ إِذَا تَرَبَّى فِي حجر إنسان وبقي مكفي المؤنة مصون الغرض مِنْ أَوَّلِ صِبَاهُ إِلَى زَمَانِ شَبَابِهِ وَكَمَالِ قُوَّتِهِ فَإِقْدَامُ هَذَا الصَّبِيِّ عَلَى إِيصَالِ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْإِسَاءَةِ إِلَى ذَلِكَ الْمُنْعِمِ الْمُعَظَّمِ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَعْمَالِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْمَعْصِيَةَ الَّتِي نَسَبُوهَا إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِجَمِيعِ هَذِهِ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ لَوْ نُسِبَتْ إِلَى أَفْسَقِ خَلْقِ اللَّه تَعَالَى وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ لَاسْتُنْكِفَ مِنْهُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ إِسْنَادُهَا إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ! الْمُؤَيَّدُ بِالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ الْبَاهِرَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الواقعة: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ [يوسف: 24] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَاهِيَّةَ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ مَصْرُوفَةٌ عَنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ الَّتِي نسبوها إليه أعظم أنواع/ وَأَفْحَشُ أَقْسَامِ الْفَحْشَاءِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَشْهَدَ فِي عَيْنِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ بِكَوْنِهِ بَرِيئًا مِنَ السُّوءِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَتَى بِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ. وَأَيْضًا فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ هَبْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهَا تُفِيدُ الْمَدْحَ الْعَظِيمَ وَالثَّنَاءَ الْبَالِغَ، فَلَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَحْكِيَ عَنْ إِنْسَانٍ إِقْدَامَهُ عَلَى مَعْصِيَةٍ عَظِيمَةٍ ثُمَّ إِنَّهُ يَمْدَحُهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِأَعْظَمِ الْمَدَائِحِ وَالْأَثْنِيَةِ عَقِيبَ أَنْ حَكَى عَنْهُ ذَلِكَ الذَّنْبَ الْعَظِيمَ، فَإِنَّ مِثَالَهُ مَا إِذَا حَكَى السُّلْطَانُ عَنْ بَعْضِ عَبِيدِهِ أَقْبَحَ الذُّنُوبِ وَأَفْحَشَ الْأَعْمَالِ ثُمَّ إِنَّهُ يَذْكُرُهُ بِالْمَدْحِ الْعَظِيمِ وَالثَّنَاءِ الْبَالِغِ عَقِيبَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُسْتَنْكَرُ جِدًّا فَكَذَا هاهنا واللَّه أَعْلَمُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَتَى صَدَرَتْ مِنْهُمْ زَلَّةٌ، أَوْ هَفْوَةٌ اسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ وَأَتْبَعُوهَا بِإِظْهَارِ النَّدَامَةِ وَالتَّوْبَةِ وَالتَّوَاضُعِ، وَلَوْ كان يوسف عليه السلام أقدم هاهنا عَلَى هَذِهِ الْكَبِيرَةِ الْمُنْكَرَةِ لَكَانَ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ لَا يُتْبِعَهَا بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَلَوْ أَتَى بِالتَّوْبَةِ لَحَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُ إِتْيَانَهُ بِهَا كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ وَحَيْثُ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا صَدَرَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ ذَنْبٌ وَلَا مَعْصِيَةٌ. الرَّابِعُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ فَقَدْ شَهِدَ بِبَرَاءَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ لَهُمْ تَعَلُّقٌ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتِلْكَ الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا، وَالنِّسْوَةُ وَالشُّهُودُ وَرَبُّ الْعَالَمِينَ شَهِدَ بِبَرَاءَتِهِ عَنِ الذَّنْبِ، وَإِبْلِيسُ أَقَرَّ بِبَرَاءَتِهِ أَيْضًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ لِلْمُسْلِمِ تَوَقَّفٌ فِي هَذَا الْبَابِ. أَمَّا بَيَانُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ادَّعَى الْبَرَاءَةَ عَنِ الذَّنْبِ فَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي [يوسف: 26] وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُفَ: 33] وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْمَرْأَةَ اعْتَرَفَتْ بِذَلِكَ فَلِأَنَّهَا قَالَتْ لِلنِّسْوَةِ: وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ [يُوسُفَ: 32] وَأَيْضًا قَالَتْ: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [يُوسُفَ: 51] وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ أَقَرَّ بِذَلِكَ، فَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا

وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يُوسُفَ: 28، 29] وَأَمَّا الشُّهُودُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ [يُوسُفَ: 26] وَأَمَّا شَهَادَةُ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ فَقَوْلُهُ: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: 24] فَقَدْ شَهِدَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى طَهَارَتِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَاللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَالْفَحْشاءَ أَيْ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الْفُرْقَانِ: 63] وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ: الْمُخْلَصِينَ وَفِيهِ قِرَاءَتَانِ: تَارَةً بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَأُخْرَى بِاسْمِ/ الْمَفْعُولِ فَوُرُودُهُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ آتِيًا بِالطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ مَعَ صِفَةِ الْإِخْلَاصِ. وَوُرُودُهُ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى اسْتَخْلَصَهُ لِنَفْسِهِ وَاصْطَفَاهُ لِحَضْرَتِهِ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّهُ مِنْ أَدَلِّ الْأَلْفَاظِ عَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَمَّا أَضَافُوهُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ إِبْلِيسَ أَقَرَّ بِطَهَارَتِهِ، فَلِأَنَّهُ قَالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82، 83] فَأَقَرَّ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إِغْوَاءَ الْمُخْلَصِينَ وَيُوسُفُ مِنَ الْمُخْلَصِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ فَكَانَ هَذَا إِقْرَارًا مِنْ إِبْلِيسَ بِأَنَّهُ مَا أَغْوَاهُ وَمَا أَضَلَّهُ عَنْ طَرِيقَةِ الْهُدَى، وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ الَّذِينَ نَسَبُوا إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الْفَضِيحَةَ إِنْ كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِ دِينِ اللَّه تَعَالَى فَلْيَقْبَلُوا شَهَادَةَ اللَّه تَعَالَى عَلَى طَهَارَتِهِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ فَلْيَقْبَلُوا شَهَادَةَ إِبْلِيسَ عَلَى طَهَارَتِهِ وَلَعَلَّهُمْ يَقُولُونَ كُنَّا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ تَلَامِذَةَ إِبْلِيسَ إِلَى أَنْ تَخَرَّجْنَا عَلَيْهِ فَزِدْنَا عَلَيْهِ فِي السَّفَاهَةِ كَمَا قَالَ الْخَوَارِزْمِيُّ: وَكُنْتُ امْرَأً مِنْ جُنْدِ إِبْلِيسَ فَارْتَقَى ... بِيَ الدَّهْرُ حَتَّى صَارَ إِبْلِيسُ مِنْ جُنْدِي فَلَوْ مَاتَ قَبْلِي كُنْتُ أُحْسِنُ بَعْدَهُ ... طَرَائِقَ فِسْقٍ لَيْسَ يُحْسِنُهَا بَعْدِي فَثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ يوسف عليه السلام بريء عَمَّا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ يَقَعُ فِي مَقَامَيْنِ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَمَّ بِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ وَجَوَابُ لَوْلَا هاهنا مُقَدَّمٌ، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: قَدْ كُنْتُ مِنَ الْهَالِكِينَ لَوْلَا أَنَّ فُلَانًا خَلَّصَكَ، وَطَعَنَ الزَّجَّاجُ فِي هَذَا الْجَوَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَقْدِيمَ جَوَابِ لَوْلَا شَاذٌّ وَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ. الثَّانِي: أَنَّ لَوْلَا يُجَابُ جَوَابُهَا بِاللَّامِ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَقَالَ: وَلَقَدْ هَمَّتْ وَلَهَمَّ بِهَا لَوْلَا. وَذَكَرَ غَيْرُ الزَّجَّاجِ سُؤَالًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدِ الْهَمُّ لَمَا كَانَ لِقَوْلِهِ: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ فَائِدَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ بَعِيدٌ، لِأَنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ تَأْخِيرَ جَوَابِ لَوْلَا حَسَنٌ جَائِزٌ، إِلَّا أَنَّ جَوَازَهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ تَقْدِيمِ هَذَا الْجَوَابِ، وَكَيْفَ وَنُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ، وَالَّذِي هُمْ بِشَأْنِهِ أَعْنَى فَكَانَ الْأَمْرُ فِي جَوَازِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مَرْبُوطًا بِشِدَّةِ الِاهْتِمَامِ. وَأَمَّا تَعْيِينُ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ بِالْمَنْعِ فَذَلِكَ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ، وَأَيْضًا ذِكْرُ جَوَابِ لَوْلَا بِاللَّامِ جَائِزٌ. أَمَّا هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَهُ بِغَيْرِ اللَّامِ لَا يَجُوزُ، ثُمَّ إِنَّا نَذْكُرُ آيَةً أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الزَّجَّاجِ فِي هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها [الْقَصَصِ: 10] .

وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدِ الْهَمُّ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ فَائِدَةٌ. / فَنَقُولُ: بَلْ فِيهِ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ، وَهُوَ بَيَانُ أَنَّ تَرْكَ الْهَمِّ بِهَا مَا كَانَ لِعَدَمِ رَغْبَتِهِ فِي النِّسَاءِ، وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِنَّ بَلْ لِأَجْلِ أَنَّ دَلَائِلَ دِينِ اللَّه مَنَعَتْهُ عَنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ، ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَوَابَ لَوْلَا مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ لَوْلَا تَسْتَدْعِي جَوَابًا، وَهَذَا الْمَذْكُورُ يَصْلُحُ جَوَابًا لَهُ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِكَوْنِهِ جَوَابًا لَهُ لَا يُقَالُ إِنَّا نُضْمِرُ لَهُ جَوَابًا، وَتَرْكُ الْجَوَابِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، لِأَنَّا نَقُولُ: لَا نِزَاعَ أَنَّهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، إِلَّا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَكُونَ مَحْذُوفًا. وَأَيْضًا فَالْجَوَابُ إِنَّمَا يَحْسُنُ تَرْكُهُ وَحَذْفُهُ إِذَا حَصَلَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى تعينه، وهاهنا بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعَيُّنِ ذَلِكَ الْجَوَابِ، فإن هاهنا أَنْوَاعًا مِنَ الْإِضْمَارَاتِ يَحْسُنُ إِضْمَارُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَلَيْسَ إِضْمَارُ بَعْضِهَا أَوْلَى مِنْ إِضْمَارِ الْبَاقِي فَظَهَرَ الْفَرْقُ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَقَامُ الثَّانِي: فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ نَقُولَ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْهَمَّ قَدْ حَصَلَ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَهَمَّ بِها لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْهَمِّ بِذَاتِ الْمَرْأَةِ مُحَالٌ لِأَنَّ الْهَمَّ مِنْ جِنْسِ الْقَصْدِ وَالْقَصْدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّوَاتِ الْبَاقِيَةِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ فِعْلٍ مَخْصُوصٍ يَجْعَلُ مُتَعَلِّقَ ذَلِكَ الْهَمِّ وَذَلِكَ الْفِعْلِ غَيْرَ مَذْكُورٍ فَهُمْ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ الْمُضْمَرَ هُوَ إِيقَاعُ الْفَاحِشَةِ بِهَا وَنَحْنُ نُضْمِرُ شَيْئًا آخَرَ يُغَايِرُ مَا ذَكَرُوهُ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَمَّ بِدَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَمَنْعِهَا عَنْ ذَلِكَ الْقَبِيحِ لِأَنَّ الْهَمَّ هُوَ الْقَصْدُ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى الْقَصْدِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ، فَاللَّائِقُ بِالْمَرْأَةِ الْقَصْدُ إِلَى تَحْصِيلِ اللَّذَّةِ وَالتَّنَعُّمِ وَالتَّمَتُّعِ وَاللَّائِقُ بِالرَّسُولِ الْمَبْعُوثِ إِلَى الْخَلْقِ الْقَصْدُ إِلَى زَجْرِ الْعَاصِي عَنْ مَعْصِيَتِهِ وَإِلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، يُقَالُ: هَمَمْتُ بِفُلَانٍ أَيْ بِضَرْبِهِ وَدَفْعِهِ. فَإِنْ قَالُوا: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ فَائِدَةٌ. قُلْنَا: بَلْ فِيهِ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَوْ هَمَّ بِدَفْعِهَا لَقَتَلَتْهُ أَوْ لَكَانَتْ تَأْمُرُ الْحَاضِرِينَ بِقَتْلِهِ، فَأَعْلَمَهُ اللَّه تَعَالَى أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ ضَرْبِهَا أَوْلَى صَوْنًا لِلنَّفْسِ عَنِ الْهَلَاكِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوِ اشْتَغَلَ بِدَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ فَرُبَّمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ، فَكَانَ يَتَمَزَّقُ ثَوْبُهُ مِنْ قُدَّامٍ، وَكَانَ فِي عِلْمِ اللَّه تَعَالَى أَنَّ الشَّاهِدَ يَشْهَدُ بِأَنَّ ثَوْبَهُ لَوْ تَمَزَّقَ مِنْ قُدَّامٍ لَكَانَ يُوسُفُ هُوَ الْخَائِنَ، وَلَوْ كَانَ ثَوْبُهُ مُمَزَّقًا مِنْ خَلْفٍ لَكَانَتِ الْمَرْأَةُ هِيَ الْخَائِنَةُ، فاللَّه تَعَالَى أَعْلَمَهُ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَشْتَغِلْ بِدَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ بَلْ وَلَّى هَارِبًا عَنْهَا، حَتَّى صَارَتْ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ حُجَّةً لَهُ عَلَى بَرَاءَتِهِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنْ يُفَسَّرَ الْهَمُّ بِالشَّهْوَةِ، وَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ فِي اللُّغَةِ الشَّائِعَةِ. يَقُولُ الْقَائِلُ: فِيمَا لَا يَشْتَهِيهِ مَا يَهُمُّنِي هَذَا، وَفِيمَا يَشْتَهِيهِ هَذَا أَهَمُّ الْأَشْيَاءِ إِلَيَّ، فَسَمَّى اللَّه تَعَالَى شَهْوَةَ يُوسُفَ/ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَمًّا، فَمَعْنَى الْآيَةِ: وَلَقَدِ اشْتَهَتْهُ وَاشْتَهَاهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَدَخَلَ ذَلِكَ الْعَمَلُ فِي الْوُجُودِ. الثَّالِثُ: أَنْ يُفَسَّرَ الْهَمُّ بِحَدِيثِ النَّفْسِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْفَائِقَةَ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ إِذَا تَزَيَّنَتْ وَتَهَيَّأَتْ لِلرَّجُلِ الشَّابِّ الْقَوِيِّ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَقَعَ هُنَاكَ بَيْنَ الْحِكْمَةِ وَالشَّهْوَةِ الطَّبِيعِيَّةِ وَبَيْنَ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ مُجَاذَبَاتٌ وَمُنَازَعَاتٌ، فَتَارَةً تَقْوَى دَاعِيَةُ الطَّبِيعَةِ وَالشَّهْوَةِ وَتَارَةً تَقْوَى دَاعِيَةُ الْعَقْلِ وَالْحِكْمَةِ. فَالْهَمُّ عِبَارَةٌ عَنْ جَوَاذِبِ الطَّبِيعَةِ، وَرُؤْيَةُ الْبُرْهَانِ عِبَارَةٌ عَنْ جَوَاذِبِ الْعُبُودِيَّةِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ الصَّالِحَ الصَّائِمَ فِي الصَّيْفِ الصَّائِفِ، إِذَا رأى الجلاب المبرد بالثلج فَإِنَّ طَبِيعَتَهُ تَحْمِلُهُ عَلَى شُرْبِهِ، إِلَّا أَنَّ دِينَهُ وَهُدَاهُ يَمْنَعُهُ مِنْهُ، فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الذَّنْبِ، بَلْ كُلَّمَا كَانَتْ هَذِهِ

الْحَالَةُ أَشَدَّ كَانَتِ الْقُوَّةُ فِي الْقِيَامِ بِلَوَازِمِ الْعُبُودِيَّةِ أَكْمَلَ، فَقَدْ ظَهَرَ بِحَمْدِ اللَّه تَعَالَى صِحَّةُ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي ذَهَبْنَا إِلَيْهِ وَلَمْ يَبْقَ فِي يَدِ الْوَاحِدِيِّ إِلَّا مُجَرَّدُ التَّصَلُّفِ وَتَعْدِيدِ أَسْمَاءِ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَوْ كَانَ قَدْ ذَكَرَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ الْقَوْلِ شُبْهَةً لَأَجَبْنَا عَنْهَا إِلَّا أَنَّهُ مَا زَادَ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْحَشْوِيَّةِ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا كَذَبَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ» فَقُلْتُ الْأَوْلَى أَنْ لَا نَقْبَلَ مِثْلَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ فَقَالَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِنْكَارِ فَإِنْ لَمْ نَقْبَلْهُ لَزِمَنَا تَكْذِيبُ الرُّوَاةِ فَقُلْتُ لَهُ: يَا مِسْكِينُ إِنْ قَبِلْنَاهُ لَزِمَنَا الْحُكْمُ بِتَكْذِيبِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ رَدَدْنَاهُ لَزِمَنَا الْحُكْمُ بِتَكْذِيبِ الرُّوَاةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ صَوْنَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْكَذِبِ أَوْلَى مِنْ صَوْنِ طَائِفَةٍ مِنَ الْمَجَاهِيلِ عَنِ الْكَذِبِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فَنَقُولُ لِلْوَاحِدِيِّ: وَمَنِ الَّذِي يَضْمَنُ لَنَا أَنَّ الَّذِينَ نَقَلُوا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ كَانُوا صَادِقِينَ أَمْ كَاذِبِينَ، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْبُرْهَانِ مَا هُوَ أَمَّا الْمُحَقِّقُونَ الْمُثْبِتُونَ لِلْعِصْمَةِ فَقَدْ فَسَّرُوا رُؤْيَةَ الْبُرْهَانِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حُجَّةُ اللَّه تَعَالَى فِي تَحْرِيمِ الزِّنَا وَالْعِلْمِ بِمَا عَلَى الزَّانِي مِنَ الْعِقَابِ وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّه تَعَالَى طَهَّرَ نُفُوسَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَنِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ. بَلْ نَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى طَهَّرَ نُفُوسَ الْمُتَّصِلِينَ بِهِ عَنْهَا كَمَا قَالَ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الْأَحْزَابِ: 33] فَالْمُرَادُ بِرُؤْيَةِ الْبُرْهَانِ هُوَ حُصُولُ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ وَتَذْكِيرُ الْأَحْوَالِ الرَّادِعَةِ لَهُمْ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ رَأَى مَكْتُوبًا فِي سَقْفِ الْبَيْتِ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 32] وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ النُّبُوَّةُ الْمَانِعَةُ مِنَ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بُعِثُوا لِمَنْعِ الْخَلْقِ عَنِ الْقَبَائِحِ وَالْفَضَائِحِ فَلَوْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا النَّاسَ عَنْهَا، ثُمَّ أَقْدَمُوا عَلَى أَقْبَحِ أَنْوَاعِهَا وأفحش أقسامها لدخلوا تحت قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفِّ: 2، 3] / وَأَيْضًا أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَيَّرَ الْيَهُودَ بِقَوْلِهِ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 44] وَمَا يَكُونُ عَيْبًا فِي حَقِّ الْيَهُودِ كَيْفَ يُنْسَبُ إِلَى الرَّسُولِ الْمُؤَيَّدِ بِالْمُعْجِزَاتِ. وَأَمَّا الَّذِينَ نَسَبُوا الْمَعْصِيَةَ إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ الْبُرْهَانِ أُمُورًا: الْأَوَّلُ: قَالُوا إِنَّ الْمَرْأَةَ قَامَتْ إِلَى صَنَمٍ مُكَلَّلٍ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ فِي زَاوِيَةِ الْبَيْتِ فَسَتَرَتْهُ بِثَوْبٍ فَقَالَ يُوسُفُ: لِمَ فَعَلْتِ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: أَسْتَحِي مِنْ إِلَهِي هَذَا أَنْ يَرَانِي عَلَى مَعْصِيَةٍ، فَقَالَ يُوسُفُ: أَتَسْتَحِينَ مِنْ صَنَمٍ لَا يَعْقِلُ وَلَا يَسْمَعُ وَلَا أَسْتَحِي مِنْ إِلَهِي الْقَائِمِ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ فو اللَّه لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ أَبَدًا قَالُوا: فَهَذَا هُوَ الْبُرْهَانُ. الثَّانِي: نَقَلُوا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ تَمَثَّلَ لَهُ يَعْقُوبُ فَرَآهُ عَاضًّا عَلَى أَصَابِعِهِ وَيَقُولُ لَهُ: أَتَعْمَلُ عَمَلَ الْفُجَّارِ وَأَنْتَ مَكْتُوبٌ فِي زُمْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ فَاسْتَحَى مِنْهُ. قَالَ وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ وَابْنِ سِيرِينَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: تَمَثَّلَ لَهُ يَعْقُوبُ فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ فَخَرَجَتْ شَهْوَتُهُ مِنْ أَنَامِلِهِ. وَالثَّالِثُ: قَالُوا إِنَّهُ سَمِعَ فِي الْهَوَاءِ قَائِلًا يَقُولُ يَا ابْنَ يَعْقُوبَ لَا تَكُنْ كَالطَّيْرِ يَكُونُ لَهُ رِيشٌ فَإِذَا زَنَا ذَهَبَ رِيشُهُ. وَالرَّابِعُ: نقلوا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَنْزَجِرْ بِرُؤْيَةِ صُورَةِ يَعْقُوبَ حَتَّى رَكَضَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمْ يَبْقَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الشَّهْوَةِ إِلَّا خَرَجَ، وَلَمَّا نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ تَصَلَّفَ وَقَالَ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ الَّذِينَ أَخَذُوا التَّأْوِيلَ عَمَّنْ شَاهَدَ التَّنْزِيلَ فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّكَ لَا تَأْتِينَا الْبَتَّةَ إِلَّا بِهَذِهِ التَّصَلُّفَاتِ

[سورة يوسف (12) : الآيات 25 إلى 29]

الَّتِي لَا فَائِدَةَ فِيهَا فَأَيْنَ هَذَا مِنَ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ تَرَادُفَ الدَّلَائِلِ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مُمْتَنِعًا عَنِ الزِّنَا بِحَسَبِ الدَّلَائِلِ الْأَصْلِيَّةِ، فَلَمَّا انْضَافَ إِلَيْهَا هَذِهِ الزَّوَاجِرُ قَوِيَ الِانْزِجَارُ وَكَمُلَ الِاحْتِرَازُ وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ نَقَلُوا أَنَّ جَرْوًا دَخَلَ حُجْرَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبقي هناك بغير عمله قَالُوا: فَامْتَنَعَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الدُّخُولِ عليه أربعين يوما، وهاهنا زَعَمُوا أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَالَ اشْتِغَالِهِ بِالْفَاحِشَةِ ذَهَبَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَمْتَنِعْ عَنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ بِسَبَبِ حُضُورِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَوْ أَنَّ أَفْسَقَ الْخَلْقِ وَأَكْفَرَهُمْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِفَاحِشَةٍ فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ عَلَى زِيِّ الصَّالِحِينَ استحيا منه وفر وترك ذلك العمل، وهاهنا أَنَّهُ رَأَى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَضَّ عَلَى أَنَامِلِهِ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى جَلَالَةِ قَدْرِهِ دَخَلَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَيْضًا عَنْ ذَلِكَ الْقَبِيحِ بِسَبَبِ حُضُورِهِ حَتَّى احْتَاجَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنْ يَرْكُضَهُ عَلَى ظَهْرِهِ فَنَسْأَلُ اللَّه أَنْ يَصُونَنَا عَنِ الْغَيِّ فِي الدِّينِ، وَالْخِذْلَانِ فِي طَلَبِ الْيَقِينِ فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْمُخَلَّصُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ السُّوءَ جِنَايَةُ الْيَدِ/ وَالْفَحْشَاءُ هُوَ الزِّنَا. الثَّانِي: السُّوءُ مُقَدِّمَاتُ الْفَاحِشَةِ مِنَ الْقُبْلَةِ وَالنَّظَرِ بِالشَّهْوَةِ وَالْفَحْشَاءُ هُوَ الزِّنَا. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ أَيِ الَّذِينَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ للَّه تَعَالَى وَمَنْ فَتَحَ اللَّامَ أَرَادَ الَّذِينَ خَلَّصَهُمُ اللَّه مِنَ الْأَسْوَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الذي قَالَ اللَّه فِيهِمْ: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ [صَ: 46] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو الْمُخْلِصِينَ بِكَسْرِ اللَّامِ فِي جَمِيعِ القرآن والباقون بفتح اللام. [سورة يوسف (12) : الآيات 25 الى 29] وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهَا أَنَّهَا هَمَّتْ أَتْبَعَهُ بِكَيْفِيَّةِ طَلَبِهَا وَهَرَبِهِ فَقَالَ: وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ هَرَبَ مِنْهَا وَحَاوَلَ الْخُرُوجَ مِنَ الْبَابِ وَعَدَتِ الْمَرْأَةُ خَلْفَهُ لِتَجْذِبَهُ إِلَى نَفْسِهَا، وَالِاسْتِبَاقُ طَلَبُ السَّبْقِ إِلَى الشَّيْءِ، وَمَعْنَاهُ تَبَادَرَ إِلَى الْبَابِ يَجْتَهِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَسْبِقَ صَاحِبَهُ فَإِنْ سَبَقَ يُوسُفُ فَتَحَ/ الْبَابَ وَخَرَجَ، وَإِنْ سَبَقَتِ الْمَرْأَةُ أَمْسَكَتِ الْبَابَ لِئَلَّا يَخْرُجَ، وَقَوْلُهُ: وَاسْتَبَقَا الْبابَ أَيِ اسْتَبَقَا إِلَى الْبَابِ كَقَوْلِهِ: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [الْأَعْرَافِ: 155] أَيْ مِنْ قَوْمِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَبَقَهَا إِلَى الْبَابِ وَأَرَادَ الْخُرُوجَ وَالْمَرْأَةُ تعدو خلقه فَلَمْ تَصِلْ إِلَّا إِلَى دُبُرِ

الْقَمِيصِ فَقَدَّتْهُ، أَيْ قَطَعَتْهُ طُولًا، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَضَرَ زَوْجُهَا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ أَيْ صَادَفَا بَعْلَهَا تَقُولُ الْمَرْأَةُ لِبَعْلِهَا سَيِّدِي، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ سَيِّدَهُمَا لِأَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ مَمْلُوكًا لِذَلِكَ الرَّجُلِ فِي الْحَقِيقَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ خَافَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ التُّهْمَةِ فَبَادَرَتْ إِلَى أَنْ رَمَتْ يُوسُفَ بِالْفِعْلِ الْقَبِيحِ، وَقَالَتْ: مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ. وَفِي الْآيَةِ لَطَائِفُ: إِحْدَاهَا: أَنَّ «مَا» يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً، أَيْ لَيْسَ جَزَاؤُهُ إِلَّا السِّجْنُ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً يَعْنِي أَيُّ شَيْءٍ جَزَاؤُهُ إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ كَمَا تَقُولُ: مَنْ فِي الدَّارِ إِلَّا زَيْدٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ حُبَّهَا الشَّدِيدَ لِيُوسُفَ حَمَلَهَا عَلَى رِعَايَةِ دَقِيقَتَيْنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا بَدَأَتْ بِذِكْرِ السِّجْنِ، وَأَخَّرَتْ ذِكْرَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ الْمُحِبَّ لَا يَسْعَى فِي إِيلَامِ الْمَحْبُوبِ، وَأَيْضًا أَنَّهَا لَمْ تَذْكُرْ أَنَّ يُوسُفَ يَجِبُ أَنْ يُعَامَلَ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، بَلْ ذَكَرَتْ ذَلِكَ ذِكْرًا كُلِّيًّا صَوْنًا لِلْمَحْبُوبِ عَنِ الذِّكْرِ بِالسُّوءِ وَالْأَلَمِ، وَأَيْضًا قَالَتْ: إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ وَالْمُرَادُ أَنْ يُسْجَنَ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ عَلَى سَبِيلِ التَّخْفِيفِ. فَأَمَّا الْحَبْسُ الدائم فإنه لا يعبر بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ، بَلْ يُقَالُ: يَجِبُ أَنْ يُجْعَلَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ أَلَا تَرَى أَنَّ فِرْعَوْنَ هَكَذَا قَالَ حِينَ تَهَدَّدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشُّعَرَاءِ: 29] وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا لَمَّا شَاهَدَتْ مِنْ يوسف عليه السلام أنه استعصم منها أَنَّهُ كَانَ فِي عُنْفُوَانِ الْعُمُرِ وَكَمَالِ الْقُوَّةِ وَنِهَايَةِ الشَّهْوَةِ، عَظُمَ اعْتِقَادُهَا فِي طَهَارَتِهِ وَنَزَاهَتِهِ فَاسْتَحْيَتْ أَنْ تَقُولَ إِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَصَدَنِي بِالسُّوءِ، وَمَا وَجَدَتْ مِنْ نَفْسِهَا أَنْ تَرْمِيَهُ بِهَذَا الْكَذِبِ عَلَى سَبِيلِ التَّصْرِيحِ بَلِ اكْتَفَتْ بِهَذَا التَّعْرِيضِ، فَانْظُرْ إِلَى تِلْكَ الْمَرْأَةِ مَا وَجَدَتْ مِنْ نَفْسِهَا أَنْ تَرْمِيَهُ بِهَذَا الْكَذِبِ وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْحَشْوِيَّةَ يَرْمُونَهُ بَعْدَ قَرِيبٍ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ بِهَذَا الذَّنْبِ الْقَبِيحِ. ورابعها: أن يوسف عليه السلام أراد يَضْرِبَهَا وَيَدْفَعَهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا جَارِيًا مَجْرَى السُّوءِ فَقَوْلُهَا: مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً جاريا مَجْرَى التَّعْرِيضِ فَلَعَلَّهَا بِقَلْبِهَا كَانَتْ تُرِيدُ إِقْدَامَهُ عَلَى دَفْعِهَا وَمَنْعِهَا وَفِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ كَانَتْ تُوهِمُ أَنَّهُ قَصَدَنِي بِمَا لَا يَنْبَغِي. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا ذَكَرَتْ هَذَا الْكَلَامَ وَلَطَّخَتْ عِرْضَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ احْتَاجَ يُوسُفُ إِلَى إِزَالَةِ هَذِهِ التُّهْمَةِ فَقَالَ: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي، وَأَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا هَتَكَ سِتْرَهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا خَافَ عَلَى النَّفْسِ وَعَلَى الْعِرْضِ أَظْهَرَ الْأَمْرَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَلَامَاتِ الْكَثِيرَةَ كَانَتْ دَالَّةً عَلَى أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الصَّادِقُ: فَالْأَوَّلُ: أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ كَانَ عَبْدًا لَهُمْ وَالْعَبْدُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يتسلط على مولاه إلى هذا الحدو الثاني: أَنَّهُمْ شَاهَدُوا أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْدُو عَدْوًا شَدِيدًا لِيَخْرُجَ وَالرَّجُلُ الطَّالِبُ لِلْمَرْأَةِ لَا يَخْرُجُ مِنَ الدَّارِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْمَرْأَةَ زَيَّنَتْ نَفْسَهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَأَمَّا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ تَزْيِينِ النَّفْسِ فَكَانَ إِلْحَاقُ هَذِهِ الْفِتْنَةِ بِالْمَرْأَةِ أَوْلَى، الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ شَاهَدُوا أَحْوَالَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ فَمَا رَأَوْا عَلَيْهِ حَالَةً تُنَاسِبُ إِقْدَامَهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ الْمُنْكَرِ، وَذَلِكَ أَيْضًا مِمَّا يُقَوِّي الظَّنَّ، الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ مَا نَسَبَتْهُ إِلَى طَلَبِ الْفَاحِشَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّصْرِيحِ بَلْ ذَكَرَتْ كَلَامًا مُجْمَلًا مُبْهَمًا، وَأَمَّا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِالْأَمْرِ وَلَوْ أَنَّهُ كَانَ مُتَّهَمًا لَمَا قَدَرَ عَلَى التَّصْرِيحِ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ فَإِنَّ الْخَائِنَ خَائِفٌ السَّادِسُ: قِيلَ: إِنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ كَانَ عَاجِزًا وَآثَارُ طَلَبِ الشَّهْوَةِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ كَانَتْ مُتَكَامِلَةً فَإِلْحَاقُ هَذِهِ الْفِتْنَةِ بِهَا

أَوْلَى، فَلَمَّا حَصَلَتْ هَذِهِ الْأَمَارَاتُ الْكَثِيرَةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ مَبْدَأَ هَذِهِ الْفِتْنَةِ كَانَ مِنَ الْمَرْأَةِ اسْتَحْيَا الزَّوْجُ وَتَوَقَّفَ وَسَكَتَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ يُوسُفَ صَادِقٌ وَالْمَرْأَةَ كَاذِبَةٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَظْهَرَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَلِيلًا آخَرَ يُقَوِّي تِلْكَ الدَّلَائِلَ الْمَذْكُورَةَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَرِيءٌ عَنِ الذَّنْبِ وَأَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الْمُذْنِبَةُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها وَفِي هَذَا الشَّاهِدِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ لَهَا ابْنُ عَمٍّ وَكَانَ رَجُلًا حَكِيمًا وَاتَّفَقَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنَّهُ كَانَ مَعَ الْمَلِكِ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا فَقَالَ قَدْ سَمِعْنَا الْجَلَبَةَ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ وَشَقَّ الْقَمِيصِ إِلَّا أَنَّا لَا نَدْرِي أَيَّكُمَا قُدَّامَ صَاحِبِهِ، فَإِنْ كَانَ شَقُّ الْقَمِيصِ مِنْ قُدَّامِهِ فَأَنْتِ صَادِقَةٌ وَالرَّجُلُ كَاذِبٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ خَلْفِهِ فَالرَّجُلُ صَادِقٌ وَأَنْتِ كَاذِبَةٌ فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَى الْقَمِيصِ وَرَأَوُا الشَّقَّ مِنْ خَلْفِهِ، قَالَ ابْنُ عَمِّهَا: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ أَيْ مِنْ عَمَلِكُنَّ. ثُمَّ قَالَ لِيُوسُفَ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاكْتُمْهُ، وَقَالَ لَهَا اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ، وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَيْضًا مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ: أَنَّ ذَلِكَ الشَّاهِدَ كَانَ صَبِيًّا أَنْطَقَهُ اللَّه تَعَالَى فِي الْمَهْدِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ أَرْبَعَةٌ صِغَارٌ شَاهِدُ يُوسُفَ، وَابْنُ مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ، وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ الرَّاهِبِ قَالَ الْجُبَّائِيُّ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَنْطَقَ الطِّفْلَ بِهَذَا الْكَلَامِ لَكَانَ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ إِنَّهَا كَاذِبَةٌ كَافِيًا وَبُرْهَانًا قَاطِعًا، لِأَنَّهُ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ الْقَاهِرَةِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِتَمْزِيقِ الْقَمِيصِ مِنْ قُبُلٍ وَمِنْ دُبُرٍ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ ضَعِيفٌ وَالْعُدُولُ عَنِ الْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ حَالَ حُضُورِهَا وَحُصُولِهَا إِلَى الدَّلَالَةِ الظَّنِّيَّةِ لَا يَجُوزُ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها وَإِنَّمَا قَالَ مِنْ أَهْلِهَا/ لِيَكُونَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ مَنْ يَكُونُ مِنْ أَقْرِبَاءِ الْمَرْأَةِ وَمِنْ أَهْلِهَا أَنْ لَا يَقْصِدَهَا بِالسُّوءِ وَالْإِضْرَارِ، فَالْمَقْصُودُ بِذِكْرِ كَوْنِ ذَلِكَ الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِهَا تَقْوِيَةَ قَوْلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَهَذِهِ التَّرْجِيحَاتُ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهَا عِنْدَ كَوْنِ الدَّلَالَةِ ظَنِّيَّةً، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ صَادِرًا عَنِ الصَّبِيِّ الَّذِي فِي الْمَهْدِ لَكَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً قَاطِعَةً وَلَا يَتَفَاوَتُ الْحَالُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِهَذَا الْقَيْدِ أَثَرٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ لَفْظَ الشَّاهِدِ لَا يَقَعُ فِي الْعُرْفِ إِلَّا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْوَاقِعَةِ وَإِحَاطَةٌ بِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ الشَّاهِدَ هُوَ الْقَمِيصُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: الشَّاهِدُ كَوْنُ قَمِيصِهِ مَشْقُوقًا مِنْ دُبُرٍ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ لِأَنَّ الْقَمِيصَ لَا يُوصَفُ بِهَذَا وَلَا يُنْسَبُ إِلَى الْأَهْلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ عَلَيْهِ أَيْضًا إِشْكَالٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَلَامَةَ الْمَذْكُورَةَ لَا تَدُلُّ قَطْعًا عَلَى بَرَاءَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنَّ الرَّجُلَ قَصَدَ الْمَرْأَةَ لِطَلَبِ الزِّنَا فَالْمَرْأَةُ غَضِبَتْ عَلَيْهِ فَهَرَبَ الرَّجُلُ فَعَدَتِ الْمَرْأَةُ خَلْفَ الرَّجُلِ وَجَذَبَتْهُ لِقَصْدِ أَنْ تَضْرِبَهُ ضَرْبًا وَجِيعًا فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الْقَمِيصُ مُتَخَرِّقًا مِنْ دُبُرٍ مَعَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَكُونُ بَرِيَّةً عَنِ الذَّنْبِ وَالرَّجُلَ يَكُونُ مُذْنِبًا. وَجَوَابُهُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ عَلَامَاتِ كَذِبِ الْمَرْأَةِ كَانَتْ كَثِيرَةً بَالِغَةً مَبْلَغَ الْيَقِينِ فَضَمُّوا إِلَيْهَا هَذِهِ الْعَلَامَةَ الْأُخْرَى لَا لِأَجْلِ أَنْ يُعَوِّلُوا فِي الْحُكْمِ عَلَيْهَا، بَلْ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى الْمُقَوِّيَاتِ وَالْمُرَجِّحَاتِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ وَقَالَ: فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ السَّيِّدَ الَّذِي هُوَ زَوْجُهَا وَيَحْتَمِلُ الشَّاهِدَ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، قَالَ: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ أَيْ أَنَّ قَوْلَكِ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْإِنْسَانَ ضَعِيفًا فَكَيْفَ وَصَفَ كَيْدَ الْمَرْأَةِ بِالْعِظَمِ، وَأَيْضًا فَكَيْدُ الرِّجَالِ قَدْ يَزِيدُ عَلَى كَيْدِ النِّسَاءِ.

[سورة يوسف (12) : الآيات 30 إلى 31]

وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ خِلْقَةَ الْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إلى خلقة الملائكة والسموات وَالْكَوَاكِبِ خِلْقَةٌ ضَعِيفَةٌ وَكَيْدُ النِّسْوَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَيْدِ الْبَشَرِ عَظِيمٌ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَأَيْضًا فَالنِّسَاءُ لَهُنَّ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الْمَكْرِ وَالْحِيَلِ مَا لَا يَكُونُ لِلرِّجَالِ وَلِأَنَّ كَيْدَهُنَّ فِي هَذَا الْبَابِ يُورِثُ مِنَ الْعَارِ مَا لَا يُورِثُهُ كَيْدُ الرِّجَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ لِلْقَوْمِ بَرَاءَةُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُنْكَرِ حَكَى تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا فَقِيلَ: إِنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْعَزِيزِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ قَوْلِ الشَّاهِدِ، وَمَعْنَاهُ: أَعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ حَتَّى لَا يَنْتَشِرَ خَبَرُهَا وَلَا يَحْصُلَ الْعَارُ الْعَظِيمُ بِسَبَبِهَا، وَكَمَا أَمَرَ يُوسُفَ بِكِتْمَانِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ أَمَرَ الْمَرْأَةَ بِالِاسْتِغْفَارِ فَقَالَ: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ وَظَاهِرُ ذَلِكَ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ، / وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الزَّوْجِ وَيَكُونُ مَعْنَى الْمَغْفِرَةِ الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْأَقْرَبُ أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ الشَّاهِدُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنَ اللَّه، لِأَنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ كَانُوا يُثْبِتُونَ الصَّانِعَ، إِلَّا أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ بِدَلِيلِ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يُوسُفَ: 39] وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ هُوَ الزَّوْجَ. وَقَوْلُهُ: إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ نِسْبَةٌ لَهَا إِلَى أَنَّهَا كَانَتْ كَثِيرَةَ الْخَطَأِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ عَرَفَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنَّ الذَّنْبَ لِلْمَرْأَةِ لَا لِيُوسُفَ، لِأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ عَنْهَا إِقْدَامَهَا عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: إِنَّ ذَلِكَ لِزَوْجٍ كَانَ قَلِيلَ الْغَيْرَةِ فَاكْتَفَى مِنْهَا بِالِاسْتِغْفَارِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَإِنَّمَا قَالَ مِنَ الْخَاطِئِينَ بِلَفْظِ التَّذْكِيرِ، تَغْلِيبًا لِلذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ إِنَّكَ مِنْ نَسْلِ الْخَاطِئِينَ، فَمِنْ ذَلِكَ النَّسْلِ سَرَى هذا العرق الخبيث فيك. واللَّه أعلم. [سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 31] وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) [في قوله تعالى وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِمَ لَمْ يَقُلْ: (وَقَالَتْ نِسْوَةٌ) قُلْنَا لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النِّسْوَةَ اسْمٌ مُفْرَدٌ لِجَمْعِ الْمَرْأَةِ وَتَأْنِيثُهُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْحَقْ فِعْلَهُ تَاءُ التَّأْنِيثِ، الثَّانِي: قَالَ الْوَاحِدِيُّ تَقْدِيمُ الْفِعْلِ يَدْعُو إِلَى إِسْقَاطِ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ عَلَى قِيَاسِ إِسْقَاطِ عَلَامَةِ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: هُنَّ أَرْبَعٌ، امْرَأَةُ سَاقِي الْعَزِيزِ. وَامْرَأَةُ خَبَّازِهِ وَامْرَأَةُ صَاحِبِ سِجْنِهِ. وَامْرَأَةُ صَاحِبِ دَوَابِّهِ، وَزَادَ مُقَاتِلٌ وَامْرَأَةُ الْحَاجِبِ. وَالْأَشْبَهُ أَنَّ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ شَاعَتْ فِي الْبَلَدِ وَاشْتَهَرَتْ وَتَحَدَّثَ بِهَا النِّسَاءُ. وَامْرَأَةُ الْعَزِيزِ هِيَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الْمَعْلُومَةُ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ الْفَتَى الْحَدَثُ الشَّابُّ وَالْفَتَاةُ الْجَارِيَةُ الشَّابَّةُ قَدْ شَغَفَها حُبًّا وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ الشَّغَافَ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الشَّغَافَ جِلْدَةٌ مُحِيطَةٌ بِالْقَلْبِ يُقَالُ لَهَا غِلَافُ الْقَلْبِ يُقَالُ شَغَفْتُ فُلَانًا إِذَا أَصَبْتُ شَغَافَهُ كما تقول كبدته أي أصبت كيده فَقَوْلُهُ: شَغَفَها حُبًّا أَيْ دَخَلَ الْحُبُّ الْجِلْدَ حَتَّى أَصَابَ الْقَلْبَ. وَالثَّانِي: أَنَّ حُبَّهُ أَحَاطَ بِقَلْبِهَا مِثْلَ إِحَاطَةِ الشَّغَافِ بِالْقَلْبِ، وَمَعْنَى إِحَاطَةِ ذَلِكَ الْحُبِّ بِقَلْبِهَا

هُوَ أَنَّ اشْتِغَالَهَا بِحُبِّهِ صَارَ حِجَابًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ كُلِّ مَا سِوَى هَذِهِ الْمَحَبَّةِ فَلَا تَعْقِلُ سِوَاهُ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهَا إِلَّا إِيَّاهُ. وَالثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الشَّغَافُ حَبَّةُ الْقَلْبِ وَسُوَيْدَاءُ الْقَلْبِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ وَصَلَ حُبُّهُ إِلَى سُوَيْدَاءِ قَلْبِهَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا كِنَايَةٌ عَنِ الْحُبِّ الشَّدِيدِ وَالْعِشْقِ الْعَظِيمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ شَعَفَهَا بِالْعَيْنِ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ شَعَفَهُ الْهَوَى إِذَا بَلَغَ إِلَى حَدِّ الِاحْتِرَاقِ، وَشَعَفَ الْهَنَاءُ الْبَعِيرَ إِذَا بَلَغَ مِنْهُ الْأَلَمُ إِلَى حَدِّ الِاحْتِرَاقِ، وَكَشَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: الشَّعَفُ بِالْعَيْنِ إِحْرَاقُ الْحُبِّ الْقَلْبَ مَعَ لَذَّةٍ يَجِدُهَا، كَمَا أَنَّ البعير إذا هنيء بِالْقَطْرَانِ يَبْلُغُ مِنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَسْتَرْوِحُ إليه. وقال ابن الأنباري: الشعف رؤوس الْجِبَالِ، وَمَعْنَى شُعِفَ بِفُلَانٍ إِذَا ارْتَفَعَ حُبُّهُ إِلَى أَعْلَى الْمَوَاضِعِ مِنْ قَلْبِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: حُبًّا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ فِي ضَلَالٍ عَنْ طَرِيقِ الرُّشْدِ بِسَبَبِ حُبِّهَا إِيَّاهُ كَقَوْلِهِ: إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يُوسُفَ: 8] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَنَّهَا سَمِعَتْ قَوْلَهُنَّ وَإِنَّمَا سُمِّيَ قَوْلُهُنَّ مَكْرًا لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النِّسْوَةَ إِنَّمَا ذَكَرَتْ ذَلِكَ الْكَلَامَ اسْتِدْعَاءً لِرُؤْيَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ لِأَنَّهُنَّ عَرَفْنَ أَنَّهُنَّ إِذَا قُلْنَ ذَلِكَ عَرَضَتْ يُوسُفَ عَلَيْهِنَّ لِيَتَمَهَّدَ عُذْرُهَا عِنْدَهُنَّ. الثَّانِي: أَنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ أَسَرَّتْ إِلَيْهِنَّ حُبَّهَا لِيُوسُفَ وَطَلَبَتْ مِنْهُنَّ كِتْمَانَ هَذَا السِّرِّ، فَلَمَّا أَظْهَرْنَ السِّرَّ كَانَ ذَلِكَ غَدْرًا وَمَكْرًا. الثَّالِثُ: أَنَّهُنَّ وَقَعْنَ فِي غِيبَتِهَا، وَالْغِيبَةُ إِنَّمَا تُذْكَرُ عَلَى سَبِيلِ الْخِفْيَةِ فَأَشْبَهَتِ الْمَكْرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا لَمَّا سَمِعَتْ أَنَّهُنَّ يَلُمْنَهَا عَلَى تِلْكَ الْمَحَبَّةِ الْمُفْرِطَةِ أَرَادَتْ إِبْدَاءَ عُذْرِهَا فَاتَّخَذَتْ مَائِدَةً وَدَعَتْ جَمَاعَةً مِنْ أَكَابِرِهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً، وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُتَّكَأُ النُّمْرُقُ الَّذِي يُتَّكَأُ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُتَّكَأَ هُوَ الطَّعَامُ. قَالَ الْعُتْبِيُّ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَنْ دَعَوْتَهُ لِيَطْعَمَ عِنْدَكَ فَقَدْ أَعْدَدْتَ لَهُ وِسَادَةً تُسَمِّي الطَّعَامَ مُتَّكَأً عَلَى الِاسْتِعَارَةِ، وَالثَّالِثُ: مُتَّكَأً أُتْرُجًّا، وَهُوَ قَوْلُ وَهْبٍ وَأَنْكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا وَضَعَتْ عِنْدَهُنَّ أَنْوَاعَ الْفَاكِهَةِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ. وَالرَّابِعُ: مُتَّكَأً طَعَامًا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُقْطَعَ بِالسِّكِّينِ، لِأَنَّ الطَّعَامَ مَتَى كَانَ كَذَلِكَ احْتَاجَ الْإِنْسَانُ إِلَى أَنْ يُتَّكَأَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَطْعِ. ثُمَّ نَقُولُ: حَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّهَا دَعَتْ أُولَئِكَ النِّسْوَةَ وَأَعَدَّتْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَجْلِسًا مُعَيَّنًا وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا أَيْ لِأَجْلِ أَكْلِ الْفَاكِهَةِ أَوْ لِأَجْلِ قَطْعِ اللَّحْمِ ثُمَّ إِنَّهَا أَمَرَتْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِنَّ وَيَعْبُرَ عَلَيْهِنَّ وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا قَدَرَ عَلَى مُخَالَفَتِهَا خَوْفًا مِنْهَا فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي أَكْبَرْنَهُ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَعْظَمْنَهُ. وَالثَّانِي: أَكْبَرْنَ بِمَعْنَى حِضْنَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ يُقَالُ أَكْبَرَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا حَاضَتْ، وَحَقِيقَتُهُ دَخَلَتْ فِي الْكِبَرِ لِأَنَّهَا بِالْحَيْضِ تَخْرُجُ مِنْ حَدِّ الصِّغَرِ إِلَى حَدِّ الْكِبَرِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا خَافَتْ وَفَزِعَتْ فَرُبَّمَا أَسْقَطَتْ وَلَدَهَا فَحَاضَتْ، فَإِنْ صَحَّ تَفْسِيرُ الْإِكْبَارِ بِالْحَيْضِ فَالسَّبَبُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ وقوله: وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ كِنَايَةٌ عَنْ دَهْشَتِهِنَّ وَحَيْرَتِهِنَّ، وَالسَّبَبُ فِي حُسْنِ هَذِهِ الْكِنَايَةِ أَنَّهَا لَمَّا دُهِشَتْ فَكَانَتْ تَظُنُّ أَنَّهَا تَقْطَعُ الْفَاكِهَةَ وَكَانَتْ تَقْطَعُ يَدَ نَفْسِهَا، أَوْ يُقَالُ: إِنَّهَا لَمَّا

دُهِشَتْ صَارَتْ بِحَيْثُ لَا تُمَيِّزُ نِصَابَهَا مِنْ حَدِيدِهَا وَكَانَتْ تَأْخُذُ الْجَانِبَ الْحَادَّ مِنْ ذَلِكَ السِّكِّينِ بِكَفِّهَا فَكَانَ يَحْصُلُ الْجِرَاحَةُ فِي كَفِّهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اتَّفَقَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُنَّ إِنَّمَا أَكْبَرْنَهُ بِحَسَبِ الْجَمَالِ الْفَائِقِ وَالْحُسْنِ الْكَامِلِ قِيلَ: كَانَ فَضْلُ يُوسُفَ عَلَى النَّاسِ فِي الْفَضْلِ وَالْحُسْنِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَرَرْتُ بِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْلَةَ عُرِجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ فَقُلْتُ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ هَذَا يُوسُفُ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّه كَيْفَ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» وَقِيلَ: كَانَ يُوسُفُ إِذَا سَارَ فِي أَزِقَّةِ مِصْرَ يُرَى تَلَأْلُؤُ وَجْهِهِ عَلَى الْجُدْرَانِ كَمَا يُرَى نُورُ الشَّمْسِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: كَانَ يُشْبِهُ آدَمَ يَوْمَ خَلَقَهُ رَبُّهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ يَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُنَّ إِنَّمَا أَكْبَرْنَهُ لِأَنَّهُنَّ رَأَيْنَ عَلَيْهِ نُورَ النُّبُوَّةِ وَسِيمَا الرسالة، وآثار الخضوع والاحتشام، وشاهدن منها مَهَابَةَ النُّبُوَّةِ، وَهَيْئَةَ الْمَلَكِيَّةِ وَهِيَ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَطْعُومِ وَالْمَنْكُوحِ، وَعَدَمُ الِاعْتِدَادِ بِهِنَّ، وَكَانَ الْجَمَالُ الْعَظِيمُ مَقْرُونًا بِتِلْكَ الْهَيْبَةِ وَالْهَيْئَةِ فَتَعَجَّبْنَ مِنْ تِلْكَ/ الْحَالَةِ فَلَا جَرَمَ أَكْبَرْنَهُ وَعَظَّمْنَهُ، وَوَقَعَ الرُّعْبُ وَالْمَهَابَةُ مِنْهُ فِي قُلُوبِهِنَّ، وَعِنْدِي أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَنْطَبِقُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهَا: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَكَيْفَ تَصِيرُ هَذِهِ الْحَالَةُ عُذْرًا لَهَا فِي قُوَّةِ الْعِشْقِ وَإِفْرَاطِ الْمَحَبَّةِ؟ قُلْنَا: قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَمْنُوعَ مَتْبُوعٌ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ لَهُنَّ مَعَ هَذَا الْخُلُقِ الْعَجِيبِ وَهَذِهِ السِّيرَةِ الْمَلَكِيَّةِ الطَّاهِرَةِ الْمُطَهَّرَةِ فَحُسْنُهُ يُوجِبُ الْحُبَّ الشَّدِيدَ وَسِيرَتُهُ الْمَلَكِيَّةُ تُوجِبُ الْيَأْسَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَتْ فِي الْمَحَبَّةِ، وَالْحَسْرَةِ، وَالْأَرَقِ وَالْقَلَقِ، وَهَذَا الْوَجْهُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَحْسَنُ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَقُلْنَ حَاشَا للَّه بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ بَعْدَ الشِّينِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَصْمَعِيِّ عَنْ نَافِعٍ وَهِيَ الْأَصْلُ لِأَنَّهَا مِنَ الْمُحَاشَاةِ وَهِيَ التَّنْحِيَةُ وَالتَّبْعِيدُ، وَالْبَاقُونَ بِحَذْفِ الْأَلِفِ للتخفيف وكثرة دورها على الألسن اتباعا للمصحف «وحاشا» كلمة يفيد معنى التنزيه، والمعنى هاهنا تَنْزِيهُ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْمُعْجِزِ حَيْثُ قَدَرَ على خلق جميل مثله. أما قَوْلُهُ: حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ فَالتَّعَجُّبُ مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِ عَفِيفٍ مِثْلِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ فِيهِ وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ إِثْبَاتُ الْحُسْنِ الْعَظِيمِ لَهُ قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى رَكَّزَ فِي الطِّبَاعِ أَنْ لَا حَيَّ أَحْسَنُ مِنَ الْمَلَكِ، كَمَا رَكَّزَ فِيهَا أَنْ لَا حَيَّ أَقْبَحُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى في صفة جهنم طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ [الصَّافَّاتِ: 65] وَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَقَرَّرَ فِي الطِّبَاعِ أَنَّ أَقْبَحَ الْأَشْيَاءِ هُوَ الشَّيْطَانُ فكذا هاهنا تَقَرَّرَ فِي الطِّبَاعِ أَنَّ أَحْسَنَ الْأَحْيَاءِ هُوَ الْمَلَكُ، فَلَمَّا أَرَادَتِ النِّسْوَةُ الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْحُسْنِ لَا جَرَمَ شَبَّهْنَهُ بِالْمَلَكِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مُطَهَّرُونَ عَنْ بَوَاعِثِ الشَّهْوَةِ، وَجَوَاذِبِ الْغَضَبِ، وَنَوَازِعِ الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ فَطَعَامُهُمْ تَوْحِيدُ اللَّه تَعَالَى وَشَرَابُهُمُ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّ النِّسْوَةَ لَمَّا رَأَيْنَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِنَّ الْبَتَّةَ وَرَأَيْنَ عَلَيْهِ هَيْبَةَ النُّبُوَّةِ وَهَيْبَةَ الرِّسَالَةِ، وَسِيمَا الطَّهَارَةِ قُلْنَ إِنَّا مَا رَأَيْنَا فِيهِ أَثَرًا مِنْ أَثَرِ الشَّهْوَةِ، وَلَا شَيْئًا مِنَ الْبَشَرِيَّةِ، وَلَا صِفَةً مِنَ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَهَذَا قَدْ تَطَهَّرَ عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ الْمَغْرُوزَةِ فِي الْبَشَرِ، وَقَدْ تَرَقَّى عَنْ حَدِّ الْإِنْسَانِيَّةِ وَدَخَلَ فِي الْمَلَكِيَّةِ.

[سورة يوسف (12) : آية 32]

فَإِنْ قَالُوا: فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْتُمْ فَكَيْفَ يَتَمَهَّدُ عُذْرُ تِلْكَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ النِّسْوَةِ؟ فَالْجَوَابُ قَدْ سَبَقَ. واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: لَا شَكَّ أَنَّهُنَّ إِنَّمَا ذكرت هَذَا الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ تَعْظِيمِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْبَشَرِيَّةِ وَإِدْخَالُهُ فِي الْمَلَكِيَّةِ سَبَبًا لِتَعْظِيمِ شَأْنِهِ وَإِعْلَاءِ مَرْتَبَتِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَلَكُ أَعْلَى حَالًا مِنَ الْبَشَرِ، ثُمَّ نَقُولُ: لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بَيَانَ كَمَالِ حَالِهِ فِي الْحُسْنِ الَّذِي هُوَ الْخُلُقُ الظَّاهِرُ، أَوْ كَمَالِ حَالِهِ فِي الْحُسْنِ الَّذِي هُوَ الْخُلُقُ الْبَاطِنُ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ وَصَفُوهُ بِكَوْنِهِ كَرِيمًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَرِيمًا بِسَبَبِ الْأَخْلَاقِ الْبَاطِنَةِ لَا بِسَبَبِ الْخِلْقَةِ الظَّاهِرَةِ، وَالثَّانِي: أَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ وَجْهَ الْإِنْسَانِ لَا يُشْبِهُ وُجُوهَ الْمَلَائِكَةِ الْبَتَّةَ. أَمَّا كَوْنُهُ بَعِيدًا عَنِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ مُعَرَّضًا عَنِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ مُتَوَجِّهًا إِلَى عُبُودِيَّةِ اللَّه تَعَالَى مُسْتَغْرِقَ الْقَلْبِ، وَالرُّوحِ فِيهِ فَهُوَ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ الْكَامِلِ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: تَشْبِيهُ الْإِنْسَانِ بِالْمَلَكِ فِي الْأَمْرِ الَّذِي حَصَلَتِ الْمُشَابَهَةُ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ تَشْبِيهِهِ بِالْمَلَكِ فِيمَا لَمْ تَحْصُلِ الْمُشَابَهَةُ فِيهِ الْبَتَّةَ، فَثَبَتَ أَنَّ تَشْبِيهَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْمَلَكِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا وَقَعَ فِي الْخُلُقِ الْبَاطِنِ، لَا فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَلَكُ أَعْلَى حَالًا مِنَ الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْفَضَائِلِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ إِعْمَالُ «مَا» عَمَلَ لَيْسَ وَبِهَا وَرَدَ قَوْلُهُ: مَا هَذَا بَشَراً وَمِنْهَا قَوْلُهُ: مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ [الْمُجَادَلَةِ: 2] وَمَنْ قَرَأَ عَلَى لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ. قَرَأَ مَا هَذَا بَشَرٌ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقُرِئَ مَا هَذَا بَشَراً أَيْ مَا هُوَ بِعَبْدٍ مَمْلُوكٍ لِلْبَشَرِ إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ثُمَّ نَقُولُ: مَا هَذَا بَشَرًا، أَيْ حَاصِلٌ بَشَرًا بمعنى هذا مشترى، وتقول: هَذَا لَكَ بَشَرًا أَمْ بِكْرًا، وَالْقِرَاءَةُ الْمُعْتَبَرَةُ هِيَ الْأُولَى لِمُوَافَقَتِهَا الْمُصْحَفَ، وَلِمُقَابَلَةِ الْبَشَرِ لِلْمَلَكِ. [سورة يوسف (12) : آية 32] قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) اعْلَمْ أَنَّ النِّسْوَةَ لَمَّا قُلْنَ فِي امْرَأَةِ الْعَزِيزِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، عَظُمَ ذَلِكَ/ عَلَيْهَا فَجَمَعَتْهُنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ فَعِنْدَ ذَلِكَ ذَكَرَتْ أَنَّهُنَّ بِاللَّوْمِ أَحَقُّ لِأَنَّهُنَّ بِنَظْرَةٍ وَاحِدَةٍ لِحَقِّهِنَّ أَعْظَمُ مِمَّا نَالَهَا مَعَ أَنَّهُ طَالَ مُكْثُهُ عِنْدَهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قَالَتْ: فَذلِكُنَّ مَعَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ حَاضِرًا؟ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَشَارَتْ بِصِيغَةِ ذَلِكُنَّ إِلَى يُوسُفَ بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنَ الْمَجْلِسِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ أَحْسَنُ مَا قِيلَ: أَنَّ النِّسْوَةَ كُنَّ يَقُلْنَ إِنَّهَا عَشِقَتْ عَبْدَهَا الْكَنْعَانِيَّ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ وَوَقَعْنَ فِي تِلْكَ الدَّهْشَةِ قَالَتْ: هَذَا الَّذِي رَأَيْتُمُوهُ هُوَ ذَلِكَ الْعَبْدُ الْكَنْعَانِيُّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ يَعْنِي: أَنَّكُنَّ لَمْ تَتَصَوَّرْنَهُ حَقَّ تَصَوُّرِهِ وَلَوْ حَصَلَتْ فِي خَيَالِكُنَّ صُورَتُهُ لَتَرَكْتُنَّ هَذِهِ الْمَلَامَةَ.

[سورة يوسف (12) : الآيات 33 إلى 34]

وَاعْلَمْ أَنَّهَا لَمَّا أَظْهَرَتْ عُذْرَهَا عِنْدَ النِّسْوَةِ فِي شِدَّةِ مَحَبَّتِهَا لَهُ كَشَفَتْ عَنْ حَقِيقَةِ الْحَالِ فَقَالَتْ: وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَرِيئًا عَنْ تِلْكَ التُّهْمَةِ، وَعَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: فَاسْتَعْصَمَ بَعْدَ حَلِّ السَّرَاوِيلِ وَمَا الَّذِي يَحْمِلُهُ عَلَى إِلْحَاقِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ الْفَاسِدَةِ الْبَاطِلَةِ بِنَصِّ الْكِتَابِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ وَالْمُرَادُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْ لَمْ يُوَافِقْهَا عَلَى مُرَادِهَا يُوقَعُ فِي السِّجْنِ وَفِي الصَّغَارِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّوَعُّدَ بِالصَّغَارِ لَهُ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ رَفِيعَ النَّفْسِ عَظِيمَ الْخَطَرِ مِثْلَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السلام، وقوله: وَلَيَكُوناً كَانَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَقِفَانِ عَلَى وَلَيَكُوناً بِالْأَلِفِ، وكذلك قوله: لَنَسْفَعاً [العلق: 15] واللَّه أعلم. [سورة يوسف (12) : الآيات 33 الى 34] قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا قَالَتْ: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف: 32] وَسَائِرُ النِّسْوَةِ سَمِعْنَ هَذَا التَّهْدِيدَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُنَّ اجْتَمَعْنَ عَلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقُلْنَ لَا مَصْلَحَةَ لَكَ فِي مُخَالَفَةِ أَمْرِهَا/ وَإِلَّا وَقَعْتَ فِي السِّجْنِ وَفِي الصَّغَارِ فَعِنْدَ ذَلِكَ اجْتَمَعَ فِي حَقِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْوَاعٌ مِنَ الْوَسْوَسَةِ: أَحَدُهَا: أَنَّ زَلِيخَا كَانَتْ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَانَتْ ذَاتَ مَالٍ وَثَرْوَةٍ، وَكَانَتْ عَلَى عَزْمٍ أَنْ تَبْذُلَ الْكُلَّ لِيُوسُفَ بِتَقْدِيرِ أَنْ يُسَاعِدَهَا عَلَى مَطْلُوبِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ النِّسْوَةَ اجْتَمَعْنَ عَلَيْهِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَانَتْ تُرَغِّبُهُ وَتُخَوِّفُهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ، وَمَكْرُ النِّسَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ شَدِيدٌ، وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ خَائِفًا مِنْ شَرِّهَا وَإِقْدَامِهَا عَلَى قَتْلِهِ وَإِهْلَاكِهِ، فَاجْتَمَعَ فِي حَقِّ يُوسُفَ جَمِيعُ جِهَاتِ التَّرْغِيبِ عَلَى مُوَافَقَتِهَا وَجَمِيعُ جِهَاتِ التَّخْوِيفِ عَلَى مُخَالَفَتِهَا، فَخَافَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ تُؤَثِّرَ هَذِهِ الْأَسْبَابُ الْقَوِيَّةُ الْكَثِيرَةُ فِيهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقُوَّةَ الْبَشَرِيَّةَ وَالطَّاقَةَ الْإِنْسَانِيَّةَ لَا تَفِي بِحُصُولِ هَذِهِ الْعِصْمَةِ الْقَوِيَّةِ، فَعِنْدَ هَذَا الْتَجَأَ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَقَالَ: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَقُرِئَ السَّجْنُ بِالْفَتْحِ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: السِّجْنُ فِي غَايَةِ الْمَكْرُوهِيَّةِ، وَمَا دَعَوْنَهُ إِلَيْهِ فِي غَايَةِ الْمَطْلُوبِيَّةِ، فَكَيْفَ قَالَ: الْمَشَقَّةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ اللَّذَّةِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ تِلْكَ اللَّذَّةَ كَانَتْ تَسْتَعْقِبُ آلَامًا عَظِيمَةً، وَهِيَ الذَّمُّ فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَابُ فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ السِّجْنِ كَانَ يَسْتَعْقِبُ سَعَادَاتٍ عَظِيمَةً، وَهِيَ الْمَدْحَ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابَ الدَّائِمَ فِي الْآخِرَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ حَبْسَهُمْ لَهُ مَعْصِيَةٌ كَمَا أَنَّ الزِّنَا مَعْصِيَةٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُحِبَّ السِّجْنَ مَعَ أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ. وَالْجَوَابُ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْتِزَامِ أَحَدِ الأمرين أعني الزنا والسجن، فَهَذَا أَوْلَى، لِأَنَّهُ

[سورة يوسف (12) : الآيات 35 إلى 36]

مَتَى وَجَبَ الْتِزَامُ أَحَدِ شَيْئَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرٌّ فَأَخَفُّهُمَا أَوْلَاهُمَا بِالتَّحَمُّلِ. ثُمَّ قَالَ: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أَمِلْ إِلَيْهِنَّ يُقَالُ: صَبَا إِلَى اللَّهْوِ يَصْبُو صَبْوًا إِذَا مَالَ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْصَرِفُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ إِلَّا إِذَا صَرَفَهُ اللَّه تَعَالَى عَنْهَا قَالُوا: لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنْ لَمْ يَصْرِفْهُ عَنْ ذَلِكَ الْقَبِيحِ وَقَعَ فِيهِ وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْقُدْرَةَ وَالدَّاعِيَ إِلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ إِنِ اسْتَوَيَا امْتَنَعَ الْفِعْلُ، لِأَنَّ الْفِعْلَ رُجْحَانٌ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَمَرْجُوحِيَّةٌ لِلطَّرْفِ الْآخَرِ وَحُصُولُهُمَا حَالَ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ حَصَلَ الرُّجْحَانُ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَذَلِكَ الرُّجْحَانُ لَيْسَ مِنَ الْعَبْدِ وَإِلَّا لَذَهَبَتِ الْمَرَاتِبُ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ بَلْ هُوَ مِنَ اللَّه تَعَالَى فَالصَّرْفُ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِهِ مَرْجُوحًا لِأَنَّهُ مَتَى/ صَارَ مَرْجُوحًا صَارَ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ لِأَنَّ الْوُقُوعَ رُجْحَانٌ، فَلَوْ وَقَعَ حَالَ الْمَرْجُوحِيَّةِ لَحَصَلَ الرُّجْحَانُ حَالَ حُصُولِ الْمَرْجُوحِيَّةِ، وَهُوَ يَقْتَضِي حُصُولَ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ انْصِرَافَ الْعَبْدِ عَنِ الْقَبِيحِ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى. وَيُمْكِنُ تَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ حَصَلَ فِي حَقِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَمِيعُ الْأَسْبَابِ الْمُرَغِّبَةِ فِي تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ وَالتَّمَتُّعِ بِالْمَنْكُوحِ وَالْمَطْعُومِ وَحَصَلَ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهَا جَمِيعُ الْأَسْبَابِ الْمُنَفِّرَةِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَقَدْ قَوِيَتِ الدَّوَاعِي فِي الْفِعْلِ وَضَعُفَتِ الدَّوَاعِي فِي التَّرْكِ، فَطَلَبَ مِنَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يُحْدِثَ فِي قَلْبِهِ أَنْوَاعًا مِنَ الدَّوَاعِي الْمُعَارِضَةِ النَّافِيَةِ لِدَوَاعِي الْمَعْصِيَةِ إِذْ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْمُعَارِضُ لَحَصَلَ الْمُرَجِّحُ لِلْوُقُوعِ فِي الْمَعْصِيَةِ خَالِيًا عَمَّا يُعَارِضُهُ، وَذَلِكَ يُوجِبُ وُقُوعَ الْفِعْلِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ. [سورة يوسف (12) : الآيات 35 الى 36] ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) [في قَوْلُهُ تَعَالَى ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ لَمَّا ظَهَرَ لَهُ بَرَاءَةُ سَاحَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا جَرَمَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، فَاحْتَالَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِجَمِيعِ الْحِيَلِ حَتَّى تَحْمِلَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مُوَافَقَتِهَا عَلَى مُرَادِهَا، فَلَمْ يَلْتَفِتْ يُوسُفُ إِلَيْهَا، فَلَمَّا أَيِسَتْ مِنْهُ احْتَالَتْ فِي طَرِيقٍ آخَرَ وَقَالَتْ لِزَوْجِهَا: إِنَّ هَذَا الْعَبْدَ الْعِبْرَانِيَّ فَضَحَنِي فِي النَّاسِ يَقُولُ لَهُمْ: إِنِّي رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ عُذْرِي، فَإِمَّا أَنْ تَأْذَنَ لِي فَأَخْرُجَ وَأَعْتَذِرَ وَإِمَّا أَنْ تَحْبِسَهُ كَمَا حَبَسْتَنِي، فَعِنْدَ ذَلِكَ وَقَعَ فِي قَلْبِ الْعَزِيزِ أَنَّ الْأَصْلَحَ حَبْسُهُ حَتَّى يَسْقُطَ عَنْ أَلْسِنَةِ النَّاسِ ذِكْرَ هَذَا الْحَدِيثِ وَحَتَّى تَقِلَّ الْفَضِيحَةُ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلُهُ ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ لِأَنَّ الْبَدَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ تَغَيُّرِ الرَّأْيِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ/ فِي الْأَوَّلِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَاتِ بَرَاءَتُهُ بِقَدِّ الْقَمِيصِ مِنْ دُبُرٍ، وَخَمْشُ الْوَجْهِ، وَإِلْزَامُ الْحَكَمِ إِيَّاهَا بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف: 28] وَذَكَرْنَا أَنَّهُ ظَهَرَتْ هُنَاكَ أَنْوَاعٌ أُخَرُ مِنَ الْآيَاتِ بَلَغَتْ مَبْلَغَ الْقَطْعِ وَلَكِنَّ الْقَوْمَ سَكَتُوا عَنْهَا سَعْيًا فِي إِخْفَاءِ الْفَضِيحَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: بَدا لَهُمْ فِعْلٌ وَفَاعِلُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلُهُ: لَيَسْجُنُنَّهُ وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى فِعْلٍ آخَرَ، إِلَّا أَنَّ النَّحْوِيِّينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى الْفِعْلِ لَا يَجُوزُ، فَإِذَا قُلْتَ

خَرَجَ ضَرَبَ لَمْ يُفِدِ الْبَتَّةَ، فَعِنْدَ هَذَا قَالُوا: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ سَجْنُهُ، إِلَّا أَنَّهُ أُقِيمَ هَذَا الْفِعْلُ مَقَامَ ذَلِكَ الِاسْمِ، وَأَقُولُ: الذَّوْقُ يَشْهَدُ بِأَنَّ جَعْلَ الْفِعْلِ مخبر عَنْهُ لَا يَجُوزُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ الْفِعْلُ خَبَرًا فَجَعْلُ الْخَبَرِ مُخْبَرًا عَنْهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّا نَقُولُ: الِاسْمُ قَدْ يَكُونُ خَبَرًا كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ قَائِمٌ فَقَائِمٌ اسْمٌ وَخَبَرٌ فَعَلِمْنَا أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ خَبَرًا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مُخْبَرًا عَنْهُ، بَلْ نَقُولُ فِي هَذَا الْمَقَامِ: شُكُوكٌ أَحَدُهَا: أَنَّا إِذَا قُلْنَا: ضَرَبَ فَعَلَ فَالْمُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ فِعْلٌ هُوَ ضَرَبَ، فَالْفِعْلُ صَارَ مُخْبَرًا عَنْهُ. فَإِنْ قَالُوا: الْمُخْبَرُ عَنْهُ هُوَ هَذِهِ الصِّيغَةُ وَهِيَ اسْمٌ فَنَقُولُ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ فِعْلٌ اسْمٌ لَا فِعْلٌ وَذَلِكَ كَذِبٌ وَبَاطِلٌ، بَلْ نَقُولُ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ فِعْلٌ إِنْ كَانَ فِعْلًا فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْفِعْلَ يَصِحُّ الْإِخْبَارُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ اسْمًا كَانَ مَعْنَاهُ: أَنَّا أَخْبَرْنَا عَنِ الِاسْمِ بِأَنَّهُ فِعْلٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَفِي هَذَا الْبَابِ مَبَاحِثُ عَمِيقَةٌ ذَكَرْنَاهَا فِي «كُتُبِ الْمَعْقُولَاتِ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْحِينُ وَقْتٌ مِنَ الزَّمَانِ غَيْرُ مَحْدُودٍ يَقَعُ عَلَى الْقَصِيرِ مِنْهُ، وَعَلَى الطَّوِيلِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ إِلَى انْقِطَاعِ الْمَقَالَةِ وَمَا شَاعَ فِي الْمَدِينَةِ مِنَ الْفَاحِشَةِ، ثم قيل: الحين هاهنا خَمْسُ سِنِينَ، وَقِيلَ: بَلْ سَبْعُ سِنِينَ، وَقَالَ مقاتل بن سليمان: حبس يوسف اثنتي عشر سَنَةً، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْمَقَادِيرَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، وَإِنَّمَا الْقَدْرُ الْمَعْلُومُ أَنَّهُ بَقِيَ مَحْبُوسًا مُدَّةً طَوِيلَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يُوسُفَ: 45] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ فَهَهُنَا مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَمَّا أَرَادُوا حَبْسَهُ حَبَسُوهُ وَحُذِفَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ عَلَيْهِ قِيلَ: هُمَا غُلَامَانِ كَانَا لِلْمَلِكِ الْأَكْبَرِ بِمِصْرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبُ طَعَامِهِ، وَالْآخَرُ صَاحِبُ شَرَابِهِ رُفِعَ إِلَيْهِ أَنَّ صَاحِبَ طَعَامِهِ يُرِيدُ أَنْ يَسُمَّهُ وَظَنَّ أَنَّ الْآخَرَ يُسَاعِدُهُ عَلَيْهِ فَأَمَرَ بِحَبْسِهِمَا بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ عَرَفَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَالِمٌ بِالتَّعْبِيرِ؟ وَالْجَوَابُ: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَهُمَا عَنْ حُزْنِهِمَا وَغَمِّهِمَا فَذَكَرَا إِنَّا رَأَيْنَا فِي الْمَنَامِ هَذِهِ الرُّؤْيَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ وَقَدْ أَظْهَرَ مَعْرِفَتَهُ بِأُمُورٍ مِنْهَا تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا فَعِنْدَهَا ذَكَرَا لَهُ ذَلِكَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ عَرَفَ أَنَّهُمَا كَانَا عَبْدَيْنِ لِلْمَلِكِ: الْجَوَابُ: لِقَوْلِهِ: فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً [يُوسُفَ: 41] أَيْ مَوْلَاهُ وَلِقَوْلِهِ: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يُوسُفَ: 42] . السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ عَرَفَ أَنَّ أَحَدَهُمَا صَاحِبُ شَرَابِ الْمَلِكِ، وَالْآخَرُ صَاحِبُ طَعَامِهِ؟ وَالْجَوَابُ: رُؤْيَا كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تُنَاسِبُ حِرْفَتَهُ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا رَأَى أَنَّهُ يَعْصِرُ الْخَمْرَ وَالْآخَرَ كَأَنَّهُ يَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِهِ خُبْزًا. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: كَيْفَ وَقَعَتْ رُؤْيَةُ الْمَنَامِ؟ وَالْجَوَابُ: فِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَخَلَ السِّجْنَ قَالَ لِأَهْلِهِ إِنِّي أُعَبِّرُ الْأَحْلَامَ فَقَالَ أَحَدُ الْفَتَيَيْنِ، هَلُمَّ فَلْنَخْتَبِرْ هَذَا الْعَبْدَ الْعِبْرَانِيَّ بِرُؤْيَا نَخْتَرِعُهَا لَهُ فَسَأَلَاهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَا رَأَيَا شَيْئًا. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ما كانا رأيا شيئا وإنما تحاكما ليختبرا علمه.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ كَانَا قَدْ رَأَيَا حِينَ دَخَلَا السِّجْنَ رُؤْيَا فَأَتَيَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسَأَلَاهُ عَنْهَا، فَقَالَ السَّاقِي أَيُّهَا الْعَالِمُ إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي فِي بُسْتَانٍ فَإِذَا بِأَصْلِ عِنَبَةٍ حَسَنَةٍ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَغْصَانٍ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ عَنَاقِيدَ مِنْ عِنَبٍ فَجَنَيْتُهَا وَكَأَنَّ كَأْسَ الْمَلِكِ بِيَدِي فَعَصَرْتُهَا فِيهِ وَسَقَيْتُهَا الْمَلِكَ فَشَرِبَهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ صَاحِبُ الطَّعَامِ إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ فَوْقَ رَأْسِي ثَلَاثَ سِلَالٍ فِيهَا خُبْزٌ وَأَلْوَانٌ وَأَطْعِمَةٌ وَإِذَا سِبَاعُ الطَّيْرِ تَنْهَشُ مِنْهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: كَيْفَ عَرَفَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً رُؤْيَا الْمَنَامِ؟ الْجَوَابُ: لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْصِدِ النَّوْمَ كَانَ ذِكْرُ قَوْلِهِ: أَعْصِرُ يُغْنِيهِ عَنْ ذِكْرِ قَوْلِهِ أَرانِي وَالثَّانِي: دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ [يوسف: 36] . السُّؤَالُ السَّادِسُ: كَيْفَ يُعْقَلُ عَصْرُ الْخَمْرِ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَعْصِرُ عِنَبَ خَمْرٍ، أَيِ الْعِنَبَ الَّذِي يَكُونُ عَصِيرُهُ خَمْرًا فَحُذِفَ الْمُضَافُ. الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ تسمي الشيء باسم ما يئول إِلَيْهِ إِذَا انْكَشَفَ الْمَعْنَى وَلَمْ يَلْتَبِسْ يَقُولُونَ فُلَانٌ يَطْبُخُ دِبْسًا وَهُوَ يَطْبُخُ عَصِيرًا. وَالثَّالِثُ: قَالَ أَبُو صَالِحٍ: أَهْلُ عُمَانَ يُسَمُّونَ الْعِنَبَ بِالْخَمْرِ فَوَقَعَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَنَطَقُوا بِهَا قَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِأَلْسِنَةِ جَمِيعِ الْعَرَبِ. السُّؤَالُ السَّابِعُ: مَا مَعْنَى التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ. الْجَوَابُ: تَأْوِيلُ الشَّيْءِ ما يرجع إليه وهو الذي يئول إِلَيْهِ آخِرَ ذَلِكَ الْأَمْرِ. السُّؤَالُ الثَّامِنُ: مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ إِنَّا نَرَاكَ تُؤْثِرُ الْإِحْسَانَ وَتَأْتِي بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَجَمِيعِ الْأَفْعَالِ الْحَمِيدَةِ. قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَعُودُ مَرْضَاهُمْ، وَيُؤْنِسُ حَزِينَهُمْ فَقَالُوا إِنَّكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أَيْ فِي حَقِّ الشُّرَكَاءِ وَالْأَصْحَابِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ شَدِيدَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الطَّاعَاتِ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فَقَالُوا إِنَّكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُوثَقُ بِمَا يَقُولُهُ فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، وَفِي سَائِرِ الْأُمُورِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي عِلْمِ التَّعْبِيرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَتَى عَبَّرَ لَمْ يُخْطِ كَمَا قَالَ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ [يُوسُفَ: 101] . السُّؤَالُ التَّاسِعُ: مَا حَقِيقَةُ عِلْمِ التَّعْبِيرِ؟ الْجَوَابُ: الْقُرْآنُ وَالْبُرْهَانُ يَدُلَّانِ عَلَى صِحَّتِهِ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَمَّا الْبُرْهَانُ فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ جَوْهَرَ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ بِحَيْثُ يُمَكِّنُهَا الصُّعُودَ إِلَى عَالَمِ الْأَفْلَاكِ، وَمُطَالَعَةَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَالْمَانِعُ لَهَا مِنْ ذَلِكَ اشْتِغَالُهَا بِتَدْبِيرِ الْبَدَنِ وَفِي وَقْتِ النَّوْمِ يَقِلُّ هَذَا التَّشَاغُلُ فَتَقْوَى عَلَى هَذِهِ الْمُطَالَعَةِ فَإِذَا وَقَعَتِ الرُّوحُ عَلَى حَالَةٍ مِنَ الْأَحْوَالِ تَرَكَتْ آثَارًا مَخْصُوصَةً مُنَاسِبَةً لِذَلِكَ الْإِدْرَاكِ الرُّوحَانِيِّ إِلَى عَالَمِ الْخَيَالِ فَالْمُعَبِّرُ يَسْتَدِلُّ بِتِلْكَ الْآثَارِ الْخَيَالِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْإِدْرَاكَاتِ الْعَقْلِيَّةِ فَهَذَا كَلَامٌ مُجْمَلٌ، وَتَفْصِيلُهُ مَذْكُورٌ فِي «الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ» ، وَالشَّرِيعَةُ مُؤَكِّدَةٌ لَهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ: رُؤْيَا مَا يُحَدِّثُ بِهِ الرَّجُلُ نَفْسَهُ، وَرُؤْيَا تَحْدُثُ مِنَ

[سورة يوسف (12) : الآيات 37 إلى 38]

الشَّيْطَانِ وَرُؤْيَا الَّتِي هِيَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ حَقَّةً» وَهَذَا تَقْسِيمٌ صَحِيحٌ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رُؤْيَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ ستة وأربعين جزءا من النبوة» . [سورة يوسف (12) : الآيات 37 الى 38] قالَ لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) [في قوله تعالى قالَ لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ بِجَوَابٍ لِمَا سألا عنه فلا بد هاهنا مِنْ بَيَانِ الْوَجْهِ الَّذِي لِأَجْلِهِ عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الْجَوَابِ إِلَى هَذَا الْكَلَامِ وَالْعُلَمَاءُ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ جَوَابُ أَحَدِ السَّائِلِينَ أَنَّهُ يُصْلَبُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَتَى سَمِعَ ذَلِكَ عَظُمَ حُزْنُهُ وَتَشْتَدُّ نَفْرَتُهُ عَنْ سَمَاعِ هَذَا الْكَلَامِ، فَرَأَى أَنَّ الصَّلَاحَ أَنْ يُقَدِّمَ قَبْلَ ذَلِكَ مَا يُؤَثِّرُ مَعَهُ بِعِلْمِهِ وَكَلَامِهِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ بِهَا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ خَرَجَ جَوَابُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ تُهْمَةٍ وَعَدَاوَةٍ. الثَّانِي: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ دَرَجَتَهُ فِي الْعِلْمِ أَعْلَى وَأَعْظَمُ مِمَّا اعْتَقَدُوا فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ عِلْمَ التَّعْبِيرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ مَبْنِيٌّ عَلَى الظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ، فَبَيَّنَ لَهُمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْإِخْبَارُ عَنِ الْغُيُوبِ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ مَعَ عَجْزِ كُلِّ الْخَلْقِ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَبِأَنْ يَكُونَ فَائِقًا عَلَى كُلِّ النَّاسِ فِي عِلْمِ التَّعْبِيرِ كَانَ أَوْلَى، فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ تَقْرِيرَ كَوْنِهِ فَائِقًا فِي عِلْمِ التَّعْبِيرِ وَاصِلًا فِيهِ إِلَى مَا لَمْ يَصِلْ غَيْرُهُ، وَالثَّالِثُ: قَالَ السُّدِّيُّ: لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ في النوم بين ذلك أَنَّ عِلْمَهُ بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا لَيْسَ بِمَقْصُورٍ عَلَى شَيْءٍ دُونَ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ الرَّابِعُ: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُمَا اعْتَقَدَا فِيهِ وَقَبِلَا قَوْلَهُ: فَأَوْرَدَ عَلَيْهِمَا مَا دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى، فَإِنَّ الِاشْتِغَالَ بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِ الدِّينِ أَوْلَى مِنَ الِاشْتِغَالِ بِمُهِمَّاتِ الدُّنْيَا، وَالْخَامِسُ: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ سَيُصْلَبُ اجْتَهَدَ فِي أَنْ يُدْخِلَهُ فِي الْإِسْلَامِ حَتَّى لَا يَمُوتَ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَا يَسْتَوْجِبَ العقاب الشديد ولِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الْأَنْفَالِ: 42] وَالسَّادِسُ: قَوْلُهُ: لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْيَقَظَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمَا أَيُّ طَعَامٍ هُوَ، وَأَيُّ لَوْنٍ هُوَ، وَكَمْ هُوَ، وَكَيْفَ يَكُونُ عَاقِبَتُهُ؟ أَيْ إِذَا أَكَلَهُ الْإِنْسَانُ فَهُوَ يُفِيدُ الصِّحَّةَ أَوِ السَّقَمَ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، قِيلَ: كَانَ الْمَلِكُ إِذَا أَرَادَ قَتْلَ إِنْسَانٍ صَنَعَ لَهُ طَعَامًا فَأَرْسَلَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ يُوسُفُ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمَا أَنَّ فِيهِ سُمًّا أَمْ لَا، هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ وَحَاصِلُهُ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّهُ ادَّعَى الْإِخْبَارَ عَنِ الْغَيْبِ، وَهُوَ يجري مجرى/ قوله عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ، وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران: 49] فَالْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ لِتَقْرِيرِ كَوْنِهِ فَائِقًا فِي عِلْمِ التَّعْبِيرِ، وَالْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ الْأُخَرُ لِتَقْرِيرِ كَوْنِهِ نَبِيًّا صَادِقًا مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ادِّعَاءِ الْمُعْجِزَةِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمِ ادِّعَاءٌ لِلنُّبُوَّةِ؟ قُلْنَا: إِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَكِنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ قَدْ ذَكَرَهُ، وَأَيْضًا فَفِي قَوْلِهِ: ذلِكُما مِمَّا

عَلَّمَنِي رَبِّي وَفِي قَوْلِهِ: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي أَيْ لَسْتُ أُخْبِرُكُمَا عَلَى جِهَةِ الْكَهَانَةِ وَالنُّجُومِ، وَإِنَّمَا أَخْبَرْتُكُمَا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّه وَعِلْمٍ حَصَلَ بِتَعْلِيمِ اللَّه. ثُمَّ قَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: فِي قَوْلِهِ: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ تَوَهُّمٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ. فَنَقُولُ جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّرْكَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ التَّعَرُّضِ لِلشَّيْءِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ خَائِضًا فِيهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَبْدًا لَهُمْ بِحَسَبِ زَعْمِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمُ الْفَاسِدِ، وَلَعَلَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ لَا يُظْهِرُ التَّوْحِيدَ وَالْإِيمَانَ خَوْفًا مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَظْهَرَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَكَانَ هَذَا جَارِيًا مَجْرَى تَرْكِ مِلَّةَ أُولَئِكَ الْكَفَرَةِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَكْرِيرُ لَفْظِ (هُمْ) فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ لبيان اختصاصهم بالكفر، ولعل إنكارهم للمعاد كان أَشَدُّ مِنْ إِنْكَارِهِمْ لِلْمَبْدَأِ، فَلِأَجْلِ مُبَالَغَتِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْمَعَادِ كَرَّرَ هَذَا اللَّفْظَ لِلتَّأْكِيدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِ الْمَبْدَأِ. وَقَوْلَهُ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِ الْمَعَادِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَتَفَكَّرَ فِي كَيْفِيَّةِ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ صَرْفُ الْخَلْقِ إِلَى الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ وَبِالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَأَنَّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ عَبَثٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ. الْجَوَابُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَتَحَدَّى بِالْمُعْجِزَةِ وَهُوَ عِلْمُ الْغَيْبِ قَرَنَ بِهِ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، وَأَنَّ أَبَاهُ وَجَدَّهُ وَجَدَّ أَبِيهِ كَانُوا أَنْبِيَاءَ اللَّه وَرُسُلَهُ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَتَى ادَّعَى حِرْفَةَ/ أَبِيهِ وَجَدِّهِ لَمْ يُسْتَبْعَدْ ذَلِكَ مِنْهُ، وَأَيْضًا فَكَمَا أَنَّ دَرَجَةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كَانَ أَمْرًا مَشْهُورًا فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ وَلَدُهُمْ عَظَّمُوهُ وَنَظَرُوا إِلَيْهِ بعين الإجلال، فكان انقيادهم له أتم وَتَأَثُّرُ قُلُوبِهِمْ بِكَلَامِهِ أَكْمَلَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لَمَّا كَانَ نَبِيًّا فَكَيْفَ قَالَ: إِنِّي اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي، وَالنَّبِيُّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِشَرِيعَةِ نَفْسِهِ. قُلْنَا: لَعَلَّ مُرَادَهُ التَّوْحِيدُ الَّذِي لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَأَيْضًا لَعَلَّهُ كَانَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّه، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ: ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ وَحَالُ كُلِّ الْمُكَلَّفِينَ كَذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَا كانَ لَنا أَنَّهُ حَرَّمَ ذلك عليهم، بل المراد أنه تعالى ظهر آبَاءَهُ عَنِ الْكُفْرِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مَرْيَمَ: 35] . السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ. الْجَوَابُ: أَنَّ أَصْنَافَ الشِّرْكِ كَثِيرَةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ النَّارَ، وَمِنْهُمْ من يعبد

[سورة يوسف (12) : الآيات 39 إلى 40]

الْكَوَاكِبَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ الْعَقْلَ وَالنَّفْسَ وَالطَّبِيعَةَ، فَقَوْلُهُ: مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَدٌّ عَلَى كُلِّ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ وَالْفِرَقِ، وَإِرْشَادٌ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا مُوجِدَ إِلَّا اللَّه وَلَا خَالِقَ إِلَّا اللَّه وَلَا رَازِقَ إِلَّا اللَّه. ثُمَّ قَالَ: ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ [إلى آخر الآية] وَفِيهِ مَسْأَلَةٌ. وَهِيَ أَنَّهُ قَالَ: مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. ثُمَّ قَالَ: ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فَقَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ الْإِشْرَاكِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْإِشْرَاكِ وَحُصُولَ الْإِيمَانِ مِنَ اللَّه. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي حَقِّهِ بِعَيْنِهِ، وَفِي حَقِّ النَّاسِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَشْكُرُونَ اللَّه عَلَى نِعْمَةِ الْإِيمَانِ، حُكِيَ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ دَخَلَ عَلَى بِشْرِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، وَقَالَ: هَلْ تَشْكُرُ اللَّه عَلَى الْإِيمَانِ أَمْ لَا. فَإِنْ قُلْتَ: لَا، فَقَدْ خَالَفْتَ الْإِجْمَاعَ، وَإِنْ شَكَرْتَهُ فَكَيْفَ تَشْكُرُهُ عَلَى مَا لَيْسَ فِعْلًا لَهُ، فَقَالَ لَهُ بِشْرٌ إِنَّا نَشْكُرُهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَانَا الْقُدْرَةَ وَالْعَقْلَ وَالْآلَةَ، فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَشْكُرَهُ عَلَى إِعْطَاءِ الْقُدْرَةِ وَالْآلَةِ، فَأَمَّا أَنْ نَشْكُرَهُ عَلَى الْإِيمَانِ مَعَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ فِعْلًا لَهُ، فَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَصَعُبَ الْكَلَامُ عَلَى بِشْرٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ ثُمَامَةُ بْنُ الْأَشْرَسِ وَقَالَ: إِنَّا لَا نَشْكُرُ اللَّه عَلَى الْإِيمَانِ، بَلِ اللَّه يَشْكُرُنَا عَلَيْهِ كَمَا قَالَ: فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الْإِسْرَاءِ: 19] فَقَالَ بِشْرٌ: لَمَّا صَعُبَ الْكَلَامُ سَهُلَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي أَلْزَمَهُ ثُمَامَةُ بَاطِلٌ بِنَصِّ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ عَدَمَ الْإِشْرَاكِ مِنْ فَضْلِ اللَّه، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ هَذِهِ النِّعْمَةَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الذَّمِّ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَشْكُرَ اللَّه تَعَالَى عَلَى نِعْمَةِ الْإِيمَانِ وَحِينَئِذٍ تَقْوَى الْحُجَّةُ وَتَكْمُلُ الدَّلَالَةُ. قَالَ الْقَاضِي قَوْلُهُ: ذلِكَ إِنْ جَعَلْنَاهُ إِشَارَةً إِلَى التَّمَسُّكِ بِالتَّوْحِيدِ فَهُوَ مِنْ فَضْلِ اللَّه تَعَالَى لِأَنَّهُ إِنَّمَا حَصَلَ بِأَلْطَافِهِ وَتَسْهِيلِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى النُّبُوَّةِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَذْكُورِ السَّابِقِ، وَذَاكَ هُوَ تَرْكُ الْإِشْرَاكِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الْإِشْرَاكِ مِنْ فَضْلِ اللَّه تَعَالَى، وَالْقَاضِي يَصْرِفُهُ إِلَى الْأَلْطَافِ وَالتَّسْهِيلِ، فَكَانَ هَذَا تَرْكًا لِلظَّاهِرِ وَأَمَّا صَرْفُهُ إِلَى النُّبُوَّةِ فَبَعِيدٌ، لِأَنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الْإِشَارَةِ يَجِبُ صَرْفُهُ إلى أقرب المذكورات وهو هاهنا عدم الإشراك. [سورة يوسف (12) : الآيات 39 الى 40] يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) [في قوله تعالى يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ] في الآية مسائل: المسألة الأولى: قوله: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ يُرِيدُ صَاحِبَيَّ فِي السِّجْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَتْ مُرَافَقَتُهُمَا فِي السِّجْنِ مُدَّةً قَلِيلَةً أُضِيفَا إِلَيْهِ وَإِذَا كَانَتِ الْمُرَافَقَةُ الْقَلِيلَةُ كَافِيَةً فِي كَوْنِهِ صَاحِبًا فَمَنْ عَرَفَ اللَّه وَأَحَبَّهُ طُولَ عُمُرِهِ أَوْلَى بِأَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ اسْمُ الْمُؤْمِنِ الْعَارِفِ الْمُحِبِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ادَّعَى النُّبُوَّةَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَكَانَ إِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ مَبْنِيًّا عَلَى إِثْبَاتِ الْإِلَهِيَّاتِ لَا جَرَمَ شَرَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي تَقْرِيرِ الْإِلَهِيَّاتِ، وَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُ الْخَلْقِ مُقِرِّينَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْعَالِمِ الْقَادِرِ

وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي أَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ أَصْنَامًا عَلَى صُورَةِ الْأَرْوَاحِ الْفَلَكِيَّةِ/ وَيَعْبُدُونَهَا وَيَتَوَقَّعُونَ حُصُولَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ مِنْهَا لَا جَرَمَ كَانَ سَعْيُ أَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْمَنْعِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا الْقَانُونِ فِي زَمَانِ يُوسُفَ عليه السلام، فلهذا السبب شرع هاهنا فِي ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَذَكَرَ أَنْوَاعًا مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْحُجَّةِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ كَثْرَةَ الْآلِهَةِ تُوجِبُ الْخَلَلَ وَالْفَسَادَ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] فَكَثْرَةُ الْآلِهَةِ تُوجِبُ الْفَسَادَ وَالْخَلَلَ، وَكَوْنُ الْإِلَهِ وَاحِدًا يَقْتَضِي حُصُولَ النِّظَامِ وَحُسْنَ التَّرْتِيبِ فَلَمَّا قَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي سائر الآيات قال هاهنا: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ. وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ مَعْمُولَةٌ لَا عَامِلَةٌ وَمَقْهُورَةٌ لَا قَاهِرَةٌ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَرَادَ كَسْرَهَا وَإِبْطَالَهَا قَدَرَ عَلَيْهَا فَهِيَ مَقْهُورَةٌ لَا تَأْثِيرَ لَهَا، وَلَا يَتَوَقَّعُ حُصُولَ مَنْفَعَةٍ وَلَا مَضَرَّةٍ مِنْ جِهَتِهَا وَإِلَهُ الْعَالَمِ فَعَّالٌ قَهَّارٌ قَادِرٌ يَقْدِرُ عَلَى إِيصَالِ الْخَيْرَاتِ وَدَفْعِ الشُّرُورِ وَالْآفَاتِ فَكَانَ الْمُرَادُ أَنَّ عِبَادَةَ الْآلِهَةِ الْمَقْهُورَةِ الذَّلِيلَةِ خَيْرٌ أَمْ عِبَادَةُ اللَّه الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، فَقَوْلُهُ: أَأَرْبابٌ إِشَارَةٌ إِلَى الْكَثْرَةِ فَجَعَلَ فِي مُقَابَلَتِهِ كَوْنَهُ تَعَالَى وَاحِدًا وَقَوْلُهُ: مُتَفَرِّقُونَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهَا مُخْتَلِفَةً فِي الْكِبَرِ وَالصِّغَرِ، وَاللَّوْنِ وَالشَّكْلِ، وَكُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ أَنَّ النَّاحِتَ وَالصَّانِعَ يَجْعَلُهُ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ فَقَوْلُهُ: مُتَفَرِّقُونَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهَا مَقْهُورَةً عَاجِزَةً وَجَعَلَ فِي مُقَابَلَتِهِ كَوْنَهُ تَعَالَى قَهَّارًا فَبِهَذَا الطَّرِيقِ الَّذِي شَرَحْنَاهُ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ الظَّاهِرَيْنِ. وَالْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى وَاحِدًا يُوجِبُ عِبَادَتَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ ثَانٍ لَمْ نَعْلَمْ مَنِ الَّذِي خَلَقَنَا وَرَزَقَنَا وَدَفَعَ الشُّرُورَ وَالْآفَاتِ عَنَّا، فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي أَنَّا نَعْبُدُ هَذَا أَمْ ذَاكَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَذَلِكَ لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَحْصُلَ الْمُسَاعَدَةُ عَلَى كَوْنِهَا نَافِعَةً ضَارَّةً إِلَّا أَنَّهَا كَثِيرَةٌ فَحِينَئِذٍ لَا نَعْلَمُ أَنَّ نَفْعَنَا وَدَفْعَ الضَّرَرِ عَنَّا حَصَلَ مِنْ هَذَا الصَّنَمِ أَوْ مِنْ ذَلِكَ الْآخَرِ أَوْ حَصَلَ بِمُشَارَكَتِهِمَا وَمُعَاوَنَتِهِمَا، وَحِينَئِذٍ يَقَعُ الشَّكُّ فِي أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْعِبَادَةِ هُوَ هَذَا أَمْ ذَاكَ أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَعْبُودُ وَاحِدًا ارْتَفَعَ هَذَا الشَّكُّ وَحَصَلَ الْيَقِينُ فِي أنه لا يستحق للعبادة إِلَّا هُوَ وَلَا مَعْبُودَ لِلْمَخْلُوقَاتِ وَالْكَائِنَاتِ إِلَّا هُوَ، فَهَذَا أَيْضًا وَجْهٌ لَطِيفٌ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يُسَاعِدَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ تَنْفَعُ وَتَضُرُّ عَلَى مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ الطَّلْسَمَاتِ إِلَّا أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهَا تَنْفَعُ فِي أَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ وَبِحَسَبِ آثَارٍ مَخْصُوصَةٍ، وَالْإِلَهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ فَهُوَ قَهَّارٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ نَافِذُ الْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ فِي كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَتِهِ أَوْلَى. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: وَهِيَ شَرِيفَةٌ عَالِيَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ شَرْطَ الْقَهَّارِ أَنْ لَا يَقْهَرَهُ أَحَدٌ سِوَاهُ وَأَنْ يَكُونَ هُوَ قَهَّارًا لِكُلِّ مَا سِوَاهُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ إِذْ لَوْ كَانَ مُمْكِنًا لَكَانَ مَقْهُورًا لَا قَاهِرًا وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا، إِذْ لَوْ حَصَلَ فِي الْوُجُودِ وَاجِبَانِ لَمَا كَانَ قَاهِرًا لِكُلِّ مَا سِوَاهُ، فَالْإِلَهُ لَا يَكُونُ قَهَّارًا إِلَّا إِذَا كَانَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ وَكَانَ وَاحِدًا، وَإِذَا كَانَ الْمَعْبُودُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ شَيْئًا غَيْرَ الْفَلَكِ وَغَيْرَ الْكَوَاكِبِ وَغَيْرَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ وَغَيْرَ الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ. فَأَمَّا مَنْ تَمَسَّكَ بِالْكَوَاكِبِ فَهِيَ أَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ وَهِيَ لَيْسَتْ مَوْصُوفَةً بِأَنَّهَا قَهَّارَةٌ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الطَّبَائِعِ وَالْأَرْوَاحِ وَالْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ فَهَذَا الْحَرْفُ الْوَاحِدُ كَافٍ فِي

إِثْبَاتِ هَذَا التَّوْحِيدِ الْمُطْلَقِ وَأَنَّهُ مَقَامٌ عَالٍ فَهَذَا مَجْمُوعُ الدَّلَائِلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَقِيَ فِيهَا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ سَمَّاهَا أَرْبَابًا وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ. وَالْجَوَابُ: لِاعْتِقَادِهِمْ فِيهَا أَنَّهَا كَذَلِكَ، وَأَيْضًا الْكَلَامُ خَرَجَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ: وَالْمَعْنَى أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ أَرْبَابًا فَهِيَ خَيْرٌ أَمِ اللَّه الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ بَيْنَ الْأَصْنَامِ وَبَيْنَ اللَّه تَعَالَى حَتَّى يُقَالَ إِنَّهَا خَيْرٌ أَمِ اللَّه الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ؟ الْجَوَابُ: أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، وَالْمَعْنَى: لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ حَصَلَ مِنْهَا مَا يُوجِبُ الْخَيْرَ فَهِيَ خَيْرٌ أَمِ اللَّه الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. ثُمَّ قَالَ: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ هَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ. ثُمَّ قَالَ عَقِيبَ تِلْكَ الْآيَةِ: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسَمَّى غَيْرُ حَاصِلٍ وَبَيْنَهُمَا تَنَاقُضٌ. الْجَوَابُ: أَنَّ الذَّاتَ مَوْجُودَةٌ حَاصِلَةٌ إِلَّا أَنَّ الْمُسَمَّى بِالْإِلَهِ غَيْرُ حَاصِلٍ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَوَاتِ الْأَصْنَامِ وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً إِلَّا أَنَّهَا غَيْرُ مَوْصُوفَةٍ بِصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الشَّيْءُ الَّذِي هُوَ مُسَمًّى بِالْإِلَهِ فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرَ مَوْجُودٍ وَلَا حَاصِلٍ، الثَّانِي: يُرْوَى أَنَّ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ مُشَبِّهَةٌ فَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ النُّورُ الْأَعْظَمُ وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَنْوَارٌ صَغِيرَةٌ وَوَضَعُوا عَلَى صُورَةِ تِلْكَ الْأَنْوَارِ هَذِهِ الْأَوْثَانَ وَمَعْبُودُهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ تِلْكَ الْأَنْوَارُ السَّمَاوِيَّةُ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُشَبِّهَةِ فَإِنَّهُمْ تَصَوَّرُوا جِسْمًا كَبِيرًا مُسْتَقِرًّا عَلَى الْعَرْشِ وَيَعْبُدُونَهُ وَهَذَا الْمُتَخَيَّلُ غَيْرُ مَوْجُودٍ الْبَتَّةَ فَصَحَّ أَنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ إِلَّا مُجَرَّدَ الْأَسْمَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِمَّنْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ قَالُوا نَحْنُ لَا نَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ آلِهَةٌ لِلْعَالَمِ بِمَعْنَى أَنَّهَا هِيَ الَّتِي خَلَقَتِ الْعَالَمَ إِلَّا أَنَّا نُطْلِقُ عَلَيْهَا اسْمَ الْإِلَهِ وَنَعْبُدُهَا وَنُعَظِّمُهَا لِاعْتِقَادِنَا أَنَّ اللَّه أَمَرَنَا بِذَلِكَ، فَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ، فَقَالَ أَمَّا تَسْمِيَتُهَا بِالْآلِهَةِ فَمَا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ وَمَا أَنْزَلَ فِي حُصُولِ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ حُجَّةً وَلَا بُرْهَانًا وَلَا دَلِيلًا وَلَا سُلْطَانًا، وَلَيْسَ لِغَيْرِ اللَّه حُكْمٌ وَاجِبُ الْقَبُولِ وَلَا أَمْرٌ وَاجِبُ الِالْتِزَامِ بَلِ الْحُكْمُ وَالْأَمْرُ وَالتَّكْلِيفُ لَيْسَ إِلَّا لَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ أن ألا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ نِهَايَةُ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ فَلَا تَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ حَصَلَ منه نهاية الإنعام وهو الإله تعالى لأن مِنْهُ الْخَلْقُ وَالْإِحْيَاءُ وَالْعَقْلُ وَالرِّزْقُ وَالْهِدَايَةُ، وَنِعَمُ اللَّه كَثِيرَةٌ وَجِهَاتُ إِحْسَانِهِ إِلَى الْخَلْقِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، قَالَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ وَتَفْسِيرُهُ أَنَّ أَكْثَرَ الْخَلْقِ يُسْنِدُونَ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ الْأَرْضِيَّةِ إِلَى الِاتِّصَالَاتِ الْفَلَكِيَّةِ وَالْمُنَاسَبَاتِ الْكَوْكَبِيَّةِ لِأَجْلِ أَنَّهُ تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ أَنَّ الْحَادِثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ فَإِذَا رَأَوْا أَنَّ تَغَيُّرَ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، إِنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ تَغَيُّرِ أَحْوَالِ الشَّمْسِ فِي أَرْبَاعِ الْفَلَكِ رَبَطُوا الْفُصُولَ الْأَرْبَعَةَ بِحَرَكَةِ الشَّمْسِ، ثُمَّ لَمَّا شَاهَدُوا أَنَّ أَحْوَالَ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ رَبَطُوا حُدُوثَ النَّبَاتِ وَتَغَيُّرَ أَحْوَالِ الْحَيَوَانِ بِاخْتِلَافِ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ غَلَبَ عَلَى طِبَاعِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ أَنَّ الْمُدَبِّرَ لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ فِي هَذَا الْعَالَمِ هُوَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَسَائِرُ الْكَوَاكِبِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى إِذَا وَفَّقَ إِنْسَانًا حَتَّى تَرَقَّى مِنْ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَعَرَفَ أَنَّهَا فِي

[سورة يوسف (12) : آية 41]

ذَوَاتِهَا وَصِفَاتِهَا مُفْتَقِرَةٌ إِلَى مُوجِدٍ وَمُبْدِعٍ قَاهِرٍ قَادِرٍ عَلِيمٍ حَكِيمٍ، فَذَلِكَ الشَّخْصُ يَكُونُ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ، فَلِهَذَا قَالَ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. [سورة يوسف (12) : آية 41] يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) اعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَرَّرَ أَمْرَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ عَادَ إِلَى الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ الَّذِي ذَكَرَاهُ، وَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّاقِيَ لَمَّا قَصَّ رُؤْيَاهُ عَلَى يُوسُفَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفَ قَصَّ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ يُوسُفُ: مَا أَحْسَنَ مَا رَأَيْتَ أَمَّا حُسْنُ الْعِنَبَةِ فَهُوَ حُسْنُ حَالِكَ، وَأَمَّا الْأَغْصَانُ الثَّلَاثَةُ فَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ يُوَجِّهُ إِلَيْكَ الْمَلِكُ عِنْدَ انْقِضَائِهِنَّ فَيَرُدُّكَ إِلَى عَمَلِكَ فَتَصِيرُ كَمَا كُنْتَ بَلْ أَحْسَنَ، وَقَالَ لِلْخَبَّازِ: لَمَّا قَصَّ/ عَلَيْهِ بِئْسَمَا رَأَيْتَ السِّلَالُ الثَّلَاثُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ يُوَجِّهُ إِلَيْكَ الْمَلِكُ عِنْدَ انْقِضَائِهِنَّ فَيَصْلُبُكَ وَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِكَ، ثُمَّ نَقَلَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُمَا قَالَا مَا رَأَيْنَا شَيْئًا فَقَالَ: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ وَاخْتُلِفَ فِيمَا لِأَجْلِهِ قَالَا مَا رَأَيْنَا شَيْئًا فَقِيلَ إِنَّهُمَا وَضَعَا هَذَا الْكَلَامَ لِيَخْتَبِرَا عِلْمَهُ بِالتَّعْبِيرِ مَعَ أَنَّهُمَا مَا رَأَيَا شَيْئًا وَقِيلَ: إِنَّهُمَا لَمَّا كَرِهَا ذَلِكَ الْجَوَابَ قَالَا مَا رَأَيْنَا شَيْئًا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَهُ بِنَاءً عَلَى الْوَحْيِ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى أَوْ بِنَاءً عَلَى عِلْمِ التَّعْبِيرِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمَا نَقَلَ أَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْبِيرِ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا [يوسف: 42] وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ التَّعْبِيرُ مَبْنِيًّا عَلَى الْوَحْيِ لَكَانَ الْحَاصِلُ مِنْهُ الْقَطْعَ وَالْيَقِينَ لَا الظَّنَّ وَالتَّخْمِينَ، وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ عِلْمَ التَّعْبِيرِ مَبْنِيٌّ عَلَى الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ. الْجَوَابُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا لَمَّا سَأَلَاهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَنَامِ صَدَقَا فِيهِ أَوْ كَذَبَا فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ أَنَّ عَاقِبَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَكُونُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ بِذَلِكَ الْغَيْبِ عِنْدَ ذَلِكَ السُّؤَالِ وَقَعَ فِي الظَّنِّ أَنَّهُ ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْبِيرِ، وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ بَنَى ذَلِكَ الْجَوَابَ عَلَى عِلْمِ التَّعْبِيرِ، وَقَوْلُهُ: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ مَا عَنَى بِهِ أن الذي ذكره وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ بَلْ عَنَى بِهِ أَنَّهُ حَكَمَهُ فِي تَعْبِيرِ مَا سَأَلَاهُ عَنْهُ ذَلِكَ الذي ذكره. [سورة يوسف (12) : آية 42] وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) فِيهِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالظَّنِّ هُوَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوِ النَّاجِي فَعَلَى الْأَوَّلِ كَانَ الْمَعْنَى وَقَالَ الرَّجُلُ الَّذِي ظَنَّ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَوْنَهُ نَاجِيًا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ تَحْمِلَ هَذَا الظَّنَّ عَلَى الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ، وَهَذَا إِذَا قُلْنَا بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ التَّعْبِيرَ بِنَاءً عَلَى الْوَحْيِ. قَالَ هَذَا الْقَائِلُ وَوُرُودُ لَفْظِ الظَّنِّ بِمَعْنَى الْيَقِينِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. قَالَ تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَةِ: 46] وَقَالَ: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [الْحَاقَّةِ: 20] وَالثَّانِي: أَنْ تَحْمِلَ هَذَا الظَّنَّ عَلَى حَقِيقَةِ/ الظَّنِّ، وَهَذَا

إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ ذَلِكَ التَّعْبِيرَ لَا بِنَاءً عَلَى الْوَحْيِ، بَلْ عَلَى الْأُصُولِ الْمَذْكُورَةِ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَهِيَ لَا تُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ وَالْحُسْبَانَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الظَّنَّ صِفَةُ النَّاجِي، فَإِنَّ الرَّجُلَيْنِ السَّائِلَيْنِ مَا كَانَا مُؤْمِنَيْنِ بِنُبُوَّةِ يُوسُفَ وَرِسَالَتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا كَانَا حَسَنَيِ الِاعْتِقَادِ فِيهِ، فَكَانَ قَوْلُهُ لَا يُفِيدُ فِي حَقِّهِمَا إِلَّا مُجَرَّدَ الظَّنِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي حَكَمَ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الْحَبْسِ وَيَرْجِعُ إِلَى خِدْمَةِ الْمَلِكِ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ أَيْ عِنْدِ الْمَلِكِ. وَالْمَعْنَى: اذْكُرْ عِنْدَهُ أَنَّهُ مَظْلُومٌ مِنْ جِهَةِ إِخْوَتِهِ لِمَا أَخْرَجُوهُ وَبَاعُوهُ، ثُمَّ إِنَّهُ مَظْلُومٌ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا حُبِسَ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الذِّكْرِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى يُوسُفَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الشَّيْطَانَ أَنْسَى يُوسُفَ أَنْ يَذْكُرَ رَبَّهُ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَمَسُّكَهُ بِغَيْرِ اللَّه كَانَ مُسْتَدْرَكًا عَلَيْهِ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَصْلَحَتَهُ كَانَتْ فِي أَنْ لَا يَرْجِعَ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ وَأَنْ لَا يَعْرِضَ حَاجَتَهُ عَلَى أَحَدٍ سِوَى اللَّه، وَأَنْ يَقْتَدِيَ بِجَدِّهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ حِينَ وُضِعَ فِي الْمَنْجَنِيقِ لِيُرْمَى إِلَى النَّارِ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: هَلْ مِنْ حَاجَةٍ، فَقَالَ أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا، فَلَمَّا رَجَعَ يُوسُفُ إِلَى الْمَخْلُوقِ لَا جَرَمَ وَصَفَ اللَّه ذَلِكَ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ أَنْسَاهُ ذَلِكَ التَّفْوِيضَ، وَذَلِكَ التَّوْحِيدَ، وَدَعَاهُ إِلَى عَرْضِ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ، ثُمَّ لَمَّا وَصَفَهُ بِذَلِكَ ذَكَرَ أَنَّهُ بَقِيَ لِذَلِكَ السَّبَبِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا عَدَلَ عَنِ الِانْقِطَاعِ إِلَى رَبِّهِ إِلَى هَذَا الْمَخْلُوقِ عُوقِبَ بِأَنْ لَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ، وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ رُجُوعَ يُوسُفَ إِلَى الْمَخْلُوقِ صَارَ سَبَبًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صَارَ سَبَبًا لِاسْتِيلَاءِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ حَتَّى أَنْسَاهُ ذِكْرَ رَبِّهِ، الثَّانِي: أَنَّهُ صَارَ سَبَبًا لِبَقَاءِ الْمِحْنَةِ عَلَيْهِ مُدَّةً طَوِيلَةً. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ فِي إِبْطَالِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يُوسُفَ: 39] ثم إنه هاهنا أَثْبَتَ رَبًّا غَيْرَهُ حَيْثُ قَالَ: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ وَمَعَاذَ اللَّه أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ حَكَمَ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ رَبًّا بِمَعْنَى كَوْنِهِ إِلَهًا، بَلْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ كَمَا يُقَالُ: رَبُّ الدَّارِ، وَرَبُّ الثَّوْبِ عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الرَّبِّ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ يُنَاقِضُ نَفْيَ الْأَرْبَابِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ مَا كان لنا أن نشرك باللَّه من شيء، وَذَلِكَ نَفْيٌ لِلشِّرْكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَتَفْوِيضُ الْأُمُورِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى اللَّه تَعَالَى، فَهَهُنَا الرُّجُوعُ إِلَى غَيْرِ اللَّه تَعَالَى كَالْمُنَاقِضِ لِذَلِكَ التَّوْحِيدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِالنَّاسِ فِي دَفْعِ الظُّلْمِ جَائِزَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، إِلَّا أَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ فَهَذَا وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لِعَامَّةِ الْخَلْقِ إِلَّا أَنَّ الْأَوْلَى بِالصِّدِّيقِينَ أَنْ يَقْطَعُوا نَظَرَهُمْ عَنِ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ وَأَنْ لَا يَشْتَغِلُوا إِلَّا بِمُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّهُ تَمَسَّكَ بِغَيْرِ اللَّه وَطَلَبَ مِنْ ذَلِكَ السَّاقِي أَنْ يَشْرَحَ حَالَهُ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَلِكِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُخَلِّيَ ذَلِكَ الْكَلَامَ مِنْ ذِكْرِ اللَّه مِثْلَ أَنْ يَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّه أَوْ قَدَّرَ اللَّه فَلَمَّا أَخْلَاهُ عَنْ هَذَا الذِّكْرِ وَقَعَ هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ إِنَّ قَوْلَهُ: فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ رَاجِعٌ إِلَى النَّاجِي وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشيطان أنسى

ذَلِكَ الْفَتَى أَنْ يَذْكُرَ يُوسُفَ لِلْمَلِكِ حَتَّى طَالَ الْأَمْرُ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ بِهَذَا السَّبَبِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «رَحِمَ اللَّه يُوسُفَ لَوْ لَمْ يَقُلِ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ» وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عُوقِبَ بِسَبَبِ رُجُوعِهِ إِلَى غَيْرِ اللَّه، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ أَنَّهُ لَمَّا انْتَهَى إِلَى بَابِ السِّجْنِ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: مَا حَاجَتُكَ قَالَ: أَنْ تَذْكُرَنِي عِنْدَ رَبٍّ سِوَى الرَّبِّ الَّذِي قَالَ يُوسُفُ، وَعَنْ مَالِكٍ لَمَّا قَالَ يُوسُفُ لِلسَّاقِي اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ قِيلَ: يَا يُوسُفُ اتَّخَذْتَ مِنْ دُونِي وَكِيلًا لَأُطِيلَنَّ حَبْسَكَ فَبَكَى يُوسُفُ وَقَالَ: طُولُ الْبَلَاءِ أَنْسَانِي ذِكْرَ الْمَوْلَى فَقُلْتُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فَوَيْلٌ لِإِخْوَتِي. قَالَ مُصَنِّفُ الْكِتَابِ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللَّه، وَالَّذِي جَرَّبْتُهُ مِنْ أَوَّلِ عُمْرِي إِلَى آخِرِهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ كُلَّمَا عَوَّلَ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ عَلَى غَيْرِ اللَّه صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ، وَالشِّدَّةِ وَالرَّزِيَّةِ، وَإِذَا عَوَّلَ الْعَبْدُ عَلَى اللَّه وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ حَصَلَ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ فَهَذِهِ التَّجْرِبَةُ قَدِ اسْتَمَرَّتْ لِي مِنْ أَوَّلِ عُمُرِي إِلَى هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي بَلَغْتُ فِيهِ إِلَى السَّابِعِ وَالْخَمْسِينَ، فَعِنْدَ هَذَا اسْتَقَرَّ قَلْبِي عَلَى أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ لِلْإِنْسَانِ فِي التَّعْوِيلِ عَلَى شَيْءٍ سِوَى فَضْلِ اللَّه تَعَالَى وَإِحْسَانِهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ رَجَّحَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ لِأَنَّ صَرْفَ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ أَوْلَى مَنْ صَرْفِهَا إِلَى يُوسُفَ الصِّدِّيقِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِالْعِبَادِ فِي التَّخَلُّصِ مِنَ الظُّلْمِ جَائِزَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَمَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ الثَّانِي تَمَسُّكٌ بِظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ وَمَا قَرَّرَهُ الْقَائِلُ الْأَوَّلُ تَمَسَّكَ بِأَسْرَارِ الْحَقِيقَةِ وَمَكَارِمِ الشَّرِيعَةِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ ذَوْقٌ فِي مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ وَشَرِبَ مِنْ مَشْرَبِ التَّوْحِيدِ عَرَفَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَيْضًا فَفِي لَفْظِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَقَالَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَهُ لِرَبِّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الِاسْتِعَانَةُ بِغَيْرِ اللَّه فِي دَفْعِ الظُّلْمِ جَائِزَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ لَا إِنْكَارَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُسْتَدْرَكًا مِنَ الْمُحَقِّقِينَ الْمُتَوَغِّلِينَ فِي بِحَارِ الْعُبُودِيَّةِ لَا جَرَمَ صَارَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُؤَاخَذًا/ بِهِ، وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ: الَّذِي يَصِيرُ مُؤَاخَذًا بِهَذَا الْقَدْرِ لَأَنْ يَصِيرَ مُؤَاخَذًا بِالْإِقْدَامِ عَلَى طَلَبِ الزِّنَا وَمُكَافَأَةِ الْإِحْسَانِ بِالْإِسَاءَةِ كَانَ أَوْلَى فَلَمَّا رَأَيْنَا اللَّه تَعَالَى آخَذَهُ بِهَذَا الْقَدْرِ، وَلَمْ يُؤَاخِذْهُ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْبَتَّةَ، وَمَا عَابَهُ بَلْ ذَكَرَهُ بِأَعْظَمِ وُجُوهِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ عَلِمْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُبَرَّأً مِمَّا نَسَبَهُ الْجُهَّالُ وَالْحَشْوِيَّةُ إِلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الشَّيْطَانُ يُمْكِنُهُ إِلْقَاءُ الْوَسْوَسَةِ، وَأَمَّا النِّسْيَانُ فَلَا، لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إِزَالَةِ الْعِلْمِ عَنِ الْقَلْبِ، وَالشَّيْطَانُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا لَكَانَ قَدْ أَزَالَ مَعْرِفَةَ اللَّه تَعَالَى عَنْ قُلُوبِ بَنِي آدَمَ. وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ يُمْكِنُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بِوَسْوَسَتِهِ يَدْعُو إِلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ وَاشْتِغَالُ الْإِنْسَانِ بِسَائِرِ الْأَعْمَالِ يَمْنَعُهُ عَنِ اسْتِحْضَارِ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَتِلْكَ الْمَعْرِفَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ فِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: بِحَسَبِ اللُّغَةِ قَالَ الزَّجَّاجُ: اشْتِقَاقُهُ مِنْ بَضَعْتُ بِمَعْنَى قَطَعْتُ وَمَعْنَاهُ الْقِطْعَةُ مِنَ الْعَدَدِ قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَا يُذْكَرُ الْبِضْعُ إِلَّا مَعَ عَشَرَةٍ أَوْ عِشْرِينَ إِلَى التِّسْعِينَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِمَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى التِّسْعَةِ، وَقَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ الْعَرَبَ يَقُولُونَ وَمَا رَأَيْتُهُمْ يَقُولُونَ بِضْعَ وَمِائَةً، وَرَوَى الشَّعْبِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ عليه

[سورة يوسف (12) : الآيات 43 إلى 44]

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «كَمِ الْبِضْعُ» قَالُوا اللَّه وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: «مَا دُونَ الْعَشَرَةِ» واتفق الأكثرون على أن المراد هاهنا بِبِضْعِ سِنِينَ، سَبْعُ سِنِينَ قَالُوا: إِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ كَانَ قَدْ بَقِيَ فِي السِّجْنِ خَمْسَ سِنِينَ ثُمَّ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ سَبْعَ سِنِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لَمَّا تَضَرَّعَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ كَانَ قَدِ اقْتَرَبَ وَقْتُ خُرُوجِهِ فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ لَبِثَ فِي السِّجْنِ بَعْدَهُ سَبْعَ سِنِينَ، وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ رَوَى قَوْلَهُ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ: «رَحِمَ اللَّه يُوسُفَ لَوْلَا الْكَلِمَةُ الَّتِي قَالَهَا لَمَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ هَذِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ» ثُمَّ بَكَى الْحَسَنُ وَقَالَ: نَحْنُ إِذَا نَزَلَ بِنَا أَمْرٌ تَضَرَّعْنَا إِلَى الناس. [سورة يوسف (12) : الآيات 43 الى 44] وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ شَيْئًا هَيَّأَ لَهُ أَسْبَابًا، وَلَمَّا دَنَا فَرَجُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى مَلِكُ مِصْرَ فِي النَّوْمِ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ خَرَجْنَ مِنْ نَهْرٍ يَابِسٍ وَسَبْعَ بَقَرَاتٍ عِجَافٍ فَابْتَلَعَتِ الْعِجَافُ السِّمَانَ، وَرَأَى سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ قَدِ انْعَقَدَ حَبُّهَا، وَسَبْعًا أُخَرَ يَابِسَاتٍ، فَالْتَوَتِ الْيَابِسَاتُ عَلَى الْخُضْرِ حَتَّى غَلَبْنَ عَلَيْهَا فَجَمَعَ الْكَهَنَةَ وَذَكَرَهَا لَهُمْ وهو المراد من قوله: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ فقال القوم هذه الرؤيا مختلطة فلا تقدر عَلَى تَأْوِيلِهَا وَتَعْبِيرِهَا، فَهَذَا ظَاهِرُ الْكَلَامِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ اللَّيْثُ: الْعَجَفُ ذَهَابُ السِّمَنِ وَالْفِعْلُ عَجِفَ يَعْجَفُ وَالذَّكَرُ أَعْجَفُ وَالْأُنْثَى عَجْفَاءُ وَالْجَمْعُ عِجَافٌ فِي الذُّكْرَانِ وَالْإِنَاثِ. وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَفْعَلُ وَفَعْلَاءُ جَمْعًا عَلَى فِعَالٍ غَيْرَ أَعْجَفَ وَعِجَافٍ وَهِيَ شَاذَّةٌ حَمَلُوهَا عَلَى لَفْظِ سِمَانٍ فَقَالُوا: سِمَانٌ وَعِجَافٌ لِأَنَّهُمَا نَقِيضَانِ وَمِنْ دَأْبِهِمْ حَمْلُ النَّظِيرِ عَلَى النَّظِيرِ، والنقيض على النقيض، واللام في قوله: لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ عَلَى قَوْلِ الْبَعْضِ زَائِدَةٌ لِتَقَدُّمِ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفِعْلِ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَا خَبَرَ كَانَ كَمَا تَقُولُ: كَانَ فُلَانٌ لِهَذَا الْأَمْرِ إِذَا كَانَ مُسْتَقِلًّا بِهِ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ وَتَعْبُرُونَ خَبَرًا آخَرَ أَوْ حَالًا، وَيُقَالُ عَبَرْتُ الرُّؤْيَا أَعْبُرُهَا عِبَارَةً وَعَبَّرْتُهَا تَعْبِيرًا إِذَا فَسَّرْتَهَا، وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ أَنَّ هَذَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُبْرِ، وَهُوَ جَانِبُ النَّهَرِ وَمَعْنَى عَبَرْتُ النَّهَرَ، وَالطَّرِيقَ قَطَعْتُهُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَقِيلَ لِعَابِرِ الرُّؤْيَا عَابِرٌ، لِأَنَّهُ يَتَأَمَّلُ جَانِبَيِ الرُّؤْيَا فَيَتَفَكَّرُ فِي أَطْرَافِهَا وَيَنْتَقِلُ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ إِلَى الْآخَرِ، وَالْأَضْغَاثُ جَمْعُ الضِّغْثِ وَهُوَ الْحُزْمَةُ مِنْ أَنْوَاعِ النَّبْتِ وَالْحَشِيشِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا قَامَ عَلَى سَاقٍ وَاسْتَطَالَ قَالَ تَعَالَى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً [ص: 44] . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الرُّؤْيَا إِنْ كَانَتْ مَخْلُوطَةً مِنْ أَشْيَاءَ غَيْرِ مُتَنَاسِبَةٍ كَانَتْ شَبِيهَةً بِالضِّغْثِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ تِلْكَ الرُّؤْيَا سَبَبًا لِخَلَاصِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ السِّجْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلِكَ لَمَّا قَلِقَ وَاضْطَرَبَ بِسَبَبِهِ، لِأَنَّهُ شَاهَدَ أَنَّ النَّاقِصَ الضَّعِيفَ اسْتَوْلَى عَلَى الْكَامِلِ الْقَوِيِّ فَشَهِدَتْ فِطْرَتُهُ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ وَأَنَّهُ مُنْذِرٌ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِّ، إِلَّا أَنَّهُ مَا عَرَفَ كَيْفِيَّةَ الْحَالِ فِيهِ وَالشَّيْءُ إِذَا صَارَ مَعْلُومًا مِنْ وَجْهٍ وَبَقِيَ مَجْهُولًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَظُمَ تَشَوُّفُ النَّاسِ إِلَى تَكْمِيلِ تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ وَقَوِيَتِ الرَّغْبَةُ فِي إِتْمَامِ النَّاقِصِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ عَظِيمَ الشَّأْنِ وَاسِعَ الْمَمْلَكَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ دَالًّا عَلَى الشَّرِّ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ

[سورة يوسف (12) : الآيات 45 إلى 46]

قَوَّى اللَّه دَاعِيَةَ ذَلِكَ الْمَلِكِ فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِتَعْبِيرِ هَذِهِ الرُّؤْيَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أعجز المعبرين الذين حَضَرُوا عِنْدَ ذَلِكَ الْمَلِكِ عَنْ جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَعَمَّاهُ عَلَيْهِمْ لِيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِخَلَاصِ يُوسُفَ مِنْ تِلْكَ الْمِحْنَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ مَا نَفَوْا عَنْ أَنْفُسِهِمْ كَوْنَهُمْ عَالِمِينَ بِعِلْمِ التَّعْبِيرِ، بَلْ قَالُوا: إِنَّ عِلْمَ التَّعْبِيرِ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُ مَا تَكُونُ الرُّؤْيَا فِيهِ مُنْتَسِقَةً مُنْتَظِمَةً فَيَسْهُلُ الِانْتِقَالُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُتَخَيَّلَةِ إِلَى الْحَقَائِقِ الْعَقْلِيَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ وَمِنْهُ مَا تَكُونُ فِيهِ مُخْتَلِطَةً مُضْطَرِبَةً وَلَا يَكُونُ فِيهَا تَرْتِيبٌ مَعْلُومٌ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْأَضْغَاثِ وَالْقَوْمُ قَالُوا إِنَّ رُؤْيَا الْمَلِكِ مِنْ قِسْمِ الْأَضْغَاثِ ثُمَّ أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ غَيْرُ عَالِمِينَ بِتَعْبِيرِ هَذَا الْقِسْمِ وَكَأَنَّهُمْ قَالُوا هَذِهِ الرُّؤْيَا مُخْتَلِطَةٌ مِنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَحْنُ لَا نَهْتَدِي إِلَيْهَا وَلَا يحيط عقلنا بها وفيها إيهام أن الكامل فِي هَذَا الْعِلْمِ وَالْمُتَبَحِّرَ فِيهِ قَدْ يَهْتَدِي إِلَيْهَا، فَعِنْدَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ تَذَكَّرَ ذَلِكَ الشَّرَابِيُّ وَاقِعَةَ يُوسُفَ فَإِنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ فِيهِ كَوْنَهُ متبحرا في هذا العلم. [سورة يوسف (12) : الآيات 45 الى 46] وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) اعْلَمْ أَنَّ الْمَلِكَ لَمَّا سَأَلَ الْمَلَأَ عَنِ الرُّؤْيَا وَاعْتَرَفَ الْحَاضِرُونَ بِالْعَجْزِ عَنِ الْجَوَابِ قَالَ الشَّرَابِيُّ إِنَّ فِي الْحَبْسِ رَجُلًا فَاضِلًا صَالِحًا كَثِيرَ الْعِلْمِ كَثِيرَ الطَّاعَةِ قَصَصْتُ أَنَا وَالْخَبَّازُ عَلَيْهِ مَنَامَيْنِ فَذَكَرَ تَأْوِيلَهُمَا فَصَدَقَ فِي الْكُلِّ وَمَا أَخْطَأَ فِي حَرْفٍ فَإِنْ أَذِنْتَ مَضَيْتُ إِلَيْهِ وَجِئْتُكَ بِالْجَوَابِ. فَهَذَا هُوَ قَوْلُهُ: وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ فَنَقُولُ: سَيَجِيءُ ادَّكَرَ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 51] فِي سُورَةِ الْقَمَرِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَادَّكَرَ بِالدَّالِ هُوَ الْفَصِيحُ عَنِ الْحَسَنِ وَاذَّكَرَ بِالذَّالِ أَيْ تَذَكَّرَ، وَأَمَّا الْأُمَّةُ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: بَعْدَ أُمَّةٍ أَيْ بَعْدَ حِينٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحِينَ إِنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْأَيَّامِ الْكَثِيرَةِ كَمَا أَنَّ الْأُمَّةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ فَالْحِينُ كَانَ أُمَّةً مِنَ الْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ وَالثَّانِي: قَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ بَعْدَ أُمَّةٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْإِمَّةُ النِّعْمَةُ قَالَ عَدِيٌّ: ثُمَّ بَعْدَ الْفَلَاحِ وَالْمُلْكِ وَالْإِمَّةِ وَارَتْهُمْ هُنَاكَ الْقُبُورُ والمعنى: بعد ما أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالنَّجَاةِ. الثَّالِثُ: قُرِئَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَيْ بَعْدَ نِسْيَانٍ يُقَالُ أَمِهَ يَأْمَهُ أَمَهًا إِذَا نَسِيَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بِسُكُونِ الْمِيمِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَادَّكَرَ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَوْقَاتِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي أَوْصَاهُ يُوسُفُ عليه السلام بذكره عند الملك، والمراد وَادَّكَرَ بَعْدَ وِجْدَانِ النِّعْمَةِ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَلِكِ أَوِ الْمُرَادُ وَادَّكَرَ بَعْدَ النِّسْيَانِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّاسِيَ هُوَ الشَّرَابِيُّ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ النَّاسِي هُوَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قُلْنَا: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: ادَّكَرَ بِمَعْنَى ذَكَرَ وَأَخْبَرَ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ النِّسْيَانِ فَلَعَلَّ السَّاقِيَ إِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ لِلْمَلِكِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِذْكَارًا لِذَنْبِهِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ حَبَسَهُ فَيَزْدَادَ الشَّرُّ وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: حَصَلَ النِّسْيَانُ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحَصَلَ أَيْضًا لِذَلِكَ الشَّرَابِيِّ. وأما قوله: فَأَرْسِلُونِ خِطَابٌ إِمَّا لِلْمَلِكِ وَالْجَمْعِ أَوْ لِلْمَلِكِ وَحْدَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ، أَمَّا قَوْلُهُ: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ فَفِيهِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأُرْسِلَ وَأَتَاهُ

[سورة يوسف (12) : الآيات 47 إلى 49]

وَقَالَ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ، وَالصِّدِّيقُ، هُوَ الْبَالِغُ فِي الصِّدْقِ وَصَفَهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يُجَرِّبْ عَلَيْهِ كَذِبًا وَقِيلَ: لِأَنَّهُ صَدَقَ فِي تَعْبِيرِ رُؤْيَاهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَظِّمَهُ، وَأَنْ يُخَاطِبَهُ بِالْأَلْفَاظِ الْمُشْعِرَةِ بِالْإِجْلَالِ ثُمَّ إِنَّهُ أَعَادَ السُّؤَالَ بِعَيْنِ اللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمَلِكُ وَنِعْمَ مَا فَعَلَ، فَإِنَّ تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا قَدْ يَخْتَلِفُ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ فَالْمُرَادُ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ بِفَتْوَاكَ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ فَضْلَكَ وَعِلْمَكَ وَإِنَّمَا قَالَ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ بِفَتْوَاكَ لِأَنَّهُ رَأَى عَجْزَ سَائِرِ الْمُعَبِّرِينَ عَنْ جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَخَافَ أَنْ يَعْجِزَ هُوَ أَيْضًا عَنْهَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ قال: لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ. [سورة يوسف (12) : الآيات 47 الى 49] قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) اعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ تَعْبِيرَ تِلْكَ الرُّؤْيَا فَقَالَ: تَزْرَعُونَ وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ [الْبَقَرَةِ: 228] وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ [الْبَقَرَةِ: 233] وَإِنَّمَا يَخْرُجُ الْخَبَرُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَيَخْرُجُ الْأَمْرُ فِي صُورَةِ الخير لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْإِيجَابِ، فَيَجْعَلُ كَأَنَّهُ وُجِدَ فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ قَوْلُهُ: فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ وَقَوْلُهُ: دَأَباً قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الدَّأَبُ اسْتِمْرَارُ الشَّيْءِ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ دَائِبٌ بِفِعْلِ كَذَا إِذَا اسْتَمَرَّ فِي فِعْلِهِ، وَقَدْ دَأَبَ يَدْأَبُ دَأْبًا وَدَأَبًا أَيْ زِرَاعَةً مُتَوَالِيَةً فِي هَذِهِ السِّنِينَ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْأَكْثَرُونَ فِي دَأَبٍ الْإِسْكَانُ وَلَعَلَّ الْفَتْحَةَ لُغَةٌ، فَيَكُونُ كَشَمْعٍ وَشَمَعٍ، وَنَهْرٍ وَنَهَرٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَانْتَصَبَ دَأَبًا عَلَى مَعْنَى تَدْأَبُونَ دَأَبًا. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَصْدَرٌ وُضِعَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَتَقْدِيرُهُ تَزْرَعُونَ دَائِبِينَ فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ كُلُّ مَا أَرَدْتُمْ أَكْلَهُ فَدُوسُوهُ وَدَعُوا الْبَاقِيَ فِي سُنْبُلِهِ حَتَّى لَا يَفْسَدَ وَلَا يَقَعَ السُّوسُ فِيهِ، لِأَنَّ إِبْقَاءَ الْحَبَّةِ فِي سُنْبُلِهِ يُوجِبُ بَقَاءَهَا عَلَى الصَّلَاحِ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ أَيْ سَبْعُ سِنِينَ مُجْدِبَاتٍ، وَالشِّدَادُ الصِّعَابُ الَّتِي تَشْتَدُّ عَلَى النَّاسِ، وَقَوْلُهُ: يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ هَذَا مَجَازٌ، فَإِنَّ السَّنَةَ لَا تَأْكُلُ فَيُجْعَلُ أَكْلُ أَهْلِ تِلْكَ السِّنِينَ مُسْنَدًا إِلَى السِّنِينَ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ الْإِحْصَانُ الْإِحْرَازُ، وَهُوَ إِلْقَاءُ الشَّيْءِ فِي الْحِصْنِ يُقَالُ أَحْصَنَهُ إِحْصَانًا إِذَا جَعَلَهُ فِي حِرْزٍ، وَالْمُرَادُ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْرِزُونَ أَيْ تَدَّخِرُونَ وَكُلُّهَا أَلْفَاظُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ السَّبْعَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ سُنُو الْخِصْبِ وَكَثْرَةِ النِّعَمِ وَالسَّبْعَةُ الثَّانِيَةُ سُنُو الْقَحْطِ وَالْقِلَّةِ وَهِيَ مَعْلُومَةٌ مِنَ الرُّؤْيَا، وَأَمَّا حَالُ هَذِهِ السَّنَةِ فَمَا حَصَلَ فِي ذَلِكَ الْمَنَامِ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ بَلْ حَصَلَ ذَلِكَ مِنَ الْوَحْيِ فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ أَنَّهُ يَحْصُلُ بَعْدَ السَّبْعَةِ الْمُخْصِبَةِ وَالسَّبْعَةِ الْمُجْدِبَةِ سَنَةٌ مُبَارَكَةٌ كَثِيرَةُ الْخَيْرِ وَالنِّعَمِ، وَعَنْ قَتَادَةَ زَادَهُ اللَّه عِلْمَ سَنَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَتِ الْعِجَافُ سَبْعًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ السِّنِينَ الْمُجْدِبَةَ لَا تَزِيدُ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحَاصِلَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقَحْطِ هُوَ الْخِصْبُ وَكَانَ هَذَا أَيْضًا مِنْ مَدْلُولَاتِ الْمَنَامِ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ حَصَلَ بِالْوَحْيِ وَالْإِلْهَامِ؟ قُلْنَا: هَبْ أَنَّ تَبَدُّلَ الْقَحْطِ بِالْخِصْبِ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَنَامِ، أَمَّا تَفْصِيلُ الْحَالِ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فِيهِ يُغاثُ

[سورة يوسف (12) : الآيات 50 إلى 52]

النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالْوَحْيِ، قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ يُقَالُ: غَاثَ اللَّه الْبِلَادَ يَغِيثُهَا غَيْثًا إِذَا أَنْزَلَ فِيهَا الْغَيْثَ وَقَدْ غِيثَتِ الْأَرْضُ تُغَاثُ، وَقَوْلُهُ: يُغاثُ النَّاسُ مَعْنَاهُ يُمْطَرُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ/ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَغَاثَهُ اللَّه إِذَا أَنْقَذَهُ مِنْ كَرْبٍ أَوْ غَمٍّ، وَمَعْنَاهُ يُنْقَذُ النَّاسُ فِيهِ مِنْ كَرْبِ الْجَدْبِ، وَقَوْلُهُ: وَفِيهِ يَعْصِرُونَ أَيْ يَعْصِرُونَ السِّمْسِمَ دُهْنًا وَالْعِنَبَ خَمْرًا وَالزَّيْتُونَ زَيْتًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ذَهَابِ الْجَدْبِ وَحُصُولِ الْخِصْبِ وَالْخَيْرِ، وَقِيلَ: يَحْلِبُونَ الضُّرُوعَ، وَقُرِئَ يَعْصِرُونَ مِنْ عَصَرَهُ إِذَا نَجَّاهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يُمْطَرُونَ مِنْ أَعْصَرَتِ السَّحَابَةُ إِذَا أَعْصَرَتْ بِالْمَطَرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً [النبأ: 14] . [سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 52] وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ] اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ الشَّرَابِيُّ إِلَى الْمَلِكِ وَعَرَضَ عَلَيْهِ التَّعْبِيرَ الَّذِي ذَكَرَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَحْسَنَهُ الْمَلِكُ فَقَالَ: ائْتُونِي بِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ عِلْمَهُ سَبَبًا لِخَلَاصِهِ مِنَ الْمِحْنَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ الْعِلْمُ سَبَبًا لِلْخَلَاصِ مِنَ الْمِحَنِ الْأُخْرَوِيَّةِ، فَعَادَ الشَّرَابِيُّ إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ أَجِبِ الْمَلِكَ، فَأَبَى يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ السِّجْنِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَنْكَشِفَ أَمْرُهُ وَتَزُولَ التُّهْمَةُ بِالْكُلِّيَّةِ عَنْهُ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عَجِبْتُ مِنْ يُوسُفَ وَكَرَمِهِ وَصَبْرِهِ واللَّه يَغْفِرُ لَهُ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْبَقَرَاتِ الْعِجَافِ وَالسِّمَانِ وَلَوْ كُنْتُ مَكَانَهُ لَمَا أَخْبَرْتُهُمْ حَتَّى اشْتَرَطْتُ أَنْ يخرجوا لي وَلَقَدْ عَجِبْتُ مِنْهُ حِينَ أَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ وَلَوْ كُنْتُ مَكَانَهُ وَلَبِثْتُ في السجن ما لبثت لأسرعت الإجابة وَبَادَرْتُهُمْ إِلَى الْبَابِ وَلَمَا ابْتَغَيْتُ الْعُذْرَ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا ذَا أَنَاةٍ» . وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ يُوسُفُ مِنَ الصَّبْرِ وَالتَّوَقُّفِ إِلَى أَنْ تَفَحَّصَ الْمَلِكُ عَنْ حَالِهِ هُوَ اللَّائِقُ بِالْحَزْمِ وَالْعَقْلِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ فِي الْحَالِ فَرُبَّمَا كَانَ يَبْقَى فِي قَلْبِ الْمَلِكِ مِنْ تِلْكَ التُّهْمَةِ أَثَرُهَا، فَلَمَّا الْتَمَسَ مِنَ الْمَلِكِ أَنْ يَتَفَحَّصَ عَنْ حَالِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى بَرَاءَتِهِ مِنْ تِلْكَ التُّهْمَةِ فَبَعْدَ خُرُوجِهِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُلَطِّخَهُ بِتِلْكَ الرَّذِيلَةِ وَأَنْ يَتَوَسَّلَ بِهَا إِلَى الطَّعْنِ فِيهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي بَقِيَ فِي السِّجْنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً إِذَا طَلَبَهُ الْمَلِكُ وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يُبَادِرُ بالخروج، فحيث لم يخرج عرف مِنْهُ كَوْنُهُ فِي نِهَايَةِ الْعَقْلِ وَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، وَذَلِكَ يَصِيرُ سَبَبًا لِأَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ بِالْبَرَاءَةِ عَنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ التُّهَمِ، وَلِأَنْ يَحْكُمَ بِأَنَّ كُلَّ مَا قِيلَ فِيهِ كَانَ كَذِبًا وَبُهْتَانًا. الثَّالِثُ: أَنَّ الْتِمَاسَهُ مِنَ الْمَلِكِ أَنْ يَتَفَحَّصَ عَنْ حَالِهِ مِنْ تِلْكَ النِّسْوَةِ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى شِدَّةِ طَهَارَتِهِ إِذْ لَوْ كَانَ مُلَوَّثًا بِوَجْهٍ مَا، لَكَانَ خَائِفًا أَنْ يَذْكُرَ مَا سَبَقَ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ حِينَ قَالَ لِلشَّرَابِيِّ: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَبَقِيَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي السجن بضع سنين وهاهنا طَلَبَهُ الْمَلِكُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ وَلَمْ يُقِمْ لِطَلَبِهِ وَزْنًا، وَاشْتَغَلَ بِإِظْهَارِ بَرَاءَتِهِ عَنِ التُّهْمَةِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ غَرَضُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ الْتِفَاتٌ إِلَى رَدِّ الْمَلِكِ وَقَبُولِهِ، وَكَانَ هَذَا الْعَمَلُ جَارِيًا مَجْرَى التَّلَافِي لِمَا صَدَرَ مِنَ التَّوَسُّلِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: اذْكُرْنِي عِنْدَ

رَبِّكَ لِيَظْهَرَ أَيْضًا هَذَا الْمَعْنَى لِذَلِكَ الشَّرَابِيِّ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ وَاسِطَةً فِي الْحَالَتَيْنِ معا. أما قوله: فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ فسله بغير همز والباقون فَسْئَلْهُ بِالْهَمْزِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ النِّسْوَةِ بِضَمِّ النُّونِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ النُّونِ، وَهُمَا لُغَتَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِيهَا أَنْوَاعٌ مِنَ اللَّطَائِفِ: أَوَّلُهَا: أَنَّ مَعْنَى الآية: فسل الملك يأن يَسْأَلَ مَا شَأْنُ تِلْكَ النِّسْوَةِ وَمَا حَالُهُنَّ لِيَعْلَمَ بَرَاءَتِي عَنْ تِلْكَ التُّهْمَةِ، إِلَّا أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى أَنْ يَسْأَلَ الْمَلِكَ عَنْ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ لِئَلَّا يَشْتَمِلَ اللَّفْظُ عَلَى مَا يَجْرِي مَجْرَى أَمْرِ الْمَلِكِ بِعَمَلٍ أَوْ فِعْلٍ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ سَيِّدَتَهُ مَعَ أَنَّهَا هِيَ الَّتِي سَعَتْ فِي إِلْقَائِهِ فِي السِّجْنِ الطَّوِيلِ، بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ سَائِرِ النِّسْوَةِ. وَثَالِثُهَا: أن الظاهر أن أولئك النسوة نسبته إِلَى عَمَلٍ قَبِيحٍ وَفِعْلٍ شَنِيعٍ عِنْدَ الْمَلِكِ، فَاقْتَصَرَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مُجَرَّدِ قَوْلِهِ: مَا بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَمَا شَكَا مِنْهُنَّ عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ وَالتَّفْصِيلِ. ثُمَّ قَالَ يُوسُفُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ وَفِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ رَبِّي وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ هُوَ اللَّه تَعَالَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ الْمَلِكُ وَجَعَلَهُ رَبًّا لِنَفْسِهِ لِكَوْنِهِ مُرَبِّيًا وله وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْمَلِكِ عَالِمًا بِكَيْدِهِنَّ وَمَكْرِهِنَّ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَيْدَهُنَّ فِي حَقِّهِ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رُبَّمَا طَمِعَتْ فِيهِ، / فَلَمَّا لَمْ تَجِدِ الْمَطْلُوبَ أَخَذَتْ تَطْعَنُ فِيهِ وَتَنْسُبُهُ إِلَى الْقَبِيحِ. وَثَانِيهَا: لَعَلَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بَالَغَتْ فِي تَرْغِيبِ يُوسُفَ فِي مُوَافَقَةِ سَيِّدَتِهِ عَلَى مُرَادِهَا، وَيُوسُفُ عَلِمَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْخِيَانَةِ فِي حَقِّ السَّيِّدِ الْمُنْعِمِ لَا تَجُوزُ، فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ إِلَى مُبَالَغَتِهِنَّ فِي التَّرْغِيبِ فِي تِلْكَ الْخِيَانَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ اسْتَخْرَجَ مِنْهُنَّ وُجُوهًا مِنَ الْمَكْرِ وَالْحِيَلَ فِي تَقْبِيحِ صُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ الْمَلِكِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ ذَاكَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمَّا الْتَمَسَ ذَلِكَ، أَمَرَ الْمَلِكُ بِإِحْضَارِهِنَّ وَقَالَ لَهُنَّ: مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ الْجَمْعِ، فَالْمُرَادُ مِنْهَا الْوَاحِدَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 173] وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ خِطَابُ الجماعة. ثم هاهنا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَاوَدَتْ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَاوَدَتْ يُوسُفَ لِأَجْلِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَعِنْدَ هَذَا السُّؤَالِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ وَهَذَا كَالتَّأْكِيدِ لَمَّا ذَكَرْنَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ قَوْلُهُنَّ: مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ كَانَتْ حَاضِرَةً، وَكَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْمُنَاظَرَاتِ وَالتَّفَحُّصَاتِ إِنَّمَا وَقَعَتْ بِسَبَبِهَا وَلِأَجْلِهَا فَكَشَفَتْ عَنِ الْغِطَاءِ وَصَرَّحَتْ بِالْقَوْلِ الْحَقِّ وَقَالَتْ: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ شَهَادَةٌ جَازِمَةٌ مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ بِأَنَّ يُوسُفَ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ كَانَ مُبَرَّأً عَنْ كُلِّ الذُّنُوبِ مُطَهَّرًا عَنْ جَمِيعِ العيوب، وهاهنا دَقِيقَةٌ، وَهِيَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَاعَى جَانِبَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ حَيْثُ قَالَ: مَا بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ فَذَكَرَهُنَّ وَلَمْ يَذْكُرْ تِلْكَ الْمَرْأَةَ الْبَتَّةَ فَعَرَفَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَ ذِكْرَهَا رِعَايَةً

لِحَقِّهَا وَتَعْظِيمًا لِجَانِبِهَا وَإِخْفَاءً لِلْأَمْرِ عَلَيْهَا، فَأَرَادَتْ أَنَّ تُكَافِئَهُ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ الْحَسَنِ فَلَا جَرَمَ أَزَالَتِ الْغِطَاءَ وَالْوِطَاءَ وَاعْتَرَفَتْ بِأَنَّ الذَّنْبَ كُلَّهُ كَانَ مِنْ جَانِبِهَا وَأَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُبَرَّأً عَنِ الْكُلِّ، وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ بِزَوْجِهَا إِلَى الْقَاضِي وَادَّعَتْ عَلَيْهِ الْمَهْرَ، فَأَمَرَ الْقَاضِي بِأَنْ يَكْشِفَ عَنْ وَجْهِهَا حَتَّى تَتَمَكَّنَ الشُّهُودُ مِنْ إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ، فَقَالَ الزَّوْجُ: لَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ، فَإِنِّي مُقِرٌّ بِصِدْقِهَا فِي دَعْوَاهَا، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ لَمَّا أَكْرَمْتَنِي إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَاشْهَدُوا أَنِّي أَبْرَأْتُ ذِمَّتَكَ مِنْ كُلِّ حَقٍّ لِي عَلَيْكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: حَصْحَصَ الْحَقُّ مَعْنَاهُ: وَضَحَ وَانْكَشَفَ وَتَمَكَّنَ فِي الْقُلُوبِ وَالنُّفُوسِ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَصْحَصَ الْبَعِيرُ فِي بُرُوكِهِ، إِذَا تَمَكَّنَ وَاسْتَقَرَّ فِي الْأَرْضِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: اشْتِقَاقُهُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْحِصَّةِ، أَيْ بَانَتْ حِصَّةُ الْحَقِّ مِنْ حِصَّةِ الْبَاطِلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ كَلَامُ مَنْ؟ وَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ قَوْلُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَا يَبْعُدُ وَصْلُ كَلَامِ إِنْسَانٍ بِكَلَامِ إِنْسَانٍ آخَرَ إِذَا دَلَّتِ الْقَرِينَةُ عَلَيْهِ وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً [النَّمْلِ: 34] وَهَذَا كَلَامُ بِلْقِيسَ. ثُمَّ إنه تعالى قال: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ [آلِ عِمْرَانَ: 9] كَلَامُ الدَّاعِي. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ بَقِيَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْغَائِبِ، وَالْمُرَادُ هاهنا: الْإِشَارَةُ إِلَى تِلْكَ الْحَادِثَةِ الْحَاضِرَةِ. وَالْجَوَابُ: أَجَبْنَا عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ [الْبَقَرَةِ: 2] وَقِيلَ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ رَدِّ الرَّسُولِ كَأَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ الَّذِي فَعَلْتُ مِنْ رَدِّي الرَّسُولَ إِنَّمَا كَانَ، لِيَعْلَمَ الْمَلِكُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَتَى قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا الْقَوْلَ؟ الْجَوَابُ: رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ قَالَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ عَلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ تَعْظِيمًا لِلْمَلِكِ عَنِ الْخِطَابِ وَالْأَوْلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عِنْدَ عَوْدِ الرَّسُولِ إِلَيْهِ لِأَنَّ ذِكْرَ هَذَا الْكَلَامِ فِي حَضْرَةِ الْمَلِكِ سُوءُ أَدَبٍ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَذِهِ الْخِيَانَةُ وَقَعَتْ فِي حَقِّ الْعَزِيزِ فَكَيْفَ يَقُولُ: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ. وَالْجَوَابُ: قِيلَ الْمُرَادُ لِيَعْلَمَ الْمَلِكُ أَنِّي لَمْ أَخُنِ الْعَزِيزَ بِالْغَيْبَةِ، وَقِيلَ إِنَّهُ إِذَا خَانَ وَزِيرَهُ فَقَدْ خَانَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَقِيلَ إِنَّ الشَّرَابِيَّ لَمَّا رَجَعَ إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ فِي السِّجْنِ قَالَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ثُمَّ خَتَمَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ وَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنِّي لَوْ كُنْتُ خَائِنًا لَمَا خَلَّصَنِي اللَّه تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْوَرْطَةِ، وَحَيْثُ خَلَّصَنِي مِنْهَا ظَهَرَ أَنِّي كُنْتُ مُبَرَّأً عَمَّا نَسَبُونِي إِلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قوله: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ كَلَامُ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَالْمَعْنَى: أَنِّي وَإِنْ أَحَلْتُ الذَّنْبَ عَلَيْهِ عِنْدَ حُضُورِهِ لَكِنِّي مَا أَحْلَتُ الذَّنْبَ عَلَيْهِ عِنْدَ غَيْبَتِهِ، أَيْ لَمْ أَقُلْ فِيهِ وَهُوَ فِي السِّجْنِ خِلَافَ الْحَقِّ. ثُمَّ إِنَّهَا بَالَغَتْ فِي تَأْكِيدِ الْحَقِّ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَقَالَتْ: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ يَعْنِي أَنِّي لَمَّا أَقْدَمْتُ عَلَى

[سورة يوسف (12) : آية 53]

الْكَيْدِ وَالْمَكْرِ لَا جَرَمَ افْتُضِحْتُ وَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ بَرِيئًا عَنِ الذَّنْبِ لَا جَرَمَ طَهَّرَهُ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ. قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ حَاضِرًا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ حَتَّى يُقَالَ لَمَّا ذَكَرَتِ الْمَرْأَةُ قَوْلَهَا: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ/ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَقُولُ يُوسُفُ: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ بَلْ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ الرَّسُولُ مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ إِلَى السِّجْنِ وَيَذْكُرَ لَهُ تِلْكَ الْحِكَايَةَ، ثُمَّ إِنَّ يُوسُفَ يَقُولُ ابْتِدَاءً ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَمِثْلُ هَذَا الْوَصْلِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ مَا جَاءَ الْبَتَّةَ فِي نَثْرٍ وَلَا نَظْمٍ فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الْمَرْأَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى طَهَارَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الذَّنْبِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَلِكَ لَمَّا أَرْسَلَ إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَطَلَبَهُ فَلَوْ كَانَ يُوسُفُ مُتَّهَمًا بِفِعْلٍ قَبِيحٍ وَقَدْ كَانَ صَدَرَ مِنْهُ ذَنْبٌ وَفُحْشٌ لَاسْتَحَالَ بِحَسَبِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ الْمَلِكِ أَنْ يَتَفَحَّصَ عَنْ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ أَقْدَمَ عَلَى الذَّنْبِ ثُمَّ إِنَّهُ يطلبه مِنَ الْمَلِكِ أَنْ يَتَفَحَّصَ عَنْ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ كَانَ ذَلِكَ سَعْيًا مِنْهُ فِي فَضِيحَةِ نَفْسِهِ وَفِي تَجْدِيدِ الْعُيُوبِ الَّتِي صَارَتْ مُنْدَرِسَةً مَخْفِيَّةً وَالْعَاقِلُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَهَبْ أَنَّهُ وَقَعَ الشَّكُّ لِبَعْضِهِمْ فِي عِصْمَتِهِ أَوْ فِي نُبُوَّتِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ عَاقِلًا، وَالْعَاقِلُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَسْعَى فِي فَضِيحَةِ نَفْسِهِ وَفِي حَمْلِ الْأَعْدَاءِ عَلَى أَنْ يُبَالِغُوا فِي إِظْهَارِ عُيُوبِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ النِّسْوَةَ شَهِدْنَ فِي المرأة الْأَوْلَى بِطَهَارَتِهِ وَنَزَاهَتِهِ حَيْثُ قُلْنَ: حاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يُوسُفَ: 31] وَفِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ حَيْثُ قُلْنَ: حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ وَالثَّالِثُ: أَنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ أَقَرَّتْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى بِطَهَارَتِهِ حَيْثُ قَالَتْ: وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ [يُوسُفَ: 32] وَفِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى طَهَارَتِهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُ الْمَرْأَةِ: أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهَا: وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ صَادِقٌ فِي قَوْلِهِ: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي [يُوسُفَ: 26] وَثَالِثُهَا: قَوْلُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَالْحَشْوِيَّةُ يَذْكُرُونَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ يُوسُفُ هَذَا الْكَلَامَ قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا حِينَ هَمَمْتَ، وَهَذَا مِنْ رِوَايَاتِهِمُ الْخَبِيثَةِ وَمَا صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فِي كِتَابٍ مُعْتَمَدٍ، بَلْ هُمْ يُلْحِقُونَهَا بِهَذَا الْمَوْضِعِ سَعْيًا مِنْهُمْ فِي تَحْرِيفِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ يَعْنِي أَنَّ صَاحِبَ الْخِيَانَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يُفْتَضَحَ، فَلَوْ كُنْتُ خَائِنًا لَوَجَبَ أَنْ أُفْتَضَحَ وَحَيْثُ لَمْ أُفْتَضَحْ وَخَلَّصَنِي اللَّه تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْوَرْطَةِ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنِّي ما كنت من الخائنين، وهاهنا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَقْوَى مِنَ الْكُلِّ، وَهُوَ أَنَّ فِي هَذَا الْوَقْتِ تِلْكَ الْوَاقِعَةُ صَارَتْ مُنْدَرِسَةً، وَتِلْكَ الْمِحْنَةُ صَارَتْ مُنْتَهِيَةً، فَإِقْدَامُهُ عَلَى قوله: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ مَعَ أَنَّهُ خَانَهُ بِأَعْظَمِ وُجُوهِ الْخِيَانَةِ إِقْدَامٌ عَلَى وَقَاحَةٍ عَظِيمَةٍ، وَعَلَى كَذِبٍ عَظِيمٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ مَصْلَحَةٌ بِوَجْهٍ مَا، وَالْإِقْدَامُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْوَقَاحَةِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ أَصْلًا لَا يَلِيقُ بِأَحَدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ إِسْنَادُهُ إِلَى سَيِّدِ الْعُقَلَاءِ، وَقُدْوَةِ الْأَصْفِيَاءِ؟ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ دَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى/ بَرَاءَتِهِ مِمَّا يَقُولُهُ الْجُهَّالُ وَالْحَشْوِيَّةُ. [سورة يوسف (12) : آية 53] وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ مَا قَبْلَهَا لِأَنَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ

لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يُوسُفَ: 52] كَلَامُ يُوسُفَ كَانَ هَذَا أَيْضًا مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الْمَرْأَةِ كَانَ هَذَا أَيْضًا كَذَلِكَ وَنَحْنُ نُفَسِّرُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّ هَذَا كَلَامُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْحَشْوِيَّةُ تَمَسَّكُوا بِهِ وَقَالُوا: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا حِينَ هَمَمْتَ بِفَكِّ سَرَاوِيلِكَ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ يُوسُفُ: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ أَيْ بِالزِّنَا إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي أَيْ عَصَمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ لِلْهَمِّ الَّذِي هَمَمْتُ بِهِ رَحِيمٌ أَيْ لَوْ فَعَلْتُهُ لَتَابَ عَلَيَّ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ ضَعِيفٌ فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى بَرَاءَتِهِ عَنِ الذَّنْبِ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: فَمَا جَوَابُكُمْ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَنَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ كَانَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى مَدْحِ النَّفْسِ وَتَزْكِيَتِهَا، وَقَالَ تَعَالَى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النَّجْمِ: 32] فَاسْتَدْرَكَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي وَالْمَعْنَى: وَمَا أُزَكِّي نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ مَيَّالَةٌ إِلَى الْقَبَائِحِ رَاغِبَةٌ فِي الْمَعْصِيَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ الْبَتَّةَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرُوهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ بَيَّنَ أَنَّ تَرْكَ الْخِيَانَةِ مَا كَانَ لِعَدَمِ الرَّغْبَةِ وَلِعَدَمِ مَيْلِ النَّفْسِ وَالطَّبِيعَةِ، لِأَنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ وَالطَّبِيعَةَ تَوَّاقَةٌ إِلَى اللَّذَّاتِ فَبَيَّنَ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّ التَّرْكَ مَا كَانَ لِعَدَمِ الرَّغْبَةِ، بَلْ لِقِيَامِ الْخَوْفِ مِنَ اللَّه تَعَالَى. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ الْمَرْأَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي عَنْ مُرَاوَدَتِهِ وَمَقْصُودُهَا تَصْدِيقُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي الثَّانِي: أَنَّهَا لَمَّا قَالَتْ: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يُوسُفَ: 52] قَالَتْ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي عَنِ الْخِيَانَةِ مُطْلَقًا فَإِنِّي قَدْ خُنْتُهُ حِينَ قَدْ أَحَلْتُ الذَّنْبَ عَلَيْهِ وَقُلْتُ: مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ/ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ [يُوسُفَ: 25] وَأَوْدَعْتُهُ السِّجْنَ كَأَنَّهَا أَرَادَتِ الِاعْتِذَارَ مِمَّا كَانَ. فَإِنْ قِيلَ جَعْلُ هَذَا الْكَلَامِ كَلَامًا لِيُوسُفَ أَوْلَى أَمْ جَعْلُهُ كَلَامًا لِلْمَرْأَةِ؟ قُلْنَا: جَعْلُهُ كَلَامًا لِيُوسُفَ مُشْكِلٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ [يوسف: 51] كَلَامٌ مَوْصُولٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ إِلَى آخِرِهِ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّ بَعْضَهُ كَلَامُ الْمَرْأَةِ وَالْبَعْضَ كَلَامُ يُوسُفَ مَعَ تَخَلُّلِ الْفَوَاصِلِ الْكَثِيرَةِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَبَيْنَ الْمَجْلِسَيْنِ بِعِيدٌ، وَأَيْضًا جَعْلُهُ كَلَامًا لِلْمَرْأَةِ مُشْكِلٌ أَيْضًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي كَلَامٌ لَا يَحْسُنُ صُدُورُهُ إِلَّا مِمَّنِ احْتَرَزَ عَنِ الْمَعَاصِي، ثُمَّ يُذْكَرُ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى سَبِيلِ كَسْرِ النَّفْسِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي اسْتَفْرَغَتْ جُهْدَهَا فِي الْمَعْصِيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا: (مَا) فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي بِمَعْنَى «مَنْ» وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ ربي، وما ومن كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُومُ مَقَامَ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ: 3] وَقَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ [النُّورِ: 45] وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ أَوْ مُنْقَطِعٌ، فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُتَّصِلٌ، وَفِي تَقْرِيرِهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي أَيْ إِلَّا الْبَعْضَ الَّذِي رَحِمَهُ رَبِّي بِالْعِصْمَةِ كَالْمَلَائِكَةِ. الثَّانِي: إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي أَيْ إِلَّا وَقْتَ رَحْمَةِ رَبِّي يَعْنِي أَنَّهَا أَمَارَةٌ بِالسُّوءِ فِي كُلِّ وَقْتٍ إِلَّا فِي وَقْتِ الْعِصْمَةِ.

[سورة يوسف (12) : الآيات 54 إلى 55]

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ وَلَكِنَّ رَحْمَةَ رَبِّي هِيَ الَّتِي تَصْرِفُ الْإِسَاءَةَ كَقَوْلِهِ: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [البقرة: 48] إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا [يس: 44] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْحُكَمَاءُ فِي أَنَّ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ مَا هِيَ؟ وَالْمُحَقِّقُونَ قَالُوا إِنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَلَهَا صِفَاتٌ كَثِيرَةٌ فَإِذَا مَالَتْ إِلَى الْعَالَمِ الْإِلَهِيِّ كَانَتْ نَفْسًا مُطْمَئِنَّةً، وَإِذَا مَالَتْ إِلَى الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ كَانَتْ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ، وَكَوْنُهَا أَمَّارَةً بِالسُّوءِ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ النَّفْسَ مِنْ أَوَّلِ حُدُوثِهَا قَدْ أَلِفَتِ الْمَحْسُوسَاتِ وَالْتَذَّتْ بِهَا وَعَشِقَتْهَا، فَأَمَّا شُعُورُهَا بِعَالَمِ الْمُجَرَّدَاتِ وَمَيْلُهَا إِلَيْهِ، فَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا نَادِرًا فِي حَقِّ الْوَاحِدِ، فَالْوَاحِدِ وَذَلِكَ الْوَاحِدُ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ التَّجَرُّدُ وَالِانْكِشَافُ طُولَ عُمُرِهِ فِي الْأَوْقَاتِ النَّادِرَةِ فَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ هُوَ انْجِذَابُهَا إِلَى الْعَالَمِ الْجَسَدَانِيِّ وَكَانَ مَيْلُهَا إِلَى الصُّعُودِ إِلَى الْعَالَمِ الْأَعْلَى نَادِرًا لَا جَرَمَ حُكِمَ عَلَيْهَا بِكَوْنِهَا أَمَّارَةً بِالسُّوءِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّفْسَ الْمُطْمَئِنَّةَ هِيَ النَّفْسُ الْعَقْلِيَّةُ النُّطْقِيَّةُ، وَأَمَّا النَّفْسُ الشَّهْوَانِيَّةُ وَالْغَضَبِيَّةُ فَهُمَا مُغَايِرَتَانِ لِلنَّفْسِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالْكَلَامُ فِي تَحْقِيقِ الْحَقِّ فِي هَذَا الْبَابِ مَذْكُورٌ فِي الْمَعْقُولَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَمَسَّكَ أَصْحَابُنَا فِي أَنَّ الطَّاعَةَ وَالْإِيمَانَ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا مِنَ اللَّه بِقَوْلِهِ: / إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي قَالُوا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ انْصِرَافَ النَّفْسِ مِنَ الشَّرِّ لَا يَكُونُ إِلَّا بِرَحْمَتِهِ وَلَفْظُ الْآيَةِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ مَتَى حَصَلَتْ تِلْكَ الرَّحْمَةُ حَصَلَ ذَلِكَ الِانْصِرَافُ. فَنَقُولُ: لَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الرَّحْمَةِ بِإِعْطَاءِ الْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ وَالْأَلْطَافِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ فَوَجَبَ تَفْسِيرُهَا بِشَيْءٍ آخَرَ، وَهُوَ تَرْجِيحُ دَاعِيَةِ الطَّاعَةِ عَلَى دَاعِيَةِ الْمَعْصِيَةِ وَقَدْ أَثْبَتْنَا ذَلِكَ أَيْضًا بِالْبُرْهَانِ القاطع وحينئذ يحصل منه المطلوب. [سورة يوسف (12) : الآيات 54 الى 55] وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْمَلِكِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ الْعَزِيزُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هُوَ الرَّيَّانُ الَّذِي هُوَ الْمَلِكُ الْأَكْبَرُ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَ يُوسُفَ: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا كَانَ خَالِصًا لَهُ، وَقَدْ كَانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ ذَلِكَ خَالِصًا لِلْعَزِيزِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَلِكَ هُوَ الْمَلِكُ الْأَكْبَرُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَخَلَ عَلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ فِي الْحَبْسِ وَقَالَ: «قُلِ اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي مِنْ عِنْدِكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَارْزُقْنِي مِنْ حَيْثُ لَا أَحْتَسِبُ» فَقَبِلَ اللَّه دُعَاءَهُ وَأَظْهَرَ هَذَا السَّبَبَ فِي تَخْلِيصِهِ مِنَ السِّجْنِ، وَتَقْرِيرُ الْكَلَامِ: أَنَّ الْمَلِكَ عَظُمَ اعْتِقَادُهُ فِي يُوسُفَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَظُمَ اعْتِقَادُهُ فِي عِلْمِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا عَجَزَ الْقَوْمُ عَنِ الْجَوَابِ وَقَدَرَ هُوَ عَلَى الْجَوَابِ الْمُوَافِقِ الَّذِي يَشْهَدُ الْعَقْلُ بِصِحَّتِهِ مَالَ الطَّبْعُ إِلَيْهِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَظُمَ اعْتِقَادُهُ فِي صَبْرِهِ وَثَبَاتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ بَقِيَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ لَمَّا أَذِنَ لَهُ فِي الْخُرُوجِ مَا أَسْرَعَ إِلَى الْخُرُوجِ بَلْ صَبَرَ وَتَوَقَّفَ وَطَلَبَ أَوَّلًا مَا يَدُلُّ عَلَى بَرَاءَةِ حَالِهِ عَنْ جَمِيعِ التُّهَمِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَظُمَ اعْتِقَادُهُ فِي حُسْنِ أَدَبِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: مَا بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [يُوسُفَ:

50] وَإِنْ كَانَ غَرَضُهُ ذِكْرَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فَسَتَرَ ذِكْرَهَا، وَتَعَرَّضَ لِأَمْرِ سَائِرِ النِّسْوَةِ مَعَ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَتِهَا أَنْوَاعٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْبَلَاءِ/ وَهَذَا مِنَ الْأَدَبِ الْعَجِيبِ. وَرَابِعُهَا: بَرَاءَةُ حَالِهِ عَنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ التُّهَمِ فَإِنَّ الْخَصْمَ أَقَرَّ لَهُ بِالطَّهَارَةِ وَالنَّزَاهَةِ وَالْبَرَاءَةِ عَنِ الْجُرْمِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الشَّرَابِيَّ وَصَفَ لَهُ جِدَّهُ فِي الطَّاعَاتِ وَاجْتِهَادَهُ فِي الْإِحْسَانِ إِلَى الَّذِينَ كَانُوا فِي السِّجْنِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ بَقِيَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُوجِبُ حُسْنَ الِاعْتِقَادِ فِي الْإِنْسَانِ، فَكَيْفَ مَجْمُوعُهَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ حَسُنَ اعْتِقَادُ الْمَلِكِ فِيهِ وَإِذَا أَرَادَ اللَّه شَيْئًا جَمَعَ أَسْبَابَهُ وَقَوَّاهَا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمَّا ظَهَرَ لِلْمَلِكِ هَذِهِ الْأَحْوَالُ مِنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَغِبَ أَنْ يَتَّخِذَهُ لِنَفْسِهِ فَقَالَ: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي رُوِيَ أَنَّ الرَّسُولَ قَالَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قُمْ إِلَى الْمَلِكِ مُتَنَظِّفًا مِنْ دَرَنِ السِّجْنِ بِالثِّيَابِ النَّظِيفَةِ وَالْهَيْئَةِ الْحَسَنَةِ فَكَتَبَ عَلَى بَابِ السِّجْنِ هَذِهِ مَنَازِلُ الْبَلْوَى وَقُبُورُ الْأَحْيَاءِ وَشَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ وَتَجْرِبَةُ الْأَصْدِقَاءِ، وَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِخَيْرِكَ مِنْ خَيْرِهِ وَأَعُوذُ بِعِزَّتِكَ وَقُدْرَتِكَ مِنْ شَرِّهِ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا لَهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَالِاسْتِخْلَاصُ طَلَبُ خُلُوصِ الشَّيْءِ مِنْ شَوَائِبِ الِاشْتِرَاكِ وَهَذَا الْمَلِكُ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ يُوسُفُ لَهُ وَحْدَهُ وَأَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ لِأَنَّ عَادَةَ الْمُلُوكِ أَنْ يَنْفَرِدُوا بِالْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ الرَّفِيعَةِ فَلَمَّا عَلِمَ الْمَلِكُ أَنَّهُ وَحِيدُ زَمَانِهِ وَفَرِيدُ أَقْرَانِهِ أَرَادَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ. رُوِيَ أَنَّ الْمَلِكَ قَالَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَأُحِبُّ أَنْ تُشْرِكَنِي فِيهِ إِلَّا فِي أَهْلِي وَفِي أَنْ لَا تَأْكُلَ مَعِي فَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَمَا تَرَى أَنْ آكُلَ مَعَكَ، وَأَنَا يوسف بن يعقوب بن إسحاق الذبيح بن إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ قَالَ: فَلَمَّا كَلَّمَهُ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ فَلَمَّا كَلَّمَ الْمَلِكُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالُوا لِأَنَّ فِي مَجَالِسِ الْمُلُوكِ لَا يَحْسُنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْكَلَامِ وَإِنَّمَا الَّذِي يَبْتَدِئُ بِهِ هُوَ الْمَلِكُ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ: فَلَمَّا كَلَّمَ يُوسُفُ الْمَلِكَ قِيلَ: لَمَّا صَارَ يُوسُفُ إِلَى الْمَلِكِ وَكَانَ ذَلِكَ الْوَقْتَ ابْنَ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَلَمَّا رَآهُ الْمَلِكُ حَدَثًا شَابًّا قَالَ لِلشَّرَابِيِّ: هَذَا هُوَ الَّذِي عَلِمَ تَأْوِيلَ رُؤْيَايَ مَعَ أَنَّ السَّحَرَةَ وَالْكَهَنَةَ مَا عَلِمُوهَا قَالَ نَعَمْ، فَأَقْبَلَ عَلَى يُوسُفَ وَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ تَأْوِيلَ الرُّؤْيَا مِنْكَ شِفَاهًا، فَأَجَابَ بِذَلِكَ الْجَوَابِ شِفَاهًا وَشَهِدَ قَلْبُهُ بِصِحَّتِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ لَهُ: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ يُقَالُ: فُلَانٌ مَكِينٌ عِنْدَ فُلَانٍ بَيِّنُ الْمَكَانَةِ أَيِ الْمَنْزِلَةِ، وَهِيَ حَالَةٌ يَتَمَكَّنُ بِهَا صَاحِبُهَا مِمَّا يُرِيدُ. وَقَوْلُهُ: أَمِينٌ أَيْ قَدْ عَرَفْنَا أَمَانَتَكَ وَبَرَاءَتَكَ مِمَّا نُسِبْتَ إِلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: مَكِينٌ أَمِينٌ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْمَنَاقِبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كَوْنِهِ مَكِينًا مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ. أَمَّا الْقُدْرَةُ فَلِأَنَّ بِهَا يَحْصُلُ الْمُكْنَةُ. وَأَمَّا الْعِلْمُ فَلِأَنَّ كَوْنَهُ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهِ إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَا يَنْبَغِي وَبِمَا لَا يَنْبَغِي لَا يُمْكِنُهُ تَخْصِيصُ مَا يَنْبَغِي/ بِالْفِعْلِ، وَتَخْصِيصُ مَا لَا يَنْبَغِي بِالتَّرْكِ، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ مَكِينًا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ. أَمَّا كَوْنُهُ أَمِينًا فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ حَكِيمًا لَا يَفْعَلُ الْفِعْلَ لِدَاعِي الشَّهْوَةِ بَلْ إِنَّمَا يَفْعَلُهُ لِدَاعِي الْحِكْمَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ مَكِينًا أَمِينًا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا، وَعَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِمَوَاقِعِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ، وَعَلَى كَوْنِهِ بِحَيْثُ يَفْعَلُ لِدَاعِي الْحِكْمَةِ لَا لِدَاعِيَةِ الشَّهْوَةِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ فِعْلُ الشَّرِّ وَالسَّفَهِ فَلِهَذَا الْمَعْنَى لَمَّا حَاوَلَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِثْبَاتَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ الْقَبِيحَ قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ الْقَبِيحَ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِقُبْحِ الْقَبِيحِ عَالِمٌ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُ وَكُلُّ مَنْ

كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَفْعَلِ الْقَبِيحَ قَالُوا: وَإِنَّمَا يَكُونُ غَنِيًّا عَنِ الْقَبِيحِ إِذَا كَانَ قَادِرًا، وَإِذَا كَانَ مُنَزَّهًا عَنْ دَاعِيَةِ السَّفَهِ فَثَبَتَ أَنَّ وَصْفَهُ بِكَوْنِهِ مَكِينًا أَمِينًا نِهَايَةُ مَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْبَابِ ثُمَّ حَكَى تَعَالَى أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ فِي هَذَا الْمَقَامِ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا عَبَّرَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رُؤْيَا الْمَلِكِ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لَهُ الْمَلِكُ: فَمَا تَرَى أَيُّهَا الصِّدِّيقُ قَالَ: أَرَى أَنْ تَزْرَعَ فِي هَذِهِ السِّنِينَ الْمُخْصِبَةِ زَرْعًا كَثِيرًا وَتَبْنِيَ الْخَزَائِنَ وَتَجْمَعَ فِيهَا الطَّعَامَ فَإِذَا جَاءَتِ السُّنُونَ الْمُجْدِبَةُ بِعْنَا الْغَلَّاتِ فَيَحْصُلُ بِهَذَا الطَّرِيقِ مَالٌ عَظِيمٌ فَقَالَ الْمَلِكُ وَمَنْ لِي بِهَذَا الشُّغْلِ فَقَالَ يُوسُفُ: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ أَيْ عَلَى خَزَائِنِ أَرْضِ مِصْرَ وَأَدْخَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ عَلَى الْأَرْضِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمَعْهُودُ السَّابِقُ. رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: «رَحِمَ اللَّه أَخِي يُوسُفَ لَوْ لَمْ يَقُلِ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ لَاسْتَعْمَلَهُ مِنْ سَاعَتِهِ لَكِنَّهُ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ أَخَّرَهُ عَنْهُ سَنَةً» وَأَقُولُ هَذَا مِنَ الْعَجَائِبِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَأَبَّى عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ سَهَّلَ اللَّه عَلَيْهِ ذَلِكَ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَلَمَّا تَسَارَعَ فِي ذِكْرِ الِالْتِمَاسِ أَخَّرَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ الْمَطْلُوبَ عَنْهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ التَّصَرُّفِ وَالتَّفْوِيضِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى اللَّه تَعَالَى أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ طَلَبَ يُوسُفُ الْإِمَارَةَ وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: «لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ» وَأَيْضًا فَكَيْفَ طَلَبَ الْإِمَارَةَ مِنْ سُلْطَانٍ كَافِرٍ، وَأَيْضًا لِمَ لَمْ يَصْبِرْ مُدَّةً وَلِمَ أَظْهَرَ الرَّغْبَةَ فِي طَلَبِ الْإِمَارَةِ فِي الْحَالِ، وَأَيْضًا لِمَ طَلَبَ أَمْرَ الْخَزَائِنِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، مَعَ أَنَّ هَذَا يُورِثُ نَوْعَ تُهْمَةٍ وَأَيْضًا كَيْفَ جَوَّزَ مِنْ نَفْسِهِ مَدْحَ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النَّجْمِ: 32] وَأَيْضًا فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَأَيْضًا لِمَ تَرَكَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي هَذَا فَإِنَّ الْأَحْسَنَ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ إِنْ شَاءَ اللَّه بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْكَهْفِ: 23، 24] فَهَذِهِ أَسْئِلَةٌ سَبْعَةٌ لَا بُدَّ مِنْ جَوَابِهَا فَنَقُولُ: الْأَصْلُ فِي جَوَابِ هَذِهِ/ الْمَسَائِلِ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي أُمُورِ الْخَلْقِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَيْهِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ رَسُولًا حَقًّا مِنَ اللَّه تَعَالَى إِلَى الْخَلْقِ، وَالرَّسُولُ يَجِبُ عَلَيْهِ رِعَايَةُ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلِمَ بِالْوَحْيِ أَنَّهُ سَيَحْصُلُ الْقَحْطُ وَالضِّيقُ الشَّدِيدُ الَّذِي رُبَّمَا أَفْضَى إِلَى هَلَاكِ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ، فَلَعَلَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِأَنْ يُدَبِّرَ فِي ذَلِكَ وَيَأْتِيَ بِطَرِيقٍ لِأَجْلِهِ يَقِلُّ ضَرَرُ ذَلِكَ الْقَحْطِ فِي حَقِّ الْخَلْقِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ السَّعْيَ فِي إِيصَالِ النَّفْعِ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ أَمْرٌ مُسْتَحْسَنٌ فِي الْعُقُولِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُكَلَّفًا بِرِعَايَةِ مَصَالِحِ الْخَلْقِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَمَا كَانَ يُمْكِنُهُ رِعَايَتُهَا إِلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، فَهُوَ وَاجِبٌ، فَكَانَ هَذَا الطَّرِيقُ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَلَمَّا كَانَ وَاجِبًا سَقَطَتِ الْأَسْئِلَةُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَمَّا تَرْكُ الِاسْتِثْنَاءِ فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: كَانَ ذَلِكَ مِنْ خَطِيئَةٍ أَوْجَبَتْ عُقُوبَةً وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخَّرَ عَنْهُ حُصُولَ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ سَنَةً، وَأَقُولُ: لَعَلَّ السَّبَبَ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ لَاعْتَقَدَ فِيهِ الْمَلِكُ أَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَهُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى ضَبْطِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ كَمَا يَنْبَغِي فَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى تَرَكَ الِاسْتِثْنَاءَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لِمَ مَدَحَ نَفْسَهُ فَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَدَحَ نَفْسَهُ لَكِنَّهُ بَيَّنَ كَوْنَهُ مَوْصُوفًا بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ النَّافِعَتَيْنِ فِي حُصُولِ هَذَا الْمَطْلُوبِ، وَبَيْنَ الْبَابَيْنِ فَرْقٌ وَكَأَنَّهُ قَدْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ هَذَا الْوَصْفِ لِأَنَّ الْمَلِكَ

[سورة يوسف (12) : الآيات 56 إلى 57]

وَإِنْ عَلِمَ كَمَالَهُ فِي عُلُومِ الدِّينِ لَكِنَّهُ مَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ يَفِي بِهَذَا الْأَمْرِ، ثُمَّ نَقُولُ هَبْ أَنَّهُ مَدَحَ نَفْسَهُ إِلَّا أَنَّ مَدْحِ النَّفْسِ إِنَّمَا يَكُونُ مَذْمُومًا إِذَا قَصَدَ الرَّجُلُ بِهِ التَّطَاوُلَ وَالتَّفَاخُرَ وَالتَّوَصُّلَ إِلَى غَيْرِ مَا يَحِلُّ، فَأَمَّا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النَّجْمِ: 32] الْمُرَادُ مِنْهُ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ حَالَ مَا يُعْلَمُ كَوْنُهَا غَيْرَ مُتَزَكِّيَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى أَمَّا إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ عَالِمًا بِأَنَّهُ صِدْقٌ وَحَقٌّ فَهَذَا غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ واللَّه أَعْلَمُ. قَوْلُهُ مَا الْفَائِدَةُ فِي وَصْفِهِ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ حَفِيظٌ عَلِيمٌ؟ قُلْنَا: إِنَّهُ جَارٍ مَجْرَى أَنْ يَقُولَ حَفِيظٌ بِجَمِيعِ الْوُجُوهِ الَّتِي مِنْهَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُ الدَّخْلِ وَالْمَالِ، عَلِيمٌ بِالْجِهَاتِ الَّتِي تَصْلُحُ لِأَنْ يُصْرَفَ الْمَالُ إِلَيْهَا، وَيُقَالُ: حَفِيظٌ بِجَمِيعِ مَصَالِحِ النَّاسِ، عَلِيمٌ بِجِهَاتِ حَاجَاتِهِمْ أَوْ يُقَالُ: حَفِيظٌ لِوُجُوهِ أَيَادِيكَ وَكَرَمِكَ، عَلِيمٌ بِوُجُوبِ مُقَابَلَتِهَا بِالطَّاعَةِ وَالْخُضُوعِ وَهَذَا باب واسع يمكن تكثيره لمن أراده. [سورة يوسف (12) : الآيات 56 الى 57] وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ] فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا الْتَمَسَ مِنَ الْمَلِكِ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ لَمْ يَحْكِ اللَّه عَنِ الْمَلِكِ أَنَّهُ قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، بَلِ اللَّه سُبْحَانَهُ قَالَ: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ فَهَهُنَا الْمُفَسِّرُونَ قَالُوا فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ: قَالَ الْمَلِكُ قَدْ فَعَلْتُ، إِلَّا أَنَّ تَمْكِينَ اللَّه لَهُ فِي الْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى أن الملك قد أجابه إلى مَا سَأَلَ. وَأَقُولُ: مَا قَالُوهُ حَسَنٌ، إِلَّا أن هاهنا مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ وَهُوَ أَنَّ إِجَابَةَ الْمَلِكِ لَهُ سَبَبٌ فِي عَالَمِ الظَّاهِرِ وَأَمَّا الْمُؤَثِّرُ الْحَقِيقِيُّ: فَلَيْسَ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى مَكَّنَهُ فِي الْأَرْضِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَلِكَ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الْقَبُولِ وَمِنَ الرَّدِّ، فَنِسْبَةُ قُدْرَتِهِ إِلَى الْقَبُولِ وَإِلَى الرَّدِّ عَلَى التَّسَاوِي، وَمَا دَامَ يَبْقَى هَذَا التَّسَاوِي امْتَنَعَ حُصُولُ الْقَبُولِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَتَرَجَّحَ الْقَبُولُ عَلَى الرَّدِّ فِي خَاطِرِ ذَلِكَ الْمَلِكِ، وَذَلِكَ التَّرَجُّحُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمُرَجِّحٍ يَخْلُقُهُ اللَّه تَعَالَى، إِذَا خَلَقَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ الْمُرَجِّحَ حَصَلَ الْقَبُولُ لَا مَحَالَةَ، فَالتَّمَكُّنُ لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ لَيْسَ إِلَّا مِنْ خَلْقِ اللَّه تَعَالَى فِي قَلْبِ ذَلِكَ الْمَلِكِ بِمَجْمُوعِ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِيَةِ الْجَازِمَةِ اللَّتَيْنِ عند حصولهما يجب الْأَثَرِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ تَرَكَ اللَّه تَعَالَى ذِكْرَ إِجَابَةِ الْمَلِكِ وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ التَّمْكِينِ الْإِلَهِيِّ، لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ الْحَقِيقِيَّ لَيْسَ إِلَّا هُوَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّ الْمَلِكَ تَوَّجَهُ وَأَخْرَجَ خَاتَمَ الملك وجعله في إصبعه وقلد بِسَيْفِهِ وَوَضَعَ لَهُ سَرِيرًا مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلًا بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، فَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَمَّا السَّرِيرُ فَأَشُدُّ بِهِ مُلْكَكَ وَأَمَّا الْخَاتَمُ فَأُدَبِّرُ بِهِ أَمْرَكَ، وَأَمَّا التَّاجُ فَلَيْسَ مِنْ لِبَاسِي وَلَا لِبَاسِ آبَائِي، وَجَلَسَ عَلَى السَّرِيرِ وَدَانَتْ لَهُ الْقَوْمُ، وَعَزَلَ الْمَلِكُ قِطْفِيرَ زَوْجَ الْمَرْأَةِ الْمَعْلُومَةِ وَمَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ وَزَوَّجَهُ الْمَلِكُ امْرَأَتَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا قَالَ أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا مِمَّا طَلَبْتِ، فَوَجَدَهَا عَذْرَاءَ فَوَلَدَتْ لَهُ وَلَدَيْنِ إِفْرَايِمَ وَمِيشَا وَأَقَامَ الْعَدْلَ بِمِصْرَ وَأَحَبَّتْهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَأَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ الْمَلِكُ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَبَاعَ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ فِي سِنِي الْقَحْطِ الطَّعَامَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى ثم بالحلي

وَالْجَوَاهِرِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ/ ثُمَّ بِالدَّوَابِّ ثُمَّ بِالضِّيَاعِ وَالْعَقَارِ ثُمَّ بِرِقَابِهِمْ حَتَّى اسْتَرَقَّهُمْ سِنِينَ فَقَالُوا واللَّه مَا رَأَيْنَا مَلِكًا أَعْظَمَ شَأْنًا مِنْ هَذَا الْمَلِكِ حَتَّى صَارَ كُلُّ الْخَلْقِ عَبِيدًا لَهُ فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّه أَنِّي أَعْتَقْتُ أَهْلَ مِصْرَ عَنْ آخِرِهِمْ وَرَدَدْتُ عَلَيْهِمْ أَمْلَاكَهُمْ، وَكَانَ لَا يَبِيعُ لِأَحَدٍ مِمَّنْ يَطْلُبُ الطَّعَامَ أَكْثَرَ مِنْ حِمْلِ الْبَعِيرِ لِئَلَّا يَضِيقَ الطَّعَامُ عَلَى الْبَاقِينَ هَكَذَا رَوَاهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ الْكَافُ مَنْصُوبَةٌ بِالتَّمْكِينِ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ يَعْنِي بِهِ وَمِثْلُ ذَلِكَ الْإِنْعَامِ الَّذِي أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ فِي تَقْرِيبِنَا إِيَّاهُ مِنْ قَلْبِ الْمَلِكِ وَإِنْجَائِنَا إِيَّاهُ مِنْ غَمِّ الْحَبْسِ، وَقَوْلُهُ: مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أَيْ أَقْدَرْنَاهُ عَلَى مَا يُرِيدُ بِرَفْعِ الْمَوَانِعِ وَقَوْلُهُ: يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ يَتَبَوَّأُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ تَقْدِيرُهُ مَكَّنَّاهُ مُتَبَوَّأً وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: نَشَاءُ بِالنُّونِ مُضَافًا إِلَى اللَّه تَعَالَى وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ مُضَافًا إِلَى يُوسُفَ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَارَ فِي الْمُلْكِ بِحَيْثُ لَا يُدَافِعُهُ أَحَدٌ، وَلَا يُنَازِعُهُ مُنَازِعٌ بَلْ صَارَ مُسْتَقِلًّا بِكُلِّ مَا شَاءَ وَأَرَادَ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا يُؤَكِّدُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِ فَقَالَ: نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلًا أَنَّ ذَلِكَ التَّمْكِينَ كَانَ مِنَ اللَّه لَا مِنْ أَحَدٍ سِوَاهُ وَهُوَ قوله: كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ: نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَفِيهِ فَائِدَتَانِ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّه تَعَالَى. قَالَ الْقَاضِي: تلك المملكة لما لم تتم إلا بالأمور فَعَلَهَا اللَّه تَعَالَى صَارَتْ كَأَنَّهَا حَصَلَتْ مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى. وَجَوَابُهُ: أَنَّا نَدَّعِي أَنَّ نَفْسَ تِلْكَ الْمَمْلَكَةِ إِنَّمَا حَصَلَتْ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى، لِأَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا، وَالْبُرْهَانَ الْقَاطِعَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يُقَوِّي قَوْلَنَا، فَصَرْفُ هَذَا اللَّفْظِ إِلَى الْمَجَازِ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ. الفائدة الثانية: أنه أتاه ذلك الملك بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ النَّافِذَةِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُجْرِي أَمْرَ نِعَمِهِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الصَّلَاحُ. قُلْنَا: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُمُورَ مُعَلَّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ الإلهية والقدرة المحصنة فَأَمَّا رِعَايَةُ قَيْدِ الصَّلَاحِ، فَأَمْرٌ اعْتَبَرْتَهُ أَنْتَ مِنْ نَفْسِكَ مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ إِضَاعَةَ الْأَجْرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْعَجْزِ أَوْ لِلْجَهْلِ أَوْ لِلْبُخْلِ وَالْكُلُّ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى، فَكَانَتِ الْإِضَاعَةُ مُمْتَنِعَةً. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا شَهَادَةٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وَلَوْ صَدَقَ الْقَوْلُ/ بِأَنَّهُ جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ لَامْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، فَهَهُنَا لَزِمَ إِمَّا تَكْذِيبُ اللَّه فِي حُكْمِهِ عَلَى يُوسُفَ بِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وَهُوَ عَيْنُ الْكُفْرِ أَوْ لَزِمَ تَكْذِيبُ الْحَشْوِيِّ فِيمَا رَوَاهُ وَهُوَ عَيْنُ الْإِيمَانِ وَالْحَقِّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الأول: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَصَلَ إِلَى الْمَنَازِلِ الْعَالِيَةِ وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةِ فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَنَّ الثَّوَابَ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّه لَهُ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَأَفْضَلُ وَأَكْمَلُ وَجِهَاتُ التَّرْجِيحِ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي هَذَا

[سورة يوسف (12) : الآيات 58 إلى 61]

الْكِتَابِ مِرَارًا وَأَطْوَارًا، وَحَاصِلُ تِلْكَ الْوُجُوهِ أَنَّ الْخَيْرَ الْمُطْلَقَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ نَفْعًا خَالِصًا دَائِمًا مَقْرُونًا بِالتَّعْظِيمِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْقُيُودِ الْأَرْبَعَةِ حَاصِلَةٌ فِي خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ وَمَفْقُودَةٌ فِي خَيْرَاتِ الدُّنْيَا. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الْخَيْرِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لِكَوْنِ أَحَدِ الْخَيْرَيْنِ أَفْضَلَ مِنَ الْآخَرِ كَمَا يُقَالُ: الْجُلَّابُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاءِ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ لِبَيَانِ كَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ خَيْرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانَ التَّفْضِيلِ كَمَا يُقَالُ: الثَّرِيدُ خَيْرٌ مِنَ اللَّه يَعْنِي الثَّرِيدَ خَيْرٌ مِنَ الْخَيْرَاتِ حَصَلَ بِإِحْسَانٍ مِنَ اللَّه. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ مَلَاذُّ الدُّنْيَا مَوْصُوفَةً بِالْخَيْرِيَّةِ أَيْضًا، وَأَمَّا إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَزِمَ أَنْ لَا يُقَالَ إِنَّ مَنَافِعَ الدُّنْيَا أَيْضًا خَيْرَاتٌ بَلْ لَعَلَّهُ يُفِيدُ أَنَّ خَيْرَ الْآخِرَةِ هُوَ الْخَيْرُ، وَأَمَّا مَا سِوَاهُ فَعَبَثٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ شَرْحُ حَالِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوَجَبَ أَنْ يُصَدَّقَ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، وَهَذَا تَنْصِيصٌ مِنَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الزَّمَانِ السَّابِقِ من المتقين، وليس هاهنا زَمَانٌ سَابِقٌ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ أَنَّهُ كَانَ فِيهِ مِنَ الْمُتَّقِينَ إِلَّا ذَلِكَ الْوَقْتَ الَّذِي قَالَ اللَّه فِيهِ: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها [يُوسُفَ: 24] فَكَانَ هَذَا شهادة من اللَّه تعالى على أنه عليه السَّلَامُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ: وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمُخْلَصِينَ فَثَبَتَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى شَهِدَ بِأَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنَ الْمُتَّقِينَ وَمِنَ الْمُحْسِنِينَ وَمِنَ الْمُخْلَصِينَ، وَالْجَاهِلُ الْحَشْوِيُّ يَقُولُ: إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْأَخْسَرِينَ الْمُذْنِبِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ هَذِهِ التَّأْكِيدَاتِ كَانَ مِنَ الْأَخْسَرِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ: الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الثَّوَابَ يَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ لِمَنْ لَمْ يَتَّقِ الْكَبَائِرَ. قُلْنَا: هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّا إِنْ حَمَلْنَا لَفْظَ خَيْرٌ عَلَى أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ الْحَاصِلُ لِلْمُتَّقِينَ أَفْضَلَ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَحْصُلَ لِغَيْرِهِمْ أَصْلًا، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى أَصْلِ مَعْنَى الْخَيْرِيَّةِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ هَذَا الْخَيْرِ لِلْمُتَّقِينَ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غيرهم لا يحصل لهم هذا الخير. [سورة يوسف (12) : الآيات 58 الى 61] وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا عَمَّ الْقَحْطُ فِي الْبِلَادِ، وَوَصَلَ أَيْضًا إِلَى الْبَلْدَةِ الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَعُبَ الزَّمَانُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ لِبَنِيهِ إِنَّ بِمِصْرَ رَجُلًا صَالِحًا يَمِيرُ النَّاسَ فَاذْهَبُوا إِلَيْهِ بِدَرَاهِمِكُمْ وَخُذُوا الطَّعَامَ فَخَرَجُوا إِلَيْهِ وَهُمْ عَشَرَةٌ وَدَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَارَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ كَالسَّبَبِ فِي اجْتِمَاعِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ

إِخْوَتِهِ وَظُهُورِ صِدْقِ مَا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ فِي قَوْلِهِ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَالَ مَا أَلْقَوْهُ فِي الْجُبِّ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [يُوسُفَ: 15] وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ يُوسُفَ عَرَفَهُمْ وَهُمْ مَا عَرَفُوهُ الْبَتَّةَ، أَمَّا أَنَّهُ عَرَفَهُمْ فَلِأَنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَدْ أَخْبَرَهُ في قوله: لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَصِلُونَ إِلَيْهِ وَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا كَانَتْ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُمْ يَصِلُونَ إِلَيْهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَرَصِّدًا لِذَلِكَ الْأَمْرِ، وَكَانَ كُلُّ مَنْ وَصَلَ إِلَى بَابِهِ مِنَ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ يَتَفَحَّصُ عَنْهُمْ وَيَتَعَرَّفُ أَحْوَالَهُمْ لِيَعْرِفَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْوَاصِلِينَ هَلْ هُمْ إِخْوَتُهُ أَمْ لَا فَلَمَّا وَصَلَ إِخْوَةُ/ يُوسُفَ إِلَى بَابِ دَارِهِ تَفَحَّصَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ تَفَحُّصًا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُمْ إِخْوَتُهُ، وَأَمَّا أَنَّهُمْ مَا عَرَفُوهُ فَلِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ حُجَّابَهُ بِأَنْ يُوقِفُوهُمْ مِنَ الْبُعْدِ وَمَا كَانَ يَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ إِلَّا بِالْوَاسِطَةِ وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوهُ لَا سِيَّمَا مَهَابَةُ الْمَلِكِ وَشِدَّةُ الْحَاجَةِ يُوجِبَانِ كَثْرَةَ الْخَوْفِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ مِنَ التَّأَمُّلِ التَّامِّ الَّذِي عِنْدَهُ يَحْصُلُ الْعِرْفَانُ. وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّهُمْ حِينَ أَلْقَوْهُ فِي الْجُبِّ كَانَ صَغِيرًا. ثُمَّ إِنَّهُمْ رَأَوْهُ بَعْدَ وُفُورِ اللِّحْيَةِ، وَتَغَيُّرِ الزِّيِّ وَالْهَيْئَةِ فَإِنَّهُمْ رَأَوْهُ جَالِسًا عَلَى سَرِيرِهِ، وَعَلَيْهِ ثِيَابُ الْحَرِيرِ، وَفِي عُنُقِهِ طَوْقٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَالْقَوْمُ أَيْضًا نَسُوا وَاقِعَةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِطُولِ الْمُدَّةِ. فَيُقَالُ: إِنَّ مِنْ وَقْتِ مَا أَلْقَوْهُ فِي الْجُبِّ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ كَانَ قَدْ مَضَى أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ الْمَعْرِفَةِ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ اجْتِمَاعِهَا، وَالثَّالِثُ: أَنَّ حُصُولَ الْعِرْفَانِ وَالتَّذْكِيرِ بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى، فَلَعَلَّهُ تَعَالَى مَا خَلَقَ ذَلِكَ الْعِرْفَانَ وَالتَّذْكِيرَ فِي قُلُوبِهِمْ تَحْقِيقًا لِمَا أَخْبَرَهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ مُعْجِزَاتِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قَالَ اللَّيْثُ: جَهَّزْتُ الْقَوْمَ تَجْهِيزًا إِذَا تَكَلَّفْتَ لَهُمْ جَهَازِهِمْ لِلسَّفَرِ، وَكَذَلِكَ جَهَازُ الْعَرُوسِ وَالْمَيِّتِ وَهُوَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي وَجْهِهِ. قَالَ: وَسَمِعْتُ أَهْلَ الْبَصْرَةِ يَقُولُونَ: الْجِهَازُ بِالْكَسْرِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْقُرَّاءُ كُلُّهُمْ عَلَى فَتْحِ الْجِيمِ، وَالْكَسْرُ لُغَةٌ لَيْسَتْ بِجَيِّدَةٍ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: حَمَّلَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَعِيرًا وَأَكْرَمَهُمْ أَيْضًا بِالنُّزُولِ وَأَعْطَاهُمْ مَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ فِي السَّفَرِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ: ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ كَلَامٍ سَابِقٍ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ الْكَلَامُ سَبَبًا لِسُؤَالِ يُوسُفَ عَنْ حَالِ أَخِيهِمْ، وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَحْسَنُهَا إِنَّ عَادَةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ الْكُلِّ أَنْ يُعْطِيَهُ حِمْلَ بِعِيرٍ لَا أَزْيَدَ عَلَيْهِ وَلَا أَنْقَصَ، وَإِخْوَةُ يُوسُفَ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَيْهِ كَانُوا عَشَرَةً، فَأَعْطَاهُمْ عَشَرَةَ أَحْمَالٍ، فَقَالُوا: إِنَّ لَنَا أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا وَأَخًا آخَرَ بَقِيَ مَعَهُ، وَذَكَرُوا أَنَّ أَبَاهُمْ لِأَجْلِ سِنِّهِ وَشِدَّةِ حُزْنِهِ لَمْ يَحْضُرْ، وَأَنَّ أَخَاهُمْ بَقِيَ فِي خِدْمَةِ أَبِيهِ وَلَا بُدَّ لَهُمَا أَيْضًا مِنْ شَيْءٍ مِنَ الطَّعَامِ فَجَهَّزَ لَهُمَا أَيْضًا بَعِيرَيْنِ آخَرَيْنِ مِنَ الطَّعَامِ فَلَمَّا ذَكَرُوا ذَلِكَ قَالَ يُوسُفُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُبَّ أَبِيكُمْ لَهُ أَزْيَدُ مِنْ حُبِّهِ لَكُمْ، وَهَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ لِأَنَّكُمْ مَعَ جَمَالِكُمْ وَعَقْلِكُمْ وَأَدَبِكُمْ إِذَا كَانَتْ مَحَبَّةُ أَبِيكُمْ لِذَلِكَ الْأَخِ أَكْثَرَ مِنْ مَحَبَّتِهِ لَكُمْ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أُعْجُوبَةٌ فِي الْعَقْلِ، وَفِي الْفَضْلِ وَالْأَدَبِ فَجِيئُونِي بِهِ حَتَّى أَرَاهُ فَهَذَا السَّبَبُ مُحْتَمَلٌ مُنَاسِبٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَعْطَاهُمُ الطَّعَامَ قَالَ لَهُمْ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ قَوْمٌ رُعَاةٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَصَابَنَا الْجَهْدُ فَجِئْنَا نَمْتَارُ فَقَالَ: لَعَلَّكُمْ جِئْتُمْ عُيُونًا فَقَالُوا مَعَاذَ اللَّه نَحْنُ إِخْوَةٌ بَنُو أَبٍ وَاحِدٍ

[سورة يوسف (12) : الآيات 62 إلى 64]

شَيْخٍ صِدِّيقٍ نَبِيٍّ اسْمُهُ يَعْقُوبُ قَالَ: كَمْ أَنْتُمْ قَالُوا: كُنَّا اثْنَيْ عَشَرَ فَهَلَكَ مِنَّا وَاحِدٌ وَبَقِيَ وَاحِدٌ مَعَ الْأَبِ يَتَسَلَّى بِهِ عَنْ ذَلِكَ الَّذِي هَلَكَ، وَنَحْنُ عَشَرَةٌ وَقَدْ جِئْنَاكَ قَالَ: فَدَعُوا بَعْضَكُمْ عِنْدِي رَهِينَةً وَائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ لِيُبَلِّغَ إِلَيَّ رِسَالَةَ أَبِيكُمْ فَعِنْدَ هَذَا أَقْرَعُوا بَيْنَهُمْ فَأَصَابَتِ الْقُرْعَةُ شَمْعُونَ، وَكَانَ أَحْسَنَهُمْ رَأْيًا فِي يُوسُفَ فَخَلَّفُوهُ عِنْدَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: لَعَلَّهُمْ لَمَّا ذَكَرُوا أَبَاهُمْ قَالَ يُوسُفُ: فَلِمَ تَرَكْتُمُوهُ وَحِيدًا فَرِيدًا؟ قَالُوا: مَا تَرَكْنَاهُ وَحِيدًا، بَلْ بَقِيَ عِنْدَهُ وَاحِدٌ. فَقَالَ لَهُمْ: لِمَ اسْتَخْلَصَهُ لِنَفْسِهِ وَلِمَ خَصَّهُ بِهَذَا الْمَعْنَى لِأَجْلِ نَقْصٍ فِي جَسَدِهِ؟ فَقَالُوا: لَا. بَلْ لِأَجْلِ أَنَّهُ يُحِبُّهُ أَكْثَرَ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِسَائِرِ الْأَوْلَادِ فَعِنْدَ هَذَا قَالَ يُوسُفُ لِمَا ذَكَرْتُمْ أَنَّ أَبَاكُمْ رَجُلٌ عَالِمٌ حَكِيمٌ بَعِيدٌ عَنِ الْمُجَازَفَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ خَصَّهُ بِمَزِيدِ الْمَحَبَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ زَائِدًا عَلَيْكُمْ فِي الْفَضْلِ، وَصِفَاتِ الْكَمَالِ مَعَ أَنِّي أَرَاكُمْ فُضَلَاءَ عُلَمَاءَ حُكَمَاءَ فَاشْتَاقَتْ نَفْسِي إِلَى رُؤْيَةِ ذَلِكَ الْأَخِ فَائْتُونِي بِهِ، وَالسَّبَبُ الثَّانِي: ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَالْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ مُحْتَمَلٌ واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ أَيْ أُتِمُّهُ وَلَا أَبْخَسُهُ، وَأَزِيدُكُمْ حِمْلَ بَعِيرٍ آخَرَ لِأَجْلِ أَخِيكُمْ، وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ، أَيْ خَيْرُ الْمُضِيفِينَ لِأَنَّهُ حِينَ أَنْزَلَهُمْ أَحْسَنَ ضِيَافَتَهُمْ. وَأَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ يُضْعِفُ الْوَجْهَ الثَّانِيَ وَهُوَ الَّذِي نَقَلْنَاهُ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ، لِأَنَّ مَدَارَ ذَلِكَ الْوَجْهِ عَلَى أَنَّهُ اتَّهَمَهُمْ وَنَسَبَهُمْ إِلَى أَنَّهُمْ جَوَاسِيسُ، وَلَوْ شَافَهَهُمْ بِذَلِكَ الكلام فلا يليق به أن يقوم لَهُمْ: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ وَأَيْضًا يَبْعُدُ مِنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ كَوْنِهِ صِدِّيقًا أَنْ يَقُولَ لَهُمْ أَنْتُمْ جَوَاسِيسُ وَعُيُونٌ، مَعَ أَنَّهُ يَعْرِفُ بَرَاءَتَهُمْ عَنْ هَذِهِ التُّهْمَةِ، لِأَنَّ الْبُهْتَانَ لَا يَلِيقُ بِحَالِ الصِّدِّيقِ. ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا طَلَبَ مِنْهُمْ إِحْضَارَ ذَلِكَ الْأَخِ جَمَعَ بَيْنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ. أَمَّا التَّرْغِيبُ: فَهُوَ قَوْلُهُ: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ وَأَمَّا التَّرْهِيبُ: فَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي نِهَايَةِ الْحَاجَةِ إِلَى تَحْصِيلِ الطَّعَامِ، وَمَا كَانَ يُمْكِنُهُمْ تَحْصِيلُهُ إِلَّا مِنْ عِنْدِهِ، فَإِذَا مَنَعَهُمْ مِنَ الْحُضُورِ عِنْدَهُ كَانَ ذَلِكَ نِهَايَةَ التَّرْهِيبِ وَالتَّخْوِيفِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا هَذَا الْكَلَامَ مِنْ يُوسُفَ قَالُوا: سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ أَيْ سَنَجْتَهِدُ وَنَحْتَالُ عَلَى أَنْ نَنْزِعَهُ مِنْ يَدِهِ، وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ هَذِهِ الْمُرَاوَدَةَ، وَالْغَرَضُ مِنَ التَّكْرِيرِ/ التَّأْكِيدُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ أَنْ نَجِيئَكَ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ كُلَّ مَا فِي وُسْعِنَا مِنْ هذا الباب. [سورة يوسف (12) : الآيات 62 الى 64] وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يَا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ لِفِتْيَانِهِ بِالْأَلِفِ وَالنُّونِ وَالْبَاقُونَ لفتيته بالتاء

مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ كَالصِّبْيَانِ وَالصِّبْيَةِ، وَالْإِخْوَانِ وَالْإِخْوَةِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ الْفِتْيَةُ جَمْعُ فَتًى فِي الْعَدَدِ الْقَلِيلِ وَالْفِتْيَانُ لِلْكَثِيرِ، فَوَجْهُ الْبِنَاءِ الَّذِي لِلْعَدَدِ الْقَلِيلِ أَنَّ الَّذِينَ يُحِيطُونَ بِمَا يَجْعَلُونَ بِضَاعَتَهُمْ فِيهِ مِنْ رِحَالِهِمْ يَكُونُونَ قَلِيلِينَ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْأَسْرَارِ فَوَجَبَ صَوْنُهُ إِلَّا عَنِ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ وَوَجْهُ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ أَنَّهُ قَالَ: اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ وَالرِّحَالُ تُفِيدُ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ يُبَاشِرُونَ ذَلِكَ الْعَمَلَ كَثِيرِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اتَّفَقَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ مَا كَانُوا عَالِمِينَ بِجَعْلِ الْبِضَاعَةِ فِي رِحَالِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُمْ كَانُوا عَارِفِينَ بِهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها يُبْطِلُ ذَلِكَ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ أَمَرَ يُوسُفُ بِوَضْعِ بِضَاعَتِهِمْ فِي رِحَالِهِمْ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ مَتَى فَتَحُوا الْمَتَاعَ فَوَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ فِيهِ، عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ كَرَمًا مِنْ يُوسُفَ وَسَخَاءً مَحْضًا فَيَبْعَثُهُمْ ذَلِكَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَيْهِ وَالْحِرْصِ عَلَى مُعَامَلَتِهِ. الثَّانِي: خَافَ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَ أَبِيهِ مِنَ الْوَرِقِ مَا يَرْجِعُونَ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى/ الثَّالِثُ: أَرَادَ بِهِ التَّوْسِعَةَ عَلَى أَبِيهِ لِأَنَّ الزَّمَانَ كَانَ زَمَانَ الْقَحْطِ. الرَّابِعُ: رَأَى أَنَّ أَخْذَ ثَمَنِ الطَّعَامِ مِنْ أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ مَعَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَى الطَّعَامِ لُؤْمٌ. الْخَامِسُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُمْ مَتَى شَاهَدُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ وَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ أَنَّهُمْ وَضَعُوا تِلْكَ الْبِضَاعَةَ فِي رِحَالِهِمْ عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ وَهُمْ أَنْبِيَاءُ وَأَوْلَادُ الْأَنْبِيَاءِ فَرَجَعُوا لِيَعْرِفُوا السَّبَبَ فِيهِ، أَوْ رَجَعُوا لِيَرُدُّوا الْمَالَ إِلَى مَالِكِهِ. السَّادِسُ: أَرَادَ أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِمْ عَلَى وَجْهٍ لَا يُلْحِقُهُمْ بِهِ عَيْبٌ وَلَا مِنَّةٌ. السَّابِعُ: مَقْصُودُهُ أَنْ يَعْرِفُوا أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ ذَلِكَ الْأَخَ لِأَجْلِ الْإِيذَاءِ وَالظُّلْمِ وَلَا لِطَلَبِ زِيَادَةٍ فِي الثَّمَنِ. الثَّامِنُ: أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ أَبُوهُ أَنَّهُ أَكْرَمَهُمْ وَطَلَبُهُ لَهُ لِمَزِيدِ الْإِكْرَامِ فَلَا يَثْقُلُ عَلَى أَبِيهِ إِرْسَالُ أَخِيهِ. التَّاسِعُ: أَرَادَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَالُ مَعُونَةً لَهُمْ عَلَى شِدَّةِ الزَّمَانِ، وَكَانَ يَخَافُ اللُّصُوصَ مِنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ، فَوَضَعَ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ فِي رِحَالِهِمْ حَتَّى تَبْقَى مَخْفِيَّةً إِلَى أَنْ يَصِلُوا إِلَى أَبِيهِمْ. الْعَاشِرُ: أَرَادَ أَنْ يُقَابِلَ مُبَالَغَتَهُمْ فِي الْإِسَاءَةِ بِمُبَالَغَتِهِ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا: يَا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا الطَّعَامَ لِأَبِيهِمْ وَلِلْأَخِ الْبَاقِي عِنْدَهُ مُنِعُوا مِنْهُ، فَقَوْلُهُمْ: مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُنِعَ الْكَيْلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِ يُوسُفَ: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي [يوسف: 60] وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: يَكْتَلْ بِالْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالنُّونِ، وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى تُقَوِّي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ تُقَوِّي الْقَوْلَ الثَّانِيَ. ثُمَّ قَالُوا: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ضَمِنُوا كَوْنَهُمْ حَافِظِينَ لَهُ، فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ قَالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ ذَكَرْتُمْ قَبْلُ هَذَا الْكَلَامَ فِي يُوسُفَ وَضَمِنْتُمْ لِي حِفْظَهُ حَيْثُ قُلْتُمْ: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [يُوسُفَ: 12] ثم هاهنا ذكرتم هذا اللفظ بعينه فهل يكون هاهنا أَمَانِيُّ إِلَّا مَا كَانَ هُنَاكَ يَعْنِي لَمَّا لَمْ يَحْصُلِ الْأَمَانُ هُنَاكَ فَكَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ هاهنا. ثُمَّ قَالَ: فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ حافِظاً بِالْأَلِفِ عَلَى التَّمْيِيزِ وَالتَّفْسِيرِ عَلَى تَقْدِيرِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ حَافِظًا كَقَوْلِهِمْ: هُوَ خَيْرُهُمْ رَجُلًا وللَّه دَرُّهُ فَارِسًا، وَقِيلَ: عَلَى الْحَالِ وَالْبَاقُونَ: حِفْظًا بِغَيْرِ أَلِفٍ عَلَى الْمَصْدَرِ يَعْنِي خَيْرُكُمْ حِفْظًا يَعْنِي حِفْظُ اللَّه لِبِنْيَامِينَ خَيْرٌ مِنْ حِفْظِكُمْ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ فاللَّه خَيْرُ حَافِظٍ وَقَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ خَيْرُ الْحَافِظِينَ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَثِقْتُ بِكُمْ فِي حِفْظِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانَ مَا كَانَ فَالْآنَ أَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّه فِي حِفْظِ بِنْيَامِينَ.

[سورة يوسف (12) : آية 65]

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ بَعَثَهُ مَعَهُمْ وَقَدْ شَاهَدَ مَا شَاهَدَ. قُلْنَا: لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَبِرُوا وَمَالُوا إِلَى الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ كَانَ يُشَاهِدُ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بِنْيَامِينَ مِنَ الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ مِثْلُ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ ضَرُورَةَ الْقَحْطِ أَحْوَجَتْهُ إِلَى ذَلِكَ، وَرَابِعُهَا: لَعَلَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ وَضَمِنَ حِفْظَهُ وَإِيصَالَهُ إِلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَدُلُّ قَوْلُهُ: فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً عَلَى أَنَّهُ أَذِنَ فِي ذَهَابِ ابْنِهِ بِنْيَامِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. قُلْنَا: الْأَكْثَرُونَ قَالُوا: يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ فِي خُرُوجِهِ مَعَهُمْ لَكَانَ فِي حِفْظِ اللَّه لَا فِي حِفْظِهِمْ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ يُوسُفَ قَالَ: فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً أَيْ لِيُوسُفَ لِأَنَّهُ كَانَ يعلم أنه حي. [سورة يوسف (12) : آية 65] وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يَا أَبانا مَا نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) اعْلَمْ أَنَّ الْمَتَاعَ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يُسْتَمْتَعَ بِهِ وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ به هاهنا الطَّعَامُ الَّذِي حَمَلُوهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَوْعِيَةُ الطَّعَامِ. ثُمَّ قَالَ: وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي رُدَّتْ فَالْأَكْثَرُونَ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَقَرَأَ عَلْقَمَةُ بِكَسْرِ الرَّاءِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : كَسْرَةُ الدَّالِ الْمُدْغَمَةِ نُقِلَتْ إِلَى الرَّاءِ كَمَا فِي قِيلَ وَبِيعَ. وَحَكَى قُطْرُبٌ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِنَا: ضُرِبَ زَيْدٌ عَلَى نَقْلِ كَسْرَةِ الرَّاءِ فِيمَنْ سَكَّنَهَا إِلَى الضَّادِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَا نَبْغِي فَفِي كَلِمَةِ (مَا) قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لِلنَّفْيِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ وَصَفُوا يُوسُفَ بِالْكَرَمِ وَاللُّطْفِ وَقَالُوا: إِنَّا قَدِمْنَا عَلَى رَجُلٍ فِي غَايَةِ الْكَرَمِ أَنْزَلَنَا وَأَكْرَمَنَا كَرَامَةً لَوْ كَانَ رَجُلًا مِنْ آلِ يَعْقُوبَ لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُمْ: مَا نَبْغِي أَيْ بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كَذِبًا وَلَا ذِكْرَ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ. الثَّانِي: أَنَّهُ بَلَغَ فِي الْإِكْرَامِ إِلَى غَايَةٍ مَا وَرَاءَهَا شَيْءٌ آخَرُ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ بَالَغَ فِي إِكْرَامِنَا أَمَرَ بِبِضَاعَتِنَا فَرُدَّتْ إِلَيْنَا. الثَّالِثُ: الْمَعْنَى أَنَّهُ رَدَّ بِضَاعَتَنَا إلينا، فنحن لا نبغي منك عِنْدَ رُجُوعِنَا إِلَيْهِ بِضَاعَةً أُخْرَى، فَإِنَّ هَذِهِ الَّتِي مَعَنَا كَافِيَةٌ لَنَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ كلمة «ما» هاهنا لِلِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى: لَمَّا رَأَوْا أَنَّهُ رَدَّ إِلَيْهِمْ بِضَاعَتَهُمْ قَالُوا: مَا نَبْغِي بَعْدَ هَذَا، أَيْ أَعْطَانَا الطَّعَامَ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْنَا ثَمَنَ الطَّعَامِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، فَأَيَّ شَيْءٍ نَبْغِي وَرَاءَ ذَلِكَ؟ وَاعْلَمْ أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا «مَا» عَلَى الِاسْتِفْهَامِ صَارَ التَّقْدِيرُ أَيُّ شَيْءٍ نَبْغِي فَوْقَ هَذَا الْإِكْرَامِ إِنَّ الرَّجُلَ رَدَّ دَرَاهِمَنَا إِلَيْنَا فَإِذَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ نَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بِعِيرٍ بِسَبَبِ حُضُورِ أَخِينَا. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ مَارَهُ يَمِيرُهُ مَيْرًا إِذَا أَتَاهُ بِمِيرَةٍ أَيْ بِطَعَامٍ وَمِنْهُ يُقَالُ: مَا عِنْدَهُ خَيْرٌ وَلَا مَيْرٌ وَقَوْلُهُ: وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ مَعْنَاهُ: أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَكِيلُ لِكُلِّ رَجُلٍ حِمْلَ بَعِيرٍ فَإِذَا حَضَرَ أَخُوهُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَزْدَادَ ذَلِكَ الْحِمْلُ، وَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَا كَلِمَةَ «مَا» عَلَى النَّفْيِ كَانَ الْمَعْنَى لَا نَبْغِي شَيْئًا آخَرَ هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا فَهِيَ كَافِيَةٌ لِثَمَنِ الطَّعَامِ فِي الذَّهَابِ الثَّانِي، ثُمَّ نَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا.

[سورة يوسف (12) : آية 66]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ الْمُحْسِنِ لِسَخَائِهِ وَحِرْصِهِ عَلَى الْبَذْلِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ. وَالثَّانِي: ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ، أَيْ قَصِيرُ الْمُدَّةِ لَيْسَ سَبِيلُ مِثْلِهِ أَنْ تَطُولَ مُدَّتُهُ بِسَبَبِ الْحَبْسِ وَالتَّأْخِيرِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ذَلِكَ الَّذِي يُدْفَعُ إِلَيْنَا دُونَ أَخِينَا شَيْءٌ يَسِيرٌ قَلِيلٌ فَابْعَثْ أَخَانَا مَعَنَا حتى نتبدل تلك القلة بالكثرة. [سورة يوسف (12) : آية 66] قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) اعْلَمْ أَنَّ الْمَوْثِقَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الثِّقَةِ وَمَعْنَاهُ: الْعَهْدُ الَّذِي يُوثَقُ بِهِ فَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ يَقُولُ: لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُعْطُونِي عَهْدًا مَوْثُوقًا بِهِ وَقَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ أَيْ عَهْدًا مَوْثُوقًا بِهِ بِسَبَبِ تَأَكُّدِهِ بِإِشْهَادِ اللَّه وَبِسَبَبِ الْقَسَمِ باللَّه عَلَيْهِ، وقوله: لَتَأْتُنَّنِي بِهِ دخلت اللام هاهنا لِأَجْلِ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْثِقِ مِنَ اللَّه الْيَمِينُ فَتَقْدِيرُهُ: حَتَّى تَحْلِفُوا باللَّه لَتَأْتُنَّنِي بِهِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ. فَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ مفعوله لَهُ، وَالْكَلَامُ الْمُثْبَتُ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: لَتَأْتُنَّنِي بِهِ فِي تَأْوِيلِ الْمَنْفِيِّ، فَكَانَ الْمَعْنَى: لَا تَمْتَنِعُونَ/ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهِ لِعِلَّةٍ مِنَ الْعِلَلِ إِلَّا لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْوَاحِدِيُّ لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ مَعْنَاهُ الْهَلَاكُ قَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَّا أَنْ تَمُوتُوا كُلُّكُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا عِنْدِي، وَالْعَرَبُ تَقُولُ أُحِيطَ بِفُلَانٍ إِذَا قَرُبَ هَلَاكُهُ قَالَ تَعَالَى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الْكَهْفِ: 42] أَيْ أَصَابَهُ مَا أَهْلَكَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ [يُونُسَ: 22] وَأَصْلُهُ أَنَّ مَنْ أَحَاطَ بِهِ الْعَدُوُّ وَانْسَدَّتْ عَلَيْهِ مَسَالِكُ النَّجَاةِ دَنَا هَلَاكُهُ، فَقِيلَ: لِكُلِّ مَنْ هَلَكَ قَدْ أُحِيطَ بِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ قَتَادَةُ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ إِلَّا أَنْ تَصِيرُوا مَغْلُوبِينَ مَقْهُورِينَ، فَلَا تَقْدِرُونَ عَلَى الرُّجُوعِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ يُرِيدُ شَهِيدٌ، لِأَنَّ الشَّهِيدَ وَكِيلٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ هَذَا الْعَهْدُ فَإِنْ وَفَّيْتُمْ بِهِ جَازَاكُمْ بِأَحْسَنِ الْجَزَاءِ، وإن غدرتم فيه كافأكم بأعظم العقوبات. [سورة يوسف (12) : آية 67] وَقالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) اعْلَمْ أَنَّ أَبْنَاءَ يَعْقُوبَ لَمَّا عَزَمُوا عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى مِصْرَ. وَكَانُوا مَوْصُوفِينَ بِالْكَمَالِ وَالْجَمَالِ وَأَبْنَاءَ رَجُلٍ وَاحِدٍ قَالَ لَهُمْ: لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ خاف من العين عليهم ولنا هاهنا مَقَامَانِ. الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: إِثْبَاتُ أَنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: إِطْبَاقُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ فَيَقُولُ: «أُعِيذُكُمَا

بِكَلِمَاتِ اللَّه التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ» وَيَقُولُ هَكَذَا كَانَ يُعَوِّذُ إِبْرَاهِيمُ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِمْ. وَالثَّالِثُ: مَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَرَأَيْتُهُ شَدِيدَ الْوَجَعِ ثُمَّ/ عُدْتُ إِلَيْهِ آخِرَ النَّهَارِ فَرَأَيْتُهُ مُعَافًى فَقَالَ: «إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَانِي فَرَقَانِي فَقَالَ: بِسْمِ اللَّه أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ وَحَاسِدٍ اللَّه يَشْفِيكَ» قَالَ فَأَفَقْتُ، وَالرَّابِعُ: رُوِيَ أَنَّ بَنِي جَعْفَرِ بن أبي طالب كانوا غلمان بِيضًا فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّ الْعَيْنَ إِلَيْهِمْ سَرِيعَةٌ أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ مِنَ الْعَيْنِ فَقَالَ لَهَا نَعَمْ. وَالْخَامِسُ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ أُمِّ سَلَمَةَ وَعِنْدَهَا صَبِيٌّ يَشْتَكِي فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه أَصَابَتْهُ الْعَيْنُ فَقَالَ أَفَلَا تَسْتَرْقُونَ لَهُ مِنَ الْعَيْنِ. وَالسَّادِسُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ يَسْبِقُ الْقَدَرَ لَسَبَقَتِ الْعَيْنُ الْقَدَرَ» وَالسَّابِعُ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: كن يَأْمُرُ الْعَائِنَ أَنْ يَتَوَضَّأَ ثُمَّ يَغْسِلَ مِنْهُ الْمَعِينُ الَّذِي أُصِيبَ بِالْعَيْنِ. الْمَقَامُ الثَّانِي: فِي الْكَشْفِ عَنْ مَاهِيَّتِهِ فَنَقُولُ: إِنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْجُبَّائِيَّ أَنْكَرَ هَذَا الْمَعْنَى إِنْكَارًا بَلِيغًا وَلَمْ يَذْكُرْ فِي إِنْكَارِهِ شُبْهَةً فَضْلًا عَنْ حُجَّةٍ، وَأَمَّا الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِهِ وَأَقَرُّوا بِوُجُودِهِ فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ الْحَافِظُ: إِنَّهُ يمتد من العين أجزاء فتصل بِالشَّخْصِ الْمُسْتَحْسَنِ فَتُؤَثِّرُ فِيهِ وَتَسْرِي فِيهِ كَتَأْثِيرِ اللَّسْعِ وَالسُّمِّ وَالنَّارِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا فِي جِهَةِ التَّأْثِيرِ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ، لَوَجَبَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الشَّخْصِ الَّذِي لَا يُسْتَحْسَنُ كَتَأْثِيرِهِ فِي الْمُسْتَحْسَنِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ ضَعِيفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَحْسَنَ شَيْئًا فَقَدْ يُحِبُّ بَقَاءَهُ كَمَا إِذَا اسْتَحْسَنَ وَلَدَ نَفْسِهِ وَبُسْتَانَ نَفْسِهِ، وَقَدْ يَكْرَهُ بَقَاءَهُ أَيْضًا كَمَا إِذَا أَحَسَّ الْحَاسِدُ بِشَيْءٍ حَصَلَ لِعَدُوِّهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ الِاسْتِحْسَانِ خَوْفٌ شَدِيدٌ مِنْ زَوَالِهِ وَالْخَوْفُ الشَّدِيدُ يُوجِبُ انْحِصَارَ الرُّوحِ فِي دَاخِلِ الْقَلْبِ فَحِينَئِذٍ يَسْخُنُ الْقَلْبُ وَالرُّوحُ جِدًّا، وَيَحْصُلُ فِي الرُّوحِ الْبَاصِرَةِ كَيْفِيَّةٌ قَوِيَّةٌ مُسَخِّنَةٌ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي: فَإِنَّهُ يَحْصُلُ عِنْدَ ذَلِكَ الِاسْتِحْسَانِ حَسَدٌ شَدِيدٌ وَحُزْنٌ عَظِيمٌ بِسَبَبِ حُصُولِ تِلْكَ النِّعْمَةِ لِعَدُوِّهِ. وَالْحُزْنُ أَيْضًا يُوجِبُ انْحِصَارَ الرُّوحِ فِي دَاخِلِ الْقَلْبِ وَيَحْصُلُ فِيهِ سُخُونَةٌ شَدِيدَةٌ، فَثَبَتَ أَنَّ عِنْدَ الِاسْتِحْسَانِ الْقَوِيِّ تَسْخُنُ الرُّوحُ جِدًّا فَيَسْخُنُ شُعَاعُ الْعَيْنِ بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يُسْتَحْسَنْ فَإِنَّهُ لَا تَحْصُلُ هَذِهِ السُّخُونَةُ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ أَمَرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَائِنَ بِالْوُضُوءِ وَمَنْ أَصَابَتْهُ الْعَيْنُ بِالِاغْتِسَالِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو هَاشِمٍ وَأَبُو الْقَاسِمِ الْبَلْخِيُّ إِنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ حَقًّا، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّ صَاحِبَ الْعَيْنِ إِذَا شَاهَدَ الشَّيْءَ وَأُعْجِبَ بِهِ اسْتِحْسَانًا كَانَ الْمَصْلَحَةُ لَهُ فِي تَكْلِيفِهِ أَنْ يُغَيِّرَ اللَّه ذَلِكَ الشَّخْصَ وَذَلِكَ الشَّيْءَ حَتَّى لَا يَبْقَى قَلْبُ ذَلِكَ الْمُكَلَّفِ مُتَعَلِّقًا بِهِ، فَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، ثُمَّ لَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ رَبَّهُ عِنْدَ تِلْكَ الْحَالَةِ وَعَدَلَ عَنِ الْإِعْجَابِ وَسَأَلَ رَبَّهُ تَقِيَّةَ ذَلِكَ، فَعِنْدَهُ تَتَعَيَّنُ الْمَصْلَحَةُ وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْعَادَةُ مُطَّرِدَةً لَا جَرَمَ قِيلَ الْعَيْنُ حَقٌّ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْحُكَمَاءِ قَالُوا هَذَا الْكَلَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَهِيَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمُؤَثِّرِ أَنْ يَكُونَ تَأْثِيرُهُ بِحَسَبِ هَذِهِ الْكَيْفِيَّاتِ الْمَحْسُوسَةِ أَعْنِي الْحَرَارَةَ وَالْبُرُودَةَ وَالرُّطُوبَةَ وَالْيُبُوسَةَ بَلْ قَدْ يَكُونُ التَّأْثِيرُ نَفْسَانِيًّا مَحْضًا، وَلَا يَكُونُ لِلْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةِ بِهَا تَعَلُّقٌ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّوْحَ الَّذِي يَكُونُ قَلِيلَ الْعَرْضِ إِذَا كَانَ مَوْضُوعًا عَلَى الْأَرْضِ، قَدَرَ الْإِنْسَانُ عَلَى الْمَشْيِ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مَوْضُوعًا فِيمَا بَيْنَ جِدَارَيْنِ عَالِيَيْنِ لَعَجَزَ الْإِنْسَانُ

عَلَى الْمَشْيِ عَلَيْهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ خَوْفَهُ مِنَ السُّقُوطِ مِنْهُ يُوجِبُ سُقُوطَهُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ التَّأْثِيرَاتِ النَّفْسَانِيَّةَ مَوْجُودَةٌ، وَأَيْضًا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَصَوَّرَ كَوْنَ فُلَانٍ مُؤْذِيًا لَهُ حَصَلَ فِي قَلْبِهِ غَضَبٌ، وَيَسْخُنُ مِزَاجُهُ جِدًّا فَمَبْدَأُ تِلْكَ السُّخُونَةِ لَيْسَ إِلَّا ذَلِكَ التَّصَوُّرَ النَّفْسَانِيَّ، وَلِأَنَّ مَبْدَأَ الْحَرَكَاتِ الْبَدَنِيَّةِ لَيْسَ إِلَّا التَّصَوُّرَاتِ النَّفْسَانِيَّةَ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ تَصَوُّرَ النَّفْسِ يُوجِبُ تَغَيُّرَ بَدَنِهِ الْخَاصِّ لَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النُّفُوسِ بِحَيْثُ تَتَعَدَّى تَأْثِيرَاتُهَا إِلَى سَائِرِ الْأَبْدَانِ. فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ كَوْنُ النَّفْسِ مُؤَثِّرَةً فِي سَائِرِ الْأَبْدَانِ وَأَيْضًا جَوَاهِرُ النُّفُوسِ الْمُخْتَلِفَةِ بِالْمَاهِيَّةِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النُّفُوسِ بِحَيْثُ يُؤَثِّرُ فِي تَغْيِيرِ بَدَنِ حَيَوَانٍ آخَرَ بِشَرْطِ أَنْ يَرَاهُ وَيَتَعَجَّبَ مِنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى أَمْرٌ مُحْتَمَلٌ وَالتَّجَارِبُ مِنَ الزَّمَنِ الْأَقْدَمِ سَاعَدَتْ عَلَيْهِ وَالنُّفُوسُ النَّبَوِيَّةُ نَطَقَتْ بِهِ فَعِنْدَهُ لَا يَبْقَى فِي وُقُوعِهِ شَكٌّ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّ الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِإِصَابَةِ الْعَيْنِ كَلَامٌ حَقٌّ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ: أَنَّ أَبْنَاءَ يَعْقُوبَ اشتهروا بمصر وتحدث الناس بهم وبحسهم وَكَمَالِهِمْ. فَقَالَ: لَا تَدْخُلُوا تِلْكَ الْمَدِينَةَ مِنْ بابٍ واحِدٍ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَدِ وَالْهَيْئَةِ فَلَمْ يَأْمَنْ عَلَيْهِمْ حَسَدَ النَّاسِ أَوْ يُقَالُ: لَمْ يَأْمَنْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَخَافَهُمُ الْمَلِكُ الْأَعْظَمُ عَلَى مُلْكِهِ فَيَحْبِسَهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ مُحْتَمَلٌ لَا إِنْكَارَ فِيهِ إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِيهِ بِحَسَبِ الْعَقْلِ وَالْمُفَسِّرُونَ أَطْبَقُوا عَلَيْهِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَنُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: خَافَ عَلَيْهِمُ الْعَيْنَ، فَقَالَ: لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عِلْمِهِ وَقَالَ: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ وَعَرَفَ أَنَّ الْعَيْنَ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ وَكَانَ قَتَادَةُ يُفَسِّرُ الْآيَةَ بِإِصَابَةِ الْعَيْنِ وَيَقُولُ: لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِبْطَالٌ لَهُ لِأَنَّ الْعَيْنَ وَإِنْ صَحَّ فاللَّه قَادِرٌ عَلَى دَفْعِ أَثَرِهِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ مَلِكَ مِصْرَ هُوَ وَلَدُهُ يُوسُفُ إِلَّا أَنَّ اللَّه تَعَالَى مَا أَذِنَ لَهُ فِي إِظْهَارِ ذَلِكَ فَلَمَّا بَعَثَ أَبْنَاءَهُ إِلَيْهِ قَالَ: لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَكَانَ غَرَضُهُ أَنْ يَصِلَ بِنْيَامِينُ إِلَى يُوسُفَ فِي وَقْتِ الْخَلْوَةِ، وَهَذَا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، فَأَمَّا/ قَوْلُهُ: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُرَاعِيَ الْأَسْبَابَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَمَأْمُورٌ أَيْضًا بِأَنْ يَعْتَقِدَ وَيَجْزِمَ بِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ إِلَّا مَا قَدَّرَهُ اللَّه تَعَالَى وَأَنَّ الْحَذَرَ لَا يُنْجِي مِنَ الْقَدَرِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَحْذَرَ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْمُهْلِكَةِ، وَالْأَغْذِيَةِ الضَّارَّةِ، وَيَسْعَى فِي تَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَازِمًا بِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ إِلَّا مَا قَدَّرَهُ اللَّه وَلَا يَحْصُلُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّه فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى رِعَايَةِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَقَوْلُهُ: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْأَسْبَابِ وَإِلَى التَّوْحِيدِ الْمَحْضِ وَالْبَرَاءَةِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ سِوَى اللَّه تَعَالَى وَقَوْلُ الْقَائِلِ: كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، فَهَذَا السُّؤَالُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ الطَّاعَاتِ، وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ مَعَ أَنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ السَّعِيدَ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَأَنَّ الشَّقِيَّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَكَذَا هاهنا نَأْكُلُ وَنَشْرَبُ وَنَحْتَرِزُ عَنِ السُّمُومِ وَعَنِ الدُّخُولِ فِي النَّارِ مَعَ أَنَّ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لَا يحصلان إلا بتقدير اللَّه تعالى، فكذا هاهنا. فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ

[سورة يوسف (12) : آية 68]

غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهَذَا الْمَقَامِ، بَلْ هُوَ بَحْثٌ عَنْ سِرِّ مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْعَبْدَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى بِأَقْصَى الْجُهْدِ وَالْقُدْرَةِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ السَّعْيِ الْبَلِيغِ وَالْجِدِّ الْجَهِيدِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِقَضَاءِ اللَّه تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ وَسَابِقِ حُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى، فَقَالَ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا فِي الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُكْمَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِلْزَامِ وَالْمَنْعِ مِنَ النَّقِيضِ وَسُمِّيَتْ حَكَمَةُ الدَّابَّةِ بِهَذَا الِاسْمِ، لِأَنَّهَا تَمْنَعُ الدَّابَّةَ عَنِ الْحَرَكَاتِ الْفَاسِدَةِ وَالْحُكْمُ إِنَّمَا سُمِّيَ حُكْمًا لِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ بِحَيْثُ يَصِيرُ الطَّرَفُ الْآخَرُ مُمْتَنِعَ الْحُصُولِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْحُكْمَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ لَيْسَ إِلَّا للَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمُمْكِنَاتِ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَحُكْمِهِ، إِمَّا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَإِمَّا بِوَاسِطَةٍ ثُمَّ قَالَ: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّه ثَبَتَ أَنَّهُ لَا تَوَكُّلَ إِلَّا عَلَى اللَّه وَأَنَّ الرَّغْبَةَ لَيْسَتْ إِلَّا فِي رُجْحَانِ وُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ عَلَى عَدَمِهَا وَذَلِكَ الرُّجْحَانُ الْمَانِعُ عَنِ النَّقِيضِ هُوَ الْحُكْمُ، وَثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ أَنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا للَّه فَلَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ حُصُولَ كُلِّ الْخَيْرَاتِ وَدَفْعَ كُلِّ الْآفَاتِ مِنَ اللَّه، وَيُوجِبُ أَنَّهُ لَا تَوَكُّلَ إِلَّا عَلَى اللَّه فَهَذَا مَقَامٌ شَرِيفٌ عَالٍ وَنَحْنُ قَدْ أَشَرْنَا إِلَى مَا هُوَ الْبُرْهَانُ الْحَقُّ فِيهِ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّه أَطْنَبَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ التَّوَكُّلِ مِنْ كِتَابِ «إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ» فَمَنْ أَرَادَ الِاسْتِقْصَاءَ فِيهِ فَلْيُطَالِعْ ذلك الكتاب. [سورة يوسف (12) : آية 68] وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا قَالَ يَعْقُوبُ: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يوسف: 67] صَدَّقَهُ اللَّه فِي ذَلِكَ فَقَالَ: وَمَا كَانَ ذَلِكَ التَّفَرُّقُ يُغْنِي مِنَ اللَّه مِنْ شَيْءٍ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: ذَلِكَ التَّفَرُّقُ مَا كَانَ يَرُدُّ قَضَاءَ اللَّه وَلَا أَمْرًا قَدَّرَهُ اللَّه. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْعَيْنَ لَوْ قُدِّرَ أَنْ تُصِيبَهُمْ لَأَصَابَتْهُمْ وَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ كَمَا تُصِيبُهُمْ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لَوْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّه أَنَّ الْعَيْنَ تُهْلِكُهُمْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ لَكَانَ تَفَرُّقُهُمْ كَاجْتِمَاعِهِمْ، وَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ مُتَقَارِبَةٌ، وَحَاصِلُهَا أَنَّ الْحَذَرَ لَا يَدْفَعُ الْقَدَرَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: مِنْ شَيْءٍ يَحْتَمِلُ النَّصْبَ بِالْمَفْعُولِيَّةِ وَالرَّفْعَ بِالْفَاعِلِيَّةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ كَقَوْلِهِ: مَا رَأَيْتُ من أحد، فكذا هاهنا تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَنَّ تَفَرُّقَهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي مِنْ قَضَاءِ اللَّه شَيْئًا، أَيْ ذَلِكَ التَّفَرُّقُ مَا كَانَ يُخْرِجُ شَيْئًا مِنْ تَحْتِ قَضَاءِ اللَّه تَعَالَى. وَأَمَّا الثَّانِي: فَكَقَوْلِكَ: مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ، وَتَقْدِيرُهُ مَا جَاءَنِي أَحَدٌ فَكَذَا هاهنا التَّقْدِيرُ: مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّه شَيْءٌ مَعَ قَضَائِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها فَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى: لَكِنَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا، يَعْنِي أَنَّ الدُّخُولَ عَلَى صِفَةِ التَّفَرُّقِ قَضَاءُ حَاجَةٍ فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا، ثُمَّ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْحَاجَةِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: خَوْفُهُ عَلَيْهِمْ مِنْ إِصَابَةِ الْعَيْنِ، وَثَانِيهَا: خَوْفُهُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَسَدِ أَهْلِ مِصْرَ،

[سورة يوسف (12) : الآيات 69 إلى 72]

وَثَالِثُهَا: خَوْفُهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يَقْصِدَهُمْ مَلِكُ مِصْرَ بِشَرٍّ، وَرَابِعُهَا: خَوْفُهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْ لَا يَرْجِعُوا إِلَيْهِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ مُتَقَارِبَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ (مَا) مَصْدَرِيَّةً وَالْهَاءُ عَائِدَةٌ إِلَى يَعْقُوبَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ مِنْ أَجْلِ تَعْلِيمِنَا إِيَّاهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ (مَا) بِمَعْنَى الَّذِي وَالْهَاءُ/ عَائِدَةٌ إِلَيْهَا، وَالتَّأْوِيلُ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِلشَّيْءِ الَّذِي عَلَّمْنَاهُ، يَعْنِي أَنَّا لَمَّا عَلَّمْنَاهُ شَيْئًا حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ الْحِفْظُ، أَيْ إِنَّهُ لَذُو حِفْظٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَمُرَاقَبَةٍ لَهُ وَالثَّانِي: لَذُو عِلْمٍ لِفَوَائِدِ مَا عَلَّمْنَاهُ وَحُسْنِ آثَارِهِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ عَامِلًا بِمَا عَلِمَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ مَا عَلِمَ يَعْقُوبُ. وَالثَّانِي: لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ يَعْقُوبَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَالْعِلْمِ، وَالْمُرَادُ بِأَكْثَرِ النَّاسِ الْمُشْرِكُونَ، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِأَنَّ اللَّه كَيْفَ أَرْشَدَ أَوْلِيَاءَهُ إِلَى الْعُلُومِ الَّتِي تنفعهم في الدنيا والآخرة. [سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 72] وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) اعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا أَتَوْهُ بِأَخِيهِ بِنْيَامِينَ أَكْرَمَهُمْ وَأَضَافَهُمْ وَأَجْلَسَ كُلَّ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ عَلَى مَائِدَةٍ فَبَقِيَ بِنْيَامِينُ وَحْدَهُ فَبَكَى وَقَالَ لَوْ كَانَ أَخِي يُوسُفُ حَيًّا لَأَجْلَسَنِي مَعَهُ فَقَالَ يُوسُفُ بَقِيَ أَخُوكُمْ وَحِيدًا فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى مَائِدَةٍ ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يَنْزِلَ مِنْهُمْ كُلُّ اثْنَيْنِ بَيْتًا وَقَالَ: هَذَا لَا ثَانِيَ لَهُ فَاتْرُكُوهُ مَعِي فَآوَاهُ إِلَيْهِ، وَلَمَّا رَأَى يُوسُفُ تَأَسُّفَهُ عَلَى أَخٍ لَهُ هَلَكَ قَالَ لَهُ: أَتُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَخَاكَ بَدَلَ أَخِيكَ الْهَالِكِ قَالَ: مَنْ يَجِدُ أَخًا مِثْلَكَ وَلَكِنَّكَ لَمْ يَلِدْكَ يَعْقُوبُ وَلَا رَاحِيلُ فَبَكَى يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَامَ إِلَيْهِ وَعَانَقَهُ وَقَالَ: إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ أَيْ أَنْزَلَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ يَأْوِي إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ وَهْبٌ: لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ أَخُوهُ مِنَ النَّسَبِ، وَلَكِنْ أَرَادَ بِهِ إِنِّي/ أَقُومُ لَكَ مَقَامَ أَخِيكَ فِي الْإِينَاسِ لِئَلَّا تَسْتَوْحِشَ بِالتَّفَرُّدِ. وَالصَّحِيحُ مَا عَلَيْهِ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّهُ أَرَادَ تَعْرِيفَ النَّسَبِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْوَى فِي إِزَالَةِ الْوَحْشَةِ وَحُصُولِ الْأُنْسِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ، فَلَا وَجْهَ لِصَرْفِهِ عَنْهَا إِلَى الْمَجَازِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَلا تَبْتَئِسْ فَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: تَبْتَئِسْ تَفْتَعِلْ مِنَ الْبُؤْسِ وَهُوَ الضَّرَرُ وَالشِّدَّةُ وَالِابْتِئَاسُ اجْتِلَابُ الْحُزْنِ وَالْبُؤْسِ. وَقَوْلُهُ: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ إِقَامَتِهِمْ عَلَى حَسَدِنَا وَالْحِرْصِ عَلَى انْصِرَافِ وَجْهِ أَبِينَا عَنَّا، الثَّانِي: أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا بَقِيَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَصَارَ صَافِيًا مَعَ إِخْوَتِهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ قَلْبَ أَخِيهِ صَافِيًا معهم أَيْضًا، فَقَالَ: فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ لَا تَلْتَفِتْ إِلَى مَا صَنَعُوهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى أَعْمَالِهِمُ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي أَقْدَمُوا عَلَيْهَا. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ إِنَّمَا فَعَلُوا

بِيُوسُفَ مَا فَعَلُوهُ، لِأَنَّهُمْ حَسَدُوهُ عَلَى إِقْبَالِ الْأَبِ عَلَيْهِ وَتَخْصِيصِهِ بِمَزِيدِ الْإِكْرَامِ، فَخَافَ بِنْيَامِينُ أَنْ يَحْسُدُوهُ بِسَبَبِ أَنَّ الْمَلِكَ خَصَّهُ بِمَزِيدِ الْإِكْرَامِ، فَأَمَّنَهُ مِنْهُ وَقَالَ: لَا تَلْتَفِتْ إِلَى ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّه قَدْ جَمَعَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. الرَّابِعُ: رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانُوا يُعَيِّرُونَ يُوسُفَ وَأَخَاهُ بِسَبَبِ أَنَّ جَدَّهُمَا أَبَا أُمِّهِمَا كَانَ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَأَنَّ أُمَّ يُوسُفَ أَمَرَتْ يُوسُفَ فَسَرَقَ جُونَةً كَانَتْ لِأَبِيهَا فِيهَا أَصْنَامٌ رَجَاءَ أَنْ يَتْرُكَ عِبَادَتَهَا إِذَا فَقَدَهَا. فَقَالَ لَهُ: فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ مِنَ التَّعْيِيرِ لَنَا بِمَا كَانَ عَلَيْهِ جَدُّنَا. واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْجَهَازِ وَالرَّحْلِ، أَمَّا السِّقَايَةُ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مَشْرَبَةٌ يُسْقَى بِهَا وَهُوَ الصُّوَاعُ قِيلَ: كَانَ يُسْقَى بِهَا الْمَلِكُ ثُمَّ جُعِلَتْ صَاعًا يُكَالُ بِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْإِنَاءَ الَّذِي يَشْرَبُ الْمَلِكُ الْكَبِيرُ مِنْهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَ صَاعًا، وَقِيلَ: كَانَتِ الدَّوَابُّ تُسْقَى بِهَا وَيُكَالُ بِهَا أَيْضًا وَهَذَا أَقْرَبُ، ثُمَّ قَالَ وَقِيلَ كَانَتْ مِنْ فِضَّةٍ مُمَوَّهَةٍ بِالذَّهَبِ، وَقِيلَ: كَانَتْ مِنْ ذَهَبٍ، وَقِيلَ: كَانَتْ مُرَصَّعَةً بِالْجَوَاهِرِ وَهَذَا أَيْضًا بَعِيدٌ لِأَنَّ الْآنِيَةَ الَّتِي يُسْقَى الدَّوَابُّ فِيهَا لَا تَكُونُ كَذَلِكَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: كَانَ ذَلِكَ الْإِنَاءُ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ، أَمَّا إِلَى هَذَا الْحَدِّ الَّذِي ذَكَرُوهُ فَلَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ يُقَالُ: آذَنَهُ أَيْ أَعْلَمَهُ وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ أَذَّنَ وَبَيْنَ آذَنَ وَجْهَانِ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أذن معناه أعلم إعلاما بعد إعلام لأن فِعْلٌ يُوجِبُ تَكْرِيرَ الْفِعْلِ قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِعْلَامًا وَاحِدًا مِنْ قَبِيلِ أَنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ فَعَّلَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: أَذَّنْتُ وَآذَنْتُ مَعْنَاهُ أَعْلَمْتُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَالتَّأْذِينُ مَعْنَاهُ: النِّدَاءُ وَالتَّصْوِيتُ بِالْإِعْلَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: كُلُّ مَا سُيِّرَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْحَمِيرِ وَالْبِغَالِ فَهُوَ عِيرٌ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ الْعِيرُ الْإِبِلُ خَاصَّةً بَاطِلٌ، وَقِيلَ: الْعِيرُ الْإِبِلُ الَّتِي عَلَيْهَا الْأَحْمَالُ لِأَنَّهَا تَعِيرُ أَيْ تَذْهَبُ وَتَجِيءُ، وَقِيلَ: هِيَ قَافِلَةُ الْحَمِيرِ، ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ حَتَّى قِيلَ لِكُلِّ قَافِلَةٍ عِيرٌ كَأَنَّهَا جَمْعُ عَيْرٍ وَجَمْعُهَا فُعُلٌ كَسَقْفٍ وَسُقُفٍ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَيَّتُهَا الْعِيرُ الْمُرَادُ أَصْحَابُ الْعِيرِ كَقَوْلِهِ: يَا خَيْلَ اللَّه ارْكَبِي وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَجَعَلَ السِّقَايَةَ عَلَى حَذْفِ جَوَابِ لَمَّا كَأَنَّهُ قِيلَ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ وَجَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ أَمْهَلَهُمْ حَتَّى انْطَلَقُوا ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ. فَإِنْ قِيلَ: هَلْ كَانَ ذَلِكَ النِّدَاءُ بِأَمْرِ يُوسُفَ أَوْ مَا كَانَ بِأَمْرِهِ؟ فَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّسُولِ الْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّه أَنْ يَتَّهِمَ أَقْوَامًا وَيَنْسُبَهُمْ إِلَى السَّرِقَةِ كَذِبًا وَبُهْتَانًا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّهُ مَا كَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِهِ فَهَلَّا أَنْكَرَهُ وَهَلَّا أَظْهَرَ بَرَاءَتَهُمْ عَنْ تِلْكَ التُّهْمَةِ. قُلْنَا: الْعُلَمَاءُ ذَكَرُوا فِي الْجَوَابِ عَنْهُ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَظْهَرَ لِأَخِيهِ أَنَّهُ يُوسُفُ قَالَ لَهُ: إِنِّي أُرِيدُ أن أحبسك هاهنا، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِهَذِهِ الْحِيلَةِ فَإِنْ رَضِيتَ بِهَا فَالْأَمْرُ لَكَ فَرَضِيَ بِأَنْ يُقَالَ فِي حَقِّهِ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَتَأَلَّمْ قَلْبُهُ بِسَبَبِ هَذَا الْكَلَامِ فَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ ذَنْبًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ يُوسُفَ مِنْ أَبِيهِ إِلَّا أَنَّهُمْ مَا أَظْهَرُوا هَذَا الْكَلَامَ وَالْمَعَارِيضُ لَا تَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ الْمُؤَذِّنَ رُبَّمَا

[سورة يوسف (12) : الآيات 73 إلى 75]

ذَكَرَ ذَلِكَ النِّدَاءَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا. الرَّابِعُ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُمْ نَادُوا بِذَلِكَ النِّدَاءِ عَنْ أَمْرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْأَقْرَبُ إِلَى ظَاهِرِ الْحَالِ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا السِّقَايَةَ وَمَا وَجَدُوهَا وَمَا كَانَ هُنَاكَ أَحَدٌ إِلَّا هُمْ غَلَبَ عَلَى ظُنُونِهِمْ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ أَخَذُوهَا ثُمَّ إِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ تَفْقِدُونَ من أفقدته إذا وجدته فقيدا قالوا تفقد صُوَاعَ الْمَلِكِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ صُوَاعَ وَصَاعَ وَصَوْعَ وَصُوعَ بِفَتْحِ الصَّادِ وَضَمِّهَا، وَالْعَيْنُ مُعْجَمَةٌ وَغَيْرُ مُعْجَمَةٍ. قَالَ بَعْضُهُمْ جَمْعُ صُوَاعٍ صِيعَانٌ، كَغُرَابٍ وَغِرْبَانٍ، وَجَمْعُ صَاعٍ أَصْوَاعٌ، كَبَابٍ وَأَبْوَابٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّاعِ وَالصُّوَاعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالُوا نَفْقِدُ صَاعَ الْمَلِكِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الصُّوَاعُ اسْمٌ، وَالسِّقَايَةُ وَصْفٌ، كَقَوْلِهِمْ: كُوزٌ وَسِقَاءٌ، فَالْكُوزُ اسْمٌ وَالسِّقَاءُ وَصْفٌ. ثُمَّ قَالَ: وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ أَيْ مِنَ الطَّعَامِ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ قَالَ مُجَاهِدٌ: الزَّعِيمُ هُوَ الْمُؤَذِّنُ الَّذِي أَذَّنَ. وَتَفْسِيرُ زَعِيمٍ كَفِيلٌ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: الزَّعِيمُ الْكَفِيلُ بِلِسَانِ أَهْلِ الْيَمَنِ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ/ عَنِ الْكِسَائِيِّ: زَعَمَتْ بِهِ تَزْعُمُ زَعْمًا وَزَعَامَةً. أَيْ كَفَلَتْ بِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ كَانَتْ صَحِيحَةً فِي شَرْعِهِمْ، وَقَدْ حَكَمَ بِهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» . فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ كَفَالَةٌ بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ؟ قُلْنَا: حِمْلُ بَعِيرٍ مِنَ الطَّعَامِ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ، فَصَحَّتِ الْكَفَالَةُ بِهِ إِلَّا أَنَّ هَذِهِ كَفَالَةُ مَالٍ لِرَدِّ سَرِقَةٍ، وَهُوَ كَفَالَةٌ بِمَا لَمْ يَجِبْ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلسَّارِقِ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا عَلَى رَدِّ السَّرِقَةِ، وَلَعَلَّ مِثْلَ هَذِهِ الْكَفَالَةِ كَانَتْ تصح عندهم. [سورة يوسف (12) : الآيات 73 الى 75] قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) قَالَ الْبَصْرِيُّونَ: الْوَاوُ فِي (واللَّه) بَدَلٌ مِنَ التَّاءِ وَالتَّاءُ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ فَضَعُفَتْ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ وَجُعِلَتْ فِيمَا هُوَ أَحَقُّ بِالْقَسَمِ وَهُوَ اسْمُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: حَلَفُوا عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى أَنَّهُمْ مَا جَاءُوا لِأَجْلِ الْفَسَادِ فِي الأرض لأنه ظهر من أحوالهم امْتِنَاعُهُمْ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْكُلِّيَّةِ لَا بِالْأَكْلِ وَلَا بِإِرْسَالِ الدَّوَابِّ فِي مَزَارِعِ النَّاسِ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ سَدُّوا أَفْوَاهَ دَوَابِّهِمْ لِئَلَّا تَعْبَثَ فِي زَرْعٍ، وَكَانُوا مُوَاظِبِينَ عَلَى أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ فَالْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ لَا يَلِيقُ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ مَا كَانُوا سَارِقِينَ، وَقَدْ حَصَلَ لهم فيه شاهدا قَاطِعٌ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ حَمَلُوهَا مِنْ بِلَادِهِمْ إِلَى مِصْرَ وَلَمْ يَسْتَحِلُّوا أَخْذَهَا، وَالسَّارِقُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْبَتَّةَ ثُمَّ لَمَّا بَيَّنُوا بَرَاءَتَهُمْ عَنْ تِلْكَ التُّهْمَةِ قَالَ أَصْحَابُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ فأجابوا وقالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانُوا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يَسْتَعْبِدُونَ كُلَّ سَارِقٍ بِسَرِقَتِهِ وَكَانَ اسْتِعْبَادُ السَّارِقِ فِي شَرْعِهِمْ يَجْرِي مَجْرَى وُجُوبِ الْقَطْعِ فِي شَرْعِنَا، وَالْمَعْنَى جَزَاءُ هَذَا الْجُرْمِ مَنْ وُجِدَ الْمَسْرُوقُ فِي رَحْلِهِ، أَيْ ذَلِكَ الشَّخْصُ هُوَ جَزَاءُ ذَلِكَ الْجُرْمِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اسْتِعْبَادَهُ هُوَ جَزَاءُ ذَلِكَ الْجُرْمِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: أن يقال جزاؤه

[سورة يوسف (12) : آية 76]

مبتدأ ومن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ خَبَرُهُ. وَالْمَعْنَى: جَزَاءُ السَّرِقَةِ هُوَ الْإِنْسَانُ الَّذِي/ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ السَّرِقَةُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَهُوَ جَزاؤُهُ زِيَادَةٌ فِي الْبَيَانِ كَمَا تَقُولُ جَزَاءُ السَّارِقِ الْقَطْعُ فَهُوَ جَزَاؤُهُ. الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: جَزاؤُهُ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ جُمْلَةٌ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ. وَالتَّقْدِيرُ: كَأَنَّهُ قِيلَ جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ هُوَ، إِلَّا أَنَّهُ أَقَامَ الْمُضْمَرَ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْبَيَانِ وَأَنْشَدَ النَّحْوِيُّونَ: لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الموت شيء ... نغص الموت الْغِنَى وَالْفَقِيرَا وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أَيْ مِثْلُ هَذَا الْجَزَاءِ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ يُرِيدُ إِذَا سَرَقَ اسْتُرِقَّ ثُمَّ قِيلَ: هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ أُخْوَةِ يُوسُفَ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمَّا قالوا جزاؤه ممن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ، فَقَالَ أَصْحَابُ يوسف: كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ. [سورة يوسف (12) : آية 76] فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) اعْلَمْ أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ لَمَّا أَقَرُّوا بِأَنَّ مَنْ وُجِدَ الْمَسْرُوقُ فِي رَحْلِهِ فَجَزَاؤُهُ أَنْ يُسْتَرَقَّ قَالَ لَهُمُ الْمُؤَذِّنُ: إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَفْتِيشِ أَمْتِعَتِكُمْ، فَانْصَرَفَ بِهِمْ إِلَى يُوسُفَ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ لِإِزَالَةِ التُّهْمَةِ وَالْأَوْعِيَةُ جَمْعُ الْوِعَاءِ وَهُوَ كُلُّ مَا إِذَا وُضِعَ فِيهِ شَيْءٌ أَحَاطَ بِهِ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وِعاءِ أَخِيهِ بِضَمِّ الْوَاوِ وَهِيَ لُغَةٌ، وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِعَاءِ أَخِيهِ فَقَلَبَ الْوَاوَ هَمْزَةً. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ ذَكَّرَ ضَمِيرَ الصُّوَاعِ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَنَّثَهُ؟ قُلْنَا: قَالُوا رَجَعَ ضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ إِلَى السِّقَايَةِ وَضَمِيرُ الْمُذَكَّرِ إِلَى الصُّوَاعِ أَوْ يُقَالُ: الصُّوَاعُ يُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَائِزًا أَوْ يُقَالُ: لَعَلَّ يُوسُفَ كَانَ يُسَمِّيهِ سِقَايَةً وَعَبِيدَهُ صُوَاعًا فَقَدْ وَقَعَ فِيمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ سِقَايَةً وَفِيمَا يَتَّصِلُ بِهِمْ صُوَاعًا، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ لَا يَنْظُرُ فِي وِعَاءٍ إِلَّا اسْتَغْفَرَ اللَّه تَائِبًا مِمَّا قَذَفَهُمْ بِهِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَخُوهُ قَالَ مَا أَرَى هَذَا قَدْ أَخَذَ شَيْئًا، / فَقَالُوا: لَا نَذْهَبُ حَتَّى تَتَفَحَّصَ عَنْ حَالِهِ أَيْضًا، فَلَمَّا نَظَرُوا فِي مَتَاعِهِ اسْتَخْرَجُوا الصُّوَاعَ مِنْ وِعَائِهِ وَالْقَوْمُ كَانُوا قَدْ حَكَمُوا بِأَنَّ مَنْ سَرَقَ يُسْتَرَقُّ، فَأَخَذُوا بِرَقَبَتِهِ وَجَرَوْا بِهِ إِلَى دَارِ يُوسُفَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى وَمِثْلُ ذَلِكَ الْكَيْدِ كِدْنَا لِيُوسُفَ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْحُكْمِ بِاسْتِرْقَاقِ السَّارِقِ، أَيْ مِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ الَّذِي ذَكَرَهُ إِخْوَةُ يُوسُفَ حَكَمْنَا لِيُوسُفَ. الثَّانِي: لَفْظُ الْكَيْدِ مُشْعِرٌ بِالْحِيلَةِ وَالْخَدِيعَةِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ إِلَّا أَنَّا ذَكَرْنَا قَانُونًا مُعْتَبَرًا فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ أَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ تُحْمَلُ عَلَى نِهَايَاتِ الْأَغْرَاضِ لَا عَلَى بِدَايَاتِ الْأَغْرَاضِ، وَقَرَّرْنَا هَذَا الْأَصْلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي [الْبَقَرَةِ: 26] فَالْكَيْدُ السَّعْيُ فِي الْحِيلَةِ وَالْخَدِيعَةِ، وَنِهَايَتُهُ إِلْقَاءُ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ فِي أَمْرٍ مَكْرُوهٍ وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى دَفْعِهِ، فَالْكَيْدُ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بالكيد هاهنا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ سَعَوْا فِي إِبْطَالِ أَمْرِ يُوسُفَ، واللَّه تَعَالَى نَصَرَهُ وَقَوَّاهُ وَأَعْلَى أَمْرَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَيْدِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى

[سورة يوسف (12) : آية 77]

أَلْقَى فِي قُلُوبِ إِخْوَتِهِ أَنْ حَكَمُوا بِأَنَّ جَزَاءَ السَّارِقِ هُوَ أَنْ يُسْتَرَقَّ، لَا جَرَمَ لَمَّا ظَهَرَ الصُّوَاعُ فِي رَحْلِهِ حَكَمُوا عَلَيْهِ بِالِاسْتِرْقَاقِ، وَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَمَكُّنِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ إِمْسَاكِ أَخِيهِ عِنْدَ نَفْسِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كَانَ حُكْمُ الْمَلِكِ فِي السَّارِقِ أَنْ يُضْرَبَ وَيَغْرَمَ ضِعْفَيْ مَا سَرَقَ، فَمَا كَانَ يُوسُفُ قَادِرًا عَلَى حَبْسِ أَخِيهِ عِنْدَ نَفْسِهِ بِنَاءً عَلَى دِينِ الْمَلِكِ وَحُكْمِهِ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى كَادَ لَهُ مَا جَرَى عَلَى لِسَانِ إِخْوَتِهِ أَنَّ جَزَاءَ السَّارِقِ هُوَ الِاسْتِرْقَاقُ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ تَوَسَّلَ بِهِ إِلَى أَخْذِ أَخِيهِ وَحَبْسِهِ عِنْدَ نَفْسِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ دَرَجاتٍ بِالتَّنْوِينِ غَيْرَ مُضَافٍ، وَالْبَاقُونَ بِالْإِضَافَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيهِ وُجُوهَ الصَّوَابِ فِي بُلُوغِ الْمُرَادِ، وَيَخُصُّهُ بِأَنْوَاعِ الْعُلُومِ، وأقسام الفضائل، والمراد هاهنا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى رَفَعَ دَرَجَاتِ يُوسُفَ عَلَى إِخْوَتِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ الْمَقَامَاتِ وَأَعْلَى الدَّرَجَاتِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا هَدَى يُوسُفَ إِلَى هَذِهِ الْحِيلَةِ وَالْفِكْرَةِ مَدَحَهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَقَالَ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَأَيْضًا وَصَفَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ [الْأَنْعَامِ: 83] عِنْدَ إِيرَادِهِ ذِكْرَ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالْبَرَاءَةِ عَنْ/ إِلَهِيَّةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَوَصَفَ هاهنا يُوسُفَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ لَمَّا هَدَاهُ إِلَى هَذِهِ الْحِيلَةِ وَكَمْ بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانُوا عُلَمَاءَ فُضَلَاءَ، إِلَّا أَنَّ يُوسُفَ كَانَ زَائِدًا عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِذَاتِهِ لَا بِالْعِلْمِ فَقَالُوا: لَوْ كَانَ عَالِمًا بِالْعِلْمِ لَكَانَ ذَا عِلْمٍ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَحَصَلَ فَوْقَهُ عَلِيمٌ تَمَسُّكًا بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهَذَا بَاطِلٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا دَلَّتْ سَائِرُ الْآيَاتِ عَلَى إِثْبَاتِ الْعِلْمِ للَّه تَعَالَى وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لُقْمَانَ: 34] وأَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النِّسَاءِ: 166] وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة: 255] ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر: 11] وَإِذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ فَنَحْنُ نَحْمِلُ الْآيَةَ الَّتِي تَمَسَّكَ الْخَصْمُ بِهَا عَلَى وَاقِعَةِ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ خَاصَّةً غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْعَالِمَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعِلْمِ، وَالْمُشْتَقُّ مُرَكَّبٌ وَالْمُشْتَقُّ مِنْهُ مُفْرَدٌ، وَحُصُولُ الْمُرَكَّبِ بِدُونِ حُصُولِ الْمُفْرَدِ مُحَالٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ فكان الترجيح من جانبنا. [سورة يوسف (12) : آية 77] قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ الصُّوَاعُ مِنْ رَحْلِ أَخِي يُوسُفَ نَكَسَ إِخْوَتُهُ رؤسهم وَقَالُوا: هَذِهِ الْوَاقِعَةُ عَجِيبَةٌ أَنَّ رَاحِيلَ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ لِصَّيْنِ، ثُمَّ قَالُوا: يَا بَنِي رَاحِيلَ مَا أَكْثَرَ الْبَلَاءَ عَلَيْنَا مِنْكُمْ، فَقَالَ بِنْيَامِينُ مَا أَكْثَرَ الْبَلَاءَ عَلَيْنَا مِنْكُمْ ذَهَبْتُمْ بِأَخِي وَضَيَّعْتُمُوهُ فِي الْمَفَازَةِ، ثُمَّ تَقُولُونَ لِي هَذَا الْكَلَامَ، قَالُوا لَهُ: فَكَيْفَ خَرَجَ الصُّوَاعُ مِنْ رحلك،

فَقَالَ: وَضَعَهُ فِي رَحْلِي مَنْ وَضَعَ الْبِضَاعَةَ فِي رِحَالِكُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قَالُوا لِلْمَلِكِ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَيْسَ بِغَرِيبٍ مِنْهُ فَإِنَّ أَخَاهُ الَّذِي هَلَكَ كَانَ أَيْضًا سَارِقًا، وَكَانَ غَرَضُهُمْ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّا لَسْنَا عَلَى طَرِيقَتِهِ وَلَا عَلَى سِيرَتِهِ، وَهُوَ وَأَخُوهُ مُخْتَصَّانِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ لِأَنَّهُمَا مِنْ أُمٍّ أُخْرَى، وَاخْتَلَفُوا فِي السَّرِقَةِ الَّتِي نَسَبُوهَا إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ جَدُّهُ أَبُو أُمِّهِ كَافِرًا يَعْبُدُ الْأَوْثَانَ فَأَمَرَتْهُ/ أُمُّهُ بِأَنْ يَسْرِقَ تِلْكَ الْأَوْثَانَ وَيَكْسِرَهَا فَلَعَلَّهُ يَتْرُكُ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَهَذَا هُوَ السَّرِقَةُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَسْرِقُ الطَّعَامَ مِنْ مَائِدَةِ أَبِيهِ وَيَدْفَعُهُ إِلَى الْفُقَرَاءِ، وَقِيلَ سَرَقَ عَنَاقًا مِنْ أَبِيهِ وَدَفَعَهُ إِلَى الْمِسْكِينِ وَقِيلَ دَجَاجَةٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ عَمَّتَهُ كَانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا فَأَرَادَتْ أَنْ تُمْسِكَهُ عِنْدَ نَفْسِهَا، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ عِنْدَهَا مِنْطَقَةٌ لِإِسْحَاقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِهَا فَشَدَّتْهَا عَلَى وَسَطِ يُوسُفَ ثُمَّ قَالَتْ بِأَنَّهُ سَرَقَهَا وَكَانَ مِنْ حُكْمِهِمْ بِأَنَّ مَنْ سَرَقَ يُسْتَرَقُّ، فَتَوَسَّلَتْ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ إِلَى إِمْسَاكِهِ عِنْدَ نَفْسِهَا. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ كَذَبُوا عَلَيْهِ وَبَهَتُوهُ وَكَانَتْ قُلُوبُهُمْ مَمْلُوءَةً بِالْغَضَبِ عَلَى يُوسُفَ بَعْدَ تِلْكَ الْوَقَائِعِ، وَبَعْدَ انْقِضَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ، وَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَلْبَ الْحَاسِدِ لَا يَطْهُرُ عَنِ الْغِلِّ الْبَتَّةَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فَأَسَرَّها يُوسُفُ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَعُودُ عَلَى قَوْلَيْنِ قَالَ الزَّجَّاجُ: فَأَسَرَّهَا إِضْمَارٌ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ، تَفْسِيرُهُ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَإِنَّمَا أُنِّثَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً جُمْلَةٌ أَوْ كَلِمَةٌ لِأَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الطَّائِفَةَ مِنَ الْكَلَامِ كَلِمَةً كَأَنَّهُ قَالَ: فَأَسَرَّ الْجُمْلَةَ أَوِ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَأَسَرَّ بِالتَّذْكِيرِ يُرِيدُ الْقَوْلَ أَوِ الْكَلَامَ وَطَعَنَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي هَذَا الْوَجْهِ فِيمَا اسْتَدْرَكَهُ عَلَى الزَّجَّاجِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْإِضْمَارُ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ يَكُونُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُفَسَّرَ بِمُفْرَدٍ كَقَوْلِنَا: نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ فَفِي نِعْمَ ضَمِيرُ فَاعِلِهَا، وَرَجُلًا تَفْسِيرٌ لِذَلِكَ الْفَاعِلِ الْمُضْمَرِ وَالْآخَرُ أَنْ يُفَسَّرَ بِجُمْلَةٍ وَأَصْلُ هَذَا يَقَعُ فِي الِابْتِدَاءِ كَقَوْلِهِ: فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْبِيَاءِ: 97] قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاصِ: 1] وَالْمَعْنَى الْقِصَّةُ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالْأَمْرُ اللَّه أَحَدٌ. ثُمَّ إِنَّ الْعَوَامِلَ الدَّاخِلَةَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ تَدْخُلُ عَلَيْهِ أَيْضًا نَحْوَ إِنَّ كَقَوْلِهِ: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً [طه: 74] فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ [الْحَجِّ: 46] . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: نَفْسُ الْمُضْمَرِ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ فِي كِلَا الْقِسْمَيْنِ مُتَّصِلٌ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي حَصَلَ مِنْهَا الْإِضْمَارُ، وَلَا يَكُونُ خَارِجًا عَنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ وَلَا مباينا لها. وهاهنا التَّفْسِيرُ مُنْفَصِلٌ عَنِ الْجُمْلَةِ الَّتِي حَصَلَ مِنْهَا الْإِضْمَارُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْسُنَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ، وَلَوْ قُلْنَا: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَضْمَرَ هَذَا الْكَلَامَ لَكَانَ قَوْلُهُ إِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ كَذِبًا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الطَّعْنَ ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ: أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ حُسْنِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ قُبْحُ قِسْمٍ ثَالِثٍ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّا نَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَسْقُطُ هَذَا السُّؤَالُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فَأَسَرَّها عَائِدٌ إِلَى الْإِجَابَةِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّ يُوسُفُ إِجَابَتَهُمْ فِي نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إِلَى وَقْتٍ ثَانٍ

[سورة يوسف (12) : الآيات 78 إلى 79]

وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ إِضْمَارًا لِلْمَقَالَةِ. وَالْمَعْنَى: أَسَرَّ يُوسُفُ مَقَالَتَهُمْ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْمَقَالَةِ مُتَعَلِّقُ تِلْكَ الْمَقَالَةِ كَمَا يُرَادُ بِالْخَلْقِ الْمَخْلُوقُ وَبِالْعِلْمِ الْمَعْلُومُ يَعْنِي أَسَرَّ يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ كَيْفِيَّةَ تِلْكَ السَّرِقَةِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ أَنَّهَا كَيْفَ وَقَعَتْ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَا يُوجِبُ الذَّمَّ وَالطَّعْنَ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ عُوقِبَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِأَجْلِ هَمِّهِ بِهَا، عُوقِبَ بِالْحَبْسِ وَبِقَوْلِهِ: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يُوسُفَ: 42] عُوقِبَ بِالْحَبْسِ الطَّوِيلِ وَبِقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ [يُوسُفَ: 7] عُوقِبَ بِقَوْلِهِمْ: فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً أَيْ أَنْتُمْ شَرٌّ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّه تَعَالَى لِمَا أَقْدَمْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ ظُلْمِ أَخِيكُمْ وَعُقُوقِ أَبِيكُمْ فَأَخَذْتُمْ أَخَاكُمْ وَطَرَحْتُمُوهُ فِي الْجُبِّ، ثُمَّ قُلْتُمْ لِأَبِيكُمْ إِنَّ الذِّئْبَ أَكَلَهُ وَأَنْتُمْ كَاذِبُونَ، ثُمَّ بِعْتُمُوهُ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، ثُمَّ بَعْدَ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ وَالزَّمَانِ الْمُمْتَدِّ مَا زَالَ الْحِقْدُ وَالْغَضَبُ عَنْ قُلُوبِكُمْ فَرَمَيْتُمُوهُ بِالسَّرِقَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ يُرِيدُ أَنَّ سَرِقَةَ يُوسُفَ كَانَتْ رِضًا للَّه، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ فِي سَرِقَتِهِ لَا يُوجِبُ شَيْءٌ مِنْهَا عَوْدَ الذَّمِّ وَاللَّوْمِ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: واللَّه أَعْلَمُ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي وَصَفْتُمُوهُ بِهِ هَلْ يُوجِبُ عَوْدَ مَذَمَّةٍ إِلَيْهِ أَمْ لَا. [سورة يوسف (12) : الآيات 78 الى 79] قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ بَعْدَ الَّذِي ذَكَرُوهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف: 77] أَحَبُّوا مُوَافَقَتَهُ وَالْعُدُولَ إِلَى طَرِيقَةِ الشَّفَاعَةِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا قَدِ اعْتَرَفُوا أَنَّ حُكْمَ اللَّه تَعَالَى فِي السَّارِقِ أَنْ يُسْتَعْبَدَ، إِلَّا أَنَّ الْعَفْوَ وَأَخْذَ الْفِدَاءِ كَانَ أَيْضًا جَائِزًا، فَقَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا أَيْ فِي السِّنِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْقَدْرِ وَالدِّينِ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِأَنَّ كَوْنَهُ ابْنًا لِرَجُلٍ كَبِيرِ الْقَدْرِ/ يُوجِبُ الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ. ثُمَّ قَالُوا: فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ يُحْتَمَلُ أن يكون المراد على طريق الاستبعاد وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عَلَى طَرِيقِ الرَّهْنِ حَتَّى نُوصِلَ الْفِدَاءَ إِلَيْكَ. ثُمَّ قَالُوا: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إِلَيْنَا حَيْثُ أَكْرَمْتَنَا وَأَعْطَيْتَنَا الْبَذْلَ الْكَثِيرَ وَحَصَّلْتَ لَنَا مَطْلُوبَنَا عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَرَدَدْتَ إِلَيْنَا ثَمَنَ الطَّعَامِ. وَثَالِثُهَا: نُقِلَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا اشْتَدَّ الْقَحْطُ عَلَى الْقَوْمِ وَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا يَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعَامَ، وَكَانُوا يَبِيعُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْهُ فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِصَيْرُورَةِ أَكْثَرِ أَهْلِ مِصْرَ عَبِيدًا لَهُ ثُمَّ إِنَّهُ أَعْتَقَ الْكُلَّ، فَلَعَلَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إِلَى عَامَّةِ النَّاسِ بِالْإِعْتَاقِ فَكُنْ مُحْسِنًا أَيْضًا إِلَى هَذَا الْإِنْسَانِ بِإِعْتَاقِهِ مِنْ هَذِهِ الْمِحْنَةِ، فَقَالَ يُوسُفُ: مَعاذَ اللَّهِ أي أعود باللَّه مَعَاذًا أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ، أَيْ أَعُوذُ باللَّه أَنْ آخُذَ بَرِيئًا بِمُذْنِبٍ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَوْضِعُ «أَنْ» نَصْبٌ وَالْمَعْنَى: أَعُوذُ باللَّه مِنْ أَخْذِ أَحَدٍ بِغَيْرِهِ فَلَمَّا سَقَطَتْ كَلِمَةُ «مِنْ» انْتَصَبَ الْفِعْلُ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ: إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ أَيْ لَقَدْ تَعَدَّيْتُ وَظَلَمْتُ إِنْ آذَيْتُ إِنْسَانًا بِجُرْمٍ صَدَرَ عَنْ غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْوَاقِعَةُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا تَزْوِيرٌ وَكَذِبٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مِنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ رِسَالَتِهِ الْإِقْدَامُ عَلَى هَذَا التَّزْوِيرِ وَالتَّرْوِيجِ وَإِيذَاءِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ لَا سِيَّمَا وَيَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا حَبَسَ أَخَاهُ عِنْدَ نَفْسِهِ بِهَذِهِ التُّهْمَةِ فَإِنَّهُ يَعْظُمُ حُزْنُ أَبِيهِ وَيَشْتَدُّ غَمُّهُ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّسُولِ الْمَعْصُومِ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّزْوِيرِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ.

[سورة يوسف (12) : آية 80]

وَالْجَوَابُ: لَعَلَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِذَلِكَ تَشْدِيدًا لِلْمِحْنَةِ عَلَى يَعْقُوبَ وَنَهَاهُ عَنِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَأَخْذِ الْبَدَلِ كَمَا أَمَرَ تَعَالَى صَاحِبَ مُوسَى بِقَتْلِ من لو بقي لطغى وكفر. [سورة يوسف (12) : آية 80] فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) [في قَوْلُهُ تَعَالَى فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ [يُوسُفَ: 78] وَهُوَ نِهَايَةُ مَا يُمْكِنُهُمْ بَذْلُهُ فَقَالَ يُوسُفُ فِي جَوَابِهِ: مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ [يوسف: 79] فَانْقَطَعَ طَمَعُهُمْ مِنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي رَدِّهِ، فَعِنْدَ هَذَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي يَأْسِهِمْ من رده وخَلَصُوا نَجِيًّا أَيْ تَفَرَّدُوا عَنْ سَائِرِ النَّاسِ يَتَنَاجَوْنَ وَلَا شُبْهَةَ أَنَّ الْمُرَادَ يَتَشَاوَرُونَ وَيَتَحَيَّلُونَ الرَّأْيَ فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا أَخَذُوا بِنْيَامِينَ مِنْ أَبِيهِمْ بَعْدَ الْمَوَاثِيقِ الْمُؤَكَّدَةِ وَبَعْدَ أَنْ كَانُوا مُتَّهَمِينَ فِي حَقِّ يُوسُفَ فَلَوْ لَمْ يُعِيدُوهُ إِلَى أَبِيهِمْ لَحَصَلَتْ مِحَنٌ كَثِيرَةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعُودُوا إِلَى أَبِيهِمْ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا فَبَقَاؤُهُ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ مِحْنَةٌ عَظِيمَةٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ أَهْلَ بَيْتِهِمْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى الطَّعَامِ أَشَدَّ الْحَاجَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رُبَّمَا كَانَ يَظُنُّ أَنَّ أَوْلَادَهُ هَلَكُوا بِالْكُلِّيَّةِ وَذَلِكَ غَمٌّ شَدِيدٌ وَلَوْ عَادُوا إِلَى أَبِيهِمْ بِدُونِ بِنْيَامِينَ لَعَظُمَ حَيَاؤُهُمْ فَإِنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ يُوهِمُ أَنَّهُمْ خَانُوهُ فِي هَذَا الِابْنِ كَمَا أَنَّهُمْ خَانُوهُ فِي الِابْنِ الْأَوَّلِ، وَلَكَانَ يُوهِمُ أَيْضًا أَنَّهُمْ مَا أَقَامُوا لِتِلْكَ الْمَوَاثِيقِ الْمُؤَكَّدَةِ وَزْنًا وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ فِكْرَةٍ وَحَيْرَةٍ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّفَاوُضَ وَالتَّشَاوُرَ طَلَبًا لِلْأَصْلَحِ الْأَصْوَبِ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ روي عن ابن كثير استيأسوا حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ [يوسف: 110] بِغَيْرِ هَمْزٍ وَفِي يَيْئَسُ لُغَتَانِ يَئِسَ وَيَيْأَسُ مثل حسب ويحسب ومن قال استيأس قَلَبَ الْعَيْنَ إِلَى مَوْضِعِ الْفَاءِ فَصَارَ اسْتَعْفَلَ وَأَصْلُهُ اسْتَيْأَسَ ثُمَّ خُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : اسْتَيْأَسُوا يَئِسُوا، وَزِيَادَةُ السِّينِ وَالتَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ كما في قوله: فَاسْتَعْصَمَ [يوسف: 32] وَقَوْلُهُ: خَلَصُوا قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُقَالُ خَلَصَ الشَّيْءُ يَخْلُصُ خُلُوصًا إِذَا ذَهَبَ عَنْهُ الشَّائِبُ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ خَلَصُوا أَيِ انْفَرَدُوا، وَلَيْسَ مَعَهُمْ أَخُوهُمْ، وَالثَّانِي: قَالَ الْبَاقُونَ تَمَيَّزُوا عَنِ الْأَجَانِبِ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: نَجِيًّا فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : النجي على معنيين يكون بمعنى المناجي كَالْعَشِيرِ وَالسَّمِيرِ بِمَعْنَى الْمُعَاشِرِ وَالْمُسَامِرِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا [مَرْيَمَ: 52] وَبِمَعْنَى الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ التَّنَاجِي كَمَا قِيلَ: النَّجْوَى بِمَعْنَى الْمُتَنَاجِينَ، فَعَلَى هَذَا مَعْنَى خَلَصُوا نَجِيًّا اعْتَزَلُوا وَانْفَرَدُوا عَنِ النَّاسِ خَالِصِينَ لَا يُخَالِطُهُمْ سِوَاهُمْ نَجِيًّا أَيْ مُنَاجِيًا. رُوِيَ نَجْوَى أَيْ فَوْجًا نَجِيًّا أَيْ مُنَاجِيًا لِمُنَاجَاةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ تَمَحَّضُوا تَنَاجِيًا، لِأَنَّ مَنْ كَمُلَ حُصُولُ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ فِيهِ وُصِفَ بِأَنَّهُ صَارَ غَيْرَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَلَمَّا أَخَذُوا فِي التَّنَاجِي عَلَى غَايَةِ الْجِدِّ صَارُوا كَأَنَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، صَارُوا نَفْسَ التَّنَاجِي حَقِيقَةً. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ كَبِيرُهُمْ فَقِيلَ الْمُرَادُ كَبِيرُهُمْ فِي السِّنِّ وَهُوَ رُوبِيلُ، وَقِيلَ كَبِيرُهُمْ فِي العقل/ وهو

[سورة يوسف (12) : الآيات 81 إلى 82]

يهوذا، وَهُوَ الَّذِي نَهَاهُمْ عَنْ قَتْلِ يُوسُفَ، ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْ هَذَا الْكَبِيرِ أَنَّهُ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لَمَّا قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ [يوسف: 79] غضب يهوذا، وَكَانَ إِذَا غَضِبَ وَصَاحَ فَلَا تَسْمَعُ صَوْتَهُ حَامِلٌ إِلَّا وَضَعَتْ وَيَقُومُ شَعْرُهُ عَلَى جَسَدِهِ فَلَا يَسْكُنُ حَتَّى يَضَعَ بَعْضُ آلِ يَعْقُوبَ يَدَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ لِبَعْضِ إِخْوَتِهِ اكْفُونِي أَسْوَاقَ أَهْلِ مِصْرَ وَأَنَا أَكْفِيكُمُ الْمَلِكَ فَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِابْنٍ صَغِيرٍ لَهُ مِسَّهُ فَمَسَّهُ فَذَهَبَ غَضَبُهُ وَهَمَّ أَنْ يَصِيحَ فَرَكَضَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رِجْلَهُ عَلَى الْأَرْضِ وَأَخَذَ بِمَلَابِسِهِ وَجَذَبَهُ فَسَقَطَ فَعِنْدَهُ قَالَ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ، فَلَمَّا أَيِسُوا مِنْ قَبُولِ الشَّفَاعَةِ تَذَاكَرُوا وَقَالُوا: إِنَّ أَبَانَا قَدْ أَخَذَ عَلَيْنَا مَوْثِقًا عَظِيمًا مِنَ اللَّه. وَأَيْضًا نَحْنُ مُتَّهَمُونَ بِوَاقِعَةِ يُوسُفَ فَكَيْفَ الْمَخْلَصُ مِنْ هَذِهِ الْوَرْطَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَفْظُ مَا فِي قَوْلِهِ: مَا فَرَّطْتُمْ فِيهَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَرَّطْتُمْ فِي شَأْنِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمْ تَحْفَظُوا عَهْدَ أَبِيكُمْ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ الظَّرْفُ، وَهُوَ مِنْ قَبْلُ. وَمَعْنَاهُ وَقَعَ مِنْ قَبْلُ تَفْرِيطُكُمْ فِي يُوسُفَ، الثَّالِثُ: النَّصْبُ عَطْفًا عَلَى مَفْعُولِ أَلَمْ تَعْلَمُوا وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَخْذَ أَبِيكُمْ مَوْثِقَكُمْ وَتَفْرِيطَكُمْ مِنْ قَبْلُ فِي يُوسُفَ. الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى وَمِنْ قَبْلِ هَذَا مَا فَرَّطْتُمُوهُ أَيْ قَدَّمْتُمُوهُ فِي حَقِّ يُوسُفَ مِنَ الْخِيَانَةِ الْعَظِيمَةِ، وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ أَيْ فَلَنْ أُفَارِقَ أَرْضَ مِصْرَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي فِي الِانْصِرَافِ إِلَيْهِ أَوْ يَحْكُمَ اللَّه لِي بِالْخُرُوجِ مِنْهَا أَوْ بِالِانْتِصَافِ مِمَّنْ أَخَذَ أَخِي أَوْ بِخَلَاصِهِ مِنْ يَدِهِ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، لِأَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُرَادُ ظُهُورُ عُذْرٍ يَزُولُ مَعَهُ حَيَاؤُهُ وَخَجَلُهُ مِنْ أَبِيهِ أَوْ غَيْرِهِ قَالَهُ انْقِطَاعًا إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي إِظْهَارِ عُذْرِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. [سورة يوسف (12) : الآيات 81 الى 82] ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا تَفَكَّرُوا فِي الْأَصْوَبِ مَا هُوَ ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّ الْأَصْوَبَ هُوَ الرُّجُوعُ، وَأَنْ يَذْكُرُوا لِأَبِيهِمْ كَيْفِيَّةَ الْوَاقِعَةِ عَلَى الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ قَالَهُ ذَلِكَ الْكَبِيرُ الَّذِي قَالَ: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي قِيلَ إِنَّهُ رُوبِيلُ، وَبَقِيَ هُوَ فِي مِصْرَ وَبَعَثَ سَائِرَ إِخْوَتِهِ إِلَى الْأَبِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ حَكَمُوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ قَدْ أَجَابَ بِالْجَوَابِ الشَّافِي، فَقَالَ الَّذِي جَعَلَ الصُّوَاعَ فِي رَحْلِي هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْبِضَاعَةَ فِي رَحْلِكُمْ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ شَاهَدُوا أَنَّ الصُّوَاعَ كَانَ مَوْضُوعًا فِي مَوْضِعٍ مَا كَانَ يَدْخُلُهُ أَحَدٌ إِلَّا هُمْ، فَلَمَّا شَاهَدُوا أَنَّهُمْ أَخْرَجُوا الصُّوَاعَ مِنْ رَحْلِهِ غَلَبَ عَلَى ظُنُونِهِمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَخَذَ الصُّوَاعَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَضَعَ الصُّوَاعَ فِي رَحْلِي مَنْ وَضَعَ الْبِضَاعَةَ فِي رِحَالِكُمْ فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ هُنَاكَ لَمَّا رَجَعُوا بِالْبِضَاعَةِ إِلَيْهِمُ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ هم الذين

وَضَعُوهَا فِي رِحَالِهِمْ، وَأَمَّا هَذَا الصُّوَاعُ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يَعْتَرِفْ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَضَعَ الصُّوَاعَ فِي رَحْلِهِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ فَلِهَذَا السَّبَبِ غَلَبَ عَلَى ظُنُونِهِمْ أَنَّهُ سَرَقَ، فَشَهِدُوا بِنَاءً على هذا الظن، ثم بينهم غَيْرُ قَاطِعِينَ بِهَذَا الْأَمْرِ بِقَوْلِهِمْ: وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ فِي قَوْلِ الْمَلِكِ وَأَصْحَابِهِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هُودٍ: 87] أَيْ عِنْدَ نَفْسِكَ، وَقَالَ تَعَالَى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدُّخَانِ: 49] أَيْ عِنْدَ نَفْسِكَ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَا فَكَذَا هَاهُنَا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ أَنَّ ابْنَكَ ظَهَرَ عَلَيْهِ مَا يُشْبِهُ السَّرِقَةَ وَمِثْلُ هَذَا الشَّيْءِ يُسَمَّى سَرِقَةً فَإِنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ أَحَدِ الشَّبِيهَيْنِ عَلَى الشَّبِيهِ الْآخَرِ جَائِزٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] . الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْقَوْمَ مَا كَانُوا أَنْبِيَاءَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ ذَكَرُوا هَذَا الْكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَازَفَةِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ شَاهَدُوا شَيْئًا يُوهِمُ ذَلِكَ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا كَانَ يَقْرَأُ إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ نُسِبَ إِلَى السَّرِقَةِ فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ لَا حَاجَةَ بِهَا إِلَى التَّأْوِيلِ لِأَنَّ الْقَوْمَ نَسَبُوهُ إِلَى السَّرِقَةِ، إِلَّا أَنَّا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ أن أمثال هذه القراآت لَا تَدْفَعُ السُّؤَالَ، لِأَنَّ الْإِشْكَالَ إِنَّمَا يُدْفَعُ إِذَا قُلْنَا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى بَاطِلَةٌ، وَالْقِرَاءَةُ الْحَقَّةُ هِيَ هَذِهِ. أَمَّا إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى حَقَّةٌ كَانَ الْإِشْكَالُ بَاقِيًا سَوَاءٌ صَحَّتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ أَوْ لَمْ تَصِحَّ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ/ أَمَّا قَوْلُهُ: وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا فَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ غَيْرُ الْعِلْمِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ الشَّهَادَةِ مُغَايِرَةً لِلْعِلْمِ وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: إِذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ، وَذَلِكَ أيضا يقتضي ما ذكرناه وَلَيْسَتِ الشَّهَادَةُ أَيْضًا عِبَارَةً عَنْ قَوْلِهِ أَشْهَدُ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَشْهَدُ إِخْبَارٌ عَنِ الشَّهَادَةِ وَالْإِخْبَارُ عَنِ الشَّهَادَةِ غَيْرُ الشَّهَادَةِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الشَّهَادَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْحُكْمِ الذِّهْنِيِّ وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْمُتَكَلِّمُونَ بِكَلَامِ النَّفْسِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا أَنَّهُمْ أَخْرَجُوا الصُّوَاعَ مِنْ رَحْلِهِ، وَأَمَّا حَقِيقَةُ الْحَالِ فَغَيْرُ مَعْلُومَةٍ لَنَا فَإِنَّ الْغَيْبَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّه. وَالثَّانِي: قَالَ عِكْرِمَةُ مَعْنَاهُ: لَعَلَّ الصُّوَاعَ دُسَّ فِي مَتَاعِهِ بِاللَّيْلِ، فَإِنَّ الْغَيْبَ اسْمٌ لِلَّيْلِ عَلَى بَعْضِ اللُّغَاتِ. وَالثَّالِثُ: قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: وَمَا كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ ابْنَكَ يَسْرِقُ، وَلَوْ عَلِمْنَا ذَلِكَ مَا ذَهَبْنَا بِهِ إِلَى الْمَلِكِ وَمَا أَعْطَيْنَاكَ مَوْثِقًا مِنَ اللَّه فِي رَدِّهِ إِلَيْكَ. وَالرَّابِعُ: نُقِلَ أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُمْ: فَهَبْ أَنَّهُ سَرَقَ وَلَكِنْ كَيْفَ عَرَفَ الْمَلِكُ أَنَّ شَرْعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ مَنْ سَرَقَ يُسْتَرَقُّ، بَلْ أَنْتُمْ ذَكَرْتُمُوهُ لَهُ لِغَرَضٍ لَكُمْ فَقَالُوا عِنْدَ هَذَا الْكَلَامِ: إِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا لَهُ هَذَا الْحُكْمَ قَبْلَ وُقُوعِنَا فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ وَمَا كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ نَقَعُ فِيهَا فَقَوْلُهُ: وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَجُوزُ مِنْ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَسْعَى فِي إِخْفَاءِ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. قُلْنَا: لَعَلَّهُ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مَخْصُوصًا بِمَا إِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مُسْلِمًا فَلِهَذَا أَنْكَرَ ذِكْرَ هَذَا الْحُكْمِ عِنْدَ الْمَلِكِ الَّذِي ظَنَّهُ كَافِرًا. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عنهم أنهم قالوا: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها.

[سورة يوسف (12) : آية 83]

وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مُتَّهَمِينَ بِسَبَبِ وَاقِعَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَالَغُوا فِي إِزَالَةِ التُّهْمَةِ عن أنفسهم فقالوا: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْأَكْثَرُونَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ مِصْرُ وَقَالَ قَوْمٌ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ قَرْيَةٌ عَلَى بَابِ مِصْرَ جَرَى فِيهَا حَدِيثُ السَّرِقَةِ وَالتَّفْتِيشِ، ثُمَّ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ وَاسْأَلْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ الْمُضَافُ لِلْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَجَازِ مَشْهُورٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَدَافَعُ جَوَازِ هَذَا فِي اللُّغَةِ كَدَافِعِ الضَّرُورِيَّاتِ وَجَاحِدِ الْمَحْسُوسَاتِ. وَالثَّانِي: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ الْمَعْنَى: اسْأَلِ الْقَرْيَةَ وَالْعِيرَ وَالْجِدَارَ وَالْحِيطَانَ فَإِنَّهَا تُجِيبُكَ وَتَذْكُرُ لَكَ صِحَّةَ مَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّكَ مِنْ أَكَابِرِ أَنْبِيَاءِ اللَّه فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُنْطِقَ اللَّه هَذِهِ الجمادات معجزة لك حتى تخبر بِصِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا ظَهَرَ ظُهُورًا تَامًّا كَامِلًا فَقَدْ يُقَالُ فِيهِ، سَلِ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَجَمِيعَ الْأَشْيَاءِ عَنْهُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ بَلَغَ فِي الظُّهُورِ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي مَا بَقِيَ لِلشَّكِّ فِيهِ مَجَالٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ كَانَ قَدْ صَحِبَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ فَقَالُوا: سَلْهُمْ عَنْ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ. ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمَّا بَالَغُوا فِي التَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ قَالُوا: وَإِنَّا لَصادِقُونَ يَعْنِي سَوَاءٌ نَسَبْتَنَا إِلَى التُّهْمَةِ أَوْ لَمْ تَنْسِبْنَا إِلَيْهَا فَنَحْنُ صَادِقُونَ، وَلَيْسَ غَرَضُهُمْ أَنْ يُثْبِتُوا صِدْقَ أَنْفُسِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ هَذَا يَجْرِي مَجْرَى إِثْبَاتِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، بَلِ الْإِنْسَانُ إِذَا قَدَّمَ ذِكْرَ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى صِحَّةِ الشَّيْءِ فَقَدْ يَقُولُ بَعْدَهُ وَأَنَا صَادِقٌ فِي ذَلِكَ يَعْنِي فَتَأَمَّلْ فِيمَا ذَكَرْتُهُ مِنَ الدلائل والبينات لتزول عنك الشبهة. [سورة يوسف (12) : آية 83] قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) اعْلَمْ أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَمِعَ مِنْ أَبْنَائِهِ ذَلِكَ الْكَلَامَ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ فِيمَا ذَكَرُوا كَمَا فِي وَاقِعَةِ يُوسُفَ فَقَالَ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ فَذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ بِعَيْنِهِ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي وَاقِعَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [يوسف: 18] وقال هاهنا: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ قَوْلَهُ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً لَيْسَ الْمُرَادُ منه هاهنا الْكَذِبَ وَالِاحْتِيَالَ كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي وَاقِعَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ قَالَ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً لَكِنَّهُ عَنَى سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ إِخْرَاجَ بِنْيَامِينَ عَنِّي وَالْمَصِيرَ بِهِ إِلَى مِصْرَ طَلَبًا لِلْمَنْفَعَةِ فَعَادَ مِنْ ذَلِكَ شَرٌّ وَضَرَرٌ وَأَلْحَحْتُمْ عَلَيَّ فِي إِرْسَالِهِ مَعَكُمْ وَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ قَضَاءَ اللَّه إِنَّمَا جَاءَ عَلَى خِلَافِ تَقْدِيرِكُمْ وَقِيلَ: بَلِ الْمَعْنَى سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا خَيَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَنَّهُ سَرَقَ وَمَا سَرَقَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قِيلَ إِنَّ رُوبِيلَ لَمَّا عَزَمَ عَلَى الْإِقَامَةِ بِمِصْرَ أَمَرَهُ الْمَلِكُ أَنْ يَذْهَبَ مَعَ إِخْوَتِهِ فَقَالَ اتْرُكُونِي وَإِلَّا صِحْتُ صَيْحَةً لَا تَبْقَى بِمِصْرَ امْرَأَةٌ حَامِلٌ إِلَّا وَتَضَعُ حَمْلَهَا فَقَالَ يُوسُفُ دَعُوهُ وَلَمَّا رَجَعَ الْقَوْمُ إِلَى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَخْبَرُوهُ بِالْوَاقِعَةِ بَكَى وَقَالَ: يَا بَنِيَّ لَا تَخْرُجُوا مِنْ عِنْدِي مَرَّةً إِلَّا وَنَقَصَ بَعْضُكُمْ، ذَهَبْتُمْ مَرَّةً فَنَقَصَ يُوسُفُ، وَفِي الثَّانِيَةِ نَقَصَ شَمْعُونُ، وَفِي هَذِهِ الثَّالِثَةِ نَقَصَ رُوبِيلُ وَبِنْيَامِينُ، ثُمَّ بَكَى وَقَالَ: عَسَى اللَّه أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا وَإِنَّمَا حَكَمَ بِهَذَا الْحُكْمِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا طَالَ حُزْنُهُ وَبَلَاؤُهُ وَمِحْنَتُهُ عَلِمَ أَنَّهُ تَعَالَى سَيَجْعَلُ لَهُ

[سورة يوسف (12) : الآيات 84 إلى 87]

فَرَجًا وَمَخْرَجًا عَنْ قَرِيبٍ فَقَالَ ذَلِكَ/ عَلَى سَبِيلِ حُسْنِ الظَّنِّ بِرَحْمَةِ اللَّه. وَالثَّانِي: لَعَلَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَهُ مِنْ بَعْدِ مِحْنَةِ يُوسُفَ أَنَّهُ حَيٌّ أَوْ ظَهَرَتْ لَهُ عَلَامَاتُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا قَالَ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً لِأَنَّهُمْ حِينَ ذَهَبُوا بِيُوسُفَ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ فَضَاعَ يُوسُفُ وَبَقِيَ أَحَدَ عَشَرَ، وَلَمَّا أَرْسَلَهُمْ إِلَى مِصْرَ عَادُوا تِسْعَةً لِأَنَّ بِنْيَامِينَ حَبَسَهُ يُوسُفُ وَاحْتَبَسَ ذَلِكَ الْكَبِيرُ الَّذِي قَالَ: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي [يوسف: 80] فَلَمَّا كَانَ الْغَائِبُونَ ثَلَاثَةً لَا جَرَمَ قَالَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً. ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ يَعْنِي هُوَ الْعَالِمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ الْحَكِيمُ فِيهَا عَلَى الْوَجْهِ المطابق للفضل والإحسان والرحمة والمصلحة. [سورة يوسف (12) : الآيات 84 الى 87] وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) [في قوله تعالى وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ] [المسألة الأولى] وَاعْلَمْ أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَمِعَ كَلَامَ أَبْنَائِهِ ضَاقَ قَلْبُهُ جِدًّا وَأَعْرَضَ عَنْهُمْ وَفَارَقَهُمْ ثُمَّ بِالْآخِرَةِ طَلَبَهُمْ وَعَادَ إِلَيْهِمْ. أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْهُمْ، وَفَرَّ منهم فهو قوله: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ضَاقَ صَدْرُهُ بِسَبَبِ الْكَلَامِ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْ أَبْنَائِهِ فِي حَقِّ بِنْيَامِينَ عَظُمَ أَسَفُهُ عَلَى/ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَإِنَّمَا عَظُمَ حُزْنُهُ عَلَى مُفَارَقَةِ يُوسُفَ عِنْدَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ لِوُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُزْنَ الْجَدِيدَ يُقَوِّي الْحُزْنَ الْقَدِيمَ الْكَامِنَ وَالْقِدْحُ إِذَا وَقَعَ عَلَى الْقِدْحِ كَانَ أَوْجَعَ وَقَالَ مُتَمِّمُ بْنُ نُوَيْرَةَ: وَقَدْ لَامَنِي عِنْدَ الْقُبُورِ عَلَى الْبُكَا ... رَفِيقِي لِتِذْرَافِ الدُّمُوعِ السَّوَافِكِ فَقَالَ أَتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رَأَيْتَهُ ... لِقَبْرٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوَى وَالدَّكَادِكِ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّ الْأَسَى يَبْعَثُ الْأَسَى ... فَدَعْنِي فَهَذَا كُلُّهُ قَبْرُ مَالِكِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا رَأَى قَبْرًا فَتَجَدَّدَ حُزْنُهُ عَلَى أَخِيهِ مَالِكٍ فَلَامُوهُ عَلَيْهِ، فَأَجَابَ بِأَنَّ الْأَسَى يَبْعَثُ الْأَسَى. وَقَالَ آخَرُ: فَلَمْ تُنْسِنِي أوفي المصيبات بعده ... ولكن نكاء الْقَرْحِ بِالْقَرْحِ أَوْجَعُ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ بِنْيَامِينَ وَيُوسُفَ كَانَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ وَكَانَتِ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَهُمَا فِي الصُّورَةِ وَالصِّفَةِ أَكْمَلَ، فَكَانَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَسَلَّى بِرُؤْيَتِهِ عَنْ رُؤْيَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ زَالَ مَا يُوجِبُ السَّلْوَةَ فَعَظُمَ الْأَلَمُ وَالْوَجْدُ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُصِيبَةَ فِي يُوسُفَ كَانَتْ أَصْلَ مَصَائِبِهِ الَّتِي عَلَيْهَا تَرَتَّبَ سَائِرُ الْمَصَائِبِ وَالرَّزَايَا، وَكَانَ الْأَسَفُ عَلَيْهِ أَسَفًا عَلَى الْكُلِّ. الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ الْمَصَائِبَ الْجَدِيدَةَ كَانَتْ أَسْبَابُهَا جَارِيَةً مَجْرَى الْأُمُورِ الَّتِي يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا وَالْبَحْثُ عَنْهَا. وَأَمَّا وَاقِعَةُ يُوسُفَ فَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْلَمُ كَذِبَهُمْ فِي السَّبَبِ الَّذِي ذَكَرُوهُ، وَأَمَّا السَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ فَمَا كَانَ مَعْلُومًا لَهُ، وَأَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ فِي الْحَيَاةِ وَأَمَّا يُوسُفُ فَمَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ حَيٌّ أَوْ مَيِّتٌ، فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ عَظُمَ وَجْدُهُ عَلَى مُفَارَقَتِهِ وَقَوِيَتْ مُصِيبَتُهُ عَلَى الْجَهْلِ بِحَالِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الْجُهَّالِ مَنْ عاب يعقوب عليه السلام على قوله: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ قَالَ: لِأَنَّ هَذَا إِظْهَارٌ لِلْجَزَعِ وَجَارٍ مَجْرَى الشِّكَايَةِ مِنَ اللَّه وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَالْعُلَمَاءُ بَيَّنُوا أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَّهُ هَذَا الْجَاهِلُ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ ثُمَّ عَظُمَ بُكَاؤُهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ ثُمَّ أَمْسَكَ لِسَانَهُ عَنِ النِّيَاحَةِ، وَذِكْرِ مالا يَنْبَغِي، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُوَ كَظِيمٌ ثُمَّ إِنَّهُ مَا أَظْهَرَ الشِّكَايَةَ مَعَ أَحَدٍ من الخلق بدليل قوله: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا عَظُمَتْ مُصِيبَتُهُ وَقَوِيَتْ مِحْنَتُهُ فَإِنَّهُ صَبَرَ وَتَجَرَّعَ الْغُصَّةَ وَمَا أَظْهَرَ الشِّكَايَةَ فَلَا جَرَمَ اسْتَوْجَبَ بِهِ الْمَدْحَ الْعَظِيمَ وَالثَّنَاءَ الْعَظِيمَ. رُوِيَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ جِبْرِيلَ/ هَلْ لَكَ عِلْمٌ بِيَعْقُوبَ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ: وَكَيْفَ حُزْنُهُ؟ قَالَ: حُزْنُ سَبْعِينَ ثَكْلَى وَهِيَ الَّتِي لَهَا وَلَدٌ وَاحِدٌ ثُمَّ يَمُوتُ. قَالَ: فَهَلْ لَهُ فِيهِ أَجْرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ. فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ قَالَ: مَرَّ بِيَعْقُوبَ شَيْخٌ كَبِيرٌ فَقَالَ لَهُ أَنْتَ إِبْرَاهِيمُ فَقَالَ: أَنَا ابْنُ ابْنِهِ وَالْهُمُومُ غَيَّرَتْنِي وَذَهَبَتْ بِحُسْنِي وَقُوَّتِي، فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ: «حَتَّى مَتَى تَشْكُونِي إِلَى عِبَادِي وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَوْ لَمْ تشكني لأبدلنك لَحْمًا خَيْرًا مِنْ لَحْمِكَ وَدَمًا خَيْرًا مِنْ دَمِكَ» فَكَانَ مِنْ بَعْدُ يَقُولُ: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّه وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ لِيَعْقُوبَ أَخٌ مُوَاخٍ» فَقَالَ لَهُ: مَا الَّذِي أَذْهَبَ بَصَرَكَ وَقَوَّسَ ظَهْرَكَ فَقَالَ الَّذِي أَذْهَبَ بَصَرِي الْبُكَاءُ عَلَى يُوسُفَ وَقَوَّسَ ظَهْرِي الْحُزْنُ عَلَى بِنْيَامِينَ، فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ «أَمَا تَسْتَحِي تَشْكُونِي إِلَى غَيْرِي» فَقَالَ: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّه، فَقَالَ يَا رَبِّ أَمَا تَرْحَمُ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ قَوَّسْتَ ظَهْرِي، وَأَذْهَبْتَ بَصَرِي، فَارْدُدْ عَلَيَّ رَيْحَانَتَيَّ يُوسُفَ وَبِنْيَامِينَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْبُشْرَى وَقَالَ: لَوْ كَانَا مَيِّتَيْنِ لَنَشَرْتُهُمَا لَكَ فَاصْنَعْ طَعَامًا لِلْمَسَاكِينِ، فَإِنَّ أَحَبَّ عِبَادِي إِلَيَّ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَسَاكِينُ، وَكَانَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا أَرَادَ الْغَدَاءَ نَادَى مُنَادِيهِ مَنْ أَرَادَ الْغَدَاءَ فَلْيَتَغَدَّ مَعَ يَعْقُوبَ، وَإِذَا كَانَ صَائِمًا نَادَى مِثْلَهُ عِنْدَ الْإِفْطَارِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ حَاجِبَيْهِ بِخِرْقَةٍ مِنَ الْكِبَرِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا هَذَا الَّذِي أَرَاهُ بِكَ، قَالَ طُولُ الزَّمَانِ وَكَثْرَةُ الْأَحْزَانِ، فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ «أَتَشْكُونِي يَا يَعْقُوبُ» فَقَالَ: يَا رَبِّ خَطِيئَةٌ أَخْطَأْتُهَا فَاغْفِرْهَا لِي. قُلْنَا: إِنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ إِلَّا بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَتَرْكِ النِّيَاحَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ دَخَلَ عَلَى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ: جِئْتَ لِتَقْبِضَنِي قَبْلَ أَنْ أَرَى حَبِيبَيَّ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ جِئْتُ لِأَحْزَنَ لِحُزْنِكَ وَأَشْجُوَ لَشَجْوِكَ، وَأَمَّا الْبُكَاءُ فَلَيْسَ مِنَ الْمَعَاصِي. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: بَكَى عَلَى وَلَدِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: «إِنَّ الْقَلْبَ لَيَحْزَنُ وَالْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَلَا نَقُولُ: مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ وَإِنَّا عَلَيْكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ» وَأَيْضًا فَاسْتِيلَاءُ الْحُزْنِ عَلَى الْإِنْسَانِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَاخِلًا تَحْتَ التَّكْلِيفِ وَأَمَّا التَّأَوُّهُ وَإِرْسَالُ الْبُكَاءِ فَقَدْ يَصِيرُ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرْتُمْ فَالْمُعَاتَبَةُ فِيهَا إِنَّمَا كَانَتْ لِأَجْلِ أَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ. وَأَيْضًا فَفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ التَّحَيُّرِ وَالتَّرَدُّدِ

لَا بُدَّ وَأَنْ يَرْجِعَ إِلَى اللَّه تَعَالَى، فَيَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ يُوسُفَ بَقِيَ حَيًّا أَمْ صَارَ مَيِّتًا، فَكَانَ مُتَوَقِّفًا فِيهِ وَبِسَبَبِ تَوَقُّفِهِ كَانَ يُكْثِرُ الرُّجُوعَ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَيَنْقَطِعُ قَلْبُهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى إِلَّا في هذه الواقعة، وكانت أَحْوَالُهُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مُخْتَلِفَةً، فَرُبَّمَا صَارَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مُسْتَغْرِقَ الْهَمِّ بِذِكْرِ اللَّه تعالى، فإن عَنْ تَذَكُّرِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، فَكَانَ ذِكْرُهَا كَلَا سِوَاهَا، / فَلِهَذَا السَّبَبِ صَارَتْ هَذَا الْوَاقِعَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، جَارِيَةً مَجْرَى الْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ لِلْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَجْرَى الذَّبْحِ لِابْنِهِ الذَّبِيحِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ الْأَوْلَى عِنْدَ نُزُولِ الْمُصِيبَةِ الشَّدِيدَةِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: 156] حَتَّى يَسْتَوْجِبَ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلُهُ: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [الْبَقَرَةِ: 157] . قُلْنَا: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّهُ لَمْ يُعْطِ الِاسْتِرْجَاعَ أُمَّةً إِلَّا هَذِهِ الْأُمَّةَ فَأَكْرَمَهُمُ اللَّه تَعَالَى إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ وَهَذَا عِنْدِي ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا لِلَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّا مَمْلُوكُونَ للَّه وَهُوَ الَّذِي خَلَقَنَا وَأَوْجَدَنَا، وَقَوْلَهُ: وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْحَشْرِ وَالْقِيَامَةِ، وَمِنَ الْمُحَالِ أَنَّ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ فَمَنْ عَرَفَ عِنْدَ نُزُولِ بَعْضِ الْمَصَائِبِ بِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْعَاقِبَةِ مِنْ رُجُوعِهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى، فَهُنَاكَ تَحْصُلُ السَّلْوَةُ التَّامَّةُ عِنْدَ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ، وَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ باللَّه غَيْرَ عَارِفٍ بِذَلِكَ. المسألة الثالثة: قوله: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ نِدَاءُ الْأَسَفِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: «يَا عَجَبًا» وَالتَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ يُنَادِي الْأَسَفَ وَيَقُولُ: هَذَا وَقْتُ حُصُولِكَ وَأَوَانُ مَجِيئِكَ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: حاشَ لِلَّهِ [يُوسُفَ: 31] وَالْأَسَفُ الْحُزْنُ عَلَى مَا فَاتَ. قَالَ اللَّيْثُ: إِذَا جَاءَكَ أَمْرٌ فَحَزِنْتَ لَهُ وَلَمْ تُطِقْهُ فَأَنْتَ أَسِيفٌ أَيْ حزني وَمُتَأَسِّفٌ أَيْضًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَصْلُ يَا أَسَفى إِلَّا أَنَّ يَاءَ الْإِضَافَةِ يَجُوزُ إِبْدَالُهَا بِالْأَلِفِ لِخِفَّةِ الْأَلِفِ وَالْفَتْحَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ، وَعِنْدَ غَلَبَةِ الْبُكَاءِ يَكْثُرُ الْمَاءُ فِي الْعَيْنِ فَتَصِيرُ الْعَيْنُ كَأَنَّهَا ابْيَضَّتْ مِنْ بَيَاضِ ذَلِكَ الْمَاءِ وَقَوْلُهُ: وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ كِنَايَةٌ عَنْ غَلَبَةِ الْبُكَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ تَأْثِيرَ الْحُزْنِ فِي غَلَبَةِ الْبُكَاءِ لَا فِي حُصُولِ الْعَمَى فَلَوْ حَمَلْنَا الِابْيِضَاضَ عَلَى غَلَبَةِ الْبُكَاءِ كَانَ هَذَا التَّعْلِيلُ حَسَنًا وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعَمَى لَمْ يَحْسُنْ هَذَا التَّعْلِيلُ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى وهذا للتفسير مَعَ الدَّلِيلِ رَوَاهُ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْعَمَى قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمْ يُبْصِرْ بِهِمَا سِتَّ سِنِينَ حَتَّى كَشَفَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ بِقَمِيصِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً [يُوسُفَ: 93] قِيلَ إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَخَلَ عَلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَمَا كَانَ فِي السِّجْنِ فَقَالَ إِنَّ بَصَرَ أَبِيكَ ذَهَبَ مِنَ/ الْحُزْنِ عَلَيْكَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي وَلَمْ أَكُ حُزْنًا عَلَى أَبِي، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ قَالُوا: الْحُزْنُ الدَّائِمُ يُوجِبُ الْبُكَاءَ الدَّائِمَ وَهُوَ يُوجِبُ الْعَمَى، فَالْحُزْنُ كَانَ سَبَبًا لِلْعَمَى بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْبُكَاءُ الدَّائِمُ يُوجِبُ الْعَمَى، لِأَنَّهُ يُورِثُ كُدُورَةً فِي سَوْدَاءِ الْعَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَا عَمِيَ لَكِنَّهُ صَارَ بِحَيْثُ يُدْرِكُ إِدْرَاكًا ضَعِيفًا. قِيلَ: مَا جَفَّتْ عَيْنَا يَعْقُوبَ مِنْ وَقْتِ فِرَاقِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى حِينِ لِقَائِهِ، وَتِلْكَ الْمُدَّةُ ثَمَانُونَ عَامًا، وَمَا

كان على وجه الأرض عبدا أَكْرَمَ عَلَى اللَّه تَعَالَى مِنْ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَ الْحُزْنِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ قُرِئَ مِنَ الْحُزْنِ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالزَّايِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَاخْتَلَفُوا فِي الْحُزْنِ وَالْحَزَنِ فَقَالَ قَوْمٌ: الْحُزْنُ الْبُكَاءُ وَالْحَزَنُ ضِدُّ الْفَرَحِ، وَقَالَ قَوْمٌ: هُمَا لُغَتَانِ يُقَالُ أَصَابَهُ حُزْنٌ شَدِيدٌ، وَحَزَنٌ شَدِيدٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَرَوَى يُونُسُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو قَالَ: إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ فَتَحُوا الْحَاءَ وَالزَّايَ كَقَوْلِهِ: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً [التَّوْبَةِ: 92] وَإِذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ الْخَفْضِ أَوِ الرَّفْعِ ضموا الحاء كقوله: مِنَ الْحُزْنِ وقوله: شْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ قَالَ هُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهُوَ كَظِيمٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْكَاظِمِ وَهُوَ الْمُمْسِكُ عَلَى حُزْنِهِ فَلَا يُظْهِرُهُ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَكْظُومِ، وَمَعْنَاهُ الْمَمْلُوءُ مِنَ الْحُزْنِ مَعَ سَدِّ طَرِيقِ نَفَسِهِ الْمَصْدُورُ مِنْ كَظْمِ السِّقَاءِ إِذَا اشْتَدَّ عَلَى مَلْئِهِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مَمْلُوءٍ مِنَ الْغَيْظِ عَلَى أَوْلَادِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَشْرَفَ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهَا كَانَتْ غَرِيقَةً فِي الْغَمِّ فَاللِّسَانُ كَانَ مَشْغُولًا بقوله: يا أَسَفى وَالْعَيْنُ بِالْبُكَاءِ وَالْبَيَاضِ وَالْقَلْبُ بِالْغَمِّ الشَّدِيدِ الَّذِي يُشْبِهُ الْوِعَاءَ الْمَمْلُوءَ الَّذِي شُدَّ وَلَا يُمْكِنُ خروج الماء منه وهذا مُبَالَغَةٌ فِي وَصْفِ ذَلِكَ الْغَمِّ. أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ يُقَالُ: مَا زِلْتُ أَفْعَلُهُ وَمَا فَتِئْتُ أَفْعَلُهُ وَمَا بَرِحْتُ أَفْعَلُهُ وَلَا يُتَكَلَّمُ بِهِنَّ إِلَّا مَعَ الْجَحْدِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ يُقَالُ: مَا فَتِيتُ وَمَا فَتِئْتُ لُغَتَانِ فَتْيًا وفتوا إِذَا نَسِيتَهُ وَانْقَطَعْتَ عَنْهُ قَالَ النَّحْوِيُّونَ وَحَرْفُ النفي هاهنا مضمر على معنى قالوا: ما تفتؤا وَلَا تَفْتَؤُ وَجَازَ حَذْفُهُ لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ الْإِثْبَاتُ لَكَانَ بِاللَّامِ وَالنُّونِ نَحْوُ واللَّه لَتَفْعَلَنَّ فَلَمَّا كَانَ بِغَيْرِ اللَّامِ وَالنُّونِ عُرِفَ أَنَّ كَلِمَةَ لَا مُضْمَرَةٌ وَأَنْشَدُوا قَوْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَقُلْتُ يَمِينُ اللَّه أَبْرَحُ قَاعِدًا وَالْمَعْنَى: لَا أَبْرَحُ قَاعِدًا وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَأَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ لَا تَزَالُ تَذْكُرُهُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ لَا تَفْتُرُ مِنْ حُبِّهِ كَأَنَّهُ جَعَلَ الْفُتُورَ وَالْفُتُوءَ أَخَوَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَهْلِ الْمَعَانِي أَنَّ أَصْلَ الْحَرَضِ فَسَادُ الْجِسْمَ وَالْعَقْلِ لِلْحُزْنِ وَالْحُبِّ، وَقَوْلُهُ: حَرَّضْتُ فُلَانًا عَلَى فُلَانٍ تَأْوِيلُهُ أَفْسَدْتُهُ وَأَحْمَيْتُهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ تَعَالَى: حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ [الْأَنْفَالِ: 65] . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَصْفُ الرَّجُلِ بِأَنَّهُ حَرِضٌ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِإِرَادَةِ أَنَّهُ ذُو حَرَضٍ فَحُذِفَ الْمُضَافُ أَوْ لِإِرَادَةِ أَنَّهُ لَمَّا تَنَاهَى فِي الْفَسَادِ وَالضَّعْفِ فَكَأَنَّهُ صَارَ عَيْنَ الْحَرَضِ وَنَفْسَ الْفَسَادِ. وَأَمَّا الْحَرِضُ بِكَسْرِ الرَّاءِ فَهُوَ الصِّفَةُ وَجَاءَتِ الْقِرَاءَةُ بِهِمَا مَعًا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ عِبَارَاتٌ: أَحَدُهَا: الْحَرَضُ وَالْحَارِضُ هُوَ الْفَاسِدُ فِي جِسْمِهِ وَعَقْلِهِ. وَثَانِيهِمَا: سَأَلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْحَرَضِ فَقَالَ: الْفَاسِدُ الدَّنِفُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ الَّذِي يَكُونُ لَا

كَالْأَحْيَاءِ وَلَا كَالْأَمْوَاتِ، وَذَكَرَ أَبُو رَوْقٍ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَرَأَ: حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَسْكِينِ الرَّاءِ قَالَ يَعْنِي مِثْلَ عُودِ الْأُشْنَانِ، وَقَوْلُهُ: أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ أَيْ مِنَ الْأَمْوَاتِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا لِأَبِيهِمْ إِنَّكَ لَا تَزَالُ تَذْكُرُ يُوسُفَ بِالْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ عَلَيْهِ حَتَّى تَصِيرَ بِذَلِكَ إِلَى مَرَضٍ لَا تَنْتَفِعُ بِنَفْسِكَ مَعَهُ أَوْ تَمُوتَ مِنَ الْغَمِّ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: أَنْتَ الْآنَ فِي بَلَاءٍ شَدِيدٍ وَنَخَافُ أَنْ يَحْصُلَ مَا هُوَ أَزْيَدُ مِنْهُ وَأَقْوَى وَأَرَادُوا بِهَذَا الْقَوْلِ مَنْعَهُ عَنْ كَثْرَةِ الْبُكَاءِ وَالْأَسَفِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ حَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ قَطْعًا؟ قُلْنَا: إِنَّهُمْ بَنَوْا هَذَا الْأَمْرَ عَلَى الظَّاهِرِ. فَإِنْ قِيلَ: الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْكَلَامِ وَهُوَ قوله: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا مَنْ هُمْ؟ قُلْنَا: الْأَظْهَرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا هُمُ الْإِخْوَةَ الَّذِينَ قَدْ تَوَلَّى عَنْهُمْ، بَلِ الْجَمَاعَةَ الَّذِينَ كَانُوا فِي الدَّارِ مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ وَخَدَمِهِ. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْ يَعْقُوبَ عليه السلام أنه قال: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ يَعْنِي أَنَّ هَذَا الَّذِي أَذْكُرُهُ لَا أَذْكُرُهُ مَعَكُمْ وَإِنَّمَا أَذْكُرُهُ فِي حَضْرَةِ اللَّه تَعَالَى، وَالْإِنْسَانُ إِذَا بَثَّ شَكْوَاهُ إِلَى اللَّه تَعَالَى كَانَ فِي زُمْرَةِ الْمُحَقِّقِينَ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَأَعُوذُ بِعَفْوِكَ مِنْ غَضَبِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ» واللَّه هُوَ الْمُوَفِّقُ، وَالْبَثُّ هُوَ التَّفْرِيقُ قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ [الْبَقَرَةِ: 164] فَالْحُزْنُ إِذَا سَتَرَهُ الإنسان كان سما وَإِذَا ذَكَرَهُ لِغَيْرِهِ كَانَ بَثًّا وَقَالُوا: الْبَثُّ أَشَدُّ الْحُزْنِ/ وَالْحُزْنُ أَشَدُّ الْهَمِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَهُ أَنْ يَمْسِكَ لِسَانَهُ عَنْ ذِكْرِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْحُزْنُ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِ وَأَمَّا إِذَا عَظُمَ وَعَجَزَ الْإِنْسَانُ عَنْ ضَبْطِهِ وَانْطَلَقَ اللِّسَانُ بِذِكْرِهِ شَاءَ أَمْ أَبَى كَانَ ذَلِكَ بَثًّا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ صَارَ عَاجِزًا عَنْهُ وَهُوَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى الْإِنْسَانِ، فقوله: ثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ أَيْ لَا أَذْكُرُ الْحُزْنَ الْعَظِيمَ وَلَا الْحُزْنَ الْقَلِيلَ إِلَّا مَعَ اللَّه، وقرأ الحسن: والموفق، وَالْبَثُّ هُوَ التَّفْرِيقُ قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ [الْبَقَرَةِ: 164] فَالْحُزْنُ إِذَا ستره الإنسان كان سما وَإِذَا ذَكَرَهُ لِغَيْرِهِ كَانَ بَثًّا وَقَالُوا: الْبَثُّ أَشَدُّ الْحُزْنِ/ وَالْحُزْنُ أَشَدُّ الْهَمِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَهُ أَنْ يَمْسِكَ لِسَانَهُ عَنْ ذِكْرِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْحُزْنُ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِ وَأَمَّا إِذَا عَظُمَ وَعَجَزَ الْإِنْسَانُ عَنْ ضَبْطِهِ وَانْطَلَقَ اللِّسَانُ بِذِكْرِهِ شَاءَ أَمْ أَبَى كَانَ ذَلِكَ بَثًّا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ صَارَ عَاجِزًا عَنْهُ وَهُوَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى الْإِنْسَانِ، فقوله: ثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ أَيْ لَا أَذْكُرُ الْحُزْنَ الْعَظِيمَ وَلَا الْحُزْنَ الْقَلِيلَ إِلَّا مَعَ اللَّه، وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَحُزْنِي بِفَتْحَتَيْنِ وَحُزُنِي بِضَمَّتَيْنِ، قِيلَ: دَخَلَ عَلَى يَعْقُوبَ رَجُلٌ وَقَالَ: يَا يَعْقُوبُ ضَعُفَ جِسْمُكَ وَنَحُفَ بَدَنُكَ وَمَا بَلَغْتَ سِنًّا عَالِيًا فَقَالَ الَّذِي بِي لِكَثْرَةِ غُمُومِي، فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ يَا يَعْقُوبُ أَتَشْكُونِي إِلَى خَلْقِي، فَقَالَ يَا رَبِّ خَطِيئَةٌ أَخْطَأْتُهَا فَاغْفِرْهَا لِي فَغَفَرَهَا لَهُ، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا سُئِلَ قال: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَرُوِيَ أَنَّهُ أَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ إِنَّمَا وَجَدْتُ عَلَيْكُمْ لِأَنَّكُمْ ذَبَحْتُمْ شَاةً فَقَامَ بِبَابِكُمْ مِسْكِينٌ فَلَمْ تُطْعِمُوهُ، وَإِنَّ أَحَبَّ خَلْقِي إِلَيَّ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَسَاكِينُ فَاصْنَعْ طَعَامًا وَادْعُ إِلَيْهِ الْمَسَاكِينَ، وَقِيلَ: اشْتَرَى جَارِيَةً مَعَ وَلَدِهَا فَبَاعَ وَلَدَهَا فَبَكَتْ حَتَّى عَمِيَتْ. ثُمَّ قال يعقوب عليه السلام: أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ أَيْ أَعْلَمُ مِنْ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَأْتِي بِالْفَرَجِ مِنْ حَيْثُ لَا أَحْتَسِبُ، فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ يَتَوَقَّعُ وُصُولَ يُوسُفَ إِلَيْهِ. وَذَكَرُوا لِسَبَبِ هَذَا التَّوَقُّعِ أُمُورًا: أَحَدُهَا: أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ هَلْ قَبَضْتَ رُوحَ ابْنِي يُوسُفَ؟ قَالَ لَا يَا نَبِيَّ اللَّه ثُمَّ أَشَارَ إِلَى جَانِبِ مِصْرَ وَقَالَ: اطْلُبْهُ هاهنا، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ رُؤْيَا يُوسُفَ صَادِقَةٌ، لِأَنَّ أَمَارَاتِ الرُّشْدِ وَالْكَمَالِ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي حَقِّ يُوسُفَ وَرُؤْيَا مِثْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا تُخْطِئُ، وَثَالِثُهَا: لَعَلَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ سَيُوَصِّلُهُ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى مَا عَيَّنَ الْوَقْتَ فَلِهَذَا بَقِيَ فِي الْقَلَقِ، وَرَابِعُهَا: قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا أَخْبَرَهُ بَنُوهُ بِسِيرَةِ الْمَلِكِ وَكَمَالِ حَالِهِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ طَمِعَ أَنْ يَكُونَ هُوَ يُوسُفَ وَقَالَ: يَبْعُدُ أَنْ يَظْهَرَ فِي الْكُفَّارِ مثله،

وَخَامِسُهَا: عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ بِنْيَامِينَ لَا يَسْرِقُ وَسَمِعَ أَنَّ الْمَلِكَ مَا آذَاهُ وَمَا ضَرَبَهُ فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَلِكَ هُوَ يُوسُفُ فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ. [في قوله تعالى يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ] وَالْمَقَامُ الثَّانِي: أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى أَوْلَادِهِ وَتَكَلَّمَ معهم على سبيل اللطف وهو قوله: يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا طَمِعَ فِي وِجْدَانِ يُوسُفَ بِنَاءً عَلَى الْأَمَارَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَالَ لِبَنِيهِ: تَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ، وَالتَّحَسُّسُ طَلَبُ الشَّيْءِ بِالْحَاسَّةِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ يُقَالُ: تَحَسَّسْتُ عَنْ فُلَانٍ وَلَا يقال من فلان، وقيل: هاهنا مِنْ يُوسُفَ لِأَنَّهُ أَقَامَ مِنْ مَقَامَ عَنْ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمَعْنَى تَحَسَّسُوا خَبَرًا مِنْ أَخْبَارِ يُوسُفَ، وَاسْتَعْلِمُوا بَعْضَ أَخْبَارِ يُوسُفَ/ فَذُكِرَتْ كَلِمَةُ (مِنْ) لِمَا فِيهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّبْعِيضِ، وَقُرِئَ تَجَسَّسُوا بِالْجِيمِ كَمَا قُرِئَ بِهِمَا فِي الْحُجُرَاتِ. ثُمَّ قَالَ: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الرَّوْحُ مَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَسِيمِ الْهَوَاءِ فَيَسْكُنُ إِلَيْهِ وَتَرْكِيبُ الرَّاءِ وَالْوَاوِ وَالْحَاءِ يُفِيدُ الحركة والاهتزاز، فكلما يهتز الإنسان لَهُ وَيَلْتَذُّ بِوُجُودِهِ فَهُوَ رَوْحٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّه يُرِيدُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّه، وَعَنْ قَتَادَةَ: مِنْ فَضْلِ اللَّه، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنْ فَرَجِ اللَّه، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُتَقَارِبَةٌ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: مِنْ رُوحِ اللَّه بِالضَّمِّ أَيْ مِنْ رَحْمَتِهِ. ثُمَّ قال: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: إِنَّ الْمُؤْمِنَ مِنَ اللَّه عَلَى خَيْرٍ يَرْجُوهُ فِي الْبَلَاءِ وَيَحْمَدُهُ فِي الرَّخَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَأْسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّه تَعَالَى لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ الْإِنْسَانُ أَنَّ الْإِلَهَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْكَمَالِ أَوْ غَيْرُ عَالِمٍ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ أَوْ لَيْسَ بِكَرِيمٍ بَلْ هُوَ بَخِيلٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ يُوجِبُ الْكُفْرَ، فَإِذَا كَانَ الْيَأْسُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ أَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا كُفْرٌ ثَبَتَ أَنَّ الْيَأْسَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ كَانَ كَافِرًا واللَّه أَعْلَمُ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ مَبَاحِثِ هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ بُلُوغَ يَعْقُوبَ فِي حُبِّ يُوسُفَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ الْعَظِيمِ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ كَانَ غَافِلًا عَنِ اللَّه، فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّه أَحَبَّهُ وَمَنْ أَحَبَّ اللَّه لَمْ يَتَفَرَّغْ قَلْبُهُ لِحُبِّ شَيْءٍ سِوَى اللَّه تَعَالَى، وَأَيْضًا الْقَلْبُ الْوَاحِدُ لَا يَتَّسِعُ لِلْحُبِّ الْمُسْتَغْرِقِ لِشَيْئَيْنِ، فَلَمَّا كَانَ قَلْبُهُ مُسْتَغْرِقًا فِي حُبِّ وَلَدِهِ امْتُنِعَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ مُسْتَغْرِقًا فِي حُبِّ اللَّه تَعَالَى. وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْحُزْنِ الشَّدِيدِ عَلَيْهِ كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِذِكْرِ اللَّه تَعَالَى، وَبِالتَّفْوِيضِ إِلَيْهِ وَالتَّسْلِيمِ لِقَضَائِهِ. وأما قوله: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ فَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ فَضْلًا عَنْ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ. وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ: لَا شَكَّ أَنَّ يَعْقُوبَ كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانَ أَبُوهُ وَجَدُّهُ وَعَمُّهُ كُلُّهُمْ مِنْ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ الْمَشْهُورِينَ فِي جَمِيعِ الدُّنْيَا، وَمَنْ كَذَلِكَ ثُمَّ وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ هَائِلَةٌ صَعْبَةٌ فِي أَعَزِّ أَوْلَادِهِ عَلَيْهِ لَمْ تَبْقَ تِلْكَ الْوَاقِعَةُ خَفِيَّةً، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَبْلُغَ فِي الشُّهْرَةِ إِلَى حَيْثُ يَعْرِفُهَا كُلُّ أَحَدٍ لَا سِيَّمَا وَقَدِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ الطَّوِيلَةُ فِيهَا وَبَقِيَ يَعْقُوبُ عَلَى حُزْنِهِ الشَّدِيدِ وَأَسَفِهِ الْعَظِيمِ، وَكَانَ يُوسُفُ فِي مِصْرَ وَكَانَ يَعْقُوبُ فِي بَعْضِ بِلَادِ الشَّامِ قَرِيبًا مِنْ

[سورة يوسف (12) : الآيات 88 إلى 90]

مِصْرَ، فَمَعَ قُرْبِ الْمَسَافَةِ يَمْتَنِعُ بَقَاءُ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مَخْفِيَّةً. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لِمَ لَمْ يَبْعَثْ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحَدًا إِلَى يَعْقُوبَ وَيُعْلِمْهُ أَنَّهُ فِي الْحَيَاةِ وَفِي السَّلَامَةِ وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَخَافُ إِخْوَتَهُ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَلِكًا قَاهِرًا كَانَ يُمْكِنُهُ إِرْسَالُ الرَّسُولِ إِلَيْهِ وَإِخْوَتُهُ مَا كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِ الرَّسُولِ. وَالسُّؤَالُ الْخَامِسُ: كَيْفَ جَازَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَضَعَ الصَّاعَ فِي وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ يَسْتَخْرِجَهُ مِنْهُ وَيُلْصِقَ بِهِ تُهْمَةَ السَّرِقَةِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ بَرِيئًا عَنْهَا. السُّؤَالُ السَّادِسُ: كَيْفَ رَغِبَ فِي إِلْصَاقِ هَذِهِ التُّهْمَةِ بِهِ وَفِي حَبْسِهِ عِنْدَ نَفْسِهِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَزْدَادُ حَزْنُ أَبِيهِ وَيَقْوَى. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمِحْنَةِ الشَّدِيدَةِ تُزِيلُ عَنِ الْقَلْبِ كُلَّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْخَوَاطِرِ. ثُمَّ إِنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْمِحْنَةِ الشَّدِيدَةِ يَكُونُ كَثِيرَ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّه تَعَالَى كَثِيرَ الِاشْتِغَالِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَمَالِ الاستغراق. والجواب عن الثاني: أن الداعي الْإِنْسَانِيَّةَ لَا تَزُولُ فِي الْحَيَاةِ الْعَاجِلَةِ فَتَارَةً كان يقول: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [يُوسُفَ: 84] وَتَارَةً كَانَ يَقُولُ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ [يُوسُفَ: 18] وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْأَسْئِلَةِ فَالْقَاضِي أَجَابَ عَنْهَا بِجَوَابٍ كُلِّيٍّ حَسَنٍ، فَقَالَ هَذِهِ الْوَقَائِعُ الَّتِي نُقِلَتْ إِلَيْنَا إِمَّا يُمْكِنُ تَخْرِيجُهَا عَلَى الْأَحْوَالِ الْمُعْتَادَةِ أَوْ لَا يُمْكِنُ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَنَقُولُ: كَانَ ذَلِكَ الزَّمَانُ زَمَانَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَخَرْقُ الْعَادَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ بَلْدَةَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْ بَلْدَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَكِنْ لَمْ يَصِلْ خَبَرُ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ على سبيل نقض العادة. [سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 90] فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) [في قوله تعالى فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مسنا وأهلنا الضر] اعلم أن المفسرين اتفقوا على أن هاهنا مَحْذُوفًا وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ يَعْقُوبَ لَمَّا قَالَ لِبَنِيهِ: اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ [يوسف: 87] قَبِلُوا مِنْ أَبِيهِمْ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ فَعَادُوا إِلَى مِصْرَ وَدَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالُوا له: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ يَعْقُوبُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَحَسَّسُوا أَمْرَ يُوسُفَ وَأَخِيهِ فَلِمَاذَا عَدَلُوا إِلَى الشَّكْوَى وَطَلَبُوا إِيفَاءَ الْكَيْلِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْمُتَحَسِّسِينَ يَتَوَسَّلُونَ إِلَى مَطْلُوبِهِمْ بِجَمِيعِ الطُّرُقِ وَالِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ وَضِيقُ الْيَدِ وَرِقَّةُ الْحَالِ وَقِلَّةُ الْمَالِ وَشِدَّةُ الْحَاجَةِ مِمَّا يُرَقِّقُ الْقَلْبَ فَقَالُوا: نُجَرِّبُهُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَإِنْ رَقَّ قَلْبُهُ لَنَا ذَكَرْنَا لَهُ الْمَقْصُودَ

وَإِلَّا سَكَتْنَا. فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمُوا ذِكْرَ هَذِهِ الواقعة وقالوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ وَالْعَزِيزُ هُوَ الْمَلِكُ الْقَادِرُ الْمَنِيعُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَهُوَ الْفَقْرُ وَالْحَاجَةُ وَكَثْرَةُ الْعِيَالِ وَقِلَّةُ الطَّعَامِ وَعَنَوْا بِأَهْلِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: مَعْنَى الْإِزْجَاءِ فِي اللُّغَةِ، الدَّفْعُ قَلِيلًا قَلِيلًا وَمِثْلُهُ التَّزْجِيَةُ يُقَالُ الرِّيحُ تُزْجِي السَّحَابَ. قَالَ اللَّه تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً [النُّورِ: 43] وَزَجَّيْتُ فُلَانًا بِالْقَوْلِ دَافَعْتُهُ، وَفُلَانٌ يُزْجِي الْعَيْشَ أَيْ يَدْفَعُ الزَّمَانَ بِالْحِيلَةِ. وَالْبَحْثُ الثَّانِي: إِنَّمَا وَصَفُوا تِلْكَ الْبِضَاعَةَ بِأَنَّهَا مُزْجَاةٌ إِمَّا لِنُقْصَانِهَا أَوْ لِرَدَاءَتِهَا أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا كُلَّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ قَالَ الْحَسَنُ: الْبِضَاعَةُ الْمُزْجَاةُ الْقَلِيلَةُ، وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّهَا كَانَتْ رَدِيئَةً وَاخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الرَّدَاءَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا كَانَتْ دَرَاهِمَ رَدِيئَةً لَا تقبل في ثمن الطعام، وقيل: الأقط، خَلِقُ الْغِرَارَةِ وَالْحَبْلِ وَأَمْتِعَةٌ رَثَّةٌ، وَقِيلَ: مَتَاعُ الْأَعْرَابِ الصُّوفُ وَالسَّمْنُ. وَقِيلَ: الْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ، وَقِيلَ: الْأَقِطُ، وَقِيلَ: النِّعَالُ وَالْأُدْمُ، وَقِيلَ: سَوِيقُ الْمُقْلِ، وَقِيلَ: صُوفُ الْمَعْزِ، وَقِيلَ: إِنَّ دَرَاهِمَ مِصْرَ كَانَتْ تُنْقَشُ فِيهَا صُورَةُ يُوسُفَ وَالدَّرَاهِمُ الَّتِي جَاءُوا بِهَا مَا كَانَ فِيهَا صُورَةُ يُوسُفَ فَمَا كَانَتْ مَقْبُولَةً عِنْدَ النَّاسِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي بَيَانِ أَنَّهُ لِمَ سُمِّيَتِ الْبِضَاعَةُ الْقَلِيلَةُ الرَّدِيئَةُ مُزْجَاةً؟ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ مِنْ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ يُزْجِي الْعَيْشَ أَيْ يَدْفَعُ الزَّمَانَ بِالْقَلِيلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّا جِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ نُدَافِعُ بِهَا الزَّمَانَ، وَلَيْسَتْ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالتَّقْدِيرُ بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٌ بِهَا الْأَيَّامُ، الثَّانِي: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّمَا قِيلَ لِلدَّرَاهِمِ الرَّدِيئَةِ مُزْجَاةٌ، لِأَنَّهَا مَرْدُودَةٌ مَدْفُوعَةٌ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ مِمَّنْ يُنْفِقُهَا/ قَالَ وَهِيَ مِنَ الْإِزْجَاءِ، وَالْإِزْجَاءُ عِنْدَ الْعَرَبِ السَّوْقُ وَالدَّفْعُ. الثَّالِثُ: بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ أَيْ مُؤَخَّرَةٍ مَدْفُوعَةٍ عَنِ الْإِنْفَاقِ لَا يُنْفِقُ مِثْلَهَا إِلَّا مَنِ اضْطُرَّ وَاحْتَاجَ إِلَيْهَا لِفَقْدِ غَيْرِهَا مِمَّا هُوَ أَجْوَدُ مِنْهَا. الرَّابِعُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: مُزْجَاةٌ لُغَةُ الْعَجَمِ، وَقِيلَ هِيَ مِنْ لُغَةِ الْقِبْطِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ لَفْظٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفُ الِاشْتِقَاقِ وَالتَّصْرِيفِ مَنْسُوبًا إِلَى الْقِبْطِ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مُزْجَاةٍ بِالْإِمَالَةِ، لِأَنَّ أصله الياء، والباقون بالنصب والتفخيم. [في قوله تعالى فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ] وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ الْكَلَامِ فِي كَوْنِ الْبِضَاعَةِ مزجاة إما لقلتها أو لنقصانها أو لمجموعهما ولما وصفوا شدة حالهم وو صفوا بِضَاعَتَهُمْ بِأَنَّهَا مُزْجَاةٌ قَالُوا لَهُ: فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَالْمُرَادُ أَنْ يُسَاهِلَهُمْ إِمَّا بِأَنْ يُقِيمَ النَّاقِصَ مَقَامَ الزَّائِدِ أَوْ يُقِيمَ الرَّدِيءَ مَقَامَ الْجَيِّدِ، ثُمَّ قَالُوا: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا وَالْمُرَادُ الْمُسَامَحَةُ بِمَا بَيْنَ الثَّمَنَيْنِ وَأَنْ يُسَعِّرَ لَهُمْ بِالرَّدِيءِ كَمَا يُسَعِّرُ بِالْجَيِّدِ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ ذَلِكَ طَلَبًا مِنْهُمْ لِلصَّدَقَةِ فَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: إِنَّ الصَّدَقَةَ كَانَتْ حَلَالًا لِلْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، كَأَنَّهُمْ طَلَبُوا الْقَدْرَ الزَّائِدَ عَلَى سَبِيلِ الصَّدَقَةِ، وَأَنْكَرَ الْبَاقُونَ ذَلِكَ وَقَالُوا حَالُ الْأَنْبِيَاءِ وَحَالُ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ يُنَافِي طَلَبَ الصَّدَقَةِ لِأَنَّهُمْ يَأْنَفُونَ مِنَ الْخُضُوعِ لِلْمَخْلُوقِينَ وَيَغْلُبُ عَلَيْهِمُ الِانْقِطَاعُ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَالِاسْتِغَاثَةُ بِهِ عَمَّنْ سِوَاهُ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهُمَا كَرِهَا أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ تَصَدَّقْ عَلَيَّ، قَالُوا: لِأَنَّ اللَّه لَا يَتَصَدَّقُ إِنَّمَا يَتَصَدَّقُ الَّذِي يَبْتَغِي الثَّوَابَ، وَإِنَّمَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي أَوْ تَفَضَّلْ، فَعَلَى هَذَا التَّصَدُّقُ هُوَ إِعْطَاءُ الصَّدَقَةِ وَالْمُتَصَدِّقُ الْمُعْطِي، وَأَجَازَ اللَّيْثُ أَنْ يُقَالَ لِلسَّائِلِ: مُتَصَدِّقٌ وَأَبَاهُ الْأَكْثَرُونَ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ وَقِيلَ: دَفَعُوا إِلَيْهِ كِتَابَ يَعْقُوبَ فِيهِ مِنْ

يَعْقُوبَ إِسْرَائِيلِ اللَّه ابْنِ إِسْحَاقَ ذَبِيحِ اللَّه ابْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّه إِلَى عَزِيزِ مِصْرَ. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ مُوَكَّلٌ بِنَا الْبَلَاءُ أَمَّا جَدِّي فَشُدَّتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَرُمِيَ فِي النَّارِ لِيُحْرَقَ فَنَجَّاهُ اللَّه وَجَعَلَهَا بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَيْهِ، وَأَمَّا أَبِي فَوُضِعَ السِّكِّينُ عَلَى قَفَاهُ لِيُقْتَلَ فَفَدَاهُ اللَّه، وَأَمَّا أَنَا فَكَانَ لِيَ ابْنٌ وَكَانَ أَحَبَّ أَوْلَادِي إِلَيَّ فَذَهَبَ بِهِ إِخْوَتُهُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ ثُمَّ أَتَوْنِي بِقَمِيصِهِ مُلَطَّخًا بِالدَّمِ وَقَالُوا قَدْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ فَذَهَبَتْ عَيْنَايَ مِنَ الْبُكَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ كَانَ لِيَ ابْنٌ وَكَانَ أَخَاهُ مِنْ أُمِّهِ وَكُنْتُ أَتَسَلَّى بِهِ فَذَهَبُوا بِهِ إِلَيْكَ ثُمَّ رَجَعُوا وَقَالُوا: إِنَّهُ قَدْ سَرَقَ وَإِنَّكَ حَبَسْتَهُ عِنْدَكَ وَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نَسْرِقُ وَلَا نَلِدُ سَارِقًا، فَإِنْ رَدَدْتَهُ عَلَيَّ وَإِلَّا دَعَوْتُ عَلَيْكَ دَعْوَةً تُدْرِكُ السَّابِعَ مِنْ وَلَدِكَ. فَلَمَّا قَرَأَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكِتَابَ لَمْ يَتَمَالَكْ وَعِيلَ صَبْرُهُ وَعَرَّفَهُمْ أَنَّهُ يُوسُفُ. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّهُ قَالَ: هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ قِيلَ إِنَّهُ لَمَّا قَرَأَ كِتَابَ أَبِيهِ يَعْقُوبَ ارْتَعَدَتْ مَفَاصِلُهُ وَاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ وَلَانَ قَلْبُهُ وَكَثُرَ بُكَاؤُهُ وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ يُوسُفُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا رأى إخوته تضرعوا إليه وو صفوا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الزَّمَانِ وَقِلَّةِ الْحِيلَةِ أَدْرَكَتْهُ الرِّقَّةُ فَصَرَّحَ حِينَئِذٍ بِأَنَّهُ يُوسُفُ، وَقَوْلُهُ: هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ اسْتِفْهَامٌ يُفِيدُ تَعْظِيمَ الْوَاقِعَةِ، وَمَعْنَاهُ: مَا أَعْظَمَ مَا ارْتَكَبْتُمْ فِي يُوسُفَ وَمَا أَقْبَحَ مَا أَقْدَمْتُمْ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ لِلْمُذْنِبِ هَلْ تَدْرِي من عصيت وعل تَعْرِفُ مَنْ خَالَفْتَ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَصْدِيقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [يُوسُفَ: 15] وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَخِيهِ فَالْمُرَادُ مَا فَعَلُوا بِهِ مِنْ تَعْرِيضِهِ لِلْغَمِّ بِسَبَبِ إِفْرَادِهِ عَنْ أَخِيهِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَأَيْضًا كَانُوا يُؤْذُونَهُ وَمِنْ جُمْلَةِ أَقْسَامِ ذَلِكَ الْإِيذَاءِ قَالُوا فِي حَقِّهِ: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يُوسُفَ: 77] وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ فَهُوَ يَجْرِي مَجْرَى الْعُذْرِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتُمْ إِنَّمَا أَقْدَمْتُمْ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ الْقَبِيحِ الْمُنْكَرِ حَالَ مَا كُنْتُمْ فِي جَهَالَةِ الصِّبَا أَوْ فِي جَهَالَةِ الْغُرُورِ، يَعْنِي وَالْآنَ لَسْتُمْ كَذَلِكَ، وَنَظِيرُهُ مَا يُقَالُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الِانْفِطَارِ: 6] قِيلَ إِنَّمَا ذَكَرَ تَعَالَى هَذَا الْوَصْفَ الْمُعَيَّنَ لِيَكُونَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى الْجَوَابِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ يَا رَبِّ غَرَّنِي كرمك فكذا هاهنا إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْكَلَامَ إِزَالَةً لِلْخَجَالَةِ عَنْهُمْ وَتَخْفِيفًا لِلْأَمْرِ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ إِنَّ إِخْوَتَهُ قَالُوا: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ إِنَّكَ عَلَى لَفْظِ الْخَبَرِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ أَيِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ بِفَتْحِ الْأَلْفِ غَيْرَ مَمْدُودَةٍ وَبِالْيَاءِ وَأَبُو عَمْرٍو آيِنَّكَ بِمَدِّ الْأَلِفِ وَهُوَ رِوَايَةُ قَالُونَ عَنْ نَافِعٍ، والباقون أَإِنَّكَ بِهَمْزَتَيْنِ وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ أَوَ أَنْتَ يُوسُفُ فَحُصِّلَ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ أَنَّ مِنَ الْقُرَّاءِ مَنْ قَرَأَ بِالِاسْتِفْهَامِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ بِالْخَبَرِ. أَمَّا الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا: إِنَّ يُوسُفَ لَمَّا قَالَ لَهُمْ: هَلْ عَلِمْتُمْ وَتَبَسَّمَ فَأَبْصَرُوا ثَنَايَاهُ، وَكَانَتْ كَاللُّؤْلُؤِ الْمَنْظُومِ شَبَّهُوهُ بِيُوسُفَ، فقالوا له استفهاما أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الِاسْتِفْهَامِ أَنَّهُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَإِنَّمَا أَجَابَهُمْ عَمَّا اسْتَفْهَمُوا عَنْهُ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ عَلَى الْخَبَرِ فَحُجَّتُهُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ لَمْ يَعْرِفُوهُ حَتَّى وَضَعَ التَّاجَ عَنْ رَأْسِهِ، وَكَانَ فِي فَرْقِهِ عَلَامَةٌ وَكَانَ لِيَعْقُوبَ وَإِسْحَاقَ مِثْلُهَا شِبْهُ الشَّامَةِ، فَلَمَّا رَفَعَ التَّاجَ عَرَفُوهُ بِتِلْكَ الْعَلَامَةِ، فَقَالُوا: إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ كَثِيرٍ أَرَادَ الِاسْتِفْهَامَ ثُمَّ حَذَفَ حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ وَقَوْلُهُ: قالَ أَنَا يُوسُفُ فِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اللَّامُ لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَأَنْتَ مُبْتَدَأٌ وَيُوسُفُ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا صَرَّحَ بِالِاسْمِ تَعْظِيمًا لِمَا نَزَلْ بِهِ مِنْ ظُلْمِ إِخْوَتِهِ وَمَا عَوَّضَهُ اللَّه مِنَ الظفر والنصر

[سورة يوسف (12) : الآيات 91 إلى 93]

فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنَا الَّذِي ظَلَمْتُمُونِي عَلَى أَعْظَمِ الْوُجُوهِ واللَّه تَعَالَى أَوْصَلَنِي إِلَى أَعْظَمِ الْمَنَاصِبِ، أَنَا ذَلِكَ الْعَاجِزُ الَّذِي قَصَدْتُمْ قَتْلَهُ وَإِلْقَاءَهُ فِي الْبِئْرِ ثُمَّ صِرْتُ كَمَا تَرَوْنَ، وَلِهَذَا قَالَ: وَهذا أَخِي مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَهُ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ أَنْ يَقُولَ: وَهَذَا أَيْضًا كَانَ مَظْلُومًا كَمَا كُنْتُ ثُمَّ إِنَّهُ صَارَ مُنْعَمًا عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى كَمَا تَرَوْنَ وَقَوْلُهُ: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا بِكُلِّ عِزٍّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَقَالَ آخَرُونَ بِالْجَمْعِ بَيْنَنَا بَعْدَ التَّفْرِقَةِ وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ مَعْنَاهُ: مَنْ يَتَّقِ مَعَاصِيَ اللَّه وَيَصْبِرْ عَلَى أَذَى النَّاسِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَالْمَعْنَى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّه لَا يُضِيعُ أَجْرَهُمْ فَوَضَعَ الْمُحْسِنِينَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمُتَّقِينَ. وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَفَ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ الشَّرِيفِ بِكَوْنِهِ مُتَّقِيًا وَلَوْ أنه قدم عَلَى مَا يَقُولُهُ الْحَشْوِيَّةُ فِي حَقِّ زُلَيْخَا لَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ كَذِبًا مِنْهُ وَذِكْرُ الْكَذِبِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ الَّذِي يُؤْمِنُ فِيهِ الْكَافِرُ وَيَتُوبُ فِيهِ الْعَاصِي لَا يَلِيقُ بِالْعُقَلَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رُوِيَ عَنِ ابْنِ كثير في طَرِيقِ قُنْبُلٍ: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْحَالَيْنِ وَوَجْهُهُ أَنْ يُجْعَلَ «مَنْ» بِمَنْزِلَةِ الَّذِي فَلَا يُوجِبُ الْجَزْمَ وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَيَصْبِرْ فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ الرَّفْعُ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ كَمَا يُخَفَّفُ فِي عَضْدٍ وَشَمْعٍ وَالْبَاقُونَ بِحَذْفِ الياء في الحالين. [سورة يوسف (12) : الآيات 91 الى 93] قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) اعْلَمْ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَكَرَ لِإِخْوَتِهِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى مَنَّ عَلَيْهِ وَأَنَّ مَنْ يَتَّقِ الْمَعَاصِيَ وَيَصْبِرْ عَلَى أَذَى النَّاسِ فَإِنَّهُ لَا يُضَيِّعُهُ اللَّه صَدَّقُوهُ فِيهِ، وَاعْتَرَفُوا لَهُ بِالْفَضْلِ وَالْمَزِيَّةِ قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ: آثَرَكَ إِيثَارًا، أَيْ فَضَّلَكَ اللَّه، وَفُلَانٌ آثَرَ عَبْدَ فُلَانٍ، إِذَا كَانَ يُؤْثِرُهُ بِفَضْلِهِ وَصِلَتِهِ، وَالْمَعْنَى: لَقَدْ فَضَّلَكَ اللَّه عَلَيْنَا بِالْعِلْمِ/ وَالْحِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْفَضْلِ وَالْحُسْنِ وَالْمُلْكِ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ إِخْوَتَهُ مَا كَانُوا أَنْبِيَاءَ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَنَاصِبِ الَّتِي تَكُونُ مُغَايِرَةً لِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ كَالْعَدَمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ فَلَوْ شَارَكُوهُ فِي مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ لَمَا قَالُوا: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ يَذْهَبُ سُؤَالُ مَنْ يَقُولُ لَعَلَّ الْمُرَادَ كَوْنُهُ زَائِدًا عَلَيْهِمْ فِي الْمُلْكِ وَأَحْوَالِ الدُّنْيَا وَإِنْ شَارَكُوهُ فِي النُّبُوَّةِ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ أَحْوَالَ الدُّنْيَا لَا يُعْبَأُ بِهَا فِي جَنْبِ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ قِيلَ الْخَاطِئُ هُوَ الَّذِي أَتَى بِالْخَطِيئَةِ عَمْدًا وَفُرِّقَ بَيْنَ الْخَاطِئِ وَالْمُخْطِئِ، فَلِهَذَا الْفَرْقِ يُقَالُ لِمَنْ يَجْتَهِدُ فِي الْأَحْكَامِ فَلَا يُصِيبُ إِنَّهُ مُخْطِئٌ، وَلَا يُقَالُ إِنَّهُ خَاطِئٌ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الَّذِي اعْتَذَرُوا مِنْهُ هُوَ إِقْدَامُهُمْ عَلَى إِلْقَائِهِ فِي الْجُبِّ وَبَيْعِهِ وَتَبْعِيدِهِ عَنِ الْبَيْتِ وَالْأَبِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ: إِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَذِرُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَلَا يَكُونُ ذَنْبًا فَلَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا اعْتَذَرُوا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ أَخْطَئُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنْ لَمْ يُظْهِرُوا لِأَبِيهِمْ مَا فَعَلُوهُ، لِيَعْلَمَ أَنَّهُ حَيٌّ وَأَنَّ الذِّئْبَ لَمْ يَأْكُلْهُ وَهَذَا الْكَلَامُ ضَعِيفٌ من وجوه:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ أَقْدَمُوا عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ فِي زَمَنِ الصِّبَا لِأَنَّهُ مِنَ الْبَعِيدِ فِي مِثْلِ يَعْقُوبَ أَنْ يَبْعَثَ جَمْعًا مِنَ الصِّبْيَانِ غَيْرِ الْبَالِغِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُمْ رَجُلًا عَاقِلًا يَمْنَعُهُمْ عَمَّا لَا يَنْبَغِي وَيَحْمِلُهُمْ عَلَى مَا يَنْبَغِي. الْوَجْهُ الثَّانِي: هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاعْتِذَارُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ يَحْسُنُ الِاعْتِذَارُ عَنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُذْنِبَ إِذَا تَابَ زَالَ عِقَابُهُ ثُمَّ قَدْ يُعِيدُ التَّوْبَةَ وَالِاعْتِذَارَ مَرَّةً أُخْرَى، فعلمنا أن الإنسان أيضا قد يتوب عند ما لَا تَكُونُ التَّوْبَةُ وَاجِبَةً عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَرَفُوا بِفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَبِكَوْنِهِمْ مُجْرِمِينَ خَاطِئِينَ قَالَ يُوسُفُ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: التَّثْرِيبُ التَّوْبِيخُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَضْرِبْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْهَا» أَيْ وَلَا يُعَيِّرْهَا بِالزِّنَا، فَقَوْلُهُ: لَا تَثْرِيبَ أَيْ لَا تَوْبِيخَ وَلَا عَيْبَ وَأَصْلُ التَّثْرِيبِ مِنَ الثَّرْبِ وَهُوَ الشَّحْمُ الَّذِي هُوَ غَاشِيَةُ الْكِرْشِ. وَمَعْنَاهُ إِزَالَةُ الثَّرْبِ كَمَا أَنَّ التَّجْلِيدَ إِزَالَةُ الْجِلْدِ قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ طَلَبُ الْحَوَائِجِ إِلَى الشَّبَابِ أَسْهَلُ مِنْهَا إِلَى الشُّيُوخِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِإِخْوَتِهِ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ وقوله يَعْقُوبَ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يُوسُفَ: 98] . الْبَحْثُ الثَّانِي: إِنَّ قَوْلَهُ: الْيَوْمَ مُتَعَلِّقٌ بِمَاذَا وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَا تَثْرِيبَ أي لا أثر بكم الْيَوْمَ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ التَّثْرِيبِ فَمَا ظَنُّكُمْ بِسَائِرِ الْأَيَّامَ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنِّي حَكَمْتُ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِأَنْ لَا تَثْرِيبَ مُطْلَقًا لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَثْرِيبَ نَفْيٌ لِلْمَاهِيَّةِ وَنَفْيُ الْمَاهِيَّةِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُفِيدًا لِلنَّفْيِ الْمُتَنَاوِلِ لِكُلِّ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ الْيَوْمَ حَكَمْتُ بِهَذَا الْحُكْمِ الْعَامِّ الْمُتَنَاوِلِ لِكُلِّ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَّ لَهُمْ أَنَّهُ أَزَالَ عَنْهُمْ مَلَامَةَ الدُّنْيَا طَلَبَ مِنَ اللَّه أَنْ يُزِيلَ عَنْهُمْ عِقَابَ الْآخِرَةِ فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الدُّعَاءُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: الْيَوْمَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ كَأَنَّهُ لَمَّا نَفَى التَّثْرِيبَ مُطْلَقًا بَشَّرَهُمْ بِأَنَّ اللَّه غَفَرَ ذَنْبَهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا انْكَسَرُوا وَخَجِلُوا وَاعْتَرَفُوا وَتَابُوا فاللَّه قَبِلَ تَوْبَتَهُمْ وَغَفَرَ ذَنْبَهُمْ، فَلِذَلِكَ قَالَ: الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ رُوِيَ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخَذَ بِعِضَادَتَيْ بَابِ الْكَعْبَةِ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَقَالَ لِقُرَيْشٍ: «مَا تَرَوْنِي فَاعِلًا بِكُمْ» فَقَالُوا نَظُنُّ خَيْرًا أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ وَقَدْ قَدَرْتَ، فَقَالَ: «أَقُولُ مَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمَّا جَاءَ لِيُسَلِّمَ قَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: إِذَا أَتَيْتَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتْلُ عَلَيْهِ: قالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ فَفَعَلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غَفَرَ اللَّه لَكَ وَلِمَنْ عَلَّمَكَ» وَرُوِيَ أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ لَمَّا عَرَفُوهُ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ إِنَّكَ تُحْضِرُنَا فِي مَائِدَتِكَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا وَنَحْنُ نَسْتَحِي مِنْكَ لِمَا صَدَرَ مِنَّا مِنَ الْإِسَاءَةِ إِلَيْكَ، فَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّ أَهْلَ مِصْرَ وَإِنْ مُلِّكْتُ فِيهِمْ فَإِنَّهُمْ يَنْظُرُونِي بِالْعَيْنِ الْأُولَى وَيَقُولُونَ: سُبْحَانَ مَنْ بَلَّغَ عَبْدًا بِيعَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا مَا بَلَغَ، وَلَقَدْ شَرُفْتُ الْآنَ بِإِتْيَانِكُمْ وَعَظُمْتُ فِي الْعُيُونِ لَمَّا جِئْتُمْ وَعَلِمَ النَّاسُ أَنَّكُمْ إِخْوَتِي وَأَنِّي مِنْ حَفَدَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لما

[سورة يوسف (12) : الآيات 94 إلى 98]

عَرَفَهُمْ يُوسُفُ سَأَلَهُمْ عَنْ أَبِيهِ فَقَالُوا ذَهَبَتْ عَيْنَاهُ، فَأَعْطَاهُمْ قَمِيصَهُ، قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إِنَّمَا عَرَفَ أَنَّ إِلْقَاءَ ذَلِكَ الْقَمِيصِ عَلَى وَجْهِهِ يُوجِبُ قُوَّةَ الْبَصَرِ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَلَوْلَا الْوَحْيُ لَمَا عَرَفَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلِمَ أَنَّ أَبَاهُ مَا صَارَ أَعْمَى إِلَّا أَنَّهُ مِنْ كَثْرَةِ الْبُكَاءِ وَضِيقِ الْقَلْبِ ضَعُفَ بَصَرُهُ فَإِذَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ قَمِيصُهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْشَرِحَ صَدْرُهُ وَأَنْ يَحْصُلَ فِي قَلْبِهِ الْفَرَحُ الشَّدِيدُ، وَذَلِكَ يُقَوِّي الرُّوحَ وَيُزِيلُ الضَّعْفَ عَنِ الْقُوَى، فَحِينَئِذٍ يَقْوَى بَصَرُهُ، وَيَزُولُ عَنْهُ ذَلِكَ النُّقْصَانُ، فَهَذَا الْقَدْرُ مِمَّا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِالْقَلْبِ فَإِنَّ الْقَوَانِينَ الطِّبِّيَّةَ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى، وَقَوْلُهُ: يَأْتِ بَصِيراً أَيْ يَصِيرُ بَصِيرًا وَيَشْهَدُ لَهُ فَارْتَدَّ بَصِيراً [يُوسُفَ: 96] وَيُقَالُ: الْمُرَادُ يَأْتِ إِلَيَّ وَهُوَ بَصِيرٌ، وَإِنَّمَا أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَقَالَ فِي الْبَاقِينَ: وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ قَالَ/ الْكَلْبِيُّ: كَانَ أَهْلُهُ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ إِنْسَانًا وَقَالَ مَسْرُوقٌ دَخَلَ قَوْمُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِصْرَ. وَهُمْ ثَلَاثَةٌ وَتِسْعُونَ مِنْ بَيْنِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، وَرُوِيَ أن يهوذا حَمَلَ الْكِتَابَ وَقَالَ أَنَا أَحْزَنْتُهُ بِحَمْلِ الْقَمِيصِ الْمُلَطَّخِ بِالدَّمِ إِلَيْهِ فَأُفْرِحُهُ كَمَا أَحْزَنْتُهُ. وَقِيلَ حَمَلَهُ وَهُوَ حَافٍ وَحَاسِرٌ مِنْ مِصْرَ إِلَى كنعان وبينهما مسيرة ثمانين فرسخا. [سورة يوسف (12) : الآيات 94 الى 98] وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يَا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) يُقَالُ: فَصَلَ فُلَانٌ مِنْ عِنْدِ فُلَانٍ فُصُولًا إِذَا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ. وَفَصَلَ مِنِّي إِلَيْهِ كِتَابًا إِذَا أَنْفَذَ بِهِ إِلَيْهِ. وَفَصَلَ يَكُونُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا وَإِذَا كَانَ لَازِمًا فَمَصْدَرُهُ الْفُصُولُ وَإِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فَمَصْدَرُهُ الْفَصْلُ قَالَ لَمَّا خَرَجَتِ الْعِيرُ مِنْ مِصْرَ مُتَوَجِّهَةً إِلَى كَنْعَانَ قَالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَنْ حَضَرَ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَقَرَابَتِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ مَعَ أَوْلَادِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا غَائِبِينَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُمْ: اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ [يُوسُفَ: 87] وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الْمَسَافَةِ فَقِيلَ: مَسِيرَةُ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، وَقِيلَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَقِيلَ ثَمَانُونَ فَرْسَخًا. وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ وُصُولِ تِلْكَ الرَّائِحَةِ إِلَيْهِ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَبَّتْ رِيحٌ فَصَفَقَتِ الْقَمِيصَ فَفَاحَتْ رَوَائِحُ الْجَنَّةِ فِي الدُّنْيَا وَاتَّصَلَتْ بِيَعْقُوبَ فَوَجَدَ رِيحَ الْجَنَّةِ فَعَلِمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِنْ رِيحِ الْجَنَّةِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْقَمِيصِ، فَمِنْ ثَمَّ قَالَ: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ/ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً [يُوسُفَ: 93] فَإِنَّ نُمْرُوذَ الْجَبَّارَ لَمَّا أَلْقَى إِبْرَاهِيمَ فِي النَّارِ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَمِيصٍ مِنَ الْجَنَّةِ وَطِنْفَسَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ فَأَلْبَسَهُ الْقَمِيصَ وَأَجْلَسَهُ عَلَى الطِّنْفَسَةِ وَقَعَدَ مَعَهُ يُحَدِّثُهُ، فَكَسَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ الْقَمِيصَ إِسْحَاقَ وَكَسَاهُ إِسْحَاقُ يَعْقُوبَ وَكَسَاهُ يَعْقُوبُ يُوسُفَ فَجَعَلَهُ فِي قَصَبَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَعَلَّقَهَا فِي عُنُقِهِ فَأُلْقِيَ فِي الْجُبِّ وَالْقَمِيصُ فِي عُنُقِهِ فلذلك قَوْلُهُ: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَوْصَلَ تِلْكَ الرَّائِحَةَ

إليه على سبيل إظهار المعجزات لا وُصُولَ الرَّائِحَةِ إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ أَمْرٌ مُنَاقِضٌ لِلْعَادَةِ فَيَكُونُ مُعْجِزَةً وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهَا مُعْجِزَةً لِأَحَدِهِمَا وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ لِيَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَخْبَرَ عَنْهُ وَنَسَبُوهُ فِي هَذَا الْكَلَامِ إِلَى مَا لَا يَنْبَغِي، فَظَهَرَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرَ فَكَانَ مُعْجِزَةً لَهُ. قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْصَلَ إِلَيْهِ رِيحَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْمِحْنَةِ وَمَجِيءِ وَقْتِ الرَّوْحِ وَالْفَرَحِ مِنَ الْمَكَانِ الْبَعِيدِ وَمَنَعَ مِنْ وُصُولِ خَبَرِهِ إِلَيْهِ مَعَ قُرْبِ إِحْدَى الْبَلْدَتَيْنِ مِنَ الْأُخْرَى فِي مُدَّةِ ثَمَانِينَ سَنَةً وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ سَهْلٍ فَهُوَ فِي زَمَانِ الْمِحْنَةِ صَعْبٌ وَكُلُّ صَعْبٍ فَهُوَ فِي زَمَانِ الْإِقْبَالِ سَهْلٌ وَمَعْنَى: لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ أَشُمُّ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْوُجُودِ لِأَنَّهُ وِجْدَانٌ لَهُ بِحَاسَّةِ الشَّمِّ، وَقَوْلُهُ: لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَفْنَدَ الرَّجُلُ إِذَا حَزِنَ وَتَغَيَّرَ عَقْلُهُ وَفُنِّدَ إِذَا جَهِلَ وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ إِذَا كَثُرَ كَلَامُ الرَّجُلِ مِنْ خَرَفٍ فَهُوَ الْمُفْنِدُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يُقَالُ شَيْخٌ مُفْنِدٌ وَلَا يُقَالُ عَجُوزٌ مُفْنِدَةٌ، لِأَنَّهَا لَمْ يكن فِي شَبِيبَتِهَا ذَاتَ رَأْيٍ حَتَّى تُفَنَّدَ فِي كِبَرِهَا فَقَوْلُهُ: لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ أَيْ لَوْلَا أَنْ تَنْسِبُونِي إِلَى الْخَرَفِ، وَلَمَّا ذَكَرَ يَعْقُوبُ ذَلِكَ قَالَ الْحَاضِرُونَ عِنْدَهُ: تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ وفي الضلال هاهنا وجوه: الأول: قال مقاتل: يعني بالضلال هاهنا الشَّقَاءَ، يَعْنِي شَقَاءَ الدُّنْيَا وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ لَفِي شَقَائِكَ الْقَدِيمِ بِمَا تُكَابِدُ مِنَ الْأَحْزَانِ عَلَى يُوسُفَ، وَاحْتَجَّ مُقَاتِلٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ [الْقَمَرِ: 24] يَعْنُونَ لَفِي شَقَاءِ دُنْيَانَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ، أَيْ لَفِي حُبِّكَ الْقَدِيمِ لَا تَنْسَاهُ وَلَا تَذْهَلُ عَنْهُ وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يُوسُفَ: 8] ثُمَّ قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ قَالُوا كَلِمَةً غَلِيظَةً وَلَمْ يَكُنْ يَجُوزُ أَنْ يَقُولُوهَا لِنَبِيِّ اللَّه، وَقَالَ الْحَسَنُ إِنَّمَا خَاطَبُوهُ بِذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ يُوسُفَ قَدْ مَاتَ وَقَدْ كَانَ يَعْقُوبُ فِي وَلُوعِهِ بِذِكْرِهِ، ذَاهِبًا عَنِ الرُّشْدِ وَالصَّوَابِ وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ فِي «أَنْ» قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الإعراب وقد تذكر تارة كما هاهنا، وَقَدْ تُحْذَفُ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ [هُودٍ: 74] وَالْمَذْهَبَانِ جَمِيعًا مَوْجُودَانِ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ. وَالثَّانِي: قَالَ الْبَصْرِيُّونَ هِيَ مَعَ «مَا» فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالْفِعْلِ الْمُضْمَرِ تَقْدِيرُهُ: فَلَمَّا ظَهَرَ أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ، أَيْ ظَهَرَ مَجِيءُ الْبَشِيرِ فَأُضْمِرَ الرَّافِعُ قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ الْبَشِيرُ هو يهوذا قَالَ أَنَا ذَهَبْتُ بِالْقَمِيصِ الْمُلَطَّخِ بِالدَّمِ وَقُلْتُ إِنَّ يُوسُفَ أَكَلَهُ/ الذِّئْبُ فَأَذْهَبُ الْيَوْمَ بِالْقَمِيصِ فَأُفْرِحُهُ كَمَا أَحْزَنْتُهُ قَوْلُهُ: أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ أَيْ طَرَحَ الْبَشِيرُ الْقَمِيصَ عَلَى وَجْهِ يَعْقُوبَ أَوْ يُقَالُ أَلْقَاهُ يَعْقُوبُ عَلَى وَجْهِ نَفْسِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً أَيْ رَجَعَ بَصِيرًا وَمَعْنَى الِارْتِدَادِ انْقِلَابُ الشَّيْءِ إِلَى حَالَةٍ قَدْ كَانَ عَلَيْهَا وَقَوْلُهُ: فَارْتَدَّ بَصِيراً أَيْ صَيَّرَهُ اللَّه بَصِيرًا كَمَا يُقَالُ طَالَتِ النَّخْلَةُ واللَّه تَعَالَى أَطَالَهَا وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ كَانَ قَدْ عَمِيَ بِالْكُلِّيَّةِ فاللَّه تَعَالَى جَعَلَهُ بَصِيرًا فِي هَذَا الْوَقْتِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ قَدْ ضَعُفَ بَصَرُهُ مِنْ كَثْرَةِ الْبُكَاءِ وَكَثْرَةِ الْأَحْزَانِ، فَلَمَّا أَلْقَوُا الْقَمِيصَ عَلَى وَجْهِهِ، وَبُشِّرَ بِحَيَاةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَظُمَ فَرَحُهُ وَانْشَرَحَ صَدْرُهُ وَزَالَتْ أَحْزَانُهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَوِيَ بَصَرُهُ وَزَالَ النُّقْصَانُ عَنْهُ، فَعِنْدَ هَذَا قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَالْمُرَادُ عِلْمُهُ بِحَيَاةِ يُوسُفَ مِنْ جِهَةِ الرُّؤْيَا، لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تقدم من قوله: َّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [يُوسُفَ: 86] رُوِيَ أَنَّهُ سَأَلَ الْبَشِيرَ وَقَالَ: كَيْفَ يُوسُفُ قَالَ هُوَ مَلِكُ مِصْرَ، قَالَ: مَا أَصْنَعُ بِالْمُلْكِ عَلَى أَيِّ دِينٍ تَرَكْتَهُ قَالَ: عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ قَالَ: الْآنَ تَمَّتِ النِّعْمَةُ، ثُمَّ إِنَّ أَوْلَادَ يَعْقُوبَ أخذوا يعتذرون إليه وقالُوا يَا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَغْفِرْ لَهُمْ فِي الْحَالِ، بَلْ وَعَدَهُمْ بِأَنَّهُ يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: وَالْأَكْثَرُونَ

[سورة يوسف (12) : الآيات 99 إلى 100]

أَرَادَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فِي وَقْتِ السَّحَرِ، لِأَنَّ هَذَا الْوَقْتَ أَوْفَقُ الْأَوْقَاتِ لِرَجَاءِ الْإِجَابَةِ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَخَّرَ الِاسْتِغْفَارَ إِلَى لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ، لِأَنَّهَا أَوْفَقُ الْأَوْقَاتِ لِلْإِجَابَةِ. الثَّالِثُ: أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُمْ هَلْ تَابُوا فِي الْحَقِيقَةِ أَمْ لَا، وَهَلْ حَصَلَتْ تَوْبَتُهُمْ مَقْرُونَةً بِالْإِخْلَاصِ التَّامِّ أَمْ لَا. الرَّابِعُ: اسْتَغْفَرَ لَهُمْ فِي الْحَالِ، وَقَوْلُهُ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ مَعْنَاهُ أَنِّي أُدَاوِمُ عَلَى هَذَا الِاسْتِغْفَارِ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ فِي كُلِّ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ فِي نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فِي وَقْتٍ فَلَمَّا فَرَغَ رَفَعَ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جَزَعِي عَلَى يُوسُفَ وَقِلَّةَ صَبْرِي عَلَيْهِ، وَاغْفِرْ لِأَوْلَادِي مَا فَعَلُوهُ فِي حَقِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ» فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ: قَدْ غَفَرْتُ لَكَ وَلَهُمْ أَجْمَعِينَ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبْنَاءَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالُوا لِيَعْقُوبَ وَقَدْ غَلَبَهُمُ الْخَوْفُ وَالْبُكَاءُ: مَا يُغْنِي عَنَّا إِنْ لَمْ يُغْفَرْ لَنَا، فَاسْتَقْبَلَ الشَّيْخُ الْقِبْلَةَ قَائِمًا يَدْعُو، وَقَامَ يُوسُفُ خَلْفَهُ يُؤَمِّنُ وَقَامُوا خَلْفَهُمَا أَذِلَّةً خَاشِعِينَ عِشْرِينَ سَنَةً حَتَّى قَلَّ صَبْرُهُمْ فَظَنُّوا أَنَّهَا الْهَلَكَةُ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: «إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَجَابَ دَعْوَتَكَ فِي وَلَدِكَ وَعَقَدَ مَوَاثِيقَهُمْ بَعْدَكَ عَلَى النُّبُوَّةِ» وَقَدِ اختلف الناس في نبوتهم وهو مشهور. [سورة يوسف (12) : الآيات 99 الى 100] فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) اعْلَمْ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَّهَ إِلَى أَبِيهِ جَهَازًا، وَمِائَتَيْ رَاحِلَةٍ لِيَتَجَهَّزَ إِلَيْهِ بِمَنْ مَعَهُ وَخَرَجَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمَلِكُ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ مِنَ الْجُنْدِ وَالْعُظَمَاءِ وَأَهْلِ مِصْرَ بِأَجْمَعِهِمْ تَلَقَّوْا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ يَمْشِي يَتَوَكَّأُ عَلَى يَهُودَا فَنَظَرَ إِلَى الْخَيْلِ والناس فقال يا يهوذا هَذَا فِرْعَوْنُ مِصْرَ. قَالَ: لَا هَذَا وَلَدُكَ يُوسُفُ فَذَهَبَ يُوسُفُ يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ فَمُنِعَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَقِيلَ إِنَّ يَعْقُوبَ وَوَلَدَهُ دَخَلُوا مِصْرَ وَهُمُ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ مَا بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَخَرَجُوا مِنْهَا مَعَ مُوسَى وَالْمُقَاتِلُونَ مِنْهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ وَخَمْسُمِائَةٍ وَبِضْعٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا سِوَى الصِّبْيَانِ وَالشُّيُوخِ. أَمَّا قَوْلُهُ: آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ أَبَوَيْهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَبُوهُ وَأُمُّهُ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقِيلَ إِنَّ أُمَّهُ كَانَتْ بَاقِيَةً حَيَّةً إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقِيلَ إِنَّهَا كَانَتْ قَدْ مَاتَتْ، إِلَّا أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَحْيَاهَا وَأَنْشَرَهَا مِنْ قَبْرِهَا حَتَّى سَجَدَتْ لَهُ تَحْقِيقًا لِرُؤْيَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَبُوهُ وَخَالَتُهُ، لِأَنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ فِي النِّفَاسِ بِأَخِيهِ بِنْيَامِينَ، وَقِيلَ: بِنْيَامِينُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ ابْنُ الْوَجَعِ، وَلَمَّا مَاتَتْ أُمُّهُ تَزَوَّجَ أَبُوهُ بِخَالَتِهِ فَسَمَّاهَا اللَّه تعالى بأحد الأبوين، لأن/ الراية تُدْعَى، أُمًّا لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْأُمِّ أَوْ لِأَنَّ الْخَالَةَ أَمٌّ كَمَا أَنَّ الْعَمَّ أَبٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [الْبَقَرَةِ: 133] . الْبَحْثُ الثَّانِي: آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ضَمَّهُمَا إليه واعتنقهما.

فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى دُخُولِهِمْ عَلَيْهِ قَبْلَ دخولهم مصر؟ قلنا: كأنه حين استقيلهم نَزَلَ بِهِمْ فِي بَيْتٍ هُنَاكَ أَوْ خَيْمَةٍ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَضَمَّ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ لَهُمْ: ادْخُلُوا مِصْرَ. أَمَّا قَوْلُهُ: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ السُّدِّيُّ إِنَّهُ قَالَ: هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَ دُخُولِهِمْ مِصْرَ لِأَنَّهُ كَانَ قَدِ اسْتَقْبَلَهُمْ وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ادْخُلُوا مِصْرَ أَيْ أَقِيمُوا بِهَا آمِنِينَ، سَمَّى الْإِقَامَةَ دُخُولًا لِاقْتِرَانِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: الِاسْتِثْنَاءُ وَهُوَ قَوْلُ: إِنْ شاءَ اللَّهُ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْأَمْنِ لَا إِلَى الدُّخُولِ، وَالْمَعْنَى: ادْخُلُوا مِصْرَ آمِنِينَ إِنْ شَاءَ اللَّه، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الْفَتْحِ: 27] وَقِيلَ إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الدُّخُولِ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إِنَّهُ قَالَ لَهُمْ هَذَا الْكَلَامَ قَبْلَ أَنْ دَخَلُوا مِصْرَ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: آمِنِينَ يَعْنِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَأَهْلِيكُمْ لَا تَخَافُونَ أَحَدًا، وَكَانُوا فِيمَا سَلَفَ يَخَافُونَ مُلُوكَ مِصْرَ وَقِيلَ آمِنِينَ مِنَ الْقَحْطِ وَالشِّدَّةِ وَالْفَاقَةِ، وَقِيلَ آمِنِينَ مِنْ أَنْ يَضُرَّهُمْ يُوسُفُ بِالْجُرْمِ السَّالِفِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْعَرْشُ السَّرِيرُ الرَّفِيعُ قَالَ تَعَالَى: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل: 23] والمراد بالعرش هاهنا السَّرِيرُ الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ يُوسُفُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً فَفِيهِ إِشْكَالٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَبَا يُوسُفَ وَحَقُّ الْأُبُوَّةِ عَظِيمٌ قَالَ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْإِسْرَاءِ: 23] فَقَرَنَ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ بِحَقِّ نَفْسِهِ، وَأَيْضًا أَنَّهُ كَانَ شَيْخًا، وَالشَّابُّ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْظِيمُ الشَّيْخِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَيُوسُفُ وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا إِلَّا أَنَّ يَعْقُوبَ كَانَ أَعْلَى حَالًا مِنْهُ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ جِدَّ يَعْقُوبَ وَاجْتِهَادَهُ فِي تَكْثِيرِ الطَّاعَاتِ أَكْثَرُ مِنْ جِدِّ يُوسُفَ وَلَمَّا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْجِهَاتُ الكثيرة فهذا يُوجِبُ أَنْ يُبَالِغَ يُوسُفُ فِي خِدْمَةِ يَعْقُوبَ فَكَيْفَ اسْتَجَازَ يُوسُفُ أَنْ يَسْجُدَ لَهُ يَعْقُوبُ هَذَا تَقْرِيرُ السُّؤَالِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ خَرُّوا لَهُ أَيْ لِأَجْلِ وِجْدَانِهِ سَجَدَا للَّه تَعَالَى، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ: أَنَّ ذَلِكَ السُّجُودَ كَانَ سُجُودًا لِلشُّكْرِ فَالْمَسْجُودُ لَهُ هُوَ اللَّه، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ السُّجُودَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ صَعِدُوا ذَلِكَ السَّرِيرَ، ثُمَّ سَجَدُوا لَهُ، وَلَوْ أَنَّهُمْ سَجَدُوا لِيُوسُفَ لَسَجَدُوا لَهُ قَبْلَ الصُّعُودِ عَلَى السَّرِيرِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْخَلُ فِي التَّوَاضُعِ. فَإِنْ قَالُوا: فَهَذَا التَّأْوِيلُ لَا يُطَابِقُ قوله: يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: 4] .

قُلْنَا: بَلْ هَذَا مُطَابِقٌ وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ لِأَجْلِي أَيْ أَنَّهَا سَجَدَتْ للَّه لِطَلَبِ مَصْلَحَتِي وَلِلسَّعْيِ فِي إِعْلَاءِ مَنْصِبِي، وَإِذَا كَانَ هَذَا مُحْتَمَلًا سَقَطَ السُّؤَالُ. وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ مُتَعَيَّنٌ، لِأَنَّهُ لَا يُسْتَبْعَدُ مِنْ عَقْلِ يُوسُفَ وَدِينِهِ أَنْ يَرْضَى بِأَنْ يَسْجُدَ لَهُ أَبُوهُ مَعَ سَابِقَتِهِ فِي حُقُوقِ الْوِلَادَةِ وَالشَّيْخُوخَةِ وَالْعِلْمِ وَالدِّينِ وَكَمَالِ النُّبُوَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ جَعَلُوا يُوسُفَ كَالْقِبْلَةِ وَسَجَدُوا للَّه شُكْرًا لِنِعْمَةِ وِجْدَانِهِ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ حَسَنٌ فَإِنَّهُ يُقَالُ: صَلَّيْتُ لِلْكَعْبَةِ كَمَا يُقَالُ: صَلَّيْتُ إِلَى الْكَعْبَةِ. قَالَ حَسَّانُ شِعْرًا: مَا كُنْتُ أَعْرِفُ أَنَّ الْأَمْرَ مُنْصَرِفٌ ... عَنْ هَاشِمٍ ثُمَّ مِنْهَا عَنْ أَبِي حَسَنِ أَلَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لِقِبْلَتِكُمْ ... وَأَعْرَفَ النَّاسِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ صَلَّى لِلْقِبْلَةِ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ سَجَدَ لِلْقِبْلَةِ وَقَوْلُهُ: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً أَيْ جَعَلُوهُ كَالْقِبْلَةِ ثُمَّ سَجَدُوا للَّه شُكْرًا لِنِعْمَةِ وِجْدَانِهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ قَدْ يُسَمَّى التَّوَاضُعُ سُجُودًا كَقَوْلِهِ: تَرَىَ الْأُكْمَ فِيهَا سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ وَكَانَ المراد هاهنا التَّوَاضُعَ إِلَّا أَنَّ هَذَا مُشْكِلٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَالْخُرُورُ إِلَى السَّجْدَةِ مُشْعِرٌ بِالْإِتْيَانِ بِالسَّجْدَةِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْخُرُورَ قَدْ يُعْنَى بِهِ الْمُرُورُ فَقَطْ قَالَ تَعَالَى: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً [الْفُرْقَانِ: 73] يَعْنِي لَمْ يَمُرُّوا. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي الْجَوَابِ أَنْ نَقُولَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَخَرُّوا لَهُ غَيْرُ عَائِدٍ إِلَى الْأَبَوَيْنِ لَا مَحَالَةَ، وَإِلَّا لَقَالَ: وَخَرُّوا لَهُ سَاجِدِينَ، بَلِ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى إِخْوَتِهِ، وَإِلَى سَائِرِ مَنْ كَانَ يَدْخُلُ/ عَلَيْهِ لِأَجْلِ التَّهْنِئَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ مُبَالَغَةً فِي تَعْظِيمِهِمَا، وَأَمَّا الْإِخْوَةُ وَسَائِرُ الدَّاخِلِينَ فَخَرُّوا لَهُ سَاجِدِينَ. فَإِنْ قالوا: فهذا لا يلائم قوله: يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ. قُلْنَا: إِنَّ تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلرُّؤْيَا بِحَسَبِ الصُّورَةِ وَالصِّفَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ فَسُجُودُ الْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، تَعْبِيرٌ عَنْ تَعْظِيمِ الْأَكَابِرِ مِنَ النَّاسِ لَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَهَابَ يَعْقُوبَ مَعَ أَوْلَادِهِ مِنْ كَنْعَانَ إِلَى مِصْرَ لِأَجْلِهِ فِي نِهَايَةِ التَّعْظِيمِ لَهُ، فَكَفَى هَذَا الْقَدْرُ فِي صِحَّةِ الرُّؤْيَا فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ مُسَاوِيًا لِأَصْلِ الرُّؤْيَا فِي الصِّفَةِ وَالصُّورَةِ فَلَمْ يُوجِبْهُ أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: فِي الْجَوَابِ لَعَلَّ الْفِعْلَ الدَّالَّ عَلَى التَّحِيَّةِ وَالْإِكْرَامِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ هُوَ السُّجُودُ، وَكَانَ مَقْصُودُهُمْ مِنَ السُّجُودِ تَعْظِيمَهُ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّعْظِيمِ كَانَتْ أَلْيَقَ بِيُوسُفَ مِنْهَا بِيَعْقُوبَ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُمْ، لَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ يَسْجُدَ يُوسُفُ لِيَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: فِيهِ أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّ إِخْوَتَهُ حَمَلَتْهُمُ الْأَنَفَةُ وَالِاسْتِعْلَاءُ عَلَى أَنْ لَا يَسْجُدُوا لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ، وَعَلِمَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِثَوَرَانِ الْفِتَنِ وَلِظُهُورِ الْأَحْقَادِ الْقَدِيمَةِ بَعْدَ كُمُونِهَا فَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ وَعِظَمِ حَقِّهِ بِسَبَبِ الْأُبُوَّةِ وَالشَّيْخُوخَةِ وَالتَّقَدُّمِ فِي الدِّينِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْعِلْمِ فَعَلَ ذَلِكَ السُّجُودَ، حَتَّى تَصِيرَ مُشَاهَدَتُهُمْ لِذَلِكَ سَبَبًا لِزَوَالِ الْأَنَفَةِ وَالنَّفْرَةِ عَنْ قُلُوبِهِمْ أَلَا تَرَى أَنَّ

السُّلْطَانَ الْكَبِيرَ إِذَا نَصَّبَ مُحْتَسِبًا فَإِذَا أَرَادَ تَرْتِيبَهُ مَكَّنَهُ فِي إِقَامَةِ الْحِسْبَةِ عَلَيْهِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي أَنْ لَا يَبْقَى فِي قَلْبِ أَحَدٍ مُنَازَعَةُ ذَلِكَ الْمُحْتَسِبِ فِي إِقَامَةِ الحسبة فكذا هاهنا. الْوَجْهُ السَّابِعُ: لَعَلَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ يَعْقُوبَ بِتِلْكَ السَّجْدَةِ لِحِكْمَةٍ خَفِيَّةٍ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا هُوَ كَمَا أَنَّهُ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ لِحِكْمَةٍ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا هُوَ، وَيُوسُفُ مَا كَانَ رَاضِيًا بِذَلِكَ فِي قَلْبِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللَّه أَمَرَهُ بِذَلِكَ سَكَتَ. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى أَنَّ يُوسُفَ لَمَّا رَأَى هذه الحالة: قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: إِنَّهُ لَمَّا رَأَى سُجُودَ أَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ هَالَهُ ذَلِكَ وَاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنْهُ، وَقَالَ لِيَعْقُوبَ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ، وَأَقُولُ: هَذَا يُقَوِّي الْجَوَابَ السَّابِعَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا أَبَتِ لَا يَلِيقُ بِمِثْلِكَ عَلَى جَلَالَتِكَ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالنُّبُوَّةِ أَنْ تَسْجُدَ لِوَلَدِكَ إِلَّا أَنَّ هَذَا/ أَمْرٌ أُمِرْتَ بِهِ وَتَكْلِيفٌ كُلِّفْتَ بِهِ، فَإِنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ كَمَا أَنَّ رُؤْيَا إِبْرَاهِيمَ ذَبْحَ وَلَدِهِ صَارَ سَبَبًا لِوُجُوبِ ذَلِكَ الذَّبْحِ عَلَيْهِ فِي الْيَقَظَةِ فَكَذَلِكَ صَارَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا يُوسُفُ وَحَكَاهَا لِيَعْقُوبَ سَبَبًا لِوُجُوبِ ذَلِكَ السُّجُودِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ حَكَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَأَى ذَلِكَ هَالَهُ وَاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا، وَأَقُولُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ تَشْدِيدِ اللَّه تَعَالَى عَلَى يَعْقُوبَ كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ كُنْتَ دَائِمَ الرَّغْبَةِ فِي وِصَالِهِ وَدَائِمَ الْحُزْنِ بِسَبَبِ فِرَاقِهِ، فَإِذَا وَجَدْتَهُ فَاسْجُدْ لَهُ، فكان الأمر بذلك السجود من تمام الشديد. واللَّه أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الْمُدَّةِ بَيْنَ هَذَا الْوَقْتِ وَبَيْنَ الرُّؤْيَا فَقِيلَ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: سَبْعُونَ، وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ إِنَّ تَأْوِيلَ الرُّؤْيَا إِنَّمَا صَحَّتْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ أُلْقِيَ فِي الْجُبِّ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَبَقِيَ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَالسُّجُونِ ثَمَانِينَ سَنَةً، ثُمَّ وَصَلَ إِلَى أَبِيهِ وَأَقَارِبِهِ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً فَكَانَ عُمُرُهُ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً واللَّه أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي أَيْ إِلَيَّ يُقَالُ: أحسن بي وإليه. قَالَ كُثَيِّرٌ: أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةٌ ... لدينا ولا مقلية إن ثقلت إذا أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ إِخْرَاجَهُ مِنَ الْبِئْرِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَالَ لِإِخْوَتِهِ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَوْ ذَكَرَ وَاقِعَةَ الْبِئْرِ لَكَانَ ذَلِكَ تَثْرِيبًا لَهُمْ فَكَانَ إِهْمَالُهُ جَارِيًا مَجْرَى الْكَرَمِ، الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْبِئْرِ لَمْ يَصِرْ مَلِكًا بَلْ صَيَّرُوهُ عَبْدًا، أَمَّا لَمَّا خَرَجَ مِنَ السِّجْنِ صَيَّرُوهُ مَلِكًا فَكَانَ هَذَا الْإِخْرَاجُ أَقْرَبَ مِنْ أَنْ يَكُونَ إِنْعَامًا كَامِلًا، الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا أُخْرِجَ مِنَ الْبِئْرِ وَقَعَ فِي الْمَضَارِّ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ تُهْمَةِ الْمَرْأَةِ فَلَمَّا أُخْرِجَ مِنَ السِّجْنِ وَصَلَ إِلَى أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ وَزَالَتِ التُّهْمَةُ فَكَانَ هَذَا أَقْرَبَ إِلَى الْمَنْفَعَةِ، الرَّابِعُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: النِّعْمَةُ فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ السِّجْنِ أَعْظَمُ لِأَنَّ دُخُولَهُ فِي السِّجْنِ كَانَ بِسَبَبِ ذَنْبٍ هَمَّ بِهِ، وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَيْلِ الطَّبْعِ وَرَغْبَةِ النَّفْسِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي مَحَلِّ الْعَفْوِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ إِلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ سَبَبًا لِلْمُؤَاخَذَةِ فِي حَقِّهِ لِأَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سيئات المقربين.

ثُمَّ قَالَ: وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: جَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ أَيْ مِنَ البادية، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْبَدْوُ بَسِيطٌ مِنَ الْأَرْضِ يَظْهَرُ فِيهِ الشَّخْصُ مِنْ بَعِيدٍ وَأَصْلُهُ مِنْ بَدَا يَبْدُو بُدُوًّا، ثُمَّ سُمِّيَ الْمَكَانُ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ فَيُقَالُ: بَدْوٌ/ وَحَضَرٌ وَكَانَ يَعْقُوبُ وَوَلَدُهُ بِأَرْضِ كَنْعَانَ أَهْلَ مَوَاشٍ وَبَرِّيَّةٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا كَانَ يَعْقُوبُ قَدْ تَحَوَّلَ إِلَى بَدَا وَسَكَنَهَا، وَمِنْهَا قَدِمَ عَلَى يُوسُفَ وَلَهُ بِهَا مَسْجِدٌ تَحْتَ جَبَلِهَا قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: بَدَا اسْمُ مَوْضِعٍ مَعْرُوفٍ يقال هو بين شعب وَبَدَا وَهُمَا مَوْضِعَانِ ذَكَرَهُمَا جَمِيعًا كُثَيِّرٌ فَقَالَ: وأنت التي حببت شعبا إِلَى بَدَا ... إِلَيَّ وَأَوْطَانِي بِلَادٌ سِوَاهُمَا فَالْبَدْوُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَعْنَاهُ قَصْدُ هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بَدَا يُقَالُ بَدَا الْقَوْمُ يَبْدُونَ بَدْوًا إِذَا أَتَوْا بَدَا كَمَا يُقَالُ: غَارَ الْقَوْمُ غَوْرًا إِذَا أَتَوُا الْغَوْرَ فَكَانَ مَعْنَى الْآيَةِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ قَصْدِ بَدَا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَانَ يَعْقُوبُ وَوَلَدُهُ حَضَرِيِّينَ لِأَنَّ الْبَدْوَ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْبَادِيَةَ لَكِنْ عنى به قصد بدا إلى هاهنا كَلَامٌ قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقُ اللَّه تَعَالَى، لِأَنَّ خُرُوجَ الْعَبْدِ مِنَ السِّجْنِ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ومجيئهم من البدو وأضافه إِلَى نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ فِعْلُ اللَّه تَعَالَى وَحُمِلَ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا حَصَلَ بِإِقْدَارِ اللَّه تَعَالَى وَتَيْسِيرِهِ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ. ثُمَّ قَالَ: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : نَزَغَ أَفْسَدَ بَيْنَنَا وَأَغْوَى وَأَصْلُهُ مِنْ نَزَغَ الرَّاكِضُ الدَّابَّةَ وَحَمَلَهَا عَلَى الْجَرْيِ: يُقَالُ: نَزَغَهُ وَنَسَغَهُ إِذَا نَخَسَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجُبَّائِيَّ وَالْكَعْبِيَّ وَالْقَاضِيَ: احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى بُطْلَانِ الْجَبْرِ قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَضَافَ الْإِحْسَانَ إِلَى اللَّه وَأَضَافَ النَّزْغَ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مِنَ الرَّحْمَنِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُنْسَبَ إِلَّا إِلَيْهِ كَمَا فِي النِّعَمِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ إِضَافَتَهُ هَذَا الْفِعْلَ إِلَى الشَّيْطَانِ مَجَازٌ، لِأَنَّ عِنْدَكُمُ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْكَلَامِ الْخَفِيِّ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إِبْرَاهِيمَ: 22] فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي إِضَافَةَ هَذَا الْفِعْلِ إِلَى الشَّيْطَانِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ إِقْدَامُ الْمَرْءِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِسَبَبِ الشَّيْطَانِ فَإِقْدَامُ الشَّيْطَانِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ إِنْ كَانَ بِسَبَبِ شَيْطَانٍ آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِسَبَبِ شَيْطَانٍ آخَرَ فَلْيُقَلْ مِثْلُهُ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ، فَثَبَتَ أَنَّ إِقْدَامَ الْمَرْءِ عَلَى الْجَهْلِ وَالْفِسْقِ لَيْسَ بِسَبَبِ الشَّيْطَانِ وَلَيْسَ أَيْضًا بِسَبَبِ نَفْسِهِ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَمِيلُ طَبْعُهُ إِلَى اخْتِيَارِ الْجَهْلِ وَالْفِسْقِ الَّذِي يُوجِبُ وُقُوعَهُ فِي ذَمِّ الدُّنْيَا وَعِقَابِ الْآخِرَةِ، وَلَمَّا كَانَ وُقُوعُهُ فِي الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوقِعٍ، وَقَدْ بَطَلَ الْقِسْمَانِ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ مِنَ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ الَّذِي/ يُؤَكِّدُ ذَلِكَ إِنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّه تعالى.

[سورة يوسف (12) : آية 101]

ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ وَالْمَعْنَى أَنَّ حُصُولَ الِاجْتِمَاعِ بَيْنَ يُوسُفَ وَبَيْنَ أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ مَعَ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَطِيبِ الْعَيْشِ وَفَرَاغِ الْبَالِ كَانَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ الْعُقُولِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَطِيفٌ فَإِذَا أَرَادَ حُصُولَ شَيْءٍ سَهَّلَ أَسْبَابَهُ فَحَصَلَ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ الْحُصُولِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ أَعْنِي أَنَّ كَوْنَهُ لَطِيفًا فِي أَفْعَالِهِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِجَمِيعِ الِاعْتِبَارَاتِ الْمُمْكِنَةِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا فَيَكُونُ عَالِمًا بِالْوَجْهِ الَّذِي يُسَهِّلُ تَحْصِيلَ ذَلِكَ الصَّعْبِ وَحَكِيمٌ أَيْ مُحْكِمٌ فِي فِعْلِهِ، حَاكِمٌ فِي قَضَائِهِ، حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ مُبَرَّأٌ عن العبث والباطل واللَّه أعلم. [سورة يوسف (12) : آية 101] رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) [في قَوْلُهُ تَعَالَى رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَذَ بِيَدِ يَعْقُوبَ وَطَافَ بِهِ فِي خَزَائِنِهِ فَأَدْخَلَهُ خَزَائِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَخَزَائِنَ الْحُلِيِّ وَخَزَائِنَ الثِّيَابِ وَخَزَائِنَ السِّلَاحِ، فَلَمَّا أَدْخَلَهُ مَخَازِنَ الْقَرَاطِيسِ قَالَ يَا بُنَيَّ مَا أَغْفَلَكَ، عِنْدَكَ هَذِهِ الْقَرَاطِيسُ وَمَا كَتَبْتَ إِلَيَّ عَلَى ثَمَانِ مَرَاحِلَ قَالَ: نَهَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهُ قَالَ سَلْهُ عَنِ السَّبَبِ قَالَ: أَنْتَ أَبْسَطُ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَمَرَنِي اللَّه بِذَلِكَ لِقَوْلِكَ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ فَهَلَّا خِفْتَنِي وَرُوِيَ أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقَامَ مَعَهُ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَلَمَّا قَرُبَتْ وَفَاتُهُ أَوْصَى إِلَيْهِ أَنْ يَدْفِنَهُ بِالشَّامِ إِلَى جَنْبِ أَبِيهِ إِسْحَاقَ فَمَضَى بِنَفْسِهِ وَدَفَنَهُ ثُمَّ عَادَ إِلَى مِصْرَ وَعَاشَ بَعْدَ أَبِيهِ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَمَنَّى مُلْكَ الْآخِرَةِ فَتَمَنَّى الْمَوْتَ. وَقِيلَ: مَا تَمَنَّاهُ نَبِيٌّ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ فَتَوَفَّاهُ اللَّه طَيِّبًا طَاهِرًا، فَتَخَاصَمَ أَهْلُ مِصْرَ فِي دَفْنِهِ كُلُّ أحد يحب أن يدفه في محلتهم حتى هموا بالقتال قرءوا أَنَّ الْأَصْلَحَ أَنْ يَعْمَلُوا لَهُ صُنْدُوقًا مِنْ مَرْمَرٍ وَيَجْعَلُوهُ فِيهِ وَيَدْفِنُوهُ فِي النِّيلِ بِمَكَانٍ يَمُرُّ الْمَاءُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَصِلُ إِلَى مِصْرَ لِتَصِلَ بَرَكَتُهُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَوُلِدَ لَهُ إِفْرَائِيمُ وَمِيشَا، وَوُلِدَ لِإِفْرَائِيمَ نُونٌ وَلِنُونٍ يُوشَعُ فَتَى مُوسَى، ثُمَّ دُفِنَ يُوسُفُ هُنَاكَ إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّه مُوسَى/ فَأَخْرَجَ عِظَامَهُ مِنْ مِصْرَ وَدَفَنَهَا عِنْدَ قَبْرِ أَبِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: من في قوله: مِنَ الْمُلْكِ، ومِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ إِلَّا بَعْضُ مُلْكِ الدُّنْيَا أَوْ بَعْضُ مُلْكِ مِصْرَ وَبَعْضُ التَّأْوِيلِ. قَالَ الْأَصَمُّ: إِنَّمَا قَالَ مِنَ الْمُلْكِ، لِأَنَّهُ كَانَ ذُو مُلْكٍ فَوْقَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَرَاتِبَ الْمَوْجُودَاتِ ثَلَاثَةٌ: الْمُؤَثِّرُ الَّذِي لَا يَتَأَثَّرُ وَهُوَ الْإِلَهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، وَالْمُتَأَثِّرُ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ وَهُوَ عَالَمُ الْأَجْسَامِ، فَإِنَّهَا قَابِلَةٌ لِلتَّشْكِيلِ وَالتَّصْوِيرِ وَالصِّفَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْأَعْرَاضِ الْمُتَضَادَّةِ فَلَا يَكُونُ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي شَيْءٍ أَصْلًا، وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ مُتَبَاعِدَانِ جِدًّا وَيَتَوَسَّطُهُمَا قِسْمٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ الَّذِي يُؤَثِّرُ وَيَتَأَثَّرُ، وَهُوَ عَالَمُ الْأَرْوَاحِ، فَخَاصِّيَّةُ جَوْهَرِ الْأَرْوَاحِ أَنَّهَا تَقْبَلُ الْأَثَرَ وَالتَّصَرُّفَ عَنْ عَالَمِ نُورِ جَلَالِ اللَّه، ثُمَّ إِنَّهَا إِذَا أَقْبَلَتْ عَلَى عَالَمِ الْأَجْسَامِ تَصَرَّفَتْ فِيهِ وَأَثَّرَتْ فِيهِ، فَتَعَلَّقَ الرُّوحُ بِعَالَمِ الْأَجْسَامِ بِالتَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ فِيهِ، وَتَعَلُّقُهُ بِعَالَمِ الْإِلَهِيَّاتِ بِالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعَلُّقِ النَّفْسِ بِعَالَمِ الْأَجْسَامِ وَقَوْلُهُ: وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعَلُّقِهَا بِحَضْرَةِ جَلَالِ اللَّه، وَلَمَّا كَانَ لَا نِهَايَةَ لِدَرَجَاتِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فِي الْكَمَالِ وَالنُّقْصَانِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَالْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ، امْتُنِعَ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُمَا لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مِقْدَارٌ مُتَنَاهٍ، فَكَانَ

الْحَاصِلُ فِي الْحَقِيقَةِ بَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِ الْمُلْكِ، وَبَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِ الْعِلْمِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ فِيهِ كَلِمَةَ «مِنْ» لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى التَّبْعِيضِ، ثُمَّ قَالَ: فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي تَفْسِيرِ لَفْظِ الْفَاطِرِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: مَا كُنْتُ أَدْرِي مَعْنَى الْفَاطِرِ حَتَّى احْتَكَمَ إِلَيَّ أَعْرَابِيَّانِ فِي بِئْرٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا وَأَنَا ابْتَدَأْتُ حَفْرَهَا. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَصْلُ الْفَطْرِ فِي اللُّغَةِ الشَّقُّ يُقَالُ: فَطَرَ ناب البعير إذ بَدَا وَفَطَرْتُ الشَّيْءَ فَانْفَطَرَ، أَيْ شَقَقْتُهُ فَانْشَقَّ، وتفطر الْأَرْضُ بِالنَّبَاتِ وَالشَّجَرُ بِالْوَرَقِ إِذَا تَصَدَّعَتْ، هَذَا أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ، ثُمَّ صَارَ عِبَارَةً عَنِ الْإِيجَادِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ حَالَ عَدَمِهِ كَأَنَّهُ فِي ظُلْمَةٍ وَخَفَاءٍ فَلَمَّا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ صَارَ كَأَنَّهُ انْشَقَّ عَنِ الْعَدَمِ وَخَرَجَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مِنْهُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الْفَاطِرِ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَكْوِينِ الشَّيْءِ عَنِ الْعَدَمِ الْمَحْضِ بِدَلِيلِ الِاشْتِقَاقِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، إِلَّا أَنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [فاطر: 1] ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا خَلَقَهَا مِنَ الدُّخَانِ حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فُصِّلَتْ: 11] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْفَاطِرِ لَا يُفِيدُ أَنَّهُ أَحْدَثَ ذَلِكَ الشَّيْءَ مِنَ الْعَدَمِ الْمَحْضِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الرُّومِ: 30] مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ النَّاسَ مِنَ التُّرَابِ. قَالَ تَعَالَى: / مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى [طه: 55] وَثَالِثُهَا: أَنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يَكُونُ حَاصِلًا عِنْدَ حُصُولِ مَادَّتِهِ وَصُورَتِهِ مِثْلُ الْكُوزِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ مَوْجُودًا إِذَا صَارَتِ الْمَادَّةُ الْمَخْصُوصَةُ مَوْصُوفَةً بِالصِّفَةِ الْمَخْصُوصَةِ، فَعِنْدَ عَدَمِ الصُّورَةِ مَا كَانَ ذَلِكَ الْمَجْمُوعُ مَوْجُودًا، وَبِإِيجَادِ تِلْكَ الصُّورَةِ صَارَ مُوجِدًا لِذَلِكَ الْكُوزِ فَعَلِمْنَا أَنَّ كَوْنَهُ مُوجِدًا لِلْكَوْنِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُوجِدًا لِمَادَّةِ الْكُوزِ، فَثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ الْفَاطِرِ لَا يُفِيدُ كَوْنَهُ تَعَالَى مُوجِدًا لِلْأَجْزَاءِ التي منها تركبت السموات والأرض، وإنما صار إلينا كونه تعالى مُوجِدًا لَهَا بِحَسَبِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ لَا بِحَسَبِ لَفْظِ الْقُرْآنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يوهم أن تخليق السموات مُقَدَّمٌ عَلَى تَخْلِيقِ الْأَرْضِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: الْوَاوُ تُفِيدُ التَّرْتِيبَ، ثُمَّ الْعَقْلُ يُؤَكِّدُهُ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَعَيُّنَ الْمُحِيطِ يُوجِبُ تَعَيُّنَ الْمَرْكَزِ وَتَعَيُّنُهُ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ تَعَيُّنَ الْمُحِيطِ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُحِيطَ بِالْمَرْكَزِ الْوَاحِدِ مُحِيطَاتٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا، أَمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ لِلْمُحِيطِ الْوَاحِدِ إِلَّا مَرْكَزٌ وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ. وَأَيْضًا اللَّفْظُ يُفِيدُ أَنَّ السَّمَاءَ كَثِيرَةٌ وَالْأَرْضَ وَاحِدَةٌ، وَوَجْهُ الْحِكْمَةِ فِيهِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَامِ: 1] . الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: نَصْبُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: رَبِّ وَهُوَ نِدَاءٌ مُضَافٌ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى نِدَاءٍ ثَانٍ. ثُمَّ قَالَ: أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَالْمَعْنَى: أَنْتَ الَّذِي تَتَوَلَّى إِصْلَاحَ جَمِيعِ مُهِمَّاتِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَوَصَلَ الْمُلْكَ الْفَانِيَ بِالْمُلْكِ الْبَاقِي، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ كَلِمَةٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْعَبْدِ لَكَانَ الْمُتَوَلِّي لِمَصَالِحِهِ هُوَ هُوَ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ عموم قوله: أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَكَى عَنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» فَلِهَذَا الْمَعْنَى مَنْ أَرَادَ الدُّعَاءَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُقَدِّمَ عَلَيْهِ

ذِكْرَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّه فَهَهُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ الدُّعَاءَ قَدَّمَ عَلَيْهِ الثَّنَاءَ وَهُوَ قَوْلُهُ: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ الدُّعَاءَ وَهُوَ قَوْلُهُ: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَنَظِيرُهُ مَا فَعَلَهُ الْخَلِيلُ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ مِنْ هُنَا إِلَى قَوْلِهِ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً [الشُّعَرَاءِ: 78، 83] ثَنَاءٌ عَلَى اللَّه ثُمَّ قَوْلُهُ: رَبِّ هَبْ لِي إِلَى آخِرِ الْكَلَامِ دُعَاءٌ فكذا هاهنا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ: تَوَفَّنِي مُسْلِماً هل هو طلب منه للوفاة أو لَا؟ فَقَالَ قَتَادَةُ: سَأَلَ رَبَّهُ اللُّحُوقَ بِهِ وَلَمْ يَتَمَنَّ نَبِيٌّ قَطُّ الْمَوْتَ قَبْلَهُ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ «1» رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ يُرِيدُ إِذَا تَوَفَّيْتَنِي فَتَوَفَّنِي عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، فَهَذَا طَلَبٌ لِأَنْ يَجْعَلَ اللَّه وَفَاتَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ طَلَبَ الْوَفَاةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لِلْأَمْرَيْنِ وَلَا يَبْعُدُ فِي الرَّجُلِ الْعَاقِلِ إِذَا كَمُلَ عَقْلُهُ أَنْ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ وَيُعَظِّمَ رَغْبَتَهُ فِيهِ لِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: أَنَّ كَمَالَ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْإِلَهِيَّاتِ، وَفِي أَنْ يَكُونَ مَلِكًا وَمَالِكًا مُتَصَرِّفًا فِي الْجِسْمَانِيَّاتِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ مَرَاتِبَ التَّفَاوُتِ فِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَالْكَمَالُ الْمُطْلَقُ فِيهِمَا لَيْسَ إِلَّا للَّه وَكُلُّ مَا دُونَ ذَلِكَ فَهُوَ نَاقِصٌ وَالنَّاقِصُ إِذَا حَصَلَ لَهُ شُعُورٌ بِنُقْصَانِهِ وَذَاقَ لَذَّةَ الْكَمَالِ الْمُطْلَقِ بَقِيَ فِي الْقَلَقِ وَأَلَمِ الطَّلَبِ، وَإِذَا كَانَ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ لَيْسَ إِلَّا للَّه، وَمَا كَانَ حُصُولُهُ لِلْإِنْسَانِ مُمْتَنِعًا لَزِمَ أَنْ يَبْقَى الْإِنْسَانُ أَبَدًا فِي قَلَقِ الطَّلَبِ وَأَلَمِ التَّعَبِ فَإِذَا عَرَفَ الْإِنْسَانُ هَذِهِ الْحَالَةَ عَرَفَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى دَفْعِ هَذَا التَّعَبِ عَنِ النَّفْسِ إِلَّا بِالْمَوْتِ، فَحِينَئِذٍ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ. وَالسَّبَبُ الثَّانِي: لِتَمَنِّي الْمَوْتِ أَنَّ الْخُطَبَاءَ وَالْبُلَغَاءَ وَإِنْ أَطْنَبُوا فِي مَذَمَّةِ الدُّنْيَا إِلَّا أَنَّ حَاصِلَ كَلَامِهِمْ يَرْجِعُ إِلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ السَّعَادَاتِ سَرِيعَةُ الزَّوَالِ مُشْرِفَةٌ عَلَى الْفَنَاءِ وَالْأَلَمُ الْحَاصِلُ عِنْدَ زَوَالِهَا أَشَدُّ مِنَ اللَّذَّةِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَ وِجْدَانِهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّهَا غَيْرُ خَالِصَةٍ بَلْ هِيَ مَمْزُوجَةٌ بِالْمُنَغِّصَاتِ وَالْمُكَدِّرَاتِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأَرَاذِلَ مِنَ الْخَلْقِ يُشَارِكُونَ الْأَفَاضِلَ فِيهَا بَلْ رُبَّمَا كَانَ حِصَّةُ الْأَرَاذِلِ أَعْظَمَ بِكَثِيرٍ مِنْ حِصَّةِ الْأَفَاضِلِ، فَهَذِهِ الْجِهَاتُ الثَّلَاثَةُ مُنَفِّرَةٌ عَنْ هَذِهِ اللَّذَّاتِ، وَلَمَّا عَرَفَ الْعَاقِلُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى تَحْصِيلِ هَذِهِ اللَّذَّاتِ إِلَّا مَعَ هَذِهِ الْجِهَاتِ الثَّلَاثَةِ الْمُنَفِّرَةِ لَا جَرَمَ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ لِيَتَخَلَّصَ عَنْ هَذِهِ الْآفَاتِ. وَالسَّبَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَقْوَى عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ رَحِمَهُمُ اللَّه أَجْمَعِينَ أَنَّ هَذِهِ اللَّذَّاتِ الْجِسْمَانِيَّةَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَإِنَّمَا حَاصِلُهَا دَفْعُ الْآلَامِ، فَلَذَّةُ الْأَكْلِ عِبَارَةٌ عَنْ دَفْعِ أَلَمِ الْجُوعِ، وَلَذَّةُ الْوِقَاعِ عِبَارَةٌ عَنْ دَفْعِ الْأَلَمِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ الدَّغْدَغَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ حُصُولِ الْمَنِيِّ فِي أَوْعِيَةِ الْمَنِيِّ. وَلَذَّةُ الْإِمَارَةِ وَالرِّيَاسَةِ عِبَارَةٌ عَنْ دَفْعِ الْأَلَمِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ شَهْوَةِ الِانْتِقَامِ وَطَلَبِ الرِّيَاسَةِ وَإِذَا كَانَ حَاصِلُ هَذِهِ اللَّذَّاتِ لَيْسَ إِلَّا دَفْعَ الْأَلَمِ لَا جَرَمَ صَارَتْ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ حَقِيرَةً خَسِيسَةً نَازِلَةً نَاقِصَةً وَحِينَئِذٍ يَتَمَنَّى الْإِنْسَانُ الْمَوْتَ لِيَتَخَلَّصَ عَنِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْخَسِيسَةِ. وَالسَّبَبُ الرَّابِعُ: أَنَّ مَدَاخِلَ اللَّذَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ قَلِيلَةٌ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: لَذَّةُ الْأَكْلِ وَلَذَّةُ الْوِقَاعِ/ وَلَذَّةُ الرِّيَاسَةِ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عُيُوبٌ كَثِيرَةٌ. أَمَّا لَذَّةُ الْأَكْلِ فَفِيهَا عُيُوبٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ اللَّذَّاتِ لَيْسَتْ قوية فإن الشعور بألم

_ (1) في المطبوعة «وقال ابن رضي اللَّه عنهما» ونحن أضفنا «عباس» انظر تفسير الطبري 13/ 48 ط. دار المعرفة.

الْقُولَنْجِ الشَّدِيدِ وَالْعِيَاذُ باللَّه مِنْهُ أَشَدُّ مِنَ الشُّعُورِ بِاللَّذَّةِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَ أَكْلِ الطَّعَامِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ اللَّذَّةَ لَا يُمْكِنُ بَقَاؤُهَا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَكَلَ شَبِعَ وَإِذَا شَبِعَ لَمْ يَبْقَ شَوْقُهُ لِلِالْتِذَاذِ بِالْأَكْلِ فَهَذِهِ اللَّذَّةُ ضَعِيفَةٌ، وَمَعَ ضَعْفِهَا غَيْرُ بَاقِيَةٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا خَسِيسَةٌ فَإِنَّ الْأَكْلَ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْطِيبِ ذَلِكَ الطَّعَامِ بِالْبُزَاقِ الْمُجْتَمِعِ فِي الْفَمِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ شَيْءٌ مُنَفِّرٌ مُسْتَقْذَرٌ ثَمَّ لَمَّا يَصِلُ إِلَى الْمَعِدَةِ تَظْهَرُ فِيهِ الِاسْتِحَالَةُ إِلَى الْفَسَادِ وَالنَّتْنِ وَالْعُفُونَةِ، وَذَلِكَ أَيْضًا مُنَفِّرٌ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ جَمِيعَ الْحَيَوَانَاتِ الْخَسِيسَةِ مُشَارِكَةٌ فِيهَا فَإِنَّ الروث في مذاق الجعل كاللوزنيج فِي مَذَاقِ الْإِنْسَانِ وَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكْرَهُ تَنَاوُلَ غِذَاءِ الْجُعْلِ، فَكَذَلِكَ الْجُعْلُ يَكْرَهُ تَنَاوُلَ غِذَاءِ الْإِنْسَانِ، وَأَمَّا اللَّذَّةُ فَمُشْتَرَكَةٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْأَكْلَ إِنَّمَا يَطِيبُ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْجُوعِ وَتِلْكَ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ وَالْحَاجَةُ نَقْصٌ وَافِرٌ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ الْأَكْلَ يُسْتَحْقَرُ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ. قِيلَ: مَنْ كَانَتْ هِمَّتُهُ مَا يَدْخُلُ فِي بَطْنِهِ فَقِيمَتُهُ مَا يَخْرُجُ مِنْ بَطْنِهِ، فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ الْمُخْتَصَرَةُ فِي مَعَايِبِ الْأَكْلِ، وَأَمَّا لَذَّةُ النِّكَاحِ، فَكُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْأَكْلِ حاصل هاهنا مَعَ أَشْيَاءَ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ النِّكَاحَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ، وَحِينَئِذٍ تَكْثُرُ الْأَشْخَاصُ فَتَكْثُرُ الْحَاجَةُ إِلَى الْمَالِ فَيَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ بِسَبَبِهَا إِلَى الِاحْتِيَالِ فِي طَلَبِ الْمَالِ بِطُرُقٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَرُبَّمَا صَارَ هَالِكًا بِسَبَبِ طَلَبِ الْمَالِ، وَأَمَّا لذة الرياسة فعيوبها كثيرة والذي نذكره هاهنا سبب وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَكْرَهُ بِالطَّبْعِ أَنْ يَكُونَ خَادِمًا مَأْمُورًا وَيُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مَخْدُومًا آمِرًا، فَإِذَا سَعَى الْإِنْسَانُ فِي أَنْ يَصِيرَ رَئِيسًا آمِرًا كَانَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى مُخَالَفَةِ كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَكَأَنَّهُ يُنَازِعُ كُلَّ الْخَلْقِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ يُحَاوِلُ تَحْصِيلَ تِلْكَ الرِّيَاسَةِ، وَجَمِيعُ أَهْلِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ يُحَاوِلُونَ إِبْطَالَهُ وَدَفْعَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَسْبَابِ تُوجِبُ قُوَّةَ حُصُولِ الْأَثَرِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حصول هذه الرياسة كالمعتذر وَلَوْ حَصَلَ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَوَانٍ بِكُلِّ سَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ وَكَانَ صَاحِبُهَا عِنْدَ حُصُولِهَا فِي الْخَوْفِ الشَّدِيدِ مِنَ الزَّوَالِ وَعِنْدَ زَوَالِهَا فِي الْأَسَفِ الْعَظِيمِ وَالْحُزْنِ الشَّدِيدِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الزَّوَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَاقِلَ إِذَا تَأَمَّلَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ لَا صَلَاحَ لَهُ فِي طَلَبِ هَذِهِ اللَّذَّاتِ وَالسَّعْيِ فِي هَذِهِ الْخَيْرَاتِ الْبَتَّةَ. ثُمَّ إِنَّ النَّفْسَ خُلِقَتْ مَجْبُولَةً عَلَى طَلَبِهَا، وَالْعِشْقِ الشَّدِيدِ عَلَيْهَا، وَالرَّغْبَةِ التَّامَّةِ فِي الْوُصُولِ إليها وحينئذ ينعقد هاهنا قياف، وهون أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْجِسْمَانِيَّةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ طَالِبًا لِهَذِهِ اللَّذَّاتِ وَمَا دَامَ يَطْلُبُهَا كَانَ فِي عَيْنِ الْآفَاتِ وَفِي لُجَّةِ الْحَسَرَاتِ، وَهَذَا اللَّازِمُ مَكْرُوهٌ فَالْمَلْزُومُ أَيْضًا مَكْرُوهٌ فَحِينَئِذٍ يَتَمَنَّى زَوَالَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْجِسْمَانِيَّةِ وَالسَّبَبُ فِي الْأُمُورِ/ الْمُرَغِّبَةِ فِي الْمَوْتِ أَنَّ مُوجِبَاتِ هَذِهِ اللَّذَّةِ الْجِسْمَانِيَّةِ مُتَكَرِّرَةٌ وَلَا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا وَالتَّكْرِيرُ يُوجِبُ الْمَلَالَةَ أَمَّا سَعَادَاتُ الْآخِرَةِ فَهِيَ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ. قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ وَهُوَ مُصَنِّفُ هَذَا الْكِتَابِ أَنَارَ اللَّه بُرْهَانَهُ. أَنَا صَاحِبُ هَذِهِ الْحَالَةِ وَالْمُتَوَغِّلُ فِيهَا، وَلَوْ فَتَحْتُ الْبَابَ وَبَالَغْتُ فِي عُيُوبِ هَذِهِ اللَّذَّاتِ الْجِسْمَانِيَّةِ فَرُبَّمَا كَتَبْتُ الْمُجَلَّدَاتِ وَمَا وَصَلْتُ إِلَى الْقَلِيلِ مِنْهَا فَلِهَذَا السَّبَبِ صِرْتُ مُوَاظِبًا فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ عَلَى ذِكْرِ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكَ أَصْحَابُنَا فِي بَيَانِ أَنَّ الْإِيمَانَ مِنَ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ تَحْصِيلَ الْإِسْلَامِ وَإِبْقَاءَهُ إِذَا كَانَ مِنَ الْعَبْدِ كَانَ طَلَبُهُ مِنَ اللَّه فَاسِدًا وَتَقْرِيرُهُ كَأَنَّهُ يَقُولُ افْعَلْ يَا مَنْ لَا يَفْعَلُ وَالْمُعْتَزِلَةُ أَبَدًا يُشَنِّعُونَ عَلَيْنَا وَيَقُولُونَ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ مِنَ اللَّه فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلْعَبْدِ افْعَلْ مَعَ أَنَّكَ لَسْتَ

[سورة يوسف (12) : آية 102]

فاعلا، فنحن نقول هاهنا أَيْضًا إِذَا كَانَ تَحْصِيلُ الْإِيمَانِ وَإِبْقَاؤُهُ مِنَ الْعَبْدِ لَا مِنَ اللَّه تَعَالَى، فَكَيْفَ يَطْلُبُ ذَلِكَ مِنَ اللَّه قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَالْكَعْبِيُّ مَعْنَاهُ: اطْلُبِ اللُّطْفَ لِي فِي الْإِقَامَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ إِلَى أَنْ أَمُوتَ عَلَيْهِ. فَهَذَا الْجَوَابُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَحَمْلُهُ عَلَى اللُّطْفِ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ وَأَيْضًا كُلُّ مَا فِي الْمَقْدُورِ مِنَ الْأَلْطَافِ فَقَدْ فَعَلَهُ فَكَانَ طَلَبُهُ مِنَ اللَّه مُحَالًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ لَا مَحَالَةَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَكَانَ هَذَا الدُّعَاءُ حَاصِلُهُ طَلَبُ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَالْجَوَابُ: أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ أَنَّ كَمَالَ حَالِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَسْلِمَ لِحُكْمِ اللَّه تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ يَسْتَقِرُّ قَلْبُهُ عَلَى ذَلِكَ الْإِسْلَامِ وَيَرْضَى بِقَضَاءِ اللَّه وَقَدَرِهِ، وَيَكُونُ مُطْمَئِنَّ النفس منشرح الصدر منفسخ الْقَلْبِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ زَائِدَةٌ عَلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْكُفْرِ، فَالْمَطْلُوبُ هاهنا هُوَ الْإِسْلَامُ بِهَذَا الْمَعْنَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَالصَّلَاحُ أَوَّلُ دَرَجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، فَالْوَاصِلُ إِلَى الْغَايَةِ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَطْلُبَ الْبِدَايَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: يَعْنِي بِآبَائِهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَالْمَعْنَى: أَلْحِقْنِي بِهِمْ فِي ثَوَابِهِمْ ومراتبهم ودرجاتهم، وهاهنا مَقَامٌ آخَرُ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى لِسَانِ أَصْحَابِ الْمُكَاشَفَاتِ، وَهُوَ أَنَّ النُّفُوسَ الْمُفَارِقَةَ إِذَا أَشْرَقَتْ بِالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ وَاللَّوَامِعِ الْقُدْسِيَّةِ، فَإِذَا كَانَتْ مُتَنَاسِبَةً مُتَشَاكِلَةً/ انْعَكَسَ النُّورُ الَّذِي فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا إِلَى الْأُخْرَى بِسَبَبِ تِلْكَ الْمُلَازَمَةِ وَالْمُجَانَسَةِ، فَتَعْظُمُ تِلْكَ الْأَنْوَارُ وَتَقْوَى تِلْكَ الْأَضْوَاءُ، وَمِثَالُ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْمِرْآةُ الصَّقِيلَةُ الصَّافِيَةُ إِذَا وُضِعَتْ وَضْعًا مَتَى أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ عَلَيْهَا انْعَكَسَ الضَّوْءُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا إِلَى الْأُخْرَى، فَهُنَاكَ يَقْوَى الضَّوْءُ وَيَكْمُلُ النُّورُ، وَيَنْتَهِي في الإشراق والبريق اللمعان إِلَى حَدٍّ لَا تُطِيقُهُ الْعُيُونُ وَالْأَبْصَارُ الضَّعِيفَةُ، فكذا هاهنا. [سورة يوسف (12) : آية 102] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ- ونُوحِيهِ إِلَيْكَ خَبَرٌ ثَانٍ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أَيْ مَا كُنْتَ عِنْدَ إِخْوَةِ يُوسُفَ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ أَيْ عَزَمُوا عَلَى أَمْرِهِمْ وَذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا اللَّفْظِ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَمْكُرُونَ أَيْ بِيُوسُفَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ هَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا. بَيَانُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا طَالَعَ الْكُتُبَ وَلَمْ يُتَلْمَذْ لِأَحَدٍ وَمَا كَانَتِ الْبَلْدَةُ بَلْدَةَ الْعُلَمَاءِ فَإِتْيَانُهُ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ الطَّوِيلَةِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَقَعْ فِيهِ تَحْرِيفٌ وَلَا غَلَطٌ مِنْ غَيْرِ مُطَالَعَةٍ وَلَا تَعَلُّمٍ، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَاضِرًا مَعَهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُعْجِزًا وَكَيْفَ يَكُونُ مُعْجِزًا وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا، وَقَوْلُهُ: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أَيْ وَمَا كُنْتَ هُنَاكَ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ مَعَهُمْ. [سورة يوسف (12) : الآيات 103 الى 107] وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)

اعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَجَمَاعَةً مِنَ الْيَهُودِ طَلَبُوا هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ، وَاعْتَقَدَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إِذَا ذَكَرَهَا فَرُبَّمَا آمَنُوا، فَلَمَّا ذَكَرَهَا أَصَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَكَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [الْقَصَصِ: 56] قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: جَوَابُ (لَوْ) مَحْذُوفٌ، لَأَنَّ جَوَابَ (لَوْ) لَا يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَيْهَا فَلَا يَجُوزُ أن يقال. وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي «الْمَصَادِرِ» يُقَالُ: حَرَصَ يَحْرِصُ حِرْصًا، وَلُغَةٌ أُخْرَى شَاذَّةٌ: حَرَصَ يَحْرِصُ حَرِيصًا. وَمَعْنَى الْحِرْصُ: طَلَبُ الشَّيْءِ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ من الاجتهاد. وقوله: وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ مَعْنَاهُ ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أَيْ هُوَ تَذْكِرَةٌ لَهُمْ فِي دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَالْقَصَصِ وَالتَّكَالِيفِ وَالْعِبَادَاتِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ، ثُمَّ لَا تَطْلُبُ مِنْهُمْ مَالًا وَلَا جُعْلًا، فَلَوْ كَانُوا عُقَلَاءَ لَقَبِلُوا وَلَمْ يَتَمَرَّدُوا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ يَعْنِي: أَنَّهُ لَا عَجَبَ إِذَا لَمْ يَتَأَمَّلُوا فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِكَ، فَإِنَّ الْعَالَمَ مَمْلُوءٌ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ ثُمَّ إِنَّهُمْ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مِنْ أُمُورٍ مَحْسُوسَةٍ، وَهِيَ إِمَّا الْأَجْرَامُ الْفَلَكِيَّةُ وَإِمَّا الْأَجْرَامُ الْعُنْصُرِيَّةُ، أَمَّا الْأَجْرَامُ الْفَلَكِيَّةُ: فَهِيَ قِسْمَانِ: إِمَّا الْأَفْلَاكُ وَإِمَّا الْكَوَاكِبُ. أَمَّا الْأَفْلَاكُ: فَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِمَقَادِيرِهَا الْمُعَيَّنَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِكَوْنِ بَعْضِهَا فَوْقَ الْبَعْضِ أَوْ تَحْتَهُ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِأَحْوَالِ حَرَكَاتِهَا إِمَّا بِسَبَبِ أَنَّ حَرَكَاتِهَا مَسْبُوقَةٌ بِالْعَدَمِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُحَرِّكٍ قَادِرٍ، وَإِمَّا بِسَبَبِ كَيْفِيَّةِ حَرَكَاتِهَا فِي سُرْعَتِهَا وَبُطْئِهَا، وَإِمَّا بِسَبَبِ اخْتِلَافِ جِهَاتِ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ. وَأَمَّا الْأَجْرَامُ الْكَوْكَبِيَّةُ فَتَارَةً يُسْتَدَلُّ عَلَى وجود الصانع بمقاديرها أحيازها وحركاتها، وتارة بألوانها وأضوائها، وتار بِتَأْثِيرَاتِهَا فِي حُصُولِ الْأَضْوَاءِ وَالْأَظْلَالِ وَالظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ، وَأَمَّا الدَّلَائِلُ الْمَأْخُوذَةُ مِنَ الْأَجْرَامِ الْعُنْصُرِيَّةِ: فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَأْخُوذَةً مِنْ بِسَائِطَ، وَهِيَ عَجَائِبُ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَإِمَّا مِنَ الْمَوَالِيدِ وَهِيَ أَقْسَامٌ: أَحَدُهَا: الْآثَارُ الْعُلْوِيَّةُ كَالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالسَّحَابِ وَالْمَطَرِ وَالثَّلْجِ وَالْهَوَاءِ وَقَوْسِ قُزَحَ. وَثَانِيهَا: الْمَعَادِنُ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَائِعِهَا وَصِفَاتِهَا وَكَيْفِيَّاتِهَا. وَثَالِثُهَا: النَّبَاتُ وَخَاصِّيَّةُ الْخَشَبِ وَالْوَرَقِ وَالثَّمَرِ وَاخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِطَبْعٍ خَاصٍّ وَطَعْمٍ خَاصٍّ وَخَاصِّيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ. وَرَابِعُهَا: اخْتِلَافُ أَحْوَالِ الْحَيَوَانَاتِ فِي أَشْكَالِهَا وَطَبَائِعِهَا وَأَصْوَاتِهَا وَخِلْقَتِهَا. وَخَامِسُهَا: تَشْرِيحُ أَبْدَانِ النَّاسِ وَتَشْرِيحُ الْقُوَى الْإِنْسَانِيَّةِ وَبَيَانُ الْمَنْفَعَةِ/ الْحَاصِلَةِ فِيهَا فَهَذِهِ مَجَامِعُ الدَّلَائِلِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا قَصَصُ الْأَوَّلِينَ وَحِكَايَاتُ الْأَقْدَمِينَ وَأَنَّ الْمُلُوكَ الَّذِينَ اسْتَوْلَوْا عَلَى الْأَرْضِ وَخَرَّبُوا الْبِلَادَ وَقَهَرُوا الْعِبَادَ مَاتُوا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا خَبَرٌ وَلَا أَثَرٌ، ثُمَّ بَقِيَ الْوِزْرُ وَالْعِقَابُ عَلَيْهِمْ هَذَا ضَبْطُ أَنْوَاعِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ وَالْكِتَابُ الْمُحْتَوِي عَلَى شَرْحِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ هُوَ شَرْحُ جُمْلَةِ الْعَالَمِ الْأَعْلَى وَالْعَالَمِ الْأَسْفَلِ وَالْعَقْلُ الْبَشَرِيُّ لَا يَفِي بِالْإِحَاطَةِ بِهِ فَلِهَذَا السَّبَبِ

[سورة يوسف (12) : آية 108]

ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْإِبْهَامِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ وَالْأَرْضُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مبتدأ ويَمُرُّونَ عَلَيْهَا خَبَرُهُ وَقَرَأَ السُّدِّيُّ وَالْأَرْضَ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُفَسَّرَ قَوْلُهُ: يَمُرُّونَ عَلَيْها بِقَوْلِنَا يَطُوفُونَهَا، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّه وَالْأَرْضُ يَمْشُونَ عَلَيْهَا بِرَفْعِ الْأَرْضِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: 25] إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يُثْبِتُونَ لَهُ شَرِيكًا فِي الْمَعْبُودِيَّةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا هُمُ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ اللَّه بِخَلْقِهِ وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي تَلْبِيَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَالُوا: اللَّه رَبُّنَا وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له والملائكة بَنَاتُهُ فَلَمْ يُوَحِّدُوا، بَلْ أَشْرَكُوا، وَقَالَ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ: رَبُّنَا اللَّه وَحْدَهُ وَالْأَصْنَامُ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَهُ، وقالت اليهود: ربنا اللَّه وحده وعزيز ابْنُ اللَّه، وَقَالَتِ النَّصَارَى: رَبُّنَا اللَّه وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه، وَقَالَ عَبَدَةُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ: رَبُّنَا اللَّه وَحْدَهُ وَهَؤُلَاءِ أَرْبَابُنَا، وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ رَبُّنَا اللَّه وَحْدَهُ وَلَا شَرِيكَ مَعَهُ، وَاحْتَجَّتِ الْكَرَّامِيَّةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ فَقَطْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِكَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ، وَجَوَابُهُ مَعْلُومٌ، أَمَّا قَوْلُهُ: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَيْ عُقُوبَةٌ تَغْشَاهُمْ وَتَنْبَسِطُ عَلَيْهِمْ وَتَغْمُرُهُمْ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَيْ فَجْأَةً. وبغتة نُصِبَ عَلَى الْحَالِ يُقَالُ: بَغَتَهُمُ الْأَمْرُ بَغْتًا وَبَغْتَةً إِذَا فَاجَأَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَتَوَقَّعُوا وَقَوْلُهُ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ كَالتَّأْكِيدِ لِقَوْلِهِ: بَغْتَةً. [سورة يوسف (12) : آية 108] قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لَهُمْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ الَّتِي أَدْعُو إِلَيْهَا وَالطَّرِيقَةُ الَّتِي أَنَا عَلَيْهَا سَبِيلِي وَسُنَّتِي وَمِنْهَاجِي، وَسُمِّيَ الدِّينُ سَبِيلًا لِأَنَّهُ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الثَّوَابِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ [النَّحْلِ: 125] . وَاعْلَمْ أَنَّ السَّبِيلَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الطَّرِيقُ، وَشَبَّهُوا الْمُعْتَقَدَاتِ بِهَا لَمَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَمُرُّ عَلَيْهَا إلى الجنة ادعو اللَّه عَلَى بَصِيرَةٍ وَحُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي إِلَى سِيرَتِي وَطَرِيقَتِي وَسِيرَةِ أَتْبَاعِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّه، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ ذَكَرَ الْحُجَّةَ وَأَجَابَ عَنِ الشُّبْهَةِ فَقَدْ دَعَا بِمِقْدَارِ وُسْعِهِ إِلَى اللَّه وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ إِلَى اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا يَحْسُنُ وَيَجُوزُ مَعَ هَذَا الشَّرْطِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِمَّا يَقُولُ وَعَلَى هُدًى وَيَقِينٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ مَحْضُ الْغُرُورِ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْعُلَمَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ عَلَى عِبَادِ اللَّه مِنْ حَيْثُ يَحْفَظُونَ لِمَا تَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ» وَقِيلَ أَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَنْقَطِعَ الْكَلَامُ عِنْدَ قوله أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ: عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَقَوْلُهُ: وَسُبْحانَ اللَّهِ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: هذِهِ سَبِيلِي أَيْ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي وَقُلْ سُبْحَانَ اللَّه تَنْزِيهًا للَّه عَمَّا يُشْرِكُونَ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مع اللَّه ضدا وندا وكفوا وو لدا، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ حِرْفَةَ الْكَلَامِ وَعِلْمَ الْأُصُولِ حِرْفَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَأَنَّ اللَّه مَا بَعَثَهُمْ إِلَى الْخَلْقِ إِلَّا لِأَجْلِهَا. [سورة يوسف (12) : آية 109] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109)

[سورة يوسف (12) : آية 110]

اعْلَمْ أَنَّهُ قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ نُوحِي بِالنُّونِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو، وَرِوَايَةُ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ: تَعْقِلُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَالْبَاقُونَ: بِالْيَاءِ عَلَى الْغَائِبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ شُبَهِ مُنْكِرِي نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ اللَّه لَوْ أَرَادَ إِرْسَالَ رَسُولٍ لَبَعَثَ مَلَكًا، فَقَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلَمَّا كَانَ الْكُلُّ/ هَكَذَا فَكَيْفَ تَعَجَّبُوا فِي حَقِّكَ يَا مُحَمَّدُ وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّه مَا بَعَثَ رَسُولًا إِلَى الْحَقِّ مِنَ النِّسْوَانِ وَأَيْضًا لَمْ يَبْعَثْ رَسُولًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ. قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ بَدَا جَفَا وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ» . ثُمَّ قَالَ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا إِلَى مَصَارِعِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ وَقَوْلُهُ: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَالْمَعْنَى دَارُ الْحَالَةِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ لِلنَّاسِ حَالَتَيْنِ حَالُ الدُّنْيَا وَحَالُ الْآخِرَةِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ صَلَاةُ الْأُولَى أَيْ صَلَاةُ الْفَرِيضَةِ الْأُولَى، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ من الأولى فقد ذكرنا دلائله مرارا. [سورة يوسف (12) : آية 110] حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) اعْلَمْ أَنَّهُ قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ كُذِبُوا بِالتَّخْفِيفِ، وَكَسْرِ الذَّالِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَمَعْنَى التَّخْفِيفِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الظَّنَّ وَاقِعٌ بِالْقَوْمِ، أَيْ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِنْ إِيمَانِ الْقَوْمِ فَظَنَّ الْقَوْمُ أَنَّ الرُّسُلَ كَذَبُوا فِيمَا وَعَدُوا مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَجْرِ فِيمَا سَبَقَ ذِكْرُ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ فَكَيْفَ يَحْسُنُ عَوْدُ هَذَا الضَّمِيرِ إِلَيْهِمْ. قُلْنَا: ذِكْرُ الرُّسُلِ يَدُلُّ عَلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ إِنَّ ذِكْرَهُمْ جَرَى فِي قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [يُوسُفَ: 109] فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ مكذبي الرسل والظن هاهنا بِمَعْنَى التَّوَهُّمِ وَالْحُسْبَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ الرُّسُلَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا فِيمَا وُعِدُوا وَهَذَا التَّأْوِيلُ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالُوا: وَإِنَّمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَجْلِ ضَعْفِ الْبَشَرِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ باللَّه الْكَذِبَ، بَلْ يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنِ الْإِيمَانِ فَكَيْفَ يَجُوزُ مِثْلُهُ عَلَى الرُّسُلِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ فَفِيهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الظَّنَّ بِمَعْنَى الْيَقِينِ، أَيْ وَأَيْقَنُوا أَنَّ الْأُمَمَ كَذَّبُوهُمْ تَكْذِيبًا لَا يَصْدُرُ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ دَعَوْا عَلَيْهِمْ فَهُنَالِكَ أنزل اللَّه سبحانه عليهم عذاب والاستئصال، وَوُرُودُ الظَّنِّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ قال تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَةِ: 46] أَيْ يَتَيَقَّنُونَ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ بِمَعْنَى الْحُسْبَانِ وَالتَّقْدِيرُ/ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِمْ فَظَنَّ الرُّسُلُ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِمْ كَذَّبُوهُمْ وَهَذَا التَّأْوِيلُ مَنْقُولٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا، وَهُوَ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ، رُوِيَ أَنَّ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: وَظَنَّ الرُّسُلُ أَنَّهُمْ كُذِبُوا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا بَشَرًا أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 214] قَالَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا

[سورة يوسف (12) : آية 111]

فأنكرته وقالت: ما وعد اللَّه محمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيُوَفِّيهِ وَلَكِنَّ الْبَلَاءَ لَمْ يَزَلْ بِالْأَنْبِيَاءِ حَتَّى خَافُوا مِنْ أَنْ يُكَذِّبَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ آمَنُوا بِهِمْ وَهَذَا الرَّدُّ وَالتَّأْوِيلُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ مِنْ عَائِشَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: جاءَهُمْ نَصْرُنا أَيْ لَمَّا بَلَغَ الْحَالُ إِلَى الْحَدِّ الْمَذْكُورِ جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ قَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْيَاءِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ لِأَنَّهُ فِي الْمُصْحَفِ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ. وَرُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ: إِدْغَامُ إِحْدَى النُّونَيْنِ فِي الْأُخْرَى وَقَرَأَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ النُّونَ مُتَحَرِّكَةٌ فَلَا تُدْغَمُ فِي السَّاكِنِ، وَلَا يَجُوزُ إِدْغَامُ النُّونِ فِي الْجِيمِ، وَالْبَاقُونَ بِنُونَيْنِ، وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْيَاءِ عَلَى مَعْنَى: وَنَحْنُ نَفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا حِكَايَةُ حَالٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِصَّةَ فِيمَا مَضَى، وَإِنَّمَا حَكَى فِعْلَ الحال كما أن قَوْلِهِ: هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ [الْقَصَصِ: 15] إِشَارَةٌ إلى الحاضر والقصة ماضية. [سورة يوسف (12) : آية 111] لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) اعْلَمْ أَنَّ الِاعْتِبَارَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعُبُورِ مِنَ الطَّرَفِ الْمَعْلُومِ إِلَى الطَّرَفِ الْمَجْهُولِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّأَمُّلُ وَالتَّفَكُّرُ، وَوَجْهُ الِاعْتِبَارِ بِقَصَصِهِمْ أُمُورٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى إِعْزَازِ يُوسُفَ بَعْدَ إِلْقَائِهِ فِي الْجُبِّ، وَإِعْلَائِهِ بَعْدَ حَبْسِهِ فِي السِّجْنِ وَتَمْلِيكِهِ مِصْرَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا يَظُنُّونَ بِهِ أَنَّهُ عَبْدٌ لَهُمْ، وَجَمْعِهِ مَعَ وَالِدَيْهِ وَإِخْوَتِهِ عَلَى مَا أَحَبَّ بَعْدَ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ، لَقَادِرٌ عَلَى إِعْزَازِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْهُ جَارٍ مَجْرَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ، فَيَكُونُ مُعْجِزَةً دَالَّةً عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ/ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الثَّالِثُ: أَنَّهُ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يُوسُفَ: 3] ثُمَّ ذَكَرَ فِي آخِرِهَا: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ حُسْنَ هَذِهِ الْقِصَّةِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ أَنَّهُ يَحْصُلُ مِنْهَا الْعِبْرَةُ وَمَعْرِفَةُ الْحِكْمَةِ وَالْقُدْرَةِ. وَالْمُرَادُ مِنْ قَصَصِهِمْ قِصَّةُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِخْوَتِهِ وَأَبِيهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ قَصَصُ الرُّسُلِ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ قَصَصِ سَائِرِ الرُّسُلِ إِلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قِصَّةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ: عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ مَعَ أَنَّ قَوْمَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا ذَوِي عُقُولٍ وَأَحْلَامٍ، وَقَدْ كَانَ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ لَمْ يَعْتَبِرْ بِذَلِكَ. قُلْنَا: إِنَّ جَمِيعَهُمْ كَانُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الِاعْتِبَارِ، وَالْمُرَادُ مِنْ وَصْفِ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِكَوْنِهَا عِبْرَةً كَوْنُهَا بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَبِرَ بِهَا الْعَاقِلُ، أَوْ نَقُولُ: الْمُرَادُ مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ اعْتَبَرُوا وَتَفَكَّرُوا وَتَأَمَّلُوا فِيهَا وَانْتَفَعُوا بِمَعْرِفَتِهَا، لِأَنَّ (أُولِي الْأَلْبَابِ) لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ فَلَا يَلِيقُ إِلَّا بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِصِفَاتٍ. الصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهَا عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَفْتَرِيَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْرَأِ الْكُتُبَ وَلَمْ يُتَلْمَذْ لِأَحَدٍ وَلَمْ يُخَالِطِ الْعُلَمَاءَ فَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَفْتَرِيَ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِحَيْثُ تَكُونُ مُطَابِقَةً لِمَا وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ يَكْذِبُ فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ لَا

يَصِحُّ الْكَذِبُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ كَوْنَهُ غَيْرَ مُفْتَرًى فَقَالَ: وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَرَدَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُوَافِقِ لِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَسَائِرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَنُصِبَ تَصْدِيقًا عَلَى تَقْدِيرِ وَلَكِنْ كَانَ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ [الْأَحْزَابِ: 40] قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ، ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ رَفْعُهُ فِي قِيَاسِ النَّحْوِ عَلَى مَعْنَى: وَلَكِنْ هُوَ تَصْدِيقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ وَاقِعَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَامِ: 38] فَإِنَّ جَعْلَ هَذَا الْوَصْفِ وَصْفًا لِكُلِّ الْقُرْآنِ أَلْيَقُ مِنْ جَعْلِهِ وَصْفًا لِقِصَّةِ يُوسُفَ وَحْدَهَا، وَيَكُونُ الْمُرَادُ: مَا يَتَضَمَّنُ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَسَائِرِ مَا يَتَّصِلُ بِالدِّينِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ جَمِيعًا: فَهُوَ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ كَقَوْلِهِ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الْأَعْرَافِ: 156] يُرِيدُ: كُلُّ شَيْءٍ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا وَقَوْلُهُ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْلِ: 23] . الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ: كَوْنُهَا هُدًى فِي الدُّنْيَا وَسَبَبًا لِحُصُولِ الرَّحْمَةِ فِي الْقِيَامَةِ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِهِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: 2] واللَّه أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ بِحَمْدِ اللَّه تَعَالَى يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ السَّابِعِ مِنْ شَعْبَانَ، خُتِمَ بِالْخَيْرِ وَالرِّضْوَانِ، سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ، وَقَدْ كُنْتُ ضَيِّقَ الصَّدْرِ جِدًّا بِسَبَبِ وَفَاةِ الْوَلَدِ الصَّالِحِ مُحَمَّدٍ تَغَمَّدَهُ اللَّه بِالرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ وَخَصَّهُ بِدَرَجَاتِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ وَذَكَرْتُ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ فِي مَرْثِيَّتِهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَازِ. فَلَوْ كَانَتِ الْأَقْدَارُ مُنْقَادَةً لَنَا ... فَدَيْنَاكَ مِنْ حِمَاكَ بِالرُّوحِ وَالْجِسْمِ وَلَوْ كَانَتِ الْأَمْلَاكُ تأخذ رِشْوَةً ... خَضَعْنَا لَهَا بِالرِّقِّ فِي الْحُكْمِ وَالِاسْمِ وَلَكِنَّهُ حُكْمٌ إِذَا حَانَ حِينُهُ ... سَرَى مِنْ مَقَرِّ الْعَرْشِ فِي لُجَّةِ الْيَمِّ سَأَبْكِي عَلَيْكَ الْعُمْرَ بِالدَّمِ دَائِمًا ... وَلَمْ أَنْحَرِفْ عَنْ ذَاكَ فِي الْكَيْفِ وَالْكَمِّ سَلَامٌ عَلَى قَبْرٍ دُفِنْتَ بِتُرْبِهِ ... وَأَتْحَفَكَ الرَّحْمَنُ بِالْكَرَمِ الْجَمِّ وَمَا صَدَّنِي عَنْ جَعْلِ جَفْنِي مَدْفَنًا ... لِجِسْمِكَ إِلَّا أَنَّهُ أَبَدًا يَهْمِي وَأُقْسِمُ إِنْ مَسُّوا رُفَاتِي وَرِمَّتِي ... أَحَسُّوا بِنَارِ الْحُزْنِ فِي مَكْمَنِ الْعَظْمِ حَيَاتِي وَمَوْتِي وَاحِدٌ بَعْدَ بُعْدِكُمْ ... بَلِ الْمَوْتُ أَوْلَى مِنْ مُدَاوَمَةِ الْغَمِّ رَضِيتُ بِمَا أَمْضَى الْإِلَهُ بِحُكْمِهِ ... لِعِلْمِي بِأَنِّي لَا يُجَاوِزُنِي حُكْمِي وَأَنَا أُوصِي مَنْ طَالَعَ كِتَابِي وَاسْتَفَادَ مَا فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ النَّفِيسَةِ الْعَالِيَةِ أَنْ يَخُصَّ وَلَدِي وَيَخُصَّنِي بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَيَدْعُوَ لِمَنْ قَدْ مَاتَ فِي غُرْبَةٍ بَعِيدًا عَنِ الْإِخْوَانِ وَالْأَبِ وَالْأُمِّ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ فَإِنِّي كُنْتُ أَيْضًا كَثِيرَ الدُّعَاءِ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَقِّي وَصَلَّى اللَّه عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرا آمين والحمد اللَّه رب العالمين.

سورة الرعد

بسم اللَّه الرحمن الرحيم سُورَةُ الرَّعْدِ مَدَنِيَّةٌ، وَآيَاتُهَا: 43، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ محمد سُورَةُ الرَّعْدِ أَرْبَعُونَ وَثَلَاثُ آيَاتٍ مَكِّيَّةٌ سِوَى قول تَعَالَى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ [الرَّعْدِ: 31] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرَّعْدِ: 43] قَالَ الْأَصَمُّ هِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ سِوَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرَّعْدِ: 31] . [سورة الرعد (13) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اعْلَمْ أَنَّا قَدْ تَكَلَّمْنَا فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا مَعْنَاهُ: أَنَا اللَّه أَعْلَمُ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ أَنَا اللَّه الْمَلِكُ الرَّحْمَنُ، وَقَدْ أَمَالَهَا أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَفَخَّمَهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَاصِمٌ وَقَوْلُهُ: تِلْكَ إشارة إلى آيات السورة المسماة بالمر. ثُمَّ قَالَ: إِنَّهَا آيَاتُ الْكِتَابِ. وَهَذَا الْكِتَابُ الَّذِي أَعْطَاهُ مُحَمَّدًا بِأَنْ يُنْزِلَهُ عَلَيْهِ وَيَجْعَلَهُ بَاقِيًا عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ وَقَوْلُهُ: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: الْحَقُّ خَبَرُهُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ فَقَالَ: الْحُكْمُ الْمُسْتَنْبَطُ بِالْقِيَاسِ غَيْرُ نَازِلٍ مِنْ عِنْدِ اللَّه وَإِلَّا لَكَانَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ كَافِرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ/ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [الْمَائِدَةِ: 44] وَبِالْإِجْمَاعِ لَا يَكْفُرُ فَثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُثْبَتَ بِالْقِيَاسِ غَيْرُ نَازِلٍ مِنْ عِنْدِ اللَّه. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ حَقًّا لِأَجْلِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا حَقَّ إِلَّا مَا أَنْزَلَهُ اللَّه فَكُلُّ مَا لَمْ يُنْزِلْهُ اللَّه وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ حَقًّا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حَقًّا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يُونُسَ: 32] وَمُثْبِتُو الْقِيَاسِ يُجِيبُونَ عَنْهُ بِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُثْبَتَ بِالْقِيَاسِ نَازِلٌ أَيْضًا مِنْ عِنْدِ اللَّه، لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِالْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ كَانَ الْحُكْمُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ نَازِلًا مِنْ عِنْدِ اللَّه. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ الْمُنَزَّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْحَقُّ بَيَّنَ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يؤمنون به على سبيل الزجر والتهديد.

[سورة الرعد (13) : آية 2]

[سورة الرعد (13) : آية 2] اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) [في قَوْلُهُ تَعَالَى اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ذَكَرَ عَقِيبَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ وَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : اللَّه مبتدأ والذي رفع السموات خَبَرُهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ [الرعد: 3] ويجوز أن يكون الذي رفع السموات صِفَةً وَقَوْلُهُ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْعَمَدُ الْأَسَاطِينُ وَهُوَ جَمْعُ عِمَادٍ يُقَالُ عِمَادٌ وَعُمُدٌ مِثْلُ إِهَابٍ وَأُهُبٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَمَدُ وَالْعُمُدُ جَمْعُ الْعَمُودِ مِثْلُ أَدِيمٍ وَأَدَمٍ وَأُدُمٍ، وَقَضِيمٍ وَقَضَمٍ وَقُضُمٍ، وَالْعِمَادُ وَالْعَمُودُ مَا يُعْمَدُ بِهِ الشَّيْءُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: فُلَانٌ عَمَدُ قَوْمِهِ إِذَا كَانُوا يَعْتَمِدُونَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى استدل بأحوال السموات وَبِأَحْوَالِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَبِأَحْوَالِ الْأَرْضِ وَبِأَحْوَالِ النَّبَاتِ، أما الاستدلال بأحوال السموات بِغَيْرِ عَمْدٍ تَرَوْنَهَا فَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْأَجْسَامَ العظيمة بقيت وافقة فِي الْجَوِّ الْعَالِي وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ بَقَاؤُهَا هُنَاكَ لِأَعْيَانِهَا وَلِذَوَاتِهَا لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ وَلَوْ وَجَبَ حُصُولُ جِسْمٍ فِي حَيِّزٍ مُعَيَّنٍ لَوَجَبَ حُصُولُ كُلِّ جِسْمٍ فِي ذَلِكَ الْحَيِّزِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَلَاءَ لَا نِهَايَةَ لَهُ وَالْأَحْيَازُ الْمُعْتَرِضَةُ فِي ذَلِكَ/ الْخَلَاءِ الصِّرْفِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَهِيَ بِأَسْرِهَا مُتَسَاوِيَةٌ وَلَوْ وَجَبَ حُصُولُ جِسْمٍ فِي حَيِّزٍ مُعَيَّنٍ لَوَجَبَ حُصُولُهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْيَازِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْأَحْيَازَ بِأَسْرِهَا مُتَشَابِهَةٌ فَثَبَتَ أَنَّ حُصُولَ الْأَجْرَامِ الْفَلَكِيَّةِ فِي أَحْيَازِهَا وَجِهَاتِهَا لَيْسَ أَمْرًا وَاجِبًا لِذَاتِهِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مُخَصِّصٍ وَمُرَجِّحٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا بَقِيَتْ بِسِلْسِلَةٍ فَوْقَهَا وَلَا عَمَدَ تَحْتَهَا، وَإِلَّا لَعَادَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ الْحَافِظِ وَلَزِمَ الْمُرُورُ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَهُوَ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنْ يُقَالَ الْأَجْرَامُ الْفَلَكِيَّةُ فِي أَحْيَازِهَا الْعَالِيَةِ لِأَجْلِ أَنَّ مُدَبِّرَ الْعَالَمِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ أَوْقَفَهَا هُنَاكَ. فَهَذَا بُرْهَانٌ قَاهِرٌ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَاهِرِ الْقَادِرِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا مُخْتَصٍّ بِحَيِّزٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاصِلًا فِي حَيِّزٍ مُعَيَّنٍ لَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ حُصُولُهُ فِي ذَلِكَ الْحَيِّزِ لِذَاتِهِ وَلِعَيْنِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَحْيَازَ بِأَسْرِهَا مُتَسَاوِيَةٌ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حُصُولُهُ فِي حَيِّزٍ مُعَيَّنٍ لِذَاتِهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وَكُلُّ مَا حَصَلَ بِالْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ فَهُوَ مُحْدَثٌ فَاخْتِصَاصُهُ بِالْحَيِّزِ الْمُعَيَّنِ مُحْدَثٌ وَذَاتُهُ لَا تَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصِ وَمَا لَا يَخْلُو عَنِ الْحَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاصِلًا فِي الْحَيِّزِ الْمُعَيَّنِ لَكَانَ حَادِثًا وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مُتَعَالٍ عَنِ الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ، وَأَيْضًا كُلُّ مَا سَمَاكَ فَهُوَ سَمَاءٌ، فَلَوْ كَانَ تَعَالَى مَوْجُودًا فِي جِهَةٍ فَوْقِ جِهَةٍ لَكَانَ من جملة السموات فَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها فَكُلُّ مَا كَانَ مُخْتَصًّا بِجِهَةٍ فَوْقَ جِهَةٍ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى حِفْظِ الْإِلَهِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ مُنَزَّهًا عَنْ جِهَةِ فَوْقُ. أَمَّا قَوْلُهُ: تَرَوْنَها فَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ والمعنى: رفع السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ. ثُمَّ قَالَ: تَرَوْنَها أَيْ وَأَنْتُمْ تَرَوْنَهَا أَيْ مَرْفُوعَةً بِلَا عِمَادٍ. الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ فِي تَقْرِيرِ الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ: رفع السموات تَرَوْنَهَا بِغَيْرِ عَمَدٍ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ الْمَصِيرُ إِلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ غَيْرَ جَائِزٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: تَرَوْنَها صِفَةٌ لِلْعَمَدِ، وَالْمَعْنَى: بِغَيْرِ عَمَدٍ مَرْئِيَّةٍ، أَيْ لِلسَّمَوَاتِ عَمَدٌ. وَلَكِنَّا لَا نَرَاهَا قَالُوا: ولها عمد

عَلَى جَبَلِ قَافٍ وَهُوَ جَبَلٌ مِنْ زَبَرْجَدٍ مُحِيطٌ بِالدُّنْيَا وَلَكِنَّكُمْ لَا تَرَوْنَهَا. وَهَذَا التَّأْوِيلُ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ لِيَكُونَ حُجَّةً عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرُوهُ لَمَا ثبتت الحجة لأنه يقال إن السموات لَمَّا كَانَتْ مُسْتَقِرَّةً عَلَى جَبَلِ قَافٍ فَأَيُّ دَلَالَةٍ لِثُبُوتِهَا عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَحْسَنُ مِنَ الْكُلِّ وَهُوَ أَنَّ الْعِمَادَ مَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَجْسَامَ إِنَّمَا بَقِيَتْ وَاقِفَةً فِي الْجَوِّ الْعَالِي بِقُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَحِينَئِذٍ يَكُونُ عَمَدُهَا هُوَ قُدْرَةُ اللَّه تَعَالَى فَنَتَجَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ رَفَعَ السَّمَاءَ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا أَيْ لَهَا عَمَدٌ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْعَمَدَ هِيَ قُدْرَةُ اللَّه تَعَالَى وَحِفْظُهُ وَتَدْبِيرُهُ وَإِبْقَاؤُهُ إِيَّاهَا فِي الْجَوِّ الْعَالِي وَأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ التَّدْبِيرَ/ وَلَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الْإِمْسَاكِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ كَوْنَهُ مُسْتَقِرًّا عَلَى الْعَرْشِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مُشَاهَدًا مَعْلُومًا وَأَنَّ أَحَدًا مَا رَأَى أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَقَرَّ عَلَى الْعَرْشِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَيْهِ وَأَيْضًا بِتَقْدِيرِ أَنْ يُشَاهَدَ كَوْنُهُ مُسْتَقِرًّا عَلَى الْعَرْشِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُشْعِرُ بِكَمَالِ حَالِهِ وَغَايَةِ جَلَالِهِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى احْتِيَاجِهِ إِلَى الْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ. وَأَيْضًا فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ ثُمَّ صَارَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّغَيُّرَ وَأَيْضًا الِاسْتِوَاءُ ضِدُّ الِاعْوِجَاجِ فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُعْوَجًّا مُضْطَرِبًا ثُمَّ صَارَ مُسْتَوِيًا وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى اللَّه مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِوَاؤُهُ عَلَى عَالَمِ الْأَجْسَامِ بِالْقَهْرِ وَالْقُدْرَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْحِفْظِ يَعْنِي أَنَّ مَنْ فَوْقَ الْعَرْشِ إِلَى مَا تَحْتَ الثَّرَى فِي حِفْظِهِ وَفِي تَدْبِيرِهِ وَفِي الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِأَحْوَالِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ: فَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ اشْتَمَلَ عَلَى نَوْعَيْنِ مِنَ الدَّلَالَةِ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْقَادِرِ الْقَاهِرِ بِحَرَكَاتِ هَذِهِ الْأَجْرَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ فَهَذِهِ الْأَجْرَامُ قَابِلَةٌ لِلْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ فَاخْتِصَاصُهَا بِالْحَرَكَةِ الدَّائِمَةِ دُونَ السُّكُونِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُخَصِّصٍ. وَأَيْضًا أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ مُخْتَصَّةٌ بِكَيْفِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْبُطْءِ وَالسُّرْعَةِ فَلَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ مُخَصِّصٍ لَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ الْحَرَكَةُ الْبَطِيئَةُ مَعْنَاهَا حَرَكَاتٌ مَخْلُوطَةٌ بِسَكَنَاتٍ وَهَذَا يُوجِبُ الِاعْتِرَافَ بِأَنَّهَا تَتَحَرَّكُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَازِ وَتَسْكُنُ فِي الْبَعْضِ فَحُصُولُ الْحَرَكَةِ فِي ذَلِكَ الْحَيِّزِ الْمُعَيَّنِ وَالسُّكُونُ فِي الْحَيِّزِ الْآخَرِ لَا بُدَّ فِيهِ أَيْضًا مِنْ مُرَجِّحٍ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ تَقْدِيرَ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ بِمَقَادِيرَ مَخْصُوصَةٍ عَلَى وَجْهٍ تَحْصُلُ عَوْدَاتُهَا وَأَدْوَارُهَا مُتَسَاوِيَةً بِحَسَبِ الْمُدَّةِ حَالَةٌ عَجِيبَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ مُقَدِّرٍ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ بَعْضَ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ مَشْرِقِيَّةٌ وَبَعْضَهَا مَغْرِبِيَّةٌ وَبَعْضَهَا مَائِلَةٌ إِلَى الشَّمَالِ وَبَعْضَهَا مَائِلَةٌ إِلَى الْجَنُوبِ وَهَذَا أَيْضًا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَدْبِيرٍ كَامِلٍ وَحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِلشَّمْسِ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ مَنْزِلًا كُلَّ يَوْمٍ لَهَا مَنْزِلٌ وَذَلِكَ يَتِمُّ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ إِنَّهَا تَعُودُ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى وَاحِدٍ مِنْهَا فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ أُخْرَى وَكَذَلِكَ الْقَمَرُ لَهُ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مَنْزِلًا، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى هَذَا. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ/ الْكَوَاكِبِ سَيْرًا خَاصًّا إِلَى جِهَةٍ خَاصَّةٍ بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ

مِنَ السُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ لَهَا بِحَسَبِ كُلِّ لَحْظَةٍ وَلَمْحَةٍ حَالَةٌ أُخْرَى مَا كَانَتْ حَاصِلَةً قَبْلَ ذَلِكَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ كَوْنُهُمَا مُتَحَرِّكَيْنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَعِنْدَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَنْقَطِعُ هَذِهِ الْحَرَكَاتُ وَتَبْطُلُ تِلْكَ السِّيرَاتُ كَمَا وَصَفَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [التكوير: 1، 2] وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الِانْشِقَاقِ: 1] ، إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الِانْفِطَارِ: 1] وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [الْقِيَامَةِ: 9] وَهُوَ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الْأَنْعَامِ: 2] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الدَّلَائِلَ قَالَ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلَ هَذَا عَلَى تَدْبِيرِ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ أَحْوَالِ الْعَالَمِ وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْكُلِّ فَهُوَ يُدَبِّرُهُمْ بِالْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ وَبِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَالْإِغْنَاءِ وَالْإِفْقَارِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ إِنْزَالُ الْوَحْيِ وَبَعْثَةُ الرُّسُلِ وَتَكْلِيفُ الْعِبَادِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَجِيبٌ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْعَالَمَ الْمَعْلُومَ مِنْ أَعْلَى الْعَرْشِ إِلَى مَا تَحْتَ الثَّرَى أَنْوَاعٌ وَأَجْنَاسٌ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا اللَّه تَعَالَى، وَالدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ دَلَّ عَلَى أَنَّ اخْتِصَاصَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِوَضْعِهِ وَمَوْضِعِهِ وَصِفَتِهِ وَطَبِيعَتِهِ وَحِلْيَتِهِ، لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ مَنِ اشْتَغَلَ بِتَدْبِيرِ شَيْءٍ فإنه لا يمكنه تدبير شَيْءٌ آخَرُ إِلَّا الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ أَمَّا الْعَاقِلُ فَإِنَّهُ إِذَا تَأَمَّلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلِمَ أَنَّهُ تَعَالَى يُدَبِّرُ عَالَمَ الْأَجْسَامِ وَعَالَمَ الْأَرْوَاحِ وَيُدَبِّرُ الْكَبِيرَ كَمَا يُدَبِّرُ الصَّغِيرَ فَلَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ وَلَا يَمْنَعُهُ تَدْبِيرٌ عَنْ تَدْبِيرٍ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ غَيْرُ مُشَابِهٍ لِلْمُحْدَثَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ. ثُمَّ قَالَ: يُفَصِّلُ الْآياتِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى إِلَهِيَّتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَوْجُودَاتُ الْبَاقِيَةُ الدَّائِمَةُ كَالْأَفْلَاكِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الدَّلَائِلِ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَالثَّانِي: الْمَوْجُودَاتُ الْحَادِثَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ، وَهِيَ الْمَوْتُ بَعْدَ الْحَيَاةِ، وَالْفَقْرُ بَعْدَ الْغِنَى، وَالْهَرَمُ بَعْدَ الصِّحَّةِ، وَكَوْنُ الْأَحْمَقِ فِي أَهْنَأِ الْعَيْشِ، وَالْعَاقِلِ الذَّكِيِّ فِي أَشَدِّ الْأَحْوَالِ، فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْأَحْوَالِ دَلَالَتُهَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ ظَاهِرَةٌ بَاهِرَةٌ. وَقَوْلُهُ: يُفَصِّلُ الْآياتِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَحْدُثُ بَعْضُهَا عَقِيبَ بَعْضٍ عَلَى سَبِيلِ التَّمْيِيزِ وَالتَّفْصِيلِ. ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّلَائِلَ الْمَذْكُورَةَ كَمَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ فَهِيَ أَيْضًا تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَتَدْبِيرِهَا عَلَى عَظَمَتِهَا وَكَثْرَتِهَا فَلَأَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ كَانَ أَوْلَى يُرْوَى أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّه عَلَيْهِ إِنَّهُ تَعَالَى كَيْفَ/ يُحَاسِبُ الْخَلْقَ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَقَالَ كَمَا يَرْزُقُهُمُ الْآنَ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَكَمَا يَسْمَعُ نِدَاءَهُمْ وَيُجِيبُ دُعَاءَهُمُ الْآنَ دُفْعَةً وَاحِدَةً. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا قَدَرَ عَلَى إِبْقَاءِ الْأَجْرَامِ الْفَلَكِيَّةِ وَالنَّيِّرَاتِ الْكَوْكَبِيَّةِ فِي الْجَوِّ الْعَالِي وَإِنْ كَانَ الْخَلْقُ عَاجِزِينَ عَنْهُ، وَكَمَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُدَبِّرَ من فوق العرش إلى ما تحت الثرى بِحَيْثُ لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ فَكَذَلِكَ يُحَاسِبُ الْخَلْقَ بِحَيْثُ لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ تَمَسَّكَ بِلَفْظِ اللِّقَاءِ عَلَى رُؤْيَةِ اللَّه تَعَالَى وَقَدْ مَرَّ تَقْرِيرُهُ في هذا الكتاب مرارا وأطوارا. تم الجزء الثامن عَشَرَ، وَيَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى الْجُزْءُ التاسع عشر، وأوله قوله تعالى وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ من سورة الرعد. أعان اللَّه على إكماله.

الجزء التاسع عشر

الجزء التاسع عشر [تتمة سورة الرعد] بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الرعد (13) : آية 3] وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ الدَّلَائِلَ السَّمَاوِيَّةَ أَرْدَفَهَا بِتَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ الْأَرْضِيَّةِ فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِخَلْقِهِ الْأَرْضَ وَأَحْوَالَهَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا تَزَايَدَ حَجْمُهُ وَمِقْدَارُهُ صَارَ كَأَنَّ ذَلِكَ الْحَجْمَ وَذَلِكَ الْمِقْدَارَ يَمْتَدُّ فَقَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْأَرْضَ مُخْتَصَّةً بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ الْحَاصِلِ لَهُ لَا أَزْيَدَ وَلَا أَنْقَصَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ كَوْنَ الْأَرْضِ أَزْيَدَ مِقْدَارًا مِمَّا هُوَ الْآنَ وَأَنْقَصَ مِنْهُ أَمْرٌ جَائِزٌ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ فَاخْتِصَاصُهُ بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ وَتَقْدِيرِ مُقَدِّرٍ. الثَّانِي: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ الْمَدُّ هُوَ الْبَسْطُ إِلَى مَا لَا يُدْرَكُ مُنْتَهَاهُ، فَقَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ حَجْمَ الْأَرْضِ حَجْمًا عَظِيمًا لَا يَقَعُ الْبَصَرُ عَلَى مُنْتَهَاهُ، لِأَنَّ الْأَرْضَ لَوْ كَانَتْ أَصْغَرَ حَجْمًا مِمَّا هِيَ الْآنَ عَلَيْهِ لَمَا كَمُلَ الِانْتِفَاعُ بِهِ. وَالثَّالِثُ: قَالَ قَوْمٌ كَانَتِ الْأَرْضُ مُدَوَّرَةً فَمَدَّهَا وَدَحَا مِنْ مكة من تَحْتَ الْبَيْتِ فَذَهَبَتْ كَذَا وَكَذَا. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَتْ مُجْتَمِعَةً عِنْدَ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ فَقَالَ لَهَا: اذْهَبِي كَذَا وَكَذَا. اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا قُلْنَا الْأَرْضُ مُسَطَّحَةٌ لَا كُرَةٌ وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النَّازِعَاتِ: 30] وَهَذَا الْقَوْلُ مُشْكِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ/ أَنَّ الْأَرْضَ كُرَةٌ فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْمُكَابَرَةُ فِيهِ؟ فَإِنْ قَالُوا: وَقَوْلُهُ: مَدَّ الْأَرْضَ يُنَافِي كَوْنَهَا كُرَةً فَكَيْفَ يُمْكِنُ مَدُّهَا؟ قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَرْضَ جِسْمٌ عَظِيمٌ وَالْكُرَةُ إِذَا كَانَتْ فِي غَايَةِ الْكِبَرِ كَانَ كُلُّ قِطْعَةٍ مِنْهَا تُشَاهَدُ كَالسَّطْحِ، وَالتَّفَاوُتُ الْحَاصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّطْحِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي عِلْمِ اللَّهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: وَالْجِبالَ أَوْتاداً [النَّبَأِ: 7] فَجَعَلَهَا أَوْتَادًا مَعَ أَنَّ الْعَالَمَ مِنَ النَّاسِ يَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا ذُكِرَتْ لِيُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَالشَّرْطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَمْرًا مُشَاهَدًا مَعْلُومًا حَتَّى يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَكَوْنُهَا مُجْتَمِعَةً تَحْتَ الْبَيْتِ أَمْرٌ غَيْرُ مُشَاهَدٍ وَلَا مَحْسُوسٍ فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، فَثَبَتَ أَنَّ التَّأْوِيلَ الْحَقَّ هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَالنوع الثَّانِي: مِنَ الدَّلَائِلِ الِاسْتِدْلَالُ بِأَحْوَالِ الْجِبَالِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ

فَوْقِهَا ثَابِتَةً بَاقِيَةً فِي أَحْيَازِهَا غَيْرَ مُنْتَقِلَةٍ عَنْ أَمَاكِنِهَا يُقَالُ: رَسَا هَذَا الْوَتِدُ وَأَرْسَيْتُهُ وَالْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِوُجُودِ الْجِبَالِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ مِنْ وُجُوهٍ، الْأَوَّلُ: أَنَّ طَبِيعَةَ الْأَرْضِ وَاحِدَةٌ فَحُصُولُ الْجَبَلِ فِي بَعْضِ جَوَانِبِهَا دُونَ الْبَعْضِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَخْلِيقِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ. قَالَتِ الْفَلَاسِفَةُ: هَذِهِ الْجِبَالُ إِنَّمَا تَوَلَّدَتْ لِأَنَّ الْبِحَارَ كَانَتْ فِي هَذَا الْجَانِبِ مِنَ الْعَالَمِ فَكَانَتْ تَتَوَلَّدُ فِي الْبَحْرِ طِينًا لَزِجًا. ثُمَّ يَقْوَى تَأْثِيرُ الشَّمْسِ فِيهَا فَيَنْقَلِبُ حَجَرًا كَمَا يُشَاهَدُ فِي كُوزِ الْفِقَاعِ ثُمَّ إِنَّ الْمَاءَ كَانَ يَغُورُ وَيَقِلُّ فَيَتَحَجَّرُ الْبَقِيَّةُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ تَوَلَّدَتْ هَذِهِ الْجِبَالُ قَالُوا: وَإِنَّمَا كَانْتِ الْبِحَارُ حَاصِلَةً فِي هَذَا الْجَانِبِ مِنَ الْعَالَمِ لِأَنَّ أَوْجَ الشَّمْسِ وَحَضِيضَهَا مُتَحَرِّكَانِ، فَفِي الدَّهْرِ الْأَقْدَمِ كَانَ حَضِيضُ الشَّمْسِ فِي جَانِبِ الشَّمَالِ وَالشَّمْسُ مَتَى كَانَتْ فِي حَضِيضِهَا كَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى الْأَرْضِ فَكَانَ التَّسْخِينُ أَقْوَى وَشِدَّةُ السُّخُونَةِ تُوجِبُ انْجِذَابَ الرُّطُوبَاتِ، فَحِينَ كَانَ الْحَضِيضُ فِي جَانِبِ الشَّمَالِ كَانَتِ الْبِحَارُ فِي جَانِبِ الشَّمَالِ، وَالْآنَ لَمَّا انْتَقَلَ الْأَوْجُ إِلَى جَانِبِ الشَّمَالِ وَالْحَضِيضُ إِلَى جَانِبِ الْجَنُوبِ انْتَقَلَتِ الْبِحَارُ إِلَى جَانِبِ الْجَنُوبِ فَبَقِيَتْ هَذِهِ الْجِبَالُ فِي جَانِبِ الشَّمَالِ، هَذَا حَاصِلُ كَلَامِ الْقَوْمِ فِي هَذَا الْبَابِ وَهُوَ ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ حُصُولَ الطِّينِ فِي الْبَحْرِ أَمْرٌ عَامٌّ وَوُقُوعَ الشَّمْسِ عَلَيْهَا أمر عام فلم وصل هَذَا الْجَبَلُ فِي بَعْضِ الْجَوَانِبِ دُونَ الْبَعْضِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّا نُشَاهِدُ فِي بَعْضِ الْجِبَالِ كَأَنَّ تِلْكَ الْأَحْجَارَ مَوْضُوعَةٌ سَافًا فَسَافًا فَكَأَنَّ الْبِنَاءَ لَبِنَاتٌ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَيَبْعُدُ حُصُولُ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ مِنَ السَّبَبِ الَّذِي ذَكَرُوهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ أَوْجَ الشَّمْسِ الْآنَ قَرِيبٌ مِنْ أَوَّلِ السَّرَطَانِ فَعَلَى هَذَا مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي انْتَقَلَ أَوْجُ الشَّمْسِ إِلَى الْجَانِبِ الشَّمَالِيِّ مَضَى/ قَرِيبٌ مِنْ تِسْعَةِ آلَافِ سَنَةٍ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ الْجِبَالَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ كَانَتْ فِي التَّفَتُّتِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْقَى مِنَ الْأَحْجَارِ شَيْءٌ، لَكِنْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَعَلِمْنَا أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي ذَكَرُوهُ ضَعِيفٌ. وَالوجه الثَّانِي: مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِ الْجِبَالِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ ذِي الْجَلَالِ مَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنْ مَعَادِنِ الْفِلِزَّاتِ السَّبْعَةِ وَمَوَاضِعِ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ وَقَدْ يَحْصُلُ فِيهَا مَعَادِنُ الزَّاجَاتِ وَالْأَمْلَاحُ وَقَدْ يَحْصُلُ فِيهَا مَعَادِنُ النِّفْطِ وَالْقِيرِ وَالْكِبْرِيتِ، فَكَوْنُ الْأَرْضِ وَاحِدَةً فِي الطَّبِيعَةِ، وَكَوْنُ الْجَبَلِ وَاحِدًا فِي الطَّبْعِ، وَكَوْنُ تَأْثِيرِ الشَّمْسِ وَاحِدًا فِي الْكُلِّ يَدُلُّ دَلِيلًا ظَاهِرًا عَلَى أَنَّ الْكُلَّ بِتَقْدِيرِ قَادِرٍ قَاهِرٍ مُتَعَالٍ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمُحْدَثَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ. وَالوجه الثَّالِثُ: مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِ الْجِبَالِ أَنَّ بِسَبَبِهَا تَتَوَلَّدُ الْأَنْهَارُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَرَ جِسْمٌ صُلْبٌ فَإِذَا تَصَاعَدَتِ الْأَبْخِرَةُ مِنْ قَعْرِ الْأَرْضِ وَوَصَلَتْ إِلَى الْجَبَلِ احْتَبَسَتْ هُنَاكَ فَلَا تَزَالُ تَتَكَامَلُ، فَيَحْصُلُ تَحْتَ الْجَبَلِ مِيَاهٌ عَظِيمَةٌ، ثُمَّ إِنَّهَا لِكَثْرَتِهَا وَقُوَّتِهَا تَثْقُبُ وَتَخْرُجُ وَتَسِيلُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَمَنْفَعَةُ الْجِبَالِ فِي تَوَلُّدِ الْأَنْهَارِ هُوَ مِنْ هَذَا الوجه، وَلِهَذَا السَّبَبِ فَفِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ أَيْنَمَا ذَكَرَ اللَّهُ الْجِبَالَ قَرَنَ بِهَا ذِكْرَ الْأَنْهَارِ مِثْلَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِثْلَ قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ مَاءً فُراتاً [الْمُرْسَلَاتِ: 27] . وَالنوع الثَّالِثُ: مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الِاسْتِدْلَالُ بِعَجَائِبِ خِلْقَةِ النَّبَاتِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: أَنَّ الْحَبَّةَ إِذَا وُضِعَتْ فِي الْأَرْضِ وَأَثَّرَتْ فِيهَا نَدَاوَةُ الْأَرْضِ رَبَتَ وَكَبُرَتْ وَبِسَبَبِ ذَلِكَ يَنْشَقُّ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلُهَا فَيَخْرُجُ مِنَ الشِّقِّ الْأَعْلَى الشَّجَرَةُ الصَّاعِدَةُ فِي الْهَوَاءِ، وَيَخْرُجُ مِنَ الشِّقِّ الْأَسْفَلِ الْعُرُوقُ الْغَائِصَةُ فِي أَسْفَلِ الْأَرْضِ وَهَذَا مِنَ الْعَجَائِبِ، لِأَنَّ طَبِيعَةَ تِلْكَ الْحَبَّةِ وَاحِدَةٌ وَتَأْثِيرُ الطَّبَائِعِ وَالْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ

فِيهَا وَاحِدٌ ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْجَانِبِ الْأَعْلَى مِنْ تِلْكَ الْحَبَّةِ جِرْمٌ صَاعِدٌ إِلَى الهواء من الْجَانِبِ الْأَسْفَلِ مِنْهُ جِرْمٌ غَائِصٌ فِي الْأَرْضِ، وَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَتَوَلَّدَ مِنَ الطَّبِيعَةِ الْوَاحِدَةِ طَبِيعَتَانِ مُتَضَادَّتَانِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ تَدْبِيرِ الْمُدَبِّرِ الْحَكِيمِ، وَالْمُقَدِّرِ الْقَدِيمِ لَا بِسَبَبِ الطَّبْعِ وَالْخَاصِّيَّةِ، ثُمَّ إِنَّ الشَّجَرَةَ الثَّابِتَةَ مِنْ تِلْكَ الْحَبَّةِ بَعْضُهَا يَكُونُ خَشَبًا وَبَعْضُهَا يَكُونُ نَوْرًا وَبَعْضُهَا يَكُونُ ثَمَرَةً، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الثَّمَرَةَ أَيْضًا يَحْصُلُ فِيهَا أَجْسَامٌ مُخْتَلِفَةُ الطَّبَائِعِ، فَالْجَوْزُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْقُشُورِ، فَالْقِشْرُ الْأَعْلَى وَتَحْتَهُ الْقِشْرَةُ الْخَشَبَةُ وَتَحْتَهُ الْقِشْرَةُ الْمُحِيطَةُ بِاللَّبِنَةِ، وَتَحْتَ تِلْكَ الْقِشْرَةِ قِشْرَةٌ أُخْرَى فِي غَايَةِ الرِّقَّةِ تَمْتَازُ عَمَّا فَوْقَهَا حَالَ كَوْنِ الْجَوْزِ رَطْبًا وَأَيْضًا فَقَدْ يَحْصُلُ/ فِي الثَّمَرَةِ الْوَاحِدَةِ الطِّبَاعُ الْمُخْتَلِفَةُ، فَالْأُتْرُجُّ قِشْرُهُ حَارٌّ يَابِسٌ وَلَحْمُهُ حَارٌّ رَطْبٌ وَحُمَّاضُهُ بَارِدٌ يَابِسٌ وَبَزْرُهُ حَارٌّ يَابِسٌ وَنَوْرُهُ حَارٌّ يَابِسٌ، وَكَذَلِكَ الْعِنَبُ قِشْرُهُ وَعَجَمُهُ بَارِدَانِ يَابِسَانِ وَلَحْمُهُ وَمَاؤُهُ حاران رطبان فتولد هذه للطبائع الْمُخْتَلِفَةِ مِنَ الْحَبَّةِ الْوَاحِدَةِ مَعَ تَسَاوِي تَأْثِيرَاتِ الطَّبَائِعِ وَتَأْثِيرَاتِ الْأَنْجُمِ وَالْأَفْلَاكِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ تَدْبِيرِ الْحَكِيمِ الْقَادِرِ الْقَدِيمِ. المسألة الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِزَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ صِنْفَيْنِ اثْنَيْنِ وَالِاخْتِلَافُ إِمَّا مِنْ حَيْثُ الطَّعْمُ كَالْحُلْوِ وَالْحَامِضِ أَوِ الطَّبِيعَةُ كَالْحَارِّ وَالْبَارِدِ أَوِ اللَّوْنُ كَالْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ. فَإِنْ قِيلَ: الزَّوْجَانِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ اثْنَيْنِ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. قُلْنَا: قِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى أَوَّلَ مَا خَلَقَ الْعَالَمَ وَخَلَقَ فِيهِ الْأَشْجَارَ خَلَقَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ اثْنَيْنِ فَقَطْ، فَلَوْ قَالَ: خَلَقَ زَوْجَيْنِ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ النوع أَوِ الشَّخْصُ. أَمَّا لَمَّا قَالَ اثْنَيْنِ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوَّلَ مَا خَلَقَ مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ لَا أَقَلَّ وَلَا أَزْيَدَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّاسَ فِيهِمُ الْآنَ كَثْرَةٌ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا ابْتَدَءُوا مِنْ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ بِالشَّخْصِ هُمَا آدَمُ وَحَوَّاءُ، فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الْأَشْجَارِ وَالزَّرْعِ واللَّه أَعْلَمُ. النوع الرَّابِعُ: مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الِاسْتِدْلَالُ بِأَحْوَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْإِنْعَامَ لَا يَكْمُلُ إِلَّا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَتُعَاقُبِهِمَا كَمَا قَالَ: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً [الْإِسْرَاءِ: 12] وَمِنْهُ قَوْلُهُ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً [الْأَعْرَافِ: 54] وَقَدْ سَبَقَ الِاسْتِقْصَاءُ فِي تَقْرِيرِهِ فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: يُغَشِّي بِالتَّشْدِيدِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الدَّلَائِلَ النَّيِّرَةَ وَالْقَوَاطِعَ الْقَاهِرَةَ قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ حَيْثُ يَذْكُرُ الدَّلَائِلَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ يَذْكُرُ عَقِبَهَا: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ يُسْنِدُونَ حَوَادِثَ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ إِلَى الِاخْتِلَافَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْأَشْكَالِ الْكَوْكَبِيَّةِ، فَمَا لَمْ تَقُمِ الدَّلَالَةُ عَلَى دَفْعِ هَذَا السُّؤَالِ لَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ مَجَالُ الْفِكْرِ بَاقٍ بَعْدُ وَلَا بُدَّ بَعْدَ هَذَا الْمَقَامِ مِنَ التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ لِيَتِمَّ الِاسْتِدْلَالُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ هَبْ أَنَّكُمْ أَسْنَدْتُمْ حَوَادِثَ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ إِلَى الْأَحْوَالِ الْفَلَكِيَّةِ وَالِاتِّصَالَاتِ الْكَوْكَبِيَّةِ إِلَّا أَنَّا أَقَمْنَا الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ عَلَى أَنَّ اخْتِصَاصَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَجْرَامِ

[سورة الرعد (13) : آية 4]

الْفَلَكِيَّةِ وَطَبْعَهُ وَوَضْعَهُ وَخَاصِّيَّتَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ الْمُقَدِّرِ الْقَدِيمِ/ وَالْمُدَبِّرِ الْحَكِيمِ، فَقَدْ سَقَطَ هَذَا السُّؤَالُ وَهَذَا الْجَوَابُ قَدْ قَرَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَقَامِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ابْتَدَأَ بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ السَّمَاوِيَّةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا كَيْفَ تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَتْبَعَهَا بِالدَّلَائِلِ الْأَرْضِيَّةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْحَوَادِثُ الْأَرْضِيَّةُ لِأَجْلِ الْأَحْوَالِ الْفَلَكِيَّةِ، كَانَ جَوَابُنَا أَنْ نَقُولَ فَهَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّا دَلَّلَنَا فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَى افْتِقَارِ الْأَجْرَامِ الْفَلَكِيَّةِ إِلَى الصَّانِعِ الْحَكِيمِ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ هَذَا السُّؤَالُ قَادِحًا فِي غَرَضِنَا. وَالوجه الثَّانِي: مِنَ الْجَوَابِ أَنْ نُقِيمَ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ السُّفْلِيَّةِ لِأَجْلِ الِاتِّصَالَاتِ الْفَلَكِيَّةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الَّتِي تَأْتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي هَذِهِ اللَّطَائِفِ وَوَقَفَ عَلَيْهَا عَلِمَ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ اشْتَمَلَ عَلَى عُلُومِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. [سورة الرعد (13) : آية 4] وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) [فِي قَوْلُهُ تَعَالَى وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ فِي هَذَا الْعَالَمِ لِأَجْلِ الِاتِّصَالَاتِ الْفَلَكِيَّةِ، وَالْحَرَكَاتِ الْكَوْكَبِيَّةِ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حَصَلَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُخْتَلِفَةٌ بِالطَّبِيعَةِ وَالْمَاهِيَّةِ وَهِيَ مع ذلك متجاورة، فبعضها تكون سبخية، وَبَعْضُهَا تَكُونُ رِخْوَةً، وَبَعْضُهَا تَكُونُ صُلْبَةً، وَبَعْضُهَا تَكُونُ مُنْبِتَةً، وَبَعْضُهَا تَكُونُ حَجَرِيَّةً أَوْ رَمْلِيَّةً وَبَعْضُهَا يَكُونُ طِينًا لَزِجًا، ثُمَّ إِنَّهَا مُتَجَاوِرَةٌ وَتَأْثِيرُ الشَّمْسِ وَسَائِرِ الْكَوَاكِبِ فِي تِلْكَ الْقِطَعِ عَلَى السَّوِيَّةِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَهَا فِي صِفَاتِهَا بِتَقْدِيرِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقِطْعَةَ الْوَاحِدَةَ مِنَ الْأَرْضِ تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ تَأْثِيرُ الشَّمْسِ فِيهَا مُتَسَاوِيًا، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الثِّمَارَ تَجِيءُ مُخْتَلِفَةً فِي الطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالطَّبِيعَةِ وَالْخَاصِّيَّةِ حَتَّى إِنَّكَ قَدْ تَأْخُذُ عُنْقُودًا مِنَ الْعِنَبِ فَيَكُونُ جَمِيعُ حَبَّاتِهِ حُلْوَةً نَضِيجَةً إِلَّا حَبَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهَا بَقِيَتْ حَامِضَةً يَابِسَةً، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ نِسْبَةَ/ الطِّبَاعِ وَالْأَفْلَاكِ لِلْكُلِّ عَلَى السَّوِيَّةِ، بَلْ نَقُولُ: هَاهُنَا مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الْوَرْدِ مَا يَكُونُ أَحَدُ وَجْهَيْهِ فِي غَايَةِ الْحُمْرَةِ، وَالوجه الثَّانِي فِي غَايَةِ السَّوَادِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْوَرْدَ يَكُونُ فِي غَايَةِ الرِّقَّةِ وَالنُّعُومَةِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُقَالَ: وَصَلَ تَأْثِيرُ الشَّمْسِ إِلَى أَحَدِ طَرَفَيْهِ دُونَ الثَّانِي، وَهَذَا يَدُلُّ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً عَلَى أَنَّ الْكُلَّ بِتَدْبِيرِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، لَا بِسَبَبِ الِاتِّصَالَاتِ الْفَلَكِيَّةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْحُجَّةِ وَتَفْسِيرِهَا وَبَيَانِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ بِذِكْرِ هَذَا الْجَوَابِ قَدْ تَمَّتِ الْحُجَّةُ فَإِنَّ هَذِهِ الْحَوَادِثَ السُّفْلِيَّةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُؤَثِّرٍ وَبَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ الْمُؤَثِّرَ لَيْسَ هُوَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَفْلَاكَ وَالطَّبَائِعَ فَعِنْدَ هَذَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فَاعِلٍ آخَرَ سِوَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَعِنْدَهَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ، وَلَا يَبْقَى بَعْدَهُ لِلْفِكْرِ مَقَامٌ الْبَتَّةَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ هَاهُنَا: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لِأَنَّهُ لَا دَافِعَ لِهَذِهِ الْحُجَّةِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْحَوَادِثَ السُّفْلِيَّةَ حَدَثَتْ لَا لِمُؤَثِّرٍ الْبَتَّةَ وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي كَمَالِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِافْتِقَارِ الْحَادِثِ إِلَى الْمُحْدِثِ لَمَّا كَانَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا كَانَ عَدَمُ حُصُولِ هَذَا الْعِلْمِ قَادِحًا فِي كَمَالِ الْعَقْلِ فَلِهَذَا قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الرعد: 3] فَهَذِهِ اللَّطَائِفُ نَفِيسَةٌ مِنْ أَسْرَارِ عِلْمِ الْقُرْآنِ وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَجْعَلَ الْوُقُوفَ عَلَيْهَا سَبَبًا لِلْفَوْزِ بِالرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: أَرْضٌ قَرِيبَةٌ مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى وَاحِدَةٌ طَيِّبَةٌ، وَأُخْرَى سَبَخَةٌ، وَأُخْرَى حَرَّةٌ، وَأُخْرَى رَمْلَةٌ، وَأُخْرَى تَكُونُ حَصْبَاءَ، وَأُخْرَى تَكُونُ حَمْرَاءَ، وَأُخْرَى تَكُونُ سَوْدَاءَ. وَبِالْجُمْلَةِ فَاخْتِلَافُ بِقَاعِ الْأَرْضِ فِي الِارْتِفَاعِ وَالِانْخِفَاضِ وَالطِّبَاعِ وَالْخَاصِّيَّةِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ، وَفِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ (قِطَعًا مُتَجَاوِرَاتٍ) وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ فِي الْأَرْضِ قِطَعًا مُتَجَاوِرَاتٍ. وَأما قوله: وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ فَنَقُولُ: الْجَنَّةُ الْبُسْتَانُ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ النَّخْلُ وَالْكَرْمُ وَالزَّرْعُ وَتَحُفُّهُ تِلْكَ الْأَشْجَارُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً [الْكَهْفِ: 32] قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ كُلُّهَا بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ (وَجَنَّاتٌ) وَالْبَاقُونَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الْأَعْنَابِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ فِي رِوَايَةِ الْقَوَّاسِ: (صُنْوَانٍ) بِضَمِّ الصَّادِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ الصَّادِ وَهُمَا لُغَتَانِ، وَالصِّنْوَانُ جَمْعُ صِنْوٍ مِثْلُ قِنْوَانٍ وَقِنْوٍ وَيُجْمَعُ عَلَى أَصْنَاءٍ مِثْلَ اسْمٍ وَأَسْمَاءٍ. فَإِذَا كَثُرَتْ فَهُوَ الصِّنِيُّ، وَالصِّنِيُّ بِكَسْرِ الصَّادِ وَفَتْحِهَا، وَالصِّنْوُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ وَاحِدًا وَتَنْبُتَ فِيهِ النَّخْلَتَانِ وَالثَّلَاثَةُ فَأَكْثَرُ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ صِنْوٌ. وَذَكَرَ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: / الصِّنْوُ الْمِثْلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا إِنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ» أَيْ مِثْلُهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا فَسَّرْنَا الصِّنْوَ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ كَانَ الْمَعْنَى: إِنَّ النَّخِيلَ مِنْهَا مَا يَنْبُتُ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ شَجَرَتَانِ وَأَكْثَرُ وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَإِذَا فَسَّرْنَاهُ بِالتَّفْسِيرِ الثَّانِي كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّ أَشْجَارَ النَّخِيلِ قَدْ تَكُونُ مُتَمَاثِلَةً مُتَشَابِهَةً، وَقَدْ لَا تَكُونُ كذلك. ثم قال تعالى: تسقى بِمَاءٍ وَاحِدٍ قَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ (يُسْقى) بِالْيَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ يُسْقَى كُلُّهُ أَوْ لِتَغْلِيبِ الْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ لِقَوْلِهِ: (جَنَّاتٌ) قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَمِمَّا يَشْهَدُ لِلتَّأْنِيثِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (يُفَضِّلُ) بِالْيَاءِ عَطْفًا عَلَى قوله: يُدَبِّرُ [الرعد: 2] ، ويفضل [الرعد: 2] ، ويُغْشِي [الرعد: 3] ، والباقون بالنون على تقدير: ونحن نفضل، وفِي الْأُكُلِ قَوْلَانِ: حَكَاهُمَا الْوَاحِدِيُّ حَكَى عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّ الْأُكُلَ الثَّمَرُ الَّذِي يُؤْكَلُ، وَحَكَى عَنْ غَيْرِهِ أَنَّ الْأُكُلَ الْمُهَيَّأُ لِلْأَكْلِ، وَأَقُولُ هَذَا أَوْلَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ: أُكُلُها دائِمٌ [الرَّعْدِ: 35] وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمَطْعُومَاتِ وابن كثير ونافع يقرآن الْأُكْلِ سَاكِنَةَ الْكَافِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَالْبَاقُونَ بضم الكاف وهما لغتان. [سورة الرعد (13) : آية 5] وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ الْقَاهِرَةَ عَلَى مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَسْأَلَةَ الْمَعَادِ فَقَالَ: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ وَفِيهِ أَقْوَالٌ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ تَعْجَبْ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ بَعْدَ مَا كَانُوا قَدْ حَكَمُوا عَلَيْكَ أَنَّكَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَهَذَا عَجَبٌ. وَالثَّانِي: إِنْ تَعْجَبْ يَا مُحَمَّدُ مِنْ عِبَادَتِهِمْ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ نفعاً ولا ضرًا بعد ما عَرَفُوا الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى التَّوْحِيدِ فَهَذَا عَجَبٌ. وَالثَّالِثُ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ إِنْ تَعْجَبْ يَا مُحَمَّدُ فَقَدْ عَجِبْتَ فِي مَوْضِعِ الْعَجَبِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا اعترفوا بأنه تعالى مدبر السموات وَالْأَرْضِ/ وَخَالِقُ الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي رفع السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عَلَى وَفْقِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَهُوَ الَّذِي أَظْهَرَ فِي الْعَالَمِ أَنْوَاعَ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ، فَمَنْ كَانَتْ قُدْرَتُهُ وَافِيَةً بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْعَظِيمَةِ كَيْفَ لَا تَكُونُ وَافِيَةً بِإِعَادَةِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ، لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْأَقْوَى الْأَكْمَلِ فَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْأَقَلِّ الْأَضْعَفِ أَوْلَى، فَهَذَا تَقْرِيرُ مَوْضِعِ التَّعَجُّبِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى هَذَا الْكَلَامَ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنَّمَا لَزِمَ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ الْكُفْرُ بِرَبِّهِمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّ إِنْكَارَ الْبَعْثِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِإِنْكَارِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالصِّدْقِ أَمَّا إِنْكَارُ الْقُدْرَةِ فَكَمَا إِذَا قِيلَ: إِنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ مُوجِبٌ بِالذَّاتِ لَا فَاعِلٌ بِالِاخْتِيَارِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِعَادَةِ. أَوْ قِيلَ: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا لَكِنَّهُ لَيْسَ تَامَّ الْقُدْرَةِ، فَلَا يُمْكِنُهُ إِيجَادُ الْحَيَوَانِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الْأَبَوَيْنِ وَتَأْثِيرَاتِ الطَّبَائِعِ وَالْأَفْلَاكِ، وَأَمَّا إِنْكَارُ الْعِلْمِ فَكَمَا إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ عَالِمٍ بِالْجُزْئِيَّاتِ، فَلَا يمكنه هَذَا الْمُطِيعِ عَنِ الْعَاصِي وَأَمَّا إِنْكَارُ الصِّدْقِ فَكَمَا إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ وَإِنْ أَخْبَرَ عَنْهُ لَكِنَّهُ لَا يَفْعَلُ لِأَنَّ الْكَذِبَ جَائِزٌ عَلَيْهِ وَلَمَّا كَانَ كُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كُفْرًا ثَبَتَ أَنَّ إِنْكَارَ الْبَعْثِ كُفْرٌ بِاللَّهِ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: الْمُرَادُ بِالْأَغْلَالِ: كُفْرُهُمْ وَذِلَّتُهُمْ وَانْقِيَادُهُمْ لِلْأَصْنَامِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا [يس: 8] قَالَ الشَّاعِرُ: لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أَغْلَالٌ وَأَقْيَادُ وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: هَذَا غُلٌّ فِي عُنُقِكَ لِلْعَمَلِ الرَّدِيءِ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَازِمٌ لَكَ وَأَنَّكَ مُجَازًى عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا إِلَّا أَنَّ حَمْلَ الْكَلَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى، وَأَقُولُ: يُمْكِنُ نُصْرَةُ قَوْلِ الْأَصَمِّ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي حُصُولَ الْأَغْلَالِ فِي أَعْنَاقِهِمْ فِي الْحَالِ وَذَلِكَ غَيْرُ حَاصِلٍ وَأَنْتُمْ تَحْمِلُونَ اللَّفْظَ عَلَى أَنَّهُ سَيَحْصُلُ هَذَا الْمَعْنَى وَنَحْنُ نَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّهُ حَاصِلٌ فِي الْحَالِ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَغْلَالِ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا تَارِكٌ لِلْحَقِيقَةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَلِمَ كَانَ قَوْلُكُمْ أَوْلَى مِنْ قَوْلِنَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غَافِرٍ: 71، 72] . وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّهْدِيدُ بِالْعَذَابِ الْمُخَلَّدِ الْمُؤَبَّدِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ الْمُخَلَّدَ لَيْسَ إِلَّا لِلْكُفَّارِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا قَوْلُهُ: هُمْ فِيها خالِدُونَ يُفِيدُ أَنَّهُمْ هُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِالْخُلُودِ لَا غَيْرُهُمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ/ الْكَبَائِرِ لَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ.

[سورة الرعد (13) : آية 6]

المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ الْعَجَبُ هُوَ الَّذِي لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، فَكَانَ الْمُرَادُ وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ عِنْدَكَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَرَأَ بَعْضُهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى بِإِضَافَةِ الْعَجَبِ إِلَى نَفْسِهِ تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ يَجِبُ تَنْزِيهُهَا عَنْ مَبَادِئِ الْأَعْرَاضِ، وَيَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى نِهَايَاتِ الْأَعْرَاضِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَعَجَّبَ مِنَ الشَّيْءِ أَنْكَرَهُ فَكَانَ هَذَا مَحْمُولًا عَلَى الْإِنْكَارِ. المسألة الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ في قوله: أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وَأَمْثَالُهُ إِذَا كَانَ عَلَى صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَمِنْهُمْ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامَيْنِ فِي الْحَرْفَيْنِ وَهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَابْنُ كَثِيرٍ يَسْتَفْهِمُ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَمُدُّ، وَأَبُو عَمْرٍو يَسْتَفْهِمُ بِهَمْزَةٍ مُطَوَّلَةٍ يَمُدُّ فِيهَا وَحَمْزَةُ وَعَاصِمٌ بِهَمْزَتَيْنِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامَيْنِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ يَسْتَفْهِمُ فِي الْأَوَّلِ وَيَقْرَأُ عَلَى الْخَبَرِ فِي الثَّانِي وَابْنُ عَامِرٍ عَلَى الْخَبَرِ فِي الْأَوَّلِ وَالِاسْتِفْهَامِ فِي الثَّانِي ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَنَافِعٌ بِهَمْزَةٍ غَيْرِ مُطَوَّلَةٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ بِهَمْزَتَيْنِ أَمَّا نَافِعٌ فَكَذَلِكَ إِلَّا فِي الصَّافَّاتِ وَكَذَلِكَ ابْنُ عَامِرٍ إِلَّا فِي الْوَاقِعَةِ، وَكَذَلِكَ الْكِسَائِيُّ إِلَّا فِي الْعَنْكَبُوتِ وَالصَّافَّاتِ. المسألة الرابعة: قال الزجاج: العامل في أَإِذا كُنَّا تُراباً محذوف تقديره: أإذا كُنَّا تُرَابًا نُبْعَثُ وَدَلَّ مَا بَعْدَهُ عَلَى المحذوف. [سورة الرعد (13) : آية 6] وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) اعْلَمْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُهَدِّدُهُمْ تَارَةً بِعَذَابِ الْقِيَامَةِ وَتَارَةً بِعَذَابِ الدُّنْيَا، وَالْقَوْمُ كُلَّمَا هَدَّدَهُمْ بِعَذَابِ الْقِيَامَةِ أَنْكَرُوا الْقِيَامَةَ وَالْبَعْثَ وَالْحَشْرَ وَالنَّشْرَ وَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَكُلَّمَا هَدَّدَهُمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا قَالُوا لَهُ: فَجِئْنَا بِهَذَا الْعَذَابِ وَطَلَبُوا مِنْهُ إِظْهَارَهُ وَإِنْزَالَهُ عَلَى سَبِيلِ الطَّعْنِ فِيهِ، وَإِظْهَارِ أَنَّ الَّذِي يَقُولُهُ كَلَامٌ لَا أَصْلَ لَهُ فَلِهَذَا السَّبَبِ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَسْتَعْجِلُونَ الرَّسُولَ/ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَالْمُرَادُ بِالسَّيِّئَةِ هَاهُنَا نُزُولُ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً [الْأَنْفَالِ: 32] وَفِي قَوْلِهِ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الْإِسْرَاءِ: 90- 92] وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ طَعْنًا مِنْهُمْ فِيمَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعِدُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ وَبِحُصُولِ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ فِي الدُّنْيَا فَالْقَوْمُ طَلَبُوا مِنْهُ نُزُولَ الْعَذَابِ وَلَمْ يَطْلُبُوا مِنْهُ حُصُولَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ الْحَسَنَةَ هَاهُنَا بِالْإِمْهَالِ وَالتَّأْخِيرِ وَإِنَّمَا سَمَّوُا الْعَذَابَ سَيِّئَةً لِأَنَّهُ يَسُوءُهُمْ وَيُؤْذِيهِمْ. أما قوله: وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبَ يقولون: العقوبة مثلة ومثلة صَدُقَةٍ وَصَدْقَةٍ، فَالْأُولَى لُغَةُ الْحِجَازِ، وَالثَّانِيَةُ لُغَةُ تَمِيمٍ، فَمَنْ قَالَ مَثُلَةٌ فَجَمْعُهُ مَثُلَاتٌ، وَمَنْ قال مثلة فجمعه مثلات ومثلات بإسكان التاء هَكَذَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُثْلَةُ الْعُقُوبَةُ الْمُبَيِّنَةُ فِي الْمُعَاقَبِ شَيْئًا، وَهُوَ تَغْيِيرٌ تَبْقَى الصُّورَةُ مَعَهُ قَبِيحَةً، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ، مَثَّلَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ إِذَا قَبَّحَ صُورَتَهُ إِمَّا بِقَطْعِ أُذُنِهِ أَوْ أَنْفِهِ أو

[سورة الرعد (13) : آية 7]

سَمْلِ عَيْنَيْهِ أَوْ بَقْرِ بَطْنِهِ فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْعَارِ الْبَاقِي، وَالْخِزْيِ اللَّازِمِ مُثْلَةٌ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا الْحَرْفِ مِنَ الْمِثْلِ الَّذِي هُوَ الشَّبَهُ، وَلَمَّا كَانَ الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ الْعِقَابُ مُشَابِهًا لِلْمُعَاقَبِ وَمُمَاثِلًا لَهُ لَا جَرَمَ سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ (الْمُثُلَاتُ) بِضَمَّتَيْنِ لِإِتْبَاعِ الْفَاءِ الْعَيْنَ، (وَالْمَثْلَاتُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الثَّاءِ كَمَا يُقَالُ: السَّمُرَةُ، وَالْمُثْلَاتُ، بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الثَّاءِ تَخْفِيفُ الْمُثُلَاتِ بِضَمَّتَيْنِ، وَالْمُثْلَاتٌ جَمْعُ مُثْلَةٍ كَرُكْبَةٍ وَرُكْبَاتٍ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ مَعْنَى الْآيَةِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ الَّذِي لَمْ نُعَاجِلْهُمْ بِهِ، وَقَدْ عَلِمُوا مَا نَزَلَ مِنْ عُقُوبَاتِنَا بِالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ فَلَمْ يَعْتَبِرُوا بِهَا، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَرْدَعَهُمْ خَوْفُ ذَلِكَ عَنِ الْكُفْرِ اعْتِبَارًا بِحَالِ مَنْ سَلَفَ. أما قوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ فَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَعْفُو عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أن قوله تعالى: لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ أَيْ حَالَ اشْتِغَالِهِمْ بِالظُّلْمِ كَمَا أَنَّهُ يُقَالُ: رَأَيْتُ الْأَمِيرَ عَلَى أَكْلِهِ أَيْ حَالَ اشْتِغَالِهِ بِالْأَكْلِ فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَعَالَى غَافِرًا لِلنَّاسِ حَالَ اشْتِغَالِهِمْ بِالظُّلْمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَالَ اشْتِغَالِ الْإِنْسَانِ بِالظُّلْمِ لَا يَكُونُ تَائِبًا فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَغْفِرُ الذَّنْبَ قَبْلَ الِاشْتِغَالِ بِالتَّوْبَةِ. ثُمَّ نَقُولُ: تُرِكَ الْعَمَلُ بِهَذَا الدَّلِيلِ فِي حق الْكُفْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكَبِيرَةِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، أَوْ نَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ بَلْ ذَكَرَ مَعَهُ قَوْلَهُ/ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ الْأَوَّلُ عَلَى أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، وَأَنْ يُحْمَلَ الثَّانِي عَلَى أَحْوَالِ الْكُفَّارِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: لَذُو مَغْفِرَةٍ لِأَهْلِ الصَّغَائِرِ لِأَجْلِ أَنَّ عُقُوبَتَهُمْ مُكَفِّرَةٌ ثُمَّ نَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ إِذَا تَابُوا وَإِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا لَا يُعَجِّلُ الْعِقَابَ إِمْهَالًا لَهُمْ فِي الْإِتْيَانِ بِالتَّوْبَةِ، فَإِنْ تَابُوا فَهُوَ ذُو مَغْفِرَةٍ لَهُمْ وَيَكُونُ مِنْ هَذِهِ الْمَغْفِرَةِ تَأْخِيرُ الْعِقَابِ إِلَى الْآخِرَةِ بَلْ نَقُولُ: يَجِبُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا طَلَبُوا تَعْجِيلَ الْعِقَابِ، فَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ فِيهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى تَأْخِيرِ الْعِقَابِ حَتَّى يَنْطَبِقَ الْجَوَابُ عَلَى السُّؤَالِ ثُمَّ نَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا لَا يُعَجِّلُ الْعُقُوبَةَ إِمْهَالًا لَهُمْ فِي الْإِتْيَانِ بِالتَّوْبَةِ، فَإِنْ تَابُوا فَهُوَ ذُو مَغْفِرَةٍ، وَإِنْ عَظُمَ ظُلْمُهُمْ وَلَمْ يَتُوبُوا فَهُوَ شَدِيدُ الْعِقَابِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ تَأْخِيرَ الْعِقَابِ لَا يُسَمَّى مَغْفِرَةً، وَإِلَّا لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: الْكُفَّارُ كُلُّهُمْ مَغْفُورٌ لَهُمْ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخَّرَ عِقَابَهُمْ إِلَى الْآخِرَةِ، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى تَمَدَّحَ بِهَذَا وَالتَّمَدُّحُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالتَّفَضُّلِ. أَمَّا بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ فَلَا تَمَدُّحَ فِيهِ وَعِنْدَكُمْ يَجِبُ غُفْرَانُ الصَّغَائِرِ وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي حُصُولَ الْمَغْفِرَةِ حَالَ الظُّلْمِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ حَالَ حُصُولِ الظُّلْمِ يَمْنَعُ حُصُولَ التَّوْبَةِ، فسقطت هذه الأسئلة وصح ما ذكرناه. [سورة الرعد (13) : آية 7] وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ طَعَنُوا فِي نُبُوَّتِهِ بِسَبَبِ طَعْنِهِمْ فِي الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ أَوَّلًا، ثُمَّ طَعَنُوا فِي نُبُوَّتِهِ بِسَبَبِ طَعْنِهِمْ فِي صِحَّةِ مَا يُنْذِرُهُمْ بِهِ مِنْ نُزُولِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ ثَانِيًا، ثُمَّ طَعَنُوا فِي نُبُوَّتِهِ بِأَنْ طَلَبُوا مِنْهُ الْمُعْجِزَةَ وَالْبَيِّنَةَ ثَالِثًا، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ السَّبَبَ فِيهِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا كَوْنَ الْقُرْآنِ مِنْ جِنْسِ الْمُعْجِزَاتِ وَقَالُوا: هَذَا كِتَابٌ مِثْلُ سَائِرِ الْكُتُبِ وَإِتْيَانُ الْإِنْسَانِ بِتَصْنِيفٍ مُعَيَّنٍ وكتاب معين لا يكون معجزة الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا الْمُعْجِزُ مَا يَكُونُ مِثْلَ مُعْجِزَاتِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ مُعْجِزٌ فِي صِدْقِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سِوَى الْقُرْآنِ. قَالُوا: / إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ، إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا طَعَنُوا فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا، مَعَ أَنَّهُ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ ظَهَرَ عَلَى يَدِهِ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ لَامْتَنَعَ أَنْ يَقُولُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ لَهُ مُعْجِزٌ سِوَى الْقُرْآنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْهُ طَلَبُ مُعْجِزَاتٍ سِوَى الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي شَاهَدُوهَا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَحَنِينِ الْجِذْعِ وَنُبُوعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَإِشْبَاعِ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ مِنَ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ، فَطَلَبُوا مِنْهُ مُعْجِزَاتٍ قَاهِرَةً غَيْرَ هَذِهِ الْأُمُورِ: مِثْلَ فَلْقِ الْبَحْرِ بِالْعَصَا، وَقَلْبِ الْعَصَا ثُعْبَانًا. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا السَّبَبُ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَهُمْ وَمَا أَعْطَاهُمْ؟ قُلْنَا إِنَّهُ لَمَّا أَظْهَرَ الْمُعْجِزَةَ الْوَاحِدَةَ فَقَدْ تَمَّ الْغَرَضُ فَيَكُونُ طَلَبُ الْبَاقِي تَحَكُّمًا وَظُهُورُ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةٌ، فَمَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ حَاجَةٌ إِلَى سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ، وَأَيْضًا فَلَعَلَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُمْ يُصِرُّونَ عَلَى الْعِنَادِ بَعْدَ ظُهُورِ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الْمُلْتَمَسَةِ، وَكَانُوا يَصِيرُونَ حِينَئِذٍ مُسْتَوْجِبِينَ لِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مَطْلُوبَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الْأَنْفَالِ: 23] بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهِمْ مَطْلُوبَهُمْ لِعِلْمِهِ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَأَيْضًا فَفَتْحُ هَذَا الْبَابِ يُفْضِي إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ. وَهُوَ أَنَّهُ كُلَّمَا أَتَى بِمُعْجِزَةٍ جَاءَ وَاحِدٌ آخَرُ، فَطَلَبَ مِنْهُ مُعْجِزَةً أُخْرَى، وَذَلِكَ يُوجِبُ سُقُوطَ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ. الوجه الثاني: وفي الْجَوَابِ لَعَلَّ الْكُفَّارَ ذَكَرُوا هَذَا الْكَلَامَ قَبْلَ مُشَاهَدَةِ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى التَّنْوِينِ فِي قَوْلِهِ: هادٍ وَحَذْفِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَقْفِ، فَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: بِالْوَقْفِ عَلَى الْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ: بِغَيْرِ الْيَاءِ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ فُلَيْحٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ لِلتَّخْفِيفِ. المسألة الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُنْذِرٌ لِقَوْمِهِ مُبَيِّنٌ لَهُمْ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ مِنْ قَبْلِهِ هَادٍ وَمُنْذِرٌ وَدَاعٍ، وَأَنَّهُ تَعَالَى سَوَّى بَيْنَ الْكُلِّ فِي إِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لِكُلِّ قَوْمٍ طَرِيقٌ مَخْصُوصٌ لِأَجْلِهِ اسْتَحَقَّ التَّخْصِيصَ بِتِلْكَ الْمُعْجِزَةِ الْمَخْصُوصَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ فِي زَمَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ السِّحْرَ جَعَلَ مُعْجِزَتَهُ مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى طَرِيقَتِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ فِي أَيَّامِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الطِّبَّ، جَعَلَ مُعْجِزَتَهُ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ وَهُوَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ فِي أَيَّامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ الْفَصَاحَةَ وَالْبَلَاغَةَ جَعَلَ مُعْجِزَتَهُ مَا كَانَ لَائِقًا بِذَلِكَ الزَّمَانِ وَهُوَ فَصَاحَةُ الْقُرْآنِ فَلَمَّا كَانَ الْعَرَبُ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذِهِ الْمُعْجِزَةِ مَعَ كَوْنِهَا أَلْيَقَ بِطِبَاعِهِمْ فَبِأَنْ لَا يُؤْمِنُوا عِنْدَ إِظْهَارِ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ أَوْلَى فَهَذَا هُوَ الَّذِي قَرَّرَهُ الْقَاضِي وَهُوَ الوجه الصَّحِيحُ الَّذِي يَبْقَى الْكَلَامُ مَعَهُ مُنْتَظِمًا.

[سورة الرعد (13) : الآيات 8 إلى 10]

وَالوجه الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَجْحَدُونَ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا فَلَا يَضِيقُ قَلْبُكَ بِسَبَبِهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تُنْذِرَ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ الْإِيمَانُ فِي صُدُورِهِمْ وَلَسْتَ بِقَادِرٍ عَلَيْهِمْ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ، قَادِرٌ عَلَى هِدَايَتِهِمْ بِالتَّخْلِيقِ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَيَكُونُ الْمَعْنَى لَيْسَ لَكَ إِلَّا الْإِنْذَارُ، وَأَمَّا الْهِدَايَةُ فَمِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الظَّاهِرِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا هَاهُنَا أَقْوَالًا: الْأَوَّلُ: الْمُنْذِرُ وَالْهَادِي شَيْءٌ وَاحِدٌ وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ مُنْذِرٌ عَلَى حِدَةٍ وَمُعْجِزَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرُ مُعْجِزَةِ الْآخَرِ. الثَّانِي: الْمُنْذِرُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْهَادِي هُوَ اللَّهُ تَعَالَى رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ. وَالثَّالِثُ: الْمُنْذِرُ النَّبِيُّ. وَالْهَادِي عَلِيٌّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ فَقَالَ: «أَنَا الْمُنْذِرُ» ثُمَّ أَوْمَأَ إِلَى مَنْكِبِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ: «أَنْتَ الْهَادِي يَا عَلِيُّ بِكَ يَهْتَدِي المهتدون من بعدي» . [سورة الرعد (13) : الآيات 8 الى 10] اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) [فِي قَوْلُهُ تَعَالَى اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: فِي وَجْهِ النَّظْمِ وُجُوهٌ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ طَلَبُوا آيَاتٍ أُخْرَى غَيْرَ مَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ فَيَعْلَمُ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ هَلْ طَلَبُوا الْآيَةَ الْأُخْرَى لِلِاسْتِرْشَادِ وَطَلَبِ الْبَيَانِ أَوْ لِأَجْلِ التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ، وَهَلْ يَنْتَفِعُونَ/ بِظُهُورِ تِلْكَ الْآيَاتِ، أَوْ يَزْدَادُ إِصْرَارُهُمْ وَاسْتِكْبَارُهُمْ، فَلَوْ عَلِمَ تَعَالَى أَنَّهُمْ طَلَبُوا ذَلِكَ لِأَجْلِ الِاسْتِرْشَادِ وَطَلَبِ الْبَيَانِ وَمَزِيدِ الْفَائِدَةِ، لَأَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا مَنَعَهُمْ عَنْهُ، لَكِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ إِلَّا لِأَجَلِ مَحْضِ الْعِنَادِ لَا جَرَمَ أَنَّهُ تَعَالَى مَنَعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا [يُونُسَ: 20] وَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ. [العنكبوت: 50] وَالثَّانِي: أَنَّ وَجْهَ النَّظْمِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قال: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ [الرعد: 5] فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ بِسَبَبِ أَنَّ أَجْزَاءَ أَبْدَانِ الْحَيَوَانَاتِ عِنْدَ تَفَرُّقِهَا وَتَفَتُّتِهَا يَخْتَلِطُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَلَا يَبْقَى الِامْتِيَازُ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا لَا يُبْقِي الِامْتِيَازَ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، أَمَّا فِي حَقِّ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فَإِنَّهُ يُبْقِي تِلْكَ الْأَجْزَاءَ بِحَيْثُ يَمْتَازُ بَعْضُهَا عَنِ الْبَعْضِ، ثُمَّ احْتَجَّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ [الرعد: 6] وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ فَهُوَ تَعَالَى إِنَّمَا يُنْزِلُ الْعَذَابَ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الثَّانِيَةُ: لَفْظُ «مَا» فِي قَوْلِهِ: مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، فَإِنْ كَانَتْ مَوْصُولَةً، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُهُ مِنَ الْوَلَدِ أَنَّهُ مِنْ أَيِّ الْأَقْسَامِ أَهُوَ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى وَتَامٌّ أَوْ نَاقِصٌ وَحَسَنٌ أَوْ قَبِيحٌ وَطَوِيلٌ أَوْ قَصِيرٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الْحَاضِرَةِ وَالْمُتَرَقَّبَةِ فِيهِ. ثم قال: وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَالْغَيْضُ هُوَ النُّقْصَانُ سَوَاءٌ كَانَ لَازِمًا أَوْ مُتَعَدِّيًا يُقَالُ: غَاضَ الماء وغضته

أَنَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَغِيضَ الْماءُ [هُودٍ: 44] وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ وَمَا تَغِيضُهُ الْأَرْحَامُ إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الضَّمِيرَ الرَّاجِعَ وَقَوْلُهُ: وَما تَزْدادُ أَيْ تَأْخُذُهُ زِيَادَةً تَقُولُ: أَخَذْتُ مِنْهُ حَقِّي وَازْدَدْتُ مِنْهُ كَذَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَازْدَادُوا تِسْعاً [الْكَهْفِ: 25] ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا تَغِيضُهُ الرَّحِمُ وَتَزْدَادُهُ عَلَى وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: عَدَدُ الْوَلَدِ فَإِنَّ الرَّحِمَ قَدْ يَشْتَمِلُ عَلَى وَاحِدٍ وَاثْنَيْنِ وَعَلَى ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ يُرْوَى أَنَّ شَرِيكًا كَانَ رَابِعَ أَرْبَعَةٍ فِي بَطْنِ أُمِّهِ. الثَّانِي: الْوَلَدُ قَدْ يَكُونُ مُخَدَّجًا، وَقَدْ يَكُونُ تَامًّا. الثَّالِثُ: مُدَّةُ وِلَادَتِهِ قَدْ تَكُونُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَزْيَدَ عَلَيْهَا إِلَى سَنَتَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِلَى أَرْبَعَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَإِلَى خَمْسٍ عِنْدَ مَالِكٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الضَّحَّاكَ وُلِدَ لِسَنَتَيْنِ، وَهَرِمُ بْنُ حَيَّانَ بَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعَ سِنِينَ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ هَرِمًا. الرَّابِعُ: الدَّمُ فَإِنَّهُ تَارَةً يَقِلُّ وَتَارَةً يَكْثُرُ. الْخَامِسُ: مَا يَنْقُصُ بِالسَّقْطِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتِمَّ وَمَا يَزْدَادُ بِالتَّمَامِ. السَّادِسُ: مَا يَنْقُصُ بِظُهُورِ دَمِ الْحَيْضِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا سَالَ الدَّمُ فِي وَقْتِ الْحَمْلِ ضَعُفَ الْوَلَدُ وَنَقَصَ. وَبِمِقْدَارِ حُصُولِ ذَلِكَ النُّقْصَانِ يَزْدَادُ أَيَّامَ الْحَمْلِ لِتَصِيرَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ/ جَابِرَةً لِذَلِكَ النُّقْصَانِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كُلَّمَا سَالَ الْحَيْضُ فِي وَقْتِ الْحَمْلِ يَوْمًا زَادَ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ يَوْمًا لِيَحْصُلَ بِهِ الْجَبْرُ وَيَعْتَدِلَ الْأَمْرُ. السَّابِعُ: أَنَّ دَمَ الْحَيْضِ فَضْلَةٌ تَجْتَمِعُ فِي بَطْنِ الْمَرْأَةِ فَإِذَا امْتَلَأَتْ عُرُوقُهَا مِنْ تِلْكَ الْفَضَلَاتِ فَاضَتْ وَخَرَجَتْ، وَسَالَتْ مِنْ دَوَاخِلِ تِلْكَ الْعُرُوقِ، ثُمَّ إِذَا سَالَتْ تِلْكَ الْمَوَادُّ امْتَلَأَتْ تِلْكَ الْعُرُوقُ مَرَّةً أُخْرَى هَذَا كُلُّهُ إِذَا قُلْنَا إِنَّ كَلِمَةَ «مَا» مَوْصُولَةٌ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ حَمْلَ كُلِّ أُنْثَى وَيَعْلَمُ غَيْضَ الْأَرْحَامِ وَازْدِيَادَهَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَا مِنْ أَوْقَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ. وَأما قوله تَعَالَى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ فَمَعْنَاهُ: بِقَدَرٍ وَاحِدٍ لَا يُجَاوِزُهُ وَلَا يَنْقُصُ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَرِ: 49] وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الْفُرْقَانِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الْفُرْقَانِ: 2] . وَاعْلَمْ أن قوله: كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعِنْدِيَّةِ الْعِلْمَ وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ كَمِّيَّةَ كُلِّ شَيْءٍ وَكَيْفِيَّتَهُ عَلَى الوجه الْمُفَصَّلِ الْمُبَيَّنِ وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ وُقُوعُ التَّغْيِيرِ فِي تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعِنْدِيَّةِ أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّصَ كُلَّ حَادِثٍ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَحَالَةٍ مُعَيَّنَةٍ بِمَشِيئَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ وَإِرَادَتِهِ السَّرْمَدِيَّةِ، وَعِنْدَ حُكَمَاءِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى وَضَعَ أَشْيَاءَ كُلِّيَّةً وَأَوْدَعَ فِيهَا قُوًى وَخَوَاصَّ، وَحَرَّكَهَا بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ حَرَكَاتِهَا الْمُقَدَّرَةِ بِالْمَقَادِيرِ الْمَخْصُوصَةِ أَحْوَالٌ جُزْئِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ وَمُنَاسَبَاتٌ مَخْصُوصَةٌ مُقَدَّرَةٌ، وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَأَحْوَالُهُمْ وَخَوَاطِرُهُمْ، وَهُوَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ. ثم قال تَعَالَى: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ علم ما غاب عن خَلْقُهُ وَمَا شَهِدُوهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَعَلَى هَذَا (الْغَيْبُ) مَصْدَرٌ يُرِيدُ بِهِ الْغَائِبَ، (وَالشَّهَادَةُ) أَرَادَ بِهَا الشَّاهِدَ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْغَائِبِ وَالشَّاهِدِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: الْغَائِبُ هُوَ الْمَعْلُومُ، وَالشَّاهِدُ هُوَ الْمَوْجُودُ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْغَائِبُ مَا غَابَ عَنِ الْحِسِّ، وَالشَّاهِدُ مَا حَضَرَ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْغَائِبُ مَا لَا يَعْرِفُهُ الْخَلْقُ، وَالشَّاهِدُ مَا يَعْرِفُهُ الْخَلْقُ. وَنَقُولُ: الْمَعْلُومَاتُ قِسْمَانِ: الْمَعْدُومَاتُ وَالْمَوْجُودَاتُ، وَالْمَعْدُومَاتُ مِنْهَا مَعْدُومَاتٌ يَمْتَنِعُ وُجُودُهَا وَمِنْهَا مَعْدُومَاتٌ لَا يَمْتَنِعُ وُجُودُهَا، وَالْمَوْجُودَاتُ أَيْضًا قِسْمَانِ: مَوْجُودَاتٌ يَمْتَنِعُ عَدَمُهَا، وَمَوْجُودَاتٌ لَا يَمْتَنِعُ عَدَمُهَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ لَهُ أَحْكَامٌ وَخَوَاصُّ، وَالْكُلُّ مَعْلُومٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَحَكَى الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْوَالِدُ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ إِمَامِ الحرمين رحمهم اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِلَّهِ تَعَالَى مَعْلُومَاتٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَلَهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ، مَعْلُومَاتٌ أُخْرَى لَا نِهَايَةَ لَهَا، لِأَنَّ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ يَعْلَمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ

[سورة الرعد (13) : آية 11]

يُمْكِنُ وُقُوعُهُ فِي أَحْيَازٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا عَلَى الْبَدَلِ وَمَوْصُوفًا بِصِفَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا عَلَى الْبَدَلِ، وَهُوَ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ الْأَحْوَالِ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ دَاخِلٌ تَحْتِ قَوْلِهِ تَعَالَى: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَقِيبَهُ قَوْلَهُ: الْكَبِيرُ وَهُوَ تَعَالَى يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَبِيرًا بِحَسَبِ الْجُثَّةِ وَالْحَجْمِ وَالْمِقْدَارِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَبِيرًا بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ وَالْمَقَادِيرِ الْإِلَهِيَّةِ ثُمَّ وَصَفَ تَعَالَى نَفْسَهُ بِأَنَّهُ الْمُتَعَالِ وَهُوَ الْمُتَنَزِّهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّهًا فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ فَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مَوْصُوفًا بِالْعِلْمِ الْكَامِلِ وَالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ، وَمُنَزَّهًا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى الْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَعَلَى الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا وَعَلَى الْعَذَابِ الَّذِي اسْتَعْجَلُوهُ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُؤَخِّرُ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ عِنْدَ قَوْمٍ وَبِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ عِنْدَ آخَرِينَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ (الْمُتَعَالِي) بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَقْفِ وَالْوَصْلِ عَلَى الْأَصْلِ. وَالْبَاقُونَ بِحَذْفِ الْيَاءِ فِي الْحَالَتَيْنِ لِلتَّخْفِيفِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ بَيَانَ كَوْنِهِ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ فَقَالَ: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: لَفْظُ (سَوَاءٌ) يَطْلُبُ اثْنَيْنِ تَقُولُ سَوَاءٌ زَيْدٌ وَعَمْرٌو ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ سَوَاءً مَصْدَرٌ وَالْمَعْنَى: ذُو سَوَاءٍ كَمَا تَقُولُ: عَدْلٌ زَيْدٌ وَعَمْرٌو أَيْ ذَوَا عَدْلٍ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَوَاءٌ بِمَعْنَى مُسْتَوٍ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِضْمَارِ إِلَّا أَنَّ سِيبَوَيْهِ يَسْتَقْبِحُ أَنْ يَقُولَ مُسْتَوٍ زَيْدٌ وَعَمْرٌو لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْفَاعِلِينَ إِذَا كَانَتْ نَكِرَاتٍ لَا يُبْدَأُ بِهَا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: بَلْ هَذَا الوجه أَوْلَى لِأَنَّ حَمْلَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ يُغْنِي عَنِ الْتِزَامِ الْإِضْمَارِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ. المسألة الثَّانِيَةُ: فِي الْمُسْتَخْفِي وَالسَّارِبِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: يُقَالُ أَخْفَيْتُ الشَّيْءَ أُخْفِيهِ إِخْفَاءً فَخَفِيَ وَاسْتَخْفَى فُلَانٌ مِنْ فُلَانٍ أَيْ تَوَارَى وَاسْتَتَرَ. وَقَوْلُهُ: وَسارِبٌ بِالنَّهارِ قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: ظَاهِرٌ بِالنَّهَارِ فِي سَرْبِهِ أَيْ طَرِيقِهِ. يُقَالُ: خَلَا لَهُ سَرْبُهُ، أَيْ طَرِيقُهُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ سَرَبَتِ الْإِبِلُ تَسْرُبُ سَرَبًا، أَيْ مَضَتْ فِي الْأَرْضِ ظَاهِرَةً حَيْثُ شَاءَتْ، فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَمَعْنَى الْآيَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْإِنْسَانُ مُسْتَخْفِيًا فِي الظُّلُمَاتِ أَوْ كَانَ ظَاهِرًا فِي الطُّرُقَاتِ، فَعِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى مُحِيطٌ بِالْكُلِّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: سَوَاءٌ مَا أَضْمَرَتْهُ الْقُلُوبُ وَأَظْهَرَتْهُ الْأَلْسِنَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَوَاءٌ مَنْ يُقْدِمُ عَلَى الْقَبَائِحِ فِي ظُلُمَاتِ اللَّيَالِي، وَمَنْ يَأْتِي بِهَا فِي النَّهَارِ الظَّاهِرِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَالِي. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَقَلَهُ الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْأَخْفَشِ وَقُطْرُبٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمُسْتَخْفِي الظَّاهِرُ وَالسَّارِبُ الْمُتَوَارِي وَمِنْهُ يُقَالُ: خَفَيْتُ الشَّيْءَ وَأَخْفَيْتُهُ أَيْ أَظْهَرْتُهُ. وَاخْتَفَيْتُ الشَّيْءَ اسْتَخْرَجْتُهُ وَيُسَمَّى النَّبَّاشُ الْمُسْتَخْفِي وَالسَّارِبُ الْمُتَوَارِي وَمِنْهُ يُقَالُ: لِلدَّاخِلِ سَرِبًا، وَالسَّرَبُ الْوَحْشُ إِذَا/ دَخَلَ فِي السِّرْبِ أَيْ فِي كِنَاسِهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا الوجه صَحِيحٌ فِي اللُّغَةِ، إِلَّا أَنَّ الِاخْتِيَارَ هُوَ الوجه الْأَوَّلُ لِإِطْبَاقِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا فَاللَّيْلُ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِتَارِ، وَالنَّهَارُ على الظهور والانتشار. [سورة الرعد (13) : آية 11] لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11)

[في قوله تَعَالَى لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ] اعْلَمْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي «لَهُ» عَائِدٌ إِلَى «مَنْ» فِي قَوْلِهِ: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ [الرعد: 10] وَقِيلَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ فِي عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَالْمَعْنَى: لِلَّهِ مُعَقِّبَاتٌ، وَأَمَّا الْمُعَقِّبَاتُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مُعْتَقِبَاتٍ فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الْقَافِ كَقَوْلِهِ: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ [التَّوْبَةِ: 90] وَالْمُرَادُ الْمُعْتَذِرُونَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَقَبَهُ إِذَا جَاءَ عَلَى عَقِبِهِ فَاسْمُ الْمُعَقِّبِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَا خَلَفَ يَعْقُبُ ما قبله، والمعنى في كلا الوجهين وَاحِدٌ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي الْمُرَادِ بِالْمُعَقِّبَاتِ قَوْلَانِ. الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ الْحَفَظَةُ وَإِنَّمَا صَحَّ وَصْفُهُمْ بِالْمُعَقِّبَاتِ، إِمَّا لِأَجْلِ أَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّيْلِ تَعْقُبُ مَلَائِكَةَ النَّهَارِ وَبِالْعَكْسِ، وَإِمَّا لِأَجْلِ أَنَّهُمْ يَتَعَقَّبُونَ أَعْمَالَ الْعِبَادِ وَيَتْبَعُونَهَا بِالْحِفْظِ وَالْكَتْبِ، وَكُلُّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ فَقَدْ عَقَّبَ، فَعَلَى هَذَا الْمُرَادُ مِنَ الْمُعَقِّبَاتِ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ. رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنِ الْعَبْدِ كَمْ مَعَهُ مِنْ مَلَكٍ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَلَكٌ عَنْ يَمِينِكَ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ وَهُوَ أَمِينٌ عَلَى الَّذِي عَلَى الشِّمَالِ فَإِذَا عَمِلْتَ حَسَنَةً كُتِبَتْ عَشْرًا، وَإِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً قَالَ الَّذِي عَلَى الشِّمَالِ لِصَاحِبِ الْيَمِينِ أَكْتُبُ؟ فَيَقُولُ لَا لَعَلَّهُ يَتُوبُ فَإِذَا قَالَ ثَلَاثًا قَالَ نَعَمْ اكْتُبْ أَرَاحَنَا اللَّهُ مِنْهُ فَبِئْسَ الْقَرِينُ مَا أَقَلَّ مُرَاقَبَتَهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَاسْتِحْيَاءَهُ مِنَّا، وَمَلَكَانِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ وَمِنْ خَلْفِكَ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَمَلَكٌ قَابِضٌ عَلَى نَاصِيَتِكَ فَإِذَا تَوَاضَعْتَ لِرَبِّكَ رَفَعَكَ وَإِنْ تَجَبَّرْتَ قَصَمَكَ، وَمَلَكَانِ عَلَى شَفَتِكَ يَحْفَظَانِ عَلَيْكَ الصَّلَاةَ عَلَيَّ، وَمَلَكٌ عَلَى فِيكَ لَا يَدْعُ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَّةُ فِي فِيكَ، وَمَلَكَانِ عَلَى عَيْنَيْكَ فَهَؤُلَاءِ عَشَرَةُ أَمْلَاكٍ عَلَى كُلِّ آدَمِيٍّ تُبَدَّلُ مَلَائِكَةُ/ اللَّيْلِ بِمَلَائِكَةِ النَّهَارِ فَهُمْ عِشْرُونَ مَلَكًا عَلَى كُلِّ آدَمِيٍّ» . وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَتَعَاقَبُ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ» . وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الْإِسْرَاءِ: 78] قِيلَ: تَصْعَدُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَهِيَ عَشَرَةٌ وَتَنْزِلُ مَلَائِكَةُ النَّهَارِ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق: 17] صَاحِبُ الْيَمِينِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ وَالَّذِي عَنْ يَسَارِهِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَلَهُ مَلَكٌ يَحْفَظُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْهَوَامِّ فِي نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ. وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْمَلَائِكَةُ ذُكُورٌ، فَلِمَ ذَكَرَ فِي جَمْعِهَا جَمْعَ الْإِنَاثِ وَهُوَ الْمُعَقِّبَاتُ؟ وَالْجَوَابُ: فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُعَقِّبَاتُ ذُكْرَانٌ جَمْعُ مَلَائِكَةٍ مُعَقِّبَةٍ، ثُمَّ جُمِعَتْ مُعَقِّبَةٌ بِمُعَقِّبَاتٍ، كَمَا قِيلَ: ابْنَاوَاتُ سَعْدٍ وَرِجَالَاتُ بَكْرٍ جَمْعُ رِجَالٍ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى التَّذْكِيرِ قَوْلُهُ: يَحْفَظُونَهُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ: إِنَّمَا أُنِّثَتْ لِكَثْرَةِ ذَلِكَ مِنْهَا، نَحْوَ: نَسَّابَةٌ، وَعَلَّامَةٌ، وَهُوَ ذَكَرٌ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ أُولَئِكَ الْمُعَقِّبَاتِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُسْتَخْفِيَ بِاللَّيْلِ وَالسَّارِبَ بِالنَّهَارِ قَدْ أَحَاطَ بِهِ هَؤُلَاءِ الْمُعَقِّبَاتُ فَيَعُدُّونَ عَلَيْهِ أَعْمَالَهُ وَأَقْوَالَهُ بِتَمَامِهَا، وَلَا يشذ من تلك الأعمال والأقوال من خلفهم شَيْءٌ أَصْلًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْمُرَادُ يَحْفَظُونَهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَهَالِكِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، لِأَنَّ السَّارِبَ بِالنَّهَارِ إِذَا سَعَى فِي مُهِمَّاتِهِ فَإِنَّمَا يَحْذَرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خلفه.

السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. وَالْجَوَابُ: ذَكَرَ الْفَرَّاءُ فِيهِ قَوْلَيْنِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالتَّقْدِيرُ: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ يَحْفَظُونَهُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ فِيهِ إِضْمَارًا أَيْ ذَلِكَ الْحِفْظُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أَيْ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَحُذِفَ الِاسْمُ وَأُبْقِيَ خَبَرُهُ كَمَا يُكْتَبُ عَلَى الْكِيسِ، أَلْفَانِ وَالْمُرَادُ الَّذِي فِيهِ أَلْفَانِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّ كَلِمَةَ «مِنْ» مَعْنَاهَا الْبَاءُ وَالتَّقْدِيرُ: يَحْفَظُونَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَبِإِعَانَتِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِلْمَلَائِكَةِ وَلَا لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى أَنْ يَحْفَظُوا أَحَدًا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَمِمَّا قَضَاهُ عَلَيْهِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي جَعْلِ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ مُوَكَّلِينَ عَلَيْنَا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنَجِّمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ التَّدْبِيرَ فِي كُلِّ يَوْمٍ لِكَوْكَبٍ عَلَى حِدَةٍ وَكَذَا/ الْقَوْلُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْكَوَاكِبَ لَهَا أَرْوَاحٌ عِنْدَهُمْ، فَتِلْكَ التَّدْبِيرَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي الْحَقِيقَةِ لِتِلْكَ الْأَرْوَاحِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي تَدْبِيرِ الْقَمَرِ وَالْهِيلَاجِ وَالْكَدَخْدَا عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُنَجِّمُونَ. وَأَمَّا أَصْحَابُ الطَّلْسَمَاتِ فَهَذَا الْكَلَامُ مَشْهُورٌ فِي أَلْسِنَتِهِمْ وَلِذَلِكَ تَرَاهُمْ يَقُولُونَ: أَخْبَرَنِي الطِّبَاعِيُّ التَّامُّ. وَمُرَادُهُمْ بِالطِّبَاعِيِّ التَّامِّ أَنَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ رُوحًا فَلَكِيَّةً يَتَوَلَّى إِصْلَاحَ مُهِمَّاتِهِ وَدَفْعَ بَلِيَّاتِهِ وَآفَاتِهِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ قُدَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ وَأَصْحَابِ الْأَحْكَامِ فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ مَجِيئُهُ مِنَ الشَّرْعِ؟ وَتَمَامُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ مُخْتَلِفَةٌ فِي جَوَاهِرِهَا وَطَبَائِعِهَا فَبَعْضُهَا خِيِّرَةٌ، وَبَعْضُهَا شِرِّيرَةٌ، وَبَعْضُهَا مُعَزَّةٌ، وَبَعْضُهَا مُذَلَّةٌ، وَبَعْضُهَا قَوِيَّةُ الْقَهْرِ وَالسُّلْطَانِ، وَبَعْضُهَا ضَعِيفَةٌ سَخِيفَةٌ. وَكَمَا أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ كَذَلِكَ، فَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْأَرْوَاحِ الْفَلَكِيَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْفَلَكِيَّةَ فِي كُلِّ بَابٍ وَكُلِّ صِفَةٍ أَقْوَى مِنَ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ تَكُونُ مُتَشَارِكَةً فِي طَبِيعَةٍ خَاصَّةٍ وَصْفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، لِمَا أَنَّهَا تَكُونُ فِي تَرْبِيَةِ رُوحٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْفَلَكِيَّةِ مُشَاكِلَةً لَهَا فِي الطَّبِيعَةِ وَالْخَاصِّيَّةِ، وَتَكُونُ تِلْكَ الْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ كَأَنَّهَا أَوْلَادٌ لِذَلِكَ الرُّوحِ الْفَلَكِيِّ. وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ الرُّوحُ الْفَلَكِيُّ مُعِينًا لَهَا عَلَى مُهِمَّاتِهَا وَمُرْشِدًا لَهَا إِلَى مَصَالِحِهَا وَعَاصِمًا لَهَا عَنْ صُنُوفِ الْآفَاتِ، فَهَذَا كَلَامٌ ذَكَرَهٌ مُحَقِّقُو الْفَلَاسِفَةِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ أَمْرٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْكُلِّ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ اسْتِنْكَارُهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ؟ ثُمَّ فِي اخْتِصَاصِ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَتَسَلُّطِهِمْ عَلَى بَنِي آدَمَ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ سِوَى الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا مِنْ قَبْلُ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَدْعُونَ إِلَى الشُّرُورِ وَالْمَعَاصِي، وَهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ. وَالثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَمَعَهُ مَلَكٌ يَحْفَظُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْهَوَامِّ فِي نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّا نَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ دَاعٍ قَوِيٌّ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ثُمَّ يَظْهَرُ بِالْآخِرَةِ أَنَّ وُقُوعَ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ فِي قَلْبِهِ كَانَ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ مَصَالِحِهِ وَخَيْرَاتِهِ، وَقَدْ يَنْكَشِفُ أَيْضًا بِالْآخِرَةِ أَنَّهُ كَانَ سَبَبًا لِوُقُوعِهِ فِي آفَةٍ أَوْ فِي مَعْصِيَةٍ، فَيَظْهَرُ أَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ كَانَ مُرِيدًا لِلْخَيْرِ وَالرَّاحَةِ وَإِلَى الْأَمْرِ الثَّانِي كَانَ مُرِيدًا لِلْفَسَادِ وَالْمِحْنَةِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَلَكُ الْهَادِي وَالثَّانِي هُوَ الشَّيْطَانُ الْمُغْوِي. الرَّابِعُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُحْصِي عَلَيْهِ أَعْمَالَهُ كَانَ إِلَى الْحَذَرِ مِنَ الْمَعَاصِي أَقْرَبَ، لِأَنَّ مَنْ آمَنَ يَعْتَقِدُ جَلَالَةَ الْمَلَائِكَةِ وَعُلُوَّ مَرَاتِبِهِمْ فإذا

حَاوَلَ الْإِقْدَامَ عَلَى مَعْصِيَةٍ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُمْ يُشَاهِدُونَهَا زَجَرَهُ الْحَيَاءُ مِنْهُمْ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا كَمَا يزجره عنها إذا حضره من يعطيه مِنَ الْبَشَرِ. وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُحْصِي عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَعْمَالَ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا رَادِعًا لَهُ عَنْهَا وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَكْتُبُونَهَا كَانَ الرَّدْعُ أَكْمَلَ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي كَتَبَةِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ؟ قُلْنَا هَاهُنَا مَقَامَاتٌ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنَّ تَفْسِيرَ الْكِتْبَةِ بِالْمَعْنَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْكِتْبَةِ. قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: الْفَائِدَةُ فِي تِلْكَ الصُّحُفِ وَزْنُهَا لِيُعْرَفَ رُجْحَانُ إِحْدَى الْكِفَّتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، فَإِنَّهُ إِذَا رُجَحَتْ كِفَّةُ الطَّاعَاتِ ظَهَرَ لِلْخَلَائِقِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ بِالضِّدِّ فَبِالضِّدِّ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ قَبْلَ مَمَاتِهِ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنَ السُّعَدَاءِ أَوْ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ فَلَا يَتَوَقَّفُ حُصُولُ تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ عَلَى الْمِيزَانِ، ثُمَّ أَجَابَ الْقَاضِي عَنْ هَذَا الْكَلَامِ وَقَالَ: لَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا مَا رَوَيْنَا لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى حُصُولِ سُرُورِهِ عِنْدَ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فِي الْجَنَّةِ وَبِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ فِي أَعْدَاءِ اللَّهِ. وَالْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ حُكَمَاءِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْكِتَابَةَ عِبَارَةٌ عَنْ نُقُوشٍ مَخْصُوصَةٍ وُضِعَتْ بِالِاصْطِلَاحِ لِتَعْرِيفِ الْمَعَانِي الْمَخْصُوصَةِ فَلَوْ قَدَّرْنَا كَوْنَ تِلْكَ النُّقُوشِ دَالَّةً عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي لِأَعْيَانِهَا وَذَوَاتِهَا كَانَتْ تِلْكَ الْكِتْبَةُ أَقْوَى وَأَكْمَلَ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَتَى بِعَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ مَرَّاتٍ وَكَرَّاتٍ كَثِيرَةً مُتَوَالِيَةً حَصَلَ فِي نَفْسِهِ بِسَبَبِ تَكَرُّرِهَا مَلَكَةٌ قَوِيَّةٌ رَاسِخَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَلَكَةُ مَلَكَةً سَارَّةً بِالْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ فِي السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ عَظُمَ ابْتِهَاجُهُ بِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَلَكَةُ مَلَكَةً ضَارَّةً فِي الْأَحْوَالِ الرُّوحَانِيَّةِ عَظُمَ تَضَرُّرُهُ بِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ التَّكْرِيرَ الْكَثِيرَ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِحُصُولِ تِلْكَ الْمَلَكَةِ الرَّاسِخَةِ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُتَكَرِّرَةِ أَثَرٌ فِي حُصُولِ تِلْكَ الْمَلَكَةِ الرَّاسِخَةِ، وَذَلِكَ الْأَثَرُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَحْسُوسٍ إِلَّا أَنَّهُ حَاصِلٌ فِي الْحَقِيقَةِ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ لَمْحَةٌ وَلَا حَرَكَةٌ وَلَا سُكُونٌ، إِلَّا وَيَحْصُلُ مِنْهُ فِي جَوْهَرِ نَفْسِهِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ السَّعَادَةِ، أَوْ آثَارِ الشَّقَاوَةِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ كَتَبَةِ الْأَعْمَالِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا فَسَّرْنَا قَوْلَهُ تَعَالَى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ بِالْمَلَائِكَةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَيْضًا مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَاخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ الْمُرَادُ: أَنَّهُ يَسْتَوِي فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى السِّرُّ وَالْجَهْرُ، وَالْمُسْتَخْفِي بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَالسَّارِبُ بِالنَّهَارِ الْمُسْتَظْهِرُ بِالْمُعَاوِنِينَ وَالْأَنْصَارِ وَهُمُ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ، فَمَنْ لَجَأَ إِلَى اللَّيْلِ فَلَنْ يَفُوتَ اللَّهَ أَمْرُهُ، وَمَنْ سَارَ نَهَارًا بِالْمُعَقِّبَاتِ وَهُمُ الْأَحْرَاسُ وَالْأَعْوَانُ الَّذِينَ يَحْفَظُونَهُ لَمْ يَنَجِّهِ أَحْرَاسُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُعَقِّبُ الْعَوْنُ، لِأَنَّهُ إِذَا أَبْصَرَ هَذَا ذَاكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبْصِرَ ذَاكَ هَذَا، فَتَصِيرُ بَصِيرَةُ كُلِّ/ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُعَاقِبَةً لِبَصِيرَةِ الْآخِرَةِ، فَهَذِهِ الْمُعَقِّبَاتُ لَا تُخَلِّصُ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ وَمِنْ قَدَرِهِ، وَهُمْ إِنْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يُخَلِّصُونَ مَخْدُومَهُمْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَمِنْ قَضَائِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ الْبَتَّةَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ بَعْثُ السَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْكُبَرَاءِ عَلَى أَنْ يَطْلُبُوا الْخَلَاصَ مِنَ الْمَكَارِهِ عَنْ حِفْظِ اللَّهِ وَعِصْمَتِهِ وَلَا يُعَوِّلُوا فِي دَفْعِهَا عَلَى الْأَعْوَانِ وَالْأَنْصَارِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ: وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ.

[سورة الرعد (13) : الآيات 12 إلى 13]

أما قوله تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ فَكَلَامُ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَا يُغَيِّرُ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ بِإِنْزَالِ الِانْتِقَامِ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ مِنْهُمُ الْمَعَاصِي وَالْفَسَادُ. قَالَ الْقَاضِي: وَالظَّاهِرُ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ مِمَّا يَفْعَلُهُ تَعَالَى سِوَى الْعِقَابِ إِلَّا وَقَدْ يَبْتَدِئُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ دُونِ تَغْيِيرٍ يَصْدُرُ مِنَ الْعَبْدِ فِيمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ابْتَدَأَ بِالنِّعَمِ دِينًا وَدُنْيَا وَيُفَضِّلُ فِي ذَلِكَ مَنْ شَاءَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَالْمُرَادُ مِمَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى التَّغْيِيرُ بِالْهَلَاكِ وَالْعِقَابِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَبَعْضُهُمْ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ [الرعد: 6] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُنْزِلُ بِهِمْ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ إِلَّا وَالْمَعْلُومُ مِنْهُمُ الْإِصْرَارُ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، حَتَّى قَالُوا: إِذَا كَانَ الْمَعْلُومُ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ أَوْ فِي عَقِبِهِ مَنْ يُؤْمِنُ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يُنْزِلُ عَلَيْهِمْ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْكَلَامُ يَجْرِي عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ قَوْمٍ بَالَغُوا فِي الْفَسَادِ وَغَيَّرُوا طَرِيقَتَهُمْ فِي إِظْهَارِ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ يُزِيلُ عَنْهُمُ النِّعَمَ وَيُنْزِلُ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعًا مِنَ الْعَذَابِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يَكُونُ مُخْتَلِطًا بِأُولَئِكَ الْأَقْوَامِ فَرُبَّمَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ. رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أن النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِعِقَابٍ» وَاحْتَجَّ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ: المسألة الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعَاقِبُ أَطْفَالَ الْمُشْرِكِينَ بِذُنُوبِ آبَائِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَيُغَيِّرُ اللَّهُ حَالَهُمْ مِنَ النِّعْمَةِ إِلَى الْعَذَابِ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالُوا: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ إِنَّهُ تَعَالَى يَبْتَدِئُ الْعَبْدَ بِالضَّلَالِ وَالْخِذْلَانِ أَوَّلَ مَا يَبْلُغُ وَذَلِكَ أَعْظَمُ مِنَ الْعِقَابِ، مَعَ أَنَّهُ مَا كَانَ مِنْهُ تَغْيِيرٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ اللَّهِ فِي التَّغْيِيرِ مُؤَخَّرٌ عَنْ فِعْلِ الْعَبْدِ، إلا أن قوله تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْإِنْسَانِ: 30] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مُؤَخَّرٌ عَنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَقَعَ التَّعَارُضُ. وَأما قوله: وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ فَقَدِ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ فِي الْفِعْلِ. قَالُوا: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَفَرَ الْعَبْدُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَعَالَى يَحْكُمُ بِكَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ، فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُسْتَقِلًّا بِتَحْصِيلِ الْإِيمَانِ لَكَانَ قَادِرًا عَلَى رَدِّ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ قَوْلُهُ: وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ السَّابِقَةَ وَإِنْ أَشْعَرَتْ بِمَذْهَبِهِمْ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى مَذْهَبِنَا. قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ تُغْنِ الْمُعَقِّبَاتُ شَيْئًا، وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْهُ: لَا رَادَّ لِعَذَابِي وَلَا نَاقِضَ لِحُكْمِي: وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ يَتَوَلَّاهُمْ، وَيَمْنَعُ قَضَاءَ اللَّهِ عَنْهُمْ، وَالْمَعْنَى: مَا لَهُمْ والٍ يَلِي أَمْرَهُمْ، ويمنع العذاب عنهم. [سورة الرعد (13) : الآيات 12 الى 13] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَوَّفَ الْعِبَادَ بِإِنْزَالِ مَا لَا مَرَدَّ لَهُ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ،

وَذَلِكَ لِأَنَّهَا دَلَائِلُ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ، وَأَنَّهَا تُشْبِهُ النِّعَمَ وَالْإِحْسَانَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَتُشْبِهُ الْعَذَابَ وَالْقَهْرَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَاهُنَا أُمُورًا أَرْبَعَةً. الْأَوَّلُ: الْبَرْقُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ: خَوْفاً وَطَمَعاً وجوه. الأول: لا يصح أن يكونا مَفْعُولًا لَهُمَا لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِفِعْلِ فَاعِلِ الْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ إِرَادَةَ خَوْفٍ وَطَمَعٍ أَوْ عَلَى مَعْنَى إِخَافَةً وَإِطْمَاعًا. الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مُنْتَصِبَيْنِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْبَرْقِ كَأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ خَوْفٌ وَطَمَعٌ وَالتَّقْدِيرُ: ذَا خَوْفٍ وَذَا طَمَعٍ أَوْ عَلَى مَعْنَى إِيخَافًا وَإِطْمَاعًا. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَا حَالًا مِنَ الْمُخَاطَبِينَ أَيْ خَائِفِينَ وَطَامِعِينَ. المسألة الثَّانِيَةُ: فِي كَوْنِ الْبَرْقِ خَوْفًا وَطَمَعًا وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّ عِنْدَ لَمَعَانِ الْبَرْقِ يُخَافُ وُقُوعُ الصَّوَاعِقِ وَيُطْمَعُ فِي نُزُولِ الْغَيْثِ قَالَ الْمُتَنَبِّي: فَتًى كَالسَّحَابِ الْجَوْنِ يَخْشَى وَيَرْتَجِي ... يُرَجِّي الْحَيَا منها ويخشى الصواعق الثَّانِي: أَنَّهُ يَخَافُ الْمَطَرَ مِنْ لَهُ فِيهِ ضَرَرٌ كَالْمُسَافِرِ وَكَمَنَ فِي جِرَابِهِ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَيَطْمَعُ فِيهِ مَنْ لَهُ فِيهِ نَفْعٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ خَيْرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْمٍ، وَشَرٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى آخَرِينَ، فَكَذَلِكَ الْمَطَرُ خَيْرٌ فِي حَقِّ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي أَوَانِهِ، وَشَرٌّ فِي حَقِّ مَنْ يَضُرُّهُ ذَلِكَ، إِمَّا بِحَسَبِ الْمَكَانِ أَوْ بِحَسَبِ الزَّمَانِ. المسألة الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ حُدُوثَ الْبَرْقِ دَلِيلٌ عَجِيبٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيَانُهُ أَنَّ السَّحَابَ لَا شَكَّ أَنَّهُ جِسْمٌ مركب في أَجْزَاءٍ رَطْبَةٍ مَائِيَّةٍ، وَمِنْ أَجْزَاءٍ هَوَائِيَّةٍ وَنَارِيَّةٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ الْأَجْزَاءُ الْمَائِيَّةُ والماء جسم بارد رطب، والنار جسم حار يَابِسٌ وَظُهُورُ الضِّدِّ مِنَ الضِّدِّ التَّامِّ عَلَى خِلَافِ الْعَقْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ صَانِعٍ مُخْتَارٍ يُظْهِرُ الضِّدَّ مِنَ الضِّدِّ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الرِّيحَ احْتَقَنَ فِي دَاخِلِ جِرْمِ السَّحَابِ وَاسْتَوْلَى الْبَرْدُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَانْجَمَدَ السَّطْحُ الظَّاهِرُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الرِّيحَ يُمَزِّقُهُ تَمْزِيقًا عَنِيفًا فَيَتَوَلَّدُ مِنْ ذَلِكَ التَّمْزِيقِ الشَّدِيدِ حَرَكَةٌ عَنِيفَةٌ، وَالْحَرَكَةُ الْعَنِيفَةُ مُوجِبَةٌ لِلسُّخُونَةِ وَهِيَ الْبَرْقُ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى خِلَافِ الْمَعْقُولِ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: أَيْنَمَا يَحْصُلِ الْبَرْقُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ الرَّعْدُ وَهُوَ الصَّوْتُ الْحَادِثُ مِنْ تَمَزُّقِ السَّحَابِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَحْدُثُ الْبَرْقُ الْقَوِيُّ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ الرَّعْدِ. الثَّانِي: أَنَّ السُّخُونَةَ الْحَاصِلَةَ بِسَبَبِ قُوَّةِ الْحَرَكَةِ مُقَابِلَةٌ لِلطَّبِيعَةِ الْمَائِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْبَرْدِ، وَعِنْدَ حُصُولِ هَذَا الْعَارِضِ الْقَوِيِّ كَيْفَ تَحْدُثُ النَّارِيَّةُ؟ بَلْ نَقُولُ: النِّيرَانُ الْعَظِيمَةُ تَنْطَفِئُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا، وَالسَّحَابُ كُلُّهُ مَاءٌ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْدُثَ فِيهِ شُعْلَةٌ ضَعِيفَةٌ نَارِيَّةٌ؟ الثَّالِثُ: مِنْ مَذْهَبِكُمْ أَنَّ النَّارَ الصِّرْفَةَ لَا لَوْنَ لَهَا الْبَتَّةَ، فَهَبْ أَنَّهُ حَصَلَتِ النَّارِيَّةُ بِسَبَبِ قُوَّةِ الْمُحَاكَّةِ الْحَاصِلَةِ بِأَجْزَاءِ السَّحَابِ لَكِنْ مِنْ أَيْنَ حَدَثَ ذَلِكَ اللَّوْنُ الْأَحْمَرُ؟ فَثَبَتَ أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي ذَكَرُوهُ ضَعِيفٌ وَأَنَّ حُدُوثَ النَّارِ الْحَاصِلَةِ فِي جِرْمِ السَّحَابِ مَعَ كَوْنِهِ مَاءً خَالِصًا لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِقُدْرَةِ القادر الحكيم.

النوع الثاني: من الدلائل المذكورة في هذه الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : السَّحَابُ اسْمُ جِنْسٍ وَالْوَاحِدَةُ سَحَابَةٌ وَالثِّقَالُ جَمْعُ ثَقِيلَةٍ لِأَنَّكَ تَقُولُ سَحَابَةٌ ثَقِيلَةٌ وَسَحَابٌ ثِقَالٌ كَمَا تَقُولُ امْرَأَةٌ كَرِيمَةٌ وَنِسَاءٌ كِرَامٌ وَهِيَ الثِّقَالُ بِالْمَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا أَيْضًا مِنْ دَلَائِلِ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ الْمَائِيَّةَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا حَدَثَتْ فِي جَوِّ الْهَوَاءِ أَوْ يُقَالُ إِنَّهَا تَصَاعَدَتْ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُدُوثُهَا بِإِحْدَاثِ مُحْدِثٍ حَكِيمٍ قَادِرٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ تَصَاعَدَتْ مِنَ الْأَرْضِ فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَى الطَّبَقَةِ الْبَارِدَةِ مِنَ الْهَوَاءِ بَرَدَتْ فَثَقُلَتْ فَرَجَعَتْ إِلَى الْأَرْضِ فَنَقُولُ هَذَا بَاطِلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْطَارَ مُخْتَلِفَةٌ فَتَارَةً تَكُونُ الْقَطَرَاتُ كَبِيرَةً وَتَارَةً تَكُونُ صَغِيرَةً وَتَارَةً تَكُونُ مُتَقَارِبَةً، وَأُخْرَى تَكُونُ مُتَبَاعِدَةً وَتَارَةً تَدُومُ مُدَّةَ نُزُولِ الْمَطَرِ زَمَانًا طَوِيلًا وَتَارَةً قَلِيلًا فَاخْتِلَافُ الْأَمْطَارِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ مَعَ أَنَّ طَبِيعَةَ الْأَرْضِ وَاحِدَةٌ، وَطَبِيعَةَ الشَّمْسِ الْمُسَخِّنَةِ لِلْبُخَارَاتِ وَاحِدَةٌ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ وو أيضا فَالتَّجْرِبَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ لِلدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ فِي نُزُولِ الْغَيْثِ أَثَرًا عَظِيمًا وَلِذَلِكَ كَانَتْ صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ مَشْرُوعَةً، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِيهِ هُوَ قُدْرَةُ الْفَاعِلِ لَا الطَّبِيعَةُ وَالْخَاصِّيَّةُ. النوع الثَّالِثُ: مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الرَّعْدُ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّعْدَ اسْمُ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهَذَا الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ هُوَ صَوْتُ ذَلِكَ الْمَلَكِ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّعْدِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: «مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ مَعَهُ مَخَارِيقُ مِنْ نَارٍ يَسُوقُ بِهَا السَّحَابَ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ» . قَالُوا: فَمَا الصَّوْتُ الَّذِي نَسْمَعُ؟ قَالَ: «زَجْرُهُ السَّحَابَ» وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لَيْسَ بِمَلَكٍ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الرَّعْدُ هُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالسَّحَابِ وَصَوْتُهُ تَسْبِيحٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ الصَّوْتُ أَيْضًا يُسَمَّى بِالرَّعْدِ وَيُؤَكِّدُ هَذَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي سَبَّحْتَ لَهُ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ فَيَنْطِقُ أَحْسَنَ النُّطْقِ وَيَضْحَكُ أَحْسَنَ الضَّحِكِ فَنُطْقُهُ الرَّعْدُ وَضَحِكُهُ الْبَرْقُ» . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ الْبِنْيَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا لِحُصُولِ الْحَيَاةِ فَلَا يَبْعُدُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَخْلُقَ الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالنُّطْقَ فِي أَجْزَاءِ السَّحَابِ فَيَكُونُ هَذَا الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ فِعْلًا لَهُ وَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ ذَلِكَ ونحن نرى ن السَّمَنْدَلَ يَتَوَلَّدُ فِي النَّارِ، وَالضَّفَادِعَ تَتَوَلَّدُ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ، وَالدُّودَةَ الْعَظِيمَةِ رُبَّمَا تَتَوَلَّدُ فِي الثُّلُوجِ الْقَدِيمَةِ، وَأَيْضًا فَإِذَا لَمْ يَبْعُدْ تَسْبِيحُ الْجِبَالِ فِي زَمَنِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا تَسْبِيحُ الْحَصَى فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ تَسْبِيحُ السَّحَابِ» وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهَذَا الشَّيْءُ الْمُسَمَّى بِالرَّعْدِ مَلَكٌ أَوْ لَيْسَ/ بِمَلَكٍ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَلَكٍ لِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ، فَقَالَ: وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ وَإِنَّمَا إِفْرَادُهُ بِالذِّكْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: 98] وَفِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الْأَحْزَابِ: 7] .

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الرَّعْدَ اسْمٌ لِهَذَا الصَّوْتِ الْمَخْصُوصِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الرَّعْدَ يُسَبِّحُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، لِأَنَّ التَّسْبِيحَ وَالتَّقْدِيسَ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُمَا لَيْسَ إِلَّا وُجُودَ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَلَمَّا كَانَ حدوث هذا الصوت دليلا على وجود مُتَعَالٍ عَنِ النَّقْصِ وَالْإِمْكَانِ، كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ تَسْبِيحًا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 44] . الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِ الرَّعْدِ مُسَبِّحًا أَنَّ مَنْ يَسْمَعُ الرَّعْدَ فَإِنَّهُ يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى، فَلِهَذَا الْمَعْنَى أُضِيفَ هَذَا التَّسْبِيحُ إِلَيْهِ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: مِنْ كَلِمَاتِ الصُّوفِيَّةِ الرَّعْدُ صَعْقَاتُ الْمَلَائِكَةِ، وَالْبَرْقُ زَفَرَاتُ أَفْئِدَتِهِمْ، وَالْمَطَرُ بُكَاؤُهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: وَمَا حَقِيقَةُ الرَّعْدِ؟ قُلْنَا: اسْتَقْصَيْنَا الْقَوْلَ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي قَوْلِهِ: فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [الْبَقَرَةِ: 19] . أما قوله: وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ فَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: عَنَى بِهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ أَعْوَانَ الرَّعْدِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لَهُ أَعْوَانًا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ أَيْ وَتُسَبِّحُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَشْيَتِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّهُمْ خَائِفُونَ مِنَ اللَّهِ لَا كَخَوْفِ ابْنِ آدَمَ، فَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَا يَعْرِفُ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ وَمَنْ عَلَى يَسَارِهِ، وَلَا يَشْغَلُهُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ وَلَا شَيْءٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْحُكَمَاءِ يَذْكُرُونَ أَنَّ هَذِهِ الْآثَارَ الْعُلْوِيَّةَ إِنَّمَا تَتِمُّ بِقُوًى رُوحَانِيَّةٍ فَلَكِيَّةٍ، فَلِلسَّحَابِ رُوحٌ مُعِينٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْفَلَكِيَّةِ يُدَبِّرُهُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الرِّيَاحِ وَفِي سَائِرِ الْآثَارِ الْعُلْوِيَّةِ، وَهَذَا عَيْنُ مَا نَقَلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الرَّعْدَ اسْمُ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُسَبِّحُ اللَّهَ، فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ بِهَذِهِ العبارة هو عين مَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ عَنِ الْحُكَمَاءِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ الْإِنْكَارُ؟ النوع الرَّابِعُ: مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى الصَّوَاعِقِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَامِرِ/ بْنِ الطُّفَيْلِ وَأَرْبَدَ بْنِ رَبِيعَةَ أَخِي لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ أَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَاصِمَانِهِ وَيُجَادِلَانِهِ، وَيُرِيدَانِ الْفَتْكَ بِهِ، فَقَالَ أَرْبَدُ بْنُ رَبِيعَةَ أَخُو لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ: أَخْبِرْنَا عَنْ رَبِّنَا أَمِنْ نُحَاسٍ هُوَ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا رَجَعَ أَرْبَدُ أَرْسَلَ عَلَيْهِ صَاعِقَةً فَأَحْرَقَتْهُ، وَرَمَى عَامِرًا بِغُدَّةٍ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ، وَمَاتَ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَمْرَ الصَّاعِقَةِ عَجِيبٌ جِدًّا وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَارَةً تَتَوَلَّدُ مِنَ السَّحَابِ، وَإِذَا نَزَلَتْ مِنَ السَّحَابِ فَرُبَّمَا غَاصَتْ فِي الْبَحْرِ وَأَحْرَقَتِ الْحِيتَانَ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ، وَالْحُكَمَاءُ بَالَغُوا فِي وَصْفِ قُوَّتِهَا، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ النَّارَ حَارَّةٌ يَابِسَةٌ وَطَبِيعَتُهَا ضِدُّ طَبِيعَةِ السَّحَابِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ طَبِيعَتُهَا فِي الْحَرَارَةِ وَالْيُبُوسَةِ أَضْعَفَ مِنْ طَبِيعَةِ النِّيرَانِ الْحَادِثَةِ عِنْدَنَا عَلَى الْعَادَةِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهَا أَقْوَى نِيرَانِ هَذَا الْعَالَمِ، فَثَبَتَ أَنَّ اخْتِصَاصَهَا بِمَزِيدِ تِلْكَ الْقُوَّةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ تَخْصِيصِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الدَّلَائِلَ الْأَرْبَعَةَ قَالَ: وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ دَلَائِلَ كَمَالِ عِلْمِهِ فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى [الرَّعْدِ: 8] وَبَيَّنَ دَلَائِلَ كمال القدرة في هذه الآيات.

[سورة الرعد (13) : آية 14]

ثم قال: وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ مَعَ ظُهُورِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الرد على الكفار الَّذِي قَالَ: أَخْبِرْنَا عَنْ رَبِّنَا أَمِنْ نُحَاسٍ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الرَّدَّ عَلَى جِدَالِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَإِبْطَالِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فِي طَلَبِ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فِي اسْتِنْزَالِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ. وَفِي هَذِهِ الْوَاوِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لِلْحَالِ، وَالْمَعْنَى: فَيُصِيبُ بِالصَّاعِقَةِ مَنْ يَشَاءُ فِي حَالِ جِدَالِهِ فِي اللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَرْبَدَ لَمَّا جَادَلَ فِي اللَّهِ أَحْرَقَتْهُ الصَّاعِقَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا وَاوُ الِاسْتِئْنَافِ كَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَمَّمَ ذِكْرَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ. ثم قال تَعَالَى: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ وَفِي لَفْظِ الْمِحَالِ أَقْوَالٌ: قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمِيمُ زَائِدَةٌ وَهُوَ مِنَ الْحَوْلِ، وَنَحْوُهُ مِيمُ مِكَانٍ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّ الْكَلِمَةَ إِذَا كَانَتْ عَلَى مِثَالِ فِعَالٍ أَوَّلُهُ مِيمٌ مَكْسُورَةٌ فَهِيَ أَصْلِيَّةٌ، نَحْوَ مِهَادٍ ومداس ومداد، واختلفوا مم أُخِذَ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قِيلَ مِنْ قَوْلِهِمْ مَحَلَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ إِذَا سَعَى بِهِ إِلَى السُّلْطَانِ وَعَرَّضَهُ لِلْهَلَاكِ، وَتَمَحَّلَ لِكَذَا إِذَا تَكَلَّفَ اسْتِعْمَالَ الْحِيلَةِ وَاجْتَهَدَ فِيهِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ شَدِيدُ الْمَكْرِ لِأَعْدَائِهِ يُهْلِكُهُمْ بِطَرِيقٍ لَا يَتَوَقَّعُونَهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْمِحَالَ عِبَارَةٌ عَنِ الشِّدَّةِ، ومنه تسمى السنة الصعبة سنة المحل وما حلت فُلَانًا مِحَالًا. أَيْ قَاوَمْتُهُ أَيُّنَا أَشَدُّ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: وَمِحَالٌ فِعَالٌ مِنَ الْمَحْلِ وَهُوَ الشِّدَّةُ وَلَفْظُ فِعَالٍ يَقَعُ عَلَى الْمُجَازَاةِ/ وَالْمُقَابَلَةِ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى شَدِيدُ الْمُغَالَبَةِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ هَاهُنَا عِبَارَاتٌ فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: شَدِيدُ الْقُوَّةِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: شَدِيدُ الْعُقُوبَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: شَدِيدُ النِّقْمَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَدِيدُ الْحَوْلِ. الثالث: قال ابن عرفة: يقال ما حل عَنْ أَمْرِهِ أَيْ جَادَلَ، فَقَوْلُهُ: شَدِيدُ الْمِحالِ أَيْ شَدِيدُ الْجِدَالِ. الرَّابِعُ: رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ: شَدِيدُ الْمِحالِ أَيْ شَدِيدُ الْحِقْدِ. قَالُوا: هَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْحِقْدَ لَا يُمْكِنُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، إِلَّا أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إِذَا وَرَدَتْ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا تَحْصُلُ عَلَى نِهَايَاتِ الْأَعْرَاضِ لَا عَلَى مَبَادِئِ الْأَعْرَاضِ، فَالْمُرَادُ بِالْحِقْدِ هَاهُنَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ إِيصَالَ الشَّرِّ إِلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ يُخْفِي عنه تلك الإرادة. [سورة الرعد (13) : آية 14] لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ أَيْ لِلَّهِ دَعْوَةُ الْحَقِّ، وَفِيهِ بَحْثَانِ: البحث الْأَوَّلُ: فِي أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ وَهِيَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: مَا رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: دَعْوَةُ الْحَقِّ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَثَانِيهَا: قَوْلُ الْحَسَنِ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، فَدُعَاؤُهُ هُوَ الْحَقُّ، كَأَنَّهُ يُومِئُ إِلَى أَنَّ الِانْقِطَاعَ إِلَيْهِ فِي الدُّعَاءِ هُوَ الْحَقُّ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ عِبَادَتَهُ هِيَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمَوْجُودُ، وَالْمَوْجُودُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَقْبَلُ الْعَدَمَ وَهُوَ حَقٌّ يُمْكِنُ أَنْ يَصِيرَ بَاطِلًا وَقِسْمٌ لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِيرَ بَاطِلًا وَذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ الْحَقِيقِيُّ، وَإِذَا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ مَوْجُودًا لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ كَانَ أَحَقَّ الْمَوْجُودَاتِ بِأَنْ يَكُونَ حَقًّا هُوَ هُوَ وَكَانَ أَحَقُّ الِاعْتِقَادَاتِ وَأَحَقُّ الْأَذْكَارِ بِأَنْ يَكُونَ حَقًّا هُوَ اعْتِقَادَ ثُبُوتِهِ وَذِكْرَ وَجُودِهِ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ وُجُودَهُ هُوَ الْحَقُّ فِي الْمَوْجُودَاتِ وَاعْتِقَادُ وُجُودِهِ هُوَ الْحَقُّ فِي الِاعْتِقَادَاتِ.

[سورة الرعد (13) : آية 15]

وَذِكْرُهُ بِالثَّنَاءِ وَالْإِلَهِيَّةِ وَالْكَمَالِ هُوَ الْحَقُّ فِي الْأَذْكَارِ فَلِهَذَا قَالَ: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ. البحث الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» دَعْوَةُ الْحَقِّ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُضَافَ الدَّعْوَةُ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْبَاطِلِ كَمَا تُضَافُ إِلَيْهِ الْكَلِمَةُ فِي قَوْلِهِ: كَلِمَةُ الْحَقِّ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الدَّلَالَةُ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ مُخْتَصَّةً بِكَوْنِهَا حَقَّةً وَكَوْنِهَا خَالِيَةً عَنْ أَمَارَاتِ كَوْنِهِ بَاطِلًا، وَهَذَا مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى صِفَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ تُضَافَ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَعْنَى دَعْوَةُ الْمَدْعُوِّ الْحَقِّ الَّذِي يَسْمَعُ فَيُجِيبُ، وَعَنِ الْحَسَنِ: الْحَقُّ هُوَ اللَّهُ وَكُلُّ دُعَاءٍ إِلَيْهِ فَهُوَ دَعْوَةُ الْحَقِّ. ثم قال تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يَعْنِي الْآلِهَةَ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمُ الْكُفَّارُ مِنْ دُونِ اللَّهِ: لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا يَطْلُبُونَهُ إِلَّا اسْتِجَابَةً كَاسْتِجَابَةِ بَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ، وَالْمَاءُ جَمَادٌ لَا يَشْعُرُ بِبَسْطِ كَفَّيْهِ وَلَا بِعَطَشِهِ وَحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُجِيبَ دُعَاءَهُ وَيَبْلُغَ فَاهُ، فَكَذَلِكَ مَا يَدْعُونَهُ جَمَادٌ، لَا يُحِسُّ بِدُعَائِهِمْ وَلَا يَسْتَطِيعُ إِجَابَتَهُمْ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعِهِمْ وَقِيلَ شُبِّهُوا فِي قِلَّةِ فائد دُعَائِهِمْ لِآلِهَتِهِمْ، بِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَغْرِفَ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ لِيَشْرَبَهُ فَيَبْسُطُهَا نَاشِرًا أَصَابِعَهُ وَلَمْ تَصِلْ كَفَّاهُ إِلَى ذَلِكَ الْمَاءِ وَلَمْ يَبْلُغْ مَطْلُوبَهُ مِنْ شُرْبِهِ، وَقُرِئَ تَدْعُونَ بِالتَّاءِ كَباسِطِ كَفَّيْهِ بِالتَّنْوِينِ، ثم قال: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أَيْ إِلَّا فِي ضَيَاعٍ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ إِنْ دَعَوُا اللَّهَ لَمْ يُجِبْهُمْ وَإِنْ دَعَوُا الْآلِهَةَ لَمْ تَسْتَطِعْ إِجَابَتَهُمْ. [سورة الرعد (13) : آية 15] وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا السُّجُودِ قَوْلَيْنِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ السُّجُودُ بِمَعْنَى وَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَعَلَى هَذَا الوجه فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ عَامًّا إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخُصُوصُ وَهُمُ الْمُؤْمِنِينَ يَسْجُدُونَ لِلَّهِ طَوْعًا بِسُهُولَةٍ وَنَشَاطٍ، وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَسْجُدُ لِلَّهِ كَرْهًا لِصُعُوبَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ يَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى أَدَاءِ تِلْكَ الطَّاعَةِ شَاءَ أَمْ أَبَى. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَيْضًا الْعَامُّ وَعَلَى هَذَا فَفِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ من في السموات وَالْأَرْضِ يَسْجُدُ لِلَّهِ بَلِ الْمَلَائِكَةُ يَسْجُدُونَ لِلَّهِ، وَالْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يَسْجُدُونَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الْكَافِرُونَ فَلَا يَسْجُدُونَ. الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ/ أَيْ وَيَجِبُ على كل من في السموات وَالْأَرْضِ أَنْ يَسْجُدَ لِلَّهِ فَعَبَّرَ عَنِ الْوُجُوبِ بِالْوُقُوعِ وَالْحُصُولِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ السُّجُودِ التَّعْظِيمُ وَالِاعْتِرَافُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَكُلُّ مَنْ فِي السموات وَمَنْ فِي الْأَرْضِ يَعْتَرِفُونَ بِعُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا قَالَ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: 25] . وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ فَهُوَ: أَنَّ السُّجُودَ عِبَارَةٌ عَنْ الِانْقِيَادِ وَالْخُضُوعِ وَعَدَمِ الِامْتِنَاعِ وَكُلُّ من في السموات وَالْأَرْضِ سَاجِدٌ لِلَّهِ بِهَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ قُدْرَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ نَافِذَةٌ فِي الْكُلِّ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ هُوَ الَّذِي تَكُونُ مَاهِيَّتُهُ قَابِلَةً لِلْعَدَمِ وَالْوُجُودِ عَلَى السَّوِيَّةِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ رُجْحَانُ وَجُودِهِ عَلَى عَدَمِهِ أَوْ بِالْعَكْسِ، إِلَّا بِتَأْثِيرِ مَوْجُودٍ وَمُؤَثِّرٍ فَيَكُونُ وُجُودُ كُلِّ مَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ بِإِيجَادِهِ وَعَدَمُ كُلِّ مَا سِوَاهُ بِإِعْدَامِهِ، فَتَأْثِيرُهُ نَافِذٌ فِي جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ فِي طَرَفَيِ الْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ، وَذَلِكَ هُوَ السُّجُودُ

[سورة الرعد (13) : آية 16]

وَهُوَ التَّوَاضُعُ وَالْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلِهِ: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ [الْبَقَرَةِ: 116] وَقَوْلُهُ: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آلِ عِمْرَانَ: 83] . وَأما قوله تَعَالَى: طَوْعاً وَكَرْهاً فَالْمُرَادُ: أَنَّ بَعْضَ الْحَوَادِثِ مِمَّا يَمِيلُ الطَّبْعُ إِلَى حُصُولِهِ كَالْحَيَاةِ وَالْغِنَى، وَبَعْضَهَا مِمَّا يَنْفِرُ الطَّبْعُ عَنْهُ كَالْمَوْتِ وَالْفَقْرِ وَالْعَمَى وَالْحُزْنِ وَالزِّمَانَةِ وَجَمِيعِ أَصْنَافِ الْمَكْرُوهَاتِ، وَالْكُلُّ حَاصِلٌ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَتَكْوِينِهِ وَإِيجَادِهِ، وَلَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَالْمُدَافَعَةِ. ثم قال تَعَالَى: وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، كُلُّ شَخْصٍ سَوَاءٌ كَانَ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا فَإِنَّ ظِلَّهُ يَسْجُدُ لِلَّهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: ظِلُّ الْمُؤْمِنِ يَسْجُدُ لِلَّهِ طَوْعًا وَهُوَ طَائِعٌ، وَظِلُّ الْكَافِرِ يَسْجُدُ لِلَّهِ كَرْهًا وَهُوَ كَارِهٌ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْكَافِرَ يَسْجُدُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَظِلُّهُ يَسْجُدُ لِلَّهِ، وَعِنْدَ هَذَا قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى لِلظِّلَالِ عُقُولًا وَأَفْهَامًا تَسْجُدُ بِهَا وَتَخْشَعُ كَمَا جَعَلَ اللَّهُ لِلْجِبَالِ أَفْهَامًا حَتَّى اشْتَغَلَتْ بِتَسْبِيحِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَتَّى ظَهَرَ أَثَرُ التَّجَلِّي فِيهَا كَمَا قَالَ: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [الْأَعْرَافِ: 143] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ سُجُودِ الظِّلَالِ مَيَلَانُهَا مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ وَطُولُهَا بِسَبَبِ انْحِطَاطِ الشَّمْسِ وَقِصَرُهَا بِسَبَبِ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ، فَهِيَ مُنْقَادَةٌ مُسْتَسْلِمَةٌ فِي طُولِهَا وَقِصَرِهَا وَمَيْلِهَا مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ وَإِنَّمَا خُصِّصَ الْغُدُوُّ وَالْآصَالُ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ الظِّلَالَ إِنَّمَا تَعْظُمُ وَتَكْثُرُ في هذين الوقتين. [سورة الرعد (13) : آية 16] قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بين أن كل من في السموات وَالْأَرْضِ سَاجِدٌ لَهُ بِمَعْنَى كَوْنِهِ خَاضِعًا لَهُ، عَادَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ فَقَالَ: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْجَوَابُ جَوَابًا يُقِرُّ بِهِ المسؤول وَيَعْتَرِفُ بِهِ وَلَا يُنْكِرُهُ أَمَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الذَّاكِرَ لِهَذَا الْجَوَابِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَهُ الْبَتَّةَ وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الرَّبُّ لِكُلِّ الكائنات قال: قل لهم فلم اتخذتهم مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَهِيَ جَمَادَاتٌ وَهِيَ لَا تَمْلِكُ لِأَنْفُسِهَا نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَلَمَّا كَانَتْ عَاجِزَةً عَنْ تَحْصِيلِ الْمَنْفَعَةِ لِأَنْفُسِهَا وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْ أَنْفُسِهَا، فَبِأَنْ تَكُونَ عَاجِزَةً عَنْ تَحْصِيلِ الْمَنْفَعَةِ لِغَيْرِهَا وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْ غَيْرِهَا كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ قَادِرَةً عَلَى ذَلِكَ كَانَتْ عِبَادَتُهَا مَحْضَ الْعَبَثِ وَالسَّفَهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْحَجَّةَ الظَّاهِرَةَ بَيَّنَ أَنَّ الجاهل بمثل هذه الحجة يكون الأعمى وَالْعَالِمَ بِهَا كَالْبَصِيرِ، وَالْجَهْلُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحُجَّةِ كَالظُّلُمَاتِ، وَالْعِلْمُ بِهَا كَالنُّورِ، وَكَمَا أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْأَعْمَى لَا يُسَاوِي الْبَصِيرَ، وَالظُّلْمَةَ لَا تُسَاوِي النُّورَ كَذَلِكَ كُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْجَاهِلَ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ لَا يُسَاوِي الْعَالِمَ بِهَا. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَعَمْرٌو عَنْ عَاصِمِ يَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ بِالْيَاءِ، لِأَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَى اسْمِ الْجَمْعِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْبَيَانَ فَقَالَ: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ يَعْنِي هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا شُرَكَاءُ لِلَّهِ لَيْسَ لَهَا خَلْقٌ يُشْبِهُ خَلْقَ اللَّهِ حَتَّى يَقُولُوا إِنَّهَا تُشَارِكُ اللَّهَ فِي الْخَالِقِيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ تُشَارِكَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ، بَلْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَعْلَمُونَ بالضرورة أن

هَذِهِ الْأَصْنَامَ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهَا فِعْلٌ الْبَتَّةَ، وَلَا خَلْقٌ/ وَلَا أَثَرٌ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ حُكْمُهُمْ بِكَوْنِهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ مَحْضَ السَّفَهِ وَالْجَهْلِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ زَعَمُوا أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ تَخْلُقُ حَرَكَاتٍ وَسَكَنَاتٍ مِثْلَ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ الَّتِي يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَدْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ وَالْإِنْكَارِ. فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَخْلُقُ فِعْلَ نَفْسِهِ. قَالَ الْقَاضِي: نَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْعَبْدَ يَفْعَلُ وَيُحْدِثُ، إِلَّا أَنَّا لَا نُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ يَخْلُقُ وَلَوْ أَطْلَقْنَاهُ لَمْ نَقُلْ إِنَّهُ يَخْلُقُ كَخَلْقِ اللَّهِ، لِأَنَّ أَحَدَنَا يَفْعَلُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ لِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ بِتَقْدِيرِ كَوْنِ الْعَبْدِ خَالِقًا، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ خَلْقُهُ كَخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَيْضًا فَهَذَا الْإِلْزَامُ لَازِمٌ لِلْمُجْبِرَةِ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ عَيْنُ مَا هُوَ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَسْبُ الْعَبْدِ وَفِعْلٌ لَهُ، وَهَذَا عَيْنُ الشِّرْكِ لِأَنَّ الْإِلَهَ وَالْعَبْدَ فِي خَلْقِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيكَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا مَالَ لِأَحَدِهِمَا إِلَّا وَلِلْآخَرِ فِيهِ حَقٌّ. وَأَيْضًا فَهُوَ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ عَيْبًا لِلْكُفَّارِ وَذَمًّا لِطَرِيقَتِهِمْ، وَلَوْ كَانَ فِعْلُ الْعَبْدِ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى لَمَا بَقِيَ لِهَذَا الذَّمِّ فَائِدَةٌ، لِأَنَّ لِلْكُفَّارِ أَنْ يَقُولُوا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا خَلَقَ هَذَا الْكُفْرَ فِينَا فَلِمَ يَذُمُّنَا عَلَيْهِ وَلَا يَنْسُبُنَا إِلَى الْجَهْلِ وَالتَّقْصِيرِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ فِينَا لَا بِفِعْلِنَا وَلَا بِاخْتِيَارِنَا. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: أَنَّ لَفْظَ الْخَلْقِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنِ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، أَوْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنِ التقدير، وعلى الوجهين فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُحْدِثًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ حَادِثًا. أما قوله: وَالْعَبْدُ وَإِنْ كَانَ خَالِقًا إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ خَلْقُهُ كَخَلْقِ اللَّهِ. قُلْنَا: الْخَلْقُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ وَالْإِخْرَاجِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَرَكَةَ الْوَاقِعَةَ بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ لَمَّا كَانَتْ مِثْلًا لِلْحَرَكَةِ الْوَاقِعَةِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَانَ أَحَدُ الْمَخْلُوقَيْنِ مِثْلًا لِلْمَخْلُوقِ الثَّانِي، وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا الَّذِي هُوَ مَخْلُوقُ الْعَبْدِ مِثْلٌ لِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ لَا شَكَّ فِي حُصُولِ الْمُخَالَفَةِ فِي سَائِرِ الِاعْتِبَارَاتِ، إِلَّا أَنَّ حُصُولَ الْمُخَالَفَةِ فِي سَائِرِ الْوُجُوهِ لَا يَقْدَحُ فِي حُصُولِ الْمُمَاثَلَةِ مِنْ هَذَا الوجه وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي فِي الِاسْتِدْلَالِ. وَأما قوله هَذَا لَازِمٌ عَلَى الْمُجْبَرَةِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَنَقُولُ هَذَا غَيْرُ لَازِمٍ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ الْعَبْدِ مِثْلًا لِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَحْنُ لَا نُثْبِتُ لِلْعَبْدِ خَلْقًا الْبَتَّةَ، فَكَيْفَ يَلْزَمُنَا ذَلِكَ؟ وَأما قوله: لَوْ كَانَ فِعْلُ الْعَبْدِ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى، لَمَا حَسُنَ ذَمُّ الْكُفَّارِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ. قُلْنَا: حَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُسْتَقِلًّا بِالْفِعْلِ، وَهُوَ مَنْقُوضٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ أَبَا لَهَبٍ عَلَى كُفْرِهِ مَعَ أَنَّهُ عَالِمٌ مِنْهُ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ مُحَالُ الْوُقُوعِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الوجه فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَمَّا الوجه الثَّانِي: فِي التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ شَيْءٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَالِقُهُ هُوَ اللَّهَ وَسُؤَالُهُمْ عَلَيْهِ ما تقدم.

[سورة الرعد (13) : الآيات 17 إلى 19]

والوجه الثالث: في التمسك بهذه الآية وقوله: وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ وَلَيْسَ يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ فِي أَيِّ الْمَعَانِي، وَلَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ السَّابِقُ هُوَ الْخَالِقِيَّةَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْوَاحِدَ فِي الْخَالِقِيَّةِ، الْقَهَّارَ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ دَلِيلًا أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا. المسألة الثَّانِيَةُ: زَعَمَ جَهْمٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّيْءِ. اعْلَمْ أَنَّ هَذَا النِّزَاعَ لَيْسَ إِلَّا فِي اللَّفْظِ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ هَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ أَمْ لَا، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ هَذَا الِاسْمُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَيْئًا لَوَجَبَ كَوْنُهُ خَالِقًا لِنَفْسِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُحَالًا، وَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّيْءِ، وَلَا يُقَالُ: هَذَا عَامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ، لِأَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا كَانَ الْمَخْصُوصُ أَقَلَّ مِنَ الْبَاقِي وأخس منه كما إذا قال: أكلت هذا الرُّمَّانَةَ مَعَ أَنَّهُ سَقَطَتْ مِنْهَا حَبَّاتٌ مَا أَكَلَهَا، وَهَاهُنَا ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى أَعْلَى الْمَوْجُودَاتِ وَأَشْرَفُهَا، فَكَيْفَ يُمْكِنُ ذِكْرُ اللَّفْظِ الْعَامِّ الَّذِي يَتَنَاوَلُهُ مَعَ كَوْنِ الحكم مَخْصُوصًا فِي حَقِّهِ؟ وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] وَالْمَعْنَى: لَيْسَ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ حَقِيقَةٍ فَإِنَّهَا مِثْلُ مِثْلِ نَفْسِهَا، فَالْبَارِي تَعَالَى مِثْلُ مِثْلِ نَفْسِهِ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى أَنَّ مِثْلَ مِثْلِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مُسَمًّى بِاسْمِ الشَّيْءِ. وَالْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الْأَعْرَافِ: 180] دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى الله إلا بالأسماء الحسنى، ولفظ الشيء يَتَنَاوَلُ أَخَسَّ الْمَوْجُودَاتِ، فَلَا يَكُونُ هَذَا اللَّفْظُ مُشْعِرًا بِمَعْنًى حَسَنٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا اللَّفْظُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ دُعَاءُ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا اللَّفْظِ، وَالْأَصْحَابُ تَمَسَّكُوا فِي إِطْلَاقِ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الْأَنْعَامِ: 19] . وَأَجَابَ الْخَصْمُ عَنْهُ: بِأَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً سُؤَالٌ مَتْرُوكُ الْجَوَابِ، وَقَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الْأَنْعَامِ: 19] . وَأَجَابَ الْخَصْمُ عَنْهُ: بِأَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً سُؤَالٌ مَتْرُوكُ الْجَوَابِ، وَقَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ. المسألة الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكَ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ لِذَاتِهِ لَا بِالْعِلْمِ وَقَادِرٌ لِذَاتِهِ لَا بِالْقُدْرَةِ. قَالُوا: لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ لِلَّهِ تَعَالَى عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَحَيَاةٌ، لَكَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ إِمَّا أَنْ تَحْصُلَ بِخَلْقِ اللَّهِ أَوْ لَا بِخَلْقِهِ، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَالثَّانِي: بَاطِلٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ يَتَنَاوَلُ الذَّاتَ وَالصِّفَاتَ حَكَمْنَا بِدُخُولِ التَّخْصِيصِ فِيهِ فِي حَقِّ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى فِيمَا سِوَى الذَّاتِ عَلَى الْأَصْلِ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَعَالَى خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ سِوَى ذَاتِهِ تَعَالَى، فَلَوْ كَانَ لِلَّهِ عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ لَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى خَالِقًا لَهُمَا وَهُوَ مُحَالٌ، وَأَيْضًا تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي خَلْقِ الْقُرْآنِ. قَالُوا: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ لِكُلِّ الْأَشْيَاءِ، وَالْقُرْآنُ لَيْسَ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا وَأَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ. وَالْجَوَابُ: أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الصِّيغَةَ عَامَّةٌ، إِلَّا أَنَّا نُخَصِّصُهَا فِي حَقِّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ. [سورة الرعد (13) : الآيات 17 الى 19] أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَبَّهَ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ وَالْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ بِالْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ وَالظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ ضَرَبَ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ مَثَلًا آخَرَ فَقَالَ: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها [المسألة الأولى] وَمِنْ حَقِّ الْمَاءِ أَنْ يَسْتَقِرَّ فِي الْأَوْدِيَةِ الْمُنْخَفِضَةِ عَنِ الْجِبَالِ وَالتِّلَالِ بِمِقْدَارِ سِعَةِ تِلْكَ الْأَوْدِيَةِ وَصِغَرِهَا، وَمِنْ حَقِّ الْمَاءِ إِذَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْأَوْدِيَةِ أَنْ يَنْبَسِطَ عَلَى الْأَرْضِ وَمِنْ حَقِّ الزَّبَدِ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ الْمَاءُ فَيَطْفُو وَيَرْبُو عَلَيْهِ أَنْ يَتَبَدَّدَ فِي الْأَطْرَافِ وَيَبْطُلَ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الزَّبَدُ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْغَلَيَانِ مِنَ الْبَيَاضِ أَوْ مَا يُحْفَظُ بِالْمَاءِ مِنَ الْأَجْسَامِ الْخَفِيفَةِ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَذَا الزَّبَدَ الَّذِي لَا يَظْهَرُ إِلَّا عِنْدَ اشْتِدَادِ جَرْيِ الْمَاءِ ذَكَرَ الزَّبَدَ الَّذِي لَا يَظْهَرُ إِلَّا بِالنَّارِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَجْسَادِ السَّبْعَةِ إِذَا أُذِيبَ بِالنَّارِ لِابْتِغَاءِ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ آخَرَ مِنَ الْأَمْتِعَةِ الَّتِي يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي مَصَالِحِ الْبَيْتِ، فَإِنَّهُ يَنْفَصِلُ عَنْهَا نَوْعٌ مِنَ الزَّبَدِ وَالْخَبَثِ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ بَلْ يَضِيعُ وَيَبْطُلُ وَيَبْقَى الْخَالِصُ. فَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْوَادِيَ إِذَا جَرَى طَفَا عَلَيْهِ زَبَدٌ، وَذَلِكَ الزَّبَدُ يَبْطُلُ وَيَبْقَى الْمَاءُ. وَالْأَجْسَادُ السَّبْعَةُ إِذَا أُذِيبَتْ لِأَجْلِ اتِّخَاذِ الْحُلِيِّ أَوْ لِأَجْلِ اتِّخَاذِ سَائِرِ الْأَمْتِعَةِ انْفَصَلَ عَنْهَا خَبَثٌ وَزَبَدٌ فَيَبْطُلُ وَيَبْقَى ذَلِكَ الْجَوْهَرُ الْمُنْتَفَعُ بِهِ، فَكَذَا هَاهُنَا أَنْزَلَ مِنْ سَمَاءِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْجَلَالَةِ وَالْإِحْسَانِ مَاءً وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَالْأَوْدِيَةُ قُلُوبُ الْعِبَادِ وَشَبَّهَ الْقُلُوبَ بِالْأَوْدِيَةِ، لِأَنَّ الْقُلُوبَ تَسْتَقِرُّ فِيهَا أَنْوَارُ عُلُومِ الْقُرْآنِ، كَمَا أَنَّ الْأَوْدِيَةَ تَسْتَقِرُّ فِيهَا الْمِيَاهُ النَّازِلَةُ مِنَ السَّمَاءِ، وَكَمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ مِيَاهِ الْأَمْطَارِ مَا يَلِيقُ بِسِعَتِهِ أَوْ ضِيقِهِ، فَكَذَا هَاهُنَا كُلُّ قَلْبٍ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ أَنْوَارِ عُلُومِ الْقُرْآنِ مَا يَلِيقُ بِذَلِكَ الْقَلْبِ مِنْ طَهَارَتِهِ وَخُبْثِهِ وَقُوَّةِ فَهْمِهِ وَقُصُورِ فَهْمِهِ، وَكَمَا أَنَّ الْمَاءَ يَعْلُوهُ زَبَدُ الْأَجْسَادِ السَّبْعَةِ الْمُذَابَةِ يُخَالِطُهَا خَبَثٌ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الزَّبَدَ وَالْخَبَثَ يَذْهَبُ وَيَضِيعُ وَيَبْقَى جَوْهَرُ الْمَاءِ وَجَوْهَرُ الْأَجْسَادِ السَّبْعَةِ، كَذَا هَاهُنَا بَيَانَاتُ الْقُرْآنِ تَخْتَلِطُ بِهَا شُكُوكٌ وَشُبَهَاتٌ، ثُمَّ إِنَّهَا بِالْآخِرَةِ تَزُولُ وَتَضِيعُ وَيَبْقَى الْعِلْمُ وَالدِّينُ وَالْحِكْمَةُ وَالْمُكَاشَفَةُ فِي الْعَاقِبَةِ، فَهَذَا هُوَ تَقْرِيرُ هَذَا الْمَثَلِ وَوَجْهُ انْطِبَاقِ الْمَثَلِ عَلَى الْمُمَثَّلِ بِهِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ سَكَتُوا عَنْ بيان كيفية التمثيل والتشبيه. المسألة الثانية: فِي الْمَبَاحِثِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي لَفْظِ الْأَوْدِيَةِ أَبْحَاثٌ: البحث الْأَوَّلُ: الْأَوْدِيَةُ جَمْعُ وَادٍ وَفِي الْوَادِي قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْفَضَاءِ الْمُنْخَفِضِ عَنِ الْجِبَالِ وَالتِّلَالِ الَّذِي يَجْرِي فِيهِ السَّيْلُ، هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ السُّهْرَوَرْدِيُّ يُسَمَّى الْمَاءُ وَادِيًا إِذَا سَالَ قَالَ: وَمِنْهُ سُمِّيَ الْوَدْيُ وَدْيًا لِخُرُوجِهِ وَسَيَلَانِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْوَادِي اسْمٌ لِلْمَاءِ السَّائِلِ كَالْمَسِيلِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ إِلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ قَوْلُهُ: فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ مَجَازًا فَكَانَ التَّقْدِيرُ: سَالَتْ مِيَاهُ الْأَوْدِيَةِ إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مُقَامُهُ.

البحث الثَّانِي: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْأَوْدِيَةُ جَمْعُ وَادٍ وَلَا نَعْلَمُ فَاعِلًا جُمِعَ عَلَى أَفْعِلَةٍ قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِتَعَاقُبِ فَاعِلٍ وَفَعِيلٍ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ كَعَالِمٍ وَعَلِيمٍ، وَشَاهِدٍ وَشَهِيدٍ، وَنَاصِرٍ وَنَصِيرٍ، ثُمَّ إِنَّ وَزْنَ فَاعِلٍ يُجْمَعُ عَلَى أَفْعَالٍ كَصَاحِبٍ وَأَصْحَابٍ، وَطَائِرٍ وَأَطْيَارٍ، وَوَزْنُ فَعِيلٍ يُجْمَعُ عَلَى أَفْعِلَةٍ، كَجَرِيبٍ وَأَجْرِبَةٍ ثُمَّ لَمَّا حَصَلَتِ الْمُنَاسَبَةُ الْمَذْكُورَةُ بَيْنَ فَاعِلٍ وَفَعِيلٍ لَا جَرَمَ يُجْمَعُ الْفَاعِلُ جَمْعَ الْفَعِيلِ. فَيُقَالُ: وَادٍ وَأَوْدِيَةٌ وَيُجْمَعُ الْفَعِيلُ عَلَى جَمْعِ الْفَاعِلِ فَيُقَالُ: يَتِيمٌ وَأَيْتَامٌ وَشَرِيفٌ وَأَشْرَافٌ هَذَا مَا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: نَظِيرُ وَادٍ وَأَوْدِيَةٍ، نَادٍ وَأَنْدِيَةٌ لِلْمَجَالِسِ. البحث الثَّالِثُ: إِنَّمَا ذُكِرَ لَفْظُ أَوْدِيَةٍ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ، لِأَنَّ الْمَطَرَ لَا يَأْتِي إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الْمُنَاوَبَةِ بَيْنَ الْبِقَاعِ فَتَسِيلُ بَعْضُ أَوْدِيَةِ الْأَرْضِ دُونَ بَعْضٍ. أما قوله تَعَالَى: بِقَدَرِها فَفِيهِ بَحْثَانِ: البحث الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْقَدْرُ وَالْقَدَرُ مَبْلَغُ الشَّيْءِ يُقَالُ كَمْ قَدْرُ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ وَكَمْ قَدَرُهَا وَمِقْدَارُهَا؟ أَيْ كَمْ تَبْلُغُ فِي الْوَزْنِ، فَمَا يَكُونُ مُسَاوِيًا لَهَا فِي الْوَزْنِ فَهُوَ قَدْرُهَا. البحث الثَّانِي: فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها أَيْ مِنَ الْمَاءِ فَإِنْ صَغُرَ الْوَادِي قَلَّ الْمَاءُ، وَإِنِ اتَّسَعَ الْوَادِي كَثُرَ الْمَاءُ. أما قوله: فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً فَفِيهِ بَحْثَانِ: البحث الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ أَزْبَدَ الْوَادِي إِزْبَادًا، وَالزَّبَدُ الِاسْمُ، وَقَوْلُهُ: رابِياً قَالَ الزَّجَّاجُ: طَافِيًا عَالِيًا فَوْقَ الْمَاءِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: زَائِدًا بِسَبَبِ انْتِفَاخِهِ، يُقَالُ: رَبَا يَرْبُو إِذَا زَادَ. أما قوله تَعَالَى: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ضَرَبَ الْمَثَلَ بِالزَّبَدِ الْحَاصِلِ مِنَ الْمَاءِ، أَتْبَعَهُ بِضَرْبِ الْمَثَلِ بِالزَّبَدِ الْحَاصِلِ مِنَ النَّارِ، وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ يُوقِدُونَ بِالْيَاءِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ لِقَوْلِهِ: يَنْفَعُ النَّاسَ وَأَيْضًا فَلَيْسَ هَاهُنَا مُخَاطَبٌ. وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ [الرَّعْدِ: 16] وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا عَامًّا يُرَادُ بِهِ الْكَافَّةُ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَمِمَّا تُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ أَيُّهَا الْمُوقِدُونَ. البحث الثَّانِي: الْإِيقَادُ عَلَى الشَّيْءِ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ فِي النَّارِ، / وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ [الْقَصَصِ: 38] وَالثَّانِي: أَنْ يُوقَدَ عَلَى الشَّيْءِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ فِي النَّارِ فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ تَذْوِيبَ الْأَجْسَادِ السَّبْعَةِ جَعَلَهَا فِي النَّارِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ هَاهُنَا: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ. البحث الثَّالِثُ: فِي قَوْلِهِ: ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: الَّذِي يُوقَدُ عَلَيْهِ لِابْتِغَاءِ حِلْيَةٍ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَالَّذِي يُوقَدُ عَلَيْهِ لِابْتِغَاءِ الْأَمْتِعَةِ الْحَدِيدُ وَالنُّحَاسُ وَالرَّصَاصُ، وَالْأُسْرُبُ يُتَّخَذُ مِنْهَا الْأَوَانِي وَالْأَشْيَاءُ الَّتِي يُنْتَفَعُ بِهَا، وَالْمَتَاعُ كُلُّ مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ وَقَوْلُهُ: زَبَدٌ مِثْلُهُ أَيْ زَبَدٌ مِثْلُ زَبَدِ الْمَاءِ الَّذِي يَحْمِلُهُ السَّيْلُ. ثم قال تَعَالَى: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ وَالْمَعْنَى كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.

ثم قال: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْجُفَاءُ الرَّمْيُ وَالِاطِّرَاحُ يُقَالُ: جَفَا الْوَادِي غُثَاءَهُ يَجْفُوهُ جَفَاءً إِذَا رَمَاهُ، وَالْجُفَاءُ اسْمٌ لِلْمُجْتَمِعِ مِنْهُ الْمُنْضَمِّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ وَمَوْضِعُ جُفَاءً نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الزَّبَدَ قَدْ يَعْلُو عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ وَيَرْبُو وَيَنْتَفِخُ إِلَّا أَنَّهُ بِالْآخِرَةِ يَضْمَحِلُّ وَيَبْقَى الْجَوْهَرُ الصَّافِي مِنَ الْمَاءِ وَمِنَ الْأَجْسَادِ السَّبْعَةِ، فَكَذَلِكَ الشُّبَهَاتُ وَالْخَيَالَاتُ قَدْ تَقْوَى وَتَعْظُمُ إِلَّا أَنَّهَا بِالْآخِرَةِ تَبْطُلُ وَتَضْمَحِلُّ وَتَزُولُ وَيَبْقَى الْحَقُّ ظَاهِرًا لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنَ الشُّبَهَاتِ، وَفِي قِرَاءَةِ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ جُفَالًا، وَعَنْ أَبِي حَاتِمٍ لَا يُقْرَأُ بِقِرَاءَةِ رُؤْبَةَ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الْفَارَ. أما قوله تَعَالَى: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ بِالِابْتِدَاءِ وَلِلَّذِينِ خَبَرُهُ وَتَقْدِيرُهُ لَهُمُ الْخَصْلَةُ الْحُسْنَى وَالْحَالَةُ الْحُسْنَى. الثَّانِي: أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ وَالتَّقْدِيرُ: كَأَنَّهُ قَالَ الَّذِي يَبْقَى هُوَ مَثَلُ الْمُسْتَجِيبِ وَالَّذِي يَذْهَبُ جَفَاءً مَثَلُ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ ثُمَّ بَيَّنَ الوجه فِي كَوْنِهِ مَثَلًا وَهُوَ أَنَّهُ لِمَنْ يَسْتَجِيبُ الْحُسْنَى وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَلِمَنْ لَا يَسْتَجِيبُ أَنْوَاعُ الْحَسْرَةِ وَالْعُقُوبَةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلَّذِينِ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الِاسْتِجَابَةَ الْحُسْنَى، فَيَكُونُ الْحُسْنَى صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَاهُنَا أَحْوَالَ السُّعَدَاءِ وَأَحْوَالَ الْأَشْقِيَاءِ، أَمَّا أَحْوَالُ السُّعَدَاءِ فَهِيَ قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِينَ أَجَابُوهُ إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوَّةِ وَبَعْثِ الرُّسُلِ وَالْتِزَامِ الشَّرَائِعِ الْوَارِدَةِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ فَلَهُمُ الْحُسْنَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْجَنَّةُ، وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: الْحُسْنَى هِيَ الْمَنْفَعَةُ الْعُظْمَى فِي الْحُسْنِ، وَهِيَ الْمَنْفَعَةُ الْخَالِصَةُ عَنْ شَوَائِبِ الْمَضَرَّةِ/ الدَّائِمَةِ الْخَالِيَةِ عَنِ الِانْقِطَاعِ الْمَقْرُونَةِ بِالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ. وَلَمْ يَذْكُرِ الزِّيَادَةَ هَاهُنَا لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَهَا فِي سُورَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُسَ: 26] وَأَمَّا أَحْوَالُ الْأَشْقِيَاءِ، فَهِيَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ فَلَهُمْ أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعُقُوبَةِ. فَالنوع الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ وَالِافْتِدَاءُ جَعْلُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ بَدَلًا مِنَ الْآخَرِ، وَمَفْعُولُ لَافْتَدَوْا بِهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَافْتَدَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَيْ جَعَلُوهُ فِدَاءَ أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَالْكِنَايَةُ فِي «بِهِ» عَائِدَةٌ إِلَى «مَا» فِي قَوْلِهِ: مَا فِي الْأَرْضِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى حَقٌّ، لِأَنَّ الْمَحْبُوبَ بِالذَّاتِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ هُوَ ذَاتُهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَإِنَّمَا يُحِبُّهُ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى مَصَالِحِ ذَاتِهِ، فَإِذَا كَانَتِ النَّفْسُ فِي الضَّرَرِ وَالْأَلَمِ وَالتَّعَبِ وَكَانَ مَالِكًا لِمَا يُسَاوِي عَالَمَ الْأَجْسَادِ وَالْأَرْوَاحِ فَإِنَّهُ يَرْضَى بِأَنْ يَجْعَلَهُ فِدَاءً لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ الْمَحْبُوبَ بِالْعَرَضِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِدَاءً لِمَا يَكُونُ مَحْبُوبًا بِالذَّاتِ. وَالنوع الثَّانِي: مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُمْ هُوَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ قَالَ الزَّجَّاجُ: ذَاكَ لِأَنَّ كُفْرَهُمْ أَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ. وَأَقُولُ هَاهُنَا حَالَتَانِ: فَكُلُّ مَا شَغَلَكَ بِاللَّهِ وَعُبُودِيَّتِهِ وَمَحَبَّتِهِ فَهِيَ الْحَالَةُ السَّعِيدَةُ الشَّرِيفَةُ الْعُلْوِيَّةُ الْقُدُسِيَّةُ، وَكُلُّ مَا شَغَلَكَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَهِيَ الْحَالَةُ الضَّارَّةُ الْمُؤْذِيَةُ الْخَسِيسَةُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ يَقْبَلَانِ الْأَشَدَّ وَالْأَضْعَفَ وَالْأَقَلَّ وَالْأَزْيَدَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُنَاسِبَةِ لِهَذِهِ الْأَحْوَالِ تُوجِبُ قُوَّتَهَا وَرُسُوخَهَا لِمَا ثَبَتَ فِي الْمَعْقُولَاتِ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَفْعَالِ تُوجِبُ حُصُولَ الْمَلَكَاتِ الرَّاسِخَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ

[سورة الرعد (13) : الآيات 20 إلى 24]

لَمَّا كَانَتْ كَثْرَةُ الْأَفْعَالِ تُوجِبُ حُصُولَ تِلْكَ الْمَلَكَاتِ الرَّاسِخَةِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ حَتَّى اللَّمْحَةُ وَاللَّحْظَةُ وَالْخُطُورُ بِالْبَالِ وَالِالْتِفَاتُ الضَّعِيفُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَثَرًا مَا فِي حُصُولِ تِلْكَ الْحَالَةِ فِي النَّفْسِ فَهَذَا هُوَ الْحِسَابُ، وَعِنْدَ التَّأَمُّلِ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ يَتَبَيَّنُ لِلْإِنْسَانِ صِدْقُ قَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7، 8] . إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالسُّعَدَاءُ هُمُ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ وَفِي الْإِقْبَالِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا جَرَمَ حَصَلَ لَهُمُ الْحُسْنَى. وَأَمَّا الْأَشْقِيَاءُ فَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِرَبِّهِمْ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ، وَالْمُرَادُ بِسُوءِ الْحِسَابِ أَنَّهُمْ أَحَبُّوا الدُّنْيَا وَأَعْرَضُوا عَنِ الْمَوْلَى فَلَمَّا مَاتُوا بَقُوا مَحْرُومِينَ عَنْ مَعْشُوقِهِمُ الَّذِي هُوَ الدُّنْيَا وَبَقُوا مَحْرُومِينَ عَنِ الْفَوْزِ بِخِدْمَةِ حَضْرَةِ الْمَوْلَى. وَالنوع الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا غَافِلِينَ عَنِ الِاسْتِسْعَادِ/ بِخِدْمَةِ حَضْرَةِ الْمَوْلَى عَاكِفِينَ عَلَى لَذَّاتِ الدُّنْيَا، فَإِذَا مَاتُوا فَارَقُوا مَعْشُوقَهُمْ فَيَحْتَرِقُونَ عَلَى مُفَارَقَتِهَا وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ آخَرُ يَجْبُرُ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ، فلذلك قال: مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذَا الْمَأْوَى فَقَالَ: وَبِئْسَ الْمِهادُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ. ثم قال تَعَالَى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى فَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَثَلِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ وَهُوَ أَنَّ الْعَالِمَ بِالشَّيْءِ كَالْبَصِيرِ، وَالْجَاهِلَ بِهِ كَالْأَعْمَى، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا كَالْآخَرِ، لِأَنَّ الْأَعْمَى إِذَا أَخَذَ يَمْشِي مِنْ غَيْرِ قَائِدٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَقَعُ فِي الْبِئْرِ وَفِي الْمَهَالِكِ، وَرُبَّمَا أَفْسَدَ مَا كَانَ عَلَى طَرِيقِهِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ النَّافِعَةِ، أَمَّا الْبَصِيرُ فَإِنَّهُ يَكُونُ آمِنًا مِنَ الْهَلَاكِ والإهلاك. ثم قال: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَذِهِ الْأَمْثِلَةِ إِلَّا أَرْبَابُ الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ مَنْ كُلِّ صُورَةٍ مَعْنَاهَا، وَيَأْخُذُونَ مَنْ كُلِّ قِشْرَةٍ لُبَابَهَا وَيَعْبُرُونَ بِظَاهِرِ كُلِّ حَدِيثٍ إِلَى سِرِّهِ وَلُبَابِهِ. [سورة الرعد (13) : الآيات 20 الى 24] الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هَلْ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ صِفَةً لِأُولِي الْأَلْبَابِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ [الرعد: 19] .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ مبتدأ: وأُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ خَبَرُهُ كَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ ... أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ [الرَّعْدِ: 25] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَشَرْطُهَا مُشْتَمِلٌ عَلَى قُيُودٍ، وَجَزَاؤُهَا يَشْتَمِلُ أَيْضًا عَلَى قُيُودٍ. أَمَّا الْقُيُودُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الشَّرْطِ فَهِيَ تِسْعَةٌ: الْقَيْدُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ الَّذِي عَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ حِينَ كَانُوا فِي صُلْبِ آدَمَ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَافِ: 172] . وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِعَهْدِ اللَّهِ كُلُّ أَمْرٍ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْأَشْيَاءُ الَّتِي أَقَامَ اللَّهُ عَلَيْهَا دَلَائِلَ عَقْلِيَّةً قَاطِعَةً لَا تَقْبَلُ النَّسْخَ وَالتَّغْيِيرَ. وَالْآخَرُ: الَّتِي أَقَامَ اللَّهُ عَلَيْهَا الدَّلَائِلَ السَّمْعِيَّةَ وَبَيَّنَ لَهُمْ تِلْكَ الْأَحْكَامَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ كُلُّ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ. وَيَصِحُّ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْعَهْدِ عَلَى الْحُجَّةِ بَلِ الْحَقُّ أَنَّهُ لَا عَهْدَ أَوْكَدُ مِنَ الْحُجَّةِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى الشَّيْءِ فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، إِذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ وُجُوبُهُ لَا بِمُجَرَّدِ الْيَمِينِ وَلِذَلِكَ رُبَّمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُحَدِّثَ نَفْسَهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُ فَلَا عَهْدَ أَوْكَدُ مِنْ إِلْزَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ ذَلِكَ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ أَوْ بِدَلِيلِ السَّمْعِ. وَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُوفِيًا لِلْعَهْدِ إِلَّا بِأَنْ يَأْتِيَ بِكُلِّ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ كَمَا أَنَّ الْحَالِفَ عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ لَا يَكُونُ بَارًّا فِي يَمِينِهِ إِلَّا إِذَا فَعَلَ الْكُلَّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِتْيَانُ بِجَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ وَالِانْتِهَاءُ عَنْ كُلِّ الْمَنْهِيَّاتِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَدَاءُ الْأَمَانَاتِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُخْتَارُ الصَّحِيحُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ. الْقَيْدُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ وَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ قَرِيبٌ مِنَ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، فَإِنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ قَرِيبٌ مِنْ عَدَمِ نَقْضِ الْمِيثَاقِ وَالْعَهْدِ، وَهَذَا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ لَمَّا وَجَبَ وُجُودُهُ لَزِمَ أَنْ يَمْتَنِعَ عَدَمُهُ، فَهَذَانِ الْمَفْهُومَانِ مُتَغَايِرَانِ إِلَّا أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ فَكَذَلِكَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَنْقُضَ الْمِيثَاقَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ مِنْ أَجَلِّ مَرَاتِبِ السَّعَادَةِ. قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لمن عَهْدَ لَهُ» وَالْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمِيثَاقَ مَا وَثَّقَهُ الْمُكَلَّفُ عَلَى نَفْسِهِ، فَالْحَاصِلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَلَّفَ اللَّهُ الْعَبْدَ بِهِ ابْتِدَاءً. وَقَوْلَهُ: وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا الْتَزَمَهُ العبد من أنواع الطاعات بحسب اختياره نَفْسِهِ كَالنَّذْرِ بِالطَّاعَاتِ وَالْخَيْرَاتِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ: عَهْدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِالْمِيثَاقِ: الْمَوَاثِيقُ الْمَذْكُورَةُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَسَائِرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ظُهُورِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ أَمْرٌ مُسْتَحْسَنٌ فِي الْعُقُولِ وَالشَّرَائِعِ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ فَغَدَرَ، كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ» وَعَنْهُ عليه السلام: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيام وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ رَجُلٌ أَعْطَى عَهْدًا ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا اسْتَوْفَى عَمَلَهُ وَظَلَمَهُ أَجْرَهُ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَاسْتَرَقَّ الْحُرَّ وَأَكَلَ ثَمَنَهُ» وَقِيلَ: كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَمَلِكِ الرُّومِ عَهْدٌ فَأَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَيْهِمْ وَيَنْقُضَ الْعَهْدَ فَإِذَا رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ يَقُولُ: وَفَاءٌ بالعهد لا

غَدْرَ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَنْبِذَنَّ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُ وَلَا يَحُلَّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَمَدُ وَيَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ» قَالَ مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: عَمْرُو بْنُ عُيَيْنَةَ فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ. الْقَيْدُ الثَّالِثُ: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَهَاهُنَا سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ وَتَرْكَ نَقْضِ الْمِيثَاقِ اشْتَمَلَ عَلَى وُجُوبِ الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ كُلِّ الْمَنْهِيَّاتِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَهُمَا؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ذُكِرَ لِئَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا جَرَمَ أَفْرَدَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِبَادِ بِالذِّكْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَأْكِيدٌ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ صِلَةُ الرَّحِمِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ثَلَاثٌ يَأْتِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهَا ذَلَقٌ الرَّحِمُ تَقُولُ: أَيْ رَبِّ قُطِعْتُ، وَالْأَمَانَةُ تَقُولُ: أَيْ رَبِّ تُرِكْتُ، وَالنِّعْمَةُ تَقُولُ: أَيْ رَبِّ كُفِرْتُ» . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ صِلَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُؤَازَرَتُهُ وَنُصْرَتُهُ فِي الْجِهَادِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: رِعَايَةُ جَمِيعِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لِلْعِبَادِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ صِلَةُ الرَّحِمِ وَصِلَةُ الْقَرَابَةِ الثَّابِتَةِ بِسَبَبِ أُخُوَّةِ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الْحُجُرَاتِ: 10] وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الصِّلَةِ إِمْدَادُهُمْ بِإِيصَالِ الْخَيْرَاتِ وَدَفْعُ الْآفَاتِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَشُهُودُ الْجَنَائِزِ وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ عَلَى النَّاسِ وَالتَّبَسُّمُ فِي وُجُوهِهِمْ وَكَفُّ الْأَذَى عَنْهُمْ وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ حَيَوَانٍ حَتَّى الْهِرَّةُ وَالدَّجَاجَةُ، وَعَنِ/ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ جَمَاعَةً دَخَلُوا عَلَيْهِ بِمَكَّةَ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: مِنْ خُرَاسَانَ. فَقَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَحْسَنَ كُلَّ الْإِحْسَانِ وَكَانَ لَهُ دَجَاجَةٌ فَأَسَاءَ إِلَيْهَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، وَأَقُولُ حَاصِلُ الْكَلَامِ: أَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَقَوْلَهُ: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ إِشَارَةٌ إِلَى الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ. الْقَيْدُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ وَإِنْ أَتَى بِكُلِّ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ فِي تَعْظِيمِ أَمْرِ اللَّهِ، وَفِي الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ الْخَشْيَةُ مِنَ اللَّهِ وَالْخَوْفُ مِنْهُ مُسْتَوْلِيًا عَلَى قَلْبِهِ وَهَذِهِ الْخَشْيَةُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ خَائِفًا مِنْ أَنْ يَقَعَ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ أَوْ خَلَلٌ فِي عِبَادَاتِهِ وَطَاعَاتِهِ، بِحَيْثُ يُوجِبُ فَسَادَ الْعِبَادَةِ أَوْ يُوجِبُ نُقْصَانَ ثَوَابِهَا. وَالثَّانِي: وَهُوَ خَوْفُ الْجَلَالِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا حَضَرَ عِنْدَ السُّلْطَانِ الْمَهِيبِ الْقَاهِرِ فَإِنَّهُ وإن كان في غير طَاعَتِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَزُولُ عَنْ قَلْبِهِ مَهَابَةُ الْجَلَالَةِ وَالرِّفْعَةِ وَالْعَظَمَةِ. الْقَيْدُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ اعْلَمْ أَنَّ الْقَيْدَ الرَّابِعَ إِشَارَةٌ إِلَى الْخَشْيَةِ مِنَ اللَّهِ وَهَذَا الْقَيْدُ الْخَامِسُ إِشَارَةٌ إِلَى الْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ وَسُوءِ الْحِسَابِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْخَشْيَةِ مِنَ اللَّهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ خَوْفِ الْجَلَالِ وَالْمَهَابَةِ وَالْعَظَمَةِ وَإِلَّا لَزِمَ التِّكْرَارُ. الْقَيْدُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ فَيَدْخُلُ فِيهِ الصَّبْرُ عَلَى فِعْلِ الْعِبَادَاتِ وَالصَّبْرُ عَلَى ثِقَلِ الْأَمْرَاضِ وَالْمَضَارِّ، وَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، وَالصَّبْرُ عَلَى تَرْكِ الْمُشْتَهَيَاتِ وَبِالْجُمْلَةِ الصَّبْرُ عَلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي وَعَلَى أَدَاءِ الطَّاعَاتِ. ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُقْدِمُ عَلَى الصَّبْرِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَصْبِرَ لِيُقَالَ مَا أَكْمَلَ

صَبْرَهُ وَأَشَدَّ قُوَّتَهُ عَلَى تَحَمُّلِ النَّوَازِلِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَصْبِرَ لِئَلَّا يُعَابَ بِسَبَبِ الْجَزَعِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَصْبِرَ لِئَلَّا تَحْصُلَ شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يَصْبِرَ لِعِلْمِهِ بِأَنْ لَا فَائِدَةَ فِي الْجَزَعِ فَالْإِنْسَانُ إِذَا أَتَى بِالصَّبْرِ لِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي كَمَالِ النَّفْسِ وَسَعَادَةِ الْقَلْبِ، أَمَّا إِذَا صَبَرَ عَلَى الْبَلَاءِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ الْبَلَاءَ قِسْمَةٌ حَكَمَ بِهَا الْقَسَّامُ الْعَلَّامُ الْمُنَزَّهُ عَنِ الْعَيْبِ وَالْبَاطِلِ وَالسَّفَهِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْقِسْمَةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ وَمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ وَرَضِيَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى الْمَالِكِ فِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ أَوْ يَصْبِرَ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَغْرِقًا فِي مُشَاهَدَةِ الْمُبْلِي فَكَانَ اسْتِغْرَاقُهُ فِي تَجَلِّي نور المبلى أذهله على التَّأَلُّمِ بِالْبَلَاءِ وَهَذَا أَعْلَى مَقَامَاتِ الصِّدِّيقِينَ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهُ صَبَرَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ صَبَرَ لِمُجَرَّدِ ثَوَابِهِ، وَطَلَبِ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ فِيهِ دَقِيقَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْعَاشِقَ إِذَا ضَرَبَهُ مَعْشُوقُهُ، فَرُبَّمَا نَظَرَ الْعَاشِقُ لِذَلِكَ الضَّارِبِ وَفَرِحَ بِهِ فَقَوْلُهُ: ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الْمَجَازِ، يَعْنِي كَمَا أَنَّ الْعَاشِقَ يَرْضَى بِذَلِكَ الضَّرْبِ لِالْتِذَاذِهِ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ مَعْشُوقِهِ، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ يَصْبِرُ عَلَى الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ، وَيَرْضَى بِهِ لِاسْتِغْرَاقِهِ فِي مَعْرِفَةِ نُورِ الْحَقِّ وَهَذِهِ دَقِيقَةٌ لَطِيفَةٌ. الْقَيْدُ السَّابِعُ: قَوْلُهُ: وَأَقامُوا الصَّلاةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَإِنْ كَانَتَا دَاخِلَتَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَفْرَدَهَا بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى كَوْنِهَا أَشْرَفَ مِنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَقَدْ سَبَقَ فِي هَذَا الْكِتَابِ تَفْسِيرُ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَلَا يَمْتَنِعُ إِدْخَالُ النَّوَافِلِ فِيهِ أَيْضًا. الْقَيْدُ الثَّامِنُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: قَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ فَإِنْ لَمْ يُتَّهَمْ بِتَرْكِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَالْأَوْلَى أَدَاؤُهَا سِرًّا وَإِنِ اتُّهِمَ بِتَرْكِ الزَّكَاةِ فَالْأَوْلَى أَدَاؤُهَا فِي الْعَلَانِيَةِ. وَقِيلَ السِّرُّ مَا يُؤَدِّيهِ بِنَفْسِهِ وَالْعَلَانِيَةُ مَا يُؤَدِّيهِ إِلَى الْإِمَامِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ وَالصَّدَقَةُ الَّتِي يُؤْتَى بِهَا عَلَى صِفَةِ التَّطَوُّعِ فَقَوْلُهُ: سِرًّا يَرْجِعُ إِلَى التَّطَوُّعِ وَقَوْلُهُ: عَلانِيَةً يَرْجِعُ إِلَى الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِنَّهُ تَعَالَى رَغَّبَ فِي الْإِنْفَاقِ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ رِزْقًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا رِزْقَ إِلَّا الْحَلَالُ إِذْ لَوْ كَانَ الْحَرَامُ رِزْقًا لَكَانَ قَدْ رَغَّبَ تَعَالَى فِي إِنْفَاقِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. الْقَيْدُ التاسع: قوله: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ إِذَا أتوا بمعصية درؤوها وَدَفَعُوهَا بِالتَّوْبَةِ كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: «إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَاعْمَلْ بِجَنْبِهَا حَسَنَةً تَمْحُهَا» . وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ لَا يُقَابِلُونَ الشَّرَّ بِالشَّرِّ بَلْ يُقَابِلُونَ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفُرْقَانِ: 72] وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيْسَ الْوَصُولُ مَنْ وُصِلَ ثُمَّ وَصَلَ تِلْكَ الْمُجَازَاةُ لَكِنَّهُ مَنْ قُطِعَ ثُمَّ وَصَلَ وَعَطَفَ عَلَى مَنْ لَمْ يَصِلْهُ، وَلَيْسَ الْحَلِيمُ مَنْ ظُلِمَ ثُمَّ حَلُمَ حَتَّى إِذَا هَيَّجَهُ قَوْمٌ اهْتَاجَ، لَكِنَّ الْحَلِيمَ مَنْ قَدَرَ ثُمَّ عَفَا. وَعَنِ الْحَسَنِ: هُمُ الَّذِينَ إِذَا حُرِمُوا أَعْطَوْا وَإِذَا ظُلِمُوا عَفَوْا، وَيُرْوَى أَنَّ شَقِيقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْبَلْخِيَّ دَخَلَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ مُتَنَكِّرًا، فَقَالَ مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ بَلْخَ، فَقَالَ: وَهَلْ تَعْرِفُ شَقِيقًا قَالَ نَعَمْ، فَقَالَ: كَيْفَ طَرِيقَةُ أَصْحَابِهِ؟ فَقَالَ: إِذَا مُنِعُوا صَبَرُوا وَإِنْ أُعْطُوا شَكَرُوا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: طريقة كلابنا

هَكَذَا. فَقَالَ: وَكَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَقَالَ الْكَامِلُونَ: هُمُ الَّذِينَ إِذَا مُنِعُوا شَكَرُوا وَإِذَا أُعْطُوا آثَرُوا. وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْلَةَ هَذِهِ الْقُيُودِ التِّسْعَةِ هِيَ الْقُيُودُ الْمَذْكُورَةُ فِي الشَّرْطِ. أَمَّا الْقُيُودُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْجَزَاءِ فَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْقَيْدُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ أَيْ عَاقِبَةُ الدَّارِ وَهِيَ الْجَنَّةُ، لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أَرَادَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ عَاقِبَةَ الدُّنْيَا وَمَرْجِعَ أَهْلِهَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْعُقْبَى كَالْعَاقِبَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا كَالشُّورَى وَالْقُرْبَى وَالرُّجْعَى، وَقَدْ يَجِيءُ مِثْلُ هَذَا أَيْضًا عَلَى فَعْلَى كَالنَّجْوَى وَالدَّعْوَى، وَعَلَى فِعْلَى كَالذِّكْرَى وَالضِّيزَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا وَهُوَ هَاهُنَا مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ، وَالْمَعْنَى: أُولَئِكَ لَهُمْ أَنْ تُعْقُبَ أَعْمَالَهُمُ الدَّارُ الَّتِي هِيَ الْجَنَّةُ. الْقَيْدُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ: جَنَّاتُ عَدْنٍ بَدَلٌ مِنْ عُقْبَى وَالْكَلَامُ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَكَرْنَاهُ مُسْتَقْصًى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ [التَّوْبَةِ: 72] وَذَكَرْنَا هُنَاكَ مَذْهَبَ الْمُفَسِّرِينَ، وَمَذْهَبَ أَهْلِ اللُّغَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو يُدْخَلُونَهَا بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْخَاءِ عَلَى إِسْنَادِ الدُّخُولِ إِلَيْهِمْ. الْقَيْدُ الثَّالِثُ: وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عُلَيَّةَ (صَلُحَ) بِضَمِّ اللَّامِ قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَوْضِعُ مَنْ رَفْعٌ لِأَجْلِ الْعَطْفِ عَلَى الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ يَدْخُلُونَها وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا كَمَا تَقُولُ قَدْ دَخَلُوا وَزَيْدًا أَيْ مَعَ زَيْدٍ. المسألة الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ صَلَحَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مَنْ صَدَقَ بِمَا صَدَقُوا بِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ مِثْلَ أَعْمَالِهِمْ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْأَنْسَابَ لَا تَنْفَعُ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ مَعَهَا أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ بَلِ الْآبَاءُ وَالْأَزْوَاجُ وَالذُّرِّيَّاتُ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالصَّحِيحُ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مِنْ ثَوَابِ الْمُطِيعِ سُرُورَهُ بِحُضُورِ أَهْلِهِ مَعَهُ فِي الْجَنَّةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَهَا كَرَامَةً لِلْمُطِيعِ الْآتِي بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَلَوْ دَخَلُوهَا بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ كَرَامَةٌ لِلْمُطِيعِ وَلَا فَائِدَةٌ فِي الْوَعْدِ بِهِ، إِذْ كُلُّ مَنْ كَانَ مُصْلِحًا فِي عَمَلِهِ فَهُوَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ ضَعِيفَةٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِشَارَةُ الْمُطِيعِ بِكُلِّ مَا يَزِيدُهُ سُرُورًا وَبَهْجَةً فَإِذَا بَشَّرَ اللَّهُ الْمُكَلَّفَ بِأَنَّهُ إِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ فَإِنَّهُ يَحْضُرُ مَعَهُ آبَاؤُهُ وَأَزْوَاجُهُ وَأَوْلَادُهُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَعْظُمُ سُرُورُ الْمُكَلَّفِ بِذَلِكَ وَتَقْوَى بَهْجَتُهُ بِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّ مِنْ أعظم موجبات سروره هم أن يجتمعوا فيتذكروا/ أَحْوَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهَا وَالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى في صفة أهل الجنة إنهم يقولون: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس: 26، 27] . المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَأَزْواجِهِمْ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ زَوْجَةٍ وَزَوْجَةٍ، وَلَعَلَّ الْأَوْلَى مَنْ

مَاتَ عَنْهَا أَوْ مَاتَتْ عَنْهُ، وَمَا رُوِيَ عَنْ سَوْدَةَ أَنَّهُ لَمَّا هَمَّ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَلَاقِهَا قَالَتْ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أُحْشَرُ فِي زُمْرَةِ نِسَائِكَ، كَالدَّلِيلِ على ما ذكرناه. القيد الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَهُمْ خَيْمَةٌ مِنْ دُرَّةٍ مُجَوَّفَةٍ طُولُهَا فَرْسَخٌ وَعَرْضُهَا فَرْسَخٌ لَهَا أَلْفُ بَابٍ مَصَارِيعُهَا مِنْ ذَهَبٍ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ كُلِّ بَابٍ يَقُولُونَ لَهُمْ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: مِنْ كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ كَبَابِ الصَّلَاةِ وَبَابِ الزَّكَاةِ وَبَابِ الصَّبْرِ وَيَقُولُونَ: وَنِعْمَ مَا أَعْقَبَكُمُ اللَّهُ بَعْدَ الدَّارِ الْأُولَى. وَاعْلَمْ أَنَّ دُخُولَ الْمَلَائِكَةِ إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الوجه الْأَوَّلِ فَهُوَ مَرْتَبَةٌ عَظِيمَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُطِيعِينَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ جَنَّةَ الْخُلْدِ، وَيَجْتَمِعُونَ بِآبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ جَلَالَةِ مَرَاتِبِهِمْ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ التَّحِيَّةِ وَالْإِكْرَامِ عِنْدَ الدخول عليهم يكرمونهم بالتحية والسلام ويبشرونهم بقوله: فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَا يَذْكُرُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَنَّ الثَّوَابَ مَنْفَعَةٌ خَالِصَةٌ دَائِمَةٌ مَقْرُونَةٌ بِالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ، وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي قُبُورَ الشُّهَدَاءِ رَأْسَ كُلِّ حَوْلٍ فَيَقُولُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» وَالْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ هَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَأَمَّا إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الوجه الثَّانِي فَتَفْسِيرُ الْآيَةِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ طَوَائِفُ، مِنْهُمْ رُوحَانِيُّونَ وَمِنْهُمْ كَرُوبِيُّونَ. فالعبد إذا راض نفسه بأنواع الراضيات كَالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْمُحَاسَبَةِ، وَلِكُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ جَوْهَرٌ قُدُسِيٌّ وَرُوحٌ عُلْوِيٌّ يَخْتَصُّ بِتِلْكَ الصِّفَةِ مَزِيدَ اخْتِصَاصٍ، فَعِنْدَ الْمَوْتِ إِذَا أَشْرَقَتْ تِلْكَ الْجَوَاهِرُ الْقُدُسِيَّةُ تَجَلَّتْ فِيهَا مِنْ كُلِّ رُوحٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ مَا يُنَاسِبُهَا مِنَ الصِّفَةِ الْمَخْصُوصَةِ بِهَا فَيَفِيضُ عَلَيْهَا مِنْ مَلَائِكَةِ الصَّبْرِ كِمَالَاتٌ مَخْصُوصَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ لَا تَظْهَرُ إِلَّا فِي مَقَامِ الصَّبْرِ، وَمِنْ مَلَائِكَةِ الشُّكْرِ كمالات روحانية لا تتجلى إلا في مَقَامِ الشُّكْرِ وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الْمَرَاتِبِ. المسألة الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ فَقَالَ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَتَمَ مَرَاتِبَ سَعَادَاتِ الْبَشَرِ بِدُخُولِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّحِيَّةِ وَالْإِكْرَامِ وَالتَّعْظِيمِ فَكَانُوا بِهِ أَجَلَّ/ مَرْتَبَةً مِنَ الْبَشَرِ وَلَوْ كَانُوا أَقَلَّ مَرْتَبَةً مِنَ الْبَشَرِ لَمَا كَانَ دُخُولُهُمْ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ السَّلَامِ وَالتَّحِيَّةِ مُوجِبًا عُلُوَّ دَرَجَاتِهِمْ وَشَرَفَ مَرَاتِبِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ عَادَ مِنْ سَفَرِهِ إِلَى بَيْتِهِ فَإِذَا قِيلَ فِي مَعْرِضِ كَمَالِ مَرْتَبَتِهِ إِنَّهُ يَزُورُهُ الْأَمِيرُ وَالْوَزِيرُ وَالْقَاضِي وَالْمُفْتِي، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَرَجَةَ ذَلِكَ الْمَزُورِ أَقَلُّ وَأَدْنَى مِنْ دَرَجَاتِ الزَّائِرِينَ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: هَاهُنَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ الْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ وَيَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَأُضْمِرَ الْقَوْلُ هَاهُنَا لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ دَلِيلًا عَلَيْهِ، وَأما قوله: بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالسَّلَامِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِنَّمَا حَصَلَتْ لَكُمْ هَذِهِ السَّلَامَةُ بِوَاسِطَةِ صَبْرِكُمْ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ هَذِهِ الْكَرَامَاتِ الَّتِي تَرَوْنَهَا، وَهَذِهِ الْخَيْرَاتِ الَّتِي تُشَاهِدُونَهَا إِنَّمَا حَصَلَتْ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الصبر.

[سورة الرعد (13) : آية 25]

[سورة الرعد (13) : آية 25] وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ صفات السعداء وذكر ما ترتب عَلَيْهَا مِنَ الْأَحْوَالِ الشَّرِيفَةِ الْعَالِيَةِ أَتْبَعَهَا بِذِكْرِ حَالِ الْأَشْقِيَاءِ، وَذِكْرِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الأحوال المخزية المكروهة، وأتبع الوعد وبالوعيد وَالثَّوَابَ بِالْعِقَابِ، لِيَكُونَ الْبَيَانُ كَامِلًا فَقَالَ: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عَهْدَ اللَّهِ مَا أَلْزَمَ عِبَادَهُ بِوَاسِطَةِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ لِأَنَّهَا أَوْكَدُ مِنْ كُلِّ عَهْدٍ وَكُلِّ يَمِينٍ إِذِ الْأَيْمَانُ إِنَّمَا تُفِيدُ التَّوْكِيدَ بِوَاسِطَةِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهَا تُوجِبُ الْوَفَاءَ بِمُقْتَضَاهَا، وَالْمُرَادُ مِنْ نَقْضِ هَذِهِ الْعُهُودِ أَنْ لَا يَنْظُرَ الْمَرْءُ فِي الْأَدِلَّةِ أَصْلًا، فَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُهُ الْعَمَلُ بِمُوجَبِهَا أَوْ بِأَنْ يَنْظُرَ فِيهَا وَيَعْلَمَ صِحَّتَهَا ثُمَّ يُعَانِدَ فَلَا يَعْمَلُ بِعَمَلِهِ أَوْ بِأَنْ يَنْظُرَ فِي الشُّبْهَةِ فَيَعْتَقِدَ خِلَافَ الْحَقِّ وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ أَيْ مِنْ بَعْدِ أَنْ وَثَّقَ اللَّهُ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ وَأَحْكَمَهَا، لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَقْوَى مِمَّا دَلَّ اللَّهُ عَلَى وُجُوبِهِ في أن يَنْفَعُ فِعْلُهُ وَيَضُرُّ تَرْكُهُ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الْعَهْدُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الْمِيثَاقِ فَمَا فَائِدَةُ اشْتِرَاطِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ. قُلْنَا: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعَهْدِ هُوَ مَا كَلَّفَ اللَّهُ الْعَبْدَ، وَالْمُرَادُ بِالْمِيثَاقِ الْأَدِلَّةُ الْمُؤَكَّدَةُ/ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يُؤَكِّدُ إِلَيْكَ الْعَهْدَ بِدَلَائِلَ أُخْرَى سَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ الْمُؤَكِّدَةُ دَلَائِلَ عَقْلِيَّةً أَوْ سَمْعِيَّةً. ثم قال تَعَالَى: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [الرعد: 21] فَجَعَلَ مِنْ صِفَاتِ هَؤُلَاءِ الْقَطْعَ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ الْوَصْلِ، وَالْمُرَادُ بِهِ قَطْعُ كُلِّ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ وَصْلَهُ وَيَدْخُلُ فِيهِ وَصْلُ الرَّسُولِ بِالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَاوَنَةِ وَوَصْلُ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَصْلُ الْأَرْحَامِ، وَوَصْلُ سَائِرِ مَنْ لَهُ حَقٌّ، ثم قال: وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَذَلِكَ الْفَسَادُ هُوَ الدُّعَاءُ إِلَى غَيْرِ دِينِ اللَّهِ وَقَدْ يَكُونُ بِالظُّلْمِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَتَخْرِيبِ الْبِلَادِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَاتِ قَالَ: أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَاللَّعْنَةُ مِنَ اللَّهِ الْإِبْعَادُ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَى ضِدِّهِمَا مِنْ عَذَابٍ وَنِقْمَةٍ: وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ لِأَنَّ الْمُرَادَ جَهَنَّمُ، وَلَيْسَ فيها إلا ما يسوء الصائر إليها. [سورة الرعد (13) : آية 26] اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ عَلَى مَنْ نَقَضَ عَهْدَ اللَّهِ فِي قَبُولِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ بِأَنَّهُمْ مَلْعُونُونَ فِي الدُّنْيَا وَمُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَوْ كَانُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ لَمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ النِّعَمِ وَاللَّذَّاتِ فِي الدُّنْيَا، فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ أَنَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ عَلَى الْبَعْضِ وَيُضَيِّقُهُ عَلَى الْبَعْضِ وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، فَقَدْ يُوجَدُ الْكَافِرُ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ دُونَ الْمُؤْمِنِ، وَيُوجَدُ الْمُؤْمِنُ مُضَيَّقًا عَلَيْهِ دُونَ الْكَافِرِ، فَالدُّنْيَا دَارُ امْتِحَانٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَى الْقَدْرِ فِي اللُّغَةِ قَطْعُ الشَّيْءِ عَلَى مُسَاوَاةِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَى (يَقْدِرُ) هَاهُنَا يُضَيِّقُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطَّلَاقِ: 7] أَيْ ضُيِّقَ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُعْطِيهِ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ لَا يَفْضُلُ عَنْهُ شَيْءٌ. وَأما قوله: وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ بَسَطَ اللَّهُ لَهُ رِزْقَهُ، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يوجب

[سورة الرعد (13) : آية 27]

[سورة الرعد (13) : آية 27] وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) اعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنْ كُنْتَ رَسُولًا فَأْتِنَا بِآيَةٍ وَمُعْجِزَةٍ قَاهِرَةٍ ظَاهِرَةٍ مِثْلِ مُعْجِزَاتِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. فَأَجَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ وَبَيَانُ كَيْفِيَّةِ هَذَا الْجَوَابِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَاتٍ ظَاهِرَةً وَمُعْجِزَاتٍ قَاهِرَةً، وَلَكِنَّ الْإِضْلَالَ وَالْهِدَايَةَ مِنَ اللَّهِ، فَأَضَلَّكُمْ عَنْ تِلْكَ الْآيَاتِ الْقَاهِرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَهَدَى أَقْوَامًا آخَرِينَ إِلَيْهَا، حَتَّى عَرَفُوا بِهَا صِدْقَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي تَكْثِيرِ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ كَلَامٌ يَجْرِي مَجْرَى التَّعَجُّبِ مِنْ قَوْلِهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةَ الْمُتَكَاثِرَةَ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تَصِيرَ مُشْتَبِهَةً عَلَى الْعَاقِلِ، فَلَمَّا طَلَبُوا بَعْدَهَا آيَاتٍ أُخْرَى كَانَ مَوْضِعًا لِلتَّعَجُّبِ وَالِاسْتِنْكَارِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: مَا أَعْظَمَ عِنَادَكُمْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ مَنْ كَانَ عَلَى صِفَتِكُمْ مِنَ التَّصْمِيمِ وَشِدَّةِ الشَّكِيمَةِ عَلَى الْكُفْرِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى اهْتِدَائِكُمْ وَإِنْ أُنْزِلَتْ كُلُّ آيَةٍ وَيَهْدِي مَنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ صِفَتِكُمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا سَائِرَ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ لَا فَائِدَةَ فِي ظُهُورِ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ، فَإِنَّ الْإِضْلَالَ وَالْهِدَايَةَ مِنَ اللَّهِ فَلَوْ حَصَلَتِ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ وَلَمْ تَحْصُلِ الْهِدَايَةُ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْصُلِ الِانْتِفَاعُ بِهَا وَلَوْ حَصَلَتْ آيَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ وَحَصَلَتِ الْهِدَايَةُ مِنَ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فَلَا تَشْتَغِلُوا بِطَلَبِ الْآيَاتِ وَلَكِنْ تَضَرَّعُوا إِلَى اللَّهِ فِي طَلَبِ الْهِدَايَاتِ. وَرَابِعُهَا: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ عَنْ رَحْمَتِهِ وَثَوَابِهِ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى كُفْرِهِ فَلَسْتُمْ مِمَّنْ يُجِيبُهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَا يسأل لاستحقاقكم العذاب والإضلال عَنِ الثَّوَابِ: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ أَيْ يَهْدِي إِلَى جَنَّتِهِ مَنْ تَابَ وَآمَنَ قَالَ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْهُدَى هُوَ الثَّوَابُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: مَنْ أَنابَ أَيْ تَابَ/ وَالْهُدَى الَّذِي يَفْعَلُهُ بِالْمُؤْمِنِ هُوَ الثَّوَابُ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ عَلَى إِيمَانِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُضِلُّ عَنِ الثَّوَابِ بِالْعِقَابِ، لَا عَنِ الدِّينِ بِالْكُفْرِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَنْ خَالَفَنَا. هَذَا تَمَامُ كَلَامِ أَبِي عَلِيٍّ وَقَوْلُهُ: (أَنَابَ) أَيْ أَقْبَلَ إِلَى الْحَقِّ وحقيقته دخل في نوبة الخير. [سورة الرعد (13) : الآيات 28 الى 29] الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) [في قَوْلُهُ تَعَالَى الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ] اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ آمَنُوا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ أَنابَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ خَشَعَتْ قُلُوبُهُمْ وَاطْمَأَنَّتْ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الْأَنْفَالِ: 2] وَالْوَجَلُ ضِدَّ الِاطْمِئْنَانِ، فَكَيْفَ وَصَفَهُمْ هَاهُنَا بِالِاطْمِئْنَانِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ إِذَا ذَكَرُوا الْعُقُوبَاتِ وَلَمْ يَأْمَنُوا مِنْ أَنْ يُقْدِمُوا عَلَى الْمَعَاصِي فَهُنَاكَ وَصَفَهُمْ بِالْوَجَلِ، وإذا ذكروا وعده بِالثَّوَابِ وَالرَّحْمَةِ، سَكَنَتْ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَا يُنَافِي الْآخَرَ، لِأَنَّ الْوَجَلَ هُوَ بِذِكْرِ الْعِقَابِ وَالطُّمَأْنِينَةَ بِذِكْرِ الثَّوَابِ، وَيُوجَدُ الْوَجَلُ فِي حَالِ فِكْرِهِمْ فِي الْمَعَاصِي، وَتُوجَدُ

الطُّمَأْنِينَةُ عِنْدَ اشْتِغَالِهِمْ بِالطَّاعَاتِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ عِلْمَهُمْ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا يُوجِبُ حُصُولَ الطُّمَأْنِينَةِ لَهُمْ فِي كَوْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا حَقًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. أَمَّا شَكُّهُمْ فِي أَنَّهُمْ أَتَوْا بِالطَّاعَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ فَيُوجِبُ حُصُولَ الْوَجَلِ فِي قُلُوبِهِمْ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ حَصَلَتْ فِي قُلُوبِهِمُ الطُّمَأْنِينَةُ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَادِقٌ فِي وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقٌ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ حَصَلَ الْوَجَلُ وَالْخَوْفُ فِي قُلُوبِهِمْ أَنَّهُمْ هَلْ أَتَوْا بِالطَّاعَةِ الْمُوجِبَةِ لِلثَّوَابِ أَمْ لَا، وَهَلِ احْتَرَزُوا عَنِ الْمَعْصِيَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِقَابِ أَمْ لَا. وَاعْلَمْ أَنَّ لَنَا فِي قَوْلِهِ: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ أَبْحَاثًا دَقِيقَةً غَامِضَةً وَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ: الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مُؤَثِّرٌ لَا يَتَأَثَّرُ، وَمُتَأَثِّرٌ لَا يُؤَثِّرُ، وَمَوْجُودٌ يُؤَثِّرُ فِي شَيْءٍ وَيَتَأَثَّرُ عَنْ شَيْءٍ، فَالْمُؤَثِّرُ الَّذِي لَا يَتَأَثَّرُ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْمُتَأَثِّرُ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ هُوَ الْجِسْمُ، فَإِنَّهُ ذَاتٌ قَابِلَةٌ لِلصِّفَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْآثَارِ الْمُتَنَافِيَةِ، وَلَيْسَ لَهُ خَاصِّيَّةٌ إِلَّا الْقَبُولَ فَقَطْ. وَأَمَّا الْمَوْجُودُ الَّذِي يُؤَثِّرُ تَارَةً وَيَتَأَثَّرُ أُخْرَى، فَهِيَ الْمَوْجُودَاتُ الرُّوحَانِيَّةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا إِذَا تَوَجَّهَتْ إِلَى الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ صَارَتْ قَابِلَةً لِلْآثَارِ الْفَائِضَةِ عَنْ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَتَكْوِينِهِ وَإِيجَادِهِ وَإِذَا تَوَجَّهَتْ إِلَى عَالَمِ/ الْأَجْسَامِ اشْتَاقَتْ إِلَى التَّصَرُّفِ فِيهَا، لِأَنَّ عَالَمَ الْأَرْوَاحِ مُدَبِّرٌ لِعَالَمِ الْأَجْسَامِ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا: فَالْقَلْبُ كُلَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى مُطَالَعَةِ عَالَمِ الْأَجْسَامِ حَصَلَ فِيهِ الِاضْطِرَابُ وَالْقَلَقُ وَالْمَيْلُ الشَّدِيدُ إِلَى الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا، أَمَّا إِذَا تَوَجَّهَ الْقَلْبُ إِلَى مُطَالَعَةِ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ حَصَلَ فِيهِ أَنْوَارُ الصَّمَدِيَّةِ والأضواء والإلهية، فَهُنَاكَ يَكُونُ سَاكِنًا فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. الوجه الثَّانِي: أَنَّ الْقَلْبَ كُلَّمَا وَصَلَ إِلَى شَيْءٍ فَإِنَّهُ يَطْلُبُ الِانْتِقَالَ مِنْهُ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى أَشْرَفَ مِنْهَا، لِأَنَّهُ لَا سَعَادَةَ فِي عَالَمِ الْأَجْسَامِ إِلَّا وَفَوْقَهَا مَرْتَبَةٌ أُخْرَى فِي اللَّذَّةِ وَالْغِبْطَةِ. أَمَّا إِذَا انْتَهَى الْقَلْبُ وَالْعَقْلُ إِلَى الِاسْتِسْعَادِ بِالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَضْوَاءِ الصَّمَدِيَّةِ بَقِيَ وَاسْتَقَرَّ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْهُ الْبَتَّةَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ دَرَجَةٌ أُخْرَى فِي السَّعَادَةِ أَعْلَى مِنْهَا وَأَكْمَلُ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. وَالوجه الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّ الْإِكْسِيرَ إِذَا وَقَعَتْ مِنْهُ ذَرَّةٌ عَلَى الْجِسْمِ النُّحَاسِيِّ انْقَلَبَ ذَهَبًا بَاقِيًا عَلَى كَرِّ الدُّهُورِ وَالْأَزْمَانِ، صَابِرًا عَلَى الذَّوَبَانِ الْحَاصِلِ بِالنَّارِ، فَإِكْسِيرُ جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ أَوْلَى أَنْ يَقْلِبَهُ جَوْهَرًا بَاقِيًا صَافِيًا نورانيا لا يقبل التغيير وَالتَّبَدُّلَ، فَلِهَذَا قَالَ: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. ثم قال تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ كَلِمَةِ طُوبى ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا اسْمُ شَجَرَةٍ فِي الْجَنَّةِ، رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ غَرَسَهَا اللَّهُ بِيَدِهِ تُنْبِتُ الْحُلِيَّ وَالْحُلَلَ وَإِنَّ أَغْصَانَهَا لِتُرَى مِنْ وَرَاءِ سُورِ الْجَنَّةِ» ، وَحَكَى أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فِي دَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي دَارِ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْهَا غُصْنٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ طُوبَى مَصْدَرٌ مِنْ طَابَ، كَبُشْرَى وَزُلْفَى، وَمَعْنَى طُوبَى لَكَ، أَصَبْتَ طَيِّبًا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ: فَقِيلَ: فَرَحٌ وَقُرَّةُ عَيْنٍ لَهُمْ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقِيلَ: نِعْمَ مَا لَهُمْ عَنْ

[سورة الرعد (13) : آية 30]

عِكْرِمَةَ، وَقِيلَ غِبْطَةٌ لَهُمْ عَنِ الضَّحَّاكِ. وَقِيلَ: حسنى لَهُمْ عَنْ قَتَادَةَ. وَقِيلَ: خَيْرٌ وَكَرَامَةٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ، وَقِيلَ: الْعَيْشُ الطَّيِّبُ لَهُمْ عَنِ الزَّجَّاجِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَعَانِيَ مُتَقَارِبَةٌ وَالتَّفَاوُتُ يَقْرُبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي اللَّفْظِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مُبَالَغَةٌ فِي نَيْلِ الطَّيِّبَاتِ وَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ اللَّذَّاتِ، وَتَفْسِيرُهُ أَنَّ أَطْيَبَ الْأَشْيَاءِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ حَاصِلٌ لَهُمْ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لَيْسَتْ عَرَبِيَّةً، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: طُوبَى اسْمُ الْجَنَّةِ بِالْحَبَشِيَّةِ، وَقِيلَ اسْمُ الْجَنَّةِ بِالْهِنْدِيَّةِ. وَقِيلَ الْبُسْتَانُ بِالْهِنْدِيَّةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا الْعَرَبِيُّ لَا سِيَّمَا وَاشْتِقَاقُ هَذَا اللَّفْظِ مِنَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ظَاهِرٌ. المسألة الثَّانِيَةُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الَّذِينَ آمَنُوا مبتدأ وطُوبى لَهُمْ خَبَرُهُ، وَمَعْنَى طُوبَى لَكَ أَيْ أَصَبْتَ طَيِّبًا، وَمَحَلُّهَا النَّصْبُ أَوِ الرَّفْعُ، كَقَوْلِكَ طَيِّبًا لَكَ وَطَيِّبٌ لَكَ وَسَلَامًا لَكَ وَسَلَامٌ لَكَ، وَالْقِرَاءَةُ فِي قَوْلِهِ: وَحُسْنُ مَآبٍ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ تدلك على محلها، وقرأ مكوزة الأعرابي (طيب لَهُمْ) . أما قوله: وَحُسْنُ مَآبٍ فَالْمُرَادُ حُسْنُ الْمَرْجِعِ وَالْمَقَرِّ وَكُلُّ ذَلِكَ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ بِأَعْظَمِ النَّعِيمِ تَرْغِيبًا فِي طَاعَتِهِ وَتَحْذِيرًا عَنِ المعصية. [سورة الرعد (13) : آية 30] كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) اعْلَمْ أَنَّ الْكَافَ فِي كَذلِكَ لِلتَّشْبِيهِ فَقِيلَ وَجْهُ التَّشْبِيهِ أَرْسَلْنَاكَ كَمَا أَرْسَلْنَا الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَقِيلَ: كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ وَأَعْطَيْنَاهُمْ كُتُبًا تُتْلَى عَلَيْهِمْ، كَذَلِكَ أَعْطَيْنَاكَ هذا الكتاب وأنت تتلوه عليهم فلماذا اقْتَرَحُوا غَيْرَهُ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْإِرْسَالِ أَرْسَلْناكَ يَعْنِي أَرْسَلْنَاكَ إِرْسَالًا لَهُ شَأْنٌ وَفَضْلٌ عَلَى سَائِرِ الْإِرْسَالَاتِ. ثُمَّ فَسَّرَ كَيْفَ أَرْسَلَهُ فَقَالَ: فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ أَيْ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ تَقَدَّمَتْهَا أُمَمٌ فَهِيَ آخِرُ الأمم وأنت آخر الأنبياء. أما قوله: لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ فَالْمُرَادُ: لِتَقْرَأَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ الْعَظِيمَ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ أَيْ وَحَالُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ الَّذِي رَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وَمَا بِهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْهُ، وَكَفَرُوا بِنِعْمَتِهِ فِي إِرْسَالِ مِثْلِكَ إِلَيْهِمْ وَإِنْزَالِ هَذَا الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ عَلَيْهِمْ/ قُلْ هُوَ رَبِّي الْوَاحِدُ الْمُتَعَالِي عَنِ الشُّرَكَاءِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فِي نُصْرَتِي عَلَيْكُمْ وَإِلَيْهِ مَتابِ فَيُعِينُنِي عَلَى مُصَابَرَتِكُمْ وَمُجَاهَدَتِكُمْ قِيلَ: نَزَلَ قَوْلُهُ: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ وَكَانَ يَقُولُ أَمَّا اللَّهُ فَنَعْرِفُهُ، وَأَمَّا الرَّحْمَنُ فَلَا نَعْرِفُهُ، إِلَّا صَاحِبَ الْيَمَامَةِ يَعَنُونَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ فَقَالَ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الْإِسْرَاءِ: 110] وَكَقَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفُرْقَانِ: 60] وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ صَالَحَ قُرَيْشًا مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ كَتَبَ: «هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ قَاتَلْنَاكَ فَقَدْ ظَلَمْنَا. وَلَكِنِ اكْتُبْ، هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَكَتَبَ كَذَلِكَ، وَلَمَّا كَتَبَ فِي الْكِتَابِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَالُوا: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَلَا

[سورة الرعد (13) : آية 31]

نَعْرِفُهُ، وَكَانُوا يَكْتُبُونَ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَقَالَ عَلَيْهِ السلام: «اكتبوا كما تُرِيدُونَ» . وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِإِطْلَاقِ هَذَا الِاسْمِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَفَرُوا بِاللَّهِ إِمَّا جَحْدًا لَهُ وَإِمَّا لِإِثْبَاتِهِمُ الشُّرَكَاءَ مَعَهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا الْقَوْلُ أَلْيَقُ بِالظَّاهِرِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَهُوَ المفهوم من الرحمن، وليس المفهوم من الِاسْمَ كَمَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ: كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ وَكَذَّبُوا بِهِ لَكَانَ الْمَفْهُومُ هُوَ، دُونَ اسْمِهِ. [سورة الرعد (13) : آية 31] وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) [فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى] اعْلَمْ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَعَدُوا فِي فِنَاءِ مَكَّةَ، فَأَتَاهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَرَضَ الْإِسْلَامَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيُّ: سَيِّرْ لَنَا جِبَالَ مَكَّةَ حَتَّى يَنْفَسِحَ الْمَكَانُ عَلَيْنَا وَاجْعَلْ لَنَا/ فِيهَا أَنْهَارًا نَزْرَعُ فِيهَا، أَوْ أَحْيِ لَنَا بَعْضَ أَمْوَاتِنَا لِنَسْأَلَهُمْ أَحَقٌّ مَا تَقُولُ أَوْ بَاطِلٌ، فَقَدْ كَانَ عِيسَى يُحْيِي الْمَوْتَى، أَوْ سَخِّرْ لَنَا الرِّيحَ حَتَّى نَرْكَبَهَا وَنَسِيرَ فِي الْبِلَادِ فَقَدْ كَانَتِ الرِّيحُ مُسَخَّرَةً لِسُلَيْمَانَ فَلَسْتَ بِأَهْوَنَ عَلَى رَبِّكَ مِنْ سُلَيْمَانَ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَيْ مِنْ أَمَاكِنِهَا أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَيْ شُقِّقَتْ فَجُعِلَتْ أَنْهَارًا وَعُيُونًا أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى لَكَانَ هُوَ هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكَ. وَحُذِفَ جَوَابُ «لَوْ» لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، وقال الزجاج: المحذوف هو أنه لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ وَكَذَا وَكَذَا لَمَا آمَنُوا بِهِ كَقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى [الْأَنْعَامِ: 111] . ثم قال تَعَالَى: بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً يَعْنِي إِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَحَكَّمَ عَلَيْهِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ. ثم قال تَعَالَى: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَيْأَسِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَفَلَمْ يَعْلَمُوا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الوجه الْأَوَّلُ: يَيْأَسِ يَعْلَمُ فِي لُغَةِ النَّخَعِ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ مِثْلِ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَلَمْ يَيْأَسِ الْأَقْوَامُ أَنِّي أَنَا ابْنُهُ ... وَإِنْ كُنْتَ عَنْ أَرْضِ الْعَشِيرَةِ نَائِيًا وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إِذْ يَأْسِرُونَنِي ... أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ أَيْ أَلَمْ تَعْلَمُوا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: مَا وَجَدَتِ الْعَرَبَ تَقُولُ يَئِسْتُ بِمَعْنَى عَلِمْتُ الْبَتَّةَ. وَالوجه الثَّانِي: مَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يَقْرَآنِ: أَفَلَمْ يَأْسَ الَّذِينَ آمَنُوا فَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَفَلَمْ

يَيْأَسِ فَقَالَ: أَظُنُّ أَنَّ الْكَاتِبَ كَتَبَهَا وَهُوَ نَاعِسٌ إِنَّهُ كَانَ فِي الْخَطِّ يَأْسَ فَزَادَ الكاتب سنة واحدة فصار ييأس فقرىء يَيْأَسُ وَهَذَا الْقَوْلُ بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّهُ يَقْتَضِي كَوْنَ الْقُرْآنِ مَحَلًّا لِلتَّحْرِيفِ وَالتَّصْحِيفِ وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مَا هَذَا الْقَوْلُ وَاللَّهِ إِلَّا فِرْيَةٌ بِلَا مِرْيَةٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَوْ يَئِسَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ إِيمَانِ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ يُوجِبُ الْيَأْسَ مِنْ كَوْنِهِ وَالْمُلَازَمَةُ تُوجِبُ حُسْنَ الْمَجَازِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ حَسُنَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْيَأْسِ لِإِرَادَةِ الْعِلْمِ. المسألة الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ: أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَكَلِمَةُ «لَوْ» تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ هِدَايَةَ جَمِيعِ النَّاسِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ تَارَةً يَحْمِلُونَ هَذِهِ الْمَشِيئَةَ/ عَلَى مَشِيئَةِ الْإِلْجَاءِ، وَتَارَةً يَحْمِلُونَ الْهِدَايَةَ عَلَى الْهِدَايَةِ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَفِيهِمْ مَنْ يُجْرِي الْكَلَامَ عَلَى الظَّاهِرِ، وَيَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ هِدَايَةَ جَمِيعِ النَّاسِ لِأَنَّهُ مَا شَاءَ هِدَايَةَ الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ فَلَا يَكُونُ شَائِيًا لِهِدَايَةِ جَمِيعِ النَّاسِ. وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ المسألة قَدْ سَبَقَ مِرَارًا. أما قوله تَعَالَى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا فِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قِيلَ: أَرَادَ بِهِ جَمِيعَ الْكُفَّارِ لِأَنَّ الْوَقَائِعَ الشَّدِيدَةَ الَّتِي وَقَعَتْ لِبَعْضِ الْكُفَّارِ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ أَوْجَبَ حُصُولَ الْغَمِّ فِي قَلْبِ الْكُلِّ، وَقِيلَ: أَرَادَ بَعْضَ الْكُفَّارِ وَهُمْ جَمَاعَةٌ مُعَيَّنُونَ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي لَفْظِ الْكُفَّارِ لِلْمَعْهُودِ السَّابِقِ وَهُوَ ذَلِكَ الْجَمْعُ الْمُعَيَّنُ. المسألة الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا مِنْ كُفْرِهُمْ وَسُوءِ أَعْمَالِهِمْ قَارِعَةٌ دَاهِيَةٌ تَقْرَعُهُمْ بِمَا يُحِلُّ اللَّهُ بِهِمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ صُنُوفِ الْبَلَايَا وَالْمَصَائِبِ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، أَوْ تَحُلُّ الْقَارِعَةُ قَرِيبًا مِنْهُمْ، فَيَفْزَعُونَ وَيَضْطَرِبُونَ وَيَتَطَايَرُ إِلَيْهِمْ شَرَارُهَا وَيَتَعَدَّى إِلَيْهِمْ شُرُورُهَا حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ وَهُوَ مَوْتُهُمْ أَوِ الْقِيَامَةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَلَا يَزَالُ كُفَّارُ مَكَّةَ تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالتَّكْذِيبِ قَارِعَةٌ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَزَالُ يَبْعَثُ السَّرَايَا فَتُغِيرُ حَوْلَ مَكَّةَ وَتَخْتَطِفُ مِنْهُمْ وَتُصِيبُ مَوَاشِيَهُمْ، أَوْ تَحِلُّ أنت يا محمد قريبا من دارهم بِجَيْشِكَ كَمَا حَلَّ بِالْحُدَيْبِيَةِ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ وَهُوَ فَتْحُ مَكَّةَ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ وَعَدَهُ ذَلِكَ. ثم قال: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَقْوِيَةُ قَلْبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِزَالَةُ الْحُزْنِ عَنْهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ الْخُلْفَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي مِيعَادِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ وَارِدَةً فِي حَقِّ الْكُفَّارِ إِلَّا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، إِذْ بِعُمُومِهِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَعِيدٍ وَرَدَ فِي حَقِّ الْفُسَّاقِ. وَجَوَابُنَا: أَنَّ الْخُلْفَ غَيْرٌ، وَتَخْصِيصَ الْعُمُومِ غَيْرٌ، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِالْخُلْفِ، وَلَكِنَّا نُخَصِّصُ عُمُومَاتِ الْوَعِيدِ بِالْآيَاتِ الدالة على العفو.

[سورة الرعد (13) : الآيات 32 إلى 34]

[سورة الرعد (13) : الآيات 32 الى 34] وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34) اعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا طَلَبُوا سَائِرَ الْمُعْجِزَاتِ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ وَكَانَ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ يَتَأَذَّى مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ فَاللَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ تَسْلِيَةً لَهُ وَتَصْبِيرًا لَهُ عَلَى سَفَاهَةِ قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُ إن أقوام سائر الأنبياء استهزؤا بِهِمْ كَمَا أَنَّ قَوْمَكَ يَسْتَهْزِئُونَ بِكَ: فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ أَطَلْتُ لَهُمُ الْمُدَّةَ بِتَأْخِيرِ الْعُقُوبَةِ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِي لَهُمْ. وَاعْلَمْ أَنِّي سَأَنْتَقِمُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ كَمَا انتقمت من أولئك المتقدمين والإملاء والإمهال وَأَنْ يُتْرَكُوا مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ فِي خَفْضٍ وَأَمْنٍ كَالْبَهِيمَةِ يُمْلَى لَهَا فِي الْمَرْعَى، وَهَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ وَجَوَابٌ عَنِ اقْتِرَاحِهِمُ الْآيَاتِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَوْرَدَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْحِجَاجِ وَمَا يَكُونُ تَوْبِيخًا لَهُمْ وَتَعْجِيبًا مِنْ عُقُولِهِمْ فَقَالَ: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ أَحْوَالِ النُّفُوسِ، وَقَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِ مَطَالِبِهَا مِنْ تَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ وَمِنْ إِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَيْهَا عَلَى كُلِّ الطَّاعَاتِ، وَإِيصَالِ الْعِقَابِ إِلَيْهَا عَلَى كُلِّ الْمَعَاصِي. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَمَا ذَاكَ إِلَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قائِماً بِالْقِسْطِ [آلِ عِمْرَانَ: 18] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِهَذَا الْكَلَامِ مِنْ جَوَابٍ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وُجُوهٍ: الوجه الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ كَمَنْ لَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؟ / وَهِيَ الْأَصْنَامُ الَّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَهَذَا الْجَوَابُ مُضْمَرٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ وَالتَّقْدِيرُ: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ كَشُرَكَائِهِمُ الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ وَمَا جَاءَ جَوَابُهُ لِأَنَّهُ مُضْمَرٌ فِي قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزُّمَرِ: 22] فَكَذَا هَاهُنَا، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ مَا يَقَعُ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، أَوْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَجَعَلُوا وَالتَّقْدِيرُ: أَفَمَنْ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يُوَحِّدُوهُ وَلَمْ يُمَجِّدُوهُ وَجَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ. الوجه الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ السَّيِّدُ صَاحِبُ «حَلِّ الْعَقْدِ» فَقَالَ: نَجْعَلُ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا وَاوَ الْحَالِ وَنُضْمِرُ لِلْمُبْتَدَأِ خَبَرًا يَكُونُ الْمُبْتَدَأُ مَعَهُ جُمْلَةً مُقَرِّرَةً لِإِمْكَانِ مَا يُقَارِنُهَا مِنَ الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ مَوْجُودٌ. وَالْحَالُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ، ثُمَّ أُقِيمَ الظَّاهِرُ وَهُوَ قَوْلُهُ (لِلَّهِ) مَقَامَ الْمُضْمَرِ تَقْرِيرًا لِلْإِلَهِيَّةِ وَتَصْرِيحًا بِهَا، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: جَوَادٌ يُعْطِي النَّاسَ وَيُغْنِيهِمْ مَوْجُودٌ وَيَحْرِمُ مِثْلِي. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ هَذِهِ الْحُجَّةَ زَادَ فِي الْحِجَاجِ فَقَالَ: قُلْ سَمُّوهُمْ وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ الْمُسْتَحْقَرِ الَّذِي بَلَغَ فِي الْحَقَارَةِ إِلَى أَنْ لَا يُذْكَرَ وَلَا يُوضَعَ لَهُ اسْمٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُقَالُ: سَمِّهِ إِنْ شِئْتَ. يعني أنه

أَخَسُّ مِنْ أَنْ يُسَمَّى وَيُذْكَرَ، وَلَكِنَّكَ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَضَعَ لَهُ اسْمًا فَافْعَلْ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: سَمُّوهُمْ بِالْآلِهَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ، وَالْمَعْنَى: سَوَاءٌ سَمَّيْتُمُوهُمْ بِهَذَا الِاسْمِ أَوْ لَمْ تُسَمُّوهُمْ بِهِ، فَإِنَّهَا فِي الْحَقَارَةِ بِحَيْثُ لَا تَسْتَحِقُّ أَنْ يَلْتَفِتَ الْعَاقِلُ إِلَيْهَا، ثُمَّ زَادَ فِي الْحِجَاجِ فَقَالَ: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ وَالْمُرَادُ: أَتَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تُخْبِرُوهُ وَتُعْلِمُوهُ بِأَمْرٍ تَعْلَمُونَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَرْضَ بِنَفْيِ الشَّرِيكِ عَنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرِيكٌ الْبَتَّةَ، لِأَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ لَهُ شُرَكَاءَ فِي الْأَرْضِ لَا فِي غَيْرِهَا أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ يَعْنِي تُمَوِّهُونَ بِإِظْهَارِ قَوْلٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ [التَّوْبَةِ: 30] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بَعْدَ هَذَا الْحِجَاجِ سُوءَ طَرِيقَتِهِمْ فَقَالَ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيرِ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ: بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَى (بَلْ) هَاهُنَا كَأَنَّهُ يَقُولُ: دَعْ ذِكْرَ مَا كُنَّا فِيهِ زُيِّنَ لَهُمْ مَكْرُهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تعالى لما ذكر الدلائل على فساد قَوْلِهِمْ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: دَعْ ذِكْرَ الدَّلِيلِ فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ كُفْرُهُمْ وَمَكْرُهُمْ فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِذِكْرِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ. قَالَ الْقَاضِي: لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ يَذُمَّهُمْ بِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُزَيِّنُ هُوَ اللَّهَ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ إِمَّا شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَإِمَّا شَيَاطِينُ الْجِنِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُزَيِّنُ أَحَدَ شَيَاطِينِ الْجِنِّ أَوِ الْإِنْسِ/ فَالْمُزَيِّنُ فِي قَلْبِ ذَلِكَ الشَّيْطَانِ إِنْ كَانَ شَيْطَانًا آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ اللَّهَ فَقَدْ زَالَ السُّؤَالُ، وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: الْقُلُوبُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ، وَالثَّالِثُ: أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ تَرْجِيحَ الدَّاعِي لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ حُصُولِهِ يَجِبُ الْفِعْلُ. أما قوله: وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ والكسائي وَصُدُّوا بضم الصاد وفي حم وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ [النساء: 167] عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ بِمَعْنَى أَنَّ الْكُفَّارَ صَدَّهُمْ غَيْرُهُمْ، وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ صَدَّهُمْ. وَلِلْمُعْتَزِلَةِ فِيهِ وَجْهَانِ: قِيلَ الشَّيْطَانُ، وَقِيلَ أَنْفُسُهُمْ وَبَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ مُعْجِبٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ غَيْرُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ وَالْبَاقُونَ، وَصَدُّوا بِفَتْحِ الصَّادِ فِي السُّورَتَيْنِ يَعْنِي أَنَّ الْكُفَّارَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أَيْ أَعْرَضُوا وَقِيلَ: صَرَفُوا غَيْرَهُمْ، وَهُوَ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ، وَحُجَّةُ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى مُشَاكَلَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا مِنْ بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، وَحُجَّةُ الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [النساء: 167] . ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ اعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَقَدْ بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّ ذَلِكَ الْمُزَيِّنَ هُوَ اللَّهُ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ بِضَمِّ الصَّادِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ الصَّادَّ هُوَ اللَّهُ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْمَقْصُودِ وَتَصْرِيحٌ بِأَنَّ ذَلِكَ الْمُزَيِّنَ وَذَلِكَ الصَّادَّ لَيْسَ إِلَّا اللَّهَ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ سَيَقَعُونَ فِي عِقَابِ الْآخِرَةِ وَإِخْبَارُ اللَّهِ مُمْتَنِعُ التَّغَيُّرِ وَإِذَا امْتَنَعَ وُقُوعُ التَّغَيُّرِ فِي هَذَا الْخَبَرِ، امْتَنَعَ صدور الإيمان منه وكل هذه الوجوه قد لَخَّصْنَاهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا، قَالَ الْقَاضِي: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أَيْ عَنْ ثَوَابِ الْجَنَّةِ لِكُفْرِهِ وَقَوْلُهُ: فَما لَهُ مِنْ هادٍ مُنْبِئٌ بِذَلِكَ أَنَّ الثَّوَابَ لَا يُنَالُ إِلَّا بِالطَّاعَةِ خَاصَّةً فَمَنْ زَاغَ عَنْهَا لَمْ يَجِدْ إِلَيْهَا سَبِيلًا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ مَنْ حَكَمَ بِأَنَّهُ ضَالٌّ وَسَمَّاهُ ضَالًّا، وَقِيلَ الْمُرَادُ مَنْ يُضْلِلِهُ اللَّهُ عَنِ الْإِيمَانِ بِأَنْ يَجِدَهُ كَذَلِكَ، ثم قال وَالوجه الْأَوَّلُ أَقْوَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الوجه الْأَوَّلَ ضَعِيفٌ جِدًّا لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي شرح إيمانهم وكفرهم في الدنيا ولم يجز ذكر

[سورة الرعد (13) : آية 35]

ذهابهم إلى الجنة ألبتة فصرف الكلام على الْمَذْكُورِ إِلَى غَيْرِ الْمَذْكُورِ بَعِيدٌ. وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّا نُسَاعِدُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرُوهُ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ لِأَنَّ خِلَافَ مَعْلُومِ اللَّهِ وَمُخْبَرِهِ مُحَالٌ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِتِلْكَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ بَيَّنَ أَنَّهُ جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَبَيْنَ عَذَابِ الْآخِرَةِ الَّذِي هُوَ أَشَقُّ، وَأَنَّهُ لَا دَافِعَ لَهُمْ عَنْهُ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. أَمَّا عَذَابُ الدُّنْيَا/ فَبِالْقَتْلِ، وَالْقِتَالِ، وَاللَّعْنِ، وَالذَّمِّ، وَالْإِهَانَةِ، وَهَلْ يَدْخُلُ الْمَصَائِبُ وَالْأَمْرَاضُ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا تَدْخُلُ فِيهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا لَا تَكُونُ عِقَابًا، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ نَزَلَتْ بِهِ مُصِيبَةٌ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ عِقَابًا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ، فَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْآيَةِ الْقَتْلُ، وَالسَّبْيُ، وَاغْتِنَامُ الْأَمْوَالِ، وَاللَّعْنُ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ لِأَنَّهُ أَزْيَدُ إِنْ شِئْتَ بِسَبَبِ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، وَإِنْ شِئْتَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْأَنْوَاعِ، وَإِنْ شِئْتَ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَا يَخْتَلِطُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ مُوجِبَاتِ الرَّاحَةِ، وَإِنْ شِئْتَ بِسَبَبِ الدَّوَامِ وَعَدَمِ الِانْقِطَاعِ، ثُمَّ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ أَيْ أَنَّ أَحَدًا لَا يَقِيهِمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ وَقَفُوا عَلَى الْقَافِ مِنْ غَيْرِ إِثْبَاتِ يَاءٍ فِي قَوْلِهِ (وَاقٍ) وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَكَذَلِكَ فِي قوله: والٍ وَهُوَ الوجه لِأَنَّكَ تَقُولُ فِي الْوَصْلِ: هَذَا هَادٍ وَوَالٍ وَوَاقٍ، فَتَحْذِفُ الْيَاءَ لِسُكُونِهَا وَالْتِقَائِهَا مَعَ التَّنْوِينِ، فَإِذَا وَقَفْتَ انْحَذَفَ التَّنْوِينُ فِي الْوَقْفِ فِي الرَّفْعِ وَالْجَرِّ، وَالْيَاءُ كَانَتِ انْحَذَفَتْ فَيُصَادِفُ الْوَقْفُ الْحَرَكَةَ الَّتِي هِيَ كَسْرَةٌ فِي غَيْرِ فَاعِلٍ فَتَحْذِفُهَا كَمَا تَحْذِفُ سَائِرَ الْحَرَكَاتِ الَّتِي تَقِفُ عَلَيْهَا فَيَصِيرُ هَادٍ، وَوَالٍ، وَوَاقٍ. وَكَانَ ابْنُ كَثِيرٍ يَقِفُ بِالْيَاءِ فِي هَادِي وَوَالِي وَوَاقِي وَوَجْهُهُ مَا حَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّ بَعْضَ مَنْ يُوثَقُ بِهِ مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُ: هذا داعي فيقفون بالياء. [سورة الرعد (13) : آية 35] مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) [فِي قَوْلُهُ تَعَالَى مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ عَذَابَ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ ثَوَابِ الْمُتَّقِينَ وَفِي قَوْلِهِ: مَثَلُ الْجَنَّةِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: مَثَلُ الْجَنَّةِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: فِيمَا قَصَصْنَا عَلَيْكُمْ مَثَلُ الْجَنَّةِ. وَالثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَثَلُ الْجَنَّةِ جَنَّةٌ مِنْ صِفَتِهَا كَذَا وَكَذَا. وَالثَّالِثُ: مَثَلُ الْجَنَّةِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، كَمَا تَقُولُ صِفَةُ زَيْدٍ اسْمٌ. وَالرَّابِعُ: الْخَبَرُ هُوَ قَوْلُهُ: أُكُلُها دائِمٌ لِأَنَّهُ الْخَارِجُ عَنِ الْعَادَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كَمَا تَعْلَمُونَ مِنْ حَالِ جَنَّاتِكُمْ إِلَّا أَنَّ هَذِهِ أُكُلُهَا دَائِمٌ. المسألة الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْجَنَّةَ بِصِفَاتٍ ثَلَاثٍ: أَوَّلُهَا: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ أُكُلَهَا دَائِمٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ جَنَّاتِ الدُّنْيَا لَا يَدُومُ وَرَقُهَا وَثَمَرُهَا وَمَنَافِعُهَا. أَمَّا جَنَّاتُ الْآخِرَةِ فَثِمَارُهَا دَائِمَةٌ غَيْرُ مُنْقَطِعَةٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ ظِلَّهَا دَائِمٌ أَيْضًا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ حَرٌّ وَلَا بَرْدٌ وَلَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ وَلَا ظُلْمَةٌ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً [الْإِنْسَانِ: 13] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْجَنَّةَ بهذه الصفات

[سورة الرعد (13) : آية 36]

الثَّلَاثَةِ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا يَعْنِي عَاقِبَةُ أَهْلِ التَّقْوَى هِيَ الْجَنَّةُ، وَعَاقِبَةُ الْكَافِرِينَ النَّارُ. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ثَوَابَ الْمُتَّقِينَ مَنَافِعُ خَالِصَةٌ عَنِ الشَّوَائِبِ مَوْصُوفَةٌ بِصِفَةِ الدَّوَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: أُكُلُها دائِمٌ فِيهِ مَسَائِلُ ثَلَاثٌ: المسألة الْأُولَى: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُكُلَ الْجَنَّةِ لَا تَفْنَى كَمَا يُحْكَى عَنْ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ. المسألة الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَرَكَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا تَنْتَهِي إِلَى سُكُونٍ دَائِمٍ، كَمَا يَقُولُهُ أَبُو الْهُذَيْلِ وَأَتْبَاعُهُ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ لَمْ تُخْلَقْ بَعْدُ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً لَوَجَبَ أَنْ تَفْنَى وَأَنْ يَنْقَطِعَ أُكُلُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: 26] . وكُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88] لَكِنْ لَا يَنْقَطِعُ أُكُلُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُكُلُها دائِمٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ الْجَنَّةُ مَخْلُوقَةً. ثم قال: فلا ننكر أن يحصل الآن في السموات جَنَّاتٌ كَثِيرَةٌ يَتَمَتَّعُ بِهَا الْمَلَائِكَةُ وَمَنْ يُعَدُّ حَيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّ جَنَّةَ الْخُلْدِ خَاصَّةً إِنَّمَا تُخْلَقُ بَعْدَ الْإِعَادَةِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ دَلِيلَهُمْ مُرَكَّبٌ مِنْ آيَتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وَالْأُخْرَى قَوْلُهُ: أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها فَإِذَا أَدْخَلْنَا التَّخْصِيصَ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ الْعُمُومَيْنِ سَقَطَ دَلِيلُهُمْ فَنَحْنُ نُخَصِّصُ أَحَدَ هَذَيْنِ الْعُمُومَيْنِ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133] . [سورة الرعد (13) : آية 36] وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) اعْلَمْ أَنَّ فِي الْمُرَادِ بِالْكِتَابِ قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْقُرْآنُ وَالْمُرَادُ أَنَّ أَهْلَ الْقُرْآنِ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ وَالْأَحْكَامِ وَالْقَصَصِ وَمِنَ الْأَحْزَابِ الْجَمَاعَاتُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَسَائِرِ الْكُفَّارِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. فَإِنْ قِيلَ: الْأَحْزَابُ يُنْكِرُونَ كُلَّ الْقُرْآنِ. قُلْنَا: الْأَحْزَابُ لَا يُنْكِرُونَ كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ وَرَدَ فِيهِ إِثْبَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِثْبَاتُ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَأَقَاصِيصِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَحْزَابُ، مَا كَانُوا يُنْكِرُونَ كُلَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَكَعْبٍ وَأَصْحَابِهِمَا وَمَنْ أَسْلَمَ مِنَ النَّصَارَى وَهُمْ ثَمَانُونَ رَجُلًا أَرْبَعُونَ بِنَجْرَانَ وَثَمَانِيَةٌ بِالْيَمَنِ وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَفَرِحُوا بِالْقُرْآنِ، لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ وَالْأَحْزَابُ بَقِيَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَسَائِرُ الْمُشْرِكِينَ قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا الوجه أَوْلَى مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ مَنْ أُوتِيَ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُمْ يَفْرَحُونَ بِالْقُرْآنِ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا الوجه ظَهَرَتِ الْفَائِدَةُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْقُرْآنَ يَزْدَادُ فَرَحُهُمْ بِهِ لِمَا رَأَوْا فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ والفوائد العظيمة،

[سورة الرعد (13) : آية 37]

فَلِهَذَا السَّبَبِ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فَرَحَهُمْ بِهِ. وَالثَّانِي: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ الْيَهُودُ أُعْطُوا التَّوْرَاةَ، وَالنَّصَارَى أُعْطُوا الْإِنْجِيلَ، يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ فِي هَذَا الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مِنْ سَائِرِ الْكُفَّارِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يَعُمُّ جَمِيعَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يَفْرَحُونَ بِكُلِّ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ فَيُقَالُ إِنَّ قَوْلُهُ: بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ بِدَلِيلِ جَوَازِ إِدْخَالِ لَفْظَتَيِ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَتْ كَلِمَةُ «مَا» لِلْعُمُومِ لَكَانَ إِدْخَالُ لَفْظِ الْكُلِّ عَلَيْهِ تَكْرِيرًا وَإِدْخَالُ لَفْظِ الْبَعْضِ عَلَيْهِ نَقْصًا. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ هَذَا جَمَعَ كَلَّ مَا يَحْتَاجُ الْمَرْءُ إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ فِي أَلْفَاظٍ قَلِيلَةٍ مِنْهُ فَقَالَ: قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ وَهَذَا الْكَلَامُ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا وَرَدَ التَّكْلِيفُ بِهِ، وَفِيهِ فَوَائِدُ: أَوَّلُهَا: أَنَّ كَلِمَةَ «إِنَّمَا» لِلْحَصْرِ وَمَعْنَاهُ إِنِّي مَا أُمِرْتُ إِلَّا بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ وَلَا أَمْرَ وَلَا نَهْيَ إِلَّا بِذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعِبَادَةَ غَايَةُ التَّعْظِيمِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْءَ مُكَلَّفٌ بِذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ وَلَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا بِالدَّلِيلِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْءَ مُكَلَّفٌ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي مَعْرِفَةِ ذَاتِ الصَّانِعِ وَصِفَاتِهِ، وَمَا يَجِبُ وَيَجُوزُ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ عِبَادَةَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ، وَهُوَ/ يُبْطِلُ قَوْلَ نُفَاةِ التَّكْلِيفِ، وَيُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالْجَبْرِ الْمَحْضِ. وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: وَلا أُشْرِكَ بِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ وَالْأَضْدَادِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ إِبْطَالُ قَوْلِ كُلِّ مَنْ أَثْبَتَ مَعْبُودًا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ الْمَعْبُودَ هُوَ الشَّمْسُ أَوِ الْقَمَرُ أَوِ الْكَوَاكِبُ أَوِ الْأَصْنَامُ وَالْأَوْثَانُ وَالْأَرْوَاحُ الْعُلْوِيَّةُ أَوْ يَزْدَانُ وَأَهْرِمَنُ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمَجُوسُ أَوِ النُّورُ وَالظُّلْمَةُ عَلَى مَا يَقُولُهُ الثَّنَوِيَّةُ. وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ: إِلَيْهِ أَدْعُوا وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّعْوَةُ إِلَى عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى نُبُوَّتِهِ. وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ مَآبِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ فَإِذَا تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْقَلِيلَةِ وَوَقَفَ عَلَيْهَا عَرَفَ أَنَّهَا مُحْتَوِيَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَطَالِبِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الدين. [سورة الرعد (13) : آية 37] وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ إِنْزَالَهُ حُكْمًا عربيا بما أنزل إلى ما تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَيْ كَمَا أَنْزَلْنَا الْكُتُبَ على الأنبياء بلسانهم، كذلك أنزلنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ. وَالْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: أَنْزَلْناهُ تَعُودُ إِلَى «مَا» فِي قَوْلِهِ: يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يَعْنِي الْقُرْآنَ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: حِكْمَةٌ عَرَبِيَّةٌ مُتَرْجَمَةٌ بِلِسَانِ الْعَرَبِ. الثَّانِي: الْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى جَمِيعِ أَقْسَامِ التَّكَالِيفِ، فَالحكم لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالْقُرْآنِ، فَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ سَبَبًا لِلْحُكْمِ جُعِلَ نَفْسَ الحكم عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ بِقَبُولِ الْقُرْآنِ وَالْعَمَلِ بِهِ فَلَمَّا حَكَمَ عَلَى الْخَلْقِ بِوُجُوبِ قَبُولِهِ جَعَلَهُ حُكْمًا. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: حُكْماً عَرَبِيًّا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: أَنْزَلْنَاهُ حَالَ كَوْنِهِ حُكْمًا عَرَبِيًّا.

[سورة الرعد (13) : الآيات 38 إلى 39]

المسألة الثالثة: قالت المعتزلة: الآية دالة على حُدُوثِ الْقُرْآنِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ مُنَزَّلًا وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْمُحْدَثِ. الثَّانِي: أَنَّهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا وَالْعَرَبِيُّ هُوَ الَّذِي حَصَلَ بِوَضْعِ الْعَرَبِ وَاصْطِلَاحِهِمْ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُحْدَثًا. الثَّالِثُ: أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا/ كَانَ حُكْمًا عَرَبِيًّا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ كَذَلِكَ وَوَصَفَهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَكَّبَ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ مُحْدَثٌ وَلَا نِزَاعَ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الرَّابِعَةُ: رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَدْعُونَهُ إِلَى مِلَّةِ آبَائِهِ فَتَوَعَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مُتَابَعَتِهِمْ فِي تِلْكَ الْمَذَاهِبِ مِثْلَ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى قِبْلَتِهِمْ بَعْدَ أَنْ حَوَّلَهُ اللَّهُ عَنْهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْخِطَابُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، وَقِيلَ: بَلِ الْغَرَضُ مِنْهُ حَثُّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْقِيَامِ بِحَقِّ الرِّسَالَةِ وَتَحْذِيرُهُ مِنْ خِلَافِهَا، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَيْضًا تَحْذِيرَ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، لِأَنَّ مَنْ هُوَ أَرْفَعُ مَنْزِلَةً إِذَا حُذِّرَ هَذَا التَّحْذِيرَ فَهُمْ أَحَقُّ بِذَلِكَ وأولى. [سورة الرعد (13) : الآيات 38 الى 39] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) اعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَذْكُرُونَ أَنْوَاعًا مِنَ الشُّبُهَاتِ فِي إِبْطَالِ نُبُوَّتِهِ. فَالشُّبْهَةُ الْأُولَى قَوْلُهُمْ: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفُرْقَانِ: 7] وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ إِنَّمَا ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةٍ أُخْرَى. وَالشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُمْ: الرَّسُولُ الَّذِي يُرْسِلُهُ اللَّهُ إِلَى الْخَلْقِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ [الْحِجْرِ: 7] وَقَوْلِهِ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَامِ: 8] . فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً يَعْنِي أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ كَانُوا مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ لَا مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا مِثْلُهُ فِي حَقِّهِ. الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: عَابُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَثْرَةِ الزَّوْجَاتِ وَقَالُوا: لَوْ كَانَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَمَا كَانَ مُشْتَغِلًا بِأَمْرِ النِّسَاءِ بَلْ كَانَ مُعْرِضًا عَنْهُنَّ مُشْتَغِلًا بِالنُّسُكِ وَالزُّهْدِ، فَأَجَابَ اللَّهُ/ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الْكَلَامُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنِ الشُّبْهَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، فَقَدْ كَانَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَلَاثُمِائَةِ امْرَأَةٍ مَهِيرَةٍ وَسَبْعُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ وَلِدَاوُدَ مِائَةُ امْرَأَةٍ. وَالشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: قَالُوا لَوْ كَانَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَكَانَ أَيُّ شَيْءٍ طَلَبْنَا مِنْهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ أَتَى بِهِ وَلَمْ يَتَوَقَّفْ وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِرَسُولٍ، فَأَجَابَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْمُعْجِزَةَ الْوَاحِدَةَ كَافِيَةٌ فِي إِزَالَةِ الْعُذْرِ وَالْعِلَّةِ، وَفِي إِظْهَارِ الْحُجَّةِ وَالْبَيِّنَةِ، فَأَمَّا الزَّائِدُ عليها

فَهُوَ مُفَوَّضٌ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِنْ شَاءَ أَظْهَرَهَا وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُظْهِرْهَا وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُخَوِّفُهُمْ بِنُزُولِ الْعَذَابِ وَظُهُورِ النُّصْرَةِ لَهُ وَلِقَوْمِهِ. ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْمَوْعُودَ كَانَ يَتَأَخَّرُ فَلَمَّا لَمْ يُشَاهِدُوا تِلْكَ الْأُمُورَ احْتَجُّوا بِهَا عَلَى الطَّعْنِ فِي نُبُوَّتِهِ، وَقَالُوا: لَوْ كَانَ نَبِيًّا صَادِقًا لَمَا ظَهَرَ كَذِبُهُ. فَأَجَابَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ يَعْنِي نُزُولَ الْعَذَابِ عَلَى الْكُفَّارِ وَظُهُورَ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ لِلْأَوْلِيَاءِ قَضَى اللَّهُ بِحُصُولِهَا فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَلِكُلِّ حَادِثٍ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ ولِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ فَقَبْلَ حُضُورِ ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا يَحْدُثُ ذَلِكَ الْحَادِثُ فَتَأَخُّرُ تِلْكَ الْمَوَاعِيدِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَاذِبًا. الشُّبْهَةُ السَّادِسَةُ: قَالُوا: لَوْ كَانَ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ مُحِقًّا لَمَا نسخ الأحكام التي نص الله تعالى عليه ثوبتها فِي الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ نَحْوَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، لَكِنَّهُ نَسَخَهَا وَحَرَّفَهَا نَحْوَ تَحْرِيفِ الْقِبْلَةِ، وَنَسْخِ أَكْثَرِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ نَبِيًّا حَقًّا. فَأَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ كَالْمُقَدِّمَةِ لِتَقْرِيرِ هَذَا الْجَوَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نُشَاهِدُ أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ حَيَوَانًا عَجِيبَ الْخِلْقَةِ بَدِيعَ الْفِطْرَةِ مِنْ قَطْرَةٍ مِنَ النُّطْفَةِ ثُمَّ يُبْقِيهِ مُدَّةً مَخْصُوصَةً ثُمَّ يُمِيتُهُ وَيُفَرِّقُ أَجْزَاءَهُ وَأَبْعَاضَهُ فَلَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُحْيِيَ أَوَّلًا، ثُمَّ يُمِيتَ ثَانِيًا فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُشَرِّعَ الحكم فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، ثُمَّ ينسحه فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ مَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةَ قَالَ: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُوجِدُ تَارَةً وَيُعْدِمُ أُخْرَى، وَيُحْيِي تَارَةً وَيُمِيتُ أُخْرَى، وَيُغْنِي تَارَةً وَيُفْقِرُ أُخْرَى فَكَذَلِكَ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَشْرَعَ الحكم تَارَةً ثُمَّ يَنْسَخَهُ أُخْرَى بِحَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ الْمَشِيئَةُ الْإِلَهِيَّةُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَوْ بِحَسِبِ مَا اقْتَضَتْهُ/ رِعَايَةُ الْمَصَالِحِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَهَذَا إِتْمَامُ التَّحْقِيقِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ هَاهُنَا مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ فِيهِ أَقْوَالٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ وَقْتًا مُقَدَّرًا فَالْآيَاتُ الَّتِي سَأَلُوهَا لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ حَكَمَ اللَّهُ بِهِ وَكَتَبَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَلَا يَتَغَيَّرُ عَنْ ذَلِكَ الحكم بِسَبَبِ تَحَكُّمَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَلَوْ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُمْ مَا الْتَمَسُوا لَكَانَ فِيهِ أَعْظَمُ الْفَسَادِ. الثَّانِي: أَنَّ لِكُلِّ حَادِثٍ وَقْتًا مُعَيَّنًا قَضَى اللَّهُ حُصُولَهُ فِيهِ كَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَلَا يَتَغَيَّرُ الْبَتَّةَ عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ لِكُلِّ كِتَابٍ مُنَزَّلٍ مِنَ السَّمَاءِ أَجَلًا يُنْزِلُهُ فِيهِ، أَيْ لِكُلِّ كِتَابٍ وَقْتٌ يُعْمَلُ بِهِ، فَوَقْتُ الْعَمَلِ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ قَدِ انْقَضَى وَوَقْتُ الْعَمَلِ بِالْقُرْآنِ قَدْ أَتَى وَحَضَرَ. وَالرَّابِعُ: لِكُلِّ أَجَلٍ مُعَيَّنٍ كِتَابٌ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ الْحَفَظَةِ فَلِلْإِنْسَانِ أَحْوَالٌ أَوَّلُهَا نُطْفَةٌ ثُمَّ عَلَقَةٌ ثُمَّ مُضْغَةٌ ثُمَّ يَصِيرُ شَابًّا ثُمَّ شَيْخًا، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ. الْخَامِسُ: كُلُّ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَصْلَحَةٍ خَفِيَّةٍ وَمَنْفَعَةٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ حَدَثَ ذَلِكَ الْحَادِثُ وَلَا يَجُوزُ حُدُوثُهُ فِي غَيْرِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْكُلَّ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَبِقَدَرِهِ وَأَنَّ الْأُمُورَ مَرْهُونَةٌ بِأَوْقَاتِهَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ مَعْنَاهُ أن تحت كل أجل حادث معين، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّعْيِينُ لِأَجْلِ خَاصِّيَّةِ الْوَقْتِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّ الْأَجْزَاءَ الْمَعْرُوضَةَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُتَعَاقِبَةِ مُتَسَاوِيَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اخْتِصَاصُ كُلِّ وَقْتٍ بِالْحَادِثِ

الَّذِي يَحْدُثُ فِيهِ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَاخْتِيَارِهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . المسألة الثَّانِيَةُ: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَيُثْبِتُ سَاكِنَةَ الثَّاءِ خَفِيفَةَ الْبَاءِ مِنْ أَثْبَتَ يُثْبِتُ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الثَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ مِنَ التَّثْبِيتِ، وَحُجَّةُ مَنْ خَفَّفَ أَنَّ ضِدَّ الْمَحْوِ الْإِثْبَاتُ لا التثبت. وَلِأَنَّ التَّشْدِيدَ لِلتَّكْثِيرِ، وَلَيْسَ الْقَصْدُ بِالْمَحْوِ التَّكْثِيرَ، فَكَذَلِكَ مَا يَكُونُ فِي مُقَابَلَتِهِ، وَمَنْ شَدَّدَ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ: وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [النِّسَاءِ: 66] وَقَوْلِهِ: فَثَبِّتُوا [الْأَنْفَالِ: 12] . المسألة الثَّالِثَةُ: الْمَحْوُ ذَهَابُ أَثَرِ الْكِتَابَةِ، يُقَالُ: مَحَاهُ يَمْحُوهُ مَحْوًا إِذَا أَذْهَبَ أَثَرَهُ، وَقَوْلُهُ: وَيُثْبِتُ قَالَ النَّحْوِيُّونَ: أَرَادَ وَيُثْبِتُهُ إِلَّا أنه استغنى بتعدية للفعل الْأَوَّلِ عَنْ تَعْدِيَةِ الثَّانِي، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ [الْأَحْزَابِ: 35] . المسألة الرَّابِعَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ. قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ يَمْحُو مِنَ الرِّزْقِ/ وَيَزِيدُ فِيهِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْأَجَلِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ كَانُوا يَدْعُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ يَجْعَلَهُمْ سُعَدَاءَ لَا أَشْقِيَاءَ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ رَوَاهُ جَابِرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَاصَّةٌ فِي بَعْضِ الْأَشْقِيَاءِ دُونَ الْبَعْضِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ فَفِي الْآيَةِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنَ الْمَحْوِ وَالْإِثْبَاتِ: نَسْخُ الحكم الْمُتَقَدِّمِ وَإِثْبَاتُ حُكْمٍ آخَرَ بَدَلًا عَنِ الْأَوَّلِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى يَمْحُو مِنْ دِيوَانِ الْحَفَظَةِ مَا لَيْسَ بِحَسَنَةٍ وَلَا سَيِّئَةٍ، لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِكِتَابَةِ كُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلٍ وَيُثْبِتُ غَيْرَهُ، وَطَعَنَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ فِيهِ فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْكِتَابَ بِقَوْلِهِ: لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الْكَهْفِ: 49] وَقَالَ أَيْضًا: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7، 8] . أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ: بِأَنَّهُ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمُبَاحِ لَا صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً، وَلِلْأَصَمِّ أَنْ يُجِيبَ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ فَيَقُولَ: إِنَّكُمْ بِاصْطِلَاحِكُمْ خَصَّصْتُمُ الصَّغِيرَةَ بِالذَّنَبِ الصَّغِيرِ، وَالْكَبِيرَةَ بِالذَّنَبِ الْكَبِيرِ، وَهَذَا مُجَرَّدُ اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ. أَمَّا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ فَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ يَتَنَاوَلَانِ كُلَّ فِعْلٍ وَعَرَضٍ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ حَقِيرًا فَهُوَ صَغِيرٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ كَبِيرٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ فَقَوْلُهُ: لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الْكَهْفِ: 49] يَتَنَاوَلُ الْمُبَاحَاتِ أَيْضًا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِالْمَحْوِ أَنَّ مَنْ أَذْنَبَ أُثْبِتَ ذَلِكَ الذَّنْبُ فِي دِيوَانِهِ، فَإِذَا تَابَ عَنْهُ مُحِيَ مِنْ دِيوَانِهِ. الرَّابِعُ: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَهُوَ مَنْ جاء أجله. ويدع من لم يجيء أَجَلُهُ وَيُثْبِتُهُ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى يُثْبِتُ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ حُكْمَ تِلْكَ السَّنَةِ فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ مُحِيَتْ، وَأُثْبِتَ كِتَابٌ آخَرُ لِلْمُسْتَقْبَلِ. السَّادِسُ: يَمْحُو نُورَ الْقَمَرِ، وَيُثْبِتُ نُورَ الشَّمْسِ. السَّابِعُ: يَمْحُو الدُّنْيَا وَيُثْبِتُ الْآخِرَةَ. الثَّامِنُ: أَنَّهُ فِي الْأَرْزَاقِ وَالْمِحَنِ وَالْمَصَائِبِ يُثْبِتُهَا فِي الْكِتَابِ ثُمَّ يُزِيلُهَا بِالدُّعَاءِ وَالصَّدَقَةِ، وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. التَّاسِعُ: تَغَيُّرُ أَحْوَالِ الْعَبْدِ فَمَا مَضَى مِنْهَا فَهُوَ الْمَحْوُ، وَمَا حَصَلَ وَحَضَرَ فَهُوَ الْإِثْبَاتُ. الْعَاشِرُ: يُزِيلُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ مِنْ حُكْمِهِ لَا يُطْلِعُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا فَهُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالحكم كَمَا يَشَاءُ، وَهُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْإِيجَادِ

[سورة الرعد (13) : آية 40]

وَالْإِعْدَامِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَالْإِغْنَاءِ وَالْإِفْقَارِ بِحَيْثُ لَا يَطَّلِعُ عَلَى تِلْكَ الْغُيُوبِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَابَ فِيهِ مَجَالٌ عَظِيمٌ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَلَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَقَادِيرَ سَابِقَةٌ قَدْ جَفَّ بِهَا الْقَلَمُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ بِأُنُفٍ، فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ مَعَ هَذَا الْمَعْنَى الْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ؟ قُلْنَا: ذَلِكَ الْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ أَيْضًا مِمَّا جَفَّ بِهِ الْقَلَمُ فَلَا يَمْحُو إِلَّا مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وَقَضَائِهِ مَحْوُهُ. المسألة الْخَامِسَةُ: قَالَتِ الرَّافِضَةُ: الْبَدَاءُ جَائِزٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ شَيْئًا ثُمَّ يَظْهَرُ لَهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا اعْتَقَدَهُ، وَتَمَسَّكُوا فِيهِ بِقَوْلِهِ: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ دُخُولُ التَّغَيُّرِ وَالتَّبَدُّلِ فِيهِ مُحَالًا. المسألة السَّادِسَةُ: أَمَّا أُمُّ الْكِتابِ فَالْمُرَادُ أَصْلُ الْكِتَابِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْأَصْلِ لِلشَّيْءِ أُمًّا لَهُ وَمِنْهُ أُمُّ الرَّأْسِ لِلدِّمَاغِ، وَأُمُّ الْقُرَى لِمَكَّةَ، وَكُلُّ مَدِينَةٍ فَهِيَ أُمٌّ لِمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى، فَكَذَلِكَ أُمُّ الْكِتَابِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ أَصْلًا لِجَمِيعِ الْكُتُبِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ أُمَّ الْكِتَابِ هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَجَمِيعُ حَوَادِثِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ مُثْبَتٌ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ ثُمَّ خَلَقَ اللَّوْحَ وَأَثْبَتَ فِيهِ أَحْوَالَ جَمِيعِ الْخَلْقِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ» قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنْ يُظْهِرَ لِلْمَلَائِكَةِ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَعِنْدَ اللَّهِ كِتَابَانِ: أَحَدُهُمَا: الْكِتَابُ الَّذِي يَكْتُبُهُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى الْخَلْقِ وَذَلِكَ الْكِتَابُ مَحَلُّ الْمَحْوِ وَالْإِثْبَاتِ. وَالْكِتَابُ الثَّانِي: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَهُوَ الْكِتَابُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى تَعَيُّنِ جَمِيعِ الْأَحْوَالِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ، وَهُوَ الْبَاقِي. رَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي ثَلَاثِ سَاعَاتٍ بَقِينَ مِنَ اللَّيْلِ يَنْظُرُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي لَا يَنْظُرُ فِيهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ، فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ، وَلِلْحُكَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ كَلِمَاتٌ عَجِيبَةٌ وَأَسْرَارٌ غَامِضَةٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ أُمَّ الْكِتَابِ هُوَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَإِنْ تَغَيَّرَتْ، إِلَّا أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا بَاقٍ مُنَزَّهٌ عَنِ التَّغَيُّرِ، فَالْمُرَادُ بِأُمِّ الْكِتَابِ هُوَ ذَاكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة الرعد (13) : آية 40] وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) اعْلَمْ أن المعنى: وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى: / سَوَاءٌ أَرَيْنَاكَ ذَلِكَ أَوْ تَوَفَّيْنَاكَ قَبْلَ ظُهُورِهِ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْكَ تَبْلِيغُ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَدَاءُ أَمَانَتِهِ وَرِسَالَتِهِ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ. وَالْبَلَاغُ اسْمٌ أُقِيمَ مُقَامَ التَّبْلِيغِ كَالسِّرَاجِ والأداء. [سورة الرعد (13) : الآيات 41 الى 42] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ رَسُولَهُ بِأَنْ يُرِيَهُ بَعْضَ مَا وُعِدُوهُ أَوْ يَتَوَفَّاهُ قَبْلَ ذَلِكَ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ آثَارَ حُصُولِ تِلْكَ الْمَوَاعِيدِ وَعَلَامَاتِهَا قَدْ ظَهَرَتْ وَقَوِيَتْ. وَقَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها فِيهِ أَقْوَالٌ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّا نَأْتِي أَرْضَ الْكَفَرَةِ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَوْلُونَ عَلَى أَطْرَافِ مَكَّةَ وَيَأْخُذُونَهَا مِنَ الْكَفَرَةِ قَهْرًا وَجَبْرًا فَانْتِقَاصُ أَحْوَالِ الْكَفَرَةِ وَازْدِيَادُ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَقْوَى الْعَلَامَاتِ وَالْأَمَارَاتِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنْجِزُ وَعْدَهُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ [الأنبياء: 44] وَقَوْلُهُ: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ [فُصِّلَتْ: 53] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَيْضًا مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ: نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها الْمُرَادُ: مَوْتُ أَشْرَافِهَا وَكُبَرَائِهَا وَعُلَمَائِهَا وَذَهَابُ الصُّلَحَاءِ وَالْأَخْيَارِ، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنِ احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ إِلَّا أَنَّ اللَّائِقَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ الوجه الْأَوَّلُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هَذَا الوجه أَيْضًا لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا مَا يَحْدُثُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الِاخْتِلَافَاتِ خَرَابٌ بَعْدَ عِمَارَةٍ، وَمَوْتٌ بَعْدَ حَيَاةٍ، وَذُلٌّ بَعْدَ عِزٍّ، وَنَقْصٌ بَعْدَ كَمَالٍ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ التَّغَيُّرَاتُ مُشَاهَدَةً مَحْسُوسَةً فَمَا الَّذِي يُؤَمِّنُهُمْ مِنْ أَنْ يَقْلِبَ اللَّهُ الْأَمْرَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ فَيَجْعَلَهُمْ ذَلِيلِينَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَزِيزِينَ، وَيَجْعَلَهُمْ مَقْهُورِينَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَاهِرِينَ، وَعَلَى هَذَا الوجه فَيَحْسُنُ اتِّصَالُ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ، وَقِيلَ: نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها بِمَوْتِ أَهْلِهَا وَتَخْرِيبِ دِيَارِهِمْ وَبِلَادِهِمْ فَهَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ/ كَيْفَ أَمِنُوا مِنْ أَنْ يَحْدُثَ فِيهِمْ أَمْثَالُ هَذِهِ الْوَقَائِعِ؟ ثم قال تَعَالَى مُؤَكِّدًا لِهَذَا الْمَعْنَى: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ مَعْنَاهُ: لَا رَادَّ لِحُكْمِهِ، وَالْمُعَقِّبُ هُوَ الَّذِي يُعَقِّبُهُ بِالرَّدِّ وَالْإِبْطَالِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مُعَقِّبٌ لِأَنَّهُ يُعَقِّبُ غَرِيمَهُ بِالِاقْتِضَاءِ وَالطَّلَبِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا مَحَلُّ قَوْلِهِ: لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. قُلْنَا: هُوَ جُمْلَةٌ مَحَلُّهَا النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَاللَّهُ يَحْكُمُ نَافِذًا حُكْمُهُ خَالِيًا عَنِ الْمُدَافِعِ وَالْمُعَارِضِ وَالْمُنَازِعِ. ثم قال: وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ سَرِيعَ الِانْتِقَامِ يَعْنِي أَنَّ حِسَابَهُ لِلْمُجَازَاةِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ يَكُونُ سَرِيعًا قَرِيبًا لَا يَدْفَعُهُ دَافِعٌ. أما قوله: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يَعْنِي أَنَّ كُفَّارَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ قَدْ مَكَرُوا بِرُسُلِهِمْ وأنبيائهم مثل نمرود مَكَرَ بِإِبْرَاهِيمَ، وَفِرْعَوْنَ مَكَرَ بِمُوسَى، وَالْيَهُودِ مَكَرُوا بِعِيسَى. ثم قال: فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ مَكْرَ جَمِيعِ الْمَاكِرِينَ لَهُ وَمِنْهُ، أَيْ هُوَ حَاصِلٌ بِتَخْلِيقِهِ وَإِرَادَتِهِ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ، وَأَيْضًا فَذَلِكَ الْمَكْرُ لَا يَضُرُّ إلا بإذن الله تعالى ولا يؤثر إلى بِتَقْدِيرِهِ، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَانٌ لَهُ مِنْ مَكْرِهِمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِذَا كَانَ حُدُوثُ الْمَكْرِ مِنَ اللَّهِ وَتَأْثِيرُهُ مِنَ الْمَمْكُورِ بِهِ أَيْضًا مِنَ اللَّهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَوْفُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ لَا يَكُونَ الرَّجَاءُ إِلَّا من

[سورة الرعد (13) : آية 43]

اللَّهِ تَعَالَى، وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: فَلِلَّهِ جَزَاءُ الْمَكْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا مَكَرُوا بِالْمُؤْمِنِينَ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُجَازِيهِمْ على مكرهم. قال الواحدي: والأول أظهر لقولين بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ يُرِيدُ أَنَّ أَكْسَابَ الْعِبَادِ بِأَسْرِهَا مَعْلُومَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَخِلَافُ الْمَعْلُومِ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَا عَلِمَ اللَّهُ وُقُوعَهُ فَهُوَ وَاجِبُ الْوُقُوعِ، وَكُلُّ مَا عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَهُ كَانَ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا قُدْرَةَ لِلْعَبْدِ عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَكَانَ الْكُلُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ الْأُولَى إِنْ دَلَّتْ عَلَى قَوْلِكُمْ فَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ دَلَّتْ عَلَى قَوْلِنَا، لِأَنَّ الْكَسْبَ هُوَ الْفِعْلُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى دَفْعِ مَضَرَّةٍ أَوْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ، وَلَوْ كَانَ حُدُوثُ الْفِعْلِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فِيهِ أَثَرٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْعَبْدِ كَسْبٌ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ مَجْمُوعَ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِي مُسْتَلْزِمٌ لِلْفِعْلِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْكَسْبُ حَاصِلٌ لِلْعَبْدِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ ذَلِكَ التَّهْدِيدَ فَقَالَ: وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: وَسَيَعْلَمُ الْكَافِرُ عَلَى لَفْظِ الْمُفْرَدِ وَالْبَاقُونَ عَلَى الْجَمْعِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ: (الْكُفَّارُ، وَالْكَافِرُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا، وَالْكُفْرُ) أَيْ أَهْلُهُ قَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ: (وَسَيُعْلَمُ الْكَافِرُ) مِنْ أَعْلَمَهُ أَيْ سَيُخْبَرُ. المسألة الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِالْكَافِرِ الْجِنْسُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [الْعَصْرِ: 2] وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا جُهَّالًا بِالْعَوَاقِبِ فَسَيَعْلَمُونَ لِمَنِ الْعَاقِبَةُ الْحَمِيدَةُ، وَذَلِكَ كَالزَّجْرِ وَالتَّهْدِيدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ يُرِيدُ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَهُمْ خَمْسَةٌ، وَالْمُقْتَسِمِينَ وَهُمْ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ يُرِيدُ أَبَا الْجَهْلِ. وَالْقَوْلُ الأول هو الصواب. [سورة الرعد (13) : آية 43] وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْقَوْمِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا كَوْنَهُ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: شَهَادَةُ اللَّهِ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْ تِلْكَ الشَّهَادَةِ أَنَّهُ تَعَالَى أَظْهَرَ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى كَوْنِهِ صَادِقًا فِي ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ، وَهَذَا أَعْلَى مَرَاتِبِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ قَوْلٌ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِأَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ. أَمَّا الْمُعْجِزُ فَإِنَّهُ فِعْلٌ مَخْصُوصٌ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِكَوْنِهِ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ إِظْهَارُ الْمُعْجِزَةِ أَعْظَمَ مَرَاتِبِ الشَّهَادَةِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ وَفِيهِ قِرَاءَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ: وَمَنْ عِنْدَهُ يَعْنِي وَالَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ. وَالثَّانِيَةُ: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ وَكَلِمَةُ «مِنْ» هَاهُنَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيْ وَمِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَصَلَ عِلْمُ الْكِتَابِ. أَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى فَفِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ شَهَادَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَتَمِيمٌ الدَّارِيُّ. وَيُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّهُ كَانَ يُبْطِلُ هَذَا الوجه وَيَقُولُ: السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ ابْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ، لِأَنَّهُمْ آمَنُوا فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَنْ قِيلَ: هَذِهِ السُّورَةُ وَإِنْ كَانَتْ مَكِّيَّةً إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ/ مَدَنِيَّةٌ، وَأَيْضًا فَإِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ مَعَ كَوْنِهِمَا غَيْرَ مَعْصُومَيْنِ عَنِ الْكَذِبِ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا السُّؤَالُ وَاقِعٌ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَرَادَ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنَ، أَيْ أَنَّ الْكِتَابَ الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ مُعْجِزٌ قَاهِرٌ وَبُرْهَانٌ بَاهِرٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مُعْجِزًا إِلَّا لِمَنْ عَلِمَ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، وَاشْتِمَالَهُ عَلَى الْغُيُوبِ وَعَلَى الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ. فَمَنْ عَرَفَ هَذَا الْكِتَابَ عَلَى هَذَا الوجه عَلِمَ كَوْنَهُ مُعْجِزًا. فَقَوْلُهُ: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ أَيْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ الْمُرَادُ بِهِ: الَّذِي حَصَلَ عِنْدَهُ عِلْمُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، يَعْنِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِهَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ عَلِمَ اشْتِمَالَهُمَا عَلَى الْبِشَارَةِ بِمَقْدَمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا أَنْصَفَ ذَلِكَ الْعَالِمُ وَلَمْ يَكْذِبْ كَانَ شَاهِدًا عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولُ حَقٍّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالزَّجَّاجِ قَالَ الْحَسَنُ: لَا وَاللَّهِ مَا يَعْنِي إِلَّا اللَّهَ، وَالْمَعْنَى: كَفَى بِالَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَبِالَّذِي لَا يَعْلَمُ عِلْمَ مَا فِي اللَّوْحِ إِلَّا هُوَ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَشْبَهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَسْتَشْهِدُ عَلَى صِحَّةِ حُكْمِهِ بِغَيْرِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مُشْكِلٌ، لِأَنَّ عَطْفَ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي الْجُمْلَةِ إِلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ. لَا يُقَالُ: شَهِدَ بِهَذَا زَيْدٌ وَالْفَقِيهُ، بَلْ يُقَالُ: شَهِدَ بِهِ زَيْدٌ الْفَقِيهُ، وَأما قوله إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَسْتَشْهِدُ بِغَيْرِهِ عَلَى صِدْقِ حُكْمِهِ فَبَعِيدٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُقْسِمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى صِدْقِ قَوْلِهِ بِقَوْلِهِ: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التِّينِ: 1] فَأَيُّ امْتِنَاعٍ فِيمَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ قَوْلُهُ: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ عَلَى مِنَ الْجَارَّةِ فَالْمَعْنَى: وَمِنْ لَدُنْهُ عِلْمُ الْكِتَابِ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَعْلَمُ الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَتَعْلِيمِهِ، ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَفِيهِ أَيْضًا قِرَاءَتَانِ: وَمِنْ عِنْدِهِ عِلْمُ الْكِتَابِ، وَالْمُرَادُ الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْجَهْلِ، أَيْ هَذَا الْعِلْمُ إِنَّمَا حَصَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالْقِرَاءَةُ الثانية: وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الْكِتَابُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَبِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِشَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَانَ لَا مَعْنَى لِشَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نُبُوَّتِهِ إِلَّا إِظْهَارُ الْقُرْآنِ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ، وَلَا يُعْلَمُ كَوْنُ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا إِلَّا بَعْدَ الْإِحَاطَةِ بِمَا فِي الْقُرْآنِ وَأَسْرَارِهِ، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا شَرَّفَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْعَبْدَ بِأَنْ يُعَلِّمَهُ عِلْمَ الْقُرْآنِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ يَوْمَ الْأَحَدِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ. وَأَنَا ألتمس من كل من نظر في كِتَابِي هَذَا وَانْتَفَعَ بِهِ أَنْ يَخُصَّ وَلَدِي مُحَمَّدًا بِالرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ، وَأَنْ يَذْكُرَنِي بِالدُّعَاءِ. وَأَقُولُ فِي مَرْثِيَّةِ ذَلِكَ الْوَلَدِ شِعْرًا: أَرَى مَعَالِمَ هَذَا الْعَالَمِ الْفَانِي ... مَمْزُوجَةً بِمَخَافَاتٍ وَأَحْزَانِ خَيْرَاتُهُ مِثْلُ أَحْلَامٍ مُفَزِّعَةٍ ... وَشَرُّهُ فِي الْبَرَايَا دَائِمٌ داني

سورة إبراهيم

سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا آيَتَيْ 28 وَ 29 فَمَدَنِيَّتَانِ وَآيَاتُهَا 52 نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ نُوحٍ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم [سورة إبراهيم (14) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) سورة إبراهيم عليه السلام خَمْسُونَ وَآيَتَانِ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ أَوْ مَدَنِيَّةٌ طَرِيقُهُ الْآحَادُ. وَمَتَى لَمْ يَكُنْ فِي السُّورَةِ مَا يَتَّصِلُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَنُزُولُهَا بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ الْغَرَضُ فِي ذَلِكَ إِذَا حَصَلَ فِيهِ نَاسِخٌ وَمَنْسُوخٌ فَيَكُونُ فِيهِ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ وَقَوْلُهُ: الر كِتابٌ معناه أن السورة المسماة بالر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِغَرَضِ كَذَا وَكَذَا فَقَوْلُهُ: الر مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: كِتابٌ خَبَرُهُ وَقَوْلُهُ: أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ صِفَةٌ لِذَلِكَ الْخَبَرِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَوْصُوفٌ بِكَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: النَّازِلُ وَالْمُنْزَلُ لَا يَكُونُ قَدِيمًا. وَجَوَابُنَا: أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالنَّازِلِ وَالْمُنْزَلِ هُوَ هَذِهِ الْحُرُوفُ وَهِيَ مُحْدَثَةٌ بِلَا نِزَاعٍ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِتُخْرِجَ النَّاسَ لَامُ الْغَرَضِ وَالْحِكْمَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْزَلَ هَذَا الْكِتَابَ لِهَذَا الْغَرَضِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامَهُ مُعَلَّلَةٌ بِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ. أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ بِأَنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لِأَجْلِ شَيْءٍ آخَرَ فَهَذَا إِنَّمَا يَفْعَلُهُ لَوْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ تحصيل هذا

الْمَقْصُودِ إِلَّا بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، وَإِذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ تَعْلِيلُ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ بِالْعِلَلِ ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ ظَاهِرٍ أَشْعَرَ بِهِ فَإِنَّهُ مُؤَوَّلٌ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنًى آخَرَ. المسألة الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا شَبَّهَ الْكُفْرَ بِالظُّلُمَاتِ لِأَنَّهُ نِهَايَةُ مَا يَتَحَيَّرُ الرَّجُلُ فِيهِ عَنْ طَرِيقِ الْهِدَايَةِ وَشَبَّهَ الإيمان بالنور لأنه نهاية مَا يَنْجَلِي بِهِ طَرِيقُ هِدَايَتِهِ. المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى إِبْطَالِ الْقَوْلِ بِالْجَبْرِ مِنْ جِهَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ يَخْلُقُ الْكُفْرَ فِي الْكَافِرِ فَكَيْفَ يَصِحُّ إِخْرَاجُهُ مِنْهُ بِالْكِتَابِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْإِخْرَاجَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَ خَالِقُ ذَلِكَ الْكُفْرِ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى فَكَيْفَ يَصِحُّ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إخراجهم منه وكان للكافر أن يقول: إنك تقول: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْكُفْرَ فِينَا فَكَيْفَ يَصِحُّ مِنْكَ أَنْ تُخْرِجَنَا مِنْهُ فَإِنْ قَالَ لَهُمْ: أَنَا أُخْرِجُكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ الَّتِي هِيَ كُفْرٌ مُسْتَقْبَلٌ لَا وَاقِعٌ، فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنْ كَانَ تَعَالَى سَيَخْلُقُهُ فِينَا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ الْإِخْرَاجُ وَإِنْ لَمْ يَخْلُقْهُ فَنَحْنُ خَارِجُونَ مِنْهُ بِلَا إِخْرَاجٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الْكُفْرِ بِالْكِتَابِ بِأَنْ يَتْلُوَهُ عَلَيْهِمْ لِيَتَدَبَّرُوهُ وَيَنْظُرُوا فِيهِ فَيَعْلَمُوا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا قَادِرًا حَكِيمًا وَيَعْلَمُوا بِكَوْنِ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةَ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِينَئِذٍ يَقْبَلُوا مِنْهُ كُلَّ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا كَانَ الْفِعْلُ لَهُمْ وَيَقَعُ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَيَصِحُّ مِنْهُمْ أَنْ يُقْدِمُوا عَلَيْهِ وَيَتَصَرَّفُوا فِيهِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْكُلِّ أَنْ نَقُولَ: الْفِعْلُ الصَّادِرُ مِنَ الْعَبْدِ إِمَّا أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ حَالَ اسْتِوَاءِ الدَّاعِي إِلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ أَوْ حَالَ رُجْحَانِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. وَالْأَوَّلُ: بَاطِلُ، لِأَنَّ صُدُورَ الْفِعْلِ رُجْحَانٌ لِجَانِبِ الْوُجُودِ عَلَى جَانِبِ الْعَدَمِ، وَحُصُولُ الرُّجْحَانِ حَالَ حُصُولِ الِاسْتِوَاءِ مُحَالٌ. وَالثَّانِي: عُيِّنَ قَوْلُنَا لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ صُدُورُ الْفِعْلِ عَنْهُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ الرُّجْحَانِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الرُّجْحَانُ مِنْهُ عَادَ السُّؤَالُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ بَلْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُؤَثِّرُ الْأَوَّلُ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فِي أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ فإن معنى الآية أن رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُمْكِنُهُ إِخْرَاجُ النَّاسِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ إِلَّا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْإِذْنِ إِمَّا الْأَمْرُ، وَإِمَّا الْعِلْمُ، وَإِمَّا الْمَشِيئَةُ وَالْخَلْقُ. وَحَمْلُ الْإِذْنِ عَلَى الأمر محال، لأنه الْإِخْرَاجَ مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْأَمْرِ، فَإِنَّهُ سَوَاءٌ حَصَلَ الْأَمْرُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ، فَإِنَّ الْجَهْلَ مُتَمَيِّزٌ عَنِ الْعِلْمِ وَالْبَاطِلَ مُتَمَيِّزٌ عَنِ الْحَقِّ، وَأَيْضًا حَمْلُ الْإِذْنِ عَلَى الْعِلْمِ مُحَالٌ، لِأَنَّ الْعِلْمَ يَتْبَعُ الْمَعْلُومَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ فَالْعِلْمُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ تَابِعٌ لِذَلِكَ الْخُرُوجِ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ حُصُولَ ذَلِكَ الْخُرُوجِ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ بِحُصُولِ ذَلِكَ الْخُرُوجِ وَلَمَّا بَطَلَ هَذَانِ الْقِسْمَانِ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِذْنِ الْمَشِيئَةَ وَالتَّخْلِيقَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُمْكِنُهُ إِخْرَاجُ النَّاسِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَخْلِيقِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِذْنِ الْإِلْطَافَ. قُلْنَا: لَفْظُ اللُّطْفِ لَفْظٌ مُجْمَلٌ وَنَحْنُ نُفَصِّلُ الْقَوْلَ فِيهِ فَنَقُولُ: الْمُرَادُ بِالْإِذْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا يَقْتَضِي تَرْجِيحَ جَانِبِ الْوُجُودِ عَلَى جَانِبِ الْعَدَمِ أَوْ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَمْرٌ الْبَتَّةَ، فَامْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مِمَّا حَصَلَ بِسَبَبِهِ وَلِأَجْلِهِ فَبَقِيَ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِذْنِ مَعْنًى يَقْتَضِي تَرْجِيحَ جَانِبِ الْوُجُودِ على

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 2 إلى 3]

جَانِبِ الْعَدَمِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِي «الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ» عَلَى أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الرُّجْحَانُ فَقَدْ حَصَلَ الْوُجُوبُ وَلَا مَعْنَى لِذَلِكَ إِلَّا الدَّاعِيَةُ الْمُوجِبَةُ وَهُوَ عَيْنُ قَوْلِنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة السَّادِسَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا إِلَّا مِنْ تَعْلِيمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِمَامِ، احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الَّذِي يُخْرِجُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّعْلِيمِ. وَجَوَابُنَا: أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ كَالْمُنَبِّهِ، وَأَمَّا الْمَعْرِفَةُ فَهِيَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِالدَّلِيلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة السَّابِعَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ طُرُقَ الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ كَثِيرَةٌ وَأَنَّ طَرِيقَ الْخَيْرِ لَيْسَ إِلَّا الْوَاحِدَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ فَعَبَّرَ عَنِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ بِالظُّلُمَاتِ وَهِيَ صِيغَةُ جَمْعٍ وَعَبَّرَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْهِدَايَةِ بِالنُّورِ وَهُوَ لَفْظٌ مُفْرَدٌ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طُرُقَ الْجَهْلِ كَثِيرَةٌ، وَأَمَّا طَرِيقُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فَلَيْسَ إِلَّا الْوَاحِدَ. المسألة الثَّامِنَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ/ إِلَى النُّورِ بِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ كَقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الْأَعْرَافِ: 75] الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْنَافِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَى أَيِّ نُورٍ فَقِيلَ: إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. المسألة التَّاسِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْفَاعِلُ إِنَّمَا يَكُونُ آتِيًا بِالصَّوَابِ وَالصَّلَاحِ، تَارِكًا لِلْقَبِيحِ وَالْعَبَثِ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ غَنِيًّا عَنْ كُلِّ الْحَاجَاتِ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْكُلِّ فَرُبَّمَا فَعَلَ الْقَبِيحَ بِسَبَبِ الْعَجْزِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ فَرُبَّمَا فَعَلَ الْقَبِيحَ بِسَبَبِ الْجَهْلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا عَنْ كُلِّ الْحَاجَاتِ فَرُبَّمَا فَعَلَ الْقَبِيحَ بِسَبَبِ الْحَاجَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَ قادرا على الكل عالما الكل غَنِيًّا عَنِ الْكُلِّ امْتَنَعَ مِنْهُ الْإِقْدَامُ عَلَى فِعْلِ الْقَبِيحِ، فَقَوْلُهُ: الْعَزِيزِ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَقَوْلُهُ: الْحَمِيدِ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْكُلِّ غَنِيًّا عَنِ الْكُلِّ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ صِرَاطَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ مَوْصُوفًا بِكَوْنِهِ شَرِيفًا رَفِيعًا عَالِيًا لِكَوْنِهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا لِلْإِلَهِ الْمَوْصُوفِ بِكَوْنِهِ عَزِيزًا حَمِيدًا، فَلِهَذَا الْمَعْنَى: وَصَفَ اللَّهُ نَفْسَهُ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. المسألة الْعَاشِرَةُ: إِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ الْعَزِيزِ عَلَى ذِكْرِ الْحَمِيدِ، لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ أَوَّلَ الْعِلْمِ بِاللَّهِ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ عَالِمًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنِ الْحَاجَاتِ، وَالْعَزِيزُ هُوَ الْقَادِرُ وَالْحَمِيدُ هُوَ الْعَالِمُ الْغَنِيُّ، فَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ عَالِمًا بِالْكُلِّ غَنِيًّا عَنِ الْكُلِّ لَا جَرَمَ قَدَّمَ اللَّهُ ذِكْرَ العزيز على ذكر الحميد والله أعلم. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 2 الى 3] اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ] المسألة الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ اللَّهُ مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَقِيلَ التَّقْدِيرُ هُوَ اللَّهُ وَالْبَاقُونَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ وَهَاهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُحَقِّقِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ قَوْلَنَا: اللَّهُ جَارٍ مَجْرَى الِاسْمِ الْعَلَمِ لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَهَبَ قَوْمٌ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَفْظٌ مُشْتَقٌّ/ وَالْحَقُّ عِنْدَنَا هُوَ الْأَوَّلُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاسْمَ الْمُشْتَقَّ عِبَارَةٌ عَنْ شَيْءٍ مَا حَصَلَ لَهُ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ، فَالْأَسْوَدُ مَفْهُومُهُ شَيْءٌ مَا حَصَلَ لَهُ السَّوَادُ، وَالنَّاطِقُ مَفْهُومُهُ شَيْءٌ مَا حَصَلَ لَهُ النُّطْقُ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُنَا اللَّهُ اسْمًا مُشْتَقًّا مِنْ مَعْنًى لَكَانَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ أَنَّهُ شَيْءٌ مَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ كُلِّيٌّ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ عَنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُنَا اللَّهُ لَفْظًا مُشْتَقًّا لَكَانَ مَفْهُومُهُ صَالِحًا لِوُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ قَوْلُنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُوجِبًا لِلتَّوْحِيدِ، لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى هُوَ قَوْلُنَا اللَّهُ وَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ وَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يُوجِبُ التَّوْحِيدَ الْمَحْضَ عَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَنَا اللَّهُ جَارٍ مَجْرَى الِاسْمِ الْعَلَمِ. الثَّانِي: أَنَّهُ كُلَّمَا أَرَدْنَا أَنْ نَذْكُرَ سَائِرَ الصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ ذَكَرْنَا أَوَّلًا قَوْلَنَا اللَّهُ ثُمَّ وَصَفْنَاهُ بِسَائِرِ الصِّفَاتِ كَقَوْلِنَا هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ وَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْكِسَ الْأَمْرَ فَنَقُولُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ اللَّهُ فَعَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ هُوَ اسْمُ عَلَمٍ لِلَّذَّاتِ الْمَخْصُوصَةِ وَسَائِرُ الْأَلْفَاظِ دَالَّةٌ عَلَى الصِّفَاتِ وَالنُّعُوتِ. الثَّالِثُ: أَنَّ مَا سِوَى قَوْلِنَا اللَّهُ كُلُّهَا دَالَّةٌ، إِمَّا عَلَى الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ، كَقَوْلِنَا: الْقُدُّوسُ السَّلَامُ، أَوْ عَلَى الصِّفَاتِ الْإِضَافِيَّةِ، كَقَوْلِنَا الْخَالِقُ الرَّازِقُ أَوْ عَلَى الصِّفَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ كَقَوْلِنَا: الْعَالِمُ الْقَادِرُ، أَوْ عَلَى مَا يَتَرَكَّبُ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُنَا: اللَّهُ اسْمًا لِلَّذَّاتِ الْمَخْصُوصَةِ لَكَانَ جَمِيعُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَلْفَاظًا دَالَّةً عَلَى صِفَاتِهِ، وَلَمْ يَحْصُلْ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ وَذَلِكَ بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ اسْمٌ مَخْصُوصٌ. وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مَرْيَمَ: 65] وَالْمُرَادُ هَلْ تَعْلَمُ مَنِ اسْمُهُ اللَّهُ غَيْرَ اللَّهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَنَا: اللَّهُ اسْمٌ لِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ، وَإِذَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فَالتَّرْتِيبُ الْحَسَنُ أَنْ يَذْكُرَ عَقِيبَهُ الصِّفَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ [الْحَشْرِ: 24] فَأَمَّا أَنْ يُعْكَسَ فَيُقَالَ: هُوَ الْخَالِقُ الْمُصَوِّرُ الْبَارِئُ اللَّهُ، فَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الَّذِينَ قَرَءُوا: اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ بِالرَّفْعِ أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا قَوْلَهُ: اللَّهُ مُبْتَدَأً وَيَجْعَلُوا مَا بَعْدَهُ خَبَرًا عَنْهُ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الصَّحِيحُ، فَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا: اللَّهِ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى: الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ فَهُوَ مُشْكِلٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّرْتِيبَ الْحَسَنَ أَنْ يُقَالَ: اللَّهُ الْخَالِقُ. وَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: الْخَالِقُ اللَّهُ فَهَذَا لَا يَحْسُنُ، وَعِنْدَ هَذَا اخْتَلَفُوا فِي الْجَوَابِ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: الْقِرَاءَةُ بِالْخَفْضِ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ: صِرَاطِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي له ما في السموات. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَذْكُرَ الصِّفَةَ أَوَّلًا ثُمَّ يَذْكُرَ الِاسْمَ ثُمَّ يَذْكُرَ الصِّفَةَ مَرَّةً أُخْرَى كَمَا يُقَالُ: مَرَرْتُ بِالْإِمَامِ الْأَجَلِّ مُحَمَّدٍ الْفَقِيهِ وَهُوَ بِعَيْنِهِ نَظِيرُ قَوْلِهِ: صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الصِّرَاطَ إِنَّمَا يَكُونُ مَمْدُوحًا مَحْمُودًا إِذَا كَانَ صِرَاطًا لِلْعَالِمِ الْقَادِرِ الْغَنِيِّ، وَاللَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ بِقَوْلِهِ: الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى وَقَعَتِ/ الشُّبْهَةُ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْعَزِيزَ مَنْ هُوَ؟ فَعَطَفَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ: اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِزَالَةً لِتِلْكَ الشُّبْهَةِ. الثَّالِثُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : اللَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ لِلْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، وَتَحْقِيقُ هَذَا الْقَوْلِ مَا قَرَّرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. الرَّابِعُ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ قَوْلَنَا اللَّهُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ مُشْتَقٌّ إِلَّا أَنَّهُ بِالْعُرْفِ صَارَ جَارِيًا مَجْرَى الِاسْمِ الْعَلَمِ فَحَيْثُ يُبْدَأُ بِذِكْرِهِ وَيُعْطَفُ عَلَيْهِ سَائِرُ الصِّفَاتِ فَذَلِكَ

لِأَجْلِ أَنَّهُ جُعِلَ اسْمَ عَلَمٍ، وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَيْثُ جُعِلَ وَصْفًا لِلْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، فَذَاكَ لِأَجْلِ أَنَّهُ حُمِلَ عَلَى كَوْنِهِ لَفْظًا مُشْتَقًّا فَلَا جَرَمَ بَقِيَ صِفَةً. الْخَامِسُ: أَنَّ الْكُفَّارَ رُبَّمَا وَصَفُوا الْوَثَنَ بِكَوْنِهِ عَزِيزًا حَمِيدًا فَلَمَّا قَالَ: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بَقِيَ فِي خَاطِرِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ الْعَزِيزُ الْحَمِيدُ هُوَ الْوَثَنَ، فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الشُّبْهَةَ وَقَالَ: اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَيِ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ هُوَ الله الذي له ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِجِهَةِ الْعُلُوِّ الْبَتَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَا سَمَاكَ وَعَلَاكَ فَهُوَ سَمَاءٌ، فَلَوْ حَصَلَ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى فِي جِهَةِ فَوْقُ، لَكَانَ حَاصِلًا فِي السَّمَاءِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا في السموات فَهُوَ مِلْكُهُ، فَلَزِمَ كَوْنُهُ مِلْكًا لِنَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحُصُولِ فِي جِهَةِ فَوْقُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ لِأَنَّهُ قَالَ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَعْمَالُ الْعِبَادِ حاصلة في السموات وَالْأَرْضِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَهُ بِمَعْنَى كَوْنِهَا مَمْلُوكَةً لَهُ، وَالْمِلْكُ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ فَوَجَبَ كَوْنُهَا مَقْدُورَةً لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مَقْدُورَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَجَبَ وُقُوعُهَا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَّا لَكَانَ الْعَبْدُ قَدْ مَنَعَ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ إِيقَاعِ مَقْدُورِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يُفِيدُ الْحَصْرَ والمعنى أن ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَالِكَ إِلَّا اللَّهُ وَلَا حَاكِمَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ عَطَفَ عَلَى الْكُفَّارِ بِالْوَعِيدِ فَقَالَ: وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمَّا تَرَكُوا عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هو المالك للسموات وَالْأَرْضِ وَلِكُلِّ مَا فِيهِمَا إِلَى عِبَادَةِ مَا لَا يَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَيُخْلَقُ وَلَا يَخْلُقُ، وَلَا إِدْرَاكَ لَهَا وَلَا فِعْلَ، فَالْوَيْلُ ثُمَّ الْوَيْلُ لِمَنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا خُصَّ هَؤُلَاءِ بِالْوَيْلِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يُوَلْوِلُونَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ وَيَصِيحُونَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَاهُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً [الْفُرْقَانِ: 13] ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى صِفَةَ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ تَوَعَّدَهُمْ بِالْوَيْلِ الَّذِي/ يُفِيدُ أَعْظَمَ الْعَذَابِ وَذَكَرَ مِنْ صِفَاتِهِمْ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ «الَّذِينَ» صِفَةَ الْكَافِرِينَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ مُبْتَدَأً وَجَعَلْتَ الْخَبَرَ قَوْلَهُ: أُولئِكَ وَإِنْ شِئْتَ نَصَبْتَهُ عَلَى الذَّمِّ. المسألة الثَّانِيَةُ: الِاسْتِحْبَابُ طَلَبُ مُحِبَّةِ الشَّيْءِ، وَأَقُولُ إِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُحِبُّ الشَّيْءَ وَلَكِنَّهُ لَا يُحِبُّ كَوْنَهُ مُحِبًّا لِذَلِكَ الشَّيْءِ، مِثْلَ مَنْ يَمِيلُ طَبْعُهُ إِلَى الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ وَلَكِنَّهُ يَكْرَهُ كَوْنَهُ مُحِبًّا لَهُمَا، أَمَّا إِذَا أَحَبَّ الشَّيْءَ وَطَلَبَ كَوْنَهُ مُحِبًّا لَهُ، وَأَحَبَّ تِلْكَ الْمَحَبَّةَ فَهَذَا هُوَ نِهَايَةُ الْمَحَبَّةِ فَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ فِي نِهَايَةِ الْمَحَبَّةِ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ غَافِلًا عَنِ الْحَيَاةِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَعَنْ مَعَايِبِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْعَاجِلَةِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فِي نِهَايَةِ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ مَوْصُوفَةٌ بِأَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعُيُوبِ. فَأَحَدُهَا: أَنَّ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحَيَاةِ انْفَتَحَتْ أَبْوَابُ الْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ وَالْغُمُومِ وَالْهُمُومِ وَالْمَخَاوِفِ وَالْأَحْزَانِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ اللَّذَّاتِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا حَاصِلَ لَهَا إِلَّا دَفْعُ الْآلَامِ، بِخِلَافِ اللَّذَّاتِ الرُّوحَانِيَّةِ فَإِنَّهَا فِي أَنْفُسِهَا لَذَّاتٌ وَسَعَادَاتٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ سَعَادَاتِ هَذِهِ الْحَيَاةِ مُنَغَّصَةٌ بسبب الانقطاع

[سورة إبراهيم (14) : آية 4]

وَالِانْقِرَاضِ وَالِانْقِضَاءِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا حَقِيرَةٌ قَلِيلَةٌ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يُحِبُّ هَذِهِ الْحَيَاةَ إِلَّا مَنْ كَانَ غَافِلًا عَنْ مَعَايِبِهَا وَكَانَ غَافِلًا عَنْ فَضَائِلِ الْحَيَاةِ الرُّوحَانِيَّةِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الْأَعْلَى: 17] فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا ذَكَرْنَاهُ. المسألة الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَالَ: يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ لِأَنَّ فِيهِ إِضْمَارًا، وَالتَّقْدِيرُ: يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَيُؤْثِرُونَهَا عَلَى الْآخِرَةِ، فَجَمَعَ تَعَالَى بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ لِيَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِحْبَابَ لِلدُّنْيَا وَحْدَهُ لَا يَكُونُ مَذْمُومًا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ إِيثَارُهَا عَلَى الْآخِرَةِ، فَأَمَّا مَنْ أَحَبَّهَا لِيَصِلَ بِهَا إِلَى مَنَافِعِ النَّفْسِ وَإِلَى خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مَذْمُومًا حَتَّى إِذَا آثَرَهَا عَلَى آخِرَتِهِ بِأَنِ اخْتَارَ مِنْهَا مَا يَضُرُّهُ فِي آخِرَتِهِ فَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ الْمَحَبَّةُ الْمَذْمُومَةُ. النوع الثَّانِي: مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ الْكُفَّارَ بِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِاسْتِحْبَابِ الدُّنْيَا فَهُوَ ضَالٌّ، وَمَنْ مَنَعَ الْغَيْرَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى سَبِيلِ اللَّهِ وَدِينِهِ فَهُوَ مُضِلٌّ، فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِمْ ضَالِّينَ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ كَوْنُهُمْ صَادِّينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِمْ مُضِلِّينَ. وَالنوع الثَّالِثُ: مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ قَوْلُهُ: وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِضْلَالَ عَلَى مَرْتَبَتَيْنِ: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ يَسْعَى فِي صَدِّ الْغَيْرِ وَمَنْعِهِ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَسْعَى فِي إِلْقَاءِ الشُّكُوكِ وَالشُّبَهَاتِ فِي الْمَذْهَبِ الْحَقِّ وَيُحَاوِلَ تَقْبِيحَ صِفَتِهِ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْحِيَلِ، وَهَذَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَيَبْغُونَها عِوَجاً قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: وَيَبْغُونَ لَهَا عِوَجًا، فَحُذِفَ الْجَارُّ وَأُوصِلَ الْفِعْلُ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الثَّلَاثَةَ لِأَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ قَالَ فِي صِفَتِهِمْ: أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ وَإِنَّمَا وُصِفَ هَذَا الضَّلَالُ بِالْبُعْدِ لِوُجُوهٍ: الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ أَقْصَى مَرَاتِبِ الضَّلَالِ هُوَ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، فَإِنَّ شَرْطَ الضِّدَّيْنِ أَنْ يَكُونَا فِي غَايَةِ التَّبَاعُدِ، مِثْلَ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، فَكَذَا هَاهُنَا الضَّلَالُ الَّذِي يَكُونُ وَاقِعًا عَلَى هَذَا الوجه يَكُونُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ الْحَقِّ فَإِنَّهُ لَا يُعْقَلُ ضَلَالٌ أَقْوَى وَأَكْمَلُ مِنْ هَذَا الضَّلَالِ. وَالوجه الثاني: أن يكون المراد أنه يَبْعُدَ رَدُّهُمْ عَنْ طَرِيقَةِ الضَّلَالِ إِلَى الْهُدَى، لِأَنَّهُ قَدْ تَمَكَّنَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ. وَالوجه الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الضَّلَالِ الْهَلَاكَ، وَالتَّقْدِيرُ: أُولَئِكَ فِي هَلَاكٍ يَطُولُ عَلَيْهِمْ فَلَا ينقطع، وأراد بالبعد امتداده وزوال انقطاعه. [سورة إبراهيم (14) : آية 4] وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)

فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [إبراهيم: 1] كَانَ هَذَا إِنْعَامًا عَلَى الرَّسُولِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فَوَّضَ إِلَيْهِ هَذَا الْمَنْصِبَ الْعَظِيمَ، وَإِنْعَامًا أَيْضًا عَلَى الْخَلْقِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ مَنْ خَلَّصَهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَجْرِي مَجْرَى تَكْمِيلِ النِّعْمَةِ وَالْإِحْسَانِ فِي الوجهين. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا مَبْعُوثِينَ إِلَى قَوْمِهِمْ خَاصَّةً، وَأَمَّا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ فَمَبْعُوثٌ إِلَى عَامَّةِ الْخَلْقِ، فَكَانَ هَذَا الْإِنْعَامُ فِي حَقِّكَ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَامَّةِ الْخَلْقِ، فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّهُ مَا بَعَثَ رَسُولًا إِلَى قَوْمٍ إِلَّا بِلِسَانِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ، فَإِنَّهُ مَتَى/ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، كَانَ فَهْمُهُمْ لِأَسْرَارِ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ وَوُقُوفُهُمْ عَلَى حَقَائِقِهَا أَسْهَلَ، وَعَنِ الْغَلَطِ وَالْخَطَأِ أَبْعَدَ. فَهَذَا هُوَ وَجْهُ النَّظْمِ. المسألة الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللُّغَاتِ اصطلاحية لا توفيقية. قَالَ لِأَنَّ التَّوْقِيفَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ إِرْسَالَ جَمِيعِ الرُّسُلِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِلُغَةِ قَوْمِهِمْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَقَدُّمَ حُصُولِ اللُّغَاتِ عَلَى إِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ حُصُولُ تِلْكَ اللُّغَاتِ بِالتَّوْقِيفِ، فَوَجَبَ حُصُولُهَا بِالِاصْطِلَاحِ. المسألة الثَّالِثَةُ: زَعَمَ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُمُ الْعِيسَوِيَّةُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ لَكِنْ إِلَى الْعَرَبِ لَا إِلَى سَائِرِ الطَّوَائِفِ، وَتَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا كَانَ نَازِلًا بِلُغَةِ الْعَرَبِ لَمْ يَعْرِفْ كَوْنَهُ مُعْجِزَةً بِسَبَبِ مَا فِيهِ مِنَ الْفَصَاحَةِ إِلَّا الْعَرَبُ وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ الْقُرْآنُ حُجَّةً إِلَّا عَلَى الْعَرَبِ، وَمَنْ لَا يَكُونُ عَرَبِيًّا لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ حُجَّةً عَلَيْهِ. الثَّانِي: قَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4] الْمُرَادُ بِذَلِكَ اللِّسَانِ لِسَانُ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَوْمٌ سِوَى الْعَرَبِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى الْعَرَبِ فَقَطْ. وَالْجَوَابُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْمِهِ أَهْلَ بَلَدِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْمِهِ أَهْلَ دَعْوَتِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى عموم الدعوة قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الْأَعْرَافِ: 158] بَلْ إِلَى الثِّقْلَيْنِ، لِأَنَّ التَّحَدِّيَ كَمَا وَقَعَ مَعَ الْإِنْسِ فَقَدْ وَقَعَ مَعَ الْجِنِّ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الْإِسْرَاءِ: 88] . المسألة الرَّابِعَةُ: تَمَسَّكَ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ عَلَى أَنَّ الضَّلَالَ وَالْهِدَايَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنَى مَا رُوِيَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَقْبَلَا فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ وَقَدِ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «مَا هَذَا» فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ الْحَسَنَاتُ مِنَ اللَّهِ وَالسَّيِّئَاتُ مِنْ أَنْفُسِنَا، وَيَقُولُ: عُمَرُ كِلَاهُمَا مِنَ اللَّهِ، وَتَبِعَ بَعْضُهُمْ أَبَا بَكْرٍ وَبَعْضُهُمْ عُمَرَ، فَتَعَرَّفَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عُمَرَ فَتَعَرَّفَ مَا قَالَهُ وَعُرِفَ الْبِشْرُ فِي وَجْهِهِ ثم قال: «أَقْضِي بَيْنَكُمَا كَمَا قَضَى بِهِ إِسْرَافِيلُ بَيْنَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، قَالَ جِبْرِيلُ مِثْلَ مَقَالَتِكَ يَا عُمَرُ وَقَالَ مِيكَائِيلُ مِثْلَ مَقَالَتِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ فَقَضَاءُ إِسْرَافِيلَ أَنَّ الْقَدَرَ كُلَّهُ خَيْرَهُ وَشَرَّهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا قَضَائِي بَيْنَكُمَا» قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ:

أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ وَالْمَعْنَى: أَنَّا إِنَّمَا أَرْسَلْنَا كُلَّ رَسُولٍ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ تِلْكَ التَّكَالِيفَ بِلِسَانِهِمْ، فَيَكُونَ إِدْرَاكُهُمْ لِذَلِكَ الْبَيَانِ أَسْهَلَ وَوُقُوفُهُمْ/ عَلَى الْمَقْصُودِ وَالْغَرَضِ أَكْمَلَ، وَهَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ مَقْصُودُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ حُصُولَ الْإِيمَانِ لِلْمُكَلَّفِينَ، فَأَمَّا لَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ الْإِضْلَالَ وَخَلْقَ الْكُفْرِ فِيهِمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْكَلَامُ مُلَائِمًا لِهَذَا الْمَقْصُودِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا قَالَ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ فِيكُمْ، فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا لَهُ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي بَيَانِكَ، وَمَا الْمَقْصُودُ مِنْ إِرْسَالِكَ، وَهَلْ يُمْكِنُنَا أَنْ نُزِيلَ كُفْرًا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِينَا عَنْ أَنْفُسِنَا وَحِينَئِذٍ تَبْطُلُ دَعْوَةُ النُّبُوَّةِ وَتَفْسُدُ بِعْثَةُ الرُّسُلِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْكُفْرُ حَاصِلًا بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرِّضَا بِهِ وَاجِبًا لِأَنَّ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ، وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. وَالرَّابِعُ: أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ مُقَدِّمَةَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [إِبْرَاهِيمَ: 1] يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ الْعَدْلِ، وَأَيْضًا مُؤَخِّرَةُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَكَيْفَ يَكُونُ حَكِيمًا مَنْ كَانَ خَالِقًا لِلْكُفْرِ وَالْقَبَائِحِ وَمُرِيدًا لَهَا، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ قَوْلِهِ: فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْكُفْرَ فِي الْعَبْدِ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا مَا فِي هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [الْبَقَرَةِ: 26] وَلَا بَأْسَ بِإِعَادَةِ بَعْضِهَا، فَالْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِضْلَالِ: هُوَ الحكم بِكَوْنِهِ كَافِرًا ضَالًّا كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يُكَفِّرُ فُلَانًا وَيُضَلِّلُهُ، أَيْ يَحْكُمُ بِكَوْنِهِ كَافِرًا ضَالًّا، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْإِضْلَالُ عِبَارَةً عَنِ الذَّهَابِ بِهِمْ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ إِلَى النَّارِ، وَالْهِدَايَةُ عِبَارَةً عَنْ إِرْشَادِهِمْ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَرَكَ الضَّالَّ عَلَى إِضْلَالِهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ صَارَ كَأَنَّهُ أَضَلَّهُ، وَالْمُهْتَدِي لَمَّا أَعَانَهُ بِالْأَلْطَافِ صَارَ كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي هَدَاهُ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْمُرَادُ بِالْإِضْلَالِ: التَّخْلِيَةُ وَمَنْعُ الْأَلْطَافِ وَبِالْهِدَايَةِ التَّوْفِيقُ وَاللُّطْفُ. وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ أَوَّلًا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِيُبَيِّنَ لَهُمْ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُضِلَّهُمْ. قُلْنَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِذَا ذُكِرَ فِعْلٌ وَبَعْدَهُ فِعْلٌ آخَرُ، فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ الثَّانِي مُشَاكِلًا لِلْأَوَّلِ نَسَقْتَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشَاكِلًا لَهُ اسْتَأْنَفْتَهُ وَرَفَعْتَهُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ [التَّوْبَةِ: 32] فَقَوْلُهُ: وَيَأْبَى اللَّهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لَا يَجُوزُ إِلَّا ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: يُرِيدُونَ أَنْ يَأْبَى اللَّهُ، فَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ وَضْعُ الثَّانِي مَوْضِعَ الْأَوَّلِ بَطَلَ الْعَطْفُ، وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ [الْحَجِّ: 5] وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: أَرَدْتُ أَنْ أَزُورَكَ فَيَمْنَعُنِي الْمَطَرُ بِالرَّفْعِ غَيْرَ مَنْسُوقٍ عَلَى مَا قَبْلَهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يُرِيدُ أَنْ يُعْرِبَهُ فيعجمه إذا عرفت هذا فنقول: هاهنا قَالَ تَعَالَى: لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ثم قال: فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ ذَكَرَ فَيُضِلُّ بِالرَّفْعِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَذْكُورٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَأَقُولُ تَقْرِيرُ هَذَا/ الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ، لِيَكُونَ بَيَانُهُ لَهُمْ تِلْكَ الشَّرَائِعَ بِلِسَانِهِمُ الَّذِي أَلِفُوهُ وَاعْتَادُوهُ، ثم قال وَمَعَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ تَعَالَى يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ تَقْوِيَةَ الْبَيَانِ لَا تُوجِبُ حُصُولَ الْهِدَايَةِ فَرُبَّمَا قَوِيَ الْبَيَانُ وَلَا تَحْصُلُ الْهِدَايَةُ وَرُبَّمَا ضَعُفَ الْبَيَانُ وَحَصَلَتِ الْهِدَايَةُ، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّ الْهِدَايَةَ وَالضَّلَالَ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. أما قوله ثَانِيًا: لو كان

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 5 إلى 6]

الضلال حاصلا بخلق الله تعالى لكان الكافر أَنْ يَقُولَ لَهُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي بَيَانِكَ وَدَعْوَتِكَ؟ فَنَقُولُ: يُعَارِضُهُ أَنَّ الْخَصْمَ يُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ إِخْبَارٌ عَنْ كَوْنِهِ ضَالًّا فَيَقُولُ لَهُ الْكَافِرُ: لَمَّا أَخْبَرَ إِلَهُكَ عَنْ كَوْنِي كَافِرًا فَإِنْ آمَنْتُ صَارَ إِلَهُكَ كَاذِبًا فَهَلْ أَقْدِرُ عَلَى جَعْلِ إِلَهِكَ كَاذِبًا، وَهَلْ أَقْدِرُ عَلَى جَعْلِ عِلْمِهِ جَهْلًا. وَإِذَا لَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَأْمُرُنِي بِهَذَا الْإِيمَانِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْخَصْمُ عَلَيْنَا هُوَ أَيْضًا وَارِدٌ عَلَيْهِ. وَأما قوله ثَالِثًا: يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الرِّضَا بِالْكُفْرِ وَاجِبًا، لِأَنَّ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. قُلْنَا: وَيَلْزَمُكَ أَيْضًا عَلَى مَذْهَبِكَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ السَّعْيُ فِي تَكْذِيبِ اللَّهِ وَفِي تَجْهِيلِهِ، وَهَذَا أَشَدُّ اسْتِحَالَةً مِمَّا أَلْزَمْتَهُ عَلَيْنَا، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ كُفْرِهِ وَعَلِمَ كُفْرَهُ فَإِزَالَةُ الْكُفْرِ عَنْهُ يَسْتَلْزِمُ قَلْبَ عِلْمِهِ جَهْلًا وَخَبَرِهِ الصِّدْقِ كَذِبًا. وَأما قوله رَابِعًا: إِنَّ مُقَدِّمَةَ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [إِبْرَاهِيمَ: 1] يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الِاعْتِزَالِ فَنَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَأما قوله خَامِسًا: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ بِكَوْنِهِ حَكِيمًا وَذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَهُ تَعَالَى خَالِقًا لِلْكُفْرِ مُرِيدًا لَهُ. فَنَقُولُ: وَقَدْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ عَزِيزًا وَالْعَزِيزُ هُوَ الْغَالِبُ الْقَاهِرُ فَلَوْ أَرَادَ الْإِيمَانَ مِنَ الْكَافِرِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ أَوْ أَرَادَ عَمَلَ الْكُفْرِ مِنْهُمْ، وَقَدْ حَصَلَ لَمَا بَقِيَ عَزِيزًا غَالِبًا. فَثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرُوهَا ضَعِيفَةٌ، وَأَمَّا التَّأْوِيلَاتُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي ذَكَرُوهَا فَقَدْ مَرَّ إِبْطَالُهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا فَلَا فَائِدَةَ فِي الإعادة. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 5 الى 6] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرْسَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّاسِ لِيُخْرِجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَذَكَرَ كَمَالَ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى قَوْمِهِ فِي ذَلِكَ الْإِرْسَالِ وَفِي تِلْكَ الْبَعْثَةِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِشَرْحِ بِعْثَةِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى أَقْوَامِهِمْ وَكَيْفِيَّةِ مُعَامَلَةِ أَقْوَامِهِمْ مَعَهُمْ تَصْبِيرًا لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ وَإِرْشَادًا لَهُ إِلَى كَيْفِيَّةِ مُكَالَمَتِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ فَذَكَرَ تَعَالَى عَلَى الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ قَصَصَ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَبَدَأَ بِذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا قَالَ الْأَصَمُّ: آيَاتُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ وَالْجَرَادُ وَالْقُمَّلُ وَالضَّفَادِعُ وَالدَّمُ وَفَلْقُ الْبَحْرِ وَانْفِجَارُ الْعُيُونِ مِنَ الْحَجَرِ وَإِظْلَالُ الْجَبَلِ وَإِنْزَالُ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى قَوْمِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِآيَاتِهِ وَهِيَ دَلَالَاتُهُ وَكُتُبُهُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمُ الدِّينَ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [إبراهيم: 1] وَقَالَ فِي حَقِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالْمَقْصُودُ: بَيَانُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبِعْثَةِ وَاحِدٌ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَهُوَ أَنْ يَسْعَوْا فِي إِخْرَاجِ الْخَلْقِ مِنْ ظُلُمَاتِ الضَّلَالَاتِ إِلَى أَنْوَارِ الْهِدَايَاتِ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: قَوْلُهُ: أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ أَيْ بِأَنْ أَخْرِجْ قومك. ثم قال: أَنْ هاهنا

تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً بِمَعْنَى أَيْ، وَيَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَيْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ، كَأَنَّ الْمَعْنَى قُلْنَا لَهُ: أَخْرِجْ قَوْمَكَ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا [ص: 6] أَيِ امْشُوا، وَالتَّأْوِيلُ قِيلَ لَهُمُ: امْشُوا، وَتَصْلُحُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْمُخَفَّفَةَ الَّتِي هِيَ لِلْخَبَرِ، وَالْمَعْنَى: أَرْسَلْنَاهُ بِأَنْ يُخْرِجَ قَوْمَهُ إِلَّا أَنَّ الْجَارَّ حُذِفَ وَوُصِلَتْ (أَنْ) بِلَفْظِ الْأَمْرِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ: كَتَبْتُ إِلَيْهِ أَنْ قُمْ وَأَمَرْتُهُ أَنْ قُمْ، ثُمَّ إِنَّ الزَّجَّاجَ حَكَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عَنْ سِيبَوَيْهِ. أما قوله: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ، وَالثَّانِي: أَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَيَّامٌ جَمْعُ يَوْمٍ، وَالْيَوْمُ هُوَ مِقْدَارُ الْمُدَّةِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا، وَكَانَتِ الْأَيَّامُ فِي الْأَصْلِ أَيْوَامٌ فَاجْتَمَعَتِ الْيَاءُ وَالْوَاوُ وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ، فَأُدْغِمَتْ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى وَغَلَبَتِ الْيَاءُ. المسألة الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يُعَبَّرُ بِالْأَيَّامِ عَنِ الْوَقَائِعِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا. يُقَالُ: فُلَانٌ عَالِمٌ بِأَيَّامِ الْعَرَبِ وَيُرِيدُ وَقَائِعَهَا وَفِي الْمَثَلِ مَنْ يُرَ يَوْمًا يُرَ لَهُ مَعْنَاهُ من رؤي فِي يَوْمٍ مَسْرُورًا بِمَصْرَعِ غَيْرِهِ يُرَ فِي يَوْمٍ آخَرَ حَزِينًا بِمَصْرَعِ نَفْسِهِ وَقَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آلِ عِمْرَانَ: 140] . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَالْمَعْنَى عِظْهُمْ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَالتَّرْغِيبُ وَالْوَعْدُ أَنْ يُذَكِّرَهُمْ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ مِمَّنْ آمَنَ بِالرُّسُلِ فِي سَائِرِ مَا سَلَفَ مِنَ الْأَيَّامِ، وَالتَّرْهِيبُ وَالْوَعِيدُ: أَنْ يُذَكِّرَهُمْ بَأْسَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ وَانْتِقَامَهُ مِمَّنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ مِمَّنْ سَلَفَ مِنَ الْأُمَمِ فِيمَا سَلَفَ مِنَ الْأَيَّامِ، مِثْلُ مَا نَزَلَ بِعَادٍ وَثَمُودَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ، لِيَرْغَبُوا فِي الْوَعْدِ فَيُصَدِّقُوا وَيَحْذَرُوا مِنَ الْوَعِيدِ فَيَتْرُكُوا التَّكْذِيبَ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَيَّامَ اللَّهِ فِي حَقِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهَا مَا كَانَ أَيَّامَ الْمِحْنَةِ وَالْبَلَاءِ وَهِيَ الْأَيَّامُ الَّتِي كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِيهَا تَحْتَ قَهْرِ فِرْعَوْنَ وَمِنْهَا مَا كَانَ أَيَّامَ الرَّاحَةِ وَالنَّعْمَاءِ مِثْلَ إِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَانْفِلَاقِ الْبَحْرِ وَتَظْلِيلِ الْغَمَامِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ فِي ذَلِكَ التَّذْكِيرِ وَالتَّنْبِيهِ دَلَائِلَ لِمَنْ كَانَ صَبَّارًا شَكُورًا، لِأَنَّ الْحَالَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالَ مِحْنَةٍ وَبَلِيَّةٍ أَوْ حَالَ مِنْحَةٍ وَعَطِيَّةٍ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، كَانَ الْمُؤْمِنُ صَبَّارًا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَانَ شَكُورًا. وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَجِبُ أَنْ لَا يَخْلُوَ زَمَانُهُ عَنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَإِنْ جَرَى الْوَقْتُ عَلَى مَا يُلَائِمُ طَبْعَهُ وَيُوَافِقُ إِرَادَتَهُ كَانَ مَشْغُولًا بِالشُّكْرِ، وَإِنْ جَرَى بِمَا لَا يُلَائِمُ طَبْعَهُ كَانَ مَشْغُولًا بالصبر. فإن قيل: إن ذلك التَّذْكِيرَاتِ آيَاتٌ لِلْكُلِّ فَلِمَاذَا خَصَّ الصَّبَّارَ الشَّكُورَ بِهَا؟ قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِتِلْكَ الْآيَاتِ صَارَتْ كَأَنَّهَا لَيْسَتْ آيَاتٍ إِلَّا لَهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: 2] وَقَوْلُهُ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النَّازِعَاتِ: 45] . وَالثَّانِي: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: الِانْتِفَاعُ بِهَذَا النوع مِنَ التَّذْكِيرِ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ إِلَّا لِمَنْ كَانَ صَابِرًا أَوْ شَاكِرًا، أَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَمْ ينتفع بهذه الآيات. [في قوله تعالى وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إلى قوله وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ تَعَالَى، حَكَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ

[سورة إبراهيم (14) : آية 7]

السَّلَامُ أَنَّهُ ذَكَّرَهُمْ بِهَا فَقَالَ: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ فَقَوْلُهُ: إِذْ أَنْجاكُمْ ظَرْفٌ لِلنِّعْمَةِ بِمَعْنَى الْإِنْعَامِ، أَيِ اذْكُرُوا إِنْعَامَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: يُذَبِّحُونَ [الْبَقَرَةِ: 49] وَفِي سورة الأعراف: يُقَتِّلُونَ [الأعراف: 41] وهاهنا وَيُذَبِّحُونَ مَعَ الْوَاوِ فَمَا الْفَرْقُ؟ وَالْجَوَابُ: قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: يُذَبِّحُونَ بِغَيْرِ وَاوٍ لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: سُوءَ الْعَذابِ وَفِي التَّفْسِيرِ لَا يَحْسُنُ ذِكْرُ الْوَاوِ تَقُولُ: أَتَانِي الْقَوْمُ زَيْدٌ وَعَمْرٌو. لِأَنَّكَ أَرَدْتَ أَنْ تُفَسِّرَ الْقَوْمَ بِهِمَا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ [الْفُرْقَانِ: 68، 69] فَالْأَثَامُ لَمَّا صَارَ مُفَسَّرًا بِمُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ لَا جَرَمَ حُذِفَ عَنْهُ الْوَاوُ، أَمَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَقَدْ أَدْخَلَ الْوَاوَ فِيهِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُعَذِّبُونَهُمْ بِغَيْرِ التَّذْبِيحِ وَبِالتَّذْبِيحِ أَيْضًا فَقَوْلُهُ: وَيُذَبِّحُونَ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْعَذَابِ لَا أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ كَانَ فِعْلُ آلِ فِرْعَوْنَ بَلَاءً مِنْ رَبِّهِمْ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَمْكِينَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ حَتَّى فَعَلُوا مَا فَعَلُوا كَانَ بَلَاءً مِنَ اللَّهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِنْجَاءِ، وَهُوَ بَلَاءٌ عَظِيمٌ، وَالْبَلَاءُ هُوَ الِابْتِلَاءُ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِالنِّعْمَةِ تَارَةً، وَبِالْمِحْنَةِ أُخْرَى، قَالَ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الْأَنْبِيَاءِ: 35] وَهَذَا الوجه أَوْلَى لِأَنَّهُ يُوَافِقُ صَدْرَ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَبْ أَنَّ تَذْبِيحَ الْأَبْنَاءِ كَانَ بَلَاءً، أَمَّا اسْتِحْيَاءُ النِّسَاءِ كَيْفَ يَكُونُ بَلَاءً. الْجَوَابُ: كَانُوا يَسْتَخْدِمُونَهُنَّ بِالِاسْتِحْيَاءِ فِي الْخَلَاصِ مِنْهُ نِعْمَةً، وَأَيْضًا إِبْقَاؤُهُنَّ مُنْفَرِدَاتٍ عن الرجال فيه أعظم المضار. [سورة إبراهيم (14) : آية 7] وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَا قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا حِينَ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ، وَمَعْنَى تَأَذَّنَ أَذِنَ رَبُّكُمْ. وَنَظِيرُ تَأَذَّنَ وَآذَنَ تَوَعَّدَ وَأَوْعَدَ وَتَفَضَّلَ وَأَفْضَلَ، وَلَا بُدَّ فِي تَفَعَّلَ مِنْ زِيَادَةِ مَعْنًى لَيْسَ فِي أَفْعَلَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِذْ آذَنَ رَبُّكُمْ إِيذَانًا بَلِيغًا يَنْتَفِي عِنْدَهُ الشُّكُوكُ، وَتَنْزَاحُ الشُّبْهَةُ، وَالْمَعْنَى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ. فَقَالَ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ/ فَأَجْرَى تَأَذَّنَ مَجْرَى قَالَ لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْقَوْلِ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لَئِنْ شَكَرْتُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ مَنِ اشْتَغَلَ بِشُكْرِ نِعَمِ اللَّهِ زَادَهُ اللَّهُ مِنْ نعمه، ولا بد هاهنا مِنْ مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الشُّكْرِ وَمِنَ البحث عَنْ تِلْكَ النِّعَمِ الزَّائِدَةِ الْحَاصِلَةِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالشُّكْرِ، أَمَّا الشُّكْرُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِنِعْمَةِ الْمُنْعِمِ مَعَ تَعْظِيمِهِ وَتَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي النِّعَمِ فَهِيَ أَقْسَامٌ: مِنْهَا النِّعَمُ الرُّوحَانِيَّةُ، وَمِنْهَا النِّعَمُ الْجُسْمَانِيَّةُ، أَمَّا النِّعَمُ الرُّوحَانِيَّةُ فَهِيَ أَنَّ الشَّاكِرَ يَكُونُ أَبَدًا فِي مُطَالَعَةِ أَقْسَامِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْوَاعِ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ، وَمَنْ كَثُرَ إِحْسَانُهُ إِلَى الرَّجُلِ أَحَبَّهُ الرَّجُلُ لَا مَحَالَةَ، فَشُغْلُ النَّفْسِ بِمُطَالَعَةِ أَنْوَاعِ فَضْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ يُوجِبُ تَأَكُّدَ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَقَامُ الْمَحَبَّةِ أَعْلَى مَقَامَاتِ الصِّدِّيقِينَ، ثُمَّ قَدْ يَتَرَقَّى الْعَبْدُ مِنْ

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 8 إلى 9]

تِلْكَ الْحَالَةِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ حُبُّهُ لِلْمُنْعِمِ شَاغِلًا لَهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى النِّعْمَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْبَعَ السَّعَادَاتِ وَعُنْوَانَ كُلِّ الْخَيْرَاتِ مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَتُهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالشُّكْرِ يُوجِبُ مَزِيدَ النِّعَمِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَأَمَّا مَزِيدُ النِّعَمِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَلِأَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ اشْتِغَالُهُ بِشُكْرِ نِعَمِ اللَّهِ أَكْثَرَ، كَانَ وُصُولُ نِعَمِ اللَّهِ إِلَيْهِ أَكْثَرَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالشُّكْرُ إِنَّمَا حَسُنَ مَوْقِعُهُ، لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِمَعْرِفَةِ الْمَعْبُودِ وَكُلُّ مَقَامٍ حَرَّكَ الْعَبْدَ مِنْ عَالَمِ الْغُرُورِ إِلَى عَالَمِ الْقُدُسِ، فَهُوَ الْمَقَامُ الشَّرِيفُ الْعَالِي الَّذِي يُوجِبُ السَّعَادَةَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَأما قوله: وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْكُفْرَانُ، لَا الْكُفْرُ، لِأَنَّ الْكُفْرَ الْمَذْكُورَ فِي مُقَابَلَةِ الشُّكْرِ لَيْسَ إِلَّا الْكُفْرَانَ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الْجَهْلِ بِكَوْنِ تِلْكَ النِّعْمَةِ نِعْمَةً مِنَ اللَّهِ، وَالْجَاهِلُ بِهَا جَاهِلٌ بِاللَّهِ، وَالْجَهْلُ بِاللَّهِ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ وَالْعَذَابِ وَأَيْضًا فَهَهُنَا دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ مَا سِوَى الْوَاحِدِ الْأَحَدِ الْحَقِّ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَكُلُّ مُمْكِنٍ لِذَاتِهِ فَوُجُودُهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِإِيجَادِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، وَعَدَمُهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِإِعْدَامِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَا سِوَى الْحَقِّ فَهُوَ مُنْقَادٌ لِلْحَقِّ مِطْوَاعٌ لَهُ، وَإِذَا كَانَتِ الْمُمْكِنَاتُ بِأَسْرِهَا مُنْقَادَةً لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ فَكُلُّ قَلْبٍ حَضَرَ فِيهِ نُورُ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَشَرَفُ جَلَالِهِ، انْقَادَ لِصَاحِبِ ذَلِكَ الْقَلْبِ مَا سِوَاهُ، لِأَنَّ حُضُورَ ذَلِكَ النُّورِ فِي قَلْبِهِ يَسْتَخْدِمُ كُلَّ مَا سِوَاهُ بِالطَّبْعِ، وَإِذَا خَلَا الْقَلْبُ عَنْ ذَلِكَ النُّورِ ضَعُفَ وَصَارَ خَسِيسًا فَيَسْتَخْدِمُهُ كُلُّ مَا سِوَاهُ وَيَسْتَحْقِرُهُ كُلُّ مَا يُغَايِرُهُ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ الذَّوْقِيِّ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُوجِبُ انْفِتَاحَ أَبْوَابِ الْخَيْرَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْإِعْرَاضُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِالِاشْتِغَالِ بِمُجَرَّدِ الْجُسْمَانِيَّاتِ يُوجِبُ انْفِتَاحَ أَبْوَابِ الْآفَاتِ وَالْمَخَافَاتِ فِي الدنيا والآخرة. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 8 الى 9] وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) اعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالشُّكْرِ يُوجِبُ تَزَايُدَ الْخَيْرَاتِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَالِاشْتِغَالَ بِكُفْرَانِ النِّعَمِ يُوجِبُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ، وَحُصُولَ الْآفَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بَيَّنَ بَعْدَهُ أَنَّ مَنَافِعَ الشُّكْرِ وَمَضَارَّ الْكُفْرَانِ لَا تَعُودُ إِلَّا إِلَى صَاحِبِ الشُّكْرِ وَصَاحِبِ الْكُفْرَانِ أَمَّا الْمَعْبُودُ وَالْمَشْكُورُ فَإِنَّهُ مُتَعَالٍ عَنْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالشُّكْرِ أَوْ يَسْتَضِرَّ بِالْكُفْرَانِ، فَلَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى: وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ وَالْغَرَضُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ بِهَذِهِ الطَّاعَاتِ لِمَنَافِعَ عَائِدَةٍ إِلَى الْعَابِدِ لَا لِمَنَافِعَ عَائِدَةٍ إِلَى الْمَعْبُودِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ في قوله: فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ وَتَفْسِيرُهُ أَنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ واجب الْوُجُودِ بِحَسَبِ جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَاعْتِبَارَاتِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، لَافْتَقَرَ رُجْحَانُ وُجُودِهِ عَلَى عَدَمِهِ إِلَى مُرَجِّحٍ فَلَمْ يَكُنْ غَنِيًّا، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ غَنِيًّا هَذَا خُلْفٌ، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ غَنِيًّا يُوجِبُ كَوْنَهُ وَاجِبَ الْوُجُودِ فِي ذَاتِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، كَانَ أَيْضًا وَاجِبَ الْوُجُودِ بِحَسَبِ جَمِيعِ كَمَالَاتِهِ، إِذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ ذَاتُهُ كَافِيَةً فِي حُصُولِ ذَلِكَ الْكَمَالِ، لَافْتَقَرَ فِي حُصُولِ ذَلِكَ الْكَمَالِ إِلَى سَبَبٍ مُنْفَصِلٍ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ غَنِيًّا، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ غَنِيًّا هَذَا خُلْفٌ، فَثَبَتَ أَنَّ ذَاتَهُ كَافِيَةٌ فِي حُصُولِ جَمِيعِ كَمَالَاتِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ حَمِيدًا لذاته،

لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْحَمِيدِ إِلَّا الَّذِي اسْتَحَقَّ الْحَمْدَ، فَثَبَتَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ كَوْنَهُ غَنِيًّا حَمِيدًا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَزْدَادَ بِشُكْرِ الشَّاكِرِينَ، وَلَا يَنْتَقِصَ بِكُفْرَانِ الْكَافِرِينَ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ وَهَذِهِ الْمَعَانِي مِنْ لَطَائِفِ الْأَسْرَارِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَنَا: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً سَوَاءٌ حُمِلَ عَلَى الْكُفْرِ الَّذِي يُقَابِلُ الْإِيمَانَ أَوْ عَلَى الْكُفْرَانِ الَّذِي يُقَابِلُ الشُّكْرَ، فَالْمَعْنَى لَا يَتَفَاوَتُ الْبَتَّةَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ فِي كَمَالَاتِهِ وَفِي جَمِيعِ نُعُوتِ كِبْرِيَائِهِ وَجَلَالِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَذَكَرَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُخَوِّفُهُمْ بِمِثْلِ هَلَاكِ مَنْ تَقَدَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ مُوسَى لِقَوْمِهِ يُذَكِّرُهُمْ أَمْرَ الْقُرُونِ الْأُولَى، وَالْمَقْصُودُ إِنَّمَا هُوَ حُصُولُ الْعِبْرَةِ بِأَحْوَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ إِلَّا أَنَّ الْأَكْثَرِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ ابْتِدَاءُ مُخَاطَبَةٍ لِقَوْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَقْوَامًا ثَلَاثَةً، وَهُمْ: قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ. ثم قال تَعَالَى: وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِيهِ احْتِمَالَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جُمْلَةً مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ وَقَعَتِ اعْتِرَاضًا. وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْلُهُ: لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ فِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا يَعْلَمُ كُنْهَ مَقَادِيرِهِمْ إِلَّا اللَّهُ، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ جُمْلَةٌ فَأَمَّا ذِكْرُ الْعَدَدِ وَالْعُمُرِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَالْكَمِّيَّةِ فَغَيْرُ حَاصِلٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ ذِكْرُ أَقْوَامٍ مَا بَلَغَنَا أَخْبَارُهُمْ أَصْلًا كَذَّبُوا رُسُلًا لَمْ نَعْرِفْهُمْ أَصْلًا، وَلَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي طَعَنُوا فِي قَوْلِ مَنْ يَصِلُ الْأَنْسَابَ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ يَقُولُ كَذَبَ النَّسَّابُونَ يَعْنِي أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ عِلْمَ الْأَنْسَابِ وَقَدْ نَفَى اللَّهُ عِلْمَهَا عَنِ الْعِبَادِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بَيْنَ عَدْنَانَ وَبَيْنَ إِسْمَاعِيلَ ثَلَاثُونَ أَبًا لَا يُعْرَفُونَ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [الْفُرْقَانِ: 38] وَقَوْلُهُ: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غَافِرٍ: 78] وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ فِي انْتِسَابِهِ لَا يُجَاوِزُ مَعَدَّ بْنَ عَدْنَانَ بْنِ أُدَدٍ. وَقَالَ: «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنَ النُّجُومِ مَا تَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ» قَالَ الْقَاضِي: وَعَلَى هَذَا الوجه لَا يُمْكِنُ الْقَطْعُ عَلَى مِقْدَارِ السِّنِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ لَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِالْأَنْسَابِ الْمَوْصُولَةِ. فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ الْقَوْلَيْنِ أَوْلَى؟ قُلْنَا: الْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدِي أَقْرَبُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ نَفَى الْعِلْمَ بِهِمْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي/ نَفْيَ الْعِلْمِ بِذَوَاتِهِمْ إِذْ لَوْ كَانَتْ ذَوَاتُهُمْ مَعْلُومَةً، وَكَانَ الْمَجْهُولُ هُوَ مُدَدَ أَعْمَارِهِمْ وَكَيْفِيَّةَ صِفَاتِهِمْ لَمَا صَحَّ نَفْيُ الْعِلْمِ بِذَوَاتِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِذَوَاتِهِمْ لَا جَرَمَ كَانَ الْأَقْرَبُ هُوَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ أَتَوْا بأمور: أولها:

قَوْلُهُ: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَفِي مَعْنَاهُ قولان: الأول: أن المراد باليد والفم الجارحتان الْمَعْلُومَتَانِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا شَيْءٌ غَيْرُ هَاتَيْنِ الْجَارِحَتَيْنِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمَا مَجَازًا وَتَوَسُّعًا. أَمَّا مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الوجه الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي أَيْدِيَهُمْ وأَفْواهِهِمْ عَائِدًا إِلَى الْكُفَّارِ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ احْتِمَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكُفَّارَ رَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ فَعَضُّوهَا مِنَ الْغَيْظِ وَالضَّجَرِ مِنْ شِدَّةِ نَفْرَتِهِمْ عَنْ رُؤْيَةِ الرُّسُلِ وَاسْتِمَاعِ كَلَامِهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [آلِ عِمْرَانَ: 119] وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ عَجِبُوا مِنْهُ وَضَحِكُوا عَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ رَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ غَلَبَهُ الضَّحِكُ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ مُشِيرِينَ بِذَلِكَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنْ كُفُّوا عَنْ هَذَا الْكَلَامِ وَاسْكُتُوا عَنْ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الْكَلْبِيِّ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ أَشَارُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى أَلْسِنَتِهِمْ وَإِلَى مَا تَكَلَّمُوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ، أَيْ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ عِنْدَنَا عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا غَيْرُهُ إِقْنَاطًا لَهُمْ مِنَ التَّصْدِيقِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ. الوجه الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرَانِ رَاجِعَيْنِ إِلَى الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكُفَّارَ أَخَذُوا أَيْدِيَ الرُّسُلِ وَوَضَعُوهَا عَلَى أَفْوَاهِهِمْ لِيُسْكِتُوهُمْ وَيَقْطَعُوا كَلَامَهُمْ. الثَّانِي: أَنَّ الرُّسُلَ لَمَّا أَيِسُوا مِنْهُمْ سَكَتُوا وَوَضَعُوا أَيْدِيَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى أَفْوَاهِ أَنْفُسِهِمْ فَإِنَّ مَنْ ذَكَرَ كَلَامًا عِنْدَ قَوْمٍ وَأَنْكَرُوهُ وَخَافَهُمْ، فَذَلِكَ الْمُتَكَلِّمُ رُبَّمَا وَضَعَ يَدَ نَفْسِهِ عَلَى فَمِ نَفْسِهِ وَغَرَضُهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ أَنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ الْبَتَّةَ. الوجه الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي أَيْدِيهِمْ يَرْجِعُ إِلَى الْكُفَّارِ وَفِي الْأَفْوَاهِ إِلَى الرُّسُلِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا سَمِعُوا وَعْظَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَنَصَائِحَهُمْ وَكَلَامَهُمْ أَشَارُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى أَفْوَاهِ الرُّسُلِ تَكْذِيبًا لَهُمْ وَرَدًّا عَلَيْهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْكُفَّارَ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَنْعًا لَهُمْ مِنَ الْكَلَامِ، وَمَنْ بَالَغَ فِي مَنْعِ غَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ فَقَدْ يُفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ. أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ ذِكْرَ الْيَدِ وَالْفَمِ تَوَسُّعٌ وَمَجَازٌ فَفِيهِ وُجُوهٌ: / الوجه الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: الْمُرَادُ بِالْيَدِ مَا نَطَقَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الْحُجَجِ وَذَلِكَ لِأَنَّ إِسْمَاعَ الْحُجَّةِ إِنْعَامٌ عَظِيمٌ وَالْإِنْعَامُ يُسَمَّى يَدًا. يُقَالُ لِفُلَانٍ عِنْدِي يَدٌ إِذَا أَوْلَاهُ مَعْرُوفًا، وقد يذكر اليد. المراد مِنْهَا صَفْقَةُ الْبَيْعِ وَالْعَقْدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الْفَتْحِ: 10] فَالْبَيِّنَاتُ الَّتِي كَانَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَذْكُرُونَهَا وَيُقَرِّرُونَهَا نِعَمٌ وَأَيَادٍ، وَأَيْضًا الْعُهُودُ الَّتِي كَانُوا يَأْتُونَ بِهَا مَعَ الْقَوْمِ أيادي وَجَمْعُ الْيَدِ فِي الْعَدَدِ الْقَلِيلِ هُوَ الْأَيْدِي وَفِي الْعَدَدِ الْكَثِيرِ هُوَ الْأَيَادِي، فَثَبَتَ أَنَّ بيانات الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَعُهُودَهُمْ صَحَّ تَسْمِيَتُهَا بِالْأَيْدِي، وَإِذَا كَانَتِ النَّصَائِحُ وَالْعُهُودُ إِنَّمَا تَظْهَرُ مِنَ الْفَمِ فَإِذَا لَمْ تُقْبَلْ صَارَتْ مَرْدُودَةً إِلَى حَيْثُ جَاءَتْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [النُّورِ: 15] فَلَمَّا كَانَ الْقَبُولُ تَلَقِّيًا بِالْأَفْوَاهِ عَنِ الْأَفْوَاهِ كَانَ الدَّفْعُ رَدًّا فِي الْأَفْوَاهِ، فَهَذَا تَمَامُ كَلَامِ أَبِي مُسْلِمٍ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الوجه. الوجه الثَّانِي: نَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ أَنَّهُمْ سَكَتُوا

[سورة إبراهيم (14) : آية 10]

عَنِ الْجَوَابِ يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَمْسَكَ عَنِ الْجَوَابِ، رَدَّ يَدَهُ فِي فِيهِ وَتَقُولُ الْعَرَبُ كَلَّمْتُ فُلَانًا فِي حَاجَةٍ فَرَدَّ يَدَهُ فِي فِيهِ إِذَا سَكَتَ عَنْهُ فَلَمْ يُجِبْ، ثُمَّ إِنَّهُ زَيَّفَ هَذَا الوجه وَقَالَ: إِنَّهُمْ أَجَابُوا بِالتَّكْذِيبِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ. الوجه الثَّالِثُ: الْمُرَادُ مِنَ الْأَيْدِي نِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ظَاهِرِهِمْ وَبَاطِنِهِمْ وَلَمَّا كَذَّبُوا الْأَنْبِيَاءَ فَقَدْ عَرَّضُوا تِلْكَ النِّعَمَ لِلْإِزَالَةِ وَالْإِبْطَالِ فَقَوْلُهُ: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ أَيْ رَدُّوا نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْكَلِمَاتِ الَّتِي صَدَرَتْ عَنْ أَفْوَاهِهِمْ وَلَا يَبْعُدُ حَمْلُ «فِي» عَلَى مَعْنَى الْبَاءِ لِأَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ لَا يَمْتَنِعُ إِقَامَةُ بَعْضِهَا مَقَامَ بَعْضٍ. النوع الثَّانِي: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ قَوْلُهُمْ: إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَالْمَعْنَى: إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكُمْ فِيهِ لِأَنَّهُمْ مَا أَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ أُرْسِلُوا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَرْتَبَةَ الْأُولَى هُوَ أَنَّهُمْ سَكَتُوا عَنْ قَبُولِ قَوْلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَحَاوَلُوا إِسْكَاتَ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ تِلْكَ الدَّعْوَى، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِكَوْنِهِمْ كَافِرِينَ بِتِلْكَ الْبَعْثَةِ. وَالنوع الثَّالِثُ: قَوْلُهُمْ: وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقُرِئَ تَدْعُونَّا بِإِدْغَامِ النُّونِ مُرِيبٍ مُوقِعٍ فِي الرِّيبَةِ أَوْ ذِي رِيبَةٍ مِنْ أَرَابَهُ، وَالرِّيبَةُ قَلَقُ النَّفْسِ وَأَنْ لَا تَطْمَئِنَّ إِلَى الْأَمْرِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا ذَكَرُوا فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِرِسَالَتِهِمْ كَيْفَ ذَكَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ كَوْنَهُمْ شَاكِّينَ مُرْتَابِينَ فِي صِحَّةِ قَوْلِهِمْ؟ قُلْنَا: كَأَنَّهُمْ قالوا إما أن تكون كافرين برسالتكم أو أن نَدَعْ هَذَا الْجَزْمَ وَالْيَقِينَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ نَكُونَ شَاكِّينَ مُرْتَابِينَ فِي صِحَّةِ نُبُوَّتِكُمْ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِنُبُوَّتِكُمْ والله أعلم. [سورة إبراهيم (14) : آية 10] قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) اعْلَمْ أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ لَمَّا قَالُوا لِلرُّسُلِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [إبراهيم: 9] . قَالَتْ رُسُلُهُمْ: وَهَلْ تَشُكُّونَ فِي اللَّهِ، وَفِي كونه فاطر السموات وَالْأَرْضِ وَفَاطِرًا لِأَنْفُسِنَا وَأَرْوَاحِنَا وَأَرْزَاقِنَا وَجَمِيعِ مَصَالِحِنَا وَإِنَّا لَا نَدْعُوكُمْ إِلَّا إِلَى عِبَادَةِ هَذَا الْإِلَهِ الْمُنْعِمِ وَلَا نَمْنَعُكُمْ إِلَّا عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَهَذِهِ الْمَعَانِي يَشْهَدُ صَرِيحُ الْعَقْلِ بِصِحَّتِهَا، فَكَيْفَ قُلْتُمْ: وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ؟ وَهَذَا النَّظْمُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، فَلَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى أَرْدَفَهُ بِالدَّلَالَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ وجود السموات وَالْأَرْضِ كَيْفَ يَدُلُّ عَلَى احْتِيَاجِهِ إِلَى الصَّانِعِ المختار الحكيم مرارا وأطوارا فلا نعيدها هاهنا. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أُدْخِلَتْ هَمْزَةُ الْإِنْكَارِ عَلَى الظَّرْفِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِي الشك

إِنَّمَا هُوَ فِي أَنَّ وُجُودَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَحْتَمِلُ الشَّكَّ، وَأَقُولُ مِنَ النَّاسِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ قَبْلَ الْوُقُوفِ عَلَى الدَّلَائِلِ الدَّقِيقَةِ فَالْفِطْرَةُ شَاهِدَةٌ بِوُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَةَ الْأَوَّلِيَّةَ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ وُجُوهٌ: الوجه الْأَوَّلُ: قَالَ بَعْضُ الْعُقَلَاءِ: إِنَّ مَنْ لَطَمَ عَلَى وَجْهِ صَبِيٍّ لَطْمَةً فَتِلْكَ اللَّطْمَةُ تدل عَلَى/ وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ، فَلِأَنَّ الصَّبِيَّ الْعَاقِلَ إِذَا وَقَعَتِ اللَّطْمَةُ عَلَى وَجْهِهِ يَصِيحُ وَيَقُولُ: مَنِ الَّذِي ضَرَبَنِي وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ شَهَادَةَ فِطْرَتِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّطْمَةَ لَمَّا حَدَثَتْ بَعْدَ عَدَمِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُدُوثُهَا لِأَجْلِ فَاعِلٍ فَعَلَهَا، وَلِأَجْلِ مُخْتَارٍ أَدْخَلَهَا فِي الْوُجُودِ فَلَمَّا شَهِدَتِ الْفِطْرَةُ الْأَصْلِيَّةُ بِافْتِقَارِ ذَلِكَ الْحَادِثِ مَعَ قِلَّتِهِ وَحَقَارَتِهِ إِلَى الْفَاعِلِ فَبِأَنْ تَشْهَدَ بِافْتِقَارِ جَمِيعِ حَوَادِثِ الْعَالَمِ إِلَى الْفَاعِلِ كَانَ أَوْلَى، وَأَمَّا دَلَالَتُهَا عَلَى وُجُوبِ التَّكْلِيفِ، فَلِأَنَّ ذَلِكَ الصَّبِيَّ يُنَادِي وَيَصِيحُ وَيَقُولُ: لِمَ ضَرَبَنِي ذَلِكَ الضَّارِبُ؟ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِطْرَتَهُ شَهِدَتْ بِأَنَّ الْأَفْعَالَ الْإِنْسَانِيَّةَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَمُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ التَّكْلِيفِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ مَا خُلِقَ حَتَّى يَفْعَلَ أَيَّ فِعْلٍ شَاءَ وَاشْتَهَى، وَأَمَّا دَلَالَتُهَا عَلَى وُجُوبِ حُصُولِ دَارِ الْجَزَاءِ فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الصَّبِيَّ يَطْلُبُ الْجَزَاءَ على تلك اللطمة ومادام يُمْكِنُهُ طَلَبُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَتْرُكُهُ فَلَمَّا شَهِدَتِ الْفِطْرَةُ الْأَصْلِيَّةُ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ الْقَلِيلِ فَبِأَنْ تَشْهَدَ عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْمَالِ كَانَ أَوْلَى، وَأَمَّا دَلَالَتُهَا عَلَى وُجُوبِ النُّبُوَّةِ فَلِأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَى إِنْسَانٍ يُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ الْعُقُوبَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْجِنَايَةِ كَمْ هِيَ وَلَا مَعْنَى لِلنَّبِيِّ إِلَّا الْإِنْسَانُ الَّذِي يُقَدِّرُ هَذِهِ الْأُمُورَ وَيُبَيِّنُ لَهُمْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ، فَثَبَتَ أَنَّ فِطْرَةَ الْعَقْلِ حَاكِمَةٌ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ. الوجه الثَّانِي: فِي التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ بِوُجُودِ الصَّانِعِ بَدِيهِيٌّ هُوَ أَنَّ الْفِطْرَةَ شَاهِدٌ بِأَنَّ حُدُوثَ دَارٍ مَنْقُوشَةٍ بِالنُّقُوشِ الْعَجِيبَةِ، مَبْنِيَّةٍ عَلَى التَّرْكِيبَاتِ اللَّطِيفَةِ الْمُوَافِقَةِ لِلْحُكْمِ وَالْمَصْلَحَةِ يَسْتَحِيلُ إِلَّا عِنْدَ وُجُودِ نَقَّاشٍ عَالِمٍ، وَبَانٍ حَكِيمٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ آثَارَ الْحِكْمَةِ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ أَكْثَرُ مِنْ آثَارِ الْحِكْمَةِ فِي تِلْكَ الدَّارِ الْمُخْتَصَرَةِ فَلَمَّا شَهِدَتِ الْفِطْرَةُ الْأَصْلِيَّةُ بِافْتِقَارِ النَّقْشِ إِلَى النَّقَّاشِ، وَالْبِنَاءِ إِلَى الْبَانِي، فَبِأَنْ تَشْهَدَ بِافْتِقَارِ كُلِّ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ الْحَكِيمِ كَانَ أَوْلَى. الوجه الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا وَقَعَ فِي مِحْنَةٍ شَدِيدَةٍ وَبَلِيَّةٍ قَوِيَّةٍ لَا يَبْقَى فِي ظَنِّهِ رَجَاءُ الْمُعَاوَنَةِ مَنْ أَحَدٍ، فَكَأَنَّهُ بِأَصْلِ خِلْقَتِهِ وَمُقْتَضَى جِبِلَّتِهِ يَتَضَرَّعُ إِلَى مَنْ يُخَلِّصُهُ مِنْهَا وَيُخْرِجُهُ عَنْ عَلَائِقِهَا وَحَبَائِلِهَا وَمَا ذَاكَ إِلَّا شَهَادَةُ الْفِطْرَةِ بِالِافْتِقَارِ إِلَى الصَّانِعِ الْمُدَبِّرِ. الوجه الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا عَنِ الْمُؤَثِّرِ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ غَنِيًّا عَنِ الْمُؤَثِّرِ فَهُوَ الْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ لِذَاتِهِ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْوَاجِبِ لِذَاتِهِ إِلَّا الْمَوْجُودُ الَّذِي لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا عَنِ الْمُؤَثِّرِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ، وَالْمُحْتَاجُ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ وَذَلِكَ هُوَ الصَّانِعُ الْمُخْتَارُ. الوجه الْخَامِسُ: أَنَّ الِاعْتِرَافَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْمُخْتَارِ الْمُكَلِّفِ، وَبِوُجُودِ الْمَعَادِ أَحْوَطُ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ فَهَذِهِ مَرَاتِبُ أَرْبَعَةٌ: أَوَّلُهَا: أَنَّ الْإِقْرَارَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ أَحْوَطُ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فَلَا ضَرَرَ فِي الْإِقْرَارِ بِوُجُودِهِ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فَفِي إِنْكَارِهِ أَعْظَمُ الْمَضَارِّ. وَثَانِيهَا: الْإِقْرَارُ بِكَوْنِهِ فَاعِلًا مُخْتَارًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُوجَبًا فَلَا ضَرَرَ فِي الْإِقْرَارِ بِكَوْنِهِ مُخْتَارًا. أَمَّا لَوْ كَانَ مُخْتَارًا فَفِي إِنْكَارِ كَوْنِهِ مُخْتَارًا أَعْظَمُ الْمَضَارِّ. وَثَالِثُهَا: الْإِقْرَارُ بِأَنَّهُ كَلَّفَ عِبَادَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُكَلِّفْ أَحَدًا مِنْ عَبِيدِهِ شَيْئًا فَلَا ضَرَرَ فِي اعْتِقَادِ أَنَّهُ كَلَّفَ الْعِبَادَ، أَمَا إِنَّهُ لَوْ كَلَّفَ فَفِي إِنْكَارِ تِلْكَ التَّكَالِيفِ أَعْظَمُ الْمَضَارِّ. وَرَابِعُهَا: الْإِقْرَارُ بِوُجُودِ الْمَعَادِ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ الْحَقُّ أَنَّهُ لَا مَعَادَ فَلَا ضَرَرَ فِي الْإِقْرَارِ

بِوُجُودِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَفُوتُ إِلَّا هَذِهِ اللَّذَّاتُ الْجُسْمَانِيَّةُ وَهِيَ حَقِيرَةٌ وَمَنْقُوصَةٌ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ هُوَ وُجُوبَ الْمَعَادِ فَفِي إِنْكَارِهِ أَعْظَمُ الْمَضَارِّ فَظَهَرَ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِهَذِهِ الْمَقَامَاتِ أَحْوَطُ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ بَدِيهَةَ الْعَقْلِ حَاكِمَةٌ بِأَنَّهُ يَجِبُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. المسألة الثَّالِثَةُ: لَمَّا أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى وُجُودِ الإله بدليل كونه فاطر السموات وَالْأَرْضِ وَصَفَهُ بِكَمَالِ الرَّحْمَةِ وَالْكَرَمِ وَالْجُودِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : لَوْ قَالَ قَائِلٌ مَا مَعْنَى التَّبْعِيضِ فِي قَوْلِهِ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، ثُمَّ أَجَابَ فَقَالَ: مَا جَاءَ هَكَذَا إِلَّا فِي خِطَابِ الْكَافِرِينَ، كَقَوْلِهِ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [نوح: 3، 4] . يَا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [الْأَحْقَافِ: 31] وَقَالَ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الصَّفِّ: 10] إِلَى أَنْ قَالَ: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران: 31] وَالِاسْتِقْرَاءُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ، ثم قال: وَكَأَنَّ ذَلِكَ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ، وَلِئَلَّا يُسَوَّى بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمَعَادِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ يَغْفِرُ لَهُمْ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعِبَادِ مِنَ الْمَظَالِمِ. هَذَا كَلَامُ هَذَا الرَّجُلِ، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ (مِنْ) زَائِدَةٌ، وَأَنْكَرَ سِيبَوَيْهِ زِيَادَتَهَا فِي الْوَاجِبِ، وَإِذَا قُلْنَا إِنَّهَا لَيْسَتْ زَائِدَةً فَهَهُنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أنه ذكر البعض هاهنا وَأُرِيدَ بِهِ الْجَمِيعُ تَوَسُّعًا. وَالثَّانِي: أَنَّ (مِنْ) هاهنا لِلْبَدَلِ وَالْمَعْنَى لِتَكُونَ الْمَغْفِرَةُ بَدَلًا مِنَ الذُّنُوبِ فَدَخَلَتْ مِنْ لِتَضَمُّنِ الْمَغْفِرَةِ مَعْنَى الْبَدَلِ مِنَ السَّيِّئَةِ، وَقَالَ الْقَاضِي: ذَكَرَ الْأَصَمُّ أَنَّ كَلِمَةَ (من) هاهنا تُفِيدُ التَّبْعِيضَ، وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ إِذَا تُبْتُمْ فَإِنَّهُ يَغْفِرُ لَكُمُ الذُّنُوبَ الَّتِي هِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَأَمَّا الَّتِي تَكُونُ مِنْ بَابِ الصَّغَائِرِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى غُفْرَانِهَا لِأَنَّهَا فِي أَنْفُسِهَا مَغْفُورَةٌ، قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ أَبْعَدَ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ صَغَائِرُهُمْ كَكَبَائِرِهِمْ فِي أَنَّهَا لَا تُغْفَرُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ وَإِنَّمَا تَكُونُ الصَّغِيرَةُ مَغْفُورَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ حَيْثُ يَزِيدُ ثَوَابُهُمْ عَلَى عِقَابِهَا فَأَمَّا مَنْ لَا ثَوَابَ لَهُ أَصْلًا فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذُنُوبِهِ صَغِيرًا وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ/ مِنْهَا مَغْفُورًا. ثم قال وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْكَافِرَ قَدْ يَنْسَى بَعْضَ ذُنُوبِهِ فِي حَالِ تَوْبَتِهِ وَإِنَابَتِهِ فَلَا يَكُونُ الْمَغْفُورُ مِنْهَا إِلَّا مَا ذَكَرَهُ وَتَابَ مِنْهُ فَهَذَا جُمْلَةُ أَقْوَالِ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ. المسألة الرَّابِعَةُ: أَقُولُ هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ فِي حَقِّ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَعَدَ بِغُفْرَانِ بَعْضِ الذُّنُوبِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ التَّوْبَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَغْفِرَ بَعْضَ الذُّنُوبِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ التَّوْبَةِ وَذَلِكَ الْبَعْضُ لَيْسَ هُوَ الْكُفْرَ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ الْكُفْرَ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ عَنْهُ وَالدُّخُولِ فِي الْإِيمَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبَعْضُ الَّذِي يَغْفِرُ لَهُ مِنْ غَيْرِ التَّوْبَةِ هو ما عد الْكُفْرَ مِنَ الذُّنُوبِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ كَلِمَةُ (مِنْ) صِلَةٌ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ أَوْ نَقُولَ: الْمُرَادُ من البعض هاهنا هُوَ الْكُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ. أَوْ نَقُولَ: الْمُرَادُ مِنْهَا إِبْدَالُ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ عَلَى مَا قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ أَيْضًا أَوْ نَقُولَ: الْمُرَادُ مِنْهُ تَمْيِيزُ الْمُؤْمِنِ عَنِ الْكَافِرِ فِي الْخِطَابِ عَلَى مَا قَالَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَوْ نَقُولَ: الْمُرَادُ مِنْهُ تَخْصِيصُ هَذَا الْغُفْرَانِ بِالْكَبَائِرِ عَلَى مَا قَالَهُ الْأَصَمُّ. أَوْ نَقُولَ: الْمُرَادُ مِنْهُ الذُّنُوبُ الَّتِي يَذْكُرُهَا الْكَافِرُ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي الْإِيمَانِ عَلَى مَا قَالَهُ الْقَاضِي، فَنَقُولُ: هَذِهِ الْوُجُوهُ بِأَسْرِهَا ضَعِيفَةٌ أما قوله: إِنَّهَا صِلَةٌ فَمَعْنَاهُ الحكم عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهَا حَشْوٌ ضَائِعٌ فَاسِدٌ، وَالْعَاقِلُ لَا يُجَوِّزُ الْمَصِيرَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَأَمَّا قول الواحدي:

المراد من كلمة (من) هاهنا هُوَ الْكُلُّ فَهُوَ عَيْنُ مَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ لِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ قَوْلَهُ: لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ هُوَ أَنَّهُ يَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَهَذَا عَيْنُ مَا نَقَلَهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَحُكِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ إِنْكَارُهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْمُرَادُ مِنْهُ إِبْدَالُ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ فَلَيْسَ فِي اللُّغَةِ أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ تُفِيدُ الْإِبْدَالَ، وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» : الْمُرَادُ تَمْيِيزُ خِطَابِ الْمُؤْمِنِ عَنْ خِطَابِ الْكَافِرِ بِمَزِيدِ التَّشْرِيفِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الطَّامَّاتِ، لِأَنَّ هَذَا التَّبْعِيضَ إِنْ حَصَلَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِ هَذَا الْجَوَابِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ كَانَ هَذَا الْجَوَابُ فَاسِدًا، وَأَمَّا قَوْلُ الْأَصَمِّ فَقَدْ سَبَقَ إِبْطَالُهُ، وَأَمَّا قَوْلُ الْقَاضِي فَجَوَابُهُ: أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ صَارَتْ ذُنُوبُهُ بِأَسْرِهَا مَغْفُورَةً لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» فَثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ تَعَسُّفٌ سَاقِطٌ بَلِ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ بَعْضَ ذُنُوبِهِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ وَهُوَ مَا عَدَا الْكُفْرَ، وَأَمَّا الْكُفْرُ فَهُوَ أَيْضًا مِنَ الذُّنُوبِ وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفِرُهُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ كَبَائِرَ كَافِرٍ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ بِشَرْطِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْإِيمَانِ فَبِأَنْ تَحْصُلَ هَذِهِ الْحَالَةُ لِلْمُؤْمِنِ كَانَ أَوْلَى، هَذَا مَا خَطَرَ بِالْبَالِ عَلَى سَبِيلِ الِارْتِجَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ. النوع الثَّانِي: مِمَّا وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَفِيهِ/ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى أَنَّكُمْ إِنْ آمَنْتُمْ أَخَّرَ اللَّهُ مَوْتَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَإِلَّا عَاجَلَكُمْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى يُمَتِّعَكُمْ فِي الدُّنْيَا بِالطَّيِّبَاتِ وَاللَّذَّاتِ إِلَى الْمَوْتِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الْأَعْرَافِ: 34] فكيف قال هاهنا: وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى. قُلْنَا: قَدْ تَكَلَّمْنَا فِي هَذِهِ المسألة فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الْأَنْعَامِ: 2] ثُمَّ حَكَى تَعَالَى أَنَّ الرُّسُلَ لَمَّا ذَكَرُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِأُولَئِكَ الْكُفَّارِ قَالُوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أنوع مِنَ الشُّبَهِ: فَالشُّبْهَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْأَشْخَاصَ الْإِنْسَانِيَّةَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَبْلُغَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ تِلْكَ الْأَشْخَاصِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُطَّلِعًا عَلَى الْغَيْبِ مُخَالِطًا لِزُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْبَاقُونَ يَكُونُونَ غَافِلِينَ عَنْ كُلِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَيْضًا كَانُوا يَقُولُونَ: إِنْ كُنْتَ قَدْ فَارَقْتَنَا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْعَالِيَةِ الْإِلَهِيَّةِ الشَّرِيفَةِ، وَجَبَ أَنْ تُفَارِقَنَا فِي الْأَحْوَالِ الْخَسِيسَةِ، وَفِي الْحَاجَةِ إِلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْحَدَثِ وَالْوِقَاعِ، وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ هِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا. وَالشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: التَّمَسُّكُ بِطَرِيقَةِ التَّقْلِيدِ، وَهِيَ أَنَّهُمْ وَجَدُوا آبَاءَهُمْ وَعُلَمَاءَهُمْ وَكُبَرَاءَهُمْ مُطْبِقِينَ مُتَّفِقِينَ عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. قَالُوا وَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أُولَئِكَ الْقُدَمَاءَ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَقُوَّةِ خَوَاطِرِهِمْ لَمْ يَعْرِفُوا بُطْلَانَ هَذَا الدِّينِ، وَأَنَّ الرَّجُلَ الْوَاحِدَ عَرَفَ فَسَادَهُ وَوَقَفَ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَالْعَوَامُّ رُبَّمَا زَادُوا فِي هَذَا الْبَابِ كَلَامًا آخَرَ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ الْعَالِمَ إِذَا بَيَّنَ ضَعْفَ كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ قَالُوا لَهُ إِنَّ كَلَامَكَ إِنَّمَا يَظْهَرُ صِحَّتُهُ لَوْ كَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ حَاضِرِينَ، أَمَّا الْمُنَاظَرَةُ مَعَ الْمَيِّتِ فَسَهْلَةٌ، فَهَذَا كَلَامٌ يَذْكُرُهُ الْحَمْقَى وَالرَّعَاعُ وَأُولَئِكَ الْكُفَّارُ أَيْضًا ذَكَرُوهُ، وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ هِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 11 إلى 12]

وَالشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ قَالُوا الْمُعْجِزُ لَا يَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ أَصْلًا، وَإِنْ كَانُوا سَلَّمُوا عَلَى أَنَّ الْمُعْجِزَ يَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ أُولَئِكَ الرُّسُلُ طَعَنُوا فِيهِ وَزَعَمُوا أَنَّهَا أُمُورٌ مُعْتَادَةٌ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْمُعْجِزَاتِ الْخَارِجَةِ عَنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، وَإِلَى هَذَا النوع مِنَ الشُّبْهَةِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ فَهَذَا تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ بِحَسَبِ الوسع والله أعلم. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 11 الى 12] قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ شُبُهَاتِهِمْ فِي الطَّعْنِ فِي النُّبُوَّةِ، حَكَى عَنِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ جَوَابَهُمْ عَنْهَا. أَمَّا الشُّبْهَةُ الْأُولَى: وَهِيَ قَوْلُهُمْ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَجَوَابُهُ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ سَلَّمُوا أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، لَكِنَّهُمْ بَيَّنُوا أَنَّ التَّمَاثُلَ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ لَا يَمْنَعُ مِنَ اخْتِصَاصِ بَعْضِ الْبَشَرِ بِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ لِأَنَّ هَذَا الْمَنْصِبَ مَنْصِبٌ يَمُنُّ اللَّهُ بِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ فِيهِ بَحْثٌ شَرِيفٌ دَقِيقٌ، وَهُوَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ حُكَمَاءِ الْإِسْلَامِ قَالُوا: إِنَّ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ وَبَدَنِهِ مَخْصُوصًا بِخَوَاصَّ شَرِيفَةٍ عُلْوِيَّةٍ قُدُسِيَّةٍ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ عَقْلًا حُصُولُ صِفَةِ النُّبُوَّةِ لَهُ. وَأَمَّا الظَّاهِرِيُّونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ حُصُولَ النُّبُوَّةِ عَطِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَهَبُهَا لِكُلِّ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ حُصُولُهَا عَلَى امْتِيَازِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ عَنْ سَائِرِ النَّاسِ بِمَزِيدِ إِشْرَاقٍ نَفْسَانِيٍّ وَقُوَّةٍ قُدُسِيَّةٍ، وَهَؤُلَاءِ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ حُصُولَ النُّبُوَّةِ لَيْسَ إِلَّا بِمَحْضِ الْمِنَّةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْعَطِيَّةِ مِنْهُ، وَالْكَلَامُ مِنْ هَذَا الْبَابِ غَامِضٌ غَائِصٌ دَقِيقٌ، وَالْأَوَّلُونَ أَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا فَضَائِلَهُمُ النَّفْسَانِيَّةَ وَالْجَسَدَانِيَّةَ تَوَاضُعًا مِنْهُمْ، وَاقْتَصَرُوا عَلَى قَوْلِهِمْ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بِالنُّبُوَّةِ، لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخُصُّهُمْ بِتِلْكَ الْكَرَامَاتِ إِلَّا وَهُمْ مَوْصُوفُونَ بِالْفَضَائِلِ الَّتِي لِأَجْلِهَا اسْتَوْجَبُوا ذَلِكَ التَّخْصِيصَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَامِ: 124] . وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ قَوْلُهُمْ: إِطْبَاقُ السَّلَفِ عَلَى ذَلِكَ الدِّينِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ حَقًّا، لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَظْهَرَ لِلرَّجُلِ الْوَاحِدِ مَا لَمْ يَظْهَرْ لِلْخَلْقِ الْعَظِيمِ، فَجَوَابُهُ: عَيْنُ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى، لِأَنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ عَطِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلٌ مِنْهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ عَبِيدِهِ بِهَذِهِ الْعَطِيَّةِ وَأَنْ يَحْرِمَ الْجَمْعَ الْعَظِيمَ مِنْهَا. وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ قَوْلُهُمْ: إِنَّا لَا نَرْضَى بِهَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَتَيْتُمْ بِهَا، وَإِنَّمَا نُرِيدُ مُعْجِزَاتٍ قَاهِرَةً قَوِيَّةً. فَالْجَوَابُ عَنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَشَرْحُ هَذَا الجواب أن

الْمُعْجِزَةَ الَّتِي جِئْنَا بِهَا وَتَمَسَّكْنَا بِهَا حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ وَبَيِّنَةٌ قَاهِرَةٌ وَدَلِيلٌ تَامٌّ، فَأَمَّا الْأَشْيَاءُ الَّتِي طَلَبْتُمُوهَا فَهِيَ أُمُورٌ زَائِدَةٌ وَالحكم فِيهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنْ خَلَقَهَا وَأَظْهَرَهَا فَلَهُ الْفَضْلُ وَإِنْ لَمْ يَخْلُقْهَا فَلَهُ الْعَدْلُ وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بَعْدَ ظُهُورِ قَدْرِ الْكِفَايَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَنَّهُمْ قَالُوا بَعْدَ ذَلِكَ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمَّا أَجَابُوا عَنْ شُبُهَاتِهِمْ بِذَلِكَ الْجَوَابِ فَالْقَوْمُ أَخَذُوا فِي السَّفَاهَةِ وَالتَّخْوِيفِ وَالْوَعِيدِ، وَعِنْدَ هَذَا قَالَتِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: لَا نَخَافُ مِنْ تَخْوِيفِكُمْ وَلَا نَلْتَفِتُ إِلَى تَهْدِيدِكُمْ فَإِنَّ تَوَكُّلَنَا عَلَى اللَّهِ وَاعْتِمَادَنَا عَلَى فَضْلِ اللَّهِ وَلَعَلَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَانَ قَدْ أَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنَّ أُولَئِكَ الْكَفَرَةَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِيصَالِ الشَّرِّ وَالْآفَةِ إِلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَصَلَ هَذَا الْوَحْيُ، فَلَا يَبْعُدُ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَلْتَفِتُوا إِلَى سَفَاهَتِهِمْ لَمَّا أَنْ أَرْوَاحُهُمْ كَانَتْ مُشْرِقَةً بِالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ مُشْرِقَةً بِأَضْوَاءِ عَالَمِ الْغَيْبِ وَالرُّوحُ مَتَّى كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَقَلَّمَا يُبَالِي بِالْأَحْوَالِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَقَلَّمَا يُقِيمُ لَهَا وَزْنًا فِي حَالَتَيِ السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَطَوْرَيِ الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ تَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ وَعَوَّلُوا عَلَى فَضْلِ اللَّهِ وَقَطَعُوا أَطْمَاعَهُمْ عَمَّا سِوَى اللَّهِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونا يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَصَّنَا بِهَذِهِ الدَّرَجَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ الرَّبَّانِيَّةِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِنَا أَنْ لَا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ، بَلِ اللَّائِقُ بِنَا أَنْ لَا نَتَوَكَّلَ إِلَّا عَلَيْهِ وَلَا نُعَوِّلَ فِي تَحْصِيلِ الْمُهِمَّاتِ إِلَّا عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ فَازَ بِشَرَفِ الْعُبُودِيَّةِ وَوَصَلَ إِلَى مَكَانِ الْإِخْلَاصِ وَالْمُكَاشَفَةِ يَقْبُحُ بِهِ أَنْ يَرْجِعَ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ سَوَاءً كَانَ مَلِكًا لَهُ أَوْ مَلَكًا أَوْ رُوحًا أَوْ جِسْمًا، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْصِمُ أَوْلِيَاءَهُ الْمُخْلِصِينَ فِي عُبُودِيَّتِهِ مِنْ كَيْدِ أعدائهم ومكرهم، ثم قالوا: وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونا فَإِنَّ الصَّبْرَ مِفْتَاحُ الْفَرَجِ، وَمَطْلَعُ الْخَيْرَاتِ، وَالْحَقُّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِيرَ غَالِبًا قَاهِرًا، وَالْبَاطِلُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِيرَ مَغْلُوبًا مَقْهُورًا، ثُمَّ أَعَادُوا قَوْلَهُمْ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُمْ أَمَرُوا أَنْفُسَهُمْ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ/ وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ثُمَّ لَمَّا فَرَغُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَمَرُوا أَتْبَاعَهُمْ بِذَلِكَ وَقَالُوا: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآمِرَ بِالْخَيْرِ لَا يُؤَثِّرُ قَوْلُهُ إِلَّا إِذَا أَتَى بِذَلِكَ الْخَيْرِ أَوَّلًا، وَرَأَيْتُ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصْلًا حَسَنًا وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَاقِصًا أَوْ كَامِلًا أَوْ خَالِيًا عَنِ الْوَصْفَيْنِ، أَمَّا النَّاقِصُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَاقِصًا فِي ذَاتِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يَسْعَى فِي تَنْقِيصِ حَالِ غَيْرِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَاقِصًا وَيَكُونَ مَعَ ذَلِكَ سَاعِيًا فِي تَنْقِيصِ حَالِ الْغَيْرِ، فَالْأَوَّلُ: هُوَ الضَّالُّ، وَالثَّانِي: هُوَ الضَّالُّ الْمُضِلُّ، وَأَمَّا الْكَامِلُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَامِلًا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَكْمِيلِ الْغَيْرِ وَهُمُ الْأَوْلِيَاءُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَامِلًا وَيَقْدِرُ عَلَى تَكْمِيلِ النَّاقِصِينَ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «عُلَمَاءُ أُمَّتِي كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ» وَلَمَّا كَانَتْ مَرَاتِبُ النُّقْصَانِ وَالْكَمَالِ وَمَرَاتِبُ الْإِكْمَالِ وَالْإِضْلَالِ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ بِحَسَبِ الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، لَا جَرَمَ كَانَتْ مَرَاتِبُ الْوِلَايَةِ وَالْحَيَاةِ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ بِحَسَبِ الْكَمَالِ وَالنُّقْصَانِ، فَالْوَلِيُّ هُوَ الْإِنْسَانُ الْكَامِلُ الَّذِي لَا يَقْوَى عَلَى التَّكْمِيلِ، وَالنَّبِيُّ هُوَ الْإِنْسَانُ الْكَامِلُ الْمُكَمِّلُ، ثُمَّ قَدْ تَكُونُ قُوَّتُهُ الرُّوحَانِيَّةُ النَّفْسَانِيَّةُ وَافِيَةً بِتَكْمِيلِ إِنْسَانَيْنِ نَاقِصَيْنِ وَقَدْ تَكُونُ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ فَيَفِي بِتَكْمِيلِ عَشَرَةٍ وَمِائَةٍ وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْقُوَّةُ قَاهِرَةً قَوِيَّةً تُؤَثِّرُ تَأْثِيرَ الشَّمْسِ في العالم فيقلب أرواح أكثر أهل العلم مِنْ مَقَامِ الْجَهْلِ إِلَى مَقَامِ الْمَعْرِفَةِ وَمِنْ طَلَبِ الدُّنْيَا إِلَى طَلَبِ الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ مِثْلُ رُوحِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ وَقْتَ ظُهُورِهِ كَانَ الْعَالَمُ مَمْلُوءًا مِنَ الْيَهُودِ وَأَكْثَرُهُمْ كَانُوا مُشَبِّهَةً وَمِنَ النَّصَارَى وَهُمْ حُلُولِيَّةٌ وَمِنَ الْمَجُوسِ وَقُبْحُ مَذَاهِبِهِمْ ظَاهِرٌ وَمِنْ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ وَسُخْفُ دِينِهِمْ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى بَيَانٍ فَلَمَّا ظَهَرَتْ دَعْوَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرَتْ قُوَّةُ رُوحِهِ فِي الْأَرْوَاحِ فَقَلَبَ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعَالَمِ مِنَ الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَمِنَ التَّجْسِيمِ إِلَى

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 13 إلى 17]

التَّنْزِيهِ، وَمِنَ الِاسْتِغْرَاقِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا إِلَى التَّوَجُّهِ إِلَى عَالَمِ الْآخِرَةِ، فَمِنْ هَذَا الْمَقَامِ يَنْكَشِفُ لِلْإِنْسَانِ مَقَامُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانَتْ حَاصِلَةً لَهُمْ مِنْ كَمَالَاتِ نُفُوسِهِمْ، وَقَوْلُهُمْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ، إِشَارَةٌ إِلَى تَأْثِيرِ أَرْوَاحِهِمُ الْكَامِلَةِ فِي تَكْمِيلِ الْأَرْوَاحِ النَّاقِصَةِ فَهَذِهِ أَسْرَارٌ عَالِيَةٌ مَخْزُونَةٌ فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، فَمَنْ نَظَرَ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ وَكَانَ غَافِلًا عَنْهَا كَانَ مَحْرُومًا مِنْ أَسْرَارِ عُلُومِ الْقُرْآنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ سَائِرَ الْمُعْجِزَاتِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَوَكَّلُوا فِي حُصُولِهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَيْهَا، فَإِنْ شَاءَ أَظْهَرَهَا وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُظْهِرْهَا. وَأما قوله فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْأَمْرُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِي دَفْعِ شَرِّ النَّاسِ الْكُفَّارِ وَسَفَاهَتِهِمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالتَّكْرَارُ غَيْرُ حَاصِلٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ وَارِدٌ فِي مَوْضِعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِحَسَبِ مَقْصُودَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ، وَقِيلَ أَيْضًا: الْأَوَّلُ: ذُكِرَ لِاسْتِحْدَاثِ التَّوَكُّلِ. وَالثَّانِي: لِلسَّعْيِ في إبقائه وإدامته والله أعلم. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 13 الى 17] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، أَنَّهُمُ اكْتَفَوْا فِي دَفْعِ شُرُورِ أَعْدَائِهِمْ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى حِفْظِهِ وَحِيَاطَتِهِ، حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ بَالَغُوا فِي السَّفَاهَةِ وَقَالُوا: لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا وَالْمَعْنَى: لَيَكُونَنَّ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَا مَحَالَةَ إِمَّا إِخْرَاجُكُمْ وَإِمَّا عَوْدُكُمْ إِلَى مِلَّتِنَا. وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ أَهْلَ الْحَقِّ فِي كُلِّ زَمَانٍ يَكُونُونَ قَلِيلِينَ وَأَهْلُ الْبَاطِلِ يَكُونُونَ كَثِيرِينَ وَالظَّلَمَةُ وَالْفَسَقَةُ يَكُونُونَ مُتَعَاوِنِينَ مُتَعَاضِدِينَ، فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ قَدَرُوا عَلَى هَذِهِ السَّفَاهَةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُوهِمُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مِلَّتِهِمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حَتَّى يَعُودُوا فِيهَا. قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إنما نشأوا فِي تِلْكَ الْبِلَادِ وَكَانُوا مِنْ تِلْكَ/ الْقَبَائِلِ وَفِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَا أَظْهَرُوا الْمُخَالَفَةَ مَعَ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ، بَلْ كَانُوا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ مَعَهُمْ مِنْ غَيْرِ إِظْهَارِ مُخَالَفَةٍ فَالْقَوْمُ ظَنُّوا لِهَذَا السَّبَبِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى دِينِهِمْ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالُوا: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا.

الوجه الثَّانِي: أَنَّ هَذَا حِكَايَةُ كَلَامِ الْكُفَّارِ وَلَا يَجِبُ فِي كُلِّ مَا قَالُوهُ أَنْ يَكُونُوا صَادِقِينَ فِيهِ فَلَعَلَّهُمْ تَوَهَّمُوا ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ مَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَوَهَّمُوهُ. الوجه الثَّالِثُ: لَعَلَّ الْخِطَابَ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مَعَ الرُّسُلِ إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْخِطَابِ أَتْبَاعُهُمْ وَأَصْحَابُهُمْ وَلَا بَأْسَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى دِينِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ. الوجه الرَّابِعُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْعَوْدُ بِمَعْنَى الصَّيْرُورَةِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. الوجه الْخَامِسُ: لَعَلَّ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا قَبْلَ إِرْسَالِهِمْ عَلَى مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَلِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِمْ بِنَسْخِ تِلْكَ الْمِلَّةِ وَأَمَرَهُمْ بِشَرِيعَةٍ أُخْرَى وَبَقِيَ الْأَقْوَامُ عَلَى تِلْكَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي صَارَتْ مَنْسُوخَةً مُصِرِّينَ عَلَى سَبِيلِ الْكُفْرِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَطْلُبُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَعُودُوا إِلَى تِلْكَ الْمِلَّةِ. الوجه السَّادِسُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا، أَيْ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ قَبْلَ ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ مِنَ السُّكُوتِ عَنْ ذِكْرِ مُعَايَبَةِ دِينِنَا وَعَدَمِ التَّعَرُّضِ لَهُ بِالطَّعْنِ وَالْقَدْحِ وَعَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا ذَكَرُوا هَذَا الْكَلَامَ قَالَ تَعَالَى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ حِكَايَةٌ تَقْتَضِي إِضْمَارَ الْقَوْلِ أَوْ إِجْرَاءَ الْإِيحَاءِ مَجْرَى الْقَوْلِ لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْهُ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: لَيُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَيُسْكِنَنَّكُمْ بِالْيَاءِ اعْتِبَارًا لِأَوْحَى فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَفْظُ الْغَيْبَةِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ أَقْسَمَ زَيْدٌ لَيَخْرُجَنَّ وَلَأَخْرُجَنَّ، وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ أَرْضُ الظَّالِمِينَ وَدِيَارُهُمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا [الْأَعْرَافِ: 137] . وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ [الْأَحْزَابِ: 27] وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ آذَى جَارَهُ أَوْرَثَهُ اللَّهُ دَارَهُ» وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ فِي دَفْعِ عَدُوِّهِ كَفَاهُ اللَّهُ أَمْرَ عَدُوِّهِ. ثم قال تَعَالَى: ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ فَقَوْلُهُ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا قَضَى اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ إِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ وَإِسْكَانِ الْمُؤْمِنِينَ دِيَارَهُمْ إِثْرَ ذلك الأمر حق لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مَوْقِفِي وَهُوَ مَوْقِفُ الْحِسَابِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْقِفَ مَوْقِفُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي يَقِفُ فِيهِ عِبَادُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ [النَّازِعَاتِ: 40] وَقَوْلُهُ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَنِ: 46] / الثَّانِي: أَنَّ الْمَقَامَ مَصْدَرٌ كَالْقِيَامَةِ، يُقَالُ: قَامَ قِيَامًا وَمَقَامًا، قَالَ الْفَرَّاءُ: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ قِيَامِي عَلَيْهِ وَمُرَاقَبَتِي إِيَّاهُ كَقَوْلِهِ: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرعد: 33] . الثَّالِثُ: ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي أَيْ إِقَامَتِي عَلَى الْعَدْلِ وَالصَّوَابِ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْضِي إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْعَدْلِ وَهُوَ تَعَالَى مُقِيمٌ عَلَى الْعَدْلِ لَا يَمِيلُ عَنْهُ وَلَا يَنْحَرِفُ الْبَتَّةَ. الرَّابِعُ: ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي أَيْ مَقَامَ الْعَائِذِ عِنْدِي وَهُوَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ، الْخَامِسُ: ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي أي لم خافني، وذكر المقام هاهنا مِثْلُ مَا يُقَالُ: سَلَامُ اللَّهِ عَلَى الْمَجْلِسِ الْفُلَانِيِّ الْعَالِي وَالْمُرَادُ: سَلَامُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ فكذا هاهنا. ثم قال تَعَالَى: وَخافَ وَعِيدِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْوَعِيدُ اسْمٌ مِنْ أَوْعَدَ إِيعَادًا وَهُوَ التَّهْدِيدُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَافَ مَا أَوْعَدْتُ مِنَ العذاب.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلًا قَوْلَهُ: ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَخافَ وَعِيدِ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مُغَايِرًا لِلْخَوْفِ مِنْ وَعِيدِ اللَّهِ، وَنَظِيرُهُ: أَنَّ حُبَّ اللَّهِ تَعَالَى مُغَايِرٌ لِحُبِّ ثَوَابِ اللَّهِ، وَهَذَا مَقَامٌ شَرِيفٌ عَالٍ فِي أَسْرَارِ الْحِكْمَةِ وَالتَّصْدِيقِ. ثم قال: وَاسْتَفْتَحُوا وفيه مسألتان: المسألة الأولى: للاستفتاح هاهنا مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: طَلَبُ الْفَتْحِ بِالنُّصْرَةِ، فَقَوْلُهُ: وَاسْتَفْتَحُوا أَيْ وَاسْتَنْصَرُوا اللَّهَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الْأَنْفَالِ: 19] . وَالثَّانِي: الْفَتْحُ الحكم وَالْقَضَاءُ، فَقَوْلُ رَبِّنَا: وَاسْتَفْتَحُوا أَيْ وَاسْتَحْكَمُوا اللَّهَ وَسَأَلُوهُ الْقَضَاءَ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْفُتَاحَةِ وَهِيَ الْحُكُومَةُ كَقَوْلِهِ: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الْأَعْرَافِ: 89] . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: كِلَا الْقَوْلَيْنِ ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ. أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالْمُسْتَفْتِحُونَ هُمُ الرُّسُلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمُ اسْتَنْصَرُوا اللَّهَ وَدَعَوْا عَلَى قَوْمِهِمْ بِالْعَذَابِ لما أيسوا من إيمانهم: قالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نُوحٍ: 26] وَقَالَ مُوسَى: رَبَّنَا اطْمِسْ [يُونُسَ: 88] الْآيَةَ. وَقَالَ لُوطٌ: رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: 30] وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ: وَهُوَ طَلَبُ الْحِكْمَةِ وَالْقَضَاءِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَفْتِحُونَ هُمُ الْأُمَمَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الرُّسُلُ صَادِقِينَ فَعَذِّبْنَا، وَمِنْهُ قَوْلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الْأَنْفَالِ: 32] . وَكَقَوْلِ آخَرِينَ ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [العنكبوت: 29] . المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ: وَاسْتَفْتَحُوا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ وَقُرِئَ وَاسْتَفْتِحُوا بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَعَطَفَهُ عَلَى قَوْلِهِ: لَنُهْلِكَنَّ أَيْ أَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: لَنُهْلِكَنَّ وَقَالَ لَهُمُ اسْتَفْتَحُوا. ثم قال تَعَالَى: وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: إِنْ قُلْنَا: الْمُسْتَفْتِحُونَ هُمُ الرُّسُلُ، كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ الرُّسُلَ اسْتَفْتَحُوا فَنُصِرُوا وَظَفِرُوا بِمَقْصُودِهِمْ وَفَازُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَهُمْ قَوْمُهُمْ، وَإِنْ قُلْنَا: الْمُسْتَفْتِحُونَ هُمُ الْكَفَرَةُ، فَكَانَ الْمَعْنَى: أَنَّ الْكُفَّارَ اسْتَفْتَحُوا عَلَى الرُّسُلِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالرُّسُلَ عَلَى الْبَاطِلِ وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْهُمْ وَمَا أَفْلَحَ بِسَبَبِ اسْتِفْتَاحِهِ عَلَى الرسل. المسألة الثانية: الجبار هاهنا المتكبر على طاعة الله تعالى وَعِبَادَتِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا [مَرْيَمَ: 14] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَنِ الْأَحْمَرِ: يُقَالُ فِيهِ جَبْرِيَّةٌ وَجَبَرُوَّةٌ وَجَبَرُوتٌ وَجَبُّورَةٌ، وَحَكَى الزَّجَّاجُ: الْجِبِرِيَّةُ وَالْجِبِرُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْبَاءِ وَالتَّجْبَارُ وَالْجِبْرِيَاءُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَهِيَ ثَمَانِ لُغَاتٍ فِي مَصْدَرِ الْجَبَّارِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ امْرَأَةً حَضَرَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهَا أَمْرًا فَأَبَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا جَبَّارَةٌ» أَيْ مُسْتَكْبِرَةٌ، وَأَمَّا الْعَنِيدُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي اشْتِقَاقِهِ، قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الْعُنُودُ الْخِلَافُ وَالتَّبَاعُدُ وَالتَّرْكُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَصْلُهُ مِنَ الْعِنْدِ وَهُوَ النَّاحِيَةُ يُقَالُ: فُلَانٌ يَمْشِي عِنْدًا، أَيْ نَاحِيَةً، فَمَعْنَى عَانَدَ وَعَنَدَ. أَخَذَ فِي نَاحِيَةٍ مُعْرِضًا، وَعَانَدَ فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا جَانَبَهُ وَكَانَ مِنْهُ عَلَى نَاحِيَةٍ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: كَوْنُهُ جَبَّارًا مُتَكَبِّرًا إِشَارَةٌ إِلَى الْخُلُقِ النَّفْسَانِيِّ وَكَوْنُهُ عَنِيدًا إِشَارَةٌ إِلَى الْأَثَرِ الصَّادِرِ عَنْ ذَلِكَ الْخُلُقِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُجَانِبًا عَنِ الْحَقِّ مُنْحَرِفًا عَنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي يَكُونُ خُلُقُهُ هُوَ التَّجَبُّرَ وَالتَّكَبُّرَ وَفِعْلُهُ هُوَ الْعُنُودَ وَهُوَ الِانْحِرَافُ عَنِ الْحَقِّ وَالصِّدْقِ، كَانَ خَائِبًا عَنْ كُلِّ الْخَيْرَاتِ خَاسِرًا عَنْ جَمِيعِ أَقْسَامِ السَّعَادَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْخَيْبَةِ وَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ جَبَّارًا عَنِيدًا، وَصَفَ كَيْفِيَّةَ عَذَابِهِ بِأُمُورٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ: أَمَامَهُ جَهَنَّمُ، فَكَيْفَ أَطْلَقَ لَفْظَ الْوَرَاءِ عَلَى الْقُدَّامِ وَالْأَمَامِ؟ وَأَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ «وَرَاءَ» اسْمٌ لِمَا يُوارَى عَنْكَ، وَقُدَّامَ وَخَلْفَ مُتَوَارٍ عَنْكَ، فَصَحَّ إِطْلَاقُ لَفْظِ «وَرَاءَ» عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. قَالَ الشَّاعِرُ: عَسَى الْكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتُ فِيهِ ... يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبُ وَيُقَالُ أَيْضًا: الْمَوْتُ وَرَاءَ كُلِّ أَحَدٍ. الثَّانِي: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ السِّكِّيتِ: الْوَرَاءُ مِنَ الْأَضْدَادِ يَقَعُ عَلَى الْخَلْفِ وَالْقُدَّامِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ خَلْفًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْقَلِبَ قُدَّامًا وَبِالْعَكْسِ، فَلَا جَرَمَ جَازَ وُقُوعُ لَفْظِ الْوَرَاءِ عَلَى الْقُدَّامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ [الْكَهْفِ: 79] أَيْ أَمَامَهُمْ، / وَيُقَالُ: الْمَوْتُ مِنْ وَرَاءِ الْإِنْسَانِ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ «وَرَاءَ» بِمَعْنَى بَعْدَ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ أَيْ وَلَيْسَ بَعْدَ اللَّهِ مَذْهَبٌ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْخَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. ثم قال: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ أي ومن بعده الْخَيْبَةِ يَدْخُلُ جَهَنَّمَ. النوع الثَّانِي: مِمَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَحْوَالِ هَذَا الْكَافِرِ قَوْلُهُ: وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: عَلَامَ عَطَفَ وَيُسْقى. الْجَوَابُ: عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ. السُّؤَالُ الثَّانِي: عَذَابُ أَهْلِ النَّارِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، فَلِمَ خَصَّ هَذِهِ الْحَالَةَ بِالذِّكْرِ؟ الْجَوَابُ: يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْحَالَةُ أَشَدَّ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ فَخَصَّصَ بِالذِّكْرِ مَعَ قَوْلِهِ: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا وَجْهُ قَوْلِهِ: مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ. الْجَوَابُ: أَنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَيُسْقى مِنْ ماءٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا ذَلِكَ الْمَاءُ فَقَالَ: صَدِيدٍ وَالصَّدِيدُ مَا يَسِيلُ جُلُودِ أَهْلِ النَّارِ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ كَالصَّدِيدِ. وَذَلِكَ بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَهَنَّمَ مَا يُشْبِهُ الصَّدِيدَ فِي النَّتْنِ وَالْغِلَظِ وَالْقَذَارَةِ، وَهُوَ أَيْضًا يَكُونُ فِي نَفْسِهِ صَدِيدًا، لِأَنَّ كَرَاهَتَهُ تَصُدُّ

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 إلى 20]

عَنْ تَنَاوُلِهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [مُحَمَّدٍ: 15] . وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ [الْكَهْفِ: 29] . السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا مَعْنَى يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ. الْجَوَابُ: التَّجَرُّعُ تَنَاوُلُ الْمَشْرُوبِ جُرْعَةً جُرْعَةً عَلَى الِاسْتِمْرَارِ، وَيُقَالُ: سَاغَ الشَّرَابُ فِي الْحَلْقِ يَسُوغُ سَوْغًا وَأَسَاغَهُ إِسَاغَةً. وَاعْلَمْ أَنَّ (يَكَادُ) فِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ نَفْيَهُ إِثْبَاتٌ، وَإِثْبَاتَهُ نَفْيٌ، فَقَوْلُهُ: وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ أَيْ وَيُسِيغُهُ بَعْدَ إِبْطَاءٍ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: مَا كِدْتُ أَقُومُ، أَيْ قُمْتُ بَعْدَ إِبْطَاءٍ قَالَ تَعَالَى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [الْبَقَرَةِ: 71] يَعْنِي فَعَلُوا بَعْدَ إِبْطَاءٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى حُصُولِ الْإِسَاغَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الْحَجِّ: 20] وَلَا يَحْصُلُ الصَّهْرُ إِلَّا بَعْدَ الْإِسَاغَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: يَتَجَرَّعُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَسَاغُوا الشَّيْءَ بَعْدَ الشَّيْءِ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ بَعْدَهُ إِنَّهُ يُسِيغُهُ الْبَتَّةَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أن كاد للمقاربة فقول: لا يَكادُ لِنَفْيِ الْمُقَارَبَةِ يَعْنِي: وَلَمْ يُقَارِبْ أَنْ يُسِيغَهُ فَكَيْفَ يَحْصُلُ الْإِسَاغَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يَكَدْ يَراها [النُّورِ: 40] أَيْ لَمْ يَقْرُبْ مِنْ رُؤْيَتِهَا فَكَيْفَ يَرَاهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ذَكَرْتُمُ الدَّلِيلَ عَلَى حُصُولِ الْإِسَاغَةِ، فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الوجه. قُلْنَا عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أن المعنى: ولا يُسِيغُ جَمِيعَهُ كَأَنَّهُ يَجْرَعُ الْبَعْضَ وَمَا سَاغَ الْجَمِيعَ. الثَّانِي: أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرْتُمْ إِنَّمَا دَلَّ عَلَى وُصُولِ بَعْضِ ذَلِكَ الشَّرَابِ إِلَى جَوْفِ الْكَافِرِ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِسَاغَةٍ، لِأَنَّ الْإِسَاغَةَ فِي اللُّغَةِ إِجْرَاءُ الشَّرَابِ فِي الْحَلْقِ بِقَبُولِ النَّفْسِ وَاسْتِطَابَةِ الْمَشْرُوبِ وَالْكَافِرُ يَتَجَرَّعُ ذَلِكَ الشَّرَابَ عَلَى كَرَاهِيَةٍ وَلَا يُسِيغُهُ، أَيْ لَا يَسْتَطِيبُهُ وَلَا يَشْرَبُهُ شُرْبًا بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وعلى هذين الوجهين يَصِحُّ حَمْلُ لَا يَكَادُ عَلَى نَفْيِ الْمُقَارَبَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. النوع الثَّالِثُ: مِمَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَعِيدِ هَذَا الْكَافِرِ قَوْلُهُ: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ [إِبْرَاهِيمَ: 17] وَالْمَعْنَى: أَنَّ مُوجِبَاتِ الْمَوْتِ أَحَاطَتْ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَمُوتُ وَقِيلَ مِنْ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ جَسَدِهِ. النوع الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْعَذَابِ الْغَلِيظِ كَوْنُهُ دَائِمًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ يَسْتَقْبِلُهُ يَتَلَقَّى عَذَابًا أَشَدَّ مِمَّا قَبْلَهُ. قَالَ الْمُفَضَّلُ: هُوَ قَطْعُ الأنفاس وحبسها في الأجساد، والله أعلم. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 الى 20] مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) [في قوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ إلى قوله هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنْوَاعَ عَذَابِهِمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ بِأَسْرِهَا تَصِيرُ ضَائِعَةً

بَاطِلَةً لَا يَنْتَفِعُونَ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ كَمَالُ خُسْرَانِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ فِي الْقِيَامَةِ/ إِلَّا الْعِقَابَ الشَّدِيدَ وَكُلُّ مَا عَمِلُوهُ فِي الدُّنْيَا وَجَدُوهُ ضَائِعًا بَاطِلًا، وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الشَّدِيدُ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: فِي ارْتِفَاعِ قَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: التَّقْدِيرُ: وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَوْ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، وَقَوْلُهُ: كَرَمادٍ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالِ سَائِلٍ يَقُولُ: كَيْفَ مَثَلُهُمْ فَقِيلَ: أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ. الثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: التَّقْدِيرُ مَثَلُ أَعْمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ كَرَمَادٍ فَحَذَفَ الْمُضَافَ اعْتِمَادًا عَلَى ذِكْرِهِ بَعْدَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَعْمالُهُمْ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السَّجْدَةِ: 7] أَيْ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزُّمَرِ: 60] الْمَعْنَى تَرَى وُجُوهَ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ مُسْوَدَّةً. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ صِفَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ، كَقَوْلِكَ صِفَةُ زَيْدٍ عِرْضُهُ مَصُونٌ، وَمَالُهُ مَبْذُولٌ. الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُهُمْ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالتَّقْدِيرُ: مَثَلُ أَعْمَالِهِمْ وَقَوْلُهُ: كَرَمادٍ هُوَ الْخَبَرُ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمَثَلُ صِلَةً وَتَقْدِيرُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ. المسألة الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ هَذَا الْمَثَلِ وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ، هُوَ أَنَّ الرِّيحَ الْعَاصِفَ تُطِيرُ الرَّمَادَ وَتُفَرِّقُ أَجْزَاءَهُ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِذَلِكَ الرَّمَادِ أَثَرٌ وَلَا خَبَرٌ، فكذا هاهنا أَنَّ كُفْرَهُمْ أَبْطَلَ أَعْمَالَهُمْ وَأَحْبَطَهَا بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مَعَهُمْ خَبَرٌ وَلَا أَثَرٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ عَلَى وُجُوهٍ: الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا مَا عَمِلُوهُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ كَالصَّدَقَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَإِطْعَامِ الْجَائِعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مُحْبَطَةً بَاطِلَةً بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَلَوْلَا كُفْرُهُمْ لَانْتَفَعُوا بِهَا. وَالوجه الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ عِبَادَتُهُمْ لِلْأَصْنَامِ وَمَا تَكَلَّفُوهُ مِنْ كُفْرِهِمُ الَّذِي ظَنُّوهُ إِيمَانًا وَطَرِيقًا إِلَى الْخَلَاصِ، وَالوجه فِي خُسْرَانِهِمْ أَنَّهُمْ أَتْعَبُوا أَبْدَانَهُمْ فِيهَا الدَّهْرَ الطَّوِيلَ لِكَيْ يَنْتَفِعُوا بِهَا فَصَارَتْ وَبَالًا عَلَيْهِمْ. وَالوجه الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ كِلَا الْقِسْمَيْنِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوُا الْأَعْمَالَ الَّتِي كَانَتْ فِي أَنْفُسِهَا خَيْرَاتٍ قَدْ بَطَلَتْ، وَالْأَعْمَالَ الَّتِي ظَنُّوهَا خَيْرَاتٍ وَأَفْنَوْا فِيهَا أَعْمَارَهُمْ قَدْ بَطَلَتْ أَيْضًا وَصَارَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْمُوجِبَاتِ لِعَذَابِهِمْ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَعْظُمُ حَسْرَتُهُمْ وَنَدَامَتُهُمْ فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ. المسألة الثَّالِثَةُ: قُرِئَ الرِّيَاحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ جَعَلَ الْعَصْفَ لِلْيَوْمِ، وَهُوَ لِمَا فِيهِ وَهُوَ الرِّيحُ أَوِ الرِّيَاحُ كَقَوْلِكَ: يَوْمٌ مَاطِرٌ وَلَيْلَةٌ سَاكِرَةٌ، وَإِنَّمَا السُّكُورُ لِرِيحِهَا قَالَ الْفَرَّاءُ: وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ/ فِي يَوْمٍ ذِي عُصُوفٍ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: فِي يَوْمٍ عَاصِفِ الرِّيحِ فَحَذَفَ ذِكْرَ الرِّيحِ لِكَوْنِهِ مَذْكُورًا قَبْلَ ذَلِكَ، وَقُرِئَ فِي يَوْمِ عَاصِفٍ بِالْإِضَافَةِ. المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ أَيْ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ مُنْتَفَعٍ بِهِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ضَاعَ بِالْكُلِّيَّةِ وَفَسَدَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى كَوْنِ الْعَبْدِ مُكْتَسِبًا لِأَفْعَالِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَمَّمَ هَذَا الْمِثَالَ قَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَجْهُ النَّظْمِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ تَصِيرُ بَاطِلَةً ضَائِعَةً، بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْبُطْلَانَ وَالْإِحْبَاطَ إِنَّمَا جَاءَ بِسَبَبٍ صَدَرَ مِنْهُمْ وَهُوَ كُفْرُهُمْ بِاللَّهِ وَإِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُبْطِلُ أَعْمَالَ

[سورة إبراهيم (14) : آية 21]

الْمُخْلِصِينَ ابْتِدَاءً، وَكَيْفَ يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ تَعَالَى مَا خَلَقَ كُلَّ هَذَا الْعَالَمِ إِلَّا لِدَاعِيَةِ الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى اسم الفاعل على أنه خبر أن والسموات وَالْأَرْضُ عَلَى الْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِ: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم: 10] . فالِقُ الْإِصْباحِ [الْأَنْعَامِ: 95] . وجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً [الْأَنْعَامِ: 96] والباقون خَلَقَ على فعل الماضي: السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالنَّصْبِ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: بِالْحَقِّ نَظِيرٌ لِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ [يُونُسَ: 5] وَلِقَوْلِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا [آلِ عِمْرَانَ: 191] وَلِقَوْلِهِ فِي ص: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [ص: 27] أَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَهُوَ دَلَالَتُهُمَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَيَقُولُونَ: إِلَّا بِالْحَقِّ، أَيْ لَمْ يَخْلُقْ ذَلِكَ عَبَثًا بَلْ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى خلق السموات وَالْأَرْضِ بِالْحَقِّ، فَبِأَنْ يَقْدِرَ عَلَى إِفْنَاءِ قَوْمٍ وَإِمَاتَتِهِمْ وَعَلَى إِيجَادِ آخَرِينَ وَإِحْيَائِهِمْ كَانَ أَوْلَى، لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْأَصْعَبِ الْأَعْظَمِ بِأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْأَسْهَلِ الْأَضْعَفِ أَوْلَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا الْخِطَابُ مَعَ كُفَّارِ مَكَّةَ، يُرِيدُ أُمِيتُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْكُفَّارِ، وَأَخْلُقُ قَوْمًا خَيْرًا مِنْكُمْ وَأَطْوَعَ مِنْكُمْ. ثم قال: وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أَيْ مُمْتَنِعٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى إِفْنَاءِ كُلِّ الْعَالَمِ وَإِيجَادِهِ بِأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِفْنَاءِ أَشْخَاصٍ مَخْصُوصِينَ وإيجاده أمثالهم أولى وأحرى، والله أعلم. [سورة إبراهيم (14) : آية 21] وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَصْنَافَ عَذَابِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ تَصِيرُ مُحْبَطَةً بَاطِلَةً، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَيْفِيَّةَ خَجَالَتِهِمْ عِنْدَ تَمَسُّكِ أَتْبَاعِهِمْ وَكَيْفِيَّةَ افْتِضَاحِهِمْ عِنْدَهُمْ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْعَذَابِ الرُّوحَانِيِّ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ الْفَضِيحَةِ وَالْخَجَالَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: بَرَزَ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ ظَهَرَ بَعْدَ الْخَفَاءِ. وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْمَكَانِ الْوَاسِعِ: الْبَرَازُ لِظُهُورِهِ، وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الْكَهْفِ: 47] أَيْ ظَاهِرَةً لَا يَسْتُرُهَا شَيْءٌ، وَامْرَأَةٌ بَرْزَةٌ إِذَا كَانَتْ تَظْهَرُ لِلنَّاسِ. وَيُقَالُ: بَرَزَ فُلَانٌ عَلَى أَقْرَانِهِ إِذَا فَاقَهُمْ وَسَبَقَهُمْ، وَأَصْلُهُ فِي الْخَيْلِ إِذَا سَبَقَ أَحَدُهَا. قِيلَ: بَرَزَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ غِمَارِهَا فَظَهَرَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فنقول: هاهنا أَبْحَاثٌ: البحث الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَبَرَزُوا وَرَدَ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الِاسْتِقْبَالَ، لِأَنَّ كُلَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى

عَنْهُ فَهُوَ صِدْقٌ وَحَقٌّ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ وَدَخَلَ فِي الْوُجُودِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَافِ: 50] . البحث الثَّانِي: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْبُرُوزَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الظُّهُورِ بَعْدَ الِاسْتِتَارِ وَهَذَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَتِرُونَ مِنَ الْعُيُونِ عِنْدَ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ وَيَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ خَافٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ انْكَشَفُوا لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ وَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ فَبَرَزُوا لِحِسَابِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ. الثَّالِثُ: وَهُوَ تَأْوِيلُ الْحُكَمَاءِ أَنَّ النَّفْسَ إِذَا فَارَقَتِ الْجَسَدَ فَكَأَنَّهُ زَالَ الْغِطَاءُ وَالْوِطَاءُ وَبَقِيَتْ مُتَجَرِّدَةً بِذَاتِهَا عَارِيَةً عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهَا وَذَلِكَ هُوَ الْبُرُوزُ لِلَّهِ. البحث الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ قَوْلُهُ: وَبَرَزُوا لِلَّهِ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الآية السابقة: وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ: [إبراهيم: 17] . وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَبَرَزُوا لِلَّهِ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ [الطَّارِقِ: 9، 10] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَوَاطِنَ تَظْهَرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَالْأَحْوَالَ الْكَامِنَةَ تَنْكَشِفُ فَإِنْ كَانُوا مِنَ السُّعَدَاءِ بَرَزُوا لِلْحَاكِمِ الْحَكِيمِ بِصِفَاتِهِمُ الْقُدُسِيَّةِ، وَأَحْوَالِهِمُ الْعُلْوِيَّةِ، وَوُجُوهِهِمُ الْمُشْرِقَةِ، وَأَرْوَاحِهِمُ الصَّافِيَةِ الْمُسْتَنِيرَةِ فَيَتَجَلَّى لَهَا نُورُ الْجَلَالِ، وَيَعْظُمُ فِيهَا إِشْرَاقُ عَالَمِ الْقُدُسِ، فَمَا أَجَلَّ تِلْكَ الْأَحْوَالَ وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْأَشْقِيَاءِ بَرَزُوا لِمَوْقِفِ الْعَظَمَةِ، وَمَنَازِلِ الْكِبْرِيَاءِ ذَلِيلِينَ مَهِينِينَ خَاضِعِينَ خَاشِعِينَ وَاقِعِينَ فِي خِزْيِ الْخَجَالَةِ، وَمَذَلَّةِ الْفَضِيحَةِ، وَمَوْقِفِ الْمَهَانَةِ وَالْفَزَعِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا. ثُمَّ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الضُّعَفَاءَ يَقُولُونَ لِلرُّؤَسَاءِ: هَلْ تَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِ عَذَابِ اللَّهِ عَنَّا؟ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِنَّمَا اتَّبَعْنَاكُمْ لِهَذَا الْيَوْمِ، ثُمَّ إِنَّ الرُّؤَسَاءَ يَعْتَرِفُونَ بِالْخِزْيِ وَالْعَجْزِ وَالذُّلِّ. قَالُوا: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ اعْتِرَافَ الرُّؤَسَاءِ وَالسَّادَةِ وَالْمَتْبُوعِينَ بِمِثْلِ هَذَا الْعَجْزِ وَالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ يُوجِبُ الْخَجَالَةَ الْعَظِيمَةَ وَالْخِزْيَ الْكَامِلَ التَّامَّ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ مَنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ: اسْتِيلَاءَ عَذَابِ الْفَضِيحَةِ وَالْخَجَالَةِ وَالْخِزْيِ عَلَيْهِمْ مَعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ سَائِرِ وُجُوهِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَالْعِقَابِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الثَّانِيَةُ: كَتَبُوا الضعفاء بِوَاوٍ قَبْلَ الْهَمْزَةِ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ كُتِبَ عَلَى لَفْظِ مَنْ يُفَخِّمُ الْأَلِفَ قَبْلَ الْهَمْزَةِ فَيُمِيلُهَا إِلَى الْوَاوِ، وَنَظِيرُهُ علماء بَنِي إِسْرَائِيلَ. المسألة الثَّالِثَةُ: الضُّعَفَاءُ الْأَتْبَاعُ وَالْعَوَامُّ، وَالَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا هُمُ السَّادَةُ وَالْكُبَرَاءُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ أَكَابِرُهُمُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً أَيْ فِي الدُّنْيَا. قَالَ الْفَرَّاءُ وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ: التَّبَعُ تَابِعٌ مِثْلُ خَادِمٍ وَخَدَمٍ وَبَاقِرٍ وَبَقَرٍ وَحَارِسٍ وَحَرَسٍ وَرَاصِدٍ وَرَصَدٍ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا سُمِّيَ بِهِ، أَيْ كُنَّا ذَوِي تَبَعٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ التَّبَعِيَّةَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْهَا التَّبَعِيَّةُ فِي الْكُفْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا التَّبَعِيَّةَ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا: فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أَيْ هَلْ يُمْكِنُكُمْ دَفْعُ عَذَابِ اللَّهِ عَنَّا. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ عَذابِ اللَّهِ وَبَيْنَهُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ. قُلْنَا: كِلَاهُمَا لِلتَّبْعِيضِ بِمَعْنَى: هَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا بَعْضَ شَيْءٍ هُوَ عَذَابُ اللَّهِ أَيْ بَعْضُ عَذَابِ اللَّهِ وَعِنْدَ هَذَا

[سورة إبراهيم (14) : آية 22]

حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ وَفِيهِ وُجُوهٌ/ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ لَوْ أَرْشَدَنَا اللَّهُ لَأَرْشَدْنَاكُمْ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا دَعَوْهُمْ إِلَى الضَّلَالِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَلَّهُمْ وَلَمْ يَهْدِهِمْ فَدَعَوْا أَتْبَاعَهُمْ إِلَى الضَّلَالِ وَلَوْ هَدَاهُمْ لَدَعَوْهُمْ إِلَى الْهُدَى قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : لَعَلَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِيهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمُنَافِقِينَ: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ [الْمُجَادَلَةِ: 18] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَا يُجَوِّزُونَ صُدُورَ الْكَذِبِ عَنْ أَهْلِ الْقِيَامَةِ فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ مُخَالِفًا لِأُصُولِ مَشَايِخِهِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ، الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَوْ كُنَّا مِنْ أَهْلِ اللُّطْفُ فَلَطَفَ بِنَا رَبُّنَا وَاهْتَدَيْنَا لَهَدَيْنَاكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي هَذَا الوجه وَزَيْفَهُ بِأَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ حَمْلُ هَذَا عَلَى اللُّطْفِ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ فَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَوْ خَلَّصَنَا اللَّهُ مِنَ الْعِقَابِ وَهَدَانَا إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ لَهَدَيْنَاكُمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْهُدَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي الْتَمَسُوهُ وَطَلَبُوهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْهِدَايَةِ هَذَا الْمَعْنَى. ثم قال: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا أَيْ مُسْتَوٍ عَلَيْنَا الْجَزَعُ وَالصَّبْرُ وَالْهَمْزَةُ وَأَمْ لِلتَّسْوِيَةِ وَنَظِيرُهُ: فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ [الطور: 16] ثم قالوا: مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ، أَيْ مَنْجًى وَمَهْرَبٍ، وَالْمَحِيصُ قَدْ يَكُونُ مَصْدَرًا كَالْمَغِيبِ وَالْمَشِيبِ، وَمَكَانًا كَالْمَبِيتِ وَالْمَضِيقِ، وَيُقَالُ حَاصَ عَنْهُ وَحَاضَ بِمَعْنًى واحد، والله أعلم. [سورة إبراهيم (14) : آية 22] وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمُنَاظَرَةَ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْأَتْبَاعِ مِنْ كَفَرَةِ الْإِنْسِ، أَرْدَفَهَا بِالْمُنَاظَرَةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَبَيْنَ أَتْبَاعِهِ مِنَ الْإِنْسِ فَقَالَ تَعَالَى: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ وَفِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ وُجُوهٌ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِذَا اسْتَقَرَّ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ، أَخَذَ أَهْلُ النَّارِ فِي لَوْمِ إِبْلِيسَ وَتَقْرِيعِهِ فَيَقُومُ فِي النَّارِ فِيمَا بَيْنَهُمْ خَطِيبًا وَيَقُولُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: قُضِيَ الْأَمْرُ لَمَّا انْقَضَتِ الْمُحَاسَبَةُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ آخِرَ أَمْرِ أَهْلِ الْقِيَامَةِ اسْتِقْرَارُ الْمُطِيعِينَ فِي الْجَنَّةِ وَاسْتِقْرَارُ الْكَافِرِينَ فِي النَّارِ، ثُمَّ يَدُومُ الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ الْفُسَّاقَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ ذَلِكَ الْوَقْتَ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تَنْقَطِعُ الْأَحْوَالُ الْمُعْتَبَرَةُ، وَلَا يَحْصُلُ بَعْدَهُ إِلَّا دَوَامُ ما حصل قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَمَّا الشَّيْطَانُ فَالْمُرَادُ بِهِ إِبْلِيسُ لِأَنَّ لَفْظَ الشَّيْطَانِ لَفْظٌ مُفْرَدٌ فَيَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ وَإِبْلِيسُ رَأْسُ الشَّيَاطِينِ وَرَئِيسُهُمْ، فَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ أَوْلَى، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا جَمَعَ

اللَّهُ الْخَلْقَ وَقَضَى بَيْنَهُمْ يَقُولُ الْكَافِرُ قَدْ وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ فَمَنْ يَشْفَعُ لَنَا مَا هُوَ إِلَّا إِبْلِيسُ هُوَ الَّذِي أَضَلَّنَا فَيَأْتُونَهُ وَيَسْأَلُونَهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ» . أما قوله: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ فَفِيهِ مَبَاحِثُ: البحث الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَهُوَ الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ فَوَفَى لَكُمْ بِمَا وَعَدَكُمْ وَوَعَدْتُكُمْ خِلَافَ ذَلِكَ فَأَخْلَفْتُكُمْ، وَتَقْرِيرُ الْكَلَامِ أَنَّ النَّفْسَ تَدْعُو إِلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَلَا تَتَصَوَّرُ كَيْفِيَّةَ السَّعَادَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ وَالْكَمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَيْهَا وَيُرَغِّبُ فِيهَا كَمَا قَالَ: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الْأَعْلَى: 17] . البحث الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَعْدَ الْحَقِّ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إلى نفسه كقوله: حَبَّ الْحَصِيدِ [ق: 9] وَمَسْجِدِ الْجَامِعِ عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ، وَالْمَعْنَى: وَعَدَكُمُ الْوَعْدَ الْحَقَّ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ يَكُونُ التَّقْدِيرُ وَعْدَ الْيَوْمِ الْحَقِّ أَوِ الْأَمْرِ الْحَقِّ أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ وَعَدَكُمُ الْحَقَّ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمَصْدَرَ تَأْكِيدًا. البحث الثَّالِثُ: فِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّقْدِيرَ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ فَصَدَقَكُمْ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَحَذَفَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ تِلْكَ الْحَالَةِ عَلَى صِدْقِ ذَلِكَ الْوَعْدِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشَاهِدُونَهَا وَلَيْسَ وَرَاءَ الْعِيَانِ بَيَانٌ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي وَعْدِ الشَّيْطَانِ الْإِخْلَافَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى الصِّدْقِ فِي وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى. الثَّانِي: أَنَّ فِي قَوْلِهِ: وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ الْوَعْدُ يقتضى مفعولا ثانيا وحذف هاهنا لِلْعِلْمِ بِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَوَعَدْتُكُمْ أَنْ لَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ وَلَا حَشْرَ وَلَا حِسَابَ. أما قَوْلِهِ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أَيْ قُدْرَةٍ وَمَكِنَةٍ وَتَسَلُّطٍ وَقَهْرٍ فَأَقْهَرَكُمْ عَلَى الْكُفْرِ/ وَالْمَعَاصِي وَأُلْجِئَكُمْ إِلَيْهَا، إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ أَيْ إِلَّا دُعَائِي إِيَّاكُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ بِوَسْوَسَتِي وَتَزْيِينِي قَالَ النَّحْوِيُّونَ: لَيْسَ الدُّعَاءُ مِنْ جِنْسِ السُّلْطَانِ فَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِمْ مَا تَحِيَّتُهُمْ إِلَّا الضَّرْبُ، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنْ دَعَوْتُكُمْ وَعِنْدِي أنه يمكن أن يقال كلمة «إلا» هاهنا اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ، لِأَنَّ قُدْرَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى حَمْلِ الْغَيْرِ عَلَى عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ تَارَةً يَكُونُ بِالْقَهْرِ وَالْقَسْرِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِتَقْوِيَةِ الدَّاعِيَةِ فِي قَلْبِهِ بِإِلْقَاءِ الْوَسَاوِسِ إِلَيْهِ، فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّسَلُّطِ، ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى تَصْرِيعِ الْإِنْسَانِ وَعَلَى تَعْوِيجِ أَعْضَائِهِ وَجَوَارِحِهِ، وَعَلَى إِزَالَةِ الْعَقْلِ عَنْهُ كَمَا يَقُولُهُ الْعَوَامُّ وَالْحَشْوِيَّةُ، ثم قال: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ يَعْنِي مَا كَانَ مِنِّي إِلَّا الدُّعَاءُ وَالْوَسْوَسَةُ، وَكُنْتُمْ سَمِعْتُمْ دَلَائِلَ اللَّهِ وَشَاهَدْتُمْ مَجِيءَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَغْتَرُّوا بِقَوْلِي وَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَيَّ فَلَمَّا رَجَّحْتُمْ قَوْلِي عَلَى الدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ كَانَ اللَّوْمُ عَلَيْكُمْ لَا عَلَيَّ فِي هَذَا الْبَابِ. وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كان الكفر والمعصية من الله تعالى لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: فَلَا تَلُومُونِي وَلَا أَنْفُسَكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ قَضَى عَلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَأَجْبَرَكُمْ عَلَيْهِ. الثَّانِي: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى تَصْرِيعِ الْإِنْسَانِ وَعَلَى تَعْوِيجِ أَعْضَائِهِ وَعَلَى إِزَالَةِ الْعَقْلِ عَنْهُ كَمَا تَقُولُ الْحَشْوِيَّةُ وَالْعَوَامُّ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجُوزُ ذَمُّهُ وَلَوْمُهُ وَعِقَابُهُ بِسَبَبِ فِعْلِ الْغَيْرِ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِقَابُ أَوْلَادِ الْكُفَّارِ بِسَبَبِ كُفْرِ آبَائِهِمْ.

أَجَابَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ بِأَنَّ هَذَا قَوْلُ الشَّيْطَانِ فَلَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ. وَأَجَابَ الْخَصْمُ عَنْهُ: بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ بَاطِلًا لَبَيَّنَ اللَّهُ بُطْلَانَهُ وَأَظْهَرَ إِنْكَارَهُ، وَأَيْضًا فَلَا فَائِدَةَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ الْبَاطِلِ وَالْقَوْلِ الْفَاسِدِ. أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ كَلَامٌ حَقٌّ وَقَوْلَهُ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ قَوْلٌ حَقٌّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الْحِجْرِ: 42] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ الْأَصْلِيَّ هُوَ النَّفْسُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ بَيَّنَ أَنَّهُ مَا أَتَى إِلَّا بِالْوَسْوَسَةِ، فَلَوْلَا الْمَيْلُ الْحَاصِلُ بِسَبَبِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَالْوَهْمِ وَالْخَيَالِ لَمْ يَكُنْ لِوَسْوَسَتِهِ تَأْثِيرٌ الْبَتَّةَ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ الْأَصْلِيَّ هُوَ النَّفْسُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: بَيِّنُوا لَنَا حَقِيقَةَ الْوَسْوَسَةِ. قُلْنَا: الْفِعْلُ إِنَّمَا يَصْدُرُ عَنِ الْإِنْسَانِ عِنْدَ حُصُولِ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ يَتَرَتَّبُ بَعْضُهَا عَلَى الْبَعْضِ تَرْتِيبًا/ لَازِمًا طَبِيعِيًّا وَبَيَانُهُ أَنَّ أَعْضَاءَ الْإِنْسَانِ بِحُكْمِ السَّلَامَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالصَّلَاحِيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ صَالِحَةٌ لِلْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَالْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ، فَمَا لَمْ يَحْصُلْ فِي الْقَلْبِ مَيْلٌ إِلَى تَرْجِيحِ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ أَوْ بِالْعَكْسِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ صُدُورُ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ الْمَيْلُ هُوَ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ، وَالْقَصْدُ الْجَازِمُ. ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ عِلْمٍ أَوِ اعْتِقَادٍ أَوْ ظَنٍّ بِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ سَبَبٌ لِلنَّفْعِ أَوْ سَبَبٌ لِلضَّرَرِ فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ هَذَا الِاعْتِقَادُ لَمْ يَحْصُلِ الْمَيْلُ لَا إِلَى الْفِعْلِ وَلَا إِلَى التَّرْكِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَحَسَّ بِشَيْءٍ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ شُعُورُهُ بِكَوْنِهِ مُلَائِمًا لَهُ أَوْ بِكَوْنِهِ مُنَافِرًا لَهُ أَوْ بِكَوْنِهِ غَيْرَ مُلَائِمٍ وَلَا مُنَافِرٍ، فَإِنْ حَصَلَ الشُّعُورُ بِكَوْنِهِ مُلَائِمًا لَهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْمَيْلُ الْجَازِمُ إِلَى الْفِعْلِ وَإِنْ حَصَلَ الشُّعُورُ بِكَوْنِهِ مُنَافِرًا لَهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْمَيْلُ الْجَازِمُ إِلَى التَّرْكِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَا هَذَا وَلَا ذَاكَ لَمْ يَحْصُلِ الْمَيْلُ لَا إِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ وَلَا إِلَى ضِدِّهِ، بَلْ بَقِيَ الْإِنْسَانُ كَمَا كَانَ، وَعِنْدَ حُصُولِ ذَلِكَ الْمَيْلِ الْجَازِمِ تَصِيرُ الْقُدْرَةُ مَعَ ذَلِكَ الْمَيْلِ مُوجِبَةً لِلْفِعْلِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: صُدُورُ الْفِعْلِ عَنْ مَجْمُوعِ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِي الْحَاصِلِ أَمْرٌ وَاجِبٌ فَلَا يَكُونُ لِلشَّيْطَانِ مَدْخَلٌ فِيهِ وَصُدُورُ الْمَيْلِ عَنْ تَصَوُّرِ كَوْنِهِ خَيْرًا أَوْ تَصَوُّرِ كَوْنِهِ شَرًّا أَمْرٌ وَاجِبٌ فَلَا يَكُونُ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ مَدْخَلٌ وَحُصُولُ كونه خيرا أو تصورا كَوْنِهِ شَرًّا عَنْ مُطْلَقِ الشُّعُورِ بِذَاتِهِ أَمْرٌ لَازِمٌ فَلَا مَدْخَلَ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ، فَلَمْ يَبْقَ لِلشَّيْطَانِ مَدْخَلٌ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ إِلَّا فِي أَنْ يُذَكِّرَهُ شَيْئًا بِأَنْ يُلْقِيَ إِلَيْهِ حَدِيثَهُ مِثْلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَانَ غَافِلًا عَنْ صُورَةِ امْرَأَةٍ فَيُلْقِي الشَّيْطَانُ حَدِيثَهَا فِي خَاطِرِهِ فَالشَّيْطَانُ لَا قُدْرَةَ لَهُ إِلَّا فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَهُوَ عَيْنُ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي يَعْنِي مَا كَانَ مِنِّي إِلَّا مُجَرَّدُ هَذِهِ الدَّعْوَةِ فَأَمَّا بَقِيَّةُ الْمَرَاتِبِ فَمَا صَدَرَتْ مِنِّي وَمَا كَانَ لِي فِيهَا أَثَرٌ الْبَتَّةَ. بَقِيَ فِي هَذَا الْمَقَامِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ يُعْقَلُ تَمَكُّنُ الشَّيْطَانِ مِنَ النُّفُوذِ فِي دَاخِلِ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ وَإِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ إِلَيْهِ. وَالْجَوَابُ: لِلنَّاسِ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَا سِوَى اللَّهِ بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ: الْمُتَحَيِّزِ، وَالْحَالِّ في المتحيز،

وَالَّذِي لَا يَكُونُ مُتَحَيِّزًا وَلَا حَالًّا فِيهِ، وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ الْبَتَّةَ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ بِهِ بَلِ الدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ قَامَتْ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى بِالْأَرْوَاحِ فَهَذِهِ الْأَرْوَاحُ إِنْ كَانَتْ طَاهِرَةً مُقَدَّسَةً مِنْ عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ الْقُدُسِيَّةِ فَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَإِنْ كَانَتْ خَبِيثَةً دَاعِيَةً إِلَى الشُّرُورِ وَعَالَمِ الْأَجْسَادِ وَمَنَازِلِ الظُّلُمَاتِ فَهُمُ الشَّيَاطِينُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الشَّيْطَانُ لَا يَكُونُ جِسْمًا يَحْتَاجُ إِلَى الْوُلُوجِ فِي دَاخِلِ الْبَدَنِ بَلْ هُوَ جَوْهَرٌ رُوحَانِيٌّ خَبِيثُ الْفِعْلِ مَجْبُولٌ عَلَى الشَّرِّ، وَالنَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ أَيْضًا كَذَلِكَ فَلَا يَبْعُدُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِي أَنْ يُلْقِيَ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ أَنْوَاعًا مِنَ الْوَسَاوِسِ وَالْأَبَاطِيلِ إِلَى جَوْهَرِ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ احْتِمَالًا ثَانِيًا، وَهُوَ أَنَّ النُّفُوسَ النَّاطِقَةَ الْبَشَرِيَّةَ مُخْتَلِفَةٌ بِالنوع، فَهِيَ طَوَائِفُ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهَا فِي تَدْبِيرِ رُوحٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ بِعَيْنِهَا، فَنَوْعٌ مِنَ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ تَكُونُ حَسَنَةَ الْأَخْلَاقِ كَرِيمَةَ الْأَفْعَالِ مَوْصُوفَةً بِالْفَرَحِ وَالْبِشْرِ وَسُهُولَةِ الْأَمْرِ، وَهِيَ تَكُونُ مُنْتَسِبَةً إِلَى رُوحِ مُعَيَّنٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ، وَطَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْهَا تَكُونُ مَوْصُوفَةً بِالْحِدَّةِ وَالْقُوَّةِ وَالْغِلْظَةِ، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَهِيَ تَكُونُ مُنْتَسِبَةً إِلَى رُوحٍ آخَرَ مِنَ الْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ وَهَذِهِ الْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ كَالْأَوْلَادِ لِذَلِكَ الرُّوحِ السَّمَاوِيِّ وَكَالنَّتَائِجِ الْحَاصِلَةِ، وَكَالْفُرُوعِ الْمُتَفَرِّعَةِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ الرُّوحُ السَّمَاوِيُّ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى إِرْشَادَهَا إِلَى مَصَالِحِهَا، وَهُوَ الَّذِي يَخُصُّهَا بِالْإِلْهَامَاتِ حَالَتَيِ النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ. وَالْقُدَمَاءُ كَانُوا يُسَمُّونَ ذَلِكَ الرُّوحَ السَّمَاوِيَّ بِالطِّبَاعِ التَّامِّ وَلَا شَكَّ أَنَّ لِذَلِكَ الرُّوحِ السَّمَاوِيِّ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ وَالْيَنْبُوعُ شُعَبًا كَثِيرَةً وَنَتَائِجَ كَثِيرَةً وَهِيَ بِأَسْرِهَا تَكُونُ مِنْ جِنْسِ رُوحِ هَذَا الْإِنْسَانِ وَهِيَ لِأَجْلِ مُشَاكَلَتِهَا وَمُجَانَسَتِهَا يُعِينُ بَعْضُهَا بَعْضًا عَلَى الْأَعْمَالِ اللَّائِقَةِ بِهَا وَالْأَفْعَالِ الْمُنَاسِبَةِ لِطَبَائِعِهَا، ثُمَّ إِنَّهَا إِنْ كَانَتْ خَيِّرَةً طَاهِرَةً طَيِّبَةً كَانَتْ مَلَائِكَةً وَكَانَتْ تِلْكَ الْإِعَانَةُ مُسَمَّاةً بِالْإِلْهَامِ. وَإِنْ كَانَتْ شِرِّيرَةً خَبِيثَةً قَبِيحَةَ الْأَعْمَالِ كَانَتْ شَيَاطِينَ وَكَانَتْ تِلْكَ الْإِعَانَةُ مُسَمَّاةً بِالْوَسْوَسَةِ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا فِيهِ احْتِمَالًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنَّ النُّفُوسَ الْبَشَرِيَّةَ وَالْأَرْوَاحَ الْإِنْسَانِيَّةَ إِذَا فَارَقَتْ أَبْدَانَهَا قَوِيَتْ فِي تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي اكْتَسَبَتْهَا فِي تِلْكَ الْأَبْدَانِ وَكَمَلَتْ فِيهَا فَإِذَا حَدَثَتْ نَفْسٌ أُخْرَى مُشَاكِلَةٌ لِتِلْكَ النَّفْسِ الْمُفَارِقَةِ فِي بَدَنٍ مُشَاكِلٍ لِبَدَنِ تِلْكَ النَّفْسِ الْمُفَارِقَةِ حَدَثَ بَيْنَ تِلْكَ النَّفْسِ الْمُفَارِقَةِ، وَبَيْنَ هَذَا الْبَدَنِ نَوْعُ تَعَلُّقٍ بِسَبَبِ الْمُشَاكَلَةِ الْحَاصِلَةِ بَيْنَ هَذَا الْبَدَنِ وَبَيْنَ مَا كَانَ بَدَنًا لِتِلْكَ النَّفْسِ الْمُفَارِقَةِ، فَيَصِيرُ لِتِلْكَ النَّفْسِ الْمُفَارِقَةِ تَعَلُّقٌ شَدِيدٌ بِهَذَا الْبَدَنِ وَتَصِيرُ تِلْكَ النَّفْسُ الْمُفَارِقَةُ مُعَاوِنَةً لِهَذِهِ النَّفْسِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذَا الْبَدَنِ، وَمُعَاضِدَةً لَهَا عَلَى أَفْعَالِهَا وَأَحْوَالِهَا بِسَبَبِ هَذِهِ الْمُشَاكَلَةِ ثُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى فِي أَبْوَابِ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَاتِ كَانَ ذَلِكَ إِلْهَامًا وَإِنْ كَانَ فِي بَابِ الشَّرِّ كَانَ وَسْوَسَةً فَهَذِهِ وُجُوهٌ مُحْتَمَلَةٌ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ جَوَاهِرَ قُدُسِيَّةٍ مُبَرَّأَةٍ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَالتَّحَيُّزِ، وَالْقَوْلُ بِالْأَرْوَاحِ الطَّاهِرَةِ وَالْخَبِيثَةِ كَلَامٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ قُدَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُنْكِرُوا إِثْبَاتَهَا عَلَى صَاحِبِ شَرِيعَتِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَالشَّيَاطِينَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ أَجْسَامًا فَنَقُولُ: إِنَّ عَلَى/ هَذَا التَّقْدِيرِ يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا أَجْسَامٌ كَثِيفَةٌ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّهَا أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ رَكَّبَهَا تَرْكِيبًا عَجِيبًا وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مَعَ لَطَافَتِهَا لَا تَقْبَلُ التَّفَرُّقَ وَالتَّمَزُّقَ وَالْفَسَادَ وَالْبُطْلَانَ وَنُفُوذُ الْأَجْرَامِ اللَّطِيفَةِ فِي عُمْقِ الْأَجْرَامِ الْكَثِيفَةِ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الرُّوحَ الْإِنْسَانِيَّةَ جِسْمٌ لَطِيفٌ، ثُمَّ إِنَّهُ نَفَذَ فِي دَاخِلِ عُمْقِ الْبَدَنِ فَإِذَا عُقِلَ ذَلِكَ فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ نُفُوذُ أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْأَجْسَامِ اللَّطِيفَةِ فِي دَاخِلِ هَذَا الْبَدَنِ، أَلَيْسَ أَنَّ جِرْمَ النَّارِ يَسْرِي فِي جِرْمِ الْفَحَمِ، وَمَاءَ الْوَرْدِ

يَسْرِي فِي وَرَقِ الْوَرْدِ، وَدُهْنَ السِّمْسِمِ يَجْرِي في جسم السمسم فكذا هاهنا، فَظَهَرَ بِمَا قَرَّرْنَا أَنَّ الْقَوْلَ بِإِثْبَاتِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ أَمْرٌ لَا تُحِيلُهُ الْعُقُولُ وَلَا تُبْطِلُهُ الدَّلَائِلُ، وَأَنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الْإِنْكَارِ لَيْسَ إِلَّا مِنْ نَتِيجَةِ الْجَهْلِ وَقِلَّةِ الْفِطْنَةِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالشَّيَاطِينِ مُمْكِنٌ فِي الْجُمْلَةِ فَنَقُولُ: الْأَحَقُّ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْمَلَائِكَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَخْلُوقُونَ مِنَ النُّورِ، وَالشَّيَاطِينُ مَخْلُوقُونَ مِنَ الدُّخَانِ وَاللَّهَبِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ [الْحِجْرِ: 27] وَهَذَا الْكَلَامُ مِنَ الْمَشْهُورَاتِ عِنْدَ قُدَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَسْتَبْعِدَهُ مِنْ صَاحِبِ شَرِيعَتِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ الشَّيْطَانُ: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ وَهُوَ أَيْضًا مَلُومٌ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِ عَلَى تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ الْبَاطِلَةِ. وَالْجَوَابُ: أَرَادَ بِذَلِكَ فَلَا تَلُومُونِي عَلَى مَا فَعَلْتُمْ وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَيْهِ، لِأَنَّكُمْ عَدَلْتُمْ عَمَّا تُوجِبُهُ هِدَايَةُ اللَّهِ تَعَالَى لَكُمْ. ثم قال اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الشَّيْطَانِ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِمُغِيثِكُمْ وَلَا مُنْقِذِكُمْ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الصَّارِخُ الْمُسْتَغِيثُ وَالْمُصْرِخُ الْمُغِيثُ. يُقَالُ: صَرَخَ فلان إذا استغاث وقال: وا غوثاه وأصرحته أَغَثْتُهُ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ: بِمُصْرِخِيِّ بِكَسْرِ الْيَاءِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ وَيَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَعَلَّهَا مِنْ وَهْمِ الْقُرَّاءِ فَإِنَّهُ قَلَّ مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ عَنِ الوهم ولعله أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: بِمُصْرِخِيَّ خَافِضَةٌ لِجُمْلَةِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْيَاءَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ خَارِجَةٌ مِنْ ذَلِكَ قَالَ، وَمِمَّا نَرَى أَنَّهُمْ وَهِمُوا فِيهِ قَوْلُهُ: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ [النِّسَاءِ: 115] بِجَزْمِ الْهَاءِ ظَنُّوا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْجَزْمَ فِي الْهَاءِ وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ الْهَاءَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَقَدِ انْجَزَمَ الْفِعْلُ قَبْلَهَا بِسُقُوطِ الْيَاءِ مِنْهُ، وَمِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ تَكَلَّفَ فِي ذِكْرِ وَجْهٍ لِصِحَّتِهِ إِلَّا أَنَّ الْأَكْثَرِينَ قَالُوا إِنَّهُ لَحْنٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثم قال تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «مَا» فِي قَوْلِهِ: إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ وَالْمَعْنَى: كَفَرْتُ بِإِشْرَاكِكُمْ إِيَّايَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الطَّاعَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ جَحَدَ مَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ أُولَئِكَ الْأَتْبَاعُ مِنْ كَوْنِ إِبْلِيسَ شَرِيكًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي تَدْبِيرِ هَذَا الْعَالَمِ وَكَفَرَ بِهِ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُطِيعُونَ الشَّيْطَانَ فِي أَعْمَالِ الشَّرِّ كَمَا كَانُوا قَدْ يُطِيعُونَ اللَّهَ فِي أَعْمَالِ الْخَيْرِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْإِشْرَاكِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ: إِنِّي كَفَرْتُ بِاللَّهِ الَّذِي أَشْرَكْتُمُونِي بِهِ مِنْ قَبْلِ كُفْرِكُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كَانَ كُفْرُهُ قَبْلَ كُفْرِ أُولَئِكَ الْأَتْبَاعِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (مَا) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ «مَنْ» وَالْقَوْلُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَنْتَظِمُ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا الْكَلَامُ مُنْتَظِمٌ عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي، وَالتَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَأْثِيرَ لِوَسْوَسَتِي فِي كُفْرِكُمْ بِدَلِيلِ أَنِّي كَفَرْتُ قَبْلَ أَنْ وَقَعْتُمْ فِي الْكُفْرِ وَمَا كَانَ كُفْرِي بِسَبَبِ وَسْوَسَةٍ أُخْرَى وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ سَبَبَ الْوُقُوعِ فِي الْكُفْرِ شَيْءٌ آخَرُ سِوَى الْوَسْوَسَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ. أما قوله: إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّ كَلَامَ إِبْلِيسِ تَمَّ قبل هذا

[سورة إبراهيم (14) : آية 23]

الْكَلَامِ، وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ إِبْلِيسَ قَطْعًا لِأَطْمَاعِ أُولَئِكَ الكفار عن الإعانة والإغاثة، والله أعلم. [سورة إبراهيم (14) : آية 23] وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي شَرْحِ أَحْوَالِ الْأَشْقِيَاءِ مِنَ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ، شَرَحَ أَحْوَالَ السُّعَدَاءِ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الثَّوَابَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنْفَعَةً خَالِصَةً دَائِمَةً مَقْرُونَةً بِالتَّعْظِيمِ، فَالْمَنْفَعَةُ الْخَالِصَةُ إِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَكَوْنُهَا دَائِمَةً أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها وَالتَّعْظِيمُ حَصَلَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تِلْكَ الْمَنَافِعَ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِهِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُحَيِّي بَعْضًا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَالْمَلَائِكَةُ يُحَيُّونَهُمْ بِهَا كَمَا قَالَ: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ/ عَلَيْكُمْ [الرَّعْدِ: 23، 24] وَالرَّبُّ الرَّحِيمُ يُحَيِّيهِمْ أَيْضًا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ كَمَا قَالَ: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] . وَاعْلَمْ أَنَّ السَّلَامَ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّلَامَةِ وَإِلَّا ظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ سَلِمُوا مِنْ آفَاتِ الدُّنْيَا وَحَسَرَاتِهَا أَوْ فُنُونِ آلَامِهَا وَأَسْقَامِهَا، وَأَنْوَاعِ غُمُومِهَا وَهُمُومِهَا، وَمَا أَصْدَقَ مَا قَالُوا، فَإِنَّ السَّلَامَةَ مِنْ مِحَنِ عَالَمِ الْأَجْسَامِ الْكَائِنَةِ الْفَاسِدَةِ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، لَا سِيَّمَا إِذَا حَصَلَ بَعْدَ الْخَلَاصِ مِنْهَا الْفَوْزُ بِالْبَهْجَةِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالسَّعَادَةِ الْمَلَكِيَّةِ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ: وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى مَعْنَى وَأُدْخِلُهُمْ أَنَا، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَقَوْلُهُ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، أَيْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ. يَعْنِي: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يحيونهم بإذن ربهم. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 26] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) [في قَوْلُهُ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا إلى قوله وَفَرْعُها فِي السَّماءِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ الْأَشْقِيَاءِ وَأَحْوَالَ السُّعَدَاءِ، ذَكَرَ مِثَالًا يُبَيِّنُ الْحَالَ فِي حُكْمِ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، وَهُوَ هَذَا الْمَثَلُ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ شَجَرَةً مَوْصُوفَةً بِصِفَاتٍ أَرْبَعَةٍ ثُمَّ شَبَّهَ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ بِهَا. فَالصِّفَةُ الْأُولَى: لِتِلْكَ الشَّجَرَةِ كَوْنُهَا طَيِّبَةً، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ أُمُورًا. أَحَدُهَا: كَوْنُهَا طَيِّبَةَ الْمَنْظَرِ وَالصُّورَةِ وَالشَّكْلِ. وَثَانِيهَا: كَوْنُهَا طَيِّبَةَ الرَّائِحَةِ. وَثَالِثُهَا: كَوْنُهَا طَيِّبَةَ الثَّمَرَةِ يَعْنِي أَنَّ الْفَوَاكِهَ الْمُتَوَلِّدَةَ مِنْهَا تَكُونُ لَذِيذَةً مُسْتَطَابَةً. وَرَابِعُهَا: كَوْنُهَا طَيِّبَةً بِحَسَبِ الْمَنْفَعَةِ يَعْنِي أَنَّهَا كَمَا يُسْتَلَذُّ بِأَكْلِهَا فَكَذَلِكَ يَعْظُمُ الِانْتِفَاعُ بِهَا، وَيَجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِ: شَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ، عَلَى مَجْمُوعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ لِأَنَّ اجْتِمَاعَهَا يُحَصِّلُ كَمَالَ الطِّيبِ. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أَصْلُها ثابِتٌ أَيْ رَاسِخٌ بَاقٍ آمِنُ الِانْقِلَاعِ وَالِانْقِطَاعِ وَالزَّوَالِ وَالْفَنَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْءَ الطَّيِّبَ إِذَا كَانَ فِي مَعْرِضِ الِانْقِرَاضِ وَالِانْقِضَاءِ، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ الْفَرَحُ بِسَبَبِ وِجْدَانِهِ إِلَّا أَنَّهُ يَعْظُمُ

الْحُزْنُ بِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنْ زَوَالِهِ وَانْقِضَائِهِ، أَمَّا إِذَا عُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ بَاقٍ دَائِمٌ لَا يَزُولُ وَلَا يَنْقَضِي فَإِنَّهُ يَعْظُمُ الْفَرَحُ بِوِجْدَانِهِ وَيَكْمُلُ السُّرُورُ بِسَبَبِ الْفَوْزِ بِهِ. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَفَرْعُها فِي السَّماءِ وَهَذَا الْوَصْفُ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ حَالِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ارْتِفَاعَ الْأَغْصَانِ وَقُوَّتَهَا فِي التَّصَاعُدِ يَدُلُّ عَلَى ثَبَاتِ الْأَصْلِ وَرُسُوخِ الْعُرُوقِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَتَّى كَانَتْ مُتَصَاعِدَةً مُرْتَفِعَةً كَانَتْ بَعِيدَةً عَنْ عُفُونَاتِ الْأَرْضِ وَقَاذُورَاتِ الْأَبْنِيَةِ فَكَانَتْ ثمراتها نقية ظاهرة طَيِّبَةً عَنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ. وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَالْمُرَادُ: أَنَّ الشَّجَرَةَ الْمَذْكُورَةَ كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَهِيَ أَنَّ ثَمَرَتَهَا لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ حَاضِرَةً دَائِمَةً فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، وَلَا تَكُونُ مِثْلَ الْأَشْجَارِ الَّتِي يَكُونُ ثِمَارُهَا حَاضِرًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ، فَهَذَا شَرْحُ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الرَّغْبَةَ فِي تَحْصِيلِ مِثْلِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَظِيمَةً، وَأَنَّ الْعَاقِلَ مَتَى أَمْكَنَهُ تَحْصِيلُهَا وَتَمَلُّكُهَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَغَافَلَ عَنْهَا وَأَنْ يَتَسَاهَلَ فِي الْفَوْزِ بِهَا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِغْرَاقُ فِي مَحَبَّتِهِ وَفِي خِدْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ، تُشْبِهُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعِ. أَمَّا الصِّفَةُ الْأُولَى: وَهِيَ كَوْنُهَا طَيِّبَةً فَهِيَ حَاصِلَةٌ، بَلْ نَقُولُ: لَا طَيِّبَ وَلَا لَذِيذَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّذَّةَ الْحَاصِلَةَ بِتَنَاوُلِ الْفَاكِهَةِ الْمُعَيَّنَةِ إِنَّمَا حَصَلَتْ، لِأَنَّ إِدْرَاكَ تِلْكَ الْفَاكِهَةِ أَمْرٌ مُلَائِمٌ لِمِزَاجِ الْبَدَنِ، فَلِأَجْلِ حُصُولِ تِلْكَ الْمُلَاءَمَةِ وَالْمُنَاسَبَةِ حَصَلَتْ تِلْكَ اللَّذَّةُ العظيمة وهاهنا الْمُلَائِمُ لِجَوْهَرِ النَّفْسِ النُّطْقِيَّةِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِيَّةِ، لَيْسَ إِلَّا مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَحَبَّتَهُ وَالِاسْتِغْرَاقَ فِي الِابْتِهَاجِ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ لَذِيذَةً جِدًّا، بَلْ نَقُولُ: اللَّذَّةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ إِدْرَاكِ الْفَاكِهَةِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَقَلَّ حَالًا مِنَ اللَّذَّةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ إِشْرَاقِ جَوْهَرِ النَّفْسِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَبَيَانُ هَذَا التَّفَاوُتِ مِنْ وُجُوهٍ: الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُدْرَكَاتِ الْمَحْسُوسَةَ إِنَّمَا تَصِيرُ مُدْرَكَةً بِسَبَبِ أَنَّ سَطْحَ الْحَاسِّ يُلَاقِي سَطْحَ الْمَحْسُوسِ فَقَطْ، فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ جَوْهَرَ الْمَحْسُوسِ نَفَذَ فِي جَوْهَرِ الْحَاسِّ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كذلك، لأن الأجسام يمتنع تداخلها أما هاهنا فَمَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ النُّورُ وَذَلِكَ الْإِشْرَاقُ صَارَ سَارِيًا فِي جَوْهَرِ/ النَّفْسِ مُتَّحِدًا بِهِ وَكَأَنَّ النَّفْسَ عِنْدَ حُصُولِ ذَلِكَ الْإِشْرَاقِ تَصِيرُ غَيْرَ النَّفْسِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ حُصُولِ ذَلِكَ الْإِشْرَاقِ فَهَذَا فَرْقٌ عَظِيمٌ بَيْنَ الْبَابَيْنِ. وَالوجه الثَّانِي: فِي الْفَرْقِ أَنَّ فِي الِالْتِذَاذِ بِالْفَاكِهَةِ الْمُدْرِكَ هُوَ الْقُوَّةُ الذَّائِقَةُ، وَالْمَحْسُوسَ هُوَ الطَّعْمُ المخصوص وهاهنا الْمُدْرِكُ هُوَ جَوْهَرُ النَّفْسِ الْقُدُسِيَّةِ، وَالْمَعْلُومُ وَالْمَشْعُورُ بِهِ هُوَ ذَاتُ الْحَقِّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَصِفَاتُ جَلَالِهِ وَإِكْرَامِهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ نِسْبَةُ إِحْدَى اللَّذَّتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى كَنِسْبَةِ أَحَدِ الْمُدْرَكَيْنِ إِلَى الْآخَرِ. الوجه الثَّالِثُ: فِي الْفَرْقِ أَنَّ اللَّذَّاتِ الْحَاصِلَةَ بِتَنَاوُلِ الْفَاكِهَةِ الطَّيِّبَةِ كُلَّمَا حَصَلَتْ زَالَتْ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهَا كَيْفِيَّةٌ سَرِيعَةُ الِاسْتِحَالَةِ شَدِيدَةُ التَّغَيُّرِ، أَمَّا كَمَالُ الْحَقِّ وَجَلَالُهُ فَإِنَّهُ مُمْتَنِعُ التَّغَيُّرِ وَالتَّبَدُّلِ وَاسْتِعْدَادُ جَوْهَرِ النَّفْسِ لِقَبُولِ تِلْكَ السَّعَادَةِ أَيْضًا مُمْتَنِعُ التَّغَيُّرِ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ الْعَظِيمُ مِنْ هَذَا الوجه. وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ يَقْرُبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وُجُوهٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ فَلْيُكْتَفَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ تَنْبِيهًا

لِلْعَقْلِ السَّلِيمِ عَلَى سَائِرِهَا. وَأَمَّا الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ كَوْنُ هَذِهِ الشَّجَرَةِ ثَابِتَةَ الْأَصْلِ، فَهَذِهِ الصِّفَةُ فِي شَجَرَةِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَقْوَى وَأَكْمَلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عُرُوقَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ رَاسِخَةٌ فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ الْقُدُسِيَّةِ، وَهَذَا الْجَوْهَرُ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ عَنِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ بَعِيدٌ عَنِ التَّغَيُّرِ وَالْفَنَاءِ، وَأَيْضًا مَدَدُ هَذَا الرُّسُوخِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ تَجَلِّي جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا التَّجَلِّي مِنْ لَوَازِمِ كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ فِي ذَاتِهِ نُورَ النُّورِ وَمَبْدَأَ الظُّهُورِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَمْتَنِعُ عَقْلًا زَوَالُهُ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَوَاجِبُ الْوُجُودِ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَالتَّغَيُّرُ وَالْفَنَاءُ وَالتَّبَدُّلُ وَالزَّوَالُ وَالْبُخْلُ وَالْمَنْعُ مُحَالٌ فِي حَقِّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الشَّجَرَةَ الْمَوْصُوفَةَ بِكَوْنِهَا ثَابِتَةَ الْأَصْلِ لَيْسَتْ إِلَّا هَذِهِ الشَّجَرَةَ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: لِهَذِهِ الشَّجَرَةِ كَوْنُهَا بِحَيْثُ يَكُونُ فَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ شَجَرَةَ الْمَعْرِفَةِ لَهَا أَغْصَانٌ صَاعِدَةٌ فِي هَوَاءِ الْعَالَمِ الْإِلَهِيِّ وَأَغْصَانٌ صَاعِدَةٌ فِي هَوَاءِ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ. وَأَمَّا النوع الْأَوَّلُ: فَهِيَ أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ وَيَجْمَعُهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ» وَيَدْخُلُ فِيهِ التَّأَمُّلُ فِي دَلَائِلِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ، وَفِي عَالَمِ الْأَجْسَامِ، وَفِي أَحْوَالِ عَالَمِ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ، وَفِي أَحْوَالِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّوْقُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالِاعْتِمَادُ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالِانْقِطَاعُ بِالْكُلِّيَّةِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ غَيْرُ مَطْمُوعٍ فِيهِ لِأَنَّهَا أَحْوَالٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ. وَأَمَّا النوع الثَّانِي: فَهِيَ أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ وَيَجْمَعُهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ» / وَيَدْخُلُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَالرَّأْفَةُ وَالصَّفْحُ وَالتَّجَاوُزُ عَنِ الذُّنُوبِ، وَالسَّعْيُ فِي إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ، وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْهُمْ، وَمُقَابَلَةُ الْإِسَاءَةِ بِالْإِحْسَانِ. وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ أَيْضًا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَهِيَ فُرُوعٌ ثَابِتَةٌ مِنْ شَجَرَةِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كُلَّمَا كَانَ أَكْثَرَ تَوَغُّلًا فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ عِنْدَهُ أَكْمَلَ وَأَقْوَى وَأَفْضَلَ. وَأَمَّا الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها فَهَذِهِ الشَّجَرَةُ أَوْلَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْأَشْجَارِ الْجُسْمَانِيَّةِ، لِأَنَّ شَجَرَةَ الْمَعْرِفَةِ مُوجِبَةٌ لِهَذِهِ الْأَحْوَالِ وَمُؤَثِّرَةٌ فِي حُصُولِهَا وَالسَّبَبُ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْمُسَبَّبِ فَأَثَرُ رُسُوخِ شَجَرَةِ الْمَعْرِفَةِ فِي أَرْضِ الْقَلْبِ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ بالعبرة كما قال: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الْحَشْرِ: 2] وَأَنْ يَكُونَ سَمَاعُهُ بِالْحِكْمَةِ كَمَا قَالَ: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزُّمَرِ: 18] وَنُطْقُهُ بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ كَمَا قَالَ: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [النِّسَاءِ: 135] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «قُولُوا الْحَقَّ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ» وَهَذَا الْإِنْسَانُ كُلَّمَا كَانَ رُسُوخُ شَجَرَةِ الْمَعْرِفَةِ فِي أَرْضِ قَلْبِهِ أَقْوَى وَأَكْمَلَ، كَانَ ظُهُورُ هَذِهِ الْآثَارِ عِنْدَهُ أَكْثَرَ، وَرُبَّمَا تَوَغَّلَ في هذا الباب فيصير بحيث كلما لا حظ شَيْئًا لَاحَظَ الْحَقَّ فِيهِ، وَرُبَّمَا عَظُمَ تَرَقِّيهِ فِيهِ فَيَصِيرُ لَا يَرَى شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ كَانَ قَدْ رَأَى اللَّهَ تَعَالَى قَبْلَهُ. فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَأَيْضًا فَمَا ذَكَرْنَاهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِلْهَامَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالْمَلَكَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ الَّتِي تَحْصُلُ فِي جَوَاهِرِ الْأَرْوَاحِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَصْعَدُ مِنْهَا فِي كُلِّ حِينٍ وَلَحْظَةٍ وَلَمْحَةٍ كَلَامٌ طَيِّبٌ وَعَمَلٌ صَالِحٌ وَخُضُوعٌ وَخُشُوعٌ وَبُكَاءٌ وَتَذَلُّلٌ، كَثَمَرَةِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ. وَأما قوله: بِإِذْنِ رَبِّها فَفِيهِ دَقِيقَةٌ عَجِيبَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ، وَالدَّرَجَاتِ

الْعَالِيَةِ، قَدْ يَفْرَحُ الْإِنْسَانُ بِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، وَقَدْ يَتَرَقَّى فَلَا يَفْرَحُ بِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مِنَ الْمَوْلَى، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَكُونُ فَرَحُهُ فِي الْحَقِيقَةِ بِالْمَوْلَى لَا بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: مَنْ آثَرَ الْعِرْفَانَ لِلْعِرْفَانِ فَقَدْ قَالَ بِالْفَانِي، وَمَنْ آثَرَ الْعِرْفَانَ لَا لِلْعِرْفَانِ، بَلْ لِلْمَعْرُوفِ فَقَدْ خَاضَ لُجَّةَ الْوُصُولِ، فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ الَّذِي شَرَحْنَاهُ وَالْبَيَانِ الَّذِي فَصَّلْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْمِثَالَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْكِتَابِ مِثَالٌ هَادٍ إِلَى عَالَمِ الْقُدُسِ، وَحَضْرَةِ الْجَلَالِ، وَسُرَادِقَاتِ الْكِبْرِيَاءِ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى مَزِيدَ الِاهْتِدَاءِ وَالرَّحْمَةِ إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمِثَالِ كَلَامًا لَا بَأْسَ بِهِ، فَقَالَ: إِنَّمَا مَثَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِيمَانَ بِالشَّجَرَةِ، لِأَنَّ الشَّجَرَةَ لَا تَسْتَحِقُّ أَنْ تُسَمَّى شَجَرَةً، إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: عِرْقٌ رَاسِخٌ، وَأَصْلٌ قَائِمٌ، وَأَغْصَانٌ عَالِيَةٌ. كَذَلِكَ الْإِيمَانُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: مَعْرِفَةٌ فِي الْقَلْبِ، وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْأَبْدَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: فِي نَصْبِ قَوْلِهِ: كَلِمَةً طَيِّبَةً وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ وَالتَّقْدِيرُ: جَعَلَ كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا. الثَّانِي: قَالَ وَيَجُوزُ أن ينتصب مثلا. وكلمة بِضَرَبَ، أَيْ ضَرَبَ كَلِمَةً طَيِّبَةً مَثَلًا بِمَعْنَى جَعَلَهَا مَثَلًا، وَقَوْلُهُ: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: هِيَ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ. الثَّالِثُ: قَالَ صَاحِبُ «حَلِّ الْعَقْدِ» أَظُنُّ أَنَّ الْأَوْجَهَ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: كَلِمَةً عَطْفَ بَيَانٍ، وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَشَجَرَةٍ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِمَعْنَى مِثْلَ شَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالشَّجَرَةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ النَّخْلَةُ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّهَا كُلُّ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ طَيِّبَةِ الثِّمَارِ كَالنَّخْلَةِ وَشَجَرَةِ التِّينِ وَالْعِنَبِ وَالرُّمَّانِ، وَأَرَادَ بِشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ الثَّمَرَةَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهَا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا أَصْلُهَا، أَيْ أَصْلُ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ ثَابِتٌ، وَفَرْعُهَا أَيْ أَعْلَاهَا فِي السَّمَاءِ، وَالْمُرَادُ الْهَوَاءُ لِأَنَّ كُلَّ مَا سَمَاكَ وَعَلَاكَ فَهُوَ سَمَاءٌ تُؤْتِي أَيْ هَذِهِ الشَّجَرَةُ أُكُلَها أَيْ ثَمَرَهَا وَمَا يُؤْكَلُ مِنْهَا كُلَّ حِينٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحِينِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، لِأَنَّ بَيْنَ حَمْلِهَا إِلَى صِرَامِهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: نَذَرْتُ أَنْ لَا أُكَلِّمَ أَخِي حَتَّى حِينٍ، فَقَالَ: الْحِينُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: سَنَةٌ، لِأَنَّ الشَّجَرَةَ مِنَ الْعَامِ إِلَى الْعَامِ تَحْمِلُ الثَّمَرَةَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: شَهْرَانِ، لِأَنَّ مُدَّةَ إِطْعَامِ النَّخْلَةِ شَهْرَانِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَمِيعُ مَنْ شَاهَدْنَا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ الْحِينَ اسْمٌ كَالْوَقْتِ يَصْلُحُ لِجَمِيعِ الْأَزْمَانِ كُلِّهَا طَالَتْ أَمْ قَصُرَتْ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا أَوْ شِتَاءً أَوْ صَيْفًا. قَالُوا: وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ النَّخْلَةَ إِذَا تَرَكُوا عَلَيْهَا الثَّمَرَ مِنَ السَّنَةِ إِلَى السَّنَةِ انْتَفَعُوا بِهَا فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِ السَّنَةِ. وَأَقُولُ: هَؤُلَاءِ وَإِنْ أَصَابُوا فِي البحث عَنْ مُفْرَدَاتِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ بَعُدُوا عَنْ إِدْرَاكِ الْمَقْصُودِ، لِأَنَّهُ تعالى وصف هذه الشَّجَرَةَ الْمَوْصُوفَةَ بِالصِّفَاتِ الْأَرْبَعِ الْمَذْكُورَةِ شَجَرَةٌ شَرِيفَةٌ يَنْبَغِي لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَسْعَى فِي تَحْصِيلِهَا وَتَمَلُّكِهَا لِنَفْسِهِ، سَوَاءً كَانَ لَهَا وُجُودٌ فِي الدُّنْيَا أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ أَمْرٌ مَطْلُوبُ التَّحْصِيلِ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْحِينِ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأُمُورِ. ثم قال: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ فِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ زِيَادَةَ إفهام

[سورة إبراهيم (14) : آية 27]

وَتَذْكِيرٍ وَتَصْوِيرٍ لِلْمَعَانِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ الْعَقْلِيَّةَ الْمَحْضَةَ لَا يَقْبَلُهَا الْحِسُّ وَالْخَيَالُ وَالْوَهْمُ، / فَإِذَا ذُكِرَ مَا يُسَاوِيهَا مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ تَرَكَ الْحِسُّ وَالْخَيَالُ وَالْوَهْمُ تِلْكَ الْمُنَازَعَةَ وَانْطَبَقَ الْمَعْقُولُ عَلَى الْمَحْسُوسِ وَحَصَلَ بِهِ الْفَهْمُ التَّامُّ وَالْوُصُولُ إِلَى الْمَطْلُوبِ. وَأما قوله تَعَالَى: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَها مِنْ قَرارٍ. فَاعْلَمْ أَنَّ الشَّجَرَةَ الْخَبِيثَةَ هِيَ الْجَهْلُ بِاللَّهِ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ الْآفَاتِ وَعُنْوَانُ المخافات وَرَأْسُ الشَّقَّاوَاتِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَهَا بِشَجَرَةٍ مَوْصُوفَةٍ بِصِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ: الصِّفَةُ الْأُولَى: أَنَّهَا تَكُونُ خَبِيثَةً فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهَا الثُّومُ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ الثُّومَ بِأَنَّهَا شَجَرَةٌ خَبِيثَةٌ، وَقِيلَ: إِنَّهَا الْكُرَّاثُ. وَقِيلَ: إِنَّهَا شَجَرَةُ الْحَنْظَلِ لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَضَارِّ وَقِيلَ: إِنَّهَا شَجَرَةُ الشَّوْكِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الشَّجَرَةَ قَدْ تَكُونُ خَبِيثَةً بِحَسَبِ الرَّائِحَةِ وَقَدْ تَكُونُ بِحَسَبِ الطَّعْمِ، وَقَدْ تَكُونُ بِحَسَبِ الصُّورَةِ وَالْمَنْظَرِ وَقَدْ تَكُونُ بِحَسَبِ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَضَارِّ الْكَثِيرَةِ وَالشَّجَرَةُ الْجَامِعَةُ لِكُلِّ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً، إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مَعْلُومَةَ الصِّفَةِ كَانَ التَّشْبِيهُ بِهَا نَافِعًا فِي الْمَطْلُوبِ. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ وَهَذِهِ الصِّفَةُ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: أَصْلُها ثابِتٌ وَمَعْنَى اجْتُثَّتِ اسْتُؤْصِلَتْ وَحَقِيقَةُ الِاجْتِثَاثِ أَخْذُ الْجُثَّةِ كُلِّهَا، وَقَوْلُهُ: مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَعْنَاهُ: لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ وَلَا عِرْقٌ، فَكَذَلِكَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ حُجَّةٌ وَلَا ثَبَاتٌ وَلَا قُوَّةٌ. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ كَالْمُتَمِّمَةِ لِلصِّفَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا اسْتِقْرَارٌ. يُقَالُ: قَرَّ الشَّيْءُ قَرَارًا كَقَوْلِكَ: ثَبَتَ ثَبَاتًا، شَبَّهَ بِهَا الْقَوْلَ الَّذِي لَمْ يُعَضَّدْ بِحُجَّةٍ فَهُوَ دَاحِضٌ غَيْرُ ثَابِتٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمِثَالَ فِي صِفَةِ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كَوْنَهَا مَوْصُوفَةً بِالْمَضَارِّ الْكَثِيرَةِ، وَخَالِيَةً عَنْ كُلِّ الْمَنَافِعِ أَمَّا كَوْنُهَا مَوْصُوفَةً بِالْمَضَارِّ فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: خَبِيثَةٍ وَأَمَّا كَوْنُهَا خَالِيَةً عَنْ كُلِّ الْمَنَافِعِ فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَها مِنْ قَرارٍ وَاللَّهُ أعلم. [سورة إبراهيم (14) : آية 27] يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشاءُ (27) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ صِفَةَ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا ثَابِتًا، وَصِفَةَ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا أَصْلٌ ثَابِتٌ بَلْ تَكُونُ مُنْقَطِعَةً وَلَا يَكُونُ لَهَا قَرَارٌ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ الثَّابِتَ الصَّادِرَ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يُوجِبُ ثَبَاتَ كَرَامَةِ اللَّهِ لَهُمْ، وَثَبَاتَ ثَوَابِهِ عَلَيْهِمْ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ الثَّبَاتَ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالطَّاعَةِ يُوجِبُ الثَّبَاتَ فِي الثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَقَوْلُهُ: يُثَبِّتُ اللَّهُ أَيْ عَلَى الثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ، وَقَوْلُهُ: بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ أَيْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ الَّذِي كَانَ يَصْدُرُ عَنْهُمْ حَالَ مَا كَانُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. ثم قال: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ يَعْنِي كَمَا أَنَّ الْكَلِمَةَ الْخَبِيثَةَ مَا كَانَ لَهَا أَصْلٌ ثَابِتٌ وَلَا فَرْعٌ بَاسِقٌ فَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ وَهُمُ الظَّالِمُونَ يُضِلُّهُمُ اللَّهُ عَنْ كَرَامَاتِهِ وَيَمْنَعُهُمْ عَنِ الْفَوْزِ بِثَوَابِهِ وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 إلى 30]

الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ فِي الْقَبْرِ، وَتَلْقِينِ اللَّهِ الْمُؤْمِنَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْقَبْرِ عِنْدَ السُّؤَالِ وَتَثْبِيتِهِ إِيَّاهُ عَلَى الْحَقِّ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ في قوله: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ قَالَ: «حِينَ يُقَالُ لَهُ فِي الْقَبْرِ مَنْ رَبُّكَ وَمَا دِينُكَ وَمِنْ نَبِيُّكَ فَيَقُولُ رَبِّيَ اللَّهُ وَدِينَيَ الْإِسْلَامُ ونبي محمد صلّى الله عليه وسلم، والمراد من الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ هُوَ أَنَّ الله تعالى إنما ثبتهم فِي الْقَبْرِ بِسَبَبِ مُوَاظَبَتِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَلِهَذَا الْكَلَامِ تَقْرِيرٌ عَقْلِيٌّ وَهُوَ أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الْفِعْلِ أَكْثَرَ كَانَ رُسُوخُ تِلْكَ الْحَالَةِ فِي الْعَقْلِ وَالْقَلْبِ أَقْوَى، فَكُلَّمَا كَانَتْ مُوَاظَبَةُ الْعَبْدِ عَلَى ذِكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَعَلَى التَّأَمُّلِ فِي حَقَائِقِهَا وَدَقَائِقِهَا أَكْمَلَ وَأَتَمَّ كَانَ رُسُوخُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ فِي عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ أقوى وأكمل. قال ابن عباس: من دوام عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يُثَبِّتُهُ اللَّهُ عَلَيْهَا فِي قَبْرِهِ وَيُلَقِّنُهُ إِيَّاهَا وَإِنَّمَا فَسَّرَ الآخرة هاهنا بِالْقَبْرِ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ عَنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَدَخَلَ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَقَوْلُهُ: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ يَعْنِي أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا سُئِلُوا فِي قُبُورِهِمْ قَالُوا: لَا نَدْرِي وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَضَلَّهُ وَقَوْلُهُ: وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشاءُ يَعْنِي إِنْ شَاءَ هَدَى وَإِنْ شَاءَ أَضَلَّ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ ألبتة. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 30] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى عَادَ إِلَى وَصْفِ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً نَزَلَ فِي أَهْلِ مَكَّةَ حَيْثُ أَسْكَنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى حَرَمَهُ الْآمِنَ وَجَعَلَ عَيْشَهُمْ فِي السَّعَةِ وَبَعَثَ فِيهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَعْرِفُوا قَدْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنْوَاعًا مِنَ الأعمال القبيحة. النوع الأول: قوله: بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَّلُوا شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ كُفْرًا، لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِمُ الشُّكْرُ بِسَبَبِ تِلْكَ النِّعْمَةِ أَتَوْا بِالْكُفْرِ، فَكَأَنَّهُمْ غَيَّرُوا الشُّكْرَ إِلَى الْكُفْرِ وَبَدَّلُوهُ تَبْدِيلًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ بَدَّلُوا نَفْسَ نِعْمَةِ اللَّهِ كُفْرًا لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَفَرُوا سَلَبَ اللَّهُ تِلْكَ النِّعْمَةَ عَنْهُمْ فَبَقِيَ الْكُفْرُ مَعَهُمْ بَدَلًا مِنَ النِّعْمَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالرَّسُولِ وَالْقُرْآنِ فَاخْتَارُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ. وَالنوع الثاني: ما حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَوْلُهُ: وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ وَهُوَ الْهَلَاكُ يُقَالُ رَجُلٌ بَائِرٌ وَقَوْمٌ بُورٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً [الْفَتْحِ: 12] وَأَرَادَ بِدَارِ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ فَسَّرَهَا بِجَهَنَّمَ فَقَالَ: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ أَيِ الْمَقَرُّ وَهُوَ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ. النوع الثَّالِثُ: مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ قَوْلُهُ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا ذَكَرَ أَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ كَفَرُوا بِاللَّهِ جَعَلُوا لَهُ أَنْدَادًا، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْجَعْلِ الحكم وَالِاعْتِقَادُ وَالْقَوْلُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَنْدَادِ الْأَشْبَاهُ وَالشُّرَكَاءُ، وَهَذَا الشَّرِيكُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ جَعَلُوا لِلْأَصْنَامِ حَظًّا فِيمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ نَحْوُ قَوْلِهِمْ هَذَا لِلَّهِ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ شَرِكُوا بَيْنَ الْأَصْنَامِ وَبَيْنَ خَالِقِ الْعَالَمِ فِي الْعُبُودِيَّةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَرِّحُونَ بِإِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ فِي الْحَجِّ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا ملك.

[سورة إبراهيم (14) : آية 31]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو لِيَضِلُّوا بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ ضَلَّ يَضِلُّ وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ مِنْ أَضَلَّ غَيْرَهُ يُضِلُّ. المسألة الثَّالِثَةُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ لَامُ الْعَاقِبَةِ لِأَنَّ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ سَبَبٌ يُؤَدِّي إِلَى الضَّلَالِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لَامَ كَيْ، أَيِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْوَثَنَ كَيْ يُضِلُّوا غَيْرَهُمْ هذا إذا قرئ/ بالضم فإنه يحتمل الوجهين، وَإِذَا قُرِئَ بِالنَّصْبِ فَلَا يَحْتَمِلُ إِلَّا لَامَ الْعَاقِبَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا ضَلَالَ أَنْفُسِهِمْ. وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي لَامِ الْعَاقِبَةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الشَّيْءِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي آخِرِ الْمَرَاتِبِ كَمَا قِيلَ أَوَّلُ الْفِكْرِ آخِرُ الْعَمَلِ. وَكُلُّ مَا حَصَلَ فِي الْعَاقِبَةِ كَانَ شَبِيهًا بِالْأَمْرِ الْمَقْصُودِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَالْمُشَابَهَةُ أَحَدُ الْأُمُورِ الْمُصَحِّحَةِ لِحُسْنِ الْمَجَازِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ حَسُنَ ذِكْرُ اللَّامِ فِي الْعَاقِبَةِ، وَلَمَّا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ قَالَ: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ وَالْمُرَادُ أَنَّ حَالَ الْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا كَيْفَ كَانَتْ، فَإِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا سَيَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ تَمَتُّعٌ وَنَعِيمٌ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ وَأَيْضًا إِنَّ هَذَا الْخِطَابَ مَعَ الَّذِينَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا، فَأُولَئِكَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا فِي نِعَمٍ كَثِيرَةٍ فَلَا جَرَمَ حَسُنَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ وَهَذَا الْأَمْرُ يُسَمَّى أَمْرَ التَّهْدِيدِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فُصِّلَتْ: 40] وَكَقَوْلِهِ: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ [الزمر: 8] . [سورة إبراهيم (14) : آية 31] قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْكَافِرِينَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ بِالتَّمَتُّعِ بِنَعِيمِ الدُّنْيَا، أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِتَرْكِ التَّمَتُّعِ بِالدُّنْيَا وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْمُجَاهَدَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ لِعِبَادِي بِسُكُونِ الْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ: بِفَتْحِ الْيَاءِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ فَحُرِّكَ إِلَى النَّصْبِ. المسألة الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: يُقِيمُوا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِأَمْرٍ مَحْذُوفٍ هُوَ الْمَقُولُ تَقْدِيرُهُ: قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفِقُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا. الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَمْرًا مَقُولًا مَحْذُوفًا مِنْهُ لَامُ الْأَمْرِ، أَيْ لِيُقِيمُوا كَقَوْلِكَ: قُلْ لِزَيْدٍ لِيَضْرِبْ عَمْرًا وَإِنَّمَا جَازَ حَذْفُ اللَّامِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ عِوَضٌ مِنْهُ وَلَوْ قِيلَ ابْتِدَاءً يُقِيمُوا الصَّلَاةَ لَمْ يَجُزْ. المسألة الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْإِيمَانِ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي شَيْءٍ إِلَّا فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي مَالِهِ. أَمَّا النَّفْسُ فَيَجِبُ شَغْلُهَا بِخِدْمَةِ الْمَعْبُودِ فِي الصَّلَاةِ وَأَمَّا الْمَالُ فَيَجِبُ/ صَرْفُهُ إِلَى الْبَذْلِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ الطَّاعَاتُ الْمُعْتَبَرَةُ، وَهِيَ الْإِيمَانُ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَتَمَامُ مَا يَجِبُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [الْبَقَرَةِ: 3] . المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ لَا يَكُونُ حَرَامًا، لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْإِنْفَاقَ

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 32 إلى 34]

مِنَ الرِّزْقِ مَمْدُوحٌ، وَلَا شَيْءَ مِنَ الْإِنْفَاقِ مِنَ الْحَرَامِ بِمَمْدُوحٍ فَيَنْتُجُ أَنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ بِحَرَامٍ. وَقَدْ مَرَّ تَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ مِرَارًا. المسألة الْخَامِسَةُ: فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ: سِرًّا وَعَلانِيَةً وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى الْحَالِ أَيْ ذَوِي سِرٍّ وَعَلَانِيَةٍ بِمَعْنَى مُسِرِّينَ وَمُعْلِنِينَ. وَثَانِيهَا: عَلَى الظَّرْفِ أَيْ وَقْتَ سِرٍّ وَعَلَانِيَةٍ. وَثَالِثُهَا: عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ إِنْفَاقَ سِرٍّ وَإِنْفَاقَ عَلَانِيَةٍ وَالْمُرَادُ إِخْفَاءُ التَّطَوُّعِ وَإِعْلَانُ الْوَاجِبِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ قَالَ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: البيع هاهنا الْفِدَاءُ وَالْخِلَالُ الْمُخَالَّةُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ خَالَلْتُ خِلَالًا وَمُخَالَّةً، وَهِيَ الْمُصَادَقَةُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّمَا هُوَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا شِرَاءٌ وَلَا مُخَالَّةٌ وَلَا قَرَابَةٌ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: أَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى تَجِدُوا ثَوَابَ ذَلِكَ الْإِنْفَاقِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي لَا تَحْصُلُ فِيهِ مُبَايَعَةٌ وَلَا مُخَالَّةٌ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [الْبَقَرَةِ: 254] . فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ نَفَى الْمُخَالَّةَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَهَا فِي قَوْلِهِ: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزُّخْرُفِ: 67] . قُلْنَا: الْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى نَفْيِ الْمُخَالَّةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى نَفْيِ الْمُخَالَّةِ بِسَبَبِ مَيْلِ الطَّبِيعَةِ وَرَغْبَةِ النَّفْسِ، وَالْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى ثُبُوتِ الْمُخَالَّةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى حُصُولِ الْمُخَالَّةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاللَّهُ أعلم. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 32 الى 34] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا أَطَالَ الْكَلَامَ فِي وَصْفِ أحوال السعداء وأحوال الأشقياء، وكانت الْعُمْدَةُ الْعُظْمَى وَالْمَنْزِلَةُ الْكُبْرَى فِي حُصُولِ السَّعَادَاتِ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِذَاتِهِ وَبِصِفَاتِهِ، وَفِي حُصُولِ الشَّقَاوَةِ فِقْدَانَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ، لَا جَرَمَ خَتَمَ اللَّهُ تَعَالَى وَصْفَ أَحْوَالِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَكَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وذكر هاهنا عشرة أنواع من الدلائل. أولها: خلق السموات. وَثَانِيهَا: خَلْقُ الْأَرْضِ، وَإِلَيْهِمَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. وَثَالِثُهَا: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ. وَسَادِسُهَا وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ. وَثَامِنُهَا وَتَاسِعُهَا: قَوْلُهُ: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ. وَعَاشِرُهَا: قَوْلُهُ: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَهَذِهِ الدَّلَائِلُ الْعَشَرَةُ قَدْ مَرَّ ذِكْرُهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَتَقْرِيرُهَا وَتَفْسِيرُهَا مرارا وأطوارا ولا بأس بأن نذكر هاهنا بعض الفوائد. [الحجة الأولى والثانية قَوْلُهُ تَعَالَى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ] فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اللَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلَهُ: الَّذِي خَلَقَ خَبَرُهُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بذكر خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ

السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ مِنْ كَمْ وَجْهٍ تَدُلُّ عَلَى وجود الصانع الحكيم، وإنما بدأ بذكرهما هاهنا لِأَنَّهُمَا هُمَا الْأَصْلَانِ اللَّذَانِ يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِمَا سَائِرُ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: [الحجة الثالثة] وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: البحث الْأَوَّلُ: لَوْلَا السَّمَاءُ لَمْ يَصِحَّ إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنْهَا وَلَوْلَا الْأَرْضُ لَمْ يُوجَدْ مَا يَسْتَقِرُّ الْمَاءُ فِيهِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِمَا حَتَّى يَحْصُلَ هَذَا الْمَقْصُودُ وَهَذَا الْمَطْلُوبُ. البحث الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَاءَ نَزَلَ مِنَ السَّحَابِ وَسُمِّيَ السَّحَابُ سَمَاءً اشْتِقَاقًا مِنَ السُّمُوِّ، وَهُوَ الِارْتِفَاعُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَهُ مِنْ نَفْسِ السَّمَاءِ وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا كَانَ واقفا على قلة جَبَلٍ عَالٍ وَيَرَى الْغَيْمَ أَسْفَلَ مِنْهُ فَإِذَا نَزَلَ مِنْ ذَلِكَ الْجَبَلِ يَرَى ذَلِكَ الْغَيْمَ مَاطِرًا عَلَيْهِمْ وَإِذَا كَانَ هَذَا أَمْرًا مُشَاهَدًا بِالْبَصَرِ كَانَ النِّزَاعُ فِيهِ بَاطِلًا. البحث الثَّالِثُ: قَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ هَذِهِ الثَّمَرَاتِ بِوَاسِطَةِ هَذَا الْمَاءِ الْمُنْزَلِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَصْلَحَةً لِلْمُكَلَّفِينَ، لِأَنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ هَذِهِ الْمَنَافِعَ الْقَلِيلَةَ يَجِبُ أَنْ تُتَحَمَّلَ فِي تَحْصِيلِهَا الْمَشَاقُّ وَالْمَتَاعِبُ، فَالْمَنَافِعُ الْعَظِيمَةُ الدَّائِمَةُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ أَوْلَى أَنْ تُتَحَمَّلَ الْمَشَاقُّ فِي طَلَبِهَا، وَإِذَا كَانَ الْمَرْءُ يَتْرُكُ الرَّاحَةَ وَاللَّذَّاتِ طَلَبًا لِهَذِهِ الْخَيْرَاتِ الْحَقِيرَةِ، فَبِأَنْ يَتْرُكَ اللَّذَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةَ لِيَفُوزَ بِثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتَخَلَّصَ عَنْ عِقَابِهِ أَوْلَى. وَلِهَذَا السَّبَبِ لَمَّا زَالَ التَّكْلِيفُ فِي الْآخِرَةِ أَنَالَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ نَفْسٍ مُشْتَهَاهَا مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا نَصَبٍ، هَذَا قَوْلُ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَالَ قَوْمٌ آخَرُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى يُحْدِثُ الثِّمَارَ وَالزُّرُوعَ بِوَاسِطَةِ هَذَا الْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالمسألة كَلَامِيَّةٌ مَحْضَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. البحث الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: لَفْظُ الثَّمَراتِ يَقَعُ فِي الْأَغْلَبِ عَلَى مَا يَحْصُلُ عَلَى الْأَشْجَارِ، وَيَقَعُ أَيْضًا عَلَى الزُّرُوعِ وَالنَّبَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الْأَنْعَامِ: 141] . البحث الْخَامِسُ: قَالَ تَعَالَى: فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَخْرَجَ هَذِهِ الثَّمَرَاتِ لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ رِزْقًا لَنَا، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى قَصَدَ بِتَخْلِيقِ هَذِهِ الثَّمَرَاتِ إِيصَالَ الْخَيْرِ وَالْمَنْفَعَةِ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ، لِأَنَّ الْإِحْسَانَ لَا يَكُونُ إِحْسَانًا إِلَّا إِذَا قَصَدَ الْمُحْسِنُ بِفِعْلِهِ إِيصَالَ النَّفْعِ إِلَى الْمُحْسَنِ إِلَيْهِ. البحث السَّادِسُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ: مِنَ الثَّمَراتِ بَيَانٌ لِلرِّزْقِ، أَيْ أَخْرَجَ بِهِ رِزْقًا هُوَ ثَمَرَاتٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَفْعُولَ أَخْرَجَ وَرِزْقًا حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ أَوْ نَصْبًا عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ أَخْرَجَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى رَزَقَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَرَزَقَ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ. فَأَمَّا الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ قَوْلُهُ: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تعالى: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ [الشُّورَى: 32] فَفِيهَا مَبَاحِثُ: البحث الْأَوَّلُ: أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِمَا يَنْبُتُ مِنَ الْأَرْضِ إِنَّمَا يَكْمُلُ بِوُجُودِ الْفُلْكِ الْجَارِي فِي الْبَحْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ كُلَّ طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ الْأَرْضِ بِنَوْعٍ آخَرَ مِنْ أَنْعُمِهِ حَتَّى إِنَّ نِعْمَةَ هَذَا الطَّرَفِ إِذَا نُقِلَتْ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنَ الْأَرْضِ وَبِالْعَكْسِ كَثُرَ الرِّبْحُ فِي التِّجَارَاتِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا النَّقْلَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِسُفُنِ الْبَرِّ وَهِيَ الْجِمَالُ أَوْ

بِسُفُنِ الْبَحْرِ وَهِيَ الْفُلْكُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ مَعَ أَنَّ تَرْكِيبَ السَّفِينَةِ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ؟ قُلْنَا: أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا إِنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا سُؤَالَ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَقَدْ أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ فَقَالَ: لَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْأَشْجَارَ الصُّلْبَةَ الَّتِي مِنْهَا يُمْكِنُ تَرْكِيبُ السُّفُنِ وَلَوْلَا خَلْقُهُ/ لِلْحَدِيدِ وَسَائِرِ الْآلَاتِ وَلَوْلَا تَعْرِيفُهُ الْعِبَادَ كَيْفَ يتخذوه وَلَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْمَاءَ عَلَى صِفَةِ السَّيَلَانِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا يَصِحُّ جَرْيُ السَّفِينَةِ، وَلَوْلَا خَلْقُهُ تَعَالَى الرِّيَاحَ وَخَلْقُ الْحَرَكَاتِ الْقَوِيَّةِ فِيهَا وَلَوْلَا أَنَّهُ وَسَّعَ الْأَنْهَارَ وَجَعَلَ فِيهَا مِنَ الْعُمْقِ مَا يَجُوزُ جَرْيُ السُّفُنِ فِيهَا لَمَا وَقَعَ الِانْتِفَاعُ بِالسُّفُنِ فَصَارَ لِأَجْلِ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِهَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَهُوَ الْمُدَبِّرُ لِهَذِهِ الْأُمُورِ وَالْمُسَخِّرُ لَهَا حَسُنَتْ إِضَافَةُ السُّفُنِ إِلَيْهِ. البحث الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ ذَلِكَ التَّسْخِيرَ إِلَى أَمْرِهِ لِأَنَّ الْمَلِكَ الْعَظِيمَ قَلَّمَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ فَعَلَ وَإِنَّمَا يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُ أَمَرَ بِكَذَا تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ: 40] وَتَحْقِيقُ هَذَا الوجه رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. البحث الثَّالِثُ: الْفُلْكُ مِنَ الْجَمَادَاتِ فَتَسْخِيرُهَا مَجَازٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَجْرِي عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ كَمَا يَشْتَهِيهِ الْمَلَّاحُ صَارَ كَأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُسَخَّرٌ لَهُ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ وَاعْلَمْ أَنَّ مَاءَ الْبَحْرِ قَلَّمَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الزِّرَاعَاتِ لَا جَرَمَ ذَكَرَ تَعَالَى إِنْعَامَهُ عَلَى الْخَلْقِ بِتَفْجِيرِ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ حَتَّى يَنْبَعِثَ الْمَاءُ مِنْهَا إِلَى مَوَاضِعِ الزَّرْعِ وَالنَّبَاتِ، وَأَيْضًا مَاءُ الْبَحْرِ لَا يَصْلُحُ لِلشُّرْبِ، وَالصَّالِحُ لِهَذَا الْمُهِمِّ هُوَ مِيَاهُ الْأَنْهَارِ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ عَظِيمٌ، وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ مِنْهَا قَوْلُهُ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً [نُوحٍ: 16] وَمِنْهَا قَوْلُهُ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ [الرَّحْمَنِ: 5] وَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الْفُرْقَانِ: 61] وَمِنْهَا قَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يُونُسَ: 5] وَقَوْلُهُ: دائِبَيْنِ مَعْنَى الدؤب فِي اللُّغَةِ مُرُورُ الشَّيْءِ فِي الْعَمَلِ عَلَى عادة مطردة يقال دأب يدأب دأبا ودؤبا وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي قَوْلِهِ: قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً [يُوسُفَ: 47] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: قَوْلُهُ: دائِبَيْنِ مَعْنَاهُ يَدْأَبَانِ فِي سَيْرِهِمَا وَإِنَارَتِهِمَا وَتَأْثِيرِهِمَا فِي إِزَالَةِ الظُّلْمَةِ وَفِي إِصْلَاحِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ فَإِنَّ الشَّمْسَ سُلْطَانُ النَّهَارِ وَالْقَمَرَ سُلْطَانُ اللَّيْلِ وَلَوْلَا الشَّمْسُ لَمَا حَصَلَتِ الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ، وَلَوْلَاهَا لَاخْتَلَّتْ مَصَالِحُ الْعَالَمِ بِالْكُلِّيَّةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَنَافِعَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ. الحجة الثامنة والتاسعة: قوله: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنَافِعَهُمَا مَذْكُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النَّبَأِ: 10، 11] وَقَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً [يونس: 67] قال ولمتكلمون: تَسْخِيرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَجَازٌ لِأَنَّهُمَا عَرَضَانِ، وَالْأَعْرَاضُ لَا تُسَخَّرُ. وَالْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ تِلْكَ النِّعْمَةَ الْعَظِيمَةَ بَيَّنَ

بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهَا، بَلْ أَعْطَى عِبَادَهُ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمُرَادَاتِ مَا لَا يَأْتِي عَلَى بَعْضِهَا التَّعْدِيدُ وَالْإِحْصَاءُ فَقَالَ: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ من كل مسؤول شيئا، وقرئ: من كل بالتنوين وما سَأَلْتُمُوهُ نَفْيٌ وَمَحَلُّهُ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ آتَاكُمْ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ غَيْرَ سَائِلِيهِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ «مَا» مَوْصُولَةً وَالتَّقْدِيرُ: آتَاكُمْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ مَا احْتَجْتُمْ إِلَيْهِ وَلَمْ تَصْلُحْ أَحْوَالُكُمْ وَمَعَايِشُكُمْ إِلَّا بِهِ، فَكَأَنَّكُمْ سَأَلْتُمُوهُ أَوْ طَلَبْتُمُوهُ بِلِسَانِ الْحَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ النِّعَمَ خَتَمَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها قَالَ الْوَاحِدِيُّ: النعمة هاهنا اسْمٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْمَصْدَرِ يُقَالُ: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، يُنْعِمُ إِنْعَامًا وَنِعْمَةً أُقِيَمَ الِاسْمُ مَقَامَ الْإِنْعَامِ كَقَوْلِهِ: أَنْفَقْتُ عَلَيْهِ إِنْفَاقًا وَنَفَقَةً بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَا تُحْصُوها أَيْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى تَعْدِيدِ جَمِيعِهَا لِكَثْرَتِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى أَقْسَامِ نِعَمِ اللَّهِ مُمْتَنِعٌ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ لِيَعْرِفَ عَجْزَ نَفْسِهِ عَنْهُ وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْهُ مِثَالَيْنِ. الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَطِبَّاءَ ذَكَرُوا أَنَّ الْأَعْصَابَ قِسْمَانِ، مِنْهَا دِمَاغِيَّةٌ وَمِنْهَا نُخَاعِيَّةٌ. أَمَّا الدِّمَاغِيَّةُ فَإِنَّهَا سَبْعَةٌ ثُمَّ أَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ الحكم النَّاشِئَةِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ السَّبْعَةِ، ثُمَّ مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ السَّبْعَةِ تَنْقَسِمُ إِلَى شُعَبٍ كَثِيرَةٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الشُّعَبِ أَيْضًا إِلَى شُعَبٍ دَقِيقَةٍ أَدَقَّ مِنَ الشَّعَرِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَمَرٌّ إِلَى الْأَعْضَاءِ وَلَوْ أَنَّ شُعْبَةً وَاحِدَةً اخْتَلَّتْ إِمَّا بِسَبَبِ الْكَمِّيَّةِ أَوْ بِسَبَبِ الْكَيْفِيَّةِ أَوْ بِسَبَبِ الْوَضْعِ لَاخْتَلَّتْ مَصَالِحُ الْبِنْيَةِ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الشُّعَبَ الدَّقِيقَةَ تَكُونُ كَثِيرَةَ الْعَدَدِ جِدًّا، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا حِكْمَةٌ مَخْصُوصَةٌ، فَإِذَا نَظَرَ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الْمَعْنَى عرف أن الله تَعَالَى بِحَسَبِ كُلِّ شَظِيَّةٍ مِنْ تِلْكَ الشَّظَايَا الْعَصَبِيَّةِ عَلَى الْعَبْدِ نِعْمَةً عَظِيمَةً لَوْ فَاتَتْ لَعَظُمَ الضَّرَرُ عَلَيْهِ وَعَرَفَ قَطْعًا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهَا وَالِاطِّلَاعِ عَلَى أَحْوَالِهَا وَعِنْدَ هَذَا يَقْطَعُ بِصِحَّةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها وَكَمَا اعْتَبَرْتَ هَذَا فِي الشَّظَايَا الْعَصَبِيَّةِ فَاعْتَبِرْ مِثْلَهُ فِي الشَّرَايِينِ وَالْأَوْرِدَةِ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ الْبَسِيطَةِ وَالْمُرَكَّبَةِ بِحَسَبِ الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَالْوَضْعِ وَالْفِعْلِ وَالِانْفِعَالِ حَتَّى تَرَى أَقْسَامَ هَذَا الْبَابِ بَحْرًا لَا سَاحِلَ لَهُ، وَإِذَا اعْتَبَرْتَ هَذَا فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ فَاعْرِفْ أَقْسَامَ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي نَفْسِهِ وَرُوحِهِ، فَإِنَّ عَجَائِبَ عَالَمِ الْأَرْوَاحِ أَكْثَرُ مِنْ عَجَائِبِ عَالَمِ الْأَجْسَادِ ثُمَّ لَمَّا اعْتَبَرْتَ حَالَةَ الْحَيَوَانِ الْوَاحِدِ فَعِنْدَ ذَلِكَ اعْتَبِرْ أَحْوَالَ عَالَمِ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ وَطَبَقَاتِ الْعَنَاصِرِ وَعَجَائِبِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَعِنْدَ هَذَا تَعْرِفُ/ أَنَّ عُقُولَ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ لَوْ رُكِّبَتْ وَجُعِلَتْ عَقْلًا وَاحِدًا ثُمَّ بِذَلِكَ الْعَقْلِ يَتَأَمَّلُ الْإِنْسَانُ فِي عَجَائِبِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَقَلِّ الْأَشْيَاءِ لَمَا أَدْرَكَ مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيلَ، فَسُبْحَانَهُ تَقَدَّسَ عَنْ أَوْهَامِ الْمُتَوَهِّمِينَ. الْمِثَالُ الثَّانِي: أَنَّكَ إِذَا أَخَذْتَ اللُّقْمَةَ الْوَاحِدَةَ لِتَضَعَهَا فِي الْفَمِ فَانْظُرْ إِلَى مَا قَبْلَهَا وَإِلَى مَا بَعْدَهَا أَمَّا الْأُمُورُ الَّتِي قَبْلَهَا: فَاعْرِفْ أَنَّ تِلْكَ اللُّقْمَةَ مِنَ الْخُبْزِ لَا تَتِمُّ وَلَا تَكْمُلُ إِلَّا إِذَا كَانَ هَذَا الْعَالَمُ بِكُلِّيَّتِهِ قَائِمًا عَلَى الوجه الْأَصْوَبِ، لِأَنَّ الْحِنْطَةَ لَا بُدَّ مِنْهَا، وأنها لا تنبت إلا معونة الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، وَتَرْكِيبِ الطَّبَائِعِ وَظُهُورِ الرِّيَاحِ وَالْأَمْطَارِ، وَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا بَعْدَ دَوَرَانِ الْأَفْلَاكِ، وَاتِّصَالِ بَعْضِ الْكَوَاكِبِ بِبَعْضٍ عَلَى وُجُوهٍ مَخْصُوصَةٍ فِي الْحَرَكَاتِ، وَفِي كَيْفِيَّتِهَا فِي الْجِهَةِ وَالسُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ ثُمَّ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ الْحِنْطَةُ لَا بُدَّ مِنْ آلَاتِ الطَّحْنِ وَالْخَبْزِ، وَهِيَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ تَوَلُّدِ الْحَدِيدِ فِي أَرْحَامِ الْجِبَالِ، ثُمَّ إِنَّ الْآلَاتِ الْحَدِيدِيَّةَ لَا يُمْكِنُ إِصْلَاحُهَا إِلَّا بِآلَاتٍ

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 إلى 36]

أُخْرَى حَدِيدِيَّةٍ سَابِقَةٍ عَلَيْهَا، وَلَا بُدَّ مِنَ انْتِهَائِهَا إِلَى آلَةٍ حَدِيدِيَّةٍ هِيَ أَوَّلُ هَذِهِ الْآلَاتِ، فَتَأَمَّلْ أَنَّهَا كَيْفَ تَكَوَّنَتْ عَلَى الْأَشْكَالِ الْمَخْصُوصَةِ، ثُمَّ إِذَا حَصَلَتْ تِلْكَ الْآلَاتُ فَانْظُرْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ اجْتِمَاعِ الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ، وَهِيَ الْأَرْضُ وَالْمَاءُ وَالْهَوَاءُ وَالنَّارُ حَتَّى يُمْكِنَ طَبْخُ الْخُبْزِ مِنْ ذَلِكَ الدَّقِيقِ. فَهَذَا هُوَ النَّظَرُ فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَى حُصُولِ هَذِهِ اللُّقْمَةِ. وَأَمَّا النَّظَرُ فِيمَا بَعْدَ حُصُولِهَا: فَتَأَمَّلْ فِي تَرْكِيبِ بَدَنِ الْحَيَوَانِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى كَيْفَ خَلَقَ الْأَبْدَانَ حَتَّى يُمْكِنَهَا الِانْتِفَاعُ بِتِلْكَ اللُّقْمَةِ، وَأَنَّهُ كَيْفَ يَتَضَرَّرُ الْحَيَوَانُ بِالْأَكْلِ وَفِي أَيِّ الْأَعْضَاءِ تَحْدُثُ تِلْكَ الْمَضَارُّ، وَلَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَعْرِفَ الْقَلِيلَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ عِلْمِ التَّشْرِيحِ وَعِلْمِ الطِّبِّ بِالْكُلِّيَّةِ، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِاللُّقْمَةِ الْوَاحِدَةِ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ جُمْلَةِ الْأُمُورِ، وَالْعُقُولُ قَاصِرَةٌ عَنْ إِدْرَاكِ ذَرَّةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ، فَظَهَرَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْقَاهِرِ صِحَّةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ قِيلَ: يَظْلِمُ النِّعْمَةَ بِإِغْفَالِ شُكْرِهَا كَفَّارٌ شَدِيدُ الْكُفْرَانِ لَهَا. وَقِيلَ: ظَلُومٌ فِي الشِّدَّةِ يَشْكُو وَيَجْزَعُ، كَفَّارٌ فِي النِّعْمَةِ يَجْمَعُ وَيَمْنَعُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الإنسان هاهنا: الْجِنْسُ، يَعْنِي أَنَّ عَادَةَ هَذَا الْجِنْسِ هُوَ هذا الذي ذكرناه، وهاهنا بَحْثَانِ: البحث الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى النِّسْيَانِ وَعَلَى الْمَلَالَةِ، فَإِذَا وَجَدَ نِعْمَةً نَسِيَهَا فِي الْحَالِ وَظَلَمَهَا بِتَرْكِ شُكْرِهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْسَهَا فَإِنَّهُ فِي الْحَالِ يَمَلُّهَا فَيَقَعُ فِي كُفْرَانِ النِّعْمَةِ، وَأَيْضًا أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ كَثِيرَةٌ فَمَتَى حَاوَلَ التَّأَمُّلَ فِي بَعْضِهَا غَفَلَ عَنِ الْبَاقِي. البحث الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ وَقَالَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النَّحْلِ: 18] وَلَمَّا تَأَمَّلْتُ فِيهِ لَاحَتْ لِي فِيهِ دَقِيقَةٌ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا حَصَلَتِ النِّعَمُ/ الْكَثِيرَةُ فَأَنْتَ الَّذِي أَخَذْتَهَا وَأَنَا الَّذِي أَعْطَيْتُهَا، فَحَصَلَ لَكَ عِنْدَ أَخْذِهَا وَصْفَانِ: وَهُمَا كَوْنُكَ ظَلُومًا كَفَّارًا، وَلِي وَصْفَانِ عِنْدَ إِعْطَائِهَا وَهُمَا كَوْنِي غَفُورًا رَحِيمًا، وَالْمَقْصُودُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ كُنْتَ ظَلُومًا فَأَنَا غَفُورٌ، وَإِنْ كُنْتَ كَفَّارًا فَأَنَا رَحِيمٌ أَعْلَمُ عَجْزَكَ وَقُصُورَكَ فَلَا أُقَابِلُ تَقْصِيرَكَ إلا بالتوفير ولا أجازي جفاء إِلَّا بِالْوَفَاءِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ حُسْنَ الْعَاقِبَةِ وَالرَّحْمَةَ. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 36] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بِالدَّلَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ لَا مَعْبُودَ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِبَادَةُ غَيْرِهِ تَعَالَى الْبَتَّةَ حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُبَالَغَتَهُ فِي إِنْكَارِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَالْمُرَادُ: مَكَّةُ آمِنًا ذَا أَمْنٍ. فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ قَوْلِهِ: اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً [الْبَقَرَةِ: 126] وَبَيْنِ قَوْلِهِ: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً. قُلْنَا: سَأَلَ فِي الْأَوَّلِ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْبِلَادِ الَّتِي يَأْمَنُ أَهْلُهَا فَلَا يَخَافُونَ، وَفِي الثَّانِي: أَنْ يُزِيلَ عَنْهَا الصِّفَةَ الَّتِي كَانَتْ حَاصِلَةً لَهَا، وَهِيَ الْخَوْفُ، وَيَحْصُلَ لَهَا ضِدُّ تِلْكَ الصِّفَةِ وَهُوَ الْأَمْنُ كَأَنَّهُ قَالَ هُوَ بَلَدٌ مَخُوفٌ فَاجْعَلْهُ آمِنًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ وَفِيهِ مسائل:

المسألة الْأُولَى: قُرِئَ وَاجْنُبْنِي وَفِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ جَنَبَهُ وَأَجْنَبَهُ وَجَنَّبَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُ جَنَبَنِي يَجْنُبُنِي بِالتَّخْفِيفِ. وَأَهْلُ نَجْدٍ يَقُولُونَ جَنَّبَنِي شَرَّهُ وَأَجْنَبَنِي شَرَّهُ، وَأَصْلُهُ جَعْلُ الشَّيْءِ عَنْ غَيْرِهِ عَلَى جَانِبٍ وَنَاحِيَةٍ. المسألة الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْإِشْكَالُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَ مَكَّةَ آمِنًا، وَمَا قَبِلَ اللَّهِ دُعَاءَهُ، لِأَنَّ جَمَاعَةً خَرَّبُوا الْكَعْبَةَ وَأَغَارُوا عَلَى/ مَكَّةَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَا يَعْبُدُونَ الْوَثَنَ الْبَتَّةَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ اجْنُبْنِي عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا يَجْعَلَ أَبْنَاءَهُ مِنْ عَبَدَةِ الأصنام والله تعالى لم يقبل دعاءه، ولأن كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَانُوا مِنْ أَوْلَادِهِ، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُمْ مَا كَانُوا أَبْنَاءَ إِبْرَاهِيمَ وَإِنَّمَا كَانُوا أَبْنَاءَ أَبْنَائِهِ، وَالدُّعَاءُ مَخْصُوصٌ بِالْأَبْنَاءِ، فَنَقُولُ: فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ أُولَئِكَ الْأَبْنَاءِ أَبْنَاءَهُ مِنْ صُلْبِهِ، وَهُمْ مَا كَانُوا إِلَّا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، وَهُمَا كَانَا مِنْ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَعْبُدُونَ الصَّنَمَ، فَقَدْ عَادَ السُّؤَالُ فِي أَنَّهُ مَا الْفَائِدَةُ فِي ذَلِكَ الدُّعَاءِ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نُقِلَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ ذَكَرَ هَذَا الدُّعَاءَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ: جَعْلُ تِلْكَ الْبَلْدَةِ آمِنَةً مِنَ الْخَرَابِ. وَالثَّانِي: أن المراد جعل أهلها آمنين، كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] أَيْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ، وَهَذَا الوجه عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الوجه الْأَوَّلُ: مَا اخْتَصَّتْ بِهِ مَكَّةُ مِنْ حُصُولِ مَزِيدٍ مِنَ الْأَمْنِ، وَهُوَ أَنَّ الْخَائِفَ كَانَ إِذَا الْتَجَأَ إِلَى مَكَّةَ أَمِنَ، وَكَانَ النَّاسُ مَعَ شِدَّةِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ يَتَلَاقَوْنَ بِمَكَّةَ فَلَا يَخَافُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَمِنْ ذَلِكَ أَمْنُ الْوَحْشِ فَإِنَّهُمْ يَقْرَبُونَ مِنَ النَّاسِ إِذَا كَانُوا بِمَكَّةَ، وَيَكُونُونَ مُسْتَوْحِشِينَ عَنِ النَّاسِ خَارِجَ مَكَّةَ، فَهَذَا النوع مِنَ الْأَمْنِ حَاصِلٌ فِي مَكَّةَ فَوَجَبَ حَمْلُ الدُّعَاءِ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً أَيْ بِالْأَمْرِ وَالحكم بِجَعْلِهِ آمِنًا وَذَلِكَ الْأَمْرُ وَالحكم حَاصِلٌ لَا مَحَالَةَ. وَالْجَوَابُ: عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ ثَبِّتْنِي عَلَى اجْتِنَابِ عِبَادَتِهَا كَمَا قَالَ: وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [الْبَقَرَةِ: 128] أَيْ ثَبِّتْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ السُّؤَالُ؟ بَاقٍ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ تَعَالَى يُثَبِّتُ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى الِاجْتِنَابِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا السُّؤَالِ وَالصَّحِيحُ عِنْدِي فِي الْجَوَابِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْصِمُهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ هَضْمًا لِلنَّفْسِ وَإِظْهَارًا لِلْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ إِلَى فَضْلِ اللَّهِ فِي كُلِّ الْمَطَالِبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الصُّوفِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ الشِّرْكَ نَوْعَانِ: شِرْكٌ جَلِيٌّ وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، وَشِرْكٌ خَفِيٌّ وَهُوَ تَعْلِيقُ القلب بالوسائط وَبِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ وَالتَّوْحِيدُ الْمَحْضُ هُوَ أَنْ يَنْقَطِعَ نظره عن الوسائط وَلَا يَرَى مُتَصَرِّفًا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَعْصِمَهُ عَنْ هَذَا الشِّرْكِ الْخَفِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.

وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ وَبَنِيَّ أَرَادَ بَنِيهِ مِنْ صُلْبِهِ وَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا الدُّعَاءِ عَيْنُ الْفَائِدَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي قَوْلِهِ: وَاجْنُبْنِي. وَالثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ أَرَادَ مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ كُلَّ مَنْ كَانُوا مَوْجُودِينَ حَالَ الدُّعَاءِ وَلَا شُبْهَةَ أَنَّ دَعْوَتَهُ مُجَابَةٌ فِيهِمْ. الثَّالِثُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يَعْبُدْ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَنَمًا، وَالصَّنَمُ هُوَ التِّمْثَالُ الْمُصَوَّرُ وَمَا لَيْسَ بِمُصَوَّرٍ فَهُوَ وَثَنٌ. وَكُفَّارُ قُرَيْشٍ مَا عَبَدُوا التِّمْثَالَ وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ أَحْجَارًا مَخْصُوصَةً وَأَشْجَارًا مَخْصُوصَةً، وَهَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهَذَا الدُّعَاءِ إِلَّا عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحَجَرُ كَالصَّنَمِ فِي ذَلِكَ. الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَوْلَادِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَتْبَعْهُ عَلَى دِينِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لِنُوحٍ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ [هُودٍ: 46] . وَالْخَامِسُ: لَعَلَّهُ وَإِنْ كَانَ عَمَّمَ فِي الدُّعَاءِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَ دُعَاءَهُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَحْقِيرَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: 124] . المسألة الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَقْرِيرُ الدَّلِيلِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَجْنُبَهُ وَيَجْنُبَ أَوْلَادَهُ مِنَ الْكُفْرِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّبْعِيدَ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّقْرِيبَ مِنَ الْإِيمَانِ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَلْطَافِ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ، وَلِأَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا وُجُوهًا كَثِيرَةً فِي إِفْسَادِ هَذَا التَّأْوِيلِ. ثُمَّ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ وَاتَّفَقَ كُلُّ الْفِرَقِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: أَضْلَلْنَ مَجَازٌ لِأَنَّهَا جَمَادَاتٌ، وَالْجَمَادُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا الْبَتَّةَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ الْإِضْلَالُ عِنْدَ عِبَادَتِهَا أُضِيفَ إِلَيْهَا كَمَا تَقُولُ فَتَنَتْهُمُ الدُّنْيَا وَغَرَّتْهُمْ، أَيِ افْتُتِنُوا بِهَا وَاغْتَرُّوا بِسَبَبِهَا. ثم قال: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي يَعْنِي مَنْ تَبِعَنِي فِي دِينِي وَاعْتِقَادِي فَإِنَّهُ مِنِّي، أَيْ جَارٍ مَجْرَى بَعْضِي لِفَرْطِ اخْتِصَاصِهِ بِي وَقُرْبِهِ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فِي غَيْرِ الدِّينِ فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ وَالْغَرَضُ مِنْهُ الشَّفَاعَةُ فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ صَرِيحٌ فِي طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لِأُولَئِكَ الْعُصَاةِ فَنَقُولُ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْكُفَّارِ أَوْ لَا يَكُونُوا كَذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَّنَ فِي مُقَدِّمَةِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ مُبَرَّأٌ عَنِ الْكُفَّارِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ وَأَيْضًا قَوْلُهُ: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَتْبَعْهُ/ عَلَى دِينِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ وَلَا يَهْتَمُّ بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الشَّفَاعَةَ فِي إِسْقَاطِ عِقَابِ الْكُفْرِ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ شَفَاعَةٌ فِي الْعُصَاةِ الَّذِينَ لَا يَكُونُونَ مِنَ الْكُفَّارِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: تِلْكَ الْمَعْصِيَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّغَائِرِ أَوْ مِنَ الْكَبَائِرِ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَوْ مِنَ الْكَبَائِرِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي بَاطِلَانِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ عَصانِي اللَّفْظُ فِيهِ مُطْلَقٌ فَتَخْصِيصُهُ بِالصَّغِيرَةِ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ، وَأَيْضًا فَالصَّغَائِرُ وَالْكَبَائِرُ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَاجِبَةُ الْغُفْرَانِ عِنْدَ الْخُصُومِ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَفَاعَةٌ فِي إِسْقَاطِ الْعِقَابِ عَنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ حُصُولُ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 37 إلى 41]

عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَبَتَ حُصُولُهَا فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْمَنْصِبَ أَعْلَى الْمَنَاصِبِ فَلَوْ حَصَلَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ حَاصِلٍ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ ذَلِكَ نُقْصَانًا فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِالِاقْتِدَاءِ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَامِ: 90] وَقَوْلِهِ: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فَهَذَا وَجْهٌ قَرِيبٌ فِي إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي إِسْقَاطِ الْعِقَابِ عَنْ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلْنَذْكُرْ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ: قَالَ السُّدِّيُّ مَعْنَاهُ: وَمَنْ عَصَانِي ثُمَّ تَابَ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الدُّعَاءَ إِنَّمَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ، وَقِيلَ مَنْ عَصَانِي بِإِقَامَتِهِ عَلَى الْكُفْرِ فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يَعْنِي أَنَّكَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ تَغْفِرَ لَهُ وَتَرْحَمَهُ بِأَنْ تَنْقُلَهُ عَنِ الْكُفْرِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْمَغْفِرَةِ أَنْ لَا يُعَاجِلَهُمْ بِالْعِقَابِ بَلْ يُمْهِلُهُمْ حَتَّى يَتُوبُوا أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ أَنْ لَا تُعَجِّلَ اخْتِرَامَهُمْ فَتَفُوتَهُمُ التَّوْبَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ ضَعِيفَةٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ حَمْلُ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ فَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ إِنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ إِنَّمَا كَانَتْ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ فَنَقُولُ: هَذَا أَيْضًا بَعِيدٌ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مُقَدِّمَةَ هذه الآية تدل على أنه لا يجوز أَنْ يَكُونَ مُرَادُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ هُوَ الشَّفَاعَةَ فِي إِسْقَاطِ عِقَابِ الْكُفْرِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ غَفُورًا رَحِيمًا أَنْ يَنْقُلَهُ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ فَهُوَ أَيْضًا بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ مُشْعِرَةٌ بِإِسْقَاطِ الْعِقَابِ وَلَا إِشْعَارَ فِيهِمَا بِالنَّقْلِ مِنْ صِفَةِ الْكُفْرِ إِلَى صِفَةِ الْإِيمَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ تُحْمَلَ الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ عَلَى تَعْجِيلِ الْعِقَابِ أَوْ تَرْكِ تَعْجِيلِ الْإِمَاتَةِ فَنَقُولُ هَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ كَفَّارَ زَمَانِنَا هَذَا أَكْثَرُ مِنْهُمْ وَلَمْ يُعَاجِلْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعِقَابِ وَلَا بِالْمَوْتِ مَعَ أَنَّ أَهْلَ الْإِسْلَامِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مَغْفُورِينَ وَلَا مَرْحُومِينَ فَبَطَلَ تَفْسِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى تَرْكِ تَعْجِيلِ الْعِقَابِ بِهَذَا الوجه وَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا صِحَّةُ مَا قَرَّرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 37 الى 41] رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ طَلَبَ فِي دُعَائِهِ أُمُورًا سَبْعَةً. الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ: طَلَبَ مِنَ اللَّهِ نِعْمَةَ الْأَمَانِ وَهُوَ قَوْلُهُ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً [البقرة: 126] وَالِابْتِدَاءُ بِطَلَبِ نِعْمَةِ الْأَمْنِ فِي هَذَا الدُّعَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ النِّعَمِ وَالْخَيْرَاتِ وَأَنَّهُ لَا يَتِمُّ شَيْءٌ مِنْ مَصَالِحِ

الدِّينِ وَالدُّنْيَا إِلَّا بِهِ، وَسُئِلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْأَمْنُ أَفْضَلُ أَمِ الصِّحَّةُ؟ فَقَالَ: الْأَمْنُ أَفْضَلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ شَاةً لَوِ انْكَسَرَتْ رِجْلُهَا فَإِنَّهَا تَصِحُّ بَعْدَ زَمَانٍ، ثُمَّ إِنَّهَا تُقْبِلُ عَلَى الرَّعْيِ وَالْأَكْلِ وَلَوْ أَنَّهَا رُبِطَتْ فِي مَوْضِعٍ وَرُبِطَ بِالْقُرْبِ مِنْهَا ذِئْبٌ فَإِنَّهَا تُمْسِكُ عَنِ الْعَلَفِ وَلَا تَتَنَاوَلُهُ إِلَى أَنْ تَمُوتَ/ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّرَرَ الْحَاصِلَ مِنَ الْخَوْفِ أَشَدُّ مِنَ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنْ أَلَمِ الْجَسَدِ. وَالْمَطْلُوبُ الثَّانِي: أَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ التَّوْحِيدَ، وَيَصُونَهُ عَنِ الشِّرْكِ، وَهُوَ قَوْلِهِ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إِبْرَاهِيمَ: 35] . وَالْمَطْلُوبُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ فَقَوْلُهُ: مِنْ ذُرِّيَّتِي أَيْ بَعْضَ ذُرِّيَّتِي وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ وَمَنْ وُلِدَ مِنْهُ بِوادٍ هُوَ وَادِي مَكَّةَ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ أَيْ لَيْسَ فيه شيء من زرع، كقوله: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزُّمَرِ: 28] بِمَعْنَى لَا يَحْصُلُ فِيهِ اعْوِجَاجٌ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، وَذَكَرُوا فِي تَسْمِيَتِهِ الْمُحَرَّمَ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ التَّعَرُّضَ لَهُ وَالتَّهَاوُنَ بِهِ، وَجَعَلَ مَا حَوْلَهُ حَرَمًا لِمَكَانِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ لَمْ يَزَلْ مُمْتَنِعًا عَزِيزًا يَهَابُهُ كُلُّ جَبَّارٍ كَالشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يُجْتَنَبَ. الثَّالِثُ: سُمِّيَ مُحَرَّمًا لِأَنَّهُ مُحْتَرَمٌ عَظِيمُ الْحُرْمَةِ لَا يَحِلُّ انْتِهَاكُهُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ حَرُمَ عَلَى الطُّوفَانِ أَيِ امْتَنَعَ مِنْهُ كَمَا سُمِّيَ عَتِيقًا لِأَنَّهُ أُعْتِقَ مِنْهُ فَلَمْ يُسْتَعْلَ عَلَيْهِ. الْخَامِسُ: أَمَرَ الصَّائِرِينَ إِلَيْهِ أَنْ يُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَشْيَاءَ كَانَتْ تَحِلُّ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ. السَّادِسُ: حَرَّمَ مَوْضِعَ البيت حين خلق السموات وَالْأَرْضَ وَحَفَّهُ بِسَبْعَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ مِثْلُ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الَّذِي بَنَاهُ آدَمُ، فَرُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. السَّابِعُ: حَرَّمَ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَقْرَبُوهُ بِالدِّمَاءِ وَالْأَقْذَارِ وَغَيْرِهَا: رُوِي أَنَّ هَاجَرَ كَانَتْ أَمَةً لِسَارَّةَ فَوَهَبَتْهَا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوَلَدَتْ لَهُ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَتْ سَارَّةُ: كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَهَبَ اللَّهُ لِي وَلَدًا مِنْ خَلِيلِهِ فَمَنَعْنِيهِ وَرَزَقَهُ خَادِمَتِي، وَقَالَتْ لِإِبْرَاهِيمَ: أَبْعِدْهُمَا مِنِّي فَنَقَلَهُمَا إِلَى مَكَّةَ وَإِسْمَاعِيلُ رَضِيعٌ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَتْ هَاجَرُ: إِلَى مَنْ تَكِلُنَا؟ فَقَالَ إِلَى اللَّهِ. ثُمَّ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ثُمَّ إِنَّهَا عَطِشَتْ وَعَطِشَ الصَّبِيُّ فَانْتَهَتْ بِالصَّبِيِّ إِلَى مَوْضِعِ زَمْزَمَ فَضَرَبَ بِقَدَمِهِ فَفَارَتْ عَيْنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْلَا أَنَّهَا عَجِلَتْ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا» ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَادَ بَعْدَ كِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَاشْتَغَلَ هُوَ مَعَ إِسْمَاعِيلَ بِرَفْعِ قَوَاعِدِ الْبَيْتِ. قَالَ الْقَاضِي: أَكْثَرُ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ بَعِيدَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَنْقُلَ وَلَدَهُ إِلَى حَيْثُ لَا طَعَامَ وَلَا مَاءَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْقُلَهُمَا إِلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى مِنْ بِلَادِ الشَّامِ لِأَجْلِ قَوْلِ سَارَّةَ إِلَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ يَحْصُلُ هُنَاكَ مَاءٌ وَطَعَامٌ، وَأَقُولُ: أَمَّا ظُهُورُ مَاءِ زمزم فيحتمل أن يكون إرهاصا لإسمعيل عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا جَائِزٌ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السلام. ثم قال: رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَسْكَنْتُ أَيْ أَسْكَنْتُ قَوْمًا مِنْ ذُرِّيَّتِي، وَهُمْ إِسْمَاعِيلُ وَأَوْلَادُهُ بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَا زَرْعَ فِيهِ لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ. ثم قال: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: البحث الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ هَوِيَ يَهْوِي هَوِيًّا بِالْفَتْحِ إِذَا سَقَطَ مِنْ عُلْوٍ إِلَى سُفْلٍ. وَقِيلَ: تَهْوِي إِلَيْهِمْ تُرِيدُهُمْ، وَقِيلَ: تُسْرِعُ إِلَيْهِمْ. وَقِيلَ: تَنْحَطُّ إِلَيْهِمْ وَتَنْحَدِرُ إِلَيْهِمْ وَتَنْزِلُ، يُقَالُ: هَوِيَ الْحَجَرُ مِنْ رَأَسِ الْجَبَلِ يَهْوِي إِذَا انْحَدَرَ وَانْصَبَّ، وَهَوِيَ الرَّجُلُ إِذَا انْحَدَرَ مِنْ رَأَسِ الْجَبَلِ.

البحث الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ جَامِعٌ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا. أَمَّا الدِّينُ فَلِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَيْلُ النَّاسِ إِلَى الذَّهَابِ إِلَى تِلْكَ الْبَلْدَةِ بِسَبَبِ النُّسُكِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الدُّنْيَا: فَلِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَيْلُ النَّاسِ إِلَى نَقْلِ الْمَعَاشَاتِ إِلَيْهِمْ بِسَبَبِ التِّجَارَاتِ، فَلِأَجْلِ هَذَا الْمَيْلِ يَتَّسِعُ عَيْشُهُمْ، وَيَكْثُرُ طَعَامُهُمْ وَلِبَاسُهُمْ. البحث الثَّالِثُ: كَلِمَةُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ تُفِيدُ التَّبْعِيضَ، وَالْمَعْنَى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةَ بَعْضِ النَّاسِ مَائِلَةً إِلَيْهِمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ قَالَ أَفْئِدَةَ النَّاسِ لَازْدَحَمَتْ عَلَيْهِ فَارِسُ وَالرُّومُ وَالتُّرْكُ وَالْهِنْدُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَوْ قال أفئدة الناس، لحجت اليهود والنصارى المجوس، وَلَكِنَّهُ قَالَ: أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ فَهُمُ الْمُسْلِمُونَ. ثم قال: وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ وَفِيهِ بَحْثَانِ: البحث الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: وَارْزُقْهُمُ الثَّمَرَاتِ، بَلْ قَالَ: وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ وَذَلِكَ يَدُلُّ على أن المطلوب بالدعاء اتصال بَعْضِ الثَّمَرَاتِ إِلَيْهِمْ. البحث الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِإِيصَالِ الثَّمَرَاتِ إِلَيْهِمْ إِيصَالَهَا إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ التِّجَارَاتِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمُرَادُ: عِمَارَةَ الْقُرَى بِالْقُرْبِ مِنْهَا لِتَحْصِيلِ الثِّمَارِ مِنْهَا. ثم قال: لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ لِلْعَاقِلِ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا أَنْ يَتَفَرَّغَ لِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ وَإِقَامَةِ الطَّاعَاتِ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا طَلَبَ تَيْسِيرَ الْمَنَافِعِ عَلَى أَوْلَادِهِ لِأَجْلِ أَنْ يَتَفَرَّغُوا لِإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ وَأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ. الْمَطْلُوبُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَما نُعْلِنُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَيْسِيرَ الْمَنَافِعِ لِأَوْلَادِهِ وَتَسْهِيلَهَا عَلَيْهِمْ، ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ عَوَاقِبَ الْأَحْوَالِ وَنِهَايَاتِ الْأُمُورِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ بِهَا الْمُحِيطُ بِأَسْرَارِهَا، فَقَالَ: رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ أَعْلَمُ بِأَحْوَالِنَا وَمَصَالِحِنَا وَمَفَاسِدِنَا مِنَّا، قِيلَ: مَا نُخْفِي مِنَ الْوَجْدِ بِسَبَبِ حُصُولِ الْفُرْقَةِ بَيْنِي وَبَيْنَ إِسْمَاعِيلَ، وَمَا نُعْلِنُ مِنَ الْبُكَاءِ، وَقِيلَ: مَا نُخْفِي مِنَ الْحُزْنِ الْمُتَمَكِّنِ فِي الْقَلْبِ وَمَا نُعْلِنُ يُرِيدُ مَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَاجَرَ حَيْثُ قَالَتْ لَهُ عِنْدَ الْوَدَاعِ إِلَى مَنْ تَكِلُنَا؟ / فَقَالَ إِلَى اللَّهِ أَكِلُكُمْ، قَالَتْ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ نَعَمْ: قَالَتْ إِذَنْ لَا نَخْشَى. ثم قال: وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَصْدِيقًا لِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام كقوله: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ [النحل: 34] وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْنِي وَمَا يَخْفَى عَلَى الَّذِي هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ مِنْ شَيْءٍ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَلَفْظُ «مِنْ» يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مَا. ثم قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: البحث الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَعْطَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَيْنِ الْوَلَدَيْنِ أَعْنِي إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ عَلَى الْكِبَرِ وَالشَّيْخُوخَةِ، فَأَمَّا مِقْدَارُ ذَلِكَ السِّنِّ فَغَيْرُ مَعْلُومٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا يُرْجَعُ فِيهِ إلى

الرِّوَايَاتِ فَقِيلَ لَمَّا وُلِدَ إِسْمَاعِيلُ كَانَ سِنُّ إِبْرَاهِيمَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَلَمَّا وُلِدَ إِسْحَاقُ كَانَ سِنُّهُ مِائَةً وَاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَقِيلَ وُلِدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ لِأَرْبَعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً وَوُلِدَ إِسْحَاقُ لِتِسْعِينَ سَنَةً، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: لَمْ يُولَدْ لِإِبْرَاهِيمَ إِلَّا بَعْدَ مِائَةٍ وَسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَإِنَّمَا ذَكَرَ قَوْلَهُ: عَلَى الْكِبَرِ لِأَنَّ الْمِنَّةَ بِهِبَةِ الْوَلَدِ فِي هَذَا السِّنِّ أَعْظَمُ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ هَذَا الزَّمَانَ زَمَانُ وُقُوعِ الْيَأْسِ مِنَ الْوِلَادَةِ وَالظَّفَرُ بِالْحَاجَةِ فِي وَقْتِ الْيَأْسِ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، وَلِأَنَّ الْوِلَادَةَ فِي تِلْكَ السِّنِّ الْعَالِيَةِ كَانَتْ آيَةً لِإِبْرَاهِيمَ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذكر هذا الدعاء عند ما أَسْكَنَ إِسْمَاعِيلَ وَهَاجَرَ أُمَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَادِي، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا وُلِدَ لَهُ إِسْحَاقُ فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ. قُلْنَا قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الدَّلِيلُ يَقْتَضِي أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ فِي زَمَانٍ آخَرَ لَا عَقِيبَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الدُّعَاءِ. وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الدُّعَاءَ بَعْدَ كِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَظُهُورِ إِسْحَاقَ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ بِخِلَافِهِ. البحث الثَّانِي: عَلَى فِي قَوْلِهِ: عَلَى الْكِبَرِ بِمَعْنَى مَعَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: إِنِّي عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنْ كِبَرِي ... أَعْلَمُ مِنْ حَيْثُ يُؤْكَلُ الْكَتِفُ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَمَعْنَاهُ: وَهَبَ لِي فِي حَالِ الْكِبَرِ. البحث الثَّالِثُ: فِي الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ: رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَذَلِكَ هُوَ كَأَنَّهُ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ اللَّهِ إِعَانَتَهُمَا وَإِعَانَةَ ذُرِّيَّتِهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِهَذَا/ الْمَطْلُوبِ، بَلْ قَالَ: رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَما نُعْلِنُ أَيْ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِنَا وَضَمَائِرِنَا، ثم قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَذَلِكَ يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى أَنَّهُمَا يَبْقَيَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَأَنَّهُ مَشْغُولُ الْقَلْبِ بِسَبَبِهِمَا فَكَانَ هَذَا دُعَاءً لَهُمَا بِالْخَيْرِ وَالْمَعُونَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى سَبِيلِ الرَّمْزِ وَالتَّعْرِيضِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالثَّنَاءِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الدُّعَاءِ أَفْضَلُ مِنَ الدُّعَاءِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَاكِيًا عَنْ رَبِّهِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» ثم قال: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الدُّعَاءَ عَلَى سَبِيلِ الرَّمْزِ وَالتَّعْرِيضِ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِيضَاحِ وَالتَّصْرِيحِ قَالَ: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِالْمَقْصُودِ سَوَاءً صَرَّحْتُ بِهِ أَوْ لَمْ أُصَرِّحْ وَقَوْلُهُ: سَمِيعُ الدُّعَاءِ. مِنْ قَوْلِكَ سَمِعَ الْمَلِكُ كَلَامَ فُلَانٍ إِذَا اعْتَدَّ بِهِ وَقَبِلَهُ وَمِنْهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. الْمَطْلُوبُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذَا الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعَبْدِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا إِنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْمَنْهِيَّاتِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ وَقَوْلَهُ: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورَاتِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ، وَذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُصِرًّا عَلَى أَنَّ الْكُلَّ من الله.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 إلى 43]

المسألة الثَّانِيَةُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي. أَيْ وَاجْعَلْ بَعْضَ ذُرِّيَّتِي كَذَلِكَ لِأَنَّ كَلِمَةَ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي لِلتَّبْعِيضِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا التَّبْعِيضَ لِأَنَّهُ عَلِمَ بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَكُونُ فِي ذُرِّيَّتِهِ جَمْعٌ مِنَ الْكُفَّارِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. الْمَطْلُوبُ السَّادِسُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَعَا اللَّهَ فِي الْمَطَالِبِ الْمَذْكُورَةِ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى فِي أَنْ يَقْبَلَ دُعَاءَهُ فَقَالَ: رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ عِبَادَتِي بِدَلِيلِ قوله تعالى: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مَرْيَمَ: 48] . الْمَطْلُوبُ السَّابِعُ: قَوْلُهُ: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ سَابِقَةِ الذَّنْبِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَدَرَ الذَّنْبُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ قَاطِعًا بِأَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ فَكَيْفَ طَلَبَ تَحْصِيلَ مَا كَانَ قَاطِعًا بِحُصُولِهِ؟ وَالْجَوَابُ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ الِالْتِجَاءُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَطْعُ الطَّمَعِ إِلَّا مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَرَحْمَتِهِ. المسألة الثَّانِيَةُ: إِنْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ جَازَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأَبَوَيْهِ وَكَانَا كَافِرَيْنِ؟ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالتَّوْقِيفِ فَلَعَلَّهُ لَمْ يَجِدْ منه منعا فظن كونه حائزا. الثَّانِي: أَرَادَ بِوَالِدَيْهِ آدَمَ وَحَوَّاءَ. الثَّالِثُ: كَانَ ذَلِكَ بِشَرْطِ الْإِسْلَامِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ ذَلِكَ الِاسْتِغْفَارُ بَاطِلًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَبَطَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الْمُمْتَحَنَةِ: 4] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ أُمُّهُ مُؤْمِنَةً، وَلِهَذَا السَّبَبِ خَصَّ أَبَاهُ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التَّوْبَةِ: 114] وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: يَقُومُ أَيْ يَثْبُتُ وَهُوَ مُسْتَعَارٌ مِنْ قِيَامِ الْقَائِمِ عَلَى الرِّجْلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقِهَا، وَنَظِيرُهُ قوله ترجلت الشمس، أي أشرقت وثبت ضوءها كَأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى رِجْلٍ. الثَّانِي: أَنْ يُسْنَدَ إِلَى الْحِسَابِ قِيَامُ أَهْلِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ مثل قوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] أي أهلها. والله أعلم. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 43] وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ ثُمَّ حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَصُونَهُ عَنِ الشِّرْكِ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُوَفِّقَهُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَأَنْ يَخُصَّهُ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَا يَدُلُّ عَلَى صِفَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَمَّا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْقِيَامَةِ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَنْتَقِمْ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ إِمَّا غَافِلًا عَنْ ذَلِكَ الظَّالِمِ أَوْ عَاجِزًا عَنِ الِانْتِقَامِ، أَوْ كَانَ رَاضِيًا بِذَلِكَ الظُّلْمِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْغَفْلَةُ وَالْعَجْزُ وَالرِّضَا بِالظُّلْمِ مُحَالًا عَلَى اللَّهِ امْتَنَعَ أَنْ لَا يَنْتَقِمَ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْسَبَ اللَّهَ موصوفا بالغفلة؟

وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِهِ التَّثْبِيتُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَحْسَبُ اللَّهَ غَافِلًا، كَقَوْلِهِ: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: 14] . وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [القصص: 88] وكقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. وَالثَّانِي: / أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْتَقِمْ لَكَانَ عَدَمُ الِانْتِقَامِ لِأَجْلِ غَفْلَتِهِ عَنْ ذَلِكَ الظُّلْمِ، وَلَمَّا كَانَ امْتِنَاعُ هَذِهِ الْغَفْلَةِ مَعْلُومًا لِكُلِّ أَحَدٍ لَا جَرَمَ كَانَ عَدَمُ الِانْتِقَامِ مُحَالًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ وَلَا تَحْسَبَنَّهُ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْغَافِلِ عَمَّا يَعْمَلُونَ، وَلَكِنْ مُعَامَلَةَ الرَّقِيبِ عَلَيْهِمُ الْمُحَاسِبِ عَلَى النَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ خِطَابًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظَّاهِرِ، إِلَّا أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ خِطَابًا مَعَ الْأُمَّةِ، وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: أَنَّهُ تَسْلِيَةٌ لِلْمَظْلُومِ وَتَهْدِيدٌ لِلظَّالِمِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُؤَخِّرُ عِقَابَ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ لِيَوْمٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَاتٍ. الصِّفَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ. يُقَالُ: شَخَصَ بَصَرُ الرَّجُلِ إِذَا بَقِيَتْ عَيْنُهُ مَفْتُوحَةً لَا يَطْرِفُهَا، وَشُخُوصُ الْبَصَرِ يَدُلُّ عَلَى الْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ وَسُقُوطِ الْقُوَّةِ. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مُهْطِعِينَ وَفِي تَفْسِيرِ الْإِهْطَاعِ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ هُوَ الْإِسْرَاعُ. يُقَالُ: أَهْطَعَ الْبَعِيرُ فِي سَيْرِهِ وَاسْتَهْطَعَ إِذَا أَسْرَعَ وَعَلَى هَذَا الوجه، فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ مَنْ يَبْقَى بَصَرُهُ شَاخِصًا مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ أَنْ يَبْقَى وَاقِفًا، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ حَالَهُمْ بِخِلَافِ هَذَا الْمُعْتَادِ، فَإِنَّهُمْ مَعَ شُخُوصِ أَبْصَارِهِمْ يَكُونُونَ مُهْطِعِينَ، أَيْ مُسْرِعِينَ نَحْوَ ذَلِكَ الْبَلَاءِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْإِهْطَاعِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: الْمُهْطِعُ الَّذِي يَنْظُرُ فِي ذُلٍّ وَخُشُوعٍ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْمُهْطِعُ السَّاكِتُ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا قَرَّ وَذَلَّ أَهْطَعَ. الصِّفَةُ الثالثة: قوله: مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ وَالْإِقْنَاعُ رَفْعُ الرَّأْسِ وَالنَّظَرُ فِي ذُلٍّ وَخُشُوعٍ، فقوله: مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ أي رافعي رؤوسهم وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُعْتَادَ فِيمَنْ يُشَاهِدُ الْبَلَاءَ أَنَّهُ يُطْرِقُ رَأْسَهُ عَنْهُ لِكَيْ لَا يَرَاهُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ حَالَهُمْ بِخِلَافِ هَذَا الْمُعْتَادِ وَأَنَّهُمْ يرفعون رؤوسهم. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ دَوَامُ ذَلِكَ الشُّخُوصِ، فقوله: تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ لَا يُفِيدُ كَوْنَ هَذَا الشُّخُوصِ دَائِمًا وَقَوْلُهُ: لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ يُفِيدُ دَوَامَ هَذَا الشُّخُوصِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى دَوَامِ تِلْكَ الْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ فِي قُلُوبِهِمْ. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ الْهَوَاءُ الْخَلَاءُ الَّذِي لَمْ تَشْغَلْهُ الْأَجْرَامُ ثُمَّ جُعِلَ وَصْفًا فَقِيلَ: قَلْبُ فُلَانٍ هَوَاءٌ إِذَا كَانَ خَالِيًا لَا قُوَّةَ فِيهِ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ أَنَّ قُلُوبَ الْكُفَّارِ خَالِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ جَمِيعِ الْخَوَاطِرِ وَالْأَفْكَارِ لِعِظَمِ مَا يَنَالُهُمْ مِنَ الْحَيْرَةِ وَمِنْ كُلِّ رَجَاءٍ وَأَمَلٍ لِمَا تَحَقَّقُوهُ مِنَ الْعِقَابِ وَمِنْ كُلِّ سُرُورٍ، لِكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْحُزْنِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْخَمْسَةَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا/ فِي وَقْتِ حُصُولِهَا فَقِيلَ: إِنَّهَا عِنْدَ الْمُحَاسَبَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الصِّفَاتِ عَقِيبَ وَصْفِ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِأَنَّهُ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ، وَقِيلَ: إِنَّهَا تحصل عند ما يَتَمَيَّزُ فَرِيقٌ عَنْ فَرِيقٍ، وَالسُّعَدَاءُ يَذْهَبُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالْأَشْقِيَاءُ إِلَى النَّارِ. وَقِيلَ: بَلْ يَحْصُلُ عِنْدَ إِجَابَةِ الدَّاعِي وَالْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ، وَالْأَوَّلُ أولى للدليل الذي ذكرناه، والله أعلم.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 44 إلى 45]

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 44 الى 45] وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فِيهِ أَبْحَاثٌ: البحث الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ: وَأَنْذِرِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. البحث الثَّانِي: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي لَفْظِ الْعَذابُ لِلْمَعْهُودِ السَّابِقِ، يَعْنِي: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ شُخُوصُ أَبْصَارِهِمْ، وكونهم مهطعين مقنعي رؤوسهم. البحث الثَّالِثُ: الْإِنْذَارُ هُوَ التَّخْوِيفُ بِذِكْرِ الْمَضَارِّ، وَالْمُفَسِّرُونَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَحَمَلَهُ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى أَنَّهُ حَالَ الْمُعَايَنَةِ، وَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ بِخِلَافِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْيَوْمَ بِأَنَّ عَذَابَهُمْ يَأْتِي فِيهِ وَأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ، وَيُقَالُ لَهُمْ: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ وَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ إِلَّا بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَحُجَّةُ أَبِي مُسْلِمٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَبِيهَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ [الْمُنَافِقُونَ: 10] ثُمَّ حَكَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا يَقُولُ الْكُفَّارُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَقَالَ: فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا/ أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: طَلَبُوا الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا لِيَتَلَافَوْا مَا فَرَّطُوا فِيهِ، وَقَالَ: بَلْ طَلَبُوا الرُّجُوعَ إِلَى حَالِ التَّكْلِيفِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ فَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ ظَاهِرٌ فَقَالَ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ وَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النَّحْلِ: 38] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانُوا يَذْكُرُونَهُ مِنْ إِنْكَارِ الْمَعَادِ فَقَرَّعَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ التَّقْرِيعَ بِهَذَا الْجِنْسِ أَقْوَى، وَمَعْنَى: مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ، لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لَا زَوَالَ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ إِلَى حَيَاةٍ أُخْرَى، وَمِنْ هَذِهِ الدَّارِ إِلَى دَارِ الْمُجَازَاةِ، لَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ أَنْ يَزُولُوا عَنْ حَيَاةٍ إِلَى مَوْتٍ أَوْ عَنْ شَبَابٍ إِلَى هَرَمٍ أَوْ عَنْ فَقْرٍ إِلَى غِنًى، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى زَادَهُمْ تَقْرِيعًا آخَرَ بِقَوْلِهِ: وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ يَعْنِي سَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ كَفَرُوا قَبْلَكُمْ، وَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ مَنْ شَاهَدَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَبِرَ، فَإِذَا لَمْ يَعْتَبِرْ كَانَ مُسْتَوْجِبًا لِلذَّمِّ وَالتَّقْرِيعِ. ثم قال: وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَظَهَرَ لَكُمْ أَنَّ عَاقِبَتَهُمْ عَادَتْ إِلَى الْوَبَالِ وَالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ. فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَاذَا قِيلَ: وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَلَمْ يَكُنِ الْقَوْمُ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَهْلَكَهُمْ لِأَجْلِ تَكْذِيبِهِمْ؟ قُلْنَا: إِنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ أُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانُوا طَالِبِينَ لِلدُّنْيَا ثُمَّ إِنَّهُمْ فَنُوا وَانْقَرَضُوا فَعِنْدَ هَذَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا

[سورة إبراهيم (14) : آية 46]

فَائِدَةَ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا، وَالْوَاجِبُ الْجِدُّ وَالِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الدِّينِ، وَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ عَرَفَ هَذَا أَنْ يَكُونَ خَائِفًا وَجِلًا فَيَكُونَ ذَلِكَ زَجْرًا لَهُ هَذَا إِذَا قُرِئَ بِالتَّاءِ أَمَّا إِذَا قُرِئَ بِالنُّونِ فَلَا شُبْهَةَ فِيهِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَوَلَمْ نُبَيِّنْ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا بَيَّنَ لَهُمْ تَبَيَّنُوهُ. أما قوله: وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ فَالْمُرَادُ مَا أَوْرَدَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْإِعَادَةِ كَمَا قَدَرَ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَقَادِرٌ عَلَى التَّعْذِيبِ الْمُؤَجَّلِ كَمَا يَفْعَلُ الْهَلَاكَ الْمُعَجَّلَ، وَذَلِكَ فِي كِتَابِ الله كثير. والله أعلم. [سورة إبراهيم (14) : آية 46] وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ صِفَةَ عِقَابِهِمْ أَتْبَعَهَا بِذِكْرِ كَيْفِيَّةِ مَكْرِهِمْ فَقَالَ: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَقَدْ مَكَرُوا إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ سَكَنُوا فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَهَذَا الْقَوْلُ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ قَوْمَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم والدليل عليه قوله: وَأَنْذِرِ النَّاسَ [إبراهيم: 45] يَا مُحَمَّدُ وَقَدْ مَكَرَ قَوْمُكَ مَكْرَهُمْ وَذَلِكَ الْمَكْرُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الْأَنْفَالِ: 30] وَقَوْلِهِ: مَكْرَهُمْ أَيْ مَكْرَهُمُ الْعَظِيمَ الَّذِي اسْتَفْرَغُوا فِيهِ جُهْدَهُمْ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْمَكْرِ مَا نُقِلَ أَنَّ نُمْرُوذَ حَاوَلَ الصُّعُودَ إِلَى السَّمَاءِ فَاتَّخَذَ لِنَفْسِهِ تَابُوتًا وَرَبَطَ قَوَائِمَهُ الْأَرْبَعَ بِأَرْبَعَةِ نُسُورٍ، وَكَانَ قَدْ جَوَّعَهَا وَرَفَعَ فَوْقَ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ مِنَ التَّابُوتِ عِصِيًّا أَرْبَعًا وَعَلَّقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ قِطْعَةَ لَحْمٍ ثُمَّ إِنَّهُ جَلَسَ مَعَ حَاجِبِهِ فِي ذَلِكَ التَّابُوتِ فَلَمَّا أَبْصَرَتِ النُّسُورُ تِلْكَ اللُّحُومَ تَصَاعَدَتْ فِي جَوِّ الْهَوَاءِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَغَابَتِ الدُّنْيَا عَنْ عَيْنِ نُمْرُوذَ وَرَأَى السَّمَاءَ بِحَالِهَا فَنَكَّسَ تِلْكَ الْعِصِيَّ الَّتِي عَلَّقَ عَلَيْهَا اللَّحْمَ فَسَفَلَتِ النُّسُورُ وَهَبَطَتْ إِلَى الْأَرْضِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ مَكْرِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّ الْخَطَرَ فِيهِ عَظِيمٌ وَلَا يَكَادُ الْعَاقِلُ يُقْدِمُ عَلَيْهِ وَمَا جَاءَ فِيهِ خَبَرٌ صَحِيحٌ مُعْتَمَدٌ وَلَا حُجَّةَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ الْبَتَّةَ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَكْرُ مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ كَالْأَوَّلِ. وَالْمَعْنَى: وَمَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ فَهُوَ يُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ بِمَكْرٍ هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَكْرُ مُضَافًا إِلَى الْمَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمُ الَّذِي يَمْكُرُ بِهِمْ وَهُوَ عَذَابُهُمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ يَأْتِيهِمْ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ وَلَا يَحْتَسِبُونَ. أما قوله تَعَالَى: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحْدَهُ لِتَزُولَ بِفَتْحِ اللَّامِ الْأُولَى وَرَفْعِ اللَّامِ الْأُخْرَى مِنْهُ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْأُولَى وَنَصْبِ الثَّانِيَةِ. أَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى: فَمَعْنَاهَا أَنَّ مَكْرَهُمْ كَانَ مُعَدًّا لِأَنْ تَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ الْإِخْبَارَ عَنْ وُقُوعِهِ، بَلِ التَّعْظِيمَ وَالتَّهْوِيلَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ [مَرْيَمَ: 90] . وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ: فَالْمَعْنَى: أَنَّ لَفْظَ «إِنْ» فِي قَوْلِهِ، وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ بِمَعْنَى «مَا» وَاللَّامُ الْمَكْسُورَةُ بَعْدَهَا يَعْنِي بِهَا الْجَحْدَ وَمِنْ سَبِيلِهَا نَصْبُ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَالنَّحْوِيُّونَ يُسَمُّونَهَا لَامَ الْجَحْدِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تعالى:

[سورة إبراهيم (14) : آية 47]

وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آلِ عِمْرَانَ: 179] . مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ [آلِ عمران: 179] والجبال هاهنا مَثَلٌ لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَمْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَإِعْلَامِهِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ ثُبُوتَهَا كَثُبُوتِ الْجِبَالِ الرَّاسِيَةِ/ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ نَبِيَّهُ إِظْهَارَ دِينِهِ عَلَى كُلِّ الْأَدْيَانِ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ [إِبْرَاهِيمَ: 47] أَيْ قَدْ وَعَدَكَ الظُّهُورَ عَلَيْهِمْ وَالْغَلَبَةَ لَهُمْ. وَالْمَعْنَى: وَمَا كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ، أَيْ وَكَانَ مَكْرُهُمْ أَوْهَنَ وَأَضْعَفَ مِنْ أَنْ تَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ الرَّاسِيَاتُ الَّتِي هِيَ دِينُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَلَائِلُ شَرِيعَتِهِ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَعَمْرٌو: إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ. [سورة إبراهيم (14) : آية 47] فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إِبْرَاهِيمَ: 42] وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يُقِمِ الْقِيَامَةَ وَلَمْ يَنْتَقِمْ لِلْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ، لَزِمَ إِمَّا كَوْنُهُ غَافِلًا وَإِمَّا كَوْنُهُ مُخْلِفًا فِي الْوَعْدِ، وَلَمَّا تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُحَالٌ كَانَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يُقِيمُ الْقِيَامَةَ بَاطِلًا وَقَوْلُهُ: مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ يَعْنِي قَوْلَهُ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غَافِرٍ: 51] وَقَوْلِهِ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [الْمُجَادَلَةِ: 21] . فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا قِيلَ مُخْلِفَ رُسُلِهِ وَعْدَهُ، وَلِمَ قَدَّمَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ عَلَى الْأَوَّلِ؟ قُلْنَا: لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْوَعْدَ أَصْلًا، إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، ثم قال: رُسُلَهُ لِيَدُلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا لَمْ يُخْلِفْ وَعْدَهُ أَحَدًا وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ إِخْلَافُ الْمَوَاعِيدِ فَكَيْفَ يُخْلِفُهُ رُسُلَهُ الَّذِينَ هُمْ خِيرَتُهُ وَصَفْوَتُهُ، وَقُرِئَ: مُخْلِفَ وَعْدَ رُسُلِهِ بِجَرِّ الرُّسُلِ وَنَصْبِ الْوَعْدِ، وَالتَّقْدِيرُ: مُخْلِفَ رُسُلِهِ وَعْدَهُ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ فِي الضَّعْفِ، كَمَنْ قَرَأَ قَتْلُ أَوْلَادَهُمْ شُرَكَائِهِمْ ثم قال: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أَيْ غَالِبٌ لَا يُمَاكِرُ ذُو انتِقامٍ لأوليائه. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 48 الى 52] يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ بَيَّنَ وَقْتَ انْتِقَامِهِ فَقَالَ: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَعَظَّمَ مِنْ حَالِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، لِأَنَّهُ لَا أَمْرَ أَعْظَمُ من العقول والنفوس من تغيير السموات وَالْأَرْضِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: ذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِي نَصْبِ يَوْمَ وَجْهَيْنِ، إِمَّا عَلَى الظَّرْفِ لِانْتِقَامٍ أَوْ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ. المسألة الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّبْدِيلَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الذَّاتُ بَاقِيَةً وَتَتَبَدَّلَ صِفَتُهَا بِصِفَةٍ

أُخْرَى. وَالثَّانِي: أَنْ تَفْنَى الذَّاتُ الْأُولَى وَتَحْدُثَ ذَاتٌ أُخْرَى، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ لَفْظِ التَّبَدُّلِ لِإِرَادَةِ التَّغَيُّرِ فِي الصِّفَةِ جَائِزٌ، أَنَّهُ يُقَالُ بَدَّلْتُ الْحَلْقَةَ خَاتَمًا إِذَا أَذَبْتَهَا وَسَوَّيْتَهَا خَاتَمًا فَنَقَلْتَهَا مِنْ شَكْلٍ إِلَى شَكْلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الْفُرْقَانِ: 70] وَيُقَالُ: بَدَّلْتُ قَمِيصِي جُبَّةً أَيْ نَقَلْتُ الْعَيْنَ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ أُخْرَى، وَيُقَالُ: تَبَدَّلَ زَيْدٌ إِذَا تَغَيَّرَتْ أَحْوَالُهُ، وَأَمَّا ذِكْرُ لَفْظِ التَّبْدِيلِ عِنْدَ وُقُوعِ التَّبَدُّلِ فِي الذَّوَاتِ فَكَقَوْلِكَ بَدَّلْتُ الدَّرَاهِمَ دَنَانِيرَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [النساء: 56] وقوله: بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ [سَبَأٍ: 16] إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ فَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ تَبْدِيلُ الصِّفَةِ لَا تَبْدِيلُ الذَّاتِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هِيَ تِلْكَ الْأَرْضُ إِلَّا أَنَّهَا تَغَيَّرَتْ فِي صِفَاتِهَا، فَتَسِيرُ عَنِ الْأَرْضِ جِبَالُهَا وَتُفَجَّرُ بِحَارُهَا وَتُسَوَّى، فَلَا يُرَى فِيهَا عِوَجٌ وَلَا أَمْتٌ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يُبَدِّلُ اللَّهُ الْأَرْضَ غَيْرَ الأرض فيبسطها ويمدها مد الأديم العاكظي فَلَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا» وَقَوْلُهُ: وَالسَّماواتُ أي تبدل السموات غير السموات، وَهُوَ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» وَالْمَعْنَى: وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِكَافِرٍ، وَتَبْدِيلُ السموات بِانْتِثَارِ كَوَاكِبِهَا وَانْفِطَارِهَا، وَتَكْوِيرِ شَمْسِهَا، وَخُسُوفِ قَمَرِهَا، وَكَوْنِهَا أَبْوَابًا، وَأَنَّهَا تَارَةً تَكُونُ كَالْمُهْلِ وَتَارَةً تَكُونُ كَالدِّهَانِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ تَبْدِيلُ الذَّاتِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: تُبَدَّلُ بِأَرْضٍ كَالْفِضَّةِ الْبَيْضَاءِ النَّقِيَّةِ لَمْ يُسْفَكْ عَلَيْهَا دَمٌ وَلَمْ تُعْمَلْ عَلَيْهَا خَطِيئَةٌ، فَهَذَا شَرْحُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ رَجَّحَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ قَالَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ الْمُرَادُ هَذِهِ الْأَرْضُ، وَالتَّبَدُّلُ صِفَةٌ مُضَافَةٌ إِلَيْهَا، وَعِنْدَ حُصُولِ الصِّفَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ مَوْجُودًا، فَلَمَّا كَانَ الْمَوْصُوفُ بِالتَّبَدُّلِ هُوَ هَذِهِ الْأَرْضَ وَجَبَ كَوْنُ هَذِهِ الْأَرْضِ بَاقِيَةً عِنْدَ حُصُولِ ذَلِكَ التَّبَدُّلِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَرْضُ بَاقِيَةً مَعَ صِفَاتِهَا عِنْدَ حُصُولِ ذَلِكَ التَّبَدُّلِ، وَإِلَّا لَامْتَنَعَ حُصُولُ التَّبَدُّلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي هُوَ الذَّاتَ. فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي كَوْنَ الذَّاتِ بَاقِيَةً، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ عِنْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ لَا يُعْدِمُ اللَّهُ الذَّوَاتِ وَالْأَجْسَامَ، وَإِنَّمَا يُعْدِمُ صِفَاتِهَا وَأَحْوَالَهَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أن يقال: المراد من تبديل الأرض والسموات هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ الْأَرْضَ جَهَنَّمَ، وَيَجْعَلُ السموات الْجَنَّةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [الْمُطَفِّفِينَ: 18] وَقَوْلُهُ: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [الْمُطَفِّفِينَ: 7] وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أما قوله تَعَالَى: وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ فَنَقُولُ أَمَّا الْبُرُوزُ لِلَّهِ فَقَدْ فَسَّرْنَاهُ في قوله تعالى: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً وإنما ذكر الواحد القهار هاهنا، لِأَنَّ الْمُلْكَ إِذَا كَانَ لِمَالِكٍ وَاحِدٍ غَلَّابٍ لَا يُغَالَبُ قَهَّارٌ لَا يُقْهَرُ فَلَا مُسْتَغَاثَ لِأَحَدٍ إِلَى غَيْرِهِ فَكَانَ الْأَمْرُ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غَافِرٍ: 16] وَلَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ بِكَوْنِهِ قَهَّارًا بَيْنَ عَجْزِهِمْ وَذِلَّتِهِمْ، فَقَالَ: وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي صِفَاتِ عَجْزِهِمْ وَذِلَّتِهِمْ أُمُورًا: فَالصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُمْ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ. يُقَالُ: قَرَنْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إِذَا شَدَدْتَهُ بِهِ وَوَصَلْتَهُ. وَالْقِرَانُ اسْمٌ لِلْحَبْلِ الذي يشد به شيئان. وجاء هاهنا عَلَى التَّكْثِيرِ لِكَثْرَةِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ وَالْأَصْفَادُ جَمْعُ صَفَدٍ وَهُوَ الْقَيْدُ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي قَوْلِهِ: مُقَرَّنِينَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ: مُقَرَّنِينَ كُلُّ كَافِرٍ مَعَ شَيْطَانٍ فِي غُلٍّ، وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التَّكْوِيرِ: 70] أَيْ قُرِنَتْ فَيَقْرِنُ اللَّهُ تَعَالَى نُفُوسَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحُورِ الْعِينِ، وَنُفُوسَ الْكَافِرِينَ بِقُرَنَائِهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَأَقُولُ حَظُّ البحث الْعَقْلِيِّ مِنْهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا فَارَقَ الدُّنْيَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ رَاضَ نَفْسَهُ وَهَذَّبَهَا وَدَعَاهَا إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، أَوْ مَا فَعَلَ ذَلِكَ، بَلْ تَرَكَهَا مُتَوَغِّلَةً فِي اللَّذَّاتِ الْجَسَدَانِيَّةِ مُقْبِلَةً على الأحوال الوهمية والخيالة، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَتِلْكَ النَّفْسُ تُفَارِقُ مَعَ تِلْكَ الْجِهَةِ بِالْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالسَّعَادَةِ/ بِالْعِنَايَةِ الصَّمَدَانِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَتِلْكَ النَّفْسُ تُفَارِقُ مَعَ الْأَسَفِ وَالْحُزْنِ وَالْبَلَاءِ الشَّدِيدِ، بِسَبَبِ الْمَيْلِ إِلَى عَالَمِ الْجِسْمِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَشَيْطَانُ النَّفْسِ الْكَافِرَةِ هِيَ الْمَلَكَاتُ الْبَاطِلَةُ، وَالْحَوَادِثُ الْفَاسِدَةُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ عَطَاءٍ: إِنَّ كُلَّ كَافِرٍ مَعَ شَيْطَانِهِ يَكُونُ مَقْرُونًا فِي الْأَصْفَادِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ هُوَ قَرْنُ بَعْضِ الْكُفَّارِ بِبَعْضٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّ تِلْكَ النُّفُوسَ الشَّقِيَّةَ وَالْأَرْوَاحَ الْمُكَدَّرَةَ الظُّلْمَانِيَّةَ، لِكَوْنِهَا مُتَجَانِسَةً مُتَشَاكِلَةً يَنْضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَتُنَادِي ظُلْمَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا إِلَى الْأُخْرَى، فَانْحِدَارُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا إِلَى الْأُخْرَى فِي تِلْكَ الظُّلُمَاتِ، وَالْخَسَارَاتِ هِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: قُرِنَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ إِلَى رِقَابِهِمْ بِالْأَغْلَالِ، وَحَظُّ الْعَقْلِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَلَكَاتِ الْحَاصِلَةَ فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِتَكْرِيرِ الْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ، فَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ الْمَلَكَاتُ ظُلْمَانِيَّةً كَدِرَةً، صَارَتْ فِي الْمِثَالِ كَأَنَّ أَيْدِيَهَا وَأَرْجُلَهَا قُرِنَتْ وَغُلَّتْ فِي رِقَابِهَا. وَأما قوله: فِي الْأَصْفادِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهَا: أن يكون ذلك متعلقا بمقرنين، والمعنى: يقربون بِالْأَصْفَادِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ مُقَرَّنُونَ مُقَيَّدُونَ، وَحَظُّ الْعَقْلِ مَعْلُومٌ مِمَّا سَلَفَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ السَّرَابِيلُ جَمْعُ سِرْبَالٍ وَهُوَ الْقَمِيصُ، وَالْقَطِرَانُ فِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ: قَطْرَانٌ وقطران وقطرن، بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِهَا مَعَ سُكُونِ الطَّاءِ وَبِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الطَّاءِ، وَهُوَ شَيْءٌ يَتَحَلَّبُ مِنْ شَجَرٍ يُسَمَّى الْأَبْهَلَ فَيُطْبَخُ وَيُطْلَى بِهِ الْإِبِلُ الْجَرِبُ فَيَحْرِقُ الْجَرَبَ بِحَرَارَتِهِ وَحِدَّتِهِ، وَقَدْ تَصِلُ حَرَارَتُهُ إِلَى دَاخِلِ الْجَوْفِ، وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَسَارَعَ فِيهِ اشْتِعَالُ النَّارِ، وَهُوَ أَسْوَدُ اللَّوْنِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَتُطْلَى بِهِ جُلُودُ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ الطَّلْيُ كَالسَّرَابِيلِ، وَهِيَ الْقُمُصُ فَيَحْصُلُ بِسَبَبِهَا أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ، لَذْعُ الْقَطِرَانِ وَحُرْقَتُهُ، وَإِسْرَاعُ النَّارِ فِي جُلُودِهِمْ وَاللَّوْنُ الْوَحْشُ وَنَتْنُ الرِّيحِ، وَأَيْضًا التَّفَاوُتُ بَيْنَ قَطِرَانِ الْقِيَامَةِ وَقَطِرَانِ الدُّنْيَا كَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ النَّارَيْنِ، وَأَقُولُ حَظُّ الْعَقْلِ مِنْ هَذَا أَنَّ جَوْهَرَ الرُّوحِ جَوْهَرٌ مُشْرِقٌ لَامِعٌ مِنْ عَالَمِ الْقُدُسِ وَغَيْبَةِ الْجَلَالِ، وَهَذَا الْبَدَنُ جَارٍ مَجْرَى السِّرْبَالِ وَالْقَمِيصِ لَهُ، وَكُلُّ مَا يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ مِنَ الْآلَامِ وَالْغُمُومِ، فَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ هَذَا الْبَدَنِ، فَلِهَذَا الْبَدَنِ لَذْعٌ وَحُرْقَةٌ فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ، لِأَنَّ الشَّهْوَةَ وَالْحِرْصَ وَالْغَضَبَ إِنَّمَا تَتَسَارَعُ إِلَى جَوْهَرِ الرُّوحِ بِسَبَبِهِ، وَكَوْنِهِ لِلْكَثَافَةِ وَالْكُدُورَةِ وَالظُّلْمَةِ هُوَ الَّذِي يُخْفِي لَمَعَانَ الرُّوحِ وَضَوْءَهُ وَهُوَ سَبَبٌ لِحُصُولِ النَّتْنِ وَالْعُفُونَةِ، فَتَشَبَّهَ هَذَا الْجَسَدُ بِسَرَابِيلَ مِنَ الْقَطِرَانِ وَالْقِطْرِ، وَقَرَأَ/ بَعْضُهُمْ مِنْ قِطْرٍ آنٍ وَالْقِطْرُ النُّحَاسُ أَوِ الصُّفْرُ الْمُذَابُ وَالْآنِي الْمُتَنَاهِي حَرُّهُ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَتِلْكَ النَّارُ لَا تُبْطِلُ ذَلِكَ الْقَطِرَانَ وَلَا تُفْنِيهِ كَمَا لَا تُهْلِكُ النَّارُ أَجْسَادَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ.

الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الزُّمَرِ: 24] وَقَوْلُهُ: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ [الْقَمَرِ: 48] . وَاعْلَمْ أَنَّ مَوْضِعَ الْمَعْرِفَةِ وَالنَّكِرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ هُوَ الْقَلْبُ، وَمَوْضِعَ الْفِكْرِ وَالْوَهْمِ وَالْخَيَالِ هُوَ الرَّأْسُ. وَأَثَرُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِي الوجه، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ بِظُهُورِ آثَارِ الْعِقَابِ فِيهِمَا فَقَالَ فِي الْقَلْبِ: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [الْهُمَزَةِ: 6، 7] وَقَالَ فِي الوجه: وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ بِمَعْنَى تَتَغَشَّى، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةَ قَالَ: لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْفُسُ الْكُفَّارِ لِأَنَّ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ لَا يَلِيقُ أَنْ يَكُونَ جَزَاءً لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَأَقُولُ يُمْكِنُ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى عُمُومِهِ، لِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَجْزِي كُلَّ شَخْصٍ بِمَا يَلِيقُ بِعَمَلِهِ وَكَسْبِهِ وَلَمَّا كَانَ كَسْبُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْكُفْرَ وَالْمَعْصِيَةَ، كَانَ جَزَاؤُهُمْ هُوَ هَذَا الْعِقَابَ الْمَذْكُورَ، وَلَمَّا كَانَ كَسْبُ الْمُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ، كَانَ اللَّائِقُ بِهِمْ هُوَ الثَّوَابَ وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَاقَبَ الْمُجْرِمِينَ بِجُرْمِهِمْ فَلِأَنْ يُثِيبَ الْمُطِيعِينَ عَلَى طَاعَتِهِمْ كَانَ أَوْلَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَظْلِمُهُمْ وَلَا يَزِيدُ عَلَى عِقَابِهِمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ. وَحَظُّ الْعَقْلِ مِنْهُ أَنَّ الْأَخْلَاقَ الظلمانية هي المبادي لِحُصُولِ الْآلَامِ الرُّوحَانِيَّةِ وَحُصُولُ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ فِي النَّفْسِ عَلَى قَدْرِ صُدُورِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْمَلَكَاتِ النَّفْسَانِيَّةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ بِسَبَبِ الْأَفْعَالِ الْمُتَكَرِّرَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَتِلْكَ الْآلَامُ تَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ فِي كَثْرَتِهَا وَقِلَّتِهَا وَشِدَّتِهَا وَضَعْفِهَا وَذَلِكَ يُشْبِهُ الْحِسَابَ. ثم قال تَعَالَى: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ أَيْ هَذَا التَّذْكِيرُ وَالْمَوْعِظَةُ بَلَاغٌ لِلنَّاسِ، أَيْ كِفَايَةٌ فِي الْمَوْعِظَةِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: بَلْ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ هَذِهِ السُّورَةِ، وَقِيلَ: بَلْ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ قوله: فَلا تَحْسَبَنَّ إِلَى قَوْلِهِ: سَرِيعُ الْحِسابِ وَأما قوله: وَلِيُنْذَرُوا بِهِ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ أَيْ لِيَنْتَصِحُوا: وَلِيُنْذَرُوا بِهِ أَيْ بِهَذَا الْبَلَاغِ. ثم قال: وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا أَنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ لَهَا شُعْبَتَانِ: الْقُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ وَكَمَالُ حَالِهَا فِي مَعْرِفَةِ الْمَوْجُودَاتِ بِأَقْسَامِهَا وَأَجْنَاسِهَا وَأَنْوَاعِهَا حَتَّى تَصِيرَ النَّفْسُ كَالْمِرْآةِ/ الَّتِي يَتَجَلَّى فِيهَا قُدْسُ الْمَلَكُوتِ وَيَظْهَرَ فِيهَا جَلَالُ اللَّاهُوتِ وَرَئِيسُ هَذِهِ الْمَعَارِفِ وَالْجَلَاءِ، مَعْرِفَةُ تَوْحِيدِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَالشُّعْبَةُ الثَّانِيَةُ: الْقُوَّةُ الْعَمَلِيَّةُ وَسَعَادَتُهَا فِي أَنْ تَصِيرَ مَوْصُوفَةً بِالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي تَصِيرُ مبادي لِصُدُورِ الْأَفْعَالِ الْكَامِلَةِ عَنْهَا، وَرَئِيسُ سَعَادَاتِ هَذِهِ الْقُوَّةِ طَاعَةُ اللَّهِ وَخِدْمَتُهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَجْرِي مَجْرَى الرَّئِيسِ لِكَمَالِ حال القوة النظرية وقوله: وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَجْرِي مَجْرَى الرَّئِيسِ لِكَمَالِ حَالِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ فَإِنَّ الْفَائِدَةَ فِي هَذَا التَّذَكُّرِ، إِنَّمَا هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْأَعْمَالِ الْبَاطِلَةِ وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهَذِهِ الْخَاتِمَةُ كَالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ فِي أَنَّهُ لَا سَعَادَةَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مِنْ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ.

المسألة الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَاتُ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ التَّذْكِيرَ بِهَذِهِ الْمَوَاعِظِ وَالنَّصَائِحِ يُوجِبُ الْوُقُوفَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِقْبَالَ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالوجه فِيهِ أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا سَمِعَ هَذِهِ التَّخْوِيفَاتِ وَالتَّحْذِيرَاتِ عَظُمَ خَوْفُهُ وَاشْتَغَلَ بِالنَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ، فَوَصَلَ إِلَى مَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَاشْتَغَلَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي: أَوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ وَآخِرُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ مُسْتَقِلٌّ بِفِعْلِهِ، إِنْ شَاءَ أَطَاعَ وَإِنْ شَاءَ عَصَى، أَمَّا أَوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [إِبْرَاهِيمَ: 1] فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِنْزَالِ الْكِتَابِ إِرْشَادُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ إِلَى الدِّينِ وَالتَّقْوَى وَمَنْعُهُمْ عَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَأَمَّا آخر السورة فلأن قوله: وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْزَلَ هَذِهِ السُّورَةَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ النَّصَائِحَ وَالْمَوَاعِظَ لِأَجْلِ أَنْ يَنْتَفِعَ الْخَلْقُ بِهَا فَيَصِيرُوا مُؤْمِنِينَ مُطِيعِينَ وَيَتْرُكُوا الْكُفْرَ وَالْمَعْصِيَةَ، فَظَهَرَ أَنَّ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ وَآخِرَهَا مُتَطَابِقَانِ فِي إِفَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ الْمُسْتَقْصَى عَنْهُ مَذْكُورٌ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. المسألة الرَّابِعَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا فَضِيلَةَ لِلْإِنْسَانِ وَلَا مَنْقَبَةَ لَهُ إِلَّا بِسَبَبِ عَقْلِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْزَلَ هَذِهِ الْكُتُبَ، وَإِنَّمَا بَعَثَ الرُّسُلَ لِتَذْكِيرِ أُولِي الْأَلْبَابِ، فَلَوْلَا الشَّرَفُ الْعَظِيمُ وَالْمَرْتَبَةُ الْعَالِيَةُ لِأُولِي الْأَلْبَابِ لَمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ: تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي أَوَاخِرِ شَعْبَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ خُتِمَ بِالْخَيْرِ وَالْغُفْرَانِ فِي صَحْرَاءِ بَغْدَادَ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْخَلَاصَ مِنَ الْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ وَالْفَوْزَ بِدَرَجَاتِ الْجِنَانِ وَالْخَلَاصَ مِنْ دَرَكَاتِ النِّيرَانِ، إِنَّهُ الْمَلِكُ الْمَنَّانُ، الرَّحِيمُ الدَّيَّانُ، بِحَمْدِ اللَّهِ وَحُسْنِ تَوْفِيقِهِ وَصَلَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.

سورة الحجر

سورة الحجر مكية، إلا آية: 87، فمدنية وآياتها: 99، نزلت بعد سورة يوسف بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ وَالْقُرْآنِ الْمُبِينِ الْكِتَابُ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَنْكِيرُ الْقُرْآنِ لِلتَّفْخِيمِ، وَالْمَعْنَى: تِلْكَ الْآيَاتُ آيَاتُ ذَلِكَ الْكِتَابِ الْكَامِلِ فِي كَوْنِهِ كِتَابًا وَفِي كَوْنِهِ قُرْآنًا مُفِيدًا لِلْبَيَانِ. أما قوله: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ رُبَما خَفِيفَةَ الْبَاءِ وَالْبَاقُونَ مُشَدَّدَةً قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَهْلُ الْحِجَازِ يُخَفِّفُونَ رُبَمَا، وَقَيْسٌ وَبَكْرٌ يُثَقِّلُونَهَا، وَأَقُولُ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ لُغَاتٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّاءَ مِنْ/ رُبَّ وَرَدَتْ مَضْمُومَةً وَمَفْتُوحَةً، أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَضْمُومَةً فَالْبَاءُ قَدْ وَرَدَتْ مُشَدَّدَةً وَمُخَفَّفَةً وَسَاكِنَةً وَعَلَى كُلِّ التَّقْدِيرَاتِ تَارَةً مَعَ حَرْفِ مَا، وَتَارَةً بِدُونِهَا وَأَيْضًا تَارَةً مَعَ التَّاءِ وَتَارَةً بِدُونِهَا وَأَنْشَدُوا: أَسُمَيُّ مَا يدريك أن رب فتية ... باكرت لذتهم بأذكر مسرع وَرُبْ بِتَسْكِينِ الْبَاءِ وَأَنْشَدُوا بَيْتَ الْهُذَلِيِّ: أَزُهَيْرُ إِنْ يَشِبِ الْقَذَالُ فَإِنَّنِي ... رُبْ هَيْضَلٍ مَرِسٍ كَفَفْتُ بِهَيْضَلِ وَالْهَيْضَلُ جَمَاعَةٌ مُتَسَلِّحَةٌ، وَأَيْضًا هَذِهِ الْكَلِمَةُ قَدْ تَجِيءُ حَالَتَيْ تَشْدِيدِ الْبَاءِ وَتَخْفِيفِهَا مَعَ حَرْفِ «مَا» كَقَوْلِكَ: رُبَمَا وَرُبَّمَا وَتَارَةً مَعَ التَّاءِ، وَحَرْفُ «مَا» كَقَوْلِكَ: رُبَتَمَا وَرُبَّتَمَا هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَتِ الرَّاءُ مِنْ رُبَّ مَضْمُومَةً وَقَدْ تَكُونُ مَفْتُوحَةً، فَيُقَالُ: رَبَّ وَرَبَّمَا وَرَبَّتَمَا حَكَاهُ قُطْرُبٌ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مِنَ الْحُرُوفِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّأْنِيثِ، نَحْوُ: ثَمَّ وَثَمَّتَ، وَرُبَّ وَرُبَّتَ، وَلَا وَلَاتَ، فَهَذِهِ اللُّغَاتُ بِأَسْرِهَا رَوَاهَا الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» .

المسألة الثَّانِيَةُ: رُبَّ حَرْفُ جَرٍّ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَيَلْحَقُهَا «مَا» عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً بِمَعْنَى شَيْءٍ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: رُبَّ مَا تَكْرَهُ النُّفُوسُ مِنَ الْأَمْرِ ... لَهُ فُرْجَةٌ كَحَلِّ العقال فما فِي هَذَا الْبَيْتِ اسْمٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ مِنَ الصِّفَةِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى رُبَّ شَيْءٍ تَكْرَهُهُ النُّفُوسُ وَإِذَا عَادَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ كَانَ اسْمًا وَلَمْ يَكُنْ حَرْفًا، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 55] لَمَّا عَادَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ عَلِمْنَا بِذَلِكَ أَنَّهُ اسْمٌ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ «مَا» قَدْ يَكُونُ اسْمًا إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ رُبَّ وُقُوعُ مِنْ بَعْدَهَا فِي قَوْلِ الشاعر: يا رب من ينقص أزوادنا ... رُحْنَ عَلَى نُقْصَانِهِ وَاغْتَدَيْنَ فَكَمَا دَخَلَتْ رُبَّ عَلَى كَلِمَةِ «مَنْ» وَكَانَتْ نَكِرَةً، فَكَذَلِكَ تَدْخُلُ عَلَى كَلِمَةِ (مَا) فَهَذَا ضَرْبٌ وَالضَّرْبُ الْآخَرُ أَنْ تَدْخُلَ مَا كَافَّةً كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالنَّحْوِيُّونَ يُسَمُّونَ مَا هَذِهِ الْكَافَّةَ يُرِيدُونَ أَنَّهَا بِدُخُولِهَا كَفَّتِ الْحَرْفَ عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي كَانَ لَهُ، وَإِذَا حَصَلَ هَذَا الْكَفُّ فَحِينَئِذٍ تَتَهَيَّأُ لِلدُّخُولِ عَلَى مَا لَمْ تَكُنْ تَدْخُلُ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ رُبَّ إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى الِاسْمِ الْمُفْرَدِ نَحْوُ رُبَّ رَجُلٍ يَقُولُ ذَاكَ وَلَا تَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ «مَا» عَلَيْهَا هَيَّأَتْهَا لِلدُّخُولِ عَلَى الْفِعْلِ كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ رُبَّ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّقْلِيلِ، وَهِيَ فِي التَّقْلِيلِ نَظِيرَةُ كَمْ فِي التَّكْثِيرِ، فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: رُبَّمَا زَارَنَا فُلَانٌ، دَلَّ رُبَّمَا عَلَى تَقْلِيلِهِ الزِّيَارَةَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَنْ قَالَ إِنَّ رُبَّ يَعْنِي بِهَا الْكَثْرَةَ، فَهُوَ ضِدُّ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَهَهُنَا سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ تَمَنِّيَ/ الْكَافِرِ الْإِسْلَامَ مَقْطُوعٌ بِهِ، وكلما رُبَّ تُفِيدُ الظَّنَّ، وَأَيْضًا أَنَّ ذَلِكَ التَّمَنِّيَ يَكْثُرُ وَيَتَّصِلُ، فَلَا يَلِيقُ بِهِ لَفْظَةُ رُبَما مَعَ أَنَّهَا تُفِيدُ التَّقْلِيلَ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا التَّكْثِيرَ ذَكَرُوا لَفْظًا وُضِعَ لِلتَّقْلِيلِ، وَإِذَا أَرَادُوا الْيَقِينَ ذَكَرُوا لَفْظًا وُضِعَ لِلشَّكِّ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: إِظْهَارُ التَّوَقُّعِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِالْغَرَضِ، فَيَقُولُونَ: رُبَّمَا نَدِمْتَ عَلَى مَا فَعَلْتَ، وَلَعَلَّكَ تَنْدَمُ عَلَى فِعْلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ حَاصِلًا بِكَثْرَةِ النَّدَمِ وَوُجُودِهِ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ وَالوجه الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ هَذَا التَّقْلِيلَ أَبْلَغُ فِي التَّهْدِيدِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَكْفِيكَ قَلِيلُ النَّدَمِ فِي كَوْنِهِ زَاجِرًا عَنْ هَذَا الْفِعْلِ فَكَيْفَ كَثِيرُهُ؟ وَالوجه الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ أَنْ يَشْغَلَهُمُ الْعَذَابُ عَنْ تَمَنِّي ذَاكَ إِلَّا فِي الْقَلِيلِ. المسألة الرَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ «رُبَّ» مُخْتَصَّةٌ بِالدُّخُولِ عَلَى الْمَاضِي كَمَا يُقَالُ: رُبَّمَا قَصَدَنِي عَبْدُ اللَّهِ، وَلَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ الْمُسْتَقْبَلُ بَعْدَهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: رُبَّمَا تَكْرَهُ النُّفُوسُ مِنَ الْأَمْرِ

وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ كَلِمَةَ «رُبَّ» فِي هَذَا الْبَيْتِ دَاخِلَةٌ عَلَى الِاسْمِ وَكَلَامُنَا فِي أَنَّهَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْفِعْلِ وَجَبَ كَوْنُ ذَلِكَ الْفِعْلِ مَاضِيًا، فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ؟ إِلَّا أَنِّي أَقُولُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ الْأُدَبَاءِ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ دُخُولُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، وَإِنَّمَا الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى النَّقْلِ وَالِاسْتِعْمَالِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ وَجَدُوا بَيْتًا مُشْتَمِلًا عَلَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ لَقَالُوا إِنَّهُ جَائِزٌ صَحِيحٌ وَكَلَامُ اللَّهِ أَقْوَى وَأَجَلُّ وَأَشْرَفُ، فَلِمَ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِوُرُودِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِهِ وَصِحَّتِهِ. ثُمَّ نَقُولُ إِنَّ الْأُدَبَاءَ أَجَابُوا عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالُوا: إِنَّ الْمُتَرَقِّبَ فِي أَخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ الْمَاضِي الْمَقْطُوعِ بِهِ فِي تَحَقُّقِهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: رُبَّمَا وَدُّوا. الثَّانِي: أَنَّ كَلِمَةَ «مَا» فِي قَوْلِهِ: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا اسم ويود صِفَةٌ لَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: رُبَّ شَيْءٍ يَوَدُّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْآيَةَ عَلَى إِضْمَارِ كَانَ وَتَقْدِيرُهُ رُبَّمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَقَدْ خَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ كَانَ لَا تُضْمَرُ عِنْدَهُ وَلَمْ يُجِزْ عَبْدُ اللَّهِ الْمَقْبُولَ وَأَنْتَ تُرِيدُ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ الْمَقْبُولَ. المسألة الْخَامِسَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وُجُوهٌ عَلَى مَذْهَبِ الْمُفَسِّرِينَ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ حَمَلَ قَوْلَهُ: / رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى مَحْمِلٍ آخَرَ، وَالْأَصَحُّ مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ فَإِنَّهُ قَالَ: الْكَافِرُ كُلَّمَا رَأَى حَالًا مِنْ أَحْوَالِ الْعَذَابِ وَرَأَى حَالًا مِنْ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِ وَدَّ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا، وَهَذَا الوجه هُوَ الْأَصَحُّ. وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ فَقَدْ ذَكَرُوا وُجُوهًا: قَالَ الضَّحَّاكُ: الْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَكُونُ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا شَاهَدَ عَلَامَاتِ الْعِقَابِ وَدَّ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ تَحْصُلُ إِذَا اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ، وَقِيلَ: بَلْ عِنْدَ دُخُولِهِمُ النَّارَ وَنُزُولِ الْعَذَابِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ [إِبْرَاهِيمَ: 44] وَرَوَى أَبُو مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَاجْتَمَعَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ ومعهم من شاء الله مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ قَالَ الْكُفَّارُ لَهُمْ: أَلَسْتُمْ مُسْلِمِينَ؟ قَالُوا بَلَى، قَالُوا: فَمَا أَغْنَى عَنْكُمْ إِسْلَامُكُمْ، وَقَدْ صِرْتُمْ مَعَنَا فِي النَّارِ، فَيَتَفَضَّلُ اللَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، فَيَأْمُرُ بِإِخْرَاجِ كُلِّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مِنَ النَّارِ، فَيَخْرُجُونَ مِنْهَا، فَحِينَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ» وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَا يَزَالُ اللَّهُ يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ، حَتَّى إِنَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْأَمْرِ يَقُولُ: مَنْ كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَدْخُلِ الْجَنَّةَ. قَالَ: فَهُنَالِكَ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ. قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الرِّوَايَاتُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ مِنَ النَّارِ، وَعَلَى أَنَّ شَفَاعَةَ الرَّسُولِ مَقْبُولَةٌ فِي إِسْقَاطِ الْعِقَابِ، وَهَذَانِ الْأَصْلَانِ عِنْدَهُ مَرْدُودَانِ، فَعِنْدَ هَذَا حُمِلَ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى وَجْهٍ يُطَابِقُ قَوْلَهُ وَيُوَافِقُ مَذْهَبَهُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُؤَخِّرُ إِدْخَالَ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ فَيَزْدَادُ غَمُّ الْكَفَرَةِ وَحَسْرَتُهُمْ وَهُنَاكَ يَوَدُّونَ لو كانوا مسلمين، قال فبهذه الطريق تصحيح هَذِهِ الْأَخْبَارُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ أَهْلُ الْقِيَامَةِ قَدْ يَتَمَنَّوْنَ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَجَبَ أَنْ يَتَمَنَّى الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَقِلُّ ثَوَابُهُ دَرَجَةَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَكْثُرُ ثَوَابُهُ، وَالْمُتَمَنِّي لَمَّا لَمْ يَجِدْهُ يَكُونُ فِي الْغُصَّةِ وَتَأَلُّمِ الْقَلْبِ وَهَذَا يَقْضِي أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْغُصَّةِ وَتَأَلُّمِ الْقَلْبِ. قُلْنَا: أَحْوَالُ أَهْلِ الْآخِرَةِ لَا تُقَاسُ بِأَحْوَالِ أَهْلِ الدُّنْيَا، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَرْضَى كُلَّ أَحَدٍ بِمَا فِيهِ وَنَزَعَ عن

[سورة الحجر (15) : الآيات 4 إلى 5]

قُلُوبِهِمْ طَلَبَ الزِّيَادَاتِ كَمَا قَالَ: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الحجر: 47] وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أما قوله تَعَالَى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: الْمَعْنَى: دَعِ الْكُفَّارَ يَأْخُذُوا حُظُوظَهُمْ مِنْ دُنْيَاهُمْ فَتِلْكَ أَخْلَاقُهُمْ وَلَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَقَوْلُهُ: وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ يُقَالُ: لَهِيتُ عَنِ الشَّيْءِ أَلْهَى لُهِيًّا، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ ابْنَ/ الزُّبَيْرِ كَانَ إِذَا سَمِعَ صَوْتَ الرَّعْدِ لَهِيَ عَنْ حَدِيثِهِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْأَصْمَعِيُّ: كُلُّ شَيْءٍ تَرَكْتَهُ فَقَدْ لَهِيتَ عَنْهُ وَأَنْشَدَ: صَرَمَتْ حِبَالَكَ فَالْهَ عَنْهَا زَيْنَبُ ... وَلَقَدْ أَطَلْتَ عِتَابَهَا لَوْ تَعْتِبُ فَقَوْلُهُ فَالْهَ عَنْهَا أَيِ اتْرُكْهَا وَأَعْرِضْ عَنْهَا. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: شَغَلَهُمُ الْأَمَلُ عِنْدَ الْأَخْذِ بِحَظِّهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَصُدُّ عَنِ الْإِيمَانِ وَيَفْعَلُ بِالْمُكَلَّفِ مَا يَكُونُ لَهُ مَفْسَدَةً فِي الدِّينِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِرَسُولِهِ: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَحَكَمَ بِأَنَّ إِقْبَالَهُمْ عَلَى التَّمَتُّعِ وَاسْتِغْرَاقَهُمْ فِي طُولِ الْأَمَلِ يُلْهِيهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَذِنَ لَهُمْ فِيهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَيْسَ هَذَا إِذْنًا وَتَجْوِيزًا بَلْ هَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ. قُلْنَا ظَاهِرُ قَوْلِهِ: ذَرْهُمْ إِذَنْ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى أَنَّ إِقْبَالَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ يَضُرُّهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَهَذَا عَيْنُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى أَذِنَ فِي شَيْءٍ مَعَ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مَفْسَدَةً لَهُمْ فِي الدِّينِ. المسألة الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ إِيثَارَ التَّلَذُّذِ وَالتَّنَعُّمِ وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ طُولُ الْأَمَلِ لَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ التَّمَرُّغُ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَخْلَاقِ الْهَالِكِينَ، وَالْأَخْبَارُ فِي ذَمِّ الْأَمَلِ كَثِيرَةٌ فَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَشِبُّ فِيهِ اثْنَانِ: الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ وَطُولُ الْأَمَلِ» وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَقَطَ ثلاث وَقَالَ: «هَذَا ابْنُ آدَمَ، وَهَذَا الْأَمَلُ، وَهَذَا الْأَجَلُ، وَدُونَ الْأَمَلِ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ مَنِيَّةً فَإِنْ أَخَذَتْهُ إِحْدَاهُنَّ، وَإِلَّا فَالْهَرَمُ مِنْ وَرَائِهِ» وَعَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمُ اثْنَيْنِ: طُولُ الْأَمَلِ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى، فَإِنَّ طُولَ الْأَمَلِ يُنْسِي الْآخِرَةَ، وَاتِّبَاعَ الْهَوَى يَصُدُّ عن الحق. والله أعلم. [سورة الحجر (15) : الآيات 4 الى 5] وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَوَعَّدَ مِنْ قَبْلُ مَنْ كَذَّبَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أَتْبَعَهُ بِمَا يُؤَكِّدُ الزَّجْرَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ فِي الْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ وَإِنَّمَا يَقَعُ فِيهِ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فَالَّذِينَ تَقَدَّمُوا كَانَ وَقْتُ هَلَاكِهِمْ فِي الْكِتَابِ مُعَجَّلًا، وَالَّذِينَ تَأَخَّرُوا كَانَ وَقْتُ هَلَاكِهِمْ فِي الْكِتَابِ مُؤَخَّرًا وَذَلِكَ نِهَايَةٌ فِي الزَّجْرِ والتحذير.

المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ قَوْمٌ الْمُرَادُ بِهَذَا الْهَلَاكِ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ الَّذِي كَانَ اللَّهُ يُنْزِلُهُ بِالْمُكَذِّبِينَ الْمُعَانِدِينَ كَمَا بَيَّنَهُ فِي قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْهَلَاكِ الْمَوْتُ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَقْرَبُ مَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّهُ فِي الزَّجْرِ أَبْلَغُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْإِمْهَالَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْتَرَّ بِهِ الْعَاقِلُ لِأَنَّ الْعَذَابَ مُدَّخَرٌ، فَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ وَقْتًا مُعَيَّنًا فِي نُزُولِ الْعَذَابِ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ وَقَالَ قَوْمٌ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْهَلَاكِ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ نُزُولُ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَنُزُولُ الْمَوْتِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُشَارِكُ الْآخَرَ فِي كَوْنِهِ هَلَاكًا، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْقِسْمَانِ مَعًا. المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: لَوْ لَمْ تَكُنِ الْوَاوُ مَذْكُورَةً فِي قَوْلِهِ: وَلَها كِتابٌ كَانَ صَوَابًا كَمَا فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ [الشُّعَرَاءِ: 208] وَهُوَ كَمَا تَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا إِلَّا وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: إِلَّا عَلَيْهِ ثِيَابٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ أُمَّةٍ زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ كَقَوْلِكَ: مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ لِأَنَّهَا تُفِيدُ التَّبْعِيضَ أَيْ هَذَا الحكم لَمْ يَحْصُلْ فِي بَعْضٍ مِنْ أَبْعَاضِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي إِفَادَةِ عُمُومِ النَّفْيِ آكَدَ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «النَّظْمِ» مَعْنَى سَبَقَ إِذَا كَانَ وَاقِعًا عَلَى شَخْصٍ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَازَ وَخَلَفَ كَقَوْلِكَ سَبَقَ زَيْدٌ عَمْرًا، أَيْ جَازَهُ وَخَلَفَهُ وَرَاءَهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ قَصَرَ عَنْهُ وَمَا بَلَغَهُ، وَإِذَا كَانَ وَاقِعًا عَلَى زَمَانٍ كَانَ بِالْعَكْسِ فِي ذَلِكَ، كَقَوْلِكَ: سَبَقَ فُلَانٌ عَامَ كَذَا مَعْنَاهُ مَضَى قَبْلَ إِتْيَانِهِ وَلَمْ يَبْلُغْهُ فَقَوْلُهُ: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الْأَجَلُ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَا بَعْدَهُ، بَلْ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِعَيْنِهِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ اخْتِصَاصَ كُلِّ حَادِثٍ بِوَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ دُونَ الْوَقْتِ الَّذِي قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّفَاقِ الْوَاقِعِ، لَا عَنْ مُرَجِّحٍ وَلَا عَنْ مُخَصِّصٍ فَإِنَّ/ رُجْحَانُ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ مُحَالٌ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ حُدُوثُهُ بِذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لِأَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ خَصَّصَهُ بِهِ بِعَيْنِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَقُدْرَةُ الْإِلَهِ وَإِرَادَتُهُ اقْتَضَتَا ذَلِكَ التَّخْصِيصَ، وَعِلْمُهُ وَحِكْمَتُهُ تَعَلَّقَا بِذَلِكَ الِاخْتِصَاصِ بِعَيْنِهِ، وَلَمَّا كَانَ تَغَيُّرُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْنِي الْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ وَالْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ مُمْتَنِعًا كَانَ تَغَيُّرُ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصِ مُمْتَنِعًا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذَا الدَّلِيلُ بِعَيْنِهِ قَائِمٌ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ أَعْنِي أَنَّ الصَّادِرَ مِنْ زَيْدٍ هُوَ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ وَمِنْ عَمْرٍو هُوَ الْكُفْرُ وَالْمَعْصِيَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَمْتَنِعَ دُخُولُ التَّغَيُّرِ فِيهِمَا. فَإِنْ قَالُوا: هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ الْمُقْتَضِي لِحُدُوثِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو هُوَ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتَهُ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ هُوَ قُدْرَةُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَمَشِيئَتُهُمَا سَقَطَ ذَلِكَ. قُلْنَا: قُدْرَةُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَمَشِيئَتُهُمَا إِنْ كَانَتَا مُوجِبَتَيْنِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ فَخَالِقُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ الْمُوجِبَتَيْنِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ هُوَ الَّذِي قَدَّرَ ذَلِكَ الْفِعْلَ بِعَيْنِهِ فَيَعُودُ الْإِلْزَامُ، وَإِنْ لَمْ تَكُونَا مُوجِبَتَيْنِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ بَلْ كَانَتَا صَالِحَتَيْنِ لَهُ وَلِضِدِّهِ، كَانَ رُجْحَانُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ لِمُرَجِّحٍ، فَقَدْ عَادَ الْأَمْرُ إِلَى أَنَّهُ حَصَلَ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصُ لَا لِمُخَصِّصٍ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ لِمُخَصِّصٍ فَذَلِكَ الْمُخَصِّصُ إِنْ كَانَ هُوَ الْعَبْدَ عَادَ البحث

[سورة الحجر (15) : الآيات 6 إلى 9]

وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَعُودُ البحث إِلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ إِنَّمَا تَعَيَّنَ وَتَقَدَّرَ بِتَخْصِيصِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحِينَئِذٍ لَا يَعُودُ الْإِلْزَامُ. المسألة الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَإِنَّمَا مَاتَ بِأَجَلِهِ، وَأَنَّ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ أن يموت قبل أجله فمخطىء. فَإِنْ قَالُوا: هَذَا الِاسْتِدْلَالُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ: وَما أَهْلَكْنا عَلَى الْمَوْتِ أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ فَكَيْفَ يَلْزَمُ. قُلْنَا: قَوْلُهُ: وَما أَهْلَكْنا إِمَّا أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَهُ الْمَوْتُ أَوْ لَا يَدْخُلَ، فَإِنْ دَخَلَ فَالِاسْتِدْلَالُ ظَاهِرٌ لَازِمٌ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فَنَقُولُ: إِنَّ مَا لِأَجْلِهِ وَجَبَ فِي عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ وَلَا يَتَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ قَائِمٌ فِي الْمَوْتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الحكم هاهنا كذلك، والله أعلم. [سورة الحجر (15) : الآيات 6 الى 9] وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي تَهْدِيدِ الْكُفَّارِ ذَكَرَ بَعْدَهُ شُبَهَهُمْ فِي إِنْكَارِ نُبُوَّتِهِ. فَالشُّبْهَةُ الْأُولَى: أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْجُنُونِ، وَفِيهِ احْتِمَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَظْهَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ حَالَةٌ شَبِيهَةٌ بِالْغَشْيِ فَظَنُّوا أَنَّهَا جُنُونٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [الْقَلَمِ: 51، 52] وَأَيْضًا قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ [الْأَعْرَافِ: 184] . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَبْعِدُونَ كَوْنَهُ رَسُولًا حَقًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالرَّجُلُ إِذَا سَمِعَ كَلَامًا مُسْتَبْعَدًا مِنْ غَيْرِهِ فَرُبَّمَا قَالَ لَهُ هَذَا جُنُونٌ وَأَنْتَ مَجْنُونٌ لِبُعْدِ مَا يَذْكُرُهُ مِنْ طَرِيقَةِ الْعَقْلِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ في هذه الآية يحتمل الوجهين. أما قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ ذَكَرُوهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ كَمَا قَالَ فِرْعَوْنَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشُّعَرَاءِ: 27] وَكَمَا قَالَ قَوْمُ شُعَيْبٍ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هُودٍ: 87] وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آلِ عِمْرَانَ: 21] لأن البشارة بالعذاب ممتنعة. والثاني: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ فِي زَعْمِهِ وَاعْتِقَادِهِ، وَعِنْدَ أَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ. ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي تَقْرِيرِ شُبَهِهِمْ: لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: الْمُرَادُ لَوْ كُنْتَ صَادِقًا فِي ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ لَأَتَيْتَنَا بِالْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ عِنْدَنَا بِصِدْقِكَ فِيمَا تَدَّعِيهِ مِنَ الرِّسَالَةِ، لِأَنَّ الْمُرْسَلَ الْحَكِيمَ إِذَا حَاوَلَ تَحْصِيلَ أَمْرٍ، وَلَهُ طَرِيقٌ يُفْضِي إِلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ قَطْعًا، وَطَرِيقٌ آخَرُ قَدْ يُفْضِي وَقَدْ لَا يُفْضِي، وَيَكُونُ فِي مَحَلِّ الشُّكُوكِ وَالشُّبَهَاتِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْحَكِيمُ أَرَادَ تَحْصِيلَ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ، فَإِنَّهُ يُحَاوِلُ تَحْصِيلَهُ بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ لَا بِالطَّرِيقِ الثَّانِي، وَإِنْزَالُ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَكَ،

وَيُقَرِّرُونَ قَوْلَكَ طَرِيقٌ يُفْضِي إِلَى حُصُولِ هَذَا الْمَقْصُودِ قَطْعًا، وَالطَّرِيقُ الَّذِي تُقَرِّرُ بِهِ صِحَّةَ نُبُوَّتِكَ طَرِيقٌ فِي مَحَلِّ الشُّكُوكِ وَالشُّبَهَاتِ، فَلَوْ كُنْتَ صَادِقًا فِي ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ لَوَجَبَ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِنْزَالُ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يُصَرِّحُونَ بِتَصْدِيقِكَ وَحَيْثُ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّكَ لَسْتَ مِنَ النُّبُوَّةِ فِي شَيْءٍ، فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ [الْأَنْعَامِ: 8] وَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَوِّفُهُمْ بِنُزُولِ الْعَذَابِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، فَالْقَوْمُ طَالَبُوهُ بِنُزُولِ الْعَذَابِ وَقَالُوا لَهُ: لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ الَّذِينَ يَنْزِلُونَ عَلَيْكَ يَنْزِلُونَ عَلَيْنَا بِذَلِكَ الْعَذَابِ/ الْمَوْعُودِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ [الْعَنْكَبُوتِ: 53] ثُمَّ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ فَنَقُولُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ هُوَ الوجه الْأَوَّلَ، كَانَ تَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ إِنْزَالَ الْمَلَائِكَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَعِنْدَ حُصُولِ الْفَائِدَةِ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ أَنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ لَبَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ فَيَصِيرُ إِنْزَالُهُمْ عَبَثًا بَاطِلًا، وَلَا يَكُونُ حَقًّا، فَلِهَذَا السَّبَبِ مَا أَنْزَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: المراد بالحق هاهنا الْمَوْتُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَنْزِلُونَ إِلَّا بِالْمَوْتِ، وَإِلَّا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ نُزُولِهِمْ إِنْظَارٌ وَلَا إِمْهَالٌ، وَنَحْنُ لَا نُرِيدُ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ مَا أَنْزَلْنَا الْمَلَائِكَةَ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ اسْتِعْجَالَهُمْ فِي نُزُولِ الْعَذَابِ الَّذِي كَانَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَوَعَّدُهُمْ بِهِ، فَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَنْزِلُ إِلَّا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَحُكْمُنَا فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا نَفْعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ، وَأَنْ نُمْهِلَهُمْ لِمَا عَلِمْنَا مِنْ إِيمَانِ بَعْضِهِمْ، وَمِنْ إِيمَانِ أَوْلَادِ الْبَاقِينَ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: لَوْلَا وَلَوْمَا لُغَتَانِ: مَعْنَاهُمَا: هَلَّا وَيُسْتَعْمَلَانِ فِي الْخَبَرِ وَالِاسْتِفْهَامِ، فَالْخَبَرُ مِثْلُ قَوْلِكَ لَوْلَا أَنْتَ لَفَعَلْتُ كَذَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سَبَأٍ: 31] وَالِاسْتِفْهَامُ كَقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَامِ: 8] وَكَهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَوْمَا الْمِيمُ فِيهِ بَدَلٌ عَنِ اللَّامِ فِي لَوْلَا، وَمِثْلُهُ اسْتَوْلَى عَلَى الشَّيْءِ وَاسْتَوْمَى عَلَيْهِ، وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ: خَالَلْتُهُ وَخَالَمْتُهُ إِذَا صَادَقْتَهُ، وَهُوَ خِلِّي وَخِلْمِي أَيْ صَدِيقِي. المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: مَا نُنَزِّلُ بِالنُّونِ وَبِكَسْرِ الزَّايِ وَالتَّشْدِيدِ، وَالْمَلَائِكَةَ بِالنَّصْبِ لِوُقُوعِ الْإِنْزَالِ عَلَيْهَا. وَالْمُنْزِّلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: مَا تُنَزَّلُ عَنْ فِعْلِ مَا لَمْ يسمى فَاعِلُهُ، وَالْمَلَائِكَةُ بِالرَّفْعِ. وَالْبَاقُونَ: مَا تُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى إِسْنَادِ فِعْلِ النُّزُولِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ يَعْنِي: لَوْ نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ لَمْ يُنْظَرُوا أَيْ يُمْهَلُوا فَإِنَّ التَّكْلِيفَ يَزُولُ عِنْدَ نُزُولِ الملائكة. قال صاحب «النظم» : لفظ اذن مركبة مِنْ كَلِمَتَيْنِ: مِنْ إِذْ وَهُوَ اسْمٌ بِمَنْزِلَةِ حِينَ أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَتَيْتُكَ إِذْ جِئْتَنِي أَيْ حِينَ جِئْتَنِي. ثُمَّ ضُمَّ إِلَيْهَا أَنْ، فَصَارَ إِذْ أَنْ. ثُمَّ اسْتَثْقَلُوا الْهَمْزَةَ، فَحَذَفُوهَا فَصَارَ إِذَنْ، وَمَجِيءُ لَفْظَةِ إِذَنْ دَلِيلٌ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ بَعْدَهَا وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ إِذْ كَانَ مَا طَلَبُوا وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ. ثم قَالَ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

المسألة الأولى: أن القوم إنما قالوا: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [الْحِجْرِ: 6] لِأَجْلِ أَنَّهُمْ سَمِعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَزَّلَ الذِّكْرَ عَلَيَّ» ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَقَّقَ قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. فَأما قوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ فَهَذِهِ الصِّيغَةُ وَإِنْ كَانَتْ لِلْجَمْعِ إِلَّا أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْمُلُوكِ عِنْدَ إِظْهَارِ التَّعْظِيمِ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ إِذَا فَعَلَ فِعْلًا أَوْ قَالَ قَوْلًا قَالَ: إِنَّا فَعَلْنَا كَذَا وقلنا كذا فكذا هاهنا. المسألة الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لَهُ لَحافِظُونَ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الذِّكْرِ يَعْنِي: وَإِنَّا نَحْفَظُ ذَلِكَ الذِّكْرَ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ: لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فُصِّلَتْ: 42] وَقَالَ: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاءِ: 82] . فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ اشْتَغَلَتِ الصَّحَابَةُ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ وَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِحِفْظِهِ وَمَا حَفِظَهُ اللَّهُ فَلَا خَوْفَ عَلَيْهِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ جَمْعَهُمْ لِلْقُرْآنِ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ حِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْ حَفِظَهُ قَيَّضَهُمْ لِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى كَوْنِ التَّسْمِيَةِ آيَةً مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ، وَالْحِفْظُ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا أَنْ يَبْقَى مَصُونًا مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَلَوْ لَمْ تَكُنِ التَّسْمِيَةُ مِنَ الْقُرْآنِ لَمَا كَانَ الْقُرْآنُ مَصُونًا عَنِ التَّغْيِيرِ، وَلَمَا كَانَ مَحْفُوظًا عَنِ الزِّيَادَةِ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُظَنَّ بِالصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ زَادُوا لَجَازَ أَيْضًا أَنْ يُظَنَّ بِهِمُ النُّقْصَانُ، وَذَلِكَ يُوجِبُ خُرُوجَ الْقُرْآنِ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْكِنَايَةَ فِي قَوْلِهِ: لَهُ رَاجِعَةٌ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَعْنَى وَإِنَّا لِمُحَمَّدٍ لَحَافِظُونَ وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَقَوَّى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ هَذَا الْقَوْلَ فَقَالَ: لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ الْإِنْزَالَ وَالْمُنْزَلُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُنْزَلِ عَلَيْهِ فَحَسُنَتِ الْكِنَايَةُ عَنْهُ، لِكَوْنِهِ أَمْرًا مَعْلُومًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: 1] فَإِنَّ هَذِهِ الْكِنَايَةَ عَائِدَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ وَإِنَّمَا حَسُنَتِ الْكِنَايَةُ لِلسَّبَبِ المعلوم فكذا هاهنا، إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَرْجَحُ الْقَوْلَيْنِ وَأَحْسَنُهُمَا مُشَابَهَةً لِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الثَّالِثَةُ: إِذَا قُلْنَا الْكِنَايَةُ عَائِدَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ فَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ تَعَالَى كَيْفَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ قَالَ بَعْضُهُمْ: حَفِظَهُ بِأَنْ جَعَلَهُ مُعْجِزًا مُبَايِنًا لِكَلَامِ الْبَشَرِ فَعَجَزَ الْخَلْقُ عَنِ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنُّقْصَانِ عَنْهُ لِأَنَّهُمْ لَوْ زَادُوا فِيهِ أَوْ نَقَصُوا عَنْهُ لَتَغَيَّرَ نَظْمُ الْقُرْآنِ فَيَظْهَرُ لِكُلِّ الْعُقَلَاءِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ فَصَارَ كَوْنُهُ مُعْجِزًا كَإِحَاطَةِ السُّورِ بِالْمَدِينَةِ لِأَنَّهُ يُحَصِّنُهَا وَيَحْفَظُهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى صَانَهُ/ وَحَفِظَهُ مِنْ أَنْ يَقْدِرَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى مُعَارَضَتِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: أَعْجَزَ الْخَلْقَ عَنْ إِبْطَالِهِ وَإِفْسَادِهِ بِأَنْ قَيَّضَ جَمَاعَةً يَحْفَظُونَهُ وَيَدْرُسُونَهُ وَيُشْهِرُونَهُ فِيمَا بَيْنَ الْخَلْقِ إِلَى آخِرِ بَقَاءِ التَّكْلِيفِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِالْحِفْظِ هُوَ أَنَّ أَحَدًا لَوْ حَاوَلَ تَغْيِيرَهُ بِحَرْفٍ أَوْ نُقْطَةٍ لَقَالَ لَهُ أَهْلُ الدُّنْيَا: هَذَا كَذِبٌ وَتَغْيِيرٌ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى إِنَّ الشَّيْخَ الْمَهِيبَ لَوِ اتَّفَقَ لَهُ لَحْنٌ أَوْ هَفْوَةٌ فِي حَرْفٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَقَالَ لَهُ كُلُّ الصِّبْيَانِ: أَخْطَأْتَ أَيُّهَا الشَّيْخُ وَصَوَابُهُ كَذَا وَكَذَا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَتَّفِقْ لِشَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ مِثْلُ هَذَا الْحِفْظِ، فَإِنَّهُ لَا كِتَابَ إِلَّا وَقَدْ دَخَلَهُ التَّصْحِيفُ وَالتَّحْرِيفُ

[سورة الحجر (15) : الآيات 10 إلى 13]

وَالتَّغْيِيرُ، إِمَّا فِي الْكَثِيرِ مِنْهُ أَوْ فِي الْقَلِيلِ، وَبَقَاءُ هَذَا الْكِتَابِ مَصُونًا عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ التَّحْرِيفِ مَعَ أَنَّ دَوَاعِيَ الْمُلْحِدَةِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مُتَوَفِّرَةٌ عَلَى إِبْطَالِهِ وَإِفْسَادِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعْجِزَاتِ وَأَيْضًا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَقَائِهِ مَحْفُوظًا عَنِ التَّغْيِيرِ وَالتَّحْرِيفِ، وَانْقَضَى الْآنَ قَرِيبًا مِنْ سِتِّمِائَةِ سَنَةٍ فَكَانَ هَذَا إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مُعْجِزًا قَاهِرًا. المسألة الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ الْقَاضِي بِقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ بَعْضِ الْإِمَامِيَّةِ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ دَخَلَهُ التَّغْيِيرُ وَالزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمَا بَقِيَ الْقُرْآنُ مَحْفُوظًا، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى إِثْبَاتِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، فَالْإِمَامِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ دَخَلَهُ التَّغْيِيرُ وَالزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ، لَعَلَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ جُمْلَةِ الزَّوَائِدِ الَّتِي أُلْحِقَتْ بِالْقُرْآنِ، فَثَبَتَ أَنَّ إِثْبَاتَ هَذَا الْمَطْلُوبِ بِهَذِهِ الآية يجري مجرى إثبات الشيء نفسه وأنه باطل والله أعلم. [سورة الحجر (15) : الآيات 10 الى 13] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) اعْلَمْ أَنَّ القوم لما أساؤوا فِي الْأَدَبِ وَخَاطَبُوهُ بِالسَّفَاهَةِ وَقَالُوا: إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ، فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ/ أَنَّ عَادَةَ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ مَعَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ هَكَذَا كَانَتْ. وَلَكَ أُسْوَةٌ فِي الصَّبْرِ عَلَى سَفَاهَتِهِمْ وَجَهَالَتِهِمْ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي نَظْمِ الآية [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ ذِكْرَ الرُّسُلِ لِدَلَالَةِ الْإِرْسَالِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ أَيْ فِي أُمَمِ الْأَوَّلِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الشِّيَعُ الْأَتْبَاعُ وَاحِدُهُمْ شِيعَةٌ وَشِيعَةُ الرَّجُلِ أَتْبَاعُهُ، وَالشِّيعَةُ الْأُمَّةُ سُمُّوا بِذَلِكَ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ شَايَعَ بَعْضًا وَشَاكَلَهُ، وَذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْحَرْفِ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً [الْأَنْعَامِ: 65] قَالَ الْفَرَّاءُ: وَقَوْلُهُ: فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ كَقَوْلِهِ: حَقُّ الْيَقِينِ [الْوَاقِعَةِ: 95] وَقَوْلِهِ: بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ [الْقَصَصِ: 44] وَقَوْلِهِ: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [الْبَيِّنَةِ: 5] أما قوله: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَيْ عَادَةُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ مَعَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ ذَلِكَ الِاسْتِهْزَاءُ بِهِمْ كَمَا فَعَلُوا بِكَ ذَكَرَهُ تَسْلِيَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاعْلَمْ أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي يَحْمِلُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالَ عَلَى هَذِهِ الْعَادَةِ الْخَبِيثَةِ أُمُورٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ يَسْتَثْقِلُونَ الْتِزَامَ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَالِاحْتِرَازَ عَنِ الطَّيِّبَاتِ وَاللَّذَّاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّسُولَ يَدْعُوهُمْ إِلَى تَرْكِ مَا أَلِفُوهُ مِنْ أَدْيَانِهِمُ الْخَبِيثَةِ وَمَذَاهِبِهِمُ الْبَاطِلَةِ، وَذَلِكَ شَاقٌّ شَدِيدٌ عَلَى الطِّبَاعِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الرَّسُولَ مَتْبُوعٌ مَخْدُومٌ وَالْأَقْوَامَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ وَخِدْمَتُهُ وَذَلِكَ أَيْضًا فِي غَايَةِ الْمَشَقَّةِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ يَكُونُ فَقِيرًا وَلَا يَكُونُ لَهُ أَعْوَانٌ وَأَنْصَارٌ وَلَا مَالَ وَلَا جَاهَ فَالْمُتَنَعِّمُونَ وَالرُّؤَسَاءُ يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ خِدْمَةُ مَنْ يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَالْخَامِسُ: خِذْلَانُ اللَّهِ لَهُمْ وَإِلْقَاءُ دَوَاعِي الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْأَصْلِيُّ، فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَمَا يُشْبِهُهَا تَقَعُ الْجُهَّالُ وَالضُّلَّالُ مَعَ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ.

أما قوله تَعَالَى: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: السَّلْكُ إِدْخَالُ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ كَإِدْخَالِ الْخَيْطِ فِي الْمَخِيطِ وَالرُّمْحِ فِي الْمَطْعُونِ، وَقِيلَ: فِي قَوْلِهِ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [الْمُدَّثِّرِ: 42] أَيْ أَدْخَلَكُمْ فِي جَهَنَّمَ. وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَبُو عُبَيْدٍ: سَلَكْتُهُ وَأَسْلَكْتُهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْبَاطِلَ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ، فَقَالُوا: قَوْلُهُ كَذلِكَ نَسْلُكُهُ أَيْ كَذَلِكَ نَسْلُكُ الْبَاطِلَ وَالضَّلَالَ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَمْ يَجْرِ لِلضَّلَالِ وَالْكُفْرِ ذِكْرٌ فِيمَا قَبْلَ هَذَا اللَّفْظِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَيْهِ لَا يُقَالُ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وقوله: يَسْتَهْزِؤُنَ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ عَائِدٌ إِلَيْهِ، وَالِاسْتِهْزَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ كُفْرٌ وَضَلَالٌ، / فثبت صحة قولنا الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ هُوَ أَنَّهُ كَذَلِكَ نَسْلُكُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ وَالِاسْتِهْزَاءَ بِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، لِأَنَّا نَقُولُ: إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ عَائِدًا إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ عَائِدًا أَيْضًا إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ لِأَنَّهُمَا ضَمِيرَانِ تَعَاقَبَا وَتَلَاصَقَا، فَوَجَبَ عَوْدُهُمَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ الِاسْتِهْزَاءِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّنَاقُضَ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا بِكُفْرِهِ، وَالَّذِي لَا يَكُونُ كَذَلِكَ هُوَ الْمُسْلِمُ الْعَالِمُ بِبُطْلَانِ الْكُفْرِ فَلَا يُصَدِّقُ بِهِ، وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَسَلُكُ الْكُفْرَ فِي قَلْبِ الْكَافِرِ وَيَخْلُقُهُ فِيهِ فَمَا أَحَدٌ أَوْلَى بِالْعُذْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، وَلَكَانَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَذُمَّهُمْ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّ يُعَاقِبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الوجه فَنَقُولُ: التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ عَائِدٌ إِلَى الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَقَالَ بَعْدَهُ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ أَيْ هَكَذَا نَسْلُكُ الْقُرْآنَ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا السَّلْكِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُسْمِعُهُمْ هَذَا الْقُرْآنَ وَيَخْلُقُ فِي قُلُوبِهِمْ حِفْظَ هَذَا الْقُرْآنِ وَيَخْلُقُ فِيهَا الْعِلْمَ بِمَعَانِيهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لِجَهْلِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عِنَادًا وَجَهْلًا، فَكَانَ هَذَا مُوجِبًا لِلُحُوقِ الذَّمِّ الشَّدِيدِ بِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ بِالْإِجْمَاعِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ عَائِدًا إِلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّهُمَا ضَمِيرَانِ مُتَعَاقِبَانِ فَيَجِبُ عُودُهُمَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: كَذلِكَ مَعْنَاهُ: مِثْلَ مَا عَمِلْنَا كَذَا وَكَذَا نَعْمَلُ هَذَا السَّلْكَ فَيَكُونُ هَذَا تَشْبِيهًا لِهَذَا السَّلْكِ بِعَمَلٍ آخَرَ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَعْمَالِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَجْرِ لِعَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ اللَّهِ ذِكْرٌ فِي سَابِقَةِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا قَوْلَهُ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْطُوفًا عَلَيْهِ وَمُشَبَّهًا بِهِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: نَسْلُكُهُ عَائِدًا إِلَى الذِّكْرِ وَهَذَا تَمَامُ تَقْرِيرِ كَلَامِ الْقَوْمِ. وَالْجَوَابُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: نَسْلُكُهُ عَائِدًا عَلَى الذِّكْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ مَذْكُورٌ بِحَرْفِ النُّونِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ إِظْهَارُ نِهَايَةِ التَّعْظِيمِ وَالْجَلَالَةِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْظِيمِ إِنَّمَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ إِذَا فَعَلَ فِعْلًا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ قَوِيٌّ كَامِلٌ بِحَيْثُ صَارَ الْمُنَازِعُ وَالْمُدَافِعُ لَهُ مَغْلُوبًا مَقْهُورًا. فَأَمَّا إِذَا فَعَلَ فِعْلًا وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَثَرٌ الْبَتَّةَ، صَارَ الْمُنَازِعُ وَالْمُدَافِعُ غَالِبًا قَاهِرًا، فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّفْظِ الْمُشْعِرِ بِنِهَايَةِ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالَةِ يَكُونُ مُسْتَقْبَحًا فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَالْأَمْرُ هاهنا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى سَلَكَ إِسْمَاعَ الْقُرْآنِ

وَتَحْفِيظَهُ وَتَعْلِيمَهُ فِي قَلْبِ الْكَافِرِ لِأَجْلِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ/ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَصَارَ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى كَالْهَدْرِ الضَّائِعِ، وَصَارَ الْكَافِرُ وَالشَّيْطَانُ كَالْغَالِبِ الدَّافِعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ ذِكْرُ النُّونِ الْمُشْعِرِ بالعظمة والجلالة في قوله: نَسْلُكُهُ غَيْرَ لَائِقٍ بِهَذَا الْمَقَامِ، فَثَبَتَ بِهَذَا التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرُوهُ فَاسِدٌ. وَالوجه الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرُوهُ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، أَيْ وَمَعَ هَذَا السَّعْيِ الْعَظِيمِ فِي تَحْصِيلِ إِيمَانِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَمَّا لِمَ يَذْكُرِ الْوَاوَ فَعَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ كَالتَّفْسِيرِ، وَالْبَيَانِ لِقَوْلِهِ: نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ أَنَّا نَسْلُكُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ فِي قُلُوبِهِمْ. وَالوجه الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الحجر: 9] بعيد، وقوله: يَسْتَهْزِؤُنَ قَرِيبٌ، وَعَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ هُوَ الْوَاجِبُ. أما قوله: لَوْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: نَسْلُكُهُ عَائِدًا إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ لَكَانَ فِي قَوْلِهِ، لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ عَائِدًا إِلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ التَّنَاقُضُ. قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَلَا مَانِعَ مِنَ اعْتِبَارِ هَذَا الدَّلِيلِ فِي الضَّمِيرِ الْأَوَّلِ وَحَصَلَ الْمَانِعُ مِنَ اعْتِبَارِهِ فِي الضَّمِيرِ الثَّانِي فَلَا جَرَمَ قُلْنَا: الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ عَائِدٌ إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ، وَالضَّمِيرُ الثَّانِي عَائِدٌ إِلَى الذِّكْرِ، وَتَفْرِيقُ الضَّمَائِرِ الْمُتَعَاقِبَةِ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ لَيْسَ بِقَلِيلٍ فِي الْقُرْآنِ، أَلَيْسَ أَنَّ الْجُبَّائِيَّ وَالْكَعْبِيَّ وَالْقَاضِيَ قَالُوا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الْأَعْرَافِ: 189، 190] فَقَالُوا هَذِهِ الضَّمَائِرُ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ إِلَى قَوْلِهِ: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ عَائِدَةٌ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ عَائِدَةٌ إِلَى غَيْرِهِمَا، فَهَذَا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِي تَفَاسِيرِهِمْ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَاقُبِ الضَّمَائِرِ عَوْدُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ بَلِ الْأَمْرُ فِيهِ مَوْقُوفٌ على الدليل فكذا هاهنا والله أعلم. الوجه الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا قَوْلُهُ: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ تَفْسِيرٌ لِلْكِنَايَةِ فِي قَوْلِهِ: نَسْلُكُهُ وَالتَّقْدِيرُ: كَذَلِكَ نَسْلُكُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا بِهِ وَالْمَعْنَى نَجْعَلُ فِي قُلُوبِهِمْ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا بِهِ. وَالوجه الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّا بَيَّنَّا بِالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاهِرَةِ أَنَّ حُصُولَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بِالْعَبْدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ إِنَّمَا يُرِيدُ الْإِيمَانَ وَالصِّدْقَ، وَالْعِلْمَ وَالْحَقَّ، وَأَنَّ أَحَدًا/ لَا يَقْصِدُ تَحْصِيلَ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالْكَذِبِ فَلَمَّا كَانَ كُلُّ أَحَدٍ لَا يَقْصِدُ إِلَّا الْإِيمَانَ وَالْحَقَّ ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْكُفْرُ وَالْبَاطِلُ، عَلِمْنَا أَنَّ حُصُولَ ذَلِكَ الْكُفْرِ لَيْسَ مِنْهُ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ الْكُفْرُ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ هُوَ الْإِيمَانُ: فَنَقُولُ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِنَّمَا رَضِيَ بِتَحْصِيلِ ذَلِكَ الْجَهْلِ لِأَجْلِ جَهْلٍ آخَرَ سَابِقٍ عَلَيْهِ فَيَنْقُلُ الْكَلَامَ إِلَى ذَلِكَ الْجَهْلِ السَّابِقِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ جَهْلٍ آخَرَ لَزِمَ

[سورة الحجر (15) : الآيات 14 إلى 15]

التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِلَّا وَجَبَ انْتِهَاءُ كُلِّ الْجَهَالَاتِ إِلَى جَهْلٍ أَوَّلٍ سَابِقٍ حَصَلَ فِي قَلْبِهِ لَا بِتَحْصِيلِهِ بَلْ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي قُلْنَاهُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَالْمَعْنَى: نَجْعَلُ فِي قُلُوبِهِمْ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا بِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ فِيهَا، وَأَيْضًا قُدَمَاءُ الْمُفَسِّرِينَ مِثْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَلَامِذَتِهِ أَطْبَقُوا عَلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ فِيهَا، وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُعْتَزِلَةُ تَأْوِيلٌ مُسْتَحْدَثٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَكَانَ مَرْدُودًا، وَرَوَى الْقَاضِي عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ الْمُرَادَ كَذَلِكَ نَسْلُكُ الْقَسْوَةَ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، ثم قال الْقَاضِي: إِنَّ الْقَسْوَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ الْكَافِرِ بِأَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَيُعَانِدَ، فَلَا يَصِحُّ إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَيُقَالُ لِلْقَاضِي: إِنَّ هَذَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُكَابَرَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَافِرَ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ نَفْرَةً شَدِيدَةً عَنْ قَبُولِ قَوْلِ الرَّسُولِ وَنَبْوَةً عَظِيمَةً عَنْهُ حَتَّى أَنَّهُ كُلَّمَا رَآهُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ، وَرُبَّمَا ارْتَعَدَتْ أَعْضَاؤُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ وَالْإِصْغَاءِ لِقَوْلِهِ، فَحُصُولُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي قَلْبِهِ أَمْرٌ اضْطِرَارِيٌّ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا عَنْ نَفْسِهِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهَا حَصَلَتْ بِفِعْلِهِ وَاخْتِيَارِهِ؟ فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ يُمْكِنُهُ تَرْكُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الِانْقِيَادِ وَالْقَبُولِ فَنَقُولُ هَذَا مُغَالَطَةٌ مَحْضَةٌ، لِأَنَّكَ إِنْ أَرَدْتَ أَنَّهُ مَعَ حُصُولِ هَذِهِ النَّفْرَةِ الشَّدِيدَةِ فِي الْقَلْبِ، وَالنَبْوَةِ الْعَظِيمَةِ فِي النَّفْسِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الِانْقِيَادِ وَالْقَبُولِ وَالطَّاعَةِ وَالرِّضَا فَهَذَا مُكَابَرَةٌ، وَإِنْ أَرَدْتَ أَنَّ عِنْدَ زَوَالِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ يُمْكِنُهُ الْعَوْدُ إِلَى الْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ فَهَذَا حَقٌّ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إِزَالَةُ هَذِهِ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ عَنِ الْقَلْبِ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ الْفَاعِلُ لَهَا هُوَ الْإِنْسَانُ لَافْتَقَرَ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ إِلَى دَوَاعِي سَابِقَةٍ عَلَيْهَا وَلَزِمَ الذَّهَابُ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ لَهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَسْلُكُ هَذِهِ الدَّوَاعِيَ وَالصَّوَارِفَ فِي الْقُلُوبِ وَذَلِكَ عَيْنُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أما قوله تَعَالَى: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَهْدِيدٌ لِكُفَّارِ مَكَّةَ يَقُولُ قَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ بِإِهْلَاكِ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ فِي الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ. الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ: وَقَدْ/ مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْأَوَّلِينَ بِأَنْ يَسْلُكَ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَهَذَا أَلْيَقُ بِظَاهِرِ اللفظ. [سورة الحجر (15) : الآيات 14 الى 15] وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الْأَنْعَامِ: 7] وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا طَلَبُوا نُزُولَ مَلَائِكَةٍ يُصَرِّحُونَ بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كَوْنَهُ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَحْصُلَ هَذَا الْمَعْنَى لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَذَا مِنْ بَابِ السِّحْرِ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُظَنُّ أَنَّا نَرَاهُمْ فَنَحْنُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا نَرَاهُمْ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ فَلِهَذَا السَّبَبِ مَا أَنْزَلَهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ مِنَ الْجَمَاعَةِ العظيمة أن يصيروا شاكرين فِي وُجُودِ مَا يُشَاهِدُونَهُ بِالْعَيْنِ السَّلِيمَةِ فِي النَّهَارِ الْوَاضِحِ، وَلَوْ جَازَ حُصُولُ الشَّكِّ فِي ذَلِكَ كَانَتِ السَّفْسَطَةُ لَازِمَةً، وَلَا يَبْقَى حِينَئِذٍ اعْتِمَادٌ عَلَى الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ.

أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ: بِأَنَّهُ تَعَالَى مَا وَصَفَهُمْ بِالشَّكِّ فِيمَا يُبْصِرُونَ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقْدِمَ الْإِنْسَانُ عَلَى الْكَذِبِ عَلَى سَبِيلِ الْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ، ثُمَّ سَأَلَ نَفْسَهُ وَقَالَ: أَفَيَصِحُّ مِنَ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ أَنْ يُظْهِرُوا الشَّكَّ فِي الْمُشَاهَدَاتِ. وَأَجَابَ بِأَنَّهُ يَصِحُّ ذَلِكَ إِذَا جَمَعَهُمْ عَلَيْهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ مِنْ مُوَاطَأَةٍ عَلَى دَفْعِ حُجَّةٍ أَوْ غَلَبَةِ خَصْمٍ، وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ إِنَّمَا وَقَعَتْ عَنْ قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ، سَأَلُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْزَالَ الْمَلَائِكَةِ، وَهَذَا السُّؤَالُ مَا كَانَ إِلَّا مِنْ رُؤَسَاءِ الْقَوْمِ، وَكَانُوا قَلِيلِي الْعَدَدِ، وَإِقْدَامُ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ عَلَى مَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُكَابَرَةِ جَائِزٌ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ يُقَالُ: ظَلَّ فُلَانٌ نَهَارَهُ يَفْعَلُ كَذَا إِذَا فَعَلَهُ بِالنَّهَارِ وَلَا تَقُولُ الْعَرَبُ ظَلَّ يَظَلُّ إِلَّا لِكُلِّ عَمَلٍ عُمِلَ بِالنَّهَارِ، كَمَا لَا يَقُولُونَ بَاتَ يَبِيتُ إِلَّا بِاللَّيْلِ، وَالْمَصْدَرُ الظُّلُولُ، وَقَوْلُهُ: فِيهِ يَعْرُجُونَ يُقَالُ: عَرَجَ يَعْرُجُ عُرُوجًا، وَمِنْهُ الْمَعَارِجُ، وَهِيَ الْمَصَاعِدُ الَّتِي يُصْعَدُ فِيهَا، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّ قَوْلَهُ: فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ مِنْ صِفَةِ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَوْ ظَلَّ الْمُشْرِكُونَ يَصْعَدُونَ فِي تِلْكَ الْمَعَارِجِ وَيَنْظُرُونَ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَإِلَى عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ لَشَكُّوا فِي تِلْكَ الرُّؤْيَةِ وَبَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَجَهْلِهِمْ كَمَا جَحَدُوا سَائِرَ الْمُعْجِزَاتِ مِنَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَمَا خُصَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هذه الْعُرُوجَ لِلْمَلَائِكَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ جَعَلَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ بِحَيْثُ يَرَوْا أَبْوَابًا مِنَ السَّمَاءِ مَفْتُوحَةً وَتَصْعَدُ مِنْهَا الْمَلَائِكَةُ وَتَنْزِلُ لَصَرَفُوا ذَلِكَ عَنْ وَجْهِهِ، وَلَقَالُوا: إِنَّ السَّحَرَةَ سَحَرُونَا وَجَعَلُونَا بِحَيْثُ نُشَاهِدُ هَذِهِ الْأَبَاطِيلَ الَّتِي لَا حَقِيقَةَ لَهَا وَقَوْلُهُ: لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ سُكِّرَتْ بِالتَّخْفِيفِ، وَالْبَاقُونَ مُشَدَّدَةَ الْكَافِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ سُكِرَتْ غُشِيَتْ وَسُدِّدَتْ بِالسِّحْرِ هَذَا قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَالُوا: وَأَصْلُهُ مِنَ السَكْرِ وَهُوَ سَدُّ الشِّقِّ لِئَلَّا يَنْفَجِرَ الْمَاءُ، فَكَأَنَّ هَذِهِ الْأَبْصَارَ مُنِعَتْ مِنَ النَّظَرِ كَمَا يَمْنَعُ السَكْرُ الْمَاءَ مِنَ الْجَرْيِ، وَالتَّشْدِيدُ يُوجِبُ زِيَادَةً وَتَكْثِيرًا وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ سُكْرِ الشَّرَابِ يَعْنِي أَنَّ الْأَبْصَارَ حَارَتْ وَوَقَعَ بِهَا مِنْ فَسَادِ النَّظَرِ مِثْلُ مَا يَقَعُ بِالرَّجُلِ السَّكْرَانِ مِنْ تَغَيُّرِ الْعَقْلِ فَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْنَى التَّخْفِيفِ فَسُكِّرَتْ بِالتَّشْدِيدِ يُرَادُ بِهِ وُقُوعُ هَذَا الْأَمْرِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: سُكِّرَتْ أَبْصارُنا أَيْ غُشِيَتْ أَبْصَارُنَا فَوَجَبَ سُكُونُهَا وَبُطْلَانُهَا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَصْلُهُ مِنَ السُّكُونِ يُقَالُ: سَكَرَتِ الرِّيحُ سُكْرًا إِذَا سَكَنَتْ وَسَكَرَ الْحَرُّ يَسْكُرُ وَلَيْلَةٌ سَاكِرَةٌ لَا رِيحَ فِيهَا وَقَالَ أَوْسٌ: جَذَلْتُ عَلَى لَيْلَةٍ سَاهِرَةٍ ... فَلَيْسَتْ بِطَلْقٍ وَلَا سَاكِرَةٍ وَيُقَالُ: سُكِّرَتْ عَيْنُهُ سُكْرًا إِذَا تَحَيَّرَتْ وَسَكَنَتْ عَنِ النَّظَرِ وَعَلَى هَذَا مَعْنَى سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا، أَيْ سَكَنَتْ عَنِ النَّظَرِ وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: سُكِّرَتْ صَارَتْ بِحَيْثُ لَا يَنْفُذُ نُورُهَا وَلَا تُدْرِكُ الْأَشْيَاءَ عَلَى حَقَائِقِهَا، وَكَانَ مَعْنَى السَّكْرِ قَطْعَ الشَّيْءِ عَنْ سَنَنِهِ الْجَارِي، فَمِنْ ذَلِكَ تَسْكِيرُ الْمَاءِ وَهُوَ رَدُّهُ عَنْ سُنَنِهِ فِي الْجَرْيَةِ، وَالسُّكْرُ فِي الشَّرَابِ هُوَ أَنْ يَنْقَطِعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَضَاءِ فِي حَالَ الصَّحْوِ فَلَا يَنْفُذُ رَأْيُهُ عَلَى

[سورة الحجر (15) : الآيات 16 إلى 18]

حَدِّ نَفَاذِهِ فِي الصَّحْوِ، فَهَذِهِ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ فِي تَفْسِيرِ سُكِّرَتْ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مُتَقَارِبَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: مَنْ جَوَّزَ قُدْرَةَ السَّحَرَةِ عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا بِأَعْيُنِ النَّاسِ حَتَّى يُرُوهُمُ الشَّيْءَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ إِيمَانُهُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِذَا جَوَّزُوا ذَلِكَ فَلَعَلَّ/ هَذَا الَّذِي يَرَى أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ، وَلَعَلَّ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي نُشَاهِدُهَا لَيْسَ لَهَا حَقَائِقُ، بَلْ هِيَ تَكُونُ مِنْ بَابِ الْآرَاءِ الْبَاطِلَةِ مِنْ ذَلِكَ السَّاحِرِ، وَإِذَا حَصَلَ هَذَا التجويز بطل الكل. والله أعلم. [سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 18] وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَجَابَ عَنْ شُبْهَةِ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ، وَكَانَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالنُّبُوَّةِ مُفَرَّعٌ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّوْحِيدِ أَتْبَعَهُ تَعَالَى بِدَلَائِلِ التَّوْحِيدِ. وَلَمَّا كَانَتْ دَلَائِلُ التَّوْحِيدِ مِنْهَا سَمَاوِيَّةٌ، وَمِنْهَا أَرْضِيَّةٌ، بَدَأَ مِنْهَا بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ السَّمَاوِيَّةِ، فَقَالَ: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ قَالَ اللَّيْثُ: الْبُرْجُ وَاحِدٌ مِنْ بُرُوجِ الْفَلَكِ، وَالْبُرُوجُ جَمْعٌ وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بُرْجًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الْفُرْقَانِ: 61] وَقَالَ: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ [الْبُرُوجِ: 1] وَوَجْهُ دَلَالَتِهَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ، هُوَ أَنَّ طَبَائِعَ هَذِهِ الْبُرُوجِ مُخْتَلِفَةٌ عَلَى مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَرْبَابِ الْأَحْكَامِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْفَلَكُ مُرَكَّبٌ مِنْ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْمَاهِيَّةِ وَالْأَبْعَاضِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَكِّبٍ يُرَكِّبُ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ وَالْأَبْعَاضَ بِحَسَبِ الِاخْتِيَارِ وَالْحِكْمَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَ السَّمَاءِ مُرَكَّبَةً مِنَ الْبُرُوجِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَأما قوله: وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ فَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الْمُلْكِ: 5] فلا نعيد هاهنا إِلَّا الْقَدْرَ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَزَيَّنَّاها أَيْ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ لِلنَّاظِرِينَ أَيْ لِلْمُعْتَبِرِينَ بِهَا وَالْمُسْتَدِلِّينَ بِهَا عَلَى تَوْحِيدِ صَانِعِهَا وَقَوْلُهُ: وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ. فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ، وَالشَّيْطَانُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى هَدْمِ السَّمَاءِ فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى حِفْظِ السَّمَاءِ مِنْهُ. قُلْنَا: لَمَّا مَنَعَهُ مِنَ الْقُرْبِ مِنْهَا، فَقَدْ حَفِظَ السَّمَاءَ مِنْ مُقَارَبَةِ الشَّيْطَانِ فَحَفِظَ اللَّهُ السَّمَاءَ مِنْهُمْ كَمَا قَدْ/ يَحْفَظُ مَنَازِلَنَا عَنْ مُتَجَسِّسٍ يُخْشَى مِنْهُ الْفَسَادُ ثُمَّ نَقُولُ: مَعْنَى الرَّجْمِ فِي اللُّغَةِ الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ. ثُمَّ قِيلَ للقتل رُجِمَ تَشْبِيهًا لَهُ بِالرَّجْمِ بِالْحِجَارَةِ، وَالرَّجْمُ أَيْضًا السَّبُّ وَالشَّتْمُ لِأَنَّهُ رُمِيَ بِالْقَوْلِ الْقَبِيحِ وَمِنْهُ قوله: لَأَرْجُمَنَّكَ أَيْ لَأَسُبَّنَّكَ، وَالرَّجْمُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُرْمَى بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الْمُلْكِ: 5] أَيْ مَرَامِيَ لَهُمْ، وَالرَّجْمُ الْقَوْلُ بِالظَّنِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: رَجْماً بِالْغَيْبِ [الْكَهْفِ: 22] لِأَنَّهُ يَرْمِيهِ بِذَلِكَ الظَّنِّ وَالرَّجْمُ أَيْضًا اللَّعْنُ وَالطَّرْدُ، وَقَوْلُهُ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ، قَدْ فَسَّرُوهُ بِكُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ، لا تحجب عن السموات، فَكَانُوا يَدْخُلُونَهَا وَيَسْمَعُونَ أَخْبَارَ الْغُيُوبِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَيُلْقُونَهَا إِلَى الْكَهَنَةِ،

[سورة الحجر (15) : الآيات 19 إلى 20]

فَلَمَّا وُلِدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُنِعُوا مِنْ ثلاثة سموات، فَلَمَّا وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم منعوا من السموات كُلِّهَا، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِذَا أَرَادَ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ رُمِيَ بِشِهَابٍ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ لا يمكن حمل لفظة (إلا) هاهنا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، بِدَلِيلِ أَنَّ إِقْدَامَهُمْ عَلَى اسْتِرَاقِ السَّمْعِ لَا يُخْرِجُ السَّمَاءَ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحْفُوظَةً مِنْهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ دُخُولِهَا، وَإِنَّمَا يُحَاوِلُونَ الْقُرْبَ مِنْهَا، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً عَلَى التَّحْقِيقِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: لَكِنَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَوْضِعُ (مَنِ) نَصْبٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. قَالَ: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا مِمَّنْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ يُرِيدُ الْخَطْفَةَ الْيَسِيرَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَارِدَ مِنَ الشَّيَاطِينِ يَعْلُو فَيُرْمَى بِالشِّهَابِ فَيَحْرِقُهُ وَلَا يَقْتُلُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحِيلُهُ فَيَصِيرُ غُولًا يُضِلُّ النَّاسَ فِي الْبَرَارِي. وَقَوْلُهُ: فَأَتْبَعَهُ ذَكَرْنَا مَعْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي قصة بلعم بن باعورا فِي قَوْلِهِ: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ [الْأَعْرَافِ: 175] مَعْنَاهُ لَحِقَهُ، والشهاب شعلة نار ساطع، ثم يسمى الكواكب شِهَابًا، وَالسِّنَانُ شِهَابًا لِأَجْلِ أَنَّهُمَا لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْبَرِيقِ يُشْبِهَانِ النَّارَ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَبْحَاثًا دَقِيقَةً ذَكَرْنَاهَا فِي سُورَةِ الملك وفي سورة الجن، ونذكر منها هاهنا إِشْكَالًا وَاحِدًا، وَهُوَ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذَا جَوَّزْتُمْ فِي الْجُمْلَةِ أَنْ يَصْعَدَ الشَّيْطَانُ إلى السموات وَيَخْتَلِطَ بِالْمَلَائِكَةِ وَيَسْمَعَ أَخْبَارَ الْغُيُوبِ عَنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّهَا تَنْزِلُ وَتُلْقِي تِلْكَ الْغُيُوبَ عَلَى الْكَهَنَةِ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ عَنْ كَوْنِهِ مُعْجِزًا لِأَنَّ كُلَّ غَيْبٍ يُخْبِرُ عَنْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِيهِ هَذَا الِاحْتِمَالُ وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُعْجِزًا دَلِيلًا عَلَى الصِّدْقِ، لَا يُقَالُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا الْعَجْزُ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ إِلَّا بَعْدَ الْقَطْعِ بِكَوْنِ مُحَمَّدٍ رَسُولًا وَكَوْنِ الْقُرْآنِ حَقًّا، وَالْقَطْعُ بِهَذَا لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الْمُعْجِزِ، وَكَوْنُ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ مُعْجِزًا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بَعْدَ إِبْطَالِ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الدَّوْرُ وَهُوَ بَاطِلٌ مُحَالٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّا نُثْبِتُ كَوْنُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ رَسُولًا بِسَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ، ثُمَّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِنُبُوَّتِهِ نَقْطَعُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْجَزَ الشَّيَاطِينَ عَنْ تَلَقُّفِ الْغَيْبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ الْإِخْبَارُ عن الغيوب معجز، وبهذا الطريق يندفع الدور. والله أعلم. [سورة الحجر (15) : الآيات 19 الى 20] وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ الدَّلَائِلَ السَّمَاوِيَّةَ فِي تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ أَتْبَعَهَا بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ الْأَرْضِيَّةِ، وَهِيَ أَنْوَاعٌ: النوع الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَسَطْنَاهَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَرْضَ جِسْمٌ، وَالْجِسْمُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُمْتَدًّا فِي الْجِهَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ الطُّولُ وَالْعَرْضُ وَالثُّخْنُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَتَمَدُّدُ جِسْمِ الْأَرْضِ فِي هَذِهِ الْجِهَاتِ الثَّلَاثَةِ مُخْتَصٌّ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ جِسْمٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ تَمَدُّدُ جِسْمِ الْأَرْضِ مُخْتَصًّا بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مَعَ أَنَّ الِازْدِيَادَ عَلَيْهِ مَعْقُولٌ، وَالِانْتِقَاصَ عَنْهُ أَيْضًا مَعْقُولٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ التَّمَدُّدِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ الْمُقَدَّرِ مَعَ جَوَازِ حُصُولِ الْأَزْيَدِ وَالْأَنْقَصِ اخْتِصَاصًا بِأَمْرٍ جَائِزٍ وَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وَتَقْدِيرِ مُقَدِّرٍ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَدُلُّ قَوْلُهُ: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها عَلَى أَنَّهَا بَسِيطَةٌ؟ قُلْنَا: نَعَمْ لِأَنَّ الْأَرْضَ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهَا كُرَةً، فَهِيَ كُرَةٌ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ، وَالْكُرَةُ الْعَظِيمَةُ يَكُونُ كُلُّ قِطْعَةٍ صَغِيرَةٍ مِنْهَا، إِذَا نُظِرَ إِلَيْهَا فَإِنَّهَا تُرَى كَالسَّطْحِ الْمُسْتَوِي، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ زَالَ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِشْكَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْجِبالَ أَوْتاداً [النَّبَأِ: 7] سَمَّاهَا أَوْتَادًا مَعَ أَنَّهُ قَدْ يحصل عليها سطوح عظيمة مستوية، فكذا هاهنا. النوع الثاني: من الدلائل المذكورة في هذه الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَهِيَ الْجِبَالُ الثَّوَابِتُ، وَاحِدُهَا رَاسِي، وَالْجَمْعُ رَاسِيَةٌ، وَجَمْعُ الْجَمْعِ رَوَاسِي، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْقى / فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النَّحْلِ: 15] وَفِي تَفْسِيرِهِ وَجْهَانِ: الوجه الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا بَسَطَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَرْضَ عَلَى الْمَاءِ مَالَتْ بِأَهْلِهَا كَالسَّفِينَةِ فَأَرْسَاهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْجِبَالِ الثِّقَالِ لِكَيْلَا تَمِيلَ بِأَهْلِهَا. فَإِنْ قِيلَ: أَتَقُولُونَ إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْأَرْضَ بِدُونِ الْجِبَالِ فَمَالَتْ بِأَهْلِهَا فَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ تَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالْجِبَالَ مَعًا. قُلْنَا: كِلَا الْوَجْهَيْنِ مُحْتَمَلٌ. وَالوجه الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا لِتَكُونَ دَلَالَةً لِلنَّاسِ عَلَى طُرُقِ الْأَرْضِ وَنَوَاحِيهَا لِأَنَّهَا كَالْأَعْلَامِ فَلَا تَمِيلُ النَّاسُ عَنِ الْجَادَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ وَلَا يَقَعُونَ فِي الضَّلَالِ وَهَذَا الوجه ظَاهِرُ الِاحْتِمَالِ. النوع الثَّالِثُ: مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَفِيهِ بَحْثَانِ: البحث الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْبَتْنا فِيها يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى الْأَرْضِ وَأَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى الْجِبَالِ الرَّوَاسِي، إِلَّا أَنَّ رُجُوعَهُ إِلَى الْأَرْضِ أَوْلَى لِأَنَّ أَنْوَاعَ النَّبَاتِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا إِنَّمَا تَتَوَلَّدُ فِي الْأَرَاضِي، فَأَمَّا الْفَوَاكِهُ الْجَبَلِيَّةُ فَقَلِيلَةُ النَّفْعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: رُجُوعُ ذَلِكَ الضَّمِيرِ إِلَى الْجِبَالِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْمَعَادِنَ إِنَّمَا تَتَوَلَّدُ فِي الْجِبَالِ، وَالْأَشْيَاءُ الْمَوْزُونَةُ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ هِيَ الْمَعَادِنُ لَا النَّبَاتُ. البحث الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْمَوْزُونِ وَفِيهِ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مُتَقَدِّرٌ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا الوجه أَقْرَبُ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْمِقْدَارَ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ وَيَنْتَفِعُونَ بِهِ فَيُنْبِتُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ لِأَنَّ ذَلِكَ الرِّزْقَ الَّذِي يَظْهَرُ بِالنَّبَاتِ يَكُونُ مَعِيشَةً لَهُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: بِحَسَبِ الْأَكْلِ وَالِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَنْتَفِعَ بِالتِّجَارَةِ فِيهِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ قَالُوا: الْوَزْنُ إِنَّمَا يُرَادُ لِمَعْرِفَةِ الْمِقْدَارِ فَكَانَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْوَزْنِ لِإِرَادَةِ مَعْرِفَةِ الْمِقْدَارِ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ قَالُوا: وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرَّعْدِ: 8] وَقَوْلُهُ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما

نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الْحِجْرِ: 21] . وَالوجه الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ عَالَمُ الْأَسْبَابِ وَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَخْلُقُ الْمَعَادِنَ وَالنَّبَاتَ وَالْحَيَوَانَ بِوَاسِطَةِ تَرْكِيبِ طَبَائِعِ هَذَا الْعَالَمِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ مِنَ الْأَرْضِ قَدْرٌ مَخْصُوصٌ/ وَمِنَ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ كَذَلِكَ، وَمِنْ تَأْثِيرِ الشَّمْسِ وَالْكَوَاكِبِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ مِقْدَارٌ مَخْصُوصٌ، وَلَوْ قَدَّرْنَا حُصُولَ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ الْمَخْصُوصِ، أَوِ النُّقْصَانِ عَنْهُ لَمْ تَتَوَلَّدِ الْمَعَادِنُ وَالنَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدَّرَهَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ بِقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى وَزَنَهَا بِمِيزَانِ الْحِكْمَةِ حَتَّى حَصَلَتْ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ. وَالوجه الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ يَقُولُونَ: فُلَانٌ مَوْزُونُ الْحَرَكَاتِ أَيْ حركات مُتَنَاسِبَةٌ حَسَنَةٌ مُطَابِقَةٌ لِلْحِكْمَةِ، وَهَذَا الْكَلَامُ كَلَامٌ مَوْزُونٌ إِذَا كَانَ مُتَنَاسِبًا حَسَنًا بَعِيدًا عَنِ اللَّغْوِ وَالسُّخْفِ فَكَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ مَوْزُونٌ بميزان الحكمة والعقل، وبالجملة فَقَدْ جَعَلُوا لَفْظَ الْمَوْزُونِ كِنَايَةً عَنِ الْحُسْنِ وَالتَّنَاسُبِ، فَقَوْلُهُ: وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ أَيْ مُتَنَاسِبٍ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ بِالْحُسْنِ وَاللَّطَافَةِ وَمُطَابَقَةِ الْمَصْلَحَةِ. وَالوجه الرَّابِعُ: فِي تَفْسِيرِ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَنْبُتُ مِنَ الْأَرْضِ نَوْعَانِ: الْمَعَادِنُ وَالنَّبَاتُ: أَمَّا الْمَعَادِنُ فَهِيَ بِأَسْرِهَا مَوْزُونَةٌ وَهِيَ الْأَجْسَادُ السَّبْعَةُ وَالْأَحْجَارُ وَالْأَمْلَاحُ وَالزَّاجَّاتُ وَغَيْرُهَا. وَأَمَّا النَّبَاتُ فَيَرْجِعُ عَاقِبَتُهَا إِلَى الْوَزْنِ، لِأَنَّ الْحُبُوبَ تُوزَنُ، وَكَذَلِكَ الْفَوَاكِهُ فِي الْأَكْثَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: ذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِي الْمَعَايِشِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَقَوْلُهُ: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ فِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ لَكُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مُعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: مَعايِشَ وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلْنَا لَكُمْ مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِيهِ احْتِمَالَاتٌ ثَلَاثَةٌ: الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ «مَنْ» مُخْتَصَّةٌ بِالْعُقَلَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ الْعُقَلَاءَ وَهُمُ الْعِيَالُ وَالْمَمَالِيكُ وَالْخَدَمُ وَالْعَبِيدُ، وَتَقْرِيرُ الْكَلَامِ أَنَّ النَّاسَ يَظُنُّونَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ أَنَّهُمُ الَّذِينَ يَرْزُقُونَ الْعِيَالَ وَالْخَدَمَ وَالْعَبِيدَ، وَذَلِكَ خَطَأٌ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ يَرْزُقُ الْخَادِمَ وَالْمَخْدُومَ، وَالْمَمْلُوكَ وَالْمَالِكَ فَإِنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْأَطْعِمَةَ وَالْأَشْرِبَةَ، وَأَعْطَى الْقُوَّةَ الْغَاذِيَةَ وَالْهَاضِمَةَ، وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ رِزْقٌ. وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ قَالَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ الْوَحْشُ وَالطَّيْرُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيلُ مَعَ أَنَّ صِيغَةَ مَنْ مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ يَعْقِلُ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ صِيغَةَ مَنْ قَدْ وَرَدَتْ فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ/ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ [النُّورِ: 45] . وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ لِجَمِيعِ الدَّوَابِّ رِزْقًا عَلَى اللَّهِ حَيْثُ قَالَ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي

[سورة الحجر (15) : الآيات 21 إلى 22]

الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها [هُودٍ: 6] فَكَأَنَّهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ تَطْلُبُ أَرْزَاقَهَا مِنْ خَالِقِهَا فَصَارَتْ شَبِيهَةً بِمَنْ يَعْقِلُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، فَلَمْ يَبْعُدْ ذِكْرُهَا بِصِيغَةِ مَنْ يعقل، ألا ترى أنه قال: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النحل: 18] فَذَكَرَهَا بِصِيغَةِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ، وَقَالَ فِي الْأَصْنَامِ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي [الشُّعَرَاءِ: 77] وَقَالَ: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 33] فكذا هاهنا لَا يَبْعُدُ إِطْلَاقُ اللَّفْظَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْعُقَلَاءِ عَلَى الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ لِكَوْنِهَا شَبِيهَةً بِالْعُقَلَاءِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَسَمِعْتُ فِي بَطْنِ الْحِكَايَاتِ أَنَّهُ قَلَّتِ الْمِيَاهُ فِي الْأَوْدِيَةِ وَالْجِبَالِ وَاشْتَدَّ الْحَرُّ فِي عَامٍ مِنَ الْأَعْوَامِ فَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ رَأَى بَعْضَ الْوَحْشِ رَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ عِنْدَ اشْتِدَادِ عَطَشِهِ قَالَ: فَرَأَيْتُ الْغُيُومَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَأَمْطَرَتْ بِحَيْثُ امْتَلَأَتِ الْأَوْدِيَةُ مِنْهَا. وَالِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: أَنَّا نَحْمِلُ قَوْلَهُ: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ عَلَى الْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ، وَعَلَى الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ عَلَيْهَا صِيغَةَ مَنْ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي لَكُمْ، لِأَنَّهُ لَا يُعْطَفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ، لَا يُقَالُ أَخَذْتُ مِنْكَ وَزَيْدٍ إِلَّا بِإِعَادَةِ الْخَافِضِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الْأَحْزَابِ: 7] . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا المعنى جائز على قراءة من قرأ: تسائلون به والأرحام [النساء: 1] بِالْخَفْضِ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ المسألة هُنَالِكَ. وَاللَّهُ أعلم. [سورة الحجر (15) : الآيات 21 الى 22] وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) [في قوله تَعَالَى وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ أَنْبَتَ فِي الْأَرْضِ كُلَّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلَ فِيهَا مَعَايِشَ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَا هُوَ كَالسَّبَبِ لِذَلِكَ فَقَالَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ. وَهَذَا هُوَ النوع الرَّابِعُ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْخَزَائِنُ جَمْعُ الْخِزَانَةِ، وَهُوَ اسْمُ الْمَكَانِ الَّذِي يُخْزَنُ فِيهِ الشَّيْءُ أَيْ يُحْفَظُ وَالْخِزَانَةُ أَيْضًا عَمَلُ الْخَازِنِ، وَيُقَالُ: خَزَنَ الشَّيْءَ يَخْزِنُهُ إِذَا أَحْرَزَهُ فِي خِزَانَةٍ، وَعَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ هُوَ الْمَطَرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ لِلْأَرْزَاقِ وَلِمَعَايِشِ بَنِي آدَمَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الطُّيُورِ وَالْوُحُوشِ، فَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُعْطِيهِمُ الْمُعَايِشَ بَيَّنَ أَنَّ خَزَائِنَ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْمَعَايِشِ عِنْدَهُ، أَيْ فِي أَمْرِهِ وَحُكْمِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَقَوْلِهِ: وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يُرِيدُ قَدْرَ الْكِفَايَةِ، وَقَالَ الحكم: مَا مِنْ عَامٍ بِأَكْثَرَ مَطَرًا مِنْ عَامٍ آخَرَ، وَلَكِنَّهُ يُمْطَرُ قَوْمٌ وَيُحْرَمُ قَوْمٌ آخَرُونَ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْبَحْرِ، يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنْزِلُ الْمَطَرَ كُلَّ عَامٍ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، غَيْرَ أَنَّهُ يَصْرِفُهُ إِلَى مَنْ يَشَاءُ حَيْثُ شَاءَ كَمَا شَاءَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَفْظُ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُنْزِلُهُ فِي جَمِيعِ الْأَعْوَامِ عَلَى قَدْرٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى تَحَكُّمًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. وَأَقُولُ أَيْضًا: تَخْصِيصُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ بِالْمَطَرِ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ،

لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ الْقَدِيمُ الْوَاجِبُ لِذَاتِهِ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ مَقْدُورَةً لَهُ تَعَالَى. وَحَاصِلُ الْأَمْرِ فِيهِ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ جَمِيعَ الْمُمْكِنَاتِ مَقْدُورَةٌ لَهُ، وَمَمْلُوكَةٌ يُخْرِجُهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ كَيْفَ شَاءَ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَتْ مَقْدُورَاتُهُ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ إِلَّا أَنَّ الَّذِي يُخْرِجُهُ مِنْهَا إِلَى الْوُجُودِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيًا لِأَنَّ دُخُولَ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ فِي الْوُجُودِ مُحَالٌ فَقَوْلُهُ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِ مَقْدُورَاتِهِ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ وَقَوْلُهُ: وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ مِنْهَا فِي الْوُجُودِ فَهُوَ مُتَنَاهٍ، وَمَتَى كَانَ الْخَارِجُ مِنْهَا إِلَى الْوُجُودِ مُتَنَاهِيًا كَانَ لَا مَحَالَةَ مُخْتَصًّا فِي الْحُدُوثِ بِوَقْتٍ مُقَدَّرٍ مَعَ جَوَازِ حُصُولِهِ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ بَدَلًا عَنْهُ، وَكَانَ مُخْتَصًّا بِحَيِّزٍ مُعَيَّنٍ مَعَ جَوَازِ حُصُولِهِ فِي سَائِرِ الْأَحْيَازِ بَدَلًا عَنْ ذَلِكَ الْحَيِّزِ، وَكَانَ مُخْتَصًّا بِصِفَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ حُصُولُ سَائِرِ الصِّفَاتِ بَدَلًا عَنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اخْتِصَاصُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْمُتَنَاهِيَةِ بِذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ وَالْحَيِّزِ الْمُعَيَّنِ، وَالصِّفَاتِ الْمُعَيَّنَةِ بَدَلًا عَنْ أَضْدَادِهَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وَتَقْدِيرِ مُقَدِّرٍ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَوْلَا الْقَادِرُ الْمُخْتَارُ الَّذِي خَصَّصَ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ الْجَائِزَةِ لَامْتَنَعَ اخْتِصَاصُهَا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْجَائِزَةِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْإِنْزَالِ الْإِحْدَاثُ وَالْإِنْشَاءُ وَالْإِبْدَاعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزُّمَرِ: 6] وَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [الْحَدِيدِ: 25] وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ قَالَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ خَزَائِنُ، وَأَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْخَزَائِنُ حَاصِلَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ تِلْكَ الْخَزَائِنِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَوْجُودَةٌ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ الْإِحْدَاثُ وَالْإِبْدَاعُ وَالْإِنْشَاءُ وَالتَّكْوِينُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حُصُولُ تِلْكَ الْخَزَائِنِ عِنْدَ اللَّهِ مُتَقَدِّمًا عَلَى حُدُوثِهَا وَدُخُولِهَا فِي الْوُجُودِ، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ تِلْكَ الذَّوَاتِ وَالْحَقَائِقَ وَالْمَاهِيَّاتِ كَانَتْ مُتَقَرِّرَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، بِمَعْنَى أَنَّهَا كَانَتْ ثَابِتَةً مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا حَقَائِقُ وَمَاهِيَّاتٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ بَعْضَهَا أَيْ أَخْرَجَ بَعْضَهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَا شَكَّ أَنَّ لَفْظَ الْخَزَائِنِ إِنَّمَا ورد هاهنا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَالتَّخْيِيلِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى إِيجَادِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَتَكْوِينِهَا وَإِخْرَاجِهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ؟ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يسقط الاستدلال، والمباحث الدَّقِيقَةُ بَاقِيَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أما قوله تَعَالَى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النوع الْخَامِسُ مِنْ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: فِي وَصْفِ الرِّيَاحِ بِأَنَّهَا لَوَاقِحُ. أَقْوَالٌ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرِّيَاحُ لَوَاقِحُ لِلشَّجَرِ وَلِلسَّحَابِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَأَصْلُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ: لَقِحَتِ النَّاقَةُ وَأَلْقَحَهَا الْفَحْلُ إِذَا أَلْقَى الْمَاءَ فِيهَا فَحَمَلَتْ، فَكَذَلِكَ الرِّيَاحُ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْفَحْلِ لِلسَّحَابِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: يَبْعَثُ الله الرياح لتلقح السَّحَابِ فَتَحْمِلُ الْمَاءَ وَتَمُجُّهُ فِي السَّحَابِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَعْصِرُ السَّحَابَ وَيُدِرُّهُ كَمَا تُدِرُّ اللِّقْحَةُ فَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُ إِلْقَاحِهَا لِلسَّحَابِ، وَأَمَّا تَفْسِيرُ إِلْقَاحِهَا لِلشَّجَرِ فَمَا ذَكَرُوهُ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ لَواقِحَ وَهِيَ مُلَقَّحَةٌ؟ وَالْجَوَابُ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ (لواقح) هاهنا بِمَعْنَى مَلَاقِحَ جَمْعُ مُلَقَّحَةٍ وَأَنْشَدَ لِسُهَيْلٍ يَرْثِي أَخَاهُ: لَبَّيْكَ يَزِيدُ يَائِسٌ ذُو ضَرَاعَةٍ ... وَأَشْعَثُ مِمَّا طَوَّحَتْهُ الطَّوَائِحُ أَرَادَ الْمَطُوحَاتِ وَقَرَّرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ ذَلِكَ فَقَالَ: تَقُولُ الْعَرَبُ أَبْقَلَ النَّبْتُ فهل بَاقِلٌ يُرِيدُونَ هُوَ مُبَقَّلٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ وُرُودِ لَاقِحٍ عِبَارَةً عَنْ مُلَقِّحٍ. وَالوجه الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يقال لها لواقح وإن ألحقت غَيْرَهَا لِأَنَّ/ مَعْنَاهَا النِّسْبَةُ وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: دِرْهَمٌ وَازِنٌ، أَيْ ذُو وَزْنٍ، وَرَامِحٌ وَسَائِفٌ، أَيْ ذُو رُمْحٍ وَذُو سَيْفٍ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِمُغْنٍ، لِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ اللَّاقِحُ. بِمَعْنَى ذَاتِ اللِّقَاحِ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ اللَّاقِحَ هُوَ الْمَنْسُوبُ إِلَى اللِّقْحَةِ، وَمَنْ أَفَادَ غَيْرَهُ اللِّقْحَةَ فَلَهُ نِسْبَةٌ إِلَى اللِّقْحَةِ فَصَحَّ هَذَا الْجَوَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالوجه الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ أَنَّ الرِّيحَ فِي نَفْسِهَا لَاقِحٌ وَتَقْرِيرُهُ بِطَرِيقَيْنِ: الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الرِّيحَ حَاصِلَةٌ لِلسَّحَابِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا [الْأَعْرَافِ: 57] أَيْ حَمَلَتْ فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَكُونُ الرِّيحُ لَاقِحَةً بِمَعْنَى أَنَّهَا حَامِلَةٌ تَحْمِلُ السَّحَابَ وَالْمَاءَ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلرِّيحِ لَقِحَتْ إِذَا أَتَتْ بِالْخَيْرِ، كَمَا قِيلَ لَهَا عَقِيمٌ إِذَا لَمْ تَأْتِ بِالْخَيْرِ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: قَدْ لَقِحَتِ الْحَرْبُ وَقَدْ نَتَجَتْ وَلَدًا أَنْكَدَ يُشَبِّهُونَ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ ضُرُوبِ الشَّرِّ بِمَا تَحْمِلُهُ النَّاقَةُ فَكَذَا هاهنا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الثَّانِيَةُ: الرِّيحُ هَوَاءٌ مُتَحَرِّكٌ وَحَرَكَةُ الْهَوَاءِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَحَرِّكًا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ، وَذَلِكَ السَّبَبُ لَيْسَ نَفْسُ كَوْنِهِ هَوَاءً وَلَا شَيْئًا مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَإِلَّا لَدَامَتْ حَرَكَةُ الْهَوَاءِ بِدَوَامِ ذَاتِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَتَحَرَّكُ بِتَحْرِيكِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَالْأَحْوَالُ الَّتِي تَذْكُرُهَا الْفَلَاسِفَةُ فِي سَبَبِ حَرَكَةِ الْهَوَاءِ عِنْدَ حُدُوثِ الرِّيحِ قَدْ حَكَيْنَاهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا فَأَبْطَلْنَاهَا وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْهَا سَبَبًا لِحُدُوثِ الرِّيَاحِ، فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ مُحَرِّكُهَا هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَأما قوله: فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ فَفِيهِ مَبَاحِثٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَاءَ الْمَطَرِ هَلْ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ يَنْزِلُ مِنْ مَاءِ السَّحَابِ؟ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ يَنْزِلُ مِنَ السَّحَابِ كَيْفَ أَطْلَقَ اللَّهُ عَلَى السَّحَابِ لَفْظَ السَّمَاءِ؟ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَيْسَ السَّبَبُ فِي حُدُوثِ الْمَطَرِ مَا يَذْكُرُهُ الْفَلَاسِفَةُ بَلِ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ يُنْزِلُهُ مِنَ السَّحَابِ إِلَى الْأَرْضِ لِغَرَضِ الْإِحْسَانِ إلى العباد كما قال هاهنا: فَأَسْقَيْناكُمُوهُ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ لِكُلِّ مَا كَانَ فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ وَمِنَ السَّمَاءِ أَوْ نَهْرٍ يَجْرِي أَسْقَيْتُهُ أَيْ جَعَلْتُهُ شُرْبًا لَهُ، وَجَعَلْتُ لَهُ مِنْهَا مَسْقًى، فَإِذَا كَانَتِ السُّقْيَا لِسَقْيِهِ قَالُوا سَقَاهُ، وَلَمْ يَقُولُوا أَسْقَاهُ. وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي قَوْلِهِ: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ [النحل: 66] فقرءوا بِاللُّغَتَيْنِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي قَوْلِهِ: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً [الْإِنْسَانِ: 21] وَفِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [الشُّعَرَاءِ: 79] قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: سَقَيْتُهُ حتى

[سورة الحجر (15) : الآيات 23 إلى 25]

رُوِيَ وَأَسْقَيْتُهُ نَهْرًا، أَيْ جَعَلْتُهُ شُرْبًا لَهُ وَقَوْلَهُ: فَأَسْقَيْناكُمُوهُ أَيْ جَعَلْنَاهُ/ سَقْيًا لَكُمْ وَرُبَّمَا قَالُوا فِي أَسْقَى سَقَى كَقَوْلِ لَبِيدٍ يَصِفُ سَحَابًا: أَقُولُ وَصَوْبُهُ مِنِّي بَعِيدٌ ... يَحُطُّ السَّيْبُ مِنْ قُلَلِ الْجِبَالِ سَقَى قَوْمِي بَنِي نَجْدٍ وَأَسْقَى ... نُمَيْرًا وَالْقَبَائِلَ مِنْ هِلَالِ فَقَوْلُهُ: سَقَى قَوْمِي لَيْسَ يُرِيدُ بِهِ مَا يَرْوِي عِطَاشَهُمْ ولكن يريد رزقهم سقيا لبلادهم يُخَصِّبُونَ بِهَا، وَبَعِيدٌ أَنْ يَسْأَلَ لِقَوْمِهِ مَا يروى العطاش وليغرهم مَا يُخَصِّبُونَ بِهِ. وَأَمَّا سُقْيَا السُّقْيَةِ فَلَا يُقَالُ فِيهَا أَسْقَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: وَأَسْقِيهِ حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُّنُهُ ... تُكَلِّمُنِي أَحْجَارُهُ وَمَلَاعِبُهُ فَمَعْنَى أَسْقِيهِ أَدْعُو لَهُ بِالسِّقَاءِ، وَأَقُولُ سَقَاهُ اللَّهُ وَقَوْلُهُ: وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ يَعْنِي بِهِ ذَلِكَ الْمَاءَ الْمُنَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ يعني لستم له بحافظين. [سورة الحجر (15) : الآيات 23 الى 25] وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ السَّادِسُ مِنَ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِحُصُولِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ لِهَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ. أما قوله: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ إِحْيَاءِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: وَصْفُ النَّبَاتِ بِالْإِحْيَاءِ مَجَازٌ فَوَجَبَ تَخْصِيصُهُ بِإِحْيَاءِ الْحَيَوَانِ وَلَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ عَلَى خَلْقِ الْحَيَاةِ إِلَّا لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ كَانَ حُصُولُ الْحَيَاةِ لِلْحَيَوَانِ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَقَوْلِهِ: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ يُفِيدُ الْحَصْرَ أَيْ لَا قُدْرَةَ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَلَا عَلَى الْإِمَاتَةِ إِلَّا لَنَا، وَقَوْلُهُ: وَنَحْنُ الْوارِثُونَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِذَا مَاتَ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ، فَحِينَئِذٍ يَزُولُ مُلْكُ كُلِّ أَحَدٍ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَيَكُونُ اللَّهُ هُوَ الْبَاقِي الْحَقُّ الْمَالِكُ لِكُلِّ الْمَمْلُوكَاتِ وَحْدَهُ فَكَانَ هَذَا شَبِيهًا بِالْإِرْثِ فَكَانَ وَارِثًا مِنْ هَذَا الوجه. وَأما قوله: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: الْمُسْتَقْدِمِينَ يُرِيدُ أَهْلَ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُسْتَأْخِرِينَ يُرِيدُ/ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ. الثَّانِي: أَرَادَ بِالْمُسْتَقْدِمِينَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، وَبِالْمُسْتَأْخِرِينَ الصَّفَّ الْآخِرَ، رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَغَّبَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ فِي الصَّلَاةِ، فَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّا نَجْزِيهِمْ عَلَى قَدْرِ نِيَّاتِهِمْ. الثَّالِثُ: قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي فِي وَصْفِ الْقِتَالِ. الرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْجَوْزَاءِ كَانَتِ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ تُصَلِّي خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ قَوْمٌ يَتَقَدَّمُونَ إِلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ لِئَلَّا يَرَوْهَا وَآخَرُونَ يَتَخَلَّفُونَ وَيَتَأَخَّرُونَ لِيَرَوْهَا وَإِذَا رَكَعُوا جَافَوْا أَيْدِيهِمْ لِيَنْظُرُوا مِنْ تَحْتِ آبَاطِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. الْخَامِسُ: قِيلَ الْمُسْتَقْدِمُونَ هُمُ الْأَمْوَاتُ وَالْمُسْتَأْخِرُونَ هُمُ الْأَحْيَاءُ. وَقِيلَ الْمُسْتَقْدِمُونَ هُمُ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ، وَالْمُسْتَأْخِرُونَ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْمُسْتَقْدِمُونَ مَنْ خُلِقَ وَالْمُسْتَأْخِرُونَ مَنْ لَمْ يُخْلَقْ.

[سورة الحجر (15) : الآيات 26 إلى 27]

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فَيَدْخُلُ فِيهِ عِلْمُهُ تَعَالَى بِتَقَدُّمِهِمْ وَتَأَخُّرِهِمْ فِي الْحُدُوثِ وَالْوُجُودِ وَبِتَقَدُّمِهِمْ وَتَأَخُّرِهِمْ فِي أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ وَالْخَيْرَاتِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ نَخُصَّ الْآيَةَ بِحَالَةٍ دُونِ حَالَةٍ. وَأما قوله: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ فَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْحَشْرَ وَالنَّشْرَ وَالْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ أَمْرٌ وَاجِبٌ وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ مَعْنَاهُ: أَنَّ الْحِكْمَةَ تَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ بِالدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ في أول سورة يونس عليه السلام. [سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 27] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ السَّابِعُ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا اسْتَدَلَّ بِتَخْلِيقِ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى صِحَّةِ التَّوْحِيدِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَرْدَفَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ بِتَخْلِيقِ الْإِنْسَانِ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ. المسألة الثَّانِيَةُ: ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ الْقَوْلُ بِوُجُودِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ وُجُوبُ انْتِهَاءِ الْحَوَادِثِ إِلَى حَادِثٍ أَوَّلٍ هُوَ أَوَّلُ الْحَوَادِثِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنَ انْتِهَاءِ النَّاسِ إِلَى إِنْسَانٍ هُوَ أَوَّلُ النَّاسِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَذَلِكَ الْإِنْسَانُ الأول غير مخلوق مع الْأَبَوَيْنِ فَيَكُونُ مَخْلُوقًا لَا مَحَالَةَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. فَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ الْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ، وَالْمُفَسِّرُونَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنُقِلَ فِي «كُتُبِ الشِّيعَةِ» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: قَدِ انْقَضَى قَبْلَ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَبُونَا أَلْفُ أَلْفِ آدَمَ أَوْ أَكْثَرُ وَأَقُولُ: هَذَا لَا يَقْدَحُ فِي حُدُوثِ الْعَالَمِ بَلْ لِأَمْرٍ كَيْفَ كَانَ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى إِنْسَانٍ أَوَّلٍ هُوَ أَوَّلُ النَّاسِ وَأَمَّا أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ هُوَ أَبُونَا آدَمُ، فَلَا طَرِيقَ إِلَى إِثْبَاتِهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجِسْمَ مُحْدَثٌ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَجْسَامِ يَكُونُ مَخْلُوقًا عَنْ عَدَمٍ مَحْضٍ، وَأَيْضًا دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آلِ عِمْرَانَ: 59] عَلَى أَنَّ آدَمَ مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابٍ، وَدَلَّتْ آيَةٌ أُخْرَى عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ الطِّينِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [ص: 71] وَجَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَخْلُوقٌ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُ أَوَّلًا مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ طِينٍ ثُمَّ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ ثُمَّ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِهِ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ مِنَ الْأَجْسَامِ كَانَ، بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِهِ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا خَلَقَهُ عَلَى هَذَا الوجه إِمَّا لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ أَوْ لِمَا فِيهِ مِنْ دَلَالَةِ الْمَلَائِكَةِ وَمَصْلَحَتِهِمْ وَمَصْلَحَةِ الْجِنِّ، لِأَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ أَعْجَبُ مِنْ خَلْقِ الشَّيْءِ مِنْ شَكْلِهِ وَجِنْسِهِ. المسألة الثَّالِثَةُ: فِي الصَّلْصَالِ قَوْلَانِ: قِيلَ الصَّلْصَالُ الطِّينُ الْيَابِسُ الَّذِي يُصَلْصِلُ وَهُوَ غَيْرُ مَطْبُوخٍ، وَإِذَا طُبِخَ فَهُوَ فَخَّارٌ. قَالُوا: إِذَا تَوَهَّمْتَ فِي صَوْتِهِ مَدًّا فَهُوَ صَلِيلٌ، وَإِذَا تَوَهَّمْتَ فِيهِ تَرْجِيعًا فَهُوَ صَلْصَلَةٌ. قَالَ

الْمُفَسِّرُونَ: خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ طِينٍ فَصَوَّرَهُ وَتَرَكَهُ فِي الشَّمْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَصَارَ صَلْصَالًا كَالْخَزَفِ وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا يُرَادُ بِهِ، وَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا مِنَ الصُّوَرِ يُشْبِهُهُ إِلَى أَنْ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ. وَحَقِيقَةُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ طِينٍ عَلَى صُورَةِ الْإِنْسَانِ فَجَفَّ فَكَانَتِ الرِّيحُ إِذَا مَرَّتْ بِهِ سُمِعَ لَهُ صَلْصَلَةٌ فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى صَلْصَالًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الصَّلْصَالُ هُوَ الْمُنْتِنُ مِنْ قَوْلِهِمْ صَلَّ اللَّحْمُ وَأَصَلَّ إِذَا نَتَّنَ وَتَغَيَّرَ، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَكَوْنُهُ حَمَأً مَسْنُونًا يَدُلُّ عَلَى النَّتَنِ وَالتَّغَيُّرِ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الصلصال إنما تولد من حمإ الْمَسْنُونِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُ صَلْصَالًا مُغَايِرًا لِكَوْنِهِ حَمَأً مَسْنُونًا، وَلَوْ كَانَ كَوْنُهُ صَلْصَالًا عِبَارَةً عَنِ النَّتَنِ وَالتَّغَيُّرِ لَمْ يَبْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ/ صَلْصَالًا، وَبَيْنَ كَوْنِهِ حَمَأً مَسْنُونًا تَفَاوُتٌ، وَأَمَّا الْحَمَأُ فَقَالَ اللَّيْثُ الْحَمْأَةُ بِوَزْنِ فَعْلَةٍ، وَالْجَمْعُ الْحَمَأُ وَهُوَ الطِّينُ الْأَسْوَدُ الْمُنْتِنُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَكْثَرُونَ حَمْأَةٌ بِوَزْنِ كَمْأَةٍ وَقَوْلُهُ: مَسْنُونٍ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ سمعت أبا عمرو يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: مَسْنُونٍ أَيْ مُتَغَيِّرٍ قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ يُقَالُ سَنَّ الْمَاءُ، فَهُوَ مَسْنُونٌ أَيْ تَغَيَّرَ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَتَسَنَّهْ [الْبَقَرَةِ: 259] أَيْ لَمْ يَتَغَيَّرْ. الثَّانِي: الْمَسْنُونُ الْمَحْكُوكُ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ سَنَنْتُ الْحَجَرَ إِذَا حَكَكْتَهُ عَلَيْهِ، وَالَّذِي يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا يُقَالُ لَهُ السُّنَنُ وَسُمِّي الْمَسَنُّ مَسَنًّا لِأَنَّ الْحَدِيدَ يُسَنُّ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا اللَّفْظُ مأخوذ من أنه مَوْضُوعٍ عَلَى سُنَنِ الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ تَغَيَّرَ. الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: المسنون المصبوب، والسن والصب يُقَالُ سَنَّ الْمَاءَ عَلَى وَجْهِهِ سَنًّا. الْخَامِسُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْمَسْنُونُ الْمُصَوَّرُ عَلَى صُورَةٍ وَمِثَالٍ، مِنْ سُنَّةِ الوجه وَهِيَ صُورَتُهُ، السَّادِسُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمَسْنُونُ الطِّينُ الرَّطْبُ، وَهَذَا يَعُودُ إِلَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ رَطْبًا يَسِيلُ وَيَنْبَسِطُ عَلَى الْأَرْضِ، فَيَكُونُ مَسْنُونًا بِمَعْنَى أَنَّهُ مَصْبُوبٌ. أما قوله تَعَالَى: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ فَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْجَانَّ مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ إِبْلِيسَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُقَاتِلٍ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: الْجَانُّ هُوَ أَبُ الْجِنِّ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَسُمِّيَ جَانًّا لِتَوَارِيهِ عَنِ الْأَعْيُنِ، كَمَا سُمِّيَ الْجَنِينُ جَنِينًا لِهَذَا السَّبَبِ، وَالْجَنِينُ مُتَوَارٍ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَمَعْنَى الْجَانِّ فِي اللُّغَةِ السَّاتِرُ مِنْ قَوْلِكَ: جَنَّ الشَّيْءَ إِذَا سَتَرَهُ، فَالْجَانُّ المذكور هاهنا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ سُمِّيَ جَانًّا لِأَنَّهُ يَسْتُرُ نَفْسَهُ عَنْ أَعْيُنِ بَنِي آدَمَ، أَوْ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْفَاعِلِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ كَمَا يُقَالُ فِي لَابِنٍ وَتَامِرٍ وَمَاءٍ دَافِقٍ وَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْجِنِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمْ جِنْسٌ غَيْرُ الشَّيَاطِينِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الشَّيَاطِينَ قِسْمٌ مِنَ الْجِنِّ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنًا فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى بِالشَّيْطَانِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا يُسَمَّى بِهَذَا الِاسِمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الْجِنِّ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْتِتَارِ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مِنْ قَبْلِ خَلْقِ آدَمَ، وَقَوْلُهُ: مِنْ نارِ السَّمُومِ مَعْنَى السَّمُومِ فِي اللُّغَةِ: الرِّيحُ الْحَارَّةُ تَكُونُ بِالنَّهَارِ وَقَدْ تَكُونُ بِاللَّيْلِ، وَعَلَى هَذَا فَالرِّيحُ الْحَارَّةُ فِيهَا نَارٌ وَلَهَا لَفْحٌ وَأَوَارٌ، عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهَا لَفْحُ جَهَنَّمَ. قِيلَ: سُمِّيَتْ سَمُومًا لِأَنَّهَا بِلُطْفِهَا تَدْخُلُ فِي مَسَامِّ الْبَدَنِ، وَهِيَ الْخُرُوقُ الْخَفِيَّةُ الَّتِي تَكُونُ فِي جِلْدِ الْإِنْسَانِ يَبْرُزُ مِنْهَا عَرَقُهُ وَبُخَارُ بَاطِنِهِ. قَالَ ابْنُ مسعود: هذه السموم جزء من سبعين جزأ مِنَ السَّمُومِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ بِهَا الْجَانَّ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ.

[سورة الحجر (15) : الآيات 28 إلى 35]

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُعْقَلُ خَلْقُ الْجَانِّ مِنَ النَّارِ؟ قُلْنَا: هَذَا عَلَى مَذْهَبِنَا ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْبِنْيَةَ عِنْدَنَا لَيْسَتْ شَرْطًا لِإِمْكَانِ حُصُولِ الْحَيَاةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ فِي الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ فِي الْجِسْمِ الْحَارِّ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْكَوَاكِبَ يَمْتَنِعُ حُصُولُ الْحَيَاةِ فِيهَا قَالَ: لِأَنَّ الشَّمْسَ فِي غَايَةِ الْحَرَارَةِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ حُصُولُ الْحَيَاةِ فِيهِ فَنَنْقُضُهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ بَلِ الْمُعْتَمَدُ فِي نفي الحياة عن الكواكب الإجماع. [سورة الحجر (15) : الآيات 28 الى 35] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حُدُوثَ الْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ وَاسْتَدَلَّ بِذِكْرِهِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ ذَكَرَ بَعْدَهُ وَاقِعَتَهُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ فَأَطَاعُوهُ إِلَّا إِبْلِيسَ فَإِنَّهُ أَبَى وَتَمَرَّدَ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: مَا تَفْسِيرُ كَوْنِهِ بَشَرًا. فَالْمُرَادُ مِنْهُ كَوْنُهُ جِسْمًا كَثِيفًا يُبَاشِرُ وَيُلَاقِي وَالْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ لَا يُبَاشِرُونَ لِلُطْفِ أَجْسَامِهِمْ عَنْ أَجْسَامِ الْبَشَرِ، والبشرة ظاهرة الْجِلْدِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ وَأَمَّا كَوْنُهُ صَلْصَالًا مَنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَأما قوله: فَإِذا سَوَّيْتُهُ فَفِيهِ/ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: فَإِذَا سَوَّيْتُ شَكْلَهُ بِالصُّورَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْخِلْقَةِ الْبَشَرِيَّةِ. وَالثَّانِي: فَإِذَا سَوَّيْتُ أَجْزَاءَ بَدَنِهِ بِاعْتِدَالِ الطَّبَائِعِ وَتَنَاسُبِ الْأَمْشَاجِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الْإِنْسَانِ: 2] . وَأما قوله: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّفْخَ إِجْرَاءُ الرِّيحِ فِي تَجَاوِيفِ جِسْمٍ آخَرَ، وَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ يُشْعِرُ بِأَنَّ الرُّوحَ هِيَ الرِّيحُ، وَإِلَّا لَمَا صَحَّ وَصْفُهَا بِالنَّفْخِ إِلَّا أَنَّ البحث الْكَامِلَ فِي حَقِيقَةِ الرُّوحِ سَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاءِ: 85] وَإِنَّمَا أَضَافَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رُوحَ آدَمَ إِلَى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَكْرِيمًا. وَقَوْلُهُ: فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فِيهِ مَبَاحِثُ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ السُّجُودَ كَانَ لآدم في الحقيقة أو كان آدم كَالْقِبْلَةِ لِذَلِكَ السُّجُودِ، وَهَذَا البحث قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَأْمُورِينَ بالسجود لآدم عليه السلام كل ملائكة السموات أَوْ بَعْضُهُمْ أَوْ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ، مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَكَابِرَ الْمَلَائِكَةِ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف: 206]

فَقَوْلُهُ: وَلَهُ يَسْجُدُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَسْجُدُونَ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَهُمْ سَاجِدِينَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ لِأَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ يُفِيدُ الْعُمُومَ، إِلَّا أَنَّ الْخَاصَّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا نَفَخَ الرُّوحَ فِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَبَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ أَنْ يَسْجُدُوا لَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ مَذْكُورٌ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ التَّرَاخِي وَقَوْلُهُ: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ قَوْلُهُ: كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ تَوْكِيدٌ بَعْدَ تَوْكِيدٍ، وَسُئِلَ الْمُبَرِّدُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: لَوْ قَالَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ سَجَدَ بَعْضُهُمْ، فَلَمَّا قَالَ: كُلُّهُمْ زَالَ هَذَا الِاحْتِمَالُ فَظَهَرَ أَنَّهُمْ بِأَسْرِهِمْ سَجَدُوا، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا بَقِيَ احْتِمَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُمْ سَجَدُوا دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ سَجَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي وَقْتٍ آخَرَ فَلَمَّا قَالَ: أَجْمَعُونَ ظَهَرَ أَنَّ الْكُلَّ سَجَدُوا دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَمَّا حَكَى الزَّجَّاجُ هَذَا الْقَوْلَ عَنِ الْمُبَرِّدِ قَالَ: وَقَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ أَجْوَدُ، لِأَنَّ أَجْمَعِينَ مَعْرِفَةٌ فَلَا يَكُونُ حَالًا وَقَوْلُهُ: إِلَّا إِبْلِيسَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مَأْمُورًا بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ سُبِقَتْ هَذِهِ المسألة بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَقَوْلُهُ: أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ اسْتِئْنَافٌ وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ قَائِلًا قَالَ: هَلَّا سَجَدَ فَقِيلَ: أَبَى ذَلِكَ وَاسْتَكْبَرَ عَنْهُ. أما قوله: قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: قالَ يا إِبْلِيسُ أَيْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ يَا إِبْلِيسُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى تَكَلَّمَ مَعَهُ، فَعِنْدَ هَذَا قَالَ/ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَوْصَلَ هَذَا الْخِطَابَ إِلَى إِبْلِيسَ عَلَى لِسَانِ بَعْضِ رُسُلِهِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ فِي الْجَوَابِ: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ فَقَوْلُهُ: خَلَقْتَهُ خِطَابُ الْحُضُورِ لَا خِطَابُ الْغَيْبَةِ، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ مَعَ إِبْلِيسَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَأَنَّ إِبْلِيسَ تَكَلَّمَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَكَيْفَ يُعْقَلُ هَذَا مَعَ أَنَّ مُكَالَمَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَاصِبِ وَأَشْرَفِ الْمَرَاتِبِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُهُ لِرَأْسِ الْكَفَرَةِ وَرَئِيسِهِمْ، وَلَعَلَّ الْجَوَابَ عَنْهُ أَنَّ مُكَالَمَةَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا تَكُونُ مَنْصِبًا عَالِيًا إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ وَالْإِعْظَامِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْإِهَانَةِ وَالْإِذْلَالِ فَلَا، وَقَوْلُهُ: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فِيهِ بَحْثَانِ: البحث الْأَوَّلُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِأَسْجُدَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَمَعْنَاهُ: لَا يَصِحُّ مِنِّي أَنْ أَسْجُدَ لِبَشَرٍ. البحث الثَّانِي: مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ كَوْنَهُ بَشَرًا يُشْعِرُ بِكَوْنِهِ جِسْمًا كَثِيفًا وَهُوَ كَانَ رُوحَانِيًّا لَطِيفًا، فَالتَّفْرِقَةُ حَاصِلَةٌ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ مِنْ هَذَا الوجه. كَأَنَّهُ يَقُولُ: الْبَشَرُ جُسْمَانِيٌّ كَثِيفٌ لَهُ بَشَرَةٌ، وَأَنَا رُوحَانِيٌّ لَطِيفٌ، وَالْجُسْمَانِيُّ الْكَثِيفُ أَدْوَنُ حَالًا مِنَ الرُّوحَانِيِّ اللَّطِيفِ، وَالْأَدْوَنُ كَيْفَ يَكُونُ مَسْجُودًا لِلْأَعْلَى، وَأَيْضًا أَنَّ آدَمَ مَخْلُوقٌ مِنْ صَلْصَالٍ تَوَلَّدَ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، فَهَذَا الْأَصْلُ فِي غَايَةِ الدَّنَاءَةِ وَأَصْلُ إِبْلِيسَ هُوَ النَّارُ وَهِيَ أَشْرَفُ الْعَنَاصِرِ، فَكَانَ أَصْلُ إِبْلِيسَ أَشْرَفَ مِنْ أَصْلِ آدَمَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِبْلِيسُ أَشْرَفَ مِنْ آدَمَ، وَالْأَشْرَفُ يُقْبَحُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالسُّجُودِ لِلْأَدْوَنِ، فَالْكَلَامُ الْأَوَّلُ إِشَارَةٌ إِلَى الْفَرْقِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ الْبَشَرِيَّةِ وَالرُّوحَانِيَّةِ، وَهُوَ فَرْقٌ حَاصِلٌ فِي الْحَالِ وَالْكَلَامُ الثَّانِي إِشَارَةٌ إِلَى الْفَرْقِ الْحَاصِلِ بِحَسَبِ الْعُنْصُرِ وَالْأَصْلِ، فَهَذَا مَجْمُوعُ شُبْهَةِ إِبْلِيسَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ فَهَذَا لَيْسَ جَوَابًا عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّصْرِيحِ، وَلَكِنَّهُ جَوَابٌ عَنْهَا عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ اللَّهُ تَعَالَى نَصٌّ، وَالَّذِي قَالَهُ إِبْلِيسُ قِيَاسٌ، وَمَنْ عَارَضَ النص

[سورة الحجر (15) : الآيات 36 إلى 41]

بِالْقِيَاسِ كَانَ رَجِيمًا مَلْعُونًا. وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَعْنَى ذَكَرْنَاهُ مُسْتَقْصًى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَقَوْلُهُ: فَاخْرُجْ مِنْها قِيلَ الْمُرَادُ مِنْ جَنَّةِ عدن، وقيل من السموات، وَقِيلَ مِنْ زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَتَمَامُ هَذَا الْكَلَامِ مَعَ تَفْسِيرِ الرَّجِيمِ قَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ يَوْمَ الْجَزَاءِ حَيْثُ يُجَازِي الْعِبَادَ بِأَعْمَالِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَةِ: 4] . فَإِنْ قِيلَ: كَلِمَةُ (إِلَى) تُفِيدُ انْتِهَاءَ الْغَايَةِ فَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ اللَّعْنَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَعِنْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ يَزُولُ اللَّعْنُ. أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ التَّأْبِيدُ، وَذِكْرُ الْقِيَامَةِ أَبْعَدُ غَايَةٍ يَذْكُرُهَا النَّاسُ/ فِي كَلَامِهِمْ كَقَوْلِهِمْ: مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [هُودٍ: 107] فِي التَّأْبِيدِ. وَالثَّانِي: أَنَّكَ مَذْمُومٌ مَدْعُوٌّ عَلَيْكَ بِاللَّعْنَةِ في السموات وَالْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَذَّبَ فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ الْيَوْمَ عُذِّبَ عَذَابًا يَنْسَى اللَّعْنَ مَعَهُ فَيَصِيرُ اللَّعْنُ حِينَئِذٍ كَالزَّائِلِ بسبب أن شدة العذاب تذهل عنه. [سورة الحجر (15) : الآيات 36 الى 41] قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) [في قَوْلُهُ تَعَالَى قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَأَنْظِرْنِي مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَقَدَّمَ وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا جَعَلْتَنِي رَجِيمًا مَلْعُونًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ فَأَنْظِرْنِي فَطَلَبَ الْإِبْقَاءَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْيَأْسِ مِنَ الْآخِرَةِ إِلَى وَقْتِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ. لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ يَوْمُ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَقَوْلُهُ: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ اعْلَمْ أَنَّ إِبْلِيسَ اسْتَنْظَرَ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَغَرَضُهُ مِنْهُ أَنْ لَا يَمُوتَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَمُوتُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ بَعْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ لَا يَمُوتُ أَحَدٌ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَمُوتَ الْبَتَّةَ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى مَنَعَهُ عَنْ هَذَا الْمَطْلُوبِ وَقَالَ: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْهُ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وَقْتُ النَّفْخَةِ الْأَوْلَى حِينَ يَمُوتُ كُلُّ الْخَلَائِقِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا الْوَقْتُ بِالْوَقْتِ الْمَعْلُومِ لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنْ يَمُوتَ كُلُّ الْخَلَائِقِ فِيهِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا الِاسْمِ، لِأَنَّ الْعَالِمَ بِذَلِكَ الْوَقْتِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا غَيْرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الْأَعْرَافِ: 187] وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لُقْمَانَ: 34] . وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ إِبْلِيسُ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وَإِنَّمَا سَمَّاهُ تَعَالَى بِيَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ؟ لِأَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا عَيَّنَهُ وَأَشَارَ إِلَيْهِ بِعَيْنِهِ صَارَ ذَلِكَ كَالْمَعْلُومِ.

فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا أَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَطْلُوبِهِ لَزِمَ أَنْ لَا يَمُوتَ إِلَى وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ وَبَعْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ لَا يَمُوتُ أَيْضًا، فَيَلْزَمُ أَنْ يَنْدَفِعَ عَنْهُ الْمَوْتُ بِالْكُلِّيَّةِ. قُلْنَا: يُحْمَلُ قَوْلُهُ: إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ إِلَى مَا يَكُونُ قَرِيبًا مِنْهُ. وَالْوَقْتُ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ كُلُّ الْمُكَلَّفِينَ قَرِيبٌ مِنْ يَوْمِ الْبَعْثِ، وَعَلَى هَذَا الوجه فَيَرْجِعُ حَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ إِلَى الوجه الْأَوَّلِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِيَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ يَوْمٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ الْمُكَلَّفُ مَتَى يَمُوتُ، لِأَنَّ فِيهِ إِغْرَاءً بِالْمَعَاصِي، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا الْإِلْزَامَ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِذَا كَانَ وَقْتَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ مَعْلُومًا لِلْمُكَلَّفِ. فَأَمَّا إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمْهَلَهُ إِلَى وَقْتِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَعْلَمَهُ الْوَقْتَ الَّذِي تَقُومُ الْقِيَامَةُ فِيهِ فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ الْإِغْرَاءُ بِالْمَعَاصِي. وَأُجِيبُ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ بِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْوَقْتَ الَّذِي فِيهِ تَقُومُ الْقِيَامَةُ عَلَى التَّعْيِينِ إِلَّا أَنَّهُ عَلِمَ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّ مِنْ وَقْتِ خِلْقَةِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى وَقْتِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ مُدَّةً طَوِيلَةً فَكَأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ. أما قوله تَعَالَى: قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ فَفِيهِ بَحْثَانِ: البحث الْأَوَّلُ: الْبَاءُ فِي بِما أَغْوَيْتَنِي لِلْقَسَمِ وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ لَأُزَيِّنَنَّ. وَالْمَعْنَى أُقْسِمُ بِإِغْوَائِكَ إِيَّايَ لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 82] إِلَّا أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَقْسَمَ بِعِزَّةِ اللَّهِ، وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَفِي قَوْلِهِ: بِما أَغْوَيْتَنِي أَقْسَمَ بِإِغْوَاءِ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. وَالْفُقَهَاءُ قَالُوا: الْقَسَمُ بِصِفَاتِ الذَّاتِ صَحِيحٌ، أَمَّا بِصِفَاتِ الْأَفْعَالِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَنَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنْ قَوْمٍ آخَرِينَ أنهم قالوا: الباء هاهنا بِمَعْنَى السَّبَبِ، أَيْ بِسَبَبِ كَوْنِي غَاوِيًا لَأُزَيِّنَنَّ كَقَوْلِ الْقَائِلِ، أَقْسَمَ فُلَانٌ بِمَعْصِيَتِهِ لَيَدْخُلَنَّ النَّارَ، وَبِطَاعَتِهِ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ. البحث الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يُرِيدُ خَلْقَ الْكُفْرِ فِي الْكَافِرِ وَيَصُدُّهُ عَنِ الدِّينِ وَيُغْوِيهِ عَنِ الْحَقِّ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِبْلِيسَ اسْتَمْهَلَ وَطَلَبَ الْبَقَاءَ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ مَعَ أَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَطْلُبُ هَذَا الْإِمْهَالَ وَالْإِبْقَاءَ لِإِغْوَاءِ بَنِي آدَمَ وَإِضْلَالِهِمْ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَمْهَلَهُ وَأَجَابَهُ إِلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ، وَلَوْ كَانَ تَعَالَى يُرَاعِي مَصَالِحَ الْمُكَلَّفِينَ فِي الدِّينِ لَمَا أَمْهَلَهُ هَذَا الزَّمَانَ الطَّوِيلَ، وَلَمَا مَكَّنَهُ مِنَ الْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ وَالْوَسْوَسَةِ. الثَّانِي: أَنَّ أَكَابِرَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مُجِدُّونَ وَمُجْتَهِدُونَ فِي إِرْشَادِ الْخَلْقِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَأَنَّ إِبْلِيسَ وَرَهْطَهُ وَشِيعَتَهُ مُجِدُّونَ/ وَمُجْتَهِدُونَ فِي الضَّلَالِ وَالْإِغْوَاءِ، فَلَوْ كَانَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْإِرْشَادُ وَالْهِدَايَةُ لَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ إِبْقَاءُ الْمُرْشِدِينَ وَالْمُحَقِّقِينَ وَإِهْلَاكُ الْمُضِلِّينَ وَالْمُغْوِينَ، وَحَيْثُ فَعَلَ بِالضِّدِّ مِنْهُ، عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِمُ الْخِذْلَانَ وَالْكُفْرَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَعْلَمَهُ بِأَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ وَأَنَّهُ مَلْعُونٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ كَانَ ذَلِكَ إِغْرَاءً لَهُ بِالْكُفْرِ وَالْقَبِيحِ، لِأَنَّهُ أيس عن المغفرة والفوز بالجنة يجترئ حِينَئِذٍ عَلَى أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي وَالْكُفْرِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى هَذَا الْعُمْرَ الطَّوِيلَ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ مِنْ هَذَا الْعُمْرِ الطَّوِيلِ إِلَّا زِيَادَةَ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَبِسَبَبِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ يَزْدَادُ اسْتِحْقَاقُهُ لِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ كَانَ هَذَا الْإِمْهَالُ سَبَبًا لمزيد عذابه،

وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِهِ أَنْ يَزْدَادَ عَذَابُهُ وَعِقَابُهُ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّ اللَّهَ أَغْوَاهُ فَقَالَ: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي وَذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْوَاهُ لَا يُقَالُ: هَذَا كَلَامُ إِبْلِيسَ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَأَيْضًا فَهُوَ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ إِبْلِيسَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ فَأَضَافَ الْإِغْوَاءَ إِلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّا نَقُولُ. أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ صَادِقًا فِيمَا قَالَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فالمراد هاهنا مِنْ قَوْلِهِ: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قوله في تلك الآية: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا أَنَّهُ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ إِنَّمَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُزَيِّنَ لَهُمُ الْأَبَاطِيلَ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْوَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَدْ زَالَ التَّنَاقُضُ وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الشَّيَاطِينِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَصِ: 63] . السُّؤَالُ السَّادِسُ: أَنَّهُ أقل: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي وَهَذَا اعْتِرَافٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْوَاهُ فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ قَدْ عَرَفَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْوَاهُ، أَوْ مَا عَرَفَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَرَفَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْوَاهُ امْتَنَعَ كَوْنُهُ غَاوِيًا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَعْرِفُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْوَاهُ إِذَا عَرَفَ أَنَّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ جَهْلٌ وَبَاطِلٌ، وَمَنْ عَرَفَ ذَلِكَ امْتَنَعَ بَقَاؤُهُ عَلَى الْجَهْلِ وَالضَّلَالَةِ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: بِأَنَّهُ مَا عَرَفَ أَنَّ اللَّهَ أَغْوَاهُ فَكَيْفَ أَمْكَنَهُ أَنْ يَقُولَ: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي فَهَذَا مَجْمُوعُ السُّؤَالَاتِ الْوَارِدَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. أَمَّا الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ: فَلِلْمُعْتَزِلَةِ فِيهِ طَرِيقَانِ: الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ طَرِيقُ الْجُبَّائِيِّ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمْهَلَ إِبْلِيسَ تِلْكَ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ أَحْوَالُ النَّاسِ بِسَبَبِ وَسْوَسَتِهِ، فَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يُوجَدَ إِبْلِيسُ وَلَا وَسْوَسَتُهُ/ فَإِنَّ ذَلِكَ الْكَافِرَ، وَالْعَاصِيَ كَانَ يَأْتِي بِذَلِكَ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لَا جَرَمَ أَمْهَلَهُ هَذِهِ الْمُدَّةَ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ طَرِيقُ أَبِي هَاشِمٍ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ أَقْوَامًا يَقَعُونَ بِسَبَبِ وَسْوَسَتِهِ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، إِلَّا أَنَّ وَسْوَسَتَهُ مَا كَانَتْ مُوجِبَةً لِذَلِكَ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، بَلِ الْكَافِرُ وَالْعَاصِي بِسَبَبِ اخْتِيَارِهِ اخْتَارَ ذَلِكَ الْكُفْرَ وَتِلْكَ الْمَعْصِيَةَ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: الِاحْتِرَازُ عَنِ الْقَبَائِحِ حَالَ عَدَمِ الْوَسْوَسَةِ أَسْهَلُ مِنْهُ حَالَ وُجُودِهَا، إِلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَصِيرُ وَسْوَسَتُهُ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْحَكِيمَ مِنْ فِعْلِهِ، كَمَا أَنَّ إِنْزَالَ الْمَشَاقِّ وَإِنْزَالَ الْمُتَشَابِهَاتِ صَارَ سَبَبًا لِمَزِيدِ الشُّبُهَاتِ، وَمَعَ ذَلِكَ فلم يمتنع فعله فكذا هاهنا، وَهَذَانَ الطَّرِيقَانِ هُمَا بِعَيْنِهِمَا الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ إِعْلَامَهُ بِأَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ يَحْمِلُهُ عَلَى الْجُرْأَةِ عَلَى الْمَعَاصِي وَالْإِكْثَارِ مِنْهَا، فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ إِذَا كَانَ عِلْمُ إِبْلِيسَ بِمَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ يَحْمِلُهُ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْمَعَاصِي أَمَّا إِذَا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَالِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ التَّفَاوُتَ الْبَتَّةَ، فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الرَّابِعِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الْخَامِسُ: وَهُوَ أَنَّ إِبْلِيسَ صَرَّحَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْوَاهُ وَأَضَلَّهُ عَنِ الدِّينِ، فَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ بَلْ فِيهِ وُجُوهٌ أُخْرَى: أَحَدُهَا: الْمُرَادُ بِمَا خَيَّبْتَنِي مِنْ رَحْمَتِكَ لَأُخَيِّبَنَّهُمْ بِالدُّعَاءِ إِلَى معصيتك.

وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ كَمَا أَضْلَلْتَنِي عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ أُضِلُّهُمْ أَنَا أَيْضًا عَنْهُ بِالدُّعَاءِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِغْوَاءِ الْأَوَّلِ الْخَيْبَةَ، وَبِالثَّانِي الْإِضْلَالَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِإِغْوَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ هُوَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى غَيِّهِ، يَعْنِي أَنَّهُ حَصَلَ ذَلِكَ الْغَيُّ عَقِيبَهُ بِاخْتِيَارِ إِبْلِيسَ، فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ صَارَ مُوجِبًا لِذَاتِهِ لِحُصُولِ ذَلِكَ الْغَيِّ، فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، هَذَا جُمْلَةُ كَلَامِ الْقَوْمِ فِي هَذَا الْبَابِ وَكُلُّهُ ضَعِيفٌ، أما قوله إِنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ الْحَالُ بِسَبَبِ وَسْوَسَةِ إِبْلِيسَ فَنَقُولُ: هَذَا بَاطِلٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْبُرْهَانُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ [الْبَقَرَةِ: 36] فَأَضَافَ تِلْكَ الزَّلَّةَ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَقَالَ: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى [طه: 117] فَأَضَافَ الْإِخْرَاجَ إِلَيْهِ، وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [الْقَصَصِ: 15] وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِعَمَلِ الشَّيْطَانِ فِي تِلْكَ الْأَفْعَالِ أَثَرًا، وَأَمَّا الْبُرْهَانُ فَلِأَنَّ بِدَايَةَ الْعُقُولِ شَاهِدَةٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ حَالُ مَنِ ابْتُلِيَ بِمُجَالَسَةِ شَخْصٍ يُرَغِّبُهُ أَبَدًا فِي الْقَبَائِحِ. وَيُنَفِّرُهُ عَنِ الْخَيْرَاتِ، مِثْلُ شَخْصٍ كَانَ حَالُهُ بِالضِّدِّ مِنْهُ، وَالْعِلْمُ بِهَذَا التَّفَاوُتِ ضَرُورِيٌّ. وَأما قوله إِنَّ وُجُودَهُ يَصِيرُ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ فِي الطَّاعَةِ/ فَنَقُولُ: تَأْثِيرُ زِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ إِنَّمَا هُوَ فِي كَثْرَةِ الثَّوَابِ عَلَى أَحَدِ التَّقْدِيرَيْنِ، وَفِي الْإِلْقَاءِ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي وَهُوَ التَّقْدِيرُ الْأَكْثَرُ الْأَغْلَبُ، وَكُلُّ من يراعي المصالح، فإنه رِعَايَةَ هَذَا التَّقْدِيرِ الثَّانِي أَوْلَى عِنْدَهُ مِنْ رِعَايَةِ التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ أَوْلَى مِنَ السَّعْيِ فِي طَلَبِ النَّفْعِ الزَّائِدِ الَّذِي لَا حَاجَةَ إِلَى حُصُولِهِ أَصْلًا، وَلَمَّا انْدَفَعَ هَذَانِ الْجَوَابَانِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ قَوِيَتْ سَائِرُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ، وَأما قوله: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي الْخَيْبَةُ عَنِ الرَّحْمَةِ أَوِ الْإِضْلَالِ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ فَنَقُولُ: كُلُّ هَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَيَّبَ نَفْسَهُ عَنِ الرَّحْمَةِ وَهُوَ الَّذِي أَضَلَّ نَفْسَهُ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى الْكُفْرِ بِاخْتِيَارِهِ فَقَدْ خَيَّبَ نَفْسَهُ عَنِ الرَّحْمَةِ، وَأَضَلَّ نَفْسَهُ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ فَكَيْفَ يَحْسُنُ إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَثَبَتَ أَنَّ الْإِشْكَالَاتِ لَازِمَةٌ وَأَنَّ أَجْوِبَتَهُمْ ضَعِيفَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأما قَوْلُهُ: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ إِبْلِيسَ اسْتَثْنَى الْمُخْلَصِينَ، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ كَيْدَهُ لَا يَعْمَلُ فِيهِمْ، وَلَا يَقْبَلُونَ مِنْهُ، وَذَكَرْتُ فِي مَجْلِسِ التَّذْكِيرِ أَنَّ الذي حمل إبليس على ذكر الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ لَا يَصِيرَ كَاذِبًا فِي دَعْوَاهُ فَلَمَّا احْتَرَزَ إِبْلِيسُ عَنِ الْكَذِبِ عَلِمْنَا أَنَّ الْكَذِبَ فِي غَايَةِ الْخَسَاسَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: الْمُخْلِصِينَ بِكَسْرِ اللَّامِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ اللَّامِ. وَجْهُ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى أَنَّهُمُ الَّذِينَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ وَعِبَادَتَهُمْ عَنْ كُلِّ شَائِبٍ يُنَاقِضُ الْإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ، وَمَنْ فَتَحَ اللَّامَ فَمَعْنَاهُ: الَّذِينَ أَخْلَصَهُمُ اللَّهُ بِالْهِدَايَةِ وَالْإِيمَانِ، وَالتَّوْفِيقِ، وَالْعِصْمَةِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِخْلَاصَ وَالْإِيمَانَ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. المسألة الثَّالِثَةُ: الْإِخْلَاصُ جَعْلُ الشَّيْءِ خَالِصًا عَنْ شَائِبَةِ الْغَيْرِ فَنَقُولُ: كُلُّ مَنْ أَتَى بِعَمَلٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَتَى بِهِ لِلَّهِ فَقَطْ أَوْ لِغَيْرِ اللَّهِ فَقَطْ، أَوْ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الثَّالِثِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ طَلَبُ رِضْوَانِ اللَّهِ رَاجِحًا أَوْ مَرْجُوحًا أَوْ مُعَادِلًا، وَالتَّقْدِيرُ الرَّابِعُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ لَا لِغَرَضٍ أَصْلًا وَهَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّ الْفِعْلَ بِدُونِ الدَّاعِيَةِ مُحَالٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ الْإِخْلَاصُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ طَلَبُ رِضْوَانِ اللَّهِ، وَمَا جَعَلَ

[سورة الحجر (15) : الآيات 42 إلى 44]

هَذِهِ الدَّاعِيَةَ مَشُوبَةً بِدَاعِيَةٍ أُخْرَى بَلْ بَقِيَتْ خَالِصَةً عَنْ شَوَائِبِ الْغَيْرِ، فَهَذَا هُوَ الْإِخْلَاصُ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ الْإِخْلَاصُ فِي حَقِّ غَيْرِ اللَّهِ، فَظَاهِرٌ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إِخْلَاصًا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى الْجِهَتَيْنِ إِلَّا أَنَّ جَانِبَ اللَّهِ يَكُونُ رَاجِحًا، فَهَذَا يُرْجَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُخْلَصِينَ، لِأَنَّ الْمَثَلَ يُقَابِلُهُ الْمَثَلُ. فَيَبْقَى الْقَدْرُ الزَّائِدُ خَالِصًا عَنِ الشَّوْبِ. وَأَمَّا الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ: فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمُخْلِصِينَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ: إِخْلَاصٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى قَطْعًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: يُرْجَى مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ قِسْمِ الْإِخْلَاصِ وَأَمَّا سَائِرُ الْأَقْسَامِ فَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْإِخْلَاصِ قَطْعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أما قوله تَعَالَى: قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا قَالَ: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فَلَفْظُ الْمُخْلَصِ يَدُلُّ عَلَى الْإِخْلَاصِ، فَقَوْلُهُ هَذَا عَائِدٌ إِلَى الْإِخْلَاصِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْإِخْلَاصَ طَرِيقُ عَلَيَّ وَإِلَيَّ، أَيْ أَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى كَرَامَتِي وَثَوَابِي، وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ هَذَا صِرَاطٌ إِلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا صِرَاطُ مَنْ مَرَّ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ مَرَّ عَلَيَّ وَعَلَى رِضْوَانِي وَكَرَامَتِي وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: طَرِيقُكَ عَلَيَّ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِخْلَاصَ طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ فَقَوْلُهُ: هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أَيْ هَذَا الطَّرِيقُ فِي الْعُبُودِيَّةِ طَرِيقٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ. الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا ذَكَرَ إِبْلِيسُ أَنَّهُ يَغْوِي بَنِي آدَمَ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ بِتَوْفِيقِهِ تَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ تَفْوِيضَ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى إِرَادَتِهِ فَقَالَ تَعَالَى: هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ أَيْ تَفْوِيضُ الْأُمُورِ إِلَى إِرَادَتِي وَمَشِيئَتِي طَرِيقٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ. الرَّابِعُ: مَعْنَاهُ: هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ تَقْرِيرُهُ وَتَأْكِيدُهُ، وَهُوَ مُسْتَقِيمٌ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: صِرَاطٌ عَلِيٌّ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: صِراطٌ أَيْ هُوَ عَلِيٌّ بِمَعْنَى أَنَّهُ رَفِيعٌ مُسْتَقِيمٌ لَا عِوَجَ فِيهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ طَرِيقَ التَّفْوِيضِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِيمَانِ بِقَضَاءِ اللَّهِ طَرِيقٌ رَفِيعٌ مستقيم. [سورة الحجر (15) : الآيات 42 الى 44] إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) [في قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إلى قوله لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ] اعْلَمْ أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا قَالَ: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ أَوْهَمَ هَذَا الْكَلَامُ أَنَّ لَهُ سُلْطَانًا عَلَى عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ يَكُونُونَ مِنَ الْمُخْلَصِينَ، فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْ عَبِيدِ اللَّهِ سَوَاءٌ كَانُوا مُخْلِصِينَ أَوْ لَمْ يَكُونُوا مُخْلِصِينَ، بَلْ مَنِ اتَّبَعَ مِنْهُمْ/ إِبْلِيسَ بِاخْتِيَارِهِ صَارَ مُتَّبِعًا لَهُ، وَلَكِنَّ حُصُولَ تِلْكَ الْمُتَابَعَةِ أَيْضًا لَيْسَ لِأَجْلِ أَنَّ إِبْلِيسَ يَقْهَرُهُ عَلَى تِلْكَ الْمُتَابَعَةِ أَوْ يُجْبِرُهُ عَلَيْهَا وَالْحَاصِلُ فِي هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ إِبْلِيسَ أَوْهَمَ أَنَّ لَهُ عَلَى بَعْضِ عِبَادِ اللَّهِ سُلْطَانًا، فَبَيَّنَ تَعَالَى كَذِبَهُ فِيهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ سُلْطَانٌ وَلَا قُدْرَةٌ أَصْلًا، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْلِيسَ أَنَّهُ قَالَ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إِبْرَاهِيمَ: 22] وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النَّحْلِ: 99، 100] قَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الشَّيْطَانَ وَالْجِنَّ يُمْكِنُهُمْ صَرْعُ النَّاسِ وَإِزَالَةُ عُقُولِهِمْ كَمَا يَقُولُهُ الْعَامَّةُ، وَرُبَّمَا نَسَبُوا ذَلِكَ إِلَى السَّحَرَةِ قَالَ وَذَلِكَ خِلَافُ مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَفِي الْآيَةِ

[سورة الحجر (15) : الآيات 45 إلى 48]

قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا قَالَ: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: 40] فَذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِغْوَاءِ الْمُخْلِصِينَ صَدَّقَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فَقَالَ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ فَلِهَذَا قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْعِبَادُ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمْ إِبْلِيسُ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ اسْتِثْنَاءً، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ فَإِنَّ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ مُنْقَادِينَ لَكَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً، بَلْ تَكُونُ لَفْظَةُ (إلا) بمعنى لكن، وقوله: إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ إِبْلِيسَ وَأَشْيَاعَهُ، وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْغَاوِينَ. ثم قال تَعَالَى: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّهَا سَبْعُ طَبَقَاتٍ: بَعْضُهَا فَوْقَ الْبَعْضِ وَتُسَمَّى تِلْكَ الطَّبَقَاتُ بِالدَّرَكَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا كَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاءِ: 145] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ قَرَارَ جَهَنَّمَ مَقْسُومٌ سَبْعَةَ أَقْسَامٍ: وَلِكُلِّ قِسْمٍ بَابٌ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَوَّلُهَا: جَهَنَّمُ. ثُمَّ لَظَى. ثُمَّ الْحُطَمَةُ. ثُمَّ السَّعِيرُ. ثُمَّ سَقَرُ. ثُمَّ الْجَحِيمُ. ثُمَّ الْهَاوِيَةُ. قَالَ الضَّحَّاكُ: الطَّبَقَةُ الْأُولَى: فِيهَا أَهْلُ التَّوْحِيدِ يُعَذَّبُونَ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ ثُمَّ يُخْرَجُونَ. وَالثَّانِيَةُ: لِلْيَهُودِ. وَالثَّالِثَةُ: لِلنَّصَارَى. وَالرَّابِعَةُ: لِلصَّابِئِينَ. وَالْخَامِسَةُ: لِلْمَجُوسِ. وَالسَّادِسَةُ: لِلْمُشْرِكِينَ. وَالسَّابِعَةُ: لِلْمُنَافِقِينَ. وَقَوْلُهُ: لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: جُزْءٌ مَقْسُومٌ وَالْبَاقُونَ (جَزْ) بِتَخْفِيفِ الزَّايِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: (جَزٌّ) بِالتَّشْدِيدِ، كَأَنَّهُ حَذَفَ الْهَمْزَةَ وَأَلْقَى حَرَكَتَهَا عَلَى الزَّايِ، كَقَوْلِكَ: خَبَّ/ فِي خَبْءٍ، ثُمَّ وَقَفَ عَلَيْهِ بِالتَّشْدِيدِ. المسألة الثَّانِيَةُ: الْجُزْءُ بَعْضُ الشَّيْءِ، وَالْجَمْعُ الْأَجْزَاءُ، وَجَزَّأْتُهُ جَعَلْتُهُ أَجْزَاءً. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى يجزي أَتْبَاعَ إِبْلِيسَ أَجْزَاءً، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجْعَلُهُمْ أَقْسَامًا وَفِرَقًا، وَيُدْخِلُ فِي كُلِّ قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِ جَهَنَّمَ طَائِفَةً مِنْ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ. وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ مَرَاتِبَ الْكُفْرِ مُخْتَلِفَةٌ بِالْغِلَظِ وَالْخِفَّةِ، فَلَا جَرَمَ صَارَتْ مَرَاتِبُ الْعَذَابِ وَالْعِقَابِ مُخْتَلِفَةً بِالْغِلَظِ والخفة، والله أعلم. [سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 48] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ أَهْلِ الْعِقَابِ أَتْبَعَهُ بِصِفَةِ أَهْلِ الثَّوَابِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ قَوْلَانِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ: الْقَائِلُونَ بِالْوَعِيدِ الْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ هُمُ الَّذِينَ اتَّقَوْا جَمِيعَ الْمَعَاصِي. قَالُوا: لِأَنَّهُ اسْمُ مَدْحٍ فَلَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ الَّذِينَ اتَّقَوُا الشِّرْكَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالْكَفْرَ بِهِ. وَأَقُولُ: هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْحَقُّ الصَّحِيحُ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْمُتَّقِيَ هُوَ الْآتِي بِالتَّقْوَى مَرَّةً وَاحِدَةً، كَمَا أَنَّ الضَّارِبَ هُوَ الْآتِي بِالضَّرْبِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالْقَاتِلَ هُوَ الْآتِي بِالْقَتْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَكَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوَصْفِ كَوْنُهُ ضَارِبًا وَقَاتِلًا كَوْنُهُ آتِيًا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، فَكَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِدْقِ الْوَصْفِ بِكَوْنِهِ مُتَّقِيًا كَوْنُهُ آتِيًا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّقْوَى، وَالَّذِي يُقَوِّي هَذَا الْكَلَامَ أَنَّ الْآتِيَ بِفَرْدٍ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ التَّقْوَى يَكُونُ آتِيًا بِالتَّقْوَى، لِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ كَوْنُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ، فَالْآتِي بِالتَّقْوَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَّقِيًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْآتِيَ بِفَرْدٍ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ التَّقْوَى يَصْدُقُ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُتَّقِيًا، وَلِهَذَا التَّحْقِيقِ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لَا يُفِيدُ التَّكْرَارَ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَقْتَضِي حُصُولَ الْجَنَّاتِ وَالْعُيُونِ/ لِكُلِّ مَنِ اتَّقَى عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى عَنِ الْكُفْرِ شَرْطٌ فِي حُصُولِ هَذَا الحكم، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ عَقِيبَ قَوْلِ إبليس: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: 40] وَعَقِيبَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: 42] فَلِأَجْلِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ اعْتَبَرْنَا الْإِيمَانَ فِي هَذَا الحكم فَوَجَبَ أَنْ لَا يَزِيدَ فِيهِ قَيْدٌ آخَرُ، لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ لَمَّا كَانَ بِخِلَافِ الظَّاهِرِ فَكُلَّمَا كَانَ التَّخْصِيصُ أَقَلَّ كَانَ أَوْفَقَ لِمُقْتَضَى الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْقَائِلِينَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ قَوْلًا وَاعْتِقَادًا سَوَاءً كَانُوا مِنْ أَهْلِ الطَّاعَةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ وَهَذَا تَقْرِيرٌ بَيِّنٌ، وَكَلَامٌ ظَاهِرٌ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أَمَّا الْجَنَّاتُ فَأَرْبَعَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَنِ: 46] ثم قال: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ [الرَّحْمَنِ: 46] فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ أَرْبَعَةً وَقَوْلُهُ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ يُؤَكِّدُ مَا قُلْنَاهُ، لِأَنَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ لَا يَنْفَكُّ قَلْبُهُ عَنِ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُ: وَلِمَنْ خافَ يَكْفِي فِي صِدْقِهِ حُصُولُ هَذَا الْخَوْفِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَمَّا الْعُيُونُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [مُحَمَّدٍ: 15] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْعُيُونِ يَنَابِيعَ مُغَايِرَةً لِتِلْكَ الْأَنْهَارِ. فَإِنْ قِيلَ: أَتَقُولُونَ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَّقِينَ يَخْتَصُّ بِعُيُونٍ، أَوْ تَجْرِي تِلْكَ الْعُيُونُ مِنْ بَعْضٍ إِلَى بَعْضٍ قِيلَ: لَا يَمْتَنِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الوجهيْنِ فَيَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ أَحَدٍ بِعَيْنٍ وَيَنْتَفِعَ بِهِ كُلُّ مَنْ فِي خِدْمَتِهِ مِنَ الْحُورِ وَالْوِلْدَانِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِمْ وَعَلَى حَسَبِ شَهَوَاتِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَجْرِي مِنْ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ لِأَنَّهُمْ مُطَهَّرُونَ عَنِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَقَوْلُهُ: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْقَائِلَ لِقَوْلِهِ: ادْخُلُوها هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَائِلُ بَعْضَ مَلَائِكَتِهِ، وَفِيهِ سُؤَالٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُمْ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَإِذَا كَانُوا فِيهَا فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لهم: ادْخُلُوها.

وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ قِيلَ لَهُمْ قَبْلَ دُخُولِهِمْ فِيهَا: ادْخُلُوها بِسَلامٍ. الثَّانِي: لَعَلَّ الْمُرَادَ لَمَّا مَلَكُوا جَنَّاتٍ كَثِيرَةً فَكُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَنْتَقِلُوا مِنْ جَنَّةٍ إِلَى أُخْرَى قِيلَ لَهُمُ ادْخُلُوهَا وَقَوْلُهُ: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ الْمُرَادُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ الْآفَاتِ فِي الْحَالِ وَمَعَ الْقَطْعِ بِبَقَاءِ هَذِهِ السَّلَامَةِ، وَالْأَمْنِ مِنْ زَوَالِهَا. ثم قال تَعَالَى: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ وَالْغِلُّ الْحِقْدُ الْكَامِنُ فِي الْقَلْبِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ/ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَغَلَّ فِي جَوْفِهِ وَتَغَلْغَلَ، أَيْ إِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ فِي الدُّنْيَا غِلٌّ عَلَى آخَرَ نَزَعَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَطَيَّبَ نُفُوسَهُمْ، وَعَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِنْهُمْ، وَحُكِيَ عَنِ الْحَرْثِ بْنِ الْأَعْوَرِ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ دَخَلَ زَكَرِيَّا بْنُ طَلْحَةَ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ أَخِي، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَأَبُوكَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ فَقَالَ الْحَرْثُ: كَلَّا بَلِ اللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَكَ وَطَلْحَةَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ. قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَلِمَنْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ لَا أُمَّ لَكَ يَا أَعْوَرُ، وَرُوِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُحْبَسُونَ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَدْ نَقَّى اللَّهُ قُلُوبَهُمْ مِنَ الْغِلِّ وَالْغِشِّ، وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، وَقَوْلُهُ: إِخْواناً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْأُخُوَّةَ فِي النَّسَبِ بَلِ الْمُرَادُ الْأُخُوَّةُ فِي الْمَوَدَّةِ وَالْمُخَالَصَةِ كَمَا قَالَ: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزُّخْرُفِ: 67] وَقَوْلُهُ: عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ السَّرِيرُ مَعْرُوفٌ وَالْجَمْعُ أَسِرَّةٌ وَسُرُرٌ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُقَالُ: سُرُرٌ وَسُرَرٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَذَا كُلُّ فَعِيلٍ مِنَ الْمُضَاعَفِ فَإِنَّ جَمْعَهُ فُعُلٌ وَفُعَلٌ نَحْوَ: سُرُرٌ وَسُرَرٌ، وَجُدُدٌ وَجُدَدٌ قَالَ الْمُفَضَّلُ: بَعْضُ تَمِيمٍ وَكَلْبٍ يَفْتَحُونَ، لِأَنَّهُمْ يَسْتَثْقِلُونَ ضَمَّتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ فِي حَرْفَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعَانِي: السَّرِيرُ مَجْلِسٌ رَفِيعٌ مُهَيَّأٌ لِلسُّرُورِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ مَجْلِسُ سُرُورٍ. قَالَ اللَّيْثُ: وَسَرِيرُ الْعَيْشِ مُسْتَقَرُّهُ الَّذِي اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ فِي حَالِ سُرُورِهِ وَفَرَحِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ عَلَى سُرُرٍ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٍ بِالزَّبَرْجَدِ وَالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، وَالسَّرِيرُ مِثْلُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ إِلَى الْجَابِيَةِ، وَقَوْلُهُ: مُتَقابِلِينَ التَّقَابُلُ التَّوَاجُهُ، وَهُوَ نَقِيضُ التَّدَابُرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُوَاجَهَةَ أَشْرَفُ الْأَحْوَالِ وَقَوْلُهُ: لَا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ النَّصَبُ الْإِعْيَاءُ وَالتَّعَبُ أَيْ لَا يَنَالُهُمْ فِيهَا تَعَبٌ: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ وَالْمُرَادُ بِهِ كَوْنُهُ خُلُودًا بِلَا زَوَالٍ وَبَقَاءً بِلَا فَنَاءٍ، وَكَمَالًا بِلَا نُقْصَانٍ، وَفَوْزًا بِلَا حِرْمَانٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلثَّوَابِ أَرْبَعَ شَرَائِطَ: وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مَنَافِعَ مَقْرُونَةً بِالتَّعْظِيمِ خَالِصَةً عَنِ الشَّوَائِبِ دَائِمَةً. أَمَّا الْقَيْدُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ كَوْنُهَا مَنْفَعَةً فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَأَمَّا الْقَيْدُ الثَّانِي: وَهُوَ كَوْنُهَا مَقْرُونَةً بِالتَّعْظِيمِ فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِذَا قَالَ لِعَبِيدِهِ هَذَا الْكَلَامَ أَشْعَرَ ذَلِكَ بِنِهَايَةِ التَّعْظِيمِ وَغَايَةِ الْإِجْلَالِ. وَأَمَّا الْقَيْدُ الثَّالِثُ: وَهُوَ كَوْنُ تِلْكَ الْمَنَافِعِ خَالِصَةً عَنْ شَوَائِبِ الضَّرَرِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَضَارَّ إِمَّا أَنْ تَكُونَ رُوحَانِيَّةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ جُسْمَانِيَّةً، أَمَّا الْمَضَارُّ الرُّوحَانِيَّةُ فَهِيَ الْحِقْدُ، وَالْحَسَدُ، وَالْغِلُّ، وَالْغَضَبُ، وَأَمَّا الْمَضَارُّ الْجُسْمَانِيَّةُ فَكَالْإِعْيَاءِ وَالتَّعَبِ فَقَوْلُهُ: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ/ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ الْمَضَارِّ الرُّوحَانِيَّةِ وَقَوْلُهُ: لَا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ الْمَضَارِّ الْجُسْمَانِيَّةِ.

[سورة الحجر (15) : الآيات 49 إلى 50]

وَأَمَّا الْقَيْدُ الرَّابِعُ: وَهُوَ كَوْنُ تِلْكَ الْمَنَافِعِ دَائِمَةً آمِنَةً مِنَ الزَّوَالِ فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ فَهَذَا تَرْتِيبٌ حَسَنٌ مَعْقُولٌ بِنَاءً عَلَى الْقُيُودِ الْأَرْبَعَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي مَاهِيَّةِ الثَّوَابِ وَلِحُكَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَقَالٌ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْقُدْسِيَّةَ النُّطْقِيَّةَ نَقِيَّةٌ مُطَهَّرَةٌ عَنْ عَلَائِقِ الْقُوَى الشَّهْوَانِيَّةِ وَالْغَضَبِيَّةِ، مُبَرَّأَةٌ عَنْ حَوَادِثِ الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ، وَقَوْلُهُ: إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ مَعْنَاهُ أَنَّ تِلْكَ النُّفُوسَ لَمَّا صَارَتْ صَافِيَةً عَنْ كُدُورَاتِ عَالَمِ الْأَجْسَامِ وَنَوَازِعِ الْخَيَالِ وَالْأَوْهَامِ، وَوَقَعَ عَلَيْهَا أَنْوَارُ عَالَمِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْجَلَالِ فَأَشْرَقَتْ بِتِلْكَ الْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ، وَتَلَأْلَأَتْ بِتِلْكَ الْأَضْوَاءِ الصَّمَدِيَّةِ، فَكُلُّ نُورٍ فَاضَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا انْعَكَسَ مِنْهُ عَلَى الْآخَرِ مِثْلَ الْمَزَايَا الْمُتَقَابِلَةِ الْمُتَحَاذِيَةِ، فَلِكَوْنِهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ والله أعلم. [سورة الحجر (15) : الآيات 49 الى 50] نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الأولى: أثبتت الهمزة الساكنة في (نبىء) صورة، وما أثبتت في قوله: دِفْءٌ. وجُزْءٌ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا سَاكِنٌ فَهِيَ تُحْذَفُ كَثِيرًا وتلقى حركتها على الساكن قبلها، ف (نبىء) فِي الْخَطِّ عَلَى تَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ، وَلَيْسَ قَبْلَ همزة (نبىء) سَاكِنٌ فَأَجْرَوْهَا عَلَى قِيَاسِ الْأَصْلِ: المسألة الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ عِبَادَ اللَّهِ قِسْمَانِ: مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ مُتَّقِيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَحْوَالَ الْمُتَّقِينَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، ذَكَرَ أَحْوَالَ غَيْرِ الْمُتَّقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: نَبِّئْ عِبادِي. وَاعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ، فَهَهُنَا وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ عِبَادًا لَهُ، ثُمَّ أَثْبَتَ عَقِيبَ ذِكْرِ هَذَا الْوَصْفِ الحكم بِكَوْنِهِ غَفُورًا رَحِيمًا، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنِ اعْتَرَفَ بِالْعُبُودِيَّةِ ظَهَرَ فِي حَقِّهِ كَوْنُ اللَّهِ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ كَانَ مُسْتَوْجِبًا لِلْعِقَابِ الْأَلِيمِ. وَفِي الْآيَةِ لطائف: إحداها: أَنَّهُ أَضَافَ الْعِبَادَ إِلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: عِبادِي وَهَذَا تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُشَرِّفَ مُحَمَّدًا/ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ لَمْ يَزِدْ عَلَى قَوْلِهِ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 1] . وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الرَّحْمَةَ وَالْمَغْفِرَةَ بَالَغَ فِي التَّأْكِيدِ بِأَلْفَاظٍ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: أَنِّي. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: أَنَا. وَثَالِثُهَا: إِدْخَالُ حَرْفِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَى قَوْلِهِ: الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَلَمَّا ذَكَرَ الْعَذَابَ لَمْ يَقُلْ أَنِّي أَنَا الْمُعَذِّبُ وَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ بَلْ قَالَ: وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يُبَلِّغَ إِلَيْهِمْ هَذَا الْمَعْنَى فَكَأَنَّهُ أَشْهَدَ رَسُولَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْتِزَامِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لما قال: نَبِّئْ عِبادِي كان معناه نبىء كُلَّ مَنْ كَانَ مُعْتَرِفًا بِعُبُودِيَّتِي، وَهَذَا كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ الْمُطِيعُ، فَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ الْعَاصِي، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَغْلِيبِ جَانِبِ الرَّحْمَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: بَلَغَنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ الْعَبْدُ قَدْرَ عَفْوِ اللَّهِ تَعَالَى مَا تَوَرَّعَ مِنْ حَرَامٍ، وَلَوْ عَلِمَ قَدْرَ عِقَابِهِ لَبَخَعَ نَفْسَهُ» أَيْ قَتَلَهَا وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَرَّ بِنَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُمْ يَضْحَكُونَ فَقَالَ: «أَتَضْحَكُونَ وَالنَّارُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ» فَنَزَلَ قَوْلُهُ: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَاللَّهُ أعلم.

[سورة الحجر (15) : الآيات 51 إلى 56]

[سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 56] وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي تَقْرِيرِ أَمْرِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ أَحْوَالَ الْقِيَامَةِ وَصِفَةِ الْأَشْقِيَاءِ وَالسُّعَدَاءِ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِيَكُونَ سَمَاعُهَا مُرَغِّبًا فِي الطَّاعَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْفَوْزِ بِدَرَجَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمُحَذِّرًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ لِاسْتِحْقَاقِ دَرَكَاتِ الْأَشْقِيَاءِ، فَبَدَأَ أَوَّلًا بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالضَّمِيرُ، فِي قَوْلِهِ: وَنَبِّئْهُمْ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: عِبادِي وَالتَّقْدِيرُ: ونبىء عِبَادِي عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ، يُقَالُ: أَنْبَأْتُ الْقَوْمَ إِنْبَاءً وَنَبَّأْتُهُمْ تَنْبِئَةً إِذَا/ أَخْبَرْتَهُمْ وَذَكَرَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ أَنَّ ضَيْفَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَشَّرُوهُ بِالْوَلَدِ بَعْدَ الْكِبَرِ. وَبِإِنْجَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ مِنَ الْعَذَابِ وَأَخْبَرُوهُ أَيْضًا بِأَنَّهُ تَعَالَى سَيُعَذِّبُ الْكُفَّارَ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُقَوِّي مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ عَذَابَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ. المسألة الثَّانِيَةُ: الضَّيْفُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ ضَافَ يَضِيفُ إِذَا أَتَى إِنْسَانًا لِطَلَبِ الْقِرَى، ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ، وَلِذَلِكَ وَحَّدَ فِي اللَّفْظِ وَهُمْ جَمَاعَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ سَمَّاهُمْ ضَيْفًا مَعَ امْتِنَاعِهِمْ عَنِ الْأَكْلِ؟ قُلْنَا: لَمَّا ظَنَّ إِبْرَاهِيمُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا دَخَلُوا عَلَيْهِ لِطَلَبِ الضِّيَافَةِ جَازَ تَسْمِيَتُهُمْ بِذَلِكَ. وَقِيلَ أَيْضًا: إِنَّ مَنْ يَدْخُلُ دَارَ الْإِنْسَانِ وَيَلْتَجِئُ إِلَيْهِ يُسَمَّى ضَيْفًا وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً أَيْ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ سَلَامًا أَوْ سَلَّمْتُ سَلَامًا، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ أَيْ خَائِفُونَ، وَكَانَ خَوْفُهُ لِامْتِنَاعِهِمْ مِنَ الْأَكْلِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَبِغَيْرِ وَقْتٍ وَقَرَأَ الْحَسَنُ: لَا تَوْجَلْ بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ أَوْجَلَهُ يُوجِلُهُ إِذَا أَخَافَهُ. وَقُرِئَ لَا تَأْجَلْ وَلَا تُوَاجَلْ من واجله بمعنى أو جله، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ قَدْ مَرَّ ذِكْرُهَا بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَقَوْلُهُ: قالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ فِيهِ أَبْحَاثُ: البحث الْأَوَّلُ: قَرَأَ حَمْزَةُ: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِفَتْحِ النُّونِ، وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ، وَالْبَاقُونَ: نُبَشِّرُكَ بِالتَّشْدِيدِ. البحث الثَّانِي: قَوْلُهُ: إِنَّا نُبَشِّرُكَ اسْتِئْنَافٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنِ الْوَجَلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ بِمَثَابَةِ الْآمِنِ الْمُبَشَّرِ فَلَا تَوْجَلْ. البحث الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ بَشَّرُوهُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَلَدَ ذَكَرٌ وَالْآخَرُ أَنَّهُ يَصِيرُ عَلِيمًا، وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْعَلِيمِ، فَقِيلَ: بَشَّرُوهُ بِنُبُوَّتِهِ بَعْدَهُ. وَقِيلَ: بَشَّرُوهُ بِأَنَّهُ عَلِيمٌ بِالدِّينِ. ثُمَّ حَكَى اللَّهُ

تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: أبشرتموني على أن مسني الكبر فيم تبشرون، فمعنى: عَلى هاهنا للحال أي حالة الكبر، وقوله: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ فيه مسألتان: المسألة الأولى: لفظ ما هاهنا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ كَأَنَّهُ قَالَ: بِأَيِّ أُعْجُوبَةٍ تُبَشِّرُونِي؟ فَإِنْ قِيلَ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَيْفَ اسْتَبْعَدَ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِ الْوَلَدِ مِنْهُ فِي زَمَانِ الْكِبَرِ وَإِنْكَارُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كُفْرٌ. الثاني: كيف قال: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ بَيَّنُوا مَا بَشَّرُوهُ بِهِ، وَمَا فَائِدَةُ هَذَا الْإِسْتِفَهَامِ. قَالَ الْقَاضِي: أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْجَوَابِ عَنْ/ ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِ الْوَلَدَ مَعَ أَنَّهُ يُبْقِيهِ عَلَى صِفَةِ الشَّيْخُوخَةِ أَوْ يَقْلِبُهُ شَابًّا، ثُمَّ يُعْطِيهِ الْوَلَدَ، وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْوَلَدُ حَالَ الشَّيْخُوخَةِ التَّامَّةِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ فِي حَالِ الشَّبَابِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ مَا ذَكَرْتُمْ فَلِمَ قَالُوا: بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ. قُلْنَا: إِنَّهُمْ بَيَّنُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَشَّرَهُ بِالْوَلَدِ مَعَ إبقائه على صفة الشيخوخة وقولهم: فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ. لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَرَّحَ فِي جَوَابِهِمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَقَالَ: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ وَفِيهِ جَوَابٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ عَظِيمَ الرَّغْبَةِ فِي شَيْءٍ وَفَاتَهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ حُصُولُ ذَلِكَ الْمُرَادِ فِيهِ، فَإِذَا بُشِّرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِحُصُولِهِ عَظُمَ فَرَحُهُ وَسُرُورُهُ وَيَصِيرُ ذَلِكَ الْفَرَحُ الْقَوِيُّ كَالْمُدْهِشِ لَهُ وَالْمُزِيلِ لِقُوَّةِ فَهْمِهِ وَذَكَائِهِ فَلَعَلَّهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَاتٍ مُضْطَرِبَةٍ فِي ذَلِكَ الْفَرَحِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقِيلَ أَيْضًا: إِنَّهُ يَسْتَطِيبُ تِلْكَ الْبِشَارَةَ فَرُبَّمَا يُعِيدُ السُّؤَالَ لِيَسْمَعَ تِلْكَ الْبِشَارَةَ مَرَّةً أُخْرَى وَمَرَّتَيْنِ وَأَكْثَرَ طَلَبًا لِلِالْتِذَاذِ بِسَمَاعِ تِلْكَ الْبِشَارَةِ، وَطَلَبًا لِزِيَادَةِ الطُّمَأْنِينَةِ وَالْوُثُوقِ مِثْلَ قَوْلِهِ: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَةِ: 260] وَقِيلَ أَيْضًا: اسْتَفْهَمَ أَبِأَمْرِ اللَّهِ تُبَشِّرُونِ أَمْ مِنْ عِنْدِ أنفسكم واجتهادكم؟ المسألة الثانية: قرأ نافع: تبشرون بِكَسْرِ النُّونِ خَفِيفَةً فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِهَا. وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ النُّونِ خَفِيفَةً، أَمَّا الْكَسْرُ وَالتَّشْدِيدُ فَتَقْدِيرُهُ تُبَشِّرُونَنِي أُدْغِمَتْ نُونُ الْجَمْعِ فِي نُونِ الْإِضَافَةِ، وَأَمَّا الْكَسْرُ وَالتَّخْفِيفُ فَعَلَى حَذْفِ نُونِ الْجَمْعِ اسْتِثْقَالًا لِاجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ وَطَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: حَذَفَ نَافِعٌ الْيَاءَ مَعَ النُّونِ. قَالَ: وَإِسْقَاطُ الْحَرْفَيْنِ لَا يَجُوزُ، وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَرْفًا وَاحِدًا وَهِيَ النُّونُ الَّتِي هِيَ عَلَامَةٌ لِلرَّفْعِ. وَعَلَى أَنَّ حَذْفَ الْحَرْفَيْنِ جَائِزٌ قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ: وَلا تَكُ وَفِي مَوْضِعٍ: وَلا تَكُنْ فَأَمَّا فَتْحُ النُّونِ فَعَلَى غَيْرِ الْإِضَافَةِ وَالنُّونُ عَلَامَةُ الرَّفْعِ وَهِيَ مَفْتُوحَةٌ أَبَدًا، وَقَوْلُهُ: بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ بِمَا قَضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَضَى أَنْ يُخْرِجَ مِنْ صُلْبِ إِبْرَاهِيمَ إسحاق عليه السلام. ويخرج من صلب إسحاق مِثْلَ مَا أَخْرَجَ مِنْ صُلْبِ آدَمَ فَإِنَّهُ تعالى بشر بأنه يخرج من صلب إسحاق أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ فَقَوْلُهُ: بِالْحَقِّ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَقَوْلُهُ: فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ نَهْيٌ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْقُنُوطِ وَقَدْ ذَكَرْنَا كَثِيرًا أَنَّ نَهْيَ الْإِنْسَانِ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَنْهِيِّ فَاعِلًا لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَابِ: 1] ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: هَذَا الْكَلَامُ حَقٌّ، لِأَنَّ الْقُنُوطَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الْجَهْلِ بأمور:

[سورة الحجر (15) : الآيات 57 إلى 60]

أَحَدُهَا: أَنْ يَجْهَلَ كَوْنَهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَيْهِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَجْهَلَ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِاحْتِيَاجِ ذَلِكَ الْعَبْدِ إِلَيْهِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَجْهَلَ كَوْنَهُ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الْبُخْلِ وَالْحَاجَةِ وَالْجَهْلِ فَكُلُّ هَذِهِ الْأُمُورِ سَبَبٌ لِلضَّلَالِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ: (يَقْنِطُ) بِكَسْرِ النُّونِ وَلَا تَقْنِطُوا كَذَلِكَ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ النُّونِ وَهُمَا لُغَتَانِ: قَنَطَ يَقْنِطُ، نَحْوَ ضَرَبَ يَضْرِبُ، وَقَنِطَ يَقْنَطُ نَحْوَ عَلِمَ يَعْلَمُ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ: قَنَطَ يَقْنُطُ بِضَمِّ النُّونِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: قَنَطَ يَقْنِطُ بِفَتْحِ النُّونِ فِي الْمَاضِي وَكَسْرِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ أَعْلَى اللُّغَاتِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ اجْتِمَاعُهُمْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [الشُّورَى: 28] وَحِكَايَةُ أَبِي عُبَيْدَةَ تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ قَنَطَ بِفَتْحِ النُّونِ أَكْثَرُ، لِأَنَّ الْمُضَارِعَ مِنْ فَعَلَ يَجِيءُ على يفعل ويفعل مثل فسق يفسق وَلَا يَجِيءُ مُضَارِعُ فَعَلَ عَلَى يَفْعُلُ. وَاللَّهُ أعلم. [سورة الحجر (15) : الآيات 57 الى 60] قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) [في قَوْلُهُ تَعَالَى قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَما خَطْبُكُمْ سُؤَالٌ عَمَّا لِأَجْلِهِ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْخَطْبُ وَالشَّأْنُ وَالْأَمْرُ سَوَاءٌ: إِلَّا أَنَّ لَفْظَ الْخَطْبِ أَدَلُّ عَلَى عِظَمِ الْحَالِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا بَشَّرُوهُ بِالْوَلَدِ الذَّكَرِ الْعَلِيمِ فَكَيْفَ قَالَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَصَمُّ: مَعْنَاهُ مَا الْأَمْرُ الَّذِي تَوَجَّهْتُمْ لَهُ سِوَى الْبُشْرَى. الثَّانِي: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَالُ الْمَقْصُودِ إِيصَالَ الْبِشَارَةِ لَكَانَ الْوَاحِدُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَافِيًا، فَلَمَّا رَأَى جَمْعًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلِمَ أَنَّ لَهُمْ غَرَضًا آخَرَ سِوَى إِيصَالِ الْبِشَارَةِ فَلَا جَرَمَ قَالَ: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. الثَّالِثُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ. فِي مَعْرِضِ إِزَالَةِ الْخَوْفِ وَالْوَجَلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا خَافَ قَالُوا لَهُ: لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الحجر: 53] . / وَلَوْ كَانَ تَمَامُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْمَجِيءِ هُوَ ذِكْرَ تِلْكَ الْبِشَارَةِ لَكَانُوا فِي أَوَّلِ مَا دَخَلُوا عَلَيْهِ ذَكَرُوا تِلْكَ الْبِشَارَةَ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَنَّهُ مَا كَانَ مَجِيئُهُمْ لِمُجَرَّدِ هَذِهِ الْبِشَارَةِ بَلْ كَانَ لِغَرَضٍ آخَرَ فَلَا جَرَمَ سَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْغَرَضِ فَقَالَ: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عن الملائكة أنهم قَالُوا: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ وَإِنَّمَا اقْتَصَرُوا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ لِعِلْمِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا أُرْسِلُوا إِلَى الْمُجْرِمِينَ كَانَ ذَلِكَ لِإِهْلَاكِهِمْ وَاسْتِئْصَالِهِمْ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُمْ: إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْإِرْسَالِ إِهْلَاكُ الْقَوْمِ.

أما قوله تَعَالَى: إِلَّا آلَ لُوطٍ فَالْمُرَادُ مِنْ آلِ لُوطٍ أَتْبَاعُهُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى دِينِهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: إِلَّا آلَ لُوطٍ هَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَوْ مُتَّصِلٌ؟ قُلْنَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنْ كَانَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ اسْتِثْنَاءً مِنْ (قَوْمٍ) كَانَ مُنْقَطِعًا، لِأَنَّ الْقَوْمَ مَوْصُوفُونَ بِكَوْنِهِمْ مُجْرِمِينَ وَآلُ لُوطٍ مَا كَانُوا مُجْرِمِينَ، فَاخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا. وَإِنْ كَانَ اسْتِثْنَاءً مِنَ الضَّمِيرِ فِي (مُجْرِمِينَ) كَانَ مُتَّصِلًا كَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَى قَوْمٍ قَدْ أَجْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلَّا آلَ لُوطٍ وَحْدَهُمْ كَمَا قَالَ: فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذَّارِيَاتِ: 36] ثم قال صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَيَخْتَلِفُ الْمَعْنَى بِحَسَبِ اخْتِلَافِ هَذَيْنِ الوجهيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ آلَ لُوطٍ يَخْرُجُونَ فِي الْمُنْقَطِعِ مِنْ حُكْمِ الْإِرْسَالِ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْمَلَائِكَةَ أُرْسِلُوا إِلَى الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ خَاصَّةً وَمَا أُرْسِلُوا إِلَى آلِ لُوطٍ أَصْلًا، وَأَمَّا فِي الْمُتَّصِلِ فَالْمَلَائِكَةُ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ جَمِيعًا لِيُهْلِكُوا هَؤُلَاءِ وَيُنَجُّوا هَؤُلَاءِ، وَأما قوله: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مُنْجُوهُمْ خَفِيفَةً، وَالْبَاقُونَ مُشَدَّدَةً وَهُمَا لُغَتَانِ. أما قوله تَعَالَى: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: لَمُنَجُّوهُمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا اتَّحَدَ الحكم فِيهِ، كَمَا لَوْ قِيلَ: أَهْلَكْنَاهُمْ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِلَّا امْرَأَتَهُ، وَكَمَا لَوْ قَالَ: الْمُطَلِّقُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثِنْتَيْنِ إِلَّا وَاحِدَةً، وَكَمَا إِذَا قَالَ: الْمُقِرُّ لِفُلَانٍ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ إِلَّا ثَلَاثَةً إِلَّا دِرْهَمًا، فَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْحُكْمَانِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا آلَ لُوطٍ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أُرْسِلْنا أَوْ بِقَوْلِهِ مُجْرِمِينَ وَقَوْلُهُ: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: لَمُنَجُّوهُمْ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا اسْتِثْنَاءً مِنَ اسْتِثْنَاءٍ. وَأما قوله: قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى التَّقْدِيرِ فِي اللُّغَةِ: جَعْلُ الشَّيْءِ عَلَى مِقْدَارِ غَيْرِهِ. يُقَالُ: قَدِّرْ هَذَا الشَّيْءَ بِهَذَا أَيِ اجْعَلْهُ عَلَى مِقْدَارِهِ، وَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَقْوَاتَ أَيْ جَعَلَهَا عَلَى مِقْدَارِ الْكِفَايَةِ، ثُمَّ يُفَسَّرُ التَّقْدِيرُ بِالْقَضَاءِ، فَقَالَ: قَضَى اللَّهُ عَلَيْهِ كَذَا، وَقَدَّرَهُ عَلَيْهِ أَيْ جَعَلَهُ عَلَى مِقْدَارِ مَا يَكْفِي/ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَقِيلَ فِي مَعْنَى: قَدَّرْنا كَتَبْنَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: دَبَّرْنَا. وَقِيلَ: قَضَيْنَا، وَالْكُلُّ مُتَقَارِبٌ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَبُو بكر عن عاصم قَدَّرْنا بتخفيف الدال هاهنا وَفِي النَّمْلِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ فِيهِمَا بِالتَّشْدِيدِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ يُقَالُ: قَدَّرْتُ الشَّيْءَ وَقَدَرْتُهُ، وَمِنْهُ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ [الْوَاقِعَةِ: 60] خفيفا، وقراءة الكسائي: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى ثم قال: وَالْمُشَدَّدَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها [فُصِّلَتْ: 10] وَقَوْلِهِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الْفُرْقَانِ: 2] . المسألة الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ أَسْنَدَ الْمَلَائِكَةُ فِعْلَ التَّقْدِيرِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ مَعَ أَنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِمَ لَمْ يَقُولُوا: قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى؟ وَالْجَوَابُ: إِنَّمَا ذَكَرُوا هَذِهِ الْعِبَارَةَ لِمَا لَهُمْ مِنَ الْقُرْبِ وَالِاخْتِصَاصِ بِاللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَقُولُ خَاصَّةُ الْمَلِكِ دَبَّرْنَا كَذَا وَأَمَرْنَا بِكَذَا وَالْمُدَبِّرُ وَالْآمِرُ هُوَ الْمَلِكُ لَا هُمْ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ إِظْهَارَ مَا لَهُمْ من الاختصاص بذلك الملك، فكذا هاهنا والله أعلم.

[سورة الحجر (15) : الآيات 61 إلى 64]

المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ، إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ التَّقْدِيرُ قَضَيْنَا أَنَّهَا تَتَخَلَّفُ وَتَبْقَى مَعَ مَنْ يَبْقَى حَتَّى تَهْلِكَ كَمَا يَهْلِكُونَ. وَلَا تَكُونُ مِمَّنْ يَبْقَى مَعَ لُوطٍ فَتَصِلُ إلى النجاة والله أعلم. [سورة الحجر (15) : الآيات 61 الى 64] فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) اعْلَمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا بَشَّرُوا إِبْرَاهِيمَ بِالْوَلَدِ وَأَخْبَرُوهُ بِأَنَّهُمْ مُرْسَلُونَ لِعَذَابِ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ذَهَبُوا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى لُوطٍ وَإِلَى آلِهِ، وَأَنَّ لُوطًا وَقَوْمَهُ مَا عَرَفُوا أَنَّهُمْ مَلَائِكَةُ اللَّهِ، فَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ وَفِي تَأْوِيلِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ مُنْكَرُونَ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا عَرَفَهُمْ، فَلَمَّا هَجَمُوا عَلَيْهِ اسْتَنْكَرَ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَخَافَ أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْهِ لِأَجْلِ شَرٍّ يُوَصِّلُونَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا شَبَابًا مُرْدًا حِسَانَ الْوُجُوهِ، فَخَافَ أَنْ يَهْجُمَ قَوْمُهُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ طَلَبِهِمْ فَقَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّكِرَةَ ضِدُّ الْمَعْرِفَةِ فَقَوْلُهُ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أَيْ لَا أَعْرِفُكُمْ، وَلَا أَعْرِفُ أَنَّكُمْ مِنْ أَيِّ الْأَقْوَامِ، وَلِأَيِّ غَرَضٍ دَخَلْتُمْ عَلَيَّ، فَعِنْدَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ، بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ، أَيْ بِالْعَذَابِ الَّذِي كَانُوا يَشُكُّونَ فِي نُزُولِهِ، ثُمَّ أَكَّدُوا/ مَا ذَكَرُوهُ بِقَوْلِهِمْ: وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ قَالَ الْكَلْبِيُّ: بِالْعَذَابِ، وَقِيلَ بِالْيَقِينِ وَالْأَمْرِ الثَّابِتِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَهُوَ عَذَابُ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ ثُمَّ أَكَّدُوا هَذَا التأكيد بقولهم، وَإِنَّا لَصادِقُونَ. [سورة الحجر (15) : الآيات 65 الى 66] فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) قُرِئَ فَأَسْرِ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَوَصْلِهَا مِنْ أَسْرَى وَسَرَى. وَرَوَى صَاحِبُ الْكَشَّافِ عَنْ صَاحِبِ الْإِقْلِيدِ فَسِرْ مِنَ السَّيْرِ وَالْقِطْعُ آخِرُ اللَّيْلِ. قَالَ الشَّاعِرُ: افْتَحِي الْبَابَ وَانْظُرِي فِي النُّجُومِ ... كَمْ عَلَيْنَا مِنْ قِطْعِ لَيْلٍ بَهِيمِ وَقَوْلُهُ: وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ مَعْنَاهُ: اتَّبِعْ آثَارَ بَنَاتِكَ وَأَهْلِكَ. وَقَوْلُهُ: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ الْفَائِدَةُ فِيهِ أَشْيَاءُ: أَحَدُهَا: لِئَلَّا يَتَخَلَّفَ مِنْكُمْ أَحَدٌ فينا له الْعَذَابُ. وَثَانِيهَا: لِئَلَّا يَرَى عَظِيمَ مَا يَنْزِلُ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ. وَثَالِثُهَا: مَعْنَاهُ الْإِسْرَاعُ وَتَرْكُ الِاهْتِمَامِ لِمَا خَلَّفَ وَرَاءَهُ كَمَا تَقُولُ: امْضِ لِشَأْنِكَ وَلَا تُعَرِّجْ عَلَى شَيْءٍ. وَرَابِعُهَا: لَوْ بَقِيَ مِنْهُ مَتَاعٌ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَلَا يَرْجِعَنَّ بِسَبَبِهِ أَلْبَتَّةَ. وَقَوْلُهُ: وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الشَّامَ. قَالَ الْمُفَضَّلُ: حَيْثُ يَقُولُ لَكُمْ جِبْرِيلُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَمْضُوا إِلَى قَرْيَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَهْلُهَا مَا عَمِلُوا مِثْلَ عَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ. وَقَوْلُهُ: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ عَدَّى قَضَيْنَا بِإِلَى، لِأَنَّهُ ضِمْنَ مَعْنَى أَوْحَيْنَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَوْحَيْنَاهُ إِلَيْهِ مَقْضِيًّا مَبْتُوتًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ [الْإِسْرَاءِ: 4] وَقَوْلُهُ، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ [يُونُسَ: 71] ثُمَّ إِنَّهُ فَسَّرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَضَاءَ الْمَبْتُوتَ بِقَوْلِهِ: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ وَفِي إِبْهَامِهِ أَوَّلًا، وَتَفْسِيرِهِ ثَانِيًا تَفْخِيمٌ لِلْأَمْرِ وَتَعْظِيمٌ لَهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ إِنَّ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ أَخْبِرْنَا

[سورة الحجر (15) : الآيات 67 إلى 77]

عَنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ، فَقَالَ: إِنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقُلْنَا: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ وَدَابِرُهُمْ آخِرُهُمْ، يَعْنِي يُسْتَأْصَلُونَ عَنْ آخِرِهِمْ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ وَقَوْلُهُ: مُصْبِحِينَ أي حال ظهور الصبح. [سورة الحجر (15) : الآيات 67 الى 77] وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) [في قوله تعالى وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ إلى قوله إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ] اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ قَوْمُ لُوطٍ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي جَاءُوهُ إِلَّا أَنَّ الْقِصَّةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ جَاءُوا دَارَ لُوطٍ. قِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا كَانُوا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ اشْتُهِرَ خَبَرُهُمْ حَتَّى وَصَلَ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ. وَقِيلَ: امْرَأَةُ لُوطٍ أَخْبَرَتْهُمْ بِذَلِكَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَوْمُ قَالُوا: نَزَلَ بِلُوطٍ ثلاثة من المراد مَا رَأَيْنَا قَطُّ أَصْبَحَ وَجْهًا وَلَا أَحْسَنَ شَكْلًا مِنْهُمْ فَذَهَبُوا إِلَى دَارِ لُوطٍ طَلَبًا منهم لأولئك المراد وَالِاسْتِبْشَارُ إِظْهَارُ السُّرُورِ فَقَالَ لَهُمْ لُوطٌ لَمَّا قَصَدُوا أَضْيَافَهُ كَلَامَيْنِ: الْكَلَامُ الْأَوَّلُ: قَالَ: إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ يُقَالُ فَضَحَهُ يَفْضَحُهُ فَضْحًا وَفَضِيحَةً إِذَا أَظْهَرَ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَلْزَمُهُ بِهِ الْعَارُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الضَّيْفَ يَجِبُ إِكْرَامُهُ فَإِذَا قَصَدْتُمُوهُمْ بِالسُّوءِ كَانَ ذَلِكَ إِهَانَةً بِي، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فَأَجَابُوهُ بِقَوْلِهِمْ: أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ وَالْمَعْنَى: أَلَسْنَا قَدْ نَهَيْنَاكَ أَنْ تُكَلِّمَنَا فِي أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ إِذَا قَصَدْنَاهُ بِالْفَاحِشَةِ. وَالْكَلَامُ الثَّانِي: مِمَّا قَالَهُ لُوطٌ قَوْلُهُ: هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ قِيلَ: الْمُرَادُ بَنَاتُهُ مِنْ صُلْبِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ نِسَاءُ قَوْمِهِ، لِأَنَّ رَسُولَ الْأُمَّةِ يَكُونُ كَالْأَبِ لَهُمْ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: النَّبِيُّ أَوْلى / بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الْأَحْزَابِ: 6] وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَبَاحِثِ قَدْ مَرَّ بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. أما قوله: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: الْعَمْرُ وَالْعُمْرُ وَاحِدٌ وَسُمِّيَ الرَّجُلُ عُمَرًا تَفَاؤُلًا أَنْ يَبْقَى وَمِنْهُ قَوْلُ ابن أحمر:

[سورة الحجر (15) : الآيات 78 إلى 79]

ذَهَبَ الشَّبَابُ وَأَخْلَقَ الْعُمْرُ وَعَمَّرَ الرَّجُلُ يُعَمِّرُ عَمْرًا وَعُمْرًا، فَإِذَا أَقْسَمُوا بِهِ قَالُوا: لَعَمْرُكَ وَعَمْرُكَ فَتَحُوا الْعَيْنَ لَا غَيْرَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَنَّ الْفَتْحَ أَخَفُّ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يُكْثِرُونَ الْقَسَمَ بِلَعَمْرِي وَلَعَمْرُكَ فَالْتَزَمُوا الْأَخَفَّ. المسألة الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ لِلُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ أَيْ فِي غَوَايَتِهِمْ يَعْمَهُونَ، أَيْ يَتَحَيَّرُونَ فَكَيْفَ يَقْبَلُونَ قَوْلَكَ، وَيَلْتَفِتُونَ إِلَى نَصِيحَتِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِحَيَاتِهِ وَمَا أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ النَّحْوِيُّونَ: ارْتَفَعَ قَوْلُهُ: لَعَمْرُكَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى: لَعَمْرُكَ قَسَمِي وَحُذِفَ الْخَبَرُ، لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ دَلِيلًا عَلَيْهِ وَبَابُ الْقَسَمِ يُحْذَفُ مِنْهُ الْفِعْلُ نَحْوَ: بِاللَّهِ لِأَفْعَلَنَّ، وَالْمَعْنَى: أَحْلِفُ بِاللَّهِ فَيُحْذَفُ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِأَنَّكَ حَالِفٌ. ثم قال تَعَالَى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ أَيْ صَيْحَةُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الصَّيْحَةَ صَيْحَةُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ قَوِيٍّ قِيلَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ إِلَّا عَلَى أَنَّهُ جَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ عَظِيمَةٌ مُهْلِكَةٌ وَقَوْلُهُ: مُشْرِقِينَ يُقَالُ شَرَّقَ الشَّارِقُ يُشَرِّقُ شُرُوقًا لِكُلِّ مَا طَلَعَ من جانب الشرق، ومنه قولهم ما ذكر شَارِقٌ أَيْ طَلَعَ طَالِعٌ فَقَوْلُهُ: مُشْرِقِينَ أَيْ دَاخِلِينَ فِي الشُّرُوقِ يُقَالُ أَشْرَقَ الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ فِي الشُّرُوقِ، وَهُوَ بُزُوغُ الشَّمْسِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَذَّبَهُمْ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ: أَحَدُهَا: الصَّيْحَةُ الْهَائِلَةُ الْمُنْكَرَةُ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ جَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ أَمْطَرَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ هُودٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ يُقَالُ تَوَسَّمْتُ فِي فُلَانٍ خَيْرًا أَيْ رَأَيْتُ فِيهِ أَثَرًا مِنْهُ وَتَفَرَّسْتُهُ فِيهِ، وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ الْمُتَوَسِّمِينَ قِيلَ: الْمُتَفَرِّسِينَ، وَقِيلَ: النَّاظِرِينَ، وَقِيلَ: الْمُتَفَكِّرِينَ، وَقِيلَ: الْمُعْتَبِرِينَ، وَقِيلَ: الْمُتَبَصِّرِينَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: حَقِيقَةُ الْمُتَوَسِّمِينَ فِي اللُّغَةِ الْمُتَثَبِّتُونَ فِي نَظَرِهِمْ حَتَّى يَعْرِفُوا سِمَةَ الشَّيْءِ وَصِفَتَهُ وَعَلَامَتَهُ، وَالْمُتَوَسِّمُ النَّاظِرُ فِي السِّمَةِ الدَّالَّةِ تَقُولُ: تَوَسَّمْتُ/ فِي فُلَانٍ كَذَا أَيْ عَرَفْتُ وَسْمَ ذَلِكَ وَسَمْتَهُ فِيهِ. ثم قال: وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّها عَائِدٌ إِلَى مَدِينَةِ قَوْمِ لُوطٍ، وَقَدْ سَبَقَ ذكرها في قوله، وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَقَوْلُهُ: لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أَيْ هَذِهِ الْقُرَى وَمَا ظَهَرَ فِيهَا مِنْ آثَارِ قَهْرِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ثَابِتٍ لَمْ يَنْدَرِسْ وَلَمْ يُخْفَ، وَالَّذِينَ يَمُرُّونَ مِنَ الْحِجَازِ إِلَى الشَّامِ يُشَاهِدُونَهَا. ثم قال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَصَدَّقَ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى انْتَقَمَ لِأَنْبِيَائِهِ مِنْ أُولَئِكَ الْجُهَّالِ، أَمَّا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَإِنَّهُمْ يَحْمِلُونَهُ عَلَى حَوَادِثِ الْعَالَمِ وَوَقَائِعِهِ، وَعَلَى حُصُولِ القرانات الكوكبية والاتصالات الفلكية والله أعلم. [سورة الحجر (15) : الآيات 78 الى 79] وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79)

[سورة الحجر (15) : الآيات 80 إلى 84]

اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْقِصَّةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. فَأَوَّلُهَا: قِصَّةُ آدَمَ وَإِبْلِيسَ. وَثَانِيهَا: قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ. وَثَالِثُهَا: هَذِهِ الْقِصَّةُ، وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ هُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانُوا أَصْحَابَ غِيَاضٍ فَكَذَّبُوا شُعَيْبًا فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّتَهُمْ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، وَالْأَيْكَةُ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ. يُقَالُ: أَيْكَةٌ وَأَيْكٌ كَشَجَرَةٍ وَشَجَرٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَيْكُ هُوَ شَجَرُ الْمُقْلِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْأَيْكَةُ الْغَيْضَةُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ مَوْضِعٍ كَانَ ذَا شَجَرٍ. قَالَ الواحدي: ومعنى إن واللام للتوكيد وإن هاهنا هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَقَوْلُهُ: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: اشْتَدَّ الْحَرُّ فِيهِمْ أَيَّامًا، ثُمَّ اضْطَرَمَ عَلَيْهِمُ الْمَكَانُ نَارًا فَهَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ وَقَوْلُهُ: وَإِنَّهُما فِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ قُرَى قَوْمِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْأَيْكَةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الضَّمِيرُ لِلْأَيْكَةِ وَمَدْيَنَ لِأَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَيْهِمَا فَلَمَّا ذَكَرَ الْأَيْكَةَ دَلَّ بِذِكْرِهَا عَلَى مَدْيَنَ فَجَاءَ بِضَمِيرِهِمَا وَقَوْلُهُ: لَبِإِمامٍ مُبِينٍ أَيْ بِطَرِيقٍ وَاضِحٍ وَالْإِمَامُ اسْمُ مَا يُؤْتَمُّ بِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: إِنَّمَا جُعِلَ الطَّرِيقُ إِمَامًا لِأَنَّهُ يُؤَمُّ وَيُتَّبَعُ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَأْتَمُّ بِهِ حَتَّى يَصِيرَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُرِيدُهُ وَقَوْلُهُ: مُبِينٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مُبِينٌ فِي نَفْسِهِ وَيُحْتَمَلُ/ أَنَّهُ مُبِينٌ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ يَهْدِي إِلَى الْمَقْصِدِ. [سورة الحجر (15) : الآيات 80 الى 84] وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (84) هَذِهِ هِيَ الْقِصَّةُ الرَّابِعَةُ، وَهِيَ قِصَّةُ صَالِحٍ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْحِجْرُ اسْمُ وَادٍ كَانَ يَسْكُنُهُ ثَمُودُ وَقَوْلُهُ: الْمُرْسَلِينَ الْمُرَادُ مِنْهُ صَالِحٌ وَحْدَهُ، وَلَعَلَّ الْقَوْمَ كَانُوا بَرَاهِمَةً مُنْكِرِينَ لِكُلِّ الرُّسُلِ وَقَوْلُهُ: وَآتَيْناهُمْ آياتِنا يُرِيدُ النَّاقَةَ، وَكَانَ فِي النَّاقَةِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ كَخُرُوجِهَا مِنَ الصَّخْرَةِ وَعِظَمِ خَلْقِهَا وَظُهُورِ نِتَاجِهَا عِنْدَ خُرُوجِهَا، وَكَثْرَةِ لَبَنِهَا وَأَضَافَ الْإِيتَاءَ إِلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَتِ النَّاقَةُ آيَةً لِصَالِحٍ لِأَنَّهَا آيَاتُ رَسُولِهِمْ، وَقَوْلُهُ: فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ وَاجِبٌ وَأَنَّ التَّقْلِيدَ مَذْمُومٌ وَقَوْلُهُ: وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ قَدْ ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ النَّحْتِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَقَوْلُهُ: آمِنِينَ يُرِيدُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: آمِنِينَ أَنْ يَقَعَ سَقْفُهُمْ عَلَيْهِمْ وَقَوْلُهُ: فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ أَيْ مَا دَفَعَ عَنْهُمُ الضُّرَّ وَالْبَلَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ نَحْتِ تِلْكَ الْجِبَالِ وَمِنْ جَمْعِ تِلْكَ الأموال. والله أعلم. [سورة الحجر (15) : الآيات 85 الى 86] وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86)

[سورة الحجر (15) : الآيات 87 إلى 88]

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَهْلَكَ الْكُفَّارَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: الْإِهْلَاكُ وَالتَّعْذِيبُ كَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّحِيمِ الْكَرِيمِ. فَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنِّي إِنَّمَا خَلَقْتُ الْخَلْقَ لِيَكُونُوا مُشْتَغِلِينَ بِالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ فَإِذَا تَرَكُوهَا/ وَأَعْرَضُوا عَنْهَا وَجَبَ فِي الْحِكْمَةِ إِهْلَاكُهُمْ وَتَطْهِيرُ وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْهُمْ، وَهَذَا النَّظْمُ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، قَالَ الْجُبَّائِيُّ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا خلق السموات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا حَقًّا وَبِكَوْنِ الْحَقِّ لَا يَكُونُ الْبَاطِلَ، لِأَنَّ كُلَّ مَا فُعِلَ بَاطِلًا وَأُرِيدَ بِفِعْلِهِ كَوْنَ الْبَاطِلِ لَا يَكُونُ حَقًّا وَلَا يَكُونُ مَخْلُوقًا بِالْحَقِّ، وَفِيهِ بُطْلَانُ مَذْهَبِ الْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا خلقه الله تعالى بين السموات وَالْأَرْضِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بَاطِلٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ، لِأَنَّهَا تدل على أنه سبحانه هو الخالق للسموات وَالْأَرْضِ وَلِكُلِّ مَا بَيْنَهُمَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ بَيْنَهُمَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَالِقُهَا هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ فِي النَّظْمِ وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَصِ تَصْبِيرُ اللَّهِ تَعَالَى مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَفَاهَةِ قَوْمِهِ فَإِنَّهُ إِذَا سَمِعَ أَنَّ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ كَانُوا يُعَامِلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ سَهُلَ تَحَمُّلُ تِلْكَ السَّفَاهَاتِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْعَذَابَ عَلَى الْأُمَمِ السَّالِفَةِ فَعِنْدَ هَذَا قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَيَنْتَقِمُ لَكَ فيها من عدائك وَيُجَازِيكَ وَإِيَّاهُمْ عَلَى حَسَنَاتِكَ وَسَيِّئَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَا خلق السموات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ إِهْمَالُ أَمْرِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا صَبَّرَهُ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ رَغَّبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الصَّفْحِ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَقَالَ: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أَيْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَاحْتَمِلْ مَا تَلْقَى مِنْهُمْ إِعْرَاضًا جَمِيلًا بِحِلْمٍ وَإِغْضَاءٍ، وَقِيلَ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُظْهِرَ الْخُلُقَ الْحَسَنَ وَالْعَفْوَ وَالصَّفْحَ، فَكَيْفَ يَصِيرُ مَنْسُوخًا. ثم قال: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ مَعَ اخْتِلَافِ طَبَائِعِهِمْ وَتَفَاوُتِ أَحْوَالِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِكَوْنِهِمْ كَذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّمَا خَلَقَهُمْ مَعَ هَذَا التَّفَاوُتِ، وَمَعَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ التَّفَاوُتِ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَلِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ المعتزلة فلأجل المصلحة والحكمة، والله أعلم. [سورة الحجر (15) : الآيات 87 الى 88] وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا صَبَّرَهُ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَصْفَحَ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَذَكَّرَ كَثْرَةَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ سَهُلَ عَلَيْهِ الصَّفْحُ وَالتَّجَاوُزُ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: آتَيْناكَ سَبْعاً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبْعًا مِنَ الْآيَاتِ وَأَنْ يَكُونَ سَبْعًا مِنَ السُّوَرِ وَأَنْ يَكُونَ سَبْعًا مِنَ الْفَوَائِدِ. وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْيِينِ. وَأَمَّا الْمَثَانِي: فَهُوَ صِيغَةُ جَمْعٍ. وَاحِدُهُ مُثَنَّاةٌ، وَالْمُثَنَّاةُ كُلُّ شَيْءٍ يُثَنَّى، أَيْ يُجْعَلُ اثْنَيْنِ مِنْ قَوْلِكَ: ثَنَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا عَطَفْتَهُ أَوْ ضَمَمْتَ إِلَيْهِ آخَرَ، وَمِنْهُ يُقَالُ: لِرُكْبَتَيِ الدَّابَّةِ وَمِرْفَقَيْهَا مَثَانِيَ، لِأَنَّهَا تُثْنَى بِالْفَخِذِ وَالْعَضُدِ، وَمَثَانِي الْوَادِي مَعَاطِفُهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي مَفْهُومُهُ سَبْعَةُ أَشْيَاءَ مِنْ جِنْسِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُثَنَّى وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا

الْقَدْرَ مُجْمَلٌ وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَعْيِينِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَلِلنَّاسِ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ وَقَالَ: هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَالسَّبَبُ فِي وُقُوعِ هَذَا الِاسْمِ عَلَى الْفَاتِحَةِ أَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ، وَأَمَّا السَّبَبُ فِي تَسْمِيَتِهَا بِالْمَثَانِي فَوُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تُثَنَّى فِي كُلِّ صَلَاةٍ بِمَعْنَى أَنَّهَا تُقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. وَالثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: سُمِّيَتْ مَثَانِيَ لِأَنَّهَا يُثَنَّى بَعْدَهَا مَا يُقْرَأُ مَعَهَا. الثَّالِثُ: سُمِّيَتْ آيَاتُ الْفَاتِحَةِ مَثَانِيَ، لِأَنَّهَا قُسِّمَتْ قِسْمَيْنِ اثْنَيْنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ» وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ. الرَّابِعُ: سُمِّيَتْ مَثَانِيَ لِأَنَّهَا قِسْمَانِ ثَنَاءٌ وَدُعَاءٌ، وَأَيْضًا النِّصْفُ الْأَوَّلُ مِنْهَا حَقُّ الرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ الثَّنَاءُ، وَالنِّصْفُ الثَّانِي حَقُّ الْعُبُودِيَّةِ وَهُوَ الدُّعَاءُ. الْخَامِسُ: سُمِّيَتِ الْفَاتِحَةُ بِالْمَثَانِي، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِمَكَّةَ فِي أَوَائِلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَرَّةً بِالْمَدِينَةِ. السَّادِسُ: سُمِّيَتْ بِالْمَثَانِي، لِأَنَّ كَلِمَاتِهَا مُثَنَّاةٌ مِثْلُ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ... إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 3، 5- 7] وَفِي قِرَاءَةِ عُمَرَ: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَغَيْرِ الضَّالِّينَ) . السَّابِعُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: سُمِّيَتِ الْفَاتِحَةُ بِالْمَثَانِي لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ حَمْدُ اللَّهِ وَتَوْحِيدُهُ وَمُلْكُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي عَلَى سُورَةِ الْفَاتِحَةِ فَهَهُنَا أَحْكَامٌ: الحكم الْأَوَّلُ: نَقَلَ الْقَاضِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَكْتُبُ فِي مُصْحَفِهِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ رَأَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ. وَأَقُولُ: لَعَلَّ حُجَّتَهُ فِيهِ أَنَّ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ هُوَ الْفَاتِحَةُ. ثُمَّ/ إِنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ عَلَى الْقُرْآنِ، وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ السَّبْعُ الْمَثَانِي غَيْرَ الْقُرْآنِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا يُشْكِلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الْأَحْزَابِ: 7] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: 98] وَلِلْخَصْمِ أَنْ يُجِيبَ: بِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَذْكُرَ الْكُلَّ، ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَيْهِ ذِكْرَ بَعْضِ أَجْزَائِهِ وَأَقْسَامِهِ لِكَوْنِهِ أَشْرَفَ الْأَقْسَامِ. أَمَّا إِذَا ذُكِرَ شَيْءٌ ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ كَانَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا مُغَايِرًا لِلْمَذْكُورِ ثانيا، وهاهنا ذَكَرَ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، فَوَجَبَ حُصُولُ الْمُغَايَرَةِ. وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ: أَنَّ بَعْضَ الشَّيْءِ مُغَايِرٌ لِمَجْمُوعِهِ، فَلِمَ لَا يَكْفِي هَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْمُغَايَرَةِ فِي حُسْنِ الْعَطْفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الحكم الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي هُوَ الْفَاتِحَةُ، دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أَفْضَلُ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِفْرَادَهَا بِالذِّكْرِ مَعَ كَوْنِهَا جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِاخْتِصَاصِهَا بِمَزِيدِ الشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَهَا مَرَّتَيْنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى زِيَادَةِ فَضْلِهَا وَشَرَفِهَا. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمَّا رَأَيْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَى قِرَاءَتِهَا فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ طُولَ عُمْرِهِ، وَمَا أَقَامَ سُورَةً أُخْرَى مَقَامَهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَقْرَأَهَا فِي صِلَاتِهِ وَأَنْ لَا يُقِيمَ سَائِرَ آيَاتِ الْقُرْآنِ مَقَامَهَا وَأَنْ يَحْتَرِزَ عَنْ هَذَا الْإِبْدَالِ فَإِنَّ فِيهِ خَطَرًا عَظِيمًا وَاللَّهُ أعلم.

الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي أَنَّهَا السَّبْعُ الطِّوَالُ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَمُجَاهِدٍ وَهِيَ: الْبَقَرَةُ، وَآلُ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءُ، وَالْمَائِدَةُ، وَالْأَنْعَامُ، وَالْأَعْرَافُ، وَالْأَنْفَالُ، وَالتَّوْبَةُ مَعًا. قَالُوا: وَسُمِّيَتْ هَذِهِ السُّوَرُ مَثَانِيَ، لِأَنَّ الْفَرَائِضَ وَالْحُدُودَ وَالْأَمْثَالَ وَالْعِبَرَ ثُنِّيَتْ فِيهَا وَأَنْكَرَ الرَّبِيعُ هَذَا الْقَوْلَ. وَقَالَ هَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ وَأَكْثَرُ هَذِهِ السُّوَرِ السَّبْعَةِ مَدَنِيَّةٌ. وَمَا نَزَلَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي مَكَّةَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهَا. وَأَجَابَ قَوْمٌ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ: بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. ثُمَّ أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ مِنْهَا نُجُومًا، فَلَمَّا أَنْزَلَهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَحَكَمَ بِإِنْزَالِهِ عَلَيْهِ، فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا آتَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ بَعْدُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَهَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَصْدُقُ/ إِذَا وَصَلَ ذَلِكَ الشَّيْءُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَمَّا الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَهُوَ لَمْ يَصِلْ بَعْدُ إِلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَصْدُقُ فِيهِ. وَأما قوله بِأَنَّهُ لَمَّا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِنْزَالِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى مَا نَزَلَ عَلَيْهِ فَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ إِقَامَةَ مَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ مَقَامَ النَّازِلِ عَلَيْهِ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ السَّبْعِ الْمَثَانِي أَنَّهَا هِيَ السُّوَرُ الَّتِي هِيَ دُونَ الطِّوَالِ وَالْمِئِينَ وَفَوْقَ الْمُفَصَّلِ، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ قَوْمٌ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِمَا رَوَى ثَوْبَانُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَعْطَانِي السَّبْعَ الطِّوَالَ مَكَانَ التَّوْرَاةِ، وَأَعْطَانِي الْمِئِينَ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ، وَأَعْطَانِي الْمَثَانِيَ مَكَانَ الزَّبُورِ، وَفَضَّلَنِي رَبِّي بِالْمُفَصَّلِ» قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْقَوْلُ فِي تَسْمِيَةِ هَذِهِ السُّوَرِ مَثَانِي كَالْقَوْلِ فِي تَسْمِيَةِ الطِّوَالِ مَثَانِي. وَأَقُولُ إِنْ صَحَّ هَذَا التَّفْسِيرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَهَذَا الْقَوْلُ مُشْكِلٌ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسَمَّى بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ السُّوَرِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّوَرَ الَّتِي سَمُّوهَا بِالْمَثَانِي لَيْسَتْ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهَا، فَيَمْتَنِعُ حَمْلُ السَّبْعِ الْمَثَانِي عَلَى تِلْكَ السُّوَرِ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ هُوَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَقَوْلِ طَاوُسٍ قَالُوا: وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزُّمَرِ: 23] فَوَصَفَ كُلَّ الْقُرْآنِ بِكَوْنِهِ مَثَانِيَ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي أَنَّهُ مَا الْمُرَادُ بِالسَّبْعِ، وَمَا الْمُرَادُ بِالْمَثَانِي؟ أَمَّا السَّبْعُ فَذَكَرَ فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ سَبْعَةُ أَسْبَاعٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى سَبْعَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعُلُومِ. التَّوْحِيدُ، وَالنُّبُوَّةُ، وَالْمَعَادُ، وَالْقَضَاءُ، وَالْقَدَرُ، وَأَحْوَالُ الْعَالَمِ، وَالْقَصَصُ، وَالتَّكَالِيفُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ، وَالنِّدَاءِ، وَالْقَسَمِ، وَالْأَمْثَالِ. وَأَمَّا وَصْفُ كُلِّ الْقُرْآنِ بِالْمَثَانِي، فَلِأَنَّهُ كَرَّرَ فِيهِ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالتَّكَالِيفِ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي الْقُرْآنَ، لَكَانَ قَوْلُهُ: وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ عَطْفًا لِلشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، وذلك غير جائز. وأجيب عنه بأنه إنما حَسُنَ إِدْخَالُ حَرْفِ الْعَطْفِ فِيهِ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثَ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لِأَجْلِ وُرُودِهِ فِي هَذَا الْبَيْتِ، إِلَّا أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ خِلَافُهُ. وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسَّبْعِ الْفَاتِحَةَ، لِأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بالمثاني كل

الْقُرْآنِ وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعَ آيَاتٍ هِيَ الْفَاتِحَةُ وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَثَانِي الَّذِي هُوَ/ الْقُرْآنُ وَهَذَا الْقَوْلُ عَيْنُ الْأَوَّلِ وَالتَّفَاوُتُ لَيْسَ إِلَّا بِقَلِيلٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الثَّانِيَةُ: لَفْظَةُ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي قَالَ الزَّجَّاجُ فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ مِنَ الْقُرْآنِ أَيْ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعَ آيَاتٍ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَاتِ الَّتِي يُثْنَى بِهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَآتَيْنَاكَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ صِلَةً، وَالْمَعْنَى: آتَيْنَاكَ سَبْعًا هِيَ الْمَثَانِي كَمَا قَالَ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الْحَجِّ: 30] الْمَعْنَى: اجْتَنِبُوا الْأَوْثَانَ، لَا أَنَّ بَعْضَهَا رِجْسٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أما قوله تَعَالَى: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَرَّفَ رَسُولَهُ عِظَمَ نِعَمِهِ عَلَيْهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، وَهُوَ أَنَّهُ آتَاهُ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، نَهَاهُ عَنِ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا فَحَظَرَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُدَّ عَيْنَيْهِ إِلَيْهَا رَغْبَةً فِيهَا وَفِي مَدِّ الْعَيْنِ أَقْوَالٌ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ إِنَّكَ أُوتِيتَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ فَلَا تَشْغَلْ سِرَّكَ وَخَاطِرَكَ بِالِالْتِفَاتِ إِلَى الدُّنْيَا وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ أُوتِيَ الْقُرْآنَ فَرَأَى أَنَّ أَحَدًا أُوتِيَ مِنَ الدُّنْيَا أَفْضَلَ مِمَّا أُوتِيَ فَقَدْ صَغَّرَ عَظِيمًا وَعَظَّمَ صَغِيرًا، وَقِيلَ: وَافَتْ مِنْ بَعْضِ الْبِلَادِ سَبْعُ قَوَافِلَ لِيَهُودِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، فِيهَا أَنْوَاعُ الْبَزِّ وَالطِّيبِ وَالْجَوَاهِرِ وَسَائِرِ الْأَمْتِعَةِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَمْوَالُ لَنَا لَتَقَوَّيْنَا بِهَا وَلَأَنْفَقْنَاهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لهم: لَقَدْ أَعْطَيْتُكُمْ سَبْعَ آيَاتٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ الْقَوَافِلِ السَّبْعِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أَيْ لَا تَتَمَنَّ مَا فَضَّلْنَا بِهِ أَحَدًا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَقَرَّرَ الْوَاحِدِيُّ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: إِنَّمَا يَكُونُ مَادًّا عَيْنَيْهِ إِلَى الشَّيْءِ إِذَا أَدَامَ النَّظَرَ ونحوه، وَإِدَامَةُ النَّظَرِ إِلَى الشَّيْءِ تَدُلُّ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ وَتَمَنِّيهِ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْظُرُ إِلَى مَا يُسْتَحْسَنُ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَرُوِيَ أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى نَعَمِ بَنِي الْمُصْطَلَقِ، وَقَدْ عَبَسَتْ فِي أَبْوَالِهَا وَأَبْعَارِهَا فَتَقَنَّعَ فِي ثَوْبِهِ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَوْلُهُ عَبَسَتْ فِي أَبْوَالِهَا وَأَبْعَارِهَا هُوَ أَنْ تَجِفَّ أَبْوَالُهَا وَأَبْعَارُهَا عَلَى أَفْخَاذِهَا إِذَا تُرِكَتْ مِنَ الْعَمَلِ أَيَّامَ الرَّبِيعِ فَتَكْثُرُ شُحُومُهَا وَلُحُومُهَا وَهِيَ أَحْسَنُ مَا تَكُونُ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أَيْ لَا تَحْسُدَنَّ أَحَدًا عَلَى مَا أُوتِيَ مِنَ الدُّنْيَا قَالَ الْقَاضِي: هَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْحَسَدَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ قَبِيحٌ، لِأَنَّهُ إِرَادَةٌ لِزَوَالِ نِعَمِ الْغَيْرِ عَنْهُ، وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الِاعْتِرَاضِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِقْبَاحِ لِحُكْمِهِ وَقَضَائِهِ، وَذَلِكَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ قَبِيحٌ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ تَخْصِيصُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ؟ أما قوله تَعَالَى: أَزْواجاً مِنْهُمْ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَيْ أَصْنَافًا مِنَ الْكُفَّارِ، وَالزَّوْجُ فِي اللُّغَةِ الصِّنْفُ/ ثم قال: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا فَيَقْوَى بِمَكَانِهِمُ الْإِسْلَامُ وَيَنْتَعِشُ بِهِمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ نَهْيٌ لَهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَمْوَالِهِمْ وَقَوْلُهُ: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ نَهْيٌ لَهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِمْ وَأَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ فِي قَلْبِهِ قَدْرٌ وَوَزْنٌ. ثم قال: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ الْخَفْضُ: مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ نَقِيضُ الرَّفْعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْقِيَامَةِ: خافِضَةٌ رافِعَةٌ [الْوَاقِعَةِ: 3] أَيْ أَنَّهَا تَخْفِضُ أَهْلَ الْمَعَاصِي، وَتَرْفَعُ أَهْلَ الطَّاعَاتِ، فَالْخَفْضُ مَعْنَاهُ

[سورة الحجر (15) : الآيات 89 إلى 91]

الْوَضْعُ، وَجَنَاحُ الْإِنْسَانِ يَدُهُ. قَالَ اللَّيْثُ: يَدَا الْإِنْسَانِ جَنَاحَاهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ [الْقَصَصِ: 32] وَخَفْضُ الْجَنَاحِ كِنَايَةٌ عَنِ اللِّينِ وَالرِّفْقِ وَالتَّوَاضُعِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَاهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى أُولَئِكَ الْأَغْنِيَاءِ مِنَ الْكُفَّارِ أَمَرَهُ بِالتَّوَاضُعِ لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [الْمَائِدَةِ: 54] وَقَالَ فِي صِفَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] . [سورة الحجر (15) : الآيات 89 الى 91] وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَمَرَهُ بِأَنْ يَقُولَ لِلْقَوْمِ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ فَيَدْخُلُ تَحْتَ كَوْنِهِ نَذِيرًا، كَوْنُهُ مُبَلِّغًا لِجَمِيعِ التَّكَالِيفِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ وَاجِبًا تَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِهِ عِقَابٌ وَكُلَّ مَا كَانَ حَرَامًا تَرَتَّبَ عَلَى فِعْلِهِ عِقَابٌ فَكَانَ الْإِخْبَارُ بِحُصُولِ هَذَا الْعِقَابِ دَاخِلًا تَحْتَ لَفْظِ النَّذِيرِ، وَيَدْخُلُ تَحْتَهُ أَيْضًا كَوْنُهُ شَارِحًا لِمَرَاتِبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِكَوْنِهِ مُبِينًا، وَمَعْنَاهُ كَوْنُهُ آتِيًا فِي كُلِّ ذَلِكَ بِالْبَيَانَاتِ الشَّافِيَةِ وَالْبَيِّنَاتِ الْوَافِيَةِ، ثم قال بَعْدَهُ: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ وَفِيهِ بَحْثَانِ. البحث الْأَوَّلُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُقْتَسِمِينَ مَنْ هُمْ؟ وَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الَّذِينَ اقْتَسَمُوا طُرُقَ مَكَّةَ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقْرُبُ عَدَدُهُمْ مِنْ أَرْبَعِينَ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: كَانُوا سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا بَعَثَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، فَاقْتَسَمُوا عَقَبَاتِ مَكَّةَ وَطُرُقَهَا يَقُولُونَ لِمَنْ يَسْلُكُهَا لَا تَغْتَرُّوا بِالْخَارِجِ مِنَّا، وَالْمُدَّعِي لِلنُّبُوَّةِ فَإِنَّهُ مَجْنُونٌ، وَكَانُوا يُنَفِّرُونَ النَّاسَ عَنْهُ بِأَنَّهُ سَاحِرٌ أَوْ كَاهِنٌ/ أَوْ شَاعِرٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ خِزْيًا فَمَاتُوا شَرَّ مِيتَةٍ، وَالْمَعْنَى: أَنْذَرْتُكُمْ مِثْلَ مَا نَزَلَ بِالْمُقْتَسِمِينَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْمُقْتَسِمِينَ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لِمَ سَمَّاهُمْ مُقْتَسِمِينَ؟ فَقِيلَ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ آمَنُوا بِمَا وَافَقَ التَّوْرَاةَ وَكَفَرُوا بِالْبَاقِي. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لِأَنَّهُمُ اقْتَسَمُوا الْقُرْآنَ اسْتِهْزَاءً بِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سُورَةُ كَذَا لِي. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سُورَةُ كَذَا لِي. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حِبَّانَ: اقْتَسَمُوا الْقُرْآنَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ سِحْرٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ شِعْرٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَذِبٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ الْمُقْتَسِمِينَ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمْ قَوْمُ صَالِحٍ تَقَاسَمُوا لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ، فَرَمَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى قَتَلُوهُمْ، فَعَلَى هذا الاقتسام مِنَ الْقَسْمِ لَا مِنَ الْقِسْمَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابن قتيبة. البحث الثاني: أَنَّ قَوْلَهُ: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ يَقْتَضِي تَشْبِيهَ شَيْءٍ بِذَلِكَ فَمَا ذَلِكَ الشَّيْءُ؟ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الوجه الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمُ

[سورة الحجر (15) : الآيات 92 إلى 96]

الْمُقْتَسِمُونَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، حَيْثُ قَالُوا بِعِنَادِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بَعْضُهُ حَقٌّ مُوَافِقٌ لِلْتَوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لَهُمَا فَاقْتَسَمُوهُ إِلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَيْفَ توسط بين المشبه والمشبه به قوله: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ [الحجر: 88] إِلَى آخِرِهِ؟ قُلْنَا: لَمَّا كَانَ ذَلِكَ تَسْلِيَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ، اعْتَرَضَ بِمَا هُوَ مَدَارٌ لِمَعْنَى التَّسْلِيَةِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى دُنْيَاهُمْ وَالتَّأَسُّفِ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَالوجه الثَّانِي: أَنْ يَتَعَلَّقَ هَذَا الْكَلَامُ بِقَوْلِهِ: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الوجه لَا يَتِمُّ إِلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا الْتِزَامُ إِضْمَارٍ أَوِ الْتِزَامُ حَذْفٍ، أَمَّا الْإِضْمَارُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ عَذَابًا كَمَا أَنْزَلْنَاهُ عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ، وَعَلَى هَذَا الوجه، الْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ الْمُشَبَّهُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْمُشَبَّهُ بِهِ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: رَأَيْتُ كَالْقَمَرِ فِي الْحُسْنِ، أَيْ رَأَيْتُ إِنْسَانًا كَالْقَمَرِ فِي الْحُسْنِ، وَأَمَّا الْحَذْفُ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْكَافُ زَائِدَةٌ مَحْذُوفَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ مَا أَنْزَلْنَاهُ عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ، وَزِيَادَةُ الْكَافِ لَهُ نَظِيرٌ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: 11] وَالتَّقْدِيرُ: لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا حَاجَةَ إِلَى الْإِضْمَارِ وَالْحَذْفِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ أَيْ أُنْذِرُ قُرَيْشًا مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْعَذَابِ عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ فِيهِ بَحْثَانِ: البحث الْأَوَّلُ: فِي هَذَا اللَّفْظِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمُقْتَسِمِينَ. وَالثَّانِي: أنه مبتدأ، وخبره هو قوله: لَنَسْئَلَنَّهُمْ [الحجر: 92] وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ. البحث الثَّانِي: ذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي وَاحِدِ عِضِينَ قَوْلَيْنِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ وَاحِدَهَا عِضَةٌ مِثْلَ عِزَةٍ وَبِرَةٍ وَثِبَةٍ، وَأَصْلُهَا عُضْوَةٌ مِنْ عَضَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا فَرَّقْتَهُ، وَكُلُّ قِطْعَةٍ عِضَةٌ، وَهِيَ مِمَّا نَقَصَ مِنْهَا وَاوٌ هِيَ لَامُ الْفِعْلِ، وَالتَّعْضِيَةُ التَّجْزِئَةُ وَالتَّفْرِيقُ، يُقَالُ: عَضَّيْتُ الْجَزُورَ وَالشَّاةَ تَعْضِيَةً إِذَا جَعَلْتَهَا أَعْضَاءً وَقَسَّمْتَهَا، وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَعْضِيَةَ فِي مِيرَاثٍ إِلَّا فِيمَا احْتَمَلَ الْقِسْمَةَ» أَيْ لَا تَجْزِئَةَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَالْجَوْهَرَةِ وَالسَّيْفِ. فَقَوْلُهُ: جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ يُرِيدُ جَزَّؤُهُ أَجْزَاءً، فَقَالُوا: سِحْرٌ وَشِعْرٌ وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَمُفْتَرًى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ وَاحِدَهَا عِضَةٌ وَأَصْلُهَا عِضَهَةٌ، فَاسْتَثْقَلُوا الْجَمْعَ بَيْنَ هَاءَيْنِ، فَقَالُوا: عِضَةٌ كَمَا قَالُوا شِفَةٌ، وَالْأَصْلُ شِفَهَةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: شَافَهْتُ مُشَافَهَةً، وَسِنَةٌ وَأَصْلُهَا سِنْهَةٌ فِي بَعْضِ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعِضَةِ بِمَعْنَى الْكَذِبِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «إِيَّاكُمْ وَالْعِضَةَ» وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الْعِضَةُ بِأَنْ يَعِضَهُ الْإِنْسَانُ وَيَقُولَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ فِيمَا رَوَى اللَّيْثُ عَنْهُ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أَيْ جَعَلُوهُ مُفْتَرًى. وَجُمِعَتِ الْعِضَةُ جَمْعَ مَا يَعْقِلُ لِمَا لَحِقَهَا مِنَ الْحَذْفِ، فَجَعَلَ الْجَمْعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ عِوَضًا مِمَّا لحقها من الحذف. [سورة الحجر (15) : الآيات 92 الى 96] فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)

في الآية مسائل: المسألة الأولى: قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، لِأَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى الْأَقْرَبِ أَوْلَى، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِنَفْسِهِ أَنْ يَسْأَلَ هَؤُلَاءِ الْمُقْتَسِمِينَ عَمَّا كَانُوا يَقُولُونَهُ مِنَ اقْتِسَامِ الْقُرْآنِ وَعَنْ سَائِرِ الْمَعَاصِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ لِأَنَّ ذِكْرَهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [الحجر: 89] أَيْ/ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ وذكر الكافرين، فيعود قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَلَى الْكُلِّ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا يَكُونُ عَنِ الْكُفْرِ أَوْ عَنِ الْإِيمَانِ، بَلِ السُّؤَالِ وَاقِعٌ عَنْهُمَا وَعَنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وبين قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرَّحْمَنِ: 39] أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الوجه الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لا يسئلون سُؤَالَ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ أَعْمَالِهِمْ، وإنما يسئلون سُؤَالَ التَّقْرِيعِ يُقَالُ لَهُمْ لِمَ فَعَلْتُمْ كَذَا؟ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْجَوَابُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ سُؤَالُ الِاسْتِفْهَامِ لِمَا كَانَ فِي تَخْصِيصِ هَذَا النَّفْيِ بِقَوْلِهِ يَوْمَئِذٍ فَائِدَةٌ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا السُّؤَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ. وَالوجه الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنْ يَصْرِفَ النَّفْيَ إِلَى بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَالْإِثْبَاتَ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ، لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ طَوِيلٌ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قوله، فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن: 39] هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ السُّؤَالُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَلَوْ حَصَلَ السُّؤَالُ فِي جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَحَصَلَ التَّنَاقُضُ. وَالوجه الثالث: أن نقول: قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ يفيد عموم النفي وقوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَائِدٌ إِلَى الْمُقْتَسِمِينَ وَهَذَا خَاصٌّ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَاصَّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ. أما قوله: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ فَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى الصَّدْعِ فِي اللُّغَةِ الشَّقُّ وَالْفَصْلُ، وَأَنْشَدَ ابْنُ السِّكِّيتِ لِجَرِيرٍ: هَذَا الْخَلِيفَةُ فَارْضَوْا مَا قَضَى لَكُمُ ... بِالْحَقِّ يَصْدَعُ مَا فِي قَوْلِهِ حَيْفٌ فَقَالَ يَصْدَعُ يَفْصِلُ، وَتَصَدَّعَ الْقَوْمُ إِذَا تَفَرَّقُوا، ومنه قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم: 43] قَالَ الْفَرَّاءُ: يَتَفَرَّقُونَ. وَالصَّدْعُ فِي الزُّجَاجَةِ الْإِبَانَةُ، أَقُولُ وَلَعَلَّ أَلَمَ الرَّأْسِ إِنَّمَا سُمِّيَ صُدَاعًا لِأَنَّ قِحْفَ الرَّأْسِ عِنْدَ

[سورة الحجر (15) : الآيات 97 إلى 99]

ذَلِكَ الْأَلَمِ كَأَنَّهُ يَنْشَقُّ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَسُمِّيَ الصُّبْحُ صَدِيعًا كَمَا يُسَمَّى فَلَقًا. وَقَدِ انْصَدَعَ وَانْفَلَقَ الْفَجْرُ وَانْفَطَرَ الصُّبْحُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُ: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ أَيْ فَرِّقْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فَاصْدَعْ أَظْهِرْ مَا تُؤْمَرُ بِهِ يُقَالُ: صَدَعَ بِالْحُجَّةِ إِذَا تَكَلَّمَ بِهَا جِهَارًا كَقَوْلِكَ صَرَّحَ بِهَا، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ يَرْجِعُ أَيْضًا إِلَى الشَّقِّ وَالتَّفْرِيقِ، أما قوله: بِما تُؤْمَرُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ «مَا» بِمَعْنَى الَّذِي/ أَيْ بِمَا تُؤْمَرُ بِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ. فَحَذَفَ الْجَارَّ كَقَوْلِهِ: أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ «مَا» مَصْدَرِيَّةً أَيْ فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ وَشَأْنِكَ. قَالُوا: وَمَا زَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِيًا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. ثم قال تَعَالَى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَيْ لَا تُبَالِ بِهِمْ وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى لَوْمِهِمْ إِيَّاكَ عَلَى إِظْهَارِ الدَّعْوَةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مَعْنَى هَذَا الْإِعْرَاضِ تَرْكُ الْمُبَالَاةِ بِهِمْ فَلَا يَكُونُ مَنْسُوخًا. ثم قال: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ قِيلَ: كَانُوا خَمْسَةَ نَفَرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ وَعَدِيُّ بْنُ قَيْسٍ وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ قَالَ جِبْرِيلُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْتُ أَنْ أَكْفِيَكَهُمْ فَأَوْمَأَ إِلَى عَقِبِ الْوَلِيدِ فَمَرَّ بِنِبَالٍ فَتَعَلَّقَ بِثَوْبِهِ سَهْمٌ فَلَمْ يَنْعَطِفْ تَعَظُّمًا لِأَخْذِهِ فَأَصَابَ عِرْقًا فِي عَقِبِهِ فَقَطَعَهُ فَمَاتَ، وَأَوْمَأَ إِلَى أَخْمَصِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ فَدَخَلَتْ فِيهَا شَوْكَةٌ فَقَالَ: لُدِغْتُ لُدِغْتُ وَانْتَفَخَتْ رِجْلُهُ حَتَّى صَارَتْ كَالرَّحَا وَمَاتَ، وَأَشَارَ إِلَى عَيْنَيِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ فَعَمِيَ، وَأَشَارَ إِلَى أَنْفِ عَدِيِّ بْنِ قَيْسٍ، فَامْتَخَطَ قَيْحًا فَمَاتَ وَأَشَارَ إِلَى الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ وَهُوَ قَاعِدٌ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ فَجَعَلَ يَنْطَحُ رَأْسَهُ بِالشَّجَرَةِ وَيَضْرِبُ وَجْهَهُ بِالشَّوْكِ حَتَّى مَاتَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَفِي أَسْمَائِهِمْ وَفِي كَيْفِيَّةِ طَرِيقِ اسْتِهْزَائِهِمْ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَالْقَدْرُ الْمَعْلُومُ أنهم طبقة لهم قوة وشوكة ورئاسة لِأَنَّ أَمْثَالَهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَقْدِرُونَ عَلَى إِظْهَارِ مِثْلِ هَذِهِ السَّفَاهَةِ مَعَ مِثْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُلُوِّ قَدْرِهِ وَعِظَمِ مَنْصِبِهِ، وَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْنَاهُمْ وَأَبَادَهُمْ وَأَزَالَ كَيْدَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة الحجر (15) : الآيات 97 الى 99] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ قَوْمَهُ يُسَفِّهُونَ عَلَيْهِ وَلَا سيما أولئك المقتسمون وأولئك المستهزؤون قَالَ لَهُ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ لِأَنَّ الْجِبِلَّةَ الْبَشَرِيَّةَ وَالْمِزَاجَ الْإِنْسَانِيَّ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَعِنْدَ هَذَا قَالَ لَهُ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ فَأَمَرَهُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالسُّجُودِ وَالْعِبَادَةِ/ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّهُ كَيْفَ صَارَ الْإِقْبَالُ عَلَى هَذِهِ الطَّاعَاتِ سَبَبًا لِزَوَالِ ضِيقِ الْقَلْبِ وَالْحُزْنِ؟ فَقَالَ الْعَارِفُونَ الْمُحَقِّقُونَ إِذَا اشْتَغَلَ الْإِنْسَانُ بِهَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْعِبَادَاتِ انْكَشَفَتْ لَهُ أَضْوَاءُ عَالَمِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَمَتَى حَصَلَ ذَلِكَ الِانْكِشَافُ صَارَتِ الدُّنْيَا بِالْكُلِّيَّةِ

حَقِيرَةً، وَإِذَا صَارَتْ حَقِيرَةً خَفَّ عَلَى الْقَلْبِ فِقْدَانُهَا وَوِجْدَانُهَا فَلَا يَسْتَوْحِشُ مِنْ فِقْدَانِهَا وَلَا يَسْتَرِيحُ بِوِجْدَانِهَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَزُولُ الْحُزْنُ وَالْغَمُّ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: مَنِ اعْتَقَدَ تَنْزِيهَ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْقَبَائِحِ سَهُلَ عَلَيْهِ تَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَدْلٌ مُنَزَّهٌ عَنْ إِنْزَالِ الْمَشَاقِّ بِهِ مِنْ غَيْرِ غَرَضٍ وَلَا فَائِدَةٍ فَحِينَئِذٍ يَطِيبُ قَلْبُهُ، وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: إِذَا نَزَلَ بِالْعَبْدِ بَعْضُ الْمَكَارِهِ فَزِعَ إِلَى الطَّاعَاتِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: تَجِبُ عَلَيَّ عِبَادَتُكَ سَوَاءً أَعْطَيْتَنِي الْخَيْرَاتِ أَوْ أَلْقَيْتَنِي فِي الْمَكْرُوهَاتِ، وَقَوْلُهُ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ الْمَوْتَ وَسُمِّيَ الْمَوْتُ بِالْيَقِينِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُتَيَقِّنٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ فَائِدَةٍ لِهَذَا التَّوْقِيتِ مَعَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْعِبَادَاتُ؟ قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْهُ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ فِي زَمَانِ حَيَاتِكَ وَلَا تَخْلُ لَحْظَةٌ مِنْ لَحَظَاتِ الْحَيَاةِ عَنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. تَمَّ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ

سورة النحل

سُورَةُ النَّحْلِ مَكِّيَّةٌ، إِلَّا الْآيَاتِ الثَّلَاثَ الْأَخِيرَةَ فمدنية وآياتها: 128، نزلت بعد سورة الكهف بسم الله الرحمن الرحيم [سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) سورة النحل مكية غير ثلاث آيات في أخرها وَحَكَى الْأَصَمُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ كُلَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ: كُنْ فَيَكُونُ مَدَّنِيٌّ وَمَا سِوَاهُ فَمَكِّيٌّ، وَعَنْ قَتَادَةَ بِالْعَكْسِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ تُسَمَّى سُورَةَ النِّعَمِ وَهِيَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ وَثَمَانِ آيَاتٍ مَكِّيَّةٍ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ. فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ مَعْرِفَةَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مُرَتَّبَةٌ عَلَى سُؤَالَاتٍ ثَلَاثَةٍ: فَالسُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَوِّفُهُمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا تَارَةً وَهُوَ الْقَتْلُ وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِمْ كَمَا حَصَلَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، وَتَارَةً بِعَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْصُلُ عِنْدَ/ قِيَامِ السَّاعَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا لَمْ يُشَاهِدُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ احْتَجُّوا بِذَلِكَ عَلَى تَكْذِيبِهِ وَطَلَبُوا مِنْهُ الْإِتْيَانَ بِذَلِكَ الْعَذَابِ وَقَالُوا لَهُ ائْتِنَا بِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ

تَعَالَى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [الْقَمَرِ: 1] قَالَ الْكُفَّارُ فِيمَا بَيْنَهُمْ إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَرُبَتْ فَأَمْسِكُوا عَنْ بَعْضِ مَا تَعْمَلُونَ حَتَّى نَنْظُرَ مَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَمَّا تَأَخَّرَتْ قَالُوا مَا نَرَى شَيْئًا مِمَّا تُخَوِّفُنَا بِهِ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: 1] فَأَشْفَقُوا وَانْتَظَرُوا يَوْمَهَا فَلَمَّا امْتَدَّتِ الْأَيَّامُ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مَا نَرَى شَيْئًا مِمَّا تُخَوِّفُنَا بِهِ فَنَزَلَ قَوْلُهُ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَوَثَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعَ النَّاسُ رُؤُوسَهُمْ فَنَزَلَ قَوْلُهُ: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَكْثَرَ مِنْ تَهْدِيدِهِمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ وَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا نَسَبُوهُ إِلَى الْكَذِبِ. فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ وَفِي تَقْرِيرِ هَذَا الْجَوَابِ وَجْهَانِ: الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ ذَلِكَ الْعَذَابُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ وَاجِبَ الْوُقُوعِ وَالشَّيْءُ إِذَا كَانَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ وَالصِّفَةِ فَإِنَّهُ يُقَالُ فِي الْكَلَامِ الْمُعْتَادِ أَنَّهُ قَدْ أَتَى وَوَقَعَ إِجْرَاءً لِمَا يَجِبُ وُقُوعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَجْرَى الْوَاقِعِ يُقَالُ لِمَنْ طَلَبَ الْإِغَاثَةَ وَقَرُبَ حُصُولُهَا: قَدْ جَاءَكَ الْغَوْثُ فَلَا تَجْزَعْ. وَالوجه الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ بِذَلِكَ وَحُكْمَهُ بِهِ قَدْ أَتَى وَحَصَلَ وَوَقَعَ، فَأَمَّا الْمَحْكُومُ بِهِ فَإِنَّمَا لَمْ يَقَعْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِوُقُوعِهِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَقَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا يَخْرُجُ إِلَى الْوُجُودِ وَالْحَاصِلُ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَمْرُ اللَّهِ وَحُكْمُهُ بِنُزُولِ الْعَذَابِ قَدْ حَصَلَ وَوُجِدَ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ فَصَحَّ قَوْلُنَا أَتَى أَمْرُ اللَّهِ، إِلَّا أَنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ وَالْمَأْمُورَ بِهِ إِنَّمَا لَمْ يَحْصُلْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّصَ حُصُولَهُ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ وَلَا تَطْلُبُوا حُصُولَهُ قَبْلَ حُضُورِ ذَلِكَ الْوَقْتِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَالَتِ الْكُفَّارُ: هَبْ أَنَّا سَلَّمْنَا لَكَ يَا مُحَمَّدُ صِحَّةَ مَا تَقُولُهُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِإِنْزَالِ الْعَذَابِ عَلَيْنَا إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ، إِلَّا أَنَّا نَعْبُدُ هَذِهِ الْأَصْنَامَ فَإِنَّهَا شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ فَهِيَ تَشْفَعُ لَنَا عِنْدَهُ فَنَتَخَلَّصُ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ الْمَحْكُومِ بِهِ بِسَبَبِ شَفَاعَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ. فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ فَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ شَرِكَةِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ، وَالْأَنْدَادِ وَأَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: عَمَّا يُشْرِكُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَالتَّقْدِيرُ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ إِشْرَاكِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي جَعَلُوهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ، لِأَنَّهَا جَمَادَاتٌ خَسِيسَةٌ، فَأَيُّ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَدْوَنِ الْمَوْجُودَاتِ فَضْلًا عَنْ أن يحكم بكونها شركاء لمدبر الأرض والسموات. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَبْ أَنَّهُ تَعَالَى قَضَى عَلَى بَعْضِ عَبِيدِهِ بِالسَّرَّاءِ وَعَلَى آخَرِينَ بِالضَّرَّاءِ وَلَكِنْ/ كَيْفَ يُمْكِنُكَ أَنْ تَعْرِفَ هَذِهِ الْأَسْرَارَ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ، وَكَيْفَ صِرْتَ بِحَيْثُ تَعْرِفُ أَسْرَارَ اللَّهِ وَأَحْكَامَهُ فِي مُلْكِهِ وَمَلَكُوتِهِ؟ فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّهُ تَعَالَى يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عَبِيدِهِ وَيَأْمُرُ ذَلِكَ الْعَبْدَ بِأَنْ يُبَلِّغَ إِلَى سَائِرِ الْخَلْقِ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ كَلَّفَهُمْ بِمَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَةِ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَازُوا بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَمَرَّدُوا وَقَعُوا فِي شَرِّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ صَارَ مَخْصُوصًا بِهَذِهِ الْمَعَارِفِ مِنْ دُونِ سَائِرِ

الْخَلْقِ، وَظَهَرَ بِهَذَا التَّرْتِيبِ الَّذِي لَخَّصْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مُنْتَظِمَةٌ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (يُنَزِّلُ) بِالْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِهَا، وَالْمَلَائِكَةَ بِالنَّصْبِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو يُنْزِلُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَتَخْفِيفِهَا، وَالْأَوَّلُ مِنَ التَّفْعِيلِ، وَالثَّانِي مِنَ الْإِفْعَالِ، وَهُمَا لُغَتَانِ: المسألة الثَّانِيَةُ: رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُرِيدُ بِالْمَلَائِكَةِ جِبْرِيلَ وَحْدَهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَتَسْمِيَةُ الْوَاحِدِ بِاسْمِ الْجَمْعِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ رَئِيسًا مُقَدَّمًا جَائِزٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ. [نوح: 1] وإِنَّا أَنْزَلْناهُ [يوسف: 2] . وإِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الْحِجْرِ: 9] وَفِي حَقِّ النَّاسِ كَقَوْلِهِ: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آلِ عِمْرَانَ: 173] وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ سَيَأْتِي شَرْحُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ فِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الرُّوحِ الْوَحْيُ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشُّورَى: 52] وَقَوْلُهُ: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [غَافِرٍ: 15] قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: الْجَسَدُ مَوَاتٌ كَثِيفٌ مُظْلِمٌ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الرُّوحُ صَارَ حَيًّا لَطِيفًا نُورَانِيًّا. فَظَهَرَتْ آثَارُ النُّورِ فِي الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، ثُمَّ الرُّوحُ أَيْضًا ظَلْمَانِيَّةٌ جَاهِلَةٌ، فَإِذَا اتَّصَلَ الْعَقْلُ بِهَا صَارَتْ مُشْرِقَةً نُورَانِيَّةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى، وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ [النَّحْلِ: 78] ثُمَّ الْعَقْلُ أَيْضًا لَيْسَ بِكَامِلِ النُّورَانِيَّةِ وَالصَّفَاءِ وَالْإِشْرَاقِ حَتَّى يُسْتَكْمَلَ بِمَعْرِفَةِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَعْرِفَةِ أَحْوَالِ عَالَمِ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَادِ، وَعَالَمِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْمَعَارِفَ الشَّرِيفَةَ الْإِلَهِيَّةَ لَا تَكْمُلُ وَلَا تَصْفُو إِلَّا بِنُورِ الْوَحْيِ وَالْقُرْآنِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْقُرْآنُ وَالْوَحْيُ بِهِ تَكْمُلُ الْمَعَارِفُ الْإِلَهِيَّةُ، وَالْمُكَاشَفَاتُ الرَّبَّانِيَّةُ وَهَذِهِ الْمَعَارِفُ بِهَا يُشْرِقُ الْعَقْلُ وَيَصْفُو وَيَكْمُلُ، وَالْعَقْلُ بِهِ يَكْمُلُ جَوْهَرُ الرُّوحِ، وَالرُّوحُ بِهِ يَكْمُلُ حَالُ الْجَسَدِ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الرُّوحَ الْأَصْلِيَّ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْوَحْيُ وَالْقُرْآنُ، لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الْخَلَاصُ/ مِنْ رَقْدَةِ الْجَهَالَةِ، وَنَوْمِ الْغَفْلَةِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الِانْتِقَالُ مِنْ حَضِيضِ الْبَهِيمِيَّةِ إِلَى أَوْجِ الْمَلَكِيَّةِ، فَظَهَرَ أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الرُّوحِ عَلَى الْوَحْيِ فِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ وَالْمُشَاكَلَةِ، وَمِمَّا يُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى أَطْلَقَ لَفْظَ الرُّوحِ عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: 193، 194] وَعَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: رَوْحِ اللَّهِ [يُوسُفَ: 87] وَإِنَّمَا حَسُنَ هَذَا الْإِطْلَاقُ، لِأَنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِ وُجُودِهِمَا حَيَاةُ الْقَلْبِ وَهِيَ الْهِدَايَةُ وَالْمَعَارِفُ، فَلَمَّا حَسُنَ إِطْلَاقُ اسْمِ الرُّوحِ عَلَيْهِمَا لِهَذَا الْمَعْنَى، فَلَأَنْ يَحْسُنَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الرُّوحِ عَلَى الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ إِنَّ الرُّوحَ هاهنا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالرُّوحِ بِمَعْنَى مَعَ كَقَوْلِهِمْ خَرَجَ فُلَانٌ بِثِيَابِهِ، أَيْ مَعَ ثِيَابِهِ وَرَكِبَ الْأَمِيرُ بِسِلَاحِهِ أَيْ مَعَ سِلَاحِهِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ مَعَ الرُّوحِ وَهُوَ جِبْرِيلُ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الوجه: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ وَحْدَهُ، بَلْ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ كَانَ يُنَزِّلُ مَعَ جِبْرِيلَ أَفْوَاجًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْغَزَوَاتِ كَانَ يَنْزِلُ مَعَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْوَامٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَكَانَ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارَةً مَلَكُ الْجِبَالِ. وَتَارَةً مَلَكُ الْبِحَارِ. وَتَارَةً رِضْوَانُ. وَتَارَةً غَيْرُهُمْ. وَقَوْلُهُ: مِنْ أَمْرِهِ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ التَّنْزِيلَ

وَالنُّزُولَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مَرْيَمَ: 64] وَقَوْلُهُ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 27] وَقَوْلُهُ: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 28] وَقَوْلُهُ: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النَّحْلِ: 5] وَقَوْلُهُ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التَّحْرِيمِ: 6] فَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُقْدِمُونَ عَلَى عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذْنِهِ، وَقَوْلُهُ: عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يُرِيدُ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ خَصَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِرِسَالَتِهِ، وَقَوْلُهُ: أَنْ أَنْذِرُوا قَالَ الزَّجَّاجُ: أَنْ بَدَلٌ مِنَ الرُّوحِ وَالْمَعْنَى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِأَنْ أَنْذِرُوا، أَيْ أَعْلِمُوا الْخَلَائِقَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، وَالْإِنْذَارُ هُوَ الْإِعْلَامُ مَعَ التَّخْوِيفِ. المسألة الثالثة: فِي الْآيَةِ فَوَائِدُ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ وُصُولَ الْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْأَنْبِيَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَمِمَّا يُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [الْبَقَرَةِ: 285] فَبَدَأَ بِذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَتَلَقَّوْنَ الْوَحْيَ مِنَ اللَّهِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَذَلِكَ الْوَحْيُ هُوَ الْكُتُبُ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُوَصِّلُونَ ذَلِكَ الْوَحْيَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ فَلَا جَرَمَ كَانَ التَّرْتِيبُ الصَّحِيحُ هُوَ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ بِذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ بِذِكْرِ الْكُتُبِ وَفِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ بِذِكْرِ الرُّسُلِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْمَلَكِ فَعِلْمُ ذَلِكَ الْمَلَكِ بِأَنَّ ذَلِكَ الْوَحْيَ وَحْيُ اللَّهِ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ أَوِ اسْتِدْلَالِيٌّ. وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ اسْتِدْلَالِيًّا فَكَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَيْهِ؟ وَأَيْضًا الْمَلَكُ إِذَا بَلَّغَ ذَلِكَ الْوَحْيَ إِلَى الرَّسُولِ فَعِلْمُ الرَّسُولِ بِكَوْنِهِ مَلَكًا صَادِقًا لَا شَيْطَانًا رَجِيمًا ضَرُورِيٌّ أَوِ اسْتِدْلَالِيٌّ فَإِنْ كَانَ اسْتِدْلَالِيًّا فَكَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَيْهِ؟ فَهَذِهِ مَقَامَاتٌ ضَيِّقَةٌ، وَتَمَامُ الْعِلْمِ بِهَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالبحث عَنْ حَقِيقَةِ الْمَلَكِ وَكَيْفِيَّةِ وَحْيِ اللَّهِ إِلَيْهِ، وَكَيْفِيَّةِ تَبْلِيغِ الْمَلَكِ ذَلِكَ الْوَحْيَ إِلَى الرَّسُولِ. فَأَمَّا إِذَا أَجْرَيْنَا هَذِهِ الْأُمُورَ عَلَى الْكَلِمَاتِ الْمَأْلُوفَةِ صَعُبَ الْمَرَامُ وَزَالَ النِّظَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ هَذَا الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ إِنَّمَا حَصَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ نَقُولُ: هَبْ أَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ لَمْ تَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ احْتِمَالَ كَوْنِ الْأَمْرِ كَذَلِكَ قَائِمٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا نَعْلَمُ كَوْنَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَادِقًا مَعْصُومًا عَنِ الْكَذِبِ وَالتَّلْبِيسِ إِلَّا بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ، وَصِحَّةُ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقٌ، وَصِدْقُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا مِنْ قِبَلِ شَيْطَانٍ خَبِيثٍ، وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ جِبْرِيلَ صَادِقٌ مُحِقٌّ مُبَرَّأٌ عَنِ التَّلْبِيسِ وَعَنْ أَفْعَالِ الشَّيْطَانِ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الدَّوْرُ، فَهَذَا مَقَامٌ صَعْبٌ. أَمَّا إِذَا عَرَفْنَا حَقِيقَةَ النُّبُوَّةِ وَعَرَفْنَا حَقِيقَةَ الْوَحْيِ زَالَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ الْمُشَارَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ لَيْسَ إِلَّا لِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ وَهَذَا كَلَامٌ حَقٌّ، لِأَنَّ مَرَاتِبَ السَّعَادَاتِ الْبَشَرِيَّةِ أَرْبَعَةٌ: أَوَّلُهَا: النَّفْسَانِيَّةُ، وَثَانِيهَا: الْبَدَنِيَّةُ، وَفِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ: الصِّفَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الَّتِي لَا تَكُونُ مِنَ اللَّوَازِمِ، وَفِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ: الْأُمُورُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنِ الْبَدَنِ. أَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: وَهِيَ الْكَمَالَاتُ النَّفْسَانِيَّةُ، فَاعْلَمْ أَنَّ النَّفْسَ لَهَا قُوَّتَانِ: إِحْدَاهُمَا: اسْتِعْدَادُهَا لِقَبُولِ صُوَرِ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَهَذِهِ الْقُوَّةُ هِيَ الْقُوَّةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، وَسَعَادَةُ هَذِهِ الْقُوَّةِ فِي حُصُولِ

[سورة النحل (16) : آية 3]

الْمَعَارِفِ. وَأَشْرَفُ الْمَعَارِفِ وَأَجَلُّهَا مَعْرِفَةُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا وَالْقُوَّةُ الثَّانِيَةُ لِلنَّفْسِ: اسْتِعْدَادُهَا لِلتَّصَرُّفِ فِي أَجْسَامِ هَذَا الْعَالَمِ، وَهَذِهِ الْقُوَّةُ هِيَ الْقُوَّةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَسَعَادَةُ هَذِهِ الْقُوَّةِ فِي الْإِتْيَانِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَأَشْرَفُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ هُوَ عُبُودِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَاتَّقُونِ وَلَمَّا كَانَتِ الْقُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ أَشْرَفَ مِنَ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ لَا جَرَمَ قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَالَاتِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا عَلَى كَمَالَاتِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَاتَّقُونِ. وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ السَّعَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ فَهِيَ أَيْضًا قِسْمَانِ: الصِّحَّةُ الْجَسَدَانِيَّةُ، وَكَمَالَاتُ الْقُوَى الْحَيَوَانِيَّةِ، أَعْنِي الْقُوَى السَبْعَ عَشْرَةَ الْبَدَنِيَّةَ. وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ السَّعَادَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصِّفَاتِ الْعَرَضِيَّةِ الْبَدَنِيَّةِ، فَهِيَ أَيْضًا قِسْمَانِ: سَعَادَةُ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، أَعْنِي كَمَالَ حَالِ الْآبَاءِ. وَكَمَالَ حَالِ الْأَوْلَادِ. وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ أَخَسُّ الْمَرَاتِبِ فَهِيَ السَّعَادَاتُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِ الْأُمُورِ الْمُنْفَصِلَةِ وَهِيَ الْمَالُ وَالْجَاهُ، فَثَبَتَ أَنَّ أَشْرَفَ مَرَاتِبِ السَّعَادَاتِ هِيَ الْأَحْوَالُ النَّفْسَانِيَّةُ، وَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي كَمَالَاتِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ والعملية، فلهذا السبب ذكر الله هاهنا أَعْلَى حَالِ هَاتَيْنِ الْقُوَّتَيْنِ فَقَالَ: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ. [سورة النحل (16) : آية 3] خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ لِذَاتِهِ، وَهِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا وَمَعْرِفَةَ الْخَيْرِ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ وَهِيَ الْمُرَادُ مِنْ قوله: فَاتَّقُونِ [النحل: 2] رُوحُ الْأَرْوَاحِ، وَمَطْلَعُ السَّعَادَاتِ، وَمَنْبَعُ الْخَيْرَاتِ وَالْكَرَامَاتِ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْإِلَهِ تَعَالَى وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ دَلَائِلَ الْإِلَهِيَّاتِ، إِمَّا التَّمَسُّكُ بِطَرِيقَةِ الْإِمْكَانِ فِي الذَّوَاتِ أَوْ فِي الصِّفَاتِ. أَوِ التَّمَسُّكُ بِطَرِيقَةِ الْحُدُوثِ فِي الذَّوَاتِ أَوْ فِي الصِّفَاتِ أَوْ بِمَجْمُوعِ الْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ فِي الذَّوَاتِ أَوِ الصِّفَاتِ، فَهَذِهِ طُرُقٌ سِتَّةٌ، وَالطَّرِيقُ الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَةِ، هُوَ التَّمَسُّكُ بِطَرِيقَةِ حُدُوثِ الصِّفَاتِ وَتَغَيُّرَاتِ الْأَحْوَالِ. ثُمَّ هَذَا الطَّرِيقُ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْأَظْهَرِ فَالْأَظْهَرِ مُتَرَقِّيًا إِلَى الْأَخْفَى فَالْأَخْفَى، وَهَذَا الطَّرِيقُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّهُ تعالى قال: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَجَعَلَ تَعَالَى تَغَيُّرَ أَحْوَالِ نَفْسِ كُلِّ وَاحِدٍ دَلِيلًا عَلَى احْتِيَاجِهِ إِلَى الْخَالِقِ. ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ الِاسْتِدْلَالَ بِأَحْوَالِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 21] ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ الِاسْتِدْلَالَ بِأَحْوَالِ الْأَرْضِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً لِأَنَّ الْأَرْضَ أَقْرَبُ إِلَيْنَا مِنَ السَّمَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ قَوْلَهُ: وَالسَّماءَ بِناءً ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْمَرْتَبَةِ الْخَامِسَةِ الْأَحْوَالَ الْمُتَوَلِّدَةَ مِنْ تَرْكِيبِ السَّمَاءِ بِالْأَرْضِ، فَقَالَ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 22] . الثَّانِي مِنَ الدَّلَائِلِ الْقُرْآنِيَّةِ: أَنْ يَحْتَجَّ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأَشْرَفِ فَالْأَشْرَفِ نَازِلًا إِلَى الْأَدْوَنِ/ فَالْأَدْوَنِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ابْتَدَأَ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْمُخْتَارِ بِذِكْرِ الْأَجْرَامِ الْعَالِيَةِ الْفَلَكِيَّةِ، ثُمَّ ثَنَّى بِذِكْرِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ ثَلَّثَ بِذِكْرِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِ الْحَيَوَانِ، ثم

[سورة النحل (16) : آية 4]

رَبَّعَ بِذِكْرِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِ النَّبَاتِ، ثُمَّ خَمَّسَ بِذِكْرِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِ الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: النوع الْأَوَّلُ: مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى وجود الإله الحكيم الاستدلال بأحوال السموات وَالْأَرْضِ فَقَالَ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَامِ: 1] أَنَّ لَفْظَ الْخَلْقِ مِنْ كَمْ وَجْهٍ يَدُلُّ عَلَى الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْخَالِقِ الْحَكِيمِ، وَلَا بأس بأن نعيد تلك الوجوه هاهنا فَنَقُولُ: الْخَلْقُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ بِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ، وهذا المعنى حاصل في السموات مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ جِسْمٍ مُتَنَاهٍ فَجِسْمُ السَّمَاءِ مُتَنَاهٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ مُتَنَاهِيًا فِي الْحَجْمِ وَالْقَدْرِ، كَانَ اخْتِصَاصُهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ دُونَ الْأَزْيَدِ وَالْأَنْقَصِ أَمْرًا جَائِزًا، وَكُلُّ جَائِزٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُقَدِّرٍ وَمُخَصِّصٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ مُفْتَقِرًا إِلَى الْغَيْرِ فَهُوَ مُحْدَثٌ. الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْحَرَكَةَ الْأَزَلِيَّةَ مُمْتَنِعَةٌ، لِأَنَّ الْحَرَكَةَ تَقْتَضِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ، وَالْأَزَلُ يُنَافِيهِ فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَرَكَةِ وَالْأَزَلِ مُحَالٌ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يُقَالَ أَنَّ الْأَجْرَامَ وَالْأَجْسَامَ كَانَتْ مَعْدُومَةً فِي الْأَزَلِ، ثُمَّ حَدَثَتْ أَوْ يُقَالَ إِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْأَزَلِ إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ سَاكِنَةً ثُمَّ تَحَرَّكَتْ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلِحَرَكَتِهَا أَوَّلٌ، فَحُدُوثُ الْحَرَكَةِ مِنْ ذَلِكَ الْمَبْدَأِ دُونَ مَا قَبْلَهُ أَوْ مَا بَعْدَهُ خَلْقٌ وَتَقْدِيرٌ، فَوَجَبَ افْتِقَارُهُ إِلَى مُقَدِّرٍ وَخَالِقٍ وَمُخَصِّصٍ لَهُ. الثَّالِثُ: أَنَّ جِسْمَ الْفَلَكِ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ بَعْضُهَا حَصَلَتْ فِي عُمْقِ جِرْمِ الْفَلَكِ وَبَعْضُهَا فِي سَطْحِهِ، وَالَّذِي حَصَلَ فِي الْعُمْقِ كَانَ يُعْقَلُ حُصُولُهُ فِي السَّطْحِ وَبِالْعَكْسِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ اخْتِصَاصُ كُلِّ جُزْءٍ بِمَوْضِعِهِ الْمُعَيَّنِ أَمْرًا جَائِزًا فَيَفْتَقِرُ إِلَى الْمُخَصِّصِ وَالْمُقَدِّرِ، وَبَقِيَّةُ الْوُجُوهِ مَذْكُورَةٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا احْتَجَّ بالخلق والتقدير على حدوث السموات وَالْأَرْضِ قَالَ بَعْدَهُ: تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَالْمُرَادُ أن القائلين بقدم السموات وَالْأَرْضِ كَأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا لِلَّهِ شَرِيكًا فِي كَوْنِهِ قَدِيمًا أَزَلِيًّا فَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا قَدِيمَ إِلَّا هُوَ، وَبِهَذَا الْبَيَانِ ظَهَرَ أَنَّ الْفَائِدَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنْ قَوْلِهِ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: 18] فِي أَوَّلِ السُّورَةِ غَيْرُ الْفَائِدَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ ذكر هذه الكلمة هاهنا، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ هُنَاكَ إِبْطَالُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْأَصْنَامَ تَشْفَعُ لِلْكُفَّارِ فِي دَفْعِ الْعِقَابِ عنهم، والمقصود/ هاهنا إبطال قول من يقول: الأجسام قديمة، والسموات وَالْأَرْضُ أَزَلِيَّةٌ، فَنَزَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يُشَارِكَهُ غَيْرُهُ فِي الْأَزَلِيَّةِ وَالْقِدَمِ وَاللَّهُ أعلم. [سورة النحل (16) : آية 4] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) [في قوله تعالى خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ] اعْلَمْ أَنَّ أَشْرَفَ الْأَجْسَامِ بَعْدَ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ هُوَ الْإِنْسَانُ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الِاسْتِدْلَالَ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْحَكِيمِ بِأَجْرَامِ الْأَفْلَاكِ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ بِالْإِنْسَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ بَدَنٍ وَنَفْسٍ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ إِشَارَةٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِبَدَنِهِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ، وَقَوْلُهُ: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ إِشَارَةٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِ نَفْسِهِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ. أَمَّا الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: فَتَقْرِيرُهُ أَنْ نَقُولَ: لَا شَكَّ أَنَّ النُّطْفَةَ جِسْمٌ مُتَشَابِهُ الْأَجْزَاءِ بِحَسَبِ الْحِسِّ والمشاهدة،

إِلَّا أَنَّ مِنَ الْأَطِبَّاءِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ مُخْتَلِفُ الْأَجْزَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ فَضْلَةِ الْهَضْمِ الرَّابِعِ، فَإِنَّ الْغِذَاءَ يَحْصُلُ لَهُ فِي الْمَعِدَةِ هَضْمٌ أَوَّلٌ وَفِي الْكَبِدِ هَضْمٌ ثَانٍ. وَفِي الْعُرُوقِ هَضْمٌ ثَالِثٌ. وَعِنْدَ وُصُولِهِ إِلَى جَوَاهِرِ الْأَعْضَاءِ هَضْمٌ رَابِعٌ. فَفِي هَذَا الْوَقْتِ وَصَلَ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْغِذَاءِ إِلَى الْعَظْمِ وَظَهَرَ فِيهِ أَثَرٌ مِنَ الطَّبِيعَةِ العظيمة، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي اللَّحْمِ وَالْعَصَبِ وَالْعُرُوقِ وَغَيْرِهَا ثُمَّ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْحَرَارَةِ عَلَى الْبَدَنِ عِنْدَ هَيَجَانِ الشَّهْوَةِ يَحْصُلُ ذَوَبَانٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْضَاءِ، وَذَلِكَ هُوَ النُّطْفَةُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ النُّطْفَةُ جِسْمًا مُخْتَلِفَ الْأَجْزَاءِ وَالطَّبَائِعِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: النُّطْفَةُ فِي نَفْسِهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ جِسْمًا مُتَشَابِهَ الْأَجْزَاءِ فِي الطَّبِيعَةِ وَالْمَاهِيَّةِ، أَوْ مُخْتَلِفَ الْأَجْزَاءِ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ هُوَ الْأَوَّلَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضِيَ لِتَوَلُّدِ الْبَدَنِ مِنْهَا هُوَ الطَّبِيعَةُ الْحَاصِلَةُ فِي جَوْهَرِ النُّطْفَةِ وَدَمِ الطَّمْثِ، لِأَنَّ الطَّبِيعَةَ تَأْثِيرُهَا بِالذَّاتِ وَالْإِيجَابِ لَا بِالتَّدْبِيرِ وَالِاخْتِيَارِ. وَالْقُوَّةُ الطَّبِيعِيَّةُ إِذَا عَمِلَتْ فِي مَادَّةٍ مُتَشَابِهَةِ الْأَجْزَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهَا هُوَ الْكُرَةُ، وَعَلَى هَذَا الْحَرْفِ عَوَّلُوا فِي قَوْلِهِمُ الْبَسَائِطُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَشْكَالُهَا الطَّبِيعِيَّةُ فِي الْكُرَةِ فَلَوْ كَانَ الْمُقْتَضِي لِتَوَلُّدِ الْحَيَوَانِ مِنَ النُّطْفَةِ هُوَ الطَّبِيعَةُ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَكْلُهَا الْكُرَةَ. وَحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، عَلِمْنَا أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِحُدُوثِ الْأَبْدَانِ الْحَيَوَانِيَّةِ لَيْسَ هُوَ الطَّبِيعَةُ، بَلْ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ، وَهُوَ يَخْلُقُ بِالْحِكْمَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالِاخْتِيَارِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: النُّطْفَةُ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الطَّبِيعَةِ وَالْمَاهِيَّةِ فَنَقُولُ: بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَوَلُّدُ الْبَدَنِ مِنْهَا بِتَدْبِيرِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ حَكِيمٍ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّ النُّطْفَةَ رُطُوبَةٌ سَرِيعَةُ الِاسْتِحَالَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْأَجْزَاءُ الْمَوْجُودَةُ فِيهَا لَا تَحْفَظُ الْوَضْعَ وَالنِّسْبَةَ، فَالْجُزْءُ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ الدِّمَاغِ يُمْكِنُ حُصُولُهُ فِي الْأَسْفَلِ، وَالْجُزْءُ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ الْقَلْبِ قَدْ يَحْصُلُ فِي الْفَوْقِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ أَعْضَاءُ الْحَيَوَانِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الْمُعَيَّنِ أَمْرًا دَائِمًا وَلَا أَكْثَرِيًّا، وَحَيْثُ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، عَلِمْنَا أَنَّ حُدُوثَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الْخَاصِّ لَيْسَ إِلَّا بِتَدْبِيرِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ الْحَكِيمِ. وَالوجه الثَّانِي: أَنَّ النُّطْفَةَ بِتَقْدِيرِ أَنَّهَا جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةِ الطَّبَائِعِ، إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَنْتَهِيَ تَحْلِيلُ تَرْكِيبِهَا إِلَى أَجْزَاءٍ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي نَفْسِهِ جِسْمًا بَسِيطًا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ الْمُدَبِّرُ لَهَا قُوَّةً طَبِيعِيَّةً لَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْبَسَائِطِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَكْلُهُ هُوَ الْكُرَةُ فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْحَيَوَانُ عَلَى شَكْلِ كُرَاتٍ مَضْمُومَةٍ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، عَلِمْنَا أَنَّ مُدَبِّرَ أَبْدَانِ الْحَيَوَانَاتِ لَيْسَ هِيَ الطَّبَائِعُ وَلَا تَأْثِيرَاتُ الْأَنْجُمِ وَالْأَفْلَاكِ، لِأَنَّ تِلْكَ التَّأْثِيرَاتِ مُتَشَابِهَةٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ مُدَبِّرَ أَبْدَانِ الْحَيَوَانَاتِ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ حَكِيمٌ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، هَذَا هُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِأَبْدَانِ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْمُخْتَارِ. وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ الْحَكِيمِ بِأَحْوَالِ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: فِي بَيَانِ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ وَتَقْرِيرِهِ: أَنَّ النُّفُوسَ الْإِنْسَانِيَّةَ فِي أَوَّلِ الْفِطْرَةِ أَقَلُّ فَهْمًا وَذَكَاءً وَفِطْنَةً مِنْ نُفُوسِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ وَلَدَ الدَّجَاجَةِ كَمَا يَخْرُجُ مِنْ قِشْرِ الْبَيْضَةِ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْعَدُوِّ وَالصَّدِيقِ فَيَهْرَبُ مِنَ الْهِرَّةِ وَيَلْتَجِئُ إِلَى الْأُمِّ، وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْغِذَاءِ الَّذِي يُوَافِقُهُ وَالْغِذَاءِ الَّذِي لَا يُوَافِقُهُ وَأَمَّا وَلَدُ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ حَالَ انْفِصَالِهِ عَنْ بَطْنِ الْأُمِّ، لَا يُمَيِّزُ أَلْبَتَّةَ بَيْنَ الْعَدُوِّ وَالصَّدِيقِ وَلَا بَيْنَ الضَّارِّ وَالنَّافِعِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي أَوَّلِ

[سورة النحل (16) : الآيات 5 إلى 7]

الْحُدُوثِ أَنْقَصُ حَالًا وَأَقَلُّ فِطْنَةً مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ كِبَرِهِ يَقْوَى عَقْلُهُ وَيَعْظُمُ فَهْمُهُ وَيَصِيرُ بِحَيْثُ يَقْوَى عَلَى مساحة السموات وَالْأَرْضِ وَيَقْوَى عَلَى مَعْرِفَةِ ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَعَلَى مَعْرِفَةِ أَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ وَالْفَلَكِيَّاتِ وَالْعُنْصُرِيَّاتِ وَيَقْوَى عَلَى إِيرَادِ الشُّبُهَاتِ الْقَوِيَّةِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْخُصُومَاتِ الشَّدِيدَةِ فِي كُلِّ الْمَطَالِبِ فَانْتِقَالُ نَفْسِ الْإِنْسَانِ مِنْ تِلْكَ البلاد الْمُفْرِطَةِ إِلَى هَذِهِ الْكَيَاسَةِ الْمُفْرِطَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ/ بِتَدْبِيرِ إِلَهٍ مُخْتَارٍ حَكِيمٍ يَنْقُلُ الْأَرْوَاحَ مِنْ نُقْصَانِهَا إِلَى كَمَالَاتِهَا وَمِنْ جَهَالَاتِهَا إِلَى مَعَارِفِهَا بِحَسَبِ الْحِكْمَةِ وَالِاخْتِيَارِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الدَّقِيقَةَ أَمْكَنَكَ التَّنْبِيهُ لِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: المسألة الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَخْلُقُ الْإِنْسَانَ مِنَ النُّطْفَةِ بِوَاسِطَةِ تَغَيُّرَاتٍ كَثِيرَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 12، 13] إِلَّا أَنَّهُ تعالى اختصر هاهنا لِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِقْصَاءَ مَذْكُورٌ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ فِيهِ بَحْثَانِ: البحث الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْخَصِيمُ بِمَعْنَى الْمُخَاصِمِ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: خَصِيمُكَ الَّذِي يُخَاصِمُكَ وَفَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ مَعْرُوفٌ كَالنَّسِيبِ بِمَعْنَى الْمُنَاسِبِ، وَالْعَشِيرِ بِمَعْنَى الْمُعَاشِرِ، وَالْأَكِيلِ وَالشَرِيبِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَصِيمٌ فَاعِلًا مِنْ خَصَمَ يَخْصِمُ بِمَعْنَى اخْتَصَمَ، وَمِنْهُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ: تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ [يس: 49] . البحث الثَّانِي: لِقَوْلِهِ: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فَإِذَا هُوَ مُنْطَبِقٌ مُجَادِلٌ عَنْ نَفْسِهِ، مُنَازِعٌ لِلْخُصُومِ بَعْدَ أَنْ كَانَ نُطْفَةً قَذِرَةً، وَجَمَادًا لَا حِسَّ لَهُ وَلَا حَرَكَةَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ الْخَسِيسَةِ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ حَكِيمٍ عَلِيمٍ. وَالثَّانِي: فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ لِرَبِّهِ، مُنْكِرٌ عَلَى خالقه، قائل: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 78] وَالْغَرَضُ مِنْهُ وَصْفُ الْإِنْسَانِ بِالْإِفْرَاطِ فِي الْوَقَاحَةِ وَالْجَهْلِ، وَالتَّمَادِي فِي كُفْرَانِ النِّعْمَةِ، وَالوجه الْأَوَّلُ أَوْفَقُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مَذْكُورَةٌ لِتَقْرِيرِ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ، لَا لِتَقْرِيرِ وَقَاحَةِ النَّاسِ وَتَمَادِيهِمْ في الكفر والكفران. [سورة النحل (16) : الآيات 5 الى 7] وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ أَشْرَفَ الْأَجْسَامِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ بَعْدَ الْإِنْسَانِ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْقُوَى الشَّرِيفَةِ. وَهِيَ الْحَوَاسُّ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ، وَالشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ، ثُمَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ قِسْمَانِ: مِنْهَا مَا يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ بِهَا، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَشْرَفُ مِنَ الثَّانِي، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ أَشْرَفَ الْحَيَوَانَاتِ وَجَبَ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ يَكُونُ انْتِفَاعُ الْإِنْسَانِ بِهِ أَكْمَلَ. وَأَكْثَرَ أَنْ يَكُونَ أَكْمَلَ وَأَشْرَفَ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ نَقُولُ: وَالْحَيَوَانُ الَّذِي يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ بِهِ إِمَّا أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فِي ضَرُورِيَّاتِ مَعِيشَتِهِ مِثْلَ الْأَكْلِ وَاللِّبْسِ أَوْ لَا يَكُونُ

كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي أُمُورٍ غَيْرِ ضَرُورِيَّةٍ مِثْلَ الزِّينَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَشْرَفُ مِنَ الثَّانِي، وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْأَنْعَامُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ بَدَأَ اللَّهُ بِذِكْرِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَنْعَامَ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ وَهِيَ: الضَّأْنُ، وَالْمَعْزُ. وَالْإِبِلُ. وَالْبَقَرُ، وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا: الْأَنْعَامُ ثَلَاثَةٌ: الْإِبِلُ. وَالْبَقَرُ. وَالْغَنَمُ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى الْإِبِلِ. وَقَوْلُهُ: وَالْأَنْعامَ مَنْصُوبَةٌ وَانْتِصَابُهَا بِمُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس: 39] وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى الْإِنْسَانِ. أَيْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَالْأَنْعَامَ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ: لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ تَمَامُ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: لَكُمْ ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ: فِيها دِفْءٌ قَالَ صَاحِبُ «النَّظْمِ» : أَحْسَنُ الِوَجْهَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: خَلَقَها وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ وَالتَّقْدِيرُ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ. المسألة الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْأَنْعَامَ لِلْمُكَلَّفِينَ أَتْبَعَهُ بِتَعْدِيدِ تِلْكَ الْمَنَافِعِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَنَافِعَ النَّعَمِ مِنْهَا ضَرُورِيَّةٌ، وَمِنْهَا غَيْرُ ضَرُورِيَّةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بِذِكْرِ الْمَنَافِعِ الضَّرُورِيَّةِ. فَالْمَنْفَعَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَقَدْ ذكر هذه الْمَعْنَى فِي آيَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها [النَّحْلِ: 80] وَالدِّفْءُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ مَا يُسْتَدْفَأُ بِهِ مِنَ الْأَكْسِيَةِ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَيَكُونُ الدِّفْءُ السُّخُونَةَ. يُقَالُ: أَقْعُدُ فِي دِفْءِ هَذَا الْحَائِطِ، أَيْ فِي كِنِّهِ. وَقُرِئَ: دِفٌ بِطَرْحِ الْهَمْزَةِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى الْفَاءِ. وَالْمَنْفَعَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَمَنافِعُ قَالُوا: الْمُرَادُ نَسْلُهَا وَدَرُّهَا، وَإِنَّمَا عَبَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نَسْلِهَا وَدَرِّهَا بِلَفْظِ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْوَصْفِ الْأَعَمِّ، لِأَنَّ النَّسْلَ وَالدَّرَّ قَدْ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْأَكْلِ وَقَدْ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْبَيْعِ بِالنُّقُودِ، وَقَدْ يُنْتَفَعُ بِهِ بِأَنْ يُبَدَّلَ بِالثِّيَابِ وَسَائِرِ الضَّرُورِيَّاتِ فَعَبَّرَ عَنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِلَفْظِ الْمَنَافِعِ لِيَتَنَاوَلَ الْكُلَّ. وَالْمَنْفَعَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَمِنْها تَأْكُلُونَ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: وَمِنْها تَأْكُلُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَدْ يُؤْكَلُ مِنْ غَيْرِهَا، وَأَيْضًا مَنْفَعَةُ الْأَكْلِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَنْفَعَةِ اللُّبْسِ، فَلِمَ أَخَرَّ مَنْفَعَتَهُ فِي الذِّكْرِ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْأَكْلَ مِنْهَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يَعْتَمِدُهُ النَّاسُ فِي مَعَايِشِهِمْ، وَأَمَّا الْأَكْلُ مِنْ غَيْرِهَا كَالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ وَصَيْدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَيُشْبِهُ غَيْرَ الْمُعْتَادِ. وَكَالْجَارِي مَجْرَى التَّفَكُّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنَّ غَالِبَ أَطْعِمَتِكُمْ مِنْهَا لِأَنَّكُمْ تَحْرُثُونَ بِالْبَقْرِ وَالْحَبُّ وَالثِّمَارُ الَّتِي تَأْكُلُونَهَا مِنْهَا، وَأَيْضًا تَكْتَسِبُونَ بِإِكْرَاءِ الْإِبِلِ وَتَنْتَفِعُونَ بِأَلْبَانِهَا وَنَتَاجِهَا وَجُلُودِهَا، وَتَشْتَرُونَ بِهَا جَمِيعَ أَطْعِمَتِكُمْ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: أَنَّ الْمَلْبُوسَ أَكْثَرُ بَقَاءً مِنَ الْمَطْعُومِ، فَلِهَذَا قَدَّمَهُ عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَنَافِعَ الثَّلَاثَةَ هِيَ الْمَنَافِعُ الضَّرُورِيَّةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الْأَنْعَامِ. وَأَمَّا الْمَنَافِعُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الْأَنْعَامِ الَّتِي هِيَ لَيْسَتْ بِضَرُورِيَّةٍ فَأُمُورٌ: الْمَنْفَعَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ الْإِرَاحَةُ رَدُّ الإبل بالعشي

[سورة النحل (16) : آية 8]

إِلَى مَرَاحِهَا حَيْثُ تَأْوِي إِلَيْهِ لَيْلًا، وَيُقَالُ: سَرَّحَ الْقَوْمُ إِبِلَهُمْ سَرْحًا إِذَا أَخْرَجُوهَا بِالْغَدَاةِ إِلَى الْمَرْعَى. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: هَذِهِ الْإِرَاحَةُ أَكْثَرُ مَا تَكُونُ أَيَّامَ الرَّبِيعِ إِذَا سَقَطَ الْغَيْثُ وَكَثُرَ الْكَلَأُ وَخَرَجَتِ الْعَرَبُ لِلنُّجْعَةِ، وَأَحْسَنُ مَا يَكُونُ النَّعَمُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ التَّجَمُّلِ بِهَا أَنَّ الرَّاعِيَ إِذَا رَوَّحَهَا بِالْعَشِيِّ وَسَرَّحَهَا بِالْغَدَاةِ تَزَيَّنَتْ عِنْدَ تِلْكَ الْإِرَاحَةِ وَالتَّسْرِيحِ الْأَفْنِيَةُ، وَتَجَاوَبَ فِيهَا الثُّغَاءُ وَالرُّغَاءُ، وَفَرِحَتْ أَرْبَابُهَا وَعَظُمَ وَقْعُهُمْ عِنْدَ النَّاسِ بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ مَالِكِينَ لَهَا. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قُدِّمَتِ الْإِرَاحَةُ عَلَى التَّسْرِيحِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْجَمَالَ فِي الْإِرَاحَةِ أَكْثَرُ. لِأَنَّهَا تُقْبِلُ مَلْأَى الْبُطُونِ حَافِلَةَ الضُّرُوعِ، ثُمَّ اجْتَمَعَتْ فِي الْحَظَائِرِ حَاضِرَةً لِأَهْلِهَا بِخِلَافِ التَّسْرِيحِ، فَإِنَّهَا عِنْدَ خُرُوجِهَا إِلَى الْمَرْعَى تَخْرُجُ جَائِعَةً عَادِمَةَ اللَّبَنِ ثُمَّ تَأْخُذُ فِي التَّفَرُّقِ وَالِانْتِشَارِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْجَمَالَ فِي الْإِرَاحَةِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي التَّسْرِيحِ. وَالْمَنْفَعَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: الْأَثْقَالُ جَمْعُ ثَقَلٍ وَهُوَ مَتَاعُ الْمُسَافِرِ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ. أَوْ إِلَى الْيَمَنِ. أَوْ إِلَى الشَّامِ. أَوْ إِلَى مِصْرَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ كُلُّ بَلَدٍ لَوْ تَكَلَّفْتُمْ بُلُوغَهُ عَلَى غَيْرِ إِبِلٍ لَشَقَّ عَلَيْكُمْ وَخَصَّ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْبِلَادَ، لَأَنَّ/ مَتَاجِرَ أَهْلِ مَكَّةَ كَانَتْ إِلَى هَذِهِ الْبِلَادِ، وَقُرِئَ: بِشِقِّ الْأَنْفُسِ بِكَسْرِ الشِّينِ وَفَتْحِهَا، وَأَكْثَرُ الْقُرَّاءِ عَلَى كَسْرِ الشِّينِ. وَالشِّقُّ الْمَشَقَّةُ وَالشَّقُّ نِصْفُ الشيء، وحمل اللفظ هاهنا عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ جَائِزٌ، فَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى المشقة كان المعنى: لم تكونوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِالْمَشَقَّةِ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى نِصْفِ الشيء كان المعنى: لم تكونوا بَالِغِيهِ إِلَّا عِنْدَ ذَهَابِ النِّصْفِ مِنْ قُوَّتِكُمْ أَوْ مِنْ بَدَنِكُمْ وَيَرْجِعُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إِلَى الْمَشَقَّةِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها الْإِبِلُ فَقَطْ بِدَلِيلِ أَنَّهُ وَصَفَهَا فِي آخِرِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْإِبِلِ. قُلْنَا: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَعْدِيدُ مَنَافِعِ الْأَنْعَامِ فَبَعْضُ تِلْكَ الْمَنَافِعِ حَاصِلَةٌ فِي الْكُلِّ وَبَعْضُهَا مُخْتَصٌّ بِالْبَعْضِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حَاصِلٌ فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مِثْلَ حُصُولِهِ فِي الْإِبِلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ مُنْكِرُو كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِقَالُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ، وَحَمْلِ الْأَثْقَالِ عَلَى الْجِمَالِ وَمُثْبِتُو الْكَرَامَاتِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَوْلِيَاءَ قَدْ يَنْتَقِلُونَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ بَعِيدٍ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَتَحَمُّلِ مَشَقَّةٍ، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْآيَةِ فَيَكُونُ بَاطِلًا، وَلَمَّا بَطُلَ الْقَوْلُ بِالْكَرَامَاتِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بَطُلَ الْقَوْلُ بِهَا فِي سَائِرِ الصُّوَرِ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّا نُخَصِّصُ عُمُومَ هَذِهِ الْآيَةِ بالأدلة الدالة على وقوع الكرمات. والله أعلم. [سورة النحل (16) : آية 8] وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَنَافِعَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ بِهَا فِي الْمَنَافِعِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْحَاجَاتِ الْأَصْلِيَّةِ، ذَكَرَ بَعْدَهُ مَنَافِعَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا الْإِنْسَانُ فِي الْمَنَافِعِ الَّتِي لَيْسَتْ بِضَرُورِيَّةٍ، فَقَالَ: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ عَطَفَ عَلَى الْأَنْعَامِ، أَيْ وَخَلَقَ الْأَنْعَامَ لِكَذَا وَكَذَا، وَخَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِلرُّكُوبِ. وَقَوْلُهُ: وَزِينَةً أَيْ وَخَلَقَهَا زِينَةً، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تعالى: زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً [فُصِّلَتْ: 12] الْمَعْنَى: وَحَفِظْنَاهَا حِفْظًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: نُصِبَ قَوْلُهُ: وَزِينَةً عَلَى أنه مفعول له. والمعنى: وخالقها لِلزِّينَةِ. المسألة الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِتَحْرِيمِ لُحُومِ الْخَيْلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. فَقَالُوا مَنْفَعَةُ الْأَكْلِ أَعْظَمُ/ مِنْ مَنْفَعَةِ الرُّكُوبِ، فَلَوْ كَانَ أَكْلُ لَحْمِ الْخَيْلِ جَائِزًا لَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى بِالذِّكْرِ، وَحَيْثُ لَمْ يَذْكُرْهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلِمْنَا أَنَّهُ يَحْرُمُ أَكْلُهُ، وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَقْوَى هَذَا الِاسْتِدْلَالُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. فَيُقَالُ: إِنَّهُ تَعَالَى قال في صفة الأنعام: وَمِنْها تَأْكُلُونَ [النحل: 5] وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تُفِيدُ الْحَصْرَ، فَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ الْأَكْلُ مِنْ غَيْرِ الْأَنْعَامِ، فَوَجَبَ أَنْ يحرم مَخْلُوقَةٌ لِلرُّكُوبِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَكْلِ مَخْصُوصَةٌ بِالْأَنْعَامِ وَغَيْرُ حَاصِلَةٍ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَيُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: لِتَرْكَبُوها يَقْتَضِي أَنَّ تَمَامَ الْمَقْصُودِ مِنْ خَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ هُوَ الرُّكُوبُ وَالزِّينَةُ، وَلَوْ حَلَّ أَكْلُهَا لَمَا كَانَ تَمَامُ الْمَقْصُودِ مِنْ خَلْقِهَا هُوَ الرُّكُوبُ، بَلْ كَانَ حِلُّ أَكْلِهَا أَيْضًا مَقْصُودًا، وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ جَوَازُ رُكُوبِهَا عَنْ أَنْ يَكُونَ تَمَامَ الْمَقْصُودِ، بَلْ يَصِيرُ بَعْضَ الْمَقْصُودِ. وَأَجَابَ الْوَاحِدِيُّ بِجَوَابٍ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فَقَالَ: لَوْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ لَكَانَ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا مَعْلُومًا فِي مَكَّةَ لِأَجْلِ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ قَوْلُ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُحَدِّثِينَ أَنَّ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ حُرِّمَتْ عَامَ خَيْبَرَ بَاطِلًا، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَمَّا كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ لَمْ يَبْقَ لِتَخْصِيصِ هَذَا التَّحْرِيمِ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ فَائِدَةٌ، وَهَذَا جَوَابٌ حَسَنٌ مَتِينٌ. المسألة الثَّالِثَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى مُعَلَّلَةٌ بِالْمَصَالِحِ وَالحكم، احْتَجُّوا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ مَخْلُوقَةٌ لِأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ الْفُلَانِيَّةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [إِبْرَاهِيمَ: 1] وَقَوْلُهُ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] وَالْكَلَامُ فِيهِ مَعْلُومٌ. المسألة الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَمَّا كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَلِيَجْعَلَهَا زِينَةً لَكُمْ فَلِمَ تَرَكَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ؟ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ لَصَارَ الْمَعْنَى أَنَّ التَّزَيُّنَ بِهَا أَحَدُ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْمَقْصُودِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ التَّزَيُّنَ بِالشَّيْءِ يُورِثُ الْعُجْبَ وَالتِّيهَ وَالتَّكَبُّرَ، وَهَذِهِ أَخْلَاقٌ مَذْمُومَةٌ وَاللَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْهَا وَزَجَرَ عَنْهَا فَكَيْفَ يَقُولُ إِنِّي خَلَقْتُ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ لِتَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَعَانِي بَلْ قَالَ: خَلَقَهَا لِتَرْكَبُوهَا فَتَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ بِوَاسِطَتِهَا ضَرَرَ الْإِعْيَاءِ وَالْمَشَقَّةِ، وَأَمَّا التَّزَيُّنُ بِهَا فَهُوَ حَاصِلٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، ولكنه غير

[سورة النحل (16) : آية 9]

مَقْصُودٍ بِالذَّاتِ، فَهَذَا هُوَ الْفَائِدَةُ فِي اخْتِيَارِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ. أَوِ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَوَّلًا: أَحْوَالَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ بِهَا انْتِفَاعًا ضَرُورِيًّا/ وَثَانِيًا: أَحْوَالَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ بِهَا انْتِفَاعًا غَيْرَ ضَرُورِيٍّ بَقِيَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي لَا يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ بِهَا فِي الْغَالِبِ فَذَكَرَهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فَقَالَ: وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَنْوَاعَهَا وَأَصْنَافَهَا وَأَقْسَامَهَا كَثِيرَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْحَدِّ وَالْإِحْصَاءِ وَلَوْ خَاضَ الْإِنْسَانُ فِي شَرْحِ عَجَائِبِ أَحْوَالِهَا لَكَانَ الْمَذْكُورُ بَعْدَ كَتْبَةِ الْمُجَلَّدَاتِ الْكَثِيرَةِ كَالْقَطْرَةِ فِي الْبَحْرِ فَكَانَ أَحْسَنُ الْأَحْوَالِ ذِكْرَهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَرَوَى عَطَاءٌ وَمُقَاتِلٌ وَالضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ عَلَى يَمِينِ الْعَرْشِ نَهْرًا مِنْ نور مثل السموات السَّبْعِ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعِ، وَالْبِحَارِ السَّبْعَةِ يَدْخُلُ فِيهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كُلَّ سَحَرٍ وَيَغْتَسِلُ فَيَزْدَادُ نُورًا إِلَى نُورِهِ وَجَمَالًا إِلَى جَمَالِهِ، ثُمَّ يَنْتَفِضُ فَيَخْلُقُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ نُقْطَةٍ تَقَعُ مِنْ رِيشِهِ كَذَا وَكَذَا أَلْفَ مَلَكٍ يَدْخُلُ مِنْهُمْ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ، وَفِي الْكَعْبَةِ أَيْضًا سَبْعُونَ أَلْفًا، ثُمَّ لَا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة. [سورة النحل (16) : آية 9] وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ قَالَ: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أَيْ إِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذِهِ الدَّلَائِلَ وَشَرَحْتُهَا إِزَاحَةً لِلْعُذْرِ وَإِزَالَةً لِلْعِلَّةِ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةِ. وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْقَصْدُ اسْتِقَامَةُ الطَّرِيقِ يُقَالُ: طَرِيقٌ قَصْدٌ وَقَاصِدٌ إِذَا أَدَّاكَ إِلَى مَطْلُوبِكَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَفِي الْآيَةِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَعَلَى اللَّهِ بَيَانُ قَصْدِ السَّبِيلِ، ثم قال: وَمِنْها جائِرٌ أَيْ عَادِلٌ مَائِلٌ وَمَعْنَى الْجَوْرِ فِي اللُّغَةِ الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ وَالْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْها جائِرٌ تَعُودُ عَلَى السَّبِيلِ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ يَعْنِي وَمِنَ السَّبِيلِ مَا هُوَ جَائِرٌ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْحَقِّ وَهُوَ أَنْوَاعُ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْإِرْشَادُ وَالْهِدَايَةُ إِلَى الدِّينِ وَإِزَاحَةُ الْعِلَلِ وَالْأَعْذَارِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَكَلِمَةُ «عَلَى» لِلْوُجُوبِ قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آلِ عِمْرَانَ: 97] وَدَلَّتِ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُضِلُّ أَحَدًا وَلَا يُغْوِيهِ وَلَا يَصُدُّهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ فَاعِلًا لِلضَّلَالِ لَقَالَ: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَعَلَيْهِ جَائِرُهَا أَوْ قَالَ: وَعَلَيْهِ الْجَائِرُ فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ كَذَلِكَ بَلْ قَالَ فِي قَصْدِ السَّبِيلِ أَنَّهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقُلْ فِي جَوْرِ السَّبِيلِ أَنَّهُ عَلَيْهِ بَلْ قَالَ/ وَمِنْها جائِرٌ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُضِلُّ عَنِ الدِّينِ أَحَدًا. أَجَابَ أَصْحَابُنَا أَنَّ الْمُرَادَ عَلَى اللَّهِ بِحَسَبِ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ أَنْ يُبَيِّنَ الدِّينَ الْحَقَّ وَالْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ فَأَمَّا أَنْ يُبَيِّنَ كَيْفِيَّةَ الْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ فَذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ هِدَايَةَ الْكُفَّارِ، وَمَا أَرَادَ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ، لِأَنَّ كَلِمَةَ (لَوْ) تُفِيدُ انْتِفَاءَ شَيْءٍ لِانْتِفَاءِ شَيْءٍ غَيْرِهِ قَوْلُهُ، وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ مَعْنَاهُ: لَوْ شَاءَ هِدَايَتَكُمْ لَهَدَاكُمْ، وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ هِدَايَتَهُمْ فَلَا جَرَمَ مَا هَدَاهُمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ. وَأَجَابَ الْأَصَمُّ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ لَوْ شَاءَ أَنْ يُلْجِئَكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ لَهَدَاكُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَشِيئَةَ الْإِلْجَاءِ لَمْ تحصل.

[سورة النحل (16) : الآيات 10 إلى 11]

وَأَجَابَ الْجُبَّائِيُّ بِأَنَّ الْمَعْنَى: وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَإِلَى نَيْلِ الثَّوَابِ لَكِنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا بِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْهُدَى إِلَى الْإِيمَانِ، لِأَنَّهُ مَقْدُورُ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ. وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ الْمُرَادُ: وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ ابْتِدَاءً عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى عَرَّفَكُمْ لِلْمَنْزِلَةِ الْعَظِيمَةِ بِمَا نَصَبَ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَبَيَّنَ، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهَا فَازَ بِتِلْكَ الْمَنَازِلِ وَمَنْ عَدَلَ عَنْهَا فَاتَتْهُ وَصَارَ إِلَى الْعَذَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ قَدْ ذَكَرْنَاهَا مِرَارًا وَأَطْوَارًا مَعَ الجواب فلا فائدة في الإعادة. [سورة النحل (16) : الآيات 10 الى 11] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) [في قَوْلُهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ] اعْلَمْ أَنَّ أَشْرَفَ أَجْسَامِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ بَعْدَ الْحَيَوَانِ النَّبَاتُ، فَلَمَّا قَرَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الِاسْتِدْلَالَ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ بِعَجَائِبَ أَحْوَالِ الْحَيَوَانَاتِ، أَتْبَعَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِذِكْرِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ بِعَجَائِبَ أَحْوَالِ النَّبَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَاءَ الْمُنَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ هُوَ الْمَطَرُ، وَأَمَّا أَنَّ الْمَطَرَ نَازِلٌ مِنَ السَّحَابِ أَوْ مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا، وَالْحَاصِلُ: أَنَّ مَاءَ الْمَطَرِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى شَرَابًا لَنَا وَلِكُلِّ حَيٍّ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ جَلِيلَةٌ فَقَالَ: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الْأَنْبِيَاءِ: 30] . فَإِنْ قِيلَ: أَفَتَقُولُونَ إِنَّ شُرْبَ الْخَلْقِ لَيْسَ إِلَّا مِنَ الْمَطَرِ، أَوْ تَقُولُونَ قَدْ يَكُونُ مِنْهُ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْمَاءُ الْمَوْجُودُ فِي قَعْرِ الْأَرْضِ؟ أَجَابَ الْقَاضِي: بِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْمَطَرَ شَرَابُنَا وَلَمْ يَنْفِ أَنْ نَشْرَبَ مِنْ غَيْرِهِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ يُفِيدُ الْحَصْرَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الْعَذْبُ تَحْتَ الْأَرْضِ مِنْ جُمْلَةِ مَاءِ الْمَطَرِ يَسْكُنُ هُنَاكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [الْمُؤْمِنُونَ: 18] وَلَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا فِي غَيْرِ الْعَذْبِ وَهُوَ الْبَحْرُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ مَاءِ الْمَطَرِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْمِيَاهِ النَّازِلَةِ مِنَ السَّمَاءِ مَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ سَبَبًا لِتَكْوِينِ النَّبَاتِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَفِيهِ مَبَاحِثُ: البحث الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ إِسَامَةَ الشَّجَرِ مُمْكِنَةٌ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ المراد من الشجر الكلأ والعشب، وهاهنا قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَا ثَبَتَ عَلَى الْأَرْضِ فَهُوَ شَجَرٌ وَأَنْشَدَ:

يُطْعِمُهَا اللَّحْمَ إِذَا عَزَّ الشَّجَرُ يَعْنِي أَنَّهُمْ يَسْقُونَ الْخَيْلَ اللَّبَنَ إِذَا أَجْدَبَتِ الْأَرْضُ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُرَادُ مِنَ الشَّجَرِ الْكَلَأُ، وَفِي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ لَا تَأْكُلُوا ثَمَنَ الشَّجَرِ فَإِنَّهُ سُحْتٌ يَعْنِي الْكَلَأَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرَّحْمَنِ: 6] وَالْمُرَادُ مِنَ النَّجْمِ مَا يَنْجُمُ مِنَ الْأَرْضِ مِمَّا لَيْسَ لَهُ سَاقٌ، وَمِنَ الشَّجَرِ مَا لَهُ سَاقٌ، هَكَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمَّا عَطَفَ الشَّجَرَ عَلَى النَّجْمِ دَلَّ عَلَى التَّغَايُرِ بَيْنَهُمَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ عَطْفَ الْجِنْسِ عَلَى النوع وَبِالضِّدِّ مَشْهُورٌ وَأَيْضًا فَلَفَظُ الشَّجَرِ مُشْعِرٌ بِالِاخْتِلَاطِ، يُقَالُ: تَشَاجَرَ الْقَوْمُ إِذَا اخْتَلَطَ أَصْوَاتُ بَعْضِهِمْ بِالْبَعْضِ وَتَشَاجَرَتِ الرِّمَاحُ إِذَا اخْتَلَطَتْ وَقَالَ تَعَالَى: حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النِّسَاءِ: 65] وَمَعْنَى الِاخْتِلَاطِ حَاصِلٌ فِي الْعُشْبِ وَالْكَلَأِ، فَوَجَبَ جَوَازُ إِطْلَاقِ لَفْظِ الشَّجَرِ عَلَيْهِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِبِلَ تَقْدِرُ عَلَى رَعْيِ وَرَقِ الْأَشْجَارِ الْكِبَارِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. البحث الثَّانِي: قَوْلُهُ: فِيهِ تُسِيمُونَ أَيْ فِي الشَّجَرِ تَرْعُونَ مَوَاشِيَكُمْ يُقَالُ: أَسَمْتُ الْمَاشِيَةَ إِذَا خَلَّيْتُهَا تَرْعَى، وَسَامَتْ هِيَ تَسُومُ سَوْمًا إِذَا رَعَتْ حَيْثُ شَاءَتْ فَهِيَ سَوَامٌ وَسَائِمَةٌ قَالَ الزَّجَّاجُ: أَخَذَ ذَلِكَ مِنَ السَّوْمَةِ وَهِيَ الْعَلَامَةُ. وَتَأْوِيلُهَا أَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي الْأَرْضِ بِرَعْيِهَا عَلَامَاتٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ. لِأَنَّهَا تُعَلَّمُ لِلْإِرْسَالِ فِي الْمَرْعَى، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا اللَّفْظِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ [آلِ عِمْرَانَ: 14] . أما قوله تَعَالَى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ فَفِيهِ مَبَاحِثُ: البحث الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ النَّبَاتَ الَّذِي يُنْبِتُهُ اللَّهُ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: مُعَدٌّ لِرَعْيِ الْأَنْعَامِ وَإِسَامَةِ الْحَيَوَانَاتِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فِيهِ تُسِيمُونَ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ مَخْلُوقًا لِأَكْلِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِذِكْرِ مَا يَكُونُ مَرْعًى لِلْحَيَوَانَاتِ، وَأَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَا يَكُونُ غِذَاءً لِلْإِنْسَانِ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى عَكَسَ هَذَا التَّرْتِيبَ فَبَدَأَ بِذِكْرِ مَأْكُولِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ بِمَا يَرْعَاهُ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ فَقَالَ: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ [طه: 54] فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟ قُلْنَا: أَمَّا التَّرْتِيبُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَيُنَبِّهُ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اهْتِمَامُ الْإِنْسَانِ بِمَنْ يَكُونُ تَحْتَ يَدِهِ أَكْمَلَ مِنَ اهْتِمَامِهِ بِحَالِ نَفْسِهِ، وَأَمَّا التَّرْتِيبُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكِ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» . البحث الثَّانِي: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: نُنْبِتُ بِالنُّونِ عَلَى التَّفْخِيمِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْيَاءُ أَشْبَهُ بِمَا تَقَدَّمَ. البحث الثَّالِثُ: اعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مُحْتَاجًا إِلَى الْغِذَاءِ، وَالْغِذَاءُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَيَوَانِ أَوْ مِنَ

النَّبَاتِ. وَالْغِذَاءُ الْحَيَوَانِيُّ أَشْرَفُ مِنَ الْغِذَاءِ النَّبَاتِيِّ، لِأَنَّ تَوَلُّدَ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ عِنْدَ أَكْلِ أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ أَسْهَلُ مِنْ تَوَلُّدِهَا عِنْدَ أَكْلِ النَّبَاتِ لِأَنَّ الْمُشَابَهَةَ هُنَاكَ أَكْمَلُ وَأَتَمُّ وَالْغِذَاءُ الْحَيَوَانِيُّ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ إِسَامَةِ الْحَيَوَانَاتِ وَالسَّعْيِ فِي تَنْمِيَتِهَا بِوَاسِطَةِ الرَّعْيِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِسَامَةِ، وَأَمَّا الْغِذَاءُ النَّبَاتِيُّ فَقِسْمَانِ: حُبُوبٌ. وَفَوَاكِهٌ، أَمَّا الْحُبُوبُ فَإِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِلَفْظِ الزَّرْعِ وَأَمَّا الْفَوَاكِهُ فَأَشْرَفُهَا الزَّيْتُونُ. وَالنَّخِيلُ. وَالْأَعْنَابُ، أَمَّا الزَّيْتُونُ فَلِأَنَّهُ فَاكِهَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِدَامٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لِكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ الدُّهْنِ وَمَنَافِعُ الْأَدْهَانِ كَثِيرَةٌ فِي الْأَكْلِ وَالطَّلْيِ وَاشْتِعَالِ السُّرُجِ، وَأَمَّا امْتِيَازُ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ مِنْ سَائِرِ الْفَوَاكِهِ، فَظَاهِرٌ مَعْلُومٌ، وَكَمَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يَنْتَفِعُ النَّاسُ بِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، ثم قال فِي صِفَةِ البقية: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل: 8] فكذلك هاهنا لَمَّا ذَكَرَ الْأَنْوَاعَ الْمُنْتَفَعَ بِهَا مِنَ النَّبَاتِ، قَالَ فِي صِفَةِ الْبَقِيَّةَ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تَفْصِيلَ الْقَوْلِ فِي أَجْنَاسِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَصِفَاتِهَا وَمَنَافِعِهَا لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ فِي مُجَلَّدَاتٍ، فَالْأَوْلَى الِاقْتِصَارُ فِيهِ عَلَى الْكَلَامِ الْمُجْمَلِ. ثم قال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وهاهنا بَحْثَانِ: البحث الْأَوَّلُ: فِي شَرْحِ كَوْنِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ آيَاتٍ دَالَّةً عَلَى وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَقُولُ: إِنَّ الْحَبَّةَ الْوَاحِدَةَ تَقَعُ فِي الطِّينِ فَإِذَا مَضَتْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ مَقَادِيرُ مُعَيَّنَةٌ مِنَ الْوَقْتِ نَفَذَتْ فِي دَاخِلِ تِلْكَ الْحَبَّةِ أَجْزَاءٌ مِنْ رُطُوبَةِ الْأَرْضِ وَنَدَاوَتِهَا فَتَنْتَفِخُ الْحَبَّةُ فَيَنْشَقُّ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلُهَا، فَيَخْرُجُ مِنْ أَعْلَى تِلْكَ الْحَبَّةِ شَجَرَةٌ صَاعِدَةٌ مِنْ دَاخِلِ الْأَرْضِ إِلَى الْهَوَاءِ. وَمِنْ أَسْفَلِهَا شَجَرَةٌ أُخْرَى غَائِصَةٌ فِي قَعْرِ الْأَرْضِ وَهَذِهِ الْغَائِصَةُ هِيَ الْمُسَمَّاةُ بِعُرُوقِ الشَّجَرَةِ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الشَّجَرَةَ لَا تَزَالُ تَزْدَادُ وَتَنْمُو وَتَقْوَى، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا الْأَوْرَاقُ وَالْأَزْهَارُ وَالْأَكْمَامُ وَالثِّمَارُ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الثَّمَرَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى أَجْسَامٍ مُخْتَلِفَةِ الطَّبَائِعِ مِثْلَ الْعِنَبِ، فَإِنَّ قِشْرَهُ وَعَجَمَهُ بَارِدَانِ يَابِسَانِ كَثِيفَانِ، وَلَحْمَهُ وَمَاؤَهُ حَارَّانِ رَطْبَانِ لَطِيفَانِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: نِسْبَةُ الطَّبَائِعِ السُّفْلِيَّةِ إِلَى هَذَا الْجِسْمِ مُتَشَابِهَةٌ وَنِسْبَةُ التَّأْثِيرَاتِ الْفَلَكِيَّةِ وَالتَّحْرِيكَاتِ الْكَوْكَبِيَّةِ إِلَى الْكُلِّ مُتَشَابِهَةٌ. وَمَعَ تَشَابُهِ نِسَبِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَرَى هَذِهِ الْأَجْسَامَ مُخْتَلِفَةً فِي الطَّبْعِ وَالطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالرَّائِحَةِ وَالصِّفَةِ، فَدَلَّ صَرِيحُ الْعَقْلِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا لِأَجْلِ فَاعِلٍ قَادِرٍ حَكِيمٍ رَحِيمٍ فَهَذَا تَقْدِيرُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ. البحث الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أنه: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ... يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَنْبَتَهَا وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِنَّمَا حَدَثَتْ وَتَوَلَّدَتْ بِسَبَبِ تَعَاقُبِ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَتَأْثِيرَاتِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ؟ وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا السُّؤَالَ فَمَا لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا يَكُونُ هَذَا الدَّلِيلُ تَامًّا وَافِيًا بِإِفَادَةِ هَذَا الْمَطْلُوبِ، بَلْ يَكُونُ مَقَامُ الْفِكْرِ وَالتَّأَمُّلِ بَاقِيًا، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. تم الجزء التاسع عَشَرَ، وَيَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْجُزْءُ العشرون، وأوله قوله تعالى وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ من سورة النحل. أعان الله على إكماله

الجزء العشرون

الجزء العشرون [تتمة سورة النحل] بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة النحل (16) : الآيات 12 الى 13] وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَجَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنِ السُّؤَالِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ: إِنَّ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ فِي هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ مُسْنَدَةٌ إِلَى الِاتِّصَالَاتِ الْفَلَكِيَّةِ وَالتَّشَكُّلَاتِ الْكَوْكَبِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِحَرَكَاتِهَا وَاتِّصَالَاتِهَا مِنْ أَسْبَابٍ، وَأَسْبَابُ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ إِمَّا ذَوَاتُهَا وَإِمَّا أُمُورٌ مُغَايِرَةٌ لَهَا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ، فَلَوْ كَانَ جِسْمٌ عِلَّةً لِصِفَةٍ لَكَانَ كُلُّ جِسْمٍ وَاجِبَ الِاتِّصَافِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَالثَّانِي: أَنَّ ذَاتَ الْجِسْمِ لَوْ كَانَتْ عِلَّةً لِحُصُولِ هَذَا الْجُزْءِ مِنَ الْحَرَكَةِ لَوَجَبَ دَوَامُ هَذَا الْجُزْءِ مِنَ الْحَرَكَةِ بِدَوَامِ تِلْكَ الذَّاتِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَوَجَبَ بَقَاءُ الْجِسْمِ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ أَصْلًا، وَذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَهُ سَاكِنًا، وَيَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ مُتَحَرِّكًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْجِسْمَ مُتَحَرِّكٌ لِذَاتِهِ يُوجِبُ كَوْنَهُ سَاكِنًا لِذَاتِهِ وَمَا أَفْضَى ثُبُوتُهُ إِلَى عَدَمِهِ كَانَ بَاطِلًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْجِسْمَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّكًا لِكَوْنِهِ جِسْمًا، فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّكًا لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَارِيًا فِيهِ أَوْ مُبَايِنًا عَنْهُ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ البحث الْمَذْكُورَ عَائِدٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْجِسْمَ بعينه لم اخْتُصَّ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ بِعَيْنِهَا دُونَ سَائِرِ الْأَجْسَامِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُحَرِّكَ أَجْسَامِ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ أُمُورٌ مُبَايِنَةٌ عَنْهَا، وَذَلِكَ الْمُبَايِنُ إِنْ كَانَ جِسْمًا أَوْ جُسْمَانِيًّا عَادَ التَّقَسُّمُ/ الْأَوَّلُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِسْمًا وَلَا جُسْمَانِيًّا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا بِالذَّاتِ أَوْ فَاعِلًا مُخْتَارًا وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ نِسْبَةَ ذَلِكَ الْمُوجِبِ بِالذَّاتِ إِلَى جَمِيعِ الْأَجْسَامِ عَلَى السَّوِيَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ بَعْضُ الْأَجْسَامِ بِقَبُولِ بَعْضِ الْآثَارِ الْمُعَيَّنَةِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّ مُحَرِّكَ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ هُوَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ الْقَادِرُ الْمُنَزَّهُ عَنْ كَوْنِهِ جِسْمًا وَجُسْمَانِيًّا، وَذَلِكَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَالْحَاصِلُ أَنَّا وَلَوْ حَكَمْنَا بِإِسْنَادِ حَوَادِثِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ إِلَى الْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةِ وَالْكَوْكَبِيَّةِ فَهَذِهِ الْحَرَكَاتُ الْكَوْكَبِيَّةُ، وَالْفَلَكِيَّةُ لَا يُمْكِنُ إِسْنَادُهَا إِلَى أَفْلَاكٍ أُخْرَى وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَالِقُ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ وَمُدَبِّرُهَا هُوَ اللَّهَ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَتِ الْحَوَادِثُ السُّفْلِيَّةُ مُسْتَنِدَةً إِلَى الْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةَ حَادِثَةٌ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيرِهِ وَتَكْوِينِهِ، فَكَانَ هَذَا اعْتِرَافًا بِأَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبِإِحْدَاثِهِ وَتَخْلِيقِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يَعْنِي إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْحَوَادِثُ السُّفْلِيَّةُ لِأَجْلِ

تَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَحَرَكَاتِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ حُدُوثُهَا بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَسْخِيرِهِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، وَلَمَّا تَمَّ هَذَا الدَّلِيلُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا جَرَمَ خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ عَاقِلًا عَلِمَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّسَلْسُلِ بَاطِلٌ وَلَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ إِلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ الْقَدِيرِ فَهَذَا تَقْرِيرُ أَحَدِ الْجَوَابَيْنِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ أَنْ نَقُولَ: نَحْنُ نُقِيمُ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ لِأَجْلِ تَأْثِيرِ الطِّبَاعِ وَالْأَفْلَاكِ وَالْأَنْجُمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الطَّبَائِعِ وَالْأَفْلَاكِ وَالْأَنْجُمِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُلِّ وَاحِدٌ، ثُمَّ نَرَى أَنَّهُ إِذَا تَوَلَّدَ الْعِنَبُ كَانَ قِشْرُهُ عَلَى طَبْعٍ وَعَجَمُهُ عَلَى طَبْعٍ وَلَحْمُهُ عَلَى طَبْعٍ ثَالِثٍ وَمَاؤُهُ عَلَى طَبْعٍ رَابِعٍ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّا نَرَى فِي الْوَرْدِ مَا يَكُونُ أَحَدُ وَجْهَيِ الْوَرَقَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهُ فِي غَايَةِ الصُّفْرَةِ، وَالوجه الثَّانِي: مِنْ تِلْكَ الْوَرَقَةِ فِي غَايَةِ الْحُمْرَةِ وَتِلْكَ الْوَرَقَةُ تَكُونُ فِي غَايَةِ الرِّقَّةِ وَاللَّطَافَةِ، وَنَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ نِسْبَةَ الْأَنْجُمِ وَالْأَفْلَاكِ إِلَى وَجْهَيْ تِلْكَ الْوَرَقَةِ الرَّقِيقَةِ، نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالطَّبِيعَةُ الْوَاحِدَةُ فِي الْمَادَّةِ الْوَاحِدَةِ لَا تَفْعَلُ إِلَّا فِعْلًا وَاحِدًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا: شَكْلُ الْبَسِيطِ هُوَ الْكُرَةُ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الطَّبِيعَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْمَادَّةِ الْوَاحِدَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَشَابِهًا، وَالشَّكْلُ الَّذِي يَتَشَابَهُ جَمِيعُ جَوَانِبُهُ هُوَ الْكُرَةُ، وَأَيْضًا إِذَا وَضَعْنَا الشَّمْعَ فَإِذَا اسْتَضَاءَ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ مِنْ ذَلِكَ الشَّمْعِ مِنْ أَحَدِ الْجَوَانِبِ، وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ مِثْلُ هَذَا الْأَثَرِ فِي جَمِيعِ الْجَوَانِبِ، لِأَنَّ الطَّبِيعَةَ الْمُؤَثِّرَةَ يَجِبُ أَنْ تَتَشَابَهَ نِسْبَتُهَا إِلَى كُلِّ الْجَوَانِبِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَهَرَ أَنَّ نِسْبَةَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْأَنْجُمِ وَالْأَفْلَاكِ وَالطَّبَائِعِ إِلَى وَجْهَيْ/ تِلْكَ الْوَرَقَةِ اللَّطِيفَةِ الرَّقِيقَةِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَثَبَتَ أَنَّ الطَّبِيعَةَ الْمُؤَثِّرَةَ مَتَى كَانَتْ نِسْبَتُهَا وَاحِدَةً كَانَ الْأَثَرُ مُتَشَابِهًا وَثَبَتَ أَنَّ الْأَثَرَ غَيْرُ مُتَشَابِهٍ، لِأَنَّ أَحَدَ جَانِبَيْ تِلْكَ الْوَرَقَةِ فِي غَايَةِ الصُّفْرَةِ، وَالوجه الثَّانِي فِي غَايَةِ الْحُمْرَةِ فَهَذَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي حُصُولِ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَالْأَلْوَانِ وَالْأَحْوَالِ لَيْسَ هُوَ الطَّبِيعَةَ، بَلِ الْمُؤَثِّرُ فِيهَا هُوَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَدَارُ هَذِهِ الْحُجَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُؤَثِّرَ الْمُوجِبَ بِالذَّاتِ وَبِالطَّبِيعَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نِسْبَتُهُ إِلَى الْكُلِّ نِسْبَةً وَاحِدَةً، فَلَمَّا دَلَّ الْحِسُّ فِي هَذِهِ الْأَجْسَامِ النَّبَاتِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ صِفَاتِهَا وَتَنَافُرِ أَحْوَالِهَا ظَهَرَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِيهَا لَيْسَ وَاجِبًا بِالذَّاتِ بَلْ فَاعِلًا مُخْتَارًا فَهَذَا تَمَامُ تَقْرِيرِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ وَثَبَتَ أَنَّ خَتْمَ الْآيَةِ الْأَوْلَى بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَالْآيَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَالْآيَةِ الثَّالِثَةِ بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ هُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَى هَذِهِ الْفَوَائِدِ النَّفِيسَةِ وَالدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى أَلْطَافِهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا. المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ كُلَّهَا بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ هُوَ قَوْلُهُ: مُسَخَّراتٌ وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: وَالنُّجُومُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَالنُّجُومُ ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا حَمَلَهَا عَلَى هَذَا لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ لَفْظُ التَّسْخِيرِ، إِذِ الْعَرَبُ لَا تَقُولُ سَخَّرْتُ هَذَا الشَّيْءَ مُسَخَّرًا فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى سَخَّرَ لَنَا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ حَالَ كَوْنِهَا مُسَخَّرَةً تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الصَّحِيحُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهُ تَعَالَى سَخَّرَ لِلنَّاسِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَجَعَلَهَا مُوَافِقَةً لِمَصَالِحِهَا حَالَ كَوْنِهَا مُسَخَّرَةً تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِهِ وَإِذْنِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالتَّكْرِيرُ الْخَالِي عَنِ الفائدة غير لازم والله علم. بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:

[سورة النحل (16) : آية 14]

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: التَّسْخِيرُ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَهْرِ وَالْقَسْرِ، وَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ إِلَّا بِمَنْ هُوَ قَادِرٌ يَجُوزُ أَنْ يَقْهَرَ، فَكَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَفِي الْجَمَادَاتِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا دَبَّرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ مُطَابِقَةٍ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ صَارَتْ شَبِيهَةً بِالْعَبْدِ الْمُنْقَادِ الْمِطْوَاعِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى أَطْلَقَ عَلَى هَذَا النوع مِنَ التَّدْبِيرِ لَفْظَ التَّسْخِيرِ. وَعَنِ الوجه الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: وَهُوَ لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِ عِلْمِ الْهَيْئَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْحَرَكَةُ الطَّبِيعِيَّةُ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ هِيَ الْحَرَكَةُ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ وَاللَّهُ تَعَالَى يُحَرِّكُ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ بِوَاسِطَةِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْحَرَكَةُ قَسْرِيَّةً، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَرَدَ فِيهَا اللَّفْظُ التَّسْخِيرُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: إِذَا كَانَ لَا يَحْصُلُ لِلنَّهَارِ وَاللَّيْلِ وُجُودٌ إِلَّا بِسَبَبِ حَرَكَاتِ الشَّمْسِ كَانَ ذِكْرُ/ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ الشَّمْسِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ حُدُوثَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ لَيْسَ بِسَبَبِ حَرَكَةِ الشَّمْسِ، بَلْ حُدُوثُهُمَا بِسَبَبِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ الَّذِي دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ حَرَكَتَهُ لَيْسَتْ إِلَّا بِتَحْرِيكِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَمَّا حَرَكَةُ الشَّمْسِ فَإِنَّهَا عِلَّةٌ لِحُدُوثِ السَّنَةِ لَا لِحُدُوثِ الْيَوْمِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ وَالْمُؤَثِّرُ فِي التَّسْخِيرِ هُوَ الْقُدْرَةُ لَا الْأَمْرُ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ جَمَادَاتٌ أَمْ لا، وأكثر المسلمين على أَنَّهَا جَمَادَاتٌ، فَلَا جَرَمَ حَمَلُوا الْأَمْرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَلَفْظُ الْأَمْرِ بِمَعْنَى الشَّأْنِ وَالْفِعْلِ كَثِيرٌ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ: 40] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهَا لَيْسَتْ جَمَادَاتٌ فَهَهُنَا يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى الأذن والتكليف والله أعلم. [سورة النحل (16) : آية 14] وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا احْتَجَّ عَلَى إِثْبَاتِ الإله في المرتبة الأولى بأجرام السموات، وَفِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بِبَدَنِ الْإِنْسَانِ وَنَفْسِهِ، وَفِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ بِعَجَائِبِ خِلْقَةِ الْحَيَوَانَاتِ، وَفِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ بِعَجَائِبِ طَبَائِعِ النَّبَاتِ ذَكَرَ فِي الْمَرْتَبَةِ الْخَامِسَةِ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ بِعَجَائِبِ أَحْوَالِ الْعَنَاصِرِ فَبَدَأَ مِنْهَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِعُنْصُرِ الْمَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ عُلَمَاءَ الْهَيْئَةِ قَالُوا: ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ كُرَةِ الْأَرْضِ غَائِصَةٌ فِي الْمَاءِ وَذَاكَ هُوَ الْبَحْرُ الْمُحِيطُ وَهُوَ كُلِّيَّةُ عُنْصُرِ الْمَاءِ وَحَصَلَ فِي هَذَا الرُّبْعِ الْمَسْكُونِ سَبْعَةٌ مِنَ الْبِحَارِ كَمَا قَالَ بَعْدَهُ: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لُقْمَانَ: 27] وَالْبَحْرُ الَّذِي سَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ هُوَ هَذِهِ الْبِحَارُ، وَمَعْنَى تَسْخِيرِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهَا لِلْخَلْقِ جَعْلُهَا بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ النَّاسُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا إِمَّا بِالرُّكُوبِ أَوْ بِالْغَوْصِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنَافِعَ الْبِحَارِ كَثِيرَةٌ وَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ: الْمَنْفَعَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ لَحْمٌ طَرِيٌّ غَيْرَ مَهْمُوزٍ، وَقَدْ طَرُوَ يَطْرُو طَرَاوَةً، وَقَالَ/ الْفَرَّاءُ: طَرَا

يَطْرَا طَرَاءً مَمْدُودًا وَطَرَاوَةً كَمَا يُقَالُ شَقَى يَشْقَى شَقَاءً وَشَقَاوَةً. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي ذِكْرِ الطَّرِيِّ مَزِيدَ فَائِدَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ السَّمَكُ كُلُّهُ مَالِحًا، لَمَا عُرِفَ بِهِ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يُعْرَفُ بِالطَّرِيِّ فَإِنَّهُ لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْبَحْرِ الْمِلْحِ الزُّعَاقِ الْحَيَوَانُ الَّذِي لَحْمُهُ فِي غَايَةِ الْعُذُوبَةِ عُلِمَ أَنَّهُ إِنَّمَا حَدَثَ لَا بِحَسَبِ الطَّبِيعَةِ، بَلْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ حَيْثُ أَظْهَرَ الضِّدَّ مِنَ الضِّدِّ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ فَأَكَلَ لَحْمَ السَّمَكِ لَا يَحْنَثُ قَالُوا: لِأَنَّ لَحْمَ السَّمَكِ لَيْسَ بِلَحْمٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى كَوْنِهِ لَحْمًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَيْسَ فَوْقَ بَيَانِ اللَّهِ بَيَانٌ. رُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَسَمِعَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ بَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلًا وَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ لَا يُصَلِّي عَلَى الْبِسَاطِ فَصَلَّى عَلَى الْأَرْضِ هَلْ يَحْنَثُ أَمْ لَا؟ قَالَ سُفْيَانُ: لَا يَحْنَثُ فَقَالَ السَّائِلُ: أَلَيْسَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً [نُوحٍ: 19] قَالَ فَعَرَفَ سُفْيَانُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِتَلْقِينِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْكَلَامُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ، لِأَنَّ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّا تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِي لَفْظِ الْبِسَاطِ لِلدَّلِيلِ الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَلْزَمُنَا تَرْكُ الْعَمَلِ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا حَلَفَ لَا يُصَلِّي عَلَى الْبِسَاطِ فَلَوْ أَدْخَلْنَا الْأَرْضَ تَحْتَ لَفْظِ الْبِسَاطِ لَزِمَنَا أَنْ نَمْنَعَهُ مِنَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ إِنْ صَلَّى عَلَى الْأَرْضِ الْمَفْرُوشَةِ بِالْبِسَاطِ لَزِمَهُ الْحِنْثُ لَا مَحَالَةَ، وَلَوْ صَلَّى عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي لَا تَكُونُ مَفْرُوشَةً لَزِمَهُ الْحِنْثُ أَيْضًا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُدْخِلَ الْأَرْضَ تَحْتَ لَفْظِ الْبِسَاطِ، فَهَذَا يَقْتَضِي مَنْعَهُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا أَدْخَلْنَا لَحْمَ السَّمَكِ تَحْتَ لَفْظِ اللَّحْمِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَنْعِهِ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَحْذُورٌ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. الثَّانِي: أَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ وُقُوعَ اسْمِ الْبِسَاطِ عَلَى الْأَرْضِ الْخَالِصَةِ مَجَازٌ أَمَّا وُقُوعُ اسْمِ اللَّحْمِ عَلَى لَحْمِ السَّمَكِ فَلَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ مَجَازٌ، فَظَهَرَ الْفَرَقُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ: مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعَادَةِ، وَعَادَةُ النَّاسِ إِذَا ذُكِرَ اللَّحْمُ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَنْ لَا يُفْهَمَ مِنْهُ لَحْمُ السَّمَكِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِغُلَامِهِ اشْتَرِ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ لَحْمًا فَجَاءَ بِالسَّمَكِ كَانَ حَقِيقًا بِالْإِنْكَارِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّا رَأَيْنَاكُمْ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ تَارَةً تَعْتَبِرُونَ اللَّفْظَ وَتَارَةً تَعْتَبِرُونَ الْعُرْفَ، وَمَا رَأَيْنَاكُمْ ذَكَرْتُمْ ضَابِطًا بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا قَالَ لِغُلَامِهِ اشْتَرِ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ لَحْمًا فَجَاءَ بِلَحْمِ الْعُصْفُورِ كَانَ حَقِيقًا بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّكُمْ تَقُولُونَ إِنَّهُ يَحْنَثُ بِأَكْلِ لَحْمِ الْعُصْفُورِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْعُرْفَ/ مُضْطَرِبٌ، وَالرُّجُوعُ إِلَى نَصِّ الْقُرْآنِ مُتَعَيِّنٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَنْفَعَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ مَنَافِعِ الْبَحْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَالْمُرَادُ بِالْحِلْيَةِ اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرَّحْمَنِ: 22] وَالْمُرَادُ: بِلُبْسِهِمْ لُبْسُ نِسَائِهِمْ لِأَنَّهُنَّ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَلِأَنَّ إِقْدَامَهُنَّ عَلَى التَّزَيُّنِ بِهَا إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ أَجْلِهِمْ فَكَأَنَّهَا زِينَتُهُمْ وَلِبَاسُهُمْ، وَرَأَيْتُ بَعْضَ أَصْحَابِنَا تَمَسَّكُوا فِي مَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ بِحَدِيثِ عُرْوَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ» فَقُلْتُ هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفُ الرِّوَايَةِ وَبِتَقْدِيرِ الصِّحَّةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ لَفْظُ الْحُلِيِّ لَفْظٌ مُفْرَدٌ مُحَلَّى

[سورة النحل (16) : الآيات 15 إلى 16]

بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ، وَالْحُلِيُّ الَّذِي هُوَ الْمَعْهُودُ السَّابِقُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فِي هذه الآية وهو قوله: وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها فَصَارَ بِتَقْدِيرِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْخَبَرِ لا زكاة في اللئالئ، وَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَنْفَعَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: مَخْرُ السَّفِينَةِ شَقُّهَا الْمَاءَ بِصَدْرِهَا، وَعَنِ الْفَرَّاءِ: أَنَّهُ صَوْتُ جَرْيِ الْفُلْكِ بِالرِّيَاحِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَواخِرَ أَيْ جِوَارِيَ، إِنَّمَا حَسُنَ التَّفْسِيرُ بِهِ، لِأَنَّهَا لَا تَشُقُّ الْمَاءَ إِلَّا إِذَا كَانَتْ جَارِيَةً. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يَعْنِي لِتَرْكَبُوهُ لِلتِّجَارَةِ فَتَطْلُبُوا الرِّبْحَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَإِذَا وَجَدْتُمْ فَضْلَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِحْسَانَهُ فَلَعَلَّكُمْ تُقْدِمُونَ عَلَى شُكْرِهِ. وَاللَّهُ أعلم. [سورة النحل (16) : الآيات 15 الى 16] وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ بَعْضِ النِّعَمِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ. فَالنِّعْمَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ يَعْنِي لِئَلَّا تَمِيدَ بِكُمْ عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ وَكَرَاهَةَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ عَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ، وَذَكَرْنَا هَذَا عِنْدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النِّسَاءِ: 176] وَالْمَيْدُ الْحَرَكَةُ وَالِاضْطِرَابُ يَمِينًا وَشِمَالًا يُقَالُ: مَادَ يَمِيدُ مَيْدًا. المسألة الثَّانِيَةُ: الْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ قَالُوا: إِنَّ السَّفِينَةَ إِذَا أُلْقِيَتْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، فَإِنَّهَا تَمِيدُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ، وَتَضْطَرِبُ، فَإِذَا وُضِعَتِ الْأَجْرَامُ الثَّقِيلَةُ فِي تِلْكَ السَّفِينَةِ اسْتَقَرَّتْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فَاسْتَوَتْ. قَالُوا فَكَذَلِكَ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَرْضَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ اضْطَرَبَتْ وَمَادَتْ، فَخَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا هَذِهِ الْجِبَالَ الثِّقَالَ فَاسْتَقَرَّتْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ بِسَبَبِ ثِقَلِ هَذِهِ الْجِبَالِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا يُشْكِلُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ إِمَّا أَنْ يُذْكَرَ مَعَ تَسْلِيمِ كَوْنِ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ ثَقِيلَةً بِالطَّبْعِ أَوْ مَعَ الْمَنْعِ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ وَمَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ حَرَكَاتِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ بِطِبَاعِهَا أَوْ لَيْسَتْ بِطِبَاعِهَا بَلْ هِيَ وَاقِعَةٌ بِتَخْلِيقِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَهَذَا التَّعْلِيلُ مُشْكِلٌ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَا شَكَّ أَنَّ الْأَرْضَ أَثْقَلُ مِنَ الْمَاءِ، وَالْأَثْقَلُ مِنَ الْمَاءِ يَغُوصُ فِي الْمَاءِ وَلَا يَبْقَى طَافِيًا عَلَيْهِ وَإِذَا لَمْ يَبْقَ طَافِيًا عَلَيْهِ امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا تَمِيدُ وَتَمِيلُ وَتَضْطَرِبُ، وَهَذَا بِخِلَافِ السَّفِينَةِ لِأَنَّهَا مُتَّخَذَةٌ مِنَ الْخَشَبِ وَفِي دَاخِلِ الْخَشَبِ تَجْوِيفَاتٌ مَمْلُوءَةٌ مِنَ الْهَوَاءِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ تَبْقَى الْخَشَبَةُ طَافِيَةً عَلَى الْمَاءِ فَحِينَئِذٍ تَضْطَرِبُ وَتَمِيدُ وَتَمِيلُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فَإِذَا أُرْسِيَتْ بِالْأَجْسَامِ الثَّقِيلَةِ اسْتَقَرَّتْ وَسَكَنَتْ فَظَهَرَ الْفَرْقُ، وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ لِلْأَرْضِ وَلَا لِلْمَاءِ طَبَائِعُ تُوجِبُ الثِّقَلَ وَالرُّسُوبَ وَالْأَرْضُ إِنَّمَا تَنْزِلُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِجَعْلِهَا كَذَلِكَ وَإِنَّمَا صَارَ الْمَاءُ مُحِيطًا بالأرض لمجرد إجراء العادة، وليس هاهنا طَبِيعَةٌ لِلْأَرْضِ وَلَا لِلْمَاءِ تُوجِبُ حَالَةً مَخْصُوصَةً فَنَقُولُ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ عِلَّةُ سُكُونِ الْأَرْضِ هِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ فِيهَا السُّكُونَ وَعِلَّةُ كَوْنِهَا مَائِدَةً مُضْطَرِبَةً هِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ فِيهَا الْحَرَكَةَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ مَائِلَةً فَخَلَقَ اللَّهُ الْجِبَالَ وَأَرْسَاهَا

عَلَيْهَا لِتَبْقَى سَاكِنَةً، لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ طَبِيعَةُ الْأَرْضِ تُوجِبُ الْمَيَدَانَ وَطَبِيعَةُ الْجِبَالِ تُوجِبُ الْإِرْسَاءَ وَالثَّبَاتَ، وَنَحْنُ إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ الْآنَ عَلَى تَقْدِيرِ نَفْيِ الطَّبَائِعِ الْمُوجِبَةِ لِهَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ مُشْكِلٌ عَلَى كُلِّ التَّقْدِيرَاتِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ إِرْسَاءَ الْأَرْضِ بِالْجِبَالِ إِنَّمَا يُعْقَلُ لِأَجْلِ أَنْ تَبْقَى الْأَرْضُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمِيدَ وَتَمِيلَ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ، وَهَذَا إِنَّمَا يُعْقَلُ إِذَا كَانَ الْمَاءُ الَّذِي اسْتَقَرَّتِ الْأَرْضُ عَلَى وَجْهِهِ وَاقِفًا فَنَقُولُ: فَمَا الْمُقْتَضِي لِسُكُونِ ذَلِكَ الْمَاءِ وَوُقُوفِهِ فِي حَيِّزِهِ الْمَخْصُوصِ، فَإِنْ قُلْتَ: الْمُقْتَضِي لِسُكُونِهِ فِي ذَلِكَ الْحَيِّزِ الْمَخْصُوصِ هُوَ أَنَّ طَبِيعَتَهُ الْمَخْصُوصَةَ تُوجِبُ وُقُوفَهُ فِي ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، فَلِمَ لَا تَقُولُ: مِثْلَهُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ أَنَّ الطَّبِيعَةَ الْمَخْصُوصَةَ الَّتِي لِلْأَرْضِ تُوجِبُ وُقُوفَهَا فِي ذَلِكَ الْحَيِّزِ الْمُعَيَّنِ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْأَرْضَ إِنَّمَا وَقَفَتْ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى/ أَرْسَاهَا بِالْجِبَالِ. فَإِنْ قُلْتَ: الْمُقْتَضِي لِسُكُونِ الْمَاءِ فِي حَيِّزِهِ الْمُعَيَّنِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَكَّنَ الْمَاءَ بِقُدْرَتِهِ فِي ذَلِكَ الْحَيِّزِ الْمَخْصُوصِ، فَلِمَ لَا تَقُولُ مِثْلَهُ فِي سُكُونِ الْأَرْضِ، وَحِينَئِذٍ يَفْسُدُ هَذَا التَّعْلِيلُ أَيْضًا. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَجْمُوعَ الْأَرْضِ جِسْمٌ عَظِيمٌ، فَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَمِيدَ كُلِّيَّتُهُ وَتَضْطَرِبَ عَلَى وَجْهِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ لَمْ تَظْهَرْ تِلْكَ الْحَالَةُ لِلنَّاسِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ الْأَرْضَ تُحَرِّكُهَا الْبُخَارَاتُ الْمُحْتَقِنَةُ فِي دَاخِلِهَا عِنْدَ الزَّلَازِلِ، وَتَظْهَرُ تِلْكَ الْحَرَكَاتُ لِلنَّاسِ فَبِمَ تُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ لَوْلَا الْجِبَالُ لَتَحَرَّكَتِ الْأَرْضُ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرْسَاهَا بِالْجِبَالِ الثِّقَالِ لَمْ تَقْوَ الرِّيَاحُ عَلَى تَحْرِيكِهَا. قُلْنَا: تِلْكَ الْبُخَارَاتُ إِنَّمَا احْتَقَنَتْ فِي دَاخِلِ قِطْعَةٍ صَغِيرَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَلَمَّا حَصَلَتِ الْحَرَكَةُ فِي تِلْكَ الْقِطْعَةِ الصَّغِيرَةِ ظَهَرَتْ تِلْكَ الْحَرَكَةُ. قَالَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ: إِنَّ ظُهُورَ الْحَرَكَةِ فِي تِلْكَ الْقِطْعَةِ الْمُعَيَّنَةِ مِنَ الْأَرْضِ يَجْرِي مَجْرَى اخْتِلَاجٍ يَحْصُلُ فِي عُضْوٍ مُعَيَّنٍ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ أَمَّا لَوْ حُرِّكَتْ كُلِّيَّةُ الْأَرْضِ لَمْ تَظْهَرْ تِلْكَ الْحَرَكَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ السَّاكِنَ فِي السَّفِينَةِ لَا يَحُسُّ بِحَرَكَةِ كُلِّيَّةِ السَّفِينَةِ وَإِنْ كَانَتْ وَاقِعَةً عَلَى أَسْرَعِ الْوُجُوهِ وَأَقْوَاهَا فَكَذَا هاهنا، فَهَذَا مَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ الْمَبَاحِثِ الدَّقِيقَةِ الْعَمِيقَةِ وَالَّذِي عِنْدِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْمُشْكَلِ أَنْ يُقَالَ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ أَنَّ الْأَرْضَ كُرَةٌ، وَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْجِبَالَ عَلَى سَطْحِ هَذِهِ الْكُرَةِ جَارِيَةٌ مَجْرَى خُشُونَاتٍ تَحْصُلُ عَلَى وَجْهِ هَذِهِ الْكُرَةِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ هَذِهِ الْخُشُونَاتِ مَا كَانَتْ حَاصِلَةً بَلْ كَانَتِ الْأَرْضُ كُرَةً حَقِيقِيَّةً خَالِيَةً عَنِ الْخُشُونَاتِ وَالتَّضْرِيسَاتِ لَصَارَتْ بِحَيْثُ تَتَحَرَّكُ بِالِاسْتِدَارَةِ بِأَدْنَى سَبَبٍ لِأَنَّ الْجِرْمَ الْبَسِيطَ الْمُسْتَدِيرَ إِمَّا أَنْ يَجِبَ كَوْنُهُ مُتَحَرِّكًا بِالِاسْتِدَارَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ عَقْلًا إِلَّا أَنَّهُ بِأَدْنَى سَبَبٍ يَتَحَرَّكُ عَلَى هَذَا الوجه، أَمَّا لَمَّا حَصَلَ عَلَى ظَاهِرِ سَطْحِ كُرَةِ الْأَرْضِ هَذِهِ الْجِبَالُ وَكَانَتْ كَالْخُشُونَاتِ الْوَاقِعَةِ عَلَى وَجْهِ الْكُرَةِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْجِبَالِ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ بِطَبْعِهِ نَحْوَ مَرْكَزِ الْعَالَمِ وَتَوَجُّهُ ذَلِكَ الْجَبَلِ نَحْوَ مَرْكَزِ الْعَالَمِ بِثِقَلِهِ الْعَظِيمِ وَقُوَّتِهِ الشَّدِيدَةِ يَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى الْوَتَدِ الَّذِي يَمْنَعُ كُرَةَ الْأَرْضِ مِنَ الِاسْتِدَارَةِ، فَكَانَ تَخْلِيقُ هَذِهِ الْجِبَالِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَالْأَوْتَادِ الْمَغْرُوزَةِ فِي الْكُرَةِ الْمَانِعَةِ لَهَا عَنِ الْحَرَكَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ، فَكَانَتْ مَانِعَةً لِلْأَرْضِ مِنَ الْمَيْدِ وَالْمَيْلِ وَالِاضْطِرَابِ بِمَعْنَى أَنَّهَا مَنَعَتِ الْأَرْضَ مِنَ الْحَرَكَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ، فَهَذَا مَا وَصَلَ إِلَيْهِ بَحْثِي فِي هَذَا الْبَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.

النِّعْمَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أَظْهَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ هِيَ أَنَّهُ تَعَالَى أَجْرَى الْأَنْهَارَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ حصل هاهنا بَحْثَانِ: البحث الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنْهاراً مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ وَالتَّقْدِيرُ وألقى رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا. وَخَلْقُ الْأَنْهَارِ لَا يَبْعُدُ أَنْ يسمى بالإلقاء فيقال: ألقى الله فِي الْأَرْضِ أَنْهَارًا كَمَا قَالَ: وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ [ق: 7] وَالْإِلْقَاءُ مَعْنَاهُ الْجَعْلُ أَلَا تَرَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها [فُصِّلَتْ: 10] وَالْإِلْقَاءُ يُقَارِبُ الْإِنْزَالَ، لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ يَدُلُّ عَلَى طَرْحِ الشَّيْءِ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ، إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْإِلْقَاءِ الْجَعْلُ وَالْخَلْقُ قَالَ تَعَالَى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: 39] . البحث الثَّانِي: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَنْهَارِ إِنَّمَا تَتَفَجَّرُ مَنَابِعُهَا فِي الْجِبَالِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْجِبَالَ أَتْبَعَ ذِكْرَهَا بِتَفْجِيرِ الْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ. النِّعْمَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَهِيَ أَيْضًا مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ وَالتَّقْدِيرُ: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ سُبُلًا وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَظْهَرَهَا وَبَيَّنَهَا لِأَجْلِ أَنْ تَهْتَدُوا بِهَا فِي أَسْفَارِكُمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا [طه: 53] وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أَيْ لِكَيْ تَهْتَدُوا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَظْهَرَ فِي الْأَرْضِ سُبُلًا مُعَيَّنَةً ذَكَرَ أَنَّهُ أَظْهَرَ فِيهَا عَلَامَاتٍ مخصوصة حيت يَتَمَكَّنَ الْمُكَلَّفُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا فَيَصِلَ بِوَاسِطَتِهَا إِلَى مَقْصُودِهِ فَقَالَ: وَعَلاماتٍ وَهِيَ أَيْضًا مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ وَالتَّقْدِيرُ: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ وَأَلْقَى فِيهَا أَنْهَارًا وَسُبُلًا وَأَلْقَى فِيهَا عَلَامَاتٍ وَالْمُرَادُ بِالْعَلَامَاتِ مَعَالِمُ الطُّرُقِ وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي بِهَا يُهْتَدَى، وَهَذِهِ الْعَلَامَاتُ هِيَ الْجِبَالُ وَالرِّيَاحُ وَرَأَيْتُ جَمَاعَةً يَشُمُّونَ التُّرَابَ وَبِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الشَّمِّ يَتَعَرَّفُونَ الطُّرُقَ. قَالَ الْأَخْفَشُ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَعَلاماتٍ وَقَوْلُهُ: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ كَلَامٌ مُنْفَصِلٌ عَنِ الْأَوَّلِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّجْمِ الْجِنْسُ كَقَوْلِكَ: كَثُرَ الدِّرْهَمُ فِي أَيْدِي النَّاسِ. وَعَنِ السُّدِّيِّ هُوَ الثُّرَيَّا، وَالْفَرْقَدَانِ، وَبَنَاتُ نَعْشٍ، وَالْجَدْيُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَبِالنَّجْمِ بِضَمَّتَيْنِ وَبِضَمَّةٍ فَسُكُونٍ، وَهُوَ جَمْعُ نَجْمٍ كَرَهْنٍ وَرُهُنٍ وَالسُّكُونُ تَخْفِيفٌ. وَقِيلَ: حُذِفَ الْوَاوُ مِنَ النَّجْمِ تَخْفِيفًا. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ خِطَابٌ الحاضرين وَقَوْلُهُ: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ خِطَابٌ لِلْغَائِبِينَ فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟ قُلْنَا: إِنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تُكْثِرُ أَسْفَارَهَا لِطَلَبِ الْمَالِ، وَمَنْ كَثُرَتْ أَسْفَارُهُ كَانَ عِلْمُهُ بِالْمَنَافِعِ الْحَاصِلَةِ مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِالنُّجُومِ أَكْثَرَ وَأَتَمَّ فَقَوْلُهُ: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ إِشَارَةٌ إِلَى قُرَيْشٍ لِلسَّبَبِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ قَوْلُهُ: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ مُخْتَصٌّ بِالْبَحْرِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا/ ذَكَرَ صِفَةَ الْبَحْرِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ يَسِيرُونَ فِيهِ يَهْتَدُونَ بِالنَّجْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ يَدْخُلُ فِيهِ السَّيْرُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَعَمُّ فِي كَوْنِهِ نِعْمَةً وَلِأَنَّ الِاهْتِدَاءَ بِالنَّجْمِ قَدْ يَحْصُلُ فِي الْوَقْتَيْنِ مَعًا، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَجْعَلُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا عَمِيَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالنُّجُومِ وَبِالْعَلَامَاتِ الَّتِي فِي الْأَرْضِ، وَهِيَ الْجِبَالُ وَالرِّيَاحُ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ كَمَا يُمْكِنُ الِاهْتِدَاءُ بِهَذِهِ الْعَلَامَاتِ فِي

[سورة النحل (16) : الآيات 17 إلى 21]

مَعْرِفَةِ الطُّرُقِ وَالْمَسَالِكِ فَكَذَلِكَ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي مَعْرِفَةِ طَلَبِ الْقِبْلَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اشْتِبَاهَ الْقِبْلَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِعَلَامَاتٍ لَائِحَةٍ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَتْ لَائِحَةً وَجَبَ أَنْ يَجِبَ الِاجْتِهَادُ وَيَتَوَجَّهَ إِلَى حَيْثُ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ هُوَ الْقِبْلَةُ، فَإِنْ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ وَجَبَ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّهُ كَانَ مُقَصِّرًا فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَظْهَرِ الْعَلَامَاتُ فَهَهُنَا طَرِيقَانِ: الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا فِي الصَّلَاةِ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ لِأَنَّ الْجِهَاتِ لَمَّا تَسَاوَتْ وَامْتَنَعَ التَّرْجِيحُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا التَّخْيِيرُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى جَمِيعِ الْجِهَاتِ فَحِينَئِذٍ يَعْلَمُ بِيَقِينٍ أَنَّهُ خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ وَهَذَا كَمَا يَقُولُهُ الْفُقَهَاءُ: فِيمَنْ نَسِيَ صَلَاةً لَا يَعْرِفُهَا بِعَيْنِهَا أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ أَنْ يَأْتِيَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ قَضَاءِ مَا لَزِمَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْوَاجِبُ مِنْهَا وَاحِدَةٌ فَقَطْ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَهُ أَنْ يَفْعَلَ الْكُلَّ كَانَ الْكُلُّ وَاجِبًا وَإِنْ كَانَ سَبَبُ وُجُوبِ كُلِّ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ فَوْتَ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة النحل (16) : الآيات 17 الى 21] أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) [في قَوْلُهُ تَعَالَى أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى وُجُودِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْأَحْسَنِ وَالنَّظْمِ الْأَكْمَلِ وَكَانَتْ تِلْكَ الدَّلَائِلُ كَمَا أَنَّهَا كَانَتْ دَلَائِلَ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا كَانَتْ شَرْحًا وَتَفْصِيلًا لِأَنْوَاعِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَقْسَامِ إِحْسَانِهِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ إِبْطَالِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الدَّلَائِلُ الْبَاهِرَةُ، وَالْبَيِّنَاتُ الزَّاهِرَةُ الْقَاهِرَةُ عَلَى وُجُودِ إِلَهٍ قَادِرٍ حَكِيمٍ، وَثَبَتَ أَنَّهُ هُوَ الْمَوْلَى لِجَمِيعِ هَذِهِ النِّعَمِ وَالْمُعْطِي لِكُلِّ هَذِهِ الْخَيْرَاتِ فَكَيْفَ يَحْسُنُ فِي الْعُقُولِ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَةِ مَوْجُودٍ سِوَاهُ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ذلك الْمَوْجُودُ جَمَادًا لَا يَفْهَمُ وَلَا يَقْدِرُ، فَلِهَذَا الوجه قَالَ بَعْدَ تِلْكَ الْآيَاتِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَالْمَعْنَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا كَمَنْ لَا يَخْلُقُ بَلْ لَا يَقْدِرُ الْبَتَّةَ عَلَى شَيْءٍ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ فَإِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَدَبُّرٍ وَتَفَكُّرٍ وَنَظَرٍ. وَيَكْفِي فِيهِ أَنْ تَتَنَبَّهُوا عَلَى مَا فِي عُقُولِكُمْ مِنْ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالْمُنْعِمِ الْأَعْظَمِ، وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ فِي الشَّاهِدِ إِنْسَانًا عَاقِلًا فَاهِمًا يُنْعِمُ بِالنِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَقْبُحُ عِبَادَتُهُ فَهَذِهِ الْأَصْنَامُ جَمَادَاتٌ مَحْضَةٌ، وَلَيْسَ لَهَا فَهْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا اخْتِيَارٌ فَكَيْفَ تُقْدِمُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا، وَكَيْفَ تُجَوِّزُونَ الِاشْتِغَالَ بِخِدْمَتِهَا وَطَاعَتِهَا. المسألة الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: كَمَنْ لَا يَخْلُقُ الْأَصْنَامُ، وَأَنَّهَا جَمَادَاتٌ فَلَا يَلِيقُ بِهَا لَفْظَةُ «مَنْ» لِأَنَّهَا لِأُولِي الْعِلْمِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ مِنْ وجوه:

الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا سَمَّوْهَا آلِهَةً وَعَبَدُوهَا، لَا جَرَمَ أُجْرِيَتْ مَجْرَى أُولِي الْعِلْمِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ عَلَى أَثَرِهِ: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. وَالوجه الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ السَّبَبَ فِيهِ الْمُشَاكَلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَخْلُقُ. وَالوجه الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ يَخْلُقُ لَيْسَ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ فَكَيْفَ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ كَقَوْلِهِ: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها يَعْنِي أَنَّ الْآلِهَةَ الَّتِي تَدْعُونَهَا حَالُهُمْ مُنْحَطَّةٌ عَنْ حَالِ مَنْ لَهُمْ أَرْجُلٌ وَأَيْدٍ وَآذَانٌ وَقُلُوبٌ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ أَحْيَاءٌ وَهُمْ أَمْوَاتٌ فَكَيْفَ يَصِحُّ مِنْهُمْ عِبَادَتُهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَوْ صَحَّتْ لَهُمْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ لَصَحَّ أَنْ يُعْبَدُوا. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِلْزَامُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، حَيْثُ جَعَلُوا غَيْرَ الْخَالِقِ مِثْلَ الْخَالِقِ فِي التَّسْمِيَةِ بِالْإِلَهِ، وَفِي الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَتِهَا، فَكَانَ حَقُّ الْإِلْزَامِ أَنْ يُقَالَ: أَفَمَنْ لَا يَخْلُقُ كَمَنْ يَخْلُقُ. وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ يَخْلُقُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْعَظِيمَةَ وَيُعْطِي هَذِهِ الْمَنَافِعَ الْجَلِيلَةَ كَيْفَ يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذِهِ الْجَمَادَاتِ الْخَسِيسَةِ فِي التَّسْمِيَةِ بِاسْمِ الْإِلَهِ، وَفِي الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَتِهَا وَالْإِقْدَامِ عَلَى غَايَةِ تَعْظِيمِهَا فَوَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ. المسألة الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ خَالِقٍ لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى مَيَّزَ نَفْسَهُ عَنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا بِصِفَةِ الْخَالِقِيَّةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ الْغَرَضُ مِنْهُ بَيَانُ كَوْنِهِ مُمْتَازًا عَنِ الْأَنْدَادِ بِصِفَةِ الْخَالِقِيَّةِ وَأَنَّهُ إِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْإِلَهِيَّةَ وَالْمَعْبُودِيَّةَ بِسَبَبِ كَوْنِهِ خَالِقًا، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ كَانَ خَالِقًا لِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ لَوَجَبَ كَوْنُهُ إِلَهًا مَعْبُودًا، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا عَلِمْنَا أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَفَمَنْ يخلق ما تقدم ذكره من السموات وَالْأَرْضِ وَالْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْبِحَارِ وَالنُّجُومِ وَالْجِبَالِ كَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ شَيْءٍ أَصْلًا، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ كَانَ خَالِقًا لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّهُ يَكُونُ إِلَهًا وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ أَنَّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَفْعَالِ نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا. وَالوجه الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ كَانَ خَالِقًا كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ لَا يَكُونُ خَالِقًا، فَوَجَبَ امْتِنَاعُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَعْبُودِيَّةِ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ خَالِقًا فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها [الْأَعْرَافِ: 195] وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الَّذِي حَصَلَ لَهُ رِجْلٌ يَمْشِي بِهَا يَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ الَّذِي حَصَلَ لَهُ رِجْلٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَمْشِيَ بِهَا، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ أَفْضَلَ مِنَ الصَّنَمِ، وَالْأَفْضَلُ لَا يَلِيقُ بِهِ عِبَادَةُ الْأَخَسِّ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ إِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ حَصَلَ لَهُ رِجْلٌ يمشي بها أن يكون إلها، فكذلك هاهنا الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ الْخَالِقَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِ الْخَالِقِ، فَيَمْتَنِعُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَعْبُودِيَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ بِمُجَرَّدِ حُصُولِ صِفَةِ الْخَالِقِيَّةِ يَكُونُ إِلَهًا. وَالوجه الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْخَالِقِ عَلَى الْعَبْدِ. قَالَ الْكَعْبِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» إِنَّا لَا نَقُولُ: إِنَّا نَخْلُقُ أَفْعَالَنَا: قَالَ وَمَنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ إِلَّا فِي مَوَاضِعَ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [الْمَائِدَةِ: 110] وَقَوْلِهِ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 14] .

وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَ أَبِي هَاشِمٍ يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْخَالِقِ عَلَى الْعَبْدِ، حَتَّى أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَصِيرَ بَالَغَ وَقَالَ: إِطْلَاقُ لَفْظِ الْخَالِقِ عَلَى الْعَبْدِ حَقِيقَةٌ وَعَلَى اللَّهِ مَجَازٌ، لِأَنَّ الخلق عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنِ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ، وَهُوَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ حَاصِلٌ وَفِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْوِبَةَ قَوِيَّةٌ وَالِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أما قوله تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بِالْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ بَاطِلٌ وَخَطَأٌ بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشُكْرِ نِعَمِهِ وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِ كَرَمِهِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ، بَلِ الْعَبْدُ وَإِنْ أَتْعَبَ نَفْسَهُ فِي الْقِيَامِ بِالطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، وَبَالَغَ فِي شُكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَكُونُ مُقَصِّرًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِشُكْرِ النِّعَمِ مَشْرُوطٌ بِعِلْمِهِ بِتِلْكَ النِّعَمِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ وَالتَّحْصِيلِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَكُونُ مُتَصَوَّرًا وَلَا مَفْهُومًا وَلَا مَعْلُومًا امْتَنَعَ الِاشْتِغَالُ بِشُكْرِهِ، إِلَّا أَنَّ الْعِلْمَ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ غَيْرُ حَاصِلٍ لِلْعَبْدِ، لِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى كَثِيرَةٌ وَأَقْسَامَهَا وَشُعَبَهَا وَاسِعَةٌ عَظِيمَةٌ، وَعُقُولُ الْخَلْقِ قَاصِرَةٌ عن الإحاطة بمباديها فضلا عن غاياتها أنها غَيْرُ مَعْلُومَةٍ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ الِاشْتِغَالُ بِشُكْرِهِ عَلَى الوجه الَّذِي يَكُونُ ذَلِكَ الشُّكْرُ لَائِقًا بِتِلْكَ النِّعَمِ. فَهَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها يَعْنِي: أَنَّكُمْ لَا تَعْرِفُونَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، وَإِذَا لَمْ تَعْرِفُوهَا امْتَنَعَ مِنْكُمُ الْقِيَامُ بِشُكْرِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ والكمال، وذلك يدل على أن شكر الخلق قَاصِرٌ عَنْ نِعَمِ الْحَقِّ، وَعَلَى أَنَّ طَاعَاتِ الْخَلْقِ قَاصِرَةٌ عَنْ رُبُوبِيَّةِ الْحَقِّ وَعَلَى أَنَّ مَعَارِفَ الْخَلْقِ قَاصِرَةٌ عَنْ كُنْهِ جَلَالِ الْحَقِّ، وَمِمَّا يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّ عُقُولَ الْخَلْقِ قَاصِرَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ الْإِنْسَانِيِّ لَوْ ظَهَرَ فِيهِ أَدْنَى خَلَلٍ لَتَنَغَّصَ الْعَيْشُ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَلَتَمَنَّى أَنْ يُنْفِقَ كُلَّ الدُّنْيَا حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ ذَلِكَ الْخَلَلُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُدَبِّرُ أَحْوَالَ بَدَنِ الْإِنْسَانِ عَلَى الوجه الْأَكْمَلِ الْأَصْلَحِ، مَعَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا عِلْمَ لَهُ بِوُجُودِ ذَلِكَ الْجُزْءِ وَلَا بِكَيْفِيَّةِ مَصَالِحِهِ وَلَا بِدَفْعِ مَفَاسِدِهِ، فَلْيَكُنْ هَذَا الْمِثَالُ حَاضِرًا فِي ذِهْنِكَ، ثُمَّ تَأْمَّلْ فِي جَمِيعِ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، وَجَعَلَهَا مُهَيَّأَةً لِانْتِفَاعِكَ بِهَا، حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ عُقُولَ الْخَلْقِ تَفْنَى فِي مَعْرِفَةِ حِكْمَةِ الرَّحْمَنِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ وُجُوهِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَمَّا قَرَّرْتُمْ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالشُّكْرِ مَوْقُوفٌ عَلَى حُصُولِ الْعِلْمِ بِأَقْسَامِ النِّعَمِ، وَدَلَّلْتُمْ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْعَالِمِ بِأَقْسَامِ النِّعَمِ مُحَالٌ أَوْ غَيْرُ وَاقِعٍ، فَكَيْفَ أَمَرَ اللَّهُ الْخَلْقَ بِالْقِيَامِ بِشُكْرِ النِّعَمِ؟ قُلْنَا: الطَّرِيقُ إِلَيْهِ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى جَمِيعِ نِعَمِهِ مُفَصَّلِهَا وَمُجْمَلِهَا. فَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي بِهِ يُمْكِنُ الْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَةِ الشُّكْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إنه ليس لله على الكافر نِعْمَةٌ وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لِلَّهِ عَلَى الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ نِعَمٌ كَثِيرَةٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ الْإِنْعَامَ بِخَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ وَالْإِنْعَامَ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنَ النُّطْفَةِ، وَالْإِنْعَامَ بِخَلْقِ الْأَنْعَامِ وَبِخَلْقِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَبِخَلْقِ أَصْنَافِ النِّعَمِ مِنَ الزَّرْعِ وَالزَّيْتُونِ وَالنَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، وَبِتَسْخِيرِ الْبَحْرِ لِيَأْكُلَ الْإِنْسَانُ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَيَسْتَخْرِجَ مِنْهُ حِلْيَةً يَلْبَسُهَا كُلُّ ذَلِكَ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، ثُمَّ أَكَّدَ

تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ/ اللَّهِ لَا تُحْصُوها وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ نِعَمٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ وَاصِلَةٌ إِلَى الْكُفَّارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أما قوله: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34] وقال هاهنا: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِأَدَاءِ الشُّكْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ. قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ غَفُورٌ لِلتَّقْصِيرِ الصَّادِرِ عَنْكُمْ فِي الْقِيَامِ بِشُكْرِ نِعَمِهِ، رَحِيمٌ بِكُمْ حَيْثُ لَمْ يَقْطَعْ نِعَمَهُ عَلَيْكُمْ بِسَبَبِ تَقْصِيرِكُمْ. أما قوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا مَعَ اشْتِغَالِهِمْ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى يُسِرُّونَ ضُرُوبًا مِنَ الْكُفْرِ فِي مَكَايِدِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَجَعَلَ هَذَا زَجْرًا لَهُمْ عَنْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى زَيَّفَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى الْخَلْقِ وَالْإِنْعَامِ وَزَيَّفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا عِبَادَتَهَا بِسَبَبِ أَنَّ الْإِلَهَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ جَمَادَاتٌ لَا مَعْرِفَةَ لَهَا بِشَيْءٍ أَصْلًا فَكَيْفَ تَحْسُنُ عِبَادَتُهَا؟ أما قوله: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذِهِ الْأَصْنَامَ بِصِفَاتٍ كَثِيرَةٍ. فَالصِّفَةُ الْأُولَى: أَنَّهُمْ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ يُسِرُّونَ وَيُعْلِنُونَ وَيُدْعَوْنَ كُلَّهَا بِالْيَاءِ عَلَى الْحِكَايَةِ عَنِ الْغَائِبِ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ يَدْعُونَ بِالْيَاءِ خَاصَّةً عَلَى الْمُغَايَبَةِ وتُسِرُّونَ وتُعْلِنُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَالْبَاقُونَ كُلَّهَا بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ لَا تَخْلُقُ شيئا وقوله هاهنا: لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً يَدُلُّ عَلَى نَفْسِ هَذَا الْمَعْنَى، فَكَانَ هَذَا مَحْضَ التَّكْرِيرِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَا يَخْلُقُونَ شيئا، والمذكور هاهنا أَنَّهُمْ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لِغَيْرِهِمْ، فَكَانَ هَذَا زِيَادَةً فِي الْمَعْنَى، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بِشَرْحِ نَقْصِهِمْ فِي ذَوَاتِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ فَبَيَّنَ أَوَّلًا أَنَّهَا لَا تَخْلُقُ شَيْئًا، ثُمَّ ثَانِيًا أَنَّهَا كَمَا لَا تَخْلُقُ غَيْرَهَا فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ لِغَيْرِهَا. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ آلِهَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ لَكَانُوا أَحْيَاءً غَيْرَ أَمْوَاتٍ، أَيْ غَيْرَ جَائِزٍ عَلَيْهَا الْمَوْتُ كَالْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَمْرُ هَذِهِ الْأَصْنَامِ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ: أَمْواتٌ عُلِمَ أَنَّهَا غَيْرُ أَحْيَاءٍ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: غَيْرُ أَحْياءٍ. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَحْصُلُ عَقِيبَ حَيَاتِهِ مَوْتٌ، وَهَذِهِ/ الْأَصْنَامُ أَمْوَاتٌ لَا يَحْصُلُ عَقِيبَ مَوْتِهَا الْحَيَاةُ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَعَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، وَهُمْ فِي نِهَايَةِ الْجَهَالَةِ وَالضَّلَالَةِ، وَمَنْ تَكَلَّمَ مَعَ الْجَاهِلِ الْغَرِّ الْغَبِيِّ فَقَدْ يَحْسُنُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ بِالْعِبَارَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَغَرَضُهُ مِنْهُ الْإِعْلَامُ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْمُخَاطَبِ فِي غَايَةِ الْغَبَاوَةِ وَأَنَّهُ إنما يعيد الْكَلِمَاتِ لِكَوْنِ ذَلِكَ السَّامِعِ فِي نِهَايَةِ الْجَهَالَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَفْهَمُ الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ بِالْعِبَارَةِ الْوَاحِدَةِ.

[سورة النحل (16) : الآيات 22 إلى 23]

الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَما يَشْعُرُونَ عَائِدٌ إِلَى الْأَصْنَامِ، وَفِي الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: يُبْعَثُونَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْعَابِدِينَ لِلْأَصْنَامِ يَعْنِي أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا يَشْعُرُونَ مَتَى تُبْعَثُ عَبَدَتُهُمْ، وَفِيهِ تَهَكُّمٌ بِالْمُشْرِكِينَ وَأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَقْتَ بَعْثِهِمْ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُمْ وَقْتُ جَزَاءٍ مِنْهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْأَصْنَامِ يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ لَا تَعْرِفُ مَتَى يَبْعَثُهَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ الْأَصْنَامَ وَلَهَا أَرْوَاحٌ وَمَعَهَا شَيَاطِينُهَا فَيُؤْمَرُ بِهَا إِلَى النَّارِ. فَإِنْ قِيلَ: الْأَصْنَامُ جَمَادَاتٌ، وَالْجَمَادَاتُ لَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا أَمْوَاتٌ، وَلَا تُوصَفُ بِأَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ كَذَا وَكَذَا. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْجَمَادَ قَدْ يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مَيِّتًا قَالَ تَعَالَى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الروم: 19] . الثاني: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا وَصَفُوا تِلْكَ الْأَصْنَامَ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْمَعْبُودِيَّةِ قِيلَ لَهُمْ، لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ أَمْوَاتٌ وَلَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْعِبَارَاتُ عَلَى وَفْقِ مُعْتَقَدِهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ، وَكَانَ نَاسٌ مِنَ الْكُفَّارِ يَعْبُدُونَهُمْ فَقَالَ اللَّهُ إِنَّهُمْ أَمْوَاتٌ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْمَوْتِ غَيْرُ أَحْيَاءٍ، أَيْ غَيْرُ بَاقِيَةٍ حَيَاتُهُمْ: وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أَيْ لَا عِلْمَ لهم بوقت بعثهم والله أعلم. [سورة النحل (16) : الآيات 22 الى 23] إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا زَيَّفَ فِيمَا تَقَدَّمَ طَرِيقَةَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ وَبَيَّنَ فَسَادَ مَذْهَبِهِمْ بِالدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ قَالَ: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا لِأَجْلِهِ أَصَرَّ الْكُفَّارُ عَلَى الْقَوْلِ بِالشِّرْكِ وَإِنْكَارِ التَّوْحِيدِ فَقَالَ: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَيَرْغَبُونَ فِي الْفَوْزِ بِالثَّوَابِ الدَّائِمِ وَيَخَافُونَ الْوُقُوعَ فِي الْعِقَابِ الدَّائِمِ إِذَا سَمِعُوا الدَّلَائِلَ وَالتَّرْغِيبَ وَالتَّرْهِيبَ، خَافُوا الْعِقَابَ فَتَأَمَّلُوا وَتَفَكَّرُوا فِيمَا يَسْمَعُونَهُ، فَلَا جَرَمَ يَنْتَفِعُونَ بِسَمَاعِ الدَّلَائِلِ، وَيَرْجِعُونَ مِنَ الْبَاطِلِ إِلَى الْحَقِّ، أَمَّا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَيُنْكِرُونَهَا فَإِنَّهُمْ لَا يَرْغَبُونَ فِي حُصُولِ الثَّوَابِ وَلَا يَرْهَبُونَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْعِقَابِ فَيَبْقُونَ مُنْكِرِينَ لِكُلِّ كَلَامٍ يُخَالِفُ قَوْلَهُمْ وَيَسْتَكْبِرُونَ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِ غَيْرِهِمْ، فَلَا جَرَمَ يَبْقُونَ مُصِرِّينَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ. ثم قال تَعَالَى: لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ إِصْرَارَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ لَيْسَ لِأَجْلِ شُبْهَةٍ تَصَوَّرُوهَا أَوْ إِشْكَالٍ تَخَيَّلُوهُ، بَلْ ذَلِكَ لِأَجْلِ التَّقْلِيدِ وَالنَّفْرَةِ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ وَالشَّغَفِ بِنُصْرَةِ مَذَاهِبِ الْأَسْلَافِ وَالتَّكَبُّرِ وَالنَّخْوَةِ. فَلِهَذَا قَالَ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَهَذَا الْوَعِيدُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ المتكبرين. [سورة النحل (16) : الآيات 24 الى 25] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (25)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي تَقْرِيرِ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَأَوْرَدَ الدَّلَائِلَ الْقَاهِرَةَ فِي إِبْطَالِ مَذَاهِبِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ شُبُهَاتِ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ مَعَ الْجَوَابِ عَنْهَا. فَالشُّبْهَةُ الْأُولَى: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا احْتَجَّ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ نَفْسِهِ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةً طَعَنُوا فِي الْقُرْآنِ وَقَالُوا: إِنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُعْجِزَاتِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ السَّائِلَ مَنْ كَانَ؟ قِيلَ هُوَ كَلَامُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ، وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ اقْتَسَمُوا مَدَاخِلَ مَكَّةَ يُنَفِّرُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَأَلَهُمْ وُفُودُ الْحَاجِّ عَمَّا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. المسألة الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ يَكُونُ تَنْزِيلُ رَبِّهِمْ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ؟ وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَذْكُورٌ عَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشُّعَرَاءِ: 27] ، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحِجْرِ: 6] وقوله: يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ [الزُّخْرُفِ: 49] . الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ هَذَا الَّذِي تَذْكُرُونَ أَنَّهُ مُنْزَّلٌ مِنْ رَبِّكُمْ هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. الثَّالِثُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا أَنْزَلَهُ اللَّهُ لَكِنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْعُلُومِ وَالْفَصَاحَةِ وَالدَّقَائِقِ وَالْحَقَائِقِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى شُبَهَهُمْ قَالَ: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ اللَّامُ فِي لِيَحْمِلُوا لَامُ الْعَاقِبَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَصِفُوا الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ لِأَجْلِ أَنْ يَحْمِلُوا الْأَوْزَارَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ ذَلِكَ حَسُنَ ذِكْرُ هَذِهِ اللَّامِ كَقَوْلِهِ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَصِ: 8] وَقَوْلُهُ: كامِلَةً مَعْنَاهُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُخَفِّفُ مِنْ عِقَابِهِمْ شَيْئًا، بَلْ يُوصِلُ ذَلِكَ الْعِقَابَ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَيْهِمْ، وَأَقُولُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يُسْقِطُ بَعْضَ الْعِقَابِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ لَوْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى حَاصِلًا فِي حَقِّ الْكُلِّ، لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ بِهَذَا التَّكْمِيلِ مَعْنًى، وَقَوْلُهُ: وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ مَعْنَاهُ: وَيَحْصُلُ لِلرُّؤَسَاءِ مِثْلُ أَوْزَارِ الْأَتْبَاعِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى الْهُدَى فَاتُّبِعَ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنِ اتَّبَعَهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَأَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ فَاتُّبِعَ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنِ اتَّبَعَهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْءٌ» . وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى يُوصِلُ الْعِقَابَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْأَتْبَاعُ إِلَى الرُّؤَسَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِعَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى [النَّجْمِ: 39] وَقَوْلُهُ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الْإِسْرَاءِ: 15] بَلِ الْمَعْنَى: أَنَّ الرَّئِيسَ إِذَا وَضَعَ سُنَّةً قَبِيحَةً عَظُمَ عِقَابُهُ، حَتَّى أَنَّ ذَلِكَ الْعِقَابَ يَكُونُ مُسَاوِيًا لِكُلِّ مَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَتْبَاعِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَلَفْظَةُ: (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ لَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلتَّبْعِيضِ لَخَفَّ عَنِ الْأَتْبَاعِ بَعْضُ أَوْزَارِهِمْ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» . وَلَكِنَّهَا لِلْجِنْسِ، أَيْ لِيَحْمِلُوا مِنْ جِنْسِ أَوْزَارِ الْأَتْبَاعِ. وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ عِلْمٍ يَعْنِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءَ إِنَّمَا يُقْدِمُونَ عَلَى هَذَا الْإِضْلَالِ جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَلَى ذَلِكَ الْإِضْلَالِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ وَالْمَقْصُودُ الْمُبَالَغَةُ فِي الزَّجْرِ.

[سورة النحل (16) : الآيات 26 إلى 28]

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْقَوْمِ هَذِهِ الشُّبْهَةَ لَمْ يُجِبْ عَنْهَا، بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى مَحْضِ الْوَعِيدِ، فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟ قُلْنَا: السَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا بِطَرِيقَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَدَّاهُمْ بِكُلِّ الْقُرْآنِ، وَتَارَةً بِعَشْرِ سُوَرٍ، وَتَارَةً بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَتَارَةً بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَعَجَزُوا عَنِ الْمُعَارَضَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُعْجِزًا. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى هَذِهِ الشُّبْهَةَ بِعَيْنِهَا فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهُوَ قَوْلُهُ: اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْفَرْقَانِ: 5] وَأَبْطَلَهَا بِقَوْلِهِ: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْفَرْقَانِ: 6] وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إلا ممن يكون عالما بأسرار السموات وَالْأَرْضِ، فَلَمَّا ثَبَتَ كَوْنُ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا بِهَذَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ، وَتَكَرَّرَ شَرْحُ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ مِرَارًا كَثِيرَةً لَا جَرَمَ اقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مُجَرَّدِ الْوَعِيدِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الجواب عن هذه الشبهة، والله أعلم. [سورة النحل (16) : الآيات 26 الى 28] قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) [في قَوْلُهُ تَعَالَى قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ] اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ الْمُبَالِغَةُ فِي وَصْفِ وَعِيدِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ، وَفِي الْمُرَادِ بِالَّذِينِ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ نُمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ بَنَى صَرْحًا/ عَظِيمًا بِبَابِلَ طُولُهُ خمسة آلاف ذراع. وفيل فَرْسَخَانِ، وَرَامَ مِنْهُ الصُّعُودَ إِلَى السَّمَاءِ لِيُقَاتِلَ أهلها، فالمراد بالمكر هاهنا بِنَاءُ الصَّرْحِ لِمُقَاتَلَةِ أَهْلِ السَّمَاءِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ، أَنَّ هَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُبْطِلِينَ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ وَالْمَكْرِ بِالْمُحِقِّينَ. أما قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: أَنَّ الْإِتْيَانَ وَالْحَرَكَةَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمَّا كَفَرُوا أَتَاهُمُ اللَّهُ بِزَلَازِلَ قَلَعَ بِهَا بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ وَالْأَسَاسِ. المسألة الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا مَحْضُ التَّمْثِيلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ رَتَّبُوا مَنْصُوبَاتٍ لِيَمْكُرُوا بِهَا أَنْبِيَاءَ اللَّهِ تَعَالَى فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَهُمْ فِي تِلْكَ الْمَنْصُوبَاتِ مِثْلَ حَالِ قَوْمٍ بَنَوْا بُنْيَانًا وَعَمَّدُوهُ بِالْأَسَاطِينِ فَانْهَدَمَ ذَلِكَ الْبِنَاءُ، وَضَعُفَتْ تِلْكَ الْأَسَاطِينُ، فَسَقَطَ السَّقْفُ عَلَيْهِمْ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: مَنْ حَفَرَ بِئْرًا لِأَخِيهِ أَوْقَعَهُ اللَّهُ فِيهِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَسْقَطَ عَلَيْهِمُ السَّقْفَ وَأَمَاتَهُمْ تَحْتَهُ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى الْمَعْنَى. أما قوله تَعَالَى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ فَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ السَّقْفَ لَا يَخِرُّ إِلَّا مِنْ فَوْقِهِمْ، فَمَا مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ. وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ التَّأْكِيدَ. وَالثَّانِي: رُبَّمَا خَرَّ السَّقْفُ، وَلَا يَكُونُ تَحْتَهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا قَالَ: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ دَلَّ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا تَحْتَهُ، وَحِينَئِذٍ يُفِيدُ هَذَا الْكَلَامُ أَنَّ الْأَبْنِيَةَ قَدْ تَهَدَّمَتْ وَهُمْ مَاتُوا تَحْتَهَا. وَقَوْلُهُ: وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ إِنْ حَمَلْنَا هَذَا الْكَلَامَ عَلَى مَحْضِ التَّمْثِيلِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمُ اعْتَمَدُوا عَلَى مَنْصُوبَاتِهِمْ. ثُمَّ تَوَلَّدَ الْبَلَاءُ مِنْهَا بِأَعْيَانِهَا، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الظَّاهِرِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ نَزَلَ ذَلِكَ السَّقْفُ عَلَيْهِمْ بَغْتَةً، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَعْظَمَ فِي الزَّجْرِ لِمَنْ سَلَكَ مِثْلَ سَبِيلِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ عَذَابَهُمْ لَا يَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ، بَلِ اللَّهُ تَعَالَى يُخْزِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْخِزْيُ هُوَ الْعَذَابُ مَعَ الْهَوَانِ، وَفَسَّرَ تَعَالَى ذَلِكَ الْهَوَانَ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُمْ: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: البحث الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: قَوْلُهُ: أَيْنَ شُرَكائِيَ مَعْنَاهُ: أَيْنَ شُرَكَائِيَ فِي زَعْمِكُمْ وَاعْتِقَادِكُمْ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْأَنْعَامِ: 22] وَقَالَ أَيْضًا: وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانا/ تَعْبُدُونَ [يُونُسَ: 28] وَإِنَّمَا حَسُنَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ لِأَنَّهُ يَكْفِي فِي حُسْنِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ لِمَنْ يَحْمِلُ خَشَبَةً خُذْ طَرَفَكَ وَآخُذُ طَرَفِي، فَأُضِيفَ الطَّرَفُ إِلَيْهِ. البحث الثَّانِي: قَوْلُهُ: تُشَاقُّونَ فِيهِمْ أَيْ تُعَادُونَ وَتُخَاصِمُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِي شَأْنِهِمْ، وَقِيلَ: الْمُشَاقَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فِي شِقٍّ وَكَوْنِ الْآخَرِ فِي الشِّقِّ الْآخَرِ. البحث الثَّالِثُ: قَرَأَ نَافِعٌ: تُشَاقُّونَ بِكَسْرِ النُّونِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ النُّونِ عَلَى الْجَمْعِ. ثم قال تَعَالَى: قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ وَفِيهِ بَحْثَانِ: البحث الْأَوَّلُ: قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْمَلَائِكَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ حِينَ يَرَوْنَ خِزْيَ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا فَإِذَا ذَكَرَ الْمُؤْمِنُ هَذَا الْكَلَامَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي مَعْرِضِ إِهَانَةِ الْكَافِرِ كَانَ وَقْعُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى الْكَافِرِ وَتَأْثِيرُهُ فِي إِيذَائِهِ أَكْمَلَ وَحُصُولُ الشَّمَاتَةِ بِهِ أَقْوَى. البحث الثَّانِي: الْمُرْجِئَةُ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ مُخْتَصٌّ بِالْكَافِرِ قَالُوا لِأَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَاهِيَّةَ الْخِزْيِ وَالسُّوءِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ مُخْتَصَّةٌ بِالْكَافِرِ، وَذَلِكَ يَنْفِي حُصُولَ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، وَتَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: 48] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ عَذَابَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَرَأَ حَمْزَةُ: يَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْيَاءِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ ذُكُورٌ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ لِلَّفْظِ. ثم قال: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ:

[سورة النحل (16) : آية 29]

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ إِلْقَاءَ السَّلَمِ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَسْلَمُوا وَأَقَرُّوا لِلَّهِ بِالْعُبُودِيَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَوْلُهُ: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ أَيْ قَالُوا مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ! وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا السُّوءِ الشِّرْكُ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ رَدًّا عَلَيْهِمْ وَتَكْذِيبًا: بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالشِّرْكِ، وَمَعْنَى بَلَى رَدًّا لِقَوْلِهِمْ: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ إِلْقَاءَ السَّلَمِ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ثُمَّ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى حِكَايَةِ كَلَامِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلْقَوُا السَّلَمَ وَقَالُوا مَا كُنَّا نَعْمَلُ في الدنيا من سوء، ثم هاهنا اخْتَلَفُوا، فَالَّذِينَ جَوَّزُوا الْكَذِبَ عَلَى أَهْلِ الْقِيَامَةِ، قَالُوا: هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْكَذِبِ/ وَإِنَّمَا أَقْدَمُوا عَلَى هَذَا الْكَذِبِ لِغَايَةِ الْخَوْفِ، وَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الْكَذِبَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ قَالُوا: مَعْنَى الْآيَةِ، مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ عِنْدَ أَنْفُسِنَا أَوْ فِي اعْتِقَادِنَا، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْكَذِبَ عَلَى أَهْلِ الْقِيَامَةِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: 23] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ قَالَ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ رَدًّا عَلَيْهِمْ وَتَكْذِيبًا لَهُمْ، وَمَعْنَى بَلَى الرَّدُّ لِقَوْلِهِمْ: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يَعْنِي أَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَلَا يَنْفَعُكُمْ هَذَا الْكَذِبُ فَإِنَّهُ يُجَازِيكُمْ عَلَى الْكُفْرِ الَّذِي عَلِمَهُ مِنْكُمْ. ثم صرح بذكر العقاب فقال: [سورة النحل (16) : آية 29] فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَفَاوُتِ مَنَازِلِهِمْ فِي الْعِقَابِ، فَيَكُونُ عِقَابُ بَعْضِهِمْ أَعْظَمَ مِنْ عِقَابِ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا صَرَّحَ تَعَالَى بِذِكْرِ الْخُلُودِ لِيَكُونَ الْغَمُّ وَالْحَزَنُ أَعْظَمَ. ثم قال: فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ على قَبُولِ التَّوْحِيدِ وَسَائِرِ مَا أَتَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَتَفْسِيرُ التَّكَبُّرِ قَدْ مَرَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 32] وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَحْوَالَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَذَكَرَ أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ وَمِنْ أَوْزَارِ أَتْبَاعِهِمْ، وَذَكَرَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَوَفَّاهُمْ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ يُلْقُونَ السَّلَمَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُمُ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا

أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا خَيْرًا، وَذِكْرِ مَا أَعَدَّهُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ مَنَازِلِ الْخَيْرَاتِ وَدَرَجَاتِ السَّعَادَاتِ لِيَكُونَ وَعْدُ هَؤُلَاءِ مَذْكُورًا مَعَ وَعِيدِ أُولَئِكَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَاضِي: يَدْخُلُ تَحْتَ التَّقْوَى أَنْ يَكُونَ تَارِكًا لِكُلِّ الْمُحَرَّمَاتِ فَاعِلًا لِكُلِّ الْوَاجِبَاتِ، وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُرِيدُ الَّذِينَ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَقُولُ: هَذَا أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ الْقَاضِي، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَكْفِي فِي صِدْقِ قَوْلِهِ فُلَانٌ قَاتِلٌ أَوْ ضَارِبٌ كَوْنُهُ آتِيًا بِقَتْلِ وَاحِدٍ وَضَرْبِ وَاحِدٍ، وَلَا يَتَوَقَّفُ صِدْقُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى كَوْنِهِ آتِيًا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ وَجَمِيعِ أَنْوَاعِ الضَّرْبِ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ أَتَى بِنَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّقْوَى إِلَّا أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّقْوَى عَنِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى هَذَا الْقَيْدِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ خِلَافَ الْأَصْلِ، كَانَ تَقْيِيدُ الْمُقَيِّدِ أَكْثَرَ مُخَالَفَةً لِلْأَصْلِ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَؤُلَاءِ فِي مُقَابَلَةِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَأَشْرَكُوا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنِ اتَّقَى عَنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالُوا خَيْرًا، فَلِمَ رُفِعَ الْأَوَّلُ وَنُصِبَ هَذَا؟ أَجَابَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْفَصْلُ بَيْنَ جَوَابِ الْمُقِرِّ وَجَوَابِ الْجَاحِدِ يَعْنِي أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا سُئِلُوا لَمْ يَتَلَعْثَمُوا، وَأَطْبَقُوا الْجَوَابَ عَلَى السُّؤَالِ بَيِّنًا مَكْشُوفًا مَفْعُولًا لِلْإِنْزَالِ فَقَالُوا خَيْرًا أَيْ أَنْزَلَ خَيْرًا، وَأُولَئِكَ عَدَلُوا بِالْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ فَقَالُوا هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَلَيْسَ مِنَ الْإِنْزَالِ فِي شَيْءٍ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ هَذَا كَانَ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ، يَأْتِي الرَّجُلُ مَكَّةَ فَيَسْأَلُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَأَمْرِهِ فَيَقُولُونَ إِنَّهُ سَاحِرٌ وَكَاهِنٌ وَكَذَّابٌ، فَيَأْتِي الْمُؤْمِنِينَ وَيَسْأَلُهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ خَيْرًا، وَالْمَعْنَى: أَنْزَلَ خَيْرًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الَّذِي قَالُوهُ مِنَ الْجَوَابِ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ خَيْرٌ، وَقَوْلُهُمْ خَيْرٌ جَامِعٌ لِكَوْنِهِ حَقًّا وَصَوَابًا، وَلِكَوْنِهِمْ مُعْتَرِفِينَ بِصِحَّتِهِ وَلُزُومِهِ فَهُوَ بِالضِّدِّ مِنْ قَوْلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، أَنَّ ذَلِكَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ عَلَى وَجْهِ التَّكْذِيبِ. المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا وَمَا بَعْدَهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: خَيْراً وَهُوَ حِكَايَةٌ لِقَوْلِ الَّذِينَ اتَّقَوْا، أَيْ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا إِخْبَارًا عَنِ اللَّهِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ: مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ قَوْلَهُمْ وَقَالَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَفِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا قَوْلَانِ، أَمَّا الَّذِينَ يَقُولُونَ: إن أهل لا إله لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ فَإِنَّهُمْ يَحْمِلُونَهُ عَلَى قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَعَ الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ فُسَّاقَ أَهْلِ الصَّلَاةِ لَا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ يَحْمِلُونَ قَوْلَهُ: أَحْسَنُوا عَلَى مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ، وَجَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ وَاحْتَرَزَ عَنْ كُلِّ الْمُحَرَّمَاتِ. وَأما قوله: فِي هذِهِ الدُّنْيا فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَحْسَنُوا وَالتَّقْدِيرُ: لِلَّذِينِ اتَّقَوْا بِعَمَلِ الْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا فَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةٌ، وَتِلْكَ الْحَسَنَةُ هِيَ الثَّوَابُ الْعَظِيمُ، وَقِيلَ: تِلْكَ الْحَسَنَةُ هُوَ أَنَّ ثَوَابَهَا يُضَاعَفُ بِعَشْرِ مَرَّاتٍ وَبِسَبْعِمِائَةٍ وَإِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فِي هذِهِ الدُّنْيا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: حَسَنَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا أَنْ تَحْصُلَ لَهُمُ الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْحَسَنَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الدُّنْيَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ وَالثَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ جَزَاءٌ عَلَى مَا عَمِلُوهُ. وَالثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الظَّفَرُ عَلَى أَعْدَاءِ الدَّيْنِ بِالْحُجَّةِ وَبِالْغَلَبَةِ لَهُمْ، وَبِاسْتِغْنَامِ أَمْوَالِهِمْ وَفَتْحِ بِلَادِهِمْ، كَمَا جَرَى بِبَدْرٍ وَعِنْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَقَدْ أَجْلَوْهُمْ عَنْهَا وَأَخْرَجُوهُمْ إِلَى الْهِجْرَةِ، وَإِخْلَاءِ الْوَطَنِ، وَمُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَعْظُمُ مُوقِعُهُ. وَالثَّالِثُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمَّا أَحْسَنُوا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ أَتَوْا بِالطَّاعَاتِ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ وَالْأَلْطَافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [مُحَمَّدٍ: 17] . وَأما قوله: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الْأَنْعَامِ: 32] بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ حُصُولَ هَذَا الْخَيْرِ، ثم قال: وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ أَيْ لَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ دَارُ الْآخِرَةِ، فَحُذِفَتْ لِسَبْقِ ذِكْرِهَا، هَذَا إِذَا لَمْ تُجْعَلُ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةً بِمَا بَعْدَهَا، فَإِنْ وَصَلْتَهَا بِمَا بَعْدَهَا قُلْتَ: وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ فَتَرْفَعُ جَنَّاتٍ عَلَى أَنَّهَا اسْمٌ لِنِعْمَ، كَمَا تَقُولُ: نِعْمَ الدَّارُ دَارٌ يَنْزِلُهَا زَيْدٌ. وَأما قوله: جَنَّاتُ عَدْنٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَوْصُولَةً بِمَا قَبْلَهَا، فَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ ارْتِفَاعِهَا، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مَقْطُوعَةً، فَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَنَّاتُ عَدْنٍ مَرْفُوعَةٌ بِإِضْمَارِ «هِيَ» كَأَنَّكَ لَمَّا قُلْتَ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ/ قِيلَ: أَيُّ دَارٍ هِيَ هَذِهِ الْمَمْدُوحَةُ فَقُلْتَ: هِيَ جَنَّاتُ عَدْنٍ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: جَنَّاتُ عَدْنٍ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، ويدخلونها خَبَرُهُ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: نِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ خَبَرُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: جَنَّاتُ عَدْنٍ نِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: جَنَّاتُ يَدُلُّ عَلَى الْقُصُورِ وَالْبَسَاتِينِ وَقَوْلُهُ: عَدْنٍ يَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ، وَقَوْلُهُ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ هُنَاكَ أَبْنِيَةٌ يَرْتَفِعُونَ عَلَيْهَا وَتَكُونُ الْأَنْهَارُ جَارِيَةً مِنْ تَحْتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَدُلُّ عَلَى حُصُولِ كُلِّ الْخَيْرَاتِ وَالسَّعَادَاتِ، وَهَذَا أَبْلَغُ من قوله: فِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزُّخْرُفِ: 71] لِأَنَّ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ دَاخِلَانِ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ مَعَ أَقْسَامٍ أُخْرَى. الثَّانِي: قَوْلُهُ: لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ يَعْنِي هَذِهِ الْحَالَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي الجنة، لأن قوله: لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجِدُ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ فِي الدُّنْيَا. ثم قال تَعَالَى: كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ [إلى آخره الآية] أَيْ هَكَذَا جَزَاءُ التَّقْوَى، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَادَ إِلَى وَصْفِ الْمُتَّقِينَ فَقَالَ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النَّحْلِ: 28] وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ صِفَةٌ لِلْمُتَّقِينَ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ وَقَوْلُهُ: طَيِّبِينَ كَلِمَةٌ مُخْتَصَرَةٌ جَامِعَةٌ لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ إِتْيَانُهُمْ بِكُلِّ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَاجْتِنَابُهُمْ عَنْ كُلِّ مَا نُهُوا عَنْهُ وَيَدْخُلُ فِيهِ كَوْنُهُمْ مَوْصُوفِينَ بِالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ مُبَرَّئِينَ عَنِ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كَوْنُهُمْ مُبَرَّئِينَ عَنِ الْعَلَائِقِ الْجُسْمَانِيَّةِ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى حَضْرَةِ الْقُدْسِ وَالطَّهَارَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَنَّهُ طَابَ لَهُمْ قَبْضُ الْأَرْوَاحِ وَأَنَّهَا لَمْ تُقْبَضْ إِلَّا مَعَ الْبِشَارَةِ بِالْجَنَّةِ حَتَّى صَارُوا كَأَنَّهُمْ مُشَاهِدُونَ لَهَا وَمَنْ هَذَا حاله

[سورة النحل (16) : الآيات 33 إلى 34]

لَا يَتَأَلَّمُ بِالْمَوْتِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّوَفِّيَ هُوَ قَبْضُ الْأَرْوَاحِ، وَإِنْ كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: إِنَّهُ وَفَاةُ الْحَشْرِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ عِنْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَاحْتَجَّ الْحَسَنُ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ التَّوَفِّي وَفَاةُ الْحَشْرِ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ عِنْدَ قَبْضِ الْأَرْوَاحِ فِي الدُّنْيَا ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا بَشَّرُوهُمْ بِالْجَنَّةِ صَارَتِ الْجَنَّةُ كَأَنَّهَا دَارُهُمْ وَكَأَنَّهُمْ فِيهَا فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمُ، ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أي هي خاصة لكم كأنكم فيها. [سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 34] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ لِمُنْكِرِي النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُمْ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ يُنْزِلَ اللَّهُ تَعَالَى مَلَكًا مِنَ السَّمَاءِ يَشْهَدُ عَلَى صِدْقِهِ فِي ادِّعَاءِ النبوة فقال تعالى: لْ يَنْظُرُونَ فِي التَّصْدِيقِ بِنُبُوَّتِكَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ شَاهِدِينَ بِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا طَعَنُوا فِي الْقُرْآنِ بِأَنْ قَالُوا: إِنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْوَاعَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ لَهُمْ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الْوَعْدِ لِمَنْ وَصَفَ الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ خَيْرًا وَصِدْقًا وَصَوَابًا، عَادَ إِلَى بَيَانِ أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ لَا يَنْزَجِرُونَ عَنِ الْكُفْرِ بِسَبَبِ الْبَيَانَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، بَلْ كَانُوا لَا يَنْزَجِرُونَ عَنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ إِلَّا إِذَا جَاءَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالتَّهْدِيدِ وَأَتَاهُمْ أَمْرُ رَبِّكَ وَهُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّ على كلا التقديرين فقد قال تعالى: ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ كَلَامُ هَؤُلَاءِ وَأَفْعَالُهُمْ يُشْبِهُ كَلَامَ الْكُفَّارِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَفْعَالَهُمْ. ثم قال: ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَالتَّقْدِيرُ: كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَصَابَهُمُ الْهَلَاكُ الْمُعَجَّلُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ أَنْزَلَ بِهِمْ مَا اسْتَحَقُّوهُ بِكُفْرِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنْ كَفَرُوا، وَكَذَّبُوا الرَّسُولَ فَاسْتَوْجَبُوا مَا نَزَلْ بِهِمْ. ثم قال: فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَالْمُرَادُ أَصَابَهُمْ عِقَابُ سَيِّئَاتِ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ أَيْ نَزَلَ بِهِمْ عَلَى وَجْهٍ أَحَاطَ بجوانبهم: ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي عقاب استهزائهم. [سورة النحل (16) : الآيات 35 الى 37] وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) [في قوله تعالى وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إلى قوله حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ لِمُنْكِرِي النُّبُوَّةِ، وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِصِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْجَبْرِ عَلَى الطَّعْنِ فِي النُّبُوَّةِ فَقَالُوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ الْإِيمَانَ لَحَصَلَ الْإِيمَانُ، سَوَاءٌ جِئْتَ أَوْ لم تجيء، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ الْكُفْرَ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ

الكفر سواء جئت أو لم تجيء، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْكُلُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا فَائِدَةَ فِي مَجِيئِكَ وَإِرْسَالِكَ، فَكَانَ الْقَوْلُ بِالنُّبُوَّةِ بَاطِلًا، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ هِيَ عَيْنُ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الْأَنْعَامِ: 148] وَاسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهِ مِثْلُ اسْتِدْلَالِهِمْ بِتِلْكَ الْآيَةِ. وَالْكَلَامُ فِيهِ اسْتِدْلَالًا وَاعْتِرَاضًا عَيْنُ مَا تَقَدَّمَ هُنَاكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ نَذْكُرَ مِنْهُ الْقَلِيلَ فَنَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ هِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمَّا كَانَ الْكُلُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ بَعْثُهُ الْأَنْبِيَاءَ عَبَثًا. فَنَقُولُ: هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَعْثَةِ الرَّسُولِ مَزِيدُ فَائِدَةٍ فِي حُصُولِ الْإِيمَانِ وَدَفْعِ الْكُفْرِ كَانَتْ بَعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرَ جَائِزَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَهَذَا الْقَوْلُ جَارٍ مَجْرَى طَلَبِ الْعِلَّةِ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وفي أفعاله، وذلك باطل، بل الله تَعَالَى أَنْ يَحْكُمَ فِي مُلْكِهِ وَمَلَكُوتِهِ مَا يَشَاءُ وَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا وَلِمَ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ؟ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِنْكَارَ إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ سُنَّتَهُ فِي عَبِيدِهِ إِرْسَالُ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَأَمْرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَنَهْيُهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ. ثم قال: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ أَمَرَ الْكُلَّ بِالْإِيمَانِ، وَنَهَى الْكُلَّ عَنِ الْكُفْرِ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى هَدَى الْبَعْضَ وَأَضَلَّ الْبَعْضَ، فَهَذِهِ سُنَّةٌ قَدِيمَةٌ لِلَّهِ/ تَعَالَى مَعَ الْعِبَادِ، وَهِيَ أَنَّهُ يَأْمُرُ الْكُلَّ بِالْإِيمَانِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْكُفْرِ، ثُمَّ يَخْلُقُ الْإِيمَانَ فِي الْبَعْضِ وَالْكُفْرَ فِي الْبَعْضِ. وَلَمَّا كَانَتْ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَعْنَى سُنَّةً قَدِيمَةً فِي حَقِّ كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ وَكُلِّ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ مِنْهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِحُكْمِ كَوْنِهِ إِلَهًا مُنَزَّهًا عَنِ اعْتِرَاضَاتِ الْمُعْتَرِضِينَ وَمُطَالَبَاتِ الْمُنَازِعِينَ، كَانَ إِيرَادُ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مُوجِبًا لِلْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالْبُعْدِ عَنِ اللَّهِ فَثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا حَكَمَ عَلَى هَؤُلَاءِ بِاسْتِحْقَاقِ الْخِزْيِ وَاللَّعْنِ، لَا لِأَنَّهُمْ كَذَبُوا فِي قَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ بَلْ لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ كَوْنَ الْأَمْرِ كَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَهَذَا بَاطِلٌ، فَلَا جَرَمَ اسْتَحَقُّوا عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ مَزِيدَ الذَّمِّ وَاللَّعْنِ. فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَأَمَّا مَنْ تَقَدَّمَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ وَجْهًا آخَرَ فَقَالُوا: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ ذَكَرُوا هَذَا الْكَلَامَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ كَمَا قَالَ قَوْمُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هُودٍ: 87] وَلَوْ قَالُوا ذَلِكَ مُعْتَقِدِينَ لَكَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى هَذِهِ الشُّبْهَةَ قَالَ: كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ هؤلاء للكفار أَبَدًا كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ. ثم قال: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا مَنَعَ أَحَدًا مِنَ الْإِيمَانِ وَمَا أَوْقَعَهُ فِي الْكُفْرِ، وَالرُّسُلُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ إِلَّا التَّبْلِيغُ، فَلَمَّا بَلَّغُوا التَّكَالِيفَ وَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مَا مَنَعَ أَحَدًا عَنِ الْحَقِّ كَانَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ سَاقِطَةً. أَمَّا أَصْحَابُنَا فَقَالُوا: مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الرُّسُلَ بِالتَّبْلِيغِ. فَهَذَا التَّبْلِيغُ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ، فَأَمَّا أَنَّ الْإِيمَانَ هَلْ يَحْصُلُ أَمْ لَا يَحْصُلُ فَذَلِكَ لَا تَعَلُّقَ لِلرَّسُولِ بِهِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ بِإِحْسَانِهِ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ بخذلانه.

المسألة الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي بَيَانِ أَنَّ الْهُدَى وَالضَّلَالَ مِنَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ أَبَدًا فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ وَالْأُمَمِ آمِرًا بِالْإِيمَانِ وَنَاهِيًا عَنِ الْكُفْرِ. ثم قال: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ يَعْنِي: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَالصِّدْقِ وَالْحَقِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَضَلَّهُ عَنِ الْحَقِّ وَأَعْمَاهُ عَنِ الصِّدْقِ وَأَوْقَعَهُ فِي الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُوَافِقُ إِرَادَتَهُ، بَلْ قَدْ يَأْمُرُ بِالشَّيْءِ وَلَا يُرِيدُهُ وَيَنْهَى عَنِ الشَّيْءِ وَيُرِيدُهُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يَقُولُونَ: الْأَمْرُ وَالْإِرَادَةُ مُتَطَابِقَانِ أَمَّا الْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ فَقَدْ يَخْتَلِفَانِ، وَلَفْظُ هَذِهِ الْآيَةِ صَرِيحٌ فِي قَوْلِنَا وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِيمَانِ عَامٌّ فِي حَقِّ الْكُلِّ أَمَّا إِرَادَةُ الْإِيمَانِ فَخَاصَّةٌ بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ. أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ: بِأَنَّ الْمُرَادَ: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ لِنَيْلِ ثَوَابِهِ وَجَنَّتِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ أَيِ الْعِقَابُ. قَالَ: وَفِي صِفَةِ قَوْلِهِ: حَقَّتْ عَلَيْهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا الْعَذَابُ دُونَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ لِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْمَعْصِيَةَ لَا يَجُوزُ وَصْفُهُمَا بِأَنَّهُ حَقٌّ. وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ وَهَذِهِ الْعَاقِبَةُ هِيَ آثَارُ الْهَلَاكِ لِمَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ اسْتَأْصَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَذَابِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالضَّلَالِ الْمَذْكُورِ هُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ. وَأَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَالَ: قَوْلُهُ: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ أَيْ مَنِ اهْتَدَى فَكَانَ فِي حُكْمِ اللَّهِ مُهْتَدِيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ يُرِيدُ: مَنْ ظَهَرَتْ ضَلَالَتُهُ، كَمَا يُقَالُ لِلظَّالِمِ: حَقَّ ظُلْمُكَ وَتَبَيَّنَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: حَقَّ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُضِلَّهُمْ إذا ضلوا كقوله: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إبراهيم: 27] . وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ أَنَّ الْهُدَى وَالْإِضْلَالَ لَا يَكُونَانِ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْمُتَعَسِّفَةُ وَالتَّأْوِيلَاتُ الْمُسْتَكْرَهَةُ قَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَهَا وَسُقُوطَهَا مِرَارًا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِعَادَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الرَّابِعَةُ: فِي الطَّاغُوتِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: اجْتَنِبُوا عِبَادَةَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَسَمَّى الْكُلَّ طَاغُوتًا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: اجْتَنِبُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ فِي دُعَائِهِ لَكُمْ. المسألة الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِنَا، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ امْتَنَعَ أَنْ لا يصدر منه الضلالة، وإلا لا نقلب خَبَرُ اللَّهِ الصِّدْقُ كَذِبًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ وَمُسْتَلْزَمُ الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَكَانَ عَدَمُ الضَّلَالَةِ مِنْهُمْ مُحَالًا، وَوُجُودُ الضَّلَالَةِ مِنْهُمْ وَاجِبًا عَقْلًا، فَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ الكثيرة والله علم. وَنَظَائِرُ هَذِهِ الْآيَةِ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلَهُ: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الْأَعْرَافِ: 30] وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ [يُونُسَ: 96] وَقَوْلُهُ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [يس: 7] . ثم قال تَعَالَى: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ وَالْمَعْنَى: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ مُعْتَبِرِينَ لِتَعْرِفُوا أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِكُمْ كَمَا نَزَلَ بِهِمْ، ثُمَّ أَكَّدَ أَنَّ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَإِنَّهُ لَا يَهْتَدِي، فَقَالَ: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ أَيْ إِنْ تَطْلُبْ بِجُهْدِكَ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:

[سورة النحل (16) : الآيات 38 إلى 40]

المسألة الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَهْدِي بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ وَالْبَاقُونَ: لَا يُهْدَى بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ. أَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى: فَفِيهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرْشِدُ أَحَدًا أَضَلَّهُ، وَبِهَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّ يَهْدِي بِمَعْنَى يَهْتَدِي. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَقُولُ: قَدْ هَدَى الرَّجُلُ يُرِيدُونَ قَدِ اهْتَدَى، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ إِذَا أَضَلَّ أَحَدًا لَمْ يَصِرْ ذَلِكَ مُهْتَدِيًا. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ: فَالوجه فِيهَا إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ، أَيْ مَنْ يُضِلُّهُ، فَالرَّاجِعُ إِلَى الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ مَنْ مَحْذُوفٌ مُقَدَّرٌ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ [الْأَعْرَافِ: 186] وَكَقَوْلِهِ: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [الْجَاثِيَةِ: 23] أَيْ مِنْ بَعْدِ إِضْلَالِ اللَّهِ إِيَّاهُ. ثم قال تَعَالَى: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي وليس لهم أحد ينصرهم أن يُعِينُهُمْ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأَقُولُ أَوَّلُ هَذِهِ الْآيَاتِ مُوهِمٌ لِمَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَآخِرُهَا مُشْتَمِلٌ عَلَى الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى قَوْلِنَا، وأكثر الآيات كذلك مشتملة على الوجهين، والله أعلم. [سورة النحل (16) : الآيات 38 الى 40] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) [في قوله تعالى وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إلى قوله أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ] وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ لِمُنْكِرِي النُّبُوَّةِ فَقَالُوا الْقَوْلُ بِالْبَعْثِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ بَاطِلٌ، فَكَانَ الْقَوْلُ بِالنُّبُوَّةِ بَاطِلًا. أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ إِلَّا هَذِهِ الْبَيِّنَةَ الْمَخْصُوصَةَ، فَإِذَا مَاتَ وَتَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ وَبَطَلَ ذَلِكَ الْمِزَاجُ وَالِاعْتِدَالُ امْتَنَعَ عَوْدُهُ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا عَدِمَ فَقَدْ فَنِيَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ ذَاتٌ وَلَا حَقِيقَةٌ بَعْدَ فِنَائِهِ وَعَدَمِهِ، فَالَّذِي يَعُودُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مُغَايِرًا لِلْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ عَيْنُهُ. وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ الْقَوْلُ بِالْبَعْثِ بَطَلَ الْقَوْلُ بِالنُّبُوَّةِ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: / الْأَوَّلُ: أَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ دَاعِيًا إِلَى تَقْرِيرِ الْقَوْلِ بِالْمَعَادِ، فَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ دَاعِيًا إِلَى الْقَوْلِ الْبَاطِلِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا صَادِقًا. الثَّانِي: أَنَّهُ يُقَرِّرُ نُبُوَّةَ نَفْسِهِ وَوُجُوبَ طَاعَتِهِ بِنَاءً عَلَى التَّرْغِيبِ فِي الثَّوَابِ وَالتَّرْهِيبِ عَنِ الْعِقَابِ، وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ بَطَلَتْ نُبُوَّتُهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا فَنِيَ وَصَارَ عَدَمًا مَحْضًا وَنَفْيًا صِرْفًا، فَإِنَّهُ بَعْدَ هَذَا الْعَدَمِ الصِّرْفِ لَا يَعُودُ بِعَيْنِهِ بَلِ الْعَائِدُ يَكُونُ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَهُ. وَهَذَا الْقَسَمُ وَالْيَمِينُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّ عَوْدَهُ بِعَيْنِهِ بَعْدَ عَدَمِهِ مُحَالٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ يَجْحَدُونَ فِي قُلُوبِهِمْ وَعُقُولِهِمْ

هَذَا الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ الْقَوْلُ بِالْبَعْثِ بَطَلَ الْقَوْلُ بِالنُّبُوَّةِ فَلَمْ يَذْكُرْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّصْرِيحِ، لِأَنَّهُ كَلَامٌ جَلِيٌّ مُتَبَادِرٌ إِلَى الْعُقُولِ فَتَرَكُوهُ لِهَذَا الْعُذْرِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْبَعْثِ مُمْكِنٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّهُ وَعْدٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ تَحْقِيقُهُ، ثُمَّ بَيَّنَ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ وَعْدًا حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمُطِيعِ وَبَيْنَ الْعَاصِي، وَبَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ، وَبَيْنَ الظَّالِمِ وَالْمَظْلُومِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ قَدْ بَالَغْنَا فِي شَرْحِهَا وَتَقْرِيرِهَا فِي سُورَةِ يُونُسَ. وَالوجه الثَّانِي: فِي بَيَانِ إِمْكَانِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى مُوجِدًا لِلْأَشْيَاءِ وَمُكَوِّنًا لَهَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى سَبْقِ مَادَّةٍ وَلَا مُدَّةٍ وَلَا آلَةٍ، وَهُوَ تَعَالَى إِنَّمَا يُكَوِّنُهَا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلَيْسَ لِقُدْرَتِهِ دَافِعٌ وَلَا لِمَشِيئَتِهِ مَانِعٌ فَعَبَّرَ تَعَالَى عَنْ هَذَا النَّفَاذِ الْخَالِي عَنِ الْمُعَارِضِ بِقَوْلِهِ: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكَمَا أَنَّهُ تَعَالَى قَدَرَ عَلَى الْإِيجَادِ فِي الِابْتِدَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ فِي الْإِعَادَةِ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ الْقَاطِعَيْنِ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ والبعث والقيامة حق وصدق، والقوم إِنَّمَا طَعَنُوا فِي صِحَّةِ النُّبُوَّةِ بِنَاءً عَلَى الطَّعْنِ فِي هَذَا الْأَصْلِ، فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا الطَّعْنُ بَطَلَ أَيْضًا طَعْنُهُمْ فِي النُّبُوَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ حِكَايَةٌ عَنِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَقَوْلُهُ: بَلى إِثْبَاتٌ لِمَا بَعْدَ النَّفْيِ، أَيْ بَلَى يَبْعَثُهُمْ، وَقَوْلُهُ: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أَيْ وَعَدَ بِالْبَعْثِ وَعْدًا حَقًّا لَا خُلْفَ فِيهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ يَبْعَثُهُمْ دَلَّ عَلَى قَوْلِهِ وَعَدَ بِالْبَعْثِ، وَقَوْلُهُ: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْبَعْثِ أَيْ بَلَى يَبْعَثُهُمْ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِيمَا أَقْسَمُوا فِيهِ. ثم قَالَ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ: كُنْ إِنْ كَانَ خِطَابًا مَعَ الْمَعْدُومِ فَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ خِطَابًا مَعَ الْمَوْجُودِ كَانَ هَذَا أَمْرًا بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ لِنَفْيِ الْكَلَامِ وَالْمُعَايَاةِ وَخِطَابٌ مَعَ الْخَلْقِ بِمَا يَعْقِلُونَ، وَلَيْسَ خِطَابًا لِلْمَعْدُومِ، لِأَنَّ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ كَائِنٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعَلَى مَا أَرَادَهُ مِنَ الْإِسْرَاعِ، وَلَوْ أَرَادَ خَلْقَ الدنيا والآخرة بما فيهما من السموات وَالْأَرْضِ فِي قَدْرِ لَمْحِ الْبَصَرِ لَقَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْعِبَادَ خُوطِبُوا بِذَلِكَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قَوْلُنا مُبْتَدَأٌ وأَنْ نَقُولَ خبره وكُنْ فَيَكُونُ مِنْ كَانَ التَّامَّةِ الَّتِي بِمَعْنَى الْحُدُوثِ وَالْوُجُودِ أَيْ إِذَا أَرَدْنَا حُدُوثَ شَيْءٍ فَلَيْسَ إِلَّا أَنْ نَقُولَ لَهُ احْدُثْ فَيَحْدُثُ عَقِيبَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ فَيَكُونُ بِنَصْبِ النُّونِ، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ وَجْهُهَا أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: أَنْ نَقُولَ لَهُ كَلَامًا تَامًّا ثُمَّ يُخْبِرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ كَمَا يُقَالُ: إِنَّ زَيْدًا يَكْفِيهِ إِنْ أُمِرَ فَيَفْعَلُ فَتَرْفَعُ قَوْلَكَ فَيَفْعَلُ عَلَى أَنْ تَجْعَلَهُ كَلَامًا مُبْتَدَأً، وأم الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ فَوَجْهُهُ أَنْ تَجْعَلَهُ عَطْفًا عَلَى أَنْ نَقُولَ، وَالْمَعْنَى: أَنْ نَقُولَ كُنْ فَيَكُونَ هَذَا قَوْلُ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى جَوَابِ

كُنْ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ لَفْظَةُ «كُنْ» وَإِنْ كَانَتْ عَلَى لَفْظَةِ الْأَمْرِ فَلَيْسَ الْقَصْدُ بِهَا هاهنا الْأَمْرَ إِنَّمَا هُوَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِ الشَّيْءِ وَحُدُوثِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ قَوْلُهُ إِنَّهُ نُصِبَ عَلَى جَوَابِ كُنْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قِدَمِ الْقُرْآنِ فَقَالُوا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ إِحْدَاثَ شَيْءٍ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ كُنْ حَادِثًا لَافْتَقَرَ إِحْدَاثُهُ إِلَى أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّسَلْسُلَ، وَهُوَ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ قَدِيمٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ عِنْدِي لَيْسَ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ إِذا لَا تُفِيدُ التَّكْرَارَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتِ الدَّارَ مَرَّةً طُلِّقَتْ طَلْقَةً وَاحِدَةً فَلَوْ دَخَلَتْ ثَانِيًا لَمْ تُطَلَّقْ طَلْقَةً ثَانِيَةً فَعَلِمْنَا أَنَّ كَلِمَةَ إِذَا لَا تُفِيدُ التَّكْرَارَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي كُلِّ مَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَلَمْ يَلْزَمِ التَّسَلْسُلُ. وَالوجه الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ إِنْ صَحَّ لَزِمَ الْقَوْلُ بِقِدَمِ لَفْظَةِ «كُنْ» وَهَذَا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ/ بِالضَّرُورَةِ، لِأَنَّ لَفْظَةَ: كُنْ، مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْكَافِ وَالنُّونِ، وَعِنْدَ حُضُورِ الْكَافِ لَمْ تَكُنِ النُّونُ حَاضِرَةً وَعِنْدَ مَجِيءِ النُّونِ تَتَوَلَّى الْكَافُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ كُنْ يَمْتَنِعُ كَوْنُهَا قَدِيمَةً، وَإِنَّمَا الَّذِي يَدَّعِي أَصْحَابُنَا كَوْنَهُ قَدِيمًا صِفَةٌ مُغَايِرَةٌ لِلَفْظَةِ كُنْ، فَالَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ لَا يَقُولُ بِهِ أَصْحَابُنَا، وَالَّذِي يَقُولُونَ بِهِ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ فَسَقَطَ التَّمَسُّكُ بِهِ. وَالوجه الثَّالِثُ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ إِنَّ فُلَانًا لَا يُقْدِمُ عَلَى قَوْلٍ، وَلَا عَلَى فِعْلٍ إِلَّا وَيَسْتَعِينُ فِيهِ بِاللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ عَاقِلًا لَا يَقُولُ: إِنَّ اسْتِعَانَتَهُ بِاللَّهِ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ اسْتِعَانَةٍ مَسْبُوقَةً بِاسْتِعَانَةٍ أُخْرَى إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ بِحَسَبِ الْعُرْفِ بَاطِلٌ فَكَذَلِكَ مَا قَالُوهُ. وَالوجه الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْعِرَةٌ بِحُدُوثِ الْكَلَامِ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ يَقْتَضِي كَوْنَ الْقَوْلِ وَاقِعًا بِالْإِرَادَةِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ. وَالوجه الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَّقَ الْقَوْلَ بِكَلِمَةِ إِذَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ لَفْظَةَ «إِذَا» تَدْخُلُ لِلِاسْتِقْبَالِ. وَالوجه الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ نَقُولَ لَهُ لَا خِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ يُنْبِئُ عَنِ الِاسْتِقْبَالِ. وَالوجه الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ: كُنْ فَيَكُونُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُدُوثَ الْكَوْنِ حَاصِلٌ عَقِيبَ قَوْلِهِ: كُنْ فَتَكُونُ كَلِمَةُ «كُنْ» مُتَقَدِّمَةً عَلَى حُدُوثِ الْكَوْنِ بِزَمَانٍ وَاحِدٍ، وَالْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْمُحْدَثِ بِزَمَانٍ وَاحِدٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا. وَالوجه الْخَامِسُ: أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [النِّسَاءِ: 47] ، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [الْأَحْزَابِ: 38] . اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزُّمَرِ: 23] . فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطُّورِ: 34] ، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً [الْأَحْقَافِ: 12] . فَإِنْ قِيلَ: فَهَبْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى قِدَمِ الْكَلَامِ، وَلَكِنَّكُمْ ذَكَرْتُمْ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ الْكَلَامِ فَمَا الْجَوَابُ عَنْهُ؟

[سورة النحل (16) : الآيات 41 إلى 42]

قُلْنَا: نَصْرِفُ هَذِهِ الدَّلَائِلَ إِلَى الْكَلَامِ الْمَسْمُوعِ الَّذِي هُوَ مُرَكَّبٌ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، وَنَحْنُ نقول بكونه محدثا مخلوقا. والله أعلم. [سورة النحل (16) : الآيات 41 الى 42] وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ تَمَادَوْا فِي الْغَيِّ، وَالْجَهْلِ، وَالضَّلَالِ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَبْعُدُ إِقْدَامُهُمْ عَلَى إِيذَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَضَرِّهِمْ، وَإِنْزَالِ الْعُقُوبَاتِ بِهِمْ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُهَاجِرُوا عَنْ تِلْكَ الدِّيَارِ وَالْمَسَاكِنِ، فَذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمَ تِلْكَ الْهِجْرَةِ وَبَيَّنَ مَا لِهَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرِينَ مِنَ الْحَسَنَاتِ فِي الدُّنْيَا، وَالْأَجْرِ فِي الْآخِرَةِ مِنْ حَيْثُ هَاجَرُوا وَصَبَرُوا وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ، وَذَلِكَ تَرْغِيبٌ لِغَيْرِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سِتَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ صُهَيْبٍ وَبِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَخَبَّابٍ وَعَابِسٍ وَجُبَيْرٍ مَوْلَيَيْنِ لِقُرَيْشٍ فَجَعَلُوا يُعَذِّبُونَهُمْ لِيَرُدُّوهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، أَمَّا صُهَيْبٌ فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا رَجُلٌ كَبِيرٌ إِنْ كُنْتُ لَكُمْ لَمْ أَنْفَعْكُمْ وَإِنْ كُنْتُ عَلَيْكُمْ لَمْ أَضُرَّكُمْ فَافْتَدَى مِنْهُمْ بِمَالِهِ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: رَبِحَ الْبَيْعُ يَا صُهَيْبُ، وَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَ الرَّجُلُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ، وَهُوَ ثَنَاءٌ عَظِيمٌ يُرِيدُ لَوْ لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ النَّارَ لَأَطَاعَهُ فَكَيْفَ ظَنُّكَ بِهِ وَقَدْ خَلَقَهَا؟ وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَقَدْ قَالُوا بَعْضَ مَا أَرَادَ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَالرُّجُوعِ عَنِ الْإِسْلَامِ فَتَرَكُوا عَذَابَهُمْ، ثُمَّ هَاجَرُوا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ عِظَمَ مَحَلِّ الْهِجْرَةِ، وَمَحَلِّ الْمُهَاجِرِينَ فَالوجه فِيهِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ بِسَبَبِ هِجْرَتِهِمْ ظَهَرَتْ قُوَّةُ الْإِسْلَامِ، كَمَا أَنَّ بِنُصْرَةِ الْأَنْصَارِ قَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَدَلَّ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ أَنَّ الْهِجْرَةَ إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلَّهِ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَوْقِعٌ، وَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا مَظْلُومِينَ فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَذِّبُونَهُمْ. ثم قال: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: حَسَنَةً صِفَةٌ لِلْمَصْدَرِ مِنْ قَوْلِهِ: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا وَالتَّقْدِيرُ: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ تَبْوِئَةً حَسَنَةً، وَفِي قِرَاءَةِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ إِبْوَاءَةً حَسَنَةً) . الثَّانِي: لَنُنْزِلَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا مَنْزِلَةً حَسَنَةً وَهِيَ الْغَلَبَةُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ الَّذِينَ ظَلَمُوهُمْ، وَعَلَى الْعَرَبِ قَاطِبَةً، وَعَلَى أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَعْطَى رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَطَاءً قَالَ: خُذْ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهِ هَذَا مَا وَعَدَكَ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَمَا ذَخَرَ لَكَ فِي الْآخِرَةِ أَكْبَرُ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مَبَاءَةً حَسَنَةً وَهِيَ الْمَدِينَةُ حَيْثُ آوَاهُمْ أَهْلُهَا وَنَصَرُوهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ، وَالتَّقْدِيرُ: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا دَارًا حَسَنَةً أَوْ بَلْدَةً حَسَنَةً يَعْنِي الْمَدِينَةَ. ثم قال تَعَالَى: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ وَأَشْرَفُ، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وَالضَّمِيرُ إِلَى مَنْ يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْكُفَّارِ، أَيْ لَوْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْمَعُ لِهَؤُلَاءِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَيْدِيهِمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ لَرَغِبُوا فِي دِينِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُهَاجِرِينَ، أَيْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لَزَادُوا فِي اجْتِهَادِهِمْ وصبرهم.

[سورة النحل (16) : الآيات 43 إلى 47]

ثم قال: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَفِي مَحَلِّ: الَّذِينَ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هاجَرُوا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: هُمُ الَّذِينَ صَبَرُوا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التقدير: أعني الذين صبروا وكلا الوجهين مَدْحٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ صَبَرُوا عَلَى الْعَذَابِ وَعَلَى مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ الَّذِي هُوَ حَرَمُ اللَّهِ، وَعَلَى الْمُجَاهَدَةِ وَبَذْلِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ الصَّبْرَ وَالتَّوَكُّلَ. أَمَّا الصَّبْرُ فَلِلسَّعْيِ فِي قَهْرِ النَّفْسِ، وَأَمَّا التَّوَكُّلُ فَلِلِانْقِطَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ مِنَ الْخَلْقِ وَالتَّوَجُّهِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى الْحَقِّ، فَالْأَوَّلُ: هُوَ مَبْدَأُ السُّلُوكِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: آخِرُ هَذَا الطَّرِيقِ وَنِهَايَتُهُ، وَاللَّهُ أعلم. [سورة النحل (16) : الآيات 43 الى 47] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) [فِي قَوْلُهُ تَعَالَى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ لِمُنْكِرِي النُّبُوَّةِ كَانُوا يَقُولُونَ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ وَاحِدًا مِنَ الْبَشَرِ، بَلْ لَوْ أَرَادَ بِعْثَةَ رَسُولٍ إِلَيْنَا لَكَانَ يَبْعَثُ مَلَكًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَقْرِيرَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فلا نعيده هاهنا، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَامِ: 8] وَقَالُوا: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا [الْمُؤْمِنُونَ: 47] وَقَالُوا: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ [الْمُؤْمِنُونَ: 33، 34] وَقَالَ: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ/ مِنْهُمْ [يُونُسَ: 2] وَقَالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الْفَرْقَانِ: 7] . فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ وَالْمَعْنَى: أَنَّ عَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَوَّلِ زَمَانِ الْخَلْقِ وَالتَّكْلِيفِ أَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْ رَسُولًا إِلَّا مِنَ الْبَشَرِ، فَهَذِهِ الْعَادَةُ مُسْتَمِرَّةٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَطَعْنُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ بِهَذَا السُّؤَالِ الرَّكِيكِ أَيْضًا طَعْنٌ قَدِيمٌ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. المسألة الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَرْسَلَ أَحَدًا مِنَ النِّسَاءِ، وَدَلَّتْ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ مَا أَرْسَلَ مَلَكًا، لَكِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فَاطِرٍ: 1] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ رُسُلُ اللَّهِ إِلَى سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَا أَرْسَلَ رَسُولًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى النَّاسِ. قَالَ الْقَاضِي: وَزَعَمَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إِلَّا مَنْ هُوَ بِصُورَةِ الرِّجَالِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. ثم قال الْقَاضِي: لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْمَلَكَ الَّذِي يُرْسَلُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِحَضْرَةِ أُمَمِهِمْ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا بِصُورَةِ الرِّجَالِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَضَرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَفِي صُورَةِ سُرَاقَةَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ حَالِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّ عِنْدَ إِبْلَاغِ الرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الرَّسُولِ قَدْ يَبْقَوْنَ عَلَى صُورَتِهِمُ الْأَصْلِيَّةِ الْمَلَكِيَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ، وَعَلَيْهِ تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [النَّجْمِ: 13]

وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْكَلَامَ أَتْبَعَهُ بقوله: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: فِي الْمُرَادِ بِأَهْلِ الذِّكْرِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ أَهْلَ التَّوْرَاةِ، وَالذِّكْرُ هُوَ التَّوْرَاةُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الْأَنْبِيَاءِ: 105] يَعْنِي التَّوْرَاةَ. الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الْكُتُبِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ مَعَانِيَ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ بَشَرٌ، وَالثَّالِثُ: أَهْلُ الذِّكْرِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِأَخْبَارِ الْمَاضِينَ، إِذِ الْعَالِمُ بِالشَّيْءِ يَكُونُ ذَاكِرًا لَهُ. وَالرَّابِعُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ سَلُوا كُلَّ مَنْ يُذْكَرُ بِعِلْمٍ وَتَحْقِيقٍ. وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ وَهِيَ قَوْلُهُمْ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ وَاحِدًا مِنَ الْبَشَرِ إِنَّمَا تَمَسَّكَ بِهَا كُفَّارُ مَكَّةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَصْحَابُ الْعُلُومِ وَالْكُتُبِ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ يَرْجِعُوا فِي هَذِهِ المسألة إِلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِيُبَيِّنُوا لَهُمْ ضَعْفَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَسُقُوطَهَا، فَإِنَّ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ لَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ تَزْيِيفِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَبَيَانِ سُقُوطِهَا. المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ؟ مِنْهُمْ مَنْ حَكَمَ بِالْجَوَازِ/ وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْمُجْتَهِدِينَ عَالِمًا وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَى الْمُجْتَهِدِ الْآخَرِ الَّذِي يكون عالما لقوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فَإِنْ لَمْ يَجِبْ فَلَا أَقَلَّ مِنَ الْجَوَازِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: الْمُكَلَّفُ إِذَا نَزَلَتْ بِهِ وَاقِعَةٌ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِحُكْمِهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقِيَاسُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِحُكْمِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ سُؤَالُ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِهَا لِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حُجَّةً لَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ سُؤَالُ الْعَالِمِ لِأَجْلِ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ اسْتِنْبَاطُ ذَلِكَ الحكم بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ، فَثَبَتَ أَنَّ تَجْوِيزَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ يُوجِبُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَجَوَابُهُ: أن ثَبَتَ جَوَازُ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَالْإِجْمَاعُ أَقْوَى مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثم قال تَعَالَى: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي الْجَالِبِ لِهَذِهِ الْبَاءِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ إِلَّا رِجَالًا يُوحَى إِلَيْهِمْ، وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّ صِلَةَ مَا قَبْلَ إِلَّا لَا يَتَأَخَّرُ إِلَى بَعْدُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ الْمُسْتَثْنَى عَنْهُ هُوَ مَجْمُوعُ مَا قَبْلَ إِلَّا مَعَ صِلَتِهِ، فَمَا لَمْ يَصِرْ هَذَا الْمَجْمُوعُ مَذْكُورًا بِتَمَامِهِ امْتَنَعَ إِدْخَالُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا يُوحَى إِلَيْهِمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُسْتَثْنَى. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْجَالِبَ لِهَذَا الْبَاءِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ أَرْسَلْنَاهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ. قَالَ: وَنَظِيرُهُ مَا مَرَّ إِلَّا أَخُوكَ بِزَيْدٍ مَا مَرَّ إِلَّا أَخُوكَ ثُمَّ يَقُولُ مَرَّ بِزَيْدٍ. الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: الذِّكْرُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَالتَّقْدِيرُ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ لَفْظَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا تَكَامَلَ بِهِ الرِّسَالَةُ، لِأَنَّ مَدَارَ أَمْرِهَا عَلَى الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مَنْ يَدَّعِي الرِّسَالَةَ وَهِيَ الْبَيِّنَاتُ وَعَلَى التَّكَالِيفِ الَّتِي يُبَلِّغُهَا الرَّسُولُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْعِبَادِ وَهِيَ الزُّبُرُ. ثم قال تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وفيه مسائل:

المسألة الْأُولَى: ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الذِّكْرَ مُفْتَقِرٌ إِلَى بَيَانِ رَسُولِ اللَّهِ وَالْمُفْتَقِرُ إِلَى الْبَيَانِ مُجْمَلٌ، فَظَاهِرُ هَذَا النَّصِّ يَقْتَضِي أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُجْمَلٌ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ بَعْضُهُمْ مَتَى وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَبَيْنَ الْخَبَرِ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُجْمَلٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالْخَبَرُ مُبَيِّنٌ لَهُ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْمُبَيِّنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُجْمَلِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْهُ مُحْكَمٌ، وَمِنْهُ مُتَشَابِهٌ، وَالْمُحْكَمُ يَجِبُ كَوْنُهُ مُبَيِّنًا فَثَبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كُلُّهُ مُجْمَلًا بَلْ فِيهِ مَا يَكُونُ مُجْمَلًا فَقَوْلُهُ: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُجْمَلَاتِ. المسألة الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُبَيِّنُ لِكُلِّ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، فَعِنْدَ هَذَا قَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حُجَّةً لَمَا وَجَبَ عَلَى الرَّسُولِ بَيَانُ كُلِّ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْأَحْكَامِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يُبَيِّنَ الْمُكَلِّفُ ذَلِكَ الحكم بِطَرِيقَةِ الْقِيَاسِ، وَلَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُبَيِّنَ لِكُلِّ التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ، هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ، فَمَنْ رَجَعَ فِي تَبْيِينِ الْأَحْكَامِ وَالتَّكَالِيفِ إِلَى الْقِيَاسِ، كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ رُجُوعًا إِلَى بَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ [إلى آخر الآية] الْمَكْرُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ السَّعْيِ بِالْفَسَادِ على سبيل الإخفاء، ولا بد هاهنا مِنْ إِضْمَارٍ، وَالتَّقْدِيرُ: الْمَكَرَاتِ السَّيِّئَاتِ، وَالْمُرَادُ أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْمَكْرِ اشْتِغَالُهُمْ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ سَعْيُهُمْ فِي إِيذَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي تَهْدِيدِهِمْ أُمُورًا أَرْبَعَةً: الْأَوَّلَ: أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ كَمَا خَسَفَ بِقَارُونَ. الثَّانِيَ: أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَالْمُرَادُ أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ حَيْثُ يَفْجَؤُهُمْ فَيُهْلِكُهُمْ بَغْتَةً كَمَا فَعَلَ بِقَوْمِ لُوطٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ، وَفِي تَفْسِيرِ هَذَا التَّقَلُّبِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَأْخُذُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ فِي أَسْفَارِهِمْ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ فِي السَّفَرِ كَمَا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ فِي الْحَضَرِ وَهُمْ لَا يُعْجِزُونَ اللَّهَ بِسَبَبِ ضَرْبِهِمْ فِي الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ بَلْ يُدْرِكُهُمُ اللَّهُ حَيْثُ كَانُوا، وَحَمْلُ لَفْظِ التَّقَلُّبِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ [آلِ عِمْرَانَ: 196] . وَثَانِيهِمَا: تَفْسِيرُ هَذَا اللَّفْظِ بِأَنَّهُ يَأْخُذُهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي أَحْوَالِ إِقْبَالِهِمْ وَإِدْبَارِهِمْ وَذَهَابِهِمْ وَمَجِيئِهِمْ وَحَقِيقَتُهُ فِي حَالِ تَصَرُّفِهِمْ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا أَمْثَالُهُمْ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي حَالِ مَا يَنْقَلِبُونَ فِي قَضَايَا أَفْكَارِهِمْ فَيَحُولُ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِتْمَامِ تِلْكَ الْحِيَلِ قَسْرًا كَمَا قَالَ: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ [يس: 66] وَحَمْلُ لَفْظِ التَّقَلُّبِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ [التَّوْبَةِ: 48] فَإِنَّهُمْ إِذَا قَلَّبُوهَا فَقَدْ تَقَلَّبُوا فِيهَا. وَالنوع الرَّابِعُ: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ وَفِي تَفْسِيرِ التَّخَوُّفِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: التَّخَوُّفُ تَفَعُّلٌ مِنَ الْخَوْفِ، يُقَالُ خِفْتُ الشَّيْءَ وَتَخَوَّفْتُهُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَأْخُذُهُمْ بِالْعَذَابِ أَوَّلًا بَلْ يُخِيفُهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ يُعَذِّبُهُمْ بَعْدَهُ، وَتِلْكَ الْإِخَافَةُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُهْلِكُ فِرْقَةً فَتَخَافُ التي تليها فيكون

[سورة النحل (16) : الآيات 48 إلى 50]

هذا أخذا ورد عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ يَمُرَّ بِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ زَمَانًا طَوِيلًا فِي الْخَوْفِ وَالْوَحْشَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ التَّخَوُّفَ هُوَ التَّنَقُّصُ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ يُقَالُ: تَخَوَّفْتُ الشَّيْءَ وَتَخَيَّفْتُهُ إِذَا تَنَقَّصْتَهُ، وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؟ فَسَكَتُوا فَقَامَ شَيْخٌ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَالَ: هَذِهِ لُغَتُنَا التَّخَوُّفُ التَّنَقُّصُ، فَقَالَ عُمَرُ: هَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهَا؟ قَالَ نَعَمْ: قَالَ شَاعِرُنَا وَأَنْشَدَ: تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا ... كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ فَقَالَ عُمَرُ: أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِدِيوَانِكُمْ لَا تَضِلُّوا، قَالُوا: وَمَا دِيوَانُنَا؟ قَالَ شِعْرُ الْجَاهِلِيَّةِ فِيهِ تَفْسِيرُ كِتَابِكُمْ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذَا التَّنَقُّصُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَقَعُ فِي أَطْرَافِ بِلَادِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الْأَنْبِيَاءِ: 44] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعَذَابِ وَلَكِنْ يَنْقُصُ مِنْ أَطْرَافِ بِلَادِهِمْ إِلَى الْقُرَى الَّتِي تُجَاوِرُهُمْ حَتَّى يَخْلُصَ الْأَمْرُ إِلَيْهِمْ فَحِينَئِذٍ يُهْلِكُهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَنْقُصُ أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَأْتِيَ الْفَنَاءُ عَلَى الْكُلِّ فَهَذَا تَفْسِيرُ هذا الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَالَى خَوَّفَهُمْ بِخَسْفٍ يَحْصُلُ فِي الْأَرْضِ أَوْ بِعَذَابٍ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ بِآفَاتٍ تَحْدُثُ دَفْعَةً وَاحِدَةً حَالَ مَا لَا يَكُونُونَ عَالِمِينَ بِعَلَامَاتِهَا وَدَلَائِلِهَا، أَوْ بِآفَاتٍ تَحْدُثُ قَلِيلًا قَلِيلًا إِلَى أَنْ يَأْتِيَ الْهَلَاكُ عَلَى آخِرِهِمْ ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ والمعنى أنه يمهل في أكثر الأمر لأنه رؤوف رحيم فلا يعاجل بالعذاب. [سورة النحل (16) : الآيات 48 الى 50] أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) [في قَوْلُهُ تَعَالَى أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ إلى قوله وَهُمْ داخِرُونَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَوَّفَ الْمُشْرِكِينَ بِالْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنَ الْعَذَابِ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ فِي تَدْبِيرِ أَحْوَالِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ وَتَدْبِيرِ أَحْوَالِ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ، لِيُظْهِرَ لَهُمْ أَنَّ مَعَ كَمَالِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ الْقَاهِرَةِ، وَالْقُوَّةِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ لَا يَعْجِزُ عَنْ إِيصَالِ الْعَذَابِ إِلَيْهِمْ عَلَى أَحَدِ تِلْكَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: أَوَلَمْ تَرَوْا بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: أَوَلَمْ تروا كيف يبدي اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الْعَنْكَبُوتِ: 19] بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ فِيهِمَا كِنَايَةً عَنِ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ، وَأَيْضًا أَنَّ مَا قَبْلَهُ غَيْبَةٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ ... أَوْ يَأْخُذَهُمْ [النَّحْلِ: 45، 46] فَكَذَا قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَرَوْا وقرأ أبو عمرو وحده: تتفيؤا بِالتَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ لِتَقَدُّمِ الْفِعْلِ عَلَى الْجَمْعِ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ لَمَّا كَانَتِ الرُّؤْيَةُ هاهنا بِمَعْنَى النَّظَرِ وُصِلَتْ بِإِلَى، لِأَنَّ

الْمُرَادَ بِهِ الِاعْتِبَارُ وَالِاعْتِبَارُ لَا يَكُونُ بِنَفْسِ الرُّؤْيَةِ حَتَّى يَكُونَ مَعَهَا نَظَرٌ إِلَى الشَّيْءِ وَتَأَمُّلٌ لِأَحْوَالِهِ، وَقَوْلُهُ: إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: أَرَادَ مِنْ شَيْءٍ لَهُ ظِلٌّ مِنْ جَبَلٍ وَشَجَرٍ وَبِنَاءٍ وَجِسْمٍ قَائِمٍ، وَلَفْظُ الْآيَةِ يُشْعِرُ بِهَذَا الْقَيْدِ، لأن قوله: مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ كَثِيفٌ يَقَعُ لَهُ ظِلٌّ عَلَى الأرض. وقوله: يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ إِخْبَارٌ عَنْ قَوْلِهِ: شَيْءٍ وَلَيْسَ بِوَصْفٍ لَهُ، وَيَتَفَيَّأُ يَتَفَعَّلُ مِنَ الْفَيْءِ يُقَالُ: فَاءَ الظل يفيء فيئا إذا رجع وعاد بعد ما نَسَخَهُ ضِيَاءُ الشَّمْسِ، وَأَصْلُ الْفَيْءِ الرُّجُوعُ، وَمِنْهُ فَيْءُ الْمَوْلَى وَذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الْبَقَرَةِ: 226] وَكَذَلِكَ فَيْءُ الْمُسْلِمِينَ لِمَا يَعُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَالِ من خالف دينهم، ومنه قوله تعالى: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ [الْحَشْرِ: 6] وَأَصْلُ هَذَا كُلِّهِ مِنَ الرُّجُوعِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا عُدِّيَ فَاءَ فَإِنَّهُ يُعَدَّى إِمَّا بِزِيَادَةِ الْهَمْزَةِ أَوْ بِتَضْعِيفِ الْعَيْنِ. أَمَّا التَّعْدِيَةُ بزيادة الهمزة فكقوله: ما أَفاءَ اللَّهُ وَأَمَّا بِتَضْعِيفِ الْعَيْنِ فَكَقَوْلِهِ فَيَّأَ اللَّهُ الظِّلَّ فَتَفَيَّأَ وَتَفَيَّأَ مُطَاوِعُ فَيَّأَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: تَفَيُّؤُ الظِّلَالِ رُجُوعُهَا بَعْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ، فَالتَّفَيُّؤُ لَا يكون إلا بالعشي بعد ما انْصَرَفَتْ عَنْهُ الشَّمْسُ وَالظِّلُّ مَا يَكُونُ بِالْغَدَاةِ وَهُوَ مَا لَمْ تَنَلْهُ الشَّمْسُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَا الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ ... وَلَا الْفَيْءُ مِنْ بَرْدِ الْعَشِيِّ تَذُوقُ قَالَ ثَعْلَبٌ: أُخْبِرْتُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ رُؤْبَةَ قَالَ: كُلُّ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَزَالَتْ عَنْهُ فَهُوَ فَيْءٌ/ وَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَهُوَ ظِلٌّ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، فَإِنَّ أَبَا زَيْدٍ أَنْشَدَ لِلنَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ: فَسَلَامُ الْإِلَهِ يَغْدُو عَلَيْهِمْ ... وَفُيُوءُ الْغُرُوسِ ذَاتُ الظِّلَالِ فَهَذَا الشِّعْرُ قَدْ أُوقِعَ فِيهِ لَفْظُ الْفَيْءِ عَلَى مَا لَمْ تَنْسَخْهُ الشَّمْسُ، لِأَنَّ مَا فِي الْجَنَّةِ مِنَ الظِّلِّ مَا حَصَلَ بَعْدَ أَنْ كَانَ زَائِلًا بِسَبَبِ نُورِ الشَّمْسِ وَتَقُولُ الْعَرَبُ فِي جَمْعِ فَيْءٍ أَفْيَاءٌ وَهِيَ لِلْعَدَدِ الْقَلِيلِ، وَفُيُوءٌ لِلْكَثِيرِ كَالنُّفُوسِ وَالْعُيُونِ، وَقَوْلُهُ: ظِلالُهُ أَضَافَ الظِّلَالَ إِلَى مُفْرَدٍ، وَمَعْنَاهُ الْإِضَافَةُ إِلَى ذَوِي الظِّلَالِ، وَإِنَّمَا حَسُنَ هَذَا، لِأَنَّ الَّذِي عَادَ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فِي اللَّفْظِ وَهُوَ قَوْلُهُ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ، إِلَّا أَنَّهُ كَثِيرٌ فِي الْمَعْنَى، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ [الزُّخْرُفِ: 13] فَأَضَافَ الظُّهُورَ وَهُوَ جَمْعٌ، إِلَى ضَمِيرٍ مُفْرَدٍ، لِأَنَّهُ يَعُودُ إِلَى وَاحِدٍ أُرِيدَ بِهِ الْكَثْرَةُ وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا تَرْكَبُونَ هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ الْوَاحِدِيِّ وَهُوَ بَحْثٌ حَسَنٌ. أما قوله: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ فَفِيهِ بَحْثَانِ: البحث الْأَوَّلُ: فِي الْمُرَادِ بِالْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ يَمِينَ الْفَلَكِ هُوَ الْمَشْرِقُ وَشِمَالَهُ هُوَ الْمَغْرِبُ، وَالسَّبَبُ فِي تَخْصِيصِ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ بِهَذَيْنِ الْجَانِبَيْنِ أَنَّ أَقْوَى جَانِبَيِ الْإِنْسَانِ يَمِينُهُ، وَمِنْهُ تَظْهَرُ الْحَرَكَةُ الْقَوِيَّةُ، فَلَمَّا كَانَتِ الْحَرَكَةُ الْفَلَكِيَّةُ الْيَوْمِيَّةُ آخِذَةً مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، لَا جَرَمَ كَانَ الْمَشْرِقُ يَمِينَ الْفَلَكِ وَالْمَغْرِبُ شِمَالَهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ الشَّمْسَ عِنْدَ طُلُوعِهَا إِلَى وَقْتِ انْتِهَائِهَا إِلَى وَسَطِ الْفَلَكِ تَقَعُ الْأَظْلَالُ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَإِذَا انْحَدَرَتِ الشَّمْسُ مِنْ وَسَطِ الْفَلَكِ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ وَقَعَ الْأَظْلَالُ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ تَفَيُّؤِ الظِّلَالِ مِنَ الْيَمِينِ إِلَى الشِّمَالِ وَبِالْعَكْسِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَالْأَظْلَالُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ تَبْتَدِئُ من

يَمِينِ الْفَلَكِ عَلَى الرُّبْعِ الْغَرْبِيِّ مِنَ الْأَرْضِ، وَمِنْ وَقْتِ انْحِدَارِ الشَّمْسِ مِنْ وَسَطِ الْفَلَكِ تَبْتَدِئُ الْأَظْلَالُ مِنْ شِمَالِ الْفَلَكِ وَاقِعَةً عَلَى الرُّبْعِ الشَّرْقِيِّ مِنَ الْأَرْضِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَلْدَةَ الَّتِي يَكُونُ عَرْضُهَا أَقَلَّ مِنْ مِقْدَارِ الْمِيلِ، فَإِنَّ فِي الصَّيْفِ تَحْصُلُ الشَّمْسُ عَلَى يَسَارِهَا، وَحِينَئِذٍ يَقَعُ الْأَظْلَالُ عَلَى يَمِينِهِمْ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ انْتِقَالِ الْأَظْلَالِ عَنِ الْأَيْمَانِ إِلَى الشَّمَائِلِ وَبِالْعَكْسِ. هَذَا مَا حَصَّلْتُهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَكَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ غَيْرُ مُلَخَّصٍ. البحث الثَّانِي: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا السَّبَبُ فِي أَنْ ذَكَرَ الْيَمِينَ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ، وَالشَّمَائِلَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ؟ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَحَّدَ الْيَمِينَ وَالْمُرَادُ الْجَمْعُ وَلَكِنَّهُ اقْتَصَرَ فِي اللَّفْظِ عَلَى الْوَاحِدِ/ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [الْقَمَرِ: 45] . وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: كَأَنَّهُ إِذَا وَحَّدَ ذَهَبَ إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْ ذَوَاتِ الْأَظْلَالِ، وَإِذَا جَمَعَ ذَهَبَ إِلَى كُلِّهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ لَفْظُهُ وَاحِدٌ، وَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَيُحْتَمَلُ كِلَا الْأَمْرَيْنِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا ذَكَرَتْ صِيغَتَيْ جَمْعٍ عَبَّرَتْ عَنْ إِحْدَاهُمَا بِلَفْظِ الْوَاحِدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: 1] وَقَوْلِهِ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 7] . وَرَابِعُهَا: أَنَّا إِذَا فَسَّرْنَا الْيَمِينَ بِالْمَشْرِقِ كَانَتِ النُّقْطَةُ الَّتِي هِيَ مَشْرِقُ الشَّمْسِ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا، فَكَانَتِ الْيَمِينُ وَاحِدَةً. وَأَمَّا الشَّمَائِلُ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الِانْحِرَافَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي تِلْكَ الْأَظْلَالِ بَعْدَ وُقُوعِهَا عَلَى الْأَرْضِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ، فَلِذَلِكَ عَبَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الرَّابِعَةُ: أما قوله: سُجَّداً لِلَّهِ فَفِيهِ احْتِمَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ السُّجُودِ الِاسْتِسْلَامَ وَالِانْقِيَادَ يُقَالُ: سَجَدَ الْبَعِيرُ إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ لِيُرْكَبَ، وَسَجَدَتِ النَّخْلَةُ إِذَا مَالَتْ لِكَثْرَةِ الْحِمْلِ وَيُقَالُ: اسْجُدْ لِقِرْدِ السُّوءِ فِي زَمَانِهِ، أَيِ اخْضَعْ لَهُ قَالَ الشَّاعِرُ: تَرَى الْأَكَمَ فِيهَا سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ أَيْ مُتَوَاضِعَةً إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى دَبَّرَ النَّيِّرَاتِ الْفَلَكِيَّةَ، وَالْأَشْخَاصَ الْكَوْكَبِيَّةَ بِحَيْثُ يَقَعُ أَضْوَاؤُهَا عَلَى هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ عَلَى وُجُوهٍ مَخْصُوصَةٍ. ثُمَّ إِنَّا نُشَاهِدُ أَنَّ تِلْكَ الْأَضْوَاءَ، وَتِلْكَ الْأَظْلَالَ لَا تَقَعُ فِي هَذَا الْعَالَمِ إِلَّا عَلَى وَفْقِ تَدْبِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيرِهِ، فَنُشَاهِدُ أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ وَقَعَتِ لِلْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ أَظْلَالٌ مُمْتَدَّةٌ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ كُلَّمَا ازْدَادَتِ الشَّمْسُ طُلُوعًا وَارْتِفَاعًا، ازْدَادَتْ تِلْكَ الْأَظْلَالُ تَقَلُّصًا وَانْتِقَاصًا إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ إِلَى أَنْ تَصِلَ الشَّمْسُ إِلَى وَسَطِ الْفَلَكِ، فَإِذَا انْحَدَرَتْ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ ابْتَدَأَتِ الْأَظْلَالُ بِالْوُقُوعِ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَكُلَّمَا ازْدَادَتِ الشَّمْسُ انْحِدَارًا ازْدَادَتِ الْأَظْلَالُ تَمَدُّدًا وَتَزَايُدًا فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ. وَكَمَا أَنَّا نُشَاهِدُ هَذِهِ الْحَالَةَ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ، فَكَذَلِكَ نُشَاهِدُ أَحْوَالَ الْأَظْلَالِ مُخْتَلِفَةً فِي التَّيَامُنِ وَالتَّيَاسُرِ فِي طُولِ السَّنَةِ، بِسَبَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الشَّمْسِ فِي الْحَرَكَةِ مِنَ الْجَنُوبِ إِلَى الشَّمَالِ وَبِالْعَكْسِ، فَلَمَّا شَاهَدْنَا أَحْوَالَ هَذِهِ الْأَظْلَالِ مُخْتَلِفَةً بِسَبَبِ الِاخْتِلَافَاتِ الْيَوْمِيَّةِ الْوَاقِعَةِ فِي شَرْقِ الْأَرْضِ وَغَرْبِهَا، وَبِحَسَبِ الِاخْتِلَافَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي طُولِ السَّنَةِ فِي يَمِينِ الْفَلَكِ وَيَسَارِهِ، وَرَأَيْنَا أَنَّهَا وَاقِعَةٌ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ وَتَرْتِيبٍ مُعَيَّنٍ، عَلِمْنَا أَنَّهَا مُنْقَادَةٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ خَاضِعَةٌ لِتَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ، فَكَانَتِ السَّجْدَةُ عِبَارَةً عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: اخْتِلَافُ حَالِ هَذِهِ الْأَظْلَالِ مُعَلَّلٌ بِاخْتِلَافِ سَيْرِ النَّيِّرِ الْأَعْظَمِ الَّذِي هُوَ الشَّمْسُ، لَا لِأَجْلِ تَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَدْبِيرِهِ؟ قُلْنَا: قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْجِسْمَ لَا يَكُونُ مُتَحَرِّكًا لِذَاتِهِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ ذَاتُهُ عِلَّةً لِهَذَا الْجُزْءِ الْمَخْصُوصِ مِنَ الْحَرَكَةِ، لَبَقِيَ هَذَا الْجُزْءُ مِنَ الْحَرَكَةِ لِبَقَاءِ ذَاتِهِ، وَلَوْ بَقِيَ ذَلِكَ الْجُزْءُ مِنَ الْحَرَكَةِ لَامْتَنَعَ حُصُولُ الْجُزْءِ الْآخَرِ مِنَ الْحَرَكَةِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ هَذَا سكونا لا حركة، فالقول بأن الجسم متحرك لِذَاتِهِ يُوجِبُ الْقَوْلَ بِكَوْنِهِ سَاكِنًا لِذَاتِهِ وَأَنَّهُ مُحَالٌ، وَمَا أَفْضَى ثُبُوتُهُ إِلَى نَفْيِهِ كَانَ بَاطِلًا، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْجِسْمَ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ مُتَحَرِّكًا لِذَاتِهِ، وَأَيْضًا فَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، فَاخْتِصَاصُ جِرْمِ الشَّمْسِ بِالْقُوَّةِ الْمُعَيَّنَةِ وَالْخَاصِّيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَدْبِيرِ الْخَالِقِ الْمُخْتَارِ الْحَكِيمِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَبْ أَنَّ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْأَظْلَالِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ حَرَكَاتِ الشَّمْسِ، إِلَّا أَنَّا لَمَّا دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ مُحَرِّكَ الشَّمْسِ بِالْحَرَكَةِ الْخَاصَّةِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْأَظْلَالِ لَمْ يَقَعْ إِلَّا بِتَدْبِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَخْلِيقِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا السُّجُودِ الِانْقِيَادُ وَالتَّوَاضُعُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرَّحْمَنِ: 6] وَقَوْلُهُ: وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الرَّعْدِ: 15] قَدْ مَرَّ بَيَانُهُ وَشَرْحُهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذَا السُّجُودِ، أَنَّ هَذِهِ الْأَظْلَالَ وَاقِعَةٌ عَلَى الْأَرْضِ مُلْتَصِقَةٌ بِهَا عَلَى هَيْئَةِ السَّاجِدِ. قَالَ أَبُو الْعَلَاءِ الْمُعَرِّي في صفة واد: بحرف يُطِيلُ الْجُنْحُ فِيهِ سُجُودَهُ ... وَلِلْأَرْضِ زِيُّ الرَّاهِبِ الْمُتَعَبِّدِ فَلَمَّا كَانَتِ الْأَظْلَالُ تُشْبِهُ بِشَكْلِهَا شَكْلَ السَّاجِدِينَ أَطْلَقَ اللَّهُ عَلَيْهَا هَذَا اللَّفْظَ، وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: أَمَّا ظِلُّكَ فَسَجَدَ لِرَبِّكَ، وَأَمَّا أَنْتَ فَلَا تَسْجُدُ لَهُ بِئْسَمَا صَنَعْتَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ظِلُّ الْكَافِرِ يُصَلِّي وَهُوَ لَا يُصَلِّي، وَقِيلَ: ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ يَسْجُدُ لِلَّهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ سَاجِدًا أَمْ لَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الوجه الْأَوَّلَ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقَائِقِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالثَّانِي أقرب إلى الشبهات الظاهرة. المسألة الخامسة: وقوله: سُجَّداً حَالٌ مِنَ الظِّلَالِ وَقَوْلُهُ: وَهُمْ داخِرُونَ أَيْ صَاغِرُونَ، يُقَالُ: دَخَرَ يَدْخَرُ دُخُورًا، أَيْ صَغُرَ يَصْغُرُ صَغَارًا، وَهُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا تَأْمُرُهُ شَاءَ أَمْ أَبَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُنْقَادَةٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَدْبِيرِهِ وَقَوْلُهُ: وَهُمْ داخِرُونَ حَالٌ أَيْضًا مِنَ الظِّلَالِ. فَإِنْ قِيلَ: الظِّلَالُ لَيْسَتْ مِنَ الْعُقَلَاءِ فَكَيْفَ جَازَ جَمْعُهَا بِالْوَاوِ وَالنُّونِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَهُمْ بِالطَّاعَةِ وَالدُّخُورِ أَشْبَهُوا الْعُقَلَاءَ. أما قوله تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ السُّجُودَ عَلَى نَوْعَيْنِ: سُجُودٌ هُوَ عِبَادَةٌ كَسُجُودِ الْمُسْلِمِينَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَسُجُودٌ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الِانْقِيَادِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْخُضُوعِ، وَيَرْجِعُ حَاصِلُ هَذَا السُّجُودِ إِلَى أَنَّهَا/ فِي نَفْسِهَا مُمْكِنَةُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ قَابِلَةٌ لَهُمَا، وَأَنَّهُ لَا يَتَرَجَّحَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالسُّجُودِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ السُّجُودُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي

وَهُوَ التَّوَاضُعُ وَالِانْقِيَادُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّائِقَ بِالدَّابَّةِ لَيْسَ إِلَّا هَذَا السُّجُودَ وَمِنْهُمْ مَنْ قال: المراد بالسجود هاهنا هُوَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، لِأَنَّ اللَّائِقَ بِالْمَلَائِكَةِ هُوَ السُّجُودُ بِهَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ السُّجُودَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي حَاصِلٌ فِي كُلِّ الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: السُّجُودُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَحَمْلُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ لِإِفَادَةِ مَجْمُوعِ مَعْنَيَيْهِ جَائِزٌ، فَحَمْلُ لَفْظِ السُّجُودِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مَعًا، أَمَّا فِي حَقِّ الدَّابَّةِ فَبِمَعْنَى التَّوَاضُعِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ فَبِمَعْنَى سُجُودِ الْمُسْلِمِينَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ لِإِفَادَةِ جَمِيعِ مَفْهُومَاتِهِ مَعًا غَيْرُ جَائِزٍ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مِنْ دابَّةٍ قَالَ الْأَخْفَشُ: يُرِيدُ مِنَ الدَّوَابِّ وَأَخْبَرَ بِالْوَاحِدِ كَمَا تَقُولُ مَا أَتَانِي مِنْ رَجُلٍ مِثْلُهُ، وَمَا أَتَانِي مِنَ الرِّجَالِ مِثْلُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ كُلَّ مَا دَبَّ عَلَى الْأَرْضِ. المسألة الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا الوجه فِي تَخْصِيصِ الدَّوَابِّ وَالْمَلَائِكَةِ بِالذِّكْرِ؟ فَنَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ: الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي آيَةِ الظِّلَالِ أَنَّ الْجَمَادَاتِ بِأَسْرِهَا مُنْقَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ بِأَسْرِهَا مُنْقَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ أَخَسَّهَا الدَّوَابُّ وَأَشْرَفَهَا الْمَلَائِكَةُ، فَلَمَّا بَيَّنَ فِي أَخَسِّهَا وَفِي أَشْرَفِهَا كَوْنَهَا مُنْقَادَةً لِلَّهِ تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهَا بِأَسْرِهَا مُنْقَادَةٌ خَاضِعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَالوجه الثَّانِي: قَالَ حُكَمَاءُ الْإِسْلَامِ: الدَّابَّةُ اشْتِقَاقُهَا مِنَ الدَّبِيبِ، وَالدَّبِيبُ عِبَارَةٌ عَنِ الْحَرَكَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَالدَّابَّةُ اسْمٌ لِكُلِّ حَيَوَانٍ جُسْمَانِيٍّ يَتَحَرَّكُ وَيَدِبُّ، فَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ عَنِ الدَّابَّةِ عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَدِبُّ، بَلْ هِيَ أَرْوَاحٌ مَحْضَةٌ مُجَرَّدَةٌ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْجَنَاحَ لِلطَّيَرَانِ مُغَايِرٌ لِلدَّبِيبِ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَامِ: 38] وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أما قوله تَعَالَى: وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ شَرْحُ صِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ وَهِيَ دَلَالَةٌ قَاهِرَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ عَنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مُنْقَادُونَ لِصَانِعِهِمْ وَخَالِقِهِمْ وَأَنَّهُمْ مَا خَالَفُوهُ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مَرْيَمَ: 64] وَقَوْلُهُ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 27] وأما قوله: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فَهَذَا أَيْضًا/ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا كُلَّ مَا كَانُوا مَأْمُورِينَ بِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عِصْمَتِهِمْ عَنْ كُلِّ الذُّنُوبِ. فَإِنْ قَالُوا: هَبْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا كُلَّ مَا أُمِرُوا بِهِ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ تَرَكُوا كُلَّ مَا نُهُوا عَنْهُ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ كل ما نُهِيَ عَنْ شَيْءٍ فَقَدْ أُمِرَ بِتَرْكِهِ، وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ، وَإِذَا ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ كَوْنُ الْمَلَائِكَةِ مَعْصُومِينَ مِنْ كُلِّ الذُّنُوبِ، وَثَبَتَ أَنَّ إِبْلِيسَ مَا كَانَ مَعْصُومًا مِنَ الذُّنُوبِ بَلْ كَانَ كَافِرًا، لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ إِبْلِيسَ مَا كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَالوجه الثَّانِي: فِي بَيَانِ هَذَا الْمَقْصُودِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ: وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ثم قال لإبليس: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ [ص: 75] وَقَالَ أَيْضًا لَهُ: فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها [الْأَعْرَافِ: 13] فَثَبَتَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَثَبَتَ أَنَّ إِبْلِيسَ تَكَبَّرَ وَاسْتَكْبَرَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ

الْمَلَائِكَةِ وَأَيْضًا لَمَّا ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وُجُوبُ عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ، ثَبَتَ أَنَّ الْقِصَّةَ الْخَبِيثَةَ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا فِي حَقِّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ كَلَامٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ لَمَّا شَهِدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ وَبَرَاءَتِهِمْ عَنْ كُلِّ ذَنْبٍ، وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ تِلْكَ الْقِصَّةَ كَاذِبَةٌ بَاطِلَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاحْتَجَّ الطَّاعِنُونَ فِي عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِالْخَوْفِ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْكَبَائِرِ وَالذُّنُوبِ وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلِ الْخَوْفِ. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى مُنْذِرُهُمْ مِنَ الْعِقَابِ فَقَالَ: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاءِ: 29] وَهُمْ لِهَذَا الْخَوْفِ يَتْرُكُونَ الذَّنْبَ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ ذَلِكَ الْخَوْفَ خَوْفُ الْإِجْلَالِ هَكَذَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: 28] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَتَمَّ، كَانَ الْخَوْفُ مِنْهُ أَعْظَمَ، وَهَذَا الْخَوْفُ لَا يَكُونُ إِلَّا خَوْفَ الْإِجْلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُشَبِّهَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ تَعَالَى فَوْقَهُمْ بِالذَّاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّا بَالَغْنَا فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [الأنعام: 18] والذي نزيده هاهنا أَنَّ قَوْلَهُ: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ مَعْنَاهُ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِهَذَا الْمَعْنَى سَقَطَ قَوْلُهُمْ، وَأَيْضًا يَجِبُ حَمْلُ هَذِهِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْفَوْقِيَّةِ بِالْقُدْرَةِ وَالْقَهْرِ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ [الْأَعْرَافِ: 127] وَالَّذِي يُقَوِّي هَذَا الوجه أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضَى لِهَذَا الْخَوْفِ هُوَ كَوْنُ رَبِّهِمْ فَوْقَهُمْ لِمَا ثَبَتَ/ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُرَتَّبَ عَلَى الْوَصْفِ يُشْعِرُ بِكَوْنِ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذَا التَّعْطِيلُ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْفَوْقِيَّةِ الْفَوْقِيَّةَ بِالْقَهْرِ وَالْقُدْرَةِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْخَوْفِ، أَمَّا الْفَوْقِيَّةُ بِالْجِهَةِ وَالْمَكَانِ فَهِيَ لَا تُوجِبُ الْخَوْفَ بِدَلِيلِ أَنَّ حَارِسَ الْبَيْتِ فَوْقَ الْمَلِكِ بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ مَعَ أَنَّهُ أَخَسُّ عَبِيدِهِ فَسَقَطَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مُكَلَّفُونَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مُتَوَجِّهٌ عَلَيْهِمْ كَسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ، وَمَتَى كَانُوا كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. المسألة الرَّابِعَةُ: تَمَسَّكَ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَذَكَرْنَا أَنَّ تَخْصِيصَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ بِالذِّكْرِ إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا كَانَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ أَخَسَّ الْمَرَاتِبِ وَكَانَ الطَّرَفُ الثَّانِي أَشْرَفَهَا حَتَّى يَكُونَ ذِكْرُ هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ مُنَبِّهًا عَلَى الْبَاقِي، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَلَائِكَةُ أَشْرَفَ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى. الوجه الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ تَكَبُّرٌ وَتَرَفُّعٌ وَقَوْلُهُ: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْمَالَهُمْ خَالِيَةٌ عَنِ الذَّنْبِ وَالْمَعْصِيَةِ، فَمَجْمُوعُ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَوَاطِنَهُمْ وَظَوَاهِرَهُمْ مُبَرَّأَةٌ عَنِ الْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَفْعَالِ الْبَاطِلَةِ، وَأَمَّا الْبَشَرُ فَلَيْسُوا كَذَلِكَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ

[سورة النحل (16) : الآيات 51 إلى 55]

وَالْخَبَرُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ [عَبَسَ: 17] وَهَذَا الحكم عَامٌّ فِي الْإِنْسَانِ، وَأَقَلُّ مَرَاتِبِهِ أَنْ تَكُونَ طَبِيعَةُ الْإِنْسَانِ مُقْتَضِيَةً لِهَذِهِ الْأَحْوَالِ الذَّمِيمَةِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا مِنَّا إِلَّا وَقَدْ عَصَى أَوْ هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ غَيْرَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا» وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمُبَرَّأَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَالْهَمِّ بِهَا أَفْضَلُ مِمَّنْ عَصَى أَوْ هَمَّ بِهَا. الوجه الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ قَبْلَ الْبَشَرِ بِأَدْوَارٍ مُتَطَاوِلَةٍ وَأَزْمَانٍ مُمْتَدَّةٍ، ثُمَّ إِنَّهُ وَصَفَهُمْ بِالطَّاعَةِ وَالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَطُولُ الْعُمُرِ مَعَ الطَّاعَةِ يُوجِبُ مَزِيدَ الْفَضِيلَةِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الشَّيْخُ فِي قَوْمِهِ كَالنَّبِيِّ فِي أُمَّتِهِ» فَضَّلَ الشَّيْخَ عَلَى الشَّابِّ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عُمُرُهُ أَطْوَلَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ طَاعَتَهُ أَكْثَرُ فَكَانَ أَفْضَلَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَمَّا كَانَ شُرُوعُ الْمَلَائِكَةِ فِي الطَّاعَاتِ قَبْلَ شُرُوعِ الْبَشَرِ فِيهَا لَزِمَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ سَنُّوا هَذِهِ السُّنَّةَ الْحَسَنَةَ، وَهِيَ طَاعَةُ الْخَالِقِ الْقَدِيمِ الرَّحِيمِ، وَالْبَشَرُ إِنَّمَا جَاءُوا بَعْدَهُمْ وَاسْتَنُّوا سُنَّتَهُمْ، فَوَجَبَ بِمُقْتَضَى هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ كُلَّ مَا حَصَلَ لِلْبَشَرِ مِنَ الثَّوَابِ فَقَدْ حَصَلَ مِثْلُهُ لِلْمَلَائِكَةِ وَلَهُمْ ثَوَابُ الْقَدْرِ الزَّائِدِ مِنَ الطَّاعَةِ فَوَجَبَ كَوْنُهُمْ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ. الوجه الرَّابِعُ: فِي دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَقَدْ بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّ هَذِهِ الْفَوْقِيَّةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْفَوْقِيَّةِ بِالرُّتْبَةِ وَالشَّرَفِ وَالْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ، فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ فَوْقَهُمْ فِي الشَّرَفِ وَالرُّتْبَةِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كونهم أفضل المخلوقات والله أعلم. [سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 55] وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ عَالَمِ الْأَرْوَاحِ أَوْ مِنْ عَالَمِ الْأَجْسَامِ، فَهُوَ مُنْقَادٌ خَاضِعٌ لِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَكِبْرِيَائِهِ، أَتْبَعَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ وَبِالْأَمْرِ بِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُلْكُهُ وَمِلْكُهُ وَأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الْكُلِّ فَقَالَ: لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْإِلَهَيْنِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَا اثْنَيْنِ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ. وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ صَاحِبُ «النَّظْمِ» : فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَتَّخِذُوا اثْنَيْنِ إِلَهَيْنِ. وَثَانِيهَا: وَهُوَ الْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ مُسْتَنْكَرًا مُسْتَقْبَحًا، فَمَنْ أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّنْفِيرِ عَنْهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ كَثِيرَةٍ لِيَصِيرَ تَوَالِي تِلْكَ الْعِبَارَاتِ سَبَبًا لِوُقُوفِ الْعَقْلِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْقُبْحِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالْقَوْلُ بِوُجُودِ الْإِلَهَيْنِ قَوْلٌ مُسْتَقْبَحٌ فِي الْعُقُولِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّ أَحَدًا مِنَ الْعُقَلَاءِ لَمْ يَقُلْ بِوُجُودِ إِلَهَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْوُجُوبِ وَالْقِدَمِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ، فَقَوْلُهُ: لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ الْمَقْصُودُ

مِنْ تَكْرِيرِهِ تَأْكِيدُ التَّنْفِيرِ عَنْهُ وَتَكْمِيلُ وُقُوفِ الْعَقْلِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْقُبْحِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلهَيْنِ لَفْظٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ: ثُبُوتِ الْإِلَهِ وَثُبُوتِ التَّعَدُّدِ، فَإِذَا قِيلَ: لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ لَمْ يُعْرَفْ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّ النَّهْيَ وَقَعَ عَنْ إِثْبَاتِ الْإِلَهِ أَوْ عَنْ إِثْبَاتِ التَّعَدُّدِ أَوْ عَنْ مَجْمُوعِهِمَا. فَلَمَّا قَالَ: لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ نَهْيٌ عَنْ إِثْبَاتِ التَّعَدُّدِ فَقَطْ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الِاثْنَيْنِيَّةَ مُنَافِيَةٌ لِلْإِلَهِيَّةِ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا مَوْجُودَيْنِ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاجِبًا لِذَاتِهِ لَكَانَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي الْوُجُوبِ الذَّاتِيِّ وَمُتَبَايِنَيْنِ بِالتَّعَيُّنِ وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُبَايَنَةُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَكَّبٌ مِنْ جُزْأَيْنِ، وَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُمْكِنٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ يَنْفِي القول بكونهما واجبي الوجود. الثاني: أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا إِلَهَيْنِ وَحَاوَلَ أَحَدُهُمَا تَحْرِيكَ جِسْمٍ وَالْآخَرُ تَسْكِينَهُ امْتَنَعَ كَوْنُ أَحَدِهِمَا أَوْلَى بِالْفِعْلِ مِنَ الثَّانِي، لِأَنَّ الْحَرَكَةَ الْوَاحِدَةَ وَالسُّكُونَ الْوَاحِدَ لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ أَصْلًا وَلَا التَّفَاوُتَ أَصْلًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ الْقُدْرَةُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَكْمَلَ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الثَّانِي، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا امْتَنَعَ كَوْنُ إِحْدَى الْقُدْرَتَيْنِ أَوْلَى بِالتَّأْثِيرِ مِنَ الثَّانِيَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِمَّا أَنْ يَحْصُلَ مُرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ مُحَالٌ، أَوْ لَا يَحْصُلَ مُرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ مُحَالٌ أَوْ لَا يَحْصُلَ مُرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَتَّةَ. فَحِينَئِذٍ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَاجِزًا وَالْعَاجِزُ لَا يَكُونُ إِلَهًا. فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُمَا اثْنَيْنِ يَنْفِي كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَهًا. الثَّالِثُ: أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَقْدِرَ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنْ يَسْتُرَ مُلْكَهُ عَنِ الْآخَرِ أَوْ لَا يَقْدِرَ، فَإِنْ قَدَرَ ذَاكَ إِلَهٌ وَالْآخَرُ ضَعِيفٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ أَحَدَهُمَا إِمَّا أَنْ يَقْوَى عَلَى مُخَالَفَةِ الْآخَرِ، أَوْ لَا يَقْوَى عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَقْوَ عَلَيْهِ فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِنْ قَوِيَ عَلَيْهِ فَذَاكَ الْآخَرُ إِنْ لَمْ يَقْوَ عَلَى الدَّفْعِ فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِنْ قَوِيَ عَلَيْهِ فَالْأَوَّلُ الْمَغْلُوبُ ضَعِيفٌ. فَثَبَتَ أَنِ الِاثْنَيْنِيَّةَ وَالْإِلَهِيَّةَ مُتَضَادَّتَانِ. فَقَوْلُهُ: لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى حُصُولِ الْمُنَافَاةِ وَالْمُضَادَّةِ بَيْنَ الْإِلَهِيَّةِ وَبَيْنَ الِاثْنَيْنِيَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ قَالَ: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ السَّابِقَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْعَالَمِ مِنَ الْإِلَهِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِوُجُودِ الْإِلَهَيْنِ مُحَالٌ، ثَبَتَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْحَقُّ الصَّمَدُ. ثم قال بَعْدَهُ: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَهَذَا رُجُوعٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ/ أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ وَثَبَتَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ إِلَهٌ، فَحِينَئِذٍ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ لِلْعَالَمِ إِلَّا الْمُتَكَلِّمُ بِهَذَا الْكَلَامِ، فَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ مِنْهُ أَنْ يَعْدِلَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ، وَيَقُولُ: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَهُوَ أَنْ لَا يَرْهَبَ الْخَلْقُ إِلَّا مِنْهُ، وَأَنْ لَا يَرْغَبُوا إِلَّا فِي فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا مُحْدَثٌ، أَمَّا الْقَدِيمُ الَّذِي هُوَ الْإِلَهُ فَهُوَ وَاحِدٌ، وَأَمَّا مَا سِوَاهُ فَمُحْدَثٌ، وَإِنَّمَا حَدُثَ بِتَخْلِيقِ ذَلِكَ الْقَدِيمِ وَبِإِيجَادِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا رَغْبَةَ إِلَّا إِلَيْهِ وَلَا رَهْبَةَ إِلَّا مِنْهُ، فَبِفَضْلِهِ تَنْدَفِعُ الْحَاجَاتُ وَبِتَكْوِينِهِ وَبِتَخْلِيقِهِ تَنْقَطِعُ الضَّرُورَاتُ. ثم قال بَعْدَهُ: وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهَذَا حَقٌّ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِلَهُ وَاحِدًا، وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ وَاحِدًا، كَانَ كُلُّ مَا سِوَاهُ حَاصِلًا بِتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ وَإِيجَادِهِ، فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ صِحَّةُ قَوْلِهِ: وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مِنْ جُمْلَةِ ما في السموات وَالْأَرْضِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُ الْعِبَادِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهَا لِلَّهِ تَعَالَى أنها

مُفَعْوِلَةٌ لِلَّهِ لِأَجْلِهِ وَلِغَرَضِ طَاعَتِهِ، لِأَنَّ فِيهَا الْمُبَاحَاتِ وَالْمَحْظُورَاتِ الَّتِي يُؤْتَى بِهَا لِغَرَضِ الشَّهْوَةِ وَاللَّذَّةِ، لَا لِغَرَضِ الطَّاعَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا إِنَّهَا لِلَّهِ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ بِتَكْوِينِهِ وَتَخْلِيقِهِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. ثم قال بَعْدَهُ: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً الدين هاهنا الطَّاعَةُ، وَالْوَاصِبُ الدَّائِمُ. يُقَالُ: وَصَبَ الشَّيْءُ يَصِبُ وُصُوبًا إِذَا دَامَ، قَالَ تَعَالَى: وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ [الصَّافَّاتِ: 9] وَيُقَالُ: وَاظَبَ عَلَى الشَّيْءِ وَوَاصَبَ عَلَيْهِ إِذَا دَاوَمَ، وَمَفَازَةٌ وَاصِبَةٌ أَيْ بَعِيدَةٌ لَا غَايَةَ لَهَا. وَيُقَالُ لِلْعَلِيلِ وَاصِبٌ، لِيَكُونَ ذَلِكَ الْمَرَضُ لَازِمًا لَهُ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يُدَانُ لَهُ وَيُطَاعُ، إِلَّا انْقَطَعَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ فِي حَالِ الْحَيَاةِ أَوْ بِالْمَوْتِ إِلَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ طَاعَتَهُ وَاجِبَةٌ أَبَدًا. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: واصِباً حَالٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مَا فِي الظَّرْفِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ. وَأَقُولُ: الدِّينُ قَدْ يَعْنِي بِهِ الِانْقِيَادُ. يُقَالُ: يَا مَنْ دَانَتْ لَهُ الرِّقَابُ أَيِ انْقَادَتْ. فَقَوْلُهُ: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَيِ انْقِيَادُ كُلِّ مَا سِوَاهُ لَهُ لَازِمٌ أَبَدًا، لِأَنَّ انْقِيَادَ غَيْرِهِ لَهُ مُعَلَّلٌ بِأَنَّ غَيْرَهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إِلَى السَّبَبِ فِي طَرَفَيِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَالْمَاهِيَّاتُ يَلْزَمُهَا الْإِمْكَانُ لُزُومًا ذَاتِيًّا، وَالْإِمْكَانُ يَلْزَمُهُ الِاحْتِيَاجُ إِلَى الْمُؤَثِّرِ لُزُومًا ذَاتِيًّا، يَنْتِجُ أَنَّ الْمَاهِيَّاتِ يَلْزَمُهَا الِاحْتِيَاجُ إِلَى الْمُؤَثِّرِ لُزُومًا ذَاتِيًّا فَهَذِهِ الْمَاهِيَّاتُ مَوْصُوفَةٌ بِالِانْقِيَادِ لِلَّهِ تَعَالَى اتِّصَافًا دَائِمًا وَاجِبًا لَازِمًا مُمْتَنِعَ التَّغَيُّرِ. وَأَقُولُ: فِي الْآيَةِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْعُقَلَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُمْكِنَ حَالَ حُدُوثِهِ مُحْتَاجٌ إِلَى السَّبَبِ الْمُرَجِّحِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُمْكِنِ حَالَ بَقَائِهِ هَلْ هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى السَّبَبِ؟ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إِنَّهُ مُحْتَاجٌ لِأَنَّ عِلَّةَ الْحَاجَةِ هِيَ/ الْإِمْكَانُ وَالْإِمْكَانُ مِنْ لَوَازِمِ الْمَاهِيَّةِ فَيَكُونُ حَاصِلًا لِلْمَاهِيَّةِ حَالَ حُدُوثِهَا وَحَالَ بَقَائِهَا فَتَكُونُ عِلَّةَ الْحَاجَةِ حَالَ حُدُوثِ الْمُمْكِنِ وَحَالَ بَقَائِهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْحَاجَةُ حَاصِلَةً حَالَ حُدُوثِهَا وَحَالَ بَقَائِهَا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَعْنَاهُ: أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى الْحَقِّ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ فِي انْقِلَابِهِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ أَوْ مِنَ الْوُجُودِ إِلَى الْعَدَمِ إِلَى مُرَجِّحٍ وَمُخَصِّصٍ، وَقَوْلُهُ: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الِانْقِيَادَ وَهَذَا الِاحْتِيَاجَ حَاصِلٌ دَائِمًا أَبَدًا، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُمْكِنَ حَالَ بَقَائِهِ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الْمُرَجِّحِ وَالْمُخَصِّصِ، وَهَذِهِ دَقَائِقُ مِنْ أَسْرَارِ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ مُودَعَةٌ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْفَائِضَةِ مِنْ عَالَمِ الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ. ثم قال تَعَالَى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ والمعنى: أنكم بعد ما عَرَفْتُمْ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ وَعَرَفْتُمْ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي وَقْتِ حُدُوثِهِ، وَمُحْتَاجٌ إِلَيْهِ أَيْضًا فِي وَقْتِ دَوَامِهِ وَبَقَائِهِ، فَبَعْدَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْأُصُولِ كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ رَغْبَةٌ فِي غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ رَهْبَةٌ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى؟ فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ. ثم قال: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: أنه لما بين بالآية الأولى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَتَّقِيَ غَيْرَ اللَّهِ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَشْكُرَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى، لِأَنَّ الشُّكْرَ إِنَّمَا يَلْزَمُ عَلَى النِّعْمَةِ، وَكُلُّ نِعْمَةٍ حَصَلَتْ لِلْإِنْسَانِ فَهِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْعَاقِلَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخَافَ وَأَنْ لَا يَتَّقِيَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَأَنْ لَا يَشْكُرَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا الْإِيمَانُ نِعْمَةٌ، وَكُلُّ نِعْمَةٍ فَهِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ يَنْتِجُ أَنَّ الْإِيمَانَ مِنَ اللَّهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْإِيمَانَ نِعْمَةٌ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُطْبِقُونَ عَلَى قَوْلِهِمْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِيمَانِ، وَأَيْضًا فَالنِّعْمَةُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا يَكُونُ مُنْتَفَعًا بِهِ، وَأَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ فِي النَّفْعِ هُوَ الْإِيمَانُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ نِعْمَةٌ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَكُلُّ نِعْمَةٍ فَهِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ تُفِيدُ الْعُمُومَ، وَأَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ فَهِيَ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَوْجُودًا فَهُوَ إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ، وَإِمَّا مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ، وَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ إِنْ كَانَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ كَانَ حُصُولُ ذَلِكَ الْمُمْكِنِ بِإِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ عَادَ التَّقْسِيمُ الْأَوَّلُ فِيهِ، وَلَا يَذْهَبُ إِلَى التَّسَلْسُلِ، بَلْ يَنْتَهِي إِلَى إِيجَادِ الْوَاجِبِ لذته، فَثَبَتَ بِهَذَا الْبَيَانِ أَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ فَهِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. المسألة الثَّالِثَةُ: النِّعَمُ إِمَّا دِينِيَّةٌ وَإِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ، أَمَّا النِّعَمُ الدِّينِيَّةُ فَهِيَ إِمَّا مَعْرِفَةُ الْحَقِّ لِذَاتِهِ وَإِمَّا مَعْرِفَةُ الْخَيْرِ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَأَمَّا النِّعَمُ الدُّنْيَوِيَّةُ فَهِيَ إِمَّا نَفْسَانِيَّةٌ، وَإِمَّا بَدَنِيَّةٌ وَإِمَّا خَارِجِيَّةٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْحَصْرِ وَالتَّحْدِيدِ كَمَا قَالَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: 34] وَالْإِشَارَةُ إِلَى تَفْصِيلِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ قَدْ ذَكَرْنَاهَا مِرَارًا فَلَا نُعِيدُهَا. المسألة الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا دَخَلَتِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمِنَ اللَّهِ لِأَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: بِكُمْ مُتَّصِلَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، وَالْمَعْنَى: مَا يَكُنْ بِكُمْ أَوْ مَا حَلَّ بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ. ثم قال تَعَالَى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الأسقام والأمراض والحاجة: فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ أَيْ تَرْفَعُونَ أَصْوَاتَكُمْ بِالِاسْتِغَاثَةِ، وَتَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ يُقَالُ: جَأَرَ يَجْأَرُ جُؤَارًا وَهُوَ الصَّوْتُ الشَّدِيدُ كَصَوْتِ الْبَقَرَةِ، وَقَالَ الْأَعْشَى يَصِفُ رَاهِبًا: يُرَاوِحُ من صلوات المليك ... طَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤَارًا وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ النِّعَمِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ إِذَا اتَّفَقَ لِأَحَدٍ مَضَرَّةٌ تُوجِبُ زَوَالَ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ النِّعَمِ فَإِلَى اللَّهِ يَجْأَرُ، أَيْ لَا يَسْتَغِيثُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا مَفْزَعَ لِلْخَلْقِ إِلَّا هُوَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُمْ فَأَيْنَ أَنْتُمْ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِي حَالِ الرَّخَاءِ وَالسَّلَامَةِ، ثم قال بَعْدَهُ: ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ عِنْدَ كَشْفِ الضُّرِّ وَسَلَامَةِ الْأَحْوَالِ يَفْتَرِقُونَ فَفَرِيقٌ مِنْهُمْ يَبْقَى عَلَى مَثَلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ الضُّرِّ فِي أَنْ لَا يَفْزَعَ إِلَّا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَفَرِيقٌ مِنْهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ يَتَغَيَّرُونَ فَيُشْرِكُونَ بِاللَّهِ غَيْرَهُ، وَهَذَا جَهْلٌ وَضَلَالٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا شَهِدَتْ فِطْرَتُهُ الْأَصْلِيَّةُ وَخِلْقَتُهُ الْغَرِيزِيَّةُ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْآفَاتِ وَالْمَخَافَاتِ أَنْ لَا مَفْزَعَ إِلَّا إِلَى الْوَاحِدِ، وَلَا مُسْتَغَاثَ إِلَّا الْوَاحِدُ فَعِنْدَ زَوَالِ الْبَلَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ، فَأَمَّا أَنَّهُ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ يُقِرُّ بِأَنَّهُ لَا مُسْتَغَاثَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَعِنْدَ زَوَالِ الْبَلَاءِ يثبت الأضداد والشركاء، فهذا جهل عَظِيمٌ وَضَلَالٌ كَامِلٌ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: 65] . ثم قال تَعَالَى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَفِي هَذِهِ اللَّامِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لَامُ كَيْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ غَيْرَهُ فِي كَشْفِ ذَلِكَ الضُّرِّ عَنْهُمْ. وَغَرَضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْإِشْرَاكِ أَنْ يُنْكِرُوا كَوْنَ ذَلِكَ الْإِنْعَامِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَلَا

[سورة النحل (16) : الآيات 56 إلى 60]

تَرَى أَنَّ الْعَلِيلَ إِذَا اشْتَدَّ وَجَعُهُ تَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ الْوَجَعِ، فَإِذَا زَالَ أَحَالَ زَوَالَهُ عَلَى الدَّوَاءِ الْفُلَانِيِّ وَالْعِلَاجِ الْفُلَانِيِّ، وَهَذَا أَكْثَرُ أَحْوَالِ الْخَلْقِ. وَقَالَ مُصَنِّفُ هَذَا الْكِتَابِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي الْيَوْمِ الَّذِي كُنْتُ أَكْتُبُ هَذِهِ الْأَوْرَاقَ وَهُوَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ مُحَرَّمٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّمِائَةٍ حَصَلَتْ زَلْزَلَةٌ شَدِيدَةٌ، وَهَدَّةٌ عَظِيمَةٌ وَقْتَ الصُّبْحِ/ وَرَأَيْتُ النَّاسَ يَصِيحُونَ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، فَلَمَّا سَكَتَتْ وَطَابَ الْهَوَاءُ، وَحَسُنَ أَنْوَاعُ الْوَقْتِ نَسُوا فِي الْحَالِ تِلْكَ الزَّلْزَلَةَ وَعَادُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ السَّفَاهَةِ والجهالة، وكانت هَذِهِ الْحَالَةَ الَّتِي شَرَحَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ اللَّازِمَةِ لِجَوْهَرِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ اللَّامَ لَامِ الْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَصِ: 8] يَعْنِي أَنَّ عَاقِبَةَ تِلْكَ التَّضَرُّعَاتِ مَا كَانَتْ إِلَّا هَذَا الْكُفْرَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: بِما آتَيْناهُمْ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ كَشْفِ الضُّرِّ وَإِزَالَةِ الْمَكْرُوهِ. وَالثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ وَمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالشَّرَائِعِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى تَوَعَّدَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: فَتَمَتَّعُوا وَهَذَا لَفْظُ أَمْرٍ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّهْدِيدُ، كَقَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الْكَهْفِ: 29] وَقَوْلِهِ: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا [الْإِسْرَاءِ: 107] . ثم قال تَعَالَى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أَيْ عَاقِبَةَ أَمْرِكُمْ وَمَا يَنْزِلُ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ والله أعلم. [سورة النحل (16) : الآيات 56 الى 60] وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ إلى قوله وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بِالدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ فَسَادَ أَقْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالتَّشْبِيهِ، شَرَحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَفَاصِيلَ أَقْوَالِهِمْ وَبَيَّنَ فَسَادَهَا وَسَخَافَتَهَا. فَالنوع الْأَوَّلُ: مِنْ كَلِمَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لِما لَا يَعْلَمُونَ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [النحل: 54] وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَعْلَمُونَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْأَصْنَامِ أَيْ لَا يَعْلَمُ الْأَصْنَامُ مَا يَفْعَلُ عُبَّادُهَا قَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَوَّلُ أَوْلَى لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ نَفْيَ الْعِلْمِ عَنِ الْحَيِّ حَقِيقَةٌ وَعَنِ الْجَمَادِ مَجَازٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَيَجْعَلُونَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لِما لَا يَعْلَمُونَ يَجِبُ أَنْ يكون عائد إِلَيْهِمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: لِما لَا يَعْلَمُونَ جُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ. وَهُوَ بِالْعُقَلَاءِ أَلْيَقُ مِنْهُ بِالْأَصْنَامِ الَّتِي هِيَ جَمَادَاتٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلِ الْقَوْلُ الثَّانِي أَوْلَى لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ افْتَقَرْنَا إِلَى إِضْمَارٍ، فَإِنَّ التَّقْدِيرَ: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ إِلَهًا، أَوْ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ كَوْنَهُ نَافِعًا ضَارًّا، وَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْأَصْنَامِ، لَمْ نَفْتَقِرْ إِلَى الْإِضْمَارِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ:

وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا عِلْمَ لَهَا وَلَا فَهْمَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ مُضَافًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ لَفَسَدَ الْمَعْنَى، لَأَنَّ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَجْعَلُوا نَصِيبًا مِنْ رِزْقِهِمْ لِمَا لَا يَعْلَمُونَهُ، فَهَذَا مَا قِيلَ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. وَاعْلَمْ أَنَّا إِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ افْتَقَرْنَا فِيهِ إِلَى الْإِضْمَارِ، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ لَهُ حَقًّا، وَلَا يَعْلَمُونَ فِي طَاعَتِهِ نَفْعًا وَلَا فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهُ ضَرَرًا، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ وَيَضُرُّهُمْ وَيَنْفَعُهُمْ، ثُمَّ يَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَنْفَعُهُمْ وَيَضُرُّهُمْ نَصِيبًا. وَثَانِيهَا: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ إِلَهِيَّتَهَا. وَثَالِثُهَا: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ السَّبَبَ فِي صَيْرُورَتِهَا مَعْبُودَةً. وَرَابِعُهَا: الْمُرَادُ اسْتِحْقَارُ الْأَصْنَامِ حَتَّى كَأَنَّهَا لِقِلَّتِهَا لَا تَعْلَمُ. المسألة الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ النَّصِيبِ احْتِمَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا لِلَّهِ نَصِيبًا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، وَنَصِيبًا إِلَى الْأَصْنَامِ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهَا، وَقَدْ شَرَحْنَا ذَلِكَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا النَّصِيبِ، الْبَحِيرَةُ، وَالسَّائِبَةُ، وَالْوَصِيلَةُ، وَالْحَامُ، وهو قَوْلُ الْحَسَنِ. وَالثَّالِثُ: رُبَّمَا اعْتَقَدُوا فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ أَنَّهُ إِنَّمَا حَصَلَ بِإِعَانَةِ بَعْضِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ، كَمَا أَنَّ الْمُنَجِّمِينَ يُوَزِّعُونَ مَوْجُودَاتِ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، فَيَقُولُونَ لِزُحَلَ كَذَا مِنَ الْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَشْيَاءُ أُخْرَى فكذا هاهنا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ هذا المذهب قال: تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ وهذا في هؤلاء الأقوم خاصة/ بمنزلة قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْحِجْرِ: 92، 93] وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَأَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ أَنَّهُ يَسْأَلُهُمْ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ مِنْهُ شَدِيدٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَسْأَلُهُمْ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ وَتَهْدِيدٍ، وَفِي وَقْتِ هَذَا السُّؤَالِ احْتِمَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَقَعُ ذَلِكَ السُّؤَالُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ وَمُعَايَنَةِ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، وَقِيلَ عِنْدَ عَذَابِ الْقَبْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَقَعُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ بِمَا يَجْرِي هُنَاكَ مِنْ ضُرُوبِ التَّوْبِيخِ عِنْدَ المسألة فَهُوَ إِلَى الْوَعِيدِ أَقْرَبُ. النوع الثَّانِي: مِنْ كَلِمَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزُّخْرُفِ: 19] كَانَتْ خُزَاعَةُ وَكِنَانَةُ تَقُولُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. أَقُولُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا أَطْلَقُوا لَفْظَ الْبَنَاتِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا كَانُوا مُسْتَتِرِينَ عَنِ الْعُيُونِ أَشْبَهُوا النِّسَاءَ فِي الِاسْتِتَارِ فَأَطْلَقُوا عَلَيْهِمْ لَفْظَ الْبَنَاتِ. وَأَيْضًا قُرْصُ الشَّمْسِ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْتَتِرِ عَنِ الْعُيُونِ بِسَبَبِ ضَوْئِهِ الْبَاهِرِ وَنُورِهِ الْقَاهِرِ فَأَطْلَقُوا عَلَيْهِ لَفْظَ التَّأْنِيثِ فَهَذَا مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ فِي سَبَبِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْفَاسِدِ وَالْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ، وَلَمَّا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ هَذَا الْقَوْلَ قَالَ سُبْحانَهُ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَنْزِيهَ ذَاتِهِ عَنْ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: تَعْجِيبُ الْخَلْقِ مِنْ هَذَا الْجَهْلِ الْقَبِيحِ، وَهُوَ وَصْفُ الْمَلَائِكَةِ بِالْأُنُوثَةِ ثُمَّ نِسْبَتُهَا بِالْوَلَدِيَّةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّالِثُ: قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ مَعْنَاهُ مَعَاذَ اللَّهِ وَذَلِكَ مُقَارِبٌ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ. ثم قال تَعَالَى: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ أَجَازَ الْفَرَّاءُ فِي «مَا» وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلَ: أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى مَعْنَى وَيَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَا يَشْتَهُونَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ كَأَنَّهُ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: سُبْحانَهُ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ يَعْنِي الْبَنِينَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الطُّورِ: 39] ثُمَّ اخْتَارَ الوجه الثَّانِيَ وَقَالَ: لَوْ كَانَ نَصِيبًا لَقَالَ وَلِأَنْفُسِهِمْ مَا يَشْتَهُونَ، لِأَنَّكَ تَقُولُ جَعَلْتَ لِنَفْسِكَ كذا وكذا، ولا

نقول جَعَلْتَ لَكَ، وَأَبَى الزَّجَّاجُ إِجَازَةَ الوجه الْأَوَّلِ، وَقَالَ «مَا» فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لَا غَيْرُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَهُمُ الشَّيْءُ الَّذِي يَشْتَهُونَهُ، وَلَا يَجُوزُ النَّصْبُ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ جَعَلَ لِنَفْسِهِ مَا تَشْتَهِي، وَلَا تَقُولُ جَعَلَ لَهُ مَا يَشْتَهِي وَهُوَ يَعْنِي نَفْسَهُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ لَا يَرْضَى بِالْوَلَدِ الْبِنْتِ لِنَفْسِهِ فَمَا لَا يَرْتَضِيهِ لِنَفْسِهِ كَيْفَ يَنْسُبُهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: التَّبْشِيرُ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ مُخْتَصٌّ بِالْخَبَرِ الَّذِي يُفِيدُ السُّرُورَ إِلَّا أَنَّهُ بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَبَرِ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي تَغَيُّرِ بَشَرَةِ الوجه، وَمَعْلُومٌ أَنَّ السُّرُورَ كَمَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ الْبَشَرَةِ فَكَذَلِكَ الْحُزْنُ يُوجِبُهُ. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَفْظَةُ التَّبْشِيرِ حَقِيقَةً فِي الْقِسْمَيْنِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ/ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آلِ عِمْرَانَ: 21] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: المراد بالتبشير هاهنا الْإِخْبَارُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَدْخَلُ فِي التَّحْقِيقِ. أما قوله: ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَصِيرُ مُتَغَيِّرًا تَغَيُّرَ مُغْتَمٍّ، وَيُقَالُ لِمَنْ لَقِيَ مَكْرُوهًا قَدِ اسْوَدَّ وَجْهُهُ غَمًّا وَحَزَنًا، وَأَقُولُ إِنَّمَا جَعَلَ اسْوِدَادَ الوجه كِنَايَةً عَنِ الْغَمِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَوِيَ فَرَحُهُ انْشَرَحَ صَدْرُهُ وَانْبَسَطَ رُوحُ قَلْبِهِ مِنْ دَاخِلِ الْقَلْبِ، وَوَصَلَ إِلَى الْأَطْرَافِ، وَلَا سِيَّمَا إِلَى الوجه لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّعَلُّقِ الشَّدِيدِ، وَإِذَا وَصَلَ الرُّوحُ إِلَى ظَاهِرِ الوجه أَشْرَقَ الوجه وَتَلَأْلَأَ وَاسْتَنَارَ، وَأَمَّا إِذَا قَوِيَ غَمُّ الْإِنْسَانِ احْتَقَنَ الرُّوحُ فِي بَاطِنِ الْقَلْبِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ أَثَرٌ قَوِيٌّ فِي ظَاهِرِ الوجه، فَلَا جَرَمَ يُرَبَّدُ الوجه وَيَصْفَرُّ وَيَسْوَدُّ وَيَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ الْأَرْضِيَّةِ وَالْكَثَافَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ مِنْ لَوَازِمِ الْفَرَحِ اسْتِنَارَةَ الوجه وَإِشْرَاقَهُ، وَمِنْ لَوَازِمَ الْغَمِّ كُمُودَةَ الوجه وَغُبْرَتَهُ وَسَوَادَهُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ جُعِلَ بَيَاضُ الوجه إشراقه كِنَايَةً عَنِ الْفَرَحِ وَغُبْرَتُهُ وَكُمُودَتُهُ وَسَوَادُهُ كِنَايَةً عَنِ الْغَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْكَرَاهِيَةِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ أَيْ مُمْتَلِئٌ غَمًّا وَحَزَنًا. ثم قال تَعَالَى: يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ أَيْ يَخْتَفِي وَيَتَغَيَّبُ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا ظَهَرَ آثَارُ الطَّلْقِ بِامْرَأَتِهِ تَوَارَى وَاخْتَفَى عَنِ الْقَوْمِ إِلَى أَنْ يَعْلَمَ مَا يُولَدُ لَهُ فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا ابْتَهَجَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى حَزِنَ وَلَمْ يَظْهَرْ لِلنَّاسِ أَيَّامًا يُدَبِّرُ فِيهَا أَنَّهُ مَاذَا يَصْنَعُ بِهَا؟ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ وَالْمَعْنَى: أَيَحْبِسُهُ؟ وَالْإِمْسَاكُ هاهنا بِمَعْنَى الْحَبْسِ كَقَوْلِهِ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الْأَحْزَابِ: 37] وَإِنَّمَا قَالَ: أَيُمْسِكُهُ ذَكَرَهُ بِضَمِيرِ الذُّكْرَانِ لِأَنَّ هَذَا الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى «مَا» فِي قَوْلِهِ: ما بُشِّرَ بِهِ وَالْهُونُ الْهَوَانُ قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ يُقَالُ إِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ هُونًا وَهَوَانًا، وَأَهَنْتُهُ هُونًا وَهَوَانًا، وَذَكَرْنَا هَذَا فِي سُورَةِ الأنعام عند قوله، عَذابَ الْهُونِ [الأنعام: 93] وَفِي أَنَّ هَذَا الْهُونَ صِفَةُ مَنْ؟ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ صِفَةُ الْمَوْلُودَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُمْسِكُهَا عَنْ هُونٍ مِنْهُ لَهَا. وَالثَّانِي: قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ صِفَةٌ لِلْأَبِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُمْسِكُهَا مَعَ الرِّضَا بِهَوَانِ نَفْسِهِ وَعَلَى رَغْمِ أَنْفِهِ. ثم قال: أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ وَالدَّسُّ إِخْفَاءُ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ. يُرْوَى أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَحْفِرُونَ حَفِيرَةً وَيَجْعَلُونَهَا فِيهَا حَتَّى تَمُوتَ. وَرُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَارَيْتُ ثَمَانِيَ بَنَاتٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَعْتِقْ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَقَبَةً» ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي ذُو إِبِلٍ، فَقَالَ: «أهد عن كل واحدة منهن هَدْيًا» وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا أَجِدُ حَلَاوَةَ الْإِسْلَامِ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، فَقَدْ كَانَتْ لِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ ابْنَةٌ فَأَمَرْتُ امْرَأَتِي أَنْ تُزَيِّنَهَا فَأَخْرَجَتْهَا إِلَيَّ فَانْتَهَيْتُ بِهَا إِلَى وَادٍ بَعِيدِ الْقَعْرِ فَأَلْقَيْتُهَا فِيهِ، فَقَالَتْ: يَا أَبَتِ قَتَلْتَنِي، فَكُلَّمَا ذَكَرْتُ قَوْلَهَا لَمْ يَنْفَعْنِي شَيْءٌ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ هَدَمَهُ الْإِسْلَامُ وَمَا كَانَ

[سورة النحل (16) : الآيات 61 إلى 64]

فِي الْإِسْلَامِ يَهْدِمُهُ الِاسْتِغْفَارُ» وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ كَانُوا/ مُخْتَلِفِينَ فِي قَتْلِ الْبَنَاتِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْفِرُ الْحَفِيرَةَ وَيَدْفِنُهَا فِيهَا إِلَى أَنْ تَمُوتَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْمِيهَا مِنْ شَاهِقِ جَبَلٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُغْرِقُهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْبَحُهَا، وَهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ تَارَةً لِلْغَيْرَةِ وَالْحَمِيَّةِ، وَتَارَةً خَوْفًا مِنَ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ وَلُزُومِ النَّفَقَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ: أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ بَلَغُوا في الِاسْتِنْكَافِ مِنَ الْبِنْتِ إِلَى أَعْظَمِ الْغَايَاتِ، فَأَوَّلُهَا: أنه يَسْوَدَّ وَجْهُهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَخْتَفِي عَنِ الْقَوْمِ مِنْ شِدَّةِ نَفْرَتِهِ عَنِ الْبِنْتِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْوَلَدَ مَحْبُوبٌ بِحَسَبِ الطَّبِيعَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ بِسَبَبِ شِدَّةِ نَفْرَتِهِ عَنْهَا يُقْدِمُ عَلَى قَتْلِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْرَةَ عَنِ الْبِنْتِ وَالِاسْتِنْكَافَ عَنْهَا قَدْ بَلَغَ مَبْلَغًا لَا يَزْدَادُ عَلَيْهِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالشَّيْءُ الَّذِي بَلَغَ الِاسْتِنْكَافُ مِنْهُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ الْعَظِيمِ كَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَنْسُبَهُ لِإِلَهِ الْعَالِمِ الْمُقَدِّسِ الْعَالِي عَنْ مُشَابَهَةِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ؟ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النَّجْمِ: 21، 22] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْجَبْرِ، لِأَنَّهُمْ يُضِيفُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ مَا إِذَا أُضِيفَ إِلَى أَحَدِهِمْ أَجْهَدَ نَفْسَهُ فِي الْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَالتَّبَاعُدِ عَنْهُ، فَحُكْمُهُمْ فِي ذَلِكَ مُشَابِهٌ لِحُكْمِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، ثم قال: بَلْ أَعْظَمُ، لِأَنَّ إِضَافَةَ الْبَنَاتِ إِلَيْهِ إِضَافَةُ قُبْحٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ أَسْهَلُ مِنْ إِضَافَةِ كُلِّ الْقَبَائِحِ وَالْفَوَاحِشِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَيُقَالُ للقاضي: إنه لما ثبت بالدليل استحالة الصاعية وَالْوَلَدِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَرْدَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِ هَذَا الوجه الْإِقْنَاعِيِّ، وَإِلَّا فَلَيْسَ كُلُّ مَا قَبُحَ مِنَّا فِي الْعُرْفِ قَبُحَ مِنَ الله تعالى ألا ترى أن رَجُلًا زَيَّنَ إِمَاءَهُ وَعَبِيدَهُ وَبَالَغَ فِي تَحْسِينِ صُوَرِهِنَّ ثُمَّ بَالَغَ فِي تَقْوِيَةِ الشَّهْوَةِ فِيهِمْ وَفِيهِنَّ، ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَ الْكُلِّ وَأَزَالَ الْحَائِلَ وَالْمَانِعَ فَإِنَّ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ حَسَنٌ مِنَ اللَّهِ تعالى وقبيح من كل الخلق، فعلمنا أن التعويل على هذه الوجوه المبينة على العرف، إنما يحسن إذا كانت مسبوقة بالدلائل القطعية اليقينية، وقد ثبت بالبراهين القطعية امتناع الولد على الله، فَلَا جَرَمَ حَسُنَتْ تَقْوِيَتُهَا بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْإِقْنَاعِيَّةِ. أَمَّا أَفْعَالُ الْعِبَادِ فَقَدْ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ الْقَاطِعَةِ أَنَّ خَالِقَهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَكَيْفَ يُمْكِنُ إِلْحَاقُ أَحَدِ الْبَابَيْنِ بِالْآخَرِ لَوْلَا شِدَّةُ التَّعَصُّبِ؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثم قال تَعَالَى: لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَالْمَثَلُ السَّوْءُ عِبَارَةٌ عَنِ الصِّفَةِ السَّوْءِ وَهِيَ احْتِيَاجُهُمْ إِلَى الْوَلَدِ، وَكَرَاهَتُهُمُ الْإِنَاثَ خَوْفَ الْفَقْرِ وَالْعَارِ: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أَيِ الصِّفَةُ الْعَالِيَةُ الْمُقَدَّسَةُ، وَهِيَ كَوْنُهُ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الْوَلَدِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَاءَ: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى مَعَ قَوْلِهِ: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ. قُلْنَا: الْمَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُهُ اللَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَالَّذِي يَذْكُرُهُ غَيْرُهُ فَهُوَ الْبَاطِلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة النحل (16) : الآيات 61 الى 64] وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)

[في قوله وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْقَوْمِ عَظِيمَ كُفْرِهِمْ وَقَبِيحَ قَوْلِهِمْ، بَيَّنَ أَنَّهُ يُمْهِلُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ وَلَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، إِظْهَارًا لِلْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ وَالْكَرَمِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: احْتَجَّ الطَّاعِنُونَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَالَ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ فَأَضَافَ الظُّلْمَ إِلَى كُلِّ النَّاسِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الظُّلْمَ مِنَ الْمَعَاصِي، فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ كُلِّ إِنْسَانٍ آتِيًا بِالذَّنْبِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنَ النَّاسِ، فَوَجَبَ كَوْنُهُمْ آتِينَ بِالذَّنْبِ وَالْمَعْصِيَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ فَهُوَ آتٍ بِالظُّلْمِ وَالذَّنْبِ، حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ إفناء كل ما كَانَ ظَالِمًا إِفْنَاءُ كُلِّ النَّاسِ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمْ ظُلْمٌ فَلَا يَجِبُ إِفْنَاؤُهُمْ، وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِفْنَاءِ كُلِّ الظَّالِمِينَ إِفْنَاءُ كُلِّ النَّاسِ، وَأَنْ لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ دَابَّةٌ، وَلَمَّا لَزِمَ عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ الْبَشَرِ ظَالِمُونَ سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ. وَالْجَوَابُ: ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ كُلَّ النَّاسِ لَيْسُوا ظَالِمِينَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فَاطِرٍ: 32] أَيْ فَمِنَ الْعِبَادِ مَنْ هُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ، وَلَوْ كَانَ الْمُقْتَصِدُ وَالسَّابِقُ ظَالِمًا لَفَسَدَ ذَلِكَ التَّقْسِيمُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُقْتَصِدِينَ وَالسَّابِقِينَ لَيْسُوا ظَالِمِينَ، فَثَبَتَ بِهَذَا الدَّلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ كُلُّ الْخَلْقِ ظَالِمُونَ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: النَّاسُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ إِمَّا كُلُّ الْعُصَاةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ أَوِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمِنَ الَّذِينَ أَثْبَتُوا لِلَّهِ الْبَنَاتِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنِ احْتَجَّ بهذه الآية على أن الأصل من الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ الضَّرَرُ مَشْرُوعًا لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ جَزَاءً عَلَى جُرْمٍ صَادِرٍ مِنْهُمْ أَوْ لَا عَلَى هَذَا الوجه، وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَشْرُوعًا أَصْلًا. أَمَّا بَيَانُ فساد القسم الأول، فلقوله تَعَالَى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ «لَوْ» وُضِعَتْ لِانْتِفَاءِ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ. فَقَوْلُهُ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَخَذَهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَأَنَّهُ تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لَازِمَةَ أَخْذِ اللَّهِ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ هُوَ أَنْ لَا يَتْرُكَ عَلَى ظَهْرِهَا دَابَّةً، ثُمَّ إِنَّا نُشَاهِدُ أَنَّهُ تَعَالَى تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا دَوَابَّ كَثِيرِينَ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَضَارُّ مَشْرُوعَةً عَلَى وَجْهٍ تَقَعُ أَجِزْيَةً عَنِ الْجَرَائِمِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا ابْتِدَاءً لَا عَلَى وَجْهٍ يَقَعُ أَجِزْيَةً عَنْ جُرْمٍ سَابِقٍ، فَهَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ تَحْرِيمُ الْمَضَارِّ مُطْلَقًا، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا أَيْضًا بِآيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها [الْأَعْرَافِ: 56] وَكَقَوْلِهِ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ

[الْحَجِّ: 78] وَكَقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: 185] وَكَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» وَكَقَوْلِهِ: «مَلْعُونٌ مَنْ ضَرَّ مُسْلِمًا» فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ، فَنَقُولُ: إِذَا وَقَعَتْ حَادِثَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الضَّرَرِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، فَإِنْ وَجَدْنَا نَصًّا خَاصًّا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَشْرُوعًا قَضَيْنَا بِهِ تَقْدِيمًا لِلْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَإِلَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ بِالْحُرْمَةِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ الْإِنْسَانُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّهِ، لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ ضَرَرٌ، وَالضَّرَرُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِمُقْتَضَى هَذَا الْأَصْلِ وَكُلُّ مَا يَكْرَهُهُ الْإِنْسَانُ وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ لِأَنَّ وُجُودَهُ ضَرَرٌ وَالضَّرَرُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ يَتَنَاوَلُ/ جَمِيعَ الْوَقَائِعِ الْمُمْكِنَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ نَقُولُ الْقِيَاسُ الَّذِي يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَفْقِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَوْ عَلَى خِلَافِهَا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ: لِأَنَّ هَذَا الْأَصْلَ يُغْنِي عَنْهُ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ، لِأَنَّ النَّصَّ رَاجِحٌ عَلَى الْقِيَاسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الظُّلْمَ وَالْمَعَاصِيَ لَيْسَتْ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى، بَلْ تَكُونُ أَفْعَالًا لِلْعِبَادِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ ظُلْمَ الْعِبَادِ إِلَيْهِمْ، وَمَا أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ. فَقَالَ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى لَكَانَتْ مُؤَاخَذَتُهُمْ بِهَا ظُلْمًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا مَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْعِبَادَ مِنَ الظُّلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَبِأَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنِ الظُّلْمِ كَانَ أَوْلَى، قَالُوا: وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ أَعْمَالَهُمْ مُؤَثِّرَةٌ فِي وُجُوبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ أَنَّ قَوْلَهُ: بِظُلْمِهِمْ الْبَاءُ فِيهِ تَدُلُّ على العلية كما في قوله: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ [الْأَنْفَالِ: 13] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا فَلَا نُعِيدُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الرَّابِعَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِقْدَامَ النَّاسِ عَلَى الظُّلْمِ يُوجِبُ إِهْلَاكَ جَمِيعِ الدَّوَابِّ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الدَّابَّةَ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهَا ذَنْبٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ إِهْلَاكُهَا بِسَبَبِ ظُلْمِ النَّاسِ؟ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الدَّوَابِّ. وَأَجَابَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ: أَنَّ الْمُرَادَ لَوْ يُؤَاخِذُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَسَبُوا مِنْ كُفْرٍ وَمَعْصِيَةٍ لَعَجَّلَ هَلَاكَهُمْ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لَهُمْ نَسْلٌ، ثُمَّ مِنَ المعلوم أنه لا أحدا إِلَّا وَفِي أَحَدِ آبَائِهِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ وَإِذَا هَلَكُوا فَقَدْ بَطَلَ نَسْلُهُمْ، فَكَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَبْقَى فِي الْعَالَمِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَإِذَا بَطَلُوا وَجَبَ أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنَ الدَّوَابِّ أَيْضًا، لِأَنَّ الدَّوَابَّ مَخْلُوقَةٌ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ وَمَصَالِحِهِمْ، فَهَذَا وَجْهٌ لَطِيفٌ حَسَنٌ. وَالوجه الثَّانِي: أَنَّ الْهَلَاكَ إِذَا وَرَدَ عَلَى الظَّلَمَةِ وَرَدَ أَيْضًا عَلَى سَائِرِ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ، فَكَانَ ذَلِكَ الْهَلَاكُ فِي حَقِّ الظَّلَمَةِ عَذَابًا، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمُ امْتِحَانًا، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ فِي زَمَانِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالوجه الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ آخَذَهُمْ لَانْقَطَعَ الْقَطْرُ وفي انقطاعه النَّبْتِ فَكَانَ لَا تَبْقَى عَلَى ظَهْرِهَا دَابَّةٌ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضر إِلَّا نَفْسَهُ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ بَلْ إِنَّ الْحُبَارَى فِي وَكْرِهَا لَتَمُوتَ بِظُلْمِ الظَّالِمِ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَادَ الْجَعْلُ يَهْلِكُ فِي جُحْرِهِ بِذَنْبِ ابْنِ آدَمَ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ مِنَ الْجَوَابِ مُفَرَّعَةٌ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ لَفْظَةَ الدَّابَّةِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الدَّوَابِّ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ أَيْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ كَافِرٍ،

فَالْمُرَادُ بِالدَّابَّةِ الْكَافِرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الْأَعْرَافِ: 179] وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الْخَامِسَةُ: الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْها عائدة إلى الْأَرْضِ، وَلَمْ يَسْبِقْ لَهَا ذِكْرٌ، إِلَّا أَنَّ ذِكْرَ الدَّابَّةِ يَدُلُّ عَلَى الْأَرْضِ، فَإِنَّ الدَّابَّةَ إِنَّمَا تَدِبُّ عَلَيْهَا. وَكَثِيرًا مَا يُكَنَّى عَنِ الْأَرْضِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهَا لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا عَلَيْهَا مِثْلُ فُلَانٍ وَمَا عَلَيْهَا أَكْرَمُ مِنْ فُلَانٍ، يَعْنُونَ عَلَى الْأَرْضِ. ثم قال تَعَالَى: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لِيَتَوَالَدُوا، وَفِي تَفْسِيرِ هَذَا الْأَجَلِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُرِيدُ أَجَلَ الْقِيَامَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مُنْتَهَى الْعُمُرِ. وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ مُعْظَمَ الْعَذَابِ يُوَافِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أن المشركين يؤاخذون بِالْعُقُوبَةِ إِذَا انْقَضَتْ أَعْمَارُهُمْ وَخَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا. النوع الثَّالِثُ: مِنَ الْأَقَاوِيلِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي كَانَ يَذْكُرُهَا الْكُفَّارُ وَحَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، قَوْلُهُ: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَجْعَلُونَ أَيِ الْبَنَاتِ الَّتِي يَكْرَهُونَهَا لأنفسهم، ومعنى قوله: يَجْعَلُونَ يَصِفُونَ اللَّهَ بِذَلِكَ وَيَحْكُمُونَ بِهِ لَهُ كَقَوْلِهِ جَعَلْتُ زَيْدًا عَلَى النَّاسِ أَيْ حَكَمْتُ بِهَذَا الحكم وَذَكَرْنَا مَعْنَى الْجَعْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ [الْمَائِدَةِ: 103] . ثم قال تَعَالَى: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى [إلى قوله وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ] قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: مَوْضِعُ «أَنْ» نَصْبٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى بَدَلٌ مِنَ الْكَذِبِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى. وفي تفسير الْحُسْنى هاهنا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْبَنُونَ، يَعْنِي أَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّهِ الْبَنَاتُ وَلَنَا الْبَنُونَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ مَعَ قَوْلِهِمْ بِإِثْبَاتِ الْبَنَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى، يَصِفُونَ أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّهُمْ فَازُوا بِرِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ هَذَا الْقَوْلِ، وَأَنَّهُمْ عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَالْمَذْهَبِ الْحَسَنِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ حَكَمُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِالْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَحْكُمُونَ بِذَلِكَ وَهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْقِيَامَةِ؟ قُلْنَا: كُلُّهُمْ مَا كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْقِيَامَةِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ فِي الْعَرَبِ جَمْعٌ يُقِرُّونَ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَرْبُطُونَ الْبَعِيرَ النَّفِيسَ عَلَى قَبْرِ الْمَيِّتِ وَيَتْرُكُونَهُ إِلَى أَنْ يَمُوتَ وَيَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ الْمَيِّتَ إِذَا حُشِرَ فَإِنَّهُ يُحْشَرُ مَعَهُ مَرْكُوبُهُ، وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْقِيَامَةِ فَلَعَلَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَنَا الْجَنَّةُ وَالثَّوَابُ بِسَبَبِ هَذَا/ الدِّينِ الْحَقِّ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ الْحُسْنى عَلَى هَذَا الوجه بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ: لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ وَأَثْبَتَ لَهُمُ النَّارَ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ حَكَمُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِالْجَنَّةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا وَصَفُوا جَرَمَ فِعْلُهُمْ أَيْ كَسْبُ ذَلِكَ الْقَوْلِ لَهُمُ النَّارُ، فَعَلَى هَذَا لفظ «أَنَّ» فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِوُقُوعِ الْكَسْبِ عَلَيْهِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ (أَنَّ) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَالْمَعْنَى: وَجَبَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَكَيْفَ كَانَ الْإِعْرَابُ فَالْمَعْنَى هُوَ أَنَّهُ يَحِقُّ لَهُمُ النَّارُ وَيَجِبُ وَيَثْبُتُ. وَقَوْلُهُ: وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ قَرَأَ نَافِعٌ وَقُتَيْبَةُ عَنِ الْكِسَائِيِّ: مُفْرَطُونَ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَالْبَاقُونَ: مُفْرَطُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ. أَمَّا قِرَاءَةُ نَافِعٍ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُفْرِطِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي الذُّنُوبِ، وَقِيلَ: أَفْرَطُوا فِي الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: كَأَنَّهُ مِنْ أَفْرَطَ، أَيْ صَارَ ذَا فَرَطٍ

مِثْلَ أَجْرَبَ، أَيْ صَارَ ذَا جَرَبٍ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ ذَوُو فَرَطٍ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهُمْ قَدْ أَرْسَلُوا مَنْ يُهَيِّئُ لَهُمْ مَوَاضِعَ فِيهَا. وَأَمَّا قِرَاءَةُ قَوْلِهِ: مُفْرَطُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: القول الأول: المعنى: أنهم متروكون فِي النَّارِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ مَا أَفْرَطْتُ مِنَ الْقَوْمِ أَحَدًا، أَيْ مَا تَرَكْتُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ أَفْرَطْتُ مِنْهُمْ نَاسًا، أَيْ خَلَّفْتُهُمْ وَأُنْسِيتُهُمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مُفْرَطُونَ أَيْ مُعَجَّلُونَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ الِاخْتِيَارُ وَوَجْهُهُ مَا قَالَ أَبُو زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: فَرَطَ الرَّجُلُ أَصْحَابَهُ يَفْرُطُهُمْ فَرَطًا وَفُرُوطًا إِذَا تَقَدَّمَهُمْ إِلَى الْمَاءِ لِيُصْلِحَ الدِّلَاءَ وَالْأَرْسَانَ، وَأَفْرَطَ الْقَوْمُ الْفَارِطَ، وَفَرَّطُوهُ إِذَا قَدَّمُوهُ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: مُفْرَطُونَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُمْ قُدِّمُوا إِلَى النَّارِ فَهُمْ فِيهَا فَرَطٌ لِلَّذِينِ يَدْخُلُونَ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الصُّنْعِ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ قَدْ صَدَرَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ السَّابِقِينَ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَقَالَ: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا كَانَ يَنَالُهُ مِنَ الْغَمِّ بِسَبَبِ جَهَالَاتِ الْقَوْمِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ خَالِقُ أَعْمَالِهِمْ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّزْيِينِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ التَّزْيِينَ لَمَّا كَانَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَجُزْ ذَمُّ الشَّيْطَانِ بِسَبَبِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ التَّزْيِينَ هُوَ الَّذِي يَدْعُو الْإِنْسَانَ إِلَى الْفِعْلِ، وَإِذَا كَانَ حُصُولُ الْفِعْلِ فِيهِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ ضَرُورِيًّا فَلَمْ يَكُنِ التَّزْيِينُ دَاعِيًا. وَالرَّابِعُ: أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمْ، الْخَالِقُ لِذَلِكَ الْعَمَلِ، أَجْدَرُ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لَهُمْ مِنَ الدَّاعِي إِلَيْهِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ التَّزْيِينَ إِلَى الشَّيْطَانِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمُزَيِّنُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَكَانَتْ إِضَافَتُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ كَذِبًا. وَجَوَابُهُ: إِنْ كَانَ مُزَيِّنُ الْقَبَائِحِ فِي أَعْيُنِ الْكُفَّارِ هُوَ الشَّيْطَانُ، فَمُزَيِّنُ تِلْكَ الْوَسَاوِسِ فِي عَيْنِ/ الشَّيْطَانِ إِنْ كَانَ شَيْطَانًا آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ. وَإِنْ كَانَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ الْمَطْلُوبُ. ثم قال تَعَالَى: فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَفِيهِ احْتِمَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كُفَّارُ مَكَّةَ وَبِقَوْلِهِ: فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ أَيِ الشَّيْطَانُ وَيَتَوَلَّى إِغْوَاءَهُمْ وَصَرْفَهُمْ عَنْكَ، كَمَا فَعَلَ بِكُفَّارِ الْأُمَمِ قَبْلَكَ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ رَجَعَ عَنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ إِلَى الْأَخْبَارِ عَنْ كُفَّارِ مَكَّةَ. الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِالْيَوْمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ فَهُوَ وَلِيُّ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُزَيِّنُ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَطْلَقَ اسْمَ الْيَوْمِ عَلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِشُهْرَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ هُوَ أَنَّهُ لَا وَلِيَّ لَهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلَا نَاصِرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِذَا عَايَنُوا الْعَذَابَ وَقَدْ نَزَلَ بِالشَّيْطَانِ كَنُزُولِهِ بِهِمْ، وَرَأَوْا أَنَّهُ لَا مُخَلِّصَ لَهُ مِنْهُ، كَمَا لَا مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهُ، جَازَ أَنْ يُوَبَّخُوا بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ: هَذَا وَلِيُّكُمُ الْيَوْمَ عَلَى وَجْهِ السُّخْرِيَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أن مع هذا الوعيد الشديد قد أَقَامَ الْحُجَّةَ وَأَزَاحَ الْعِلَّةَ فَقَالَ: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: الْمَعْنَى: أَنَّا مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ بِوَاسِطَةِ بَيَانَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا، وَالْمُخْتَلِفُونَ هُمْ أَهْلُ الْمِلَلِ وَالْأَهْوَاءِ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، هُوَ الدِّينُ مِثْلَ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ وَالْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَإِثْبَاتِ الْمَعَادِ وَنَفْيِهِ، وَمِثْلَ الْأَحْكَامِ، مِثْلَ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا أَشْيَاءَ تَحِلُّ كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَغَيْرِهِمَا وَحَلَّلُوا أَشْيَاءَ تَحْرُمُ كَالْمَيْتَةِ.

[سورة النحل (16) : الآيات 65 إلى 67]

المسألة الثَّانِيَةُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِتُبَيِّنَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى مُعَلَّلَةٌ بِالْأَغْرَاضِ، وَنَظِيرُهُ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ [إِبْرَاهِيمَ: 1] وَقَوْلُهُ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] . وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالْعَقْلِ امْتِنَاعُ التَّعْلِيلِ وَجَبَ صَرْفُهُ إِلَى التَّأْوِيلِ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قوله: هُدىً وَرَحْمَةً مَعْطُوفَانِ عَلَى مَحَلِّ قَوْلِهِ: لِتُبَيِّنَ إِلَّا أَنَّهُمَا انْتَصَبَا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُمَا، لِأَنَّهُمَا فِعْلَا الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ، وَدَخَلَتِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِتُبَيِّنَ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْمُخَاطَبِ لَا فِعْلُ الْمُنْزِلِ، وَإِنَّمَا يَنْتَصِبُ مَفْعُولًا لَهُ مَا كَانَ فِعْلًا لِذَلِكَ الْفَاعِلِ. المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَصْفُ الْقُرْآنِ بِكَوْنِهِ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، لَا يَنْفِي كَوْنَهُ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْكُلِّ، كَمَا أَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: 2] لَا يَنْفِي كَوْنَهُ هُدًى لِكُلِّ النَّاسِ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [الْبَقَرَةِ: 185] وَإِنَّمَا خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالذِّكْرِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُمْ قَبِلُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النَّازِعَاتِ: 45] لِأَنَّهُ إِنَّمَا انْتَفَعَ بِإِنْذَارِهِ هَذَا الْقَوْمُ فَقَطْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة النحل (16) : الآيات 65 الى 67] وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها] اعْلَمْ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ تَقْرِيرُ أُصُولٍ أَرْبَعَةٍ: الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْمَعَادِ، وَإِثْبَاتِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَالْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ تَقْرِيرُ الْإِلَهِيَّاتِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كُلَّمَا امْتَدَّ الْكَلَامُ فِي فَصْلٍ مِنَ الْفُصُولِ فِي وَعِيدِ الْكُفَّارِ عَادَ إِلَى تَقْرِيرِ الْإِلَهِيَّاتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ ذِكْرَ دَلَائِلِ الْإِلَهِيَّاتِ ابْتَدَأَ بِالْأَجْرَامِ الْفَلَكِيَّةِ، وَثَنَّى بِالْإِنْسَانِ، وَثَلَّثَ بِالْحَيَوَانِ، وَرَبَّعَ بِالنَّبَاتِ، وَخَمَّسَ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْبَحْرِ وَالْأَرْضِ، فَهَهُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَمَّا عَادَ إِلَى تَقْرِيرِ دَلَائِلِ الْإِلَهِيَّاتِ بَدَأَ أَوَّلًا بِذِكْرِ الْفَلَكِيَّاتِ فَقَالَ: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَاءَ عَلَى وَجْهٍ يَنْزِلُ مِنْهُ الْمَاءُ وَيَصِيرُ ذَلِكَ الْمَاءُ سَبَبًا لِحَيَاةِ الْأَرْضِ، وَالْمُرَادُ بِحَيَاةِ الْأَرْضِ نَبَاتُ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ وَالنَّوْرِ وَالثَّمَرِ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يُثْمِرُ، وَيَنْفَعُ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يَنْفَعُ، وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الدَّلَائِلِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا كَثِيرَةً. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سَمَاعَ إِنْصَافٍ وَتَدَبُّرٍ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ بِقَلْبِهِ فكأنه أصم لم يسمع. [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ إلى قوله سائِغاً لِلشَّارِبِينَ] وَالنوع الثَّانِي: مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الِاسْتِدْلَالُ بِعَجَائِبِ أَحْوَالِ الْحَيَوَانَاتِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ قَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى الْعِبْرَةِ فِي قَوْلِهِ: لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [آلِ عِمْرَانَ: 13] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: نُسْقِيكُمْ بِضَمِّ النُّونِ، وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ،

أَمَّا مَنْ فَتَحَ النُّونَ فَحُجَّتُهُ ظَاهِرَةٌ تَقُولُ سَقَيْتُهُ حَتَّى رُوِيَ أَسْقِيهِ قَالَ تَعَالَى: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً [الْإِنْسَانِ: 21] وَقَالَ: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [الشُّعَرَاءِ: 79] وَقَالَ: وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً [مُحَمَّدٍ: 15] وَمَنْ ضَمَّ النُّونَ فَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ أَسْقَاهُ إِذَا جَعَلَ لَهُ شَرَابًا كَقَوْلِهِ: وَأَسْقَيْناكُمْ مَاءً فُراتاً [الْمُرْسَلَاتِ: 27] وَقَوْلِهِ: فَأَسْقَيْناكُمُوهُ [الْحِجْرِ: 22] وَالْمَعْنَى هاهنا أَنَّا جَعَلْنَاهُ فِي كَثْرَتِهِ وَإِدَامَتِهِ كَالسُّقْيَا، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ الضَّمَّ قَالَ لِأَنَّهُ شُرْبٌ دَائِمٌ، وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَسْقَيْتُ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مِمَّا فِي بُطُونِهِ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْأَنْعَامِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ مِمَّا فِي بُطُونِهَا، وَذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ فِيهِ وُجُوهًا: الأول: أن لفظ الأنعام لفظ مُفْرِدٌ وُضِعَ لِإِفَادَةِ جَمْعٍ، كَالرَّهْطِ وَالْقَوْمِ وَالْبَقَرِ وَالنَّعَمِ، فَهُوَ بِحَسَبِ اللَّفْظِ لَفْظٌ مُفْرَدٌ فَيَكُونُ ضَمِيرُهُ ضَمِيرَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ التَّذْكِيرُ، وَبِحَسَبِ الْمَعْنَى جَمْعٌ فَيَكُونُ ضَمِيرُهُ ضَمِيرَ الْجَمْعِ، وَهُوَ التَّأْنِيثُ، فلهذا السبب قال هاهنا فِي بُطُونِهِ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: فِي بُطُونِها [المؤمنون: 21] . الثَّانِي: قَوْلُهُ: فِي بُطُونِهِ أَيْ فِي بُطُونِ مَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا جَوَابُ الْكِسَائِيِّ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: هَذَا شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ. قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي [الْأَنْعَامِ: 78] يعني هذا الشيء الطالع ربي. وقال: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ [المدثر: 54، 55] أَيْ ذَكَرَ هَذَا الشَّيْءَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا يَكُونُ تَأْنِيثُهُ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ، أَمَّا الَّذِي يَكُونُ تَأْنِيثُهُ حَقِيقِيًّا، فَلَا يَجُوزُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي مُسْتَقِيمِ الْكَلَامِ أَنْ يقال جاريتك ذهب، ولا غلامك ذهب عَلَى تَقْدِيرٍ أَنْ نَحْمِلَهُ عَلَى النَّسَمَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ فِيهِ إِضْمَارًا، وَالتَّقْدِيرُ: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ اللَّبَنَ إِذْ لَيْسَ كُلُّهَا ذَاتَ لَبَنٍ. المسألة الثَّالِثَةُ: الْفَرْثُ: سِرْجِينُ الْكَرِشِ. رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا اسْتَقَرَّ الْعَلَفُ فِي الْكَرِشِ صَارَ أَسْفَلُهُ فَرْثًا وَأَعْلَاهُ دَمًا وَأَوْسَطُهُ لَبَنًا، فَيَجْرِي الدَّمُ فِي الْعُرُوقِ وَاللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَيَبْقَى الْفَرْثُ كَمَا هُوَ، فَذَاكَ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً لَا يَشُوبُهُ الدَّمُ وَلَا الْفَرْثُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الدَّمُ وَاللَّبَنُ لَا يَتَوَلَّدَانِ الْبَتَّةَ فِي الْكَرِشِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْحِسُّ فَإِنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ تُذْبَحُ ذَبْحًا مُتَوَالِيًا، وَمَا رَأَى أَحَدٌ فِي كَرِشِهَا لَا دَمًا وَلَا لَبَنًا، وَلَوْ كَانَ تَوَلُّدُ الدَّمِ وَاللَّبَنِ فِي الْكِرْشِ لَوَجَبَ أَنْ يُشَاهَدَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَالشَّيْءُ الَّذِي دَلَّتِ الْمُشَاهَدَةُ عَلَى فَسَادِهِ لَمْ يَجُزِ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْحَيَوَانَ إِذَا تَنَاوَلَ الْغِذَاءَ وَصَلَ ذَلِكَ الْعَلَفُ إِلَى مَعِدَتِهِ إِنْ كَانَ إِنْسَانًا، وَإِلَى كَرِشِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا، فَإِذَا طُبِخَ وَحَصَلَ الْهَضْمُ الْأَوَّلُ فِيهِ فَمَا كَانَ مِنْهُ صَافِيًا انْجَذَبَ إِلَى الْكَبِدِ، وَمَا كَانَ كَثِيفًا نَزَلَ إِلَى الْأَمْعَاءِ، ثُمَّ ذَلِكَ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْهُ فِي الْكَبِدِ يَنْطَبِخُ فِيهَا/ وَيَصِيرُ دَمًا، وَذَلِكَ هُوَ الْهَضْمُ الثَّانِي، وَيَكُونُ ذَلِكَ الدَّمُ مَخْلُوطًا بِالصَّفْرَاءِ وَالسَّوْدَاءِ وَزِيَادَةِ الْمَائِيَّةِ، أَمَّا الصَّفْرَاءُ فَتَذْهَبُ إِلَى الْمَرَارَةِ، وَالسَّوْدَاءُ إِلَى الطِّحَالِ، وَالْمَاءُ إِلَى الْكُلْيَةِ، وَمِنْهَا إِلَى الْمَثَانَةِ، وَأَمَّا ذَلِكَ الدَّمُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْأَوْرِدَةِ، وَهِيَ الْعُرُوقُ النَّابِتَةُ مِنَ الْكَبِدِ، وَهُنَاكَ يَحْصُلُ الْهَضْمُ الثَّالِثُ، وَبَيْنَ الْكَبِدِ وَبَيْنَ الضَّرْعِ عُرُوقٌ كَثِيرَةٌ فَيَنْصَبُّ الدَّمُ فِي تِلْكَ الْعُرُوقِ إِلَى الضَّرْعِ، وَالضَّرْعُ لَحْمٌ غُدَدِيٌّ رَخْوٌ أَبْيَضُ فَيُقَلِّبُ اللَّهُ تَعَالَى الدَّمَ عِنْدَ انْصِبَابِهِ إِلَى ذَلِكَ اللَّحْمِ الْغُدَدِيِّ الرَّخْوِ الْأَبْيَضِ مِنْ صُورَةِ الدَّمِ إِلَى صُورَةِ اللَّبَنِ فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَلُّدِ اللَّبَنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الْمَعَانِي حَاصِلَةٌ فِي الْحَيَوَانِ الذَّكَرِ فَلِمَ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ اللَّبَنُ؟

قُلْنَا: الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ اقْتَضَتْ تَدْبِيرَ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى الوجه اللَّائِقِ بِهِ الْمُوَافِقِ لِمَصْلَحَتِهِ، فَمِزَاجُ الذَّكَرِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَارًّا يَابِسًا، وَمِزَاجُ الْأُنْثَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَارِدًا رَطْبًا، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْوَلَدَ إِنَّمَا يَتَكَوَّنُ فِي دَاخِلِ بَدَنِ الْأُنْثَى، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأُنْثَى مُخْتَصَّةً بِمَزِيدِ الرُّطُوبَاتِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَلَدَ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الرُّطُوبَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ فِي بَدَنِ الْأُنْثَى رُطُوبَاتٌ كَثِيرَةٌ لِتَصِيرَ مَادَّةً لِتَوَلُّدِ الْوَلَدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَلَدَ إِذَا كَبِرَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَدَنُ الْأُمِّ قَابِلًا لِلتَّمَدُّدِ حَتَّى يَتَّسِعَ لِذَلِكَ الْوَلَدِ، فَإِذَا كَانَتِ الرُّطُوبَاتُ غَالِبَةً عَلَى بَدَنِ الْأُمِّ كَانَ بَدَنُهَا قَابِلًا لِلتَّمَدُّدِ، فَيَتَّسِعُ لِلْوَلَدِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ بَدَنَ الْأُنْثَى مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ بِمَزِيدِ الرُّطُوبَاتِ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ، ثُمَّ إِنَّ الرُّطُوبَاتِ الَّتِي كَانَتْ تَصِيرُ مَادَّةً لِازْدِيَادِ بَدَنِ الْجَنِينِ حِينَ كَانَ فِي رَحِمِ الْأُمِّ، فَعِنْدَ انْفِصَالِ الْجَنِينِ تَنْصَبُّ إِلَى الثَّدْيِ وَالضَّرْعِ لِيَصِيرَ مَادَّةً لِغِذَاءِ ذَلِكَ الطِّفْلِ الصَّغِيرِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ يَتَوَلَّدُ اللَّبَنُ مِنَ الدَّمِ فِي حَقِّ الْأُنْثَى غَيْرُ حَاصِلٍ فِي حَقِّ الذَّكَرِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا التَّصْوِيرَ فَنَقُولُ: الْمُفَسِّرُونَ قَالُوا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ هُوَ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ تَتَوَلَّدُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَالْفَرْثُ يَكُونُ فِي أَسْفَلِ الْكَرِشِ، وَالدَّمُ يَكُونُ فِي أَعْلَاهُ، وَاللَّبَنُ يَكُونُ فِي الْوَسَطِ، وَقَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى خِلَافِ الْحِسِّ وَالتَّجْرِبَةِ، وَلِأَنَّ الدَّمَ لَوْ كَانَ يَتَوَلَّدُ فِي أَعْلَى الْمَعِدَةِ وَالْكَرِشِ كَانَ يَجِبُ إِذَا قَاءَ أَنْ يَقِيءَ الدَّمَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا. وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ هُوَ أَنَّ اللَّبَنَ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ بَعْضِ أَجْزَاءِ الدَّمِ، وَالدَّمُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْأَجْزَاءِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي فِي الْفَرْثِ، وَهُوَ الْأَشْيَاءُ الْمَأْكُولَةُ الْحَاصِلَةُ فِي الْكَرِشِ، وَهَذَا اللَّبَنُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي كَانَتْ حَاصِلَةً فِيمَا بَيْنَ الْفَرْثِ أَوَّلًا، ثُمَّ كَانَتْ حَاصِلَةً فِيمَا بَيْنَ الدَّمِ ثَانِيًا، فَصَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْكَثِيفَةِ الْغَلِيظَةِ، وَخَلَقَ فِيهَا الصِّفَاتِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا صَارَتْ لَبَنًا مُوَافِقًا لِبَدَنِ الطِّفْلِ، فَهَذَا مَا حَصَّلْنَاهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ حُدُوثَ اللَّبَنِ فِي الثَّدْيِ وَاتِّصَافَهُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِتَغْذِيَةِ الصَّبِيِّ مُشْتَمِلٌ عَلَى حِكَمٍ عَجِيبَةٍ وَأَسْرَارٍ بَدِيعَةٍ، يَشْهَدُ صَرِيحُ الْعَقْلِ بِأَنَّهَا لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِتَدْبِيرِ الْفَاعِلِ الْحَكِيمِ وَالْمُدَبِّرِ الرَّحِيمِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِي أَسْفَلِ الْمَعِدَةِ مَنْفَذًا يَخْرُجُ مِنْهُ ثِقَلُ الْغِذَاءِ، فَإِذَا تَنَاوَلَ الْإِنْسَانُ غِذَاءً أَوْ شَرْبَةً رَقِيقَةً انْطَبَقَ ذَلِكَ الْمَنْفَذُ انْطِبَاقًا كُلِّيًّا لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ إِلَى أَنْ يَكْمُلَ انْهِضَامُهُ فِي الْمَعِدَةِ وَيَنْجَذِبُ مَا صَفَا مِنْهُ إِلَى الْكَبِدِ وَيَبْقَى الثِّقَلُ هُنَاكَ، فَحِينَئِذٍ يَنْفَتِحُ ذَلِكَ الْمَنْفَذُ وَيُتْرَكُ مِنْهُ ذَلِكَ الثِّقَلُ، وَهَذَا مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ حُصُولُهَا إِلَّا بِتَدْبِيرِ الْفَاعِلِ الْحَكِيمِ، لِأَنَّهُ مَتَّى كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى بَقَاءِ الْغِذَاءِ فِي الْمَعِدَةِ حَاصِلَةً انْطَبَقَ ذَلِكَ الْمَنْفَذُ، وَإِذَا حَصَلَتِ الْحَاجَةُ إِلَى خُرُوجِ ذَلِكَ الْجِسْمِ عَنِ الْمَعِدَةِ انْفَتَحَ، فَحُصُولُ الِانْطِبَاقِ تَارَةً وَالِانْفِتَاحُ أُخْرَى، بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَتَقْدِيرِ الْمَنْفَعَةِ، مِمَّا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِتَقْدِيرِ الْفَاعِلِ الْحَكِيمِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي الْكَبِدِ قُوَّةً تَجْذِبُ الْأَجْزَاءَ اللَّطِيفَةَ الْحَاصِلَةَ فِي ذَلِكَ الْمَأْكُولِ أَوِ الْمَشْرُوبِ، وَلَا تَجْذِبُ الْأَجْزَاءَ الْكَثِيفَةَ، وَخَلَقَ فِي الْأَمْعَاءِ قُوَّةً تَجْذِبُ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ الْكَثِيفَةَ الَّتِي هِيَ الثِّقَلُ، وَلَا تَجْذِبُ الْأَجْزَاءَ اللَّطِيفَةَ الْبَتَّةَ. وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ لَاخْتَلَفَتْ مَصْلَحَةُ الْبَدَنِ وَلَفَسَدَ نِظَامُ هَذَا التَّرْكِيبِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي الْكَبِدِ قُوَّةً هَاضِمَةً طَابِخَةً، حَتَّى أَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ اللَّطِيفَةَ تَنْطَبِخُ فِي الْكَبِدِ وَتَنْقَلِبُ دَمًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي الْمَرَارَةِ قُوَّةً جَاذِبَةً لِلصَّفْرَاءِ، وَفِي الطِّحَالِ قُوَّةً جَاذِبَةً لِلسَّوْدَاءِ، وَفِي الْكُلْيَةِ قُوَّةً جاذبة

لِزِيَادَةِ الْمَائِيَّةِ، حَتَّى يَبْقَى الدَّمُ الصَّافِي الْمُوَافِقُ لِتَغْذِيَةِ الْبَدَنِ. وَتَخْصِيصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ وَالْخَاصِّيَّةِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِتَقْدِيرِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ. الرَّابِعُ: أَنَّ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ الْجَنِينُ فِي رَحِمِ الْأُمِّ يَنْصَبُّ مِنْ ذَلِكَ الدَّمِ نَصِيبٌ وَافِرٌ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ مَادَّةً لِنُمُوِّ أَعْضَاءِ ذَلِكَ الْوَلَدِ وَازْدِيَادِهِ، فَإِذَا انْفَصَلَ ذَلِكَ الْجَنِينُ عَنِ الرَّحِمِ يَنْصَبُّ ذَلِكَ النَّصِيبُ إِلَى جَانِبِ الثَّدْيِ لِيَتَوَلَّدَ مِنْهُ اللَّبَنُ الَّذِي يَكُونُ غِذَاءً لَهُ، فَإِذَا كَبِرَ الْوَلَدُ لَمْ يَنْصَبَّ ذَلِكَ النَّصِيبُ لَا إِلَى الرَّحِمِ وَلَا إِلَى الثَّدْيِ، بَلْ يَنْصَبُّ عَلَى مَجْمُوعِ بَدَنِ الْمُتَغَذِّي، فَانْصِبَابُ ذَلِكَ الدَّمِ فِي كُلِّ وَقْتٍ إِلَى عُضْوٍ آخَرَ انْصِبَابًا مُوَافِقًا لِلْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِتَدْبِيرِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ الْحَكِيمِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ عِنْدَ تَوَلُّدِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ أَحْدَثَ تَعَالَى فِي حَلَمَةِ الثَّدْيِ ثُقُوبًا صَغِيرَةً وَمَسَامَّ ضَيِّقَةً، وَجَعَلَهَا بِحَيْثُ إِذَا اتَّصَلَ الْمَصُّ أَوِ الْحَلْبُ بِتِلْكَ الْحَلَمَةِ انْفَصَلَ اللَّبَنُ عَنْهَا فِي تِلْكَ الْمَسَامِّ الضَّيِّقَةِ، وَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْمَسَامُّ ضَيِّقَةً جِدًّا، فَحِينَئِذٍ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا إِلَّا مَا كَانَ فِي غَايَةِ الصَّفَاءِ وَاللَّطَافَةِ، وَأَمَّا الْأَجْزَاءُ الْكَثِيفَةُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهَا الْخُرُوجُ مِنْ تِلْكَ الْمَنَافِذِ الضَّيِّقَةِ فَتَبْقَى فِي الدَّاخِلِ. وَالْحِكْمَةُ فِي إِحْدَاثِ تِلْكَ الثُّقُوبِ الصَّغِيرَةِ، وَالْمَنَافِذِ الضَّيِّقَةِ فِي رَأْسِ حَلَمَةِ الثَّدْيِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَالْمِصْفَاةِ، فَكُلُّ مَا كَانَ لَطِيفًا/ خَرَجَ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَثِيفًا احْتَبَسَ فِي الدَّاخِلِ وَلَمْ يَخْرُجْ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَصِيرُ ذَلِكَ اللَّبَنُ خَالِصًا مُوَافِقًا لِبَدَنِ الصَّبِيِّ سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ. السَّادِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَلْهَمَ ذَلِكَ الصَّبِيَّ إِلَى الْمَصِّ، فَإِنَّ الْأُمَّ كُلَّمَا أَلْقَمَتْ حَلَمَةَ الثَّدْيِ فِي فَمِ الصَّبِيِّ فَذَلِكَ الصَّبِيُّ فِي الْحَالِ يَأْخُذُ فِي الْمَصِّ، فَلَوْلَا أَنَّ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ الرَّحِيمَ أَلْهَمَ ذَلِكَ الطِّفْلَ الصَّغِيرَ ذَلِكَ الْعَمَلَ الْمَخْصُوصَ، وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلِ الِانْتِفَاعُ بِتَخْلِيقِ ذَلِكَ اللَّبَنِ فِي الثَّدْيِ. السَّابِعُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ اللَّبَنَ مِنْ فَضْلَةِ الدم، وإنما خلق الدم من الغذاء الذي يتناوله الحيوان، فالشاة لما تناولت العشب والماء فالله تعالى خَلَقَ الدَّمَ مِنْ لَطِيفِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ اللَّبَنَ مِنْ بَعْضِ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الدَّمِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّبَنَ حَصَلَتْ فِيهِ أَجْزَاءٌ ثَلَاثَةٌ عَلَى طَبَائِعَ مُتَضَادَّةٍ، فَمَا فِيهِ مِنَ الدُّهْنِ يَكُونُ حَارًّا رَطْبًا، وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَائِيَّةِ يَكُونُ بَارِدًا رَطْبًا، وَمَا فِيهِ مِنَ الْجُبْنِيَّةِ يَكُونُ بَارِدًا يَابِسًا، وَهَذِهِ الطَّبَائِعُ مَا كَانَتْ حَاصِلَةً فِي ذَلِكَ الْعُشْبِ الَّذِي تَنَاوَلَتْهُ الشَّاةُ، فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ هَذِهِ الْأَجْسَامَ لَا تَزَالُ تَنْقَلِبُ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ وَمِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَلَا يُشَاكِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ إِنَّمَا تَحْدُثُ بِتَدْبِيرِ فَاعِلٍ حَكِيمٍ رَحِيمٍ يُدَبِّرُ أَحْوَالَ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى وَفْقِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ، فَسُبْحَانَ مَنْ تَشْهَدُ جَمِيعُ ذَرَّاتِ الْعَالَمِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ بِكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَنِهَايَةِ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ. أما قوله: سائِغاً لِلشَّارِبِينَ فَمَعْنَاهُ: جَارِيًا فِي حُلُوقِهِمْ لَذِيذًا هَنِيئًا. يُقَالُ: سَاغَ الشَّرَابُ فِي الْحَلْقِ وَأَسَاغَهُ صَاحِبُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ [إِبْرَاهِيمَ: 17] . المسألة الْخَامِسَةُ: قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: اعْتِبَارُ حُدُوثِ اللَّبَنِ كَمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ سُبْحَانَهُ، فَكَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى إِمْكَانِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْعُشْبَ الَّذِي يَأْكُلُهُ الْحَيَوَانُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَخَالِقُ الْعَالَمِ دَبَّرَ تَدْبِيرًا، فَقَلَبَ ذَلِكَ الطِّينَ نَبَاتًا وَعُشْبًا، ثُمَّ إِذَا أَكَلَهُ الْحَيَوَانُ دَبَّرَ تَدْبِيرًا آخَرَ فَقَلَبَ ذَلِكَ الْعُشْبَ دَمًا، ثُمَّ دَبَّرَ تَدْبِيرًا آخَرَ فَقَلَبَ ذَلِكَ الدَّمَ لَبَنًا، ثُمَّ دَبَّرَ تَدْبِيرًا آخَرَ فَحَدَثَ مِنْ ذَلِكَ اللَّبَنِ الدُّهْنُ وَالْجُبْنُ، فَهَذَا يدل على أنه تعالى قادر على أن يُقَلِّبَ هَذِهِ الْأَجْسَامَ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ، وَمِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَقْلِبَ أَجْزَاءَ أَبْدَانِ الْأَمْوَاتِ إِلَى صِفَةِ الْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَهَذَا الِاعْتِبَارُ يَدُلُّ مِنْ هَذَا الوجه عَلَى أَنَّ الْبَعْثَ وَالْقِيَامَةِ أَمْرٌ مُمْكِنٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَاللَّهُ أعلم.

[سورة النحل (16) : الآيات 68 إلى 69]

ثم قال تَعَالَى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ بَعْضَ مَنَافِعِ الْحَيَوَانَاتِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ مَنَافِعِ النَّبَاتِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: فَإِنْ قِيلَ: بِمَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ. قُلْنَا: بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَنُسْقِيكُمْ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ أَيْ مِنْ عَصِيرِهَا وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ نُسْقِيكُمْ قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً بَيَانٌ وَكَشْفٌ عَنْ كُنْهِ الْإِسْقَاءِ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْأَعْنابِ عَطْفٌ عَلَى الثَّمَرَاتِ لَا عَلَى النَّخِيلِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْأَعْنَابِ، وَالْعِنَبُ نَفْسُهُ ثَمَرَةٌ وَلَيْسَتْ لَهُ ثَمَرَةٌ أُخْرَى. المسألة الثَّالِثَةُ: فِي تَفْسِيرِ السَّكَرِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: السَّكَرُ الْخَمْرُ سُمِّيَتْ بِالْمَصْدَرِ مِنْ سَكِرَ سَكَرًا وَسَكْرًا نَحْوُ: رَشِدَ رَشَدًا وَرَشْدًا، وَأَمَّا الرِّزْقُ الْحَسَنُ فَسَائِرُ مَا يُتَّخَذُ مِنَ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ كَالرُّبِّ وَالْخَلِّ وَالدِّبْسِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ. فَإِنْ قِيلَ: الْخَمْرُ مُحَرَّمَةٌ فَكَيْفَ ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي مَعْرِضِ الْإِنْعَامِ؟ أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ نَزَلَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، فَكَانَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَتِ الْخَمْرُ فِيهِ غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى الْتِزَامِ هَذَا النَّسْخِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَا في هذه الأشياء من المنافع، وَخَاطَبَ الْمُشْرِكِينَ بِهَا، وَالْخَمْرُ مِنْ أَشْرِبَتِهِمْ فَهِيَ مَنْفَعَةٌ فِي حَقِّهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَيَّزَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرِّزْقِ الْحَسَنِ فِي الذِّكْرِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ السَّكَرُ رِزْقًا حَسَنًا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ حَسَنٌ بِحَسَبِ الشَّهْوَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ الرُّجُوعُ عَنْ كَوْنِهِ حَسَنًا بِحَسَبِ الشَّرِيعَةِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ السَّكَرَ هُوَ النَّبِيذُ، وَهُوَ عَصِيرُ الْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ إِذَا طُبِخَ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَهُوَ حَلَالٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى حَدِّ السُّكْرِ، وَيَحْتَجُّ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّكَرَ حَلَالٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرُهُ فِي مَعْرِضِ الْإِنْعَامِ وَالْمِنَّةِ، وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْخَمْرُ حَرَامٌ لِعَيْنِهَا» وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السَّكَرُ شَيْئًا غَيْرَ الْخَمْرِ، وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ هَذِهِ الْمُغَايَرَةَ قَالَ إِنَّهُ النَّبِيذُ الْمَطْبُوخُ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ السَّكَرَ هُوَ الطَّعَامُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: جَعَلْتَ أَعْرَاضِ الْكِرَامِ سَكَرَا أَيْ جَعَلْتَ ذَمَّهُمْ طَعَامًا لَكَ، قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا بِالْخَمْرِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالطَّعَامِ، وَالْمَعْنَى أَنَّكَ جَعَلْتَ تَتَخَمَّرُ بِأَغْرَاضِ الْكِرَامِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ جَعَلَ شَغَفَهُ بِغَيْبَةِ النَّاسِ وَتَمْزِيقِ أَعْرَاضِهِمْ جَارِيًا مَجْرَى شُرْبِ الْخَمْرِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْوُجُوهَ الَّتِي هِيَ دَلَائِلُ مِنْ وَجْهٍ، وَتَعْدِيدٌ لِلنِّعَمِ الْعَظِيمَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ كَانَ عَاقِلًا، عَلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَيَحْتَجُّ بِحُصُولِهَا عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة النحل (16) : الآيات 68 الى 69] وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)

[في قوله تعالى وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ إِخْرَاجَ الْأَلْبَانِ مِنَ النِّعَمِ، وَإِخْرَاجَ السَّكَرِ وَالرِّزْقِ الْحَسَنِ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ دَلَائِلُ قَاهِرَةٌ، وَبَيِّنَاتٌ بَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ إِلَهًا قَادِرًا مُخْتَارًا حَكِيمًا، فَكَذَلِكَ إِخْرَاجُ الْعَسَلِ مِنَ النَّحْلِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ وَبُرْهَانٌ سَاطِعٌ عَلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْمَقْصُودِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ يُقَالُ وَحَى وَأَوْحَى، وَهُوَ الْإِلْهَامُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْإِلْهَامِ أَنَّهُ تَعَالَى قَرَّرَ فِي أَنْفُسِهَا هَذِهِ الْأَعْمَالَ الْعَجِيبَةَ الَّتِي تَعْجِزُ عَنْهَا الْعُقَلَاءُ مِنَ الْبَشَرِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تَبْنِي الْبُيُوتَ الْمُسَدَّسَةَ مِنْ أَضْلَاعٍ مُتَسَاوِيَةٍ، لَا يَزِيدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِمُجَرَّدِ طِبَاعِهَا، وَالْعُقَلَاءُ مِنَ الْبَشَرِ لَا يُمْكِنُهُمْ بِنَاءُ مِثْلِ تِلْكَ الْبُيُوتِ إِلَّا بِآلَاتٍ وَأَدَوَاتٍ مِثْلَ الْمِسْطَرِ وَالْفِرْجَارِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْهَنْدَسَةِ أَنَّ تِلْكَ الْبُيُوتَ لَوْ كَانَتْ مُشَكَّلَةً بِأَشْكَالٍ سِوَى الْمُسَدَّسَاتِ فَإِنَّهُ يَبْقَى بِالضَّرُورَةِ فِيمَا بَيْنَ تِلْكَ الْبُيُوتِ فُرَجٌ خَالِيَةٌ ضَائِعَةٌ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ تِلْكَ الْبُيُوتُ مُسَدَّسَةً فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِيمَا بَيْنَهَا فُرَجٌ ضَائِعَةٌ، فَإِهْدَاءُ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ الضَّعِيفِ إِلَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ الْخَفِيَّةِ وَالدَّقِيقَةِ اللَّطِيفَةِ/ مِنَ الْأَعَاجِيبِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّحْلَ يَحْصُلُ فِيمَا بَيْنَهَا وَاحِدٌ يَكُونُ كَالرَّئِيسِ لِلْبَقِيَّةِ، وَذَلِكَ الْوَاحِدُ يَكُونُ أَعْظَمَ جُثَّةً مِنَ الْبَاقِي، وَيَكُونُ نَافِذَ الحكم عَلَى تِلْكَ الْبَقِيَّةِ، وَهُمْ يَخْدِمُونَهُ وَيَحْمِلُونَهُ عِنْدَ الطَّيَرَانِ، وَذَلِكَ أَيْضًا مِنَ الْأَعَاجِيبِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا إِذَا نَفَرَتْ مِنْ وَكْرِهَا ذَهَبَتْ مَعَ الْجَمْعِيَّةِ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، فَإِذَا أَرَادُوا عَوْدَهَا إِلَى وَكْرِهَا ضَرَبُوا الطُّنْبُورَ وَالْمَلَاهِي وَآلَاتِ الْمُوسِيقَى، وَبِوَاسِطَةِ تِلْكَ الْأَلْحَانِ يَقْدِرُونَ عَلَى رَدِّهَا إِلَى وَكْرِهَا، وَهَذَا أَيْضًا حَالَةٌ عَجِيبَةٌ، فَلَمَّا امْتَازَ هَذَا الْحَيَوَانُ بِهَذِهِ الْخَوَاصِّ الْعَجِيبَةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَزِيدِ الذَّكَاءِ وَالْكِيَاسَةِ، وَكَانَ حُصُولُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْكِيَاسَةِ لَيْسَ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْإِلْهَامِ وَهِيَ حَالَةٌ شَبِيهَةٌ بِالْوَحْيِ، لَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهَا: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَحْيَ قَدْ وَرَدَ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً [الشُّورَى: 51] وَفِي حَقِّ الْأَوْلِيَاءِ أَيْضًا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ [الْمَائِدَةِ: 111] وَبِمَعْنَى الْإِلْهَامِ فِي حَقِّ الْبَشَرِ قَالَ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى [الْقَصَصِ: 7] وَفِي حَقِّ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَعْنًى خَاصٌّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ سُمِّيَ هَذَا الْحَيَوَانُ نَحْلًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَحَلَ النَّاسَ الْعَسَلَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ النَّحْلُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ، وَلِذَلِكَ أَنَّثَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ كَلُّ جَمْعٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ إِلَّا الْهَاءُ. ثم قال تَعَالَى: أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَنِ اتَّخِذِي هِيَ «أَنِ» الْمُفَسِّرَةُ، لِأَنَّ الْإِيحَاءَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَقُرِئَ: بِيُوتًا بِكَسْرِ الْبَاءِ وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ أَيْ يَبْنُونَ وَيَسْقُفُونَ، وَفِيهِ لُغَتَانِ قُرِئَ بِهِمَا، ضَمُّ الرَّاءِ وَكَسْرُهَا مِثْلُ يَعْكُفُونَ وَيَعْكِفُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّحْلَ نَوْعَانِ:

النوع الْأَوَّلُ: مَا يَسْكُنُ فِي الْجِبَالِ وَالْغِيَاضِ وَلَا يَتَعَهَّدُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ. وَالنوع الثَّانِي: الَّتِي تَسْكُنُ بُيُوتَ النَّاسِ وَتَكُونُ فِي تَعَهُّدَاتِ النَّاسِ، فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ. وَالثَّانِي: هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمِمَّا يَعْرِشُونَ وَهُوَ خَلَايَا النَّحْلِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ وَهَلَّا قِيلَ فِي الْجِبَالِ وَفِي الشَّجَرِ؟ قُلْنَا: أُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ، وَأَنْ لَا تَبْنِيَ بُيُوتَهَا فِي كُلِّ جَبَلٍ وَشَجَرٍ، بَلْ فِي مَسَاكِنَ تُوَافِقُ مَصَالِحَهَا وَتَلِيقُ بِهَا. المسألة الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً أَمْرٌ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِهَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ عُقُولٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَوَّجَهَ عَلَيْهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرٌ وَنَهْيٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِيهَا غَرَائِزَ وَطَبَائِعَ تُوجِبُ هَذِهِ الْأَحْوَالَ، وَالْكَلَامُ الْمُسْتَقْصَى فِي هَذِهِ المسألة مذكور في تفسير قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النَّمْلِ: 18] . ثم قال تَعَالَى: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ لَفْظَةُ «مِنْ» هاهنا لِلتَّبْعِيضِ أَوْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَرَأَيْتُ فِي «كُتُبِ الطِّبِّ» أَنَّهُ تَعَالَى دَبَّرَ هَذَا الْعَالَمَ عَلَى وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يَحْدُثُ فِي الْهَوَاءِ طَلٌّ لَطِيفٌ فِي اللَّيَالِي وَيَقَعُ ذَلِكَ الطَّلُّ عَلَى أَوْرَاقِ الْأَشْجَارِ، فَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ الطَّلِّيَّةُ لَطِيفَةً صَغِيرَةً مُتَفَرِّقَةً عَلَى الْأَوْرَاقِ وَالْأَزْهَارِ، وَقَدْ تَكُونُ كَثِيرَةً بِحَيْثُ يَجْتَمِعُ مِنْهَا أَجْزَاءٌ مَحْسُوسَةٌ. أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَهُوَ مِثْلُ التَّرَنْجَبِينِ فَإِنَّهُ طَلٌّ يَنْزِلُ مِنَ الْهَوَاءِ وَيَجْتَمِعُ عَلَى أَطْرَافِ الطَّرْفَاءِ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ وَذَلِكَ مَحْسُوسٌ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ الَّذِي أَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا النَّحْلَ حَتَّى أَنَّهَا تَلْتَقِطُ تِلْكَ الذَّرَّاتِ مِنَ الْأَزْهَارِ وَأَوْرَاقِ الْأَشْجَارِ بِأَفْوَاهِهَا وَتَأْكُلُهَا وَتَغْتَذِي بِهَا، فَإِذَا شَبِعَتِ الْتَقَطَتْ بِأَفْوَاهِهَا مَرَّةً أُخْرَى شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ وَذَهَبَتْ بِهَا إِلَى بُيُوتِهَا وَوَضَعَتْهَا هُنَاكَ، لِأَنَّهَا تُحَاوِلُ أَنْ تَدَّخِرَ لِنَفْسِهَا غِذَاءَهَا، فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي بُيُوتِهَا مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الطَّلِّيَّةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ فَذَاكَ هُوَ الْعَسَلُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ النَّحْلَ تَأْكُلُ مِنَ الْأَزْهَارِ الطَّيِّبَةِ وَالْأَوْرَاقِ الْمُعَطَّرَةِ أَشْيَاءَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَقْلِبُ تِلْكَ الْأَجْسَامَ فِي دَاخِلِ بَدَنِهَا عَسَلًا، ثُمَّ إِنَّهَا تَقِيءُ مَرَّةً أُخْرَى فَذَاكَ هُوَ الْعَسَلُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ وَأَشَدُّ مُنَاسَبَةً إِلَى الِاسْتِقْرَاءِ، فَإِنَّ طَبِيعَةَ التَّرَنْجَبِينِ قَرِيبَةٌ مِنَ الْعَسَلِ فِي الطَّعْمِ وَالشَّكْلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ طَلٌّ يَحْدُثُ فِي الْهَوَاءِ وَيَقَعُ عَلَى أَطْرَافِ الْأَشْجَارِ وَالْأَزْهَارِ فَكَذَا هاهنا. وَأَيْضًا فَنَحْنُ نُشَاهِدُ أَنَّ هَذَا النَّحْلَ إِنَّمَا يَتَغَذَّى بِالْعَسَلِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّا إِذَا اسْتَخْرَجْنَا الْعَسَلَ مِنْ بُيُوتِ النَّحْلِ نَتْرُكُ لَهَا بَقِيَّةً مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ تَغْتَذِيَ بِهَا فَعَلِمْنَا أَنَّهَا إِنَّمَا تَغْتَذِي بِالْعَسَلِ وَأَنَّهَا إِنَّمَا تَقَعُ عَلَى الْأَشْجَارِ وَالْأَزْهَارِ لِأَنَّهَا تَغْتَذِي بِتِلْكَ الْأَجْزَاءِ الطَّلِّيَّةِ الْعَسَلِيَّةِ الْوَاقِعَةِ مِنَ الْهَوَاءِ عَلَيْهَا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كلمة (من) هاهنا تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَلَا تَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. ثم قال تَعَالَى: فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ وَالْمَعْنَى: ثُمَّ كُلِي كُلَّ ثَمَرَةٍ تَشْتَهِينَهَا فَإِذَا أَكَلْتِهَا فَاسْلُكِي سُبُلَ

رَبِّكِ فِي الطُّرُقِ الَّتِي أَلْهَمَكِ وَأَفْهَمَكِ فِي عَمَلِ الْعَسَلِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ: فَاسْلُكِي فِي طَلَبِ تِلْكَ الثَّمَرَاتِ سُبُلَ رَبِّكِ. أما قوله: ذُلُلًا فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حَالٌ مِنَ السُّبُلِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَلَّلَهَا لَهَا وَوَطَّأَهَا وَسَهَّلَهَا، كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا [الْمُلْكِ: 15] . الثَّانِي: أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي فَاسْلُكِي أَيْ وَأَنْتِ أَيُّهَا النَّحْلُ ذُلُلٌ مُنْقَادَةٌ لِمَا أُمِرْتِ بِهِ غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ. ثم قال تَعَالَى: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها وَفِيهِ بَحْثَانِ: البحث الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا رُجُوعٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَنْ يَحْتَجَّ الْإِنْسَانُ الْمُكَلَّفُ بِهِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَحُسْنِ تَدْبِيرِهِ لِأَحْوَالِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَاطَبَ النَّحْلَ بِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ خَاطَبَ الْإِنْسَانَ وَقَالَ: إِنَّا أَلْهَمْنَا هَذَا النَّحْلَ لِهَذِهِ الْعَجَائِبِ، لِأَجْلِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ. البحث الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الْعَسَلُ عِبَارَةٌ عَنْ أَجْزَاءٍ طَلِّيَّةٍ تَحْدُثُ فِي الْهَوَاءِ وَتَقَعُ عَلَى أَطْرَافِ الْأَشْجَارِ وَعَلَى الْأَوْرَاقِ وَالْأَزْهَارِ، فَيَلْقُطُهَا الزُّنْبُورُ بِفَمِهِ، فَإِذَا ذَهَبْنَا إِلَى هَذَا الوجه كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها أَيْ مِنْ أَفْوَاهِهَا، وَكُلُّ تَجْوِيفٍ فِي دَاخِلِ الْبَدَنِ فَإِنَّهُ يُسَمَّى بَطْنًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: بُطُونُ الدِّمَاغِ وَعَنَوْا أَنَّهَا تَجَاوِيفُ الدِّمَاغِ، وكذا هاهنا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا أَيْ مِنْ أَفْوَاهِهَا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ أَنَّ النَّحْلَةَ تَأْكُلُ الْأَوْرَاقَ وَالثَّمَرَاتِ ثُمَّ تَقِيءُ فَذَلِكَ هُوَ الْعَسَلُ فَالْكَلَامُ ظَاهِرٌ. ثم قال تَعَالَى: شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْعَسَلَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ: فَالصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُ شَرَابًا وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَارَةً يشرب وحده وتارة يتخذ منه الْأَشْرِبَةِ. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِنْهُ أَحْمَرَ وَأَبْيَضَ وَأَصْفَرَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ [فَاطِرٍ: 27] وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: إِبْطَالُ الْقَوْلِ بِالطَّبْعِ، لِأَنَّ هَذَا الْجِسْمَ مَعَ كَوْنِهِ مُتَسَاوِيَ الطَّبِيعَةِ لَمَّا حَدَثَ عَلَى أَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُدُوثَ تِلْكَ الْأَلْوَانِ بِتَدْبِيرِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، لَا لِأَجْلِ إِيجَادِ الطَّبِيعَةِ. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْعَسَلِ. فَإِنْ قَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ شِفَاءً لِلنَّاسِ وهو يضر بالصفراء ويهيج المرار؟ قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ شِفَاءُ لِكُلِّ النَّاسِ وَلِكُلِّ دَاءٍ وَفِي كُلِّ حَالٍ، بل لما كان شفاء للبعض/ ومن بَعْضِ الْأَدْوَاءِ صَلُحَ بِأَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ فِيهِ شِفَاءٌ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شِفَاءٌ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّهُ قَلَّ مَعْجُونٌ مِنَ الْمَعَاجِينِ إِلَّا وَتَمَامُهُ وَكَمَالُهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْعَجْنِ بِالْعَسَلِ، وَأَيْضًا فَالْأَشْرِبَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْهُ فِي الْأَمْرَاضِ الْبَلْغَمِيَّةِ عَظِيمَةُ النَّفْعِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّ الْقُرْآنَ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقِصَّةُ تُوَلُّدِ الْعَسَلِ مِنَ النَّحْلِ تَمَّتْ عِنْدَ قَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ أي في

[سورة النحل (16) : آية 70]

هَذَا الْقُرْآنِ حَصَلَ مَا هُوَ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ، مِثْلَ هَذَا الَّذِي فِي قِصَّةِ النَّحْلِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ الْعَسَلَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ، وَالْقُرْآنَ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا قَوْلُهُ: شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ وَأَمَّا الحكم بِعَوْدِ هَذَا الضَّمِيرِ إِلَى الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِيمَا سَبَقَ، فَهُوَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ. وَالثَّانِي: مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: أَنَّهُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: إِنَّ أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ فَقَالَ: «اسْقِهِ عَسَلًا» فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: قَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اذْهَبْ وَاسْقِهِ عَسَلًا» فَذَهَبَ فَسَقَاهُ، فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَقَالَ: «صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ» وَحَمَلُوا قَوْلَهُ: «صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ» عَلَى قَوْلِهِ: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ هَذَا صِفَةً لِلْعَسَلِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ» . قُلْنَا: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلِمَ بِنُورِ الْوَحْيِ أَنَّ ذَلِكَ الْعَسَلَ سَيَظْهَرُ نَفْعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ نَفْعُهُ فِي الْحَالِ مَعَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ سَيَظْهَرُ نَفْعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، كَانَ هَذَا جَارِيًا مَجْرَى الْكَذِبِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَطْلَقَ عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظَ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْرِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: اخْتِصَاصُ النَّحْلِ بِتِلْكَ الْعُلُومِ الدَّقِيقَةِ وَالْمَعَارِفِ الْغَامِضَةِ مِثْلُ بِنَاءِ الْبُيُوتِ الْمُسَدَّسَةِ وَسَائِرِ الْأَحْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَالثَّانِي: اهْتِدَاؤُهَا إِلَى جَمِيعِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْعَسَلِيَّةِ مِنْ أَطْرَافِ الْأَشْجَارِ وَالْأَوْرَاقِ. وَالثَّالِثُ: خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى الْأَجْزَاءَ النَّافِعَةَ فِي جَوِّ الْهَوَاءِ، ثُمَّ إِلْقَاؤُهَا عَلَى أَطْرَافِ الْأَشْجَارِ وَالْأَوْرَاقِ، ثُمَّ إِلْهَامُ النَّحْلِ إِلَى جَمْعِهَا بَعْدَ تَفْرِيقِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ بَنَى تَرْتِيبَهُ عَلَى رِعَايَةِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة النحل (16) : آية 70] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) المسألة الْأُولَى: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى بَعْضَ عَجَائِبِ أَحْوَالِ الْحَيَوَانَاتِ، ذَكَرَ بَعْدَهُ بَعْضَ عَجَائِبِ أَحْوَالِ النَّاسِ، فَمِنْهَا مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَرَاتِبِ عُمُرِ الْإِنْسَانِ، وَالْعُقَلَاءُ ضَبَطُوهَا فِي أَرْبَعِ مَرَاتِبَ: أَوَّلُهَا: سِنُّ النَّشْوِ وَالنَّمَاءِ. وَثَانِيهَا: سِنُّ الْوُقُوفِ وَهُوَ سِنُّ الشَّبَابِ. وَثَالِثُهَا: سِنُّ الِانْحِطَاطِ الْقَلِيلِ وَهُوَ سِنُّ الْكُهُولَةِ. وَرَابِعُهَا: سِنُّ الِانْحِطَاطِ الْكَبِيرِ وَهُوَ سِنُّ الشَّيْخُوخَةِ. فَاحْتَجَّ تَعَالَى بِانْتِقَالِ الْحَيَوَانِ مِنْ بَعْضِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ إِلَى بَعْضٍ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ النَّاقِلَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْأَطِبَّاءُ الطَّبَائِعِيُّونَ قَالُوا: الْمُقْتَضِي لِهَذَا الِانْتِقَالِ هُوَ طَبِيعَةُ الْإِنْسَانِ، وَأَنَا أَحْكِي كَلَامَهُمْ عَلَى الوجه الْمُلَخَّصِ وَأُبَيِّنُ ضَعْفَهُ وَفَسَادَهُ، وَحِينَئِذٍ يَبْقَى أَنَّ ذَلِكَ النَّاقِلَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِحُّ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ الطَّبَائِعِيُّونَ: إِنَّ بَدَنَ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ مِنَ الْمَنِيِّ وَمِنْ دَمِ الطَّمْثِ، وَالْمَنِيُّ وَالدَّمُ جَوْهَرَانِ حَارَّانِ رَطْبَانِ، وَالْحَرَارَةُ إِذَا عَمِلَتْ فِي الْجِسْمِ الرَّطْبِ قَلَّلَتْ رُطُوبَتَهُ وَأَفَادَتْهُ نَوْعَ يُبْسٍ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ، قَالُوا: فَلَا يَزَالُ مَا فِي هَذَيْنِ الْجَوْهَرَيْنِ مِنْ قُوَّةِ الْحَرَارَةِ يُقَلِّلُ مَا فِيهِ مِنَ الرُّطُوبَةِ حَتَّى تَتَصَلَّبَ الْأَعْضَاءُ وَيَظْهَرَ فِيهِ الِانْعِقَادُ، وَيَحْدُثَ الْعَظْمُ وَالْغُضْرُوفُ وَالْعَصَبُ وَالْوَتَرُ والرباط

وَسَائِرُ الْأَعْضَاءِ فَإِذَا تَمَّ تَكَوَّنَ الْبَدَنُ وَكَمُلَ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْفَصِلُ الْجَنِينُ مِنْ رَحِمِ الْأُمِّ وَمَعَ ذَلِكَ فَالرُّطُوبَاتُ زَائِدَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّكَ تَرَى أَعْضَاءَ الطِّفْلِ بَعْدَ انْفِصَالِهِ مِنَ الْأُمِّ لَيِّنَةً لَطِيفَةً وَعِظَامَهُ لَيِّنَةً قَرِيبَةَ الطَّبْعِ مِنَ الْغَضَارِيفِ، ثُمَّ إِنَّ مَا فِي الْبَدَنِ مِنَ الْحَرَارَةِ يَعْمَلُ فِي تِلْكَ الرُّطُوبَاتِ وَيُقَلِّلُهَا، قَالُوا: وَيَحْصُلُ لِلْبَدَنِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ تَكُونَ رُطُوبَةُ الْبَدَنِ زَائِدَةً عَلَى حَرَارَتِهِ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْأَعْضَاءُ قَابِلَةً لِلتَّمَدُّدِ وَالِازْدِيَادِ وَالنَّمَاءِ، وَذَلِكَ هُوَ سِنُّ النَّشْوِ وَالنَّمَاءِ وَنِهَايَتُهُ إِلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً أَوْ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَصِيرَ رُطُوبَاتُ الْبَدَنِ أَقَلَّ مَا كَانَتْ فَتَكُونُ وَافِيَةً بِحِفْظِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ إِلَّا أَنَّهَا لَا تَكُونُ زَائِدَةً عَلَى هَذَا الْقَدْرِ، وَهَذَا هُوَ سِنُّ الْوُقُوفِ وَسِنُّ الشَّبَابِ وَغَايَتُهُ خَمْسُ سِنِينَ، وَعِنْدَ تَمَامِهِ يُتَمُّ الْأَرْبَعُونَ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَقِلَّ الرُّطُوبَاتُ وَتَصِيرُ بِحَيْثُ لَا تَكُونُ وَافِيَةً بِحِفْظِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ النُّقْصَانُ، ثُمَّ هَذَا النُّقْصَانُ قَدْ يَكُونُ خَفِيًّا وَهُوَ سِنُّ الْكُهُولَةِ وَتَمَامُهُ إِلَى سِتِّينَ سَنَةً وَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا وَهُوَ سِنُّ الشَّيْخُوخَةِ وَتَمَامُهُ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً فَهَذَا هُوَ الَّذِي حَصَّلَهُ الْأَطِبَّاءُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ ضَعِيفٌ وَيَدُلُّ عَلَى ضِعْفِهِ وُجُوهٌ: الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّا نَقُولُ إِنَّ فِي أَوَّلِ مَا كَانَ الْمَنِيُّ مَنِيًّا وَكَانَ الدَّمُ دَمًا كَانَتِ الرُّطُوبَاتُ غَالِبَةً وَكَانَتِ الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ مَغْمُورَةً وَكَانَتْ ضَعِيفَةً بِهَذَا السَّبَبِ، ثُمَّ إِنَّهَا مَعَ ضَعْفِهَا قَوِيَتْ عَلَى تَحْلِيلِ أَكْثَرِ تِلْكَ الرُّطُوبَاتِ وَأَبَانَتْهَا مِنْ حَدِّ الدَّمَوِيَّةِ وَالْمَنَوِيَّةِ إِلَى أن صارت عظما وغضروفا وعصبا ورباطا، وعند ما تَوَلَّدَتِ الْأَعْضَاءُ وَكَمُلَ الْبَدَنُ قَلَّتِ الرُّطُوبَاتُ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ لِلْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ قُوَّةٌ أَزَيْدُ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَحْلِيلُ الرُّطُوبَاتِ بَعْدَ تَوَلُّدِ الْبَدَنِ وَكَمَالِهِ أَزْيَدَ مِنْ تَحَلُّلِهَا قَبْلَ تَوَلُّدِ الْبَدَنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ قَبْلَ تَوَلُّدِ الْبَدَنِ انْتَقَلَ جِسْمُ الْمَنِيِّ وَالدَّمِ إِلَى أَنْ صَارَ عَظْمًا وَعَصَبًا، وَأَمَّا بَعْدَ تَوَلُّدِ الْبَدَنِ فَلَمْ يَحْصُلْ مِثْلُ هَذَا الِانْتِقَالِ وَلَا عُشْرُ عُشْرِهِ فَلَوْ كَانَ تَوَلُّدُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ بِسَبَبِ تَأْثِيرِ الْحَرَارَةِ فِي الرُّطُوبَةِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَحَلُّلُ الرُّطُوبَاتِ بَعْدَ كَمَالِ الْبَدَنِ أَكْثَرَ مِنْ تَحَلُّلِهَا قَبْلَ تَكَوُّنِ الْبَدَنِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ تَوَلُّدَ الْبَدَنِ إِنَّمَا كَانَ بِتَدْبِيرِ قَادِرٍ حَكِيمٍ يُدَبِّرُ أَبْدَانَ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى وَفْقِ مَصَالِحِهَا، وَأَنَّهُ مَا كَانَ تَوَلُّدُ الْبَدَنِ لِأَجْلِ مَا قَالُوهُ مِنْ تَأْثِيرِ الْحَرَارَةِ فِي الرُّطُوبَةِ. وَالوجه الثَّانِي: فِي إِبْطَالِ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ الْحَاصِلَةَ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ الْكَامِلِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ هِيَ عَيْنَ مَا كَانَ حَاصِلًا فِي جَوْهَرِ النُّطْفَةِ أَوْ صَارَتْ أَزْيَدَ مِمَّا كَانَتْ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْحَارَّ الْغَرِيزِيَّ الْحَاصِلَ فِي جَوْهَرِ النُّطْفَةِ كَانَ بِمِقْدَارِ جِرْمِ النُّطْفَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ جِرْمَ النُّطْفَةِ كَانَ قَلِيلًا صَغِيرًا، فَهَذَا الْبَدَنُ بَعْدَ كِبَرِهِ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ مِنَ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ إِلَّا ذَلِكَ الْقَدْرُ كَانَ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ فِي هَذَا الْبَدَنِ أَثَرٌ أَصْلًا، وَأَمَّا الثَّانِي: فَفِيهِ تَسْلِيمٌ أَنَّ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ تَتَزَايَدُ بِحَسَبِ تَزَايُدِ الْجُثَّةِ وَالْبَدَنِ، وَإِذَا تَزَايَدْتِ الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ سَاعَةً فَسَاعَةً، وَثَبَتَ أَنَّ تَزَايُدَهَا يُوجِبُ تَزَايُدَ الْقُوَّةِ وَالصِّحَّةِ سَاعَةً فَسَاعَةً، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى الْبَدَنُ الْحَيَوَانِيُّ أَبَدًا فِي التَّزَايُدِ وَالتَّكَامُلِ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ ازْدِيَادَ حَالِ الْبَدَنِ الْحَيَوَانِيِّ وَانْتِقَاصَهُ لَيْسَ بِحَسَبِ الطَّبِيعَةِ، بَلْ بِسَبَبِ تَدْبِيرِ الفاعل المختار.

وَالوجه الثَّالِثُ: وَهُوَ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ عَلَى الْأَطِبَّاءِ في «كتابنا الكبير في الطب» فقلنا هب أَنَّ الرُّطُوبَةَ الْغَرِيزِيَّةَ صَارَتْ مُعَادِلَةً لِلْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ يَجِبُ أَنْ تَصِيرَ أَقَلَّ مِمَّا/ كَانَتْ؟ وَأَنْ يَنْتَقِلَ الْإِنْسَانُ مِنْ سِنِّ الشَّبَابِ إِلَى سِنِّ النُّقْصَانِ. قَالُوا: السَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ هَذَا الِاسْتِوَاءُ، فالحرارة الغريزية بعد ذلك تؤثر في تجفيف الرُّطُوبَةِ الْغَرِيزِيَّةِ، فَتَقِلُّ الرُّطُوبَاتُ الْغَرِيزِيَّةُ حَتَّى صَارَتْ بحيث لا تقي بِحِفْظِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ، وَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ ضَعُفَتِ الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ أَيْضًا، لِأَنَّ الرُّطُوبَةَ الْغَرِيزِيَّةَ كَالْغِذَاءِ لِلْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ، فَإِذَا قَلَّ الْغِذَاءُ ضَعُفَ الْمُغْتَذِي. فَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ تُوجِبُ قِلَّةَ الرُّطُوبَةِ الْغَرِيزِيَّةِ، وَقِلَّتَهَا تُوجِبُ ضَعْفَ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ضَعْفِ إِحْدَاهُمَا ضَعْفُ الْأُخْرَى إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى حَيْثُ لَا يَبْقَى مِنَ الرُّطُوبَةِ الْغَرِيزِيَّةِ شَيْءٌ، وَحِينَئِذٍ تَنْطَفِئُ الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ، وَيَحْصُلُ الْمَوْتُ هَذَا مُنْتَهَى مَا قَالُوهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ إِذَا أَثَّرَتْ فِي تَجْفِيفِ الرُّطُوبَةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَقِلَّتِهَا، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْقُوَّةَ الْغَاذِيَةَ تُورِدُ بَدَلَهَا. فَعِنْدَ هَذَا قَالُوا: الْقُوَّةُ الْغَاذِيَةُ إِنَّمَا تَقْوَى عَلَى إِيرَادِ بَدَلِهَا لَوْ كَانَتِ الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ قَوِيَّةً، فَأَمَّا عِنْدَ ضَعْفِهَا فَلَا، فَنَقُولُ: فَهَهُنَا لَزِمَ الدَّوْرُ، لِأَنَّ الرُّطُوبَةَ الْغَرِيزِيَّةَ إِنَّمَا تَقِلُّ وَتَنْقُصُ لَوْ لَمْ تَكُنِ الْقُوَّةُ الْغَاذِيَةُ وَافِيَةً بِإِيرَادِ بَدَلِهَا، وَإِنَّمَا تَعْجِزُ الْقُوَّةُ الْغَاذِيَةُ عَنْ هَذَا الْإِيرَادِ إِذَا كَانَتِ الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ ضَعِيفَةً، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ ضَعِيفَةً أَنْ لَوْ قَلَّتِ الرُّطُوبَةُ الْغَرِيزِيَّةُ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ هَذِهِ الْقِلَّةُ إِذَا عَجَزَتِ الْغَاذِيَةُ عَنْ إِيرَادِ الْبَدَلِ، فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى القول الذي قالوه يلزم الدَّوْرِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ فَثَبَتَ أَنَّ تَعْلِيلَ انْتِقَالِ الْإِنْسَانِ مِنْ سِنٍّ إِلَى سِنٍّ بِمَا ذَكَرُوهُ من اعتبار الطبائع يوجب عليهم هذه المحالات الْمَذْكُورَةَ فَكَانَ الْقَوْلُ بِهِ بَاطِلًا، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ وَجَبَ الْقَطْعُ بِإِسْنَادِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ إِلَى الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ الَّذِي يُدَبِّرُ أَبْدَانَ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى الوجه الْمُوَافِقِ لِمَصَالِحِهَا، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ. وَقَدْ كُنْتُ أَقْرَأُ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ سُورَةَ الْمُرْسَلَاتِ فَلَمَّا وَصَلْتُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [الْمُرْسَلَاتِ: 20- 24] فَقُلْتُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ هُمُ الَّذِينَ نَسَبُوا تَكَوُّنَ الْأَبْدَانِ الْحَيَوَانِيَّةِ إِلَى الطَّبَائِعِ وَتَأْثِيرِ الْحَرَارَةِ فِي الرُّطُوبَةِ، وَأَنَا أُؤْمِنُ مِنْ صَمِيمِ قَلْبِي يَا رَبَّ الْعِزَّةِ بِأَنَّ هَذِهِ التَّدْبِيرَاتِ لَيْسَتْ مِنَ الطَّبَائِعِ بَلْ مِنْ خَالِقِ الْعَالَمِ الَّذِي هُوَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَدْ صَحَّ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ صِدْقُ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ خَالِقَ أَبْدَانِ النَّاسِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ لَيْسَ هُوَ الطَّبَائِعَ بَلْ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي صَيْرُورَةِ الْمَوْتِ فَاسِدٌ بَاطِلٌ، وَأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِالدَّوْرِ، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ إِنَّمَا حَصَلَا بِتَخْلِيقِ اللَّهِ، وَبِتَقْدِيرِهِ، وَقَوْلُهُ: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ/ الْعُمُرِ قَدْ بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّ الطَّبَائِعَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً لِانْتِقَالِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْكَمَالِ إِلَى النُّقْصَانِ وَمِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الضَّعْفِ فَلَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ انْتِقَالَ الْإِنْسَانِ مِنَ الشَّبَابِ إِلَى الشَّيْخُوخَةِ، وَمِنَ الصِّحَّةِ إِلَى الْهَرَمِ، وَمِنَ الْعَقْلِ الْكَامِلِ إِلَى أَنْ صَارَ خَرِفًا غَافِلًا لَيْسَ بِمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ بَلْ بِفِعْلِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا ظَهَرَ أَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْقُرْآنِ قَدْ ثَبَتَ صِحَّتُهُ بِقَاطِعِ الْقُرْآنِ. ثم قال تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَهَذَا كَالْأَصْلِ الَّذِي عَلَيْهِ تَفْرِيعُ كُلِّ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّبِيعَةَ جَاهِلَةٌ لَا تُمَيِّزُ بَيْنَ وَقْتِ الْمَصْلَحَةِ وَوَقْتِ الْمَفْسَدَةِ، فَهَذِهِ الِانْفِعَالَاتُ فِي هَذَا الْإِنْسَانِ لَا يُمْكِنُ إِسْنَادُهَا إِلَيْهَا. أَمَّا إِلَهُ الْعَالَمِ وَمُدَبِّرُهُ وَخَالِقُهُ، فَهُوَ الْكَامِلُ فِي الْعِلْمِ، الْكَامِلُ فِي الْقُدْرَةِ، فَلِأَجْلِ كَمَالِ عِلْمِهِ يَعْلَمُ مَقَادِيرَ المصالح

[سورة النحل (16) : آية 71]

وَالْمَفَاسِدِ، وَلِأَجْلِ كَمَالِ قُدْرَتِهِ يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ، فَلَا جَرَمَ أَمْكَنَ إِسْنَادُ تَخْلِيقِ الْحَيَوَانَاتِ إِلَى إِلَهِ الْعَالَمِ، فَلَا يُمْكِنُ إِسْنَادُهُ إِلَى الطَّبَائِعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ عِنْدَ انْقِضَاءِ آجَالِكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَهُوَ أَرْدَؤُهُ وَأَضْعَفُهُ. يُقَالُ: رَذُلَ الشَّيْءُ يَرْذُلُ رَذَالَةً وَأَرْذَلَهُ غَيْرُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا [هُودٍ: 27] وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشُّعَرَاءِ: 111] وَقَوْلُهُ: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ هَلْ يَتَنَاوَلُ الْمُسْلِمَ أَوْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْكَافِرِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ، قِيلَ: إِنَّهُ الْعُمُرُ الطَّوِيلُ، وَعَلَى هَذَا الوجه نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: أَرْذَلُ الْعُمُرِ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً. وَقَالَ قَتَادَةُ: تِسْعُونَ سَنَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّهُ الْخَرَفُ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْخَرَفَ مَعْنَاهُ زَوَالُ الْعَقْلِ، فَقَوْلُهُ: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا رَدَّهُ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِأَجْلِ أَنْ يُزِيلَ عَقْلَهُ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ هُوَ زَوَالَ الْعَقْلِ لَصَارَ الشَّيْءُ عَيْنَ الْغَايَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ وَإِنَّهُ بَاطِلٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمُ لَا يَزْدَادُ بِسَبَبِ طُولِ الْعُمُرِ إِلَّا كَرَامَةً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي حَقِّهِ إِنَّهُ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التِّينِ: 5، 6] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مَا رُدُّوا إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ بِمَا صَنَعَ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَعْدَاؤُهُ قَدِيرٌ عَلَى مَا يُرِيدُ. المسألة الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ كَمَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ إِلَهِ الْعَالَمِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، فَهِيَ أَيْضًا تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَانَ عَدَمًا مَحْضًا فَأَوْجَدَهُ اللَّهُ ثُمَّ أَعْدَمَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْدُومًا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَكَانَ عَوْدُهُ إِلَى الْعَدَمِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ جَائِزًا، فَكَذَلِكَ لَمَّا/ صَارَ مَوْجُودًا، ثُمَّ عُدِمَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَوْدُهُ إِلَى الْوُجُودِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ جَائِزًا، وَأَيْضًا كَانَ مَيْتًا حِينَ كَانَ نُطْفَةً ثُمَّ صَارَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَلَمَّا كَانَ الْمَوْتُ الْأَوَّلُ جَائِزًا كَانَ عَوْدُ الْمَوْتِ جَائِزًا، فَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَتِ الْحَيَاةُ الْأُولَى جَائِزَةً، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَوْدُ الْحَيَاةِ جَائِزًا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَأَيْضًا الْإِنْسَانُ فِي أَوَّلِ طُفُولِيَّتِهِ جَاهِلٌ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا، ثُمَّ صَارَ عَالِمًا عَاقِلًا فَاهِمًا، فَلَمَّا بَلَغَ أَرْذَلَ الْعُمُرِ عَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي زَمَانِ الطُّفُولِيَّةِ، وَهُوَ عَدَمُ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ، فَعَدَمُ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى عَادَ بِعَيْنِهِ فِي آخِرِ الْعُمُرِ، فَكَذَلِكَ الْعَقْلُ الَّذِي حَصَلَ، ثُمَّ زَالَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَائِزَ الْعَوْدِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ ثَبَتَ أَنَّ الَّذِي مَاتَ وَعُدِمَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ عَوْدُ وُجُودِهِ وَعَوْدُ حَيَاتِهِ وَعَوْدُ عَقْلِهِ مَرَّةً أُخْرَى وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْبَعْثِ وَالْحَشْرِ والنشر حق والله أعلم. [سورة النحل (16) : آية 71] وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا اعْتِبَارُ حَالٍ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ، وَذَلِكَ أَنَّا نَرَى أَكْيَسَ النَّاسِ وَأَكْثَرَهُمْ عَقْلًا وَفَهْمًا يُفْنِي عُمُرَهُ فِي طَلَبِ الْقَدْرِ الْقَلِيلِ مِنَ الدُّنْيَا وَلَا يَتَيَسَّرُ لَهُ ذَلِكَ، وَنَرَى أَجْهَلَ الْخَلْقِ وَأَقَلَّهُمْ عَقْلًا وَفَهْمًا تنفتح عليه

أَبْوَابُ الدُّنْيَا، وَكُلُّ شَيْءٍ خَطَرَ بِبَالِهِ وَدَارَ فِي خَيَالِهِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ فِي الْحَالِ، وَلَوْ كَانَ السَّبَبُ جَهْدَ الْإِنْسَانِ وَعَقْلَهُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَعْقَلُ أَفْضَلَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَلَمَّا رَأَيْنَا أَنَّ الْأَعْقَلَ أَقَلُّ نَصِيبًا، وَأَنَّ الْأَجْهَلَ الْأَخَسَّ أَوْفَرُ نَصِيبًا، عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ قِسْمَةِ الْقَسَّامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [الزُّخْرُفِ: 32] وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى الْقَضَاءِ وَكَوْنِهِ ... بُؤْسُ اللَّبِيبِ وَطِيبُ عَيْشِ الْأَحْمَقِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّفَاوُتَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْمَالِ بَلْ هُوَ حَاصِلٌ فِي الذَّكَاءِ وَالْبَلَادَةِ وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالْعَقْلِ وَالْحُمْقِ وَالصِّحَّةِ والقسم وَالِاسْمِ الْحَسَنِ وَالِاسْمِ الْقَبِيحِ، وَهَذَا بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ وَقَدْ كُنْتُ مُصَاحِبًا لِبَعْضِ الْمُلُوكِ فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَلِكُ كَثِيرَ الْمَالِ وَالْجَاهِ، وَكَانَتِ الْجَنَائِبُ الْكَثِيرَةُ تُقَادُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمَا كَانَ يُمْكِنُهُ رُكُوبُ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَرُبَّمَا حَضَرَتِ الْأَطْعِمَةُ الشَّهِيَّةُ/ وَالْفَوَاكِهُ الْعَطِرَةُ عِنْدَهُ، وَمَا كَانَ يُمْكِنُهُ تَنَاوُلُ شَيْءٍ مِنْهَا، وَكَانَ الْوَاحِدُ مِنَّا صَحِيحَ الْمِزَاجِ قَوِيَّ الْبِنْيَةِ كَامِلَ الْقُوَّةِ، وَمَا كَانَ يَجِدُ مِلْءَ بَطْنِهِ طَعَامًا، فَذَلِكَ الْمَلِكُ وَإِنْ كَانَ يَفْضُلُ عَلَى هَذَا الْفَقِيرِ فِي الْمَالِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْفَقِيرَ كَانَ يَفْضُلُ عَلَى ذَلِكَ الْمَلِكِ فِي الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ إِذَا اعْتَبَرَهُ الْإِنْسَانُ عَظُمَ تَعَجُّبُهُ مِنْهُ. أما قوله: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَقْرِيرُ مَا سَبَقَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ أَنَّ السَّعَادَةَ وَالنُّحُوسَةَ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَوَالِيَ وَالْمَمَالِيكَ أَنَا رَازِقُهُمْ جَمِيعًا فَهُمْ فِي رِزْقِي سَوَاءٌ فَلَا يَحْسَبَنَّ الْمَوَالِي أَنَّهُمْ يَرُدُّونَ عَلَى مماليكهم من عنده شيئا من الرزق، وإنما ذلك رِزْقِي أَجْرَيْتُهُ إِلَيْهِمْ عَلَى أَيْدِيهِمْ. وَحَاصِلُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ الرَّازِقَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّ الْمَالِكَ لَا يَرْزُقُ الْعَبْدَ بَلِ الرَّازِقُ لِلْعَبْدِ وَالْمَوْلَى هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَكْمَلَ عَقْلًا وَأَقْوَى جِسْمًا وَأَكْثَرَ وُقُوفًا عَلَى الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ مِنَ الْمَوْلَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذِلَّةَ ذَلِكَ الْعَبْدِ وَعِزَّةَ ذَلِكَ الْمَوْلَى من الله تعالى كما قال: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ [آلِ عِمْرَانَ: 26] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ شَرِيكًا لِلَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا رَدًّا عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى فَضَّلَ الْمُلُوكَ عَلَى مَمَالِيكِهِمْ، فَجَعَلَ الْمَمْلُوكَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُلْكٍ مَعَ مَوْلَاهُ، فَلَمَّا لَمْ تَجْعَلُوا عَبِيدَكُمْ مَعَكُمْ سَوَاءً فِي الْمُلْكِ، فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ هَذِهِ الْجَمَادَاتِ مَعِي سَوَاءً فِي الْمَعْبُودِيَّةِ، وَالثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ حِينَ قَالُوا: إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ابْنُ اللَّهِ، فَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ لَا تُشْرِكُونَ عَبِيدَكُمْ فِيمَا مَلَكْتُمْ فَتَكُونُوا سَوَاءً، فَكَيْفَ جَعَلْتُمْ عَبْدِي وَلَدًا لِي وَشَرِيكًا فِي الْإِلَهِيَّةِ؟ ثم قال تَعَالَى: فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ مَعْنَى الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ حَتَّى، وَالْمَعْنَى: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِجَاعِلِي رِزْقِهِمْ لِعَبِيدِهِمْ، حَتَّى تَكُونَ عَبِيدُهُمْ فِيهِ مَعَهُمْ سَوَاءً فِي الْمُلْكِ. ثم قال: أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بكر: يَجْحَدُونَ بالتاء على الخطاب لقوله: خَلَقَكُمْ وفَضَّلَ

[سورة النحل (16) : آية 72]

بَعْضَكُمْ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ لِقَوْلِهِ: فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ لِقُرْبِ الْخَبَرِ عَنْهُ، وَأَيْضًا فَظَاهِرُ الْخِطَابِ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُسْلِمُونَ لَا يُخَاطَبُونَ بِجَحْدِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. المسألة الثَّانِيَةُ: لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ الْإِنْكَارُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَوْرَدَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِيرُونَ جَاحِدِينَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ؟ قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ: الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُعْطِي لِكُلِّ الْخَيْرَاتِ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى فَمَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ شَرِيكًا فَقَدْ أَضَافَ إِلَيْهِ بَعْضَ تِلْكَ الْخَيْرَاتِ فَكَانَ جَاحِدًا لِكَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ أَهْلَ الطَّبَائِعِ وَأَهْلَ النُّجُومِ يُضِيفُونَ أَكْثَرَ هَذِهِ النِّعَمِ إِلَى الطَّبَائِعِ وَإِلَى النُّجُومِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَهُمْ جَاحِدِينَ لِكَوْنِهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالوجه الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ هَذِهِ الدَّلَائِلَ وَبَيَّنَهَا وَأَظْهَرَهَا بِحَيْثُ يَفْهَمُهَا كُلُّ عَاقِلٍ، كَانَ ذَلِكَ إِنْعَامًا عَظِيمًا مِنْهُ عَلَى الْخَلْقِ، فَعِنْدَ هَذَا قَالَ: أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ فِي تَقْرِيرِهِ هَذِهِ الْبَيَانَاتِ وَإِيضَاحِ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ يَجْحَدُونَ. المسألة الثَّالِثَةُ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً لِأَنَّ الْجُحُودَ لَا يُعَدَّى بِالْبَاءِ كَمَا تَقُولُ: خُذِ الْخِطَامَ وَبِالْخِطَامِ، وَتَعَلَّقْتُ زَيْدًا وَبِزَيْدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْجُحُودِ الْكُفْرُ فَعُدِّيَ بالباء لكونه بمعنى الكفر والله أعلم. [سورة النحل (16) : آية 72] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) [في قوله تَعَالَى وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ، ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْمُخْتَارِ الْحَكِيمِ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى إِنْعَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبِيدِهِ بِمِثْلِ هَذِهِ النِّعَمِ، فَقَوْلُهُ: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً خِطَابٌ مَعَ الْكُلِّ، فَتَخْصِيصُهُ بِآدَمَ وَحَوَّاءَ خِلَافُ الدَّلِيلِ، بِلْ هَذَا الحكم عَامٌّ فِي جَمِيعِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ النِّسَاءَ لِيَتَزَوَّجَ بِهِنَّ الذُّكُورُ، وَمَعْنَى: مِنْ أَنْفُسِكُمْ مِثْلُ قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 54] وَقَوْلُهُ: فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّورِ: 61] أَيْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [الرُّومِ: 21] قَالَ الْأَطِبَّاءُ وَأَهْلُ الطَّبِيعَةِ: التَّفَاوُتُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَسْخَنَ مِزَاجًا فَهُوَ الذَّكَرُ، وَكُلَّ مَنْ كَانَ/ أَكْثَرَ بردا ورطوبة فهو المرأة. ثم قالوا: الْمَنِيُّ إِذَا انْصَبَّ إِلَى الْخِصْيَةِ الْيُمْنَى مِنَ الذَّكَرِ، ثُمَّ انْصَبَّ مِنْهُ إِلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ مِنَ الرَّحِمِ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا تَامًّا فِي الذُّكُورَةِ، وَإِنِ انْصَبَّ إِلَى الْخِصْيَةِ الْيُسْرَى مِنَ الرَّجُلِ، ثُمَّ انْصَبَّ مِنْهَا إِلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مِنَ الرَّحِمِ، كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى تَامًّا فِي الْأُنُوثَةِ، وَإِنِ انْصَبَّ إِلَى الْخِصْيَةِ الْيُمْنَى، ثُمَّ انْصَبَّ مِنْهَا إِلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مِنَ الرَّحِمِ، كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا فِي طَبِيعَةِ الْإِنَاثِ وَإِنِ انصب إلى الخصية اليسرى من الرجل ثم انْصَبَّ مِنْهَا إِلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ مِنَ الرَّحِمِ، كَانَ هَذَا الْوَلَدُ أُنْثَى فِي طَبِيعَةِ الذُّكُورِ.

[سورة النحل (16) : الآيات 73 إلى 74]

وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الذُّكُورَةَ عِلَّتُهَا الْحَرَارَةُ وَالْيُبُوسَةُ، وَالْأُنُوثَةَ عِلَّتُهَا الْبُرُودَةُ وَالرُّطُوبَةُ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، فَقَدْ رَأَيْنَا فِي النِّسَاءِ مَنْ كَانَ مِزَاجُهُ فِي غَايَةِ السُّخُونَةِ وَفِي الرِّجَالِ مَنْ كَانَ مِزَاجُهُ فِي غَايَةِ الْبُرُودَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُوجِبُ لِلذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ ذَلِكَ لَامْتَنَعَ ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ خَالِقَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى هُوَ الْإِلَهُ الْقَدِيمُ الْحَكِيمُ وَظَهَرَ بِالدَّلِيلِ الذي ذكرنا صِحَّةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً. ثم قال تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَصْلُ الْحَفَدَةِ مِنَ الْحَفَدِ وَهُوَ الْخِفَّةُ فِي الْخِدْمَةِ وَالْعَمَلِ. يُقَالُ: حَفَدَ يَحْفِدُ حَفَدًا وَحُفُودًا وَحَفَدَانًا إِذَا أَسْرَعَ، وَمِنْهُ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، وَالْحَفَدَةُ جَمْعُ الْحَافِدِ، وَالْحَافِدُ كُلُّ مَنْ يَخِفُّ فِي خِدْمَتِكَ وَيُسْرِعُ فِي الْعَمَلِ بِطَاعَتِكَ، يُقَالُ فِي جَمْعِهِ الْحَفَدُ بِغَيْرِ هَاءٍ كَمَا يُقَالُ الرَّصَدُ، فَمَعْنَى الْحَفَدَةِ فِي اللُّغَةِ الْأَعْوَانُ وَالْخُدَّامُ، ثُمَّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحَفَدَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَعْوَانَ الَّذِينَ حَصَلُوا لِلرَّجُلِ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً فَالْأَعْوَانُ الَّذِينَ لَا يَكُونُونَ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ لَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قِيلَ هُمُ الْأَخْتَانُ، وَقِيلَ: هُمُ الْأَصْهَارُ، وَقِيلَ: وَلَدُ الْوَلَدِ، وَالْأَوْلَى دُخُولُ الْكُلِّ فِيهِ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لِلْكُلِّ بِحَسَبِ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. ثم قال تَعَالَى: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى إِنْعَامَهُ عَلَى عَبِيدِهِ بِالْمَنْكُوحِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ ذَكَرَ إِنْعَامَهُ عَلَيْهِمْ بِالْمَطْعُومَاتِ الطَّيِّبَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ النَّبَاتِ وَهِيَ الثِّمَارُ وَالْحُبُوبُ وَالْأَشْرِبَةُ أَوْ كَانَتْ مِنَ الْحَيَوَانِ، ثم قال: أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَعْنِي بِالْأَصْنَامِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي بِالشَّيْطَانِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: يُصَدِّقُونَ أَنَّ لِي شَرِيكًا وَصَاحِبَةً وولدا: وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ أَيْ بِأَنْ يُضِيفُوهَا إِلَى غَيْرِ اللَّهِ وَيَتْرُكُوا إِضَافَتَهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وِفِي الْآيَةِ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ قَالَ بَعْدَهُ: أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُمْ يُحَرِّمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَيِّبَاتٍ أَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُمْ مِثْلَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ/ وَيُبِيحُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مُحَرَّمَاتٍ حَرَّمَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَهِيَ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ يَعْنِي لِمَ يَحْكُمُونَ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ الْبَاطِلَةِ، وَبِإِنْعَامِ اللَّهِ فِي تَحْلِيلِ الطَّيِّبَاتِ، وَتَحْرِيمِ الْخَبِيثَاتِ يَجْحَدُونَ وَيَكْفُرُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة النحل (16) : الآيات 73 الى 74] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً فِي دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَتِلْكَ الْأَنْوَاعُ كَمَا أَنَّهَا دَلَائِلُ عَلَى صِحَّةِ التَّوْحِيدِ، فَكَذَلِكَ بَدَأَ بِذِكْرِ أَقْسَامِ النِّعَمِ الْجَلِيلَةِ الشَّرِيفَةِ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالرَّدِّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ فَقَالَ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ أَمَّا الرِّزْقُ الَّذِي يَأْتِي مِنْ جَانِبِ السَّمَاءِ فَيَعْنِي بِهِ الْغَيْثَ الَّذِي يَأْتِي مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ، وَأَمَّا الَّذِي يَأْتِي مِنْ جَانِبِ الْأَرْضِ فَهُوَ النَّبَاتُ وَالثِّمَارُ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهَا وَقَوْلُهُ: مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مِنْ صِفَةُ النَّكِرَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: رِزْقاً كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ الْغَيْثِ وَالنَّبَاتِ وَقَوْلُهُ: شَيْئاً قَالَ الْأَخْفَشُ: جَعَلَ قَوْلَهُ: شَيْئاً بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: رِزْقاً وَالْمَعْنَى: لَا يَمْلِكُونَ رِزْقًا لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، ثم قال: وَلا يَسْتَطِيعُونَ وَالْفَائِدَةُ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ أَنَّ مَنْ لا

[سورة النحل (16) : آية 75]

يملك شيئا قد يكون موصوفا باستطاعة أَنْ يَتَمَلَّكَهُ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ لَا تَمْلِكُ وَلَيْسَ لَهَا أَيْضًا اسْتِطَاعَةُ تَحْصِيلِ الْمُلْكِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ فَعَبَّرَ عَنِ الْأَصْنَامِ بِصِيغَةِ «مَا» وَهِيَ لِغَيْرِ أُولِي الْعِلْمِ، ثم قال: وَلا يَسْتَطِيعُونَ وَالْجَمْعُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ مُخْتَصٌّ بِأُولِي الْعِلْمِ فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهَا بِلَفْظِ «مَا» اعْتِبَارًا لِمَا هُوَ الْحَقِيقَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَذَكَرَ الْجَمْعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ اعْتِبَارًا لِمَا يَعْتَقِدُونَ فِيهَا أَنَّهَا آلِهَةٌ. ثم قال تَعَالَى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَعْنِي لَا تُشَبِّهُوهُ/ بِخَلْقِهِ. الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ لَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ مَثَلًا، لِأَنَّهُ وَاحِدٌ لَا مِثْلَ لَهُ. الثَّالِثُ: أَقُولُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَعْبُدَهُ الْوَاحِدُ مِنَّا بَلْ نَحْنُ نَعْبُدُ الْكَوَاكِبَ أَوْ نَعْبُدُ هَذِهِ الْأَصْنَامَ، ثُمَّ إِنَّ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ عَبِيدُ الْإِلَهِ الْأَكْبَرِ الْأَعْظَمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْعُرْفُ، فَإِنَّ أَصَاغِرَ النَّاسِ يَخْدِمُونَ أَكَابِرَ حَضْرَةِ الْمَلِكِ، وَأُولَئِكَ الْأَكَابِرُ يخدمون الملك فكذا هاهنا فَعِنْدَ هَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ اتْرُكُوا عِبَادَةَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ وَالْكَوَاكِبِ وَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا وَكُونُوا مُخْلِصِينَ فِي عِبَادَةِ الْإِلَهِ الْحَكِيمِ الْقَدِيرِ. ثم قال: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا عَلَيْكُمْ مِنَ الْعِقَابِ الْعَظِيمِ، بِسَبَبِ عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَلَوْ عَلِمْتُمُوهُ لَتَرَكْتُمْ عِبَادَتَهَا. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ فَاتْرُكُوا عِبَادَتَهَا، وَاتْرُكُوا دَلِيلَكُمُ الَّذِي عَوَّلْتُمْ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُكُمْ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَةِ عَبِيدِ الْمَلِكِ أَدْخَلُ فِي التَّعْظِيمِ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَةِ نَفْسِ الْمَلِكِ، لِأَنَّ هَذَا قِيَاسٌ، وَالْقِيَاسُ يَجِبُ تَرْكُهُ عِنْدَ وُرُودِ النَّصِّ، فَلِهَذَا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. ثم قال تعالى: [سورة النحل (16) : آية 75] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ إِبْطَالَ مَذْهَبِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ بِهَذَا الْمِثَالِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْمَثَلِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، وَفَرَضْنَا حُرًّا كَرِيمًا غَنِيًّا كَثِيرَ الْإِنْفَاقِ سِرًّا وَجَهْرًا، فَصَرِيحُ الْعَقْلِ يَشْهَدُ بِأَنَّهُ لَا تَجُوزُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي التَّعْظِيمِ والإجلال فلما لَمْ تَجُزِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ وَالْبَشَرِيَّةِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لِلْعَاقِلِ أَنْ يُسَوِّي بَيْنَ اللَّهِ الْقَادِرِ عَلَى الرِّزْقِ وَالْإِفْضَالِ، وَبَيْنَ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَمْلِكُ وَلَا تَقْدِرُ الْبَتَّةَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ هُوَ الْكَافِرُ، فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ/ إِنَّهُ بَقِيَ مَحْرُومًا عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ طَاعَتِهِ صَارَ كَالْعَبْدِ الذَّلِيلِ الْفَقِيرِ الْعَاجِزِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً هُوَ الْمُؤْمِنُ فَإِنَّهُ مُشْتَغِلٌ بِالتَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْمَرْتَبَةِ وَالشَّرَفِ وَالْقُرْبِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَقْرَبُ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا إِنَّمَا وَرَدَ فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ، وَفِي الرَّدِّ عَلَى الْقَائِلِينَ بِالشِّرْكِ فَحَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى. المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الصَّنَمُ لِأَنَّهُ عَبْدٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مَرْيَمَ: 93] وَأَمَّا أَنَّهُ مَمْلُوكٌ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ فَظَاهِرٌ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً عَابِدُ الصَّنَمِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَزَقَهُ الْمَالَ وَهُوَ يُنْفِقُ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى أَتْبَاعِهِ سِرًّا وَجَهْرًا. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: هُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ، بَلْ صَرِيحُ الْعَقْلِ يَشْهَدُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْقَادِرَ أَكْمَلُ حَالًا وَأَفْضَلُ مَرْتَبَةً مِنْ ذَلِكَ الْعَاجِزِ، فَهُنَا صَرِيحُ الْعَقْلِ يَشْهَدُ بِأَنَّ عَابِدَ الصَّنَمِ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ الصَّنَمِ فَكَيْفَ يَجُوزُ الحكم بِكَوْنِهِ مُسَاوِيًا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْعُبُودِيَّةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: عَبْداً مَمْلُوكاً عَبْدٌ مُعَيَّنٌ، وَقِيلَ: هُوَ عَبْدٌ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَحَمَلُوا قَوْلَهُ: وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً عَلَى عُثْمَانَ خَاصَّةً. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ عَبْدٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَفِي كُلِّ حُرٍّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا. فَإِنْ قَالُوا: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَبْدًا مِنَ الْعَبِيدِ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ كُلَّ عَبْدٍ كَذَلِكَ؟ فَنَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ عَقِيبَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الحكم، وَكَوْنُهُ عَبْدًا وَصْفٌ مُشْعِرٌ بِالذُّلِّ وَالْمَقْهُورِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ حُكْمٌ مَذْكُورٌ عَقِيبَهُ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْعِلَّةَ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى شَيْءٍ هُوَ كَوْنُهُ عَبْدًا، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَثْبُتُ الْعُمُومُ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ: وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَمَيَّزَ هَذَا الْقِسْمَ الثَّانِيَ عَنِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْعَبْدُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَهُوَ أَنَّهُ يَرْزُقُهُ رِزْقًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ هَذَا الْوَصْفُ لِلْعَبْدِ حَتَّى يَحْصُلَ الِامْتِيَازُ بَيْنَ الْقِسْمِ الثَّانِي وَبَيْنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ مَلَكَ الْعَبْدُ لَكَانَ اللَّهُ قَدْ آتَاهُ رِزْقًا حَسَنًا، لِأَنَّ الْمِلْكَ الْحَلَالَ رِزْقٌ حَسَنٌ سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. فثبت بهذين الوجهين أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَلَا يَمْلِكُ شَيْئًا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا/ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ التَّشَدُّدُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: لَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ أَيْضًا. وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ قَالُوا: يَمْلِكُ الطَّلَاقَ إِنَّمَا لَا يَمْلِكُ الْمَالَ وَلَا مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْمَالِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَالِكَ إِذَا مَلَّكَهُ شَيْئًا فَهَلْ يَمْلِكُهُ أَمْ لَا؟ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَنْفِيهِ، بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ: مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَكُلُّ عَبْدٍ فَهُوَ مَمْلُوكٌ وَغَيْرُ قَادِرٍ عَلَى التَّصَرُّفِ؟ قُلْنَا: أَمَّا ذِكْرُ الْمَمْلُوكِ فَلِيَحْصُلَ الِامْتِيَازُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ لِأَنَّ الْحُرَّ قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَأما قوله: لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ قَدْ يَحْصُلُ الِامْتِيَازُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُكَاتَبِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، لِأَنَّهُمَا لَا يَقْدِرَانِ عَلَى التَّصَرُّفِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ رَزَقْناهُ مَا هِيَ؟

[سورة النحل (16) : آية 76]

قُلْنَا: الظَّاهِرُ أَنَّهَا مَوْصُوفَةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَحُرًّا ورزقناه لِيُطَابِقَ عَبْدًا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ: يَسْتَوُونَ عَلَى الْجَمْعِ؟ قُلْنَا: مَعْنَاهُ هَلْ يَسْتَوِي الْأَحْرَارُ وَالْعَبِيدُ. ثم قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا فَعَلَ بِأَوْلِيَائِهِ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْحِيدِ. وَالثَّانِي: الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ الْحَمْدِ لِلَّهِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْحَمْدِ لِلْأَصْنَامِ، لِأَنَّهَا لَا نِعْمَةَ لَهَا عَلَى أَحَدٍ. وَقَوْلُهُ: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ الْحَمْدِ لِلَّهِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ لِلْأَصْنَامِ. الثَّالِثُ: قَالَ الْقَاضِي فِي «التفسير» : قال الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى أَنْ مَيَّزَهُ فِي هَذِهِ الْقُدْرَةِ عَنْ ذَلِكَ الْعَبْدِ الضَّعِيفِ. الرَّابِعُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْمَثَلَ، وَكَانَ هَذَا مَثَلًا مُطَابِقًا لِلْغَرَضِ كَاشِفًا عَنِ الْمَقْصُودِ قَالَ بَعْدَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ يَعْنِي الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى قُوَّةِ هَذِهِ الْحُجَّةِ وَظُهُورِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ. ثم قال: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ يَعْنِي أَنَّهَا مَعَ غَايَةِ ظُهُورِهَا وَنِهَايَةِ وُضُوحِهَا لَا يَعْلَمُهَا ولا يفهمها هؤلاء الضلال. [سورة النحل (16) : آية 76] وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَ قَوْلَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ بِهَذَا الْمَثَلِ الثَّانِي، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي أَوَائِلِ الْعُقُولِ أَنَّ الْأَبْكَمَ الْعَاجِزَ لَا يَكُونُ مُسَاوِيًا فِي الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ لِلنَّاطِقِ الْقَادِرِ الْكَامِلِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْبَشَرِيَّةِ، فَلَأَنْ يُحْكَمَ بِأَنَّ الْجَمَادَ لَا يَكُونُ مُسَاوِيًا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْمَعْبُودِيَّةِ كَانَ أَوْلَى، ثُمَّ نَقُولُ: فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الرَّجُلَ الْأَوَّلَ بِصِفَاتٍ: الصِّفَةُ الْأُولَى: الْأَبْكَمُ وَفِي تَفْسِيرِهِ أَقْوَالٌ نَقَلَهَا الْوَاحِدِيُّ. الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو زَيْدٍ رَجُلٌ أَبْكَمُ، وَهُوَ الْعَيِيُّ الْمُقْحَمُ، وَقَدْ بَكِمَ بَكَمًا وَبَكَامَةً، وَقَالَ أَيْضًا: الْأَبْكَمُ الْأَقْطَعُ اللِّسَانِ وَهُوَ الَّذِي لَا يُحْسِنُ الْكَلَامَ. الثَّانِي: رَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: الْأَبْكَمُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ. الثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَبْكَمُ الْمُطْبَقُ الَّذِي لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَجْزِ التَّامِّ وَالنُّقْصَانِ الْكَامِلِ. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْ هَذَا الْأَبْكَمُ الْعَاجِزُ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ. قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: أَصْلُهُ مِنَ الْغِلَظِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْحِدَّةِ. يُقَالُ: كَلَّ السِّكِّينُ إِذَا غَلُظَتْ شَفْرَتُهُ فَلَمْ يَقْطَعْ، وَكَلَّ لِسَانُهُ إِذَا غَلُظَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَلَامِ، وَكَلَّ فُلَانٌ عَنِ الْأَمْرِ إِذَا ثَقُلَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْبَعِثْ فِيهِ. فَقَوْلُهُ: كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْ غَلِيظٌ وَثَقِيلٌ على مولاه. الصفة الرابعة: قوله: أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ أَيْ أَيْنَمَا يُرْسِلْهُ، وَمَعْنَى التَّوْجِيهِ أَنْ تُرْسِلَ صَاحِبَكَ فِي وَجْهٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الطَّرِيقِ. يُقَالُ: وَجَّهْتُهُ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ لَا يُحْسِنُ وَلَا يَفْهَمُ. ثم قال تَعَالَى: هَلْ يَسْتَوِي هُوَ أَيْ هَذَا الْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعِ: وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْآمِرَ بِالْعَدْلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالنُّطْقِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ آمِرًا وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا، لِأَنَّ الْأَمْرَ مشعر بعلو الْمَرْتَبَةِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ كَوْنِهِ قَادِرًا، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا حَتَّى يُمْكِنُهُ التمييز بين

[سورة النحل (16) : الآيات 77 إلى 79]

الْعَدْلِ وَبَيْنَ الْجَوْرِ. فَثَبَتَ أَنَّ وَصْفَهُ بِأَنَّهُ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ يَتَضَمَّنُ وَصْفَهُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا عَالِمًا، وَكَوْنُهُ آمِرًا يُنَاقِضُ كَوْنَ الْأَوَّلِ أَبْكَمَ، وَكَوْنُهُ قَادِرًا يُنَاقِضُ وَصْفَ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَبِأَنَّهُ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ، وَكَوْنُهُ عالما يناقض وصف الأول بأنه لا يأت بخير. ثم قال تعالى: وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مَعْنَاهُ كَوْنُهُ عَادِلًا مُبَرَّأً عَنِ الْجَوْرِ وَالْعَبَثِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَاهِرٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الْأَوَّلَ والثاني لا يستويان، فكذا هاهنا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْمَثَلِ أَقْوَالٌ كَمَا فِي الْمَثَلِ الْمُتَقَدِّمِ. فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ هَذَا مَثَلُ إِلَهِ الْخَلْقِ وَمَا يُدْعَى مِنْ دُونِهِ مِنَ الْبَاطِلِ. وَأَمَّا الْأَبْكَمُ فَمَثَلُ الصَّنَمِ، لِأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ الْبَتَّةَ وَكَذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، وَأَيْضًا كَلٌّ عَلَى عَابِدِيهِ لِأَنَّهُ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يُنْفِقُونَ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا إِلَى أَيِّ مُهِمٍّ تَوَجَّهَ الصَّنَمُ لَمْ يَأْتِ بِخَيْرٍ، وَأَمَّا الَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ فَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْأَبْكَمِ: هُوَ عَبْدٌ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ كَانَ ذَلِكَ الْعَبْدُ يَكْرَهُ الْإِسْلَامَ، وَمَا كَانَ فِيهِ خَيْرٌ، وَمَوْلَاهُ وَهُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ كَانَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَكَانَ عَلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ: كُلُّ عَبْدٍ مَوْصُوفٍ بَهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ وَكُلُّ حُرٍّ مَوْصُوفٍ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ وَصْفَهُ تَعَالَى إِيَّاهُمَا بِكَوْنِهِمَا رَجُلَيْنِ يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِ ذَلِكَ عَلَى الْوَثَنِ، وَكَذَلِكَ بالبكم وبالكل وبالتوجه فِي جِهَاتِ الْمَنَافِعِ وَكَذَلِكَ وَصْفُ الْآخَرِ بِأَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَيْضًا فَالْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ صُورَةٍ بِصُورَةٍ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ التَّشْبِيهُ لَا يتم إلا عند كون إحدى الصُّورَتَيْنِ مُغَايِرَةً لِلْأُخْرَى. وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: فَضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِبَانَةُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مَوْصُوفَيْنِ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِشَخْصٍ معين، بل أيما حَصَلَ التَّفَاوُتُ فِي الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ. والله أعلم. [سورة النحل (16) : الآيات 77 الى 79] وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) [في قوله تعالى وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مَثَلَ الْكُفَّارِ بِالْأَبْكَمِ الْعَاجِزِ، وَمَثَلَ نَفْسِهِ بِالَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُوُنَ آمِرًا بِالْعَدْلِ، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ إِلَّا إِذَا كان كاملا في العلم والقدرة، وذكر فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانَ كَوْنِهِ كَامِلًا فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، أَمَّا بَيَانُ كَمَالِ الْعِلْمِ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَعْنَى: عَلِمَ الله غيب السموات وَالْأَرْضِ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُفِيدُ الْحَصْرَ مَعْنَاهُ: أَنَّ الْعِلْمَ بِهَذِهِ الْغُيُوبِ لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ وَأَمَّا بَيَانُ كَمَالِ الْقُدْرَةِ فَقَوْلُهُ: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ

إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ وَالسَّاعَةُ هِيَ الْوَقْتُ الَّذِي تَقُومُ فِيهِ الْقِيَامَةُ سُمِّيَتْ سَاعَةً لِأَنَّهَا تَفْجَأُ الْإِنْسَانَ فِي سَاعَةٍ فَيَمُوتُ الْخَلْقُ بِصَيْحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ اللَّمْحُ النَّظَرُ بِسُرْعَةٍ يُقَالُ لَمَحَهُ بِبَصَرِهِ لَمْحًا ولمحانا، والمعنى: وما أمر قيام الْقِيَامَةِ فِي السُّرْعَةِ إِلَّا كَطَرْفِ الْعَيْنِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَقْرِيرُ كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَقَوْلُهُ: أَوْ هُوَ أَقْرَبُ مَعْنَاهُ أَنَّ لَمْحَ الْبَصَرِ عِبَارَةٌ عَنِ انْتِقَالِ الْجِسْمِ الْمُسَمَّى بِالطَّرْفِ مِنْ أَعْلَى الْحَدَقَةِ إِلَى أَسْفَلِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَدَقَةَ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ أَجْزَاءٍ لَا تَتَجَزَّأُ، فَلَمْحُ الْبَصَرِ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُرُورِ عَلَى جُمْلَةِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي مِنْهَا تَأَلَّفَ سَطْحُ الْحَدَقَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ كَثِيرَةٌ، وَالزَّمَانُ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ لَمْحُ الْبَصَرِ مُرَكَّبٌ مِنْ آنَاتٍ مُتَعَاقِبَةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِقَامَةِ الْقِيَامَةِ فِي آنٍ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْآنَاتِ فَلِهَذَا قَالَ: أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَسْرَعُ الْأَحْوَالِ وَالْحَوَادِثِ فِي عُقُولِنَا وَأَفْكَارِنَا هُوَ لَمْحَ الْبَصَرِ لَا جَرَمَ ذَكَرَهُ. ثم قال: أَوْ هُوَ أَقْرَبُ تَنْبِيهًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ طَرِيقَةَ الشَّكِّ، بِلِ الْمُرَادُ: بَلْ هُوَ أَقْرَبُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ بِهِ الْإِبْهَامُ عَنِ الْمُخَاطَبِينَ أَنَّهُ تَعَالَى يَأْتِي بِالسَّاعَةِ إِمَّا بِقَدْرِ لَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ بِمَا هُوَ أَسْرَعُ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ إِقَامَةَ السَّاعَةِ لَيْسَتْ حَالَ تَكْلِيفٍ حَتَّى يُقَالُ إِنَّهُ تَعَالَى يَأْتِي بِهَا فِي زَمَانٍ، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَخْلُقَهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَيُفَارِقُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي ابتداء خلق السموات وَالْأَرْضِ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَ حَالُ تَكْلِيفٍ، فَلَمْ يمتنع أن يخلقهما كَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ الْمَلَائِكَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِ الْقَاضِي، أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا فِي أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيُحْكِمُ مَا يُرِيدُ فَلَيْسَ لَهُ قُوَّةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَادَ إِلَى الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ فَقَالَ: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ أُمَّهاتِكُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا. المسألة الثَّانِيَةُ: أُمَّهَاتِكُمْ أَصْلُهُ أُمَّاتِكُمْ، إِلَّا أَنَّهُ زِيدَ الْهَاءُ فِيهِ كَمَا زِيدَ فِي أَرَاقَ فَقِيلَ: أَهْرَاقَ وَشَذَّتْ زِيَادَتُهَا فِي الْوَاحِدَةِ فِي قَوْلِهِ: أُمَّهَتِي خِنْدَفُ وَالْيَأْسُ أَبِي المسألة الثَّالِثَةُ: الْإِنْسَانُ خُلِقَ فِي مَبْدَأِ الْفِطْرَةِ خَالِيًا عَنْ معرفة الأشياء. ثم قال تعالى: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ والمعنى: أَنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْخِلْقَةِ خَالِيَةً عَنِ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ بِاللَّهِ، فَاللَّهُ أَعْطَاهُ هَذِهِ الْحَوَاسَّ لِيَسْتَفِيدَ بِهَا الْمَعَارِفَ وَالْعُلُومَ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ يَسْتَدْعِي مَزِيدَ تَقْرِيرٍ فَنَقُولُ: التَّصَوُّرَاتُ وَالتَّصْدِيقَاتُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ كَسْبِيَّةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بَدِيهِيَّةً، وَالْكَسْبِيَّاتُ إِنَّمَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا بِوَاسِطَةِ تَرْكِيبَاتِ الْبَدِيهِيَّاتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ سَبْقِ هَذِهِ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ، وَحِينَئِذٍ لِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ فَيَقُولَ: هَذِهِ الْعُلُومُ الْبَدِيهِيَّةُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا كَانَتْ حَاصِلَةً مُنْذَ خُلِقْنَا أَوْ مَا كَانَتْ حَاصِلَةً. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّا بِالضَّرُورَةِ نَعْلَمُ أَنَّا حِينَ كُنَّا جَنِينًا فِي رَحِمِ الْأُمِّ مَا كُنَّا نَعْرِفُ أَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَمَا كُنَّا نَعْرِفُ أَنَّ الْكُلَّ أَعْظَمُ مِنَ الْجُزْءِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ الْبَدِيهِيَّةَ حَصَلَتْ فِي نُفُوسِنَا بَعْدَ أَنَّهَا مَا كَانَتْ حَاصِلَةً، فَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهَا إِلَّا بِكَسْبٍ وَطَلَبٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَسْبِيًّا فَهُوَ مَسْبُوقٌ بِعُلُومٍ أُخْرَى، فَهَذِهِ الْعُلُومُ الْبَدِيهِيَّةُ

تَصِيرُ كَسْبِيَّةً، وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَسْبُوقَةً بِعُلُومٍ أُخْرَى إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ، وَهَذَا سُؤَالٌ قَوِيٌّ مُشْكِلٌ. وَجَوَابُهُ أَنْ نَقُولَ: الْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ الْبَدِيهِيَّةَ مَا كَانَتْ حَاصِلَةً فِي نُفُوسِنَا، ثُمَّ إِنَّهَا حَدَثَتْ وَحَصَلَتْ، أما قوله فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ كَسْبِيَّةً. قُلْنَا: هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ مَمْنُوعَةٌ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّهَا إِنَّمَا حَدَثَتْ فِي نُفُوسِنَا بَعْدَ عَدَمِهَا بِوَاسِطَةِ إِعَانَةِ الْحَوَاسِّ الَّتِي هِيَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ النَّفْسَ كَانَتْ فِي مَبْدَأِ الْخِلْقَةِ خَالِيَةً عَنْ جَمِيعِ الْعُلُومِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ، فَإِذَا أَبْصَرَ الطِّفْلُ شَيْئًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ارْتَسَمَ فِي خَيَالِهِ مَاهِيَّةُ ذَلِكَ الْمُبْصَرِ، وَكَذَلِكَ إِذَا سَمِعَ شَيْئًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ارْتَسَمَ فِي سَمْعِهِ وَخَيَالِهِ مَاهِيَّةُ ذَلِكَ الْمَسْمُوعِ وكذا القول فِي سَائِرِ الْحَوَاسِّ، فَيَصِيرُ حُصُولُ الْحَوَاسِّ سَبَبًا لِحُضُورِ مَاهِيَّاتِ الْمَحْسُوسَاتِ فِي النَّفْسِ وَالْعَقْلِ ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْمَاهِيَّاتِ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ: مَا يَكُونُ نَفْسُ حُضُورِهِ مُوجِبًا تَامًّا فِي جَزْمِ الذِّهْنِ بِإِسْنَادِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ بِالنَّفْيِ أَوِ الْإِثْبَاتِ، مِثْلَ أَنَّهُ إِذَا حَضَرَ فِي الذِّهْنِ أَنَّ الْوَاحِدَ مَا هُوَ، / وَأَنَّ نِصْفَ الِاثْنَيْنِ مَا هُوَ كَانَ حُضُورُ هَذَيْنِ التَّصَوُّرَيْنِ فِي الذِّهْنِ عِلَّةً تَامَّةً فِي جَزْمِ الذِّهْنِ بِأَنَّ الْوَاحِدَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ، وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ عَيْنُ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَهُوَ الْعُلُومُ النَّظَرِيَّةُ، مِثْلَ أَنَّهُ إِذَا حَضَرَ فِي الذِّهْنِ أَنَّ الْجِسْمَ مَا هُوَ وَأَنَّ الْمُحْدَثَ مَا هُوَ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ هَذَيْنِ التَّصَوُّرَيْنِ فِي الذِّهْنِ لَا يَكْفِي فِي جَزْمِ الذِّهْنِ بِأَنَّ الْجِسْمَ مُحْدَثٌ، بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَعُلُومٍ سَابِقَةٍ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْعُلُومَ الْكَسْبِيَّةَ إِنَّمَا يُمْكِنُ اكْتِسَابُهَا بِوَاسِطَةِ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ، وَحُدُوثُ هَذِهِ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ إِنَّمَا كَانَ عِنْدَ حُدُوثِ تَصَوُّرِ مَوْضُوعَاتِهَا وَتَصَوُّرِ مَحْمُولَاتِهَا. وَحُدُوثُ هَذِهِ التَّصَوُّرَاتِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ إِعَانَةِ هَذِهِ الْحَوَاسِّ عَلَى جُزْئِيَّاتِهَا، فَظَهَرَ أَنَّ السَّبَبَ الْأَوَّلَ لِحُدُوثِ هَذِهِ الْمَعَارِفِ فِي النُّفُوسِ وَالْعُقُولِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى هَذِهِ الْحَوَاسَّ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لِيَصِيرَ حُصُولُ هَذِهِ الْحَوَاسِّ سَبَبًا لِانْتِقَالِ نُفُوسِكُمْ مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَهَذِهِ أَبْحَاثٌ شَرِيفَةٌ عَقْلِيَّةٌ مَحْضَةٌ مُدْرَجَةٌ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ لِتَسْمَعُوا مَوَاعِظَ اللَّهِ وَالْأَبْصارَ لِتُبْصِرُوا دَلَائِلَ اللَّهِ، وَالْأَفْئِدَةَ لِتَعْقِلُوا عَظَمَةَ اللَّهِ، وَالْأَفْئِدَةُ جَمْعُ فُؤَادٍ نَحْوَ أَغْرِبَةٍ وَغُرَابٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَمْ يُجْمَعْ فُؤَادٌ عَلَى أَكْثَرِ الْعَدَدِ، وَمَا قِيلَ فِيهِ فِئْدَانٌ كما قيل: غراب وغربان. وَأَقُولُ: لَعَلَّ الْفُؤَادَ إِنَّمَا جُمِعَ عَلَى بِنَاءِ جَمْعِ الْقِلَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ كَثِيرَانِ وَأَنَّ الْفُؤَادَ قَلِيلٌ، لِأَنَّ الْفُؤَادَ إِنَّمَا خُلِقَ لِلْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْعُلُومِ الْيَقِينِيَّةِ، وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ لَيْسُوا كَذَلِكَ بَلْ يَكُونُونَ مَشْغُولِينَ بِالْأَفْعَالِ الْبَهِيمِيَّةِ وَالصِّفَاتِ السَّبُعِيَّةِ، فَكَأَنَّ فُؤَادَهُمْ لَيْسَ بِفُؤَادٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ فِي جَمْعِهِ صِيغَةَ جَمْعِ الْقِلَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَخْرَجَكُمْ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَعْلُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْإِخْرَاجِ عَنِ الْبَطْنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ، وَأَيْضًا إِذَا حَمَلْنَا السَّمْعَ عَلَى الِاسْتِمَاعِ وَالْأَبْصَارَ عَلَى الرُّؤْيَةِ زَالَ السُّؤَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أما قوله: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ فَفِيهِ مسألتان:

[سورة النحل (16) : آية 80]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: أَلَمْ تَرَوْا بِالتَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْحِكَايَةِ لِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْكُفَّارِ. المسألة الثَّانِيَةُ: هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الطَّيْرَ خِلْقَةً مَعَهَا يُمْكِنُهُ الطَّيَرَانُ وَخَلَقَ الْجَوَّ خِلْقَةً مَعَهَا يُمْكِنُ الطَّيَرَانُ فِيهِ لَمَا أَمْكَنَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ تَعَالَى/ أَعْطَى الطَّيْرَ جَنَاحًا يَبْسُطُهُ مَرَّةً وَيَكْسِرُهُ أُخْرَى مِثْلَ مَا يَعْمَلُهُ السَّابِحُ فِي الْمَاءِ، وَخَلَقَ الْهَوَاءَ خِلْقَةً لَطِيفَةً رَقِيقَةً يَسْهُلُ بِسَبَبِهَا خَرْقُهُ وَالنَّفَاذُ فِيهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ الطَّيَرَانُ مُمْكِنًا. وَأما قوله تَعَالَى: مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ فَالْمَعْنَى: أَنَّ جَسَدَ الطَّيْرِ جِسْمٌ ثَقِيلٌ، وَالْجِسْمُ الثَّقِيلُ يَمْتَنِعُ بَقَاؤُهُ فِي الْجَوِّ مُعَلَّقًا مِنْ غَيْرِ دِعَامَةٍ تَحْتَهُ وَلَا عَلَاقَةَ فَوْقَهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُمْسِكُ له في ذلك الجو هو الله تعالى، ثم من الظاهر أن بقاء فِي الْجَوِّ مُعَلَّقًا فِعْلُهُ وَحَاصِلٌ بِاخْتِيَارِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ خَالِقَ فِعْلِ الْعَبْدِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْقَاضِي: إِنَّمَا أَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْإِمْسَاكَ إِلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَعْطَى الْآلَاتِ الَّتِي لِأَجْلِهَا يُمَكِّنُ الطَّيْرَ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ، فَلَمَّا كَانَ تَعَالَى هُوَ الْمُسَبِّبُ لِذَلِكَ لَا جَرَمَ صَحَّتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لَا سِيَّمَا وَالدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى. ثم قال تَعَالَى فِي آخَرِ الْآيَةِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَخَصَّ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ المنتفعون بها وإن كانت هذه الآيات آيات لكل العقلاء. والله أعلم. [سورة النحل (16) : آية 80] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَأَقْسَامِ النِّعَمِ والفضل، والسكن المسكن، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: جَاءَ الشِّتَاءُ وَلَمَّا أَتَّخِذْ سَكَنًا ... يَا وَيْحَ كَفِّي مِنْ حُفَرِ الْقَرَامِيصِ وَالسَّكَنُ مَا سَكَنْتَ إِلَيْهِ وَمَا سَكَنْتَ فِيهِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : السَّكَنُ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَهُوَ مَا يُسْكَنُ إِلَيْهِ وَيُنْقَطَعُ إِلَيْهِ مِنْ بَيْتٍ أَوْ إِلْفٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْبُيُوتَ الَّتِي يَسْكُنُ الْإِنْسَانُ فِيهَا عَلَى قِسْمَيْنِ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْبُيُوتُ الْمُتَّخَذَةُ مِنَ الْخَشَبِ وَالطِّينِ وَالْآلَاتِ الَّتِي بِهَا يُمْكِنُ تَسْقِيفُ الْبُيُوتِ، / وَإِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَهَذَا الْقِسْمُ مِنَ الْبُيُوتِ لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ، بَلِ الْإِنْسَانُ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الْقِبَابُ وَالْخِيَامُ وَالْفَسَاطِيطُ، وَإِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَهَذَا الْقِسْمُ مِنَ الْبُيُوتِ يُمْكِنُ نَقْلُهُ وَتَحْوِيلُهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ الْأَنْطَاعُ، وَقَدْ تَعْمَلُ الْعَرَبُ الْبُيُوتَ مِنَ الْأَدَمِ وَهِيَ جُلُودُ الْأَنْعَامِ أَيْ يَخِفُّ عَلَيْكُمْ حَمْلُهَا فِي أَسْفَارِكُمْ. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: يَوْمَ ظَعْنِكُمْ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْبَاقُونَ سَاكِنَةَ الْعَيْنِ. قَالَ الْوَاحَدِيُّ: وَهُمَا لُغَتَانِ كَالْشَّعْرِ وَالشَّعَرِ والنهر والنهر.

[سورة النحل (16) : الآيات 81 إلى 83]

وَاعْلَمْ أَنَّ الظَّعْنَ سَيْرُ الْبَادِيَةِ لِنُجْعَةٍ، أَوْ حُضُورِ مَاءٍ، أَوْ طَلَبِ مَرْتَعٍ، وَقَدْ يُقَالُ لِكُلِّ شَاخِصٍ لِسَفَرٍ: ظَاعِنٌ، وَهُوَ ضِدُّ الْخَافِضِ. وَقَوْلُهُ: وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ بِمَعْنَى لَا يَثْقُلُ عَلَيْكُمْ فِي الْحَالَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ اللُّغَةِ: الْأَصْوَافُ لِلضَّأْنِ وَالْأَوْبَارُ لِلْإِبِلِ وَالْأَشْعَارُ لِلْمَعِزِ. وَقَوْلُهُ: أَثاثاً الْأَثَاثُ أَنْوَاعُ مَتَاعِ الْبَيْتِ مِنَ الْفُرُشِ وَالْأَكْسِيَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَا وَاحِدَ لَهُ، كَمَا أَنَّ الْمَتَاعَ لَا وَاحِدَ لَهُ. قَالَ: وَلَوْ جَمَعْتَ، فَقُلْتَ: آثِثَةٌ فِي الْقَلِيلِ وَأُثُثٌ فِي الْكَثِيرِ لَمْ يَبْعُدْ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: وَاحِدُهَا أَثَاثَةٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَثاثاً يُرِيدُ طَنَافِسَ وَبُسُطًا وَثِيَابًا وَكُسْوَةً. قَالَ الْخَلِيلُ: وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: أث النبات والشعر إذا كثر. وقوله: مَتاعاً أَيْ مَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ. وَقَوْلُهُ: إِلى حِينٍ يُرِيدُ إِلَى حِينِ الْبَلَا، وَقِيلَ: إِلَى حِينِ الموت. وقيل: إلى حين بعد الحين، وَقِيلَ: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَإِنْ قِيلَ: عَطَفَ الْمَتَاعَ عَلَى الْأَثَاثِ وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَثَاثِ وَالْمَتَاعِ؟ قُلْنَا: الْأَقْرَبُ أَنَّ الْأَثَاثَ مَا يَكْتَسِي بِهِ الْمَرْءُ وَيَسْتَعْمِلُهُ فِي الْغِطَاءِ وَالْوِطَاءِ، وَالْمَتَاعَ مَا يُفْرَشُ فِي الْمَنَازِلِ ويزين به. [سورة النحل (16) : الآيات 81 الى 83] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) اعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا أَوْ مُسَافِرًا، وَالْمُسَافِرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا يُمْكِنُهُ اسْتِصْحَابُ الْخِيَامِ وَالْفَسَاطِيطِ، أَوْ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فَهَذِهِ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ: أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً. وأما الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ خَيْمَةٌ يَسْتَظِلُّ بِهَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَسْتَظِلَّ بِشَيْءٍ آخَرَ كَالْجُدْرَانِ وَالْأَشْجَارِ وَقَدْ يَسْتَظِلُّ بِالْغَمَامِ كَمَا قَالَ: وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ [الْبَقَرَةِ: 57] . ثم قال: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً واحد الأكنان كِنٌّ عَلَى قِيَاسِ أَحْمَالٍ وَحِمْلٍ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ كُلُّ شَيْءٍ وَقَى شَيْئًا، وَيُقَالُ اسْتَكَنَ وَأَكَنَّ إِذَا صَارَ فِي كِنٍّ. وَاعْلَمْ أَنَّ بِلَادَ الْعَرَبِ شَدِيدَةُ الْحَرِّ، وَحَاجَتُهُمْ إِلَى الظِّلِّ وَدَفْعِ الْحَرِّ شَدِيدَةٌ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْمَعَانِيَ فِي مَعْرِضِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَأَيْضًا الْبِلَادُ الْمُعْتَدِلَةُ وَالْأَوْقَاتُ الْمُعْتَدِلَةُ نَادِرَةٌ جِدًّا وَالْغَالِبُ إِمَّا غَلَبَةُ الْحَرِّ أَوْ غَلَبَةُ الْبَرْدِ. وَعَلَى كُلِّ التَّقْدِيرَاتِ فَلَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ مَسْكَنٍ يَأْوِي إِلَيْهِ، فَكَانَ الْإِنْعَامُ بِتَحْصِيلِهِ عَظِيمًا، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَمْرَ الْمَسْكَنِ ذَكَرَ بَعْدَهُ أَمْرَ الْمَلْبُوسِ فَقَالَ: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ

بَأْسَكُمْ السَّرَابِيلُ الْقُمُصُ وَاحِدُهَا سِرْبَالٌ، قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَا لَبِسْتَهُ فَهُوَ سِرْبَالٌ مِنْ قَمِيصٍ أَوْ دِرْعٍ أَوْ جَوْشَنٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ جَعَلَ السَّرَابِيلَ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَكُونُ وَاقِيًا مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ. وَالثَّانِي: مَا يُتَّقَى بِهِ عَنِ الْبَأْسِ وَالْحُرُوبِ، وَذَلِكَ هُوَ الْجَوْشَنُ وَغَيْرُهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ مِنَ السَّرَابِيلِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ ذَكَرَ الْحَرَّ وَلَمْ يَذْكُرِ الْبَرْدَ؟ أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الوجه الْأَوَّلُ: قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: الْمُخَاطَبُونَ بِهَذَا الْكَلَامِ هُمُ الْعَرَبُ وَبِلَادُهُمْ حَارَّةٌ فَكَانَتْ حَاجَتُهُمْ إِلَى مَا يَدْفَعُ الْحَرَّ فَوْقَ حَاجَتِهِمْ إِلَى مَا يَدْفَعُ الْبَرْدَ كَمَا قَالَ: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها [النحل: 80] وَسَائِرُ أَنْوَاعِ الثِّيَابِ أَشْرَفُ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى ذكر ذلك النوع لِأَنَّهُ كَانَ إِلْفَتُهُمْ بِهَا أَشَدَّ، وَاعْتِيَادُهُمْ لِلُبْسِهَا/ أَكْثَرَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النُّورِ: 43] لِمَعْرِفَتِهِمْ بِذَلِكَ وَمَا أَنْزَلَ مِنَ الثَّلْجِ أَعْظَمُ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَهُ. وَالوجه الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ قَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ ذِكْرَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْآخَرِ، قُلْتُ ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ الْعِلْمَ بِأَحَدِ الضِّدَّيْنِ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِالضِّدِّ الْآخَرِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَتَى خَطَرَ بِبَالِهِ الْحَرُّ خَطَرَ بِبَالِهِ أَيْضًا الْبَرْدُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي النُّورِ وَالظُّلْمَةِ وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، فَلَمَّا كَانَ الشُّعُورُ بِأَحَدِهِمَا مستتبعا للشعور بالآخر، كان ذكر أحدها مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ الْآخَرِ. وَالوجه الثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَا وَقَى مِنَ الْحَرِّ وَقَى مِنَ الْبَرْدِ، فَكَانَ ذِكْرُ أَحَدِهِمَا مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ الْآخَرِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا بِالضِّدِّ أَوْلَى، لِأَنَّ دَفْعَ الْحَرِّ يَكْفِي فِيهِ السَّرَابِيلُ الَّتِي هِيَ الْقُمُصُ مِنْ دُونِ تَكَلُّفِ زِيَادَةٍ، وَأَمَّا الْبَرْدُ فَإِنَّهُ لَا يَنْدَفِعُ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ زَائِدٍ. قُلْنَا: الْقَمِيصُ الْوَاحِدُ لَمَّا كَانَ دَافِعًا لِلْحَرِّ كَانَ الاستكثار من القميص دافعا لِلْبَرْدِ فَصَحَّ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَوْلُهُ: وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ يَعْنِي دُرُوعَ الْحَدِيدِ، وَمَعْنَى الْبَأْسِ الشِّدَّةُ ويريد هاهنا شِدَّةَ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ وَالرَّمْيِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَدَّدَ أَقْسَامَ نِعْمَةِ الدُّنْيَا قَالَ: كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ أَيْ مِثْلَ مَا خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَكُمْ وَأَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكُمْ فَإِنَّهُ يُتِمُّ نِعْمَةَ الدُّنْيَا وَالدِّينِ عَلَيْكُمْ: لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَعَلَّكُمْ يَا أَهْلَ مَكَّةَ تُخْلِصُونَ لِلَّهِ الرُّبُوبِيَّةَ، وَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى هَذِهِ الْإِنْعَامَاتِ أَحَدٌ سِوَاهُ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ: لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّا أَعْطَيْنَاكُمْ هَذِهِ السَّرَابِيلَاتِ لِتَسْلَمُوا عَنْ بَأْسِ الْحَرْبِ، وَقِيلَ أَعْطَيْتُكُمْ هَذِهِ النِّعَمَ لِتَتَفَكَّرُوا فِيهَا فَتُؤْمِنُوا فَتَسْلَمُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. ثم قال تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ أَيْ فَإِنْ تَوَلَّوْا يَا مُحَمَّدُ وَأَعْرَضُوا وَآثَرُوا لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَمُتَابَعَةَ الْآبَاءِ وَالْمُعَادَاةَ فِي الْكُفْرِ فَعَلَى أَنْفُسِهِمْ جَنَوْا ذَلِكَ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا مَا فَعَلْتَ مِنَ التَّبْلِيغِ التَّامِّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَمَّهُمْ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا، وَذَلِكَ نِهَايَةٌ فِي كُفْرَانِ النعمة. فإن قيل: ما عني ثم؟

[سورة النحل (16) : الآيات 84 إلى 85]

قُلْنَا: الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ إِنْكَارَهُمْ أَمْرٌ يُسْتَبْعَدُ بَعْدَ حُصُولِ الْمَعْرِفَةِ، لِأَنَّ حَقَّ مَنْ عَرَفَ النِّعْمَةَ أَنْ يَعْتَرِفَ لَا أَنْ يُنْكِرَ. وَفِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ بِهَا جَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ النِّعَمِ، وَمَعْنَى أَنَّهُمْ أَنْكَرُوهُ هُوَ أَنَّهُمْ مَا أَفْرَدُوهُ تَعَالَى بِالشُّكْرِ وَالْعِبَادَةِ، بَلْ شَكَرُوا عَلَى تِلْكَ النِّعَمِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّمَا حَصَلَتْ هَذِهِ النِّعِمُ بِشَفَاعَةِ/ هَذِهِ الْأَصْنَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا، وَنُبُوَّتُهُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ. الثَّالِثُ: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا، أَيْ لَا يَسْتَعْمِلُونَهَا فِي طَلَبِ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى. ثم قال تَعَالَى: وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ. فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ، وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ كُلُّهُمْ كَافِرِينَ. قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: إِنَّمَا قَالَ: وَأَكْثَرُهُمُ لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ التَّكْلِيفِ أَوْ كَانَ نَاقِصَ الْعَقْلِ مَعْتُوهًا، فَأَرَادَ بِالْأَكْثَرِ الْبَالِغِينَ الْأَصِحَّاءَ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكَافِرِ الْجَاحِدَ الْمُعَانِدَ، وَحِينَئِذٍ نَقُولُ إِنَّمَا قَالَ: وَأَكْثَرُهُمُ لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُعَانِدًا بَلْ كَانَ جَاهِلًا بِصِدْقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَا ظَهَرَ لَهُ كونه نبيا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ ذَكَرَ الْأَكْثَرَ وَالْمُرَادُ الْجَمِيعُ، لِأَنَّ أَكْثَرَ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ، فَذِكْرُ الْأَكْثَرِ كَذِكْرِ الْجَمِيعِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [لقمان: 25] والله أعلم. [سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 85] وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مِنْ حَالِ الْقَوْمِ أَنَّهُمْ عَرَفُوا نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ أَنْكَرُوهَا وَذَكَرَ أَيْضًا مِنْ حَالِهِمْ أَنَّ أَكْثَرَهُمُ الْكَافِرُونَ أَتْبَعَهُ بِالْوَعِيدِ، فَذَكَرَ حَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الشُّهَدَاءَ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ الْإِنْكَارِ وَبِذَلِكَ الْكُفْرِ، وَالْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءِ الْأَنْبِيَاءُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاءِ: 41] وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الِاعْتِذَارِ لِقَوْلِهِ: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [الْمُرْسَلَاتِ: 36] . وَثَانِيهَا: لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي كَثْرَةِ الْكَلَامِ. وَثَالِثُهَا: لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الْرُجُوعِ إِلَى دَارِ الدُّنْيَا وَإِلَى التَّكْلِيفِ. وَرَابِعُهَا: لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي حَالِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ، بَلْ يَسْكُتْ أَهْلُ الْجَمْعِ كُلُّهُمْ لِيَشْهَدَ الشُّهُودُ. وَخَامِسُهَا: لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي كَثْرَةِ الْكَلَامِ لِيَظْهَرَ لَهُمْ كَوْنُهُمْ/ آيِسِينَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. ثم قال: وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ الِاسْتِعْتَابُ طَلَبُ الْعِتَابِ، وَالرَّجُلُ يَطْلُبُ الْعِتَابَ مِنْ خَصْمِهِ إِذَا كَانَ عَلَى جَزْمِ أَنَّهُ إِذَا عَاتَبَهُ رَجَعَ إِلَى الرِّضَا، فَإِذَا لَمْ يَطْلُبِ الْعِتَابَ مِنْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ رَاسِخٌ فِي غَضَبِهِ وَسَطْوَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ هَذَا الْوَعِيدَ فَقَالَ: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ إِذَا رَأَوُا الْعَذَابَ وَوَصَلُوا إِلَيْهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ أَيْضًا يُنْظَرُونَ أَيْ لَا يُؤَخَّرُونَ وَلَا يُمْهَلُونَ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ هُنَاكَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ، وَتَحْقِيقُهُ مَا يَقُولُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَنَّ الْعَذَابَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا عَنْ شَوَائِبِ النَّفْعِ، وَهُوَ المراد من قوله: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ العذاب [البقرة: 162] وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ دَائِمًا وَهُوَ الْمُرَادُ من قوله: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ.

[سورة النحل (16) : الآيات 86 إلى 87]

[سورة النحل (16) : الآيات 86 الى 87] وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (87) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا أَيْضًا مِنْ بَقِيَّةِ وَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ، وَفِي الشُّرَكَاءِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى يَبْعَثُ الْأَصْنَامَ الَّتِي كَانَ يَعْبُدُهَا الْمُشْرِكُونَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِعَادَتِهَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُشَاهِدُونَهَا فِي غَايَةِ الذِّلَّةِ وَالْحَقَارَةِ. وَأَيْضًا أَنَّهَا تُكَذِّبُ الْمُشْرِكِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ زِيَادَةَ الْغَمِّ وَالْحَسْرَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِكَوْنِهِمْ شُرَكَاءَ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوْلُ: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُسَمُّونَهَا بِأَنَّهَا شُرَكَاءُ اللَّهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْكُفَّارَ جَعَلُوا لَهُمْ نَصِيبًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالشُّرَكَاءِ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ دَعَوُا الْكُفَّارَ إِلَى الْكُفْرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ أُولَئِكَ الشُّرَكَاءِ أَنَّهُمْ أَلْقَوْا إِلَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، وَالْأَصْنَامُ جَمَادَاتٌ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُمْ هَذَا الْقَوْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الشُّرَكَاءِ الشَّيَاطِينَ حَتَّى يَصِحَّ مِنْهُمْ هَذَا الْقَوْلُ وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْحَيَاةِ فِي تِلْكَ الْأَصْنَامِ وَعَلَى خَلْقِ الْعَقْلِ وَالنُّطْقِ فِيهَا، وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ مِنْهَا هَذَا الْقَوْلُ، ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا تِلْكَ الشُّرَكَاءَ قَالُوا: رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَتُهُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ؟ قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: مَقْصُودُ الْمُشْرِكِينَ إِحَالَةُ الذَّنْبِ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَامِ وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يُنْجِيهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ يُنْقِصُ مِنْ عَذَابِهِمْ، فَعِنْدَ هَذَا تُكَذِّبُهُمْ تِلْكَ الْأَصْنَامُ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ يَعْلَمُونَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا فِي الْآخِرَةِ أَنَّ الْعَذَابَ سَيَنْزِلُ بِهِمْ وَأَنَّهُ لَا نُصْرَةَ وَلَا فِدْيَةَ وَلَا شَفَاعَةَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ هَذَا الْكَلَامَ تَعَجُّبًا مِنْ حُضُورِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ مَعَ أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهَا وَاعْتِرَافًا بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُخْطِئِينَ فِي عِبَادَتِهَا. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى أَنَّ الْأَصْنَامَ يُكَذِّبُونَهُمْ، فَقَالَ: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ وَالنُّطْقَ فِي تِلْكَ الْأَصْنَامِ حَتَّى تَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَوْلُهُ: إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ بَدَلٌ مِنَ الْقَوْلِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمْ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ مَا قَالُوا إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا أَشَارُوا إِلَى الْأَصْنَامِ قَالُوا: إِنَّ هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ وَقَدْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي كُلِّ ذَلِكَ، فَكَيْفَ قَالَتِ الْأَصْنَامُ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ؟ قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ: وَالْأَصَحُّ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا هُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كُنَّا نَقُولُ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ اللَّهِ فِي الْمَعْبُودِيَّةِ، فَالْأَصْنَامُ كَذَّبُوهُمْ فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ الشَّرِكَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ فِي قَوْلِكُمْ إِنَّا نَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ [مَرْيَمَ: 82] . ثم قال تَعَالَى: وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ قَالَ الْكَلْبِيُّ: اسْتَسْلَمَ الْعَابِدُ وَالْمَعْبُودُ وَأَقَرُّوا لِلَّهِ بالربوبية

[سورة النحل (16) : آية 88]

وَبِالْبَرَاءَةِ عَنِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: وَقِيلَ: ذَهَبَ عَنْهُمْ مَا زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مِنْ أَنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا وَصَاحِبَةً وَوَلَدًا. وَقِيلَ: بَطَلَ مَا كَانُوا يَأْمَلُونَ مِنْ أَنَّ آلِهَتَهُمْ تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ الله تعالى. [سورة النحل (16) : آية 88] الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَتْبَعَهُ بِوَعِيدِ مَنْ ضَمَّ إِلَى كُفْرِهِ صَدَّ الْغَيْرِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَجْهَانِ: قِيلَ: مَعْنَاهُ الصَّدُّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ جُمْلَةَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالرَّسُولِ وَبِالشَّرَائِعِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْصِيصِ/ وَقَوْلُهُ: زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ زَادُوا عَلَى كُفْرِهِمْ صَدَّ غَيْرِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ ازْدَادُوا كُفْرًا عَلَى كُفْرٍ، فَلَا جَرَمَ يَزِيدُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَذَابًا عَلَى عَذَابٍ، وَأَيْضًا أَتْبَاعُهُمْ إِنَّمَا اقْتَدَوْا بِهِمْ فِي الْكُفْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ مِثْلُ عِقَابِ أَتْبَاعِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: 13] وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ، وَمِنْ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ ذَكَرَ تَفْصِيلَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ خَمْسَةُ أَنْهَارٍ مِنْ نَارٍ تَسِيلُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ يُعَذَّبُونَ بِهَا ثَلَاثَةٌ بِاللَّيْلِ وَاثْنَانِ بِالنَّهَارِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا بِحَيَّاتٍ وَعَقَارِبَ كَأَمْثَالِ الْبُخْتِ، فَيَسْتَغِيثُونَ بِالْهَرَبِ مِنْهَا إِلَى النَّارِ وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ لِكُلِّ عَقْرَبٍ ثَلَاثُمِائَةِ فَقْرَةٍ فِي كل فقرة ثَلَاثِمِائَةِ قُلَّةٍ مِنْ سُمٍّ. وَقِيلَ: عَقَارِبُ لَهَا أَنْيَابُ كَالنَّخْلِ الطُّوَالِ. ثم قال تَعَالَى: بِما كانُوا يُفْسِدُونَ أَيْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنَ الْعَذَابِ إِنَّمَا حَصَلَتْ مُعَلَّلَةً بِذَلِكَ الصَّدِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ دَعَا غَيْرَهُ إِلَى الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ فَقَدْ عَظُمَ عَذَابُهُ، فَكَذَلِكَ إِذَا دَعَا إِلَى الدِّينِ وَالْيَقِينِ، فَقَدْ عَظُمَ قَدْرُهُ عِنْدَ الله تعالى والله أعلم. [سورة النحل (16) : آية 89] وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنَ التَّهْدِيدَاتِ الْمَانِعَةِ لِلْمُكَلَّفِينَ عَنِ الْمَعَاصِي. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَرْنِ وَالْجَمَاعَةِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ شَاهِدٌ عَلَى أُمَّتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ جَمْعٍ وَقَرْنٍ يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ فِيهِمْ وَاحِدٌ يَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ. أَمَّا الشَّهِيدُ عَلَى الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ الرَّسُولُ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [الْبَقَرَةِ: 143] وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ زَمَانٍ بَعْدَ زَمَانِ الرَّسُولِ مِنَ الشَّهِيدِ فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ عَصْرًا مِنَ الْأَعْصَارِ لَا يَخْلُو/ مِنْ شَهِيدٍ عَلَى النَّاسِ وَذَلِكَ الشَّهِيدُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ جَائِزِ الْخَطَأِ، وَإِلَّا لَافْتَقَرَ إِلَى شَهِيدٍ آخَرَ وَيَمْتَدُّ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ أَقْوَامٍ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِمْ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ حُجَّةً. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الشَّهِيدِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُنْطِقُ عَشَرَةً مِنْ أعضاء الإنسان حتى إِنَّهَا تَشْهَدُ عَلَيْهِ وَهِيَ: الْأُذُنَانِ وَالْعَيْنَانِ وَالرِّجْلَانِ وَالْيَدَانِ وَالْجِلْدُ وَاللِّسَانُ. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ فِي صِفَةِ الشَّهِيدِ أَنَّهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهَذِهِ الْأَعْضَاءُ لَا شَكَّ أَنَّهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ. أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: شَهِيداً عَلَيْهِمْ أَيْ عَلَى الْأُمَّةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ

[سورة النحل (16) : آية 90]

غيرهم. الثاني: أنه قال: فِي كُلِّ أُمَّةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّهِيدُ مِنَ الْأُمَّةِ وَآحَادُ الْأَعْضَاءِ لَا يَصِحُّ وَصْفُهَا بِأَنَّهَا مِنَ الْأُمَّةِ، وَأَمَّا حَمْلُ هَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَبَعِيدٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَوْنَهُمْ أَنْبِيَاءَ مَبْعُوثِينَ إِلَى الْخَلْقِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ فَلَا فَائِدَةَ فِي حَمْلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ. ثم قال تَعَالَى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: وَجْهُ تَعَلُّقِ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ بَيَّنَ أَنَّهُ أَزَاحَ عِلَّتَهُمْ فِيمَا كُلِّفُوا فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ وَلَا مَعْذِرَةَ. المسألة الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعُلُومَ إِمَّا دِينِيَّةٌ أَوْ غَيْرُ دِينِيَّةٍ، أَمَّا الْعُلُومُ الَّتِي لَيْسَتْ دِينِيَّةً فَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا مَدَحَ الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى عُلُومِ الدِّينِ فَأَمَّا مَا لَا يَكُونُ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا عُلُومُ الدِّينِ فَإِمَّا الْأُصُولُ، وَإِمَّا الْفُرُوعُ، أَمَّا عِلْمُ الْأُصُولِ فَهُوَ بِتَمَامِهِ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ وَأَمَّا عِلْمُ الْفُرُوعِ فَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ إِلَّا مَا وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْقُرْآنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ بَاطِلًا، وَكَانَ الْقُرْآنُ وَافِيًا بِبَيَانِ كُلِّ الْأَحْكَامِ، وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْقُرْآنُ إِنَّمَا كَانَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ وَخَبَرَ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسَ حُجَّةٌ، فَإِذَا ثَبَتَ حُكْمٌ مِنَ الْأَحْكَامِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأُصُولِ كَانَ ذَلِكَ الحكم ثَابِتًا بِالْقُرْآنِ، وَهَذِهِ المسألة قَدْ سَبَقَ ذِكْرُهَا بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الثَّالِثَةُ: رَوَى الْوَاحِدِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ قَالَ: تِبْيَانًا فِي مَعْنَى اسْمِ الْبَيَانِ وَمِثْلُ التِّبْيَانِ الْتِلْقَاءُ، وَرَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ الْكُوفِيِّينَ، وَالْمُبَرِّدُ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمْ يَأْتِ مِنَ الْمَصَادِرِ عَلَى تِفْعَالٍ إِلَّا حَرْفَانِ تِبْيَانًا وَتِلْقَاءً، وَإِذَا تَرَكْتَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ اسْتَوَى لَكَ الْقِيَاسُ فَقُلْتُ: فِي كُلِّ/ مَصْدَرٍ تَفْعَالٌ بِفَتْحِ التَّاءِ مِثْلُ تَسْيَارٍ وَتَذْكَارٍ وَتَكْرَارٍ، وَقُلْتُ: فِي كُلِّ اسْمٍ تِفْعَالٌ بِكَسْرِ التَّاءِ مثل تقصار وتمثال. [سورة النحل (16) : آية 90] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) [فِي قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا اسْتَقْصَى فِي شَرْحِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ فَجَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَتَّصِلُ بِالتَّكْلِيفِ فَرْضًا وَنَفْلًا، وَمَا يَتَّصِلُ بِالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ عُمُومًا وَخُصُوصًا، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: فِي بَيَانِ فَضَائِلِ هَذِهِ الْآيَةِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ الْجُمَحِيَّ قَالَ: مَا أَسْلَمْتُ أَوَّلًا إِلَّا حَيَاءً مِنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَتَقَرَّرِ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِي فَحَضَرْتُهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُنِي إِذْ رَأَيْتُ بَصَرَهُ شَخَصَ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ خَفَضَهُ عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ عَادَ لِمِثْلِ ذَلِكَ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا أُحَدِّثُكَ إِذَا بِجِبْرِيلَ نَزَلَ عَنْ يَمِينِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، الْعَدْلُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالْإِحْسَانُ الْقِيَامُ بِالْفَرَائِضِ وَإِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى، أَيْ صِلَةُ ذِي الْقَرَابَةِ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ الزِّنَا، وَالْمُنْكَرِ مَا لَا يُعْرَفُ فِي شَرِيعَةٍ وَلَا سُنَّةٍ وَالْبَغْيِ الِاسْتِطَالَةِ» . قَالَ عُثْمَانُ: فَوَقَعَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي فَأَتَيْتُ أَبَا طَالِبٍ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ

اتَّبِعُوا ابْنَ أَخِي تَرْشُدُوا وَلَئِنْ كَانَ صَادِقًا أَوْ كَاذِبًا فَإِنَّهُ مَا يَأْمُرُكُمْ إِلَّا بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَمِّهِ اللِّينَ قَالَ: يَا عَمَّاهُ أَتَأْمُرُ النَّاسَ أَنْ يَتَّبِعُونِي وَتَدَعُ نَفْسَكَ وَجَهَدَ عَلَيْهِ، فَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ فَنَزَلَ قَوْلُهُ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [الْقَصَصِ: 56] وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ أَجْمَعَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ لِخَيْرٍ وَشَرٍّ هَذِهِ الْآيَةُ، وَعَنْ قَتَادَةَ لَيْسَ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعْمَلُ وَيُسْتَحَبُّ إِلَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَيْسَ مِنْ خلق سيء إِلَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَرَوَى الْقَاضِي فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، فَخَرَجَ وَأَنَا مَعَهُ وَأَبُو بَكْرٍ فَوَقَفْنَا عَلَى مَجْلِسٍ عَلَيْهِمُ الْوَقَارُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مِمَّنِ الْقَوْمُ؟ فَقَالُوا: مِنْ شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الشَّهَادَتَيْنِ وَإِلَى أَنْ يَنْصُرُوهُ فَإِنَّ قُرَيْشًا كَذَّبُوهُ فَقَالَ/ مَقْرُونُ بْنُ عَمْرٍو: إِلَامَ تَدْعُونَا أَخَا قُرَيْشٍ فَتَلَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الْآيَةَ فَقَالَ مَقْرُونُ بْنُ عَمْرٍو: دَعَوْتَ وَاللَّهِ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ وَلَقَدْ أَفِكَ قَوْمٌ كَذَّبُوكَ وَظَاهَرُوا عَلَيْكَ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْوَلِيدِ فَاسْتَعَادَهُ، ثم قال: إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، أَكْثَرَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْعَدْلُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِحْسَانُ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: الْعَدْلُ خَلْعُ الْأَنْدَادِ وَالْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ وَأَنْ تُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا أَحْبَبْتَ أَنْ يَزْدَادَ إِيمَانًا، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا أَحْبَبْتَ أَنْ يَصِيرَ أَخَاكَ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ: الْعَدْلُ هُوَ التَّوْحِيدُ وَالْإِحْسَانُ الْإِخْلَاصُ فِيهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَعْنِي بِالْعَدْلِ فِي الْأَفْعَالِ وَالْإِحْسَانِ فِي الْأَقْوَالِ، فَلَا تَفْعَلْ إِلَّا مَا هُوَ عَدْلٌ وَلَا تَقُلْ إِلَّا مَا هُوَ إِحْسَانٌ وَقَوْلُهُ: وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى يُرِيدُ صِلَةَ الرَّحِمِ بِالْمَالِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالدُّعَاءِ، رَوَى أَبُو مُسْلِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَعْجَلَ الطَّاعَةِ ثَوَابًا صِلَةُ الرَّحِمِ إِنَّ أَهْلَ البيت ليكونوا فُجَّارًا فَتَنْمَى أَمْوَالُهُمْ وَيَكْثُرُ عَدَدُهُمْ إِذَا وَصَلُوا أَرْحَامَهُمْ» وَقَوْلُهُ: وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ قِيلَ: الزِّنَا، وَقِيلَ: الْبُخْلُ، وَقِيلَ: كُلُّ الذُّنُوبِ سَوَاءٌ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً، وَسَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْقَوْلِ أَوْ فِي الْفِعْلِ، وَأَمَّا الْمُنْكَرُ فَقِيلَ، إِنَّهُ الْكُفْرُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: الْمُنْكَرُ مَا لَا يُعْرَفُ فِي شَرِيعَةٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَأَمَّا الْبَغْيُ فَقِيلَ: الْكِبْرُ وَالظُّلْمُ، وَقِيلَ: أَنْ تَبْغِيَ عَلَى أَخِيكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْمَأْمُورَاتِ كَثْرَةً وَفِي الْمَنْهِيَّاتِ أَيْضًا كَثْرَةً، وَإِنَّمَا حَسُنَ تَفْسِيرُ لَفْظٍ مُعَيَّنٍ لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ إِذَا حَصَلَ بَيْنَ ذَلِكَ اللَّفْظِ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مُنَاسَبَةٌ. أَمَّا إِذَا لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الْحَالَةُ كَانَ ذَلِكَ التَّفْسِيرُ فَاسِدًا، فَإِذَا فَسَّرْنَا الْعَدْلَ بِشَيْءٍ وَالْإِحْسَانَ بِشَيْءٍ آخَرَ وَجَبَ أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ لَفْظَ الْعَدْلِ يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَفْظُ الْإِحْسَانِ يُنَاسِبُ هَذَا الْمَعْنَى، فَلَمَّا لَمْ نُبَيِّنْ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ ذَلِكَ مُجَرَّدَ التَّحَكُّمِ، وَلَمْ يَكُنْ جَعْلُ بَعْضِ تلك المعنى تَفْسِيرًا لِبَعْضِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لَيْسَتْ قَوِيَّةً فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَقُولُ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، وَهِيَ الْعَدْلُ وَالْإِحْسَانُ وَإِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى وَنَهَى عَنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ وَهِيَ: الْفَحْشَاءُ، وَالْمُنْكَرُ، وَالْبَغْيُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَدْلُ وَالْإِحْسَانُ وَإِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ مُتَغَايِرَةً وَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ وَالْبَغْيُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ مُتَغَايِرَةً، لِأَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ الْمُغَايَرَةَ فَنَقُولُ: / أَمَّا الْعَدْلُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَمْرِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ وَاجِبُ الرِّعَايَةِ في جميع

الْأَشْيَاءِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِيهِ فَنَقُولُ: الْأَحْوَالُ الَّتِي وَقَعَ التَّكْلِيفُ بِهَا إِمَّا الِاعْتِقَادَاتُ وَإِمَّا أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ. أَمَّا الِاعْتِقَادَاتُ: فَالْعَدْلُ فِي كُلِّهَا وَاجِبُ الرِّعَايَةِ فَأَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْعَدْلِ هُوَ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ نَفْيَ الْإِلَهِ تَعْطِيلٌ مَحْضٌ وَإِثْبَاتَ أَكْثَرِ مِنْ إِلَهٍ وَاحِدٍ تَشْرِيكٌ وَتَشْبِيهٌ وَهُمَا مَذْمُومَانِ، وَالْعَدْلُ هُوَ إِثْبَاتُ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ وَهُوَ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْإِلَهَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَلَا شَيْءَ تَعْطِيلٌ مَحْضٌ، والقول بأنه جسم وجوهر ومركب مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَمُخْتَصٌّ بِالْمَكَانِ تَشْبِيهٌ مَحْضٌ، وَالْعَدْلُ إِثْبَاتُ إِلَهٍ مَوْجُودٍ مُتَحَقِّقٍ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْجَوْهَرِيَّةِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَجْزَاءِ وَالْمَكَانِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْإِلَهَ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالصِّفَاتِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ تَعْطِيلٌ مَحْضٌ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ صِفَاتَهُ حَادِثَةٌ مُتَغَيِّرَةٌ تَشْبِيهٌ مَحْضٌ. وَالْعَدْلُ هُوَ إِثْبَاتُ أَنَّ الْإِلَهَ عَالِمٌ قَادِرٌ حَيٌّ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ صِفَاتَهُ لَيْسَتْ حَادِثَةً وَلَا مُتَغَيِّرَةً. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ وَلَا اخْتِيَارٌ جَبْرٌ مَحْضٌ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْعَبْدَ مُسْتَقِلٌّ بِأَفْعَالِهِ قَدَرٌ مَحْضٌ وَهُمَا مَذْمُومَانِ، وَالْعَدْلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ يَفْعَلُ الْفِعْلَ لَكِنْ بِوَاسِطَةِ قُدْرَةٍ وَدَاعِيَةٍ يَخْلُقُهُمَا اللَّهُ تعالى فيه، وخامسها: القول بأن اللَّهَ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُ عَبْدَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ مُسَاهَلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ تَعَالَى يُخَلِّدُ فِي النَّارِ عَبْدَهُ الْعَارِفَ بِالْمَعْصِيَةِ الْوَاحِدَةِ تَشْدِيدٌ عَظِيمٌ، وَالْعَدْلُ أَنَّهُ يُخْرِجُ مِنَ النَّارِ كُلَّ مَنْ قَالَ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ ذَكَرْنَاهَا فِي رِعَايَةِ مَعْنَى الْعَدْلِ فِي الِاعْتِقَادَاتِ، وَأَمَّا رِعَايَةُ الْعَدْلِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِ الْجَوَارِحِ، فَنَذْكُرُ سِتَّةَ أَمْثِلَةٍ مِنْهَا: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْمًا مِنْ نُفَاةِ التَّكَالِيفِ يَقُولُونَ: لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الِاشْتِغَالُ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاحْتِرَازُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَعَاصِي، وَلَيْسَ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَكْلِيفٌ أَصْلًا وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْهِنْدِ، وَمِنَ الْمَانَوِيَّةِ إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَنِبَ عَنْ كُلِّ الطَّيِّبَاتِ وَأَنْ يُبَالِغَ فِي تَعْذِيبِ نَفْسِهِ وَأَنْ يَحْتَرِزَ عَنْ كُلِّ مَا يَمِيلُ الطَّبْعُ إِلَيْهِ حَتَّى أَنَّ الْمَانَوِيَّةَ يُخْصُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَحْتَرِزُونَ عَنِ التَّزَوُّجِ وَيَحْتَرِزُونَ عَنْ أَكْلِ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ وَالْهِنْدُ يَحْرِقُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَرْمُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ شَاهِقِ الْجِبَلِ، فَهَذَانِ الطَّرِيقَانِ مَذْمُومَانِ، وَالْوَسَطُ الْمُعْتَدِلُ هُوَ هَذَا الشَّرْعُ الَّذِي جَاءَنَا بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ التَّشْدِيدَ فِي دِينِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ غَالِبٌ جِدًّا، وَالتَّسَاهُلَ فِي دِينِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ غَالِبٌ جِدًّا وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ شَرِيعَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قِيلَ: كَانَ شَرْعُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ اسْتِيَفَاءَ الْقَصَاصِ لَا مَحَالَةَ، وَفِي شَرْعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْعَفْوُ. أَمَّا فِي شَرْعِنَا فَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْقَصَاصَ عَلَى سَبِيلِ الْمُمَاثَلَةِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الدِّيَةَ وَإِنْ شَاءَ عَفَا، وَأَيْضًا شَرْعُ مُوسَى يَقْتَضِي/ الِاحْتِرَازَ الْعَظِيمَ عَنِ الْمَرْأَةِ حَالَ حَيْضِهَا وَشَرْعُ عِيسَى يَقْتَضِي حِلَّ وَطْءِ الْحَائِضِ، وَالْعَدْلُ مَا حَكَمَ بِهِ شَرْعُنَا وَهُوَ أَنَّهُ يَحْرُمُ وَطْؤُهَا احْتِرَازًا عَنِ التَّلَطُّخِ بِتِلْكَ الدِّمَاءِ الْخَبِيثَةِ أَمَّا لَا يَجِبُ إِخْرَاجُهَا عَنِ الدَّارِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَةِ: 143] يَعْنِي مُتَبَاعِدِينَ عَنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، وَقَالَ: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً [الْفُرْقَانِ: 67] وَقَالَ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الْإِسْرَاءِ: 29] وَلَمَّا بَالَغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الْعِبَادَاتِ قَالَ تَعَالَى: طه مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: 1، 2] وَلَمَّا أَخَذَ قَوْمٌ فِي الْمُسَاهَلَةِ قَالَ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [الْمُؤْمِنُونَ: 115] وَالْمُرَادُ مِنَ الْكُلِّ رِعَايَةُ الْعَدْلِ وَالْوَسَطِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ شَرِيعَتَنَا أَمَرَتْ بِالْخِتَانِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ رَأْسَ الْعُضْوِ جِسْمٌ شَدِيدُ الْحِسِّ وَلِأَجْلِهِ عَظُمَ الالتذاذ عند الوقاع، فلو بقيت تلك الْجِلْدَةُ عَلَى ذَلِكَ الْعُضْوِ بَقِيَ ذَلِكَ الْعُضْوُ عَلَى كَمَالِ الْقُوَّةِ وَشِدَّةِ الْإِحْسَاسِ فَيَعْظُمُ الِالْتِذَاذُ أما إذا قطعت تلك الجلدة بقي ذَلِكَ الْعُضْوُ عَارِيًا فَيَلْقَى الثِّيَابَ وَسَائِرَ الْأَجْسَامِ فَيَتَصَلَّبُ وَيَضْعُفُ حِسُّهُ وَيَقِلُّ شُعُورُهُ فَيَقِلُّ الِالْتِذَاذُ بِالْوِقَاعِ فَتَقِلُّ الرَّغْبَةُ فِيهِ، فَكَأَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا أمرت

بِالْخِتَانِ سَعْيًا فِي تَقْلِيلِ تِلْكَ اللَّذَّةِ، حَتَّى يَصِيرَ مَيْلُ الْإِنْسَانِ إِلَى قَضَاءِ شَهْوَةِ الْجِمَاعِ إِلَى حَدِّ الِاعْتِدَالِ، وَأَنْ لَا تَصِيرَ الرَّغْبَةُ فِيهِ غَالِبَةً عَلَى الطَّبْعِ، فَالْإِخْصَاءُ وَقَطْعُ الْآلَاتِ عَلَى مَا تَذْهَبُ إِلَيْهِ الْمَانَوِيَّةُ مَذْمُومٌ لِأَنَّهُ إِفْرَاطٌ، وَإِبْقَاءُ تِلْكَ الْجِلْدَةِ مُبَالَغَةٌ فِي تَقْوِيَةِ تِلْكَ اللَّذَّةِ، وَالْعَدْلُ الْوَسَطُ هُوَ الْإِتْيَانُ بِالْخِتَانِ، فَظَهَرَ بِهَذِهِ الْأَمْثِلَةِ أَنَّ الْعَدْلَ وَاجِبُ الرِّعَايَةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَمِنَ الْكَلِمَاتِ الْمَشْهُورَةِ قَوْلُهُمْ: وبالعدل قامت السموات وَالْأَرْضُ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ مَقَادِيرَ الْعَنَاصِرِ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُتَعَادِلَةً مُتَكَافِئَةً، بَلْ كَانَ بَعْضُهَا أَزْيَدَ بِحَسَبِ الْكِمِّيَّةِ وَبِحَسَبِ الْكَيْفِيَّةِ مِنَ الْآخَرِ، لَاسْتَوْلَى الْغَالِبُ عَلَى الْمَغْلُوبِ وَوَهَى الْمَغْلُوبُ، وَتَنْقَلِبُ الطَّبَائِعُ كُلُّهَا إِلَى طَبِيعَةِ الْجُرْمِ الْغَالِبِ، وَلَوْ كَانَ بُعْدُ الشَّمْسِ مِنَ الْأَرْضِ أَقَلَّ مِمَّا هُوَ الْآنَ، لَعَظُمَتِ السُّخُونَةُ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَاحْتَرَقَ كُلُّ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَلَوْ كَانَ بُعْدُهَا أَزْيَدَ مِمَّا هُوَ الْآنَ لَاسْتَوْلَى الْبَرْدُ وَالْجُمُودُ عَلَى هَذَا الْعَالَمِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي مَقَادِيرِ حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ وَمَرَاتِبِ سُرْعَتِهَا وَبُطْئِهَا، فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهَا لَوْ كَانَ أَزْيَدَ مِمَّا هُوَ الْآنَ أَوْ كَانَ أَنْقَصَ مِمَّا هُوَ الْآنَ لَاخْتَلَّتْ مَصَالِحُ هَذَا الْعَالَمِ فَظَهَرَ بِهَذَا السَّبَبِ الذي ذكرناه صدق قولهم: وبالعدل قامت السموات وَالْأَرْضُ، فَهَذِهِ إِشَارَةٌ مُخْتَصَرَةٌ إِلَى شَرْحِ حَقِيقَةِ الْعَدْلِ. وَأَمَّا الْإِحْسَانُ فَاعْلَمْ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْعَدْلِ قَدْ تَكُونُ إِحْسَانًا وَقَدْ تَكُونُ إِسَاءَةً مِثَالُهُ: أَنَّ الْعَدْلَ فِي الطَّاعَاتِ هُوَ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ أَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ فَهِيَ أَيْضًا طَاعَاتٌ وَذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُبَالَغَةُ فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ بِحَسَبِ الْكِمِّيَّةِ وَبِحَسَبِ الْكَيْفِيَّةِ هُوَ الْإِحْسَانُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِحْسَانِ قَالَ: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» . فَإِنْ قَالُوا: لِمَ سُمِّيَ هَذَا الْمَعْنَى بِالْإِحْسَانِ؟ قُلْنَا: كَأَنَّهُ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الطَّاعَةِ يُحْسِنُ إِلَى نَفْسِهِ وَيُوصِلُ الْخَيْرَ وَالْفِعْلَ الْحَسَنَ إِلَى نَفْسِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَدْلَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَالْإِحْسَانَ عِبَارَةٌ عَنِ الزِّيَادَةِ فِي تِلْكَ الطَّاعَاتِ بِحَسَبِ الْكِمِّيَّةِ وَبِحَسَبِ الْكَيْفِيَّةِ، وَبِحَسَبِ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ، وَبِحَسَبِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي شُهُودِ مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، فَهَذَا هُوَ الْإِحْسَانُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِحْسَانَ بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ دَخَلَ فِيهِ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ الله، وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ الشَّفَقَةَ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ وَأَشْرَفُهَا وَأَجَلُّهَا صِلَةُ الرَّحِمِ لَا جَرَمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ فَقَالَ: وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى فَهَذَا تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا. وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا، وَهِيَ الْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ وَالْبَغْيُ فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي النَّفْسِّ الْبَشَرِيَّةِ قُوًى أَرْبَعَةً، وَهِيَ الشَّهْوَانِيَّةُ الْبَهِيمِيَّةُ وَالْغَضَبِيَّةُ السَّبُعِيَّةُ وَالْوَهْمِيَّةُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ الْمَلَكِيَّةُ وَهَذِهِ الْقُوَّةُ الرَّابِعَةُ أَعْنِي الْعَقْلِيَّةَ الْمَلَكِيَّةَ لَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَى تَأْدِيبِهَا وَتَهْذِيبِهَا، لِأَنَّهَا مِنْ جَوَاهِرِ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْ نَتَائِجِ الْأَرْوَاحِ الْقُدْسِيَّةِ الْعُلْوِيَّةِ، إِنَّمَا الْمُحْتَاجُ إِلَى التَّأْدِيبِ وَالتَّهْذِيبِ تِلْكَ الْقُوَى الثَّلَاثَةُ الأولى. أَمَّا الْقُوَّةُ الشَّهْوَانِيَّةُ، فَهِيَ إِنَّمَا تُرَغِّبُ فِي تَحْصِيلِ اللَّذَّاتِ الشَّهْوَانِيَّةِ، وَهَذَا النوع مَخْصُوصٌ بِاسْمِ الْفُحْشِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى الزِّنَا فَاحِشَةً فَقَالَ: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا [النساء: 22] فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَنْعُ مِنْ تَحْصِيلِ اللَّذَّاتِ الشَّهْوَانِيَّةِ الْخَارِجَةِ عَنْ إِذْنِ الشَّرِيعَةِ، وَأَمَّا الْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ السَّبُعِيَّةُ فَهِيَ: أَبَدًا تَسْعَى فِي إِيصَالِ الشَّرِّ وَالْبَلَاءِ وَالْإِيذَاءِ إِلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّاسَ يُنْكِرُونَ تِلْكَ الْحَالَةَ، فَالْمُنْكَرُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِفْرَاطِ الْحَاصِلِ فِي آثَارِ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ. وَأَمَّا الْقُوَّةُ الْوَهْمِيَّةُ الشَّيْطَانِيَّةُ فَهِيَ أَبَدًا تَسْعَى فِي الِاسْتِعْلَاءِ عَلَى النَّاسِ وَالتَّرَفُّعِ وَإِظْهَارِ الرِّيَاسَةِ وَالتَّقَدُّمِ، وَذَلِكَ هو المراد

مِنَ الْبَغْيِ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْبَغْيِ إِلَّا التَّطَاوُلُ عَلَى النَّاسِ وَالتَّرَفُّعُ عَلَيْهِمْ، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الثَّلَاثَةَ مُنْطَبِقَةٌ عَلَى أَحْوَالِ هَذِهِ الْقُوَى الثَّلَاثَةِ، وَمِنَ الْعَجَائِبِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْعُقَلَاءَ قَالُوا: أَخَسُّ هَذِهِ الْقُوَى الثَّلَاثَةِ هِيَ الشَّهْوَانِيَّةُ، وَأَوْسَطُهَا الْغَضَبِيَّةُ وَأَعْلَاهَا الْوَهْمِيَّةُ. وَاللَّهُ تَعَالَى رَاعَى هَذَا التَّرْتِيبَ فَبَدَأَ بِالْفَحْشَاءِ الَّتِي هِيَ نَتِيجَةُ الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ، ثُمَّ بِالْمُنْكَرِ الَّذِي هُوَ نَتِيجَةُ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ، ثُمَّ بِالْبَغْيِ الَّذِي هُوَ نَتِيجَةُ الْقُوَّةِ الْوَهْمِيَّةِ، فَهَذَا مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عَقْلِي وَخَاطِرِي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنَ الرَّحْمَنِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ بَرِيئَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا خَصَّنَا بِهَذَا النوع مِنَ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ إِنَّهُ الْمَلِكُ الدَّيَّانُ. ثم قال تَعَالَى: يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَعِظُكُمْ أَمْرُهُ تَعَالَى بِتِلْكَ الثَّلَاثَةِ وَنَهْيُهُ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النَّحْلِ: 89] أَرْدَفَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْأَمْرِ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَالنَّهْيِ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، كَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ هُوَ هَذِهِ التَّكَالِيفُ السِّتَّةُ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ جَوْهَرَ النَّفْسِ مِنْ زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ وَمِنْ نَتَائِجِ الْأَرْوَاحِ الْعَالِيَةِ الْقُدْسِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ دَخَلَ فِي هَذَا الْعَالَمِ خَالِيًا عَارِيًا عَنِ التَّعَلُّقَاتِ فَتِلْكَ الثَّلَاثَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا هِيَ الَّتِي تُرَقِّيهَا بِالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَتِلْكَ الْمَعَارِفُ وَالْأَعْمَالُ هِيَ الَّتِي تُرَقِّيهَا إِلَى عَالَمِ الْغَيْبِ وَسُرَادِقَاتِ الْقُدْسِ، وَمُجَاوَرَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ فِي جِوَارِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتِلْكَ الثَّلَاثَةُ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا هِيَ الَّتِي تَصُدُّهَا عَنْ تِلْكَ السَّعَادَاتِ وَتَمْنَعُهَا عَنِ الْفَوْزِ بِتِلْكَ الْخَيْرَاتِ، فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتِلْكَ الثَّلَاثَةِ، وَنَهَى عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَقَدْ نَبَّهَ عَلَى كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسَافِرُونَ مِنْ عَالَمِ الدُّنْيَا إِلَى مَبْدَأِ عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ: الْآيَةُ تَدُّلُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْلُقُ الْجَوْرَ وَالْفَحْشَاءَ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَيْفَ يَنْهَاهُمْ عَمَّا يَخْتَرِعُهُ فِيهِمْ، وَكَيْفَ يَنْهَى عَمَّا يُرِيدُ تَحْصِيلَهُ فِيهِمْ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا لَكَانَ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَفْعَلُوا خِلَافَ مَا خَلَقَهُ فِيكُمْ وَيَنْهَاكُمْ عَنْ أَفْعَالٍ خَلَقَهَا فِيكُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَنَهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، فَلَوْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِتِلْكَ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ إِنَّهُ مَا فَعَلَهَا لَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 44] وَتَحْتَ قَوْلُهُ: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفِّ: 2، 3] . الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّرَجِّي وَالتَّمَنِّي، فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَعِظُكُمْ لِإِرَادَةِ أَنْ تَتَذَكَّرُوا طَاعَتَهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْإِيمَانَ مِنَ الْكُلِّ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ صَرَّحَ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القربي، ولكنه تمنع مِنْهُ وَيَصُدُّ عَنْهُ وَلَا يُمَكِّنُ الْعَبْدَ مِنْهُ. ثم قال: وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ وَلَكِنَّهُ يُوجِدُ كُلَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي الْعَبْدِ شَاءَ أَمْ أَبَى وَأَرَادَهُ مِنْهُ وَمَنَعَهُ مِنْ تَرْكِهِ، وَمِنَ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ لَحَكَمَ كُلُّ أَحَدٍ عَلَيْهِ بِالرَّكَاكَةِ وَفَسَادِ النَّظْمِ وَالتَّرْكِيبِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ مُتَعَالِيًا عَنْ فِعْلِ الْقَبَائِحِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النوع مِنَ الِاسْتِدْلَالِ كَثِيرٌ، وَقَدْ مَرَّ الْجَوَابُ عَنْهُ وَالْمُعْتَمَدُ فِي دَفْعِ هَذِهِ الْمُشَاغَبَاتِ التَّعْوِيلُ عَلَى سُؤَالِ الدَّاعِي وَسُؤَالِ الْعِلْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة النحل (16) : الآيات 91 إلى 92]

المسألة الثَّالِثَةُ: اتَّفَقَ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمِنَ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى أَنَّ تَذَكُّرَ الْأَشْيَاءِ مِنْ فِعْلِ/ اللَّهِ لَا مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ، وَالدَّلِيلُ عليه هو أن التذكر عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ الْمُتَذَكَّرِ فَحَالَ الطَّلَبُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ بِهِ شُعُورٌ أَوْ لَا يَكُونُ لَهُ بِهِ شُعُورٌ. فَإِنْ كَانَ لَهُ شُعُورٌ فَذَلِكَ الذِّكْرُ حَاصِلٌ، وَالْحَاصِلُ لَا يُطْلَبُ تَحْصِيلُهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ شُعُورٌ فَكَيْفَ يَطْلُبُهُ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّ تَوْجِيهَ الطَّلَبِ إِلَيْهِ بِعَيْنِهِ حَالَ مَا لَا يَكُونُ هُوَ بِعَيْنِهِ مُتَصَوَّرًا مُحَالٌ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْوَعْظِ أَنْ يُقْدِمُوا عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ التَّذَكُّرِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ التَّذَكُّرُ فِعْلًا لَهُ فَكَيْفَ طَلَبَ مِنْهُ تَحْصِيلَهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ منه ذلك. والله أعلم. [سورة النحل (16) : الآيات 91 الى 92] وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا جَمَعَ كُلَّ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ تِلْكَ الْأَقْسَامِ، فَبَدَأَ تَعَالَى بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: بِعَهْدِ اللَّهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : عَهْدُ اللَّهِ هِيَ الْبَيْعَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الْفَتْحِ: 10] أَيْ وَلَا تَنْقُضُوا أَيْمَانَ الْبَيْعَةِ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، أَيْ بَعْدَ تَوْثِيقِهَا بِاسْمِ اللَّهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كُلُّ عَهْدٍ يَلْتَزِمُهُ الْإِنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْوَعْدُ مِنَ الْعَهْدِ، وَقَالَ/ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ مَنْ عاهدته ف بِعَهْدِهِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا فَإِنَّمَا الْعَهْدُ لِلَّهِ تَعَالَى. الثَّالِثُ: قَالَ الْأَصَمُّ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْجِهَادُ وَمَا فَرَضَ اللَّهُ فِي الْأَمْوَالِ مِنْ حَقٍّ. الرَّابِعُ: عَهْدُ اللَّهِ هُوَ الْيَمِينُ بِاللَّهِ، وَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ: إِنَّمَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْيَمِينِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الصَّلَاحُ فِي خِلَافِهِ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لْيُكَفِّرْ» . الْخَامِسُ: قَالَ الْقَاضِي الْعَهْدُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ أَمْرٍ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِمُقْتَضَاهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَدِلَّةَ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ أَوْكَدُ فِي لُزُومِ الْوَفَاءِ بِمَا يَدُلَّانِ عَلَى وُجُوبِهِ مِنَ الْيَمِينِ وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ فِي هَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ التَّغَيُّرُ وَالِاخْتِلَافُ، وَيَصِحُّ ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ وَرُبَّمَا نَدَبَ فِيهِ خِلَافَ الْوَفَاءِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ فَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالْعُهُودِ الَّتِي يَلْتَزِمُهَا الْإِنْسَانُ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِذا عاهَدْتُمْ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي مُعْتَبَرًا وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِيمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولِ، وَأَيْضًا يَجِبُ أَنْ لَا يُحْمَلَ هَذَا الْعَهْدُ عَلَى الْيَمِينِ، لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ لَكَانَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها تَكْرَارًا لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ وَالْمَنْعَ مِنَ النَّقْضِ مُتَقَارِبَانِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ التَّرْكِ إِلَّا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ عَامٌّ فَدَخَلَ تَحْتَهُ الْيَمِينُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خص اليمين بالذر تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ أَوْلَى أَنْوَاعِ الْعَهْدِ بِوُجُوبِ الرِّعَايَةِ، وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ هَذَا الْعَهْدُ عَلَى مَا

يَلْتَزِمُهُ الْإِنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُبَايَعَةُ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَيَدْخُلُ فِيهِ عَهْدُ الْجِهَادِ، وَعَهْدُ الْوَفَاءِ بِالْمُلْتَزَمَاتِ مِنَ الْمَنْذُورَاتِ، وَالْأَشْيَاءِ الَّتِي أَكَّدَهَا بِالْحَلِفِ وَالْيَمِينِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها مَبَاحِثُ: البحث الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ وَكَّدْتُ وَأَكَّدْتُ لُغَتَانِ جَيِّدَتَانِ، وَالْأَصْلُ الْوَاوُ، وَالْهَمْزَةُ بَدَلٌ مِنْهَا. البحث الثَّانِي: قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَمِينُ اللَّغْوِ هِيَ يَمِينُ الْغَمُوسِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها فَنَهَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ نَقْضِ الْأَيْمَانِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ يَمِينٍ قَابِلًا لِلْبِرِّ وَالْحِنْثِ، وَيَمِينُ الْغَمُوسِ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْبِرِّ وَالْحِنْثِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ مِنَ الْأَيْمَانِ. وَاحْتَجَّ الْوَاحِدِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ يَمِينَ اللَّغْوِ هِيَ قَوْلُ الْعَرَبِ لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ. قَالَ إِنَّمَا قَالَ تَعَالَى: بَعْدَ تَوْكِيدِها لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْأَيْمَانِ الْمُؤَكَّدَةِ بِالْعَزْمِ وَبِالْعَقْدِ وَبَيْنَ لَغْوِ الْيَمِينِ. البحث الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها عَامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ، لِأَنَّا بَيَّنَّا/ أَنَّ الْخَبَرَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَتَى كَانَ الصَّلَاحُ فِي نَقْضِ الْأَيْمَانِ جَازَ نَقْضُهَا. ثم قال: وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا هَذِهِ وَاوُ الْحَالِ، أَيْ لَا تَنْقُضُوهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ كَفِيلًا عَلَيْكُمْ بِالْوَفَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ تَعَالَى فَكَأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ اللَّهَ كَفِيلًا بِالْوَفَاءِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْحَلِفِ. ثم قال: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَفِيهِ تَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ، وَالْمُرَادُ فَيُجَازِيكُمْ عَلَى مَا تَفْعَلُونَ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ وُجُوبَ الْوَفَاءِ، وَتَحْرِيمَ النَّقْضِ وَقَالَ: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهَا رَايِطَةُ، وَقِيلَ رَيْطَةُ، وَقِيلَ تُلَقَّبُ جَعْرَاءَ وَكَانَتْ حَمْقَاءَ تَغْزِلُ الْغَزْلَ هِيَ وَجَوَارِيهَا فَإِذَا غَزَلَتْ وَأَبْرَمَتْ أَمَرَتْهُنَّ فَنَقَضْنَ مَا غَزَلْنَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَثَلِ الْوَصْفُ دُونَ التَّعْيِينِ، لِأَنَّ الْقَصْدَ بِالْأَمْثَالِ صَرْفُ الْمُكَلَّفِ عَنْهُ إِذَا كَانَ قَبِيحًا، وَالدُّعَاءُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ حَسَنًا، وَذَلِكَ يَتِمُّ بِهِ مِنْ دُونِ التَّعْيِينِ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أي من به قُوَّةِ الْغَزْلِ بِإِبْرَامِهَا وَفَتْلِهَا. المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: أَنْكاثاً قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَاحِدُهَا: نِكْثٌ وَهُوَ الْغَزْلُ مِنَ الصُّوفِ وَالشَّعْرِ يُبْرَمُ وَيُنْسَجُ فَإِذَا أَحْكَمَتِ النَّسِيجَةَ قَطَعَتْهَا وَنَكَثَتْ خُيُوطَهَا الْمُبْرَمَةَ وَنَفَشَتْ تِلْكَ الْخُيُوطَ وَخَلَطَتْ بِالصُّوفِ ثُمَّ غَزَلَتْ ثَانِيَةً، وَالنَّكْثُ الْمَصْدَرُ، وَمِنْهُ يُقَالُ نَكَثَ فُلَانٌ عَهْدَهُ إِذَا نَقَضَهُ بَعْدَ إِحْكَامِهِ كَمَا يُنْكَثُ خَيْطُ الصُّوفِ بَعْدَ إِبْرَامِهِ. المسألة الرَّابِعَةُ: فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ: أَنْكاثاً وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: أَنْكَاثًا مَنْصُوبٌ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّ مَعْنَى نَكَثَتْ نَقَضَتْ وَمَعْنَى نَقَضَتْ نَكَثَتْ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُ، لِأَنَّ الْأَنْكَاثَ جَمْعُ نِكْثٍ وَهُوَ اسْمٌ لَا مَصْدَرٌ فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ: أَنْكاثاً بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ؟ الثَّانِي: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَنْكَاثًا مَفْعُولٌ ثَانٍ كَمَا تَقُولُ كسره

[سورة النحل (16) : آية 93]

أَقْطَاعًا وَفَرَّقَهُ أَجْزَاءً عَلَى مَعْنَى جَعَلَهُ أَقْطَاعًا وأجزاء فكذا هاهنا قَوْلُهُ: نَقَضَتْ غَزْلَهَا أَنْكَاثًا أَيْ جَعَلَتْ غَزْلَهَا أَنْكَاثًا الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْكاثاً حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ. المسألة الْخَامِسَةُ: قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، فَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ كُنْتُمْ مِثْلَ الْمَرْأَةِ الَّتِي غَزَلَتْ غَزْلًا وَأَحْكَمَتْهُ فَلَمَّا اسْتَحْكَمَ نَقَضَتْهُ فَجَعَلَتْهُ أَنْكَاثًا. ثم قال تَعَالَى: تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الدَّخَلُ وَالدَّغَلُ الْغِشُّ وَالْخِيَانَةُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَا دَخَلَهُ عَيْبٌ قِيلَ هُوَ مَدْخُولٌ وَفِيهِ دَخَلٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الدَّخَلُ مَا أُدْخِلَ فِي الشَّيْءِ عَلَى فَسَادٍ. ثم قال: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ أَرْبَى أَيْ أَكْثَرُ مِنْ رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو إِذَا زَادَ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ قَدْ تَكُونُ فِي الْعَدَدِ وَفِي الْقُوَّةِ وَفِي الشَّرَفِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يُحَالِفُونَ الْحُلَفَاءَ ثُمَّ يَجِدُونَ مَنْ كَانَ أَعَزَّ مِنْهُمْ وَأَشْرَفَ فَيَنْقُضُونَ حِلْفَ الْأَوَّلِينَ وَيُحَالِفُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَعَزُّ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: أَنْ تَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّكُمْ تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ بِسَبَبِ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ فِي الْعَدَدِ وَالْقُوَّةِ وَالشَّرَفِ. فَقَوْلُهُ: تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَالْمَعْنَى: أَتَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ بِسَبَبِ أَنَّ أُمَّةً أَزْيَدُ فِي الْقُوَّةِ وَالْكَثْرَةِ مِنْ أُمَّةٍ أُخْرَى. ثم قال تَعَالَى: إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ أَيْ بِمَا يَأْمُرُكُمْ وَيَنْهَاكُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَيَتَمَيَّزُ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ دَرَجَاتِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة النحل (16) : آية 93] وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَلَّفَ الْقَوْمَ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَتَحْرِيمِ نَقْضِهِ، أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْمَعَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَفَاءِ وَعَلَى سَائِرِ أَبْوَابِ الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ بِحُكْمِ الْإِلَهِيَّةِ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ: فَإِنَّهُمْ حَمَلُوا ذَلِكَ عَلَى الْإِلْجَاءِ، أَيْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُلْجِئَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ أَوْ إِلَى الْكُفْرِ لَقَدَرَ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ التَّكْلِيفَ، فَلَا جَرَمَ مَا أَلْجَأَهُمْ إِلَيْهِ وَفَوَّضَ الْأَمْرَ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ فِي هَذِهِ التَّكَالِيفِ، وَأَمَّا قَوْلُ أَصْحَابِنَا فِيهِ فَهُوَ ظَاهِرٌ، وَهَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ قَدْ تَكَرَّرَتْ مرارا كثيرة، وروى الواحدي أن عزيزا قَالَ: يَا رَبِّ خَلَقْتَ الْخَلْقَ فَتُضِلُّ مَنْ تشاء وتهدي من تشاء، فقال: يا عزير أَعْرِضْ عَنْ هَذَا، فَأَعَادَهُ ثَانِيًا. فَقَالَ: أَعْرِضْ عَنْ هَذَا، فَأَعَادَهُ ثَالِثًا، فَقَالَ: أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَإِلَّا مَحَوْتُ اسْمَكَ مِنَ النُّبُوَّةِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْمَشِيئَةِ مَشِيئَةُ الْإِلْجَاءِ، أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بعده: وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَلَوْ كَانَتْ أَعْمَالُ الْعِبَادِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَكَانَ سُؤَالُهُمْ عَنْهَا عَبَثًا، وَالْجَوَابُ عَنْهُ قَدْ سَبَقَ مِرَارًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة النحل (16) : الآيات 94 الى 97] وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (97)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَذَّرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَنْ نَقْضِ الْعُهُودِ وَالْأَيْمَانِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، حَذَّرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّحْذِيرَ عَنْ نَقْضِ مُطْلَقِ الْأَيْمَانِ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّكْرِيرُ الْخَالِي عَنِ الْفَائِدَةِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، بَلِ الْمُرَادُ نَهْيُ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْخِطَابِ عَنْ نَقْضِ أَيْمَانٍ مَخْصُوصَةٍ أَقْدَمُوا عَلَيْهَا، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ نَهْيُ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ نَقْضِ عَهْدِهِ، لِأَنَّ هَذَا الوعيد وهو قَوْلُهُ: فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها لَا يَلِيقُ بِنَقْضِ عَهْدٍ قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا يَلِيقُ بِنَقْضِ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الْإِيمَانِ بِهِ وَشَرَائِعِهِ. وَقَوْلُهُ: فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها مَثَلٌ يُذْكَرُ لِكُلِّ مَنْ وَقَعَ فِي بَلَاءٍ بَعْدَ عَافِيَةٍ، وَمِحْنَةٍ بَعْدَ نِعْمَةٍ، فَإِنَّ مَنْ نَقَضَ عَهْدَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ سَقَطَ عَنِ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ وَوَقَعَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الضَّلَالَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَذُوقُوا السُّوءَ أَيِ الْعَذَابَ: بِما صَدَدْتُمْ أَيْ بِصَدِّكُمْ: عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أَيْ ذَلِكَ السُّوءُ الَّذِي تَذُوقُونَهُ سُوءٌ عَظِيمٌ وَعِقَابٌ شَدِيدٌ، / ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا التَّحْذِيرَ فَقَالَ: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا يُرِيدُ عَرَضَ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، إِلَّا أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَعْنِي أَنَّكُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمْ عَلَى نَقْضِ عَهْدِ الْإِسْلَامِ خَيْرًا مِنْ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا، فَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، لِأَنَّ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْبَقَاءِ عَلَى الْإِسْلَامِ خَيْرٌ وَأَفْضَلُ وَأَكْمَلُ مِمَّا يَجِدُونَهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى نَقْضِ عَهْدِ الْإِسْلَامِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ التَّفَاوُتَ بَيْنَ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ عَلَى أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا يَجِدُونَهُ مِنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا فَقَالَ: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَفِيهِ بَحْثَانِ: البحث الْأَوَّلُ: الْحِسُّ شَاهِدٌ بِأَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ، وَالْعَقْلُ دَلَّ عَلَى أَنَّ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ بَاقِيَةٌ، وَالْبَاقِي خَيْرٌ مِنَ الْمُنْقَطِعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الْمُنْقَطِعَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ خَيْرًا عَالِيًا شَرِيفًا أَوْ كَانَ خَيْرًا دَنِيًّا خَسِيسًا، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ كَانَ خَيْرًا عَالِيًا شَرِيفًا فَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ سَيَنْقَطِعُ يَجْعَلُهُ مُنَغَّصًا حَالَ حُصُولِهِ، وَأَمَّا حَالَ حُصُولِ ذَلِكَ الِانْقِطَاعِ فَإِنَّهَا تَعْظُمُ الْحَسْرَةُ وَالْحُزْنُ، وَكَوْنُ تِلْكَ النِّعْمَةِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ كَذَلِكَ يُنَغِّصُ فِيهَا وَيُقَلِّلُ مَرْتَبَتَهَا وَتَفْتُرُ الرَّغْبَةُ فِيهَا، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ الْمُنْقَطِعَةَ كَانَتْ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْخَسِيسَةِ فَهَمُّنَا مِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ ذَلِكَ الْخَيْرَ الدَّائِمَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ الْخَيْرِ الْمُنْقَطِعِ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ أَفْضَلُ مِنْ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا. البحث الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بَاقٍ لَا يَنْقَطِعُ. وَقَالَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ: إِنَّهُ مُنْقَطِعٌ وَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا آمَنَ بِاللَّهِ فَقَدِ الْتَزَمَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَصْبِرَ عَلَى ذَلِكَ الِالْتِزَامِ وَأَنْ لَا يَرْجِعَ عَنْهُ وَأَنْ لَا يَنْقُضَهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَأْتِيَ بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَلَوَازِمِهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى رَغَّبَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الصَّبْرُ عَلَى مَا الْتَزَمُوهُ، فقال:

وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَيْ عَلَى مَا الْتَزَمُوهُ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ يَجْزِيهِمْ عَلَى أَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يَأْتِي بِالْمُبَاحَاتِ وَبِالْمَنْدُوبَاتِ وَبِالْوَاجِبَاتِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عَلَى فِعْلِ الْمَنْدُوبَاتِ وَالْوَاجِبَاتِ يُثَابُ لَا عَلَى فِعْلِ الْمُبَاحَاتِ، فَلِهَذَا قَالَ: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى رَغَّبَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَفْظَةُ «مَنْ» فِي قَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً تُفِيدُ الْعُمُومَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لِلْوَعْدِ بِالْخَيْرَاتِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي تَقْرِيرِ الْوَعْدِ مِنْ أَعْظَمِ دَلَائِلِ الْكَرَمِ وَالرَّحْمَةِ إِثْبَاتًا لِلتَّأْكِيدِ وَإِزَالَةً لِوَهْمِ التَّخْصِيصِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ مُغَايِرٌ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ؟ وَالْجَوَابُ: نَعَمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْإِيمَانَ شَرْطًا فِي كَوْنِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مُوجِبًا لِلثَّوَابِ. وَشَرْطُ الشَّيْءِ مُغَايِرٌ لِذَلِكَ الشَّيْءِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إِنَّمَا يُفِيدُ الْأَثَرَ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ، فَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ يُفِيدُ الْأَثَرَ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ الْإِيمَانِ أَوْ كَانَ مَعَ عَدَمِهِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ إِفَادَةَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لِلْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ مَشْرُوطٌ بِالْإِيمَانِ، أَمَّا إِفَادَتُهُ لِأَثَرٍ غَيْرِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ وَهُوَ تَخْفِيفُ الْعِقَابِ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِيمَانِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: هَذِهِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ تَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْقَبْرِ أَوْ فِي الْآخِرَةِ. وَالْجَوَابُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَاضِي: الْأَقْرَبُ أَنَّهَا تَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ مَا يَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ وَعَدَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَجْزِيهِمْ عَلَى مَا هُوَ أَحْسَنُ أَعْمَالِهِمْ فَهَذَا لَا امْتِنَاعَ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا فَمَا هِيَ؟ وَالْجَوَابُ: ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا قِيلَ: هُوَ الرِّزْقُ الْحَلَالُ الطَّيِّبُ، وَقِيلَ: عِبَادَةُ اللَّهِ مَعَ أَكْلِ الْحَلَالِ، وَقِيلَ: الْقَنَاعَةُ، وَقِيلَ: رِزْقُ يَوْمٍ بِيَوْمٍ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ كَفَافًا» قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَقَوْلُ من يقول: إن الْقَنَاعَةُ حَسَنٌ مُخْتَارٌ لِأَنَّهُ لَا يَطِيبُ عَيْشُ أَحَدٍ فِي الدُّنْيَا إِلَّا عَيْشَ الْقَانِعِ وَأَمَّا الْحَرِيصُ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَبَدًا فِي الْكَدِّ وَالْعَنَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَيْشَ الْمُؤْمِنِ فِي الدَّنْيَا أَطْيَبُ مِنْ عَيْشِ الْكَافِرِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا عَرَفَ أَنَّ رِزْقَهُ إِنَّمَا حَصَلَ

[سورة النحل (16) : الآيات 98 إلى 100]

بِتَدْبِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَرَفَ أَنَّهُ تَعَالَى مُحْسِنٌ كَرِيمٌ لَا يَفْعَلُ إِلَّا الصَّوَابَ كَانَ رَاضِيًا/ بِكُلِّ مَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ، وَعَلِمَ أَنَّ مَصْلَحَتَهُ فِي ذَلِكَ، أَمَّا الْجَاهِلُ فَلَا يَعْرِفُ هَذِهِ الْأُصُولَ فَكَانَ أَبَدًا فِي الْحُزْنِ وَالشَّقَاءِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُؤْمِنَ أَبَدًا يَسْتَحْضِرُ فِي عَقْلِهِ أَنْوَاعَ الْمَصَائِبِ وَالْمِحَنِ وَيُقَدِّرُ وُقُوعَهَا وَعَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِهَا يَرْضَى بِهَا، لِأَنَّ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ، فَعِنْدَ وُقُوعِهَا لَا يَسْتَعْظِمُهَا بِخِلَافِ الْجَاهِلِ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَافِلًا عَنْ تِلْكَ الْمَعَارِفِ، فَعِنْدَ وُقُوعِ الْمَصَائِبِ يَعْظُمُ تَأْثِيرُهَا فِي قَلْبِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ مُنْشَرِحٌ بِنُورِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْقَلْبُ إِذَا كَانَ مَمْلُوءًا مِنْ هَذِهِ الْمَعَارِفِ لَمْ يَتَّسِعْ لِلْأَحْزَانِ الْوَاقِعَةِ بِسَبَبِ أَحْوَالِ الدُّنْيَا، أَمَّا قَلْبُ الْجَاهِلِ فَإِنَّهُ خَالٍ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا جَرَمَ يَصِيرُ مَمْلُوءًا مِنَ الْأَحْزَانِ الْوَاقِعَةِ بِسَبَبِ مَصَائِبِ الدُّنْيَا. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمُؤْمِنَ عَارِفٌ بِأَنَّ خَيْرَاتِ الْحَيَاةِ الْجُسْمَانِيَّةِ خَسِيسَةٌ فَلَا يَعْظُمُ فَرَحُهُ بِوِجْدَانِهَا وَغَمُّهُ بِفُقْدَانِهَا، أَمَّا الْجَاهِلُ فَإِنَّهُ لَا يَعْرِفُ سَعَادَةً أُخْرَى تُغَايِرُهَا فَلَا جَرَمَ يَعْظُمُ فَرَحُهُ بِوِجْدَانِهَا وَغَمُّهُ بِفُقْدَانِهَا. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَعْلَمُ أَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَاجِبَةُ التَّغَيُّرِ سَرِيعَةُ التَّقَلُّبِ فَلَوْلَا تَغَيُّرُهَا وَانْقِلَابُهَا لَمْ تَصِلْ مِنْ غَيْرِهِ إِلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا كَانَ وَاجِبَ التَّغَيُّرِ فَإِنَّهُ عِنْدَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ لَا تَنْقَلِبُ حَقِيقَتُهُ وَلَا تَتَبَدَّلُ مَاهِيَّتُهُ، فَعِنْدَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ يَكُونُ أَيْضًا وَاجِبَ التَّغَيُّرِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَطْبَعُ الْعَاقِلُ قَلْبَهُ عَلَيْهِ وَلَا يُقِيمُ لَهُ فِي قَلْبِهِ وَزْنًا بِخِلَافِ الْجَاهِلِ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَافِلًا عَنْ هَذِهِ الْمَعَارِفِ فَيَطْبَعُ قَلْبَهُ عَلَيْهَا وَيُعَانِقُهَا مُعَانَقَةَ الْعَاشِقِ لِمَعْشُوقِهِ فَعِنْدَ فَوْتِهِ وَزَوَالِهِ يَحْتَرِقُ قَلْبُهُ وَيَعْظُمُ الْبَلَاءُ عِنْدَهُ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ كَافِيَةٌ فِي بَيَانِ أَنَّ عَيْشَ الْمُؤْمِنِ الْعَارِفِ أَطْيَبُ مِنْ عَيْشِ الْكَافِرِ هَذَا كُلُّهُ إِذَا فَسَّرْنَا الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ بِأَنَّهَا فِي الدُّنْيَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ إِنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ فِي الْقَبْرِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إِنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الِانْشِقَاقِ: 6] فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْكَدْحَ بَاقٍ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى رَبِّهِ وَذَلِكَ مَا قُلْنَاهُ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ فِي الْجَنَّةِ فَلِأَنَّهَا حَيَاةٌ بِلَا مَوْتٍ وَغِنًى بِلَا فَقْرٍ، وَصِحَّةٌ بِلَا مَرَضٍ، وَمُلْكٌ بِلَا زَوَالٍ، وَسَعَادَةٌ بِلَا شَقَاءٍ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ لَيْسَتْ إِلَّا تِلْكَ الْحَيَاةَ، ثَمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ وقد سبق تفسيره والله أعلم. [سورة النحل (16) : الآيات 98 الى 100] فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] أَرْشَدَ إِلَى الْعَمَلِ الَّذِي بِهِ تَخْلُصُ أَعْمَالُهُ عَنِ الْوَسَاوِسِ فَقَالَ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: الشَّيْطَانُ سَاعٍ فِي إِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ فِي الْقَلْبِ حَتَّى فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الْحَجِّ: 52] وَالِاسْتِعَاذَةُ بِاللَّهِ مَانِعَةٌ لِلشَّيْطَانِ مِنْ إِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ

مُبْصِرُونَ [الْأَعْرَافِ: 201] فَلِهَذَا السَّبَبِ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ حَتَّى تَبْقَى تِلْكَ الْقِرَاءَةُ مَصُونَةً عَنِ الْوَسْوَسَةِ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكُلُّ، لِأَنَّ الرَّسُولَ لَمَّا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ فَغَيْرُ الرَّسُولِ أَوْلَى بِهَا. المسألة الثَّالِثَةُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ لِلتَّعْقِيبِ فَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَالِكٍ وَدَاوُدَ قَالُوا: وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ اسْتَحَقَّ بِهِ ثَوَابًا عَظِيمًا، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِالِاسْتِعَاذَةِ وَقَعَتِ الْوَسْوَسَةُ فِي قَلْبِهِ، وَتِلْكَ الْوَسْوَسَةُ تُحْبِطُ ثَوَابَ الْقِرَاءَةِ أَمَّا إِذَا اسْتَعَاذَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ انْدَفَعَتِ الْوَسَاوِسُ وَبَقِيَ الثَّوَابُ مَصُونًا عَنِ الْإِحْبَاطِ. أَمَّا الْأَكْثَرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقِرَاءَةِ، وَقَالُوا: مَعْنَى الْآيَةِ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ اسْتَعِذْ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، وَمِثْلُهُ إِذَا أَكَلْتَ فَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ وَإِذَا سَافَرْتَ فَتَأَهَّبْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا [الْمَائِدَةِ: 6] أَيْ إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا، وَأَيْضًا لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى الْوَسْوَسَةَ فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَةِ الرَّسُولِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الْحَجِّ: 52] وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ الرَّسُولَ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ لِدَفْعِ تِلْكَ الْوَسَاوِسِ، فَهَذَا الْمَقْصُودُ إِنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ تَقْدِيمِ الِاسْتِعَاذَةِ. المسألة الرَّابِعَةُ: مَذْهَبُ عَطَاءٍ: أَنَّهُ تَجِبُ الِاسْتِعَاذَةُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ/ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَتَعَوَّذْ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَصَلَاتُهُ مَاضِيَةٌ، وَكَذَلِكَ حَالُ الْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ لَكِنْ حَالُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ آكَدُ. المسألة الْخَامِسَةُ: الْمُرَادُ بِالشَّيْطَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قِيلَ إِبْلِيسُ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ لِلْجِنْسِ، لِأَنَّ لِجَمِيعِ الْمَرَدَةِ مِنَ الشَّيَاطِينِ حَظًّا فِي الْوَسْوَسَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ وَكَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّ لِلشَّيْطَانِ قُدْرَةً عَلَى التَّصَرُّفِ فِي أَبْدَانِ النَّاسِ، فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْوَهْمَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ الْبَتَّةَ إِلَّا عَلَى الْوَسْوَسَةِ فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَيَظْهَرُ مِنْ هَذَا أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ إِنَّمَا تُفِيدُ إِذَا حَضَرَ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ كَوْنُهُ ضَعِيفًا، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَفُّظُ عَنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: لَا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّفْوِيضُ الْحَاصِلُ عَلَى هَذَا الوجه هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. ثم قال: إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُطِيعُونَهُ يُقَالُ: تَوَلَّيْتُهُ أَيْ أَطَعْتُهُ وَتَوَلَّيْتُ عَنْهُ أَيْ أَعْرَضْتُ عَنْهُ: وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: (بِهِ) إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى رَبِّهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الشَّيْطَانِ وَالْمَعْنَى بِسَبَبِهِ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ مُؤَدِّيَةٍ إِلَى الْكُفْرِ كَفَرْتَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ أَيْ مِنْ أَجْلِهَا، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ أَيْ مِنْ أَجْلِهِ وَمِنْ أَجْلِ حَمْلِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى الشِّرْكِ بالله صاروا مشركين.

[سورة النحل (16) : الآيات 101 إلى 102]

[سورة النحل (16) : الآيات 101 الى 102] وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى شَرَعَ مِنْ هذا الموضع فِي حِكَايَةِ شُبُهَاتِ مُنْكِرِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ إِذَا نَزَلَتْ آيَةٌ فِيهَا شِدَّةٌ، ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةٌ أَلْيَنُ مِنْهَا تَقُولُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: وَاللَّهِ مَا مُحَمَّدٌ إِلَّا يَسْخَرُ بِأَصْحَابِهِ، الْيَوْمَ يَأْمُرُ بِأَمْرٍ وَغَدًا يَنْهَى عَنْهُ، وَإِنَّهُ لَا يَقُولُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَمَعْنَى التَّبْدِيلِ، رَفْعُ الشَّيْءِ مَعَ وَضْعِ غَيْرِهِ مَكَانَهُ. وَتَبْدِيلُ الْآيَةِ رَفْعُهَا بِآيَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا، وَهُوَ نَسْخُهَا بِآيَةٍ سِوَاهَا، وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ اعْتِرَاضٌ دَخَلَ فِي الْكَلَامِ، وَالْمَعْنَى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَالتَّغْلِيظِ وَالتَّخْفِيفِ، أَيْ هُوَ أَعْلَمُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ فِي مَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَهَذَا تَوْبِيخٌ لِلْكُفَّارِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ أَيْ إِذَا كَانَ هُوَ أَعْلَمَ بِمَا يُنَزِّلُ فَمَا بَالُهُمْ ينسبون محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الِافْتِرَاءِ لِأَجْلِ التَّبْدِيلِ وَالنَّسْخِ، وَقَوْلُهُ: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ الْقُرْآنِ وَفَائِدَةَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ وَأَنَّ ذَلِكَ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ كَمَا أَنَّ الطَّبِيبَ يَأْمُرُ الْمَرِيضَ بِشَرْبَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ يَنْهَاهُ عَنْهَا، وَيَأْمُرُهُ بِضِدِّ تِلْكَ الشَّرْبَةِ، وَقَوْلُهُ: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ تَفْسِيرُ رُوحِ الْقُدُسِ مَرَّ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : رُوحُ الْقُدُسِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُضِيفَ إِلَى الْقُدُسِ وَهُوَ الطُّهْرُ كَمَا يُقَالُ: حَاتِمُ الْجُودِ وَزَيْدُ الْخَيْرِ، وَالْمُرَادُ الرُّوحُ الْمُقَدَّسُ، وَحَاتِمٌ الْجَوَادُ وَزَيْدٌ الْخَيْرُ، وَالْمُقَدَّسُ الْمُطَهَّرُ مِنَ الْمَاءِ وَ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّكَ صِلَةٌ لِلْقُرْآنِ أَيْ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَّلَ الْقُرْآنَ مِنْ رَبِّكَ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ لِيَبْلُوَهُمْ بِالنَّسْخِ حَتَّى إِذَا قَالُوا فِيهِ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا حُكِمَ لَهُمْ بِثَبَاتِ الْقَدَمِ فِي الدِّينِ وَصِحَّةِ الْيَقِينِ بِأَنَّ اللَّهَ حَكِيمٌ فَلَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا هُوَ حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ: وَهُدىً وَبُشْرى مَفْعُولٌ لَهُمَا مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ لِيُثَبِّتَ، وَالتَّقْدِيرُ: تَثْبِيتًا لَهُمْ وَإِرْشَادًا وَبِشَارَةً. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِحُصُولِ أَضْدَادِ هَذِهِ الصِّفَاتِ لِغَيْرِهِمْ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ: أَنَّ النَّسْخَ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي هَذِهِ الشريعة، فقال المراد هاهنا: إِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِثْلَ أَنَّهُ حَوَّلَ الْقِبْلَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، قَالَ الْمُشْرِكُونَ: أَنْتَ مُفْتَرٍ فِي هَذَا التَّبْدِيلِ، وَأَمَّا سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ فَقَالُوا: النَّسْخُ وَاقِعٌ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فِي سَائِرِ السُّوَرِ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْقُرْآنُ لَا يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ، وَاحْتَجَّ عَلَى صِحَّتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْآيَةَ لَا تَصِيرُ مَنْسُوخَةً إِلَّا بِآيَةٍ أُخْرَى، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُبَدِّلُ آيَةً بِآيَةٍ أُخْرَى وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُبَدِّلُ آيَةً إِلَّا بِآيَةٍ، وَأَيْضًا فَجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ يَنْزِلُ بِالسُّنَّةِ كَمَا يَنْزِلُ بِالْآيَةِ، وَأَيْضًا فَالسُّنَّةُ قَدْ تَكُونُ مُثْبِتَةً لِلْآيَةِ، وَأَيْضًا فَهَذَا حِكَايَةُ كَلَامِ الْكُفَّارِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِ؟ وَاللَّهُ أعلم.

[سورة النحل (16) : الآيات 103 إلى 105]

[سورة النحل (16) : الآيات 103 الى 105] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ] اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حِكَايَةُ شُبْهَةٍ أُخْرَى مِنْ شُبُهَاتِ مُنْكِرِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ مُحَمَّدًا إِنَّمَا يَذْكُرُ هَذِهِ الْقِصَصَ وَهَذِهِ الْكَلِمَاتِ لِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُهَا مِنْ إِنْسَانٍ آخَرَ وَيَتَعَلَّمُهَا مِنْهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْبَشَرِ الَّذِي نَسَبَ الْمُشْرِكُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى التَّعَلُّمِ مِنْهُ قِيلَ: هُوَ عَبْدٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ يُقَالُ لَهُ يَعِيشُ، وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ، وَقِيلَ: عَدَّاسٌ غُلَامُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَقِيلَ: عَبْدٌ لِبَنِي الْحَضْرَمِيِّ صَاحِبُ كُتُبٍ، وَكَانَ اسْمُهُ جَبْرًا، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَقُولُ: عَبْدُ بَنِي الْحَضْرَمِيِّ يُعَلِّمُ خَدِيجَةَ وَخَدِيجَةُ تُعَلِّمُ مُحَمَّدًا، وَقِيلَ: كَانَ بِمَكَّةَ نَصْرَانِيٌّ أَعْجَمِيُّ اللِّسَانِ اسْمُهُ بَلْعَامٌ وَيُقَالُ لَهُ أَبُو مَيْسَرَةَ يَتَكَلَّمُ بِالرُّومِيَّةِ وَقِيلَ: سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا فَائِدَةَ فِي تَعْدِيدِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَوْمَ اتَّهَمُوهُ بِأَنَّهُ يَتَعَلَّمُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ إِنَّهُ يُظْهِرُهَا مِنْ نَفْسِهِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ إِنَّمَا عَرَفَهَا بِالْوَحْيِ وَهُوَ كَاذِبٌ فِيهِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ وَمَعْنَى الْإِلْحَادِ فِي اللُّغَةِ الْمَيْلُ يُقَالُ: لَحَدَ وَأَلْحَدَ إِذَا مَالَ عَنِ الْقَصْدِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْعَادِلِ عَنِ الْحَقِّ مُلْحِدٌ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: يُلْحِدُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْأَوْلَى ضَمُّ الْيَاءِ لِأَنَّهُ لُغَةُ الْقُرْآنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ [الْحَجِّ: 25] وَالْإِلْحَادُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْإِمَالَةِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: أَلْحَدْتُ لَهُ لَحْدًا إِذَا حَفَرْتَهُ فِي جَانِبِ الْقَبْرِ مَائِلًا عَنِ الِاسْتِوَاءِ وَقَبْرٌ مُلْحَدٌ وَمَلْحُودٌ، وَمِنْهُ الْمُلْحِدُ لِأَنَّهُ أَمَالَ مَذْهَبَهُ عَنِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا لَمْ يُمِلْهُ عَنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ آخَرَ وَفُسِّرَ الْإِلْحَادُ/ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْقَوْلَيْنِ: قَالَ الْفَرَّاءُ: يَمِيلُونَ مِنَ الْمَيْلِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَمِيلُونَ مِنَ الْإِمَالَةِ، أَيْ لِسَانُ الَّذِينَ يَمِيلُونَ الْقَوْلَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَأما قوله: أَعْجَمِيٌّ فَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْمَوْصِلِيُّ: تَرْكِيبُ ع ج م وُضِعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلْإِبْهَامِ وَالْإِخْفَاءِ، وَضِدِّ الْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رَجَلٌ أَعْجَمُ وَامْرَأَةٌ عَجْمَاءُ إِذَا كَانَا لَا يُفْصِحَانِ، وَعَجَمُ الذَّنَبِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاسْتِتَارِهِ وَاخْتِفَائِهِ، وَالْعَجْمَاءُ الْبَهِيمَةُ لِأَنَّهَا لَا تُوَضِّحُ مَا فِي نَفْسِهَا، وَسَمَّوْا صَلَاتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ عَجْمَاوَيْنِ، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ حَاصِلَةٌ فِيهِمَا بِالسِّرِّ لَا بالجهر، فأما قولهم: أَعْجَمْتُ الْكِتَابَ فَمَعْنَاهُ أَزَلْتُ عُجْمَتَهُ، وَأَفْعَلْتُ قَدْ يَأْتِي وَالْمُرَادُ مِنْهُ السَّلْبُ كَقَوْلِهِمْ: أَشْكَيْتُ فُلَانًا إِذَا أَزَلْتَ مَا يَشْكُوهُ، فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي كُلَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ لُغَتَهُمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِهِمْ أَعْجَمَ وَأَعْجَمِيًّا. قَالَ الْفَرَّاءُ وَأَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: الْأَعْجَمُ الَّذِي فِي لِسَانِهِ عُجْمَةٌ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْأَعْجَمِيُّ وَالْعَجَمِيُّ الَّذِي أَصْلُهُ مِنَ الْعَجَمِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْأَعْجَمُ الَّذِي لَا يُفْصِحُ سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ أَوْ مِنَ الْعَجَمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا: زِيَادٌ الْأَعْجَمِ لِأَنَّهُ كَانَتْ فِي لِسَانِهِ عُجْمَةٌ مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَرَبِيًّا، وَأَمَّا مَعْنَى الْعَرَبِيِّ وَاشْتِقَاقِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً [التَّوْبَةِ: 97] وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُقَالُ عَرُبَ لِسَانُهُ عَرَابَةً وَعُرُوبَةً هَذَا تَفْسِيرُ أَلْفَاظِ الْآيَةِ. وَأَمَّا تَقْرِيرُ وَجْهِ الْجَوَابِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا يَظْهَرُ إِذَا قُلْنَا: الْقُرْآنُ إِنَّمَا كَانَ مُعْجِزًا لِمَا فِيهُ مِنَ الفصاحة العائدة

إِلَى اللَّفْظِ وَكَأَنَّهُ قِيلَ: هَبْ أَنَّهُ يَتَعَلَّمُ الْمَعَانِيَ مِنْ ذَلِكَ الْأَعْجَمِيِّ إِلَّا أَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا كَانَ مُعْجِزًا لِمَا فِي أَلْفَاظِهِ مِنَ الْفَصَاحَةِ فَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونُوا صَادِقِينَ فِي أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَلَّمُ تِلْكَ الْمَعَانِيَ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي الْمَقْصُودِ إِذِ الْقُرْآنُ إِنَّمَا كَانَ مُعْجِزًا لِفَصَاحَتِهِ وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ لَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ الْمَقْصُودِ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْجَوَابَ أَرْدَفَهُ بِالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ أَمَّا تَفْسِيرُ أَصْحَابِنَا لِهَذِهِ الْآيَةِ فَظَاهِرٌ، وَقَالَ الْقَاضِي: أَقْوَى مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمَّا تَرَكُوا الْإِيمَانَ بِاللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ إِلَى الْجَنَّةِ بَلْ يَسُوقُهُمْ إِلَى النَّارِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كَوْنَهُمْ كَذَّابِينَ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ فَقَالَ: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ الَّذِي قَالُوهُ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَصِحَّ لَمْ يَقْدَحْ فِي الْمَقْصُودِ، ثم إنه تعالى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الَّذِي قَالُوهُ لَمْ يَصِحَّ وَهُمْ كَذَبُوا فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِمْ كَاذِبِينَ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَهُمْ كَافِرُونَ، وَمَتَى كَانَ/ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانُوا أَعْدَاءً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامُ الْعِدَا ضَرْبٌ مِنَ الْهَذَيَانِ وَلَا شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَمْرَ التَّعَلُّمِ لَا يَتَأَتَّى فِي جَلْسَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَتِمُّ فِي الْخُفْيَةِ، بَلِ التَّعَلُّمُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا اخْتَلَفَ الْمُعَلِّمُ إِلَى الْمُتَعَلِّمِ أَزْمِنَةً مُتَطَاوِلَةً وَمُدَدًا مُتَبَاعِدَةً، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَاشْتُهِرَ فِيمَا بَيْنَ الْخَلْقِ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَعَلَّمُ الْعُلُومَ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْعُلُومَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ وَتَعَلُّمَهَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُعَلِّمُ فِي غَايَةِ الْفَضْلِ وَالتَّحْقِيقِ، فَلَوْ حَصَلَ فِيهِمْ إِنْسَانٌ بَلَغَ فِي التَّعْلِيمِ وَالتَّحْقِيقِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ لَكَانَ مُشَارًا إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فِي التَّحْقِيقِ وَالتَّدْقِيقِ فِي الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَحْصِيلُ هَذِهِ الْعُلُومِ الْعَالِيَةِ وَالْمَبَاحِثِ النَّفِيسَةِ مِنْ عِنْدِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّعْنَ فِي نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الرَّكِيكَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُجَّةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ ظَاهِرَةً بَاهِرَةً، فَإِنَّ الْخُصُومَ كَانُوا عَاجِزِينَ عَنِ الطَّعْنِ فِيهَا، وَلِأَجْلِ غَايَةِ عَجْزِهِمْ عَدَلُوا إِلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الرَّكِيكَةِ. المسألة الثَّانِيَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْكَذِبَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَأَفْحَشِ الْفَوَاحِشِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ كَلِمَةَ «إِنَّمَا» لِلْحَصْرِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْكَذِبَ وَالْفِرْيَةَ لَا يَقْدُمُ عَلَيْهِمَا إِلَّا مَنْ كَانَ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بِآيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَّا مَنْ كَانَ كَافِرًا وَهَذَا تَهْدِيدٌ فِي النِّهَايَةِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ فِعْلٌ وَقَوْلُهُ: وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ اسْمٌ وَعَطْفُ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ قبيح فما السبب في حصوله هاهنا؟ قُلْنَا: الْفِعْلُ قَدْ يَكُونُ لَازِمًا وَقَدْ يَكُونُ مُفَارِقًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ [يُوسُفَ: 35] ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْفِعْلِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السِّجْنَ لَا يَدُومُ. وَقَالَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشُّعَرَاءِ: 29] ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ الِاسْمِ تَنْبِيهًا عَلَى الدَّوَامِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: 121] وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ آدَمَ عَاصٍ وَغَاوٍ، لِأَنَّ صِيغَةَ الْفِعْلِ لَا تُفِيدُ الدَّوَامَ، وَصِيغَةُ الِاسْمِ تُفِيدُهُ.

[سورة النحل (16) : الآيات 106 إلى 109]

إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقْدِّمَةَ فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ ذَكَرَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْكَذِبِ فَكَأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْكُفْرِ، ثم قال: وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ صِفَةَ الْكَذِبِ فِيهِمْ ثَابِتَةٌ رَاسِخَةٌ دَائِمَةٌ. وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: كَذَبْتَ وَأَنْتَ كَاذِبٌ فَيَكُونُ قَوْلُكَ وَأَنْتَ كَاذِبٌ زِيَادَةً فِي الْوَصْفِ بِالْكَذِبِ. وَمَعْنَاهُ: أن عادتك أن تكون كاذبا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَاذِبَ الْمُفْتَرِيَ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِ اللَّهِ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْكُفْرِ إِلَّا إِنْكَارُ الْإِلَهِيَّةِ وَنُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا الْإِنْكَارُ مُشْتَمِلٌ عَلَى/ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: هَلْ يَكْذِبُ الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: «لَا» ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة النحل (16) : الآيات 106 الى 109] مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) [في قَوْلُهُ تَعَالَى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَظَّمَ تَهْدِيدَ الْكَافِرِينَ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَفْصِيلًا فِي بَيَانِ من يكفر بلسانه لا يقلبه، وَمَنْ يَكْفُرُ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ مَعًا، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مَنْ كَفَرَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّمَا يَفْتَرِي مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُمُ الْمُكْرَهَ فَلَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ حُكْمِ الِافْتِرَاءِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَقَوْلُهُ: وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ اعْتِرَاضٌ وَقَعَ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ. الثَّانِي: يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ الْكَاذِبُونَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأُولَئِكَ هُمْ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الذَّمِّ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ، أَعْنِي مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ وَهُوَ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ عِنْدِي وَأَبْعَدُهَا عَنِ التَّعَسُّفِ، وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ شَرْطًا مُبْتَدَأً وَيُحْذَفُ جَوَابُهُ، لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَابِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ/ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ. المسألة الثَّانِيَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّكَلُّمُ بِالْكُفْرِ يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أحدها: أنا روينا أن بلالا صبر على ذَلِكَ الْعَذَابِ، وَكَانَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ. رُوِيَ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فُتِنُوا فَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِيهِ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ أُكْرِهَ فَأَجْرَى كَلِمَةَ الْكُفْرِ عَلَى لِسَانِهِ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ بِقَلْبِهِ مُصِرًّا عَلَى الْإِيمَانِ، مِنْهُمْ: عَمَّارٌ، وَأَبَوَاهُ يَاسِرٌ وَسُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَخَبَّابٌ، وَسَالِمٌ، عُذِّبُوا، فَأَمَّا سُمَيَّةُ فَقِيلَ: رُبِطَتْ بين بعيرين ووخزت في قلبها بِحَرْبَةٍ وَقَالُوا: إِنَّكِ أَسْلَمْتِ مِنْ أَجْلِ الرِّجَالِ وَقُتِلَتْ، وَقُتِلَ يَاسِرٌ وَهُمَا أَوَّلُ قَتِيلَيْنِ قُتِلَا في

الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا عَمَّارٌ فَقَدْ أَعْطَاهُمْ مَا أَرَادُوا بِلِسَانِهِ مُكْرَهًا، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَمَّارًا كَفَرَ، فَقَالَ: كَلَّا إِنَّ عَمَّارًا مَلِيءٌ إِيمَانًا مِنْ فَرْقِهِ إِلَى قَدَمِهِ وَاخْتَلَطَ الْإِيمَانُ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ، فَأَتَى عَمَّارٌ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْكِي فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَيْنَيْهِ وَيَقُولُ: «مَا لَكَ إِنْ عَادُوا لَكَ فَعُدْ لَهُمْ بِمَا قُلْتَ» وَمِنْهُمْ جَبْرٌ مَوْلَى الْحَضْرَمِيِّ أَكْرَهَهُ سَيِّدُهُ فَكَفَرَ، ثُمَّ أَسْلَمَ مَوْلَاهُ وَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامَهُمَا وَهَاجَرَا. المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ، لِأَنَّ الْمُكْرَهَ لَيْسَ بِكَافِرٍ فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنَ الْكَافِرِ، لَكِنَّ الْمُكْرَهَ لَمَّا ظَهَرَ مِنْهُ بَعْدَ الْإِيمَانِ مَا مِثْلُهُ يَظْهَرُ مِنَ الْكَافِرِ طَوْعًا صَحَّ هَذَا الاستثناء لهذه المشاكلة. المسألة الرابعة: يجب هاهنا بَيَانُ الْإِكْرَاهِ الَّذِي عِنْدَهُ يَجُوزُ التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَهُوَ أَنْ يُعَذِّبَهُ بِعَذَابٍ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ، مِثْلَ التَّخْوِيفِ بِالْقَتْلِ، وَمِثْلَ الضَّرْبِ الشَّدِيدِ وَالْإِيلَامَاتِ الْقَوِيَّةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ سَبْعَةٌ، رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَخَبَّابٌ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَعَمَّارٌ، وَسُمَيَّةٌ. أَمَّا الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمَنَعَهُ أَبُو طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ قَوْمُهُ، وَأُخِذَ الْآخَرُونَ وَأُلْبِسُوا دُرُوعَ الْحَدِيدِ، ثُمَّ أُجْلِسُوا فِي الشَّمْسِ فَبَلَغَ مِنْهُمُ الْجَهْدُ بِحَرِّ الْحَدِيدِ وَالشَّمْسِ، وَأَتَاهُمْ أَبُو جَهْلٍ يَشْتِمُهُمْ وَيُوَبِّخُهُمْ وَيَشْتِمُ سُمَيَّةَ، ثُمَّ طَعَنَ الْحَرْبَةَ فِي فَرْجِهَا. وَقَالَ الْآخَرُونَ: مَا نَالُوا مِنْهُمْ غَيْرَ بِلَالٍ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا يُعَذِّبُونَهُ فَيَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، حَتَّى مَلُّوا فَكَتَّفُوهُ وَجَعَلُوا فِي عُنُقِهِ حَبْلًا مِنْ لِيفٍ وَدَفَعُوهُ إِلَى صِبْيَانِهِمْ يَلْعَبُونِ بِهِ حَتَّى مَلُّوهُ فَتَرَكُوهُ. قَالَ عَمَّارٌ: كُلُّنَا تَكَلَّمَ بِالَّذِي أَرَادُوا غَيْرَ بِلَالٍ، فَهَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فَتَرَكُوهُ. قَالَ خَبَّابٌ: لَقَدْ أَوْقَدُوا لِي نَارًا مَا أَطْفَأَهَا إِلَّا وَدَكُ ظَهْرِي. المسألة الْخَامِسَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عِنْدَ ذِكْرِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَرِّئَ قَلْبَهُ مِنَ الرِّضَا بِهِ وَأَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى التَّعْرِيضَاتِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ مُحَمَّدًا كَذَّابٌ، وَيَعْنِي عِنْدَ الْكُفَّارِ أَوْ يَعْنِي بِهِ مُحَمَّدًا/ آخَرَ أَوْ يَذْكُرُهُ عَلَى نِيَّةِ الاستفهام بمعنى الإنكار وهاهنا بَحْثَانِ: البحث الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا أَعْجَلَهُ مَنْ أَكْرَهَهُ عَنْ إِحْضَارِ هَذِهِ النِّيَّةِ أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا عَظُمَ خَوْفُهُ زَالَ عَنْ قَلْبِهِ ذِكْرُ هَذِهِ النِّيَّةِ كَانَ مَلُومًا وَعَفْوُ اللَّهِ مُتَوَقَّعٌ. البحث الثَّانِي: لَوْ ضَيَّقَ الْمُكْرِهُ الْأَمْرَ عَلَيْهِ وَشَرَحَ لَهُ كُلَّ أَقْسَامِ التَّعْرِيضَاتِ وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُصَرِّحَ بِأَنَّهُ مَا أَرَادَ شَيْئًا مِنْهَا، وَمَا أَرَادَ إِلَّا ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَهَهُنَا يَتَعَيَّنُ إِمَّا الْتِزَامُ الْكَذِبِ، وَإِمَّا تَعْرِيضُ النَّفْسِ لِلْقَتْلِ. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: يُبَاحُ لَهُ الْكَذِبُ هُنَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي. قَالَ: لِأَنَّ الْكَذِبَ إِنَّمَا يَقْبُحُ لِكَوْنِهِ كَذِبًا، فَوَجَبَ أَنْ يَقْبُحَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْقَبِيحِ لِرِعَايَةِ بَعْضِ الْمَصَالِحِ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ الْكَذِبَ لِرِعَايَةِ بَعْضِ الْمَصَالِحِ وحينئذ لا يبقى وُثُوقٌ بِوَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا بِوَعِيدِهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ الْكَذِبَ لِرِعَايَةِ بَعْضِ الْمَصَالِحِ الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. المسألة السَّادِسَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّكَلُّمُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أنا روينا أن بلالا صبر على ذلك الْعَذَابِ، وَكَانَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، وَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِئْسَ مَا صَنَعْتَ بَلْ عَظَّمَهُ عَلَيْهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّكَلُّمُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَثَانِيهَا: مَا رُوِيَ أَنَّ مُسَيْلَمَةَ الْكَذَّابَ أَخَذَ رَجُلَيْنِ فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا: مَا تَقُولُ فِي مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِيَّ؟ قَالَ أَنْتَ أَيْضًا، فَخَلَّاهُ وَقَالَ لِلَآخَرَ: مَا تقول

فِي مُحَمَّدٍ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: مَا تَقُولُ فِيَّ؟ قَالَ: أَنَا أَصَمُّ فَأَعَادَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَأَعَادَ جَوَابَهُ فَقَتَلَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ أَخَذَ بِرُخْصَةِ اللَّهِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ صَدَعَ بِالْحَقِّ، فَهَنِيئًا لَهُ» . وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْخَبَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سَمَّى التَّلَفُّظَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ رُخْصَةً. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَظَّمَ حَالَ مَنْ أَمْسَكَ عَنْهُ حَتَّى قُتِلَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ بَذْلَ النَّفْسِ فِي تَقْرِيرِ الْحَقِّ أَشَقُّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ ثَوَابًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ أَحْمَزُهَا» أَيْ أَشَقُّهَا. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الَّذِي أَمْسَكَ عَنْ كَلِمَةِ الْكُفْرِ طَهَّرَ قَلْبَهُ وَلِسَانَهُ عَنِ الْكُفْرِ. أَمَّا الَّذِي تَلَفَّظَ بِهَا فَهَبْ أَنَّ قَلْبَهُ طَاهِرٌ عَنْهُ إِلَّا أَنَّ لِسَانَهُ فِي الظَّاهِرِ قَدْ تَلَطَّخَ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْأَوَّلِ أَفْضَلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ لِلْإِكْرَاهِ مَرَاتِبَ. الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: أَنْ يَجِبَ الْفِعْلُ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا إِذَا أَكْرَهَهُ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ فَإِذَا أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ فَهَهُنَا يَجِبُ الْأَكْلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ صَوْنَ الرُّوحِ عَنِ الْفَوَاتِ وَاجِبٌ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إِلَّا بِهَذَا الْأَكْلِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْأَكْلِ ضَرَرٌ عَلَى حَيَوَانٍ وَلَا فِيهِ إِهَانَةٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [الْبَقَرَةِ: 195] . الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مُبَاحًا وَلَا يَصِيرَ وَاجِبًا، وَمِثَالُهُ مَا إِذَا أَكْرَهَهُ عَلَى التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ فَهَهُنَا يُبَاحُ لَهُ وَلَكِنَّهُ لَا يَجِبُ كَمَا قَرَّرْنَاهُ. الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَجِبَ وَلَا يُبَاحَ بَلْ يَحْرُمُ، وَهَذَا مِثْلُ مَا إِذَا أَكْرَهَهُ إِنْسَانٌ عَلَى قَتْلِ إِنْسَانٍ آخَرَ أَوْ عَلَى قَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ فَهَهُنَا يَبْقَى الْفِعْلُ عَلَى الْحُرْمَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَهَلْ يَسْقُطُ الْقَصَاصُ عَنِ الْمُكْرَهِ أَمْ لَا؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَجِبُ الْقَصَاصُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا عدوانا فيجب عليه القصاص لقوله تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [الْبَقَرَةِ: 178] . وَالثَّانِي: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ إِذَا قَصَدَ قَتْلَهُ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَوْ بِالْقَتْلِ، فَلَمَّا كَانَ تَوَهُّمُ إِقْدَامِهِ عَلَى الْقَتْلِ يُوجِبُ إِهْدَارَ دَمِهِ، فَلَأَنْ يَكُونَ عِنْدَ صُدُورِ الْقَتْلِ مِنْهُ حَقِيقَةً يَصِيرُ دَمُهُ مُهْدَرًا كَانَ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الثَّامِنَةُ: مِنَ الْأَفْعَالِ مَا يَقْبَلُ الْإِكْرَاهَ عَلَيْهِ كَالْقَتْلِ وَالتَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَمِنْهُ مَا لَا يَقْبَلُ الْإِكْرَاهَ عَلَيْهِ قِيلَ: وَهُوَ الزِّنَا. لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يُوجِبُ الْخَوْفَ الشَّدِيدَ وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ انْتِشَارِ الْآلَةِ، فَحَيْثُ دَخَلَ الزِّنَا فِي الْوُجُودِ عُلِمَ أَنَّهُ وَقَعَ بِالِاخْتِيَارِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَاهِ. المسألة التَّاسِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: طَلَاقُ الْمُكْرَهِ لَا يَقَعُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَقَعُ، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قوله: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيَ ذَاتِهِ لِأَنَّ ذَاتَهُ مَوْجُودَةٌ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ آثَارِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ وَلَا عِبْرَةَ بِهِ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَأَيْضًا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقٍ» أَيْ إِكْرَاهٍ فَإِنْ قَالُوا: طَلَّقَهَا فَتَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ [الْبَقَرَةِ: 230] فَالْجَوَابُ لَمَّا تَعَارَضَتِ الدَّلَائِلُ، وَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. المسألة الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْإِيمَانِ هُوَ الْقَلْبُ وَالَّذِي مَحَلُّهُ

الْقَلْبُ إِمَّا الِاعْتِقَادُ، وَإِمَّا كَلَامُ النَّفْسِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ عِبَارَةً إِمَّا عَنِ الْمَعْرِفَةِ وَإِمَّا عَنِ التَّصْدِيقِ بِكَلَامِ النَّفْسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثم قال تَعَالَى: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أَيْ فَتَحَهُ وَوَسَّعَهُ لِقَبُولِ الْكُفْرِ وَانْتُصِبَ صدرا على أنه مفعول لشرح، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرَهُ، وَحَذَفَ الضَّمِيرَ لِأَنَّهُ لَا يُشْكِلُ بِصَدْرِ غَيْرِهِ إِذِ الْبَشَرُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَرْحِ صَدْرِ غَيْرِهِ فَهُوَ نَكِرَةٌ يُرَادُ بِهَا الْمَعْرِفَةُ. ثم قال: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ ثُمَّ وَصَفَ ذَلِكَ الْعَذَابَ فَقَالَ: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. ثم قال تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ أَيْ رَجَّحُوا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ الِارْتِدَادَ وَذَلِكَ الْإِقْدَامَ عَلَى الْكُفْرِ لِأَجْلِ أَنَّهُ تَعَالَى مَا هَدَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَمَا عَصَمَهُمْ عَنِ الْكُفْرِ. قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ عِلَّةً وَسَبَبًا مُوجِبًا لِإِقْدَامِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الِارْتِدَادِ، وَعَدَمُ الْهِدَايَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ لَيْسَ سَبَبًا لِذَلِكَ الِارْتِدَادِ، وَلَا عِلَّةً لَهُ بَلْ مُسَبَّبًا عَنْهُ وَمَعْلُولًا لَهُ فَبَطَلَ هَذَا التَّأْوِيلُ، ثُمَّ أَكَّدَ بَيَانَ أَنَّهُ تَعَالَى صَرَفَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ قَالَ الْقَاضِي: الطَّبْعُ لَيْسَ يَمْنَعُ مِنَ الْإِيمَانِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمْ، وَلَوْ كَانُوا عَاجِزِينَ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ لَمَا اسَّتَحَقُّوا الذَّمَّ بِتَرْكِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَشْرَكَ بَيْنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَبَيْنَ الْقَلْبِ فِي هَذَا الطَّبْعِ وَمَعْلُومٌ مِنْ حَالِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ أَنَّ مَعَ فَقْدِهِمَا قَدْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا فَضْلًا عَنْ طَبْعٍ يَلْحَقُهُمَا فِي الْقَلْبِ. وَالثَّالِثُ: وَصَفَهُمْ بِالْغَفْلَةِ. وَمَنْ مُنِعَ مِنَ الشَّيْءِ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ غَافِلٌ عَنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الطَّبْعِ السِّمَةُ وَالْعَلَامَةُ الَّتِي يَخْلُقُهَا فِي الْقَلْبِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَعْنَى الطَّبْعِ وَالْخَتْمِ، وَأَقُولُ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ مَعَ التَّقْرِيرَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَمَعَ الْجَوَابَاتِ الْقَوِيَّةِ مَذْكُورَةٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي سَائِرِ الْآيَاتِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ عَمَّا يُرَادُ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. ثم قال: لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُوجِبَ لِهَذَا الْخُسْرَانِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُمْ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِصِفَاتٍ سِتَّةٍ. الصِّفَةُ الْأُولَى: أَنَّهُمُ اسْتَوْجَبُوا غَضَبَ اللَّهِ. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ. وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَرَمَهُمْ مِنَ الْهِدَايَةِ. وَالصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ. وَالصِّفَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ جَعَلَهُمْ مِنَ الْغَافِلِينَ عَمَّا يُرَادُ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَا جَرَمَ لَا يَسْعَوْنَ

[سورة النحل (16) : الآيات 110 إلى 111]

فِي دَفْعِهَا، فَثَبَتَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي حَقِّهِمْ هَذِهِ الصِّفَاتُ السِّتَّةُ الَّتِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَحْوَالِ الْمَانِعَةِ عَنِ الْفَوْزِ بِالْخَيْرَاتِ وَالسَّعَادَاتِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَدْخَلَ الْإِنْسَانَ الدُّنْيَا/ لِيَكُونَ كَالتَّاجِرِ الَّذِي يَشْتَرِي بِطَاعَاتِهِ سَعَادَاتِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْمَوَانِعُ الْعَظِيمَةُ عَظُمَ خُسْرَانُهُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ أَيْ هُمُ الْخَاسِرُونَ لَا غَيْرُهُمْ، وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ خُسْرَانِهِمْ والله أعلم. [سورة النحل (16) : الآيات 110 الى 111] ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) [في قَوْلُهُ تَعَالَى ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا إلى قوله لَغَفُورٌ رَحِيمٌ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ حَالَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ وَحَالَ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ، فَذَكَرَ بِسَبَبِ الْخَوْفِ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَحَالَ مَنْ لَمْ يَذْكُرْهَا، ذَكَرَ بَعْدَهُ حَالَ مَنْ هَاجَرَ مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنَ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا. المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: فَتَنُوا بِفَتْحِ الْفَاءِ عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْفَاعِلِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الْفَاءِ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. أَمَّا وَجْهُ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى فَأُمُورٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ أَكَابِرَ الْمُشْرِكِينَ وَهُمُ الَّذِينَ آذَوْا فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ لَوْ تَابُوا وَهَاجَرُوا وَصَبَرُوا فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ فَتَنَ وَأَفْتَنَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَمَا يُقَالُ: مَانَ وَأَمَانَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءَ لَمَّا ذَكَرُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ فَكَأَنَّهُمْ فَتَنُوا أَنْفُسَهُمْ، وَإِنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ فِتْنَةً، لِأَنَّ الرُّخْصَةَ فِي إِظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ مَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَأَمَّا وَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِفِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ أُولَئِكَ الْمَفْتُونِينَ هُمُ الْمُسْتَضْعَفُونَ الَّذِينَ حَمَلَهُمْ أَقْوِيَاءُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الرِّدَّةِ وَالرُّجُوعِ عَنِ الْإِيمَانِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ إِذَا هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا وَصَبَرُوا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُمْ تَكَلُّمَهُمْ بكلمة الكفر. المسألة الثالثة: قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ هُوَ أَنَّهُمْ عُذِّبُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ أَنَّهُمْ خُوِّفُوا بِالتَّعْذِيبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ ارْتَدُّوا. قَالَ الْحَسَنُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ، فَعَرَضَتْ لَهُمْ فِتْنَةٌ فَارْتَدُّوا/ وَشَكُّوا فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إِنَّهُمْ أَسْلَمُوا وَهَاجَرُوا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ ارْتَدَّ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفِتْحِ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ فَاسْتَجَارَ لَهُ عُثْمَانُ فَأَجَارَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إِنَّهُ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ إِنَّمَا تَصِحُّ لَوْ جَعَلْنَا هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةً أَوْ جَعَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ مِنْهَا مَدَنِيَّةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءَ الْمُعَذَّبِينَ تَكَلَّمُوا بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ، فَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا يَحْتَمِلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْيِينِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَازِلَةً فِيمَنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ، فَالْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا إِثْمَ فِيهِ، وَأَنَّ حَالَهُ إِذَا هَاجَرَ وَجَاهَدَ وَصَبَرَ كَحَالِ مَنْ لَمْ يُكْرَهْ، وَإِنْ كَانَتْ وَارِدَةً فِيمَنِ ارْتَدَّ فَالْمُرَادُ أَنَّ التَّوْبَةَ وَالْقِيَامَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ يُزِيلُ ذَلِكَ الْعِقَابَ وَيَحْصُلُ لَهُ الْغُفْرَانُ وَالرَّحْمَةُ، فَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِها تَعُودُ إِلَى الْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا قَبْلُ، وَهِيَ الْهِجْرَةُ والجهاد والصبر.

[سورة النحل (16) : آية 112]

أما قوله: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: البحث الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: (يَوْمَ) مَنْصُوبٌ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدَهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يَوْمَ تَأْتِي يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى يُعْطِي الرحمة والغفران في ذلك ليوم الَّذِي يَعْظُمُ احْتِيَاجُ الْإِنْسَانِ فِيهِ إِلَى الرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَذَكِّرْهُمْ أَوِ اذْكُرْ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْآنِ الْعَظَمَةُ وَالْإِنْذَارُ وَالتَّذْكِيرُ. البحث الثَّانِي: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: النَّفْسُ لَا تَكُونُ لَهَا نَفْسٌ أُخْرَى، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها. وَالْجَوَابُ: النَّفْسُ قَدْ يُرَادُ بِهِ بَدَنُ الْحَيِّ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ ذَاتُ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتُهُ، فَالنَّفْسُ الْأُولَى هِيَ الْجُثَّةُ وَالْبَدَنُ. وَالثَّانِيَةُ: عَيْنُهَا وَذَاتُهَا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمَ يَأْتِي كُلُّ إِنْسَانٍ يُجَادِلُ عَنْ ذَاتِهِ وَلَا يُهِمُّهُ شَأْنُ غَيْرِهِ. قَالَ تَعَالَى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عَبَسَ: 37] وَعَنْ بَعْضِهِمْ: تَزْفِرُ جَهَنَّمُ زَفْرَةً لَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إِلَّا جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَقُولُ: يَا رَبِّ نَفْسِي نَفْسِي حَتَّى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَمَعْنَى الْمُجَادَلَةِ عَنْهَا الِاعْتِذَارُ عنها كقولهم: هؤُلاءِ أَضَلُّونا [الأعراف: 38] وَقَوْلِهِمْ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: 23] . ثم قال تَعَالَى: وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ فِيهِ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى: تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ جَزَاءَ مَا عَمِلَتْ مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَقَوْلُهُ: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَاهُ لَا يُنْقَضُونَ. قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى مَا يَدُلُّ عَلَى مَا نَذْهَبُ إِلَيْهِ فِي الْوَعِيدِ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُوصِلُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ/ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ، وَلَوْ أَنَّهُ تَعَالَى أَزَالَ عِقَابَ الْمُذْنِبِ بِسَبَبِ الشَّفَاعَةِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ. وَالْجَوَابُ: لَا نِزَاعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْعُمُومَاتِ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِكُمْ، إِلَّا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ التَّمَسُّكَ بِظَوَاهِرِ الْعُمُومَاتِ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ، وَأَيْضًا فَظَوَاهِرُ الْوَعِيدِ مُعَارَضَةٌ بِظَوَاهِرِ الْوَعْدِ، ثُمَّ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [الْبَقَرَةِ: 81] أَنَّ جَانِبَ الْوَعْدِ رَاجِحٌ عَلَى جَانِبِ الْوَعِيدِ مِنْ وُجُوهٍ كثيرة، والله أعلم. [سورة النحل (16) : آية 112] وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا هَدَّدَ الْكُفَّارَ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِي الْآخِرَةِ هَدَّدَهُمْ أَيْضًا بِآفَاتِ الدُّنْيَا وَهُوَ الْوُقُوعُ فِي الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. المسألة الثَّانِيَةُ: الْمَثَلُ قَدْ يُضْرَبُ بِشَيْءٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَوْجُودًا أَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقَدْ يُضْرَبُ بِشَيْءٍ مَوْجُودٍ مُعَيَّنٍ، فَهَذِهِ الْقَرْيَةُ الَّتِي ضَرَبَ اللَّهُ بِهَا هَذَا الْمَثَلَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ شَيْئًا مَفْرُوضًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ قَرْيَةً مُعَيَّنَةً، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الثَّانِي فَتِلْكَ الْقَرْيَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَكَّةَ أَوْ غيرها،

وَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا مَكَّةُ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهَا غَيْرُ مَكَّةَ لِأَنَّهَا ضُرِبَتْ مَثَلًا لِمَكَّةَ، وَمَثَلُ مَكَّةَ يَكُونُ غَيْرَ مَكَّةَ. المسألة الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الْقَرْيَةِ صِفَاتٍ: الصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهَا آمِنَةً أَيْ ذَاتَ أَمْنٍ لَا يُغَارُ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: 67] وَالْأَمْرُ فِي مَكَّةَ كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَ يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. أَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ حَرَمِ اللَّهِ، وَالْعَرَبُ كَانُوا يَحْتَرِمُونَهُمْ وَيَخُصُّونَهُمْ بِالتَّعْظِيمِ وَالتَّكْرِيمِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ وَصْفُ الْقَرْيَةِ بِالْأَمْنِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِأَهْلِهَا لِأَجْلِ أَنَّهَا مَكَانُ الْأَمْنِ وَظَرْفٌ/ لَهُ، وَالظُّرُوفُ مِنَ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ تُوصَفُ بِمَا حَلَّهَا، كَمَا يُقَالُ: طَيَّبٌ وَحَارٌّ وَبَارِدٌ. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مُطْمَئِنَّةً قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا قَارَّةٌ سَاكِنَةٌ فَأَهْلُهَا لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الِانْتِقَالِ عَنْهَا لِخَوْفٍ أَوْ ضِيقٍ. أَقُولُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهَا مُطْمَئِنَّةً أَنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الِانْتِقَالِ عَنْهَا بِسَبَبِ الْخَوْفِ، فَهَذَا هُوَ مَعْنَى كَوْنِهَا آمِنَةً، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الِانْتِقَالِ عَنْهَا بِسَبَبِ الضِّيقِ، فَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ التَّكْرَارُ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعُقَلَاءَ قَالُوا: ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهَا نِهَايَةٌ ... الْأَمْنُ وَالصِّحَّةُ وَالْكِفَايَةُ قَوْلُهُ: آمِنَةً إِشَارَةٌ إِلَى الْأَمْنِ، وَقَوْلُهُ: مُطْمَئِنَّةً إِشَارَةٌ إِلَى الصِّحَّةِ، لِأَنَّ هَوَاءَ ذَلِكَ الْبَلَدِ لَمَّا كَانَ مُلَائِمًا لِأَمْزِجَتِهِمُ اطْمَأَنُّوا إِلَيْهِ وَاسْتَقَرُّوا فِيهِ، وَقَوْلُهُ: يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ إِشَارَةٌ إِلَى الْكِفَايَةِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَقَوْلُهُ: مِنْ كُلِّ مَكانٍ السَّبَبُ فِيهِ إِجَابَةُ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ [إِبْرَاهِيمَ: 37] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْقَرْيَةَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ قَالَ: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ الْأَنْعُمُ جمع نعمة مثل أشد وشدة أقول هاهنا سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ الْأَنْعُمَ جَمْعُ قِلَّةٍ، فَكَانَ الْمَعْنَى: أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْقَرْيَةِ كَفَرَتْ بِأَنْوَاعٍ قَلِيلَةٍ مِنَ النِّعَمِ فَعَذَبَّهَا اللَّهُ، وَكَانَ اللَّائِقُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِنِعَمٍ عَظِيمَةٍ لِلَّهِ فَاسْتَوْجَبُوا الْعَذَابَ، فَمَا السَّبَبُ فِي ذِكْرِ جَمْعِ الْقِلَّةِ؟ وَالْجَوَابُ: الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى يَعْنِي أَنَّ كُفْرَانَ النِّعَمِ الْقَلِيلَةِ لَمَّا أَوْجَبَ الْعَذَابَ فَكُفْرَانُ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ أَوْلَى بِإِيجَابِ الْعَذَابِ، وَهَذَا مِثْلُ أَهْلِ مَكَّةَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْأَمْنِ وَالطُّمْأَنِينَةِ وَالْخِصْبِ، ثُمَّ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالنِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَفَرُوا بِهِ وَبَالَغُوا فِي إِيذَائِهِ فَلَا جَرَمَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: عَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِالْجُوعِ سَبْعَ سِنِينَ حَتَّى أَكَلُوا الْجِيَفَ وَالْعِظَامَ وَالْعِلْهِزَ وَالْقَدَّ، أَمَّا الْخَوْفُ فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ إِلَيْهِمُ السَّرَايَا فَيُغِيرُونَ عَلَيْهِمْ. وَنُقِلَ أَنَّ ابْنَ الرَّاوَنْدِيِّ قَالَ لِابْنِ الْأَعْرَابِيِّ الْأَدِيبِ: هَلْ يُذَاقُ اللِّبَاسُ؟ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: لَا بَاسَ وَلَا لِبَاسَ يَا أَيُّهَا النِّسْنَاسُ، هَبْ أَنَّكَ تَشُكُّ أَنَّ مُحَمَّدًا مَا كَانَ نَبِيًّا أَمَا كَانَ عَرَبِيًّا وَكَانَ مَقْصُودُ ابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ الطَّعْنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّ اللِّبَاسَ لَا يُذَاقُ بَلْ يُلْبَسُ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: فَكَسَاهُمُ اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ، أَوْ يُقَالَ: فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ طَعْمَ الْجُوعِ. وَأَقُولُ جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَحْوَالَ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُمْ عِنْدَ الْجُوعِ نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَذُوقَ هُوَ/ الطعم فلما

[سورة النحل (16) : الآيات 113 إلى 114]

فَقَدُوا الطَّعَامَ صَارُوا كَأَنَّهُمْ يَذُوقُونَ الْجُوعَ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْجُوعَ كَانَ شَدِيدًا كَامِلًا فَصَارَ كَأَنَّهُ أَحَاطَ بِهِمْ مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ، فَأَشْبَهَ اللِّبَاسَ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ حَصَلَ فِي ذَلِكَ الْجُوعِ حَالَةٌ تُشْبِهُ الْمَذُوقَ، وَحَالَةٌ تُشْبِهُ الْمَلْبُوسَ، فَاعْتَبَرَ اللَّهُ تَعَالَى كِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ، فَقَالَ: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ. وَالوجه الثَّانِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ اللَّهَ عَرَّفَهَا لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ عَنِ التَّعْرِيفِ بِلَفْظِ الْإِذَاقَةِ وَأَصْلُ الذَّوْقِ بِالْفَمِ، ثُمَّ قَدْ يُسْتَعَارُ فَيُوضَعُ مَوْضِعَ التَّعَرُّفِ وَهُوَ الِاخْتِبَارُ، تَقُولُ: نَاظِرْ فُلَانًا وَذُقْ مَا عِنْدَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَمَنْ يَذُقِ الدُّنْيَا فَإِنِّي طَعِمْتُهَا ... وَسِيقَ إِلَيْنَا عَذْبُهَا وَعَذَابُهَا وَلِبَاسُ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ هُوَ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ مِنَ الضُّمُورِ وَشُحُوبِ اللَّوْنِ وَنَهْكَةِ الْبَدَنِ وَتَغَيُّرِ الْحَالِ وَكُسُوفِ الْبَالِ فَكَمَا تَقُولُ: تَعَرَّفْتُ سُوءَ أَثَرِ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ عَلَى فُلَانٍ، كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: ذُقْتُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ عَلَى فُلَانٍ. وَالوجه الثَّالِثُ: أَنْ يُحْمَلَ لَفْظُ اللُّبْسِ عَلَى الْمُمَاسَّةِ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: فَأَذَاقَهَا اللَّهُ مَسَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ. ثم قال تَعَالَى: بِما كانُوا يَصْنَعُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ بِفِعْلِهِمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ كَذَّبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ مِنْ مَكَّةَ وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَمْ يَقُلْ بِمَا صَنَعَتْ، وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ [الْأَعْرَافِ: 4] وَلَمْ يَقُلْ قَائِلَةٌ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْقَرْيَةَ بِأَنَّهَا مُطْمَئِنَّةٌ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، فَكُلُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَإِنْ أُجْرِيَتْ بِحَسْبِ اللَّفْظِ عَلَى الْقَرْيَةِ، إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْحَقِيقَةِ أَهْلُهَا، فَلَا جَرَمَ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: بِما كانُوا يَصْنَعُونَ والله أعلم. [سورة النحل (16) : الآيات 113 الى 114] وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمَثَلَ ذَكَرَ الْمُمَثَّلَ فَقَالَ: وَلَقَدْ جاءَهُمْ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ: رَسُولٌ مِنْهُمْ يَعْنِي مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَعْرِفُونَهُ بِأَصْلِهِ وَنَسَبِهِ: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَعْنِي الْجُوعَ الَّذِي كَانَ بِمَكَّةَ. وَقِيلَ: الْقَتْلُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَقُولُ قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ... إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ الْجُوعَ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ فَاتْرُكُوا الْكُفْرَ حَتَّى تَأْكُلُوا، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَكُلُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ يُرِيدُ مِنَ الْغَنَائِمِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ رُؤَسَاءَ مَكَّةَ كَلَّمُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَهِدُوا وَقَالُوا عَادَيْتَ الرِّجَالَ فَمَا بَالُ النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ. وَكَانَتِ الْمِيرَةُ قَدْ قُطِعَتْ عَنْهُمْ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنَ فِي حَمْلِ الطَّعَامِ إليهم فحمل إليهم العظام فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَالْقَوْلُ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ [النحل: 115] الْآيَةَ يَعْنِي أَنَّكُمْ لَمَّا آمَنْتُمْ وَتَرَكْتُمُ الْكُفْرَ فَكُلُوا الْحَلَالَ الطَّيِّبَ وَهُوَ الْغَنِيمَةُ وَاتْرُكُوا الْخَبَائِثَ وهي الميتة والدم.

[سورة النحل (16) : آية 115]

[سورة النحل (16) : آية 115] إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِلَى آخِرِهَا مَذْكُورَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مُفَسَّرَةٌ هُنَاكَ وَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ وَأَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى حَصَرَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّ لَفْظَةَ: (إِنَّمَا) تُفِيدُ الْحَصْرَ وَحَصَرَهَا أَيْضًا فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ [الْأَنْعَامِ: 145] وَهَاتَانِ السُّورَتَانِ مَكِّيَّتَانِ، وَحَصَرَهَا أَيْضًا فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ وَرَدَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَحَصَرَهَا أَيْضًا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ [الْمَائِدَةِ: 1] فَأَبَاحَ الْكُلَّ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تِلْكَ السُّورَةِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [المائدة: 3] فَذَكَرَ تِلْكَ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي تِلْكَ السُّوَرِ الثَّلَاثَةِ ثم قال: وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ [الْمَائِدَةِ: 3] وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ دَاخِلَةٌ فِي الْمَيْتَةِ، ثم قال: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْسَامِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ السُّوَرَ الْأَرْبَعَةَ دَالَّةٌ عَلَى/ حَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعِ سُورَتَانِ مَكِّيَّتَانِ، وَسُورَتَانِ مَدَنِيَّتَانِ، فَإِنَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةٌ. وَسُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمَدِينَةِ، فَمَنْ أَنْكَرَ حَصْرَ التَّحْرِيمِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الْإِجْمَاعُ وَالدَّلَائِلُ الْقَاطِعَةُ كَانَ فِي مَحَلِّ أَنْ يُخْشَى عَلَيْهِ، لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ حَصْرَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعِ كَانَ شَرْعًا ثَابِتًا فِي أَوَّلِ أَمْرِ مَكَّةَ وَآخِرِهَا، وَأَوَّلِ الْمَدِينَةِ وَآخِرِهَا وَأَنَّهُ تَعَالَى أَعَادَ هَذَا الْبَيَانَ فِي هَذِهِ السُّوَرِ الْأَرْبَعِ قَطْعًا للأعذار وإزالة للشبهة، والله أعلم. [سورة النحل (16) : الآيات 116 الى 117] وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَصَرَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي تِلْكَ الْأَرْبَعِ بَالَغَ فِي تَأْكِيدِ ذَلِكَ الْحَصْرِ وَزَيْفِ طَرِيقَةِ الكفار في الزيادة على هذه الأربع، وَفِي النُّقْصَانِ عَنْهَا أُخْرَى، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ وَالْوَصِيلَةَ وَالْحَامَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا، فَقَدْ زَادُوا فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَزَادُوا أَيْضًا فِي الْمُحَلَّلَاتِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ حَلَّلُوا الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ هِيَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي يَقُولُونَ إِنَّ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ عَلَى هَذَا الْكَذِبِ، وَأَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ هَذَا الْحَصْرَ فِي هَذِهِ السُّوَرِ الْأَرْبَعِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا وَالنُّقْصَانَ عَنْهَا كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمُوجِبٌ لِلْوَعِيدِ الشَّدِيدِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا مَزِيدَ عَلَى هَذَا الْحَصْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة النحل (16) : آية 118]

المسألة الثَّانِيَةُ: فِي انْتِصَابِ الْكَذِبِ فِي قَوْلِهِ: لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالزَّجَّاجُ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَقُولُوا: لِأَجْلِ وَصْفِ أَلْسِنَتِكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ نَظِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: لَا تَقُولُوا: لِكَذَا كَذَا وَكَذَا. فَإِنْ قَالُوا: حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ يُؤَدِّي إِلَى التَّكْرَارِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ عَيْنُ ذَلِكَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ: لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ كَذِبٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَأَعَادَ قَوْلَهُ: لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لِيَحْصُلَ فِيهِ هَذَا الْبَيَانُ الزَّائِدُ وَنَظَائِرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ. وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَذْكُرُ كَلَامًا ثُمَّ يُعِيدُهُ بِعَيْنِهِ مَعَ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ (مَا) مَوْصُولَةً، وَالتَّقْدِيرُ وَلَا تَقُولُوا لِلَّذِي تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ فِيهِ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَحُذِفَ لَفْظُ فِيهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا. المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ وَبَلِيغِهِ كَأَنَّ مَاهِيَّةَ الْكَذِبِ وَحَقِيقَتَهُ مَجْهُولَةٌ وَكَلَامُهُمُ الْكَذِبُ يَكْشِفُ حَقِيقَةَ الْكَذِبِ وَيُوَضِّحُ مَاهِيَّتَهُ، وَهَذَا مبالغ فِي وَصْفِ كَلَامِهِمْ بِكَوْنِهِ كَذِبًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ أَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِّي: سَرَى بَرْقُ الْمَعَرَّةِ بَعْدَ وَهَنٍ ... فَبَاتَ بِرَامَةٍ يَصِفُ الْكَلَالَا وَالْمَعْنَى: أَنْ سرى ذلك البرق يصف الكلال فكذا هاهنا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثم قال تَعَالَى: لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْسِبُونَ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ أَمَرَنَا بِذَلِكَ. وَأَظُنُّ أَنَّ هَذَا اللَّامَ لَيْسَ لَامَ الْغَرَضِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الِافْتِرَاءَ مَا كَانَ غَرَضًا لَهُمْ بَلْ كَانَ لَامَ الْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَصِ: 8] قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَقَوْلُهُ: لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ لِأَنَّ وَصْفَهُمُ الْكَذِبَ هُوَ افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَفَسَّرَ وَصْفَهُمُ الْكَذِبَ بِالِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ أَوْعَدَ الْمُفْتَرِينَ، وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا يزول عنهم عن قَرِيبٍ، فَقَالَ: مَتاعٌ قَلِيلٌ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى مَتَاعُهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلْ مَتَاعُ كُلِّ الدُّنْيَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ أَلِيمٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. [سورة النحل (16) : آية 118] وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ مَا خَصَّ الْيَهُودَ بِهِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ/ فَقَالَ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَهُوَ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. ثم قال تَعَالَى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَتَفْسِيرُهُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: 160] . [سورة النحل (16) : آية 119] ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)

[سورة النحل (16) : الآيات 120 إلى 123]

اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ أَنَّ الِافْتِرَاءَ عَلَى اللَّهِ وَمُخَالَفَةَ أَمْرِ اللَّهِ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّوْبَةِ وَحُصُولِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَلَفْظُ السُّوءِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا لَا يَنْبَغِي وَهُوَ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي، وَكُلُّ مَنْ عَمِلَ السُّوءَ فَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ بِالْجَهَالَةِ، أَمَّا الْكُفْرُ فَلِأَنَّ أَحَدًا لَا يَرْضَى بِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ كُفْرًا، فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ كَوْنَ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ حَقًّا وَصِدْقًا، فَإِنَّهُ لَا يَخْتَارُهُ وَلَا يَرْتَضِيهِ، وَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ فَمَا لَمْ تَصِرِ الشَّهْوَةُ غَالِبَةً لِلْعَقْلِ وَالْعِلْمِ لَمْ تَصْدُرْ عَنْهُ تِلْكَ الْمَعْصِيَةُ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَمِلَ السُّوءَ فَإِنَّمَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ بِسَبِبِ الْجَهَالَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا قَدْ بَالَغْنَا فِي تَهْدِيدِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُحَلِّلُونَ وَيُحَرِّمُونَ بِمُقْتَضَى الشَّهْوَةِ وَالْفِرْيَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ رَبَّكَ فِي حَقِّ الَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ، ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، أَيْ مِنْ بَعْدِ تِلْكَ السَّيِّئَةِ، وَقِيلَ: مِنْ بَعْدِ تِلْكَ الْجَهَالَةِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ عَنْ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ أَصْلَحُوا، أَيْ آمَنُوا وَأَطَاعُوا اللَّهَ. ثُمَّ أَعَادَ قَوْلَهُ: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ. ثم قال: لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لِذَلِكَ السُّوءِ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُمْ بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَقْدَمَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي دَهْرًا دَهِيرًا وَأَمَدًا مَدِيدًا، فَإِذَا تَابَ عَنْهُ وَآمَنَ وَأَتَى بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يَقْبَلُ توبته ويخلصه من العذاب. [سورة النحل (16) : الآيات 120 الى 123] إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا زَيَّفَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَذَاهِبَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَشْيَاءَ، مِنْهَا قَوْلُهُمْ بِإِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهَا طَعْنُهُمْ فِي نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَقَوْلُهُمْ لَوْ أَرْسَلَ اللَّهُ رَسُولًا لَكَانَ ذَلِكَ الرَّسُولُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ بِتَحْلِيلِ أَشْيَاءَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ أَبَاحَهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَلَمَّا بَالَغَ فِي إِبْطَالِ مَذَاهِبِهِمْ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَئِيسَ الْمُوَحِّدِينَ وَقُدْوَةَ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ الَّذِي دَعَا النَّاسَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ وَإِلَى الشَّرَائِعِ. وَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا مُفْتَخِرِينَ بِهِ مُعْتَرِفِينَ بِحُسْنِ طَرِيقَتِهِ مُقِرِّينَ بِوُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، لَا جَرَمَ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَحَكَى عَنْهُ طَرِيقَتَهُ فِي التَّوْحِيدِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ حَامِلًا لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ وَالرُّجُوعِ عَنِ الشِّرْكِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِصِفَاتٍ: الصِّفَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ كَانَ أُمَّةً، وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ وَحْدَهُ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ لِكَمَالِهِ فِي صِفَاتِ الْخَيْرِ كَقَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَى اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ ... أَنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِي وَاحِدٍ الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ، كَانَ مُؤْمِنًا وَحْدَهُ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا فَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ وَحْدَهُ أُمَّةً وَكَانَ رَسُولُ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: «يَبْعَثُهُ اللَّهُ أُمَّةً وَحْدَهُ» . الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أُمَّةٌ فُعْلَةً بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالرُّحْلَةِ وَالْبُغْيَةِ، فَالْأُمَّةُ هُوَ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [الْبَقَرَةِ: 124] . الرَّابِعُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ السَّبَبُ الَّذِي لِأَجْلِهِ جُعِلَتْ أُمَّتُهُ مُمْتَازِينَ عَمَّنْ سِوَاهُمْ بِالتَّوْحِيدِ وَالدِّينِ الْحَقِّ، وَلَمَّا جَرَى مَجْرَى السَّبَبِ لِحُصُولِ تِلْكَ الْأُمَّةِ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأُمَّةِ إِطْلَاقًا/ لِاسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، وَعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ لَمْ تَبْقَ أَرْضٌ إِلَّا وَفِيهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا زَمَنَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ كَانَ وَحْدَهُ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُ قَانِتًا لِلَّهِ، وَالْقَانِتُ هُوَ الْقَائِمُ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَعْنَاهُ كَوْنُهُ مُطِيعًا لِلَّهِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: كَوْنُهُ حَنِيفًا وَالْحَنِيفُ الْمَائِلُ إِلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ مَيْلًا لَا يَزُولُ عَنْهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنِ اخْتَتَنَ وَأَقَامَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ وَضَحَّى، وَهَذِهِ صِفَةُ الْحَنِيفِيَّةِ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالَّذِي يُقَرِّرُ كَوْنَهُ كَذِلَكَ أَنَّ أَكْثَرَ هِمَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي تَقْرِيرِ عِلْمِ الْأُصُولِ فَذَكَرَ دَلِيلَ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ مَعَ مَلِكِ زَمَانِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [الْبَقَرَةِ: 258] ثُمَّ أَبْطَلَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَالْكَوَاكِبِ بِقَوْلِهِ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الْأَنْعَامِ: 76] ثُمَّ كَسَرَ تِلْكَ الْأَصْنَامَ حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ أَلْقَوْهُ فِي النَّارِ، ثُمَّ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يريد كَيْفِيَّةَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِيَحْصُلَ لَهُ مَزِيدُ الطُّمَأْنِينَةِ، وَمَنْ وَقَفَ عَلَى عِلْمِ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ غَارِقًا فِي بَحْرِ التَّوْحِيدِ. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ، شاكِراً لِأَنْعُمِهِ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ لَا يَتَغَدَّى إِلَّا مَعَ ضَيْفٍ فَلَمْ يَجِدْ ذَاتَ يَوْمٍ ضَيْفًا فَأَخَّرَ غَدَاءَهُ فَإِذَا هُوَ بِقَوْمٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ فَدَعَاهُمْ إِلَى الطَّعَامِ فَأَظْهَرُوا أَنَّ بِهِمْ عِلَّةَ الْجُذَامِ فَقَالَ: الْآنَ يَجِبُ عَلَيَّ مُؤَاكَلَتُكُمْ فَلَوْلَا عِزَّتُكُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمَا ابْتَلَاكُمْ بِهَذَا الْبَلَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: لَفْظُ الْأَنْعُمِ جَمْعُ قِلَّةٍ، وَنِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ كَثِيرَةً. فَلِمَ قَالَ: شاكِراً لِأَنْعُمِهِ. قُلْنَا: الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ شَاكِرًا لِجَمِيعِ نِعَمِ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً فَكَيْفَ الْكَثِيرَةُ. الصِّفَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: اجْتَباهُ أَيِ اصْطَفَاهُ لِلنُّبُوَّةِ. وَالِاجْتِبَاءُ هُوَ أَنْ تَأْخُذَ الشَّيْءَ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنْ جَبَيْتُ، وَأَصْلُهُ جَمْعُ الْمَاءِ فِي الْحَوْضِ وَالْجَابِيَةُ هِيَ الْحَوْضُ. الصِّفَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَيْ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الدِّينِ الْحَقِّ وَالتَّنْفِيرِ عَنِ الدِّينِ الْبَاطِلِ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الْأَنْعَامِ: 153] . الصِّفَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ اللَّهَ حَبَّبَهُ إِلَى كُلِّ الْخَلْقِ فَكُلُّ أَهْلِ الْأَدْيَانِ يُقِرُّونَ بِهِ، أَمَّا الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَسَائِرُ الْعَرَبِ فَلَا فَخْرَ لَهُمْ إِلَّا بِهِ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّ اللَّهَ أَجَابَ دُعَاءَهُ فِي قَوْلِهِ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ/ فِي الْآخِرِينَ [الشُّعَرَاءِ: 84] وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ قَوْلُ الْمُصَلِّي مِنَّا كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ الصِّدْقُ، وَالْوَفَاءُ وَالْعِبَادَةُ. الصِّفَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.

[سورة النحل (16) : آية 124]

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ وَلَمْ يَقُلْ: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ فِي أَعْلَى مَقَامَاتِ الصَّالِحِينَ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [البقرة: 130] فقال هاهنا: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ دُعَاءَهُ ثُمَّ إِنَّ كَوْنَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ فِي أَعْلَى مَقَامَاتِ الصَّالِحِينَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ ذَلِكَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ [الْأَنْعَامِ: 83] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ قَالَ: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَفِيهِ مَبَاحِثُ: البحث الْأَوَّلُ: قَالَ قَوْمٌ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ لَهُ شَرْعٌ هُوَ بِهِ مُنْفَرِدٌ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْ بَعْثَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِحْيَاءُ شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَوَّلَ فِي إِثْبَاتِ مَذْهَبِهِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا قَالَ: اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا نَفَى الشِّرْكَ وَأَثْبَتَ التَّوْحِيدَ بِنَاءً عَلَى الدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَابِعًا لَهُ فَيَمْتَنِعُ حَمْلُ قَوْلِهِ: أَنِ اتَّبِعْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الشَّرَائِعِ الَّتِي يَصِحُّ حُصُولُ الْمُتَابَعَةِ فِيهَا. قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَمْرَ بِمُتَابَعَتِهِ فِي كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَهُوَ أَنْ يَدْعُوَ إِلَيْهِ بِطَرِيقِ الرِّفْقِ وَالسَّهُولَةِ وَإِيرَادِ الدَّلَائِلِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى بِأَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ عَلَى مَا هُوَ الطَّرِيقَةُ الْمَأْلُوفَةُ فِي الْقُرْآنِ. البحث الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : لَفْظَةُ «ثُمَّ» فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ تَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ مَنْزِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْلَالِ مَحَلِّهِ وَالْإِيذَانِ بِأَنَّ أَشْرَفَ مَا أُوتِيَ خَلِيلُ اللَّهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَأَجَلَّ مَا أُوتِيَ مِنَ النِّعْمَةِ اتِّبَاعُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِلَّتَهُ من قبل، إن هَذِهِ اللَّفْظَةَ دَلَّتْ عَلَى تَبَاعُدِ هَذَا النَّعْتِ فِي الْمَرْتَبَةِ عَنْ سَائِرِ الْمَدَائِحِ الَّتِي مَدَحَهُ الله بها. [سورة النحل (16) : آية 124] إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُتَابَعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ اخْتَارَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَهَذِهِ الْمُتَابَعَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ إِذَا قُلْنَا إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدِ اخْتَارَ فِي شَرْعِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَعِنْدَ هذا المسائل أَنْ يَقُولَ: فَلِمَ اخْتَارَ الْيَهُودُ يَوْمَ السَّبْتِ؟ فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَهُمْ مُوسَى بِالْجُمُعَةِ وَقَالَ: تَفَرَّغُوا لِلَّهِ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا وَاحِدًا وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ لَا تَعْمَلُوا فِيهِ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ، وَقَالُوا: لَا نُرِيدُ إِلَّا الْيَوْمَ الَّذِي فَرَغَ فِيهِ مِنَ الْخَلْقِ وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ، فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى السَّبْتَ لَهُمْ وَشَدَّدَ

[سورة النحل (16) : آية 125]

عَلَيْهِمْ فِيهِ، ثُمَّ جَاءَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْضًا بِالْجُمُعَةِ، فَقَالَتِ النَّصَارَى: لَا نُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عِيدُهُمْ بَعْدَ عِيدِنَا وَاتَّخَذُوا الْأَحَدَ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَاخْتَلَفُوا فِيهِ وَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ» . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْ عَلَى نَبِيِّهِمْ مُوسَى حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِالْجُمُعَةِ فَاخْتَارُوا السَّبْتَ، فَاخْتِلَافُهُمْ فِي السَّبْتِ كَانَ اخْتِلَافًا عَلَى نَبِيِّهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَيْ لِأَجْلِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: اخْتَلَفُوا فِيهِ أَنَّ الْيَهُودَ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالسَّبْتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ، لِأَنَّ الْيَهُودَ اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: اخْتَلَفُوا فِيهِ بِهَذَا، بَلِ الصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَلْ فِي الْعَقْلِ وَجْهٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَفْضَلُ مِنْ يَوْمِ السَّبْتِ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْعَالَمَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَبَدَأَ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ مِنْ يَوْمِ الْأَحَدِ وَتَمَّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَكَانَ يَوْمُ السَّبْتِ يَوْمَ الْفَرَاغِ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ نَحْنُ نُوَافِقُ رَبَّنَا فِي تَرْكِ الْأَعْمَالِ، فَعَيَّنُوا السَّبْتَ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَقَالَتِ النَّصَارَى: مَبْدَأُ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ هُوَ يَوْمُ الْأَحَدِ، فَنَجْعَلُ هَذَا الْيَوْمَ عِيدًا لَنَا، فهذان الوجهان مَعْقُولَانِ، فَمَا الوجه فِي جَعْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عِيدًا لَنَا؟ قُلْنَا: يَوْمُ الْجُمُعَةِ هُوَ يَوْمُ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ وَحُصُولُ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ يُوجِبُ الْفَرَحَ الْكَامِلَ وَالسُّرُورَ الْعَظِيمَ، فَجَعْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ يَوْمَ الْعِيدِ أَوْلَى مِنْ هَذَا الوجه وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي السَّبْتِ، أَنَّهُمْ أَحَلُّوا الصَّيْدَ فِيهِ تَارَةً وَحَرَّمُوهُ تَارَةً، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّفِقُوا فِي تَحْرِيمِهِ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. ثم قال تَعَالَى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى سَيَحْكُمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ للمحقين بالثواب وللمبطلين بالعقاب. [سورة النحل (16) : آية 125] ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَيَّنَ الشَّيْءَ الَّذِي أَمَرَهُ بِمُتَابَعَتِهِ فِيهِ، فَقَالَ: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ بِأَحَدِ هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْحِكْمَةُ وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ وَالْمُجَادَلَةُ بِالطَّرِيقِ الْأَحْسَنِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْجَدَلَ فِي آيَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الْعَنْكَبُوتِ: 46] وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الطُّرُقَ الثَّلَاثَةَ وَعَطَفَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ طُرُقًا مُتَغَايِرَةً مُتَبَايِنَةً، وَمَا رَأَيْتُ لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ كَلَامًا مُلَخَّصًا مَضْبُوطًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْمَذْهَبِ وَالْمَقَالَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَبْنِيَّةً عَلَى حُجَّةٍ وَبَيِّنَةٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الْحُجَّةِ، إِمَّا تَقْرِيرُ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ وَذَلِكَ الِاعْتِقَادِ فِي قُلُوبِ الْمُسْتَمِعِينَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ إِلْزَامَ الْخَصْمِ وَإِفْحَامَهُ.

أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَيَنْقَسِمُ أَيْضًا إِلَى قِسْمَيْنِ: لِأَنَّ الْحُجَّةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ حُجَّةً حَقِيقِيَّةً يَقِينِيَّةً قَطْعِيَّةً مُبَرَّأَةً عَنِ احْتِمَالِ النَّقِيضِ، وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ كَذَلِكَ، بَلْ تَكُونُ حُجَّةً تُفِيدُ الظَّنَّ الظَّاهِرَ وَالْإِقْنَاعَ الْكَامِلَ، فَظَهَرَ بِهَذَا التَّقْسِيمِ انْحِصَارُ الْحُجَجِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ. أَوَّلُهَا: الْحُجَّةُ الْقَطْعِيَّةُ الْمُفِيدَةُ لِلْعَقَائِدِ الْيَقِينِيَّةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْحِكْمَةِ، وَهَذِهِ أَشْرَفُ الدَّرَجَاتِ وَأَعْلَى الْمَقَامَاتِ، وَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِي صِفَتِهَا: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَةِ: 269] . وَثَانِيهَا: الْأَمَارَاتُ الظَّنِّيَّةُ وَالدَّلَائِلُ الْإِقْنَاعِيَّةُ/ وَهِيَ الْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ. وَثَالِثُهَا: الدَّلَائِلُ الَّتِي يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهَا إِلْزَامَ الْخُصُومِ وَإِفْحَامَهُمْ، وَذَلِكَ هُوَ الْجَدَلُ، ثُمَّ هَذَا الْجَدَلُ عَلَى قِسْمَيْنِ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا مُرَكَّبًا مِنْ مُقَدِّمَاتٍ مُسَلَّمَةٍ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، أَوْ مِنْ مُقَدَّمَاتٍ مُسَلَّمَةٍ عِنْدَ ذَلِكَ الْقَائِلِ، وَهَذَا الْجَدَلُ هو الجدل الواقع على الوجه الأحسن. والقسم الثَّانِي: أَنْ يَكُوُنَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ مُرَكَّبًا مِنْ مُقَدِّمَاتٍ بَاطِلَةٍ فَاسِدَةٍ إِلَّا أَنَّ قَائِلَهَا يُحَاوِلُ تَرْوِيجَهَا عَلَى الْمُسْتَمِعِينَ بِالسَّفَاهَةِ وَالشَّغَبِ، وَالْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ، وَالطُّرُقِ الْفَاسِدَةِ، وَهَذَا الْقِسْمُ لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الْفَضْلِ إِنَّمَا اللَّائِقُ بِهِمْ هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا انْحِصَارُ الدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَهْلُ الْعِلْمِ ثَلَاثُ طَوَائِفَ: الْكَامِلُونَ الطَّالِبُونَ لِلْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْعُلُومِ الْيَقِينِيَّةِ، وَالْمُكَالَمَةُ مَعَ هَؤُلَاءِ لَا تُمْكِنُ إِلَّا بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ الْيَقِينِيَّةِ وَهِيَ الْحِكْمَةُ، وَالْقِسْمُ الثاني الذي تَغْلِبُ عَلَى طِبَاعِهِمُ الْمُشَاغَبَةُ وَالْمُخَاصَمَةُ لَا طَلَبُ الْمَعْرِفَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْعُلُومِ الْيَقِينِيَّةِ، وَالْمُكَالَمَةُ اللَّائِقَةُ بِهَؤُلَاءِ الْمُجَادَلَةُ الَّتِي تُفِيدُ الْإِفْحَامَ وَالْإِلْزَامَ، وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ هُمَا الطَّرَفَانِ. فَالْأَوَّلُ: هُوَ طَرَفُ الْكَمَالِ، وَالثَّانِي: طَرَفُ النُّقْصَانِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَهُوَ الْوَاسِطَةُ، وَهُمُ الَّذِينَ مَا بَلَغُوا فِي الْكَمَالِ إِلَى حَدِّ الْحُكَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ، وَفِي النُّقْصَانِ وَالرَّذَالَةِ إِلَى حَدِّ الْمُشَاغِبِينَ الْمُخَاصِمِينَ، بَلْ هُمْ أَقْوَامٌ بَقُوا عَلَى الْفِطْرَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالسَّلَامَةِ الْخِلْقِيَّةِ، وَمَا بَلَغُوا إِلَى دَرَجَةِ الِاسْتِعْدَادِ لِفَهْمِ الدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ الْحُكْمِيَّةِ، وَالْمُكَالَمَةُ مَعَ هَؤُلَاءِ لَا تُمْكِنُ إِلَّا بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَأَدْنَاهَا الْمُجَادَلَةُ، وَأَعْلَى مَرَاتِبِ الْخَلَائِقِ الْحُكَمَاءُ الْمُحَقِّقُونَ، وَأَوْسَطُهُمْ عَامَّةُ الْخَلْقِ وَهُمْ أَرْبَابُ السَّلَامَةِ، وَفِيهِمُ الْكَثْرَةُ وَالْغَلَبَةُ، وَأَدْنَى الْمَرَاتِبِ الَّذِينَ جُبِلُوا عَلَى طَبِيعَةِ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُخَاصَمَةِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ مَعْنَاهُ ادْعُ الْأَقْوِيَاءَ الْكَامِلِينَ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ بِالْحِكْمَةِ، وَهِيَ الْبَرَاهِينُ الْقَطْعِيَّةُ الْيَقِينِيَّةُ وَعَوَامَّ الْخَلْقِ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَهِيَ الدَّلَائِلُ الْيَقِينِيَّةُ الْإِقْنَاعِيَّةُ الظَّنِّيَّةُ، وَالتَّكَلُّمُ مَعَ الْمُشَاغِبِينَ بِالْجَدَلِ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَحْسَنِ الْأَكْمَلِ. وَمِنْ لَطَائِفِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ فَقَصَرَ الدَّعْوَةَ على ذكر هذين القسمين لأن الدعوة إذا كَانَتْ بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ فَهِيَ الْحِكْمَةُ، وَإِنْ كَانَتْ بِالدَّلَائِلِ الظَّنِّيَّةِ فَهِيَ الْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ، أَمَّا الْجَدَلُ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الدَّعْوَةِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ غَرَضٌ آخَرُ مُغَايِرٌ/ لِلدَّعْوَةِ وَهُوَ الْإِلْزَامُ وَالْإِفْحَامُ فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمْ يَقُلْ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَالْجَدَلِ الْأَحْسَنِ، بَلْ قَطَعَ الْجَدَلَ عَنْ بَابِ الدَّعْوَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الدَّعْوَةُ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة النحل (16) : الآيات 126 إلى 128]

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَبَاحِثَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَدْرَجَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَذِهِ الْأَسْرَارَ الْعَالِيَةَ الشَّرِيفَةَ مَعَ أَنَّ أْكَثْرَ الْخَلْقِ كَانُوا غَافِلِينَ عَنْهَا، فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ الْكَرِيمَ لَا يَهْتَدِي إِلَى مَا فِيهِ مِنَ الْأَسْرَارِ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْ خَوَاصِّ أُولِي الْأَبْصَارِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ مُكَلَّفٌ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ، فَأَمَّا حُصُولُ الْهِدَايَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِكَ، فَهُوَ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالضَّالِّينَ وَأَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، وَالَّذِي عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ جَوَاهِرَ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ مُخْتَلِفَةٌ بِالْمَاهِيَّةِ، فَبَعْضُهَا نُفُوسٌ مُشْرِقَةٌ صَافِيَةٌ قَلِيلَةُ التَّعَلُّقِ بِالْجُسْمَانِيَّاتِ كَثِيرَةُ الِانْجِذَابِ إِلَى عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ وَبَعْضُهَا مُظْلِمَةٌ كَدِرَةٌ قَوِيَّةُ التَّعَلُّقِ بِالْجُسْمَانِيَّاتِ عَدِيمَةُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الرُّوحَانِيَّاتِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الِاسْتِعْدَادَاتُ مِنْ لَوَازِمِ جَوَاهِرِهَا، لَا جَرَمَ يَمْتَنِعُ انْقِلَابُهَا وَزَوَالُهَا، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: اشْتَغِلْ أَنْتَ بِالدَّعْوَةِ وَلَا تَطْمَعُ فِي حُصُولِ الْهِدَايَةِ لِلْكُلِّ، فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ بِضَلَالِ النُّفُوسِ الضَّالَّةِ الْجَاهِلَةِ وَبِإِشْرَاقِ النُّفُوسِ الْمُشْرِقَةِ الصَّافِيَةِ فَلِكُلِّ نَفْسٍ فِطْرَةٌ مَخْصُوصَةٌ وَمَاهِيَّةٌ مَخْصُوصَةٌ، كَمَا قال: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: 30] والله أعلم. [سورة النحل (16) : الآيات 126 الى 128] وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَامَّةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى حَمْزَةَ وَقَدْ مَثَّلُوا بِهِ قَالَ: «وَاللَّهِ لَأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ مَكَانَكَ» فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِخَوَاتِيمِ سُورَةِ النَّحْلِ فَكَفَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْسَكَ عَمَّا أَرَادَ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَالشَّعْبِيِّ وَعَلَى هَذَا قَالُوا: إِنَّ سُورَةَ النَّحْلِ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالسَّيْفِ وَالْجِهَادِ، حِينَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ أمروا بالقتال مع من يقاتلهم ولا يبدؤا بِالْقِتَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الْبَقَرَةِ: 190] وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَمَرَ اللَّهُ بِأَنْ يُعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَلَا يَزِيدُوا. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ نَهْيُ الْمَظْلُومِ عَنِ اسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ مِنَ الظَّالِمِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِنْ أَخَذَ مِنْكَ رَجَلٌ شَيْئًا فَخُذْ مِنْهُ مِثْلَهُ، وَأَقُولُ: إِنَّ حَمْلَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قِصَّةٍ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا يُوجِبُ حُصُولَ سُوءِ التَّرْتِيبِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ يُطْرِقُ الطَّعْنَ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، بَلِ الْأَصْوَبُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ الْخَلْقَ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ بِأَحَدِ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْحِكْمَةُ وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ، وَالْجِدَالُ بِالطَّرِيقِ الْأَحْسَنِ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الدَّعْوَةَ تَتَضَمَّنُ أَمْرَهُمْ بِالرُّجُوعِ عَنْ دِينِ آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ، وَبِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَالحكم عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ وَذَلِكَ مِمَّا يُشَوِّشُ الْقُلُوبَ وَيُوحِشُ الصُّدُورَ، وَيَحْمِلُ أَكْثَرَ الْمُسْتَمِعِينَ عَلَى قَصْدِ ذَلِكَ الدَّاعِي بِالْقَتْلِ تَارَةً، وَبِالضَّرْبِ ثَانِيًا وَبِالشَّتْمِ ثَالِثًا، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ

الْمُحِقَّ إِذَا شَاهَدَ تِلْكَ السَّفَاهَاتِ، وَسَمِعَ تِلْكَ الْمُشَاغَبَاتِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَحْمِلَهُ طَبْعُهُ عَلَى تَأْدِيبِ أُولَئِكَ السُّفَهَاءِ تَارَةً بِالْقَتْلِ وَتَارَةً بِالضَّرْبِ، فَعِنْدَ هَذَا أَمَرَ الْمُحِقِّينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِرِعَايَةِ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَتَرْكِ الزِّيَادَةِ، فَهَذَا هُوَ الوجه الصَّحِيحُ الَّذِي يَجِبُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ تَقْدَحُونَ فِيمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَرَكَ الْعَزْمَ عَلَى الْمُثْلَةِ وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْآيَةِ؟ قُلْنَا: لَا حَاجَةَ إِلَى الْقَدْحِ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ، لِأَنَّا نَقُولُ: تِلْكَ الْوَاقِعَةُ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ فَيُمْكِنُ التَّمَسُّكُ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، إِنَّمَا الَّذِي يُنَازَعُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَصْرُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ سُوءَ التَّرْتِيبِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. المسألة الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِرِعَايَةِ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَرَتَّبَ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ يَعْنِي إِنْ رَغِبْتُمْ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَاقْنَعُوا بِالْمِثْلِ وَلَا تَزِيدُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّ اسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ ظُلْمٌ وَالظُّلْمُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فِي عَدْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَفِي قَوْلِهِ: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ، كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ لِلْمَرِيضِ: إِنْ كُنْتَ تَأْكُلُ الْفَاكِهَةَ فَكُلِ التُّفَّاحَ، كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَوْلَى بِكَ أَنْ لَا تَأْكُلَهُ، فَذَكَرَ تَعَالَى بِطَرِيقِ الرَّمْزِ وَالتَّعْرِيضِ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الِانْتِقَالُ مِنَ التَّعْرِيضِ إِلَى التَّصْرِيحِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ ذَلِكَ الِانْتِقَامِ، لِأَنَّ الرَّحْمَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالْإِنْفَاعَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِيلَامِ. الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: وَهُوَ وُرُودُ الْأَمْرِ بِالْجَزْمِ بِالتَّرْكِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاصْبِرْ لِأَنَّهُ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ ذَكَرَ أَنَّ التَّرْكَ خَيْرٌ وَأَوْلَى، وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ صَرَّحَ بِالْأَمْرِ بِالصَّبْرِ، وَلَمَّا كَانَ الصَّبْرُ فِي هَذَا الْمَقَامِ شَاقًّا شَدِيدًا ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يُفِيدُ سُهُولَتَهُ فَقَالَ: وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أَيْ بِتَوْفِيقِهِ وَمَعُونَتِهِ وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْكُلِّيُّ الْأَصْلِيُّ الْمُفِيدُ فِي حُصُولِ الصَّبْرِ وَفِي حُصُولِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ. وَلَمَّا ذَكَرَ هَذَا السَّبَبَ الْكُلِّيَّ الْأَصْلِيَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا هُوَ السَّبَبُ الْجُزْئِيُّ الْقَرِيبُ فَقَالَ: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّ إِقْدَامَ الْإِنْسَانِ عَلَى الِانْتِقَامِ، وَعَلَى إِنْزَالِ الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ هَيَجَانِ الْغَضَبِ، وَشِدَّةُ الْغَضَبِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدَهُمَا: فَوَاتُ نَفْعٍ كَانَ حَاصِلًا فِي الْمَاضِي وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ قِيلَ مَعْنَاهُ: وَلَا تَحْزَنْ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ، وَمَعْنَاهُ لَا تَحْزَنْ بِسَبَبِ فَوْتِ أُولَئِكَ الْأَصْدِقَاءِ. وَيَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى فَوْتِ النَّفْعِ. وَالسَّبَبُ الثَّانِي: لِشِدَّةِ الْغَضَبِ تَوَقُّعُ ضَرَرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ وَمَنْ وَقَفَ عَلَى هَذِهِ اللَّطَائِفِ عَرَفَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ كَلَامٌ أَدْخَلُ فِي الْحُسْنِ وَالضَّبْطِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ بَقِيَ فِي لَفْظِ الْآيَةِ مَبَاحِثُ: البحث الْأَوَّلُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ بِكَسْرِ الضَّادِ، وَفِي النَّمْلِ مِثْلُهُ، وَالْبَاقُونَ: بِفَتْحِ الضَّادِ فِي الْحَرْفَيْنِ. أَمَّا الوجه فِي الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ فَأُمُورٌ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الضِّيقُ بِالْكَسْرِ فِي قِلَّةِ الْمَعَاشِ وَالْمَسَاكِنِ، وَمَا كَانَ فِي الْقَلْبِ فَإِنَّهُ الضَّيْقُ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: الضِّيقُ بِالْكَسْرِ الشِّدَّةُ وَالضَّيْقُ بِفَتْحِ الضَّادِ الْغَمُّ. وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: ضَيْقٌ تَخْفِيفُ ضَيِّقٍ مِثْلُ هَيْنٍ وَهَيِّنٍ وَلَيْنٍ وَلَيِّنٍ. وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قُلْنَا: إِنَّهُ تَصِحُّ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ. البحث الثَّانِي: قُرِئَ: وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ.

البحث الثالث: هذا من الكلام الْمَقْلُوبِ، لِأَنَّ الضَّيْقَ صِفَةٌ، وَالصِّفَةُ تَكُونُ حَاصِلَةً في الموصوف ولا يكون المصوف حاصلا في الصفة، فكان المعنى فلا يكن الضَّيْقُ فِيكَ، إِلَّا أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ هُوَ أَنَّ الضَّيْقَ إِذَا عَظُمَ وَقَوِيَ صَارَ كَالشَّيْءِ الْمُحِيطِ بِالْإِنْسَانِ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ وَصَارَ كَالْقَمِيصِ الْمُحِيطِ بِهِ، فَكَانَتِ الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا اللَّفْظِ هَذَا الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّهْدِيدِ لِأَنَّ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى رَغَّبَ فِي تَرْكِ الِانْتِقَامِ عَلَى سَبِيلِ الرَّمْزِ، وَفِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ عَدَلَ عَنِ الرَّمْزِ إِلَى التَّصْرِيحِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَفِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ أَمَرَنَا بِالصَّبْرِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ، وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ كَأَنَّهُ ذَكَرَ الْوَعِيدَ فِي فِعْلِ الِانْتِقَامِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا عَنِ اسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ: وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ فِي تَرْكِ أَصْلِ الِانْتِقَامِ، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فَكُنْ مِنَ الْمُتَّقِينَ وَمِنَ الْمُحْسِنِينَ. وَمَنْ وَقَفَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ عَرَفَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الرِّفْقِ وَاللُّطْفِ مَرْتَبَةً فَمَرْتَبَةً، وَلَمَّا قَالَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَةَ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الدَّعْوَةَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ وَاقِعَةً عَلَى هَذَا الوجه، وَعِنْدَ الْوُقُوفِ عَلَى هَذِهِ اللَّطَائِفِ يَعْلَمُ الْعَاقِلُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ الْكَرِيمَ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا مَعِيَّتُهُ بِالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالرُّتْبَةِ، وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ اتَّقَوْا إِشَارَةٌ إِلَى التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ إِشَارَةٌ إِلَى الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَمَالَ السَّعَادَةِ لِلْإِنْسَانِ فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ الله، وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ فَقَالَ: كَمَالُ الطَّرِيقِ صِدْقٌ مَعَ الْحَقِّ وَخُلُقٌ مَعَ الْخَلْقِ، وَقَالَ الْحُكَمَاءُ: كَمَالُ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ، وَالْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَعَنْ هَرِمِ بْنِ حَيَّانَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْوَفَاةِ أَوْصِ، فَقَالَ: إِنَّمَا الْوَصِيَّةُ مِنَ الْمَالِ وَلَا مَالَ لِي، وَلَكِنِّي أُوصِيكُمْ بِخَوَاتِيمِ سُورَةِ النَّحْلِ. المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَعْلِيمُ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَتَرْكِ التَّعَدِّي وَطَلَبِ الزِّيَادَةِ، وَلَا تَعَلُّقَ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مَشْغُوفُونَ بِتَكْثِيرِ الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ، وَلَا أَرَى فِيهِ فَائِدَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ بِزَمَانٍ مُعْتَدِلٍ، وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحَقُّ عَزِيزٌ وَالطَّرِيقُ بَعِيدٌ وَالْمَرْكَبُ ضَعِيفٌ وَالْقُرْبُ بُعْدٌ وَالْوَصْلُ هَجْرٌ وَالْحَقَائِقُ مَصُونَةٌ وَالْمَعَانِي فِي غَيْبِ الْغَيْبِ مَحْصُونَةٌ وَالْأَسْرَارُ فِيمَا وَرَاءَ الْعِزِّ مَخْزُونَةٌ، وَبِيَدِ الْخَلْقِ الْقِيلُ وَالْقَالُ وَالْكَمَالُ لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ ذِي الْإِكْرَامِ وَالْجَلَالِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

سورة الإسراء

سُورَةُ الْإِسْرَاءِ مَكِّيَّةٌ، إِلَّا الْآيَاتِ: 26 وَ 32 وَ 33 وَ 57 وَمِنْ آيَةِ 73 إِلَى غَايَةِ آيَةِ 80 فَمَدَنِيَّةٌ وَآيَاتُهَا: 111، نَزَلَتْ بعد القصص بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الإسراء (17) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) سورة بني إسرائيل عددها: مائة آية وعشر آيات عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، غَيْرَ قَوْلِهِ: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ [الْإِسْرَاءِ: 71] إِلَى قَوْلِهِ: وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً [الْإِسْرَاءِ: 80] فَإِنَّهَا مَدَنِيَّاتٌ، نَزَلَتْ حِينَ جَاءَ وَفْدُ ثَقِيفٍ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَالَ النَّحْوِيُّونَ: (سُبْحَانَ) اسْمُ عَلَمٍ لِلتَّسْبِيحِ يُقَالُ: سَبَّحْتُ اللَّهَ تَسْبِيحًا وَسُبْحَانًا، فَالتَّسْبِيحُ هُوَ الْمَصْدَرُ، وَسُبْحَانَ اسْمُ عَلَمٍ لِلتَّسْبِيحِ كَقَوْلِكَ: كَفَّرْتُ الْيَمِينَ تَكْفِيرًا وَكُفْرَانًا وَتَفْسِيرُهُ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ سُوءٍ. قَالَ صَاحِبُ «النَّظْمِ» : السَّبْحُ فِي اللُّغَةِ التَّبَاعُدُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ/ تَعَالَى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً [الْمُزَّمِّلِ: 7] أَيْ تَبَاعُدًا فَمَعْنَى: سَبِّحِ اللَّهَ تَعَالَى، أَيْ بَعِّدْهُ وَنَزِّهْهُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي وَتَمَامُ الْمَبَاحِثِ الْعَقْلِيَّةِ فِي لَفْظِ التَّسْبِيحِ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَدِيدِ، وَقَدْ جَاءَ فِي لَفْظِ التَّسْبِيحِ مَعَانٍ أُخْرَى: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّسْبِيحَ

يُذْكَرُ بِمَعْنَى الصَّلَاةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ [الصَّافَّاتِ: 143] أَيْ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَالسُّبْحَةُ الصَّلَاةُ النَّافِلَةُ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْمُصَلِّي مُسَبِّحٌ، لِأَنَّهُ مُعَظِّمٌ لِلَّهِ بِالصَّلَاةِ وَمُنَزِّهٌ لَهُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي. وَثَانِيهَا: وَرَدَ التَّسْبِيحُ بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ [الْقَلَمِ: 28] أَيْ تَسْتَثْنُونَ وَتَأْوِيلُهُ أَيْضًا يَعُودُ إِلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَتِهِ. وَثَالِثُهَا: جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَتْ مِنْ شَيْءٍ» قِيلَ مَعْنَاهُ نُورُ وَجْهِهِ، وَقِيلَ: سُبُحَاتُ وَجْهِهِ، نُورُ وَجْهِهِ الَّذِي إِذَا رَآهُ الرَّائِي قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: أَسْرى قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَسْرَى وَسَرَى لُغَتَانِ: وَقَوْلُهُ: بِعَبْدِهِ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَسَمِعْتُ الشَّيْخَ الْإِمَامَ الْوَالِدَ عُمَرَ بْنَ الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ الْإِمَامَ أَبَا الْقَاسِمِ سُلَيْمَانَ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ: لَمَّا وَصَلَ مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ وَالْمَرَاتِبِ الرفيعة في العارج أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: يَا مُحَمَّدُ بِمَ أشرفك؟ قال: «رَبِّ بِأَنْ تَنْسِبَنِي إِلَى نَفْسِكَ بِالْعُبُودِيَّةِ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ وَقَوْلُهُ: لَيْلًا نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ. فَإِنْ قِيلَ: الْإِسْرَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللَّيْلِ فَمَا مَعْنَى ذِكْرِ اللَّيْلِ؟ قُلْنَا: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لَيْلًا بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ تَقْلِيلَ مُدَّةِ الْإِسْرَاءِ وَأَنَّهُ أَسْرَى بِهِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَذَلِكَ أَنَّ التَّنْكِيرَ فِيهِ قَدْ دَلَّ عَلَى مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ اللَّيْلِ قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ ذَلِكَ اللَّيْلُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ، وَنَقَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنْ أَنَسٍ وَالْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَكَانِ الَّذِي أُسْرِيَ بِهِ مِنْهُ، فَقِيلَ هُوَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ بِعَيْنِهِ وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ لَفْظِ الْقُرْآنِ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَا أَنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْحِجْرِ عِنْدَ الْبَيْتِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ أَتَانِي جِبْرِيلُ بِالْبُرَاقِ» وَقِيلَ أُسْرِيَ بِهِ مِنْ دَارِ أُمِّ هَانِئِ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ. وَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْحَرَمُ لِإِحَاطَتِهِ بِالْمَسْجِدِ وَالْتِبَاسِهِ بِهِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْحَرَمُ كُلُّهُ مَسْجِدٌ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَقَوْلُهُ: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَسُمِّيَ بِالْأَقْصَى لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَقَوْلُهُ: الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ قِيلَ بِالثِّمَارِ وَالْأَزْهَارِ، وَقِيلَ بِسَبَبِ أَنَّهُ مَقَرُّ الْأَنْبِيَاءِ وَمَهْبِطُ الْمَلَائِكَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ (إِلَى) لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ فَمَدْلُولُ قَوْلِهِ: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَنَّهُ وَصَلَ إِلَى حَدِّ ذَلِكَ/ الْمَسْجِدِ فَأَمَّا أَنَّهُ دَخَلَ ذَلِكَ الْمَسْجِدَ أَمْ لَا فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا يَعْنِي مَا رَأَى فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْآيَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ قَالُوا: قَوْلُهُ: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَرَاهُ إِلَّا بَعْضَ الْآيَاتِ، لِأَنَّ كَلِمَةَ (مِنْ) تُفِيدُ التَّبْعِيضَ، وَقَالَ فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْعَامِ: 75] فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِعْرَاجُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلَ مِنْ مِعْرَاجِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم. قلنا: الذي رآه إبراهيم ملكوت السموات وَالْأَرْضِ، وَالَّذِي رَآهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ آيَاتِ اللَّهِ أَفْضَلُ. ثم قال: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أَيْ أَنَّ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ هُوَ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ مُحَمَّدٍ، الْبَصِيرُ بِأَفْعَالِهِ،

الْعَالِمُ بِكَوْنِهَا مُهَذَّبَةً خَالِصَةً عَنْ شَوَائِبِ الرِّيَاءِ، مَقْرُونَةً بِالصِّدْقِ وَالصَّفَاءِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْكَرَامَاتِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ سَمِيعٌ لِمَا يَقُولُونَ لِلرَّسُولِ فِي هَذَا الْأَمْرِ، بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ. المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ الْإِسْرَاءِ، فَالْأَكْثَرُونَ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ أُسْرِيَ بِجَسَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَقَلُّونَ قَالُوا: إِنَّهُ مَا أُسْرِيَ إِلَّا بِرُوحِهِ حُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ رُؤْيَا. وَأَنَّهُ مَا فُقِدَ جَسَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا أُسْرِيَ بِرُوحِهِ، وَحُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ يَقَعُ فِي مَقَامَيْنِ: أَحَدُهُمَا: في إثبات الجواز العقلي. والثاني: فِي الْوُقُوعِ. أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ إِثْبَاتُ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ، فَنَقُولُ: الْحَرَكَةُ الْوَاقِعَةُ فِي السُّرْعَةِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ مُمْكِنَةٌ فِي نَفْسِهَا وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْحَرَكَةِ فِي هَذَا الْحَدِّ من السرعة غير ممتنع، فنفتقر هاهنا إِلَى بَيَانِ مُقَدِّمَتَيْنِ: الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْحَرَكَةَ الْوَاقِعَةَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ مُمْكِنَةٌ فِي نَفْسِهَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفَلَكَ الْأَعْظَمَ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى آخِرِهِ مَا يَقْرُبُ مِنْ نِصْفِ الدَّوْرِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْهَنْدَسَةِ أَنَّ نِسْبَةَ الْقُطْرِ الْوَاحِدِ إِلَى الدَّوْرِ نِسْبَةُ الْوَاحِدِ إِلَى ثَلَاثَةٍ وَسُبْعٍ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ نِسْبَةُ نِصْفِ الْقُطْرِ إِلَى نِصْفِ الدَّوْرِ نِسْبَةَ الْوَاحِدِ إِلَى ثَلَاثَةٍ وَسُبْعٍ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَفَعَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مَا فَوْقَ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ فَهُوَ لَمْ يَتَحَرَّكْ إِلَّا بِمِقْدَارِ نِصْفِ الْقُطْرِ فَلَمَّا حَصَلَ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الزَّمَانِ حَرَكَةُ نِصْفِ الدَّوْرِ فَكَانَ حُصُولُ الْحَرَكَةِ بِمِقْدَارِ نِصْفِ الْقُطْرِ/ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ، فَهَذَا بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ الِارْتِقَاءَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مَا فَوْقَ الْعَرْشِ فِي مِقْدَارِ ثُلُثٍ مِنَ اللَّيْلِ أَمْرٌ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حُصُولُهُ فِي كُلِّ اللَّيْلِ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الوجه الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْهَنْدَسَةِ أَنَّ قُرْصَ الشَّمْسِ يُسَاوِي كُرَةَ الْأَرْضِ مِائَةً وَسِتِّينَ وَكَذَا مَرَّةٍ ثُمَّ إِنَّا نُشَاهِدُ أَنَّ طُلُوعَ الْقُرْصِ يَحْصُلُ فِي زَمَانٍ لَطِيفٍ سَرِيعٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بُلُوغَ الْحَرَكَةِ فِي السُّرْعَةِ إِلَى الْحَدِّ الْمَذْكُورِ أَمْرٌ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ. الوجه الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَمَا يُسْتَبْعَدُ فِي الْعَقْلِ صُعُودُ الْجِسْمِ الْكَثِيفِ مِنْ مَرْكَزِ الْعَالَمِ إِلَى مَا فَوْقَ الْعَرْشِ، فَكَذَلِكَ يُسْتَبْعَدُ نُزُولُ الْجِسْمِ اللَّطِيفِ الرُّوحَانِيِّ مِنْ فَوْقِ الْعَرْشِ إِلَى مَرْكَزِ الْعَالَمِ، فَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ بِمِعْرَاجِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ مُمْتَنِعًا فِي الْعُقُولِ، كَانَ الْقَوْلُ بِنُزُولِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى مَكَّةَ فِي اللَّحْظَةِ الْوَاحِدَةِ مُمْتَنِعًا، وَلَوْ حَكَمْنَا بِهَذَا الِامْتِنَاعِ كَانَ ذَلِكَ طَعْنًا فِي نُبُوَّةِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْقَوْلُ بِثُبُوتِ الْمِعْرَاجِ فَرْعٌ عَلَى تَسْلِيمِ جَوَازِ أَصْلِ النُّبُوَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِامْتِنَاعِ حُصُولِ حَرَكَةٍ سَرِيعَةٍ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، يَلْزَمُهُمُ الْقَوْلُ بِامْتِنَاعِ نُزُولِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي اللَّحْظَةِ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى مَكَّةَ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا كَانَ مَا ذَكَرُوهُ أَيْضًا بَاطِلًا. فَإِنْ قَالُوا: نَحْنُ لَا نَقُولُ إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جِسْمٌ يَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَإِنَّمَا نَقُولُ الْمُرَادُ مِنْ نُزُولِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ زَوَالُ الْحُجُبِ الْجُسْمَانِيَّةِ عَنْ رُوحِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَظْهَرَ فِي روحه من

الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ بَعْضُ مَا كَانَ حَاضِرًا مُتَجَلِّيًا فِي ذَاتِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. قُلْنَا: تَفْسِيرُ الْوَحْيِ بِهَذَا الوجه هُوَ قَوْلُ الْحُكَمَاءِ، فَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جِسْمٌ وَأَنَّ نُزُولَهُ عِبَارَةٌ عَنِ انْتِقَالِهِ مِنْ عَالَمِ الْأَفْلَاكِ إِلَى مَكَّةَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْإِلْزَامُ الْمَذْكُورُ قَوِيًّا، رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ الْمِعْرَاجِ كَذَّبَهُ الْكُلُّ وَذَهَبُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَقَالُوا لَهُ: إِنَّ صَاحِبَكَ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنْ كَانَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ صَادِقٌ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الرَّسُولُ لَهُ تِلْكَ التَّفَاصِيلَ، فَكُلَّمَا ذَكَرَ شَيْئًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْتَ فَلَمَّا تَمَّمَ الْكَلَامَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ الصَّدِّيقُ حَقًّا، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَأَنَّهُ قَالَ لَمَّا سَلَّمْتُ رِسَالَتَهُ فَقَدْ صَدَّقْتُهُ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا فَكَيْفَ أُكَذِّبُهُ فِي هَذَا؟ الوجه الرَّابِعُ: أَنَّ أَكْثَرَ أَرْبَابِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ يُسَلِّمُونَ وُجُودَ إِبْلِيسَ وَيُسَلِّمُونَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي/ يَتَوَلَّى إِلْقَاءَ الْوَسْوَسَةِ فِي قُلُوبِ بَنِي آدَمَ، وَيُسَلِّمُونَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِانْتِقَالُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ لِأَجْلِ إِلْقَاءِ الْوَسَاوِسِ فِي قُلُوبِ بَنِي آدَمَ، فَلَمَّا سَلَّمُوا جَوَازَ مِثْلِ هَذِهِ الْحَرَكَةِ السَّرِيعَةِ فِي حَقِّ إِبْلِيسَ فَلَأَنْ يُسَلِّمُوا جَوَازَ مِثْلِهَا فِي حَقِّ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ أَوْلَى، وَهَذَا الْإِلْزَامُ قَوِيٌّ عَلَى مَنْ يُسَلِّمُ أَنَّ إِبْلِيسَ جِسْمٌ يَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، أَمَّا الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّهُ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ الشِّرِّيرَةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جُسْمَانِيٍّ، فَهَذَا الْإِلْزَامُ غَيْرُ وَارِدٍ عَلَيْهِمْ، إِلَّا أَنَّ أَكْثَرَ أَرْبَابِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ يُوَافِقُونَ عَلَى أَنَّهُ جِسْمٌ لَطِيفٌ مُتَنَقِّلٌ. فَإِنْ قَالُوا: هَبْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَالشَّيَاطِينَ يَصِحُّ فِي حَقِّهِمْ حُصُولُ مِثْلِ هَذِهِ الْحَرَكَةِ السَّرِيعَةِ لِأَنَّهُمْ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ، وَلَا يَمْتَنِعُ حُصُولُ مِثْلِ هَذِهِ الْحَرَكَةِ السَّرِيعَةِ فِي ذَوَاتِهَا، أَمَّا الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ جِسْمٌ كَثِيفٌ فَكَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُ مِثْلِ هَذِهِ الْحَرَكَةِ السَّرِيعَةِ فِيهِ؟ قُلْنَا: نَحْنُ إِنَّمَا اسْتَدْلَلْنَا بِأَحْوَالِ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ عَلَى أَنَّ حُصُولَ حَرَكَةٍ مُنْتَهِيَةٍ فِي السُّرْعَةِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْحَرَكَةَ لَمَّا كَانَتْ مُمْكِنَةَ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهَا كَانَتْ أَيْضًا مُمْكِنَةَ الْحُصُولِ فِي جِسْمِ الْبَدَنِ الْإِنْسَانِيِّ، فَذَاكَ مَقَامٌ آخَرُ سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الوجه الْخَامِسُ: أَنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الرِّيَاحَ كَانَتْ تَسِيرُ بِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى الْمَوَاضِعِ الْبَعِيدَةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْقَلِيلَةِ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ مَسِيرِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ [سَبَأٍ: 12] بَلْ نَقُولُ: الْحِسُّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرِّيَاحَ تَنْتَقِلُ عِنْدَ شِدَّةِ هُبُوبِهَا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ فِي اللَّحْظَةِ الْوَاحِدَةِ، وَذَلِكَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحَرَكَةِ السَّرِيعَةِ فِي نَفْسِهَا مُمْكِنَةٌ. الوجه السَّادِسُ: أَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَحْضَرَ عَرْشَ بِلْقِيسَ مِنْ أَقْصَى الْيَمَنِ إِلَى أَقْصَى الشَّامِ فِي مِقْدَارِ لَمْحِ الْبَصَرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النَّمْلِ: 40] وَإِذَا كَانَ مُمْكِنًا فِي حَقِ بَعْضِ النَّاسِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُمْكِنُ الْوُجُودِ. الوجه السَّابِعُ: أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الْحَيَوَانُ إِنَّمَا يُبْصِرُ الْمُبْصَرَاتِ لِأَجْلِ أَنَّ الشُّعَاعَ يَخْرُجُ مِنْ عَيْنَيْهِ وَيَتَّصِلُ بِالْمُبْصَرِ ثُمَّ إِنَّا إِذَا فَتَحْنَا الْعَيْنَ وَنَظَرْنَا إِلَى رَجُلٍ رَأَيْنَاهُ فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ انْتَقَلَ شُعَاعُ الْعَيْنِ مِنْ أَبْصَارِنَا إِلَى رَجُلٍ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ اللَّطِيفَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَرَكَةَ الْوَاقِعَةَ عَلَى هَذَا الْحَدِّ مِنَ السُّرْعَةِ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ لا

مِنَ الْمُمْتَنِعَاتِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ حُصُولَ الْحَرَكَةِ الْمُنْتَهِيَةِ فِي السُّرْعَةِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ أَمْرٌ مُمْكِنُ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ. الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: فِي بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْحَرَكَةَ لَمَّا كَانَتْ مُمْكِنَةَ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهَا وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ/ حُصُولُهَا فِي جَسَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُمْتَنِعًا، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّا بَيَّنَّا بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ فِي تَمَامِ مَاهِيَّاتِهَا، فَلَمَّا صَحَّ حُصُولُ مِثْلِ هَذِهِ الْحَرَكَةِ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَجْسَامِ وَجَبَ إِمْكَانُ حُصُولِهَا فِي سَائِرِ الْأَجْسَامِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنَّ حُصُولَ مِثْلِ هَذِهِ الْحَرَكَةِ فِي جَسَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرٌ مُمْكِنُ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، وَثَبَتَ أَنَّ حُصُولَ الْحَرَكَةِ الْبَالِغَةِ فِي السُّرْعَةِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فِي جَسَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُمْكِنٌ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَيْهِ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ أَنَّ الْقَوْلَ بِثُبُوتِ هَذَا الْمِعْرَاجِ أَمْرٌ مُمْكِنُ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ يَبْقَى التَّعَجُّبُ، إِلَّا أَنَّ هَذَا التَّعَجُّبَ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِهَذَا الْمَقَامِ، بَلْ هُوَ حَاصِلٌ فِي جَمِيعِ الْمُعْجِزَاتِ، فَانْقِلَابُ الْعَصَا ثُعْبَانًا تَبْلَعُ سَبْعِينَ أَلْفَ حَبْلٍ مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ، ثُمَّ تَعُودُ فِي الْحَالِ عَصًا صَغِيرَةً كَمَا كَانَتْ أَمْرٌ عَجِيبٌ، وَخُرُوجُ النَّاقَةِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الْجَبَلِ الْأَصَمِّ، وَإِظْلَالُ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ فِي الْهَوَاءِ عَجِيبٌ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الْمُعْجِزَاتِ فَإِنْ كَانَ مُجَرَّدُ التَّعَجُّبِ يُوجِبُ الْإِنْكَارَ وَالدَّفْعَ، لَزِمَ الْجَزْمُ بِفَسَادِ الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ الْمُعْجِزَاتِ وَإِثْبَاتُ الْمُعْجِزَاتِ فَرْعٌ عَلَى تَسْلِيمِ أَصْلِ النُّبُوَّةِ وَإِنْ كَانَ مُجَرَّدُ التَّعَجُّبِ لَا يُوجِبُ الْإِنْكَارَ والإبطال فكذا هاهنا، فَهَذَا تَمَامُ الْقَوْلِ فِي بَيَانِ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمِعْرَاجِ مُمْكِنٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَقَامُ الثَّانِي: فِي البحث عَنْ وُقُوعِ الْمِعْرَاجِ قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَسْرَى بِرُوحِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَسَدِهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَتَقْرِيرُ الدَّلِيلِ أَنَّ الْعَبْدَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِسْرَاءُ حَاصِلًا لِمَجْمُوعِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدَلَالَ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ الرُّوحُ وَحْدَهُ أَوِ الْجَسَدُ وَحْدَهُ أَوْ مَجْمُوعُ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ، أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ الرُّوحُ وَحْدَهُ، فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ بَاقٍ مِنْ أَوَّلِ عُمُرِهِ إِلَى آخِرِهِ، وَالْأَجْزَاءُ الْبَدَنِيَّةُ فِي التَّبَدُّلِ وَالتَّغَيُّرِ وَالِانْتِقَالِ وَالْبَاقِي غَيْرُ مُتَبَدِّلٍ، فَالْإِنْسَانُ مُغَايِرٌ لِهَذَا الْبَدَنِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ عَارِفًا بِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ حَالَ مَا يَكُونُ غَافِلًا عَنْ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالْمَعْلُومُ مُغَايِرٌ لِلْمَغْفُولِ عَنْهُ، فَالْإِنْسَانُ مُغَايِرٌ لِهَذَا الْبَدَنِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَقُولُ بِمُقْتَضَى فِطْرَتِهِ السَّلِيمَةِ يَدِي وَرِجْلِي وَدِمَاغِي وَقَلْبِي، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ فَيُضِيفُ كُلَّهَا إِلَى ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ وَالْمُضَافُ غَيْرُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَذَاتُهُ الْمَخْصُوصَةُ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُغَايِرَةً لِكُلِّ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ. فَإِنْ قَالُوا: أَلَيْسَ أَنَّهُ يُضِيفُ ذَاتَهُ إِلَى نَفْسِهِ، فَيَقُولُ ذَاتِي وَنَفْسِي فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ مُغَايِرَةً لِذَاتِهِ، وَهَذَا مُحَالٌ. قُلْنَا: نَحْنُ لَا نَتَمَسَّكُ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ حَتَّى يَلْزَمَنَا مَا ذَكَرْتُمُوهُ، بَلْ إِنَّمَا نَتَمَسَّكُ بِمَحْضِ الْعَقْلِ، فَإِنَّ صَرِيحَ الْعَقْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَوْجُودٌ وَاحِدٌ وَذَلِكَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ يَأْخُذُ بِآلَةِ الْيَدِ وَيُبْصِرُ بِآلَةِ الْعَيْنِ، وَيَسْمَعُ بِآلَةِ الْأُذُنِ فَالْإِنْسَانُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهَذِهِ الْأَعْضَاءُ آلَاتٌ لَهُ فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ شيء مغاير

لِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ وَالْآلَاتِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ شَيْءٌ مُغَايِرٌ لِهَذِهِ الْبِنْيَةِ وَلِهَذَا الْجَسَدِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ الْمُرَادُ مِنَ الْعَبْدِ جَوْهَرُ الرُّوحِ وَعَلَى هذا التقدير فلم يبقى فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى حُصُولِ الْإِسْرَاءِ بِالْجَسَدِ. فَإِنْ قَالُوا: فَالْإِسْرَاءِ بِالرُّوحِ لَيْسَ بِأَمْرٍ مُخَالِفٍ لِلْعَادَةِ، فَلَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُقَالَ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ. قُلْنَا: هَذَا أَيْضًا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَصَلَ لِرُوحِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِهِ الْبَتَّةَ، فَلَا جَرَمَ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ لَائِقًا بِهِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ وَجْهِ السُّؤَالِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ الْمِعْرَاجِ بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ مَعًا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ لَفْظَ الْعَبْدِ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا مَجْمُوعَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى [الْعَلَقِ: 9، 10] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ من العبد هاهنا مَجْمُوعُ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ. وَقَالَ أَيْضًا فِي سُورَةِ الْجِنِّ: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الْجِنِّ: 19] وَالْمُرَادُ مَجْمُوعُ الروح والجسد فكذا هاهنا، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَهُوَ الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي الصِّحَاحِ وَهُوَ مَشْهُورٌ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الذَّهَابِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ مِنْهُ إِلَى السموات، وَاحْتَجَّ الْمُنْكِرُونَ لَهُ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: بِالْوُجُوهِ الْعَقْلِيَّةِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: أَوَّلُهَا: أَنَّ الْحَرَكَةَ الْبَالِغَةَ فِي السُّرْعَةِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ. وَثَانِيهَا: أن صعود الجرم الثقيل إلى السموات غير معقول. وثالثها: أن صعوده إلى السموات يوجب انحراق الْأَفْلَاكِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَالشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَوْ صَحَّ لَكَانَ أَعْظَمَ مِنْ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ حَتَّى يَسْتَدِلُّوا بِهِ عَلَى صِدْقِهِ فِي ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ، فَأَمَّا أَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ وَلَا يُشَاهِدُهُ أَحَدٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ عَبَثًا، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ. وَالشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الْإِسْرَاءِ: 60] وَمَا تِلْكَ الرُّؤْيَا إِلَّا حَدِيثُ الْمِعْرَاجِ، وَإِنَّمَا كَانَ فِتْنَةً لِلنَّاسِ؟ لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ آمَنَ بِهِ لَمَّا سَمِعَ هَذَا الْكَلَامَ كَذَّبَهُ وَكَفَرَ/ بِهِ فَكَانَ حَدِيثُ الْمِعْرَاجِ سَبَبًا لِفِتْنَةِ النَّاسِ، فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ رُؤْيَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ. الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ حَدِيثَ الْمِعْرَاجِ اشْتَمَلَ عَلَى أَشْيَاءَ بَعِيدَةٍ، مِنْهَا مَا رُوِيَ مِنْ شَقِّ بَطْنِهِ وَتَطْهِيرِهِ بِمَاءِ زَمْزَمَ وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الَّذِي يُمْكِنُ غَسْلُهُ بِالْمَاءِ هُوَ النَّجَاسَاتِ الْعَيْنِيَّةِ وَلَا تَأْثِيرَ لِذَلِكَ فِي تَطْهِيرِ الْقَلْبِ عَنِ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ، وَمِنْهَا مَا رُوِيَ مِنْ رُكُوبِ الْبُرَاقِ وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا سَيَّرَهُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى عَالَمِ الْأَفْلَاكِ، فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى الْبُرَاقِ، وَمِنْهَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ خَمْسِينَ صَلَاةً ثُمَّ إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَلْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ مُوسَى إِلَى أَنْ عَادَ الْخَمْسُونَ إِلَى خَمْسٍ بِسَبَبِ شَفَقَةِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا يَقْتَضِي نَسْخَ الحكم قَبْلَ حُضُورِهِ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْبَدَاءَ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ما لا يَجُوزُ قَبُولُهُ فَكَانَ مَرْدُودًا. وَالْجَوَابُ عَنِ الْوُجُوهِ الْعَقْلِيَّةِ قَدْ سَبَقَ فَلَا نُعِيدُهَا. وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ: مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُهُ: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا وَهَذَا كَلَامٌ مُجْمَلٌ وفي

[سورة الإسراء (17) : الآيات 2 إلى 3]

تَفْصِيلِهِ وَشَرْحِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ خَيْرَاتِ الْجَنَّةِ عَظِيمَةٌ، وَأَهْوَالَ النَّارِ شَدِيدَةٌ، فَلَوْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا شَاهَدَهُمَا فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ شَاهَدَهُمَا فِي ابْتِدَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَرُبَّمَا رَغَبَ فِي خَيْرَاتِ الْجَنَّةِ أَوْ خَافَ مِنْ أَهْوَالِ النَّارِ، أَمَّا لَمَّا شَاهَدَهُمَا فِي الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ فَحِينَئِذٍ لَا يَعْظُمُ وَقْعُهُمَا فِي قَلْبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَّةِ فَلَا يَبْقَى مَشْغُولَ الْقَلْبِ بِهِمَا، وَحِينَئِذٍ يَتَفَرَّغُ لِلشَّفَاعَةِ. الثَّانِي: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ مُشَاهَدَتُهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ، صَارَتْ سَبَبًا لِتَكَامُلِ مَصْلَحَتِهِ أَوْ مَصْلَحَتِهِمْ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنَّهُ إِذَا صَعَدَ الْفَلَكَ وشاهد أحوال السموات وَالْكُرْسِيَّ وَالْعَرْشَ، صَارَتْ مُشَاهَدَةُ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ وَأَهْوَالِهِ حَقِيرَةً فِي عَيْنِهِ، فَتَحْصُلُ لَهُ زِيَادَةُ قُوَّةٍ فِي الْقَلْبِ بِاعْتِبَارِهَا يَكُونُ فِي شُرُوعِهِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَكْمَلَ وَقِلَّةُ الْتِفَاتِهِ إِلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَقْوَى، يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ عَايَنَ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْبَابِ، لَا يَكُونُ حَالُهُ فِي قُوَّةِ النَّفْسِ وَثَبَاتِ الْقَلْبِ عَلَى احْتِمَالِ الْمَكَارِهِ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ إِلَّا أَضْعَافَ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ حَالُ مَنْ لَمْ يُعَايِنْ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ فَائِدَةَ ذَلِكَ الْإِسْرَاءِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ وَعَائِدَةٌ إِلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الثَّالِثَةِ: أَنَّا عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ نُبَيِّنُ أَنَّ تِلْكَ الرُّؤْيَا رُؤْيَا عَيَانٍ لَا رُؤْيَا مَنَامٍ. وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الرَّابِعَةِ: لَا اعْتِرَاضَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَفْعَالِهِ فَهُوَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ ما يريد، والله أعلم. المسألة الثالثة: أما العروج إلى السموات وَإِلَى مَا فَوْقَ الْعَرْشِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَوَّلِ سُورَةِ وَالنَّجْمِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ [الِانْشِقَاقِ: 19] وَتَفْسِيرُهُمَا مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَأَمَّا دَلَالَةُ الْحَدِيثِ فَكَمَا سلف والله أعلم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 2 الى 3] وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِيهَا انْتَقَلَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ وَمِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الْغَيْبَةِ وَقَوْلُهُ: بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ دَالَّةٍ عَلَى الْحُضُورِ وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ يَدُلُّ عَلَى الْغَيْبَةِ وَقَوْلُهُ: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ إِلَخْ يَدُلُّ عَلَى الْحُضُورِ وَانْتِقَالُ الْكَلَامِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ وَبِالْعَكْسِ يُسَمَّى صَنْعَةَ الِالْتِفَاتِ. المسألة الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِكْرَامَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ أَسْرَى بِهِ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ أَكْرَمَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَبْلَهُ بِالْكِتَابِ الَّذِي آتَاهُ فَقَالَ: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يَعْنِي التَّوْرَاةَ: وَجَعَلْناهُ هُدىً أَيْ يُخْرِجُهُمْ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْكِتَابِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ الْحَقِّ وَقَوْلُهُ: أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا وَفِيهِ أبحاث:

البحث الأول: قرأ أبو عمرو: أَلَّا تَتَّخِذُوا بِالْيَاءِ خَبَرًا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخَطَابِ، أَيْ قُلْنَا لَهُمْ لَا تَتَّخِذُوا. البحث الثَّانِي: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: إِنَّ قَوْلَهُ: أَلَّا تَتَّخِذُوا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ (أَنْ) نَاصِبَةً لِلْفِعْلِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَجَعَلْنَاهُ هَدًى لِئَلَّا تَتَّخِذُوا. وَثَانِيهَا: أَنْ تَكُونَ (أَنْ) بِمَعْنَى أَيِ الَّتِي لِلتَّفْسِيرِ وَانْصَرَفَ الْكَلَامُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ فِي قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ كَمَا انْصَرَفَ مِنْهَا إِلَى الْخِطَابِ. وَالْأَمْرِ فِي قوله: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا [ص: 6] فَكَذَلِكَ انْصَرَفَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: أَلَّا تَتَّخِذُوا. وَثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ (أَنْ) زَائِدَةً وَيُجْعَلَ تَتَّخِذُوا عَلَى الْقَوْلِ الْمُضْمَرِ وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَقُلْنَا لَا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا. البحث الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَكِيلًا أَيْ رَبًّا تَكِلُونَ أُمُورَكُمْ إِلَيْهِ. أَقُولُ حَاصِلُ الْكَلَامِ فِيُ الْآيَةِ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ تَشْرِيفَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِسْرَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ تَشْرِيفَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ وَصَفَ التَّوْرَاةَ بِكَوْنِهَا هُدًى، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ التَّوْرَاةَ إِنَّمَا كَانَ هُدًى لِاشْتِمَالِهِ عَلَى النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ غَيْرِ اللَّهِ وَكِيلًا، وَذَلِكَ هُوَ التَّوْحِيدُ، فَرَجَعَ حَاصِلُ الْكَلَامِ بَعْدَ رِعَايَةِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ أَنَّهُ لَا مِعْرَاجَ أَعْلَى وَلَا دَرَجَةَ أَشْرَفُ وَلَا مَنْقَبَةَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَصِيرَ الْمَرْءُ غَرِقًا فِي بَحْرِ التَّوْحِيدِ وَأَنْ لَا يُعَوِّلَ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، فَإِنْ نَطَقَ، نطق بذكر الله، وإن تَفَكَّرَ فِي دَلَائِلِ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ طَلَبَ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ، فَيَكُونُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ، ثم قال: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَفِي نَصْبِ ذُرِّيَّةَ وَجْهَانِ: الوجه الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى النِّدَاءِ يَعْنِي: يَا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ لِأَنَّهُ قَالَ: هَذَا نِدَاءٌ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: لَا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا يَا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ قَالَ قَتَادَةُ: النَّاسُ كُلُّهُمْ ذُرِّيَّةُ نُوحٍ لِأَنَّهُ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ ثَلَاثَةُ بَنِينَ: سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ فَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ أُولَئِكَ، فَكَانَ قَوْلُهُ: يَا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ، قَائِمًا مَقَامَ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ. الوجه الثَّانِي: فِي نَصْبِ قَوْلِهِ: ذُرِّيَّةَ أَنَّ الِاتْخَاذَ فِعْلٌ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ كَقَوْلِهِ: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [النِّسَاءِ: 125] وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَتَّخِذُوا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ مِنْ دُونِي وَكِيلًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى نُوحٍ فَقَالَ: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً [الإسراء: 3] أَيْ كَانَ كَثِيرَ الشُّكْرِ، رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِذَا أَكَلَ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي وَلَوْ شَاءَ أَجَاعَنِي» وَإِذَا شَرِبَ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَسْقَانِي وَلَوْ شاء أظمأني» وإذا اكتسى قال: «الحمد الله الَّذِي كَسَانِي وَلَوْ شَاءَ أَعْرَانِي» وَإِذَا احْتَذَى قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي حَذَانِي وَلَوْ شَاءَ أَحْفَانِي» وَإِذَا قَضَى حَاجَتَهُ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْرَجَ عَنِّي أَذَاهُ فِي عَافِيَةٍ وَلَوْ شَاءَ حَبَسَهُ» وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ الْإِفْطَارَ عَرَضَ طَعَامَهُ عَلَى مَنْ آمَنَ بِهِ فَإِنْ وَجَدَهُ مُحْتَاجًا آثَرَهُ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً مَا وَجْهُ ملاءمته لِمَا قَبْلَهُ؟ قُلْنَا: التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا وَلَا تُشْرِكُوا بِي، لِأَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعَبْدُ شَكُورًا لَوْ كَانَ مُوَحِّدًا لَا يَرَى حُصُولَ شَيْءٍ مِنَ النِّعَمِ إِلَّا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ ذُرِّيَّةُ

[سورة الإسراء (17) : الآيات 4 إلى 6]

قَوْمِهِ فَاقْتَدُوا بِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا أَنَّ آباءكم اقتدوا به والله أعلم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 4 الى 6] وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ إِنْعَامَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِمْ، وَبِأَنَّهُ جَعَلَ التَّوْرَاةَ هُدًى لَهُمْ، بَيَّنَ أَنَّهُمْ مَا اهْتَدَوْا بِهُدَاهُ، بَلْ وَقَعُوا فِي الْفَسَادِ فَقَالَ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: الْقَضَاءُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ قَطْعِ الْأَشْيَاءِ عَنْ إِحْكَامٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [فُصِّلَتْ: 12] وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ ... فَقَوْلُهُ: وَقَضَيْنا أَيْ أَعْلَمْنَاهُمْ وَأَخْبَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ. وَلَفْظُ (إِلَى) صِلَةٌ لِلْإِيحَاءِ، لِأَنَّ مَعْنَى قَضَيْنَا أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ كَذَا. وَقَوْلُهُ: لَتُفْسِدُنَّ يُرِيدُ الْمَعَاصِيَ وَخِلَافَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ يَعْنِي أَرْضَ مِصْرَ وَقَوْلُهُ: وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً يَعْنِي أَنَّهُ يَكُونُ اسْتِعْلَاؤُكُمْ عَلَى النَّاسِ بِغَيْرِ الْحَقِّ اسْتِعْلَاءً عَظِيمًا، لِأَنَّهُ يُقَالُ لِكُلِّ مُتَجَبِّرٍ: قَدْ عَلَا وَتَعَظَّمَ، ثم قال: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما يَعْنِي أُولَى الْمَرَّتَيْنِ: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا جَاءَ وَعْدُ الْفُسَّاقِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى أَرْسَلْنَا عَلَيْكُمْ قَوْمًا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَنَجْدَةٍ وَشِدَّةٍ، وَالْبَأْسُ الْقِتَالُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحِينَ الْبَأْسِ [الْبَقَرَةِ: 177] وَمَعْنَى بَعَثْنا عَلَيْكُمْ أَرْسَلْنَا عَلَيْكُمْ، وَخَلَّيْنَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ خَاذِلِينَ إِيَّاكُمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الْعِبَادِ مَنْ هُمْ؟ قِيلَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَعَظَّمُوا وَتَكَبَّرُوا وَاسْتَحَلُّوا الْمَحَارِمَ وَقَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ، وَذَلِكَ أَوَّلُ الْفَسَادَيْنِ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتَنَصَّرَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِمَّنْ يَقْرَأُ التَّوْرَاةَ وَذَهَبَ بِالْبَقِيَّةِ إِلَى أَرْضِ نَفْسِهِ فَبَقُوا هُنَاكَ فِي الذُّلِّ إِلَى أَنْ قَيَّضَ اللَّهُ مَلِكًا آخَرَ غَزَا أَهْلَ بَابِلَ وَاتَّفَقَ أَنْ/ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَطَلَبَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَلِكَ الْمَلِكِ أَنْ يَرُدَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَفَعَلَ، وَبَعْدَ مُدَّةٍ قَامَتْ فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءُ وَرَجَعُوا إِلَى أَحْسَنِ مَا كَانُوا، فَهُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَلَّطَ عَلَيْهِمْ جَالُوتَ حَتَّى أَهْلَكَهُمْ وَأَبَادَهُمْ وَقَوْلُهُ: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَوَّى طَالُوتَ حَتَّى حَارَبَ جَالُوتَ وَنَصَرَ دَاوُدَ حَتَّى قَتَلَ جَالُوتَ فَذَاكَ هُوَ عَوْدُ الْكَرَّةِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ قَوْلَهُ: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَلْقَى الرُّعْبَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قُلُوبِ الْمَجُوسِ، فَلَمَّا كَثُرَتِ الْمَعَاصِي فِيهِمْ أَزَالَ ذَلِكَ الرُّعْبَ عَنْ قُلُوبِ الْمَجُوسِ فَقَصَدُوهُمْ وَبَالَغُوا فِي قَتْلِهِمْ وَإِفْنَائِهِمْ وإهلاكهم.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ كَثِيرُ غَرَضٍ فِي مَعْرِفَةِ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ بِأَعْيَانِهِمْ، بَلِ الْمَقْصُودُ هُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَكْثَرُوا مِنَ الْمَعَاصِي سَلَّطَ عَلَيْهِمْ أَقْوَامًا قَتَلُوهُمْ وَأَفْنَوْهُمْ. ثم قال تَعَالَى: فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ قَالَ اللَّيْثُ: الْجَوْسُ وَالْجَوَسَانُ التَّرَدُّدُ خِلَالَ الدِّيَارِ، وَالْبُيُوتِ فِي الْفَسَادِ، وَالْخِلَالُ هُوَ الِانْفِرَاجُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَالدِّيَارُ دِيَارُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، واختلفت عبارات المفسرين في تفسير جاسوا فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَتَّشُوا وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: طَلَبُوا مَنْ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: عَاثُوا وَأَفْسَدُوا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: طَافُوا خِلَالَ الدِّيَارِ هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ لَمْ يَقْتُلُوهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْجَوْسُ هُوَ التَّرَدُّدُ وَالطَّلَبُ وَذَلِكَ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ مَا قَالُوهُ. ثم قال تَعَالَى: وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا أَيْ كَانَ قَضَاءُ اللَّهِ بِذَلِكَ قَضَاءً جَزْمًا حَتْمًا لَا يَقْبَلُ النَّقْضَ وَالنَّسْخَ، ثم قال تَعَالَى: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ أَيْ أَهْلَكْنَا أَعْدَاءَكُمْ وَرَدَدْنَا الدَّوْلَةَ وَالْقُوَّةَ عَلَيْكُمْ. وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً النَّفِيرُ الْعَدَدُ مِنَ الرِّجَالِ وَأَصْلُهُ مِنْ نَفَرَ مَعَ الرَّجُلِ مِنْ عَشِيرَتِهِ وَقَوْمِهِ، وَالنَّفِيرُ وَالنَّافِرُ وَاحِدٌ، كَالْقَدِيرِ وَالْقَادِرِ، وَذَكَرْنَا مَعْنَى نَفَرَ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ [التَّوْبَةِ: 122] وَقَوْلِهِ: انْفِرُوا خِفافاً [التَّوْبَةِ: 41] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً وَهَذَا الْقَضَاءُ أَقَلُّ احْتِمَالَاتِهِ الحكم الْجَزْمُ، وَالْخَبَرُ الْحَتْمُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ سَيُقْدِمُونَ عَلَى الْفَسَادِ وَالْمَعَاصِي خَبَرًا جَزْمًا لَا يَقْبَلُ النَّسْخَ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ مَعْنَاهُ الحكم الْجَزْمُ عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ ذَلِكَ الْقَضَاءَ مَزِيدَ تَأْكِيدٍ فَقَالَ: وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: عَدَمُ وُقُوعِ ذَلِكَ الْفَسَادِ عَنْهُمْ يَسْتَلْزِمُ انْقِلَابَ خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى الصِّدْقِ كَذِبًا وَانْقِلَابَ حُكْمِهِ الْجَازِمِ بَاطِلًا، وَانْقِلَابَ عِلْمِهِ الْحَقِّ جَهْلًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ، فَكَانَ عَدَمُ إِقْدَامِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْفَسَادِ مُحَالًا، فَكَانَ إِقْدَامُهُمْ عَلَيْهِ وَاجِبًا ضَرُورِيًّا لَا يَقْبَلُ النَّسْخَ وَالرَّفْعَ، مَعَ أَنَّهُمْ كُلِّفُوا بِتَرْكِهِ وَلُعِنُوا عَلَى فِعْلِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ يَأْمُرُ بِشَيْءٍ وَيَصُدُّ عَنْهُ وَقَدْ يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ وَيَقْضِي بِتَحْصِيلِهِ، فَهَذَا أَحَدُ وُجُوهِ الِاسْتِدَلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. الوجه الثَّانِي: فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْمُرَادُ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَسَلَّطُوا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْقَتْلِ وَالنَّهْبِ وَالْأَسْرِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَعَثَهُمْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَتْلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَنَهْبَ أَمْوَالِهِمْ وَأَسْرَ أَوْلَادِهِمْ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الظُّلْمِ الْكَثِيرِ وَالْمَعَاصِي الْعَظِيمَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ كُلَّ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَالطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْ بَعَثْنا عَلَيْكُمْ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ بِغَزْوِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا ظَهَرَ فِيهِمْ مِنَ الْفَسَادِ، فَأُضِيفَ ذَلِكَ الْفَعْلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ الْأَمْرُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ خَلَّيْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَا أَلْقَيْنَا الْخَوْفَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قُلُوبِهِمْ. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْبَعْثِ التَّخْلِيَةُ وَعَدَمُ الْمَنْعِ.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 7 إلى 8]

وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ الْأَوَّلَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الَّذِينَ قَصَدُوا تَخْرِيبَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِحْرَاقَ التَّوْرَاةِ وَقَتْلَ حُفَّاظِ التَّوْرَاةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْبَعْثَ عَلَى الْفِعْلِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْوِيَةِ عَلَيْهِ وَإِلْقَاءِ الدَّوَاعِي الْقَوِيَّةِ فِي الْقَلْبِ، وَأَمَّا التَّخْلِيَةُ فَعِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْمَنْعِ، وَالْأَوَّلُ فِعْلٌ، وَالثَّانِي تَرْكٌ، فَتَفْسِيرُ الْبَعْثِ بِالتَّخْلِيَةِ تَفْسِيرٌ لِأَحَدِ الضِّدَّيْنِ بِالْآخَرِ وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، فثبت صحة ما ذكرناه والله أعلم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 7 الى 8] إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمَّا عَصَوْا سَلَّطَ عَلَيْهِمْ أَقْوَامًا قَصَدُوهُمْ بِالْقَتْلِ وَالنَّهْبِ وَالسَّبْيِ، وَلَمَّا تَابُوا أَزَالَ عَنْهُمْ تِلْكَ الْمِحْنَةَ وَأَعَادَ عَلَيْهِمُ الدَّوْلَةَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّهُمْ إِنْ أَطَاعُوا فَقَدْ أَحْسَنُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى الْمَعْصِيَةِ فقد أساؤا إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى النَّفْسِ حَسَنٌ مَطْلُوبٌ، وَأَنَّ الْإِسَاءَةَ إِلَيْهَا قَبِيحَةٌ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها. المسألة الثانية: قال الواحدي: لا بد هاهنا مِنْ إِضْمَارٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَقُلْنَا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، وَالْمَعْنَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ فَقَدْ أَحْسَنْتُمْ إِلَى أَنْفُسِكُمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّ بِبَرَكَةِ تِلْكَ الطَّاعَاتِ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أَبْوَابَ الْخَيْرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ بِفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ أَسَأْتُمْ إِلَى أَنْفُسِكُمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّ بِشُؤْمِ تِلْكَ الْمَعَاصِي يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أَبْوَابَ الْعُقُوبَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ النَّحْوِيُّونَ: إِنَّمَا قَالَ: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها لِلتَّقَابُلِ وَالْمَعْنَى: فَإِلَيْهَا أَوْ فَعَلَيْهَا مَعَ أَنَّ حُرُوفَ الْإِضَافَةِ يَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزَّلْزَلَةِ: 4، 5] أَيْ إِلَيْهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَهْلُ الْإِشَارَاتِ هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى غَالِبَةٌ عَلَى غَضَبِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمَّا حَكَى عَنْهُمُ الْإِحْسَانَ أَعَادَهُ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَلَمَّا حَكَى عَنْهُمُ الْإِسَاءَةَ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَالَ: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها وَلَوْلَا أَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ غَالِبٌ وَإِلَّا لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ وَعْدُ الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ، وَهَذِهِ الْمَرَّةُ الْأَخِيرَةُ هِيَ إِقْدَامُهُمْ عَلَى قَتْلِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بُخْتُنَصَّرَ الْبَابِلِيَّ الْمَجُوسِيَّ أَبْغَضَ خَلْقِهِ إِلَيْهِ فَسَبَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَتَلَ وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَقُولُ: التَّوَارِيخُ تَشْهَدُ بِأَنَّ بُخْتُنَصَّرَ كَانَ قَبْلَ وَقْتِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيَحْيَى وَزَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِسِنِينَ مُتَطَاوِلَةٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَلِكَ الَّذِي انتقم من

الْيَهُودِ بِسَبَبِ هَؤُلَاءِ مَلِكٌ مِنَ الرُّومِ يُقَالُ لَهُ: / قُسْطَنْطِينُ الْمَلِكُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَحْوَالِهِمْ، وَلَا يَتَعَلَّقُ غَرَضٌ مِنْ أَغْرَاضِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِمَعْرِفَةِ أَعْيَانِ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: جَوَابُ قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخرة بعثناهم ليسوؤا وُجُوهَكُمْ وَإِنَّمَا حَسُنَ هَذَا الْحَذْفُ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا [الإسراء: 5] ثم قال: لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: سَاءَهُ يَسُوءُهُ أَيْ أَحْزَنَهُ، وَإِنَّمَا عَزَا الْإِسَاءَةَ إِلَى الْوُجُوهِ، لِأَنَّ آثَارَ الْأَعْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْقَلْبِ إِنَّمَا تَظْهَرُ عَلَى الْوَجْهِ، فَإِنْ حَصَلَ الْفَرَحُ فِي الْقَلْبِ ظَهَرَتِ النَّضْرَةُ وَالْإِشْرَاقُ وَالْإِسْفَارُ فِي الْوَجْهِ وَإِنْ حَصَلَ الْحُزْنُ وَالْخَوْفُ فِي الْقَلْبِ ظَهَرَ الْكُلُوحُ وَالْغَبَرَةُ وَالسَّوَادُ فِي الْوَجْهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ عُزِيَتِ الْإِسَاءَةُ إِلَى الْوُجُوهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَنَظِيرُ هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ فِي القرآن. المسألة الثانية: قرأ العامة: ليسوؤا عَلَى صِيغَةِ الْمُغَايَبَةِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِلْمَعْنَى وَلِلَّفْظِ. أَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ الْمَبْعُوثِينَ هم الذين يسوؤنهم فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ وَأَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّهُ يُوَافِقُ قَوْلَهُ: وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ: لِيَسُوءَ عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ الْوَاحِدُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ أَشْيَاءَ ثَلَاثَةٍ: إِمَّا اسْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِأَنَّ الَّذِي تقدم هو قوله: ثُمَّ رَدَدْنا ... وَأَمْدَدْناكُمْ [الإسراء: 6] ، وَكُلُّ ذَلِكَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ هُوَ الْبَعْثَ وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: بَعَثْنا وَالْفِعْلُ الْمُتَقَدِّمُ يَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 180] وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لِيَسُوءَ الْوَعْدُ وُجُوهَكُمْ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِالنُّونِ وَهَذَا عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ أَمْدَدْناكُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً يُقَالُ: تَبِرَ الشَّيْءُ تَبْرًا إِذَا هَلَكَ وَتَبَّرَهُ أَهْلَكَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ شَيْءٍ جَعَلْتَهُ مُكَسَّرًا وَمُفَتَّتًا فَقَدْ تَبَّرْتَهُ، وَمِنْهُ قِيلَ: تِبْرُ الزُّجَاجِ وَتِبْرُ الذَّهَبِ لِمُكَسَّرِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْأَعْرَافِ: 139] وَقَوْلُهُ: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً [نُوحٍ: 28] وَقَوْلُهُ: مَا عَلَوْا يَحْتَمِلُ مَا غَلَبُوا عَلَيْهِ وَظَفِرُوا بِهِ، وَيَحْتَمِلُ وَيُتَبِّرُوا مَا دَامُوا غَالِبِينَ، أَيْ مَا دَامَ سُلْطَانُهُمْ جَارِيًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَوْلُهُ: تَتْبِيراً ذِكْرٌ لِلْمَصْدَرِ عَلَى مَعْنَى تَحْقِيقِ الْخَبَرِ وَإِزَالَةِ الشَّكِّ فِي صِدْقِهِ كَقَوْلِهِ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النِّسَاءِ: 164] أَيْ حَقًّا، وَالْمَعْنَى: وَلِيُدَمِّرُوا وَيُخَرِّبُوا مَا غَلَبُوا عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَالْمَعْنَى: لَعَلَّ رَبَّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَيَعْفُوَ عَنْكُمْ بَعْدَ انْتِقَامِهِ مِنْكُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا يَعْنِي: أَنَ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ مَنْ بَعَثْنَا، فَفَعَلُوا بِكُمْ مَا فَعَلُوا عُقُوبَةً لَكُمْ وَعِظَةً لِتَنْتَفِعُوا بِهِ وتنزجروا بِهِ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، ثُمَّ رَحِمَكُمْ فَأَزَالَ هَذَا الْعَذَابَ عَنْكُمْ، فَإِنْ عُدْتُمْ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى الْمَعْصِيَةِ عُدْنَا إِلَى صَبِّ الْبَلَاءِ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا مَرَّةً أُخْرَى. قَالَ الْقَفَّالُ: إِنَّمَا حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى عَذَابِ الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ خَبَرًا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ [الْأَعْرَافِ: 167] ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا أَيْ وَإِنَّهُمْ قَدْ عَادُوا إِلَى فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي وهو

[سورة الإسراء (17) : الآيات 9 إلى 10]

التكذيب لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِتْمَانُ مَا وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَعَادَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالتَّعْذِيبِ عَلَى أَيْدِي الْعَرَبِ فَجَرَى عَلَى بَنِي النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ وَيَهُودِ خَيْبَرَ مَا جَرَى مِنَ الْقَتْلِ وَالْجَلَاءِ، ثُمَّ الْبَاقُونَ مِنْهُمْ مَقْهُورُونَ بِالْجِزْيَةِ لَا مُلْكَ لَهُمْ وَلَا سُلْطَانَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً وَالْحَصِيرُ فَعِيلٌ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، أَيْ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ حَاصِرَةً لَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ جَعَلْنَاهَا مَوْضِعًا مَحْصُورًا لَهُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ شَدِيدًا قَوِيًّا إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَتَفَلَّتُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْهُ، وَالَّذِي يَقَعُ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ يَتَخَلَّصُ عَنْهُ، إِمَّا بِالْمَوْتِ وَإِمَّا بِطَرِيقٍ آخَرَ، وَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ حَاصِرًا لِلْإِنْسَانِ مُحِيطًا بِهِ لَا رَجَاءَ فِي الْخَلَاصِ عَنْهُ، فَهَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا مَا وَصَفْنَاهُ وَيَكُونُ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ مَا يَكُونُ مُحِيطًا بِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ ولا يتخلصون منه أبدا. [سورة الإسراء (17) : الآيات 9 الى 10] إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ مَا فَعَلَهُ فِي حَقِّ عِبَادِهِ الْمُخْلِصِينَ وَهُوَ الْإِسْرَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِيتَاءُ الْكِتَابِ لِمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَا فَعَلَهُ فِي حَقِّ الْعُصَاةِ وَالْمُتَمَرِّدِينَ وَهُوَ تَسْلِيطُ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ عَلَيْهِمْ، كَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تُوجِبُ كُلَّ خَيْرٍ وَكَرَامَةٍ وَمَعْصِيَتَهُ تُوجِبُ كُلَّ بَلِيَّةٍ وَغَرَامَةٍ، لَا جَرَمَ أَثْنَى عَلَى الْقُرْآنِ فَقَالَ: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [الْأَنْعَامِ: 161] يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ هَذَا الدِّينِ مُسْتَقِيمًا، وَقَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ أَقْوَمُ مِنْ سَائِرِ الْأَدْيَانِ. وَأَقُولُ: قَوْلُنَا هَذَا الشَّيْءُ أَقْوَمُ مِنْ ذَاكَ، إِنَّمَا يَصِحُّ فِي شَيْئَيْنِ يَشْتَرِكَانِ فِي مَعْنَى الِاسْتِقَامَةِ، ثُمَّ كَانَ حُصُولُ مَعْنَى الِاسْتِقَامَةِ فِي إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ أَكْثَرَ وَأَكْمَلَ مِنْ حُصُولِهِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِهِ مُسْتَقِيمًا كَوْنُهُ حَقًّا وَصِدْقًا، وَدُخُولُ التَّفَاوُتِ فِي كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا وَصِدْقًا مُحَالٌ، فَكَانَ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ أَقْوَمُ مَجَازًا، إِلَّا أَنَّ لَفْظَ الْأَفْعَلِ قَدْ جَاءَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ كَقَوْلِنَا: اللَّهُ أَكْبَرُ أَيِ اللَّهُ كَبِيرٌ، وَقَوْلِنَا: الْأَشَجُّ وَالنَّاقِصُ أَعْدَلَا بَنِي مَرْوَانَ، أَيْ: عَادِلَا بَنِي مَرْوَانَ، أَوْ يُحْمَلُ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى الظَّاهِرِ الْمُتَعَارَفِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ نَعْتٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: يَهْدِي لِلْمِلَّةِ أَوِ الشَّرِيعَةِ أَوِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الْمِلَلِ وَالشَّرَائِعِ وَالطُّرُقِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْكِنَايَةِ كَثِيرَةُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت: 34] أَيْ بِالْخَصْلَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْقُرْآنَ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الصِّفَاتِ: الصِّفَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يُبَشِّرُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ بِالْأَجْرِ الْكَبِيرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصِّفَةَ الْأُولَى لَمَّا دَلَّتْ عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ هَادِيًا إِلَى الِاعْتِقَادِ الْأَصْوَبِ وَالْعَمَلِ الْأَصْلَحِ، وَجَبَ أَنْ يَظْهَرَ لِهَذَا الصَّوَابِ وَالصَّلَاحِ أَثَرٌ، وَذَلِكَ هُوَ

[سورة الإسراء (17) : آية 11]

الْأَجْرُ الْكَبِيرُ لِأَنَّ الطَّرِيقَ الْأَقْوَمَ لَا بُدَّ وَأَنْ يُفِيدَ الرِّبْحَ الْأَكْبَرَ وَالنَّفْعَ الْأَعْظَمَ. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ الْأَصْوَبَ وَالْعَمَلَ الْأَصْلَحَ، كَمَا يُوجِبُ لِفَاعِلِهِ النَّفْعَ الْأَكْمَلَ الْأَعْظَمَ، فَكَذَلِكَ تَرْكُهُ يُوجِبُ لِتَارِكِهِ الضَّرَرَ الْأَعْظَمَ الْأَكْمَلَ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى بَشَّرَ الْمُؤْمِنِينَ بِنَوْعَيْنِ مِنَ الْبِشَارَةِ بِثَوَابِهِمْ وَبِعِقَابِ أَعْدَائِهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: بَشَّرْتُ زَيْدًا أَنَّهُ سَيُعْطَى وَبِأَنَّ عَدُوَّهُ سَيُمْنَعُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَلِيقُ لَفْظُ الْبِشَارَةِ بِالْعَذَابِ؟ قُلْنَا: مَذْكُورٌ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ الضِّدَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ، كَقَوْلِهِ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] . فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ وَارِدَةٌ فِي شَرْحِ أَحْوَالِ الْيَهُودِ وَهُمْ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَ الْإِيمَانَ بِالْآخِرَةِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلُهُ: وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. قُلْنَا عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَكْثَرَ الْيَهُودِ يُنْكِرُونَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ الْجُسْمَانِيَّيْنِ، وَالثَّانِي: أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [آلِ عِمْرَانَ: 24] فَهُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ صَارُوا كَالْمُنْكِرِينَ لِلْآخِرَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة الإسراء (17) : آية 11] وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ] وَفِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ النَّظْمِ هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ وَخَصَّهُ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ وَالْكَرَامَةِ الْكَامِلَةِ، قَدْ يَعْدِلُ عَنِ التَّمَسُّكِ بِشَرَائِعِهِ وَالرُّجُوعِ إِلَى بَيَانَاتِهِ، وَيُقْدِمُ عَلَى مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَقَالَ: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ دُعَاءِ الْإِنْسَانِ بِالشَّرِّ عَلَى أَقْوَالٍ: الْقَوْلُ الأول: المراد منه: النضر بن الحرث حيث قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ [الْأَنْفَالِ: 32] فَأَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ وَضُرِبَتْ رَقَبَتُهُ، فكان بعضهم يقول: ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ [العنكبوت: 29] . وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُسَ: 48] . وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِلْجَهْلِ وَاعْتِقَادِ أَنَّ مُحَمَّدًا كَاذِبٌ فِيمَا يَقُولُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ أَنَّهُ فِي وَقْتِ الضَّجَرِ يَلْعَنُ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَوَلَدَهُ وَمَالَهُ، وَلَوِ اسْتُجِيبَ لَهُ فِي الشَّرِّ كَمَا يُسْتَجَابُ لَهُ فِي الْخَيْرِ لَهَلَكَ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ إِلَى سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ أَسِيرًا فَأَقْبَلَ يَئِنُّ بِاللَّيْلِ فَقَالَتْ لَهُ: مَا لَكَ تَئِنُّ؟ فَشَكَى أَلَمَ القدّ فَأَرْخَتْ لَهُ مِنْ كِتَافِهِ، فَلَمَّا نَامَتْ أَخْرَجَ يَدَهُ وَهَرَبَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَعَا بِهِ فَأُعْلِمَ بِشَأْنِهِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اللَّهُمَّ اقْطَعْ يَدَهَا» فَرَفَعَتْ سَوْدَةُ يَدَهَا تَتَوَقَّعُ أَنْ يَقْطَعَ اللَّهُ يَدَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ دُعَائِي عَلَى مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ عَذَابًا مِنْ أَهْلِي رَحْمَةً لِأَنِّي بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا تَغْضَبُونَ، فَلْتَرُدَّ سَوْدَةُ يَدَهَا» .

[سورة الإسراء (17) : آية 12]

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَقُولُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُبَالِغُ فِي الدُّعَاءِ طَلَبًا لِشَيْءٍ يَعْتَقِدُ أَنَّ خَيْرَهُ فِيهِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ يَكُونُ مَنْبَعَ شَرِّهِ وَضَرَرِهِ، وَهُوَ يُبَالِغُ فِي طَلَبِهِ لِجَهْلِهِ بِحَالِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَإِنَّمَا يُقْدِمُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ لِكَوْنِهِ عَجُولًا مُغْتَرًّا بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ غَيْرَ مُتَفَحِّصٍ عَنْ حقائقها وأسرارها. البحث الثالث: الْقِيَاسُ إِثْبَاتُ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: وَيَدْعُ إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ فِي الْمُصْحَفِ مِنَ الْكِتَابَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِي اللَّفْظِ، أَمَّا لَمْ تُحْذَفْ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ، وَنَظِيرُهُ: سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [الْعَلَقِ: 18] وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 146] ويَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ [ق: 41] فَما تُغْنِ النُّذُرُ [الْقَمَرِ: 5] وَلَوْ كَانَ بِالْوَاوِ وَالْيَاءِ لَكَانَ صَوَابًا هَذَا كَلَامُ الْفَرَّاءِ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ عَصَمَ هَذَا الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ عَنِ التَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ فَإِنَّ إِثْبَاتَ الْيَاءِ وَالْوَاوِ فِي أَكْثَرِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَعَدَمَ إِثْبَاتِهِمَا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْمَعْدُودَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نُقِلَ كَمَا سُمِعَ، وَأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ بِمِقْدَارِ فَهْمِهِ وَقُوَّةِ عَقْلِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا وَفِي هَذَا الْإِنْسَانِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَهَتِ الرُّوحُ إِلَى سُرَّتِهِ نَظَرَ إِلَى جَسَدِهِ فَأَعْجَبَهُ فَذَهَبَ لِيَنْهَضَ فَلَمْ يَقْدِرْ، فَهُوَ قَوْلُهُ: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْجِنْسِ، لِأَنَّ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ لَا يَعْرَى عَنْ عَجَلَةٍ، وَلَوْ تَرَكَهَا لَكَانَ تَرْكُهَا أَصْلَحَ لَهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَأَقُولُ: بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، كَانَ الْمَقْصُودُ عَائِدًا إِلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، لِأَنَّا إِذَا حَمَلْنَا الْإِنْسَانَ عَلَى آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ آدَمَ الَّذِي كَانَ أَصْلَ الْبَشَرِ لَمَّا كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الْعَجَلَةِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ صِفَةً لَازِمَةً لِلْكُلِّ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ عَائِدًا إِلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، وَاللَّهُ أعلم. [سورة الإسراء (17) : آية 12] وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) [فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَقْرِيرِ النَّظْمِ وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا أَوْصَلَ إِلَى الْخَلْقِ مِنْ نِعَمِ الدِّينِ وَهُوَ الْقُرْآنُ أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ مَا أَوْصَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا فَقَالَ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ وَكَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ مُمْتَزِجٌ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، فَكَذَلِكَ الدَّهْرُ مُرَكَّبٌ مِنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ فَالْمُحْكَمُ كَالنَّهَارِ، وَالْمُتَشَابِهُ كَاللَّيْلِ، وَكَمَا/ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّكْلِيفِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِذِكْرِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، فَكَذَلِكَ الْوَقْتُ وَالزَّمَانُ لَا يَكْمُلُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إِلَّا بِالنَّهَارِ وَاللَّيْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ النَّظْمِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وَذَلِكَ الْأَقْوَمُ لَيْسَ إِلَّا ذِكْرَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، لَا جَرَمَ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَهُوَ عَجَائِبُ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا وَصَفَ الْإِنْسَانَ بِكَوْنِهِ عَجُولًا أَيْ مُنْتَقِلًا مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ وَمِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ، بَيَّنَ

أَنَّ كُلَّ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ كَذَلِكَ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلْمَةِ وَبِالضِّدِّ، وَانْتِقَالُ نُورِ الْقَمَرِ مِنَ الزِّيَادَةِ إِلَى النُّقْصَانِ وَبِالضِّدِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَتَيْنِ نَفْسَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمَا دَلِيلَيْنِ لِلْخَلْقِ عَلَى مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. أَمَّا فِي الدِّينِ: فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُضَادٌّ لِلْآخَرِ مُغَايِرٌ لَهُ، مَعَ كَوْنِهِمَا مُتَعَاقِبَيْنِ عَلَى الدَّوَامِ، مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُمَا غَيْرُ مَوْجُودَيْنِ لِذَاتِهِمَا، بَلْ لا بد لهما من فاعل يدبر هما ويقدر هما بِالْمَقَادِيرِ الْمَخْصُوصَةِ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا: فَلِأَنَّ مَصَالِحَ الدُّنْيَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَلَوْلَا اللَّيْلُ لَمَا حَصَلَ السُّكُونُ وَالرَّاحَةُ، وَلَوْلَا النَّهَارُ لَمَا حَصَلَ الْكَسْبُ وَالتَّصَرُّفُ فِي وُجُوهِ الْمَعَاشِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: تَكُونُ الْإِضَافَةُ فِي آيَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِلتَّبْيِينِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَمَحْوُنَا الْآيَةَ الَّتِي هِيَ اللَّيْلُ وَجَعَلْنَا الْآيَةَ الَّتِي هِيَ نَفْسُ النَّهَارِ مُبْصِرَةً، وَنَظِيرُهُ قَوْلُنَا: نَفْسُ الشَّيْءِ وَذَاتُهُ، فَكَذَلِكَ آيَةُ اللَّيْلِ هِيَ نَفْسُ اللَّيْلِ. وَيُقَالُ أَيْضًا: دَخَلْتُ بِلَادَ خُرَاسَانَ أَيْ دَخَلْتُ الْبِلَادَ الَّتِي هي خراسان، فكذلك هاهنا. القول الثاني: أن يكون المراد وجعلنا نيري الليل والنهر آيَتَيْنِ يُرِيدُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَهِيَ الْقَمَرُ، وَفِي تَفْسِيرِ مَحْوِ الْقَمَرِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَظْهَرُ فِي الْقَمَرِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي النُّورِ، فَيَبْدُو فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فِي صُورَةِ الْهِلَالِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَتَزَايَدُ نُورُهُ حَتَّى يَصِيرَ بَدْرًا كَامِلًا، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الِانْتِقَاصِ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَذَلِكَ هُوَ الْمَحْوُ، إِلَى أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمَحَاقِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْ مَحْوِ الْقَمَرِ الْكَلَفُ الَّذِي يَظْهَرُ فِي وَجْهِهِ يُرْوَى أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كَانَا سَوَاءً فِي النُّورِ وَالضَّوْءِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَمَرَّ جَنَاحَهُ عَلَى وَجْهِ الْقَمَرِ/ فَطَمَسَ عَنْهُ الضَّوْءَ. وَمَعْنَى الْمَحْوِ فِي اللُّغَةِ: إِذْهَابُ الْأَثَرِ، تَقُولُ: مَحَوْتُهُ أَمْحُوهُ وَانْمَحَى وَامْتَحَى إِذَا ذَهَبَ أَثَرُهُ، وَأَقُولُ: حَمْلُ الْمَحْوِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الوجه الأول أولى، وذلك لأن وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا هُوَ مَذْكُورٌ قَبْلُ، وَهُوَ مَحْوُ آيَةِ اللَّيْلِ. وَجَعْلُ آيَةِ النَّهَارِ مُبْصِرَةً وَمَحْوُ آيَةِ اللَّيْلِ إِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي ابْتِغَاءِ فَضْلِ اللَّهِ إِذَا حَمَلْنَا الْمَحْوَ عَلَى زِيَادَةِ نُورِ الْقَمَرِ وَنُقْصَانِهِ، لِأَنَّ سَبَبَ حُصُولِ هَذِهِ الْحَالَةِ يَخْتَلِفُ بِأَحْوَالِ نُورِ الْقَمَرِ، وَأَهْلُ التَّجَارِبِ بَيَّنُوا أَنَّ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْقَمَرِ فِي مَقَادِيرِ النُّورِ لَهُ أَثَرٌ عَظِيمٌ فِي أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ وَمَصَالِحِهِ، مِثْلَ أَحْوَالِ الْبِحَارِ فِي الْمَدِّ وَالْجَزْرِ، وَمِثْلَ أَحْوَالِ التَّجْرِبَاتِ عَلَى مَا تَذْكُرُهُ الْأَطِبَّاءُ فِي كُتُبِهِمْ، وَأَيْضًا بِسَبَبِ زِيَادَةِ نُورِ الْقَمَرِ وَنُقْصَانِهِ يَحْصُلُ الشُّهُورُ، وَبِسَبَبِ مُعَاوَدَةِ الشُّهُورِ يَحْصُلُ السُّنُونَ الْعَرَبِيَّةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى رُؤْيَةِ الْأَهِلَّةِ كَمَا قَالَ: وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ فَثَبَتَ أَنَّ حَمْلَ الْمَحْوِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى. وَأَقُولُ أَيْضًا: لَوْ حَمَلْنَا الْمَحْوَ عَلَى الْكَلَفِ الْحَاصِلِ فِي وَجْهِ الْقَمَرِ، فَهُوَ أَيْضًا بُرْهَانٌ عَظِيمٌ قَاهِرٌ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، أَمَّا دَلَالَتُهُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فِي الْمَبْدَأِ، فَلِأَنَّ جِرْمَ الْقَمَرِ جِرْمٌ بَسِيطٌ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَشَابِهَ الصِّفَاتِ، فَحُصُولُ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ الْمَحْوِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ليس بسبب

الطَّبِيعَةِ، بَلْ لِأَجْلِ أَنَّ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ خَصَّصَ بَعْضَ أَجْزَائِهِ بِالنُّورِ الْقَوِيِّ، وَبَعْضَ أَجْزَائِهِ بِالنُّورِ الضَّعِيفِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُدَبِّرَ الْعَالَمِ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ لَا مُوجَبٌ بِالذَّاتِ. وَأَحْسَنُ مَا ذَكَرَهُ الْفَلَاسِفَةُ فِي الِاعْتِذَارِ عَنْهُ، أَنَّهُ ارْتَكَزَ فِي وَجْهِ الْقَمَرِ أَجْسَامٌ قَلِيلَةُ الضَّوْءِ، مِثْلُ ارْتِكَازِ الْكَوَاكِبِ فِي أَجْرَامِ الْأَفْلَاكِ، فَلَمَّا كَانَتْ تلك الأجرام أقل ضوءا مِنْ جِرْمِ الْقَمَرِ، لَا جَرَمَ شُوهِدَتْ تِلْكَ الْأَجْرَامُ فِي وَجْهِ الْقَمَرِ كَالْكَلَفِ فِي وَجْهِ الْإِنْسَانِ، وَهَذَا لَا يُفِيدُ مَقْصُودَ الْخَصْمِ، لِأَنَّ جِرْمَ الْقَمَرِ لَمَّا كَانَ مُتَشَابِهَ الْأَجْزَاءِ فَلِمَ ارْتَكَزَتْ تِلْكَ الْأَجْرَامُ الظُّلْمَانِيَّةُ فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ الْقَمَرِ دُونَ سَائِرِ الْأَجْزَاءِ؟ وَبِمِثْلِ هَذَا الطَّرِيقِ يَتَمَسَّكُ فِي أَحْوَالِ الْكَوَاكِبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفَلَكَ جِرْمٌ بَسِيطٌ مُتَشَابِهُ الْأَجْزَاءِ فَلِمَ لَمْ يَكُنْ حُصُولُ جِرْمِ الْكَوَاكِبِ فِي بَعْضِ جَوَانِبِهِ أَوْلَى مِنْ حُصُولِهِ فِي سَائِرِ الْجَوَانِبِ؟ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ الْكَوْكَبِ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ الْمُعَيَّنِ مِنَ الْفَلَكِ لِأَجْلِ تَخْصِيصِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَكُلُّ هَذِهِ الدَّلَائِلِ إِنَّمَا يُرَادُ مِنْ تَقْرِيرِهَا وَإِيرَادِهَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْعَالَمِ فَاعِلٌ بِالِاخْتِيَارِ لَا مُوجَبٌ بِالذَّاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهَا مُبْصِرَةً أَيْ مُضِيئَةً وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِضَاءَةَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْإِبْصَارِ، فَأُطْلِقَ اسْمُ الْإِبْصَارِ عَلَى الْإِضَاءَةِ إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ. وَالثَّانِي: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُقَالُ: قَدْ أَبْصَرَ النَّهَارُ إِذَا صَارَ النَّاسُ يُبْصِرُونَ فِيهِ، كَقَوْلِهِ: / رَجُلٌ مُخْبِثٌ إِذَا كَانَ أَصْحَابُهُ خُبَثَاءَ، وَرَجُلٌ مُضْعِفٌ إِذَا كَانَتْ ذَرَارِيهِ ضعافا، فكذا قوله: وَالنَّهارَ مُبْصِراً [يونس: 67] ، أَيْ أَهْلُهُ بُصَرَاءُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مَنَافِعَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، قَالَ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النَّبَأِ: 10، 11] وَقَالَ أَيْضًا: جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [الْقَصَصِ: 73] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ لِتُبْصِرُوا كَيْفَ تَتَصَرَّفُونَ فِي أَعْمَالِكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحِسَابَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ: السَّاعَاتُ وَالْأَيَّامُ وَالشُّهُورُ وَالسُّنُونَ، فَالْعَدَدُ لِلسِّنِينَ، وَالْحِسَابُ لِمَا دُونَ السِّنِينَ، وَهِيَ الشُّهُورُ وَالْأَيَّامُ وَالسَّاعَاتُ، وَبَعْدَ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا التَّكْرَارُ كَمَا أَنَّهُمْ رَتَّبُوا الْعَدَدَ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ: الْآحَادُ وَالْعَشَرَاتُ وَالْمِئَاتُ وَالْأُلُوفُ، وَلَيْسَ بَعْدَهَا إِلَّا التَّكْرَارُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ آيَتَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمَا مِنْ وَجْهٍ دَلِيلَانِ قَاطِعَانِ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ نِعْمَتَانِ عَظِيمَتَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا، فَلَمَّا شَرَحَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَهُمَا وَفَصَّلَ مَا فِيهِمَا مِنْ وُجُوهِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْخَالِقِ وَمِنْ وُجُوهِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ عَلَى الْخَلْقِ، كَانَ ذَلِكَ تَفْصِيلًا نَافِعًا وَبَيَانًا كَامِلًا، فَلَا جَرَمَ قَالَ: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا أَيْ كُلَّ شَيْءٍ بِكُمْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ فِي مَصَالِحِ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ، فَقَدْ فَصَّلْنَاهُ وَشَرَحْنَاهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَامِ: 38] وَقَوْلِهِ: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النَّحْلِ: 89] وَقَوْلِهِ: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الْأَحْقَافِ: 25] وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَصْدَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: تَفْصِيلًا لِأَجْلِ تَأْكِيدِ الْكَلَامِ وَتَقْرِيرِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَفَصَّلْنَاهُ حَقًّا وَفَصَّلْنَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لا مزيد عليه والله أعلم.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 13 إلى 14]

[سورة الإسراء (17) : الآيات 13 الى 14] وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ فَقَدْ صَارَ مَذْكُورًا وَكُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ شَرْحِ أَحْوَالِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، فَقَدْ صَارَ مَذْكُورًا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ أُزِيحَتِ الْأَعْذَارُ، وَأُزِيلَتِ الْعِلَلُ فَلَا جَرَمَ كُلُّ مَنْ وَرَدَ عَرْصَةَ الْقِيَامَةِ فَقَدْ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنَقُولُ لَهُ: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ أَوْصَلَ إِلَى الْخَلْقِ أَصْنَافَ الْأَشْيَاءِ النَّافِعَةِ لَهُمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، مِثْلَ آيَتَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَغَيْرِهِمَا كَانَ مُنْعِمًا عَلَيْهِمْ بِأَعْظَمِ وُجُوهِ النِّعَمِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ اشْتِغَالِهِمْ بِخِدْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ فَلَا جَرَمَ كُلُّ مَنْ وَرَدَ عَرْصَةَ القيامة فإنه يكون مسؤولا عَنْ أَعْمَالِهِ وَأَقْوَالِهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَقْرِيرِ النَّظْمِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ مَا خَلَقَ الْخَلْقَ إِلَّا لِيَشْتَغِلُوا بِعِبَادَتِهِ كَمَا قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] فَلَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، كَانَ الْمَعْنَى: إِنِّي إِنَّمَا خَلَقْتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِتَنْتَفِعُوا بِهَا فَتَصِيرُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِطَاعَتِي وَخِدْمَتِي، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَنْ وَرَدَ عَرْصَةَ الْقِيَامَةِ سَأَلْتُهُ أَنَّهُ هَلْ أَتَى بِتِلْكَ الْخِدْمَةِ وَالطَّاعَةِ، أَوْ تَمَرَّدَ وَعَصَى وَبَغَى، فَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَقْرِيرِ النَّظْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ لَفْظِ، الطَّائِرِ، قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا أَرَادُوا الْإِقْدَامَ عَلَى عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ وَأَرَادُوا أَنْ يَعْرِفُوا أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ يَسُوقُهُمْ إِلَى خَيْرٍ أَوْ إِلَى شَرٍّ اعْتَبَرُوا أَحْوَالَ الطَّيْرِ وَهُوَ أَنَّهُ يَطِيرُ بِنَفْسِهِ، أَوْ يَحْتَاجُ إِلَى إِزْعَاجِهِ، وَإِذَا طَارَ فَهَلْ يَطِيرُ مُتَيَامِنًا أَوْ مُتَيَاسِرًا أَوْ صَاعِدًا إِلَى الْجَوِّ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي كَانُوا يَعْتَبِرُونَهَا وَيَسْتَدِلُّونَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى أَحْوَالِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالسَّعَادَةِ وَالنُّحُوسَةِ، فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ سُمِّي الْخَيْرُ وَالشَّرُّ بِالطَّائِرِ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ لَازِمِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يس: قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ [يس: 18] إِلَى قَوْلِهِ: قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ [يس: 19] فَقَوْلُهُ: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ أَيْ كُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ عَمَلَهُ فِي عُنُقِهِ. وَتَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْوَجْهِ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ: أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الطَّائِرُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْحَظُّ وَهُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْفُرْسُ الْبَخْتَ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الطَّائِرِ مَا طَارَ لَهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ وَخَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، وَالْعُمْرِ وَالرِّزْقِ، وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ. وَالْإِنْسَانُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ ذَلِكَ الْقَدْرَ وَأَنْ يَنْحَرِفَ عَنْهُ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِلَ إِلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ بِحَسَبِ الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، فَتِلْكَ الْأَشْيَاءُ الْمَقْدُورَةُ كَأَنَّهَا تَطِيرُ إِلَيْهِ وَتَصِيرُ إِلَيْهِ، فَبِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَبْعُدُ/ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْمُقَدَّرَةِ بِلَفْظِ الطَّائِرِ، فقوله:

وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّ كُلَّ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَضَى فِي عِلْمِهِ حُصُولُهُ، فَهُوَ لَازِمٌ لَهُ وَاصِلٌ إِلَيْهِ غَيْرُ مُنْحَرِفٍ عَنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْإِنْسَانِ وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِهِ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ فَهُوَ وَاجِبُ الْوُقُوعِ مُمْتَنِعُ الْعَدَمِ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ عَمَلَهُ فِي عُنُقِهِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ لَازِمٌ لَهُ، وَمَا كَانَ لَازِمًا لِلشَّيْءِ كَانَ مُمْتَنِعَ الزَّوَالِ عَنْهُ وَاجِبَ الْحُصُولِ لَهُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ ذَلِكَ الْإِلْزَامَ إِلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَلْزَمْناهُ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ ذَلِكَ الْإِلْزَامَ إِنَّمَا صَدَرَ مِنْهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [الْفَتْحِ: 26] وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِي الْأَبَدِ إِلَّا مَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ فِي الْأَزَلِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فِي عُنُقِهِ كِنَايَةٌ عَنِ اللُّزُومِ كَمَا يُقَالُ: جَعَلْتُ هَذَا فِي عُنُقِكِ أَيْ قَلَّدْتُكَ هَذَا الْعَمَلَ وَأَلْزَمْتُكَ الِاحْتِفَاظَ بِهِ، وَيُقَالُ: قَلَّدْتُكَ كَذَا وَطَوَّقْتُكَ كَذَا، أَيْ صَرَفْتُهُ إِلَيْكَ وَأَلْزَمْتُهُ إِيَّاكَ، وَمِنْهُ قَلَّدَهُ السُّلْطَانُ كَذَا أَيْ صَارَتِ الْوِلَايَةُ فِي لُزُومِهَا لَهُ فِي مَوْضِعِ الْقِلَادَةِ وَمَكَانِ الطَّوْقِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: فُلَانٌ يُقَلِّدُ فُلَانًا أَيْ جَعَلَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ كَالْقِلَادَةِ الْمَرْبُوطَةِ عَلَى عُنُقِهِ. قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: وَإِنَّمَا خَصَّ الْعُنُقَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ بِهَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا يَزِينُهُ أَوْ شَرًّا يَشِينُهُ، وَمَا يَزِينُ يَكُونُ كَالطَّوْقِ وَالْحُلِيِّ، وَالَّذِي يَشِينُ فَهُوَ كَالْغُلِّ، فَهَهُنَا عَمَلُهُ إِنْ كَانَ مِنَ الْخَيْرَاتِ كَانَ زِينَةً لَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَعَاصِي كَانَ كَالْغُلِّ عَلَى رَقَبَتِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً قَالَ الْحَسَنُ: يَا ابْنَ آدَمَ بَسَطْنَا لَكَ صَحِيفَةً وَوُكِّلَ بِكَ مَلَكَانِ فَهُمَا عَنْ يَمِينِكَ وَشِمَالِكَ فَأَمَّا الَّذِي عَنْ يَمِينِكَ فَيَحْفَظُ حَسَنَاتِكَ، وَأَمَّا الَّذِي عَنْ شِمَالِكَ فَيَحْفَظُ سَيِّئَاتِكَ، حَتَّى إِذَا مِتَّ طُوِيَتْ صَحِيفَتُكَ وَجُعِلَتْ مَعَكَ فِي قَبْرِكَ حَتَّى تَخْرُجَ لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَوْلُهُ: وَنُخْرِجُ لَهُ أَيْ مِنْ قَبْرِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: نُخْرِجُ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ كِتَابَهُ فِي الدُّنْيَا فَإِذَا بُعِثَ أُظْهِرَ لَهُ ذَلِكَ وَأُخْرِجَ مِنَ السَّتْرِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: (وَيَخْرُجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا) أَيْ يَخْرُجُ لَهُ الطَّائِرُ أَيْ عَمَلُهُ كِتَابًا مَنْشُورًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [التكوير: 10] وقرأ ابن عامر: (يُلَقَّاهُ) مِنْ قَوْلِهِمْ: لَقَّيْتُ فُلَانًا الشَّيْءَ أَيِ اسْتَقْبَلْتُهُ بِهِ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً [الْإِنْسَانِ: 11] وَهُوَ مَنْقُولٌ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ لَقَّيْتُ الشَّيْءَ وَلَقَّانِيهِ زَيْدٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: اقْرَأْ كِتابَكَ وَالتَّقْدِيرُ يُقَالُ لَهُ: وَهَذَا الْقَائِلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَلْسِنَةِ الْمَلَائِكَةِ/ اقْرَأْ كِتابَكَ قَالَ الْحَسَنُ: يَقْرَؤُهُ أُمِّيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ أُمِّيٍّ، وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: يُؤْتَى بِالْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَحِيفَتِهِ وَهُوَ يَقْرَؤُهَا وَحَسَنَاتُهُ فِي ظَهْرِهَا يَغْبِطُهُ النَّاسُ عَلَيْهَا، وَسَيِّئَاتُهُ فِي جَوْفِ صَحِيفَتِهِ وَهُوَ يَقْرَؤُهَا، حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهَا أَوْبَقَتْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «اذْهَبْ فَقَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ» فَيَعْظُمُ سُرُورُهُ، وَيَصِيرُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ فِي حَقِّهِمْ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عَبَسَ: 38، 39] ثُمَّ يَقُولُ: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الْحَاقَّةِ: 19] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً أَيْ مُحَاسِبًا. قَالَ الْحَسَنُ: عَدَلَ وَاللَّهِ فِي حَقِّكَ مَنْ جَعَلَكَ

حَسِيبَ نَفْسِكَ. قَالَ السُّدِّيُّ: يَقُولُ الْكَافِرُ يَوْمَئِذٍ إِنَّكَ قَضَيْتَ أَنَّكَ لَسْتَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، فَاجْعَلْنِي أُحَاسِبُ نَفْسِي فَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ حُكَمَاءُ الْإِسْلَامِ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ، وَفِيهَا أَسْرَارٌ عَجِيبَةٌ فِي أَبْحَاثٍ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ فِعْلَ الْعَبْدِ كَالطَّيْرِ الَّذِي يَطِيرُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي الْأَزَلِ مِقْدَارًا مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَذَلِكَ الْحُكْمُ الَّذِي سَبَقَ فِي عِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ وَحُكْمِهِ الْأَزَلِيِّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ الْحُكْمُ كَأَنَّهُ طَائِرٌ يَطِيرُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَإِذَا حَضَرَ ذَلِكَ الْوَقْتُ وَصَلَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الطَّائِرُ وَصُولًا لَا خَلَاصَ لَهُ الْبَتَّةَ وَلَا انْحِرَافَ عَنْهُ الْبَتَّةَ. وَإِذَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ فِي كُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلٍ وَلَمْحَةٍ وَفِكْرَةٍ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ طَائِرٍ طَيَّرَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ عَلَى مَنْهَجٍ مُعَيَّنٍ وَطَرِيقٍ مُعَيَّنٍ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الطَّائِرُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّ الْكِفَايَةَ الْأَبَدِيَّةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْعِنَايَةِ الْأَزَلِيَّةِ. وَالْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ إِنَّمَا تَقَدَّرَتْ بِإِلْزَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلِّ حَادِثٍ حَادِثًا مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ لِحُصُولِ الْحَادِثِ الْمُتَأَخِّرِ، فَلَمَّا كَانَ وَضْعُ هَذِهِ السِّلْسِلَةِ مِنَ اللَّهِ لَا جَرَمَ كَانَ الْكُلُّ مِنَ اللَّهِ، وَعِنْدَ هَذَا يَتَخَيَّلُ الْإِنْسَانُ طُيُورًا لَا نِهَايَةَ لَهَا وَلَا غَايَةَ لِأَعْدَادِهَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى طَيَّرَهَا مِنْ وَكْرِ الْأَزَلِ وَظُلُمَاتِ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَأَنَّهَا صَارَتْ وَطَارَتْ طَيَرَانًا لَا بِدَايَةَ لَهُ وَلَا غَايَةَ لَهُ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُتَوَجِّهًا إِلَى ذَلِكَ الْإِنْسَانِ الْمُعَيَّنِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ بِالصِّفَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّ التَّجْرِبَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَكْرَارَ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ تُفِيدُ حُدُوثَ الْمَلَكَةِ النَّفْسَانِيَّةِ الرَّاسِخَةِ فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَاظَبَ عَلَى تَكْرَارِ قِرَاءَةِ دَرْسٍ وَاحِدٍ صَارَ ذَلِكَ الدَّرْسُ مَحْفُوظًا، وَمَنْ وَاظَبَ عَلَى عَمَلٍ وَاحِدٍ مُدَّةً مَدِيدَةً صَارَ ذَلِكَ الْعَمَلُ مَلَكَةً لَهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمَّا كَانَ التَّكْرَارُ الْكَثِيرُ يُوجِبُ حُصُولَ الْمَلَكَةِ الرَّاسِخَةِ وَجَبَ/ أَنْ يَحْصُلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ أَثَرٌ مَا فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ، فَإِنَّا لَمَّا رَأَيْنَا أَنَّ عِنْدَ تَوَالِي الْقَطَرَاتِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْمَاءِ عَلَى الْحَجَرِ حَصَلَتِ الثُّقْبَةُ فِي الْحَجَرِ، عَلِمْنَا أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْقَطَرَاتِ أَثَرًا مَا فِي حُصُولِ ذَلِكَ الثُّقْبِ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا قَلِيلًا، وَإِنْ كَانَتِ الْكِتَابَةُ أَيْضًا فِي عُرْفِ النَّاسِ عِبَارَةً عَنْ نُقُوشٍ مَخْصُوصَةٍ اصْطَلَحَ النَّاسُ عَلَى جَعْلِهَا مُعَرِّفَاتٍ لِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ، فَعَلَى هَذَا، دَلَالَةُ تِلْكَ النُّقُوشِ عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي الْمَخْصُوصَةِ دَلَالَةٌ كَائِنَةٌ جَوْهَرِيَّةٌ وَاجِبَةُ الثُّبُوتِ، مُمْتَنِعَةُ الزَّوَالِ، كَانَ الْكِتَابُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى تِلْكَ النُّقُوشِ أَوْلَى بِاسْمِ الْكِتَابِ مِنَ الصَّحِيفَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى النُّقُوشِ الدَّالَّةِ بِالْوَضْعِ وَالِاصْطِلَاحِ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ فَنَقُولُ: إِنَّ كُلَّ عَمَلٍ يَصْدُرُ مِنَ الْإِنْسَانِ كَثِيرًا كَانَ أَوْ قَلِيلًا قَوِيًّا كَانَ أَوْ ضَعِيفًا، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ أَثَرٌ مَخْصُوصٌ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْأَثَرُ أَثَرًا لِجَذْبِ جَوْهَرِ الرُّوحِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى حَضْرَةِ الْحَقِّ كَانَ ذَلِكَ مِنْ مُوجِبَاتِ السَّعَادَاتِ وَالْكَرَامَاتِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْأَثَرُ أَثَرًا لِجَذْبِ الرُّوحِ مِنْ حَضْرَةِ الْحَقِّ إِلَى الِاشْتِغَالِ بِالْخَلْقِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ مُوجِبَاتِ الشَّقَاوَةِ وَالْخِذْلَانِ إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْآثَارَ تَخْفَى مَا دَامَ الرُّوحُ مُتَعَلِّقًا بِالْبَدَنِ، لِأَنَّ اشْتِغَالَ الرُّوحِ بِتَدْبِيرِ الْبَدَنِ يَمْنَعُ مِنَ انْكِشَافِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَتَجَلِّيهَا وَظُهُورِهَا، فَإِذَا انْقَطَعَ تَعَلُّقُ الرُّوحِ عَنْ تَدْبِيرِ الْبَدَنِ فَهُنَاكَ تَحْصُلُ الْقِيَامَةُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ مَاتَ

[سورة الإسراء (17) : آية 15]

فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ» وَمَعْنَى كَوْنِ هَذِهِ الْحَالَةِ قِيَامَةً أَنَّ النَّفْسَ النَّاطِقَةَ كَأَنَّهَا كَانَتْ سَاكِنَةً مُسْتَقِرَّةً فِي هَذَا الْجَسَدِ السُّفْلِيِّ، فَإِذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ، قَامَتِ النَّفْسُ وَتَوَجَّهَتْ نَحْوَ الصُّعُودِ إِلَى الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ هَذِهِ الْحَالَةِ قِيَامَةً، ثُمَّ عِنْدَ حُصُولِ الْقِيَامَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى زَالَ الْغِطَاءُ وَانْكَشَفَ الْوِطَاءُ، وَقِيلَ لَهُ: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: 22] وَقَوْلُهُ: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً مَعْنَاهُ: وَنُخْرِجُ لَهُ عِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ الْقِيَامَةِ مِنْ عُمْقِ الْبَدَنِ الْمُظْلِمِ كِتَابًا مُشْتَمِلًا عَلَى جَمِيعِ تِلْكَ الْآثَارِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ الْأَحْوَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَيَكُونُ هَذَا الْكِتَابُ فِي هَذَا الْوَقْتِ مَنْشُورًا، لِأَنَّ الرُّوحَ حِينَ كَانَتْ فِي الْبَدَنِ كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ فِيهِ مَخْفِيَّةً فَكَانَتْ كَالْمَطْوِيَّةِ أَمَّا بَعْدَ انْقِطَاعِ التَّعَلُّقِ الْجَسَدَانِيِّ ظَهَرَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ وَجَلَتْ وَانْكَشَفَتْ فَصَارَتْ كَأَنَّهَا مَكْشُوفَةٌ مَنْشُورَةٌ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَطْوِيَّةً، وَظَاهِرَةٌ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَخْفِيَّةً، وَعِنْدَ ذَلِكَ تُشَاهِدُ الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ جَمِيعَ تِلْكَ الْآثَارِ مَكْتُوبَةً بِالْكِتَابَةِ الذَّاتِيَّةِ فِي جَوْهَرِ الرُّوحِ فَيُقَالُ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ: اقْرَأْ كِتابَكَ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً فَإِنَّ تِلْكَ الْآثَارَ إِنْ كَانَتْ مِنْ مُوجِبَاتِ السَّعَادَةِ حَصَلَتِ السَّعَادَةُ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ مُوجِبَاتِ الشَّقَاوَةِ حَصَلَتِ الشَّقَاوَةُ لَا مَحَالَةَ، فَهَذَا تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ الرُّوحَانِيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَقَّ أَنَّ الْأَحْوَالَ الظَّاهِرَةَ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهَا الرِّوَايَاتُ حَقٌّ وَصِدْقٌ لَا مِرْيَةَ فِيهَا، وَاحْتِمَالُ الْآيَةِ لِهَذِهِ الْمَعَانِي الرُّوحَانِيَّةِ ظَاهِرٌ أَيْضًا، وَالْمَنْهَجُ الْقَوِيمُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْإِقْرَارُ بِالْكُلِّ وَاللَّهُ أعلم بحقائق الأمور. [سورة الإسراء (17) : آية 15] مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الْإِسْرَاءِ: 13] وَمَعْنَاهُ: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مُخْتَصٌّ بِعَمَلِ نَفْسِهِ، عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِعِبَارَةٍ أُخْرَى أَقْرَبَ إِلَى الْأَفْهَامِ وَأَبْعَدَ عَنِ الْغَلَطِ فَقَالَ: مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها يَعْنِي أَنَّ ثَوَابَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مُخْتَصٌّ بِفَاعِلِهِ، وَلَا يَتَعَدَّى مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى [النَّجْمِ: 39، 40] قَالَ الْكَعْبِيُّ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَجْبُورٍ عَلَى عَمَلٍ بِعَيْنِهِ أَصْلًا لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْقَادِرِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُتَمَكِّنِ مِنْهُ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ، أَمَّا الْمَجْبُورُ عَلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، الْمَمْنُوعُ مِنَ الطَّرَفِ الثَّانِي فَهَذَا لَا يَلِيقُ بِهِ. الْمُسَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَعَادَ تَقْرِيرَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مُخْتَصٌّ بِأَثَرٍ عَلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ وَزَرَ يَزِرُ فَهُوَ وَازِرٌ وَوَزَرَ وِزْرًا وَزِرَةً، وَمَعْنَاهُ: أَثِمَ يَأْثَمُ إِثْمًا قَالَ: وَفِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُذْنِبَ لَا يُؤَاخَذُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ، وَأَيْضًا غَيْرُهُ لَا يُؤَاخَذُ بِذَنْبِهِ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مُخْتَصٌّ بِذَنْبِ نَفْسِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ الْإِنْسَانُ بِالْإِثْمِ، لِأَنَّ غَيْرَهُ عمله كما قال الكفار: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزُّخْرُفِ: 32] . وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ.

الْحُكْمُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ الْأَطْفَالَ بِكُفْرِ آبَائِهِمْ، وَإِلَّا لَكَانَ الطِّفْلُ مُؤَاخَذًا بِذَنْبِ أَبِيهِ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ. الْحُكْمُ الثَّانِي: رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ» فَعَائِشَةُ طَعَنَتْ فِي صِحَّةٍ هَذَا الْخَبَرِ، وَاحْتَجَّتْ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الطَّعْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فَإِنَّ تَعْذِيبَ الْمَيِّتِ بِسَبَبِ بُكَاءِ أَهْلِهِ أَخْذٌ لِلْإِنْسَانِ بِجُرْمِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ خِلَافُ هَذِهِ الْآيَةِ. الْحُكْمُ الثَّالِثُ: قَالَ الْقَاضِي: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْوِزْرَ وَالْإِثْمَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَامْتَنَعَ أَنْ يُؤَاخَذَ الْعَبْدُ بِهِ كَمَا لَا يُؤَاخَذُ بِوِزْرِ غَيْرِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ ارْتِفَاعُ الْوِزْرِ أَصْلًا، لِأَنَّ الْوَازِرَ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِذَلِكَ إِذَا كَانَ مُخْتَارًا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوصَفُ الصَّبِيُّ بِهَذَا. الْحُكْمُ الرَّابِعُ: أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ قُدَمَاءَ الْفُقَهَاءِ امْتَنَعُوا مِنْ ضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَقَالُوا: لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي مُؤَاخَذَةَ الْإِنْسَانِ بِسَبَبِ فِعْلِ الْغَيْرِ، وَذَلِكَ عَلَى مُضَادَّةِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُخْطِئَ لَيْسَ بِمُؤَاخَذٍ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَكَيْفَ يَصِيرُ غَيْرُهُ مُؤَاخَذًا بِسَبَبِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، بَلْ ذَلِكَ تَكْلِيفٌ وَاقِعٌ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا وُجُوبُ شُكْرِ الْمُنْعِمِ لَا يَثْبُتُ بِالْعَقْلِ بَلْ بِالسَّمْعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْوُجُوبَ لَا تَتَقَرَّرُ مَاهِيَّتُهُ إِلَّا بِتَرْتِيبِ الْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ، وَلَا عِقَابَ قَبْلَ الشَّرْعِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ الْوُجُوبُ قَبْلَ الشَّرْعِ ثُمَّ أَكَّدُوا هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النِّسَاءِ: 165] وَبِقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه: 134] . وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الِاسْتِدْلَالُ ضَعِيفٌ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ: لَوْ لَمْ يَثْبُتِ الْوُجُوبُ الْعَقْلِيُّ لَمْ يَثْبُتِ الْوُجُوبُ الشَّرْعِيُّ الْبَتَّةَ، وَهَذَا بَاطِلٌ فَذَاكَ بَاطِلٌ بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا جَاءَ الْمُشَرِّعُ وَادَّعَى كَوْنَهُ نَبِيًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَظْهَرَ الْمُعْجِزَةَ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَمِعِ اسْتِمَاعُ قَوْلِهِ وَالتَّأَمُّلُ فِي مُعْجِزَاتِهِ أَوْ لَا يَجِبُ؟ فَإِنْ لَمْ يَجِبْ فَقَدْ بَطَلَ الْقَوْلُ بِالنُّبُوَّةِ وَإِنْ وَجَبَ، فَإِمَّا أَنْ يَجِبَ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالشَّرْعِ فَإِنْ وَجَبَ بِالْعَقْلِ فَقَدْ ثَبَتَ الْوُجُوبُ الْعَقْلِيُّ، وَإِنْ وَجَبَ بِالشَّرْعِ فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ الشَّرْعَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ ذَلِكَ الْمُدَّعِي أَوْ غَيْرَهُ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ حَاصِلُ الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ يَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ قَبُولُ قَوْلِي أَنِّي أَقُولُ إِنَّهُ يَجِبُ قَبُولُ قَوْلِي، وَهَذَا إِثْبَاتٌ لِلشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّارِعُ غَيْرَهُ كَانَ الْكَلَامُ فِيهِ كَمَا

[سورة الإسراء (17) : الآيات 16 إلى 17]

فِي الْأَوَّلِ: وَلَزِمَ إِمَّا الدَّوْرُ أَوِ التَّسَلْسُلُ وَهُمَا مُحَالَانِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الشَّرْعَ إِذَا جَاءَ وَأَوْجَبَ بَعْضَ الْأَفْعَالِ، وَحَرَّمَ بَعْضَهَا فَلَا مَعْنَى لِلْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ: لَوْ تَرَكْتَ كَذَا وَفَعَلْتَ كَذَا لَعَاقَبْتُكَ فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْعِقَابِ أَوْ لَا يَجِبَ، فَلَوْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْعِقَابِ لَمْ يَتَقَرَّرْ مَعْنَى الْوُجُوبِ الْبَتَّةَ، وَهَذَا بَاطِلٌ فَذَاكَ بَاطِلٌ، وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْعِقَابِ، فَإِمَّا أَنْ يَجِبَ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالسَّمْعِ، فَإِنْ وَجَبَ بِالْعَقْلِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ وَجَبَ بِالسَّمْعِ لَمْ يَتَقَرَّرْ مَعْنَى هَذَا الْوُجُوبِ إِلَّا بِسَبَبِ تَرْتِيبِ الْعِقَابِ عَلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ التَّقْسِيمُ الْأَوَّلُ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْعِقَابِ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ مَاهِيَّةُ الْوُجُوبِ حَاصِلَةً مَعَ عَدَمِ الْعِقَابِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَاهِيَّةَ الْوَاجِبِ إِنَّمَا تَتَقَرَّرُ بِسَبَبِ حُصُولِ الْخَوْفِ مِنَ الْعِقَابِ، وَهَذَا الْخَوْفُ حَاصِلٌ بِمَحْضِ الْعَقْلِ، فَثَبَتَ أَنَّ مَاهِيَّةَ الْوُجُوبِ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِسَبَبِ هَذَا الْخَوْفِ، وَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْخَوْفَ حَاصِلٌ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ، فَلَزِمَ أَنْ يُقَالَ: الْوُجُوبُ حَاصِلٌ بِمَحْضِ الْعَقْلِ. فَإِنْ قَالُوا: مَاهِيَّةُ الْوُجُوبِ إِنَّمَا تَتَقَرَّرُ بِسَبَبِ حُصُولِ الْخَوْفِ مِنَ الذَّمِّ؟ قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى إِذَا عَفَا فَقَدْ سَقَطَ الذَّمُّ، فَعَلَى هَذَا مَاهِيَّةُ الْوُجُوبِ إِنَّمَا تَتَقَرَّرُ بِسَبَبِ حُصُولِ الْخَوْفِ مِنَ الذَّمِّ وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِمَحْضِ الْعَقْلِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْوُجُوبَ الْعَقْلِيَّ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ نُجْرِيَ الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا وَنَقُولُ: الْعَقْلُ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْخَلْقِ، بَلْ هُوَ الرَّسُولُ الَّذِي لَوْلَاهُ لَمَا تَقَرَّرَتْ رِسَالَةُ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَالْعَقْلُ هُوَ الرَّسُولُ الْأَصْلِيُّ، فَكَانَ مَعْنَى الْآيَةِ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولَ الْعَقْلِ. وَالثَّانِي: أَنْ نُخَصِّصَ عُمُومَ الْآيَةِ فَنَقُولُ: الْمُرَادُ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ وُجُوبِهَا إِلَّا بِالشَّرْعِ إِلَّا بَعْدَ مَجِيءِ الشَّرْعِ، وَتَخْصِيصُ الْعُمُومِ وَإِنْ كَانَ عُدُولًا عَنِ الظَّاهِرِ إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلَائِلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا قِيَامَ الدَّلَائِلِ الثَّلَاثَةِ، عَلَى أَنَّا لَوْ نَفَيْنَا الْوُجُوبَ الْعَقْلِيَّ لَزِمَنَا نَفْيُ الْوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي نَرْتَضِيهِ وَنَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْلِ سَبَبٌ فِي أَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا فِعْلُ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَتَرْكُ مَا يُتَضَرَّرُ بِهِ، أَمَّا مُجَرَّدُ الْعَقْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ وَذَلِكَ لِأَنَّا مَجْبُولُونَ عَلَى طَلَبِ النَّفْعِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الضَّرَرِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الْعَقْلُ وَحْدَهُ كَافِيًا فِي الْوُجُوبِ فِي حَقِّنَا وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ طَلَبِ النَّفْعِ وَالْهَرَبِ مِنَ الضَّرَرِ، فَامْتَنَعَ أَنْ يَحْكُمَ الْعَقْلُ عَلَيْهِ بِوُجُوبِ فِعْلٍ أَوْ تَرْكِ فِعْلٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة الإسراء (17) : الآيات 16 الى 17] وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) [فِي قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَمَرْنا مُتْرَفِيها فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْأَمْرِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ، ثُمَّ إِنَّ لَفْظَ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى بِمَاذَا يَأْمُرُهُمْ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُهُمْ بِالطَّاعَاتِ وَالْخَيْرَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ يُخَالِفُونَ ذَلِكَ الْأَمْرَ وَيَفْسُقُونَ وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُهُمْ بِالْفِسْقِ فَيَفْسُقُونَ، إِلَّا أَنَّ هَذَا مَجَازٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ فتح عليهم

أَبْوَابَ الْخَيْرَاتِ وَالرَّاحَاتِ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَمَرَّدُوا وَطَغَوْا وَبَغَوْا قَالَ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي مَا ذَكَرْنَاهُ، أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ إِنَّمَا حُذِفَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَفَسَقُوا يَدُلُّ عَلَيْهِ يُقَالُ: أَمَرْتُهُ فَقَامَ، وَأَمَرْتُهُ فَقَرَأَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ قِيَامٌ أَوْ قِرَاءَةٌ فكذا هاهنا لَمَّا قَالَ: أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَمَرْنَاهُمْ بِالْفِسْقِ فَفَسَقُوا لَا يُقَالُ يُشْكِلُ هَذَا بِقَوْلِهِمْ أَمَرْتُهُ فَعَصَانِي أَوْ فَخَالَفَنِي فَإِنَّ هَذَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنِّي أَمَرْتُهُ بِالْمَعْصِيَةِ وَالْمُخَالَفَةِ، لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ الْمَعْصِيَةَ مُنَافِيَةٌ لِلْأَمْرِ وَمُنَاقِضَةٌ لَهُ، فَكَذَلِكَ أَمَرْتُهُ فَفَسَقَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ شَيْءٌ غَيْرُ الْفِسْقِ لِأَنَّ الْفِسْقَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِضِدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ فَكَوْنُهُ فِسْقًا يُنَافِي كَوْنَهُ مَأْمُورًا بِهِ، كَمَا أَنَّ كَوْنَهَا مَعْصِيَةً يُنَافِي كَوْنَهَا مَأْمُورًا بِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَدُلَّ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ لَيْسَ بِفِسْقٍ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ فَلَا أَدْرِي لِمَ أَصَرَّ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَلَى قَوْلِهِ مَعَ ظُهُورِ فَسَادِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ/ الْحَقَّ مَا ذَكَرَهُ الْكُلُّ وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى أَمَرْنَاهُمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَهِيَ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ وَالْقَوْمُ خَالَفُوا ذَلِكَ الْأَمْرَ عِنَادًا وَأَقْدَمُوا عَلَى الْفِسْقِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أَمَرْنا مُتْرَفِيها أَيْ أَكْثَرْنَا فُسَّاقَهَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْعَرَبُ تَقُولُ أَمِرَ الْقَوْمُ إِذَا كَثُرُوا وَأَمَّرَهُمُ اللَّهُ إِذَا كَثَّرَهُمْ، وَآمَرَهُمْ أَيْضًا بِالْمَدِّ، رَوَى الْجَرْمِيُّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ أَمَّرَ اللَّهُ الْقَوْمَ وَآمَرَهُمْ، أَيْ كَثَّرَهُمْ. وَاحْتَجَّ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ اللُّغَةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الْمَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ وَسِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ» وَالْمَعْنَى مُهْرَةٌ قَدْ كَثُرَ نَسْلُهَا يَقُولُونَ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُهْرَةَ أَيْ كَثَّرَ وَلَدَهَا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ أَمِرَ بِمَعْنَى كَثُرَ وَقَالُوا أَمِرَ الْقَوْمُ إِذَا كَثُرُوا وَآمَرَهُمُ اللَّهُ بِالْمَدِّ أَيْ كَثَّرَهُمْ، وَحَمَلُوا قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصلاة والسلام: «مهر مَأْمُورَةٌ» عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ كَوْنُهَا مَأْمُورَةً بِتَكْثِيرِ النَّسْلِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ. وَأَمَّا الْمُتْرَفُ: فَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الْمُتَنَعِّمُ الَّذِي قَدْ أَبْطَرَتْهُ النِّعْمَةُ وَسَعَةُ الْعَيْشِ فَفَسَقُوا فِيها أَيْ خَرَجُوا عَمَّا أَمَرَهُمُ اللَّهُ: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ يُرِيدُ: اسْتَوْجَبَتِ الْعَذَابَ، وَهَذَا كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: 15] وَقَوْلِهِ: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا [الْقَصَصِ: 59] وَقَوْلِهِ: ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ [الْأَنْعَامِ: 131] فَلَمَّا حَكَمَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُهْلِكُ قَرْيَةً حَتَّى يُخَالِفُوا أمر الله، فلا جرم ذكر أنه ها هنا يَأْمُرُهُمْ فَإِذَا خَالَفُوا الْأَمْرَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَوْجَبُوا الْإِهْلَاكَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ وَقَوْلُهُ: فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً أَيْ أَهْلَكْنَاهَا إِهْلَاكَ الِاسْتِئْصَالِ. وَالدَّمَارُ هَلَاكٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْصَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ إِيصَالَ الضَّرَرِ إِلَيْهِمُ ابْتِدَاءً ثُمَّ تَوَسَّلَ إِلَى إِهْلَاكِهِمْ بِهَذَا الطَّرِيقِ. الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَصَّ الْمُتْرَفِينَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يَفْسُقُونَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْهُمُ الْفِسْقَ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ بِالتَّعْذِيبِ وَالْكُفْرِ، وَمَتَى حَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ بِذَلِكَ امْتَنَعَ صُدُورُ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ انْقِلَابَ خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى الصِّدْقِ كَذِبًا وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَالْمُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ. قَالَ الْكَعْبِيُّ: إِنَّ سَائِرَ الْآيَاتِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَبْتَدِئُ بِالتَّعْذِيبِ وَالْإِهْلَاكِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرَّعْدِ: 11] وَقَوْلِهِ: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النِّسَاءِ: 147] وَقَوْلِهِ: وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ [الْقَصَصِ: 59] فَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَبْتَدِئُ بِالْإِضْرَارِ، وَأَيْضًا مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ قَوْلُهُ: مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الإسراء: 15] وَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ آيَاتِ الْقُرْآنِ تناقض،

فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي تَلَوْنَاهَا مُحْكَمَةٌ، وَكَذَا الْآيَةُ الَّتِي/ نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا، فَيَجِبُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تِلْكَ الْآيَاتِ هَذَا مَا قَالَهُ الْكَعْبِيُّ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَحْسَنَ النَّاسِ كَلَامًا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وَجْهٍ يُوَافِقُ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ: الْقَفَّالُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْهُ مَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ، أَيْ لَا يَجْعَلُ عِلْمَهُ حُجَّةً عَلَى مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِنْ أَمَرَهُ عَصَاهُ بَلْ يَأْمُرُهُ فَإِذَا ظَهَرَ عِصْيَانُهُ لِلنَّاسِ فَحِينَئِذٍ يُعَاقِبُهُ فَقَوْلُهُ: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها مَعْنَاهُ: وَإِذَا أَرَدْنَا إِمْضَاءَ مَا سَبَقَ مِنَ الْقَضَاءِ بِإِهْلَاكِ قَوْمٍ أَمَرْنَا الْمُتَنَعِّمِينَ الْمُتَعَزِّزِينَ الظَّانِّينَ أَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ وَأَنْصَارَهُمْ تَرُدُّ عَنْهُمْ بَأْسَنَا بِالْإِيمَانِ بِي وَالْعَمَلِ بِشَرَائِعِ دِينِي عَلَى مَا بَلَّغَهُمْ عَنِّي رَسُولِي، فَفَسَقُوا فَحِينَئِذٍ يَحِقُّ عَلَيْهِمُ الْقَضَاءُ السَّابِقُ بِإِهْلَاكِهِمْ لِظُهُورِ مَعَاصِيهِمْ فَحِينَئِذٍ دَمَّرْنَاهَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَعْنَى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً بِسَبَبِ عِلْمِنَا بِأَنَّهُمْ لَا يُقْدِمُونَ إِلَّا عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَمْ نَكْتَفِ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ الْإِهْلَاكِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ الْعِلْمِ، بَلْ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا، فَإِذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْفِسْقُ فَحِينَئِذٍ نُوقِعُ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ الْمَوْعُودَ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ أَنْ نَقُولَ: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً بِسَبَبِ ظُهُورِ المعاصي من أهلها لم نعاجلهم بِالْعَذَابِ فِي أَوَّلِ ظُهُورِ الْمَعَاصِي مِنْهُمْ، بَلْ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا بِالرُّجُوعِ عَنْ تِلْكَ الْمَعَاصِي، وَإِنَّمَا خَصَّ الْمُتْرَفِينَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ، لِأَنَّ الْمُتْرَفَ هُوَ الْمُتَنَعِّمُ وَمَنْ كَثُرَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ قِيَامُهُ بِالشُّكْرِ أَوْجَبَ، فَإِذَا أَمَرَهُمْ بِالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْطَعُ عَنْهُمْ تِلْكَ النِّعَمَ بَلْ يَزِيدُهَا حَالًا بَعْدَ حَالٍ فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ عِنَادُهُمْ وَتَمَرُّدُهُمْ وَبُعْدُهُمْ عَنِ الرُّجُوعِ عَنِ الْبَاطِلِ إِلَى الْحَقِّ، فَحِينَئِذٍ يَصُبُّ اللَّهُ الْبَلَاءَ عَلَيْهِمْ صَبًّا، ثُمَّ قَالَ الْقَفَّالُ: وَهَذَانَ التَّأْوِيلَانِ رَاجِعَانِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عِبَادَهُ أَنَّهُ لَا يُعَاجِلُ بِالْعُقُوبَةِ أُمَّةً ظَالِمَةً حَتَّى يَعْذِرَ إِلَيْهِمْ غَايَةَ الْإِعْذَارِ الَّذِي يَقَعُ مِنْهُ الْيَأْسُ مِنْ إِيمَانِهِمْ، كَمَا قَالَ فِي قَوْمِ نُوحٍ: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح: 27] وقال: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هُودٍ: 36] وَقَالَ فِي غَيْرِهِمْ: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ [يُونُسَ: 74] فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَوَّلًا أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ الْعَذَابُ إِلَّا بَعْدَ بِعْثَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. ثُمَّ أَخْبَرَ ثَانِيًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ إِذَا بَعَثَ الرَّسُولَ أَيْضًا فَكَذَّبُوا لَمْ يُعَاجِلْهُمْ بِالْعَذَابِ، بَلْ يُتَابِعُ عَلَيْهِمُ النَّصَائِحَ وَالْمَوَاعِظَ، فَإِنْ بَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى الذُّنُوبِ فَهُنَاكَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ فِي تَطْبِيقِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ لَمْ يَتَيَسَّرْ لِأَحَدٍ مِنْ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ مِثْلُهُ. وَأَجَابَ الْجُبَّائِيُّ بِأَنْ قَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ إِهْلَاكَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَعْصُوا وَيَسْتَحِقُّوا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ وَهُوَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، بَلِ الْمُرَادُ مِنَ الْإِرَادَةِ قُرْبُ تِلْكَ الْحَالَةِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ وَإِذَا قَرُبَ وَقْتُ إِهْلَاكِ قَرْيَةٍ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: إِذَا أَرَادَ الْمَرِيضُ أَنْ يَمُوتَ/ ازْدَادَتْ أَمْرَاضُهُ شِدَّةً، وَإِذَا أَرَادَ التَّاجِرُ أَنْ يَفْتَقِرَ أَتَاهُ الْخُسْرَانُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَرِيضَ يُرِيدُ أَنْ يَمُوتَ، وَالتَّاجِرُ يُرِيدُ أَنْ يَفْتَقِرَ وَإِنَّمَا يَعْنُونَ أَنَّهُ سَيَصِيرُ كذلك فكذا هاهنا. وَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لَا شَكَّ أَنَّ كُلَّهَا عُدُولٌ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، أَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَقَدْ بَقِيَ سَلِيمًا عَنِ الطَّعْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ: أَمَرْنا مُتْرَفِيها بِالتَّخْفِيفِ غَيْرَ مَمْدُودَةِ الْأَلِفِ، وَرُوِيَ بِرِوَايَةٍ غَيْرِ مَشْهُورَةٍ عَنْ نَافِعٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ: آمَرْنَا بِالْمَدِّ، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو أَمَرْنا بِالتَّشْدِيدِ فَالْمَدُّ عَلَى الْكَثِيرِ

[سورة الإسراء (17) : الآيات 18 إلى 21]

يُقَالُ: أَمِرَ الْقَوْمُ بِكَسْرِ الْمِيمِ إِذَا كَثُرُوا وَآمَرَهُمُ اللَّهُ بِالْمَدِّ، أَيْ كَثَّرَهُمُ اللَّهُ وَالتَّشْدِيدُ عَلَى التَّسْلِيطِ، أَيْ سَلَّطْنَا مُتْرَفِيهَا، وَمَعْنَاهُ التَّخْلِيَةُ وَزَوَالُ الْمَنْعِ بِالْقَهْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الطَّرِيقَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ عَادَتُنَا مَعَ الَّذِينَ يَفْسُقُونَ وَيَتَمَرَّدُونَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقُرُونِ الَّذِينَ كَانُوا بَعْدَ نُوحٍ وَهُمْ عَادٌ وَثَمُودُ وَغَيْرُهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ رَسُولَهُ بِمَا يَكُونُ خِطَابًا لِغَيْرِهِ وَرَدْعًا وَزَجْرًا لِلْكُلِّ فَقَالَ: وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ رَاءٍ لِجَمِيعِ الْمَرْئِيَّاتِ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِ الْخَلْقِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ فَكَانَ قَادِرًا عَلَى إِيصَالِ الْجَزَاءِ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ بِقَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِ وَأَيْضًا أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْعَبَثِ وَالظُّلْمِ وَمَجْمُوعُ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ أَعْنِي الْعِلْمَ التَّامَّ، وَالْقُدْرَةَ الْكَامِلَةَ، وَالْبَرَاءَةَ عَنِ الظُّلْمِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَهْلِ الطَّاعَةِ وَخَوْفٌ عَظِيمٌ لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: لَوْ أُلْغِيَتِ الْبَاءُ مِنْ قَوْلِكَ بِرَبِّكَ جَازَ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ دُخُولُ الْبَاءِ فِي الْمَرْفُوعِ إِذَا كَانَ يُمْدَحُ بِهِ صَاحِبُهُ أَوْ يُذَمُّ كَقَوْلِكَ: كَفَاكَ بِهِ وَأَكْرِمْ بِهِ رَجُلًا وَطَابَ بِطَعَامِكَ طَعَامًا وَجَادَ بِثَوْبِكَ ثَوْبًا، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَدْحًا أَوْ ذَمًّا لَمْ يَجُزْ دُخُولُهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: قَامَ بِأَخِيكَ وَأَنْتَ تُرِيدُ قام أخوك والله أعلم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 18 الى 21] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) [في قوله تعالى مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ إلى قوله فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَاخِلَةٌ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الْإِسْرَاءِ: 13] وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْكَمَالَ فِي الدُّنْيَا قِسْمَانِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ بِالَّذِي يَعْمَلُهُ الدُّنْيَا وَمَنَافِعَهَا وَالرِّيَاسَةَ فِيهَا، فَهَذَا يَأْنَفُ مِنَ الِانْقِيَادِ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِمْ وَالْإِجَابَةِ لِدَعْوَتِهِمْ، إِشْفَاقًا مِنْ زَوَالِ الرِّيَاسَةِ عَنْهُ، فَهَذَا قَدْ جُعِلَ طَائِرُ نَفْسِهِ شُؤْمًا لِأَنَّهُ فِي قَبْضَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَيُؤْتِيهِ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا مِنْهَا قَدْرًا لَا كَمَا يَشَاءُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ، بَلْ كَمَا يَشَاءُ اللَّهُ إِلَّا أَنَّ عَاقِبَتَهُ جَهَنَّمُ يَدْخُلُهَا فَيَصْلَاهَا بِحَرِّهَا مَذْمُومًا مَلُومًا مَدْحُورًا مَنْفِيًّا مَطْرُودًا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي لَفْظِ هَذِهِ الْآيَةِ فَوَائِدُ. الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْعِقَابَ عِبَارَةٌ عَنْ مَضَرَّةٍ مَقْرُونَةٍ بِالْإِهَانَةِ وَالذَّمِّ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ دَائِمَةً وَخَالِيَةً عَنْ شَوْبِ الْمَنْفَعَةِ، فَقَوْلُهُ: ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها إِشَارَةٌ إِلَى الْمَضَرَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَقَوْلُهُ: مَذْمُوماً إِشَارَةٌ إِلَى الإهانة والذم، وقوله: مَدْحُوراً إشارة إلى العبد وَالطَّرْدِ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَهِيَ تُفِيدُ كَوْنَ تِلْكَ الْمَضَرَّةِ خَالِيَةً عَنْ شَوْبِ النَّفْعِ وَالرَّحْمَةِ وَتُفِيدُ كَوْنَهَا دَائِمَةً وَخَالِيَةً عَنِ التَّبَدُّلِ بِالرَّاحَةِ وَالْخَلَاصِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ مِنَ الْجُهَّالِ مَنْ إِذَا سَاعَدَتْهُ الدُّنْيَا اغْتَرَّ بِهَا وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ كَرَامَتِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى،

وَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ مُسَاعَدَةَ الدُّنْيَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى رِضَا اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَحْصُلُ مَعَ أَنَّ عَاقِبَتَهَا هِيَ الْمَصِيرُ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ وَإِهَانَتِهِ، فَهَذَا الْإِنْسَانُ أَعْمَالُهُ تُشْبِهُ طَائِرَ السَّوْءِ فِي لُزُومِهَا لَهُ وَكَوْنِهَا سَائِقَةً لَهُ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِمَنْ نُرِيدُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْفَوْزُ بِالدُّنْيَا لِكُلِّ أَحَدٍ، بَلْ كَثِيرٌ مِنَ الْكُفَّارِ وَالضُّلَّالِ يُعْرِضُونَ عَنِ الدِّينِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَبْقُونَ مَحْرُومِينَ عَنِ الدُّنْيَا وَعَنِ الدِّينِ، وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ زَجْرٌ عَظِيمٌ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الضُّلَّالِ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ الدِّينَ لِطَلَبِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ رُبَّمَا فَاتَتْهُمُ الدُّنْيَا فَهُمُ الْأَخْسَرُونَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَشَرَطَ تَعَالَى فِيهِ شُرُوطًا ثَلَاثَةً: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُرِيدَ بِعَمَلِهِ الْآخِرَةَ أَيْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الإرادة، وهذا النِّيَّةُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِذَلِكَ الْعَمَلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى [النَّجْمِ: 39] وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَعْمَالِ اسْتِنَارَةُ الْقَلْبِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَحَبَّتِهِ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِنْ نَوَى بِعَمَلِهِ عُبُودِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى وَطَلَبَ طَاعَتِهِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَسَعى لَها سَعْيَها وَذَلِكَ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْفَوْزِ بِثَوَابِ الْآخِرَةِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي بِهَا يُنَالُ ثَوَابُ الْآخِرَةِ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنْ بَابِ الْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَعْمَالٍ بَاطِلَةٍ، فَإِنَّ الْكُفَّارَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَلَهُمْ فِيهِ تَأْوِيلَانِ: التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ: يَقُولُونَ: إِلَهُ الْعَالَمِ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَقْدِرَ الْوَاحِدُ مِنَّا عَلَى إِظْهَارِ عُبُودِيَّتِهِ وَخِدْمَتِهِ فَلَيْسَ لَنَا هَذَا الْقَدْرُ وَالدَّرَجَةُ وَلَكِنْ غَايَةُ قَدْرِنَا أَنْ نَشْتَغِلَ بِعُبُودِيَّةِ بَعْضِ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى، مِثْلَ أَنْ نَشْتَغِلَ بِعِبَادَةِ كَوْكَبٍ أَوْ عِبَادَةِ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَكَ وَالْكَوْكَبَ يَشْتَغِلُونَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهَؤُلَاءِ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الطَّرِيقِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فَاسِدًا فِي نَفْسِهِ لَا جَرَمَ لَمْ يَحْصُلِ الِانْتِفَاعُ بِهِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي لَهُمْ: أَنَّهُمْ قَالُوا: نَحْنُ اتَّخَذْنَا هَذِهِ التَّمَاثِيلَ عَلَى صُوَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَمُرَادُنَا مِنْ عِبَادَتِهَا أَنْ تَصِيرَ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ شُفَعَاءَ لَنَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا الطَّرِيقُ أَيْضًا فَاسِدٌ، وَأَيْضًا نُقِلَ عَنِ الْهِنْدِ: أَنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ تَارَةً وَبِإِحْرَاقِ أَنْفُسِهِمْ أُخْرَى وَيُبَالِغُونَ فِي تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الطَّرِيقُ فَاسِدًا لَا جَرَمَ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ فِرَقِ الْمُبْطِلِينَ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَذَاهِبِهِمُ الْبَاطِلَةِ وَأَقْوَالِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَأَعْمَالِهِمُ الْمُنْحَرِفَةِ عَنْ قَانُونِ الصِّدْقِ وَالصَّوَابِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَهَذَا الشَّرْطُ مُعْتَبَرٌ، لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي كَوْنِ أَعْمَالِ الْبِرِّ مُوجِبَةً لِلثَّوَابِ تَقَدُّمُ الْإِيمَانِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ لَمْ يَحْصُلِ الْمَشْرُوطُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ يَصِيرُ السَّعْيُ مَشْكُورًا وَالْعَمَلُ مَبْرُورًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الشُّكْرَ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: اعْتِقَادُ كَوْنِهِ مُحْسِنًا فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِالْقَوْلِ،

والإتيان بأفعال تدل على كونه معظما عن ذَلِكَ الشَّاكِرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُعَامِلُ الْمُطِيعِينَ/ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِكَوْنِهِمْ مُحْسِنِينَ فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يُثْنِي عَلَيْهِمْ بِكَلَامِهِ وَأَنَّهُ تَعَالَى يُعَامِلُهُمْ بِمُعَامَلَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى كَوْنِهِمْ مُعَظَّمِينَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ حَاصِلًا كَانُوا مَشْكُورِينَ عَلَى طَاعَاتِهِمْ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَأَيْتُ فِي كُتُبِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ حَرْبٍ حَضَرَ عِنْدَهُ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَالَ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّا نَشْكُرُ اللَّهَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْإِيمَانُ حَاصِلًا بِإِيجَادِهِ لَامْتَنَعَ أَنْ نَشْكُرَهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَدْحَ الْإِنْسَانِ وَشُكْرَهُ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِ قَبِيحٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا [آلِ عِمْرَانَ: 188] فَعَجَزَ الْحَاضِرُونَ عَنِ الْجَوَابِ، فَدَخَلَ ثُمَامَةُ بْنُ الْأَشْرَسِ وَقَالَ: إِنَّمَا نَمْدَحُ اللَّهَ تَعَالَى وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا أَعْطَانَا مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْعَقْلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَإِيضَاحِ الدَّلَائِلِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَشْكُرُنَا عَلَى فِعْلِ الْإِيمَانِ قَالَ تَعَالَى: فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً قَالَ فَضَحِكَ جَعْفَرُ بْنُ حَرْبٍ وَقَالَ: صَعَّبَ الْمَسْأَلَةَ فَسَهُلَتْ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَنَا: مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِي يُوجِبُ الْفِعْلَ كَلَامٌ وَاضِحٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَعْطَى الْمُوجِبَ التَّامَّ لِحُصُولِ الْإِيمَانِ فَكَانَ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِلشُّكْرِ، وَلَمَّا حَصَلَ الْإِيمَانُ لِلْعَبْدِ وَكَانَ الْإِيمَانُ مُوجِبًا لِلسَّعَادَةِ التَّامَّةِ صَارَ الْعَبْدُ أَيْضًا مَشْكُورًا وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَتَى بِفِعْلٍ فَإِمَّا أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ تَحْصِيلَ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا، أَوْ تَحْصِيلَ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ، أَوْ يَقْصِدَ بِهِ مَجْمُوعَهُمَا، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ وَاحِدًا مِنْهُمَا، هَذَا هُوَ التَّقْسِيمُ الصَّحِيحُ، أَمَّا إِنْ قَصَدَ بِهِ تَحْصِيلَ الدُّنْيَا فَقَطْ أَوْ تَحْصِيلَ الْآخِرَةِ فَقَطْ، فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. أَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ طَلَبُ الْآخِرَةِ رَاجِحًا أَوْ مَرْجُوحًا، أَوْ يَكُونَ الطَّلَبَانِ مُتَعَادِلَيْنِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ طَلَبُ الْآخِرَةِ رَاجِحًا، فَهَلْ يَكُونُ هَذَا الْعَمَلُ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ بَحْثٌ، يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَى عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشَرَكَ فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشَرِيكَهُ» وَأَيْضًا فَطَلَبُ رِضْوَانِ اللَّهِ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا بِكَوْنِهِ بَاعِثًا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ دَاعِيًا إِلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: مَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ مَدْخَلٌ فِي ذَلِكَ الْبَعْثِ وَالدُّعَاءِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا حَصَلَ مُسْنَدًا إِلَى سَبَبٍ تَامٍّ كَامِلٍ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ مَدْخَلٌ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَالدَّاعِي إِلَيْهِ ذَلِكَ الْمَجْمُوعَ، وَذَلِكَ الْمَجْمُوعُ لَيْسَ هُوَ طَلَبَ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْمَجْمُوعَ الْحَاصِلَ مِنَ الشَّيْءِ وَمِنْ غَيْرِهِ يَجِبُ كَوْنُهُ مُغَايِرًا لِكُلِّ/ وَاحِدٍ مِنْ جُزْئَيْهِ فَهَذَا الْقِسْمُ الْتَحَقَ بِالْقِسْمِ الَّذِي كَانَ الدَّاعِي إِلَيْهِ مُغَايِرًا لِطَلَبِ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَقْبُولًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَمَّا كَانَ طَلَبُ الْآخِرَةِ رَاجِحًا عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا تَعَارَضَ الْمِثْلُ بِالْمِثْلِ فَيَبْقَى الْقَدْرُ الزَّائِدُ دَاعِيَةً خَالِصَةً لِطَلَبِ الْآخِرَةِ فَوَجَبَ كَوْنُهُ مَقْبُولًا، وَأَمَّا إِذَا كَانَ طَلَبُ الدُّنْيَا وَطَلَبُ الْآخِرَةِ مُتَعَادِلَيْنِ، أَوْ كَانَ طَلَبُ الدُّنْيَا رَاجِحًا فَهَذَا قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ إِلَّا أَنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ خَيْرٌ مِمَّا إِذَا كَانَ طَلَبُ الدُّنْيَا خَالِيًا بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ طَلَبِ الْآخِرَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ دَاعٍ فَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ صُدُورَ الْفِعْلِ مِنَ

[سورة الإسراء (17) : آية 22]

الْقَادِرِ هَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ الدَّاعِي أَمْ لَا؟ فَالَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّهُ مُتَوَقِّفٌ قَالُوا هَذَا الْقِسْمُ مُمْتَنِعُ الْحُصُولِ، وَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ قَالُوا: هَذَا الْفِعْلُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ فِي الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ عَبَثٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كُلًّا أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَالتَّنْوِينُ عِوَضٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ: نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى يَمُدُّ الْفَرِيقَيْنِ بِالْأَمْوَالِ وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِمَا فِي الرِّزْقِ مِثْلَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَسْبَابِ الْعِزِّ وَالزِّينَةِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ عَطَاءَنَا لَيْسَ يَضِيقُ عَنْ أَحَدٍ مُؤْمِنًا كَانَ أَوْ كَافِرًا لِأَنَّ الْكُلَّ مَخْلُوقُونَ فِي دَارِ الْعَمَلِ، فَوَجَبَ إِزَاحَةُ الْعُذْرِ وَإِزَالَةُ الْعِلَّةِ عَنِ الْكُلِّ وَإِيصَالُ مَتَاعِ الدُّنْيَا إِلَى الْكُلِّ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الصَّلَاحُ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ عَطَاءَهُ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ، أَيْ غَيْرَ مَمْنُوعٍ يُقَالُ حَظَرَهُ يَحْظُرُهُ، وَكُلُّ مَنْ حَالَ بينك وَبَيْنَ شَيْءٍ فَقَدْ حَظَرَهُ عَلَيْكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى: انْظُرْ إِلَى عَطَائِنَا الْمُبَاحِ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ فِي الدُّنْيَا، كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَأَوْصَلْنَاهُ إِلَى مُؤْمِنٍ وَقَبَضْنَاهُ عَنْ مُؤْمِنٍ آخَرَ، وَأَوْصَلْنَاهُ إِلَى كَافِرٍ، وَقَبَضْنَاهُ عَنْ كَافِرٍ آخَرَ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي هَذَا التَّفَاوُتِ فَقَالَ: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا [الزُّخْرُفِ: 32] وَقَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ [الْأَنْعَامِ: 165] . ثُمَّ قَالَ: وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا وَالْمَعْنَى: أَنَّ تَفَاضُلَ الْخَلْقِ فِي دَرَجَاتِ مَنَافِعِ الدُّنْيَا مَحْسُوسٌ، فَتَفَاضُلُهُمْ فِي دَرَجَاتِ مَنَافِعِ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ، فَإِنَّ نِسْبَةَ التَّفَاضُلِ فِي دَرَجَاتِ الْآخِرَةِ إِلَى التَّفَاضُلِ فِي دَرَجَاتِ الدُّنْيَا كَنِسْبَةِ الْآخِرَةِ إِلَى الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ تَشْتَدُّ رَغْبَتُهُ فِي طَلَبِ فَضِيلَةِ الدُّنْيَا فَبِأَنْ تَقْوَى رَغْبَتُهُ فِي طَلَبِ فَضِيلَةِ الْآخِرَةِ أَوْلَى. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْآخِرَةَ أَعْظَمُ وَأَشْرَفُ مِنَ الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ/ الْجَنَّةَ، وَالْكَافِرِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ، فَيَظْهَرُ فَضْلُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان: 24] . [سورة الإسراء (17) : آية 22] لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي بَيَانِ وَجْهِ النَّظْمِ فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ النَّاسَ فَرِيقَانِ مِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ الدُّنْيَا فَقَطْ وَهُمْ أَهْلُ الْعِقَابِ وَالْعَذَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ بِهِ طَاعَةَ اللَّهِ وَهُمْ أَهْلُ الثَّوَابِ ثُمَّ شَرَطَ ذَلِكَ بِشَرَائِطَ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهَا: إِرَادَةُ الْآخِرَةِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا وَيَسْعَى سَعْيًا مُوَافِقًا لِطَلَبِ الْآخِرَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا لَا جَرَمَ فَصَّلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تِلْكَ الْمُجْمَلَاتِ فَبَدَأَ أَوَّلًا بِشَرْحِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ، وَأَشْرَفُ أَجْزَاءِ الْإِيمَانِ هُوَ التَّوْحِيدُ وَنَفْيُ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ فَقَالَ: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ سَائِرَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَكُونُ الْمُقْدِمُ عَلَيْهَا، وَالْمُشْتَغِلُ بِهَا سَاعِيًا سَعْيًا يَلِيقُ بِطَلَبِ الْآخِرَةِ، وَصَارَ مِنَ الَّذِينَ سَعِدَ طَائِرُهُمْ وَحَسُنَ بَخْتُهُمْ وَكَمُلَتْ أَحْوَالُهُمْ.

[سورة الإسراء (17) : آية 23]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذَا فِي الظَّاهِرِ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ في المعنى عام لجميع المكلفين كقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطَّلَاقِ: 1] وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْإِنْسَانِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُّهَا الْإِنْسَانُ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ عِنْدِي أَوْلَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ إِلَى قَوْلِهِ: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما [الْإِسْرَاءِ: 23] وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ أَبَوَيْهِ مَا بَلَغَا الْكِبَرَ عِنْدَهُ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا هُوَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ كَانَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُشْرِكَ كَاذِبٌ وَالْكَاذِبَ يَسْتَوْجِبُ الذَّمَّ وَالْخِذْلَانَ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ وَلَا مُدَبِّرَ وَلَا مُقَدِّرَ إِلَّا الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ جَمِيعُ النِّعَمِ حَاصِلَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَقَدْ أَضَافَ بَعْضَ تِلْكَ النِّعَمِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، مَعَ أَنَّ الْحَقَّ أَنَّ كُلَّهَا مِنَ اللَّهِ، فَحِينَئِذٍ يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ، لِأَنَّ الْخَالِقَ تَعَالَى اسْتَحَقَّ الشُّكْرَ بِإِعْطَاءِ تِلْكَ النِّعَمِ فَلَمَّا جَحَدَ كَوْنَهَا مِنَ اللَّهِ، فَقَدْ قَابَلَ إِحْسَانَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِسَاءَةِ وَالْجُحُودِ وَالْكُفْرَانِ فَاسْتَوْجَبَ الذَّمَّ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْخِذْلَانَ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَثْبَتَ شَرِيكًا لِلَّهِ تَعَالَى اسْتَحَقَّ أَنْ يُفَوَّضَ أَمْرُهُ إِلَى ذَلِكَ الشَّرِيكِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الشَّرِيكُ مَعْدُومًا بَقِيَ بِلَا نَاصِرٍ وَلَا حَافِظٍ وَلَا مُعِينٍ. وَذَلِكَ عَيْنُ الْخِذْلَانِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْكَمَالَ فِي الْوَحْدَةِ وَالنُّقْصَانَ فِي الْكَثْرَةِ، فَمَنْ أَثْبَتَ الشَّرِيكَ فَقَدْ وَقَعَ فِي جَانِبِ النُّقْصَانِ/ وَاسْتَوْجَبَ الذَّمَّ وَالْخِذْلَانَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا دَلَّ لَفْظُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكَ مَذْمُومٌ مَخْذُولٌ وَجَبَ بِحُكْمِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَحِّدُ مَمْدُوحًا مَنْصُورًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْقُعُودُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَاهُ: الْمُكْثُ أَيْ فَتَمْكُثَ فِي النَّاسِ مَذْمُومًا مَخْذُولًا، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَإِذَا سَأَلَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ مَا يَصْنَعُ فُلَانٌ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ فَيَقُولُ الْمُجِيبُ: هُوَ قَاعِدٌ بِأَسْوَأِ حَالٍ مَعْنَاهُ: الْمُكْثُ سَوَاءً كَانَ قَائِمًا أَوْ جَالِسًا. الثَّانِي: إِنَّ مِنْ شَأْنِ الْمَذْمُومِ الْمَخْذُولِ أَنْ يَقْعُدَ نَادِمًا مُتَفَكِّرًا عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُتَمَكِّنَ مِنْ تَحْصِيلِ الْخَيْرَاتِ يَسْعَى فِي تَحْصِيلِهَا، وَالسَّعْيُ إِنَّمَا يَتَأَتَّى بِالْقِيَامِ، وَأَمَّا الْعَاجِزُ عَنْ تَحْصِيلِهَا فَإِنَّهُ لَا يَسْعَى بَلْ يَبْقَى جَالِسًا قَاعِدًا عَنِ الطَّلَبِ فَلَمَّا كَانَ الْقِيَامُ عَلَى الرَّجُلِ أَحَدَ الْأُمُورِ الَّتِي بِهَا يَتِمُّ الْفَوْزُ بِالْخَيْرَاتِ، وَكَانَ الْقُعُودُ وَالْجُلُوسُ عَلَامَةً على هدم تِلْكَ الْمَكِنَةِ وَالْقُدْرَةِ لَا جَرَمَ جُعِلَ الْقِيَامُ كِنَايَةً عَنِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِ الْخَيْرَاتِ. وَالْقُعُودُ كِنَايَةٌ عَنِ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَوْلُهُ: (فَتَقْعُدَ) انْتَصَبَ لِأَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ الْفَاءِ جَوَابًا لِلنَّهْيِ وَانْتِصَابُهُ بِإِضْمَارِ «أَنْ» كَقَوْلِكَ لَا تَنْقَطِعْ عَنَّا فَنَجْفُوَكَ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَكُنْ مِنْكَ انْقِطَاعٌ فَيَحْصُلُ أَنْ نَجْفُوَكَ فَمَا بَعْدَ الْفَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِالْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِحَرْفِ الْفَاءِ الَّتِي هِيَ حَرْفُ الْعَطْفِ وَإِنَّمَا سَمَّاهُ النَّحْوِيُّونَ جَوَابًا لِكَوْنِهِ مُشَابِهًا لِلْجَزَاءِ فِي أَنَّ الثَّانِيَ مُسَبَّبٌ عَنِ الْأَوَّلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى إِنِ انْقَطَعَتْ جَفْوَتُكَ كَذَلِكَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ إِنْ جَعَلْتَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ قَعَدْتَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا. [سورة الإسراء (17) : آية 23] وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23)

[سورة الإسراء (17) : الآيات 24 إلى 25]

اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مَا هُوَ الرَّكْنُ الْأَعْظَمُ فِي الْإِيمَانِ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَا هُوَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِيمَانِ وَشَرَائِطِهِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُشْتَغِلًا بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَكُونَ مُحْتَرِزًا عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلُهُ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْقَضَاءُ مَعْنَاهُ الْحُكْمُ الْجَزْمُ الْبَتُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ النَّسْخَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا إِذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: إِنَّهُ قَضَى عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا أَمَرَهُ أَمْرًا جَزْمًا وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ عَلَى سَبِيلِ الْبَتِّ وَالْقَطْعِ، فَهَهُنَا يُقَالُ: قَضَى عَلَيْهِ وَلَفْظُ الْقَضَاءِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ يَرْجِعُ إِلَى إِتْمَامِ الشَّيْءِ/ وَانْقِطَاعِهِ. وَرَوَى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ الْأَصْلُ وَوَصَّى رَبُّكَ فَالْتَصَقَتْ إِحْدَى الْوَاوَيْنِ بِالصَّادِ فقرىء: وَقَضى رَبُّكَ ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ كَانَ عَلَى الْقَضَاءِ مَا عَصَى اللَّهَ أَحَدٌ قَطُّ، لِأَنَّ خِلَافَ قَضَاءِ اللَّهِ مُمْتَنِعٌ، هَكَذَا رَوَاهُ عَنْهُ الضَّحَّاكُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَهُوَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّهُ يَفْتَحُ بَابَ أَنَّ التَّحْرِيفَ وَالتَّغْيِيرَ قَدْ تَطَرَّقَ إِلَى الْقُرْآنِ، وَلَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَارْتَفَعَ الْأَمَانُ عَنِ الْقُرْآنِ وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ حَجَّةً وَلَا شَكَّ أَنَّهُ طَعْنٌ عَظِيمٌ فِي الدِّينِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْفِعْلِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى نِهَايَةُ التَّعْظِيمِ وَنِهَايَةُ التَّعْظِيمِ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ يَصْدُرُ عَنْهُ نِهَايَةُ الْإِنْعَامِ، وَنِهَايَةُ الْإِنْعَامِ عِبَارَةٌ عَنْ إِعْطَاءِ الْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ، وَالْقُدْرَةِ وَالشَّهْوَةِ وَالْعَقْلِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ أَنَّ الْمُعْطِيَ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا غَيْرُهُ، وَإِذَا كَانَ الْمُنْعِمُ بِجَمِيعِ النِّعَمِ هُوَ اللَّهَ لَا غَيْرَهُ، لَا جَرَمَ كَانَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى لَا غَيْرَهُ، فَثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ صِحَّةُ قَوْلُهُ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. [سورة الإسراء (17) : الآيات 24 الى 25] وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) [وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِعِبَادَةِ نَفْسِهِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالْأَمْرِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَبَيَانُ الْمُنَاسِبَةِ بَيْنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ السَّبَبَ الْحَقِيقِيَّ لِوُجُودِ الْإِنْسَانِ هُوَ تَخْلِيقُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِيجَادُهُ، وَالسَّبَبُ الظَّاهِرِيُّ هُوَ الْأَبَوَانِ، فَأَمَرَ بِتَعْظِيمِ السَّبَبِ الْحَقِيقِيِّ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالْأَمْرِ بِتَعْظِيمِ السَّبَبِ الظَّاهِرِيِّ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا مُحْدَثٌ، وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُعَامَلَةُ الْإِنْسَانِ مَعَ الْإِلَهِ الْقَدِيمِ بِالتَّعْظِيمِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَمَعَ الْمُحْدَثِ بِإِظْهَارِ الشَّفَقَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ

عَلَى خَلْقِ اللَّهِ» وَأَحَقُّ الْخَلْقِ بِصَرْفِ الشَّفَقَةِ إِلَيْهِ هُوَ الْأَبَوَانِ لِكَثْرَةِ إِنْعَامِهِمَا عَلَى الْإِنْسَانِ فَقَوْلُهُ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ إِشَارَةٌ إِلَى التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِشَارَةٌ إِلَى الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِشُكْرِ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ، ثُمَّ الْمُنْعِمُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ الْخَالِقُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَقَدْ يَكُونُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ مُنْعِمًا عَلَيْكَ، وَشُكْرُهُ أَيْضًا وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ» وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلَائِقِ نِعْمَةٌ عَلَى الْإِنْسَانِ مِثْلَ مَا لِلْوَالِدَيْنِ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَلَدَ قِطْعَةٌ مِنَ الْوَالِدَيْنِ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي» . وَثَانِيهَا: أَنَّ شَفَقَةَ الْأَبَوَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ عَظِيمَةٌ وَجِدَّهُمَا فِي إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَى الْوَلَدِ كَالْأَمْرِ الطَّبِيعِيِّ وَاحْتِرَازَهُمَا عَنْ إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَيْهِ كَالْأَمْرِ الطَّبِيعِيِّ، وَمَتَى كَانْتِ الدَّوَاعِي إِلَى إِيصَالِ الْخَيْرِ مُتَوَفِّرَةً، وَالصَّوَارِفُ عَنْهُ زَائِلَةً لَا جَرَمَ كَثُرَ إِيصَالُ الْخَيْرِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ نِعَمُ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ كَثِيرَةً أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ نِعْمَةٍ تَصِلُ مِنْ إِنْسَانٍ إِلَى إِنْسَانٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ حَالَ مَا يَكُونُ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَنِهَايَةِ الْعَجْزِ، يَكُونُ فِي إِنْعَامِ الْأَبَوَيْنِ فَأَصْنَافُ نِعَمِهِمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاصِلَةٌ إِلَيْهِ، وَأَصْنَافُ رَحْمَةِ ذَلِكَ الْوَلَدِ وَاصِلَةٌ إِلَى الْوَالِدَيْنِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِنْعَامَ إِذَا كَانَ وَاقِعًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ مَوْقِعُهُ عَظِيمًا. وَرَابِعُهَا: أَنَّ إِيصَالَ الْخَيْرِ إِلَى الْغَيْرِ قَدْ يَكُونُ لِدَاعِيَةِ إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَيْهِ وَقَدْ يَمْتَزِجُ بِهَذَا الْغَرَضِ سَائِرُ الْأَغْرَاضِ، وَإِيصَالُ الْخَيْرِ إِلَى الْوَلَدِ لَيْسَ لِهَذَا الْغَرَضِ فَقَطْ فَكَانَ الْإِنْعَامُ فِيهِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ نِعْمَةٌ عَلَى غَيْرِهِ مِثْلَ مَا لِلْوَالِدَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ، فَبَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِشُكْرِ نِعْمَةِ الْخَالِقِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِشُكْرِ نِعْمَةِ الْوَالِدَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَالسَّبَبُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ أَعْظَمَ النِّعَمِ بَعْدَ إِنْعَامِ الْإِلَهِ الْخَالِقِ نِعْمَةُ الْوَالِدَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: الْوَالِدَانِ إِنَّمَا طَلَبَا تَحْصِيلَ اللَّذَّةِ لِنَفْسَيْهِمَا فَلَزِمَ مِنْهُ دُخُولُ الْوَلَدِ فِي الْوُجُودِ وَحُصُولُهُ فِي عَالَمِ الْآفَاتِ وَالْمَخَافَاتِ، فَأَيُّ إِنْعَامٍ لِلْأَبَوَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ؟ حُكِيَ أَنَّ وَاحِدًا مِنَ الْمُتَّسِمِينَ بِالْحِكْمَةِ كَانَ يَضْرِبُ أَبَاهُ وَيَقُولُ: هُوَ الَّذِي أَدْخَلَنِي فِي عَالَمِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ وَعَرَّضَنِي لِلْمَوْتِ وَالْفَقْرِ وَالْعَمَى/ وَالزَّمَانَةِ، وَقِيلَ لِأَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِّي: مَاذَا نَكْتُبُ عَلَى قَبْرِكَ؟ قَالَ اكْتُبُوا عَلَيْهِ: هَذَا جَنَاهُ أَبِي عَلَيَّ ... وَمَا جَنَيْتُ عَلَى أَحَدِ وَقَالَ فِي تَرْكِ التَّزَوُّجِ والولد: وتركت أولادي وهم في نعمة العدم ... الَّتِي سَبَقَتْ نَعِيمَ الْعَاجِلِ وَلَوَ انَّهُمْ وُلِدُوا لَعَانَوْا شِدَّةً ... تَرْمِي بِهِمْ فِي مُوبِقَاتِ الْآجِلِ وَقِيلَ لِلْإِسْكَنْدَرِ: أُسْتَاذُكَ أَعْظَمُ مِنَّةً عَلَيْكَ أَمْ وَالِدُكَ؟ فَقَالَ: الْأُسْتَاذُ أَعْظَمُ مِنَّةً، لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ أَنْوَاعَ الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ عِنْدَ تَعْلِيمِي أَرْتَعَنِي فِي نُورِ الْعِلْمِ، وَأَمَّا الْوَالِدُ فَإِنَّهُ طَلَبَ تَحْصِيلَ لَذَّةِ الْوِقَاعِ لِنَفْسِهِ، وَأَخْرَجَنِي إِلَى آفَاتِ عَالَمِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ، وَمِنَ الْكَلِمَاتِ الْمَشْهُورَةِ الْمَأْثُورَةِ، خَيْرُ الْآبَاءِ مَنْ عَلَّمَكَ. وَالْجَوَابُ: هَبْ أَنَّهُمَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ طَلَبَا لَذَّةَ الْوِقَاعِ إِلَّا أَنَّ الِاهْتِمَامَ بِإِيصَالِ الْخَيْرَاتِ، وَفِي دَفْعِ الْآفَاتِ مِنْ أَوَّلِ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ إِلَى وَقْتِ بُلُوغِهِ الْكِبَرَ أَلَيْسَ أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ مَا يُتَخَيَّلُ مِنْ جِهَاتِ الْخَيْرَاتِ وَالْمَبَرَّاتِ، فَسَقَطَتْ هَذِهِ الشُّبُهَاتُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وَأَنْ تُحْسِنُوا، أَوْ يُقَالُ: وَقَضَى أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ الباء في بِالْوالِدَيْنِ بِالْإِحْسَانِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا تَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ صِلَتُهُ ثُمَّ لَمْ يُذْكُرْ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ صِلَتُهُ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» : الْبَاءُ فِي وَبِالْوالِدَيْنِ مِنْ صِلَةِ الْإِحْسَانِ وَقُدِّمَتْ عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ بِزَيْدٍ فَامْرُرْ، وَهَذَا الْمِثَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ غَيْرُ مُطَابِقٍ، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ تَقْدِيمُ صِلَةِ الْمَصْدَرِ عَلَيْهِ، وَالْمِثَالُ الْمَذْكُورُ لَيْسَ كَذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: لَفْظُ الْإِحْسَانِ قَدْ يُوصَلُ بِحَرْفِ الْبَاءِ تَارَةً، وَبِحَرْفِ إِلَى أُخْرَى، وَكَذَلِكَ الْإِسَاءَةُ، يُقَالُ: أَحْسَنْتُ بِهِ وَإِلَيْهِ وَأَسَأْتُ بِهِ وَإِلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي [يُوسُفَ: 100] وَقَالَ الْقَائِلُ: أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةً ... لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيَّةً إِنْ تَقَلَّتِ وَأَقُولُ لَفْظُ الْآيَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى قُيُودٍ كَثِيرَةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُوجِبُ الْمُبَالَغَةَ فِي الْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الْإِسْرَاءِ: 19] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَرْدَفَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي بِوَاسِطَتِهَا يَحْصُلُ الْفَوْزُ بِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ فَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا الْبِرَّ بِالْوَالِدَيْنِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الطَّاعَةَ مِنْ/ أَصُولِ الطَّاعَاتِ الَّتِي تُفِيدُ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بِذِكْرِ الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ وَثَنَّى بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَثَلَّثَ بِالْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ وَهَذِهِ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ وَمُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ فِي تَعْظِيمِ هَذِهِ الطَّاعَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: وَإِحْسَانًا بِالْوَالِدَيْنِ، بَلْ قَالَ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً فَتَقْدِيمُ ذِكْرِهِمَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ قَالَ: إِحْساناً بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ وَالتَّنْكِيرُ يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ، وَالْمَعْنَى: وَقَضَى رَبُّكَ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَى الْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا عَظِيمًا كَامِلًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ إِحْسَانُهُمَا إِلَيْكَ قَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ الْعَظِيمَةَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِحْسَانُكَ إِلَيْهِمَا كَذَلِكَ، ثُمَّ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ فَلَا تَحْصُلُ الْمُكَافَأَةُ، لِأَنَّ إِنْعَامَهُمَا عَلَيْكَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ، وَفِي الْأَمْثَالِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ الْبَادِيَ بِالْبِرِّ لَا يُكَافَأُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَفْظُ «إِمَّا» لَفْظَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ لَفْظَتَيْنِ: إِنْ، وَمَا. أَمَّا كَلِمَةُ إِنْ فَهِيَ لِلشَّرْطِ، وَأَمَّا كَلِمَةُ (مَا) فَهِيَ أَيْضًا لِلشَّرْطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [الْبَقَرَةِ: 106] فَلَمَّا جَمَعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ أَفَادَ التَّأْكِيدَ فِي مَعْنَى الِاشْتِرَاطِ، إِلَّا أَنَّ عَلَامَةَ الْجَزْمِ لَمْ تَظْهَرْ مَعَ نُونِ التَّوْكِيدِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ يُبْنَى مَعَ نُونِ التَّأْكِيدِ وَأَقُولُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ نُونَ التَّأْكِيدِ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ اللَّائِقُ بِهِ تَأْكِيدَ ذَلِكَ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ وَتَقْرِيرِهِ وَإِثْبَاتِهِ عَلَى أَقْوَى الْوُجُوهِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: الشَّيْءُ إِمَّا كَذَا وَإِمَّا كَذَا، فَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ تَرْدِيدُ الْحُكْمِ بَيْنَ ذَيْنِكَ الشَّيْئَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ لَا يَلِيقُ بِهِ التَّقْرِيرُ وَالتَّأْكِيدُ فَكَيْفَ يَلِيقُ الْجَمْعُ بَيْنَ كَلِمَةِ إِمَّا وَبَيْنَ نُونِ التَّأْكِيدِ؟ وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الْمُتَقَرِّرَ الْمُتَأَكِّدَ إِمَّا أَنْ يَقَعَ وَإِمَّا أَنْ لَا يَقَعَ والله أعلم.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْأَكْثَرُونَ: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ: يَبْلُغَنَّ فِعْلٌ وَفَاعِلُهُ هُوَ قَوْلُهُ: أَحَدُهُما وَقَوْلُهُ: أَوْ كِلاهُما عُطِفَ عَلَيْهِ كَقَوْلِكَ: ضَرَبَ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو: وَلَوْ أَسْنَدَ قَوْلَهُ: يَبْلُغَنَّ إِلَى قَوْلِهِ: كِلاهُما جَازَ لِتَقَدُّمِ الْفِعْلِ، تَقُولُ قَالَ رَجُلٌ، وَقَالَ رَجُلَانِ، وَقَالَتِ الرِّجَالُ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: يَبْلُغَانِ وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَقَوْلُهُ: أَحَدُهُما بَدَلٌ مِنْ أَلِفِ الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وكِلاهُما عَطْفٌ عَلَى أَحَدُهُما فَاعِلًا أَوْ بَدَلًا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ قِيلَ (إِمَّا يَبْلُغَانِ كِلَاهُمَا) كَانَ (كِلَاهُمَا) تَوْكِيدًا لَا بَدَلًا، فَلِمَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ بَدَلٌ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيدًا لِلِاثْنَيْنِ فَانْتَظَمَ فِي حُكْمِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ فِي كَوْنِهِ بَدَلًا. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: أَحَدُهُما بَدَلٌ، وَقَوْلُهُ: أَوْ كِلاهُما تَوْكِيدٌ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَطْفًا لِلتَّوْكِيدِ عَلَى الْبَدَلِ. قُلْنَا: الْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فَجُعِلَ أَحَدُهُما بَدَلًا وَالْآخَرُ تَوْكِيدًا خِلَافَ الْأَصْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ الرَّازِيُّ، وَأَبُو الْفَتْحِ الْمَوْصِلِيُّ، وَأَبُو عَلِيٍّ الْجُرْجَانِيُّ: إِنَّ (كِلَا) اسْمٌ مُفْرَدٌ يُفِيدُ مَعْنَى التَّثْنِيَةِ وَوَزْنُهُ فِعَلْ وَلَامُهُ مُعْتَلٌّ بِمَنْزِلَةِ لَامِ حِجًى وَرِضًى وَهِيَ كَلِمَةٌ وُضِعَتْ عَلَى هَذِهِ الْخِلْقَةِ يُؤَكَّدُ بِهَا الِاثْنَانِ خَاصَّةً وَلَا تَكُونُ إِلَّا مُضَافَةً. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَثْنِيَةً لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ فِي النَّصْبِ وَالْخَفْضِ مَرَرْتُ بِكِلَيِ الرَّجُلَيْنِ بِكَسْرِ الْيَاءِ كَمَا تَقُولُ: بَيْنَ يَدَيِ الرجل ومِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ [المزمل: 20] . ويا صاحِبَيِ السِّجْنِ [يوسف: 39، 41] . وطَرَفَيِ النَّهارِ [هود: 114] وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ تَثْنِيَةً بَلْ هِيَ لَفْظَةٌ مُفْرَدَةٌ وُضِعَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّثْنِيَةِ كَمَا أَنَّ لَفْظَةَ (كُلٍّ) اسْمٌ وَاحِدٌ مَوْضُوعٌ لِلْجَمَاعَةِ، فَإِذَنْ أَخْبَرْتَ عَنْ لَفْظِهِ كَمَا تُخْبِرُ عَنِ الْوَاحِدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مَرْيَمَ: 95] وَكَذَلِكَ إِذَا أَخْبَرْتَ عَنْ (كِلَا) أَخْبَرْتَ عَنْ وَاحِدٍ فَقُلْتَ كِلَا إِخْوَتِكَ كَانَ قَائِمًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها [الْكَهْفِ: 33] وَلَمْ يَقُلْ آتَتَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما مَعْنَاهُ: أَنَّهُمَا يَبْلُغَانِ إِلَى حَالَةِ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ فَيَصِيرَانِ عِنْدَكَ فِي آخِرِ الْعُمُرِ كَمَا كُنْتَ عِنْدَهُمَا فِي أَوَّلِ الْعُمُرِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فَعِنْدَ هَذَا الذِّكْرِ كَلَّفَ الْإِنْسَانَ فِي حَقِّ الْوَالِدَيْنِ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ: فِيهِ سَبْعُ لُغَاتٍ: كَسْرُ الْفَاءِ وَضَمِّهَا وَفَتْحِهَا، وَكُلُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِتَنْوِينٍ وَبِغَيْرِ تَنْوِينٍ فَهَذِهِ سِتَّةٌ وَاللُّغَةُ السَّابِعَةُ أُفِّي بِالْيَاءِ قَالَ الْأَخْفَشُ: كَأَنَّهُ أَضَافَ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ قَوْلِي هَذَا وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ مِنْ لُغَاتِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ ثَلَاثَةً زَائِدَةً عَلَى مَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ: إِفَّ بِكَسْرِ الْأَلِفِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَأُفَّهْ بِضَمِّ الألف وإدخال الهاء وأف بِضَمِّ الْأَلْفِ وَتَسْكِينِ الْفَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ: بِفَتْحِ الْفَاءِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، وَنَافِعٌ وَحَفْصٌ: بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالتَّنْوِينِ، وَالْبَاقُونَ: بِكَسْرِ الْفَاءِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ وَكُلُّهَا لُغَاتٌ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ أُفٍّ لَكُمْ

[الْأَنْبِيَاءِ: 67] وَفِي الْأَحْقَافِ: أُفٍّ لَكُما [الْأَحْقَافِ: 17] وَأَقُولُ: البحث المشكل هاهنا أَنَّا لَمَّا نَقَلْنَا عَشَرَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ اللُّغَاتِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ، فَمَا السَّبَبُ فِي أَنَّهُمْ تَرَكُوا أَكْثَرَ تِلْكَ اللُّغَاتِ فِي قِرَاءَةِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَاقْتَصَرُوا عَلَى وُجُوهٍ قَلِيلَةٍ مِنْهَا؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ جَعَلَ فُلَانٌ يَتَأَفَّفُ مِنْ رِيحٍ وَجَدَهَا، مَعْنَاهُ يَقُولُ: أُفٍّ أُفٍّ. الثَّانِي: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْأُفُّ وَسَخُ الْأُذُنِ وَالْتُفُّ وَسَخُ الظُّفُرِ يُقَالُ ذَلِكَ عِنْدَ اسْتِقْذَارِ الشَّيْءِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اسْتُعْمِلُوا عِنْدَ كُلِّ مَا يَتَأَذَّوْنَ بِهِ. الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ أُفٍّ مَعْنَاهُ قِلَّةٌ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَفِيفِ وَهُوَ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ وَتُفٍّ إِتْبَاعٌ لَهُ، كَقَوْلِهِمْ: شَيْطَانٌ لَيْطَانٌ خَبِيثٌ نَبِيثٌ. الرَّابِعُ: رَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: الْأُفُّ الضَّجَرُ. الْخَامِسُ: قَالَ الْقُتَبِيُّ: أَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ أَنَّهُ إِذَا سَقَطَ عَلَيْكَ تُرَابٌ أَوْ رَمَادٌ نَفَخْتَ فِيهِ لِتُزِيلَهُ وَالصَّوْتُ الْحَاصِلُ عِنْدَ تِلْكَ النَّفْخَةِ هُوَ قَوْلُكَ أُفٍّ، ثُمَّ إِنَّهُمْ تَوَسَّعُوا فَذَكَرُوا هَذِهِ اللَّفْظَةَ عِنْدَ كُلِّ مَكْرُوهٍ يَصِلُ إِلَيْهِمْ. السَّادِسُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: أُفٍّ مَعْنَاهُ النَّتَنُ وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ، لِأَنَّهُ قَالَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ أَيْ لَا تَتَقَذَّرْهُمَا كَمَا أَنَّهُمَا لَمْ يَتَقَذَّرَاكَ كنت تخر أَوْ تَبُولُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ إِذَا وَجَدْتَ مِنْهُمَا رَائِحَةً تُؤْذِيكَ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا تَقُلْ لِفُلَانٍ أُفٍّ، مَثَلٌ يُضْرَبُ لِلْمَنْعِ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَأَذِيَّةٍ وَإِنْ خَفَّ وَقَلَّ. واختلف الأصوليون في أن دلالة هذا اللفظ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْإِيذَاءِ دَلَالَةٌ لَفْظِيَّةٌ أَوْ دَلَالَةٌ مَفْهُومَةٌ بِمُقْتَضَى الْقِيَاسِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا دَلَالَةٌ لَفْظِيَّةٌ، لِأَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ إِذَا قَالُوا: لَا تَقُلْ لِفُلَانٍ أُفٍّ عَنَوْا بِهِ أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِيذَاءِ وَالْإِيحَاشِ، وَجَرَى هَذَا مَجْرَى قَوْلِهِمْ فُلَانٌ لَا يَمْلِكُ نَقِيرًا وَلَا قِطْمِيرًا فِي أَنَّهُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْإِيذَاءِ بِحَسَبِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الشَّرْعَ إِذَا نَصَّ عَلَى حُكْمِ صُورَةٍ وَسَكَتَ عَنْ حُكْمِ صُورَةٍ أُخْرَى، فَإِذَا أَرَدْنَا إِلْحَاقَ الصُّورَةِ الْمَسْكُوتِ عَنْ حُكْمِهَا بِالصُّورَةِ الْمَذْكُورِ حُكْمُهَا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ أَوْلَى مِنْ ثُبُوتِهِ فِي مَحَلِّ الذِّكْرِ مِثْلَ هَذِهِ الصُّورَةِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ إِنَّمَا دَلَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّأْفِيفِ، وَالضَّرْبُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنَ التَّأْفِيفِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ مُسَاوِيًا لِلْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الذِّكْرِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْأُصُولِيُّونَ الْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، وَضَرَبُوا لِهَذَا مَثَلًا وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ مِنْ عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ الْبَاقِي» فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ مُتَسَاوِيَانِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ أَخْفَى مِنَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الذِّكْرِ وَهُوَ أَكْبَرُ الْقِيَاسَاتِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَنْعُ مِنَ التَّأْفِيفِ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الضَّرْبِ بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ الَّذِي يَكُونُ مِنْ بَابِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ التَّأْفِيفَ غَيْرُ الضَّرْبِ، فَالْمَنْعُ مِنَ التَّأْفِيفِ لَا يَكُونُ مَنْعًا مِنَ الضَّرْبِ، وَأَيْضًا الْمَنْعُ مِنَ التَّأْفِيفِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْمَنْعَ مِنَ الضَّرْبِ عَقْلًا، لِأَنَّ الْمَلِكَ الْكَبِيرَ إِذَا أَخَذَ مَلِكًا عَظِيمًا كَانَ عَدُوًّا لَهُ، فَقَدْ يَقُولُ لِلْجَلَّادِ إِيَّاكَ وَأَنْ تَسْتَخِفَّ بِهِ أَوْ تُشَافِهَهُ بِكَلِمَةٍ مُوحِشَةٍ لَكِنِ اضْرِبْ رَقَبَتَهُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْقُولًا فِي الْجُمْلَةِ عَلِمْنَا أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ/ التَّأْفِيفِ مُغَايِرٌ لِلْمَنْعِ مِنَ الضَّرْبِ وَغَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِلْمَنْعِ مِنَ الضَّرْبِ عَقْلًا فِي الْجُمْلَةِ، إِلَّا أَنَّا عَلِمْنَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَعْظِيمِ الْوَالِدَيْنِ

بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ فَكَانَتْ دَلَالَةُ الْمَنْعِ مِنَ التَّأْفِيفِ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الضَّرْبِ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَلَّفَ اللَّهُ تَعَالَى الْعِبَادَ بِهَا فِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ قَوْلُهُ: وَلا تَنْهَرْهُما يُقَالُ: نَهَرَهُ وَانْتَهَرَهُ إِذَا اسْتَقْبَلَهُ بِكَلَامٍ يَزْجُرُهُ قَالَ تَعَالَى: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضُّحَى: 10] . فَإِنْ قِيلَ: الْمَنْعُ مِنَ التَّأْفِيفِ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الِانْتِهَارِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَلَمَّا قَدَّمَ الْمَنْعَ مِنَ التَّأْفِيفِ كَانَ ذِكْرُ الْمَنْعِ مِنَ الِانْتِهَارِ بَعْدَهُ عَبَثًا. أَمَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ قَدَّمَ الْمَنْعَ مِنَ الِانْتِهَارِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالْمَنْعِ مِنَ التَّأْفِيفِ كَانَ مُفِيدًا حَسَنًا، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْمَنْعِ مِنَ الِانْتِهَارِ الْمَنْعُ مِنَ التَّأْفِيفِ، فَمَا السَّبَبُ فِي رِعَايَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ؟ قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ الْمَنْعُ مِنْ إِظْهَارِ الضَّجَرِ بِالْقَلِيلِ أَوِ الْكَثِيرِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَنْهَرْهُما الْمَنْعُ مِنْ إِظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ فِي الْقَوْلِ عَلَى سَبِيلِ الرَّدِّ عَلَيْهِ وَالتَّكْذِيبِ لَهُ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَنَعَ الْإِنْسَانَ بِالْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنْ ذِكْرِ الْقَوْلِ الْمُؤْذِي الْمُوحِشِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْقَوْلِ الْمُؤْذِي لَا يَكُونُ أَمْرًا بِالْقَوْلِ الطَّيِّبِ، لَا جَرَمَ أَرْدَفَهُ بِأَنْ أَمَرَهُ بِالْقَوْلِ الْحَسَنِ وَالْكَلَامِ الطَّيِّبِ فَقَالَ: وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يُخَاطِبَهُ بِالْكَلَامِ الْمَقْرُونِ بِأَمَارَاتِ التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُوَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: يَا أَبَتَاهُ يَا أُمَّاهُ، وَسُئِلَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنِ الْقَوْلِ الْكَرِيمِ فَقَالَ: هُوَ قَوْلُ الْعَبْدِ الْمُذْنِبِ لِلسَّيِّدِ الْفَظِّ، وَعَنْ عَطَاءٍ أَنْ يُقَالَ: هُوَ أَنْ تَتَكَلَّمَ مَعَهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا تَرْفَعَ عَلَيْهِمَا صَوْتَكَ وَلَا تَشُدَّ إِلَيْهِمَا نَظَرَكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ يُنَافِيَانِ الْقَوْلَ الْكَرِيمَ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَعْظَمَ النَّاسِ حِلْمًا وَكَرَمًا وَأَدَبًا، فَكَيْفَ قَالَ لِأَبِيهِ يَا آزَرُ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ بِالضَّمِّ: إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الْأَنْعَامِ: 74] فَخَاطَبَهُ بِالِاسْمِ وَهُوَ إِيذَاءٌ، ثُمَّ نَسَبَهُ وَنَسَبَ قَوْمَهُ إِلَى الضَّلَالِ وَهُوَ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْإِيذَاءِ؟ قُلْنَا: إِنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْأَبَوَيْنِ، فَإِقْدَامُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى ذَلِكَ الْإِيذَاءِ إِنَّمَا كَانَ تَقْدِيمًا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى حَقِّ الْأَبَوَيْنِ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّوَاضُعِ، / وَذَكَرَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَقْرِيرِهِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الطَّائِرَ إِذَا أَرَادَ ضَمَّ فَرْخِهِ إِلَيْهِ لِلتَّرْبِيَةِ خَفَضَ لَهُ جَنَاحَهُ، وَلِهَذَا السَّبَبِ صَارَ خَفْضُ الْجَنَاحِ كِنَايَةً عَنْ حُسْنِ التَّرْبِيَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لِلْوَلَدِ: اكْفُلْ وَالِدَيْكَ بِأَنْ تَضُمَّهُمَا إِلَى نَفْسِكَ كَمَا فَعَلَا ذَلِكَ بِكَ حَالَ صِغَرِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الطَّائِرَ إِذَا أَرَادَ الطَّيَرَانَ وَالِارْتِفَاعَ نَشَرَ جَنَاحَهُ وَإِذَا أَرَادَ تَرْكَ الطَّيَرَانِ وَتَرْكَ الِارْتِفَاعِ خَفَضَ جَنَاحَهُ فَصَارَ خَفْضُ الْجَنَاحِ كِنَايَةً عَنْ فِعْلِ التَّوَاضُعِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَضَافَ الْجَنَاحَ إِلَى الذُّلِّ وَالذُّلُّ لَا جَنَاحَ لَهُ؟ قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أُضِيفَ الْجَنَاحُ إِلَى الذُّلِّ كَمَا يُقَالُ: حَاتِمُ الْجُودِ فَكَمَا أن المراد هناك حاتم الجواد فكذلك هاهنا الْمُرَادُ، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَكَ الذَّلِيلَ، أَيِ الْمَذْلُولَ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَدَارَ الِاسْتِعَارَةِ عَلَى الْخَيَالَاتِ فَهَهُنَا تَخَيَّلَ لِلذُّلِّ جَنَاحًا وَأَثْبَتَ لِذَلِكَ الْجَنَاحِ ضَعْفًا تَكْمِيلًا لِأَمْرِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ كَمَا قَالَ لَبِيدٌ:

إذا أَصْبَحَتْ بِيَدِ الشَّمَالِ زِمَامُهَا فَأَثْبَتَ لِلشَّمَالِ يَدًا ووضع زمامها في يد الشمال فكذا هاهنا وَقَوْلُهُ: مِنَ الرَّحْمَةِ مَعْنَاهُ: لِيَكُنْ خَفْضُ جَنَاحِكَ لَهُمَا بِسَبَبِ فَرْطِ رَحْمَتِكَ لَهُمَا وَعَطْفِكَ عَلَيْهِمَا بِسَبَبِ كِبَرِهِمَا وَضَعْفِهِمَا. وَالنَّوْعُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ فِي تَعْلِيمِ الْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ عَلَى تَعْلِيمِ الْأَقْوَالِ بَلْ أَضَافَ إِلَيْهِ تَعْلِيمَ الْأَفْعَالِ وهو أن يدعو لهما بالرحمة فيقول: رَبِّ ارْحَمْهُما وَلَفْظُ الرَّحْمَةِ جَامِعٌ لِكُلِّ الْخَيْرَاتِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا. ثُمَّ يَقُولُ: كَما رَبَّيانِي صَغِيراً يُعَيِّنُ رَبِّ افْعَلْ بِهِمَا هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْإِحْسَانِ كَمَا أَحْسَنَا إِلَيَّ فِي تَرْبِيَتِهِمَا إِيَّايَ، وَالتَّرْبِيَةُ هِيَ التَّنْمِيَةُ، وَهِيَ مِنْ قَوْلِهِمْ رَبَا الشَّيْءُ إِذَا انْتَفَعَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [فُصِّلَتْ: 39] . الْبَحْثُ الثَّانِي: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَةِ: 113] فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِوَالِدَيْهِ إِذَا كَانَا مُشْرِكَيْنِ، وَلَا يَقُولَ: رَبِّ ارْحَمْهُمَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَلَكِنَّهَا مَخْصُوصَةٌ فِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ، وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ أَوْلَى مِنَ النَّسْخِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا نَسْخَ وَلَا تَخْصِيصَ لِأَنَّ الْوَالِدَيْنِ إِذَا كَانَا كَافِرَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمَا بِالْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ، وَأَنْ يَطْلُبَ الرَّحْمَةَ لَهُمَا بَعْدَ حُصُولِ الْإِيمَانِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: ظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ فَقَوْلُهُ: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما أَمْرٌ وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لَا يُفِيدُ التَّكْرَارَ فَيَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ هَذَا الْقَوْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً، سُئِلَ سُفْيَانُ: كَمْ يَدْعُو الْإِنْسَانُ لِوَالِدَيْهِ؟ أَفِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَوْ فِي الشَّهْرِ أَوْ فِي السَّنَةِ؟ فَقَالَ: نَرْجُو أَنْ يُجَزِئَهُ إِذَا دَعَا لَهُمَا فِي أَوَاخِرِ التَّشَهُّدَاتِ كما أن الله تعالى قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ [الْأَحْزَابِ: 56] فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ التَّشَهُّدَ يُجْزِي عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [الْبَقَرَةِ: 203] فَهُمْ يُكَرِّرُونَ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّا قَدْ أَمَرْنَاكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَبِالْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مَا تُضْمِرُونَهُ فِي أَنْفُسِكُمْ مِنَ الْإِخْلَاصِ فِي الطَّاعَةِ وَعَدَمِ الْإِخْلَاصِ فِيهَا، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى مَا فِي نُفُوسِكُمْ بَلْ هُوَ أَعْلَمُ بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ مِنْكُمْ بِهَا، لِأَنَّ عُلُومَ الْبَشَرِ قَدْ يَخْتَلِطُ بِهَا السَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ وَعَدَمُ الْإِحَاطَةِ بِالْكُلِّ، فَأَمَّا عِلْمُ اللَّهِ فَمُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ عَالِمًا بِكُلِّ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّحْذِيرُ عَنْ تَرْكِ الْإِخْلَاصِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ بُرَآءَ عَنْ جِهَاتِ الْفَسَادِ فِي أَحْوَالِ قُلُوبِكُمْ كنتم أوابين،

[سورة الإسراء (17) : الآيات 26 إلى 28]

أَيْ رَجَّاعِينَ إِلَى اللَّهِ مُنْقَطِعِينَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ الْأَعْمَالِ وَسُنَّةُ اللَّهِ وَحُكْمُهُ فِي الْأَوَّابِينَ أَنَّهُ غَفُورٌ لَهُمْ يُكَفِّرُ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ، وَالْأَوَّابُ هُوَ الَّذِي مِنْ عَادَتِهِ وَدَيْدَنِهِ الرُّجُوعُ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالِالْتِجَاءُ إِلَى فَضْلِهِ وَلَا يَلْتَجِئُ إِلَى شَفَاعَةِ شَفِيعٍ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ جَمَادًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يَشْفَعُ لَهُمْ، وَلَفْظُ الْأَوَّابِ عَلَى وَزْنِ فَعَّالٍ، وَهُوَ يُفِيدُ الْمُدَاوَمَةَ وَالْكَثْرَةَ كَقَوْلِهِمْ: قَتَّالٌ وَضَرَّابٌ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى لَمَّا دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ تَعْظِيمِ الْوَالِدَيْنِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ ثُمَّ إِنَّ الْوَلَدَ قَدْ يَظْهَرُ مِنْهُ نَادِرَةٌ مُخِلَّةٌ بِتَعْظِيمِهِمَا فَقَالَ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَحْوَالِ قُلُوبِكُمْ فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْهَفْوَةُ لَيْسَتْ لِأَجْلِ الْعُقُوقِ بَلْ ظَهَرَتْ بِمُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ الْبَشَرِيَّةِ كَانَتْ فِي مَحَلِّ الْغُفْرَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة الإسراء (17) : الآيات 26 الى 28] وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنَ أَعْمَالِ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَآتِ خِطَابٌ مَعَ مَنْ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُؤْتِيَ أَقَارِبَهُ الْحُقُوقَ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ أَيْضًا إِخْرَاجَ حَقِّ الْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ أَيْضًا مِنْ هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْكُلِّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلُهُ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاءِ: 23] وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ بَعْدَ فَرَاغِكَ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ، يَجِبُ أَنْ تَشْتَغِلَ بِبِرِّ سَائِرِ الْأَقَارِبِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، ثُمَّ بِإِصْلَاحِ أَحْوَالِ الْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ مُجْمَلٌ وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ الْحَقَّ مَا هُوَ؟ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِنْفَاقُ إِلَّا عَلَى الْوَلَدِ وَالْوَالِدَيْنِ، وَقَالَ قَوْمٌ: يَجِبُ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْمَحَارِمِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَحَارِمِ كَأَبْنَاءِ الْعَمِّ فلا حق لهم إلا الموادة والزيادة وَحُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُؤَالَفَةُ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. أَمَّا الْمِسْكِينُ وَابْنُ السَّبِيلِ فَقَدْ تَقَدَّمَ وَصْفُهُمَا فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الزَّكَاةِ. وَيَجِبُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَى الْمِسْكِينِ مَا يَفِي بِقُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ، وَأَنْ يُدْفَعَ إِلَى ابْنِ السَّبِيلِ مَا يَكْفِيهِ مِنْ زَادِهِ وَرَاحِلَتِهِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ مَقْصِدَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً وَالتَّبْذِيرُ فِي اللُّغَةِ إِفْسَادُ الْمَالِ وَإِنْفَاقُهُ فِي السَّرَفِ. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْأَسْوَدِ: كُنْتُ أَطُوفُ فِي الْمَسَاجِدِ مَعَ مُجَاهِدٍ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَرَفَعَ رَأَسَهُ إِلَى أَبِي قُبَيْسٍ وَقَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَنْفَقَ مِثْلَ هَذَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُسْرِفِينَ، وَلَوْ أَنْفَقَ دِرْهَمًا وَاحِدًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَانَ مِنَ الْمُسْرِفِينَ. وَأَنْفَقَ بَعْضُهُمْ نَفَقَةً فِي خَيْرٍ فَأَكْثَرَ فَقِيلَ لَهُ لَا خَيْرَ فِي السَّرَفِ فَقَالَ: لَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: ما هذا السرف يا سعد؟ فقال: أو في الْوُضُوءِ سَرَفٌ؟ قَالَ: نَعَمْ: وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ ثُمَّ نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى قُبْحِ التَّبْذِيرِ بِإِضَافَتِهِ إِيَّاهُ إِلَى أَفْعَالِ الشَّيَاطِينِ فَقَالَ: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْأُخُوَّةِ التَّشَبُّهُ بِهِمْ فِي هَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ يُسَمُّونَ الْمُلَازِمَ لِلشَّيْءِ

[سورة الإسراء (17) : الآيات 29 إلى 30]

أَخًا لَهُ، فَيَقُولُونَ: فُلَانٌ أَخُو الْكَرَمِ وَالْجُودِ، وَأَخُو السَّفَرِ إِذَا كَانَ مُوَاظِبًا عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ، وَقِيلَ قَوْلُهُ: إِخْوانَ/ الشَّياطِينِ أَيْ قُرَنَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قَالَ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزُّخْرُفِ: 36] وَقَالَ تَعَالَى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصَّافَّاتِ: 22] أَيْ قُرَنَاءَهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ صِفَةَ الشَّيْطَانِ فَقَالَ: وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً وَمَعْنَى كَوْنِ الشَّيْطَانِ كَفُورًا لِرَبِّهِ، هُوَ أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُ بَدَنَهُ فِي الْمَعَاصِي وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَالْإِضْلَالِ لِلنَّاسِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ رَزَقَهُ اللَّهَ تَعَالَى مَالًا أَوْ جَاهًا فَصَرَفَهُ إِلَى غَيْرِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ كَفُورًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْمُبَذِّرِينَ إِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ، بِمَعْنَى كَوْنِهِمْ مُوَافِقِينَ لِلشَّيَاطِينِ فِي الصِّفَةِ وَالْفِعْلِ، ثُمَّ الشَّيْطَانُ كَفُورٌ لِرَبِّهِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْمُبَذِّرِ أَيْضًا كَفُورًا لِرَبِّهِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: خَرَجَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وَفْقِ عَادَةِ الْعَرَبِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ الْأَمْوَالَ بِالنَّهْبِ وَالْغَارَةِ ثُمَّ كَانُوا يُنْفِقُونَهَا فِي طَلَبِ الْخُيَلَاءِ وَالتَّفَاخُرِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا النَّاسَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَتَوْهِينِ أَهْلِهِ، وَإِعَانَةِ أَعْدَائِهِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَنْبِيهًا عَلَى قُبْحِ أَعْمَالِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ إِنْ أَعْرَضْتَ عَنْ ذِي الْقُرْبَى وَالْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ حَيَاءً مِنَ التَّصْرِيحِ بِالرَّدِّ بِسَبَبِ الْفَقْرِ وَالْقِلَّةِ: فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً أَيْ سَهْلًا لَيِّنًا وَقَوْلُهُ: ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها كِنَايَةٌ عَنِ الْفَقْرِ، لِأَنَّ فَاقِدَ الْمَالِ يَطْلُبُ رَحْمَةَ اللَّهِ وَإِحْسَانَهُ. فَلَمَّا كَانَ فَقْدُ الْمَالِ سَبَبًا لِهَذَا الطَّلَبِ وَلِهَذَا الِابْتِغَاءِ أَطْلَقَ اسْمَ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ فَسَمَّى الْفَقْرَ بِابْتِغَاءِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَعْنَى: أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ الْفَقْرِ وَالْقِلَّةِ لَا تَتْرُكْ تَعَهُّدَهُمْ بِالْقَوْلِ الْجَمِيلِ وَالْكَلَامِ الْحَسَنِ، بَلْ تَعِدُهُمْ بِالْوَعْدِ الْجَمِيلِ وَتَذْكُرُ لَهُمُ الْعُذْرَ وَهُوَ حُصُولُ الْقِلَّةِ وَعَدَمِ الْمَالِ، أَوْ تَقُولُ لَهُمْ: اللَّهُ يُسَهِّلُ، وَفِي تَفْسِيرِ الْقَوْلِ الْمَيْسُورِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْقَوْلُ الْمَيْسُورُ هُوَ الرَّدُّ بِالطَّرِيقِ الْأَحْسَنِ. وَالثَّانِي: الْقَوْلُ الْمَيْسُورُ اللَّيِّنُ السَّهْلُ قَالَ الْكِسَائِيُّ: يَسَّرْتُ أُيَسِّرُ لَهُ الْقَوْلَ أَيْ لَيَّنْتُهُ لَهُ. الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَوْلُ الْمَيْسُورُ مِثْلُ قَوْلِهِ: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً [الْبَقَرَةِ: 263] قَالُوا: وَالْمَيْسُورُ هُوَ الْمَعْرُوفُ، لِأَنَّ الْقَوْلَ الْمُتَعَارَفَ لَا يُحْوِجُ إلى تكلف، والله أعلم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 29 الى 30] وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِالْإِنْفَاقِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَّمَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَدَبَ الْإِنْفَاقِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى شَرَحَ وَصْفَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْإِنْفَاقِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً [الْفُرْقَانِ: 67] فَهَهُنَا أَمَرَ رَسُولَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْوَصْفِ فَقَالَ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ أَيْ لَا تُمْسِكْ عَنِ الْإِنْفَاقِ بِحَيْثُ تُضَيِّقُ عَلَى نَفْسِكَ وَأَهْلِكَ فِي وُجُوهِ صِلَةِ الرَّحِمِ وَسَبِيلِ الْخَيْرَاتِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَجْعَلْ يَدَكَ فِي انْقِبَاضِهَا كَالْمَغْلُولَةِ الْمَمْنُوعَةِ مِنَ الِانْبِسَاطِ: وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ أَيْ وَلَا تَتَوَسَّعْ فِي الْإِنْفَاقِ تَوَسُّعًا مُفْرِطًا بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِي يَدِكَ شَيْءٌ. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ: أَنَّ الْحُكَمَاءَ ذَكَرُوا فِي كُتُبِ «الْأَخْلَاقِ» أَنَّ لِكُلِّ خُلُقٍ طَرَفَيْ إِفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ وَهُمَا مَذْمُومَانِ، فَالْبُخْلُ إِفْرَاطٌ فِي الْإِمْسَاكِ، وَالتَّبْذِيرُ إِفْرَاطٌ فِي الْإِنْفَاقِ وَهُمَا مَذْمُومَانِ، وَالْخُلُقُ الْفَاضِلُ هُوَ الْعَدْلُ وَالْوَسَطُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَةِ: 143] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً أَمَّا تَفْسِيرُ تَقْعُدَ، فَقَدْ سَبَقَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَأَمَّا كونه مَلُوماً

[سورة الإسراء (17) : آية 31]

فَلِأَنَّهُ يَلُومُ نَفْسَهُ وَأَصْحَابُهُ أَيْضًا يَلُومُونَهُ عَلَى تَضْيِيعِ الْمَالِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِبْقَاءِ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ فِي الضُّرِّ وَالْمِحْنَةِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مَحْسُوراً فَقَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ لِلْبَعِيرِ: هُوَ مَحْسُورٌ إِذَا انْقَطَعَ سَيْرُهُ وَحَسَرْتُ الدَّابَّةَ إِذَا سَيَّرَهَا حَتَّى يَنْقَطِعَ سَيْرُهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [الْمُلْكِ: 4] وَجَمْعُ الْحَسِيرِ حَسْرَى مِثْلُ قَتْلَى وَصَرْعَى، وَقَالَ الْقَفَّالُ: الْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ حَالِ مَنْ أَنْفَقَ كُلَّ مَالِهِ وَنَفَقَاتِهِ بِمَنِ انْقَطَعَ فِي سَفَرِهِ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ مَطِيَّتِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ مِنَ الْمَالِ كَأَنَّهُ مَطِيَّةٌ يَحْمِلُ الْإِنْسَانَ وَيُبَلِّغُهُ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ أَوِ السَّنَةِ، كَمَا أَنَّ ذَلِكَ الْبَعِيرَ يَحْمِلُهُ وَيُبَلِّغُهُ إِلَى آخِرِ الْمَنْزِلِ فَإِذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ الْبَعِيرُ بَقِيَ فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ عَاجِزًا مُتَحَيِّرًا فَكَذَلِكَ إِذَا أَنْفَقَ الْإِنْسَانُ مِقْدَارَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مُدَّةِ شَهْرٍ بَقِيَ فِي وَسَطِ ذَلِكَ الشَّهْرِ عَاجِزًا مُتَحَيِّرًا وَمَنْ فَعَلَ هَذَا لَحِقَهُ اللَّوْمُ مِنْ أَهْلِهِ وَالْمُحْتَاجِينَ إِلَى إِنْفَاقِهِ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ سُوءِ تَدْبِيرِهِ وَتَرْكِ الْحَزْمِ فِي مُهِمَّاتِ مَعَاشِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ عَرَّفَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَوْنَهُ رَبًّا. وَالرَّبُّ هُوَ الَّذِي يُرَبِّي الْمَرْبُوبَ وَيَقُومُ بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِهِ وَدَفْعِ حَاجَاتِهِ عَلَى مِقْدَارِ الصَّلَاحِ وَالصَّوَابِ فَيُوَسِّعُ الرِّزْقَ عَلَى الْبَعْضِ وَيُضَيِّقُهُ عَلَى الْبَعْضِ. وَالْقَدْرُ فِي اللُّغَةِ التَّضْيِيقُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطَّلَاقِ: 7] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الْفَجْرِ: 16] أَيْ ضَيَّقَ وَإِنَّمَا وَسَّعَ عَلَى الْبَعْضِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الصَّلَاحُ لَهُمْ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ [الشُّورَى: 27] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَنَّ مَصْلَحَةَ كُلِّ إِنْسَانٍ فِي أَنْ لَا يُعْطِيَهُ إِلَّا ذَلِكَ الْقَدْرَ، فَالتَّفَاوُتُ فِي أَرْزَاقِ الْعِبَادِ لَيْسَ لِأَجْلِ البخل، بل لأجل رعاية المصالح. [سورة الإسراء (17) : آية 31] وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) هَذَا هُوَ النَّوْعُ الْخَامِسُ مِنَ الطَّاعَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَقْرِيرِ النَّظْمِ وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ هُوَ الْمُتَكَفِّلُ بِأَرْزَاقِ الْعِبَادِ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الإسراء: 30] أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلَّمَ كَيْفِيَّةَ الْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَيْفِيَّةَ الْبِرِّ بِالْأَوْلَادِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ بِالْأَبْرَارِ إِنَّمَا سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ بَرُّوا الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ وَإِنَّمَا وَجَبَ بِرُّ الْآبَاءِ مُكَافَأَةً عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمَا مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ بِالْأَوْلَادِ وَإِنَّمَا وَجَبَ الْبِرُّ بِالْأَوْلَادِ لِأَنَّهُمْ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَلَا كَافِلَ لَهُمْ غَيْرُ الْوَالِدَيْنِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ امْتِنَاعَ الْأَوْلَادِ مِنَ الْبِرِّ بِالْآبَاءِ يُوجِبُ خَرَابَ الْعَالَمِ، لِأَنَّ الْآبَاءَ إِذَا عَلِمُوا ذَلِكَ قَلَّتْ رَغْبَتُهُمْ فِي تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ، فَيَلْزَمُ خَرَابُ الْعَالَمِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ، فَثَبَتَ أَنَّ عِمَارَةَ الْعَالَمِ إِنَّمَا تَحْصُلُ إِذَا حَصَلَتِ الْمَبَرَّةُ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ قَتْلَ الْأَوْلَادِ إِنْ كَانَ لِخَوْفِ الْفَقْرِ فَهُوَ سُوءُ ظَنٍّ بِاللَّهِ، وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ الْغَيْرَةِ عَلَى الْبَنَاتِ

[سورة الإسراء (17) : آية 32]

فَهُوَ سَعْيٌ فِي تَخْرِيبِ الْعَالَمِ، فَالْأَوَّلُ ضِدُّ التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالثَّانِي: ضِدُّ الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَكِلَاهُمَا مَذْمُومٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ قَرَابَةَ الْأَوْلَادِ قَرَابَةُ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُوجِبَاتِ لِلْمَحَبَّةِ فَلَوْ لَمْ تَحْصُلِ الْمُحِبَّةُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى غِلَظٍ شَدِيدٍ فِي الرُّوحِ، وَقَسْوَةٍ فِي الْقَلْبِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، فَرَغَّبَ اللَّهُ فِي الْإِحْسَانِ إِلَى الْأَوْلَادِ إِزَالَةً لِهَذِهِ الْخَصْلَةِ الذَّمِيمَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعَرَبُ كَانُوا يَقْتُلُونَ الْبَنَاتَ لِعَجْزِ الْبَنَاتِ عَنِ الْكَسْبِ، وَقُدْرَةِ الْبَنِينَ عَلَيْهِ/ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى النَّهْبِ وَالْغَارَةِ، وَأَيْضًا كَانُوا يخافون أن فقرها ينفر كفأها عَنِ الرَّغْبَةِ فِيهَا فَيَحْتَاجُونَ إِلَى إِنْكَاحِهَا مِنْ غَيْرِ الْأَكْفَاءِ، وَفِي ذَلِكَ عَارٌ شَدِيدٌ فَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ وَهَذَا لَفْظٌ عَامٌّ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُوجِبَ لِلرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ هُوَ كَوْنُهُ وَلَدًا، وَهَذَا الْمَعْنَى وَصْفٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الذُّكُورِ وَبَيْنَ الْإِنَاثِ وَأَمَّا مَا يُخَافُ مِنَ الْفَقْرِ مِنَ الْبَنَاتِ فَقَدْ يُخَافُ مِثْلُهُ فِي الذُّكُورِ فِي حَالِ الصِّغَرِ، وَقَدْ يُخَافُ أَيْضًا فِي الْعَاجِزِينَ مِنَ الْبَنِينَ. ثُمَّ قَالَ تعالى: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ يعني الْأَرْزَاقَ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَمَا أَنَّهُ تَعَالَى فَتَحَ أَبْوَابَ الرِّزْقِ عَلَى الرِّجَالِ، فَكَذَلِكَ يَفْتَحُ أَبْوَابَ الرِّزْقِ عَلَى النِّسَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْجُمْهُورُ قرءوا إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً، أي إثما كبيرا يقال خطىء يخطأ خطأ مثل أثم يَأْثَمُ إِثْمًا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ [يُوسُفَ: 97] أَيْ آثِمِينَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (خَطَأً) بِالْفَتْحِ يُقَالُ: أَخْطَأَ يُخْطِئُ إِخْطَاءً وَخَطَأً إِذَا أَتَى بِمَا لَا يَنْبَغِي مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَيَكُونُ الْخَطَأُ اسْمًا لِلْمَصْدَرِ، وَالْمَعْنَى: عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ قَتْلَهُمْ لَيْسَ بِصَوَابٍ. قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: خِطَاءً بِكَسْرِ الْخَاءِ مَمْدُودَةً وَلَعَلَّهُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ دَفْعٍ وَدِفَاعٍ ولبس ولباس. [سورة الإسراء (17) : آية 32] وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْأَشْيَاءِ الْخَمْسَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إِلَى شَيْئَيْنِ: التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، أَتْبَعَهَا بِذِكْرِ النَّهْيِ عَنْ أَشْيَاءَ. أَوَّلُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى عن الزنا فقال: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى قَالَ الْقَفَّالُ: إِذَا قِيلَ لِلْإِنْسَانِ لَا تَقْرَبُوا هَذَا فَهَذَا آكَدُ مِنْ أَنْ يَقُولَ لَهُ لَا تَفْعَلْهُ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَلَّلَ هَذَا النَّهْيَ بِكَوْنِهِ: فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَمَرَ بِشَيْءٍ أَوْ نَهَى عَنْ شَيْءٍ فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ الشَّيْءِ أَوْ نَهَى عَنْهُ لِوَجْهٍ عَائِدٍ إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْقَائِلُونَ بِتَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَقَالَ الْمُنْكِرُونَ لِتَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِتَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنِ الزِّنَا، وَعَلَّلَ ذَلِكَ النَّهْيَ بِكَوْنِهِ فَاحِشَةً فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُ فَاحِشَةً عِبَارَةً عَنْ كَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَإِلَّا لَزِمَ تَعْلِيلُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: كَوْنُهُ فَاحِشَةً وَصْفٌ حَاصِلٌ لَهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ زِنًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ تَحْسُنُ وَتَقْبُحُ لِوُجُوهٍ عَائِدَةٍ إِلَيْهَا فِي أَنْفُسِهَا، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ نَهْيَ/ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهَا مُعَلَّلٌ بِوُقُوعِهَا فِي أَنْفُسِهَا عَلَى تِلْكَ الْوُجُوهِ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ قَرِيبٌ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ مَصْلَحَةً أَوْ مَفْسَدَةً أَمْرٌ ثَابِتٌ لِذَاتِهِ لَا بِالشَّرْعِ، فَإِنَّ تَنَاوُلَ الْغِذَاءِ الْمُوَافِقِ مَصْلَحَةٌ، وَالضَّرْبَ

الْمُؤْلِمَ مَفْسَدَةٌ، وَكَوْنُهُ كَذَلِكَ أَمْرٌ ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ لَا بِالشَّرْعِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: تَكَالِيفُ اللَّهِ تَعَالَى وَاقِعَةٌ عَلَى وَفْقِ مَصَالِحِ الْعَالَمِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الظَّاهِرِيُّ، وَفِيهِ مُشْكِلَاتٌ هَائِلَةٌ وَمَبَاحِثُ عَمِيقَةٌ نَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ لِبُلُوغِ الْغَايَةِ فِيهَا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الزِّنَا اشْتَمَلَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْمَفَاسِدِ: أَوَّلُهَا: اخْتِلَاطُ الْأَنْسَابِ وَاشْتِبَاهُهَا فَلَا يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ أَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي أَتَتْ بِهِ الزَّانِيَةُ أَهُوَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَا يَقُومُ بِتَرْبِيَتِهِ وَلَا يَسْتَمِرُّ فِي تَعَهُّدِهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ ضَيَاعَ الْأَوْلَادِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ انْقِطَاعَ النَّسْلِ وَخَرَابَ الْعَالَمِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ لِأَجْلِهِ يَكُونُ هَذَا الرَّجُلُ أَوْلَى بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَبْقَ فِي حُصُولِ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصِ إِلَّا التَّوَاثُبُ وَالتَّقَاتُلُ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى فَتْحِ بَابِ الْهَرَجِ وَالْمَرَجِ وَالْمُقَاتَلَةِ، وَكَمْ سَمِعْنَا وُقُوعَ الْقَتْلِ الذَّرِيعِ بِسَبَبِ إِقْدَامِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى الزِّنَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَاشَرَتِ الزِّنَا وَتَمَرَّنَتْ عَلَيْهِ يَسْتَقْذِرُهَا كُلُّ طَبْعٍ سَلِيمٍ، وَكُلُّ خَاطِرٍ مُسْتَقِيمٍ، وَحِينَئِذٍ لَا تَحْصُلُ الْأُلْفَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَلَا يَتِمُّ السَّكَنُ وَالِازْدِوَاجُ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا اشْتَهَرَتْ بِالزِّنَا تَنْفِرُ عَنْ مُقَارَنَتِهَا طِبَاعُ أَكْثَرِ الْخَلْقِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ إِذَا انْفَتَحَ بَابُ الزِّنَا فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِرَجُلٍ اخْتِصَاصٌ بِامْرَأَةٍ، وَكُلُّ رَجُلٍ يُمْكِنُهُ التَّوَاثُبُ عَلَى كُلِّ امْرَأَةٍ شَاءَتْ وَأَرَادَتْ وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى بَيْنَ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْبَهَائِمِ فَرْقٌ فِي هَذَا الْبَابِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمَرْأَةِ مُجَرَّدَ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ بَلْ أَنْ تَصِيرَ شَرِيكَةً لِلرَّجُلِ فِي تَرْتِيبِ الْمَنْزِلِ وَإِعْدَادِ مُهِمَّاتِهِ مِنَ الْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ، وَأَنْ تَكُونَ رَبَّةَ الْبَيْتِ وَحَافِظَةً لِلْبَابِ وَأَنْ تَكُونَ قَائِمَةً بِأُمُورِ الْأَوْلَادِ وَالْعَبِيدِ، وَهَذِهِ الْمُهِمَّاتُ لَا تَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مَقْصُورَةَ الْهِمَّةِ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ الْوَاحِدِ مُنْقَطِعَةَ الطَّمَعِ عَنْ سَائِرِ الرِّجَالِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَحْرِيمِ الزِّنَا وَسَدِّ هَذَا الْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ الْوَطْءَ يُوجِبُ الذُّلَّ الشَّدِيدَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الشَّتْمِ عِنْدَ النَّاسِ ذِكْرُ أَلْفَاظِ الْوِقَاعِ، وَلَوْلَا أَنَّ الْوَطْءَ يُوجِبُ الذُّلَّ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ جَمِيعَ الْعُقَلَاءِ لَا يُقْدِمُونَ عَلَى الْوَطْءِ إِلَّا فِي الْمَوَاضِعِ الْمَسْتُورَةِ، وَفِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْعُقَلَاءِ يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ ذِكْرِ أَزْوَاجِ بَنَاتِهِمْ وَأَخَوَاتِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ لَمَّا يُقْدِمُونَ عَلَى وَطْئِهِنَّ، وَلَوْلَا أَنَّ الْوَطْءَ ذُلٌّ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمَّا كَانَ الْوَطْءُ ذُلًّا كَانَ السَّعْيُ فِي تَقْلِيلِهِ مُوَافِقًا لِلْعُقُولِ، فَاقْتِصَارُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى الرَّجُلِ الْوَاحِدِ سَعْيٌ فِي تَقْلِيلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَأَيْضًا مَا فِيهِ مِنَ الذُّلِّ يَصِيرُ مَجْبُورًا بِالْمَنَافِعِ/ الْحَاصِلَةِ فِي النِّكَاحِ، أَمَّا الزِّنَا فَإِنَّهُ فَتْحُ بَابٍ لِذَلِكَ الْعَمَلِ الْقَبِيحِ وَلَمْ يَصِرْ مَجْبُورًا بِشَيْءٍ مِنَ الْمَنَافِعِ فَوَجَبَ بَقَاؤُهُ عَلَى أَصْلِ الْمَنْعِ وَالْحَجْرِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعُقُولَ السَّلِيمَةَ تَقْضِي عَلَى الزِّنَا بِالْقُبْحِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الزِّنَا بِصِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ كَوْنِهِ فَاحِشَةً، وَمَقْتًا فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَساءَ سَبِيلًا أَمَّا كَوْنُهُ فَاحِشَةً فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى اشْتِمَالِهِ عَلَى فَسَادِ الْأَنْسَابِ الْمُوجِبَةِ لِخَرَابِ الْعَالَمِ وَإِلَى اشْتِمَالِهِ عَلَى التَّقَاتُلِ وَالتَّوَاثُبِ عَلَى الْفُرُوجِ وَهُوَ أَيْضًا يُوجِبُ خَرَابَ الْعَالَمِ. وَأَمَّا الْمَقْتُ: فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الزَّانِيَةَ تَصِيرُ مَمْقُوتَةً مَكْرُوهَةً، وَذَلِكَ يُوجِبُ عَدَمَ حُصُولِ السَّكَنِ وَالِازْدِوَاجِ وَأَنْ لَا يَعْتَمِدَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا فِي شَيْءٍ مِنْ مُهِمَّاتِهِ وَمَصَالِحِهِ. وَأَمَّا أَنَّهُ سَاءَ سَبِيلًا، فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَبْقَى فَرْقٌ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ الْبَهَائِمِ فِي عَدَمِ اخْتِصَاصِ الذُّكْرَانِ بِالْإِنَاثِ، وَأَيْضًا يَبْقَى ذُلُّ هَذَا الْعَمَلِ وَعَيْبُهُ وَعَارُهُ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ مَجْبُورًا بِشَيْءٍ مِنَ الْمَنَافِعِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي قُبْحِ الزِّنَا سِتَّةَ أَوْجُهٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَلْفَاظًا ثَلَاثَةً، فَحَمَلْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ

[سورة الإسراء (17) : آية 33]

الثَّلَاثَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ السِّتَّةِ، والله أعلم بمراده. [سورة الإسراء (17) : آية 33] وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) [في قَوْلِهِ تَعَالَى وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً] هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ الْقَتْلُ، فَمَا السَّبَبُ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ أَوَّلًا بِذِكْرِ النَّهْيِ عَنِ الزِّنَا وَثَانِيًا بِذِكْرِ النَّهْيِ عَنِ الْقَتْلِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ فَتْحَ بَابِ الزِّنَا يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِ الْإِنْسَانِ فِي الْوُجُودِ، وَالْقَتْلُ عِبَارَةٌ عَنْ إِبْطَالِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ. وَدُخُولُهُ فِي الْوُجُودِ مُقَدَّمٌ عَلَى إِبْطَالِهِ وَإِعْدَامِهِ بَعْدَ وُجُودِهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الزِّنَا أَوَّلًا ثُمَّ ذَكَرَ الْقَتْلَ ثَانِيًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقَتْلِ هُوَ الْحُرْمَةُ الْمُغَلَّظَةُ، وَالْحِلُّ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِسَبَبٍ عَارِضِيٍّ، فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ نَهَى اللَّهُ عَنِ الْقَتْلِ مُطْلَقًا بِنَاءً عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى عَنْهُ الْحَالَةَ الَّتِي يَحْصُلُ فِيهَا حِلُّ الْقَتْلِ وَهُوَ عِنْدُ حُصُولِ الأسباب العرضية فقال: إِلَّا بِالْحَقِّ/ فنفتقر هاهنا إِلَى بَيَانِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقَتْلِ التَّحْرِيمُ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَتْلَ ضرر والأصل في المضار الحرمة لقوله: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَجِّ: 78] وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] . «ولا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» . الثَّانِي: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْآدَمِيُّ بُنْيَانُ الرَّبِّ مَلْعُونٌ مَنْ هَدَمَ بُنْيَانَ الرَّبِّ» . الثَّالِثُ: أَنَّ الْآدَمِيَّ خُلِقَ لِلِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَةِ لِقَوْلِهِ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» وَالِاشْتِغَالُ بِالْعِبَادَةِ لَا يَتِمُّ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْقَتْلِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْقَتْلَ إِفْسَادٌ فَوَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُفْسِدُوا [الْأَعْرَافِ: 85] . الْخَامِسُ: أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ دَلِيلُ تَحْرِيمِ الْقَتْلِ وَدَلِيلُ إِبَاحَتِهِ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ جَانِبَ الْحُرْمَةِ رَاجِحٌ، وَلَوْلَا أَنَّ مُقْتَضَى الْأَصْلِ هُوَ التَّحْرِيمُ وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لَا لِمُرَجِّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ. السَّادِسُ: أَنَّا إِذَا لَمْ نَعْرِفْ فِي الْإِنْسَانِ صِفَةً مِنَ الصِّفَاتِ إِلَّا مُجَرَّدَ كَوْنِهِ إِنْسَانًا عَاقِلًا حَكَمْنَا فِيهِ بِتَحْرِيمِ قَتْلِهِ، وَمَا لَمْ نَعْرِفْ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى كَوْنِهِ إِنْسَانًا لَمْ نَحْكُمْ فِيهِ بِحِلِّ دَمِهِ، وَلَوْلَا أَنَّ أَصْلَ الْإِنْسَانِيَّةِ يَقْتَضِي حُرْمَةَ الْقَتْلِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقَتْلِ هُوَ التَّحْرِيمُ. وَأَنَّ حِلَّهُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِأَسْبَابٍ عَرَضِيَّةٍ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقَتْلِ هُوَ التَّحْرِيمُ فَقَالَ: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ فَقَوْلُهُ: وَلا تَقْتُلُوا نَهْيٌ وَتَحْرِيمٌ، وَقَوْلُهُ: حَرَّمَ اللَّهُ إِعَادَةٌ لِذِكْرِ التَّحْرِيمِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى عَنْهُ الْأَسْبَابَ الْعَرَضِيَّةَ الِاتِّفَاقِيَّةَ فَقَالَ: إِلَّا بِالْحَقِّ ثم هاهنا طَرِيقَانِ: الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِ: إِلَّا بِالْحَقِّ مُجْمَلٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ الْحَقَّ مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ؟ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً أَيْ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مِنَ الْقَاتِلِ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَصْلُحُ جَعْلُهُ بَيَانًا لِذَلِكَ الْمُجْمَلِ، وَتَقْرِيرَهُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَذَلِكَ الْحَقُّ هُوَ أَنَّ مَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحَقِّ هَذِهِ الصُّورَةَ فَقَطْ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا عِنْدَ الْقِصَاصِ، وَعَلَى هَذَا

التَّقْدِيرِ فَتَكُونُ الْآيَةُ نَصًّا صَرِيحًا فِي تَحْرِيمِ الْقَتْلِ إِلَّا بِهَذَا السَّبَبِ الْوَاحِدِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَى الْحُرْمَةِ فِيمَا سِوَى هَذِهِ الصُّورَةِ الْوَاحِدَةِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحَقَّ هُوَ أَحَدُ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ، وَزِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ مِنْ بَابِ الْآحَادِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: إِلَّا بِالْحَقِّ كَانَتِ الْآيَةُ صَرِيحَةً فِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْقَتْلُ إِلَّا بِهَذَا السَّبَبِ الْوَاحِدِ، / فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ هَذَا الْخَبَرُ مُخَصِّصًا لِهَذِهِ الْآيَةِ وَيَصِيرُ ذَلِكَ فَرْعًا لِقَوْلِنَا: أَنَّهُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً لَيْسَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: إِلَّا بِالْحَقِّ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ هَذَا الْخَبَرُ مُفَسِّرًا لِلْحَقِّ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَصِيرُ هَذَا فَرْعًا عَلَى مَسْأَلَةِ جَوَازِ تَخْصِيصِ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلْتَكُنْ هَذِهِ الدَّقِيقَةُ مَعْلُومَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا سَبَبَ لِحِلِّ الْقَتْلِ إِلَّا قَتْلُ الْمَظْلُومِ، وَظَاهِرُ الْخَبَرِ يَقْتَضِي ضَمَّ شَيْئَيْنِ آخَرَيْنِ إِلَيْهِ: وَهُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَالزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ، وَدَلَّتْ آيَةٌ أُخْرَى عَلَى حُصُولِ سَبَبٍ رَابِعٍ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [الْمَائِدَةِ: 33] وَدَلَّتْ آيَةٌ أُخْرَى عَلَى حُصُولِ سَبَبٍ خَامِسٍ وَهُوَ الْكُفْرُ قَالَ تَعَالَى: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَةِ: 29] وَقَالَ: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [النِّسَاءِ: 89] وَالْفُقَهَاءُ تَكَلَّمُوا وَاخْتَلَفُوا فِي أَشْيَاءَ أُخْرَى فَمِنْهَا: أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ هَلْ يُقْتَلُ أَمْ لَا؟ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْتَلُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُقْتَلُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ فِعْلَ اللِّوَاطِ هَلْ يُوجِبُ الْقَتْلَ؟ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُوجِبُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُوجِبُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ السَّاحِرَ إِذَا قَالَ: قَتَلْتُ بِسِحْرِي فُلَانًا فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُوجِبُ الْقَتْلَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُوجِبُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْقَتْلَ بِالْمُثَقَّلِ هَلْ يُوجِبُ الْقِصَاصَ؟ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُوجِبُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُوجِبُ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ هَلْ يُوجِبُ الْقَتْلَ أَمْ لَا؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ فِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ إِتْيَانَ الْبَهِيمَةِ هَلْ يُوجِبُ الْقَتْلَ، فَعِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ لَا يُوجِبُ، وَعِنْدَ قَوْمٍ يُوجِبُ، حُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَتْلُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ هُوَ أَنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي مَنْعِ الْقَتْلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، إِلَّا لِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَتْلُ الْمَظْلُومِ، فَفِيمَا عَدَا هَذَا السَّبَبِ الْوَاحِدِ، وَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ، ثُمَّ قَالُوا: وَهَذَا النَّصُّ قَدْ تَأَكَّدَ بِالدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ الْمُوجِبَةِ لِحُرْمَةِ الدَّمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَتَرْكُ الْعَمَلِ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمُعَارِضٍ، وَذَلِكَ الْمُعَارِضُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَصًّا مُتَوَاتِرًا أَوْ نَصًّا مِنْ بَابِ الْآحَادِ أَوْ يَكُونَ قِيَاسًا، أَمَّا النَّصُّ الْمُتَوَاتِرُ فَمَفْقُودٌ، وَإِلَّا لَمَا بَقِيَ الْخِلَافُ، وَأَمَّا النَّصُّ مِنْ بَابِ الْآحَادِ فَهُوَ مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ النُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ الْكَثِيرَةِ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَلَا يُعَارِضُ النَّصَّ. فَثَبَتَ بِمُقْتَضَى هَذَا الْأَصْلِ الْقَوِيِّ الْقَاهِرِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الدِّمَاءِ الْحُرْمَةُ إِلَّا فِي الصُّوَرِ الْمَعْدُودَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَثْبَتَ لِوَلِيِّ الدَّمِ سُلْطَانًا، فَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ السلطنة تحصل فيما ذا فَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً دلالة عليه ثم هاهنا طَرِيقَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ بَعْدَهُ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ عُرِفَ أَنَّ تِلْكَ السَّلْطَنَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ فِي اسْتِيفَاءِ الْقَتْلِ، وَهَذَا/ ضَعِيفٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ

الْمُرَادُ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْرِفَ الظَّالِمُ فِي ذَلِكَ الْقَتْلِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَقْتُولَ مَنْصُورٌ بِوَاسِطَةِ إِثْبَاتِ هَذِهِ السَّلْطَنَةِ لِوَلِيِّهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ تِلْكَ السَّلْطَنَةَ مُجْمَلَةٌ ثُمَّ صَارَتْ مُفَسَّرَةً بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى إِلَى قَوْلِهِ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ [الْبَقَرَةِ: 178] وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ كَوْنُ الْمُكَلَّفِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ الدِّيَةِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ الْفَتْحِ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ» وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فَقَوْلُهُ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَتْ لَهُ سَلْطَنَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ إِنْ شَاءَ، وَسَلْطَنَةُ اسْتِيفَاءِ الدِّيَةِ إِنْ شَاءَ. قَالَ بَعْدَهُ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُقْدِمَ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْقَتْلِ وَأَنْ يَكْتَفِيَ بِأَخْذِ الدِّيَةِ أَوْ يَمِيلَ إِلَى الْعَفْوِ وَبِالْجُمْلَةِ فَلَفْظَةُ «فِي» مَحْمُولَةٌ عَلَى الْبَاءِ، وَالْمَعْنَى: فَلَا يَصِيرُ مُسْرِفًا بِسَبَبِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْقَتْلِ وَيَصِيرُ مَعْنَاهُ التَّرْغِيبَ فِي الْعَفْوِ وَالِاكْتِفَاءِ بِالدِّيَةِ كَمَا قَالَ: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْبَقَرَةِ: 237] . الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً ذَكَرَ كَوْنَهُ مَظْلُومًا بِصِيغَةِ التَّنْكِيرِ، وَصِيغَةُ التَّنْكِيرِ عَلَى مَا عُرِفَ تَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ، فَالْإِنْسَانُ الْمَقْتُولُ مَا لَمْ يَكُنْ كَامِلًا فِي وَصْفِ الْمَظْلُومِيَّةِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ هَذَا النَّصِّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا قَتَلَ الذِّمِّيَّ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الذِّمِّيَّ مُشْرِكٌ وَالْمُشْرِكُ يَحِلُّ دَمُهُ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ مُشْرِكٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 116] حَكَمَ بِأَنَّ مَا سِوَى الشِّرْكِ مَغْفُورٌ فِي حَقِّ الْبَعْضِ، فَلَوْ كَانَ كُفْرُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ شَيْئًا مُغَايِرًا لِلشِّرْكِ لَوَجَبَ أَنْ يَصِيرَ مَغْفُورًا فِي حَقِّ بَعْضِ النَّاسِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَصِرْ مَغْفُورًا فِي حَقِّ أَحَدٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ كفرهم شرك، ولأنه تعالى قال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ [الْبَقَرَةِ: 73] فَهَذَا التَّثْلِيثُ الَّذِي قَالَ بِهِ هَؤُلَاءِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَثْلِيثًا فِي الصِّفَاتِ وَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ تَثْلِيثًا لِلْكُفْرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَثْلِيثًا فِي الذَّوَاتِ، وَذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَائِلَ بِهِ مُشْرِكٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الذِّمِّيَّ مُشْرِكٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُشْرِكَ يَجِبُ قَتْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5] وَمُقْتَضَى هَذَا الدَّلِيلِ إِبَاحَةُ دَمِ الذِّمِّيِّ فَإِنْ لَمْ تَثْبُتِ الْإِبَاحَةُ فَلَا أَقَلَّ مِنْ حُصُولِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ كَامِلًا فِي الْمَظْلُومِيَّةِ فَلَمْ يَنْدَرِجْ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً وَأَمَّا الْحُرُّ إِذَا قَتَلَ عَبْدًا فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ [الْبَقَرَةِ: 178] يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَتِلْكَ الْآيَةُ أَخَصُّ مِنْ قوله: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً وَالْخَاصُّ/ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهَا فِي مَسْأَلَةِ أَنَّ مُوجَبَ الْعَمْدِ هُوَ الْقِصَاصُ وَلَا فِي مَسْأَلَةِ أَنَّهُ يَجِبُ قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، وَلَا فِي مَسْأَلَةِ أَنَّهُ يَجِبُ قَتْلُ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ فَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ هُوَ أَنْ يَقْتُلَ الْقَاتِلَ وَغَيْرَ الْقَاتِلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ إذا قتل

[سورة الإسراء (17) : آية 34]

وَاحِدًا مِنْ قَبِيلَةٍ شَرِيفَةٍ فَأَوْلِيَاءُ ذَلِكَ الْمَقْتُولِ كَانُوا يَقْتُلُونَ خَلْقًا مِنَ الْقَبِيلَةِ الدَّنِيئَةِ فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَأَمَرَ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى قَتْلِ الْقَاتِلِ وَحْدَهُ. الثَّانِي: هُوَ أَنْ لَا يَرْضَى بِقَتْلِ الْقَاتِلِ فَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَقْصِدُونَ أَشْرَافَ قَبِيلَةِ الْقَاتِلِ ثُمَّ كَانُوا يَقْتُلُونَ مِنْهُمْ قَوْمًا مُعَيَّنِينَ وَيَتْرُكُونَ الْقَاتِلَ. وَالثَّالِثُ: هُوَ أَنْ لَا يَكْتَفِيَ بِقَتْلِ الْقَاتِلِ بَلْ يُمَثِّلُ بِهِ ويقطع أعضاؤه. قَالَ الْقَفَّالُ: وَلَا يَبْعُدُ حَمْلُهُ عَلَى الْكُلِّ، لِأَنَّ جُمْلَةَ هَذِهِ الْمَعَانِي مُشْتَرِكَةٌ فِي كَوْنِهَا إِسْرَافًا. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَرَأَ الْأَكْثَرُونَ: فَلا يُسْرِفْ بِالْيَاءِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ: فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْرِفَ الْوَلِيُّ فِي الْقَتْلِ. الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْقَاتِلِ الظَّالِمِ ابْتِدَاءً، أَيْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْرِفَ ذَلِكَ الظَّالِمُ وَإِسْرَافُهُ عِبَارَةٌ عَنْ إِقْدَامِهِ عَلَى ذَلِكَ الْقَتْلِ الظُّلْمِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: فَلَا تُسْرِفْ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْمُبْتَدِئِ الْقَاتِلِ ظُلْمًا كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: لَا تُسْرِفْ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ، وَذَلِكَ الْإِسْرَافُ هُوَ إِقْدَامُهُ عَلَى ذَلِكَ الْقَتْلِ الَّذِي هُوَ ظُلْمٌ مَحْضٌ، وَالْمَعْنَى: لَا تَفْعَلْ فَإِنَّكَ إِنْ قَتَلْتَهُ مَظْلُومًا اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ مِنْكَ. وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْوَلِيِّ فَيَكُونَ التَّقْدِيرُ: لَا تُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ أَيُّهَا الْوَلِيُّ، أَيِ اكْتَفِ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَلَا تَطْلُبِ الزِّيَادَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: كَأَنَّهُ قِيلَ لِلظَّالِمِ الْمُبْتَدِئِ بِذَلِكَ الْقَتْلِ عَلَى سَبِيلِ الظُّلْمِ لَا تَفْعَلْ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَقْتُولَ يَكُونُ مَنْصُورًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا نُصْرَتُهُ فِي الدُّنْيَا فَبِقَتْلِ قَاتِلِهِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَبِكَثْرَةِ الثَّوَابِ لَهُ وَكَثْرَةِ الْعِقَابِ لِقَاتِلِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْوَلِيَّ يَكُونُ مَنْصُورًا فِي قَتْلِ ذَلِكَ الْقَاتِلِ الظَّالِمِ فَلْيَكْتَفِ بِهَذَا الْقَدْرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَنْصُورًا فِيهِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَطْمَعَ فِي الزِّيَادَةِ مِنْهُ، لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ مَنْصُورًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ طَلَبُ الزِّيَادَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الْقَاتِلَ الظَّالِمَ يَنْبَغِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَأَنْ لَا يَطْلُبَ الزِّيَادَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ظَهَرَ أَنَّ الْمَقْتُولَ وَوَلِيَّ دَمِهِ يَكُوَنَانِ مَنْصُورَيْنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَايْمُ اللَّهِ لَيَظْهَرَنَّ عَلَيْكُمُ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً وَقَالَ/ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ مَا نُصِرَ مُعَاوِيَةُ عَلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً والله أعلم. [سورة الإسراء (17) : آية 34] وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. اعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الزِّنَا يُوجِبُ اخْتِلَاطَ الْأَنْسَابِ وَذَلِكَ يُوجِبُ مَنْعَ الِاهْتِمَامِ بِتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ وَذَلِكَ يُوجِبُ انْقِطَاعَ النَّسْلِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمَنْعَ مِنْ دُخُولِ النَّاسِ فِي الْوُجُودِ، وَأَمَّا الْقَتْلُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِعْدَامِ النَّاسِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِي الْوُجُودِ، فَثَبَتَ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الزِّنَا وَالنَّهْيَ عَنِ الْقَتْلِ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى النَّهْيِ عَنْ إِتْلَافِ النُّفُوسِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ إِتْلَافِ الْأَمْوَالِ، لِأَنَّ أَعَزَّ الْأَشْيَاءِ بَعْدَ النُّفُوسِ الْأَمْوَالُ، وَأَحَقَّ النَّاسِ بِالنَّهْيِ عَنْ إِتْلَافِ أَمْوَالِهِمْ هُوَ الْيَتِيمُ، لِأَنَّهُ لِصِغَرِهِ وَضَعْفِهِ وَكَمَالِ عَجْزِهِ يَعْظُمُ ضَرَرُهُ بِإِتْلَافِ مَالِهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَصَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالنَّهْيِ عَنْ إِتْلَافِ أَمْوَالِهِمْ فَقَالَ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ

[سورة الإسراء (17) : آية 35]

[النِّسَاءِ: 6] وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: إِلَّا بِالتَّصَرُّفِ الَّذِي يُنَمِّيهِ وَيُكْثِرُهُ. الثَّانِي: الْمُرَادُ هُوَ أَنْ تَأْكُلَ مَعَهُ إِذَا احْتَجْتَ إِلَيْهِ، وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا احْتَاجَ أَكَلَ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا أَيْسَرَ قَضَاهُ، فَإِنْ لَمْ يُوسِرْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَلِيَّ إِنَّمَا تَبْقَى وِلَايَتُهُ عَلَى الْيَتِيمِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَهُوَ بُلُوغُ النِّكَاحِ، كَمَا بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آية أخرى وهو قَوْلَهُ: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النِّسَاءِ: 6] وَالْمُرَادُ بِالْأَشُدِّ بُلُوغُهُ إِلَى حَيْثُ يُمْكِنُهُ بِسَبَبِ عَقْلِهِ وَرُشْدِهِ الْقِيَامُ بِمَصَالِحِ مَالِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَزُولُ وِلَايَةُ غَيْرِهِ عَنْهُ وَذَلِكَ حَدُّ الْبُلُوغِ، فَأَمَّا إِذَا بَلَغَ غَيْرَ كَامِلِ الْعَقْلِ لَمْ تَزُلِ الْوِلَايَةُ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَبُلُوغُ الْعَقْلِ هُوَ أَنْ يَكْمُلَ عَقْلُهُ وَقُوَاهُ الْحِسِّيَّةُ والحركية والله أعلم. [سورة الإسراء (17) : آية 35] وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ أَوَّلًا، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ وَهِيَ النَّهْيُ عَنِ الزِّنَا، وَعَنِ الْقَتْلِ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَعَنْ قُرْبَانِ مَالِ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِهَذِهِ الْأَوَامِرِ الثَّلَاثَةِ فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ تَقَدَّمَ لِأَجْلِ تَوْثِيقِ الْأَمْرِ وَتَوْكِيدِهِ فَهُوَ عَهْدٌ فَقَوْلُهُ: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ نظير لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [الْمَائِدَةِ: 1] فَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ كُلُّ عَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ كَعَقْدِ الْبَيْعِ وَالشَّرِكَةِ، وَعَقْدِ الْيَمِينِ وَالنَّذْرِ، وَعَقْدِ الصُّلْحِ، وَعَقْدِ النِّكَاحِ. وَحَاصِلُ الْقَوْلِ فِيهِ: أَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ وَعَهْدٍ جَرَى بَيْنَ إِنْسَانَيْنِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْوَفَاءُ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ الْعَقْدِ وَالْعَهْدِ، إِلَّا إِذَا دَلَّ دَلِيلٌ مُنْفَصِلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ فَمُقْتَضَاهُ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ كُلِّ بَيْعٍ وَقَعَ التَّرَاضِي بِهِ وَبِصِحَّةِ كُلِّ شَرِكَةٍ وَقَعَ التَّرَاضِي بِهَا، وَيُؤَكَّدُ هَذَا النَّصُّ بِسَائِرِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالْعُقُودِ كَقَوْلِهِ: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا [الْبَقَرَةِ: 177] وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 8] وَقَوْلِهِ: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [الْبَقَرَةِ: 275] وَقَوْلِهِ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ [النِّسَاءِ: 29] وَقَوْلِهِ: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ [الْبَقَرَةِ: 282] وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ» وَقَوْلِهِ: «إِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» وَقَوْلِهِ: «مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذَا رَآهُ» فَجَمِيعُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيُوعَاتِ وَالْعُهُودِ وَالْعُقُودِ الصِّحَّةُ وَوُجُوبُ الِالْتِزَامِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنْ وَجَدْنَا نَصًّا أَخَصَّ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ يَدُلُّ عَلَى الْبُطْلَانِ وَالْفَسَادِ قَضَيْنَا بِهِ تَقْدِيمًا لِلْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَإِلَّا قَضَيْنَا بِالصِّحَّةِ فِي الْكُلِّ، وَأَمَّا تَخْصِيصُ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ فَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَصِيرُ أَبْوَابُ الْمُعَامَلَاتِ عَلَى طُولِهَا وَإِطْنَابِهَا مَضْبُوطَةً مَعْلُومَةً بِهَذِهِ الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ، وَيَكُونُ الْمُكَلَّفُ آمِنَ الْقَلْبِ مُطَمْئِنَّ النَّفْسِ فِي الْعَمَلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ النُّصُوصُ عَلَى صِحَّتِهَا فَلَيْسَ بَعْدَ بَيَانِ اللَّهِ بَيَانٌ، وَتَصِيرُ الشَّرِيعَةُ مَضْبُوطَةً مَعْلُومَةً. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يُرَادَ صَاحِبُ الْعُهَدِ كان مسؤلا فحذف

[سورة الإسراء (17) : آية 36]

المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] . وثانيها: أن العهد كان مسؤلا أَيْ مَطْلُوبًا يُطْلَبُ مِنَ الْمَعَاهِدِ أَنْ لَا يُضَيِّعَهُ وَيَفِيَ بِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا تَخْيِيلًا كَأَنَّهُ يُقَالُ لِلْعَهْدِ لِمَ نُكِثْتَ وَهَلَّا وُفِّيَ بِكَ تَبْكِيتًا لِلنَّاكِثِ كَمَا يُقَالُ لِلْمَوْءُودَةِ: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التَّكْوِيرِ: 9] وَكَقَوْلِهِ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ [الْمَائِدَةِ: 116] الْآيَةَ فَالْمُخَاطَبَةُ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْإِنْكَارُ عَلَى غَيْرِهِ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأَوَامِرِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إتمام الكيل وذكر والوعيد الشَّدِيدِ فِي نُقْصَانِهِ فِي قَوْلِهِ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: 1- 3] . النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الْأَوَامِرِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ فَالْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي إِتْمَامِ الْكَيْلِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي إِتْمَامِ الْوَزْنِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ. [الرَّحْمَنِ: 9] وَقَوْلُهُ: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [هُودٍ: 85] . وَاعْلَمْ أَنَّ التَّفَاوُتَ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ نُقْصَانِ الْكَيْلِ، وَالْوَزْنِ قَلِيلٌ وَالْوَعِيدَ الْحَاصِلَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ عَظِيمٌ، فَوَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا عَظُمَ الْوَعِيدُ فِيهِ لِأَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ مُحْتَاجُونَ إِلَى الْمُعَاوَضَاتِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ غَافِلًا لَا يَهْتَدِي إِلَى حِفْظِ مَالِهِ، فَالشَّارِعُ بَالَغَ فِي الْمَنْعِ مِنَ التَّطْفِيفِ وَالنُّقْصَانِ، سَعْيًا فِي إِبْقَاءِ الْأَمْوَالِ عَلَى الْمُلَّاكِ، وَمَنْعًا مِنْ تَلْطِيخِ النَّفْسِ بِسَرِقَةِ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ الْحَقِيرِ، وَالْقِسْطَاسُ فِي مَعْنَى الْمِيزَانِ إِلَّا أَنَّهُ فِي الْعُرْفِ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَلِهَذَا اشْتُهِرَ فِي أَلْسِنَةِ الْعَامَّةِ أَنَّهُ الْقَبَّانُ وَقِيلَ أَنَّهُ بِلِسَانِ الرُّومِ أَوِ السُّرْيَانِيِّ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لُغَةُ الْعَرَبِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقِسْطِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ الِاسْتِقَامَةُ وَالِاعْتِدَالُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَمَعْنَاهُ الْمُعْتَدِلُ الَّذِي لَا يَمِيلُ إِلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ اللُّغَتَيْنِ فِيهِ، ضَمُّ الْقَافِ وَكَسْرُهَا، فَالْكَسْرُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ وَالْبَاقُونَ بِالضَّمِّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ خَيْرٌ أَيِ الْإِيفَاءُ بِالتَّمَامِ وَالْكَمَالِ خَيْرٌ مِنَ التَّطْفِيفِ الْقَلِيلِ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَخَلَّصُ بِوَاسِطَتِهِ عَنِ الذِّكْرِ الْقَبِيحِ فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَابِ الشَّدِيدِ فِي الْآخِرَةِ: وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وَالتَّأْوِيلُ ما يئول إِلَيْهِ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: خَيْرٌ مَرَدًّا [مريم: 76] خَيْرٌ عُقْباً [الكهف: 44] خَيْرٌ أَمَلًا [الْكَهْفِ: 46] وَإِنَّمَا حَكَمَ تَعَالَى بِأَنَّ عَاقِبَةَ هَذَا الْأَمْرِ أَحْسَنُ الْعَوَاقِبِ، لِأَنَّهُ فِي الدُّنْيَا إِذَا اشْتُهِرَ بِالِاحْتِرَازِ عَنِ التَّطْفِيفِ عَوَّلَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَمَالَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ وَحَصَلَ لَهُ الِاسْتِغْنَاءُ فِي الزَّمَانِ الْقَلِيلِ، وَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا مِنَ الْفُقَرَاءِ لَمَّا اشْتُهِرُوا عِنْدَ النَّاسِ بِالْأَمَانَةِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْخِيَانَةِ أَقْبَلَتِ الْقُلُوبُ عَلَيْهِمْ وَحَصَلَتِ الْأَمْوَالُ الْكَثِيرَةُ/ لَهُمْ فِي الْمَدَّةِ الْقَلِيلَةِ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَالْفَوْزُ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ وَالْخَلَاصُ مِنَ الْعِقَابِ الأليم. [سورة الإسراء (17) : آية 36] وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ الْأَوَامِرَ الثَّلَاثَةَ، عَادَ بَعْدَهُ إِلَى ذِكْرِ النَّوَاهِي فَنَهَى عَنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ وَقَوْلُهُ: تَقْفُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَفَوْتُ أَثَرَ فُلَانٍ أَقْفُو قَفْوًا وَقُفُوًّا إِذَا اتَّبَعْتَ أَثَرَهُ، وَسُمِّيَتْ قَافِيَةُ الشِّعْرِ قَافِيَةً لِأَنَّهَا تَقْفُو الْبَيْتَ، وَسُمِّيَتِ الْقَبِيلَةُ الْمَشْهُورَةُ بِالْقَافَةِ، لِأَنَّهُمْ

يَتْبَعُونَ آثَارَ أَقْدَامِ النَّاسِ وَيَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ، وَقَالَ تَعَالَى: ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا [الْحَدِيدِ: 27] وَسُمِّي الْقَفَا قَفًا لِأَنَّهُ مُؤَخَّرُ بَدَنِ الْإِنْسَانِ كَأَنَّهُ شَيْءٌ يَتْبَعُهُ وَيَقْفُوهُ فَقَوْلُهُ: وَلا تَقْفُ أَيْ وَلَا تَتْبَعْ وَلَا تَقْتَفِ مَا لَا عِلْمَ لَكَ بِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى النَّهْيِ عَنِ الْحُكْمِ بِمَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ يَنْدَرِجُ تَحْتَهَا أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلَهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ نَهْيُ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْمَذَاهِبِ الَّتِي كَانُوا يَعْتَقِدُونَهَا فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِ أَسْلَافِهِمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى نَسَبَهُمْ فِي تِلْكَ الْعَقَائِدِ إِلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى فَقَالَ: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ [النَّجْمِ: 23] وَقَالَ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ [النَّمْلِ: 66] وَحُكِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الْجَاثِيَةِ: 32] وَقَالَ: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [الْقَصَصِ: 50] وَقَالَ: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ [النَّحْلِ: 116] الْآيَةَ وَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [الْأَنْعَامِ: 148] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نقل عن محمد بن الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ شَهَادَةُ الزُّورِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَشْهَدْ إِلَّا بِمَا رَأَتْهُ عَيْنَاكَ وَسَمِعَتْهُ أُذُنَاكَ وَوَعَاهُ قَلْبُكَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ مِنْهُ: النَّهْيُ عَنِ الْقَذْفِ وَرَمْيِ الْمُحْصَنِينَ وَالْمُحْصَنَاتِ بِالْأَكَاذِيبِ، وَكَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ جَارِيَةً بِذَلِكَ يَذْكُرُونَهَا فِي الْهِجَاءِ وَيُبَالِغُونَ فِيهِ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: الْمُرَادُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنِ الْكَذِبِ. قَالَ قَتَادَةُ: لَا تَقُلْ سَمِعْتُ وَلَمْ تَسْمَعْ وَرَأَيْتُ وَلَمْ تَرَ وَعَلِمْتُ وَلَمْ تَعْلَمْ. وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْقَفْوَ هُوَ الْبُهْتُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْقَفَا، كَأَنَّهُ قَوْلٌ يُقَالُ خَلْفَهُ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْغِيبَةِ وَهُوَ ذِكْرُ الرَّجُلِ فِي غِيبَتِهِ بِمَا يَسُوءُهُ. وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ مَنْ قَفَا مُسْلِمًا بِمَا لَيْسَ فِيهِ حَبَسَهُ اللَّهُ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ فَلَا مَعْنَى لِلتَّقْلِيدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: الْقِيَاسُ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ وَالظَّنُّ مُغَايِرٌ لِلْعِلْمِ، فَالْحُكْمُ فِي دِينِ اللَّهِ بِالْقِيَاسِ حُكْمٌ بِغَيْرِ الْمَعْلُومِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. أُجِيبَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُكْمَ فِي الدِّينِ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ جَائِزٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعَمَلَ بِالْفَتْوَى عَمَلٌ بِالظَّنِّ وَهُوَ جَائِزٌ. وَثَانِيهَا: الْعَمَلُ بِالشَّهَادَةِ عَمَلٌ بِالظَّنِّ وَأَنَّهُ جَائِزٌ. وَثَالِثُهَا: الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الْقِبْلَةِ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ وَأَنَّهُ جَائِزٌ. وَرَابِعُهَا: قِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشُ الْجِنَايَاتِ لَا سَبِيلَ إِلَيْهَا إِلَّا بِالظَّنِّ وَأَنَّهُ جَائِزٌ. وَخَامِسُهَا: الْفَصْدُ وَالْحِجَامَةُ وَسَائِرُ الْمُعَالَجَاتِ بِنَاءً عَلَى الظَّنِّ وَأَنَّهُ جَائِزٌ. وَسَادِسُهَا: كَوْنُ هَذِهِ الذَّبِيحَةِ ذَبِيحَةً لِلْمُسْلِمِ مَظْنُونٌ لَا مَعْلُومٌ، وَبِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ جَائِزٌ. وَسَابِعُهَا: قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها [النِّسَاءِ: 35] وَحُصُولُ ذَلِكَ الشِّقَاقِ مَظْنُونٌ لَا مَعْلُومٌ. وَثَامِنُهَا: الْحُكْمُ عَلَى الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ بِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا مَظْنُونٌ ثُمَّ نَبْنِي عَلَى هَذَا الظَّنِّ أَحْكَامًا كَثِيرَةً مِثْلَ حُصُولِ التَّوَارُثِ وَمِثْلَ الدَّفْنِ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمَا. وَتَاسِعُهَا: جَمِيعُ الْأَعْمَالِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَسْفَارِ، وَطَلَبِ الْأَرْبَاحِ

وَالْمُعَامَلَاتِ إِلَى الْآجَالِ الْمَخْصُوصَةِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى صَدَاقَةِ الْأَصْدِقَاءِ وَعَدَاوَةِ الْأَعْدَاءِ كُلُّهَا مَظْنُونَةٌ وَبِنَاءُ الْأَمْرِ عَلَى تِلْكَ الظُّنُونِ جَائِزٌ. وَعَاشِرُهَا: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ» وَذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الظَّنَّ مُعْتَبَرٌ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْعَشَرَةِ فَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْأَمْرِ عَلَى الظَّنِّ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الظَّنَّ قَدْ يُسَمَّى بِالْعِلْمِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [الْمُمْتَحَنَةِ: 10] وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ إِنَّمَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِأَيْمَانِهِنَّ بِنَاءً عَلَى إِقْرَارِهِنَّ، وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، فَهَهُنَا اللَّهُ تَعَالَى سَمَّى الظَّنَّ عِلْمًا. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ لَمَّا دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ، وَكَانَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ ظَنُّ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ يُسَاوِي حُكْمَهُ فِي مَحَلِّ النَّصِّ، / فَأَنْتُمْ مُكَلَّفُونَ بِالْعَمَلِ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ الظَّنِّ، فَهَهُنَا الظَّنُّ وَقَعَ فِي طَرِيقِ الْحُكْمِ، فَأَمَّا ذَلِكَ الْحُكْمُ فَهُوَ مَعْلُومٌ مُتَيَقَّنٌ. أَجَابَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ فَقَالُوا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ عَامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ فِي الصُّوَرِ الْعَشَرَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَيَبْقَى هَذَا الْعُمُومُ فِيمَا وَرَاءَ هَذِهِ الصُّوَرِ حُجَّةً، ثُمَّ نَقُولُ: الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الصُّوَرِ الْعَشْرِ وَبَيْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ أَنَّ هَذِهِ الصُّوَرَ الْعَشْرَ مُشْتَرِكَةٌ فِي أَنَّ تِلْكَ الْأَحْكَامِ أَحْكَامٌ مُخْتَصَّةٌ بِأَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، فَإِنَّ الْوَاقِعَةَ الَّتِي يَرْجِعُ فِيهَا الْإِنْسَانُ الْمُعَيَّنُ إِلَى الْمَعْنَى الْمُعَيَّنِ وَاقِعَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِذَلِكَ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الشَّهَادَةِ وَفِي طَلَبِ الْقِبْلَةِ وَفِي سَائِرِ الصُّوَرِ. وَالتَّنْصِيصُ عَلَى وَقَائِعِ الْأَشْخَاصِ الْمُعَيَّنِينَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ يَجْرِي مَجْرَى التَّنْصِيصِ عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ، فَلِهَذِهِ الضَّرُورَةِ اكْتَفَيْنَا بِالظَّنِّ أَمَّا الْأَحْكَامُ الْمُثْبَتَةُ بِالْأَقْيِسَةِ فَهِيَ أَحْكَامٌ كُلِّيَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي وَقَائِعَ كُلِّيَّةٍ وَهِيَ مَضْبُوطَةٌ قَلِيلَةٌ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَيْهَا مُمْكِنٌ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ الَّذِينَ اسْتَخْرَجُوا تِلْكَ الْأَحْكَامَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ ضَبَطُوهَا وَذَكَرُوهَا فِي كُتُبِهِمْ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: التَّنْصِيصُ عَلَى الْأَحْكَامِ فِي الصُّوَرِ الْعَشْرِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَا جَرَمَ اكْتَفَى الشَّارِعُ فِيهَا بِالظَّنِّ، أَمَّا الْمَسَائِلُ الْمُثْبَتَةُ بِالطُّرُقِ الْقِيَاسِيَّةِ التَّنْصِيصُ عَلَيْهَا مُمْكِنٌ فَلَمْ يَجُزِ الِاكْتِفَاءُ فِيهَا بِالظَّنِّ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُمُ الظَّنُّ قَدْ يُسَمَّى عِلْمًا فَنَقُولُ: هَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هَذَا مَظْنُونٌ وَغَيْرُ مَعْلُومٍ، وَهَذَا مَعْلُومٌ وَغَيْرُ مَظْنُونٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْمُغَايَرَةِ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [الْأَنْعَامِ: 148] نَفْيُ الْعِلْمِ، وَإِثْبَاتٌ لِلظَّنِّ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْمُغَايَرَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ [الْمُمْتَحَنَةِ: 10] فَالْمُؤْمِنُ هُوَ الْمُقِرُّ، وَذَلِكَ الْإِقْرَارُ هُوَ الْعِلْمُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّالِثُ: فَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لَأَنَّ تِلْكَ الْحُجَّةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَقْلِيَّةً أَوْ نَقْلِيَّةً، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي يُفِيدُ الظَّنَّ لَا يَجِبُ عَقْلًا أَنْ يَكُونَ حُجَّةً، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنْ يَصِحَّ مِنَ الشَّرْعِ أَنْ يَقُولَ: نَهَيْتُكُمْ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى الْقِيَاسِ وَلَوْ كَانَ كَوْنُهُ حُجَّةً أَمْرًا عَقْلِيًّا مَحْضًا لَامْتَنَعَ ذَلِكَ. وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ النَّقْلِيَّ فِي كَوْنِ الْقِيَاسِ حُجَّةً إنما

[سورة الإسراء (17) : الآيات 37 إلى 38]

يَكُونُ قَطْعِيًّا لَوْ كَانَ مَنْقُولًا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا وَكَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً غَيْرَ مُحْتَمِلَةٍ النَّقِيضَ وَلَوْ حَصَلَ مِثْلُ هَذَا الدَّلِيلِ لَوَصَلَ إِلَى الْكُلِّ وَلَعَرَفَهُ الْكُلُّ وَلَارْتَفَعَ الْخِلَافُ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِي هَذِهِ/ الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ قَاطِعٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ الْقِيَاسِ حُجَّةً دَلِيلٌ قَاطِعٌ الْبَتَّةَ، فَبَطَلَ قَوْلُكُمْ كَوْنُ الْحُكْمِ الْمُثْبَتِ بِالْقِيَاسِ حُجَّةً مَعْلُومٌ لَا مَظْنُونٌ، فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ. وَأَحْسَنُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ إِنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي عَوَّلْتُمْ عَلَيْهَا تَمَسُّكٌ بِعَامٍّ مَخْصُوصٍ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْعَامِّ الْمَخْصُوصِ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، فَلَوْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالظَّنِّ غَيْرُ جَائِزٍ لَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ جَائِزٍ، فَالْقَوْلُ بِكَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّةً يُفْضِي ثُبُوتُهُ إِلَى نَفْيِهِ فَكَانَ تَنَاقُضًا فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِلْمُجِيبِ أَنْ يُجِيبَ فَيَقُولُ: نَعْلَمُ بِالتَّوَاتُرِ الظَّاهِرِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ حُجَّةٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ بِأَنَّ كَوْنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ حُجَّةً غَيْرُ مَعْلُومٍ بِالتَّوَاتُرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا فِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعُلُومَ إِمَّا مُسْتَفَادَةٌ مِنَ الْحَوَاسِّ، أَوْ مِنَ الْعُقُولِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِذِكْرِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا سَمِعَ شَيْئًا وَرَآهُ فَإِنَّهُ يَرْوِيهِ وَيُخْبِرُ عَنْهُ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَهُوَ الْعُلُومُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنَ الْعَقْلِ وَهِيَ قِسْمَانِ: الْبَدِيهِيَّةُ وَالْكَسْبِيَّةُ، وَإِلَى الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ الْإِشَارَةُ بِذِكْرِ الْفُؤَادِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هذه الجوارح مسؤولة وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ صاحب السمع والبصر والفؤاد هو المسؤول لِأَنَّ السُّؤَالَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِمَّنْ كَانَ عَاقِلًا، وَهَذِهِ الْجَوَارِحُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، بَلِ الْعَاقِلُ الفاهم هو الإنسان، فهو كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا يُقَالُ لَهُ لِمَ سَمِعْتَ مَا لَا يَحِلُّ لَكَ سَمَاعُهُ، وَلِمَ نَظَرْتَ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَكَ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَلِمَ عَزَمْتَ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ لَكَ الْعَزْمُ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَقْرِيرَ الآية أن أولئك الأقوام كلهم مسؤولون عَنِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفُؤَادِ فَيُقَالُ لَهُمُ اسْتَعْمَلْتُمُ السَّمْعَ فِي مَاذَا أَفِي الطَّاعَةِ أَوْ فِي الْمَعْصِيَةِ؟ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَوَاسَّ آلَاتُ النَّفْسِ، وَالنَّفْسُ كَالْأَمِيرِ لَهَا وَالْمُسْتَعْمِلُ لَهَا فِي مَصَالِحِهَا فَإِنِ اسْتَعْمَلَتْهَا النَّفْسُ فِي الْخَيْرَاتِ اسْتَوْجَبَتِ الثَّوَابَ، وَإِنِ اسْتَعْمَلَتْهَا فِي الْمَعَاصِي اسْتَحَقَّتِ الْعِقَابَ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْحَيَاةَ فِي الْأَعْضَاءِ ثُمَّ إِنَّهَا تَشْهَدُ عَلَى الْإِنْسَانِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النُّورِ: 24] وَلِذَلِكَ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْلُقَ الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ وَالنُّطْقَ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُوَجِّهُ السؤال عليها. [سورة الإسراء (17) : الآيات 37 الى 38] وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَرَحُ شِدَّةُ الْفَرَحِ يُقَالُ: مَرِحَ يَمْرَحُ مَرَحًا فَهُوَ مَرِحٌ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَمْشِيَ

الْإِنْسَانُ مَشْيًا يَدُلُّ عَلَى الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مُخْتَالًا فَخُورًا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الْفُرْقَانِ: 63] وَقَالَ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لُقْمَانَ: 19] وَقَالَ أَيْضًا فِيهَا: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [لُقْمَانَ: 18] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْأَخْفَشُ: وَلَوْ قُرِئَ: مَرِحًا بِالْكَسْرِ كَانَ أَحْسَنَ فِي الْقِرَاءَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَرَحًا مَصْدَرٌ وَمَرِحًا اسْمُ الْفَاعِلِ وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ، إِلَّا أن المصدر أحسن هاهنا وَأَوْكَدُ، تَقُولُ جَاءَ زَيْدٌ رَكْضًا وَرَاكِضًا فَرَكْضًا أَوْكَدُ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَوْكِيدِ الْفِعْلِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ النَّهْيَ عَنِ الْخُيَلَاءِ وَالتَّكَبُّرِ فَقَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا والمراد من الخرق هاهنا نَقْبُ الْأَرْضِ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَشْيَ إِنَّمَا يَتِمُّ بِالِارْتِفَاعِ وَالِانْخِفَاضِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّكَ حَالَ الِانْخِفَاضِ لَا تَقْدِرُ عَلَى خَرْقِ الْأَرْضِ وَنَقْبِهَا، وَحَالَ الِارْتِفَاعِ لَا تَقْدِرُ على أن تصل إلى رؤوس الْجِبَالِ، وَالْمُرَادُ التَّنْبِيهُ عَلَى كَوْنِهِ ضَعِيفًا عَاجِزًا فَلَا يَلِيقُ بِهِ التَّكَبُّرُ. الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ تَحْتَكَ الْأَرْضَ الَّتِي لَا تَقْدِرُ عَلَى خَرْقِهَا وَفَوْقَكَ الْجِبَالَ الَّتِي لَا تَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهَا فَأَنْتَ مُحَاطٌ بِكَ مِنْ فَوْقِكَ وَتَحْتِكَ بِنَوْعَيْنِ مِنَ الْجَمَادِ، وَأَنْتَ أَضْعَفُ مِنْهُمَا بِكَثِيرٍ، وَالضَّعِيفُ الْمَحْصُورُ لَا يَلِيقُ بِهِ التَّكَبُّرُ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: تَوَاضَعْ وَلَا تَتَكَبَّرْ فَإِنَّكَ خَلْقٌ ضَعِيفٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ الْمَحْصُورِ بَيْنَ حِجَارَةٍ وَتُرَابٍ فَلَا تَفْعَلْ فِعْلَ الْمُقْتَدِرِ الْقَوِيِّ: ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأَكْثَرُونَ قَرَءُوا سَيِّئُهُ بِضَمِّ الْهَاءِ وَالْهَمْزَةِ وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو سَيِّئَةً مَنْصُوبَةً أَمَّا وَجْهُ قِرَاءَةِ الْأَكْثَرِينَ فَظَاهِرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا أَشْيَاءَ أَمَرَ بِبَعْضِهَا وَنَهَى عَنْ بَعْضِهَا، فَلَوْ حَكَمَ عَلَى الْكُلِّ بِكَوْنِهِ سَيِّئَةً لَزِمَ كَوْنُ الْمَأْمُورِ بِهِ سَيِّئَةً وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، أَمَّا إِذَا قَرَأْنَاهُ بِالْإِضَافَةِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ سَيِّئَةً فَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاسْتَقَامَ الْكَلَامُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّا لَوْ حَكَمْنَا عَلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِكَوْنِهِ سَيِّئَةً لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَكْرُوهاً أَمَّا إِذَا قَرَأْنَاهُ بِصِيغَةِ الْإِضَافَةِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ سَيِّئَ تِلْكَ الْأَقْسَامِ يَكُونُ مَكْرُوهًا، وَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ. أَمَّا قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو: فِيهَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [الإسراء: 35] ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً [الإسراء: 37] . ثُمَّ قَالَ: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ وَالْمُرَادُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْأَخِيرَةُ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: كُلُّ ذلِكَ أَيْ كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَكْرُوهاً فَذَكَرُوا فِي تَصْحِيحِهِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةً وَكَانَ مَكْرُوهًا. الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : السَّيِّئَةُ فِي حُكْمِ الْأَسْمَاءِ بِمَنْزِلَةِ الذَّنْبِ وَالْإِثْمِ زَالَ عَنْهُ حُكْمُ الصِّفَاتِ فَلَا اعْتِبَارَ بِتَأْنِيثِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ قَرَأَ سَيِّئَةً وَمَنْ قَرَأَ سَيِّئُهُ أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: الزِّنَا سَيِّئَةٌ كَمَا تَقُولُ السَّرِقَةُ سَيِّئَةٌ، فَلَا تُفَرِّقُ بَيْنَ إِسْنَادِهَا إِلَى مُذَكَّرٍ وَمُؤَنَّثٍ. الثَّالِثُ: فيه

[سورة الإسراء (17) : الآيات 39 إلى 40]

تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ مَكْرُوهًا وَسَيِّئَةً عِنْدَ رَبِّكَ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ السَّيِّئَةَ هِيَ الذَّنْبُ وَهُوَ مُذَكَّرٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَكْرُوهُ لَا يَكُونُ مُرَادًا لَهُ، فَهَذِهِ الْأَعْمَالُ غَيْرُ مُرَادَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى فَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: كُلَّ مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ فَهُوَ مُرَادُ لِلَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ مَخْلُوقَةً لَهُ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعَالَى لَكَانَتْ مُرَادَةً لَهُ لَا يُقَالُ: الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهَا مَكْرُوهَةً أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى عَنْهَا، وَأَيْضًا مَعْنَى كَوْنِهَا مَكْرُوهَةً أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ وُقُوعَهَا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَهَذَا لَا يَمْنَعُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ وُجُودَهَا، لِأَنَّ الْجَوَابَ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ، وَأَيْضًا فَكَوْنُهَا سَيِّئَةً عِنْدَ رَبِّكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا مَنْهِيًّا عَنْهَا فَلَوْ حَمَلْنَا الْمَكْرُوهَ عَلَى النَّهْيِ لَزِمَ التَّكْرَارُ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي مَعْرِضِ الزَّجْرِ عَنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَلَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَكْرَهُ وُقُوعَهَا هَذَا تَمَامُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَكْرُوهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَلَا بَأْسَ بِالتَّكْرِيرِ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِكَوْنِهِ مُرِيدًا فَكَذَلِكَ أَيْضًا مَوْصُوفٌ بِكَوْنِهِ كَارِهًا. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْكَرَاهِيَةُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى مَحْمُولَةٌ إِمَّا عَلَى النَّهْيِ أو على إرادة العدم. والله أعلم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 39 الى 40] ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) [في قَوْلُهُ تَعَالَى ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ نَوْعًا مِنَ التَّكَالِيفِ. فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الإسراء: 22] وَقَوْلُهُ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاءِ: 23] مُشْتَمِلٌ عَلَى تَكْلِيفَيْنِ: الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالنَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، فَكَانَ الْمَجْمُوعُ ثَلَاثَةً. وَقَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْإِسْرَاءِ: 23] هُوَ الرَّابِعُ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي شَرْحِ ذَلِكَ الْإِحْسَانِ خَمْسَةً أُخْرَى وَهِيَ: قَوْلُهُ: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما [الْإِسْرَاءِ: 23، 24] فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ تِسْعَةً، ثُمَّ قَالَ: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ اثْنَيْ عَشَرَ. ثُمَّ قَالَ: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً [الْإِسْرَاءِ: 26] فَيَصِيرُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ. ثُمَّ قَالَ: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً وَهُوَ الرَّابِعَ عَشَرَ ثُمَّ قَالَ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ [الْإِسْرَاءِ: 28، 29] إِلَى آخَرِ الْآيَةِ وَهُوَ الْخَامِسَ عَشَرَ، ثُمَّ قَالَ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ [الْإِسْرَاءِ: 31] وَهُوَ السَّادِسَ عَشَرَ، ثُمَّ قَالَ: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَهُوَ السَّابِعَ عَشَرَ ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً وَهُوَ الثَّامِنَ عَشَرَ، ثُمَّ قَالَ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [الْإِسْرَاءِ: 33] وَهُوَ التَّاسِعَ عَشَرَ، ثُمَّ قَالَ: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ [الْإِسْرَاءِ: 34] وَهُوَ الْعِشْرُونَ. ثُمَّ قَالَ: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَهُوَ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ، ثُمَّ قَالَ: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الْإِسْرَاءِ: 35] وَهُوَ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ، ثُمَّ قَالَ: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الْإِسْرَاءِ: 36] وَهُوَ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ، ثُمَّ قَالَ: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ

مَرَحاً [الْإِسْرَاءِ: 37] وَهُوَ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ، ثُمَّ قَالَ: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَهُوَ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ، فَهَذِهِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ نَوْعًا مِنَ التَّكَالِيفِ بَعْضُهَا أَوَامِرُ وَبَعْضُهَا نَوَاهٍ جَمَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَجَعَلَ فَاتِحَتَهَا قَوْلَهُ: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا [الْإِسْرَاءِ: 22] وَخَاتِمَتَهَا قَوْلَهُ: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً. إذا عرفت هذا فنقول: هاهنا فَوَائِدُ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ التَّكَالِيفِ وَسَمَّاهَا حِكْمَةً، وَإِنَّمَا/ سَمَّاهَا بِهَذَا الِاسْمِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ حَاصِلَهَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ وَأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ وَالْخَيْرَاتِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْآخِرَةِ، وَالْعُقُولُ تَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا فَالْآتِي بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ لَا يَكُونُ دَاعِيًا إِلَى دِينِ الشَّيْطَانِ بَلِ الْفِطْرَةُ الْأَصْلِيَّةُ تَشْهَدُ بِأَنَّهُ يَكُونُ دَاعِيًا إِلَى دِينِ الرَّحْمَنِ، وَتَمَامُ تَقْرِيرِ هَذَا مَا نَذْكُرُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي قَوْلِهِ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشُّعَرَاءِ: 221، 222] . وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ شَرَائِعُ وَاجِبَةُ الرِّعَايَةِ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ وَلَا تَقْبَلُ النَّسْخَ وَالْإِبْطَالَ، فَكَانَتْ مُحْكَمَةً وَحِكْمَةً مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْحِكْمَةَ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ لِذَاتِهِ وَالْخَيْرِ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، فَالْأَمْرُ بِالتَّوْحِيدِ عِبَارَةٌ عَنِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَسَائِرُ التَّكَالِيفِ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْلِيمِ الْخَيْرَاتِ حَتَّى يُوَاظِبَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا وَلَا يَنْحَرِفَ عَنْهَا، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَيْنُ الْحِكْمَةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ كَانَتْ فِي أَلْوَاحِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَوَّلُهَا: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الإسراء: 22] قَالَ تَعَالَى: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [الْأَعْرَافِ: 145] . وَالْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ فِي هَذِهِ التَّكَالِيفِ بِالْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ وَخَتَمَهَا بِعَيْنِ هَذَا الْمَعْنَى، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ كُلِّ عَمَلٍ وَقَوْلٍ وَفِكْرٍ وَذِكْرٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرَ التَّوْحِيدِ، وَآخِرَهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرَ التَّوْحِيدِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ هُوَ مَعْرِفَةُ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْرَاقُ فِيهِ، فَهَذَا التَّكْرِيرُ حَسَنٌ مَوْقِعُهُ لِهَذِهِ الْفَائِدَةِ الْعَظِيمَةِ ثُمَّ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الشِّرْكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ صَاحَبُهُ مَذْمُومًا مَخْذُولًا، وَذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ أَنَّ الشِّرْكَ يُوجِبُ أَنْ يُلْقِيَ صَاحِبَهُ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا، فَاللَّوْمُ وَالْخِذْلَانُ يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا، وَإِلْقَاؤُهُ فِي جَهَنَّمَ يَحْصُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَذْكُرَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَذْمُومِ الْمَخْذُولِ، وَبَيْنَ الْمَلُومِ الْمَدْحُورِ فَنَقُولُ: أَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَذْمُومِ وَبَيْنَ الْمَلُومِ، فَهُوَ أَنَّ كَوْنَهُ مَذْمُومًا مَعْنَاهُ: أَنْ يُذْكَرَ لَهُ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي أَقْدَمَ عَلَيْهِ قَبِيحٌ وَمُنْكَرٌ، فَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهِ مَذْمُومًا، وَإِذَا ذُكِرَ لَهُ ذَلِكَ فَبَعْدَ ذَلِكَ يُقَالُ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ، وَمَا الَّذِي حَمَلَكَ عَلَيْهِ، وَمَا اسْتَفَدْتَ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ إِلَّا إِلْحَاقَ الضَّرَرِ بِنَفْسِكَ، وَهَذَا هُوَ اللَّوْمُ فَثَبَتَ أَنَّ أَوَّلَ الْأَمْرِ هُوَ أَنْ يَصِيرَ مَذْمُومًا، وَآخِرَهُ أَنْ يَصِيرَ مَلُومًا، وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَخْذُولِ وَبَيْنَ الْمَدْحُورِ فَهُوَ أَنَّ الْمَخْذُولَ عِبَارَةٌ عَنِ الضَّعِيفِ يُقَالُ: تَخَاذَلَتْ أَعْضَاؤُهُ أَيْ ضَعُفَتْ، وَأَمَّا الْمَدْحُورُ فَهُوَ الْمَطْرُودُ وَالطَّرْدُ عِبَارَةٌ عَنِ الِاسْتِخْفَافِ وَالْإِهَانَةِ قَالَ تَعَالَى: وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً [الْفُرْقَانِ: 69] فَكَوْنُهُ مَخْذُولًا عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ إِعَانَتِهِ وَتَفْوِيضِهِ إِلَى نَفْسِهِ، وَكَوْنُهُ مَدْحُورًا عِبَارَةٌ عَنْ إِهَانَتِهِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ أَوَّلَ الْأَمْرِ أَنْ يَصِيرَ مَخْذُولًا، وَآخِرَهُ أَنْ يَصِيرَ مَدْحُورًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَبَّهَ عَلَى فَسَادِ طَرِيقَةِ

[سورة الإسراء (17) : الآيات 41 إلى 44]

مَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ شَرِيكًا وَنَظِيرًا نَبَّهَ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ أَثْبَتَ لَهُ الْوَلَدَ وَعَلَى كَمَالِ جَهْلِ هَذِهِ الْفِرْقَةِ، وَهِيَ أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْوَلَدَ قِسْمَانِ، فَأَشْرَفُ الْقِسْمَيْنِ الْبَنُونَ، وَأَخَسُّهُمَا الْبَنَاتُ. ثُمَّ إِنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْبَنِينَ لِأَنْفُسِهِمْ مَعَ عِلْمِهِمْ بِنِهَايَةِ عَجْزِهِمْ وَنَقْصِهِمْ وَأَثْبَتُوا الْبَنَاتَ لِلَّهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالْكَمَالِ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ وَالْجَلَالِ الَّذِي لَا غَايَةَ لَهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ جَهْلِ الْقَائِلِ بِهَذَا الْقَوْلِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الطُّورِ: 39] وَقَوْلُهُ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى [النَّجْمِ: 21] وَقَوْلُهُ: أَفَأَصْفاكُمْ يُقَالُ أَصْفَاهُ بِالشَّيْءِ إِذَا آثَرَ بِهِ، وَيُقَالُ لِلضِّيَاعِ التي يستخصها السلطان بخاصية الصَّوَافِي. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: أَفَأَصْفاكُمْ أَفَخَصَّكُمْ، وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: أَخْلَصَكُمْ. قَالَ النَّحْوِيُّونَ هَذِهِ الْهَمْزَةُ هَمْزَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى صِيغَةِ السُّؤَالِ عَنْ مَذْهَبٍ ظَاهِرِ الْفَسَادِ لَا جَوَابَ لِصَاحِبِهِ إِلَّا بِمَا فِيهِ أَعْظَمُ الْفَضِيحَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً وَبَيَانُ هَذَا التَّعْظِيمِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِثْبَاتَ الْوَلَدِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَعَالَى مُرَكَّبًا مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ، وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ قَدِيمًا وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ. وَذَلِكَ عَظِيمٌ مِنَ الْقَوْلِ وَمُنْكَرٌ مِنَ الْكَلَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْوَلَدِ فَقَدْ جَعَلْتُمْ أَشْرَفَ الْقِسْمَيْنِ لِأَنْفُسِكُمْ وَأَخَسَّ الْقِسْمَيْنِ لله. وهذا أيضا جهل عظيم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 41 الى 44] وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ] اعْلَمْ أَنَّ التَّصْرِيفَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ صَرْفِ الشَّيْءِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ، نَحْوَ تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَتَصْرِيفِ الْأُمُورِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي اللُّغَةِ، ثُمَّ جَعَلَ لَفْظَ التَّصْرِيفِ كِنَايَةً عَنِ التَّبْيِينِ، لِأَنَّ مَنْ حَاوَلَ بَيَانَ شَيْءٍ فَإِنَّهُ يَصْرِفُ كَلَامَهُ مِنْ نَوْعٍ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ وَمِنْ مِثَالٍ إِلَى مِثَالٍ آخَرَ لِيُكْمِلَ الْإِيضَاحَ وَيُقَوِّيَ الْبَيَانَ فَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا أَيْ بَيَّنَّا وَمَفْعُولُ التَّصْرِيفِ مَحْذُوفٌ وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ ضُرُوبًا مِنْ كُلِّ مَثَلٍ. وَثَانِيهَا: أَنْ تَكُونَ لَفْظَةُ «فِي» زَائِدَةً كَقَوْلِهِ: وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي [الْأَحْقَافِ: 15] أَيْ أَصْلِحْ لِي ذَرِّيَّتِي. أَمَّا قَوْلُهُ: لِيَذَّكَّرُوا فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْجُمْهُورُ لِيَذَّكَّرُوا بِفَتْحِ الذَّالِ وَالْكَافِ وَتَشْدِيدِهِمَا، وَالْمَعْنَى: لِيَتَذَكَّرُوا فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الذَّالِ لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ لِيَذَّكَّرُوا سَاكِنَةَ الذَّالِ مَضْمُومَةَ الْكَافِ، وَفِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ مِثْلُهُ مِنَ الذِّكْرِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: والتذكر هاهنا أَشْبَهُ مِنَ الذِّكْرِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّدَبُّرُ وَالتَّفَكُّرُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الذِّكْرَ الَّذِي يَحْصُلُ بَعْدَ النِّسْيَانِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ فَفِيهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الذِّكْرَ قَدْ جَاءَ بِمَعْنَى التَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ [الْبَقَرَةِ: 63] وَالْمَعْنَى: وَافْهَمُوا مَا فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى صَرَّفْنَا هَذِهِ الدَّلَائِلَ فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذْكُرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَإِنَّ الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى تَأَثُّرِ الْقَلْبِ بِمَعْنَاهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: قَوْلُهُ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ، وَإِنَّمَا أَكْثَرَ فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الدَّلَائِلِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْهُمْ فَهْمَهَا وَالْإِيمَانَ بِهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أنه تعالى يفعل أفعاله لأغراض حكمية، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ الْإِيمَانَ مِنَ الْكُلِّ سَوَاءٌ آمَنُوا أَوْ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْأَصَمُّ: شَبَّهَهُمْ بِالدَّوَابِّ النَّافِرَةِ، أَيْ مَا ازْدَادُوا مِنَ الْحَقِّ إِلَّا بُعْدًا وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَزادَتْهُمْ رِجْساً [التَّوْبَةِ: 125] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَرَادَ الْإِيمَانَ مِنَ الْكُفَّارِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَنَّ تَصْرِيفَ الْقُرْآنِ لَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا، فَلَوْ أَرَادَ الْإِيمَانَ مِنْهُمْ لَمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مَا يَزِيدُهُمْ نَفْرَةً وَنَبْوَةً عَنْهُ، لِأَنَّ الْحَكِيمَ إِذَا أَرَادَ تَحْصِيلَ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ وَعَلِمَ أَنَّ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ يَصِيرُ سَبَبًا لِمَزِيدِ النَّفْرَةِ وَالنَّبْوَةِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ عند ما يُحَاوِلُ تَحْصِيلَ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ يَحْتَرِزُ عَمَّا يُوجِبُ مَزِيدَ النَّفْرَةِ وَالنَّبْوَةِ فَلَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا التَّصْرِيفَ يَزِيدُهُمْ نُفُورًا، عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا أَرَادَ الْإِيمَانَ مِنْهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. / أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِهِ وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلُهُ: إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا هُوَ أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا وُجُودَ آلِهَةٍ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لَغَلَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى دَلِيلِ التَّمَانُعِ وَقَدْ شَرَحْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَقُولُونَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] ، فَقَالَ اللَّهُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ كَمَا تَقُولُونَ مِنْ أَنَّهَا تُقَرِّبُكُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى لَطَلَبَتْ لِأَنْفُسِهَا أَيْضًا قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَسَبِيلًا إِلَيْهِ وَلَطَلَبَتْ لِأَنْفُسِهَا الْمَرَاتِبَ الْعَالِيَةَ، وَالدَّرَجَاتِ الشَّرِيفَةَ مِنَ الْأَحْوَالِ الرَّفِيعَةِ، فَلَمَّا لَمْ تَقْدِرْ أَنْ تَتَّخِذَ لِأَنْفُسِهَا سَبِيلًا إِلَى اللَّهِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ تُقَرِّبَكُمْ إِلَى اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قرأ ابن كثير كَما يَقُولُونَ وعَمَّا يَقُولُونَ ويسبح بِالْيَاءِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَالْمَعْنَى كَمَا يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ إِثْبَاتِ الْآلِهَةِ مِنْ دُونِهِ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 12] وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ كُلَّهَا بِالتَّاءِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ فِي الْأَوَّلِ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَفِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ بِالْيَاءِ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ الْأَوَّلَيْنِ بِالْيَاءِ، وَالْأَخِيرَ بِالتَّاءِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو الْأَوَّلَ وَالْأَخِيرَ بِالتَّاءِ وَالْأَوْسَطَ بِالْيَاءِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَمَّا أَقَامَ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ عَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الشُّرَكَاءِ وَعَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِإِثْبَاتِ الْآلِهَةِ قَوْلٌ بَاطِلٌ، أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ الْبَاطِلِ فَقَالَ: سُبْحانَهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّسْبِيحَ عِبَارَةٌ عَنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَتَعالى وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّعَالِي الِارْتِفَاعُ وَهُوَ الْعُلُوُّ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ

هَذَا التَّعَالِي لَيْسَ هُوَ التَّعَالِي فِي الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ، لِأَنَّ التَّعَالِيَ عَنِ الشَّرِيكِ وَالنَّظِيرِ وَالنَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ لَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُهُ بِالتَّعَالِي بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ لَفْظَ التَّعَالِي فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مُفَسَّرٍ بِالْعُلُوِّ بِحَسَبِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: جَعَلَ الْعُلُوَّ مَصْدَرَ التَّعَالِي فَقَالَ تَعَالَى: عُلُوًّا كَبِيراً وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ تَعَالَى تَعَالِيًا كَبِيرًا إِلَّا أَنَّ نَظِيرَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نُوحٍ: 17] . فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي وَصْفِ ذَلِكَ الْعُلُوِّ بِالْكَبِيرِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْمُنَافَاةَ بَيْنَ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَبَيْنَ ثُبُوتِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَالشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ مُنَافَاةٌ بَلَغَتْ فِي الْقُوَّةِ وَالْكَمَالِ إِلَى حَيْثُ لَا تُعْقَلُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْمُنَافَاةَ بَيْنَ الْوَاجِبِ/ لِذَاتِهِ وَالْمُمْكِنِ لِذَاتِهِ، وَبَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ، وَبَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْمُحْتَاجِ مُنَافَاةٌ لَا تُعْقَلُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا فَلِهَذَا السَّبَبِ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْعُلُوَّ بِالْكَبِيرِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْحَيَّ الْمُكَلَّفَ يُسَبِّحُ لِلَّهِ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: بِالْقَوْلِ كَقَوْلِهِ بِاللِّسَانِ سُبْحَانَ اللَّهِ. وَالثَّانِي: بِدَلَالَةِ أَحْوَالِهِ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيسِهِ وَعِزَّتِهِ، فَأَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ مُكَلَّفًا مِثْلَ الْبَهَائِمِ، وَمَنْ لَا يَكُونُ حَيًّا مِثْلَ الْجَمَادَاتِ فَهِيَ إِنَّمَا تُسَبِّحُ لِلَّهِ تَعَالَى بِالطَّرِيقِ الثَّانِي، لِأَنَّ التَّسْبِيحَ بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْفَهْمِ وَالْعِلْمِ وَالْإِدْرَاكِ وَالنُّطْقِ وَكُلُّ ذَلِكَ فِي الْجَمَادِ مُحَالٌ، فَلَمْ يَبْقَ حُصُولُ التَّسْبِيحِ فِي حَقِّهِ إِلَّا بِالطَّرِيقِ الثَّانِي. وَاعْلَمْ أَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا فِي الْجَمَادِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا لَعَجَزْنَا عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِكَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا قَادِرًا عَلَى كَوْنِهِ حَيًّا وَحِينَئِذٍ يَفْسَدُ عَلَيْنَا بَابُ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ حَيًّا وَذَلِكَ كُفْرٌ فَإِنَّهُ يُقَالُ: إِذَا جَازَ فِي الْجَمَادَاتِ أَنْ تَكُونَ عَالِمَةً بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَتُسَبِّحُهُ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَحْيَاءٍ فَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ عَالِمًا قَادِرًا مُتَكَلِّمًا كَوْنُهُ حَيًّا فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا قَادِرًا كَوْنُهُ حَيًّا وَذَلِكَ جَهْلٌ وَكُفْرٌ، لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَنْ لَيْسَ بِحَيٍّ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا قَادِرًا مُتَكَلِّمًا، هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي أَطْبَقَ الْعُلَمَاءُ الْمُحَقِّقُونَ عَلَيْهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْجَمَادَاتِ وَأَنْوَاعَ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ كُلَّهَا تُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى، وَاحْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِأَنْ قَالُوا: دَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى كَوْنِهَا مُسَبِّحَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ هَذَا التَّسْبِيحِ بِكَوْنِهَا دَلَائِلَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ تَسْبِيحَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا وَدَلَالَتُهَا عَلَى وُجُودِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ مَعْلُومٌ، وَالْمَعْلُومُ مُغَايِرٌ لِمَا هُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا تُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى وَأَنَّ تَسْبِيحَهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّسْبِيحُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُغَايِرًا لِكَوْنِهَا دَالَّةً عَلَى وُجُودِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّكَ إِذَا أَخَذْتَ تُفَّاحَةً وَاحِدَةً فَتِلْكَ التُّفَّاحَةُ مُرَكَّبَةٌ مَنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تَتَجَزَّأُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ دَلِيلٌ تَامٌّ مُسْتَقِلٌّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تَتَجَزَّأُ صِفَاتٌ مَخْصُوصَةٌ مِنَ الطَّبْعِ وَالطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالرَّائِحَةِ وَالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ، وَاخْتِصَاصُ ذَلِكَ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ بِتِلْكَ الصفة

[سورة الإسراء (17) : الآيات 45 إلى 48]

الْمُعَيَّنَةِ مِنَ الْجَائِزَاتِ فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصُ إِلَّا بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ قَادِرٍ حَكِيمٍ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَدْ ظَهَرَ أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ تِلْكَ التُّفَّاحَةِ دَلِيلٌ تَامٌّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ وَكُلَّ صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِذَلِكَ الْجُزْءِ الْوَاحِدِ فَهُوَ أَيْضًا دَلِيلٌ تَامٌّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ تَعَالَى، ثُمَّ عَدَدُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَأَحْوَالُ تِلْكَ الصِّفَاتِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ وَإِنْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِإِثْبَاتِ إِلَهِ الْعَالَمِ إِلَّا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَتَفَكَّرُونَ فِي أَنْوَاعِ الدَّلَائِلِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ [يُوسُفَ: 105] فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ هَذَا الْمَعْنَى. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَوْمَ وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِإِثْبَاتِ إِلَهِ الْعَالَمِ إِلَّا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا عَالِمِينَ بِكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا كَوْنَهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ فَكَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا فَهُمْ مَا كَانُوا عَالِمِينَ بِهَذَا الدَّلِيلِ فَلَمَّا ذُكِرَ هَذَا الدَّلِيلُ قَالَ: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ فتسبيح السموات وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ هَذَا الدَّلِيلِ وَقُوَّتِهِ وَأَنْتُمْ لَا تَفْقَهُونَ هَذَا الدَّلِيلَ وَلَا تَعْرِفُونَهُ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا غَافِلِينَ عَنْ أَكْثَرِ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ، وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ذَلِكَ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً فذكر الحليم والغفور هاهنا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُمْ بِحَيْثُ لَا يَفْقَهُونَ ذَلِكَ التَّسْبِيحَ جُرْمٌ عَظِيمٌ صَدَرَ عَنْهُمْ وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ جُرْمًا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ تلك التَّسْبِيحِ كَوْنَهَا دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لِغَفْلَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ مَا عَرَفُوا وَجْهَ دَلَالَةِ تِلْكَ الدَّلَائِلِ. أَمَّا لَوْ حَمَلْنَا هَذَا التَّسْبِيحَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْجَمَادَاتِ تُسَبِّحُ اللَّهَ بِأَقْوَالِهَا وَأَلْفَاظِهَا لَمْ يَكُنْ عَدَمُ الْفِقْهِ لِتِلْكَ التَّسْبِيحَاتِ جُرْمًا وَلَا ذَنْبًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جُرْمًا وَلَا ذَنْبًا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً لَائِقًا بِهَذَا الْمَوْضِعِ، فَهَذَا وَجْهٌ قَوِيٌّ فِي نُصْرَةِ الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ هَذِهِ الْجَمَادَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ تُسَبِّحُ اللَّهَ بِأَلْفَاظِهَا أَضَافُوا إِلَى كُلِّ حَيَوَانٍ نَوْعًا آخَرَ مِنَ التَّسْبِيحِ وَقَالُوا: إِنَّهَا إِذَا ذُبِحَتْ لَمْ تُسَبِّحْ مَعَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ الْجَمَادَاتِ تُسَبِّحُ اللَّهَ، فَإِذَا كَانَ كَوْنُهُ جَمَادًا لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ مُسَبِّحًا، فَكَيْفَ صَارَ ذَبْحُ الْحَيَوَانِ مَانِعًا لَهُ مِنَ التَّسْبِيحِ، وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ غُصْنَ الشَّجَرَةِ إِذَا كُسِرَ لَمْ يُسَبِّحْ، وَإِذَا كَانَ كَوْنُهُ جَمَادًا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ كَوْنِهِ مُسَبِّحًا فَكَسْرُهُ كَيْفَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ ضَعِيفَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ تصريح بإضافة التسبيح/ إلى السموات وَالْأَرْضِ وَإِلَى الْمُكَلَّفِينَ الْحَاصِلِينَ فِيهِنَّ وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ الْمُضَافَ إِلَى الْجَمَادَاتِ لَيْسَ إِلَّا بِمَعْنَى الدَّلَالَةِ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِطْلَاقُ لَفْظِ التَّسْبِيحِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَجَازٌ، وَأَمَّا التَّسْبِيحُ الصَّادِرُ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَهَذَا حَقِيقَةٌ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: تُسَبِّحُ لَفْظًا وَاحِدًا قَدِ اسْتُعْمِلَ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعًا، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ عَلَى مَا ثَبَتَ دَلِيلُهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ هَذَا التَّسْبِيحُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَجَازِيِّ فِي حَقِّ الْجَمَادَاتِ لَا فِي حَقِّ الْعُقَلَاءِ لِئَلَّا يلزم ذلك المحذور والله أعلم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 45 الى 48] وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَكَلَّمَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْمَسَائِلِ الْإِلَهِيَّةِ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَقْرِيرِ النُّبُوَّةِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يُؤْذُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى النَّاسِ. رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ كُلَّمَا قَرَأَ الْقُرْآنَ قَامَ عَنْ يَمِينِهِ رجلان/، عن يَسَارِهِ آخَرَانِ مَنْ وَلَدِ قُصَيٍّ يُصَفِّقُونَ وَيُصَفِّرُونَ وَيَخْلِطُونَ عَلَيْهِ بِالْأَشْعَارِ، وَعَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا وَمَعَهُ أَبُو بكر إذا أَقْبَلَتِ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ وَمَعَهَا فِهْرٌ تُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ تَقُولُ: مُذَمَّمًا أَتَيْنَا وَدِينَهُ قَلَيْنَا وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَعَهَا فِهْرٌ أَخْشَاهَا عَلَيْكَ، فَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ فَجَاءَتْ فَمَا رَأَتْ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَتْ: إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ عَلِمَتْ أَنِّي ابْنَةُ سَيِّدِهَا وَأَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا هَجَاكِ. وَرَوَى ابْنُ عباس: أن أبا سفيان والنضر بن الحرث وَأَبَا جَهْلٍ وَغَيْرَهُمْ كَانُوا يُجَالِسُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَمِعُونَ إِلَى حَدِيثِهِ، فَقَالَ النَّضْرُ يَوْمًا: مَا أَدْرِي مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ غَيْرَ أَنِّي أَرَى شَفَتَيْهِ تَتَحَرَّكُ بِشَيْءٍ. وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إِنِّي لَأَرَى بَعْضَ مَا يَقُولُهُ حَقًّا، وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هُوَ مَجْنُونٌ. وَقَالَ أَبُو لَهَبٍ هُوَ كَاهِنٌ. وَقَالَ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى هُوَ شَاعِرٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ قَرَأَ قَبْلَهَا ثَلَاثَةَ آيَاتٍ وَهِيَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الكهف: 57] وَفِي النَّحْلِ: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [النَّحْلِ: 108] وَفِي حم الْجَاثِيَةِ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الْجَاثِيَةِ: 23] إِلَى آخَرِ الْآيَةِ فَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَحْجُبُهُ بِبَرَكَاتِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَنْ عُيُونِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ حِجَابًا سَاتِرًا. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ الْحِجَابَ حِجَابٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي عُيُونِهِمْ بِحَيْثُ يَمْنَعُهُمْ ذَلِكَ الْحِجَابُ عَنْ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ الْحِجَابُ شَيْءٌ لا يراه فَكَانَ مَسْتُورًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحَاسَّةُ سَلِيمَةً وَيَكُونُ الْمَرْئِيُّ حَاضِرًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَرَاهُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي عَيْنَيْهِ مَانِعًا يَمْنَعُهُ عَنْ رُؤْيَتِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالُوا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَاضِرًا وَكَانَتْ حَوَاسُّ الْكُفَّارِ سَلِيمَةً، ثُمَّ إِنَّهُمْ

مَا كَانُوا يَرَوْنَهُ، وَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حِجَابًا مَسْتُورًا، وَالْحِجَابُ الْمَسْتُورُ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا الْمَعْنَى الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي عُيُونِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَانِعًا لَهُمْ مِنْ أَنْ يَرَوْهُ وَيُبْصِرُوهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَابِنٌ وَتَامِرٌ بِمَعْنَى ذُو لَبَنٍ وَذُو تَمْرٍ فَكَذَلِكَ/ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ مَسْتُورًا مَعْنَاهُ ذُو سِتْرٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ مَرْطُوبٌ أَيْ ذُو رُطُوبَةٍ وَلَا يُقَالُ رَطِيبَةٌ وَيُقَالُ مَكَانٌ مَهُولٌ أَيْ فِيهِ هَوْلٌ وَلَا يُقَالُ: هِلْتُ الْمَكَانَ بِمَعْنَى جَعَلْتُ فِيهِ الْهَوْلَ، وَيُقَالُ: جَارِيَةٌ مَغْنُوجَةٌ ذَاتُ غُنْجٍ وَلَا يُقَالُ غَنَجْتُهَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: في الجواب قال الأخفش: المستور هاهنا بِمَعْنَى السَّاتِرِ، فَإِنَّ الْفَاعِلَ قَدْ يَجِيءُ بِلَفْظِ الْمَفْعُولِ كَمَا يُقَالُ: إِنَّكَ لَمَشْئُومٌ عَلَيْنَا وَمَيْمُونٌ وَإِنَّمَا هُوَ شَائِمٌ وَيَامِنٌ، لِأَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ شَأَّمَهُمْ وَيَمَّنَهُمْ، هَذَا قَوْلُ الْأَخْفَشِ: وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ، إِلَّا أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ طَعَنَ فِي هَذَا الْقَوْلِ، وَالْحَقُّ هُوَ الْجَوَابُ الْأَوَّلُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْحِجَابِ الطَّبْعُ الَّذِي عَلَى قُلُوبِهِمْ وَالطَّبْعُ وَالْمَنْعُ الَّذِي مَنَعَهُمْ عَنْ أَنْ يُدْرِكُوا لَطَائِفَ الْقُرْآنِ وَمَحَاسِنَهُ وَفَوَائِدَهُ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْحِجَابِ الْمَسْتُورِ ذَلِكَ الطَّبْعُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَهَذِهِ الْآيَةُ مَذْكُورَةٌ بِعَيْنِهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَذَكَرْنَا اسْتِدْلَالَ أَصْحَابِنَا بِهَا وَذَكَرْنَا سُؤَالَاتِ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَا بَأْسَ بِإِعَادَةِ بَعْضِهَا قَالَ الْأَصْحَابُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ قُلُوبَهُمْ فِي الْأَكِنَّةِ وَالْأَكِنَّةُ جَمْعُ كِنَانٍ وَهُوَ مَا سَتَرَ الشَّيْءَ مِثْلَ كِنَانِ النَّبْلِ وَقَوْلُهُ: أَنْ يَفْقَهُوهُ أَيْ لِئَلَّا يَفْقَهُوهُ وَجَعَلَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ كَانُوا عُقَلَاءَ سَامِعِينَ فَاهِمِينَ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مَنْعُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَمَنْعُهُمْ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ لَا يَقِفُونَ عَلَى أَسْرَارِهِ وَلَا يَفْهَمُونَ دَقَائِقَهُ وَحَقَائِقَهُ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ مَا ذَكَرْتُمْ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ وُجُوهٌ أُخْرَى. الْأَوَّلُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: كَانُوا يَطْلُبُونَ مَوْضِعَهُ فِي اللَّيَالِي لِيَنْتَهُوا إِلَيْهِ وَيُؤْذُونَهُ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى مَبِيتِهِ بِاسْتِمَاعِ قِرَاءَتِهِ فَأَمَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ شَرِّهِمْ، وَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حِجَابًا لَا يُمْكِنُهُمُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ مَعَهُ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ جَعَلَ فِي قُلُوبِهِمْ مَا يَشْغَلُهُمْ عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ وَفِي آذَانِهِمْ مَا يَمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ صَوْتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَرَضًا شَاغِلًا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَيْهِ وَالتَّفَرُّغِ لَهُ، لَا أَنَّهُ حَصَلَ هُنَاكَ كَنٌّ لِلْقَلْبِ وَوَقْرٌ فِي الْأُذُنِ. الثَّانِي: قَالَ الْكَعْبِيُّ: إِنَّ الْقَوْمَ لِشِدَّةِ امْتِنَاعِهِمْ عَنْ قَبُولِ دَلَائِلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارُوا كَأَنَّهُ حَصَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ تِلْكَ الدَّلَائِلِ حِجَابٌ مَانِعٌ وَسَاتِرٌ، وَإِنَّمَا نَسَبَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْحِجَابَ إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا خَلَّاهُمْ مَعَ أَنْفُسِهِمْ، وَمَا مَنَعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْإِعْرَاضِ صَارَتْ تِلْكَ التَّخْلِيَةُ كَأَنَّهَا هِيَ السَّبَبُ لِوُقُوعِهِمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَهَذَا مِثْلُ أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا لَمْ يُرَاقِبْ أَحْوَالَ عَبْدِهِ فَإِذَا سَاءَتْ سِيرَتُهُ فَالسَّيِّدُ يَقُولُ: أَنَا الَّذِي أَلْقَيْتُكَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِسَبَبِ أَنِّي خَلَّيْتُكَ مَعَ رَأْيِكَ وَمَا رَاقَبْتُ أَحْوَالَكَ. الثَّالِثُ: قَالَ الْقَفَّالُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَذَلَهُمْ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلِ/ الْأَلْطَافَ الدَّاعِيَةَ لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ فِعْلُ الْحِجَابِ السَّاتِرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ مَعَ كَلِمَاتٍ أُخْرَى ذَكَرْنَاهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَأَجَبْنَا عَنْهَا، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ عَلَى حَالَتَيْنِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا مِنَ الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى بقوا مبهوتين

[سورة الإسراء (17) : الآيات 49 إلى 52]

مُتَحَيِّرِينَ لَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِذَا سَمِعُوا آيَةً فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَذَمُّ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَلَّوْا نُفُورًا وَتَرَكُوا ذَلِكَ الْمَجْلِسَ، وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ: وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْمَصْدَرُ وَالْمَعْنَى وَلَّوْا نَافِرِينَ نُفُورًا، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نُفُورًا جَمْعَ نَافِرٍ مِثْلَ شُهُودٍ وَشَاهِدٍ وَرُكُوعٍ وَرَاكِعٍ وَسُجُودٍ وَسَاجِدٍ وَقُعُودٍ وَقَاعِدٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَيْ نَحْنُ أعلم بالوجه الذي يستمعون به وهو الهزء والتكذيب. وبِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، كَمَا تَقُولُ: مُسْتَمِعِينَ بِالْهُزُؤِ وإِذْ يَسْتَمِعُونَ نصب بأعلم أَيْ أَعْلَمُ وَقْتَ اسْتِمَاعِهِمْ بِمَا بِهِ يَسْتَمِعُونَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى أَيْ وَبِمَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ إذ هم ذوو نَجْوَى: إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ هُمْ نَجْوى ... إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا أَنْ يَتَّخِذَ طَعَامًا وَيَدْعُوَ إِلَيْهِ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَفَعَلَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ وَدَخَلَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَدَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَقَالَ: قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى تُطِيعَكُمُ الْعَرَبُ وَتَدِينَ لَكُمُ الْعَجَمُ فَأَبَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَكَانُوا عِنْدَ اسْتِمَاعِهِمْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ وَالدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يَقُولُونَ: بَيْنَهُمْ مُتَنَاجِينَ هُوَ سَاحِرٌ وَهُوَ مَسْحُورٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَتَّبِعُوا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَقُولُوا: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً. قُلْنَا: مَعْنَاهُ أَنَّكُمْ إِنِ اتَّبَعْتُمُوهُ فَقَدِ اتَّبَعْتُمْ رَجُلًا مَسْحُورًا، وَالْمَسْحُورُ الَّذِي قَدْ سُحِرَ فَاخْتَلَطَ عَلَيْهِ عَقْلُهُ وَزَالَ عَنْ حَدِّ الِاسْتِوَاءِ هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَسْحُورُ هُوَ الَّذِي أُفْسِدَ يُقَالُ: طَعَامٌ مَسْحُورٌ إِذَا أُفْسِدَ عَمَلُهُ وَأَرْضٌ مَسْحُورَةٌ أَصَابَهَا مِنَ الْمَطَرِ أَكْثَرُ مِمَّا يَنْبَغِي فَأَفْسَدَهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُرِيدُ بَشَرًا ذَا سَحْرِ أَيْ ذَا رِئَةٍ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَلَا أَدْرِي مَا الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الْمُسْتَكْرَهِ مَعَ أَنَّ السَّلَفَ فَسَّرُوهُ بِالْوُجُوهِ الْوَاضِحَةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَسْحُوراً أَيْ مَخْدُوعًا لِأَنَّ السِّحْرَ حِيلَةٌ وَخَدِيعَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَتَعَلَّمُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ/ وَأُولَئِكَ النَّاسُ يَخْدَعُونَهُ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَهَذِهِ الْحِكَايَاتِ، فَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّهُ مَسْحُورٌ أَيْ مَخْدُوعٌ، وَأَيْضًا كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَتَخَيَّلُ لَهُ فَيَظُنُّ أَنَّهُ مَلَكٌ فَقَالُوا: إِنَّهُ مَخْدُوعٌ مِنْ قِبَلِ الشَّيْطَانِ. ثُمَّ قَالَ: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أَيْ كُلُّ أَحَدٍ شَبَّهَكَ بِشَيْءٍ آخَرَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ كَاهِنٌ وَسَاحِرٌ وَشَاعِرٌ وَمُعَلَّمٌ وَمَجْنُونٌ، فَضَلُّوا عَنِ الْحَقِّ وَالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إلى الهدى والحق. [سورة الإسراء (17) : الآيات 49 الى 52] وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَكَلَّمَ أَوَّلًا فِي الْإِلَهِيَّاتِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ شُبُهَاتِهِمْ فِي النُّبُوَّاتِ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ شُبَهَاتِ الْقَوْمِ فِي إِنْكَارِ الْمَعَادِ وَالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كَثِيرًا أَنَّ مَدَارَ الْقُرْآنِ عَلَى الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ: الْإِلَهِيَّاتُ وَالنُّبُوَّاتُ وَالْمَعَادُ وَالْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ، وَأَيْضًا أَنَّ الْقَوْمَ وَصَفُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَوْنِهِ مَسْحُورًا فَاسِدَ الْعَقْلِ، فَذَكَرُوا مِنْ جُمْلَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ عَقْلِهِ أَنَّهُ يدعي أن الإنسان بعد ما يَصِيرُ عِظَامًا وَرُفَاتًا فَإِنَّهُ يَعُودُ حَيًّا عَاقِلًا كَمَا كَانَ، فَذَكَرُوا هَذَا الْكَلَامَ رِوَايَةً عَنْهُ لِتَقْرِيرِ كَوْنِهِ مُخْتَلَّ الْعَقْلِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الرَّفْتُ كَسْرُ الشَّيْءِ بِيَدِكَ، تَقُولُ: رَفَتُّهُ أَرْفِتُهُ بِالْكَسْرِ كَمَا يُرْفَتُ الْمَدَرُ وَالْعَظْمُ الْبَالِي، وَالرُّفَاتُ الْأَجْزَاءُ الْمُتَفَتِّتَةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُكْسَرُ. يُقَالُ: رَفَتَ عِظَامَ الْجَزُورِ رَفْتًا إِذَا كَسَرَهَا، ويقال للتبن: الرُّفَتُ لِأَنَّهُ دُقَاقُ الزَّرْعِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: رَفَتَ رَفْتًا، / فَهُوَ مَرْفُوتٌ نَحْوَ حَطَمَ حَطْمًا فَهُوَ محطوم والرفات والحطام الاسم، كالجذاد وَالرُّضَاضِ وَالْفُتَاتِ، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ. أَمَّا تَقْرِيرُ شُبْهَةِ الْقَوْمِ: فَهِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَاتَ جَفَّتْ أَعْضَاؤُهُ وَتَنَاثَرَتْ وَتَفَرَّقَتْ فِي حَوَالَيِ الْعَالَمِ فَاخْتَلَطَ بِتِلْكَ الْأَجْزَاءِ سَائِرُ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ. أَمَّا الْأَجْزَاءُ الْمَائِيَّةُ فِي الْبَدَنِ فَتَخْتَلِطُ بِمِيَاهِ الْعَالَمِ، وَأَمَّا الْأَجْزَاءُ التُّرَابِيَّةُ فَتَخْتَلِطُ بِتُرَابِ الْعَالَمِ، وَأَمَّا الْأَجْزَاءُ الْهَوَائِيَّةُ فَتَخْتَلِطُ بِهَوَاءِ الْعَالَمِ، وَأَمَّا الْأَجْزَاءُ النَّارِيَّةُ فَتَخْتَلِطُ بِنَارِ الْعَالَمِ وَإِذَا صَارَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُعْقَلُ اجْتِمَاعُهَا بِأَعْيَانِهَا مَرَّةً أُخْرَى وَكَيْفَ يُعْقَلُ عَوْدُ الْحَيَاةِ إِلَيْهَا بِأَعْيَانِهَا مَرَّةً أُخْرَى، فَهَذَا هُوَ تَقْرِيرُ الشُّبْهَةِ. وَالْجَوَابُ عَنْهَا: أَنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَدْحِ فِي كَمَالِ عِلْمِ اللَّهِ وَفِي كَمَالِ قُدْرَتِهِ أَمَّا إِذَا سَلَّمْنَا كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ فَحِينَئِذٍ هَذِهِ الْأَجْزَاءُ وَإِنِ اخْتَلَطَتْ بِأَجْزَاءِ الْعَالَمِ إِلَّا أَنَّهَا مُتَمَايِزَةٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمَّا سَلَّمْنَا كَوْنَهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِعَادَةِ التَّأْلِيفِ وَالتَّرْكِيبِ وَالْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ إِلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ بِأَعْيَانِهَا، فَثَبَتَ أَنَّا مَتَى سَلَّمْنَا كَمَالَ عِلْمِ اللَّهِ وَكَمَالَ قُدْرَتِهِ زَالَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ بِالْكُلِّيَّةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً فَالْمَعْنَى أَنَّ الْقَوْمَ اسْتَبْعَدُوا أَنْ يَرُدَّهُمْ إِلَى حَالِ الْحَيَاةِ بَعْدَ أَنْ صَارُوا عِظَامًا وَرُفَاتًا وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ صِفَةً مُنَافِيَةً لِقَبُولِ الْحَيَاةِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ لَكِنْ قَدَّرُوا انْتِهَاءَ هَذِهِ الْأَجْسَامِ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى صِفَةٍ أُخْرَى أَشَدَّ مُنَافَاةً لِقَبُولِ الْحَيَاةِ مِنْ كَوْنِهَا عِظَامًا وَرُفَاتًا مِثْلَ أَنْ تَصِيرَ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، فَإِنَّ الْمُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَجَرِيَّةِ وَالْحَدِيدِيَّةِ وَبَيْنَ قَبُولِ الْحَيَاةِ أَشَدُّ مِنَ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْعَظْمِيَّةِ وَبَيْنَ قَبُولِ الحياة، وذلك أن العظم قد كان جزءا مِنْ بَدَنِ الْحَيِّ أَمَّا الْحِجَارَةُ وَالْحَدِيدُ فَمَا كَانَا الْبَتَّةَ مَوْصُوفَيْنِ بِالْحَيَاةِ، فَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَصِيرَ أَبْدَانُ النَّاسِ مَوْصُوفَةً بِصِفَةِ الْحَجَرِيَّةِ وَالْحَدِيدِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعِيدُ الْحَيَاةَ إِلَيْهَا وَيَجْعَلُهَا حَيًّا عَاقِلًا كَمَا كَانَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْأَجْسَامَ قَابِلَةٌ لِلْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَبُولُ حَاصِلًا لَمَا حَصَلَ الْعَقْلُ وَالْحَيَاةُ لَهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَإِلَهُ الْعَالَمِ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ فَلَا تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ أَجْزَاءُ بَدَنِ زَيْدٍ الْمُطِيعِ بِأَجْزَاءِ بَدَنِ عَمْرٍو الْعَاصِي وَقَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَوْدَ الْحَيَاةِ إِلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ وَثَبَتَ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، كَانَ عَوْدُ الْحَيَاةِ إِلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ مُمْكِنًا قَطْعًا، سَوَاءٌ صَارَتْ عِظَامًا وَرُفَاتًا أَوْ صَارَتْ شَيْئًا أَبْعَدَ مِنَ الْعَظْمِ فِي قَبُولِ الْحَيَاةِ وَهِيَ أَنْ تَصِيرَ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْقَاطِعِ، وَقَوْلُهُ: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْأَمْرَ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ كَذَلِكَ لَمَا أَعْجَزْتُمُ اللَّهَ تَعَالَى عَنِ الْإِعَادَةِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِلرَّجُلِ: أَتَطْمَعُ فِيَّ وَأَنَا فُلَانٌ فَيَقُولُ: كُنْ مَنْ شِئْتَ كُنِ ابْنَ الْخَلِيفَةِ، فَسَأَطْلُبُ مِنْكَ حَقِّي.

فَإِنْ قِيلَ: مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَوْ خَلْقاً. قُلْنَا: الْمُرَادُ أَنَّ كَوْنَ الْحَجَرِ وَالْحَدِيدِ قَابِلًا لِلْحَيَاةِ أَمْرٌ مُسْتَبْعَدٌ، فَقِيلَ لَهُمْ: فَافْرِضُوا شَيْئًا آخَرَ أَبْعَدَ عَنْ قَبُولِ الْحَيَاةِ مِنَ الْحَجَرِ وَالْحَدِيدِ بِحَيْثُ يَسْتَبْعِدُ عَقْلُكُمْ كَوْنَهُ قَابِلًا لِلْحَيَاةِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى أَنْ يَتَعَيَّنَ ذَلِكَ الشَّيْءُ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ أَبْدَانَ النَّاسِ وَإِنِ انْتَهَتْ بَعْدَ مَوْتِهَا إِلَى أَيِّ صِفَةٍ فُرِضَتْ وَأَيِّ حَالَةٍ قُدِّرَتْ وَإِنْ كَانَتْ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ قَبُولِ الْحَيَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْحَيَاةِ إِلَيْهَا، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ هَذَا الْمَعْنَى فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَعْيِينِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَوْتُ، يَعْنِي لَوْ صَارَتْ أَبْدَانُكُمْ نَفْسَ الْمَوْتِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعِيدُ الْحَيَاةَ إِلَيْهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَنْتَ عَيْنَ الْحَيَاةِ فَاللَّهُ يُمِيتُكُ وَلَوْ كَنْتَ عَيْنَ الْغِنَى فَإِنَّ اللَّهَ يُفْقِرُكَ، فَهَذَا قَدْ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، أَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّ أَبْدَانَ النَّاسِ أَجْسَامٌ وَالْمَوْتَ عَرَضٌ وَالْجِسْمَ لَا يَنْقَلِبُ عَرَضًا ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَنْقَلِبَ عَرَضًا فَالْمَوْتُ لَا يَقْبَلُ الْحَيَاةَ لِأَنَّ أَحَدَ الضِّدَّيْنِ يَمْتَنِعُ اتِّصَافُهُ بِالضِّدِّ الْآخَرِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ. ثُمَّ قَالَ: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُمْ: كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ شَيْئًا أَبْعَدَ فِي قَبُولِ الْحَيَاةِ مِنْ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ فَإِنَّ إِعَادَةَ الْحَيَاةِ إِلَيْهِ مُمْكِنَةٌ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا: مَنْ هَذَا الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى إِعَادَةِ الْحَيَاةِ إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى قُلْ يَا مُحَمَّدُ: الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ يَعْنِي أَنَّ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ الْإِعَادَةِ فَرْعٌ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ خَالِقَ الْحَيَوَانَاتِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَنَقُولُ: إِنَّ تِلْكَ الْأَجْسَامَ قَابِلَةٌ لِلْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ وَإِلَهُ الْعَالَمِ قَادِرٌ لِذَاتِهِ عَالِمٌ لِذَاتِهِ فَلَا يَبْطُلُ عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ الْبَتَّةَ، فَالْقَادِرُ عَلَى الِابْتِدَاءِ يَجِبُ أَنْ يَبْقَى قَادِرًا عَلَى الْإِعَادَةِ، وَهَذَا كَلَامٌ تَامٌّ وَبُرْهَانٌ قَوِيٌّ. ثُمَّ قال تعالى: فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ قَالَ الْفَرَّاءُ يُقَالُ: أَنَغَضَ فُلَانٌ رَأْسَهُ يُنْغِضُهُ إِنْغَاضًا إِذَا حَرَّكَهُ إِلَى فَوْقُ وَإِلَى أَسْفَلُ وَسُمِّيَ الظَّلِيمُ نَغْضًا لِأَنَّهُ يُحَرِّكُ رَأْسَهُ، وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا أُخْبِرَ بِشَيْءٍ فَحَرَّكَ رَأْسَهُ إِنْكَارًا لَهُ قَدْ أَنْغَضَ رَأْسَهُ فقوله: فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ يَعْنِي يُحَرِّكُونَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِبْعَادِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ فَاسِدٌ لِأَنَّهُمْ حَكَمُوا بِامْتِنَاعِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ بِنَاءً عَلَى الشُّبْهَةِ الَّتِي حَكَيْنَاهَا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ بِالْبُرْهَانِ الْبَاهِرِ كَوْنَهُ مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ، فَقَوْلُهُمْ مَتى هُوَ كَلَامٌ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْبَحْثِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ كَوْنُهُ مُمْكِنَ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِإِمْكَانِهِ، فَأَمَّا أَنَّهُ مَتَى يُوجَدُ فَذَاكَ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ، بَلْ إِنَّمَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ فَإِنْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ عُرِفَ/ وَإِلَّا فَلَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَا يُطْلِعُ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ عَلَى وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لُقْمَانَ: 34] وَقَالَ: إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي [الْأَعْرَافِ: 187] وَقَالَ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها [طه: 15] فَلَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى: قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً قَالَ الْمُفَسِّرُونَ عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَرِيبٌ.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 53 إلى 55]

فَإِنْ قَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ قَرِيبًا وَقَدِ انْقَرَضَ سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ وَلَمْ يَظْهَرْ؟ قُلْنَا: إِذَا كَانَ مَا مَضَى أَكْثَرَ مِمَّا بَقِيَ كَانَ الْبَاقِي قَرِيبًا قَلِيلًا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْكُفَّارِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّهُ خِطَابٌ مَعَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ نَقُولُ انْتَصَبَ يَوْمًا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: قَرِيباً، وَالْمَعْنَى عَسَى أَنْ يَكُونَ الْبَعْثُ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ أَيْ بِالنِّدَاءِ الَّذِي يُسْمِعُكُمْ وَهُوَ النَّفْحَةُ الْأَخِيرَةُ كَمَا قَالَ: يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ [ق: 41] يُقَالُ: إِنَّ إِسْرَافِيلَ يُنَادِي أَيَّتُهَا الْأَجْسَادُ الْبَالِيَةُ وَالْعِظَامُ النَّخِرَةُ وَالْأَجْزَاءُ الْمُتَفَرِّقَةُ عُودِي كَمَا كُنْتِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وبإذنه وتكوينه، وقال تعالى: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ [الْقَمَرِ: 6] وَقَوْلُهُ: فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ أَيْ تُجِيبُونَ وَالِاسْتِجَابَةُ مُوَافَقَةُ الدَّاعِي فِيمَا دَعَا إِلَيْهِ وَهِيَ الْإِجَابَةُ إِلَّا أَنَّ الِاسْتِجَابَةَ تَقْتَضِي طَلَبَ الْمُوَافَقَةِ فَهِيَ أَوْكَدُ مِنَ الْإِجَابَةِ، وَقَوْلَهُ: بِحَمْدِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَخْرُجُونَ مِنْ قبورهم وينفضون التراب عن رؤسهم وَيَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، فَهُوَ قَوْلُهُ: فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَقَالَ قَتَادَةُ بِمَعْرِفَتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَتَوْجِيهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُمْ لَمَّا أَجَابُوا بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ كَانَ ذَلِكَ مَعْرِفَةً مِنْهُمْ وَطَاعَةً وَلَكِنَّهُمْ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَلِهَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: حَمِدُوا حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْحَمْدُ، وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: تَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ أَيْ تَسْتَجِيبُونَ حَامِدِينَ كَمَا يُقَالُ: جَاءَ بِغَضَبِهِ أَيْ جَاءَ غَضْبَانَ وَرَكِبَ الْأَمِيرُ بِسَيْفِهِ أَيْ وَسَيْفُهُ مَعَهُ وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : بِحَمْدِهِ حَالٌ مِنْهُمْ أَيْ حَامِدِينَ، وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي انْقِيَادِهِمْ لِلْبَعْثِ كَقَوْلِكَ لِمَنْ تَأْمُرُهُ بِعَمَلٍ يَشُقُّ عَلَيْهِ سَتَأْتِي بِهِ وَأَنْتَ حَامِدٌ شَاكِرٌ، أَيْ سَتَنْتَهِي إِلَى حَالَةٍ تَحْمَدُ اللَّهَ وَتَشْكُرُهُ عَلَى أَنِ اكْتُفِيَ مِنْكَ بِذَلِكَ الْعَمَلِ وَهَذَا يُذْكَرُ فِي مَعْرِضِ التَّهْدِيدِ. ثُمَّ قَالَ: وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ يُزَالُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ يس: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس: 52] فَظَنُّهُمْ بِأَنَّ هَذَا لُبْثٌ قَلِيلٌ عَائِدٌ إِلَى لُبْثِهِمْ فِيمَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ تَقْرِيبُ وَقْتِ الْبَعْثِ فَكَأَنَّكَ بِالدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ وَبِالْآخِرَةِ لَمْ تَزَلْ فَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى اسْتِقْلَالِ مُدَّةِ اللُّبْثِ فِي الدُّنْيَا وَقِيلَ الْمُرَادُ اسْتِقْلَالُ لُبْثِهِمْ فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمُ الدُّخُولَ فِي النَّارِ اسْتَقْصَرُوا مُدَّةَ لُبْثِهِمْ فِي بَرْزَخِ الْقِيَامَةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ مَعَ الْكُفَّارِ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً وَأَمَّا قَوْلُهُ: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ فَهُوَ خِطَابٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لَا مَعَ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ هُوَ اللَّائِقُ بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ يَسْتَجِيبُونَ لِلَّهِ بِحَمْدِهِ، وَيَحْمَدُونَهُ عَلَى إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ المشهور، والثاني ظاهر الاحتمال. [سورة الإسراء (17) : الآيات 53 الى 55] وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ لِعِبادِي فِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ الْعِبَادِ فِي أَكْثَرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ قَالَ تَعَالَى: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ [الزُّمَرِ: 17، 18] وَقَالَ: فَادْخُلِي فِي عِبادِي [الْفَجْرِ: 29] وَقَالَ: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الْإِنْسَانِ: 6] .

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْحُجَّةَ الْيَقِينِيَّةَ فِي إِبْطَالِ الشِّرْكِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 42] وَذَكَرَ الْحُجَّةَ الْيَقِينِيَّةَ فِي صِحَّةِ الْمَعَادِ وَهُوَ قَوْلِهِ: قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الْإِسْرَاءِ: 51] قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِعِبَادِي إِذَا أَرَدْتُمْ إِيرَادَ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ فَاذْكُرُوا تِلْكَ الدَّلَائِلَ بِالطَّرِيقِ الْأَحْسَنِ. وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ ذِكْرُ الْحُجَّةِ مَخْلُوطًا بِالشَّتْمِ وَالسَّبِّ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النَّحْلِ: 125] وَقَوْلُهُ: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الْعَنْكَبُوتِ: 46] وَذَلِكَ لِأَنَّ ذِكْرَ الْحُجَّةِ لَوِ اخْتَلَطَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ السَّبِّ وَالشَّتْمِ لَقَابَلُوكُمْ بِمِثْلِهِ كَمَا قَالَ: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَامِ: 108] وَيَزْدَادُ الْغَضَبُ وَتَتَكَامَلُ النَّفْرَةُ وَيَمْتَنِعُ حُصُولُ الْمَقْصُودِ، أَمَّا إِذَا وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ الْحُجَّةِ بِالطَّرِيقِ الْأَحْسَنِ/ الْخَالِي عَنِ الشَّتْمِ وَالْإِيذَاءِ أَثَّرَ فِي الْقَلْبِ تَأْثِيرًا شَدِيدًا فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى وَجْهِ الْمَنْفَعَةِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ فَقَالَ: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ جَامِعًا لِلْفَرِيقَيْنِ أَيْ مَتَى صَارَتِ الْحُجَّةُ مَرَّةً مَمْزُوجَةً بِالْبَذَاءَةِ صَارَتْ سَبَبًا لِثَوَرَانِ الْفِتْنَةِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْعَدَاوَةَ الْحَاصِلَةَ بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ عَدَاوَةٌ قَدِيمَةٌ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الْأَعْرَافِ: 17] وَقَالَ: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ [الْحَشْرِ: 16] وَقَالَ: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [الْأَنْفَالِ: 48] . وَقَالَ: لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ [الْأَنْفَالِ: 48] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَاعْلَمْ أَنَّا إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ الْآنَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْ لِعِبادِي الْمُرَادُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ خِطَابٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى: إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ، وَالْمُرَادُ بِتِلْكَ الرَّحْمَةِ الْإِنْجَاءُ مِنْ كَفَّارِ مَكَّةَ وَأَذَاهُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بِتَسْلِيطِهِمْ عَلَيْكُمْ. ثُمَّ قَالَ: وَما أَرْسَلْناكَ يَا مُحَمَّدُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أَيْ حَافِظًا وَكَفِيلًا فَاشْتَغِلْ أَنْتَ بِالدَّعْوَةِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْكَ مِنْ كُفْرِهِمْ فَإِنْ شاء الله هدايتهم هداهم، وإلا فلا. القول الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَقُلْ لِعِبادِي الْكُفَّارُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الدَّعْوَةُ، فَلَا يَبْعُدُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ يُخَاطَبُوا بِالْخِطَابِ الْحَسَنِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِجَذْبِ قُلُوبِهِمْ وَمَيْلِ طِبَاعِهِمْ إِلَى قَبُولِ الدِّينِ الْحَقِّ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ أَقَرُّوا بِكَوْنِهِمْ عِبَادًا لِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَذَلِكَ لِأَنَّا قَبْلَ النَّظَرِ فِي الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْحِيدِ وَالْبَرَاءَةِ عَنِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ أَحْسَنُ مِنْ إِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ، وَوَصْفَهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَحْسَنُ مِنْ وَصْفِهِ بِالْعَجْزِ عَنْ ذَلِكَ، وَعَرَّفَهُمْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُصِرُّوا عَلَى تِلْكَ الْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ تَعَصُّبًا لِلْأَسْلَافِ، لِأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى مِثْلِ هَذَا التَّعَصُّبِ هُوَ الشَّيْطَانُ، وَالشَّيْطَانُ عَدُوٌّ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى قَوْلِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بِأَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِلْإِيمَانِ وَالْهِدَايَةِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَإِنْ يَشَأْ يُمِتْكُمْ، عَلَى الْكُفْرِ فَيُعَذِّبْكُمْ، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْمَشِيئَةَ غَائِبَةٌ عَنْكُمْ فَاجْتَهِدُوا أَنْتُمْ فِي طَلَبِ الدِّينِ الْحَقِّ، وَلَا تُصِرُّوا عَلَى الْبَاطِلِ وَالْجَهْلِ لئلا تصيروا

[سورة الإسراء (17) : الآيات 56 إلى 57]

مَحْرُومِينَ عَنِ السَّعَادَاتِ الْأَبَدِيَّةِ وَالْخَيْرَاتِ السَّرْمَدِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أَيْ لَا تُشَدِّدِ الْأَمْرَ عَلَيْهِمْ وَلَا تُغْلِظْ لَهُمْ فِي الْقَوْلِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ: إِظْهَارُ اللِّينِ وَالرِّفْقِ لَهُمْ عِنْدَ الدَّعْوَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ وَيُفِيدُ حُصُولَ الْمَقْصُودِ. ثُمَّ قَالَ: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ قال بعده: رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بِمَعْنَى أَنَّ عِلْمَهُ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَى أَحْوَالِكُمْ بَلْ عِلْمُهُ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَمُتَعَلِّقٌ بجميع ذوات الأرضين والسموات فَيَعْلَمُ حَالَ كُلِّ وَاحِدٍ وَيَعْلَمُ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ فَضَّلَ بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَى مُوسَى التَّوْرَاةَ وَدَاوُدَ الزَّبُورَ وَعِيسَى الْإِنْجِيلَ، فَلَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا أَنْ يُؤْتِيَ مُحَمَّدًا الْقُرْآنَ وَلَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُفَضِّلَهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا السَّبَبُ فِي تَخْصِيصِ دَاوُدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِالذِّكْرِ؟ قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ. ثُمَّ قَالَ: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً يَعْنِي أَنَّ دَاوُدَ كَانَ مَلِكًا عَظِيمًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ مَا آتَاهُ مِنَ الْمُلْكِ وَذَكَرَ مَا آتَاهُ مِنَ الْكِتَابِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ التَّفْضِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، الْمُرَادُ مِنْهُ التَّفْضِيلُ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ لَا بِالْمَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ السَّبَبَ فِي تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ أَنَّهُ تَعَالَى كَتَبَ فِي الزَّبُورِ أَنَّ مُحَمَّدًا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَأَنَّ أُمَّتَهُ خَيْرُ الْأُمَمِ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 105] وَهْمُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ. فَإِنْ قِيلَ: هل عرف كما في فقوله: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ. قلنا: التنكير هاهنا يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ حَالِهِ، لِأَنَّ الزَّبُورَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَزْبُورِ فَكَانَ مَعْنَاهُ الْكِتَابَ فَكَانَ مَعْنَى التَّنْكِيرِ أَنَّهُ كَامِلٌ فِي كَوْنِهِ كِتَابًا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ السَّبَبَ فِيهِ أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ مَا كَانُوا أَهْلَ نَظَرٍ وَجَدَلٍ بَلْ كَانُوا يَرْجِعُونَ إِلَى الْيَهُودِ فِي اسْتِخْرَاجِ الشُّبُهَاتِ وَالْيَهُودُ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَ مُوسَى وَلَا كِتَابَ بَعْدَ التَّوْرَاةِ فَنَقَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ كَلَامَهُمْ بِإِنْزَالِ الزَّبُورِ عَلَى دَاوُدَ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ: زُبُورًا بِضَمِّ الزَّايِ، وَذَكَرْنَا وَجْهَ ذَلِكَ في آخر سورة [النساء: 163] . [سورة الإسراء (17) : الآيات 56 الى 57] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ لَيْسَ لَنَا أَهْلِيَّةَ

أَنْ نَشْتَغِلَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَحْنُ نَعْبُدُ بَعْضَ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، ثُمَّ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا لِذَلِكَ الْمَلَكِ الَّذِي عَبَدُوهُ تِمْثَالًا وَصُورَةً وَاشْتَغَلُوا بِعِبَادَتِهِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَاللَّهُ تَعَالَى احْتَجَّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْأَصْنَامَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَتِهِمْ: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ وَابْتِغَاءُ الْوَسِيلَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَلِيقُ بِالْأَصْنَامِ الْبَتَّةَ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ قَوْمًا عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ عَبَدُوا الْمَسِيحَ وَعُزَيْرًا، وَقِيلَ: إِنَّ قَوْمًا عَبَدُوا نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ فَأَسْلَمَ النَّفَرُ مِنَ الْجِنِّ، وَبَقِيَ أُولَئِكَ النَّاسُ مُتَمَسِّكِينَ بِعِبَادَتِهِمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ مَوْضِعٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَدَ فِيهِ لَفْظُ زَعَمَ فَهُوَ كَذَبَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى احْتَجَّ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْإِلَهَ الْمَعْبُودَ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى إِزَالَةِ الضَّرَرِ، وَإِيصَالِ الْمَنْفَعَةِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ والجن والمسيح وعزيز لَا يَقْدِرُونَ عَلَى كَشْفِ الضُّرِّ وَلَا عَلَى تَحْصِيلِ النَّفْعِ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ آلِهَةً. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الدَّلِيلُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا دَلَّلْتُمْ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى كَشْفِ الضُّرِّ وَلَا عَلَى تَحْصِيلِ النَّفْعِ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ حَتَّى يَتِمَّ دَلِيلُكُمْ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: لِأَنَّا نَرَى أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ كَانُوا يَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهَا فَلَا تَحْصُلُ الْإِجَابَةُ. قُلْنَا: مُعَارَضَةً لِذَلِكَ قَدْ نَرَى أَيْضًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَحْصُلُ الْإِجَابَةُ، وَالْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْقَدْرَ الْحَاصِلَ مِنْ كَشْفِ الضُّرِّ وَتَحْصِيلِ النَّفْعِ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَأُولَئِكَ الْكُفَّارُ يَقُولُونَ إِنَّهُ يَحْصُلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالدَّلِيلُ غَيْرُ تَامٍّ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الدَّلِيلَ تَامٌّ كَامِلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ/ عِبَادُ اللَّهِ وَخَالِقُ الْمَلَائِكَةِ، وَخَالِقُ الْعَالَمِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَقْدَرَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَأَقْوَى مِنْهُمْ، وَأَكْمَلَ حَالًا مِنْهُمْ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: كَمَالُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَعْلُومٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَكَمَالُ قُدْرَةِ الْمَلَائِكَةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَا مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، بَلِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَنَّ قُدْرَتَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى قَلِيلَةٌ حَقِيرَةٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى مِنَ الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ كَوْنَ اللَّهِ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ مَعْلُومٌ، وَكَوْنَ الْمَلَائِكَةِ كَذَلِكَ مَجْهُولٌ وَالْأَخْذُ بِالْمَعْلُومِ أَوْلَى، وَأَمَّا أَصْحَابُنَا الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَلَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى وهو أنهم يقيمون الحجة الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا مُوجِدَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَلَا مُخْرِجَ لِشَيْءٍ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا ضَارَّ وَلَا نَافِعَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا مَعْبُودَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ لَا تَتِمُّ لِلْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا جَوَّزُوا كَوْنَ الْعَبْدِ مُوجِدًا لِأَفْعَالِهِ امْتَنَعَ عَلَيْهِمُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَخَلْقِ الْجِسْمِ. وَإِذَا عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَتِمَّ لَهُمْ هَذَا الدَّلِيلُ فَهَذَا هُوَ ذِكْرُ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ: فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا وَالتَّحْوِيلُ عِبَارَةٌ عَنِ النَّقْلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَمَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ يُقَالُ: حَوَّلَهُ فَتَحَوَّلَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ قَوْلُهُ:

[سورة الإسراء (17) : آية 58]

يَدْعُونَ فِعْلُ الْآدَمِيِّينَ الْعَابِدِينَ. وَقَوْلُهُ: يَبْتَغُونَ فِعْلُ الْمَعْبُودِينَ وَمَعْنَاهُ أُولَئِكَ الْمَعْبُودِينَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّهِ فِي طَلَبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِالْعَجْزِ وَالْحَاجَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَتِهِ أَوْلَى. فَإِنْ قَالُوا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مُحْتَاجُونَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَخَائِفُونَ مِنْ عَذَابِهِ، فَنَقُولُ: هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا وَاجِبَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا، أَوْ يُقَالَ: مُمْكِنَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ جَمِيعَ الْكُفَّارِ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ عِبَادُ اللَّهِ وَمُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ يُوجِبُ الْقَوْلَ بِكَوْنِ الْمَلَائِكَةِ مُحْتَاجِينَ فِي ذَوَاتِهَا وَفِي كَمَالَاتِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ أَوْلَى مِنَ الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ [الْإِسْرَاءِ: 55] وَتَعَلُّقُ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا سَبَقَ هُوَ أَنَّ الَّذِينَ عَظُمَتْ مَنْزِلَتُهُمْ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ لَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى وَلَا يَبْتَغُونَ الْوَسِيلَةَ إِلَّا إليه، فأنتم بالاقتداء بهم حق فَلَا تَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى. / وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ عَلَى صِحَّتِهِ بِأَنْ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ فَلَا يَخَافُونَ عَذَابَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا غَيْرُ لَائِقٍ بِالْمَلَائِكَةِ وَإِنَّمَا هُوَ لَائِقٌ بِالْأَنْبِيَاءِ. قُلْنَا: الْمَلَائِكَةُ يَخَافُونَ عَذَابَ اللَّهِ لَوْ أَقْدَمُوا عَلَى الذَّنْبِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاءِ: 29] . أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً فَالْمُرَادُ أَنَّ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُحْذَرَ، فَإِنْ لَمْ يَحْذَرْهُ بَعْضُ النَّاسِ لِجَهْلِهِ فَهُوَ لَا يَخْرُجُ مِنْ كونه بحيث يجب الحذر عنه. [سورة الإسراء (17) : آية 58] وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) اعلم أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً [الْإِسْرَاءِ: 57] بَيَّنَ أَنَّ كُلَّ قَرْيَةٍ مَعَ أَهْلِهَا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَرْجِعَ حَالُهَا إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا الْإِهْلَاكَ وَإِمَّا التَّعْذِيبَ قَالَ مُقَاتِلٌ: أَمَّا الصَّالِحَةُ فَبِالْمَوْتِ، وَأَمَّا الطَّالِحَةُ فَبِالْعَذَابِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ قُرَى الْكُفَّارِ، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عَاقِبَتُهَا أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا الِاسْتِئْصَالُ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِهْلَاكِ أَوْ بِعَذَابٍ شَدِيدٍ دُونَ ذَلِكَ مِنْ قَتْلِ كُبَرَائِهِمْ وَتَسْلِيطِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ بِالسَّبْيِ وَاغْتِنَامِ الْأَمْوَالِ وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ حُكْمٌ مَجْزُومٌ بِهِ وَاقِعٌ فَقَالَ: كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً ومعناه ظاهر. [سورة الإسراء (17) : الآيات 59 الى 60] وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الدَّلِيلَ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ وَأَتْبَعَهُ بِالْوَعِيدِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَسْأَلَةِ النُّبُوَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ اقْتَرَحُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِظْهَارَ مُعْجِزَاتٍ عَظِيمَةٍ قَاهِرَةٍ كَمَا حَكَى اللَّهُ عنهم أنهم قالوا: لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ [طه: 133] كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 5] وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ ما طلبوه بقولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاءِ: 90] وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا: إِنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَكَ أَنْبِيَاءُ فَمِنْهُمْ: مَنْ سُخِّرَتْ لَهُ الرِّيحُ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى فَأْتِنَا بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَفِي تَفْسِيرِ هَذَا الْجَوَابِ وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَظْهَرَ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةَ ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا بَلْ بَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى كُفْرِهِمْ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُونَ مُسْتَحِقِّينَ لِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، لَكِنَّ إِنْزَالَ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ سَيُؤْمِنُ أَوْ يُؤْمِنُ أَوْلَادُهُمْ، فَلِهَذَا السَّبَبِ مَا أَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَطْلُوبِهِمْ وَمَا أَظْهَرَ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةَ. رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا وَأَنْ يُزِيلَ لَهُمُ الْجِبَالَ حَتَّى يَزْرَعُوا تِلْكَ الْأَرَاضِيَ، فَطَلَبَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنْ شِئْتَ فَعَلْتُ ذَلِكَ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنَّهُمْ إِنْ كَفَرُوا أَهْلَكْتُهُمْ، فَقَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أُرِيدُ ذَلِكَ بَلْ تَتَأَنَّى بِهِمْ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّا لَا نُظْهِرُ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ لِأَنَّ آبَاءَكُمُ الَّذِينَ رَأَوْهَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا وَأَنْتُمْ مُقَلِّدُونَ لَهُمْ، فَلَوْ رَأَيْتُمُوهَا أَنْتُمْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِهَا أَيْضًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَوَّلِينَ شَاهَدُوا هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ وَكَذَّبُوا بِهَا، فَعَلِمَ اللَّهُ مِنْكُمْ أَيْضًا أَنَّكُمْ لَوْ شَاهَدْتُمُوهَا لَكَذَّبْتُمْ فَكَانَ إِظْهَارُهَا عَبَثًا، وَالْعَبَثُ لَا يَفْعَلُهُ الْحَكِيمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي الْتَمَسُوهَا هِيَ مِثْلُ آيَةِ ثَمُودَ، وَقَدْ آتَيْنَاهَا ثَمُودَ وَاضِحَةً بَيِّنَةً ثُمَّ كَفَرُوا بِهَا فَاسْتَحَقُّوا عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ فَكَيْفَ يَتَمَنَّاهَا هَؤُلَاءِ عَلَى سَبِيلِ الِاقْتِرَاحِ وَالتَّحَكُّمِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: مُبْصِرَةً وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: مُبْصِرَةً أَيْ مُضِيئَةً قَالَ تَعَالَى: وَالنَّهارَ مُبْصِراً [يُونُسَ: 67] أَيْ مضيئا. الثاني: مُبْصِرَةً أَيْ ذَاتَ إِبْصَارٍ أَيْ فِيهَا إِبْصَارٌ لمن تَأَمَّلَهَا يُبْصِرُ بِهَا رُشْدَهُ وَيَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى صِدْقِ ذَلِكَ الرَّسُولِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: فَظَلَمُوا بِها أَيْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ بِهَا، وَقَالَ ابن قتيبة: فَظَلَمُوا بِها أَيْ جَحَدُوا بِأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً قِيلَ: لَا آيَةَ إِلَّا وَتَتَضَمَّنُ التَّخْوِيفَ بِهَا عِنْدَ التَّكْذِيبِ إِمَّا مِنَ الْعَذَابِ الْمُعَجَّلِ أَوْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنْ إِظْهَارِ الْآيَاتِ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي فَكَيْفَ حَصَرَ الْمَقْصُودَ مِنْ إِظْهَارِهَا فِي التَّخْوِيفِ.

قُلْنَا: الْمَقْصُودُ أَنَّ مُدَّعِيَ النُّبُوَّةِ إِذَا أَظْهَرَ الْآيَةَ فَإِذَا سَمِعَ الْخَلْقُ أَنَّهُ أَظْهَرَ آيَةً فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ مُعْجِزَةٌ أَوْ مَخُوفَةٌ، إِلَّا إِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ كَوْنَهَا مُعْجِزَةً، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ مُعْجِزَةً فَلَوْ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِيهَا وَلَمْ يَسْتَدِلُّوا بِهَا عَلَى الصِّدْقِ لَاسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ الشَّدِيدَ، فَهَذَا هُوَ الْخَوْفُ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا طَالَبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ، وَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ إِظْهَارَهَا لَيْسَ بِمَصْلَحَةٍ صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِجُرْأَةِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ بِالطَّعْنِ فِيهِ وَأَنْ يَقُولُوا لَهُ: لَوْ كُنْتَ رَسُولًا حَقًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى لَأَتَيْتَ بِهَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي اقْتَرَحْنَاهَا مِنْكَ، كَمَا أَتَى بِهَا مُوسَى وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَعِنْدَ هَذَا قَوَّى اللَّهُ قَلَبَهُ وَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَنْصُرُهُ وَيُؤَيِّدُهُ فَقَالَ: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى أَنَّ حِكْمَتَهُ وَقُدْرَتَهُ مُحِيطَةٌ بِالنَّاسِ فَهُمْ فِي قَبْضَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَالْمَقْصُودُ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُ: نَنْصُرُكَ وَنُقَوِّيكَ حَتَّى تُبَلِّغَ رِسَالَتَنَا وَتُظْهِرَ دِينَنَا. قَالَ الْحَسَنُ: حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَقْتُلُوهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [الْمَائِدَةِ: 67] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ أَهْلُ مَكَّةَ وَإِحَاطَةُ اللَّهِ بِهِمْ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَفْتَحُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ فَكَانَ الْمَعْنَى: وَإِذْ بَشَّرْنَاكَ بِأَنَّ اللَّهَ أَحَاطَ بِأَهْلِ مَكَّةَ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَغْلِبُهُمْ وَيَقْهَرُهُمْ وَيُظْهِرُ دَوْلَتَكَ عَلَيْهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [الْقَمَرِ: 45] وَقَالَ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 12] إِلَى قَوْلِهِ: أَحاطَ بِالنَّاسِ لَمَّا كَانَ كُلُّ مَا يُخْبِرُ اللَّهُ عَنْ وُقُوعِهِ فَهُوَ وَاجِبُ الْوُقُوعِ، فَكَانَ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ كَالْوَاقِعِ فَلَا جَرَمَ قَالَ: أَحاطَ بِالنَّاسِ وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا تَزَاحَفَ الْفَرِيقَانِ يَوْمَ بَدْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَرِيشِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ يَدْعُو وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ لِي» ثُمَّ خَرَجَ/ وَعَلَيْهِ الدِّرْعُ يُحَرِّضُ النَّاسَ وَيَقُولُ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَفِي هَذِهِ الرُّؤْيَا أَقْوَالٌ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ أَرَى مُحَمَّدًا فِي الْمَنَامِ مَصَارِعَ كَفَّارِ قُرَيْشٍ فَحِينَ وَرَدَ مَاءَ بَدْرٍ قَالَ: «وَاللَّهِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ» ثُمَّ أَخَذَ يَقُولُ: «هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ» فَلَمَّا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ جَعَلُوا رُؤْيَاهُ سُخْرِيَةً، وَكَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ بِمَا وُعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ رُؤْيَاهُ الَّتِي رَآهَا أَنَّهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ، فَلَمَّا مُنِعَ عَنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ كَانَ ذَلِكَ فِتْنَةً لِبَعْضِ الْقَوْمِ، وَقَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ أَلَيْسَ قَدْ أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّا نَدْخُلُ الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ أَنَّا نَفْعَلُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَسَنَفْعَلُ ذَلِكَ فِي سَنَةٍ أُخْرَى، فَلَمَّا جَاءَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ دَخَلَهَا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ [الْفَتْحِ: 27] اعْتَرَضُوا عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فَقَالُوا: هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَهَاتَانِ الْوَاقِعَتَانِ مَدَنِيَّتَانِ، وَهَذَا السُّؤَالُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ هَاتَيْنِ الْوَاقِعَتَيْنِ مَدَنِيَّتَانِ أَمَّا رُؤْيَتُهُمَا فِي الْمَنَامِ فَلَا يَبْعُدُ حُصُولُهَا فِي مَكَّةَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي أُمَيَّةَ يَنْزُونَ عَلَى مِنْبَرِهِ نَزْوَ الْقِرَدَةِ فَسَاءَهُ

ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ وَالْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ عَائِدٌ فِيهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَمَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ مِنْبَرٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَرَى بِمَكَّةَ أَنَّ لَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْبَرًا يَتَدَاوَلُهُ بَنُو أُمَيَّةَ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَا أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى هَذِهِ الرُّؤْيَا فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الرُّؤْيَةِ وَالرُّؤْيَا فِي اللُّغَةِ، يُقَالُ رَأَيْتُ بِعَيْنِي رُؤْيَةً وَرُؤْيَا، وَقَالَ الْأَقَلُّونَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِصَّةَ الْإِسْرَاءِ إِنَّمَا حَصَلَتْ فِي الْمَنَامِ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ بَاطِلٌ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا ذَكَرَ لَهُمْ قِصَّةَ الْإِسْرَاءِ كَذَّبُوهُ وَكَفَرَ بِهِ كَثِيرٌ مِمَّنْ كَانَ آمَنَ بِهِ وَازْدَادَ الْمُخْلِصُونَ إِيمَانًا فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ امْتِحَانًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَهَذَا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَالشَّجَرَةُ الْمَلْعُونَةُ فِي الْقُرْآنِ كَذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ، فَالْأَكْثَرُونَ قَالُوا: إِنَّهَا شَجَرَةُ الزَّقُّومِ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدُّخَانِ: 43، 44] وَكَانَتْ هَذِهِ الْفِتْنَةُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: / أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ: زَعَمَ صَاحِبُكُمْ بِأَنَّ نَارَ جَهَنَّمَ تَحْرِقُ الْحَجَرَ حيث قال: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [التحريم: 6] ثُمَّ يَقُولُ: بِأَنَّ فِي النَّارِ شَجَرًا وَالنَّارُ تَأْكُلُ الشَّجَرَ فَكَيْفَ تُولَدُ فِيهَا الشَّجَرُ. وَالثَّانِي: قَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى مَا نَعْلَمُ الزَّقُّومَ إِلَّا التَّمْرَ وَالزُّبْدَ فَتَزَقَّمُوا مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى حِينَ عَجِبُوا أَنْ يَكُونَ فِي النَّارِ شَجَرٌ: إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ [الصَّافَّاتِ: 63] الْآيَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ لَعْنُ هَذِهِ الشَّجَرَةِ. قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ لَعْنُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَهَا. الثَّانِي: الْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ طَعَامٍ مَكْرُوهٍ ضَارٍّ إِنَّهُ مَلْعُونٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّعْنَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ التَّبْعِيدُ فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الشَّجَرَةُ الْمَلْعُونَةُ فِي الْقُرْآنِ مُبْعَدَةً عَنْ جَمِيعِ صِفَاتِ الْخَيْرِ سُمِّيَتْ مَلْعُونَةً. الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الشَّجَرَةُ بَنُو أُمَيَّةَ يَعْنِي الْحَكَمَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ قَالَ وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ أَنَّ وَلَدَ مَرْوَانَ يَتَدَاوَلُونَ مِنْبَرَهُ فَقَصَّ رُؤْيَاهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَقَدْ خَلَا فِي بَيْتِهِ مَعَهُمَا فَلَمَّا تَفَرَّقُوا سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَكَمَ يُخْبِرُ بِرُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَاتَّهَمَ عُمَرَ فِي إِفْشَاءِ سَرِّهِ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْحَكَمَ كَانَ يَتَسَمَّعُ إِلَيْهِمْ فَنَفَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذِهِ الْقِصَّةُ كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فَيَبْعُدُ هَذَا التَّفْسِيرُ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُ عَائِشَةَ لِمَرْوَانَ لَعَنَ اللَّهُ أَبَاكَ وَأَنْتَ فِي صُلْبِهِ فَأَنْتَ بَعْضُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ هِيَ الْيَهُودُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْمَائِدَةِ: 78] . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا طَلَبُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِتْيَانَ بِالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ فَأَجَابَ أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِي إِظْهَارِهَا لِأَنَّهَا لَوْ ظَهَرَتْ وَلَمْ تُؤْمِنُوا نَزَّلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وَأَيُّ تَعَلُّقٍ لِهَذَا الْكَلَامِ بِذِكْرِ الرُّؤْيَا الَّتِي صَارَتْ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَبِذِكْرِ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَارَتْ فِتْنَةً لِلنَّاسِ.

قُلْنَا: التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ ثُمَّ إِنَّكَ لَمْ تُظْهِرْهَا صَارَ عَدَمُ ظُهُورِهَا شُبْهَةً لَهُمْ فِي أَنَّكَ لَسْتَ بِصَادِقٍ فِي دَعْوَى النُّبُوَّةِ إِلَّا أَنَّ وُقُوعَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ لَا يُوهِنُ أَمْرَكَ وَلَا يَصِيرُ سَبَبًا لِضِعْفِ حَالِكَ أَلَا تَرَى أَنَّ ذِكْرَ تِلْكَ الرُّؤْيَا صَارَ سَبَبًا لِوُقُوعِ الشُّبْهَةِ الْعَظِيمَةِ فِي الْقُلُوبِ ثُمَّ إِنَّ قُوَّةَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ مَا أَوْجَبَتْ ضَعْفًا فِي أَمْرِكَ وَلَا فُتُورًا فِي اجْتِمَاعِ الْمُحِقِّينَ عَلَيْكَ فَكَذَلِكَ هَذِهِ الشُّبْهَةُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِ عَدَمِ ظُهُورِ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ لَا تُوجِبُ فُتُورًا فِي حَالِكَ، وَلَا ضَعْفًا فِي أَمْرِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ ذِكْرُ سَبَبٍ آخَرَ فِي أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَظْهَرَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ خُوِّفُوا بِمَخَاوِفِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَبِشَجَرَةِ الزَّقُّومِ فَمَا زَادَهُمْ هَذَا التَّخْوِيفُ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ وَتَمَادِيهِمْ فِي الْغَيِّ وَالطُّغْيَانِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُظْهِرَ اللَّهُ لَهُمْ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا وَلَا يَزْدَادُونَ إِلَّا تَمَادِيًا فِي الْجَهْلِ وَالْعِنَادِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَجَبَ فِي الْحِكْمَةِ أَنْ لَا يُظْهِرَ اللَّهُ لَهُمْ مَا اقْتَرَحُوهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. تم الجزء العشرون، ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الحادي والعشرين، وأوله قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ من سورة الإسراء أعان الله على إكماله

الجزء الواحد والعشرون

الجزء الواحد والعشرون [تتمة سورة الإسراء] بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 63] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي مِحْنَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَأَهْلِ زَمَانِهِ، بَيَّنَ أَنَّ حَالَ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ أَهْلِ زَمَانِهِمْ كَذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَوَّلَ الْأَوْلِيَاءِ هُوَ آدَمُ، ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ فِي مِحْنَةٍ شَدِيدَةٍ مِنْ إِبْلِيسَ. الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا نَازَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَانَدُوهُ وَاقْتَرَحُوا عَلَيْهِ الِاقْتِرَاحَاتِ الْبَاطِلَةَ لِأَمْرَيْنِ الْكِبْرُ وَالْحَسَدُ، أَمَّا الْكِبْرُ فَلِأَنَّ تَكَبُّرَهُمْ كَانَ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الِانْقِيَادِ، وَأَمَّا الْحَسَدُ فَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسُدُونَهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالدَّرَجَةِ الْعَالِيَةِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْكِبْرَ وَالْحَسَدَ هُمَا اللَّذَانِ حَمَلَا إِبْلِيسَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالدُّخُولِ فِي الْكُفْرِ، فَهَذِهِ بَلِيَّةٌ قَدِيمَةٌ وَمِحْنَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْخَلْقِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً [الْإِسْرَاءِ: 60] بَيَّنَ مَا هُوَ السَّبَبُ لِحُصُولِ هَذَا الطُّغْيَانِ وَهُوَ قَوْلُ إِبْلِيسَ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا فَلِأَجْلِ هَذَا الْمَقْصُودِ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ إِبْلِيسَ وَآدَمَ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ قَدْ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي سُوَرٍ سَبْعَةٍ، وَهِيَ: الْبَقَرَةُ وَالْأَعْرَافُ وَالْحِجْرُ وَهَذِهِ السُّورَةُ وَالْكَهْفُ وَطَهَ وَصَ وَالْكَلَامُ الْمُسْتَقْصَى فِيهَا قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ وَالْأَعْرَافِ وَالْحِجْرِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ وَلَا بَأْسَ بِتَعْدِيدِ بَعْضِ الْمَسَائِلِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَأْمُورِينَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ أَهُمْ جَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ أَمْ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ عَلَى التَّخْصِيصِ؟ فَظَاهِرُ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ يُفِيدُ الْعُمُومَ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي صِفَةِ مَلَائِكَةِ السموات وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف: 206] يوجب خروج ملائكة السموات مِنْ هَذَا الْعُمُومِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ السَّجْدَةِ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ أَوِ التَّحِيَّةُ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَآدَمُ

كَانَ هُوَ الْمَسْجُودَ لَهُ أَوْ يُقَالُ كَانَ الْمَسْجُودُ لَهُ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى وَآدَمُ كَانَ قِبْلَةً لِلسُّجُودِ؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ إِبْلِيسَ هَلْ هُوَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْ لَا؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَأَمْرُ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ كَيْفَ يَتَنَاوَلُهُ؟ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَلْ كَانَ إِبْلِيسُ كَافِرًا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ أَوْ يُقَالُ إِنَّمَا كَفَرَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؟ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمَلَائِكَةُ سَجَدُوا لِآدَمَ مِنْ أَوَّلِ مَا كَمُلَتْ حَيَاتُهُ أَوْ بَعْدِ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: شُبْهَةُ إِبْلِيسَ فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ السُّجُودِ أَهْوَ قَوْلُهُ: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً أَوْ غَيْرُهُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ عَارِفًا بِرَبِّهِ، إِلَّا أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْكُفْرِ بِسَبَبِ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ وَقَالَ مَا عَرَفَ اللَّهَ الْبَتَّةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: مَا سَبَبُ حِكْمَةِ إِمْهَالِ إِبْلِيسَ وَتَسْلِيطِهِ عَلَى الْخَلْقِ بِالْوَسْوَسَةِ؟ وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ إِبْلِيسَ نَوْعًا وَاحِدًا مِنَ الْعَمَلِ وَنَوْعَيْنِ مِنَ الْقَوْلِ، أَمَّا الْعَمَلُ فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ لِآدَمَ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ وَأَمَّا النَّوْعَانِ مِنَ الْقَوْلِ؟ فَأَوَّلُهُمَا: قَوْلُهُ: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ مَعْنَاهُ أَنَّ أَصْلِي أَشْرَفُ مِنْ أَصْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ أَكُونَ أَنَا أَشْرَفُ مِنْهُ، وَالْأَشْرَفُ يَقْبُحُ فِي الْعُقُولِ أَمْرُهُ بِخِدْمَةِ الْأَدْنَى. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ كَلَامِهِ: قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ قَالَ الزَّجَّاجُ: قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَكَ مَعْنَاهُ أَخْبِرْنِي، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَقَوْلُهُ: هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ فِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الَّذِي فَضَّلْتَهُ عَلَيَّ لِمَ فَضَّلْتَهُ عَلَيَّ وَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ؟ ثُمَّ اخْتَصَرَ الْكَلَامَ لِكَوْنِهِ مَفْهُومًا. الثَّانِي: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هَذَا مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفٌ مِنْهُ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ، وَالَّذِي مَعَ صِلَتِهِ خَبَرٌ، تَقْدِيرُهُ أَخْبِرْنِي أَهَذَا الَّذِي كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ! وَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِصْغَارِ وَالِاسْتِحْقَارِ، وَإِنَّمَا حُذِفَ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ حُصُولَهُ فِي قَوْلِهِ/ أَرَأَيْتَكَ أَغْنَى عَنْ تَكْرَارِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ هذَا مَفْعُولُ أَرَأَيْتَ لِأَنَّ الْكَافَ جَاءَتْ لِمُجَرَّدِ الْخِطَابِ لَا مَحَلَّ لَهَا، كَأَنَّهُ قَالَ عَلَى وَجْهِ التَّعَجُّبِ وَالْإِنْكَارِ أَبْصَرْتَ أَوْ عَلِمْتَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ، بِمَعْنَى لَوْ أَبْصَرْتَهُ أَوْ عَلِمْتَهُ لَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا تُكَرِّمَهُ عَلَيَّ، هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً [عَنْهُ] لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْحَذْفِ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو بِإِثْبَاتِهِ فِي الْوَصْلِ دُونَ الْوَقْفِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي الِاحْتِنَاكِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَخْذِ بِالْكُلِّيَّةِ، يُقَالُ: احْتَنَكَ فُلَانٌ مَا عِنْدَ فُلَانٍ مِنْ مَالٍ إِذَا اسْتَقْصَاهُ وَأَخَذَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَاحْتَنَكَ الْجَرَادُ الزَّرْعَ إِذَا أَكَلَهُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ حَنَّكَ الدَّابَّةَ يُحَنِّكُهَا، إِذَا جَعَلَ فِي حَنَكِهَا الْأَسْفَلِ حَبْلًا يَقُودُهَا بِهِ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الِاحْتِنَاكُ افْتِعَالٌ مِنَ الْحَنَكِ كَأَنَّهُمْ يَمْلِكُهُمْ كَمَا يَمْلِكُ الْفَارِسُ فَرَسَهُ بِلِجَامِهِ. فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَعْنَى الْآيَةِ لَأَسْتَأْصِلَنَّهُمْ بِالْإِغْوَاءِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي لَأَقُودَنَّهُمْ إِلَى الْمَعَاصِي كَمَا تُقَادُ الدَّابَّةُ بِحَبْلِهَا. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: إِلَّا قَلِيلًا هُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ

[سورة الإسراء (17) : الآيات 64 إلى 65]

سُلْطانٌ [الإسراء: 65] فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ ظَنَّ إِبْلِيسُ هَذَا الظَّنَّ الصَّادِقَ بِذُرِّيَّةِ آدَمَ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سَمِعَ الْمَلَائِكَةَ يَقُولُونَ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [الْبَقَرَةِ: 30] فَعَرَفَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ. الثَّانِي: أَنَّهُ وَسْوَسَ إِلَى آدَمَ فَلَمْ يَجِدْ لَهُ عَزْمًا «1» فَقَالَ الظَّاهِرُ أَنَّ أَوْلَادَهُ يَكُونُونَ مِثْلَهُ فِي ضَعْفِ الْعَزْمِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَرَفَ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ قُوَّةٍ بَهِيمِيَّةٍ شَهْوَانِيَّةٍ، وَقُوَّةٍ سَبُعِيَّةٍ غَضَبِيَّةٍ، وَقُوَّةٍ وَهْمِيَّةٍ شَيْطَانِيَّةٍ، وَقُوَّةٍ عَقْلِيَّةٍ مَلَكِيَّةٍ، وَعَرَفَ أَنَّ الْقُوَى الثَّلَاثَ أَعْنِي الشَّهْوَانِيَّةَ وَالْغَضَبِيَّةَ وَالْوَهْمِيَّةَ تَكُونُ هِيَ الْمُسْتَوْلِيَةُ فِي أَوَّلِ الْخِلْقَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْقُوَّةَ الْعَقْلِيَّةَ إِنَّمَا تَكْمُلُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ مَا ذَكَرَهُ إِبْلِيسُ لَازِمًا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ إِبْلِيسَ ذَلِكَ حَكَى عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ اذْهَبْ، وَهَذَا لَيْسَ مِنَ الذَّهَابِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْمَجِيءِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ امْضِ لِشَأْنِكَ الَّذِي اخْتَرْتَهُ، وَالْمَقْصُودُ التَّخْلِيَةُ وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً وَنَظِيرُهُ قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ/ وَالسَّلَامُ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ [طه: 97] فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُهُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا. لِيَكُونَ هَذَا الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى قَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَكَ؟. قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُهُمْ وَجَزَاؤُكُمْ ثُمَّ غُلِّبَ الْمُخَاطَبُ عَلَى الْغَائِبِ فَقِيلَ جَزَاؤُكُمْ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنَّ يَكُونَ هَذَا الْخِطَابُ مَعَ الْغَائِبِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فَكُلُّ مَعْصِيَةٍ تُوجَدُ فَيَحْصُلُ لِإِبْلِيسَ مِثْلُ وِزْرِ ذَلِكَ الْعَامِلِ. فَلَمَّا كَانَ إِبْلِيسُ هُوَ الْأَصْلَ فِي كُلِّ الْمَعَاصِي صَارَ الْمُخَاطَبُ بِالْوَعِيدِ هُوَ إِبْلِيسُ، ثُمَّ قَالَ: جَزاءً مَوْفُوراً وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ قَدْ تَجِيءُ مُتَعَدِّيًا وَلَازِمًا، أَمَّا الْمُتَعَدِّي فَيُقَالُ: وفرته أفره وفرا [و] وَفِرَةً فَهُوَ مَوْفُورٌ [وَ] مُوَفَّرٌ، قَالَ زُهَيْرٌ: وَمَنْ يَجْعَلِ الْمَعْرُوفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ ... يَفِرْهُ وَمَنْ لَا يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ وَاللَّازِمُ كَقَوْلِهِ: وَفَرَ الْمَالُ يَفِرُ وُفُورًا فَهُوَ وَافِرٌ، فَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ: يَكُونُ الْمَعْنَى جَزَاءً مَوْفُورًا مُوَفَّرًا. وَعَلَى الثَّانِي: يَكُونُ الْمَعْنَى جَزَاءً مَوْفُورًا وَافِرًا، وانتصب قوله جَزاءً على المصدر. [سورة الإسراء (17) : الآيات 64 الى 65] وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) اعْلَمْ أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا طَلَبَ مِنَ اللَّهِ الْإِمْهَالَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَجْلِ أَنْ يَحْتَنِكَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَشْيَاءَ. أَوَّلُهَا: قوله: اذْهَبْ [الإسراء: 63] وَمَعْنَاهُ: أَمْهَلْتُكَ هَذِهِ الْمُدَّةَ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ يُقَالُ أَفَزَّهُ الْخَوْفُ وَاسْتَفَزَّهُ أَيْ أَزْعَجَهُ وَاسْتَخَفَّهُ، / وصوته دعاؤه إلى معصية الله

_ (1) هذا الوجه يتعارض مع نص الآية الكريمة وهي قول الله تعالى لملائكته المكرمين: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ [سورة الحجر: 29، 30] . فالآية تنص على أن الأمر بالسجود والسجود كان قبل الوسوسة ولو أن الوسوسة كانت قبل السجود، لترتب عليه أن يكون الملائكة كلهم أجمعون قد سجدوا لآدم بعد المعصية وهو أمر لا يليق ولا يتصور فانتفى هذا الوجه.

تَعَالَى، وَقِيلَ: أَرَادَ بِصَوْتِكَ الْغِنَاءَ وَاللَّهْوَ وَاللَّعِبَ، وَمَعْنَى صِيغَةِ الْأَمْرِ هُنَا التَّهْدِيدُ كَمَا يُقَالُ: اجْهَدْ جُهْدَكَ فَسَتَرَى مَا يَنْزِلُ بِكَ. وَثَالِثُهَا: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَأَجْلِبْ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ مِنَ الْجَلَبَةِ وَهُوَ الصِّيَاحُ وَرُبَّمَا قَالُوا الْجَلَبُ كَمَا قَالُوا الْغَلَبَةُ وَالْغَلَبُ وَالشَّفَقَةُ وَالشَّفَقُ، وَقَالَ اللَّيْثُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَجَلَبُوا وَجَلَبُوا مِنَ الصِّيَاحِ. الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ فِي فَعَلَ وَأَفْعَلَ، أَجْلَبَ عَلَى الْعَدُوِّ إِجْلَابًا إِذَا جَمَعَ عَلَيْهِ الْخُيُولَ. الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ يُقَالُ هُمْ يَجْلِبُونَ عَلَيْهِ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يُعِينُونَ عَلَيْهِ. وَالرَّابِعُ: رَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَجْلَبَ الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ إِذَا تَوَعَّدَهُ الشَّرَّ وَجَمَعَ عَلَيْهِ الْجَمْعَ، فَقَوْلُهُ: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ مَعْنَاهُ عَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ صِحْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ، وَعَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ: اجْمَعْ عَلَيْهِمْ كُلَّ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ مَكَايِدِكَ وَتَكُونُ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِخَيْلِكَ زَائِدَةً عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ السِّكِّيتِ مَعْنَاهُ أَعِنْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَمَفْعُولُ الْإِجْلَابِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَحْذُوفٌ كَأَنَّهُ يَسْتَعِينُ عَلَى إِغْوَائِهِمْ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ، وَهَذَا أَيْضًا يَقْرُبُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْخَيْلِ وَالرَّجِلِ، فَرَوَى أَبُو الضُّحَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ رَاكِبٍ أَوْ رَاجِلٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مِنْ خَيْلِ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ» ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ رَاكِبٍ وَمَاشٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ خَيْلُهُ وَرَجِلُهُ كُلُّ مَنْ شَارَكَهُ فِي الدُّعَاءِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِإِبْلِيسَ جُنْدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ بَعْضُهُمْ رَاكِبٌ وَبَعْضُهُمْ رَاجِلٌ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ ضَرْبُ الْمَثَلِ كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ الْمُجِدِّ فِي الْأَمْرِ جِئْتَنَا بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْرَبُ، وَالْخَيْلُ تَقَعُ عَلَى الْفِرْسَانِ. قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي» وَقَدْ تَقَعُ عَلَى الْأَفْرَاسِ خَاصَّةً، وَالْمُرَادُ هاهنا الْأَوَّلُ وَالرَّجْلُ جَمْعُ رَاجِلٍ كَمَا قَالُوا تَاجِرٌ وَتَجْرٌ وَصَاحِبٌ وَصَحْبٌ وَرَاكِبٌ وَرَكْبٌ، وَرَوَى حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَرَجِلِكَ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَغَيْرُهُ بِالضَّمِّ، قَالَ أَبُو زَيْدٍ يُقَالُ رَجُلٌ وَرَجِلٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَمِثْلُهُ حَدُثٌ وَحَدِثٌ وَنَدُسٌ وَنَدِسٌ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَخْبَرَنَا ثَعْلَبٌ عَنِ الْفَرَّاءِ قَالَ: يُقَالُ رَجُلٌ وَرَجِلٌ وَرَجْلَانُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَالنَّوْعُ الرَّابِعُ: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ قَوْلُهُ: وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ نَقُولُ: أَمَّا الْمُشَارَكَةُ فِي الْأَمْوَالِ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ تَصَرُّفٍ قَبِيحٍ فِي الْمَالِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْقَبِيحُ بِسَبَبِ أَخْذِهِ مِنْ غَيْرِ حَقِّهِ أَوْ وَضْعِهِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الرِّبَا وَالْغَصْبُ وَالسَّرِقَةُ وَالْمُعَامَلَاتُ الْفَاسِدَةُ، وَهَكَذَا قَالَهُ الْقَاضِي وَهُوَ ضَبْطٌ حَسَنٌ، وَأَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَقَدْ ذَكَرُوا وُجُوهًا قَالَ قَتَادَةُ: الْمُشَارَكَةُ فِي الْأَمْوَالِ هِيَ أَنْ جَعَلُوا بَحِيرَةً وَسَائِبَةً، وَقَالَ عِكْرِمَةُ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَبْتِيكِهِمْ آذَانَ الْأَنْعَامِ، وَقِيلَ هِيَ أَنْ جَعَلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا لِغَيْرِ/ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا [الْأَنْعَامِ: 136] وَالْأَصْوَبُ مَا قَالَهُ الْقَاضِي، وَأَمَّا الْمُشَارَكَةُ فِي الْأَوْلَادِ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّهَا الدُّعَاءُ إِلَى الزِّنَا، وَزَيَّفَ الْأَصَمُّ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ إِنَّهُ لَا ذَمَّ عَلَى الْوَلَدِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ وَشَارِكْهُمْ فِي طَرِيقِ تَحْصِيلِ الْوَلَدِ وَذَلِكَ بِالدُّعَاءِ إِلَى الزِّنَا. وَثَانِيهَا: أَنْ يُسَمُّوا أَوْلَادَهُمْ بِعَبْدِ اللَّاتِ وَعَبْدِ الْعُزَّى. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُرَغِّبُوا أَوْلَادَهُمْ فِي الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ كَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وغيرهما. ورابعها: إقدامهم على قتل الأولاد وو أدهم. وَخَامِسُهَا: تَرْغِيبُهُمْ فِي حِفْظِ الْأَشْعَارِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْفُحْشِ وَتَرْغِيبِهِمْ فِي الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ وَالْحِرَفِ الْخَبِيثَةِ الْخَسِيسَةِ وَالضَّابِطُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ مِنَ الْمَرْءِ فِي وَلَدِهِ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إِلَى ارْتِكَابِ مُنْكَرٍ أَوْ قَبِيحٍ فَهُوَ دَاخِلٌ فِيهِ. وَالنَّوْعُ الْخَامِسُ: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَعِدْهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَقْصُودُ الشَّيْطَانِ التَّرْغِيبَ فِي الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ وَالْعَمَلِ الْبَاطِلِ وَالتَّنْفِيرِ عَنِ الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ

وَالْعَمَلِ الْحَقِّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّرْغِيبَ فِي الشَّيْءِ لا يمكن إلا بأن يقرر عنده أنه لَا ضَرَرَ الْبَتَّةَ فِي فِعْلِهِ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْمَنَافِعَ الْعَظِيمَةَ، وَالتَّنْفِيرُ عَنِ الشَّيْءِ لا يمكن إلا بأن يقرر عنده أنه لَا فَائِدَةَ فِي فِعْلِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَيُفِيدُ الْمَضَارَّ الْعَظِيمَةَ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا دَعَا إِلَى الْمَعْصِيَةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُقَرِّرَ أَوَّلًا أَنَّهُ لَا مَضَرَّةَ فِي فِعْلِهِ الْبَتَّةَ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يُمْكِنُ إِذَا قَالَ لَا مَعَادَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ، وَلَا حَيَاةَ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يُقَرِّرُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا مَضَرَّةَ الْبَتَّةَ فِي فِعْلِ هَذِهِ الْمَعَاصِي، وَإِذَا فَرَغَ عَنْ هَذَا الْمَقَامِ قَرَّرَ عِنْدَهُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ يُفِيدُ أَنْوَاعًا مِنَ اللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ وَلَا حَيَاةَ لِلْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا إِلَّا بِهِ، فَتَفْوِيتُهَا غَبْنٌ وَخُسْرَانٌ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: خُذُوا بِنَصِيبٍ مِنْ سُرُورٍ وَلَذَّةٍ ... فَكُلٌّ وَإِنْ طَالَ الْمَدَى يَتَصَرَّمُ فَهَذَا هُوَ طَرِيقُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، وَأَمَّا طَرِيقُ التَّنْفِيرِ عَنِ الطَّاعَةِ فَهُوَ أَنْ يُقَرِّرَ أَوَّلًا عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَقُولَ لَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ وَلَا ثَوَابَ وَلَا عَذَابَ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ لَا فَائِدَةَ فِيهَا لِلْعَابِدِ وَالْمَعْبُودِ فَكَانَتْ عَبَثًا مَحْضًا فَبِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ يُقَرِّرُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهَا، وَإِذَا فَرَغَ عَنْ هَذَا الْمَقَامِ قَالَ إِنَّهَا تُوجِبُ التَّعَبَ وَالْمِحْنَةَ وَذَلِكَ أَعْظَمُ الْمَضَارِّ، فَهَذِهِ مَجَامِعُ تَلْبِيسِ الشَّيْطَانِ، فَقَوْلُهُ: وَعِدْهُمْ يَتَنَاوَلُ كُلَّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ قَوْلُهُ: وَعِدْهُمْ أَيْ بِأَنَّهُ لَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ، وَقَالَ آخَرُونَ: وَعِدْهُمْ بِتَسْوِيفِ التَّوْبَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ وَعِدْهُمْ بِالْأَمَانِي الْبَاطِلَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ لِآدَمَ: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ/ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ [الْأَعْرَافِ: 20] وَقَالَ آخَرُونَ: وَعِدْهُمْ بِشَفَاعَةِ الْأَصْنَامِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَبِالْأَنْسَابِ الشَّرِيفَةِ وَإِيثَارِ الْعَاجِلِ عَلَى الْآجِلِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ كَثِيرَةٌ وَكُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي الضَّبْطِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ أَرَدْتَ الِاسْتِقْصَاءَ فِي هَذَا الْبَابِ فَطَالِعْ كِتَابَ ذَمِّ الْغُرُورَ مِنْ كِتَابِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ لِلشَّيْخِ الْغَزَالِيِّ حَتَّى يُحِيطَ عَقْلُكَ بِمَجَامِعِ تَلْبِيسِ إِبْلِيسَ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَعِدْهُمْ أَرْدَفَهُ بِمَا يَكُونُ زَاجِرًا عَنْ قَبُولِ وَعْدِهِ فَقَالَ: وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَدْعُو إِلَى أَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ وَإِمْضَاءُ الْغَضَبِ وَطَلَبُ الرِّيَاسَةِ وَعُلُوُّ الدَّرَجَةِ، وَلَا يَدْعُو الْبَتَّةَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا إِلَى خِدْمَتِهِ، وَتِلْكَ الْأَشْيَاءُ الثَّلَاثَةُ مَعْنَوِيَّةٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ لَذَّاتٍ بَلْ هِيَ خَلَاصٌ عَنِ الْآلَامِ. وَثَانِيهَا: وَإِنْ كَانَتْ لَذَّاتٍ لَكِنَّهَا لَذَّاتٌ خَسِيسَةٌ مُشْتَرَكٌ فِيهَا بَيْنَ الْكِلَابِ وَالدِّيدَانِ وَالْخَنَافِسِ وَغَيْرِهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا سَرِيعَةُ الذَّهَابِ وَالِانْقِضَاءِ وَالِانْقِرَاضِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِمَتَاعِبَ كَثِيرَةٍ وَمَشَاقٍّ عَظِيمَةٍ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ لَذَّاتِ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِمُزَاوَلَةِ رُطُوبَاتٍ عَفِنَةٍ مُسْتَقْذَرَةٍ. وَسَادِسُهَا: أَنَّهَا غَيْرُ بَاقِيَةٍ بَلْ يَتْبَعُهَا الْمَوْتُ وَالْهِرَمُ وَالْفَقْرُ وَالْحَسْرَةُ عَلَى الْفَوْتِ وَالْخَوْفُ مِنَ الْمَوْتِ فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَطَالِبُ وَإِنْ كَانَتْ لَذِيذَةً بِحَسَبِ الظَّاهِرِ إِلَّا أَنَّهَا مَمْزُوجَةٌ بِهَذِهِ الْآفَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالْمُخَالَفَاتِ الْجَسِيمَةِ، كَانَ التَّرْغِيبُ فِيهَا تَغْرِيرًا، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ لَهُ افْعَلْ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ كُلُّ عِبَادِ اللَّهِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ، قَالَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَى مِنْهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مَنْ يَتْبَعُهُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ [الْحِجْرِ: 42] ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِإِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ عَلَى تَصْرِيعِ النَّاسِ وَتَخْبِيطِ عُقُولِهِمْ وَأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ إِلَّا عَلَى قَدْرِ الْوَسْوَسَةِ وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ

[سورة الإسراء (17) : الآيات 66 إلى 69]

تَعَالَى: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إِبْرَاهِيمَ: 22] . وَأَيْضًا فَلَوْ قَدَرَ عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ لَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَتَخَبَّطَ أَهْلَ الْفَضْلِ وَأَهْلَ الْعِلْمِ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ لِيَكُونَ ضَرَرُهُ أَعْظَمَ. ثُمَّ قَالَ وَإِنَّمَا يَزُولُ عَقْلُهُ لَا مِنْ جِهَةِ الشَّيْطَانِ لَكِنْ لِغَلَبَةِ الْأَخْلَاطِ الْفَاسِدَةِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ أَسْبَابِ ذَلِكَ الْمَرَضِ اعْتِقَادَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَقْدَمُ عَلَيْهِ فيغلب الخوف عليه فَيَحْدُثُ ذَلِكَ الْمَرَضُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ عِبادِي أَهْلُ الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ/ أَنَّ لَفْظَ الْعِبَادِ فِي الْقُرْآنِ مَخْصُوصٌ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ [النَّحْلِ: 100] . ثُمَّ قَالَ: وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَكَّنَ إِبْلِيسَ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْوَسْوَسَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِحُصُولِ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ قَالَ: وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا وَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّيْطَانَ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا فَاللَّهُ تَعَالَى أَقْدَرُ مِنْهُ وَأَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْكُلِّ فَهُوَ تَعَالَى يَدْفَعُ عَنْهُ كَيْدَ الشَّيْطَانِ وَيَعْصِمُهُ مِنْ إِضْلَالِهِ وَإِغْوَائِهِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْصُومَ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْتَرِزَ بِنَفْسِهِ عَنْ مَوَاقِعِ الضَّلَالَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْحَقِّ وَالْإِحْجَامُ عَنِ الْبَاطِلِ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: وَكَفَى الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فِي الِاحْتِرَازِ عَنِ الشَّيْطَانِ، فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ بَلْ قَالَ: وَكَفى بِرَبِّكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: لَا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ. بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ إِبْلِيسَ هَلْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ الَّذِي تَكَلَّمَ مَعَهُ بِقَوْلِهِ: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ هُوَ إِلَهُ الْعَالَمِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ؟ فَإِنْ عَلِمَ ذَلِكَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً [الإسراء: 63] فَكَيْفَ لَمْ يَصِرْ هَذَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ مَانِعًا لَهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ مَعَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ؟ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ هُوَ إِلَهُ الْعَالَمِ، فَكَيْفَ قَالَ: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الْإِسْرَاءِ: 62] . وَالْجَوَابُ: لَعَلَّهُ كَانَ شَاكًّا فِي الْكُلِّ أَوْ كَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ قَسَمٍ مَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ. وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى أَنْظَرَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَكَّنَهُ مِنَ الْوَسْوَسَةِ؟ وَالْحَكِيمُ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا وَعَلِمَ أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسْعَى فِي تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْمَانِعِ. وَالْجَوَابُ: أَمَّا مَذْهَبُنَا فَظَاهِرٌ فِي هَذَا الْبَابِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَلَهُمْ قَوْلَانِ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عِنْدَ وَسْوَسَةِ إِبْلِيسَ يَكْفُرُونَ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يُوجَدَ إِبْلِيسُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي وُجُودِهِ مَزِيدُ مَفْسَدَةٍ، وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ مِنْ وُجُودِهِ مَزِيدُ مَفْسَدَةٍ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَبْقَاهُ تَشْدِيدًا لِلتَّكْلِيفِ عَلَى الْخَلْقِ لِيَسْتَحِقُّوا بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّشْدِيدِ مَزِيدَ الثَّوَابِ، وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ قَدْ ذَكَرْنَاهُمَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَالْحِجْرِ، وَبَالَغْنَا فِي الْكَشْفِ عَنْهُمَا، وَاللَّهُ أعلم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 66 الى 69] رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى عَادَ إِلَى ذِكْرِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ تَقْرِيرُ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، فَإِذَا امْتَدَّ الْكَلَامُ فِي فَصْلٍ مِنَ الْفُصُولِ عَادَ الْكَلَامُ بَعْدَهُ إِلَى ذكر دلائل التوحيد، والمذكور هاهنا الْوُجُوهُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مَنِ الْإِنْعَامَاتِ فِي أَحْوَالِ رُكُوبِ الْبَحْرِ. فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ: كَيْفِيَّةُ حَرَكَةِ الْفُلْكِ عَلَى وَجْهِ الْبَحْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ وَالْإِزْجَاءُ سَوْقُ الشَّيْءِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ [يُوسُفَ: 88] وَالْمَعْنَى: رَبُّكُمُ الَّذِي يُسَيِّرُ الْفُلْكَ عَلَى وَجْهِ الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فِي طَلَبِ التِّجَارَةِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا، وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: رَبُّكُمُ وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ بِكُمْ عَامٌّ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَالْمُرَادُ مِنَ الرَّحْمَةِ مَنَافِعُ الدُّنْيَا وَمَصَالِحُهَا. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ وَالْمُرَادُ مِنَ الضُّرِّ، الْخَوْفُ الشَّدِيدُ كَخَوْفِ الْغَرَقِ: ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ وَالْمُرَادُ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يَتَضَرَّعُ إِلَى الصَّنَمِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْمَلَكِ وَالْفُلْكِ. وَإِنَّمَا يَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ مِنَ الْغَرَقِ وَالْبَحْرِ وَأَخْرَجَكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً لِنِعَمِ اللَّهِ بِسَبَبِ أَنَّ عِنْدَ الشِّدَّةِ/ يَتَمَسَّكُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَعِنْدَ الرَّخَاءِ وَالرَّاحَةِ يُعْرِضُ عَنْهُ وَيَتَمَسَّكُ بِغَيْرِهِ. وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ قَالَ اللَّيْثُ: الْخَسْفُ وَالْخُسُوفُ هُوَ دُخُولُ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ. يُقَالُ: عَيْنٌ خَاسِفَةٌ وَهِيَ الَّتِي غَابَتْ حَدَقَتُهَا فِي الرَّأْسِ، وَعَيْنٌ مِنَ الْمَاءِ خَاسِفَةٌ أَيْ غَائِرَةُ الْمَاءِ، وَخَسَفَتِ الشَّمْسُ أَيِ احْتَجَبَتْ وَكَأَنَّهَا وَقَعَتْ تَحْتَ حِجَابٍ أو دخلت في جحر. فقوله: أن نخسف بكم جانب البر أي نغيبكم من جَانِبِ الْبَرِّ وَهُوَ الْأَرْضُ، وَإِنَّمَا قَالَ جانِبَ الْبَرِّ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْبَحْرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى فهو جانب، والبر جانب، خبر اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَمَا قَدَرَ عَلَى أَنْ يُغَيِّبَهُمْ فِي الْمَاءِ فَهُوَ قَادِرٌ أَيْضًا عَلَى أَنْ يُغَيِّبَهُمْ فِي الْأَرْضِ، فَالْغَرَقُ تَغْيِيبٌ تَحْتَ الْمَاءِ كَمَا أَنَّ الْخَسْفَ تَغْيِيبٌ تَحْتَ التُّرَابِ، وَتَقْرِيرُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُمْ كَانُوا خَائِفِينَ مِنْ هَوْلِ الْبَحْرِ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ مِنْهُ آمَنُوا، فَقَالَ: هَبْ أَنَّكُمْ نَجَوْتُمْ مِنْ هَوْلِ الْبَحْرِ فَكَيْفَ أَمِنْتُمْ مِنْ هَوْلِ الْبَرِّ؟ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْكُمْ آفَاتِ الْبَرِّ مِنْ جَانِبِ التَّحْتِ أَوْ مِنْ جَانِبِ الْفَوْقِ، أَمَّا مِنْ جَانِبِ التَّحْتِ فَبِالْخَسْفِ. وَأَمَّا مِنْ جَانِبِ الْفَوْقِ فَبِإِمْطَارِ الْحِجَارَةِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَكَمَا لَا يَتَضَرَّعُونَ إِلَّا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ رُكُوبِ الْبَحْرِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لَا يَتَضَرَّعُوا إِلَّا إِلَيْهِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ. وَمَعْنَى الْحَصَبِ فِي اللُّغَةِ: الرَّمْيُ. يُقَالُ: حَصَبْتُ أَحْصِبُ حَصْبًا إِذَا رَمَيْتَ وَالْحَصَبُ المرمي. ومنه قوله تعالى: حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] أَيْ يُلْقَوْنَ فِيهَا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: حاصِباً أَيْ عَذَابًا يَحْصِبُهُمْ، أَيْ يَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ، وَيُقَالُ لِلرِّيحِ الَّتِي تَحْمِلُ التُّرَابَ وَالْحَصْبَاءَ حَاصِبٌ، وَالسَّحَابُ الَّذِي يَرْمِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ يُسَمَّى حَاصِبًا لِأَنَّهُ يَرْمِي بِهِمَا رَمْيًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْحَاصِبُ التُّرَابُ الَّذِي فِيهِ حَصْبَاءُ وَالْحَاصِبُ عَلَى هَذَا ذُو

[سورة الإسراء (17) : آية 70]

الْحَصْبَاءِ مِثْلُ اللَّابِنِ وَالتَّامِرِ وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا يَعْنِي لَا تَجِدُوا نَاصِرًا يَنْصُرُكُمْ وَيَصُونُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: أم أمنتم أن نعيدكم فِيهِ أَيْ فِي الْبَحْرِ تَارَةً أُخْرَى وَقَوْلُهُ: فنرسل عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ الْقَاصِفُ الْكَاسِرُ يُقَالُ: قَصَفَ الشَّيْءَ يَقْصِفُهُ قَصْفًا إِذَا كَسَرَهُ بِشِدَّةٍ، وَالْقَاصِفُ مِنَ الرِّيحِ الَّتِي تَكْسِرُ الشَّجَرَ، وَأَرَادَ هاهنا ريحا شديدة تقصف الفلك وتغرقهم وقوله: فنغرقكم بِمَا كَفَرْتُمْ أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ لَا تَجِدُوا مَنْ يُتْبِعُنَا بِإِنْكَارِ مَا نَزَلْ بِكُمْ بِأَنْ يَصْرِفَهُ عَنْكُمْ، وَتَبِيعٌ بِمَعْنَى تَابِعٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَلْفَاظٍ خَمْسَةٍ: وَهِيَ قَوْلِهِ: أَنْ نَخْسِفَ. أَوْ نُرْسِلَ. أَوْ نُعِيدُكُمْ. فَنُرْسِلَ. فَنُغْرِقَكُمْ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو جَمِيعَ هَذِهِ الْخَمْسَةِ بِالنُّونِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، فَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ، فَلِأَنَّ مَا قَبْلَهُ عَلَى الْوَاحِدِ الْغَائِبِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ وَمَنْ قَرَأَ بِالنُّونِ فَلِأَنَّ هَذَا الْبَحْرَ مِنَ الْكَلَامِ، قَدْ يَنْقَطِعُ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ وَهُوَ سَهْلٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ جَاءَ وَجَعَلْناهُ/ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 2] فَانْتَقَلَ مِنَ الجمع إلى الأفراد وكذلك هاهنا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، والمعنى واحد والكل جائز والله أعلم. [سورة الإسراء (17) : آية 70] وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70) اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ نِعْمَةٍ أُخْرَى جَلِيلَةٍ رَفِيعَةٍ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْإِنْسَانِ وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي بِهَا فُضِّلَ الْإِنْسَانُ عَلَى غَيْرِهِ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ جَوْهَرٌ مُرَكَّبٌ مِنَ النَّفْسِ، وَالْبَدَنِ، فَالنَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ أَشْرَفُ النُّفُوسِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، وَبَدَنُهُ أَشْرَفُ الْأَجْسَامِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ. وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ فِي النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ هِيَ أَنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ قُوَاهَا الْأَصْلِيَّةُ ثَلَاثٌ. وَهِيَ الِاغْتِذَاءُ وَالنُّمُوُّ وَالتَّوْلِيدُ، وَالنَّفْسُ الْحَيَوَانِيَّةُ لَهَا قُوَّتَانِ الْحَسَاسَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ ظَاهِرَةً أَوْ بَاطِنَةً، وَالْحَرَكَةُ بِالِاخْتِيَارِ، فَهَذِهِ الْقُوَى الْخَمْسَةُ أَعْنِي الِاغْتِذَاءَ وَالنُّمُوَّ وَالتَّوْلِيدَ وَالْحِسَّ وَالْحَرَكَةَ حَاصِلَةٌ لِلنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ مُخْتَصَّةٌ بِقُوَّةٍ أُخْرَى وَهِيَ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ الْمُدْرِكَةُ لِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ كَمَا هِيَ. وَهِيَ الَّتِي يَتَجَلَّى فِيهَا نُورُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُشْرِقُ فِيهَا ضَوْءُ كِبْرِيَائِهِ وَهُوَ الَّذِي يَطَّلِعُ عَلَى أَسْرَارِ عَالَمَيِ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ وَيُحِيطُ بِأَقْسَامِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ مِنَ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ كَمَا هِيَ وَهَذِهِ الْقُوَّةُ مِنْ تَلْقِيحِ الْجَوَاهِرِ الْقُدْسِيَّةِ وَالْأَرْوَاحِ الْمُجَرَّدَةِ الْإِلَهِيَّةِ، فَهَذِهِ الْقُوَّةُ لَا نِسْبَةَ لَهَا فِي الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ إِلَى تِلْكَ الْقُوَى النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ أَشَرُفُ النُّفُوسِ الْمَوْجُودَةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ فَضَائِلَ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَنُقْصَانَاتِ الْقُوَى الْجِسْمِيَّةِ، فَتَأَمَّلَ مَا كَتَبْنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّورِ: 35] فَإِنَّا ذَكَرْنَا هُنَاكَ عِشْرِينَ وَجْهًا فِي بَيَانِ أَنَّ الْقُوَّةَ الْعَقْلِيَّةَ أَجَلُّ وَأَعْلَى مِنَ الْقُوَّةِ الْجِسْمِيَّةِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْبَدَنَ الْإِنْسَانِيَّ أَشْرَفُ أَجْسَامِ هَذَا الْعَالَمِ، فَالْمُفَسِّرُونَ إِنَّمَا ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْفَضَائِلِ وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ، أَحَدُهَا: رَوَى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ يَأْكُلُ بِفِيهِ إِلَّا ابْنَ آدَمَ فَإِنَّهُ يَأْكُلُ بِيَدَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الرَّشِيدَ أُحْضِرَتْ عِنْدَهُ أَطْعِمَةٌ فَدَعَا بِالْمَلَاعِقِ وَعِنْدَهُ أَبُو يُوسُفَ، فَقَالَ لَهُ: جَاءَ فِي/ التَّفْسِيرِ عَنْ جِدِّكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ جَعَلْنَا

لَهُمْ أَصَابِعَ يَأْكُلُونَ بِهَا فَرَدَّ الْمَلَاعِقَ وَأَكَلَ بِأَصَابِعِهِ. وَثَانِيهَا: قَالَ الضَّحَّاكُ: بِالنُّطْقِ وَالتَّمْيِيزِ وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّ مَنْ عَرَفَ شَيْئًا، فَإِمَّا أَنَّ يَعْجَزَ عَنْ تَعْرِيفِ غَيْرِهِ كَوْنُهُ عَارِفًا بِذَلِكَ الشَّيْءِ أَوْ يَقْدِرَ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ حَالُ جُمْلَةِ الْحَيَوَانَاتِ سِوَى الْإِنْسَانِ، فَإِنَّهُ إِذَا حَصَلَ فِي بَاطِنِهَا أَلَمٌ أَوْ لَذَّةٌ فَإِنَّهَا تَعْجَزُ عَنْ تَعْرِيفِ غَيْرِهَا تِلْكَ الْأَحْوَالِ تَعْرِيفًا تَامًّا وَافِيًا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَهُوَ الْإِنْسَانُ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ تَعْرِيفُ غَيْرِهِ كُلَّ مَا عَرَفَهُ وَوَقَفَ عَلَيْهِ وَأَحَاطَ بِهِ فَكَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّعْرِيفِ هُوَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ نَاطِقًا، وَبِهَذَا الْبَيَانِ ظَهَرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ الْأَخْرَسَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْوَصْفِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ عَجَزَ عَنْ تَعْرِيفِ غَيْرِهِ مَا فِي قَلْبِهِ بِطَرِيقِ اللِّسَانِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بطريق الإشارة وبطريقة الْكِتَابَةِ وَغَيْرِهِمَا وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْبَبْغَاءُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى تَعْرِيفَاتٍ قَلِيلَةٍ، فَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى تَعْرِيفِ جَمِيعِ الْأَحْوَالِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ عَطَاءٌ: بِامْتِدَادِ الْقَامَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ غَيْرُ تَامٍّ لِأَنَّ الأشجار أطور مِنْ قَامَةِ الْإِنْسَانِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ شَرْطٌ، وَهُوَ طُولُ الْقَامَةِ مَعَ اسْتِكْمَالِ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالْقُوَى الْحِسِّيَّةِ وَالْحَرَكِيَّةِ. وَرَابِعُهَا: قَالَ بَيَانٌ بِحُسْنِ الصُّورَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غَافِرٍ: 64] لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى خِلْقَةَ الْإِنْسَانِ قَالَ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 14] وَقَالَ: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [الْبَقَرَةِ: 138] وَإِنْ شِئْتَ فَتَأَمَّلَ عُضْوًا وَاحِدًا مِنْ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ الْعَيْنُ فَخَلَقَ الْحَدَقَةَ سَوْدَاءَ ثُمَّ أَحَاطَ بِذَلِكَ السَّوَادِ بَيَاضَ الْعَيْنِ ثُمَّ أَحَاطَ بِذَلِكَ الْبَيَاضِ سَوَادَ الْأَشْفَارِ ثُمَّ أَحَاطَ بِذَلِكَ السَّوَادِ بَيَاضَ الْأَجْفَانِ ثُمَّ خَلَقَ فَوْقَ بَيَاضِ الْجَفْنِ سَوَادَ الْحَاجِبَيْنِ ثُمَّ خَلَقَ فَوْقَ ذَلِكَ السَّوَادِ بَيَاضَ الْجَبْهَةِ ثُمَّ خَلَقَ فَوْقَ بَيَاضِ الْجَبْهَةِ سَوَادَ الشَّعْرِ، وَلْيَكُنْ هَذَا الْمِثَالُ الْوَاحِدُ أُنْمُوذَجًا لَكَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَخَامِسُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ كَرَامَاتِ الْآدَمِيِّ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْخَطَّ. وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَى اسْتِنْبَاطِهِ يَكُونُ قَلِيلًا. أَمَّا إِذَا اسْتَنْبَطَ الْإِنْسَانُ عِلْمًا وَأَوْدَعَهُ فِي الْكِتَابِ، وَجَاءَ الْإِنْسَانُ الثَّانِي وَاسْتَعَانَ بِذَلِكَ الْكِتَابِ، وَضَمَّ إِلَيْهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ أَشْيَاءَ أُخْرَى ثُمَّ لَا يَزَالُونَ يَتَعَاقَبُونَ، وَيَضُمُّ كُلُّ مُتَأَخِّرٍ مَبَاحِثَ كَثِيرَةً إِلَى عِلْمِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَثُرَتِ الْعُلُومُ وَقَوِيَتِ الْفَضَائِلُ وَالْمَعَارِفُ وَانْتَهَتِ الْمَبَاحِثُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْمَطَالِبُ الشَّرْعِيَّةُ إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ وَأَكْمَلِ النِّهَايَاتِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْبَابَ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِوَاسِطَةِ الْخَطِّ وَالْكَتَبَةِ، وَلِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ الْكَامِلَةِ قَالَ تَعَالَى: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ. [الْعَلَقِ: 3- 5] وَسَادِسُهَا: أَنَّ أَجْسَامَ هَذَا الْعَالَمِ إِمَّا بَسَائِطُ وَإِمَّا مُرَكَّبَاتٌ، أَمَّا الْبَسَائِطُ فَهِيَ الْأَرْضُ وَالْمَاءُ/ وَالْهَوَاءُ وَالنَّارُ. وَالْإِنْسَانُ يَنْتَفِعُ بِكُلِّ هَذِهِ الْأَرْبَعِ، أَمَّا الْأَرْضُ فَهِيَ لَنَا كَالْأُمِّ الْحَاضِنَةِ. قَالَ تَعَالَى: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى [طه: 55] وَقَدْ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى بِأَسْمَاءٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا، وَهِيَ الْفِرَاشُ وَالْمَهْدُ، وَالْمِهَادُ، وَأَمَّا الْمَاءُ فَانْتِفَاعُنَا بِهِ فِي الشُّرْبِ وَالزِّرَاعَةِ وَالْحِرَاثَةِ ظَاهِرٌ، وَأَيْضًا سَخَّرَ الْبَحْرَ لِنَأْكُلَ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا، وَنَسْتَخْرِجَ مِنْهُ حِلْيَةً نَلْبَسُهَا وَنَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ، وَأَمَّا الْهَوَاءُ فَهُوَ مَادَّةُ حَيَاتِنَا، وَلَوْلَا هُبُوبُ الرِّيَاحِ لَاسْتَوْلَى النَّتَنُ عَلَى هَذِهِ الْمَعْمُورَةِ، وَأَمَّا النَّارُ فَبِهَا طَبْخُ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَشْرِبَةِ وَنُضْجُهَا، وَهِيَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي اللَّيَالِي الْمُظْلِمَةِ، وَهِيَ الدَّافِعَةُ لِضَرَرِ الْبَرْدِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَمَنْ يُرِدْ فِي الشِّتَاءِ فَاكِهَةً ... فَإِنَّ نَارَ الشِّتَاءِ فَاكِهَتُهُ وَأَمَّا الْمُرَكَّبَاتُ فَهِيَ إِمَّا الْآثَارُ الْعُلْوِيَّةُ، وَإِمَّا الْمَعَادِنُ وَالنَّبَاتُ، وَأَمَّا الْحَيَوَانُ وَالْإِنْسَانُ كَالْمُسْتَوْلِي على هذه

الْأَقْسَامِ وَالْمُنْتَفِعِ بِهَا وَالْمُسْتَسْخِرِ لِكُلِّ أَقْسَامِهَا فَهَذَا الْعَالَمُ بِأَسْرِهِ جَارٍ مَجْرَى قَرْيَةٍ مَعْمُورَةٍ أَوْ خَانٍ مُعَدٍّ وَجَمِيعُ مَنَافِعِهَا وَمَصَالِحِهَا مَصْرُوفَةٌ إِلَى الإنسان والإنسان فِيهِ كَالرَّئِيسِ الْمَخْدُومِ، وَالْمَلِكِ الْمُطَاعِ وَسَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَالْعَبِيدِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَخْصُوصًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِمَزِيدِ التَّكْرِيمِ وَالتَّفْضِيلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَابِعُهَا: أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ تَنْقَسِمُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ إِلَى مَا حَصَلَتْ لَهُ الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الْحِكَمِيَّةُ وَلَمْ تَحْصُلْ لَهُ الْقُوَّةُ الشَّهْوَانِيَّةُ الطَّبِيعِيَّةُ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَإِلَى مَا يَكُونُ بِالْعَكْسِ وَهُمُ الْبَهَائِمُ وَإِلَى مَا خَلَا عَنِ الْقِسْمَيْنِ وَهُوَ النَّبَاتُ وَالْجَمَادَاتُ وَإِلَى مَا حَصَلَ النَّوْعَانِ فِيهِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِنْسَانَ لِكَوْنِهِ مُسْتَجْمِعًا لِلْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْقُدْسِيَّةِ الْمَحْضَةِ، وَلِلْقُوَى الشَّهْوَانِيَّةِ الْبَهِيمِيَّةِ وَالْغَضَبِيَّةِ وَالسَّبُعِيَّةِ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ الْبَهِيمِيَّةِ وَمِنَ السَّبُعِيَّةِ، وَلَا شَكَّ أَيْضًا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الْأَجْسَامِ الْخَالِيَةِ عَنِ الْقُوَّتَيْنِ مِثْلَ النَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ وَالْجَمَادَاتِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَضَّلَ الْإِنْسَانَ عَلَى أكثر أقسام المخلوقات. بقي هاهنا بَحْثٌ فِي أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ أَمِ الْبَشَرَ؟ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْجَوْهَرَ الْبَسِيطَ الْمَوْصُوفَ بِالْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْقُدْسِيَّةِ الْمَحْضَةِ أَفْضَلُ أَمِ الْبَشَرَ الْمُسْتَجْمِعَ لِهَاتَيْنِ الْقُوَّتَيْنِ؟ وَذَلِكَ بَحْثٌ آخَرُ. وَثَامِنُهَا: الْمَوْجُودُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَزَلِيًّا وَأَبَدِيًّا مَعًا وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَا أَزَلِيًّا وَلَا أَبَدِيًّا وَهُوَ عَالَمُ الدُّنْيَا مَعَ كُلِّ مَا فِيهِ مِنَ الْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، وَهَذَا أَخَسُّ الْأَقْسَامِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَزَلِيًّا لَا أَبَدِيًّا وَهُوَ الْمُمْتَنِعُ الْوُجُودِ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ قِدَمُهُ امْتَنَعَ عَدَمُهُ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ أَزَلِيًّا وَلَكِنَّهُ يَكُونُ أَبَدِيًّا، وَهُوَ الْإِنْسَانُ وَالْمَلَكُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ أَشْرَفُ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ الْإِنْسَانِ أَشْرَفَ مِنْ أَكْثَرِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَاسِعُهَا: الْعَالَمُ الْعِلْوِيُّ أَشْرَفُ مِنَ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، وَرُوحُ الْإِنْسَانِ مِنْ جِنْسِ الْأَرْوَاحِ الْعُلْوِيَّةِ وَالْجَوَاهِرِ الْقُدْسِيَّةِ فَلَيْسَ فِي مَوْجُودَاتِ/ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ شَيْءٌ حَصَلَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ إِلَّا الْإِنْسَانَ فَوَجَبَ كَوْنُ الْإِنْسَانِ أَشْرَفَ مَوْجُودَاتِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ. وَعَاشِرُهَا: أَشْرَفُ الْمَوْجُودَاتِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَوْجُودٍ كَانَ قُرْبُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَتَمَّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَشْرَفَ، لَكِنَّ أَقْرَبَ مَوْجُودَاتِ هَذَا الْعَالَمِ مِنَ اللَّهِ هُوَ الْإِنْسَانُ بِسَبَبِ أَنَّ قَلْبَهُ مُسْتَنِيرٌ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِسَانَهُ مُشَرَّفٌ بِذِكْرِ اللَّهِ وَجَوَارِحَهُ وَأَعْضَاؤَهُ مُكَرَّمَةٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ الْجَزْمُ بِأَنَّ أَشْرَفَ مَوْجُودَاتِ هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ هُوَ الْإِنْسَانُ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَوْجُودٌ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِإِيجَادِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا حَصَلَ لِلْإِنْسَانِ مِنَ الْمَرَاتِبِ الْعَالِيَةِ وَالصِّفَاتِ الشَّرِيفَةِ فَهِيَ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِإِحْسَانِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْعَامِهِ فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَمِنْ تَمَامِ كَرَامَتِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ أَكْرَمُ فَقَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [الْعَلَقِ: 1- 4] وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالتَّكْرِيمِ عِنْدَ تَرْبِيَتِهِ لِلْإِنْسَانِ فَقَالَ: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْكَرَمِ فِي آخر أحوال الإنسان فقال: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الِانْفِطَارِ: 6] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِكَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ مَعَ الْإِنْسَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْوَجْهُ الْحَادِي عَشَرَ: قَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا التَّكْرِيمُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ وَخَلَقَ غَيْرَهُ بِطَرِيقِ كُنْ فَيَكُونُ. وَمَنْ كَانَ مَخْلُوقًا بِيَدِ اللَّهِ كَانَتِ الْعِنَايَةُ بِهِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، وَكَانَ أَكْرَمَ وَأَكْمَلَ وَلَمَّا جَعَلَنَا مِنْ أَوْلَادِهِ وَجَبَ كَوْنُ بَنِي آدَمَ أَكْرَمَ وَأَكْمَلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْمَدَائِحِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي

[سورة الإسراء (17) : الآيات 71 إلى 72]

الْبَرِّ عَلَى الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْإِبِلِ وَفِي الْبَحْرِ عَلَى السُّفُنِ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ مُؤَكِّدَاتِ التَّكْرِيمِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا، لِأَنَّهُ تَعَالَى سَخَّرَ هَذِهِ الدَّوَابَّ لَهُ حَتَّى يَرْكَبَهَا وَيَحْمِلَ عَلَيْهَا وَيَغْزُوَ وَيُقَاتِلَ وَيَذُبَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ تَسْخِيرُ اللَّهِ تَعَالَى الْمِيَاهَ وَالسُّفُنَ وَغَيْرَهَا لِيَرْكَبَهَا وَيَنْقِلَ عَلَيْهَا وَيَتَكَسَّبَ بِهَا مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ ابْنُ آدَمَ، كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي هَذَا الْعَالَمِ كَالرَّئِيسِ الْمَتْبُوعِ وَالْمَلِكِ الْمُطَاعِ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ رَعِيَّتُهُ وَتَبَعٌ لَهُ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الْمَدَائِحِ قَوْلُهُ: وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَغْذِيَةَ إِمَّا حَيَوَانِيَّةٌ وَإِمَّا نَبَاتِيَّةٌ، وَكِلَا الْقِسْمَيْنِ إِنَّمَا يَتَغَذَّى الْإِنْسَانُ مِنْهُ بِأَلْطَفِ أَنْوَاعِهَا وَأَشْرَفِ أَقْسَامِهَا بَعْدَ التَّنْقِيَةِ التَّامَّةِ وَالطَّبْخِ الْكَامِلِ وَالنُّضْجِ الْبَالِغِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِلْإِنْسَانِ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا وهاهنا بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَقَالَ فِي آخِرِهَا: وَفَضَّلْناهُمْ/ وَلَا بُدَّ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا التَّكْرِيمِ وَالتَّفْضِيلِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّكْرَارُ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى فَضَّلَ الْإِنْسَانَ عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ بِأُمُورٍ خَلْقِيَّةٍ طَبِيعِيَّةٍ ذَاتِيَّةٍ مِثْلَ الْعَقْلِ وَالنُّطْقِ وَالْخَطِّ وَالصُّورَةِ الْحَسَنَةِ وَالْقَامَةِ الْمَدِيدَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَرَضَهُ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ لِاكْتِسَابِ الْعَقَائِدِ الْحَقَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، فَالْأَوَّلُ هُوَ التَّكْرِيمُ وَالثَّانِي هُوَ التَّفْضِيلُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْكُلِّ بَلْ قَالَ: وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ لَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ مُفَضَّلًا عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ هَذَا الْقِسْمَ قَالَ: إِنَّهُ هُوَ الْمَلَائِكَةُ فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ أَفْضَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بَلِ الْمَلَكُ أَفْضَلُ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُشْتَمِلٌ عَلَى بَحْثَيْنِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَفْضَلُ أَمِ الْمَلَائِكَةُ؟ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْبَقَرَةِ: 34] . وَالْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ عَوَامَّ الْمَلَائِكَةِ وَعَوَامَّ الْمُؤْمِنِينَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِتَفْضِيلِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِمَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ رَبَّنَا إِنَّكَ أَعْطَيْتَ بَنِي آدَمَ الدُّنْيَا يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَتَنَعَّمُونَ وَلَمْ تُعْطِنَا ذَلِكَ فَأَعْطِنَا ذَاكَ فِي الْآخِرَةِ، فَقَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كما قُلْتُ لَهُ كُنْ فَكَانَ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْمُؤْمِنُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ عِنْدَهُ هَكَذَا أَوْرَدَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» : وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَقَدْ عَوَّلُوا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَمَسُّكٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ لِأَنَّ تَقْرِيرَ الدَّلِيلِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ تَخْصِيصَ الْكَثِيرِ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَالَ فِي الْقَلِيلِ بِالضِّدِّ، وَذَلِكَ تَمَسُّكٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ والله أعلم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 71 الى 72] يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72)

[فِي قَوْلُهُ تَعَالَى يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنْوَاعَ كَرَامَاتِ الْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا ذَكَرَ أَحْوَالَ دَرَجَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِيهَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الأولى: قرئ يدعوا بالياء والنون وو يدعى كُلُّ أُنَاسٍ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَقَرَأَ الْحَسَنُ يَدْعُو كُلُّ أُنَاسٍ قَالَ الْفَرَّاءُ وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ لَا يَعْرِفُونَ وَجْهًا لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْمَنْقُولَةِ عَنِ الْحَسَنِ وَلَعَلَّهُ قَرَأَ يُدْعَى بِفَتْحَةٍ مَمْزُوجَةٍ بِالضَّمِّ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ قَرَأَ يَدْعُو. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ يَوْمَ نَدْعُوا نُصِبَ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْعَامِلُ فِيهِ قَوْلُهُ وَفَضَّلْناهُمْ [الإسراء: 70] لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ فَيُقَالُ الْمُرَادُ وَنُفَضِّلُهُمْ بِمَا نُعْطِيهِمْ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالثَّوَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: بِإِمامِهِمْ الْإِمَامُ فِي اللُّغَةِ كُلُّ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ قَوْمٌ كَانُوا عَلَى هُدًى أَوْ ضَلَالَةٍ فَالنَّبِيُّ إِمَامُ أُمَّتِهِ، وَالْخَلِيفَةُ إِمَامُ رَعِيَّتِهِ، وَالْقُرْآنُ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامُ الْقَوْمِ هُوَ الَّذِي يُقْتَدَى بِهِ فِي الصَّلَاةِ وذكروا في تفسير الإمام هاهنا أَقْوَالٌ، الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِمَامُهُمْ نَبِيُّهُمْ رُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ يُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا أَمَةَ إِبْرَاهِيمَ يَا أَمَةَ مُوسَى يَا أَمَةَ عِيسَى يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ فَيَقُومُ أَهْلُ الْحَقِّ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْأَنْبِيَاءَ فَيَأْخُذُونَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ ثُمَّ يُنَادَى يَا أَتْبَاعَ فِرْعَوْنَ يَا أَتْبَاعَ نَمْرُودَ يَا أَتْبَاعَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِنْ رُؤَسَاءِ الضَّلَالِ وَأَكَابِرِ الْكُفْرِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِإِمامِهِمْ فِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ يدعو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ تَبَعًا وَشِيعَةً لِأَمَامِهِمْ كَمَا تَقُولُ أَدْعُوكَ بِاسْمِكَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ وَذَلِكَ الْمَحْذُوفُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَأَنَّهُ قِيلَ يدعو كُلَّ أُنَاسٍ مُخْتَلِطِينَ بِإِمَامِهِمْ أَيْ يُدْعَوْنَ وَإِمَامُهُمْ فِيهِمْ نَحْوَ رَكْبٍ بِجُنُودِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَابْنِ زَيْدٍ بِإِمامِهِمْ أَيْ بِكِتَابِهِمُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يُنَادَى فِي الْقِيَامَةِ يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ يَا أَهْلَ التَّوْرَاةِ يَا أَهْلَ الْإِنْجِيلِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ الْحَسَنُ بِكِتَابِهِمُ الَّذِي فِيهِ أَعْمَالُهُمْ وَهُوَ قَوْلُ الرَّبِيعِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ يُسَمَّى إِمَامًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس: 12] فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْكِتَابَ إِمَامًا، وَتَقْدِيرُ الْبَاءِ عَلَى هذا القول بمعنى مع أي ندعو كُلَّ أُنَاسٍ وَمَعَهُمْ كِتَابُهُمْ كَقَوْلِكَ ادْفَعْهُ إِلَيْهِ بِرُمَّتِهِ أَيْ وَمَعَهُ رُمَّتُهُ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَمِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ الْإِمَامَ جَمْعُ أُمٍّ، وَأَنَّ النَّاسَ يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأُمَّهَاتِهِمْ وَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الدُّعَاءِ بِالْأُمَّهَاتِ دُونَ الْآبَاءِ رِعَايَةُ حَقِّ عِيسَى وَإِظْهَارُ شَرَفِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَأَنْ لَا يَفْتَضِحَ أَوْلَادُ الزِّنَا ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّهُمَا أَبْدَعُ أَصِحَّةُ لَفْظِهِ أَمْ بَيَانُ حِكْمَتِهِ. وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَقُولُ فِي اللَّفْظِ احْتِمَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ أَنْوَاعَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالْفَاسِدَةِ كَثِيرَةٌ وَالْمُسْتَوْلِي عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ نَوْعٌ مِنْ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْغَضَبَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ شَهْوَةَ النُّقُودِ أَوْ شَهْوَةَ الضِّيَاعِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْحِقْدَ وَالْحَسَدَ وَفِي جَانِبِ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْعِفَّةَ أَوِ الشَّجَاعَةَ أَوِ/ الْكَرَمَ أَوْ طَلَبَ الْعِلْمِ وَالزُّهْدَ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الدَّاعِي إِلَى الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ مِنْ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ الْبَاطِنَةِ فَذَلِكَ الْخُلُقُ الْبَاطِنُ كَالْإِمَامِ لَهُ وَالْمَلِكِ الْمُطَاعِ وَالرَّئِيسِ الْمَتْبُوعِ فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّمَا يَظْهَرُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ بِنَاءً عَلَى الْأَفْعَالِ النَّاشِئَةِ مِنْ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَهَذَا الِاحْتِمَالُ خَطَرَ بِالْبَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِنَّمَا قَالَ أُولَئِكَ لِأَنَّ مَنْ أُوتِيَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ وَالْفَتِيلُ الْقِشْرَةُ الَّتِي فِي شَقِّ النَّوَاةِ وَسُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ الإنسان استخراجه

انْفَتَلَ وَهَذَا يُضْرَبُ مَثَلًا لِلشَّيْءِ الْحَقِيرِ التَّافِهِ وَمِثْلُهُ الْقِطْمِيرُ وَالنَّقِيرُ فِي ضَرْبِ الْمَثَلِ بِهِ وَالْمَعْنَى لَا يَنْقُصُونَ مِنَ الثَّوَابِ بِمِقْدَارِ فَتِيلٍ ونظيره قوله: وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً [مريم: 60] ، فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً [طه: 112] وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ الْفَتِيلُ هُوَ الْوَسَخُ الَّذِي يَظْهَرُ بِفَتْلِ الْإِنْسَانِ إِبْهَامَهُ بِسَبَّابَتِهِ وَهُوَ فَعِيلٌ مِنَ الْفَتْلِ بِمَعْنَى مَفْتُولٌ فإن قيل لهم خَصَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ بِقِرَاءَةِ كِتَابِهِمْ مَعَ أَنَّ أَصْحَابَ الشِّمَالِ يَقْرَءُونَهُ أَيْضًا قُلْنَا الْفَرْقُ أَنَّ أَصْحَابَ الشِّمَالِ إِذَا طَالَعُوا كِتَابَهُمْ وَجَدُوهُ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُهْلِكَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالْقَبَائِحِ الْكَامِلَةِ وَالْمَخَازِي الشَّدِيدَةِ فَيَسْتَوْلِي الْخَوْفُ وَالدَّهْشَةُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَيَثْقُلُ لِسَانُهُمْ فَيَعْجِزُوا عَنِ الْقِرَاءَةِ وَأَمَّا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فَأَمْرُهُمْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَأَثْبَتِهَا ثُمَّ لَا يَكْتَفُونَ بِقِرَاءَتِهِمْ وَحْدَهُمْ بَلْ يَقُولُ الْقَارِئُ لِأَهْلِ الحشر: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الْحَّاقَّةِ: 19] فَظَهَرَ الْفَرْقُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَنَصْرٍ عَنِ الْكِسَائِيِّ: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى بِالْإِمَالَةِ وَالْكَسْرِ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى بِالْفَتْحِ وَقَرَأَ بِالْفَتْحِ وَالتَّفْخِيمِ فِيهِمَا ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ فِي رِوَايَةٍ بِالْإِمَالَةِ فِيهِمَا، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ الْوَجْهُ فِي تَصْحِيحِ قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَعْمَى فِي الْكَلِمَةِ الْأُولَى كَوْنُهُ فِي نَفْسِهِ أَعْمَى وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ تَامَّةً فَتَقْبَلُ الْإِمَالَةَ وَأَمَّا فِي الْكَلِمَةِ الثَّانِيَةِ فَالْمُرَادُ مِنَ الْأَعْمَى أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ فَكَانَتْ بِمَعْنَى أَفْعَلُ مِنْ وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ لَا تَكُونُ لَفْظَةُ أَعْمَى تَامَّةً فَلَمْ تَقْبَلِ الْإِمَالَةَ وَالْحَاصِلُ أَنَّ إِدْخَالَ الْإِمَالَةِ فِي الْأُولَى دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ وَتَرْكُهَا فِي الثَّانِيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ «1» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى عَمَى الْبَصَرِ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ عَمَى الْقَلْبِ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَيْضًا عَمَى الْقَلْبِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: قَالَ عِكْرِمَةُ: جَاءَ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ/ الْيَمَنِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: اقْرَأْ مَا قَبْلَهَا فَقَرَأَ رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ إلى قوله تَفْضِيلًا [الإسراء: 66- 70] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَنْ كَانَ أَعْمَى فِي هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي قَدْ رَأَى وَعَايَنَ فَهُوَ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ الَّتِي لَمْ يَرَ وَلَمْ يُعَايِنْ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَوْلُهُ: فِي هذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى النِّعَمِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَثَانِيًا: رَوَى أَبُو رَوْقٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَعْمَى عَمَّا يُرَى مِنْ قدرتي في خلق السموات وَالْأَرْضِ وَالْبِحَارِ وَالْجِبَالِ وَالنَّاسِ وَالدَّوَابِّ فَهُوَ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا وَأَبْعَدُ عَنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِهِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَوْلُهُ وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الدُّنْيَا وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فَالْمُرَادُ مَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَعْمَى الْقَلْبِ عَنْ مَعْرِفَةِ هَذِهِ النِّعَمِ وَالدَّلَائِلِ فَبِأَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى الْقَلْبِ عَنْ مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ أَوْلَى فَالْعَمَى فِي الْمَرَّتَيْنِ حَصَلَ فِي الدُّنْيَا. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْحَسَنُ مَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا ضَالًّا كَافِرًا فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا لِأَنَّهُ فِي الدُّنْيَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَفِي الْآخِرَةِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَفِي الدُّنْيَا يَهْتَدِي إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْ أَبْوَابِ الْآفَاتِ وَفِي الْآخِرَةِ لَا يَهْتَدِي إِلَى ذَلِكَ الْبَتَّةَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْعَمَى الثاني على

_ (1) لم يجوز النحاة أفعل التفضيل من أعمى لأن الوصف رباعي والعمى مما لا تفاوت فيه وألزموا أن يقال أشد أو أكثر. فأعمى الأولى يصف بالعمى كالثانية لكن التفاوت في الثانية يفهم من قوله تعالى: وَأَضَلُّ سَبِيلًا.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 73 إلى 75]

الْجَهْلِ بِاللَّهِ لِأَنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ يَعْرِفُونَ اللَّهَ بِالضَّرُورَةِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَمَى عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ أَيْ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَعْمَى عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الَّذِينَ حَصَلَ لَهُمْ عَمَى الْقَلْبِ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ لَهُمْ لِشِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى تَحْصِيلِ الدُّنْيَا وَابْتِهَاجِهِمْ بِلَذَّاتِهَا وَطَيِّبَاتِهَا فَهَذِهِ الرَّغْبَةُ تَزْدَادُ فِي الْآخِرَةِ وَتَعْظُمُ هُنَاكَ حَسْرَتُهَا عَلَى فَوَاتِ الدُّنْيَا وَلَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنْ أَنْوَارِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَبْقَوْنَ فِي ظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ وَحَسْرَةٍ عَظِيمَةٍ فَذَاكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَمَى. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ يُحْمَلَ الْعَمَى الثَّانِي عَلَى عَمَى الْعَيْنِ وَالْبَصَرِ فَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَعْمَى الْقَلْبِ حُشِرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى العين والبصر كما قال: نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى [طه: 124- 126] وَقَالَ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الْإِسْرَاءِ: 97] وَهَذَا الْعَمَى زِيَادَةٌ فِي عُقُوبَتِهِمْ والله أعلم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 73 الى 75] وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَدَّدَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَقْسَامَ نِعَمِهِ عَلَى خَلْقِهِ وَأَتْبَعَهَا بِذِكْرِ دَرَجَاتِ الْخَلْقِ فِي الْآخِرَةِ وَشَرَحَ أَحْوَالَ السُّعَدَاءِ أَرْدَفَهُ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى تَحْذِيرِ السُّعَدَاءِ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِوَسَاوِسِ أَرْبَابِ الضَّلَالِ وَالِانْخِدَاعِ بِكَلَامِهِمُ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْمَكْرِ وَالتَّلْبِيسِ فَقَالَ: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ شَطَطًا، وَقَالُوا مَتِّعْنَا بِاللَّاتِ سَنَةً وَحَرِّمْ وَادِينَا كَمَا حَرَّمْتَ مَكَّةَ شَجَرَهَا وَطَيْرَهَا وَوَحْشَهَا فَأَبَى ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُجِبْهُمْ فَكَرَّرُوا ذَلِكَ الِالْتِمَاسَ، وَقَالُوا إِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَعْرِفَ الْعَرَبُ فَضْلَنَا عَلَيْهِمْ، فَإِنْ كَرِهْتَ مَا نَقُولُ وَخَشِيتَ أَنْ تَقُولَ الْعَرَبُ أَعْطَيْتَهُمْ مَا لَمْ تُعْطِنَا، فَقُلِ: اللَّهُ أَمَرَنِي بِذَلِكَ فَأَمْسَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ وَدَاخَلَهُمُ الطَّمَعُ، فَصَاحَ عَلَيْهِمْ عُمَرُ وَقَالَ: أَمَا تَرَوْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمْسَكَ عَنِ الْكَلَامِ كَرَاهِيَةً لَمَّا تَذْكُرُونَهُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَرَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّهُمْ جَاءُوا بِكَاتِبِهِمْ فَكَتَبَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى ثَقِيفٍ لَا يُعَشَّرُونَ وَلَا يُحْشَرُونَ، فَقَالُوا وَلَا يُجْبَوْنَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالُوا لِلْكَاتِبِ: اكْتُبْ وَلَا يُجْبَوْنَ وَالْكَاتِبُ يَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَسَلَّ سَيْفَهُ، وقال: أسعرتهم قَلْبَ نَبِيِّنَا يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَسْعَرَ اللَّهُ قُلُوبَكُمْ نَارًا. فَقَالُوا لَسْنَا نُكَلِّمُكَ إِنَّمَا نُكَلِّمُ مُحَمَّدًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ بِالْمَدِينَةِ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالُوا إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مَدَنِيَّةٌ. وَرُوِيَ أَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا لَهُ: اجْعَلْ آيَةَ رَحْمَةٍ آيَةَ عَذَابٍ وَآيَةَ عَذَابٍ آيَةَ رَحْمَةٍ، حَتَّى نُؤْمِنَ بِكَ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَالَ الْحَسَنُ: الْكُفَّارُ أَخَذُوا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَقَالُوا: كُفَّ يَا مُحَمَّدُ عَنْ ذَمِّ آلِهَتِنَا وَشَتْمِهَا فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا كَانَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ بِهَذَا الْأَمْرِ أَحَقَّ مِنْكَ فَوَقَعَ فِي قَلْبِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِهِمْ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَهَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ فَتَمْنَعُهُ قُرَيْشٌ وَيَقُولُونَ لَا نَدَعُكَ حَتَّى تَسْتَلِمَ

آلِهَتَنَا «1» فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ يَفْعَلَ ذَلِكَ مَعَ كَرَاهِيَةٍ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ مَعْنَى الْكَلَامِ كَادُوا يَفْتِنُونَكَ وَدَخَلَتْ إِنَّ وَاللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ وَإِنَّ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ، وَالْمَعْنَى إِنَّ الشَّأْنَ [أَنَّهُمْ] قَارَبُوا أَنْ يَفْتِنُوكَ أَيْ يَخْدَعُوكَ فَاتِنِينَ [وَ] أَصْلُ الْفِتْنَةِ الِاخْتِبَارُ يُقَالُ فَتَنَ الصَّائِغُ الذَّهَبَ إِذَا أَدْخَلَهُ النَّارَ وَأَذَابَهُ/ لتميز جِيدِهِ مِنْ رَدِيئِهِ ثُمَّ اسْتَعْمَلُوهُ فِي كُلِّ مَنْ أَزَالَ الشَّيْءَ عَنْ حَدِّهِ وَجِهَتِهِ فَقَالُوا فَتَنَهُ فَقَوْلُهُ: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَيْ يُزِيُلُونَكَ وَيَصْرِفُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَالْمَعْنَى عَنْ حُكْمِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي إِعْطَائِهِمْ مَا سَأَلُوهُ مُخَالَفَةً لِحُكْمِ الْقُرْآنِ، وَقَوْلُهُ: لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ أَيْ غَيْرَ مَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: قُلِ اللَّهُ أَمَرَنِي بِذَلِكَ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أَيْ لَوْ فَعَلْتَ مَا أَرَادُوا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَأَظْهَرُوا لِلنَّاسِ أَنَّكَ مُوَافِقٌ لَهُمْ عَلَى كَوْنِهِمْ وَرَاضٍ بِشِرْكِهِمْ ثُمَّ قَالَ: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ أَيْ عَلَى الْحَقِّ بِعِصْمَتِنَا إِيَّاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ أَيْ تَمِيلُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا وَقَوْلُهُ: شَيْئاً عِبَارَةٌ عَنِ الْمَصْدَرِ أَيْ رُكُونًا قَلِيلًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ حَيْثُ سَكَتَ عَنْ جَوَابِهِمْ. قَالَ قَتَادَةُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ لَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ» ثُمَّ تَوَعَّدَهُ فِي ذَلِكَ أَشَدَّ التَّوَعُّدِ فَقَالَ: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أَيْ ضِعْفَ عَذَابِ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ عَذَابِ الْمَمَاتِ يُرِيدُ عَذَابَ الدُّنْيَا وَعَذَابَ الْآخِرَةِ وَالضِّعْفُ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ يَضُمَّ إِلَى الشَّيْءِ مِثْلَهُ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لِوَكِيلِهِ أَعْطِ فُلَانًا شَيْئًا فَأَعْطَاهُ دِرْهَمًا فَقَالَ أَضْعِفْهُ كَانَ الْمَعْنَى ضُمَّ إِلَى ذَلِكَ الدرهم مثله إذا عرفت هذا فنقول: إنا حَسُنَ إِضْمَارُ الْعَذَابِ فِي قَوْلِهِ: ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ وَصْفِ الْعَذَابِ بِالضِّعْفِ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هَذَا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ [ص: 61] وَقَالَ: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ [الْأَعْرَافِ: 38] وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّكَ لَوْ مَكَّنْتَ خواطر الشيطان من قبلك وَعَقَدْتَ عَلَى الرُّكُونِ إِلَيْهِ هِمَّتَكَ لَاسْتَحْقَقْتَ بِذَلِكَ تَضْعِيفَ الْعَذَابِ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَصَارَ عَذَابُكَ مِثْلَيْ عَذَابِ الْمُشْرِكِ فِي الدُّنْيَا وَمِثْلَيْ عَذَابِهِ فِي الْآخِرَةِ وَالسَّبَبُ فِي تَضْعِيفِ هَذَا الْعَذَابِ أَنَّ أَقْسَامَ نِعَمِ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَكْثَرُ فَكَانَتْ ذُنُوبُهُمْ أَعْظَمَ فَكَانَتِ الْعُقُوبَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ وَنَظِيرُهُ قوله تعالى: يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الْأَحْزَابِ: 30] فَإِنْ قِيلَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فَمُوجَبُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوْ رَضِيَ بِمَا قَالُوهُ لَكَانَ وِزْرُهُ مِثْلَ وِزْرِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ عِقَابُهُ زَائِدًا عَلَى الضِّعْفِ قُلْنَا إِثْبَاتُ الضِّعْفِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْبِنَاءِ عَلَى دَلِيلِ الْخِطَابِ وَهُوَ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً يَعْنِي إِذَا أَذَقْنَاكَ الْعَذَابَ الْمُضَاعَفَ لَمْ تَجِدْ أَحَدًا يُخَلِّصُكَ مِنْ عَذَابِنَا وَعِقَابِنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الطَّاعِنُونَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى صُدُورِ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ عَنْهُمْ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَرُبَ مِنْ أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَى اللَّهِ، وَالْفِرْيَةُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ثَبَّتَهُ وَعَصَمَهُ لَقَرُبَ مِنْ أَنْ يَرْكَنَ إِلَى دِينِهِمْ وَيَمِيلَ إِلَى مَذْهَبِهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْلَا سَبْقُ جُرْمٍ وَجِنَايَةٍ وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ إِلَى ذكر هذا الوعيد الشديد

_ (1) في الأصل حتى تستلم بآلهتنا. واستلم فعل متعدي لا يحتاج إلى جار فلذلك آثرت حذفه، وما بين الأقواس المربعة هنا وفيما يأتي زيادة اقتضاها سياق الكلام وليست في الأصول.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 76 إلى 77]

وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ/ كَادَ مَعْنَاهُ الْمُقَارَبَةُ فَكَانَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ قَرُبَ وُقُوعُهُ فِي الْفِتْنَةِ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ فِي تِلْكَ الْفِتْنَةِ فَإِنَّا إِذَا قُلْنَا كَادَ الْأَمِيرُ أَنْ يَضْرِبَ فُلَانًا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ ضَرَبَهُ، وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ كَلِمَةَ لَوْلَا تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِثُبُوتِ غَيْرِهِ، تَقُولُ لَوْلَا عَلِيٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ، مَعْنَاهُ أَنَّ وُجُودَ عَلِيٍّ مَنَعَ مِنْ حُصُولِ الْهَلَاكِ لِعُمْرَ، فَكَذَلِكَ هاهنا قَوْلُهُ: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ حَصَلَ تَثْبِيتُ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ حُصُولُ ذَلِكَ التَّثْبِيتِ مَانِعًا مِنْ حُصُولِ ذَلِكَ الرُّكُونِ، وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ ذَلِكَ التَّهْدِيدَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْهَا قَوْلُهُ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الْحَاقَّةِ: 44- 46] وَمِنْهَا قَوْلُهُ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: 65] وَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَابِ: 48] وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ عَنِ الْمَعَاصِي إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ لَوْلَا تَثْبِيتُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ لَمَالَ إلى طريقة الكفار ولا شك أن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ فِي قُوَّةِ الدِّينِ وَصَفَاءِ الْيَقِينِ فَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ بَقَاءَهُ مَعْصُومًا عَنِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ لَمْ يَحْصُلْ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِغَاثَتِهِ كَانَ حُصُولُ هَذَا الْمَعْنَى فِي حَقِّ غَيْرِهِ أَوْلَى. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْمُرَادُ بِهَذَا التَّثْبِيتِ الْأَلْطَافُ الصَّارِفَةُ لَهُ عَنْ ذَلِكَ وَهِيَ مَا خَطَرَ بِبَالِهِ مِنْ ذِكْرِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَمِنْ ذِكْرِ أَنَّ كَوْنَهُ نَبِيًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْجَوَابُ: لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا التَّثْبِيتَ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلٍ فَعَلَهُ اللَّهُ يَمْنَعُ الرَّسُولَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ الْمَحْذُورِ، فَنَقُولُ: لَوْ لَمْ يُوجَدِ الْمُقْتَضَى لِلْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ الْمَحْذُورِ فِي حَقِّ الرَّسُولِ لَمَا كَانَ إِلَى إِيجَادِ هَذَا الْمَانِعِ حَاجَةٌ وَحَيْثُ وَقَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى تَحْصِيلِ هَذَا الْمَانِعِ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُقْتَضَى قَدْ حَصَلَ فِي حَقِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ هَذَا الْمَانِعَ الَّذِي فَعَلَهُ اللَّهُ مَنَعَ ذَلِكَ الْمُقْتَضَى مِنَ الْعَمَلِ وَهَذَا لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْقُدْرَةَ مَعَ الدَّاعِي تُوجِبُ الْفِعْلَ، فَإِذَا حَصَلَتْ دَاعِيَةٌ أُخْرَى مُعَارِضَةٌ لِلدَّاعِيَةِ الْأُولَى اخْتَلَّ الْمُؤَثِّرُ فَامْتَنَعَ الْفِعْلُ وَنَحْنُ لَا نُرِيدُ إِلَّا إِثْبَاتَ هَذَا الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْوُجُوهَ الْمَذْكُورَةَ، وَيُمْكِنُ أَيْضًا تَأْوِيلُهَا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِسَبَبٍ يُضَافُ نُزُولُهَا فِيهِ لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَسْعَوْنَ فِي إِبْطَالِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، فَتَارَةً كَانُوا يَقُولُونَ: إِنْ عَبَدْتَ آلِهَتَنَا عَبَدْنَا إِلَهَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الْكَافِرُونَ: 1، 2] وَقَوْلَهُ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [الْقَلَمِ: 9] وَعَرَضُوا عَلَيْهِ الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ وَالنِّسْوَانَ الْجَمِيلَةَ لِيَتْرُكَ ادِّعَاءَ النُّبُوَّةِ فأنزل الله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ [طه: 131] وَدَعَوْهُ إِلَى طَرْدِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ نَفْسِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الْأَنْعَامِ: 52] فَيَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ فِي هَذَا الْبَابِ/ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَصَدُوا أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ دِينِهِ وَأَنْ يُزِيلُوهُ عَنْ مَنْهَجِهِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يُثَبِّتُهُ عَلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالْمَنْهَجِ الْمُسْتَقِيمِ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فَلَا حَاجَةَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَى شَيْءٍ من تلك الروايات. والله أعلم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 76 الى 77] وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)

فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ هَمُّوا بِإِخْرَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ مَا أُمْهِلُوا، وَلَكِنَّ اللَّهَ مَنَعَهُمْ مِنْ إِخْرَاجِهِ، حَتَّى أَمَرَهُ اللَّهُ بِالْخُرُوجِ، ثُمَّ إِنَّهُ قَلَّ لَبْثُهُمْ بَعْدَ خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ يَوْمَ بَدْرٍ وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ حَسَدَتْهُ الْيَهُودُ وَكَرِهُوا قُرْبَهُ مِنْهُمْ فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ إِنَّمَا بُعِثُوا بِالشَّامِ وَهِيَ بِلَادٌ مُقَدَّسَةٌ وَكَانَتْ مَسْكَنَ إِبْرَاهِيمَ فَلَوْ خَرَجْتَ إِلَى الشَّامِ آمَنَّا بِكَ وَاتَّبَعْنَاكَ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُكَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَّا خَوْفُ الرُّومِ فَإِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ فَاللَّهُ مَانِعُكَ مِنْهُمْ. فَعَسْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ قِيلَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ حَتَّى يَجْتَمِعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ وَيَرَاهُ النَّاسُ عَازِمًا عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الشَّامِ لِحِرْصِهِ عَلَى دُخُولِ النَّاسِ فِي دِينِ اللَّهِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَرَجَعَ. فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ وَهُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ فَإِنْ صَحَّ الْقَوْلُ الثَّانِي كَانَتِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةً، وَالْأَرْضُ فِي قَوْلِهِ: لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَكَّةُ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي الْمَدِينَةُ وَكَثُرَ فِي التَّنْزِيلِ ذِكْرُ الْأَرْضِ وَالْمُرَادُ مِنْهَا مَكَانٌ مَخْصُوصٌ كَقَوْلِهِ: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [الْمَائِدَةِ: 33] يَعْنِي مِنْ مَوَاضِعِهِمْ وَقَوْلِهِ: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ [يُوسُفَ: 80] يَعْنِي الْأَرْضَ الَّتِي كَانَ قَصَدَهَا لِطَلَبِ الْمِيرَةِ، فَإِنْ قِيلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [مُحَمَّدٍ: 13] يَعْنِي مَكَّةَ وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا فَذَكَرَ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها فَكَيْفَ [يُمْكِنُ] الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ الْأَرْضُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَكَّةُ؟ قُلْنَا: إِنَّهُمْ هَمُّوا بِإِخْرَاجِهِ وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا خَرَجَ بِسَبَبِ إِخْرَاجِهِمْ وَإِنَّمَا خَرَجَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَزَالَ التَّنَاقُضُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو عَنْ عَاصِمٍ (خَلْفَكَ) بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ/ وَالْبَاقُونَ خِلافَكَ زَعَمَ الْأَخْفَشُ أَنَّ خِلَافَكَ فِي مَعْنَى خَلْفَكَ وَرَوَى ذَلِكَ يُونُسُ عَنْ عِيسَى وَهَذَا كَقَوْلِهِ: بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 81] وَقَالَ الشَّاعِرُ: عَفَتِ الدِّيَارُ خِلَافَهُمْ فَكَأَنَّمَا ... بَسَطَ الشَّوَاطِبُ بَيْنَهُنَّ حَصِيرَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ لَا يَلْبَثُونَ وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ لا يلبثوا على إعمال إذا، فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ الْقِرَاءَتَيْنِ؟ قُلْنَا: أَمَّا الشائعة فَقَدْ عُطِفَ فِيهَا الْفِعْلُ عَلَى الْفِعْلِ وَهُوَ مَرْفُوعٌ لِوُقُوعِهِ خَبَرَ كَادَ وَالْفِعْلُ فِي خَبَرِ كَادَ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاسْمِ وَأَمَّا قِرَاءَةُ أُبَيٍّ ففيها الجملة برأسها التي هي قوله: إذا لا يلبثوا عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا يَعْنِي أَنَّ كُلَّ قَوْمٍ أَخْرَجُوا نَبِيَّهُمْ مِنْ ظَهْرَانَيْهِمْ فَسُنَّةُ اللَّهِ أَنْ يُهْلِكَهُمْ فَقَوْلُهُ: سُنَّةَ نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ أَيْ سَنَنَّا ذَلِكَ سُنَّةً فِيمَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ ثُمَّ قَالَ: وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْعَادَةَ لَمْ يَتَهَيَّأْ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْلِبَ تِلْكَ الْعَادَةَ وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ اخْتِصَاصَ كُلِّ حَادِثٍ بِوَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ وَصِفَتِهِ الْمُعَيَّنَةِ لَيْسَ أَمْرًا ثَابِتًا لَهُ لِذَاتِهِ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَدُومَ أَبَدًا عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ وَأَنْ لَا يَتَمَيَّزَ الشَّيْءُ عَمَّا يُمَاثِلُهُ فِي تِلْكَ الصِّفَاتِ بَلْ إِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصُ بِتَخْصِيصِ الْمُخَصَّصِ وَذَلِكَ التَّخْصِيصُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ تَحْصِيلَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ تَتَعَلَّقُ قُدْرَتُهُ بِتَحْصِيلِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ يَتَعَلَّقُ عِلْمُهُ بِحُصُولِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ نَقُولُ هَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي هِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي حُصُولِ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصِ إِنْ كَانَتْ حَادِثَةً افْتَقَرَ حُدُوثُهَا إلى تخصيص آخر ولزم التسلل وَهُوَ مُحَالٌ وَإِنْ كَانَتْ

[سورة الإسراء (17) : الآيات 78 إلى 81]

قَدِيمَةً فَالْقَدِيمُ يَمْتَنِعُ تَغَيُّرُهُ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ قِدَمُهُ امْتَنَعَ عَدَمُهُ وَلَمَّا كَانَ التَّغَيُّرُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي ذَلِكَ الِاخْتِصَاصِ مُمْتَنِعًا كَانَ التَّغَيُّرُ فِي تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْمُقَدَّرَةِ مُمْتَنِعًا فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ صِحَّةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا. [سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 81] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) [في قَوْلُهُ تَعَالَى أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي النَّظْمِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ أَمْرَ الْإِلَهِيَّاتِ وَالْمَعَادِ وَالنُّبُوَّاتِ أَرْدَفَهَا بِذِكْرِ الْأَمْرِ بِالطَّاعَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَأَشْرَفُ الطَّاعَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ الصَّلَاةُ فَلِهَذَا السَّبَبِ أَمْرَ بِهَا. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ [الإسراء: 76] أَمَرَهُ تَعَالَى بِالْإِقْبَالِ عَلَى عِبَادَتِهِ لِكَيْ يَنْصُرَهُ عَلَيْهِمْ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ لَا تُبَالِ بِسَعْيِهِمْ فِي إِخْرَاجِكَ مِنْ بَلْدَتِكَ وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ وَاشْتَغِلْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَاوِمْ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّهُ تَعَالَى يَدْفَعُ مَكْرَهُمْ وَشَرَّهُمْ عَنْكَ وَيَجْعَلُ يَدَكَ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وَدِينَكَ غَالِبًا عَلَى أَدْيَانِهِمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ طه: فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها، وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى [طه: 130] وَقَالَ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحِجْرِ: 97- 99] وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَقْرِيرِ النَّظْمِ أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا قَالُوا لَهُ اذْهَبْ إِلَى الشَّامِ فَإِنَّهُ مَسْكَنُ الْأَنْبِيَاءِ عَزَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الذَّهَابِ إِلَيْهِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ الْمَعْبُودُ وَاحِدٌ فِي كُلِّ الْبِلَادِ وَمَا النُّصْرَةُ وَالدَّوْلَةُ إِلَّا بِتَأْيِيدِهِ وَنُصْرَتِهِ فَدَاوِمْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَارْجِعْ إِلَى مَقَرِّكَ وَمَسْكَنِكَ وَإِذَا دَخَلْتَهُ وَرَجَعْتَ إِلَيْهِ فَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي فِي هَذَا الْبَلَدِ سُلْطَانًا نَصِيرًا فِي تَقْرِيرِ دِينِكَ وَإِظْهَارِ شَرْعِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى دُلُوكِ الشَّمْسِ عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ دُلُوكَهَا غُرُوبُهَا وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَنَقَلَ الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: دُلُوكُ الشَّمْسِ غُرُوبُهَا. وَرَوَى زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: دُلُوكُ الشَّمْسِ غُرُوبُهَا، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ هَذَا الْقَوْلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ دُلُوكَ الشَّمْسِ هُوَ زَوَالُهَا عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ عَلَى صِحَّتِهِ بِوُجُوهٍ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: «طَعِمَ عِنْدِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ ثُمَّ خَرَجُوا حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا حِينَ دَلَكَتِ الشَّمْسُ» . الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ فَصَلَّى بِيَ الظَّهْرَ» . الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ مَعْنَى الدُّلُوكِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الزَّوَالُ وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلشَّمْسِ إِذَا زَالَتْ نِصْفَ النَّهَارِ دَالِكَةٌ، وَقِيلَ لَهَا إِذَا أَفَلَتْ دَالِكَةٌ لِأَنَّهَا فِي الْحَالَتَيْنِ زَائِلَةٌ. هَكَذَا قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَقَالَ الْقَفَّالُ: أَصْلُ الدُّلُوكِ

الْمَيْلُ، يُقَالُ: مَالَتِ الشَّمْسُ لِلزَّوَالِ، وَيُقَالُ: مَالَتْ لِلْغُرُوبِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا/ فَنَقُولُ: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الدلوك هاهنا الزَّوَالُ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ بِالدُّلُوكِ، وَالدُّلُوكُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَيْلِ وَالزَّوَالِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ أَوَّلُ مَا حَصَلَ الْمَيْلُ وَالزَّوَالُ تَعَلَّقَ بِهِ هَذَا الْحُكْمُ فَلَمَّا حَصَلَ هَذَا الْمَعْنَى حَالَ مَيْلِهَا مِنْ كَبِدِ السَّمَاءِ وَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الصَّلَاةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الدُّلُوكِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَيْلُهَا عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ وَهَذِهِ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ فِي هَذَا الْبَابِ اسْتَنْبَطْتُهَا بِنَاءً عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَنَّ الدُّلُوكَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَيْلِ وَالزَّوَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْأَزْهَرِيُّ الْأَوْلَى حَمْلُ الدُّلُوكِ عَلَى الزَّوَالِ فِي نِصْفِ النَّهَارِ، وَالْمَعْنَى أَقِمِ الصَّلاةَ أَيْ أَدِمْهَا مِنْ وَقْتِ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الظَّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ والعشاء، ثم قال: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ فَإِذَا حَمَلْنَا الدُّلُوكَ عَلَى الزَّوَالِ دَخَلَتِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْغُرُوبِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ إِلَّا ثَلَاثُ صَلَوَاتٍ وَهِيَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ وَحَمْلُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا يَكُونُ أَكْثَرَ فَائِدَةً أَوْلَى فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الدُّلُوكِ الزَّوَالَ، وَاحْتَجَّ الْفَرَّاءُ عَلَى قَوْلِهِ الدُّلُوكُ هُوَ الْغُرُوبُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: هَذَا مَقَامُ قَدَمَيْ رَبَاحٍ ... وَقَفَتْ حَتَّى دَلَكَتْ بَرَاحُ وَبَرَاحُ اسْمُ الشَّمْسِ أَيْ حَتَّى غَابَتْ، وَاحْتَجَّ ابْنُ قُتَيْبَةَ بِقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ: مَصَابِيحُ لَيْسَتْ بِاللَّوَاتِي يَقُودُهَا ... نُجُومٌ وَلَا أَفَلَاكُّهُنَّ الدَّوَالِكُ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ عِنْدَنَا الدُّلُوكَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَيْلِ وَالتَّغَيُّرِ وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ فِي الْغُرُوبِ فَكَانَ الْغُرُوبُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الدُّلُوكِ فَكَانَ وُقُوعُ لَفْظِ الدُّلُوكِ عَلَى الْغُرُوبِ لَا يُنَافِي وُقُوعَهُ عَلَى الزَّوَالِ كَمَا أَنَّ وُقُوعَ لَفْظِ الْحَيَوَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ لَا يُنَافِي وُقُوعَهُ عَلَى الْفَرَسِ وَمِنْهُمْ مَنِ احْتَجَّ أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الدُّلُوكَ اشْتِقَاقُهُ مِنَ الدَّلْكِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَدْلُكُ عَيْنَيْهِ عِنْدَ النَّظَرِ إِلَيْهَا وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُمْكِنُ النَّظَرُ إِلَيْهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا عِنْدَ كَوْنِهَا فِي وَسَطِ السَّمَاءِ لَا يُمْكِنُ النَّظَرُ إِلَيْهَا، أَمَّا عِنْدَ قُرْبِهَا من الغروب فيمكن النظر إليها [و] عند ما يَنْظُرُ الْإِنْسَانُ إِلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَدْلُكُ عَيْنَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ الدُّلُوكِ مُخْتَصٌّ بِالْغُرُوبِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ التَّبْيِينِ عِنْدَ كَوْنِهَا فِي وَسَطِ السَّمَاءِ أَتَمُّ فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ بِأَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الدُّلُوكَ عِبَارَةٌ عَنِ الزَّوَالِ مِنْ وَسَطِ السَّمَاءِ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ لَامُ الْأَجَلِ وَالسَّبَبُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ إِنَّمَا تَجِبُ بِزَوَالِ الشَّمْسِ فَيَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي إِقَامَتُهَا لِأَجْلِ دُلُوكِ الشَّمْسِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ غَسَقُ اللَّيْلِ سَوَادُهُ وَظُلْمَتُهُ قَالَ الْكِسَائِيُّ: غَسَقَ اللَّيْلُ غُسُوقًا، وَالْغَسَقُ: الِاسْمُ، بِفَتْحِ السِّينِ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: غَسَقُ اللَّيْلِ دُخُولُ أَوَّلِهِ، وَأَتَيْتُهُ حِينَ غَسَقَ اللَّيْلُ، أَيْ حِينَ يَخْتَلِطُ وَيَسُدُّ الْمَنَاظِرَ، وَأَصْلُ هَذَا الْحَرْفِ مِنَ السَّيَلَانِ يُقَالُ: غَسَقَتِ الْعَيْنُ تَغْسِقُ. وَهُوَ هَمَلَانُ الْعَيْنِ بِالْمَاءِ، وَالْغَاسِقُ السَّائِلُ، وَمِنْ هَذَا يُقَالُ لِمَا يَسِيلُ مِنْ/ أَهْلِ النَّارِ: الْغَسَّاقُ، فَمَعْنَى غَسَقَ اللَّيْلُ أَيِ انْصَبَّ بِظَلَامِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الظُّلْمَةَ كَأَنَّهَا تَنْصَبُّ عَلَى الْعَالَمِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: مَا غَسَقُ اللَّيْلِ؟ قَالَ أَوَّلُهُ حِينَ يَدْخُلُ. وَسَأَلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ ابْنَ عَبَّاسٍ مَا الْغَسَقُ؟ قَالَ دُخُولُ اللَّيْلِ بظلمته، وقال

الْأَزْهَرِيُّ: غَسَقُ اللَّيْلِ عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ عِنْدَ تَرَاكُمِ الظُّلْمَةِ وَاشْتِدَادِهَا، يُقَالُ: غَسَقَتِ الْعَيْنُ إِذَا امْتَلَأَتْ دَمْعًا، وَغَسَقَتِ الْجِرَاحَةُ إِذَا امْتَلَأَتْ دَمًا، قَالَ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَا الْغَسَقُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى دَخَلَتِ الصَّلَوَاتُ الْأَرْبَعُ فِيهِ وَهِيَ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، وَلَوْ حَمَلْنَا الْغَسَقَ عَلَى ظُهُورِ أَوَّلِ الظُّلْمَةِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ إِلَّا الظَّهْرُ وَالْمَغْرِبُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ بِحْثٌ شَرِيفٌ فَإِنْ فَسَّرْنَا الْغَسَقَ بِظُهُورِ أَوَّلِ الظُّلْمَةِ كَانَ الْغَسَقُ عِبَارَةٌ عَنْ أَوَّلِ الْمَغْرِبِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ ثَلَاثَةَ أَوْقَاتٍ وَقْتَ الزَّوَالِ وَوَقْتَ أَوَّلِ الْمَغْرِبِ وَوَقْتَ الْفَجْرِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الزَّوَالُ وَقْتًا لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَيَكُونُ هَذَا الْوَقْتُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ وَأَنَّ يَكُونَ أَوَّلُ الْمَغْرِبِ وَقْتًا لِلْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَيَكُونُ هَذَا الْوَقْتُ مُشْتَرِكًا أَيْضًا بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ فَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ الْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مُطْلَقًا إِلَّا أَنَّهُ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ في الحضر من غير عذر ولا يَجُوزُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ جَائِزًا بِعُذْرِ السَّفَرِ وَعُذْرِ الْمَطَرِ وَغَيْرِهِ، أَمَّا إِنْ فَسَّرْنَا الْغَسَقَ بِالظُّلْمَةِ الْمُتَرَاكِمَةِ فَنَقُولُ الظُّلْمَةُ الْمُتَرَاكِمَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ الْأَبْيَضِ وَكَلِمَةُ إِلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ وَالْحُكْمُ الْمَمْدُودُ إِلَى غَايَةٍ يَكُونُ مَشْرُوعًا قَبْلَ حُصُولِ تِلْكَ الْغَايَةِ فَوَجَبَ جَوَازُ إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ الْأَبْيَضِ وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا قُلْنَا إِنَّهَا تَجِبُ عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَانْتِصَابُهُ بِالْعَطْفِ عَلَى الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ: أَقِمِ الصَّلاةَ وَالتَّقْدِيرُ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأَقِمْ قُرْآنَ الْفَجْرِ وَفِيهِ فَوَائِدُ. الْأُولَى: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقِرَاءَةِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْقُرْآنَ إِلَى الْفَجْرِ وَالتَّقْدِيرُ أَقِمْ قُرْآنَ الْفَجْرِ فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْقِرَاءَةُ بِحُصُولِ الفجر وهي أَوَّلِ طُلُوعِ الصُّبْحِ قَدْ حَصَلَ الْفَجْرُ لِأَنَّ الْفَجْرَ سُمِّي فَجْرًا لِانْفِجَارِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ عَنْ نُورِ الصَّبَاحِ وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ فَمُقْتَضَى هَذَا اللَّفْظِ وُجُوبُ إِقَامَةِ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ أَوَّلِ طُلُوعِهِ إِلَّا أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْوُجُوبَ غَيْرُ حَاصِلٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى النَّدْبُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عِبَارَةٌ عَنْ رُجْحَانِ مَانِعٍ مِنَ التَّرْكِ فَإِذَا مَنَعَ مَانِعٌ مِنْ تَحْقُّقِ الْوُجُوبِ وَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ الْمَنْعُ مِنَ التَّرْكِ وَأَنْ يَبْقَى أَصْلُ الرُّجْحَانِ حَتَّى تُنْقَلَ مُخَالَفَةُ الدَّلِيلِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنَّ إِقَامَةَ الْفَجْرِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ التَّغْلِيسَ أَفْضَلُ مِنَ التَّنْوِيرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْفُقَهَاءَ بَيَّنُوا أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ أَطْوَلَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ الْحَثُّ عَلَى أَنَّ تَطْوِيلَ الْقِرَاءَةِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ مَطْلُوبٌ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ/ عَلَى كَوْنِهِ أَكْمَلَ مِنْ غَيْرِهِ. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ وَصَفَ قُرْآنَ الْفَجْرِ بِكَوْنِهِ مَشْهُودًا. قَالَ الْجُمْهُورُ: مَعْنَاهُ أَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةَ النَّهَارِ يَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ خَلْفَ الْإِمَامِ تَنْزِلُ مَلَائِكَةُ النَّهَارِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ وَقَبْلَ أَنْ تَعْرُجَ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ صِلَاتِهِ عَرَجَتْ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَكَثَتْ مَلَائِكَةُ النَّهَارِ ثُمَّ إِنَّ مَلَائِكَةَ اللَّيْلِ إِذَا صَعَدَتْ قَالَتْ: يَا رَبِّ إِنَّا تَرَكْنَا عِبَادَكَ يُصَلُّونَ لَكَ وَتَقُولُ مَلَائِكَةُ النَّهَارِ رَبَّنَا أَتَيْنَا عِبَادَكَ وَهُمْ يُصْلُونَ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ. وَأَقُولُ هَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ قَوِيٌّ فِي أَنَّ التَّغْلِيسَ أَفْضَلُ مِنَ التَّنْوِيرِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا شَرَعَ فِيهَا مِنْ أَوَّلِ الصُّبْحِ فَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الظُّلْمَةُ بَاقِيَةٌ فَتَكُونُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ حَاضِرِينَ ثُمَّ إِذَا امْتَدَّتِ الصَّلَاةُ بِسَبَبِ تَرْتِيلِ الْقِرَاءَةِ وَتَكْثِيرِهَا زَالَتِ الظُّلْمَةُ وَظَهَرَ الضَّوْءُ وَحَضَرَتْ مَلَائِكَةُ النَّهَارِ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَحْضُرُ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ أَمَّا إِذَا ابْتَدَأَ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِ التَّنْوِيرِ فَهُنَاكَ مَا بَقِيَتْ الظُّلْمَةُ فَلَمْ يَبْقَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَحَدٌ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّيْلِ فَلَا

يَحْصُلُ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّهُ كانَ مَشْهُوداً دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّغْلِيسَ أَفْضَلُ وَعِنْدِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ كانَ مَشْهُوداً احْتِمَالٌ آخَرُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ الْحَوَادِثُ الْحَادِثَةُ أَعْظَمَ وَأَكْمَلَ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَكْمَلَ فَالْإِنْسَانُ إِذَا شَرَعَ فِي أَدَاءِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ أَوَّلِ هَذَا الْوَقْتِ كَانَتِ الظُّلْمَةُ الْقَوِيَّةُ بَاقِيَةً فِي الْعَالَمِ، فَإِذَا امْتَدَّتِ الْقِرَاءَةُ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْوَقْتِ يَنْقَلِبُ الْعَالَمُ مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى الضَّوْءِ وَالظُّلْمَةُ مُنَاسِبَةٌ لِلْمَوْتِ وَالْعَدَمِ، وَالضَّوْءُ مُنَاسِبٌ لِلْحَيَاةِ وَالْوُجُودِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْإِنْسَانُ لَمَّا قَامَ مِنْ مَنَامِهِ فَكَأَنَّهُ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ وَمِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يُشَاهِدُ فِي أَثْنَاءِ صِلَاتِهِ انْقِلَابَ كُلِّيَّةِ هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى الضَّوْءِ وَمِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ وَمِنَ السُّكُونِ إِلَى الْحَرَكَةِ وَمِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. وَهَذِهِ الْحَالَةُ حَالَةٌ عَجِيبَةٌ تَشْهَدُ الْعُقُولُ وَالْأَرْوَاحُ بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا التَّقْلِيبِ وَالتَّحْوِيلِ وَالتَّبْدِيلِ إِلَّا الْخَالِقُ الْمُدَبِّرُ بِالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالْقُوَّةِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ وَحِينَئِذٍ يَسْتَنِيرُ الْعَقْلُ بِنُورِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَيَنْفَتِحُ عَلَى الْعَقْلِ وَالرُّوحِ أَبْوَابُ الْمُكَاشَفَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ فَتَصِيرُ الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ مَشْهُودًا عَلَيْهَا بِهَذِهِ الْمُكَاشَفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُقَدَّسَةِ وَلِذَلِكَ فَكُلُّ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ سَلِيمٌ وَطَبْعٌ مُسْتَقِيمٌ إِذَا قَامَ مِنْ مَنَامِهِ وَأَدَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَاعْتَبَرَ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْعَالَمِ مِنَ الظُّلْمَةِ الْحَاصِلَةِ إِلَى النُّورِ وَمِنَ السُّكُونِ إِلَى الْحَرَكَةِ فَإِنَّهُ يَجِدُ فِي قَلْبِهِ رَوْحًا وَرَاحَةً وَمَزِيدًا فِي نُورِ الْمَعْرِفَةِ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً وَظَهَرَ أَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ أَدَاءِ صَلَاةِ الْفَجْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيسِ فَهَذَا مَا خَطَرَ بِالْبَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. وَفِي الْآيَةِ احْتِمَالٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً التَّرْغِيبَ فِي أَنْ تُؤَدَّى هَذِهِ الصَّلَاةُ بِالْجَمَاعَةِ وَيَكُونُ الْمَعْنَى كَوْنُهُ مَشْهُودًا بِالْجَمَاعَةِ الْكَثِيرَةِ وَمَزِيدُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ تَأْثِيرَ هَذِهِ الصَّلَاةِ فِي تَصْفِيَةِ الْقَلْبِ وَفِي تَنْوِيرِهِ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَإِذَا حَضَرَ جَمْعٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسْجِدِ/ لِأَدَاءِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ اسْتَنَارَ قَلْبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُمَّ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ كَأَنَّهُ يَنْعَكِسُ نُورُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَنُورُ طَاعَتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ قَلْبِ كُلِّ وَاحِدٍ إِلَى قَلْبِ الْآخَرِ فَتَصِيرُ أَرْوَاحُهُمْ كَالْمَرَايَا الْمُشْرِقَةِ الْمُتَقَابِلَةِ إِذَا وَقَعَتْ عَلَيْهَا أَنْوَارُ الشَّمْسِ فَإِنَّهُ يَنْعَكِسُ النُّورُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَرَايَا إِلَى الْأُخْرَى فَكَذَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَلِهَذَا السَّبَبِ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ سَلِيمٌ وَأَدَّى هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِالْجَمَاعَةِ وَجَدَ مِنْ قَلْبِهِ فُسْحَةً وَنُورًا وَرَاحَةً. الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ فِي كَوْنِهِ مَشْهُودًا هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَمَّا نَامَ طُولَ اللَّيْلِ فَصَارَ كَالْغَافِلِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ عَنْ مُرَاقَبَةِ أَحْوَالِ الدُّنْيَا فَزَالَتْ صُورَةُ الْحَوَادِثِ الْجُسْمَانِيَّةِ عَنْ لَوْحِ خَيَالِهِ وَفِكْرِهِ وَعَقْلِهِ وَصَارَتْ هَذِهِ الْأَلْوَاحُ كَأَلْوَاحٍ سُطِّرَتْ فِيهَا نُقُوشٌ فَاسِدَةٌ ثُمَّ غُسِلَتْ وَأُزِيلَتْ تِلْكَ النُّقُوشُ عَنْهَا، فَفِي أَوَّلِ وَقْتِ الْقِيَامِ مِنَ الْمَنَامِ صَارَتْ أَلْوَاحُ عَقْلِهِ وَفِكْرِهِ وَخَيَالِهِ مُطَهَّرَةً عَنِ النُّقُوشِ الْفَاسِدَةِ الْبَاطِلَةِ. فَإِذَا تَسَارَعَ الْإِنْسَانُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِرَاءَةِ الْكَلَمَّاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَنْزِيهِهِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى انْتَقَشَ فِي لَوْحِ عَقْلِهِ وَفِكْرِهِ وَخَيَالِهِ هَذِهِ النُّقُوشُ الطَّاهِرَةُ الْمُقَدَّسَةُ، ثُمَّ إِنَّ حُصُولَ هَذِهِ النُّقُوشِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْكَامِ النُّقُوشِ الْفَاسِدَةِ، وَهِيَ النُّقُوشُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَتَرَشَّحُ الْمَيْلُ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ وَيَضْعُفُ الْمَيْلُ إِلَى الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ هَذِهِ الْحِكْمَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ إِذَا شَرَعَ الْإِنْسَانُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ أَوَّلِ قِيَامِهِ مِنَ النَّوْمِ عِنْدَ التَّغْلِيسِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْخَلْقِ وَقَعُوا فِي أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وَهِيَ حُبُّ الدُّنْيَا وَالْحِرْصُ وَالْحَسَدُ وَالتَّفَاخُرُ وَالتَّكَاثُرُ وَهَذِهِ الدُّنْيَا مِثْلُ دَارِ الْمَرْضَى إِذَا كَانَتْ مَمْلُوءَةً مِنَ الْمَرْضَى وَالْأَنْبِيَاءُ

كَالْأَطِبَّاءِ الْحَاذِقِينَ وَالْمَرِيضُ رُبَّمَا قَدْ قَوِيَ مَرَضُهُ فَلَا يَعُودُ إِلَى الصِّحَّةِ إِلَّا بِمُعَالَجَاتٍ قَوِيَّةٍ وَرُبَّمَا كَانَ الْمَرِيضُ جَاهِلًا فَلَا يَنْقَادُ لِلطَّبِيبِ وَيُخَالِفُهُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ، إِلَّا أَنَّ الطَّبِيبَ إِذَا كَانَ مُشْفِقًا حَاذِقًا فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ الْمَرَضِ بِكُلِّ طَرِيقٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِزَالَتِهِ فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي تَقْلِيلِهِ وَتَخْفِيفِهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَرَضُ حُبِّ الدُّنْيَا مُسْتَوْلٍ عَلَى الْخَلْقِ وَلَا عِلَاجَ لَهُ إِلَّا بِالدَّعْوَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَخِدْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَهَذَا عِلَاجٌ شَاقٌّ عَلَى النُّفُوسِ، وَقَلَّ مَنْ يَقْبَلُهُ وَيَنْقَادُ لَهُ. لَا جَرَمَ [أَنَّ] الْأَنْبِيَاءَ اجْتَهَدُوا فِي تَقْلِيلِ هَذَا الْمَرَضِ وَحَمْلِ الْخَلْقِ عَلَى الشُّرُوعِ فِي الطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ مِمَّا يَنْفَعُ فِي إِزَالَةِ هَذَا الْمَرَضِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَسْرَارِ كَلَامِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى سَبِيلِ الرَّمْزِ وَالْإِشَارَةِ أَرْدَفَهُ بِالْحَثِّ عَلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: التَّهَجُّدُ عِبَارَةٌ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَقَوْلُهُ فَتَهَجَّدْ بِهِ أَيْ بِالْقُرْآنِ كَمَا قَالَ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا إِلَى قَوْلِهِ: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 2- 4] . الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْوَاحِدِيُّ الْهُجُودُ فِي اللُّغَةِ النَّوْمُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ كَثِيرٌ فِي الشِّعْرِ يُقَالُ: / أَهْجَدْتُهُ وَهَجَّدْتُهُ أَيْ أَنَمْتُهُ وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ: هَجِّدْنَا فَقَدْ طَالَ السُّرَى كَأَنَّهُ قَالَ: نَوِّمْنَا فَإِنَّ السُّرَى قَدْ طَالَ عَلَيْنَا حَتَّى غَلَبَنَا النَّوْمُ وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْهَاجِدُ النَّائِمُ وَالْهَاجِدُ الْمُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَرَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ كَأَنَّهُ قَالَ هَجَدَ الرَّجُلُ إِذَا صَلَّى مِنَ اللَّيْلِ وَهَجَدَ إِذَا نَامَ بِاللَّيْلِ فَعِنْدَ هَؤُلَاءِ هَذَا اللَّفْظُ مِنَ الْأَضْدَادِ وَأَمَّا الْأَزْهَرِيُّ فَإِنَّهُ تَوَسَّطَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا اللَّفْظِ وَقَالَ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ الْهَاجِدَ هُوَ النَّائِمُ ثُمَّ رَأَيْنَا أَنَّ فِي الشَّرْعِ يُقَالُ لِمَنْ قَامَ مِنَ النَّوْمِ إِلَى الصَّلَاةِ إِنَّهُ مُتَهَجِّدٌ فَوَجَبَ أَنَّ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى أَنَّهُ سُمِّيَ مُتَهَجِّدًا لِإِلْقَائِهِ الْهُجُودَ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا قِيلَ لِلْعَابِدِ مُتَحَنِّثٌ لِإِلْقَائِهِ الْحِنْثَ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ الْإِثْمُ. وَيُقَالُ فُلَانٌ رَجُلٌ مُتَحَرِّجٌ وَمُتَأَثِّمٌ وَمُتَحَوِّبٌ أَيْ يُلْقِي الْحَرَجَ وَالْإِثْمَ وَالْحُوبَ عَنْ نَفْسِهِ. وَأَقُولُ فِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَتْرُكُ لذة النوم ويحتمل مَشَقَّةَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ لِيَطِيبَ رُقَادُهُ وَهُجُودُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَلَمَّا كَانَ غَرَضُهُ مِنْ تَرْكِ هَذَا الْهُجُودِ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْهُجُودِ اللَّذِيذِ عِنْدَ الْمَوْتِ كَانَ هَذَا الْقِيَامُ طَلَبًا لِذَلِكَ الْهُجُودِ فَسُمِّيَ تَهَجُّدًا لِهَذَا السَّبَبِ. وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ عَمْرٍو الْمَازِنِيَّ قَالَ: أَيَحْسَبُ أَحَدُكُمْ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى حَتَّى يُصْبِحَ أَنَّهُ قَدْ تَهَجَّدَ إِنَّمَا التَّهَجُّدُ الصَّلَاةُ بَعْدَ الرُّقَادِ ثُمَّ صَلَاةٌ أُخْرَى بَعْدَ رَقْدَةٍ ثُمَّ صَلَاةٌ أُخْرَى بَعْدَ رَقْدَةٍ هَكَذَا كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ كُلَّمَا صَلَّى الْإِنْسَانُ طَلَبَ هُجُودًا وَرُقَادًا فَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ سُمِّيَ تَهَجُّدًا لِهَذَا السَّبَبِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: (مِنَ) فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُتَعَلِّقٍ وَالْفَاءُ في قوله: فَتَهَجَّدْ لا بدله مِنْ مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ وَالتَّقْدِيرُ قُمْ مِنَ اللَّيْلِ أَيْ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ وَقَوْلُهُ: بِهِ أَيْ بِالْقُرْآنِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الصَّلَاةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْقُرْآنِ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: مَعْنَى النَّافِلَةِ فِي اللُّغَةِ مَا كَانَ زِيَادَةً عَلَى الْأَصْلِ ذَكَرْنَاهُ في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ

الْأَنْفالِ [الْأَنْفَالِ: 1] وَمَعْنَاهَا أَيْضًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الزِّيَادَةُ وَفِي تَفْسِيرِ كَوْنِهَا زِيَادَةً قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ هَلْ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ ثُمَّ نُسِخَتْ فَصَارَتْ نَافِلَةً، أَيْ تَطَوُّعًا وَزِيَادَةً عَلَى الْفَرَائِضِ، وَذَكَرَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِ كَوْنِهَا (نَافِلَةً) وَجْهًا حَسَنًا قَالَا إِنَّهُ تَعَالَى غَفَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَكُلُّ طَاعَةٍ يَأْتِي بِهَا سِوَى الْمَكْتُوبَةِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ تَأْثِيرُهَا فِي كَفَّارَةِ الذُّنُوبِ الْبَتَّةَ بَلْ يَكُونُ تَأْثِيرُهَا فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ وَكَثْرَةِ الثَّوَابِ وَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ تِلْكَ الْعِبَادَةِ زِيَادَةَ الثَّوَابِ فَلِهَذَا سُمِّيَتْ نَافِلَةً بِخِلَافِ الْأُمَّةِ، فَإِنَّ لَهُمْ ذُنُوبًا مُحْتَاجَةً إِلَى الْكَفَّارَاتِ فَهَذِهِ الطَّاعَةُ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهَا لِتَكْفِيرِ الذُّنُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الطَّاعَاتِ إِنَّمَا تَكُونُ زَوَائِدَ وَنَوَافِلَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: نافِلَةً لَكَ يَعْنِي أَنَّهَا زَوَائِدُ وَنَوَافِلُ فِي حَقِّكَ لَا فِي حَقِّ غَيْرِكَ وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا مَعْنَى كَوْنِهَا نَافِلَةً لَهُ عَلَى التَّخْصِيصِ أَنَّهَا فَرِيضَةٌ عَلَيْكَ زَائِدَةٌ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ خُصِّصْتَ بِهَا مِنْ بَيْنِ أُمَّتِكَ وَيُمْكِنُ نُصْرَةُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ فَتَهَجَّدْ/ أَمْرٌ وَصِيغَةُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ فَوَجَبَ كَوْنُ هَذَا التَّهَجُّدُ وَاجِبًا فَلَوْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ: نافِلَةً لَكَ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ لَزِمَ التَّعَارُضُ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى كَوْنِهَا نَافِلَةً لَهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِ وُجُوبِهَا زَائِدًا عَلَى وُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَحْثُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْأَمْرِ فِيهِ مُخْتَصًّا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّهُ فِي الْمَعْنَى عَامٌّ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ فَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّهَجُّدِ مَخْصُوصٌ بِالرَّسُولِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ الْخَمْسِ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِتَقْيِيدِ الْأَمْرِ بِالتَّهَجُّدِ بِهَذَا الْقَيْدِ فَائِدَةً أَصْلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي لِأَنَّ لَفْظَةَ عَسَى تُفِيدُ الْإِطْمَاعَ وَمَنْ أَطْمَعَ إِنْسَانًا فِي شَيْءٍ ثُمَّ حَرَمَهُ كَانَ عَارًا وَاللَّهُ تَعَالَى أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُطْمِعَ أَحَدًا فِي شَيْءٍ ثُمَّ لَا يُعْطِيهِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: مَقاماً مَحْمُوداً فِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ مَحْمُوداً وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ يَبْعَثَكَ أَيْ يَبْعَثُكَ مَحْمُودًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِلْمَقَامِ وَهُوَ ظَاهِرٌ. الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ أَقْوَالٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الشَّفَاعَةُ قَالَ الْوَاحِدِيُّ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ مَقَامُ الشَّفَاعَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ «هُوَ الْمَقَامُ الَّذِي أَشْفَعُ فِيهِ لِأُمَّتِي» . وَأَقُولُ اللَّفْظُ مُشْعِرٌ بِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَصِيرُ مَحْمُودًا إِذَا حَمِدَهُ حَامِدٌ وَالْحَمْدُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْإِنْعَامِ فَهَذَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَقَامًا أَنْعَمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ عَلَى قَوْمٍ فَحَمِدُوهُ عَلَى ذَلِكَ الْإِنْعَامِ وَذَلِكَ الْإِنْعَامُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ تَبْلِيغُ الدِّينِ وَتَعْلِيمُ الشَّرْعِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ حَاصِلًا فِي الْحَالِ وَقَوْلُهُ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً تَطْمِيعٌ وَتَطْمِيعُ الْإِنْسَانِ فِي الشَّيْءِ الَّذِي وَعَدَهُ فِي الْحَالِ مُحَالٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْإِنْعَامُ الَّذِي لِأَجْلِهِ يَصِيرُ مَحْمُودًا إِنْعَامًا سَيَصِلُ مِنْهُ حَصَلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى النَّاسِ وَمَا ذَاكَ إِلَّا شَفَاعَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَأَيْضًا التَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: مَقاماً مَحْمُوداً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْصُلُ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ حَمْدٌ بَالِغٌ عَظِيمٌ كَامِلٌ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ حَمْدَ الْإِنْسَانِ عَلَى سَعْيِهِ فِي التَّخْلِيصِ عَنِ الْعِقَابِ أَعْظَمُ مِنْ حَمْدِهِ فِي السَّعْيِ فِي زِيَادَةٍ مِنَ الثَّوَابِ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهَا لِأَنَّ احْتِيَاجَ الْإِنْسَانِ

إِلَى دَفْعِ الْآلَامِ الْعَظِيمَةِ عَنِ النَّفْسِ فَوْقَ احْتِيَاجِهِ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ الزَّائِدَةِ الَّتِي لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى تَحْصِيلِهَا وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً هُوَ الشَّفَاعَةُ فِي إِسْقَاطِ الْعِقَابِ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ مُشْعِرٌ بِهَذَا الْمَعْنَى إِشْعَارًا قَوِيًّا ثُمَّ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى وَجَبَ حمل اللَّفْظِ عَلَيْهِ وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الْوَجْهَ الدُّعَاءُ الْمَشْهُورُ وَابْعَثْهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي وَعَدْتَهُ يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ/ وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الشَّفَاعَةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ حُذَيْفَةُ، يُجْمَعُ النَّاسُ فِي صَعِيدٍ فَلَا تَتَكَلَّمُ نَفْسٌ فَأَوَّلُ مَدْعُوٍّ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ وَالْمَهْدِيُّ مَنْ هَدَيْتَ وَعَبْدُكَ بَيْنَ يَدَيْكَ وَبِكَ وَإِلَيْكَ لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ سُبْحَانَكَ رَبَّ الْبَيْتِ» . فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً وَأَقُولُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ سَعْيَهُ فِي الشَّفَاعَةِ يُفِيدُهُ إِقْدَامُ النَّاسِ عَلَى حَمْدِهِ فَيَصِيرُ مَحْمُودًا وَأَمَّا ذِكْرُ هَذَا الدُّعَاءِ فَلَا يُفِيدُ إِلَّا الثَّوَابَ أَمَّا الْحَمْدُ فَلَا فَإِنْ قَالُوا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى يَحْمَدُهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ قُلْنَا لِأَنَّ الْحَمْدَ فِي اللُّغَةِ مُخْتَصٌّ بِالثَّنَاءِ الْمَذْكُورِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِنْعَامِ فَقَطْ فَإِنْ وَرَدَ لَفْظُ الْحَمْدِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى فَعَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ مَقَامٌ تُحْمَدُ عَاقِبَتُهُ وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «يُقْعِدُ اللَّهُ مُحَمَّدًا عَلَى الْعَرْشِ» وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى الْعَرْشِ، ثُمَّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَهَذَا قَوْلٌ رَذْلٌ مُوحِشٌ فَظِيعٌ وَنَصُّ الْكِتَابِ يُنَادِي بِفَسَادِ هَذَا التَّفْسِيرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. الأول: أن البعث ضِدُّ الْإِجْلَاسِ يُقَالُ بَعَثْتُ النَّازِلَ وَالْقَاعِدَ فَانْبَعَثَ وَيُقَالُ بَعْثَ اللَّهُ الْمَيِّتَ أَيْ أَقَامَهُ مِنْ قَبْرِهِ فَتَفْسِيرُ الْبَعْثِ بِالْإِجْلَاسِ تَفْسِيرٌ لِلضِّدِّ بِالضِّدِّ وَهُوَ فَاسِدٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مَقاماً مَحْمُوداً وَلَمْ يَقُلْ مَقْعَدًا وَالْمَقَامُ مَوْضِعُ الْقِيَامِ لَا مَوْضِعَ الْقُعُودِ. وَالثَّالِثُ: لَوْ كَانَ تَعَالَى جَالِسًا عَلَى الْعَرْشِ بِحَيْثُ يَجْلِسُ عِنْدَهُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَكَانَ مَحْدُودًا مُتَنَاهِيًا وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ. وَالرَّابِعُ: يُقَالُ إِنَّ جُلُوسَهُ مَعَ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ لَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ إِعْزَازٍ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالَ وَالْحَمْقَى يَقُولُونَ فِي كُلِّ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنَّهُمْ يَزُورُونَ اللَّهَ تَعَالَى وَإِنَّهُمْ يَجْلِسُونَ مَعَهُ وَإِنَّهُ تَعَالَى يَسْأَلُهُمْ عَنْ أَحْوَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا فِي الدُّنْيَا وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ حَاصِلَةً عِنْدَهُمْ لِكُلِّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا مَزِيدُ شَرَفٍ وَرُتْبَةٍ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ إِذَا قِيلَ السُّلْطَانُ بَعَثَ فُلَانًا فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ إِلَى قَوْمٍ لِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِهِمْ وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ أَجْلَسَهُ مَعَ نَفْسِهِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَلَامٌ رَذْلٌ سَاقِطٌ لَا يَمِيلُ إِلَيْهِ إِلَّا إِنْسَانٌ قَلِيلُ الْعَقْلِ عَدِيمُ الدِّينِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّا ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ [الإسراء: 76] قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ مِنْهُ سَعْيُ كُفَّارِ مَكَّةَ فِي إِخْرَاجِهِ مِنْهَا. وَالثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لَهُ الْأَوْلَى لَكَ أَنَّ تَخْرُجَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ: أَقِمِ الصَّلَاةَ وَاشْتَغِلْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ فَإِنَّهُ تَعَالَى نَاصِرُكَ وَمُعِينُكَ ثُمَّ عَادَ بَعْدَ هَذَا الْكَلَامِ إِلَى شَرْحِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ فَإِنْ فَسَّرْنَا تِلْكَ الْآيَةَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ أَرَادُوا إِخْرَاجَهُ مِنْ مَكَّةَ كَانَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَ لَهُ: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ- وَهُوَ الْمَدِينَةُ- وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ- وَهُوَ مَكَّةُ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَإِنْ فَسَّرْنَا تِلْكَ الْآيَةَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا أَنَّ الْيَهُودَ/ حَمَلُوهُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ وَالذَّهَابِ إِلَى الشَّامِ فَخَرَجَ رَسُولُ

[سورة الإسراء (17) : الآيات 82 إلى 84]

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهَا كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ الْعَوْدِ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَهُوَ الْمَدِينَةُ- وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ يَعْنِي أَخْرِجْنِي مِنْهَا إِلَى مَكَّةَ مُخْرَجَ صِدْقٍ أَيِ افْتَحْهَا لِي. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ أكمل مما سبق أن المراد وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي- فِي الصَّلَاةِ- وَأَخْرِجْنِي مِنْهَا مَعَ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ وَحُضُورِ ذِكْرِكَ وَالْقِيَامِ بِلَوَازِمِ شُكْرِكَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَكْمَلُ مِمَّا سَبَقَ أَنِ الْمُرَادَ: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي- فِي الْقِيَامِ بِمُهِمَّاتِ أَدَاءِ دَيْنِكَ وَشَرِيعَتِكَ- وَأَخْرِجْنِي مِنْهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا إِخْرَاجًا لَا يَبْقَى عَلَيَّ مِنْهَا تَبِعَةً رِبْقِيَّةً. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَعْلَى مِمَّا سَبَقَ: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي فِي بِحَارِ دَلَائِلِ تَوْحِيدِكِ وَتَنْزِيهِكِ وَقُدْسِكَ ثُمَّ أَخْرِجْنِي مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالدَّلِيلِ إِلَى ضِيَاءِ مَعْرِفَةِ الْمَدْلُولِ وَمِنَ التَّأَمُّلِ فِي آثَارِ حُدُوثِ الْمُحْدَثَاتِ إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ الْأَحَدِ الْفَرْدِ الْمُنَزَّهِ عَنِ التَّكْثِيرَاتِ وَالتَّغَيُّرَاتِ. وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَدْخِلْنِي فِي كُلِّ مَا تُدْخِلُنِي فِيهِ مَعَ الصِّدْقِ فِي عُبُودِيَّتِكَ وَالِاسْتِغْرَاقِ بِمَعْرِفَتِكَ وَأَخْرِجْنِي عَنْ كُلِّ مَا تُخْرِجُنِي عَنْهُ مَعَ الصِّدْقِ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ صِدْقُ الْعُبُودِيَّةِ حَاصِلًا فِي كُلِّ دُخُولٍ وَخُرُوجٍ وَحَرَكَةٍ وَسُكُونٍ. وَالْقَوْلُ السَّادِسُ: أَدْخِلْنِي الْقَبْرَ مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مِنْهُ مُخْرَجَ صِدْقٍ. الْبَحْثُ الثَّانِي: مُدْخَلَ بِضَمِّ الْمِيمِ مَصْدَرٌ كَالْإِدْخَالِ يُقَالُ أَدْخَلْتُهُ مُدْخَلًا كَمَا قَالَ: وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً [الْمُؤْمِنُونَ: 29] وَمَعْنَى إِضَافَةِ الْمُدْخَلِ وَالْمُخْرَجِ إِلَى الصِّدْقِ مَدْحُهُمَا كَأَنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى إِدْخَالًا حَسَنًا وَإِخْرَاجًا حَسَنًا لَا يَرَى فِيهِمَا مَا يَكْرَهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً أَيْ حُجَّةً بَيِّنَةً ظَاهِرَةً تَنْصُرُنِي بِهَا عَلَى جَمِيعِ مَنْ خَالَفَنِي. وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَهُ التَّقْوِيَةَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ بِالْحُجَّةِ وَبِالْقَهْرِ وَالْقُدْرَةِ، وَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى دُعَاءَهُ وَأَعْلَمَهُ بِأَنَّهُ يَعْصِمُهُ مِنَ النَّاسِ فَقَالَ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [الْمَائِدَةِ: 67] وَقَالَ: أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْمُجَادَلَةِ: 22] وَقَالَ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التَّوْبَةِ: 33] وَلَمَّا سَأَلَ اللَّهَ النُّصْرَةَ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُ أَنَّهُ أَجَابَ دُعَاءَهُ فَقَالَ: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَهُوَ دِينُهُ وَشَرْعُهُ- وَزَهَقَ الْباطِلُ وَهُوَ كُلُّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَدْيَانِ وَالشَّرَائِعِ، وَزَهَقَ بَطَلَ وَاضْمَحَلَّ، وَأَصْلُهُ مِنْ زَهَقَتْ نَفْسُهُ تَزْهَقُ أَيْ هَلَكَتْ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَحَوْلَ الْبَيْتِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ فَجَعَلَ الصَّنَمُ يَنْكَبُّ عَلَى وَجْهِهِ» . وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً يَعْنِي أَنَّ الْبَاطِلَ وَإِنِ اتَّفَقَتْ لَهُ دَوْلَةٌ وصولة إلا أنها الا تَبْقَى بَلْ تَزُولُ عَلَى أَسْرَعِ الْوُجُوهِ وَاللَّهُ أعلم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 82 الى 84] وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَطْنَبَ فِي شَرْحِ الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْحَشْرِ وَالْمَعَادِ وَالْبَعْثِ وَإِثْبَاتِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ وَنَبَّهَ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْأَسْرَارِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ كُلَّ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ كَوْنِ الْقُرْآنِ شِفَاءً وَرَحْمَةً فَقَالَ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ ولفظة (من) هاهنا لَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ بَلْ هِيَ لِلْجِنْسِ كَقَوْلِهِ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الْحَجِّ: 30] وَالْمَعْنَى وَنُنَزِّلُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ الَّذِي هُوَ قُرْآنٌ مَا هُوَ شِفَاءٌ. فَجَمِيعُ الْقُرْآنِ شِفَاءٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ شِفَاءٌ مِنَ الْأَمْرَاضِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَشِفَاءٌ أَيْضًا مِنَ الْأَمْرَاضِ الْجُسْمَانِيَّةِ، أَمَّا كَوْنُهُ شِفَاءً مِنَ الْأَمْرَاضِ الرُّوحَانِيَّةِ فَظَاهِرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَاضَ الرُّوحَانِيَّةَ نوعان: الاعتقادات

الْبَاطِلَةُ وَالْأَخْلَاقُ الْمَذْمُومَةُ، أَمَّا الِاعْتِقَادَاتُ الْبَاطِلَةُ فَأَشَدُّهَا فَسَادًا الِاعْتِقَادَاتُ الْفَاسِدَةُ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْمَعَادِ وَالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَالْقُرْآنُ كِتَابٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى دَلَائِلِ الْمَذْهَبِ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الْمَطَالِبِ، وَإِبْطَالِ الْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ فِيهَا، وَلَمَّا كَانَ أَقْوَى الْأَمْرَاضِ الرُّوحَانِيَّةِ هُوَ الْخَطَأَ فِي هَذِهِ الْمَطَالِبِ وَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الدَّلَائِلِ الْكَاشِفَةِ عَمَّا فِي هَذِهِ الْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ مِنَ الْعُيُوبِ الْبَاطِنَةِ لَا جَرَمَ كَانَ الْقُرْآنُ شِفَاءً مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمَرَضِ الرُّوحَانِيِّ. وَأَمَّا الْأَخْلَاقُ الْمَذْمُومَةُ فَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَفْصِيلِهَا وَتَعْرِيفِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ الْكَامِلَةِ وَالْأَعْمَالِ الْمَحْمُودَةِ فَكَانَ الْقُرْآنُ شِفَاءً مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمَرَضِ فَثَبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ شِفَاءٌ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْرَاضِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ شِفَاءً مِنَ الْأَمْرَاضِ الْجُسْمَانِيَّةِ فَلِأَنَّ التَّبَرُّكَ بِقِرَاءَتِهِ يَدْفَعُ كَثِيرًا مِنَ الْأَمْرَاضِ. وَلَمَّا اعْتَرَفَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَأَصْحَابِ الطَّلْسَمَاتِ بِأَنَّ لِقِرَاءَةِ الرُّقَى الْمَجْهُولَةِ وَالْعَزَائِمِ الَّتِي لَا يُفْهَمُ مِنْهَا شَيْءٌ آثَارًا عَظِيمَةً فِي تَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ، فَلِأَنْ تَكُونَ قِرَاءَةُ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَتَعْظِيمِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَتَحْقِيرِ الْمَرَدَةِ وَالشَّيَاطِينِ سَبَبًا لِحُصُولِ النَّفْعِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا كَانَ أَوْلَى وَيَتَأَكَّدُ مَا ذَكَرْنَا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَسْتَشْفِ بِالْقُرْآنِ فَلَا شَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى» وَأَمَّا كَوْنُهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ مَرِيضَةٌ بِسَبَبِ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ وَالْقُرْآنُ قِسْمَانِ بَعْضُهُمَا يُفِيدُ/ الْخَلَاصَ عَنْ شُبَهَاتِ الضَّالِّينَ وَتَمْوِيهَاتِ الْمُبْطِلِينَ وَهُوَ الشِّفَاءُ. وَبَعْضُهُمَا يُفِيدُ تَعْلِيمَ كَيْفِيَّةِ اكْتِسَابِ الْعُلُومِ الْعَالِيَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي بِهَا يَصِلُ الْإِنْسَانُ إِلَى جِوَارِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالِاخْتِلَاطِ بِزُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَهُوَ الرَّحْمَةُ، وَلَمَّا كَانَ إِزَالَةُ الْمَرَضِ مُقَدَّمَةً عَلَى السَّعْيِ فِي تَكْمِيلِ مُوجِبَاتِ الصِّحَّةِ لَا جَرَمَ بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِذِكْرِ الشِّفَاءِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الرَّحْمَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَوْنَ الْقُرْآنِ شِفَاءً وَرَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بَيَّنَ كَوْنَهُ سَبَبًا لِلْخَسَارِ وَالضَّلَالِ فِي حَقِّ الظَّالِمِينَ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ سَمَاعَ الْقُرْآنِ يَزِيدُهُمْ غَيْظًا وَغَضَبًا وَحِقْدًا وَحَسَدًا وَهَذِهِ الْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْأَعْمَالِ الْبَاطِلَةِ وَتَزِيدُ فِي تَقْوِيَةِ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ فِي جَوَاهِرِ نُفُوسِهِمْ ثُمَّ لَا يَزَالُ الْخُلُقُ الْخَبِيثُ النَّفْسَانِيُّ يَحْمِلُ عَلَى الْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ وَالْإِتْيَانُ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ يُقَوِّي تِلْكَ الْأَخْلَاقَ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَصِيرُ الْقُرْآنُ سَبَبًا لِتَزَايُدِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الضَّالِّينَ فِي دَرَجَاتِ الْخِزْيِ وَالضَّلَالِ وَالْفَسَادِ وَالنَّكَالِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ السَّبَبَ الْأَصْلِيَّ فِي وُقُوعِ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلِينَ الضَّالِّينَ فِي أَوْدِيَةِ الضَّلَالِ وَمَقَامَاتِ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ وَهُوَ حُبُّ الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةُ فِي الْمَالِ وَالْجَاهِ وَاعْتِقَادُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ جِدِّهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ فَقَالَ: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ الإنسان ها هنا هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَهَذَا بَعِيدٌ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ نَوْعَ الْإِنْسَانِ مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ إِذَا فَازَ بِمَقْصُودِهِ وَوَصَلَ إِلَى مَطْلُوبِهِ اغْتَرَّ وَصَارَ غَافِلًا عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَمَرِّدًا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا قَالَ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [الْعَلَقِ: 6، 7] . الْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ أَعْرَضَ أَيْ وَلَّى ظَهْرَهُ أَيْ عَرْضَهُ إِلَى نَاحِيَةٍ وَنَأَى بِجَانِبِهِ أَيْ تَبَاعَدَ، وَمَعْنَى النَّأْيِ فِي اللُّغَةِ الْبُعْدُ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الشَّيْءِ أَنْ يُوَلِّيَهُ عَرْضَ وَجْهِهِ وَالنَّأْيُ بِالْجَانِبِ أَنْ يَلْوِيَ عَنْهُ عِطْفَهُ وَيُوَلِّيَهُ ظَهْرَهُ وَأَرَادَ الِاسْتِكْبَارَ لِأَنَّ ذَلِكَ عَادَةُ الْمُتَكَبِّرِينَ وَفِي قَوْلِهِ نَأى قِرَاءَاتٌ. إِحْدَاهَا: وَهِيَ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْهَمْزَةِ وَفِي حم السَّجْدَةِ مِثْلُهُ وَهِيَ اللُّغَةُ الْغَالِبَةُ وَالنَّأْيُ الْبُعْدُ يُقَالُ نَأَى أَيْ بَعُدَ. وَثَانِيهَا: قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ نَاءٍ وَلَهُ وَجْهَانِ تَقْدِيمُ اللَّامِ عَلَى الْعَيْنِ كَقَوْلِهِمْ رَاءٍ فِي رَأَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَأَى بِمَعْنَى نَهَضَ. وَثَالِثُهَا: قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ

[سورة الإسراء (17) : آية 85]

بِإِمَالَةِ الْفَتْحَتَيْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَمَالُوا الْهَمْزَةَ مِنْ نَأَى ثُمَّ كَسَرُوا النُّونَ إِتْبَاعًا لِلْكَسْرَةِ مِثْلُ رَأَى. وَرَابِعُهَا: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَنُصَيْرٍ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَحَمْزَةَ نأى بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْأَصْلِ فِي فَتْحِ النُّونِ وَإِمَالَةِ الْهَمْزَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً أَيْ إِذَا مَسَّهُ فَقْرٌ أَوْ مَرَضٌ أَوْ نازلة من النوازل كان يؤوسا شديد اليأس من رحمة الله: لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يُوسُفَ: 87] وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِنْ فَازَ بِالنِّعْمَةِ وَالدَّوْلَةِ اغْتَرَّ بِهَا فَنَسِيَ ذِكْرَ اللَّهِ، وَإِنْ بَقِيَ فِي الْحِرْمَانِ عَنِ الدُّنْيَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْأَسَفُ وَالْحُزْنُ وَلَمْ يَتَفَرَّغْ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا الْمِسْكِينُ مَحْرُومٌ أَبَدًا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ [الفجر: 15] / إلى قوله: رَبِّي أَهانَنِ [الْفَجْرِ: 16] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [الْمَعَارِجِ: 19- 21] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ: الشَّاكِلَةُ الطَّرِيقَةُ وَالْمَذْهَبُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُقَالُ هَذَا طَرِيقٌ ذُو شَوَاكِلَ أَيْ يَتَشَعَّبُ مِنْهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ ثُمَّ الَّذِي يُقَوِّي عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَفْعَلُ عَلَى وَفْقِ مَا شَاكَلَ جَوْهَرَ نَفْسِهِ وَمُقْتَضَى رُوحِهِ فَإِنْ كَانَتْ نَفْسُهُ نَفْسًا مُشْرِقَةً خَيِّرَةً طَاهِرَةً عُلْوِيَّةً صَدَرَتْ عَنْهُ أَفْعَالٌ فَاضِلَةٌ كَرِيمَةٌ وَإِنْ كَانَتْ نَفْسُهُ نَفْسًا كَدِرَةً نَذْلَةً خَبِيثَةً مُضِلَّةً ظَلْمَانِيَّةً صَدَرَتْ عَنْهُ أَفْعَالٌ خَسِيسَةٌ فَاسِدَةٌ، وَأَقُولُ: الْعُقَلَاءُ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ النُّفُوسَ النَّاطِقَةَ الْبَشَرِيَّةَ هَلْ هِيَ مُخْتَلِفَةٌ بِالْمَاهِيَّةِ أَمْ لَا؟ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ بِالْمَاهِيَّةِ وَإِنَّ اخْتِلَافَ أَفْعَالِهَا وَأَحْوَالِهَا لِأَجْلِ اخْتِلَافِ جَوَاهِرِهَا وَمَاهِيَّاتِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْمَاهِيَّةِ وَاخْتِلَافُ أَفْعَالِهَا لِأَجْلِ اخْتِلَافِ أَمْزِجَتِهَا. وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَالْقُرْآنُ مُشْعِرٌ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَعْضِ يُفِيدُ الشِّفَاءَ وَالرَّحْمَةَ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى أَقْوَامٍ آخَرِينَ يُفِيدُ الْخَسَارَةَ وَالْخِزْيَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّائِقَ بِتِلْكَ النُّفُوسِ الطَّاهِرَةِ أَنْ يَظْهَرَ فِيهَا مِنَ الْقُرْآنِ آثَارُ الذَّكَاءِ وَالْكَمَالِ، وَبِتِلْكَ النُّفُوسِ الْكَدِرَةِ أَنْ يَظْهَرَ فِيهَا مِنَ الْقُرْآنِ آثَارُ الْخِزْيِ وَالضَّلَالِ كَمَا أَنَّ الشَّمْسَ تَعْقِدُ الْمِلْحَ وَتُلَيِّنُ الدُّهْنَ وَتُبَيِّضُ ثَوْبَ الْقَصَّارِ وَتُسَوِّدُ وَجْهَهُ. وَهَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِذَا كَانَتِ الْأَرْوَاحُ وَالنُّفُوسُ مُخْتَلِفَةً بِمَاهِيَّاتِهَا فَبَعْضُهَا مُشْرِقَةٌ صَافِيَةٌ يَظْهَرُ فِيهَا مِنَ الْقُرْآنِ نُورٌ عَلَى نُورٍ وَبَعْضُهَا كَدِرَةٌ ظَلْمَانِيَّةٌ يَظْهَرُ فِيهَا مِنَ الْقُرْآنِ ضَلَالٌ عَلَى ضَلَالٍ وَنَكَالٌ على نكال. [سورة الإسراء (17) : آية 85] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَتَمَ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ بِقَوْلِهِ: كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ [الإسراء: 84] وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مُشَاكَلَةُ الْأَرْوَاحِ لِلْأَفْعَالِ الصادرة عنها وجب البحث هاهنا عَنْ مَاهِيَّةِ الرُّوحِ وَحَقِيقَتِهِ فَلِذَلِكَ سَأَلُوا عَنِ الرُّوحِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِلْمُفَسِّرِينَ فِي الرُّوحِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ أَظْهَرُهَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الرُّوحُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْحَيَاةِ، رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِقُرَيْشٍ اسْأَلُوا مُحَمَّدًا عَنْ ثَلَاثٍ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِاثْنَتَيْنِ وَأَمْسَكَ عَنِ الثَّالِثَةِ فَهُوَ نَبِيٌّ: اسْأَلُوهُ عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَعَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَعَنِ الرَّوْحِ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: غَدًا أُخْبِرُكُمْ وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ/ اللَّهُ فَانْقَطَعَ عَنْهُ الْوَحْيُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ نَزَلَ الْوَحْيُ بَعْدَهُ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْكَهْفِ: 23، 24] ثُمَّ فَسَّرَ لَهُمْ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَقِصَّةَ ذِي

الْقَرْنَيْنِ وَأَبْهَمَ قِصَّةَ الرُّوحِ وَنَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَبَيَّنَ أَنَّ عُقُولَ الْخَلْقِ قَاصِرَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الرُّوحِ فَقَالَ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ طَعَنَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ وُجُوهٍ. أَوَّلُهُا: أَنَّ الرُّوحَ لَيْسَ أَعْظَمَ شَأْنًا وَلَا أَعْلَى مَكَانًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا كَانَتْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى مُمْكِنَةً بَلْ حَاصِلَةً فَأَيُّ مَانِعٍ يَمْنَعُ مِنْ مَعْرِفَةِ الرُّوحِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: إِنْ أَجَابَ عَنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَقِصَّةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَلَمْ يُجِبْ عَنِ الرُّوحِ فَهُوَ نَبِيٌّ وَهَذَا كَلَامٌ بَعِيدٌ عَنِ الْعَقْلِ لِأَنَّ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَقِصَّةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ لَيْسَتْ إِلَّا حِكَايَةً مِنَ الْحِكَايَاتِ وَذِكْرُ الْحِكَايَةِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى النُّبُوَّةِ وَأَيْضًا فَالْحِكَايَةُ الَّتِي يَذْكُرُهَا إِمَّا أَنْ تُعْتَبَرَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِنُبُوَّتِهِ أَوْ بَعْدَ الْعِلْمِ بِنُبُوَّتِهِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِنُبُوَّتِهِ كَذَّبُوهُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِنُبُوَّتِهِ فَحِينَئِذٍ صَارَتْ نُبُوَّتُهُ مَعْلُومَةً قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ. وَأَمَّا عَدَمُ الْجَوَابِ عَنْ حَقِيقَةِ الرُّوحِ فَهَذَا يَبْعُدُ جَعْلُهُ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَسْأَلَةَ الرُّوحِ يَعْرِفُهَا أَصَاغِرُ الْفَلَاسِفَةِ وَأَرَاذِلُ الْمُتَكَلِّمِينَ فَلَوْ قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَا أَعْرِفُهَا لَأَوْرَثَ ذَلِكَ مَا يُوجِبُ التَّحْقِيرَ وَالتَّنْفِيرَ فَإِنَّ الْجَهْلَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُفِيدُ تَحْقِيرَ أَيِّ إِنْسَانٍ كَانَ فَكَيْفَ الرَّسُولُ الَّذِي هُوَ أَعْلَمُ الْعُلَمَاءِ وَأَفْضَلُ الْفُضَلَاءِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّهِ: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرَّحْمَنِ: 1، 2] وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النِّسَاءِ: 113] وَقَالَ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] وَقَالَ فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الْأَنْعَامِ: 59] ، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: «أَرِنَا الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ» فَمَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ وَصِفَتُهُ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنَّ يَقُولَ أَنَا لَا أَعْرِفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَعَ أَنَّهَا مِنَ الْمَسَائِلِ الْمَشْهُورَةِ الْمَذْكُورَةِ بَيْنَ جُمْهُورِ الْخَلْقِ بَلِ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَابَ عَنْهُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ وَالسُّؤَالُ عَنِ الرُّوحِ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ مَاهِيَّةُ الرُّوحِ أَهْوَ مُتَحَيَّزٌ أَوْ حَالٌّ فِي الْمُتَحَيَّزِ أَوْ مَوْجُودٌ غَيْرُ مُتَحَيَّزٍ وَلَا حَالٌّ فِي التَّحَيُّزِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يُقَالَ الرُّوحُ قَدِيمَةٌ أَوْ حَادِثَةٌ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُقَالَ الْأَرْوَاحُ هَلْ تَبْقَى بَعْدَ مَوْتِ الْأَجْسَامِ أَوْ تَفْنَى. وَرَابِعُهَا: أَنْ يُقَالَ مَا حَقِيقَةُ سَعَادَةِ الْأَرْوَاحِ وَشَقَاوَتِهَا وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرُّوحِ كثيرة، وقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ سَأَلُوا أَوْ عَنْ غَيْرِهَا إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ لَهُ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ قَوْلَهُ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِمَسْأَلَتَيْنِ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا إِحْدَاهُمَا السُّؤَالُ عَنْ مَاهِيَّةِ الرُّوحِ وَالثَّانِيَةُ عَنْ قِدَمِهَا وَحُدُوثِهَا. أَمَّا الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فَهُمْ قَالُوا مَا حَقِيقَةُ الرُّوحِ وَمَاهِيَّتُهُ؟ أَهْوَ عِبَارَةٌ عَنْ أَجْسَامٍ مَوْجُودَةٍ فِي دَاخِلِ هَذَا الْبَدَنِ مُتَوَلِّدَةٍ مِنَ امْتِزَاجِ الطَّبَائِعِ وَالْأَخْلَاطِ، أَوْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْسِ هَذَا الْمِزَاجِ وَالتَّرْكِيبِ أَوْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ عَرَضٍ آخَرَ قَائِمٍ بِهَذِهِ الْأَجْسَامِ، أَوْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَوْجُودٍ يُغَايِرُ هَذِهِ/ الْأَجْسَامَ وَالْأَعْرَاضَ؟ فَأَجَابَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ مُغَايِرٌ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ وَلِهَذِهِ الْأَعْرَاضِ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَجْسَامَ أَشْيَاءُ تَحْدُثُ مِنَ امْتِزَاجِ الْأَخْلَاطِ وَالْعَنَاصِرِ، وَأَمَّا الرُّوحُ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ جَوْهَرٌ بَسِيطٌ مُجَرَّدٌ لَا يَحْدُثُ إِلَّا بِمُحْدَثِ قوله: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 47] فَقَالُوا لِمَ كَانَ شَيْئًا مُغَايِرًا لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ وَلِهَذِهِ الْأَعْرَاضِ فَأَجَابَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ يَحْدُثُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَتَكْوِينِهِ وَتَأْثِيرِهِ فِي إِفَادَةِ الْحَيَاةِ لِهَذَا الْجَسَدِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِحَقِيقَتِهِ الْمَخْصُوصَةِ نَفْيُهُ فَإِنَّ أَكْثَرَ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَمَاهِيَّاتِهَا مَجْهُولَةٌ. فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ السَّكَنْجَبِينَ لَهُ خَاصِّيَّةٌ تَقْتَضِي قَطْعَ الصَّفْرَاءِ فَأَمَّا إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَعْرِفَ مَاهِيَّةَ تِلْكَ الْخَاصِّيَّةِ

وَحَقِيقَتَهَا الْمَخْصُوصَةَ فَذَاكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَثَبَتَ أَنَّ أَكْثَرَ الْمَاهِيَّاتِ وَالْحَقَائِقِ مَجْهُولَةٌ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ كونها مجهولة نفيها فكذلك هاهنا وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا. وَأَمَّا الْبَحْثُ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ قَدْ جَاءَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ قَالَ تَعَالَى: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هُودٍ: 97] وَقَالَ: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا [هُودٍ: 66] أَيْ فِعْلُنَا فَقَوْلُهُ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أَيْ مِنْ فِعْلِ رَبِّي وَهَذَا الْجَوَابُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ أَنَّ الرُّوحَ قَدِيمَةٌ أَوْ حَادِثَةٌ فَقَالَ بَلْ هِيَ حَادِثَةٌ وَإِنَّمَا حَصَلَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ وَتَكْوِينِهِ وَإِيجَادِهِ ثُمَّ احْتَجَّ عَلَى حُدُوثِ الرُّوحِ بِقَوْلِهِ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا يَعْنِي أَنَّ الْأَرْوَاحَ فِي مَبْدَأِ الْفِطْرَةِ تَكُونُ خَالِيَةً عَنِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ ثُمَّ يَحْصُلُ فِيهَا الْعُلُومُ وَالْمَعَارِفُ فَهِيَ لَا تَزَالُ تَكُونُ فِي التَّغْيِيرِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَفِي التَّبْدِيلِ مِنْ نُقْصَانٍ إِلَى كَمَالٍ وَالتَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ مِنْ أَمَارَاتِ الْحُدُوثِ فَقَوْلُهُ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ أَنَّ الرُّوحَ هَلْ هِيَ حَادِثَةٌ فَأَجَابَ بِأَنَّهَا حَادِثَةٌ وَاقِعَةٌ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ وَتَكْوِينِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى حُدُوثِ الْأَرْوَاحِ بِتَغَيُّرِهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فَهَذَا مَا نَقُولُهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي ذَكَرِ سَائِرِ الْأَقْوَالِ الْمَقُولَةِ فِي نَفْسِ الرُّوحِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ ذَكَرُوا أَقْوَالًا أُخْرَى سِوَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الرُّوحِ هُوَ الْقُرْآنُ قَالُوا وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْقُرْآنَ فِي كَثِيرٍ من الآيات روحا واللائق بالروح المسؤول عَنْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَيْسَ إِلَّا الْقُرْآنَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْرِيرِ مَقَامَيْنِ. الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: تَسْمِيَةُ اللَّهِ الْقُرْآنَ بِالرُّوحِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشُّورَى: 52] وَقَوْلُهُ: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [النَّحْلِ: 2] وَأَيْضًا السَّبَبُ فِي تَسْمِيَةِ الْقُرْآنِ بِالرُّوحِ أَنَّ بِالْقُرْآنِ تَحْصُلُ حَيَاةَ الْأَرْوَاحِ وَالْعُقُولِ لِأَنَّ بِهِ تَحْصُلُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَةُ مَلَائِكَتِهِ وَمَعْرِفَةُ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْأَرْوَاحُ إِنَّمَا تَحْيَا بِهَذِهِ الْمَعَارِفِ وَتَمَامُ تَقْرِيرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [النَّحْلِ: 2] ، وَأَمَّا بَيَانُ الْمَقَامِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الرُّوحَ اللَّائِقَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَهُ قَوْلُهُ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الْإِسْرَاءِ: 82] وَالَّذِي تَأَخَّرَ عَنْهُ قَوْلُهُ: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الْإِسْرَاءِ: 86] إِلَى قَوْلُهُ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى / أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الْإِسْرَاءِ: 88] فلما كان قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي وَصْفِ الْقُرْآنِ وَمَا بَعْدَهَا كَذَلِكَ وَجَبَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الرُّوحِ الْقُرْآنَ حَتَّى تَكُونَ آيَاتُ الْقُرْآنِ كُلُّهَا مُتَنَاسِبَةً مُتَنَاسِقَةً وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ اسْتَعْظَمُوا أَمْرَ الْقُرْآنِ فَسَأَلُوا أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الشِّعْرِ أَوْ مِنْ جِنْسِ الْكَهَانَةِ فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ الْبَشَرِ وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ ظَهَرَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَوَحْيِهِ وَتَنْزِيلِهِ فَقَالَ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أَيِ الْقُرْآنُ ظَهَرَ بِأَمْرِ رَبِّي وَلَيْسَ مِنْ جنس كلام البشر. والقول الثاني: أن الروح المسؤول عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَلَكٌ مِنْ مَلَائِكَةِ السموات وَهُوَ أَعْظَمُهُمْ قَدْرًا وَقُوَّةً وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا [النَّبَأِ: 38] وَنَقَلُوا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ مَلَكٌ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ وَجْهٍ، لِكُلِّ وَجْهٍ سَبْعُونَ أَلْفَ وَجْهٍ، لِكُلِّ وَجْهٍ سَبْعُونَ أَلْفَ لِسَانٍ، لِكُلِّ لِسَانٍ سَبْعُونَ أَلْفَ لُغَةٍ يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى بِتِلْكَ اللُّغَاتِ كُلِّهَا وَيَخْلُقُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ تَسْبِيحَةٍ مَلَكًا يَطِيرُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالُوا وَلَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقًا أَعْظَمَ مِنَ الرُّوحِ غَيْرَ الْعَرْشِ وَلَوْ شاء أن يبتلع السموات السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ وَمَنْ فِيهِنَّ بِلُقْمَةٍ وَاحِدَةٍ لِفَعَلَ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ

هَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ لَمَّا عَرَفَهُ عَلِيٌّ، فَالنَّبِيُّ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَهُ فَلِمَ لَمْ يُخْبِرْهُمْ بِهِ، وَأَيْضًا أَنَّ عَلِيًّا مَا كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَهَذَا التَّفْصِيلُ مَا عَرَفَهُ إِلَّا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِمَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الشَّرْحَ وَالْبَيَانَ لِعَلِيٍّ وَلَمْ يَذْكُرْهُ لِغَيْرِهِ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْمَلَكَ إِنْ كَانَ حَيَوَانًا وَاحِدًا وَعَاقِلًا وَاحِدًا لَمْ يَكُنْ فِي تَكْثِيرِ تِلْكَ اللُّغَاتِ فَائِدَةٌ وَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ اللُّغَاتِ حَيَوَانًا آخَرَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَلَكًا وَاحِدًا بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مَجْمُوعَ مَلَائِكَةٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا شَيْءٌ مَجْهُولُ الْوُجُودِ فَكَيْفَ يُسْأَلُ عَنْهُ، أَمَّا الرُّوحُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْحَيَاةِ فَهُوَ شَيْءٌ تَتَوَفَّرُ دَوَاعِي الْعُقَلَاءِ عَلَى مَعْرِفَتِهِ فَصَرْفُ هَذَا السُّؤَالِ إِلَيْهِ أَوْلَى. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّ هَذَا الرُّوحَ جِبْرِيلُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى جِبْرِيلَ بِالرُّوحِ فِي قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: 193، 194] وَفِي قَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا [مَرْيَمَ: 17] وَيُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [فِي جِبْرِيلَ] وَقَالَ [حِكَايَةً عَنْ] جِبْرِيلَ: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مَرْيَمَ: 64] فَسَأَلُوا الرَّسُولَ كَيْفَ جِبْرِيلُ فِي نَفْسِهِ وَكَيْفَ قِيَامُهُ بِتَبْلِيغِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: الرُّوحُ خَلْقٌ لَيْسُوا مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى صُورَةِ بني آدم يأكلون ولهم أيد وأرجل ورؤوس وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ يُشْبِهُونَ النَّاسَ وَلَيْسُوا بِالنَّاسِ وَلَمْ أَجِدْ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ شَيْئًا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْقَوْلِ وَأَيْضًا فَهَذَا شَيْءٌ مَجْهُولٌ فَيَبْعُدُ صَرْفُ هَذَا السُّؤَالِ إِلَيْهِ فَحَاصِلُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الرُّوحِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَذِهِ الْأَقْوَالُ الْخَمْسَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي شَرْحِ مَذَاهِبِ النَّاسِ فِي حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ، اعْلَمْ أَنَّ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ حَاصِلٌ بِأَنَّ هاهنا شَيْئًا إِلَيْهِ يُشِيرُ الْإِنْسَانُ بِقَوْلِهِ أَنَا وَإِذَا قَالَ الْإِنْسَانُ عَلِمْتُ وَفَهِمْتُ وَأَبْصَرْتُ/ وَسَمِعْتُ وَذُقْتُ وَشَمَمْتُ وَلَمَسْتُ وَغَضِبْتُ فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ لِكُلِّ أَحَدٍ بِقُولِهِ أَنَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ جِسْمًا أَوْ عَرَضًا أَوْ مَجْمُوعَ الْجِسْمِ وَالْعَرَضِ أَوْ شَيْئًا مُغَايِرًا لِلْجِسْمِ وَالْعَرَضِ أَوْ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ الثَّالِثِ فَهَذَا ضَبْطٌ مَعْقُولٌ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْإِنْسَانَ جِسْمٌ فَذَلِكَ الْجِسْمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ هَذِهِ الْبِنْيَةَ أَوْ جِسْمًا دَاخِلًا فِي هَذِهِ الْبِنْيَةِ أَوْ جِسْمًا خَارِجًا عَنْهَا، أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ عِبَارَةٌ عَنْ هَذِهِ الْبِنْيَةِ الْمَحْسُوسَةِ وَعَنْ هَذَا الْجِسْمِ الْمَحْسُوسِ فَهُمْ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ الْإِنْسَانُ لَا يَحْتَاجُ تَعْرِيفُهُ إِلَى ذِكْرِ حَدٍّ أَوْ رَسْمٍ بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ الْإِنْسَانُ هُوَ الْجِسْمُ الْمَبْنِيُّ بِهَذِهِ الْبِنْيَةِ الْمَحْسُوسَةِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ عِنْدَنَا بَاطِلٌ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْإِنْسَانُ هُوَ هَذَا الْجِسْمُ الْمَحْسُوسُ، فَإِذَا أَبْطَلْنَا كَوْنَ الْإِنْسَانِ عِبَارَةً عَنْ هَذَا الْجِسْمِ وَأَبْطَلْنَا كَوْنَ الْإِنْسَانِ مَحْسُوسًا فَقَدْ بَطَلَ كَلَامُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ عِبَارَةً [عَنْ] هَذَا الْجِسْمِ وُجُوهٌ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الْعِلْمَ الْبَدِيهِيَّ حَاصِلٌ بِأَنَّ أَجْزَاءَ هَذِهِ الْجُثَّةِ مُتَبَدِّلَةٌ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ تَارَةً بِحَسَبِ النُّمُوِ وَالذُّبُولِ وَتَارَةً بِحَسَبِ السِّمَنِ وَالْهُزَالِ وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلٌ بِأَنَّ الْمُتَبَدِّلَ الْمُتَغَيِّرَ مُغَايِرٌ لِلثَّابِتِ الْبَاقِي وَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الثَّلَاثَةِ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْجُثَّةِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ حَالَ مَا يَكُونُ مُشْتَغِلَ الْفِكْرِ مُتَوَجِّهَ الْهِمَّةِ نَحْوَ أَمْرٍ مُعَيَّنٍ مَخْصُوصٍ فَإِنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَكُونُ غَافِلًا عَنْ جَمِيعِ أَجْزَاءِ بَدَنِهِ وَعَنْ أَعْضَائِهِ وَأَبْعَاضِهِ مَجْمُوعِهَا وَمُفَصَّلِهَا وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ غَيْرُ غَافِلٍ عَنْ نَفْسِهِ الْمُعَيَّنَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ قَدْ يَقُولُ غَضِبْتُ وَاشْتَهَيْتُ وَسَمِعْتُ كَلَامَكُ وَأَبْصَرْتُ وَجْهَكَ، وَتَاءُ الضَّمِيرِ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ عَالِمٌ بِنَفْسِهِ الْمَخْصُوصَةِ وَغَافِلٌ عَنْ جُمْلَةِ بَدَنِهِ وَعَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَأَبْعَاضِهِ وَ [يَكُونُ] الْمَعْلُومُ غَيْرَ مَعْلُومٍ، فَالْإِنْسَانُ يَجِبُ أَنْ

يَكُونَ مُغَايِرًا لِجُمْلَةِ هَذَا الْبَدَنِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَأَبْعَاضِهِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُحَكِّمُ عَقْلَهُ بِإِضَافَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ إِلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ رَأْسِي وَعَيْنِي وَيَدِي وَرِجْلِي وَلِسَانِي وَقَلْبِي وَالْمُضَافُ غَيْرُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَوَجَبَ أَنَّ يَكُونَ الشَّيْءُ الَّذِي هُوَ الْإِنْسَانُ مُغَايِرًا لِجُمْلَةِ هَذَا الْبَدَنِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ يَقُولُ نَفْسِي وَذَاتِي فَيُضِيفُ النَّفْسَ وَالذَّاتَ إِلَى نَفْسِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ وَذَاتُهُ مُغَايِرَةً لِنَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ قُلْنَا قَدْ يُرَادُ بِهِ هَذَا الْبَدَنُ الْمَخْصُوصُ وَقَدْ يُرَادُ بِنَفْسِ الشَّيْءِ وَذَاتِهِ الْحَقِيقَةُ الْمَخْصُوصَةُ الَّتِي يُشِيرُ إِلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ أَنَا فَإِذَا قَالَ نَفْسِي وَذَاتِي فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْبَدَنَ فَعِنْدَنَا أَنَّهُ مُغَايِرٌ لِجَوْهَرِ الْإِنْسَانِ، أَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِالنَّفْسِ وَالذَّاتِ الْمَخْصُوصَةِ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: أَنَا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُضِيفَ ذَلِكَ الشَّيْءَ إِلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ إِنْسَانِي وَذَلِكَ لِأَنَّ عَيْنَ الْإِنْسَانِ ذَاتُهُ فَكَيْفَ يُضِيفُهُ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى ذَاتِهِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ كُلَّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا فَهُوَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ هَذَا الْجِسْمِ وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ تِلْكَ الدَّلَائِلِ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ حَيًّا حَالَ مَا يَكُونُ الْبَدَنُ مَيِّتًا فَوَجَبَ كَوْنُ/ الْإِنْسَانِ مُغَايِرًا لِهَذَا الْبَدَنِ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 169] فَهَذَا النَّصُّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أُولَئِكَ الْمَقْتُولِينَ أَحْيَاءٌ وَالْحِسُّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْجَسَدَ مَيِّتٌ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غَافِرٍ: 46] وَقَوْلَهُ: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نُوحٍ: 25] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْيَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَنْبِيَاءُ اللَّهِ لَا يَمُوتُونَ وَلَكِنْ يُنْقَلُونَ مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ» وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ» وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ» كُلُّ هَذِهِ النُّصُوصِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِ الْجَسَدِ، وَبَدِيهَةُ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ شَاهِدَانِ بِأَنَّ هَذَا الْجَسَدَ مَيِّتٌ. وَلَوْ جَوَّزْنَا كَوْنَهُ حَيًّا جَازَ مِثْلُهُ فِي جَمِيعِ الْجَمَادَاتِ، وَذَلِكَ عَيْنُ السَّفْسَطَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ شَيْءٌ وَكَانَ الْجَسَدُ مَيِّتًا لَزِمَ أَنَّ الْإِنْسَانَ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا الْجَسَدِ. الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي خُطْبَةٍ طَوِيلَةٍ لَهُ «حَتَّى إِذَا حُمِلَ الْمَيِّتُ عَلَى نَعْشِهِ رَفْرَفَ رُوحُهُ فَوْقَ النَّعْشِ، وَيَقُولُ يَا أَهْلِي وَيَا وَلَدِي لَا تَلْعَبَّنَ بِكُمُ الدُّنْيَا كَمَا لَعِبَتْ بِي، جَمَعْتُ الْمَالَ مِنْ حِلِّهِ وَغَيْرِ حِلِّهِ فَالْغِنَى لِغَيْرِي وَالتَّبِعَةُ عَلَيَّ فَاحْذَرُوا مِثْلَ مَا حَلَّ بِي» وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَّحَ بِأَنَّ حَالَ مَا يَكُونُ الْجَسَدُ مَحْمُولًا عَلَى النَّعْشِ بَقِيَ هُنَاكَ شَيْءٌ يُنَادِي وَيَقُولُ يَا أَهْلِي وَيَا وَلَدِي جَمَعْتُ الْمَالَ مِنْ حِلِّهِ وَغَيْرِ حِلِّهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي كَانَ الْأَهْلُ أَهْلًا لَهُ وَكَانَ جَامِعًا لِلْمَالِ مِنَ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ وَالَّذِي بَقِيَ فِي رَقَبَتِهِ الْوَبَالُ لَيْسَ إِلَّا ذَلِكَ الْإِنْسَانُ فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ فِيهِ الْجَسَدُ مَيِّتًا مَحْمُولًا كَانَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ حَيًّا بَاقِيًا فَاهِمًا وَذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ شَيْءٌ مُغَايِرٌ لِهَذَا الْجَسَدِ وَلِهَذَا الْهَيْكَلِ. الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً [الْفَجْرِ: 27، 28] وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: ارْجِعِي إِنَّمَا هُوَ مُتَوَجِّهٌ عَلَيْهَا حَالَ الْمَوْتُ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ بَعْدَ مَوْتِ الْجَسَدِ يَكُونُ حَيًّا رَاضِيًا عَنِ اللَّهِ وَيَكُونُ رَاضِيًا عَنْهُ اللَّهُ وَالَّذِي يَكُونُ رَاضِيًا لَيْسَ إِلَّا الْإِنْسَانُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ بَقِيَ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِ الْجَسَدِ وَالْحَيُّ غَيْرُ الْمَيِّتِ فَالْإِنْسَانُ مُغَايِرٌ لِهَذَا الْجَسَدِ. الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ

[الْأَنْعَامِ: 61، 62] أَثْبَتَ كَوْنَهُمْ مَرْدُودِينَ إِلَى اللَّهِ الَّذِي هُوَ مَوْلَاهُمْ حَالَ كَوْنِ الْجَسَدِ مَيِّتًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَرْدُودُ إِلَى اللَّهِ مُغَايِرًا لِذَلِكَ الْجَسَدِ الْمَيِّتِ. الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: نَرَى جَمِيعَ فِرَقِ الدُّنْيَا مِنَ الْهِنْدِ وَالرُّومِ وَالْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَجَمِيعِ أَرْبَابِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالْمُسْلِمِينَ وَسَائِرِ فِرَقِ الْعَالَمِ وَطَوَائِفِهِمْ يَتَصَدَّقُونَ عَنْ مَوْتَاهُمْ وَيَدْعُونَ لَهُمْ بِالْخَيْرِ وَيَذْهَبُونَ إِلَى زِيَارَاتِهِمْ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ بَعْدَ مَوْتِ الْجَسَدِ بَقُوا/ أَحْيَاءً لَكَانَ التَّصَدُّقُ عَنْهُمْ عَبَثًا، وَالدُّعَاءُ لَهُمْ عَبَثًا، وَلَكَانَ الذَّهَابُ إِلَى زِيَارَتِهِمْ عَبَثًا، فَالْإِطْبَاقُ عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَةِ وَعَلَى هَذَا الدُّعَاءِ وَعَلَى هَذِهِ الزِّيَارَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِطْرَتَهُمُ الْأَصْلِيَّةَ السَّلِيمَةَ شَاهِدَةٌ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ شَيْءٌ غَيْرَ هَذَا الْجَسَدِ وَأَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ لَا يَمُوتُ، بَلِ [الَّذِي] يَمُوتُ هَذَا الْجَسَدُ. الْحُجَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَرَى أَبَاهُ أَوِ ابْنَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الْمَنَامِ وَيَقُولُ لَهُ اذْهَبْ إِلَى الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ فَإِنَّ فِيهِ ذَهَبًا دَفَنْتُهُ لَكَ وَقَدْ يَرَاهُ فَيُوصِيهِ بِقَضَاءِ دَيْنٍ عَنْهُ ثُمَّ عِنْدَ الْيَقَظَةِ إِذَا فَتَّشَ كَانَ كَمَا رَآهُ فِي النَّوْمِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ، وَلَوْلَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَلَمَّا دَلَّ هَذَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ وَدَلَّ الْحِسُّ عَلَى أَنَّ الْجَسَدَ مَيِّتٌ كَانَ الْإِنْسَانُ مُغَايِرًا لِهَذَا الْجَسَدِ الْمَيِّتِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا ضَاعَ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ مِثْلَ أَنْ تُقْطَعَ يَدَاهُ أَوْ رِجْلَاهُ أَوْ تُقْلَعَ عَيْنَاهُ أَوْ تُقْطَعُ أُذُنَاهُ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ يَجِدُ مِنْ قَلْبِهِ وَعَقْلِهِ أَنَّهُ هُوَ عَيْنُ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ وَلَمْ يَقَعْ فِي عَيْنِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ تَفَاوُتٌ حَتَّى أَنَّهُ يَقُولُ أَنَا ذَلِكَ الْإِنْسَانُ الَّذِي كُنْتُ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ يَقُولُ إِنَّهُمْ قَطَعُوا يَدِي وَرِجْلِي، وَذَلِكَ بُرْهَانٌ يَقِينِيٌّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ شَيْءٌ مُغَايِرٌ لِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ وَالْأَبْعَاضِ وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ الْإِنْسَانُ عِبَارَةٌ عَنْ هَذِهِ الْبِنْيَةِ الْمَخْصُوصَةِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ الْقُرْآنَ وَالْأَحَادِيثَ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْيَهُودِ قَدْ مَسَخَهُمُ اللَّهُ وَجَعَلَهُمْ فِي صُورَةِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ فَنَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ هَلْ بَقِيَ حَالَ ذَلِكَ الْمَسْخِ أَوْ لَمْ يَبْقَ؟ فَإِنْ لَمْ يَبْقَ كَانَ هَذَا إِمَاتَةً لِذَلِكَ الْإِنْسَانِ وَخَلْقًا لِذَلِكَ الْخِنْزِيرِ وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْمَسْخِ فِي شَيْءٍ. وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ بَقِيَ حَالَ حُصُولِ ذَلِكَ الْمَسْخِ فَنَقُولُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ: ذَلِكَ الْإِنْسَانُ بَاقٍ وَتِلْكَ الْبِنْيَةُ وَذَلِكَ الْهَيْكَلُ غَيْرُ بَاقٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ شَيْئًا مُغَايِرًا لِتِلْكَ الْبِنْيَةِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي صُورَةِ دَحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَكَانَ يَرَى إِبْلِيسَ فِي صُورَةِ الشَّيْخِ النجدي فهاهنا بِنْيَةُ الْإِنْسَانِ وَهَيْكَلُهُ وَشَكْلُهُ حَاصِلٌ مَعَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِنْسَانِ غَيْرُ حَاصِلَةٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ هَذِهِ الْبِنْيَةِ، وَهَذَا الْهَيْكَلِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْحُجَّةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا أَنَّهُ حَصَلَتْ صُورَةُ هَذِهِ الْبِنْيَةِ مَعَ عَدَمِ هَذِهِ الْبِنْيَةِ وَهَذَا الْهَيْكَلِ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ الزَّانِي يَزْنِي بِفَرْجِهِ فَيُضْرَبُ عَلَى ظَهْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ شَيْئًا آخَرَ سِوَى الْفَرْجِ وَسِوَى الظَّهْرِ، وَيُقَالُ إِنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ يَسْتَعْمِلُ الْفَرْجَ فِي عَمَلٍ وَالظَّهْرَ فِي عَمَلٍ آخَرَ، فَيَكُونُ الْمُتَلَذِّذُ وَالْمُتَأَلِّمُ هُوَ ذَلِكَ الشَّيْءُ إِلَّا أَنَّهُ تَحْصُلَ تِلْكَ اللَّذَّةُ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْعُضْوِ وَيَتَأَلَّمُ بِوَاسِطَةِ الضَّرْبِ عَلَى هَذَا الْعُضْوِ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: أَنِّي إِذَا تَكَلَّمْتُ مَعَ زَيْدٍ وَقُلْتُ لَهُ افْعَلْ كَذَا أَوْ لَا تَفْعَلْ كَذَا فَالْمُخَاطَبُ بِهَذَا

الْخِطَابِ وَالْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ لَيْسَ هُوَ جَبْهَةَ زَيْدٍ وَلَا حَدَقَتَهُ وَلَا أَنْفَهُ وَلَا فَمَهُ وَلَا شَيْئًا مِنْ أَعْضَائِهِ بِعَيْنِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ وَالْمُخَاطَبُ شَيْئًا مُغَايِرًا لِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَأْمُورَ وَالْمَنْهِيَّ غَيْرُ هَذَا الْجَسَدِ فَإِنْ قَالُوا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ جُمْلَةُ هَذَا الْبَدَنِ لَا شَيْءٌ مِنْ أَعْضَائِهِ وَأَبْعَاضِهِ؟ قُلْنَا بِوَجْهِ التَّكْلِيفِ عَلَى الْجُمْلَةِ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ فَاهِمَةً عَالِمَةً فَنَقُولُ لَوْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ فَاهِمَةً عَالِمَةً فَإِمَّا أَنْ يَقُومَ بِمَجْمُوعِ الْبَدَنِ عِلْمٌ وَاحِدٌ أَوْ يَقُومَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ عِلْمٌ عَلَى حِدَةٍ، وَالْأَوَّلُ يَقْتَضِي قِيَامَ الْعَرَضِ بِالْمَحَالِّ الْكَثِيرَةِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ عَالِمًا فَاهِمًا مُدْرِكًا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ حَاصِلٌ بِأَنَّ الْجُزْءَ الْمُعَيَّنَ مِنَ الْبَدَنِ لَيْسَ عَالِمًا فَاهِمًا مُدْرِكًا بِالِاسْتِقْلَالِ فَسَقَطَ هَذَا السُّؤَالُ. الْحُجَّةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا، وَالْعِلْمُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي الْقَلْبِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ عِبَارَةً عَنِ الشَّيْءِ الْمَوْجُودِ فِي الْقَلْبِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بَطَلَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ عِبَارَةٌ عَنْ هَذَا الْهَيْكَلِ، وَهَذِهِ الْجُثَّةِ إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْإِنْسَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا لِأَنَّهُ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ، وَالْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ بِوَاسِطَةِ الْقَلْبِ وَالِاخْتِيَارِ وَهُمَا مَشْرُوطَانِ بِالْعِلْمِ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ مَقْصُودًا امْتَنَعَ الْقَصْدُ إِلَى تَكْوِينِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْأَشْيَاءِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْعِلْمَ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي الْقَلْبِ لِلْبُرْهَانِ وَالْقُرْآنِ. أَمَّا الْبُرْهَانُ فَلِأَنَّا نَجِدُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّا نَجِدُ عُلُومَنَا مِنْ نَاحِيَةِ الْقَلْبِ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَآيَاتٌ نَحْوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها [الْأَعْرَافِ: 179] وَقَوْلِهِ: كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [الْمُجَادَلَةِ: 22] وَقَوْلُهُ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: 193، 194] وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا، وَثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ إِلَّا فِي الْقَلْبِ ثبت أن الإنسان شيء فِي الْقَلْبِ أَوْ شَيْءٍ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْقَلْبِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَإِنَّهُ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ الْإِنْسَانُ هُوَ هَذَا الْجَسَدُ وَهَذَا الْهَيْكَلُ. وَأَمَّا الْبَحْثُ الثَّانِي: وَهُوَ بَيَانُ أَنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرُ مَحْسُوسٍ وَهُوَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ مُغَايِرٌ لِلسَّطْحِ وَاللَّوْنِ وَكُلِّ مَا هُوَ مَرْئِيٌّ فَهُوَ إِمَّا السَّطْحُ وَإِمَّا اللَّوْنُ وَهُمَا مُقَدِّمَتَانِ قَطْعِيَّتَانِ وَيُنْتِجُ هَذَا الْقِيَاسُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِنْسَانِ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ وَلَا مَحْسُوسَةٍ وَهَذَا بُرْهَانٌ يَقِينِيٌّ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي شَرْحِ مَذَاهِبِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ جِسْمٌ مَوْجُودٌ فِي دَاخِلِ الْبَدَنِ اعْلَمْ أَنَّ الْأَجْسَامَ الْمَوْجُودَةَ فِي هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَحَدَ الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ مَا يَكُونُ مُتَوَلِّدًا مِنَ امْتِزَاجِهَا، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَحْصُلَ فِي الْبَدَنِ الْإِنْسَانِيِّ جِسْمٌ عُنْصُرِيٌّ خَالِصٌ بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْحَاصِلُ جِسْمًا مُتَوَلِّدًا مِنَ امْتِزَاجَاتِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَنَقُولُ: أَمَّا الْجِسْمُ الَّذِي تَغْلِبُ عَلَيْهِ الْأَرْضِيَّةُ فَهُوَ الْأَعْضَاءُ الصُّلْبَةُ الْكَثِيفَةُ كَالْعَظْمِ وَالْغُضْرُوفِ وَالْعَصَبِ وَالْوَتَرِ وَالرِّبَاطِ وَالشَّحْمِ وَاللَّحْمِ وَالْجِلْدِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا: الْإِنْسَانُ شَيْءٌ مُغَايِرٌ لِهَذَا الْجَسَدِ بِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ عُضْوٍ مُعَيَّنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ كَثِيفَةٌ ثَقِيلَةٌ ظُلْمَانِيَّةٌ فَلَا جَرَمَ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ عِبَارَةٌ عَنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَأَمَّا الْجِسْمُ الَّذِي تَغْلِبُ عَلَيْهِ الْمَائِيَّةُ فَهُوَ/ الْأَخْلَاطُ الْأَرْبَعَةُ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إِنَّهُ الْإِنْسَانُ إِلَّا فِي الدَّمِ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ هُوَ الرُّوحُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ لَزِمَ الْمَوْتُ، أَمَّا الْجِسْمُ الَّذِي تَغْلِبُ عَلَيْهِ الْهَوَائِيَّةُ وَالنَّارِيَّةُ فَهُوَ الْأَرْوَاحُ وَهِيَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَجْسَامٌ هَوَائِيَّةٌ مَخْلُوطَةٌ بِالْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ مُتَوَلِّدَةٌ إِمَّا فِي الْقَلْبِ أَوْ فِي الدِّمَاغِ وَقَالُوا إِنَّهَا هِيَ الرُّوحُ وَإِنَّهَا هِيَ الْإِنْسَانُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْإِنْسَانُ هُوَ الرُّوحُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ جُزْءٌ لَا يَتَجَزَّأُ فِي الدِّمَاغِ، وَمِنْهُمْ مَنْ

يَقُولُ الرُّوحُ عِبَارَةٌ عَنْ أَجْزَاءٍ نَارِيَّةٍ مُخْتَلِطَةٍ بِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْقَلْبِيَّةِ وَالدِّمَاغِيَّةِ وَتِلْكَ الْأَجْزَاءُ النَّارِيَّةُ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَهِيَ الْإِنْسَانُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ الرُّوحُ عِبَارَةٌ عَنْ أَجْسَامٍ نُورَانِيَّةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَطِيفَةٍ، وَالْجَوْهَرُ عَلَى طَبِيعَةِ ضَوْءِ الشَّمْسِ وَهِيَ لَا تَقْبَلُ التَّحَلُّلَ وَالتَّبَدُّلَ وَلَا التَّفَرُّقَ وَلَا التَّمَزُّقَ فَإِذَا تَكَوَّنَ الْبَدَنُ وَتَمَّ استعداده وهو المراد بقوله: فَإِذا سَوَّيْتُهُ نَفَذَتْ تِلْكَ الْأَجْسَامُ الشَّرِيفَةُ السَّمَاوِيَّةُ الْإِلَهِيَّةُ فِي داخل أعصاء الْبَدَنِ نَفَاذَ النَّارِ فِي الْفَحْمِ وَنَفَاذَ دُهْنِ السِّمْسِمِ فِي السِّمْسِمِ، وَنَفَاذَ مَاءِ الْوَرْدِ فِي جِسْمِ الْوَرْدِ، وَنَفَاذُ تِلْكَ الْأَجْسَامِ السَّمَاوِيَّةِ فِي جَوْهَرِ الْبَدَنِ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص: 72] ثُمَّ إِنَّ الْبَدَنَ مَا دَامَ يَبْقَى سَلِيمًا قَابِلًا لِنَفَاذِ تِلْكَ الْأَجْسَامِ الشَّرِيفَةِ بَقِيَ حَيًّا، فَإِذَا تَوَلَّدَتْ فِي الْبَدَنِ أَخْلَاطٌ غَلِيظَةٌ مَنَعَتْ تِلْكَ الْأَخْلَاطُ الْغَلِيظَةُ مِنْ سَرَيَانِ تِلْكَ الْأَجْسَامِ الشَّرِيفَةِ فِيهَا فَانْفَصَلَتْ عَنْ هَذَا الْبَدَنِ فَحِينَئِذٍ يَعْرِضُ الْمَوْتُ، فَهَذَا مَذْهَبٌ قَوِيٌّ شَرِيفٌ يَجِبُ التَّأَمُّلُ فِيهِ فَإِنَّهُ شَدِيدُ الْمُطَابَقَةِ لِمَا وَرَدَ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ مِنْ أَحْوَالِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، فَهَذَا تَفْصِيلُ مَذَاهِبِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ جِسْمٌ مَوْجُودٌ فِي دَاخِلِ الْبَدَنِ، وَأَمَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ جِسْمٌ مَوْجُودٌ خَارِجَ الْبَدَنِ فَلَا أَعْرِفُ أَحَدًا ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ. أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْإِنْسَانُ عَرَضٌ حَالٌّ فِي الْبَدَنِ، فَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ عَاقِلٌ لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ جَوْهَرٌ لِأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالتَّدَبُّرِ وَالتَّصَرُّفِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ جَوْهَرًا وَالْجَوْهَرُ لَا يَكُونُ عَرَضًا بَلِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ بِهِ كُلُّ عَاقِلٍ هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِأَعْرَاضٍ مَخْصُوصَةٍ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلِلنَّاسِ فِيهِ أَقْوَالٌ. الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَنَاصِرَ الْأَرْبَعَةَ إِذَا امْتَزَجَتْ وَانْكَسَرَتْ سَوْرَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِسَوْرَةِ الْآخَرِ حَصَلَتْ كَيْفِيَّةٌ مُعْتَدِلَةٌ هِيَ الْمِزَاجُ. ومراتب هذا المزاج غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ فَبَعْضُهَا هِيَ الْإِنْسَانِيَّةُ وَبَعْضُهَا هِيَ الْفَرَسِيَّةُ، فَالْإِنْسَانِيَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ أَجْسَامٍ مَوْصُوفَةٍ مُتَوَلِّدَةٍ عَنِ امْتِزَاجَاتِ أَجْزَاءِ الْعَنَاصِرِ بِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ، هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْأَطِبَّاءِ وَمُنْكِرِي بَقَاءِ النَّفْسِ وَقَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ عِبَارَةٌ عَنْ أَجْسَامٍ مَخْصُوصَةٍ بِشَرْطِ كَوْنِهَا مَوْصُوفَةً بِصِفَةِ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةُ عَرَضٌ قَائِمٌ بِالْجِسْمِ وَهَؤُلَاءِ أَنْكَرُوا الرُّوحَ وَالنَّفْسَ وقالوا ليس ها هنا إِلَّا أَجْسَامٌ مُؤْتَلِفَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِهَذِهِ الْأَعْرَاضِ الْمَخْصُوصَةِ وَهِيَ الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَكْثَرِ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ عِبَارَةٌ عَنْ أَجْسَامٍ مَوْصُوفَةٍ بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَمْتَازُ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ بِشَكْلِ جَسَدِهِ/ وَهَيْئَةِ أَعْضَائِهِ وَأَجْزَائِهِ إِلَّا أَنَّ هَذَا مُشْكِلٌ فإن الملائكة قد يتشبهون بصور الناس فهاهنا صُورَةُ الْإِنْسَانِ حَاصِلَةٌ مَعَ عَدَمِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَفِي صُورَةِ الْمَسْخِ مَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ حَاصِلٌ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ غَيْرُ حَاصِلَةٍ فَقَدْ بَطَلَ اعْتِبَارُ هَذَا الشَّكْلِ فِي حُصُولِ مَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ طَرْدًا وَعَكْسًا. أَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْإِنْسَانُ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جُسْمَانِيَّةٍ فَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْإِلَهِيِّينَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الْقَائِلِينَ بِبَقَاءِ النَّفْسِ الْمُثْبِتِينَ لِلنَّفْسِ مَعَادًا رُوحَانِيًّا وَثَوَابًا وَعِقَابًا وَحِسَابًا رُوحَانِيًّا وَذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ الرَّاغِبِ الْأَصْفَهَانِيِّ وَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَمِنْ قُدَمَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ مَعْمَرُ بْنُ عَبَّادٍ السُّلَمِيُّ، وَمِنَ الشِّيعَةِ الْمُلَقَّبُ عِنْدَهُمْ بِالشَّيْخِ الْمُفِيدِ، وَمِنَ الْكَرَامِيَّةِ جَمَاعَةٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِإِثْبَاتِ النَّفْسِ فَرِيقَانِ، الْأَوَّلُ: وَهُمُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْإِنْسَانُ عِبَارَةٌ عَنْ هَذَا الْجَوْهَرِ الْمَخْصُوصِ، وَهَذَا الْبَدَنِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْإِنْسَانُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي دَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا فِي خَارِجِهِ وَغَيْرُ مُتَّصِلٍ فِي دَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا فِي خَارِجِهِ وَغَيْرُ مُتَّصِلٍ بِالْعَالَمِ وَلَا مُنْفَصِلٍ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْبَدَنِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ وَالتَّصَرُّفِ كَمَا أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْعَالَمِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ. وَالْفَرِيقُ الثَّانِي: الَّذِينَ قَالُوا النَّفْسُ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِالْبَدَنِ اتَّحَدَتْ بِالْبَدَنِ فَصَارَتِ النَّفْسُ عَيْنَ الْبَدَنِ، وَالْبَدَنُ عَيْنَ

النَّفْسِ وَمَجْمُوعُهُمَا عِنْدَ الِاتِّحَادِ هُوَ الْإِنْسَانُ فَإِذَا جَاءَ وَقْتُ الْمَوْتِ بَطَلَ هَذَا الِاتِّحَادُ وَبَقِيَتِ النَّفْسُ وَفَسَدَ الْبَدَنُ فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَذَاهِبِ النَّاسِ فِي الْإِنْسَانِ وَكَانَ ثَابِتُ بْنُ قُرَّةَ يُثْبِتُ النَّفْسَ وَيَقُولُ إِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِأَجْسَامٍ سَمَاوِيَّةٍ نُورَانِيَّةٍ لطيفة غير قابلة للكون والفساد التفرق وَالتَّمَزُّقِ وَأَنْ تِلْكَ الْأَجْسَامَ تَكُونُ سَارِيَةً فِي الْبَدَنِ وَمَا دَامَ يَبْقَى ذَلِكَ السَّرَيَانُ بَقِيَتِ النَّفْسُ مُدَبِّرَةً لِلْبَدَنِ فَإِذَا انْفَصَلَتْ تِلْكَ الْأَجْسَامُ اللَّطِيفَةُ عَنْ جَوْهَرِ الْبَدَنِ انْقَطَعَ تَعَلُّقُ النَّفْسِ عَنِ الْبَدَنِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي دَلَائِلِ مُثْبِتِي النَّفْسِ مِنْ نَاحِيَةِ الْعَقْلِ احْتَجَّ الْقَوْمُ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ بَعْضُهَا قَوِيٌ وَبَعْضُهَا ضَعِيفٌ وَالْوُجُوهُ الْقَوِيَّةُ بَعْضُهَا قَطْعِيَّةٌ وَبَعْضُهَا إِقْنَاعِيَّةٌ فَلْنَذْكُرِ الْوُجُوهَ الْقَطْعِيَّةَ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: لَا شَكَّ أَنَّ الْإِنْسَانَ جَوْهَرٌ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا مُتَحَيِّزًا أَوْ غَيْرَ مُتَحَيِّزٍ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا مُتَحَيِّزًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ كَوْنُهُ مُتَحَيِّزًا غَيْرَ تِلْكَ الذَّاتِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ كُلُّ مَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ ذَاتَهُ الْمَخْصُوصَةَ وَجَبَ أَنْ يَعْلَمَ كَوْنَهُ مُتَحَيِّزًا بِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْإِنْسَانُ جَوْهَرًا مُتَحَيِّزًا فَنَفْتَقِرُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ إِلَى مُقَدِّمَاتٍ ثَلَاثَةٍ. الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: لَوْ كَانَ الْإِنْسَانُ جَوْهَرًا مُتَحَيِّزًا لَكَانَ كَوْنُهُ مُتَحَيِّزًا عَيْنَ ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ تَحَيُّزُهُ صِفَةً قَائِمَةً لَكَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا أَوْ لَا يَكُونَ وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِكَوْنِ التَّحَيُّزِ صِفَةً قَائِمَةً بِالْمَحَلِّ إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَحَلَّ التَّحَيُّزِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ كَوْنُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مُتَحَيِّزًا مَرَّتَيْنِ وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ اجْتِمَاعُ الْمِثْلَيْنِ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ جَعْلُ أَحَدِهِمَا/ ذَاتًا وَالْآخِرِ صِفَةً أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ وَلِأَنَّ التَّحَيُّزَ الثَّانِيَ إِنْ كَانَ عَيْنَ الذَّاتِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ وَإِنْ كَانَ صِفَةً لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ وَإِنَّمَا قلنا إنه يمتنع أن يكون محل التحيز غَيْرَ مُتَحَيِّزٍ لِأَنَّ حَقِيقَةَ التَّحَيُّزِ هُوَ الذَّهَابُ فِي الْجِهَاتِ وَالِامْتِدَادُ فِيهَا، وَالشَّيْءُ الَّذِي لَا يَكُونُ مُتَحَيِّزًا لَمْ يَكُنْ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِالْجِهَاتِ وَحُصُولُهُ فِيهَا لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ مُحَالٌ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِنْسَانُ جَوْهَرًا مُتَحَيِّزًا لَكَانَ تَحَيُّزُهُ غَيْرَ ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ. الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ كَانَ تَحَيُّزُ ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ عَيْنَ ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ لَكَانَ مَتَى عَرَفَ ذَاتَهُ الْمَخْصُوصَةَ فَقَدْ عَرَفَ كونها متحيزة، والدليل على أَنَّهُ لَوْ صَارَتْ ذَاتُهُ الْمَخْصُوصَةُ مَعْلُومَةً وَصَارَ تَحَيُّزُهُ مَجْهُولًا لَزِمَ اجْتِمَاعُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَهُوَ مُحَالٌ. الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّا قَدْ نَعْرِفُ ذَاتَنَا حَالَ كَوْنِنَا جَاهِلِينَ بِالتَّحَيُّزِ وَالِامْتِدَادِ فِي الْجِهَاتِ الثَّلَاثَةِ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ عِنْدَ الِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ حَالَ كَوْنِهِ مُشْتَغِلًا بِشَيْءٍ مِنَ الْمُهِمَّاتِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَلِمَ خَالَفْتَ أَمْرِي وَإِنِّي أبالغ في تأديبك وضربك فعند ما يَقُولُ لِمَ خَالَفْتَ أَمْرِي يَكُونُ عَالِمًا بِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ إِذْ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ ذَاتَهُ الْمَخْصُوصَةَ لَامْتَنَعَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ خَالَفَهُ وَلَامْتَنَعَ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ عَلَى عَزْمِ أَنْ يُؤَدِّبَهُ وَيَضْرِبَهُ فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَعْلَمُ ذَاتَهُ الْمَخْصُوصَةَ مَعَ أَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ حَقِيقَةُ التَّحَيُّزِ وَالِامْتِدَادِ فِي الْجِهَاتِ وَالْحُصُولِ فِي الْحَيِّزِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَاتُ الْإِنْسَانِ جَوْهَرًا مُتَحَيِّزًا لَكَانَ تَحَيُّزُهُ عَيْنَ ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ كُلُّ مَا عُلِمَ ذَاتُهُ الْمَخْصُوصَةُ فَقَدْ عُلِمَ التَّحَيُّزُ وَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَيَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ ذَاتُ الْإِنْسَانِ لَيْسَ جَوْهَرًا مُتَحَيِّزًا وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ، فَإِنْ قَالُوا هَذَا مُعَارَضٌ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَوْهَرًا مُجَرَّدًا لَكَانَ كُلُّ مَنْ عَرَفَ ذَاتَ نَفْسِهِ عَرَفَ كَوْنَهُ جَوْهَرًا مُجَرَّدًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ قُلْنَا الْفَرْقُ ظَاهِرٌ لِأَنَّ كَوْنَهُ مُجَرَّدًا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ وَلَا حَالًّا فِي الْمُتَحَيِّزِ وَهَذَا السَّلْبُ لَيْسَ عَيْنَ تِلْكَ الذَّاتِ الْمَخْصُوصَةِ لِأَنَّ السَّلْبَ لَيْسَ عَيْنَ الثُّبُوتِ، وَإِذَا كَانَ

كَذَلِكَ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الذَّاتُ الْمَخْصُوصَةُ مَعْلُومَةً وَأَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ السَّلْبُ مَعْلُومًا بِخِلَافِ كَوْنِهِ مُتَحَيِّزًا فَإِنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ تَقْدِيرَ كَوْنِ الْإِنْسَانِ جَوْهَرًا مُتَحَيِّزًا يَكُونُ تَحَيُّزُهُ عَيْنَ ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ ذَاتُهُ مَعْلُومَةً وَيَكُونُ تَحَيُّزُهُ مَجْهُولًا فَظَهَرَ الْفَرْقُ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: النَّفْسُ وَاحِدَةٌ وَمَتَى كَانَتْ وَاحِدَةً وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُغَايِرَةً لِهَذَا الْبَدَنِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ فَهَذِهِ الْحُجَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ، الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: هي قولنا النفس واحدة ولنا هاهنا مَقَامَانِ تَارَةً نَدَّعِي الْعِلْمَ الْبَدِيهِيَّ فِيهِ وَأُخْرَى نُقِيمُ الْبُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهِ، أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ ادِّعَاءُ الْبَدِيهِيَّةِ فَنَقُولُ الْمُرَادُ مِنَ النَّفْسِ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ أَنَا وَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ إِذَا أَشَارَ إِلَى ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ بِقَوْلِهِ أَنَا كَانَ ذَلِكَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ وَاحِدًا غَيْرَ مُتَعَدِّدٍ فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ لِكُلِّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ أَنَا وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْوَاحِدُ يَكُونُ مُرَكَّبًا مِنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ قُلْنَا إِنَّهُ لَا حَاجَةَ لَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ إِلَى دَفْعِ هَذَا السُّؤَالِ بَلْ نَقُولُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِ أَنَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَأَمَّا أَنَّ ذَلِكَ الْوَاحِدَ هَلْ هُوَ وَاحِدٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَشْيَاءَ/ كَثِيرَةٍ أَوْ هُوَ وَاحِدٌ فِي نَفْسِهِ وَاحِدٌ فِي حَقِيقَتِهِ فَهَذَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. أَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ مَقَامُ الِاسْتِدْلَالِ فَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى وَحْدَةِ النَّفْسِ وُجُوهٌ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الْغَضَبَ حَالَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ تَحْدُثُ عِنْدَ إِرَادَةِ دَفْعِ الْمُنَافِرِ وَالشَّهْوَةُ حَالَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ تَحْدُثُ عِنْدَ طَلَبِ الْمُلَايِمِ مَشْرُوطًا بالشعور بكون الشيء ملائما وَمُنَافِرًا فَالْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ الَّتِي هِيَ قُوَّةٌ دَافِعَةٌ لِلْمُنَافِرِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا شُعُورٌ بِكَوْنِهِ مُنَافِرًا امْتَنَعَ انْبِعَاثُهَا لِدَفْعِ ذَلِكَ الْمُنَافِرِ عَلَى سَبِيلِ الْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ لِأَنَّ الْقَصْدَ إِلَى الْجَذْبِ تَارَةً وَإِلَى الدَّفْعِ أُخْرَى مَشْرُوطٌ بِالشُّعُورِ بِالشَّيْءِ فَالشَّيْءُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ دَافِعًا لِلْمُنَافِرِ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ شُعُورٌ بِكَوْنِهِ مُنَافِرًا فَالَّذِي يَغْضَبُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ هُوَ بِعَيْنِهِ مُدْرِكًا فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْيَقِينِيِّ مُبَايَنَةٌ حَاصِلَةٌ فِي ذَوَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّا إِذَا فَرَضْنَا جَوْهَرَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِلًّا بِفِعْلِهِ الْخَاصِّ امْتَنَعَ أَنْ يَصِيرَ اشْتِغَالُ أَحَدِهِمَا بِفِعْلِهِ الْخَاصِّ مَانِعًا لِلْآخَرِ مِنَ اشْتِغَالِهِ بِفِعْلِهِ الْخَاصِّ بِهِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ لَوْ كَانَ مَحَلُّ الْإِدْرَاكِ وَالْفِكْرِ جَوْهَرًا وَمَحَلُّ الْغَضَبِ جَوْهَرًا آخَرَ وَمَحَلُّ الشَّهْوَةِ جَوْهَرًا ثَالِثًا وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ اشْتِغَالُ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ بِفِعْلِهَا مَانِعًا لِلْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِفِعْلِهَا وَلَا بِالْعَكْسِ لَكِنَّ الثَّانِيَ بَاطِلٌ فَإِنَّ اشْتِغَالَ الْإِنْسَانِ بِالشَّهْوَةِ وَانْصِبَابَهُ إِلَيْهَا يَمْنَعُهُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْغَضَبِ وَانْصِبَابِهِ إِلَيْهِ وَبِالْعَكْسِ فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ لَيْسَتْ مَبَادِئَ مُسْتَقِلَّةً بَلْ هِيَ صِفَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ بِجَوْهَرٍ وَاحِدٍ فَلَا جَرَمَ كَانَ اشْتِغَالُ ذَلِكَ الْجَوْهَرِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ عَائِقًا لَهُ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْفِعْلِ الْآخَرِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّا إِذَا أَدْرَكْنَا أَشْيَاءَ فَقَدْ يَكُونُ الْإِدْرَاكُ سَبَبًا لِحُصُولِ الشَّهْوَةِ وَقَدْ يَصِيرُ سَبَبًا لِحُصُولِ الْغَضَبِ فَلَوْ كَانَ الْجَوْهَرُ الْمُدْرَكُ مُغَايِرًا لِلَّذِي يَغْضَبُ وَالَّذِي يَشْتَهِي فَحِينَ أَدْرَكَ الْجَوْهَرَ الْمُدْرَكَ لَمْ يَحْصُلْ عِنْدَ الْجَوْهَرِ الْمُشْتَهَى مِنْ ذَلِكَ الْإِدْرَاكِ أَثَرٌ وَلَا خَبَرٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ الْإِدْرَاكِ لَا حُصُولُ الشَّهْوَةِ وَلَا حُصُولُ الْغَضَبِ وَحَيْثُ حَصَلَ هَذَا التَّرْتِيبُ وَالِاسْتِلْزَامُ عَلِمْنَا أَنَّ صَاحِبَ الْإِدْرَاكِ بِعَيْنِهِ هُوَ صَاحِبُ الشَّهْوَةِ بِعَيْنِهَا وَصَاحِبُ الْغَضَبِ بِعَيْنِهِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ حَقِيقَةَ الْحَيَوَانِ أَنَّهُ جِسْمٌ ذُو نَفْسٍ حَسَّاسَةٍ مُتَحَرِّكَةٍ بالإرادة فالنفس لا يمكنها أن تتحرك

بالإدارة إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الدَّاعِي وَلَا مَعْنَى لِلدَّاعِي إِلَّا الشُّعُورُ بِخَيْرٍ يَرْغَبُ فِي جَذْبِهِ أَوْ بِشَرٍّ يَرْغَبُ فِي دَفْعِهِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُتَحَرِّكُ بِالْإِرَادَةِ هُوَ بِعَيْنِهِ مُدْرِكًا لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْمَلَذِّ وَالْمُؤْذِي وَالنَّافِعِ وَالضَّارِّ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ هُوَ الْمُبْصِرُ وَالسَّامِعُ وَالشَّامُّ وَالذَّائِقُ وَاللَّامِسُ وَالْمُتَخَيِّلُ وَالْمُتَفَكِّرُ وَالْمُتَذَكِّرُ وَالْمُشْتَهِي وَالْغَاضِبُ وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِجَمِيعِ الْإِدْرَاكَاتِ وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِجَمِيعِ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَالْحَرَكَاتِ الْإِرَادِيَّةِ، وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ النَّفْسُ شَيْئًا وَاحِدًا وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ النَّفْسُ فِي هَذَا الْبَدَنِ وَلَا شَيْئًا مِنْ أَجْزَائِهِ فَنَقُولُ أَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ كَوْنُ النَّفْسِ عِبَارَةً عَنْ جُمْلَةِ هَذَا الْبَدَنِ وَكَذَا الْقُوَّةُ السَّامِعَةُ وَكَذَا سَائِرُ الْقُوَى كَالتَّخَيُّلِ وَالتَّذَكُّرِ/ وَالتَّفَكُّرِ وَالْعِلْمُ بِأَنَّ هَذِهِ الْقُوَى غَيْرُ سَارِيَةٍ فِي جُمْلَةِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ عِلْمٌ بَدِيهِيٌّ بَلْ هُوَ مِنْ أَقْوَى الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ النَّفْسُ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الْبَدَنِ فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَدَنِ جُزْءٌ وَاحِدٌ هو بِعَيْنِهِ مَوْصُوفٌ بِالْإِبْصَارِ وَالسَّمَاعِ وَالْفِكْرِ وَالذِّكْرِ بَلِ الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الْخَاطِرِ أَنَّ الْإِبْصَارَ مَخْصُوصٌ بِالْعَيْنِ لَا بِسَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَالسَّمَاعَ مَخْصُوصٌ بِالْأُذُنِ لَا بِسَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَالصَّوْتَ مَخْصُوصٌ بِالْحَلْقِ لَا بِسَائِرِ الْأَعْضَاءِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْإِدْرَاكَاتِ وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ حَصَلَ فِي الْبَدَنِ جُزْءٌ وَاحِدٌ مَوْصُوفٌ بِكُلِّ هَذِهِ الْإِدْرَاكَاتِ وَبِكُلِّ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مَوْصُوفٌ بِجُمْلَةِ هَذِهِ الْإِدْرَاكَاتِ وَبِجُمْلَةِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَثَبَتَ بِالْبَدِيهِيَّةِ أَنَّ جُمْلَةَ الْبَدَنِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ شَيْئًا مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الْيَقِينُ بِأَنَّ النَّفْسَ شَيْءٌ مُغَايِرٌ لِهَذَا الْبَدَنِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَلْنُقَرِّرْ هَذَا الْبُرْهَانَ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَنَقُولُ: إِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّا إِذَا أَبْصَرْنَا شَيْئًا عَرَفْنَاهُ وَإِذَا عَرَفْنَاهُ اشْتَهَيْنَاهُ وَإِذَا اشْتَهَيْنَاهُ حَرَّكْنَا أَبْدَانَنَا إِلَى الْقُرْبِ مِنْهُ فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الَّذِي أَبْصَرَ هُوَ الَّذِي عَرَفَ وَأَنَّ الَّذِي عَرَفَ هُوَ الَّذِي اشْتَهَى وَأَنَّ الَّذِي اشْتَهَى هُوَ الَّذِي حَرَّكَ إِلَى الْقُرْبِ مِنْهُ فَيَلْزَمُ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُبْصِرَ لِذَلِكَ الشَّيْءِ وَالْعَارِفَ بِهِ وَالْمُشْتَهِيَ وَالْمُتَحَرِّكَ إِلَى الْقُرْبِ مِنْهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ إِذْ لَوْ كَانَ الْمُبْصِرُ شَيْئًا وَالْعَارِفُ شَيْئًا ثَانِيًا وَالْمُشْتَهِي شَيْئًا ثَالِثًا وَالْمُتَحَرِّكُ شَيْئًا رَابِعًا لَكَانَ الَّذِي أَبْصَرَ لَمْ يَعْرِفْ، وَالَّذِي عَرَفَ لَمْ يَشْتَهِ وَالَّذِي اشْتَهَى لَمْ يَتَحَرَّكْ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مُبْصِرًا لِشَيْءٍ لَا يَقْتَضِي صَيْرُورَةَ شَيْءٍ آخَرَ عَالِمًا بِذَلِكَ الشَّيْءِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْمَرَاتِبِ وَأَيْضًا فَإِنَّا نعلم بالضرورة أن الرائي للمرئيات لما رَآهَا فَقَدْ عَرَفَهَا وَلَمَّا عَرَفَهَا فَقَدِ اشْتَهَاهَا وَلَمَّا اشْتَهَاهَا طَلَبَهَا وَحَرَّكَ الْأَعْضَاءَ إِلَى الْقُرْبِ مِنْهَا وَنَعْلَمُ أَيْضًا بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهَذِهِ الرُّؤْيَةِ وَبِهَذَا الْعِلْمِ وَبِهَذِهِ الشَّهْوَةِ وَبِهَذَا التَّحَرُّكِ هُوَ لَا غَيْرُهُ وَأَيْضًا الْعُقَلَاءُ قَالُوا الْحَيَوَانُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَسَّاسًا مُتَحَرِّكًا بِالْإِرَادَةِ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُحِسَّ بِشَيْءٍ لَمْ يَشْعُرْ بِكَوْنِهِ مُلَائِمًا أَوْ بِكَوْنِهِ مُنَافِرًا وَإِذَا لَمْ يَشْعُرْ بِذَلِكَ امْتَنَعَ كَوْنُهُ مُرِيدًا لِلْجَذْبِ أَوِ الدَّفْعِ فَثَبَتَ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَكُونُ مُتَحَرِّكًا بِالْإِرَادَةِ فَإِنَّهُ بِعَيْنِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَسَّاسًا فَثَبَتَ أَنَّ الْمُدْرِكَ لِجَمِيعِ الْمُدْرَكَاتِ يُدْرِكُ بِجَمِيعِ أَصْنَافِ الْإِدْرَاكَاتِ وَأَنَّ الْمُبَاشِرَ لِجَمِيعِ التَّحْرِيكَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَأَيْضًا فَلِأَنَّا إِذَا تَكَلَّمْنَا بِكَلَامٍ نَقْصِدُ مِنْهُ تَفْهِيمَ الْغَيْرِ [عَقَلْنَا] مَعَانِي تِلْكَ الْكَلَمَّاتِ ثُمَّ لَمَّا عَقَلْنَاهَا أَرَدْنَا تَعْرِيفَ غَيْرِنَا تِلْكَ الْمَعَانِيَ وَلَمَّا حَصَلَتْ هَذِهِ الْإِرَادَةُ فِي قُلُوبِنَا حَاوَلْنَا إِدْخَالَ تِلْكَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فِي الْوُجُودِ لِنَتَوَسَّلَ بِهَا إِلَى تَعْرِيفِ غَيْرِنَا تِلْكَ الْمَعَانِيَ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنْ كَانَ مَحْمَلُ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَمَحَلُّ تِلْكَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ جِسْمًا وَاحِدًا لَزِمَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ مَحَلَّ الْعُلُومِ وَالْإِرَادَاتِ هُوَ الْحَنْجَرَةُ وَاللَّهَاةُ وَاللِّسَانُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنْ قُلْنَا مَحَلُّ الْعُلُومِ وَالْإِرَادَاتِ هُوَ الْقَلْبُ لَزِمَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الصَّوْتِ هُوَ الْقَلْبَ وَذَلِكَ أَيْضًا بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ، / وَإِنْ قُلْنَا مَحَلُّ

الْكَلَامِ هُوَ الْحَنْجَرَةُ وَاللَّهَاةُ وَاللِّسَانُ، وَمَحَلُّ الْعُلُومِ وَالْإِرَادَاتِ هُوَ الْقَلْبُ، وَمَحَلُّ الْقُدْرَةِ هُوَ الْأَعْصَابُ وَالْأَوْتَارُ وَالْعَضَلَاتُ، كُنَّا قَدْ وُزَّعْنَا هَذِهِ الْأُمُورَ عَلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ لَكِنَّا أَبْطَلْنَا ذَلِكَ. وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمُدْرِكَ لِجَمِيعِ الْمُدْرَكَاتِ وَالْمُحَرِّكَ لِجَمِيعِ الْأَعْضَاءِ بِكُلِّ أَنْوَاعِ التَّحْرِيكَاتِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا وَاحِدًا، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ فِي الْإِدْرَاكِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّحْرِيكِ [أَنَّهُ] شَيْءٌ سِوَى هَذَا الْبَدَنِ وَسِوَى أَجْزَاءِ هَذَا الْبَدَنِ وَأَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ فَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْقِلُ أَفْعَالًا مُخْتَلِفَةً بِوَاسِطَةِ آلَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَكَذَلِكَ النَّفْسُ تُبْصِرُ بِالْعَيْنِ وَتَسْمَعُ بِالْأُذُنِ وَتَتَفَكَّرُ بِالدِّمَاغِ وَتَعْقِلُ بِالْقَلْبِ، فَهَذِهِ الْأَعْضَاءُ آلَاتُ النَّفْسِ وَأَدَوَاتٌ لَهَا، وَالنَّفْسُ جَوْهَرٌ مُغَايِرٌ لَهَا مُفَارِقٌ عَنْهَا بِالذَّاتِ مُتَعَلِّقٌ بِهَا تَعَلُّقَ التصرف والتدبير وهذا البرهان شَرِيفٌ يَقِينِيٌّ فِي ثُبُوتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ: لَوْ كَانَ الْإِنْسَانُ عِبَارَةً عَنْ هَذَا الْجَسَدِ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَقُومَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَإِمَّا أَنْ يَقُومَ بِمَجْمُوعِ الْأَجْزَاءِ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ، وَالْقَسَمَانِ بَاطِلَانِ فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِكَوْنِ الْإِنْسَانِ عِبَارَةً عَنْ هَذَا الْجَسَدِ، وَأَمَّا بُطْلَانُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْجَسَدِ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْإِنْسَانُ الْوَاحِدُ حَيَوَانًا وَاحِدًا بَلْ أَحْيَاءً عَالِمِينَ قَادِرِينَ وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى فَرْقٌ بَيْنَ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ وَبَيْنَ أَشْخَاصٍ كَثِيرِينَ مِنَ النَّاسِ وَرَبْطِ بَعْضِهِمْ بِالْبَعْضِ بِالتَّسَلْسُلِ لَكِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ فَسَادَ هَذَا الْكَلَامِ لِأَنِّي أَجِدُ ذَاتِي ذَاتًا وَاحِدَةً لَا حَيَوَانَاتٍ كَثِيرِينَ، وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الْجَسَدِ حَيَوَانًا وَاحِدًا عَلَى حِدَةٍ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَبَرٌ عَنْ حَالِ صَاحِبِهِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدَ هَذَا أَنْ يَتَحَرَّكَ إِلَى هذا الجانب ويريد الجزء الآن أَنْ يَتَحَرَّكَ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَحِينَئِذٍ يَقَعُ التَّدَافُعُ بَيْنَ أَجْزَاءِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ كَمَا يَقَعُ بَيْنَ شَخْصَيْنِ. وَفَسَادُ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْبَدِيهَةِ، وَأَمَّا بُطْلَانُ الْقِسْمِ الثَّانِي فَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي قِيَامَ الصِّفَةِ الْوَاحِدَةِ بِالْمَحَالِّ الْكَثِيرَةِ، وَذَلِكَ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ بِالضَّرُورَةِ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ حُلُولُ الصِّفَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْمَحَالِّ الْكَثِيرَةِ لَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا حُصُولُ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ فِي الْأَحْيَازِ الْكَثِيرَةِ وَلِأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَحْصُلَ الصِّفَةُ الْوَاحِدَةُ فِي الْمَحَالِّ الْمُتَعَدِّدَةِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ حَيًّا عَاقِلًا عَالِمًا فَيَتَجَرَّدُ الْأَمْرُ إِلَى كَوْنِ هَذِهِ الْجُثَّةِ الْوَاحِدَةِ أُنَاسًا كَثِيرِينَ، وَلَمَّا ظَهَرَ فَسَادُ الْقِسْمَيْنِ ثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ هُوَ هَذِهِ الْجُثَّةَ. فَإِنْ قَالُوا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُومَ الْحَيَاةُ الْوَاحِدَةُ بِالْجُزْءِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْحَيَاةَ تَقْتَضِي صَيْرُورَةَ جُمْلَةِ الْأَجْزَاءِ أَحْيَاءً قُلْنَا هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْحَيَاةِ إِلَّا الْحَيِيَّةُ، وَلَا مَعْنَى لِلْعِلْمِ إِلَّا الْعَالِمِيَّةُ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ نُسَاعِدَ عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ مَعْنَى يُوجِبُ الْحَيِيَّةَ وَالْعِلْمَ مَعْنَى يُوجِبُ الْعَالِمِيَّةَ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ إِنْ حَصَلَ فِي مَجْمُوعِ جُثَّةٍ مَجْمُوعُ حَيَاةٍ وَاحِدَةٍ وَعَالِمِيَّةٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ حَصَلَتِ الصِّفَةُ الْوَاحِدَةُ فِي الْمَحَالِّ الْكَثِيرَةِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ حَصَلَ فِي كُلِّ جُزْءٍ وَجُثَّةٍ حَيَاةٌ عَلَى حِدَةٍ/ وَعَالِمِيَّةٌ عَلَى حِدَةٍ عَادَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ أُنَاسًا كَثِيرِينَ وَهُوَ مُحَالٌ. الْمُقَدِّمَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّا لَمَّا تَأَمَّلْنَا فِي أَحْوَالِ النَّفْسِ رَأَيْنَا أَحْوَالَهَا بِالضِّدِّ مِنْ أَحْوَالِ الْجِسْمِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ لَيْسَتْ جِسْمًا، وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْمُنَافَاةِ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ جِسْمٍ حَصَلَتْ فِيهِ صُورَةٌ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ صُورَةً أُخْرَى مِنْ جِنْسِ الصُّورَةِ الْأُولَى إِلَّا بَعْدَ زَوَالِ الصُّورَةِ الْأُولَى زَوَالًا تَامًّا مِثَالُهُ: أَنَّ الشَّمْعَ إِذَا حَصَلَ فِيهِ شَكْلُ التَّثْلِيثِ امْتَنَعَ أَنْ يَحْصُلَ فِيهِ شَكْلُ التَّرْبِيعِ وَالتَّدْوِيرِ إِلَّا بَعْدَ زَوَالِ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ عَنْهُ، نَعَمْ إِنَّا وَجَدْنَا الْحَالَ فِي تَصَوُّرِ النَّفْسِ بِصُوَرِ الْمَعْقُولَاتِ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّفْسَ الَّتِي لَمْ تَقْبَلْ صُورَةً عَقْلِيَّةً الْبَتَّةَ يَبْعُدُ قَبُولُهَا شَيْئًا

مِنَ الصُّوَرِ الْعَقْلِيَّةِ فَإِذَا قَبِلَتْ صُورَةً وَاحِدَةً صَارَ قَبُولُهَا لِلصُّورَةِ الثَّانِيَةِ أَسْهَلَ، ثُمَّ إِنَّ النَّفْسَ لَا تَزَالُ تَقْبَلُ صُورَةً بَعْدَ صُورَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَضْعُفَ الْبَتَّةَ بَلْ كُلَّمَا كَانَ قَبُولُهَا لِلصُّوَرِ أَكْثَرَ صَارَ قَبُولُهَا لِلصُّوَرِ الْآتِيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ أَسْهَلَ وَأَسْرَعَ، وَلِهَذَا السَّبَبِ يَزْدَادُ الْإِنْسَانُ فَهْمًا وَإِدْرَاكًا كُلَّمَا ازْدَادَ تَخَرُّجًا وَارْتِبَاطًا فِي الْعُلُومِ فَثَبَتَ أَنَّ قَبُولَ النَّفْسِ للصورة الْعَقْلِيَّةِ عَلَى خِلَافِ قَبُولِ الْجِسْمِ لِلصُّورَةِ وَذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّ النَّفْسَ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الْأَفْكَارِ الدَّقِيقَةِ لَهَا أَثَرٌ فِي النَّفْسِ وَأَثَرٌ فِي الْبَدَنِ، أَمَّا أَثَرُهَا فِي النَّفْسِ فَهُوَ تَأْثِيرُهَا فِي إِخْرَاجِ النَّفْسِ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ فِي التَّعَقُّلَاتِ وَالْإِدْرَاكَاتِ وَكُلَّمَا كَانَتِ الْأَفْكَارُ أَكْثَرَ كَانَ حُصُولُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَكْمَلَ وَذَلِكَ غَايَةُ كَمَالِهَا وَنِهَايَةُ شَرَفِهَا وَجَلَالَتِهَا، وَأَمَّا أَثَرُهَا فِي الْبَدَنِ فَهُوَ أَنَّهَا تُوجِبُ اسْتِيلَاءَ الْيُبْسِ عَلَى الْبَدَنِ وَاسْتِيلَاءَ الذُّبُولِ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ لَوِ اسْتَمَرَّتْ لَانْتَقَلَتْ إِلَى الْمَالِيخُولِيَا وَسَوْقِ الْمَوْتِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَفْكَارَ تُوجِبُ حَيَاةَ النَّفْسِ وَشَرَفَهَا وَتُوجِبُ نُقْصَانَ الْبَدَنِ وَمَوْتِهِ فَلَوْ كَانَتِ النَّفْسُ هِيَ الْبَدَنَ لَصَارَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ سَبَبًا لِكَمَالِهِ وَنُقْصَانِهِ مَعًا وَلِحَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ مَعًا، وَأَنَّهُ مُحَالٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّا إِذَا شَاهَدْنَا أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ بَدَنُ الْإِنْسَانِ ضَعِيفًا نَحِيفًا، فَإِذَا لَاحَ لَهُ نُورٌ مِنَ الْأَنْوَارِ الْقُدْسِيَّةِ وَتُجْلَى لَهُ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ حَصَلَ لِذَلِكَ الْإِنْسَانِ جَرَاءَةٌ عَظِيمَةٌ وَسَلْطَنَةٌ قَوِيَّةٌ. وَلَمْ يَعْبَأْ بِحُضُورِ أَكَابِرِ السَّلَاطِينِ وَلَمْ يُقِمْ لَهُمْ وَزْنًا وَلَوْلَا أَنَّ النَّفْسَ شَيْءٌ سِوَى الْبَدَنِ لَمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. الرَّابِعُ: أَنَّ أَصْحَابَ الرِّيَاضَاتِ وَالْمُجَاهَدَاتِ كُلَّمَا أَمْعَنُوا فِي قَهْرِ الْقُوَى الْبَدَنِيَّةِ وَتَجْوِيعِ الْجَسَدِ قَوِيَتْ قُوَاهُمُ الرُّوحَانِيَّةُ وَأَشْرَقَتْ أَسْرَارُهُمْ بِالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَكُلَّمَا أَمْعَنَ الْإِنْسَانُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَقَضَاءِ الشَّهْوَةِ الْجَسَدَانِيَّةِ صَارَ كَالْبَهِيمَةِ وَبَقِيَ مَحْرُومًا عَنْ آثَارِ النُّطْقِ وَالْعَقْلِ وَالْمَعْرِفَةِ وَلَوْلَا أَنَّ النَّفْسَ غَيْرُ الْبَدَنِ لَمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. الْخَامِسُ: أَنَّا نَرَى أَنَّ النَّفْسَ تَفْعَلُ أَفَاعِيلَهَا بِآلَاتٍ بَدَنِيَّةٍ فَإِنَّهَا تُبْصِرُ بِالْعَيْنِ وَتَسْمَعُ بِالْأُذُنِ وَتَأْخُذُ بِالْيَدِ وَتَمْشِي بِالرِّجِلِ، أَمَّا إِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْعَقْلِ وَالْإِدْرَاكِ فَإِنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِذَاتِهَا فِي هَذَا الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ إِعَانَةِ شَيْءٍ مِنَ الْآلَاتِ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُبْصِرَ شَيْئًا إِذَا أَغْمَضَ عَيْنَيْهِ وَأَنْ لَا يَسْمَعَ صَوْتًا إِذَا سَدَّ أُذُنَيْهِ. كَمَا لَا يُمْكِنُهُ الْبَتَّةَ أَنْ يُزِيلَ عَنْ قَلْبِهِ الْعِلْمَ بِمَا كَانَ عَالِمًا بِهِ فَعَلِمْنَا أَنَّ النَّفْسَ غَنِيَّةٌ بِذَاتِهَا/ فِي الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْآلَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْخَمْسَةُ أَمَارَاتٌ قَوِيَّةٌ فِي أَنَّ النَّفْسَ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى كَثِيرٌ مِنْ دَلَائِلِ الْمُتَقَدِّمِينَ ذَكَرْنَاهَا فِي كُتُبِنَا الْحِكْمِيَّةِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي إِثْبَاتِ أَنَّ النَّفْسَ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ مِنَ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الْحَشْرِ: 19] وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْعُقَلَاءِ لَا يَنْسَى هَذَا الْهَيْكَلَ الْمُشَاهَدَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ الَّتِي يَنْسَاهَا الْإِنْسَانُ عِنْدَ فَرْطِ الْجَهْلِ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ هَذَا الْبَدَنِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ [الْأَنْعَامِ: 93] وَهَذَا صَرِيحٌ أَنَّ النَّفْسَ غَيْرُ الْبَدَنِ وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَرَاتِبَ الْخِلْقَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ فَقَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 12، 13] إِلَى قَوْلِهِ: فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً [الْمُؤْمِنُونَ: 14] وَلَا شَكَّ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ اخْتِلَافَاتٌ وَاقِعَةٌ فِي الْأَحْوَالِ الْجُسْمَانِيَّةِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ نَفْخَ الرُّوحِ قَالَ: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [الْمُؤْمِنُونَ: 14] وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرُّوحِ جِنْسٌ مُغَايِرٌ لِمَا سَبَقَ ذكره من

التَّغَيُّرَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْأَحْوَالِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ شَيْءٌ مُغَايِرٌ لِلْبَدَنِ فَإِنْ قَالُوا هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 12] وَكَلِمَةُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ بَعْضٌ مِنْ أَبْعَاضِ الطِّينِ قُلْنَا كَلِمَةُ مِنْ أَصْلُهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ كَقَوْلِكَ خَرَجْتُ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ تَخْلِيقِ الْإِنْسَانِ حَاصِلًا مِنْ هَذِهِ السُّلَالَةِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى يُسَوِّي الْمِزَاجَ أَوَّلًا ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ فَيَكُونُ ابْتِدَاءُ تَخْلِيقِهِ مِنَ السُّلَالَةِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الْحِجْرِ: 29] مَيَّزَ تَعَالَى بَيْنَ الْبَشَرِيَّةِ وَبَيْنَ نَفْخِ الرُّوحِ فَالتَّسْوِيَةُ عِبَارَةٌ عَنْ تَخْلِيقِ الْأَبْعَاضِ وَالْأَعْضَاءِ وَتَعْدِيلِ الْمِزَاجِ وَالْأَشْبَاحِ فَلَمَّا مَيَّزَ نَفْخَ الرُّوحِ عَنْ تَسْوِيَةِ الْأَعْضَاءِ ثُمَّ أَضَافَ الرُّوحَ إِلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: مِنْ رُوحِي دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ جَوْهَرَ الرُّوحِ مَعْنًى مُغَايِرٌ لِجَوْهَرِ الْجَسَدِ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشَّمْسِ: 7، 8] وَهَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي وُجُودِ شَيْءٍ مَوْصُوفٍ بِالْإِدْرَاكِ وَالتَّحْرِيكِ حَقًّا لِأَنَّ الْإِلْهَامَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِدْرَاكِ، وَأَمَّا الْفُجُورُ وَالتَّقْوَى فَهُوَ فِعْلٌ وَهَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْإِنْسَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ مَوْصُوفٌ أَيْضًا بِالْإِدْرَاكِ وَالتَّحْرِيكِ وَمَوْصُوفٌ أَيْضًا بِفِعْلِ الْفُجُورِ تَارَةً وَفِعْلِ التَّقْوَى تَارَةً أُخْرَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ جُمْلَةَ الْبَدَنِ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِهَذَيْنَ الْوَصْفَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ جَوْهَرٍ آخَرَ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِكُلِّ هَذِهِ الْأُمُورِ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الْإِنْسَانِ: 2] فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَذَلِكَ الشَّيْءُ هُوَ الْمُبْتَلَى بِالتَّكَالِيفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأُمُورِ الرَّبَّانِيَّةِ وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَمَجْمُوعُ الْبَدَنِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَيْسَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ كَذَلِكَ فَالنَّفْسُ شَيْءٌ مُغَايِرٌ لِجُمْلَةِ الْبَدَنِ وَمُغَايِرٌ لِأَجْزَاءِ الْبَدَنِ وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِكُلِّ هَذِهِ الصِّفَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي صِفَةِ الْأَرْوَاحِ قَبْلَ تَعَلُّقِهَا بِالْأَجْسَادِ وَبَعْدَ انْفِصَالِهَا مِنَ الْأَجْسَادِ كَثِيرَةٌ وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا الْجَسَدِ، وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ وَيَرْوِي هَذِهِ الْأَخْبَارَ الْكَثِيرَةَ ثُمَّ يَقُولُ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا كَانَ يَعْرِفُ الرُّوحَ وَهَذَا مِنَ الْعَجَائِبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي دَلَالَةِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الرُّوحَ لَوْ كَانَ جِسْمًا مُنْتَقِلًا مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ وَمِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ لَكَانَ مُسَاوِيًا لِلْبَدَنِ فِي كَوْنِهِ مُتَوَلِّدًا مِنْ أَجْسَامٍ اتَّصَفَتْ بِصِفَاتٍ مَخْصُوصَةٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِصِفَاتٍ أُخْرَى فَإِذَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّوحِ وَجَبَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ جِسْمٌ كَانَ كَذَا ثُمَّ صَارَ كَذَا حَتَّى صَارَ رُوحًا مِثْلَ مَا ذَكَرَ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَلُّدِ الْبَدَنِ أَنَّهُ كَانَ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ ذلك بل قال إنه: مِنْ أَمْرِ رَبِّي بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَحْدُثُ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ له: كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: 117] دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ جَوْهَرٌ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَجْسَامِ بَلْ هُوَ جَوْهَرٌ قُدْسِيٌّ مُجَرَّدٌ وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْعَارِفِينَ الْمُكَاشِفِينَ مِنْ أَصْحَابِ الرِّيَاضِيَّاتِ وَأَرْبَابِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ مُصِرُّونَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ جَازِمُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ قَالَ الْوَاسِطِيُّ: خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْوَاحَ مِنْ بَيْنِ الْجَمَالِ وَالْبَهَاءِ فَلَوْلَا أَنَّهُ سَتَرَهَا لَسَجَدَ لَهَا كُلُّ كَافِرٍ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ تَعَلُّقَهُ الْأَوَّلَ بِالْقَلْبِ ثُمَّ بِوَاسِطَتِهِ يَصِلُ تَأْثِيرُهُ إِلَى جُمْلَةِ الْأَعْضَاءِ فَقَدْ شَرَحْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشُّعَرَاءِ: 193، 194] وَاحْتَجَّ الْمُنْكِرُونَ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ:

[سورة الإسراء (17) : الآيات 86 إلى 87]

لَوْ كَانَتْ مُسَاوِيَةً لِذَاتِ اللَّهِ فِي كَوْنِهِ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ لَكَانَتْ مُسَاوِيَةً لَهُ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ وَذَلِكَ مُحَالٌ. الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ [عَبَسَ: 17- 22] وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ مِنَ النُّطْفَةِ، وَأَنَّهُ يَمُوتُ وَيَدْخُلُ الْقَبْرَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُهُ مِنَ الْقَبْرِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْإِنْسَانُ عِبَارَةً عَنْ هَذِهِ الْجُثَّةِ لَمْ تَكُنِ الْأَحْوَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ صَحِيحَةً. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 169، 170] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ جِسْمٌ لِأَنَّ الْأَرْزَاقَ وَالْفَرَحَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ. الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ وَلَا حَالٍّ فِي الْمُتَحَيِّزِ مُسَاوَاةٌ فِي صِفَةٍ سَلْبِيَّةٍ وَالْمُسَاوَاةُ فِي الصِّفَةِ السَّلْبِيَّةِ لَا تُوجِبُ الْمُمَاثَلَةَ وَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْجُهَّالِ يَظُنُّونَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الرُّوحُ مَوْجُودًا لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ وَلَا حَالٍّ فِي الْمُتَحَيِّزِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَثَلًا لِلْإِلَهِ أَوْ جُزْءًا لِلْإِلَهِ وَذَلِكَ جَهْلٌ فَاحِشٌ وَغَلَطٌ قَبِيحٌ وَتَحْقِيقُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي السُّلُوبِ/ لَوْ أَوْجَبَتِ الْمُمَاثَلَةَ لَوَجَبَ الْقَوْلُ بِاسْتِوَاءِ كُلِّ الْمُخْتَلِفَاتِ وَأَنَّ كُلَّ مَاهِيَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي سَلْبِ كُلِّ مَا عَدَاهُمَا، فَلْتَكُنْ هَذِهِ الدَّقِيقَةُ مَعْلُومَةً فَإِنَّهَا مَغْلَطَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْجُهَّالِ، وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ فِي الْعُرْفِ وَالظَّاهِرِ عِبَارَةً عَنْ هَذِهِ الْجُثَّةِ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِنْسَانِ فِي الْعُرْفِ، وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ الرِّزْقَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يُقَوِّي حَالَهُمْ وَيُكْمِلُ كَمَالَهُمْ وَهُوَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَمَحَبَّتُهُ بَلْ نَقُولُ هَذَا مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا لِأَنَّ أَبْدَانَهُمْ قَدْ بَلِيَتْ تَحْتَ التُّرَابِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إِنَّ أَرْوَاحَهُمْ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ تَحْتَ الْعَرْشِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ غَيْرُ الْبَدَنِ وَلْيَكُنْ هَذَا آخِرَ كَلَامِنَا فِي هَذَا الْبَابِ وَلْنَرْجِعْ إِلَى عِلْمِ التَّفْسِيرِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وَعَلَى قَوْلِنَا قَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ احْتِمَالَيْنِ، أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَقَالُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ قَالُوا نَحْنُ مُخْتَصُّونَ بِهَذَا الْخِطَابِ أَمْ أَنْتَ مَعَنَا؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «بَلْ نَحْنُ وَأَنْتُمْ لَمْ نُؤْتَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» فَقَالُوا مَا أَعْجَبَ شَأْنَكَ يَا مُحَمَّدُ سَاعَةً تَقُولُ: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَةِ: 269] وَسَاعَةً تَقُولُ هَذَا. فَنَزَلَ قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لُقْمَانَ: 27] إِلَى آخِرِهِ وَمَا ذَكَرُوهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ كَثِيرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ فَالْعُلُومُ الْحَاصِلَةُ عِنْدَ النَّاسِ قَلِيلَةٌ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَلَكِنَّهَا كَثِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّهَوَاتِ الجسمانية واللذات الجسدانية. [سورة الإسراء (17) : الآيات 86 الى 87] وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ مَا آتَاهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْقَلِيلَ أَيْضًا لَقَدَرَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَمْحُوَ حِفْظَهُ مِنَ الْقُلُوبِ وَكِتَابَتَهُ مِنَ الْكُتُبِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ أَمْرًا مُخَالِفًا لِلْعَادَةِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْكَعْبِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَقَالَ وَالَّذِي يَقْدِرُ عَلَى إِزَالَتِهِ وَالذَّهَابِ بِهِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا. وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِذْهَابِ إِزَالَةُ الْعِلْمِ بِهِ عَنِ الْقُلُوبِ وَإِزَالَةُ النقوش الدالة عليه من الْمُصْحَفِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ كَوْنَ ذَلِكَ الْمَعْلُومِ الْمَدْلُولِ مُحْدَثًا وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا أَيْ لَا تَجِدُ مَنْ تَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي رَدِّ شَيْءٍ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أَيْ

[سورة الإسراء (17) : آية 88]

إِلَّا أَنْ يَرْحَمَكَ رَبُّكَ فَيَرُدَّهُ عَلَيْكَ أَوْ يَكُونَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ بِمَعْنَى وَلَكِنَّ رَحْمَةَ من رَبِّكَ تَرَكَتْهُ غَيْرَ مَذْهُوبٍ بِهِ وَهَذَا امْتِنَانٌ مِنَ اللَّهِ/ بِبَقَاءِ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَنَّ عَلَى جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ بِنَوْعَيْنِ مِنَ الْمِنَّةِ. أَحَدُهُمَا: تَسْهِيلُ ذَلِكَ الْعِلْمِ عَلَيْهِ. الثَّانِي: إِبْقَاءُ حِفْظِهِ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ: إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا بِسَبَبِ إِبْقَاءِ الْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ عَلَيْكَ. الثَّانِي: الْمُرَادُ أَنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا بِسَبَبِ أَنَّهُ جَعَلَكَ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ وَخَتَمَ بِكَ النَّبِيِّينَ وَأَعْطَاكَ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ أَنْعَمَ عَلَيْكَ أَيْضًا بإبقاء العلم والقرآن عليك. [سورة الإسراء (17) : آية 88] قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَةِ: 23] بَالَغْنَا فِي بَيَانِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَلِلنَّاسِ فِيهِ قَوْلَانِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مُعْجِزٌ فِي نَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِهِ مُعْجِزًا إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا صَرَفَ دَوَاعِيَهُمْ عَنِ الْإِثْبَاتِ بِمُعَارَضَتِهِ مَعَ أَنَّ تِلْكَ الدَّوَاعِيَ كَانَتْ قَوِيَّةً كَانَتْ هَذِهِ الصِّرْفَةُ مُعْجِزَةً وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ نَقُولَ الْقُرْآنُ فِي نَفْسِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْجِزًا أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كَانَ مُعْجِزًا فَقَدْ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْجِزًا بَلْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمُعَارَضَتِهِ وَكَانَتِ الدَّوَاعِي مُتَوَفِّرَةً عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَذِهِ الْمُعَارَضَةِ وَمَا كَانَ لَهُمْ عَنْهَا صَارِفٌ وَمَانِعٌ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ كَانَ الْإِتْيَانُ بِمُعَارَضَتِهِ وَاجِبًا لَازِمًا فَعَدَمُ الْإِتْيَانِ بِهَذِهِ الْمُعَارَضَةِ مَعَ التَّقْدِيرَاتِ الْمَذْكُورَةِ يَكُونُ نَقْضًا لِلْعَادَةِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا فَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي نَخْتَارُهُ فِي هَذَا الْبَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَبْ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ عَجْزُ الْإِنْسَانِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ فَكَيْفَ عَرَفْتُمْ عَجْزَ الْجِنِّ عَنْ مُعَارَضَتِهِ؟ وَأَيْضًا فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ نَظْمُ الْجِنِّ أَلْقَوْهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَصُّوهُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ السَّعْيِ فِي إِضْلَالِ الْخَلْقِ فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا تَعْرِفُونَ صِدْقَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَرَفْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا صَادِقٌ فِي قَوْلِهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الدَّوْرُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنَّ يَقُولَ كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْجِنِّ لِأَنَّا نَقُولُ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى وُقُوعِ التَّحَدِّي مَعَ الْجِنِّ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ هَذَا التَّحَدِّي لَوْ كَانُوا فُصَحَاءَ بُلَغَاءَ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ الِاحْتِمَالُ الْمَذْكُورُ قَائِمًا. أَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ عَجْزَ الْبَشَرِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ يَكْفِي فِي إِثْبَاتِ كَوْنِهِ مُعْجِزًا وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ لَوْ وَقَعَ لَوَجَبَ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ أَنْ يُظْهِرَ ذَلِكَ التَّلْبِيسَ وَحَيْثُ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى عَدَمِهِ وَعَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَجَابَ عَنْ هَذَا/ السُّؤَالِ بِالْأَجْوِبَةِ الشَّافِيَةِ الْكَافِيَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي قَوْلِهِ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشُّعَرَاءِ: 221، 222] وَقَدْ شَرَحْنَا هَذِهِ الْأَجْوِبَةَ هُنَاكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ المعتزلة الآية دالة على أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ لِأَنَّ التَّحَدِّيَ بِالْقَدِيمِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ ذَكَرْنَاهَا أَيْضًا بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ البقرة فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: [سورة الإسراء (17) : آية 89] وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89)

[سورة الإسراء (17) : الآيات 90 إلى 93]

وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَقَعَ التَّحَدِّي بِكُلِّ الْقُرْآنِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَوَقَعَ التَّحَدِّي أَيْضًا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [هُودٍ: 13] وَوَقَعَ التَّحَدِّي بِالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَةِ: 23] وَوَقَعَ التَّحَدِّي بِكَلَامٍ مِنْ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطَّوْرِ: 34] فَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّحَدِّيَ كَمَا شَرَحْنَاهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ ظُهُورِ عَجْزِهِمْ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ بَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أَنَّا أَخْبَرْنَاهُمْ بِأَنَّ الَّذِينَ بَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ مِثْلَ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ كَيْفَ ابْتَلَاهُمْ بِأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ وَشَرَحْنَا هَذِهِ الطَّرِيقَةَ مِرَارًا وَأَطْوَارًا ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامَ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَذَا الْبَيَانِ بَلْ بَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَنَفَى الشُّرَكَاءَ وَالْأَضْدَادَ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِرَارًا كَثِيرَةً، وَذَكَرَ شُبَهَاتِ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ مِرَارًا وَأَطْوَارًا، وَأَجَابَ عَنْهَا ثُمَّ أَرْدَفَهَا بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ وَالْمُعَادِ، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِسَمَاعِهَا بَلْ بَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى الشِّرْكِ وَإِنْكَارِ النُّبُوَّةِ ثم قال تعالى: يُرِيدُ [أَبَى] أَكْثَرُ أَهْلِ مَكَّةَ إِلَّا كُفُوراً أَيْ جُحُودًا لِلْحَقِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا مَا لَا حَاجَةَ إِلَى إِظْهَارِهِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ جَازَ: فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا، قُلْنَا لَفْظُ أَبَى يُفِيدُ النَّفْيَ كَأَنَّهُ قِيلَ فَلَمْ يرضوا إلا كفورا. [سورة الإسراء (17) : الآيات 90 الى 93] وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) [فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إلى قوله كِتاباً نَقْرَؤُهُ] [المسألة الأولى وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بِالدَّلِيلِ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا وَظَهَرَ هَذَا الْمُعْجِزِ عَلَى وَفْقِ دَعْوَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحِينَئِذٍ تَمَّ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ نَبِيًّا صَادِقًا لِأَنَّا نَقُولُ إِنَّ مُحَمَّدًا ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَظَهَرَ الْمُعْجِزُ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقٌ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِهِ نَبِيًّا صَادِقًا تَوَاتُرُ الْمُعْجِزَاتِ الْكَثِيرَةِ وَتَوَالِيهَا لِأَنَّا لَوْ فَتَحْنَا هَذَا الْبَابَ لَلَزِمَ أَنْ لَا يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ فِيهِ إِلَى مَقْطَعٍ وَكُلَّمَا أَتَى الرَّسُولُ بِمُعْجِزٍ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ مُعْجِزًا آخَرَ وَلَا يَنْتَهِي الْأَمْرُ فِيهِ إِلَى حَدٍّ يَنْقَطِعُ عِنْدَهُ عِنَادُ الْمُعَانِدِينَ وَتَغَلُّبُ الْجَاهِلِينَ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ كَوْنُ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا الْتَمَسُوا مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ كَمَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رُؤَسَاءَ أَهْلِ مَكَّةَ أَرْسَلُوا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ جُلُوسٌ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَأَتَاهُمْ فَقَالُوا يَا مُحَمَّدُ إِنَّ أَرْضَ مَكَّةَ ضَيِّقَةٌ فَسَيِّرْ جِبَالَهَا لِنَنْتَفِعَ فِيهَا وَفَجِّرْ لَنَا فِيهَا يَنْبُوعًا أَيْ نَهْرًا وَعُيُونًا نَزْرَعُ فِيهَا فَقَالَ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ أَوْ يَكُونُ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرُ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا فَقَالَ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ أَوْ يَكُونُ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَيْ مِنْ ذَهَبٍ فَيُغْنِيكَ عَنَّا فَقَالَ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ أَمَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَأْتِيَ قَوْمَكَ بِمَا يَسْأَلُونَكَ

فَقَالَ لَا أَسْتَطِيعُ، قَالُوا فَإِذَا كُنْتَ لَا تَسْتَطِيعُ الْخَيْرَ فَاسْتَطِعِ الشَّرَّ فَأَسْقِطِ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَيْ قِطَعًا بِالْعَذَابِ وَقَوْلُهُ كَمَا زَعَمْتَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الِانْشِقَاقِ: 1] ، إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الِانْفِطَارِ: 1] فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيُّ وَأُمُّهُ عَمَّةُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَا أُومِنُ بِكَ حَتَّى تَشُدَّ سُلَّمًا فَتَصْعَدَ فِيهِ وَنَحْنُ نَنْظُرُ إِلَيْكَ فَتَأْتِي بِأَرْبَعَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ لَكَ بِالرِّسَالَةِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَا أَدْرِي أَنُؤْمِنُ بِكَ أَمْ لَا!» فَهَذَا شَرْحُ هَذِهِ الْقِصَّةِ كَمَا رَوَاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْوَاعًا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُمْ/ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ تَفْجُرَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَضَمِّ الْجِيمِ مُخَفَّفَةً وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ قَالَ لِأَنَّ الْيَنْبُوعَ وَاحِدٌ وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الثَّانِيَةِ مُشَدِّدَةً لِأَجْلِ الْأَنْهَارِ، لِأَنَّهَا جَمْعٌ يُقَالُ فَجَّرْتُ الْمَاءَ فَجْرًا وَفَجَّرْتُهُ تَفْجِيرًا، فَمَنْ ثَقَّلَ أَرَادَ بِهِ كَثْرَةَ الْأَشْجَارِ مِنَ الْيَنْبُوعِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَلِكَثْرَةِ الِانْفِجَارِ فِيهِ يَحْسُنُ أَنْ يُثَقَّلَ كَمَا تَقُولُ ضَرْبَ زَيْدٌ إِذَا كَثُرَ الضَّرْبُ مِنْهُ فَيَكْثُرُ فِعْلُهُ وَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ وَاحِدًا وَمَنْ خَفَّفَ فَلِأَنَّ الْيَنْبُوعَ وَاحِدٌ، وَقَوْلُهُ: يَنْبُوعاً، يَعْنِي: عَيْنًا يَنْبُعُ الْمَاءُ مِنْهُ، تَقُولُ نَبَعَ الْمَاءُ يَنْبُعُ نَبْعًا وَنُبُوعًا وَنَبْعًا ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ، قَالَ الْقَوْمُ أَزِلْ عَنَّا جِبَالَ مَكَّةَ، وَفَجِّرْ لَنَا الْيَنْبُوعَ لِيَسْهُلَ عَلَيْنَا أَمْرُ الزِّرَاعَةِ وَالْحِرَاثَةِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُمْ: أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً وَالتَّقْدِيرُ كَأَنَّهُمْ قَالُوا هَبْ أَنَّكَ لَا تُفَجِّرُ هَذِهِ الْأَنْهَارَ لِأَجْلِنَا فَفَجِّرْهَا مِنْ أَجْلِكَ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُمْ: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ كِسَفاً بفتح السين هاهنا وَفِي سَائِرِ الْقُرْآنِ بِسُكُونِهَا، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بكر عن عاصم هاهنا، وَفِي الرُّومِ بِفَتْحِ السِّينِ، وَفِي بَاقِي الْقُرْآنِ بِسُكُونِهَا، وَقَرَأَ حَفْصٌ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ بِالْفَتْحِ إِلَّا فِي الرُّومِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فِي الرُّومِ بِفَتْحِ السِّينِ، وَفِي سَائِرِ الْقُرْآنِ بِسُكُونِ السِّينِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ كِسَفاً، فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ الْقِرَاءَةِ سُكُونُ السِّينِ وَفَتْحُهَا، قَالَ أَبُو زَيْدٍ يُقَالُ: كَسَفْتُ الثَّوْبَ أَكْسِفُهُ كَسْفًا إِذَا قَطَعْتَهُ قَطْعًا، وَقَالَ اللَّيْثُ: الْكَسْفُ، قَطْعُ الْعُرْقُوبِ، وَالْكِسْفَةُ: الْقِطْعَةُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ لِبَزَّازٍ: أَعْطِنِي كِسْفَةً: يُرِيدُ قِطْعَةً، فَمَنْ قَرَأَ بِسُكُونِ السِّينِ احْتَمَلَ قَوْلُهُ وُجُوهًا، أَحَدُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ كِسْفَةٍ مِثَلَ: دِمْنَةٍ وَدِمْنٍ وَسِدْرَةٍ وَسِدْرٍ. وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: إِذَا كَانَ الْمَصْدَرُ الْكِسْفَ، فَالْكِسْفُ الشَّيْءُ الْمَقْطُوعُ كَمَا تَقُولُ فِي الطَّحْنِ وَالطَّبْخِ السَّقْيَ، وَيُؤَكِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً [الطَّوْرِ: 44] . وَثَالِثُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ قَرَأَ: كِسَفاً كَأَنَّهُ قَالَ أَوْ يُسْقِطُهَا طَبْقًا عَلَيْنَا وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ كَسَفْتُ الشَّيْءَ إِذَا غَطَّيْتَهُ، وَأَمَّا فَتْحُ السِّينِ فَهُوَ جَمْعُ كِسْفَةٍ مِثْلَ قِطْعَةٍ وَقِطَعٍ وَسِدْرَةٍ وَسِدَرٍ، وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا كَأَنَّهُ قِيلَ أَوْ تُسْقِطُ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مُقَطَّعَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: كَما زَعَمْتَ فِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: قَالَ عِكْرِمَةُ كَمَا زَعَمْتَ يَا مُحَمَّدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ فَأَسْقِطِ السَّمَاءَ عَلَيْنَا. وَالثَّانِي: قَالَ آخَرُونَ كَمَا زَعَمْتَ أَنَّ رَبَّكَ إِنْ شَاءَ فَعَلَ. الثَّالِثُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً [الْإِسْرَاءِ: 68] فَقِيلَ اجْعَلِ السَّمَاءَ قِطَعًا مُتَفَرِّقَةً كَالْحَاصِبِ وَأَسْقِطْهَا عَلَيْنَا. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُمْ: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا وَفِي لَفْظِ الْقَبِيلِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: الْقَبِيلُ بِمَعْنَى الْمُقَابِلِ كَالْعَشِيرِ بِمَعْنَى الْمُعَاشِرِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ يدل على

جَهْلِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْمُقَابَلَةُ وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا [الْأَنْعَامِ: 111] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ فَوْجًا/ بَعْدَ فَوْجٍ. قَالَ اللَّيْثُ وَكُلُّ جُنْدٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَبِيلٌ وَذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ [الْأَعْرَافِ: 27] . الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ قَوْلَهُ قَبِيلًا معناه هاهنا ضَامِنًا وَكَفِيلًا، قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ قَبِلْتُ بِهِ أَقْبَلُ كَقَوْلِكَ كَفَلْتُ بِهِ أَكْفُلُ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ وَاحِدٌ أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النِّسَاءِ: 69] . وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ مَعْنَاهُ الْمُعَايَنَةُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الْفُرْقَانِ: 21] . وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُمْ: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ قَالَ مُجَاهِدٌ: كُنَّا لَا نَدْرِي مَا الزُّخْرُفُ حَتَّى رَأَيْتُ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ الزَّجَّاجُ: الزُّخْرُفُ الزِّينَةُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ [يُونُسَ: 24] أَيْ أَخَذَتْ كَمَالَ زِينَتِهَا وَلَا شَيْءَ فِي تَحْسِينِ الْبَيْتِ وَتَزْيِينِهِ كَالذَّهَبِ. وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُمْ: أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ رَقَيْتُ وَأَنَا أَرْقَى رُقًى وَرُقِيًّا وَأَنْشَدَ: أَنْتَ الَّذِي كَلَّفْتَنِي رُقَى الدَّرَجْ ... عَلَى الْكَلَالِ وَالْمَشِيبِ وَالْعَرَجْ وَقَوْلُهُ: فِي السَّماءِ أَيْ فِي مَعَارِجِ السَّمَاءِ فَحَذَفَ الْمُضَافَ، يُقَالُ رَقَى السلم ورقي في الدَّرَجَةِ ثُمَّ قَالُوا: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أَيْ لَنْ نُؤْمِنَ لِأَجْلِ رُقِيِّكَ. حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً من السماء فِيهِ تَصْدِيقُكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ: لن نُؤْمِنَ حَتَّى تَضَعَ عَلَى السَّمَاءِ سُلَّمًا ثُمَّ تَرْقَى فِيهِ وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى تَأْتِيَهَا ثُمَّ تَأْتِي مَعَكَ بِصَكٍّ مَنْشُورٍ مَعَهُ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ لَكَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا تَقُولُ. وَلَمَّا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ اقْتِرَاحَ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا وفيه مباحث: البحث الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى مِنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ قَوْلَهُمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إلى قوله: [الإسراء: 90- 93] قُلْ سُبْحانَ رَبِّي وَكُلُّ ذَلِكَ كَلَامُ الْقَوْمِ وَإِنَّا لَا نَجِدُ بَيْنَ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ وَبَيْنَ سَائِرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَفَاوُتًا فِي النَّظْمِ فَصَحَّ بِهَذَا صِحَّةَ مَا قَالَهُ الْكُفَّارُ لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ قَلِيلٌ لَا يَظْهَرُ فِيهِ التَّفَاوُتُ بَيْنَ مَرَاتِبِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ فَزَالَ هَذَا السُّؤَالُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْمَجِيءَ وَالذَّهَابَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ لِأَنَّ كَلِمَةَ سُبْحَانَ لِلتَّنْزِيهِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي، وَقَوْلُهُ سُبْحانَ رَبِّي تَنْزِيهٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ شَيْءٍ لَا يَلِيقُ بِهِ أَوْ نُسِبَ إِلَيْهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَلَيْسَ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ شَيْءٌ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ إِلَّا قَوْلُهُمْ أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: سُبْحانَ رَبِّي تَنْزِيهٌ لِلَّهِ عَنِ الْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُشَبِّهَةِ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجِيءُ وَيَذْهَبُ، فَإِنْ قَالُوا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَنْزِيهَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَنْ يَتَحَكَّمَ عَلَيْهِ الْمُتَحَكِّمُونَ فِي اقْتِرَاحِ الْأَشْيَاءِ؟ قُلْنَا الْقَوْمُ لَمْ يَتَحَكَّمُوا عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا قَالُوا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا صَادِقًا فَاطْلُبْ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُشَرِّفَكَ بِهَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ فَالْقَوْمُ تَحَكَّمُوا عَلَى الرَّسُولِ وَمَا تَحَكَّمُوا عَلَى اللَّهِ فَلَا يَلِيقُ حَمْلُ قَوْلِهِ: سُبْحانَ رَبِّي عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: تَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُكُمْ مِنْ هَذَا الِاقْتِرَاحِ أَنَّكُمْ طَلَبْتُمُ الْإِتْيَانَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِي بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَوْ طَلَبْتُمْ مِنِّي أَنْ أَطْلُبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِظْهَارَهَا عَلَى يَدَيَّ لِتَدُلَّ عَلَى كَوْنِي رَسُولًا حَقًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنِّي بَشَرٌ وَالْبَشَرُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنِّي قد أتيتكم

[سورة الإسراء (17) : الآيات 94 إلى 96]

بِمُعْجِزَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْقُرْآنُ وَالدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهَا مُعْجِزَةً فَطَلَبُ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ طَلَبٌ لِمَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ وَلَا ضَرُورَةَ فَكَأَنَّ طَلَبَهَا يَجْرِي مَجْرَى التَّعَنُّتِ وَالتَّحَكُّمِ وَأَنَا عَبْدٌ مَأْمُورٌ لَيْسَ لِي أَنْ أَتَحَكَّمَ عَلَى اللَّهِ فَسَقَطَ هَذَا السُّؤَالُ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلِهِ: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا جَوَابٌ كَافٍ فِي هَذَا الْبَابِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا كَوْنَهُمْ عَلَى الضَّلَالِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ، وَفِي النُّبُوَّاتِ. أَمَّا فِي الْإِلَهِيَّاتِ فَيَدُلُّ عَلَى ضَلَالِهِمْ قَوْلُهُ سُبْحانَ رَبِّي أَيْ سُبْحَانَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ إِتْيَانٌ وَمَجِيءٌ وَذَهَابٌ وَأَمَّا فِي النُّبُوَّاتِ فَيَدُلُّ عَلَى ضَلَالِهِمْ قَوْلُهُ: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. [سورة الإسراء (17) : الآيات 94 الى 96] وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى شُبْهَةَ الْقَوْمِ فِي اقْتِرَاحِ الْمُعْجِزَاتِ الزَّائِدَةِ وَأَجَابَ عَنْهَا حَكَى عَنْهُمْ شُبْهَةً أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْقَوْمَ اسْتَبْعَدُوا أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ إِلَى الْخَلْقِ رَسُولًا مِنَ الْبَشَرِ بَلِ اعْتَقَدُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى الْخَلْقِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرَّسُولُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مَلَكًا رَسُولًا إِلَى الْخَلْقِ فَالْخَلْقُ إِنَّمَا يُؤْمِنُونَ بِكَوْنِهِ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَجْلِ قِيَامِ الْمُعْجِزِ الدَّالِّ عَلَى صِدْقِهِ وَذَلِكَ الْمُعْجِزُ هُوَ الَّذِي يَهْدِيهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْمَلَكِ فِي ادِّعَاءِ رِسَالَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى هُوَ الْمُعْجِزُ فَقَطْ فَهَذَا الْمُعْجِزُ سَوَاءٌ ظَهَرَ عَلَى يَدِ الْمَلَكِ أَوْ عَلَى يَدِ الْبَشَرِ وَجَبَ الْإِقْرَارُ بِرِسَالَتِهِ فَثَبَتَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ بِأَنَّ الرَّسُولَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ/ مِنَ الْمَلَائِكَةِ تَحَكُّمًا فَاسِدًا وَتَعَنُّتًا بَاطِلًا. الْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْأَجْوِبَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ هُوَ أَنَّ أَهْلَ الْأَرْضِ لَوْ كَانُوا مَلَائِكَةً لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَأَنَّ الْجِنْسَ إِلَى الْجِنْسِ أَمِيلُ أَمَّا لَوْ كَانَ أَهْلُ الْأَرْضِ مِنَ الْبَشَرِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُمْ مِنَ الْبَشَرِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مِنَ الْأَجْوِبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَظْهَرَ الْمُعْجِزَةَ عَلَى وَفْقِ دَعْوَايَ كَانَ ذَلِكَ شَهَادَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كَوْنِي صَادِقًا وَمَنْ شَهِدَ اللَّهُ عَلَى صِدْقِهِ فَهُوَ صَادِقٌ فَبَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ بِأَنَّ الرَّسُولَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا لَا إِنْسَانًا تَحَكُّمٌ فَاسِدٌ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَجْوِبَةَ الثَّلَاثَةَ أَرْدَفَهَا بِمَا يَجْرِي مَجْرَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ فَقَالَ: إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً يَعْنِي يَعْلَمُ ظَوَاهِرَهُمْ وَبَوَاطِنَهُمْ وَيَعْلَمُ مِنْ قُلُوبِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَذْكُرُونَ هَذِهِ الشُّبَهَاتِ إِلَّا لِمَحْضِ الْحَسَدِ وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ وَالِاسْتِنْكَافِ مِنَ الِانْقِيَادِ لِلْحَقِّ. [سورة الإسراء (17) : الآيات 97 الى 98] وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98)

[في قوله تعالى وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ إلى قوله تعالى مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَجَابَ عَنْ شُبُهَاتِ الْقَوْمِ فِي إِنْكَارِ النُّبُوَّةِ وَأَرْدَفَهَا بِالْوَعِيدِ الْإِجْمَالِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً [الإسراء: 96] ذَكَرَ بَعْدَهُ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، أما قوله: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ فَالْمَقْصُودُ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ وَهُوَ أَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ لَهُمْ حُكْمُ اللَّهِ بِالْإِيمَانِ وَالْهِدَايَةِ وَجَبَ أَنْ يَصِيرُوا مُؤْمِنِينَ وَمَنْ سَبَقَ لَهُمْ حُكْمُ اللَّهِ بِالضَّلَالِ وَالْجَهْلِ اسْتَحَالَ أَنْ يَنْقَلِبُوا عَنْ ذَلِكَ الضَّلَالِ وَاسْتَحَالَ أَنْ يُوجَدَ مَنْ يَصْرِفُهُمْ عَنْ ذَلِكَ الضَّلَالِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ فِي الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالْمُعْتَزِلَةُ حَمَلُوا هَذَا الْإِضْلَالَ تَارَةً عَلَى الْإِضْلَالِ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ وَتَارَةً عَلَى مَنْعِ الْأَلْطَافِ وَتَارَةً عَلَى التَّخْلِيَةِ وَعَدَمِ التَّعَرُّضِ لَهُ بِالْمَنْعِ وَهَذِهِ الْمَبَاحِثُ قَدْ ذَكَرْنَاهَا مِرَارًا فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُمْكِنُهُمُ الْمَشْيُ عَلَى وُجُوهِهِمْ قُلْنَا الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: إِنَّهُمْ يُسْحَبُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ [الْقَمَرِ: 48] . الثَّانِي: رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ قَالَ: إِنَّ الَّذِي/ يُمْشِيهِمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهِمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ، قَالَ حُكَمَاءُ الْإِسْلَامِ الْكُفَّارُ أَرْوَاحُهُمْ شَدِيدَةُ التَّعَلُّقِ بِالدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا وَلَيْسَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِعَالَمِ الْأَبْرَارِ وَحَضْرَةِ الْإِلَهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَمَّا كَانَتْ وُجُوهُ قُلُوبِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ مُتَوَجِّهَةً إِلَى الدُّنْيَا لَا جَرَمَ كَانَ حَشْرُهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا فَاعْلَمْ أَنَّ وَاحِدًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ [الْكَهْفِ: 53] وَقَالَ: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الْفُرْقَانِ: 12] وَقَالَ: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً [الْفُرْقَانِ: 13] وَقَالَ: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [النَّحْلِ: 111] وَقَالَ حِكَايَةً عَنِ الْكُفَّارِ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: 23] فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ وَيَسْمَعُونَ وَيَتَكَلَّمُونَ فَكَيْفَ قَالَ هاهنا: عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا أَجَابَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَتَلَامِذَتُهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عُمْيًا لَا يَرَوْنَ شَيْئًا يَسُرُّهُمْ صُمًّا لَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا يَسُرُّهُمْ بُكْمًا لَا يَنْطِقُونَ بِحُجَّةٍ. الثَّانِي: قَالَ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عُمْيًا عَنِ النَّظَرِ إِلَى مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ بُكْمًا عَنْ مُخَاطَبَةِ اللَّهِ وَمُخَاطَبَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ صُمًّا عَنْ ثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَوْلِيَائِهِ. الثَّالِثُ: قال مقاتل إنه حين يقال لهم: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 108] يَصِيرُونَ عُمْيًا بُكْمًا صُمًّا، أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَهُمْ يَرَوْنَ وَيَسْمَعُونَ وَيَنْطِقُونَ. الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ يَكُونُونَ رَائِينَ سَامِعِينَ نَاطِقِينَ فِي الْمَوْقِفِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَدَرُوا عَلَى أَنْ يُطَالِعُوا كُتُبَهُمْ وَلَا أَنْ يَسْمَعُوا إِلْزَامَ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنَّهُمْ إِذَا أَخَذُوا يَذْهَبُونَ مِنَ الْمَوْقِفِ إِلَى النَّارِ جَعَلَهُمُ اللَّهُ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْآيَاتِ السَّابِقَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فِي النَّارِ يُبْصِرُونَ وَيَسْمَعُونَ وَيَصِيحُونَ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً فَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ الْخَبْوُ سُكُونُ النَّارِ، يُقَالُ: خَبَتِ النَّارُ تَخْبُو إِذَا سَكَنَ لَهَبُهَا وَمَعْنَى خَبَتْ سَكَنَتْ وَطُفِئَتْ يُقَالُ فِي مَصْدَرِهِ الْخَبْوُ وَأَخْبَأَهَا الْمُخَبِّئُ إِخْبَاءً أَيْ أَخْمَدَهَا ثُمَّ قَالَ: زِدْناهُمْ سَعِيراً قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا أَيْ تَلَهُّبًا. الْبَحْثُ الثَّانِي: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ تَعَالَى لَا يُخَفِّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ وَقَوْلُهُ: كُلَّما خَبَتْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ يَخِفُّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قُلْنَا كُلَّمَا خَبَتْ يَقْتَضِي سُكُونَ لَهَبِ النَّارِ، أَمَا لَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ يَخِفُّ الْعَذَابُ

[سورة الإسراء (17) : آية 99]

فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ «1» . الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ أَنْ تَكُونَ الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَزْيَدَ مِنَ الْحَالَةِ الْأُولَى وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْحَالَةُ الْأُولَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ تَخْفِيفًا. وَالْجَوَابُ: الزِّيَادَةُ حَصَلَتْ فِي الْحَالَةِ الْأَوْلَى أَخَفَّ مِنْ حُصُولِهَا فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ فَكَانَ الْعَذَابُ شَدِيدًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ لَمَّا عَظُمَ الْعَذَابُ صَارَ التَّفَاوُتُ الْحَاصِلُ فِي أَوْقَاتِهِ غَيْرَ مَشْعُورٍ بِهِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُ وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنْوَاعَ هَذَا الْوَعِيدِ قَالَ: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بَاءُ السَّبَبِيَّةِ وَهُوَ حُجَّةٌ لِمَنْ يَقُولُ الْعَمَلُ عِلَّةُ الْجَزَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة الإسراء (17) : آية 99] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَجَابَ عَنْ شُبُهَاتِ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ عَادَ إِلَى حِكَايَةِ شُبْهَةِ مُنْكِرِي الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ لِيُجِيبَ عَنْهَا وَتِلْكَ الشُّبْهَةُ هِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ رُفَاتًا وَرَمِيمًا يَبْعُدُ أَنْ يَعُودَ هُوَ بِعَيْنِهِ وَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى إِعَادَتِهِمْ بِأَعْيَانِهِمْ وَفِي قَوْلِهِ: قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَهُمْ ثَانِيًا فَعَبَّرَ عَنْ خَلْقِهِمْ ثَانِيًا بِلَفْظِ الْمَثَلِ كَمَا يَقُولُ الْمُتَكَلِّمُونَ أَنَّ الْإِعَادَةَ مِثْلُ الِابْتِدَاءِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ عَبِيدًا آخَرِينَ يُوَحِّدُونَهُ وَيُقِرُّونَ بِكَمَالِ حِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَيَتْرُكُونَ ذِكْرَ هَذِهِ الشُّبَهَاتِ الْفَاسِدَةِ وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [إِبْرَاهِيمَ: 19] وَقَوْلِهِ: وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [التَّوْبَةِ: 39] قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَالْقَوْلُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِمَا قَبْلَهُ وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بِالدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ أَمْرٌ مُمْكِنُ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ أَرْدَفَهُ بِأَنَّ لِوُقُوعِهِ وَدُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ وَقْتًا مَعْلُومًا عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً أَيْ بَعْدَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ أَبَوْا إِلَّا الْكُفْرَ والنفور والجحود. [سورة الإسراء (17) : آية 100] قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا قَالُوا، لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء: 90] طَلَبُوا إِجْرَاءَ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ فِي بَلْدَتِهِمْ لِتَكْثُرَ أَمْوَالُهُمْ وَتَتَّسِعَ عَلَيْهِمْ مَعِيشَتُهُمْ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ مَلَكُوا خَزَائِنَ رَحْمَةِ اللَّهِ لَبَقُوا عَلَى بُخْلِهِمْ وَشُحِّهِمْ وَلَمَا أَقْدَمُوا عَلَى إِيصَالِ النَّفْعِ إِلَى أَحَدٍ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا فَائِدَةَ فِي إِسْعَافِهِمْ بِهَذَا الْمَطْلُوبِ الَّذِي الْتَمَسُوهُ فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي وَجْهِ النَّظْمِ والله أعلم.

_ (1) مقتضى الكلام أن يقال: لكن لا يدل هذا على أن يخفف العذاب إلخ.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 101 إلى 104]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: لَوْ أَنْتُمْ فِيهِ بَحْثٌ يَتَعَلَّقُ بِالنَّحْوِ وَبَحْثٌ آخَرُ يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ الْبَيَانِ، أَمَّا الْبَحْثُ النَّحْوِيُّ: فَهُوَ أَنَّ كَلِمَةَ «لَوْ» مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَخْتَصَّ بِالْفِعْلِ لَأَنَّ كَلِمَةَ «لَوْ» تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ/ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ وَالِاسْمُ يَدُلُّ عَلَى الذَّوَاتِ وَالْفِعْلُ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْآثَارِ وَالْأَحْوَالِ وَالْمُنْتَفِي هُوَ الْأَحْوَالُ وَالْآثَارُ لَا الذَّوَاتُ فَثَبَتَ أَنَّ كَلِمَةَ «لَوْ» مُخْتَصَّةٌ بِالْأَفْعَالِ وَأَنْشَدُوا قَوْلَ الْمُتَلَمِّسِ: لَوْ غَيْرُ أَخْوَالِي أَرَادُوا نَقِيصَتِي ... نَصَبْتُ لَهُمْ فَوْقَ الْعَرَانِينِ مَأْتَمًا وَالْمَعْنَى لَوْ أَرَادَ غَيْرُ أَخْوَالِي وَأَمَّا الْبَحْثُ الْمُتَعَلِّقُ بِعِلْمِ الْبَيَانِ فَهُوَ أَنَّ التَّقْدِيمَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ فَقَوْلُهُ: أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ هُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الْخَسِيسَةِ وَالشُّحِّ الْكَامِلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: خَزَائِنُ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّكُمْ لَوْ مَلَكْتُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالنِّعَمِ خَزَائِنَ لَا نِهَايَةَ لَهَا لَبَقِيتُمْ عَلَى الشُّحِّ وَهَذَا مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ فِي وَصْفِهِمْ بِهَذَا الشَّيْءِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أَيْ بَخِيلًا يُقَالُ قَتَرَ يَقْتِرُ قَتْرًا وَأَقْتَرَ إِقْتَارًا وَقَتَّرَ تَقْتِيرًا إِذَا قَصَّرَ فِي الْإِنْفَاقِ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ دَخَلَ فِي الْإِنْسَانِ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِنْسَانِ الْبُخْلُ لِأَنَّهُ خُلِقَ مُحْتَاجًا وَالْمُحْتَاجُ لَا بُدَّ أَنْ يُحِبَّ مَا بِهِ يَدْفَعُ الْحَاجَةَ وَأَنْ يُمْسِكَهُ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَجُودُ بِهِ لِأَسْبَابٍ مِنْ خَارِجٍ فَثَبَتَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِنْسَانِ الْبُخْلُ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَبْذُلُ لِطَلَبِ الثَّنَاءِ وَالْحَمْدِ وَلِلْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَا أَنْفَقَ إِلَّا لِيَأْخُذَ الْعِوَضَ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ بَخِيلٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِنْسَانِ الْمَعْهُودُ السَّابِقُ: وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء: 90] . [سورة الإسراء (17) : الآيات 101 الى 104] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) في الآية مسائل: [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَيْضًا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ/ حَتَّى تَأْتِيَنَا بِهَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ فَقَالَ تعالى إنا آتينا موسى مُعْجِزَاتٍ مُسَاوِيَةً لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي طَلَبْتُمُوهَا بَلْ أَقْوَى مِنْهَا وَأَعْظَمَ فَلَوْ حَصَلَ فِي عِلْمِنَا أَنَّ جَعْلَهَا فِي زَمَانِكُمْ مَصْلَحَةٌ لَفَعَلْنَاهَا كَمَا فَعَلْنَا فِي حَقِّ مُوسَى فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّا إِنَّمَا لَمْ نَفْعَلْهَا فِي زَمَانِكُمْ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِي فِعْلِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ مُعْجِزَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَزَالَ الْعُقْدَةَ مِنْ لِسَانِهِ قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ ذَهَبَتِ الْعُجْمَةُ وَصَارَ فَصِيحًا. وَثَانِيهَا: انْقِلَابُ الْعَصَا حَيَّةً. وَثَالِثُهَا: تَلْقَفُ الْحَيَّةُ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ مَعَ كَثْرَتِهَا. وَرَابِعُهَا: الْيَدُ الْبَيْضَاءُ. وَخَمْسَةٌ أُخَرُ وَهِيَ الطُّوفَانُ

وَالْجَرَادُ وَالْقُمَّلُ وَالضَّفَادِعُ وَالدَّمُ. وَالْعَاشِرُ: شَقُّ الْبَحْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [الْبَقَرَةِ: 50] وَالْحَادِيَ عَشَرَ: الْحَجَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ [الْأَعْرَافِ: 160] . الثَّانِيَ عَشَرَ: إِظْلَالُ الْجَبَلِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [الْأَعْرَافِ: 171] . وَالثَّالِثَ عَشَرَ: إِنْزَالُ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى عَلَيْهِ وَعَلَى قَوْمِهِ. وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ [الْأَعْرَافِ: 130] . وَالسَّادِسَ عَشَرَ: الطَّمْسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ مِنَ النَّحْلِ وَالدَّقِيقِ وَالْأَطْعِمَةِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ سَأَلَ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ عَنْ قَوْلِهِ: تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ فِي مَسْأَلَةِ التِّسْعِ حَلَّ عُقْدَةِ اللِّسَانِ وَالطَّمْسَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ هَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْفَقِيهُ ثُمَّ قَالَ: يَا غُلَامُ أَخْرِجْ ذَلِكَ الْجِرَابَ فَأَخْرَجَهُ فَنَفَضَهُ فَإِذَا فِيهِ بَيْضٌ مَكْسُورٌ نِصْفَيْنِ وَجَوْزٌ مَكْسُورٌ وَفُولٌ وَحِمَّصٌ وَعَدَسٌ كُلُّهَا حِجَارَةٌ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ السِّتَّةَ عَشَرَ لِمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَتَخْصِيصُ التِّسْعَةِ بِالذِّكْرِ لَا يَقْدَحُ فِيهِ ثُبُوتُ الزَّائِدِ عَلَيْهِ لِأَنَّا بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ تَخْصِيصَ الْعَدَدِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الزَّائِدِ بَلْ نَقُولُ إِنَّمَا يُتَمَسَّكُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ نَقُولُ: أَمَّا هَذِهِ التِّسْعَةُ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى سَبْعَةٍ مِنْهَا وَهِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ وَالطُّوفَانُ وَالْجَرَادُ وَالْقُمَّلُ وَالضَّفَادِعُ وَالدَّمُ وَبَقِيَ الِاثْنَانِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلٌ آخَرُ فِيهِمَا وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْأَحْوَالُ مُسْتَنِدَةً إِلَى حُجَّةٍ ظَنِّيَّةٍ فَضْلًا عَنْ حُجَّةٍ يَقِينِيَّةٍ لَا جَرَمَ تُرِكَتْ تِلْكَ الرِّوَايَاتُ، وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ أَقْوَالٌ أَجْوَدُهَا مَا رَوَى صَفْوَانُ بْنُ عَسَّالٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ يَهُودِيًّا قَالَ لِصَاحِبِهِ اذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ نَسْأَلُهُ عَنْ تِسْعِ آيَاتٍ فَذَهَبَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلَاهُ عَنْهَا فَقَالَ: هُنَّ أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلَا تَسْحَرُوا وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا وَلَا تَقْذِفُوا الْمُحْصَنَةَ وَلَا تُوَلُّوا الْفِرَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةَ الْيَهُودِ أَنْ لا تعدوا في السبب فَقَامَ الْيَهُودِيَّانِ فَقَبَّلَا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَقَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ نَبِيٌّ وَلَوْلَا نَخَافُ الْقَتْلَ وَإِلَّا اتَّبَعْنَاكَ. المسألة الثالثة: قوله: فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِيهِ وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ دَخَلَ فِي الْكَلَامِ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ إِذْ جَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاسْأَلْهُمْ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَيْسَ الْمَطْلُوبُ مِنْ/ سُؤَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَسْتَفِيدَ هَذَا الْعِلْمَ مِنْهُمْ بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّ يَظْهَرَ لِعَامَّةِ الْيَهُودِ وَعُلَمَائِهِمْ صِدْقُ مَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ فَيَكُونُ هَذَا السُّؤَالُ سُؤَالُ اسْتِشْهَادٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قوله: فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ أَيْ سَلْهُمْ عَنْ فِرْعَوْنَ. وَقُلْ لَهُ أَرْسِلْ مَعِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ سَلْهُمْ أَنْ يُوَافِقُوكَ وَالْتَمِسْ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ الصَّالِحَ. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَالتَّقْدِيرُ فَقُلْنَا لَهُ سَلْهُمْ أَنْ يُعَاضِدُوكَ وَتَكُونَ قُلُوبُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ مَعَكَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَسْأَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعْنَاهُ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِينَ جَاءَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِهِ إِلَّا أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانُوا أَوْلَادَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ مُوسَى حَسُنَتْ هَذِهِ الْكِنَايَةُ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ فِرْعَوْنَ قَالَ لِمُوسَى: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً وَفِي لَفْظِ الْمَسْحُورِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: قَالَ الفراء: إنه بمعنى الساحر كالمشؤوم وَالْمَيْمُونِ وَذَكَرْنَا هَذَا فِي قَوْلِهِ: حِجاباً مَسْتُوراً [الْإِسْرَاءِ: 45] الثَّانِي: أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنَ السِّحْرِ أَيْ أَنَّ النَّاسَ سَحَرُوكَ وَخَبَلُوكَ فَتَقُولُ هَذِهِ الْكَلَمَّاتِ لِهَذَا السَّبَبِ. الثَّالِثُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ مَعْنَاهُ أُعْطِيتَ عِلْمَ

السِّحْرِ، فَهَذِهِ الْعَجَائِبُ الَّتِي تَأْتِي بِهَا مِنْ ذَلِكَ السِّحْرِ ثُمَّ أَجَابَهُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ الْكِسَائِيُّ عَلِمْتُ بِضَمِّ التَّاءِ أَيْ عَلِمْتُ أَنَّهَا مِنْ عِلْمِ اللَّهِ فَإِنْ عَلِمْتَ وَأَقْرَرْتَ وَإِلَّا هَلَكْتَ وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ وَضَمُّ التَّاءَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ وَفَتْحُهَا قِرَاءَةُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ وَاللَّهِ مَا عَلِمَ عَدُوُّ اللَّهِ وَلَكِنْ مُوسَى هُوَ الَّذِي عَلِمَ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النَّمْلِ: 14] عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ كَانُوا قَدْ عَرَفُوا صِحَّةَ أَمْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ الزَّجَّاجُ الْأَجْوَدُ فِي الْقِرَاءَةِ الْفَتْحُ لِأَنَّ عِلْمَ فِرْعَوْنَ بِأَنَّهَا آيَاتٌ نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَوْكَدُ فِي الْحُجَّةِ فَاحْتِجَاجُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى فِرْعَوْنَ بِعِلْمِ فِرْعَوْنَ أَوْكَدُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِعِلْمِ نَفْسِهِ. وَأَجَابَ النَّاصِرُونَ لِقِرَاءَةِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ دَلِيلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالُوا قَوْلُهُ: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَيْقَنُوا شَيْئًا مَا فَأَمَّا أَنَّهُمُ اسْتَيْقَنُوا كَوْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ نَازِلَةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَأَجَابُوا عَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي بِأَنَّ فِرْعَوْنَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشُّعَرَاءِ: 27] قَالَ مُوسَى: لَقَدْ عَلِمْتَ فَكَأَنَّهُ نَفَى ذَلِكَ وَقَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ صِحَّةَ مَا أَتَيْتُ بِهِ عِلْمًا صَحِيحًا عِلْمَ الْعُقَلَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَا تَشُكَّ فِي ذَلِكَ بِسَبَبِ سَفَاهَتِكَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: التَّقْدِيرُ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَالْعَيْشُ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ. وَقَوْلُهُ: بَصائِرَ أَيْ حُجَجًا بَيِّنَةً كَأَنَّهَا بَصَائِرُ الْعُقُولِ وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّ الْمُعْجِزَةَ فِعْلٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ فَعَلَهُ فَاعِلُهُ لِغَرَضِ تَصْدِيقِ الْمُدَّعَى وَمُعْجِزَاتُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَتْ مَوْصُوفَةً/ بِهَذَيْنَ الْوَصْفَيْنِ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَفْعَالًا خَارِقَةً لِلْعَادَةِ وَصَرَائِحُ الْعُقُولِ تَشْهَدُ بِأَنَّ قَلْبَ الْعَصَا حَيَّةً مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْحَيَّةَ تَلَقَّفَتْ حِبَالَ السَّحَرَةِ وَعِصِيَّهُمْ عَلَى كَثْرَتِهَا ثُمَّ عَادَتْ عَصًا كَمَا كَانَتْ فَأَصْنَافُ تِلْكَ الْأَفْعَالِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي فَرْقِ الْبَحْرِ وَإِظْلَالِ الْجَبَلِ فَثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ ما أنزلها إلا رب السموات. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَهَا لِتَدُلَّ عَلَى صِدْقِ مُوسَى فِي دَعْوَةِ النُّبُوَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ حَالَ كَوْنِهَا بَصَائِرَ أَيْ دَالَّةً عَلَى صِدْقِ مُوسَى فِي دَعْوَاهُ وَهَذِهِ الدَّقَائِقُ لَا يُمْكِنُ فَهْمُهَا مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا بَعْدَ إِتْقَانِ عِلْمِ الْأُصُولِ وَأَقُولُ يَبْعُدُ أَنْ يَصِيرَ غَيْرُ عِلْمِ الْأُصُولِ الْعَقْلِيِّ قَاهِرًا في تفسير كلام الله ثُمَّ حَكَى تَعَالَى أَنَّ مُوسَى قَالَ لِفِرْعَوْنَ: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء: 103] وَاعْلَمْ أَنَّ فِرْعَوْنَ قَالَ لِمُوسَى: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً فَعَارَضَهُ مُوسَى وَقَالَ لَهُ: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَثْبُورُ الْمَلْعُونُ الْمَحْبُوسُ عَنِ الْخَيْرِ وَالْعَرَبُ تَقُولُ مَا ثَبَرَكَ عَنْ هَذَا أَيْ مَا مَنَعَكَ مِنْهُ وَمَا صَرَفَكَ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: يُقَالُ ثَبَرْتُ فُلَانًا عَنِ الشَّيْءِ أَثْبُرُهُ أَيْ رَدَدْتُهُ عَنْهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ هَالِكًا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ ثُبِرَ الرَّجُلُ فَهُوَ مَثْبُورٌ إِذَا هَلَكَ، وَالثُّبُورُ الْهَلَاكُ، وَمِنْ مَعْرُوفِ الْكَلَامِ فُلَانٌ يَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ عِنْدَ مُصِيبَةٍ تَنَالُهُ، وَقَالَ تَعَالَى: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً [الْفُرْقَانِ: 13، 14] وَاعْلَمْ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا وَصَفَ مُوسَى بِكَوْنِهِ مَسْحُورًا أَجَابَهُ مُوسَى بِأَنَّكَ مَثْبُورٌ يَعْنِي هَذِهِ الْآيَاتُ ظَاهِرَةٌ، وَهَذِهِ الْمُعْجِزَاتُ قَاهِرَةٌ وَلَا يَرْتَابُ الْعَاقِلُ فِي أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَفِي أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَظْهَرَهَا لِأَجْلِ تَصْدِيقِي وَأَنْتَ تُنْكِرُهَا فَلَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا الْإِنْكَارِ إِلَّا الْحَسَدُ وَالْعِنَادُ وَالْغَيُّ وَالْجَهْلُ وَحُبُّ الدُّنْيَا ومن كان

[سورة الإسراء (17) : الآيات 105 إلى 109]

كذلك كانت عاقبة الدَّمَارُ وَالثُّبُورُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ يَعْنِي أَرَادَ فِرْعَوْنُ أَنْ يُخْرِجَهُمْ يَعْنِي مُوسَى وَقَوْمَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَعْنَى تَفْسِيرِ الِاسْتِفْزَازِ تَقَدَّمَ «1» فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْأَرْضِ يَعْنِي أَرْضَ مِصْرَ، قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ اسْتِفْزَازِهِمْ إِخْرَاجَهُمْ مِنْهُمْ بِالْقَتْلِ أَوْ بِالتَّنْحِيَةِ ثُمَّ قَالَ: فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً الْمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلُهُ: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فَاطِرٍ: 43] أَرَادَ فِرْعَوْنُ أَنْ يُخْرِجَ مُوسَى مِنْ أَرْضِ مِصْرَ لِتَخْلُصَ لَهُ تِلْكَ الْبِلَادُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَجَعَلَ مُلْكَ مِصْرَ خَالِصَةً لِمُوسَى وَلِقَوْمِهِ وَقَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ خَالِصَةً لَكُمْ خَالِيَةً مِنْ عَدُوِّكُمْ قَالَ تَعَالَى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ يُرِيدُ القيامة جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً من هاهنا وهاهنا، وَاللَّفِيفُ الْجَمْعُ الْعَظِيمُ مِنْ أَخْلَاطٍ شَتَّى مِنَ الشَّرِيفِ وَالدَّنِيءِ وَالْمُطِيعِ وَالْعَاصِي وَالْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ. وَكُلُّ شَيْءٍ خَلَطْتَهُ بِشَيْءٍ آخَرَ فَقَدْ لَفَفْتَهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لَفَفْتُ الْجُيُوشَ إِذَا ضَرَبْتَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ وَقَوْلُهُ الْتَفَّتِ الزُّحُوفُ وَمِنْهُ، الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ، [القيامة: 29] وَالْمَعْنَى جِئْنَا بِكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ إِلَى الْمَحْشَرِ أَخْلَاطًا يَعْنِي جَمِيعَ الْخَلْقِ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ وَالْبَرَّ والفاجر. [سورة الإسراء (17) : الآيات 105 الى 109] وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ قَاهِرٌ دَالٌّ عَلَى الصِّدْقِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الْإِسْرَاءِ: 88] ثُمَّ حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بِهَذَا الْمُعْجِزِ بَلْ طَلَبُوا سَائِرَ الْمُعْجِزَاتِ، ثُمَّ أَجَابَ اللَّهُ بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى إِظْهَارِ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا أَنَّ قَوْمَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ آتَاهُمُ اللَّهُ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَلَمَّا جَحَدُوا بِهَا أَهْلَكَهُمُ الله فكذا هاهنا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَوْ آتَى قَوْمَ مُحَمَّدٍ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا ثُمَّ كَفَرُوا بِهَا وَجَبَ إِنْزَالُ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ بِهِمْ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْحِكْمَةِ لِعِلْمِهِ تَعَالَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ وَالَّذِي لَا يُؤْمِنُ فَسَيَظْهَرُ مِنْ نَسْلِهِ مَنْ يَصِيرُ مُؤْمِنًا، وَلَمَّا تَمَّ هَذَا الْجَوَابُ عَادَ إِلَى تَعْظِيمِ حَالِ الْقُرْآنِ وَجَلَالَةِ دَرَجَتِهِ فَقَالَ: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَا أَرَدْنَا بِإِنْزَالِهِ إِلَّا تَقْرِيرَ الْحَقِّ وَالصِّدْقِ وَكَمَا أَرَدْنَا هَذَا الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ وَقَعَ هَذَا الْمَعْنَى وَحَصَلَ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ فَوَائِدُ. الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَزُولُ كَمَا أَنَّ الْبَاطِلَ هُوَ الزَّائِلُ الذَّاهِبُ، وَهَذَا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَشْيَاءَ لَا تَزُولُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَعَلَى تَعْظِيمِ الْمَلَائِكَةِ وَتَقْرِيرِ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِثْبَاتِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْقِيَامَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْبَلُ الزَّوَالَ وَمُشْتَمِلٌ أَيْضًا عَلَى شَرِيعَةٍ بَاقِيَةٍ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا النَّسْخُ وَالنَّقْضُ وَالتَّحْرِيفُ، وَأَيْضًا فَهَذَا الْكِتَابُ كِتَابٌ تَكَفَّلَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ عَنْ تَحْرِيفِ الزَّائِغَيْنِ وَتَبْدِيلِ الْجَاهِلِينَ كَمَا قَالَ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحِجْرِ: 9] فَكَانَ هَذَا الْكِتَابُ حَقًّا مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ/ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَا أُنْزِلَ لِمَقْصُودٍ آخَرَ سِوَى إِظْهَارِ الْحَقِّ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا قَصَدَ بِإِنْزَالِهِ إِضْلَالَ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ وَلَا إغواؤه ولا منعه عن دين الله. الفائدة

_ (1) يريد تفسير معنى الاستفزاز فقلب، ولعلها حرفت إلى ما تراه.

الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْزَالَ غَيْرُ النُّزُولِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ غَيْرَ الْمَخْلُوقِ وَأَنْ يَكُونَ التَّكْوِينُ غَيْرَ الْمُكَوَّنِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ قَوْمٌ. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ بِمَعْنَى مَعَ كَمَا تَقُولُ نَزَلَ بِعِدَّتِهِ وَخَرَجَ بِسِلَاحِهِ، وَالْمَعْنَى أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ مَعَ الْحَقِّ وَقَوْلُهُ: وَبِالْحَقِّ نَزَلَ فِيهِ احْتِمَالَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ يَكُونَ التَّقْدِيرُ نَزَلَ بِالْحَقِّ كَمَا تَقُولُ نَزَلْتُ بِزَيْدٍ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْحَقُّ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِهِ أَيْ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى مَعَ كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالَ الَّذِينَ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْكَ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ وَيَتَمَرَّدُونَ عَنْ قَبُولِ دِينِكَ لَا شَيْءَ عَلَيْكَ مِنْ كُفْرِهِمْ فَإِنِّي مَا أَرْسَلْتُكَ إِلَّا مُبَشِّرًا لِلْمُطِيعِينَ وَنَذِيرًا لِلْجَاحِدِينَ فَإِنْ قَبِلُوا الدِّينَ الْحَقَّ انْتَفَعُوا بِهِ وَإِلَّا فَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنْ كُفْرِهِمْ شَيْءٌ. ثُمَّ قَالَ: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا: هَبْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ إِلَّا أَنَّهُ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ يُنْزِلَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ دُفْعَةً وَاحِدَةً لِيَظْهَرَ فِيهِ وَجْهُ الْإِعْجَازِ فَجَعَلُوا إِتْيَانَ الرَّسُولِ بِهَذَا الْقُرْآنِ مُتَفَرِّقًا شُبْهَةً فِي أَنَّهُ يَتَفَكَّرُ فِي فَصْلٍ فَصْلٍ وَيَقْرَأُهُ عَلَى النَّاسِ فَأَجَابَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا فَرَّقَهُ لِيَكُونَ حِفْظُهُ أَسْهَلَ وَلِتَكُونَ الْإِحَاطَةُ وَالْوُقُوفُ عَلَى دَقَائِقِهِ وَحَقَائِقِهِ أَسْهَلَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ نَزَلَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا إِلَى السَّمَاءِ السُّفْلَى، ثُمَّ فُصِّلَ فِي السِّنِينَ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا، قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ عِشْرُونَ سَنَةً وَالْمَعْنَى قَطَّعْنَاهُ آيَةً آيَةً وَسُورَةً سُورَةً وَلَمْ نُنْزِلْهُ جُمْلَةً لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ عَلَى مَهَلٍ وَتَؤَدَةٍ أَيْ لَا عَلَى فَوْرَةٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ مَكَثَ وَمَكُثَ يَمْكُثُ، وَالْفَتْحُ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ [النمل: 22] . البحث الثالثة: الِاخْتِيَارُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ فَرَقْناهُ بِالتَّخْفِيفِ وَفَسَّرَهُ أَبُو عَمْرٍو بَيَّنَّاهُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: التَّخْفِيفُ أَعْجَبُ إِلَيَّ لِأَنَّ تَفْسِيرَهُ بَيَّنَّاهُ وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنًى إِلَّا أَنَّهُ أُنْزِلَ مُتَفَرِّقًا فَالْفَرْقُ يَتَضَمَّنُ التَّبْيِينَ وَيُؤَكِّدُهُ مَا رَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ قَالَ: فَرَّقْتُ أُفَرِّقُ بَيْنَ الْكَلَامِ وَفَرَّقْتُ بَيْنَ الْأَجْسَامِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» وَلَمْ يَقُلْ يَفْتَرِقَا وَالتَّفَرُّقُ مُطَاوِعُ التَّفْرِيقِ وَالِافْتِرَاقُ مُطَاوِعُ الْفَرْقِ ثُمَّ قَالَ: وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا أَيْ عَلَى الْحَدِّ الْمَذْكُورِ وَالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ ثُمَّ قَالَ: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا يُخَاطِبُ الَّذِينَ اقْتَرَحُوا تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الْعَظِيمَةَ عَلَى وَجْهِ التَّهْدِيدِ وَالْإِنْكَارِ أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْضَحَ الْبَيِّنَاتِ وَالدَّلَائِلَ وَأَزَاحَ الْأَعْذَارَ فَاخْتَارُوا مَا تُرِيدُونَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ أَيْ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْقُرْآنِ قَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ/ الْكِتَابِ حِينَ سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرُّوا سُجَّدًا مِنْهُمْ زَيْدُ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وعبد الله ابن سَلَامٍ ثُمَّ قَالَ: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الذَّقَنُ مَجْمَعُ اللَّحْيَيْنِ وَكُلَّمَا يَبْتَدِئُ الْإِنْسَانُ بِالْخُرُورِ إِلَى السُّجُودِ فَأَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْجَبْهَةِ إِلَى الْأَرْضِ الذَّقَنُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَذْقَانَ كِنَايَةٌ عَنِ اللِّحَى وَالْإِنْسَانُ إِذَا بَالَغَ عِنْدَ السُّجُودِ فِي الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ رُبَّمَا مَسَحَ لِحْيَتَهُ عَلَى التُّرَابِ فَإِنَّ اللِّحْيَةَ يُبَالَغُ فِي تَنْظِيفِهَا فَإِذَا عَفَّرَهَا الْإِنْسَانُ بِالتُّرَابِ فَقَدْ أَتَى بِغَايَةِ التَّعْظِيمِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ خَوْفُ اللَّهِ تَعَالَى فَرُبَّمَا سَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ فِي مَعْرِضِ السُّجُودِ كَالْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ خُرُورُهُ عَلَى الذَّقَنِ فِي مَوْضِعِ السُّجُودِ فَقَوْلُهُ: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ كِنَايَةٌ عَنْ غَايَةِ وَلَهِهِ وَخَوْفِهِ وَخَشْيَتِهِ ثُمَّ بَقِيَ

[سورة الإسراء (17) : الآيات 110 إلى 111]

فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمْ قَالَ: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَلَمْ يَقُلْ يَسْجُدُونَ؟ وَالْجَوَابُ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا اللَّفْظِ مُسَارَعَتُهُمْ إِلَى ذَلِكَ حَتَّى أَنَّهُمْ يَسْقُطُونَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ وَلَمْ يَقُلْ عَلَى الْأَذْقَانِ وَالْجَوَابُ الْعَرَبُ تَقُولُ إِذَا خَرَّ الرَّجُلُ فَوَقَعَ عَلَى وَجْهِهِ خَرَّ لِلذَّقَنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي سُجُودِهِمْ: سُبْحانَ رَبِّنا أَيْ يُنَزِّهُونَهُ وَيُعَظِّمُونَهُ: إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا أَيْ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ وَبَعْثِ مُحَمَّدٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّ الْوَعْدَ بِبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ سَبَقَ فِي كِتَابِهِمْ فَهُمْ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ إِنْجَازَ ذَلِكَ الْوَعْدِ ثُمَّ قَالَ: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّكْرِيرِ اخْتِلَافُ الْحَالَيْنِ وَهُمَا خَرُورُهُمْ لِلسُّجُودِ وَفِي حَالِ كَوْنِهِمْ بَاكِينَ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَكْرَارُ الْقَوْلِ دَلَالَةً عَلَى تَكْرَارِ الْفِعْلِ مِنْهُمْ وَقَوْلُهُ: يَبْكُونَ مَعْنَاهُ الْحَالُ: وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً أَيْ تَوَاضُعًا وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَقْرِيرُ تَحْقِيرِهِمْ وَالِازْدِرَاءِ بِشَأْنِهِمْ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِهِمْ وَبِإِيمَانِهِمْ وَامْتِنَاعِهِمْ مِنْهُ وَأَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ فَقَدْ آمَنَ به من هو خير منهم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 110 الى 111] قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) [في قَوْلُهُ تَعَالَى قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْمُرَادُ بِهِمَا الِاسْمُ لَا المسمى و «أو» للتخيير ومعنى: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيْ سَمُّوا بهذا الاسم أو بهذا واذكروا إِمَّا هَذَا وَإِمَّا هَذَا وَالتَّنْوِينُ فِي أَيًّا عوض عن المضاف إليه وما صِلَةٌ لِلْإِبْهَامِ الْمُؤَكِّدِ لِمَا فِي أَيْ وَالتَّقْدِيرُ أَيُّ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ سَمَّيْتُمْ وَذَكَرْتُمْ فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَلَهُ لَيْسَ بِرَاجِعٍ إِلَى أَحَدِ الِاسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَلَكِنْ إِلَى مُسَمَّاهُمَا وَهُوَ ذَاتُهُ عَزَّ وَعَلَا وَالْمَعْنَى: أَيًّا مَا تَدْعُوا فَهُوَ حَسَنٌ فَوَضَعَ مَوْضِعَهُ قَوْلَهُ: فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى لِأَنَّهُ إِذَا حَسُنَتْ أَسْمَاؤُهُ فَقَدْ حسن هذان الاسمان لأنه مِنْهَا وَمَعْنَى حُسْنُ أَسْمَاءِ اللَّهِ كَوْنُهَا مُفِيدَةً لِمَعَانِي التَّحْمِيدِ وَالتَّقْدِيسِ وَقَدْ سَبَقَ الِاسْتِقْصَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي تفسير قوله: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الأعراف: 180] وَاحْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: لَوْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِلظُّلْمِ وَالْجَوْرِ لَصَحَّ أَنْ يُقَالَ يَا ظَالِمُ وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ مَا ثَبَتَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كَوْنِ أَسْمَائِهِ بِأَسْرِهَا حَسَنَةً. وَالْجَوَابُ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَالِقًا لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ لَصَحَّ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ ظَالِمٌ وَجَائِرٌ كَمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ خَالِقًا لِلْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ أَنْ يُقَالَ يَا مُتَحَرِّكُ وَيَا سَاكِنُ وَيَا أَسْوَدُ وَيَا أَبْيَضُ «1» فَإِنْ قَالُوا فَيَلْزَمُ جَوَازُ أَنْ يُقَالَ يَا خَالِقَ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ قُلْنَا فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ تَقُولُوا يَا خَالِقَ الْعَذِرَاتِ وَالدِّيدَانِ وَالْخَنَافِسِ وَكَمَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَكِنَّ الْأَدَبَ أَنْ يُقَالَ يَا خالق السموات وَالْأَرْضِ فَكَذَا قَوْلُنَا هُنَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فِيهِ أَقْوَالٌ. الْأَوَّلُ: رَوَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي

_ (1) يقتضي القياس في الرد على الجبائي أن يقول: يا محرك ويا مسكن ويا مسود ويا مبيض وهذه الأسماء وإن صلحت أسماء لله إلا أن الحق أن أسماء الله توقيفية وهي تسعة وتسعون كلها في القرآن فلا ينبغي أن يسمى بغيرها. (الصاوي) .

هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ فَإِذَا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوهُ وَسَبُّوا مَنْ جَاءَ بِهِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فَيَسْمَعُ الْمُشْرِكُونَ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ: وَلا تُخافِتْ بِها فَلَا تُسْمِعُ أَصْحَابَكَ وَابْتَغِ بين ذلك سبيلا. والقول الثَّانِي: رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ بِاللَّيْلِ عَلَى دُورِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُخْفِي صَوْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صِلَاتِهِ وَكَانَ عُمَرُ يَرْفَعُ صَوْتَهُ، فَلَمَّا جَاءَ النَّهَارُ وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ لِمَ تُخْفِي صَوْتَكَ؟ فَقَالَ أُنَاجِي رَبِّي، وَقَدْ عَلِمَ حَاجَتِي وَقَالَ لِعُمَرَ لِمَ تَرْفَعُ صَوْتَكَ؟ فَقَالَ أَزْجُرُ الشَّيْطَانَ وَأُوقِظُ الْوَسَنَانَ فَأَمْرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ قَلِيلًا وَعُمَرَ أَنْ يُخْفِضَ صَوْتَهُ قَلِيلًا. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: مَعْنَاهُ: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ كُلِّهَا وَلَا تُخَافِتْ بِهَا كُلِّهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا بِأَنْ تَجْهَرَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ/ وَتُخَافِتَ بِصَلَاةِ النَّهَارِ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ الدُّعَاءُ وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَمُجَاهِدٍ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا هِيَ فِي الدُّعَاءِ وَرُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ وَالْمَسْأَلَةِ لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ فَتَذْكُرَ ذُنُوبَكَ فَيُسْمَعَ ذَلِكَ فَتُعَيَّرَ بِهَا فَالْجَهْرُ بِالدُّعَاءِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْإِسْرَارِ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَالْمُسْتَحَبُّ مِنْ ذَلِكَ التَّوَسُّطُ وَهُوَ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ لَمْ يُخَافِتْ مَنْ أَسْمَعَ أُذُنَيْهِ. وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: قَالَ الْحَسَنُ لا تراه بعلانيتها ولا تسيء بِسِرِّيَّتِهَا. الْبَحْثُ الثَّانِي: الصَّلَاةُ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْأَفْعَالِ وَالْأَذْكَارِ وَالْجَهْرُ وَالْمُخَافَتَةُ مِنْ عَوَارِضِ الصَّوْتِ، فالمراد هاهنا مِنَ الصَّلَوَاتِ بَعْضُ أَجْزَاءِ مَاهِيَّةِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْأَذْكَارُ وَالْقُرْآنُ وَهُوَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ لِإِرَادَةِ الْجُزْءِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: يُقَالُ خَفَتَ صوته يخفف خفتا وخفوتا إذا ضعف وسكن وصوت خفيف أَيْ خَفِيضٌ وَمِنْهُ يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا مَاتَ قَدْ خَفَتَ أَيِ انْقَطَعَ كَلَامُهُ وَخَفَتَ الزَّرْعُ إِذَا ذَبُلَ وَخَفَتَ الرَّجُلُ يُخَافِتُ بِقِرَاءَتِهِ إِذَا لَمْ يُبَيِّنْ قِرَاءَتَهُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ وَقَدْ تَخَافَتَ الْقَوْمُ إِذَا تَسَارُّوا بَيْنَهُمْ وَأَقُولُ ثَبَتَ فِي كُتُبِ الْأَخْلَاقِ أَنَّ كِلَا طَرَفَيِ الْأُمُورِ ذَمِيمٌ وَالْعَدْلُ هُوَ رِعَايَةُ الْوَسَطِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى مَدَحَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَةِ: 143] وَقَالَ فِي مَدْحِ الْمُؤْمِنِينَ: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً [الْفُرْقَانِ: 67] وَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ فَقَالَ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء: 29] فكذا هاهنا نَهَى عَنِ الطَّرَفَيْنِ وَهُوَ الْجَهْرُ وَالْمُخَافَتَةُ وَأَمَرَ بِالتَّوَسُّطِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الْأَعْرَافِ: 55] وَهُوَ بَعِيدٌ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ أَنْ لَا يُذْكَرَ وَلَا يُنَادَى إِلَّا بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى عَلَّمَهُ كَيْفِيَّةَ التَّحْمِيدِ فَقَالَ: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً فذكر هاهنا مِنْ صِفَاتِ التَّنْزِيهِ وَالْجَلَالِ وَهِيَ السُّلُوبُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الصِّفَاتِ. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مِنَ الصِّفَاتِ أَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَالسَّبَبُ فِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَلَدَ هُوَ الشَّيْءُ الْمُتَوَلِّدُ مِنْ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ شَيْءٍ آخَرَ فَكُلُّ مَنْ لَهُ وَلَدٌ فَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْمُرَكَّبُ مُحْدَثٌ وَالْمُحْدَثُ مُحْتَاجٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى كَمَالِ الْإِنْعَامِ فَلَا يَسْتَحِقُّ كَمَالَ الْحَمْدِ. الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ وَلَدٌ فَإِنَّهُ يُمْسِكُ جَمِيعَ النِّعَمِ لِوَلِدِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ أَفَاضَ كُلَّ تِلْكَ النِّعَمِ عَلَى عَبِيدِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْوَلَدَ هُوَ الَّذِي يَقُومُ مَقَامَ الْوَالِدِ بَعْدَ انْقِضَائِهِ وَفَنَائِهِ فَلَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ لَكَانَ مُنْقَضِيًا وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى كَمَالِ الْإِنْعَامِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ الْحَمْدَ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ قَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَالسَّبَبُ فِي

اعْتِبَارِ هَذِهِ الصِّفَةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فَحِينَئِذٍ لَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ وَالشُّكْرِ. وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَالسَّبَبُ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الصِّفَةِ أَنَّهُ لَوْ جَازَ عَلَيْهِ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ لَمْ يَجِبْ شُكْرُهُ لِتَجْوِيزِ أَنَّ غَيْرَهُ حَمَلَهُ/ عَلَى ذَلِكَ الْإِنْعَامِ أَوْ مَنَعَهُ مِنْهُ، أَمَّا إِذَا كَانَ مُنَزَّهًا عَنِ الْوَلَدِ وَعَنِ الشَّرِيكِ وَكَانَ مُنَزَّهًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلِيٌّ يَلِي أَمْرَهُ كَانَ مُسْتَوْجِبًا لِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْحَمْدِ وَمُسْتَحِقًّا لِأَجَلِّ أَقْسَامِ الشُّكْرِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً وَمَعْنَاهُ أَنَّ التَّحْمِيدَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَقْرُونًا بِالتَّكْبِيرِ وَيَحْتَمِلُ أَنْوَاعًا مِنَ الْمَعَانِي. أَوَّلُهَا: تَكْبِيرُهُ فِي ذَاتِهِ وَهُوَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. وَثَانِيهَا: تَكْبِيرُهُ فِي صِفَاتِهِ وَذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَوَّلُهَا: أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ صِفَةً لَهُ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْعِزِّ وَالْعَظَمَةِ وَالْكَمَالِ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ صِفَاتِ النَّقَائِصِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ وَقُدْرَتُهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ الْمَقْدُورَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُ كَمَا تَقَدَّسَتْ ذَاتُهُ عَنِ الْحُدُوثِ وَتَنَزَّهَتْ عَنِ التَّغَيُّرِ وَالزَّوَالِ وَالتَّحَوُّلِ وَالِانْتِقَالِ فَكَذَلِكَ صِفَاتُهُ أَزَلِيَّةٌ قَدِيمَةٌ سَرْمَدِيَّةٌ مُنَزَّهَةٌ عَنِ التَّغَيُّرِ وَالزَّوَالِ وَالتَّحَوُّلِ وَالِانْتِقَالِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ تَكْبِيرِ اللَّهِ تَكْبِيرُهُ فِي أَفْعَالِهِ وَعِنْدَ هَذَا تَخْتَلِفُ أَهْلُ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ فَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ إِنَّا نَحْمَدُ اللَّهَ ونكبره ونعظمه على أَنْ يَجْرِيَ فِي سُلْطَانِهِ شَيْءٌ لَا عَلَى وَفْقِ حُكْمِهِ وَإِرَادَتِهِ فَالْكُلُّ وَاقِعٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِنَّا نُكَبِّرُ اللَّهَ وَنُعَظِّمُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِهَذِهِ الْقَبَائِحِ وَالْفَوَاحِشِ بَلْ نَعْتَقِدُ أَنَّ حِكْمَتَهُ تَقْتَضِي التَّنْزِيهَ وَالتَّقْدِيسَ عَنْهَا وَعَنْ إِرَادَتِهَا وَسَمِعْتُ أَنَّ الأستاد أَبَا إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيَّ كَانَ جَالِسًا فِي دَارِ الصَّاحِبِ بْنِ عَبَّادٍ فَدَخَلَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ أَحْمَدَ الْهَمْدَانِيُّ فَلَمَّا رَآهُ قَالَ سُبْحَانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الْفَحْشَاءِ فَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: سُبْحَانَ مَنْ لَا يُجْرِي فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يَشَاءُ «1» . النَّوْعُ الرَّابِعُ: تَكْبِيرُ اللَّهِ فِي أَحْكَامِهِ وَهُوَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُ مَلِكٌ مُطَاعٌ وَلَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالرَّفْعُ وَالْخَفْضُ وَأَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِ يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ. النَّوْعُ الْخَامِسُ: تَكْبِيرُ اللَّهِ فِي أَسْمَائِهِ وَهُوَ أَنْ لَا يُذْكَرَ إِلَّا بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَلَا يُوصَفَ إِلَّا بِصِفَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْعَالِيَةِ الْمُنَزَّهَةِ. النَّوْعُ السَّادِسُ: مِنَ التَّكْبِيرِ هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ أَنْ يَبْلُغَ فِي التَّكْبِيرِ وَالتَّعْظِيمِ وَالتَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ مِقْدَارَ عَقْلِهِ وَفَهْمِهِ وَخَاطِرِهِ يَعْتَرِفُ أَنَّ عَقْلَهُ وَفَهْمَهُ لَا يَفِي بِمَعْرِفَةِ جَلَالِ اللَّهِ، وَلِسَانَهُ لَا يَفِي بِشُكْرِهِ، وَجَوَارِحَهُ وَأَعْضَاؤَهُ لَا تَفِي بِخِدْمَتِهِ فَكَبَّرَ اللَّهَ عَنْ أَنْ يَكُونَ تَكْبِيرُهُ وَافِيًا بِكُنْهِ مَجْدِهِ وَعِزَّتِهِ. وَهَذَا أَقْصَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ مِنَ التَّكْبِيرِ وَالتَّعْظِيمِ وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الرَّحْمَةَ قَبْلَ الْمَوْتِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ إِنَّهُ الْكَرِيمُ الرَّحِيمُ وَبِاللَّهِ الْعِصْمَةُ وَالتَّوْفِيقُ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ يَوْمَ الْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ فِي بَلْدَةِ غِزْنِينَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ عَلَى نبيه محمد وآله وصحبه وسلم تسليما» .

_ (1) لهذه المحاورة تتمة وهي أن القاضي عبد الجبار رد عليه بقوله: أيريد ربك أن يعصى؟ فحجه أو إسحاق بقوله: أيعصى ربك كرها عنه؟ والاسفرائيني من أهل السنة وعبد الجبار من المعتزلة.

سورة الكهف

سُورَةُ الْكَهْفِ مِائَةٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً مَكِّيَّةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ/ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ غَيْرَ آيَتَيْنِ مِنْهَا فِيهِمَا ذِكْرُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيِّ وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى سُورَةٍ شَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حِينَ نزلت؟ هي سورة الكهف» . [سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمَّا الْكَلَامُ فِي حَقَائِقِ قَوْلِنَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَقَدْ سَبَقَ، وَالَّذِي أَقُولُهُ هاهنا إِنَّ التَّسْبِيحَ أَيْنَمَا جَاءَ فَإِنَّمَا جَاءَ مُقَدَّمًا عَلَى التَّحْمِيدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إنه جل جلاله ذكر التسبيح عند ما أَخْبَرَ أَنَّهُ أَسْرَى بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: 1] وذكر التحميد عند ما ذَكَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَفِيهِ فَوَائِدُ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ التَّسْبِيحَ أَوَّلُ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ وَالتَّحْمِيدُ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَوَّلَ الْأَمْرِ هُوَ كَوْنُهُ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ وَنِهَايَةَ الْأَمْرِ كَوْنُهُ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ فَلَا جَرَمَ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ فِي الذِّكْرِ بِقَوْلِنَا (سُبْحَانَ اللَّهِ) ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَقَامَ التَّسْبِيحِ مَبْدَأٌ وَمَقَامَ التَّحْمِيدِ نِهَايَةٌ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: ذَكَرَ عِنْدَ الْإِسْرَاءِ لَفْظَ التَّسْبِيحِ وَعِنْدَ إِنْزَالِ الْكِتَابِ لَفْظَ التَّحْمِيدِ وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَاءَ بِهِ/ أَوَّلُ دَرَجَاتِ كَمَالِهِ وَإِنْزَالَ الْكِتَابِ غَايَةُ دَرَجَاتِ كَمَالِهِ، وَالْأَمْرُ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِسْرَاءَ بِهِ إِلَى الْمِعْرَاجِ يَقْتَضِي حُصُولَ الْكَمَالِ لَهُ، وَإِنْزَالَ الْكِتَابِ عَلَيْهِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُكَمِّلًا لِلْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ وَنَاقِلًا لَهَا مِنْ حَضِيضِ الْبَهِيمِيَّةِ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْمَلَكِيَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الثَّانِيَ أَكْمَلُ. وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ أَعْلَى مَقَامَاتِ الْعِبَادِ مَقَامًا أَنْ يَصِيرَ [الْعَبْدُ] عَالِمًا فِي ذَاتِهِ مُعَلِّمًا لِغَيْرِهِ وَلِهَذَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَنْ تعلم وعلم فذاك يدعى عظيما في السموات» .

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْإِسْرَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ ذَاتِهِ مِنْ تَحْتُ إِلَى فَوْقُ وَإِنْزَالُ الْكِتَابِ عَلَيْهِ عِبَارَةٌ عَنْ إِنْزَالِ نُورِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ مِنْ فَوْقُ إِلَى تَحْتُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الثَّانِيَ أَكْمَلُ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنَافِعَ الْإِسْرَاءِ بِهِ كَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ هُنَالِكَ: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا [الْإِسْرَاءِ: 1] وَمَنَافِعُ إِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَيْهِ مُتَعَدِّيَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْفَوَائِدُ الْمُتَعَدِّيَةُ أَفْضَلُ مِنَ الْقَاصِرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُشَبِّهَةُ اسْتَدَلُّوا بِلَفْظِ الْإِسْرَاءِ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَبِلَفْظِ الْإِنْزَالِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِجِهَةِ فَوْقُ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مَذْكُورٌ بِالتَّمَامِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الْأَعْرَافِ: 54] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْزَالُ الْكِتَابِ نِعْمَةٌ عَلَيْهِ وَنِعْمَةٌ عَلَيْنَا، أَمَّا كَوْنُهُ نِعْمَةً عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَطْلَعَهُ بِوَاسِطَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ عَلَى أَسْرَارِ عُلُومِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ وَصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَأَسْرَارِ أَحْوَالِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَأَحْوَالِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَتَعَلُّقِ أَحْوَالِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ بِأَحْوَالِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَتُعَلُّقِ أَحْوَالِ عَالَمِ الْآخِرَةِ بِعَالَمِ الدُّنْيَا، وَكَيْفِيَّةِ نُزُولِ الْقَضَاءِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَكَيْفِيَّةِ ارتباط عالم الجسمانيات بعالم الروحانيات، وتصير النَّفْسِ كَالْمِرْآةِ الَّتِي يَتَجَلَّى فِيهَا عَالَمُ الْمَلَكُوتِ وَيَنْكَشِفُ فِيهَا قُدْسُ اللَّاهُوتِ فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، وَأَمَّا كَوْنُ هَذَا الْكِتَابِ نِعْمَةً عَلَيْنَا فَلِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ كِتَابٌ كَامِلٌ فِي أَقْصَى الدَّرَجَاتِ فَكُلُّ وَاحِدٍ يَنْتَفِعُ بِهِ بِمِقْدَارِ طَاقَتِهِ وَفَهْمِهِ فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الرَّسُولِ وَعَلَى جَمِيعِ أُمَّتِهِ أَنْ يَحْمَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَعَلَّمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ التَّحْمِيدِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْكِتَابَ بِوَصْفَيْنِ فَقَالَ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّيْءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ ثُمَّ يَكُونَ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَامًّا فِي ذَاتِهِ ثُمَّ يَكُونَ فَوْقَ التَّمَامِ بِأَنْ يُفِيضَ عَلَيْهِ كَمَالَ الْغَيْرِ «1» إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ وَقَوْلِهِ: قَيِّماً إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ الْقَيِّمَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَائِمِ بِمَصَالِحِ الْغَيْرِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي صِفَةِ الْكِتَابِ: لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: 2] فَقَوْلُهُ: لَا رَيْبَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ بَالِغًا فِي الصِّحَّةِ وَعَدَمِ/ الْإِخْلَالِ إِلَى حَيْثُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَرْتَابَ فِيهِ وَقَوْلُهُ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ سَبَبًا لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ وَإِكْمَالِ حَالِهِمْ فَقَوْلُهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَائِمٌ مُقَامَ قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ وَقَوْلُهُ: قَيِّماً قَائِمٌ مُقَامَ قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وَهَذِهِ أَسْرَارٌ لَطِيفَةٌ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْعِوَجُ فِي الْمَعَانِي كَالْعِوَجِ فِي الْأَعْيَانِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: نَفْيُ التَّنَاقُضِ عَنْ آيَاتِهِ كَمَا قَالَ: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاءِ: 82] . وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرَ اللَّهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْأَحْكَامِ وَالتَّكَالِيفِ فَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَلَا خَلَلَ في شيء منها ألبتة. وثالثها:

_ (1) يظهر أنه وقع في العبارة تحريف ولعل الصواب أن يقال: بأن يفيض على غيره الكمال. وهذا نظير قوله فيما سبق في نفس هذا البحث: ثم يكون مكملا لغيره «الصاوي» .

أَنَّ الْإِنْسَانَ كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ مُتَوَجِّهًا إِلَى عَالَمِ الْآخِرَةِ وَإِلَى حَضْرَةِ جَلَالِ اللَّهِ وَهَذِهِ الدُّنْيَا كَأَنَّهَا رِبَاطٌ بُنِيَ عَلَى طَرِيقِ عَالَمِ الْقِيَامَةِ حَتَّى أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا نَزَلَ فِيهِ اشْتَغَلَ بِالْمُهِمَّاتِ الَّتِي يَجِبُ رِعَايَتُهَا فِي هَذَا السَّفَرِ ثُمَّ يَرْتَحِلُ مِنْهُ مُتَوَجِّهًا إِلَى عَالَمِ الْآخِرَةِ فَكُلُّ مَا دَعَاهُ فِي الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ وَمِنَ الْجُسْمَانِيَّاتِ إِلَى الرُّوحَانِيَّاتِ وَمِنَ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ وَمِنَ اللَّذَّاتِ الشَّهْوَانِيَّةِ الْجَسَدَانِيَّةِ إِلَى الِاسْتِنَارَةِ بِالْأَنْوَارِ الصَّمَدَانِيَّةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ مُبَرَّأٌ عَنِ الْعِوَجِ وَالِانْحِرَافِ وَالْبَاطِلِ فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: لِلْكِتَابِ وَهِيَ قَوْلُهُ: قَيِّماً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ مُسْتَقِيمًا وَهَذَا عِنْدِي مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِنَفْيِ الِاعْوِجَاجِ إِلَّا حُصُولُ الِاسْتِقَامَةِ فَتَفْسِيرُ الْقَيِّمِ بِالْمُسْتَقِيمِ يُوجِبُ التَّكْرَارَ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ، بَلِ الْحَقُّ مَا ذَكَرْنَاهُ وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِهِ: قَيِّماً أَنَّهُ سَبَبٌ لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ وَأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى مَنْ يَكُونُ قَيِّمًا لِلْأَطْفَالِ، فَالْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ كَالْأَطْفَالِ، وَالْقُرْآنُ كَالْقَيِّمِ الشَّفِيقِ الْقَائِمِ بِمَصَالِحِهِمْ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ جَمِيعُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ قَالُوا هَذَا مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالتَّقْدِيرُ: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا. وَأَقُولُ قَدْ بَيَّنَّا مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْكَلَامِ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ، وَقَوْلَهُ: قَيِّماً يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ وَكَوْنُهُ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ مُتَقَدِّمٌ بِالطَّبْعِ عَلَى كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ فَثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ التَّرْتِيبَ الصَّحِيحَ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً فَظَهَرَ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَاسِدٌ يَمْتَنِعُ الْعَقْلُ مِنَ الذَّهَابِ إِلَيْهِ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ: قَيِّماً وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لَا يَجُوزُ جَعْلُهُ حَالًا مِنَ الْكِتابَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَنْزَلَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ فَجَعْلُهُ حَالًا مِنَ الْكِتابَ يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْحَالِ وَذِي الْحَالِ بِبَعْضِ الصِّلَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. قَالَ: وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَنْتَصِبَ بِمُضْمَرٍ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا وَجَعَلَهُ قَيِّمًا. الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ الَّذِي نَرَى فِيهِ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً حَالٌ وَقَوْلُهُ: قَيِّماً حَالٌ أُخْرَى وَهُمَا حَالَانِ مُتَوَالِيَانِ وَالتَّقْدِيرُ أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ غَيْرَ مَجْعُولٍ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ السَّيِّدُ صَاحِبُ «حَلِّ الْعَقْدِ» / يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: قَيِّماً بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً لأن معنى: لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أَنَّهُ جَعَلَهُ مُسْتَقِيمًا فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَجَعَلَهُ قَيِّمًا. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أَيْ حَالَ كَوْنِهِ قَائِمًا بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَأَحْكَامِ الدِّينِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ الْمَوْصُوفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ أَرْدَفَهُ بِبَيَانِ مَا لِأَجْلِهِ أَنْزَلَهُ فَقَالَ: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَأَنْذَرَ مُتَعَدٍّ إِلَى مفعولين كقوله: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً [النَّبَأِ: 40] إِلَّا أَنَّهُ اقْتَصَرَ هاهنا عَلَى أَحَدِهِمَا وَأَصْلُهُ لِيُنْذِرَ- الَّذِينَ كَفَرُوا- بَأْساً شَدِيداً كَمَا قَالَ فِي ضِدِّهِ: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْبَأْسُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِعَذابٍ بَئِيسٍ [الْأَعْرَافِ: 165] وَقَدْ بَؤُسَ الْعَذَابُ وَبَؤُسَ الرَّجُلُ بَأْسًا وَبَآسَةً وَقَوْلُهُ: مِنْ لَدُنْهُ أَيْ صَادِرًا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ وَفِي: لَدُنْ لُغَاتٌ يُقَالُ لَدُنْ وَلَدَى وَلَدُ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، قَالَ وَهِيَ لَا تَتَمَكَّنُ تَمَكُّنَ عِنْدَ لِأَنَّكَ تَقُولُ هَذَا الْقَوْلُ صَوَابٌ عِنْدِي وَلَا تَقُولُ صَوَابٌ لَدُنِّي وَتَقُولُ عِنْدِي مَالٌ عَظِيمٌ وَالْمَالُ غَائِبٌ عَنْكَ وَلَدُنِّي لِمَا يَلِيكَ لَا غَيْرَ وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ بِسُكُونِ الدَّالِ مَعَ إِشْمَامِ الضَّمِّ وَكَسْرِ النُّونِ وَالْهَاءِ وَهِيَ لُغَةُ بَنِي كِلَابٍ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِنْذَارُ الْمُذْنِبِينَ وَبِشَارَةُ الْمُطِيعِينَ، وَلَمَّا كَانَ دَفْعُ الضَّرَرِ أهم

[سورة الكهف (18) : الآيات 4 إلى 6]

عِنْدَ [ذَوِي] الْعُقُولِ مِنْ إِيصَالِ النَّفْعِ لَا جَرَمَ قُدِّمَ الْإِنْذَارُ عَلَى التَّبْشِيرِ فِي اللَّفْظِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَقُرِئَ وَيُبَشِّرَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ وَقَوْلُهُ: ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً يَعْنِي خَالِدِينَ وَهُوَ حَالٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَوْلِهِ: أَنَّ لَهُمْ أَجْراً، قَالَ الْقَاضِي: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا فِي مَسَائِلَ، أَحَدُهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِالْإِنْزَالِ وَالنُّزُولِ وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ فَإِنَّ الْقَدِيمَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ. الثَّانِي: وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ كِتَابًا وَالْكَتْبُ هُوَ الْجَمْعُ وَهُوَ سُمِّيَ كِتَابًا لِكَوْنِهِ مَجْمُوعًا مِنَ الْحُرُوفِ وَالْكَلِمَاتِ وَمَا صَحَّ فِيهِ التَّرْكِيبُ وَالتَّأْلِيفُ فَهُوَ مُحْدَثٌ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ الْحَمْدَ لِنَفْسِهِ عَلَى إِنْزَالِ الْكِتَابِ وَالْحَمْدُ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ عَلَى النِّعْمَةِ وَالنِّعْمَةُ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ وَصَفَ الْكِتَابَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْوَجٍّ وَبِأَنَّهُ مُسْتَقِيمٌ وَالْقَدِيمُ لَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ بِذَلِكَ فَثَبَتَ أَنَّهُ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ. وَثَانِيهَا: مَسْأَلَةُ خَلْقِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: نَفْسُ الْأَمْرِ بِالْحَمْدِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ للعبد فعل لم ينتفع بالكتاب إذا الِانْتِفَاعُ بِهِ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا قَدَرَ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ مَا دَلَّ الْكِتَابُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِعْلُهُ وَيَتْرُكَ مَا دَلَّ الْكِتَابُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَرْكُهُ وَهُوَ إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِعِوَجِ الْكِتَابِ أَثَرٌ فِي اعْوِجَاجِ فِعْلِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِكَوْنِ الْكِتَابِ قَيِّمًا أَثَرٌ فِي اسْتِقَامَةِ فِعْلِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ مُخْتَارًا فِيهِ بَقِيَ لِعِوَجِ الْكِتَابِ وَاسْتِقَامَتِهِ أَثَرٌ فِي فِعْلِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ أَنْزَلَ بَعْضَ الْكِتَابِ لِيَكُونَ سَبَبًا لِكُفْرِ الْبَعْضِ وَأَنْزَلَ الْبَاقِيَ لِيُؤْمِنَ الْبَعْضُ الْآخَرُ فَمِنْ أَيْنَ أَنَّ الْكِتَابَ قَيِّمٌ لَا عِوَجَ فِيهِ؟ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ عِوَجٌ لَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ: لِيُنْذِرَ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ إِنْذَارَ الْكُلِّ وَتَبْشِيرَ الْكُلِّ وَبِتَقْدِيرِ أَنَّهُ يَكُونُ خَالِقُ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَبْقَ لِلْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ مَعْنًى لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا خَلَقَ الْإِيمَانَ فِيهِ حَصَلَ شَاءَ أَوْ لَمْ يَشَأْ وَإِذَا خَلَقَ الْكُفْرَ فِيهِ حَصَلَ شَاءَ أو لم يشاء فَبَقِيَ الْإِنْذَارُ وَالتَّبْشِيرُ عَلَى الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ جَارِيًا مَجْرَى الْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ عَلَى كَوْنِهِ طَوِيلًا قَصِيرًا وَأَسْوَدَ وَأَبْيَضَ مِمَّا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ. وَالرَّابِعُ: وَصْفُهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ فَإِنْ كَانَ مَا وَقَعَ خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا عَمَلَ لَهُمُ الْبَتَّةَ. الْخَامِسُ: إِيجَابُهُ لَهُمُ الْأَجْرَ الْحَسَنَ عَلَى مَا عَمِلُوا فَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ ذَلِكَ فِيهِمْ فَلَا إِيجَابَ وَلَا اسْتِحْقَاقَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ قَوْلُهُ: لِيُنْذِرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَفْعَلُ أَفْعَالَهُ لِأَغْرَاضٍ صَحِيحَةٍ وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إِنَّ فِعْلَهُ غَيْرُ مُعَلَّلٍ بِالْغَرَضِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ قَدْ تَكَرَّرَتْ فِي هَذَا الْكِتَابِ فَلَا فائدة في الإعادة. [سورة الكهف (18) : الآيات 4 الى 6] وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) [في قوله تعالى وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قوله تعالى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ [الْكَهْفِ: 2] وَالْمَعْطُوفُ يَجِبُ كَوْنُهُ مُغَايِرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَالْأَوَّلُ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ مَنِ اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ. وَالثَّانِي خَاصٌّ بِمَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ وَلَدًا، وَعَادَةُ الْقُرْآنِ جَارِيَةٌ بِأَنَّهُ إِذَا ذَكَرَ قَضِيَّةً كُلِّيَّةً عَطَفَ عَلَيْهَا بَعْضَ

جُزْئِيَّاتِهَا تَنْبِيهًا عَلَى كَوْنِهِ أَعْظَمَ جُزْئِيَّاتِ ذَلِكَ الْكُلِّيِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] فكذا هاهنا الْعَطْفُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَقْبَحَ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ إِثْبَاتُ الْوَلَدِ لِلَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الَّذِينَ أَثْبَتُوا الْوَلَدَ لِلَّهِ تَعَالَى ثَلَاثُ طَوَائِفَ. أَحَدُهَا: كُفَّارُ الْعَرَبِ الَّذِينَ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. وَثَانِيهَا: النَّصَارَى حَيْثُ قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ الله. وثالثها: اليهود الذين قالوا: عزيز ابْنُ اللَّهِ، وَالْكَلَامُ فِي أَنَّ إِثْبَاتَ الْوَلَدِ لِلَّهِ كُفْرٌ عَظِيمٌ وَيَلْزَمُ مِنْهُ مُحَالَاتٌ عَظِيمَةٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَامِ: 100] وَتَمَامُهُ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَنْكَرَ عَلَى الْقَائِلِينَ بِإِثْبَاتِ الْوَلَدِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ فَإِنْ قِيلَ اتِّخَاذُ اللَّهِ وَلَدًا مُحَالٌ فِي نَفْسِهِ فَكَيْفَ قِيلَ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ؟ قُلْنَا: انْتِفَاءُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ لِلْجَهْلِ بِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُحَالٌ لَا يُمْكِنُ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِهِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ [الْمُؤْمِنُونَ: 117] وَاعْلَمْ أَنَّ نُفَاةَ الْقِيَاسِ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ بَاطِلٌ، وَالْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ الظَّنِّيِّ قَوْلٌ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَيَكُونُ بَاطِلًا وَتَمَامُ تَقْرِيرِهِ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الْإِسْرَاءِ: 36] وَقَوْلُهُ: وَلا لِآبائِهِمْ أَيْ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَسْلَافِهِمْ، وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي كَوْنِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ بَاطِلَةً فَاسِدَةً. النَّوْعُ الثَّانِي: مِمَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي إِبْطَالِهِ قَوْلُهُ: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قُرِئَ: كَبُرَتْ كَلِمَةً بِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيزِ وَبِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَمَعْنَى التَّمْيِيزِ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ كَبُرَتِ الْمَقَالَةُ أَوِ الْكَلِمَةُ جَازَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّهَا كَبُرَتْ كَذِبًا أَوْ جَهْلًا أَوِ افْتِرَاءً، فَلَمَّا قُلْتَ كَلِمَةً مَيَّزْتَهَا مِنْ مُحْتَمَلَاتِهَا فَانْتَصَبَتْ عَلَى التَّمْيِيزِ وَالتَّقْدِيرُ كَبُرَتِ الْكَلِمَةُ كَلِمَةً فَحَصَلَ فِيهِ الْإِضْمَارُ، أَمَّا مَنْ رَفَعَ فَلَمْ يُضْمِرْ شَيْئًا كَمَا تَقُولُ عَظُمَ فُلَانٌ فَلِذَلِكَ قَالَ النَّحْوِيُّونَ وَالنَّصْبُ أَقْوَى وَأَبْلَغُ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ كَأَنَّهُ قِيلَ مَا أَكْبَرَهَا كَلِمَةً. الْبَحْثُ الثَّانِي: قوله: كَبُرَتْ أَيْ كَبُرَتِ الْكَلِمَةُ. وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً فَصَارَتْ مُضْمَرَةً فِي كَبُرَتْ وَسُمِّيَتْ كَلِمَةً كَمَا يُسَمُّونَ الْقَصِيدَةَ كَلِمَةً. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: احْتَجَّ النَّظَّامُ فِي إِثْبَاتِ قَوْلِهِ أَنَّ الْكَلَامَ جِسْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْكَلِمَةَ بِأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَالْخُرُوجُ عِبَارَةٌ عَنِ الْحَرَكَةِ، وَالْحَرَكَةُ لَا تَصِحُّ إِلَّا عَلَى الْأَجْسَامِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحُرُوفَ إِنَّمَا تَحْدُثُ بِسَبَبِ خُرُوجِ النَّفَسِ عَنِ الْحَلْقِ، فَلَمَّا كَانَ خُرُوجُ النَّفَسِ سَبَبًا لِحُدُوثِ الْكَلِمَةِ أُطْلِقَ لَفْظُ الْخُرُوجِ عَلَى الْكَلِمَةِ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُسْتَكْرَهٌ جِدًّا عِنْدَ الْعَقْلِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: هَذَا الَّذِي يَقُولُونَهُ لَا يَحْكُمُ بِهِ عَقْلُهُمْ وَفِكْرُهُمُ الْبَتَّةَ لِكَوْنِهِ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ، فَكَأَنَّهُ شَيْءٌ يَجْرِي بِهِ لِسَانُهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ، لِأَنَّهُمْ مَعَ أَنَّهَا قَوْلُهُمْ عُقُولُهُمْ وَفِكْرُهُمْ تَأْبَاهَا وَتَنْفِرُ عَنْهَا ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي حَقِيقَةِ الْكَذِبِ. فَعِنْدَنَا أَنَّهُ الْخَبَرُ الَّذِي لَا يُطَابِقُ الْمُخْبَرَ عَنْهُ سَوَاءٌ اعْتَقَدَ الْمُخْبِرُ أَنَّهُ مُطَابِقٌ أَمْ لَا؟ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ شَرْطُ كَوْنِهِ كَذِبًا أَنْ لَا يُطَابِقَ الْمُخْبَرَ عَنْهُ مَعَ عِلْمِ قَائِلِهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ، وَهَذَا الْقَيْدُ عِنْدَنَا بَاطِلٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ قَوْلَهُمْ بِإِثْبَاتِ الْوَلَدِ لِلَّهِ

[سورة الكهف (18) : الآيات 7 إلى 8]

بِكَوْنِهِ كَذِبًا، مَعَ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْهُمْ يَقُولُ ذَلِكَ، وَلَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ بَاطِلًا، فَعَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ لَا يُطَابِقُ الْمُخْبَرَ عَنْهُ فَهُوَ كَذِبٌ سَوَاءٌ عَلِمَ الْقَائِلُ بِكَوْنِهِ مُطَابِقًا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ لِلرَّسُولِ: لَا يَعْظُمُ حُزْنُكَ وَأَسَفُكَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ فَإِنَّا بَعَثْنَاكَ مُنْذِرًا وَمُبَشِّرًا فَأَمَّا تَحْصِيلُ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ فَلَا قُدْرَةَ لَكَ عَلَيْهِ. وَالْغَرَضُ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ اللَّيْثُ: بَخَعَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ إِذَا قَتَلَهَا غَيْظًا مِنْ شَدَّةِ وَجْدِهِ بِالشَّيْءِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ أَصْلُ الْبَخْعِ الْجَهْدُ يُقَالُ: بَخَعْتُ لَكَ نَفْسِي أَيْ جَهَدْتُهَا، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا ذَكَرَتْ عُمَرَ فَقَالَتْ: بَخَعَ الْأَرْضَ أَيْ جَهَدَهَا حَتَّى أَخَذَ مَا فِيهَا مِنْ أَمْوَالِ الْمُلُوكِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: بَخَعْتُ الْأَرْضَ بِالزِّرَاعَةِ إِذَا جَعَلْتَهَا ضَعِيفَةً بِسَبَبِ مُتَابَعَةِ الْحِرَاثَةِ وَبَخَعَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ إِذَا نَهَكَهَا وَعَلَى هَذَا مَعْنَى: باخِعٌ نَفْسَكَ أَيْ نَاهِكُهَا وَجَاهِدُهَا حَتَّى تُهْلِكَهَا وَلَكِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ كُلَّهُمْ قَالُوا: قَاتِلٌ نَفْسَكَ وَمُهْلِكُهَا وَالْأَصْلُ مَا ذَكَرْنَاهُ، هَكَذَا قَالَ الْوَاحِدِيُّ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: عَلى آثارِهِمْ أَيْ مِنْ بَعْدِهِمْ يُقَالُ مَاتَ فُلَانٌ عَلَى أَثَرِ فُلَانٍ أَيْ بَعْدَهُ وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَاتَ بَقِيَتْ عَلَامَاتُهُ وَآثَارُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُدَّةً ثُمَّ إِنَّهَا تَنْمَحِي وَتُبْطِلُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِذَا كَانَ مَوْتُهُ قَرِيبًا مِنْ مَوْتِ الْأَوَّلِ كَانَ مَوْتُهُ حَاصِلًا حَالَ بَقَاءِ آثَارِ الْأَوَّلِ فَصَحَّ أَنْ يُقَالَ مَاتَ فُلَانٌ عَلَى أَثَرِ فُلَانٍ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ، إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الْقُرْآنُ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا يَقْتَضِي وَصْفَ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ حَدِيثٌ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ قَدِيمٌ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَلْفَاظِ وَهِيَ حَادِثَةٌ. الْبَحْثُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: أَسَفاً الْأَسَفُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْحُزْنِ وَذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: غَضْبانَ أَسِفاً فِي سورة الأعراف [150] وعند قوله: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [يُوسُفَ: 84] وَفِي انْتِصَابِهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ وَدَلَّ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّهُ يَأْسَفُ. الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ أَيْ لِلْأَسَفِ كَقَوْلِكَ جِئْتُكَ ابْتِغَاءَ الْخَيْرِ. وَالثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: أَسَفاً مَنْصُوبٌ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. الْبَحْثُ السَّادِسُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ جَوَابُ الشَّرْطِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا قُدِّمَ عَلَيْهِ وَمَعْنَاهُ التَّأْخِيرُ. [سورة الكهف (18) : الآيات 7 الى 8] إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَاضِي: وَجْهُ النَّظْمِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي خَلَقْتُ الْأَرْضَ وَزَيَّنْتُهَا وَأَخْرَجْتُ مِنْهَا أَنْوَاعَ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ خَلْقِهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ ابْتِلَاءُ الْخَلْقِ بِهَذِهِ التَّكَالِيفِ ثُمَّ إِنَّهُمْ يَكْفُرُونَ وَيَتَمَرَّدُونَ مَعَ ذَلِكَ فَلَا أَقْطَعُ عَنْهُمْ مَوَادَّ هَذِهِ النِّعَمِ فَأَنْتَ أَيْضًا يَا مُحَمَّدُ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَنْتَهِيَ فِي الْحُزْنِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ إِلَى أَنْ تَتْرُكَ الِاشْتِغَالَ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الزِّينَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ النَّبَاتُ وَالشَّجَرُ وَضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَيْهِ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَالْمَعَادِنَ، وَضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلِ الْمُرَادُ النَّاسُ فَهُمْ زِينَةُ الْأَرْضِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ بِالْأَرْضِ إِلَّا الْمَوَالِيدُ الثَّلَاثَةُ وَهِيَ الْمَعَادِنُ وَالنَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ، وَأَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ الْإِنْسَانُ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْأَوْلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الزِّينَةِ الْمُكَلَّفُ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ فَمَنْ يَبْلُوهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا سَائِرُ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ فَإِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِيهِ كَدُخُولِ سَائِرِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَقَوْلُهُ: زِينَةً لَها أَيْ لِلْأَرْضِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَا يُحَسَّنُ بِهِ الْأَرْضُ زِينَةً لِلْأَرْضِ كَمَا جَعَلَ اللَّهُ السَّمَاءَ مُزَيَّنَةً بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ. أَمَّا قَوْلُهُ: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَهَبَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ الْحَوَادِثَ إِلَّا عِنْدَ دُخُولِهَا فِي الْوُجُودِ، فَعَلَى هَذَا الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ عَلَى اللَّهِ جَائِزٌ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ عَالِمًا بِالْجُزْئِيَّاتِ قَبْلَ وُقُوعِهَا لَكَانَ كُلُّ مَا عَلِمَ وُقُوعَهُ وَاجِبَ الْوُقُوعِ وَكُلُّ مَا عَلِمَ عَدَمَهُ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ وَإِلَّا لَزِمَ انْقِلَابَ عِلْمِهِ جَهْلًا وَذَلِكَ مُحَالٌ وَالْمُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا فَالَّذِي عَلِمَ وُقُوعَهُ يَجِبُ كَوْنُهُ فَاعِلًا لَهُ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّرْكِ وَالَّذِي عَلِمَ عَدَمَهُ يَكُونُ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْفِعْلِ وَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ قَادِرًا عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا بَلْ يَكُونُ مُوجِبًا بِالذَّاتِ وَأَيْضًا فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْعَبْدِ قُدْرَةٌ لَا عَلَى الْفِعْلِ وَلَا عَلَى التَّرْكِ لِأَنَّ مَا عَلِمَ اللَّهُ وُقُوعَهُ امْتَنَعَ مِنَ الْعَبْدِ تَرْكُهُ وَمَا عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَهُ امْتَنَعَ مِنْهُ فِعْلُهُ، فَالْقَوْلُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهَا يَقْدَحُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَفِي الْعُبُودِيَّةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عِنْدَ وُقُوعِهَا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ جَائِزٌ عَلَيْهِ وَعِنْدَ هَذَا قَالَ: يَجْرِي قَوْلُهُ تَعَالَى: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا عَلَى ظَاهِرِهِ. وَأَمَّا جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فَقَدِ اسْتَبْعَدُوا هَذَا الْقَوْلَ وَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ فَالِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ مُحَالَانِ عَلَيْهِ وَأَيْنَمَا وَرَدَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةً لَوْ صَدَرَتْ تِلْكَ الْمُعَامَلَةُ عَنْ غَيْرِهِ لَكَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِرَارًا كَثِيرَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَى قَوْلِهِ: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا هُوَ أَنَّهُ يَبْلُوهُمْ لِيُبْصِرَهُمْ أَيُّهُمْ أَطْوَعُ لِلَّهِ وَأَشَدُّ اسْتِمْرَارًا عَلَى خِدْمَتِهِ لِأَنَّ مَنْ هَذَا حَالُهُ هُوَ الَّذِي يَفُوزُ بِالْجَنَّةِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ كَلَّفَ لِأَجْلِ ذَلِكَ لَا لِأَجْلِ أَنْ يُعْصَى، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: خَلَقَ بَعْضَهُمْ لِلنَّارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِنَبْلُوَهُمْ تَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ مُعَلَّلَةٌ بِالْأَغْرَاضِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَصْحَابُنَا قَالُوا: هَذَا مُحَالٌ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْغَرَضِ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُ ذَلِكَ الْغَرَضِ إِلَّا بِتِلْكَ الْوَاسِطَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي الْعَجْزَ وَهُوَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ أَيُّهُمْ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ إِلَّا أَنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى لِنَخْتَبِرَ وَنَمْتَحِنَ هَذَا أَحْسَنُ عَمَلًا أَمْ ذَاكَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا زَيَّنَ الْأَرْضَ لِأَجْلِ الِامْتِحَانِ وَالِابْتِلَاءِ لَا لِأَجْلِ أَنْ يَبْقَى الْإِنْسَانُ فِيهَا مُتَنَعِّمًا أَبَدًا لِأَنَّهُ يُزَهِّدُ فِيهَا بِقَوْلِهِ: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها الْآيَةَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرَّحْمَنِ: 26] وَقَوْلُهُ: فَيَذَرُها قَاعًا [طَه: 106] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ [الِانْشِقَاقِ: 3] الْآيَةَ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمُجَازَاةِ بَعْدَ فَنَاءِ مَا عَلَى الْأَرْضِ، وَتَخْصِيصُ الْإِبْطَالِ وَالْإِهْلَاكِ بِمَا عَلَى الْأَرْضِ يُوهِمُ بَقَاءَ الْأَرْضِ إِلَّا أَنَّ سَائِرَ الآيات دلت

[سورة الكهف (18) : الآيات 9 إلى 12]

عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ أَيْضًا لَا تَبْقَى وَهُوَ قَوْلُهُ: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إِبْرَاهِيمَ: 48] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الصَّعِيدُ الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ الصَّعِيدِ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ، وَأَمَّا الْجُرُزُ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْجُرُزُ الْأَرْضُ الَّتِي لَا نَبَاتَ عَلَيْهَا، يُقَالُ: جَرَزَتِ الْأَرْضُ فَهِيَ مَجْرُوزَةٌ، وَجَرَزَهَا الْجَرَادُ وَالشَّاءُ وَالْإِبِلُ إِذَا أَكَلَتْ مَا عَلَيْهَا، وَامْرَأَةٌ جَرُوزٌ إِذَا كَانَتْ أَكُولًا، وَسَيْفٌ جُرَازٌ إِذَا كَانَ مُسْتَأْصِلًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ [السجدة: 27] . [سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 12] أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) [في قَوْلُهُ تَعَالَى أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ تَعَجَّبُوا مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَسَأَلُوا عَنْهَا الرَّسُولَ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِحَانِ فَقَالَ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَجَبًا مِنْ آيَاتِنَا فَقَطْ، فَلَا تَحْسَبَنَّ ذَلِكَ فَإِنَّ آيَاتِنَا كُلَّهَا عَجَبٌ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى تَخْلِيقِ السموات وَالْأَرْضِ ثُمَّ يُزَيِّنُ الْأَرْضَ بِأَنْوَاعِ الْمَعَادِنِ/ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ ثُمَّ يَجْعَلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ صَعِيدًا جُرُزًا خَالِيَةً عَنِ الْكُلِّ كَيْفَ يَسْتَبْعِدُونَ مِنْ قُدْرَتِهِ وَحِفْظِهِ وَرَحْمَتِهِ حِفْظَ طَائِفَةٍ مُدَّةَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَأَكْثَرَ فِي النَّوْمِ، هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَقْرِيرِ النَّظْمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ نُزُولِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ عِنْدَ قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاءِ: 85] وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْقِصَّةِ مَشْرُوحًا فَقَالَ كَانَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ وَكَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْصُبُ لَهُ الْعَدَاوَةَ وَكَانَ قَدْ قَدِمَ الْحَيْرَةَ وَتَعَلَّمَ بِهَا أَحَادِيثَ رُسْتُمَ وَإِسْفَنْدِيَارَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَلَسَ مَجْلِسًا ذَكَرَ فِيهِ اللَّهَ وَحَدَّثَ قَوْمَهَ مَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَكَانَ النَّضْرُ يَخْلُفُهُ فِي مَجْلِسِهِ إِذَا قَامَ، فَقَالَ: أَنَا وَاللَّهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْهُ، فَهَلُمُّوا فَأَنَا أُحَدِّثُكُمْ بِأَحْسَنَ مِنْ حَدِيثِهِ، ثُمَّ يُحَدِّثُهُمْ عَنْ مُلُوكِ فَارِسَ، ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوهُ وَبَعَثُوا مَعَهُ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ وَقَالُوا لَهُمَا سَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ وَصِفَتِهِ وَأَخْبِرُوهُمْ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا إِلَى الْمَدِينَةِ فَسَأَلُوا أَحْبَارَ الْيَهُودِ عَنْ أَحْوَالِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ أَحْبَارُ الْيَهُودِ: سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فَإِنَّ حَدِيثَهُمْ عَجَبٌ، وَعَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ قَدْ بَلَغَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، مَا كَانَ نَبَؤُهُ، وَسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ وَمَا هُوَ؟ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ فَهُوَ نَبِيٌّ وَإِلَّا فَهُوَ مُتَقَوِّلٌ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّضْرُ وَصَاحِبُهُ مَكَّةَ قَالَا: قَدْ جِئْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَأَخْبَرُوا بما قاله اليهود فجاؤوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلُوهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُخْبِرُكُمْ بِمَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ غَدًا» وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ وَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَذْكُرُونَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى أَرْجَفَ أَهْلُ مَكَّةَ بِهِ، وَقَالُوا: وَعَدَنَا مُحَمَّدٌ غَدًا وَالْيَوْمَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً فَشَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِسُورَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَفِيهَا مُعَاتَبَةُ اللَّهِ إِيَّاهُ عَلَى حُزْنِهِ عَلَيْهِمْ، وَفِيهَا خَبَرُ أُولَئِكَ الْفِتْيَةِ، وَخَبَرُ الرَّجُلِ الطَّوَّافِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْكَهْفُ الْغَارُ الْوَاسِعُ فِي الْجَبَلِ فَإِذَا صَغُرَ فَهُوَ الْغَارُ، وَفِي الرَّقِيمِ أَقْوَالٌ. الْأَوَّلُ: رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ الْقُرْآنِ أَعْلَمُهُ إِلَّا أَرْبَعَةً غِسْلِينَ وَحَنَانًا وَالْأَوَّاهُ وَالرَّقِيمُ. الثَّانِي: رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّقِيمِ فَقَالَ زَعَمَ كَعْبٌ أَنَّهَا الْقَرْيَةُ الَّتِي خَرَجُوا مِنْهَا وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ. الثَّالِثُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: الرَّقِيمُ لَوْحٌ مِنْ حِجَارَةٍ وَقِيلَ مِنْ رَصَاصٍ كُتِبَ فِيهِ أَسْمَاؤُهُمْ وَقِصَّتُهُمْ وَشُدَّ ذَلِكَ اللَّوْحُ عَلَى بَابِ الْكَهْفِ، وَهَذَا قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ الْمَعَانِي وَالْعَرَبِيَّةِ قَالُوا الرَّقِيمُ الْكِتَابُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْمَرْقُومُ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى فَعِيلٍ، وَالرَّقْمُ الْكِتَابَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كِتابٌ مَرْقُومٌ [الْمُطَفِّفِينَ: 9] أَيْ مَكْتُوبٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الرَّقِيمُ لَوْحٌ كَانَ فِيهِ أَسْمَاؤُهُمْ وَصِفَاتُهُمْ، وَنَظُنُّ أَنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ رَقِيمًا لِأَنَّ أَسْمَاءَهُمْ كَانَتْ مَرْقُومَةً فِيهِ، وَقِيلَ النَّاسُ رَقَمُوا حَدِيثَهُمْ نَقْرًا فِي جَانِبِ الْجَبَلِ، وَقَوْلُهُ: كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً الْمُرَادُ أَحَسِبْتَ أَنَّ وَاقِعَتَهُمْ كَانَتْ عَجِيبَةً فِي/ أَحْوَالِ مَخْلُوقَاتِنَا فَلَا تَحْسَبْ ذَلِكَ فَإِنَّ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ ليست عجيبة في جانب مخلوقاتنا، والعجب هاهنا مَصْدَرٌ سُمِّيَ الْمَفْعُولَ بِهِ، وَالتَّقْدِيرُ كَانُوا مَعْجُوبًا مِنْهُمْ، فَسُمُّوا بِالْمَصْدَرِ وَالْمَفْعُولُ بِهِ مِنْ هَذَا يُسْتَعْمَلُ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِذْ هُنَا مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَمْ حَسِبْتَ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ لِأَنَّهُ كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ وَبَيْنَهُمْ مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ فَلَمْ يَتَعَلَّقِ الْحُسْبَانُ بِذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي أَوَوْا فِيهِ إِلَى الْكَهْفِ بَلْ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ اذْكُرْ إِذْ أَوَى، وَمَعْنَى أَوَى الْفِتْيَةُ فِي الْكَهْفِ صَارُوا إِلَيْهِ وَجَعَلُوهُ مَأْوَاهُمْ قَالَ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أَيْ رَحْمَةً مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِكَ وَجَلَائِلِ فَضْلِكَ وَإِحْسَانِكَ وَهِيَ الْهِدَايَةُ بِالْمَعْرِفَةِ وَالصَّبْرِ وَالرِّزْقِ وَالْأَمْنِ مِنَ الْأَعْدَاءِ وَقَوْلُهُ: مِنْ لَدُنْكَ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ تِلْكَ الرَّحْمَةِ وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ لَائِقَةً بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَاسِعِ جُودِهِ وَهَيِّئْ لَنا أَيْ أَصْلِحْ مِنْ قَوْلِكَ هَيَّأْتُ الْأَمْرَ فَتَهَيَّأَ: مِنْ أَمْرِنا رَشَداً الرَّشَدُ وَالرَّشَادُ نَقِيضُ الضَّلَالِ وَفِي تَفْسِيرِ اللَّفْظِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ وَهَيِّئْ لَنَا أَمْرًا ذَا رَشَدٍ حَتَّى نَكُونَ بِسَبَبِهِ رَاشِدِينَ مُهْتَدِينَ. الثَّانِي: اجْعَلْ أَمْرَنَا رَشَدًا كُلَّهُ كَقَوْلِكَ رَأَيْتُ مِنْكَ رَشَدًا ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ أَنَمْنَاهُمْ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى ضَرَبَ عَلَى آذَانِهِمْ حِجَابًا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ تَصِلَ إِلَى أَسْمَاعِهِمُ الْأَصْوَاتُ الْمُوقِظَةُ وَالتَّقْدِيرُ ضَرَبْنَا عَلَيْهِمْ حِجَابًا إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الْمَفْعُولَ الَّذِي هُوَ الْحِجَابُ كَمَا يُقَالُ بَنَى عَلَى امْرَأَتِهِ يُرِيدُونَ بَنَى عَلَيْهَا الْقُبَّةَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ ضَرَبَ عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ وَهُوَ ظَرْفُ الْمَكَانِ وَقَوْلُهُ: سِنِينَ عَدَداً ظَرْفُ الزَّمَانِ وَفِي قَوْلِهِ: عَدَداً بَحْثَانِ. الْأَوَّلُ: قال الزجاج ذكر العدد هاهنا يُفِيدُ كَثْرَةَ السِّنِينَ وَكَذَلِكَ كَلُّ شَيْءٍ مِمَّا يُعَدُّ إِذَا ذُكِرَ فِيهِ الْعَدَدُ وَوُصِفَ بِهِ أُرِيدَ كَثْرَتُهُ لِأَنَّهُ إِذَا قَلَّ فُهِمَ مِقْدَارُهُ بِدُونِ التَّعْدِيدِ أَمَّا إِذَا أُكْثِرَ فَهُنَاكَ يُحْتَاجُ إِلَى التَّعْدِيدِ فَإِذَا قُلْتَ أَقَمْتُ أَيَّامًا عَدَدًا أَرَدْتَ بِهِ الْكَثْرَةَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ عَدَداً وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعْتٌ لِسِنِينَ الْمَعْنَى سنين ذوات عَدَدٍ أَيْ مَعْدُودَةٌ هَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَقَوْلُ الزَّجَّاجِ وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ فِي الْآيَةِ ضَرْبَانِ مِنَ التَّقْدِيرِ، أَحَدُهُمَا: حَذْفُ الْمُضَافِ. وَالثَّانِي: تَسْمِيَةُ الْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، الْمَعْنَى تُعَدُّ عَدًّا ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ بَعَثْناهُمْ يُرِيدُ مِنْ بَعْدِ نَوْمِهِمْ يَعْنِي أَيْقَظْنَاهُمْ بَعْدَ نَوْمِهِمْ وَقَوْلُهُ: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ اللَّامُ لَامُ الْغَرَضِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ مُعَلَّلَةٌ بِالْأَغْرَاضِ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا بَعَثَهُمْ لِيَحْصُلَ لَهُ هَذَا الْعِلْمُ وَعِنْدَ هَذَا يُرْجَعُ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى هَلْ يَعْلَمُ الْحَوَادِثَ قَبْلَ وُقُوعِهَا أَمْ لَا، فَقَالَ هِشَامٌ: لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا عِنْدَ حُدُوثِهَا وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَالْكَلَامُ فِيهِ قَدْ سَبَقَ، وَنَظَائِرُ هَذِهِ الْآيَةِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا مَا سَبَقَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [الْبَقَرَةِ: 143] وَفِي آلِ عِمْرَانَ/ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ [التَّوْبَةِ: 142] وَقَوْلُهُ: إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ [الْكَهْفِ: 7] وَقَوْلُهُ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ [مُحَمَّدٍ: 31] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَيُّ رُفِعَ بالابتداء وأَحْصى خَبَرُهُ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بِمَجْمُوعِهَا مُتَعَلِّقُ الْعِلْمِ فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمْ يَظْهَرْ عَمَلُ قَوْلِهِ: لِنَعْلَمَ فِي لَفْظَةِ أَيُّ بَلْ بَقِيَتْ عَلَى ارْتِفَاعِهَا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: اذْهَبْ فَاعْلَمْ أَيُّهُمْ قَامَ قَالَ تَعَالَى: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ [الْقَلَمِ: 40] وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا [مَرْيَمَ: 69] وَقُرِئَ لِيُعْلَمَ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَلْزَمُ إِثْبَاتُ الْعِلْمِ الْمُتَجَدِّدِ لِلَّهِ بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّا بَعَثْنَاهُمْ لِيَحْصُلَ هَذَا الْعِلْمُ لِبَعْضِ الْخَلْقِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَجِبُ ظُهُورُ النَّصْبِ فِي لَفْظَةِ أَيْ، لَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْإِشْكَالُ بَعْدُ بَاقٍ لِأَنَّ ارْتِفَاعَ لَفْظَةِ أَيُّ بِالِابْتِدَاءِ لَا بِإِسْنَادٍ يُعْلَمُ إِلَيْهِ. وَلِمُجِيبٍ أَنْ يُجِيبَ فَيَقُولَ: إِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ عَامِلَيْنِ عَلَى مَعْمُولٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْعَوَامِلَ النَّحْوِيَّةَ عَلَامَاتٌ وَمُعَرِّفَاتٌ وَلَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ الْمُعَرِّفَاتِ الْكَثِيرَةِ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْحِزْبَيْنِ فَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْمُرَادُ بِالْحِزْبَيْنِ الْمُلُوكُ الَّذِينَ تَدَاوَلُوا الْمَدِينَةَ مَلِكًا بَعْدَ مَلِكٍ، فَالْمُلُوكَ حِزْبٌ وَأَصْحَابُ الْكَهْفِ حِزْبٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ: الْحِزْبَانِ مِنْ هَذِهِ الْفِتْيَةِ لِأَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ لَمَّا انْتَبَهُوا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُمْ كَمْ نَامُوا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ [الْكَهْفِ: 19] فَالْحِزْبَانِ هُمَا هَذَانِ، وَكَانَ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ هُمُ الَّذِينَ عَلِمُوا أَنَّ لُبْثَهُمْ قَدْ تَطَاوَلَ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ قَوْلُهُ أَحْصى لَيْسَ مِنْ بَابِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ لِأَنَّ هَذَا الْبِنَاءَ مِنْ غَيْرِ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ لَيْسَ بِقِيَاسٍ فَأَمَّا قَوْلُهُمْ مَا أَعْطَاهُ لِلدِّرْهَمِ وَمَا أَوْلَاهُ لِلْمَعْرُوفِ وَأَعْدَى مِنَ الْجَرَبِ وَأَفْلَسُ مِنَ ابْنِ الْمُدْلِقِ، فَمِنَ الشَّوَاذِّ وَالشَّاذُّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ أَحْصَى فِعْلٌ مَاضٍ وَهُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَالْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ مفعول نعلم وأمدا مفعول به لأحصى وما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِما لَبِثُوا مَصْدَرِيَّةٌ وَالتَّقْدِيرُ أَحْصَى أَمَدًا لِلُبْثِهِمْ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى أَمَدَ ذَلِكَ اللُّبْثِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: أَحْصاهُ اللَّهُ [الْمُجَادَلَةِ: 6] وَقَوْلُهُ: وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [الْجِنِّ: 28] . الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا الصُّوفِيَّةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْكَرَامَاتِ وَهُوَ استدلال ظاهر ونذكر هذه المسألة هاهنا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ فَنَقُولُ قَبْلَ الْخَوْضِ فِي الدَّلِيلِ عَلَى جَوَازِ الْكَرَامَاتِ نَفْتَقِرُ إِلَى تَقْدِيمِ مُقَدِّمَتَيْنِ: الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: فِي بَيَانِ أَنَّ الْوَلِيَّ ما هو فنقول هاهنا وَجْهَانِ، الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا مُبَالَغَةً مِنَ الفاعل كالعليم

وَالْقَدِيرِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ مِنْ تَوَالَتْ طَاعَاتُهُ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ مَعْصِيَةٍ. الثَّانِي: / أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَقَتِيلٍ وَجَرِيحٍ بِمَعْنَى مَقْتُولٍ وَمَجْرُوحٍ. وَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْحَقُّ سُبْحَانَهُ حِفْظَهُ وَحِرَاسَتَهُ عَلَى التَّوَالِي عَنْ كُلِّ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي وَيُدِيمُ تَوْفِيقَهُ عَلَى الطَّاعَاتِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَةِ: 257] وَقَوْلِهِ: وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الْأَعْرَافِ: 196] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [الْبَقَرَةِ: 286] وَقَوْلُهُ: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّدٍ: 11] وَقَوْلِهِ: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الْمَائِدَةِ: 55] وَأَقُولُ الْوَلِيُّ هُوَ الْقَرِيبُ فِي اللُّغَةِ فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَرِيبًا مِنْ حَضْرَةِ اللَّهِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ طَاعَاتِهِ وَكَثْرَةِ إِخْلَاصِهِ وَكَانَ الرَّبُّ قَرِيبًا مِنْهُ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ فَهُنَاكَ حَصَلَتِ الْوِلَايَةُ. الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا ظَهَرَ فِعْلٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ فَذَاكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْرُونًا بِالدَّعْوَى أَوْ لَا مَعَ الدَّعْوَى وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الدَّعْوَى فَتِلْكَ الدَّعْوَى إِمَّا أَنْ تَكُونَ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ أَوْ دَعْوَى النُّبُوَّةِ أَوْ دَعْوَى الْوِلَايَةِ أَوْ دَعْوَى السِّحْرِ وَطَاعَةِ الشَّيَاطِينِ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: ادَّعَاءُ الْإِلَهِيَّةِ وَجَوَّزَ أَصْحَابُنَا ظُهُورَ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَى يَدِهِ مِنْ غَيْرِ مُعَارَضَةٍ كَمَا نُقِلَ، أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ وَكَانَتْ تَظْهَرُ خَوَارِقُ الْعَادَاتِ عَلَى يَدِهِ وَكَمَا نُقِلْ ذَلِكَ أَيْضًا فِي حَقِّ الدَّجَّالِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ شَكْلَهُ وَخِلْقَتَهُ تَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ فَظُهُورُ الْخَوَارِقِ عَلَى يَدِهِ لَا يُفْضِي إِلَى التَّلْبِيسِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ ادِّعَاءُ النُّبُوَّةِ فَهَذَا الْقِسْمُ عَلَى قِسْمَيْنِ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُدَّعِي صَادِقًا أَوْ كَاذِبًا فَإِنْ كَانَ صَادِقًا وَجَبَ ظُهُورُ الْخَوَارِقِ عَلَى يَدِهِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ كُلِّ مَنْ أَقَرَّ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا لَمْ يَجُزْ ظُهُورُ الْخَوَارِقِ عَلَى يَدِهِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَظْهَرَ وَجَبَ حُصُولُ الْمُعَارَضَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ ادِّعَاءُ الْوِلَايَةِ وَالْقَائِلُونَ بِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ الْكَرَامَاتِ ثُمَّ إِنَّهَا تَحْصُلُ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ أَمْ لَا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ ادِّعَاءُ السِّحْرِ وَطَاعَةِ الشَّيْطَانِ فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا يَجُوزُ ظُهُورُ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَى يَدِهِ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَظْهَرَ خَوَارِقُ الْعَادَاتِ عَلَى يَدِ إِنْسَانٍ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ مِنَ الدَّعَاوَى، فَذَلِكَ الْإِنْسَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَالِحًا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَبِيثًا مُذْنِبًا. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْقَوْلُ بِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَقَدِ اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى جَوَازِهِ وَأَنْكَرَهَا الْمُعْتَزِلَةُ إِلَّا أَبَا الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيَّ وَصَاحِبُهُ مَحْمُودٌ الْخَوَارِزْمِيُّ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ تَظْهَرَ خَوَارِقُ الْعَادَاتِ عَلَى بَعْضِ مَنْ كَانَ مَرْدُودًا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى بِالِاسْتِدْرَاجِ فَهَذَا تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِي هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَنَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ الْقُرْآنُ وَالْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ وَالْمَعْقُولُ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَالْمُعْتَمَدُ فِيهِ عِنْدَنَا آيَاتٌ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: قِصَّةُ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَقَدْ شَرَحْنَاهَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فَلَا نُعِيدُهَا. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قِصَّةُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَبَقَاؤُهُمْ فِي النَّوْمِ أَحْيَاءً سَالِمِينَ عَنِ الْآفَاتِ مُدَّةَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعِ سِنِينَ وَأَنَّهُ تَعَالَى كَانَ يَعْصِمُهُمْ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ كَمَا قَالَ: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ [الْكَهْفِ: 18] / إِلَى قَوْلِهِ: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ [الْكَهْفِ: 17] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَمَسَّكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النَّمْلِ: 39] وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ سُلَيْمَانُ فَسَقَطَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ. أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: لا

بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ أَوْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ نَبِيٌّ يَصِيرُ ذَلِكَ عِلْمًا لَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْضِ الْعَادَةِ كَسَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ، قُلْنَا: إِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ مُعْجِزَةً لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ إِقْدَامَهُمْ عَلَى النَّوْمِ أَمْرٌ غَيْرُ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ حَتَّى يُجْعَلَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُصَدِّقُونَهُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ كَوْنَهُمْ صَادِقِينَ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى إِلَّا إِذَا بَقُوا طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَعَرَفُوا أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَاءُوا فِي هَذَا الْوَقْتِ هُمُ الَّذِينَ نَامُوا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلَاثِمِائَةِ سِنِينَ وَتِسْعِ سِنِينَ وَكُلُّ هَذِهِ الشَّرَائِطِ لَمْ تُوجَدْ فَامْتَنَعَ جَعْلُ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مُعْجِزَةً لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تُجْعَلَ كَرَامَةً لِلْأَوْلِيَاءِ وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ. أَمَّا الْأَخْبَارُ فَكَثِيرَةٌ: الْخَبَرُ الْأَوَّلُ: مَا أُخْرِجَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَبِيٌّ فِي زَمَنِ جُرَيْجٍ النَّاسِكِ وَصَبِيٌّ آخَرُ، أَمَّا عِيسَى فَقَدْ عَرَفْتُمُوهُ، وَأَمَّا جُرَيْجٌ فَكَانَ رَجُلًا عَابِدًا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَتْ لَهُ أُمٌّ فَكَانَ يَوْمًا يُصَلِّي إِذِ اشْتَاقَتْ إِلَيْهِ أُمُّهُ فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ فَقَالَ يَا رَبِّ الصَّلَاةُ خَيْرٌ أَمْ رُؤْيَتُهَا ثُمَّ صَلَّى فَدَعَتْهُ ثَانِيًا فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَكَانَ يُصَلِّي وَيَدَعُهَا فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أُمِّهِ قَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ الْمُومِسَاتِ، وَكَانَتْ زَانِيَةٌ هُنَاكَ فَقَالَتْ لَهُمْ: أَنَا أَفْتِنُ جُرَيْجًا حَتَّى يَزْنِيَ فَأَتَتْهُ فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ، وَكَانَ هُنَاكَ راع يأوي بالليل إلى أصل صومعته قلما أَعْيَاهَا رَاوَدَتِ الرَّاعِيَ عَلَى نَفْسِهَا فَأَتَاهَا فَوَلَدَتْ ثُمَّ قَالَتْ وَلَدِي هَذَا مِنْ جُرَيْجٍ فَأَتَاهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وَشَتَمُوهُ فَصَلَّى وَدَعَا ثُمَّ نَخَسَ الْغُلَامَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ بِيَدِهِ يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ؟ فَقَالَ: الرَّاعِي فَنَدِمَ الْقَوْمُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ وَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ. وَقَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَأَبَى عَلَيْهِمْ، وَبَنَاهَا كَمَا كَانَتْ، وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْآخَرُ فَإِنَّ امْرَأَةً كَانَ مَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا تُرْضِعُهُ إِذْ مَرَّ بِهَا شَابٌّ جَمِيلٌ ذُو شَارَةٍ حَسَنَةٍ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا، فَقَالَ الصَّبِيُّ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ ثُمَّ مَرَّتْ بِهَا امْرَأَةٌ ذَكَرُوا أَنَّهَا سَرَقَتْ وَزَنَتْ وَعُوقِبَتْ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لا تجعل ابني مثل هذه، فَقَالَ الصَّبِيُّ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا. فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ فِي ذَلِكَ: فَقَالَ إِنَّ الشَّابَّ كَانَ جَبَّارًا مِنَ الْجَبَابِرَةِ فَكَرِهْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَهُ وَإِنَّ هَذِهِ قِيلَ إِنَّهَا زَنَتْ وَلَمْ تَزِنْ وَقِيلَ إِنَّهَا سَرَقَتْ وَلَمْ تَسْرِقْ وَهِيَ تَقُولُ حَسْبِيَ اللَّهُ» . الْخَبَرُ الثَّانِي: وَهُوَ خَبَرُ الْغَارِ وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي «الصِّحَاحِ» عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَأَوَاهُمُ الْمَبِيتُ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ وَسَدَّتْ عَلَيْهِمْ بَابَ الْغَارِ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَكُنْتُ لَا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا فَنَامَا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ يَوْمًا فَلَمْ أَبْرَحْ عَنْهُمَا وَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَجِئْتُهُمَا بِهِ فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمِينَ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا وَكَرِهْتُ أَنْ أُغْبِقَ قَبْلَهُمَا/ فَقُمْتُ وَالْقَدَحُ فِي يَدِي أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى ظَهَرَ الْفَجْرُ فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ هَذَا ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ فَانْفَرَجَتِ انْفِرَاجًا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ الْآخَرُ: كَانَتْ لِي ابْنَةَ عَمٍّ وَكَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ فَرَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَامْتَنَعَتْ حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ فَجَاءَتْنِي وَأَعْطَيْتُهَا مَالًا عَظِيمًا عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا فَلَمَّا قَدِرْتُ عَلَيْهَا قَالَتْ: لَا يجوز لك أن تفك الخاتم إلا بحقه! فَتَحَرَّجْتُ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَتَرَكْتُهَا وَتَرَكْتُ الْمَالَ مَعَهَا اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ فَأَعْطَيْتُهُمْ أُجُورَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الْأَمْوَالُ فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ وَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَيَّ أُجْرَتِي، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أُجْرَتِكَ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَسْتَهْزِئُ بِي؟ فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ فَأَخَذَ ذَلِكَ كله

اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ عَنِ الْغَارِ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ» . وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الْخَبَرُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يَؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ فِيمَا يُقْسِمُ بِهِ عَلَى اللَّهِ. الْخَبَرُ الرَّابِعُ: رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً قَدْ حَمَلَ عَلَيْهَا فَالْتَفَتَتْ إِلَيْهِ الْبَقَرَةُ فَقَالَتْ: إِنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا، وَإِنَّمَا خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ فَقَالَ النَّاسُ سُبْحَانَ اللَّهِ بَقَرَةٌ تَتَكَلَّمُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آمَنْتُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا» . الْخَبَرُ الْخَامِسُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَسْمَعُ رَعْدًا أَوْ صَوْتًا فِي السَّحَابِ: أَنِ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، قَالَ فَعَدَوْتُ إِلَى تِلْكَ الْحَدِيقَةِ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِيهَا فَقُلْتُ لَهُ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِحَدِيقَتِكَ هَذِهِ إِذَا صَرَمْتَهَا؟ قَالَ: وَلِمَ تَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: لِأَنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ أَنِ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ فَإِنِّي أَجْعَلُهَا أَثْلَاثًا فَأَجْعَلُ لِنَفْسِي وَأَهْلِي ثُلْثًا وَأَجْعَلُ لِلْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ثُلْثًا وَأُنْفِقُ عَلَيْهَا ثُلْثًا» . «أَمَّا الْآثَارُ» فَلْنَبْدَأْ بِمَا نُقِلَ أَنَّهُ ظَهَرَ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنَ الْكَرَامَاتِ ثُمَّ بِمَا ظَهَرَ عَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ، أَمَّا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمِنْ كَرَامَاتِهِ أَنَّهُ لَمَّا حُمِلَتْ جِنَازَتُهُ إِلَى بَابِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُودِيَ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا أَبُو بَكْرٍ بِالْبَابِ فَإِذَا الْبَابُ قَدِ انْفَتَحَ وَإِذَا بِهَاتِفٍ يَهْتِفُ مِنَ الْقَبْرِ أَدْخِلُوا الْحَبِيبَ إِلَى الْحَبِيبِ، وَأَمَّا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ ظَهَرَتْ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كَرَامَاتِهِ وَأَحَدُهَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ بَعَثَ جَيْشًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُدْعَى سَارِيَةَ بْنَ الْحُصَيْنِ فَبَيْنَا عُمَرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَخْطُبُ جَعَلَ يَصِيحُ فِي خُطْبَتِهِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ الْجَبَلَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَكَتَبْتُ تَارِيخَ تِلْكَ الْكَلِمَةِ فَقَدِمَ رَسُولُ مَقْدِمِ الْجَيْشِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، غَزَوْنَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي وَقْتِ الْخُطْبَةِ فَهَزَمُونَا فَإِذَا بِإِنْسَانٍ يَصِيحُ يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ الْجَبَلَ فَأَسْنَدْنَا ظُهُورَنَا إِلَى الْجَبَلِ فَهَزَمَ اللَّهُ الْكُفَّارَ وَظَفِرْنَا بِالْغَنَائِمِ الْعَظِيمَةِ بِبَرَكَةِ ذَلِكَ الصَّوْتِ قُلْتُ سَمِعْتُ بَعْضَ/ الْمُذَكِّرِينَ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَنْتُمَا مِنِّي بِمَنْزِلَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ بِمَنْزِلَةِ الْبَصَرِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا جَرَمَ قَدِرَ عَلَى أَنْ يَرَى مِنْ ذَلِكَ الْبُعْدِ الْعَظِيمِ. الثَّانِي: رُوِيَ أَنَّ نِيلَ مِصْرَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقِفُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً «1» وَكَانَ لَا يَجْرِي حَتَّى يُلْقَى فِيهِ جَارِيَةٌ وَاحِدَةٌ حَسْنَاءُ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَتَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ إِلَى عُمَرَ، فكتب عمر على خرقة: أَيُّهَا النِّيلُ إِنْ كُنْتَ تَجْرِي بِأَمْرِ اللَّهِ فَاجْرِ، وَإِنْ كُنْتَ تَجْرِي بِأَمْرِكَ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَيْكَ! فَأُلْقِيَتْ تِلْكَ الْخَزَفَةُ فِي النِّيلِ فَجَرَى وَلَمْ يَقِفْ بَعْدَ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: وَقَعَتِ الزَّلْزَلَةُ فِي الْمَدِينَةِ فَضَرَبَ عُمَرُ الدِّرَّةَ عَلَى الْأَرْضِ وَقَالَ: اسْكُنِي بِإِذْنِ اللَّهِ فَسَكَنَتْ وَمَا حَدَثَتِ الزَّلْزَلَةُ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ ذَلِكَ. الرَّابِعُ: وَقَعَتِ النَّارُ فِي بَعْضِ دَوْرِ الْمَدِينَةِ فَكَتَبَ عُمَرُ عَلَى خَزَفَةٍ: يَا نَارُ اسْكُنِي بِإِذْنِ اللَّهِ فَأَلْقَوْهَا فِي النَّارِ فَانْطَفَأَتْ فِي الْحَالِ. الْخَامِسُ: رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ مَلِكِ الرُّومِ جَاءَ إِلَى عُمَرَ فَطَلَبَ دَارَهُ فَظَنَّ أَنَّ دَارَهُ مِثْلُ قُصُورِ الْمُلُوكِ فَقَالُوا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الصَّحْرَاءِ يَضْرِبُ اللَّبِنَ فَلَمَّا ذَهَبَ إِلَى الصَّحْرَاءِ رَأَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَضَعَ دِرَّتَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ وَنَامَ عَلَى التُّرَابِ، فَعَجِبَ الرَّسُولُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّ أَهْلَ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ يَخَافُونَ مِنْ هَذَا الْإِنْسَانِ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ! ثُمَّ قَالَ فِي نَفْسِهِ: إِنِّي وَجَدْتُهُ خَالِيًا فَأَقْتُلُهُ وَأُخَلِّصُ النَّاسَ مِنْهُ. فَلَمَّا رَفَعَ السَّيْفَ أَخْرَجَ اللَّهُ مِنَ الْأَرْضِ أَسَدَيْنِ فَقَصَدَاهُ فَخَافَ وَأَلْقَى السَّيْفَ مِنْ يَدِهِ وَانْتَبَهَ عُمَرُ وَلَمْ يَرَ شَيْئًا فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَالِ فَذَكَرَ لَهُ الْوَاقِعَةَ وَأَسْلَمَ. وَأَقُولُ هَذِهِ الوقائع رويت بالآحاد، وهاهنا ما هو

_ (1) قوله مرة واحدة، لا مفهوم له، والمراد بيان أنه يمتنع عن الفيض ويكون ماؤه قليلا وهو إذا كان كذلك لا يجري بل يكون أشبه بالراكد.

مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ وَهُوَ أَنَّهُ مَعَ بُعْدِهِ عَنْ زِينَةِ الدُّنْيَا وَاحْتِرَازِهِ عَنِ التَّكَلُّفَاتِ وَالتَّهْوِيلَاتِ سَاسَ الشَّرْقَ وَالْغَرْبَ وَقَلَبَ الْمَمَالِكَ وَالدُّوَلَ لَوْ نَظَرْتَ فِي كُتُبِ التَّوَارِيخِ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ مِنْ أَوَّلِ عَهْدِ آدَمَ إِلَى الْآنِ مَا تَيَسَّرَ لَهُ فَإِنَّهُ مَعَ غَايَةِ بُعْدِهِ عَنِ التَّكَلُّفَاتِ كَيْفَ قَدَرَ عَلَى تِلْكَ السِّيَاسَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكَرَامَاتِ. وَأَمَّا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَوَى أَنَسٌ قَالَ: سِرْتُ فِي الطَّرِيقِ فَرَفَعْتُ عَيْنِي إِلَى امْرَأَةٍ ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكُمْ تَدْخُلُونَ عَلَيَّ وَآثَارُ الزِّنَا ظَاهِرَةٌ عَلَيْكُمْ؟ فَقُلْتُ: أَجَاءَ الْوَحْيُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَا وَلَكِنْ فِرَاسَةٌ صَادِقَةٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا طُعِنَ بِالسَّيْفِ فَأَوَّلُ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ سَقَطَتْ وَقَعَتْ عَلَى الْمُصْحَفِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. [الْبَقَرَةِ: 137] الثَّالِثُ: أَنَّ جَهْجَاهًا الْغِفَارِيَّ انْتَزَعَ الْعَصَا مِنْ يَدِ عُثْمَانَ وَكَسَرَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ فَوَقَعَتِ الْأَكَلَةُ فِي رُكْبَتِهِ. وَأَمَّا عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَيُرْوَى أَنَّ وَاحِدًا مِنْ مُحِبِّيهِ سَرَقَ وَكَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ فَأُتِيَ بِهِ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ لَهُ: أَسَرَقْتَ؟ قَالَ نَعَمْ. فَقَطَعَ يَدَهُ فَانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَقِيَهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَابْنُ الْكَرَّا، فَقَالَ ابْنُ الْكَرَّا: مَنْ قَطَعَ يَدَكَ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَيَعْسُوبُ الْمُسْلِمِينَ وَخَتَنُ الرَّسُولِ وَزَوْجُ الْبَتُولِ فَقَالَ قَطَعَ يَدَكَ وَتَمْدَحُهُ؟ فَقَالَ: وَلِمَ لَا أَمْدَحُهُ وَقَدْ قَطَعَ يَدِي بِحَقٍّ وَخَلَّصَنِي مِنَ النَّارِ! فَسَمِعَ سَلْمَانُ ذَلِكَ فَأَخْبَرَ بِهِ عَلِيًّا فَدَعَا الْأَسْوَدَ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى سَاعِدِهِ وَغَطَّاهُ بِمَنْدِيلٍ وَدَعَا بِدَعَوَاتٍ فَسَمِعْنَا صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ ارْفَعِ/ الرِّدَاءَ عَنِ الْيَدِ فَرَفَعْنَاهُ فَإِذَا الْيَدُ قَدْ بَرَأَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَمِيلِ صُنْعِهِ. أَمَّا سَائِرُ الصَّحَابَةِ فَأَحْوَالُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ فَنَذْكُرُ مِنْهَا شَيْئًا قَلِيلًا. الْأَوَّلُ: رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: رَكِبْتُ الْبَحْرَ فَانْكَسَرَتْ سَفِينَتِي الَّتِي كُنْتُ فِيهَا فَرَكِبْتُ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِهَا فَطَرَحَنِي اللَّوْحُ فِي خَيْسَةٍ فِيهَا أَسَدٌ فَخَرَجَ الْأَسَدُ إِلَيَّ يُرِيدُنِي فَقُلْتُ: يا أبا الحرث أَنَا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَقَدَّمْ وَدَلَّنِي عَلَى الطَّرِيقِ ثُمَّ هَمْهَمَ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوَدِّعُنِي وَرَجَعَ. الثَّانِي: رَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ وَرَجُلًا آخَرَ مِنَ الْأَنْصَارِ تَحَدَّثَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ لَهُمَا حَتَّى ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ زَمَانٌ ثُمَّ خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ وَكَانَتِ اللَّيْلَةُ شَدِيدَةَ الظُّلْمَةِ وَفِي يَدِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَصَا فَأَضَاءَتْ عَصَا أَحَدِهِمَا لَهُمَا حَتَّى مَشَيَا فِي ضَوْئِهَا فَلَمَّا انْفَرَقَ بَيْنَهُمَا الطَّرِيقُ أَضَاءَتْ لِلْآخَرِ عَصَاهُ فَمَشَى فِي ضَوْئِهَا حَتَّى بَلَغَ مَنْزِلَهُ. الثَّالِثُ: قَالُوا لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِنَّ فِي عَسْكَرِكَ مَنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ فَرَكِبَ فَرَسَهُ لَيْلَةً فَطَافَ بِالْعَسْكَرِ فَلَقِيَ رَجُلًا عَلَى فَرَسٍ وَمَعَهُ زِقُّ خَمْرٍ، فَقَالَ مَا هَذَا؟ قَالَ: خَلٌّ، فَقَالَ خَالِدٌ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ خَلًّا. فَذَهَبَ الرَّجُلُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَتَيْتُكُمْ بِخَمْرٍ مَا شَرِبَتِ الْعَرَبُ مِثْلَهَا! فَلَمَّا فَتَحُوا فَإِذَا هُوَ خَلٌّ فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا جِئْتَنَا إِلَّا بِخَلٍّ؟ فَقَالَ هَذَا وَاللَّهِ دُعَاءُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ. الرَّابِعُ: الْوَاقِعَةُ الْمَشْهُورَةُ وَهِيَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَكَلَ كَفًّا مِنَ السُّمِّ عَلَى اسْمِ اللَّهِ وَمَا ضَرَّهُ. الْخَامِسُ: رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَلَقِيَ جَمَاعَةً وَقَفُوا عَلَى الطَّرِيقِ مِنْ خَوْفِ السَّبُعِ فَطَرَدَ السَّبُعَ مِنْ طَرِيقِهِمْ ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا يُسَلَّطُ عَلَى ابْنِ آدَمَ مَا يَخَافُهُ وَلَوْ أَنَّهُ لَمْ يَخَفْ غَيْرَ اللَّهِ لَمَا سُلِّطَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. السَّادِسُ: رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فِي غَزَاةٍ فَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَطْلُوبِ قِطْعَةٌ مِنَ الْبَحْرِ فَدَعَا بِاسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ وَمَشَوْا عَلَى الْمَاءِ. وَفِي كُتُبِ الصُّوفِيَّةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ رِوَايَاتٌ مُتَجَاوِزَةٌ عَنِ الْحَدِّ وَالْحَصْرِ فَمَنْ أَرَادَهَا طَالَعَهَا. وَأَمَّا الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ الْقَطْعِيَّةُ عَلَى جَوَازِ الْكَرَامَاتِ فَمِنْ وُجُوهٍ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الْعَبْدَ وَلِيُّ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يُونُسَ: 62] وَالرَّبُّ وَلِيُّ الْعَبْدِ قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَةِ: 257] وَقَالَ: وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الْأَعْرَافِ: 196] وَقَالَ: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الْمَائِدَةِ: 55] وَقَالَ: أَنْتَ مَوْلانا

[الْبَقَرَةِ: 286] وَقَالَ: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا [مُحَمَّدٍ: 11] فَثَبَتَ أَنَّ الرَّبَّ وَلِيُّ الْعَبْدِ وَأَنَّ الْعَبْدَ وَلِيُّ الرَّبِّ وَأَيْضًا الرَّبُّ حَبِيبُ الْعَبْدِ وَالْعَبْدُ حَبِيبُ الرَّبِّ قَالَ تَعَالَى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [الْمَائِدَةِ: 54] وَقَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [الْبَقَرَةِ: 165] وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [الْبَقَرَةِ: 222] وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْعَبْدُ إِذَا بَلَغَ فِي الطَّاعَةِ إِلَى حَيْثُ يَفْعَلُ كُلَّ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَكُلَّ مَا فِيهِ رِضَاهُ وَتَرَكَ كُلَّ مَا نَهَى اللَّهُ وَزَجَرَ عَنْهُ فَكَيْفَ يَبْعُدُ أَنْ يَفْعَلَ الرَّبُّ الرَّحِيمُ الْكَرِيمُ مَرَّةً وَاحِدَةً مَا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ بَلْ هُوَ أَوْلَى لِأَنَّ الْعَبْدَ مَعَ لُؤْمِهِ وَعَجْزِهِ لَمَّا فَعَلَ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ وَيَأْمُرُهُ بِهِ فَلَأَنْ يَفْعَلَ الرَّبُّ الرَّحِيمُ مَرَّةً وَاحِدَةً مَا أَرَادَهُ الْعَبْدُ كَانَ أَوْلَى وَلِهَذَا قال تعالى: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 40] . الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: لَوِ امْتَنَعَ إِظْهَارُ الْكَرَامَةِ لَكَانَ ذَلِكَ إِمَّا لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ أَهْلًا لَأَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ أَوْ لِأَجْلِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَيْسَ أَهْلًا لِأَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ هَذِهِ الْعَطِيَّةَ، وَالْأَوَّلُ: قدح في/ قدرة اللَّهُ وَهُوَ كُفْرٌ. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ فَإِنَّ مَعْرِفَةُ ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَسْمَائِهِ وَمَحَبَّةَ اللَّهِ وَطَاعَاتَهُ وَالْمُوَاظَبَةَ عَلَى ذِكْرِ تَقْدِيسِهِ وَتَمْجِيدِهِ وتهليله أشرف من إعطاء رغيف واحد مَفَازَةٍ أَوْ تَسْخِيرِ حَيَّةٍ أَوْ أَسَدٍ فَلَمَّا أَعْطَى الْمَعْرِفَةَ وَالْمَحَبَّةَ وَالذِّكْرَ وَالشُّكْرَ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ فَلَأَنْ يُعْطِيَهُ رَغِيفًا فِي مَفَازَةٍ فَأَيُّ بُعْدٍ فِيهِ؟ الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِكَايَةً عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ: «مَا تَقَرَّبَ عَبْدٌ إِلَيَّ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَلِسَانًا وَقَلْبًا وَيَدًا وَرِجْلًا بِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَنْطِقُ وَبِي يَمْشِي» وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي سَمْعِهِمْ نَصِيبٌ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَا فِي بَصَرِهِمْ وَلَا فِي سَائِرِ أَعْضَائِهِمْ إِذْ لَوْ بَقِيَ هُنَاكَ نَصِيبٌ لِغَيْرِ اللَّهِ لَمَا قَالَ أَنَا سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ أَشْرَفُ مِنْ تَسْخِيرِ الْحَيَّةِ وَالسَّبُعِ وَإِعْطَاءِ الرَّغِيفِ وَعُنْقُودٍ مِنَ الْعِنَبِ أَوْ شَرْبَةٍ مِنَ الْمَاءِ فَلَمَّا أَوْصَلَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ عَبْدَهُ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ فَأَيُّ بُعْدٍ فِي أَنْ يُعْطِيَهُ رَغِيفًا وَاحِدًا أَوْ شَرْبَةَ مَاءٍ فِي مَفَازَةٍ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَاكِيًا عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ: «مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ» فَجَعَلَ إِيذَاءَ الْوَلِيِّ قَائِمًا مَقَامَ إِيذَائِهِ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْحِ: 10] وَقَالَ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً [الْأَحْزَابِ: 36] وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الْأَحْزَابِ: 57] فَجَعَلَ بَيْعَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةً مَعَ اللَّهِ وَرِضَاءَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِضَاءَ اللَّهِ وَإِيذَاءَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيذَاءَ اللَّهِ فَلَا جَرَمَ كَانَتْ دَرَجَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَى الدرجات إلى أبلغ الغايات فكذا هاهنا لَمَّا قَالَ: «مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ» دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ إِيذَاءَ الْوَلِيِّ قَائِمًا مَقَامَ إِيذَاءِ نَفْسِهِ وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: «يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَرِضْتَ فَلَمْ تَعُدْنِي، اسْتَسْقَيْتُكَ فَمَا سَقَيْتَنِي، اسْتَطْعَمْتُكَ فَمَا أَطْعَمْتَنِي فَيَقُولُ يَا رَبِّ كَيْفَ أَفْعَلُ هَذَا وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ! فَيَقُولُ إِنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي» وَكَذَا فِي السَّقْيِ وَالْإِطْعَامِ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ يَبْلُغُونَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَاتِ فَأَيُّ بُعْدٍ فِي أَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ كِسْرَةَ خُبْزٍ أَوْ شَرْبَةَ مَاءٍ أَوْ يُسَخِّرَ لَهُ كَلْبًا أَوْ وَرْدًا «1» . الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّا نُشَاهِدُ فِي الْعُرْفِ أَنَّ مَنْ خَصَّهُ الْمَلِكُ بِالْخِدْمَةِ الْخَاصَّةِ وَأَذِنَ لَهُ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِ الْأُنْسِ فَقَدْ يَخُصُّهُ أَيْضًا بِأَنْ يُقَدِّرَهُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، بَلِ الْعَقْلُ السَّلِيمُ يَشْهَدُ بِأَنَّهُ مَتَى حَصَلَ ذلك

_ (1) الورد بفتح الواو وسكون الراء، اسم من أسماء الأسد. (الصاوي) .

الْقُرْبُ فَإِنَّهُ يَتْبَعُهُ هَذِهِ الْمَنَاصِبُ فَجَعَلَ الْقُرْبَ أَصْلًا وَالْمَنْصِبَ تَبَعًا وَأَعْظَمُ الْمُلُوكِ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَإِذَا شَرَّفَ عَبْدًا بِأَنَّهُ أَوْصَلَهُ إِلَى عَتَبَاتِ خِدْمَتِهِ وَدَرَجَاتِ كَرَامَتِهِ وَأَوْقَفَهُ عَلَى أَسْرَارِ مَعْرِفَتِهِ وَرَفَعَ حُجُبَ الْبُعْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ وَأَجْلَسَهُ عَلَى بِسَاطِ قُرْبِهِ فَأَيُّ/ بُعْدٍ فِي أَنْ يُظْهِرَ بَعْضَ تِلْكَ الْكَرَامَاتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ مَعَ أَنَّ كُلَّ هَذَا الْعَالَمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَرَّةٍ مِنْ تِلْكَ السِّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ الرَّبَّانِيَّةِ كَالْعَدَمِ الْمَحْضِ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لِلْأَفْعَالِ هُوَ الرُّوحُ لَا الْبَدَنُ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى لِلرَّوْحِ كَالرُّوحِ لِلْبَدَنِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [النمل: 20] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» وَلِهَذَا الْمَعْنَى نَرَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ عِلْمًا بِأَحْوَالِ عَالَمِ الْغَيْبِ كَانَ أَقْوَى قَلْبًا وَأَقَلَّ ضَعْفًا وَلِهَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: وَاللَّهِ مَا قَلَعْتُ بَابَ خَيْبَرَ بِقُوَّةٍ جَسَدَانِيَّةٍ وَلَكِنْ بِقُوَّةٍ رَبَّانِيَّةٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ انْقَطَعَ نَظَرُهُ عَنْ عَالَمِ الْأَجْسَادِ وَأَشْرَقَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَنْوَارِ عَالَمِ الْكِبْرِيَاءِ فَتَقَوَّى رُوحُهُ وَتَشَبَّهَ بِجَوَاهِرِ الْأَرْوَاحِ الْمَلَكِيَّةِ وَتَلَأْلَأَتْ فِيهِ أَضْوَاءُ عَالَمِ الْقُدُسِ وَالْعَظَمَةِ فَلَا جَرَمَ حَصَلَ لَهُ مِنَ الْقُدْرَةِ مَا قَدَرَ بِهَا عَلَى مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إِذَا وَاظَبَ عَلَى الطَّاعَاتِ بَلَغَ إِلَى الْمَقَامِ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا فَإِذَا صَارَ نُورُ جَلَالِ اللَّهِ سَمْعًا لَهُ سَمِعَ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ وَإِذَا صَارَ ذَلِكَ النُّورُ بَصَرًا لَهُ رَأَى الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ وَإِذَا صَارَ ذَلِكَ النُّورُ يَدًا لَهُ قَدَرَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الصَّعْبِ وَالسَّهْلِ وَالْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ. الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقَوَانِينِ الْعَقْلِيَّةِ الْحِكْمِيَّةُ، وَهِيَ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ جَوْهَرَ الرُّوحِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَجْسَامِ الْكَائِنَةِ الْفَاسِدَةِ الْمُتَعَرِّضَةِ لِلتَّفَرُّقِ وَالتَّمَزُّقِ، بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ جَوَاهِرِ الملائكة وسكان عالم السموات وَنَوْعِ الْمُقَدَّسِينَ الْمُطَهَّرِينَ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا تَعَلَّقَ بِهَذَا الْبَدَنِ وَاسْتَغْرَقَ فِي تَدْبِيرِهِ صَارَ فِي ذَلِكَ الِاسْتِغْرَاقِ إِلَى حَيْثُ نَسِيَ الْوَطَنَ الْأَوَّلَ وَالْمَسْكَنَ الْمُتَقَدِّمَ وَصَارَ بِالْكُلِّيَّةِ مُتَشَبِّهًا بِهَذَا الْجِسْمِ الْفَاسِدِ فَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ وَذَهَبَتْ مُكْنَتُهُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَفْعَالِ، أَمَّا إِذَا اسْتَأْنَسَتْ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَقَلَّ انْغِمَاسُهَا فِي تَدْبِيرِ هَذَا الْبَدَنِ، وَأَشْرَقَتْ عَلَيْهَا أَنْوَارُ الْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ الْعَرْشِيَّةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَفَاضَتْ عَلَيْهَا مِنْ تِلْكَ الْأَنْوَارِ قَوِيَتْ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي أَجْسَامِ هَذَا الْعَالَمِ مِثْلَ قُوَّةِ الْأَرْوَاحِ الْفَلَكِيَّةِ عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ هُوَ الْكَرَامَاتُ، وَفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ مُخْتَلِفَةٌ بِالْمَاهِيَّةِ فَفِيهَا الْقَوِيَّةُ وَالضَّعِيفَةُ، وَفِيهَا النُّورَانِيَّةُ وَالْكَدِرَةُ، وَفِيهَا الْحُرَّةُ وَالنَّذْلَةُ وَالْأَرْوَاحُ الْفَلَكِيَّةُ أَيْضًا كَذَلِكَ، أَلَا تَرَى إِلَى جِبْرِيلَ كَيْفَ قَالَ اللَّهُ فِي وَصْفِهِ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التَّكْوِيرِ: 19- 21] وَقَالَ فِي قَوْمٍ آخَرِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً [النجم: 26] فكذا هاهنا فَإِذَا اتَّفَقَ فِي نَفْسٍ مِنَ النُّفُوسِ كَوْنُهَا قَوِيَّةً، الْقُوَّةَ الْقُدُسِيَّةَ الْعُنْصُرِيَّةَ مُشْرِقَةَ الْجَوْهَرِ عُلْوِيَّةَ الطَّبِيعَةِ، ثُمَّ انْضَافَ إِلَيْهَا أَنْوَاعُ الرِّيَاضَاتِ الَّتِي تُزِيلُ عَنْ وَجْهِهَا غُبْرَةَ عَالَمِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ أَشْرَقَتْ وَتَلَأْلَأَتْ وَقَوِيَتْ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي هَيُولِيِّ عَالَمِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ بِإِعَانَةِ نُورِ مَعْرِفَةِ الْحَضْرَةِ الصَّمَدِيَّةِ وَتَقْوِيَةِ أَضْوَاءِ حَضْرَةِ الْجَلَالِ وَالْعِزَّةِ. وَلْنَقْبِضْ هاهنا عَنَانَ الْبَيَانِ فَإِنَّ وَرَاءَهَا أَسْرَارًا دَقِيقَةً وَأَحْوَالًا/ عَمِيقَةً مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا لَمْ يُصَدِّقْ بِهَا، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْإِعَانَةَ عَلَى إِدْرَاكِ الْخَيْرَاتِ، وَاحْتَجَّ الْمُنْكِرُونَ لِلْكَرَامَاتِ بِوُجُوهٍ. الشُّبْهَةُ الْأُولَى: وَهِيَ الَّتِي عَلَيْهَا يُعَوِّلُونَ وَبِهَا يُضِلُّونَ أَنَّ ظُهُورَ الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ جَعَلَهُ اللَّهُ دَلِيلًا عَلَى النُّبُوَّةِ فَلَوْ حَصَلَ لِغَيْرِ نَبِيٍّ لَبَطَلَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ لِأَنَّ حُصُولَ الدَّلِيلِ مَعَ عَدَمِ الْمَدْلُولِ يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ دَلِيلًا،

وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَالشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: «لَنْ يَتَقَرَّبَ الْمُتَقَرِّبُونَ إِلَيَّ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ» قَالُوا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ أَعْظَمُ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِأَدَاءِ النَّوَافِلِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُتَقَرِّبَ إِلَيْهِ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ لَا يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْكَرَامَاتِ فَالْمُتَقَرِّبُ إِلَيْهِ بِأَدَاءِ النَّوَافِلِ أَوْلَى أَنْ لَا يَحْصُلَ لَهُ ذَلِكَ. الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [النَّحْلِ: 7] وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْوَلِيَّ يَنْتَقِلُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ- لَا عَلَى الْوَجْهِ- طَعْنٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَيْضًا إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَصِلْ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ إِلَّا فِي أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ مَعَ التَّعَبِ الشَّدِيدِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْوَلِيَّ يَنْتَقِلُ مِنْ بَلَدِ نَفْسِهِ إِلَى الْحَجِّ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ. الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: قَالُوا: هَذَا الْوَلِيُّ الَّذِي تَظْهَرُ عَلَيْهِ الْكَرَامَاتُ إِذَا ادَّعَى عَلَى إِنْسَانٍ دِرْهَمًا فَهَلْ نُطَالِبُهُ بِالْبَيِّنَةِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ طَالَبْنَاهُ بِالْبَيِّنَةِ كَانَ عَبَثًا لِأَنَّ ظُهُورَ الْكَرَامَاتِ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ، وَمَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ كَيْفَ يُطْلَبُ الدَّلِيلُ الظَّنِّيُّ، وَإِنْ لَمْ نُطَالِبْهُ بِهَا فَقَدْ تَرَكْنَا قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالْكَرَامَةِ بَاطِلٌ. الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا جَازَ ظُهُورُ الْكَرَامَةِ عَلَى بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ جَازَ ظُهُورُهَا عَلَى الْبَاقِينَ، فَإِذَا كَثُرَتِ الْكَرَامَاتُ حَتَّى خَرَقَتِ الْعَادَةَ جَرَتْ وَفْقًا لِلْعَادَةِ وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي الْمُعْجِزَةِ وَالْكَرَامَةِ. «وَالْجَوَابُ» عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى: أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ دَعْوَى الْوِلَايَةِ؟ فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَكُونُ مَسْبُوقَةً بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ وَالْكَرَامَةُ لَا تَكُونُ مَسْبُوقَةً بِدَعْوَى الْوِلَايَةِ، وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الْفَرْقِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إِنَّمَا بُعِثُوا إِلَى الْخَلْقِ لِيَصِيرُوا دُعَاةً لِلْخَلْقِ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ وَمِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ فَلَوْ لَمْ تَظْهَرْ دَعْوَى النُّبُوَّةِ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَإِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ بَقُوا عَلَى الْكُفْرِ وَإِذَا ادَّعَوُا النُّبُوَّةَ وَأَظْهَرُوا الْمُعْجِزَةَ آمَنَ الْقَوْمُ بِهِمْ فَإِقْدَامُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى دَعْوَى النُّبُوَّةِ لَيْسَ الْغَرَضُ مِنْهُ تَعْظِيمَ النَّفْسِ بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِظْهَارُ الشَّفَقَةِ عَلَى الْخَلْقِ حَتَّى يَنْتَقِلُوا مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، أَمَّا ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ لِلْوَلِيِّ فَلَيْسَ الْجَهْلُ بِهَا كُفْرًا وَلَا مَعْرِفَتُهَا إِيمَانًا فَكَانَ دَعْوَى الْوِلَايَةِ طَلَبًا لِشَهْوَةِ النَّفْسِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ يَجِبُ عَلَيْهِ إِظْهَارُ دَعْوَى النُّبُوَّةِ وَالْوَلِيُّ لَا يَجُوزُ لَهُ دَعْوَى الْوِلَايَةِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ، أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ دَعْوَى الْوِلَايَةِ فَقَدْ ذَكَرُوا الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ وَالْكَرَامَةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ظُهُورَ الْفِعْلِ الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ مُبَرَّءًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ، ثُمَّ إِنِ اقْتَرَنَ هَذَا الْفِعْلُ بِادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ صَادِقًا فِي دَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَإِنِ اقْتَرَنَ بِادِّعَاءِ الْوِلَايَةِ دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ صَادِقًا فِي دَعْوَى الْوِلَايَةِ، وَبِهَذَا/ الطَّرِيقِ لَا يَكُونُ ظُهُورُ الْكَرَامَةِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ طَعْنًا فِي مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَّعِي الْمُعْجِزَةَ وَيَقْطَعُ بِهَا، وَالْوَلِيُّ إِذَا ادَّعَى الْكَرَامَةَ لَا يَقْطَعُ بِهَا لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ يَجِبُ ظُهُورُهَا، أَمَّا الكرامة [ف] لا يَجِبُ ظُهُورُهَا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجِبُ نَفْيُ الْمُعَارَضَةِ عَنِ الْمُعْجِزَةِ وَلَا يُجِبْ نَفْيُهَا عَنِ الْكَرَامَةِ. الرَّابِعُ: أَنَّا لَا نُجَوِّزُ ظُهُورَ الْكَرَامَةِ عَلَى الْوَلِيِّ عِنْدَ ادِّعَاءِ الْوِلَايَةِ إِلَّا إِذَا أَقَرَّ عِنْدَ تِلْكَ الدَّعْوَى بِكَوْنِهِ عَلَى دِينِ ذَلِكَ النَّبِيِّ وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ صَارَتْ تِلْكَ الْكَرَامَةُ مُعْجِزَةً لِذَلِكَ النَّبِيِّ وَمُؤَكِّدَةً لِرِسَالَتِهِ وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ ظُهُورُ الْكَرَامَةِ طَاعِنًا فِي نُبُوَّةِ النَّبِيِّ بَلْ يَصِيرُ مُقَوِّيًا لَهَا. «وَالْجَوَابُ» عَنِ الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّ التَّقَرُّبَ بِالْفَرَائِضِ وَحْدَهَا أَكْمَلُ مِنَ التَّقَرُّبِ بِالنَّوَافِلِ، أَمَّا الْوَلِيُّ فَإِنَّمَا يَكُونُ وَلِيًّا إِذَا كَانَ آتِيًا بِالْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَكُونُ حَالُهُ أَتَمَّ مِنْ حَالِ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَرَائِضِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. «وَالْجَوَابُ» عَلَى الشُّبْهَةِ الثَّالِثَةِ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْهُودِ الْمُتَعَارَفِ، وَكَرَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ أَحْوَالٌ نَادِرَةٌ فَتَصِيرُ كَالْمُسْتَثْنَاةِ عَنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ. وَهَذَا هُوَ «الْجَوَابُ» عَنِ الشُّبْهَةِ الرَّابِعَةِ وَهِيَ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْبَيِّنَةُ على

الْمُدَّعِي. «وَالْجَوَابُ» عَنِ الشُّبْهَةِ الْخَامِسَةِ أَنَّ الْمُطِيعِينَ فِيهِمْ قِلَّةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سَبَأٍ: 13] وَكَمَا قَالَ إِبْلِيسُ: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الْأَعْرَافِ: 17] وَإِذَا حَصَلَتِ الْقِلَّةُ فِيهِمْ لَمْ يَكُنْ مَا يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْكَرَامَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ النَّادِرَةِ قَادِحًا فِي كَوْنِهَا عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَرَامَاتِ وَالِاسْتِدْرَاجِ، اعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَرَادَ شَيْئًا فَأَعْطَاهُ اللَّهُ مُرَادَهُ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْعَبْدِ وَجِيهًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَتِ الْعَطِيَّةُ عَلَى وَفْقِ الْعَادَةِ أَوْ لَمْ تَكُنْ عَلَى وَفْقِ الْعَادَةِ بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ إِكْرَامًا لِلْعَبْدِ وَقَدْ يَكُونُ اسْتِدْرَاجًا لَهُ وَلِهَذَا الِاسْتِدْرَاجِ أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ، أَحَدُهَا: الِاسْتِدْرَاجُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف: 182] وَمَعْنَى الِاسْتِدْرَاجِ أَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ فِي الدُّنْيَا لِيَزْدَادَ غَيُّهُ وَضَلَالُهُ وَجَهْلُهُ وَعِنَادُهُ فَيَزْدَادَ كُلَّ يَوْمٍ بُعْدًا مِنَ اللَّهِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ تَكَرُّرَ الْأَفْعَالِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْمَلَكَةِ الرَّاسِخَةِ فَإِذَا مَالَ قَلْبُ الْعَبْدِ إِلَى الدُّنْيَا ثُمَّ أَعْطَاهُ اللَّهُ مُرَادَهُ فَحِينَئِذٍ يَصِلُ الطَّالِبُ إِلَى الْمَطْلُوبِ وَذَلِكَ يُوجِبُ حُصُولَ اللَّذَّةِ وَحُصُولُ اللَّذَّةِ يَزِيدُ فِي الْمَيْلِ وَحُصُولُ الْمَيْلِ يُوجِبُ مَزِيدَ السَّعْيِ وَلَا يَزَالُ يَتَأَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ وَتَتَقَوَّى كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ دَرَجَةً فَدَرَجَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهَذِهِ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ مَانِعٌ عَنْ مَقَامَاتِ الْمُكَاشَفَاتِ وَدَرَجَاتِ الْمَعَارِفِ فَلَا جَرَمَ يَزْدَادُ بُعْدُهُ عَنِ اللَّهِ دَرَجَةً فَدَرَجَةً إِلَى أَنْ يَتَكَامَلَ فَهَذَا هُوَ الِاسْتِدْرَاجُ. وَثَانِيهَا: الْمَكْرُ قَالَ تَعَالَى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الْأَعْرَافِ: 99] ، وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 54] وَقَالَ: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [النَّمْلِ: 50] . وَثَالِثُهَا: الْكَيْدُ قَالَ تَعَالَى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ [النِّسَاءِ: 142] وَقَالَ: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [الْبَقَرَةِ: 9] . وَرَابِعُهَا: الْإِمْلَاءُ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آلِ عِمْرَانَ: 178] . وَخَامِسُهَا: / الْإِهْلَاكُ قَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ [الْأَنْعَامِ: 44] وَقَالَ فِي فِرْعَوْنَ: وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ [الْقَصَصِ: 39، 40] فَظَهَرَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْإِيصَالَ إِلَى الْمُرَادَاتِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الدَّرَجَاتِ وَالْفَوْزِ بِالْخَيْرَاتِ بَقِيَ عَلَيْنَا أَنْ نَذْكُرَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْكَرَامَاتِ وَبَيْنَ الِاسْتِدْرَاجَاتِ. فَنَقُولُ: إِنَّ صَاحِبَ الْكَرَامَةِ لَا يَسْتَأْنِسُ بِتِلْكَ الْكَرَامَةِ بَلْ عِنْدَ ظُهُورِ الْكَرَامَةِ يَصِيرُ خَوْفُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَشَدَّ وَحَذَرُهُ مِنْ قَهْرِ اللَّهِ أَقْوَى فَإِنَّهُ يَخَافُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاسْتِدْرَاجِ، وَأَمَّا صَاحِبُ الِاسْتِدْرَاجِ فَإِنَّهُ يَسْتَأْنِسُ بِذَلِكَ الَّذِي يَظْهَرُ عَلَيْهِ وَيَظُنُّ أَنَّهُ إِنَّمَا وَجَدَ تِلْكَ الْكَرَامَةَ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهَا وَحِينَئِذٍ يَسْتَحْقِرُ غَيْرَهُ وَيَتَكَبَّرُ عَلَيْهِ وَيَحْصُلُ لَهُ أَمْنٌ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ وَلَا يَخَافُ سُوءَ الْعَاقِبَةِ فَإِذَا ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عَلَى صَاحِبِ الْكَرَامَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتِ اسْتِدْرَاجًا لَا كَرَامَةً. فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: أَكْثَرُ مَا اتَّفَقَ مِنَ الِانْقِطَاعِ عَنْ حَضْرَةِ اللَّهِ إِنَّمَا وَقَعَ فِي مَقَامِ الْكَرَامَاتِ فَلَا جَرَمَ تَرَى الْمُحَقِّقِينَ يَخَافُونَ مِنَ الْكَرَامَاتِ كَمَا يَخَافُونَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ بِالْكَرَامَةِ قَاطِعٌ عَنِ الطَّرِيقِ وُجُوهٌ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ هَذَا الْغُرُورَ إِنَّمَا يَحْصُلُ إذا اعتقد الرجل أنه مستحق لهذا الْكَرَامَةِ لِأَنْ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لَهَا امْتَنَعَ حُصُولُ الْفَرَحِ بِهَا بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فَرَحُهُ بِكَرَمِ الْمَوْلَى وَفَضْلِهِ أَكْبَرَ مِنْ فَرَحِهِ بِنَفْسِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْفَرَحَ بِالْكَرَامَةِ أَكْثَرُ مِنْ فَرَحِهِ بِنَفْسِهِ وَثَبَتَ أَنَّ الْفَرَحَ بِالْكَرَامَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ أَهْلٌ وَمُسْتَحِقٌّ لَهَا وَهَذَا

عُيْنُ الْجَهْلِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا: لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا [الْبَقَرَةِ: 32] وَقَالَ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الْأَنْعَامِ: 91] وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ الْيَقِينِيِّ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى الْحَقِّ فَكَيْفَ يَحْصُلُ ظَنُّ الِاسْتِحْقَاقِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْكَرَامَاتِ أَشْيَاءُ مُغَايِرَةٌ لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ فَالْفَرَحُ بِالْكَرَامَةِ فَرَحٌ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَالْفَرَحُ بِغَيْرِ الْحَقِّ حِجَابٌ عَنِ الْحَقِّ وَالْمَحْجُوبُ عَنِ الْحَقِّ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ صَارَ مُسْتَحِقًّا لِلْكَرَامَةِ بِسَبَبِ عَمَلِهِ حَصَلَ لِعَمَلِهِ وَقْعٌ عَظِيمٌ فِي قَلْبِهِ وَمَنْ كَانَ لِعَمَلِهِ وَقْعٌ عِنْدَهُ كَانَ جَاهِلًا وَلَوْ عَرَفَ رَبَّهُ لَعَلِمَ أَنَّ كُلَّ طَاعَاتِ الْخَلْقِ فِي جَنْبِ جَلَالِ اللَّهِ تَقْصِيرٌ وَكُلَّ شُكْرِهِمْ فِي جَنْبِ آلَائِهِ وَنَعْمَائِهِ قُصُورٌ وَكُلَّ مَعَارِفِهِمْ وَعُلُومِهِمْ فَهِيَ فِي مُقَابَلَةِ عِزَّتِهِ حَيْرَةٌ وَجَهْلٌ. رَأَيْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّهُ قَرَأَ الْمُقْرِئُ فِي مَجْلِسِ الْأُسْتَاذِ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فَاطِرٍ: 10] فَقَالَ عَلَامَةُ أَنَّ الْحَقَّ رَفَعَ عَمَلَكَ أَنْ لَا يُبْقِيَ [ذِكْرَهُ] عِنْدَكَ فَإِنْ بَقِيَ عَمَلُكَ فِي نَظَرِكَ فَهُوَ مَدْفُوعٌ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مَعَكَ فَهُوَ مَرْفُوعٌ مَقْبُولٌ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ صَاحِبَ الْكَرَامَةِ إِنَّمَا وَجَدَ الْكَرَامَةَ لِإِظْهَارِ الذُّلِّ وَالتَّوَاضُعِ فِي حَضْرَةِ اللَّهِ فَإِذَا ترفع وتجبر وتكبر بسبب تلك الكرامات فقد بطل ما به وصل إلى الْكَرَامَاتِ فَهَذَا طَرِيقُ ثُبُوتِهِ يُؤَدِّيهِ إِلَى عَدَمِهِ فَكَانَ مَرْدُودًا وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَمَّا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَاقِبَ نَفْسِهِ/ وَفَضَائِلَهَا كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَلَا فَخْرَ يَعْنِي لَا أَفْتَخِرُ بِهَذِهِ الْكَرَامَاتِ وَإِنَّمَا أَفْتَخِرُ بِالْمُكْرِمِ وَالْمُعْطِي. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ ظَاهِرَ الْكَرَامَاتِ فِي حَقِّ إِبْلِيسَ وَفِي حَقِّ بَلْعَامَ كَانَ عَظِيمًا ثُمَّ قِيلَ لِإِبْلِيسَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَقِيلَ لِبَلْعَامَ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ وَقِيلَ لِعُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الْجُمُعَةِ: 5] وَقِيلَ أَيْضًا فِي حَقِّهِمْ: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 19] فَبَيَّنَ أَنَّ وُقُوعَهُمْ فِي الظُّلُمَاتِ وَالضَّلَالَاتِ كَانَ بِسَبَبِ فَرَحِهِمْ بِمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ الْكَرَامَةَ غَيْرُ الْمُكَرَّمِ وَكُلُّ مَا هُوَ غَيْرُ الْمُكَرَّمِ فَهُوَ ذَلِيلٌ وَكُلُّ مَنْ تَعَزَّزَ بِالذَّلِيلِ فَهُوَ ذَلِيلٌ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْخَلِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: «1» أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا، فَالِاسْتِغْنَاءُ بِالْفَقِيرِ فَقْرٌ وَالتَّقَوِّي بِالْعَاجِزِ عَجْزٌ وَالِاسْتِكْمَالُ بِالنَّاقِصِ نُقْصَانٌ وَالْفَرَحُ بِالْمُحْدَثِ بَلَهٌ وَالْإِقْبَالُ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى الْحَقِّ خَلَاصٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْفَقِيرَ إِذَا ابْتَهَجَ بِالْكَرَامَةِ سَقَطَ عَنْ دَرَجَتِهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ لَا يُشَاهِدُ فِي الْكَرَامَاتِ إِلَّا الْمُكْرِمَ وَلَا فِي الْإِعْزَازِ إِلَّا الْمُعِزَّ وَلَا فِي الْخَلْقِ إِلَّا الْخَالِقَ فَهُنَاكَ يَحِقُّ الْوُصُولُ. الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: أَنَّ الِافْتِخَارَ بِالنَّفْسِ وَبِصِفَاتِهَا مِنْ صِفَاتِ إِبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ، قَالَ إِبْلِيسُ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الْأَعْرَافِ: 12] وَقَالَ فِرْعَوْنُ: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ [الزُّخْرُفِ: 51] وَكُلُّ مَنِ ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ أَوِ النُّبُوَّةَ بِالْكَذِبِ فَلَيْسَ لَهُ غَرَضٌ إِلَّا تَزْيِينَ النَّفْسِ وَتَقْوِيَةَ الْحِرْصِ وَالْعَجَبِ وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ، وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بنفسه» .

_ (1) هذا من خطابه لجبريل عليه السلام فإنه لما ألقي في النار سأله جبريل فقال: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم عليه السلام أما إليك فلا! [.....]

الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الْأَعْرَافِ: 144] وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحِجْرِ: 99] فَلَمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ الْعَطِيَّةَ الْكُبْرَى أَمَرَهُ بِالِاشْتِغَالِ بِخِدْمَةِ الْمُعْطِي لَا بِالْفَرَحِ بِالْعَطِيَّةِ. الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا نَبِيًّا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا تَرَكَ الْمُلْكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ وِجْدَانَ الْمُلْكِ الَّذِي يَعُمُّ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ مِنَ الْكَرَامَاتِ بَلْ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ ثُمَّ إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ ذَلِكَ الْمُلْكَ وَاخْتَارَ الْعُبُودِيَّةَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَبْدًا كَانَ افْتِخَارُهُ بِمَوْلَاهُ وَإِذَا كَانَ مَلَكًا كَانَ افْتِخَارُهُ بِعَبِيدِهِ، فَلَمَّا اخْتَارَ الْعُبُودِيَّةَ لَا جَرَمَ جَعَلَ السُّنَّةَ الَّتِي فِي التَّحِيَّاتِ الَّتِي رَوَاهَا ابْنُ مَسْعُودٍ «وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» وَقِيلَ فِي الْمِعْرَاجِ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 1] . الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: أَنَّ مُحِبَّ الْمَوْلَى غَيْرٌ، وَمُحِبَّ مَا لِلْمَوْلَى غَيْرٌ، فَمِنْ أَحَبَّ الْمَوْلَى لَمْ يَفْرَحْ بِغَيْرِ الْمَوْلَى وَلَمْ يَسْتَأْنِسْ بِغَيْرِ الْمَوْلَى، فَالِاسْتِئْنَاسُ بِغَيْرِ الْمَوْلَى وَالْفَرَحُ بِغَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ مُحِبًّا لِلْمَوْلَى بَلْ كَانَ مُحِبًّا لِنَصِيبِ نَفْسِهِ وَنَصِيبُ النَّفْسِ إِنَّمَا يُطْلَبُ لِلنَّفْسِ فَهَذَا الشَّخْصُ مَا أَحَبَّ إِلَّا نَفْسَهُ. وَمَا كَانَ الْمَوْلَى مَحْبُوبًا لَهُ بَلْ جَعَلَ الْمَوْلَى وَسِيلَةً إِلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ. وَالصَّنَمُ الْأَكْبَرُ هُوَ النَّفْسُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الْجَاثِيَةِ: 23] فَهَذَا الْإِنْسَانُ عَابِدٌ لِلصَّنَمِ الْأَكْبَرِ/ حَتَّى أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ قَالُوا لَا مَضَرَّةَ فِي عِبَادَةِ شَيْءٍ مِنَ الْأَصْنَامِ مِثْلُ الْمُضِرَّةِ الْحَاصِلَةِ فِي عِبَادَةِ النَّفْسِ وَلَا خَوْفَ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَالْخَوْفِ مِنَ الْفَرَحِ بِالْكَرَامَاتِ. الْحُجَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطَّلَاقِ: 2، 3] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ وَلَمْ يَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَالْأَحْوَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي أَنَّ الْوَلِيَّ هَلْ يَعْرِفُ كَوْنَهُ وَلِيًّا، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فَوْرَكَ لَا يَجُوزُ وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ وَتِلْمِيذُهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ يَجُوزُ، وَحُجَّةُ الْمَانِعِينَ وَجُوهٌ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: لَوْ عَرَفَ الرَّجُلُ كَوْنَهُ وَلِيًّا لَحَصَلَ لَهُ الْأَمْنُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يُونُسَ: 62] لَكِنَّ حُصُولَ الْأَمْنِ غَيْرُ جائز ويدل عليه وجوه: أحدها: قوله مالي: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الْأَعْرَافِ: 99] وَالْيَأْسُ أَيْضًا غَيْرُ جَائِزٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يُوسُفَ: 87] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الْحِجْرِ: 56] وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْأَمْنَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ اعْتِقَادِ الْعَجْزِ، وَالْيَأْسُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ اعْتِقَادِ الْبُخْلِ وَاعْتِقَادُ الْعَجْزِ وَالْبُخْلِ فِي حَقِّ اللَّهِ كُفْرٌ، فَلَا جَرَمَ كَانَ حُصُولُ الْأَمْنِ وَالْقُنُوطِ كُفْرًا. الثَّانِي: أَنَّ الطَّاعَاتِ وَإِنْ كَثُرَتْ إِلَّا أَنَّ قَهْرَ الْحَقِّ أَعْظَمُ وَمَعَ كَوْنِ الْقَهْرِ غَالِبًا لَا يَحْصُلُ الْأَمْنُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَمْنَ يَقْتَضِي زَوَالَ الْعُبُودِيَّةِ وَتَرْكُ الْخِدْمَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ يُوجِبُ الْعَدَاوَةَ وَالْأَمْنَ يَقْتَضِي تَرْكَ الْخَوْفِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْمُخْلِصِينَ بِقَوْلِهِ: وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 90] قِيلَ رَغَبًا فِي ثَوَابِنَا، وَرَهَبًا مِنْ عِقَابِنَا. وَقِيلَ: رَغَبًا فِي فَضْلِنَا، وَرَهَبًا مِنْ عَدْلِنَا. وَقِيلَ رَغَبًا فِي وِصَالِنَا، وَرَهَبًا مِنْ فِرَاقِنَا. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ رَغَبًا فِينَا، وَرَهَبًا مِنَّا.

[سورة الكهف (18) : الآيات 13 إلى 15]

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَعْرِفُ كَوْنَهُ وَلِيًّا، أَنَّ الْوَلِيَّ إِنَّمَا يَصِيرُ وَلِيًّا لِأَجْلِ أَنَّ الْحَقَّ يُحِبُّهُ لَا لِأَجْلِ أَنَّهُ يُحِبُّ الْحَقَّ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْعَدُوِّ، ثُمَّ إِنَّ مَحَبَّةَ الْحَقِّ وَعَدَاوَتَهُ سِرَّانِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ فَطَاعَاتُ الْعِبَادِ وَمَعَاصِيهِمْ لَا تُؤَثِّرُ فِي مَحَبَّةِ الْحَقِّ وَعَدَاوَتِهِ لِأَنَّ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِيَ مُحْدَثَةٌ، وَصِفَاتُ الْحَقِّ قَدِيمَةٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالْمُحْدَثُ الْمُتَنَاهِي لَا يَصِيرُ غَالِبًا لِلْقَدِيمِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِي. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَرُبَّمَا كَانَ الْعَبْدُ فِي الْحَالِ فِي عَيْنِ الْمَعْصِيَةِ إِلَّا أَنَّ نَصِيبَهُ مِنَ الْأَزَلِ عَيْنُ الْمَحَبَّةِ. وَرُبَّمَا كَانَ الْعَبْدُ فِي الْحَالِ فِي عَيْنِ الطَّاعَةِ وَلَكِنَّ نَصِيبَهُ مِنَ الْأَزَلِ عَيْنُ الْعَدَاوَةِ وَتَمَامُ التَّحْقِيقِ أَنَّ مَحَبَّتَهُ وَعَدَاوَتَهُ صِفَةٌ، وَصِفَةُ الْحَقِّ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ، وَمَنْ كَانَتْ مَحَبَّتُهُ لَا لِعِلَّةٍ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ عَدُوًّا بِعِلَّةِ الْمَعْصِيَةِ، وَمَنْ كَانَتْ عداوته لَا لِعِلَّةٍ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ مُحِبًّا لِعِلَّةِ الطَّاعَةِ، وَلَمَّا كَانَتْ مَحَبَّةُ الْحَقِّ وَعَدَاوَتُهُ سِرَّيْنِ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِمَا لَا جَرَمَ قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [الْمَائِدَةِ: 116] . الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَعْرِفُ كَوْنَهُ وَلِيًّا، أَنَّ الْحُكْمَ بِكَوْنِهِ وَلِيًّا وَبِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ/ الثَّوَابِ وَالْجَنَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْخَاتِمَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الْأَنْعَامِ: 160] وَلَمْ يَقُلْ مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْخَاتِمَةِ لَا مِنْ أَوَّلِ الْعَمَلِ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ مَضَى عُمْرَهُ فِي الْكُفْرِ ثُمَّ أَسْلَمَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ وَبِالضِّدِّ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْخَاتِمَةِ لَا بِأَوَّلِ الْعَمَلِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الْأَنْفَالِ: 38] فَثَبَتَ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْوِلَايَةِ وَالْعَدَاوَةِ وَكَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْعِقَابِ بِالْخَاتِمَةِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْخَاتِمَةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لِأَحَدٍ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ وَلِيًّا، أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الْوَلِيَّ قَدْ يَعْرِفُ كَوْنَهُ وَلِيًّا فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهَا رُكْنَانِ. أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ فِي الظَّاهِرِ مُنْقَادًا لِلشَّرِيعَةِ. الثَّانِي: كَوْنُهُ فِي الْبَاطِنِ مُسْتَغْرِقًا فِي نُورِ الْحَقِيقَةِ، فَإِذَا حَصَلَ الْأَمْرَانِ وَعَرَفَ الْإِنْسَانُ حُصُولَهُمَا عَرَفَ لَا مَحَالَةَ كَوْنَهُ وَلِيًّا، أَمَّا الِانْقِيَادُ فِي الظَّاهِرِ لِلشَّرِيعَةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا اسْتِغْرَاقُ الْبَاطِنِ فِي نُورِ الْحَقِيقَةِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ فَرَحُهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَاسْتِئْنَاسُهُ بِذِكْرِ اللَّهِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ اسْتِقْرَارٌ مَعَ شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ تَدَاخُلَ «1» الْأَغْلَاطِ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ غَامِضَةُ وَالْقَضَاءُ عَسِرٌ، وَالتَّجْرِبَةُ خَطَرٌ، وَالْجَزْمُ غُرُورٌ. وَدُونَ الْوُصُولِ إِلَى عَالَمِ الرُّبُوبِيَّةِ أَسْتَارٌ، تَارَةً مِنَ النِّيرَانِ، وَأُخْرَى مِنَ الْأَنْوَارِ، وَاللَّهُ الْعَالِمُ بِحَقَائِقِ الْأَسْرَارِ، وَلْنَرْجِعْ إلى التفسير. [سورة الكهف (18) : الآيات 13 الى 15] نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ جُمْلَةً مَنْ وَاقِعَتِهِمْ ثُمَّ قَالَ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ أَيْ عَلَى وَجْهِ الصِّدْقِ: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ كَانُوا جَمَاعَةً مِنَ الشُّبَّانِ آمَنُوا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَاتِهِمْ: وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ

_ (1) في الأصل تداخل هكذا ولعل الصواب مداخل لأنه وصفها فيما بعد بقوله كثيرة غامضة.

[سورة الكهف (18) : الآيات 16 إلى 17]

أَيْ أَلْهَمْنَاهَا الصَّبْرَ وَثَبَّتْنَاهَا: إِذْ قامُوا وَفِي هَذَا الْقِيَامِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ مُجَاهِدٌ كَانُوا عُظَمَاءَ مَدِينَتِهِمْ فَخَرَجُوا فَاجْتَمَعُوا وَرَاءَ الْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ مِيعَادٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَكْبَرُ الْقَوْمِ إِنِّي لَأَجِدُ/ فِي نَفْسِي شَيْئًا مَا أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا يَجِدُهُ، قَالُوا مَا تَجِدُ؟ قَالَ أجد في نفسي أن ربي رب السموات وَالْأَرْضِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ قَامُوا بَيْنَ يَدَيْ ملكهم دقيانوس الجبار، وقالوا: ربنا رب السموات وَالْأَرْضِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ الطَّوَاغِيتِ، فَثَبَّتَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ، وَعَصَمَهُمْ حَتَّى عَصَوْا ذَلِكَ الْجَبَّارَ، وَأَقَرُّوا بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ، وَصَرَّحُوا بِالْبَرَاءَةِ عَنِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَمُقَاتِلٍ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ عِنْدَ قِيَامِهِمْ مِنَ النَّوْمِ وَهَذَا بِعِيدٌ لِأَنَّ اللَّهَ اسْتَأْنَفَ قِصَّتَهُمْ بِقَوْلِهِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ وَقَوْلِهِ: لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً مَعْنَى الشَّطَطِ فِي اللُّغَةِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، قَالَ الْفَرَّاءُ يُقَالُ قَدْ أَشَطَّ فِي السَّوْمِ إِذْ جَاوَزَ الْحَدَّ وَلَمْ يُسْمَعْ إِلَّا أَشَطَّ يُشِطُّ إِشْطَاطًا وَشَطَطًا، وَحَكَى الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ شَطَّ الرَّجُلُ وَأَشَطَّ إِذَا جَاوَزَ الْحَدَّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَلا تُشْطِطْ [ص: 22] وَأَصْلُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ شَطَّتِ الدَّارُ إِذَا بعدت، فالشطط البعد عن الحق، وهو هاهنا مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالْمَعْنَى لَقَدْ قُلْنَا إِذًا قَوْلًا شَطَطًا، أَمَّا قَوْلُهُ: هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً هَذَا مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَيَعْنُونَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ دِقْيَانُوسَ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ لَوْلا يَأْتُونَ- هَلَّا يَأْتُونَ- عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ بِحُجَّةٍ بَيِّنَةٍ، وَمَعْنَى عَلَيْهِمْ أَيْ عَلَى عِبَادَةِ الْآلِهَةِ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ عَدَمَ الْبَيِّنَةِ بِعَدَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَدْلُولِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ الْمَدْلُولِ وَيَسْتَدِلُّ عَلَى صحة هذ الطَّرِيقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. فَقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ عَلَى عَدَمِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا فَثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ الْمَدْلُولِ طَرِيقَةٌ قَوِيَّةٌ، ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يَعْنِي أَنَّ الْحُكْمَ بِثُبُوتِ الشَّيْءِ مَعَ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ ظُلْمٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ وَكَذِبٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ بِالتَّقْلِيدِ. [سورة الكهف (18) : الآيات 16 الى 17] وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَاعْتَزَلْتُمُ الشَّيْءَ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ إِلَّا اللَّهَ فَإِنَّكُمْ لَمْ تَعْتَزِلُوا عِبَادَةَ اللَّهِ. فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ قَالَ الْفَرَّاءُ هُوَ جَوَابُ إِذْ كَمَا تَقُولُ إِذْ فَعَلْتَ كَذَا فَافْعَلْ كَذَا، وَمَعْنَاهُ: اذْهَبُوا إِلَيْهِ وَاجْعَلُوهُ مَأْوَاكُمْ. يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أَيْ يَبْسُطُهَا عَلَيْكُمْ: وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ مَرْفِقًا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَالْبَاقُونَ مِرْفَقًا بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُمَا لُغَتَانِ وَاشْتِقَاقُهُمَا مِنَ الِارْتِفَاقِ، وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يُنْكِرُ فِي مِرْفَقِ الْإِنْسَانِ الَّذِي فِي الْيَدِ إِلَّا كَسْرَ الْمِيمِ وَفَتْحَ الْفَاءِ، وَالْفَرَّاءُ يُجِيزُهُ فِي الْأَمْرِ وَفِي الْيَدِ وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ إِلَّا أَنَّ الْفَتْحَ أَقْيَسُ وَالْكَسْرَ أَكْثَرُ وَقِيلَ الْمِرْفَقُ مَا ارْتَفَقْتَ بِهِ، وَالْمَرْفِقُ بِالْفَتْحِ الْمُرَافِقُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ تَزْوَرُّ سَاكِنَةَ الزَّايِ الْمُعْجَمَةِ مُشَدَّدَةَ الرَّاءِ مِثْلَ تَحْمَرُّ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ تَزَاوَرُ بِالْأَلِفِ وَالتَّخْفِيفِ وَالْبَاقُونَ تَزَّاوَرُ بِالتَّشْدِيدِ وَالْأَلِفِ وَالْكُلُّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالتَّزَاوُرُ هُوَ الْمَيْلُ وَالِانْحِرَافُ، وَمِنْهُ زَارَهُ إِذَا مَالَ إِلَيْهِ وَالزُّورُ الْمَيْلُ عَنِ الصِّدْقِ، وَأَمَّا التَّشْدِيدُ فَأَصْلُهُ تَتَزَاوَرُ سَكَنَتِ التَّاءُ الثَّانِيَةُ وَأُدْغِمَتْ فِي الزَّايِ، وَأَمَّا التَّخْفِيفُ فَهُوَ تَفَاعَلَ مِنَ الزَّوْرِ وَأَمَّا تَزْوَرُّ فَهُوَ مِنَ الِازْوِرَارِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَتَرَى الشَّمْسَ أَيْ أَنْتَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ تَرَى الشَّمْسَ عِنْدَ طُلُوعِهَا تَمِيلُ عَنْ كَهْفِهِمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ خُوطِبَ بِهَذَا يَرَى هَذَا الْمَعْنَى وَلَكِنَّ الْعَادَةَ فِي الْمُخَاطَبَةِ تَكُونُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّكَ لَوْ رَأَيْتَهُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: ذاتَ الْيَمِينِ أَيْ جِهَةَ الْيَمِينِ وَأَصْلُهُ أَنَّ ذَاتَ صِفَةٌ أُقِيمَتْ مُقَامَ الْمَوْصُوفِ لِأَنَّهَا تَأْنِيثُ ذُو فِي قَوْلِهِمْ رَجُلُ ذُو مَالٍ، وَامْرَأَةٌ ذَاتُ مَالٍ، وَالتَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قِيلَ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ جِهَةَ ذَاتَ الْيَمِينِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ قَرَضْتُ الْمَكَانَ أَيْ عَدَلْتُ عَنْهُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْقَرْضُ فِي أَشْيَاءَ فَمِنْهَا الْقَطْعُ، وَكَذَلِكَ السَّيْرُ فِي الْبِلَادِ أَيْ إِذَا قَطَعَهَا. تَقُولُ لِصَاحِبِكَ هَلْ وَرَدْتَ مَكَانَ كَذَا فَيَقُولُ الْمُجِيبُ إِنَّمَا قَرَضْتُهُ فَقَوْلُهُ: تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ أي تعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشمال. البحث الثاني: للمفسرين هاهنا قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ بَابَ ذَلِكَ الْكَهْفِ كَانَ مَفْتُوحًا إِلَى جَانِبِ الشِّمَالِ فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ كَانَتْ عَلَى يَمِينِ الْكَهْفِ وَإِذَا غَرَبَتْ كَانَتْ عَلَى شِمَالِهِ فَضَوْءُ/ الشَّمْسِ مَا كَانَ يَصِلُ إِلَى دَاخِلِ الْكَهْفِ، وَكَانَ الْهَوَاءُ الطَّيِّبُ وَالنَّسِيمُ الْمُوَافِقُ يَصِلُ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَانَ أَصْحَابَ الْكَهْفِ مِنْ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ ضَوْءُ الشَّمْسِ وَإِلَّا لَفَسَدَتْ أَجْسَامُهُمْ فَهِيَ مَصُونَةٌ عَنِ الْعُفُونَةِ وَالْفَسَادِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ مَنَعَ اللَّهُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنَ الْوُقُوعِ. وَكَذَا الْقَوْلُ حَالَ غُرُوبِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ فِعْلًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ وَكَرَامَةً عَظِيمَةً خَصَّ اللَّهُ بِهَا أَصْحَابَ الْكَهْفِ، وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَاحْتَجَّ عَلَى صِحَّتِهِ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ قَالَ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا مُعْتَادًا مَأْلُوفًا فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي كَانَ ذَلِكَ كَرَامَةً عَجِيبَةً فَكَانَتْ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي مُتَّسَعٍ مِنَ الْكَهْفِ يَنَالُهُمْ فِيهِ بَرْدُ الرِّيحِ وَنَسِيمُ الْهَوَاءِ، قَالَ: وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أَيْ مِنَ الْكَهْفِ، وَالْفَجْوَةُ مُتَّسَعٌ فِي مَكَانٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَجَمْعُهَا فَجَوَاتٌ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ» ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَفِيهِ قَوْلَانِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ يَمْنَعُ وُصُولَ ضَوْءِ الشَّمْسِ بِقُدْرَتِهِ قَالُوا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ ذَلِكَ أَيْ ذَلِكَ التَّزَاوُرُ وَالْمَيْلُ، وَالَّذِينَ لَمْ يَقُولُوا بِهِ قَالُوا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ أَيْ ذَلِكَ الحفظ الذي حفظهم الله في الغار تلك المدة الطويلة، من آيات الدَّالَّةِ عَلَى عَجَائِبِ قُدْرَتِهِ وَبَدَائِعِ حِكْمَتِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ كَمَا أَنَّ بَقَاءَهُمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ مَصُونًا عَنِ الْمَوْتِ وَالْهَلَاكِ مِنْ تَدْبِيرَاتِهِ وَلُطْفِهِ وَكَرَمِهِ، فَكَذَلِكَ رُجُوعُهُمْ أَوَّلًا عَنِ الْكُفْرِ وَرَغْبَتُهُمْ فِي الْإِيمَانِ كَانَ بِإِعَانَةِ اللَّهِ ولطفه فقال: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ مِثْلُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً كَدِقْيَانُوسَ الْكَافِرِ وَأَصْحَابِهِ، وَمُنَاظَرَاتُ أَهْلِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعْلُومَةٌ.

[سورة الكهف (18) : آية 18]

[سورة الكهف (18) : آية 18] وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) اعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَتَحْسَبُهُمْ عَلَى ما ذكرناه في قوله: وَتَرَى الشَّمْسَ [الكهف: 17] أَيْ لَوْ رَأَيْتَهُمْ لِحَسِبْتَهُمْ أَيْقاظاً وَهُوَ جَمْعُ يَقِظٍ وَيَقْظَانَ قَالَهُ الْأَخْفَشُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ وَأَنْشَدُوا لِرُؤْبَةَ: وَوَجَدُوا إِخْوَانَهُمْ أَيْقَاظًا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ نَجْدٌ وَنُجْدَانٌ وَأَنْجَادٌ، وَهُمْ رُقُودٌ أَيْ نَائِمُونَ وَهُوَ مَصْدَرٌ سُمِّيَ الْمَفْعُولُ بِهِ كَمَا يُقَالُ قَوْمٌ رُكُوعٌ وَقُعُودٌ وَسُجُودٌ يُوصَفُ الْجَمْعُ بِالْمَصْدَرِ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ جَمْعُ رَاقِدٍ فَقَدْ أَبْعَدَ لِأَنَّهُ لَمْ يُجْمَعْ فَاعِلٌ عَلَى فُعُولٍ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَإِنَّمَا يُحْسَبُونَ أَيْقاظاً لِأَنَّ أَعْيُنَهُمْ مُفَتَّحَةٌ وَهُمْ نِيَامٌ وَقَالَ الزَّجَّاجُ لِكَثْرَةِ تَقَلُّبِهِمْ يُظَنُّ أَنَّهُمْ أَيْقَاظٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ التَّقْلِيبِ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ لَهُمْ فِي كُلِّ عَامٍ تَقْلِيبَتَيْنِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ يَمْكُثُونَ عَلَى أَيْمَانِهِمْ تِسْعَ سِنِينَ ثُمَّ يُقْلَبُونَ عَلَى شَمَائِلِهِمْ فَيَمْكُثُونَ رُقُودًا تِسْعَ سِنِينَ وَقِيلَ لَهُمْ تَقْلِيبَةٌ وَاحِدَةٌ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ. وَأَقُولُ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتُ لَا سَبِيلَ لِلْعَقْلِ إِلَيْهَا، وَلَفْظُ الْقُرْآنِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَمَا جَاءَ فِيهِ خَبَرٌ صَحِيحٌ فَكَيْفَ يُعْرَفُ؟ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَائِدَةُ تَقْلِيبِهِمْ لِئَلَّا تَأْكُلَ الْأَرْضُ لُحُومَهُمْ وَلَا تُبْلِيَهُمْ. وَأَقُولُ هَذَا عَجِيبٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَرَ عَلَى أَنْ يُمْسِكَ حَيَاتَهُمْ مُدَّةَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَأَكْثَرَ فَلِمَ لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِ أَجْسَادِهِمْ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ تَقْلِيبٍ؟ وَقَوْلُهُ: ذاتَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الظرف لأن المعنى نقلبهم فِي نَاحِيَةِ الْيَمِينِ أَوْ عَلَى نَاحِيَةِ الْيَمِينِ كما قلنا في قوله: تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَقَوْلُهُ: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا إِنَّهُمْ هَرَبُوا لَيْلًا مِنْ مَلِكِهِمْ، فَمَرُّوا بِرَاعٍ مَعَهُ كَلْبٌ فَتَبِعَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَمَعَهُ كَلْبُهُ، وَقَالَ كَعْبٌ مَرُّوا بِكَلْبٍ فَنَبَحَ عَلَيْهِمْ فَطَرَدُوهُ فَعَادَ فَفَعَلُوا مِرَارًا، فَقَالَ لَهُمُ الْكَلْبُ مَا تُرِيدُونَ مِنِّي لَا تَخْشَوْا جَانِبِي أَنَا أُحِبُّ أَحِبَّاءَ اللَّهِ فَنَامُوا حَتَّى أَحْرُسَكُمْ، وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ كَانَ ذَلِكَ كَلْبَ صَيْدِهِمْ وَمَعْنَى: باسِطٌ ذِراعَيْهِ أَيْ يُلْقِيهِمَا عَلَى الْأَرْضِ مَبْسُوطَتَيْنِ غَيْرَ مَقْبُوضَتَيْنِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ فِي الصَّلَاةِ: «أَنَّهُ نَهَى عَنِ افْتِرَاشِ السَّبُعِ» وَقَالَ: «لَا تَفْتَرِشْ ذِرَاعَيْكَ افْتِرَاشَ السَّبُعِ» قَوْلُهُ: بِالْوَصِيدِ يَعْنِي فِنَاءَ الْكَهْفِ قَالَ الزَّجَّاجُ الْوَصِيدُ فِنَاءُ الْبَيْتِ وَفِنَاءُ الدَّارِ وَجَمْعُهُ وَصَائِدُ وَوُصُدٌ، وَقَالَ يُونُسُ وَالْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ الْوَصِيدُ وَالْأَصِيدُ لُغَتَانِ مِثْلَ الْوِكَافِ وَالْإِكَافِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِالْوَصِيدِ الْبَابُ وَالْكَهْفُ لَا يَكُونُ لَهُ بَابٌ وَلَا عَتَبَةٌ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْكَلْبَ مِنْهُ بِمَوْضِعِ الْعَتَبَةِ مِنَ الْبَيْتِ، ثُمَّ قَالَ: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ أَيْ أَشْرَفْتَ عَلَيْهِمْ يُقَالُ اطَّلَعْتُ عَلَيْهِمْ أَيْ أَشْرَفْتُ عَلَيْهِمْ، وَيُقَالُ أَطْلَعْتُ فُلَانًا عَلَى الشَّيْءِ فَاطَّلَعَ وَقَوْلُهُ: لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً قَالَ الزَّجَّاجُ قَوْلُهُ: فِراراً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّ مَعْنَى وَلَّيْتَ مِنْهُمْ فَرَرْتَ: وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً أَيْ فَزَعًا وَخَوْفًا قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ طَالَتْ شُعُورُهُمْ وَأَظْفَارُهُمْ وَبَقِيَتْ أَعْيُنُهُمْ مَفْتُوحَةً وَهُمْ نِيَامٌ، فَلِهَذَا السَّبَبِ لَوْ رَآهُمُ الرَّائِي لَهَرَبَ مِنْهُمْ مَرْعُوبًا، وَقِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمْ بِحَيْثُ كُلُّ مَنْ رَآهُمْ فَزِعَ فَزَعًا شَدِيدًا، فَأَمَّا تَفْصِيلُ سَبَبِ الرُّعْبِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ وَقَوْلُهُ: وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ لَمُلِّئْتَ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَالْهَمْزَةِ وَالْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِالتَّخْفِيفِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ إِلَّا أَنَّ فِي التَّشْدِيدِ مُبَالَغَةً، قَالَ الْأَخْفَشُ الْخَفِيفَةُ أَجْوَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، يُقَالُ: مَلَأْتَنِي رُعْبًا، وَلَا يكادون يعرفون

[سورة الكهف (18) : الآيات 19 إلى 20]

مَلَّأْتَنِي، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِمْ كَقَوْلِهِ: فَيَمْلَأُ بَيْتَنَا أقِطًا وَسَمْنًا «1» وَقَوْلِ الْآخَرِ: وَمِنْ مالأ عَيْنَيْهِ مِنْ شَيْءِ غَيْرِهِ ... إِذَا رَاحَ نَحْوَ الْجَمْرَةِ الْبِيضِ كَالدُّمَى وَقَالَ الْآخَرُ: لَا تَمْلَأِ الدَّلْوَ وَعَرْقٌ فِيهَا وَقَالَ الْآخَرُ: امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي وَقَدْ جَاءَ التَّثْقِيلُ أَيْضًا، وَأَنْشَدُوا لِلْمُخَبَّلِ السَّعْدِيِّ: وَإِذَا قَتَلَ النُّعْمَانُ بِالنَّاسِ مُحْرِمًا ... فَمُلِّأَ مِنْ عَوْفِ بْنِ كَعْبٍ سَلَاسِلُهُ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ رُعْبًا بِضَمِّ الْعَيْنِ فِي جميع القرآن والباقون بالإسكان. [سورة الكهف (18) : الآيات 19 الى 20] وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) اعْلَمْ أَنَّ التَّقْدِيرَ وَكَمَا زِدْنَاهُمْ هُدًى، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ وَأَنَمْنَاهُمْ وَأَبْقَيْنَاهُمْ أَحْيَاءً لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ وَنُقَلِّبُهُمْ فَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ أَيْ أَحْيَيْنَاهُمْ مِنْ تِلْكَ النَّوْمَةِ الَّتِي تُشْبِهُ الموت ليتساءلوا بينهم تساءل تَنَازُعٍ وَاخْتِلَافٍ فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ، فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْ بَعْثِهِمْ أَنْ يَتَسَاءَلُوا وَيَتَنَازَعُوا؟ قُلْنَا: لَا يَبْعُدُ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِذَا تَسَاءَلُوا انْكَشَفَ لَهُمْ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أُمُورٌ عَجِيبَةٌ وَأَحْوَالٌ غَرِيبَةٌ، وَذَلِكَ الِانْكِشَافُ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ لِذَاتِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: / قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ أَيْ كَمْ مِقْدَارُ لُبْثِنَا فِي هَذَا الْكَهْفِ: قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ إِنَّهُمْ دَخَلُوا الْكَهْفَ غُدْوَةً وَبَعَثَهُمُ اللَّهُ فِي آخِرِ النَّهَارِ، فَلِذَلِكَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا فَلَمَّا رَأَوُا الشَّمْسَ بَاقِيَةً قَالُوا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ رَئِيسُهُمْ يَمْلِيخَا رَدَّ عِلْمَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَمَّا نَظَرَ إِلَى أَشْعَارِهِمْ وَأَظْفَارِهِمْ وَبَشَرَةِ وُجُوهِهِمْ رَأَى فِيهَا آثَارَ التَّغَيُّرِ الشَّدِيدِ فَعَلِمَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ التَّغَيُّرِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي الْأَيَّامِ الطَّوِيلَةِ. ثُمَّ قَالَ: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِوَرْقِكُمْ سَاكِنَةَ الرَّاءِ مَفْتُوحَةَ الواو ومنهم من قرأ [ها] مَكْسُورَةَ الْوَاوِ سَاكِنَةَ الرَّاءِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِوَرِقِكُمْ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَإِدْغَامِ الْقَافِ فِي الْكَافِ وعن ابن

_ (1) هذا صدر بيت من أبيات لامرئ القيس منها: إذا ما لم تكن إبل فمعزى ... كأن قرون جلتها العصي فتملأ بيتنا أقطا وسمنا ... وحسبك من غني شبع ورى

[سورة الكهف (18) : الآيات 21 إلى 22]

مُحَيْصِنٍ أَنَّهُ كَسَرَ الْوَاوَ وَأَسْكَنَ الرَّاءَ وَأَدْغَمَ الْقَافَ فِي الْكَافِ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ عَلَى هَذِهِ، وَالْوَرِقُ اسْمٌ لِلْفِضَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَضْرُوبَةً أَمْ لَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عَرْفَجَةَ اتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ، وَفِيهِ لُغَاتٌ وَرِقٌّ وَوَرْقٌ وَوِرْقٌ مِثْلَ كَبِدٍ وَكَبْدٍ وَكِبْدٍ، ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ قَالَ الْفَرَّاءُ وَكَسْرُ الْوَاوِ أَرْدَؤُهَا. وَيُقَالُ أَيْضًا لِلْوَرِقِ الرِّقَّةُ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ أَصْلُهُ وَرِقٌ مِثْلَ صِلَةٍ وَعِدَةٍ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ كَانَتْ مَعَهُمْ دَرَاهِمُ عَلَيْهَا صُورَةُ الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ فِي زَمَانِهِمْ يَعْنِي بِالْمَدِينَةِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْيَوْمَ طَرَسُوسُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ فِي إِمْسَاكِ الزَّادِ أَمْرٌ مُهِمٌّ مَشْرُوعٌ وَأَنَّهُ لَا يُبْطِلُ التَّوَكُّلَ وَقَوْلُهُ: فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مَا حَلَّ مِنَ الذَّبَائِحِ لِأَنَّ عَامَّةَ أَهْلِ بَلَدِهِمْ كَانُوا مَجُوسًا وَفِيهِمْ قَوْمٌ يُخْفُونَ إِيمَانَهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ مَلِكُهُمْ ظَالِمًا فَقَوْلُهُمْ: أَزْكى طَعاماً يُرِيدُونَ أَيُّهَا أَبْعَدُ عَنِ الغضب، وَقِيلَ أَيُّهَا أَطْيَبُ وَأَلَذُّ، وَقِيلَ أَيُّهَا أَرْخَصُ، قال الزجاج: قوله: أَيُّها رفع بالابتداء، وأَزْكى خبره وطَعاماً نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَقَوْلُهُ: وَلْيَتَلَطَّفْ أَيْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي سِرٍّ وَكِتْمَانٍ يَعْنِي دُخُولَ الْمَدِينَةِ وَشِرَاءَ الطَّعَامِ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً أَيْ لَا يُخْبِرَنَّ بِمَكَانِكُمْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أَيْ يَطَّلِعُوا وَيُشْرِفُوا عَلَى مَكَانِكُمْ أَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: ظَهَرْتُ عَلَى فُلَانٍ إِذَا عَلَوْتُهُ وَظَهَرْتُ عَلَى السَّطْحِ إِذَا صِرْتَ فَوْقَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ [الصَّفِّ: 14] أَيْ عَالِينَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التَّوْبَةِ: 33] أَيْ لِيُعْلِيَهُ وَقَوْلُهُ: يَرْجُمُوكُمْ يَقْتُلُوكُمْ، وَالرَّجْمُ بِمَعْنَى الْقَتْلِ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ كَقَوْلِهِ: وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ [هُودٍ: 91] وَقَوْلِهِ: أَنْ تَرْجُمُونِ [الدُّخَانِ: 20] وَأَصْلُهُ الرَّمْيُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ يَقْتُلُوكُمْ بِالرَّجْمِ، وَالرَّجْمُ أَخْبَثُ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ: أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أَيْ يَرُدُّوكُمْ إِلَى دِينِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً أَيْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى دِينِهِمْ لَنْ تَسْعَدُوا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ قَالَ الزَّجَّاجُ قَوْلُهُ: إِذاً أَبَداً يَدُلُّ عَلَى الشَّرْطِ أَيْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِنْ رَجَعْتُمْ إِلَى مِلَّتِهِمْ أَبَدًا، قَالَ الْقَاضِي: مَا عَلَى الْمُؤْمِنِ الْفَارِّ بِدِينِهِ أَعْظَمُ مِنْ هَذَيْنِ فَأَحَدُهُمَا فِيهِ هَلَاكُ النَّفْسِ وَهُوَ الرَّجْمُ الَّذِي هُوَ أَخْبَثُ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ، وَالْآخَرُ هَلَاكُ الدِّينِ بِأَنْ يُرَدُّوا إِلَى الْكُفْرِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُمْ لَوْ أُكْرِهُوا عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى إِنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ مَضَرَّةٌ فَكَيْفَ قَالُوا: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً/ قُلْنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَوْ رَدُّوا هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْكُفْرِ عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَاهِ بَقُوا مُظْهِرِينَ لِذَلِكَ الْكُفْرِ مُدَّةً فَإِنَّهُ يَمِيلُ قَلْبُهُمْ إِلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ وَيَصِيرُونَ كَافِرِينَ فِي الْحَقِيقَةِ، فَهَذَا الِاحْتِمَالُ قَائِمٌ فَكَانَ خَوْفُهُمْ منه، والله أعلم. [سورة الكهف (18) : الآيات 21 الى 22] وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) اعْلَمْ أَنَّ الْمَعْنَى كَمَا زِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَنَمْنَاهُمْ وَقَلَّبْنَاهُمْ وَبَعَثْنَاهُمْ لِمَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ

الظَّاهِرَةِ، فَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ أَيْ أَطْلَعْنَا غَيْرَهُمْ عَلَى أَحْوَالِهِمْ يُقَالُ عَثَرْتُ عَلَى كَذَا أَيْ عَلِمْتُهُ وَقَالُوا: إِنَّ أَصْلَ هَذَا أَنَّ مَنْ كَانَ غَافِلًا عَنْ شَيْءٍ فَعَثَرَ بِهِ نَظَرَ إِلَيْهِ فَعَرَفَهُ، فَكَانَ الْعِثَارُ سَبَبًا لِحُصُولِ الْعِلْمِ وَالتَّبَيُّنِ فَأُطْلِقَ اسْمُ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ وَاخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ عَرَفَ النَّاسُ وَاقِعَةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ طَالَتْ شُعُورُهُمْ وَأَظْفَارُهُمْ طُولًا مُخَالِفًا لِلْعَادَةِ وَظَهَرَتْ فِي بَشَرَةِ وُجُوهِهِمْ آثَارٌ عَجِيبَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُدَّتَهُمْ قَدْ طَالَتْ طُولًا خَارِجًا عَنِ الْعَادَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ لَمَّا دَخَلَ إِلَى السُّوقِ لِيَشْتَرِيَ الطَّعَامَ وَأَخْرَجَ الدَّرَاهِمَ لِثَمَنِ الطَّعَامِ قَالَ صَاحِبُ الطَّعَامِ: هَذِهِ النُّقُودُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي هَذَا الْيَوْمِ. وَإِنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَدَهْرٍ دَاهِرٍ فَلَعَلَّكَ وَجَدْتَ كَنْزًا، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ وَحَمَلُوا ذَلِكَ الرَّجُلَ إِلَى مَلِكِ الْبَلَدِ فَقَالَ الْمَلِكُ مِنْ أَيْنَ وَجَدْتَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ؟ فَقَالَ: بِعْتُ بِهَا أَمْسِ شَيْئًا مِنَ التَّمْرِ، وَخَرَجْنَا فِرَارًا مِنَ/ الْمَلِكِ دِقْيَانُوسَ فَعَرَفَ ذَلِكَ الْمَلِكُ أَنَّهُ مَا وَجَدَ كَنْزًا وَأَنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يَعْنِي أَنَّا إِنَّمَا أَطْلَعْنَا الْقَوْمَ عَلَى أَحْوَالِهِمْ لِيَعْلَمَ الْقَوْمُ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ بِالْبَعْثِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ رُوِيَ أَنَّ مَلِكَ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ مِمَّنْ يُنْكِرُ الْبَعْثَ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مَعَ كُفْرِهِ مُنْصِفًا فَجَعَلَ اللَّهُ أَمْرَ الْفِتْيَةِ دَلِيلًا لِلْمَلِكِ، وَقِيلَ بَلِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْجَسَدُ وَالرُّوحُ يُبْعَثَانِ جَمِيعًا، وَقَالَ آخَرُونَ: الرُّوحُ تُبْعَثُ، وَأَمَّا الْجَسَدُ فَتَأْكُلُهُ الْأَرْضُ. ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْمَلِكَ كَانَ يَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُظْهِرَ لَهُ آيَةً يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَمْرِ أَصْحَابِ أَهْلِ الْكَهْفِ. فَاسْتَدَلَّ ذَلِكَ الْمَلِكُ بِوَاقِعَتِهِمْ عَلَى صِحَّةِ الْبَعْثِ لِلْأَجْسَادِ، لِأَنَّ انْتِبَاهَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ النَّوْمِ الطَّوِيلِ يُشْبِهُ مَنْ يَمُوتُ ثُمَّ يُبْعَثُ فَقَوْلُهُ: إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِأَعْثَرْنَا أَيْ أَعْثَرْنَاهُمْ عَلَيْهِمْ حِينَ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَذَا التَّنَازُعِ فَقِيلَ كَانُوا يَتَنَازَعُونَ فِي صِحَّةِ الْبَعْثِ، فَالْقَائِلُونَ بِهِ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ عَلَى صِحَّتِهِ، وَقَالُوا كَمَا قَدِرَ اللَّهُ عَلَى حِفْظِ أَجْسَادِهِمْ مُدَّةَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعِ سِنِينَ فَكَذَلِكَ يَقْدِرُ عَلَى حَشْرِ الْأَجْسَادِ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلِكَ وَقَوْمَهُ لَمَّا رَأَوْا أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَوَقَفُوا عَلَى أَحْوَالِهِمْ عَادَ الْقَوْمُ إِلَى كَهْفِهِمْ فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ فَعِنْدَ هَذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ، فَقَالَ قَوْمٌ إِنَّهُمْ نِيَامٌ كَالْكَرَّةِ الْأُولَى وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ الْآنَ مَاتُوا. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: الْأَوْلَى أَنْ يُسَدَّ بَابُ الْكَهْفِ لِئَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ وَلَا يَقِفَ عَلَى أَحْوَالِهِمْ إِنْسَانٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يُبْنَى عَلَى بَابِ الْكَهْفِ مَسْجِدٌ وَهَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ كَانُوا عَارِفِينَ بِاللَّهِ مُعْتَرِفِينَ بِالْعِبَادَةِ وَالصَّلَاةِ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا: إِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى دِينِنَا فَنَتَّخِذُ عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا، وَالْمُسْلِمُونَ قَالُوا كَانُوا عَلَى دِينِنَا فَنَتَّخِذُ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا. وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّهُمْ تَنَازَعُوا فِي قَدْرِ مُكْثِهِمْ. وَالسَّادِسُ: أَنَّهُمْ تَنَازَعُوا فِي عَدَدِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ وَهَذَا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْمُتَنَازِعِينَ كَأَنَّهُمْ لَمَّا تَذَاكَرُوا أَمْرَهُمْ وَتَنَاقَلُوا الْكَلَامَ فِي أَسْمَائِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَمُدَّةِ لُبْثِهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى حَقِيقَةِ ذَلِكَ قَالُوا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ رَدًّا لِلْخَائِضِينَ فِي حَدِيثِهِمْ مِنْ أُولَئِكَ الْمُتَنَازِعِينَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَلِكُ الْمُسْلِمُ، وَقِيلَ: أَوْلِيَاءُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَقِيلَ: رُؤَسَاءُ الْبَلَدِ: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً نَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ وَنَسْتَبْقِي آثَارَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: سَيَقُولُونَ عَائِدٌ إِلَى الْمُتَنَازِعِينَ. رُوِيَ أَنَّ السَّيِّدَ وَالْعَاقِبَ وَأَصْحَابَهُمَا مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ كَانُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَرَى ذِكْرُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ فَقَالَ السَّيِّدُ وَكَانَ يَعْقُوبِيًّا كَانُوا ثَلَاثَةً رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَقَالَ الْعَاقِبُ وَكَانَ نُسْطُورِيًّا كَانُوا خَمْسَةً سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ كَانُوا سَبْعَةً وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ هَذَا الْأَخِيرُ هو

الْحَقُّ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: وَثامِنُهُمْ هِيَ الْوَاوُ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً لِلنَّكِرَةِ كَمَا تَدْخُلُ عَلَى الْوَاقِعَةِ حَالًا عَنِ الْمَعْرِفَةِ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ/ جَاءَنِي رَجُلٌ وَمَعَهُ آخَرُ، وَمَرَرْتُ بِزَيْدٍ وَفِي يَدِهِ سَيْفٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الْحِجْرِ: 4] وَفَائِدَتُهَا تَوْكِيدُ ثُبُوتِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ اتِّصَافَهُ بِهَا أَمْرٌ ثَابِتٌ مُسْتَقِرٌّ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْوَاوُ دَالَّةً عَلَى صِدْقِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُمْ كَانُوا سَبْعَةً وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَأَنَّهُمْ قَالُوا قَوْلًا مُتَقَرِّرًا مُتَحَقِّقًا عَنْ ثَبَاتٍ وَعِلْمٍ وَطُمَأْنِينَةِ نَفْسٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ هَذَا الْمَوْضِعَ بِهَذَا الْحَرْفِ الزَّائِدِ وَهُوَ الْوَاوُ فَوَجَبَ أَنْ تَحْصُلَ بِهِ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ صَوْنًا لِلَّفْظِ عَنِ التَّعْطِيلِ، وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ هَذِهِ الْفَائِدَةَ الزَّائِدَةَ قَالَ الْمُرَادُ مِنْهَا تَخْصِيصُ هَذَا الْقَوْلِ بِالْإِثْبَاتِ وَالتَّصْحِيحِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَتْبَعَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِقَوْلِهِ: رَجْماً بِالْغَيْبِ وَتَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَالَ فِي الْبَاقِي بِخِلَافِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَخْصُوصُ بِالظَّنِّ الْبَاطِلِ هُوَ الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ، وَأَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ مُخَالِفًا لَهُمَا فِي كَوْنِهِمَا رَجْمًا بِالظَّنِّ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى قَوْلَهُمْ: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قَالَ بَعْدَهُ: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَإِتْبَاعُ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِكَوْنِهِمَا رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَإِتْبَاعُ هَذَا الْقَوْلِ الثَّالِثِ بِقَوْلِهِ: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُمْتَازٌ عَنِ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلِينَ بِمَزِيدِ الْقُوَّةِ وَالصِّحَّةِ. وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ حَصَلَ الْعِلْمُ بِعِدَّتِهِمْ لِذَلِكَ الْقَلِيلِ وَكُلُّ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَوْلًا فِي هَذَا الْبَابِ قَالُوا إِنَّهُمْ كَانُوا سَبْعَةً وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْقَلِيلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ. كَانَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: كَانُوا سَبْعَةً وَأَسْمَاؤُهُمْ هَذَا: يَمْلِيخَا، مَكْسَلْمِينَا، مسلثينا وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ كَانُوا أَصْحَابَ يَمِينِ الْمَلِكِ، وكان عن يساره: مرنوس، ودبرنوس، وَسادنوسُ، وَكَانَ الْمَلِكُ يَسْتَشِيرُ هَؤُلَاءِ السِّتَّةَ فِي مُهِمَّاتِهِ، وَالسَّابِعُ هُوَ الرَّاعِي الَّذِي وَافَقَهُمْ لَمَّا هَرَبُوا مِنْ مَلِكِهِمْ وَاسْمُ كَلْبِهِمْ قِطْمِيرٌ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: أَنَا مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّهُمْ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى الْأَقْوَالَ فَقَدْ حَكَى كُلَّ مَا قِيلَ مِنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْأَقْوَالَ الْبَاطِلَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا هُوَ الْحَقُّ. فَثَبَتَ أَنَّ جُمْلَةَ الْأَقْوَالِ الْحَقَّةِ وَالْبَاطِلَةِ لَيْسَتْ إِلَّا هَذِهِ الثَّلَاثَةَ، ثُمَّ خَصَّ الْأَوَّلِينَ بِأَنَّهُمَا رَجْمٌ بِالْغَيْبِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ هُوَ هَذَا الثَّالِثَ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِرَسُولِهِ، فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً فَمَنَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُنَاظَرَةِ مَعَهُمْ وَعَنِ اسْتِفْتَائِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ لَوْ عَلَّمَهُ حُكْمَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ وَيَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ لِغَيْرِ النَّبِيِّ وَلَا يَحْصُلَ لِلنَّبِيِّ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْعِلْمَ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ حَصَلَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ الْعِلْمُ إِلَّا بِهَذَا الْوَحْيِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا سِوَاهُ الْعَدَمُ، وَأَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَانَ الْحَقُّ هُوَ قَوْلَهُ: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَضْعَفَ/ مِنْ بَعْضٍ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا تَقَوَّى بَعْضُهَا بِبَعْضٍ حَصَلَ فِيهِ كَمَالٌ وَتَمَامٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَقِيَ فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ. الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي الْآيَةِ حَذْفٌ وَالتَّقْدِيرُ سَيَقُولُونَ هُمْ ثَلَاثَةٌ فَحُذِفَ الْمُبْتَدَأُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: خُصَّ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِسِينِ الِاسْتِقْبَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُ سَيَقُولُونَ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ يُوجِبُ دُخُولَ الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ فِيهِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الرَّجْمُ هُوَ الرَّمْيُ، وَالْغَيْبُ مَا غَابَ عَنِ الْإِنْسَانِ فَقَوْلُهُ: رَجْماً بِالْغَيْبِ مَعْنَاهُ أَنْ يَرَى مَا غَابَ عَنْهُ وَلَا يَعْرِفُهُ بِالْحَقِيقَةِ، يُقَالُ فُلَانٌ يَرْمِي بِالْكَلَامِ رَمْيًا، أَيْ يَتَكَلَّمُ مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: ذَكَرُوا فِي فَائِدَةِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ وُجُوهًا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ الْأَقْوَالِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ السَّبْعَةَ عِنْدَ الْعَرَبِ أَصْلٌ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي الْعَدَدِ قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً [التَّوْبَةِ: 80] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا وَصَلُوا إِلَى الثَّمَانِيَةِ ذَكَرُوا لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، فَقَالُوا وَثَمَانِيَةٌ، فَجَاءَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْقَانُونِ، قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ نَظِيرُهُ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التَّوْبَةِ: 112] لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْعَدَدُ الثَّامِنُ من الأعداد المتقدمة وقوله: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزُّمَرِ: 73] لِأَنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةٌ، وَأَبْوَابُ النَّارِ سَبْعَةٌ، وَقَوْلُهُ: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التَّحْرِيمِ: 5] هُوَ الْعَدَدُ الثَّامِنُ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَالنَّاسُ يُسَمُّونَ هَذِهِ الْوَاوَ وَاوَ الثَّمَانِيَةِ، وَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الْحَشْرِ: 23] وَلَمْ يَذْكُرِ الْوَاوَ فِي النَّعْتِ الثَّامِنِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِتَفَاصِيلِ كَائِنَاتِ الْعَالَمِ وَالْحَوَادِثِ الَّتِي حَدَثَتْ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَّا عِنْدَ مَنْ أَخْبَرَهُ اللَّهُ عَنْهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَا مِنْ أُولَئِكَ الْقَلِيلِ، قَالَ الْقَاضِي: إن كان قد عرفه بيان الرَّسُولِ صَحَّ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَلَّقَ فِيهِ بِحَرْفِ الْوَاوِ فَضَعِيفٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْوُجُوهُ السَّبْعَةُ الْمَذْكُورَةُ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُفِيدُ الْجَزْمَ إِلَّا أَنَّهَا تُفِيدُ الظَّنَّ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ أَتْبَعَهُ بِأَنْ نَهَى رَسُولَهُ عَنْ شَيْئَيْنِ، عَنِ الْمِرَاءِ وَالِاسْتِفْتَاءِ، أَمَّا النَّهْيُ عَنِ الْمِرَاءِ، فَقَوْلُهُ: فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَالْمُرَادُ مِنَ الْمِرَاءِ الظَّاهِرِ أَنْ لَا يُكَذِّبَهُمْ فِي تَعْيِينِ ذَلِكَ الْعَدَدِ، بَلْ يَقُولُ: هَذَا التَّعْيِينُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ وَتَرْكُ الْقَطْعِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الْعَنْكَبُوتِ: 46] وَأَمَّا النَّهْيُ عَنِ الِاسْتِفْتَاءِ فَقَوْلُهُ: وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ فِي هَذَا الْبَابِ وَجَبَ الْمَنْعُ مِنَ اسْتِفْتَائِهِمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ نُفَاةَ الْقِيَاسِ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالُوا لِأَنَّ قَوْلَهُ: رَجْماً بِالْغَيْبِ وُضِعَ الرَّجْمُ فِيهِ مَوْضِعَ الظَّنِّ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: ظَنًّا بِالْغَيْبِ لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُوا أَنْ يَقُولُوا: رَجْمٌ بِالظَّنِّ مَكَانَ قَوْلِهِمْ ظَنٌّ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ فَرْقٌ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالْحَدِيثِ الْمُرَجَّمِ «1» أَيِ الْمَظْنُونِ هَكَذَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالظَّنِّ مَذْمُومٌ عِنْدَ اللَّهِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَمَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ رَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ اسْتِفْتَاءِ هَؤُلَاءِ الظَّانِّينَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْفَتْوَى بِالْمَظْنُونِ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ اللَّهِ، وَجَوَابُ مثبتي القياس عنه قد ذكرناه مرارا.

_ (1) البيت للنابغة الذبياني والرواية المشهورة: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما القول عنها بالحديث المرجم

[سورة الكهف (18) : الآيات 23 إلى 26]

[سورة الكهف (18) : الآيات 23 الى 26] وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إلى قوله هذا رَشَداً] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثَةِ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُجِيبُكُمْ عَنْهَا غَدًا وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَاحْتَبَسَ الْوَحْيُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، اعْتَرَضَ الْقَاضِي عَلَى هَذَا الْكَلَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ عَنْ أَنَّهُ سَيَفْعَلُ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ غَدًا فَرُبَّمَا جَاءَتْهُ الْوَفَاةُ قَبْلَ الْغَدِ، وَرُبَّمَا عَاقَهُ عَائِقٌ آخَرُ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ غَدًا، وَإِذَا كَانَ كُلُّ هَذِهِ الْأُمُورِ مُحْتَمَلًا، فَلَوْ لَمْ يَقِلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ رُبَّمَا خَرَجَ الْكَلَامُ مُخَالِفًا لِمَا عَلَيْهِ الْوُجُودُ وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّنْفِيرَ عَنْهُ، وَعَنْ كَلَامِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَمَّا إِذَا قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ كَانَ مُحْتَرِزًا عَنْ هَذَا الْمَحْذُورِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يَعِدَ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى فَوَائِدَ كَثِيرَةٍ وَأَحْكَامٍ جَمَّةٍ فَيَبْعُدُ قَصْرُهَا عَلَى هَذَا السَّبَبِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا اتَّفَقَ لَهُ أَنَّهُ نَسِيَ هَذَا الْكَلَامَ لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَوْلَى وَالْأَفْضَلِ، وَأَنْ يُجَابَ عَنِ الثَّانِي أَنَّ اشْتِمَالَهُ عَلَى الْفَوَائِدِ الْكَثِيرَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ نُزُولِهِ وَاحِدًا مِنْهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلَهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ أَنَّهُ شَاءَ اللَّهُ مَاذَا، وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أَنْ يَأْذَنَ لَكَ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لَكَ أَنْ تُخْبِرَ عَنْ نَفْسِكَ أَنَّكَ تَفْعَلُ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ إِلَّا إِذَا أَذِنَ اللَّهُ لَكَ فِي ذَلِكَ الْإِخْبَارِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ تَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَالسَّبَبُ فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ سَأَفْعَلُ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ غَدًا لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ، وَلَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا لَوْ بَقِيَ حَيًّا أَنْ يَعُوقَهُ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ شَيْءٌ مِنَ الْعَوَائِقِ، فَإِذَا كَانَ لَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَارَ كَاذِبًا فِي ذلك الوعد، والكذب منفر وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ حَتَّى أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ الْمَوْعُودِ لَمْ يَصِرْ كَاذِبًا فَلَمْ يَحْصُلِ التَّنْفِيرُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرِيدُ الْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ مِنَ الْعَبْدِ وَالْعَبْدُ يُرِيدُ الْكُفْرَ وَالْمَعْصِيَةَ لِنَفْسِهِ فَيَقَعُ مُرَادُ الْعَبْدِ وَلَا يَقَعُ مُرَادُ اللَّهِ فَتَكُونُ إِرَادَةُ الْعَبْدِ غَالِبَةً وَإِرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى مَغْلُوبَةً، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَكُلُّ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ وَاقِعٌ فَهُوَ تَعَالَى يُرِيدُ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ وَيُرِيدُ الْإِيمَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ فَإِرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى غَالِبَةٌ وَإِرَادَةُ الْعَبْدِ مَغْلُوبَةٌ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ إِذَا قَالَ الْعَبْدُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاللَّهُ إِنَّمَا يَدْفَعُ عَنْهُ الْكَذِبَ إِذَا كَانَتْ إِرَادَةُ اللَّهِ غَالِبَةً عَلَى إِرَادَةِ الْعَبْدِ فَإِنَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ أَنَّ الْعَبْدَ قَالَ أَنَا

أَفْعَلُ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ إِلَّا إِذَا كَانَتْ إِرَادَةُ اللَّهِ بِخِلَافِهِ فَأَنَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا أَفْعَلُ لِأَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ غَالِبَةٌ عَلَى إِرَادَتِي فَعِنْدَ قِيَامِ الْمَانِعِ الْغَالِبِ لَا أَقْوَى عَلَى الْفِعْلِ، أَمَّا بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ إِرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى مَغْلُوبَةً فَإِنَّهَا لَا تُصْلَحُ عُذْرًا فِي هَذَا الْبَابِ، لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ لَا يَمْنَعُ الْغَالِبَ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا ثُمَّ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ دَافِعًا لِلْحِنْثِ فَلَا يَكُونُ دَافِعًا لِلْحِنْثِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ إِرَادَةُ اللَّهِ غَالِبَةً، فَلَمَّا حَصَلَ دَفْعُ الْحِنْثِ بِالْإِجْمَاعِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِكَوْنِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى غَالِبَةً وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَأَصْحَابُنَا أَكَّدُوا هَذَا الْكَلَامَ فِي صُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ لَهُ عَلَى إِنْسَانٍ دَيْنٌ وَكَانَ ذَلِكَ الْمَدْيُونُ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ فَقَالَ وَاللَّهِ لَأَقْضِيَنَّ هَذَا الدَّيْنَ غَدًا، ثُمَّ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِذَا جَاءَ الْغَدُ وَلَمْ يَقْضِ هَذَا الدَّيْنَ لَمْ يَحْنَثْ وَعَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ مِنْهُ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعْلِيقٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ عَلَى شَرْطٍ وَاقِعٍ فَوَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ، وَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ لَا يَحْنَثَ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا شَاءَ ذَلِكَ الْفِعْلَ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَغَّبَ فِيهِ وَزَجَرَ عَنِ الْإِخْلَالِ بِهِ وَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَنْهَى عَنِ الشَّيْءِ وَيُرِيدُهُ وَقَدْ يَأْمُرُ بِالشَّيْءِ وَلَا يُرِيدُهُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، فَإِنْ قِيلَ هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْتُمْ إِلَّا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ قَالُوا: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟ قُلْنَا السَّبَبُ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا عَلَّقَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ لَمْ يَقَعْ إِلَّا إِذَا عَرَفْنَا وُقُوعَ/ الطَّلَاقِ وَلَا نَعْرِفُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إِلَّا إِذَا عَرَفْنَا أَوَّلًا حُصُولَ هَذِهِ الْمَشِيئَةِ لَكِنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْبٌ فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْعِلْمِ بِحُصُولِهَا إِلَّا إِذَا عَلِمْنَا أَنَّ مُتَعَلَّقَ الْمَشِيئَةِ قَدْ وَقَعَ وَحَصَلَ وَهُوَ الطَّلَاقُ فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَا نَعْرِفُ حُصُولَ الْمَشِيئَةِ إِلَّا إِذَا عَرَفْنَا وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَلَا نَعْرِفُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إِلَّا إِذَا عَرَفْنَا وُقُوعَ الْمَشِيئَةِ فَيَتَوَقَّفُ العلم بكل واحد منها على العلم بالآخر، وَهُوَ دَوْرٌ وَالدَّوْرُ بَاطِلٌ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالُوا الطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ بِقَوْلِهِ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ قَالُوا: الشَّيْءُ الَّذِي سَيَفْعَلُهُ الْفَاعِلُ غَدًا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَالِ بِأَنَّهُ شَيْءٌ لِقَوْلِهِ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي سَيَفْعَلُهُ الْفَاعِلُ غَدًا فَهُوَ مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ، فَوَجَبَ تَسْمِيَةُ الْمَعْدُومِ بِأَنَّهُ شَيْءٌ. وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ لَا يُفِيدُ إِلَّا أَنَّ الْمَعْدُومَ مُسَمًّى بِكَوْنِهِ شَيْئًا وَعِنْدَنَا أَنَّ السَّبَبَ فِيهِ أَنَّ الَّذِي سَيَصِيرُ شَيْئًا يَجُوزُ تَسْمِيَتُهُ بِكَوْنِهِ شَيْئًا فِي الْحَالِ كَمَا أَنَّهُ قَالَ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْلِ: 1] وَالْمُرَادُ سَيَأْتِي أَمْرُ اللَّهِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَلَامٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ إِذَا نَسِيَ أَنْ يَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلْيَذْكُرْهُ إِذَا تَذَكَّرَهُ وَعِنْدَ هَذَا اخْتَلَفُوا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَوْ لَمْ يَحْصُلِ التَّذَكُّرُ إِلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ ثُمَّ ذَكَرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ كَفَى فِي دَفْعِ الْحِنْثِ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بَعْدَ سَنَةٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ أُسْبُوعٍ أَوْ يَوْمٍ، وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي مَجْلِسِهِ، وَعَنْ عَطَاءٍ يَسْتَثْنِي عَلَى مِقْدَارِ حَلْبِ النَّاقَةِ الْغَزِيرَةِ، وَعِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْأَحْكَامِ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْصُولًا، وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَقَوْلُهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ بَلْ هُوَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ الْأَوْقَاتِ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ هَذَا الذِّكْرُ فِي أَيِّ وَقْتٍ حَصَلَ هَذَا التَّذَكُّرُ وَكُلُّ مَنْ قَالَ وَجَبَ هَذَا الذِّكْرُ قَالَ: إِنَّهُ إِنَّمَا وَجَبَ لِدَفْعِ الْحِنْثِ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ، وَاعْلَمْ أَنَّ اسْتِدْلَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا، أَمَّا الْفُقَهَاءُ فَقَالُوا إِنَّا لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَزِمَ أَنْ لَا

يَسْتَقِرَّ شَيْءٌ مِنَ الْعُقُودِ، وَالْأَيْمَانِ، يُحْكَى أَنَّهُ بَلَغَ الْمَنْصُورَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خَالَفَ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْفَصِلِ فَاسْتَحْضَرَهُ لِيُنْكِرَ عَلَيْهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا يَرْجِعُ عَلَيْكَ، فَإِنَّكَ تَأْخُذُ الْبَيْعَةَ بِالْأَيْمَانِ أَتَفْرِضُ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ عِنْدِكَ فَيَسْتَثْنُوا فَيَخْرُجُوا عَلَيْكَ؟ فَاسْتَحْسَنَ الْمَنْصُورُ كَلَامَهُ وَرَضِيَ بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ هَذَا الْكَلَامِ يَرْجِعُ إِلَى تَخْصِيصِ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ وَفِيهِ مَا فِيهِ. وَأَيْضًا فَلَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ بِلِسَانِهِ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ وَدَافِعٌ لِلْحِنْثِ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ أَنَّ الْمَحْذُورَ الَّذِي ذَكَرْتُمْ حَاصِلٌ فِيهِ. فَثَبَتَ أَنَّ الَّذِي عَوَّلُوا عَلَيْهِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَحْتَجُّوا فِي وُجُوبِ كَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ مُتَّصِلًا بِأَنَّ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ وَالْعَهْدِ. قَالَ تَعَالَى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [الْمَائِدَةِ: 1] وَقَالَ: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ [الْإِسْرَاءِ: 34] فَالْآتِي بِالْعَهْدِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمُقْتَضَاهُ لِأَجْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ/ خَالَفْنَا هَذَا الدَّلِيلَ فِيمَا إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَعَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَالْكَلَامِ الْوَاحِدِ بِدَلِيلِ أَنَّ لَفْظَ الِاسْتِثْنَاءِ وَحْدَهُ لَا يُفِيدُ شَيْئًا، فَهُوَ جَارٍ مَجْرَى نصف اللفظ «1» الْوَاحِدَةِ، فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ الْمُفِيدَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَعِنْدَ ذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا فَإِنَّهُ حَصَلَ الِالْتِزَامُ التَّامُّ بِالْكَلَامِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ الْمُلْتَزَمِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ بَلْ هُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: وَاذْكُرْ رَبَّكَ بِالتَّسْبِيحِ وَالِاسْتِغْفَارِ إِذَا نَسِيتَ كَلِمَةَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّرْغِيبُ فِي الِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. وَثَانِيهَا: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا اعْتَرَاكَ النِّسْيَانُ لِيُذَكِّرَكَ الْمَنْسِيَّ. وَثَالِثُهَا: حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ الْمَنْسِيَّةِ عِنْدَ ذِكْرِهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ بِعِيدٌ لِأَنَّ تَعَلُّقَ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ يُفِيدُ إِتْمَامَ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَجَعْلُهُ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا يوجب صيرورة الكلاء مُبْتَدَأً مُنْقَطِعًا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ثُمَّ قَالَ تعالى: وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً وَفِيهِ وُجُوهٌ: الأول: أن ترك قوله: أَنْ يَشاءَ اللَّهُ لَيْسَ بِحَسَنٍ وَذِكْرُهُ أَحْسَنُ مِنْ تَرْكِهِ وَقَوْلُهُ: لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً الْمُرَادُ مِنْهُ ذِكْرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. الثَّانِي: إِذَا وَعَدَهُمْ بِشَيْءٍ وَقَالَ مَعَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَيَقُولُ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِشَيْءٍ أَحْسَنَ وَأَكْمَلَ مِمَّا وَعَدْتُكُمْ بِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً إِشَارَةٌ إِلَى نَبَأِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَمَعْنَاهُ لَعَلَّ اللَّهَ يُؤْتِينِي مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ أَنِّي نَبِيٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ صَادِقُ الْقَوْلِ فِي ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ مَا هُوَ أَعْظَمُ فِي الدَّلَالَةِ وَأَقْرَبُ رَشَدًا مِنْ نَبَأِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ. وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَيْثُ آتَاهُ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ آخِرُ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ [المسألة الأولى] وَفِي قَوْلِهِ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا حِكَايَةُ كَلَامِ الْقَوْمِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَكَذَا إِلَى أَنْ قَالَ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ أَيْ أَنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ قَالُوا ذَلِكَ وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا وَهَذَا يُشْبِهُ الرَّدَّ عَلَى الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ وَيُؤَكِّدُهُ أَيْضًا مَا رُوِيَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: وَقَالُوا وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ كَمِّيَّةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ فَهُوَ كَلَامٌ قَدْ تَقَدَّمَ وَقَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُوجِبُ انْقِطَاعَ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وقوله:

_ (1) . هكذا في الأصل: اللفظ الواحدة، والصواب أن يقال الفظ الواحد، أو اللفظة الواحدة.

قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا يُوجِبُ أَنَّ مَا قَبْلَهُ حِكَايَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَارْجِعُوا إِلَى خَبَرِ اللَّهِ دُونَ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ ثَلَاثَمِائَةِ سِنِينَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ وَالْبَاقُونَ بِالتَّنْوِينِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: سِنِينَ عَطْفُ بَيَانٍ لِقَوْلِهِ: ثَلاثَ مِائَةٍ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهَا أَيَّامٌ أَمْ شُهُورٌ أَمْ سُنُونَ فَلَمَّا قَالَ سِنِينَ صَارَ هَذَا بَيَانًا لِقَوْلِهِ: ثَلاثَ مِائَةٍ فَكَانَ هَذَا عَطْفَ بَيَانٍ لَهُ وَقِيلَ هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ أَيْ لبثوا سنين ثلاثمائة. وَأَمَّا وَجْهُ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ فَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ في الإضافة ثلاثمائة سَنَةٍ إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ وَضْعُ الْجَمْعِ مَوْضِعَ الْوَاحِدِ فِي التَّمْيِيزِ كَقَوْلِهِ: بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا [الْكَهْفِ: 103] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَازْدَادُوا تِسْعاً الْمَعْنَى وَازْدَادُوا تِسْعَ سِنِينَ فَإِنْ قَالُوا: لِمَ لَمْ يَقُلْ ثلاثمائة وَتِسْعَ سِنِينَ؟ وَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: وَازْدَادُوا تِسْعاً؟ قلنا: قال بعضهم: كانت المدة ثلاثمائة سنة من السنين الشمسية وثلاثمائة وَتِسْعَ سِنِينَ مِنَ الْقَمَرِيَّةِ، وَهَذَا مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِالْحِسَابِ هَذَا الْقَوْلُ، وَيُمْكِنْ أَنْ يقال: لعلهم لما استكملوا ثلاثمائة سَنَةٍ قَرُبَ أَمْرُهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ اتَّفَقَ مَا أَوْجَبَ بَقَاءَهُمْ فِي النَّوْمِ بَعْدَ ذَلِكَ تِسْعَ سِنِينَ ثُمَّ قَالَ: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمِقْدَارِ هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهَا «1» ، وَإِنَّمَا كَانَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ لأنه موجد للسموات وَالْأَرْضِ وَمُدَبِّرٌ لِلْعَالَمِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ عالما بغيب السموات وَالْأَرْضِ فَيَكُونُ عَالِمًا بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ لَا مَحَالَةَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ وَهَذِهِ كَلِمَةٌ تُذْكَرُ فِي التَّعَجُّبِ، وَالْمَعْنَى مَا أَبْصَرَهُ وَمَا أَسْمَعُهُ، وَقَدْ بَالَغْنَا فِي تَفْسِيرِ كَلِمَةِ التَّعَجُّبِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [الْبَقَرَةِ: 175] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: مَا لِأَصْحَابِ الْكَهْفِ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى حِفْظَهُمْ فِي ذَلِكَ النَّوْمِ الطَّوِيلِ. الثَّانِي: لَيْسَ لِهَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مُدَّةِ لُبْثِ أَهْلِ الْكَهْفِ وَلِيٌّ مِنْ دُونِ اللَّهِ يَتَوَلَّى أَمْرَهُمْ وَيُقِيمُ لَهُمْ تَدْبِيرَ أَنْفُسِهِمْ فَإِذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى تَدْبِيرِ اللَّهِ وَحِفْظِهِ فَكَيْفَ يَعْلَمُونَ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ مِنْ غَيْرِ إِعْلَامِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ بَعْضَ الْقَوْمِ لَمَّا ذَكَرُوا فِي هَذَا الْبَابِ أَقْوَالًا عَلَى خِلَافِ قَوْلِ اللَّهِ فَقَدِ اسْتَوْجَبُوا الْعِقَابَ، فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ يَمْنَعُ اللَّهَ مِنْ إِنْزَالِ الْعِقَابِ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قَالَ: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ أَنَّ لُبْثَهُمْ هُوَ هَذَا الْمِقْدَارُ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ قَوْلًا بِخِلَافِهِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ الِاثْنَيْنِ إِذَا كَانَا لِشَرِيكَيْنِ فَإِنَّ الِاعْتِرَاضَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ يَكْثُرُ وَيَصِيرُ ذَلِكَ مَانِعًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ إِمْضَاءِ الْأَمْرِ عَلَى وَفْقِ مَا يُرِيدُهُ. وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] فَاللَّهُ تَعَالَى نَفَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَلَا تُشْرِكْ بِالتَّاءِ وَالْجَزْمِ عَلَى النَّهْيِ وَالْخِطَابِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ أَوْ عَلَى قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَالْمَعْنَى وَلَا تَسْأَلْ أَحَدًا عَمَّا أَخْبَرَكَ اللَّهُ بِهِ مِنْ عِدَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَاقْتَصِرْ عَلَى حُكْمِهِ وَبَيَانِهِ وَلَا تُشْرِكْ أَحَدًا فِي طَلَبِ مَعْرِفَةِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ وَالرَّفْعِ عَلَى الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي زَمَانِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَفِي مَكَانِهِمْ، أَمَّا الزَّمَانُ الَّذِي حَصَلُوا فِيهِ، فَقِيلَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّ مُوسَى ذَكَرَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ فَإِنَّ الْيَهُودَ سألوا عنهم،

_ (1) في الأصل من الناس الذين اختلفوا فيه.

[سورة الكهف (18) : آية 27]

وَقِيلَ: إِنَّهُمْ دَخَلُوا الْكَهْفَ قَبْلَ الْمَسِيحِ وَأَخْبَرَ الْمَسِيحُ بِخَبَرِهِمْ ثُمَّ بُعِثُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي بَيْنَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ إِنَّهُمْ دَخَلُوا الْكَهْفَ بَعْدَ الْمَسِيحِ، وَحَكَى الْقَفَّالُ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُمْ لَمْ يَمُوتُوا وَلَا يَمُوتُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَمَّا مَكَانُ هَذَا الْكَهْفِ، فَحَكَى الْقَفَّالُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى الْخَوَارِزْمِيِّ الْمُنَجِّمِ أَنَّ الْوَاثِقَ أَنْفَذَهُ لِيَعْرِفَ حَالَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ إِلَى الرُّومِ، قَالَ: فَوَجَّهَ مِلْكُ الرُّومِ مَعِي أَقْوَامًا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُقَالُ إِنَّهُمْ فِيهِ، قَالَ: وَإِنَّ الرَّجُلَ الْمُوَكَّلَ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَزَّعَنِي مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَدَخَلْتُ وَرَأَيْتُ الشُّعُورَ عَلَى صُدُورِهِمْ قَالَ وَعَرَفْتُ أَنَّهُ تَمْوِيهٌ وَاحْتِيَالٌ وَأَنَّ النَّاسَ كَانُوا قَدْ عَالَجُوا تِلْكَ الْجُثَثَ بِالْأَدْوِيَةِ الْمُجَفِّفَةِ لِأَبْدَانِ الْمَوْتَى لِتَصُونَهَا عَنِ الْبِلَى مِثْلَ التَّلْطِيخِ بِالصَّبْرِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ قَالَ الْقَفَّالُ: وَالَّذِي عِنْدَنَا لَا يُعْرَفُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ هُوَ مَوْضِعُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَوْ مَوْضِعٌ آخَرُ، وَالَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَبَ الْقَطْعُ بِهِ وَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ أَهْلِ الرُّومِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ هُوَ مَوْضِعُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَذُكِرَ فِي الْكَشَّافِ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ غَزَا الرُّومَ فَمَرَّ بِالْكَهْفِ فَقَالَ: لَوْ كُشِفَ لَنَا عَنْ هَؤُلَاءِ فَنَظَرْنَا إِلَيْهِمْ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَيْسَ لَكَ ذَلِكَ قَدْ مَنَعَ اللَّهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، فَقَالَ: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا، فَقَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَعْلَمَ حَالَهَمْ، فَبَعَثَ أُنَاسًا فَقَالَ لَهُمْ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا فَلَمَّا دَخَلُوا الْكَهْفَ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا فَأَحْرَقَتْهُمْ، وَأَقُولُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ الزَّمَانِ وَبِذَلِكَ الْمَكَانِ لَيْسَ لِلْعَقْلِ فِيهِ مَجَالٌ، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنْ نَصٍّ، وَذَلِكَ مَفْقُودٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَدَارَ الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ عَلَى أُصُولٍ ثَلَاثَةٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُمْكِنَ الْحُصُولِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَانَ مُمْكِنَ الْحُصُولِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ ثَبَتَ القول بإمكان البعث والقيامة، فكذلك ها هنا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ قَادِرٌ عَلَى الْكُلِّ، وَثَبَتَ أَنَّ بَقَاءَ الْإِنْسَانِ حَيًّا فِي النَّوْمِ مُدَّةَ يَوْمٍ مُمْكِنٌ فَكَذَلِكَ بَقَاؤُهُ مُدَّةَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا بِمَعْنَى أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ يَحْفَظُهُ وَيَصُونُهُ عَنِ الْآفَةِ. وَأَمَّا الْفَلَاسِفَةُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ أَيْضًا: لَا يَبْعُدُ وُقُوعُ أَشْكَالٍ فَلَكِيَّةٍ غَرِيبَةٍ تُوجِبُ فِي هَيُولِي عَالَمِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ حُصُولَ أَحْوَالٍ غَرِيبَةٍ نَادِرَةٍ، وَأَقُولُ: هَذِهِ السُّوَرُ الثَّلَاثَةُ الْمُتَعَاقِبَةُ اشْتَمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى حُصُولِ حَالَةٍ عَجِيبَةٍ نَادِرَةٍ فِي هَذَا الْعَالَمِ فَسُورَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ اشْتَمَلَتْ عَلَى الْإِسْرَاءِ بِجَسَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ وَهُوَ حَالَةٌ عَجِيبَةٌ، وَهَذِهِ السُّورَةُ اشْتَمَلَتْ عَلَى بَقَاءِ الْقَوْمِ فِي النَّوْمِ مُدَّةَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَأَزْيَدَ وَهُوَ أَيْضًا حَالَةٌ عَجِيبَةٌ، وَسُورَةُ مَرْيَمَ اشْتَمَلَتْ عَلَى حُدُوثِ الْوَلَدِ لَا مِنَ الْأَبِ وَهُوَ أَيْضًا حَالَةٌ عَجِيبَةٌ. / وَالْمُعْتَمَدُ فِي بَيَانِ إِمْكَانِ كُلِّ هَذِهِ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّوَرِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَوَالِيَةِ هُوَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْمُمْكِنَاتِ أَنَّ أبا علي بن سِينَا ذَكَرَ فِي بَابِ الزَّمَانِ مِنْ كِتَابِ الشِّفَاءِ أَنَّ أَرِسْطَاطَالِيسَ الْحَكِيمَ ذَكَرَ أَنَّهُ عَرَضَ لِقَوْمٍ مِنَ الْمُتَأَلِّهِينَ حَالَةٌ شَبِيهَةٌ بِحَالَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَيَدُلُّ التَّارِيخُ على أنهم كانوا قبل أصحاب الكهف. [سورة الكهف (18) : آية 27] وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) اعْلَمْ أَنَّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ كَلَامٌ وَاحِدٌ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ أَكَابِرَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ احْتَجُّوا وَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ نُؤْمِنَ بِكَ فَاطْرُدْ مِنْ عِنْدِكَ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا بِكَ وَاللَّهُ تعالى

[سورة الكهف (18) : آية 28]

نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَمَنَعَهُ عَنْهُ وَأَطْنَبَ فِي جُمْلَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي بَيَانِ أَنَّ الَّذِي اقْتَرَحُوهُ وَالْتَمَسُوهُ مَطْلُوبٌ فَاسِدٌ وَاقْتِرَاحٌ بَاطِلٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْأَصْلَ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْئًا وَاحِدًا وَهُوَ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى تِلَاوَةِ الْكِتَابِ الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَعَلَى الْعَمَلِ بِهِ وَأَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى اقْتِرَاحِ الْمُقْتَرِحِينَ وَتَعَنُّتِ الْمُتَعَنِّتِينَ فَقَالَ: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَةٌ وَهِيَ: إِنَّ قَوْلَهُ: اتْلُ يَتَنَاوَلُ الْقِرَاءَةَ وَيَتَنَاوَلُ الِاتِّبَاعَ فَيَكُونُ الْمَعْنَى الْزَمْ قِرَاءَةَ الْكِتَابِ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ وَالْزَمِ الْعَمَلَ بِهِ ثُمَّ قَالَ: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أَيْ يَمْتَنِعُ تَطَرُّقُ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ إِلَيْهِ وَهَذِهِ الْآيَةُ يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهَا فِي إِثْبَاتِ أَنَّ تَخْصِيصَ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ غَيْرُ جَائِزٍ لأن قوله: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ مَعْنَاهُ الْزَمِ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى هَذَا الْكِتَابِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى ظَاهِرِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَيَجِبُ أَلَّا يَتَطَرَّقَ النَّسْخُ إِلَيْهِ قُلْنَا هَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ فَلَيْسَ يَبْعُدُ، وَأَيْضًا فَالنَّسْخُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِتَبْدِيلٍ لِأَنَّ الْمَنْسُوخَ ثَابِتٌ فِي وَقْتِهِ إِلَى وَقْتِ طَرَيَانِ النَّاسِخِ فَالنَّاسِخُ كَالْغَايَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ تَبْدِيلًا. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُلْتَحَدَ هُوَ الْمَلْجَأُ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: هُوَ مِنْ لَحَدَ وَأَلْحَدَ إِذَا مَالَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ [النَّحْلِ: 103] وَالْمُلْحِدُ الْمَائِلُ عَنِ الدِّينِ وَالْمَعْنَى وَلَنْ تَجِدَ من دونه ملجأ في البيان والرشاد. [سورة الكهف (18) : آية 28] وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) [في قوله تعالى وَاصْبِرْ نَفْسَكَ] اعْلَمْ أَنَّ أَكَابِرَ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا وَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ نُؤْمِنَ بِكَ فَاطْرُدْ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءَ مِنْ عِنْدِكَ، فَإِذَا حَضَرْنَا لَمْ يَحْضُرُوا، وَتُعَيِّنُ لَهُمْ وَقْتًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ عِنْدَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الْأَنْعَامِ: 52] الْآيَةَ فَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ طَرْدُهُمْ بَلْ تُجَالِسُهُمْ وَتُوَافِقُهُمْ وَتُعَظِّمُ شَأْنَهُمْ وَلَا تَلْتَفِتُ إِلَى أَقْوَالِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ وَلَا تُقِيمُ لَهُمْ فِي نَظَرِكَ وَزْنًا سَوَاءٌ غَابُوا أَوْ حَضَرُوا. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مُنْقَطِعَةٌ عَمَّا قَبْلَهَا وَكَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مُسْتَقِلٌّ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ سَبَقَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ [الْأَنْعَامِ: 52] فَفِي تِلْكَ الْآيَةِ نَهَى الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ طَرْدِهِمْ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَمَرَهُ بِمُجَالَسَتِهِمْ وَالْمُصَابَرَةِ مَعَهُمْ فَقَوْلُهُ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ أَصْلُ الصَّبْرِ الْحَبْسُ وَمِنْهُ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَصْبُورَةِ وَهِيَ الْبَهِيمَةُ تُحْبَسُ فَتُرْمَى، أَمَّا قَوْلُهُ: مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالْغُدْوَةِ بِضَمِّ الْغَيْنِ وَالْبَاقُونَ بِالْغَدَاةِ وَكِلَاهُمَا لُغَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ كَوْنُهُمْ مُوَاظِبِينَ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَيْسَ لِفُلَانٍ عَمَلٌ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إِلَّا شَتْمَ النَّاسِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ. الثَّالِثُ: الْمُرَادُ أَنَّ الْغَدَاةَ هِيَ الْوَقْتُ الَّذِي يَنْتَقِلُ الْإِنْسَانُ فِيهِ مِنَ النَّوْمِ إِلَى الْيَقَظَةِ وَهَذَا الِانْتِقَالُ شَبِيهٌ بِالِانْتِقَالِ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ وَالْعَشِيُّ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَنْتَقِلُ الْإِنْسَانُ فِيهِ مِنَ الْيَقَظَةِ إِلَى النَّوْمِ وَمِنَ الْحَيَاةِ إِلَى الْمَوْتِ وَالْإِنْسَانُ الْعَاقِلُ يَكُونُ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ كَثِيرَ الذِّكْرِ لِلَّهِ عَظِيمَ الشُّكْرِ لِآلَاءِ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ يُقَالُ عَدَاهُ إِذَا جَاوَزَهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ عَدَا طَوْرَهُ وَجَاءَ الْقَوْمُ عَدَا زَيْدًا وَإِنَّمَا عُدِّيَ بِلَفْظَةِ عَنْ لِأَنَّهَا تُفِيدُ الْمُبَاعَدَةَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ تِلْكَ الْمُبَاعَدَةِ وَقُرِئَ: وَلَا تُعَدِّ عَيْنَيْكَ وَلَا تُعَدِّ عَيْنَيْكَ مِنْ أَعْدَاهُ وَعَدَّاهُ نقلا بالهمزة وتثقيل الحشو ومنه قوله شعر:

فَعَدِّ عَمَّا تَرَى إِذْ لَا ارْتِجَاعَ لَهُ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ أَنْ يَزْدَرِيَ فُقَرَاءَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ تَنْبُوَ عَيْنَاهُ عَنْهُمْ لِأَجْلِ رَغْبَتِهِ فِي مُجَالَسَةِ الْأَغْنِيَاءِ وَحُسْنِ صُورَتِهِمْ وَقَوْلِهِ: تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا نُصِبَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. يَعْنِي أَنَّكَ [إِنْ] فَعَلْتَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إِقْدَامُكَ عَلَيْهِ إِلَّا لِرَغْبَتِكَ فِي زِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَمَّا بَالَغَ فِي أَمْرِهِ بِمُجَالَسَةِ الْفُقَرَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَالَغَ فِي النَّهْيِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَقْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ وَالْمُتَكَبِّرِينَ فَقَالَ: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ الْجَهْلَ وَالْغَفْلَةَ فِي قُلُوبِ الْجُهَّالِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَغْفَلْنا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَغْفَلْنا قَلْبَهُ/ عَنْ ذِكْرِنا أَنَّا وَجَدْنَا قَلْبَهُ غَافِلًا وَلَيْسَ الْمُرَادُ خَلْقَ الْغَفْلَةِ فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ معديكرب الزَّبِيدِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِبَنِي سُلَيْمٍ: قَاتَلْنَاكُمْ فَمَا أَجَبْنَاكُمْ، وَسَأَلْنَاكُمْ فَمَا أَبْخَلْنَاكُمْ، وَهَجَوْنَاكُمْ فَمَا أَفْحَمْنَاكُمْ، أَيْ مَا وَجَدْنَاكُمْ جُبَنَاءَ وَلَا بُخَلَاءَ وَلَا مُفْحَمِينَ. ثُمَّ نَقُولُ: حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ وَلَوْ كَانَ تَعَالَى خَلَقَ الْغَفْلَةَ فِي قَلْبِهِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ قَلْبَهُ غَافِلًا لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا فَاتَّبَعَ هَوَاهُ. لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُطَاوَعَةِ، وَهِيَ إِنَّمَا تُعْطَفُ بِالْفَاءِ لَا بِالْوَاوِ، وَيُقَالُ: كَسَرْتُهُ فَانْكَسَرَ وَدَفَعْتُهُ فَانْدَفَعَ وَلَا يُقَالُ: وَانْكَسَرَ وَانْدَفَعَ. الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّبَعَ هَواهُ وَلَوْ كَانَ تَعَالَى أَغْفَلَ فِي الْحَقِيقَةِ قَلْبَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَافَ ذَلِكَ إِلَى اتِّبَاعِهِ هَوَاهُ. وَالْجَوَابُ: قَوْلُهُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَغْفَلْنا أَيْ وَجَدْنَاهُ غَافِلًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَحْصِيلَ الْغَفْلَةِ فِيهِ. قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاشْتِرَاكَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ وَزْنَ الْأَفْعَالِ حَقِيقَةٌ فِي أَحَدِهِمَا مَجَازٌ فِي الْآخَرِ وَجَعْلُهُ حَقِيقَةً فِي التَّكْوِينِ مَجَازًا فِي الْوِجْدَانِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَجِيءَ بِنَاءِ الْأَفْعَالِ بِمَعْنَى التَّكْوِينِ أَكْثَرُ مِنْ مَجِيئِهِ بِمَعْنَى الْوِجْدَانِ وَالْكَثْرَةُ دَلِيلُ الرُّجْحَانِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ مُبَادَرَةَ الْفَهْمِ مِنْ هَذَا الْبِنَاءِ إِلَى التَّكْوِينِ أَكْثَرُ مِنْ مُبَادَرَتِهِ إِلَى الْوِجْدَانِ وَمُبَادَرَةُ الْفَهْمِ دَلِيلُ الرُّجْحَانِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّا إِنْ جَعَلْنَاهُ حَقِيقَةً فِي التَّكْوِينِ أَمْكَنَ جَعْلُهُ مَجَازًا فِي الْوِجْدَانِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالشَّيْءِ تَابِعٌ لِحُصُولِ الْمَعْلُومِ، فَجَعْلُ اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي الْمَتْبُوعِ وَمَجَازًا فِي التَّبَعِ مُوَافِقٌ لِلْمَعْقُولِ، أَمَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ حَقِيقَةً فِي الْوِجْدَانِ مَجَازًا فِي الْإِيجَادِ لَزِمَ جَعْلُهُ حَقِيقَةً فِي التَّبَعِ مَجَازًا فِي الْأَصْلِ وَأَنَّهُ عَكْسُ الْمَعْقُولِ فَثَبَتَ أَنَّ الْأَصْلَ جَعْلُ هَذَا الْبِنَاءِ حَقِيقَةً فِي الْإِيجَادِ لَا فِي الْوِجْدَانِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ إِنَّا نُسَلِّمُ كَوْنَ اللَّفْظِ مُشْتَرِكًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِيجَادِ وَإِلَى الْوِجْدَانِ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ يَجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِ: أَغْفَلْنا عَلَى إِيجَادِ الْغَفْلَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ كَوْنُ الْعَبْدِ مُوجِدًا لِلْغَفْلَةِ فِي نَفْسِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا حَاوَلَ إِيجَادَ الْغَفْلَةِ، فَإِمَّا أَنْ يُحَاوِلَ إِيجَادَ مُطْلَقِ الْغَفْلَةِ أَوْ يُحَاوِلَ إِيجَادَ الْغَفْلَةِ عَنْ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ بِأَنْ تَحْصُلَ لَهُ الْغَفْلَةُ عَنْ هَذَا الشَّيْءِ أَوْلَى بِأَنْ تَحْصُلَ لَهُ الْغَفْلَةُ عَنْ شَيْءٍ آخَرَ، لِأَنَّ الطَّبِيعَةَ الْمُشْتَرَكَ فِيهَا بَيْنَ الْأَنْوَاعِ الْكَثِيرَةِ تَكُونُ نِسْبَتُهَا إِلَى كُلِّ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ عَلَى السَّوِيَّةِ، أَمَّا الثَّانِي فَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْغَفْلَةَ عَنْ كَذَا عِبَارَةٌ عَنْ غَفْلَةٍ لَا تَمْتَازُ عَنْ سَائِرِ أَقْسَامِ الْغَفَلَاتِ إِلَّا بِكَوْنِهَا مُنْتَسِبَةً إِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ بِعَيْنِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْصِدَ إِلَى إِيجَادِ الْغَفْلَةِ عَنْ كَذَا إِلَّا إِذَا تَصَوَّرَ أَنَّ تِلْكَ الْغَفْلَةَ غَفْلَةٌ عَنْ كَذَا،

وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَصَوَّرَ كَوْنَ تِلْكَ الْغَفْلَةِ غَفْلَةً عَنْ كَذَا إِلَّا إِذَا تَصَوَّرَ كَذَا لِأَنَّ الْعِلْمَ بِنِسْبَةِ أَمْرٍ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ مَشْرُوطٌ بِتَصَوُّرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ. فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْقَصْدُ إِلَى إِيجَادِ الْغَفْلَةِ عَنْ كَذَا إِلَّا مَعَ الشُّعُورِ بِكَذَا لَكِنَّ الْغَفْلَةَ عَنْ كَذَا ضِدُّ الشُّعُورِ بِكَذَا، فَثَبَتَ/ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْكِنُهُ إِيجَادُ هَذِهِ الْغَفْلَةِ إِلَّا عِنْدَ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى إِيجَادِ الْغَفْلَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَالِقُ الْغَفَلَاتِ وَمُوجِدُهَا فِي الْعِبَادِ هُوَ اللَّهَ، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ قَاطِعَةٌ فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ هُوَ إِيجَادُ الْغَفْلَةِ لَا وِجْدَانُهَا، أَمَّا حَدِيثُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ فَقَدْ عَارَضْنَاهُ مِرَارًا وَأَطْوَارًا بِالْعِلْمِ وَالدَّاعِي، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الْكَهْفِ: 29] فَالْبَحْثُ عَنْهُ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ إِيجَادَ الْغَفْلَةِ لَوَجَبَ ذِكْرُ الْفَاءِ، لَا ذِكْرُ الْوَاوِ، فَنَقُولُ: هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ خَلْقُ الْغَفْلَةِ فِي الْقَلْبِ مِنْ لَوَازِمِهِ حُصُولُ اتِّبَاعِ الْهَوَى كَمَا أَنَّ الْكَسْرَ مِنْ لَوَازِمِهِ حُصُولُ الِانْكِسَارِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ الْغَفْلَةِ عَنِ اللَّهِ حُصُولُ مُتَابَعَةِ الْهَوَى لِاحْتِمَالِ أَنْ يَصِيرَ غَافِلًا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَتَّبِعُ الْهَوَى بَلْ يَبْقَى مُتَوَقِّفًا لَا يُنَافِي مَقَامَ الْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْكُلِّ فَسَقَطَ هَذَا السُّؤَالُ، وَذَكَرَ الْقَفَّالُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وُجُوهًا أُخْرَى. فَأَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا صَبَّ عَلَيْهِمُ الدُّنْيَا صَبًّا وَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى رُسُوخِ الْغَفْلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ صَحَّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى حَصَّلَ الْغَفْلَةَ فِي قُلُوبِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نُوحٍ: 6] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَغْفَلْنا أَيْ تَرَكْنَاهُ غَافِلًا فَلَمْ نَسِمْهُ بِسِمَةِ أَهْلِ الطَّهَارَةِ وَالتَّقْوَى وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ بَعِيرٌ غُفْلٌ أَيْ لَا سِمَةَ عَلَيْهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ أَيْ خَلَّاهُ مَعَ الشَّيْطَانِ وَلَمْ يَمْنَعِ الشَّيْطَانَ مِنْهُ فَيُقَالُ فِي: الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: أَنَّ فَتْحَ بَابِ لَذَّاتِ الدُّنْيَا عَلَيْهِ هَلْ يُؤَثِّرُ فِي حُصُولِ الْغَفْلَةِ فِي قَلْبِهِ أَوْ لَا يُؤَثِّرُ، فَإِنْ أَثَّرَ كَانَ أَثَرُ إِيصَالِ اللَّذَّاتِ إِلَيْهِ سَبَبًا لِحُصُولِ الْغَفْلَةِ فِي قَلْبِهِ. وَذَلِكَ عَيْنُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَ مَا يُوجِبُ حُصُولَ الْغَفْلَةِ فِي قَلْبِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي حُصُولِ هَذِهِ الْغَفْلَةِ بَطَلَ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ يُقَالُ فِي: الْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ سَوَّدْنَا قَلْبَهُ وَبَيَّضْنَا وَجْهَهُ وَلَا يُفِيدُ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ، وَيُقَالُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ إِنْ كَانَ لِتِلْكَ التَّخْلِيَةِ أَثَرٌ فِي حُصُولِ تِلْكَ الْغَفْلَةِ فَقَدْ صَحَّ قَوْلُنَا، وَإِلَّا بَطَلَ اسْتِنَادُ تِلْكَ الْغَفْلَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرَّ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ خَالِيًا عَنْ ذِكْرِ الْحَقِّ وَيَكُونَ مَمْلُوءًا مِنَ الْهَوَى الدَّاعِي إِلَى الِاشْتِغَالِ بِالْخَلْقِ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ نُورٌ وَذِكْرَ غَيْرِهِ ظُلْمَةٌ لِأَنَّ الْوُجُودَ طَبِيعَةُ النُّورِ وَالْعَدَمَ مَنْبَعُ الظُّلْمَةِ، وَالْحَقَّ تَعَالَى وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ فَكَانَ النُّورُ الْحَقُّ هُوَ اللَّهَ، وَمَا سِوَى اللَّهِ فَهُوَ مُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ. وَالْإِمْكَانُ طَبِيعَةٌ عَدَمِيَّةٌ فَكَانَ مَنْبَعَ الظُّلْمَةِ فَالْقَلْبُ إِذَا أَشْرَقَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ فَقَدْ حَصَلَ فِيهِ النُّورُ وَالضَّوْءُ وَالْإِشْرَاقُ، وَإِذَا تَوَجَّهَ الْقَلْبُ إِلَى الْخَلْقِ فَقَدْ حَصَلَ فِيهِ الظُّلْمُ وَالظُّلْمَةُ بَلِ الظُّلُمَاتُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ إِذَا أَعْرَضَ الْقَلْبُ عَنِ الْحَقِّ وَأَقْبَلَ عَلَى الْخَلْقِ فَهُوَ الظُّلْمَةُ الْخَالِصَةُ التَّامَّةُ، فَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْحَقِّ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْخَلْقِ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَاتَّبَعَ هَواهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قِيلَ: فُرُطاً أَيْ مُجَاوِزًا لِلْحَدِّ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَسٌ فُرُطٌ، إِذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا الْخَيْلَ، قَالَ اللَّيْثُ: الْفُرُطُ الْأَمْرُ الَّذِي يُفْرَطُ فِيهِ يُقَالُ كُلُّ أَمْرِ فُلَانٍ فُرُطٌ، وَأَنْشَدَ شِعْرًا:

[سورة الكهف (18) : آية 29]

لَقَدْ كَلَّفَنِي شَطَطَا ... وَأَمْرًا خَائِبًا فُرُطَا أَيْ مُضَيَّعًا، فَقَوْلُهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي يَلْزَمُهُ الْحِفْظُ لَهُ وَالِاهْتِمَامُ بِهِ وَهُوَ أَمْرُ دِينِهِ يَكُونُ مَخْصُوصًا بِإِيقَاعِ التَّفْرِيطِ وَالتَّقْصِيرِ فِيهِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ صِفَةُ مَنْ لَا يَنْظُرُ لِدِينِهِ وَإِنَّمَا عَمَلُهُ لِدُنْيَاهُ. فَبَيَّنَ تَعَالَى مِنْ حَالِ الْغَافِلِينَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ التَّابِعِينَ لِهَوَاهُمْ أَنَّهُمْ مُقَصِّرُونَ فِي مُهِمَّاتِهِمْ مُعْرِضُونَ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّدَبُّرِ فِي الْآيَاتِ وَالتَّحَفُّظِ بِمُهِمَّاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءَ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ غَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَقَالَ: مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَوَصَفَ هَؤُلَاءِ الْأَغْنِيَاءَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِقْبَالِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَغْفَلْنا قَلْبَهُ واتَّبَعَ هَواهُ ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَهُ بِمُجَالَسَةِ أُولَئِكَ وَالْمُبَاعَدَةِ عَنْ هَؤُلَاءِ، رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا فِي عِصَابَةٍ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَإِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَسْتُرُ بَعْضًا مِنَ الْعُرْيِ وَقَارِئٌ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَاذَا كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ وَاحِدٌ يَقْرَأُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَنَحْنُ نَسْتَمِعُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ أُمِرْتُ إِلَى أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُمْ» ثُمَّ جَلَسَ وَسَطَنَا وَقَالَ: «أَبْشِرُوا يَا صَعَالِيكَ الْمُهَاجِرِينَ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِمِقْدَارِ خمسين ألف سنة» . [سورة الكهف (18) : آية 29] وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَقْرِيرِ النَّظْمِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى أُولَئِكَ الْأَغْنِيَاءِ الَّذِينَ قَالُوا إِنْ طَرَدْتَ الْفُقَرَاءَ آمَنَّا بِكَ، قَالَ بَعْدَهُ: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ قُلْ لِهَؤُلَاءِ إِنَّ هَذَا الدِّينَ الْحَقَّ إِنَّمَا أَتَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَإِنْ قَبِلْتُمُوهُ عَادَ النَّفْعُ إِلَيْكُمْ وَإِنْ لَمْ تَقْبَلُوهُ عَادَ الضَّرَرُ إِلَيْكُمْ وَلَا تَعَلُّقَ لِذَلِكَ بِالْفَقْرِ وَالْغِنَى وَالْقُبْحِ وَالْحُسْنِ وَالْخُمُولِ وَالشُّهْرَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ النَّظْمِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْحَقَّ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالْحَقُّ الَّذِي/ جَاءَنِي مِنْ عِنْدِهِ أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِيَ مَعَ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ وَلَا أَطْرُدَهُمْ وَلَا أَلْتَفِتَ إِلَى الرُّؤَسَاءِ وَأَهْلِ الدُّنْيَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَقْرِيرِ النَّظْمِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْذَنْ فِي طَرْدِ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا لِأَجْلِ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْإِيمَانِ جَمْعٌ مِنَ الْكُفَّارِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ الْعَقْلَ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الْأَهَمِّ عَلَى الْمُهِمِّ فَطَرْدُ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ لَا يُوجِبُ إِلَّا سُقُوطَ حُرْمَتِهِمْ وَهَذَا ضَرَرٌ قَلِيلٌ. أَمَّا عَدَمُ طَرْدِهِمْ فَإِنَّهُ يُوجِبُ بَقَاءَ الْكُفَّارِ عَلَى الْكُفْرِ، وَهَذَا ضَرَرٌ عَظِيمٌ، قُلْنَا: أَمَّا عَدَمُ طَرْدِهِمْ فَإِنَّهُ يُوجِبُ بَقَاءَ الْكُفَّارِ عَلَى الْكُفْرِ فَمُسَلَّمٌ إِلَّا أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْإِيمَانَ لِأَجْلِ الْحَذَرِ مِنْ مُجَالَسَةِ الْفُقَرَاءِ فَإِيمَانُهُ لَيْسَ بِإِيمَانٍ بَلْ هُوَ نِفَاقٌ قَبِيحٌ، فَوَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى إِيمَانِ مَنْ هَذَا حَالُهُ وَصِفَتُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ مُفَوَّضٌ إِلَى الْعَبْدِ وَاخْتِيَارِهِ. فَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ صَرِيحَ الْقُرْآنِ، وَلَقَدْ سَأَلَنِي بَعْضُهُمْ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقُلْتُ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ حُصُولَ الْإِيمَانِ وَحُصُولَ الْكُفْرِ مَوْقُوفٌ عَلَى حُصُولِ مَشِيئَةِ الْإِيمَانِ وَحُصُولِ مَشِيئَةِ الْكُفْرِ وَصَرِيحُ الْعَقْلِ أَيْضًا

يَدُلُّ لَهُ، فَإِنَّ الْعَقْلَ الِاخْتِيَارِيَّ يَمْتَنِعُ حُصُولُهُ بِدُونِ الْقَصْدِ إِلَيْهِ وَبِدُونِ الِاخْتِيَارِ لَهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ حُصُولُ ذَلِكَ الْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ إِنْ كَانَ بِقَصْدٍ آخَرَ يَتَقَدَّمُهُ وَاخْتِيَارٍ آخَرَ يَتَقَدَّمُهُ لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ مَسْبُوقًا بِقَصْدٍ آخَرَ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ وَهُوَ مُحَالٌ. فَوَجَبَ انْتِهَاءُ تِلْكَ الْقُصُودِ وَتِلْكَ الِاخْتِيَارَاتِ إِلَى قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَبْدِ عَلَى سَبِيلِ الضَّرُورَةِ عِنْدَ حُصُولِ ذَلِكَ الْقَصْدِ الضَّرُورِيِّ وَالِاخْتِيَارُ الضَّرُورِيُّ يُوجِبِ الْفِعْلَ، فَالْإِنْسَانُ شَاءَ أَوْ لَمْ يَشَأْ إِنْ لَمْ تَحْصُلْ فِي قَلْبِهِ تِلْكَ الْمَشِيئَةُ الْجَازِمَةُ الْخَالِيَةُ عَنِ الْمُعَارِضِ لَمْ يَتَرَتَّبِ الْفِعْلُ، وَإِذَا حَصَلَتْ تِلْكَ الْمَشِيئَةُ الْجَازِمَةُ شَاءَ أَوْ لَمْ يَشَأْ يَجِبُ تَرَتُّبُ الْفِعْلِ عَلَيْهِ، فَلَا حُصُولُ الْمَشِيئَةِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى حُصُولِ الْفِعْلِ، وَلَا حُصُولُ الْفِعْلِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْمَشِيئَةِ. فَالْإِنْسَانُ مُضْطَرٌّ فِي صُورَةِ مُخْتَارٍ، وَلَقَدْ قَرَّرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَابِ التَّوَكُّلِ مِنْ كِتَابِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي وِجْدَانًا ضَرُورِيًّا أَنِّي إِنْ شِئْتُ الْفِعْلَ قَدَرْتُ عَلَى الْفِعْلِ وَإِنْ شِئْتُ التَّرْكَ قَدَرْتُ عَلَى التَّرْكِ فَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ بِي لَا بِغَيْرِي. وَأَجَابَ عَنْهُ، وَقَالَ: هَبْ أَنَّكَ تَجِدُ مِنْ نَفْسِكَ هَذَا الْمَعْنَى وَلَكِنْ هَلْ تَجِدُ مِنْ نَفْسِكَ أَنَّكَ إِنْ شِئْتَ مَشِيئَةَ الْفِعْلِ حَصَلَتْ تِلْكَ الْمَشِيئَةُ، وَإِنْ لَمْ تَشَأْ تِلْكَ الْمَشِيئَةَ لَمْ تَحْصُلْ. بَلِ الْعَقْلُ يَشْهَدُ بِأَنَّهُ يَشَاءُ الْفِعْلَ لَا بِسَبْقِ مَشِيئَةٍ أُخْرَى عَلَى تِلْكَ الْمَشِيئَةِ، وَإِذَا شَاءَ الْفِعْلَ وَجَبَ حُصُولُ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ مُكْنَةٍ وَاخْتِيَارٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَحُصُولُ الْمَشِيئَةِ فِي الْقَلْبِ أَمْرٌ لَازِمٌ وَتَرَتُّبُ الْفِعْلِ عَلَى حُصُولِ الْمَشِيئَةِ أَيْضًا أَمْرٌ لَازِمٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ فِيهِ فَوَائِدُ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ صُدُورَ الْفِعْلِ عَنِ الْفَاعِلِ بِدُونِ الْقَصْدِ وَالدَّاعِي مُحَالٌ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لَا لِمَعْنَى الطَّلَبِ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَثِيرَةٌ ثُمَّ نُقِلَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ هَذِهِ الصِّيغَةُ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ وَلَيْسَتْ بِتَخْيِيرٍ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَنْتَفِعُ بِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَسْتَضِرُّ بِكُفْرِ الْكَافِرِينَ، بَلْ نَفْعُ الْإِيمَانِ يَعُودُ عَلَيْهِمْ، وَضَرَرُ الْكُفْرِ يَعُودُ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: 7] ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ وَالْبَاطِلَ وَالْحَقَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الْوَعِيدِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِلَةِ، وَبِذِكْرِ الْوَعْدِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. أَمَّا الْوَعِيدُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا يَقُولُ أَعْتَدْنَا لِمَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَوَضَعَ الْعِبَادَةَ فِي غَيْرِ موضعها والأنفة في غير محلها فعند ما اسْتَحْسَنَ بِهَوَاهُ وَأَنِفَ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ لِأَجْلِ أَنَّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فُقَرَاءُ وَمَسَاكِينُ، فَهَذَا كُلُّهُ ظُلْمٌ وَوَضْعٌ لِلشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَعَدَّ لِهَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ نَارًا وَهِيَ الْجَحِيمُ، ثُمَّ وَصَفَ تَعَالَى تِلْكَ النَّارَ بِصِفَتَيْنِ: الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَالسُّرَادِقُ هو الحجزة الَّتِي تَكُونُ حَوْلَ الْفُسْطَاطِ فَأَثْبَتَ لِلنَّارِ شَيْئًا شَبِيهًا بِذَلِكَ يُحِيطُ بِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهَا وَلَا فُرْجَةَ يَتَفَرَّجُونَ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا وَرَاءَهَا مِنْ غَيْرِ النَّارِ بَلْ هِيَ مُحِيطَةٌ بِهِمْ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا السُّرَادِقِ الدُّخَّانُ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [الْمُرْسَلَاتِ: 30] وَقَالُوا: هَذِهِ الْإِحَاطَةُ بِهِمْ إِنَّمَا تَكُونُ قَبْلَ دُخُولِهِمُ النَّارَ فَيَغْشَاهُمْ هَذَا الدُّخَانُ وَيُحِيطُ بِهِمْ كَالسُّرَادِقِ حَوْلَ الْفُسْطَاطِ. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: لِهَذِهِ النَّارِ قَوْلُهُ: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ قِيلَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ إِنَّهُ دَرْدِيُّ الزَّيْتِ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَلَ بيت المال

[سورة الكهف (18) : الآيات 30 إلى 31]

وَأَخْرَجَ نُفَاثَةً كَانَتْ فِيهِ وَأَوْقَدَ عَلَيْهَا النَّارَ حَتَّى تَلَأْلَأَتْ ثُمَّ قَالَ: هَذَا هُوَ الْمُهْلُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ كُلُّ شَيْءٍ أَذَبْتَهُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ فِضَّةٍ فَهُوَ الْمُهْلُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الصَّدِيدُ وَالْقَيْحُ، وَقِيلَ إِنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْقَطْرَانِ. ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الِاسْتِغَاثَةُ لِأَنَّهُمْ إِذَا طَلَبُوا مَاءً لِلشُّرْبِ فَيُعْطَوْنَ هَذَا الْمُهْلَ قَالَ تَعَالَى: تَصْلى نَارًا حامِيَةً تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الْغَاشِيَةِ: 4، 5] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَسْتَغِيثُوا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ فَيَطْلُبُوا مَاءً يَصُبُّونَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِلتَّبْرِيدِ فَيُعْطَوْنَ هَذَا الْمَاءَ. قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ [الْأَعْرَافِ: 50] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إِبْرَاهِيمَ: 50] فَإِذَا اسْتَغَاثُوا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ صُبَّ عَلَيْهِمُ الْقَطْرَانُ الَّذِي يَعُمُّ كُلَّ أَبْدَانِهِمْ كَالْقَمِيصِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ كَقَوْلِهِ: تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بِئْسَ الشَّرابُ أَيْ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي هُوَ كَالْمُهْلِ بِئْسَ الشَّرَابُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِشُرْبِ الشَّرَابِ تَسْكِينُ الْحَرَارَةِ وَهَذَا يَبْلُغُ فِي احْتِرَاقِ الْأَجْسَامِ مَبْلَغًا عَظِيمًا ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَساءَتْ مُرْتَفَقاً قَالَ قَائِلُونَ: سَاءَتِ النَّارُ مَنْزِلًا وَمُجْتَمَعًا لِلرُّفْقَةِ لِأَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَجْتَمِعُونَ رُفَقَاءَ كَأَهْلِ الْجَنَّةِ. قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النِّسَاءِ: 69] وَأَمَّا رُفَقَاءُ النَّارِ فَهُمُ الْكُفَّارُ وَالشَّيَاطِينُ/ وَالْمَعْنَى بِئْسَ الرُّفَقَاءُ هَؤُلَاءِ وَبِئْسَ مَوْضِعُ التَّرَافُقِ النَّارُ كَمَا أَنَّهُ نِعْمَ الرُّفَقَاءُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَنِعْمَ مَوْضِعُ الرُّفَقَاءِ الْجَنَّةُ. وَقَالَ آخَرُونَ مُرْتَفَقًا أَيْ مُتَّكَأً، وَسُمِّيَ الْمِرْفَقُ مِرْفَقًا لِأَنَّهُ يُتَّكَأُ عَلَيْهِ، فَالِاتْكَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ لِلِاسْتِرَاحَةِ، وَالْمُرْتَفَقُ مَوْضِعُ الِاسْتِرَاحَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة الكهف (18) : الآيات 30 الى 31] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الْمُبْطِلِينَ أَرْدَفَهُ بِوَعْدِ الْمُحِقِّينَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ مُغَايِرٌ لِلْإِيمَانِ لِأَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ الْمُغَايِرَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ الْمُؤْمِنُ بِحُسْنِ عَمَلِهِ عَلَى اللَّهِ أَجْرًا، وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا ذَلِكَ الِاسْتِيجَابُ حَصَلَ بِحُكْمِ الْوَعْدِ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لِذَاتِ الْفِعْلِ وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ كَثِيرَةٌ وَهِيَ مُوجِبَةٌ لِلشُّكْرِ وَالْعُبُودِيَّةِ فَلَا يَصِيرُ الشُّكْرُ وَالْعُبُودِيَّةُ مُوَجِبَيْنِ لِثَوَابٍ آخَرَ لِأَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا آخَرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: نَظِيرُ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِلَخْ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ ... سِرْبَالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجَى الْخَوَاتِيمُ كَرَّرَ إِنَّ تَأْكِيدًا لِلْأَعْمَالِ وَالْجَزَاءِ عَلَيْهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أُولَئِكَ خَبَرُ إِنَّ وَإِنَّا لَا نُضِيعُ اعْتِرَاضٌ وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ إِنَّا لا نضيع وأولئك خَبَرَيْنِ مَعًا وَلَكَ

[سورة الكهف (18) : الآيات 32 إلى 44]

أَنْ تَجْعَلَ أُولَئِكَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا بَيَانًا لِلْأَجْرِ الْمُبْهَمِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَثْبَتَ الْأَجْرَ الْمُبْهَمَ أَرْدَفَهُ بِالتَّفْصِيلِ مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: صِفَةُ مَكَانِهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَالْعَدْنُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِقَامَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ إِقَامَةٍ كَمَا يُقَالُ هَذِهِ دَارُ إِقَامَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَدْنُ اسْمًا لِمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْجَنَّةِ/ وَهُوَ وَسَطُهَا وَأَشْرَفُ أَمَاكِنِهَا وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا فِيهِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَقَوْلُهُ: جَنَّاتُ لَفْظُ جَمْعٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا قَالَهُ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَنِ: 46] وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ نَصِيبَ كَلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ جَنَّةٌ عَلَى حِدَةٍ وَذُكِرَ أَنَّ مِنْ صِفَاتِ تِلْكَ الْجَنَّاتِ أَنَّ الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ أَفْضَلَ الْمَسَاكِنِ فِي الدُّنْيَا الْبَسَاتِينُ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْأَنْهَارُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ لِبَاسَ أَهْلِ الدُّنْيَا إِمَّا لِبَاسُ التَّحَلِّي، وَإِمَّا لِبَاسُ التَّسَتُّرِ، أَمَّا لِبَاسُ التَّحَلِّي فَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَتِهِ: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُحَلِّيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ أَوْ تُحَلِّيهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ أَسْوِرَةٍ سِوَارٌ مِنْ ذَهَبٍ لِأَجْلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَسِوَارٌ مِنْ فِضَّةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ [الْإِنْسَانِ: 21] وَسِوَارٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ [الْحَجِّ: 23] ، وَأَمَّا لِبَاسُ التَّسَتُّرِ فَقَوْلُهُ: وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ وَالْمُرَادُ مِنْ سُنْدُسِ الْآخِرَةِ وَإِسْتَبْرَقِ الْآخِرَةِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الدِّيبَاجُ الرَّقِيقُ وَهُوَ الْخَزُّ وَالثَّانِي هُوَ الدِّيبَاجُ الصَّفِيقُ وَقِيلَ أَصْلُهُ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ وَهُوَ اسْتَبْرَهْ، أَيْ غَلِيظٌ، فَإِنْ قِيلَ: مَا السَّبَبُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْحُلِيِّ: يُحَلَّوْنَ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَقَالَ فِي السُّنْدُسِ وَالْإِسْتَبْرَقِ وَيَلْبَسُونَ فَأَضَافَ اللُّبْسَ إِلَيْهِمْ، قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللُّبْسُ إِشَارَةً إِلَى مَا اسْتَوْجَبُوهُ بِعَمَلِهِمْ وَأَنْ يَكُونَ الْحُلِيُّ إِشَارَةً إِلَى مَا تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمِ ابْتِدَاءً مِنْ زَوَائِدِ الْكَرَمِ. وَثَالِثُهَا: كَيْفِيَّةُ جُلُوسِهِمْ فَقَالَ فِي صِفَتِهَا مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ. قَالُوا: الْأَرَائِكُ جَمْعُ أَرِيكَةٍ وَهِيَ سَرِيرٌ فِي حجلة، أما للسرير وَحْدَهُ فَلَا يُسَمَّى أَرِيكَةً. وَلَمَّا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَقْسَامَ قَالَ: نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً وَالْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي مُقَابَلَةِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَساءَتْ مُرْتَفَقاً. [سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)

اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْكُفَّارَ افْتَخَرُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْصَارِهِمْ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُوجِبُ الِافْتِخَارَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَصِيرَ الْفَقِيرُ غَنِيًّا وَالْغَنِيُّ فَقِيرًا، أَمَّا الَّذِي يَجِبُ/ حُصُولُ الْمُفَاخِرَةِ بِهِ فَطَاعَةُ اللَّهِ وَعِبَادَتُهُ وَهِيَ حَاصِلَةٌ لِفُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِضَرْبِ هَذَا الْمَثَلِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ فَقَالَ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَيْ مَثَلَ حَالِ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِحَالِ رَجُلَيْنِ كَانَا أَخَوَيْنِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَحَدُهُمَا كَافِرٌ اسْمُهُ بَرَاطُوسَ وَالْآخَرُ مُؤْمِنٌ اسْمُهُ يَهُوذَا وَقِيلَ هُمَا الْمَذْكُورَانِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ [الصَّافَّاتِ: 51] وَرِثَا مِنْ أَبِيهِمَا ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِينَارٍ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ فَاشْتَرَى الْكَافِرُ أَرْضًا فَقَالَ الْمُؤْمِنُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْتَرِي مِنْكَ أَرْضًا فِي الْجَنَّةِ بِأَلْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهِ ثُمَّ بَنَى أَخُوهُ دَارَا بِأَلْفٍ فَقَالَ الْمُؤْمِنُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اشْتَرِي مِنْكَ دَارَا فِي الْجَنَّةِ بِأَلْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهِ ثُمَّ تَزَوَّجَ أَخُوهُ امْرَأَةً بِأَلْفٍ فَقَالَ الْمُؤْمِنُ اللَّهُمَّ إِنِّي جَعَلْتُ أَلْفًا صَدَاقًا لِلْحُورِ الْعِينِ ثُمَّ اشْتَرَى أَخُوهُ خَدَمًا وَضِيَاعًا بِأَلْفٍ فَقَالَ الْمُؤْمِنُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْوِلْدَانَ بِأَلْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهِ ثُمَّ أَصَابَهُ حَاجَةٌ فَجَلَسَ لِأَخِيهِ عَلَى طَرِيقِهِ فَمَرَّ بِهِ فِي حَشَمِهِ فَتَعَرَّضَ لَهُ فَطَرَدَهُ وَوَبَّخَهُ عَلَى التَّصَدُّقِ بِمَالِهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ، فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ تِلْكَ الْجَنَّةَ بِصِفَاتٍ: الصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهَا جَنَّةً وَسُمِّيَ الْبُسْتَانُ جَنَّةً لِاسْتِتَارِ مَا يَسْتَتِرُ فِيهَا بِظِلِّ الْأَشْجَارِ وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ السَّتْرِ وَالتَّغْطِيَةِ، وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ أَيْ وَجَعَلْنَا النَّخْلَ مُحِيطًا بِالْجَنَّتَيْنِ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزُّمَرِ: 75] أَيْ وَاقِفِينَ حَوْلَ الْعَرْشِ مُحِيطِينَ بِهِ، وَالْحِفَافُ جَانِبُ الشَّيْءِ وَالْأَحِفَّةُ جَمْعٌ فَمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ حَفَّ بِهِ الْقَوْمُ أَيْ صَارُوا فِي أَحِفَّتِهِ وَهِيَ جَوَانِبُهُ قَالَ الشَّاعِرُ: لَهُ لَحَظَاتٌ فِي حَفَافَيْ سَرِيرِهِ ... إِذَا كَرَّهَا فِيهَا عِقَابٌ وَنَائِلُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : حَفُّوهُ إِذَا طَافُوا بِهِ، وَحَفَّفْتُهُ بِهِمْ أَيْ جَعَلْتُهُمْ حَافِّينَ حَوْلَهُ وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ فَتَزِيدُهُ الْبَاءُ مَفْعُولًا ثَانِيًا كَقَوْلِهِ: غَشِيتُهُ وَغَشِيتُهُ بِهِ، قَالَ: وَهَذِهِ الصِّفَةُ مِمَّا يُؤْثِرُهَا الدَّهَّاقِينُ فِي كُرُومِهِمْ وَهِيَ أَنْ يَجْعَلُوهَا مَحْفُوفَةً بِالْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ، وَهُوَ أَيْضًا حُسْنٌ فِي الْمَنْظَرِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أُمُورٌ. أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَرْضُ جَامِعَةً لِلْأَقْوَاتِ وَالْفَوَاكِهِ. وَثَانِيهَا: أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَرْضُ مُتَّسِعَةَ الْأَطْرَافِ مُتَبَاعِدَةَ الْأَكْنَافِ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا لَمْ يَتَوَسَّطْهَا مَا يَقْطَعُ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَرْضِ تَأْتِي فِي كُلِّ وَقْتٍ بِمَنْفَعَةٍ أُخْرَى وَهِيَ ثَمَرَةٌ أُخْرَى فَكَانَتْ مَنَافِعُهَا دَارَّةً مُتَوَاصِلَةً. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً كِلَا اسْمٌ مُفْرَدٌ مَعْرِفَةٌ يُؤَكَّدُ بِهِ مُذَكَّرَانِ مَعْرِفَتَانِ، وَكِلْتَا اسْمٌ مُفْرَدٌ يُؤَكَّدُ بِهِ مُؤَنَّثَانِ مَعْرِفَتَانِ. وَإِذَا أُضِيفَا إِلَى الْمُظْهَرِ كَانَا بِالْأَلِفِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ كَقَوْلِكَ جَاءَنِي كِلَا أَخَوَيْكَ، وَرَأَيْتُ كِلَا أَخَوَيْكَ، وَمَرَرْتُ بِكِلَا أَخَوَيْكَ. وَجَاءَنِي كِلْتَا أُخْتَيْكَ، وَرَأَيْتُ كِلْتَا أُخْتَيْكَ، وَمَرَرْتُ بِكِلْتَا أُخْتَيْكَ، وَإِذَا أُضِيفَا إِلَى الْمُضْمَرِ كَانَا فِي الرَّفْعِ بِالْأَلِفِ، وَفِي الْجَرِّ وَالنَّصْبِ بِالْيَاءِ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ مَعَ الْمُضْمَرِ بِالْأَلِفِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ: آتَتْ أُكُلَها حُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ لِأَنَّ كِلْتَا لَفْظُهُ لَفْظُ مُفْرَدٍ وَلَوْ قِيلَ آتَتَا عَلَى الْمَعْنَى لَجَازَ، وَقَوْلُهُ: وَلَمْ تَظْلِمْ/ مِنْهُ شَيْئاً أَيْ لَمْ تَنْقُصْ وَالظُّلْمُ النُّقْصَانُ، يَقُولُ الرَّجُلُ: ظَلَمَنِي حَقِّي

أَيْ نَقَصَنِي. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً أَيْ كَانَ النَّهْرُ يَجْرِي فِي دَاخِلِ تِلْكَ الْجَنَّتَيْنِ. وَفِي قِرَاءَةِ يَعْقُوبَ وَفَجَرْنَا مُخَفَّفَةً وَفِي قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ وَفَجَّرْنَا مُشَدَّدَةً وَالتَّخْفِيفُ هُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ نَهْرٌ وَاحِدٌ وَالتَّشْدِيدُ عَلَى المبالغة لأن النهر يمتد فيكون كأنهار وخِلالَهُما أَيْ وَسَطَهُمَا وَبَيْنَهُمَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ [التَّوْبَةِ: 47] . وَمِنْهُ يُقَالُ خَلَّلْتُ الْقَوْمَ أَيْ دَخَلْتُ بَيْنَ الْقَوْمِ. الصِّفَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ قَرَأَ عَاصِمٌ بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمِيمِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَهُوَ جَمْعُ ثِمَارٍ أَوْ ثَمَرَةٍ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِضَمِّ الثَّاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ فِي الْحَرْفَيْنِ وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الثَّاءِ وَالْمِيمِ فِي الْحَرْفَيْنِ ذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَنَّهُ بِالضَّمِّ أَنْوَاعُ الْأَمْوَالِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهِمَا، وَبِالْفَتْحِ حَمْلُ الشَّجَرِ قَالَ قُطْرُبٌ: كَانَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ يَقُولُ: الثُّمْرُ الْمَالُ وَالْوَلَدُ، وَأَنْشَدَ لِلْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ مَعَاشِرًا ... قَدْ أَثْمَرُوا مَالًا وَوَلَدًا وَقَالَ النَّابِغَةُ: مَهْلًا فِدَاءٌ لَكَ الْأَقْوَامُ كُلُّهُمْ ... مَا أَثْمَرُوهُ أَمِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدِ وَقَوْلُهُ: وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ أَيْ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمَالِ مِنْ ثَمَرَ مَالُهُ إِذَا كَثُرَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ: أَيْ كَانَ مَعَ الْجَنَّتَيْنِ أَشْيَاءُ مِنَ النُّقُودِ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الصِّفَاتِ قَالَ بَعْدَهُ: فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُسْلِمَ كَانَ يُحَاوِرُهُ بِالْوَعْظِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِالْبَعْثِ وَالْمُحَاوَرَةُ مُرَاجَعَةُ الْكَلَامِ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَارَ إِذَا رَجَعَ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ بَلى [الِانْشِقَاقِ: 14، 15] ، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ عِنْدَ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةِ قَالَ الْكَافِرُ: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً وَالنَّفَرُ عَشِيرَةُ الرَّجُلِ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِالذَّبِّ عَنْهُ وَيَنْفِرُونَ مَعَهُ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْكَافِرَ تَرَفَّعَ عَلَى الْمُؤْمِنِ بِجَاهِهِ وَمَالِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ لِذَلِكَ الْمُسْلِمِ كَثْرَةَ مَالِهِ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ فَقَالَ: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَأَرَاهُ إِيَّاهَا عَلَى الْحَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ وَأَخْبَرَهُ بِصُنُوفِ مَا يَمْلِكُهُ مِنَ الْمَالِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ أَفْرَدَ الْجَنَّةَ بَعْدَ التَّثْنِيَةِ؟ قُلْنَا: الْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ جَنَّةٌ وَلَا نَصِيبٌ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ الْمُؤْمِنُونَ وَهَذَا الَّذِي مَلَكَهُ فِي الدُّنْيَا هُوَ جَنَّتُهُ لَا غَيْرَ وَلَمْ يَقْصِدِ الْجَنَّتَيْنِ وَلَا وَاحِدًا مِنْهُمَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ اعْتِرَاضٌ وَقَعَ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، وَالْمُرَادُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا اعْتَزَّ بِتِلْكَ النِّعَمِ وَتَوَسَّلَ بِهَا إِلَى الْكُفْرَانِ وَالْجُحُودِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْبَعْثِ كَانَ وَاضِعًا تِلْكَ النِّعَمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنِ الْكَافِرِ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً فَجَمَعَ بَيْنَ هَذَيْنِ، فَالْأَوَّلُ قَطَعَهُ بِأَنَّ تِلْكَ الأشياء لا تهلك ولا تبيد هذه أَبَدًا مَعَ أَنَّهَا مُتَغَيِّرَةٌ مُتَبَدِّلَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّهُ شَكَّ فِي الْقِيَامَةِ فَكَيْفَ قَالَ: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا مَعَ أَنَّ الْحَدْسَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا ذَاهِبَةٌ بَاطِلَةٌ غَيْرُ بَاقِيَةٍ؟ قُلْنَا: الْمُرَادُ أَنَّهَا لَا تَبِيدُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ وَوُجُودِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً أَيْ مَرْجِعًا وَعَاقِبَةً وَانْتِصَابُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى وَقَوْلُهُ: لَأُوتَيَنَّ مَالًا/ وَوَلَداً [مَرْيَمَ: 77] وَالسَّبَبُ فِي وُقُوعِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَعْطَاهُ الْمَالَ فِي الدُّنْيَا ظَنَّ أَنَّهُ إِنَّمَا أَعْطَاهُ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لَهُ، وَالِاسْتِحْقَاقُ بَاقٍ بَعْدِ الْمَوْتِ فَوَجَبَ حُصُولُ الْعَطَاءِ. وَالْمُقْدِمَةُ الْأُولَى كَاذِبَةٌ فَإِنَّ فَتْحَ بَابِ الدُّنْيَا عَلَى الْإِنْسَانِ يَكُونُ في أكثر الأمر للاستدراج وَالتَّمْلِيَةِ، قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ

كَثِيرٍ خَيْرًا مِنْهُمَا، وَالْمَقْصُودُ عَوْدُ الْكِنَايَةِ إِلَى الْجَنَّتَيْنِ، وَالْبَاقُونَ مِنْهَا، وَالْمَقْصُودُ عَوْدُ الْكِنَايَةِ إِلَى الْجَنَّةِ الَّتِي دَخَلَهَا، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى جَوَابَ الْمُؤْمِنِ فَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ الْأَوَّلَ قَالَ: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَهَذَا الثَّانِي كَفَّرَهُ حَيْثُ قَالَ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّاكَّ فِي حُصُولِ الْبَعْثِ كَافِرٌ. الْبَحْثُ الثَّانِي: هَذَا الِاسْتِدْلَالُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: يَرْجِعُ إِلَى الطَّرِيقَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَرَ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَجَبَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْإِعَادَةِ فَقَوْلُهُ: خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا إِشَارَةٌ إِلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ فِي الِابْتِدَاءِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَكَ هَكَذَا فَلَمْ يَخْلُقْكَ عَبَثًا، وَإِنَّمَا خَلَقَكَ لِلْعُبُودِيَّةِ وَإِذَا خَلَقَكَ لِهَذَا الْمَعْنَى وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ لِلْمُطِيعِ ثَوَابٌ وَلِلْمُذْنِبِ عِقَابٌ وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ يس، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ: ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا أَيْ هَيَّأَكَ هَيْئَةً تَعْقِلُ وَتَصْلُحُ لِلتَّكْلِيفِ فَهَلْ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ مَعَ هَذِهِ الْحَالَةِ إِهْمَالُهُ أَمْرَكَ ثُمَّ قَالَ الْمُؤْمِنُ: لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ لَكُنَّا أَصْلُهُ لَكِنْ أَنَا فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى نُونِ لَكِنْ فَاجْتَمَعَتِ النُّونَانِ فَأُدْغِمَتْ نُونُ لَكِنْ فِي النُّونِ الَّتِي بَعْدَهَا وَمِثْلُهُ: وَتَقْلِينَنِي لَكِنَّ إِيَّاكَ لَا أَقْلِي أَيْ لَكِنْ أَنَا لَا أَقْلِيكِ وهُوَ فِي قَوْلِهِ: هُوَ اللَّهُ رَبِّي ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَقَوْلُهُ: اللَّهُ رَبِّي جُمْلَةٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَاقِعَةٌ فِي مَعْرِضِ الْخَبَرِ لِقَوْلِهِ: هُوَ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: لكِنَّا اسْتِدْرَاكٌ لِمَاذَا؟ قُلْنَا لِقَوْلِهِ: أَكَفَرْتَ كَأَنَّهُ قَالَ لِأَخِيهِ: أَكَفَرْتَ بِاللَّهِ لَكِنِّي مُؤْمِنٌ مُوَحِّدٌ كَمَا تَقُولُ زَيْدٌ غَائِبٌ لَكِنْ عَمْرٌو حَاضِرٌ. وَالْبَحْثُ الثَّانِي: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ: لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي فِي الْوَصْلِ بِالْأَلِفِ. وَفِي قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ: لَكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي بِغَيْرِ أَلِفٍ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ ثُمَّ قَالَ الْمُؤْمِنُ: وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً ذَكَرَ الْقَفَّالُ فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: إِنِّي لَا أَرَى الْفَقْرَ وَالْغِنَى إِلَّا مِنْهُ فَأَحْمَدُهُ إِذَا أَعْطَى وَأَصْبِرُ إِذَا ابْتَلَى ولا أتكبر عند ما يُنْعِمُ عَلَيَّ وَلَا أَرَى كَثْرَةَ الْمَالِ وَالْأَعْوَانِ مِنْ نَفْسِي وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَمَّا اعْتَزَّ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْجَاهِ فَكَأَنَّهُ قَدْ أَثْبَتَ لِلَّهِ شَرِيكًا فِي إِعْطَاءِ الْعِزِّ وَالْغِنَى. وَثَانِيهَا: لَعَلَّ ذَلِكَ الْكَافِرَ مَعَ كَوْنِهِ مُنْكِرًا لِلْبَعْثِ كَانَ عَابِدَ صَنَمٍ فَبَيَّنَ هَذَا الْمُؤْمِنُ فَسَادَ قَوْلِهِ بِإِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا الْكَافِرَ لَمَّا عَجَّزَ اللَّهَ عَنِ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ فَقَدْ جَعَلَهُ مُسَاوِيًا لِلْخَلْقِ فِي هَذَا الْعَجْزِ وَإِذَا أَثْبَتَ الْمُسَاوَاةَ فَقَدْ أَثْبَتَ الشَّرِيكَ ثُمَّ قَالَ الْمُؤْمِنُ لِلْكَافِرِ: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ/ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: مَا شاءَ اللَّهُ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ (مَا) شَرْطِيَّةً وَيَكُونَ الْجَزَاءُ مَحْذُوفًا وَالتَّقْدِيرُ أَيُّ شَيْءٍ شَاءَ اللَّهُ كَانَ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً مَرْفُوعَةَ الْمَحَلِّ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَتَقْدِيرُهُ الْأَمْرُ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذَا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَقَعَ وَكُلَّ مَا لَمْ يُرِدْهُ لَمْ يَقَعْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا أَرَادَ اللَّهُ الْإِيمَانَ مِنَ الْكَافِرِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي إِبْطَالِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ بِأَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِهِمْ: مَا شَاءَ مِمَّا تَوَلَّى فِعْلَهُ لَا مِمَّا هُوَ فِعْلُ الْعِبَادِ كَمَا قَالُوا: لَا مَرَدَّ لِأَمْرِ اللَّهِ لَمْ يُرِدْ مَا أَمَرَ بِهِ الْعِبَادَ ثُمَّ قَالَ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْصُلَ فِي سُلْطَانِهِ مَا لَا يُرِيدُهُ كَمَا يَحْصُلُ فِيهِ مَا نَهَى

عَنْهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي ذَكَرَ الْكَعْبِيُّ لَيْسَ جَوَابًا عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بَلْ هُوَ الْتِزَامُ الْمُخَالَفَةِ لِظَاهِرِ النَّصِّ وَقِيَاسُ الْإِرَادَةِ عَلَى الْأَمْرِ، بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذَا النَّصَّ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَلَيْسَ فِي النُّصُوصِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا مَا أَمَرَ بِهِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ وَأَجَابَ الْقَفَّالُ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: هَلَّا إِذَا دَخَلْتَ بُسْتَانَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ كقول الإنسان هذه الْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي هَذَا الْبُسْتَانِ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: 22] وهم ثلاثة وقوله: وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة: 58] أَيْ قُولُوا هَذِهِ حِطَّةٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الشَّيْءِ الْمَوْجُودِ فِي البستان شيء شَاءَ اللَّهُ تَكْوِينَهُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يُقَالَ كُلُّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَقَعَ لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ غَيْرُ عَامٍّ فِي الْكُلِّ بَلْ مُخْتَصٌّ بِالْأَشْيَاءِ الْمُشَاهَدَةِ فِي الْبُسْتَانِ وَهَذَا التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ أَحْسَنُ بِكَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ وَالْكَعْبِيُّ، وَأَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى جَوَابِهِ لَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّ عِمَارَةَ ذَلِكَ الْبُسْتَانِ رُبَّمَا حَصَلَتْ بِالْغُصُوبِ وَالظُّلْمِ الشَّدِيدِ فَلَا يَصِحُّ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا وَاقِعٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ. اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ نَقُولَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الثِّمَارَ حَصَلَتْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَنَّ هَذَا تَخْصِيصٌ لِظَاهِرِ النَّصِّ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. وَالْكَلَامُ الثَّانِي: الَّذِي أَمَرَ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ بِأَنْ يَقُولَهُ هُوَ قَوْلُهُ: لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ أَيْ لَا قُوَّةَ لِأَحَدٍ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ وَإِقْدَارِهِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ قَالَ الْمُؤْمِنُ لِلْكَافِرِ: هَلَّا قُلْتَ عِنْدَ دُخُولِ جَنَّتِكَ الْأَمْرُ مَا شَاءَ اللَّهُ وَالْكَائِنُ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ اعْتِرَافًا بِأَنَّهَا وَكُلُّ خَيْرٍ فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ فَإِنَّ أَمْرَهَا بِيَدِهِ إِنْ شَاءَ تَرَكَهَا وَإِنْ شَاءَ خَرَّبَهَا، وَهَلَّا قُلْتَ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِقْرَارًا بِأَنَّ مَا قُوِّيتَ بِهِ عَلَى عِمَارَتِهَا وَتَدْبِيرِ أَمْرِهَا فَهُوَ بِمَعُونَةِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ لَا يَقْوَى أَحَدٌ فِي بَدَنِهِ وَلَا فِي مِلْكِ يَدِهِ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَمَّا عَلَّمَ الْكَافِرَ الْإِيمَانَ أَجَابَهُ عن افتخاره بالمال والنفر فقال: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَداً مَنْ قَرَأَ أَقَلَّ بِالنَّصْبِ فَقَدْ جَعَلَ أَنَا فَصْلًا وَأَقَلَّ مَفْعُولًا ثَانِيًا وَمَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ جَعَلَ قَوْلَهُ: أَنَا مبتدأ وقوله: أَقَلَّ خبر والجملة مفعولا ثانيا لترن واعلم أن ذكر الولد هاهنا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفَرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: وَأَعَزُّ نَفَراً الْأَعْوَانُ وَالْأَوْلَادُ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: إِنْ كُنْتَ تَرَانِي: أَقَلَّ مَالًا وَوَلَدًا وَأَنْصَارًا فِي الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ: فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ إِمَّا فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ. وَيُرْسِلَ عَلَى جَنَّتِكَ: حُسْباناً مِنَ السَّماءِ أَيْ عَذَابًا وَتَخْرِيبًا وَالْحُسْبَانُ مَصْدَرٌ كَالْغُفْرَانِ وَالْبُطْلَانِ بِمَعْنَى الْحِسَابِ/ أَيْ مِقْدَارًا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَحَسَبَهُ وَهُوَ الْحُكْمُ بِتَخْرِيبِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: عَذَابٌ حُسْبَانٌ وَذَلِكَ الْحُسْبَانُ حُسْبَانُ مَا كَسَبَتْ يَدَاكَ وَقِيلَ حُسْبَانًا أَيْ مَرَامِيَ الْوَاحِدُ مِنْهَا حُسْبَانَةٌ وَهِيَ الصَّوَاعِقُ: فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَيْ فَتُصْبِحَ جَنَّتُكَ أَرْضًا مَلْسَاءَ لَا نَبَاتَ فِيهَا وَالصَّعِيدُ وَجْهُ الْأَرْضِ، زَلَقًا أَيْ تَصِيرُ بِحَيْثُ تَزْلَقُ الرِّجْلُ عَلَيْهَا زَلَقًا ثُمَّ قَالَ: أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً أَيْ يَغُوصُ وَيَسْفُلُ فِي الْأَرْضِ: فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً أَيْ فَيَصِيرُ بِحَيْثُ لَا تَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ إِلَى مَوْضِعِهِ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي قَوْلِهِ: ماؤُها غَوْراً أَيْ غَائِرًا وَهُوَ نَعْتٌ عَلَى لَفْظِ الْمَصْدَرِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ زَوْرٌ وَصَوْمٌ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ وَالْمُذَكِّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَيُقَالُ نِسَاءٌ نَوْحٌ أَيْ نَوَائِحُ ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ حَقَّقَ مَا قَدَّرَهُ هَذَا الْمُؤْمِنُ فَقَالَ: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِهْلَاكِهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَأَصْلُهُ مِنْ إِحَاطَةِ الْعَدُوِّ لِأَنَّهُ إِذَا أَحَاطَ بِهِ فَقَدْ مَلَكَهُ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ إِهْلَاكٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ [يُوسُفَ: 66] وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ: أَتَى عَلَيْهِ إِذَا أَهْلَكَهُ مِنْ أَتَى عَلَيْهِمُ الْعَدُوُّ إِذَا جَاءَهُمْ مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ النَّدَمِ وَالْحَسْرَةِ فَإِنَّ مَنْ عَظُمَتْ حَسْرَتُهُ يُصَفِّقُ إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، وَقَدْ يَمْسَحُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا نَدَامَةً عَلَى مَا أَنْفَقَ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي وَعَظَهُ أَخُوهُ فِيهَا وَعَذَلَهُ: وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أَيْ سَاقِطَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعُرُوشِ عُرُوشَ الْكَرْمِ فَهَذِهِ الْعُرُوشُ سَقَطَتْ ثُمَّ سَقَطَتِ الْجُدْرَانُ عَلَيْهَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ

مِنَ الْعُرُوشِ السُّقُوفُ وَهِيَ سَقَطَتْ عَلَى الْجُدْرَانِ. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ كِنَايَةٌ عَنْ بطلانها وهلاكها، ثم قال تعالى: وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَمَّا قَالَ: لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً فَهَذَا الكافر تذكر كلامه وقال: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً فَإِنْ قِيلَ هَذَا الْكَلَامُ يُوهِمُ أَنَّهُ إِنَّمَا هَلَكَتْ جَنَّتُهُ بِشُؤْمِ شِرْكِهِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ أَنْوَاعَ الْبَلَاءِ أَكْثَرُهَا إِنَّمَا يَقَعُ لِلْمُؤْمِنِينَ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ [الزُّخْرُفِ: 33] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُصَّ الْبَلَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ الْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ الْأَمْثَلِ فالأمثل» وأيضا فلما قال: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً فَقَدْ نَدِمَ عَلَى الشِّرْكِ وَرَغِبَ فِي التَّوْحِيدِ فَوَجَبَ أَنْ يَصِيرَ مُؤْمِنًا فَلِمَ قَالَ بَعْدَهُ: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَمَّا عَظُمَتْ حَسْرَتُهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ أَنْفَقَ عُمْرَهُ فِي تَحْصِيلِ الدُّنْيَا وَكَانَ مُعْرِضًا فِي كُلِّ عُمْرِهِ عَنْ طَلَبِ الدِّينِ فَلَمَّا ضَاعَتِ الدُّنْيَا بِالْكُلِّيَّةِ بَقِيَ الْحِرْمَانُ عَنِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ عَلَيْهِ. فَلِهَذَا السَّبَبِ عَظُمَتْ حَسْرَتُهُ وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا نَدِمَ عَلَى الشِّرْكِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُوَحِّدًا غَيْرَ مُشْرِكٍ لَبَقِيَتْ عَلَيْهِ جَنَّتُهُ فَهُوَ إِنَّمَا رَغِبَ فِي التَّوْحِيدِ وَالرَّدِّ عَنِ الشِّرْكِ لِأَجْلِ طَلَبِ الدُّنْيَا فَلِهَذَا السَّبَبِ مَا صَارَ تَوْحِيدُهُ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِئَةٌ) بِالْيَاءِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فِئَةٌ جَمْعٌ فَإِذَا/ تَقَدَّمَ عَلَى الْكِنَايَةِ جَازَ التَّذْكِيرُ، وَلِأَنَّهُ رِعَايَةٌ لِلْمَعْنَى. وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْقَ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ عَائِدَةٌ إِلَى اللَّفْظَةِ وَهِيَ الْفِئَةُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ هُوَ أَنَّهُ مَا حَصَلَتْ لَهُ فِئَةٌ يَقْدِرُونَ عَلَى نُصْرَتِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ الْقَادِرُ عَلَى نُصْرَتِهِ وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُهُ أَنْ يَنْصُرَهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. أَوَّلُهَا: فِي لَفْظِ الْوَلَايَةِ فَفِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَفِي قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ بِالْفَتْحِ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ أَنَّهُ قَالَ: كَسْرُ الْوَاوِ لَحْنٌ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْوَلَايَةُ بِالْفَتْحِ النُّصْرَةُ وَالتَّوَلِّي وَبِالْكَسْرِ السُّلْطَانُ وَالْمُلْكُ. وَثَانِيهَا: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ قَوْلَهُ: الْحَقُّ بِالرَّفْعِ وَالتَّقْدِيرُ هُنَالِكَ الْوِلَايَةُ الْحَقُّ لِلَّهِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْجَرِّ صِفَةً لِلَّهِ. وَثَالِثُهَا: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ عُقُبًا بِضَمِّ الْقَافِ وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ عُقْبَى بِتَسْكِينِ الْقَافِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ فِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مِنْ قِصَّةِ الرَّجُلَيْنِ مَا ذَكَرَ عَلِمْنَا أَنَّ النُّصْرَةَ وَالْعَاقِبَةَ الْمَحْمُودَةَ كَانَتْ لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْكَافِرِ وَعَرَفْنَا أَنَّ الْأَمْرَ هَكَذَا يَكُونُ فِي حَقِّ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ فَقَالَ: هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ أَيْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَفِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَقَامِ تَكُونُ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ يُوَالِي أَوْلِيَاءَهُ فَيُغَلِّبَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِ وَيُفَوِّضُ أَمْرَ الْكُفَّارِ إِلَيْهِمْ فَقَوْلُهُ هُنَالِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَوْضِعِ وَالْوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُ اللَّهُ إِظْهَارَ كَرَامَةِ أَوْلِيَائِهِ وَإِذْلَالَ أَعْدَائِهِ [فِيهِمَا] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ الشَّدِيدَةِ يَتَوَلَّى اللَّهَ وَيَلْتَجِئُ إِلَيْهِ كُلُّ مُحْتَاجٍ مُضْطَرٍّ يعني أن قوله: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً كَلِمَةٌ أُلْجِئُ إِلَيْهَا ذَلِكَ الْكَافِرُ فَقَالَهَا جَزَعًا مِمَّا سَاقَهُ إِلَيْهِ شُؤْمُ كُفْرِهِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَقُلْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: الْمَعْنَى هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ يَنْصُرُ

[سورة الكهف (18) : آية 45]

بِهَا أَوْلِيَاءَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَفَرَةِ وَيَنْتَقِمُ لَهُمْ وَيَشْفِي صُدُورَهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى نَصَرَ بِمَا فَعَلَ بِالْكَافِرِ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ وَصَدَّقَ قوله في قوله: فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ: هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً أَيْ لِأَوْلِيَائِهِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ هُنَالِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ أَيْ فِي تِلْكَ الدَّارِ الْآخِرَةِ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ كَقَوْلِهِ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هُوَ خَيْرٌ ثَواباً أَيْ فِي الْآخِرَةِ لِمَنْ آمَنَ بِهِ وَالْتَجَأَ إِلَيْهِ: وَخَيْرٌ عُقْباً أَيْ هُوَ خَيْرٌ عَاقِبَةً لِمَنْ رَجَاهُ وَعَمِلَ لِوَجْهِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ قُرِئَ عُقْبًى بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِهَا وعقبى على فعلى وكلها بمعنى العاقبة «1» . [سورة الكهف (18) : آية 45] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ: اضْرِبْ مَثَلًا آخَرَ يَدُلُّ عَلَى حَقَارَةِ الدُّنْيَا وَقِلَّةِ بَقَائِهَا وَالْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قِصَّةِ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: وَاضْرِبْ لَهُمْ أَيْ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ افْتَخَرُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْصَارِهِمْ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ: مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ ذَكَرَ الْمَثَلَ فَقَالَ: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ وَحِينَئِذٍ يَرْبُو ذَلِكَ النَّبَاتُ وَيَهْتَزُّ وَيَحْسُنُ مَنْظَرُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الْحَجِّ: 5] ثُمَّ إِذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ مُدَّةً جَفَّ ذَلِكَ النَّبَاتُ وَصَارَ هَشِيمًا، وَهُوَ النَّبْتُ الْمُتَكَسِّرُ الْمُتَفَتِّتُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: هَشَّمْتُ أَنْفَهُ وَهَشَّمْتُ الثَّرِيدَ. وَأَنْشَدَ: عَمْرُو الَّذِي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِأَهْلِهِ ... وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ وَإِذَا صَارَ النَّبَاتُ كَذَلِكَ طَيَّرَتْهُ الرِّيَاحُ وَذَهَبَتْ بِتِلْكَ الْأَجْزَاءِ إِلَى سَائِرِ الْجَوَانِبِ: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً بِتَكْوِينِهِ أَوَّلًا وَتَنْمِيَتِهِ وَسَطًا وَإِبْطَالِهِ آخِرًا وَأَحْوَالُ الدُّنْيَا أَيْضًا كَذَلِكَ تَظْهَرُ أَوَّلًا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالنَّضَارَةِ ثُمَّ تَتَزَايَدُ قَلِيلًا قَلِيلًا ثُمَّ تَأْخُذُ فِي الِانْحِطَاطِ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى الْهَلَاكِ وَالْفَنَاءِ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّيْءِ لَيْسَ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَبْتَهِجَ بِهِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ فَاخْتَلَطَ بَعْضُ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ بِسَائِرِ الْأَنْوَاعِ بِسَبَبِ هَذَا الْمَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ يَقْوَى النَّبَاتُ وَيَخْتَلِطُ بَعْضُهُ بِالْبَعْضِ وَيَشْتَبِكُ بَعْضُهُ بِالْبَعْضِ وَيَصِيرُ فِي الْمَنْظَرِ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالزِّينَةِ. وَالثَّانِي: فَاخْتَلَطَ ذَلِكَ الْمَاءُ بِالنَّبَاتِ وَاخْتَلَطَ ذَلِكَ النَّبَاتُ بِالْمَاءِ حَتَّى رَوِيَ وَرَفَّ رَفِيفًا. وَكَانَ حَقُّ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَاخْتَلَطَ بِنَبَاتِ الْأَرْضِ وَوَجْهُ صِحَّتِهِ أَنَّ كُلَّ مُخْتَلِطَيْنِ مَوْصُوفٌ كُلُّ واحد منها بصفة صاحبه. [سورة الكهف (18) : آية 46] الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الدُّنْيَا سَرِيعَةُ الِانْقِرَاضِ وَالِانْقِضَاءِ مُشْرِفَةٌ عَلَى الزَّوَالِ وَالْبَوَارِ وَالْفَنَاءِ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمَالَ وَالْبَنِينَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْمَقْصُودُ إِدْخَالُ هَذَا الْجُزْءِ تَحْتَ ذَلِكَ الْكُلِّ وَسَنَعْقِدُ منه قياس الإنتاج وهو أن المال والبنون زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا فَهُوَ سَرِيعُ الِانْقِضَاءِ وَالِانْقِرَاضِ يُنْتِجُ إِنْتَاجًا بَدِيهِيًّا أَنَّ الْمَالَ وَالْبَنِينَ سَرِيعَةُ الِانْقِضَاءِ وَالِانْقِرَاضِ. وَمِنَ الْمُقْتَضَى الْبَدِيهِيِّ أَنَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقْبُحُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَفْتَخِرَ بِهِ أو

_ (1) عقبى رسمت في المصحف هكذا عُقْباً بالألف وهي ترسم إملاء (عقبى) بالياء إذا سكنت القاف في قراءة عاصم وحمزة على زنة فعلى، وأما إذا ضمت القاف فتكون جمع عقبي وترسم بالألف حينئذ في قراءة الباقين.

[سورة الكهف (18) : الآيات 47 إلى 49]

يَفْرَحَ بِسَبَبِهِ أَوْ يُقِيمَ لَهُ/ فِي نَظَرِهِ وَزْنًا فَهَذَا بُرْهَانٌ بَاهِرٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ افْتَخَرُوا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى رُجْحَانِ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ عَلَى أُولَئِكَ الْكُفَّارِ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ فَقَالَ: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا وَتَقْرِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا مُنْقَرِضَةٌ مُنْقَضِيَةٌ وَخَيْرَاتِ الْآخِرَةِ دَائِمَةٌ بَاقِيَةٌ وَالدَّائِمُ الْبَاقِي خَيْرٌ مِنَ الْمُنْقَرِضِ الْمُنْقَضِي وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، لَا سِيَّمَا إِذَا ثَبَتَ أَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا خَسِيسَةٌ حَقِيرَةٌ وَأَنَّ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ عَالِيَةٌ رَفِيعَةٌ، لِأَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا حِسِّيَّةٌ وَخَيْرَاتِ الْآخِرَةِ عَقْلِيَّةٌ وَالْعَقْلِيَّةُ أَشْرَفُ مِنَ الْحِسِّيَّةِ بِكَثِيرٍ بِالدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّورِ: 35] فِي بَيَانِ أَنَّ الْإِدْرَاكَاتِ الْعَقْلِيَّةَ أَفْضَلُ مِنَ الْحِسِّيَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَجْمُوعُ السَّعَادَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ هِيَ السَّعَادَاتُ الْأُخْرَوِيَّةُ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ السَّعَادَاتِ الْحِسِّيَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِي الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ أَقْوَالًا قِيلَ إِنَّهَا قَوْلُنَا: «سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ» وَلِلشَّيْخِ الْغَزَالِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَجْهٌ لَطِيفٌ، فَقَالَ: رُوِيَ أَنَّ مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ حَصَلَ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ عَشْرُ مَرَّاتٍ، فَإِذَا قَالَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ صَارَتْ عِشْرِينَ، فَإِذَا قَالَ: وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ صَارَتْ ثَلَاثِينَ، فَإِذَا قَالَ وَاللَّهُ أَكْبَرُ صَارَتْ أَرْبَعِينَ. قَالَ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ أَعْظَمَ مَرَاتِبِ الثَّوَابِ هُوَ الِاسْتِغْرَاقُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَفِي مَحَبَّتِهِ فَإِذَا قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ فَقَدْ عَرَفَ كَوْنَهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهًا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي فَحُصُولُ هَذَا الْعِرْفَانِ سَعَادَةٌ عَظِيمَةٌ وَبَهْجَةٌ كَامِلَةٌ فَإِذَا قَالَ مَعَ ذَلِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ مَعَ كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي فَهُوَ الْمَبْدَأُ لِإِفَادَةِ كُلِّ مَا يَنْبَغِي وَلِإِفَاضَةِ كُلِّ خَيْرٍ وَكَمَالٍ فَقَدْ تَضَاعَفَتْ دَرَجَاتُ الْمَعْرِفَةِ فَلَا جَرَمَ قُلْنَا تَضَاعَفَ الثَّوَابُ فَإِذَا قَالَ مَعَ ذَلِكَ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ الَّذِي تَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي فَهُوَ الْمَبْدَأُ لِكُلِّ مَا يَنْبَغِي وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ مَوْجُودٌ هَكَذَا إِلَّا الْوَاحِدَ فَقَدْ صَارَتْ مَرَاتِبُ الْمَعْرِفَةِ ثَلَاثَةً فَلَا جَرَمَ صَارَتْ دَرَجَاتُ الثَّوَابِ ثَلَاثَةً فَإِذَا قَالَ وَاللَّهُ أَكْبَرُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَصِلَ الْعَقْلُ إِلَى كُنْهِ كِبْرِيَائِهِ وَجَلَالِهِ فَقَدْ صَارَتْ مَرَاتِبُ الْمَعْرِفَةِ أَرْبَعَةً لَا جَرَمَ صَارَتْ دَرَجَاتُ الثَّوَابِ أَرْبَعَةً. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا الطَّيِّبُ مِنَ الْقَوْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ [الْحَجِّ: 24] . وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ وَقَوْلٍ دَعَاكَ إِلَى الِاشْتِغَالِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَبِمَحَبَّتِهِ وَخِدْمَتِهِ فَهُوَ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ وَكُلُّ عَمَلٍ وَقَوْلٍ دَعَاكَ إِلَى الِاشْتِغَالِ بِأَحْوَالِ الْخَلْقِ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ فَهُوَ فَانٍ لِذَاتِهِ هَالِكٌ لِذَاتِهِ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِهِ وَالِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ عَمَلًا بَاطِلًا وَسَعْيًا ضَائِعًا. أَمَّا الْحَقُّ لِذَاتِهِ فَهُوَ الْبَاقِي لَا يَقْبَلُ الزَّوَالَ لَا جَرَمَ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ هُوَ الَّذِي يَبْقَى بَقَاءً لَا يَزُولُ وَلَا يَفْنَى ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا أَيْ كُلُّ عَمَلٍ أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْأَمَلِ يَكُونُ خَيْرًا وَأَفْضَلَ، لِأَنَّ صَاحِبَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ يُؤَمِّلُ فِي الدُّنْيَا ثَوَابَ اللَّهِ وَنَصِيبَهُ فِي الآخرة. [سورة الكهف (18) : الآيات 47 الى 49] وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ خَسَاسَةَ الدُّنْيَا وَشَرَفَ الْقِيَامَةِ أَرْدَفَهُ بِأَحْوَالِ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِي افْتَخَرُوا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَعْوَانِ وَاخْتَلَفُوا فِي النَّاصِبِ لِقَوْلِهِ: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَكُونُ التقدير واذكر لهم: يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الكهف: 45] . الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ حصل كذا وكذا يقال لهم: قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ لِأَنَّ الْقَوْلَ مُضْمَرٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ: هَذَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. الثَّالِثُ: أن يكون التقدير: خَيْرٌ أَمَلًا في يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ أَنْوَاعًا. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ تُسَيَّرُ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ الْجِبَالُ بِالرَّفْعِ بِإِسْنَادِ تُسَيَّرُ إِلَيْهِ اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ [التَّكْوِيرِ: 3] وَالْبَاقُونَ نَسَيِّرُ بِإِسْنَادِ فِعْلِ التسيير إلى نفسه [تعالى و] الجبال بِالنَّصْبِ لِكَوْنِهِ مَفْعُولَ نُسَيِّرُ، وَالْمَعْنَى نَحْنُ نَفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ: وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لِأَنَّهَا إِذَا سُيِّرَتْ فَمُسَيِّرُهَا لَيْسَ إِلَّا اللَّهَ سُبْحَانَهُ. وَنَقَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قِرَاءَةً أُخْرَى وَهِيَ تَسِيرُ الْجِبَالُ بِإِسْنَادِ تَسِيرُ إِلَى الْجِبَالِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ لَيْسَ فِي لَفْظِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إِلَى أَيْنَ تَسِيرُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يُسَيِّرُهَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُرِيدُهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لِخَلْقِهِ/ وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى يُسَيِّرُهَا إِلَى العدم لقوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طَهَ: 105- 107] وَلِقَوْلِهِ: وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الْوَاقِعَةِ: 5، 6] وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِهَا شَيْءٌ مِنَ الْعِمَارَاتِ، وَلَا شَيْءٌ مِنَ الْجِبَالِ، وَلَا شَيْءٌ مِنَ الْأَشْجَارِ، فَبَقِيَتْ بَارِزَةً ظَاهِرَةً لَيْسَ عَلَيْهَا مَا يَسْتُرُهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِهَا بَارِزَةً أَنَّهَا أَبْرَزَتْ مَا فِي بَطْنِهَا وَقَذَفَتِ الْمَوْتَى الْمَقْبُورِينَ فِيهَا فَهِيَ بَارِزَةُ الْجَوْفِ وَالْبَطْنِ فَحُذِفَ ذِكْرُ الْجَوْفِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ [الِانْشِقَاقِ: 4] وَقَوْلُهُ: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [الزلزلة: 2] وقوله: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً. وَثَالِثُهَا: أَنَّ وُجُوهَ الْأَرْضِ كَانَتْ مَسْتُورَةً بِالْجِبَالِ وَالْبِحَارِ، فَلَمَّا أَفْنَى اللَّهُ تَعَالَى الْجِبَالَ وَالْبِحَارَ فَقَدْ بَرَزَتْ وُجُوهُ تِلْكَ الْبِقَاعِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَسْتُورَةً. وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ قَوْلُهُ: وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً وَالْمَعْنَى جَمَعْنَاهُمْ لِلْحِسَابِ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا، أَيْ لَمْ نَتْرُكْ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ أَحَدًا إِلَّا وَجَمَعْنَاهُمْ لِذَلِكَ الْيَوْمِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الْوَاقِعَةِ: 49، 50] وَمَعْنَى لَمْ نُغَادِرْ لَمْ نَتْرُكْ، يُقَالُ: غَادَرَهُ وَأَغْدَرَهُ إِذَا تَرَكَهُ وَمِنْهُ الْغَدْرُ تَرْكُ الْوَفَاءِ، وَمِنْهُ الْغَدِيرُ لِأَنَّهُ مَا تَرَكَتْهُ السُّيُولُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ ضَفِيرَةُ الْمَرْأَةِ بِالْغَدِيرَةِ لِأَنَّهَا تَجْعَلُهَا خَلْفَهَا. وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى حَشْرَ الخلق ذكر كيفية عرضهم، فقال: عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ الصَّفِّ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تُعْرَضُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى اللَّهِ صَفًّا وَاحِدًا ظَاهِرِينَ بِحَيْثُ لَا يَحْجُبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قَالَ الْقَفَّالُ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الصَّفُّ رَاجِعًا إِلَى الظُّهُورِ وَالْبُرُوزِ، وَمِنْهُ اشْتُقَّ

الصَّفْصَفُ لِلصَّحْرَاءِ. وَثَانِيهَا: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ صُفُوفًا يَقِفُ بَعْضُهُمْ وَرَاءَ بَعْضٍ مِثْلَ الصُّفُوفِ الْمُحِيطَةِ بِالْكَعْبَةِ الَّتِي يَكُونُ بَعْضُهَا خَلْفَ بَعْضٍ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ صَفًّا صُفُوفًا كَقَوْلِهِ: يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غَافِرٍ: 67] أَيْ أَطْفَالًا. وَثَالِثُهَا: صَفًّا أَيْ قِيَامًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ [الْحَجِّ: 36] قَالُوا قِيَامًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُشَبِّهَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الْفَجْرِ: 22] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَحْضُرُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَتُعْرَضُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْقِيَامَةِ صَفًّا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ جِئْتُمُونا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَحْضُرُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ وُقُوفَهُمْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَسْأَلُهُمْ فِيهِ عَنْ أَعْمَالِهِمْ وَيُحَاسِبُهُمْ عَلَيْهَا عَرْضًا عَلَيْهِ، لَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَحْضُرُ فِي مَكَانٍ وَعُرِضُوا عَلَيْهِ لِيَرَاهُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ يكن يراهم، ثم قال تعالى: قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ حُصُولَ الْمُسَاوَاةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، لِأَنَّهُمْ خُلِقُوا صِغَارًا وَلَا عَقْلَ لَهُمْ وَلَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِمْ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ قَالَ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ الْمُفْتَخِرِينَ فِي الدُّنْيَا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَمْوَالِ والأنصار: /قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ عُرَاةً حُفَاةً بِغَيْرِ أَمْوَالٍ وَلَا أَعْوَانٍ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [الْأَنْعَامِ: 94] وَقَالَ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً- إِلَى قَوْلِهِ- وَيَأْتِينا فَرْداً [مَرْيَمَ: 77- 80] ثُمَّ قال تعالى: لْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً أَيْ كُنْتُمْ مَعَ التَّعَزُّزِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَنْصَارِ تُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ فَالْآنَ قَدْ تَرَكْتُمُ الْأَمْوَالَ وَالْأَنْصَارَ فِي الدُّنْيَا وَشَاهَدْتُمْ أَنَّ الْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ حَقٌّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَوُضِعَ الْكِتابُ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يُوضَعُ فِي هَذَا الْيَوْمِ كِتَابُ كُلِّ إِنْسَانٍ فِي يَدِهِ إِمَّا فِي الْيَمِينِ أَوْ فِي الشَّمَالِ، وَالْمُرَادُ الْجِنْسُ وَهُوَ صُحُفُ الْأَعْمَالِ: فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ أَيْ خَائِفِينَ مِمَّا فِي الْكِتَابِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ وَخَائِفِينَ مِنْ ظُهُورِ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ فَيَفْتَضِحُونَ، وَبِالْجُمْلَةِ يَحْصُلُ لَهُمْ خَوْفُ الْعِقَابِ مِنَ الْحَقِّ وَخَوْفُ الْفَضِيحَةِ عِنْدَ الْخَلْقِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا يُنَادُونَ هِلْكَتَهُمُ الَّتِي هَلَكُوهَا خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ الْهِلْكَاتِ: مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وهي عبارة عن الإحصاء بِمَعْنَى لَا يَتْرُكُ شَيْئًا مِنَ الْمَعَاصِي سَوَاءٌ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً إِلَّا وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الِانْفِطَارِ: 10- 12] وَقَوْلُهُ: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الْجَاثِيَةِ: 29] وَإِدْخَالُ تَاءِ التَّأْنِيثِ فِي الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ الْفِعْلَةُ الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ: إِلَّا أَحْصاها إِلَّا ضَبَطَهَا وَحَصَرَهَا، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: ضَجُّوا مِنَ الصَّغَائِرِ قَبْلَ الْكَبَائِرِ «1» . لِأَنَّ تِلْكَ الصَّغَائِرَ هِيَ الَّتِي جَرَّتْهُمْ إِلَى الْكَبَائِرِ فَاحْتَرَزُوا مِنَ الصَّغَائِرِ جِدًّا: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً فِي الصُّحُفِ عَتِيدًا أَوْ جَزَاءَ مَا عَمِلُوا: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَكْتُبُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَلْ، وَلَا يَزِيدُ فِي عِقَابِهِ الْمُسْتَحَقِّ، وَلَا يُعَذِّبُ أَحَدًا بِجُرْمِ غَيْرِهِ، بَقِيَ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُجَبِّرَةِ فِي مَسَائِلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ عَذَّبَ عِبَادَهُ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ صَدَرَ مِنْهُمْ لَكَانَ ظَالِمًا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ الْأَطْفَالَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ. وَثَالِثُهَا: بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ لله

_ (1) نظير هذا قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سئل: أيحاسب الإنسان على ما يتكلم به؟ فقال له: «وهل يكب الناس على مناخرهم في النار يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم» والحصائد جمع حصيدة: وهي الكلمة الهينة.

[سورة الكهف (18) : الآيات 50 إلى 53]

أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ وَيُعَذِّبَ مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ لِأَنَّ الْخَلْقَ خَلْقُهُ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ لِنَفْيِ الظُّلْمِ عَنْهُ مَعْنًى لَأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ أَيَّ شَيْءٍ أَرَادَ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ إِنَّهُ لَا يَظْلِمُ فَائِدَةٌ فَيُقَالُ لَهُ. أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلَيْنِ فَهُوَ الْمُعَارَضَةُ بِالْعِلْمِ وَالدَّاعِي، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ هَذَا الثَّالِثِ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مَرْيَمَ: 35] وَلَمْ يَدُلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ صَحِيحٌ عَلَيْهِ فَكَذَا هاهنا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يُحَاسَبُ النَّاسُ فِي الْقِيَامَةِ عَلَى ثَلَاثَةٍ «1» يُوسُفَ، وَأَيُّوبَ، وَسُلَيْمَانَ. فَيَدْعُو بِالْمَمْلُوكِ وَيَقُولُ لَهُ: مَا شَغَلَكَ عَنِّي فَيَقُولُ جَعَلْتَنِي عَبْدًا لِلْآدَمِيِّ فَلَمْ تُفَرِّغْنِي، فَيَدْعُو يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَقُولُ: كَانَ هَذَا عَبْدًا مِثْلَكَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ عَنْ عِبَادَتِي فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ، / ثُمَّ يَدْعُو بِالْمُبْتَلِي فَإِذَا قَالَ شَغَلْتَنِي بِالْبَلَاءِ دَعَا بِأَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقُولُ: قَدِ ابْتَلَيْتُ هَذَا بِأَشَدَّ مِنْ بَلَائِكَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ عَنْ عِبَادَتِي فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمَلِكِ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْغِنَى وَالسَّعَةِ فَيَقُولُ: مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ فَيَقُولُ شَغَلَنِي الْمُلْكُ عَنْ ذَلِكَ فَيُدْعَى بِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقُولُ: هَذَا عَبْدِي سُلَيْمَانُ آتَيْتُهُ أَكْثَرَ مَا آتَيْتُكَ فَلَمْ يَشْغَلْهُ ذَلِكَ عَنْ عِبَادَتِي اذْهَبْ فَلَا عُذْرَ لَكَ وَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ» ، وَعَنْ مُعَاذٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَنْ يَزُولَ قَدَمُ الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ جسده فيم أبلاه، وعن عمره فيم أَفْنَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ كَيْفَ عَمِلَ بِهِ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى إِثْبَاتِ صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ فِي الذُّنُوبِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْكَبِيرَةُ مَا يَزِيدُ عِقَابُهُ عَلَى ثَوَابِ فَاعِلِهِ، وَالصَّغِيرَةُ مَا يَنْقُصُ عِقَابُهُ عَنْ ثَوَابِ فَاعِلِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدَّ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْفِعْلَ يُوجِبُ ثَوَابًا وَعِقَابًا وَذَلِكَ عِنْدَنَا بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ذَكَرْنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فِي إِبْطَالِ الْقَوْلِ بِالْإِحْبَاطِ وَالتَّكْفِيرِ بَلِ الْحَقُّ عِنْدَنَا أَنَّ الطَّاعَاتِ مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ: التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ فَكُلُّ مَا كَانَ أَقْوَى فِي كَوْنِهِ جَهْلًا بِاللَّهِ كَانَ أَعْظَمَ فِي كَوْنِهِ كَبِيرَةً، وَكُلُّ مَا كَانَ أَقْوَى فِي كَوْنِهِ إِضْرَارًا بِالْغَيْرِ كَانَ أَكْثَرَ فِي كَوْنِهِ ذَنْبًا أَوْ مَعْصِيَةً فهذا هو الضبط. [سورة الكهف (18) : الآيات 50 الى 53] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ الرَّدُّ عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ افْتَخَرُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَعْوَانِهِمْ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذِهِ الْآيَةُ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهَا عَيْنُ هَذَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِبْلِيسَ إِنَّمَا تَكَبَّرَ عَلَى آدَمَ لِأَنَّهُ افْتَخَرَ بِأَصْلِهِ وَنَسَبِهِ وَقَالَ: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ فَأَنَا أَشْرَفُ مِنْهُ فِي الْأَصْلِ وَالنَّسَبِ فَكَيْفَ أَسْجُدُ وَكَيْفَ أَتَوَاضَعُ لَهُ! وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ عَامَلُوا فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ بِعَيْنِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ فَقَالُوا: كَيْفَ نَجْلِسُ مَعَ

_ (1) أي ثلاثة صنوف ومثل.

هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ مَعَ أَنَّا مِنْ أَنْسَابٍ شَرِيفَةٍ وَهُمْ مِنْ أَنْسَابٍ نَازِلَةٍ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ وَهُمْ فقراء، فالله تعالى ذكر هذه القصة هاهنا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ هِيَ بِعَيْنِهَا طَرِيقَةُ إِبْلِيسَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَذَّرَ عَنْهَا وَعَنِ الِاقْتِدَاءِ بِهَا فِي قَوْلِهِ: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ فَهَذَا هُوَ وَجْهُ النَّظْمِ وَهُوَ حَسَنٌ مُعْتَبَرٌ، وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا آخَرَ فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ أَمْرَ الْقِيَامَةِ وَمَا يَجْرِي عِنْدَ الْحَشْرِ وَوَضْعَ الْكِتَابِ وَكَأَنَّ الله تعالى يريد أن يذكر هاهنا أَنَّهُ يُنَادِي الْمُشْرِكِينَ وَيَقُولُ لَهُمْ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِي زَعَمْتُمْ وَكَانَ قَدْ عَلِمَ تَعَالَى أَنَّ إِبْلِيسَ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى إِثْبَاتِ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءِ، لَا جَرَمَ قَدَّمَ قِصَّتَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِتْمَامًا لِذَلِكَ الْغَرَضِ ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي: وَهَذِهِ الْقِصَّةُ وَإِنْ كَانَ تَعَالَى قَدْ كَرَّرَهَا فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ إِلَّا أَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهَا فَائِدَةً مُجَدَّدَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ وَلِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَكَوْنُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مِنَ الْجِنِّ وَلَهُمْ فِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّ قَبِيلَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُسَمَّوْنَ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصَّافَّاتِ: 158] وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَامِ: 100] وَالثَّانِي: أَنَّ الْجِنَّ سُمُّوا جِنًّا لِلِاسْتِتَارِ وَالْمَلَائِكَةُ كَذَلِكَ فَهُمْ دَاخِلُونَ فِي الْجِنِّ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ خَازِنَ الْجَنَّةِ وَنُسِبَ إِلَى الْجَنَّةِ كَقَوْلِهِمْ كُوفِيٌّ وَبَصْرِيٌّ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ كَانَ مَنِ الْجَنَّانِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْجَنَّاتِ حَيٌّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَصُوغُونَ حِلْيَةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مُذْ خُلِقُوا رَوَاهُ الْقَاضِي فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ هُمُ الشَّيَاطِينُ وَالَّذِينَ خُلِقُوا مِنْ نَارٍ وَهُوَ أَبُوهُمْ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَمُسِخَ وَغُيِّرَ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ أَحْكَمْنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَأَصْلُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ لَهُ ذُرِّيَّةً وَنَسْلًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَالْمَلَائِكَةُ لَيْسَ لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ وَلَا نَسْلٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَكَيْفَ تَنَاوَلَهُ ذَلِكَ الْأَمْرُ، وَأَيْضًا/ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَكَيْفَ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُمْ، وَقَدْ أَجَبْنَا عَنْ كُلِّ ذَلِكَ بِالِاسْتِقْصَاءِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وَفِي ظَاهِرِهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَفْسُقُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَيْ خَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ مِنْ قِشْرِهَا أَيْ خَرَجَتْ، وَسُمِّيَتِ الْفَأْرَةُ فُوَيْسِقَةً لِخُرُوجِهَا مِنْ جُحْرِهَا مِنَ الْبَابَيْنِ وَقَالَ رُؤْبَةُ: يَهْوِينَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرٍ غَائِرًا ... فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا جَوَائِرَا الثَّانِي: حَكَى الزَّجَّاجُ عَنِ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا أُمِرَ فَعَصَى كَانَ سَبَبُ فِسْقِهِ هُوَ ذَلِكَ الْأَمْرُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ الْأَمْرُ السَّابِقُ لَمَا حَصَلَ الْفِسْقُ، فَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى حَسُنَ أَنْ يُقَالَ: فَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ. الثَّالِثُ: قَالَ قُطْرُبٌ: فَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ رَدَّهُ كَقَوْلِهِ وَاسْأَلِ القرية واسأل العير قَالَ تَعَالَى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ إِبْلِيسَ تَكَبَّرَ عَلَى آدَمَ وَتَرَفَّعَ عَلَيْهِ لَمَّا ادَّعَى أَنَّ أَصْلَهُ أشرف من أصل آدم فوجب أن يكون هُوَ أَشْرَفَ مِنْ آدَمَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِأُولَئِكَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ افْتَخَرُوا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِشَرَفِ نَسَبِهِمْ وَعُلُوِّ مَنْصِبِهِمْ، إِنَّكُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ اقْتَدَيْتُمْ بِإِبْلِيسَ فِي تَكَبُّرِهِ عَلَى آدَمَ فَلَمَّا عَلِمْتُمْ أَنَّ إِبْلِيسَ عَدُوٌّ لَكُمْ فَكَيْفَ تَقْتَدُونَ بِهِ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الْمَذْمُومَةِ. هَذَا هُوَ تَقْرِيرُ الْكَلَامِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الكلام لا

يَتِمُّ إِلَّا بِإِثْبَاتِ مُقَدِّمَاتٍ. فَأَوَّلُهَا: إِثْبَاتُ إِبْلِيسَ. وَثَانِيهَا: إِثْبَاتُ ذُرِّيَّةِ إِبْلِيسَ. وَثَالِثُهَا: إِثْبَاتُ عَدَاوَةٍ بَيْنَ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ وَبَيْنَ أَوْلَادِ آدَمَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ أُولَئِكَ الْكُفَّارُ اقْتَدَوْا فِيهِ بِإِبْلِيسَ. وَكُلُّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعَةِ لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِهَا إِلَّا بِقَوْلِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالْجَاهِلُ بِصِدْقِ النَّبِيِّ جَاهِلٌ بِهَا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الْمُخَاطَبُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ هَلْ عَرَفُوا كَوْنَ مُحَمَّدٍ نَبِيًّا صَادِقًا أَوْ مَا عَرَفُوا ذَلِكَ؟ فَإِنْ عَرَفُوا كَوْنَهُ نَبِيًّا صَادِقًا قَبِلُوا قَوْلَهُ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ فَكُلَّمَا نَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلٍ انْتَهَوْا عَنْهُ، وَحِينَئِذٍ فَلَا حَاجَةَ إِلَى قِصَّةِ إِبْلِيسَ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا كَوْنَهُ نَبِيًّا جَهِلُوا كُلَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعَةِ وَلَمْ يَعْرِفُوا صِحَّتَهَا فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ فِي إِيرَادِهَا عَلَيْهِمْ فَائِدَةٌ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا قَدْ سَمِعُوا قِصَّةَ إِبْلِيسَ وَآدَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَاعْتَقَدُوا صِحَّتَهَا وَعَلِمُوا أَنَّ إِبْلِيسَ إِنَّمَا تَكَبَّرَ عَلَى آدَمَ بِسَبَبِ نَسَبِهِ، فَإِذَا أَوْرَدْنَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَ ذَلِكَ زَاجِرًا لَهُمْ عَمَّا أَظْهَرُوهُ مَعَ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ التَّكَبُّرِ وَالتَّرَفُّعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ الْكُفْرَ وَلَا يَخْلُقُهُ فِي الْعَبْدِ، إِذْ لَوْ أَرَادَهُ وَخَلَقَهُ فِيهِ ثُمَّ عَاقَبَهُ عَلَيْهِ لَكَانَ ضَرَرُ إِبْلِيسَ أَقَلَّ مِنْ ضَرَرِ الله عليهم! فَكَيْفَ يُوَبِّخُهُمْ بِقَوْلِهِ: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا!؟ تَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ عُلُوًّا كَبِيرًا. بَلْ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ لَا ضَرَرَ الْبَتَّةَ مِنْ إِبْلِيسَ بَلِ الضَّرَرُ كُلُّهُ مِنَ اللَّهِ. وَالْجَوَابُ: الْمُعَارَضَةُ بِالدَّاعِي وَالْعِلْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَالَ لِلْكُفَّارِ الْمُفْتَخِرِينَ بِأَنْسَابِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ/ أَفَتَتَّخِذُونَ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لِأَنَّ الدَّاعِيَ لَهُمْ إِلَى تَرْكِ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ النَّخْوَةُ وَإِظْهَارُ الْعَجَبِ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى عَمَلٍ أَوْ قَوْلٍ بِنَاءً عَلَى هَذَا الدَّاعِي فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِإِبْلِيسَ حَتَّى أَنَّ مَنْ كَانَ غَرَضُهُ فِي إِظْهَارِ الْعِلْمِ وَالْمُنَاظَرَةِ التَّفَاخُرَ وَالتَّكَبُّرَ وَالتَّرَفُّعَ فَهُوَ مُقْتَدٍ بِإِبْلِيسَ وَهُوَ مَقَامٌ صَعْبٌ غَرِقَ فِيهِ أَكْثَرُ الْخَلْقِ فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْخَلَاصَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا أَيْ بِئْسَ الْبَدَلُ مِنَ اللَّهِ إِبْلِيسُ لِمَنِ اسْتَبْدَلَهُ بِهِ فَأَطَاعَهُ بَدَلَ طَاعَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ إِلَى مَنْ يَعُودُ؟ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْمَعْنَى مَا أَشْهَدْتُ الذي اتخذتموهم أولياء خلق السموات وَالْأَرْضِ وَلَا أَشْهَدْتُ بَعْضَهُمْ خَلْقَ بَعْضٍ كَقَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاءِ: 66] يَعْنِي مَا أَشْهَدْتُهُمْ لِأَعْتَضِدَ بِهِمْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً أَيْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَهُمْ فَوُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ بَيَانًا لِإِضْلَالِهِمْ وَقَوْلُهُ: عَضُداً أَيْ أَعْوَانًا. وَثَانِيهَا: وَهُوَ أَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ قَالُوا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ لَمْ تَطْرُدْ مِنْ مَجْلِسِكَ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءَ لَمْ نُؤْمِنْ بِكَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَتَوْا بِهَذَا الِاقْتِرَاحِ الْفَاسِدِ وَالتَّعَنُّتِ الْبَاطِلِ مَا كَانُوا شُرَكَاءَ لِي فِي تَدْبِيرِ الْعَالَمِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا اعْتَضَدْتُ بِهِمْ فِي تَدْبِيرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ كَسَائِرِ الْخَلْقِ، فَلِمَ أَقْدَمُوا عَلَى هَذَا الِاقْتِرَاحِ الْفَاسِدِ؟ وَنَظِيرُهُ أَنَّ مَنِ اقْتَرَحَ عَلَيْكَ اقْتِرَاحَاتٍ عَظِيمَةً فَإِنَّكَ تَقُولُ لَهُ لَسْتَ بِسُلْطَانِ الْبَلَدِ وَلَا ذُرِّيَّةِ الْمَمْلَكَةِ حَتَّى نَقْبَلَ مِنْكَ هَذِهِ الِاقْتِرَاحَاتِ الْهَائِلَةَ، فَلِمَ تُقْدِمُ عَلَيْهَا وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ الْأَقْرَبُ هُوَ ذِكْرُ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ أُولَئِكَ الْكُفَّارُ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا

خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ كَوْنَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ جَاهِلِينَ بِمَا جَرَى بِهِ الْقَلَمُ فِي الْأَزَلِ مِنْ أَحْوَالِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ السَّعِيدُ مَنْ حَكَمَ اللَّهُ بِسَعَادَتِهِ فِي الْأَزَلِ وَالشَّقِيُّ مَنْ حَكَمَ اللَّهُ بِشَقَاوَتِهِ فِي الْأَزَلِ، وَأَنْتُمْ غَافِلُونَ عَنْ أَحْوَالِ الْأَزَلِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَإِذَا جَهِلْتُمْ هَذِهِ الْحَالَةَ فَكَيْفَ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَحْكُمُوا لِأَنْفُسِكُمْ بِالرِّفْعَةِ وَالْعُلُوِّ وَالْكَمَالِ وَلِغَيْرِكُمْ بِالدَّنَاءَةِ وَالذُّلِّ، بَلْ رُبَّمَا صَارَ الْأَمْرُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى الْعَكْسِ فِيمَا حَكَمْتُمْ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ وَمَا كُنْتَ بِالْفَتْحِ، وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى وَمَا صَحَّ لَكَ الِاعْتِضَادُ بِهِمْ، وَمَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْتَزَّ بِهِمْ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ. مُتَّخِذًا الْمُضِلِّينَ بِالتَّنْوِينِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: عُضْدًا بِسُكُونِ الضَّادِ وَنَقْلِ ضَمَّتِهَا إِلَى الْعَيْنِ، وَقُرِئَ: عَضْدًا بِالْفَتْحِ وَسُكُونِ الضَّادِ وَعُضُدًا بِضَمَّتَيْنِ وَعَضَدًا/ بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ عَاضِدٍ كَخَادِمٍ وَخَدَمٍ وَرَاصِدٍ وَرَصَدٍ مِنْ عَضَدَهُ إِذَا قَوَّاهُ وَأَعَانَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي قَالُوهُ فِي الِافْتِخَارِ عَلَى الْفُقَرَاءِ اقْتِدَاءً بِإِبْلِيسَ عَادَ بَعْدَهُ إِلَى التَّهْوِيلِ بِأَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ حَمْزَةُ: (نَقُولُ) بِالنُّونِ عَطْفًا عَلَى قوله: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وأَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا بِالْيَاءِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: وَاذْكُرْ يَوْمَ نَقُولُ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الْمَعْنَى وَاذْكُرْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ أَحْوَالَهُمْ وَأَحْوَالَ آلِهَتِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ: نادُوا شُرَكائِيَ أَيِ ادْعُوا مَنْ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ لِي حَيْثُ أَهَّلْتُمُوهُمْ لِلْعِبَادَةِ، ادْعُوهُمْ يَشْفَعُوا لَكُمْ وَيَنْصُرُوكُمْ وَالْمُرَادُ بِالشُّرَكَاءِ الْجِنُّ فَدَعَوْهُمْ وَلَمْ يَذْكُرْ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ كَيْفَ دَعَوُا الشُّرَكَاءَ لِأَنَّهُ تَعَالَى «1» بَيَّنَ ذَلِكَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا [غَافِرٍ: 47] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ أَيْ لَمْ يُجِيبُوهُمْ إِلَى مَا دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ وَلَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُمْ ضَرَرًا وَمَا أَوْصَلُوا إِلَيْهِمْ نَفْعًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْمَوْبِقُ الْمَهْلِكُ مِنْ وَبِقَ يَبِقُ وُبُوقًا وَوَبَقًا. إِذَا هَلَكَ وَأَوْبَقَهُ غَيْرُهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَالْمَوْرِدِ وَالْمَوْعِدِ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً كَالْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى دَعَوْا هَؤُلَاءِ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ثُمَّ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ فَأَدْخَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ جَهَنَّمَ وَأَدْخَلَ عِيسَى الْجَنَّةَ وَصَارَ الْمَلَائِكَةُ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ اللَّهُ مِنْ دَارِ الْكَرَامَةِ وَحَصَلَ بَيْنَ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا الْمَوْبِقُ وَهُوَ ذَلِكَ الْوَادِي فِي جَهَنَّمَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ: (مَوْبِقًا) أَيْ عَدَاوَةً وَالْمَعْنَى عَدَاوَةٌ هِيَ فِي شِدَّتِهَا هَلَاكٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: لَا يَكُنْ حُبُّكَ كَلَفًا، وَلَا بُغْضُكَ تَلَفًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ الْبَيْنُ الْمُوَاصَلَةُ أَيْ جَعَلْنَا مُوَاصَلَتَهُمْ فِي الدُّنْيَا هَلَاكًا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: الْمَوْبِقُ الْبَرْزَخُ الْبَعِيدُ أَيْ جَعَلْنَا بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى بَرْزَخًا بَعِيدًا يَهْلِكُ فِيهِ السَّارِي لِفَرْطِ بُعْدِهِ، لِأَنَّهُمْ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ وَهُمْ فِي أَعْلَى الْجِنَانِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَفِي هَذَا الظَّنِّ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أن الظن هاهنا بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ يَرَوْنَ النَّارَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ وَمُهْلَةٍ، لِشِدَّةِ مَا

_ (1) في الأصل النسخة الأميرية (لا أنه تعالى) ولعل ما أثبتناه هو الصواب إن شاء الله.

[سورة الكهف (18) : الآيات 54 إلى 56]

يَسْمَعُونَ مِنْ تَغَيُّظِهَا وَزَفِيرِهَا. كَمَا قَالَ: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الْفُرْقَانِ: 12] وَقَوْلُهُ: مُواقِعُوها أَيْ مُخَالِطُوهَا فَإِنَّ مُخَالَطَةَ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ إِذَا كَانَتْ قَوِيَّةً تَامَّةً يُقَالُ لَهَا مُوَاقَعَةٌ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أَيْ لَمْ يَجِدُوا عَنِ النَّارِ مَعْدِلًا إِلَى غَيْرِهَا لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسُوقُهُمْ إليها. [سورة الكهف (18) : الآيات 54 الى 56] وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) اعْلَمْ أَنَّ أُولَئِكَ الْكَفَرَةَ لَمَّا افْتَخَرُوا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِكَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ وَبَيَّنَ تَعَالَى بِالْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ أَنَّ قَوْلَهُمْ فَاسِدٌ وَشُبْهَتَهُمْ بَاطِلَةٌ وَذَكَرَ فِيهِ الْمَثَلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، قَالَ بَعْدَهُ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا سَبَقَ وَالتَّصْرِيفُ يَقْتَضِي التَّكْرِيرَ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ شُبْهَتِهِمُ الَّتِي ذَكَرُوهَا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَمَعَ تِلْكَ الْجَوَابَاتِ الشَّافِيَةِ وَالْأَمْثِلَةِ الْمُطَابِقَةِ فَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ لَا يَتْرُكُونَ الْمُجَادَلَةَ الْبَاطِلَةَ فَقَالَ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا أَيْ أَكْثَرَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَتَأَتَّى مِنْهَا الْجَدَلُ وَانْتِصَابُ قَوْلِهِ جَدَلًا عَلَى التَّمْيِيزِ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ جَادَلُوهُمْ فِي الدِّينِ حَتَّى صَارُوا هُمْ مُجَادِلِينَ لِأَنَّ الْمُجَادَلَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّقْلِيدِ بَاطِلٌ، ثُمَّ قَالَ: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْإِيمَانِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ حَصَلَ الْمَانِعُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: الْعِلْمُ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ مُضَادٌّ لِوُجُودِ الْإِيمَانِ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ قَائِمًا كَانَ الْمَانِعُ قَائِمًا. وَأَيْضًا حُصُولُ الدَّاعِي إِلَى الْكُفْرِ قَائِمٌ وَإِلَّا لَمَا وَجَبَ لِأَنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ بِدُونِ الدَّاعِي مُحَالٌ، وَوُجُودُ الدَّاعِي إِلَى الْكُفْرِ مَانِعٌ مِنْ حُصُولِ الْإِيمَانِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِقْدَارُ الْمَوَانِعِ الْمَحْسُوسَةِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا جَاءَهُمُ الْهُدَى وَهُوَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى صِحَّةِ الْإِسْلَامِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ/ لَا مَانِعَ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَلَا مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ وَالتَّخْلِيَةُ حَاصِلَةٌ. وَالْأَعْذَارُ زَائِلَةٌ فَلِمَ لَمْ يُقْدِمُوا عَلَى الْإِيمَانِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ- وَهُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ- أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا قَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ قُبُلًا بِضَمِّ الْقَافِ وَالْبَاءِ جَمِيعًا وَهُوَ جَمْعُ قَبِيلٍ بِمَعْنَى ضُرُوبٍ مِنَ الْعَذَابِ تَتَوَاصَلُ مَعَ كَوْنِهِمْ أَحْيَاءً وَقِيلَ مُقَابَلَةً وَعِيَانًا وَالْبَاقُونَ قِبَلًا بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ عِيَانًا أَيْضًا، وَرَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَبَلًا بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ مُسْتَقْبَلًا. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يُقْدِمُونَ عَلَى الْإِيمَانِ إِلَّا عِنْدَ نُزُولِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ فَيَهْلِكُوا، أَوْ أَنْ يَتَوَاصَلَ أَنْوَاعُ الْعَذَابِ وَالْبَلَاءِ حَالَ بَقَائِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَا يُقْدِمُونَ عَلَى الْإِيمَانِ إِلَّا عَلَى هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَرْضَى بِحُصُولِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ إِلَّا أَنَّ حَالَهُمْ شَبِيهٌ بِحَالِ مَنْ وَقَفَ الْعَمَلَ عَلَى هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ بِالثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَةِ وَمُنْذِرِينَ بِالْعِقَابِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لِكَيْ يُؤْمِنُوا طَوْعًا وبين

[سورة الكهف (18) : الآيات 57 إلى 59]

مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَنَّهُ يُوجَدُ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُجَادَلَةُ بِالْبَاطِلِ لِغَرَضِ دَحْضِ الْحَقِّ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا يُجَادِلُونَهُمْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُجَادَلَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَبَيَّنَ تَعَالَى أَيْضًا أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا آيَاتِ اللَّهِ وَهِيَ الْقُرْآنُ وَإِنْذَارَاتِ الْأَنْبِيَاءِ هُزُوًا وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اسْتِيلَاءِ الْجَهْلِ وَالْقَسْوَةِ. قَالَ النَّحْوِيُّونَ مَا فِي قَوْلِهِ: وَما أُنْذِرُوا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وَيَكُونَ الْعَائِدُ مِنَ الصِّلَةِ مَحْذُوفًا وَيَجُوزُ أن تكون مصدرية بمعنى إنذارهم. [سورة الكهف (18) : الآيات 57 الى 59] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ جِدَالَهُمْ بِالْبَاطِلِ وَصَفَهُمْ بَعْدَهُ بِالصِّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْخِزْيِ/ وَالْخِذْلَانِ. الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ أَيْ لَا ظُلْمَ أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ مَنْ تَرِدُ عَلَيْهِ الْآيَاتُ وَالْبَيِّنَاتُ فَيُعْرِضُ عَنْهَا وَيَنْسَى مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ أَيْ مَعَ إِعْرَاضِهِ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ يَتَنَاسَى مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُنْكَرَةِ وَالْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ وَالْمُرَادُ مِنَ النِّسْيَانِ التَّشَاغُلُ وَالتَّغَافُلُ عَنْ كُفْرِهِ الْمُتَقَدِّمِ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: [قَوْلِهِ] : إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَالْعَجَبُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ مُتَمَسَّكُ الْقَدَرِيَّةِ، وَقَوْلَهُ: إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ مُتَمَسَّكُ الْجَبْرِيَّةِ وَقَلَّمَا نَجِدُ فِي الْقُرْآنِ آيَةً لِأَحَدِ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ إِلَّا وَمَعَهَا آيَةٌ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ، وَالتَّجْرِبَةُ تَكْشِفُ عَنْ صِدْقِ قَوْلِنَا. وَمَا ذَاكَ إِلَّا امْتِحَانٌ شَدِيدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَلْقَاهُ عَلَى عِبَادِهِ لِيَتَمَيَّزَ الْعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ الْغَفُورُ الْبَلِيغُ الْمَغْفِرَةِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى دَفْعِ الْمَضَارِّ ذُو الرَّحْمَةِ الْمَوْصُوفُ بِالرَّحْمَةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ لَفْظُ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَغْفِرَةِ لَا فِي الرَّحْمَةِ، لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ تَرْكُ الْإِضْرَارِ وَهُوَ تَعَالَى قَدْ تَرَكَ مَضَارَّ لَا نِهَايَةَ لَهَا مَعَ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَيْهَا، أَمَّا فِعْلُ الرَّحْمَةِ فَهُوَ مُتَنَاهٍ لِأَنَّ تَرْكَ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مُمْكِنٌ، أَمَّا فِعْلُ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ فَمُحَالٌ «1» وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يَغْفِرُ كَثِيرًا لِأَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ وَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهَا فَيَهَبُهَا مِنَ الْمُحْتَاجِينَ كَثِيرًا ثُمَّ اسْتَشْهَدَ بِتَرْكِ مُؤَاخَذَةِ أَهْلِ مَكَّةَ عَاجِلًا مِنْ غَيْرِ إِمْهَالٍ مَعَ إِفْرَاطِهِمْ فِي عَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ وَهُوَ إِمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِمَّا فِي الدُّنْيَا وَهُوَ يَوْمُ بَدْرِ وَسَائِرُ أَيَّامِ الْفَتْحِ [وَقَوْلُهُ] : لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [أَيْ] مَنْجًى وَلَا مَلْجَأً، يُقَالُ وَأَلَ إِذَا لَجَأَ، وَوَأَلَ إِلَيْهِ إِذَا لَجَأَ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْقُرى يُرِيدُ قُرَى الْأَوَّلِينَ مِنْ ثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَغَيْرِهِمْ أَشَارَ إِلَيْهَا لِيَعْتَبِرُوا، وَتِلْكَ مُبْتَدَأٌ، وَالْقُرَى صِفَةٌ لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْإِشَارَةِ تُوصَفُ بِأَصْنَافِ الْأَجْنَاسِ وَأَهْلَكْنَاهُمْ خَبَرٌ وَالْمَعْنَى، وَتِلْكَ أَصْحَابُ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا مِثْلَ ظُلْمِ أَهْلِ مَكَّةَ: وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً أَيْ وَضَرَبْنَا لِإِهْلَاكِهِمْ وَقْتًا مَعْلُومًا لَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ كَمَا ضَرَبْنَا لِأَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالْمَهْلِكُ الْإِهْلَاكُ أَوْ وَقْتُهُ، وَقُرِئَ لِمَهْلَكِهِمْ بِفَتْحِ الْمِيمِ واللام

_ (1) في الأصل النسخة الأميرية (أما فعل ما لا نهاية له محال) .

[سورة الكهف (18) : الآيات 60 إلى 64]

مَفْتُوحَةٌ أَوْ مَكْسُورَةٌ، أَيْ لِهَلَاكِهِمْ أَوْ وَقْتَ هَلَاكِهِمْ، وَالْمَوْعِدُ وَقْتٌ أَوْ مَصْدَرٌ، وَالْمُرَادُ إِنَّا عَجَّلْنَا هَلَاكَهُمْ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ نَدَعْ أَنْ نَضْرِبَ لَهُ وَقْتًا لِيَكُونُوا إِلَى التَّوْبَةِ أَقْرَبَ. [سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 64] وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا ابْتِدَاءُ قِصَّةٍ ثَالِثَةٍ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَهَبَ إِلَى الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ الْعِلْمَ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا فِي نَفْسِهِ إِلَّا أَنَّهُ يُعِينُ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْقِصَّتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ. أَمَّا نَفْعُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ افْتَخَرُوا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْصَارِ، فَهُوَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ كَثْرَةِ عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ وَعُلُوِّ مَنْصِبِهِ وَاسْتِجْمَاعِ مُوجِبَاتِ الشَّرَفِ التَّامِّ فِي حَقِّهِ ذَهَبَ إِلَى الْخَضِرِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَتَوَاضَعَ لَهُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوَاضُعَ خَيْرٌ مِنَ التَّكَبُّرِ، وَأَمَّا نَفْعُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ فَهُوَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِكُفَّارِ مَكَّةَ: إِنْ أَخْبَرَكُمْ مُحَمَّدٌ عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَهُوَ نَبِيٌّ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ نَبِيًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْقِصَصِ وَالْوَقَائِعِ، كَمَا أَنَّ كَوْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبِيًّا صَادِقًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِأَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْخَضِرِ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ فَظَهَرَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ قِصَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَهِيَ نَافِعَةٌ فِي تَقْرِيرِ الْمَقْصُودِ فِي الْقِصَّتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مُوسَى الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ صَاحِبُ الْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ وَصَاحِبُ التَّوْرَاةِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا ابْنَ امْرَأَةِ كَعْبٍ يَزْعُمُ أَنَّ الْخَضِرَ لَيْسَ صَاحِبَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَإِنَّمَا هُوَ صَاحِبُ مُوسَى بْنِ مِيشَا بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، وَقِيلَ هُوَ كَانَ نَبِيًّا قَبْلَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَدَانِ أَفْرَائِيمُ وَمِيشَا فَوَلَدَ افرائيم نون وَوَلَدَ نُونٌ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ وَهُوَ صَاحِبُ مُوسَى وَوَلِيُّ عَهْدِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَأَمَّا وَلَدُ مِيشَا فَقِيلَ إِنَّهُ جَاءَتْهُ النُّبُوَّةُ قَبْلَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَيَزْعُمُ أَهْلُ التَّوْرَاةِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي طَلَبَ هَذَا الْعِلْمَ لِيَتَعَلَّمَ وَالْخَضِرُ هُوَ الَّذِي خَرَقَ/ السَّفِينَةَ، وَقَتَلَ الْغُلَامَ، وَأَقَامَ الْجِدَارَ، وَمُوسَى بْنُ مِيشَا مَعَهُ، هَذَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْيَهُودِ، وَاحْتَجَّ الْقَفَّالُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا إِنَّ مُوسَى هَذَا هُوَ صَاحِبُ التَّوْرَاةِ، قَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا ذَكَرَ مُوسَى فِي كِتَابِهِ إِلَّا وَأَرَادَ بِهِ صَاحِبَ التَّوْرَاةِ فَإِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ يُوجِبُ الِانْصِرَافَ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ شَخْصًا آخَرَ مُسَمًّى بِمُوسَى غَيْرَهُ لَوَجَبَ تَعْرِيفُهُ بِصِفَةٍ تُوجِبُ الِامْتِيَازَ وَإِزَالَةَ الشُّبْهَةِ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَشْهُورُ فِي الْعُرْفِ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الرَّجُلَ الْمُعَيَّنَ فَلَوْ ذَكَرْنَا هَذَا الِاسْمَ وَأَرَدْنَا بِهِ رَجُلًا سواء لَقَيَّدْنَاهُ مِثْلَ أَنْ نَقُولَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الدِّينَوَرِيُّ، وَحُجَّةُ الَّذِينَ قَالُوا: مُوسَى هَذَا غَيْرُ صَاحِبِ التَّوْرَاةِ أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَيْهِ وَكَلَّمَهُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَحَجَّ

خَصْمَهُ «1» بِالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَمْ يَتَّفِقْ مِثْلُهَا لِأَكْثَرِ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ يَبْعُدُ أَنْ يَبْعَثَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِتَعَلُّمِ الِاسْتِفَادَةِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنَّ الْعَالِمَ الْكَامِلَ فِي أَكْثَرِ الْعُلُومِ يَجْهَلُ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ فَيَحْتَاجُ فِي تَعَلُّمِهَا إِلَى مَنْ دُونَهُ وَهَذَا أَمْرٌ مُتَعَارَفٌ مَعْلُومٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي فَتَى مُوسَى فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَرَوَى الْقَفَّالُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ فَتَى مُوسَى أَخُو يُوشَعَ وَكَانَ صَاحِبًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذَا السَّفَرِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: رَوَى عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لَا أَبْرَحُ قَالَ يَعْنِي عَبْدَهُ، قَالَ الْقَفَّالُ وَاللُّغَةُ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي، وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ الْعَبْدَ فَتًى وَالْأَمَةَ فَتَاةً. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قِيلَ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أُعْطِيَ الْأَلْوَاحَ وَكَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَنِ الَّذِي أَفْضَلُ مِنِّي وَأَعْلَمُ؟ فَقِيلَ عَبْدٌ لِلَّهِ يَسْكُنُ جَزَائِرَ الْبَحْرِ وَهُوَ الْخَضِرُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أُوتِيَ مِنَ الْعِلْمِ مَا أُوتِيَ ظَنَّ أَنَّهُ لَا أَحَدَ مِثْلُهُ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ بِسَاحِلِ الْبَحْرِ قَالَ: يَا مُوسَى انْظُرْ إِلَى هَذَا الطَّيْرِ الصَّغِيرِ يَهْوِي إِلَى الْبَحْرِ يَضْرِبُ بِمِنْقَارِهِ فِيهِ ثُمَّ يَرْتَفِعُ فَأَنْتَ فِيمَا أُوتِيتَ مِنَ الْعِلْمِ دُونَ قَدْرِ مَا يَحْمِلُ هَذَا الطَّيْرُ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ، قَالَ الْأُصُولِيُّونَ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَجِبُ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَعْلُومَاتِ الْخَلْقِ يَجِبُ كَوْنُهَا مُتَنَاهِيَةً وَكُلُّ قَدْرٍ مُتَنَاهٍ فَإِنَّ الزَّائِدَ عَلَيْهِ مُمْكِنٌ فَلَا مَرْتَبَةَ مِنْ مَرَاتِبِ الْعِلْمِ إِلَّا وَفَوْقَهَا مَرْتَبَةٌ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ مَعْلُومَةً فَمِنَ الْمُسْتَبْعَدِ جِدًّا أَنْ يَقْطَعَ الْعَاقِلُ بِأَنَّهُ لَا أَحَدَ أَعْلَمُ مِنِّي «2» لَا سِيَّمَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ عِلْمِهِ الْوَافِرِ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَشِدَّةِ بَرَاءَتِهِ عَنِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ كَالْعُجْبِ وَالتِّيهِ وَالصَّلَفِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: قِيلَ إِنَّ مُوسَى/ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ رَبَّهُ: أَيُّ عِبَادِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الَّذِي يَذْكُرُنِي وَلَا يَنْسَانِي، قَالَ فَأَيُّ عِبَادِكَ أَقَضَى؟ قَالَ: الَّذِي يَقْضِي بِالْحَقِّ وَلَا يَتَّبِعُ الْهَوَى. قَالَ: فَأَيُّ عِبَادِكَ أَعْلَمُ؟ قَالَ: الَّذِي يَبْتَغِي عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ عَسَى أَنْ يُصِيبَ كَلِمَةً تَدُلُّهُ عَلَى هُدًى أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدًى، فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنْ كَانَ فِي عِبَادِكَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي فَادْلُلْنِي عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَعْلَمُ مِنْكَ الْخَضِرُ، قَالَ فَأَيْنَ أَطْلُبُهُ؟ قَالَ: عَلَى السَّاحِلِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ. قَالَ يَا رَبِّ: كَيْفَ لِي بِهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ فَحَيْثُ فَقَدْتَهُ فَهُوَ هُنَاكَ. فَقَالَ لِفَتَاهُ إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَأَخْبِرْنِي فَذَهَبَا يَمْشِيَانِ وَرَقَدَ مُوسَى وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ وَطَفَرَ إِلَى الْبَحْرِ فَلَمَّا جَاءَ وَقْتُ الْغَدَاءِ طَلَبَ مُوسَى الْحُوتَ فَأَخْبَرَهُ فَتَاهَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبَحْرِ فَرَجَعَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي طَفَرَ الْحُوتُ فِيهِ إِلَى الْبَحْرِ فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبِهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ! فَعَرَّفَهُ نَفْسَهُ، فَقَالَ: يَا مُوسَى أَنَا عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَنِي اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ أَنَا، فَلَمَّا رَكِبَا السَّفِينَةَ جَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِهَا فَنَقَرَ فِي الْمَاءِ فَقَالَ الْخَضِرُ: مَا يَنْقُصُ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ مِقْدَارَ مَا أَخَذَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنَ الْبَحْرِ - أَقُولُ نِسْبَةُ ذَلِكَ الْقَدْرِ الْقَلِيلِ الَّذِي أَخَذَهُ ذَلِكَ

_ (1) قوله وحج خصمه يريد بخصمه فرعون وما ذكره الله تعالى في كتابه من الآيات في محاجة فرعون. هذا ولموسى عليه السلام محاجة مع آدم عليه السلام في الأكل من الشجرة ولكن كانت الحجة لآدم على موسى وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فحج آدم موسى» . (2) يعني أنه لا يجرأ إنسان على ادعاء انتهاء العلم إليه إلا إذا سلب نعمة العقل، وكان الأنسب أن يقول (منه) .

الْعُصْفُورُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ إِلَى كُلِّيَّةِ مَاءِ الْبَحْرِ نِسْبَةُ مُتَنَاهٍ إِلَى مُتَنَاهٍ وَنِسْبَةُ مَعْلُومَاتِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَى مَعْلُومَاتِ اللَّهِ تَعَالَى نِسْبَةُ مُتَنَاهٍ إِلَى غَيْرِ مُتَنَاهٍ، فَأَيْنَ إِحْدَى النِّسْبَتَيْنِ مِنْ الْأُخْرَى وَاللَّهُ الْعَالِمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ، وَنَرْجِعُ إِلَى التَّفْسِيرِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا أَبْرَحُ قَالَ الزَّجَّاجُ قَوْلُهُ: لَا أَبْرَحُ لَيْسَ مَعْنَاهُ لَا أَزُولُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقْطَعْ أَرْضًا، أَقُولُ يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الزَّوَالَ عَنِ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ، يُقَالُ: زَالَ فُلَانٌ عَنْ طَرِيقَتِهِ فِي الْجُودِ أَيْ تَرَكَهَا، فَقَوْلُهُ: لَا أَبْرَحُ بِمَعْنَى لَا أَزُولُ عَنِ السَّيْرِ وَالذَّهَابِ بِمَعْنَى لَا أَتْرُكُ هَذَا الْعَمَلَ وَهَذَا الْفِعْلَ- وَأَقُولُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ قَوْلَهُ لَا أَبْرَحُ مَعْنَاهُ لَا أَزُولُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لَا أَبْرَحُ وَلَا أَزَالُ وَلَا أَنْفَكُّ وَلَا أَفْتَأُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَقَالُوا أَصْلُ قَوْلِهِمْ لَا أَبْرَحُ مِنَ الْبَرَاحِ كَمَا أَنَّ أَصْلَ لَا أَزَالُ مِنَ الزَّوَالِ. يُقَالُ: زَالَ يَزَالُ وَيَزُولُ كَمَا يُقَالُ دَامَ يَدَامُ وَيَدُومُ وَمَاتَ يَمَاتُ وَيَمُوتُ إِلَّا أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ يَزَالُ فَقَوْلُهُ: لَا أَبْرَحُ أَيْ أُقِيمُ لِأَنَّ الْبَرَاحَ هُوَ الْعَدَمُ فَقَوْلُهُ لَا أَبْرَحُ يَكُونُ عَدَمًا لِلْعَدَمِ فَيَكُونُ ثُبُوتًا، فَقَوْلُهُ: لَا أَزَالُ وَلَا أَبْرَحُ يُفِيدُ الدَّوَامَ وَالثَّبَاتَ عَلَى الْعَمَلِ فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ قَوْلُهُ لَا أَبْرَحُ بِمَعْنَى لَا أَزَالُ فَلَا بُدَّ مِنَ الْخَبَرِ، قُلْنَا: حُذِفَ الْخَبَرُ لِأَنَّ الْحَالَ وَالْكَلَامَ يَدُلَّانِ عَلَيْهِ، أَمَّا الْحَالُ فَلِأَنَّهَا كَانَتْ حَالَ سَفَرٍ، وَأَمَّا الْكَلَامُ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ غَايَةٌ مَضْرُوبَةٌ تَسْتَدْعِي شَيْئًا هِيَ غَايَةٌ لَهُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى لَا أَبْرَحُ أَسِيرُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَا أَبْرَحُ مِمَّا أَنَا عَلَيْهِ يَعْنِي أَلْزَمُ الْمَسِيرَ وَالطَّلَبَ وَلَا أَتْرُكُهُ وَلَا أُفَارِقُهُ حَتَّى أَبْلُغَ كَمَا تَقُولُ لَا أَبْرَحُ الْمَكَانَ. وَأَمَّا مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ فَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي وُعِدَ فِيهِ مُوسَى بِلِقَاءِ الْخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَهُوَ مُلْتَقَى بَحْرَيْ فَارِسَ وَالرُّومِ مِمَّا يَلِي الْمَشْرِقَ وَقِيلَ غَيْرُهُ وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ هَذَيْنِ الْبَحْرَيْنِ فَإِنْ صَحَّ بِالْخَبَرِ الصَّحِيحِ شَيْءٌ فَذَاكَ وَإِلَّا فَالْأَوْلَى السُّكُوتُ عَنْهُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْبَحْرَانِ مُوسَى وَالْخَضِرُ/ لِأَنَّهُمَا كَانَا بَحْرَيِ الْعِلْمِ وَقُرِئَ مِجْمَعَ بِكَسْرِ الْمِيمِ ثُمَّ قَالَ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا أَيْ أَسِيرُ زَمَانًا طَوِيلًا وَقِيلَ الْحُقْبُ: ثَمَانُونَ سَنَةً وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي هَذَا اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً [النَّبَأِ: 23] وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ أَعْلَمَ مُوسَى حَالَ هَذَا الْعَالِمِ، وَمَا أَعْلَمَهُ مَوْضِعَهُ بِعَيْنِهِ، فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا أَزَالُ أَمْضِي حَتَّى يَجْتَمِعَ الْبَحْرَانِ فَيَصِيرَا بَحْرًا وَاحِدًا أَوْ أَمْضِي دَهْرًا طَوِيلًا حَتَّى أَجِدَ هَذَا الْعَالِمَ، وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنْ مُوسَى بِأَنَّهُ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى تَحَمُّلِ التَّعَبِ الشَّدِيدِ وَالْعَنَاءِ الْعَظِيمِ فِي السَّفَرِ لِأَجْلِ طَلَبِ الْعِلْمِ وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَلِّمَ لَوْ سَافَرَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ لِطَلَبِ مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ لَحُقَّ لَهُ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما وَالْمَعْنَى فَانْطَلَقَا إِلَى أَنْ بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ بَيْنِهِمَا إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، الْأَوَّلُ: مَجْمَعُ بَيْنِهِمَا أَيْ مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ وَهُوَ كَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى [قَوْلِ] مُوسَى لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَيْ فَحَقَّقَ [اللَّهُ] مَا قَالَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى فَلَمَّا بَلَغَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَجْتَمِعُ [فِيهِ] مُوسَى وَصَاحِبُهُ الَّذِي كَانَ يَقْصِدُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ نِسْيَانُ الْحُوتِ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي كَانَ يَسْكُنُهُ الْخَضِرُ أَوْ يَسْكُنُ بِقُرْبِهِ وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى لَمَّا رَجَعَ مُوسَى وَفَتَاهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْحُوتَ صَارَ إِلَيْهِ وَهُوَ مَعْنًى حَسَنٌ، وَالْمُفَسِّرُونَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: نَسِيا حُوتَهُما وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الرِّوَايَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ هَذَا الْعَالِمَ مَوْضِعُهُ مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ انْقِلَابَ الْحُوتِ حَيًّا عَلَامَةً عَلَى مَسْكَنِهِ الْمُعَيَّنِ كَمَنْ يَطْلُبُ إِنْسَانًا فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّ مَوْضِعَهُ مَحَلَّةُ كَذَا مِنَ الرَّيِّ فَإِذَا انْتَهَيْتَ إِلَى الْمَحَلَّةِ فسل فلانا عن داره وأين ما ذَهَبَ بِكَ فَاتْبَعْهُ فَإِنَّكَ تَصِلْ إِلَيْهِ فَكَذَا هاهنا قيل

لَهُ إِنَّ مَوْضِعَهُ مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَيْهِ رَأَيْتَ الْحُوتَ انْقَلَبَ حَيًّا وَطَفَرَ إِلَى الْبَحْرِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فَهُنَالِكَ مَوْضِعُهُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فَاذْهَبْ عَلَى مُوَافَقَةِ ذَهَابِ ذَلِكَ الْحُوتِ فَإِنَّكَ تَجِدُهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ مُوسَى وَفَتَاهُ لَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا طَفَرَتِ السَّمَكَةُ إِلَى الْبَحْرِ وَسَارَتْ وَفِي كَيْفِيَّةِ طَفْرِهَا رِوَايَاتٌ أَيْضًا قِيلَ إِنَّ الْفَتَى كَانَ يَغْسِلُ السَّمَكَةَ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُمَلَّحَةً فَطَفَرَتْ وَسَارَتْ وَقِيلَ إِنَّ يُوشَعَ تَوَضَّأَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فَانْتَضَحَ الْمَاءُ عَلَى الْحُوتِ الْمَالِحِ فعاش ووثب في الماء وقيل انفجر [ت] هُنَاكَ عَيْنٌ مِنَ الْجَنَّةِ وَوَصَلَتْ قَطَرَاتٌ مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ إِلَى السَّمَكَةِ فَحَيِيَتْ وَطَفَرَتْ إِلَى الْبَحْرِ فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي صِفَةِ الْحُوتِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: نَسِيا حُوتَهُما أَنَّهُمَا نَسِيَا كَيْفِيَّةَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الْمَخْصُوصَةِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، فَإِنْ قِيلَ انْقِلَابُ السَّمَكَةِ الْمَالِحَةِ حَيَّةً حَالَةٌ عَجِيبَةٌ فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ حُصُولَ هَذِهِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ دَلِيلًا عَلَى الْوُصُولِ إِلَى الْمَطْلُوبِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُ النِّسْيَانِ فِي هَذَا الْمَعْنَى؟ أَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْهُ بِأَنْ يُوشَعَ كَانَ قَدْ شَاهَدَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَثِيرًا فَلَمْ يَبْقَ لِهَذِهِ الْمُعْجِزَةِ عِنْدَهُ وَقْعٌ عَظِيمٌ فَجَازَ حُصُولُ النِّسْيَانِ. وَعِنْدِي فِيهِ جَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا اسْتَعْظَمَ عِلْمَ نَفْسِهِ أَزَالَ اللَّهُ عَنْ قَلْبِ صَاحِبِهِ هَذَا الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ تَنْبِيهًا/ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَعْلِيمِ اللَّهِ وَحِفْظِهِ عَلَى الْقَلْبِ وَالْخَاطِرِ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً فَفِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ سَرَبَ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا إِلَّا أَنَّهُ أُقِيمَ قَوْلُهُ فَاتَّخَذَ مُقَامَ قَوْلِهِ سَرَبَ وَالسَّرَبُ هُوَ الذَّهَابُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [الرَّعْدِ: 10] . الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمْسَكَ إِجْرَاءَ الْمَاءِ عَلَى الْبَحْرِ وَجَعَلَهُ كَالطَّاقِ وَالْكُوَّةِ حَتَّى سَرَى الْحُوتُ فِيهِ فَلَمَّا جَاوَزَ أَيْ مُوسَى وَفَتَاهُ الْمَوْعِدَ الْمُعَيَّنَ وَهُوَ الْوُصُولُ إِلَى الصَّخْرَةِ بِسَبَبِ النِّسْيَانِ الْمَذْكُورِ وَذَهَبَا كَثِيرًا وَتَعِبَا وَجَاعَا: قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً قالَ الْفَتَى: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ الْهَمْزَةُ فِي أَرَأَيْتَ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ وَرَأَيْتَ عَلَى مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ النَّاسِ فَإِنَّهُ إِذَا حَدَثَ لِأَحَدِهِمْ أَمْرٌ عَجِيبٌ قَالَ لصاحبه أرأيت ما حدث لي؟ كذلك هاهنا كَأَنَّهُ قَالَ: أَرَأَيْتَ مَا وَقَعَ لِي مِنْهُ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَحُذِفَ مَفْعُولُ أَرَأَيْتَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ يَدُلُّ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ وَقَعَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالتَّقْدِيرُ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا، وَالسَّبَبُ فِي وُقُوعِ هَذَا الِاعْتِرَاضِ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعُذْرِ وَالْعِلَّةِ لِوُقُوعِ ذَلِكَ النِّسْيَانِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْكَعْبِيُّ: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا خَلَقَ ذَلِكَ النِّسْيَانَ وَمَا أَرَادَهُ وَإِلَّا كَانَتْ إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْجَبَ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا خَلَقَهُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِسَعْيِ الشَّيْطَانِ فِي وُجُودِهِ وَلَا فِي عَدَمِهِ، أَثَرٌ قَالَ الْقَاضِي: وَالْمُرَادُ بِالنِّسْيَانِ أَنْ يَشْتَغِلَ قَلْبُ الْإِنْسَانِ بِوَسَاوِسِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ فِعْلِهِ دُونَ النِّسْيَانِ الَّذِي يُضَادُّ الذِّكْرَ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: أَنْ أَذْكُرَهُ بَدَلٌ مِنَ الْهَاءِ فِي أَنْسانِيهُ أَيْ: وَمَا أَنْسَانِي ذِكْرَهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ ثُمَّ قَالَ: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ عَجَبًا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ اتِّخَاذًا عَجَبًا وَوَجْهُ كَوْنِهِ عَجَبًا انْقِلَابُهُ مِنَ الْمِكْتَلِ وَصَيْرُورَتُهُ حَيًّا وَإِلْقَاءُ نَفْسِهِ فِي الْبَحْرِ عَلَى غَفْلَةِ مِنْهُمَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْمَاءَ عَلَيْهِ كَالطَّاقِ وَكَالسِّرْبِ. الثَّالِثُ: قِيلَ إِنَّهُ تَمَّ

[سورة الكهف (18) : الآيات 65 إلى 70]

الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: عَجَبًا وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَعَجُّبُهُ مِنْ تِلْكَ الْعَجِيبَةِ الَّتِي رَآهَا وَمِنْ نِسْيَانِهِ لَهَا وَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ عَجَبًا حِكَايَةٌ لِتَعَجُّبِ مُوسَى وَهُوَ لَيْسَ بِقَوْلِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ أَيْ قَالَ مُوسَى ذَلِكَ الَّذِي كُنَّا نَطْلُبُهُ لِأَنَّهُ أَمَارَةُ الظَّفَرِ بِالْمَطْلُوبِ وَهُوَ لِقَاءُ الْخَضِرِ وَقَوْلُهُ نَبْغِ أَصْلُهُ نَبْغِي فَحُذِفَتِ الْيَاءُ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ لِدَلَالَةِ الْكَسْرَةِ عَلَيْهِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُحْذَفَ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَحْذِفُونَ الْيَاءَ فِي الْأَسْمَاءِ وَهَذَا فِعْلٌ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ عَلَى ضَعْفِ الْقِيَاسِ حَذْفُهَا لِأَنَّهَا تُحْذَفُ مَعَ السَّاكِنِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَهَا كَقَوْلِكَ مَا نَبْغِي الْيَوْمَ؟ فَلَمَّا حُذِفَتْ مَعَ السَّاكِنِ حُذِفَتْ أَيْضًا مَعَ غَيْرِ السَّاكِنِ ثُمَّ قَالَ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا أَيْ/ فَرَجَعَا وَقَوْلُهُ: قَصَصاً فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ رَجَعَا عَلَى آثَارِهِمَا مُقْتَصِّينَ آثَارَهُمَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لِقَوْلِهِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا، لِأَنَّ مَعْنَاهُ فَاقْتَصَّا عَلَى آثَارِهِمَا. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُمَا لَمَّا عَرَفَا أَنَّهُمَا تَجَاوَزَا عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَسْكُنُ فِيهِ ذَلِكَ الْعَالِمُ رَجَعَا وَعَادَا إِلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة الكهف (18) : الآيات 65 الى 70] فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) [في قَوْلُهُ تَعَالَى فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا فِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ إِنَّ ذَلِكَ الْعَبْدَ كَانَ نَبِيًّا وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَالرَّحْمَةُ هِيَ النُّبُوَّةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: 32] وقوله: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الْقَصَصِ: 86] وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الرَّحْمَةِ النُّبُوَّةُ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ نُسَلِّمُ أَنَّ النُّبُوَّةَ رَحْمَةٌ أَمَّا لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ رَحْمَةٍ نُبُوَّةً. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّمَهُ لَا بِوَاسِطَةِ تَعْلِيمِ مُعَلِّمٍ وَلَا إِرْشَادِ مُرْشِدٍ وَكُلُّ مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ لَا بِوَاسِطَةِ الْبَشَرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا يَعْلَمُ الْأُمُورَ بِالْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ. وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْعُلُومَ الضَّرُورِيَّةَ تَحْصُلُ ابْتِدَاءً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ [الكهف: 66] وَالنَّبِيُّ لَا يَتَّبِعُ غَيْرَ النَّبِيِّ/ فِي التَّعْلِيمِ وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ لَا يَتَّبِعُ غَيْرَ النَّبِيِّ فِي الْعُلُومِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا صَارَ نَبِيًّا أَمَّا فِي غَيْرِ تِلْكَ الْعُلُومِ فَلَا. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ ذَلِكَ الْعَبْدَ أَظْهَرَ التَّرَفُّعَ عَلَى مُوسَى حَيْثُ قَالَ لَهُ: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً وَأَمَّا مُوسَى فَإِنَّهُ أَظْهَرَ التَّوَاضُعَ لَهُ حَيْثُ قَالَ: لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ

كان فوق موسى، ومن لَا يَكُونُ فَوْقَ النَّبِيِّ وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ النَّبِيِّ فَوْقَ النَّبِيِّ فِي عُلُومٍ لَا تَتَوَقَّفُ نُبُوَّتُهُ عَلَيْهَا. فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَإِنْ قَالُوا لِأَنَّهُ يُوجِبُ التَّنْفِيرَ. قُلْنَا فَإِرْسَالُ مُوسَى إِلَى التَّعَلُّمِ مِنْهُ بَعْدَ إِنْزَالِ اللَّهِ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ وَتَكْلِيمِهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ يُوجِبُ التَّنْفِيرَ، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ التَّنْفِيرَ فَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا ذَكَرُوهُ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ الْأَصَمُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ بِقَوْلِهِ فِي أَثْنَاءِ الْقِصَّةِ: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي وَمَعْنَاهُ فَعَلْتُهُ بِوَحْيِ اللَّهِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ. وَهَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ ضَعِيفٌ وَضَعْفُهُ ظَاهِرٌ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: مَا رُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكَ، فَقَالَ وَعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا نَبِيَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ عَرَّفَكَ هَذَا؟ قَالَ: الَّذِي بَعَثَكَ إِلَيَّ. قَالُوا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا عَرَفَ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ وَالْوَحْيُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ النُّبُوَّةِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَاتِ وَالْإِلْهَامَاتِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْأَكْثَرُونَ إِنَّ ذَلِكَ الْعَبْدَ هُوَ الْخَضِرُ، وَقَالُوا إِنَّمَا سُمِّيَ بِالْخَضِرِ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَقِفُ مَوْقِفًا إِلَّا اخْضَرَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ، قَالَ الْجُبَّائِيُّ قَدْ ظَهَرَتِ الرِّوَايَةُ أَنَّ الْخَضِرَ إِنَّمَا بُعِثَ بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَإِنَّ صَحَّ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَبْدُ هُوَ الْخَضِرُ. وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَبْدُ هُوَ الْخَضِرُ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْخَضِرُ أَعْلَى شَأْنًا مِنْ مُوسَى صَاحِبِ التَّوْرَاةِ، لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَتَرَفَّعُ عَلَى مُوسَى، وَكَانَ مُوسَى يُظْهِرُ التَّوَاضُعَ لَهُ إِلَّا أَنَّ كَوْنَ الْخَضِرِ أَعْلَى شَأْنًا مِنْ مُوسَى غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الْخَضِرَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ مَا كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [فَقَدْ] كَانَ مِنْ أُمَّةِ مُوسَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قال لفرعون: فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاءِ: 17] وَالْأُمَّةُ لَا تَكُونُ أَعْلَى حَالًا مِنَ النَّبِيِّ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ مَا كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ مُوسَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [الْبَقَرَةِ: 47] وَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ تُقَوِّي قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مُوسَى هَذَا غَيْرُ مُوسَى صَاحِبِ التَّوْرَاةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً يُفِيدُ أَنَّ تِلْكَ الْعُلُومَ حَصَلَتْ عِنْدَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَالصُّوفِيَّةُ سَمَّوُا الْعُلُومَ الْحَاصِلَةَ بِطَرِيقِ الْمُكَاشَفَاتِ الْعُلُومَ اللَّدُنِّيَّةَ، وَلِلشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ رِسَالَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْعُلُومِ اللَّدُنِّيَّةِ، وَأَقُولُ تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ نَقُولَ: / إِذَا أَدْرَكْنَا أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ وَتَصَوَّرْنَا حَقِيقَةً مِنَ الْحَقَائِقِ فَإِمَّا أَنْ نَحْكُمَ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ وَهُوَ التَّصْدِيقُ أَوْ لَا نَحْكُمَ وَهُوَ التَّصَوُّرُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَظَرِيًّا حَاصِلًا مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ وَطَلَبٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَسْبِيًّا، أَمَّا الْعُلُومُ النَّظَرِيَّةُ فَهِيَ تَحْصُلُ فِي النَّفْسِ وَالْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ وَطَلَبٍ، مِثْلُ تَصَوُّرِنَا الْأَلَمَ وَاللَّذَّةَ، وَالْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، وَمِثْلُ تَصْدِيقِنَا بِأَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ. وَأَمَّا الْعُلُومُ الْكَسْبِيَّةُ فَهِيَ الَّتِي لَا تَكُونُ حَاصِلَةً فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ ابْتِدَاءً بَلْ لَا بُدَّ مِنْ طَرِيقٍ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى اكْتِسَابِ تِلْكَ الْعُلُومِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ عَلَى قِسْمَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَكَلَّفَ الْإِنْسَانُ تَرَكُّبَ تِلْكَ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ النَّظَرِيَّةِ حَتَّى يَتَوَصَّلَ بِتَرَكُّبِهَا إِلَى اسْتِعْلَامِ الْمَجْهُولَاتِ. وَهَذَا الطَّرِيقُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالنَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ وَالتَّرَوِّي وَالِاسْتِدْلَالِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ تَحْصِيلِ الْعُلُومِ هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْجُهْدِ وَالطَّلَبِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَسْعَى الْإِنْسَانُ بِوَاسِطَةِ الرِّيَاضَاتِ وَالْمُجَاهَدَاتِ فِي أَنْ تَصِيرَ

الْقُوَى الْحِسِّيَّةُ وَالْخَيَالِيَّةُ ضَعِيفَةً فَإِذَا ضَعُفَتْ قَوِيَتِ الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ وَأَشْرَقَتِ الْأَنْوَارُ الْإِلَهِيَّةُ فِي جَوْهَرِ الْعَقْلِ، وَحَصَلَتِ الْمَعَارِفُ وَكَمُلَتِ الْعُلُومُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ سَعْيٍ وَطَلَبٍ فِي التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ، وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى بِالْعُلُومِ اللَّدُنِّيَّةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: جَوَاهِرُ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ مُخْتَلِفَةٌ بِالْمَاهِيَّةِ فَقَدْ تَكُونُ النَّفْسُ نَفْسًا مُشْرِقَةً نُورَانِيَّةً إِلَهِيَّةً عُلْوِيَّةً قَلِيلَةَ التَّعَلُّقِ بِالْجَوَاذِبِ الْبَدَنِيَّةِ وَالنَّوَازِعِ الْجُسْمَانِيَّةِ فَلَا جَرَمَ كَانَتْ أَبَدًا شَدِيدَةَ الِاسْتِعْدَادِ لِقَبُولِ الْجَلَايَا الْقُدُسِيَّةِ وَالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ، فَلَا جَرَمَ فَاضَتْ عَلَيْهَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ تِلْكَ الْأَنْوَارُ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً وَأَمَّا النَّفْسُ الَّتِي مَا بَلَغَتْ فِي صَفَاءِ الْجَوْهَرِ وَإِشْرَاقِ الْعُنْصُرِ فَهِيَ النَّفْسُ النَّاقِصَةُ الْبَلِيدَةُ الَّتِي لَا يُمْكِنُهَا تَحْصِيلُ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ إِلَّا بِمُتَوَسِّطٍ بَشَرِيٍّ يُحْتَالُ فِي تَعْلِيمِهِ وَتَعَلُّمِهِ وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقِسْمِ الثَّانِي كَالشَّمْسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَضْوَاءِ الْجُزْئِيَّةِ وَكَالْبَحْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَدَاوِلِ الْجُزْئِيَّةِ وَكَالرُّوحِ الْأَعْظَمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَرْوَاحِ الْجُزْئِيَّةِ. فَهَذَا تَنْبِيهٌ قَلِيلٌ عَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ، وَوَرَاءَهُ أَسْرَارٌ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ رَشَدًا بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالشِّينِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِضَمِّ الرَّاءِ وَالشِّينِ وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَسْكِينِ الشِّينِ قَالَ الْقَفَّالُ وَهِيَ لُغَاتٌ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ يُقَالُ رُشْدٌ وَرَشَدٌ مِثْلَ نُكْرٌ وَنَكْرٌ «1» كَمَا يُقَالُ سُقْمٌ وَسَقَمٌ وَشُغْلٌ وَشَغْلٌ وَبُخْلٌ وَبَخَلٌ وَعُدْمٌ وَعَدَمٌ وَقَوْلُهُ رُشْداً أَيْ عِلْمًا ذَا رُشْدٍ قَالَ الْقَفَّالُ قَوْلُهُ: رُشْداً يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الرُّشْدُ رَاجِعًا إِلَى الْخَضِرِ أَيْ مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ وَأَرْشَدَكَ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَرْجِعَ ذَلِكَ إِلَى مُوسَى وَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي وَتُرْشِدَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَاعَى أَنْوَاعًا كثيرة من الأدب واللطف عند ما أَرَادَ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنَ الْخَضِرِ. فَأَحَدُهَا: أَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ تَبَعًا لَهُ لِأَنَّهُ قَالَ: هَلْ أَتَّبِعُكَ. وثانيها: أن استأذن في إثبات هذا التَّبَعِيَّةِ فَإِنَّهُ قَالَ هَلْ تَأْذَنُ لِي أَنْ أجعل نفسي تبعا لك وهذا مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ فِي التَّوَاضُعِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ وَهَذَا إِقْرَارٌ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْجَهْلِ وَعَلَى أستاذه بالعلم. ورابعها: أنه قال: مِمَّا عُلِّمْتَ وَصِيغَةُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ فَطَلَبَ مِنْهُ تَعْلِيمَ بَعْضِ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَهَذَا أَيْضًا مُشْعِرٌ بِالتَّوَاضُعِ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ لَا أَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ تَجْعَلَنِي مُسَاوِيًا فِي الْعِلْمِ لَكَ، بَلْ أَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ تُعْطِيَنِي جُزْأً مِنْ أَجْزَاءِ عِلْمِكَ، كَمَا يَطْلُبُ الْفَقِيرُ مِنَ الْغَنِيِّ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ جُزْأً مِنْ أَجْزَاءِ مَالِهِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: مِمَّا عُلِّمْتَ اعْتِرَافٌ بِأَنَّ اللَّهَ عَلَّمَهُ ذَلِكَ الْعِلْمَ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: رُشْداً طَلَبٌ مِنْهُ لِلْإِرْشَادِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادُ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي لَوْ لَمْ يَحْصُلْ لَحَصَلَتِ الْغَوَايَةُ والضلال. وسابعها: أن قوله: تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُعَامِلَهُ بِمِثْلِ مَا عَامَلَهُ اللَّهُ بِهِ وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ يَكُونُ إِنْعَامُكَ عَلَيَّ عِنْدَ هَذَا التَّعْلِيمِ شَبِيهًا بِإِنْعَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْكَ فِي هذا التعليم وَلِهَذَا الْمَعْنَى قِيلَ أَنَا عَبْدُ مَنْ تَعَلَّمْتُ مِنْهُ حَرْفًا. وَثَامِنُهَا: أَنَّ الْمُتَابَعَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ فِعْلِ الْغَيْرِ لِأَجْلِ كَوْنِهِ فِعْلًا لِذَلِكَ الْغَيْرِ، فَإِنَّا إِذَا قُلْنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَالْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَنَا كَانُوا يَذْكُرُونَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فَلَا يَجِبُ كَوْنُنَا مُتَّبِعِينَ لَهُمْ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، لِأَنَّا لَا نَقُولُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ قَالُوهَا بَلْ إِنَّمَا نَقُولُهَا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ ذِكْرُهَا، أَمَّا إِذَا أَتَيْنَا بِهَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى مُوَافَقَةِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّمَا أَتَيْنَا بِهَا لِأَجْلِ أَنَّهُ

_ (1) لعل الصواب: مثل شكر شكر.

عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى بِهَا لَا جَرَمَ كُنَّا مُتَابِعِينَ فِي فِعْلِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ: هَلْ أَتَّبِعُكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَأْتِي بِمِثْلِ أَفْعَالِ ذَلِكَ الْأُسْتَاذِ لِمُجَرَّدِ كَوْنِ ذَلِكَ الْأُسْتَاذِ آتِيًا بِهَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَلِّمَ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ التَّسْلِيمُ وَتَرْكُ الْمُنَازَعَةِ وَالِاعْتِرَاضِ. وَتَاسِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: أَتَّبِعُكَ يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ مُتَابَعَتِهِ مُطْلَقًا فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ. وَعَاشِرُهَا: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ أَنَّ الْخَضِرَ عَرَفَ أَوَّلًا أَنَّهُ نَبِيُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنَّهُ هُوَ مُوسَى صَاحِبُ التَّوْرَاةِ وَهُوَ الرَّجُلُ الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَخَصَّهُ بِالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ الْبَاهِرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ هَذِهِ الْمَنَاصِبِ الرَّفِيعَةِ وَالدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ أَتَى بِهَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْكَثِيرَةِ مِنَ التَّوَاضُعِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ آتِيًا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ بِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْمُبَالَغَةِ وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَتْ إِحَاطَتُهُ بِالْعُلُومِ أَكْثَرَ كَانَ عِلْمُهُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبَهْجَةِ وَالسَّعَادَةِ أَكْثَرَ فَكَانَ طَلَبُهُ لَهَا أَشَدَّ وَكَانَ تَعْظِيمُهُ لِأَرْبَابِ الْعِلْمِ أَكْمَلَ وَأَشَدَّ. وَالْحَادِي عَشَرَ: أَنَّهُ قَالَ: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ فَأَثْبَتَ كَوْنَهُ تَبَعًا لَهُ أَوَّلًا ثُمَّ طَلَبَ ثَانِيًا أَنْ يُعَلِّمَهُ وَهَذَا مِنْهُ ابْتِدَاءٌ بِالْخِدْمَةِ ثُمَّ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ طَلَبَ مِنْهُ التَّعْلِيمَ. وَالثَّانِي عَشَرَ: أَنَّهُ قَالَ: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ فَلَمْ يَطْلُبْ عَلَى تِلْكَ الْمُتَابَعَةِ عَلَى التَّعْلِيمِ شيئا كان قَالَ لَا أَطْلُبُ مِنْكَ عَلَى هَذِهِ الْمُتَابَعَةِ الْمَالَ وَالْجَاهَ وَلَا غَرَضَ لِي إِلَّا طَلَبُ الْعِلْمِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى/ حَكَى عَنِ الْخَضِرِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمُتَعَلِّمَ عَلَى قِسْمَيْنِ مُتَعَلِّمٌ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ وَلَمْ يُمَارِسِ الْقِيلَ وَالْقَالَ وَلَمْ يَتَعَوَّدِ التَّقْرِيرَ وَالِاعْتِرَاضَ، وَمُتَعَلِّمٌ حَصَّلَ الْعُلُومَ الْكَثِيرَةَ وَمَارَسَ الِاسْتِدْلَالَ وَالِاعْتِرَاضَ. ثُمَّ إِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُخَالِطَ إِنْسَانًا أَكْمَلَ مِنْهُ لِيَبْلُغَ دَرَجَةَ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ وَالتَّعَلُّمُ فِي هَذَا الْقِسْمِ الثَّانِي شَاقٌّ شَدِيدٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا رَأَى شَيْئًا أَوْ سَمِعَ كَلَامًا فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ مُنْكَرًا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ حَقًّا صَوَابًا، فَهَذَا الْمُتَعَلِّمُ لِأَجْلِ أَنَّهُ أَلِفَ الْقِيلَ وَالْقَالَ وَتَعَوَّدَ الْكَلَامَ وَالْجِدَالَ يَغْتَرُّ ظَاهِرُهُ وَلِأَجْلِ عَدَمِ كَمَالِهِ لَا يَقِفُ عَلَى سِرِّهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يُقْدِمُ عَلَى النِّزَاعِ وَالِاعْتِرَاضِ وَالْمُجَادَلَةِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَثْقُلُ سَمَاعُهُ عَلَى الْأُسْتَاذِ الْكَامِلِ الْمُتَبَحِّرِ فَإِذَا اتَّفَقَ مِثْلُ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً حَصَلَتِ النَّفْرَةُ التَّامَّةُ وَالْكَرَاهَةُ الشَّدِيدَةُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْخَضِرُ بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ أَلِفَ الْكَلَامَ وَتَعَوَّدَ الْإِثْبَاتَ وَالْإِبْطَالَ وَالِاسْتِدْلَالَ وَالِاعْتِرَاضَ، وَقَوْلِهِ: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً إِشَارَةً إِلَى كَوْنِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ كَمَا هِيَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الْأَمْرَانِ صَعُبَ السُّكُوتُ وَعَسُرَ التَّعْلِيمُ وَانْتَهَى الْأَمْرُ بِالْآخِرَةِ «1» إِلَى النَّفْرَةِ وَالْكَرَاهِيَةِ وَحُصُولِ التَّقَاطُعِ وَالتَّنَافُرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَحْصُلُ قَبْلَ الْفِعْلِ. قَالُوا: لَوْ كَانَتِ الِاسْتِطَاعَةُ عَلَى الْفِعْلِ حَاصِلَةً قَبْلَ حُصُولِ الْفِعْلِ لَكَانَتِ الِاسْتِطَاعَةُ عَلَى الصَّبْرِ حَاصِلَةً لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ حُصُولِ الصَّبْرِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَصِيرَ قَوْلُهُ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً كَذِبًا، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تُوجَدُ قَبْلَ الْفِعْلِ. أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ الصَّبْرُ لَا أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُهُ، يُقَالُ فِي الْعُرْفِ: إِنَّ فُلَانًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرَى فَلَانًا وَ [لَا] أَنْ يُجَالِسَهُ إِذَا كَانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ أَيْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمُ الِاسْتِمَاعُ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا عُدُولٌ عَنِ

_ (1) الصواب بآخرة، يعني نهاية الأمر وعاقبته. [.....]

[سورة الكهف (18) : الآيات 71 إلى 73]

الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَأَقُولُ مِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً اسْتَبْعَدَ حُصُولَ الصَّبْرِ عَلَى مَا لَمْ يَقِفِ الْإِنْسَانُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلَوْ كَانَتِ الِاسْتِطَاعَةُ قَبْلَ الْفِعْلِ لَكَانَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْعِلْمِ حَاصِلَةً قَبْلَ حُصُولِ ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ حُصُولُ الصَّبْرِ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الْعِلْمِ مُسْتَبْعَدًا لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْفِعْلِ لَا يَبْعُدُ مِنْهُ إِقْدَامُهُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَلَمَّا حَكَمَ اللَّهُ بِاسْتِبْعَادِهِ عَلِمْنَا أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَحْصُلُ قَبْلَ الْفِعْلِ. ثُمَّ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ الطَّاعِنُونَ فِي عِصْمَةِ اللَّهِ الْأَنْبِيَاءَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: إِنَّ الْخَضِرَ قَالَ لِمُوسَى: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَقَالَ مُوسَى: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي/ لَكَ أَمْراً وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يُكَذِّبُ الْآخَرَ فَيَلْزَمُ إِلْحَاقُ الْكَذِبِ بِأَحَدِهِمَا وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَلْزَمُ صُدُورُ الْكَذِبِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَالْجَوَابُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً عَلَى الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرُوهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَفْظَةُ إِنْ كَانَ كَذَا تُفِيدُ الشَّكَّ فَقَوْلُهُ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً مَعْنَاهُ سَتَجِدُنِي صَابِرًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ كَوْنِي صَابِرًا، وَهَذَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الشَّكِّ فِي أَنَّ اللَّهَ هَلْ يُرِيدُ كَوْنَهُ صَابِرًا أَمْ لَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّبْرَ فِي مَقَامِ التَّوَقُّفِ وَاجِبٌ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ لَا يُرِيدُ مِنَ الْعَبْدِ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَأْمُرُ بِالشَّيْءِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ إِنَّمَا تُذْكَرُ رِعَايَةً لِلْأَدَبِ فِيمَا يُرِيدُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيُقَالُ لَهُمْ هَذَا الْأَدَبُ إِنْ صَحَّ مَعْنَاهُ فَقَدْ ثَبَتَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ فَسَدَ فَأَيُّ أَدَبٍ فِي ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ الْبَاطِلِ؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ يُفِيدُ الْوُجُوبَ لِأَنَّ تَارِكَ الْمَأْمُورِ بِهِ عَاصٍ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْعَاصِي يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الْجِنِّ: 23] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ يُفِيدُ الْوُجُوبَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُ الْخَضِرِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً نِسْبَةٌ إِلَى قِلَّةِ الْعِلْمِ وَالْخَبَرِ، وَقَوْلُ مُوسَى لَهُ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً تَوَاضُعٌ شَدِيدٌ وَإِظْهَارٌ لِلتَّحَمُّلِ التَّامِّ وَالتَّوَاضُعِ الشَّدِيدِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ إِظْهَارُ التَّوَاضُعِ بِأَقْصَى الْغَايَاتِ، وَأَمَّا الْمُعَلِّمُ فَإِنْ رَأَى أَنَّ فِي التَّغْلِيظِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ مَا يُفِيدُهُ نَفْعًا وَإِرْشَادًا إِلَى الْخَيْرِ. فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ ذِكْرُهُ فَإِنَّ السُّكُوتَ عَنْهُ يُوقِعُ الْمُتَعَلِّمَ فِي الْغُرُورِ وَالنَّخْوَةِ وَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنَ التَّعَلُّمِ ثُمَّ قَالَ: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أَيْ لَا تَسْتَخْبِرْنِي عَمَّا تَرَاهُ مِنِّي مِمَّا لَا تَعْلَمُ وَجْهَهُ حَتَّى أَكُونَ أَنَا الْمُبْتَدِئَ لِتَعْلِيمِكَ إِيَّاهُ وَإِخْبَارِكِ بِهِ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ فَلَا تَسْأَلَنِّ مُحَرَّكَةَ اللَّامِ مُشَدَّدَةَ النُّونِ بِغَيْرِ يَاءٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ لَا تَسْأَلَنِّي مُثَقَّلَةً مَعَ الْيَاءِ وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ، وَفِي قِرَاءَةِ الباقين لا تسألن خفيفة والمعنى واحد. [سورة الكهف (18) : الآيات 71 الى 73] فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73)

[سورة الكهف (18) : الآيات 74 إلى 76]

اعْلَمْ أَنَّ مُوسَى وَذَلِكَ الْعَالِمَ لَمَّا تَشَارَطَا عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ وَسَارَا فَانْتَهَيَا إِلَى مَوْضِعٍ احْتَاجَا فِيهِ إِلَى رُكُوبِ السَّفِينَةِ فَرَكِبَاهَا وَأَقْدَمَ ذَلِكَ الْعَالِمُ عَلَى خَرْقِ السَّفِينَةِ، وَأَقُولُ لَعَلَّهُ أَقْدَمَ عَلَى خَرْقِ جِدَارِ السَّفِينَةِ لِتَصِيرَ السَّفِينَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْخَرْقِ مَعِيبَةً ظَاهِرَةَ الْعَيْبِ فَلَا يَتَسَارَعُ الْغَرَقُ إِلَى أَهْلِهَا فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى لَهُ: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: لِيَغْرَقَ أَهْلُهَا بِفَتْحِ الْيَاءِ عَلَى إِسْنَادِ الْغَرَقِ إِلَى الْأَهْلِ وَالْبَاقُونَ لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا عَلَى الْخِطَابِ، وَالتَّقْدِيرُ لِتُغْرِقَ أَنْتَ أَهْلَ هَذِهِ السَّفِينَةِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا شَاهَدَ ذَلِكَ الْأَمْرَ الْمُنْكَرَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ نَسِيَ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ مَا قَالَ، وَاحْتَجَّ الطَّاعِنُونَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ كَانَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها فَإِنْ صَدَقَ مُوسَى فِي هَذَا الْقَوْلِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى صُدُورِ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيِّ، وَإِنْ كَذَبَ دَلَّ عَلَى صُدُورِ الْكَذِبِ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. الثَّانِي: أَنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ لَا يَعْتَرِضَ عَلَى ذَلِكَ الْعَالِمِ. وَجَرَتِ الْعُهُودُ الْمُؤَكِّدَةُ لِذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ خَالَفَ تِلْكَ الْعُهُودَ وَذَلِكَ ذَنْبٌ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَمَّا شَاهَدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُ الْأَمْرَ الْخَارِجَ عَنِ الْعَادَةِ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ، لَا لِأَجْلِ أَنَّهُ اعْتَقَدَ فِيهِ أَنَّهُ فَعَلَ قَبِيحًا، بَلْ لِأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَقِفَ عَلَى وَجْهِهِ وَسَبَبِهِ، وَقَدْ يُقَالُ فِي الشَّيْءِ الْعَجِيبِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ إِنَّهُ إِمْرٌ يُقَالُ أَمِرَ الْأَمْرُ إِذَا عَظُمَ وَقَالَ الشَّاعِرُ: دَاهِيَةً دَهْيَاءَ وَعَلَى الثَّانِي: أَنَّهُ فَعَلَ بِنَاءً عَلَى النِّسْيَانِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ ذَلِكَ الْعَالِمِ أَنَّهُ لَمَّا خَالَفَ الشَّرْطَ لَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً فَعِنْدَ هَذَا اعْتَذَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ أَرَادَ أَنَّهُ نَسِيَ وَصِيَّتَهُ وَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَى النَّاسِي بِشَيْءٍ: وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً يُقَالُ: رَهَقَهُ إِذَا غَشِيَهُ وَأَرْهَقَهُ إِيَّاهُ أَيْ وَلَا تُغْشِنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا، وَهُوَ اتِّبَاعُهُ إِيَّاهُ يَعْنِي وَلَا تُعَسِّرْ عَلَيَّ مُتَابَعَتَكَ وَيَسِّرْهَا عَلَيَّ بِالْإِغْضَاءِ وَتَرْكِ المناقشة، وقرئ: عُسْراً بضمتين. [سورة الكهف (18) : الآيات 74 الى 76] فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْغُلَامِ قَدْ يَتَنَاوَلُ الشَّابَّ الْبَالِغَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقَالُ رَأْيُ الشَّيْخِ خَيْرٌ مِنْ مَشْهَدِ الْغُلَامِ جَعَلَ الشَّيْخَ نَقِيضًا لِلْغُلَامِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغُلَامَ هُوَ الشَّابُّ وَأَصْلُهُ مِنَ الِاغْتِلَامِ وَهُوَ شِدَّةُ الشَّبَقِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الشَّبَابِ، وَأَمَّا تَنَاوُلُ هَذَا اللَّفْظِ لِلصَّبِيِّ الصَّغِيرِ فَظَاهِرٌ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ كَيْفَ لَقِيَاهُ هَلْ كَانَ يَلْعَبُ مَعَ جَمْعٍ مِنَ الْغِلْمَانِ الصِّبْيَانِ أَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا؟ وَهَلْ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَانَ كَافِرًا؟ وَهَلْ كَانَ مُنْعَزِلًا؟ وَهَلْ كَانَ بَالِغًا أَوْ كَانَ صَغِيرًا؟ وَكَانَ اسْمُ الْغُلَامِ بِالصَّغِيرِ أَلْيَقَ وَإِنِ احْتَمَلَ الْكَبِيرَ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: بِغَيْرِ نَفْسٍ أَلْيَقُ بِالْبَالِغِ مِنْهُ بِالصَّبِيِّ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا يُقْتَلُ وَإِنْ قَتَلَ، وَأَيْضًا فَهَلْ قَتَلَهُ بِأَنْ حَزَّ رَأْسَهُ أَوْ بِأَنْ ضَرَبَ رَأْسَهُ بِالْجِدَارِ أَوْ بِطْرِيقٍ آخَرَ فَلَيْسَ فِي لفظ القرآن

[سورة الكهف (18) : الآيات 77 إلى 78]

مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ فَعِنْدَ هَذَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو زَاكِيَةً بِالْأَلِفِ وَالْبَاقُونَ زَكِيَّةً بِغَيْرِ أَلِفٍ قَالَ الْكِسَائِيُّ: الزَّاكِيَةُ وَالزَّكِيَّةُ لُغَتَانِ وَمَعْنَاهُمَا الطَّاهِرَةُ، وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الزَّاكِيَةُ الَّتِي لَمْ تُذْنِبُ وَالزَّكِيَّةُ الَّتِي أَذْنَبَتْ ثُمَّ تَابَتْ. الْبَحْثُ الثَّانِي: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَبْعَدَ أَنْ يَقْتُلَ النَّفْسَ إِلَّا لِأَجْلِ الْقِصَاصِ بِالنَّفْسِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يَحِلُّ دَمُهُ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ السَّبَبَ الْأَقْوَى هُوَ ذَلِكَ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: النُّكْرُ أَعْظَمُ مِنَ الْإِمْرِ فِي الْقُبْحِ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قَتْلَ الْغُلَامِ أَقْبَحُ مِنْ خَرْقِ السَّفِينَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَا كَانَ إِتْلَافًا لِلنَّفْسِ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ لا يحصل الغرق، أما هاهنا حَصَلَ الْإِتْلَافُ قَطْعًا فَكَانَ أَنْكَرَ وَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أَيْ عَجَبًا وَالنُّكْرُ أَعْظَمُ مِنَ الْعَجَبِ وَقِيلَ النُّكْرُ مَا أَنْكَرَتْهُ الْعُقُولُ وَنَفَرَتْ عَنْهُ النُّفُوسُ فَهُوَ أَبْلَغُ فِي تَقْبِيحِ الشَّيْءِ مِنَ الْإِمْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْإِمْرُ أَعْظَمُ. قَالَ: لِأَنَّ خَرْقَ السَّفِينَةِ يؤدي إلى إتلاف نفوس كثيرة وهذ الْقَتْلُ لَيْسَ إِلَّا إِتْلَافَ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَأَيْضًا الْإِمْرُ هُوَ الدَّاهِيَةُ الْعَظِيمَةُ فَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ النُّكْرِ وَإِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ ذَلِكَ الْعَالِمِ أَنَّهُ مَا زَادَ عَلَى أَنْ ذَكَّرَهُ مَا عَاهَدَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَهَذَا عَيْنُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إِلَّا أَنَّهُ زَادَ هاهنا لَفْظَةَ لَكَ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ تُؤَكِّدُ التَّوْبِيخَ فَعِنْدَ هَذَا قَالَ مُوسَى: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي مَعَ الْعِلْمِ بِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى مُصَاحَبَتِهِ وَهَذَا كَلَامُ نَادِمٍ شَدِيدِ النَّدَامَةِ ثُمَّ قَالَ: قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ يَمْدَحُهُ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ مِنْ حَيْثُ احْتَمَلَهُ مَرَّتَيْنِ أَوَّلًا وَثَانِيًا، مَعَ قُرْبِ الْمُدَّةِ وَبَقِيَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْقِرَاءَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةُ مَوَاضِعَ. الْأَوَّلُ: قَرَأَ نَافِعٌ بِرِوَايَةِ وَرْشٍ وَقَالُونُ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ نُكُرًا بِضَمِّ الْكَافِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَالْبَاقُونَ سَاكِنَةَ الْكَافِ حَيْثُ كَانَ وَهُمَا لغتان. الثاني: الكل قرءوا: فَلا تُصاحِبْنِي بِالْأَلِفِ إِلَّا يَعْقُوبَ فَإِنَّهُ قَرَأَ: (لَا تَصْحَبْنِي) مِنْ صَحِبَ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ/ الثَّالِثُ: فِي لَدُنِّي قراءات. الأولى: قراءة نافع وأبي فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ عَاصِمٍ: مِنْ لَدُنِي بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَضَمِّ الدَّالِ. الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: لَدُنِّي مُشَدَّدَةَ النُّونِ وَضَمَّ الدَّالِ. الثَّالِثَةُ: قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بالإشمام وغير إشباع. الرابعة: لَدُنِّي بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِ الدَّالِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ عَاصِمٍ وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ كُلُّهَا لُغَاتٌ في هذه اللفظة. [سورة الكهف (18) : الآيات 77 الى 78] فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) اعْلَمْ أَنَّ تِلْكَ الْقَرْيَةَ هِيَ أَنْطَاكِيَّةُ وقيل هي الأيلة وهاهنا سُؤَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: إِنَّ الِاسْتِطْعَامَ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ الْكِرَامِ فَكَيْفَ أَقْدَمَ عَلَيْهِ مُوسَى وَذَلِكَ الْعَالِمُ لِأَنَّ مُوسَى كَانَ مِنْ عَادَتِهِ عَرْضُ الْحَاجَةِ وَطَلَبُ الطَّعَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي قِصَّةِ مُوسَى عِنْدَ وُرُودِ مَاءِ مَدْيَنَ: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [الْقَصَصِ: 24] . الْجَوَابُ: أَنَّ إِقْدَامَ الْجَائِعِ عَلَى الِاسْتِطْعَامِ أَمْرٌ مُبَاحٌ فِي كُلِّ الشَّرَائِعِ بَلْ رُبَّمَا وَجَبَ ذَلِكَ عِنْدَ خَوْفِ الضَّرَرِ الشَّدِيدِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ: حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها وَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ

يُقَالَ اسْتَطْعَمَا مِنْهُمْ، وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّكْرِيرَ قَدْ يَكُونُ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: لَيْتَ الْغُرَابَ غَدَاةَ يَنْعِبُ دَائِمًا ... كَانَ الْغُرَابُ مُقَطَّعَ الْأَوْدَاجِ السُّؤَالُ الثَّالِثُ: إِنَّ الضِّيَافَةَ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ فَتَرْكُهَا تَرْكٌ لِلْمَنْدُوبِ وَذَلِكَ أَمْرٌ غَيْرُ مُنْكَرٍ فَكَيْفَ يَجُوزُ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ عُلُوِّ مَنْصِبِهِ أَنَّهُ غَضِبَ عَلَيْهِمُ الْغَضَبَ الشَّدِيدَ الَّذِي لِأَجْلِهِ تَرَكَ الْعَهْدَ الَّذِي الْتَزَمَهُ مَعَ ذَلِكَ الْعَالِمِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي وَأَيْضًا مِثْلُ هَذَا الْغَضَبِ لِأَجْلِ تَرْكِ الْأَكْلِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَلِيقُ بِأَدْوَنِ النَّاسِ فَضْلًا عَنْ كَلِيمِ اللَّهِ. الْجَوَابُ: أَمَّا قَوْلُهُ الضِّيَافَةُ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ قُلْنَا: قَدْ تَكُونُ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنَ الْوَاجِبَاتِ بِأَنْ كَانَ الضَّيْفُ قَدْ بَلَغَ فِي الْجُوعِ إِلَى حَيْثُ لَوْ لَمْ يَأْكُلْ لَهَلَكَ وَإِذَا كَانَ التَّقْدِيرُ مَا ذَكَرْنَاهُ لَمْ يَكُنِ الْغَضَبُ الشَّدِيدُ لِأَجْلِ تَرْكِ الْأَكْلِ يَوْمًا، فَإِنْ قَالُوا: مَا بَلَغَ فِي الْجُوعِ إِلَى حَدِّ الْهَلَاكِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ/ أَجْراً وَكَانَ يَطْلُبُ عَلَى إِصْلَاحِ ذَلِكَ الْجِدَارِ أُجْرَةً، وَلَوْ كَانَ قَدْ بَلَغَ فِي الْجُوعِ إِلَى حَدِّ الْهَلَاكِ لَمَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ فَكَيْفَ يَصِحُّ مِنْهُ طَلَبُ الْأُجْرَةِ قُلْنَا لَعَلَّ ذَلِكَ الْجُوعَ كَانَ شَدِيدًا إِلَّا أَنَّهُ مَا بَلَغَ حَدَّ الْهَلَاكِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: يُضَيِّفُوهُمَا يُقَالُ ضَافَهُ إِذَا كَانَ لَهُ ضَيْفًا، وَحَقِيقَتُهُ مَالَ إِلَيْهِ مِنْ ضَافَ السَّهْمُ عَنِ الْغَرَضِ. وَنَظِيرُهُ: زَارَهُ مِنَ الِازْوِرَارِ، وَأَضَافَهُ وَضَيَّفَهُ أَنْزَلَهُ، وَجَعَلَهُ ضَيْفَهُ، وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا أَهْلَ قَرْيَةٍ لِئَامًا. الْبَحْثُ الثَّانِي: رَأَيْتُ فِي كُتُبِ الْحِكَايَاتِ أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْقَرْيَةِ لَمَّا سَمِعُوا نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ اسْتَحْيَوْا وَجَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِمْلٍ مِنَ الذَّهَبِ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَشْتَرِي بِهَذَا الذَّهَبِ أَنْ تَجْعَلَ الباء تاءا حَتَّى تَصِيرَ الْقِرَاءَةُ هَكَذَا: فَأَتَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا. أَيْ أَتَوْا لِأَنْ يُضَيِّفُوهُمَا، أَيْ كَانَ إِتْيَانُ أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ إِلَيْهِمَا لِأَجْلِ الضِّيَافَةِ، وَقَالُوا: غَرَضُنَا مِنْهُ أَنْ يَنْدَفِعَ عَنَّا هَذَا اللُّؤْمُ فَامْتَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنَّ تَغْيِيرَ هَذِهِ النُّقْطَةِ يُوجِبُ دُخُولَ الْكَذِبِ فِي كَلَامِ اللَّهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَدْحَ فِي الْإِلَهِيَّةِ. فَعَلِمْنَا أَنَّ تَغْيِيرَ النُّقْطَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْقُرْآنِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ أَيْ فَرَأَيَا فِي الْقَرْيَةِ حَائِطًا مَائِلًا، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ وَصْفُ الْجِدَارِ بِالْإِرَادَةِ مَعَ أَنَّ الْإِرَادَةَ مِنْ صِفَاتِ الْأَحْيَاءِ قُلْنَا هَذَا اللَّفْظُ وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الشِّعْرِ قَالَ: يُرِيدُ الرُّمْحُ صَدْرَ أَبِي بَرَاءٍ ... وَيَرْغَبُ عَنْ دِمَاءِ بَنِي عَقِيلٍ وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: إِنْ دَهْرًا يَلُفُّ شَمْلِي بَجَمْعَلٍ ... لَزَمَانٌ يَهُمُّ بِالْإِحْسَانِ وَقَالَ الرَّاعِي: فِي مهمة فلقت به هاماتها ... فلق الفؤوس إِذَا أَرَدْنَ نُصُولًا وَنَظِيرُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ وَقَوْلُهُ: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَقَوْلُهُ: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ وَقَوْلُهُ: أَنْ يَنْقَضَّ يُقَالُ انْقَضَّ إِذَا أَسْرَعَ سُقُوطُهُ مِنَ انْقِضَاضِ الطَّائِرِ وَهُوَ انْفَعَلَ مُطَاوِعُ قَضَضْتُهُ. وَقِيلَ: انْقَضَّ فِعْلٌ مِنَ النَّقْضِ كَاحْمَرَّ مِنَ الْحُمْرَةِ، وَقُرِئَ أَنْ يُنْقَضَ مِنَ النَّقْضِ، وَأَنْ يَنْقَاضَّ مَنِ انْقَاضَّتِ الْعَيْنُ إِذَا انْشَقَّتْ طُولًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَأَقامَهُ قِيلَ نَقَضَهُ ثُمَّ بَنَاهُ، وَقِيلَ: أَقَامَهُ بِيَدِهِ، وَقِيلَ: مَسَحَهُ بِيَدِهِ فَقَامَ وَاسْتَوَى وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ. وَكَانَتِ الْحَالَةُ حَالَةَ اضْطِرَارٍ

[سورة الكهف (18) : الآيات 79 إلى 82]

وَافْتِقَارٍ إِلَى الطَّعَامِ فَلِأَجْلِ تِلْكَ الضَّرُورَةِ نَسِيَ مُوسَى مَا قَالَهُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي فَلَا جَرَمَ قَالَ: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً أَيْ طَلَبْتَ عَلَى عَمَلِكَ أُجْرَةً تَصْرِفُهَا فِي تَحْصِيلِ الْمَطْعُومِ وَتَحْصِيلِ سَائِرِ الْمُهِمَّاتِ، وَقُرِئَ: لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً والتاء في تخذ أَصْلٌ كَمَا فِي تَبِعَ، وَاتَّخَذَ/ افْتَعَلَ مِنْهُ كَقَوْلِنَا اتَّبَعْ مِنْ قَوْلِنَا تَبِعَ، وَاعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ قال العالم: هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ وهاهنا سؤالات. السؤال الأول: قوله: هذا إِشَارَةٌ إِلَى مَاذَا؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ شَرَطَ أَنَّهُ إِنْ سَأَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ سُؤَالًا آخَرَ يَحْصُلُ الْفِرَاقُ حَيْثُ قَالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي فَلَمَّا ذَكَرَ هَذَا السُّؤَالَ فَارَقَهُ ذَلِكَ الْعَالِمُ وَقَالَ: هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ أَيْ هَذَا الْفِرَاقُ الْمَوْعُودُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ هَذَا إِشَارَةً إِلَى السُّؤَالِ الثَّالِثِ أَيْ هَذَا الِاعْتِرَاضُ هُوَ سَبَبُ الْفِرَاقِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ؟ الْجَوَابُ: مَعْنَاهُ هَذَا فِرَاقٌ حَصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَأُضِيفَ الْمَصْدَرُ إِلَى الظَّرْفِ، حَكَى الْقَفَّالُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْبَيْنَ هُوَ الْوَصْلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ فَكَانَ الْمَعْنَى هَذَا فِرَاقُ بَيْنِنَا، أَيِ اتِّصَالُنَا، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَخْزَى اللَّهُ الْكَاذِبَ مِنِّي وَمِنْكَ، أَيْ أَحَدَنَا هَكَذَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ، ثُمَّ قَالَ الْعَالِمُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أَيْ سَأُخْبِرُكَ بِحِكْمَةِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثَةِ، وَأَصْلُ التَّأْوِيلِ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِمْ آلَ الْأَمْرُ إِلَى كَذَا أَيْ صَارَ إِلَيْهِ، فَإِذَا قِيلَ: مَا تَأْوِيلُهُ فَالْمَعْنَى مَا مَصِيرُهُ. [سورة الكهف (18) : الآيات 79 الى 82] أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ الثَّلَاثَةَ مُشْتَرِكَةٌ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ أَحْكَامَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظَّوَاهِرِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ» وَهَذَا الْعَالِمُ مَا كَانَتْ أَحْكَامُهُ مَبْنِيَّةً عَلَى ظَوَاهِرِ الْأُمُورِ بَلْ كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى الْأَسْبَابِ الْحَقِيقِيَّةِ الْوَاقِعَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّصَرُّفُ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ وَفِي أَرْوَاحِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَفِي الثَّانِيَةِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ يُبِيحُ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ لِأَنَّ تَخْرِيقَ السَّفِينَةِ تَنْقِيصٌ لِمِلْكِ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَقَتْلَ الْغُلَامِ تَفْوِيتٌ لِنَفْسٍ مَعْصُومَةٍ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَالْإِقْدَامَ عَلَى إِقَامَةِ ذَلِكَ الْجِدَارِ الْمَائِلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ تَحَمُّلُ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ حُكْمُ ذَلِكَ العالم فيها مبنيا عن الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ الْمَعْلُومَةِ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مَبْنِيًّا عَلَى أَسْبَابٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ كَانَ قَدْ آتَاهُ اللَّهُ قُوَّةً عَقْلِيَّةً قَدَرَ بِهَا

أَنْ يُشْرِفَ عَلَى بَوَاطِنِ الْأُمُورِ وَيَطَّلِعَ بِهَا عَلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ فَكَانَتْ مَرْتَبَةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَعْرِفَةِ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ بِنَاءَ الْأَمْرِ عَلَى الظَّوَاهِرِ وَهَذَا الْعَالِمُ كَانَتْ مَرْتَبَتُهُ الْوُقُوفَ عَلَى بَوَاطِنِ الْأَشْيَاءِ وَحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى أَسْرَارِهَا الْكَامِنَةِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ ظَهَرَ أَنَّ مَرْتَبَتَهُ فِي الْعِلْمِ كَانَتْ فَوْقَ مَرْتَبَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَسَائِلُ الثَّلَاثَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ عِنْدَ تَعَارُضِ الضَّرَرَيْنِ يَجِبُ تَحَمُّلُ الْأَدْنَى لِدَفْعِ الْأَعْلَى، فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْمُعْتَبَرُ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثَةِ. أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَلِأَنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعِبْ تِلْكَ السَّفِينَةَ بِالتَّخْرِيقِ لَغَصَبَهَا ذَلِكَ الْمَلِكُ، وَفَاتَتْ مَنَافِعُهَا عَنْ مُلَّاكِهَا بِالْكُلِّيَّةِ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ أَنْ يَخْرِقَهَا وَيَعِيبَهَا فَتَبْقَى مَعَ ذَلِكَ عَلَى مُلَّاكِهَا، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَخْرِقَهَا فَيَغْصِبَهَا الْمَلِكُ فَتَفُوتَ مَنَافِعُهَا بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى مُلَّاكِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الضَّرَرَ الْأَوَّلَ أَقَلُّ فَوَجَبَ تَحَمُّلُهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ أَعْظَمُهُمَا. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَكَذَلِكَ لِأَنَّ بَقَاءَ ذَلِكَ الْغُلَامِ حَيًّا كَانَ مَفْسَدَةً لِلْوَالِدَيْنِ فِي دِينِهِمْ وَفِي دُنْيَاهُمْ، وَلَعَلَّهُ عَلِمَ بِالْوَحْيِ أَنَّ الْمَضَارَّ النَّاشِئَةَ مِنْ قَتْلِ ذَلِكَ الْغُلَامِ أَقَلُّ مِنَ الْمَضَارِّ النَّاشِئَةِ بِسَبَبِ حُصُولِ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ لِلْأَبَوَيْنِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَقْدَمَ عَلَى قَتْلِهِ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَيْضًا كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ الْحَاصِلَةَ بِسَبَبِ الْإِقْدَامِ عَلَى إِقَامَةِ ذَلِكَ الْجِدَارِ ضَرَرُهَا أَقَلُّ مِنْ سُقُوطِهِ لِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ لَضَاعَ مَالُ تِلْكَ الْأَيْتَامِ. وَفِيهِ ضَرَرٌ شَدِيدٌ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ كَانَ مَخْصُوصًا بِالْوُقُوفِ عَلَى بَوَاطِنِ الْأَشْيَاءِ وَبِالِاطِّلَاعِ عَلَى حَقَائِقِهَا كَمَا هِيَ عَلَيْهَا فِي أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَخْصُوصًا بِبِنَاءِ الْأَحْكَامِ الْحَقِيقِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْبَاطِنَةِ، وَأَمَّا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمَا كَانَ كَذَلِكَ بَلْ كَانَتْ أَحْكَامُهُ مَبْنِيَّةً عَلَى ظَوَاهِرِ الْأُمُورِ فَلَا جَرَمَ ظَهَرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي الْعِلْمِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى أَطْلَعَهُ عَلَى بَوَاطِنِ الْأَشْيَاءِ وَحَقَائِقِهَا فِي نَفْسِهَا، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعِلْمِ لَا يُمْكِنُ تَعَلُّمُهُ، وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ الْعِلْمَ فَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ/ عَلَى ذَلِكَ الْعَالِمِ أَنْ يُظْهِرَ لَهُ عِلْمًا يُمْكِنُ لَهُ تَعَلُّمُهُ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثَةُ عُلُومٌ لَا يُمْكِنُ تَعَلُّمُهَا فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهَا وَإِظْهَارِهَا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعِلْمَ بِظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِنَاءً عَلَى مَعْرِفَةِ الشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِبَوَاطِنِ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّمَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِنَاءً عَلَى تَصْفِيَةِ الْبَاطِنِ وَتَجْرِيدِ النَّفْسِ وَتَطْهِيرِ الْقَلْبِ عَنِ الْعَلَائِقِ الْجَسَدَانِيَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ عِلْمِ ذَلِكَ الْعَالِمِ: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الْكَهْفِ: 65] ، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَمُلَتْ مَرْتَبَتُهُ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى هَذَا الْعَالِمِ لِيَعْلَمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ كَمَالَ الدَّرَجَةِ فِي أَنْ يَنْتَقِلَ الْإِنْسَانُ مِنْ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الظَّوَاهِرِ إِلَى عُلُومِ الْبَاطِنِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْإِشْرَافِ عَلَى الْبَوَاطِنِ وَالتَّطَلُّعِ عَلَى حَقَائِقِ الْأُمُورِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ أَجَابَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِقَوْلِهِ: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً وَفِيهِ فَوَائِدُ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ تِلْكَ السَّفِينَةَ كَانَتْ لِأَقْوَامٍ مُحْتَاجِينَ مُتَعَيِّشِينَ بِهَا فِي الْبَحْرِ وَاللَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُمْ مَسَاكِينَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ حَالَ الْفَقِيرِ فِي الضُّرِّ وَالْحَاجَةِ أَشَدُّ مِنْ حَالِ الْمِسْكِينِ لِأَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُمْ مَسَاكِينَ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَمْلِكُونَ تِلْكَ السَّفِينَةَ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ مُرَادَ ذَلِكَ الْعَالِمِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ مَا كَانَ مَقْصُودِي مِنْ تَخْرِيقِ تِلْكَ السَّفِينَةِ تَغْرِيقَ أَهْلِهَا بَلْ مَقْصُودِي أَنَّ ذَلِكَ الْمَلِكَ الظَّالِمَ كَانَ يَغْصِبُ السُّفُنَ الْخَالِيَةَ عن العيوب

فَجَعَلْتُ هَذِهِ السَّفِينَةَ مَعِيبَةً لِئَلَّا يَغْصِبَهَا ذَلِكَ الظَّالِمُ فَإِنَّ ضَرَرَ هَذَا التَّخْرِيقِ أَسْهَلُ مِنَ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنْ ذَلِكَ الْغَصْبِ، فَإِنْ قِيلَ وَهَلْ يَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لِمِثْلِ هَذَا الْغَرَضِ، قُلْنَا هَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ فَلَعَلَّ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ جَائِزًا فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، وَأَمَّا فِي شَرِيعَتِنَا فَمِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ غَيْرُ بَعِيدٍ، فَإِنَّا إِذَا عَلِمْنَا أَنَّ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ وَيَأْخُذُونَ جَمِيعَ مِلْكِ الْإِنْسَانِ، فَإِنْ دَفَعْنَا إِلَى قَاطِعِ الطَّرِيقِ بَعْضَ ذَلِكَ الْمَالِ سَلِمَ الْبَاقِي فَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ مِنَّا أَنْ نَدْفَعَ بَعْضَ مَالِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ إِلَى قَاطِعِ الطَّرِيقِ لِيَسْلَمَ الْبَاقِي وَكَانَ هَذَا مِنَّا يُعَدُّ إِحْسَانًا إِلَى ذَلِكَ الْمَالِكِ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ ذَلِكَ التَّخْرِيقَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا عَلَى وَجْهٍ لَا تَبْطُلُ بِهِ تِلْكَ السَّفِينَةُ بِالْكُلِّيَّةِ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الضَّرَرُ الْحَاصِلُ مِنْ غَصْبِهَا أَبْلَغَ مِنَ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنْ تَخْرِيقِهَا، وَحِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ تَخْرِيقُهَا جَائِزًا. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: لَفْظُ الْوَرَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: وَكانَ وَراءَهُمْ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ، هَكَذَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَتَفْسِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ [الْجَاثِيَةِ: 10] أَيْ أَمَامِهِمْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا [الْإِنْسَانِ: 27] وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ كُلَّ مَا غَابَ عَنْكَ فَقَدْ تَوَارَى عَنْكَ وَأَنْتَ مُتَوَارٍ عَنْهُ، فَكُلُّ مَا غَابَ عَنْكَ فَهُوَ وَرَاءَكَ وَأَمَامُ الشَّيْءِ وَقُدَّامُهُ إِذَا كَانَ غَائِبًا عَنْهُ مُتَوَارِيًا عَنْهُ فَلَمْ يَبْعُدْ إِطْلَاقُ لَفْظِ وَرَاءَ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَلِكُ كَانَ مِنْ وَرَاءِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَرْكَبُ مِنْهُ صَاحِبُهُ وَكَانَ مَرْجِعُ السَّفِينَةِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ قَتْلُ الْغُلَامِ فَقَدْ أَجَابَ الْعَالِمُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ/ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ الْغُلَامَ كَانَ بَالِغًا وَكَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَيُقْدِمُ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ، وَكَانَ أَبَوَاهُ يَحْتَاجَانِ إِلَى دَفْعِ شَرِّ النَّاسِ عَنْهُ وَالتَّعَصُّبِ لَهُ وَتَكْذِيبِ مَنْ يَرْمِيهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَكَانَ يَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوعِهِمَا فِي الْفِسْقِ. وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ الْفِسْقُ إِلَى الْكُفْرِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ صَبِيًّا إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ صَارَ بَالِغًا لَحَصَلَتْ مِنْهُ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ، وَقَوْلُهُ: فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً الْخَشْيَةُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ وَغَلَبَةِ الظَّنِّ وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ لَهُ قَتْلَ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ تَوَلُّدُ مِثْلِ هَذَا الْفَسَادِ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ: أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الْغُلَامَ يَحْمِلُ أَبَوَيْهِ عَلَى الطُّغْيَانِ وَالْكُفْرِ كَقَوْلِهِ: وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً [الْكَهْفِ: 73] أَيْ لَا تَحْمِلْنِي عَلَى عُسْرٍ وَضِيقٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَبَوَيْهِ لِأَجْلِ حُبِّ ذَلِكَ الْوَلَدِ يَحْتَاجَانِ إِلَى الذَّبِّ عَنْهُ، وَرُبَّمَا احْتَاجَا إِلَى مُوَافَقَتِهِ فِي تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ كَانَ يُعَاشِرُهُمَا مُعَاشَرَةَ الطُّغَاةِ الْكُفَّارِ، فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِ الْإِنْسَانِ لِمِثْلِ هَذَا الظَّنِّ؟ قُلْنَا: إِذَا تَأَكَّدَ ذَلِكَ الظَّنُّ بِوَحْيِ اللَّهِ جَازَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً أَيْ أَرَدْنَا أَنْ يَرْزُقَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَدًا خَيْرًا مِنْ هَذَا الْغُلَامِ زَكَاةً أَيْ دِينًا وَصَلَاحًا، وقيل: إن ذكره الزكاة هاهنا عَلَى مُقَابَلَةِ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ [الكهف: 74] فَقَالَ الْعَالِمُ: أَرَدْنَا أَنْ يَرْزُقَ اللَّهُ هَذَيْنِ الْأَبَوَيْنِ خَيْرًا بَدَلًا عَنِ ابْنِهِمَا هَذَا وَلَدًا يَكُونُ خَيْرًا مِنْهُ كَمَا ذَكَرْتَهُ مِنَ الزَّكَاةِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الزَّكَاةِ الطَّهَارَةَ فَكَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: أَقَتَلْتَ نَفْسًا طَاهِرَةً لِأَنَّهَا مَا وَصَلَتْ إِلَى حَدِّ الْبُلُوغِ فَكَانَتْ زَاكِيَةً طَاهِرَةً مِنَ الْمَعَاصِي فَقَالَ الْعَالِمُ: إِنَّ تِلْكَ النَّفْسَ وَإِنْ كَانَتْ زَاكِيَةً طَاهِرَةً فِي الْحَالِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ مِنْهَا أَنَّهَا إِذَا بَلَغَتْ أَقْدَمَتْ عَلَى الطُّغْيَانِ وَالْكُفْرِ فَأَرَدْنَا أَنْ يَجْعَلَ لَهُمَا وَلَدًا أَعْظَمَ زَكَاةً وَطَهَارَةً مِنْهُ وَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ عِنْدَ الْبُلُوغِ لَا يُقْدِمُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَحْظُورَاتِ وَمَنْ قَالَ إِنَّ ذَلِكَ الْغُلَامَ كَانَ بَالِغًا قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ صِفَةِ نَفْسِهِ بِكَوْنِهَا زَاكِيَةً أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ مَا يُوجِبُ قَتْلَهُ ثُمَّ قَالَ:

وَأَقْرَبَ رُحْماً أَيْ يَكُونُ هَذَا الْبَدَلُ أَقْرَبَ عَطْفًا وَرَحْمَةً بِأَبَوَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ أَبَرَّ بِهِمَا وَأَشْفَقَ عَلَيْهِمَا وَالرُّحْمُ الرَّحْمَةُ وَالْعَطْفُ. رُوِيَ أَنَّهُ وُلِدَتْ لَهُمَا جَارِيَةٌ تَزَوَّجَهَا نَبِيٌّ فَوَلَدَتْ نَبِيًّا هَدَى اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ أُمَّةً عَظِيمَةً. بَقِيَ مِنْ مَبَاحِثِ هَذِهِ الْآيَةِ مَوْضِعَانِ فِي الْقِرَاءَةِ. الْأَوَّلُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو يُبَدِّلَهُمَا بِفَتْحِ الْبَاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ وَكَذَلِكَ فِي التَّحْرِيمِ: أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً وَفِي الْقَلَمِ: عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا وَالْبَاقُونَ سَاكِنَةَ الْبَاءِ خَفِيفَةَ الدَّالِ وَهُمَا لُغَتَانِ أَبْدَلَ يُبْدِلُ وَبَدَّلَ يُبَدِّلُ. الثَّانِي: قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو رُحُمًا بِضَمِّ الْحَاءِ وَالْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ نُكْرٍ وَنُكُرٍ وَشُغْلٍ وَشُغُلٍ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ إِقَامَةُ الْجِدَارِ فَقَدْ أَجَابَ الْعَالِمُ عَنْهَا بِأَنَّ الدَّاعِيَ لَهُ إِلَيْهَا أَنَّهُ كَانَ تَحْتَ ذَلِكَ الْجِدَارِ كَنْزٌ وَكَانَ ذَلِكَ اليتيمين فِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْجِدَارُ مُشْرِفًا عَلَى السُّقُوطِ وَلَوْ سَقَطَ لَضَاعَ ذَلِكَ الْكَنْزُ فَأَرَادَ اللَّهُ إِبْقَاءَ ذَلِكَ الْكَنْزِ عَلَى ذَيْنِكَ الْيَتِيمَيْنِ/ رِعَايَةً لِحَقِّهِمَا وَرِعَايَةً لَحِقِّ صَلَاحِ أَبِيهِمَا فَأَمَرَنِي بِإِقَامَةِ ذَلِكَ الْجِدَارِ رِعَايَةً لِهَذِهِ الْمَصَالِحِ، وَفِي الْآيَةِ فَوَائِدُ. الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى ذَلِكَ الْمَوْضِعَ قَرْيَةً حَيْثُ قَالَ: إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ وَسَمَّاهُ أَيْضًا مَدِينَةً حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْكَنْزِ فَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مَالًا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ لَفْظِ الْكَنْزِ هُوَ الْمَالُ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْكَنْزَ هُوَ الْمَالُ وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ عِلْمًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً وَالرَّجُلُ الصَّالِحُ يَكُونُ كَنْزُهُ الْعِلْمَ لَا الْمَالَ إِذْ كَنْزُ الْمَالِ لَا يَلِيقُ بِالصَّلَاحِ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [التوبة: 34] وقيل: كان لوحا من ذهب مكتوب فِيهِ: عَجِبْتُ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ كَيْفَ يَحْزَنُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِالرِّزْقِ كَيْفَ يَتْعَبُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِالْمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِالْحِسَابِ كَيْفَ يَغْفُلُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ يَعْرِفُ الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا كَيْفَ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاحَ الْآبَاءِ يُفِيدُ الْعِنَايَةَ بِأَحْوَالِ الْأَبْنَاءِ وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ كَانَ بَيْنَ الْغُلَامَيْنِ وَبَيْنَ الْأَبِ الصَّالِحِ سَبْعَةُ آبَاءٍ وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ الْخَوَارِجِ فِي كَلَامٍ جَرَى بَيْنَهُمَا: بِمَ حَفِظَ اللَّهُ مَالَ الْغُلَامَيْنِ؟ قَالَ: بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا قَالَ فَأَبِي وَجَدِّي خَيْرٌ مِنْهُ؟ قَالَ: قَدْ أَنْبَأَنَا اللَّهُ أَنَّكُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ. وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنَّ ذَلِكَ الْأَبَ الصَّالِحَ كَانَ النَّاسُ يَضَعُونَ الْوَدَائِعَ إِلَيْهِ فَيَرُدُّهَا إِلَيْهِمْ بِالسَّلَامَةِ، فَإِنْ قِيلَ: الْيَتِيمَانِ هَلْ عَرَفَ أَحَدٌ مِنْهُمَا حُصُولَ الْكَنْزِ تَحْتَ ذَلِكَ الْجِدَارِ أَوْ مَا عَرَفَ أَحَدٌ مِنْهُمَا؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ امْتَنَعَ أَنْ يَتْرُكُوا سُقُوطَ ذَلِكَ الْجِدَارِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَكَيْفَ يُمْكِنُهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ اسْتِخْرَاجُ ذَلِكَ الْكَنْزِ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ؟ الْجَوَابُ: لَعَلَّ الْيَتِيمَيْنِ كَانَا جَاهِلَيْنِ بِهِ إِلَّا أَنَّ وَصِيَّهُمَا كَانَ عَالِمًا بِهِ ثُمَّ [إِنَّ] ذَلِكَ الْوَصِيَّ غَابَ وَأَشْرَفَ ذَلِكَ الْجِدَارُ فِي غَيْبَتِهِ عَلَى السُّقُوطِ وَلَمَّا قَرَّرَ الْعَالِمُ هَذِهِ الْجَوَابَاتِ قَالَ: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ يَعْنِي إِنَّمَا فَعَلْتُ هَذِهِ الْفِعَالَ لِغَرَضِ أَنْ تَظْهَرَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا بِأَسْرِهَا تَرْجِعُ إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ تَحَمُّلُ الضَّرَرِ الْأَدْنَى لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْأَعْلَى كَمَا قَرَّرْنَاهُ ثُمَّ قَالَ: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي يَعْنِي مَا فَعَلْتُ مَا رَأَيْتَ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عَنْ أَمْرِي وَاجْتِهَادِي وَرَأْيِي وَإِنَّمَا فَعَلْتُهُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَوَحْيِهِ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى تَنْقِيصِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَإِرَاقَةِ دِمَائِهِمْ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِالْوَحْيِ وَالنَّصِّ الْقَاطِعِ بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَقَالَ: فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَقَالَ: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما كَيْفَ اخْتَلَفَتِ الْإِضَافَةُ فِي هَذِهِ الْإِرَادَاتِ الثَّلَاثِ وَهِيَ

[سورة الكهف (18) : الآيات 83 إلى 85]

كُلُّهَا فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ وَفِعْلٍ وَاحِدٍ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْعَيْبَ أَضَافَهُ إِلَى إِرَادَةِ نَفْسِهِ فَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَلَمَّا ذَكَرَ الْقَتْلَ عَبَّرَ عَنْ نَفْسِهِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْعُظَمَاءِ فِي عُلُومِ الْحِكْمَةِ فَلَمْ يُقْدِمُ عَلَى هَذَا الْقَتْلِ إِلَّا لِحِكْمَةٍ عَالِيَةٍ، وَلَمَّا ذَكَرَ رِعَايَةَ مَصَالِحِ الْيَتِيمَيْنِ لِأَجْلِ صَلَاحِ أَبِيهِمَا أَضَافَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْمُتَكَفِّلَ بِمَصَالِحِ الْأَبْنَاءِ لِرِعَايَةِ حَقِّ الْآبَاءِ لَيْسَ إلا الله سبحانه وتعالى. [سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 85] وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ الرَّابِعَةُ مِنَ الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِيهَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ الْيَهُودَ أَمَرُوا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَسْأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَعَنْ قِصَّةِ ذِي القرنين وعن الروح فالمراد من قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [الكهف: 83] هُوَ ذَلِكَ السُّؤَالُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ مَنْ هُوَ وَذَكَرُوا فِيهِ أَقْوَالًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ هُوَ الْإِسْكَنْدَرُ بْنُ فِيلِبُوسَ الْيُونَانِيُّ قَالُوا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ الْمُسَمَّى بِذِي الْقَرْنَيْنِ بَلَغَ مُلْكُهُ إِلَى أَقْصَى الْمَغْرِبِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [الْكَهْفِ: 86] وَأَيْضًا بَلَغَ مُلْكُهُ أَقْصَى الْمَشْرِقِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ [الْكَهْفِ: 90] وَأَيْضًا بَلَغَ مُلْكُهُ أَقْصَى الشَّمَالِ بِدَلِيلِ أَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ قَوْمٌ مِنَ التُّرْكِ يَسْكُنُونَ فِي أَقْصَى الشَّمَالِ، وَبِدَلِيلِ أَنَّ السَّدَّ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ يُقَالُ فِي كُتُبِ التَّوَارِيخِ إِنَّهُ مَبْنِيٌّ فِي أَقْصَى الشَّمَالِ فَهَذَا الْإِنْسَانُ الْمُسَمَّى بِذِي الْقَرْنَيْنِ فِي الْقُرْآنِ قَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ مُلْكَهُ بَلَغَ أَقْصَى المغرب والمشرق وَهَذَا هُوَ تَمَامُ الْقَدْرِ الْمَعْمُورِ مِنَ الْأَرْضِ، وَمِثْلُ هَذَا الْمَلِكِ الْبَسِيطِ لَا شَكَّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْعَادَاتِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَبْقَى ذِكْرُهُ مُخَلَّدًا عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ وَأَنْ لَا يَبْقَى مَخْفِيًّا مُسْتَتِرًا، وَالْمَلِكُ الَّذِي اشْتُهِرَ فِي كُتُبِ التَّوَارِيخِ أَنَّهُ بَلَغَ مُلْكُهُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ لَيْسَ إِلَّا الْإِسْكَنْدَرَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ جَمَعَ مُلُوكَ الرُّومِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا طَوَائِفَ ثُمَّ جَمَعَ مُلُوكَ الْمَغْرِبِ وَقَهَرَهُمْ وَأَمْعَنَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ الْأَخْضَرِ ثُمَّ عَادَ إِلَى مِصْرَ فَبَنَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ وَسَمَّاهَا بِاسْمِ نَفْسِهِ ثُمَّ دَخَلَ الشَّامَ وَقَصَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَوَرَدَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَذَبَحَ فِي مَذْبَحِهِ ثُمَّ انْعَطَفَ إِلَى أَرْمِينِيَّةَ وَبَابِ الْأَبْوَابِ وَدَانَتْ لَهُ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْقِبْطُ وَالْبَرْبَرُ. ثُمَّ تَوَجَّهَ نَحْوَ دَارَا بْنِ دَارَا وَهَزَمَهُ مَرَّاتٍ إِلَى أَنْ قَتَلَهُ صَاحِبُ حَرَسِهِ فَاسْتَوْلَى الْإِسْكَنْدَرُ عَلَى مَمَالِكِ الْفُرْسِ ثُمَّ قَصَدَ الْهِنْدَ وَالصِّينَ وَغَزَا الْأُمَمَ الْبَعِيدَةَ وَرَجَعَ إِلَى خُرَاسَانَ وَبَنَى الْمُدُنَ الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهر زور وَمَاتَ بِهَا. فَلَمَّا ثَبَتَ بِالْقُرْآنِ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ رَجُلًا مَلَكَ الْأَرْضَ بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهَا، وَثَبَتَ بِعِلْمِ التَّوَارِيخِ أَنَّ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ مَا كَانَ إِلَّا الْإِسْكَنْدَرَ وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِذِي الْقَرْنَيْنِ هُوَ الْإِسْكَنْدَرُ بْنُ فِيلِبُوسَ الْيُونَانِيُّ ثُمَّ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ تَسْمِيَتِهِ بِهَذَا الِاسْمِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لُقِّبَ بِهَذَا اللَّقَبِ لِأَجْلِ بُلُوغِهِ قَرْنَيِ الشَّمْسِ أَيْ/ مَطْلَعِهَا وَمَغْرِبِهَا كَمَا لُقِّبَ أَرْدَشِيرُ بْنُ بَهْمَنَ بِطَوِيلِ الْيَدَيْنِ لِنُفُوذِ أَمْرِهِ حَيْثُ أَرَادَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْفُرْسَ قَالُوا: إِنْ دَارَا الْأَكْبَرَ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِابْنَةِ فِيلِبُوسَ فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهَا وَجَدَ مِنْهَا رَائِحَةً مُنْكَرَةً فَرَدَّهَا عَلَى أَبِيهَا فِيلِبُوسَ وَكَانَتْ قَدْ حَمَلَتْ مِنْهُ

بِالْإِسْكَنْدَرِ فَوَلَدَتِ الْإِسْكَنْدَرَ بَعْدَ عَوْدِهَا إِلَى أَبِيهَا فَبَقِيَ الْإِسْكَنْدَرُ عِنْدَ فِيلِبُوسَ وَأَظْهَرَ فِيلِبُوسُ أَنَّهُ ابْنُهُ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ ابْنُ دَارَا الْأَكْبَرِ قَالُوا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِسْكَنْدَرَ لَمَّا أَدْرَكَ دارا ابن دَارَا وَبِهِ رَمَقٌ وَضَعَ رَأْسَهُ فِي حِجْرِهِ وَقَالَ لِدَارَا: يَا أَبِي أَخْبِرْنِي عَمَّنْ فَعَلَ هَذَا لِأَنْتَقِمَ لَكَ مِنْهُ! فَهَذَا مَا قَالَهُ الْفُرْسُ قَالُوا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْإِسْكَنْدَرُ أَبُوهُ دَارَا الْأَكْبَرُ وَأُمُّهُ بِنْتُ فِيلِبُوسَ «1» فَهُوَ إِنَّمَا تَوَلَّدَ مِنْ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ الْفُرْسِ وَالرُّومِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْفُرْسُ إِنَّمَا ذَكَرُوهُ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ مِنْ نَسْلِ مُلُوكِ الْعَجَمِ حَتَّى لَا يَكُونَ مَلِكٌ مِثْلُهُ مِنْ نَسَبٍ غَيْرِ نَسَبِ مُلُوكِ الْعَجَمِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ كَذِبٌ، وَإِنَّمَا قَالَ الْإِسْكَنْدَرُ لِدَارَا يَا أَبِي عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ وَأَكْرَمَ دَارَا بِذَلِكَ الْخِطَابِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو الرَّيْحَانِ الْهَرَوِيُّ «2» الْمُنَجِّمُ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِالْآثَارِ الْبَاقِيَةِ عَنِ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، قِيلَ: إِنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ هُوَ أَبُو كَرْبٍ شِمْرُ بْنُ عُبَيْرِ بْنِ أَفْرِيقِشَ الْحِمْيَرِيُّ فَإِنَّهُ بَلَغَ مُلْكُهُ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا وَهُوَ الَّذِي افْتَخَرَ بِهِ أَحَدُ الشُّعَرَاءِ مِنْ حِمْيَرَ حَيْثُ قَالَ: قَدْ كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ قَبْلِي مُسْلِمًا ... مَلِكًا عَلَا فِي الْأَرْضِ غَيْرَ مُفْنِدِي بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ يَبْتَغِي ... أَسْبَابَ مُلْكٍ مِنْ كَرِيمٍ سَيِّدِ ثُمَّ قَالَ أَبُو الرَّيْحَانِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبَ لِأَنَّ الْأَذْوَاءَ كَانُوا مِنَ الْيَمَنِ وَهُمُ الَّذِينَ لَا تَخْلُو أساميهم من ذي كذا كَذِي النَّادِي «3» وَذِي نُوَاسٍ وَذِي النُّونِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا مَلَّكَهُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَأَعْطَاهُ الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ وَأَلْبَسَهُ الْهَيْبَةَ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْرِفُ أَنَّهُ مَنْ هُوَ ثُمَّ ذَكَرُوا فِي تَسْمِيَتِهِ بِذِي الْقَرْنَيْنِ وجوها: الأول: سأل ابن الكواء عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَقَالَ أَمَلِكٌ هُوَ أَمْ نَبِيٌّ فَقَالَ: لَا مَلِكٌ وَلَا نَبِيٌّ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا ضُرِبَ عَلَى قَرْنِهِ الْأَيْمَنِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَمَاتَ ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ فَضُرِبَ عَلَى قَرْنِهِ الْأَيْسَرِ فَمَاتَ فَبَعَثَهُ اللَّهُ فَسُمِّيَ بِذِي الْقَرْنَيْنِ وَمَلِكِ مُلْكِهِ. الثَّانِي: سُمِّيَ بِذِي الْقَرْنَيْنِ لِأَنَّهُ انْقَرَضَ فِي وَقْتِهِ قَرْنَانِ مِنَ النَّاسِ. الثَّالِثُ: قِيلَ كَانَ صَفْحَتَا رَأْسِهِ مِنْ نُحَاسٍ. الرَّابِعُ: كَانَ عَلَى رَأْسِهِ مَا يُشْبِهُ الْقَرْنَيْنِ. الْخَامِسُ: [كَانَ] لِتَاجِهِ قَرْنَانِ. السَّادِسُ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ لِأَنَّهُ طَافَ قَرْنَيِ الدُّنْيَا يَعْنِي شَرْقَهَا وَغَرْبَهَا. السَّابِعُ: كَانَ لَهُ قَرْنَانِ أَيْ ضَفِيرَتَانِ. الثَّامِنُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَخَّرَ لَهُ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ فَإِذَا سَرَى يَهْدِيهِ النُّورُ مِنْ أَمَامِهِ وَتَمُدُّهُ الظَّلَمَةُ مِنْ وَرَائِهِ. التَّاسِعُ: يَجُوزُ أَنْ يُلَقَّبَ بِذَلِكَ لِشَجَاعَتِهِ كَمَا يُسَمَّى الشُّجَاعُ كَبْشًا كَأَنَّهُ يَنْطَحُ أَقْرَانَهُ. الْعَاشِرُ: رَأَى فِي الْمَنَامِ كَأَنَّهُ صَعِدَ الْفَلَكَ فَتَعَلَّقَ بِطَرَفَيِ الشَّمْسِ وَقَرْنَيْهَا وَجَانِبَيْهَا فَسُمِّيَ/ لِهَذَا السَّبَبِ بِذِي الْقَرْنَيْنِ. الْحَادِي عَشَرَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ دَخَلَ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ فقال: اللهم اغفر «4» . أَمَا رَضِيتُمْ أَنْ تُسَمُّوا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى تُسَمُّوا بِأَسْمَاءِ الْمَلَائِكَةِ! فَهَذَا جُمْلَةُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَجْلِ الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَلِكِ الْعَظِيمِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْحَالِ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالَّذِي هُوَ مَعْلُومُ الْحَالِ بِهَذَا الْمُلْكِ الْعَظِيمِ هُوَ الْإِسْكَنْدَرُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذِي الْقَرْنَيْنِ هُوَ هُوَ إِلَّا أَنَّ فِيهِ إِشْكَالًا قَوِيًّا وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ تلميذ أرسطاطاليس

_ (1) رسم في الأصل في كل مرة هكذا (فيلقوس) بالقاف بعدها واو. ورأيته في أخبار الدول للقرماني كذلك، والصواب بالباء لأن القاف لا توجد في لغة اليونان والروم وإذا أعجمت كلمة فيها قاف أبدلتها (كافا) . (2) أبو الريحان الهروي هو المشهور بالبيروني مؤرخ وفلكي ومنجم وجغرافي محقق. (3) لعله ذو المنار. (4) الصواب اللهم غفرا.

[سورة الكهف (18) : الآيات 86 إلى 88]

الْحَكِيمِ وَكَانَ عَلَى مَذْهَبِهِ فَتَعْظِيمُ اللَّهِ إِيَّاهُ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِأَنَّ مَذْهَبَ أَرِسْطَاطَالِيسَ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَذَلِكَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي ذِي الْقَرْنَيْنِ هَلْ كَانَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَمْ لَا؟ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ نَبِيًّا وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى التَّمْكِينِ فِي الدِّينِ وَالتَّمْكِينُ الْكَامِلُ فِي الدِّينِ هُوَ النُّبُوَّةُ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ النُّبُوَّةُ فَمُقْتَضَى الْعُمُومِ فِي قَوْلِهِ: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى آتَاهُ فِي النُّبُوَّةِ سَبَبًا. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ اللَّهُ مَعَهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ نَبِيًّا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا وَمَا كَانَ نَبِيًّا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: في دخول السين في قوله: سَأَتْلُوا مَعْنَاهُ إِنِّي سَأَفْعَلُ هَذَا إِنْ وَفَّقَنِي اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَأَنْزَلَ فِيهِ وَحَيًّا وَأَخْبَرَنِي عَنْ كَيْفِيَّةِ تِلْكَ الْحَالِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ فَهَذَا التَّمْكِينُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّمْكِينَ بِسَبَبِ النُّبُوَّةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّمْكِينَ بِسَبَبِ الْمُلْكِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَلَكَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ التَّمْكِينَ بِسَبَبِ النُّبُوَّةِ أَعْلَى مِنَ التَّمْكِينِ بِسَبَبِ الْمُلْكِ وَحَمْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ الْأَفْضَلِ أَوْلَى ثُمَّ قَالَ: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً قَالُوا: السَّبَبُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْحَبْلِ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالْآلَةَ فَقَوْلُهُ: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً مَعْنَاهُ: أَعْطَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ ثُمَّ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ كَانَ نَبِيًّا قَالُوا: مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ النُّبُوَّةُ فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَاهُ الطَّرِيقَ الَّذِي بِهِ يَتَوَصَّلُ إِلَى تَحْصِيلِ النُّبُوَّةِ، وَالَّذِينَ أَنْكَرُوا كَوْنَهُ نَبِيًّا قَالُوا: الْمُرَادُ بِهِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي إِصْلَاحِ مُلْكِهِ سَبَبًا، إِلَّا أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنْ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، ثُمَّ قَالَ: فَأَتْبَعَ سَبَباً وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَعْطَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبَهُ فَإِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَتْبَعَ سَبَبًا يُوَصِّلُهُ إِلَيْهِ وَيُقَرِّبُهُ مِنْهُ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو فَاتَّبَعَ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ، وَكَذَلِكَ ثُمَّ اتَّبَعَ أَيْ سَلَكَ وَسَارَ وَالْبَاقُونَ فَأَتْبَعَ بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَسُكُونِ التاء مخففة. [سورة الكهف (18) : الآيات 86 الى 88] حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) اعْلَمْ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ أَرَادَ بُلُوغَ الْمَغْرِبِ فَأَتْبَعَ سَبَبًا يُوصِّلُهُ إِلَيْهِ حَتَّى بَلَغَهُ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ فَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ بِالْأَلِفِ مِنْ غَيْرِ هُمَزَةٍ أَيْ حَارَّةٍ، وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَمَلٍ فَرَأَى الشَّمْسَ حِينَ غَابَتْ فَقَالَ: أَتَدْرِي يَا أَبَا ذَرٍّ أَيْنَ

تَغْرُبُ هَذِهِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَطَلْحَةَ وَابْنِ عَامِرٍ، وَالْبَاقُونَ حَمِئَةٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاتَّفَقَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ فَقَرَأَ مُعَاوِيَةُ حَامِيَةٍ بِأَلِفٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَمِئَةٍ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَيْفَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: كَمَا يَقْرَأُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ وَجَّهَ إِلَى كَعْبِ الْأَحْبَارِ كَيْفَ تَجِدُ الشَّمْسَ تَغْرُبُ؟ قَالَ: فِي مَاءٍ وَطِينٍ كَذَلِكَ نَجِدُهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَالْحَمِئَةُ مَا فِيهِ مَاءٌ، وَحَمْأَةٌ سَوْدَاءُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْحَمِئَةِ وَالْحَامِيَةِ، فَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ جَامِعَةً لِلْوَصْفَيْنِ جَمِيعًا. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْأَرْضَ كُرَةٌ وَأَنَّ السَّمَاءَ مُحِيطَةٌ بِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّمْسَ فِي الْفَلَكِ، وَأَيْضًا قَالَ: وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً وَمَعْلُومٌ أَنَّ جُلُوسَ قَوْمٍ فِي قُرْبِ الشَّمْسِ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَأَيْضًا الشَّمْسُ أَكْبَرُ مِنَ الْأَرْضِ بِمَرَّاتٍ كَثِيرَةٍ فَكَيْفَ يُعْقَلُ دُخُولُهَا فِي عَيْنٍ مِنْ عُيُونِ الْأَرْضِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ لَمَّا بَلَغَ مَوْضِعَهَا فِي الْمَغْرِبِ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِمَارَاتِ وَجَدَ الشَّمْسَ كَأَنَّهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ وَهْدَةٍ مُظْلِمَةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا أَنَّ رَاكِبَ الْبَحْرِ يَرَى الشَّمْسَ كَأَنَّهَا تَغِيبُ/ فِي الْبَحْرِ إِذَا لَمْ يَرَ الشَّطَّ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ تَغِيبُ وَرَاءَ الْبَحْرِ، هَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. الثَّانِي: أَنَّ لِلْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنَ الْأَرْضِ مَسَاكِنَ يُحِيطُ الْبَحْرُ بِهَا فَالنَّاظِرُ إِلَى الشَّمْسِ يَتَخَيَّلُ كَأَنَّهَا تَغِيبُ فِي تِلْكَ الْبِحَارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبِحَارَ الْغَرْبِيَّةَ قَوِيَّةُ السُّخُونَةِ فَهِيَ حَامِيَةٌ وَهِيَ أَيْضًا حَمِئَةٌ لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْحَمْأَةِ السَّوْدَاءِ وَالْمَاءِ فَقَوْلُهُ: تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْجَانِبَ الْغَرْبِيَّ مِنَ الْأَرْضِ قَدْ أَحَاطَ بِهِ الْبَحْرُ وَهُوَ مَوْضِعٌ شَدِيدُ السُّخُونَةِ. الثَّالِثُ: قَالَ أَهْلُ الْأَخْبَارِ: إِنَّ الشَّمْسَ تَغِيبُ فِي عَيْنٍ كَثِيرَةِ الْمَاءِ وَالْحَمْأَةِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا رَصَدْنَا كُسُوفًا قَمَرِيًّا فَإِذَا اعْتَبَرْنَاهُ وَرَأَيْنَا أَنَّ الْمَغْرِبِيِّينَ قَالُوا: حَصَلَ هَذَا الْكُسُوفُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَرَأَيْنَا الْمَشْرِقِيِّينَ قَالُوا: حَصَلَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَعَلِمْنَا أَنَّ أَوَّلَ اللَّيْلِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَغْرِبِ هُوَ أَوَّلُ النَّهَارِ الثَّانِي عِنْدَ أَهْلِ الْمَشْرِقِ بَلْ ذَلِكَ الْوَقْتُ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ اللَّيْلِ عِنْدَنَا فَهُوَ وَقْتُ الْعَصْرِ فِي بَلَدٍ وَوَقْتُ الظُّهْرِ فِي بَلَدٍ آخَرَ، وَوَقْتُ الضَّحْوَةِ فِي بَلَدٍ ثَالِثٍ. وَوَقْتُ طُلُوعِ الشَّمْسِ فِي بَلَدٍ رَابِعٍ، وَنِصْفُ اللَّيْلِ فِي بَلَدٍ خَامِسٍ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ مَعْلُومَةً بَعْدَ الِاسْتِقْرَاءِ وَالِاعْتِبَارِ. وَعَلِمْنَا أَنَّ الشَّمْسَ طَالِعَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كَانَ الَّذِي يُقَالُ: إِنَّهَا تَغِيبُ فِي الطِّينِ وَالْحَمْأَةِ كَلَامًا عَلَى خِلَافِ الْيَقِينِ وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى مُبَرَّأٌ عَنْ هَذِهِ التُّهْمَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُصَارَ إِلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي ذكرناه ثم قَالَ تَعَالَى: وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ عِنْدَهَا إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الشَّمْسِ وَيَكُونُ التَّأْنِيثُ لِلشَّمْسِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَمَّا تَخَيَّلَ أَنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ هُنَاكَ كَانَ سُكَّانُ هَذَا الْمَوْضِعِ كَأَنَّهُمْ سَكَنُوا بِالْقُرْبِ مِنَ الشَّمْسِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْعَيْنِ الْحَامِيَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالتَّأْوِيلُ مَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ تعالى: قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الأول: أن قوله تعالى: قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى تَكَلَّمَ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا وَحُمِلَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ خَاطَبَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ فَهُوَ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ أَهْلُ الْأَخْبَارِ فِي صِفَةِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَشْيَاءَ عَجِيبَةً، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُنَاكَ مَدِينَةٌ لَهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ بَابٍ لَوْلَا أَصْوَاتُ أَهْلِهَا سَمِعَ النَّاسُ وَجْبَةَ الشَّمْسِ حِينَ تَغِيبُ.

[سورة الكهف (18) : الآيات 89 إلى 91]

البحث الثالث: قوله تعالى: قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُكَّانَ آخِرِ الْمَغْرِبِ كَانُوا كُفَّارًا فَخَيَّرَ اللَّهُ ذَا الْقَرْنَيْنِ فِيهِمْ بَيْنَ التَّعْذِيبِ لَهُمْ إِنْ أَقَامُوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَبَيْنَ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ وَهَذَا التَّخْيِيرُ عَلَى مَعْنَى الِاجْتِهَادِ فِي أَصْلَحِ الْأَمْرَيْنِ كَمَا خَيَّرَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَ الْمَنِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَبَيْنَ قَتْلِهِمْ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هَذَا التَّعْذِيبُ هُوَ الْقَتْلُ، وَأَمَّا اتِّخَاذُ الْحُسْنَى فِيهِمْ فَهُوَ تَرْكُهُمْ أَحْيَاءً، ثُمَّ قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ: أَمَّا مَنْ ظَلَمَ أَيْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِالْإِقَامَةِ عَلَى الْكُفْرِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي مُقَابَلَتِهِ: وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ/ صالِحاً ثُمَّ قَالَ: فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ أَيْ بِالْقَتْلِ فِي الدُّنْيَا: ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً أَيْ مُنْكَرًا فَظِيعًا: وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: جَزاءً الْحُسْنى بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ وَالْإِضَافَةِ، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى يَكُونُ التَّقْدِيرُ فَلَهُ الْحُسْنَى جَزَاءً كَمَا تَقُولُ لَكَ هَذَا الثَّوْبُ هِبَةً، وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ فَفِي التَّفْسِيرِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: فَلَهُ جَزَاءُ الْفَعْلَةِ الْحُسْنَى وَالْفَعْلَةُ الْحُسْنَى هِيَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فَلَهُ جَزَاءً الْمَثُوبَةُ الْحُسْنَى وَيَكُونُ الْمَعْنَى فَلَهُ ذَا الْجَزَاءُ الَّذِي هُوَ الْمَثُوبَةُ الْحُسْنَى وَالْجَزَاءُ مَوْصُوفٌ بِالْمَثُوبَةِ الْحُسْنَى وإضافة الموصوف إلى الصفة مشهورة كقوله: وَلَدارُ الْآخِرَةِ [الأنعام: 32] وحَقُّ الْيَقِينِ [الْوَاقِعَةِ: 95] ثُمَّ قَالَ: وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً أَيْ لَا نَأْمُرُهُ بِالصَّعْبِ الشَّاقِّ وَلَكِنْ بِالسَّهْلِ الْمُيَسَّرِ مِنَ الزَّكَاةِ وَالْخَرَاجِ وَغَيْرِهِمَا وَتَقْدِيرُ هَذَا يُسْرٌ كَقَوْلِهِ: قَوْلًا مَيْسُوراً [الْإِسْرَاءِ: 28] وقرئ يسرا بضمتين. [سورة الكهف (18) : الآيات 89 الى 91] ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَوَّلًا أَنَّهُ قَصَدَ أَقْرَبَ الْأَمَاكِنِ الْمَسْكُونَةِ مِنْ مَغْرِبِ الشَّمْسِ أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ أَنَّهُ قَصَدَ أَقْرَبَ الْأَمَاكِنِ الْمَسْكُونَةِ مِنْ مَطْلِعِ الشَّمْسِ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ وَجَدَ الشَّمْسَ تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا وَفِيهِ قَوْلَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ شَجَرٌ وَلَا جَبَلٌ وَلَا أَبْنِيَةٌ تَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ شُعَاعِ الشَّمْسِ عَلَيْهِمْ فَلِهَذَا السَّبَبِ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ دَخَلُوا فِي أَسْرَابٍ وَاغِلَةٍ فِي الْأَرْضِ أَوْ غَاصُوا فِي الْمَاءِ فَيَكُونُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَعَاشِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا يَشْتَغِلُونَ بِتَحْصِيلِ مُهِمَّاتِ الْمَعَاشِ حَالُهُمْ بِالضِّدِّ مِنْ أَحْوَالِ سَائِرِ الْخَلْقِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا ثِيَابَ لَهُمْ وَيَكُونُونَ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ عُرَاةً أَبَدًا وَيُقَالُ فِي كُتُبِ الْهَيْئَةِ إِنَّ حَالَ أَكْثَرِ الزِّنْجِ كَذَلِكَ وَحَالَ كُلِّ مَنْ يَسْكُنُ الْبِلَادَ الْقَرِيبَةَ مِنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ كَذَلِكَ، وَذُكِرَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: سَافَرْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الصِّينَ فَسَأَلْتُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، فَقِيلَ: بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَبَلَغْتُهُمْ فَإِذَا أَحَدُهُمْ يَفْرِشُ أُذُنَهُ الْوَاحِدَةَ وَيَلْبَسُ الْأُخْرَى وَلَمَّا قَرُبَ طُلُوعُ الشَّمْسِ سَمِعْتُ كَهَيْئَةِ الصَّلْصَلَةِ فَغُشِيَ عَلَيَّ ثُمَّ أَفَقْتُ وَهُمْ يَمْسَحُونَنِي بِالدُّهْنِ فَلَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ إِذَا هِيَ فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سربالهم فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جَعَلُوا يَصْطَادُونَ السَّمَكَ وَيَطْرَحُونَهُ فِي الشَّمْسِ فَيَنْضَجُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَيْ كَذَلِكَ فَعَلَ ذُو الْقَرْنَيْنِ أَتْبَعَ هَذِهِ الْأَسْبَابَ حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ وَقَدْ عَلِمْنَا حِينَ مَلَّكْنَاهُ مَا عِنْدَهُ مِنَ/ الصَّلَاحِيَةِ لِذَلِكَ الْمُلْكِ وَالِاسْتِقْلَالِ بِهِ. وَالثَّانِي: كَذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ أَمْرَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى مَا قَدْ أَعْلَمَ رَسُولَهُ عَلَيْهِ

[سورة الكهف (18) : الآيات 92 إلى 95]

السَّلَامُ فِي هَذَا الذِّكْرِ. وَالثَّالِثُ: كَذَلِكَ كَانَتْ حَالَتُهُ مَعَ أَهْلِ الْمَطْلِعِ كَمَا كَانَتْ مَعَ أَهْلِ الْمَغْرِبِ، قَضَى فِي هَؤُلَاءِ كَمَا قَضَى فِي أُولَئِكَ، مِنْ تَعْذِيبِ الظَّالِمِينَ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ كَذَلِكَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَمَرَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ كَمَا وَجَدَهُمْ عَلَيْهِ ذُو الْقَرْنَيْنِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً أي كنا عالمين بأن الأمر كذلك. [سورة الكهف (18) : الآيات 92 الى 95] ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) اعْلَمْ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ لَمَّا بَلَغَ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ اتَّبَعَ سَبَبًا آخَرَ وَسَلَكَ الطَّرِيقَ حَتَّى بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ، وَقَدْ آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْعِلْمِ والقدرة ما يقوم بهذه الأمور. وهاهنا مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: السَّدَّيْنِ بِضَمِّ السِّينِ وَسَدًّا بِفَتْحِهَا حَيْثُ كَانَ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالضَّمِّ فِيهِمَا فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَقَرَأَ ابن كثير وأبو عمرو السَّدَّيْنِ وسدا هاهنا بِفَتْحِ السِّينِ فِيهِمَا وَضَمِّهَا فِي يس فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُمَا لُغَتَانِ، وَقِيلَ: مَا كَانَ مِنْ صَنْعَةِ بَنِي آدَمَ فَهُوَ السَّدُّ بِفَتْحِ السِّينِ، وَمَا كَانَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ فَهُوَ السُّدُّ بِضَمِّ السِّينِ وَالْجَمْعُ سُدَدٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: السُّدُّ بِالضَّمِّ فُعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ هُوَ مِمَّا فَعَلَهُ اللَّهُ وَخَلَقَهُ، وَالسَّدُّ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ حَدَثٌ يُحْدِثُهُ النَّاسُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: الْأَظْهَرُ أَنَّ مَوْضِعَ السَّدَّيْنِ فِي نَاحِيَةِ الشَّمَالِ، وَقِيلَ: جَبَلَانِ بَيْنَ أَرْمِينِيَّةَ وَبَيْنَ أَذْرَبِيجَانَ، وَقِيلَ: هَذَا الْمَكَانُ فِي مَقْطَعِ أَرْضِ التُّرْكِ، وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي/ تَارِيخِهِ أَنَّ صَاحِبَ أَذْرَبِيجَانَ أَيَّامَ فَتْحِهَا وَجَّهَ إِنْسَانًا إِلَيْهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْخَزَرِ فَشَاهَدَهُ وَوَصَفَ أَنَّهُ بُنْيَانٌ رَفِيعٌ وَرَاءَ خَنْدَقٍ عَمِيقٍ وَثِيقٍ مَنِيعٍ، وَذَكَرَ ابْنُ خردا [ذبة] فِي كِتَابِ الْمَسَالِكِ وَالْمَمَالِكِ أَنَّ الْوَاثِقَ بِاللَّهِ رَأَى فِي الْمَنَامِ كَأَنَّهُ فَتَحَ هَذَا الرَّدْمَ فَبَعَثَ بَعْضَ الْخَدَمِ إِلَيْهِ لِيُعَايِنُوهُ فَخَرَجُوا مِنْ بَابِ الْأَبْوَابِ حَتَّى وَصَلُوا إِلَيْهِ وَشَاهَدُوهُ فَوَصَفُوا أَنَّهُ بِنَاءٌ مِنْ لَبِنٍ مِنْ حَدِيدٍ مَشْدُودٍ بِالنُّحَاسِ الْمُذَابِ وَعَلَيْهِ بَابٌ مُقْفَلٌ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ لَمَّا حَاوَلَ الرُّجُوعَ أَخْرَجَهُمُ الدَّلِيلُ عَلَى الْبِقَاعِ الْمُحَاذِيَةِ لِسَمَرْقَنْدَ، قَالَ أَبُو الرَّيْحَانِ: مُقْتَضَى هَذَا أَنَّ مَوْضِعَهُ فِي الرُّبْعِ الشَّمَالِيِّ الْغَرْبِيِّ مِنَ الْمَعْمُورَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ لَمَّا بَلَغَ مَا بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا أَيْ مِنْ وَرَائِهِمَا مُجَاوِزًا عَنْهُمَا قَوْماً أَيْ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ: لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يُفَقِهُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ عَلَى مَعْنَى لَا يُمْكِنُهُمْ تَفْهِيمُ غَيْرِهِمْ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْقَافِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَ لُغَةِ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كَانُوا يَفْهَمُونَ اللِّسَانَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ ذُو الْقَرْنَيْنِ، ثُمَّ قَالَ تعالى: قالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ فَهِمَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مِنْهُمْ هَذَا الْكَلَامَ بَعْدَ أَنْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا وَالْجَوَابُ: أَنْ نَقُولَ كَادَ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِثْبَاتَهُ نَفْيٌ، وَنَفْيَهُ إِثْبَاتٌ، فَقَوْلُهُ: لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا لَا

[سورة الكهف (18) : الآيات 96 إلى 98]

يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ شَيْئًا، بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ يَفْهَمُونَ عَلَى مَشَقَّةٍ وَصُعُوبَةٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ كَادَ مَعْنَاهُ الْمُقَارَبَةُ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَوْلُهُ: لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا أَيْ لَا يَعْلَمُونَ وَلَيْسَ لَهُمْ قُرْبٌ مِنْ أَنْ يَفْقَهُوا. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَا يَكَادُونَ يَفْهَمُونَهُ إِلَّا بَعْدَ تَقْرِيبٍ وَمَشَقَّةٍ مِنْ إِشَارَةٍ وَنَحْوِهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَصْلُحُ أَنْ يُحْتَجَّ بِهَا عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ كَادَ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: فِي يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمَا اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ مَوْضُوعَانِ بِدَلِيلِ مَنْعِ الصَّرْفِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا مُشْتَقَّانِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ بِالْهَمْزِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ وَقُرِئَ فِي رِوَايَةٍ آجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَالْقَائِلُونَ بِكَوْنِ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ مُشْتَقَّيْنِ ذَكَرُوا وَجُوهًا. الْأَوَّلُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ: يَأْجُوجَ مَأْخُوذٌ مِنْ تَأَجُّجِ النَّارِ وَتَلَهُّبِهَا فلسرعتهم في الحركة سموا بذلك ومأجوج مِنْ مَوْجِ الْبَحْرِ. الثَّانِي: أَنَّ يَأْجُوجَ مَأْخُوذٌ مِنْ تَأَجُّجِ الْمِلْحِ وَهُوَ شِدَّةُ مُلُوحَتِهِ فَلِشِدَّتِهِمْ فِي الْحَرَكَةِ سُمُّوا بِذَلِكَ. الثَّالِثُ: قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ أَجَّ الظَّلِيمُ فِي مَشْيِهِ يَئِجُّ أَجًّا إِذَا هَرْوَلَ وَسَمِعْتَ حَفِيفَهُ فِي عَدْوِهِ. الرَّابِعُ: قَالَ الْخَلِيلُ: الْأَجُّ حَبٌّ كَالْعَدَسِ وَالْمَجُّ مَجُّ الرِّيقِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا مَأْخُوذَيْنِ مِنْهُمَا وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُمَا مِنْ أَيِّ الْأَقْوَامِ فَقِيلَ: إِنَّهُمَا مِنَ التُّرْكِ، وَقِيلَ: يَأْجُوجَ من الترك وَمَأْجُوجَ مِنَ الْجِيلِ وَالدَّيْلَمِ ثُمَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ وَصَفَهُمْ بِقِصَرِ الْقَامَةِ وَصِغَرِ الْجُثَّةِ بِكَوْنِ طُولِ أَحَدِهِمْ شِبْرًا وَمِنْهُمْ مَنْ وَصَفَهُمْ بِطُولِ الْقَامَةِ وَكِبَرِ الْجُثَّةِ وَأَثْبَتُوا لَهُمْ مَخَالِيبَ فِي/ الْأَظْفَارِ وَأَضْرَاسًا كَأَضْرَاسِ السِّبَاعِ وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ إِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ فَقِيلَ: كَانُوا يَقْتُلُونَ النَّاسَ وَقِيلَ كَانُوا يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَقِيلَ كَانُوا يَخْرُجُونَ أَيَّامَ الرَّبِيعِ فَلَا يَتْرُكُونَ لَهُمْ شَيْئًا أَخْضَرَ وَبِالْجُمْلَةِ فَلَفْظُ الْفَسَادِ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ أَهْلِ مَا بَيْنَ السَّدَّيْنِ أَنَّهُمْ قَالُوا لِذِي الْقَرْنَيْنِ: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ خَرَاجًا وَالْبَاقُونَ خَرْجاً قِيلَ: الْخَرَاجُ وَالْخَرْجُ وَاحِدٌ، وَقِيلَ هُمَا أَمْرَانِ مُتَغَايِرَانِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا: قِيلَ: الْخَرْجُ بِغَيْرِ أَلِفٍ هُوَ الْجُعْلُ لِأَنَّ النَّاسَ يُخْرِجُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْهُ فَيُخْرِجُ هَذَا أَشْيَاءَ وَهَذَا أَشْيَاءَ، وَالْخَرَاجُ هُوَ الَّذِي يَجْبِيهِ السُّلْطَانُ كُلَّ سَنَةٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْخَرَاجُ هُوَ الِاسْمُ الْأَصْلِيُّ وَالْخَرْجُ كَالْمَصْدَرِ وَقَالَ قُطْرُبٌ: الْخَرْجُ الْجِزْيَةُ وَالْخَرَاجُ فِي الْأَرْضِ. فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ: مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي أَيْ مَا جَعَلَنِي مَكِينًا مِنَ الْمَالِ الْكَثِيرِ وَالْيَسَارِ الْوَاسِعِ خَيْرٌ مِمَّا تَبْذُلُونَ مِنَ الْخَرَاجِ فَلَا حَاجَةَ بِي إِلَيْهِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ [النَّمْلِ: 36] قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: (مَا مَكَّنَنِي) بِنُونَيْنِ عَلَى الْإِظْهَارِ وَالْبَاقُونَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ عَلَى الْإِدْغَامِ، ثُمَّ قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ: فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً أَيْ لَا حَاجَةَ لِي فِي مالكم ولكن أعينوني بِرِجَالٍ وَآلَةٍ أَبْنِي بِهَا السَّدَّ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَعِينُونِي بِمَالٍ أَصْرِفُهُ إِلَى هَذَا الْمُهِمِّ وَلَا أَطْلُبُ الْمَالَ لِآخُذَهُ لِنَفْسِي، وَالرَّدْمُ هُوَ السَّدُّ. يُقَالُ: رَدَمْتُ الْبَابَ أَيْ سَدَدْتُهُ وَرَدَمْتُ الثَّوْبَ رَقَّعْتُهُ لِأَنَّهُ يَسُدُّ الْخَرْقَ بِالرُّقْعَةِ وَالرَّدْمُ أَكْثَرُ مِنَ السَّدِّ مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَوْبٌ مَرْدُومٌ أَيْ وضعت عليه رقاع. [سورة الكهف (18) : الآيات 96 الى 98] آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)

[سورة الكهف (18) : الآيات 99 إلى 101]

اعْلَمْ أَنَّ زُبَرَ الْحَدِيدِ قِطَعُهُ قَالَ الْخَلِيلُ الزُّبْرَةُ مِنَ الْحَدِيدِ الْقِطْعَةُ الضَّخْمَةُ، قِرَاءَةُ الْجَمِيعِ آتَوْنِي بِمَدِّ الْأَلِفِ إِلَّا حَمْزَةَ فَإِنَّهُ قَرَأَ ائْتُونِي مِنَ الْإِتْيَانِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَاصِمٍ وَالتَّقْدِيرُ ائْتُونِي بِزُبَرِ الْحَدِيدِ ثُمَّ حُذِفَ الْبَاءُ كَقَوْلِهِ: شَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ وَكَفَرْتُهُ وَكَفَرْتُ لَهُ، وَقَوْلُهُ: حَتَّى إِذا سَاوَى / بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ فِيهِ إِضْمَارٌ أَيْ فَأَتَوْهُ بِهَا فَوَضَعَ تِلْكَ الزُّبَرَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ حَتَّى صَارَتْ بِحَيْثُ تَسُدُّ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ إِلَى أَعْلَاهُمَا ثُمَّ وَضَعَ الْمَنَافِخَ عَلَيْهَا حَتَّى إِذَا صَارَتْ كَالنَّارِ صَبَّ النُّحَاسَ الْمُذَابَ عَلَى الْحَدِيدِ الْمُحْمَى فَالْتَصَقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَصَارَ جَبَلًا صَلْدًا، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مُعْجِزٌ قَاهِرٌ لِأَنَّ هَذِهِ الزُّبَرَ الْكَثِيرَةَ إِذَا نُفِخَ عَلَيْهَا حَتَّى صَارَتْ كَالنَّارِ لَمْ يَقْدِرِ الْحَيَوَانُ عَلَى الْقُرْبِ مِنْهَا، وَالنَّفْخُ عَلَيْهَا لَا يُمَكِنُ إِلَّا مَعَ الْقُرْبِ مِنْهَا فَكَأَنَّهُ تَعَالَى صَرَفَ تَأْثِيرَ تِلْكَ الْحَرَارَةِ الْعَظِيمَةِ عَنْ أَبْدَانِ أُولَئِكَ النَّافِخِينَ عَلَيْهَا. قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: قِيلَ بُعْدُ مَا بَيْنَ السَّدَّيْنِ مِائَةُ فَرْسَخٍ. والصدفان بِفَتْحَتَيْنِ جَانِبَا الْجَبَلَيْنِ لِأَنَّهُمَا يَتَصَادَفَانِ أَيْ يَتَقَابَلَانِ وقرئ: الصُّدُفَيْنِ بِضَمَّتَيْنِ. وَالصُّدْفَيْنِ بِضَمَّةٍ وَسُكُونٍ وَالْقِطْرُ النُّحَاسُ المذاب لأنه يقطر، وقوله: قِطْراً مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: أُفْرِغْ وَتَقْدِيرُهُ آتَوْنِي قِطْرًا: أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فَحُذِفَ الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: فَمَا اسْطاعُوا فَحَذَفَ التَّاءَ لِلْخِفَّةِ لِأَنَّ التَّاءَ قَرِيبَةُ الْمَخْرَجِ مِنَ الطَّاءِ وَقُرِئَ: فَمَا اصْطَاعُوا بِقَلْبِ السِّينِ صَادًا أَنْ يَظْهَرُوهُ أَنْ يَعْلُوهُ أَيْ مَا قَدَرُوا عَلَى الصُّعُودِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ ارْتِفَاعِهِ وَمَلَاسَتِهِ وَلَا عَلَى نَقْبِهِ لِأَجْلِ صَلَابَتِهِ وَثَخَانَتِهِ، ثُمَّ قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ: هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَقَوْلُهُ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى السَّدِّ، أَيْ هَذَا السَّدُّ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ عَلَى عِبَادِهِ أَوْ هَذَا الِاقْتِدَارُ وَالتَّمْكِينُ مِنْ تَسْوِيَتِهِ: فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي يَعْنِي فَإِذَا دَنَا مَجِيءُ الْقِيَامَةِ جَعَلَ السَّدَّ دَكًّا أَيْ مَدْكُوكًا مُسَوًّى بِالْأَرْضِ. وَكُلُّ مَا انْبَسَطَ بَعْدَ الِارْتِفَاعِ فَقَدِ انْدَكَّ وَقُرِئَ دَكَّاءَ بِالْمَدِّ أَيْ أَرْضًا مُسْتَوِيَةً وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وهاهنا آخر حكاية ذي القرنين. [سورة الكهف (18) : الآيات 99 الى 101] وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) اعْلَمْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ بَعْضَهُمْ عَائِدٌ إِلَى: يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ [الأنبياء: 96] وَقَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ يَوْمَ السَّدِّ مَاجَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ خَلْفَهُ لَمَّا مُنِعُوا مِنَ الْخُرُوجِ. الثَّانِي: أَنْ عِنْدَ الْخُرُوجِ يَمُوجُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ قِيلَ إِنَّهُمْ حِينَ يَخْرُجُونَ مِنْ وَرَاءِ السَّدِّ يَمُوجُونَ مُزْدَحِمِينَ فِي الْبِلَادِ يَأْتُونَ الْبَحْرَ فَيَشْرَبُونَ مَاءَهُ وَيَأْكُلُونَ دَوَابَّهُ ثُمَّ يَأْكُلُونَ الشَّجَرَ وَيَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَلَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَأْتُوا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حَيَوَانَاتٍ فَتَدْخُلُ آذَانَهُمْ فَيَمُوتُونَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ إِلَّا أَنَّ الْأَقْرَبَ أَنَّ/ الْمُرَادَ الْوَقْتُ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ السَّدَّ دَكًّا فَعِنْدَهُ مَاجَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ وَبَعْدَهُ نُفِخَ فِي الصُّورِ وَصَارَ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الْقِيَامَةِ، وَالْكَلَامُ فِي الصُّورِ قَدْ تَقَدَّمَ وَسَيَجِيءُ مِنْ بَعْدُ، وَأَمَّا عَرْضُ جَهَنَّمَ وَإِبْرَازُهُ حَتَّى يَصِيرَ مَكْشُوفًا بِأَهْوَالِهِ فَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى عِقَابِ الْكُفَّارِ لِمَا يَتَدَاخَلُهُمْ مِنَ الْغَمِّ الْعَظِيمِ، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يَكْشِفُهُ لِلْكَافِرِينَ الَّذِينَ عَمُوا وَصَمُّوا، أَمَّا الْعَمَى فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ

[سورة الكهف (18) : الآيات 102 إلى 106]

ذِكْرِي وَالْمُرَادُ مِنْهُ شِدَّةُ انْصِرَافِهِمْ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ، وَأَمَّا الصَّمَمُ فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً يَعْنِي أَنَّ حَالَتَهُمْ أَعْظَمُ مِنَ الصَّمَمِ لِأَنَّ الْأَصَمَّ قَدْ يَسْتَطِيعُ السَّمْعَ إِذَا صِيحَ بِهِ وَهَؤُلَاءِ زَالَتْ عَنْهُمْ تِلْكَ الِاسْتِطَاعَةُ وَاحْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِقَوْلِهِ: وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مَعَ الْفِعْلِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَسْمَعُوا لَمْ يَسْتَطِيعُوا، قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْرَتُهُمْ عَنْ سَمَاعِ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَاسْتِثْقَالُهُمْ إِيَّاهُ كَقَوْلِ الرَّجُلِ: لَا أستطيع النظر إلى فلان. [سورة الكهف (18) : الآيات 102 الى 106] أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) [في قَوْلُهُ تَعَالَى أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مِنْ حَالِ الْكَافِرِينَ أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنِ الذِّكْرِ وَعَنِ اسْتِمَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ وَالْمُرَادُ أَفَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِمَا عَبَدُوهُ مَعَ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ تَدَبُّرِ الْآيَاتِ وَتَمَرُّدِهِمْ عَنْ قَبُولِ أَمْرِهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَرْفَعْهُ إِلَى عَاصِمٍ: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِسُكُونِ السِّينِ وَرَفْعِ الْبَاءِ. وَهِيَ مِنَ الْأَحْرُفِ الَّتِي خَالَفَ فِيهَا عَاصِمًا، وَذَكَرَ أَنَّهُ قِرَاءَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ/ أَبِي طَالِبٍ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ: حَسْبُ مُبْتَدَأٌ، أَنْ يَتَّخِذُوا خَبَرٌ، وَالْمَعْنَى أَفَكَافِيهِمْ وَحَسْبُهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا كَذَا وَكَذَا، وَأَمَّا الْبَاقُونَ فقرأوا فحسب عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ حَذْفٌ وَالْمَعْنَى: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا اتِّخَاذَ عِبَادِي أَوْلِيَاءَ نَافِعًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْعِبَادِ أَقْوَالٌ قِيلَ: أَرَادَ عِيسَى وَالْمَلَائِكَةَ، وَقِيلَ: هُمُ الشَّيَاطِينُ يُوَالُونَهُمْ وَيُطِيعُونَهُمْ، وَقِيلَ: هِيَ الْأَصْنَامُ سَمَّاهُمْ عِبَادًا كَقَوْلِهِ: عِبادٌ أَمْثالُكُمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا وَفِي النُّزُلِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ إِنَّهُ الْمَأْوَى وَالْمَنْزِلُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الَّذِي يُقَامُ لِلنَّزِيلِ وَهُوَ الضَّيْفُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا نَبَّهَ بِهِ عَلَى جَهْلِ الْقَوْمِ فَقَالَ: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قِيلَ إِنَّهُمْ هُمُ الرهبان كقوله تعالى: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ [الغاشية: 3] وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَهْلُ الْكِتَابِ وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّ ابْنَ الْكَوَّاءِ سَأَلَهُ عَنْهُمْ فَقَالَ: هُمْ أَهْلُ حَرُورَاءَ وَالْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالْأَعْمَالِ يَظُنُّهَا طَاعَاتٍ وَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا مَعَاصِي وَإِنْ كَانَتْ طَاعَاتٍ لَكِنَّهَا لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ فَأُولَئِكَ إِنَّمَا أَتَوْا بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ لِرَجَاءِ الثَّوَابِ، وَإِنَّمَا أَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا لِطَلَبِ الْأَجْرِ وَالْفَوْزِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِذَا لَمْ يَفُوزُوا بِمَطَالِبِهِمْ بَيَّنَ أَنَّهُمْ كَانُوا ضَالِّينَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ صُنْعَهُمْ فَقَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

[سورة الكهف (18) : الآيات 107 إلى 108]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَاءُ اللَّهِ عِبَارَةٌ عَنْ رُؤْيَتِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقَالُ: لَقِيتُ فُلَانًا أَيْ رَأَيْتُهُ، فَإِنْ قِيلَ: اللِّقَاءُ عِبَارَةٌ عَنِ الْوُصُولِ، قَالَ تَعَالَى: فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [الْقَمَرِ: 12] وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى لِقَاءِ ثَوَابِ اللَّهِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ لَفْظَ اللِّقَاءِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ عِبَارَةً عَنِ الْوُصُولِ وَالْمُلَاقَاةِ إِلَّا أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي الرُّؤْيَةِ مَجَازٌ ظَاهِرٌ مَشْهُورٌ، وَالَّذِي يَقُولُونَهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ لِقَاءُ ثَوَابِ اللَّهِ فَهُوَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْإِضْمَارِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ الْمَشْهُورِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى الْإِضْمَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالْإِحْبَاطِ وَالتَّكْفِيرِ حَقٌّ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ ذَكَرْنَاهَا بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَلَا نُعِيدُهَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً وَفِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّا نَزْدَرِي بِهِمْ وَلَيْسَ لَهُمْ عِنْدَنَا وَزْنٌ وَمِقْدَارٌ. الثَّانِي: لَا نُقِيمُ لَهُمْ مِيزَانًا لِأَنَّ الْمِيزَانَ إِنَّمَا يُوضَعُ لِأَهْلِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ لِتَمْيِيزِ مِقْدَارِ الطَّاعَاتِ وَمِقْدَارِ السَّيِّئَاتِ. الثَّالِثُ: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّ مَنْ غَلَبَتْ مَعَاصِيهِ صَارَ مَا فِي فِعْلِهِ مِنَ الطَّاعَةِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْوَزْنِ شَيْءٌ مِنْ طَاعَتِهِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ بِالْإِحْبَاطِ وَالتَّكْفِيرِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ فَقَوْلُهُ: ذلِكَ أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَفَصَّلْنَاهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَعِيدِ هُوَ جَزَاؤُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الْبَاطِلَةِ، وَقَوْلُهُ: جَهَنَّمُ عَطْفُ بَيَانٍ لِقَوْلِهِ: جَزاؤُهُمْ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ جَزَاءٌ عَلَى مَجْمُوعِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كُفْرُهُمْ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ أَضَافُوا إِلَى/ الْكُفْرِ أَنِ اتَّخَذُوا آيَاتِ اللَّهِ وَاتَّخَذُوا رُسُلَهُ هُزُوًا، فَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ حَتَّى اسْتَهْزَءُوا بهم. [سورة الكهف (18) : الآيات 107 الى 108] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ أَتْبَعَهُ بِالْوَعْدِ، وَلَمَّا ذَكَرَ فِي الْكُفَّارِ أَنَّ جَهَنَّمَ نُزُلُهُمْ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَا يُرَغِّبُ فِي الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عَطْفُ عَمَلَ الصَّالِحَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ مُغَايِرَةٌ لِلْإِيمَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: عَنْ قَتَادَةَ الْفِرْدَوْسُ وَسَطُ الْجَنَّةِ وَأَفْضَلُهَا، وَعَنْ كَعْبٍ لَيْسَ فِي الْجِنَانِ أَعْلَى مِنْ جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ، وَفِيهَا الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ الْفِرْدَوْسُ هُوَ الْبُسْتَانُ بِالرُّومِيَّةِ، وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ مِائَةِ عَامٍ وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَاهَا دَرَجَةً، وَمِنْهَا الْأَنْهَارُ الْأَرْبَعَةُ وَالْفِرْدَوْسُ مِنْ فَوْقِهَا، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّ فَوْقَهَا عَرْشَ الرَّحْمَنِ وَمِنْهَا تَتَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ» . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْجَنَّةَ بِكُلِّيَّتِهَا نُزُلًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَرِيمُ إِذَا أَعْطَى النُّزُلَ أَوَّلًا فَلَا

[سورة الكهف (18) : الآيات 109 إلى 110]

بُدَّ أَنْ يُتْبِعَهُ بِالْخُلْعَةِ وَلَيْسَ بَعْدَ الْجَنَّةِ بِكُلِّيَّتِهَا إِلَّا رُؤْيَةَ اللَّهِ، فَإِنْ قَالُوا: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى جُمْلَةَ جهنم نزلا الكافرين وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ جُمْلَةِ جَهَنَّمَ عَذَابٌ آخَرُ، فكذلك هاهنا جَعَلَ جُمْلَةَ الْجَنَّةِ نُزُلًا لِلْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ آخَرُ بَعْدَ الْجَنَّةِ، وَالْجَوَابُ: قُلْنَا لِلْكَافِرِ بَعْدَ حُصُولِ جَهَنَّمَ مَرْتَبَةٌ أَعْلَى مِنْهَا وَهُوَ كَوْنُهُ مَحْجُوبًا عَنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ [الْمُطَفِّفِينَ: 15، 16] فَجَعَلَ الصِّلَاءَ بِالنَّارِ مُتَأَخِّرًا فِي الْمَرْتَبَةِ عَنْ كَوْنِهِ مَحْجُوبًا عَنِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا الْحِوَلُ التَّحَوُّلُ، يُقَالُ: حَالَ مِنْ مَكَانِهِ حِوَلًا كَقَوْلِهِ عَادَ فِي حُبِّهَا عَوْدًا يَعْنِي لَا مَزِيدَ عَلَى سِعَادَاتِ الْجَنَّةِ وَخَيْرَاتِهَا حَتَّى يُرِيدَ أَشْيَاءَ غَيْرَهَا، وَهَذَا الْوَصْفُ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الْكَمَالِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الدُّنْيَا إِذَا وَصَلَ إِلَى أَيِّ دَرَجَةٍ كَانَتْ فِي السَّعَادَاتِ فَهُوَ طَامِحُ الطرف إلى ما هو أعلى منها. [سورة الكهف (18) : الآيات 109 الى 110] قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَنْوَاعَ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ وَشَرَحَ أَقَاصِيصَ الْأَوَّلِينَ نَبَّهَ عَلَى كَمَالِ حَالِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي وَالْمِدَادُ اسْمٌ لِمَا تُمَدُّ بِهِ الدَّوَاةُ مِنَ الْحِبْرِ وَلِمَا يُمَدُّ بِهِ السِّرَاجُ مِنَ السَّلِيطِ، وَالْمَعْنَى لَوْ كُتِبَتْ كَلِمَاتُ عِلْمِ اللَّهِ وَحِكَمُهُ وَكَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لَهَا وَالْمُرَادُ بِالْبَحْرِ الْجِنْسُ لَنَفِدَ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ الْكَلِمَاتُ، وَتَقْرِيرُ الْكَلَامِ أَنَّ الْبِحَارَ كَيْفَمَا فَرَضَتْ فِي الِاتِّسَاعِ وَالْعَظَمَةِ فَهِيَ مُتَنَاهِيَةٌ وَمَعْلُومَاتُ اللَّهِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَالْمُتَنَاهِي لَا يَفِي الْبَتَّةَ بِغَيْرِ الْمُتَنَاهِي، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَنْفَدَ بِالْيَاءِ لِتُقَدِّمِ الْفِعْلِ عَلَى الْجَمْعِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ كَلِمَاتٍ، وَرُوِيَ أَنَّ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ قَالَ: فِي كِتَابِكُمْ: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: 269] ثم تقرأون: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 85] فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَلَكِنَّهُ قَطْرَةٌ مِنْ بَحْرِ كَلِمَاتِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْمُخَالِفُونَ عَلَى الطَّعْنِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا: إِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي إِثْبَاتِ كَلِمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَصْحَابُنَا حَمَلُوا الْكَلِمَاتِ عَلَى مُتَعَلِّقَاتِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ الْجُبَّائِيُّ: وَأَيْضًا قَوْلُهُ: قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلِمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ تَنْفَدُ فِي الْجُمْلَةِ، وَمَا ثَبَتَ عَدَمُهُ امْتَنَعَ قِدَمُهُ، وَأَيْضًا قَالَ: وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً وَهَذَا يدل على أنه تعالى قادر على أن يَجِيءَ بِمِثْلِ كَلَامِهِ وَالَّذِي يُجَاءُ بِهِ يَكُونُ مُحْدَثًا وَالَّذِي يَكُونُ الْمُحْدَثُ مِثْلًا لَهُ فَهُوَ أَيْضًا مُحْدَثٌ وَجَوَابُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى تَعَلُّقَاتِ تِلْكَ الصِّفَةِ الْأَزَلِيَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَمَالَ كَلَامِ اللَّهِ أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَسْلُكَ طَرِيقَةَ التَّوَاضُعِ فَقَالَ: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَيْ لَا امْتِيَازَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فِي شَيْءٍ مِنَ الصِّفَاتِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيَّ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى مَطْلُوبَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ إِنَّما تُفِيدُ الْحَصْرَ/ وَهِيَ قَوْلُهُ: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ كَوْنَ الْإِلَهِ تَعَالَى: إِلَهًا وَاحِدًا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَيْنِ الْمَطْلُوبَيْنِ فِي سَائِرِ السُّوَرِ بِالْوُجُوهِ الْقَوِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ

رَبِّهِ وَالرَّجَاءُ هُوَ ظَنُّ الْمَنَافِعِ الْوَاصِلَةِ إِلَيْهِ وَالْخَوْفُ ظَنُّ الْمَضَارِّ الْوَاصِلَةِ إِلَيْهِ، وَأَصْحَابُنَا حَمَلُوا لِقَاءَ الرَّبِّ عَلَى رُؤْيَتِهِ وَالْمُعْتَزِلَةُ حَمَلُوهُ عَلَى لِقَاءِ ثَوَابِ اللَّهِ وَهَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ قَدْ تَقَدَّمَتْ وَالْعَجَبُ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْرَدَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ رُؤْيَةِ اللَّهِ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ [الْكَهْفِ: 105] . وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الْكَهْفِ: 107] وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ وَلَا بَيَانَ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً أَيْ مَنْ حَصَلَ لَهُ رَجَاءُ لِقَاءِ اللَّهِ فَلْيَشْتَغِلْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ قَدْ يُؤْتَى بِهِ لِلَّهِ وَقَدْ يُؤْتَى بِهِ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ لَا جَرَمَ اعْتُبِرَ فِيهِ قَيْدَانِ: أَنْ يُؤْتَى بِهِ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُبَرَّأً عَنْ جِهَاتِ الشِّرْكِ، فَقَالَ: وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً. قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي جُنْدُبِ بْنِ زُهَيْرٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أَعْمَلُ الْعَمَلَ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ سَرَّنِي» فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مَا شُورِكَ فِيهِ» وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ لَهُ: «لَكَ أَجْرَانِ أَجْرُ السِّرِّ وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ» فَالرِّوَايَةُ الْأُولَى مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إِذَا قَصَدَ بِعَمَلِهِ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إِذَا قَصَدَ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَالْمَقَامُ الْأَوَّلُ مَقَامُ الْمُبْتَدِئِينَ، وَالْمَقَامُ الثَّانِي مقام الكاملين والحمد صلّى الله عليه وسلم رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ صَفَرٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّمِائَةٍ فِي بَلْدَةِ غَزْنِينَ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْ يَخُصَّنَا بِالْمَغْفِرَةِ وَالْفَضْلِ فِي يَوْمِ الدِّينِ، إِنَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.

سورة مريم عليها السلام

سورة مريم عليها السلام وَهِيَ ثَمَانٍ وَتِسْعُونَ آيَةً مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة مريم (19) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص (1) قَبْلَ الْخَوْضِ فِي الْقِرَاءَاتِ لَا بُدَّ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ ثَلَاثَةٍ. الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: / أَنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ عَلَى نَوْعَيْنِ ثُنَائِيٍّ وَثُلَاثِيٍّ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ يَنْطِقُوا بِالثُّنَائِيَّاتِ مَقْطُوعَةً مُمَالَةً فَيَقُولُوا: بَا تَا ثَا وَكَذَلِكَ أَمْثَالُهَا، وَأَنْ يَنْطِقُوا بِالثُّلَاثِيَّاتِ الَّتِي فِي وَسَطِهَا الْأَلِفُ مَفْتُوحَةً مُشْبَعَةً فَيَقُولُوا دَالْ ذَالْ صَادْ ضَادْ وَكَذَلِكَ أَشْكَالُهَا، أَمَّا الزَّايُ وَحْدَهُ مِنْ بَيْنِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فَمُعْتَادٌ فِيهِ الْأَمْرَانِ، فَإِنَّ مَنْ أَظْهَرَ يَاءَهُ فِي النُّطْقِ حَتَّى يَصِيرَ ثُلَاثِيًّا لَمْ يُمِلْهُ، وَمَنْ لَمْ يُظْهِرْ يَاءَهُ فِي النُّطْقِ حَتَّى يُشْبِهَ الثُّنَائِيَّ يُمِلْهُ. أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ إِشْبَاعَ الْفَتْحَةِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ أَصْلٌ وَالْإِمَالَةُ فَرْعٌ عَلَيْهِ وَلِهَذَا يَجُوزُ إِشْبَاعُ كُلِّ مُمَالٍ وَلَا يَجُوزُ إِمَالَةُ كُلِّ مُشْبَعٍ مِنَ الْفَتَحَاتِ. الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ: لِلْقُرَّاءِ فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَخْصُوصَةِ بِهَذَا الْمَوْضِعِ ثَلَاثَةُ طُرُقٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِالْأَصْلِ وَهُوَ إِشْبَاعُ فَتْحَةِ الْهَاءِ وَالْيَاءِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يُمِيلُوا الْهَاءَ وَالْيَاءَ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَيَقَعُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْهَاءِ وَالْيَاءِ فَيَفْتَحُوا أَحَدَهُمَا أَيُّهُمَا كَانَ وَيَكْسِرُوا الْآخَرَ وَلَهُمْ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِهَذَا الِاخْتِلَافِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفَتْحَةَ الْمُشْبَعَةَ أَصْلٌ وَالْإِمَالَةَ فَرْعٌ مَشْهُورٌ كَثِيرُ الِاسْتِعْمَالِ فَأُشْبِعُ أَحَدُهُمَا وَأُمِيلَ الْآخَرُ لِيَكُونَ جَامِعًا لِمُرَاعَاةِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ مُرَاعَاةِ أَحَدِهِمَا وَتَضْيِيعِ الْآخَرِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الثُّنَائِيَّةَ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ إِذَا كَانَتْ مَقْطُوعَةً كَانَتْ بِالْإِمَالَةِ، وَإِذَا كَانَتْ مَوْصُولَةً كَانَتْ بِالْإِشْبَاعِ وَهَا وَيَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كهيعص مَقْطُوعَانِ فِي اللَّفْظِ مَوْصُولَانِ فِي الْخَطِّ فَأُمِيلَ أحدهما وأشبع الآخر ليكون كلا الجانبين مرعيا جَانِبَ الْقَطْعِ اللَّفْظِيِّ وَجَانِبَ الْوَصْلِ الْخَطِّيِّ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ فِيهِ قِرَاءَاتٌ: إِحْدَاهَا: وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ فِيهِ فَتْحَةُ الْهَاءِ وَالْيَاءِ جَمِيعًا. وَثَانِيهَا: كَسْرُ الْهَاءِ وَفَتْحُ الْيَاءِ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَابْنِ مُبَادِرٍ «1» وَالْقُطَعِيِّ عَنْ أَيُّوبَ، وَإِنَّمَا كَسَرُوا الْهَاءَ دُونَ الْيَاءِ لِيَكُونَ فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْهَاءِ الَّذِي لِلتَّنْبِيهِ فَإِنَّهُ لَا يُكْسَرُ قَطُّ. وَثَالِثُهَا: فَتْحُ الْهَاءِ وَكَسْرُ الْيَاءِ وَهُوَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْأَعْمَشِ وَطَلْحَةَ وَالضَّحَّاكِ عَنْ عَاصِمٍ، وَإِنَّمَا كَسَرُوا الْيَاءَ دُونَ الْهَاءِ، لِأَنَّ الْيَاءَ أُخْتُ الْكَسْرَةِ وَإِعْطَاءُ الْكَسْرَةِ أُخْتَهَا أَوْلَى مِنْ إِعْطَائِهَا إِلَى أَجْنَبِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ لِلْمُنَاسَبَةِ. وَرَابِعُهَا: إِمَالَتُهُمَا جَمِيعًا وَهِيَ قِرَاءَةُ الْكِسَائِيِّ وَالْمُفَضَّلِ وَيَحْيَى عَنْ عَاصِمٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ ابْنِ عامر والزهري وابن جرير وإنما أمالوهما

_ (1) هكذا في الأصول (ابن مبادر) ولم نره في القراءة ولعله محرف عن ابن مناذر وهو مما سمت به العرب.

[سورة مريم (19) : آية 2]

لِلْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي إِمَالَةِ الْهَاءِ وَإِمَالَةِ الْيَاءِ. وَخَامِسُهَا: قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَهِيَ ضَمُّ الْهَاءِ وَفَتْحُ الْيَاءِ، وَعَنْهُ أَيْضًا فَتْحُ الْهَاءِ وَضَمُّ الْيَاءِ، وَرَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنِ الْحَسَنِ بِضَمِّهِمَا، فَقِيلَ لَهُ لَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنِ الْحَسَنِ لأنه أورد ابن جني في كتاب «المكتسب» «1» أَنَّ قِرَاءَةَ الْحَسَنِ ضَمُّ أَحَدِهِمَا وَفَتْحُ الْآخَرِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا أَقْدَمَ الْحَسَنُ عَلَى ضَمِّ أَحَدِهِمَا لَا عَلَى التَّعْيِينِ لِأَنَّهُ تَصَوَّرَ أَنَّ عَيْنَ الْفِعْلِ فِي الْهَاءِ وَالْيَاءِ أَلِفٌ مُنْقَلِبٌ عَنِ الْوَاوِ كَالدَّارِ وَالْمَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلِفَاتِ وَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةً لِأَنَّهَا لَا اشْتِقَاقَ لَهَا فَإِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى مَا هُوَ مُشَابِهٌ لَهَا فِي اللَّفْظِ. وَالْأَلِفُ إِذَا وَقَعَ عَيْنَا فَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُ مُنْقَلِبٌ عَنِ الْوَاوِ لِأَنَّ الْغَالِبَ/ فِي اللُّغَةِ ذَلِكَ فَلَمَّا تَصَوَّرَ الْحَسَنُ أَنَّ أَلِفَ الْهَاءِ وَالْيَاءِ مُنْقَلِبٌ عَنِ الْوَاوِ جَعَلَهُ فِي حُكْمِ الْوَاوِ وَضَمَّ مَا قَبْلَهُ لِأَنَّ الْوَاوَ أُخْتُ الضَّمَّةِ. وَسَادِسُهَا: هَا يَا بِإِشْمَامِهِمَا شَيْئًا مِنَ الضمة. المسألة الثالثة: قرأ أبو جعفر كهيعص يفصل الْحُرُوفِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ بِأَدْنَى سَكْتَةٍ مَعَ إِظْهَارِ نُونِ الْعَيْنِ وَبَاقِي الْقُرَّاءِ يَصِلُونَ الْحُرُوفَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ وَيُخْفُونَ النُّونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ صَادْ، ذُكِرَ بِالْإِدْغَامِ، وَعَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ بِالْإِظْهَارِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: الْمَذَاهِبُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْفَوَاتِحِ قَدْ تَقَدَّمَتْ لَكِنَّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى كهيعص ثَنَاءٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَمِنَ الْكَافِ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ كَافٍ وَمِنَ الْهَاءِ هَادٍ وَمِنَ الْعَيْنِ عَالِمٌ وَمِنَ الصَّادِ صَادِقٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَيْضًا أَنَّهُ حَمَلَ الْكَافَ عَلَى الْكَبِيرِ وَالْكَرِيمِ، وَيُحْكَى أَيْضًا عَنْهُ أَنَّهُ حَمَلَ الْيَاءَ عَلَى الْكَرِيمِ مَرَّةً وَعَلَى الْحَكِيمِ أُخْرَى، وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي الْيَاءِ أَنَّهُ مِنْ مُجِيرٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْعَيْنِ أَنَّهُ مِنْ عَزِيزٍ وَمِنْ عَدْلٍ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَيْسَتْ قَوِيَّةً لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُودِعَ كِتَابَهُ مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ اللُّغَةُ لَا بِالْحَقِيقَةِ وَلَا بِالْمَجَازِ لِأَنَّا إِنْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ فَتَحَ عَلَيْنَا قَوْلَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ لِكُلِّ ظَاهِرٍ بَاطِنًا، وَاللُّغَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ فَإِنَّهُ لَيْسَتْ دَلَالَةُ الْكَافِ أَوْلَى مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى الْكَرِيمِ أَوِ الْكَبِيرِ أَوْ عَلَى اسْمٍ آخَرَ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ فَيَكُونُ حَمْلُهُ عَلَى بَعْضِهَا دُونَ الْبَعْضِ تَحَكُّمًا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ اللُّغَةُ أصلا. [سورة مريم (19) : آية 2] ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي لَفْظَةِ ذِكْرُ أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ صِيغَةُ الْمَصْدَرِ أَوِ الْمَاضِي مُخَفَّفَةً أَوْ مُشَدَّدَةً أَوِ الْأَمْرُ، أَمَّا صِيغَةُ الْمَصْدَرِ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ كَسْرِ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَلَى الْإِضَافَةِ ثُمَّ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: نَصْبُ الدَّالِ مِنْ عَبْدَهُ وَالْهَمْزَةِ مِنْ زَكَرِيَّاءَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ. وَثَانِيهَا: بِرَفْعِهِمَا وَالْمَعْنَى وَتِلْكَ الرَّحْمَةُ هِيَ عَبْدُهُ زَكَرِيَّاءُ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ. وَثَالِثُهَا: بِنَصْبِ الْأَوَّلِ وَبِرَفْعِ الثَّانِي وَالْمَعْنَى رَحْمَةُ رَبِّكِ عَبَدَهُ وَهُوَ زَكَرِيَّاءُ. وَأَمَّا صِيغَةُ الْمَاضِي بِالتَّشْدِيدِ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ نَصْبِ رَحْمَةٍ. وَأَمَّا صِيغَةُ الْمَاضِي بِالتَّخْفِيفِ فَفِيهَا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: رَفْعُ الْبَاءِ مِنْ رَبِّكَ وَالْمَعْنَى ذَكَرَ رَبُّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّاءَ. وَثَانِيهَا: نَصْبُ الْبَاءِ مِنْ رَبِّكَ وَالرَّفْعُ فِي عَبْدِهِ زَكَرِيَّاءَ وَذَلِكَ بِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفَاعِلِ وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ لِلْكَلْبِيِّ، وَأَمَّا صِيغَةُ الْأَمْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ نَصْبِ رَحْمَةٍ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ على تقدير

_ (1) الكتاب المشهور لابن جني اسمه «المحتسب» فلعل له كتابا آخر اسمه «المكتسب» أو لعله تحريف له.

[سورة مريم (19) : آية 3]

جَعْلِهِ صِيغَةَ الْمَصْدَرِ وَالْمَاضِي يَكُونُ التَّقْدِيرُ هَذَا الْمَتْلُوُّ مِنَ الْقُرْآنِ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ قَوْلِهِ رَحْمَةِ رَبِّكِ أَعْنِي عَبْدَهُ زَكَرِيَّاءَ ثُمَّ فِي كَوْنِهِ رَحْمَةً وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ رَحْمَةً عَلَى أُمَّتِهِ لِأَنَّهُ هَدَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَاتِ. وَالْآخَرُ: أَنْ/ يَكُونَ رَحْمَةً عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرِيقَهُ فِي الْإِخْلَاصِ وَالِابْتِهَالِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى صَارَ ذَلِكَ لَفْظًا دَاعِيًا لَهُ وَلِأُمَّتِهِ إِلَى تِلْكَ الطَّرِيقَةِ فَكَانَ زَكَرِيَّاءُ رَحْمَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فِيهَا ذِكْرُ الرَّحْمَةِ التي رحم بها عبدة زكرياء. [سورة مريم (19) : آية 3] إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) رَاعَى سُنَّةَ اللَّهِ فِي إِخْفَاءِ دَعْوَتِهِ لِأَنَّ الْجَهْرَ وَالْإِخْفَاءَ عِنْدَ اللَّهِ سِيَّانِ فَكَانَ الْإِخْفَاءُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ وَأَدْخَلُ فِي الْإِخْلَاصِ. وَثَانِيهَا: أَخْفَاهُ لِئَلَّا يُلَامَ عَلَى طَلَبِ الْوَلَدِ فِي زَمَانِ الشَّيْخُوخَةِ. وَثَالِثُهَا: أَسَرَّهُ مِنْ مَوَالِيهِ الَّذِينَ خَافَهُمْ. وَرَابِعُهَا: خَفِيَ صَوْتُهُ لِضَعْفِهِ وَهَرَمِهِ كَمَا جَاءَ فِي صِفَةِ الشَّيْخِ صَوْتُهُ خُفَاتٌ وَسَمْعُهُ تَارَاتٌ، فَإِنْ قِيلَ مِنْ شَرْطِ النِّدَاءِ الْجَهْرُ فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ كَوْنِهِ نِدَاءً وَخَفِيًّا، وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَتَى بِأَقْصَى مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ إِلَّا أَنَّ الصَّوْتَ كَانَ ضَعِيفًا لِنِهَايَةِ الضَّعْفِ بِسَبَبِ الْكِبَرِ فَكَانَ نِدَاءً نَظَرًا إِلَى قَصْدِهِ وَخَفِيًّا نَظَرًا إِلَى الْوَاقِعِ. الثَّانِي: أَنَّهُ دَعَا فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَهُ فِي الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى [آلِ عِمْرَانَ: 39] فَكَوْنُ الْإِجَابَةِ فِي الصَّلَاةِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ النِّدَاءُ فيها خفيا. [سورة مريم (19) : الآيات 4 الى 6] قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) الْقِرَاءَةُ فِيهَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ وَهَنَ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِدْغَامُ السِّينِ فِي الشِّينِ [مِنَ الرَّأْسِ شَيْبًا] عَنْ أَبِي عَمْرٍو. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَعَنِ الزُّهْرِيِّ بِإِسْكَانِ الْيَاءِ مِنَ الْمَوَالِي وَقَرَأَ عُثْمَانُ وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ خَفَّتِ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالْفَاءِ مُشَدَّدَةً وَكَسْرِ التَّاءِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ وَرَائِي بِمَعْنَى بَعْدِي وَالْمَعْنَى/ أَنَّهُمْ قَلُّوا وَعَجَزُوا عَنْ إِقَامَةِ الدِّينِ بَعْدَهُ فَسَأَلَ رَبَّهُ تَقْوِيَتَهُمْ بِوَلِيٍّ يُرْزَقُهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى قُدَّامِي وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ خَفُّوا قُدَّامَهُ وَدَرَجُوا وَلَمْ يَبْقَ مَنْ بِهِ تَقَوٍّ وَاعْتِضَادٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ: مِنْ وَرائِي بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ وَعَنْ حُمَيْدِ بْنِ مِقْسَمٍ كَذَلِكَ لَكِنْ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَرَايَ كعصاي. المسألة الخامسة: من يَرِثُنِي وَيَرِثُ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا صِفَةً. وَثَانِيهَا: وَهِيَ

قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَالْكِسَائِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَعْمَشِ وَطَلْحَةَ بِالْجَزْمِ فِيهِمَا جَوَابًا لِلدُّعَاءِ. وَثَالِثُهَا: عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَعْفَرِ بْنِ محمد والحسن وقتادة: يَرِثُنِي جُزِمَ وَارِثٌ بِوَزْنِ فَاعِلٍ. وَرَابِعُهَا: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَرِثُنِي وَارِثٌ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ. وَخَامِسُهَا: عَنِ الْجَحْدَرِيِّ وَيَرِثُ تَصْغِيرُ وَارِثٍ عَلَى وَزْنِ أُفَيْعَلٍ (اللُّغَةُ) الْوَهْنُ ضَعْفُ الْقُوَّةِ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» شَبَّهَ الشَّيْبَ بِشُوَاظِ النَّارِ فِي بَيَاضِهِ وَإِنَارَتِهِ وَانْتِشَارِهِ فِي الشَّعْرِ وَفُشُوِّهِ فِيهِ وَأَخْذِهِ كُلَّ مَأْخَذٍ كَاشْتِعَالِ النَّارِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِعَارَةِ ثُمَّ أَسْنَدَ الِاشْتِعَالَ إِلَى مَكَانِ الشَّعْرِ وَمَنْبَتِهِ وَهُوَ الرَّأْسُ وَأَخْرَجَ الشَّيْبَ مُمَيَّزًا وَلَمْ يُضِفِ الرَّأْسَ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ أَنَّهُ رَأْسُ زَكَرِيَّا فَمِنْ ثَمَّ فَصُحَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ فَطَلَبُ الْفِعْلِ وَمُقَابِلُهُ الْإِجَابَةِ كَمَا أَنَّ مُقَابِلَ الْأَمْرِ الطَّاعَةُ، وَأَمَّا أَصْلُ التَّرْكِيبِ فِي (وَلِيٍّ «1» ) فَيَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْقُرْبِ وَالدُّنُوِّ يُقَالُ وَلَيْتُهُ أَلِيهِ وَلْيًا أَيْ دَنَوْتُ وَأَوْلَيْتُهُ أَدْنَيْتُهُ مِنْهُ وَتَبَاعَدَ مَا بَعْدَهُ وَوَلِيَ وَمِنْهُ قول ساعدة [ابن جؤبة] : وَعَدَتْ عَوَادٍ دُونَ وَلْيِكَ تَشْغَبُ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ وَجَلَسْتُ مِمَّا يَلِيهِ وَمِنْهُ الْوَلْيُ وَهُوَ الْمَطَرُ الَّذِي يَلِي الْوَسْمِيَّ، وَالْوَلِيَّةُ الْبَرْذَعَةُ لِأَنَّهَا تَلِي ظَهْرَ الدَّابَّةِ وَوَلِيَ الْيَتِيمَ وَالْقَتِيلَ وَوَلِيَ الْبَلَدَ لِأَنَّ مَنْ تَوَلَّى أَمْرًا فَقَدْ قَرُبَ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [مريم: 4] مِنْ قَوْلِهِمْ وَلَاهُ بِرُكْنِهِ أَيْ جَعَلَهُ مِمَّا يَلِيهِ، أَمَّا وَلَّى عَنِّي إِذَا أَدْبَرَ فَهُوَ مِنْ بَابِ تَثْقِيلِ الْحَشْوِ لِلسَّلْبِ وَقَوْلُهُمْ فُلَانٌ أَوْلَى مِنْ فُلَانٍ أَيْ أَحَقُّ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ مِنَ الْوَالِي أَوِ الْوَلِيِّ كَالْأَدْنَى وَالْأَقْرَبِ مِنَ الدَّانِي وَالْقَرِيبِ وَفِيهِ مَعْنَى الْقُرْبِ أَيْضًا لِأَنَّ مَنْ كَانَ أَحَقَّ بِالشَّيْءِ كَانَ أَقْرَبَ إِلَيْهِ وَالْمَوْلَى اسْمٌ لِمَوْضِعِ الْوَلِيِّ كَالْمَرْمَى وَالْمَبْنَى اسْمٌ لموضع والمرمى وَالْبِنَاءِ، وَأَمَّا الْعَاقِرُ فَهِيَ الَّتِي لَا تَلِدُ وَالْعَقْرُ فِي اللُّغَةِ الْجَرْحُ وَمِنْهُ أُخِذَ الْعَاقِرُ لِأَنَّهُ نَقْصُ أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَعَقَرْتُ الْفَرَسَ بِالسَّيْفِ إِذَا ضَرَبْتَ قَوَائِمَهُ، وَأَمَّا الْآلُ فَهُمْ خَاصَّةُ الرَّجُلِ الَّذِينَ يَؤُولُ أَمْرُهُمْ إِلَيْهِ ثُمَّ قَدْ يَؤُولُ أَمْرُهُمْ إِلَيْهِ لِلْقَرَابَةِ تَارَةً وَلِلصُّحْبَةِ أُخْرَى كَآلِ فِرْعَوْنَ وَلِلْمُوَافَقَةِ فِي الدِّينِ كَآلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْلَمْ أَنْ زَكَرِيَّاءَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدَّمَ عَلَى السُّؤَالِ أُمُورًا ثَلَاثَةً: أَحَدُهَا: كَوْنُهُ ضَعِيفًا. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا رَدَّ دُعَاءَهُ الْبَتَّةَ. وَالثَّالِثُ: كَوْنُ الْمَطْلُوبِ بِالدُّعَاءِ سَبَبًا لِلْمَنْفَعَةِ فِي الدِّينِ ثُمَّ بَعْدَ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ صَرَّحَ بِالسُّؤَالِ. أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ كَوْنُهُ ضَعِيفًا فَأَثَرُ الضَّعْفِ، / إِمَّا أَنْ يَظْهَرَ فِي الْبَاطِنِ أَوْ فِي الظَّاهِرِ، وَالضَّعْفُ الَّذِي يَظْهَرُ فِي الْبَاطِنِ يَكُونُ أَقْوَى مِمَّا يَظْهَرُ فِي الظَّاهِرِ فَلِهَذَا السَّبَبِ ابْتَدَأَ بِبَيَانِ الضَّعْفِ الَّذِي فِي الْبَاطِنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَتَقْرِيرُهُ هُوَ أَنَّ الْعِظَامَ أَصْلَبُ الْأَعْضَاءِ الَّتِي فِي الْبَدَنِ وَجُعِلَتْ كَذَلِكَ لِمَنْفَعَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: لِأَنْ تَكُونَ أَسَاسًا وَعُمُدًا يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا سَائِرُ الْأَعْضَاءِ الْأُخَرِ إِذْ كَانَتِ الْأَعْضَاءُ كُلُّهَا مَوْضُوعَةً عَلَى الْعِظَامِ وَالْحَامِلُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنَ الْمَحْمُولِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ احْتِيجَ إِلَيْهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِأَنْ تَكُونَ جُنَّةً يَقْوَى بِهَا مَا سِوَاهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ بِمَنْزِلَةِ قِحْفِ الرَّأْسِ وَعِظَامِ الصَّدْرِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ صُلْبًا لِيَكُونَ صَبُورًا عَلَى مُلَاقَاةِ الْآفَاتِ بَعِيدًا مِنَ الْقَبُولِ لَهَا إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا كَانَ الْعَظْمُ أَصْلَبَ الْأَعْضَاءِ فَمَتَى وَصَلَ الْأَمْرُ إِلَى ضَعْفِهَا كَانَ ضَعْفُ مَا عَدَاهَا مَعَ رَخَاوَتِهَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْعَظْمَ إِذَا كَانَ حَامِلًا لِسَائِرِ الْأَعْضَاءِ كان تطرق الضعف إلى الحامل

_ (1) التثقيل هنا التشديد. والحشو هنا وسط الكلمة. والسلب هنا معناه الضد والمعنى أنه شدد اللام من ولي ليفهم الضد فإن (ولي) مكسورة اللام مخففة معناها أقبل و (ولى) مفتوحة اللام مشددة معناها أدبر والأدبار ضد الإقبال. وهذا معنى تثقيل الحشو للسلب والله أعلم.

مُوجِبًا لِتَطَرُّقِهِ إِلَى الْمَحْمُولِ فَلِهَذَا السَّبَبِ خَصَّ الْعَظْمَ بِالْوَهْنِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَأَمَّا أَثَرُ الضَّعْفِ فِي الظَّاهِرِ فَذَلِكَ اسْتِيلَاءُ الشَّيْبِ عَلَى الرَّأْسِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَى اسْتِيلَاءِ الضَّعْفِ عَلَى الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ وَذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُ الدُّعَاءَ تَوْكِيدًا لِمَا فِيهِ مِنَ الِارْتِكَانِ عَلَى حَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ وَالتَّبَرِّي عَنِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ. الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَا كَانَ مَرْدُودَ الدُّعَاءِ الْبَتَّةَ وَوَجْهُ التَّوَسُّلِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا رُوِيَ أَنَّ مُحْتَاجًا سَأَلَ وَاحِدًا مِنَ الْأَكَابِرِ وَقَالَ: أَنَا الَّذِي أَحْسَنْتَ إِلَيَّ وَقْتَ كَذَا، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِمَنْ تَوَسَّلَ بِنَا إِلَيْنَا ثُمَّ قَضَى حَاجَتَهُ. وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا قَبِلَهُ أَوَّلًا فَلَوْ أَنَّهُ رَدَّهُ ثَانِيًا لَكَانَ الرَّدُّ مُحْبِطًا لِلْإِنْعَامِ الْأَوَّلِ وَالْمُنْعِمُ لَا يَسْعَى فِي إِحْبَاطِ إِنْعَامِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ مُخَالَفَةَ الْعَادَةِ شَاقَّةٌ عَلَى النَّفْسِ فَإِذَا تَعَوَّدَ الْإِنْسَانُ إِجَابَةَ الدُّعَاءِ فَلَوْ صَارَ مَرْدُودًا بَعْدَ ذَلِكَ لَكَانَ فِي غَايَةِ الْمَشَقَّةِ وَلِأَنَّ الْجَفَاءَ مِمَّنْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الْإِنْعَامُ يَكُونُ أَشَقَّ فَقَالَ زَكَرِيَّاءُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّكَ مَا رَدَدْتَنِي فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَعَ أَنِّي مَا تَعَوَّدْتُ لُطْفَكَ وَكُنْتُ قَوِيَّ الْبَدَنِ قَوِيَّ الْقَلْبِ فَلَوْ رَدَدْتَنِي الْآنَ بَعْدَ مَا عَوَّدْتَنِي الْقَبُولَ مَعَ نِهَايَةِ ضَعْفِي لَكَانَ ذَلِكَ بَالِغًا إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى فِي أَلَمِ الْقَلْبِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ سَعِدَ فُلَانٌ بِحَاجَتِهِ إِذَا ظَفِرَ بِهَا وَشَقِيَ بِهَا إِذَا خَابَ وَلَمْ يَنَلْهَا وَمَعْنَى بِدُعَائِكَ أَيْ بِدُعَائِي إِيَّاكَ فَإِنَّ الْفِعْلَ قَدْ يُضَافُ إِلَى الْفَاعِلِ تَارَةً وَإِلَى الْمَفْعُولِ أُخْرَى. الْمَقَامُ الثَّالِثُ: بَيَانُ كَوْنِ الْمَطْلُوبِ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي الدِّينِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: إِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ أَيِ الْوَرَثَةَ مِنْ بَعْدِي وَعَنْ مُجَاهِدٍ الْعَصَبَةُ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ الْكَلَالَةُ وَعَنِ الْأَصَمِّ بَنُو الْعَمِّ وَهُمُ الَّذِينَ يَلُونَهُ فِي النَّسَبِ وَعَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْمَوْلَى يُرَادُ بِهِ النَّاصِرُ وَابْنُ الْعَمِّ وَالْمَالِكُ وَالصَّاحِبُ وهو هاهنا مَنْ يَقُومُ بِمِيرَاثِهِ مَقَامَ الْوَلَدِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَوَالِي الَّذِينَ يَخْلُفُونَ بَعْدَهُ إِمَّا فِي السِّيَاسَةِ أَوْ فِي الْمَالِ الَّذِي كَانَ لَهُ أَوْ فِي الْقِيَامِ بِأَمْرِ الدِّينِ فَقَدْ كَانَتِ الْعَادَةُ جَارِيَةً أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ إِلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ أَقْرَبَ فَإِنَّهُ كَانَ مُتَعَيِّنًا فِي الْحَيَاةِ. الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي خَوْفِهِ مِنَ الْمَوَالِي فَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَافَهُمْ عَلَى إِفْسَادِ الدِّينِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ خَافَ أَنْ يَنْتَهِيَ أَمْرُهُ إِلَيْهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي مَالٍ وَغَيْرِهِ مَعَ أَنَّهُ عَرَفَ مِنْ حَالِهِمْ قُصُورَهُمْ فِي/ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عَنِ الْقِيَامِ بِذَلِكَ الْمَنْصِبِ، وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيٌّ لَهُ أَبٌ إِلَّا وَاحِدٌ فَخَافَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَنِي عَمِّهِ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَهَبَ لَهُ وَلَدًا يَكُونُ هُوَ ذَلِكَ النَّبِيَّ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ خَائِفًا مِنْ أَمْرٍ يَهْتَمُّ بِمِثْلِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى تَفْصِيلِ ذَلِكَ. وَلَا يَمْتَنِعُ أَنَّ زَكَرِيَّاءَ كَانَ إِلَيْهِ مَعَ النُّبُوَّةِ السِّيَاسَةُ مِنْ جِهَةِ الْمُلْكِ وَمَا يَتَّصِلُ بِالْإِمَامَةِ فَخَافَ مِنْهُمْ بَعْدَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْ عَلَيْهِمَا. أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنِّي خِفْتُ فَهُوَ وَإِنْ خَرَجَ عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي لَكِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا، كَذَلِكَ يَقُولُ الرَّجُلُ قَدْ خِفْتُ أَنْ يَكُونَ كَذَا وَخَشِيتُ أَنْ يَكُونَ كَذَا أَيْ أَنَا خَائِفٌ لَا يُرِيدُ أَنَّهُ قَدْ زَالَ الْخَوْفُ عَنْهُ وَهَكَذَا قَوْلُهُ: وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً أَيْ أَنَّهَا عَاقِرٌ فِي الْحَالِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَاقِرَ لَا تُحَوَّلُ وَلُودًا فِي الْعَادَةِ فَفِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي إِعْلَامٌ بِتَقَادُمِ الْعَهْدِ فِي ذَلِكَ وَغَرَضُ زَكَرِيَّاءَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ بَيَانُ اسْتِبْعَادِ حُصُولِ الْوَلَدِ فَكَانَ إِيرَادُهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي أَقْوَى وَإِلَى هَذَا يَرْجِعُ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي لِأَنَّهُ إِنَّمَا قَصَدَ بِهِ الْإِخْبَارَ وَعَنْ تَقَادُمِ الْخَوْفِ ثُمَّ اسْتَغْنَى بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَمَا يُوجِبُ مَسْأَلَةَ الْوَارِثِ وَإِظْهَارَ الْحَاجَةِ عَنِ الْإِخْبَارِ بِوُجُودِ الْخَوْفِ فِي الْحَالِ وَأَيْضًا فَقَدْ يُوضَعُ الْمَاضِي مَكَانَ الْمُسْتَقْبَلِ وَبِالْعَكْسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [الْمَائِدَةِ: 116] وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ مِنْ وَرائِي فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَيْ قُدَّامِي وَبَيْنَ يَدَيَّ وَقَالَ آخَرُونَ أَيْ بَعْدَ مَوْتِي وَكِلَاهُمَا مُحْتَمَلٌ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ خَافَهُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَكَيْفَ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَبْقَوْنَ بَعْدَهُ فَضْلًا مِنْ أَنْ يَخَافَ شَرَّهُمْ؟ قُلْنَا: إِنْ ذَلِكَ قَدْ يُعْرَفُ بِالْأَمَارَاتِ وَالظَّنِّ وَذَلِكَ كَافٍ

فِي حُصُولِ الْخَوْفِ فَرُبَّمَا عَرَفَ بِبَعْضِ الْإِمَارَاتِ اسْتِمْرَارَهُمْ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الْفَسَادِ وَالشَّرِّ وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ طَلَبَ الْوَلَدَ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ طَلَبَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ وَلَدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوَّلُ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ حِكَايَةً عَنْهُ: قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آلِ عِمْرَانَ: 38] . وَالثَّانِي: قَوْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً [الْأَنْبِيَاءِ: 89] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَ الْوَلَدَ لِأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ أَنَّ لَهُ مَوَالِيَ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُنْفَرِدٍ عَنِ الْوَرَثَةِ وَهَذَا وَإِنْ أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى وَارِثٍ يَصْلُحُ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ لَكِنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْوَلَدِ أَظْهَرُ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ بِأَنَّهُ لَمَّا بُشِّرَ بِالْوَلَدِ اسْتَعْظَمَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ فَقَالَ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَوْ كَانَ دُعَاؤُهُ لِأَجْلِ الْوَلَدِ لَمَا اسْتَعْظَمَ ذَلِكَ. الْجَوَابُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ عَمَّا يُوهَبُ لَهُ أَيُوهَبُ لَهُ وَهُوَ وَامْرَأَتُهُ عَلَى هَيْئَتِهِمَا أَوْ يُوهَبُ بِأَنْ يُحَوَّلَا شَابَّيْنِ يَكُونُ لِمِثْلِهِمَا وَلَدٌ؟ وَهَذَا يُحْكَى عَنِ الْحَسَنِ وَقَالَ غَيْرُهُ إِنَّ قَوْلَ زَكَرِيَّاءَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الدُّعَاءِ. وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَعْنَى مَسْأَلَتِهِ وَلَدًا مِنْ غَيْرِهَا أَوْ مِنْهَا بِأَنْ يُصْلِحَهَا اللَّهُ لِلْوَلَدِ فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ إِنِّي أَيِسْتُ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا كَيْفَ شِئْتَ إِمَّا بِأَنْ تُصْلِحَهَا فَيَكُونَ الْوَلَدُ مِنْهَا أَوْ بِأَنْ/ تَهَبَ لِي مِنْ غَيْرِهَا فَلَمَّا بُشِّرَ بِالْغُلَامِ سَأَلَ أَيُرْزَقُ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا فَأُخْبِرَ بِأَنَّهُ يُرْزَقُ مِنْهَا وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْمِيرَاثِ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِيرَاثِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ وِرَاثَةُ الْمَالِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وِرَاثَةُ النُّبُوَّةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي صَالِحٍ. وَثَالِثُهَا: يَرِثُنِي الْمَالَ وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ وَمُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ. وَرَابِعُهَا: يَرِثُنِي الْعِلْمَ وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ تَرْجِعُ إِلَى أَحَدِ أُمُورٍ خَمْسَةٍ وَهِيَ الْمَالُ وَمَنْصِبُ الْحُبُورَةِ وَالْعِلْمُ وَالنُّبُوَّةُ وَالسِّيرَةُ الْحَسَنَةُ وَلَفْظُ الْإِرْثِ مُسْتَعْمَلٌ فِي كُلِّهَا أَمَّا فِي المال فلقوله تعالى: أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [الْأَحْزَابِ: 27] وَأَمَّا فِي الْعِلْمِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ [غَافِرٍ: 53] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ» وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النَّمْلِ: 15، 16] وَهَذَا يَحْتَمِلُ وِرَاثَةَ الْمُلْكِ وَوِرَاثَةَ النُّبُوَّةِ وَقَدْ يُقَالُ أَوْرَثَنِي هَذَا غَمًّا وَحُزْنًا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لِتِلْكَ الْوُجُوهِ. وَاحْتَجَّ مَنْ حَمَلَ اللَّفْظَ عَلَى وِرَاثَةِ الْمَالِ بِالْخَبَرِ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رَحِمَ اللَّهُ زَكَرِيَّا مَا كَانَ لَهُ مَنْ يَرِثُهُ» وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِرْثُ الْمَالِ وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعِلْمَ وَالسِّيرَةَ وَالنُّبُوَّةَ لَا تُورَثُ بَلْ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالِاكْتِسَابِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْمَالِ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِرْثِ إِرْثَ النُّبُوَّةِ لَكَانَ قَدْ سَأَلَ جَعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِيًّا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ لَا يَكُونُ إِلَّا رَضِيًّا مَعْصُومًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» فَهَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِهِ وَاحْتَجَّ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْعِلْمِ أَوِ الْمَنْصِبِ وَالنُّبُوَّةِ بِمَا عَلِمَ مَنْ حَالَ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ اهْتِمَامَهُمْ لَا يَشْتَدُّ بِأَمْرِ الْمَالِ كَمَا يَشْتَدُّ بِأَمْرِ الدِّينِ، وَقِيلَ لَعَلَّهُ أُوتِيَ مِنَ الدُّنْيَا مَا كَانَ عَظِيمَ النَّفْعِ فِي الدِّينِ فَلِهَذَا كَانَ مُهْتَمًّا بِهِ أَمَّا قَوْلُهُ النُّبُوَّةُ كَيْفَ تُورَثُ قُلْنَا الْمَالُ إِنَّمَا يُقَالُ وَرِثَهُ الِابْنُ بِمَعْنَى قَامَ فِيهِ مَقَامَ أَبِيهِ وَحَصَلَ لَهُ مِنْ فَائِدَةِ التَّصَرُّفِ فِيهِ مَا حَصَلَ لِأَبِيهِ وَإِلَّا فَمِلْكُ الْمَالِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ لَا مِنْ قِبَلِ الْمُوَرِّثِ فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَعْلُومُ فِي الِابْنِ أَنْ يَصِيرَ نَبِيًّا بَعْدَهُ فَيَقُومَ بِأَمْرِ الدِّينِ بَعْدَهُ جَازَ أَنْ يُقَالَ وَرِثَهُ أما قوله

[سورة مريم (19) : آية 7]

عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ» فَهَذَا وَإِنْ جَازَ حَمْلُهُ عَلَى الْوَاحِدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الْحِجْرِ: 9] لَكِنَّهُ مَجَازٌ وَحَقِيقَتُهُ الْجَمْعُ وَالْعُدُولُ عَنِ الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ لَا يَجُوزُ لَا سِيَّمَا وَقَدْ رُوِيَ قَوْلُهُ: «إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُوَرَّثُ» وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ مَا فِيهِ نَفْعٌ وَصَلَاحٌ فِي الدِّينِ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ النُّبُوَّةَ وَالْعِلْمَ وَالسِّيرَةَ الْحَسَنَةَ وَالْمَنْصِبَ النَّافِعَ فِي الدِّينِ وَالْمَالَ الصَّالِحَ، فَإِنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأُمُورِ مِمَّا يَجُوزُ تَوَفُّرُ الدَّوَاعِي عَلَى بَقَائِهَا لِيَكُونَ ذَلِكَ النَّفْعُ دَائِمًا مُسْتَمِرًّا. السَّابِعُ: اتَّفَقَ أَكْثَرُ المفسرين على أن يعقوب هاهنا هُوَ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِأَنَّ زَوْجَةَ زَكَرِيَّاءَ هِيَ أُخْتُ مَرْيَمَ وَكَانَتْ مِنْ وَلَدِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ مِنْ وَلَدِ يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ وَأَمَّا زَكَرِيَّاءُ/ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ مِنْ وَلَدِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَارُونُ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مَنْ وَلَدِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ وَكَانَتِ النُّبُوَّةُ فِي سِبْطِ يَعْقُوبَ لِأَنَّهُ هُوَ إِسْرَائِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ليس المراد من يعقوب هاهنا وَلَدَ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلْ يَعْقُوبُ بْنُ مَاثَانَ أَخُو عِمْرَانَ بْنِ مَاثَانَ وَكَانَ آلُ يَعْقُوبَ أَخْوَالَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ كَانَ بنو ماثان رؤوس بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُلُوكَهُمْ وَكَانَ زَكَرِيَّا رَأْسَ الْأَحْبَارِ يَوْمَئِذٍ فَأَرَادَ أَنْ يَرِثَهُ وَلَدُهُ حُبُورَتَهُ وَيَرِثَ مِنْ بَنِي مَاثَانَ مُلْكَهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الرِّضِيِّ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ وَاجْعَلْهُ رَضِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّهُمْ مَرْضِيُّونَ فَالرَّضِيُّ مِنْهُمْ مُفَضَّلٌ عَلَى جُمْلَتِهِمْ فَائِقٌ لَهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِمْ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ ذَلِكَ فَوَهَبَ لَهُ سَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ لَمْ يَعْصِ وَلَمْ يَهُمَّ بِمَعْصِيَةٍ، وَهَذَا غَايَةُ مَا يَكُونُ بِهِ الْمَرْءُ رَضِيًّا. وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ بِالرَّضِيِّ أَنْ يَكُونَ رَضِيًّا فِي أُمَّتِهِ لَا يُتَلَقَّى بِالتَّكْذِيبِ وَلَا يُوَاجَهُ بِالرَّدِّ. وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ بِالرَّضِيِّ أَنْ لَا يَكُونَ مُتَّهَمًا فِي شَيْءٍ وَلَا يُوجَدُ فِيهِ مَطْعَنٌ وَلَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَعَاصِي. وَرَابِعُهَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ قَالَا فِي الدُّعَاءِ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [الْبَقَرَةِ: 182] وَكَانَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُسْلِمَيْنِ، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ هُنَاكَ ثَبِّتْنَا عَلَى هَذَا أَوِ الْمُرَادُ اجْعَلْنَا فَاضِلَيْنِ من أنبيائك المسلمين فكذا هاهنا وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ رَضِيًّا بِفِعْلِهِ، فَلَمَّا سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى جَعْلَهُ رَضِيًّا دَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَلْطُفَ لَهُ بِضُرُوبِ الْأَلْطَافِ فَيَخْتَارَ مَا يَصِيرُ مَرْضِيًّا فَيُنْسَبَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ جَعْلَهُ رَضِيًّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى جَعْلِ الْأَلْطَافِ وَعِنْدَهَا يَصِيرُ الْمَرْءُ بِاخْتِيَارِهِ رَضِيًّا لَكَانَ ذَلِكَ مَجَازًا وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ جَعْلَ تِلْكَ الْأَلْطَافِ وَاجِبَةً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهِ وَمَا كَانَ وَاجِبًا لا يجوز طلبه بالدعاء والتضرع. [سورة مريم (19) : آية 7] يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الأولى: اختلفوا في من المنادي بقوله: يا زكريا، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا كَانَ يُخَاطِبُ اللَّهَ تَعَالَى وَيَسْأَلُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مَرْيَمَ: 4] وَقَوْلُهُ: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مَرْيَمَ: 4] وَقَوْلُهُ: فَهَبْ لِي [مَرْيَمَ: 5] وَمَا بَعْدَهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُخَاطِبُ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ يَقُولُ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ [آل عمران: 40] وإذا كَانَ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا خِطَابًا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ النِّدَاءُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا لَفَسَدَ النَّظْمُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذَا نِدَاءُ الْمَلَكِ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ

أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى [آلِ عِمْرَانَ: 39] . الثَّانِي: أَنَّ زَكَرِيَّا/ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مَرْيَمَ: 8، 9] وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ اللَّهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ الْمَلَكِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ حَصَلَ النِّدَاءَانِ نِدَاءُ اللَّهِ وَنِدَاءُ الْمَلَائِكَةِ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّا نُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ تَعَالَى أَنَّ قَوْلَهُ: قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَإِنْ قِيلَ إِنْ كَانَ الدُّعَاءُ بِإِذْنٍ فَمَا مَعْنَى الْبِشَارَةِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَلِمَاذَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ؟ وَالْجَوَابُ هَذَا أَمْرٌ يَخُصُّهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَيُحْتَمَلَ أَنَّهُ أُذِنَ لَهُ فِيهِ وَلَمْ يَعْلَمْ وَقْتَهُ فَبُشِّرَ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ قَبْلَهُ بِهَذَا الِاسْمِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّمِيِّ النَّظِيرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مَرْيَمَ: 65] وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ سَيِّدٌ وَحَصُورٌ لَمْ يَعْصِ وَلَمْ يَهُمَّ بِمَعْصِيَةٍ كَأَنَّهُ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مَرْيَمَ: 6] فَقِيلَ لَهُ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ شَبِيهًا فِي الدِّينِ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ فِي غَايَةِ الرِّضَا. وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَفْضِيلَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ كَآدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ النَّاسِ إِنَّمَا يُسَمِّيهِمْ آبَاؤُهُمْ وَأُمَّهَاتُهُمْ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِي الْوُجُودِ، وَأَمَّا يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ خَوَاصِّهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ وَشَبِيهٌ فِي هَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ وُلِدَ بَيْنَ شَيْخٍ فَانٍ وَعَجُوزٍ عَاقِرٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَوْلَى وَذَلِكَ لِأَنَّ حَمْلَ السَّمِيِّ عَلَى النَّظِيرِ وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ الْمَدْحَ وَالتَّعْظِيمَ وَلَكِنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا فَهُنَاكَ إِنَّمَا عَدَلْنَا عَنِ الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ قَالَ: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مَرْيَمَ: 65] وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ تَعَالَى مُسَمًّى بِذَلِكَ الِاسْمِ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ عِبَادَتِهِ، فَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ عدلنا عن الظاهر، أما هاهنا لَا ضَرُورَةَ فِي الْعُدُولِ عَنِ الظَّاهِرِ فَوَجَبَ إِجْرَاؤُهُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ فِي تَفَرُّدِهِ بِذَلِكَ الِاسْمِ ضَرْبًا مِنَ التَّعْظِيمِ لِأَنَّا نُشَاهِدُ أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا كَانَ لَهُ لَقَبٌ مَشْهُورٌ فَإِنَّ حَاشِيَتَهُ لَا يَتَلَقَّبُونَ بِهِ بَلْ يَتْرُكُونَهُ تَعْظِيمًا لَهُ فكذلك هاهنا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُمِّيَ بِيَحْيَى رَوَى الثَّعْلَبِيُّ فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَا بِهِ عُقْرَ أُمِّهِ. وَثَانِيهَا: عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَا قَلْبَهُ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى سَمَّى الْمُطِيعَ حَيًّا وَالْعَاصِيَ مَيِّتًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الْأَنْعَامِ: 122] وَقَالَ: إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [الْأَنْفَالِ: 24] . وَثَالِثُهَا: إِحْيَاؤُهُ بِالطَّاعَةِ حَتَّى لَمْ يَعْصَ وَلَمْ يَهُمَّ بِمَعْصِيَةٍ لِمَا رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ عَصَى أَوْ هَمَّ إِلَّا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فَإِنَّهُ لَمْ يَهُمَّ وَلَمْ يَعْمَلْهَا» . وَرَابِعُهَا: عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ اسْتُشْهِدَ وَإِنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 169] . وَخَامِسُهَا: مَا قَالَهُ/ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَقْدِسِيُّ: أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ قُلْ لِيَسَارَّةَ، وَكَانَ اسْمُهَا كَذَلِكَ، بِأَنِّي مُخْرِجٌ مِنْهَا عَبْدًا لَا يَهُمُّ بِمَعْصِيَةٍ اسْمُهُ حَيِيَ. فَقَالَ: هَبِي لَهُ مِنَ اسْمِكَ حَرْفًا فَوَهَبَتْهُ حَرْفًا مِنَ اسْمِهَا فَصَارَ يَحْيَى وَكَانَ اسْمُهَا يَسَارَّةَ فَصَارَ اسْمُهَا سَارَّةَ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى فَصَارَ قَلْبُهُ حَيًّا بِذَلِكَ الْإِيمَانِ وَذَلِكَ أَنَّ أُمَّ يَحْيَى كَانْتَ حَامِلًا

[سورة مريم (19) : آية 8]

بِهِ فَاسْتَقْبَلَتْهَا مَرْيَمُ وَقَدْ حَمَلَتْ بِعِيسَى فَقَالَتْ لَهَا أَمُّ يَحْيَى: يَا مَرْيَمُ أَحَامِلٌ أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: لِمَاذَا تَقُولِينَ؟ فَقَالَتْ: إِنِّي أَرَى مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ. وَسَابِعُهَا: أَنَّ الدِّينَ يَحْيَا بِهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَهُ زَكَرِيَّا لِأَجْلِ الدِّينِ، وَاعْلَمْ. أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَلْقَابِ لَا يُطْلَبُ فِيهَا وَجْهُ الِاشْتِقَاقِ، وَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ أَسْمَاءُ الْأَلْقَابِ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْإِشَارَاتِ وَهِيَ لَا تُفِيدُ في المسمى صفة ألبتة. [سورة مريم (19) : آية 8] قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ عِتِيًّا وَصِلِيَّا وَجِثِيًّا وَبِكِيًّا بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَالصَّادِ والجيم والباء، وقرأ حفص عن عاصم بكيا بِالضَّمِّ وَالْبَاقِي بِالْكَسْرِ وَالْبَاقُونَ جَمِيعًا بِالضَّمِّ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالصَّادِ مَنْ عَتِيًّا وَصَلِيًّا. وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ عِسِيًّا بِالسِّينِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْأَلْفَاظِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: الْغُلَامُ الْإِنْسَانُ الذَّكَرُ فِي ابْتِدَاءِ شَهْوَتِهِ لِلْجِمَاعِ وَمِنْهُ اغْتَلَمَ إِذَا اشْتَدَّتْ شَهْوَتُهُ لِلْجِمَاعِ ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي التِّلْمِيذِ يُقَالُ: غُلَامٌ ثَعْلَبٌ. الثَّانِي: الْعِتِيُّ والعبسي وَاحِدٌ تَقُولُ عَتَا يَعْتُو عُتُوًّا وَعِتِيًّا فَهُوَ عات وعسا يعسو عسوا وعسيا فهو عاص وَالْعَاسِي هُوَ الَّذِي غَيَّرَهُ طُولُ الزَّمَانِ إِلَى حَالِ الْبُؤْسِ وَلَيْلٌ عَاتٍ طَوِيلٌ وَقِيلَ شَدِيدُ الظُّلْمَةِ. الثَّالِثُ: لَمْ يُقِلْ عَاقِرَةً لِأَنَّ مَا كَانَ عَلَى فَاعِلٍ مِنْ صِفَةِ الْمُؤَنَّثِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْمُذَكَّرِ فَإِنَّهُ لَا تَدْخُلُ فِيهِ الْهَاءُ نَحْوَ امْرَأَةٌ عَاقِرٌ وَحَائِضٌ قَالَ الْخَلِيلُ: هذه الصفات مُذَكَّرَةٌ وُصِفَ بِهَا الْمُؤَنَّثُ كَمَا وَصَفُوا الْمُذَكَّرَ بِالْمُؤَنَّثِ حِينَ قَالُوا: رَجُلٌ مَلْحَةٌ وَرَبْعَةٌ وَغُلَامٌ نَفْعَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَ تَعَجَّبَ بِقَوْلِهِ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ مَعَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي طَلَبَ الْغُلَامَ؟ السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَذْكُورًا بَيْنَ أُمَّتِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يُخْفِي هَذِهِ الْأُمُورَ عَنْ أُمَّتِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي نَفْسِهِ، وَهَذَا التَّعَجُّبُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ شَاكًّا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ وَذَلِكَ كُفْرٌ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ/ السَّلَامُ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَمْ يَطْلُبْ خُصُوصَ الْوَلَدِ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ طَلَبَ الْوَلَدَ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ هُوَ التَّعَجُّبُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُهُمَا شَابَّيْنِ ثُمَّ يَرْزُقُهُمَا الْوَلَدَ أَوْ يَتْرُكُهُمَا شَيْخَيْنِ وَيَرْزُقُهُمَا الْوَلَدَ مَعَ الشَّيْخُوخَةِ بِطَرِيقِ الِاسْتِعْلَامِ لا بطريق التعجب، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ [الْأَنْبِيَاءِ: 89، 90] وَمَا هَذَا الْإِصْلَاحُ إِلَّا أَنَّهُ أَعَادَ قُوَّةَ الْوِلَادَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ، وَذَكَرَ السُّدِّيُّ فِي الْجَوَابِ وَجْهًا آخَرَ فَقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالْبِشَارَةِ جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الصَّوْتَ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ يَسْخَرُ مِنْكَ، فَلَمَّا شَكَّ زَكَرِيَّا قَالَ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَاعْلَمْ أَنَّ غَرَضَ السُّدِّيِّ مِنْ هَذَا أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوْ عَلِمَ أَنَّ الْمُبَشِّرَ بِذَلِكَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لما جاز له أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ فَارْتَكَبَ هَذَا، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ هَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا إِذْ لَوْ جَوَّزَ الْأَنْبِيَاءُ فِي بَعْضِ مَا يَرِدُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ لَجَوَّزُوا فِي سَائِرِهِ وَلَزَالَتِ الثِّقَةُ عَنْهُمْ فِي الْوَحْيِ وَعَنَّا فِيمَا يُورِدُونَهُ إِلَيْنَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ قَائِمٌ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَإِنَّمَا يَزُولُ بِالْمُعْجِزَةِ فَلَعَلَّ الْمُعْجِزَةَ لَمْ تَكُنْ حَاصِلَةً فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَحَصَلَ الشَّكُّ فِيهَا دُونَ مَا عَدَاهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى [مريم: 7]

[سورة مريم (19) : آية 9]

لَيْسَ نَصًّا فِي كَوْنِ ذَلِكَ الْغُلَامِ وَلَدًا لَهُ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ رَاعَى الْأَدَبَ وَلَمْ يَقُلْ هَذَا الْكَلَامَ هَلْ يَكُونُ لِي وَلَدٌ أَمْ لَا، بَلْ ذَكَرَ أَسْبَابَ تَعَذُّرِ حُصُولِ الْوَلَدِ فِي الْعَادَةِ حَتَّى إِنَّ تِلْكَ الْبِشَارَةَ إِنْ كَانَتْ بِالْوَلَدِ فَاللَّهُ تَعَالَى يُزِيلُ الْإِبْهَامَ وَيَجْعَلُ الْكَلَامَ صَرِيحًا فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِكَوْنِ ذَلِكَ الْوَلَدِ مِنْهُ فَكَانَ الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ زَكَرِيَّا هَذَا لَا أَنَّهُ كَانَ شَاكًّا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ مَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِلشَّكِّ لَكِنْ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ لِقُدْرَتِهِ وَهَذَا كَالرَّجُلِ الَّذِي يَرَى صَاحِبَهُ قَدْ وَهَبَ الْكَثِيرَ الْخَطِيرَ فَيَقُولُ أَنَّى سَمَحَتْ نَفْسُكَ بِإِخْرَاجِ مِثْلِ هَذَا مِنْ مِلْكِكَ! تَعْظِيمًا وَتَعَجُّبًا. الثَّالِثُ: أَنَّ مِنْ شَأْنِ مَنْ بُشِّرَ بِمَا يَتَمَنَّاهُ أَنْ يَتَوَلَّدَ لَهُ فَرْطُ السُّرُورِ بِهِ عِنْدَ أول ما يرد علي اسْتِثْبَاتُ ذَلِكَ الْكَلَامِ إِمَّا لِأَنَّ شِدَّةَ فَرَحِهِ بِهِ تُوجِبُ ذُهُولَهُ عَنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَهَذَا كَمَا أَنَّ امْرَأَةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ أَنْ بُشِّرَتْ بِإِسْحَاقَ قَالَتْ: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [هُودٍ: 72] فَأُزِيلَ تَعَجُّبُهَا بِقَوْلِهِ: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هُودٍ: 73] وَإِمَّا طَلَبًا لِلِالْتِذَاذِ بِسَمَاعِ ذَلِكَ الْكَلَامِ مَرَّةً أُخْرَى، وَإِمَّا مُبَالَغَةً فِي تأكيد التفسير. [سورة مريم (19) : آية 9] قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْكَافَ رَفْعٌ أَيِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ تَصْدِيقًا لَهُ ثُمَّ ابْتَدَأَ قَالَ رَبُّكَ. وَثَانِيهَا: نَصْبٌ يُقَالُ وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مُبْهَمٍ تَفْسِيرُهُ/ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الْحِجْرِ: 66] وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ لَا تَعْجَبْ فَإِنَّهُ كَذَلِكَ قَالَ رَبَّكُ لَا خُلْفَ فِي قَوْلِهِ وَلَا غَلَطَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ بِدَلِيلِ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا. وَرَابِعُهَا: أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ مَعْنَاهُ تُعْطِينِي الْغُلَامَ بِأَنْ تَجْعَلَنِي وَزَوْجَتِي شَابَّيْنِ أَوْ بِأَنْ تَتْرُكَنَا عَلَى الشَّيْخُوخَةِ وَمَعَ ذَلِكَ تُعْطِينَا الْوَلَدَ، وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ أَيْ نَهَبُ الْوَلَدَ مَعَ بَقَائِكَ وَبَقَاءِ زَوْجَتِكَ عَلَى الْحَاصِلَةِ فِي الْحَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ وَهُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَهَذَا لَا يُخَرَّجُ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيِ الْأَمْرُ كَمَا قَلْتَ وَلَكِنْ قَالَ رَبُّكَ هُوَ مَعَ ذَلِكَ عَلَيَّ هَيِّنٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِطْلَاقُ لَفْظِ الْهَيِّنِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَجَازٌ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَجُوزُ فِي حَقِّ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَصْعُبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا كَانَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً فَنَقُولُ: إِنَّهُ لَمَّا خَلَقَهُ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ وَالنَّفْيِ الْمَحْضِ كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْآثَارِ وَأَمَّا الْآنَ فَخَلْقُ الْوَلَدِ مِنَ الشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَّا إِلَى تَبْدِيلِ الصِّفَاتِ وَالْقَادِرُ عَلَى خَلْقِ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْآثَارِ مَعًا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَبْدِيلِ الصِّفَاتِ وَإِذَا أَوْجَدَهُ عَنْ عَدَمٍ فَكَذَا يَرْزَقُهُ الْوَلَدَ بِأَنْ يُعِيدَ إِلَيْهِ وَإِلَى صَاحِبَتِهِ الْقُوَّةَ الَّتِي عَنْهَا يَتَوَلَّدُ الْمَاءَانِ اللَّذَانِ مِنَ اجْتِمَاعِهِمَا يُخْلَقُ الْوَلَدُ وَلِذَلِكَ قَالَ: فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ [الْأَنْبِيَاءِ: 90] فَهَذَا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَائِلَ لِذَلِكَ ملك مع الاعتراف

[سورة مريم (19) : آية 10]

بأن قوله: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ [مريم: 7] قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلَهُ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا بِعِيدٌ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَا قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ وَمَا بَعْدَهُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يَصِحُّ إِدْرَاجُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ أَيْضًا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا أَنَّ الْمَلِكَ الْعَظِيمَ إِذَا وَعَدَ عَبْدَهُ شَيْئًا عَظِيمًا فَيَقُولُ الْعَبْدُ مِنْ أَيْنَ يَحْصُلُ لِي هَذَا فَيَقُولُ إِنَّ سُلْطَانَكَ ضَمِنَ لَكَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ يُنَبِّهُ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ سُلْطَانًا مِمَّا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ فكذا هاهنا. [سورة مريم (19) : آية 10] قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ طَلَبُ الْآيَةِ لِتَحْقِيقِ الْبِشَارَةِ وَهَذَا بِعِيدٌ لِأَنَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ تَحَقَّقَتِ الْبِشَارَةُ فَلَا يَكُونُ إِظْهَارُ الآية أقوى من ذَلِكَ مِنْ صَرِيحِ الْقَوْلِ وَقَالَ آخَرُونَ: الْبِشَارَةُ بِالْوَلَدِ وَقَعَتْ مُطْلَقَةً فَلَا يُعْرَفُ وَقْتُهَا بِمُجَرَّدِ الْبِشَارَةِ فَطَلَبَ الْآيَةَ لِيَعْرِفَ بِهَا وَقْتَ الْوُقُوعِ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ هِيَ تَعَذُّرُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ السُّكُوتِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكَلَامِ لَا يَكُونُ مُعْجِزَةً ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اعْتُقِلَ لِسَانُهُ أَصْلًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ امْتَنَعَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ مَعَ الْقَوْمِ عَلَى وَجْهِ الْمُخَاطَبَةِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمِنْ قِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي أَصَحُّ لِأَنَّ اعْتِقَالَ اللِّسَانِ مُطْلَقًا قَدْ يَكُونُ لِمَرَضٍ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ فَلَا يَعْرِفُ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِقَالَ معجزا إِلَّا إِذَا عَرَفَ أَنَّهُ لَيْسَ لِمَرَضٍ بَلْ لِمَحْضِ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ سَلَامَةِ الْآلَاتِ وَهَذَا مِمَّا لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ فَتَفْتَقِرُ تِلْكَ الدَّلَالَةُ إِلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى، أَمَّا لَوِ اعْتُقِلَ لِسَانُهُ عَنِ الْكَلَامِ مَعَ الْقَوْمِ مَعَ اقْتِدَارِهِ عَلَى التَّكَلُّمِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ عَلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِقَالَ لَيْسَ لِعِلَّةٍ وَمَرَضٍ بَلْ هُوَ لِمَحْضِ فِعْلِ اللَّهِ فَيَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ آيَةً وَمُعْجِزَةً وَمِمَّا يُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا خَصَّ ذَلِكَ بِالتَّكَلُّمِ مَعَ النَّاسِ وَهَذَا يَدُلُّ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ أَنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى التَّكَلُّمِ مَعَ غَيْرِ النَّاسِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى سَوِيًّا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صِفَةٌ لِلَّيَالِي الثَّلَاثِ وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ هُوَ صِفَةٌ لِزَكَرِيَّا وَالْمَعْنَى: آيَتُكَ أَنْ لَا تُكَلِّمَ النَّاسَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مَعَ كَوْنِكَ سويا لم يحدث بك مرض. [سورة مريم (19) : آية 11] فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ قِيلَ كَانَ لَهُ مَوْضِعٌ يَنْفَرِدُ فِيهِ بِالصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى قَوْمِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَوْحَى إِلَيْهِمْ، وَقِيلَ: كَانَ مَوْضِعًا يُصَلِّي فِيهِ هُوَ وَغَيْرُهُ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَدْخُلُونَهُ لِلصَّلَاةِ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَأَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ لِلْإِذْنِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ وَهُوَ لَا يَتَكَلَّمُ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَوْحَى إِلَيْهِمُ الْكَلَامَ لِأَنَّ الْكَلَامَ كَانَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ فَكَانَ الْمُرَادُ غَيْرَ الْكَلَامِ وَهُوَ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ ذَلِكَ إِمَّا بِالْإِشَارَةِ أَوْ بِرَمْزٍ مَخْصُوصٍ أَوْ بِكِتَابَةٍ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُفْهَمُ مِنْهُ الْمُرَادُ فَعَلِمُوا أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَا بُشِّرَ بِهِ فَكَمَا حَصَلَ السُّرُورُ لَهُ حَصَلَ لَهُمْ فَظَهَرَ لَهُمْ إِكْرَامُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ

[سورة مريم (19) : الآيات 12 إلى 15]

الْأَشْبَهَ بِالْآيَةِ هُوَ الْإِشَارَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً [آلِ عِمْرَانَ: 41] وَالرَّمْزُ لَا يَكُونُ كِنَايَةً لِلْكَلَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالتَّسْبِيحِ الصَّلَاةَ وَهُوَ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ: سُبْحَةُ الضُّحَى أَيْ صَلَاةُ الضُّحَى وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي صَلَاةِ الضُّحَى: «إِنِّي لَأُسَبِّحُهَا» أَيْ لَأُصَلِّيُهَا إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ الْبُكْرَةَ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَالْعَشِيَّ صَلَاةُ الْعَصْرِ/ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَهُ فِي مِحْرَابِهِ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ فَكَانَ يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ فَيَأْذَنُ لَهُمْ بِلِسَانِهِ، فَلَمَّا اعْتُقِلَ لِسَانُهُ خَرَجَ إِلَيْهِمْ كَعَادَتِهِ فَأَذِنَ لهم بغير كلام والله أعلم. [سورة مريم (19) : الآيات 12 الى 15] يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ يَحْيَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِصِفَاتٍ تِسْعٍ: الصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُ مُخَاطَبًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أن قوله: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَلَغَ بِيَحْيَى الْمَبْلَغَ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُخَاطِبَهُ بِذَلِكَ فَحَذَفَ ذِكْرَهُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْكِتَابُ الْمَذْكُورُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ التَّوْرَاةَ الَّتِي هِيَ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ [الْجَاثِيَةِ: 16] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِتَابًا خَصَّ اللَّهُ بِهِ يَحْيَى كَمَا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الْكَثِيرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِذَلِكَ وَالْأَوَّلُ أولى لأن حمل الكلام هاهنا على المعهود السابق أولى ولا معهود هاهنا إِلَّا التَّوْرَاةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: بِقُوَّةٍ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْأَخْذِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَعْنًى يُفِيدُ الْمَدْحَ وَهُوَ الْجِدُّ وَالصَّبْرُ عَلَى الْقِيَامِ بِأَمْرِ النُّبُوَّةِ وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إِلَى حُصُولِ مَلَكَةٍ تَقْتَضِي سُهُولَةَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْإِحْجَامَ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا اعْلَمْ أَنَّ فِي الْحُكْمِ أَقْوَالًا. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْحِكْمَةُ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَاحْكُمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الْحَيِّ إِذْ نَظَرَتْ ... إِلَى حَمَامٍ سِرَاعٍ وَارِدِ الثَّمَدِ وَهُوَ الْفَهْمُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْفِقْهُ فِي الدِّينِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَعْمَرٍ أَنَّهُ الْعَقْلُ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ مَا لِلَّعِبِ خُلِقْنَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ النُّبُوَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْكَمَ عَقْلَهُ فِي صِبَاهُ وَأَوْحَى إِلَيْهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ يَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَهُمَا صَبِيَّانِ لَا كَمَا بَعَثَ مُوسَى وَمُحَمَّدًا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَدْ بَلَغَا الْأَشُدَّ وَالْأَقْرَبُ حَمْلُهُ عَلَى النُّبُوَّةِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ صِفَاتِ شَرَفِهِ وَمَنْقَبَتِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ النُّبُوَّةَ أَشْرَفُ صِفَاتِ الْإِنْسَانِ فَذِكْرُهَا فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ غَيْرِهَا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ نَبُّوتُهُ مَذْكُورَةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا لَفْظَ

يَصْلُحُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ إِلَّا هَذِهِ/ اللَّفْظَةَ فَوَجَبَ حَمْلُهَا عَلَيْهَا. الثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يُحْكَمَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَلِغَيْرِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالنُّبُوَّةِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُ الْعَقْلِ وَالْفِطْنَةِ وَالنُّبُوَّةِ حَالَ الصِّبَا؟ قُلْنَا: هَذَا السَّائِلُ، إِمَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْ خَرْقِ الْعَادَةِ أَوْ لَا يَمْنَعَ مِنْهُ، فَإِنْ مَنَعَ مِنْهُ فَقَدْ سَدَّ بَابَ النُّبُوَّاتِ لِأَنَّ بِنَاءَ الْأَمْرِ فِيهَا عَلَى الْمُعْجِزَاتِ وَلَا مَعْنَى لَهَا إِلَّا خَرْقُ الْعَادَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ فَقَدْ زَالَ هَذَا الِاسْتِبْعَادُ فَإِنَّهُ لَيْسَ اسْتِبْعَادُ صَيْرُورَةِ الصَّبِيِّ عَاقِلًا أَشَدَّ مِنَ اسْتِبْعَادِ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَانْفِلَاقِ الْبَحْرِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا اعْلَمْ أَنَّ الْحَنَانَ أَصْلُهُ مِنَ الْحَنِينِ وَهُوَ الِارْتِيَاحُ وَالْجَزَعُ لِلْفِرَاقِ كَمَا يُقَالُ: حَنِينُ النَّاقَةِ وَهُوَ صَوْتُهَا إِذَا اشْتَاقَتْ إِلَى وَلَدِهَا ذَكَرَ الخليل ذلك في الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى جذع من الْمَسْجِدِ فَلَمَّا اتُّخِذَ لَهُ الْمِنْبَرُ وَتَحَوَّلَ إِلَيْهِ حَنَّتْ تِلْكَ الْخَشَبَةُ حَتَّى سُمِعَ حَنِينُهَا» . فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ ثُمَّ قِيلَ: تَحَنَّنَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ إِذَا تَعَطَّفَ عَلَيْهِ وَرَحِمَهُ، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وَصْفِ اللَّهِ بِالْحَنَّانِ فَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ، وجعله بمعنى الرؤوف الرَّحِيمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَاهُ لِمَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ أَصْلُ الْكَلِمَةِ قَالُوا: لَمْ يَصِحَّ الْخَبَرُ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْحَنَانُ هُنَا فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُجْعَلَ صِفَةً لِلَّهِ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ يُجْعَلَ صِفَةً لِيَحْيَى أَمَّا إِذَا جَعَلْنَاهُ صِفَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَنَقُولُ: التَّقْدِيرُ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ حَنَانًا أَيْ رحمة منا، ثم هاهنا احْتِمَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْحَنَانُ مِنَ اللَّهِ لِيَحْيَى، الْمَعْنَى: آتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، ثُمَّ قَالَ: وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا أَيْ إِنَّمَا آتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا حَنَانًا مِنْ لَدُنَّا عَلَيْهِ أَيْ رَحْمَةً عَلَيْهِ وَزَكَاةً أَيْ وَتَزْكِيَةً لَهُ وَتَشْرِيفًا لَهُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحَنَانُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِزَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّمَا اسْتَجَبْنَا لِزَكَرِيَّا دَعَوْتَهُ بِأَنْ أَعْطَيْنَاهُ وَلَدًا ثُمَّ آتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا عَلَيْهِ أَيْ عَلَى زَكَرِيَّا فَعَلْنَا ذَلِكَ. وَزَكاةً أَيْ وَتَزْكِيَةً لَهُ عَنْ أَنْ يَصِيرَ مَرْدُودَ الدُّعَاءِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْحَنَانُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأُمَّةِ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَناناً مِنَّا عَلَى أُمَّتِهِ لِعَظِيمِ انْتِفَاعِهِمْ بِهِدَايَتِهِ وَإِرْشَادِهِ، أَمَّا إِذَا جَعَلْنَاهُ صِفَةً لِيَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَفِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: آتَيْنَاهُ الْحُكْمَ وَالْحَنَانَ عَلَى عِبَادِنَا أَيِ التَّعَطُّفَ عَلَيْهِمْ وَحُسْنَ النَّظَرِ عَلَى كَافَّتِهِمْ فِيمَا أُوَلِّيهِ مِنَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ كَمَا وَصَفَ نَبِيَّهُ فَقَالَ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آلِ عمران: 159] وقال: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التَّوْبَةِ: 128] ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ آتَاهُ زَكَاةً، وَمَعْنَاهُ أَنْ لَا تَكُونَ شَفَقَتُهُ دَاعِيَةً لَهُ إِلَى الْإِخْلَالِ بِالْوَاجِبِ لِأَنَّ الرَّأْفَةَ وَاللِّينَ رُبَّمَا أَوْرَثَا تَرْكَ الْوَاجِبِ أَلَا تَرَى إِلَى قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النُّورِ: 2] وَقَالَ: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التَّوْبَةِ: 123] وَقَالَ: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [الْمَائِدَةِ: 54] فَالْمَعْنَى إِنَّمَا جَعَلْنَا لَهُ التَّعَطُّفَ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ مَعَ الطَّهَارَةِ عَنِ الْإِخْلَالِ بِالْوَاجِبَاتِ، وَيُحْتَمَلُ آتَيْنَاهُ التَّعَطُّفَ عَلَى الْخَلْقِ وَالطَّهَارَةَ عَنِ الْمَعَاصِي فَلَمْ يَعْصِ وَلَمْ يَهُمَّ بِمَعْصِيَةٍ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَالْمَعْنَى آتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا تَعْظِيمًا إِذْ جَعَلْنَاهُ نَبِيًّا وَهُوَ صَبِيٌّ وَلَا تَعْظِيمَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ مَرَّ وَرَقَةُ بْنُ/ نَوْفَلٍ عَلَى بِلَالٍ وَهُوَ يُعَذَّبُ قَدْ أُلْصِقَ ظَهْرُهُ بِرَمْضَاءِ الْبَطْحَاءِ، وَيَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ لَأَتَّخِذَنَّهُ حَنَانًا أَيْ مُعَظَّمًا. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَزَكاةً وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ وَآتَيْنَاهُ زَكَاةً أَيْ عَمَلًا صَالِحًا زَكِيًّا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَثَانِيهَا: زَكَاةً لِمَنْ قَبِلَ مِنْهُ حَتَّى يَكُونُوا أَزْكِيَاءَ عَنِ الْحَسَنِ. وَثَالِثُهَا: زَكَّيْنَاهُ بِحُسْنِ الثَّنَاءِ كَمَا تُزَكِّي الشُّهُودُ الْإِنْسَانَ. وَرَابِعُهَا: صَدَقَةً تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَى أَبَوَيْهِ عَنِ الْكَلْبِيِّ. وَخَامِسُهَا: بَرَكَةً وَنَمَاءً وَهُوَ الَّذِي قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ [مَرْيَمَ: 31] وَاعْلَمْ أَنَّ

هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ جَعَلَ طِهَارَتَهُ وَزَكَاتَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَحَمْلُهُ عَلَى الْأَلْطَافِ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَكانَ تَقِيًّا وَقَدْ عَرَفْتَ مَعْنَاهُ وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ غَايَةَ الْمَدَائِحِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَّقِي نَهْيَ اللَّهِ فَيَجْتَنِبُهُ وَيَتَّقِي أَمْرَهُ فَلَا يُهْمِلُهُ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِهَذَا الْوَصْفِ مَنْ لَمْ يَعْصِ اللَّهَ وَلَا يَهُمُّ بِمَعْصِيَةٍ وَكَانَ يَحْيَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى: وَكانَ تَقِيًّا وَهَذَا حِينَ ابْتِدَاءِ تَكْلِيفِهِ قُلْنَا: إِنَّمَا خَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ الرَّسُولَ وَأَخْبَرَ عَنْ حَالِهِ حَيْثُ كَانَ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ. الصِّفَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا عِبَادَةَ بَعْدَ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلُ تَعْظِيمِ الْوَالِدَيْنِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْإِسْرَاءِ: 23] . الصِّفَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً وَالْمُرَادُ وَصْفُهُ بِالتَّوَاضُعِ وَلِينِ الْجَانِبِ وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الْحِجْرِ: 88] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آلِ عِمْرَانَ: 159] وَلِأَنَّ رَأْسَ الْعِبَادَاتِ مَعْرِفَةُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِالذُّلِّ وَمَعْرِفَةُ رَبِّهِ بِالْعَظَمَةِ وَالْكَمَالِ وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالذُّلِّ وَعَرَفَ رَبَّهُ بِالْكَمَالِ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ التَّرَفُّعُ وَالتَّجَبُّرُ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا تَجَبَّرَ وَتَمَرَّدَ صَارَ مُبْعَدًا عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ الدِّينِ وَقِيلَ الْجَبَّارُ هُوَ الَّذِي لَا يَرَى لِأَحَدٍ عَلَى نَفْسِهِ حَقًّا وَهُوَ مِنَ الْعِظَمِ وَالذَّهَابِ بِنَفْسِهِ عَنْ أَنْ يَلْزَمَهُ قَضَاءُ حَقِّ أَحَدٍ، وَقَالَ سُفْيَانُ فِي قَوْلِهِ: جَبَّاراً عَصِيًّا إِنَّهُ الَّذِي يُقْبِلُ عَلَى الْغَضَبِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ [الْقِصَصِ: 19] وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ عَاقَبَ عَلَى غَضَبِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ جَبَّارٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشُّعَرَاءِ: 130] . الصِّفَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: عَصِيًّا وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْعَاصِي كَمَا أَنَّ الْعَلِيمَ أَبْلَغُ مِنَ الْعَالِمِ. الصِّفَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا وَفِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وَسَلامٌ عَلَيْهِ أَيْ أَمَانٌ مِنَ اللَّهِ يَوْمَ وُلِدَ مِنْ أَنْ يَنَالَهُ الشَّيْطَانُ كَمَا يَنَالُ سَائِرَ بَنِي آدَمَ: وَيَوْمَ يَمُوتُ أَيْ وَأَمَانٌ عَلَيْهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ: وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا أَيْ وَمِنْ عَذَابِ الْقِيَامَةِ. وَثَانِيهَا: قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَوْحَشُ مَا يَكُونُ الْخَلْقُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ يَوْمَ يُولَدُ فَيَرَى نَفْسَهُ خَارِجًا مِمَّا كَانَ فِيهِ، وَيَوْمَ يَمُوتُ فَيَرَى قَوْمًا مَا شَاهَدَهُمْ قَطُّ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ فَيَرَى نَفْسَهُ فِي مَحْشَرٍ عَظِيمٍ فَأَكْرَمَ اللَّهُ يَحْيَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَخَصَّهُ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَفْطَوَيْهِ: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ أَيْ أَوَّلَ مَا يَرَى الدُّنْيَا وَيَوْمَ/ يَمُوتُ أَيْ أَوَّلَ يَوْمٍ يَرَى فِيهِ أَوَّلَ أَمْرِ الآخرة وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا أي أول ما يَوْمٍ يَرَى فِيهِ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَإِنَّمَا قَالَ: حَيًّا تَنْبِيهًا عَلَى كَوْنِهِ مِنَ الشُّهَدَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 169] فُرُوعٌ. الْأَوَّلُ: هَذَا السَّلَامُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَدَلَالَةُ شَرَفِهِ وَفَضْلِهِ لَا تَخْتَلِفُ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يُسَلِّمُونَ إِلَّا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. الثَّانِي: لِيَحْيَى مَزِيَّةٌ فِي هَذَا السَّلَامِ عَلَى مَا لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَقَوْلِهِ: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ [الصَّافَّاتِ: 79] . سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ [الصافات: 109] لأنه قال ويَوْمَ وُلِدَ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. الثَّالِثُ: رُوِيَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِيَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنْتَ أَفْضَلُ مِنِّي لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَلَّمَ عَلَيْكَ وَأَنَا سَلَّمْتُ عَلَى نفسي، وهذا ليس يقوى لِأَنَّ سَلَامَ عِيسَى عَلَى نَفْسِهِ يَجْرِي مَجْرَى سَلَامِ اللَّهِ عَلَى يَحْيَى لِأَنَّ عِيسَى مَعْصُومٌ لَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ. الرَّابِعُ: السَّلَامُ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ تَفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ جَزَاءً لَهُ، وَأَمَّا السَّلَامُ عَلَيْهِ يَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ فِي الْمَحْشَرِ، فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَوَابًا كَالْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

الْقَوْلُ فِي فَوَائِدِ هَذِهِ الْقِصَّةِ. الْفَائِدَةُ الْأُولَى: تَعْلِيمُ آدَابِ الدُّعَاءِ وَهِيَ مِنْ جِهَاتٍ. أَحَدُهَا: قوله: نِداءً خَفِيًّا [مريم: 3] وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ الدُّعَاءِ مَا هذا حاله ويؤكد قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الْأَعْرَافِ: 55] وَلِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ مُشْعِرٌ بِالْقُوَّةِ وَالْجَلَادَةِ وَإِخْفَاءَ الصَّوْتِ مُشْعِرٌ بِالضَّعْفِ وَالِانْكِسَارِ وَعُمْدَةُ الدُّعَاءِ الِانْكِسَارُ وَالتَّبَرِّي عَنْ حَوْلِ النَّفْسِ وَقُوَّتِهَا وَالِاعْتِمَادُ عَلَى فضل الله تعالى وإحسانه. وثانيها: أن المحتسب أَنْ يَذْكُرَ فِي مُقَدِّمَةِ الدُّعَاءِ عَجْزَ النَّفْسِ وَضَعْفَهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4] ثُمَّ يَذْكُرُ كَثْرَةَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم: 4] . وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ لِأَجْلِ شَيْءٍ مُتَعَلِّقٍ بِالدِّينِ لَا لِمَحْضِ الدُّنْيَا كَمَا قَالَ: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي [مريم: 5] . وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ بِلَفْظِ يَا رَبِّ عَلَى مَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: ظُهُورُ دَرَجَاتِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَمَّا زَكَرِيَّا فَأُمُورٌ: أَحَدُهَا: نِهَايَةُ تَضَرُّعِهِ فِي نَفْسِهِ وَانْقِطَاعُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْكُلِّيَّةِ. وَثَانِيهَا: إِجَابَةُ اللَّهِ تَعَالَى دُعَاءَهُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَادَاهُ وَبَشَّرَهُ أَوِ الْمَلَائِكَةُ أَوْ حَصَلَ الْأَمْرَانِ مَعًا. وَرَابِعُهَا: اعْتِقَالُ لِسَانِهِ عَنِ الْكَلَامِ دُونَ التَّسْبِيحِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ طَلَبُ الْآيَاتِ لِقَوْلِهِ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: كَوْنُهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الْوَلَدِ وَإِنْ كَانَ الْأَبَوَانِ فِي نِهَايَةِ الشَّيْخُوخَةِ رَدًّا عَلَى أَهْلِ الطَّبَائِعِ. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: صِحَّةُ الِاسْتِدْلَالِ فِي الدِّينِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم: 9] . الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا مَذْكُورًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الْإِنْسَانِ: 1] قُلْنَا: الْإِضْمَارُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَلِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عِبَارَةٌ عَنْ جَوَاهِرَ مُتَأَلِّفَةٍ قَامَتْ بِهَا أَعْرَاضٌ مَخْصُوصَةٌ وَالْجَوَاهِرُ الْمُتَأَلِّفَةُ الْمَوْصُوفَةُ بِالْأَعْرَاضِ الْمَخْصُوصَةِ/ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي الْعَدَمِ إِنَّمَا الثَّابِتُ هُوَ أَعْيَانُ تِلْكَ الْجَوَاهِرِ مُفْرَدَةً غَيْرَ مُرَكَّبَةٍ وَهِيَ لَيْسَتْ بِإِنْسَانٍ فَظَهَرَ أَنَّ الْآيَةَ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى الْمَطْلُوبِ. الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَذَكَرَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَلْنَعْتَبِرْ حَالَهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَنَقُولُ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّهُ دَعَا رَبَّهُ وَلَمْ يُبَيِّنِ الْوَقْتَ وَبَيَّنَهُ فِي آلِ عِمْرَانَ بِقَوْلِهِ: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آلِ عِمْرَانَ: 37، 38] وَالْمَعْنَى أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَأَى خَرْقَ الْعَادَةِ فِي حَقِّ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ طَمِعَ فِيهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَدَعَا. الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَرَّحَ فِي آلِ عِمْرَانَ بِأَنَّ الْمُنَادِيَ هُوَ الْمَلَائِكَةُ لِقَوْلِهِ: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ [آلِ عِمْرَانَ: 39] وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ الْأَظْهَرُ أَنَّ المنادي بقوله: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ [مريم: 7] هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ فِي آلِ عِمْرَانَ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ [آلِ عِمْرَانَ: 40] فَذَكَرَ أَوَّلًا كِبَرَ نَفْسِهِ ثُمَّ عُقْرَ الْمَرْأَةِ وَهُوَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَالَ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [مريم: 8] وَجَوَابُهُ أَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ. الرَّابِعُ: قَالَ فِي آلِ عِمْرَانَ: وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وقال هاهنا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ وَجَوَابُهُ أَنَّ مَا بَلَغَكَ فَقَدْ بَلَغْتَهُ. الْخَامِسُ: قَالَ فِي آلِ عِمْرَانَ: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً [آل عمران: 41] وقال هاهنا: ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا [مريم: 10] وَجَوَابُهُ: دَلَّتِ الْآيَتَانِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهنَّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ: قِصَّةُ مَرْيَمَ وَكَيْفِيَّةِ وِلَادَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا قَدَّمَ قِصَّةَ يَحْيَى عَلَى قِصَّةِ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لِأَنَّ خَلْقَ الْوَلَدِ من

[سورة مريم (19) : الآيات 16 إلى 17]

شَيْخَيْنِ فَانِيَيْنِ أَقْرَبُ إِلَى مَنَاهِجِ الْعَادَاتِ مِنْ تَخْلِيقِ الْوَلَدِ لَا مِنَ الْأَبِ الْبَتَّةَ وَأَحْسَنُ الطُّرُقِ فِي التَّعْلِيمِ وَالتَّفْهِيمِ الْأَخْذُ مِنَ الْأَقْرَبِ فالأقرب مترقيا إلى الأصعب فالأصعب. [سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 17] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِذْ بَدَلٌ مِنْ مَرْيَمَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ لِأَنَّ الْأَحْيَانَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا فِيهَا وَفِيهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِذِكْرِ مَرْيَمَ ذِكْرُ وَقْتِ هَذَا الْوُقُوعِ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ الْعَجِيبَةِ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: النَّبْذُ أَصْلُهُ الطَّرْحُ وَالْإِلْقَاءُ وَالِانْتِبَاذُ افْتِعَالٌ مِنْهُ وَمِنْهُ: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 187] وَانْتَبَذَتْ تَنَحَّتْ يُقَالُ جَلَسَ نُبْذَةً مِنَ النَّاسِ وَنَبْذَةً بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِهَا أَيْ نَاحِيَةً وَهَذَا إِذَا جَلَسَ قَرِيبًا مِنْكَ حَتَّى لَوْ نَبَذْتَ إِلَيْهِ شَيْئًا وَصَلَ إِلَيْهِ وَنَبَذْتُ الشَّيْءَ رَمَيْتُهُ وَمِنْهُ النَّبِيذُ لِأَنَّهُ يُطْرَحُ فِي الْإِنَاءِ/ وَأَصْلُهُ مَنْبُوذٌ فَصُرِفَ إِلَى فَعِيلٍ وَمِنْهُ قِيلَ لِلَّقِيطِ مَنْبُوذٌ لِأَنَّهُ يُرْمَى بِهِ وَمِنْهُ النَّهْيُ عَنِ الْمُنَابَذَةِ فِي الْبَيْعِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِذَا نَبَذْتُ إِلَيْكَ هَذَا الثَّوْبَ أَوِ الحصاة فقد وجب البيع إذا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا مَعْنَاهُ تَبَاعَدَتْ وَانْفَرَدَتْ عَلَى سُرْعَةٍ إِلَى مَكَانٍ يَلِي نَاحِيَةَ الشَّرْقِ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهَا مَعَ ذَلِكَ اتَّخَذَتْ مِنْ دُونِ أَهْلِهَا حِجَابًا مَسْتُورًا وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تَقْتَصِرْ عَلَى أَنِ انْفَرَدَتْ إِلَى مَوْضِعٍ بَلْ جَعَلَتْ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ حَائِلًا مِنْ حَائِطٍ أَوْ غَيْرِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا جَعَلَتْ بَيْنَ نَفْسِهَا وَبَيْنَهُمْ سِتْرًا وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي أَظْهَرُ مِنَ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنَ احْتِجَابِهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ وَلَيْسَ مَذْكُورًا وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ عَلَى وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لَمَّا رَأَتِ الْحَيْضَ تَبَاعَدَتْ عَنْ مَكَانِهَا الْمُعْتَادِ لِلْعِبَادَةِ لِكَيْ تَنْتَظِرَ الطُّهْرَ فَتَغْتَسِلَ وَتَعُودَ فَلَمَّا طَهُرَتْ جَاءَهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا طَلَبَتِ الْخَلْوَةَ لِئَلَّا تَشْتَغِلَ عَنِ الْعِبَادَةِ. وَالثَّالِثُ: قَعَدَتْ فِي مَشْرَقَةٍ لِلِاغْتِسَالِ مِنَ الْحَيْضِ مُحْتَجِبَةً بِشَيْءٍ يَسْتُرُهَا. وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا كَانَ لَهَا فِي مَنْزِلِ زَوْجِ أُخْتِهَا زَكَرِيَّاءَ مِحْرَابٌ عَلَى حِدَةٍ تَسْكُنُهُ وَكَانَ زَكَرِيَّا إِذَا خَرَجَ أَغْلَقَ عَلَيْهَا فَتَمَنَّتْ [عَلَى] اللَّهِ [أَنْ] تَجِدَ خَلْوَةً فِي الْجَبَلِ لِتُفَلِّيَ رَأْسَهَا فَانْفَرَجَ السَّقْفُ لَهَا فَخَرَجَتْ إلى المفازة فجلست في المشرفة وَرَاءَ الْجَبَلِ فَأَتَاهَا الْمَلَكُ. وَخَامِسُهَا: عَطِشَتْ فَخَرَجَتْ إلى المفارة لِتَسْتَقِيَ وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ مُحْتَمَلٌ وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَرْجِيحِ وَاحِدٍ مِنْهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَكَانُ الشَّرْقِيُّ هُوَ الَّذِي يَلِي شَرْقِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ شَرْقِيَّ دَارِهَا وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنِّي لَأَعْلَمُ خَلْقِ اللَّهِ لِأَيِّ شَيْءٍ اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ قِبْلَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَكاناً شَرْقِيًّا فَاتَّخَذُوا مِيلَادَ عِيسَى قِبْلَةً. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهَا لَمَّا جَلَسَتْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهَا الرُّوحَ وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الرُّوحِ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ إِنَّهُ الرُّوحُ الَّذِي تَصَوَّرَ فِي بَطْنِهَا بَشَرًا وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُسَمَّى رُوحًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: 193، 194] وَسُمِّيَ رُوحًا لِأَنَّهُ رُوحَانِيٌّ وَقِيلَ خُلِقَ مِنَ الرُّوحِ وَقِيلَ لِأَنَّ الدِّينَ يَحْيَا بِهِ أَوْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِرُوحِهِ عَلَى الْمَجَازِ مَحَبَّةً لَهُ وَتَقْرِيبًا كَمَا تَقُولُ لِحَبِيبِكَ رُوحِي وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ رَوْحَنَا بِالْفَتْحِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِمَا فِيهِ رَوْحُ الْعِبَادِ وَإِصَابَةُ

[سورة مريم (19) : آية 18]

الرَّوْحِ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ عِدَةُ الْمُتَّقِينَ فِي قَوْلُهُ: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ [الْوَاقِعَةِ: 88، 89] أَوْ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَهُمُ الْمَوْعُودُونَ بِالرَّوْحِ أَيْ مُقَرِّبَنَا وَذَا رَوْحِنَا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُسَمَّى رُوحًا فَهُوَ هُنَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ هُوَ لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا [مَرْيَمَ: 19] وَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ إِلَّا بِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ كَيْفَ ظَهَرَ لَهَا. فَالْأَوَّلُ: أَنَّهُ ظَهَرَ لَهَا عَلَى صُورَةِ شَابٍّ أَمَرَدَ حَسَنِ الْوَجْهِ سَوِيِّ الْخَلْقِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ ظَهَرَ لَهَا عَلَى صُورَةِ تِرْبٍ لَهَا اسْمُهُ يُوسُفُ مِنْ خَدَمِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكُلُّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ وَلَا دَلَالَةَ فِي اللَّفْظِ عَلَى التَّعْيِينِ ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا تَمَثَّلَ لَهَا فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ لِتَسْتَأْنِسَ بِكَلَامِهِ وَلَا تَنْفِرَ عَنْهُ فَلَوْ ظَهَرَ لِهَا/ فِي صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ لَنَفَرَتْ عَنْهُ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى استماع كلامه ثم هاهنا إِشْكَالَاتٌ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَظْهَرَ الْمَلَكُ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ فَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُنَا الْقَطْعُ بِأَنَّ هَذَا الشَّخْصَ الَّذِي أَرَاهُ فِي الْحَالِ هُوَ زَيْدٌ الَّذِي رَأَيْتُهُ بِالْأَمْسِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمَلَكَ أَوِ الْجِنِّيَّ تَمَثَّلَ فِي صُورَتِهِ وَفَتْحُ هَذَا الْبَابِ يُؤَدِّي إِلَى السَّفْسَطَةِ، لَا يُقَالُ هَذَا إِنَّمَا يَجُوزُ فِي زَمَانِ جَوَازِ الْبَعْثَةِ فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا هَذَا فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا الْفَرْقُ إِنَّمَا يُعْلَمُ بِالدَّلِيلِ، فَالْجَاهِلُ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ يَجِبُ أَنْ لَا يَقْطَعَ بِأَنَّ هَذَا الشَّخْصَ الَّذِي أَرَاهُ الْآنَ هُوَ الشَّخْصُ الَّذِي رَأَيْتُهُ بِالْأَمْسِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَخْصٌ عَظِيمٌ جِدًّا فَذَلِكَ الشَّخْصُ الْعَظِيمُ كَيْفَ صَارَ بَدَنُهُ فِي مِقْدَارِ جُثَّةِ الْإِنْسَانِ أَبِأْنَ تَسَاقَطَتْ أَجْزَاؤُهُ وَتَفَرَّقَتْ بِنْيَتُهُ فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى جِبْرِيلُ أَوْ بِأَنْ تَدَاخَلَتْ أَجْزَاؤُهُ وَذَلِكَ يُوجِبُ تَدَاخُلَ الْأَجْزَاءِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَثَالِثُهَا: وَهُوَ أَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا أَنْ يَتَمَثَّلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَةِ الْآدَمِيِّ فَلِمَ لَا يَجُوزُ تَمَثُّلُهُ فِي صُورَةِ جِسْمٍ أَصْغَرَ مِنَ الْآدَمِيِّ حَتَّى الذُّبَابُ وَالْبَقُّ وَالْبَعُوضُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَذْهَبٍ جَرَّ إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ تَجْوِيزَهُ يُفْضِي إِلَى الْقَدْحِ فِي خَبَرِ التَّوَاتُرِ فَلَعَلَّ الشَّخْصَ الَّذِي حَارَبَ يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدًا بَلْ كَانَ شَخْصًا آخَرَ تَشَبَّهَ بِهِ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْكُلِّ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ ذَلِكَ التَّجْوِيزَ لَازِمٌ عَلَى الْكُلِّ لِأَنَّ مَنِ اعْتَرَفَ بِافْتِقَارِ الْعَالَمِ إِلَى الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ فَقَدْ قَطَعَ بِكَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى أَنْ يَخْلُقَ شَخْصًا آخَرَ مِثْلَ زَيْدٍ فِي خِلْقَتِهِ وَتَخْطِيطِهِ وَإِذَا جَوَّزْنَا ذَلِكَ فَقَدْ لَزِمَ الشَّكُّ فِي أَنَّ زَيْدًا الْمُشَاهِدَ الْآنَ هُوَ الَّذِي شَاهَدْنَاهُ بِالْأَمْسِ أَمْ لَا، وَمَنْ أَنْكَرَ الصَّانِعَ الْمُخْتَارَ وَأَسْنَدَ الْحَوَادِثَ إِلَى اتِّصَالَاتِ الكواكب وتشكلات الْفَلَكِ لَزِمَهُ تَجْوِيزُ أَنْ يَحْدُثَ اتِّصَالٌ غَرِيبٌ فِي الْأَفْلَاكِ يَقْتَضِي حُدُوثَ شَخْصٍ مِثْلَ زَيْدٍ فِي كُلِّ الْأُمُورِ وَحِينَئِذٍ يَعُودُ التَّجْوِيزُ الْمَذْكُورُ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ أَجْزَاءٌ أَصْلِيَّةٌ وَأَجْزَاءٌ فَاضِلَةٌ وَالْأَجْزَاءُ الْأَصْلِيَّةُ قَلِيلَةٌ جِدًّا فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنَ التَّشَبُّهِ بِصُورَةِ الْإِنْسَانِ، هَذَا إِذَا جَعَلْنَاهُ جُسْمَانِيًّا أَمَّا إِذَا جَعَلْنَاهُ رُوحَانِيًّا فَأَيُّ اسْتِبْعَادٍ فِي أَنْ يَتَدَرَّعَ تَارَةً بِالْهَيْكَلِ الْعَظِيمِ وَأُخْرَى بِالْهَيْكَلِ الصَّغِيرِ. وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ أَصْلَ التَّجْوِيزِ قَائِمٌ فِي الْعَقْلِ وَإِنَّمَا عُرِفَ فَسَادُهُ بِدَلَائِلِ السَّمْعِ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الرَّابِعِ والله أعلم. [سورة مريم (19) : آية 18] قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَرَادَتْ إِنْ كَانَ يُرْجَى مِنْكَ أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ وَيَحْصُلَ ذَلِكَ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ فَإِنِّي عَائِذَةٌ بِهِ مِنْكَ وَهَذَا فِي نِهَايَةِ الْحُسْنِ لِأَنَّهَا عَلِمَتْ أَنَّهُ لَا تُؤَثِّرُ الِاسْتِعَاذَةُ إِلَّا فِي التَّقِيِّ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْبَقَرَةِ: 278] أَيْ أَنَّ شَرْطَ الْإِيمَانِ يُوجِبُ هَذَا لَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخْشَى فِي حال دون حال. وثانيها: أن معناه/ ما كُنْتَ تَقِيًّا حَيْثُ اسْتَحْلَلْتَ النَّظَرَ إِلَيَّ وَخَلَوْتَ بِي. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إنسان

[سورة مريم (19) : آية 19]

فَاجِرٌ اسْمُهُ تَقِيٌّ يَتَّبِعُ النِّسَاءَ فَظَنَّتْ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ الْمُشَاهَدَ هُوَ ذلك التقى والأول هو الوجه. [سورة مريم (19) : آية 19] قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَمَّا عَلِمَ جِبْرِيلُ خَوْفَهَا قَالَ: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِيَزُولَ عَنْهَا ذَلِكَ الْخَوْفُ وَلَكِنَّ الْخَوْفَ لَا يَزُولُ بِمُجَرَّدِ هَذَا الْقَوْلِ بَلْ لَا بد من دلالة تدل على أنه كان جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا كَانَ مِنَ النَّاسِ فَهَهُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ ظَهَرَ مُعْجِزٌ عَرَفَتْ بِهِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا مِنْ جِهَةِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ عَرَفَتْ صِفَةَ الْمَلَائِكَةِ فَلَمَّا قَالَ لَهَا: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ أَظْهَرَ لَهَا مِنْ بَاطِنِ جَسَدِهِ مَا عَرَفَتْ أَنَّهُ مَلَكٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ هُوَ الْعِلْمَ وَسَأَلَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي تَفْسِيرِهِ نَفْسَهُ فَقَالَ: إِذَا لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً عِنْدَكُمْ وَكَانَ مِنْ قَوْلِكُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُرْسِلْ إِلَى خَلْقِهِ إِلَّا رِجَالًا فَكَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ وَأَجَابَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي زَمَانِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ رَسُولًا وَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ عَالِمًا بِهِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمُعْجِزَ إِذَا كَانَ مَفْعُولًا لِلنَّبِيِّ فَأَقَلُّ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَالِمًا بِهِ وَزَكَرِيَّا مَا كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِهَذِهِ الْوَقَائِعِ فَكَيْفَ يَجُوزُ جَعْلُهُ مُعْجِزًا لَهُ بَلِ الْحَقُّ أَنَّ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَرَامَةً لِمَرْيَمَ أَوْ إِرْهَاصًا لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ لِيَهَبَ بِيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ اللَّامِ أَيْ لِيَهَبَ اللَّهُ لَكِ وَالْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا أَمَّا قَوْلُهُ لِأَهَبَ لَكِ فَفِي مَجَازِهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْهِبَةَ لَمَّا جَرَتْ عَلَى يَدِهِ بِأَنْ كَانَ هُوَ الَّذِي نَفَخَ فِي جَيْبِهَا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى جَعَلَ نَفْسَهُ كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَهَبَ لَهَا وَإِضَافَةُ الْفِعْلِ إِلَى مَا هُوَ سَبَبٌ لَهُ مُسْتَعْمَلٌ قَالَ تَعَالَى فِي الْأَصْنَامِ: إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إِبْرَاهِيمَ: 36] . الثَّانِي: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَشَّرَهَا بِذَلِكَ كَانَتْ تِلْكَ الْبِشَارَةُ الصَّادِقَةُ جَارِيَةً مَجْرَى الْهِبَةِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِيبِ الْأَجْزَاءِ وَخَلْقِ الْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ وَالنُّطْقِ فِيهَا وَالَّذِي يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جِسْمٌ وَالْجِسْمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَمَّا أَنَّهُ جِسْمٌ فَلِأَنَّهُ مُحَدَثٌ وَكُلُّ مُحْدَثٍ إِمَّا مُتَحَيِّزٌ أَوْ قَائِمٌ بِالْمُتَحَيِّزِ وَأَمَّا أَنَّ الْجِسْمَ لَا يَقْدِرُ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ جِسْمٌ عَلَى ذَلِكَ لَقَدَرَ عَلَيْهِ كُلُّ جِسْمٍ لَأَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ لَأَنَّ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مُحْدَثٍ إِمَّا مُتَحَيِّزٌ أَوْ قائم به، بل هاهنا مَوْجُودَاتٌ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا لَا مُتَحَيِّزَةٌ وَلَا قَائِمَةٌ بِالْمُتَحَيِّزِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهَا كَذَلِكَ كَوْنُهَا أَمْثَالًا لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ لَا يَقْتَضِي التَّمَاثُلَ فَكَيْفَ فِي الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ سَلَّمْنَا كَوْنَهُ جِسْمًا فَلِمَ قُلْتَ الْجِسْمُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ قُلْنَا نَعْنِي بِهِ أَنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ فِي كَوْنِهَا حَاصِلَةً فِي الْأَحْيَازِ ذَاهِبَةً فِي الْجِهَاتِ أَوْ نَعْنِي بِهِ/ أَنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ فِي تَمَامِ مَاهِيَّاتِهَا. وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ لَكِنَّ حُصُولَهَا فِي الْأَحْيَازِ صِفَاتٌ لِتِلْكَ الذَّوَاتِ وَالِاشْتِرَاكُ فِي الصِّفَاتِ لَا يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ فِي مَاهِيَّاتِ الْمُوَاصَفَاتِ سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ بَعْضَهَا بِهَذِهِ الْقُدْرَةِ دُونَ الْبَعْضِ حَتَّى إِنَّهُ يَصِحُّ مِنْهَا ذَلِكَ وَلَا يَصِحُّ مِنَ الْبَشَرِ ذَلِكَ وَالْجَوَابُ الْحَقُّ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي دَفْعِ هَذَا الِاحْتِمَالِ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ فَقَطْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الزَّكِيُّ يُفِيدُ أُمُورًا ثَلَاثَةً: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الطَّاهِرُ مِنَ الذُّنُوبِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَنْمُو عَلَى التَّزْكِيَةِ لِأَنَّهُ يُقَالُ فِيمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ زَكِيٌّ، وَفِي الزَّرْعِ النَّامِي زَكِيٌّ. وَالثَّالِثُ: النَّزَاهَةُ وَالطَّهَارَةُ فِيمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ

[سورة مريم (19) : الآيات 20 إلى 21]

لِيَصِحَّ أَنْ يُبْعَثَ نَبِيًّا وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْكُلِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِمَا عَرَفْتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ حَقِيقَةً فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا مَجَازًا وَفِي الْآخَرِ حَقِيقَةً. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: سَمَّاهُ زَكِيًّا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا وَأَنْتَ إِذَا نَظَرْتَ فِي سُوقِكَ فَمَنْ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا فَهُوَ شَقِيٌّ عِنْدَكَ. وَإِنَّمَا الزَّكِيُّ مَنْ يَمْلِكُ الْمَالَ وَاللَّهُ يَقُولُ كَانَ زَكِيًّا، لِأَنَّ سِيرَتَهُ الْفَقْرُ وَغِنَاهُ الْحِكْمَةُ وَالْكِتَابُ وَأَنْتَ فَإِنَّمَا تُسَمِّي بِالزَّكِيِّ مَنْ كَانَتْ سِيرَتُهُ الجهل وطريقته المال. [سورة مريم (19) : الآيات 20 الى 21] قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهَا إِنَّمَا تَعَجَّبَتْ بِمَا بَشَّرَهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهَا عَرَفَتْ بِالْعَادَةِ أَنَّ الْوِلَادَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ رَجُلٍ وَالْعَادَاتُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْأُمُورِ وَإِنْ جَوَّزُوا خِلَافَ ذَلِكَ فِي الْقُدْرَةِ فَلَيْسَ فِي قَوْلِهَا هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْوَلَدِ ابْتِدَاءً وَكَيْفَ وَقَدْ عَرَفَتْ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ أَبَا الْبَشَرِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ وَلِأَنَّهَا كَانَتْ مُنْفَرِدَةً بِالْعِبَادَةِ وَمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْرِفَ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ قَوْلُهَا: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ يَدْخُلُ تَحْتَهُ قَوْلُهَا: وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا فَلِمَاذَا أَعَادَتْهَا وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا السُّؤَالَ أَنَّ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ قَالَتْ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ [آلِ عِمْرَانَ: 47] فَلَمْ تَذْكُرِ الْبِغَاءَ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا جَعَلَتِ الْمَسَّ عِبَارَةً عَنِ النِّكَاحِ الْحَلَالِ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْهُ لِقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الْأَحْزَابِ: 49] وَالزِّنَا لَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا يُقَالُ فَجَرَ بِهَا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَلَا يَلِيقُ بِهِ رِعَايَةُ الْكِنَايَاتِ. وَثَانِيهَا: أَنْ إِعَادَتَهَا لِتَعْظِيمِ حَالِهَا كَقَوْلِهِ: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [الْبَقَرَةِ: 238] وَقَوْلُهُ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] / فكذا هاهنا أَنَّ مَنْ لَمْ تُعْرَفْ مِنَ النِّسَاءِ بِزَوْجٍ فَأَغْلَظُ أَحْوَالِهَا إِذَا أَتَتْ بِوَلَدٍ أَنْ تَكُونَ زَانِيَةً فَأَفْرَدَ ذِكْرِ الْبِغَاءِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الْكَلَامِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَا فِي بَابِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْبَغِيُّ الْفَاجِرَةُ الَّتِي تَبْغِي الرِّجَالَ وَهُوَ فَعَوْلٌ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ بَغُويْ فَأُدْغِمَتِ الْوَاوُ فِي الْيَاءِ، وَقَالَ ابْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ «التَّمَامِ» هُوَ فَعِيلٌ وَلَوْ كَانَ فَعُولًا لَقِيلَ بَغَوْا كَمَا قِيلَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَجَابَهَا بِقَوْلِهِ: قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ: كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آلِ عِمْرَانَ: 47] لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فِعْلُ مَا يُرِيدُ خَلْقَهُ وَلَا يَحْتَاجُ فِي إِنْشَائِهِ إِلَى الْآلَاتِ وَالْمَوَادِّ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْكِنَايَةُ فِي: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَفِي قَوْلِهِ: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ رَاجِعَةً إِلَى الْخَلْقِ أَيْ أَنَّ خَلْقَهُ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَ خَلْقَهُ آيَةً لِلنَّاسِ إِذْ وُلِدَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَرَحْمَةً مِنَّا يَرْحَمُ عِبَادَنَا بِإِظْهَارِ هَذِهِ الْآيَاتِ حَتَّى تَكُونَ دَلَائِلُ صِدْقِهِ أَبْهَرَ فَيَكُونَ قَبُولُ قَوْلِهِ أَقْرَبَ. الثَّانِي: أَنَّ تَرْجِعَ الْكِنَايَاتُ إِلَى الْغُلَامِ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَمَّا تَعَجَّبَتْ مِنْ كَيْفِيَّةِ وُقُوعِ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ أُعْلِمَتْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى

[سورة مريم (19) : الآيات 22 إلى 23]

جَاعِلٌ وَلَدَهَا آيَةً عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْغَرِيبِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَحْمَةً مِنَّا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ. وَرَحْمَةً مِنَّا فَعَلْنَا ذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْآيَةِ أَيْ: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً وَرَحْمَةً فَعَلْنَا ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ مَعْلُومٌ لِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ خِلَافِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقَعْ لَانْقَلَبَ عِلْمُ اللَّهِ جهلا وهو محال والمفضي إلى المحال محال فَخِلَافُهُ مُحَالٌ فَوُقُوعُهُ وَاجِبٌ وَأَيْضًا فَلِأَنَّ جَمِيعَ الْمُمْكِنَاتِ مُنْتَهِيَةٌ فِي سِلْسِلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ وَالْمُنْتَهِي إِلَى الْوَاجِبِ انْتِهَاءً وَاجِبًا يَكُونُ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَإِذَا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْحُزْنِ وَالْأَسَفِ وَهَذَا هُوَ سِرُّ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ عَرَفَ سِرَّ اللَّهِ فِي الْقَدَرِ هَانَتْ عليه المصائب» . [سورة مريم (19) : الآيات 22 الى 23] فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَ النَّفْخِ فِي آيَاتٍ فَقَالَ: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [التَّحْرِيمِ: 12] أَيْ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا قَالَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الْحِجْرِ: 29] وَقَالَ فَنَفَخْنَا فِيهَا لِأَنَّ عِيسَى/ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي بَطْنِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي النَّافِخِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ كَانَ النَّفْخُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَظَاهِرُهُ يُفِيدُ أَنَّ النَّافِخَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آلِ عِمْرَانَ: 59] وَمُقْتَضَى التَّشْبِيهِ حُصُولُ الْمُشَابَهَةِ إِلَّا فِيمَا أَخْرَجَهُ الدَّلِيلُ، وَفِي حَقِّ آدَمَ النَّافِخُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَكَذَا هاهنا وَقَالَ آخَرُونَ: النَّافِخُ هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لِأَهَبَ لَكِ [مَرْيَمَ: 19] أَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِهِ حَتَّى يَحْصُلَ الْحَمْلُ لِمَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ فَلَا بُدَّ مِنْ إِحَالَةِ النَّفْخِ إِلَيْهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ النَّفْخِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ وَهْبٍ أَنَّهُ نَفَخَ جِبْرِيلُ فِي جَيْبِهَا حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى الرَّحِمِ. الثَّانِي: فِي ذَيْلِهَا فَوَصَلَتْ إِلَى الْفَرَجِ. الثَّالِثُ: قَوْلُ السُّدِّيِّ أَخَذَ بِكُمِّهَا فَنَفَخَ فِي جَنْبِ دِرْعِهَا فَدَخَلَتِ النَّفْخَةُ صَدْرَهَا فَحَمَلَتْ فَجَاءَتْهَا أُخْتُهَا امْرَأَةُ زَكَرِيَّا تَزُورُهَا فَالْتَزَمَتْهَا فَلَمَّا الْتَزَمَتْهَا عَلِمَتْ أَنَّهَا حُبْلَى وَذَكَرَتْ مَرْيَمُ حَالَهَا، فَقَالَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا إِنِّي وَجَدْتُ مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 39] . الرَّابِعُ: أَنَّ النَّفْخَةَ كَانَتْ فِي فِيهَا فَوَصَلَتْ إِلَى بَطْنِهَا فَحَمَلَتْ فِي الْحَالِ، إِذْ عَرَفْتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا وَهُوَ، وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا، فَنَفَخَ فِيهَا فَحَمَلَتْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قِيلَ حَمَلَتْهُ وَهِيَ بِنْتُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ بَنْتُ عِشْرِينَ وَقَدْ كَانَتْ حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَحْمِلَ. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَانْتَبَذَتْ بِهِ أَيِ اعْتَزَلَتْ وَهُوَ فِي بَطْنِهَا كَقَوْلِهِ: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [الْمُؤْمِنُونَ: 20] أَيْ تَنْبُتُ وَالدُّهْنُ فِيهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي عِلَّةِ الِانْتِبَاذِ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: مَا رَوَاهُ الثَّعْلَبِيُّ فِي الْعَرَائِسِ عَنْ وَهْبٍ قَالَ: إِنَّ مَرْيَمَ لَمَّا حَمَلَتْ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَعَهَا ابْنُ عَمٍّ لَهَا يُقَالُ لَهُ يُوسُفُ النَّجَّارُ وَكَانَا مُنْطَلِقَيْنِ إِلَى الْمَسْجِدِ

الَّذِي عِنْدَ جَبَلِ صَهْيُونَ، وَكَانَ يُوسُفُ وَمَرْيَمُ يَخْدِمَانِ ذَلِكَ الْمَسْجِدَ وَلَا يُعْلَمُ فِي أَهْلِ زَمَانِهِمَا أَحَدٌ أَشَدُّ اجْتِهَادًا وَلَا عِبَادَةً مِنْهُمَا، وَأَوَّلُ مَنْ عَرَفَ حَمْلَ مَرْيَمَ يُوسُفُ فَتَحَيَّرَ فِي أَمْرِهَا فَكُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَتَّهِمَهَا ذَكَرَ صَلَاحَهَا وَعِبَادَتَهَا، وَأَنَّهَا لَمْ تَغِبْ عَنْهُ سَاعَةً قَطُّ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهَا رَأَى الَّذِي ظَهَرَ بِهَا مِنَ الْحَمْلِ فَأَوَّلُ مَا تَكَلَّمَ أن قَالَ إِنَّهُ وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ أَمْرِكِ شَيْءٌ وَقَدْ حَرِصْتُ عَلَى كِتْمَانِهِ فَغَلَبَنِي ذَلِكَ فَرَأَيْتُ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ أَشَفَى لِصَدْرِي، فَقَالَتْ: قُلْ قَوْلًا جَمِيلًا قَالَ: أَخْبِرِينِي يَا مَرْيَمُ هَلْ يَنْبُتُ زَرْعٌ بِغَيْرِ بَذْرٍ وَهَلْ تَنْبُتُ شَجَرَةٌ مِنْ غَيْرِ غَيْثٍ، وَهَلْ يَكُونُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ؟ قَالَتْ نَعَمْ: أَلَمْ تَعْلَمْ أن الله تعالى أَنْبَتَ الزَّرْعَ يَوْمَ خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ وَهَذَا الْبَذْرُ إِنَّمَا حَصَلَ مِنَ الزَّرْعِ الَّذِي أَنْبَتَهُ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْبَتَ الشَّجَرَةَ مِنْ غَيْرِ غَيْثٍ وَبِالْقُدْرَةِ جَعَلَ الْغَيْثَ حَيَاةَ الشَّجَرِ بَعْدَ مَا خَلَقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ، أَوَ تَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْبِتَ الشَّجَرَةَ حَتَّى اسْتَعَانَ بِالْمَاءِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِنْبَاتِهَا، فَقَالَ يُوسُفُ: لَا أَقُولُ هَذَا وَلَكِنِّي أَقُولُ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ فَيَقُولُ لَهُ كُنْ فيكون، فقالت له مريم: أو لم/ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وَامْرَأَتَهُ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى؟ فَعِنْدَ ذَلِكَ زَالَتِ التُّهْمَةُ عَنْ قَلْبِهِ وَكَانَ يَنُوبُ عَنْهَا فِي خِدْمَةِ الْمَسْجِدِ لِاسْتِيلَاءِ الضَّعْفِ عَلَيْهَا بِسَبَبِ الْحَمْلِ وَضِيقِ الْقَلْبِ، فَلَمَّا دَنَا نِفَاسُهَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا أَنِ اخْرُجِي مِنْ أَرْضِ قَوْمِكِ لِئَلَّا يَقْتُلُوا وَلَدَكِ فَاحْتَمَلَهَا يُوسُفُ إِلَى أَرْضِ مِصْرَ عَلَى حِمَارٍ لَهُ، فَلَمَّا بَلَغَتْ تِلْكَ الْبِلَادَ أَدْرَكَهَا النِّفَاسُ فَأَلْجَأَهَا إِلَى أَصْلِ نَخْلَةٍ، وَذَلِكَ فِي زَمَانِ بَرْدٍ فَاحْتَضَنَتْهَا فَوَضَعَتْ عِنْدَهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّهَا اسْتَحْيَتْ مِنْ زَكَرِيَّا فَذَهَبَتْ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ لَا يَعْلَمُ بِهَا زَكَرِيَّا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا كَانَتْ مَشْهُورَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالزُّهْدِ لِنَذْرِ أُمِّهَا وَتَشَاحَّ الْأَنْبِيَاءُ فِي تَرْبِيَتِهَا وَتَكَفَّلَ زَكَرِيَّا بِهَا، وَلِأَنَّ الرِّزْقَ كَانَ يَأْتِيهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا كَانَتْ فِي نِهَايَةِ الشُّهْرَةِ اسْتَحْيَتْ مِنْ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ فَذَهَبَتْ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ لَا يَعْلَمُ بِهَا زَكَرِيَّا. وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا لَوْ وَلَدَتْهُ فِيمَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ مُحْتَمَلَةٌ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ حَمْلِهَا عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا كَانَتْ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ كَمَا فِي سَائِرِ النِّسَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ مَدَائِحَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا فِي مُدَّةِ حَمْلِهَا بِخِلَافِ عَادَاتِ النِّسَاءِ لَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى بِالذِّكْرِ. الثَّانِي: أَنَّهَا كَانَتْ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَلَمْ يَعِشْ مَوْلُودٌ وُضِعَ لِثَمَانِيَةٍ إِلَّا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكِ سَبْعَةُ أَشْهُرٍ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا كَانَتْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ. الْخَامِسُ: ثَلَاثُ سَاعَاتٍ حَمَلَتْهُ فِي سَاعَةٍ وَصُوِّرَ فِي سَاعَةٍ وَوَضَعَتْهُ فِي سَاعَةٍ. السَّادِسُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَيْضًا كَانَتْ مُدَّةُ الْحَمْلِ سَاعَةً وَاحِدَةً وَيُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ [مَرْيَمَ: 22] فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ [مَرْيَمَ: 23] ، فَناداها مِنْ تَحْتِها [مَرْيَمَ: 24] وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْفَاءَاتُ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ حَصَلَ عَقِيبَ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَ مُدَّةِ الْحَمْلِ سَاعَةً وَاحِدَةً لَا يُقَالُ انْتِبَاذُهَا مَكَانًا قَصِيًّا كَيْفَ يَحْصُلُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّا نَقُولُ: السُّدِّيُّ فَسَّرَهُ بِأَنَّهَا ذَهَبَتْ إِلَى أَقْصَى مَوْضِعٍ فِي جَانِبِ مِحْرَابِهَا. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي وَصْفِهِ: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آلِ عِمْرَانَ: 59] فَثَبَتَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ وَهَذَا مِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ مُدَّةُ الْحَمْلِ، وَإِنَّمَا تُعْقَلُ تِلْكَ الْمُدَّةُ فِي حَقِّ مَنْ يَتَوَلَّدُ مِنَ النُّطْفَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَصِيًّا أَيْ بَعِيدًا مِنْ أَهْلِهَا، يُقَالُ مَكَانٌ قَاصٍ، وَقَصِيٌّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ مِثْلُ عَاصٍ وَعَصِيٍّ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: أَقْصَى الدَّارِ، وَقِيلَ وَرَاءَ الْجَبَلِ، وَقِيلَ: سَافَرَتْ مَعَ ابْنِ عَمِّهَا يُوسُفَ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَجَاءَ مَنْقُولٌ مَنْ جَاءَ إِلَّا أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ قَدْ تَغَيَّرَ بَعْدَ النَّقْلِ إِلَى مَعْنَى الْإِلْجَاءِ فَإِنَّكَ لَا تَقُولُ جِئْتُ الْمَكَانَ، وَأَجَاءْنِيهِ زَيْدٌ كَمَا تَقُولُ بَلَغَنِيهِ وَأَبْلَغْتُهُ، وَالْمَعْنَى أَنْ طَلْقَهَا أَلْجَأَهَا إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا إِنَّمَا ذَهَبَتْ إِلَى النَّخْلَةِ طَلَبًا لِسُهُولَةِ الْوِلَادَةِ/ لِلتَّشَبُّثِ بِهَا. وَيُحْتَمَلُ لِلتَّقْوِيَةِ وَالِاسْتِنَادِ إِلَيْهَا، وَيُحْتَمَلُ لِلتَّسَتُّرِ بِهَا مِمَّنْ يُخْشَى مِنْهُ الْقَالَةُ إِذَا رَآهَا، وَلِذَلِكَ حَكَى اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا تَمَنَّتِ الْمَوْتَ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ الْمَخَاضِ بِالْكَسْرِ يُقَالُ مَخَضَتِ الْحَامِلُ مَخَاضًا وَمِخَاضًا وَهُوَ تَمَخُّضُ الْوَلَدِ فِي بَطْنِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» كَانَ جِذْعَ نَخْلَةٍ يَابِسَةٍ فِي الصَّحْرَاءِ لَيْسَ لَهَا رَأْسٌ وَلَا ثَمَرٌ وَلَا خُضْرَةٌ، وَكَانَ الْوَقْتُ شِتَاءً وَالتَّعْرِيفُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ تَعْرِيفِ الْأَسْمَاءِ الْغَالِبَةِ كَتَعْرِيفِ النَّجْمِ وَالصَّعْقِ كَأَنَّ تِلْكَ الصَّحْرَاءَ كَانَ فِيهَا جِذْعُ نَخْلَةٍ مَشْهُورٌ عِنْدَ النَّاسِ، فَإِذَا قِيلَ: جِذْعُ النَّخْلَةِ فُهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ دُونَ سَائِرِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ أَيْ إِلَى جِذْعِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ خَاصَّةً كَأَنَّ اللَّهَ أَرْشَدَهَا إِلَى النَّخْلَةِ لِيُطْعِمَهَا مِنْهَا الرُّطَبَ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ مُوَافَقَةً لِلنُّفَسَاءِ، وَلِأَنَّ النَّخْلَةَ أَقَلُّ الْأَشْيَاءِ صَبْرًا عَلَى الْبَرْدِ وَلَا تُثْمِرُ إِلَّا عِنْدَ اللِّقَاحِ، وَإِذَا قُطِعَتْ رَأْسُهَا لَمْ تُثْمِرْ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ كَمَا أَنَّ الْأُنْثَى لَا تَلِدُ إِلَّا مَعَ الذَّكَرِ فَكَذَا النَّخْلَةُ لَا تُثْمِرُ إِلَّا عِنْدَ اللِّقَاحِ، ثُمَّ إِنِّي أُظْهِرُ الرُّطَبَ مِنْ غَيْرِ اللِّقَاحِ لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ ظُهُورِ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ. المسألة التاسعة: لم قالت: يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ جِبْرِيلَ إِلَيْهَا وَخَلَقَ وَلَدَهَا مِنْ نَفْخِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوَعَدَهَا بِأَنْ يَجْعَلَهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ، وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالَ وَهْبٌ: أَنْسَاهَا كُرْبَةَ الْغُرْبَةِ وَمَا سَمِعَتْهُ مِنَ النَّاسِ [مِنْ] بِشَارَةِ الْمَلَائِكَةِ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. الثَّانِي: أَنَّ عَادَةَ الصَّالِحِينَ إِذَا وَقَعُوا فِي بَلَاءٍ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى طَائِرٍ عَلَى شَجَرَةٍ فَقَالَ: طُوبَى لَكَ يَا طَائِرُ تَقَعُ عَلَى الشَّجَرَةِ وَتَأْكُلُ مِنَ الثَّمَرِ! وَدِدْتُ أَنِّي ثَمَرَةٌ يَنْقُرُهَا الطَّائِرُ! وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَخَذَ تِبْنَةً مِنْ الْأَرْضِ وَقَالَ: لَيْتَنِي هَذِهِ التِّبْنَةُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أَكُ شَيْئًا! وَقَالَ عَلِيٌّ يَوْمَ الْجَمَلَ: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ بِعِشْرِينَ سَنَةً، وَعَنْ بِلَالٍ: ليت بلال لَمْ تَلِدْهُ أُمُّهُ. فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَذْكُرُهُ الصَّالِحُونَ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ. الثَّالِثُ: لَعَلَّهَا قَالَتْ ذَلِكَ لِكَيْ لَا تَقَعَ الْمَعْصِيَةُ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِيهَا، وَإِلَّا فَهِيَ رَاضِيَةٌ بِمَا بُشِّرَتْ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» النِّسْيُ مَا مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُطْرَحَ وَيُنْسَى كَخِرْقَةِ الطَّمْثِ وَنَحْوِهَا كَالذَّبْحِ اسْمُ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُذْبَحَ كَقَوْلِهِ: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصَّافَّاتِ: 107] تَمَنَّتْ لَوْ كَانَتْ شَيْئًا تَافِهًا لَا يَؤْبَهُ بِهِ وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يُنْسَى فِي الْعَادَةِ وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ نَسْيًا بِالْفَتْحِ وَالْبَاقُونَ نِسْيًا بِالْكَسْرِ قَالَ الْفَرَّاءُ: هُمَا لُغَتَانِ كَالْوَتْرِ وَالْوِتْرِ وَالْجَسْرِ وَالْجِسْرِ، وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بن كعب القرظي نسيئا بالهمزة وهو الحليب المخلوط بالماء ينساه أَهْلُهُ لِقِلَّتِهِ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ مِنْسِيًّا بِالْكَسْرِ عَلَى الإتباع كالمغير والمنخر والله أعلم.

[سورة مريم (19) : الآيات 24 إلى 26]

[سورة مريم (19) : الآيات 24 الى 26] فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ فَنَادَاهَا وَقَرَأَ زِرٌّ وَعَلْقَمَةُ فَخَاطَبَهَا وَفِي الْمِيمِ فِيهَا قِرَاءَتَانِ فَتْحُ الْمِيمِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَكَسْرُهُ وَهُوَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَحَفْصٍ وَفِي الْمُنَادِي ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُ كَانَ كَالْقَابِلَةِ لِلْوَلَدِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُنَادِيَ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِالْكَسْرِ هُوَ الْمَلَكُ وَعَلَى الْقِرَاءَةِ بِالْفَتْحِ هُوَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَعَاصِمٍ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: فَناداها مِنْ تَحْتِها بِفَتْحِ الْمِيمِ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ إِذَا كَانَ قَدْ عُلِمَ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ تَحْتَهَا أَحَدًا وَالَّذِي عُلِمَ كَوْنُهُ حَاصِلًا تَحْتَهَا هُوَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ فَهِيَ لَا تَقْتَضِي كَوْنَ الْمُنَادِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَدْ صَحَّ قَوْلُنَا. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ اللَّوْثِ وَالنَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَةِ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْمَلَائِكَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ فَنَادَاهَا فِعْلٌ وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَلَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ جِبْرِيلَ وَذِكْرُ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إِلَّا أَنَّ ذِكْرَ عِيسَى أَقْرَبُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ [مَرْيَمَ: 22] وَالضَّمِيرُ هاهنا عَائِدٌ إِلَى الْمَسِيحِ فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ أَوْلَى. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ دَلِيلُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَلَّمَهَا لَمَا عَلِمَتْ أَنَّهُ يَنْطِقُ فَمَا كَانَتْ تُشِيرُ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْكَلَامِ فَأَمَّا مَنْ قَالَ الْمُنَادِي هُوَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَنْطَقَهُ لَهَا حِينَ وَضَعَتْهُ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهَا وَإِزَالَةً لِلْوَحْشَةِ عَنْهَا حَتَّى تُشَاهِدَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَا بَشَّرَهَا بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ عُلُوِّ شَأْنِ ذَلِكَ الْوَلَدِ وَمَنْ قَالَ الْمُنَادِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ إِنَّهُ أُرْسِلَ إِلَيْهَا لِيُنَادِيَهَا بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ كَمَا أُرْسِلَ إِلَيْهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَذْكِيرًا لَهَا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَصْنَافِ الْبِشَارَاتِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ تَحْتِها فَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَلَدِ فَلَا سُؤَالَ وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمَلَكِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَا مَعًا فِي مَكَانٍ مُسْتَوٍ وَيَكُونَ هُنَاكَ مَبْدَأٌ مُعَيَّنٌ كتلك النخلة هاهنا فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْهَا كَانَ فَوْقَ وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَبْعَدَ مِنْهَا كَانَ تَحْتَ وفسر الكلبي قوله تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الْأَحْزَابِ: 10] بِذَلِكَ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: / إِنَّهُ نَادَاهَا مِنْ أَقْصَى الْوَادِي. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ أَحَدِهِمَا أَعْلَى مِنْ مَوْضِعِ الْآخَرِ فَيَكُونُ صَاحِبُ الْعُلُوِّ فَوْقَ صَاحِبِ السِّفَلِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهَا كَانَتْ حِينَ وَلَدَتْ عَلَى مِثْلِ رَابِيَةٍ وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: يُحْكَى عَنْ عِكْرِمَةَ وَهُوَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَادَاهَا مِنْ تَحْتِ النَّخْلَةِ ثُمَّ عَلَى التَّقْدِيرَاتِ الثَّلَاثَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَرْيَمُ قَدْ رَأَتْهُ وَأَنَّهَا مَا رَأَتْهُ وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ إِلَّا الْحَسَنَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدٍ أَنَّ السَّرِيَّ هُوَ النَّهْرُ وَالْجَدْوَلُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمَاءَ يَسْرِي فِيهِ وَأَمَّا الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ فَجَعَلَا السَّرِيَّ عِيسَى وَالسَّرِيُّ هُوَ النَّبِيلُ الْجَلِيلُ يُقَالُ فُلَانٌ مِنْ سَرَوَاتِ قَوْمِهِ أَيْ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ رَجَعَ عَنْهُ وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْحَسَنَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَبِجَنْبِهِ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا فَقَالَ: إِنْ كَانَ لَسِرِيًّا وَإِنْ كَانَ لَكَرِيمًا، فَقَالَ لَهُ حُمَيْدٌ: يَا أَبَا سَعِيدٍ إِنَّمَا هُوَ الْجَدْوَلُ فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ مِنْ ثَمَّ تُعْجِبُنَا مُجَالَسَتُكَ، وَاحْتَجَّ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى النَّهْرِ

بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ السَّرِيِّ فَقَالَ: هُوَ الْجَدْوَلُ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فَكُلِي وَاشْرَبِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ نَهْرٌ حَتَّى يَنْضَافَ الْمَاءُ إِلَى الرُّطَبِ فَتَأْكُلَ وَتَشْرَبَ وَاحْتَجَّ مَنْ حَمَلَهُ [عَلَى] عِيسَى بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّهْرَ لَا يَكُونُ تَحْتَهَا بَلْ إِلَى جَانِبِهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ النَّهْرَ تَحْتَ أَمْرِهَا يَجْرِي بِأَمْرِهَا وَيَقِفُ بِأَمْرِهَا كَمَا فِي قَوْلُهُ: وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزُّخْرُفِ: 51] لِأَنَّ هَذَا حَمْلٌ لِلَّفْظِ عَلَى مَجَازِهِ وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى هَذَا الْمَجَازِ. الثَّانِي: أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 50] وَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَكَانَ الْمُسْتَوِيَ إِذَا كَانَ فِيهِ مَبْدَأٌ مُعَيَّنٌ فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْهُ كَانَ فَوْقَ وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَبْعَدَ مِنْهُ كَانَ تَحْتَ فَرْعَانِ: الْأَوَّلُ: إِنْ حَمَلْنَا السَّرِيَّ عَلَى النَّهْرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ضَرَبَ بِرِجْلِهِ فَظَهَرَ مَاءٌ عَذْبٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ مَاءٌ جَارٍ. وَالْأَوَّلُ: أَقْرَبُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا مُشْعِرٌ بِالْحُدُوثِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَاهُ. الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ السَّرِيَّ هُوَ النَّهْرُ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءِ أَوِ النَّهْرُ الصَّغِيرُ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: الْجِذْعُ مِنَ النَّخْلَةِ هُوَ الْأَسْفَلُ وَمَا دُونُ الرَّأْسِ الَّذِي عَلَيْهِ الثَّمَرَةُ وَقَالَ قُطْرُبٌ: كُلُّ خَشَبَةٍ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ فَهِيَ جِذْعٌ وَأَمَّا الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ فَزَائِدَةٌ وَالْمَعْنَى هُزِّي إِلَيْكِ أَيْ حَرِّكِي جِذْعَ النَّخْلَةِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَقُولُ هَزَّهُ وَهَزَّ بِهِ وَخُذِ الْخِطَامَ وَخُذْ بِالْخِطَامِ وَزَوَّجْتُكَ فُلَانَةً وَبِفُلَانَةٍ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى هُزِّي إِلَيْكِ رُطَبًا بِجِذْعِ النَّخْلَةِ أَيْ عَلَى جِذْعِهَا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْوَقْتَ كَانَ شِتَاءً وَأَنَّ النَّخْلَةَ كَانَتْ يَابِسَةً، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ أَثْمَرَ الرُّطَبَ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ أَوْ تَغَيَّرَ، وَهَلْ أَثْمَرَ مَعَ الرُّطَبِ غَيْرَهُ؟ وَالظَّاهِرُ/ يَقْتَضِي أَنَّهُ صَارَ نَخْلَةً لِقَوْلِهِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ وَأَنَّهُ مَا أَثْمَرَ إِلَّا الرُّطَبَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: تُسَاقِطْ فِيهِ تِسْعُ قِرَاءَاتٍ تَسَّاقَطْ بِإِدْغَامِ التَّاءِ وَتَتَسَاقَطْ بِإِظْهَارِ التَّاءَيْنِ وَتَسَاقَطْ بِطَرْحِ الثَّانِيَةِ وَيَسَّاقَطْ بِالْيَاءِ وَإِدْغَامِ التَّاءِ وَتَسَاقَطْ وَتَسْقُطْ وَيَسْقُطْ وَتُسْقِطْ وَيُسْقِطْ التَّاءُ لِلنَّخْلَةِ وَالْيَاءُ لِلْجِذْعِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: رُطَبًا تَمْيِيزٌ أَوْ مَفْعُولٌ عَلَى حَسَبِ الْقِرَاءَةِ الْجَنِيُّ الْمَأْخُوذُ طَرِيًّا وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ جِنِيًّا بِكَسْرِ الْجِيمِ لِلْإِتْبَاعِ وَالْمَعْنَى جَمَعْنَا لَكِ فِي السَّرِيِّ وَالرُّطَبِ فَائِدَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ. وَالثَّانِيَةُ: سَلْوَةُ الصَّدْرِ بِكَوْنِهِمَا مُعْجِزَتَيْنِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَتِلْكَ الْأَفْعَالُ الْخَارِقَةُ لِلْعَادَاتِ لِمَنْ؟ قُلْنَا: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّهَا كَانَتْ مُعْجِزَةً لِزَكَرِيَّا وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وهذا باطل لأن زكرياء عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ لَهُ عِلْمٌ بِحَالِهَا وَمَكَانِهَا فَكَيْفَ بِتِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّهَا كَانَتْ كَرَامَاتٍ لِمَرْيَمَ أَوْ إِرْهَاصًا لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا قُرِئَ بِكَسْرِ الْقَافِ لُغَةَ نَجْدٍ وَنَقُولُ قَدَّمَ الْأَكْلَ عَلَى الشُّرْبِ لِأَنَّ احْتِيَاجَ النُّفَسَاءِ إِلَى أَكْلِ الرُّطَبِ أَشَدُّ مِنَ احْتِيَاجِهَا إِلَى شُرْبِ الْمَاءِ لِكَثْرَةِ مَا سَالَ مِنْهَا مِنَ الدِّمَاءِ، ثم قال: وقري عينا، وهاهنا سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ مَضَرَّةَ الْخَوْفِ أَشَدُّ مِنْ مَضَرَّةِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخَوْفَ أَلَمُ الرُّوحِ وَالْجُوعَ أَلَمُ الْبَدَنِ وَأَلَمُ الرُّوحِ أَقْوَى مِنْ أَلَمِ الْبَدَنِ. وَالثَّانِي: مَا رُوِيَ أَنَّهُ أُجِيعَتْ شَاةٌ ثُمَّ قُدِّمَ الْعَلَفُ إِلَيْهَا وَرُبِطَ عِنْدَهَا ذِئْبٌ فَبَقِيَتِ الشَّاةُ مُدَّةً مَدِيدَةً لَا تَتَنَاوَلُ الْعَلَفَ مَعَ جُوعِهَا الشَّدِيدِ خَوْفًا مِنَ الذِّئْبِ ثُمَّ كُسِرَتْ رِجْلُهَا وَقُدِّمَ الْعَلَفُ إِلَيْهَا فَتَنَاوَلَتِ الْعَلَفَ مَعَ أَلَمِ البدن فدلت هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَلَى أَنَّ أَلَمَ الْخَوْفِ أَشَدُّ من ألم

[سورة مريم (19) : الآيات 27 إلى 29]

الْبَدَنِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: فَلِمَ قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحِكَايَةِ دَفْعَ ضَرَرِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ عَلَى دَفْعِ ضَرَرِ الْخَوْفِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْخَوْفَ كَانَ قَلِيلًا لِأَنَّ بِشَارَةَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ قَدْ تَقَدَّمَتْ فَمَا كَانَتْ تَحْتَاجُ إِلَى التَّذْكِيرِ مَرَّةً أُخْرَى. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَرَأَ تَرَئِنَّ بِالْهَمْزَةِ ابْنُ الرُّومِيِّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَهَذَا مِنْ لُغَةِ مَنْ يَقُولُ لَبَّأْتُ بِالْحَجِّ وَحَلَّأْتُ السَّوِيقَ وَذَلِكَ لِتَآخٍ بَيْنَ الْهَمْزِ وَحَرْفِ اللِّينِ فِي الْإِبْدَالِ صَوْماً صَمْتًا وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ صَمْتًا وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مِثْلُهُ وَقِيلَ صِيَامًا إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَتَكَلَّمُونَ فِي صِيَامِهِمْ فَعَلَى هَذَا كَانَ ذِكْرُ الصَّوْمِ دَالًّا عَلَى الصَّمْتِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ النَّذْرِ كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِهِمْ، وَهَلْ يَجُوزُ مِثْلُ هَذَا النَّذْرِ فِي شَرْعِنَا قَالَ الْقَفَّالُ لَعَلَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ وَتَجْرِيدَ الْفِكْرِ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى قُرْبَةٌ، وَلَعَلَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّضْيِيقِ وَتَعْذِيبِ النَّفْسِ كَنَذْرِ الْقِيَامِ فِي الشَّمْسِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى امْرَأَةٍ قَدْ نَذَرَتْ أَنَّهَا لَا تَتَكَلَّمُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ الْإِسْلَامَ هَدَمَ هَذَا فَتَكَلَّمِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: أَمَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ تَنْذُرَ الصَّوْمَ لِئَلَّا تَشْرَعَ مَعَ مَنِ اتَّهَمَهَا فِي الْكَلَامِ/ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كَلَامَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْوَى فِي إِزَالَةِ التُّهْمَةِ مِنْ كَلَامِهَا وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ تَفْوِيضَ الْأَمْرِ إِلَى الْأَفْضَلِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: كَرَاهَةَ مُجَادَلَةِ السُّفَهَاءِ وَفِيهِ أَنَّ السُّكُوتَ عَنِ السَّفِيهِ وَاجِبٌ، وَمِنْ أَذَلِّ النَّاسَ سَفِيهٌ لَمْ يَجِدْ مُسَافِهًا. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا هَلْ قَالَتْ مَعَهُمْ: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا مَا تَكَلَّمَتْ مَعَهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَأْمُورَةً بِأَنْ تَأْتِيَ بِهَذَا النَّذْرِ عِنْدَ رؤيتهم فَإِذَا أَتَتْ بِهَذَا النَّذْرِ فَلَوْ تَكَلَّمَتْ مَعَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَوَقَعَتْ فِي الْمُنَاقَضَةِ وَلَكِنَّهَا أَمْسَكَتْ وَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهَا مَا نَذَرَتْ فِي الْحَالِ بَلْ صَبَرَتْ حَتَّى أَتَاهَا الْقَوْمُ فَذَكَرَتْ لَهُمْ: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا وَهَذِهِ الصِّيغَةُ وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً إِلَّا أَنَّهَا صَارَتْ بِالْقَرِينَةِ مَخْصُوصَةً فِي حق هذا الكلام. [سورة مريم (19) : الآيات 27 الى 29] فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هارُونَ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا كَيْفَ أَتَتْ بِالْوَلَدِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَا رُوِيَ عَنْ وَهْبٍ قَالَ: أَنْسَاهَا كَرْبُ الْوِلَادَةِ وَمَا سَمِعَتْهُ مِنَ النَّاسِ مَا كَانَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْبِشَارَةِ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا كَلَّمَهَا جَاءَهَا مِصْدَاقُ ذَلِكَ فَاحْتَمَلَتْهُ وَأَقْبَلَتْ بِهِ إِلَى قَوْمِهَا. الثَّانِي: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ يُوسُفَ انْتَهَى بِمَرْيَمَ إِلَى غَارٍ فَأَدْخَلَهَا فِيهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى طَهُرَتْ مِنَ النِّفَاسِ ثُمَّ أَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ فَكَلَّمَهَا عِيسَى فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ: يَا أُمَّاهُ أَبْشِرِي فَإِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَمَسِيحُهُ. وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْيِينِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفَرِيُّ، الْبَدِيعُ وَهُوَ مِنْ فَرْيِ الْجِلْدِ يُرْوَى أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْهَا وَمَعَهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالُوا لَهَا: لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ شَيْئًا عَجِيبًا خَارِجًا عَنِ الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِيرٍ وَذَمٍّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ

[سورة مريم (19) : الآيات 30 إلى 33]

يَكُونَ مُرَادُهُمْ شَيْئًا عَظِيمًا مُنْكَرًا فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ وَهَذَا أَظْهَرُ لِقَوْلِهِمْ بعده: يَا أُخْتَ هارُونَ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ظَاهِرُهُ التَّوْبِيخُ وَأَمَّا هَارُونُ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ كُلُّ مَنْ عُرِفَ بِالصَّلَاحِ، والمراد أنك كنت في الزهد كهرون فَكَيْفَ صِرْتِ هَكَذَا، وَهُوَ قَوْلُ/ قَتَادَةَ وَكَعْبٍ وَابْنِ زَيْدٍ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ذُكِرَ أَنَّ هَارُونَ الصَّالِحَ تَبِعَ جِنَازَتَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفًا كُلُّهُمْ يُسَمَّوْنَ هَارُونَ تَبَرُّكًا بِهِ وَبِاسْمِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ أَخُو مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا عَنَوْا هَارُونَ النَّبِيَّ وكانت من أعقابه وإنما قيل أخت هَارُونَ كَمَا يُقَالُ يَا أَخَا هَمْدَانَ أَيْ يَا وَاحِدًا مِنْهُمْ. وَالثَّالِثُ: كَانَ رَجُلًا مُعْلِنًا بِالْفِسْقِ فَنُسِبَتْ إِلَيْهِ بِمَعْنَى التَّشْبِيهِ لَا بِمَعْنَى النِّسْبَةِ. الرَّابِعُ: كَانَ لَهَا أَخٌ يُسَمَّى هَارُونَ مِنْ صُلَحَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَعُيِّرَتْ بِهِ «1» ، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ وَإِنَّمَا يَكُونُ ظَاهِرُ الْآيَةِ مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَتِهَا لَوْ كَانَ لَهَا أَخٌ مُسَمًّى بهرون. الثَّانِي: أَنَّهَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ وَوُصِفَ أَبَوَاهَا بِالصَّلَاحِ وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ التَّوْبِيخُ أَشَدَّ لِأَنَّ مَنْ كَانَ حَالُ أَبَوَيْهِ وَأَخِيهِ هَذِهِ الْحَالَةَ يَكُونُ صُدُورُ الذَّنْبُ عَنْهُ أَفْحَشَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ: مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ رَجَاءٍ التَّمِيمِيُّ: مَا كَانَ أَبَاكِ امْرُؤُ سَوْءٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُمْ لَمَّا بَالَغُوا فِي تَوْبِيخِهَا سَكَتَتْ وَأَشَارَتْ إِلَيْهِ أَيْ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْ هُوَ الَّذِي يُجِيبُكُمْ إِذَا نَاطَقْتُمُوهُ وَعَنِ السُّدِّيِّ لَمَّا أَشَارَتْ إِلَيْهِ غَضِبُوا غَضَبًا شَدِيدًا وَقَالُوا: لَسُخْرِيَّتُهَا بِنَا أَشَدُّ مِنْ زِنَاهَا، رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَرْضَعُ فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ تَرَكَ الرَّضَاعَ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ وَاتَّكَأَ عَلَى يَسَارِهِ وَأَشَارَ بِسَبَّابَتِهِ، وَقِيلَ: كَلَّمَهُمْ بِذَلِكَ ثُمَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى بَلَغَ مَبْلَغًا يَتَكَلَّمُ فِيهِ الصِّبْيَانُ. وَقِيلَ إِنَّ زَكَرِيَّاءَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَاهَا عِنْدَ مُنَاظَرَةِ الْيَهُودِ إِيَّاهَا، فَقَالَ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ انْطِقْ بِحُجَّتِكَ إِنْ كُنْتَ أُمِرْتَ بِهَا فَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ ذَلِكَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مَرْيَمَ: 30] فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ عَرَفَتْ مَرْيَمُ مِنْ حَالِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ؟ قُلْنَا: إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَنْ لَا تَحْزَنِي وَأَمَرَهَا عِنْدَ رُؤْيَةِ النَّاسِ بِالسُّكُوتِ، فَصَارَ ذَلِكَ كَالتَّنْبِيهِ لَهَا عَلَى أَنَّ الْمُجِيبَ هُوَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ لَعَلَّهَا عَرَفَتْ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ إِلَى زَكَرِيَّاءَ أَوْ لَعَلَّهَا عَرَفَتْ بِالْوَحْيِ إِلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ الْكَرَامَةِ، بَقِيَ هاهنا بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا أَيْ حَصَلَ فِي المهد فكان هاهنا بِمَعْنَى حَصَلَ وَوُجِدَ وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ فِي تَأْوِيلِ هَذَا اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَ النَّاسُ قَدْ ذَكَرُوا وُجُوهًا أُخَرَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي الْمَهْدِ فَقِيلَ هُوَ حِجْرُهَا لِمَا رُوِيَ أَنَّهَا أَخَذَتْهُ فِي خِرْقَةٍ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا لَهَا مَا قَالُوا فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي حِجْرِهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْزِلٌ مُعَدٌّ حَتَّى يُعَدَّ لَهَا الْمَهْدُ أَوِ الْمَعْنَى: كَيْفَ نُكَلِّمُ صَبِيًّا سَبِيلُهُ أَنْ يَنَامَ فِي المهد. [سورة مريم (19) : الآيات 30 الى 33] قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)

_ (1) الأولى أن يقال، فذكرت به، لأن هذا مقام التذكير وقد يجاب بأن الأصل في كل هذا هو التعبير فلم يعدل عنه.

اعْلَمْ أَنَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِصِفَاتٍ تِسْعٍ: الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَفِيهِ فَوَائِدُ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْكَلَامَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ سَبَبًا لِلْوَهْمِ الَّذِي ذَهَبَتْ إِلَيْهِ النَّصَارَى، فَلَا جَرَمَ أَوَّلُ مَا تَكَلَّمَ إِنَّمَا تَكَلَّمَ بِمَا يَرْفَعُ ذَلِكَ الْوَهْمَ فَقَالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَكَانَ ذَلِكَ الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ مُوهِمًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ صَدَرَ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْوَهْمَ يَزُولُ وَلَا يَبْقَى مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَنْصِيصٌ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالْعُبُودِيَّةِ فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي مَقَالِهِ فَقَدْ حَصَلَ الْغَرَضُ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا لَمْ تَكُنِ الْقُوَّةُ قُوَّةً إِلَهِيَّةً بَلْ قُوَّةً شَيْطَانِيَّةً فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَبْطُلُ كَوْنُهُ إِلَهًا. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الَّذِي اشْتَدَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِنَّمَا هُوَ نَفْيُ تُهْمَةِ الزِّنَا عَنْ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ ثُمَّ إِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَنُصَّ عَلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى إِثْبَاتِ عُبُودِيَّةِ نَفْسِهِ كَأَنَّهُ جَعَلَ إِزَالَةَ التُّهْمَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى مِنْ إِزَالَةِ التُّهْمَةِ عَنِ الْأُمِّ، فَلِهَذَا أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ إِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهَا. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ أَنَّ التَّكَلُّمَ بِإِزَالَةِ هَذِهِ التُّهْمَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى يُفِيدُ إِزَالَةَ التُّهْمَةِ عَنِ الْأُمِّ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَخُصُّ الْفَاجِرَةَ بِوَلَدٍ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ الْعَالِيَةِ وَالْمَرْتَبَةِ الْعَظِيمَةِ. وَأَمَّا التَّكَلُّمُ بِإِزَالَةِ التُّهْمَةِ عَنِ الْأُمِّ لَا يُفِيدُ إِزَالَةَ التُّهْمَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِذَلِكَ أَوْلَى فَهَذَا مَجْمُوعُ مَا فِي هَذَا اللَّفْظِ مِنَ الْفَوَائِدِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ النَّصَارَى مُتَخَبِّطٌ جِدًّا، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا مُتَحَيِّزٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّا نَذْكُرُ تَقْسِيمًا حَاصِرًا يُبْطِلُ مَذْهَبَهُمْ عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يَعْتَقِدُوا كَوْنَهُ مُتَحَيِّزًا أَوْ لَا، فَإِنِ اعْتَقَدُوا كَوْنَهُ مُتَحَيِّزًا أَبْطَلْنَا قَوْلَهُمْ بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ كُلُّ مَا فَرَّعُوا عَلَيْهِ. وَإِنِ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ يَبْطُلُ مَا يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْكَلِمَةَ اخْتَلَطَتْ بِالنَّاسُوتِ اخْتِلَاطَ الْمَاءِ بِالْخَمْرِ وَامْتِزَاجَ النَّارِ بِالْفَحْمِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْقَلُ إِلَّا فِي الْأَجْسَامِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ جِسْمًا اسْتَحَالَ ذَلِكَ ثُمَّ نَقُولُ لِلنَّاسِ قَوْلَانِ فِي الْإِنْسَانِ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ هُوَ هَذِهِ الْبِنْيَةُ أَوْ جِسْمٌ مَوْجُودٌ فِي دَاخِلِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْحُلُولِ فِي الْأَجْسَامِ فَنَقُولُ: هَؤُلَاءِ النَّصَارَى، إِمَّا أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ اللَّهَ أَوْ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ اتَّحَدَ بِبَدَنِ/ الْمَسِيحِ أَوْ بِنَفْسِهِ أَوْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ اللَّهَ أَوْ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ حَلَّ فِي بَدَنِ الْمَسِيحِ أَوْ فِي نَفْسِهِ، أَوْ يَقُولُوا لَا نَقُولُ بِالِاتِّحَادِ وَلَا بِالْحُلُولِ وَلَكِنْ نَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى أَعْطَاهُ الْقُدْرَةَ عَلَى خَلْقِ الْأَجْسَامِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَكَانَ لِهَذَا السَّبَبِ إِلَهًا، أَوْ لَا يَقُولُوا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ قَالُوا: إِنَّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ اتَّخَذَهُ ابْنًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ خَلِيلًا فَهَذِهِ هِيَ الْوُجُوهُ الْمَعْقُولَةُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَالْكُلُّ بَاطِلٌ، أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِالِاتِّحَادِ فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا، لِأَنَّ الشَّيْئَيْنِ إِذَا اتَّحَدَا فَهُمَا حَالَ الِاتِّحَادِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَا مَوْجُودَيْنَ أَوْ مَعْدُومَيْنَ أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَوْجُودًا وَالْآخَرُ مَعْدُومًا، فَإِنْ كَانَا مَوْجُودَيْنِ فَهُمَا اثْنَانِ لَا وَاحِدٌ فَالِاتِّحَادُ بَاطِلٌ، وَإِنْ عُدِمَا وَحَصَلَ ثَالِثٌ فَهُوَ أَيْضًا لَا يَكُونُ اتِّحَادًا بَلْ يَكُونُ قَوْلًا بِعَدَمِ ذَيْنِكَ الشَّيْئَيْنِ، وَحُصُولِ شَيْءٍ ثَالِثٍ، وَإِنْ بَقِيَ أَحَدُهُمَا وَعُدِمَ الْآخَرُ فَالْمَعْدُومُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَّحِدَ بِالْوُجُودِ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُقَالَ: الْمَعْدُومُ بِعَيْنِهِ هُوَ الْمَوْجُودُ فَظَهَرَ مِنْ هَذَا الْبُرْهَانِ الْبَاهِرِ أَنَّ الِاتِّحَادَ مُحَالٌ. وَأَمَّا الْحُلُولُ فَلَنَا فِيهِ مَقَامَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّصْدِيقَ مَسْبُوقٌ بِالتَّصَوُّرِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْبَحْثِ عَنْ مَاهِيَّةِ الْحُلُولِ حَتَّى يُمْكِنَنَا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لَا يَصِحُّ وَذَكَرُوا لِلْحُلُولِ تَفْسِيرَاتٍ ثَلَاثَةً: أَحَدُهَا: كَوْنُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِهِ كَكَوْنِ مَاءِ الْوَرْدِ فِي الْوَرْدِ وَالدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ وَالنَّارِ فِي الْفَحْمِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى جِسْمًا وَهُمْ وَافَقُونَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ. وَثَانِيهَا: حُصُولُهُ فِي الشَّيْءِ عَلَى مِثَالِ حُصُولِ اللَّوْنِ فِي الْجِسْمِ فَنَقُولُ: الْمَعْقُولُ مِنْ هَذِهِ التبعية

حُصُولُ اللَّوْنِ فِي ذَلِكَ الْحَيِّزِ تَبَعًا لِحُصُولِ مَحَلِّهِ فِيهِ، وَهَذَا أَيْضًا إِنَّمَا يُعْقَلُ فِي حَقِّ الْأَجْسَامِ لَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَثَالِثُهَا: حُصُولُهُ فِي الشَّيْءِ عَلَى مِثَالِ حُصُولِ الصِّفَاتِ الْإِضَافِيَّةِ لِلذَّوَاتِ فَنَقُولُ: هَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمَعْقُولَ مِنْ هَذِهِ التَّبَعِيَّةِ الِاحْتِيَاجُ فَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَيْءٍ بِهَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ مُحْتَاجًا فَكَانَ مُمْكِنًا فَكَانَ مُفْتَقِرًا إِلَى الْمُؤَثِّرِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ هَذَا الْحُلُولِ بِمَعْنًى مُلَخَّصٍ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى امْتَنَعَ إِثْبَاتُهُ. الْمَقَامُ الثَّانِي: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ عَلَى نَفْيِ الْحُلُولِ مُطْلَقًا بِأَنْ قَالُوا: لَوْ حَلَّ لَحَلَّ، إِمَّا مَعَ وُجُوبِ أَنْ يَحِلَّ أَوْ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَحِلَّ وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ، فَالْقَوْلُ بِالْحُلُولِ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحِلَّ مَعَ وُجُوبِ أَنْ يَحِلَّ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي إِمَّا حُدُوثَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ قِدَمَ الْمَحَلِّ وَكَلَاهُمَا بَاطِلَانِ، لِأَنَّا دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدِيمٌ. وَعَلَى أَنَّ الْجِسْمَ مُحْدَثٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ حَلَّ مَعَ وُجُوبِ أَنْ يَحِلَّ لَكَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الْمَحَلِّ وَالْمُحْتَاجُ إِلَى الْغَيْرِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحِلَّ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَحِلَّ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ ذَاتُهُ وَاجِبَةَ الْوُجُودِ لذاته وَحُلُولُهُ فِي الْمَحَلِّ أَمْرٌ جَائِزٌ، وَالْمَوْصُوفُ بِالْوُجُوبِ غَيْرُ مَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِالْجَوَازِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حُلُولُهُ فِي الْمَحَلِّ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى ذَاتِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُلُولَهُ فِي الْمَحَلِّ لَوْ كَانَ زَائِدًا عَلَى ذَاتِهِ لَكَانَ حُلُولُ ذَلِكَ الزَّائِدِ فِي مَحَلِّهِ زَائِدًا عَلَى ذَاتِهِ أَوْ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ حُلُولَهُ فِي ذَلِكَ لَمَّا كَانَ زَائِدًا عَلَى ذَاتِهِ فَإِذَا حَلَّ فِي مَحَلٍّ وَجَبَ أَنْ يَحِلَّ فِيهِ صِفَةٌ مُحْدَثَةٌ، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَابِلًا لِلْحَوَادِثِ/ لَكَانَتْ تِلْكَ الْقَابِلِيَّةُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَكَانَتْ حَاصِلَةً أَزَلًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ وُجُودَ الْحَوَادِثِ فِي الْأَزَلِ مُحَالٌ، فَحُصُولُ قَابِلِيَّتِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعَ الْحُصُولِ فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحِلَّ مَعَ وُجُوبِ أَنْ يَحِلَّ. لِأَنَّهُ يَلْزَمُ، إِمَّا حُدُوثُ الْحَالِّ أَوْ قِدَمُ الْمَحَلِّ، قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ وُجُوبَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَاتَهُ تَقْتَضِي الْحُلُولَ بِشَرْطِ وُجُودِ الْمَحَلِّ فَفِي الْأَزَلِ مَا وُجِدَ الْمَحَلُّ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ هَذَا الْوُجُوبِ فَلَا جَرَمَ لَمْ يَجِبِ الْحُلُولُ، وَفِيمَا لَا يَزَالُ حَصَلَ هَذَا الشَّرْطُ فَلَا جَرَمَ وَجَبَ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَلْزَمُ، إِمَّا حُدُوثُ الْحَالِّ أَوْ قِدَمُ الْمَحَلِّ فَلِمَ لَا يَجُوزُ. قَوْلُهُ: إِنَّا دَلَّلْنَا عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ، قُلْنَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَكِنَّهُ يَكُونُ عَقْلًا أَوْ نَفْسًا أَوْ هَيُولَى عَلَى مَا يُثْبِتُهُ بَعْضُهُمْ، وَدَلِيلُكُمْ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ لَا يَقْبَلُ حُدُوثَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، قَوْلُهُ ثَانِيًا: لَوْ حَلَّ مَعَ وُجُوبِ أَنْ يَحِلَّ لَكَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الْمَحَلِّ، قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ وُجُوبَ أحد الأمرين بل هاهنا احْتِمَالَانِ آخَرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِلَّةَ وَإِنِ امْتَنَعَ انْفِكَاكُهَا عَنِ الْمَعْلُولِ لَكِنَّهَا لَا تَكُونُ مُحْتَاجَةً إِلَى الْمَعْلُولِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَاتَهُ غَنِيَّةٌ عَنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ وَلَكِنَّ ذَاتَهُ تُوجِبُ حُلُولَ نَفْسِهَا فِي ذَلِكَ الْمَعْلُولِ فَيَكُونُ وُجُوبُ حُلُولِهَا فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ مِنْ « «مَعْلُولَاتِ ذَاتِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْعِلَّةَ وَإِنِ اسْتَحَالَ انْفِكَاكُهَا عَنِ الْمَعْلُولِ لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي احْتِيَاجَهَا إِلَى الْمَعْلُولِ. الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ فِي ذَاتِهِ يَكُونُ غَنِيًّا عَنِ الْمَحَلِّ وَعَنِ الْحُلُولِ، إِلَّا أَنَّ الْمَحَلَّ يُوجِبُ لِذَاتِهِ صِفَةَ الْحُلُولِ، فَالْمُفْتَقِرُ إِلَى الْمَحَلِّ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ وَهِيَ حُلُولُهُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ فَأَمَّا ذَاتُهُ فَلَا وَلَا يَلْزَمُ مِنَ افْتِقَارِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الْإِضَافِيَّةِ إِلَى الْغَيْرِ افْتِقَارُ ذَاتِهِ إِلَى الْغَيْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ جَمِيعَ الصِّفَاتِ الْإِضَافِيَّةِ الْحَاصِلَةِ لَهُ مِثْلَ كَوْنِهِ أَوَّلًا وَآخِرًا وَمُقَارِنًا وَمُؤَثِّرًا وَمَعْلُومًا وَمَذْكُورًا مِمَّا لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ التَّحَيُّزِ، وَكَيْفَ لَا وَالْإِضَافَاتُ لَا بُدَّ فِي تَحَقُّقِهَا مِنْ أَمْرَيْنِ، سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحِلَّ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَحِلَّ. قَوْلُهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حُلُولُهُ فِيهِ زَائِدًا عَلَيْهِ، وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، قُلْنَا: حُلُولُهُ فِي الْمَحَلِّ لَمَّا كَانَ جَائِزًا كَانَ حُلُولُهُ فِي الْمَحَلِّ زَائِدًا عَلَيْهِ. أَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ الْحُلُولِ حَالًّا فِي الْمَحَلِّ أَمْرٌ وَاجِبٌ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حُلُولُ الْحُلُولِ زَائِدًا عَلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ. قَوْلُهُ ثَانِيًا: يَلْزَمُ أَنْ يَصِيرَ مَحَلَّ الْحَوَادِثِ، قُلْنَا: لِمَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ قَوْلُهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلْحَوَادِثِ

فِي الْأَزَلِ، قُلْنَا: لَا شَكَّ أَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنَ الْإِيجَادِ ثَابِتٌ لَهُ إِمَّا لِذَاتِهِ أَوْ لِأَمْرٍ يَنْتَهِي إِلَى ذَاتِهِ، وَكَيْفَ كَانَ فَيَلْزَمُ صِحَّةُ كَوْنِهِ مُؤَثِّرًا فِي الْأَزَلِ فَكُلُّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي الْمُؤَثِّرِيَّةِ فَنَحْنُ نَذْكُرُهُ فِي الْقَابِلِيَّةِ، وَالْجَوَابُ: أَنَّا نُقَرِّرُ هَذِهِ الدَّلَالَةَ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ بِحَيْثُ تَسْقُطُ عَنْهَا هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ، فَنَقُولُ: ذَاتُهُ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ كَافِيَةً اقْتِضَاءَ هَذَا الْحُلُولِ، أَوْ لَا تَكُونُ كَافِيَةً فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ اسْتَحَالَ تَوَقُّفُ ذَلِكَ الِاقْتِضَاءِ عَلَى حُصُولِ شَرْطٍ فَيَعُودُ مَا قُلْنَا إِنَّهُ يَلْزَمُ إِمَّا قِدَمُ الْمَحَلِّ أَوْ حُدُوثُ الْحَالِّ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَانَ كَوْنُهُ مُقْتَضِيًا لِذَلِكَ الْحُلُولِ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى ذَاتِهِ حَادِثًا فِيهِ فَعَلَى التَّقْدِيرَاتِ كُلِّهَا يَلْزَمُ مِنْ حُدُوثِ حُلُولِهِ فِي مَحَلِّ حُدُوثِ شَيْءٍ فِيهِ لَكِنْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلْحَوَادِثِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَزَلِ قَابِلًا لَهَا وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ بِالْقُدْرَةِ فَغَيْرُ وَارِدَةٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى لِذَاتِهِ قَادِرٌ عَلَى الْإِيجَادِ فِي الْأَزَلِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْإِيجَادِ فِيمَا لَا يَزَالُ فَهَهُنَا أَيْضًا لَوْ كَانَتْ ذَاتُهُ قَابِلَةً/ لِلْحَوَادِثِ لَكَانَتْ فِي الْأَزَلِ قَابِلَةً لَهَا فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْمُحَالُ الْمَذْكُورُ. هَذَا تَمَامُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْأَدِلَّةِ وَلَنَا فِي إِبْطَالِ قَوْلِ النَّصَارَى وُجُوهٌ أُخَرُ. أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ وَافَقُونَا عَلَى أَنَّ ذَاتَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ تَحِلَّ فِي نَاسُوتِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلْ قَالُوا الْكَلِمَةُ حَلَّتْ فِيهِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْكَلِمَةِ الْعِلْمُ. فَنَقُولُ: الْعِلْمُ لَمَّا حَلَّ فِي عِيسَى فَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ بَقِيَ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مَا بَقِيَ فِيهَا فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَزِمَ حُصُولُ الصِّفَةِ الْوَاحِدَةِ فِي مَحِلَّيْنِ. وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ فِي ذَاتِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِعَيْنِهِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ هُوَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ لَذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَزِمَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَبْقَ عَالِمًا بَعْدَ حُلُولِ عِلْمِهِ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. وَثَانِيهَا: مُنَاظَرَةٌ جَرَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ بَعْضِ النَّصَارَى، فَقُلْتُ لَهُ هَلْ تُسَلِّمُ أَنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَدْلُولِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ أَنْكَرْتَ لَزِمَكَ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَدِيمًا لِأَنَّ دَلِيلَ وُجُودِهِ هُوَ الْعَالَمُ فَإِذَا لَزِمَ مِنْ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَدَمُ الْمَدْلُولِ لَزِمَ مِنْ عَدَمِ الْعَالَمِ فِي الْأَزَلِ عَدَمُ الصَّانِعِ فِي الْأَزَلِ، وَإِنْ سَلَّمْتَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَدَمُ الْمَدْلُولِ، فَنَقُولُ إِذَا جَوَّزْتَ اتِّحَادَ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِعِيسَى أَوْ حُلُولَهَا فِيهِ فَكَيْفَ عَرَفْتَ أَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ تَعَالَى مَا دَخَلَتْ فِي زَيْدٍ وَعَمْرٍو بَلْ كَيْفَ أَنَّهَا مَا حَلَّتْ فِي هَذِهِ الْهِرَّةِ وَفِي هَذَا الْكَلْبِ، فَقَالَ لِي: إِنَّ هَذَا السُّؤَالَ لَا يَلِيقُ بِكَ لِأَنَّا إِنَّمَا أَثْبَتْنَا ذَلِكَ الِاتِّحَادَ أَوِ الْحُلُولَ بِنَاءً عَلَى مَا ظَهَرَ عَلَى يَدِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ظَهَرَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ فَكَيْفَ نُثْبِتُ الِاتِّحَادَ أَوِ الْحُلُولَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي عَرَفْتُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّكَ مَا عَرَفْتَ أَوَّلَ الْكَلَامِ لِأَنَّكَ سَلَّمْتَ لِي أَنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَدْلُولِ فَإِذَا كَانَ هَذَا الْحُلُولُ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فِي الْجُمْلَةِ فَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ وُجِدَ مَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِهِ فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الدَّلِيلُ فِي حَقِّ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَلَكِنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَدْلُولِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ظُهُورِ هَذِهِ الْخَوَارِقِ عَلَى يَدِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَعَلَى السِّنَّوْرِ وَالْكَلْبِ عَدَمُ ذَلِكَ الْحُلُولِ، فَثَبَتَ أَنَّكَ مَهْمَا جَوَّزْتَ الْقَوْلَ بِالِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ لَزِمَكَ تَجْوِيزُ حُصُولِ ذَلِكَ الِاتِّحَادِ وَذَلِكَ الْحُلُولِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ بَلْ فِي حَقِّ كُلِّ حَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَذْهَبَ الَّذِي يَسُوقُ قَائِلَهُ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ الرَّكِيكِ يَكُونُ بَاطِلًا قَطْعًا، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: وَكَيْفَ دَلَّ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ عَلَى مَا قُلْتَ؟ أَلَيْسَ أَنَّ انْقِلَابَ الْعَصَا ثُعْبَانًا أَبْعَدُ مِنَ انْقِلَابِ الْمَيِّتِ حَيًّا فَإِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى إِلَهِيَّتِهِ فَبِأَنْ لَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى إِلَهِيَّةِ عِيسَى أَوْلَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّا نَقُولُ دَلَالَةُ أَحْوَالِ عِيسَى عَلَى الْعُبُودِيَّةِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ لِأَنَّهُ كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْعِبَادَةِ وَالْعِبَادَةُ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالْعَبِيدِ فَإِنَّهُ كَانَ فِي نِهَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ الدُّنْيَا وَالِاحْتِرَازِ عَنْ أَهْلِهَا حَتَّى قَالَتِ النَّصَارَى إِنَّ الْيَهُودَ قَتَلُوهُ وَمَنْ كَانَ فِي الضَّعْفِ هكذا فكيف

تَلِيقُ بِهِ الرُّبُوبِيَّةُ. وَرَابِعُهَا: الْمَسِيحُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَوْ مُحْدَثًا وَالْقَوْلُ بِقِدَمِهِ بَاطِلٌ لِأَنَّا نَعْلَمُ/ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ وُلِدَ وَكَانَ طِفْلًا ثُمَّ صَارَ شَابًّا وَكَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَعْرِضُ لَهُ مَا يَعْرِضُ لِسَائِرِ الْبَشَرِ، وَإِنْ كَانَ مُحْدَثًا كَانَ مَخْلُوقًا وَلَا مَعْنَى لِلْعُبُودِيَّةِ إِلَّا ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: الْمَعْنَى بِإِلَهِيَّتِهِ أَنَّهُ حَلَّتْ صِفَةُ الْإِلَهِيَّةِ فِيهِ، قُلْنَا: هَبْ أَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ لَكِنَّ الْحَالَّ هُوَ صِفَةُ الْإِلَهِ وَالْمَسِيحُ هُوَ الْمَحَلُّ وَالْمَحَلُّ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ فَمَا هُوَ الْمَسِيحُ [إِلَّا] عَبْدٌ مُحْدَثٌ فَكَيْفَ يُمْكِنُ وَصْفُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْوَلَدَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْوَالِدِ فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ وَلَدٌ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهِ فَإِذَنْ قَدِ اشْتَرَكَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ بِأَمْرٍ مَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ الْآخَرُ، وَإِنْ حَصَلَ الِامْتِيَازُ فَمَا بِهِ الِامْتِيَازُ غَيْرُ مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ، فَيَلْزَمُ وُقُوعُ التَّرْكِيبِ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَكُلُّ مُرَكَّبٍ مُمْكِنٌ، فَالْوَاجِبُ مُمْكِنٌ هَذَا خُلْفٌ مُحَالٌ هَذَا كُلُّهُ عَلَى الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ. أَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ مَعْنَى كَوْنِهِ إِلَهًا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَصَّ نَفْسَهُ أَوْ بَدَنَهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى خَلْقِ الْأَجْسَامِ وَالتَّصَرُّفِ فِي هَذَا الْعَالَمِ فَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ النَّصَارَى حَكَوْا عَنْهُ الضَّعْفَ وَالْعَجْزَ وَأَنَّ الْيَهُودَ قَتَلُوهُ وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الْأَجْسَامِ لَمَا قَدَرُوا عَلَى قَتْلِهِ بَلْ كَانَ هُوَ يَقْتُلُهُمْ وَيَخْلُقُ لِنَفْسِهِ عَسْكَرًا يَذُبُّونَ عَنْهُ. وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّهُ اتَّخَذَهُ ابْنًا لِنَفْسِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ فَهَذَا قَدْ قَالَ بِهِ قَوْمٌ مِنَ النَّصَارَى يُقَالُ لَهُمُ الْأَرْمِيُوسِيَّةُ وَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ خَطَأٍ إِلَّا فِي اللَّفْظِ فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ عَلَى النَّصَارَى وَبِهِ ثَبَتَ صِدْقُ مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: آتانِيَ الْكِتابَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ حَالَ صِغَرِهِ وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَلْخِيُّ إِنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ حِينَ كَانَ كَالْمُرَاهِقِ الَّذِي يَفْهَمُ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ التَّكْلِيفِ أَمَّا الْأَوَّلُونَ فَلَهُمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الصِّغَرِ نَبِيًّا. الثَّانِي: رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: الْمُرَادُ بِأَنْ حَكَمَ وَقَضَى بِأَنَّهُ سَيَبْعَثُنِي مِنْ بَعْدُ وَلَمَّا تَكَلَّمَ بِذَلِكَ سَكَتَ وَعَادَ إِلَى حَالِ الصِّغَرِ. وَلَمَّا بَلَغَ ثَلَاثِينَ سَنَةً بَعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا، وَاحْتَجَّ مَنْ نَصَّ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ لَا يَكُونُ إِلَّا كَامِلًا وَالصَّغِيرُ نَاقِصُ الْخِلْقَةِ بِحَيْثُ يُعَدُّ هَذَا التَّحَدِّي مِنَ الصَّغِيرِ مُنَفِّرًا بَلْ هُوَ فِي التَّنْفِيرِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَبِيًّا فِي هَذَا الصِّغَرِ لَكَانَ كَمَالُ عَقْلِهِ مُقَدَّمًا عَلَى ادِّعَائِهِ لِلنُّبُوَّةِ إِذِ النَّبِيُّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ كَامِلَ الْعَقْلِ لَكِنَّ كَمَالَ عَقْلِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ فَيَكُونُ الْمُعْجِزُ مُتَقَدِّمًا عَلَى التَّحَدِّي وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَوَجَبَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ، وَتَعْرِيفِ الشَّرَائِعِ وَلَوْ وَقَعَ ذَلِكَ لَاشْتُهِرَ وَلَنُقِلَ فَحَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا كَانَ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. أَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ كَوْنَ الصَّبِيِّ نَاقِصًا لَيْسَ لِذَاتِهِ بَلِ الْأَمْرُ يَرْجِعُ إِلَى صِغَرِ جِسْمِهِ وَنُقْصَانِ فَهْمِهِ، فَإِذَا أَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَمْ تَحْصُلِ النَّفْرَةُ بَلْ تَكُونُ الرَّغْبَةُ إِلَى اسْتِمَاعِ قَوْلِهِ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ. وَعَنِ الْكَلَامِ الثَّانِي لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِكْمَالُ عَقْلِهِ وَإِنْ حَصَلَ مُقَدَّمًا عَلَى دَعْوَاهُ إِلَّا أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ لِزَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُ إِرْهَاصٌ لِنُبُوَّتِهِ أَوْ كَرَامَةٌ لِمَرْيَمَ/ عَلَيْهَا السَّلَامُ وَعِنْدَنَا الْإِرْهَاصُ وَالْكَرَامَاتُ جَائِزَةٌ، وَعَنِ الْكَلَامِ الثَّالِثِ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مُجَرَّدُ بَعْثَتِهِ إِلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ شَيْءٍ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ جَائِزٌ ثُمَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَخَذَ فِي شَرْحِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي كَوْنِهِ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقَوْلُهُ: آتانِيَ الْكِتابَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَوَجَبَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ عِكْرِمَةُ، أَمَّا قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَلْخِيِّ فَبَعِيدٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى كَلَامِ عِيسَى

عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا كَانَتْ عِنْدَ وُقُوعِ التُّهْمَةِ عَلَى مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ التَّوْرَاةُ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْكِتَابِ تَنْصَرِفُ لِلْمَعْهُودِ وَالْكِتَابُ الْمَعْهُودُ لَهُمْ هُوَ التَّوْرَاةُ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ هُوَ الْإِنْجِيلُ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ هاهنا لِلْجِنْسِ أَيْ آتَانِي مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ هُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ تُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ مَتَى آتَاهُ الْكِتَابَ وَمَتَى جَعَلَهُ نَبِيًّا لِأَنَّ قَوْلَهُ: آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَدْ حَصَلَ مِنْ قَبْلُ إِمَّا مُلَاصِقًا لِذَلِكَ الْكَلَامِ أَوْ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ بِأَزْمَانٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ كَلَّمَهُمْ آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَجَعَلَهُ نَبِيًّا وَأَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَأَنْ يَدْعُوَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى دِينِهِ وَإِلَى مَا خُصَّ بِهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ فَقِيلَ هَذَا الْوَحْيُ نَزَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَقِيلَ لَمَّا انْفَصَلَ مِنَ الْأُمِّ آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالنُّبُوَّةَ وَأَنَّهُ تَكَلَّمَ مَعَ أُمِّهِ وَأَخْبَرَهَا بِحَالِهِ وَأَخْبَرَهَا بِأَنَّهُ يُكَلِّمُهُمْ بما يدل على برائة حَالِهَا فَلِهَذَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ بِالْكَلَامِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قوله تعالى: وَجَعَلَنِي نَبِيًّا قَالَ بَعْضُهُمْ أَخْبَرَ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَلَكِنَّهُ مَا كَانَ رَسُولًا لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا جَاءَ بِالشَّرِيعَةِ وَمَعْنَى كَوْنِهِ نَبِيًّا أَنَّهُ رَفِيعُ الْقَدْرِ عَلَى الدَّرَجَةِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ هُوَ الَّذِي خَصَّهُ اللَّهُ بِالنُّبُوَّةِ وَبِالرِّسَالَةِ خُصُوصًا إِذَا قُرِنَ إِلَيْهِ ذِكْرُ الشَّرْعِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ كَيْفَ جَعَلَهُ مُبَارَكًا وَالنَّاسُ كَانُوا قَبْلَهُ عَلَى الْمِلَّةِ الصَّحِيحَةِ فَلَمَّا جَاءَ صَارَ بَعْضُهُمْ يَهُودًا وَبَعْضُهُمْ نَصَارَى قَائِلِينَ بِالتَّثْلِيثِ وَلَمْ يَبْقِ عَلَى الْحَقِّ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَالْجَوَابُ، ذَكَرُوا فِي «تَفْسِيرِ الْمُبَارَكِ» وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الْبَرَكَةَ فِي اللُّغَةِ هِيَ الثَّبَاتُ وَأَصْلُهُ مِنْ بُرُوكِ الْبَعِيرِ فَمَعْنَاهُ جَعَلَنِي ثَابِتًا عَلَى دِينِ اللَّهِ مُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ مُبَارَكًا لِأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ فَإِنْ ضَلُّوا فَمِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ لَا مِنْ قِبَلِهِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَسْلَمَتْ أُمُّ عِيسَى عَلَيْهَا السَّلَامُ عِيسَى إِلَى الْكُتَّابِ فَقَالَتْ لِلْمُعَلِّمِ: أَدْفَعُهُ إِلَيْكَ عَلَى أَنْ لَا تَضْرِبَهُ فَقَالَ لَهُ الْمُعَلِّمُ: اكْتُبْ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْتُبُ، فَقَالَ: اكْتُبْ أَبْجَدْ فَرَفَعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأْسَهُ فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا أَبْجَدْ؟ فَعَلَاهُ بِالدِّرَّةِ لِيَضْرِبَهُ فَقَالَ: يَا مُؤَدِّبُ لَا تَضْرِبْنِي إِنْ كُنْتَ لَا تَدْرِي فَاسْأَلْنِي فَأَنَا أُعَلِّمُكَ الْأَلِفُ مِنْ آلَاءِ اللَّهِ وَالْبَاءُ مِنْ بَهَاءِ اللَّهِ وَالْجِيمُ مِنْ جَمَالِ اللَّهِ وَالدَّالُ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ إِلَى اللَّهِ. وَثَالِثُهَا: الْبَرَكَةُ الزِّيَادَةُ وَالْعُلُوُّ فَكَأَنَّهُ قَالَ: جَعَلَنِي فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ غَالِبًا مُفْلِحًا مُنْجِحًا لِأَنِّي مَا دُمْتُ أَبْقَى فِي الدُّنْيَا/ أَكُونُ عَلَى الْغَيْرِ مُسْتَعْلِيًا بِالْحُجَّةِ فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الْمَعْلُومُ يُكْرِمُنِي اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّفْعِ إِلَى السَّمَاءِ. وَرَابِعُهَا: مُبَارَكٌ عَلَى النَّاسِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ بِسَبَبِ دِعَائِيِّ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ رَأَتْهُ امْرَأَةٌ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ فَقَالَتْ: طُوبَى لِبَطْنٍ حَمَلَكَ وَثَدْيٍ أُرْضِعْتَ بِهِ، فَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُجِيبًا لَهَا: طُوبَى لِمَنْ تَلَا كِتَابَ اللَّهِ وَاتَّبَعَ مَا فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا شَقِيًّا. أَمَّا قَوْلُهُ: أَيْنَ مَا كُنْتُ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَالَهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ كَمَا قِيلَ إِنَّهُ عَادَ إِلَى حَالِ الصِّغَرِ وَزَوَالِ التَّكْلِيفِ. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ طِفْلًا صَغِيرًا وَالْقَلَمُ مَرْفُوعٌ عَنْهُ عَلَى مَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ» الْحَدِيثَ وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَوْصَاهُ بِأَدَائِهِمَا فِي الْحَالِ بَلْ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْصَاهُ بِهِمَا وَبِأَدَائِهِمَا فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لَهُ وَهُوَ وَقْتُ الْبُلُوغِ. الثَّانِي: لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا انْفَصَلَ عِيسَى عَنْ أُمِّهِ صَيَّرَهُ بَالِغًا عَاقِلًا تَامَّ الْأَعْضَاءِ وَالْخِلْقَةِ وَتَحْقِيقُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ

[آلِ عِمْرَانَ: 59] فَكَمَا أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ تَامًّا كَامِلًا دَفْعَةً فَكَذَا الْقَوْلُ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي أَقْرَبُ إِلَى الظَّاهِرِ لِقَوْلِهِ: مَا دُمْتُ حَيًّا فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ مُتَوَجِّهٌ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ زمان حيائه وَلَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ الْقَوْمُ حِينَ رَأَوْهُ فَقَدْ رَأَوْهُ شَخْصًا كَامِلَ الْأَعْضَاءِ تَامَّ الْخِلْقَةِ وَصُدُورُ الْكَلَامِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الشَّخْصِ لَا يَكُونُ عَجَبًا فكان ينبغي أن لا يعجبوا فلعل الأول أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ مَعَ صِغَرِ جُثَّتِهِ قَوِيَّ التَّرْكِيبِ كَامِلَ الْعَقْلِ بِحَيْثُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ تَكْلِيفَهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ حِينَ كَانَ فِي الْأَرْضِ وَحِينَ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ وَحِينَ يَنْزِلُ مَرَّةً أُخْرَى. الصِّفَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَرًّا بِوالِدَتِي أَيْ جَعَلَنِي بَرًّا بِوَالِدَتِي وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا: أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ بَرًّا إِنَّمَا حَصَلَ بِجَعْلِ اللَّهِ وَخَلْقُهُ وَحَمْلُهُ عَلَى الْأَلْطَافِ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ ثُمَّ قَوْلُهُ: وَبَرًّا بِوالِدَتِي إِشَارَةٌ إِلَى تَنْزِيهِ أُمِّهِ عَنِ الزِّنَا إِذْ لَوْ كَانَتْ زَانِيَةً لَمَا كَانَ الرَّسُولُ الْمَعْصُومُ مَأْمُورًا بِتَعْظِيمِهَا. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : جَعَلَ ذَاتَهُ بَرًّا لِفَرْطِ بِرِّهِ وَنَصْبُهُ بِفِعْلٍ فِي مَعْنَى أَوْصَانِي وَهُوَ كَلَّفَنِي لِأَنَّ أَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَكَلَّفَنِي بِهَا وَاحِدٌ. الصِّفَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا لِأَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ جَعَلَهُ بَرًّا وَمَا جَعَلَهُ جَبَّارًا فَهَذَا إِنَّمَا يَحْسُنُ لَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ غَيْرَهُ جَبَّارًا وغيره بَارٍّ بِأُمِّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِكُلِّ أَحَدٍ لَمْ يَكُنْ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَزِيدُ تَخْصِيصٍ بِذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ التَّخْصِيصِ وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً أَيْ مَا جَعَلَنِي مُتَكَبِّرًا بَلْ أَنَا خَاضِعٌ لِأَنِّي مُتَوَاضِعٌ لَهَا وَلَوْ كُنْتُ جَبَّارًا لَكُنْتُ عَاصِيًا شَقِيًّا. وَرُوِيَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: قَلْبِي لَيِّنٌ وَأَنَا صَغِيرٌ فِي نَفْسِي وَعَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لَا تَجِدُ الْعَاقَّ إِلَّا جَبَّارًا شَقِيًّا وَتَلَا: وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا وَلَا تَجِدُ سَيِّئَ الْمِلْكَةِ إِلَّا مُخْتَالًا فَخُورًا وَقَرَأَ: وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً. الصِّفَةُ الثَّامِنَةُ: هِيَ قَوْلُهُ: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا وَفِيهِ مسائل: المسألة الأولى: قال بعضهم: لا التَّعْرِيفِ فِي السَّلَامِ مُنْصَرِفٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّتَيْ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْلِهِ: وَسَلامٌ عَلَيْهِ [مَرْيَمَ: 15] أَيِ السَّلَامُ الْمُوَجَّهُ إِلَيْهِ فِي الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ مَوْجَّهٌ إِلَيَّ أَيْضًا وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الصَّحِيحُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّعْرِيفُ تَعْوِيضًا بِاللَّعْنِ عَلَى مَنِ اتَّهَمَ مَرْيَمَ بِالزِّنَا وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ اللَّامَ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَإِذَا قَالَ: وَالسَّلامُ عَلَيَّ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَكُلُّ السَّلَامِ عَلَيَّ وَعَلَى أَتْبَاعِي فَلَمْ يَبْقَ لِلْأَعْدَاءِ إِلَّا اللَّعْنُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه: 47] بِمَعْنَى أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَكَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ اللَّجَاجِ وَالْعِنَادِ وَيَلِيقُ بِهِ مِثْلُ هَذَا التَّعْرِيضِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى بَعْضُهُمْ عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِيَحْيَى أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَسَلَّمْتُ عَلَى نَفْسِي وَأَجَابَ الْحَسَنُ فَقَالَ: إِنَّ تَسْلِيمَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِتَسْلِيمِ اللَّهِ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي: السَّلَامُ عِبَارَةٌ عَمَّا يَحْصُلُ بِهِ الْأَمَانُ وَمِنْهُ السَّلَامَةُ فِي النِّعَمِ وَزَوَالُ الْآفَاتِ فَكَأَنَّهُ سَأَلَ رَبَّهُ وَطَلَبَ مِنْهُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ فَعَلَهُ بِيَحْيَى، وَلَا بُدَّ فِي الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُسْتَجَابِي الدَّعْوَةِ وَأَعْظَمُ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ احْتِيَاجًا إِلَى السَّلَامَةِ هِيَ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الثَّلَاثَةُ وَهِيَ يَوْمُ الْوِلَادَةِ وَيَوْمُ الْمَوْتِ وَيَوْمُ الْبَعْثِ فَجَمِيعُ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى السَّلَامَةِ وَاجْتِمَاعِ السَّعَادَةِ مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى طَلَبَهَا لِيَكُونَ مَصُونًا عَنِ الْآفَاتِ وَالْمُخَافَاتِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُنْكِرُونَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَكَلَّمَ فِي زَمَانِ الطُّفُولِيَّةِ

[سورة مريم (19) : الآيات 34 إلى 35]

وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ هَذَا مِنَ الْوَقَائِعِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي تَتَوَافَرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا فَلَوْ وُجِدَتْ لَنُقِلَتْ بِالتَّوَاتُرِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَعَرَفَهُ النَّصَارَى لَا سِيَّمَا وَهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَحْثًا عَنْ أَحْوَالِهِ وَأَشَدِّ النَّاسِ غُلُوًّا فِيهِ حَتَّى زَعَمُوا كَوْنَهُ إِلَهًا وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الطُّفُولِيَّةِ مِنَ الْمَنَاقِبِ الْعَظِيمَةِ وَالْفَضَائِلِ التَّامَّةِ فَلَمَّا لَمْ تَعْرِفْهُ النَّصَارَى مَعَ شِدَّةِ الْحُبِّ وَكَمَالِ الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ وَلِأَنَّ الْيَهُودَ أَظْهَرُوا عَدَاوَتَهُ حَالَ مَا أَظْهَرَ ادِّعَاءَ النُّبُوَّةِ فَلَوْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَكَلَّمَ فِي زَمَانِ الطُّفُولِيَّةِ وَادَّعَى الرِّسَالَةَ لَكَانَتْ عَدَاوَتُهُمْ مَعَهُ أَشَدَّ وَلَكَانَ قَصْدُهُمْ قَتْلَهُ أَعْظَمَ فَحَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا تَكَلَّمَ، أَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَقَدِ احْتَجُّوا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ عَلَى أَنَّهُ تَكَلَّمَ فَإِنَّهُ لَوْلَا كَلَامُهُ الَّذِي دَلَّهُمْ عَلَى بَرَاءَةِ أُمِّهِ مِنَ الزِّنَا لَمَا تَرَكُوا إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الزِّنَا عَلَيْهَا فَفِي تَرْكِهِمْ لِذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ وَأَجَابُوا عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى بِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ الْحَاضِرُونَ عِنْدَ كَلَامِهِ قَلِيلِينَ فَلِذَلِكَ لَمْ يَشْتَهِرْ وَعَنِ الثَّانِي لَعَلَّ الْيَهُودَ مَا حَضَرُوا هُنَاكَ وَمَا سَمِعُوا كَلَامَهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَشْتَغِلُوا بِقَصْدِ قَتْلِهِ. [سورة مريم (19) : الآيات 34 الى 35] ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) [في قوله تعالى ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ: قَوْلَ الْحَقِّ بِالنَّصْبِ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: قال الحق وقال اللَّهُ وَعَنِ الْحَسَنِ: قُولَ الْحَقَّ بِضَمِّ الْقَافِ وَكَذَلِكَ فِي الْأَنْعَامِ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَالْقَوْلُ وَالْقَالُ القول فِي مَعْنًى وَاحِدٍ كَالرَّهْبِ وَالرَّهَبِ وَالرُّهْبِ، أَمَّا ارْتِفَاعُهُ فَعَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَأَمَّا انْتِصَابُهُ فَعَلَى الْمَدْحِ إِنْ فُسِرَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ كَقَوْلِكَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ الْحَقُّ لَا الْبَاطِلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا شُبْهَةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ [مَرْيَمَ: 30] أَيْ ذَلِكَ الْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ هُوَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَفِي قَوْلِهِ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ وَلَدُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَابْنُهَا لا أنه ابن الله. فأما قوله الْحَقِّ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: وَهُوَ أَنَّ نَفْسَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ قَوْلُ الْحَقِّ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ اسْمُ اللَّهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ نَقُولَ عِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ وَبَيْنَ أَنْ نَقُولَ عِيسَى قَوْلُ الْحَقِّ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: «ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الْقَوْلُ الْحَقُّ» إِلَّا أَنَّكَ أَضَفْتَ الْمَوْصُوفَ إِلَى الصِّفَةِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ [الْوَاقِعَةِ: 95] وَفَائِدَةُ قَوْلِكَ: الْقَوْلُ الْحَقُّ تَأْكِيدُ مَا ذَكَرْتَ أَوَّلًا مِنْ كَوْنِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ابْنًا لِمَرْيَمَ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلَ الْحَقِّ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَوَصْفُنَا لَهُ هُوَ قَوْلُ الْحَقِّ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ أَوَّلًا ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الْمَوْصُوفَ هُوَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ أَجْمَعَ هُوَ قَوْلُ الْحَقِّ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ ثَابِتٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْطُلَ كَمَا بَطَلَ مَا يَقَعُ مِنْهُمْ مَنِ الْمِرْيَةِ وَيَكُونُ فِي مَعْنَى إِنَّ هَذَا لَهْوُ الْحَقُّ الْيَقِينُ. فَأَمَّا امْتِرَاؤُهُمْ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْمَذَاهِبُ الَّتِي حَكَيْنَاهَا مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، رُوِيَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رُفِعَ حَضَرَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَكَابِرِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ فَقِيلَ لِلْأَوَّلِ مَا تَقُولُ فِي عِيسَى؟ فَقَالَ: هُوَ إِلَهٌ وَاللَّهُ إِلَهٌ وَأُمُّهُ إِلَهٌ، فَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ نَاسٌ وَهُمُ الْإِسْرَائِيلِيَّةٌ، وَقِيلَ لِلرَّابِعِ مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَهُوَ الْمُؤْمِنُ الْمُسْلِمُ، وَقَالَ أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ عِيسَى كَانَ يَطْعَمُ وَيَنَامُ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ ذَلِكَ؟ فَخَصَمَهُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ

فَهُوَ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ثُبُوتَ الْوَلَدِ لَهُ مُحَالٌ فَقَوْلُنَا: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ كَقَوْلِهِ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَقُولَ لِأَحَدٍ إِنَّهُ وَلَدِي لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ كَذِبٌ وَالْكَذِبُ لَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَمَالِهِ فَقَوْلُهُ: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ كَقَوْلِنَا: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَظْلِمَ أَيْ لَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِحِكْمَتِهِ وَكَمَالِ إِلَهِيَّتِهِ، وَاحْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِالْآيَةِ بِنَاءً عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ شَيْءٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ هَذَا الْإِيجَادُ أَيْ لَيْسَ لَهُ هَذَا الاختيار وأجاب أصحابنا عنه بأنه الْكَذِبَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَا جَرَمَ قَالَ: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ أَمَّا قَوْلُهُ: سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ سُبْحانَهُ ثُمَّ قَالَ عَقِيبَهُ: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ كَانَ كَالْحُجَّةِ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَنِ الْوَلَدِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يُجْعَلُ وَلَدًا لِلَّهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ/ قَدِيمًا أَزَلِيًّا أَوْ يَكُونَ مُحْدَثًا فَإِنْ كَانَ أَزَلِيًّا فَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ لَكَانَ وَاجِبُ الْوُجُودِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ. هَذَا خُلْفٌ. وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ كَانَ مُفْتَقِرًا فِي وُجُودِهِ إِلَى الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ غَنِيًّا لِذَاتِهِ فَيَكُونُ الْمُمْكِنُ مُحْتَاجًا لِذَاتِهِ فَيَكُونُ عَبْدًا لَهُ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْعُبُودِيَّةِ إِلَّا ذَلِكَ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الَّذِي يُجْعَلُ وَلَدًا يَكُونُ مُحْدَثًا فَيَكُونُ وُجُودُهُ بَعْدَ عَدَمِهِ بِخَلْقِ ذَلِكَ الْقَدِيمِ وَإِيجَادِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَيَكُونُ عَبْدًا لَهُ لَا وَلَدًا لَهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَلَدٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِقَوْلِهِ: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ عَلَى قِدَمِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى قَالُوا: لِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ إِحْدَاثَ شَيْءٍ قَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ كُنْ مُحْدَثًا لَافْتَقَرَ حُدُوثُهُ إِلَى قَوْلٍ آخَرَ وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ قَدِيمٌ لَا مُحْدَثٌ، وَاحْتَجَّ الْمُعْتَزِلَةُ بِالْآيَةِ عَلَى حُدُوثِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَدْخَلَ عَلَيْهِ كَلِمَةَ إِذَا وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ دَالَّةٌ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْقَوْلُ إِلَّا فِي الِاسْتِقْبَالِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ حَرْفَ الْفَاءِ لِلتَّعْقِيبِ وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ يَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِ ذَلِكَ الْقَوْلِ عَنْ ذَلِكَ الْقَضَاءِ وَالْمُتَأَخِّرُ عَنْ غَيْرِهِ مُحْدَثٌ. وَثَالِثُهَا: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَيَكُونُ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ ذَلِكَ الشَّيْءِ عَقِيبَ ذَلِكَ الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فَيَكُونُ قَوْلُ اللَّهِ مُتَقَدِّمًا عَلَى حُدُوثِ الْحَادِثِ تَقَدُّمًا بِلَا فَصْلٍ وَالْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْمُحْدَثِ تَقَدُّمًا بِلَا فَصْلٍ يَكُونُ مُحْدَثًا، فَقَوْلُ اللَّهِ مُحْدَثٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ اسْتِدْلَالَ الْفَرِيقَيْنِ ضَعِيفٌ، أَمَّا اسْتِدْلَالُ الْأَصْحَابِ فَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: كُنْ قَدِيمًا وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْمُرَكَّبَ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَهُوَ مُحْدَثٌ وَذَلِكَ لَا نِزَاعَ فِيهِ إِنَّمَا الْمُدَّعَى قِدَمُ شَيْءٍ آخَرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ أَجْرَى الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا فَزَعَمَ أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَحْدَثَ شَيْئًا قَالَ لَهُ كُنْ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ، إِمَّا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ قَبْلَ حُدُوثِهِ أَوْ حَالَ حُدُوثِهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ ذَلِكَ خِطَابًا مَعَ الْمَعْدُومِ وَهُوَ عَبَثٌ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ حَالَ حُدُوثِهِ قَدْ وُجِدَ بِالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ فَأَيُّ تَأْثِيرٍ لِقَوْلِهِ كُنْ فِيهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: كُنْ هُوَ الْتَّخْلِيقُ وَالتَّكْوِينُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الشَّيْءِ غَيْرٌ وَتَكْوِينُ الشَّيْءِ غَيْرٌ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ فِي الْأَزَلِ وَغَيْرُ مَكُونٍ فِي الْأَزَلِ، وَلِأَنَّهُ الْآنَ قَادِرٌ عَلَى عَوَالِمَ سِوَى هَذَا الْعَالَمِ وَغَيْرُ مَكُونٍ لَهَا، وَالْقَادِرِيَّةُ غَيْرُ الْمَكُونِيَّةِ وَالتَّكْوِينُ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الْمَكُونِ لِأَنَّا نَقُولُ الْمَكُونُ إِنَّمَا حَدَثَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَوَّنَهُ فَأَوْجَدَهُ، فَلَوْ كَانَ التَّكْوِينُ نَفْسَ الْمَكُونِ لَكَانَ قَوْلُنَا الْمَكُونُ إِنَّمَا وُجِدَ بِتَكْوِينِ اللَّهِ تَعَالَى نَازِلًا مَنْزِلَةَ قَوْلِنَا الْمَكُونُ

[سورة مريم (19) : الآيات 36 إلى 40]

إِنَّمَا وُجِدَ بِنَفْسِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ التَّكْوِينَ غَيْرُ الْمَكُونِ فَقَوْلُهُ: كُنْ إِشَارَةٌ إِلَى الصِّفَةِ الْمُسَمَّاةِ بِالتَّكْوِينِ، وَقَالَ آخَرُونَ قَوْلُهُ: كُنْ عِبَارَةٌ عَنْ نَفَاذِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ فِي الْمُمْكِنَاتِ. فَإِنَّ وُقُوعَهَا بِتِلْكَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ مِنْ غَيْرِ امْتِنَاعٍ وَانْدِفَاعٍ/ يَجْرِي مَجْرَى الْعَبْدِ الْمُطِيعِ الْمُسَخَّرِ الْمُنْقَادِ لِأَوَامِرِ مَوْلَاهُ، فَعَبَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ عَلَى سبيل الاستعارة. [سورة مريم (19) : الآيات 36 الى 40] وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْمَدَنِيُّونَ وَأَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ أَنَّ، وَمَعْنَاهُ وَلِأَنَّهُ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بِالْكَسْرِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَفِي حِرَفِ أُبَيٍّ إِنَّ اللَّهَ بِالْكَسْرِ مِنْ غَيْرِ وَاوٍ أَيْ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَاعْبُدُوهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَائِلُ هَذَا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ فَقُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ بَعْدَ إِظْهَارِ الْبَرَاهِينِ الْبَاهِرَةِ فِي أَنَّ عِيسَى هُوَ عَبْدُ اللَّهِ. الثَّانِي: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: الْوَاوُ فِي وَإِنَّ اللَّهَ عَطْفٌ عَلَى قول عيسى عليه السلام: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ [مَرْيَمَ: 30] كَأَنَّهُ قَالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَإِنَّهُ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ عَهِدَ إِلَيْهِمْ حِينَ أَخْبَرَهُمْ عَنْ بَعْثِهِ وَمَوْلِدِهِ وَنَعْتِهِ أَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ أَيْ كُلُّنَا عُبَيْدُ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُدَبِّرَ النَّاسِ وَمُصْلِحَ أُمُورِهِمْ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ إِنَّ مُدَبِّرَ النَّاسِ وَمُصْلِحَ أُمُورِهِمْ فِي السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ هِيَ الْكَوَاكِبُ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ لِأَنَّ لَفْظَ اللَّهِ اسْمُ عَلَمٍ لَهُ سُبْحَانَهُ فَلَمَّا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ/ أَيْ لَا رَبَّ لِلْمَخْلُوقَاتِ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَاعْبُدُوهُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ فَهَهُنَا الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ وَقَعَ مُرَتَّبًا عَلَى ذِكْرِ وَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا تَلْزَمُنَا عِبَادَتُهُ سُبْحَانَهُ لِكَوْنِهِ رَبًّا لَنَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا تَجِبُ عِبَادَتُهُ لِكَوْنِهِ مُنْعِمًا عَلَى الْخَلَائِقِ بِأُصُولِ النِّعَمِ وَفُرُوعِهَا، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا مَنَعَ أَبَاهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ قَالَ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يَعْنِي أَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَكُنْ مُنْعِمَةً عَلَى الْعِبَادِ لَمْ تَجُزْ عِبَادَتُهَا، وَبِهَذِهِ الْآيَةِ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا كَانَ رَبًّا وَمُرَبِّيًا لِعِبَادِهِ وَجَبَ عِبَادَتُهُ، فَقَدْ ثَبَتَ طَرْدًا وَعَكْسًا تَعَلُّقُ الْعِبَادَةِ بِكَوْنِ الْمَعْبُودِ مُنْعِمًا، أَمَّا قَوْلُهُ: هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ يَعْنِي الْقَوْلُ بِالتَّوْحِيدِ وَنَفِيُ الْوَلَدِ وَالصَّاحِبَةِ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَأَنَّهُ سَمَّى هَذَا الْقَوْلَ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ تَشْبِيهًا بِالطَّرِيقِ لِأَنَّهُ الْمُؤَدِّي إِلَى الْجَنَّةِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَفِي الْأَحْزَابِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ فِرَقُ النَّصَارَى عَلَى مَا بَيَّنَّا أَقْسَامَهُمْ. الثَّانِي: الْمُرَادُ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ فَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ وَلَدًا وَبَعْضُهُمْ كَذَّابًا. الثَّالِثُ: الْمُرَادُ الْكُفَّارُ الدَّاخِلُ فِيهِمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْكُفَّارُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَإِذَا قُلْنَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ، فَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ لَا تَخْصِيصَ فِيهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مُؤَكِّدٌ لِهَذَا الِاحْتِمَالِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَالْمَشْهَدُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الشُّهُودُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَوِ الشَّهَادَةُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَشْهَدِ نَفْسَ شُهُودِهِمْ هَوْلَ الْحِسَابِ، وَالْجَزَاءِ فِي الْقِيَامَةِ أَوْ مَكَانَ الشُّهُودِ فِيهِ وَهُوَ الْمَوْقِفُ، أَوْ وَقْتُ الشُّهُودِ، وَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ شَهَادَةَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَشَهَادَةَ أَلْسِنَتِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ بِالْكُفْرِ وَسُوءِ الْأَعْمَالِ، وَأَنْ يَكُونَ مَكَانَ الشَّهَادَةِ أَوْ وَقْتَهَا، وَقِيلَ: هُوَ مَا قَالُوهُ وَشَهِدُوا بِهِ فِي عِيسَى وَأُمِّهِ، وَإِنَّمَا وُصِفَ ذَلِكَ الْمَشْهَدُ بِأَنَّهُ عَظِيمٌ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِمَّا يُشَاهَدُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ مُحَاسَبَةٍ وَمُسَاءَلَةٍ، وَلَا شَيْءَ مِنَ الْمَنَافِعِ أَعْظَمُ مِمَّا هُنَالِكَ مِنَ الثواب ولا بد مِنَ الْمَضَارِّ أَعْظَمُ مِمَّا هُنَالِكَ مِنَ الْعِقَابِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالُوا: التَّعَجُّبُ هُوَ اسْتِعْظَامُ الشَّيْءِ مَعَ الْجَهْلِ بِسَبَبِ عِظَمِهِ، ثم يجوز استعمال لفظ التعجب عن مُجَرَّدِ الِاسْتِعْظَامِ مِنْ غَيْرِ خَفَاءِ السَّبَبِ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْعِظَمِ سَبَبُ حُصُولٍ، قَالَ الْفَرَّاءُ قَالَ سُفْيَانُ: قَرَأْتُ عِنْدَ شُرَيْحٍ: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ [الصَّافَّاتِ: 12] فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَعْجَبُ مِنْ شَيْءٍ إِنَّمَا يَعْجَبُ مَنْ لَا يَعْلَمُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فَقَالَ: إِنَّ شُرَيْحًا شَاعِرٌ يُعْجِبُهُ عِلْمُهُ، وَعَبْدُ اللَّهِ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُ قَرَأَهَا: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ صَدَرَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِعْلٌ لَوْ صَدَرَ مِثْلُهُ عَنِ الْخَلْقِ لَدَلَّ عَلَى حُصُولِ التَّعَجُّبِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ يُضَافُ الْمَكْرُ وَالِاسْتِهْزَاءُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِلتَّعَجُّبِ صِفَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: مَا أَفْعَلَهُ. / وَالثَّانِيَةُ: أَفْعِلْ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ وَالنَّحْوِيُّونَ ذَكَرُوا لَهُ تَأْوِيلَاتٍ: الْأَوَّلُ: قَالُوا: أَكْرِمْ بِزَيْدٍ أَصْلُهُ أَكْرَمَ زَيْدٌ أَيْ صَارَ ذَا كَرَمٍ كَأَغَدَّ الْبَعِيرُ أَيْ صَارَ ذَا غُدَّةٍ إِلَّا أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ كَمَا خَرَجَ عَلَى لَفْظِ الْخَبَرِ مَا مَعْنَاهُ الْأَمْرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ [الْبَقَرَةِ: 228] ، وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ [الْبَقَرَةِ: 233] ، قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا [مَرْيَمَ: 75] أَيْ يَمُدُّ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا، وَكَذَا قَوْلُهُمْ: رَحِمَهُ اللَّهُ خَبَرٌ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الدُّعَاءَ وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ. الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ أَمْرٌ لِكُلِّ أَحَدٍ بِأَنْ يَجْعَلَ زَيْدًا كَرِيمًا أَيْ بِأَنْ يَصِفَهُ بِالْكَرْمِ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [الْبَقَرَةِ: 195] وَلَقَدْ سَمِعْتُ لِبَعْضِ الْأُدَبَاءِ فِيهِ تَأْوِيلًا. ثَالِثًا: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَكَ أَكْرِمْ بِزَيْدٍ يُفِيدُ أَنَّ زَيْدًا بَلَغَ فِي الْكَرَمِ إِلَى حَيْثُ كَأَنَّهُ فِي ذَاتِهِ صَارَ كَرَمًا حَتَّى لَوْ أَرَدْتَ جَعْلَ غَيْرِهِ كَرِيمًا فَهُوَ الَّذِي يُلْصِقُكَ بِمَقْصُودِكَ وَيُحَصِّلُ لَكَ غَرَضَكَ، كَمَا أَنَّ مَنْ قَالَ: أَكْتُبُ بِالْقَلَمِ فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْقَلَمَ هُوَ الَّذِي يُلْصِقُكَ بِمَقْصُودِكَ وَيُحَصِّلُ لَكَ غَرَضَكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْأَقْوَى أَنَّ مَعْنَاهُ مَا أَسْمَعَهُمْ وَمَا أَبْصَرَهُمْ وَالتَّعَجُّبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ أَسْمَاعَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ يَوْمَئِذٍ جَدِيرٌ بِأَنْ يُتَعَجَّبَ منهما بعد ما كَانُوا صُمًّا وَعُمْيًا فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ مِمَّا سَيَسْمَعُونَ وَسَيُبْصِرُونَ مِمَّا يَسُوءُ بَصَرَهُمْ وَيُصَدِّعُ قُلُوبَهُمْ. وَثَانِيهَا: قَالَ الْقَاضِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَسْمِعْ هَؤُلَاءِ وَأَبْصِرْهُمْ أَيْ عَرِّفْهُمْ حَالَ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَأْتُونَنَا لِيَعْتَبِرُوا وَيَنْزَجِرُوا. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: وَيَجُوزُ أَسْمِعِ النَّاسَ بِهَؤُلَاءِ وَأَبْصِرْهُمْ بِهِمْ لِيَعْرِفُوا أَمْرَهُمْ وَسُوءَ عَاقِبَتِهِمْ فَيَنْزَجِرُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ فِعْلِهِمْ أَمَّا قَوْلُهُ: لكِنِ الظَّالِمُونَ

[سورة مريم (19) : الآيات 41 إلى 45]

الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَفِي الْآخِرَةِ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ. وَالثَّانِي: لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ فِي ضَلَالٍ عَنِ الْجَنَّةِ بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْذِرْهُمْ فَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّهُ أَمْرٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُنْذِرَ مَنْ فِي زَمَانِهِ فَيَصْلُحَ بِأَنْ يَجْعَلَ هَذَا كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ أَرَادَ بِهِ اخْتِلَافَ جَمِيعِهِمْ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا الْإِنْذَارُ فَهُوَ التَّخْوِيفُ مِنَ الْعَذَابِ لِكَيْ يَحْذَرُوا مِنْ تَرْكِ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا يَوْمُ الْحَسْرَةِ فَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مِنْ حَيْثُ يَكْثُرُ التَّحَسُّرُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَقِيلَ يَتَحَسَّرُ أَيْضًا فِي الْجَنَّةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّابِقِينَ الْوَاصِلِينَ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْحَسْرَةَ غَمٌّ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الثَّوَابِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ بِبَيَانِ الدَّلَائِلِ وَشَرْحِ أَمْرِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَثَانِيهَا: إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ يَوْمَ الْحَسْرَةِ بِفَنَاءِ الدُّنْيَا وَزَوَالِ التَّكْلِيفِ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِقَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ ظَهَرَتِ الْحُجَجُ وَالْبَيِّنَاتُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَثَالِثُهَا: رُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: قُضِيَ الْأَمْرُ: «فَقَالَ حِينَ يُجَاءُ بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُذْبَحُ وَالْفَرِيقَانِ يَنْظُرَانِ فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا عَلَى فَرَحٍ وَأَهْلُ النَّارِ غَمًّا عَلَى غَمٍّ» وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَوْتَ عَرَضٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ/ جِسْمًا حَيَوَانِيًّا بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا مَوْتَ الْبَتَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ أَيْ عَنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَعَنْ كَيْفِيَّةِ حَسْرَتِهِ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ بِذَلِكَ الْيَوْمِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها أَيْ هَذِهِ الْأُمُورِ تَؤُولُ إِلَى أَنْ لَا يَمْلِكَ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى: وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ أَيْ إِلَى مَحَلِّ حُكْمِنَا وَقَضَائِنَا لِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَكَانِ حَتَّى يَكُونَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ وَهَذَا تَخْوِيفٌ عَظِيمٌ وَزَجْرٌ بليغ للعصاة. القصة الثالثة: قصة إبراهيم عليه السلام. [سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 45] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) اعْلَمْ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانُ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْحَشْرِ، وَالْمُنْكِرُونَ لِلتَّوْحِيدِ هُمُ الَّذِينَ أَثْبَتُوا مَعْبُودًا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَؤُلَاءِ فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ مَعْبُودًا غَيْرَ اللَّهِ حَيًّا عَاقِلًا فَاهِمًا وَهُمُ النَّصَارَى، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ مَعْبُودًا غَيْرَ اللَّهِ جَمَادًا لَيْسَ بِحَيٍّ وَلَا عَاقِلٍ وَلَا فَاهِمٍ وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ وَالْفَرِيقَانِ وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الضَّلَالِ إِلَّا أَنَّ ضَلَالَ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَعْظَمُ فَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى ضَلَالَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ تَكَلَّمَ فِي ضَلَالِ الْفَرِيقِ الثَّانِي وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ فَقَالَ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ تعالى واذكر عطف على قوله: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [مريم: 2] كَأَنَّهُ لَمَّا انْتَهَتْ قِصَّةُ عِيسَى وَزَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ قَالَ قَدْ ذَكَرْتَ حَالَ زَكَرِيَّا فَاذْكُرْ حَالَ إِبْرَاهِيمَ وَإِنَّمَا أُمِرَ بِذِكْرِهِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ هُوَ وَلَا قَوْمُهُ وَلَا أَهْلُ بَلْدَتِهِ مُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ وَمُطَالَعَةِ الْكُتُبِ فَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ كَمَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ كَانَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ وَمُعْجِزًا قَاهِرًا دَالًّا عَلَى نُبُوَّتِهِ. وإنما شرع

فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أن إبراهيم عليه السلام كان أب الْعَرَبِ وَكَانُوا مُقِرِّينَ/ بِعُلُوِّ شَأْنِهِ وَطَهَارَةِ دِينِهِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الْحَجِّ: 78] وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [الْبَقَرَةِ: 130] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِلْعَرَبِ إِنْ كُنْتُمْ مُقَلِّدِينَ لِآبَائِكُمْ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُكُمْ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: 23] وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَشْرَفَ آبَائِكُمْ وَأَجَلَّهُمْ قَدْرًا هُوَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَلِّدُوهُ فِي تَرْكِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنَ الْمُسْتَدِلِّينَ فَانْظُرُوا فِي هَذِهِ الدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِتَعْرِفُوا فَسَادَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَبِالْجُمْلَةِ فَاتَّبِعُوا إِبْرَاهِيمَ إِمَّا تَقْلِيدًا وَإِمَّا اسْتِدْلَالًا. وَثَانِيهَا: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكُفَّارِ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَقُولُونَ كَيْفَ نَتْرُكُ دِينَ آبَائِنَا وَأَجْدَادِنَا فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ تَرَكَ دِينَ أَبِيهِ وَأَبْطَلَ قَوْلَهُ بِالدَّلِيلِ وَرَجَّحَ مُتَابَعَةَ الدَّلِيلِ عَلَى مُتَابَعَةِ أَبِيهِ لِيَعْرِفَ الْكُفَّارُ أَنَّ تَرْجِيحَ جَانِبِ الْأَبِ عَلَى جَانِبِ الدَّلِيلِ رَدٌّ عَلَى الْأَبِ الْأَشْرَفِ الْأَكْبَرِ الَّذِي هُوَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكُفَّارِ كَانُوا يَتَمَسَّكُونَ بِالتَّقْلِيدِ وَيُنْكِرُونَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف: 22] وقالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 53] فَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ التَّمَسُّكَ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِدْلَالِ تَنْبِيهًا لِهَؤُلَاءِ عَلَى سُقُوطِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَفِي الصِّدِّيقِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُبَالَغَةٌ فِي كَوْنِهِ صَادِقًا وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ عَادَتُهُ الصِّدْقَ لِأَنَّ هَذَا الْبِنَاءَ يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ يُقَالُ رَجُلٌ خِمِّيرٌ وَسِكِّيرٌ لِلْمُولَعِ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الَّذِي يَكُونُ كَثِيرَ التَّصْدِيقِ بِالْحَقِّ حَتَّى يَصِيرَ مَشْهُورًا بِهِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُصَدِّقَ بِالشَّيْءِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ صِدِّيقًا إِلَّا إِذَا كَانَ صَادِقًا فِي ذَلِكَ التَّصْدِيقِ فَيَعُودُ الْأَمْرُ إِلَى الْأَوَّلِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ [الْحَدِيدِ: 19] قُلْنَا: الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ صَادِقُونَ فِي ذَلِكَ التَّصْدِيقِ وَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَدَّقَهُ وَمُصَدَّقُ اللَّهِ صَادِقٌ وَإِلَّا لَزِمَ الْكَذِبُ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا كَوْنُ الرَّسُولِ صَادِقًا فِي كُلِّ مَا يَقُولُ، وَلِأَنَّ الرُّسُلَ شُهَدَاءُ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاءِ: 41] وَالشَّهِيدُ إِنَّمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ كَاذِبًا. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا قَوْلُكُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء: 63] وإِنِّي سَقِيمٌ قُلْنَا قَدْ شَرَحْنَا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِكَذِبٍ فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ صِدِّيقًا وَلَا يَجِبُ فِي كُلِّ صِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا ظَهَرَ بِهَذَا قُرْبُ مَرْتَبَةِ الصِّدِّيقِ مِنْ مَرْتَبَةِ النَّبِيِّ فَلِهَذَا انْتَقَلَ مِنْ ذِكْرِ كَوْنِهِ صِدِّيقًا إِلَى ذِكْرِ كَوْنِهِ نَبِيًّا. وَأَمَّا النَّبِيُّ فَمَعْنَاهُ كَوْنُهُ رَفِيعَ الْقَدْرِ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ النَّاسِ وَأَيُّ رِفْعَةٍ أَعْلَى مِنْ رِفْعَةِ مَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ وَاسِطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ. وَقَوْلُهُ: كانَ صِدِّيقاً قِيلَ: إِنَّهُ صَارَ وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَاهُ وُجِدَ صِدِّيقًا نَبِيًّا أَيْ كَانَ مِنْ أَوَّلِ وُجُودِهِ إِلَى انْتِهَائِهِ مَوْصُوفًا بِالصِّدْقِ وَالصِّيَانَةِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَقَعَتِ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَبَدَلِهِ أَعْنِي إِبْرَاهِيمَ وَإِذْ قَالَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ رَأَيْتُ زَيْدًا وَنِعْمَ الرَّجُلُ أَخَاكَ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ إِذْ بَكَانِ أَوْ بِصِدِّيقًا نَبِيًّا أَيْ كَانَ جَامِعًا لِخَصَائِصِ الصِّدِّيقِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ حِينَ خَاطَبَ أباه بتلك المخاطبات/ أما قوله: يا أَبَتِ فَالتَّاءُ عِوَضٌ عَنْ يَاءِ الْإِضَافَةِ وَلَا يُقَالُ يَا أَبَتِي لِئَلَّا يُجْمَعَ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ عَنْهُ وَقَدْ يُقَالُ: يَا أَبَتَا لِكَوْنِ الْأَلِفِ بَدَلًا مِنَ الْيَاءِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَكَلَّمَ مَعَ أَبِيهِ بِأَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْكَلَامِ. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلِهِ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ووصف الْأَوْثَانَ بِصِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا قَادِحَةٌ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أن

الْعِبَادَةَ غَايَةُ التَّعْظِيمِ فَلَا يَسْتَحِقُّهَا إِلَّا مَنْ لَهُ غَايَةُ الْإِنْعَامِ وَهُوَ الْإِلَهُ الَّذِي مِنْهُ أُصُولُ النِّعَمِ وَفُرُوعُهَا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ [مريم: 36] وَقَالَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [الْبَقَرَةِ: 28] الْآيَةَ وَكَمَا يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِشُكْرِهَا مَا لَمْ تَكُنْ مُنْعِمَةً وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَتِهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّهَا إِذَا لَمْ تَسْمَعْ وَلَمْ تُبْصِرْ وَلَمْ تُمَيِّزْ مَنْ يُطِيعُهَا عَمَّنْ يَعْصِيهَا فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي عِبَادَتِهَا، وَهَذَا يُنَبِّهُكَ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ حَتَّى يَكُونَ الْعَبْدُ آمِنًا مِنْ وُقُوعِ الْغَلَطِ لِلْمَعْبُودِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الدُّعَاءَ مُخُّ الْعِبَادَةِ فَالْوَثَنُ إِذَا لَمْ يَسْمَعْ دُعَاءَ الدَّاعِي فَأَيُّ مَنْفَعَةٍ فِي عِبَادَتِهِ وَإِذَا كَانَتْ لَا تُبْصِرُ بِتَقَرُّبِ مَنْ يَقْتَرِبُ إِلَيْهَا فَأَيُّ مَنْفَعَةٍ فِي ذَلِكَ التَّقَرُّبِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ السَّامِعَ الْمُبْصِرَ الضَّارَّ النَّافِعَ أَفْضَلُ مِمَّنْ كَانَ عَارِيًا عَنْ كُلِّ ذَلِكَ، وَالْإِنْسَانُ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَيَكُونُ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ مِنَ الْوَثَنِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْأَفْضَلِ عِبَادَةُ الْأَخَسِّ. وَخَامِسُهَا: إِذَا كَانَتْ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ فَلَا يُرْجَى مِنْهَا مَنْفَعَةٌ وَلَا يُخَافُ مِنْ ضَرَرِهَا فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي عِبَادَتِهَا. وَسَادِسُهَا: إِذَا كَانَتْ لَا تَحْفَظُ أَنْفُسَهَا عَنِ الْكَسْرِ وَالْإِفْسَادِ عَلَى مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَسَّرَهَا وَجَعَلَهَا جُذَاذًا فَأَيُّ رَجَاءٍ لِلْغَيْرِ فِيهَا وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَابَ الْوَثَنَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: لَا يَسْمَعُ. وَثَانِيهَا: لَا يُبْصِرُ. وَثَالِثُهَا: لَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: بَلِ الْإِلَهِيَّةُ لَيْسَتْ إِلَّا لِرَبِّي فَإِنَّهُ يَسْمَعُ وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي وَيُبْصِرُ، كَمَا قَالَ: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طَهَ: 46] وَيَقْضِي الْحَوَائِجَ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النَّمْلِ: 62] واعلم أن قوله هاهنا لِمَ تَعْبُدُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْسِ الْعِبَادَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْمَقَامِ الثَّالِثِ: لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ لَا يُقَالُ ذَلِكَ بَلِ الْمُرَادُ الطَّاعَةُ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الطَّاعَةِ وَلِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ إِذَا تَرَكْنَا الظَّاهِرَ هاهنا لِدَلِيلٍ وَجَبَ تَرْكُ الظَّاهِرِ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ فَإِنْ قِيلَ: إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ أَبَا إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَعْتَقِدُ فِي تِلْكَ الْأَوْثَانِ أَنَّهَا آلِهَةٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا قَادِرَةٌ مُخْتَارَةٌ مُوجِدَةٌ لِلنَّاسِ وَالْحَيَوَانَاتِ أَوْ يُقَالُ إِنَّهُ مَا كَانَ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ بَلْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا تَمَاثِيلُ الْكَوَاكِبِ وَالْكَوَاكِبُ هِيَ الْآلِهَةُ الْمُدَبِّرَةُ لِهَذَا الْعَالَمِ، فَتَعْظِيمُ تَمَاثِيلِ الْكَوَاكِبِ بِمُوجَبِ تَعْظِيمِ الْكَوَاكِبِ أَوْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ هَذِهِ الْأَوْثَانَ تَمَاثِيلُ أَشْخَاصِ مُعَظَّمَةٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْبَشَرِ فَتَعْظِيمُهَا يَقْتَضِي كَوْنَ أُولَئِكَ الْأَشْخَاصِ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ تِلْكَ الْأَوْثَانَ طَلْسَمَاتٌ رُكِّبَتْ بِحَسَبِ اتِّصَالَاتٍ مَخْصُوصَةٍ لِلْكَوَاكِبِ قَلَّمَا يَتَّفِقُ مِثْلُهَا، وَأَنَّهَا مُشَفَّعٌ بِهَا، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْذَارِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَإِنْ كَانَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ كَانَ فِي نِهَايَةِ الْجُنُونِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ هَذَا الْخَشَبَ الْمَنْحُوتَ فِي هَذِهِ الساعة ليس خالقا للسموات وَالْأَرْضِ مِنْ/ أَجْلَى الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ، فَالشَّاكُّ فِيهِ يَكُونُ فَاقِدًا لَأَجْلَى الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ فَكَانَ مَجْنُونًا وَالْمَجْنُونُ لَا يَجُوزُ إِيرَادُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَالْمُنَاظَرَةُ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي فَهَذِهِ الدَّلَائِلُ لَا تَقْدَحُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَذْهَبَ إِنَّمَا يَبْطُلُ بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْكَوَاكِبَ لَيْسَتْ أَحْيَاءً وَلَا قَادِرَةً عَلَى خَلْقِ الْأَجْسَامِ وَخَلْقِ الْحَيَاةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الدليل المذكور هاهنا لَا يُفِيدُ ذَلِكَ الْمَطْلُوبَ فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الدَّلَالَةَ عَدِيمَةُ الْفَائِدَةِ عَلَى كُلِّ التَّقْدِيرَاتِ، قُلْنَا: لَا نِزَاعَ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى الْعَاقِلِ أَنَّ الْخَشَبَةَ الْمَنْحُوتَةَ لَا تَصْلُحُ لِخَلْقِ الْعَالَمِ وَإِنَّمَا مَذْهَبُهُمْ هَذَا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الدَّلَالَةَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ عِبَادَتَهَا تُفِيدُ نَفْعًا إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْخَاصِّيَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنَ الطَّلْسَمَاتِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ أَنَّ الْكَوَاكِبَ تَنْفَعُ وَتَضُرُّ، فَبَيَّنَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِي طَاعَتِهَا وَلَا مَضَرَّةَ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا تَحْسُنَ عِبَادَتُهَا. النَّوْعُ الثَّانِي: قوله: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ وَطَمِعَ فِي التَّمَسُّكِ بِهِ أَهْلُ التَّعْلِيمِ وَأَهْلُ التَّقْلِيدِ- أَمَّا أَهْلُ التَّعْلِيمِ فَقَالُوا: إِنَّهُ أَمَرَهُ بِالِاتِّبَاعِ فِي

الدِّينِ وَمَا أَمَرَهُ بِالتَّمَسُّكِ بِدَلِيلٍ لَا يُسْتَفَادُ إِلَّا مِنَ الِاتِّبَاعِ، وَأَمَّا أَهْلُ التَّقْلِيدِ فَقَدْ تَمَسَّكُوا بِهِ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَمِنَ النَّاسِ مِنْ طَعَنَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالِاتِّبَاعِ لِتَحْصُلَ الْهِدَايَةُ، فَإِذَنْ لَا تَحْصُلُ الْهِدَايَةُ إِلَّا بِاتِّبَاعِهِ، وَلَا تَبَعِيَّةَ إِلَّا إِذَا اهْتَدَى لِقَوْلِنَا إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ اتِّبَاعِهِ فَيَقَعُ الدَّوْرُ وَإِنَّهُ بَاطِلٌ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْهِدَايَةِ بَيَانُ الدَّلِيلِ وَشَرْحُهُ وَإِيضَاحُهُ، فَعِنْدَ هَذَا عَادَ السَّائِلُ فَقَالَ: أَنَا لَا أُنْكِرُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الدَّلَالَةِ، وَلَكِنِّي أَقُولُ الْوُقُوفُ عَلَى تِلْكَ الدَّلَالَةِ لَا يُسْتَفَادُ إِلَّا مِمَّنْ لَهُ نَفْسٌ كَامِلَةٌ بَعِيدَةٌ عَنِ النَّقْصِ وَالْخَطَأِ، وَهِيَ نَفْسُ النَّبِيِّ الْمَعْصُومِ أَوِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ فَإِذَا سَلَّمْتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ النَّبِيِّ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ فَقَدْ سَلَّمْتَ حُصُولَ الْغَرَضِ، أَجَابَ الْمُجِيبُ وَقَالَ أَنَا مَا سَلَّمْتُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْوُقُوفِ عَلَى الدَّلَائِلِ مِنْ هِدَايَةِ النَّبِيِّ، وَلَكِنِّي أَقُولُ هَذَا الطَّرِيقُ أَسْهَلُ وَإِنَّ إبراهيم عليه السلام دعاه إلى الْأَسْهَلِ وَالْجَوَابُ عَنْ سُؤَالِ الدَّوْرِ أَنَّ قَوْلَهُ: فَاتَّبِعْنِي لَيْسَ أَمْرَ إِيجَابٍ بَلْ أَمْرَ إِرْشَادٍ. والنوع الثالث: قوله: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا أَيْ لَا تُطِعْهُ لِأَنَّهُ عَاصٍ لِلَّهِ فَنَفَّرَهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَنِ الْقَبُولِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْخِصَالِ الْمُنَفِّرَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِإِمْعَانِهِ فِي الْإِخْلَاصِ لَمْ يَذْكُرْ مِنْ جِنَايَاتِ الشَّيْطَانِ إِلَّا كَوْنَهُ عَاصِيًا لِلَّهِ وَلَمْ يَذْكُرْ مُعَادَاتِهِ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَأَنَّ النَّظَرَ فِي عِظَمِ مَا ارْتَكَبَهُ مِنْ ذَلِكَ الْعِصْيَانِ غَمَّى فِكْرَهُ وَأَطْبَقَ عَلَى ذِهْنِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَصْدُرُ إِلَّا عَنْ ضَعِيفِ الرَّأْيِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حَقِيقًا أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَى رَأْيِهِ وَلَا يُجْعَلَ لِقَوْلِهِ وَزْنٌ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِثْبَاتِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: إِثْبَاتُ الصَّانِعِ. وَثَانِيهَا: إِثْبَاتُ الشَّيْطَانِ. وَثَالِثُهَا: إِثْبَاتُ أَنَّ الشَّيْطَانَ عَاصٍ لِلَّهِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَاصِيًا لَمْ تَجُزْ طَاعَتُهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الِاعْتِقَادَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ كَانَ مُسْتَفَادًا مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، وَمِنْ شَأْنِ الدَّلَالَةِ الَّتِي تُورَدُ عَلَى الْخَصْمِ أَنْ تَكُونَ مُرَكَّبَةً مِنْ مُقَدِّمَاتٍ مَعْلُومَةٍ مُسَلَّمَةٍ، وَلَعَلَّ أَبَا إِبْرَاهِيمَ كَانَ مُنَازِعًا فِي كُلِّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ، / وَكَيْفَ وَالْمَحْكِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ مَا كَانَ يُثْبِتُ إِلَهًا سِوَى نُمْرُوذَ فَكَيْفَ يُسَلِّمُ وُجُودَ الْإِلَهِ الرَّحْمَنِ وَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ وُجُودَهُ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ أَنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ عَاصِيًا لِلرَّحْمَنِ، ثُمَّ إِنَّ عَلَى تَسْلِيمِ ذَلِكَ فَكَيْفَ يُسَلِّمُ الْخَصْمُ بِمُجَرَّدِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مَذْهَبَهُ مُقْتَبَسٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، بَلْ لَعَلَّهُ يَقْلِبُ ذَلِكَ عَلَى خَصْمِهِ، قُلْنَا: الْحُجَّةُ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهَا فِي إِبْطَالِ مَذْهَبِ آزَرَ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَوَّلًا مِنْ قَوْلِهِ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً فَأَمَّا هَذَا الْكَلَامُ فَيَجْرِي مَجْرَى التَّخْوِيفِ وَالتَّحْذِيرِ الَّذِي يَحْمِلُهُ عَلَى النَّظَرِ فِي تِلْكَ الدَّلَالَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ السُّؤَالُ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: قوله: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى أَخَافُ أَعْلَمُ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَالِمًا بِأَنَّ أَبَاهُ سَيَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ وَذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ فَوَجَبَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُؤْمِنَ فَيَصِيرَ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ وَيَجُوزُ أَنْ يُصِرَّ فَيَمُوتَ عَلَى الْكُفْرِ، فَيَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِقَابِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ خَائِفًا لَا قَاطِعًا، وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ يَظُنُّ وُصُولَ الضَّرَرِ إِلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى خَائِفًا إِلَّا إِذَا كَانَ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ وُصُولِ ذَلِكَ الضَّرَرِ إِلَيْهِ تَأَلُّمُ قَلْبِهِ كَمَا يُقَالُ أَنَا خَائِفٌ عَلَى وَلَدِي أَمَّا قَوْلُهُ: فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا فَذَكَرُوا فِي الْوَلِيِّ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا اسْتَوْجَبَ عَذَابَ اللَّهِ كَانَ مَعَ الشَّيْطَانِ فِي النَّارِ وَالْوِلَايَةُ سَبَبٌ لِلْمَعِيَّةِ وَإِطْلَاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ مَجَازٌ وَإِنْ لَمْ يجز حمله الى الْوِلَايَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزُّخْرُفِ: 67] وَقَالَ: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الْعَنْكَبُوتِ: 25] وَحَكَى عَنِ الشَّيْطَانِ أَنَّهُ يَقُولُ لهم: إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إِبْرَاهِيمَ: 22] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَذَابِ عَذَابَ الْآخِرَةِ، أَمَّا إِذَا

[سورة مريم (19) : الآيات 46 إلى 48]

كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَذَابَ الدُّنْيَا فَالْإِشْكَالُ سَاقِطٌ. وَثَانِيهَا: أَنْ يُحْمَلَ الْعَذَابُ عَلَى الْخِذْلَانِ أَيْ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ خِذْلَانُ اللَّهِ فَتَصِيرَ مُوَالِيًا لِلشَّيْطَانِ وَيَبْرَأَ اللَّهُ مِنْكَ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً [النِّسَاءِ: 119] . وَثَالِثُهَا: وَلِيًّا أَيْ تَالِيًا لِلشَّيْطَانِ، تَلِيهِ كَمَا يُسَمَّى الْمَطَرُ الَّذِي يَأْتِي تَالِيًا وَلِيًّا فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ وِلَايَةُ الشَّيْطَانِ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْعَذَابِ نَفْسِهِ وَأَعْظَمَ، فَمَا السَّبَبُ لِذَلِكَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ رِضْوَانَ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى مَا قَالَ: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التَّوْبَةِ: 72] فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ وِلَايَةُ الشَّيْطَانِ الَّتِي هِيَ فِي مُقَابَلَةِ رِضْوَانِ اللَّهِ أَكْبَرَ مِنَ الْعَذَابِ نَفْسِهِ وَأَعْظَمَ. وَاعْلَمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَتَّبَ هَذَا الْكَلَامَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ لِأَنَّهُ نَبَّهَ أَوَّلًا عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِهِ فِي النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَتَرْكِ التَّقْلِيدِ ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ الشَّيْطَانِ غَيْرُ جَائِزَةٍ فِي الْعُقُولِ ثُمَّ خَتَمَ الْكَلَامَ بِالْوَعِيدِ الزَّاجِرِ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْرَدَ هَذَا الْكَلَامَ الْحَسَنَ مَقْرُونًا بِاللُّطْفِ وَالرِّفْقِ فَإِنَّ قَوْلَهُ فِي مقدمة كل كلام يا أَبَتِ دَلِيلٌ عَلَى شِدَّةِ الْحُبِّ وَالرَّغْبَةِ فِي صَوْنِهِ عَنِ الْعِقَابِ وَإِرْشَادِهِ إِلَى الصَّوَابِ، وَخَتَمَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ/ إِنِّي أَخافُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِمَصَالِحِهِ وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَضَاءً لِحَقِّ الْأُبُوَّةِ عَلَى مَا قَالَ تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الإسراء: 23] وَالْإِرْشَادُ إِلَى الدِّينِ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، فَإِذَا انْضَافَ إِلَيْهِ رِعَايَةُ الْأَدَبِ وَالرِّفْقِ كَانَ ذَلِكَ نُورًا عَلَى نُورٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْهَادِيَ إِلَى الْحَقِّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ رَفِيقًا لَطِيفًا يُورِدُ الْكَلَامَ لَا عَلَى سَبِيلِ الْعُنْفِ لِأَنَّ إِيرَادَهُ عَلَى سَبِيلِ الْعُنْفِ يَصِيرُ كَالسَّبَبِ فِي إِعْرَاضِ الْمُسْتَمِعِ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ سَعْيًا فِي الْإِغْوَاءِ. وَثَالِثُهَا: مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّكَ خَلِيلِي فَحَسِّنْ خُلُقَكَ وَلَوْ مَعَ الْكُفَّارِ تَدْخُلْ مَدَاخِلَ الْأَبْرَارِ فَإِنَّ كَلِمَتِي سَبَقَتْ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ أَنْ أُظِلَّهُ تَحْتَ عَرْشِي وَأَنْ أُسْكِنَهُ حَظِيرَةَ قُدْسِي وأدنيه من جواري» والله أعلم. [سورة مريم (19) : الآيات 46 الى 48] قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) [في قوله تعالى قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ] اعْلَمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَعَا أَبَاهُ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَذَكَرَ الدَّلَالَةَ عَلَى فَسَادِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَأَرْدَفَ تِلْكَ الدَّلَالَةَ بِالْوَعْظِ الْبَلِيغِ، وَأَوْرَدَ كُلَّ ذَلِكَ مَقْرُونًا بِاللُّطْفِ وَالرِّفْقِ، قَابَلَهُ أَبُوهُ بِجَوَابٍ يُضَادُّ ذَلِكَ، فَقَابَلَ حُجَّتَهُ بِالتَّقْلِيدِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي مُقَابَلَةِ حُجَّتِهِ إِلَّا قوله: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ فَأَصَرَّ عَلَى ادِّعَاءِ إِلَهِيَّتِهَا جَهْلًا وَتَقْلِيدًا وَقَابَلَ وَعْظَهُ بِالسَّفَاهَةِ حَيْثُ هَدَّدَهُ بِالضَّرْبِ وَالشَّتْمِ، وَقَابَلَ رفقه في قوله: يا أَبَتِ [مريم: 44] بِالْعُنْفِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ لَهُ يَا بُنَيَّ بل قال: يا إِبْراهِيمُ وَإِنَّمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخَفِّفَ عَلَى قَلْبِهِ مَا كَانَ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ فَيَعْلَمَ أَنَّ الْجُهَّالَ مُنْذُ كَانُوا عَلَى هَذِهِ السِّيرَةِ الْمَذْمُومَةِ، أَمَّا قَوْلُهُ: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِفْهَامِ فَهُوَ خِذْلَانٌ لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ مِنْهُ مَا تَكَرَّرَ مِنْهُ مِنْ وَعْظِهِ وَتَنْبِيهِهِ عَلَى الدَّلَالَةِ وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّهُ رَاغِبٌ عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ رَغْبَةٍ فَمَا فَائِدَةُ هَذَا الْقَوْلِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ فَأَيُّ تَعَجُّبٍ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ حُجَّةٍ لَا فَائِدَةَ فِيهَا، وَإِنَّمَا التَّعَجُّبُ كُلُّهُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى عِبَادَتِهَا فَإِنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا أَنَّهُ يُبْطِلُ جَوَازَ عِبَادَتِهَا فَهُوَ يُفِيدُ التَّعَجُّبَ مِنْ أَنَّ الْعَاقِلَ كَيْفَ يَرْضَى بِعِبَادَتِهَا

فَكَأَنَّ أَبَاهُ قَابَلَ ذَلِكَ التَّعَجُّبَ الظَّاهِرَ الْمَبْنِيَّ عَلَى الدَّلِيلِ بِتَعَجُّبٍ/ فَاسِدٍ غَيْرِ مَبْنِيٍّ عَلَى دَلِيلٍ وَشُبْهَةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا التَّعَجُّبَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْهُ، أَمَّا قَوْلُهُ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الأولى: في الرجم هاهنا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الرَّجْمُ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ الشَّتْمُ وَالذَّمُّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النُّورِ: 4] أَيْ بِالشَّتْمِ، وَمِنْهُ الرَّجِيمُ، أَيِ الْمَرْمِيُّ بِاللَّعْنِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: الرَّجْمُ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ بِمَعْنَى الشَّتْمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الرَّجْمُ بِالْيَدِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ذَكَرُوا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: لَأَرْجُمَنَّكَ بِإِظْهَارِ أَمْرِكَ لِلنَّاسِ لِيَرْجُمُوكَ وَيَقْتُلُوكَ. وَثَانِيهَا: لَأَرْجُمَنَّكَ بِالْحِجَارَةِ لِتَتَبَاعَدَ عَنِّي. وَثَالِثُهَا: عَنِ الْمُؤَرِّجِ لَأَقْتُلَنَّكَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ. وَرَابِعُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ لَأَرْجُمَنَّكَ الْمُرَادُ مِنْهُ الرَّجْمُ بِالْحِجَارَةِ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ اتِّسَاعًا، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الطَّرْدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الرَّجْمِ هُوَ الرَّمْيُ بِالرِّجَامِ فَحَمْلُهُ عَلَيْهِ أَوْلَى، فَإِنْ قِيلَ: أَفَمَا يَدُلُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرَّجْمُ بِالشَّتْمِ؟ قُلْنَا: لَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ هَدَّدَهُ بِالرَّجْمِ إِنْ بَقِيَ عَلَى قُرْبِهِ مِنْهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَبْعَدَ هَرَبًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ وَاهْجُرْنِي بِالْقَوْلِ. وَالثَّانِي: بِالْمُفَارَقَةِ فِي الدَّارِ وَالْبَلَدِ وَهِيَ هِجْرَةُ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَيْ تَبَاعَدْ عَنِّي لِكَيْ لَا أَرَاكَ وَهَذَا الثَّانِي أَقْرَبُ إِلَى الظَّاهِرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: مَلِيًّا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: مَلِيًّا أَيْ مُدَّةً بَعِيدَةً مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ أَتَى عَلَى فُلَانٍ مَلَاوَةٌ مِنَ الدَّهْرِ أَيْ زَمَانٌ بَعِيدٌ. وَالثَّانِي: مَلِيًّا بِالذَّهَابِ عَنِّي وَالْهِجْرَانِ قَبْلَ أَنْ أُثْخِنَكَ بِالضَّرْبِ حَتَّى لَا تَقْدِرَ أَنْ تَبْرَحَ يُقَالُ فُلَانٌ مَلِيٌّ بِكَذَا إِذَا كَانَ مُطِيقًا لَهُ مُضْطَلِعًا بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: عَطَفَ اهْجُرْنِي عَلَى مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَأَرْجُمَنَّكَ، أَيْ فَاحْذَرْنِي وَاهْجُرْنِي لِئَلَّا أَرْجُمَنَّكَ، ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ ذَلِكَ أَجَابَ عَنْ أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَعَدَهُ التَّبَاعُدَ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَبَاهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِالتَّبَاعُدِ أَظْهَرَ الِانْقِيَادَ لِذَلِكَ الْأَمْرِ وَقَوْلُهُ: سَلامٌ عَلَيْكَ تَوَادُعٌ وَمُتَارَكَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص: 55] ، وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: 63] وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مُتَارَكَةِ الْمَنْصُوحِ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُ اللَّجَاجُ، وَعَلَى أَنَّهُ تَحْسُنُ مُقَابَلَةُ الْإِسَاءَةِ بِالْإِحْسَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَعَا لَهُ بِالسَّلَامَةِ اسْتِمَالَةً لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَعَدَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا وَدَّعَ أَبَاهُ بِقَوْلِهِ: سَلامٌ عَلَيْكَ ضَمَّ إِلَى ذَلِكَ مَا دَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ وَإِنْ بَعُدَ عَنْهُ فَإِشْفَاقُهُ بَاقٍ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ وَهُوَ قَوْلُهُ: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ طَعَنَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَ مَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ اسْتَغْفَرَ لِأَبِيهِ وَهُوَ كَافِرٌ وَالِاسْتِغْفَارُ لِلْكَافِرِ لَا يَجُوزُ، فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَ مَا لَا يَجُوزُ، إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ اسْتَغْفَرَ لِأَبِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي وَقَوْلِهِ: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشُّعَرَاءِ: 86] وَأَمَّا أَنَّ أَبَاهُ كَانَ كَافِرًا فَذَاكَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ/ وَبِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ لَا يَجُوزُ فَلِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَةِ: 113] . الثَّانِي: قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ- إِلَى قَوْلِهِ- لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الْمُمْتَحَنَةِ: 4] وَأَمَرَ النَّاسَ إِلَّا فِي هَذَا الْفِعْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ معصية

[سورة مريم (19) : الآيات 49 إلى 50]

مِنْهُ، «وَالْجَوَابُ» : لَا نِزَاعَ إِلَّا فِي قَوْلِكُمُ الِاسْتِغْفَارُ لِلْكَافِرِ لَا يَجُوزُ فَإِنَّ الْكَلَامَ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَطْعَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَذِّبُ الْكَافِرَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالسَّمْعِ، فَلَعَلَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَجِدْ فِي شَرْعِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَطْعِ بِعَذَابِ الْكَافِرِ فَلَا جَرَمَ اسْتَغْفَرَ لِأَبِيهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الِاسْتِمَاحَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الْجَاثِيَةِ: 14] وَالْمَعْنَى سَأَسْأَلُ رَبِّي أَنْ لَا يَجْزِيَكَ بِكُفْرِكَ مَا كُنْتُ حَيًّا بِعَذَابِ الدُّنْيَا الْمُعَجَّلِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا اسْتَغْفَرَ لِأَبِيهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَرْجُو مِنْهُ الْإِيمَانَ فَلَمَّا أَيِسَ مِنْ ذَلِكَ تَرَكَ الِاسْتِغْفَارَ وَلَعَلَّ فِي شَرْعِهِ جَوَازُ الِاسْتِغْفَارِ لِلْكَافِرِ الَّذِي يُرْجَى مِنْهُ الْإِيمَانُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُقُوعِ هَذَا الِاحْتِمَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التَّوْبَةِ: 113] فَبَيَّنَ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفُوا أَنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التَّوْبَةِ: 114] فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ وَعَدَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لَوْ آمَنَ، فَلَمَّا لَمْ يُؤْمِنْ لَمْ يَسْتَغْفِرْ لَهُ بَلْ تَبَرَّأَ مِنْهُ، فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلِمَ مَنَعَنَا مِنَ التَّأَسِّي بِهِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ- إِلَى قَوْلِهِ- إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الْمُمْتَحَنَةِ: 4] قُلْنَا الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَنَا التَّأَسِّي بِهِ فِي ذَلِكَ لَكِنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّأَسِّي بِهِ فِي ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَعْصِيَةً. فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَشْيَاءِ هِيَ مِنْ خَوَاصِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَجُوزُ لَنَا التَّأَسِّي بِهِ مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ مُبَاحَةً لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَرَابِعُهَا: لَعَلَّ هَذَا الِاسْتِغْفَارَ كَانَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَوْلَى وَحَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا أَيْ لَطِيفًا رَفِيقًا يُقَالُ أَحْفَى فُلَانٌ فِي الْمَسْأَلَةِ بِفُلَانٍ إِذَا لَطَفَ بِهِ وَبَالَغَ فِي الرِّفْقِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا [مُحَمَّدٍ: 37] أَيْ وَإِنْ لَطُفَتِ الْمَسْأَلَةُ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لِلُطْفِهِ بِي وَإِنْعَامِهِ عَلَيَّ عَوَّدَنِي الْإِجَابَةَ فَإِذَا أَنَا اسْتَغْفَرْتُ لَكَ حَصَلَ الْمُرَادُ فَكَأَنَّهُ جَعَلَهُ بِذَلِكَ عَلَى يَقِينٍ إِنْ هُوَ تَابَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الْغُفْرَانُ. الْجَوَابُ الثَّانِي مِنَ الْجَوَابَيْنِ قَوْلُهُ: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الِاعْتِزَالُ لِلْشَيْءِ هُوَ التَّبَاعُدُ عَنْهُ وَالْمُرَادُ أَنِّي أُفَارِقُكُمْ فِي الْمَكَانِ وَأُفَارِقُكُمْ فِي طَرِيقَتِكُمْ أَيْضًا وَأَبْعُدُ عَنْكُمُ وَأَتَشَاغَلُ بِعِبَادَةِ رَبِّيَ الَّذِي يَنْفَعُ وَيَضُرُّ وَالَّذِي خَلَقَنِي وَأَنْعَمَ عَلَيَّ فَإِنَّكُمْ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ سَالِكُونَ طَرِيقَةَ الْهَلَاكِ، فَوَاجِبٌ عَلَيَّ مُجَانَبَتُكُمْ وَمَعَنَى قَوْلِهِ: عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا أَرْجُو أَنَ لَا أَكُونَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ كَقَوْلِهِ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشُّعَرَاءِ: 82] وَأَمَّا قَوْلُهُ: شَقِيًّا مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ فَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِشَقَاوَتِهِمْ فِي دُعَاءِ آلِهَتِهِمْ عَلَى مَا قَرَّرَهُ أَوَّلًا فِي/ قَوْلِهِ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مَرْيَمَ: 42] . [سورة مريم (19) : الآيات 49 الى 50] فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) اعْلَمْ أَنَّهُ مَا خَسِرَ عَلَى اللَّهِ أَحَدٌ فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا اعْتَزَلَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَفِي بَلَدِهِمْ وَاخْتَارَ الْهِجْرَةَ إِلَى رَبِّهِ إِلَى حَيْثُ أَمَرَهُ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ دِينًا وَدُنْيَا، بَلْ نَفَعَهُ فَعَوَّضَهُ أَوْلَادًا أَنْبِيَاءَ وَلَا حَالَةَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا لِلْبَشَرِ أَرْفَعُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ رَسُولًا إِلَى خَلْقِهِ وَيُلْزِمَ الْخَلْقَ طَاعَتَهُ وَالِانْقِيَادَ لَهُ مَعَ مَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ عَظِيمِ الْمَنْزِلَةِ فِي الْآخِرَةِ فَصَارَ جَعْلُهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ أَنْبِيَاءَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ وَهَبَ لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أَيْ وَهَبَ لَهُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ مَا وَهَبَ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَالُ وَالْجَاهُ وَالْأَتْبَاعُ وَالنَّسْلُ الطَّاهِرُ وَالذُّرِّيَّةُ الطَّيِّبَةُ ثُمَّ قَالَ:

[سورة مريم (19) : الآيات 51 إلى 53]

وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا وَلِسَانُ الصِّدْقِ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ وَعَبَّرَ بِاللِّسَانِ عَمَّا يُوجَدُ بِاللِّسَانِ، كَمَا عَبَّرَ بِالْيَدِ عَمَّا يُعْطَى بِالْيَدِ وَهُوَ الْعَطِيَّةُ، وَاسْتَجَابَ اللَّهُ دَعَوْتَهُ فِي قَوْلِهِ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشُّعَرَاءِ: 84] فَصَيَّرَهُ قُدْوَةً حَتَّى ادَّعَاهُ أَهْلُ الْأَدْيَانِ كُلُّهُمْ وَقَالَ عز وجل: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الحج: 78] ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النَّحْلِ: 123] قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْخَلِيلَ اعْتَزَلَ عَنِ الْخَلْقِ عَلَى مَا قَالَ: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مَرْيَمَ: 48] فَلَا جَرَمَ بَارَكَ اللَّهُ فِي أَوْلَادِهِ فَقَالَ: وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْ أَبِيهِ فِي اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا قَالَ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التَّوْبَةِ: 114] لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ سَمَّاهُ أَبًا لِلْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الْحَجِّ: 78] . وَثَالِثُهَا: تَلَّ وَلَدَهُ لِلْجَبِينِ لِيَذْبَحَهُ عَلَى مَا قَالَ: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصَّافَّاتِ: 103] لَا جَرَمَ فَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَا قَالَ: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصَّافَّاتِ: 107] . وَرَابِعُهَا: أَسْلَمَ نَفْسَهُ فَقَالَ: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْبَقَرَةِ: 131] فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى النَّارَ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا فَقَالَ: قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الْأَنْبِيَاءِ: 69] . وَخَامِسُهَا: أَشْفَقَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ فَقَالَ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْبَقَرَةِ: 129] لَا جَرَمَ أَشْرَكَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ. وَسَادِسُهَا: فِي حَقِّ سَارَّةَ فِي قَوْلِهِ: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النَّجْمِ: 37] لَا جَرَمَ جَعَلَ مَوْطِئَ قَدَمَيْهِ مُبَارَكًا. وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [الْبَقَرَةِ: 125] . وَسَابِعُهَا: عَادَى كُلَّ الْخَلْقِ فِي اللَّهِ فَقَالَ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: 77] لَا جَرَمَ اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا عَلَى مَا قَالَ: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا النِّسَاءِ: 125] لِيُعْلَمَ صِحَّةُ قَوْلِنَا أَنَّهُ مَا خسر على الله أحد. (القصة الرابعة قصة موسى عليه السلام) [سورة مريم (19) : الآيات 51 الى 53] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا فَإِذَا قُرِئَ بِفَتْحِ اللَّامِ فَهُوَ مِنَ الِاصْطِفَاءِ وَالِاجْتِبَاءِ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اصْطَفَاهُ وَاسْتَخْلَصَهُ وَإِذَا قُرِئَ بِالْكَسْرِ فَمَعْنَاهُ أَخْلَصَ لِلَّهِ فِي التَّوْحِيدِ فِي الْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصُ هُوَ الْقَصْدُ فِي الْعِبَادَةِ إِلَى أَنْ يُعْبَدَ الْمَعْبُودُ بِهَا وَحْدَهُ، وَمَتَى وَرَدَ الْقُرْآنُ بِقِرَاءَتَيْنِ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ صِفَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كِلَا الْأَمْرَيْنِ. وَثَانِيهَا: كَوْنُهُ رَسُولًا نَبِيًّا وَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا وَصْفَانِ مُخْتَلِفَانِ لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ زَعَمُوا كَوْنَهُمَا مُتَلَازِمَيْنِ فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَكُلُّ نَبِيٍّ رَسُولٌ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِيهِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ [الْحَجِّ: 52] . وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ مِنَ الْيَمِينِ أَيْ مِنْ نَاحِيَةِ الْيَمِينِ وَالْأَيْمَنُ صِفَةُ الطُّورِ أَوِ الْجَانِبِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا وَلَمَّا ذَكَرَ كَوْنَهُ رَسُولًا قال: وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا وفي قوله: قَرَّبْناهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ قُرْبُ الْمَكَانِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَرَّبَهُ حَتَّى سَمِعَ صَرِيرَ الْقَلَمِ حَيْثُ كُتِبَتِ التَّوْرَاةُ فِي الْأَلْوَاحِ. وَالثَّانِي: قُرْبُ الْمَنْزِلَةِ أَيْ رَفَعْنَا قَدْرَهُ وَشَرَّفْنَاهُ بِالْمُنَاجَاةِ، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا أَقْرَبُ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْقُرْبِ فِي اللَّهِ قَدْ صَارَ بِالتَّعَارُفِ لَا يُرَادُ بِهِ إِلَّا الْمَنْزِلَةُ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ فِي الْعِبَادَةِ تقرب،

[سورة مريم (19) : الآيات 54 إلى 55]

وَيُقَالُ فِي الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إِنَّهُمْ مُقَرَّبُونَ وَأَمَّا نَجِيًّا فَقِيلَ فِيهِ أَنْجَيْنَاهُ مِنْ أَعْدَائِهِ وَقِيلَ هُوَ مِنَ الْمُنَاجَاةِ فِي الْمُخَاطَبَةِ وَهُوَ أَوْلَى. وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَإِنَّمَا وَهَبَ اللَّهُ لَهُ نُبُوَّتَهُ لَا شَخْصَهُ وَأُخُوَّتَهُ وَذَلِكَ إِجَابَةٌ لِدُعَائِهِ فِي قَوْلِهِ: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [طه: 29- 32] فَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [طه: 36] وقوله: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [القصص: 35] . [سورة مريم (19) : الآيات 54 الى 55] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) (الْقِصَّةُ الخامسة قصة إسماعيل عليه السلام) اعْلَمْ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ هَذَا هُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَهَذَا الْوَعْدُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُخَالِفُ شَيْئًا مِمَّا يُؤْمَرُ بِهِ مِنْ طَاعَةِ رَبِّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَرْسَلَ الْمَلَكَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَأَمَرَهُمْ بِتَأْدِيَةِ الشَّرْعِ فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ وَعْدٍ مِنْهُمْ يَقْتَضِي الْقِيَامَ بِذَلِكَ وَيَدُلُّ عَلَى الْقِيَامِ بِسَائِرِ مَا يَخُصُّهُ مِنَ الْعِبَادَةِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا وَعَدَ النَّاسَ بِشَيْءٍ أَنْجَزَ وَعْدَهُ فَاللَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِهَذَا الْخُلُقِ الشَّرِيفِ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ وَعَدَ صَاحِبًا لَهُ أَنْ يَنْتَظِرَهُ فِي مَكَانٍ فَانْتَظَرَهُ سَنَةً، وَأَيْضًا وَعَدَ مِنْ نَفْسِهِ الصَّبْرَ عَلَى الذَّبْحِ فَوَفَّى بِهِ حَيْثُ قَالَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصَّافَّاتِ: 102] وَيُرْوَى أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: انْتَظِرْنِي حَتَّى آتِيَكَ فَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: نَعَمْ وَانْطَلَقَ الرَّجُلُ وَنَسِيَ الْمِيعَادَ فَجَاءَ لِحَاجَةٍ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُنَالِكَ لِلْمِيعَادِ، وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ وَاعَدَ رَجُلًا وَنَسِيَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَانْتَظَرَهُ مِنَ الضُّحَى إِلَى قَرِيبٍ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ» . وَسُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنِ الرَّجُلِ يَعِدُ مِيعَادًا إِلَى أَيِّ وَقْتٍ يَنْتَظِرُهُ فَقَالَ: إِنْ وَاعَدَهُ نَهَارًا فَكُلُّ النَّهَارِ وَإِنْ وَاعَدَهُ لَيْلًا فَكُلُّ اللَّيْلِ، وَسُئِلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِذَا وَاعَدْتَهُ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ فَانْتَظِرْهُ إِلَى وَقْتِ صَلَاةٍ أُخْرَى. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَالْأَقْرَبُ فِي الْأَهْلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَنْ يَلْزَمُهُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْهِ الشَّرْعَ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ أُمَّتِهِ مِنْ حَيْثُ لَزِمَهُ فِي جَمِيعِهِمْ مَا يَلْزَمُ الْمَرْءُ فِي أَهْلِهِ خَاصَّةً، هَذَا إِذَا حُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى الْمَفْرُوضِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ حُمِلَ عَلَى النَّدْبِ فِيهِمَا كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَمَا كَانَ يَتَهَجَّدُ بِاللَّيْلِ يَأْمُرُ أَهْلَهُ أَيْ مَنْ كَانَ فِي دَارِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِذَلِكَ وَكَانَ نَظَرُهُ لَهُمْ فِي الدِّينِ يَغْلِبُ عَلَى شَفَقَتِهِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَقِيلَ: كَانَ يَبْدَأُ بِأَهْلِهِ فِي الْأَمْرِ بالصلاح و « «العبادة لِيَجْعَلَهُمْ قُدْوَةً لِمَنْ سِوَاهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاءِ: 214] وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها [طه: 132] قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التَّحْرِيمِ: 6] وَأَيْضًا فَهُمْ أَحَقُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا بِالْإِحْسَانِ الدِّينِيِّ أَوْلَى، فَأَمَّا الزَّكَاةُ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنها طاعة

[سورة مريم (19) : الآيات 56 إلى 57]

اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِخْلَاصُ فَكَأَنَّهُ تَأَوَّلَهُ عَلَى مَا يَزْكُو بِهِ الْفَاعِلُ عِنْدَ رَبِّهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِذَا قُرِنَتِ الزَّكَاةُ إِلَى الصَّلَاةِ أَنْ يُرَادَ بِهَا الصَّدَقَاتُ الْوَاجِبَةُ وَكَانَ يَعْرِفُ مِنْ خَاصَّةِ أَهْلِهِ أَنْ يُلْزِمَهُمُ الزَّكَاةَ فَيَأْمُرَهُمْ بِذَلِكَ أَوْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَتَبَرَّعُوا بِالصَّدَقَاتِ عَلَى الْفُقَرَاءِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ، وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا وَهُوَ فِي نِهَايَةِ الْمَدْحِ لِأَنَّ الْمَرْضِيَّ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ الفائز في كل طاعاته بأعلى الدرجات. [سورة مريم (19) : الآيات 56 الى 57] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) (الْقِصَّةُ السَّادِسَةُ قِصَّةُ إدريس عليه السلام) اعْلَمْ أَنَّ إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ جَدُّ أَبِي نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ نُوحُ بْنُ لَمَكَ بْنِ مُتْوَشْلِخَ بْنِ أَخْنُوخَ قِيلَ سُمِّيَ إِدْرِيسَ لِكَثْرَةِ دِرَاسَتِهِ وَاسْمُهُ أَخْنُوخُ وَوَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِمَا. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ رِفْعَةِ الْمَنْزِلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [الشَّرْحِ: 4] فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَّفَهُ بِالنُّبُوَّةِ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ وَنَظَرَ فِي عِلْمِ النُّجُومِ وَالْحِسَابِ وَأَوَّلُ مَنْ خَاطَ الثِّيَابَ وَلَبِسَهَا وَكَانُوا يَلْبَسُونَ الْجُلُودَ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرِّفْعَةُ فِي الْمَكَانِ إِلَى مَوْضِعٍ عَالٍ وَهَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ الرِّفْعَةَ الْمَقْرُونَةَ بِالْمَكَانِ تَكُونُ رِفْعَةً فِي الْمَكَانِ لَا فِي الدَّرَجَةِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ اللَّهَ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَإِلَى الْجَنَّةِ وَهُوَ حَيٌّ لَمْ يَمُتْ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ وَقُبِضَ رُوحُهُ سَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَعْبًا عَنْ قَوْلِهِ: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا قَالَ: جَاءَهُ خَلِيلٌ لَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَسَأَلَهُ حَتَّى يُكَلِّمَ مَلَكَ الْمَوْتِ حَتَّى يُؤَخِّرَ قَبْضَ رُوحِهِ فَحَمَلَهُ ذَلِكَ الْمَلَكَ بَيْنَ جَنَاحَيْهِ فَصَعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَلَمَّا كَانَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ فَإِذَا مَلَكُ الْمَوْتِ يَقُولُ بُعِثْتُ وَقِيلَ لِي اقْبِضْ رُوحَ إِدْرِيسَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، وَأَنَا أَقُولُ كَيْفَ ذَلِكَ وَهُوَ فِي الْأَرْضِ فَالْتَفَتَ إِدْرِيسُ فَرَآهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَبَضَ رُوحَهُ هُنَاكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا مَدَحَهُ بِأَنْ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ لِأَنَّهُ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ لَا يُرْفَعَ إِلَيْهَا إِلَّا مَنْ كَانَ عَظِيمَ الْقَدْرِ وَالْمَنْزِلَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الْأَنْبِيَاءِ: 19] وهاهنا آخر القصص. [سورة مريم (19) : آية 58] أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِمَا يَخُصُّهُ مِنَ الثَّنَاءِ ثُمَّ جَمَعَهُمْ آخِرًا فَقَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَيْ بِالنُّبُوَّةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا تَقَدَّمَ « «وَصْفُهُ وَأُولَئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَذْكُورِينَ/ فِي السُّورَةِ مِنْ لَدُنْ زَكَرِيَّا إِلَى إِدْرِيسَ، ثُمَّ جَمَعَهُمْ فِي كَوْنِهِمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ثُمَّ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِأَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ حُمِلَ مَعَ نُوحٍ، وَالَّذِي يَخْتَصُّ بِأَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ دُونَ مَنْ حُمِلَ مَعَ نُوحٍ هُوَ إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَدْ كَانَ سَابِقًا عَلَى نُوحٍ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي الْأَخْبَارِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ حُمِلَ مَعَ نُوحٍ هُوَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ مِنْ وَلَدِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَإِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ ثُمَّ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ إِسْرَائِيلَ أَيْ يَعْقُوبَ وَهُمْ مُوسَى وَهَارُونُ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ فَرَتَّبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الَّذِينَ ذَكَّرَهُمْ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ مُنَبِّهًا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ كَمَا فُضِّلُوا بِأَعْمَالِهِمْ فَلَهُمْ مَزِيدٌ فِي الْفَضْلِ بِوِلَادَتِهِمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الأنبياء،

[سورة مريم (19) : الآيات 59 إلى 60]

ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ مِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا مُنَبِّهًا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمُ اخْتُصُّوا بِهَذِهِ الْمَنَازِلِ لِهِدَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ، وَلِأَنَّهُ اخْتَارَهُمْ لِلرِّسَالَةِ ثُمَّ قَالَ: إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا تُتْلَى عَلَيْهِمْ أَيْ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ بَلَغُوا الْحَدَّ الَّذِي عِنْدَ تِلَاوَةِ آيَاتِ اللَّهِ يَخِرُّونَ سُجَّدًا وَبُكِيًّا خُضُوعًا وَخُشُوعًا وَحَذَرًا وَخَوْفًا، وَالْمُرَادُ بِآيَاتِ اللَّهِ مَا خَصَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْعَذَابِ الْمُنَزَّلِ بِالْكُفَّارِ وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ سَائِرَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ أَوْلَى أَنْ يَسْجُدُوا عِنْدَهُ وَيَبْكُوا فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى كُلِّ آيَةٍ تُتْلَى مِمَّا يَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَالتَّرْغِيبَ وَالتَّرْهِيبَ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إِذَا فَكَّرَ فِيهِ الْمُتَفَكِّرُ صَحَّ أَنْ يَسْجُدَ عِنْدَهُ وَأَنْ يَبْكِيَ، وَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي السُّجُودِ: إِنَّهُ الصَّلَاةُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ سُجُودُ التِّلَاوَةِ عَلَى حَسَبِ مَا تُعُبِّدْنَا بِهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْخُضُوعُ وَالْخُشُوعُ وَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي سُجُودًا مَخْصُوصًا عِنْدَ التِّلَاوَةِ ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ سُجُودَ التِّلَاوَةِ لِلْقُرْآنِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ عِنْدَ الْخَوْفِ كَانُوا قَدْ تُعُبِّدُوا بِالسُّجُودِ فَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ لَا لِأَجْلِ ذِكْرِ السُّجُودِ فِي الْآيَةِ، قَالَ الزَّجَّاجُ فِي بُكِيًّا: جَمْعُ بَاكٍ مِثْلُ شَاهِدٍ وَشُهُودٍ وَقَاعِدٍ وَقُعُودٍ ثُمَّ قَالَ الْإِنْسَانُ فِي حَالِ خُرُورِهِ لَا يَكُونُ سَاجِدًا فَالْمُرَادُ خَرُّوا مُقَدِّرِينَ لِلسُّجُودِ وَمَنْ قَالَ فِي بُكِيًّا إِنَّهُ مَصْدَرٌ فَقَدْ أَخْطَأَ لِأَنَّ سُجَّدًا جَمْعُ سَاجِدٍ وَبُكِيًّا مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتْلُوا الْقُرْآنَ وَابْكُوا فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا» وَعَنْ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ قَالَ: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لِي: يَا صَالِحُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ فَأَيْنَ الْبُكَاءُ؟ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا قَرَأْتُمْ سَجْدَةَ سُبْحَانَ فَلَا تَعْجَلُوا بِالسُّجُودِ حَتَّى تَبْكُوا فَإِنْ لَمْ تَبْكِ عَيْنُ أَحَدِكُمْ فَلْيَبْكِ قَلْبُهُ. وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «القرآن نزل فاقرأوه بِحُزْنٍ» وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اغْرَوْرَقَتْ عَيْنٌ بِهِ بِمَاءٍ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ جَسَدَهَا» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لَا يَلِجُ النَّارَ مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: يَدْعُو فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ بِمَا يَلِيقُ بِهَا فَإِنْ قَرَأَ آيَةَ تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ السَّاجِدِينَ لِوَجْهِكَ الْمُسَبِّحِينَ بِحَمْدِكَ وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْ أَمْرِكَ وَإِنْ قَرَأَ سَجْدَةَ سُبْحَانَ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الْبَاكِينَ إِلَيْكَ الْخَاشِعِينَ لَكَ وَإِنْ قَرَأَ هَذِهِ السَّجْدَةَ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ عِبَادِكَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمُ الْمُهْتَدِينَ السَّاجِدِينَ لَكَ الْبَاكِينَ عِنْدَ تلاوة آيات كتابك. [سورة مريم (19) : الآيات 59 الى 60] فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ بِصِفَاتِ الْمَدْحِ تَرْغِيبًا لَنَا فِي التَّأَسِّي بِطَرِيقَتِهِمْ ذَكَرَ بَعْدَهُمْ مَنْ هُوَ بِالضِّدِّ مِنْهُمْ فَقَالَ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ، وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ بَعْدِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ خَلْفٌ مِنْ أَوْلَادِهِمْ يُقَالُ: خَلَفَهُ إِذَا أَعْقَبَهُ ثم قيل في عقب الخبر خَلَفٌ بِفَتْحِ اللَّامِ وَفِي عَقِبِ الشَّرِّ خَلْفٌ بِالسُّكُونِ، كَمَا قَالُوا: وَعْدٌ فِي ضَمَانِ الْخَيْرِ وَوَعِيدٌ فِي ضَمَانِ الشَّرِّ وَفِي الْحَدِيثِ: «فِي اللَّهِ خَلَفٌ مِنْ كُلِّ هَالِكٍ» وَفِي الشِّعْرِ لِلَبِيدِ: ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ ... وَبَقِيتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِإِضَاعَةِ الصَّلَاةِ وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ فَإِضَاعَةُ الصَّلَاةِ فِي مُقَابَلَةِ قوله: خَرُّوا سُجَّداً [السجدة: 15] وَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: وَبُكِيًّا لِأَنَّ بُكَاءَهُمْ يَدُلُّ عَلَى خَوْفِهِمْ وَاتِّبَاعَ هَؤُلَاءِ لِشَهَوَاتِهِمْ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْخَوْفِ لَهُمْ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَضاعُوا الصَّلاةَ تَرَكُوهَا لَكِنَّ تَرْكَهَا قَدْ يَكُونُ بِأَنْ لَا تُفْعَلَ أَصْلًا وَقَدْ

[سورة مريم (19) : الآيات 61 إلى 63]

يَكُونُ بِأَنْ لَا تُفْعَلَ فِي وَقْتِهَا وَإِنْ كَانَ الْأَظْهَرُ هُوَ الْأَوَّلَ وَأَمَّا اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هُمُ الْيَهُودُ تَرَكُوا الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَشَرِبُوا الْخَمْرَ وَاسْتَحَلُّوا نِكَاحَ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ كَافِرٌ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَا فِي أَنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ الْعَمَلِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَطَفَ الْعَمَلَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، أَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ: بِأَنَّهُ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَ التَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ وَالتَّوْبَةُ مِنَ الْإِيمَانِ فَكَذَلِكَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَكُونُ مِنَ الْإِيمَانِ وَإِنْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا الْجَوَابُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ عَطْفَ الْإِيمَانِ عَلَى التَّوْبَةِ يَقْتَضِي وُقُوعَ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ التَّوْبَةَ عَزْمٌ عَلَى التَّرْكِ وَالْإِيمَانَ إِقْرَارٌ بِاللَّهِ تَعَالَى وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ، فَكَذَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ يَلْقَوْنَ غَيًّا وَذَكَرُوا فِي الْغَيِّ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ شَرٍّ عِنْدَ الْعَرَبِ غَيٌّ وَكُلَّ خَيْرٍ رَشَادٌ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَمَنْ يَلَقْ خَيْرًا يَحْمَدِ النَّاسُ أَمْرَهُ ... وَمَنْ يَغْوَ لَا يَعْدَمْ عَلَى الْغَيِّ لَائِمَا وَثَانِيهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: يَلْقَوْنَ غَيًّا أَيْ يَلْقَوْنَ جَزَاءَ الْغَيِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَلْقَ أَثاماً [الْفُرْقَانِ: 68] أَيْ مُجَازَاةَ الْآثَامِ. وَثَالِثُهَا: غَيًّا عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ. وَرَابِعُهَا: الْغَيُّ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَسْتَعِيذُ مِنْهُ أَوْدِيَتُهَا/ وَالْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ أَقْرَبُ فَإِنْ كَانَ فِي جَهَنَّمَ مَوْضِعٌ يُسَمَّى بِذَلِكَ جَازَ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا قَدَّمْنَا لِأَنَّهُ الْمَعْقُولُ فِي اللُّغَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ فِيمَنْ لَمْ يَتُبْ، وَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمُ الْجَنَّةُ لَا يَلْحَقُهُمْ ظلم، وهاهنا سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: الِاسْتِثْنَاءُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْ تَابَ عَنْ كُفْرِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ الصَّلَاةِ، أَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ حَائِضًا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ أَيْضًا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَكَذَا الصَّوْمُ فَهَهُنَا لَوْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّجَاةِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ عَمَلٌ فَلَمْ يَجُزْ تَوَقُّفُ الْأَجْرِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ نَادِرَةٌ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْغَالِبُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ الثَّوَابُ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْعَمَلِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْكُلُّ بِالتَّفَضُّلِ لَاسْتَحَالَ حُصُولُ الظُّلْمِ لَكِنَّ مِنْ مَذْهَبِكُمْ أَنَّهُ لَا اسْتِحْقَاقَ لِلْعَبْدِ بِعَمَلِهِ إِلَّا بِالْوَعْدِ. الْجَوَابُ: أنه لما أشبهه أجرى على حكمه. [سورة مريم (19) : الآيات 61 الى 63] جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي التَّائِبِ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَصَفَ الْجَنَّةَ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ وَالْعَدْنُ الْإِقَامَةُ وَصَفَهَا بِالدَّوَامِ عَلَى خِلَافِ حَالِ الْجِنَانِ فِي الدُّنْيَا الَّتِي لَا تَدُومُ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ حَالَهَا لَا يَتَغَيَّرُ فِي مَنَاظِرِهَا فَلَيْسَتْ كَجِنَانِ الدُّنْيَا الَّتِي حَالُهَا يَخْتَلِفُ فِي خُضْرَةِ الْوَرَقِ وَظُهُورِ النَّوْرِ وَالثَّمَرِ وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهَا: وَعْدُ الرَّحْمَنِ لِعِبَادِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِالْغَيْبِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ [هُمْ إِيَّا] هَا وَهِيَ غَائِبَةٌ عَنْهُمْ غَيْرُ حَاضِرَةٍ أَوْ هُمْ غَائِبُونَ عَنْهَا لَا يُشَاهِدُونَهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ وَعْدُ الرَّحْمَنِ لِلَّذِينِ يَكُونُونَ عِبَادًا بِالْغَيْبِ أَيِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ فِي السِّرِّ بِخِلَافِ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُ فِي الظَّاهِرِ وَلَا يَعْبُدُونَهُ فِي السِّرِّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَقْوَى لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْوَعْدَ مِنْهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ بِأَمْرٍ غَائِبٍ فَهُوَ كَأَنَّهُ

مُشَاهَدٌ حَاصِلٌ، لِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا أَمَّا قَوْلُهُ: مَأْتِيًّا فَقِيلَ إِنَّهُ مَفْعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَالْوَجْهُ أَنَّ الْوَعْدَ هُوَ الْجَنَّةُ وَهُمْ يَأْتُونَهَا، قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَا وَصَلَ إِلَيْكَ فَقَدْ وَصَلْتَ إِلَيْهِ وَمَا أَتَاكَ فَقَدْ أَتَيْتَهُ وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا بَيَانٌ أَنَّ الْوَعْدَ مِنْهُ تَعَالَى وإن كان بأمر غائب فهو كأنه مشاهد وَحَاصِلٌ/ وَالْمُرَادُ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي الْقُلُوبِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً [مريم: 62] وَاللَّغْوُ مِنَ الْكَلَامِ مَا سَبِيلُهُ أَنْ يُلْغَى وَيُطْرَحَ وَهُوَ الْمُنْكَرُ مِنَ الْقَوْلِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً [الْغَاشِيَةِ: 11] وَفِيهِ تَنْبِيهٌ ظَاهِرٌ عَلَى وُجُوبِ تَجَنُّبِ اللَّغْوِ حَيْثُ نَزَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الدَّارَ الَّتِي لَا تَكْلِيفَ فِيهَا وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَهُ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفُرْقَانِ: 72] ، وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [الْقَصَصِ: 55] أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا سَلاماً فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ فِيهِ إِشْكَالًا وَهُوَ أَنَّ السَّلَامَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ اللَّغْوِ فَكَيْفَ اسْتَثْنَى السَّلَامَ مِنَ اللَّغْوِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَى السَّلَامِ هُوَ الدُّعَاءُ بِالسَّلَامَةِ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ لَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى هَذَا الدُّعَاءِ فَكَانَ ظَاهِرُهُ مِنْ بَابِ اللَّغْوِ وَفُضُولِ الْحَدِيثِ لَوْلَا مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةِ الْإِكْرَامِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ يَكُونَ هَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ السَّلَامَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ سَلَامِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مِنْ تَسْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْدِ: 23، 24] وَقَوْلُهُ: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] . وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا وَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَصْفُ الْجَنَّةِ بِأَحْوَالٍ مُسْتَعْظَمَةٍ وَوُصُولُ الرِّزْقِ إِلَيْهِمْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا لَيْسَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُسْتَعْظَمَةِ. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُرَغِّبَ كُلَّ قَوْمٍ بِمَا أَحَبُّوهُ فِي الدُّنْيَا وَلِذَلِكَ ذَكَرَ أَسَاوِرَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلُبْسَ الْحَرِيرِ الَّتِي كَانَتْ عَادَةَ الْعَجَمِ وَالْأَرَائِكَ الَّتِي هِيَ الْحِجَالُ الْمَضْرُوبَةُ عَلَى الْأَسِرَّةِ وَكَانَتْ مِنْ عَادَةِ أَشْرَافِ الْعَرَبِ فِي الْيَمَنِ وَلَا شَيْءَ كَانَ أَحَبَّ إِلَى الْعَرَبِ مِنَ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ فَوَعَدَهُمْ بِذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ دَوَامُ الرِّزْقِ كَمَا تَقُولُ أَنَا عِنْدَ فُلَانٍ صَبَاحًا وَمَسَاءً وَبُكْرَةً وَعَشِيًّا تُرِيدُ الدَّوَامَ وَلَا تَقْصِدُ الْوَقْتَيْنِ الْمَعْلُومَيْنِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَالَ تَعَالَى: لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً [الْإِنْسَانِ: 13] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا صَبَاحَ عِنْدَ رَبِّكَ وَلَا مَسَاءَ» وَالْبُكْرَةُ وَالْعَشِيُّ لَا يُوجَدَانِ إِلَّا عِنْدَ وُجُودِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ. وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ عِنْدَ مِقْدَارِ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ غُدْوَةٌ وَعَشِيٌّ إِذْ لَا لَيْلَ فِيهَا وَيَحْتَمِلُ مَا قِيلَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لِقَدْرِ الْيَوْمِ عَلَامَةً يَعْرِفُونَ بِهَا مَقَادِيرَ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَهُمْ رِزْقُهُمْ مَتَى شَاءُوا كَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ فِي الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ. وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: تِلْكَ الْجَنَّةُ هَذِهِ الْإِشَارَةُ إِنَّمَا صَحَّتْ لِأَنَّ الْجَنَّةَ غَائِبَةٌ. وَثَانِيهَا: ذَكَرُوا فِي نُورِثُ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: نُورِثُ اسْتِعَارَةٌ أَيْ نُبْقِي عَلَيْهِ الْجَنَّةَ كَمَا نُبْقِي عَلَى الْوَارِثِ مَالَ الْمُورِثِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّا نَنْقُلُ تِلْكَ الْمَنَازِلَ مِمَّنْ لَوْ أَطَاعَ لَكَانَتْ لَهُ إِلَى عِبَادِنَا الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ فَجُعِلَ هَذَا النَّقْلُ إِرْثًا قَالَهُ الْحَسَنُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَتْقِيَاءَ يَلْقَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَدِ انْقَضَتْ أَعْمَالُهُمْ وَثَمَرَاتُهَا بَاقِيَةٌ وَهِيَ الْجَنَّةُ فَإِذَا أَدْخَلَهُمُ/ الْجَنَّةَ فَقَدْ أَوْرَثَهُمْ مِنْ تَقْوَاهُمْ كما يرث

[سورة مريم (19) : الآيات 64 إلى 65]

الْوَارِثُ الْمَالَ مِنَ الْمُتَوَفَّى. وَرَابِعُهَا: مَعْنَى مَنْ كَانَ تَقِيًّا مَنْ تَمَسَّكَ بِاتِّقَاءِ مَعَاصِيهِ وَجَعَلَهُ عَادَتَهُ وَاتَّقَى تَرْكَ الْوَاجِبَاتِ، قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ يَخْتَصُّ بِدُخُولِهَا مَنْ كَانَ مُتَّقِيًا وَالْفَاسِقُ الْمُرْتَكِبُ لِلْكَبَائِرِ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ. وَالْجَوَابُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَّقِيَ يَدْخُلُهَا وَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُتَّقِي لَا يَدْخُلُهَا وَأَيْضًا فَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ مُتَّقٍ عَنِ الْكُفْرِ وَمَنْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُتَّقٍ عَنِ الْكُفْرِ فَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُتَّقٍ لِأَنَّ الْمُتَّقِيَ جُزْءٌ مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِنَا الْمُتَّقِي عَنِ الْكُفْرِ وَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُتَّقٍ وَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَهُ فالآية تَحْتَهُ فَالْآيَةُ بِأَنْ تَدُلَّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَوْلَى مِنْ أَنْ تَدُلَّ على أنه لا يدخلها. [سورة مريم (19) : الآيات 64 الى 65] وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ إِشْكَالًا وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا [مريم: 63] كَلَامُ اللَّهِ وَقَوْلَهُ: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ كَلَامُ غَيْرِ اللَّهِ فَكَيْفَ جَازَ عَطْفُ هَذَا عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْقَرِينَةُ ظَاهِرَةً لَمْ يَقْبُحْ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: 117] هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَقَوْلَهُ: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ [آل عمران: 51] كَلَامُ غَيْرِ اللَّهِ وَأَحَدُهُمَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْآخَرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ خِطَابُ جَمَاعَةٍ لِوَاحِدٍ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَنْزِلُونَ عَلَى الرَّسُولِ وَيَحْتَمِلُ فِي سَبَبِهِ مَا رُوِيَ أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثَتْ خَمْسَةَ رَهْطٍ إِلَى يَهُودِ الْمَدِينَةِ يَسْأَلُونَهُمْ عَنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَلْ يَجِدُونَهُ فِي كِتَابِهِمْ فَسَأَلُوا النَّصَارَى فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ وَقَالَتِ الْيَهُودُ: نَجِدُهُ في كتابنا وهذا زمانه وقد سألنا رحمن الْيَمَامَةِ عَنْ خِصَالٍ ثَلَاثٍ فَلَمْ يَعْرِفْ فَاسْأَلُوهُ عَنْهُنَّ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِخَصْلَتَيْنِ مِنْهُمَا فَاتَّبِعُوهُ، فَاسْأَلُوهُ عَنْ فِتْيَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَعَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَعَنِ الرَّوْحِ قَالَ فَجَاءُوا فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ لم يَدْرِ كَيْفَ يُجِيبُ فَوَعَدَهُمْ أَنْ يُجِيبَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَاحْتَبَسَ الْوَحْيُ عَنْهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَقِيلَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَشَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ مَشَقَّةً شَدِيدَةً وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ وَدَّعَهُ رَبُّهُ وَقَلَاهُ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْطَأْتَ عَنِّي حَتَّى سَاءَ ظَنِّي وَاشْتَقْتُ إِلَيْكَ قَالَ إِنِّي كُنْتُ أَشْوَقَ وَلَكِنِّي عَبْدٌ مَأْمُورٌ إِذَا بُعِثْتُ نَزَلْتُ وَإِذَا حُبِسْتُ احْتَبَسْتُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَأَنْزَلَ قَوْلَهُ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً/ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْكَهْفِ: 23، 24] وَسُورَةَ الضُّحَى ثُمَّ أَكَّدُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا أَيْ هُوَ الْمُدَبِّرُ لَنَا فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ وَمَا بَيْنَهُمَا أَوِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ يَعْلَمُ إِصْلَاحَ التَّدْبِيرِ مُسْتَقْبَلًا وَمَاضِيًا وَمَا بَيْنَهُمَا وَالْغَرَضُ أَنَّ أَمْرَنَا مَوْكُولٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يَتَصَرَّفُ فِينَا بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَحِكْمَتِهِ لَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِيهِ وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ قَوْلُهُ: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالْمُرَادُ وَمَا نَتَنَزَّلُ الْجَنَّةَ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا أَيْ فِي الْجَنَّةِ مُسْتَقْبَلًا وَمَا خَلْفَنَا مِمَّا كَانَ فِي الدُّنْيَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ أَيْ مَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا لِشَيْءٍ مِمَّا خَلَقَ فَيَتْرُكَ إِعَادَتَهُ لِأَنَّهُ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ وَقَوْلُهُ: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مِنْهُ تَعَالَى فِي مُخَاطَبَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَّصِلُ بِهِ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ بَلْ هُوَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ظَاهِرَ التَّنَزُّلِ نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ بِأَمْرِ رَبِّكَ وَظَاهِرُ الْأَمْرِ بِحَالِ التَّكْلِيفِ أَلْيَقُ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ مِنْ جَمَاعَةٍ لِوَاحِدٍ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِمُخَاطَبَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الْجَنَّةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَا فِي سِيَاقِهِ

مِنْ قَوْلِهِ: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما لَا يَلِيقُ إِلَّا بِحَالِ التَّكْلِيفِ وَلَا يُوصَفُ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا لِلرَّسُولِ وَمَا كَانَ رَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ نَسِيًّا يَجُوزُ عَلَيْهِ السَّهْوُ حَتَّى يَضُرَّكَ إِبْطَاؤُنَا بِالتَّنَزُّلِ عَلَيْكَ إِلَى مثل ذلك ثم هاهنا أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» التَّنَزُّلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: النُّزُولُ عَلَى مَهَلٍ. وَالثَّانِي: بِمَعْنَى النُّزُولِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُطَاوِعُ نَزَّلَ وَنَزَّلَ يَكُونُ بِمَعْنَى أَنْزَلَ وَبِمَعْنَى التَّدْرِيجِ وَاللَّائِقُ بِمِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ النُّزُولُ عَلَى مَهَلٍ وَالْمُرَادُ أَنَّ نُزُولَنَا فِي الْأَحَايِينِ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ لَيْسَ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. الْبَحْثُ الثَّانِي: ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: مَا بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: لَهُ مَا قُدَّامَنَا وَمَا خَلْفَنَا مِنَ الْجِهَاتِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا نَتَمَالَكُ أَنْ نَنْتَقِلَ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ وَمِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ إِلَّا بِأَمْرِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَنْقَلِبَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِأَمْرِهِ. وَثَانِيهَا: لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا مَا سَلَفَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَمَا خَلْفَنَا مَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً. وثالثها: ما مضى من أعمارنا وما غير مِنْ ذَلِكَ وَالْحَالُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا. وَرَابِعُهَا: مَا قَبْلَ وُجُودِنَا وَمَا بَعْدَ فَنَائِنَا. وَخَامِسُهَا: الْأَرْضُ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا إِذَا نَزَلْنَا وَالسَّمَاءُ الَّتِي وَرَاءَنَا وَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَعَلَى كُلِّ التَّقْدِيرَاتِ فَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ الْمُحِيطُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فَكَيْفَ نُقْدِمُ عَلَى فِعْلٍ إِلَّا بِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا أَيْ تَارِكًا لَكَ كَقَوْلِهِ: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [الضُّحَى: 3] أَيْ مَا كَانَ امْتِنَاعُ النُّزُولِ إِلَّا لِامْتِنَاعِ الْأَمْرِ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ تَرْكِ اللَّهِ لَكَ وَتَوْدِيعِهِ إِيَّاكَ، أَمَّا قَوْلُهُ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ يَكُونُ رَبًّا لَهَا أَجْمَعَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ إِذْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُمْسِكَهَا حَالًا بَعْدَ حَالٍ وَإِلَّا بَطَلَ الْأَمْرُ فِيهِمَا وَفِيمَنْ يَتَصَرَّفُ فِيهِمَا، وَاحْتَجَّ/ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ حَاصِلٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ رَبٌّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَصَلَ بَيْنَهُمَا، قال صاحب «الكشاف» : رب السموات وَالْأَرْضِ بَدَلٌ مِنْ رَبِّكَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السموات وَالْأَرْضِ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ فَهُوَ أَمْرٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعِبَادَةِ وَالْمُصَابَرَةِ عَلَى مَشَاقِّ التَّكَالِيفِ فِي الْأَدَاءِ وَالْإِبْلَاغِ وَفِيمَا يَخُصُّهُ مِنَ الْعِبَادَةِ فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَمْ يَقُلْ وَاصْطَبِرْ عَلَى عِبَادَتِهِ بَلْ قَالَ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ قُلْنَا: لِأَنَّ الْعِبَادَةَ جُعِلَتْ بِمَنْزِلَةِ الْقِرْنِ فِي قَوْلِكَ لِلْمُحَارِبِ اصْطَبِرْ لِقِرْنِكَ أَيِ اثْبُتْ لَهُ فِيمَا يُورِدُ عَلَيْكَ مِنْ شَدَّاتِهِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعِبَادَةَ تُورِدُ عَلَيْكَ شَدَائِدَ وَمَشَاقَّ فَاثْبُتْ لَهَا وَلَا تَهِنْ وَلَا يَضِقْ صَدْرُكَ مِنْ إِلْقَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَيْكَ الْأَغَالِيطَ عَنِ احْتِبَاسِ الْوَحْيِ عَنْكَ مُدَّةً وَشَمَاتَةِ الْمُشْرِكِينَ بِكَ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا فَالظَّاهِرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ عِلَّةَ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمُصَابَرَةِ عَلَيْهَا أَنَّهُ لَا سَمِيَّ لَهُ، وَالْأَقْرَبُ هُوَ كَوْنُهُ مُنْعِمًا بِأُصُولِ النِّعَمِ وَفُرُوعِهَا وَهِيَ خَلْقُ الْأَجْسَامِ وَالْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهُ سُبْحَانَهُ، فَإِذَا كَانَ هُوَ قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِغَايَةِ الْإِنْعَامِ وَجَبَ أَنْ تُعَظِّمَهُ بِغَايَةِ التَّعْظِيمِ وَهِيَ الْعِبَادَةُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي اسْمِهِ وَبَيَّنُوا ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْإِلَهِ عَلَى الْوَثَنِ فَمَا أَطْلَقُوا لَفْظَ اللَّهِ عَلَى شَيْءٍ سِوَاهُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا يُسَمَّى بِالرَّحْمَنِ غَيْرُهُ. الثَّانِي: هَلْ تَعْلَمُ مَنْ سُمِّيَ بِاسْمِهِ عَلَى الْحَقِّ دُونَ الْبَاطِلِ؟ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الْبَاطِلِ فِي كَوْنِهَا غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهَا كَلَا تَسْمِيَةٍ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة مريم (19) : الآيات 66 إلى 70]

[سورة مريم (19) : الآيات 66 الى 70] وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْعِبَادَةِ وَالْمُصَابَرَةِ عَلَيْهَا فَكَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ وَقَالَ هَذِهِ الْعِبَادَاتُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ أَنْكَرَهَا قَوْمٌ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ حَتَّى/ يَظْهَرَ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْعِبَادَةِ مُفِيدٌ فَلِهَذَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَ مُنْكِرِي الحشر فقال: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ، وَذَكَرُوا فِي الْإِنْسَانِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ يَكُونَ الْمُرَادُ الْجِنْسَ بِأَسْرِهِ فَإِنْ قِيلَ كُلُّهُمْ غَيْرُ قَائِلِينَ بِذَلِكَ فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ؟ قُلْنَا الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لَمَّا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِيمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِمْ صَحَّ إِسْنَادُهَا إِلَى جَمِيعِهِمْ، كَمَا يُقَالُ: بَنُو فُلَانٍ قَتَلُوا فُلَانًا وَإِنَّمَا الْقَاتِلُ رَجُلٌ مِنْهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الِاسْتِبْعَادَ مَوْجُودٌ ابْتِدَاءً فِي طَبْعِ كُلِّ أَحَدٍ إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ تَرَكَ ذَلِكَ الِاسْتِبْعَادَ الْمَبْنِيَّ عَلَى مَحْضِ الطَّبْعِ بِالدَّلَالَةِ الْقَاطِعَةِ الَّتِي قَامَتْ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْسَانِ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ. فَقِيلَ: هُوَ أَبُو جَهْلٍ، وَقِيلَ: هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ جِنْسُ الْكُفَّارِ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الْبَعْثِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّةِ الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ: أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً وَالْقُرَّاءُ كُلُّهُمْ عَلَى يَذَّكَّرُ بِالتَّشْدِيدِ إِلَّا نَافِعًا وَابْنَ عَامِرٍ وعاصما فقد خففوا، أي أو لا يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَإِذَا قرئ أو لا يَذَّكَّرُ فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْمُرَادِ إِذِ الْغَرَضُ التَّفَكُّرُ وَالنَّظَرُ فِي أَنَّهُ إِذَا خُلِقَ مِنْ قَبْلُ لَا مِنْ شَيْءٍ فَجَائِزٌ أَنْ يُعَادَ ثَانِيًا. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَوِ اجْتَمَعَ كُلُّ الْخَلَائِقِ عَلَى إِيرَادِ حُجَّةٍ فِي الْبَعْثِ عَلَى هَذَا الِاخْتِصَارِ لَمَا قَدَرُوا عَلَيْهَا إِذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْإِعَادَةَ ثَانِيًا أَهْوَنُ مِنَ الْإِيجَادِ أَوَّلًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس: 79] وقوله: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: 27] وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ جَوَاهِرَ مُتَأَلِّفَةٍ قَامَتْ بِهَا أَعْرَاضٌ وَهَذَا الْمَجْمُوعُ مَا كَانَ شَيْئًا، وَلَكِنْ لِمَ قُلْتَ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ مَا كَانَ شَيْئًا قَبْلَ كَوْنِهِ مَوْجُودًا؟ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَمَرَ تَعَالَى الْإِنْسَانَ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ الْعِلْمُ بِمَا قَدْ عَلِمَهُ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ تَخَلَّلَهُمَا سَهْوٌ؟ قُلْنَا: الْمُرَادُ أو لا يتفكر فيعلم خصوصا إذا قرئ أو لا يذكر الإنسان بالتشديد أما إذا قرئ أو لا يذكر بالتخفيف فالمراد أو لا يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ حَالِ نَفْسِهِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَيًّا فِي الدُّنْيَا ثُمَّ صَارَ حَيًّا، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَرَّرَ الْمَطْلُوبَ بِالدَّلِيلِ أَرْدَفَهُ بِالتَّهْدِيدِ مِنْ وجوه. أحدها: قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ وَفَائِدَةُ الْقَسَمِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ بِالْيَمِينِ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي إِقْسَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِاسْمِهِ مُضَافًا إِلَى اسم رسوله صلّى الله عليه وسلم تفخيم لشأنه صلّى الله عليه وسلم ورفع مِنْهُ كَمَا رَفَعَ مِنْ شَأْنِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ في قوله: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ [الذَّارِيَاتِ: 23] وَالْوَاوُ فِي الشَّياطِينَ ويجوز أَنْ تَكُونَ لِلْعَطْفِ وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى مَعَ وَهِيَ بِمَعْنَى مَعَ أَوْقَعُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ مَعَ قُرَنَائِهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ أَغْوَوْهُمْ يُقْرَنُ كُلُّ كَافِرٍ مَعَ شَيْطَانٍ فِي سِلْسِلَةٍ. وَثَانِيهَا:

[سورة مريم (19) : الآيات 71 إلى 72]

قَوْلُهُ: ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا وَهَذَا الْإِحْضَارُ يَكُونُ قَبْلَ إِدْخَالِهِمْ جَهَنَّمَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُحْضِرُهُمْ عَلَى أَذَلِّ صُورَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: جِثِيًّا لِأَنَّ الْبَارِكَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ صُورَتُهُ صُورَةُ الذَّلِيلِ أَوْ صُورَتُهُ صُورَةُ الْعَاجِزِ، فَإِنَّ قِيلَ هَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ لِلْكُلِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً [الْجَاثِيَةِ: 28] وَالسَّبَبُ فِيهِ جَرَيَانُ الْعَادَةِ أَنَّ النَّاسَ فِي مَوَاقِفِ الْمُطَالَبَاتِ مِنَ/ الْمُلُوكِ يَتَجَاثَوْنَ عَلَى رُكَبِهِمْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِنْظَارِ وَالْقَلَقِ، أَوْ لِمَا يَدْهَمُهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْأَمْرِ الَّذِي لَا يُطِيقُونَ مَعَهُ الْقِيَامَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ، وَإِذَا كَانَ هَذَا عَامًّا للكل فكيف يدل على مزيد ذل الكفار؟ قُلْنَا: لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ مِنْ وَقْتِ الْحَشْرِ إِلَى وَقْتِ الْحُضُورِ فِي الْمَوْقِفِ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ وَذَلِكَ يُوجِبُ مَزِيدَ الذُّلِّ فِي حَقِّهِمْ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا وَالْمُرَادُ بِالشِّيعَةِ وَهِيَ فِعْلَةٌ كَفِرْقَةٍ وَفِئَةٍ الطَّائِفَةُ الَّتِي شَاعَتْ أَيْ تَبِعَتْ غَاوِيًا مِنَ الْغُوَاةِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً [الْأَنْعَامِ: 159] وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى يُحْضِرُهُمْ أَوَّلًا حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ثُمَّ يُمَيِّزُ الْبَعْضَ مِنَ الْبَعْضِ فَمَنْ كَانَ أَشَدَّهُمْ تَمَرُّدًا فِي كُفْرِهِ خُصَّ بِعَذَابٍ أَعْظَمَ لِأَنَّ عَذَابَ الضَّالِّ الْمُضِلِّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ عَذَابِ مَنْ يَضِلُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ عَذَابُ مَنْ يَتَمَرَّدُ وَيَتَجَبَّرُ كَعَذَابِ الْمُقَلِّدِ وَلَيْسَ عَذَابُ مَنْ يُورِدُ الشُّبَهَ فِي الْبَاطِلِ كَعَذَابِ مَنْ يَقْتَدِي بِهِ مَعَ الْغَفْلَةِ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النَّحْلِ: 88] . وَقَالَ: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: 13] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يَنْزِعُ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مَنْ كَانَ أَشَدَّ عُتُوًّا وَأَشَدَّ تمردا ليعلم أن عذابه أشد، ففائدة هذه التَّمْيِيزِ التَّخْصِيصُ بِشِدَّةِ الْعَذَابِ لَا التَّخْصِيصُ بِأَصْلِ الْعَذَابِ، فَلِذَلِكَ قَالَ فِي جَمِيعِهِمْ: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا وَلَا يُقَالُ أَوْلَى إِلَّا مَعَ اشْتِرَاكِ الْقَوْمِ فِي الْعَذَابِ، وَاخْتَلَفُوا فِي إِعْرَابِ أَيُّهُمْ فَعَنِ الْخَلِيلِ أَنَّهُ مُرْتَفِعٌ عَلَى الْحِكَايَةِ تَقْدِيرُهُ لَنَنْزِعَنَّ الَّذِينَ يُقَالُ فِيهِمْ أَيُّهُمْ أَشَدُّ وَسِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لِسُقُوطِ صَدْرِ الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ صِلَةٌ حَتَّى لَوْ جِيءَ بِهِ لَأُعْرِبَ وقيل أيهم هو أشد. [سورة مريم (19) : الآيات 71 الى 72] وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قال من قبل: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ [مريم: 68] ثم قال: ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ [مريم: 68] أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها يَعْنِي جَهَنَّمَ وَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْكُفَّارِ فَكَنَّى عَنْهُمْ أَوَّلًا كِنَايَةَ الْغَيْبَةِ ثُمَّ خَاطَبَ خِطَابَ الْمُشَافَهَةِ، قَالُوا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَرِدُوا النَّارَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 101] وَالْمُبْعَدُ عَنْهَا لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ وَارِدُهَا. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها [الْأَنْبِيَاءِ: 102] وَلَوْ وَرَدُوا جَهَنَّمَ لَسَمِعُوا حَسِيسَهَا. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النحل: 89] وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها فَلَمْ يَخُصَّ. وَهَذَا الْخِطَابُ مُبْتَدَأٌ/ مُخَالِفٌ لِلْخِطَابِ الْأَوَّلِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا أَيْ مِنَ الْوَارِدِينَ مَنِ اتَّقَى وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا إِلَّا وَالْكُلُّ وَارِدُونَ وَالْأَخْبَارُ الْمَرْوِيَّةُ دَالَّةٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْوُرُودِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْوُرُودُ الدُّنُوُّ مِنْ جَهَنَّمَ وَأَنْ يَصِيرُوا حَوْلَهَا وَهُوَ مَوْضِعُ الْمُحَاسَبَةِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الْوُرُودَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْقُرْبُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ [يُوسُفَ: 19] وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ

الْوَارِدَ مَا دَخَلَ الْمَاءَ وَقَالَ تَعَالَى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [الْقَصَصِ: 23] وَأَرَادَ بِهِ الْقُرْبَ. وَيُقَالُ: وَرَدَتِ الْقَافِلَةُ الْبَلْدَةَ وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْهَا فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ يَحْضُرُونَ حَوْلَ جَهَنَّمَ: كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا [مريم: 71] أَيْ وَاجِبًا مَفْرُوغًا مِنْهُ بِحُكْمِ الْوَعِيدِ ثُمَّ نُنَجِّي أَيْ نُبْعِدُ الَّذِينَ اتَّقَوْا عَنْ جَهَنَّمَ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 101] وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الْقَوْلَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ فَقَالَتْ حَفْصَةُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمَهْ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا» ، وَلَوْ كَانَ الْوُرُودُ عِبَارَةً عَنِ الدُّخُولِ لَكَانَ سُؤَالُ حَفْصَةَ لَازِمًا. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْوُرُودَ هُوَ الدُّخُولُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْخَبَرُ، أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 98] وَقَالَ: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هُودٍ: 98] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تعالى: أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ وَالْمُبْعَدُ هُوَ الَّذِي لَوْلَا التَّبْعِيدُ لَكَانَ قَرِيبًا فَهَذَا إِنَّمَا يَحْصُلُ لَوْ كَانُوا فِي النَّارِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُبْعِدُهُمْ عَنْهَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يَبْقَوْنَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَرَدُوهُ وَهُمْ إِنَّمَا يَبْقَوْنَ فِي النَّارِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُوا قَدْ دَخَلُوا النَّارَ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَهُوَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ قَالَ: «أَخْبَرَ اللَّهُ عَنِ الْوُرُودِ وَلَمْ يخبر بالصدور، فقال عليه السلام: يا ابن رَوَاحَةَ اقْرَأْ مَا بَعْدَهَا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا» ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْنَ رَوَاحَةَ فَهِمَ مِنَ الْوُرُودِ الدُّخُولَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَعَنْ جَابِرٍ: «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: الْوُرُودُ الدُّخُولُ لَا يَبْقَى بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ إِلَّا دَخَلَهَا فَتَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بَرْدًا وَسَلَامًا حَتَّى إِنَّ لِلنَّاسِ ضَجِيجًا مِنْ بَرْدِهَا» . وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ يَقُولُونَ: الْمُؤْمِنُونَ يَدْخُلُونَ النَّارَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَضَرَرٍ الْبَتَّةَ بَلْ مَعَ الْغِبْطَةِ وَالسُّرُورِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الْأَنْبِيَاءِ: 103] وَلِأَنَّ الْآخِرَةَ دَارُ الْجَزَاءِ لَا دَارُ التَّكْلِيفِ، وَإِيصَالُ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ إِنَّمَا يَجُوزُ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، وَلِأَنَّهُ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُبَشِّرُ فِي الْقَبْرِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ بِالْجَنَّةِ حَتَّى يَرَى مَكَانَهُ فِي الْجَنَّةِ وَيَعْلَمَهُ» . وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي حَالِ الْمُعَايَنَةِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَرِدُوا الْقِيَامَةَ وَهُمْ شَاكُّونَ فِي أَمْرِهِمْ، وَإِنَّمَا تُؤَثِّرُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ فِي أَهْلِ النَّارِ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ كَوْنَهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَالْعِقَابِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ كَيْفَ يَنْدَفِعُ عَنْهُمْ ضَرَرُ النَّارِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْبُقْعَةُ الْمُسَمَّاةُ بِجَهَنَّمَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي خِلَالِهَا مَا لَا نَارَ فِيهِ، وَيَكُونَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُسْلَكُ فِيهَا إِلَى دَرَكَاتِ جَهَنَّمَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُدْخَلَ الْكُلُّ فِي جَهَنَّمَ فَالْمُؤْمِنُونَ يَكُونُونَ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ الْخَالِيَةِ عَنِ النَّارِ، وَالْكُفَّارُ يَكُونُونَ فِي وَسَطِ/ النَّارِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخْمِدُ النَّارَ فَيَعْبُرُهَا الْمُؤْمِنُونَ وَتَنْهَارُ بِغَيْرِهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «يَرِدُونَهَا كَأَنَّهَا إِهَالَةٌ» وَعَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: «أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَلَيْسَ وَعَدَنَا رَبُّنَا بِأَنْ نَرِدَ النَّارَ فَيُقَالُ لَهُمْ: قَدْ وَرَدْتُمُوهَا وَهِيَ خَامِدَةٌ» . وَثَالِثُهَا: أَنَّ حَرَارَةَ النَّارِ لَيْسَتْ بِطَبْعِهَا فَالْأَجْزَاءُ الْمُلَاصِقَةُ لِأَبْدَانِ الْكُفَّارِ يَجْعَلُهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ مُحْرِقَةً مُؤْذِيَةً وَالْأَجْزَاءُ الْمُلَاصِقَةُ لِأَبْدَانِ الْمُؤْمِنِينَ يَجْعَلُهَا اللَّهُ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَيْهِمْ، كَمَا فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكَمَا أَنَّ الْكُوزَ الْوَاحِدَ مِنَ الْمَاءِ كان يَشْرَبُهُ الْقِبْطِيُّ فَكَانَ يَصِيرُ دَمًا وَيَشْرَبُهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ فَكَانَ يَصِيرُ مَاءً عَذْبًا «1» . وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا بد من أحد هذه

_ (1) هذه إحدى الآيات التسع التي كانت عذابا لفرعون وأهله في مصر، وأكرم الله بها نبيه موسى والتي عد منها في قوله: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ) [الأعراف: 133] ، والمراد بالقبط هنا أتباع فرعون وهم سكان مصر قديما.

الْوُجُوهِ فِي الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالْعَذَابِ حَتَّى يَكُونُوا فِي النَّارِ مَعَ الْمُعَاقَبِينَ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَذَابٌ فِي دُخُولِهِمُ النَّارَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذَلِكَ الدُّخُولِ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُهُمْ سُرُورًا إِذَا عَلِمُوا الْخَلَاصَ مِنْهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ فِيهِ مَزِيدَ غَمٍّ عَلَى أَهْلِ النَّارِ مِنْ حَيْثُ يَرَوْنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ أَعْدَاؤُهُمْ يَتَخَلَّصُونَ مِنْهَا وَهُمْ يَبْقَوْنَ فِيهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ فِيهِ مَزِيدَ غَمٍّ عَلَى أَهْلِ النَّارِ مِنْ حَيْثُ تَظْهَرُ فَضِيحَتُهُمْ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ وَعِنْدَ الْأَوْلِيَاءِ وَعِنْدَ مَنْ كَانَ يُخَوِّفُهُمْ مِنَ النَّارِ فَمَا كَانُوا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا كَانُوا مَعَهُمْ فِي النَّارِ يُبَكِّتُونَهُمْ فَزَادَ ذَلِكَ غَمًّا لِلْكُفَّارِ وَسُرُورًا لِلْمُؤْمِنِينَ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يُخَوِّفُونَهُمْ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَيُقِيمُونَ عَلَيْهِمْ صِحَّةَ الدَّلَائِلِ فَمَا كَانُوا يَقْبَلُونَ تِلْكَ الدَّلَائِلَ، فَإِذَا دَخَلُوا جَهَنَّمَ مَعَهُمْ أَظْهَرُوا لَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا صَادِقِينَ فِيمَا قَالُوا، وَأَنَّ الْمُكَذِّبِينَ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ كَانُوا كَاذِبِينَ. وَسَادِسُهَا: أَنَّهُمْ إِذَا شَاهَدُوا ذَلِكَ الْعَذَابَ صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَزِيدِ الْتِذَاذِهِمْ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ فَأَمَّا الَّذِينَ تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 101] فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى الدُّخُولِ فِي جَهَنَّمَ وَأَيْضًا فَالْمُرَادُ عَنْ عَذَابِهَا وَكَذَا قَوْلُهُ: لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها [الْأَنْبِيَاءِ: 102] فَإِنْ قِيلَ: هَلْ ثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ كَيْفِيَّةُ دُخُولِ النَّارِ ثُمَّ خُرُوجِ الْمُتَّقِينَ مِنْهَا إِلَى الْجَنَّةِ؟ قُلْنَا: ثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ أَنَّ الْمُحَاسَبَةَ تَكُونُ فِي الْأَرْضِ أَوْ حَيْثُ كَانَتِ الْأَرْضُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إِبْرَاهِيمَ: 48] وَجَهَنَّمُ قَرِيبَةٌ مِنَ الْأَرْضِ وَالْجَنَّةُ فِي السَّمَاءِ فَفِي مَوْضِعِ الْمُحَاسَبَةِ يَكُونُ الِاجْتِمَاعُ فَيَدْخُلُونَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إِلَى جَهَنَّمَ ثُمَّ يَرْفَعُ اللَّهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَيُنَجِّيهِمْ وَيَدْفَعُ أَهْلَ النَّارِ فِيهَا. أَمَّا قَوْلُهُ: كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا فَالْحَتْمُ مَصْدَرُ حَتَمَ الْأَمْرَ إِذَا أَوْجَبَهُ فَسُمِّي الْمَحْتُومُ بِالْحَتْمِ كَقَوْلِهِمْ: خَلْقُ اللَّهِ وَضَرْبُ الْأَسِيرِ، وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَ الْعِقَابَ عَقْلًا فَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مَا جَاءَ مِنْ جِهَةِ الْوَعِيدِ وَالْأَخْبَارِ لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَى لِلْوُجُوبِ وَالَّذِي ثَبَتَ بِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ لَا يُسَمَّى وَاجِبًا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَمَّا اسْتَحَالَ تَطَرُّقُ الْخُلْفِ إِلَيْهِ جَرَى مَجْرَى الْوَاجِبِ أَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ قُرِئَ نُنَجِّي وَنُنْجِي وَيُنَجَّى عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، قَالَ الْقَاضِي: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى قَوْلِنَا فِي الْوَعِيدِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْكُلَّ يَرِدُونَهَا ثُمَّ بَيَّنَ صِفَةَ مَنْ يَنْجُو وَهُمُ الْمُتَّقُونَ وَالْفَاسِقُ/ لَا يَكُونُ مُتَّقِيًا، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ عَدَا الْمُتَّقِينَ يَذَرُهُمْ فِيهَا جِثِيًّا فَثَبَتَ أَنَّ الْفَاسِقَ يَبْقَى فِي النَّارِ أَبَدًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُتَّقِي هُوَ الَّذِي اتَّقَى الشِّرْكَ بِقَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَشْهَدُ الدَّلِيلُ بِصِحَّتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مُتَّقٍ عَنِ الشِّرْكِ وَمَنْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُتَّقٍ عَنِ الشِّرْكِ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُتَّقٍ لِأَنَّ الْمُتَّقِيَ جُزْءٌ مِنَ الْمُتَّقِي عَنِ الشِّرْكِ وَمَنْ صَدَقَ عَلَيْهِ الْمُرَكَّبُ صَدَقَ عَلَيْهِ الْمُفْرَدُ، فَثَبَتَ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُتَّقٍ وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي تَوَهَّمُوهَا دَلِيلًا مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ: قَالَ الْقَاضِي: وَتَدُلُّ الْآيَةُ أَيْضًا، عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ مَنْ لَا يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ وَلَا فِي النَّارِ، قُلْنَا: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُنَجِّيهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ، ثُمَّ هَبْ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَّقِينَ يَكُونُونَ فِي الجنة والظالمين يبقون في النار فيبقى هاهنا قِسْمٌ ثَالِثٌ خَارِجٌ عَنِ الْقِسْمَيْنِ وَهُوَ الَّذِي اسْتَوَتْ طَاعَتُهُ وَمَعْصِيَتُهُ فَتَسْقُطُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْأُخْرَى فَيَبْقَى لَا

[سورة مريم (19) : آية 73]

مُطِيعًا وَلَا عَاصِيًا، فَهَذَا الْقِسْمُ إِنْ بَطَلَ فَإِنَّمَا يَبْطُلُ بِشَيْءٍ سِوَى هَذِهِ الْآيَةِ فَلَا تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى الْحَصْرِ الَّذِي ادَّعَاهُ وَمِنَ الْمُعْتَزِلَةِ مَنْ تَمَسَّكَ فِي الْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا وَلَفْظُ الظَّالِمِينَ لَفْظُ جَمْعٍ دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّعْرِيفِ فَيُفِيدُ الْعُمُومَ وَالْكَلَامُ عَلَى التَّمَسُّكِ بِصِيَغِ الْعُمُومِ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ، أَمَّا قَوْلُهُ: جِثِيًّا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَوْلُهُ: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُرُودِ الْجُثُوُّ حَوَالَيْهَا وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُفَارِقُونَ الْكَفَرَةَ إلى الجنة بعد نجاتهم وتبقى الكفرة في مكانهم جاثين. [سورة مريم (19) : آية 73] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ أَتْبَعَهُ بِالْوَعِيدِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ عَارَضُوا حُجَّةَ اللَّهِ بِكَلَامٍ فَقَالُوا: لَوْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ عَلَى الْحَقِّ وَكُنَّا عَلَى الْبَاطِلِ لَكَانَ حَالُكُمْ فِي الدُّنْيَا أَحْسَنَ وَأَطْيَبَ مِنْ حَالِنَا، لِأَنَّ الْحَكِيمَ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُوقِعَ أَوْلِيَاءَهُ الْمُخْلِصِينَ في العذاب والذل وأعداءه المعروضين عَنْ خِدْمَتِهِ فِي الْعِزِّ وَالرَّاحَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فَإِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا فِي النِّعْمَةِ وَالرَّاحَةِ وَالِاسْتِعْلَاءِ، وَالْمُؤْمِنِينَ كَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي الْخَوْفِ وَالذُّلِّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ لَيْسَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا حَاصِلُ شُبْهَتِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ [الْأَحْقَافِ: 11] وَيُرْوَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُرَجِّلُونَ شُعُورَهُمْ وَيَدَّهِنُونَ وَيَتَطَيَّبُونَ وَيَتَزَيَّنُونَ/ بِالزِّينَةِ الْفَاخِرَةِ ثُمَّ يَدَّعُونَ مُفْتَخِرِينَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ. بَقِيَ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: آياتُنا بَيِّناتٍ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهَا مُرَتَّلَاتُ الْأَلْفَاظِ مُبَيَّنَاتُ الْمَعَانِي إِمَّا مُحْكَمَاتٌ أَوْ مُتَشَابِهَاتٌ فَقَدْ تَبِعَهَا الْبَيَانُ بِالْمُحْكَمَاتِ أَوْ بِتَبْيِينِ الرَّسُولِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا. وَثَانِيهَا: أَنَّهَا ظَاهِرَاتُ الْإِعْجَازِ تُحُدِّيَ بِهَا فَمَا قَدَرُوا عَلَى مُعَارَضَتِهَا. وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ بِكَوْنِهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ أَيْ دَلَائِلَ ظَاهِرَةً وَاضِحَةً لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهَا سُؤَالٌ وَلَا اعْتِرَاضٌ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي إِثْبَاتِ صِحَّةِ الْحَشْرِ: أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً [مَرْيَمَ: 67] . الْبَحْثُ الثَّانِي: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: مُقَامًا بِالضَّمِّ وَهُوَ مَوْضِعُ الْإِقَامَةِ وَالْمَنْزِلِ، وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ وَهُوَ مَوْضِعُ القيام، والمراد والندى الْمَجْلِسُ يُقَالُ: نَدِيٌّ وَنَادٍ، وَالْجَمْعُ الْأَنْدِيَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [الْعَنْكَبُوتِ: 29] وَقَالَ: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ [الْعَلَقِ: 17] وَيُقَالُ: نَدَوْتُ الْقَوْمَ أَنْدُوهُمْ إِذَا جَمَعْتُهُمْ فِي الْمَجْلِسِ، وَمِنْهُ دَارُ النَّدْوَةِ بِمَكَّةَ وَكَانَتْ مُجْتَمَعَ الْقَوْمِ. ثُمَّ أَجَابَ اللَّهُ تعالى عن هذه الشبهة بقوله: [سورة مريم (19) : آية 74] وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ نِعْمَةً مِنْكُمْ فِي الدُّنْيَا قَدْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَبَادَهُمْ، فَلَوْ دَلَّ حُصُولُ نِعَمِ الدُّنْيَا لِلْإِنْسَانِ عَلَى كَوْنِهِ حَبِيبًا لِلَّهِ تَعَالَى لَوَجَبَ فِي حَبِيبِ اللَّهِ أَنْ لَا يُوصِلَ إِلَيْهِ غَمًّا فِي الدُّنْيَا وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُهْلِكَ أَحَدًا مِنَ الْمُنَعَّمِينَ فِي دَارِ الدُّنْيَا وَحَيْثُ أَهْلَكَهُمْ دَلَّ إِمَّا عَلَى فَسَادِ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى وَهِيَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ الدُّنْيَا كَانَ حَبِيبًا لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ عَلَى فَسَادِ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ أَنَّ حَبِيبَ اللَّهِ لَا يُوصِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ غَمًّا، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَيَفْسُدُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الشُّبْهَةِ، بَقِيَ الْبَحْثُ عَنْ تَفْسِيرِ الْأَلْفَاظِ فَنَقُولُ: أَهْلُ كُلِّ عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم وهم أَحْسَنُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ صِفَةُ لَكُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ تَرَكْتَ هُمْ لَمْ يَكُنْ لك بد

[سورة مريم (19) : الآيات 75 إلى 76]

مِنْ نَصْبِ أَحْسَنُ عَلَى الْوَصْفِيَّةِ، وَالْأَثَاثُ مَتَاعُ البيت، أما رئيا فقرىء عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ لِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تُقْرَأَ بِالرَّاءِ الَّتِي لَيْسَ فَوْقَهَا نُقْطَةٌ، أَوْ بِالزَّايِ الَّتِي فَوْقَهَا نُقْطَةٌ فَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَإِمَّا أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ أَوْ يُكْتَفَى بِالْيَاءِ. أَمَّا إِذَا جُمِعَ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ وَهُوَ الْمَنْظَرُ وَالْهَيْئَةُ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ رَأَيْتُ رِئْيًا. وَالثَّانِي: رِيئًا عَلَى الْقَلْبِ كَقَوْلِهِمْ رَاءٍ فِي رَأَى، أَمَّا إِنِ اكْتَفَيْنَا بِالْيَاءِ فَتَارَةً بِالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ عَلَى قَلْبِ الْهَمْزَةِ يَاءً، وَالْإِدْغَامِ، أَوْ مِنَ الرِّيِّ الَّذِي هُوَ النِّعْمَةُ وَالتَّرَفُّهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: رَيَّانُ مِنَ النَّعِيمِ. وَالثَّانِي: بِالْيَاءِ عَلَى حَذْفِ الْهَمْزَةِ رَأْسًا وَوَجْهُهُ أَنْ يُخَفَّفَ الْمَقْلُوبُ وَهُوَ رِيئًا بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى الْيَاءِ السَّاكِنَةِ قَبْلَهَا، وَأَمَّا بِالزَّايِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ فَوْقُ زِيًّا فَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الزِّيِّ وَهُوَ الْجَمْعُ، لِأَنَّ الزِّيَّ مَحَاسِنُ مَجْمُوعَةٌ، وَالْمَعْنَى أَحْسَنُ من هؤلاء، والله أعلم. [سورة مريم (19) : الآيات 75 الى 76] قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَوَابُ الثَّانِي عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ وَتَقْرِيرُهُ لِنَفْرِضْ أَنَّ هَذَا الضَّالَّ الْمُتَنَعِّمَ فِي الدُّنْيَا قَدْ مَدَّ اللَّهُ فِي أَجَلِهِ وَأَمْهَلَهُ مُدَّةً مَدِيدَةً حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَى النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ الْمُدَّةُ الطَّوِيلَةُ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى عَذَابٍ فِي الدُّنْيَا أَوْ عَذَابٍ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ سَيَعْلَمُونَ أَنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا مَا تُنْقِذُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ فَقَوْلُهُ: فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً مَذْكُورٌ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِمْ: خَيْرٌ مَقاماً [مَرْيَمَ: 73] وَأَضْعَفُ جُنْداً في مقابلة قولهم: أَحْسَنُ نَدِيًّا [مَرْيَمَ: 73] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ وَإِنْ ظَنُّوا فِي الْحَالِ أَنَّ مَنْزِلَتَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ حَيْثُ فَضَّلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمَقَامِ وَالنَّدِيِّ فَسَيَعْلَمُونَ مِنْ بَعْدُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ شَرٌّ مَكَانًا فَإِنَّهُ لَا مَكَانَ شَرٌّ مِنَ النَّارِ وَالْمُنَاقَشَةِ فِي الْحِسَابِ. وَأَضْعَفُ جُنْداً فَقَدْ كَانُوا يَظُنُّونَ وَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ يَنْفَعُ فَإِذَا رَأَوْا أَنْ لَا نَاصِرَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَرَفُوا عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُبْطِلِينَ فِيمَا ادَّعَوْهُ. بَقِيَ الْبَحْثُ عَنِ الْأَلْفَاظِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَدَّ لَهُ الرَّحْمَنُ أَيْ أَمْهَلَهُ وَأَمْلَى لَهُ فِي الْعُمْرِ فَأُخْرِجَ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ إِيذَانًا بِوُجُوبِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَا مَحَالَةَ كَالْمَأْمُورِ الْمُمْتَثِلِ لِيَقْطَعَ مَعَاذِيرَ الضَّالِّ، وَيُقَالُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فَاطِرٍ: 37] وَكَقَوْلِهِمْ: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آلِ عِمْرَانَ: 178] وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَذَابِ عَذَابٌ يَحْصُلُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَإِمَّا السَّاعَةَ الْمُرَادُ مِنْهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ثُمَّ الْعَذَابُ الَّذِي يَحْصُلُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ عَذَابَ الْقَبْرِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعَذَابَ الَّذِي سَيَكُونُ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ لِأَنَّهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ يَعْلَمُونَ مَا يَسْتَحِقُّونَ، وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَغَيُّرَ أَحْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعِزِّ إِلَى الذُّلِّ، وَمِنَ الْغِنَى إِلَى الْفَقْرِ، وَمِنَ الصِّحَّةِ إِلَى الْمَرَضِ، وَمِنَ الْأَمْنِ إِلَى الْخَوْفِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَسْلِيطَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا نَالَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ مَذْكُورَةٌ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَمَا يُعَامِلُ الْكُفَّارَ بِمَا/ ذَكَرَهُ فَكَذَلِكَ يَزِيدُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهْتَدِينَ هُدًى، وَاعْلَمْ أَنَّا نُبَيِّنُ إِمْكَانَ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْعَقْلِ، فَنَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَنْوَاعِ الِاهْتِدَاءِ مَشْرُوطًا بِالْبَعْضِ فَإِنَّ حَاصِلَ الِاهْتِدَاءِ يَرْجِعُ إِلَى الْعِلْمِ وَلَا امْتِنَاعَ فِي كَوْنِ بَعْضِ الْعِلْمِ مَشْرُوطًا بِالْبَعْضِ، فَمَنِ اهْتَدَى بِالْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ الشَّرْطُ صَارَ بِحَيْثُ لَا

[سورة مريم (19) : الآيات 77 إلى 80]

يَمْتَنِعُ أَنْ يُعْطَى الْهِدَايَةَ الَّتِي هِيَ الْمَشْرُوطُ، فَصَحَّ قَوْلُهُ: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً مِثَالُهُ الْإِيمَانُ هُدًى وَالْإِخْلَاصُ فِي الْإِيمَانِ زِيَادَةُ هُدًى وَلَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُ الْإِخْلَاصِ إِلَّا بَعْدَ تَحْصِيلِ الْإِيمَانِ فَمَنِ اهْتَدَى بِالْإِيمَانِ زَادَهُ اللَّهُ الْهِدَايَةَ بِالْإِخْلَاصِ، هَذَا إِذَا أَجْرَيْنَا لَفْظَ الْهِدَايَةِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ الزِّيَادَةَ فِي الْهُدَى عَلَى الثَّوَابِ أَيْ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا ثَوَابًا عَلَى ذَلِكَ الِاهْتِدَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ بِالْعِبَادَاتِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْإِيمَانِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يَزِيدُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ فَلْيَمْدُدْ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْخَبَرِ وَتَقْدِيرُهُ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ يَمُدُّ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا وَيَزِيدُ أَيْ يَزِيدُ فِي ضَلَالِ الضُّلَّالِ بِخِذْلَانِهِ بِذَلِكَ الْمَدِّ وَيَزِيدُ الْمُهْتَدِينَ هِدَايَةً بِتَوْفِيقِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ مَا عَلَيْهِ الْمُهْتَدُونَ هُوَ الَّذِي يَنْفَعُ فِي الْعَاقِبَةِ فَقَالَ: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا عَلَيْهِ الْمُهْتَدُونَ ضَرَرٌ قَلِيلٌ مُتَنَاهٍ يَعْقُبُهُ نَفْعٌ عَظِيمٌ غَيْرُ مُتَنَاهٍ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الضَّالُّونَ نَفْعٌ قَلِيلٌ مُتَنَاهٍ يَعْقُبُهُ ضَرَرٌ عَظِيمٌ غَيْرُ مُتَنَاهٍ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَسْقُطُ الشُّبْهَةُ الَّتِي عَوَّلُوا عَلَيْهَا وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ فَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ إِنَّهَا الْإِيمَانُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ سَمَّاهَا بَاقِيَةً لِأَنَّ نَفْعَهَا يَدُومُ وَلَا يَبْطُلُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِهَا بَعْضُ الْعِبَادَاتِ وَلَعَلَّهُمْ ذَكَرُوا مَا هُوَ أَعْظَمُ ثَوَابًا فَبَعْضُهُمْ ذَكَرَ الصَّلَوَاتِ وَبَعْضُهُمْ ذَكَرَ التَّسْبِيحَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: «جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَأَخَذَ عُودًا يَابِسًا فَأَزَالَ الْوَرَقَ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ قَوْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ يَحُطُّ الْخَطَايَا حَطًّا كَمَا يَحُطُّ وَرَقَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الرِّيحُ خُذْهُنَّ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُنَّ هُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ وَهُنَّ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ، وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: لَأُعَلِّمَنَّ ذَلِكَ وَلَأُكْثِرَنَّ مِنْهُ حَتَّى إِذَا رَآنِي جَاهِلٌ حَسِبَ أَنِّي مَجْنُونٌ» . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا وَصَفَهَا بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ مِنْ حَيْثُ يَدُومُ ثَوَابُهَا وَلَا يَنْقَطِعُ فَبَعْضُ الْعِبَادَاتِ وَإِنْ كَانَ أَنْقَصَ ثَوَابًا مِنَ الْبَعْضِ فَهِيَ مُشْتَرِكَةٌ فِي الدَّوَامِ فَهِيَ بِأَسْرِهَا بَاقِيَةٌ صَالِحَةٌ نَظَرًا إِلَى آثَارِهَا الَّتِي هِيَ الثَّوَابُ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهَا: خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا خَيْرٌ إِلَّا وَالْمُرَادُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِ فَالْمُرَادُ إِذَنْ أَنَّهَا خَيْرٌ مِمَّا ظَنَّهُ الْكُفَّارُ بِقَوْلِهِمْ: خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [مريم: 73] . [سورة مريم (19) : الآيات 77 الى 80] أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ أَوَّلًا عَلَى صِحَّةِ الْبَعْثِ ثُمَّ أَوْرَدَ شُبْهَةَ الْمُنْكِرِينَ، وَأَجَابَ عَنْهَا أَوْرَدَ عَنْهُمُ الْآنَ مَا ذَكَرُوهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ طَعْنًا فِي الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ فَقَالَ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وُلْدًا وَهُوَ جَمْعُ وَلَدٍ كَأُسْدٍ فِي أَسَدٍ أَوْ بِمَعْنَى الْوَلَدِ كَالْعُرْبِ فِي الْعَرَبِ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ وِلْدًا بِالْكَسْرِ، وَعَنِ الْحَسَنِ نَزَلَتِ الآية في الوليد بن المغيرة والمشهورة أَنَّهَا فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، قَالَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ: كَانَ لِي عَلَيْهِ دَيْنٌ فَاقْتَضَيْتُهُ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا حَيًّا وَلَا مَيِّتًا وَلَا حِينَ تُبْعَثُ فَقَالَ: فَإِنِّي إِذَا مِتُّ بُعِثْتُ؟ قلت: نعم. قال: إني بُعِثْتُ وَجِئْتَنِي فَسَيَكُونُ لِي ثَمَّ مَالٌ وَوَلَدٌ فَأُعْطِيكَ، وَقِيلَ: صَاغَ خَبَّابٌ لَهُ حُلِيًّا فَاقْتَضَاهُ فَطَلَبَ الْأُجْرَةَ فَقَالَ: إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تُبْعَثُونَ، وَأَنَّ فِي الْجَنَّةِ ذَهَبًا وَفِضَّةً وَحَرِيرًا فَأَنَا أَقْضِيكَ ثَمَّ، فَإِنِّي أُوتَى مَالًا وَوَلَدًا حِينَئِذٍ ثُمَّ أَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ كَلَامِهِ

[سورة مريم (19) : الآيات 81 إلى 87]

بِقَوْلِهِ: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَطَّلَعَ الْغَيْبَ مِنْ قَوْلِهِمْ أَطَّلَعَ الْجَبَلَ أَيِ ارْتَقَى إِلَى أَعْلَاهُ وَيُقَالُ مَرَّ مُطَّلِعًا لِذَلِكَ الْأَمْرِ أَيْ غَالِبًا لَهُ مَالِكًا لَهُ وَالِاخْتِيَارُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ أن تقول: أو قد بَلَغَ مِنْ عِظَمِ شَأْنِهِ أَنَّهُ ارْتَقَى إِلَى عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي تَوَحَّدَ بِهِ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي ادَّعَى أَنَّهُ يَكُونُ حَاصِلًا لَهُ لَا يَتَوَصَّلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، إِمَّا عِلْمِ الْغَيْبِ وَإِمَّا عَهْدٍ مِنْ عَالِمِ الْغَيْبِ فَبِأَيِّهِمَا تَوَصَّلَ إِلَيْهِ؟ وَقِيلَ: فِي الْعَهْدِ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ عَنْ قَتَادَةَ هَلْ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ قَدَّمَهُ فَهُوَ يَرْجُو بِذَلِكَ مَا يَقُولُ؟ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ مِنْ حَالِهِ ضِدَّ مَا ادَّعَاهُ، فَقَالَ: كَلَّا وَهِيَ كَلِمَةُ رَدْعٍ وَتَنْبِيهٍ عَلَى الْخَطَأِ أَيْ هُوَ مُخْطِئٌ فِيمَا يَقُولُهُ وَيَتَمَنَّاهُ فَإِنْ قِيلَ لِمَ قَالَ: سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ بِسِينِ التَّسْوِيفِ وَهُوَ كَمَا قَالَهُ كُتِبَ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ قَالَ تَعَالَى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18] قُلْنَا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: سَيَظْهَرُ لَهُ وَيَعْلَمُ أَنَّا كَتَبْنَا. الثَّانِي: أَنَّ الْمُتَوَعِّدَ يَقُولُ لِلْجَانِي سَوْفَ أَنْتَقِمُ مِنْكَ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ فِي الِانْتِقَامِ وَيَكُونُ غَرَضُهُ مِنْ هذا الكلام محض التهديد فكذا هاهنا، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا أَيْ نُطَوِّلُ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَا يَسْتَأْهِلُهُ وَنَزِيدُهُ مِنَ الْعَذَابِ وَنُضَاعِفُ لَهُ مِنَ الْمَدَدِ وَيُقَالُ مَدَّهُ وَأَمَدَّهُ بِمَعْنًى وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ويمد لَهُ بِالضَّمِّ، أَمَّا قَوْلُهُ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ أَيْ يَزُولُ عَنْهُ مَا وَعَدَهُ مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ فَلَا يَعُودُ كَمَا لَا يَعُودُ الْإِرْثُ إِلَى مَنْ خَلَّفَهُ وَإِذَا سُلِبَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ يَبْقَى فَرْدًا فَلِذَلِكَ قَالَ: وَيَأْتِينا فَرْداً فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَنْفَرِدَ فِي الْآخِرَةِ بِمَالٍ وَوَلَدٍ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 94] والله أعلم. [سورة مريم (19) : الآيات 81 الى 87] وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) [فِي قَوْلُهُ تَعَالَى وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً إلى قوله ضِدًّا] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، تَكَلَّمَ الْآنَ فِي الرَّدِّ عَلَى عُبَّادِ الْأَصْنَامِ فَحَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ إِنَّمَا اتَّخَذُوا آلِهَةً لِأَنْفُسِهِمْ لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، حَيْثُ يَكُونُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ شُفَعَاءَ وَأَنْصَارًا، يُنْقِذُونَهُمْ مِنَ الْهَلَاكِ. ثُمَّ أَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: كَلَّا وَهُوَ رَدْعٌ لَهُمْ وَإِنْكَارٌ لِتَعَزُّزِهِمْ بِالْآلِهَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ نَهِيكٍ: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ أَيْ كُلُّهُمْ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَةِ هَذِهِ الْأَوْثَانِ وَفِي مُحْتَسَبِ ابْنِ جِنِّي كَلًّا بِفَتْحِ الْكَافِ وَالتَّنْوِينِ وَزَعَمَ أَنَّ مَعْنَاهُ كُلُّ هَذَا الِاعْتِقَادِ وَالرَّأْيِ كَلًّا، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَهِيَ كَلَّا الَّتِي هِيَ لِلرَّدْعِ قَلَبَ الْوَاقِفُ عَلَيْهَا أَلِفَهَا نُونًا كَمَا فِي قَوَارِيرًا وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: سَيَكْفُرُونَ يَعُودُ إِلَى الْمَعْبُودِ أَوْ إِلَى الْعَابِدِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْمَعْبُودِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِذَلِكَ الْمَلَائِكَةَ لِأَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ يَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْهُمْ وَيُخَاصِمُونَهُمْ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [سَبَأٍ: 40] وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِي الْأَصْنَامَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُوَبِّخُوا عُبَّادَهُمْ وَيَتَبَرَّءُوا مِنْهُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَعْظَمَ لِحَسْرَتِهِمْ

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْعُبَّادِ أَيْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُنْكِرُونَ أَنَّهُمْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: 23] أَمَّا قَوْلُهُ: وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا فَذَكَرَ ذَلِكَ فِي مقابلة قوله: لَهُمْ عِزًّا [مريم: 81] وَالْمُرَادُ ضِدُّ الْعِزِّ وَهُوَ الذُّلُّ وَالْهَوَانُ أَيْ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا لَمَّا قَصَدُوهُ وَأَرَادُوهُ كَأَنَّهُ قيل: ويكونون عليهم ذلالهم لَا عِزًّا أَوْ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ عَوْنًا وَالضِّدُّ الْعَوْنُ، يُقَالُ مِنْ أَضْدَادِكُمْ أَيْ مِنْ أَعْوَانِكُمْ وَكَأَنَّ الْعَوْنَ يُسَمَّى ضِدًّا/ لِأَنَّهُ يُضَادُّ عَدُوَّكَ وَيُنَافِيهِ بِإِعَانَتِهِ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ وَحَّدَ؟ قُلْنَا: وَحَّدَ تَوْحِيدَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ» لِاتِّفَاقِ كَلِمَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ لِفَرْطِ انْتِظَامِهِمْ وَتَوَافُقِهِمْ، وَمَعْنَى كَوَنِ الْآلِهَةِ عَوْنًا عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ وَقُودُ النَّارِ وَحَصَبُ جَهَنَّمَ وَلِأَنَّهُمْ عُذِّبُوا بِسَبَبِ عِبَادَتِهَا وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مَعَ الْأَصْنَامِ فِي الْآخِرَةِ ذَكَرَ بَعْدَهُ حَالَهُمْ مَعَ الشَّيَاطِينِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ يَسْأَلُونَهُمْ وَيَنْقَادُونَ لَهُمْ فَقَالَ: أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُرِيدٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ فَقَالُوا قَوْلُ الْقَائِلِ: أَرْسَلْتُ فُلَانًا عَلَى فُلَانٍ مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَيْهِ لِإِرَادَةِ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ. قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: سَمِّ اللَّهَ وَأَرْسِلْ كَلْبَكَ عَلَيْهِ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ يُفِيدُ أَنَّهُ تَعَالَى سَلَّطَهُمْ عَلَيْهِمْ لِإِرَادَةِ أَنْ يَسْتَوْلُوا عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْمَقْصُودَ ثُمَّ يَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا فَإِنَّ مَعْنَاهُ إِنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ لِتَؤُزَّهُمْ أَزًّا وَيَتَأَكَّدُ بِقَوْلِهِ: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ [الْإِسْرَاءِ: 64] قَالَ الْقَاضِي: حَقِيقَةُ اللَّفْظِ تُوجِبُ أَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ الشَّيَاطِينَ إِلَى الْكُفَّارِ كَمَا أَرْسَلَ الْأَنْبِيَاءَ بِأَنْ حَمَّلَهُمْ رِسَالَةً يُؤَدُّونَهَا إِلَيْهِمْ فَلَا يَجُوزُ فِي تِلْكَ الرِّسَالَةِ إِلَّا مَا أَرْسَلَ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينَ مِنَ الْإِغْوَاءِ فَكَانَ يَجِبُ فِي الْكُفَّارِ أَنْ يَكُونُوا بِقَبُولِهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ مُطِيعِينَ وَذَلِكَ كُفْرٌ مِنْ قَائِلِهِ، وَلِأَنَّ مِنَ الْعَجَبِ تَعَلُّقَ الْمُجَبِّرَةِ بِذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ ضَلَالَ الْكُفَّارِ مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى بِأَنْ خَلَقَ فِيهِمُ الْكُفْرَ وَقَدَّرَ الْكُفْرَ فَلَا تَأْثِيرَ لِمَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ وَإِذَا بَطَلَ حَمْلُ اللَّفْظِ فِي ظَاهِرِهِ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ فَنَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَّى بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ وَمَا مَنَعَهُمْ مِنْ إِغْوَائِهِمْ وَهَذِهِ التَّخْلِيَةُ تُسَمَّى إِرْسَالًا فِي سِعَةِ اللُّغَةِ. كَمَا إِذَا لَمْ يَمْنَعِ الرَّجُلُ كَلْبَهُ مِنْ دُخُولِ بَيْتِ جِيرَانِهِ يُقَالُ: أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ أَذَى النَّاسِ، وَهَذِهِ التَّخْلِيَةُ وَإِنْ كَانَ فِيهَا تَشْدِيدٌ لِلْمِحْنَةِ عَلَيْهِمْ فَهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْ أَنْ لَا يَقْبَلُوا مِنْهُمْ وَيَكُونُ ثَوَابُهُمْ عَلَى تَرْكِ الْقَبُولِ أَعْظَمَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إِبْرَاهِيمَ: 22] هَذَا تَمَامُ كَلَامِهِ وَنَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ لَوْ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ إِلَى الْكُفَّارِ لَكَانَ الْكُفَّارُ مُطِيعِينَ لَهُ بِقَبُولِ قَوْلِ الشَّيَاطِينِ، قُلْنَا اللَّهُ تَعَالَى مَا أَرْسَلَ الشَّيَاطِينَ إِلَى الْكُفَّارِ بَلْ أَرْسَلَهَا عَلَيْهِمْ وَالْإِرْسَالُ عَلَيْهِمْ هُوَ التَّسْلِيطُ لِإِرَادَةِ أَنْ يَصِيرَ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِ، فَأَيْنَ هَذَا مِنَ الْإِرْسَالِ إِلَيْهِمْ، قَوْلُهُ: ضَلَالُ الْكَافِرِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَيُّ تَأْثِيرٍ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ؟ قُلْنَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ إِسْمَاعَ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ تِلْكَ الْوَسْوَسَةَ يُوجِبُ فِي قَلْبِهِ ذَلِكَ الضَّلَالَ بِشَرْطِ سَلَامَةِ فَهْمِ السَّامِعِ لِأَنَّ كَلَامَ الشَّيْطَانِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ ذَلِكَ الضَّلَالُ الْحَاصِلُ فِي قَلْبِ الْكَافِرِ مُنْتَسِبًا إِلَى الشَّيْطَانِ وَإِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، قَوْلُهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِرْسَالِ التَّخْلِيَةَ قُلْنَا: كَمَا خَلَّى بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَالْكَفَرَةِ فَقَدْ خَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْكَافِرَ بِأَنَّهُ أَرْسَلَ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِ فَلَا بد من فائدة زائدة هاهنا وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أَيْ تُحَرِّكُهُمْ تَحْرِيكًا شَدِيدًا كَالْغَرَضِ مِنْ ذَلِكَ الْإِرْسَالِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَزُّ مُرَادًا/ لِلَّهِ تَعَالَى

وَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ فَهَذَا مَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أَيْ تُزْعِجُهُمْ فِي الْمَعَاصِي إِزْعَاجًا نَزَلَتْ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالْقُرْآنِ وَهُمْ خَمْسَةُ رَهْطٍ قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: الْأَزُّ وَالْهَزُّ وَالِاسْتِفْزَازُ أَخَوَاتٌ فِي مَعْنَى التَّهْيِيجِ وَشِدَّةِ الْإِزْعَاجِ أَيْ تُغْرِيهِمْ عَلَى الْمَعَاصِي وَتَحُثُّهُمْ وَتُهَيِّجُهُمْ لَهَا بِالْوَسَاوِسِ وَالتَّسْوِيلَاتِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا يُقَالُ: عَجِلْتُ عَلَيْهِ بِكَذَا إِذَا اسْتَعْجَلْتَهُ بِهِ أَيْ لَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَهْلِكُوا أَوْ يَبِيدُوا حَتَّى تَسْتَرِيحَ أَنْتَ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ شُرُورِهِمْ فَلَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَا تَطْلُبُ مِنْ هَلَاكِهِمْ إِلَّا أَيَّامٌ مَحْصُورَةٌ وَأَنْفَاسٌ مَعْدُودَةٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ [الْأَحْقَافِ: 35] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَهَا بَكَى وَقَالَ: آخِرُ الْعَدَدِ خُرُوجُ نَفْسِكَ، آخِرُ الْعَدَدِ دُخُولُ قَبْرِكَ، آخِرُ الْعَدَدِ فِرَاقُ أَهْلِكَ. وَعَنِ ابْنِ السَّمَّاكِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ الْمَأْمُونِ فَقَرَأَهَا فَقَالَ: إِذَا كَانَتِ الْأَنْفَاسُ بِالْعَدَدِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَدَدٌ فَمَا أَسْرَعَ مَا تَنْفَدُ. وَذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ: الْأَوَّلُ: نَعُدُّ أَنْفَاسَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ فَنُجَازِيهِمْ عَلَى قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا. وَالثَّانِي: نَعُدُّ الْأَوْقَاتَ إِلَى وَقْتِ الْأَجَلِ الْمُعَيَّنِ لِكُلِّ أَحَدٍ الَّذِي لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا سَيَظْهَرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُتَّقِينَ وَبَيْنَ الْمُجْرِمِينَ فِي كَيْفِيَّةِ الْحَشْرِ فَقَالَ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: نُصِبَ يَوْمَ بِمُضْمَرٍ أَيْ يَوْمَ نَحْشُرُ وَنَسُوقُ نَفْعَلُ بِالْفَرِيقَيْنِ مَا لَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ أَوِ اذْكُرْ يَوْمَ نَحْشُرُ وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِلَا يَمْلِكُونَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الْمُتَّقِينَ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمُ اسْتُقْبِلُوا بِنُوقٍ بِيضٍ لَهَا أَجْنِحَةٌ عَلَيْهَا رِحَالُ الذَّهَبِ» ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَفِيهَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَاضِي هَذِهِ الْآيَةُ أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْوَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَخْتَصُّ بِالْمُجْرِمِينَ لِأَنَّ الْمُتَّقِينَ مِنَ الِابْتِدَاءِ يُحْشَرُونَ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْكَرَامَةِ فَهُمْ آمِنُونَ مِنَ الْخَوْفِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَنَالَهُمُ الْأَهْوَالُ؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُشَبِّهَةُ احْتَجُّوا بِالْآيَةِ وَقَالُوا قَوْلُهُ: إِلَى الرَّحْمنِ يُفِيدُ أَنَّ انْتِهَاءَ حَرَكَتِهِمْ يَكُونُ عِنْدَ الرَّحْمَنِ وَأَهْلُ التَّوْحِيدِ يَقُولُونَ الْمَعْنَى يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى مَحَلِّ كَرَامَةِ الرَّحْمَنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: طَعَنَ الْمُلْحِدُ فِيهِ فَقَالَ قَوْلُهُ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً هَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ لَوْ كَانَ الْحَاشِرُ غَيْرَ الرَّحْمَنِ أَمَّا إِذَا كَانَ الْحَاشِرُ هُوَ الرَّحْمَنُ فَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَنْتَظِمُ، أَجَابَ الْمُسْلِمُونَ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى كَرَامَةِ الرَّحْمَنِ أَمَّا قَوْلُهُ: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً فَقَوْلُهُ: نَسُوقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يُسَاقُونَ إِلَى النَّارِ بِإِهَانَةٍ وَاسْتِخْفَافٍ كَأَنَّهُمْ نَعَمٌ عِطَاشٌ تُسَاقُ إِلَى الْمَاءِ، وَالْوِرْدُ اسْمٌ لِلْعِطَاشِ، لِأَنَّ مَنْ يَرِدُ الْمَاءَ لَا يَرِدُهُ إِلَّا لِلْعَطَشِ. وَحَقِيقَةُ الْوُرُودِ السَّيْرُ إِلَى الْمَاءِ فَسُمِّيَ بِهِ الْوَارِدُونَ أَمَّا قَوْلُهُ: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ أَيْ فَلَيْسَ لَهُمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ شَفَاعَتُهُمْ لِغَيْرِهِمْ/ أَوْ شَفَاعَةُ غَيْرِهِمْ لَهُمْ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَمْلِكُونَ أَنْ يَشْفَعُوا لِغَيْرِهِمْ كَمَا يَمْلِكُ الْمُؤْمِنُونَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْمُرَادُ لَا يَمْلِكُ غَيْرُهُمْ أَنْ يَشْفَعُوا لَهُمْ وَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى الْأَوَّلِ يَجْرِي مَجْرَى إِيضَاحِ الْوَاضِحَاتِ وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى حُصُولِ الشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ قَالَ عَقِيبَهُ: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ غَيْرُهُمْ إِلَّا إِذَا كَانُوا قَدِ اتخذوا عند الرحمن عهدا التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَهُ وَمِمَّا يُؤَكِّدُ قَوْلَنَا: مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ ذَاتَ يَوْمٍ: «أَيِعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَّخِذَ كُلَّ صَبَاحٍ

[سورة مريم (19) : الآيات 88 إلى 95]

وَمَسَاءٍ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا؟ قَالُوا وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: يَقُولُ كُلَّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السموات وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ إِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تُقَرِّبْنِي مِنَ الشَّرِّ وَتُبْعِدْنِي مِنَ الْخَيْرِ وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ فَاجْعَلْ لِي عَهْدًا تُوَفِّينِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ. فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِطَابَعٍ وَوُضِعَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَيْنَ الَّذِينَ لَهُمْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدٌ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» ، فَظَهَرَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْعَهْدِ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ وَظَهَرَ وَجْهُ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَقَالَ الْقَاضِي: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى مَذْهَبِهِ وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْآيَةَ قَوِيَّةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى قَوْلِنَا والله أعلم. [سورة مريم (19) : الآيات 88 الى 95] وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) [في قوله تعالى وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً إلى قوله وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا رَدَّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ عَادَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ لَهُ وَلَدًا: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 30] وَقَالَتِ الْعَرَبُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَالْكُلُّ دَاخِلُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّهَا بِالْعَرَبِ الَّذِي أَثْبَتُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ قَالُوا لِأَنَّ الرَّدَّ عَلَى النَّصَارَى تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَمَّا الْآنُ فَإِنَّهُ لَمَّا رَدَّ عَلَى الْعَرَبِ الَّذِينَ قَالُوا بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ تَكَلَّمَ فِي إِفْسَادِ/ قَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا بِعِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ لِكَوْنِهِمْ بَنَاتِ اللَّهِ أَمَّا قَوْلُهُ: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا فقرىء إِدًّا بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ الْإِدُّ وَالْأَدُّ الْعَجَبُ وَقِيلَ الْمُنْكَرُ الْعَظِيمُ وَالْأَدَّةُ الشِّدَّةُ وَأَدَّنِي الْأَمْرُ وَآدَنِي أَثْقَلَنِي. قُرِئَ يَتَفَطَّرْنَ بِالتَّاءِ بَعْدَ الْيَاءِ أَعْنِي الْمُعْجَمَةَ مِنْ تَحْتِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي يَكَادُ فَقَرَأَ بَعْضُهُمْ بِالْيَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ تَحْتِهَا وَبَعْضُهُمْ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، وَالِانْفِطَارُ مِنْ فَطَرَهُ إِذَا شَقَّهُ وَالتَّفَطُّرُ مِنْ فَطَّرَهُ إِذَا شَقَّقَهُ وَكَرَّرَ الْفِعْلَ فِيهِ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَتَصَدَّعْنَ وَقَوْلُهُ: وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَيْ تُهَدُّ هَدًّا أَوْ مَهْدُودَةٌ أَوْ مَفْعُولٌ لَهُ أَيْ لِأَنَّهَا تُهَدُّ وَالْمَعْنَى أَنَّهَا تَتَسَاقَطُ أَشَدَّ مَا يَكُونُ تَسَاقُطُ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، فَإِنْ قِيلَ مِنْ أَيْنَ يُؤْثَرُ الْقَوْلُ بِإِثْبَاتِ الْوَلَدِ لِلَّهِ تعالى في انفطار السموات وَانْشِقَاقِ الْأَرْضِ وَخُرُورِ الْجِبَالِ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ أَفْعَلُ هذا بالسموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ عِنْدَ وُجُودِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ غَضَبًا مِنِّي عَلَى مَنْ تَفَوَّهَ بِهَا لَوْلَا حِلْمِي وَأَنِّي لَا أَعْجَلُ بِالْعُقُوبَةِ كَمَا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً [فَاطِرٍ: 41] . وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ اسْتِعْظَامًا لِلْكَلِمَةِ وَتَهْوِيلًا مِنْ فَظَاعَتِهَا وَتَصْوِيرًا لِأَثَرِهَا فِي الدِّينِ وَهَدْمِهَا لِأَرْكَانِهِ وَقَوَاعِدِهِ. وَثَالِثُهَا: أن السموات والأرض

[سورة مريم (19) : الآيات 96 إلى 98]

وَالْجِبَالَ تَكَادُ أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ لَوْ كَانَتْ تَعْقِلُ مِنْ غِلَظِ هَذَا الْقَوْلِ وَهَذَا تَأْوِيلُ أبي مسلم. ورابعها: أن السموات وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ كَانَتْ سَلِيمَةً مِنْ كُلِّ الْعُيُوبِ فَلَمَّا تَكَلَّمَ بَنُو آدَمَ بِهَذَا الْقَوْلِ ظَهَرَتِ الْعُيُوبُ فِيهَا أَمَّا قَوْلُهُ: أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي إِعْرَابِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا بَدَلًا مِنَ الْهَاءِ فِي مِنْهُ أَوْ مَنْصُوبًا بِتَقْدِيرِ سُقُوطِ اللَّامِ وَإِفْضَاءِ الْفِعْلِ أَيْ هَذَا لِأَنْ دَعَوْا أَوْ مَرْفُوعًا بِأَنَّهُ فَاعِلٌ هَدًّا أَيْ هَدَّهَا دُعَاءُ الْوَلَدِ لِلرَّحْمَنِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ تِلْكَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ هَذَا الْقَوْلُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا كَرَّرَ لَفْظَ الرَّحْمَنِ مَرَّاتٍ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الرَّحْمَنُ وَحْدَهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ أُصُولَ النِّعَمِ وَفُرُوعَهَا لَيْسَتْ إِلَّا مِنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: دَعَوْا لِلرَّحْمنِ هُوَ مِنْ دَعَا بِمَعْنَى سَمَّى الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولَيْنِ فَاقْتُصِرَ عَلَى أَحَدِهِمَا الَّذِي هُوَ الثَّانِي طَلَبًا لِلْعُمُومِ وَالْإِحَاطَةِ بِكُلِّ مَنِ ادَّعَى لَهُ وَلَدًا أَوْ مِنْ دَعَا بِمَعْنَى نسب الذي هو مطاوعة مَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ» . قَالَ الشَّاعِرُ: إِنَّا بَنِي نَهْشَلٍ لَا نَدَّعِي لِأَبِ أَيْ لَا نَنْتَسِبُ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً أَيْ هُوَ مُحَالٌ، أَمَّا الْوِلَادَةُ الْمَعْرُوفَةُ فَلَا مَقَالَ فِي امْتِنَاعِهَا، وَأَمَّا التَّبَنِّي فَلِأَنَّ الْوَلَدَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ شَبِيهًا بِالْوَالِدِ وَلَا مُشْبِهَ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَغْرَاضٍ لَا تَصِحُّ فِي اللَّهِ مِنْ سُرُورِهِ بِهِ وَاسْتِعَانَتِهِ بِهِ وَذِكْرٍ جَمِيلٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً وَالْمُرَادُ أنه ما من معبود لهم في السموات وَالْأَرْضِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ إِلَّا وَهُوَ يَأْتِي/ الرَّحْمَنَ أَيْ يَأْوِي إِلَيْهِ وَيَلْتَجِئُ إِلَى رُبُوبِيَّتِهِ عَبْدًا مُنْقَادًا مُطِيعًا خَاشِعًا رَاجِيًا كَمَا يَفْعَلُ الْعَبِيدُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ خَاصَّةً وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا تَخْصِيصَ فِيهِ وَقَوْلُهُ: لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا أَيْ كُلُّهُمْ تَحْتَ أَمْرِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَقَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ مُحِيطٌ بِهِمْ، وَيَعْلَمُ مُجْمَلَ أُمُورِهِمْ وَتَفَاصِيلَهَا لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَأْتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُنْفَرِدًا لَيْسَ مَعَهُ مِنْ هؤلاء المشركين أحد وهم براء منهم. [سورة مريم (19) : الآيات 96 الى 98] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا رَدَّ عَلَى أَصْنَافِ الْكَفَرَةِ وَبَالَغَ فِي شَرْحِ أَحْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ خَتَمَ السُّورَةَ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا وللمفسرين في قوله: وُدًّا قولان: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ تَعَالَى سَيُحْدِثُ لَهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوَدَّةً وَيَزْرَعُهَا لَهُمْ فِيهَا مِنْ غَيْرِ تَوَدُّدٍ مِنْهُمْ وَلَا تَعَرُّضٍ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي يَكْتَسِبُ النَّاسُ بِهَا مَوَدَّاتِ الْقُلُوبِ مِنْ قَرَابَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ أَوِ اصْطِنَاعِ مَعْرُوفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِرَاعٌ مِنْهُ تَعَالَى وَابْتِدَاءٌ تَخْصِيصًا لِأَوْلِيَائِهِ بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ كَمَا قَذَفَ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمُ الرُّعْبَ وَالْهَيْبَةَ إِعْظَامًا لَهُمْ وَإِجْلَالًا لِمَكَانِهِمْ، وَالسِّينُ فِي سَيَجْعَلُ إِمَّا لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ حِينَئِذٍ مَمْقُوتِينَ

بَيْنَ الْكَفَرَةِ فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ إِذَا جَاءَ الْإِسْلَامُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُحَبِّبُهُمْ إِلَى خَلْقِهِ بِمَا يُعْرِضُ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَيَنْشُرُ مِنْ دِيوَانِ أَعْمَالِهِمْ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ قَدْ أَحْبَبْتُ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا فَمِثْلُ ذَلِكَ» . وَعَنْ كَعْبٍ قَالَ: مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ لَا مَحَبَّةَ لِأَحَدٍ فِي الْأَرْضِ حَتَّى يَكُونَ ابْتِدَاؤُهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يُنْزِلُهَا عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ، ثُمَّ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ مَعْنَى: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا أَيْ يَهَبُ لَهُمْ مَا يُحِبُّونَ وَالْوُدُّ وَالْمَحَبَّةُ سَوَاءٌ، يُقَالُ: آتَيْتُ فُلَانًا مَحَبَّتَهُ، وَجَعَلَ لَهُمْ مَا يُحِبُّونَ، وَجَعَلْتُ لَهُ وُدَّهُ، وَمِنْ كَلَامِهِمْ: يَوَدُّ لَوْ كَانَ كَذَا، وَوَدِدْتُ أَنْ/ لَوْ كَانَ كَذَا أَيْ أَحْبَبْتُ، وَمَعْنَاهُ سَيُعْطِيهِمُ الرَّحْمَنُ وُدَّهُمْ أَيْ مَحْبُوبَهُمْ فِي الْجَنَّةِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَوْلَى لِأَنَّ حَمْلَ الْمَحَبَّةِ عَلَى الْمَحْبُوبِ مَجَازٌ، وَلِأَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَفَسَّرَهَا بِذَلِكَ فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: بَلِ الْقَوْلُ الثَّانِي أَوْلَى لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: كَيْفَ يَصِحُّ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ مَعَ عِلْمِنَا بِأَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُتَّقِيَ يُبْغِضُهُ الْكُفَّارُ وَقَدْ يُبْغِضُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ قَدْ تَحْصُلُ لِلْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ أَكْثَرَ فَكَيْفَ يُمْكِنُ جَعْلُهُ إِنْعَامًا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَحَبَّتَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ فِعْلِهِمْ لَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَعَلَهُ فَكَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى إِعْطَاءِ الْمَنَافِعِ الْأُخْرَوِيَّةِ أَوْلَى. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمُرَادَ يَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ مَحَبَّةً عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ، وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ حَكَى عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا ذَكَرَنِي عَبْدِي الْمُؤْمِنُ فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي. وَإِذَا ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ أَطْيَبَ مِنْهُمْ وَأَفْضَلَ» وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنِ الْكَلَامِ الثَّانِي لِأَنَّ الْكَافِرَ وَالْفَاسِقَ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى فِعْلِ الْأَلْطَافِ وَخَلْقِ دَاعِيَةِ إِكْرَامِهِ فِي قُلُوبِهِمْ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ فَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ بَيَّنَ بِهِ عَظِيمَ مَوْقِعِ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالرَّدِّ عَلَى فِرَقِ الْمُضِلِّينَ الْمُبْطِلِينَ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يَسَّرَ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ لِيُبَشِّرَ بِهِ وَيُنْذِرَ، وَلَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى نَقَلَ قِصَصَهُمْ إِلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَمَا تَيَسَّرَ ذَلِكَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا أَنَّ الْقُرْآنَ يَتَضَمَّنُ تَبْشِيرَ الْمُتَّقِينَ وَإِنْذَارَ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ فَبَيِّنٌ، لَكِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يُبَشِّرُ بِهِ الْمُتَّقِينَ ذَكَرَ فِي مُقَابَلَتِهِ مَنْ هُوَ فِي مُخَالَفَةِ التَّقْوَى أَبْلَغُ وَأَبْلَغُهُمُ الْأَلَدُّ الَّذِي يَتَمَسَّكُ بِالْبَاطِلِ وَيُجَادِلُ فِيهِ وَيَتَشَدَّدُ وَهُوَ مَعْنَى لُدًّا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ السُّورَةَ بِمَوْعِظَةٍ بَلِيغَةٍ فَقَالَ: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ لِأَنَّهُمْ إِذَا تَأَمَّلُوا وَعَلِمُوا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا وَالِانْتِهَاءِ إِلَى الْمَوْتِ خَافُوا ذَلِكَ وَخَافُوا أَيْضًا سُوءَ الْعَاقِبَةِ فِي الْآخِرَةِ فَكَانُوا فِيهَا إِلَى الْحَذَرِ مِنَ الْمَعَاصِي أَقْرَبَ، ثُمَّ أَكَدَّ تَعَالَى فِي ذَلِكَ فَقَالَ: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ لِأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا لَمْ يُحِسَّ مِنْهُمْ أَحَدًا بِرُؤْيَةٍ أَوْ إِدْرَاكٍ أَوْ وُجْدَانٍ: وَلَا يَسْمَعْ لَهُمْ رِكْزًا وَهُوَ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، وَمِنْهُ رَكَزَ الرُّمْحَ إِذَا غَيَّبَ طَرَفَهُ فِي الْأَرْضِ وَالرِّكَازُ الْمَالُ الْمَدْفُونُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى انْقِرَاضِهِمْ وَفَنَائِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالْأَقْرَبُ فِي قَوْلِهِ: أَهْلَكْنا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الِانْقِرَاضُ بِالْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْعَذَابِ الْمُعَجَّلِ فِي الدُّنْيَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم. (راجع هذا الجزء على أصله في النسخة الأميرية وصححه وعلق عليه الأستاذ محمد إسماعيل الصاوي الشهير بعبد الله مدرس اللغة العربية بالمدارس المصرية تداركه الله بلطفه وعامله بجميل كرمه) . (تم الجزء الحادي والعشرون ويليه الجزء الثاني والعشرون، وأوله سورة طه) .

الجزء الثاني والعشرون

الجزء الثاني والعشرون سُورَةُ طه وَهِيَ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ وَخَمْسُ آيَاتٍ بسم اللَّه الرحمن الرحيم [سورة طه (20) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه (1) مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) سورة طه بسم اللَّه الرحمن الرحيم اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ طه فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ الطَّاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بَيْنَ الْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ، قَالَ الزَّجَّاجُ وَقُرِئَ طه بِفَتْحِ الطَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَكُلُّهَا لُغَاتٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ مَنْ فَتَحَ الطَّاءَ وَالْهَاءَ فَلِأَنَّ مَا قَبْلَ الْأَلِفِ مَفْتُوحٌ وَمَنْ كَسَرَ الطَّاءَ وَالْهَاءَ فَأَمَالَ الْكَسْرَةَ لِأَنَّ الْحَرْفَ مَقْصُورٌ وَالْمَقْصُورُ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْإِمَالَةُ إِلَى الْكَسْرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ حُرُوفِ التَّهَجِّي وَالْآخَرُ أَنَّهُ كَلِمَةٌ مُفِيدَةٌ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالَّذِي زادوه هاهنا أُمُورٌ: / أَحَدُهَا: قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: طَا

شَجَرَةُ طُوبَى وَالْهَاءُ الْهَاوِيَةُ فَكَأَنَّهُ أَقْسَمَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَثَانِيهَا: يُحْكَى عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الطَّاءُ طَهَارَةُ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالْهَاءُ هِدَايَتُهُمْ. وَثَالِثُهَا: يَا مَطْمَعَ الشَّفَاعَةِ لِلْأُمَّةِ وَيَا هَادِيَ الْخَلْقِ إِلَى الْمِلَّةِ. وَرَابِعُهَا: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ هُوَ افْتِتَاحُ اسْمِهِ الطَّيِّبِ الطَّاهِرِ الْهَادِي. وَخَامِسُهَا: الطَّاءُ مِنَ الطَّهَارَةِ وَالْهَاءُ مِنَ الْهِدَايَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ يَا طَاهِرًا مِنَ الذُّنُوبِ وَيَا هَادِيًا إِلَى عَلَّامِ الْغُيُوبِ. وَسَادِسُهَا: الطَّاءُ طُولُ الْقُرَّاءِ وَالْهَاءُ هَيْبَتُهُمْ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ. قَالَ اللَّه تَعَالَى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آلِ عِمْرَانَ: 151] . وَسَابِعُهَا: الطَّاءُ تِسْعَةٌ فِي الْحِسَابِ وَالْهَاءُ خَمْسَةٌ تَكُونُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَمَعْنَاهُ يَا أَيُّهَا الْبَدْرُ وَقَدْ عَرَفْتَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا يَجِبُ أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهَا. الْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا كَلِمَةٌ مُفِيدَةٌ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ يَا رَجُلُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ وَالْكَلْبِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ ثُمَّ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ بِلِسَانِ النَّبَطِيَّةِ وَقَالَ قَتَادَةُ بِلِسَانِ السُّرْيَانِيَّةِ وَقَالَ عِكْرِمَةُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ بِلُغَةِ عَكٍّ وَأَنْشَدَ الْكَلْبِيُّ لِشَاعِرِهِمْ: إِنَّ السَّفَاهَةَ طَهَ فِي خَلَائِقِكُمْ ... لَا قَدَّسَ اللَّه أَرْوَاحَ الْمَلَاعِينِ وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بِمَعْنَى يَا رَجُلُ فِي اللُّغَةِ حُمِلَ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِنْ ثَبَتَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى إِلَّا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ إِذِ الْقُرْآنُ بِهَذِهِ اللُّغَةِ نَزَلَ فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لُغَةُ الْعَرَبِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ مُوَافِقَةً لِسَائِرِ اللُّغَاتِ الَّتِي حَكَيْنَاهَا، فَأَمَّا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَلَا يَحْتَمِلُ وَلَا يَصِحُّ. الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنْ كَانَ طَهَ فِي لُغَةِ عَكٍّ بِمَعْنَى يَا رَجُلُ فَلَعَلَّهُمْ تَصَرَّفُوا فِي يَا هَذَا فَقَلَبُوا الْيَاءَ طَاءً فَقَالُوا: طَا وَاخْتَصَرُوا فِي هَذَا وَاقْتَصَرُوا عَلَى هَا فَقَوْلُهُ طه بِمَعْنَى يَا هَذَا وَاعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ وَقَالُوا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يُكْتَبَ أَرْبَعَةَ أَحْرُفٍ طَا هَا. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقُومُ فِي تَهَجُّدِهِ عَلَى إِحْدَى رِجْلَيْهِ فَأُمِرَ أَنْ يَطَأَ الْأَرْضَ بِقَدَمَيْهِ مَعًا وَكَانَ الْأَصْلُ طَأْ فَقُلِبَتْ هَمْزَتُهُ هَاءً كَمَا قَالُوا هياك فِي أَرَقْتُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ مِنْ وَطِئَ عَلَى تَرْكِ الْهَمْزَةِ فَيَكُونَ أَصْلُهُ طَأْ يَا رَجُلُ ثُمَّ أَثْبَتَ الْهَاءَ فِيهَا لِلْوَقْفِ وَالْوَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا الزَّجَّاجُ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنْ جَعَلْتَ طه تَعْدِيدًا لِأَسْمَاءِ الْحُرُوفِ فَهَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَإِنْ جَعَلْتَهَا اسْمًا لِلسُّورَةِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى خَبَرًا عَنْهَا وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْمُبْتَدَأِ وَالْقُرْآنُ ظَاهِرٌ أُوقِعَ مَوْقِعَ الْمُضْمَرِ لِأَنَّهَا قُرْآنٌ وَأَنْ يَكُونَ جَوَابًا لَهَا وَهِيَ قَسَمٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ إِنَّ أَبَا جَهْلٍ وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةٍ وَمُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ لَتَشْقَى حَيْثُ تَرَكْتَ دِينَ آبَائِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «بَلْ بُعِثْتُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» قَالُوا: بَلْ أَنْتَ تَشْقَى فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى/ هَذِهِ الْآيَةَ رَدًّا عَلَيْهِمْ وَتَعْرِيفًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ السَّلَامُ وَهَذَا الْقُرْآنُ هُوَ السَّلَامُ إِلَى نَيْلِ كُلِّ فَوْزٍ وَالسَّبَبُ فِي إِدْرَاكِ كُلِّ سَعَادَةٍ وَمَا فِيهِ الْكَفَرَةُ هُوَ الشَّقَاوَةُ بِعَيْنِهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَّى بِاللَّيْلِ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَبْقِ عَلَى نَفْسِكَ فَإِنَّ لَهَا عَلَيْكَ حَقًّا» أَيْ مَا أَنْزَلْنَاهُ لِتُهْلِكَ نَفْسَكَ بِالْعِبَادَةِ وَتُذِيقَهَا الْمَشَقَّةَ الْعَظِيمَةَ وَمَا بُعِثْتَ إِلَّا بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ رَبَطَ صَدْرَهُ بِحَبْلٍ حَتَّى لَا يَنَامَ» وَقَالَ

بَعْضُهُمْ كَانَ يَقُومُ عَلَى رِجْلٍ وَاحِدَةٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَانَ يَسْهَرُ طُولَ اللَّيْلِ فَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: لِتَشْقى ذَلِكَ، قَالَ الْقَاضِي هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ فَعَلَهُ بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى، وَإِذَا فَعَلَهُ بِأَمْرِهِ فَهُوَ مِنْ بَابِ السَّعَادَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: مَا أَمَرْنَاكَ بِذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا تَشُقَّ عَلَى نَفْسِكَ وَلَا تُعَذِّبْهَا بِالْأَسَفِ عَلَى كُفْرِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّا إِنَّمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتُذَكِّرَ بِهِ، فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ [الكهف: 6] الْآيَةَ، وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ [يُونُسَ: 65] . وَرَابِعُهَا: أَنَّكَ لَا تُلَامُ عَلَى كُفْرِ قَوْمِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: 22] ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الأنعام: 107] أَيْ لَيْسَ عَلَيْكَ كُفْرُهُمْ إِذَا بَلَّغْتَ وَلَا تُؤَاخَذُ بِذَنْبِهِمْ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَقْهُورًا تَحْتَ ذُلِّ أَعْدَائِهِ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ لَهُ لَا تَظُنَّ أَنَّكَ تَبْقَى عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ أَبَدًا بَلْ يَعْلُو أَمْرُكَ وَيَظْهَرُ قَدْرُكَ فَإِنَّا مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ مِثْلَ هَذَا الْقُرْآنِ لِتَبْقَى شَقِيًّا فِيمَا بَيْنَهُمْ بَلْ تَصِيرُ مُعَظَّمًا مُكَرَّمًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الأولى: في كلمة إلا هاهنا قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى لَكِنْ. وَالثَّانِي: التَّقْدِيرُ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَحْمِلَ مَتَاعِبَ التَّبْلِيغِ إِلَّا لِيَكُونَ تَذْكِرَةً كَمَا يُقَالُ مَا شَافَهْنَاكَ بِهَذَا الْكَلَامِ لِتَتَأَذَّى إِلَّا لِيَعْتَبِرَ بِكَ غَيْرُكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا خَصَّ مَنْ يَخْشَى بِالتَّذْكِرَةِ لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَامًّا فِي الْجَمِيعِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: 2] وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الْفُرْقَانِ: 1] وَقَالَ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ [يس: 6] وَقَالَ: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا [مَرْيَمَ: 97] وَقَالَ: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذَّارِيَاتِ: 55] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَجْهُ كَوْنِ الْقُرْآنِ تذكرة أنه عليه السلام كان يعظمهم بِهِ وَبِبَيَانِهِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ لِمَنْ يَخْشَى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ فِي الْخَشْيَةِ وَالتَّذْكِرَةِ بِالْقُرْآنِ كَانَ فَوْقَ الْكُلِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي نَصْبِ تَنْزِيلًا وُجُوهًا. أَحَدُهَا: تَقْدِيرُهُ نُزِّلَ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ فَنُصِبَ تَنْزِيلًا بِمُضْمَرٍ. وَثَانِيهَا: أَنْ يُنْصَبَ بِأَنْزَلْنَا لِأَنَّ مَعْنَى مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَّا تَذْكِرَةً أَنْزَلْنَاهُ/ تَذْكِرَةً. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُنْصَبَ عَلَى الْمَدْحِ وَالِاخْتِصَاصِ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يُنْصَبَ بِيَخْشَى مَفْعُولًا بِهِ أَيْ أَنْزَلَهُ اللَّه تَعَالَى: تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى تَنْزِيلَ اللَّه وَهُوَ مَعْنًى حَسَنٌ وَإِعْرَابٌ بَيِّنٌ وَقُرِئَ تَنْزِيلٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَائِدَةُ الِانْتِقَالِ مِنْ لَفْظِ التَّكَلُّمِ إِلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ أُمُورٌ، أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهَا إِلَّا مَعَ الْغَيْبَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا أَنْزَلْنَا فَفَخَّمَ بِالْإِسْنَادِ إِلَى ضَمِيرِ الْوَاحِدِ الْمُطَاعِ ثُمَّ ثَنَّى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخْتَصِّ بِصِفَاتِ الْعَظَمَةِ وَالتَّمْجِيدِ فَتَضَاعَفَتِ الْفَخَامَةُ مِنْ طَرِيقَيْنِ. وَثَالِثُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْزَلْنَا حِكَايَةً لِكَلَامِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمَلَائِكَةِ النَّازِلِينَ مَعَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى عَظَّمَ حَالَ الْقُرْآنِ بِأَنْ نَسَبَهُ إِلَى أَنَّهُ تنزيل ممن خلق الأرض وخلق السموات على علوها

وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ تَعْظِيمَ اللَّه تَعَالَى يَظْهَرُ بِتَعْظِيمِ خَلْقِهِ وَنِعَمِهِ وَإِنَّمَا عَظَّمَ الْقُرْآنَ تَرْغِيبًا فِي تَدَبُّرِهِ وَالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِيهِ وَحَقَائِقِهِ وَذَلِكَ مُعْتَادٌ فِي الشَّاهِدِ فَإِنَّهُ تَعْظُمُ الرِّسَالَةُ بِتَعْظِيمِ حَالِ الْمُرْسَلِ لِيَكُونَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ أَقْرَبَ إِلَى الِامْتِثَالِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يُقَالُ سَمَاءٌ عُلْيَا وسموات علا وفائدة وصف السموات بِالْعُلَا الدَّلَالَةُ عَلَى عِظَمِ قُدْرَةِ مَنْ يَخْلُقُ مِثْلَهَا فِي عُلُوِّهَا وَبُعْدِ مُرْتَقَاهَا أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ الرَّحْمَنِ مَجْرُورًا صِفَةً لِمَنْ خَلَقَ وَالرَّفْعُ أَحْسَنُ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى الْمَدْحِ وَالتَّقْدِيرُ هُوَ الرَّحْمَنُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً مُشَارًا بِلَامِهِ إِلَى مَنْ خَلَقَ فَإِنْ قِيلَ الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى مَا مَحَلُّهَا إِذَا جَرَرْتَ الرَّحْمَنَ أَوْ رَفَعْتَهُ عَلَى الْمَدْحِ؟ قُلْنَا: إِذَا جَرَرْتَ فَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ لَا غَيْرُ وَإِنْ رَفَعْتَ جَازَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَأَنْ يَكُونَ مَعَ الرَّحْمَنِ خَبَرَيْنِ لِلْمُبْتَدَأِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُشَبِّهَةُ تَعَلَّقَتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ مَعْبُودَهُمْ جَالِسٌ عَلَى الْعَرْشِ وَهَذَا بَاطِلٌ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَانَ وَلَا عَرْشَ وَلَا مَكَانَ، وَلَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى مَكَانٍ بَلْ كَانَ غَنِيًّا عَنْهُ فَهُوَ بِالصِّفَةِ الَّتِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ يَزْعُمَ زَاعِمٌ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَعَ اللَّه عرش. وثانيها: أن الجالس على العرش لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ الْحَاصِلُ مِنْهُ فِي يَمِينِ الْعَرْشِ غَيْرَ الْحَاصِلِ فِي يَسَارِ الْعَرْشِ فَيَكُونَ فِي نَفْسِهِ مُؤَلَّفًا مُرَكَّبًا وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ احْتَاجَ إِلَى الْمُؤَلِّفِ وَالْمُرَكِّبِ وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْجَالِسَ عَلَى الْعَرْشِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الِانْتِقَالِ وَالْحَرَكَةِ أَوْ لَا يُمْكِنَهُ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ صَارَ مَحَلَّ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ فَيَكُونُ مُحْدَثًا لَا مَحَالَةَ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَانَ كَالْمَرْبُوطِ بل كان كالزمن بل أسوأ مِنْهُ فَإِنَّ الزَّمِنَ إِذَا شَاءَ الْحَرَكَةَ فِي رَأْسِهِ وَحَدَقَتِهِ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ عَلَى مَعْبُودِهِمْ. وَرَابِعُهَا: هُوَ أَنَّ مَعْبُودَهُمْ إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَوْ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ فَإِنْ حَصَلَ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَزِمَهُمْ أَنْ يَحْصُلَ فِي مَكَانِ النَّجَاسَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، وَإِنْ حَصَلَ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ افْتَقَرَ إِلَى مُخَصِّصٍ يُخَصِّصُهُ/ بِذَلِكَ الْمَكَانِ فَيَكُونُ مُحْتَاجًا وَهُوَ عَلَى اللَّه مُحَالٌ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: 11] يَتَنَاوَلُ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ بِدَلِيلِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ إِلَّا فِي الْجُلُوسِ وَإِلَّا فِي الْمِقْدَارِ وَإِلَّا فِي اللَّوْنِ وَصِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ تَقْتَضِي دُخُولَ جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ تَحْتَهُ، فَلَوْ كَانَ جَالِسًا لَحَصَلَ مَنْ يُمَاثِلُهُ فِي الْجُلُوسِ فَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ مَعْنَى الْآيَةِ. وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الْحَاقَّةِ: 17] فَإِذَا كَانُوا حَامِلِينَ لِلْعَرْشِ وَالْعَرْشُ مَكَانُ مَعْبُودِهِمْ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْمَلَائِكَةُ حَامِلِينَ لِخَالِقِهِمْ ومعبودهم وذلك غير معقول لأن الخلق هُوَ الَّذِي يَحْفَظُ الْمَخْلُوقَ أَمَّا الْمَخْلُوقُ فَلَا يَحْفَظُ الْخَالِقَ وَلَا يَحْمِلُهُ. وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَقِرُّ فِي الْمَكَانِ إِلَهًا فَكَيْفَ يُعْلَمُ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيْسَ بِإِلَهٍ لأن طريقنا إلى نفس إِلَهِيَّةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَنَّهُمَا مَوْصُوفَانِ بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُحْدَثًا وَلَمْ يَكُنْ إِلَهًا فَإِذَا أَبْطَلْتُمْ هَذَا الطَّرِيقَ انْسَدَّ عَلَيْكُمْ بَابُ الْقَدْحِ فِي إِلَهِيَّةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَثَامِنُهَا: أَنَّ الْعَالَمَ كُرَةٌ فَالْجِهَةُ الَّتِي هِيَ فَوْقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا هِيَ تَحْتُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَاكِنِي ذَلِكَ الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنَ الْأَرْضِ وَبِالْعَكْسِ، فَلَوْ كَانَ الْمَعْبُودُ مُخْتَصًّا بِجِهَةٍ فَتِلْكَ الْجِهَةُ وَإِنْ كَانَتْ فَوْقًا لِبَعْضِ النَّاسِ لَكِنَّهَا تَحْتٌ لِبَعْضٍ آخَرِينَ، وَبِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمَبْعُودُ تَحْتَ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. وَتَاسِعُهَا: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاصِ: 1] مِنَ الْمُحْكَمَاتِ لَا مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ

فَلَوْ كَانَ مُخْتَصًّا بِالْمَكَانِ لَكَانَ الْجَانِبُ الَّذِي مِنْهُ يَلِي مَا عَلَى يَمِينِهِ غَيْرَ الْجَانِبِ الَّذِي مِنْهُ يَلِي مَا عَلَى يَسَارِهِ فَيَكُونُ مُرَكَّبًا مُنْقَسِمًا فَلَا يَكُونُ أَحَدًا فِي الْحَقِيقَةِ فيبطل قوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. وَعَاشِرُهَا: أَنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الْأَنْعَامِ: 76] وَلَوْ كَانَ الْمَعْبُودُ جِسْمًا لَكَانَ آفِلًا أَبَدًا غَائِبًا أَبَدًا فَكَانَ يَنْدَرِجُ تحت قوله: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ الِاسْتِقْرَارَ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ وَعِنْدَ هَذَا لِلنَّاسِ فِيهِ قَوْلَانِ، الْأَوَّلُ: أَنَّا لَا نَشْتَغِلُ بِالتَّأْوِيلِ بَلْ نَقْطَعُ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ وَنَتْرُكُ تَأْوِيلَ الْآيَةِ وَرَوَى الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ أَوَّلَ ثَلَاثَةً مِنَ الْأَخْبَارِ: قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّه فِي الْأَرْضِ» ، وَقَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ» وَقَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنِّي لَأَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ» وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِنْ قَطَعَ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَكَانِ والجهة فقد قطع بأن لَيْسَ مُرَادُ اللَّه تَعَالَى مِنَ الِاسْتِوَاءِ الْجُلُوسَ وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ. وَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ بِتَنْزِيهِ اللَّه تَعَالَى عَنِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ بَلْ بَقِيَ شَاكًّا فِيهِ فَهُوَ جَاهِلٌ باللَّه تَعَالَى، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَقُولَ أَنَا قَاطِعٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُ اللَّه تَعَالَى مَا يُشْعِرُ بِهِ ظَاهِرُهُ بَلْ مُرَادُهُ بِهِ شَيْءٌ آخَرُ وَلَكِنِّي لَا أُعَيِّنُ ذَلِكَ الْمُرَادَ خَوْفًا مِنَ الْخَطَأِ فَهَذَا يَكُونُ قَرِيبًا، وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَاطَبَنَا بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَجَبَ أَنْ لَا يُرِيدَ بِاللَّفْظِ إِلَّا مَوْضُوعَهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَإِذَا كَانَ لَا مَعْنَى لِلِاسْتِوَاءِ فِي اللُّغَةِ إِلَّا الِاسْتِقْرَارُ وَالِاسْتِيلَاءُ وَقَدْ تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِيلَاءِ وَإِلَّا لَزِمَ تَعْطِيلُ اللَّفْظِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ دَلَالَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى التَّأْوِيلِ وَهُوَ أَنَّ/ الدَّلَالَةَ الْعَقْلِيَّةَ لَمَّا قَامَتْ عَلَى امْتِنَاعِ الِاسْتِقْرَارِ وَدَلَّ ظَاهِرُ لَفْظِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ، فَإِمَّا أَنْ نَعْمَلَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الدَّلِيلَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ نَتْرُكَهُمَا مَعًا، وَإِمَّا أَنْ نُرَجِّحَ النَّقْلَ عَلَى الْعَقْلِ، وَإِمَّا أَنْ نُرَجِّحَ الْعَقْلَ وَنُؤَوِّلَ النَّقْلَ. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ مُنَزَّهًا عَنِ الْمَكَانِ وَحَاصِلًا فِي الْمَكَانِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَالثَّانِي: أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ رَفْعُ النَّقِيضَيْنِ مَعًا وَهُوَ بَاطِلٌ. وَالثَّالِثُ: بَاطِلٌ لِأَنَّ الْعَقْلَ أَصْلُ النَّقْلِ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَثْبُتْ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وُجُودُ الصَّانِعِ وَعِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَبَعْثَتُهُ لِلرُّسُلِ لَمْ يَثْبُتِ النَّقْلُ فَالْقَدْحُ فِي الْعَقْلِ يَقْتَضِي الْقَدْحَ فِي الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ مَعًا، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ نَقْطَعَ بِصِحَّةِ الْعَقْلِ وَنَشْتَغِلَ بِتَأْوِيلِ النَّقْلِ وَهَذَا بُرْهَانٌ قَاطِعٌ فِي الْمَقْصُودِ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِوَاءِ الِاسْتِيلَاءُ قَالَ الشَّاعِرُ: قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا التَّأْوِيلُ غَيْرُ جَائِزٍ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ مَعْنَاهُ حُصُولُ الْغَلَبَةِ بَعْدَ الْعَجْزِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ فُلَانٌ اسْتَوْلَى عَلَى كَذَا إِذَا كَانَ لَهُ مُنَازِعٌ يُنَازِعُهُ، وَكَانَ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ، لِأَنَّ الْعَرْشَ إِنَّمَا حَدَثَ بِتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ. وَثَالِثُهَا: الِاسْتِيلَاءُ حَاصِلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ الْمَخْلُوقَاتِ فَلَا يَبْقَى لِتَخْصِيصِ الْعَرْشِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّا إِذَا فَسَّرْنَا الِاسْتِيلَاءَ بِالِاقْتِدَارِ زَالَتْ هَذِهِ الْمَطَاعِنُ بِالْكُلِّيَّةِ، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ لَمَّا كَانَ الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ، وَهُوَ سَرِيرُ الْمُلْكِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْمُلْكِ جَعَلُوهُ كِنَايَةً عَنِ الْمُلْكِ فَقَالُوا: اسْتَوَى فُلَانٌ عَلَى الْبَلَدِ يُرِيدُونَ مَلَكَ، وَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ عَلَى السَّرِيرِ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا عَبَّرُوا عَنْ حُصُولِ الْمُلْكِ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَصْرَحُ وَأَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ مِنْ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ مَلَكَ وَنَحْوُهُ قَوْلُكَ: يَدُ فُلَانٍ مَبْسُوطَةٌ، وَيَدُ فُلَانٍ مَغْلُولَةٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ جَوَادٌ وَبَخِيلٌ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ إِلَّا فِيمَا قُلْتُ حَتَّى أَنَّ مَنْ لَمْ تُبْسَطْ يَدُهُ قَطُّ بِالنَّوَالِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ يَدٌ رَأْسًا قِيلَ فِيهِ يَدُهُ مَبْسُوطَةٌ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ جَوَادٌ،

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [الْمَائِدَةِ: 64] أَيْ هُوَ بَخِيلٌ بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [الْمَائِدَةِ: 64] أَيْ هُوَ جَوَادٌ مِنْ غَيْرِ تَصَوُّرِ يَدٍ وَلَا غُلٍّ وَلَا بَسْطٍ، وَالتَّفْسِيرُ بِالنِّعْمَةِ وَالتَّمَحُّلُ بِالتَّسْمِيَةِ مِنْ ضِيقِ الْعَطَنِ. وَأَقُولُ: إِنَّا لَوْ فَتَحْنَا هَذَا الْبَابَ لَانْفَتَحَتْ تَأْوِيلَاتُ الْبَاطِنِيَّةِ فَإِنَّهُمْ أَيْضًا يَقُولُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه: 12] الِاسْتِغْرَاقُ فِي خِدْمَةِ اللَّه تَعَالَى مِنْ غَيْرِ تَصَوُّرِ فِعْلٍ، وقوله: يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [ابراهيم: 69] الْمُرَادُ مِنْهُ تَخْلِيصُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ يَدِ ذَلِكَ الظَّالِمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ نَارٌ وَخِطَابٌ الْبَتَّةَ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ مَا وَرَدَ فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى، بَلِ الْقَانُونُ أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُ كُلِّ لَفْظٍ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى حَقِيقَتِهِ إِلَّا إِذَا قَامَتْ دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ قَطْعِيَّةٌ تُوجِبُ الِانْصِرَافَ عَنْهُ، وَلَيْتَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ شَيْئًا لَمْ يَخُضْ فِيهِ، فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَنْ أَرَادَ الِاسْتِقْصَاءَ فِي الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الْمُتَشَابِهَاتِ فَعَلَيْهِ بِكِتَابِ تَأْسِيسِ التَّقْدِيسِ وباللَّه التَّوْفِيقُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما/ بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى فاعلم أنه سبحانه لم شَرَحَ مُلْكَهُ بِقَوْلِهِ: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى وَالْمُلْكُ لَا يَنْتَظِمُ إِلَّا بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ، لَا جَرَمَ عَقَّبَهُ بِالْقُدْرَةِ ثُمَّ بِالْعِلْمِ. أَمَّا الْقُدْرَةُ فَهِيَ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَالِكٌ لِهَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ فَهُوَ مَالِكٌ لِمَا فِي السموات مِنْ مَلَكٍ وَنَجْمٍ وَغَيْرِهِمَا، وَمَالِكٌ لِمَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْمَعَادِنِ وَالْفِلِزَّاتِ «1» وَمَالِكٌ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْهَوَاءِ. وَمَالِكٌ لِمَا تَحْتَ الثَّرَى، فَإِنْ قِيلَ الثَّرَى هُوَ السَّطْحُ الْأَخِيرُ مِنَ الْعَالَمِ فَلَا يَكُونُ تَحْتَهُ شَيْءٌ فَكَيْفَ يَكُونُ اللَّه مَالِكًا لَهُ قُلْنَا: الثَّرَى فِي اللُّغَةِ التُّرَابُ النَّدِيُّ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَحْتَهُ شَيْءٌ وَهُوَ إِمَّا الثَّوْرُ أَوِ الْحُوتُ أَوِ الصَّخْرَةُ أَوِ الْبَحْرُ أَوِ الْهَوَاءُ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ، أَمَّا الْعِلْمُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى وَفِيهِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَخْفى بِنَاءُ الْمُبَالَغَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ نَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى قَسَّمَ الْأَشْيَاءَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْجَهْرِ، وَالسِّرِّ. وَالْأَخْفَى. فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْجَهْرِ الْقَوْلَ الَّذِي يُجْهَرُ بِهِ، وَقَدْ يُسَرُّ فِي النَّفْسِ وَإِنْ ظَهَرَ الْبَعْضُ، وَقَدْ يُسَرُّ وَلَا يَظْهَرُ عَلَى مَا قَالَ بَعْضُهُمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسِّرِّ وَبِالْأَخْفَى مَا لَيْسَ بِقَوْلٍ وَهَذَا أَظْهَرُ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ الَّذِي لَا يُسْمَعُ وَمَا هُوَ أَخْفَى مِنْهُ فَكَيْفَ لَا يَعْلَمُ الْجَهْرَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ زَجْرُ الْمُكَلَّفِ عَنِ الْقَبَائِحِ ظَاهِرَةً كَانَتْ أَوْ بَاطِنَةً، وَالتَّرْغِيبُ فِي الطَّاعَاتِ ظَاهِرَةً كَانَتْ أَوْ بَاطِنَةً، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ السِّرُّ وَالْأَخْفَى عَلَى مَا فِيهِ ثَوَابٌ أَوْ عِقَابٌ، وَالسِّرُّ هُوَ الَّذِي يُسِرُّهُ الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي عَزَمَ عَلَيْهَا، وَالْأَخْفَى هُوَ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْعَزِيمَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَسَّرَ الْأَخْفَى بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ وَمَا وَقَعَ فِي وَهْمِهِ الَّذِي لم يعزم عليه، ويتحمل مَا لَمْ يَقَعْ فِي سِرِّهِ بَعْدُ فَيَكُونُ أَخْفَى مِنَ السِّرِّ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا مَا سَيَكُونُ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ تَظْهَرْ، وَإِنْ كَانَ الْأَقْرَبَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الزَّجْرِ وَالتَّرْغِيبِ . الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ أَخْفَى فِعْلٌ يَعْنِي أَنَّهُ يَعْلَمُ أَسْرَارَ الْعِبَادِ وَأَخْفَى عَنْهُمْ مَا يَعْلَمُهُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [الْبَقَرَةِ: 255] فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُطَابِقُ الْجَزَاءُ الشَّرْطَ؟ قُلْنَا مَعْنَاهُ إِنْ تَجْهَرْ بِذِكْرِ اللَّه تَعَالَى مِنْ دُعَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ جَهْرِكَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَهْيًا عَنِ الْجَهْرِ كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [الْأَعْرَافِ: 205] وَإِمَّا تَعْلِيمًا لِلْعِبَادِ أَنَّ الْجَهْرَ لَيْسَ لِاسْتِمَاعِ اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا هُوَ لِغَرَضٍ آخَرَ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لِذَاتِهِ عَالِمٌ وَأَنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ بِعِلْمٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ الْعِلْمُ غَيْرُ مُتَغَيِّرٍ، وذلك العلم من

_ (1) في الأصل الأميري: والفلوات جمع فلاة وهي الخلاء والفضاء في الأرض كالصحاري لا نبات بها، وهي محرفة عن الفلزات، وهي جواهر الأرض وعناصرها المكونة منها.

لَوَازِمِ ذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالْحُدُوثِ أَوِ الْإِمْكَانِ وَالْعَبْدُ لَا يُشَارِكُ الرَّبَّ إِلَّا فِي السُّدُسِ الْأَوَّلِ «1» وَهُوَ أَصْلُ الْعِلْمِ ثُمَّ هَذَا السُّدُسُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ أَيْضًا نِصْفَانِ فَخَمْسَةُ دَوَانِيقَ وَنِصْفُ جُزْءٍ مِنَ الْعِلْمِ مُسَلَّمٌ لَهُ وَالنِّصْفُ الْوَاحِدُ لِجُمْلَةِ عِبَادِهِ، ثُمَّ هَذَا الْجُزْءُ الْوَاحِدُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْكَرُوبِيَّةِ وَالْمَلَائِكَةِ الرُّوحَانِيَّةِ وَحَمَلَةِ/ الْعَرْشِ وسكان السموات وَمَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةِ الْعَذَابِ وَكَذَا جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ آدَمُ وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَكَذَا جَمِيعُ الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ فِي عُلُومِهِمُ الضَّرُورِيَّةِ وَالْكَسْبِيَّةِ وَالْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ وَجَمِيعُ الْحَيَوَانَاتِ فِي إِدْرَاكَاتِهَا وَشُعُورَاتِهَا وَالِاهْتِدَاءِ إِلَى مَصَالِحِهَا فِي أَغْذِيَتِهَا وَمَضَارِّهَا وَمَنَافِعِهَا، وَالْحَاصِلُ لَكَ مِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ أَقَلُّ مِنَ الذَّرَّةِ الْمُؤَلَّفَةِ، ثُمَّ إِنَّكَ بِتِلْكَ الذَّرَّةِ عَرَفْتَ أَسْرَارَ إِلَهِيَّتِهِ وَصِفَاتِهِ الْوَاجِبَةَ وَالْجَائِزَةَ وَالْمُسْتَحِيلَةَ. فَإِذَا كُنْتَ بِهَذِهِ الذَّرَّةِ عَرَفْتَ هَذِهِ الْأَسْرَارَ فَكَيْفَ يَكُونُ عِلْمُهُ بِخَمْسِ دَوَانِيقَ وَنِصْفٍ. أَفَلَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ الْعِلْمِ أَسْرَارَ عُبُودِيَّتِكَ؟ فَهَذَا تَحْقِيقُ قَوْلِهِ: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الدِّينَارَ بِتَمَامِهِ لَهُ، لِأَنَّ الَّذِي عَلِمْتَهُ فَإِنَّمَا عَلِمْتَهُ بِتَعْلِيمِهِ عَلَى مَا قَالَ: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النِّسَاءِ: 166] وَقَالَ: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الْمُلْكِ: 14] وَلِهَذَا مِثَالٌ وَهُوَ الشَّمْسُ فَإِنَّ ضَوْءُهَا يَجْعَلُ الْعَالَمَ مُضِيئًا، وَلَا يَنْتَقِصُ الْبَتَّةَ مِنْ ضوئها شيء، فكذا هاهنا فَكَيْفَ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِالسِّرِّ وَالْأَخْفَى، فَإِنَّ مِنْ تَدْبِيرَاتِهِ فِي خَلْقِ الْأَشْجَارِ وَأَنْوَاعِ النَّبَاتِ أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا فَمٌ وَلَا سَائِرُ آلَاتِ الْغِذَاءِ فَلَا جَرَمَ أُصُولُهَا مَرْكُوزَةٌ فِي الْأَرْضِ تَمْتَصُّ بِهَا الْغِذَاءَ فَيَتَأَدَّى ذَلِكَ الْغِذَاءُ إِلَى الْأَغْصَانِ وَمِنْهَا إِلَى الْعُرُوقِ وَمِنْهَا إِلَى الْأَوْرَاقِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ عُرُوقَهَا كَالْأَطْنَابِ الَّتِي بِهَا يُمْكِنُ ضَرْبُ الْخِيَامِ. وَكَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَدِّ الطُّنُبِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لِتَبْقَى الْخَيْمَةُ وَاقِفَةً، كَذَلِكَ الْعُرُوقُ تَذْهَبُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لِتَبْقَى الشَّجَرَةُ وَاقِفَةً، ثُمَّ لَوْ نَظَرْتَ إِلَى كُلِّ وَرَقَةٍ وَمَا فِيهَا مِنَ الْعُرُوقِ الدَّقِيقَةِ الْمَبْثُوثَةِ فِيهَا لِيَصِلَ الْغِذَاءُ مِنْهَا إِلَى كُلِّ جَانِبٍ مِنَ الْوَرَقَةِ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَقْوِيَةً لِجِرْمِ الْوَرَقَةِ فَلَا يَتَمَزَّقُ سَرِيعًا، وَهِيَ شِبْهُ الْعُرُوقِ الْمَخْلُوقَةِ فِي بَدَنِ الْحَيَوَانِ لِتَكُونَ مَسَالِكَ لِلدَّمِ وَالرُّوحِ فَتَكُونَ مُقَوِّيَةً لِلْبَدَنِ، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى الْأَشْجَارِ فَإِنَّ أَحْسَنَهَا فِي الْمَنْظَرِ الدُّلْبُ وَالْخِلَافُ، وَلَا حَاصِلَ لَهُمَا، وَأَقْبَحَهَا شَجَرَةُ التِّينِ وَالْعِنَبِ، وَ [لَكِنْ] انْظُرْ إِلَى مَنْفَعَتِهِمَا، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَأَشْبَاهُهَا تُظْهِرُ أَنَّهُ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: فِي التَّوْحِيدِ اعْلَمْ أَنَّ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ سَتَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّه فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] وَإِنَّمَا ذكره هاهنا لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْقُدْرَةِ وَبِالْعِلْمِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ الذي يستحق العبادة دون غيره، ولنذكر هاهنا نُكَتًا مُتَعَلِّقَةً بِهَذَا الْبَابِ وَهِيَ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ مَرَاتِبَ التَّوْحِيدِ أَرْبَعٌ: أَحَدُهَا: الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ. وَالثَّانِي: الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ. وَالثَّالِثُ: تَأْكِيدُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ بِالْحُجَّةِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَصِيرَ الْعَبْدُ مَغْمُورًا فِي بَحْرِ التَّوْحِيدِ بِحَيْثُ لَا يَدُورُ فِي خَاطِرِهِ شَيْءٌ غَيْرُ عِرْفَانِ الْأَحَدِ الصَّمَدِ. أَمَّا الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ فَإِنْ وُجِدَ خَالِيًا عَنِ الِاعْتِقَادِ بِالْقَلْبِ فَذَلِكَ هُوَ الْمُنَافِقُ، وَأَمَّا الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ إِذَا وُجِدَ خَالِيًا عَنِ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ فَفِيهِ صُوَرٌ. الصُّورَةُ الْأُولَى: أَنَّ مَنْ نَظَرَ وَعَرَفَ اللَّه تَعَالَى وَكَمَا عَرَفَهُ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَقْتِ مَا يُمْكِنُهُ التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ فَقَالَ قَوْمٌ إِنَّهُ لَا يَتِمُّ إِيمَانُهُ وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَتِمُّ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا كُلِّفَ بِهِ وَعَجَزَ عَنِ التَّلَفُّظِ بِهِ فَلَا يَبْقَى مُخَاطَبًا، وَرَأَيْتُ فِي [بَعْضِ] الْكُتُبِ أن

_ (1) بنى الفخر الرازي هذه القسمة السداسية من تقسيمه السابق للأشياء إلى ثلاثة أقسام الجهر والسر والأخفى.

مَلَكَ الْمَوْتِ/ مَكْتُوبٌ عَلَى جَبْهَتِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه لِكَيْ إِذَا رَآهُ الْمُؤْمِنُ تَذَكَّرَ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ فَيَكْفِيهِ ذَلِكَ التَّذَكُّرُ عَنِ الذِّكْرِ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّه وَمَضَى عَلَيْهِ مِنَ الْوَقْتِ مَا يُمْكِنُهُ التَّلَفُّظُ بِالْكَلِمَةِ وَلَكِنَّهُ قَصَّرَ فِيهِ، قَالَ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ اللِّسَانُ تُرْجُمَانُ الْقَلْبِ فَإِذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ فِي الْقَلْبِ كَانَ امْتِنَاعُهُ مِنَ التَّلَفُّظِ جَارِيًا مَجْرَى امْتِنَاعِهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ» وَقَلْبُ هَذَا الرَّجُلِ مَمْلُوءٌ مِنَ الْإِيمَانِ؟ وَقَالَ آخَرُونَ: الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ أُمُورٌ شَرْعِيَّةٌ نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ كَافِرٌ. الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: مَنْ أَقَرَّ بِاللِّسَانِ وَاعْتَقَدَ بِالْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَهُوَ مُقَلِّدٌ وَالِاخْتِلَافُ فِي صِحَّةِ إِيمَانِهِ مَشْهُورٌ. أَمَّا الْمَقَامُ الثَّالِثُ: وَهُوَ إِثْبَاتُ التَّوْحِيدِ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] أَنَّهُ يُمْكِنُ إِثْبَاتُ هَذَا الْمَطْلُوبِ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ وَاسْتَقْصَيْنَا الْقَوْلَ فِيهَا هُنَاكَ. أَمَّا الْمَقَامُ الرَّابِعُ: وَهُوَ الْفَنَاءُ فِي بَحْرِ التَّوْحِيدِ فَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: الْعِرْفَانُ مُبْتَدِأٌ مِنْ تَفْرِيقٍ وَنَقْضٍ وَتَرْكٍ وَرَفْضٍ مُمْكِنٍ فِي جَمِيعِ صِفَاتٍ هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْحَقِّ لِلَّذَّاتِ الْمُرِيدَةِ بِالصِّدْقِ مُنْتَبِهٌ إِلَى الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، ثُمَّ وُقُوفُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مُحِيطَةٌ بِأَقْصَى نِهَايَاتِ دَرَجَاتِ السَّائِرِينَ إِلَى اللَّه تَعَالَى. الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي التَّهْلِيلِ، أَوَّلُهَا: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ: أَسْتَغْفِرُ اللَّه ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ» . وَثَانِيهَا: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَبْلَ أن خلق السموات وَالْأَرْضَ وَهُوَ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه مَادًّا بِهَا صَوْتَهُ لَا يَقْطَعُهَا وَلَا يَتَنَفَّسُ فِيهَا وَلَا يُتِمُّهَا، فَإِذَا أَتَمَّهَا أَمَرَ إِسْرَافِيلَ بِالنَّفْخِ فِي الصُّورِ وَقَامَتِ الْقِيَامَةُ تَعْظِيمًا للَّه عَزَّ وَجَلَّ» . وَثَالِثُهَا: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا زِلْتُ أَشْفَعُ إِلَى رَبِّي وَيُشَفِّعُنِي وَأَشْفَعُ إِلَيْهِ وَيُشَفِّعُنِي حَتَّى قُلْتُ: يَا رَبِّ شَفِّعْنِي فِيمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه قَالَ يَا مُحَمَّدُ هَذِهِ لَيْسَتْ لَكَ وَلَا لِأَحَدٍ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَدَعُ أَحَدًا فِي النَّارِ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه» . وَثَانِيهَا: قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: سَأَلْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ حم عسق قَالَ: الْحَاءُ حُكْمُهُ وَالْمِيمُ مُلْكُهُ وَالْعَيْنُ عَظَمَتُهُ وَالسِّينُ سَنَاؤُهُ وَالْقَافُ قُدْرَتُهُ، يَقُولُ اللَّه جَلَّ ذِكْرُهُ: بِحُكْمِي وَمُلْكِي وَعَظَمَتِي وَسَنَائِي وَقُدْرَتِي لَا أُعَذِّبُ بِالنَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه. وَخَامِسُهَا: أَنَّ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَامَ فِي السُّوقِ فَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ لَهُ اللَّه أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ وَبَنَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» . الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي النُّكَتِ. أَحَدُهَا: يَنْبَغِي لِأَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه أَنْ يُحَصِّلُوا أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ حَتَّى يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه: التَّصْدِيقُ وَالتَّعْظِيمُ وَالْحَلَاوَةُ وَالْحُرِّيَّةُ، فَمَنْ لَيْسَ لَهُ التَّصْدِيقُ فَهُوَ/ مُنَافِقٌ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ التَّعْظِيمُ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ الْحَلَاوَةُ فَهُوَ مُرَاءٍ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ الْحُرِّيَّةُ فَهُوَ فَاجِرٌ. وَثَانِيهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ [إِبْرَاهِيمَ: 24] أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فَاطِرٍ: 10] لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه: وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ [الْعَصْرِ: 3] لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ [سَبَأٍ: 46] لَا إله إلا اللَّه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصَّافَّاتِ: 24] عَنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [الصَّافَّاتِ: 37] هُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ

الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ [إِبْرَاهِيمَ: 27] هُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إِبْرَاهِيمَ: 27] عَنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ بِهِ، قَالَ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه قَالَ كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه! فَقَالَ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه قال إنما أردت شيئا تحصني به! قال يا موسى لو أن السموات السَّبْعَ وَمَنْ فِيهِنَّ فِي كِفَّةٍ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه فِي كِفَّةٍ لَمَالَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه» . الْبَحْثُ الرَّابِعُ: فِي إِعْرَابِهِ قالوا كلمة لا هاهنا دَخَلَتْ عَلَى الْمَاهِيَّةِ، فَانْتَفَتِ الْمَاهِيَّةُ، وَإِذَا انْتَفَتِ الْمَاهِيَّةُ انْتَفَتْ كُلُّ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ. وَأَمَّا اللَّه فَإِنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ لِلَّذَّاتِ الْمُعَيَّنَةِ إِذْ لَوْ كَانَ اسْمَ مَعْنًى لَكَانَ كُلُّهَا مُحْتَمِلًا لِلْكَثْرَةِ فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ مُفِيدَةً لِلتَّوْحِيدِ، فَقَالُوا: لَا اسْتَحَقَّتْ عَمَلَ أَنْ لِمُشَابَهَتِهَا لَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: مُلَازَمَةُ الْأَسْمَاءِ، وَالْآخَرُ تَنَاقُضُهُمَا فَإِنَّ أَحَدَهُمَا لِتَأْكِيدِ الثُّبُوتِ وَالْآخَرَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَمِنْ عَادَتِهِمْ تَشْبِيهُ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ بِالْآخَرِ فِي الْحُكْمِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ لَمَّا قَالُوا: إِنَّ زَيْدًا ذَاهِبٌ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَقُولُوا لَا رَجُلًا ذَاهِبٌ إِلَّا أَنَّهُمْ بَنَوْا لَا مَعَ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنَ الِاسْمِ الْمُفْرَدِ عَلَى الْفَتْحِ، أَمَّا الْبِنَاءُ فَلِشِدَّةِ اتِّصَالِ حَرْفِ النَّفْيِ بِمَا دَخَلَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُمَا صَارَا اسْمًا وَاحِدًا، وَأَمَّا الْفَتْحُ فَلِأَنَّهُمْ قَصَدُوا الْبِنَاءَ عَلَى الْحَرَكَةِ الْمُسْتَحِقَّةِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلْإِعْرَابِ وَالدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلْبِنَاءِ. الثَّانِي: خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ وَالْأَصْلُ لَا إِلَهَ فِي الْوُجُودِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ لَنَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُجُودَ زَائِدٌ عَلَى الْمَاهِيَّةِ. الْبَحْثُ الْخَامِسُ: قَالَ بَعْضُهُمْ تَصَوُّرُ الثُّبُوتِ مُقَدَّمٌ عَلَى تَصَوُّرِ السَّلْبِ، فَإِنَّ السَّلْبَ مَا لَمْ يُضَفْ إِلَى الثُّبُوتِ لَا يُمْكِنُ تصوره فكيف قدم هاهنا السَّلْبُ عَلَى الثُّبُوتِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا السَّلْبُ مِنْ مُؤَكِّدَاتِ الثُّبُوتِ لَا جَرَمَ قُدِّمَ عَلَيْهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مِنَ الْكَلَامِ فِي الْآيَةِ الْبَحْثُ عَنْ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَيُّهَا النَّاسُ أَنَا جَعَلْتُ لَكُمْ نَسَبًا وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ نَسَبًا، أَنَا جَعَلْتُ أَكْرَمَكُمْ عِنْدِي أَتْقَاكُمْ وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمْ أَكْرَمَكُمْ أَغْنَاكُمْ فَالْآنَ أَرْفَعُ نَسَبِي وَأَضَعُ نَسَبَكُمْ، أَيْنَ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ!» ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَشْيَاءَ فِي قِسْمَةِ الْعُقُولِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاسِمَ: كَامِلٌ لَا يَحْتَمِلُ النُّقْصَانَ، وَنَاقِصٌ لَا يَحْتَمِلُ الْكَمَالَ، وَثَالِثٌ يَقْبَلُ الْأَمْرَيْنِ، أَمَّا الْكَامِلُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ النُّقْصَانَ فَهُوَ اللَّه تَعَالَى وَذَلِكَ فِي حَقِّهِ بِالْوُجُوبِ الذَّاتِيِّ وَبَعْدَهُ الْمَلَائِكَةُ فَإِنَّ مِنْ كَمَالِهِمْ أَنَّهُمْ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التَّحْرِيمِ: 6] ومن صفاتهم أنهم: عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 26] وَمِنْ/ صِفَاتِهِمْ أَنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينِ آمَنُوا، وَأَمَّا النَّاقِصُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْكَمَالَ فَهُوَ الْجَمَادَاتُ وَالنَّبَاتُ وَالْبَهَائِمُ، وَأَمَّا الَّذِي يَقْبَلُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا فَهُوَ الْإِنْسَانُ تَارَةً يَكُونُ فِي التَّرَقِّي بِحَيْثُ يُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَرِ: 55] وَتَارَةً فِي التَّسَفُّلِ بِحَيْثُ يُقَالُ: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التِّينِ: 5] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ كَامِلًا لِذَاتِهِ، وَمَا لَا يَكُونُ كَامِلًا لِذَاتِهِ اسْتَحَالَ أَنْ يَصِيرَ مَوْصُوفًا بِالْكَمَالِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ مُنْتَسِبًا إِلَى الْكَامِلِ لِذَاتِهِ. لَكِنَّ الِانْتِسَابَ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَعْرِضُ لِلزَّوَالِ وَقِسْمٌ لَا يَكُونُ يَعْرِضُ لِلزَّوَالِ. أَمَّا الَّذِي يَكُونُ يَعْرِضُ لِلزَّوَالِ، فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ وَمِثَالُهُ الصِّحَّةُ وَالْمَالُ وَالْجَمَالُ، وَأَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ يَعْرِضُ لِلزَّوَالِ فَعُبُودِيَّتُكَ للَّه تَعَالَى فَإِنَّهُ كَمَا يَمْتَنِعُ زَوَالُ صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهُ يَمْتَنِعُ زَوَالُ صِفَةِ الْعُبُودِيَّةِ عَنْكَ فَهَذِهِ النِّسْبَةُ لَا تَقْبَلُ الزَّوَالَ، وَالْمُنْتَسَبُ إِلَيْهِ وَهُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ لَا يَقْبَلُ الْخُرُوجَ عَنْ صِفَةِ الْكَمَالِ. ثُمَّ إِذَا كُنْتَ مِنْ بَلَدٍ أَوْ مُنْتَسِبًا إِلَى قَبِيلَةٍ فَإِنَّكَ لَا تَزَالُ تُبَالِغُ فِي مَدْحِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ وَالْقَبِيلَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِانْتِسَابِ الْعَرَضِيِّ فَلَأَنْ تَشْتَغِلَ بِذِكْرِ اللَّه تَعَالَى وَنُعُوتِ كِبْرِيَائِهِ بِسَبَبِ الِانْتِسَابِ

الذَّاتِيِّ كَانَ أَوْلَى فَلِهَذَا قَالَ: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الْأَعْرَافِ: 180] وَقَالَ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى. الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي تَقْسِيمِ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى. اعْلَمْ أَنَّ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا عَلَيْهِ بِحَسَبِ ذَاتِهِ أَوْ بِحَسَبِ أَجْزَاءِ ذَاتِهِ أَوْ بِحَسَبِ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْ ذَاتِهِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ للَّه تَعَالَى اسْمٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ اللَّه تَعَالَى هَلْ هِيَ مَعْلُومَةٌ لِلْبَشَرِ أَمْ لَا؟ فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لِلْبَشَرِ قَالَ: لَيْسَ لِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ اسْمٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الِاسْمِ أَنْ يُشَارَ بِهِ إِلَى الْمُسَمَّى وَإِذَا كَانَتِ الذَّاتُ الْمَخْصُوصَةُ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ امْتَنَعَتِ الْإِشَارَةُ الْعَقْلِيَّةُ إِلَيْهَا، فَامْتَنَعَ وَضْعُ الِاسْمِ لَهَا، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ اسْمِ اللَّه، وَأَمَّا الِاسْمُ الْوَاقِعُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ أَجْزَاءِ ذَاتِهِ فَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِذَاتِهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ لِأَنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ مُمْكِنٌ وَوَاجِبُ الْوُجُودِ لَا يَكُونُ مُمْكِنًا فَلَا يَكُونُ مُرَكَّبًا، وَأَمَّا الِاسْمُ الْوَاقِعُ بِحَسَبِ الصِّفَاتِ الْخَارِجَةِ عَنْ ذَاتِهِ، فَالصِّفَاتُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ ثُبُوتِيَّةً حَقِيقِيَّةً أَوْ ثُبُوتِيَّةً إِضَافِيَّةً أَوْ سَلْبِيَّةً أَوْ ثُبُوتِيَّةً مَعَ إِضَافِيَّةٍ أَوْ ثُبُوتِيَّةً مَعَ سَلْبِيَّةٍ أَوْ إِضَافِيَّةً مَعَ سَلْبِيَّةٍ أَوْ ثُبُوتِيَّةً وَإِضَافِيَّةً وَسَلْبِيَّةً وَلَمَّا كَانَتِ الْإِضَافَاتُ الْمُمْكِنَةُ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، وَكَذَا السُّلُوبُ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ لِلْبَارِي تَعَالَى أَسْمَاءٌ مُتَبَايِنَةٌ لَا مُتَرَادِفَةٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ. فَهَذَا هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى الْمَأْخَذِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: يُقَالُ: أَنَّ للَّه تَعَالَى أَرْبَعَةَ آلَافِ اسْمٍ، أَلْفٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّه تَعَالَى وَأَلْفٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّه وَالْمَلَائِكَةُ وَأَلْفٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّه وَالْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ. وَأَمَّا الْأَلْفُ الرَّابِعُ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَعْلَمُونَهَا فَثَلَاثُمِائَةٍ مِنْهَا فِي التَّوْرَاةِ وَثَلَاثُمِائَةٍ فِي الْإِنْجِيلِ وَثَلَاثُمِائَةٍ فِي الزَّبُورِ وَمِائَةٌ فِي الْفُرْقَانِ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ مِنْهَا ظَاهِرَةٌ وَوَاحِدٌ مَكْتُومٌ فَمَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: الْأَسْمَاءُ الْوَارِدَةُ فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا مَا لَيْسَ بِانْفِرَادِهِ ثَنَاءً وَمَدْحًا، كَقَوْلِهِ جَاعِلٌ/ وَفَالِقٌ وَخَالِقٌ فَإِذَا قِيلَ: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً [الْأَنْعَامِ: 96] صَارَ مَدْحًا، وَأَمَّا الِاسْمُ الَّذِي يَكُونُ مَدْحًا فَمِنْهُ مَا إِذَا قُرِنَ بِغَيْرِهِ صَارَ أَبْلَغَ نَحْوَ قَوْلِنَا: حَيٌّ فَإِذَا قِيلَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ أَوِ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ كَانَ أَبْلَغَ وَأَيْضًا قَوْلُنَا بَدِيعٌ فَإِنَّكَ إِذَا قلت بديع السموات وَالْأَرْضِ ازْدَادَ الْمَدْحُ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا كَانَ اسْمَ مَدْحٍ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ إِفْرَادُهُ كَقَوْلِكَ: دَلِيلٌ. وَكَاشِفٌ فَإِذَا قِيلَ: يَا دَلِيلَ الْمُتَحَيِّرِينَ، وَيَا كَاشِفَ الضُّرِّ وَالْبَلْوَى جَازَ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ اسْمَ مَدْحٍ مُفْرَدًا أَوْ مَقْرُونًا كَقَوْلِنَا الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. الْبَحْثُ الْخَامِسُ: مِنَ الْأَسْمَاءِ مَا يَكُونُ مُقَارَنَتُهَا أَحْسَنَ كَقَوْلِكَ الْأَوَّلُ الْآخِرُ الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حِكَايَةِ قَوْلِ الْمَسِيحِ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الْمَائِدَةِ: 118] وَبَقِيَّةُ الْأَبْحَاثِ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي تَفْسِيرِ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الْبَحْثُ السَّادِسُ: في النكت [أولها] رأى بشر الحافي كاغذا مَكْتُوبًا فِيهِ: بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَرَفَعَهُ وَطَيَّبَهُ بِالْمِسْكِ وَبَلَعَهُ فَرَأَى فِي النَّوْمِ قَائِلًا يَقُولُ: يَا بِشْرُ طَيَّبْتَ اسْمَنَا فَنَحْنُ نُطَيِّبُ اسْمَكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الأعراف: 180] وَلَيْسَ حُسْنُ الْأَسْمَاءِ لِذَوَاتِهَا لِأَنَّهَا أَلْفَاظٌ وَأَصْوَاتٌ بَلْ حُسْنُهَا لِحُسْنِ مَعَانِيهَا ثُمَّ لَيْسَ حُسْنُ أَسْمَاءِ اللَّه حُسْنًا يَتَعَلَّقُ بِالصُّورَةِ وَالْخِلْقَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِجِسْمٍ بَلْ حُسْنٌ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْإِحْسَانِ مَثَلًا اسْمُ السَّتَّارِ وَالْغَفَّارِ وَالرَّحِيمِ إِنَّمَا كَانَتْ حَسْنَاءَ لِأَنَّهَا دالة

[سورة طه (20) : الآيات 9 إلى 12]

عَلَى مَعْنَى الْإِحْسَانِ، وَرُوِيَ أَنَّ حَكِيمًا ذَهَبَ إِلَيْهِ قَبِيحٌ وَحَسَنٌ وَالْتَمَسَا الْوَصِيَّةَ فَقَالَ لِلْحَسَنِ: أَنْتَ حَسَنٌ وَالْحَسَنُ لَا يَلِيقُ بِهِ الْفِعْلُ الْقَبِيحُ، وَقَالَ لِلْآخَرِ أَنْتَ قَبِيحٌ وَالْقَبِيحُ إِذَا فَعَلَ الْفِعْلَ الْقَبِيحَ عَظُمَ قُبْحُهُ. فَنَقُولُ: إِلَهَنَا أَسْمَاؤُكَ حَسَنَةٌ وَصِفَاتُكَ حَسَنَةٌ فَلَا تَظْهَرُ لَنَا مِنْ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ الْحَسَنَةِ وَالصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ إِلَّا الْإِحْسَانُ، إِلَهَنَا يَكْفِينَا قُبْحُ أَفْعَالِنَا وَسِيرَتِنَا فَلَا نَضُمُّ إِلَيْهِ قُبْحَ الْعِقَابِ وَوَحْشَةَ الْعَذَابِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اطْلُبُوا الْحَوَائِجَ عِنْدَ حِسَانِ الْوُجُوهِ» إِلَهَنَا حُسْنُ الْوَجْهِ عَرَضِيٌّ أَمَّا حُسْنُ الصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ فَذَاتِيٌّ فَلَا تَرُدَّنَا عَنْ إِحْسَانِكَ خَائِبِينَ خَاسِرِينَ. وَرَابِعُهَا: ذُكِرَ أَنَّ صَيَّادًا كَانَ يَصِيدُ السَّمَكَ فَصَادَ سَمَكَةً وَكَانَ لَهُ ابْنَةٌ فَأَخَذَتْهَا ابْنَتُهُ فَطَرَحَتْهَا الْمَاءَ وَقَالَتْ: إِنَّهَا مَا وَقَعَتْ فِي الشَّبَكَةِ إِلَّا لِغَفْلَتِهَا، إِلَهَنَا تِلْكَ الصَّبِيَّةُ رَحِمَتْ غَفْلَةَ هَاتِيكَ السَّمَكَةِ وَكَانَتْ تُلْقِيهَا مَرَّةً أُخْرَى فِي الْبَحْرِ وَنَحْنُ قَدِ اصْطَادَتْنَا وَسْوَسَةُ إِبْلِيسَ وَأَخْرَجَتْنَا مِنْ بَحْرِ رَحْمَتِكَ فَارْحَمْنَا بِفَضْلِكَ وَخَلِّصْنَا مِنْهَا وَألْقِنَا فِي بِحَارِ رَحْمَتِكَ مَرَّةً أُخْرَى. وَخَامِسُهَا: ذَكَرْتَ مِنَ الْأَسْمَاءِ خَمْسَةً فِي الْفَاتِحَةِ، وَهِيَ اللَّه وَالرَّبُّ وَالرَّحْمَنُ وَالرَّحِيمُ وَالْمَلِكُ فَذَكَرْتَ الْإِلَهِيَّةَ وَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَّهَارِيَّةِ وَالْعَظَمَةِ فَعُلِمَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ الْقَهْرَ وَالْعُلُوَّ فَذَكَرَ بَعْدَهُ أَرْبَعَةَ أَسْمَاءٍ تَدُلُّ عَلَى اللُّطْفِ، الرَّبَّ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَالْمُعْتَادُ أَنَّ مَنْ رَبَّى أَحَدًا فَإِنَّهُ لَا يُهْمِلُ أَمْرَهُ ثُمَّ ذَكَرَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ وَذَلِكَ هُوَ النِّهَايَةُ فِي اللُّطْفِ وَالرَّأْفَةِ ثُمَّ خَتَمَ الْأَمْرَ بِالْمَلِكِ وَالْمَلِكُ الْعَظِيمُ لَا يَنْتَقِمُ مِنَ الضَّعِيفِ الْعَاجِزِ وَلِأَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ فَأَنْتَ أَوْلَى بِأَنْ تَعْفُوَ عَنْ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ» . وَسَادِسُهَا: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِلَهِي أَيُّ خَلْقِكَ أَكْرَمُ عَلَيْكَ؟ قَالَ/ الَّذِي لَا يَزَالُ لِسَانُهُ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِي، قَالَ: فَأَيُّ خَلْقِكَ أَعْلَمُ؟ قَالَ: الَّذِي يَلْتَمِسُ إِلَى عِلْمِهِ عِلْمَ غَيْرِهِ، قَالَ: فَأَيُّ خَلْقِكَ أَعْدَلُ؟ قَالَ: الَّذِي يَقْضِي عَلَى نَفْسِهِ كَمَا يَقْضِي عَلَى النَّاسِ، قَالَ: فَأَيُّ خَلْقِكَ أَعْظَمُ جُرْمًا؟ قَالَ: الَّذِي يَتَّهِمُنِي وَهُوَ الَّذِي يَسْأَلُنِي ثُمَّ لَا يَرْضَى بِمَا قَضَيْتُهُ لَهُ» . إِلَهَنَا إِنَّا لَا نَتَّهِمُكَ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا أَحْسَنْتَ بِهِ فَهُوَ فَضْلٌ وَكُلَّ مَا تَفْعَلُهُ فَهُوَ عَدْلٌ فَلَا تُؤَاخِذْنَا بِسُوءِ أَعْمَالِنَا. وَسَابِعُهَا: قَالَ الْحَسَنُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ سَيَعْلَمُ الْجَمْعُ مَنْ أَوْلَى بِالْكَرَمِ، أَيْنَ الَّذِينَ كَانَتْ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ؟ فَيَقُومُونَ فَيَتَخَطَّوْنَ رِقَابَ النَّاسِ، ثُمَّ يُقَالُ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه؟ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ أَيْنَ الْحَامِدُونَ اللَّه عَلَى كُلِّ حَالٍ؟ ثُمَّ تَكُونُ التَّبِعَةُ وَالْحِسَابُ عَلَى مَنْ بَقِيَ إِلَهَنَا فَنَحْنُ حَمِدْنَاكَ وَأَثْنَيْنَا عَلَيْكَ بِمِقْدَارِ قُدْرَتِنَا وَمُنْتَهَى طَاقَتِنَا فَاعْفُ عَنَّا بِفَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ. وَمَنْ أَرَادَ الِاسْتِقْصَاءَ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فَعَلَيْهِ بِكِتَابِ لَوَامِعِ الْبَيِّنَاتِ فِي الْأَسْمَاءِ والصفات وباللَّه التوفيق. [سورة طه (20) : الآيات 9 الى 12] وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى نَارًا فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يَا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَظَّمَ حَالَ الْقُرْآنِ وَحَالَ الرَّسُولِ فِيمَا كَلَّفَهُ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يُقَوِّي قَلْبِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ تَقْوِيَةً لِقَلْبِهِ فِي الْإِبْلَاغِ كَقَوْلِهِ: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ [هُودٍ: 120] وَبَدَأَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ الْمِحْنَةَ وَالْفِتْنَةَ الْحَاصِلَةَ لَهُ كَانَتْ أَعْظَمَ لِيُسْلِيَ قَلْبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَيُصَبِّرَهُ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَكَارِهِ فَقَالَ: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى وهاهنا مسائل:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَهَلْ أَتاكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَوَّلَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَمْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: وَهَلْ أَتاكَ أَيْ لَمْ يَأْتِكَ إِلَى الْآنِ وَقَدْ أَتَاكَ الْآنَ فَتَنَبَّهْ لَهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَتَاهُ ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ أَتَاكَ، وَهَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَالضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَهَلْ أَتاكَ وَإِنْ كَانَ عَلَى لَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّه/ تَعَالَى لَكِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَقْرِيرُ الْجَوَابِ فِي قَلْبِهِ، وَهَذِهِ الصِّيغَةُ أَبْلَغُ فِي ذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْمَرْءُ لِصَاحِبِهِ هَلْ بَلَغَكَ خَبَرُ كَذَا؟ فَيَتَطَلَّعُ السَّامِعُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يَرْمِي إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الِاسْتِفْهَامَ لَكَانَ الْجَوَابُ يَصْدُرُ مِنْ قِبَلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ رَأى نَارًا أَيْ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُهُ حِينَ رَأَى نَارًا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: اسْتَأْذَنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ شُعَيْبًا فِي الرُّجُوعِ إِلَى وَالِدَتِهِ فَأَذِنَ لَهُ فَخَرَجَ فَوُلِدَ لَهُ ابْنٌ فِي الطَّرِيقِ فِي لَيْلَةٍ شَاتِيَةٍ مُثْلِجَةٍ وَكَانَتْ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ وَقَدْ حَادَ عَنِ الطَّرِيقِ فَقَدَحَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّارَ فَلَمْ تُورِ الْمِقْدَحَةُ شيئا، فبينا هو مُزَاوَلَةِ ذَلِكَ إِذْ نَظَرَ نَارًا مِنْ بَعِيدٍ عَنْ يَسَارِ الطَّرِيقِ. قَالَ السُّدِّيُّ: ظَنَّ أَنَّهَا نَارٌ مِنْ نِيرَانِ الرُّعَاةِ وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَآهَا فِي شَجَرَةٍ وَلَيْسَ فِي لَفْظِ الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمُ الَّذِي رَآهُ لَمْ يَكُنْ نَارًا بَلْ تَخَيَّلَهُ نَارًا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ رَأَى نَارًا لِيَكُونَ صَادِقًا فِي خَبَرِهِ إِذِ الْكَذِبُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، قِيلَ: النَّارُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: نَارٌ تَأْكُلُ وَلَا تَشْرَبُ وَهِيَ نَارُ الدُّنْيَا، وَنَارٌ تَشْرَبُ وَلَا تَأْكُلُ وَهِيَ نَارُ الشَّجَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا [يس: 80] وَنَارٌ تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ وَهِيَ نَارُ الْمَعِدَةِ، وَنَارٌ لَا تَأْكُلُ وَلَا تَشْرَبُ وَهِيَ نَارُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقِيلَ أَيْضًا النَّارُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: نَارٌ لَهَا نُورٌ بِلَا حُرْقَةٍ وَهِيَ نَارُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَثَانِيهَا: حُرْقَةٌ بِلَا نُورٍ وَهِيَ نَارُ جَهَنَّمَ. وَثَالِثُهَا: الْحُرْقَةُ وَالنُّورُ وَهِيَ نَارُ الدُّنْيَا. وَرَابِعُهَا: لَا حُرْقَةٌ وَلَا نُورٌ وَهِيَ نَارُ الْأَشْجَارِ، فَلَمَّا أَبْصَرَ النَّارَ تَوَجَّهَ نَحْوَهَا فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْمَرْأَةِ وَوَلَدِهَا وَالْخَادِمِ الَّذِي مَعَهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ وَحْدَهَا وَلَكِنْ خَرَجَ عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِ الْأَهْلِ فَإِنَّ الْأَهْلَ يَقَعُ عَلَى الْجَمْعِ، وَأَيْضًا فَقَدْ يخاطب الواحد بلفظ الجماعة أي تَفْخِيمًا أَيْ أَقِيمُوا فِي مَكَانِكُمْ: إِنِّي آنَسْتُ نَارًا أَيْ أَبْصَرْتُ، وَالْإِينَاسُ الْإِبْصَارُ الْبَيِّنُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَمِنْهُ إِنْسَانُ الْعَيْنِ فَإِنَّهُ يَبِينُ بِهِ الشَّيْءُ وَالْإِنْسُ لِظُهُورِهِمْ كَمَا قِيلَ الْجِنُّ لِاسْتِتَارِهِمْ وَقِيلَ هُوَ أَيْضًا مَا يُؤْنَسُ بِهِ وَلَمَّا وُجِدَ مِنْهُ الْإِينَاسُ وَكَانَ مُنْتَفِيًا حَقِيقَةً لَهُمْ أَتَى بِكَلِمَةِ إِنِّي لِتَوْطِينِ أَنْفُسِهِمْ وَلَمَّا كَانَ الْإِينَاسُ بِالْقَبَسِ وَوُجُودِ الْهُدَى مُتَرَقَّبَيْنِ مُتَوَقَّعَيْنِ بُنِيَ الْأَمْرُ فِيهِمَا عَلَى الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ فَقَالَ: لَعَلِّي آتِيكُمْ وَلَمْ يَقْطَعْ فَيَقُولُ إِنِّي آتِيكُمْ لِئَلَّا يَعِدَ مَا لَمْ يَتَيَقَّنِ الْوَفَاءَ بِهِ. وَالنُّكْتَةُ فِيهِ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: كَذَبَ إِبْرَاهِيمُ لِلْمَصْلَحَةِ وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ احْتَرَزَ عَنِ الْكَذِبِ فَلَمْ يَقُلْ آتِيكُمْ وَلَكِنْ قَالَ لَعَلِّي آتِيكُمْ وَلَمْ يقطع فيقول إني آتيكم لئلا يعد ما لَمْ يَتَيَقَّنِ الْوَفَاءَ بِهِ وَالْقَبَسُ النَّارُ الْمُقْتَبَسَةُ فِي رَأْسِ عُودٍ أَوْ فَتِيلَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً وَالْهُدَى مَا يُهْتَدَى بِهِ وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَجِدُ عَلَى النَّارِ مَا أَهْتَدِي بِهِ مِنْ دَلِيلٍ أَوْ عَلَامَةٍ، وَمَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ عَلَى النَّارِ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَسْتَعْلُونَ الْمَكَانَ الْقَرِيبَ مِنْهَا وَلِأَنَّ الْمُصْطَلِينَ بِهَا إِذَا أَحَاطُوا بِهَا كَانُوا مُشْرِفِينَ عَلَيْهَا فَلَمَّا أَتاها أَيْ أَتَى النَّارَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَأَى شَجَرَةً خَضْرَاءَ مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَى أَعْلَاهَا كَأَنَّهَا نَارٌ بَيْضَاءُ فَوَقَفَ مُتَعَجِّبًا مِنْ شِدَّةِ ضَوْءِ تِلْكَ النَّارِ وَشِدَّةِ خُضْرَةِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ فَلَا النَّارُ تُغَيِّرُ خُضْرَتَهَا وَلَا كَثْرَةُ مَاءِ الشَّجَرَةِ/ تُغَيِّرُ ضَوْءَ النَّارِ فَسَمِعَ تَسْبِيحَ الْمَلَائِكَةِ وَرَأَى نُورًا عَظِيمًا، قَالَ وَهْبٌ: فَظَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ

السَّلَامُ أَنَّهَا نَارٌ أُوقِدَتْ فَأَخَذَ مِنْ دِقَاقِ الْحَطَبِ لِيَقْتَبِسَ مِنْ لَهَبِهَا فَمَالَتْ إِلَيْهِ كَأَنَّهَا تُرِيدُهُ فَتَأَخَّرَ عَنْهَا وَهَابَهَا ثُمَّ لَمْ تَزَلْ تُطْمِعُهُ وَيَطْمَعُ فِيهَا ثُمَّ لَمْ يَكُنْ أَسْرَعَ مِنْ خُمُودِهَا فَكَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ ثُمَّ رَمَى مُوسَى بِنَظَرِهِ إِلَى فَرْعِهَا فَإِذَا خُضْرَتُهُ سَاطِعَةٌ فِي السَّمَاءِ. وَإِذَا نُورٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَهُ شُعَاعٌ تَكِلُّ عَنْهُ الْأَبْصَارُ فَلَمَّا رَأَى مُوسَى ذَلِكَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ فَنُودِيَ يَا مُوسَى قَالَ الْقَاضِي الَّذِي يُرْوَى مِنْ أَنَّ الزَّنْدَ مَا كَانَ يُورَى فَهَذَا جَائِزٌ وَأَمَّا الَّذِي يُرْوَى مِنْ أَنَّ النَّارَ كَانَتْ تَتَأَخَّرُ عَنْهُ فَإِنْ كَانَتِ النُّبُوَّةُ قَدْ تَقَدَّمَتْ لَهُ جَازَ ذَلِكَ وَإِلَّا فَهُوَ مُمْتَنِعٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُعْجِزَةً لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَفِي قَوْلِهِ: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى [طه: 13] دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ وَجَعَلَهُ نَبِيًّا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَبْعُدُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَأَخُّرِ النَّارِ عَنْهُ وَبَيَّنَ فَسَادَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى وَإِنْ كَانَتْ تَتَأَخَّرُ عَنْهُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ وَلَمَا بَقِيَ لِفَاءِ التَّعْقِيبِ فَائِدَةٌ قُلْنَا: الْقَاضِي إِنَّمَا بَنَى هَذَا الِاعْتِرَاضَ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أَنَّ الْإِرْهَاصَ غَيْرُ جَائِزٍ وَذَلِكَ عِنْدَنَا بَاطِلٌ فَبَطَلَ قَوْلُهُ وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فَقَرِيبٌ لِأَنَّ تَخَلُّلَ الزَّمَانِ الْقَلِيلِ فِيمَا بَيْنَ الْمَجِيءِ وَالنِّدَاءِ لَا يَقْدَحُ فِي فَاءِ التَّعْقِيبِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وابن كثير (أنى) بالفتح أي نودي أَنَا رَبُّكَ وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ أَيْ نُودِيَ فَقِيلَ: يَا مُوسَى أَوْ لِأَنَّ النِّدَاءَ ضَرْبٌ مِنَ الْقَوْلِ فَعُومِلَ مُعَامَلَتَهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْأَشْعَرِيُّ إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَسْمَعَهُ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ الَّذِي لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا وُجُودَ ذَلِكَ الْكَلَامِ فَقَالُوا: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ ذَلِكَ النِّدَاءَ فِي جِسْمٍ مِنَ الْأَجْسَامِ كَالشَّجَرَةِ أَوْ غَيْرِهَا لِأَنَّ النِّدَاءَ كَلَامُ اللَّه تَعَالَى واللَّه قَادِرٌ عَلَيْهِ وَمَتَى شَاءَ فَعَلَهُ، وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فَقَدْ أَثْبَتُوا الْكَلَامَ الْقَدِيمَ إِلَّا أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صَوْتٌ خَلَقَهُ اللَّه تَعَالَى فِي الشَّجَرَةِ وَاحْتَجُّوا بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَسْمُوعَ هُوَ الصَّوْتُ الْمُحْدَثُ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ النِّدَاءَ عَلَى أَنَّهُ أَتَى النَّارَ وَالْمُرَتَّبُ عَلَى الْمُحْدَثِ مُحْدَثٌ فَالنِّدَاءُ مُحْدَثٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَيْفَ عَرَفَ أَنَّ الْمُنَادِيَ هُوَ اللَّه تَعَالَى فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّه تَعَالَى لَهُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِذَلِكَ وَيَجُوزُ أَنْ يُعَرِّفَهُ بِالْمُعْجِزَةِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: أَمَّا الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِكَوْنِ هَذَا النِّدَاءِ كَلَامَ اللَّه تَعَالَى لَحَصَلَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِوُجُودِ الصَّانِعِ الْعَالِمِ الْقَادِرِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ مَعْلُومَةً بِالضَّرُورَةِ وَالذَّاتُ تَكُونُ مَعْلُومَةً بِالِاسْتِدْلَالِ وَلَوْ كَانَ وُجُودُ الصَّانِعِ تعالى معلوما له بِالضَّرُورَةِ لَخَرَجَ مُوسَى عَنْ كَوْنِهِ مُكَلَّفًا لِأَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ يُنَافِي التَّكْلِيفَ، وَبِالِاتِّفَاقِ لَمْ يَخْرُجْ مُوسَى عَنِ التَّكْلِيفِ فَعَلِمْنَا أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَرَّفَهُ ذَلِكَ بِالْمُعْجِزِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْمُعْجِزِ عَلَى وُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَرَّفَهُ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْمُعْجِزِ وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى أَنْ نَعْرِفَ ذَلِكَ الْمُعْجِزَ مَا هُوَ. وَثَانِيهَا: يُرْوَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا شَاهَدَ النُّورَ السَّاطِعَ مِنَ الشَّجَرَةِ إِلَى السَّمَاءِ وَسَمِعَ تَسْبِيحَ الْمَلَائِكَةِ/ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى عَيْنَيْهِ فَنُودِيَ يَا مُوسَى؟ فَقَالَ: لَبَّيْكَ إِنِّي أَسْمَعُ صَوْتَكَ وَلَا أَرَاكَ فَأَيْنَ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مَعَكَ وَأَمَامَكَ وَخَلْفَكَ وَمُحِيطٌ بِكَ وَأَقْرَبُ إِلَيْكَ مِنْكَ. ثم إِنَّ إِبْلِيسَ أَخْطَرَ بِبَالِهِ هَذَا الشَّكَّ وَقَالَ: مَا يُدْرِيكَ أَنَّكَ تَسْمَعُ كَلَامَ اللَّه؟ فَقَالَ: لِأَنِّي أَسْمَعُهُ مِنْ فَوْقِي وَمِنْ تَحْتِي وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي كَمَا أَسْمَعُهُ مِنْ قُدَّامِي، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ. وَمَعْنَى إِطْلَاقِهِ هَذِهِ الْجِهَاتِ أَنِّي أَسْمَعُهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِي وَأَبْعَاضِي حَتَّى كَأَنَّ كُلَّ جَارِحَةٍ مِنِّي صَارَتْ أُذُنًا. وَثَالِثُهَا: لَعَلَّهُ سَمِعَ النِّدَاءَ مِنْ جَمَادٍ كَالْحَصَى وَغَيْرِهَا فَيَكُونَ

ذَلِكَ مُعْجِزًا. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ رَأَى النَّارَ فِي الشَّجَرَةِ الْخَضْرَاءِ بِحَيْثُ إِنَّ تِلْكَ الْخُضْرَةَ مَا كَانَتْ تُطْفِئُ تِلْكَ النَّارَ وَتِلْكَ النَّارَ مَا كَانَتْ تَضُرُّ تِلْكَ الْخُضْرَةَ، وَهَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالُوا: إِنَّ تَكْرِيرَ الضَّمِيرِ فِي إِنِّي أَنَا رَبُّكَ كان لتوليد الدَّلَالَةِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ: وُجُوهًا. أَحَدُهَا: كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ فَلِذَلِكَ أُمِرَ بِخَلْعِهِمَا صِيَانَةً للوادي المقدس ولذلك قال عقيبه: إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْلُ مُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ. وَالثَّانِي: إِنَّمَا أُمِرَ بِخَلْعِهِمَا لِيَنَالَ قَدَمَيْهِ بَرَكَةُ الْوَادِي وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى تَعْظِيمِ الْبُقْعَةِ مِنْ أَنْ يَطَأَهَا إِلَّا حَافِيًا لِيَكُونَ مُعَظِّمًا لَهَا وَخَاضِعًا عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِ رَبِّهِ، وَالدَّلِيلُ عليه أنه تعالى قال عقيبه: إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَهَذَا يُفِيدُ التَّعْلِيلَ فَكَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: اخْلَعْ نَعْلَيْكَ لِأَنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى. وَأَمَّا أَهْلُ الْإِشَارَةِ فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهَا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّعْلَ فِي النَّوْمِ يُفَسَّرُ بِالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ فَقَوْلُهُ: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنْ لا يلفت خَاطِرُهُ إِلَى الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ وَأَنْ لَا يَبْقَى مَشْغُولَ الْقَلْبِ بِأَمْرِهِمَا. وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ بِخَلْعِ النَّعْلَيْنِ تَرْكُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَأَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَصِيرَ مُسْتَغْرِقَ الْقَلْبِ بِالْكُلِّيَّةِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَلَا يَلْتَفِتَ بِخَاطِرِهِ إِلَى مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى وَالْمُرَادُ مِنَ الْوَادِي الْمُقَدَّسِ قُدْسُ جَلَالِ اللَّه تَعَالَى وَطَهَارَةُ عِزَّتِهِ يَعْنِي أَنَّكَ لَمَّا وَصَلْتَ إِلَى بَحْرِ الْمَعْرِفَةِ فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى الْمَخْلُوقَاتِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ حَالَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الصَّانِعِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِمُقَدِّمَتَيْنِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْعَالَمُ الْمَحْسُوسُ مُحْدَثٌ أَوْ مُمْكِنٌ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهُ مُدَبِّرٌ وَمُؤَثِّرٌ وَصَانِعٌ وَهَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ تُشْبِهَانِ النَّعْلَيْنِ لِأَنَّ بِهِمَا يَتَوَصَّلُ الْعَقْلُ إِلَى الْمَقْصُودِ وَيَتَنَقَّلُ مِنَ النَّظَرِ فِي الْخَلْقِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ ثُمَّ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ وَجَبَ أَنْ لَا يَبْقَى مُلْتَفِتًا إِلَى تَيْنِكَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ لِأَنَّ بِقَدْرِ الِاشْتِغَالِ بِالْغَيْرِ يَبْقَى مَحْرُومًا عَنِ الِاسْتِغْرَاقِ فِيهِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ لَا تَكُنْ مُشْتَغِلَ الْقَلْبِ وَالْخَاطِرِ بِتَيْنِكَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ فَإِنَّكَ وَصَلْتَ إِلَى الْوَادِي الْمُقَدَّسِ الَّذِي هُوَ بَحْرُ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَلُجَّةُ أُلُوهِيَّتِهِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّه تَعَالَى لَيْسَ بِقَدِيمٍ إِذْ لَوْ كَانَ قَدِيمًا لَكَانَ اللَّه قَائِلًا قَبْلَ وُجُودِ مُوسَى اخْلَعْ نَعْلَيْكَ يَا مُوسَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ سَفَهٌ فَإِنَّ/ الرَّجُلَ فِي الدَّارِ الْخَالِيَةِ إِذَا قَالَ: يَا زَيْدُ افْعَلْ وَيَا عَمْرُو لَا تَفْعَلْ مَعَ أَنَّ زَيْدًا وَعَمْرًا لا يكونان حاضرين بعد ذَلِكَ جُنُونًا وَسَفَهًا فَكَيْفَ يَلِيقُ ذَلِكَ بِالْإِلَهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلَامَهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا إِلَّا أَنَّهُ فِي الْأَزَلِ لَمْ يَكُنْ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ أَمْرًا بِمَعْنَى أَنَّهُ وُجِدَ فِي الْأَزَلِ شَيْءٌ لَمَّا اسْتَمَرَّ إِلَى مَا لَا يَزَالُ صَارَ الشَّخْصُ بِهِ مَأْمُورًا مِنْ غَيْرِ وُقُوعِ التَّغَيُّرِ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ كَمَا أَنَّ الْقُدْرَةَ تَقْتَضِي صِحَّةَ الْفِعْلِ ثُمَّ إِنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْأَزَلِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الصِّحَّةِ فَلَمَّا اسْتَمَرَّتْ إِلَى مَا لا يزال حصلت الصحة كذا هاهنا وَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ غُمُوضٌ وَبَحْثٌ دَقِيقٌ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ فِي النَّعْلِ وَالصَّحِيحُ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنَّ عَلَّلْنَا الْأَمْرَ بِخَلْعِ النَّعْلَيْنِ بِتَعْظِيمِ الْوَادِي وَتَعْظِيمِ كَلَامِ اللَّه كَانَ الْأَمْرُ مَقْصُورًا عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ، وَإِنْ عَلَّلْنَاهُ بِأَنَّ النَّعْلَيْنِ كَانَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ مَحْظُورًا لُبْسُ جِلْدِ الْحِمَارِ الْمَيِّتِ وَإِنْ كَانَ مَدْبُوغًا فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَعْلَيْهِ

[سورة طه (20) : الآيات 13 إلى 14]

ثُمَّ خَلَعَهُمَا فِي الصَّلَاةِ فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: «مَا لَكُمْ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ» قَالُوا: خَلَعْتَ فَخَلَعْنَا قَالَ: «فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا» فَلَمْ يَكْرَهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ فِي النَّعْلِ وَأَنْكَرَ عَلَى الْخَالِعِينَ خَلْعَهُمَا وَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ إِنَّمَا خَلَعَهُمَا لما فيهما من القذر. المسألة الحادية عشر: قُرِئَ طُوًى بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ مُنْصَرِفًا وَغَيْرَ مُنْصَرِفٍ فَمَنْ نَوَّنَهُ فَهُوَ اسْمُ الْوَادِي وَمَنْ لَمْ يُنَوِّنْهُ تَرَكَ صَرْفَهُ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ عَنْ طَاوِيٍ فَهُوَ مِثْلُ عُمَرَ الْمَعْدُولِ عَنْ عَامِرٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْبُقْعَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: فِي طُوًى وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اسْمٌ لِلْوَادِي وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَابْنِ زَيْدٍ. وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ مَرَّتَيْنِ نَحْوَ مَثْنَى أَيْ قُدِّسَ الْوَادِي مَرَّتَيْنِ أَوْ نُودِيَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نِدَاءَيْنِ يُقَالُ نَادَيْتُهُ طُوًى أَيْ مَثْنَى. وَالثَّالِثُ: طُوًى أَيْ طَيًّا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا إِنَّهُ مَرَّ بِذَلِكَ الْوَادِي لَيْلًا فَطَوَاهُ فَكَانَ الْمَعْنَى بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ الَّذِي طَوَيْتَهُ طَيًّا أَيْ قَطَعْتَهُ حَتَّى ارْتَفَعْتَ إِلَى أَعْلَاهُ وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا قَالَ طُوًى مَصْدَرٌ خَرَجَ عَنْ لَفْظِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: طَوَيْتَهُ طُوًى كَمَا يُقَالُ هدى يهدي هدي واللَّه أعلم. [سورة طه (20) : الآيات 13 الى 14] وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) قَرَأَ حَمْزَةُ: (وَأَنَّا اخْتَرْنَاكَ) وَقَرَأَ أبي بن كعب: (وإني اخترتك) وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَاهُ اخْتَرْتُكَ لِلرِّسَالَةِ وَلِلْكَلَامِ الَّذِي خَصَصْتُكَ بِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النُّبُوَّةَ لَا تَحْصُلُ بِالِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَنْصِبَ الْعَلِيَّ إِنَّمَا حَصَلَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى اخْتَارَهُ له ابْتِدَاءً لَا أَنَّهُ اسْتَحَقَّهُ عَلَى اللَّه تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى فِيهِ نِهَايَةُ الْهَيْبَةِ وَالْجَلَالَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ جَاءَكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ هَائِلٌ فَتَأَهَّبْ لَهُ وَاجْعَلْ كُلَّ عَقْلِكَ وَخَاطِرِكَ مَصْرُوفًا إِلَيْهِ فَقَوْلُهُ: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ يُفِيدُ نِهَايَةَ اللُّطْفِ وَالرَّحْمَةِ وَقَوْلُهُ: فَاسْتَمِعْ يُفِيدُ نِهَايَةَ الْهَيْبَةِ فَيَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْأَوَّلِ نِهَايَةُ الرَّجَاءِ وَمِنَ الثَّانِي نِهَايَةُ الْخَوْفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلْمَ الْأُصُولِ مُقَدَّمٌ عَلَى عِلْمِ الْفُرُوعِ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ وَالْعِبَادَةَ مِنْ عِلْمِ الْفُرُوعِ وَأَيْضًا الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْبُدْنِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِبَادَتَهُ إِنَّمَا لَزِمَتْ لِإِلَهِيَّتِهِ وَهَذَا هُوَ تَحْقِيقُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ اللَّه هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ بِالتَّوْحِيدِ، أَوَّلًا ثُمَّ بِالْعِبَادَةِ ثَانِيًا أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ ثَالِثًا احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ جَائِزٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْعِبَادَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الْعِبَادَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ يَجُوزُ وُرُودُ الْمُجْمَلِ مُنْفَكًّا عَنِ الْبَيَانِ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ الصَّلَاةِ قَالَ: الْقَاضِي لَا يَمْتَنِعُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ عَرَفَ الصَّلَاةَ الَّتِي تَعَبَّدَ اللَّه تَعَالَى بِهَا شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَصَارَ الْخِطَابُ مُتَوَجِّهًا إِلَى ذَلِكَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لَهُ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ الْمَنْقُولُ فِي الْقُرْآنِ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ إِلَّا هَذَا الْقَدْرُ. وَالْجَوَابُ: أَمَّا الْعُذْرُ الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَجَّهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْبُدْنِي وَأَيْضًا فَحَمْلُ مِثْلِ هَذَا الْخِطَابِ الْعَظِيمِ عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى أَمْرٍ مَعْلُومٍ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَشُكُّ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَوْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ

مِنْ هَذَا الْخِطَابِ الْعَظِيمِ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى صَلَاةٍ أُخْرَى لَحَصَلَتِ الْفَائِدَةُ الزَّائِدَةُ، قَوْلُهُ: لَعَلَّ اللَّه تَعَالَى بَيَّنَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَإِنْ لَمْ يَحْكِهِ فِي الْقُرْآنِ قلنا لا نشك أَنَّ الْبَيَانَ أَكْثَرُ فَائِدَةً مِنَ الْمُجْمَلِ فَلَوْ كَانَ مَذْكُورًا لَكَانَ أَوْلَى بِالْحِكَايَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قَوْلِهِ: لِذِكْرِي وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: لِذِكْرِي يَعْنِي لِتَذْكُرَنِي فَإِنَّ ذِكْرِي أَنْ أُعْبَدَ وَيُصَلَّى لِي. وَثَانِيهَا: لِتَذْكُرَنِي فِيهَا لِاشْتِمَالِ الصَّلَاةِ عَلَى الْأَذْكَارِ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَثَالِثُهَا: لِأَنِّي ذَكَرْتُهَا فِي الْكُتُبِ وَأَمَرْتُ بِهَا. وَرَابِعُهَا: لِأَنْ أَذْكُرَكَ بِالْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَأَجْعَلَ لَكَ لِسَانَ صِدْقٍ. وَخَامِسُهَا: لِذِكْرِي خَاصَّةً لَا تَشُوبُهُ بِذِكْرِ غَيْرِي. وَسَادِسُهَا: لِإِخْلَاصِ ذِكْرِي وَطَلَبِ وَجْهِي لَا تُرَائِي بِهَا وَلَا تَقْصِدْ بِهَا غَرَضًا آخَرَ. وَسَابِعُهَا: لِتَكُونَ لِي ذَاكِرًا غَيْرَ نَاسٍ فِعْلَ الْمُخْلِصِينَ فِي جَعْلِهِمْ ذِكْرَ رَبِّهِمْ عَلَى بَالٍ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النُّورِ: 37] / وَثَامِنُهَا: لِأَوْقَاتِ ذِكْرِي وَهِيَ مَوَاقِيتُ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً [النساء: 103] . وتاسعها: أَقِمِ الصَّلاةَ حِينَ تَذْكُرُهَا أَيْ أَنَّكَ إِذَا نَسِيتَ صَلَاةً فَاقْضِهَا إِذَا ذَكَرْتَهَا. رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ» ثُمَّ قَرَأَ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي قَالَ الْخَطَّابِيُّ يَحْتَمِلُ هَذَا الْحَدِيثُ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُكَفِّرُهَا غَيْرُ قَضَائِهَا وَالْآخَرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي نِسْيَانِهَا غَرَامَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ كَمَا تَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ فِي تَرْكِ صَوْمِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَكَمَا يَلْزَمُ الْمُحْرِمَ إِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ نُسُكِهِ فِدْيَةٌ مِنْ إِطْعَامٍ أَوْ دَمٍ. وَإِنَّمَا يُصَلِّي مَا تَرَكَ فَقَطْ فَإِنْ قِيلَ حَقُّ الْعِبَارَةِ أَنْ يَقُولَ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِهَا كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» قُلْنَا قَوْلُهُ: لِذِكْرِي مَعْنَاهُ لِلذِّكْرِ الْحَاصِلِ بِخَلْقِي أَوْ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ لِذِكْرِ صَلَاتِي. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَوْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْضِيَهَا عَلَى تَرْتِيبِ الْأَدَاءِ فَلَوْ تَرَكَ التَّرْتِيبَ فِي قَضَائِهَا جَازَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه وَلَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ فَرِيضَةٍ وَتَذَكَّرَ فَائِتَةً نَظَرَ إِنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ اسْتُحِبَّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْفَائِتَةِ وَلَوْ بَدَأَ بِصَلَاةِ الْوَقْتِ جَازَ وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ بِحَيْثُ لَوْ بَدَأَ بِالْفَائِتَةِ فَاتَ الْوَقْتُ يَجِبُ أَنْ يَبْدَأَ بِصَلَاةِ الْوَقْتِ حَتَّى لَا تَفُوتَ وَلَوْ تذكر الفائتة بعد ما شَرَعَ فِي صَلَاةِ الْوَقْتِ أَتَمَّهَا ثُمَّ قَضَى الْفَائِتَةَ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعِيدَ صَلَاةَ الْوَقْتِ بَعْدَهَا وَلَا يَجِبُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ مَا لَمْ تَزِدْ عَلَى صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ حَتَّى قَالَ: لَوْ تَذَكَّرَ فِي خِلَالِ صَلَاةِ الْوَقْتِ فَائِتَةً تَرَكَهَا الْيَوْمَ يَبْطُلُ فَرْضُ الْوَقْتِ فَيَقْضِي الْفَائِتَةَ ثُمَّ يُعِيدُ صَلَاةَ الْوَقْتِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ ضَيِّقًا فَلَا تَبْطُلُ حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه الْآيَةُ وَالْخَبَرُ وَالْأَثَرُ وَالْقِيَاسُ، أَمَّا الآية فقوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي أَيْ لِتَذَكُّرِهَا وَاللَّامُ بِمَعْنَى عِنْدَ كَقَوْلِهِ: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاءِ: 78] أَيْ عِنْدَ دُلُوكِهَا فَمَعْنَى الْآيَةِ أَقِمِ الصَّلَاةَ الْمُتَذَكَّرَةَ عِنْدَ تَذَكُّرِهَا وَذَلِكَ يَقْتَضِي رِعَايَةَ التَّرْتِيبِ وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ وَأَيْضًا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّه قَالَ: «جَاءَ عُمَرُ بن الخطاب رضي اللَّه عنهما إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّه مَا صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْعَصْرِ حَتَّى كَادَتْ تَغِيبُ الشَّمْسُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا واللَّه مَا صَلَّيْتُهَا بَعْدُ قال فنزل إلى البطحاء وصلى العصر بعد ما غَابَتِ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ بَعْدَهَا وَهَذَا الْحَدِيثُ مَذْكُورٌ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» قَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» فَلَمَّا صَلَّى الْفَوَائِتَ عَلَى الْوَلَاءِ وَجَبَ عَلَيْنَا ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم إذ خَرَجَ مَخْرَجَ الْبَيَانِ لِلْمُجْمَلِ كَانَ حُجَّةً وَهَذَا الفعل خرج

[سورة طه (20) : الآيات 15 إلى 16]

بيانا لمجمل قوله تعالى: أَقِيمُوا الصَّلاةَ [النور: 56] وَلِهَذَا قُلْنَا إِنَّ الْفَوَائِتَ إِذَا كَانَتْ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ يَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِيهَا وَإِذَا دَخَلَتْ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ وَأَمَّا الْأَثَرُ فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فَلَمْ يَذْكُرْهَا إِلَّا فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ فَلْيَمْضِ فِي صِلَاتِهِ فَإِذَا قَضَى صَلَاتَهُ مَعَ الْإِمَامِ/ يُصَلِّي مَا فَاتَهُ ثُمَّ لْيُعِدِ الَّتِي صَلَّاهَا مَعَ الْإِمَامِ» وَقَدْ يُرْوَى هَذَا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَنَّهُمَا صَلَاتَانِ فَرِيضَتَانِ جَمَعَهُمَا وَقْتٌ وَاحِدٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَأَشْبَهَتَا صَلَاتَيْ عَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ إِسْقَاطُ التَّرْتِيبِ فِيهِمَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْفَوَائِتِ فِيمَا دُونَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ كَذَلِكَ حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: «أَنَّهُمْ لَمَّا نَامُوا عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ ثُمَّ انْتَبَهُوا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُودُوا رَوَاحِلَهُمْ ثُمَّ صَلَّاهَا» وَلَوْ كَانَ وَقْتُ التَّذَكُّرِ مُعَيَّنًا لِلصَّلَاةِ لَمَا جَازَ ذَلِكَ فَعَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ وَقْتٌ لِتَقَرُّرِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ لَكِنْ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّضْيِيقِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إِيجَابُ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ وَإِيجَابُ أَدَاءِ فَرْضِ الْوَقْتِ الْحَاضِرِ يَجْرِي مَجْرَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْوَاجِبَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ مُخَيَّرًا فِي تَقْدِيمِ أَيِّهِمَا شَاءَ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّرْتِيبُ فِي الْفَوَائِتِ شَرْطًا لَمَا سَقَطَ بِالنِّسْيَانِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا صَلَّى الظَّهْرَ وَالْعَصْرَ بِعَرَفَةَ فِي يَوْمِ غَيْمٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَالْعَصْرَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَإِنَّهُ يُعِيدُهُمَا جَمِيعًا وَلَمْ يَسْقُطِ التَّرْتِيبُ بِالنِّسْيَانِ لَمَّا كَانَ شَرْطًا فِيهِمَا فَهَهُنَا أَيْضًا لَوْ كَانَ شَرْطًا فيهما لما كان يسقط بالنسيان. [سورة طه (20) : الآيات 15 الى 16] إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16) [في قوله تعالى إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَاطَبَ مُوسَى عَلَيْهِ السلام بقوله: فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها وَمَا أَلْيَقَ هَذَا بِتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ لِذِكْرِي أَيْ لِأُذَكِّرَكَ بِالْأَمَانَةِ وَالْكَرَامَةِ فَقَالَ عَقِيبَ ذَلِكَ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لِأَنَّهَا وَقْتُ الْإِثَابَةِ وَوَقْتُ الْمُجَازَاةِ ثُمَّ قَالَ: أَكادُ أُخْفِيها وَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ كَادَ نَفْيُهُ إِثْبَاتٌ وَإِثْبَاتُهُ نَفْيٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [الْبَقَرَةِ: 71] أَيْ وَفَعَلُوا ذَلِكَ فَقَوْلُهُ: أَكادُ أُخْفِيها يَقْتَضِي أَنَّهُ مَا أَخْفَاهَا وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لُقْمَانَ: 34] . وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْإِخْفَاءِ لَا بِالْإِظْهَارِ. وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ كَادَ مَوْضُوعٌ لِلْمُقَارَبَةِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَقَوْلُهُ: أَكادُ أُخْفِيها مَعْنَاهُ قَرُبَ الْأَمْرُ فِيهِ مِنَ الْإِخْفَاءِ وَأَمَّا أَنَّهُ هَلْ حَصَلَ ذَلِكَ الْإِخْفَاءُ أَوْ مَا حَصَلَ فَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنَ اللَّفْظِ بَلْ مِنْ قَرِينَةِ قَوْلِهِ: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْإِخْفَاءِ لَا بِالْإِظْهَارِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ كَادَ مِنَ اللَّه وَاجِبٌ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَكادُ أُخْفِيها أَيْ أَنَا أُخْفِيهَا/ عَنِ الْخَلْقِ كَقَوْلِهِ: عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [الْإِسْرَاءِ: 51] أَيْ هُوَ قَرِيبٌ قَالَهُ الْحَسَنُ. وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: أَكادُ بِمَعْنَى أُرِيدُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ [يُوسُفَ: 76] وَمِنْ أَمْثَالِهِمُ الْمُتَدَاوَلَةِ لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ وَلَا أَكَادُ أَيْ وَلَا أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَهُ. وَرَابِعُهَا: مَعْنَاهُ: أَكادُ أُخْفِيها مِنْ نَفْسِي وَقِيلَ إِنَّهَا كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَكادُ أُخْفِيها مِنْ نَفْسِي فَكَيْفَ أُعْلِنُهَا لَكُمْ قَالَ الْقَاضِي هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الْإِخْفَاءَ إِنَّمَا يَصِحُّ فِيمَنْ يَصْلُحُ لَهُ الْإِظْهَارُ وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّه تَعَالَى لِأَنَّ كُلَّ مَعْلُومٍ مَعْلُومٌ لَهُ فَالْإِظْهَارُ وَالْإِسْرَارُ مِنْهُ مُسْتَحِيلٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ عَلَى التَّقْدِيرِ يَعْنِي لَوْ صَحَّ مِنِّي إِخْفَاؤُهُ عَلَى نَفْسِي لَأَخْفَيْتُهُ عَنِّي وَالْإِخْفَاءُ وَإِنْ كَانَ مُحَالًا فِي نَفْسِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ عَلَى

هَذَا التَّقْدِيرِ مُبَالَغَةً فِي عَدَمِ إِطْلَاعِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ، قَالَ قُطْرُبٌ: هَذَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي مُخَاطَبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا يَقُولُونَ: إِذَا بَالَغُوا فِي كِتْمَانِ الشَّيْءِ كَتَمْتُهُ حَتَّى مِنْ نَفْسِي فاللَّه تَعَالَى بَالَغَ فِي إِخْفَاءِ السَّاعَةِ فَذَكَرَهُ بِأَبْلَغِ مَا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ فِي مِثْلِهِ. وَخَامِسُهَا: أَكادُ صِلَةٌ فِي الْكَلَامِ وَالْمَعْنَى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أُخْفِيهَا، قَالَ زَيْدُ الْخَيْلِ: سَرِيعٌ إِلَى الْهَيْجَاءِ شَاكٍ سِلَاحَهُ ... فَمَا إِنْ يَكَادُ قِرْنُهُ يَتَنَفَّسُ وَالْمَعْنَى فَمَا يَتَنَفَّسُ قِرْنُهُ. وَسَادِسُهَا: قَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْمَوْصِلِيُّ أَكادُ أُخْفِيها تَأْوِيلُهُ أَكَادُ أُظْهِرُهَا وَتَلْخِيصُ هَذَا اللَّفْظِ أَكَادُ أُزِيلُ عَنْهَا إِخْفَاءَهَا لِأَنَّ أَفْعَلَ قَدْ يَأْتِي بِمَعْنَى السَّلْبِ وَالنَّفْيِ كَقَوْلِكَ أَعْجَمْتُ الْكِتَابَ وَأَشْكَلْتُهُ أَيْ أَزَلْتُ عُجْمَتَهُ وَإِشْكَالَهُ وَأَشْكَيْتُهُ أَيْ أَزَلْتُ شَكْوَاهُ. وَسَابِعُهَا: قُرِئَ أَخْفِيهَا بِفَتْحِ الْأَلِفِ أَيْ أَكَادُ أُظْهِرُهَا من خفاه إذا أظهره أي قرب إظهارها كَقَوْلِهِ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [الْقَمَرِ: 1] قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَإِنْ تَدْفِنُوا الدَّاءَ لَا نُخْفِهِ ... وَإِنْ تَمْنَعُوا الْحَرْبَ لَا نَقْعُدِ أَيْ لَا نُظْهِرْهُ قَالَ الزَّجَّاجُ وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَبْيَنُ لِأَنَّ مَعْنَى أَكَادُ أُظْهِرُهَا يُفِيدُ أَنَّهُ قَدْ أَخْفَاهَا. وَثَامِنُهَا: أَرَادَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ وَانْقَطَعَ الْكَلَامُ ثُمَّ قَالَ أُخْفِيهَا ثُمَّ رَجَعَ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ إِلَى أَنَّ الْأَوْلَى الْإِخْفَاءُ: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى وَهَذَا الْوَجْهُ بَعِيدٌ واللَّه أَعْلَمُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْحِكْمَةُ فِي إِخْفَاءِ السَّاعَةِ وَإِخْفَاءِ وَقْتِ الْمَوْتِ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى وَعَدَ قَبُولَ التَّوْبَةِ فَلَوْ عَرَفَ وَقْتَ الْمَوْتِ لَاشْتَغَلَ بِالْمَعْصِيَةِ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ يَتُوبُ فَيَتَخَلَّصُ مِنْ عِقَابِ الْمَعْصِيَةِ فَتَعْرِيفُ وَقْتِ الْمَوْتِ كَالْإِغْرَاءِ بِفِعْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. أَمَّا قَوْلُهُ: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ففيه مسائل: المسألة الأولى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ بِمَجِيءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ذَكَرَ الدَّلِيلَ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْلَا الْقِيَامَةُ لَمَا تَمَيَّزَ الْمُطِيعُ عَنِ الْعَاصِي وَالْمُحْسِنُ عَنِ الْمُسِيءِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ. أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْعَمَلِ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ فَقَوْلُهُ: بِما تَسْعى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي ذَلِكَ الْجَزَاءِ هُوَ ذَلِكَ السَّعْيُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجُّوا بِهَا عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ للَّه تَعَالَى وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي إِثْبَاتِ سَعْيِ الْعَبْدِ وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ مَخْلُوقًا للَّه تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ سَعْيٌ الْبَتَّةَ أَمَّا قَوْلُهُ: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها فالصد المنع وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذَيْنِ الضَّمِيرَيْنِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ لَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا أَيْ عَنِ الصَّلَاةِ الَّتِي أَمَرْتُكَ بِهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا أَيْ بِالسَّاعَةِ فَالضَّمِيرُ الْأَوَّلُ عَائِدٌ إِلَى الصَّلَاةِ وَالثَّانِي إِلَى السَّاعَةِ وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ فَالْعَرَبُ تَلُفُّ الْخَبَرَيْنِ ثُمَّ تَرْمِي بِجَوَابِهِمَا جُمْلَةً لِيَرُدَّ السَّامِعُ إِلَى كُلِّ خَبَرٍ حَقَّهُ. وَثَانِيهِمَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيْ عَنِ الْإِيمَانِ بِمَجِيئِهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا فَالضَّمِيرَانِ عَائِدَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَيْنِ وهاهنا الْأَقْرَبُ هُوَ السَّاعَةُ وَمَا قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ هاهنا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَلا يَصُدَّنَّكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنْ يَكُونَ مَعَ

مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ مَعَ مُوسَى لِأَنَّ الْكَلَامَ أَجْمَعَ خِطَابٌ لَهُ وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ الزَّجَّاجِ إِنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ غَيْرُهُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِ مَعَ النُّبُوَّةِ أَنْ يَصُدَّهُ أَحَدٌ عَنِ الْإِيمَانِ بِالسَّاعَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبًا بِذَلِكَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَّ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُكَلَّفًا بِأَنْ لَا يَقْبَلَ الْكُفْرَ بِالسَّاعَةِ مِنْ أَحَدٍ وَكَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ جَازَ أَنْ يُخَاطَبَ بِهِ وَيَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ وَغَيْرَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها النَّهْيَ لَهُ عَنِ الْمَيْلِ إِلَيْهِمْ وَمُقَارَبَتِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَقْصُودُ نَهْيُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ التَّكْذِيبِ بِالْبَعْثِ وَلَكِنْ ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي نَهْيَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ عَنْ صَدِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَدَّ الْكَافِرِ عَنِ التَّصْدِيقِ بِهَا سَبَبٌ لِلتَّكْذِيبِ فَذَكَرَ السَّبَبَ لِيَدُلَّ عَلَى الْمُسَبَّبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ صَدَّ الْكَافِرِ مُسَبَّبٌ عَنْ رَخَاوَةِ الرَّجُلِ فِي الدِّينِ فَذَكَرَ الْمُسَبَّبَ لِيَدُلَّ حَمْلُهُ عَلَى السَّبَبِ كَقَوْلِهِ: لَا أرينك هاهنا الْمُرَادُ نَهْيُهُ عَنْ مُشَاهَدَتِهِ وَالْكَوْنِ بِحَضْرَتِهِ، فَكَذَا هاهنا كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَكُنْ رَخْوًا بَلْ كُنْ فِي الدِّينِ شَدِيدًا صُلْبًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ عِلْمِ الْأُصُولِ وَاجِبٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَلا يَصُدَّنَّكَ يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى صَلَابَتِهِ فِي الدِّينِ وَتِلْكَ الصَّلَابَةُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا التَّقْلِيدَ لَمْ يَتَمَيَّزِ الْمُبْطِلُ فِيهِ مِنَ الْمُحِقِّ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الصَّلَابَةِ كَوْنَهُ قَوِيًّا فِي تَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ وَإِزَالَةِ الشُّبُهَاتِ حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ الْخَصْمُ مِنْ إِزَالَتِهِ عَنِ الدِّينِ بَلْ هُوَ يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ إِزَالَةِ الْمُبْطِلِ عَنْ بُطْلَانِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْقَاضِي قَوْلُهُ: فَلا يَصُدَّنَّكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ هُمُ الَّذِينَ يَصُدُّونَ وَلَوْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقَ لِأَفْعَالِهِمْ لَكَانَ هُوَ الصَّادَّ دُونَهُمْ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِالْجَبْرِ، وَالْجَوَابُ: الْمُعَارَضَةُ بِمَسْأَلَةِ الْعِلْمِ وَالدَّاعِي واللَّه أَعْلَمُ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّبَعَ هَواهُ فَالْمَعْنَى أَنَّ مُنْكِرَ/ الْبَعْثِ إِنَّمَا أَنْكَرَهُ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى لَا لِدَلِيلٍ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ التَّقْلِيدِ لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ مُتَّبِعٌ لِلْهَوَى لَا الْحُجَّةِ أَمَّا قَوْلُهُ: فَتَرْدى فَهُوَ بِمَعْنَى وَلَا يَصُدَّنَّكَ فَتَرْدَى وَإِنْ صَدُّوكَ وَقَبِلْتَ فَلَيْسَ إِلَّا الْهَلَاكُ بِالنَّارِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُتَوَغِّلِينَ فِي أَسْرَارِ الْمَعْرِفَةِ قَالُوا: الْمَقَامُ مَقَامَانِ. أَحَدُهُمَا: مَقَامُ الْمَحْوِ وَالْفَنَاءِ عَمَّا سِوَى اللَّه تَعَالَى. وَالثَّانِي: مَقَامُ الْبَقَاءِ باللَّه وَالْأَوَّلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ شَيْئًا فِي لَوْحٍ مَشْغُولٍ بِكِتَابَةٍ أُخْرَى فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَيْهِ إِلَّا بِإِزَالَةِ الْكِتَابَةِ الْأُولَى ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُمْكِنُ إِثْبَاتُ الْكِتَابَةِ الثَّانِيَةِ وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ رَاعَى هَذَا التَّرْتِيبَ الْحَسَنَ فِي هَذَا الْبَابِ لِأَنَّهُ قَالَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلًا: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَطْهِيرِ السِّرِّ عَمَّا سِوَى اللَّه تَعَالَى ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُ بِتَحْصِيلِ مَا يَجِبُ تَحْصِيلُهُ وَأُصُولُ هَذَا الْبَابِ تَرْجِعُ إِلَى ثَلَاثَةٍ: عِلْمِ الْمَبْدَأِ وَعِلْمِ الْوَسَطِ وَعِلْمِ الْمَعَادِ، فَعِلْمُ الْمَبْدَأِ هُوَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا [طه: 14] وَأَمَّا عِلْمُ الْوَسَطِ فَهُوَ عِلْمُ الْعُبُودِيَّةِ وَمَعْنَاهَا الْأَمْرُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَشْتَغِلَ الْإِنْسَانُ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] ثُمَّ فِي هَذَا أَيْضًا تَعَثُّرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَاعْبُدْنِي إِشَارَةٌ إِلَى الْأَعْمَالِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَقَوْلَهُ: لِذِكْرِي إِشَارَةٌ إِلَى الْأَعْمَالِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةُ أَوَّلُهَا الْأَعْمَالُ الْجُسْمَانِيَّةُ وَآخِرُهَا الْأَعْمَالُ الرُّوحَانِيَّةُ وَأَمَّا عِلْمُ الْمَعَادِ فَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى افْتَتَحَ هَذِهِ التَّكَالِيفَ بِمَحْضِ اللطف وهو قوله: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه: 12] وَاخْتَتَمَهَا بِمَحْضِ الْقَهْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ وَإِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا بُدَّ لَهُ فِي الْعُبُودِيَّةِ مِنَ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ

[سورة طه (20) : الآيات 17 إلى 21]

وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَعِنْدَ الْوُقُوفِ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَعْرِفُ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ هُوَ النِّهَايَةُ فِي الْحُسْنِ وَالْجَوْدَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا من العالم بكل المعلومات. [سورة طه (20) : الآيات 17 الى 21] وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يَا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ لَفْظَتَانِ، فَقَوْلُهُ: وَما تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَصَا، وَقَوْلُهُ: بِيَمِينِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْيَدِ، وَفِي هَذَا نُكَتٌ، إِحْدَاهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَشَارَ إِلَيْهِمَا جَعَلَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُعْجِزًا قَاهِرًا وَبُرْهَانًا بَاهِرًا، وَنَقَلَهُ مِنْ حَدِّ الْجَمَادِيَّةِ إِلَى مَقَامِ الْكَرَامَةِ، فَإِذَا صَارَ/ الْجَمَادُ بِالنَّظَرِ الْوَاحِدِ حَيَوَانًا، وَصَارَ الْجِسْمُ الْكَثِيفُ نُورَانِيًّا لَطِيفًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَنْظُرُ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً إِلَى قَلْبِ الْعَبْدِ، فَأَيُّ عَجَبٍ لَوِ انْقَلَبَ قَلْبُهُ مِنْ مَوْتِ الْعِصْيَانِ إِلَى سَعَادَةِ الطَّاعَةِ وَنُورِ الْمَعْرِفَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ بِالنَّظَرِ الْوَاحِدِ صَارَ الْجَمَادُ ثُعْبَانًا يَبْتَلِعُ سِحْرَ السَّحَرَةِ، فَأَيُّ عَجَبٍ لَوْ صَارَ الْقَلْبُ بِمَدَدِ النَّظَرِ الْإِلَهِيِّ بِحَيْثُ يَبْتَلِعُ سِحْرَ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ. وَثَالِثُهَا: كَانَتِ الْعَصَا فِي يَمِينِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَبِسَبَبِ بَرَكَةِ يَمِينِهِ انْقَلَبَتْ ثُعْبَانًا وَبُرْهَانًا، وَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ فَإِذَا حَصَلَتْ لِيَمِينِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الْكَرَامَةُ وَالْبَرَكَةُ، فَأَيُّ عَجَبٍ لَوِ انْقَلَبَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بِسَبَبِ إِصْبَعِي الرَّحْمَنِ مِنْ ظُلْمَةِ المعصية إلى نور العبودية، ثم هاهنا سؤالات: الأول: قوله: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى سُؤَالٌ، وَالسُّؤَالُ إِنَّمَا يَكُونُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَهُوَ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ. وَالْجَوَابُ فِيهِ فَوَائِدُ: إِحْدَاهَا: أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ مِنَ الشَّيْءِ الْحَقِيرِ شَيْئًا شَرِيفًا فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ وَيَعْرِضُهُ عَلَى الْحَاضِرِينَ وَيَقُولُ لَهُمْ: هَذَا مَا هُوَ؟ فَيَقُولُونَ هَذَا هُوَ الشَّيْءُ الْفُلَانِيُّ ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ إِظْهَارِ صِفَتِهِ الْفَائِقَةِ فِيهِ يَقُولُ لَهُمْ خُذَا مِنْهُ كَذَا وَكَذَا. فاللَّه تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ مِنَ الْعَصَا تِلْكَ الْآيَاتِ الشَّرِيفَةَ كَانْقِلَابِهَا حَيَّةً، وَكَضَرْبِهِ الْبَحْرَ حَتَّى انْفَلَقَ، وَفِي الْحَجَرِ حَتَّى انْفَجَرَ مِنْهُ الْمَاءُ، عَرَضَهُ أَوَّلًا عَلَى مُوسَى فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: يَا مُوسَى هَلْ تَعْرِفُ حَقِيقَةَ هَذَا الَّذِي بِيَدِكَ وَأَنَّهُ خَشَبَةٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، ثُمَّ إِنَّهُ قَلَبَهُ ثُعْبَانًا عَظِيمًا، فَيَكُونُ بِهَذَا الطَّرِيقِ قَدْ نَبَّهَ الْعُقُولَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَنِهَايَةِ عَظَمَتِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَظْهَرَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةَ مِنْ أَهْوَنِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَهُ فَهَذَا هُوَ الْفَائِدَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَطْلَعَهُ عَلَى تِلْكَ الْأَنْوَارِ الْمُتَصَاعِدَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ إِلَى السَّمَاءِ وَأَسْمَعَهُ تَسْبِيحَ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ أَسْمَعَهُ كَلَامَ نَفْسِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَزَجَ اللُّطْفَ بِالْقَهْرِ فَلَاطَفَهُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ثُمَّ قَهَرَهُ بِإِيرَادِ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ عَلَيْهِ وَإِلْزَامِهِ عِلْمَ الْمَبْدَأِ وَالْوَسَطِ وَالْمَعَادِ ثُمَّ خَتَمَ كُلَّ ذَلِكَ بِالتَّهْدِيدِ الْعَظِيمِ، تَحَيَّرَ مُوسَى وَدَهِشَ وَكَادَ لَا يَعْرِفُ الْيَمِينَ مِنَ الشِّمَالِ فقيل له: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى لِيَعْرِفَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ يَمِينَهُ هِيَ الَّتِي فِيهَا الْعَصَا، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا تَكَلَّمَ مَعَهُ أَوَّلًا بِكَلَامِ الْإِلَهِيَّةِ وَتَحَيَّرَ مُوسَى مِنَ الدَّهْشَةِ تَكَلَّمَ مَعَهُ بِكَلَامِ الْبَشَرِ إِزَالَةً لِتِلْكَ الدَّهْشَةِ وَالْحَيْرَةِ، وَالنُّكْتَةُ فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا غَلَبَتِ الدَّهْشَةُ عَلَى مُوسَى فِي الْحَضْرَةِ أَرَادَ رَبُّ الْعِزَّةِ إِزَالَتَهَا فَسَأَلَهُ عَنِ الْعَصَا وَهُوَ لَا يَقَعُ الْغَلَطُ فِيهِ. كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ إِذَا مَاتَ وَوَصَلَ إِلَى حَضْرَةِ ذِي الْجَلَالِ فَالدَّهْشَةُ

تَغْلِبُهُ وَالْحَيَاءُ يَمْنَعُهُ عَنِ الْكَلَامِ فَيَسْأَلُونَهُ عَنِ الْأَمْرِ الَّذِي لَمْ يَغْلَطْ فِيهِ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ التَّوْحِيدُ، فَإِذَا ذَكَرَهُ زَالَتِ الدَّهْشَةُ وَالْوَحْشَةُ عَنْهُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَرَّفَ مُوسَى كَمَالَ الْإِلَهِيَّةِ أَرَادَ أَنْ يُعَرِّفَهُ نُقْصَانَ الْبَشَرِيَّةِ، فَسَأَلَهُ عَنْ مَنَافِعِ الْعَصَا فَذَكَرَ بَعْضَهَا فَعَرَّفَهُ اللَّه تَعَالَى أَنَّ فِيهَا مَنَافِعَ أَعْظَمَ مِمَّا ذَكَرَ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعُقُولَ قَاصِرَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ صِفَاتِ النَّبِيِّ الْحَاضِرِ فَلَوْلَا التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ كَيْفَ يُمْكِنُهُمُ الْوُصُولُ إِلَى مَعْرِفَةِ أَجَلِّ الْأَشْيَاءِ وَأَعْظَمِهَا. وَرَابِعُهَا: فَائِدَةُ هَذَا السُّؤَالِ أَنْ يُقَرِّرَ عِنْدَهُ أَنَّهُ خَشَبَةٌ حَتَّى إِذَا قَلَبَهَا ثُعْبَانًا لَا يَخَافُهَا. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ/ يا مُوسى خِطَابٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُوسَى أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ. الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا خَاطَبَ مُوسَى فَقَدْ خَاطَبَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى [النَّجْمِ: 10] إِلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْشَاهُ اللَّه إِلَى الْخَلْقِ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ سِرًّا لَمْ يَسْتَأْهِلْ لَهُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ. وَالثَّانِي: إِنْ كَانَ مُوسَى تَكَلَّمَ مَعَهُ وَهُوَ [تَكَلَّمَ] مَعَ مُوسَى فَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَاطِبُونَ اللَّه فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّاتٍ عَلَى مَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ» وَالرَّبُّ يَتَكَلَّمُ مَعَ آحَادِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالتَّسْلِيمِ وَالتَّكْرِيمِ وَالتَّكْلِيمِ فِي قَوْلِهِ: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] . السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا إِعْرَابُ قَوْلِهِ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى الْجَوَابُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : (تِلْكَ بِيَمِينِكَ) كَقَوْلِهِ: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [هُودٍ: 72] فِي انْتِصَابِ الْحَالِ بِمَعْنَى الْإِشَارَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تِلْكَ اسْمًا مَوْصُولًا وَصِلَتُهُ بِيَمِينِكَ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ وَمَا الَّتِي بِيَمِينِكَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ مَا هَذِهِ الَّتِي فِي يَمِينِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ أَجَابَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ، ثَلَاثَةٌ عَلَى التَّفْصِيلِ وَوَاحِدٌ عَلَى الْإِجْمَالِ. الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: هِيَ عَصايَ قَرَأَ ابْنُ أَبِي إسحاق: (هي عصي) ومثلها: (يا بشرى) وقرأ الحسن (هي عصاي) بسكون الياء والنكث هاهنا ثَلَاثَةٌ. إِحْدَاهَا: أَنَّهُ قَالَ: هِيَ عَصايَ فَذَكَرَ الْعَصَا وَمَنْ كَانَ قَلْبُهُ مَشْغُولًا بِالْعَصَا وَمَنَافِعِهَا كَيْفَ يَكُونُ مُسْتَغْرِقًا فِي بَحْرِ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَلَكِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرِضَ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى شَيْءٍ: مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النَّجْمِ: 17] وَلَمَّا قِيلَ لَهُ امْدَحْنَا، قَالَ: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ» ثُمَّ نَسِيَ نَفْسَهُ وَنَسِيَ ثَنَاءَهُ فَقَالَ: «أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» . وَثَانِيهَا: لَمَّا قَالَ: عَصايَ قَالَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أَلْقِها، فَلَمَّا أَلْقَاهَا فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى لِيَعْرِفَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّه فَالِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ شَاغِلٌ وَهُوَ كَالْحَيَّةِ الْمُهْلِكَةِ لَكَ. وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: 77] وَفِي الْحَدِيثِ: «يُجَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَاحِبِ الْمَالِ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ وَيُؤْتَى بِذَلِكَ الْمَالِ عَلَى صُورَةِ شُجَاعٍ أَقْرَعَ» الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ هِيَ عَصَايَ فَقَدْ تَمَّ الْجَوَابُ، إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ الْوُجُوهَ الْأُخَرَ لِأَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْمُكَالَمَةَ مَعَ رَبِّهِ فَجَعَلَ ذَلِكَ كَالْوَسِيلَةِ إِلَى تَحْصِيلِ هذا الغرض. الثاني: قوله: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَالتَّوَكِّي، وَالِاتِّكَاءُ، وَاحِدٌ كَالتَّوَقِّي، وَالَاتِّقَاءِ مَعْنَاهُ أَعْتَمِدُ عَلَيْهَا إِذَا عَيِيتُ أَوْ وَقَفْتُ عَلَى رَأْسِ الْقَطِيعِ أَوْ عِنْدَ الطَّفْرَةِ فَجَعَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَفْسَهُ مُتَوَكِّئًا عَلَى الْعَصَا وَقَالَ اللَّه تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتكئ على رحمتي» بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَالِ: 64] وَقَالَ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [الْمَائِدَةِ: 67] فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَوْلُهُ: وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَقْتَضِي كَوْنَ مُحَمَّدٍ يَتَوَكَّأُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؟ قُلْنَا قوله: وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْكَافِ فِي قَوْلِهِ: حَسْبَكَ اللَّهُ وَالْمَعْنَى اللَّه حَسْبُكَ، وَحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي أَيْ أَخْبِطُ بِهَا فَأَضْرِبُ أَغْصَانَ الشَّجَرِ لِيَسْقُطَ وَرَقُهَا عَلَى غَنَمِي فَتَأْكُلُهُ. وَقَالَ أَهْلُ/ اللُّغَةِ: هش

عَلَى غَنَمِهِ، يَهُشُّ بِضَمِّ الْهَاءِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهَشَشْتُ الرَّجُلَ أَهَشُّ بِفَتْحِ الْهَاءِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهَشَّ الرَّغِيفَ يَهِشُّ بِكَسْرِ الْهَاءِ. قَالَهُ ثَعْلَبٌ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: (وَأَهِسُّ) بِالسِّينِ غَيْرِ الْمَنْقُوطَةِ، وَالْهَشُّ زَجْرُ الْغَنَمِ، وَاعْلَمْ أَنَّ غَنَمَهُ رَعِيَّتُهُ فَبَدَأَ بمصالح نفسه في قوله: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها ثُمَّ بِمَصَالِحِ رَعِيَّتِهِ فِي قَوْلِهِ: وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي فَكَذَلِكَ فِي الْقِيَامَةِ يَبْدَأُ بِنَفْسِهِ فَيَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْتَغِلْ فِي الدُّنْيَا إِلَّا بِإِصْلَاحِ أَمْرِ الْأُمَّةِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَالِ: 33] . «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» فَلَا جَرَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَبْدَأُ أَيْضًا بِأُمَّتِهِ فَيَقُولُ: «أُمَّتِي أُمَّتِي» . وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى أَيْ حَوَائِجُ وَمَنَافِعُ وَاحِدَتُهَا مَأْرَبَةٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا، وَحَكَى ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَقُطْرُبٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْضًا، وَالْأَرَبُ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَالْإِرْبَةُ بِكَسْرِ الْأَلِفِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْحَاجَةُ، وَإِنَّمَا قَالَ أُخْرَى لِأَنَّ الْمَآرِبَ فِي مَعْنَى جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَاجَاتِ أُخْرَى وَلَوْ جَاءَتْ أُخَرُ لَكَانَ صَوَابًا كَمَا قَالَ: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 184] ثم هاهنا نُكَتٌ. إِحْدَاهَا: أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ اللَّه تَعَالَى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ عَرَفَ أَنَّ للَّه فِيهِ أَسْرَارًا عَظِيمَةً فَذَكَرَ مَا عَرَفَ وَعَبَّرَ عَنِ الْبَوَاقِي الَّتِي مَا عَرَفَهَا إِجْمَالًا لَا تَفْصِيلًا بِقَوْلِهِ: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى. وَثَانِيهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحَسَّ بِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ أَمْرِ الْعَصَا لِمَنَافِعَ عَظِيمَةٍ. فَقَالَ مُوسَى: إِلَهِي مَا هَذِهِ الْعَصَا إِلَّا كَغَيْرِهَا، لَكِنَّكَ لَمَّا سَأَلْتَ عَنْهَا عَرَفْتُ أَنَّ لِيَ فِيهَا مَآرِبَ أُخْرَى وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّكَ كَلَّمْتَنِي بِسَبَبِهَا فَوَجَدْتُ هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ الشَّرِيفَ بِسَبَبِهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَجْمَلَ رجاء أن يسأل رَبُّهُ عَنْ تِلْكَ الْمَآرِبِ فَيَسْمَعَ كَلَامَ اللَّه مَرَّةً أُخْرَى وَيَطُولَ أَمْرُ الْمُكَالَمَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ بِسَبَبِ اللُّطْفِ انْطَلَقَ لِسَانُهُ ثُمَّ غَلَبَتْهُ الدَّهْشَةُ فَانْقَطَعَ لِسَانُهُ وَتَشَوَّشَ فِكْرُهُ فَأَجْمَلَ مَرَّةً أُخْرَى، ثُمَّ قَالَ وَهَبٌ: كَانَتْ ذَاتَ شُعْبَتَيْنِ كَالْمِحْجَنِ، فَإِذَا طَالَ الْغُصْنُ حَنَاهُ بِالْمِحْجَنِ، وَإِذَا حَاوَلَ كَسْرَهُ لَوَاهُ بِالشُّعْبَتَيْنِ، [وَ] إِذَا سَارَ وَضَعَهَا عَلَى عَاتِقِهِ يُعَلِّقُ فِيهَا أَدَوَاتِهِ مِنَ الْقَوْسِ وَالْكِنَانَةِ وَالثِّيَابِ، وَإِذَا كَانَ فِي الْبَرِّيَّةِ رَكَزَهَا وَأَلْقَى كِسَاءً عَلَيْهَا فَكَانَتْ ظِلًّا. وَقِيلَ: كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَقِي بِهَا فَتَطُولُ بِطُولِ الْبِئْرِ وَتَصِيرُ شُعْبَتَاهَا دَلْوًا وَيَصِيرَانِ شَمْعَتَيْنِ فِي اللَّيَالِي، وَإِذَا ظَهَرَ عَدُوٌّ حَارَبَتْ عَنْهُ. وَإِذَا اشْتَهَى ثَمَرَةً رَكَزَهَا فَأَوْرَقَتْ وَأَثْمَرَتْ. وَكَانَ يَحْمِلُ عَلَيْهَا زَادَهُ وَمَاءَهُ وَكَانَتْ تُمَاشِيهِ وَيَرْكِزُهَا فَيَنْبُعُ الْمَاءُ فَإِذَا رَفَعَهَا نصب وَكَانَتْ تَقِيهِ الْهَوَامَّ. وَاعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْجَوَابَاتِ أَمَرَهُ اللَّه تعالى بإلقاء العصا فقال: أَلْقِها يا مُوسى وَفِيهِ نُكَتٌ، إِحْدَاهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى أَرَادَ اللَّه أَنْ يُعَرِّفَهُ أَنَّ فِيهَا مَأْرَبَةً أُخْرَى لَا يَفْطَنُ لَهَا وَلَا يَعْرِفُهَا وَأَنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ سائر مآربه فقال: أَلْقِها يَا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى. وَثَانِيَتُهَا: كَانَ فِي رِجْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ النَّعْلُ وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ وَهُوَ الْعَصَا، وَالرِّجْلُ آلَةُ الْهَرَبِ وَالْيَدُ آلَةُ الطَّلَبِ فَقَالَ أَوَّلًا: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه: 12] إِشَارَةً إِلَى تَرْكِ الْهَرَبِ، ثُمَّ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ الطَّلَبِ. كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: إِنَّكَ مَا دُمْتَ فِي مَقَامِ الْهَرَبِ وَالطَّلَبِ كُنْتَ مُشْتَغِلًا بِنَفْسِكَ/ وَطَالِبًا لِحَظِّكَ فَلَا تَكُونُ خَالِصًا لِمَعْرِفَتِي فَكُنْ تَارِكًا لِلْهَرَبِ وَالطَّلَبِ لِتَكُونَ خَالِصًا لِي. وَثَالِثَتُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ عُلُوِّ دَرَجَتِهِ، وَكَمَالِ مَنْقَبَتِهِ لَمَّا وَصَلَ إِلَى الْحَضْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا النَّعْلَانِ وَالْعَصَا أَمَرَهُ بِإِلْقَائِهِمَا حَتَّى أَمْكَنَهُ الْوُصُولُ إِلَى الْحَضْرَةِ فَأَنْتَ مَعَ أَلْفِ وَقْرٍ مِنَ الْمَعَاصِي كَيْفَ يُمْكِنُكَ الْوُصُولُ إِلَى جنابه. وَرَابِعُهَا: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُجَرَّدًا عَنِ الْكُلِّ مَا زَاغَ الْبَصَرُ فَلَا جَرَمَ وَجَدَ الْكُلَّ، لَعَمْرُكَ أَمَّا مُوسَى لَمَّا بَقِيَ مَعَهُ تِلْكَ الْعَصَا لَا جَرَمَ أَمَرَهُ بِإِلْقَاءِ الْعَصَا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَعْبِيَّ تَمَسَّكَ بِهِ فِي أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَبْلَ الْفِعْلِ فَقَالَ: الْقُدْرَةُ عَلَى إِلْقَاءِ الْعَصَا، إِمَّا أَنْ تُوجَدَ وَالْعَصَا فِي يَدِهِ أَوْ خَارِجَةٌ مِنْ يَدِهِ فَإِنْ أَتَتْهُ الْقُدْرَةُ وَهِيَ فِي يَدِهِ فَذَاكَ قَوْلُنَا: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [آلِ عمران: 182] وإذا

أَتَتْهُ وَلَيْسَتْ فِي يَدِهِ وَإِنَّمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يُلْقِيَ مِنْ يَدِهِ مَا لَيْسَ فِي يَدِهِ فَذَلِكَ مُحَالٌ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى فَفِيهِ أَسْئِلَةٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي قَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؟ الْجَوَابُ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَلَبَهَا حَيَّةً لِتَكُونَ مُعْجِزَةً لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْرِفُ بِهَا نُبُوَّةَ نَفْسِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ مَا سَمِعَ إِلَّا النِّدَاءَ، وَالنِّدَاءُ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْعَادَاتِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُعْجِزًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ عَادَاتِ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْجِنِّ فَلَا جَرَمَ قَلَبَ اللَّه الْعَصَا حَيَّةً لِيَصِيرَ ذَلِكَ دَلِيلًا قَاهِرًا وَالْعَجَبُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا فَصَدَقَهُ اللَّه تَعَالَى فِيهِ وَجَعَلَهَا مُتَّكَأً لَهُ بِأَنْ جَعَلَهَا مُعْجِزَةً لَهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ النِّدَاءَ كَانَ إِكْرَامًا لَهُ فَقَلَبَ الْعَصَا حَيَّةً مَزِيدًا فِي الْكَرَامَةِ لِيَكُونَ تَوَالِي الْخَلْعِ وَالْكَرَامَاتِ سَبَبًا لِزَوَالِ الْوَحْشَةِ عَنْ قَلْبِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَرَضَ عَلَيْهِ لِيُشَاهِدَهُ أَوَّلًا فَإِذَا شَاهَدَهُ عِنْدَ فِرْعَوْنَ لَا يَخَافُهُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ كَانَ رَاعِيًا فَقِيرًا ثُمَّ إِنَّهُ نُصِّبَ لِلْمَنْصِبِ الْعَظِيمِ فَلَعَلَّهُ بَقِيَ فِي قَلْبِهِ تَعَجُّبٌ مِنْ ذَلِكَ فَقَلَبَ الْعَصَا حَيَّةً تَنْبِيهًا عَلَى أَنِّي لَمَّا قَدَرْتُ عَلَى ذَلِكَ فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ مِنِّي نُصْرَةُ مِثْلِكَ فِي إِظْهَارِ الدِّينِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ لما قال: هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها إِلَى قَوْلِهِ: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى فَقِيلَ لَهُ: أَلْقِها فَلَمَّا أَلْقَاهَا وَصَارَتْ حَيَّةً فَرَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهَا فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: ادَّعَيْتَ أَنَّهَا عَصَاكَ وَأَنَّ لَكَ فِيهَا مَآرِبَ أُخْرَى فَلِمَ تَفِرُّ مِنْهَا، تَنْبِيهًا عَلَى سِرِّ قَوْلِهِ: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذَّارِيَاتِ: 50] وَقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [الْأَنْعَامِ: 91] . السُّؤَالُ الثَّانِي: قَالَ هاهنا حَيَّةٌ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ ثُعْبَانٌ وَجَانٌّ، أَمَّا الْحَيَّةُ فَاسْمُ جِنْسٍ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَأَمَّا الثُّعْبَانُ وَالْجَانُّ فَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ لِأَنَّ الثُّعْبَانَ الْعَظِيمَ مِنَ الْحَيَّاتِ وَالْجَانَّ الدَّقِيقُ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَانَتْ وَقْتَ انْقِلَابِهَا حَيَّةً صَغِيرَةً دَقِيقَةً ثُمَّ تَوَرَّمَتْ وَتَزَايَدَ جِرْمُهَا حَتَّى صَارَتْ ثُعْبَانًا فَأُرِيدَ بِالْجَانِّ أَوَّلُ حَالِهَا وَبِالثُّعْبَانِ مَآلُهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَانَتْ فِي شَخْصِ الثُّعْبَانِ وَسُرْعَةِ حَرَكَةِ الْجَانِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تعالى: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ كَانَتْ صِفَةُ الْحَيَّةِ. الْجَوَابُ كَانَ لَهَا عُرْفٌ كَعُرْفِ الْفَرَسِ وَكَانَ بَيْنَ لَحْيَيْهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَابْتَلَعَتْ كُلَّ مَا مَرَّتْ بِهِ مِنَ الصُّخُورِ وَالْأَشْجَارِ حَتَّى سَمِعَ مُوسَى صَرِيرَ الْحَجَرِ فِي فَمِهَا وَجَوْفِهَا، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَمَّا نُودِيَ مُوسَى/ وَخُصَّ بِتِلْكَ الْكَرَامَاتِ الْعَظِيمَةِ وَعَلِمَ أَنَّهُ مَبْعُوثٌ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى إِلَى الْخَلْقِ فَلِمَ خَافَ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْخَوْفَ كَانَ مِنْ نَفْرَةِ الطَّبْعِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا شَاهَدَ مِثْلَ ذَلِكَ قَطُّ. وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَعْلُومَةٌ بِدَلَائِلِ الْعُقُولِ. وَعِنْدَ الْفَزَعِ الشَّدِيدِ قَدْ يَذْهَلُ الْإِنْسَانُ عَنْهُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَذَلِكَ الْخَوْفُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى صِدْقِهِ فِي النُّبُوَّةِ لِأَنَّ السَّاحِرَ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي أَتَى بِهِ تَمْوِيهٌ فَلَا يَخَافُهُ الْبَتَّةَ. وَثَانِيهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: خَافَهَا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَرَفَ مَا لَقِيَ آدَمُ مِنْهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُجَرَّدَ تلك الطاعة لكن قَوْلِهِ: لَا تَخَفْ لَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الخوف كقوله تعالى: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ [الأحزاب: 1] لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ تِلْكَ الطَّاعَةِ لَكِنَّ قَوْلَهُ: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً [النَّمْلِ: 10] يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْخَوْفَ إِنَّمَا ظَهَرَ لِيَظْهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَظْهَرَ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالْعَصَا وَالنَّفْرَةَ عَنِ الثُّعْبَانِ، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمَا أَظْهَرَ الرَّغْبَةَ فِي الْجَنَّةِ وَلَا النَّفْرَةَ عَنِ النَّارِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَتَى أَخَذَهَا، بَعْدَ انْقِلَابِهَا عَصًا أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَالْجَوَابُ: رُوِيَ أَنَّهُ أَدْخَلَ يَدَهُ بَيْنَ أَسْنَانِهَا فَانْقَلَبَتْ خَشَبَةً وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى وَذَلِكَ يَقَعُ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَأَيْضًا فَهَذَا أَقْرَبُ لِلْكَرَامَةِ لِأَنَّهُ كَمَا أَنَّ انْقِلَابَ الْعَصَا حَيَّةً مُعْجِزَةٌ فَكَذَلِكَ إِدْخَالُ يَدِهِ فِي فَمِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرِ مُعْجِزَةٌ وَانْقِلَابُهَا خَشَبًا مُعْجِزٌ آخَرُ فَيَكُونُ فِيهِ تَوَالِي الْمُعْجِزَاتِ فَيَكُونُ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ أَخَذَهُ،

[سورة طه (20) : الآيات 22 إلى 24]

أَمَعَ الْخَوْفِ أَوْ بِدُونِهِ. وَالْجَوَابُ: رُوِيَ مَعَ الْخَوْفِ وَلَكِنَّهُ بَعِيدٌ، لِأَنَّ بَعْدَ تَوَالِي الدَّلَائِلِ يَبْعُدُ ذَلِكَ. وَإِذَا عَلِمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْأَخْذِ سَيُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى فَكَيْفَ يَسْتَمِرُّ خَوْفُهُ، وَقَدْ عَلِمَ صِدْقَ هَذَا الْقَوْلِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَمَّا قَالَ لَهُ رَبُّهُ: لا تَخَفْ بَلَغَ مِنْ ذَلِكَ ذَهَابُ خَوْفِهِ وَطُمَأْنِينَةُ نَفْسِهِ إِلَى أَنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي فَمِهَا وَأَخَذَ بِلَحْيَيْهَا. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا مَعْنَى سِيرَتَهَا الْأُولَى، وَالْجَوَابُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : السِّيرَةُ مِنَ السَّيْرِ كَالرُّكْبَةِ مِنَ الرُّكُوبِ يُقَالُ: سَارَ فُلَانٌ سِيرَةً حَسَنَةً ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهَا فَنُقِلَتْ إِلَى مَعْنَى الْمَذْهَبِ وَالطَّرِيقَةِ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: عَلَامَ انْتَصَبَ سِيرَتَهَا، الْجَوَابُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بِنَزْعِ الْخَافِضِ يَعْنِي إِلَى سِيرَتِهَا. وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ سَنُعِيدُهَا مستقلا بنفسه غير متعلق بسيرتها بِمَعْنَى أَنَّهَا كَانَتْ أَوَّلًا عَصًا فَصَارَتْ حَيَّةً فَسَنَجْعَلُهَا عَصًا كَمَا كَانَتْ فَنُصِبَ سِيرَتَهَا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أَيْ تَسِيرُ سِيرَتَهَا الْأُولَى يَعْنِي سَنُعِيدُهَا سَائِرَةً بِسِيرَتِهَا الْأُولَى حَيْثُ كُنْتَ تَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا ولك فيها المآرب التي عرفتها. [سورة طه (20) : الآيات 22 الى 24] وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعْجِزَةُ الثَّانِيَةُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الأولى: يقال لك نَاحِيَتَيْنِ جَنَاحَانِ كَجَنَاحَيِ الْعَسْكَرِ لِطَرَفَيْهِ وَجَنَاحَا الْإِنْسَانِ جَنْبَاهُ وَالْأَصْلُ الْمُسْتَعَارُ مِنْهُ جَنَاحَا الطَّائِرِ لِأَنَّهُ يَجْنَحُهُمَا عِنْدَ الطَّيَرَانِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا إِلَى جَنَاحِكَ إِلَى صَدْرِكَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ يَدَيِ الْإِنْسَانِ يُشْبِهَانِ جَنَاحَيِ الطَّائِرِ لِأَنَّهُ قَالَ: تَخْرُجْ بَيْضاءَ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْجَنَاحِ الصَّدْرَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: تَخْرُجْ مَعْنًى وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى ضَمِّ الْيَدِ إِلَى الْجَنَاحِ مَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ [النَّمْلِ: 12] لِأَنَّهُ إِذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ كَانَ قَدْ ضَمَّ يَدَهُ إِلَى جَنَاحِهِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: السُّوءُ الرَّدَاءَةُ وَالْقُبْحُ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَكَنَّى بِهِ عَنِ الْبَرَصِ كَمَا كَنَّى عَنِ الْعَوْرَةِ بِالسَّوْأَةِ وَالْبَرَصُ أَبْغَضُ شَيْءٍ إِلَى الْعَرَبِ فَكَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يُكَنَّى عَنْهُ يُرْوَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ شَدِيدَ الْأُدْمَةِ فَكَانَ إِذَا أَدْخَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى فِي جَيْبِهِ وَأَدْخَلَهَا تَحْتَ إِبِطِهِ الْأَيْسَرِ وَأَخْرَجَهَا كَانَتْ تَبْرُقُ مِثْلَ الْبَرْقِ وَقِيلَ مِثْلَ الشَّمْسِ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ ثُمَّ إِذَا رَدَّهَا عَادَتْ إِلَى لَوْنِهَا الْأَوَّلِ بِلَا نُورٍ. الْمَسْأَلَةُ الثالثة: بيضاء وآية حالان معا ومن غَيْرِ سُوءٍ مِنْ صِلَةُ الْبَيْضَاءِ كَمَا تَقُولُ ابْيَضَّتْ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَفِي نَصْبِ آيَةً وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِإِضْمَارٍ نَحْوَ خُذْ وَدُونَكَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهَذَا الْمَحْذُوفِ لِنُرِيَكَ أَيْ خُذْ هَذِهِ الْآيَةَ أَيْضًا بَعْدَ قَلْبِ الْعَصَا لِنُرِيَكَ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بَعْضَ آيَاتِنَا الْكُبْرَى أَوْ لِنُرِيَكَ بِهِمَا الْكُبْرَى مِنْ آيَاتِنَا أَوْ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى فِعْلَنَا ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ الْكُبْرَى مِنْ نَعْتِ الْآيَاتِ فَلِمَ لَمْ يَقُلِ الْكُبَرَ؟ قُلْنَا: بَلْ هِيَ نَعْتُ الْآيَةِ وَالْمَعْنَى لِنُرِيَكَ الْآيَةَ الْكُبْرَى وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَهُوَ كما قدمنا في قوله: مَآرِبُ أُخْرى [طه: 18] ، والْأَسْماءُ الْحُسْنى [طه: 8] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْحَسَنُ: الْيَدُ أَعْظَمُ فِي الْإِعْجَازِ مِنَ الْعَصَا لِأَنَّهُ تَعَالَى: ذَكَرَ لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى عَقِيبَ ذِكْرِ الْيَدِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْيَدِ إِلَّا تَغَيُّرُ اللَّوْنِ، وَأَمَّا الْعَصَا فَفِيهِ تَغَيُّرُ اللَّوْنِ وَخَلْقُ

[سورة طه (20) : الآيات 25 إلى 35]

الزِّيَادَةِ فِي الْجِسْمِ وَخَلْقُ الْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْأَعْضَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ وَابْتِلَاعُ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، ثُمَّ عَادَ عَصًا بَعْدَ ذَلِكَ. فَقَدْ وَقَعَ التَّغَيُّرُ مَرَّةً أُخْرَى فِي كُلِّ هَذِهِ الْأُمُورِ فَكَانَتِ الْعَصَا أَعْظَمَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْكُلِّ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْيَدِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَظْهَرَ لَهُ هَذِهِ الْآيَةَ عَقَّبَهَا بِأَنْ أَمَرَهُ بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَبَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ وَهِيَ أَنَّهُ طَغَى، وَإِنَّمَا خَصَّ فِرْعَوْنَ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْكُلِّ لِأَنَّهُ ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ وَتَكَبَّرَ وَكَانَ مَتْبُوعًا فَكَانَ ذِكْرُهُ أَوْلَى. قَالَ وَهْبٌ: قَالَ اللَّه تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اسْمَعْ كَلَامِي وَاحْفَظْ وَصِيَّتِي وَانْطَلِقْ بِرِسَالَتِي فَإِنَّكَ بِعَيْنِي وَسَمْعِي وَإِنَّ مَعَكَ يَدِي وَبَصَرِي وَإِنِّي أَلْبَسْتُكَ جُنَّةً مِنْ سُلْطَانِي لِتَسْتَكْمِلَ بِهَا الْقُوَّةَ فِي أَمْرِي أَبْعَثُكَ إِلَى خَلْقٍ ضَعِيفٍ مِنْ خَلْقِي بَطَرَ نِعْمَتِي وَأَمِنَ مَكْرِي وَغَرَّتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى جَحَدَ حَقِّي وَأَنْكَرَ رُبُوبِيَّتِي، وَإِنِّي أُقْسِمُ بِعِزَّتِي لَوْلَا الْحُجَّةُ وَالْعُذْرُ الَّذِي وَضَعْتُ بَيْنِي وَبَيْنَ خَلْقِي لَبَطَشْتُ بِهِ بَطْشَةَ جَبَّارٍ وَلَكِنْ هَانَ عَلَيَّ وَسَقَطَ/ مِنْ عَيْنِي فَبَلِّغْهُ عَنِّي رِسَالَتِي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي: وقل له قولا لينا لَا يَغْتَرَّنَّ بِلِبَاسِ الدُّنْيَا فَإِنَّ نَاصِيَتَهُ بِيَدِي، لَا يَطْرِفُ وَلَا يَتَنَفَّسُ إِلَّا بِعِلْمِي، فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ، قَالَ فَسَكَتَ مُوسَى سَبْعَةَ أَيَّامٍ لَا يَتَكَلَّمُ ثُمَّ جَاءَهُ مَلَكٌ فَقَالَ أَجِبْ ربك فيما أمرك بعبده» . [سورة طه (20) : الآيات 25 الى 35] قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَكَانَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا شَاقًّا فَلَا جَرَمَ سَأَلَ رَبَّهُ أُمُورًا ثَمَانِيَةً، ثُمَّ خَتَمَهَا بِمَا يَجْرِي مَجْرَى الْعِلَّةِ لِسُؤَالِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ. الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُقَالُ شَرَحْتُ الْكَلَامَ أَيْ بَيَّنْتُهُ وَشَرَحْتُ صَدْرَهُ أَيْ وَسَّعْتُهُ وَالْأَوَّلُ يَقْرُبُ مِنْهُ لِأَنَّ شَرْحَ الْكَلَامِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِبَسْطِهِ. وَالسَّبَبُ فِي هَذَا السُّؤَالِ مَا حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي [الشُّعَرَاءِ: 13] فَسَأَلَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُبَدِّلَ ذَلِكَ الضِّيقَ بِالسَّعَةِ، وَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي فَأَفْهَمُ عَنْكَ مَا أَنْزَلْتَ عَلَيَّ مِنَ الْوَحْيِ، وَقِيلَ: شَجِّعْنِي

لِأَجْتَرِئَ بِهِ عَلَى مُخَاطَبَةِ فِرْعَوْنَ ثُمَّ الْكَلَامُ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِأُمُورٍ. أَحَدُهَا: فَائِدَةُ الدُّعَاءِ وَشَرَائِطُهُ. وثانيها: فِي أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَذْكُرُ وَقْتَ الدُّعَاءِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى إِلَّا الرَّبَّ. وَثَالِثُهَا: مَا مَعْنَى شَرْحِ الصَّدْرِ. وَرَابِعُهَا: بِمَاذَا يَكُونُ شَرْحُ الصَّدْرِ. وَخَامِسُهَا: كَيْفَ كَانَ شَرْحُ الصَّدْرِ فِي حَقِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَسَادِسُهَا: صِفَةُ صَدْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ كَانَ مُنْشَرِحًا أَوْ لَمْ يَكُنْ مُنْشَرِحًا، فَإِنْ كَانَ مُنْشَرِحًا كَانَ طَلَبُ شَرْحِ الصَّدْرِ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْشَرِحًا فَهُوَ بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ لَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَدْيَانِ مِنْ مَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَأَحْوَالِ الْمَعَادِ وَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِشَرْحِ الصَّدْرِ فِي بَابِ الدِّينِ فَقَدْ حَصَلَ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ تَلَطَّفَ لَهُ بِقَوْلِهِ: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى [طه: 13] ثُمَّ كَلَّمَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُلَاطَفَةِ بِقَوْلِهِ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه: 17] ثُمَّ أَظْهَرَ لَهُ الْمُعْجِزَاتِ/ الْعَظِيمَةَ وَالْكَرَامَاتِ الْجَسِيمَةَ، ثُمَّ أَعْطَاهُ مَنْصِبَ الرِّسَالَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فَقِيرًا وَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِعْزَازُ وَالْإِكْرَامُ فَقَدْ حَصَلَ، وَلَوْ أَنَّ ذَرَّةً مِنْ هَذِهِ الْمَنَاصِبِ حَصَلَتْ لِأَدْوَنِ النَّاسِ لَصَارَ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ فَبَعْدَ حُصُولِهَا لِكَلِيمِ اللَّه تَعَالَى يَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَصِيرَ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِرْ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بَعْدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَمْ يَجُزْ مِنَ اللَّه تَعَالَى تَفْوِيضُ النُّبُوَّةِ إِلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ كَانَ ضَيِّقَ الْقَلْبِ مُشَوَّشَ الْخَاطِرِ لَا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» فَكَيْفَ يَصْلُحُ لِلنُّبُوَّةِ الَّتِي أَقَلُّ مَرَاتِبِهَا الْقَضَاءُ؟ فَهَذَا مَجْمُوعُ الْأُمُورِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنَ البحث عنها في هذه الآية. أما الفصل الْأَوَّلُ: وَهُوَ فَائِدَةُ الدُّعَاءِ وَشَرَائِطُهُ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [الْبَقَرَةِ: 286] إِلَّا أَنَّهُ نَذْكُرُ منها هاهنا بَعْضَ الْفَوَائِدِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذَا الْمَوْضِعِ فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ لِلْكَمَالِ مَرَاتِبَ وَدَرَجَاتٍ وَأَعْلَاهَا أَنْ يَكُونَ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ، أَمَّا كَوْنُهُ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ فَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كَمَالُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كَامِلًا فِي الْأَزَلِ وَلَكِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُكَمِّلًا فِي الْأَزَلِ لِأَنَّ التَّكْمِيلَ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ الشَّيْءِ كَامِلًا وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْكَمَالِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حَاصِلًا فِي الْأَزَلِ لَاسْتَحَالَ التَّأْثِيرُ فِيهِ، فَإِنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ وَتَكْوِينَ الْكَائِنِ مُمْتَنِعٌ فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ كَانَ كَامِلًا فِي الْأَزَلِ إِلَّا أَنَّهُ يَصِيرُ مُكَمِّلًا فِيمَا لَا يَزَالُ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ التَّكْمِيلُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ مُكَمِّلًا فِي الْأَزَلِ فَقَدْ كَانَ عَارِيًا عَنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَيَكُونُ نَاقِصًا وَهُوَ مُحَالٌ، قُلْنَا: النُّقْصَانُ إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا فِي الْأَزَلِ لَكُنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْفِعْلَ الْأَزَلِيَّ مُحَالٌ فَالتَّكْمِيلُ الْأَزَلِيُّ مُحَالٌ فَعَدَمُهُ لَا يَكُونُ نُقْصَانًا، كَمَا أَنَّ قَوْلَنَا: إِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَكْوِينِ مِثْلِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ نُقْصَانًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنِ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ، وَكَقَوْلِنَا: إِنَّهُ لَا يَعْلَمُ عَدَدًا مُفَصَّلًا كَحَرَكَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِأَنَّ كُلَّ مَا لَهُ عَدَدٌ مُفَصَّلٌ فَهُوَ مُتَنَاهٍ، وَحَرَكَاتُ أَهْلِ الْجَنَّةِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ فَلَا يَكُونُ لَهُ عَدَدٌ مُفَصَّلٌ، فَامْتَنَعَ ذَلِكَ لَا لِقُصُورٍ فِي الْعِلْمِ، بَلْ لِكَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ مُمْتَنِعَ الْحُصُولِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا قَصَدَ إِلَى التَّكْوِينِ وَكَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ تَكْمِيلَ النَّاقِصِينَ لِأَنَّ الْمُمْكِنَاتِ قَابِلَةٌ لِلْوُجُودِ وَصِفَةُ الْوُجُودِ صِفَةُ كَمَالٍ فَاقْتَضَتْ قُدْرَةُ اللَّه تَعَالَى عَلَى التَّكْمِيلِ وَضْعَ مَائِدَةِ الْكَمَالِ لِلْمُمْكِنَاتِ فَأَجْلَسَ عَلَى الْمَائِدَةِ بَعْضَ الْمَعْدُومَاتِ دُونَ الْبَعْضِ لِأَسْبَابٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْدُومَاتِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ فَلَوْ أَجْلَسَ الْكُلَّ عَلَى مَائِدَةِ الْوُجُودِ لَدَخَلَ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ فِي الْوُجُودِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ أَوْجَدَ الْكُلَّ لَمَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ قَادِرًا عَلَى الْإِيجَادِ لَأَنَّ إِيجَادَ الْمَوْجُودِ مُحَالٌ، فَكَانَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَمَالًا لِلنَّاقِصِ لَكِنَّهُ يَقْتَضِي نُقْصَانَ الْكَامِلِ فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ الْقَادِرُ مِنَ الْقُدْرَةِ إِلَى الْعَجْزِ.

وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ الْكُلُّ فِي الْوُجُودِ لَمَا بَقِيَ فِيهِ تَمْيِيزٌ فَلَا يَتَمَيَّزُ الْقَادِرُ عن الْمُوجِبِ وَالْقُدْرَةُ كَمَالٌ وَالْإِيجَابُ بِالطَّبْعِ نُقْصَانٌ، فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ أَخْرَجَ بَعْضَ الْمُمْكِنَاتِ إِلَى الْوُجُودِ فَإِنْ قِيلَ عَلَيْهِ سُؤَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ مُتَنَاهِيَةٌ وَالْمَعْدُومَاتِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَلَا نِسْبَةَ لِلْمُتَنَاهِي/ إِلَى غَيْرِ الْمُتَنَاهِي، فَتَكُونُ أَيْضًا الضِّيَافَةُ ضِيَافَةً لِلْأَقَلِّ، وَأَمَّا الْحِرْمَانُ فَإِنَّهُ عَدَدٌ لِمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَهَذَا لَا يَكُونُ وُجُودًا. الثَّانِي: أَنَّ الْبَعْضَ الَّذِي خَصَّهُ بِهَذِهِ الضِّيَافَةِ إِنْ كَانَ لِاسْتِحْقَاقٍ حَصَلَ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ فَذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ مِمَّنْ حَصَلَ؟ وَإِنْ كَانَ لَا لِهَذَا الِاسْتِحْقَاقِ كَانَ ذَلِكَ عَبَثًا وَهُوَ مُحَالٌ كَمَا قِيلَ: «يُعْطِي وَيَمْنَعُ لَا بُخْلًا وَلَا كَرَمًا» وَإِنَّهُ لَا يَلِيقُ بِأَكْرَمِ الْأَكْرَمِينَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْكُلِّ أَنَّ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ إِنَّمَا تَدُورُ فِي الْعُقُولِ وَالْخَيَالَاتِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُحَاوِلُ قِيَاسَ فِعْلِهِ عَلَى فِعْلِنَا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَهَذَا الْوُجُودُ الْفَائِضُ مِنْ نُورِ رَحْمَتِهِ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ هُوَ الضِّيَافَةُ الْعَامَّةُ وَالْمَائِدَةُ الشَّامِلَةُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الْأَعْرَافِ: 156] ثُمَّ إِنَّ الْمَوْجُودَاتِ انْقَسَمَتْ إِلَى الْجَمَادَاتِ وَإِلَى الْحَيَوَانَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَمَادَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيَوَانِ كَالْعَدَمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوُجُودِ لِأَنَّ الْجَمَادَ لَا خَبَرَ عِنْدَهُ مِنْ وُجُودِهِ فَوُجُودُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَالْعَدَمِ وَعَدَمُهُ كَالْوُجُودِ، وَأَمَّا الْحَيَوَانُ فَهُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ وَيَتَفَاوَتَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَلِأَنَّ الْجَمَادَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيَوَانِ آلَةٌ لِأَنَّ الْحَيَوَانَاتِ تَسْتَعْمِلُ الْجَمَادَاتِ فِي أَغْرَاضِ أَنْفُسِهَا وَمَصَالِحِهَا وَهِيَ كَالْعَبْدِ الْمُطِيعِ الْمُسَخَّرِ وَالْحَيَوَانُ كَالْمَالِكِ الْمُسْتَوْلِي، فَكَانَتِ الْحَيَوَانِيَّةُ أَفْضَلَ مِنَ الْجَمَادِيَّةِ فَكَمَا أَنَّ إِحْسَانَ اللَّه وَرَحْمَتَهُ اقْتَضَيَا وَضْعَ مَائِدَةِ الْوُجُودِ لِبَعْضِ الْمَعْدُومَاتِ دُونَ الْبَعْضِ كَذَلِكَ اقْتَضَيَا وَضْعَ مَائِدَةِ الْحَيَاةِ لِبَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ دُونَ الْبَعْضِ، فَلَا جَرَمَ جَعَلَ بَعْضَ الْمَوْجُودَاتِ أَحْيَاءً دُونَ الْبَعْضِ. وَالْحَيَاةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَمَادِيَّةِ كَالنُّورِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الظُّلْمَةِ وَالْبَصَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَمَى والوجود بالنسبة إلى العدم، فعدن ذَلِكَ صَارَ بَعْضُ الْمَوْجُودَاتِ حَيًّا مُدْرِكًا لِلْمُنَافِي وَالْمُلَائِمِ وَاللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَمِنْ ثَمَّ قَالَتِ الْأَحْيَاءُ عِنْدَ ذَلِكَ: يَا رَبَّ الْأَرْبَابِ إِنَّا وَإِنْ وَجَدْنَا خِلْعَةَ الْوُجُودِ وَخِلْعَةَ الْحَيَاةِ وَشَرَّفْتَنَا بِذَلِكَ، لَكِنِ ازْدَادَتِ الْحَاجَةُ لِأَنَّا حَالَ الْعَدَمِ وَحَالَ الْجَمَادِيَّةِ مَا كُنَّا نَحْتَاجُ إِلَى الْمُلَائِمِ وَالْمُوَافِقِ وَمَا كُنَّا نَخَافُ الْمُنَافِيَ وَالْمُؤْذِيَ، وَلَمَّا حَصَلَ الْوُجُودُ وَالْحَيَاةُ احْتَجْنَا إِلَى طَلَبِ الْمُلَائِمِ وَدَفْعِ الْمُنَافِي فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَنَا قُدْرَةٌ عَلَى الْهَرَبِ وَالطَّلَبِ وَالدَّفْعِ وَالْجَذْبِ لَبَقِينَا كَالزَّمِنِ الْمُقْعَدِ عَلَى الطَّرِيقِ عُرْضَةً لِلْآفَاتِ وَهَدَفًا لِسِهَامِ الْبَلِيَّاتِ فَأَعْطِنَا مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِكَ الْقُدْرَةَ وَالْقُوَّةَ الَّتِي بِهَا نَتَمَكَّنُ مِنَ الطَّلَبِ تَارَةً وَالْهَرَبِ أُخْرَى، فَاقْتَضَتِ الرَّحْمَةُ التَّامَّةُ تَخْصِيصَ بَعْضِ الْأَحْيَاءِ بِالْقُدْرَةِ كَمَا اقْتَضَتْ تَخْصِيصَ بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ بِالْحَيَاةِ وَتَخْصِيصَ بَعْضِ الْمَعْدُومَاتِ بِالْوُجُودِ. فَقَالَ الْقَادِرُونَ عِنْدَ ذَلِكَ: إِلَهَنَا الْجَوَادُ الْكَرِيمُ إِنَّ الْحَيَاةَ وَالْقُدْرَةَ بِلَا عَقْلٍ لَا تَكُونُ إِلَّا لِأَحَدِ الْقِسْمَيْنِ إِمَّا لِلْمَجَانِينَ الْمُقَيَّدِينَ بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ، وَإِمَّا لِلْبَهَائِمِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي حَمْلِ الْأَثْقَالِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ النُّقْصَانِ وَأَنْتَ قَدْ رَقَّيْتَنَا مِنْ حَضِيضِ النُّقْصَانِ إِلَى أَوْجِ الْكَمَالِ فَأَفِضْ عَلَيْنَا مِنَ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ مَخْلُوقَاتِكَ وَأَعَزُّ مُبْدَعَاتِكَ الَّذِي شَرَّفْتَهُ بِقَوْلِكَ: «بِكَ أُهِينُ وَبِكَ أثيب وبك أعاقب» حتى تفوز مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِكَ بِالْخِلَعِ الْكَامِلَةِ وَالْفَضِيلَةِ التَّامَّةِ فَأَعْطَاهُمُ الْعَقْلَ وَبَعَثَ فِي أَرْوَاحِهِمْ نُورَ/ الْبَصِيرَةِ وَجَوْهَرَ الْهِدَايَةِ فَعِنْدَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ فَازُوا بِالْخِلَعِ الْأَرْبَعَةِ، الْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعَقْلِ، فَالْعَقْلُ خَاتَمُ الْكُلِّ وَالْخَاتَمُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ كَانَ أَفْضَلَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْإِنْسَانُ لَمَّا كَانَ خَاتَمَ الْمَخْلُوقَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ كَانَ أَفْضَلَهَا فَكَذَلِكَ الْعَقْلُ لَمَّا كَانَ خَاتَمَ الْخِلَعِ الْفَائِضَةِ مِنْ حَضْرَةِ ذِي الْجَلَالِ كَانَ أَفْضَلَ الْخِلَعِ وَأَكْمَلَهَا، ثُمَّ نَظَرَ الْعَقْلُ فِي نَفْسِهِ فَرَأَى نَفْسَهُ كَالْجَفْنَةِ الْمَمْلُوءَةِ مِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ بَلْ كَأَنَّهَا سَمَاءٌ مَمْلُوءَةٌ مِنَ الْكَوَاكِبِ الزَّاهِرَةِ وَهِيَ الْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ الْبَدِيهِيَّةُ الْمَرْكُوزَةُ في بدائه الْعُقُولِ وَصَرَائِحِ الْأَذْهَانِ، وَكَمَا أَنَّ الْكَوَاكِبَ الْمَرْكُوزَةَ في السموات عَلَامَاتٌ يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَكَذَلِكَ الْجَوَاهِرُ الْمَرْكُوزَةُ فِي سَمَاءِ الْعَقْلِ كَوَاكِبٌ زَاهِرَةٌ يَهْتَدِي بِهَا السَّائِرُونَ فِي ظُلُمَاتِ عَالَمِ الأجسام إلى أنوار العالم الروحانية وفسحة السموات وَأَضْوَائِهَا. فَلَمَّا نَظَرَ الْعَقْلُ إِلَى تِلْكَ الْكَوَاكِبِ الزَّاهِرَةِ وَالْجَوَاهِرِ الْبَاهِرَةِ رَأَى رَقْمَ الْحُدُوثِ عَلَى تِلْكَ الْجَوَاهِرِ وَعَلَى جَمِيعِ تِلْكَ الْخِلَعِ فَاسْتَدَلَّ بِتِلْكَ الْأَرْقَامِ عَلَى رَاقِمٍ، وَبِتِلْكَ النُّقُوشِ عَلَى نَاقَشٍ. وَعِنْدَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّ النَّقَّاشَ بِخِلَافِ النَّقْشِ وَالْبَانِيَ بِخِلَافِ الْبِنَاءِ، فَانْفَتَحَ لَهُ مِنْ أَعْلَى سَمَاءِ عَالَمِ الْمُحْدَثَاتِ رَوَازِنُ إِلَى أَضْوَاءِ لَوَائِحِ عَالَمِ الْقِدَمِ وَطَالَعَ عَالَمَ الْقِدَمِ الْأَزَلِيَّةِ وَالْجَلَالِ وَكَانَ الْعَقْلُ إِنَّمَا نَظَرَ إِلَى أَضْوَاءِ عَالَمِ الْأَزَلِيَّةِ مِنْ ظُلُمَاتِ عَالَمِ الْحُدُوثِ وَالْإِمْكَانِ فَغَلَبَتْهُ دَهْشَةُ أَنْوَارِ الْأَزَلِيَّةِ فَعَمِيَتْ عَيْنَاهُ فَبَقِيَ مُتَحَيِّرًا فَالْتَجَأَ بِطَبْعِهِ إِلَى مُفِيضِ الْأَنْوَارِ، فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي فَإِنَّ الْبِحَارَ عَمِيقَةٌ وَالظُّلُمَاتِ مُتَكَاثِفَةٌ، وَفِي الطَّرِيقِ قُطَّاعٌ مِنَ الْأَعْدَاءِ الدَّاخِلَةِ وَالْخَارِجَةِ وَشَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ كَثِيرَةٌ فَإِنْ لَمْ تَشْرَحْ لِي صَدْرِي وَلَمْ تَكُنْ لِي عَوْنًا فِي كُلِّ الْأُمُورِ انْقَطَعَتْ، وَصَارَتْ هَذِهِ الْخِلَعُ سَبَبًا لِنَيْلِ الْآفَاتِ لَا لِلْفَوْزِ بِالدَّرَجَاتِ. فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ثُمَّ قَالَ: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَصْدُرُ مِنَ الْعَبْدِ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ فَمَا لَمْ يَصِرِ الْعَبْدُ مُرِيدًا لَهُ اسْتَحَالَ أَنْ يَصِيرَ فَاعِلًا لَهُ، فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ صِفَةٌ مُحْدَثَةٌ وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ فَاعِلٍ وَفَاعِلُهَا إِنْ كَانَ هُوَ الْعَبْدَ افْتَقَرَ فِي تَحْصِيلِ تِلْكَ الْإِرَادَةِ إِلَى إِرَادَةٍ أُخْرَى، وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى إِرَادَةٍ يَخْلُقُهَا مُدَبِّرُ الْعَالَمِ فَيَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُيَسِّرَ لِلْأُمُورِ وَهُوَ الْمُتَمِّمَ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَتَمَامُ التَّحْقِيقِ أَنَّ حُدُوثَ الصِّفَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَابِلٍ وَفَاعِلٍ فَعَبَّرَ عَنِ اسْتِعْدَادِ الْقَابِلِ بِقَوْلِهِ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَعَبَّرَ عَنْ حُصُولِ الْفَاعِلِ بِقَوْلِهِ: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي يُعْطِي الْقَابِلَ قَابِلِيَّتَهُ وَالْفَاعِلَ فَاعِلِيَّتَهُ، وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ يَقُولُونَ: يَا مُبْتَدِئًا بِالنِّعَمِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا. وَمَجْمُوعُ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ كَالْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَاقِعَةٌ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا: كَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: إِلَهِي لَا أَكْتَفِي بِشَرْحِ الصَّدْرِ وَلَكِنْ أَطْلُبُ مِنْكَ تَنْفِيذَ الْأَمْرِ وَتَحْصِيلَ الْغَرَضِ فَلِهَذَا قَالَ: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَعْطَاهُ الْخِلَعَ الْأَرْبَعَ وَهِيَ الْوُجُودُ وَالْحَيَاةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْعَقْلُ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ يَا مُوسَى أَعْطَيْتُكَ هَذِهِ الْخِلَعَ الْأَرْبَعَ فَلَا بُدَّ فِي/ مُقَابَلِتِهَا مِنْ خِدْمَاتٍ أَرْبَعَ لِتُقَابَلَ كُلُّ نِعْمَةٍ بِخِدْمَةٍ. فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا تِلْكَ الْخِدْمَاتُ؟ فَقَالَ: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي فَإِنَّ فِيهَا أَنْوَاعًا أَرْبَعَةً مِنَ الْخِدْمَةِ، الْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فَإِذَا أَتَيْتَ بِالصَّلَاةِ فَقَدْ قَابَلْتَ كُلَّ نِعْمَةٍ بِخِدْمَةٍ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَعْطَاهُ الْخِلْعَةَ الْخَامِسَةَ وَهِيَ خِلْعَةُ الرِّسَالَةِ قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي حَتَّى أَعْرِفَ أَنِّي بِأَيِّ خِدْمَةٍ أُقَابِلُ هَذِهِ النِّعْمَةَ فَقِيلَ لَهُ بِأَنْ تَجْتَهِدَ فِي أَدَاءِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ فَقَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ إِنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى مِنِّي مَعَ عَجْزِي وَضَعْفِي وَقِلَّةِ آلَاتِي وَقُوَّةِ خَصْمِي فَاشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي قَوْلِهِ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي اعْلَمْ أَنَّ الدُّعَاءَ سَبَبُ الْقُرْبِ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَإِنَّمَا اشْتَغَلَ مُوسَى بهذا الدعاء طلبا للقرب فنفتقر إِلَى بَيَانِ أَمْرَيْنِ إِلَى بَيَانِ أَنَّ الدُّعَاءَ سَبَبُ الْقُرْبِ ثُمَّ إِلَى بَيَانِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ الْقُرْبَ بِهَذَا الدُّعَاءِ، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الدُّعَاءَ سَبَبُ الْقُرْبِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ السُّؤَالَ

وَالْجَوَابُ فِي كِتَابِهِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْهَا أُصُولِيَّةٌ وَمِنْهَا فُرُوعِيَّةٌ، أَمَّا الْأُصُولِيَّةُ فَأَوَّلُهَا فِي البقرة: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189] . وثانيها: في بني إسرائيل وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85] . وثالثها: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه: 105] . ورابعها: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها [النَّازِعَاتِ: 42] وَأَمَّا الْفُرُوعِيَّةُ فَسِتَّةٌ مِنْهَا فِي الْبَقَرَةِ عَلَى التَّوَالِي: أَحَدُهَا: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة: 215] وثانيها: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة: 217] . وثالثها: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ [البقرة: 219] . ورابعها: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: 219] . وخامسها: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [الْبَقَرَةِ: 220] . وسادسها: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً [الْبَقَرَةِ: 222] . وَسَابِعُهَا: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الْأَنْفَالِ: 1] . وثامنها: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً [الْكَهْفِ: 83] . وَتَاسِعُهَا: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يُونُسَ: 53] . وَعَاشِرُهَا: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النِّسَاءِ: 176] . وَالْحَادِيَةَ عَشْرَ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [الْبَقَرَةِ: 186] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ جَاءَتْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ وَالْأَجْوِبَةُ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَالْأَغْلَبُ فِيهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ السُّؤَالَ قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ وَفِي صُورَةٍ أُخْرَى جَاءَ الْجَوَابُ بِصِيغَةِ فَقُلْ مَعَ فَاءِ التَّعْقِيبِ وَفِي صُورَةِ ثَالِثَةٍ ذَكَرَ السُّؤَالَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْجَوَابَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها [الأعراف: 187] وَفِي صُورَةٍ رَابِعَةٍ ذَكَرَ الْجَوَابَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ لَفْظَ قُلْ وَلَا لَفْظَ فَقُلْ وَهُوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ وَلَا بُدَّ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْفَائِدَةِ فَنَقُولُ: أَمَّا الْأَجْوِبَةُ الْوَارِدَةُ بِلَفْظِ قُلْ فَلَا إِشْكَالَ فِيهَا لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى قُلْ كَالتَّوْقِيعِ الْمُحَدَّدِ فِي ثُبُوتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَالتَّشْرِيفِ الْمُحَدَّدِ فِي كَوْنِهِ مُخَاطَبًا مِنَ اللَّه تَعَالَى بِأَدَاءِ الْوَحْيِ وَالتَّبْلِيغِ. وَأَمَّا الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه: 105] فالسبب أن قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ [طه: 105] سُؤَالٌ إِمَّا عَنْ قِدَمِهَا أَوْ عَنْ وُجُوبِ بَقَائِهَا وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أُمَّهَاتِ مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ فَلَا جَرَمَ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ بِلَفْظِ/ الْفَاءِ الْمُفِيدِ لِلتَّعْقِيبِ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ يَا مُحَمَّدُ أَجِبْ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فِي الْحَالِ وَلَا تَقْتَصِرْ فَإِنَّ الشَّكَّ فِيهِ كُفْرٌ وَلَا تُمْهِلْ هَذَا الْأَمْرَ لِئَلَّا يَقَعُوا فِي الشَّكِّ وَالشُّبْهَةِ، ثُمَّ كَيْفِيَّةُ الْجَوَابِ أَنَّهُ قَالَ: فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّسْفَ مُمْكِنٌ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ فِي حَقِّ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْجَبَلِ وَالْحِسُّ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا فِي حَقِّ كُلِّ الْجَبَلِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِقَدِيمٍ وَلَا وَاجِبِ الْوُجُودِ لِأَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ وَالنَّسْفُ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ قَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنْ إِلَهِكَ أَهُوَ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ أَوْ حَدِيدٌ فَقَالَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاصِ: 1] وَلَمْ يَقُلْ فَقُلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ قُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَحْكِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ سُؤَالَهُمْ وَحَرْفُ الْفَاءِ مِنَ الْحُرُوفِ الْعَاطِفَةِ فَيَسْتَدْعِي سَبْقَ كَلَامٍ فَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ ترك الفاء بخلاف هاهنا فَإِنَّهُ تَعَالَى حَكَى سُؤَالَهُمْ فَحَسُنَ عَطْفُ الْجَوَابِ عَلَيْهِ بِحَرْفِ الْفَاءِ. وَأَمَّا الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: فَإِنَّهُ تعالى لم يذكر الجواب في قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها فَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ مَعْرِفَةَ وَقْتِ السَّاعَةِ عَلَى التَّعْيِينِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْمَفَاسِدِ الَّتِي شَرَحْنَاهَا فِيمَا سَبَقَ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ الْجَوَابَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنَ الْأَسْئِلَةِ مَا لَا يُجَابُ عَنْهَا. وَأَمَّا الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ قَوْلُهُ: فَإِنِّي قَرِيبٌ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي جَوَابِهِ قُلْ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ حَالِ الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ مِنْ أعظم العبادات فكأنه سبحانه قال: يا عبادي أَنْتَ إِنَّمَا تَحْتَاجُ إِلَى الْوَاسِطَةِ فِي غَيْرِ الدُّعَاءِ أَمَّا فِي

مَقَامِ الدُّعَاءِ فَلَا وَاسِطَةَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ قِصَّةٍ وَقَعَتْ لَمْ تَكُنْ مَعْرِفَتُهَا مِنَ الْمُهِمَّاتِ. قَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْكُرْ لَهُمْ تِلْكَ الْقِصَّةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ [الْمَائِدَةِ: 27] . وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها [الْأَعْرَافِ: 175] . وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى [مَرْيَمَ: 51] ، وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ [مَرْيَمَ: 54] . وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ [مَرْيَمَ: 56] . وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الْحِجْرِ: 51] ، ثُمَّ قَالَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يُوسُفَ: 3] وَفِي أَصْحَابِ الْكَهْفِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الْكَهْفِ: 13] . وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا فِي هَاتَيْنِ الْقِصَّتَيْنِ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ، وَالْحَاصِلُ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِذَا سُئِلْتَ عَنْ غَيْرِي فَكُنْ أَنْتَ الْمُجِيبَ، وَإِذَا سُئِلْتَ عَنِّي فَاسْكُتْ أَنْتَ حَتَّى أَكُونَ أَنَا الْقَائِلَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ [أَنْ يَسْأَلَ] وَقَوْلَهُ: فَإِنِّي قَرِيبٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ قَرِيبٌ مِنَ الْعَبْدِ. وَثَالِثُهَا: لَمْ يَقُلْ فَالْعَبْدُ مِنِّي قَرِيبٌ، بَلْ قَالَ أَنَا مِنْهُ قَرِيبٌ، وَهَذَا فِيهِ سِرٌّ نَفِيسٌ فَإِنَّ الْعَبْدَ مُمْكِنُ الْوُجُودِ فَهُوَ مِنْ حَيْثُ هُوَ، هُوَ فِي مَرْكَزِ الْعَدَمِ وَحَضِيضِ الْفَنَاءِ، فَكَيْفَ يَكُونُ قَرِيبًا، بَلِ الْقَرِيبُ هُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِنَّهُ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ جَعَلَهُ مَوْجُودًا وَقَرَّبَهُ مِنْ نَفْسِهِ فَالْقُرْبُ مِنْهُ لَا من العبد فلهذا قال: فَإِنِّي قَرِيبٌ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الدَّاعِيَ مَا دَامَ يَبْقَى خَاطِرُهُ مَشْغُولًا بِغَيْرِ اللَّه تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ دَاعِيًا للَّه تَعَالَى فَإِذَا فَنِيَ عَنِ الْكُلِّ وَصَارَ مُسْتَغْرِقًا بِمَعْرِفَةِ اللَّه الْأَحَدِ الْحَقِّ امْتَنَعَ أَنْ يَبْقَى فِي مَقَامِ الْفَنَاءِ عَنْ غَيْرِ اللَّه مَعَ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ اللَّه تَعَالَى فَلَا جَرَمَ رُفِعَتِ الْوَاسِطَةُ مِنَ الْبَيْنِ فَمَا قَالَ: فَقُلْ إِنِّي قَرِيبٌ بَلْ قَالَ: فَإِنِّي قَرِيبٌ فَثَبَتَ بِمَا تَقَرَّرَ فَضْلُ الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ ثُمَّ مِنْ شَأْنِ الْعَبْدِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُتْحِفَ مَوْلَاهُ أَنْ لَا يُتْحِفَهُ إِلَّا بِأَحْسَنِ التُّحَفِ وَالْهَدَايَا فَلَا/ جَرَمَ أَوَّلُ مَا أَرَادَ مُوسَى أَنْ يُتْحِفَ الْحَضْرَةَ الْإِلَهِيَّةَ بِتُحَفِ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ أَتْحَفَهَا بِالدُّعَاءِ فَلَا جَرَمَ قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ فَضْلِ الدُّعَاءِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» ثُمَّ إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (العبادة) لأن قوله: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ [طه: 14] إِخْبَارٌ وَلَيْسَ بِأَمْرٍ إِنَّمَا الْأَمْرُ قَوْلُهُ: فَاعْبُدْنِي [طه: 14] فَلَمَّا كَانَ أَوَّلُ مَا أُورِدَ عَلَى مُوسَى مِنَ الْأَوَامِرِ هُوَ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ لَا جَرَمَ أَوَّلُ مَا أَتْحَفَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَضْرَةَ الرُّبُوبِيَّةِ مِنْ تُحَفِ الْعِبَادَةِ هُوَ تُحْفَةُ الدُّعَاءِ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الدُّعَاءَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ فَكَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَكَذَلِكَ أَمَرَ بِالدُّعَاءِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ [الْبَقَرَةِ: 186] . وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: 60] . وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً [الْأَعْرَافِ: 56] . ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الْأَعْرَافِ: 55] . هُوَ الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غَافِرٍ: 65] . قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الْإِسْرَاءِ: 110] . وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً [الْأَعْرَافِ: 205] وقال صلى اللَّه عليه وسلم: «ادعوا بيا ذا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» فَبِهَذِهِ الْآيَاتِ عَرَفْنَا أَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ قَالَ بَعْضُ الْجُهَّالِ: الدُّعَاءُ عَلَى خِلَافِ الْعَقْلِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يَعْلَمُ مَا فِي الْأَنْفُسِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، فَأَيُّ حَاجَةٍ بِنَا إِلَى الدُّعَاءِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَطْلُوبَ إِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الدُّعَاءِ وَإِنْ كَانَ معلوم اللاوقوع فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَثَالِثُهَا: الدُّعَاءَ يُشْبِهُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَذَلِكَ مِنَ الْعَبْدِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى سُوءُ أَدَبٍ. وَرَابِعُهَا: الْمَطْلُوبُ بِالدُّعَاءِ إِنْ كَانَ مِنَ الْمَصَالِحِ فَالْحَكِيمُ لَا يُهْمِلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَصَالِحِ لَمْ يَجُزْ طَلَبُهُ. وَخَامِسُهَا: فَقَدْ جَاءَ أَنَّ أَعْظَمَ مَقَامَاتِ الصِّدِّيقِينَ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّه تَعَالَى. وَقَدْ نُدِبَ إِلَيْهِ وَالدُّعَاءُ يُنَافِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِالِالْتِمَاسِ وَالطَّلَبِ. وَسَادِسُهَا: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رِوَايَةً عَنِ اللَّه تَعَالَى: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي

عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ الدُّعَاءِ وَالْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا تَقْتَضِي وُجُوبَ الدُّعَاءِ. وَسَابِعُهَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا تَرَكَ الدُّعَاءَ وَاكْتَفَى بِقَوْلِهِ: «حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي» اسْتَحَقَّ الْمَدْحَ الْعَظِيمَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ الدُّعَاءِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ مِنَ الدُّعَاءِ الْإِعْلَامَ بَلْ هُوَ نَوْعُ تَضَرُّعٍ كَسَائِرِ التَّضَرُّعَاتِ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى أَنْ نَقُولَ لِلْجَائِعِ وَالْعَطْشَانِ إِنْ كَانَ الشِّبَعُ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وإن كان معلوم اللاوقوع فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ الصِّيغَةَ وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةَ الْأَمْرِ إِلَّا أَنَّ صُورَةَ التَّضَرُّعِ وَالْخُشُوعِ تَصْرِفُهُ عَنْ ذَلِكَ. وَعَنِ الرَّابِعِ: يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مَصْلَحَةً بِشَرْطِ سَبْقِ الدُّعَاءِ. وَعَنِ الْخَامِسِ: أَنَّهُ إِذَا دَعَا إِظْهَارًا لِلتَّضَرُّعِ ثُمَّ رَضِيَ بِمَا قَدَّرَهُ اللَّه تَعَالَى فَذَاكَ أَعْظَمُ الْمَقَامَاتِ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنِ الْبَقِيَّةِ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِالْعِبَادَةِ وَبِالصَّلَاةِ أَمْرًا وَرَدَ مُجْمَلًا لَا جَرَمَ شَرَعَ فِي أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ وَهُوَ الدُّعَاءُ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي فَضْلِ الدُّعَاءِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقْتَصِرْ فِي بَيَانِ فَضْلِ الدُّعَاءِ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ بَلْ بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ يَغْضَبُ إِذَا لَمْ يُسْأَلْ فَقَالَ: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ/ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْأَنْعَامِ: 43] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ» وَلَكِنْ يَجْزِمُ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي فَلِهَذَا السِّرِّ جَزَمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالدُّعَاءِ وَقَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: فِي فَضْلِ الدُّعَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: 60] وَفِيهِ كَرَامَةٌ عَظِيمَةٌ لِأُمَّتِنَا لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَضَّلَهُمُ اللَّه تَفْضِيلًا عَظِيمًا فَقَالَ فِي حَقِّهِمْ: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [الْبَقَرَةِ: 47] وَقَالَ أَيْضًا: وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [الْمَائِدَةِ: 20] ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ الْعَظِيمَةِ قَالُوا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ [الْبَقَرَةِ: 68] وَأَنَّ الْحَوَارِيِّينَ مَعَ جَلَالَتِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 52] سَأَلُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَسْأَلَ لَهُمْ مَائِدَةً تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَفَعَ هَذِهِ الْوَاسِطَةَ فِي أُمَّتِنَا فَقَالَ مُخَاطِبًا لَهُمْ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وقال: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاءِ: 32] فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمَّا حَصَلَتْ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ عَرَفَهَا لَا جَرَمَ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَلَا جَرَمَ رَفَعَ يَدَيْهِ ابْتِدَاءً فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [الْبَقَرَةِ: 186] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْعِبَادَ عَلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: عَبْدُ الْعِصْمَةِ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الْحِجْرِ: 42] وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَخْصُوصًا بِمَزِيدِ الْعِصْمَةِ: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه: 41] فَلَا جَرَمَ طَلَبَ زَوَائِدَ الْعِصْمَةِ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَثَانِيهَا: عَبْدُ الصَّفْوَةِ: وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النَّمْلِ: 59] وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَخْصُوصًا بِمَزِيدِ الصَّفْوَةِ: يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي [الْأَعْرَافِ: 144] فَلَا جَرَمَ أَرَادَ مَزِيدَ الصَّفْوَةِ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَثَالِثُهَا: عَبْدُ الْبِشَارَةِ: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزُّمَرِ: 17، 18] وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى [طه: 13] فَأَرَادَ مَزِيدَ الْبِشَارَةِ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. ورابعها: عبد الكرامة: يا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ [الزُّخْرُفِ: 68] وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ: لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما [طه: 46] فَأَرَادَ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَخَامِسُهَا: عَبْدُ الْمَغْفِرَةِ: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الْحِجْرِ: 49] ، وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ [ص: 35] فَأَرَادَ الزِّيَادَةَ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي.

وَسَادِسُهَا: عَبْدُ الْخِدْمَةِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [الْبَقَرَةِ: 21] وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي فَطَلَبَ الزِّيَادَةَ فِيهَا فَقَالَ: اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَسَابِعُهَا: عَبْدُ الْقُرْبَةِ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [الْبَقَرَةِ: 186] وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَخْصُوصًا بِالْقُرْبِ: وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا [مَرْيَمَ: 52] فَأَرَادَ كَمَالَ الْقُرْبِ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي قَوْلِهِ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَاطَبَهُ بِالْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ [الَّتِي] أَحَدُهَا: مَعْرِفَةُ التَّوْحِيدِ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا [طه: 14] ، وَثَانِيهَا: أَمَرَهُ بِالْعِبَادَةِ وَالصَّلَاةِ: فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] ، وثالثها: معرفة الآخرة: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ [طه: 15] / وَرَابِعُهَا: حِكْمَةُ أَفْعَالِهِ فِي الدُّنْيَا: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه: 17] ، وَخَامِسُهَا: عَرْضُ الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ عَلَيْهِ: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى [طه: 23] ، وَسَادِسُهَا: إِرْسَالُهُ إِلَى أَعْظَمِ النَّاسِ كُفْرًا وَعُتُوًّا فَكَانَتْ هَذِهِ التَّكَالِيفُ الشَّاقَّةُ سَبَبًا لِلْقَهْرِ فَأَرَادَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جَبْرَ هَذَا الْقَهْرِ بِالْمُعْجِزِ فَعَرَّفَهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَأَلَهُ قَرُبَ مِنْهُ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي فَأَرَادَ جَبْرَ الْقَهْرِ الْحَاصِلِ مِنْ هَذِهِ التَّكَالِيفِ بِالْقُرْبِ مِنْهُ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي أَوْ يُقَالُ خَافَ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَدَعَا لِيَصِلَ بِسَبَبِ الدُّعَاءِ إِلَى مَقَامِ الْقُرْبِ فَيَصِيرَ مَأْمُونًا مِنْ غَوَائِلِ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أَرَادَ الذَّهَابَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ طَمَعَ الْخَلْقِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْكُلِّيَّةِ فَعَرَفَ أَنَّ مَنْ دَعَا رَبَّهُ قَرَّبَهُ لَهُ وَقَرَّبَهُ لَدَيْهِ فَحِينَئِذٍ تَنْقَطِعُ الْأَطْمَاعُ بِالْكُلِّيَّةِ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَثَالِثُهَا: الْوُجُودُ كَالنُّورِ وَالْعَدَمُ كَالظُّلْمَةِ وَكُلُّ مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى فَهُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ فَكُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فَالْكُلُّ كَأَنَّهُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْعَدَمِ وَإِظْلَالِ عَالَمِ الْأَجْسَامِ وَالْإِمْكَانِ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي حَتَّى يَجْلِسَ قَلْبِي فِي بَهِيِّ ضَوْءِ الْمَعْرِفَةِ وَسَادَةِ شَرْحِ الصَّدْرِ وَالْجَالِسُ فِي الضَّوْءِ لَا يَرَى مَنْ كَانَ جَالِسًا فِي الظُّلْمَةِ فَحِينَ جَلَسَ فِي ضَوْءِ شَرْحِ الصَّدْرِ لَا يَرَى أَحَدًا فِي الْوُجُودِ فَلِهَذَا عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي فَإِنَّ الْعَبْدَ فِي مَقَامِ الِاسْتِغْرَاقِ لَا يَتَفَرَّغُ لِشَيْءٍ مِنَ الْمُهِمَّاتِ. وَرَابِعُهَا: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي فَإِنَّ عَيْنَ الْعَيْنِ ضَعِيفَةٌ فَأَطْلِعْ يَا إِلَهِي شَمْسَ التَّوْفِيقِ حَتَّى أَرَى كُلَّ شَيْءٍ كَمَا هُوَ، وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرِنَا الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ» وَاعْلَمْ أَنَّ شَرْحَ الصَّدْرِ مُقَدِّمَةٌ لِسُطُوعِ الْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْقَلْبِ وَالِاسْتِمَاعَ مُقَدِّمَةُ الْفَهْمِ الْحَاصِلِ مِنْ سَمَاعِ الْكَلَامِ فاللَّه تَعَالَى أَعْطَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى فَلَا جَرَمَ نَسَجَ مُوسَى عَلَى ذَلِكَ الْمِنْوَالِ فَطَلَبَ الْمُقَدِّمَةَ الْأُخْرَى فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَلَمَّا آلَ الْأَمْرُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] وَالْعِلْمُ هُوَ الْمَقْصُودُ، فَلَمَّا كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَالْمُقَدِّمَةِ لِمَقْدِمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا جَرَمَ أُعْطِيَ الْمُقَدِّمَةَ، وَلَمَّا كَانَ مُحَمَّدٌ كَالْمَقْصُودِ لَا جَرَمَ أُعْطِيَ الْمَقْصُودَ فَسُبْحَانَهُ مَا أَدَقَّ حِكْمَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَسَادِسُهَا: الدَّاعِي لَهُ صِفَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلرَّبِّ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [الْبَقَرَةِ: 186] . وَثَانِيَتُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ لَهُ: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: 60] أَضَافَ نَفْسَهُ إِلَيْنَا وَمَا أَضَافَنَا إِلَى نَفْسِهِ وَالْمُشْتَغِلُ بِالدُّعَاءِ قَدْ صَارَ كَامِلًا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَأَرَادَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ يَرْتَعَ فِي هَذَا الْبُسْتَانِ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَسَابِعُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ شَرَّفَهُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا [مَرْيَمَ: 52] فَكَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ إِلَهِي لَمَّا قُلْتَ: وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا صِرْتُ قَرِيبًا مِنْكَ وَلَكِنْ أُرِيدُ قُرْبَكَ

مِنِّي فَقَالَ يَا مُوسَى أَمَا سَمِعْتَ قَوْلِي: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ فَاشْتَغِلْ بِالدُّعَاءِ حَتَّى أَصِيرَ قَرِيبًا مِنْكَ فَعِنْدَ ذَلِكَ: قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَثَامِنُهَا: قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْحِ: 1] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى مَا تَرَكَهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ بَلْ قَالَ: وَسِراجاً مُنِيراً [الْأَحْزَابِ: 46] فَانْظُرْ إِلَى التَّفَاوُتِ فَإِنَّ شَرْحَ الصَّدْرِ هُوَ أَنْ يَصِيرَ الصَّدْرُ/ قَابِلًا لِلنُّورِ وَالسِّرَاجُ الْمُنِيرُ هُوَ أَنْ يُعْطِيَ النُّورَ فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ الْآخِذِ وَالْمُعْطِي ثُمَّ نَقُولُ إِلَهَنَا إِنَّ دِينَنَا وَهِيَ كَلِمَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه نُورٌ، وَالْوُضُوءُ نُورٌ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالْقَبْرُ نُورٌ، وَالْجَنَّةُ نُورٌ، فَبِحَقِّ أَنْوَارِكَ الَّتِي أَعْطَيْتَنَا فِي الدُّنْيَا لَا تَحْرِمْنَا أَنْوَارَ فَضْلِكَ وَإِحْسَانِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي قَوْلِهِ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي سُئِلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَرْحِ الصَّدْرِ فَقَالَ: نُورٌ يُقْذَفُ فِي الْقَلْبِ، فَقِيلَ: وَمَا أَمَارَتُهُ فَقَالَ: التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَالْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ النُّزُولِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرْحَ الصَّدْرِ عِبَارَةٌ عَنِ النُّورِ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزُّمَرِ: 22] وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ عَشَرَةَ أَشْيَاءَ وَوَصَفَهَا بِالنُّورِ، أَحَدُهَا: وَصَفَ ذَاتَهُ بِالنُّورِ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّورِ: 35] . وَثَانِيهَا: الرَّسُولَ: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [الْمَائِدَةِ: 15] . وَثَالِثُهَا: الْقُرْآنِ: وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [الْأَعْرَافِ: 157] . وَرَابِعُهَا: الْإِيمَانَ: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [التَّوْبَةِ: 32] . وَخَامِسُهَا: عَدْلَ اللَّه: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها [الزُّمَرِ: 69] . وَسَادِسُهَا: ضِيَاءَ الْقَمَرِ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نُوحٍ: 16] ، وَسَابِعُهَا: النَّهَارَ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: 1] . وَثَامِنُهَا: الْبَيِّنَاتِ: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَةِ: 44] . وَتَاسِعُهَا: الْأَنْبِيَاءَ: نُورٌ عَلى نُورٍ [النُّورِ: 35] . وَعَاشِرُهَا: الْمَعْرِفَةَ: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ [النُّورِ: 35] إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ كَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بِمَعْرِفَةِ أَنْوَارِ جَلَالِكَ وَكِبْرِيَائِكَ. وَثَانِيهَا: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، بِالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ رُسُلِكَ وَأَنْبِيَائِكَ. وَثَالِثُهَا: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، بِاتِّبَاعِ وَحْيِكَ وَامْتِثَالِ أَمْرِكَ وَنَهْيِكَ. وَرَابِعُهَا: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، بِنُورِ الإيمان والإيقان بإلهيتك. وخامسها: رب اشرح صَدْرِي بِالْإِطِّلَاعِ عَلَى أَسْرَارِ عَدْلِكَ فِي قَضَائِكَ وَحُكْمِكَ. وَسَادِسُهَا: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بِالِانْتِقَالِ مِنْ نُورِ شَمْسِكَ وَقَمَرِكَ إِلَى أَنْوَارِ جَلَالِ عِزَّتِكَ كَمَا فَعَلَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ انْتَقَلَ مِنَ الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ إِلَى حَضْرَةِ الْعِزَّةِ. وَسَابِعُهَا: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي مِنْ مُطَالَعَةِ نَهَارِكَ وَلَيْلِكَ إِلَى مُطَالَعَةِ نَهَارِ فَضْلِكَ وَلَيْلِ عَدْلِكَ. وَثَامِنُهَا: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بِالْإِطِّلَاعِ عَلَى مَجَامِعِ آيَاتِكَ وَمَعَاقِدِ بَيِّنَاتِكَ فِي أرضك وسمواتك. وَتَاسِعُهَا: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي فِي أَنْ أَكُونَ خَلْفَ صُوَرِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَمُتَشَبِّهًا بِهِمْ فِي الِانْقِيَادِ لِحُكْمِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَعَاشِرُهَا: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بِأَنْ تَجْعَلَ سِرَاجَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِي كَالْمِشْكَاةِ الَّتِي فِيهَا الْمِصْبَاحُ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرْحَ الصَّدْرِ عِبَارَةٌ عَنْ إِيقَادِ النُّورِ فِي الْقَلْبِ حَتَّى يَصِيرَ الْقَلْبُ كَالسِّرَاجِ وَذَلِكَ النُّورُ كَالنَّارِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْقِدَ سِرَاجًا احْتَاجَ إِلَى سَبْعَةِ أَشْيَاءَ: زَنْدٌ وَحَجَرٌ وَحِرَاقٌ وَكِبْرِيتٌ وَمِسْرَجَةٌ وَفَتِيلَةٌ وَدُهْنٌ. فَالْعَبْدُ إِذَا طَلَبَ النُّورَ الَّذِي هُوَ شَرْحُ الصَّدْرِ افْتَقَرَ إِلَى هَذِهِ السَّبْعَةِ. فَأَوَّلُهَا: لَا بُدَّ مِنْ زَنْدِ الْمُجَاهَدَةِ: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [الْعَنْكَبُوتِ: 69] . وَثَانِيهَا: حَجَرُ التَّضَرُّعِ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الأعراف: 55] . وَثَالِثُهَا: حِرَاقُ مَنْعِ الْهَوَى: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى [النَّازِعَاتِ: 40] . وَرَابِعُهَا: كِبْرِيتُ الْإِنَابَةِ: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ [الزمر: 54] ملطخا رؤوس تِلْكَ/ الْخَشَبَاتِ بِكِبْرِيتِ تُوبُوا إِلَى اللَّه. وَخَامِسُهَا: مِسْرَجَةُ الصَّبْرِ: وَاسْتَعِينُوا

بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [الْبَقَرَةِ: 45] . وَسَادِسُهَا: فَتِيلَةُ الشُّكْرِ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7] . وسابعها: دهن الرضا: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الطور: 48] أَيِ ارْضَ بِقَضَاءِ رَبِّكَ فَإِذَا صَلَحَتْ هَذِهِ الْأَدَوَاتُ فَلَا تُعَوِّلْ عَلَيْهَا بَلْ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَطْلُبَ الْمَقْصُودَ إِلَّا مِنْ حَضْرَتِهِ: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها [فَاطِرٍ: 2] ثُمَّ اطْلُبْهَا بِالْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه: 108] فَعِنْدَ ذَلِكَ تَرْفَعُ يَدَ التَّضَرُّعِ وَتَقُولُ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي فَهُنَالِكَ تَسْمَعُ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [طه: 36] ثُمَّ نَقُولُ هَذَا النُّورُ الرُّوحَانِيُّ الْمُسَمَّى بِشَرْحِ الصَّدْرِ أَفْضَلُ مِنَ الشَّمْسِ الْجُسْمَانِيَّةِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الشَّمْسُ تَحْجُبُهَا غَمَامَةٌ وَشَمْسُ الْمَعْرِفَةِ لَا يحجبها السموات السَّبْعُ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فَاطِرٍ: 10] . وَثَانِيهَا: الشَّمْسُ تَغِيبُ لَيْلًا وَتَعُودُ نَهَارًا قَالَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الْأَنْعَامِ: 76] أَمَّا شَمْسُ الْمَعْرِفَةِ فَلَا تَغِيبُ لَيْلًا: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً [الْمُزَّمِّلِ: 6] وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ [آلِ عِمْرَانَ: 17] بَلْ أَكْمَلُ الْخِلَعِ الرُّوحَانِيَّةِ تَحْصُلُ فِي اللَّيْلِ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الْإِسْرَاءِ: 1] . وَثَالِثُهَا: الشَّمْسُ تَفْنَى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التَّكْوِيرِ: 1] وَشَمْسُ الْمَعْرِفَةِ لَا تَفْنَى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] . وَرَابِعُهَا: الشَّمْسُ إِذَا قابلها القمر انكسفت أما هاهنا فَشَمْسُ الْمَعْرِفَةِ وَهِيَ مَعْرِفَةُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه مَا لَمْ يُقَابِلْهَا قَمَرٌ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه لَمْ يَصِلْ نُورُهُ إِلَى عَالَمِ الْجَوَارِحِ. وَخَامِسُهَا: الشَّمْسُ تُسَوِّدُ الْوُجُوهَ وَالْمَعْرِفَةُ تُبَيِّضُهَا: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آلِ عِمْرَانَ: 106] . وَسَادِسُهَا: الشَّمْسُ تَحْرِقُ وَالْمَعْرِفَةُ تنجي من الحرق، جزيا مُؤْمِنُ فَإِنَّ نُورَكَ قَدْ أَطْفَأَ لَهَبِي. وَسَابِعُهَا: الشَّمْسُ تَصْدَعُ وَالْمَعْرِفَةُ تَصْعَدُ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فَاطِرٍ: 10] . وَثَامِنُهَا: الشَّمْسُ مَنْفَعَتُهَا فِي الدُّنْيَا وَالْمَعْرِفَةُ مَنْفَعَتُهَا فِي الْعُقْبَى: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ [الْكَهْفِ: 46] . وَتَاسِعُهَا: الشَّمْسُ فِي السَّمَاءِ زِينَةٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ وَالْمَعْرِفَةُ فِي الْأَرْضِ زِينَةٌ لِأَهْلِ السَّمَاءِ. وَعَاشِرُهَا: الشَّمْسُ فَوْقَانِيُّ الصُّورَةِ تَحْتَانِيُّ الْمَعْنَى وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْحَسَدِ مَعَ التَّكَبُّرِ، وَالْمَعَارِفُ الْإِلَهِيَّةُ تَحْتَانِيَّةُ الصُّورَةِ فَوْقَانِيَّةُ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى التَّوَاضُعِ مَعَ الشَّرَفِ. وَحَادِي عَشَرِهَا: الشَّمْسُ تَعْرِفُ أَحْوَالَ الْخَلْقِ وَبِالْمَعْرِفَةِ يَصِلُ الْقَلْبُ إِلَى الْخَالِقِ. وَثَانِي عَشَرِهَا: الشَّمْسُ تَقَعُ عَلَى الْوَلِيِّ وَالْعَدُوِّ وَالْمَعْرِفَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا لِلْوَلِيِّ فَلَمَّا كَانَتِ الْمَعْرِفَةُ مَوْصُوفَةً بِهَذِهِ الصِّفَاتِ النَّفِيسَةِ لَا جَرَمَ قَالَ مُوسَى: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَأَمَّا النُّكَتُ: فَإِحْدَاهَا: الشَّمْسُ سِرَاجٌ اسْتَوْقَدَهَا اللَّه تَعَالَى لِلْفَنَاءِ: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرَّحْمَنِ: 26] وَالْمَعْرِفَةُ اسْتَوْقَدَهَا لِلْبَقَاءِ فَالَّذِي خَلَقَهَا لِلْفَنَاءِ لَوْ قَرُبَ الشَّيْطَانُ مِنْهَا لَاحْتَرَقَ: شِهاباً رَصَداً [الْجِنِّ: 9] وَالْمَعْرِفَةُ الَّتِي خَلَقَهَا لِلْبَقَاءِ كَيْفَ يَقْرُبُ مِنْهَا الشَّيْطَانُ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَثَانِيَتُهَا: اسْتَوْقَدَ اللَّه الشَّمْسَ فِي السَّمَاءِ وَإِنَّهَا تُزِيلُ الظُّلْمَةَ عَنْ بَيْتِكَ مَعَ بُعْدِهَا عَنْ بَيْتِكَ، وَأَوْقَدَ شَمْسَ الْمَعْرِفَةِ فِي قَلْبِكَ أَفَلَا تُزِيلُ ظُلْمَةَ الْمَعْصِيَةِ وَالْكُفْرِ عَنْ قَلْبِكَ مَعَ قُرْبِهَا مِنْكَ. وَثَالِثَتُهَا: مَنِ اسْتَوْقَدَ سِرَاجًا فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَتَعَهَّدُهُ وَيَمُدُّهُ واللَّه تَعَالَى هُوَ الْمُوقِدُ لِسِرَاجِ الْمَعْرِفَةِ: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ [الْحُجُرَاتِ: 7] أَفَلَا يَمُدُّهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَرَابِعَتُهَا: اللِّصُّ إِذَا رَأَى السِّرَاجَ يُوقَدُ فِي الْبَيْتِ لَا يَقْرُبُ مِنْهُ واللَّه قَدْ أَوْقَدَ سِرَاجَ الْمَعْرِفَةِ فِي/ قَلْبِكَ فَكَيْفَ يَقْرُبُ الشَّيْطَانُ مِنْهُ فَلِهَذَا قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَخَامِسَتُهَا: الْمَجُوسُ أَوْقَدُوا نَارًا فَلَا يُرِيدُونَ إِطْفَاءَهَا وَالْمَلِكُ الْقُدُّوسُ أَوْقَدَ سِرَاجَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِكَ فَكَيْفَ يَرْضَى بِإِطْفَائِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْطَى قَلْبَ الْمُؤْمِنِ تِسْعَ كَرَامَاتٍ، أَحَدُهَا: الْحَيَاةُ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الْأَنْعَامِ: 122] فَلَمَّا رَغِبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْحَيَاةِ الرُّوحَانِيَّةِ قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ثُمَّ

النُّكْتَةُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ فَالْعَبْدُ لَمَّا أَحْيَا أَرْضًا فَهِيَ لَهُ فَالرَّبُّ لَمَّا خَلَقَ الْقَلْبَ وَأَحْيَاهُ بِنُورِ الْإِيمَانِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ فِيهِ نَصِيبٌ: قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [الْأَنْعَامِ: 91] وَكَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ حَيَاةُ الْقَلْبِ فَالْكُفْرُ مَوْتُهُ: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ [النَّحْلِ: 21] . وَثَانِيهَا: الشِّفَاءُ: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التَّوْبَةِ: 14] فَلَمَّا رَغِبَ مُوسَى فِي الشِّفَاءِ رَفَعَ الْأَيْدِيَ قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَالنُّكْتَةُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا جَعَلَ الشِّفَاءَ فِي الْعَسَلِ بَقِيَ شِفَاءً أَبَدًا فَهَهُنَا لَمَّا وُضِعَ الشِّفَاءُ فِي الصَّدْرِ فَكَيْفَ لَا يَبْقَى شِفَاءً أَبَدًا. وَثَالِثُهَا: الطَّهَارَةُ: أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى [الْحُجُرَاتِ: 3] فَلَمَّا رَغِبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تَحْصِيلِ طَهَارَةِ التَّقْوَى قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَالنُّكْتَةُ أَنَّ الصَّائِغَ إِذَا امْتَحَنَ الذَّهَبَ مَرَّةً فَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يُدْخِلُهُ فِي النَّارِ فَهَهُنَا لَمَّا امْتَحَنَ اللَّه قَلْبَ الْمُؤْمِنِ فَكَيْفَ يُدْخِلُهُ النَّارَ ثَانِيًا وَلَكِنَّ اللَّه يُدْخِلُ فِي النَّارِ قَلْبَ الْكَافِرِ: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الْأَنْفَالِ: 37] . وَرَابِعُهَا: الْهِدَايَةُ وَمَنْ يُؤْمِنْ باللَّه يَهْدِ قَلْبَهُ فَرَغِبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي طَلَبِ زَوَائِدِ الْهِدَايَةِ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَالنُّكْتَةُ أَنَّ الرَّسُولَ يَهْدِي نَفْسَكَ وَالْقُرْآنَ يَهْدِي رُوحَكَ وَالْمَوْلَى يَهْدِي قَلْبَكَ فَلَمَّا كَانَتِ الْهِدَايَةُ مِنَ الْكُفْرِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا جَرَمَ تَارَةً تَحْصُلُ وَأُخْرَى لَا تَحْصُلُ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [الْقَصَصِ: 56] وَهِدَايَةُ الرُّوحِ لَمَّا كَانَتْ مِنَ الْقُرْآنِ فَتَارَةً تَحْصُلُ وَأُخْرَى لَا تَحْصُلُ: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [الْبَقَرَةِ: 26] أَمَّا هِدَايَةُ الْقَلْبِ فَلَمَّا كَانَتْ مِنَ اللَّه تَعَالَى فَإِنَّهَا لَا تَزُولُ لِأَنَّ الْهَادِيَ لَا يَزُولُ: وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [يُونُسَ: 25] . وَخَامِسُهَا: الْكِتَابَةُ: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [الْمُجَادَلَةِ: 22] فَلَمَّا رَغِبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تِلْكَ الْكِتَابَةِ قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَفِيهِ نُكَتٌ: الْأُولَى: أَنَّ الْكَاغَدَةَ لَيْسَ لَهَا خَطَرٌ عَظِيمٌ وَإِذَا كُتِبَ فِيهَا الْقُرْآنُ لَمْ يَجُزْ إِحْرَاقُهَا فَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ كُتِبَ فِيهِ جَمِيعُ أَحْكَامِ ذَاتِ اللَّه تَعَالَى وَصِفَاتِهِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْكَرِيمِ إِحْرَاقُهُ. الثَّانِيَةُ: بِشْرٌ الْحَافِيُّ أَكْرَمَ كَاغَدًا فِيهِ اسْمُ اللَّه تَعَالَى فَنَالَ سَعَادَةَ الدَّارَيْنِ فَإِكْرَامُ قَلْبٍ فِيهِ مَعْرِفَةُ اللَّه تَعَالَى أَوْلَى بِذَلِكَ. وَالثَّالِثَةُ: كَاغَدٌ لَيْسَ فِيهِ خَطٌّ إِذَا كُتِبَ فِيهِ اسْمُ اللَّه الْأَعْظَمِ عَظُمَ قَدْرُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ أَنْ يَمَسَّهُ بَلْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمَسَّ جِلْدَ الْمُصْحَفِ، وَقَالَ اللَّه تَعَالَى: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الْوَاقِعَةِ: 79] فَالْقَلْبُ الَّذِي فِيهِ أَكْرَمُ الْمَخْلُوقَاتِ: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الْإِسْرَاءِ: 70] كَيْفَ يَجُوزُ لِلشَّيْطَانِ الْخَبِيثِ أَنْ يَمَسَّهُ واللَّه أَعْلَمُ. وَسَادِسُهَا: السَّكِينَةُ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ [الْفَتْحِ: 4] فَلَمَّا رَغِبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي طَلَبِ السَّكِينَةِ قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَالنُّكْتَةُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ خَائِفًا فَلَمَّا نَزَلَتِ السَّكِينَةُ عَلَيْهِ قَالَ: لَا تَحْزَنْ فَلَمَّا نَزَلَتْ سَكِينَةُ/ الْإِيمَانِ فَرَجَوْا أَنْ يَسْمَعُوا خِطَابَ: أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فُصِّلَتْ: 30] وَأَيْضًا لَمَّا نَزَلَتِ السَّكِينَةُ صَارَ مِنَ الْخُلَفَاءِ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النُّورِ: 55] أَيْ أَنْ يَصِيرُوا خُلَفَاءَ اللَّه فِي أَرْضِهِ. وَسَابِعُهَا: الْمَحَبَّةُ وَالزِّينَةُ: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 7] وَالنُّكْتَةُ أَنَّ مَنْ أَلْقَى حَبَّةً فِي أَرْضٍ فَإِنَّهُ لَا يُفْسِدُهَا وَلَا يَحْرِقُهَا فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَلْقَى حَبَّةَ الْمَحَبَّةِ فِي أَرْضِ الْقَلْبِ فكيف يحرقها. وثامنها: فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ [الأنفال: 63] وَالنُّكْتَةُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِ أَصْحَابِهِ ثُمَّ إِنَّهُ مَا تَرَكَهُمْ [فِي] غَيْبَةٍ وَلَا حُضُورٍ: «سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّه الصَّالِحِينَ» فَالرَّحِيمُ كَيْفَ يَتْرُكُهُمْ. وَتَاسِعُهَا: الطُّمَأْنِينَةُ: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْدِ: 28] وَمُوسَى طَلَبَ الطُّمَأْنِينَةَ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَالنُّكْتَةُ أَنَّ حَاجَةَ الْعَبْدِ لَا نِهَايَةَ لَهَا فَلِهَذَا لَوْ أُعْطِيَ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنَ الْأَجْسَامِ فَإِنَّهُ لَا يَكْفِيهِ لأن

حَاجَتَهُ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَالْأَجْسَامَ مُتَنَاهِيَةٌ وَالْمُتَنَاهِي لَا يَصِيرُ مُقَابِلًا لِغَيْرِ الْمُتَنَاهِي بَلِ الَّذِي يَكْفِي فِي الْحَاجَةِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ الْكَمَالُ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلِهَذَا قَالَ: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ وَلَمَّا عَرَفْتَ حَقِيقَةَ شَرْحِ الصَّدْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ فَاعْرِفْ صِفَاتِ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّه قُلُوبَهُمْ. وَثَانِيهَا: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّه قُلُوبَهُمْ. وَثَالِثُهَا: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. وَرَابِعُهَا: جعلنا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً. وَخَامِسُهَا: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ. وَسَادِسُهَا: خَتَمَ اللَّه عَلَى قُلُوبِهِمْ. وَسَابِعُهَا: أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا. وَثَامِنُهَا: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ. وَتَاسِعُهَا: أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّه عَلَى قُلُوبِهِمْ. إِلَهَنَا وَسَيِّدَنَا بِفَضْلِكَ وَإِحْسَانِكَ أَغْلِقْ هَذِهِ الْأَبْوَابَ التِّسْعَةَ مِنْ خِذْلَانِكَ عَنَّا وَاجْبُرْنَا بِإِحْسَانِكَ وَافْتَحْ لَنَا تِلْكَ الْأَبْوَابَ التِّسْعَةَ مِنْ إِحْسَانِكَ بِفَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ إِنَّكَ عَلَى مَا تَشَاءُ قَدِيرٌ. الْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِي حَقِيقَةِ شَرْحِ الصَّدْرِ، ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَبْقَى لِلْقَلْبِ الْتِفَاتٌ إِلَى الدُّنْيَا لَا بِالرَّغْبَةِ وَلَا بِالرَّهْبَةِ أَمَّا الرَّغْبَةُ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقَ الْقَلْبِ بِالْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَبِتَحْصِيلِ مَصَالِحِهِمْ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ، وَأَمَّا الرَّهْبَةُ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ خَائِفًا مِنَ الْأَعْدَاءِ وَالْمُنَازِعِينَ فَإِذَا شَرَحَ اللَّه صَدْرَهُ صَغُرَ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا فِي عَيْنِ هِمَّتِهِ، فَيَصِيرُ كَالذُّبَابِ وَالْبَقِّ وَالْبَعُوضِ لَا تَدْعُوهُ رَغْبَةٌ إِلَيْهَا وَلَا تَمْنَعُهُ رَهْبَةٌ عَنْهَا، فَيَصِيرُ الْكُلُّ عِنْدَهُ كَالْعَدَمِ وَحِينَئِذٍ يُقْبِلُ الْقَلْبُ بِالْكُلِّيَّةِ نَحْوَ طَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى، فَإِنَّ الْقَلْبَ فِي الْمِثَالِ كَيَنْبُوعٍ مِنَ الْمَاءِ وَالْقُوَّةُ الْبَشَرِيَّةُ لِضَعْفِهَا كَالْيَنْبُوعِ الصَّغِيرِ فَإِذَا فَرَّقْتَ مَاءَ الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ عَلَى الْجَدَاوِلِ الْكَثِيرَةِ ضَعُفَتِ الْكُلُّ فَأَمَّا إِذَا انْصَبَّ الْكُلُّ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ قَوِيَ فَسَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ أَنْ يَشْرَحَ لَهُ صَدْرَهُ بِأَنْ يُوقِفَهُ عَلَى مَعَايِبِ الدُّنْيَا وَقُبْحِ صِفَاتِهَا حَتَّى يَصِيرَ قَلْبُهُ نَفُورًا عَنْهَا فَإِذَا حَصَلَتِ النَّفْرَةُ تَوَجَّهَ إِلَى عَالِمِ الْقُدُسِ وَمَنَازِلِ الرُّوحَانِيَّاتِ بِالْكُلِّيَّةِ. الثَّانِي: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا نُصِّبَ لِذَلِكَ الْمَنْصِبِ الْعَظِيمِ احْتَاجَ إِلَى تَكَالِيفَ شَاقَّةٍ مِنْهَا ضَبْطُ الْوَحْيِ وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى خِدْمَةِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمِنْهَا إِصْلَاحُ الْعَالَمِ الْجَسَدَانِيِّ فَكَأَنَّهُ صَارَ مُكَلَّفًا بِتَدْبِيرِ الْعَالَمَيْنِ وَالِالْتِفَاتُ إِلَى أَحَدِهِمَا يَمْنَعُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْآخَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَغِلَ بِالْإِبْصَارِ يَصِيرُ/ مَمْنُوعًا عَنِ السَّمَاعِ وَالْمُشْتَغِلَ بِالسَّمَاعِ يَصِيرُ مَمْنُوعًا عَنِ الْإِبْصَارِ وَالْخَيَالِ، فَهَذِهِ الْقُوَى مُتَجَاذِبَةٌ مُتَنَازِعَةٌ وَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الْكُلِّ وَمَنِ اسْتَأْنَسَ بِجَمَالِ الْحَقِّ اسْتَوْحَشَ مِنْ جَمَالِ الْخَلْقِ فَسَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ أَنْ يَشْرَحَ صَدْرَهُ بِأَنْ يَفِيضَ عَلَيْهِ كَمَالًا مِنَ الْقُوَّةِ لِتَكُونَ قُوَّتُهُ وَافِيَةً بِضَبْطِ الْعَالَمَيْنِ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ شَرْحِ الصَّدْرِ. وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ لِهَذَا الْمَعْنَى أَمْثِلَةً. الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ الْبَدَنَ بِالْكُلِّيَّةِ كَالْمَمْلَكَةِ وَالصَّدْرَ كَالْقَلْعَةِ وَالْفُؤَادَ كَالْقَصْرِ وَالْقَلْبَ كَالتَّخْتِ وَالرُّوحَ كَالْمَلِكِ وَالْعَقْلَ كَالْوَزِيرِ وَالشَّهْوَةَ كَالْعَامِلِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَجْلِبُ النِّعَمَ إِلَى الْبَلْدَةِ وَالْغَضَبَ كَالِاسْفِهْسَالَارِ الَّذِي يَشْتَغِلُ بِالضَّرْبِ وَالتَّأْدِيبِ أَبَدًا وَالْحَوَاسَّ كَالْجَوَاسِيسِ وَسَائِرَ الْقُوَى كَالْخَدَمِ وَالْعُمْلَةِ وَالصُّنَّاعِ ثُمَّ إِنَّ الشَّيْطَانَ خَصْمٌ لِهَذِهِ الْبَلْدَةِ وَلِهَذِهِ الْقَلْعَةِ وَلِهَذَا الْمَلِكِ فَالشَّيْطَانُ هُوَ الْمَلِكُ وَالْهَوَى وَالْحِرْصُ وَسَائِرُ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ جُنُودُهُ فَأَوَّلُ مَا أَخْرَجَ الرُّوحُ وَزِيرَهُ وَهُوَ الْعَقْلُ فَكَذَا الشَّيْطَانُ أَخْرَجَ فِي مُقَابَلَتِهِ الْهَوَى فَجَعَلَ الْعَقْلُ يَدْعُو إِلَى اللَّه تَعَالَى وَالْهَوَى يَدْعُو إِلَى الشَّيْطَانِ ثُمَّ إِنَّ الرُّوحَ أَخْرَجَ الْفِطْنَةَ إِعَانَةً لِلْعَقْلِ فَأَخْرَجَ الشَّيْطَانُ فِي مُقَابَلَةِ الْفِطْنَةِ الشَّهْوَةَ، فَالْفِطْنَةُ تُوقِفُكَ عَلَى مَعَايِبِ الدُّنْيَا وَالشَّهْوَةُ تُحَرِّكُكَ إِلَى لَذَّاتِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِنَّ الرُّوحَ أَمَدَّ الْفِطْنَةَ بِالْفِكْرَةِ لِتَقْوَى الْفِطْنَةُ بِالْفِكْرَةِ فَتَقِفُ عَلَى الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ مِنَ الْمَعَائِبِ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ» فَأَخْرَجَ الشَّيْطَانُ فِي مُقَابَلَةِ الْفِكْرَةِ الْغَفْلَةَ ثُمَّ أَخْرَجَ الرُّوحُ الْحِلْمَ وَالثَّبَاتَ فَإِنَّ الْعَجَلَةَ تَرَى الْحَسَنَ قَبِيحًا وَالْقَبِيحَ حَسَنًا وَالْحِلْمُ يُوقِفُ الْعَقْلَ عَلَى قُبْحِ الدُّنْيَا فَأَخْرَجَ الشَّيْطَانُ فِي مُقَابَلَتِهِ الْعَجَلَةَ وَالسُّرْعَةَ فَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا دَخَلَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا الْخَرَقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا

شانه» ولهذا خلق السموات وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لِيُتَعَلَّمَ مِنْهُ الرِّفْقُ وَالثَّبَاتُ فَهَذِهِ هِيَ الْخُصُومَةُ الْوَاقِعَةُ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ، وَقَلْبُكَ وَصَدْرُكَ هُوَ الْقَلْعَةُ. ثُمَّ إِنَّ لِهَذَا الصَّدْرِ الَّذِي هُوَ الْقَلْعَةُ خَنْدَقًا وَهُوَ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا وَعَدَمُ الرَّغْبَةِ فِيهَا وَلَهُ سُورٌ وهو الرغبة الْآخِرَةِ وَمَحَبَّةُ اللَّه تَعَالَى فَإِنْ كَانَ الْخَنْدَقُ عَظِيمًا وَالسُّورُ قَوِيًّا عَجَزَ عَسْكَرُ الشَّيْطَانِ عَنْ تَخْرِيبِهِ فَرَجَعُوا وَرَاءَهُمْ وَتَرَكُوا الْقَلْعَةَ كَمَا كَانَتْ وَإِنْ كَانَ خَنْدَقُ الزُّهْدِ غَيْرَ عَمِيقٍ وَسُورُ حُبِّ الْآخِرَةِ غَيْرَ قَوِيٍّ قَدَرَ الْخَصْمُ عَلَى اسْتِفْتَاحِ قَلْعَةِ الصَّدْرِ فَيَدْخُلُهَا وَيَبِيتُ فِيهَا جُنُودُهُ مِنَ الْهَوَى وَالْعُجْبِ وَالْكِبْرِ وَالْبُخْلِ وَسُوءِ الظَّنِّ باللَّه تَعَالَى وَالنَّمِيمَةِ وَالْغِيبَةِ فَيَنْحَصِرُ الْمَلِكُ فِي الْقَصْرِ وَيَضِيقُ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فَإِذَا جَاءَ مَدَدُ التَّوْفِيقِ وَأَخْرَجَ هَذَا الْعَسْكَرَ مِنَ الْقَلْعَةِ انْفَسَحَ الْأَمْرُ وَانْشَرَحَ الصَّدْرُ وَخَرَجَتْ ظُلُمَاتُ الشَّيْطَانِ وَدَخَلَتْ أَنْوَارُ هِدَايَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. الْمِثَالُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ مَعْدِنَ النُّورِ هُوَ الْقَلْبُ وَاشْتِغَالُ الْإِنْسَانِ بِالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ وَالرَّغْبَةُ فِي مُصَاحَبَةِ النَّاسِ وَالْخَوْفُ مِنَ الْأَعْدَاءِ هُوَ الْحِجَابُ الْمَانِعُ مِنْ وُصُولِ نُورِ شَمْسِ الْقَلْبِ إِلَى فَضَاءِ الصَّدْرِ فَإِذَا قَوَّى اللَّه بَصِيرَةَ الْعَبْدِ حَتَّى طَالَعَ عَجْزَ الْخَلْقِ وَقِلَّةَ فَائِدَتِهِمْ فِي الدَّارَيْنِ صَغُرُوا فِي عَيْنِهِ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ عَدَمٌ مَحْضٌ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88] فَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَأَمَّلُ فِيمَا سِوَى اللَّه تَعَالَى إِلَى أَنْ يُشَاهِدَ أَنَّهُمْ عَدَمٌ مَحْضٌ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَزُولُ/ الْحِجَابُ بَيْنَ قَلْبِهِ وَبَيْنَ أَنْوَارِ جَلَالِ اللَّه تَعَالَى وَإِذَا زَالَ الْحِجَابُ امْتَلَأَ الْقَلْبُ مِنَ النُّورِ فَذَلِكَ هُوَ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ. الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِي الصَّدْرِ اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِيءُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْقَلْبُ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الزُّمَرِ: 22] ، رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [الْعَادِيَاتِ: 10] ، يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ [غَافِرٍ: 19] وَقَدْ يَجِيءُ وَالْمُرَادُ الْفَضَاءُ الَّذِي فِيهِ الصَّدْرُ: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الْحَجِّ: 46] وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ مَحَلَّ الْعَقْلِ هَلْ هُوَ الْقَلْبُ أَوِ الدِّمَاغُ وَجُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّهُ الْقَلْبُ، وَقَدْ شَرَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: 193، 194] وَقَالَ بَعْضُهُمُ الْمَوَادُّ أَرْبَعَةٌ: الصَّدْرُ وَالْقَلْبُ وَالْفُؤَادُ وَاللُّبُّ فَالصَّدْرُ مَقَرُّ الْإِسْلَامِ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الزُّمَرِ: 22] وَالْقَلْبُ مَقَرُّ الْإِيمَانِ: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 7] وَالْفُؤَادُ مَقَرُّ الْمَعْرِفَةِ: مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى [النَّجْمِ: 11] ، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الإسراء: 36] واللب مقر التوحيد: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الرَّعْدِ: 19] وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَلْبَ أَوَّلُ مَا بُعِثَ إِلَى هَذَا الْعَالَمِ بُعِثَ خَالِيًا عَنِ النُّقُوشِ كَاللَّوْحِ السَّاذَجِ وَهُوَ فِي عَالَمِ الْبَدَنِ كَاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَكْتُبُ فِيهِ بِقَلَمِ الرَّحْمَةِ وَالْعَظَمَةِ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِعَالَمِ الْعَقْلِ مِنْ نُقُوشِ الْمَوْجُودَاتِ وَصُوَرِ الْمَاهِيَّاتِ وَذَلِكَ يَكُونُ كَالسَّطْرِ الْوَاحِدِ إِلَى آخِرِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ لِهَذَا الْعَالَمِ الْأَصْغَرِ وَذَلِكَ هُوَ الصُّورَةُ الْمُجَرَّدَةُ وَالْحَالَةُ الْمُطَهَّرَةُ، ثُمَّ إِنَّ الْعَقْلَ يَرْكَبُ سَفِينَةَ التَّوْفِيقِ وَيُلْقِيهَا فِي بِحَارِ أَمْوَاجِ الْمَعْقُولَاتِ وَعَوَالِمِ الرُّوحَانِيَّاتِ فَيَحْصُلُ مِنْ مَهَابِّ رِيَاحِ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ رَخَاءُ السَّعَادَةِ تَارَةً وَدَبُورُ الْإِدْبَارِ أُخْرَى، فَرُبَّمَا وَصَلَتْ سَفِينَةُ النَّظَرِ إِلَى جَانِبٍ مُشْرِقِ الْجَلَالِ فَتَسْطَعُ عَلَيْهِ أَنْوَارُ الْإِلَهِيَّةِ وَيَتَخَلَّصُ الْعَقْلُ عَنْ ظُلُمَاتِ الضَّلَالَاتِ، وَرُبَّمَا تَوَغَّلَتِ السَّفِينَةُ فِي جُنُوبِ الْجَهَالَاتِ فَتَنْكَسِرُ وَتَغْرَقُ فَحَيْثُمَا تُكُونُ السَّفِينَةُ فِي مُلْتَطِمِ أَمْوَاجِ الْعِزَّةِ يَحْتَاجُ حَافِظُ السَّفِينَةِ إِلَى الْتِمَاسِ الْأَنْوَارِ وَالْهِدَايَاتِ فَيَقُولُ هُنَاكَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَاعْلَمْ

أَنَّ الْعَقْلَ إِذَا أَخَذَ فِي التَّرَقِّي مِنْ سُفْلِ الْإِمْكَانِ إِلَى عُلُوِّ الْوُجُوبِ كَثُرَ اشْتِغَالُهُ بِمُطَالَعَةِ الْمَاهِيَّاتِ وَمُقَارَفَةِ الْمُجَرَّدَاتِ وَالْمُفَارَقَاتِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَاهِيَّةٍ فَهِيَ إِمَّا هِيَ مَعَهُ أَوْ هِيَ لَهُ، فَإِنْ كَانَتْ هِيَ مَعَهُ امْتَلَأَتِ الْبَصِيرَةُ مِنْ أَنْوَارِ جَلَالِ الْعِزَّةِ الْإِلَهِيَّةِ فَلَا يَبْقَى هُنَاكَ مُسْتَطْلِعًا لِمُطَالَعَةِ سَائِرِ الْأَنْوَارِ فَيَضْمَحِلُّ كُلُّ مَا سِوَاهُ مِنْ بَصَرٍ وَبَصِيرَةٍ، وَإِنْ وَقَعَتِ الْمُطَالَعَةُ لِمَا هُوَ لَهُ حَصَلَتْ هُنَاكَ حَالَةٌ عَجِيبَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ وُضِعَتْ كُرَةٌ صَافِيَةٌ مِنَ الْبَلُّورِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا شُعَاعُ الشَّمْسِ فَيَنْعَكِسُ ذَلِكَ الشُّعَاعُ إِلَى مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ فَذَلِكَ الْمَوْضِعُ الَّذِي إِلَيْهِ تَنْعَكِسُ الشُّعَاعَاتُ يَحْتَرِقُ فَجَمِيعُ الْمَاهِيَّاتِ الْمُمْكِنَةِ كَالْبَلُّورِ الصَّافِي الْمَوْضُوعِ فِي مُقَابَلَةِ شَمْسِ الْقُدُسِ وَنُورِ الْعَظَمَةِ وَمَشْرِقِ الْجَلَالِ، فَإِذَا وَقَعَ لِلْقَلْبِ الْتِفَاتٌ إِلَيْهَا حَصَلَتْ لِلْقَلْبِ نِسْبَةٌ إِلَيْهَا بِأَسْرِهَا فَيَنْعَكِسُ شُعَاعُ كِبْرِيَاءِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِلَى الْقَلْبِ فَيَحْتَرِقُ الْقَلْبُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الْمَحْرَقُ أَكْثَرَ، كَانَ الِاحْتِرَاقُ أَتَمَّ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي حَتَّى أَقْوَى عَلَى إِدْرَاكِ دَرَجَاتِ الْمُمْكِنَاتِ فَأَصِلُ إِلَى/ مَقَامِ الِاحْتِرَاقِ بِأَنْوَارِ الْجَلَالِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَرِنَا الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ» فَلَمَّا شَاهَدَ احْتِرَاقَهَا بِأَنْوَارِ الْجَلَالِ قَالَ: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ» . الْفَصْلُ السَّابِعُ: فِي بَقِيَّةِ الْأَبْحَاثِ إِنَّمَا قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَلَمْ يَقُلْ رَبِّ اشْرَحْ صَدْرِي لِيُظْهِرَ أَنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ الشَّرْحِ عَائِدَةٌ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا إِلَى اللَّه، وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ شَرْحِ صَدْرِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُفَاضَلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرْحِ صَدْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّه فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْحِ: 1] واللَّه أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الْمَطْلُوبُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَالْمُرَادُ مِنْهُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ خَلْقُهَا وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ تَحْرِيكُ الدَّوَاعِي وَالْبَوَاعِثِ بِفِعْلِ الْأَلْطَافِ الْمُسَهِّلَةِ، فَإِنْ قِيلَ: كُلُّ مَا أَمْكَنَ مِنَ اللُّطْفِ فَقَدْ فَعَلَهُ اللَّه تَعَالَى فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا السُّؤَالِ، قُلْنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مِنَ الْأَلْطَافِ مَا لَا يَحْسُنُ فِعْلُهَا إِلَّا بَعْدَ هَذَا السُّؤَالِ فَفَائِدَةُ السُّؤَالِ حُسْنُ فِعْلِ تِلْكَ الْأَلْطَافِ. الْمَطْلُوبُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ النُّطْقَ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرَّحْمَنِ: 3، 4] وَلَمْ يَقُلْ وَعَلَّمَهُ الْبَيَانَ لِأَنَّهُ لَوْ عَطَفَهُ عَلَيْهِ لَكَانَ مُغَايِرًا لَهُ، أَمَّا إِذَا تَرَكَ الْحَرْفَ الْعَاطِفَ صَارَ قَوْلُهُ: عَلَّمَهُ الْبَيانَ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسانَ كَأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ خَالِقًا لِلْإِنْسَانِ إِذَا عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى الْكَلَامِ الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّ مَاهِيَّةَ الْإِنْسَانِ هِيَ الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ. وَثَانِيهَا: اتِّفَاقُ الْعُقَلَاءِ عَلَى تَعْظِيمِ أَمْرِ اللِّسَانِ، قَالَ زُهَيْرٌ: لِسَانُ الْفَتَى نَصِفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ ... فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ وَقَالَ عَلِيٌّ: مَا الْإِنْسَانُ لَوْلَا اللِّسَانُ إِلَّا بَهِيمَةٌ مُهْمَلَةٌ أَوْ صُورَةٌ مُمَثَّلَةٌ. وَالْمَعْنَى أَنَّا لَوْ أَزَلْنَا الْإِدْرَاكَ الذِّهْنِيَّ وَالنُّطْقَ اللِّسَانِيَّ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْإِنْسَانِ إِلَّا الْقَدْرُ الْحَاصِلُ فِي الْبَهَائِمِ، وَقَالُوا: الْمَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ. وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ» . وَثَالِثُهَا: أَنَّ فِي مُنَاظَرَةِ آدَمَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ مَا ظَهَرَتِ الْفَضِيلَةُ إِلَّا بِالنُّطْقِ حَيْثُ قَالَ: يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْبَقَرَةِ: 33] . وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ جَوْهَرٌ مُرَكَّبٌ مِنَ الرُّوحِ وَالْقَالَبِ وَرُوحُهُ مِنْ عَالَمِ الْمَلَائِكَةِ فَهُوَ يستفيد أبدا

صُوَرَ الْمُغَيَّبَاتِ مِنْ عَالَمِ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ بَعْدَ تِلْكَ الِاسْتِفَادَةِ يَفِيضُهَا عَلَى عَالَمِ الْأَجْسَامِ وَوَاسِطَتُهُ فِي تِلْكَ الِاسْتِفَادَةِ هِيَ الْفِكْرُ الذِّهْنِيُّ وَوَاسِطَتُهُ فِي هَذِهِ الْإِفَادَةِ هِيَ النُّطْقُ اللِّسَانِيُّ فَكَمَا أَنَّ تِلْكَ الْوَاسِطَةَ أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ حَتَّى قِيلَ: «تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ» فَكَذَلِكَ الْوَاسِطَةُ فِي الْإِفَادَةِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَشْرَفَ الْأَعْضَاءِ فَقَوْلُهُ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي إِشَارَةٌ إِلَى طَلَبِ النُّورِ الْوَاقِعِ فِي الرُّوحِ، وَقَوْلُهُ: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي إِشَارَةٌ إِلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ وَتَسْهِيلِ ذَلِكَ التَّحْصِيلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْصُلُ الْكَمَالُ فِي تِلْكَ الِاسْتِفَادَةِ الرُّوحَانِيَّةِ فَلَا يَبْقَى بَعْدَ هَذَا إِلَّا الْمَقَامُ الْبَيَانِيُّ وَهُوَ إِفَاضَةُ ذَلِكَ الْكَمَالِ عَلَى الْغَيْرِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ/ إِلَّا بِاللِّسَانِ. فَلِهَذَا قَالَ: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي. وَخَامِسُهَا: وَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ أَفْضَلُ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى مَا ثَبَتَ وَالْجُودَ وَالْإِعْطَاءَ أَفْضَلُ الطَّاعَاتِ، وَلَيْسَ فِي الْأَعْضَاءِ أَفْضَلُ مِنَ الْيَدِ، فَالْيَدُ لَمَّا كَانَتْ آلَةً فِي الْعَطِيَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ قِيلَ: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى» فَالْعِلْمُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ لَمَّا كَانَتْ آلَةُ إِعْطَائِهِ اللِّسَانَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَشْرَفَ الْأَعْضَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللِّسَانَ هُوَ الْآلَةُ فِي إِعْطَاءِ الْمَعَارِفِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَشْرَفَ الْأَعْضَاءِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ مَدَحَ الصَّمْتَ لِوُجُوهٍ، أَحَدُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الصَّمْتُ حِكْمَةٌ وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ» وَيُرْوَى أَنَّ الْإِنْسَانَ تُفَكِّرُ أَعْضَاؤُهُ اللِّسَانَ وَيَقُلْنَ اتَّقِ اللَّه فِينَا فَإِنَّكَ إِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ مِنْهُ مَا ضَرَرُهُ خَالِصٌ أَوْ رَاجِحٌ، وَمِنْهُ مَا يَسْتَوِي الضَّرَرُ وَالنَّفْعُ فِيهِ وَمِنْهُ مَا نَفْعُهُ رَاجِحٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ خَالِصُ النَّفْعِ، أَمَّا الَّذِي ضَرَرُهُ خَالِصٌ أَوْ رَاجِحٌ فَوَاجِبُ التَّرْكِ، وَالَّذِي يَسْتَوِي الْأَمْرَانِ فِيهِ فَهُوَ عَيْبٌ، فَبَقِيَ الْقِسْمَانِ الْأَخِيرَانِ وَتَخْلِيصُهُمَا عَنْ زِيَادَةِ الضَّرَرِ عُسْرٌ، فَالْأَوْلَى تَرْكُ الْكَلَامِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَا مِنْ مَوْجُودٍ أَوْ مَعْدُومٍ خَالِقٍ أَوْ مَخْلُوقٍ مَعْلُومٍ أَوْ مَوْهُومٍ إِلَّا وَاللِّسَانُ يَتَنَاوَلُهُ وَيَتَعَرَّضُ لَهُ بِإِثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ، فَإِنَّ كُلَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ الضَّمِيرُ يُعَبِّرُ عَنْهُ اللِّسَانُ بِحَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ، وَهَذِهِ خَاصِّيَّةٌ لَا تُوجَدُ فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، فَإِنَّ الْعَيْنَ لَا تَصِلُ إِلَى غَيْرِ الْأَلْوَانِ، وَالصُّوَرِ وَالْآذَانَ لَا تَصِلُ إِلَّا إِلَى الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ، وَالْيَدَ لَا تَصِلُ إِلَى غَيْرِ الْأَجْسَامِ، وَكَذَا سَائِرُ الْأَعْضَاءِ بِخِلَافِ اللِّسَانِ فَإِنَّهُ رَحْبُ الْمَيْدَانِ لَيْسَ لَهُ نِهَايَةٌ وَلَا حَدٌّ فَلَهُ فِي الْخَيْرِ مَجَالٌ رَحْبٌ وَلَهُ فِي الشَّرِّ بَحْرٌ سَحْبٌ، وَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمُؤْنَةِ سَهْلُ التَّحْصِيلِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى مُؤَنٍ كَثِيرَةٍ لَا يَتَيَسَّرُ تَحْصِيلُهَا فِي الْأَكْثَرِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَوْلَى تَرْكَ الْكَلَامِ. وَرَابِعُهَا: قَالُوا: تَرْكُ الْكَلَامِ لَهُ أَرْبَعَةُ أَسْمَاءٍ الصَّمْتُ وَالسُّكُوتُ وَالْإِنْصَاتُ وَالْإِصَاخَةُ، فَأَمَّا الصَّمْتُ فَهُوَ أَعَمُّهَا لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَقْوَى عَلَى النُّطْقِ وَفِيمَا لَا يَقْوَى عَلَيْهِ وَلِهَذَا يُقَالُ: مَالٌ نَاطِقٌ وَصَامِتٌ وَأَمَّا السُّكُوتُ فَهُوَ تَرْكُ الْكَلَامِ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ وَالْإِنْصَاتُ سُكُوتٌ مَعَ اسْتِمَاعٍ وَمَتَى انْفَكَّ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ لَا يُقَالُ لَهُ إِنْصَاتٌ قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا [الْأَعْرَافِ: 204] وَالْإِصَاخَةُ اسْتِمَاعٌ إِلَى مَا يَصْعُبُ إِدْرَاكُهُ كَالسِّرِّ وَالصَّوْتِ مِنَ الْمَكَانِ الْبَعِيدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّمْتَ عَدَمٌ وَلَا فَضِيلَةَ فِيهِ بَلِ النُّطْقُ فِي نَفْسِهِ فَضِيلَةٌ وَالرَّذِيلَةُ فِي محاورته ولو لاه لَمَا سَأَلَ كَلِيمُ اللَّه ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْعُقْدَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى قَوْلَيْنِ، الْأَوَّلُ: كَانَ ذَلِكَ التَّعَقُّدُ خِلْقَةَ اللَّه تَعَالَى فَسَأَلَ اللَّه تَعَالَى إِزَالَتَهُ. الثَّانِي: السَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَالَ صِبَاهُ أَخَذَ لِحْيَةَ فِرْعَوْنَ وَنَتَفَهَا فَهَمَّ فِرْعَوْنُ بِقَتْلِهِ وَقَالَ هَذَا هُوَ الَّذِي يَزُولُ مُلْكِي عَلَى يَدِهِ فَقَالَتْ آسِيَةُ: إِنَّهُ صَبِيٌّ لَا يَعْقِلُ وَعَلَامَتُهُ أَنْ تُقَرِّبَ مِنْهُ التَّمْرَةَ وَالْجَمْرَةَ فَقَرَّبَا إِلَيْهِ فَأَخَذَ الْجَمْرَةَ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَمْ تَحْتَرِقُ الْيَدُ وَلَا اللِّسَانُ لِأَنَّ الْيَدَ آلَةُ أَخْذِ الْعَصَا وَهِيَ الْحُجَّةُ/ وَاللِّسَانُ آلَةُ الذِّكْرِ فَكَيْفَ يَحْتَرِقُ وَلِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السلام

لم يحترق بنار نمرود وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَحْتَرِقْ حِينَ أُلْقِيَ فِي التَّنُّورِ فَكَيْفَ يَحْتَرِقُ هُنَا؟ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: احْتَرَقَتِ الْيَدُ دُونَ اللِّسَانِ لِئَلَّا يَحْصُلَ حَقُّ الْمُوَاكَلَةِ وَالْمُمَالَحَةِ. الثَّالِثُ: احْتَرَقَ اللِّسَانُ دُونَ الْيَدِ لِأَنَّ الصَّوْلَةَ ظَهَرَتْ بِالْيَدِ أَمَّا اللِّسَانُ فَقَدْ خَاطَبَهُ بِقَوْلِهِ يَا أَبَتِ. وَالرَّابِعُ: احْتَرَقَا مَعًا لِئَلَّا تَحْصُلَ الْمُوَاكَلَةُ وَالْمُخَاطَبَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اختلفوا في أنه عليه السلام لم طَلَبَ حَلَّ تِلْكَ الْعُقْدَةِ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: لِئَلَّا يَقَعَ فِي أَدَاءِ الرِّسَالَةِ خَلَلٌ أَلْبَتَّةَ. وثانيها: الإزالة التَّنْفِيرِ لِأَنَّ الْعُقْدَةَ فِي اللِّسَانِ قَدْ تُفْضِي إِلَى الِاسْتِخْفَافِ بِقَائِلِهَا وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ. وَثَالِثُهَا: إِظْهَارًا لِلْمُعْجِزَةِ فَكَمَا أَنَّ حَبْسَ لِسَانِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْكَلَامِ كَانَ مُعْجِزًا فِي حَقِّهِ فَكَذَا إِطْلَاقُ لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُعْجِزٌ فِي حَقِّهِ. وَرَابِعُهَا: طَلَبُ السُّهُولَةِ لِأَنَّ إِيرَادَ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى مِثْلِ فِرْعَوْنَ فِي جَبَرُوتِهِ وَكِبْرِهِ عَسِرٌ جِدًّا فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ تَعَقُّدُ اللِّسَانِ بَلَغَ الْعُسْرُ إِلَى النِّهَايَةِ، فَسَأَلَ رَبَّهُ إِزَالَةَ تِلْكَ الْعُقْدَةِ تَخْفِيفًا وَتَسْهِيلًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّه: إِنَّ تِلْكَ الْعُقْدَةَ زَالَتْ بِالْكُلِّيَّةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [طه: 36] وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَقُلْ وَاحْلُلِ الْعُقْدَةَ مِنْ لِسَانِي بَلْ قَالَ: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي فَإِذَا حَلَّ عُقْدَةً وَاحِدَةً فَقَدْ آتَاهُ اللَّه سُؤْلَهُ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ انْحَلَّ أَكْثَرُ الْعُقَدِ وَبَقِيَ مِنْهَا شَيْءٌ قَلِيلٌ لِقَوْلِهِ: حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ [الزُّخْرُفِ: 52] أَيْ يُقَارِبُ أَنْ لَا يُبِينَ وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُبِينُ مَعَ بَقَاءِ قَدْرٍ مِنَ الِانْعِقَادِ فِي لِسَانِهِ وَأُجِيبَ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَلَا يَكَادُ يُبِينُ أَيْ لَا يَأْتِي بِبَيَانٍ وَلَا حُجَّةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ كَادَ بِمَعْنَى قَرُبَ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْبَيَانَ اللِّسَانِيَّ لَكَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُقَارِبُ الْبَيَانَ فَكَانَ فِيهِ نَفْيُ الْبَيَانِ بِالْكُلِّيَّةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ خَاطَبَ فِرْعَوْنَ وَالْجَمْعَ وَكَانُوا يَفْقَهُونَ كَلَامَهُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ نَفْيُ الْبَيَانِ أَصْلًا بَلْ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَمْوِيهًا لِيَصْرِفَ الْوُجُوهَ عَنْهُ قَالَ أَهْلُ الْإِشَارَةِ إِنَّمَا قَالَ: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي لِأَنَّ حَلَّ الْعُقَدِ كُلِّهَا نَصِيبُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الْأَنْعَامِ: 152] فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ حَقًّا لِيَتِيمِ أَبِي طَالِبٍ لَا جَرَمَ مَا دَارَ حَوْلَهُ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَطْلُوبُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي وَاعْلَمْ أَنَّ طَلَبَ الْوَزِيرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُ خَافَ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنِ الْقِيَامِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ فَطَلَبَ الْمُعِينَ أَوْ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ لِلتَّعَاوُنِ عَلَى الدِّينِ وَالتَّظَاهُرِ عَلَيْهِ مَعَ مُخَالَصَةِ الْوُدِّ وَزَوَالِ التُّهْمَةِ مَزِيَّةً عَظِيمَةً فِي أَمْرِ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّه وَلِذَلِكَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [آل عمران: 52] وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَالِ: 64] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ لِي فِي السَّمَاءِ وَزِيرَيْنِ وَفِي الْأَرْضِ وَزِيرَيْنِ، فَاللَّذَانِ فِي السَّمَاءِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَاللَّذَانِ فِي الْأَرْضِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَزِيرُ مِنَ الْوِزْرِ لِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُ عَنِ الْمَلِكِ أَوْزَارَهُ وَمُؤَنَهُ أَوْ مِنَ الْوَزَرِ/ وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي يُتَحَصَّنُ بِهِ لِأَنَّ الْمَلِكَ يَعْتَصِمُ بِرَأْيِهِ فِي رَعِيَّتِهِ وَيُفَوِّضُ إِلَيْهِ أُمُورَهُ أَوْ مِنَ الْمُوَازَرَةِ وَهِيَ الْمُعَاوَنَةُ، وَالْمُوَازَرَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ إِزَارِ الرَّجُلِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَشُدُّهُ الرَّجُلُ إِذَا اسْتَعَدَّ لِعَمَلِ أَمْرٍ صَعْبٍ قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَزِيرًا فَقُلِبَتِ الْهَمْزَةُ إِلَى الْوَاوِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا أَرَادَ اللَّه بِمَلِكٍ خَيْرًا قَيَّضَ لَهُ وَزِيرًا صَالِحًا إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ وَإِنْ نَوَى

خَيْرًا أَعَانَهُ وَإِنْ أَرَادَ شَرًّا كَفَّهُ» وَكَانَ أَنُوشِرْوَانُ يَقُولُ: لَا يَسْتَغْنِي أَجْوَدُ السُّيُوفِ عَنِ الصَّقْلِ، وَلَا أَكْرَمُ الدَّوَابِّ عَنِ السَّوْطِ، وَلَا أَعْلَمُ الْمُلُوكِ عَنِ الْوَزِيرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْ قِيلَ الِاسْتِعَانَةُ بِالْوَزِيرِ إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْمُلُوكُ أَمَّا الرَّسُولُ الْمُكَلَّفُ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَالْوَحْيِ مِنَ اللَّه تَعَالَى إِلَى قَوْمٍ عَلَى التَّعْيِينِ فَمِنْ أَيْنَ يَنْفَعُهُ الْوَزِيرُ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَهُ شَرِيكًا لَهُ فِي النُّبُوَّةِ فَقَالَ: وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي فَكَيْفَ يَكُونُ وَزِيرًا. وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّعَاوُنَ عَلَى الْأَمْرِ وَالتَّظَاهُرَ عَلَيْهِ مَعَ مُخَالَصَةِ الْوُدِّ وَزَوَالِ التُّهْمَةِ لَهُ مَزِيَّةٌ عَظِيمَةٌ فِي تَأْثِيرِ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّه تَعَالَى فَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاثِقًا بِأَخِيهِ هَارُونَ فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَشُدَّ به أزره حتى يتحمل عنه ما يُمْكِنُ مِنَ الثِّقَلِ فِي الْإِبْلَاغِ. الْمَطْلُوبُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَزِيرُ مِنْ أَهْلِهِ أَيْ مِنْ أَقَارِبِهِ. الْمَطْلُوبُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ الْوَزِيرُ الَّذِي مِنْ أَهْلِهِ هُوَ أَخُوهُ هَارُونُ وَإِنَّمَا سَأَلَ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّعَاوُنَ عَلَى الدِّينِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ فَأَرَادَ أَنْ لَا تَحْصُلَ هَذِهِ الدَّرَجَةُ إِلَّا لِأَهْلِهِ، أَوْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ فِي غَايَةِ الْمَحَبَّةِ لِصَاحِبِهِ وَالْمُوَافَقَةِ لَهُ، وَقَوْلُهُ هَارُونَ فِي انْتِصَابِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَفْعُولُ الْجَعْلِ عَلَى تَقْدِيرِ اجْعَلْ هَارُونَ أَخِي وَزِيرًا لِي. وَالثَّانِي: عَلَى الْبَدَلِ من وزيرا وأخي نعت لهرون أَوْ بَدَلٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَخْصُوصًا بِأُمُورٍ مِنْهَا الْفَصَاحَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً [الْقَصَصِ: 34] وَمِنْهَا أَنَّهُ كَانَ فِيهِ رِفْقٌ قال: ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه: 94] وَمِنْهَا أَنَّهُ كَانَ أَكْبَرَ سِنًّا مِنْهُ. الْمَطْلُوبُ السَّابِعُ: قَوْلُهُ: اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقِرَاءَةُ الْعَامَّةُ: اشْدُدْ بِهِ وأَشْرِكْهُ عَلَى الدُّعَاءِ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحْدَهُ: (أَشْدِدْ، وَأَشْرِكْهُ) عَلَى الْجَزَاءِ وَالْجَوَابِ، حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْ أَنَا أَفْعَلُ ذَلِكَ وَيَجُوزُ لِمَنْ قَرَأَ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ أَنْ يجعل أَخِي مرفوعا على الابتداء واشْدُدْ بِهِ خَبَرَهُ وَيُوقَفُ عَلَى هَارُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَزْرُ الْقُوَّةُ وَآزَرَهُ قَوَّاهُ قَالَ تَعَالَى: فَآزَرَهُ أَيْ أَعَانَهُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَزْرِي أَيْ ظَهْرِي وَفِي كِتَابِ الْخَلِيلِ: الْأَزْرُ: الظَّهْرُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا طَلَبَ مِنَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ هَارُونَ وَزِيرًا لَهُ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَشُدَّ بِهِ أَزْرَهُ وَيَجْعَلَهُ نَاصِرًا لَهُ لِأَنَّهُ لَا اعْتِمَادَ عَلَى الْقَرَابَةِ. الْمَطْلُوبُ الثَّامِنُ: قَوْلُهُ: وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي وَالْأَمْرُ هاهنا النُّبُوَّةُ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلِمَ أَنَّهُ يَشُدُّ بِهِ عَضُدَهُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا وَأَفْصَحُ مِنْهُ لِسَانًا ثُمَّ إِنَّهُ سبحانه وتعالى حكى عنه ما لِأَجْلِهِ دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ فَقَالَ: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً وَالتَّسْبِيحُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِاللِّسَانِ وَأَنْ يَكُونَ بِالِاعْتِقَادِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَالتَّسْبِيحُ تَنْزِيهُ اللَّه تَعَالَى فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَأَمَّا الذِّكْرُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ وَصْفِ اللَّه تَعَالَى بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّفْيَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: إِنَّكَ عَالِمٌ بِأَنَّا لَا نُرِيدُ بِهَذِهِ الطَّاعَاتِ إِلَّا وَجْهَكَ وَرِضَاكَ وَلَا نُرِيدُ بِهَا أَحَدًا سِوَاكَ. وَثَانِيهَا: كُنْتَ بِنا بَصِيراً لِأَنَّ هَذِهِ الِاسْتِعَانَةَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِأَجْلِ حَاجَتِي فِي النُّبُوَّةِ إِلَيْهَا. وَثَالِثُهَا: إِنَّكَ بَصِيرٌ بِوُجُوهِ

[سورة طه (20) : الآيات 36 إلى 44]

مَصَالِحِنَا فَأَعْطِنَا مَا هُوَ أَصْلَحُ لَنَا، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الدُّعَاءَ بِهَذَا إِجْلَالًا لِرَبِّهِ عَنْ أَنْ يتحكم عليه وتفويضا للأمر بالكلية إليه. [سورة طه (20) : الآيات 36 الى 44] قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ مَا يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يَا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) [في قوله تعالى قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى] اعلم أن السؤال هُوَ الطَّلَبُ فُعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَقَوْلِكَ خُبْزٌ بِمَعْنَى مَخْبُوزٍ وَأَكْلٌ بِمَعْنَى مَأْكُولٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَأَلَ رَبَّهُ تِلْكَ الْأُمُورَ الثَّمَانِيَةَ، وَكَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ قِيَامَهُ بِمَا كُلِّفَ بِهِ تَكْلِيفٌ لَا يَتَكَامَلُ إِلَّا بِإِجَابَتِهِ إِلَيْهَا، لَا جَرَمَ أَجَابَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَيْهَا لِيَكُونَ أَقْدَرَ عَلَى الْإِبْلَاغِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي كُلِّفَ بِهِ فَقَالَ: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى وَعَدَّ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ الْعِظَامِ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ ثُمَّ قَالَ: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أُمُورٍ: أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنِّي رَاعَيْتُ مَصْلَحَتَكَ قَبْلَ سُؤَالِكَ فَكَيْفَ لَا أُعْطِيكَ مُرَادَكَ بَعْدَ السُّؤَالِ. وَثَانِيهَا: إِنِّي كُنْتُ قَدْ رَبَّيْتُكَ فَلَوْ مَنَعْتُكَ الْآنَ مَطْلُوبَكَ لَكَانَ ذَلِكَ رَدًّا بَعْدَ الْقَبُولِ وَإِسَاءَةً بَعْدَ الْإِحْسَانِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِكَرَمِي. وَثَالِثُهَا: إِنَّا لَمَّا أَعْطَيْنَاكَ فِي الْأَزْمِنَةِ السَّالِفَةِ كُلَّ مَا احْتَجْتَ إِلَيْهِ وَرَقَّيْنَاكَ مِنْ حَالَةٍ نَازِلَةٍ إِلَى دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّا نَصَّبْنَاكَ لِمَنْصِبٍ عَالٍ وَمَهَمٍّ عَظِيمٍ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِمِثْلِ هَذِهِ الرُّتْبَةِ الْمَنْعُ مِنَ المطلوب، وهاهنا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ ذَكَرَ تِلْكَ النِّعِمَ بِلَفْظِ الْمِنَّةِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لَفْظَةٌ مُؤْذِيَةٌ وَالْمَقَامُ مَقَامُ التَّلَطُّفِ؟ وَالْجَوَابُ إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِيَعْرِفَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ هَذِهِ النِّعِمَ الَّتِي وَصَلَتْ إِلَيْهِ مَا كَانَ مُسْتَحِقًّا لِشَيْءٍ مِنْهَا بَلْ إِنَّمَا خَصَّهُ اللَّه تَعَالَى بِهَا بِمَحْضِ التَّفَضُّلِ وَالْإِحْسَانِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنَنًا كَثِيرَةً؟ وَالْجَوَابُ: لَمْ يَعْنِ بِمَرَّةٍ أُخْرَى مَرَّةً وَاحِدَةً مِنَ الْمِنَنِ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُقَالُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمِنَنَ المذكورة هاهنا ثَمَانِيَةٌ: الْمِنَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ مَا يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ أَمَّا قَوْلُهُ: إِذْ أَوْحَيْنا فَقَدِ اتَّفَقَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ أُمَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَتْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْوَحْيِ هُوَ الْوَحْيَ الْوَاصِلَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَكَيْفَ لَا نَقُولُ ذَلِكَ وَالْمَرْأَةُ لَا تَصْلُحُ للقضاء

وَالْإِمَامَةِ بَلْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه لَا تُمَكَّنُ مِنْ تَزْوِيجِهَا نَفْسَهَا فَكَيْفَ تَصْلُحُ لِلنُّبُوَّةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [الْأَنْبِيَاءِ: 7] وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْبَابِ، وَأَيْضًا فَالْوَحْيُ قَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ لَا بِمَعْنَى النُّبُوَّةِ قَالَ تَعَالَى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النَّحْلِ: 68] وَقَالَ: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ [الْمَائِدَةِ: 111] ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْوَحْيِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الْمُرَادُ رُؤْيَا رَأَتْهَا أَمُّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ تَأْوِيلُهَا وَضْعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي التَّابُوتِ وَقَذْفَهُ فِي الْبَحْرِ وَأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَرُدُّهُ إِلَيْهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ عَزِيمَةٌ جَازِمَةٌ وَقَعَتْ فِي قَلْبِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً فَكُلُّ مَنْ تَفَكَّرَ فِيمَا وَقَعَ إِلَيْهِ ظَهَرَ لَهُ الرَّأْيُ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْخَلَاصِ وَيُقَالُ لِذَلِكَ الْخَاطِرِ إِنَّهُ وَحْيٌ. وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِلْهَامُ لَكِنَّا/ مَتَى بَحَثْنَا عَنِ الْإِلْهَامِ كَانَ مَعْنَاهُ خُطُورَ رَأْيٍ بِالْبَالِ وَغَلَبَةٍ عَلَى الْقَلْبِ فَيَصِيرُ هَذَا هُوَ الْوَجْهَ الثَّانِيَ وَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ يُعْتَرَضُ عَلَيْهَا بِأَنَّ الْإِلْقَاءَ فِي الْبَحْرِ قَرِيبٌ مِنَ الْإِهْلَاكِ وَهُوَ مُسَاوٍ لِلْخَوْفِ الْحَاصِلِ مِنَ الْقَتْلِ الْمُعْتَادِ مِنْ فِرْعَوْنَ فَكَيْفَ يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى أَحَدِهِمَا لِأَجْلِ الصِّيَانَةِ عَنِ الثَّانِي. وَالْجَوَابُ: لَعَلَّهَا عَرَفَتْ بِالِاسْتِقْرَاءِ صِدْقَ رُؤْيَاهَا فَكَانَ إِفْضَاءُ الْإِلْقَاءِ فِي الْبَحْرِ إِلَى السَّلَامَةِ أَغْلَبَ عَلَى ظَنِّهَا مِنْ وُقُوعِ الْوَلَدِ فِي يَدِ فِرْعَوْنَ. وَرَابِعُهَا: لَعَلَّهُ أُوحِيَ إِلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَشُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ النَّبِيَّ عَرَّفَهَا، إِمَّا مُشَافَهَةً أَوْ مُرَاسَلَةً، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا لَحِقَهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَوْفِ مَا لَحِقَهَا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ الْخَوْفَ كَانَ مِنْ لَوَازِمِ الْبَشَرِيَّةِ كَمَا أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَخَافُ فِرْعَوْنَ مَعَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى كَانَ يَأْمُرُهُ بِالذَّهَابِ إِلَيْهِ مِرَارًا. وَخَامِسُهَا: لَعَلَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ وَانْتَهَى ذَلِكَ الْخَبَرُ إِلَى تِلْكَ الْمَرْأَةِ. وَسَادِسُهَا: لَعَلَّ اللَّه تَعَالَى بَعَثَ إِلَيْهَا مَلَكًا لَا عَلَى وَجْهِ النُّبُوَّةِ كَمَا بَعَثَ إِلَى مَرْيَمَ فِي قَوْلِهِ: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا [مَرْيَمَ: 17] وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَا يُوحى فَمَعْنَاهُ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يَجِبُ أَنْ يُوحَى وَإِنَّمَا وَجَبَ ذَلِكَ الْوَحْيُ لِأَنَّ الْوَاقِعَةَ وَاقِعَةٌ عَظِيمَةٌ وَلَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَصْلَحَةِ فِيهَا إِلَّا بِالْوَحْيِ فَكَانَ الْوَحْيُ وَاجِبًا أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنِ اقْذِفِيهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنْ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِأَنَّ الْوَحْيَ بِمَعْنَى الْقَوْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَذْفُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْإِلْقَاءِ وَالْوَضْعِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الْأَحْزَابِ: 26] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رُوِيَ أَنَّهَا اتَّخَذَتْ تَابُوتًا وَجَعَلَتْ فِيهِ قُطْنًا مَحْلُوجًا وَوَضَعَتْ فِيهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَيَّرَتْ رَأْسَهُ وَشُقُوقَهُ بِالْقَارِ ثُمَّ أَلْقَتْهُ فِي النِّيلِ وَكَانَ يَشْرَعُ مِنْهُ نَهْرٌ كَبِيرٌ فِي دَارِ فِرْعَوْنَ فَبَيْنَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى رَأْسِ الْبِرْكَةِ مَعَ امْرَأَتِهِ آسِيَةَ إِذْ بِتَابُوتٍ يَجِيءُ بِهِ الْمَاءُ فَلَمَّا رَآهُ فِرْعَوْنُ أَمَرَ الْغِلْمَانَ وَالْجَوَارِيَ بِإِخْرَاجِهِ فَأَخْرَجُوهُ وَفَتَحُوا رَأْسَهُ فَإِذَا صَبِيٌّ مِنْ أَصْبَحِ النَّاسِ وَجْهًا فَلَمَّا رَآهُ فِرْعَوْنُ أَحَبَّهُ وَسَيَأْتِي تَمَامُ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ الَّذِي صَنَعَ التَّابُوتَ حَزْقِيلُ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اليم هو البحر والمراد به هاهنا نِيلُ مِصْرَ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ وَالْيَمُّ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْبَحْرِ وَعَلَى النَّهْرِ الْعَظِيمِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ السَّاحِلُ فَاعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمَاءَ يَسْحَلُهُ أَيْ يَقْذِفُهُ إلى أعلاه.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الضَّمَائِرُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرُجُوعُ بَعْضِهَا إِلَيْهِ وَبَعْضِهَا إِلَى التَّابُوتِ يُؤَدِّي إِلَى تَنَافُرِ النَّظْمِ فَإِنْ قِيلَ الْمَقْذُوفُ فِي الْبَحْرِ هُوَ التَّابُوتُ وَكَذَلِكَ الْمُلْقَى إِلَى السَّاحِلِ قُلْنَا لَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَالَ الْمَقْذُوفُ وَالْمُلْقَى هُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ/ فِي جَوْفِ التَّابُوتِ حَتَّى لَا تَتَفَرَّقَ الضَّمَائِرُ وَلَا يَحْصُلَ التَّنَافُرُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: لَمَّا كَانَ تَقْدِيرُ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُجْرِيَ مَاءَ الْيَمِّ وَيُلْقِيَ بِذَلِكَ التَّابُوتِ إِلَى السَّاحِلِ سَلَكَ فِي ذَلِكَ سَبِيلَ الْمَجَازِ وَجَعَلَ الْيَمَّ كَأَنَّهُ ذُو تَمْيِيزٍ أُمِرَ بِذَلِكَ لِيُطِيعَ الْأَمْرَ وَيَمْتَثِلَ رَسْمَهُ فَقِيلَ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ أَمَّا قَوْلُهُ: يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: يَأْخُذْهُ جَوَابُ الْأَمْرِ أَيِ اقْذِفِيهِ يَأْخُذْهُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ الْأَخْذِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ كَانَتْ بِحَيْثُ تَسْتَسْقِي الْجَوَارِيَ فَبَصُرَتْ بِالتَّابُوتِ فَأَمَرَتْ بِهِ فَأَخَذَتِ التَّابُوتَ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ أَخْذِ فِرْعَوْنَ التَّابُوتَ قَبُولَهُ لَهُ وَاسْتِحْبَابَهُ إِيَّاهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْبَحْرَ أَلْقَى التَّابُوتَ بِمَوْضِعٍ مِنَ السَّاحِلِ فِيهِ فُوَّهَةُ نَهْرِ فِرْعَوْنَ ثُمَّ أَدَّاهُ النَّهْرُ إِلَى بِرْكَةِ فِرْعَوْنَ فَلَمَّا رَآهُ أَخَذَهُ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ فِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْوَقْتَ بِحَيْثُ يُعَادَى. وَجَوَابُهُ: أَمَّا كَوْنُهُ عَدُوًّا للَّه مِنْ جِهَةِ كُفْرِهِ وَعُتُوِّهِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا كَوْنُهُ عَدُوًّا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيُحْتَمَلُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَوْ ظَهَرَ لَهُ حاله لقتله ويحتمل أنه من حيث يؤول أَمْرُهُ إِلَى مَا آلَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَدَاوَةِ. الْمِنَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً هِيَ مِنِّي قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنِّي لَا يَخْلُو إِمَّا أن يتعلق بألقيت فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى أَنِّي أَحْبَبْتُكَ وَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّه أَحَبَّتْهُ الْقُلُوبُ، وَإِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي وَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَحْذُوفُ صفة لمحبة أَيْ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً حَاصِلَةً مِنِّي وَاقِعَةً بِخَلْقِي فَلِذَلِكَ أَحَبَّتْكَ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ حَتَّى قَالَتْ: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ [الْقَصَصِ: 9] يُرْوَى أَنَّهُ كَانَتْ عَلَى وَجْهِهِ مَسْحَةُ جَمَالٍ وَفِي عَيْنَيْهِ مَلَاحَةٌ لَا يَكَادُ يَصْبِرُ عَنْهُ مَنْ رَآهُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا [مَرْيَمَ: 96] قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الْوَجْهُ أَقْرَبُ لِأَنَّهُ فِي حَالِ صِغَرِهِ لَا يَكَادُ يُوصَفُ بِمَحَبَّةِ اللَّه تَعَالَى الَّتِي ظَاهِرُهَا مِنْ جِهَةِ الدِّينِ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُكَلَّفِ مِنْ حَيْثُ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ وَالْمُرَادُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَيْفِيَّتِهِ فِي الْخِلْقَةِ يُسْتَحْلَى وَيُغْتَبَطُ فَكَذَلِكَ كَانَتْ حَالُهُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَامْرَأَتِهِ وَسَهَّلَ اللَّه تَعَالَى لَهُ مِنْهُمَا فِي التَّرْبِيَةِ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بَلِ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ يُحْوِجُ إِلَى الْإِضْمَارِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً حَاصِلَةً مِنِّي وَوَاقِعَةً بِتَخْلِيقِي وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ بَقِيَ قَوْلُهُ: إِنَّهُ حَالَ صِبَاهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ مَحَبَّةُ اللَّه تَعَالَى قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ فَإِنَّ مَحَبَّةَ اللَّه تَعَالَى يَرْجِعُ مَعْنَاهَا إِلَى إِيصَالِ النَّفْعِ إِلَى عِبَادِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى كَانَ حَاصِلًا فِي حَقِّهِ فِي حَالِ صِبَاهُ وَعَلِمَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ يَسْتَمِرُّ إِلَى آخِرِ عُمُرِهِ فَلَا جَرَمَ أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظَ الْمَحَبَّةِ. الْمِنَّةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي قَالَ الْقَفَّالُ: لِتُرَى عَلَى عَيْنِي أَيْ عَلَى وَفْقِ إِرَادَتِي، وَمَجَازُ هَذَا أَنَّ مَنْ صَنَعَ لِإِنْسَانٍ شَيْئًا وَهُوَ حَاضِرٌ يَنْظُرُ إِلَيْهِ صَنَعَهُ لَهُ كَمَا يُحِبُّ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يُخَالِفُ غرضه فكذا هاهنا وَفِي كَيْفِيَّةِ الْمَجَازِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنَ العين العلم أي تُرَى عَلَى عِلْمٍ مِنِّي وَلَمَّا كَانَ الْعَالِمُ بِالشَّيْءِ يَحْرُسُهُ عَنِ الْآفَاتِ/ كَمَا أَنَّ النَّاظِرَ إِلَيْهِ يَحْرُسُهُ عَنِ الْآفَاتِ أُطْلِقَ لَفْظُ الْعَيْنِ عَلَى الْعِلْمِ لِاشْتِبَاهِهِمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنَ الْعَيْنِ الْحِرَاسَةُ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاظِرَ إِلَى الشَّيْءِ يَحْرُسُهُ عَمَّا يُؤْذِيهِ

فَالْعَيْنُ كَأَنَّهَا سَبَبُ الْحِرَاسَةِ فَأَطْلَقَ اسْمَ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ مَجَازًا وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: 46] وَيُقَالُ: عَيْنُ اللَّه عَلَيْكَ إِذَا دَعَا لَكَ بِالْحِفْظِ وَالْحِيَاطَةِ، قَالَ الْقَاضِي ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي الْحِفْظُ وَالْحِيَاطَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ فَصَارَ ذَلِكَ كالتفسير لحياطة اللَّه تعالى له، بقي هاهنا بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ثَمَّ يَكُونُ قَوْلُهُ: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ مُتَعَلِّقًا بِأَوَّلِ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ مَا يُوحى وإِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ. وَثَانِيهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي مُتَعَلِّقًا بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذْ تَمْشِي وَذَكَرْنَا مِثْلَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الْأَنْعَامِ: 75] . وَثَالِثُهَا: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ مُقْحَمَةً أَيْ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي لِتُصْنَعَ وَهَذَا ضَعِيفٌ. الثَّانِي: قُرِئَ وَلِتُصْنَعَ بِكَسْرِ اللَّامِ وَسُكُونِهَا وَالْجَزْمُ عَلَى أَنَّهُ أُمِرَ وَقُرِئَ وَلِتَصْنَعَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالنَّصْبِ أَيْ وَلِيَكُونَ عَمَلُكَ وَتَصَرُّفَكَ عَلَى عِلْمٍ مِنِّي. الْمِنَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَامِلَ فِي إِذْ تَمْشِي أَلْقَيْتُ أَوْ تُصْنَعُ، يُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا فَشَا الْخَبَرُ بِمِصْرَ أَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ أَخَذُوا غُلَامًا فِي النِّيلِ وَكَانَ لَا يَرْتَضِعُ مِنْ ثَدْيِ كُلِّ امْرَأَةٍ يُؤْتَى بِهَا لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ غَيْرَ أُمِّهِ اضْطُرُّوا إِلَى تَتَبُّعِ النِّسَاءِ فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ أُخْتُ مُوسَى جَاءَتْ إِلَيْهِمْ مُتَنَكِّرَةً فَقَالَتْ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ [القصص: 12] ثُمَّ جَاءَتْ بِالْأُمِّ فَقَبِلَ ثَدْيَهَا فَرَجَعَ إِلَى أُمِّهِ بِمَا لَطَفَ اللَّه تَعَالَى لَهُ مِنْ هَذَا التَّدْبِيرِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ أَيْ رَدَدْنَاكَ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ [الْقَصَصِ: 13] وَهُوَ كَقَوْلِهِ: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 99] أَيْ رُدُّونِي إِلَى الدُّنْيَا، أَمَّا قَوْلُهُ: كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ فَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ رَدِّكَ إِلَيْهَا حُصُولُ السُّرُورِ لَهَا وَزَوَالُ الْحُزْنِ عَنْهَا، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ قَالَ كَيْ لَا تَحْزَنَ وَتَقَرَّ عَيْنُهَا كَانَ الْكَلَامُ مُفِيدًا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْحُزْنِ حُصُولُ السُّرُورِ لَهَا، وَأَمَّا لَمَّا قَالَ أَوَّلًا كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا كَانَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلا تَحْزَنَ فَضْلًا لِأَنَّهُ مَتَى حَصَلَ السُّرُورُ وَجَبَ زَوَالُ الْغَمِّ لَا مَحَالَةَ، قُلْنَا: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَقَرُّ عَيْنُهَا بِسَبَبِ وُصُولِكَ إِلَيْهَا فَيَزُولُ عَنْهَا الْحُزْنُ بِسَبَبِ عَدَمِ وُصُولِ لَبَنِ غَيْرِهَا إِلَى بَاطِنِكَ. وَالْمِنَّةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ فَالْمُرَادُ بِهِ وَقَتَلْتَ بَعْدَ كِبَرِكَ نَفْسًا وَهُوَ الرَّجُلُ الَّذِي قَتَلَهُ خَطَأً بِأَنْ وَكَزَهُ حَيْثُ اسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَيْهِ وَكَانَ قِبْطِيًّا فَحَصَلَ لَهُ الْغَمُّ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: مِنْ عِقَابِ الدُّنْيَا وَهُوَ اقْتِصَاصُ فِرْعَوْنَ مِنْهُ مَا حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُ: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ [الْقَصَصِ: 18] وَالْآخَرُ مِنْ عِقَابِ اللَّه تَعَالَى حَيْثُ قَتَلَهُ لَا بأمر اللَّه تعالى فَنَجَّاهُ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْغَمَّيْنِ، أَمَّا مِنْ فِرْعَوْنَ فَحِينَ وَفَّقَ لَهُ الْمُهَاجَرَةَ إِلَى مَدْيَنَ/ وَأَمَّا مِنْ عِقَابِ الْآخِرَةِ فَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غَفَرَ لَهُ ذَلِكَ. الْمِنَّةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي قَوْلِهِ: فُتُوناً وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَصْدَرٌ كَالْعُكُوفِ وَالْجُلُوسِ وَالْمَعْنَى وَفَتَنَّاكَ حَقًّا وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي تَأْكِيدِ الْأَخْبَارِ بِالْمَصَادِرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النِّسَاءِ: 164] ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَمْعُ فَتْنٍ أَوْ فُتْنَةٍ عَلَى تَرْكِ الِاعْتِدَادِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ كَحُجُوزٍ وَبُدُورٍ فِي حُجْزَةٍ وَبَدْرَةٍ أَيْ فَتَنَّاكَ ضروبا من الفتن وهاهنا سُؤَالَانِ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى عَدَّدَ أَنْوَاعَ مِنَنِهِ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَكَيْفَ

يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلُهُ: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً. الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفِتْنَةَ تَشْدِيدُ الْمِحْنَةِ، يُقَالُ فُتِنَ فُلَانٌ عَنْ دِينِهِ إِذَا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ الْمِحْنَةُ حَتَّى رَجَعَ عَنْ دِينِهِ قَالَ تَعَالَى: فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ [الْعَنْكَبُوتِ: 10] وَقَالَ تَعَالَى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: 1- 3] وَقَالَ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 214] فَالزَّلْزَلَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ وَمَسُّ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ هِيَ الْفِتْنَةُ وَالْفُتُونُ، وَلَمَّا كَانَ التَّشْدِيدُ فِي الْمِحْنَةِ مِمَّا يُوجِبُ كَثْرَةَ الثَّوَابِ لَا جَرَمَ عَدَّهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ جُمْلَةِ النِّعَمِ. وثانيها: فَتَنَّاكَ فُتُوناً أَيْ خَلَّصْنَاكَ تَخْلِيصًا مِنْ قَوْلِهِمْ: فَتَنْتُ الذَّهَبَ مِنَ الْفِضَّةِ إِذَا أَرَدْتَ تَخْلِيصَهُ وَسَأَلَ سعيد بن جبير بن عَبَّاسٍ عَنِ الْفُتُونِ فَقَالَ: نَسْتَأْنِفُ لَهُ نَهَارًا يَا ابْنَ جُبَيْرٍ. ثُمَّ لَمَّا أَصْبَحَ أَخْذَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ عَلَيْهِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِي شَأْنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ فَذَكَرَ قِصَّةَ فِرْعَوْنَ وَقَتْلَهُ أَوْلَادَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ قِصَّةَ إِلْقَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْيَمِّ وَالْتِقَاطَ آلِ فِرْعَوْنَ إِيَّاهُ وَامْتِنَاعَهُ مِنَ الِارْتِضَاعِ مِنَ الْأَجَانِبِ، ثُمَّ قِصَّةَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَذَ لِحْيَةَ فِرْعَوْنَ وَوَضْعَهُ الْجَمْرَةَ فِي فِيهِ، ثُمَّ قِصَّةَ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ، ثُمَّ هَرَبَهُ إِلَى مَدْيَنَ وَصَيْرُورَتَهُ أَجِيرًا لِشُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ عَوْدَهُ إِلَى مِصْرَ وَأَنَّهُ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ وَاسْتِئْنَاسَهُ بِالنَّارِ مِنَ الشَّجَرَةِ وَكَانَ عِنْدَ تَمَامِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا يَقُولُ هَذَا مِنَ الْفُتُونِ يَا ابْنَ جُبَيْرٍ. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يَصِحُّ إِطْلَاقُ اسْمُ الْفَتَّانِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ اشْتِقَاقًا مِنْ قَوْلِهِ: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً وَالْجَوَابُ لَا لِأَنَّهُ صِفَةُ ذَمٍّ فِي الْعُرْفِ وَأَسْمَاءُ اللَّه تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ لَا سِيَّمَا فِيمَا يُوهِمُ مَا لَا يَنْبَغِي. الْمِنَّةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى وَاعْلَمْ أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَخَرَجْتَ خَائِفًا إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيهِمْ، أَمَّا مُدَّةُ اللُّبْثِ فَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّهَا مَشْرُوحَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ- إِلَى قَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ [الْقَصَصِ: 29] وَهِيَ إِمَّا عَشَرَةٌ وَإِمَّا ثَمَانٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ [الْقَصَصِ: 27] وَقَالَ وَهْبٌ: لَبِثَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَمَانِيًا وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنْهَا عَشْرُ سِنِينَ/ مَهْرُ امْرَأَتِهِ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَبِثَ عِنْدَهُ عَشْرَ سِنِينَ وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَنْفِي الزِّيَادَةَ عَلَى الْعَشْرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ لُبْثَهُ فِي مَدْيَنَ مِنَ الْفُتُونِ وَكَذَلِكَ كَانَ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَحَمَّلَ بِسَبَبِ الْفَقْرِ وَالْغُرْبَةِ مِحَنًا كَثِيرَةً، وَاحْتَاجَ إِلَى أَنْ آجَرَ نَفْسَهُ، أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى فَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفٍ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّهُ عَلَى قَدَرِ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّهُ سَبَقَ فِي قَضَائِي وَقَدَرِي أَنْ أَجْعَلَكَ رَسُولًا لِي فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ عَيَّنْتُهُ لِذَلِكَ فَمَا جِئْتَ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْقَدَرِ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَمِنْهُ قَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَرِ: 49] ، وَثَانِيهَا: عَلَى مِقْدَارٍ مِنَ الزَّمَانِ يُوحَى فِيهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ رَأْسُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقَدَرَ هُوَ الْمَوْعِدُ فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَوْعِدَ صَحَّ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا قَدْ عُيِّنُوا ذَلِكَ الْمَوْعِدَ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى مَجِيءَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ جُمْلَةِ مِنَنِهِ عَلَيْهِ، قُلْنَا: لِأَنَّهُ لَوْلَا تَوْفِيقُهُ لَهُ لَمَا تَهَيَّأَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. الْمِنَّةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي وَالِاصْطِنَاعُ اتِّخَاذُ الصَّنْعَةِ، وَهِيَ افْتِعَالٌ مِنَ

الصُّنْعِ. يُقَالُ: اصْطَنَعَ فُلَانٌ فُلَانًا أَيِ اتَّخَذَهُ صَنِيعَهُ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الْكُلِّ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ لِنَفْسِي. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَعْطَاهُ مِنْ مَنْزِلَةِ التَّقْرِيبِ وَالتَّكْرِيمِ وَالتَّكْلِيمِ مَثَّلَ حَالَهُ بِحَالِ مَنْ يَرَاهُ بَعْضُ الْمُلُوكِ لِجَوَامِعِ خِصَالٍ فِيهِ أَهْلًا لِأَنْ يَكُونَ أَقْرَبَ النَّاسِ مَنْزِلَةً إِلَيْهِ وَأَشَدَّهُمْ قُرْبًا مِنْهُ. وَثَانِيهَا: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِذَا كَلَّفَ عِبَادَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَلْطُفَ بِهِمْ وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَلْطَافِ مَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا سَمْعًا فَلَوْ لَمْ يَصْطَنِعْهُ بِالرِّسَالَةِ لَبَقِيَ فِي عُهْدَةِ الْوَاجِبِ فَصَارَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَالنَّائِبِ عَنْ رَبِّهِ فِي أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَى اللَّه تَعَالَى، فَصَحَّ أَنْ يَقُولَ: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي، قَالَ الْقَفَّالُ وَاصْطَنَعْتُكَ أَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمُ اصْطَنَعَ فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا أَحْسَنَ إِلَيْهِ حَتَّى يُضَافَ إِلَيْهِ فَيُقَالُ: هَذَا صَنِيعُ فُلَانٍ وَجَرِيحُ فُلَانٍ وَقَوْلُهُ لِنَفْسِي: أَيْ لِأُصَرِّفَكَ فِي أَوَامِرِي لِئَلَّا تَشْتَغِلَ بِغَيْرِ مَا أَمَرْتُكَ بِهِ وَهُوَ إِقَامَةُ حُجَّتِي وَتَبْلِيغُ رِسَالَتِي وَأَنْ تَكُونَ فِي حَرَكَاتِكَ وَسَكَنَاتِكَ لِي لَا لِنَفْسِكَ وَلَا لِغَيْرِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا عَدَّدَ عَلَيْهِ الْمِنَنَ الثَّمَانِيَةَ فِي مُقَابَلَةِ تِلْكَ الِالْتِمَاسَاتِ الثَّمَانِيَةِ رَتَّبَ عَلَى ذِكْرِ ذَلِكَ أَمْرًا وَنَهْيًا، أَمَّا الْأَمْرُ فَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعَادَ الْأَمْرَ بِالْأَوَّلِ فقال: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي [في قوله تعالى اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي] وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي عقبه بذكر ماله اصطنعه وهو الإبلاغ والأداء ثم هاهنا مسائل: المسألة الأولى: الباء هاهنا بِمَعْنَى مَعَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا لَوْ ذَهَبَا إِلَيْهِ بِدُونِ آيَةٍ مَعَهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِيمَانُ وَذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ التَّقْلِيدِ. الْمَسْأَلَةُ الثانية: اختلفوا في الآيات المذكورة هاهنا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْيَدُ وَالْعَصَا لِأَنَّهُمَا اللَّذَانِ جَرَى ذِكْرُهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَفِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي اقْتَصَّ اللَّه تَعَالَى فِيهَا/ حَدِيثَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أُوتِيَ قَبْلَ مَجِيئِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَلَا بَعْدَ مَجِيئِهِ حَتَّى لَقِيَ فِرْعَوْنَ فَالْتَمَسَ مِنْهُ آيَةً غَيْرَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ قَالَ تَعَالَى عنه: قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الشعراء: 31- 33] وَقَالَ: فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ [الْقَصَصِ: 32] فَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ كَيْفَ يُطْلَقُ لَفْظُ الْجَمْعِ عَلَى الِاثْنَيْنِ أَجَابُوا بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَصَا مَا كَانَتْ آيَةً وَاحِدَةً بَلْ كَانَتْ آيَاتٍ فَإِنَّ انْقِلَابَ الْعَصَا حَيَوَانًا آيَةٌ ثُمَّ إِنَّهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَانَتْ صَغِيرَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ [النَّمْلِ: 10] ثُمَّ كَانَتْ تَعْظُمُ وَهَذِهِ آيَةٌ أُخْرَى، ثُمَّ كَانَتْ تَصِيرُ ثُعْبَانًا وَهَذِهِ آيَةٌ أُخْرَى. ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي فِيهَا فَمَا كَانَتْ تَضُرُّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهَذِهِ آيَةٌ أُخْرَى ثُمَّ كَانَتْ تَنْقَلِبُ خَشَبَةً فَهَذِهِ آيَةٌ أُخْرَى، وَكَذَلِكَ الْيَدُ فَإِنَّ بَيَاضَهَا آيَةٌ وَشُعَاعَهَا آيَةٌ أُخْرَى ثُمَّ زَوَالَهُمَا بَعْدَ حُصُولِهِمَا آيَةٌ أُخْرَى فَصَحَّ أَنَّهُمَا كَانَتَا آيَاتٍ كَثِيرَةً لَا آيَتَانِ. الثَّانِي: هَبْ أَنَّ الْعَصَا أَمْرٌ وَاحِدٌ لَكِنَّ فِيهَا آيَاتٍ كَثِيرَةً لِأَنَّ انْقِلَابَهَا حَيَّةٌ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ إِلَهٍ قَادِرٍ عَلَى الْكُلِّ عَالِمٍ بِالْكُلِّ حَكِيمٍ وَيَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْحَشْرِ حَيْثُ انْقَلَبَ الْجَمَادُ حَيَوَانًا فَهَذِهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً إِلَى قَوْلِهِ: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ [آلِ عِمْرَانَ: 96، 97] فَإِذَا وُصِفَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ بِأَنَّ فِيهِ آيَاتٌ فَالشَّيْئَانِ أَوْلَى بِذَلِكَ. الثَّالِثُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ عَلَى مَا عَرَفْتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: اذْهَبَا بِآيَاتِي مَعْنَاهُ أَنِّي أُمِدُّكُمَا بِآيَاتِي وَأُظْهِرُ عَلَى أَيْدِيكُمَا مِنَ الْآيَاتِ مَا تُزَاحُ بِهِ الْعِلَلُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فَاذْهَبَا فَإِنَّ آيَاتِي مَعَكُمَا كَمَا يُقَالُ اذْهَبْ فَإِنَّ جُنْدِي مَعَكَ أَيْ أَنِّي أَمِدُّكَ بِهِمْ مَتَى احتجت.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى آتَاهُ الْعَصَا وَالْيَدَ وَحَلَّ عُقْدَةَ لِسَانِهِ وَذَلِكَ أَيْضًا مُعْجِزٌ فَكَانَتِ الْآيَاتُ ثَلَاثَةً هَذَا هُوَ شَرْحُ الْأَمْرِ أَمَّا النَّهْيُ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي الْوَنْيُ الْفُتُورُ وَالتَّقْصِيرُ وَقُرِئَ وَلَا تِنِيَا بِكَسْرِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ لِلِاتِّبَاعِ ثُمَّ قِيلَ فِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: الْمَعْنَى لَا تَنِيَا بَلِ اتَّخِذَا ذِكْرِيَ آلَةً لِتَحْصِيلِ الْمَقَاصِدِ وَاعْتَقِدَا أَنَّ أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ لَا يَتَمَشَّى لِأَحَدٍ إِلَّا بِذِكْرِي وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ جَلَالَ اللَّه اسْتَحْقَرَ غَيْرَهُ فَلَا يَخَافُ أَحَدًا وَلِأَنَّ مَنْ ذَكَرَ جَلَالَ اللَّه تَقْوَى رُوحُهُ بِذَلِكَ الذِّكْرِ فَلَا يَضْعُفُ فِي الْمَقْصُودِ، وَلِأَنَّ ذَاكِرَ اللَّه تَعَالَى لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِإِحْسَانِهِ وَذَاكِرُ إِحْسَانِهِ لَا يَفْتُرُ فِي أَدَاءِ أَوَامِرِهِ. وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ فَإِنَّ الذِّكْرَ يَقَعُ عَلَى كُلِّ الْعِبَادَاتِ وَتَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ مِنْ أَعْظَمِهَا فَكَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الذِّكْرِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي عِنْدَ فِرْعَوْنَ وَكَيْفِيَّةُ الذِّكْرِ هُوَ أَنْ يَذْكُرَا لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَرْضَى مِنْهُمْ بِالْكُفْرِ وَيَذْكُرَا لَهُمْ أَمْرَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يَذْكُرَا لِفِرْعَوْنَ آلَاءَ اللَّه وَنَعْمَاءَهُ وَأَنْوَاعَ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى وَفِيهِ سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ قَوْلِهِ: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي قَالَ الْقَفَّالُ فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا/ مَأْمُورًا بِالذَّهَابِ عَلَى الِانْفِرَادِ فَقِيلَ مَرَّةً أُخْرَى اذْهَبَا لِيَعْرِفَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنْ يَشْتَغِلَا بِذَلِكَ جَمِيعًا لَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ هَارُونُ دُونَ مُوسَى. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي أَمْرٌ بِالذَّهَابِ إِلَى كُلِّ النَّاسِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ أَمْرٌ بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَحْدَهُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ خِطَابٌ مَعَ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَهَذَا مُشْكِلٌ لِأَنَّ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا هُنَاكَ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى [طه: 45] أَجَابَ الْقَفَّالُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحْدَهُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مَتْبُوعَ هَارُونَ فَجُعِلَ الْخِطَابُ مَعَهُ خِطَابًا مَعَ هَارُونَ وَكَلَامُ هَارُونَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ فَالْخِطَابُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَإِنْ كَانَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحْدَهُ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَهُ إِلَيْهِمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً [الْبَقَرَةِ: 72] وَقَوْلِهِ: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [الْمُنَافِقُونَ: 8] وَحُكِيَ أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ عَبْدُ اللَّه بْنُ أُبَيٍّ وَحْدَهُ. وَثَانِيهَا: يُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لما قال: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى سَكَتَ حَتَّى لَقِيَ أَخَاهُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّه تَعَالَى خَاطَبَهُمَا بِقَوْلِهِ: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ حُكِيَ أَنَّهُ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحَفْصَةَ: قَالَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَيْ قَالَ مُوسَى: أَنَا وَأَخِي نَخَافُ فِرْعَوْنَ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً فَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِاللِّينِ مَعَ الْكَافِرِ الْجَاحِدِ. الْجَوَابُ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ رَبَّاهُ فِرْعَوْنُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُخَاطِبَهُ بِالرِّفْقِ رِعَايَةً لِتِلْكَ الْحُقُوقِ وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى نِهَايَةِ تَعْظِيمِ حَقِّ الْأَبَوَيْنِ. الثَّانِي: أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْجَبَابِرَةِ إِذَا غُلِّظَ لَهُمْ فِي الْوَعْظِ أَنْ يَزْدَادُوا عُتُوًّا وَتَكَبُّرًا، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْبَعْثَةِ حُصُولُ النَّفْعِ لَا حُصُولُ زِيَادَةِ الضَّرَرِ فَلِهَذَا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِالرِّفْقِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ كَانَ ذَلِكَ الْكَلَامُ اللَّيِّنُ. الْجَوَابُ: ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: مَا حَكَى اللَّه تَعَالَى بَعْضَهُ فَقَالَ: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى [النَّازِعَاتِ: 18، 19] وَذَكَرَ أَيْضًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَعْضَ ذَلِكَ فَقَالَ: فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ إِلَى قَوْلِهِ: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه: 47] . وَثَانِيهَا: أَنْ تَعِدَاهُ شَبَابًا لَا يَهْرَمُ بَعْدَهُ وَمُلْكًا لَا يُنْزَعُ مِنْهُ إِلَّا بِالْمَوْتِ وَأَنْ يَبْقَى لَهُ لَذَّةُ الْمَطْعَمِ

[سورة طه (20) : الآيات 45 إلى 48]

وَالْمَشْرَبِ وَالْمَنْكَحِ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ. وَثَالِثُهَا: كَنِّيَاهُ وَهُوَ مِنْ ذَوِي الْكُنَى الثَّلَاثِ أَبُو الْعَبَّاسِ وَأَبُو الْوَلِيدِ وَأَبُو مُرَّةٍ. وَرَابِعُهَا: حُكِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ فِرْعَوْنَ عَمَّرَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعَ سِنِينَ فَقَالَ لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنْ أَطَعْتَنِي عُمِّرْتَ مِثْلَ مَا عُمِّرْتَ فَإِذَا مِتَّ فَلَكَ الْجَنَّةُ وَاعْتَرَضُوا عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقِيلَ لَوْ حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ لَصَارَ ذَلِكَ كَالْإِلْجَاءِ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ مَعَ التَّكْلِيفِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ خِطَابَهُ بِالْكُنْيَةِ أَمْرٌ سَهْلٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً/ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُرَادِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ شَاكًّا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَيْهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا الْمُرَادُ: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا، عَلَى أَنْ تَكُونَا رَاجِيَيْنِ لِأَنْ يَتَذَكَّرَ هُوَ أَوْ يَخْشَى. وَاعْلَمْ أَنَّ أَحْوَالَ الْقَلْبِ ثَلَاثَةٌ. أَحَدُهَا: الْإِصْرَارُ عَلَى الْحَقِّ. وَثَانِيهَا: الْإِصْرَارُ عَلَى الْبَاطِلِ. وَثَالِثُهَا: التَّوَقُّفُ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ مُصِرًّا عَلَى الْبَاطِلِ وَهَذَا الْقِسْمُ أَرْدَأُ الْأَقْسَامِ فَقَالَ تَعَالَى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى فَيَرْجِعُ مِنْ إِنْكَارِهِ إِلَى الْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ وَإِنْ لَمْ يَنْتَقِلْ مِنَ الْإِنْكَارِ إِلَى الْإِقْرَارِ لَكِنَّهُ يَحْصُلُ فِي قَلْبِهِ الْخَوْفُ فَيَتْرُكُ الْإِنْكَارَ وَإِنْ كَانَ لا ينتقل من الإنكار إِلَى الْإِقْرَارِ فَإِنَّ هَذَا خَيْرٌ مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْإِنْكَارِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ لَا يَعْلَمُ سِرَّهُ إِلَّا اللَّه تَعَالَى لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ قَطُّ كَانَ إِيمَانُهُ ضِدًّا لِذَلِكَ الْعِلْمِ الَّذِي يَمْتَنِعُ زَوَالُهُ فَيَكُونُ سُبْحَانَهُ عَالِمًا بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ الْإِيمَانِ وَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ فَكَيْفَ أَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ الرِّفْقِ وَكَيْفَ بَالَغَ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ بِتَلْطِيفِ دَعْوَتِهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى مَعَ عِلْمِهِ اسْتِحَالَةَ حُصُولِ ذَلِكَ مِنْهُ؟ ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يُنَازِعُونَ فِي هَذَا الِامْتِنَاعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرُوا شُبْهَةً قَادِحَةً فِي هَذَا السُّؤَالِ وَلَكِنَّهُمْ سَلَّمُوا أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الْإِيمَانُ وَسَلَّمُوا أَنَّ فِرْعَوْنَ لَا يَسْتَفِيدُ بِبَعْثَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ وَالرَّحِيمُ الْكَرِيمُ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَدْفَعَ سِكِّينًا إِلَى مَنْ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ يُمَزِّقُ بِهَا بَطْنَ نَفْسِهِ ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي مَا أَرَدْتُ بِدَفْعِ السِّكِّينِ إِلَيْهِ إِلَّا الْإِحْسَانَ إِلَيْهِ؟ يَا أَخِي الْعُقُولُ قَاصِرَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَسْرَارِ وَلَا سَبِيلَ فِيهَا إِلَّا التَّسْلِيمُ وَتَرْكُ الِاعْتِرَاضِ وَالسُّكُوتُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَيُرْوَى عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ كَعْبٌ إِنَّهُ لَمَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: فَقُولَا لَهُ قولا لينا وسأقسي قلبه فلا يؤمن. [سورة طه (20) : الآيات 45 الى 48] قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ فِيهِ أَسْئِلَةٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: قَالَا رَبَّنا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِذَلِكَ مُوسَى وَهَارُونُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَهَارُونُ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا هَذَا الْمَقَالَ فَكَيْفَ ذَلِكَ وَجَوَابُهُ قَدْ تَقَدَّمَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه: 25] فَأَجَابَهُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ:

قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [طه: 36] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدِ انْشَرَحَ صَدْرُهُ وَتَيَسَّرَ أَمْرُهُ فَكَيْفَ قَالَ بَعْدَهُ: إِنَّنا نَخافُ فَإِنَّ حُصُولَ الْخَوْفِ يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ شَرْحِ الصَّدْرِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ شَرْحَ الصَّدْرِ عِبَارَةٌ عَنْ تَقْوِيَتِهِ عَلَى ضَبْطِ تِلْكَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَحِفْظِ تِلْكَ الشَّرَائِعِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ السَّهْوُ وَالتَّحْرِيفُ وَذَلِكَ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ زَوَالِ الْخَوْفِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَمَا عَلِمَ مُوسَى وَهَارُونُ وَقَدْ حَمَّلَهُمَا اللَّه تَعَالَى الرِّسَالَةَ أَنَّهُ تَعَالَى يُؤَمِّنُهُمَا مِنَ الْقَتْلِ الَّذِي هُوَ مَقْطَعَةٌ عَنِ الْأَدَاءِ. الْجَوَابُ: قَدْ أَمِنَا ذَلِكَ وَإِنْ جَوَّزَا أَنْ يَنَالَهُمَا السُّوءُ مِنْ قَبْلِ تَمَامِ الْأَدَاءِ أَوْ بَعْدِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُمَا اسْتَظْهَرَا بِأَنْ سَأَلَا رَبَّهُمَا مَا يَزِيدُ فِي ثَبَاتِ قَلْبِهِمَا عَلَى دُعَائِهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْضَافَ الدَّلِيلُ النَّقْلِيُّ إِلَى الْعَقْلِيِّ زِيَادَةً فِي الطُّمَأْنِينَةِ كَمَا قَالَ: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَةِ: 260] . السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لَمَّا تَكَرَّرَ الْأَمْرُ مِنَ اللَّه تَعَالَى بِالذَّهَابِ فَعَدَمُ الذَّهَابِ وَالتَّعَلُّلُ بِالْخَوْفِ هَلْ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. الْجَوَابُ: لَوِ اقْتَضَى الْأَمْرُ الْفَوْرَ لَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَكْثَرَ اللَّه تَعَالَى مِنْ أَنْوَاعِ التَّشْرِيفِ وَتَقْوِيَةِ الْقَلْبِ وَإِزَالَةِ الْغَمِّ وَلَكِنْ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى الْفَوْرِ فَزَالَ السُّؤَالُ وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ إِذَا ضَمَمْتَ إِلَيْهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْصِيَةَ غَيْرُ جَائِزَةٍ عَلَى الرُّسُلِ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى فَاعْلَمْ أَنَّ فِي: أَنْ يَفْرُطَ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: فَرَطَ سَبَقَ وَتَقَدَّمَ وَمِنْهُ الْفَارِطُ الَّذِي يَتَقَدَّمُ الْوَارِدَةَ وَفَرَسٌ فَرْطٌ يَسْبِقُ الْخَيْلَ وَالْمَعْنَى نَخَافُ أَنْ يُعَجِّلَ عَلَيْنَا بِالْعُقُوبَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَفْرَطَ غَيْرَهُ إِذَا حَمَلَهُ عَلَى الْعَجَلَةِ فَكَأَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ خَافَا مِنْ أَنْ يَحْمِلَهُ حَامِلٌ عَلَى الْمُعَاجَلَةِ بِالْعُقُوبَةِ وَذَلِكَ الْحَامِلُ هُوَ إِمَّا الشَّيْطَانُ أَوِ ادِّعَاؤُهُ لِلرُّبُوبِيَّةِ أَوْ حُبُّهُ لِلرِّيَاسَةِ أَوْ قَوْمُهُ وَهُمُ الْقِبْطُ الْمُتَمَرِّدُونَ الَّذِينَ حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ [الْأَعْرَافِ: 60] . وَثَالِثُهَا: يَفْرُطُ مِنَ الْإِفْرَاطِ فِي الْأَذِيَّةِ أَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ أَنْ يَطْغى فَالْمَعْنَى يَطْغَى بِالتَّخَطِّي إِلَى أَنْ يَقُولَ فِيكَ مَا لَا يَنْبَغِي لِجَرَاءَتِهِ عَلَيْكَ وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ أُمِرَ بِشَيْءٍ فَحَاوَلَ دَفْعَهُ بِأَعْذَارٍ يَذْكُرُهَا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَخْتِمَ كَلَامَهُ بِمَا هُوَ الْأَقْوَى وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْهُدْهُدَ خَتَمَ عُذْرَهُ بِقَوْلِهِ: وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [النمل: 24] فكذا هاهنا بَدَأَ مُوسَى بِقَوْلِهِ: أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا وَخَتَمَ بِقَوْلِهِ: أَوْ أَنْ يَطْغى لِمَا أَنَّ طُغْيَانَهُ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى أَعْظَمُ مِنْ إِفْرَاطِهِ فِي حَقِّ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. أَمَّا قَوْلُهُ: قالَ لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى فَالْمُرَادُ لَا تَخَافَا مِمَّا عَرَضَ فِي قَلْبِكُمَا مِنَ الْإِفْرَاطِ وَالطُّغْيَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ الْكَلَامِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُؤَمِّنْهُمَا مِنَ الرَّدِّ وَلَا مِنَ التَّكْذِيبِ بِالْآيَاتِ وَمُعَارَضَةِ السَّحَرَةِ أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّنِي مَعَكُما فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْحِرَاسَةِ وَالْحِفْظِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ: اللَّه مَعَكَ عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَسْمَعُ وَأَرى فَإِنَّ مَنْ يَكُونُ مَعَ الْغَيْرِ وَنَاصِرًا لَهُ وَحَافِظًا/ يَجُوزُ أَنْ لَا يَعْلَمَ كُلَّ مَا يَنَالُهُ وَإِنَّمَا يَحْرُسُهُ فِيمَا يَعْلَمُ فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ مَعَهُمَا بِالْحِفْظِ وَالْعِلْمِ فِي جَمِيعِ مَا يَنَالُهُمَا وَذَلِكَ هُوَ النِّهَايَةُ فِي إِزَالَةِ الْخَوْفِ قَالَ الْقَفَّالُ قَوْلُهُ: أَسْمَعُ وَأَرى يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ: أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى وَالْمَعْنَى: يَفْرُطَ عَلَيْنا بِأَنْ لَا يَسْمَعَ مِنَّا: أَوْ أَنْ يَطْغى بِأَنْ يَقْتُلَنَا فَقَالَ اللَّه تَعَالَى: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ كَلَامَهُ مَعَكُمَا فَأُسَخِّرُهُ لِلِاسْتِمَاعِ مِنْكُمَا وَأَرَى أَفْعَالَهُ فَلَا أَتْرُكُهُ حَتَّى يَفْعَلَ بِكُمَا مَا تَكْرَهَانِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى سَمِيعًا وَبَصِيرًا صِفَتَانِ زَائِدَتَانِ عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّنِي مَعَكُما دَلَّ عَلَى الْعِلْمِ فَقَوْلُهُ: أَسْمَعُ وَأَرى لَوْ دَلَّ عَلَى الْعِلْمِ لَكَانَ ذلك تكريرا وهو خلاف الأصل [في قوله تعالى فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعَادَ ذَلِكَ التَّكْلِيفَ

فَقَالَ: فَأْتِياهُ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ [طه: 23، 24] وفي الثانية: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ [طه: 42] وفي الثالثة: قال: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ [طه: 43] وفي الرابعة قال هاهنا فَأْتِيَاهُ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بِأَنْ يَقُولَا لَهُ: قَوْلًا لَيِّناً [طه: 44] وَفِي هَذِهِ الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ أَمَرَهُمَا: أَنْ يَقُولَا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَفِيهِ تَغْلِيظٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: انْقِيَادُهُ إِلَيْهِمَا وَالْتِزَامُهُ لِطَاعَتِهِمَا وَذَلِكَ يَعْظُمُ عَلَى الْمَلِكِ الْمَتْبُوعِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ فِيهِ إِدْخَالُ النَّقْصِ عَلَى مُلْكِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِمْ فِيمَا يُرِيدُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَلا تُعَذِّبْهُمْ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّلْيِينِ أَوَّلًا وَالتَّغْلِيظِ ثَانِيًا؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا ظَهَرَ لَجَاجُهُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ التَّغْلِيظِ فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ يَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُعْجِزِ مَقْرُونًا بِادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ أَوْلَى مِنْ تَأْخِيرِهِ عَنْهُ؟ قُلْنَا: بَلْ هَذَا أَوْلَى مِنْ تَأْخِيرِهِ عَنْهُ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا مَجْمُوعَ الدَّعَاوَى ثُمَّ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ بِالْمُعْجِزَةِ، أَمَّا قَوْلُهُ: قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ فَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَاهُ آيَتَيْنِ وَهُمَا الْعَصَا وَالْيَدُ ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي [طه: 42] وذلك يدل على ثلاث آيات وقال هاهنا: جِئْناكَ بِآيَةٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ وَاحِدَةً فَكَيْفَ الْجَمْعُ؟ أَجَابَ الْقَفَّالُ بِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى جِنْسِ الْآيَاتِ كَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ جِئْنَاكَ بِبَيَانٍ مِنْ عِنْدِ اللَّه ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُجَّةً وَاحِدَةً أَوْ حُجَجًا كَثِيرَةً، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّه تَعَالَى لَهُمَا كَأَنَّهُ قَالَ: فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ، وَقُولَا لَهُ: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ كَلَامُ اللَّه تَعَالَى قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى وَعْدٌ مِنْ قِبَلِهِمَا لِمَنْ آمَنَ وَصَدَّقَ بِالسَّلَامَةِ لَهُ مِنْ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالسَّلَامُ بِمَعْنَى السَّلَامَةِ كَمَا يُقَالُ رضاع ورضاعة واللام وعلى هاهنا بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَمَا قَالَ/ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرَّعْدِ: 25] عَلَى مَعْنَى عَلَيْهِمْ وَقَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فُصِّلَتْ: 46] وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: 7] ، أَمَّا قوله: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: 48] فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أن عقاب المؤمن لا يدوم ذلك لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ: الْعَذابَ تُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ أَوْ تُفِيدُ الْمَاهِيَّةَ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَقْتَضِي انْحِصَارُ هَذَا الْجِنْسِ فِيمَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى فَوَجَبَ فِي غَيْرِ الْمُكَذِّبِ الْمُتَوَلِّي أَنْ لَا يَحْصُلَ هَذَا الْجِنْسُ أَصْلًا، وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِأَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَى أَصْلِهِ فِي نَفْيِ الدَّوَامِ لِأَنَّ الْعِقَابَ الْمُتَنَاهِيَ إِذَا حَصَلَ بَعْدَهُ السَّلَامَةُ مُدَّةً غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ صَارَ ذَلِكَ الْعِقَابُ كَأَنَّهُ لَا عِقَابَ فَلِذَلِكَ يَحْسُنُ مَعَ حُصُولِ ذَلِكَ الْقَدْرِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَا عِقَابَ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى، وَقَدْ فَسَّرْنَا السَّلَامَ بِالسَّلَامَةِ فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي حُصُولَ السَّلَامَةِ لِكُلِّ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَالْعَارِفُ باللَّه قَدِ اتَّبَعَ الْهُدَى فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ السَّلَامَةِ.

[سورة طه (20) : الآيات 49 إلى 55]

[سورة طه (20) : الآيات 49 الى 55] قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) اعْلَمْ أَنَّهُمَا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَمَّا قَالَا: إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ قَالَ لَهُمَا: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى، فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ شَدِيدَ الْقُوَّةِ عَظِيمَ الْغَلَبَةِ كَثِيرَ الْعَسْكَرِ ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ/ السَّلَامُ لَمَّا دَعَاهُ إِلَى اللَّه تَعَالَى لَمْ يَشْتَغِلْ مَعَهُ بِالْبَطْشِ وَالْإِيذَاءِ بَلْ خَرَجَ مَعَهُ فِي الْمُنَاظَرَةِ لِمَا أَنَّهُ لَوْ شَرَعَ أَوَّلًا فِي الْإِيذَاءِ لَنُسِبَ إِلَى الْجَهْلِ وَالسَّفَاهَةِ فَاسْتَنْكَفَ مِنْ ذَلِكَ وَشَرَعَ أَوَّلًا فِي الْمُنَاظَرَةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّفَاهَةَ مِنْ غَيْرِ الْحُجَّةِ شَيْءٌ مَا كَانَ يَرْتَضِيهِ فِرْعَوْنُ مَعَ كَمَالِ جَهْلِهِ وَكُفْرِهِ فَكَيْفَ يَلِيقُ ذَلِكَ بِمَنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ وَالْعِلْمَ ثُمَّ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ قَبِلَ مُوسَى ذَلِكَ السُّؤَالَ وَاشْتَغَلَ بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ التَّقْلِيدِ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى فَسَادِ قَوْلِ التَّعْلِيمِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ نَسْتَفِيدُ مَعْرِفَةَ الْإِلَهِ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اعْتَرَفَ هاهنا بِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّه تَعَالَى يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُقَدَّمَةً عَلَى مَعْرِفَةِ الرَّسُولِ وَتَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْحَشْوِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ نَسْتَفِيدُ مَعْرِفَةَ اللَّه وَالدِّينِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ حِكَايَةُ كَلَامِ الْمُبْطِلِ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى كَلَامَ فِرْعَوْنَ فِي إِنْكَارِهِ الْإِلَهَ وَحَكَى شُبُهَاتِ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ وَشُبُهَاتِ مُنْكِرِي الْحَشْرِ، إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنَّكَ مَتَى أَوْرَدْتَ السُّؤَالَ فَاقْرِنْهُ بِالْجَوَابِ لِئَلَّا يَبْقَى الشَّكُّ كَمَا فَعَلَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُحِقَّ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِمَاعُ كَلَامِ الْمُبْطِلِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ إِيذَاءٍ وَلَا إِيحَاشٍ كَمَا فَعَلَ مُوسَى عليه السلام بفرعون هاهنا وَكَمَا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى رَسُولَهُ فِي قَوْلُهُ: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النَّحْلِ: 125] وَقَالَ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 6] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ فِرْعَوْنَ هَلْ كَانَ عَارِفًا باللَّه تَعَالَى فَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ عَارِفًا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ الْإِنْكَارَ تَكَبُّرًا وَتَجَبُّرًا وَزُورًا وَبُهْتَانًا، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِسِتَّةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْإِسْرَاءِ: 102] فَمَتَى نُصِبَتِ التَّاءُ فِي عَلِمْتَ كَانَ ذَلِكَ خِطَابًا مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ فِرْعَوْنَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النَّمْلِ: 14] . وَثَانِيهَا: أَنَّهُ كَانَ عَاقِلًا وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ تَكْلِيفُهُ وَكُلُّ مَنْ كَانَ عَاقِلًا قَدْ عَلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ وُجِدَ

بَعْدَ الْعَدَمِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ افْتَقَرَ إِلَى مُدَبِّرٍ وَهَذَانَ الْعِلْمَانِ الضَّرُورِيَّانِ يَسْتَلْزِمَانِ الْعِلْمَ بِوُجُودِ الْمُدَبِّرِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هاهنا: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى وَكَلِمَةُ الَّذِي تَقْتَضِي وَصْفَ الْمَعْرِفَةِ بِجُمْلَةٍ مَعْلُومَةٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ قَدْ كَانَتْ مَعْلُومَةً لَهُ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ فِي صِفَةِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِالْمَبْدَأِ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْمَعَادِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ مُلْكَ فِرْعَوْنَ لَمْ يَتَجَاوَزِ الْقِبْطَ وَلَمْ يَبْلُغِ الشَّامَ وَلَمَّا هَرَبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى مَدْيَنَ قَالَ لَهُ شُعَيْبٌ: لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الْقَصَصِ: 25] فَمَعَ هَذَا كَيْفَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ إِلَهُ الْعَالَمِ؟ وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: 23] قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا [الشُّعَرَاءِ: 24] قَالَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشُّعَرَاءِ: 27] يَعْنِي أَنَا أَطْلُبُ مِنْهُ الْمَاهِيَّةَ وَهُوَ يَشْرَحُ الْوَصْفَ/ فَهُوَ لَمْ يُنَازِعْ مُوسَى فِي الْوُجُودِ بَلْ طَلَبَ مِنْهُ الْمَاهِيَّةَ فَدَلَّ هَذَا عَلَى اعْتِرَافِهِ بِأَصْلِ الْوُجُودِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ كَانَ جَاهِلًا بِرَبِّهِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ خالق هذه السموات وَالْأَرَضِينَ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَأَنَّهُ خَالِقُ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ عَجْزَهُ عَنْهَا وَيَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَهُ فَيَحْصُلُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْجُودًا لَهَا وَلَا خَالِقًا لَهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ جَهْلِهِ باللَّه تَعَالَى فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ دَهْرِيًّا نَافِيًا لِلْمُؤَثِّرِ أَصْلًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان فلسفيا قائلا بالعلة لموجبه، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ عَبَدَةِ الْكَوَاكِبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْحُلُولِيَّةِ الْمُجَسِّمَةِ. وَأَمَّا ادِّعَاؤُهُ الرُّبُوبِيَّةَ لِنَفْسِهِ فَبِمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ وَالِانْقِيَادُ لَهُ وَعَدَمُ الِاشْتِغَالِ بِطَاعَةِ غَيْرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَى عَنْهُ فِي هَذِهِ السورة أنه قال: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى وَقَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ فالسؤال هاهنا بِمَنْ وَهُوَ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بِمَا وَهُوَ عَنِ الْمَاهِيَّةِ وَهُمَا سُؤَالَانِ مُخْتَلِفَانِ وَالْوَاقِعَةُ وَاحِدَةٌ وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ سُؤَالُ مَنْ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى سُؤَالِ مَا لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِنِّي أَنَا اللَّه وَالرَّبُّ فَقَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا فَلَمَّا أَقَامَ مُوسَى الدَّلَالَةُ عَلَى الْوُجُودِ وَعَرَفَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنَّ يُقَاوِمَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِظُهُورِهِ وَجَلَائِهِ عَدَلَ إِلَى الْمَقَامِ الثَّانِي وَهُوَ طَلَبُ الْمَاهِيَّةِ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا باللَّه لِأَنَّهُ تَرَكَ الْمُنَازَعَةَ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِعِلْمِهِ بِغَايَةِ ظُهُورِهِ وَشَرَعَ فِي الْمَقَامِ الصَّعْبِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَاهِيَّةِ اللَّه تَعَالَى غَيْرُ حَاصِلٍ لِلْبَشَرِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إِنَّمَا قَالَ: فَمَنْ رَبُّكُما وَلَمْ يَقُلْ فَمَنْ إِلَهُكُمَا لِأَنَّهُ أَثْبَتَ نَفْسَهُ رَبًّا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ [الشُّعَرَاءِ: 18] فَذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ أَنَا رَبُّكَ فَلِمَ تَدَّعِي رَبًّا آخَرَ وَهَذَا الْكَلَامُ شَبِيهٌ بِكَلَامِ نَمْرُوذَ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [الْبَقَرَةِ: 258] قَالَ نَمْرُوذُ لَهُ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [الْبَقَرَةِ: 258] وَلَمْ يَكُنِ الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ الَّتِي ذَكَرَهُمَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُمَا الَّذِي عَارَضَهُ بِهِمَا نَمْرُوذُ إِلَّا في اللفظ فكذا هاهنا لَمَّا ادَّعَى مُوسَى رُبُوبِيَّةَ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ فِرْعَوْنُ هَذَا الْكَلَامَ وَمُرَادُهُ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ لِأَنِّي رَبَّيْتُكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ الَّتِي ادَّعَاهَا موسى اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غَيْرُ هَذِهِ الرُّبُوبِيَّةِ فِي الْمَعْنَى وَأَنَّهُ لَا مُشَارَكَةَ بَيْنَهُمَا إِلَّا فِي اللَّفْظِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَدَلَّ عَلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ بِأَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُوَ قوله: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ هِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: سَبِّحِ

اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الْأَعْلَى: 1- 3] . قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَكْثَرِ الْأُمُورِ يُعَوِّلُ عَلَى دَلَائِلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ عِبَارَةً عَنْ تَرْكِيبِ الْقَوَالِبِ وَالْأَبْدَانِ وَالْهِدَايَةُ عبارة عن إبداع الْقُوَى الْمُدْرِكَةِ وَالْمُحَرِّكَةِ فِي تِلْكَ الْأَجْسَامِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْخَلْقُ مُقَدَّمًا عَلَى الْهِدَايَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الْحِجْرِ: 29] فَالتَّسْوِيَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْقَالَبِ وَنَفْخُ الروح إشارة/ إلى إبداع الْقُوَى وَقَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 12] إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [الْمُؤْمِنُونَ: 14] فَظَهَرَ أَنَّ الْخَلْقَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْهِدَايَةِ، وَالشُّرُوعُ فِي بَيَانِ عَجَائِبِ حِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى فِي الْخَلْقِ وَالْهِدَايَةِ شُرُوعٌ فِي بَحْرٍ لَا سَاحِلَ لَهُ. وَلْنَذْكُرْ مِنْهُ أَمْثِلَةً قَرِيبَةً إِلَى الْأَفْهَامِ. أَحَدُهَا: أَنَّ الطَّبِيعِيَّ يَقُولُ: الثَّقِيلُ هَابِطٌ وَالْخَفِيفُ صَاعِدٌ وَأَشَدُّ الْأَشْيَاءِ ثِقَلًا الْأَرْضُ ثُمَّ الْمَاءُ وَأَشَدُّهَا خِفَّةً النَّارُ ثُمَّ الْهَوَاءُ فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ النَّارُ أَعْلَى الْعُنْصُرِيَّاتِ وَالْأَرْضُ أَسْفَلَهَا، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَلَبَ هَذَا التَّرْتِيبَ فِي خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ فَجَعَلَ أَعْلَى الْأَشْيَاءِ مِنْهُ الْعَظْمَ وَالشَّعْرَ وَهُمَا أَيْبَسُ مَا فِي الْبَدَنِ وَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ ثُمَّ جَعَلَ تَحْتَهُ الدِّمَاغَ الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ وَجَعَلَ تَحْتَهُ النَّفْسَ الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْهَوَاءِ وَجَعَلَ تَحْتَهُ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ الَّتِي فِي الْقَلْبِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ النَّارِ فَجَعَلَ مَكَانَ الْأَرْضِ مِنَ الْبَدَنِ الْأَعْلَى وَجَعَلَ مَكَانَ النَّارِ مِنَ الْبَدَنِ الْأَسْفَلِ لِيُعْرَفَ أَنَّ ذَلِكَ بِتَدْبِيرِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ لَا بِاقْتِضَاءِ الْعِلَّةِ وَالطَّبِيعَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى عَجَائِبِ النَّحْلِ فِي تَرْكِيبِ الْبُيُوتِ الْمُسَدَّسَةِ وَعَجَائِبِ أَحْوَالِ الْبَقِّ وَالْبَعُوضِ فِي اهْتِدَائِهَا إِلَى مَصَالِحِ أَنْفُسِهَا لَعَرَفْتَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِإِلْهَامِ مُدَبِّرٍ عَالِمٍ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَى الْخَلَائِقِ بِمَا بِهِ قَوَامُهُمْ مِنَ الْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ وَالْمَنْكُوحِ ثُمَّ هَدَاهُمْ إِلَى كَيْفِيَّةِ الِانْتِفَاعِ بِهَا وَيَسْتَخْرِجُونَ الْحَدِيدَ مِنَ الْجِبَالِ واللئالئ مِنَ الْبِحَارِ وَيُرَكِّبُونَ الْأَدْوِيَةَ وَالدِّرْيَاقَاتِ النَّافِعَةِ وَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ فَيَسْتَخْرِجُونَ لَذَّاتِ الْأَطْعِمَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ الْأَشْيَاءِ ثُمَّ أَعْطَاهُمُ الْعُقُولَ الَّتِي بِهَا يَتَوَصَّلُونَ إِلَى كَيْفِيَّةِ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَهَذَا غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْإِنْسَانِ بَلْ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ فَأَعْطَى الْإِنْسَانَ إِنْسَانَةً وَالْحِمَارَ حِمَارَةً وَالْبَعِيرَ نَاقَةً ثُمَّ هَدَاهُ لَهَا لِيَدُومَ التَّنَاسُلُ وَهَدَى الْأَوْلَادَ لِثَدْيِ الْأُمَّهَاتِ، بَلْ هَذَا غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْحَيَوَانَاتِ بَلْ هُوَ حَاصِلٌ فِي أَعْضَائِهَا فَإِنَّهُ خَلَقَ الْيَدَ عَلَى تَرْكِيبٍ خَاصٍّ وَأَوْدَعَ فِيهَا قُوَّةَ الْأَخْذِ وَخَلَقَ الرِّجْلَ عَلَى تَرْكِيبٍ خَاصٍّ وَأَوْدَعَ فِيهَا قُوَّةَ الْمَشْيِ وَكَذَا الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ وَجَمِيعُ الْأَعْضَاءِ ثُمَّ رَبَطَ الْبَعْضَ بِالْبَعْضِ عَلَى وُجُوهٍ يَحْصُلُ مِنِ ارْتِبَاطِهَا مَجْمُوعٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْإِنْسَانُ. وَإِنَّمَا دَلَّتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ لِأَنَّ اتِّصَافَ كُلِّ جِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَامِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ أَعْنِي التَّرْكِيبَ وَالْقُوَّةَ وَالْهِدَايَةَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ جَائِزًا وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّا نُشَاهِدُ تِلْكَ الْأَجْسَامَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُنْفَكَّةً عَنْ تِلْكَ التَّرَاكِيبِ وَالْقُوَى فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَالْجَائِزُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ هُوَ الْإِنْسَانُ وَلَا أَبَوَاهُ لِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي قُدْرَةً عَلَيْهِ وَعِلْمًا بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَالْأَمْرَانِ نَائِيَانِ عَنِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ بَعْدَ كَمَالِ عَقْلِهِ يَعْجِزُ عَنْ تَغْيِيرِ شَعْرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبَعْدَ الْبَحْثِ الشَّدِيدِ عَنْ كُتُبِ التَّشْرِيحِ لَا يُعْرَفُ مِنْ مَنَافِعِ الْأَعْضَاءِ وَمَصَالِحِهَا إِلَّا الْقَدْرُ الْقَلِيلُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُتَوَلِّي لِتَدْبِيرِهَا وَتَرْتِيبِهَا مَوْجُودًا آخَرَ وَذَلِكَ الْمَوْجُودُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا لِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْجِسْمِيَّةِ فَاخْتِصَاصُ ذَلِكَ الْجِسْمِ بِتِلْكَ الْمُؤَثِّرِيَّةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ جَائِزًا وَإِنْ كَانَ جَائِزًا افْتَقَرَ إِلَى سَبَبٍ آخَرَ وَالدَّوْرُ وَالتَّسَلْسُلُ مُحَالَانِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ فِي سِلْسِلَةِ الْحَاجَةِ/ إِلَى مَوْجُودٍ مُؤَثِّرٍ وَمُدَبِّرٍ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جُسْمَانِيٍّ ثُمَّ تَأْثِيرُ ذَلِكَ الْمُؤَثِّرِ إِمَّا

أَنْ يَكُونَ بِالذَّاتِ أَوْ بِالِاخْتِيَارِ، وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لَا يُمَيِّزُ مِثْلًا عَنْ مِثْلٍ وَهَذِهِ الْأَجْسَامُ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْجِسْمِيَّةِ فَلِمَ اخْتَصَّ بَعْضُهَا بِالصُّورَةِ الْفَلَكِيَّةِ وَبَعْضُهَا بِالصُّورَةِ الْعُنْصُرِيَّةِ وَبَعْضُهَا بِالنَّبَاتِيَّةِ وَبَعْضُهَا بِالْحَيَوَانِيَّةِ؟ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ وَالْمُدَبِّرَ قَادِرٌ وَالْقَادِرُ لَا يُمْكِنُهُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْعَجِيبَةِ إِلَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمُدَبِّرَ الَّذِي لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جُسْمَانِيٍّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ فِي ذاته وفي صفاته وإلا لا فتقر إِلَى مُدَبِّرٍ آخَرَ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ فِي قَادِرِيَّتِهِ وَعَالِمِيَّتِهِ وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ لَا يَتَخَصَّصُ بِبَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ دُونَ الْبَعْضِ وَجَبَ [أَنْ] يَكُونَ عَالِمًا بِكُلِّ مَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَقَادِرًا عَلَى كُلِّ مَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا فَظَهَرَ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنَبَّهَ عَلَى تَقْرِيرِهَا اسْتِنَادُ الْعَالَمِ إِلَى مُدَبِّرٍ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جُسْمَانِيٍّ وَهُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ فِي ذَاتِهِ وَفِي صِفَاتِهِ عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ وَذَلِكَ هُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّ فِرْعَوْنَ خَاطَبَ الِاثْنَيْنِ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ رَبُّكُما ثُمَّ وَجَّهَ النِّدَاءَ إِلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي النُّبُوَّةِ وَهَارُونُ وَزِيرُهُ وَتَابِعُهُ، وَإِمَّا لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ لِخُبْثِهِ يَعْلَمُ الرُّتَّةَ الَّتِي فِي لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَرَادَ اسْتِنْطَاقَهُ دُونَ أَخِيهِ لِمَا عَرَفَ مِنْ فَصَاحَتِهِ وَالرُّتَّةِ الَّتِي فِي لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ [الزُّخْرُفِ: 52] . الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فِي قَوْلِهِ: الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ أَيْ أَعْطَى خَلْقَهُ كُلَّ شَيْءٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَيَرْتَفِقُونَ بِهِ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْخَلْقِ الشَّكْلَ وَالصُّورَةَ الْمُطَابِقَةَ لِلْمَنْفَعَةِ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ الشَّكْلَ الَّذِي يُطَابِقُ مَنْفَعَتَهُ وَمَصْلَحَتَهُ، وَقُرِئَ خَلَقَهُ صِفَةً لِلْمُضَافِ أَوِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّه لَمْ يُخَلِّهِ مِنْ إِعْطَائِهِ وَإِنْعَامِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى فَاعْلَمْ أَنَّ فِي ارْتِبَاطِ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَرَّرَ عَلَى فِرْعَوْنَ أَمْرَ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ قَالَ فِرْعَوْنُ: إِنْ كَانَ إِثْبَاتُ الْمَبْدَأِ فِي هَذَا الْحَدِّ مِنَ الظُّهُورِ: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى مَا أَثْبَتُوهُ وَتَرَكُوهُ؟ فَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا اسْتَدَلَّ بِالدَّلَالَةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ قَدَحَ فِرْعَوْنُ فِي تِلْكَ الدَّلَالَةِ بِقَوْلِهِ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ فِي قُوَّةِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْتَ وَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ أَنْ لَا يَكُونُوا غَافِلِينَ عَنْهَا فَعَارَضَ الْحُجَّةَ بِالتَّقْلِيدِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَدَّدَ بِالْعَذَابِ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: 48] فَقَالَ فِرْعَوْنُ: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى فَإِنَّهَا كَذَّبَتْ ثُمَّ إِنَّهُمْ مَا عُذِّبُوا؟ وَثَالِثُهَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا قَالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى فَذَكَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ دَلِيلًا ظَاهِرًا وَبُرْهَانًا بَاهِرًا عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ/ فَقَالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى فَخَافَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَزِيدَ فِي تَقْرِيرِ تِلْكَ الْحُجَّةِ فَيَظْهَرُ لِلنَّاسِ صِدْقُهُ وَفَسَادُ طَرِيقِ فِرْعَوْنَ فَأَرَادَ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَأَنْ يَشْغَلَهُ بِالْحِكَايَاتِ فَقَالَ: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى فَلَمْ يَلْتَفِتْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى ذَلِكَ الْحَدِيثِ بَلْ قَالَ: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ غَرَضِي بِأَحْوَالِهِمْ فَلَا أَشْتَغِلُ بِهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى تَتْمِيمِ كَلَامِهِ الْأَوَّلِ وَإِيرَادِ الدَّلَائِلِ الْبَاهِرَةِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ فَقَالَ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي صِحَّةِ هَذَا النظم، ثم هاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ فَإِنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ الرَّبِّ كَيْفَ

يَكُونُ فِي الْكِتَابِ؟ وَتَحْقِيقُهُ هُوَ أَنَّ عِلْمَ اللَّه تَعَالَى صِفَتُهُ وَصِفَةُ الشَّيْءِ قَائِمَةٌ بِهِ، فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ صِفَةُ الشَّيْءِ حَاصِلَةً فِي كِتَابٍ فَذَاكَ غَيْرُ مَعْقُولٍ فَذَكَرُوا فِيهِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَثْبَتَ تِلْكَ الْأَحْكَامَ فِي كِتَابٍ عِنْدَهُ لِكَوْنِ مَا كَتَبَهُ فِيهِ يَظْهَرُ لِلْمَلَائِكَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ زِيَادَةً لَهُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ مُنَزَّهٌ عَنِ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ قَوْلُهُ: فِي كِتابٍ يُوهِمُ احْتِيَاجَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ إِلَى ذَلِكَ الْكِتَابِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ لَا مَحَالَةَ وَلَكِنَّهُ لَا أَقَلَّ مِنْ أَنَّهُ يُوهِمُهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لَا سِيَّمَا لِلْكَافِرِ فَكَيْفَ يَحْسُنُ ذِكْرُهُ مَعَ مُعَانِدٍ مِثْلِ فِرْعَوْنَ فِي وَقْتِ الدَّعْوَةِ؟ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَفْسِيرَ ذَلِكَ بِأَنَّ بَقَاءَ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ فِي عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ كَبَقَاءِ الْمَكْتُوبِ فِي الْكِتَابِ فَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَأْكِيدَ الْقَوْلِ بِأَنَّ أَسْرَارَهَا مَعْلُومَةٌ للَّه تَعَالَى بِحَيْثُ لَا يَزُولُ شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ عِلْمِهِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ مُؤَكَّدٌ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى اللَّفْظَيْنِ وَاحِدٌ أَيْ لَا يَذْهَبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ ذَكَرُوا وُجُوهًا. أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَحْسَنُ مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ لَا يَضِلُّ عَنِ الْأَشْيَاءِ وَمَعْرِفَتِهَا وَمَا عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَنْسَهُ فَاللَّفْظُ الْأَوَّلُ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ وَاللَّفْظُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَا يَنْسَى دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ ذَلِكَ الْعِلْمِ أَبَدَ الْآبَادِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ التَّغَيُّرِ. وَثَانِيهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: لَا يُخْطِئُ ذَلِكَ الْكِتَابَ رَبِّي وَلَا يَنْسَى مَا فِيهِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْحَسَنُ لَا يُخْطِئُ وَقْتَ الْبَعْثِ وَلَا يَنْسَاهُ. وَرَابِعُهَا: قَالَ أَبُو عَمْرٍو أَصْلُ الضَّلَالِ الْغَيْبُوبَةُ وَالْمَعْنَى لَا يَغِيبُ عَنْ شَيْءٍ وَلَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ. وَخَامِسُهَا: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ لَا يُخْطِئُ فِي التَّدْبِيرِ فَيَعْتَقِدُ فِي غَيْرِ الصَّوَابِ كَوْنَهُ صَوَابًا وَإِذَا عَرَفَهُ لَا يَنْسَاهُ وَهَذِهِ الْوُجُوهُ مُتَقَارِبَةٌ وَالتَّحْقِيقُ هُوَ الْأَوَّلُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الإله وقال: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا سَبِيلُهُ الِاسْتِدْلَالُ أَجَابَ بِمَا هُوَ الصَّوَابُ بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ وَأَحْسَنِ مَعْنًى، وَلَمَّا سَأَلَهُ عَنْ شَأْنِ الْقُرُونِ الْأُولَى وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا سَبِيلُهُ الْإِخْبَارُ وَلَمْ يَأْتِهِ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ وَكَلَهُ إِلَى عَالِمِ الْغُيُوبِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ/ لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَالَةَ الْأُولَى وَهِيَ دَلَالَةٌ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَأَنْوَاعِ النَّبَاتِ وَالْجَمَادَاتِ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ دَلَائِلَ خَاصَّةً وَهِيَ ثَلَاثَةٌ. أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ هاهنا وَفِي الزُّخْرُفِ مَهْداً وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا مِهَادًا فِيهِمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الَّذِي أَخْتَارُهُ مِهَادًا وَهُوَ اسْمٌ وَالْمَهْدُ اسْمُ الْفِعْلِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمَهْدُ الِاسْمُ وَالْمِهَادُ الْجَمْعُ كَالْفَرْشِ وَالْفِرَاشِ أَجَابَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَنَّ الْفِرَاشَ اسْمٌ وَالْفُرُشُ فِعْلٌ، وَقَالَ الْمُفَضَّلُ هُمَا مَصْدَرَانِ لِمَهَّدَ إِذَا وَطَّأَ لَهُ فِرَاشًا يُقَالُ مَهَّدَ مَهْدًا وَمِهَادًا وَفَرَشَ فَرْشًا وَفِرَاشًا. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الَّذِي جَعَلَ مَرْفُوعٌ لِأَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ لأنه صفة لربي أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ وَهَذَا مِنْ مَظَانِّهِ وَمَجَازِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ الْجَزْمُ بِكَوْنِهِ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ إِذْ لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ لَزِمَ كَوْنُهُ مِنْ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَفَسَدَ النَّظْمُ بِسَبَبِ قوله: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ الْأَرْضِ مَهْدًا أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ الْعِبَادُ وَغَيْرُهُمْ عَلَيْهَا بِالْقُعُودِ وَالْقِيَامِ وَالنَّوْمِ وَالزِّرَاعَةِ وَجَمِيعِ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مُسْتَقْصًى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي

جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً [الْبَقَرَةِ: 22] . وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» سَلَكَ مِنْ قَوْلِهِ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [الْمُدَّثِّرِ: 42] كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ [الشعراء: 200] أَيْ جَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَوَسَّطَهَا بَيْنَ الْجِبَالِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالْبَرَارِي. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً وَالْكَلَامُ فِيهِ قَدْ مَرَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَأَخْرَجْنا فِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَأَنَّهُ يَقُولُ رَبِّيَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا فَأَخْرَجْنَا نَحْنُ مَعَاشِرَ عِبَادِهِ بِذَلِكَ الْمَاءِ بِالْحِرَاثَةِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى. وَثَانِيهَا: أَنَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً تَمَّ كَلَامُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْ صِفَةِ نَفْسِهِ مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ قَوْلُهُ: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ. وَثَالِثُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» انْتَقَلَ فِيهِ مِنْ لَفْظِ الْغَيْبَةِ إِلَى لَفْظِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُطَاعِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُطَاعٌ تَنْقَادُ الْأَشْيَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ لِأَمْرِهِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 99] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها [فَاطِرٍ: 27] أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ [النَّمْلِ: 60] وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَأَخْرَجْنا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ مِنْ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي/ ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ لَا يَلِيقُ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى لَا يَلِيقُ بِمُوسَى لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي قُدْرَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صَرْفُ الْمِيَاهِ إِلَى سَقْيِ الْأَرَاضِي وَأَمَّا إِخْرَاجُ النَّبَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا وَطَبَائِعِهَا فَلَيْسَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا كَلَامُ اللَّه وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ كَلَامُ اللَّه ابْتِدَاؤُهُ مِنْ قوله: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى لِأَنَّ الْفَاءَ يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهُ فَلَا يَجُوزُ جَعْلُ هَذَا كَلَامَ اللَّه تَعَالَى وَجَعْلُ مَا قَبْلَهُ كَلَامَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كَلَامَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى ثُمَّ ابْتُدِئَ كَلَامُ اللَّه تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا فَيَكُونُ الَّذِي خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَيَكُونُ الِانْتِقَالُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ الْتِفَاتًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا يُخْرِجُ النَّبَاتَ مِنَ الْأَرْضِ بِوَاسِطَةِ إِنْزَالِ الْمَاءِ فَيَكُونُ لِلْمَاءِ فِيهِ أَثَرٌ وَهَذَا بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ لَا يَقْدَحُ فِي شَيْءٍ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي أَعْطَاهَا هَذِهِ الْخَوَاصَّ وَالطَّبَائِعَ لَكِنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ يُنْكِرُونَهُ وَيَقُولُونَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِيهِ أَلْبَتَّةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَزْواجاً أَيْ أَصْنَافًا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا مُزْدَوَجَةٌ مَقْرُونَةٌ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ شَتَّى صِفَةٌ لِلْأَزْوَاجِ جَمْعُ شَتِيتٍ كَمَرِيضٍ وَمَرْضَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلنَّبَاتِ وَالنَّبَاتُ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ النَّابِتُ كَمَا يُسَمَّى بِالنَّبْتِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ يَعْنِي أَنَّهَا شَتَّى مُخْتَلِفَةُ النَّفْعِ وَالطَّعْمِ وَالطَّبْعِ بَعْضُهَا يَصْلُحُ لِلنَّاسِ وَبَعْضُهَا يَصْلُحُ لِلْبَهَائِمِ أَمَّا قَوْلُهُ: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ فَهُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَخْرَجْنَا وَالْمَعْنَى أَخْرَجْنَا أَصْنَافَ النَّبَاتِ آذِنِينَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا مُبِيحِينَ أَنْ تَأْكُلُوا بَعْضَهَا وَتَعْلِفُوا بَعْضَهَا. وَقَدْ تَضَمَّنَ قَوْلُهُ كُلُوا سَائِرَ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [الْبَقَرَةِ: 188] وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النِّسَاءِ: 10] وَقَوْلُهُ: كُلُوا أَمْرُ إِبَاحَةٍ إِنَّ فِي ذلِكَ أَيْ فِيمَا ذَكَرْتُ مِنْ هَذِهِ النعم لَآياتٍ

[سورة طه (20) : الآيات 56 إلى 58]

أَيْ لَدَلَالَاتٍ لِذَوِي النُّهَى أَيِ الْعُقُولِ وَالنُّهْيَةُ الْعَقْلُ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: النُّهَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَالْهُدَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا أَمَّا قَوْلُهُ: مِنْها خَلَقْناكُمْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ مَنَافِعَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بَيَّنَ أَنَّهَا غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ لِذَاتِهَا بَلْ هِيَ مَطْلُوبَةٌ لِكَوْنِهَا وَسَائِلَ إِلَى مَنَافِعِ الْآخِرَةِ فَقَالَ: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: مِنْها خَلَقْناكُمْ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَنَا مِنْ نُطْفَةٍ عَلَى مَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ. وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ أَصْلَنَا وَهُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ التُّرَابِ عَلَى مَا قَالَ: كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آلِ عِمْرَانَ: 59] لَا جَرَمَ أَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَيْنَا. الثَّانِي: أَنَّ تَوَلُّدَ الْإِنْسَانِ إِنَّمَا هُوَ مِنَ النُّطْفَةِ وَدَمِ الطَّمْثِ وَهُمَا يَتَوَلَّدَانِ مِنَ الْأَغْذِيَةِ، وَالْغِذَاءُ إِمَّا حَيَوَانِيٌّ أَوْ نَبَاتِيٌّ وَالْحَيَوَانِيُّ يَنْتَهِي إِلَى النَّبَاتِ وَالنَّبَاتُ إِنَّمَا يَحْدُثُ مِنِ امْتِزَاجِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ فَصَحَّ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَنَا مِنْهَا وَذَلِكَ لَا يُنَافِي كَوْنَنَا مَخْلُوقِينَ/ مِنَ النُّطْفَةِ. وَالثَّالِثُ: ذَكَرْنَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ [آلِ عِمْرَانَ: 6] خَبَرَ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّه يَأْمُرُ مَلَكَ الْأَرْحَامِ أَنْ يَكْتُبَ الْأَجَلَ وَالرِّزْقَ وَالْأَرْضَ الَّتِي يُدْفَنُ فِيهَا وَأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ تُرَابِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ وَيَذَرُهُ عَلَى النُّطْفَةِ ثُمَّ يُدْخِلُهَا فِي الرَّحِمِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ مَخْلُوقًا مِنَ الشَّيْءِ وَظَاهِرُ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ يَأْبَاهُ. وَالْجَوَابُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ خَلْقِ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ إِزَالَةَ صِفَةِ الشَّيْءِ الْأَوَّلِ عَنِ الذَّاتِ وَإِحْدَاثَ صِفَةِ الشَّيْءِ الثَّانِي فِيهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ فِيهِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِيها نُعِيدُكُمْ فَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ الْإِعَادَةُ إِلَى الْقُبُورِ حَتَّى تَكُونَ الْأَرْضُ مَكَانًا وَظَرْفًا لِكُلِّ مَنْ مَاتَ إِلَّا مَنْ رَفَعَهُ اللَّه إِلَى السَّمَاءِ، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُعَادَ إِلَيْهَا أَيْضًا بَعْدَ ذَلِكَ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَقْرَبُ: وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ يَوْمَ الْحَشْرِ وَالْبَعْثِ. وَثَانِيهَا: وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تُرَابًا وَطِينًا ثُمَّ نُحْيِيكُمْ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ. وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ عَذَابُ الْقَبْرِ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَذَكَرَ عَذَابَ الْقَبْرِ وَمَا يُخَاطَبُ بِهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَأَنَّهُ تُرَدُّ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ وَيُرَدُّ إِلَى الْأَرْضِ وَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ عِنْدَ إِعَادَتِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ إِنِّي وَعَدْتُهُمْ أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى» ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَدَّدَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَنَافِعَ الْأَرْضِ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا لَهُمْ فِرَاشًا وَمِهَادًا يَتَقَلَّبُونَ عَلَيْهَا وَسَوَّى لَهُمْ فِيهَا مَسَالِكَ يَتَرَدَّدُونَ فِيهَا كَيْفَ أَرَادُوا وَأَنْبَتَ فِيهَا أَصْنَافَ النَّبَاتِ الَّتِي مِنْهَا أَقْوَاتُهُمْ وَعَلَفُ دَوَابِّهِمْ وَهِيَ أَصْلُهُمُ الَّذِي مِنْهُ يَتَفَرَّعُونَ ثُمَّ هِيَ كِفَاتُهُمْ إِذَا مَاتُوا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «بِرُّوا بِالْأَرْضِ فَإِنَّهَا بِكُمْ بَرَّةٌ» . [سورة طه (20) : الآيات 56 الى 58] وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يَا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَرَى فِرْعَوْنَ الْآيَاتِ كُلَّهَا ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَقْبَلْهَا وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْآيَاتِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَرَادَ كُلَّ الْأَدِلَّةِ مَا يَتَّصِلُ بِالتَّوْحِيدِ وَمَا يَتَّصِلُ بِالنُّبُوَّةِ، أَمَّا التَّوْحِيدُ فَمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] وَقَوْلُهُ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً [طَهَ: 53] / الْآيَةَ، وَمَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الشعراء: 23، 24]

[سورة طه (20) : الآيات 59 إلى 62]

الْآيَاتِ، وَأَمَّا النُّبُوَّةُ فَهِيَ الْآيَاتُ التِّسْعُ الَّتِي خَصَّ اللَّه بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ وَفَلْقُ الْبَحْرِ وَالْحَجَرِ وَالْجَرَادُ وَالْقُمَّلُ وَالضَّفَادِعُ وَالدَّمُ وَنَتْقُ الْجَبَلِ وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ مَعْنَى أَرَيْنَاهُ عَرَّفْنَاهُ صِحَّتَهَا وَأَوْضَحْنَا لَهُ وَجْهَ الدَّلَالَةِ فِيهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى مَا يَتَّصِلُ بِالنُّبُوَّةِ وَهِيَ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتُ، وَإِنَّمَا أَضَافَ الْآيَاتِ إِلَى نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ أَنَّ الْمُظْهِرَ لَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ أَجْرَاهَا عَلَى يَدَيْهِ كَمَا أَضَافَ نَفْخَ الرُّوحِ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا [الْأَنْبِيَاءِ: 91] مَعَ أَنَّ النَّفْخَ كَانَ مِنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: كُلُّهَا يُفِيدُ الْعُمُومَ واللَّه تَعَالَى مَا أَرَاهُ جَمِيعَ الْآيَاتِ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَاتِ مَا أَظْهَرَهَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالَّذِينَ كَانُوا بَعْدَهُ قُلْنَا: لَفْظُ الْكُلِّ وَإِنْ كَانَ لِلْعُمُومِ لَكِنْ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخُصُوصِ عِنْدَ الْقَرِينَةِ كَمَا يُقَالُ دَخَلْتُ السُّوقَ فَاشْتَرَيْتُ كُلَّ شَيْءٍ أَوْ يُقَالُ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَاهُ آيَاتِهِ وَعَدَّدَ عَلَيْهِ آيَاتِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَكَذَّبَ فِرْعَوْنُ بِالْكُلِّ أَوْ يُقَالُ تَكْذِيبُ بَعْضِ الْمُعْجِزَاتِ يَقْتَضِي تَكْذِيبَ الْكُلِّ فَحَكَى اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلْزَمُ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ كَذَّبَ وَأَبَى قَالَ الْقَاضِي: الْإِبَاءُ الِامْتِنَاعُ وَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ بِهِ إلا من يتمكن من الفعل والترك ولأن اللَّه تَعَالَى ذَمَّهُ بِأَنَّهُ كَذَّبَ وَبِأَنَّهُ أَبَى وَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَا هُوَ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ مَرَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ [الْبَقَرَةِ: 34] . وَالْجَوَابُ مَذْكُورٌ هُنَاكَ، ثُمَّ حَكَى اللَّه تَعَالَى شُبْهَةَ فِرْعَوْنَ وَهِيَ قَوْلُهُ: أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يَا مُوسى وَتَرْكِيبُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ عَجِيبٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَلْقَى فِي مَسَامِعِهِمْ مَا يَصِيرُونَ بِهِ مُبْغِضِينَ لَهُ جِدًّا وَهُوَ قَوْلُهُ: أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَشُقُّ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي النِّهَايَةِ وَلِذَلِكَ جَعَلَهُ اللَّه تَعَالَى مُسَاوِيًا لِلْقَتْلِ فِي قَوْلِهِ: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ [النِّسَاءِ: 66] ثُمَّ لَمَّا صَارُوا فِي نِهَايَةِ الْبُغْضِ لَهُ أَوْرَدَ الشُّبْهَةَ الطَّاعِنَةَ فِي نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ أَنَّ مَا جِئْتَنَا بِهِ سِحْرٌ لَا مُعْجِزٌ، وَلَمَّا عَلِمَ أَنَّ الْمُعْجِزَ إِنَّمَا يَتَمَيَّزُ عَنِ السِّحْرِ لِكَوْنِ الْمُعْجِزِ مِمَّا يَتَعَذَّرُ مُعَارَضَتُهُ وَالسِّحْرُ مِمَّا يُمْكِنُ مُعَارَضَتُهُ قَالَ: فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَوْعِدَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِمَكَانِ الْوَعْدِ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ [الْحِجْرِ: 43] وَأَنْ يَكُونَ اسْمًا لِزَمَانِ الْوَعْدِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [هُودٍ: 81] وَالَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ أَيِ اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ وَعْدًا لَا نُخْلِفُهُ لِأَنَّ الْوَعْدَ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ وَصْفُهُ بِالْخُلْفِ. أَمَّا الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ فَلَا يَصِحُّ وَصْفُهُمَا بِذَلِكَ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَسَنَ قَرَأَ يَوْمَ الزِّينَةِ بِالنَّصْبِ وَذَلِكَ لَا يُطَابِقُ الْمَكَانَ وَالزَّمَانَ وَإِنَّمَا نَصَبَ مَكَانًا لِأَنَّهُ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِلْجَعْلِ وَالتَّقْدِيرُ اجْعَلْ مَكَانَ مَوْعِدٍ لَا نُخْلِفُهُ مَكَانًا سُوًى. أَمَّا قَوْلُهُ: سُوىً فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَابْنُ عَامِرٍ سُوىً بِضَمِّ السِّينِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ طِوًى وَطُوًى، وَقُرِئَ أَيْضًا مُنَوَّنًا وَغَيْرَ مُنَوَّنٍ، وَذَكَرُوا فِي مَعْنَاهُ وُجُوهًا: / أَحَدُهَا: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ مَكَانًا تَسْتَوِي مَسَافَتُهُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ قَالَ قَتَادَةُ مُنَصَّفًا بَيْنَنَا. وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: سُوىً أَيْ مُسْتَوِيًا لَا يَحْجُبُ الْعَيْنَ مَا فيه من الارتفاع والانخفاض فسوى عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ صِفَةُ الْمَسَافَةِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ صِفَةُ الْمَكَانِ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مَوْضِعًا مُسْتَوِيًا لَا يَكُونُ فِيهِ ارْتِفَاعٌ وَلَا انْخِفَاضٌ حَتَّى يُشَاهِدَ كُلُّ الْحَاضِرِينَ كُلَّ مَا يَجْرِي. وَثَالِثُهَا: مَكَانًا يَسْتَوِي حَالُنَا فِي الرِّضَاءِ بِهِ. وَرَابِعُهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ: مَكَانًا سِوَى هَذَا الْمَكَانِ الذي نحن فيه الآن. [سورة طه (20) : الآيات 59 الى 62] قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62)

اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُحْتَمَلُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: قالَ مَوْعِدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ فَبَيَّنَ الْوَقْتَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ الْقَاضِي وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ الْمُطَالِبُ بِالِاجْتِمَاعِ دُونَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعِنْدِي الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَوَابٌ لِقَوْلِ فِرْعَوْنَ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا. وَثَانِيهَا: وَهُوَ أَنَّ تَعْيِينَ يَوْمِ الزِّينَةِ يَقْتَضِي إِطْلَاعَ الْكُلِّ عَلَى مَا سَيَقَعُ فَتَعْيِينُهُ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْمُحِقِّ الَّذِي يَعْرِفُ أَنَّ الْيَدَ لَهُ لَا الْمُبْطِلُ الَّذِي يَعْرِفُ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا التَّلْبِيسُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: مَوْعِدُكُمْ خِطَابٌ لِلْجَمْعِ فَلَوْ جَعَلْنَاهُ مِنْ فِرْعَوْنَ إِلَى مُوسَى وَهَارُونَ لَزِمَ إِمَّا حَمْلُهُ عَلَى التَّعْظِيمِ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحَالِ فِرْعَوْنَ مَعَهُمَا أَوْ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ أَمَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ اسْتَقَامَ الْكَلَامُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يَوْمُ الزِّينَةِ قَرَأَ بَعْضُهُمْ بِضَمِّ الْمِيمِ وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِالنَّصْبِ قَالَ الزَّجَّاجُ: إِذَا رُفِعَ فَعَلَى خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ وَالْمَعْنَى وَقْتُ مَوْعِدِكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى الظَّرْفِ مَعْنَاهُ مَوْعِدُكُمْ يَقَعُ يَوْمَ الزِّينَةِ وَقَوْلُهُ: وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى مَعْنَاهُ مَوْعِدُكُمْ حَشْرُ النَّاسِ ضُحًى فَمَوْضِعُ أَنْ يَكُونُ رَفْعًا وَيَجُوزُ فِيهِ الْخَفْضُ عَطْفًا عَلَى الزِّينَةِ كَأَنَّهُ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمَ الزِّينَةِ وَيَوْمَ يُحْشَرُ النَّاسِ ضُحًى فَإِنْ قِيلَ أَلَسْتُمْ قُلْتُمْ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً [طه: 58] أَنَّ التَّقْدِيرَ اجْعَلْ مَكَانَ مَوْعِدٍ لَا نُخْلِفُهُ مَكَانًا سُوًى فَهَذَا كَيْفَ يُطَابِقُهُ الْجَوَابُ بِذِكْرِ الزَّمَانِ؟ قُلْنَا هُوَ مُطَابِقُ مَعْنًى وَإِنْ لَمْ يُطَابِقْ لَفْظًا/ لِأَنَّهُمْ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَجْتَمِعُوا يَوْمَ الزِّينَةِ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ مَشْهُودٍ بِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَبِذِكْرِ الزَّمَانِ عُلِمَ الْمَكَانُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي يَوْمِ الزِّينَةِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ لَهُمْ يَتَزَيَّنُونَ فِيهِ. وَثَانِيهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ يَوْمُ النَّيْرُوزِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَوْمُ سُوقٍ لَهُمْ. وَرَابِعُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَإِنَّمَا قَالَ يُحْشَرَ فَإِنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ حَاشِرٍ لَهُمْ، وَقُرِئَ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ يُرِيدُ وَأَنْ تَحْشُرَ النَّاسَ يَا فِرْعَوْنُ وَأَنْ يَحْشُرَ الْيَوْمَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَمِيرُ فِرْعَوْنَ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْغَيْبَةِ، إِمَّا عَلَى الْعَادَةِ الَّتِي تُخَاطَبُ بِهَا الْمُلُوكُ أَوْ خَاطَبَ الْقَوْمَ بِقَوْلِهِ: مَوْعِدُكُمْ وَجَعَلَ ضَمِيرَ يُحْشَرَ لِفِرْعَوْنَ وَإِنَّمَا أَوْعَدَهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِيَكُونَ عُلُوُّ كَلِمَةِ اللَّه تَعَالَى وَظُهُورُ دِينِهِ وَكَبْتُ الْكَافِرِ وَزَهُوقُ الْبَاطِلِ عَلَى رؤوس الْأَشْهَادِ فِي الْمَجْمَعِ الْعَامِّ لِيَكْثُرَ الْمُحَدِّثُ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الْعَجِيبِ فِي كُلِّ بَدْوٍ وَحَضَرٍ وَيَشِيعَ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْوَبَرِ وَالْمَدَرِ، قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ عَيَّنَ الْيَوْمَ بِقَوْلِهِ: يَوْمُ الزِّينَةِ ثُمَّ عَيَّنَ مِنَ الْيَوْمِ وَقْتًا مُعَيَّنًا بِقَوْلِهِ: وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى وأما قَوْلُهُ: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى فَاعْلَمْ أَنَّ التَّوَلِّيَ قَدْ يَكُونُ إِعْرَاضًا وَقَدْ يكون انصرافا والظاهر هاهنا أَنَّهُ بِمَعْنَى الِانْصِرَافِ وَهُوَ مُفَارَقَتُهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمَوْعِدِ الَّذِي تَوَاعَدُوا لِلِاجْتِمَاعِ [فِيهِ] ، قَالَ مُقَاتِلٌ: فَتَوَلَّى أَيْ أَعْرَضَ وَثَبَتَ عَلَى إِعْرَاضِهِ عَنِ الْحَقِّ وَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: فَجَمَعَ كَيْدَهُ السَّحَرَةُ وَسَائِرُ مَنْ يَجْتَمِعُ لِذَلِكَ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْآلَاتُ وَسَائِرُ مَا أَوْرَدَتْهُ السَّحَرَةُ ثُمَّ أَتى دَخَلَ تَحْتَهُ أَتَى الْمَوْضِعَ بِالسَّحَرَةِ وَبِالْقَوْمِ وَبِالْآلَاتِ قَالَ ابْنُ

[سورة طه (20) : الآيات 63 إلى 64]

عَبَّاسٍ: كَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَاحِرًا مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَبْلٌ وَعَصَا وَقِيلَ كَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ وَقِيلَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ ضُرِبَتْ لِفِرْعَوْنَ قُبَّةٌ فَجَلَسَ فِيهَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَكَانَ طُولُ الْقُبَّةِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدَّمَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ الْوَعِيدَ وَالتَّحْذِيرَ مِمَّا قَالُوهُ وَأَقْدَمُوا عَلَيْهِ فَقَالَ: وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً بِأَنْ تَزْعُمُوا بِأَنَّ الَّذِي جِئْتُ بِهِ لَيْسَ بِحَقٍّ وَأَنَّهُ سِحْرٌ فَيُمْكِنُكُمْ مُعَارَضَتِي، قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ فِي انْتِصَابِ وَيْلَكُمْ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَلْزَمَهُمُ اللَّه وَيْلًا إِنِ افْتَرَوْا عَلَى اللَّه كَذِبًا ويجوز على النداء كقوله: يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ [هود: 72] ، يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس: 52] وَقَوْلِهِ: فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ أَيْ يُعَذِّبَكُمْ عَذَابًا مُهْلِكًا مُسْتَأْصِلًا وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ بِرَفْعِ الْيَاءِ مِنَ الْإِسْحَاتِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا مِنَ السُّحْتِ وَالْإِسْحَاتُ لُغَةُ أَهْلِ نَجْدٍ وَبَنِي تَمِيمٍ وَالسُّحْتُ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّه كَذِبًا حَصَلَ لَهُ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا أَوِ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ. وَالثَّانِي: الْخَيْبَةُ وَالْحِرْمَانُ عَنِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وتعالى أنه لم قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ أَعْرَضُوا عَنْ قَوْلِهِ: فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَفِي تَنَازَعُوا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَفَاوَضُوا وَتَشَاوَرُوا لِيَسْتَقِرُّوا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ. وَالثَّانِي: قَالَ مُقَاتِلٌ: اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: دَخَلَ فِي التَّنَازُعِ فِرْعَوْنُ/ وَقَوْمُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هُمُ السَّحَرَةُ وَحْدَهُمْ وَالْكَلَامُ مُحْتَمَلٌ وَلَيْسَ فِي الظَّاهِرِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّرْجِيحِ وَذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: وَأَسَرُّوا النَّجْوى وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَسَرُّوهَا مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا إِنَّ نَجْوَاهُمْ قَالُوا: إِنْ غَلَبَنَا مُوسَى اتَّبَعْنَاهُ. وَالثَّانِي: قَالَ قَتَادَةُ إِنْ كَانَ سَاحِرًا فَسَنَغْلِبُهُ وَإِنْ كَانَ مِنَ السَّمَاءِ فَلَهُ أَمْرٌ. الثَّالِثُ: قَالَ وَهْبٌ لَمَّا قَالَ: وَيْلَكُمْ الْآيَةَ قَالُوا مَا هَذَا بِقَوْلِ سَاحِرٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ أَسَرُّوا النَّجْوَى مِنْ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ وَنَجْوَاهُمْ هُوَ قَوْلُهُمْ: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ [طه: 63] وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ أَسَرُّوا النَّجْوَى مِنْ مُوسَى وَهَارُونَ وَمِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ أَيْضًا وَكَانَ نَجْوَاهُمْ أَنَّهُمْ كَيْفَ يَجِبُ تَدْبِيرُ أَمْرِ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ يَجِبُ إِظْهَارُهَا فَيَكُونُ أَوْقَعَ فِي الْقُلُوبِ وَأَظْهَرَ لِلْعُيُوبِ وهو قول الضحاك. [سورة طه (20) : الآيات 63 الى 64] قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ وَذَكَرُوا وُجُوهًا أُخَرَ. أَحَدُهَا: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: (إِنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ) قَالُوا: هِيَ قِرَاءَةُ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ رَضِيَ اللَّه تعالى عنه وَاحْتَجَّ أَبُو عَمْرٍو وَعِيسَى عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَى هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قَوْلِهِ: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ وَعَنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى [الْمَائِدَةِ: 69] فِي الْمَائِدَةِ، وَعَنْ قَوْلِهِ: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ [النِّسَاءِ: 162] فَقَالَتْ يَا ابْنَ أَخِي هَذَا خَطَأٌ مِنَ الْكَاتِبِ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ نَظَرَ فِي الْمُصْحَفِ فَقَالَ: أَرَى فِيهِ لَحْنًا وَسَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو أنه قال: إني لأستحي أَنْ أَقْرَأَ: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ، وَثَانِيهَا: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: (إِنْ هَذَانِّ) بِتَخْفِيفِ إِنَّ وَتَشْدِيدِ نون

هَذَانِ. وَثَالِثُهَا: قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ إِنْ هذانِ بِتَخْفِيفِ النُّونَيْنِ. وَرَابِعُهَا: قَرَأَ عَبْدُ اللَّه بْنُ مَسْعُودٍ: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى أَنْ هَذَانِ سَاحِرَانِ بِفَتْحِ الْأَلِفِ وَجَزْمِ نُونِهِ [وَ] سَاحِرَانِ بِغَيْرِ لَامٍ. وَخَامِسُهَا: عَنِ الْأَخْفَشِ: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ خَفِيفَةٌ فِي مَعْنَى ثَقِيلَةٍ وَهِيَ لُغَةُ قَوْمٍ يَرْفَعُونَ بِهَا/ وَيُدْخِلُونَ اللَّامَ لِيُفَرِّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الَّتِي تَكُونُ فِي مَعْنَى مَا. وَسَادِسُهَا: رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: (مَا هَذَانِ إِلَّا سَاحِرَانِ) وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا: (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) وَعَنِ الْخَلِيلِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَعَنْ أُبَيِّ أَيْضًا: (إِنْ ذَانِ لَسَاحِرَانِ) فَهَذِهِ هِيَ الْقِرَاءَاتُ الشَّاذَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ قَالُوا: هَذِهِ الْقِرَاءَاتُ لَا يَجُوزُ تَصْحِيحُهَا لِأَنَّهَا مَنْقُولَةٌ بِطَرِيقِ الْآحَادِ، وَالْقُرْآنُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا بِالتَّوَاتُرِ إِذْ لَوْ جَوَّزْنَا إِثْبَاتَ زِيَادَةٍ فِي الْقُرْآنِ بِطَرِيقِ الْآحَادِ لَمَا أَمْكَنَنَا الْقَطْعُ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي هُوَ عِنْدَنَا كُلُّ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ أَنَّهَا مَعَ كَوْنِهَا مِنَ الْقُرْآنِ مَا نُقِلَتْ بِالتَّوَاتُرِ جَازَ فِي غَيْرِهَا ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ تَجْوِيزَ كَوْنِ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ مِنَ الْقُرْآنِ يَطْرُقُ جَوَازَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالتَّغْيِيرِ إِلَى الْقُرْآنِ وَذَلِكَ يُخْرِجُ الْقُرْآنَ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا فَكَذَلِكَ مَا أَدَّى إِلَيْهِ، وَأَمَّا الطَّعْنُ فِي الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ فَهُوَ أَسْوَأُ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَقْلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فِي الشُّهْرَةِ كَنَقْلِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ فَلَوْ حَكَمْنَا بِبُطْلَانِهَا جَازَ مِثْلُهُ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الْقَدْحِ فِي التَّوَاتُرِ وَإِلَى الْقَدْحِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ امْتَنَعَ صَيْرُورَتُهُ مُعَارِضًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْمَنْقُولِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ كَلَامُ اللَّه تَعَالَى وَكَلَامُ اللَّه تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَحْنًا وَغَلَطًا فَثَبَتَ فَسَادُ مَا نُقِلَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ فِيهِ لَحْنًا وَغَلَطًا. وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ إِنَّ الصَّحَابَةَ هُمُ الْأَئِمَّةُ وَالْقُدْوَةُ فَلَوْ وَجَدُوا فِي الْمُصْحَفِ لَحْنًا لَمَا فَوَّضُوا إِصْلَاحَهُ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ مَعَ تَحْذِيرِهِمْ مِنَ الِابْتِدَاعِ وَتَرْغِيبِهِمْ فِي الِاتِّبَاعِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمُ: اتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ. فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ. وَاخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِيهِ وَذَكَرُوا وُجُوهًا: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَقْوَى أَنَّ هَذِهِ لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ لُغَةُ بَلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، وَالزَّجَّاجُ نَسَبَهَا إِلَى كِنَانَةَ وَقُطْرُبٌ نَسَبَهَا إِلَى بَلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ وَمُرَادٍ وَخَثْعَمَ وَبَعْضِ بَنِي عُذْرَةَ، وَنَسَبَهَا ابْنُ جِنِّي إِلَى بَعْضِ بَنِي رَبِيعَةَ أَيْضًا وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ: فَأَطْرَقَ إِطْرَاقَ الشُّجَاعِ وَلَوْ يَرَى ... مَسَاغًا لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا وَأَنْشَدَ غَيْرُهُ: تَزَوُّدَ مِنَّا بَيْنَ أُذُنَاهُ ضَرْبَةً ... دَعَتْهُ إِلَى هَابِي التُّرَابِ عَقِيمِ قَالَ الْفَرَّاءُ وَحَكَى بَعْضُ بَنِي أَسَدٍ أَنَّهُ قَالَ هَذَا خَطُّ يَدَا أَخِي أَعْرِفُهُ. وَقَالَ قُطْرُبٌ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: رَأَيْتُ رَجُلَانِ وَاشْتَرَيْتُ ثَوْبَانِ قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي ضَبَّةَ جَاهِلِيٌّ: أَعْرِفُ مِنْهَا الْجِيدَ وَالْعَيْنَانَا ... وَمَنْخِرَيْنِ أَشْبَهَا ظَبْيَانَا وَقَوْلُهُ وَمَنْخِرَيْنِ عَلَى اللُّغَةِ الْفَاشِيَةِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ عَلَى لُغَةِ هَؤُلَاءِ. وَقَالَ آخَرُ: طَارُوا عَلَاهُنَّ فَطِرْ عَلَاهَا ... وَاشْدُدْ بِمَثْنَى حَقَبٍ حَقْوَاهَا وَقَالَ آخر:

كَأَنَّ صَرِيفَ نَابَاهُ إِذَا مَا ... أَمَرَّهُمَا صَرِيرَ الْأَخْطَبَانِ قَالَ بَعْضُهُمُ: الْأَخْطَبَانِ ذَكَرُ الصِّرْدَانِ، فَصَيَّرَهُمَا وَاحِدًا فَبَقِيَ الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ صَرِيفُ نَابَاهُ، قَالَ: وأنشدني يونس لبعض بني الحرث: كَأَنَّ يَمِينَا سَحْبَلٍ وَمَصِيفَهُ ... مُرَاقُ دَمٍ لَنْ يَبْرَحَ الدَّهْرُ ثَاوِيَا وَأَنْشَدُوا أَيْضًا: إِنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا ... قَدْ بَلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَا وَقَالَ ابْنُ جِنِّي رَوَيْنَا عَنْ قُطْرُبٍ: هُنَاكَ أَنْ تَبْكِي بِشَعْشَعَانِ ... رَحْبِ الْفُؤَادِ طَائِلِ الْيَدَانِ ثُمَّ قَالَ الْفَرَّاءُ وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا أَقْيَسُ لِأَنَّ مَا قَبْلَ حَرْفِ التَّثْنِيَةِ مَفْتُوحٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهُ أَلِفًا وَلَوْ كَانَ مَا بَعْدَهُ يَاءً يَنْبَغِي أَنْ تَنْقَلِبَ أَلِفًا لِانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا وَقُطْرُبٌ ذَكَرَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِرَارًا إِلَى الْأَلِفِ الَّتِي هِيَ أَخَفُّ حُرُوفِ الْمَدِّ هَذَا أَقْوَى الْوُجُوهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا: الْأَلِفُ فِي هَذَا مِنْ جَوْهَرِ الْكَلِمَةِ وَالْحَرْفُ الَّذِي يَكُونُ مِنْ جَوْهَرِ الْكَلِمَةِ لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ بِسَبَبِ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ لِأَنَّ مَا بِالذَّاتِ لَا يَزُولُ بِالْعَرَضِ فَهَذَا الدَّلِيلُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ أَنْ يُقَالَ: (إِنَّ هَذَيْنِ) فَلَمَّا جَوَّزْنَاهُ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُجَوَّزَ مَعَهُ أَنْ يُقَالَ إِنْ هَذَانِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هاهنا بِمَعْنَى نَعَمْ قَالَ الشَّاعِرُ: وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ علاك ... وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إِنْهُ أَيْ فَقُلْتُ نَعَمْ فَالْهَاءُ فِي إِنْهُ هَاءُ السَّكْتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ [الْحَاقَّةِ: 29] وَقَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ: شَابَ الْمَفَارِقُ إِنْ إِنَّ مِنَ الْبِلَى ... شَيْبُ الْقَذَالِ مَعَ الْعِذَارِ الْوَاصِلِ أَيْ نَعَمْ إِنَّ مِنَ الْبِلَى فَصَارَ إِنْ كَأَنَّهُ قَالَ نَعَمْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ، وَاعْتَرَضُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: اللَّامُ لَا تَدْخُلُ فِي الْخَبَرِ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ إِنَّ دَاخِلَةً فِي الْمُبْتَدَأِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ تَدْخُلْ إِنَّ عَلَى الْمُبْتَدَأِ فَمَحَلُّ اللَّامِ الْمُبْتَدَأُ إِذْ يُقَالُ لَزَيْدٌ أَعْلَمُ مِنْ عَمْرٍو وَلَا يُقَالُ زَيْدٌ لَأَعْلَمُ مِنْ عَمْرٍو، وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّامَ لَا يَحْسُنُ دُخُولُهَا عَلَى الْخَبَرِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَمُّ الحليس لعجوز شهر به ... تَرْضَى مِنَ اللَّحْمِ بِعَظْمِ الرَّقَبَهْ وَقَالَ آخَرُ: خَالِي لَأَنْتَ وَمَنْ جَرِيرٌ خَالُهُ ... يَنَلِ الْعَلَاءَ وَيُكْرَمُ الْأَخْوَالَا وَأَنْشَدَ قُطْرُبٌ: أَلَمْ تَكُنْ حَلَفْتَ باللَّه الْعَلِيِّ ... أَنَّ مَطَايَاكَ لَمِنْ خَيْرِ الْمَطِيِّ وَإِنْ رُوِيَتْ إِنَّ بِالْكَسْرِ لَمْ يَبْقَ الِاسْتِدْلَالُ إِلَّا أَنَّ قُطْرُبًا قَالَ: سَمِعْنَاهُ مَفْتُوحَ الْهَمْزَةِ وَأَيْضًا فَقَدْ/ أُدْخِلَتِ

اللَّامُ فِي خَبَرِ أَمْسَى، قَالَ ابْنُ جِنِّي أَنْشَدَنَا أَبُو عَلِيٍّ: مَرُّوا عُجَالَى فَقَالُوا كَيْفَ صَاحِبُكُمْ ... فَقَالَ مَنْ سُئِلُوا أَمْسَى لَمَجْهُودَا وَقَالَ قُطْرُبٌ وَسَمِعْنَا بَعْضَ الْعَرَبِ يَقُولُ: أُرَاكَ الْمُسَالِمِيَّ وَإِنِّي رَأَيْتُهُ لَشَيْخًا وَزَيْدٌ واللَّه لَوَاثِقٌ بِكَ وَقَالَ كُثَيِّرٌ: وَمَا زِلْتُ مِنْ لَيْلَى لَدُنْ أَنْ عَرَفْتُهَا ... لَكَالْهَائِمِ الْمُقْصَى بِكُلِّ بِلَادِ وَقَالَ آخَرُ: وَلَكِنَّنِي مِنْ حُبِّهَا لَعَمِيدُ وَقَالَ الْمُعْتَرِضُ هَذِهِ الْأَشْعَارُ مِنَ الشَّوَاذِّ وَإِنَّمَا جَاءَتْ كَذَا لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ وَجَلَّ كَلَامُ اللَّه تَعَالَى عَنِ الضَّرُورَةِ وَإِنَّمَا تَقَرَّرَ هَذَا الْكَلَامُ إِذَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُبْتَدَأَ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ إِنْ وَجَبَ إِدْخَالُ اللَّامِ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْخَبَرِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ اللَّامَ تُفِيدُ تَأْكِيدَ مَوْصُوفِيَّةِ الْمُبْتَدَأِ بِالْخَبَرِ وَاللَّامُ تَدُلُّ عَلَى حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِ الْمُبْتَدَأِ وَصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ فَوَجَبَ دُخُولُهَا عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِحُكْمٍ فِي مَحَلٍّ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مُخْتَصَّةً بِذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا يُقَالُ هَذَا مُشْكِلٌ بِمَا إِذَا دَخَلَتْ إن على المبتدأ فإن هاهنا يَجِبُ إِدْخَالُ اللَّامِ عَلَى الْخَبَرِ مَعَ أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ حَاصِلٌ فِيهِ لِأَنَّا نَقُولُ ذَلِكَ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ كَلِمَةَ إِنَّ لِلتَّأْكِيدِ وَاللَّامَ لِلتَّأْكِيدِ فَلَوْ قُلْنَا: إِنَّ لَزَيْدًا قَائِمٌ لَكُنَّا قَدْ أَدْخَلْنَا حَرْفَ التَّأْكِيدِ عَلَى حَرْفِ التَّأْكِيدِ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فَلَمَّا تَعَذَّرَ إِدْخَالُهَا عَلَى الْمُبْتَدَأِ لَا جَرَمَ أَدْخَلْنَاهَا عَلَى الْخَبَرِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَدْخُلْ حَرْفُ إِنَّ عَلَى الْمُبْتَدَأِ كَانَتْ هَذِهِ الضَّرُورَةُ زَائِلَةً فَوَجَبَ إِدْخَالُ اللَّامِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لَا يُقَالُ إِذَا جَازَ إِدْخَالُ حَرْفِ النَّفْيِ عَلَى حَرْفِ النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ بِهِ ... كَالْيَوْمِ طَالَبَنِي أَنِيقٌ أَجْرَبُ وَالْغَرَضُ بِهِ تَأْكِيدُ النَّفْيِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ إِدْخَالُ حَرْفِ التَّأْكِيدِ عَلَى حَرْفِ التَّأْكِيدِ وَالْغَرَضُ بِهِ تَأْكِيدُ الْإِثْبَاتِ لِأَنَّا نَقُولُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ أَنَّ قَوْلَكَ زَيْدٌ قَائِمٌ يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بِمَوْصُوفِيَّةِ زَيْدٍ بِالْقِيَامِ فَإِذَا قُلْتَ إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ فَكَلِمَةُ إِنَّ تُفِيدُ تَأْكِيدَ ذَلِكَ الْحُكْمِ فَلَوْ ذَكَرْتَ مُؤَكِّدًا آخَرَ مَعَ كَلِمَةِ إِنَّ صَارَ عَبَثًا، أَمَّا لَوْ قُلْتَ: رَأَيْتُ فُلَانًا فَهَذَا لِلثُّبُوتِ فَإِذَا أَدْخَلْتَ عَلَيْهِ حَرْفَ النَّفْيِ أَفَادَ حَرْفُ النَّفْيِ مَعْنَى النَّفْيِ وَلَا يُفِيدُ التَّأْكِيدَ لِأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِإِفَادَةِ الْأَصْلِ فَكَيْفَ يُفِيدُ الزِّيَادَةَ فَإِذَا ضَمَمْتَ إِلَيْهِ حَرْفَ نَفْيٍ آخَرَ صَارَ الْحَرْفُ الثَّانِي مُؤَكِّدًا لِلْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ عَبَثًا فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ فَهَذَا مُنْتَهَى تَقْرِيرِ هَذَا الِاعْتِرَاضِ وَهُوَ عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْكُلَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ النَّقْلُ وَالْقِيَاسُ فَالنَّقْلُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْعِلَلَ فِي نِهَايَةِ الضَّعْفِ فَكَيْفَ يُدْفَعُ بِهَا النَّقْلُ الظَّاهِرُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمُ اللَّامُ لَا يَحْسُنُ دُخُولُهَا عَلَى الْخَبَرِ إِلَّا إِذَا دَخَلَتْ كَلِمَةُ إِنَّ عَلَى الْمُبْتَدَأِ كَمَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ فَقَالَ: إِنْ وَقَعَتْ مَوْقِعَ نَعَمْ وَاللَّامُ فِي مَوْقِعِهَا وَالتَّقْدِيرُ نَعَمْ هَذَانِ لَهُمَا سَاحِرَانِ فَكَانَتِ اللَّامُ دَاخِلَةً عَلَى الْمُبْتَدَأِ لَا عَلَى الْخَبَرِ. قَالَ: وَعَرَضْتُ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ وَعَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ فَارْتَضَيَاهُ وَذَكَرَا أَنَّهُ أَجْوَدُ مَا سَمِعْنَاهُ فِي هَذَا. قَالَ ابْنُ جِنِّي: هَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِوُجُوهٍ: الْوَجْهُ/ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمُبْتَدَأَ إِنَّمَا يَجُوزُ حَذْفُهُ لَوْ كَانَ أَمْرًا مَعْلُومًا جَلِيًّا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ فِي حَذْفِهِ مَعَ الْجَهْلِ بِهِ ضَرْبٌ مِنْ تَكْلِيفِ عِلْمِ الْغَيْبِ لِلْمُخَاطَبِ وَإِذَا كَانَ مَعْرُوفًا فَقَدِ اسْتَغْنَى بِمَعْرِفَتِهِ عَنْ تَأْكِيدِهِ بِاللَّامِ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْعِلْمُ

بِهِ حَاصِلًا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَذْفَ مِنْ بَابِ الِاخْتِصَارِ وَالتَّأْكِيدَ مِنْ بَابِ الْإِطْنَابِ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا غَيْرُ جَائِزٍ وَلِأَنَّ ذِكْرَ الْمُؤَكَّدِ وَحَذْفَ التَّأْكِيدِ أَحْسَنُ فِي الْعُقُولِ مِنَ الْعَكْسِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: امْتِنَاعُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ مِنْ تَأْكِيدِ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ الْعَائِدِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ زَيْدٌ ضَرَبْتُ فَلَا يُجِيزُونَ زَيْدٌ ضَرَبْتُ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ يُجْعَلَ النَّفْسُ تَوْكِيدًا لِلْهَاءِ الْمُؤَكِّدَةِ الْمُقَدَّرَةِ فِي ضَرَبْتُ أَيْ ضَرَبْتُهُ لِأَنَّ الْحَذْفَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ التَّحْقِيقِ وَالْعِلْمِ بِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدِ اسْتَغْنَى عَنْ تَأْكِيدِهِ فكذا هاهنا. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ جَمِيعَ النَّحْوِيِّينَ حَمَلُوا قَوْلَ الشاعر: أم الحليس لعجوز شهر به. عَلَى أَنَّ الشَّاعِرَ أَدْخَلَ اللَّامَ عَلَى الْخَبَرِ ضَرُورَةً وَلَوْ كَانَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّجَّاجُ جَائِزًا لَمَا عَدَلَ عَنْهُ النَّحْوِيُّونَ وَلَمَا حَمَلُوا الْكَلَامَ عَلَيْهِ عَلَى الِاضْطِرَارِ إِذَا وَجَدُوا لَهُ وَجْهًا ظَاهِرًا، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنِ اعْتِرَاضِ ابْنِ جِنِّي بِأَنَّهُ إِنَّمَا حَسُنَ حَذْفُ الْمُبْتَدَأِ لِأَنَّ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: هَذَانِ أَمَّا لَوْ حُذِفَ التَّأْكِيدُ فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَلَا جَرَمَ كَانَ حَذْفُ الْمُبْتَدَأِ أَوْلَى مِنْ حَذْفِ التَّأْكِيدِ، وَأَمَّا امْتِنَاعُهُمْ مِنْ تَأْكِيدِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِمْ: زَيْدٌ ضَرَبْتُ نَفْسَهُ فَذَاكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى الْمُظْهَرِ أَوْلَى مِنْ إِسْنَادِهِ إِلَى الْمُضْمَرِ فَإِذَا قَالَ زَيْدٌ: ضَرَبْتُ نَفْسَهُ كَانَ قَوْلُهُ نَفْسَهُ مَفْعُولًا فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ تَأْكِيدًا للضمير فتأكيد المحذوف إنما امتنع هاهنا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَا لِأَنَّ تَأْكِيدَ الْمَحْذُوفِ مُطْلَقًا مُمْتَنِعٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ: النَّحْوِيُّونَ حَمَلُوا قَوْلَ الشَّاعِرِ: أم الحليس لعجوز شهر به. عَلَى أَنَّ الشَّاعِرَ أَدْخَلَ اللَّامَ عَلَى الْخَبَرِ ضَرُورَةً فَلَوْ جَازَ مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ لَمَا عَدَلَ عَنْهُ النَّحْوِيُّونَ، فَهَذَا اعْتِرَاضٌ فِي نِهَايَةِ السُّقُوطِ لِأَنَّ ذُهُولَ الْمُتَقَدِّمِينَ عَنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ بَاطِلًا فَمَا أَكْثَرَ مَا ذَهَلَ الْمُتَقَدِّمُ عَنْهُ وَأَدْرَكَهُ الْمُتَأَخِّرُ فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي شَرْحِ هَذَا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ أَنَّ كَلِمَةَ إِنَّ ضَعِيفَةٌ فِي الْعَمَلِ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ بِسَبَبِ مُشَابَهَةِ الْفِعْلِ فَوَجَبَ كَوْنُهَا ضَعِيفَةً فِي الْعَمَلِ وَإِذَا ضَعُفَتْ جَازَ بَقَاءُ الْمُبْتَدَأِ عَلَى إِعْرَابِهِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الرَّفْعُ. الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: أَنَّهَا تُشْبِهُ الْفِعْلَ وَهَذِهِ الْمُشَابَهَةُ حَاصِلَةٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى. أَمَّا اللَّفْظِ فَلِأَنَّهَا تَرَكَّبَتْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ وَانْفَتَحَ آخِرُهَا وَلَزِمَتِ الْأَسْمَاءَ كَالْأَفْعَالِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّهَا تُفِيدُ حُصُولَ مَعْنًى فِي الِاسْمِ وَهُوَ تَأْكِيدُ مَوْصُوفِيَّتِهِ بِالْخَبَرِ كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: قَامَ زَيْدٌ فَقَوْلُكَ قَامَ أَفَادَ حُصُولَ مَعْنًى فِي الِاسْمِ. الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا لَمَّا أَشْبَهَتِ الْأَفْعَالَ وَجَبَ أَنْ تُشْبِهَهَا فِي الْعَمَلِ فَذَلِكَ ظَاهِرٌ بِنَاءً عَلَى الدَّوَرَانِ. الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهَا لَمْ تَنْصِبِ الِاسْمَ وَتَرْفَعِ الْخَبَرَ فَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا لَمَّا صَارَتْ عَامِلَةً فَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ مَعًا أَوْ تَنْصِبَهُمَا مَعًا أَوْ تَرْفَعَ الْمُبْتَدَأَ وَتَنْصِبَ الْخَبَرَ أَوْ بِالْعَكْسِ وَالْأَوَّلُ/ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ كَانَا قَبْلَ دُخُولِ إِنَّ عَلَيْهِمَا مَرْفُوعَيْنِ فَلَوْ بَقِيَا كَذَلِكَ بَعْدَ دُخُولِهَا عَلَيْهِمَا لَمَا ظَهَرَ لَهُ أَثَرٌ الْبَتَّةَ وَلِأَنَّهَا أُعْطِيَتْ عَمَلَ الْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ لَا يَرْفَعُ الِاسْمَيْنِ فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِرَاكِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذَا أَيْضًا مُخَالِفٌ لِعَمَلِ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَنْصِبُ شَيْئًا مَعَ خُلُوِّهِ عَمَّا يَرْفَعُهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَإِنَّ الْفِعْلَ يَكُونُ عَمَلُهُ فِي الْفَاعِلِ أَوَّلًا بِالرَّفْعِ وَفِي الْمَفْعُولِ بِالنَّصْبِ فلو جعل النصب هاهنا كَذَلِكَ لَحَصَلَتِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَلَمَّا بَطَلَتِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ تَعَيَّنَ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّهَا تَنْصِبُ الِاسْمَ وَتَرْفَعُ الْخَبَرَ، وَهَذَا مِمَّا يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ دَخِيلَةٌ فِي الْعَمَلِ لَا أَصِيلَةٌ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمَنْصُوبِ عَلَى الْمَرْفُوعِ فِي بَابِ الْعَمَلِ عُدُولٌ عَنِ الْأَصْلِ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ لَيْسَ بِثَابِتٍ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ بَلْ بِطَرِيقٍ عَارِضٍ. الْمُقَدِّمَةُ الرَّابِعَةُ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ تَأْثِيرَهَا فِي نَصْبِ الِاسْمِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمُشَابَهَةِ وَجَبَ جَوَازُ الرَّفْعِ أَيْضًا، وَذَلِكَ

لِأَنَّ كَوْنَ الِاسْمِ مُبْتَدَأً يَقْتَضِي الرَّفْعَ وَدُخُولُ إِنَّ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لَا يُزِيلُ عَنْهُ وَصْفَ كَوْنِهِ مُبْتَدَأً لِأَنَّهُ يُفِيدُ تَأْكِيدَ مَا كَانَ لَا زَوَالَ مَا كَانَ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَصْفُ كَوْنِهِ مُبْتَدَأً يَقْتَضِي الرَّفْعَ وَحَرْفُ إِنَّ يَقْتَضِي النَّصْبَ وَلَكِنَّ الْمُقْتَضَى الْأَوَّلَ أَوْلَى بِالِاقْتِضَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَصْفَ كَوْنِهِ مُبْتَدَأً صِفَةٌ أَصْلِيَّةٌ لِلْمُبْتَدَأِ وَدُخُولَ إِنَّ عَلَيْهِ صِفَةٌ عَرَضِيَّةٌ وَالْأَصْلُ رَاجِحٌ عَلَى الْعَارِضِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اقْتِضَاءَ وَصْفِ الْمُبْتَدَأِ لِلرَّفْعِ أَصْلِيٌّ وَاقْتِضَاءَ حَرْفِ إِنَّ لِلنَّصْبِ صِفَةٌ عَارِضَةٌ بِسَبَبِ مُشَابَهَتِهَا بِالْفِعْلِ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ أَوْلَى فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ مَا قَرَّرْنَا أَنَّ الرَّفْعَ أَوْلَى مِنَ النَّصْبِ فَإِنْ لَمْ تَحْصُلِ الْأَوْلَوِيَّةُ فَلَا أَقَلَّ مِنَ أَصْلِ الْجَوَازِ وَلِهَذَا السَّبَبِ إِذَا جِئْتَ بِخَبَرِ إِنَّ ثُمَّ عَطَفْتَ عَلَى الِاسْمِ اسْمًا آخَرَ جَازَ فِيهِ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ مَعًا. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي الْجَوَابِ قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا أَصْلُهُ ذَا زِيدَتِ الْهَاءُ لِأَنَّ ذَا كَلِمَةٌ مَنْقُوصَةٌ فَكُمِّلَتْ بِالْهَاءِ عند التنبيه وزيدت ألفا للتثنية فصارت هذا إن فَاجْتَمَعَ سَاكِنَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَاحْتِيجَ إِلَى حَذْفِ وَاحِدٍ وَلَا يُمْكِنُ حَذْفُ أَلِفِ الْأَصْلِ لِأَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ مَنْقُوصَةٌ فَلَا تُجْعَلُ أَنْقَصَ فَحُذِفَ أَلِفُ التَّثْنِيَةِ لِأَنَّ النُّونَ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَلَا جَرَمَ لَمْ تَعْمَلْ إِنَّ لِأَنَّ عَمَلَهَا فِي أَلِفِ التَّثْنِيَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْأَلِفُ الْبَاقِي إِمَّا أَلِفُ الْأَصْلِ أَوْ أَلِفُ التَّثْنِيَةِ. فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي أَلِفَ الْأَصْلِ لَمْ يَجُزْ حَذْفُهَا لِأَنَّ الْعَامِلَ الْخَارِجِيَّ لَا يَتَصَرَّفُ فِي ذَاتِ الْكَلِمَةِ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي أَلِفَ التَّثْنِيَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ أَنَابُوهَا مَنَابَ أَلِفِ الْأَصْلِ، وَعِوَضُ الْأَصْلِ أَصْلٌ لَا مَحَالَةَ فَهَذَا الْأَلِفُ أَصْلٌ فَلَا يَجُوزُ حَذْفُهُ وَيَرْجِعُ حَاصِلُ هَذَا إِلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: فِي الْجَوَابِ حَكَى الزجاج عن قدماء النحويين أن الهاء هاهنا مُضْمَرَةٌ وَالتَّقْدِيرُ إِنَّهُ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ، وَهَذِهِ الْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ، فَهَذَا مَا قِيلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَأَمَّا مَنْ خَفَّفَ فَقَرَأَ إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ فَهُوَ حَسَنٌ فَإِنَّ مَا بَعْدَ الْخَفِيفَةِ رَفْعٌ وَاللَّامُ بَعْدَهَا فِي الْخَبَرِ لَازِمَةٌ وَاجِبَةٌ وَإِنْ كَانَتْ فِي إِنَّ الثَّقِيلَةِ جائزة ليظهر الفرق بين إن المؤكدة وإن النَّافِيَةِ. قَالَ الشَّاعِرُ: / وَإِنْ مَالِكٌ لَلْمُرْتَجَى إِنْ تَضَعْضَعَتْ ... رَحَا الْحَرْبِ أَوْ دَارَتْ عَلَيَّ خُطُوبُ وَقَالَ آخَرُ: إِنَّ الْقَوْمَ وَالْحَيَّ الَّذِي أَنَا مِنْهُمْ ... لَأَهْلُ مَقَامَاتٍ وَشَاءٍ وَجَامِلِ الْجَامِلُ جَمْعُ جَمَلٍ، ثُمَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُعْمِلُ إِنْ نَاقِصَةً كَمَا يُعْمِلُهَا تَامَّةً اعْتِبَارًا بَكَانَ فَإِنَّهَا تَعْمَلُ وَإِنْ نَقَصَتْ فِي قَوْلِكَ: لَمْ يَكُنْ لِبَقَاءِ مَعْنَى التَّأْكِيدِ، وَإِنْ زَالَ الشَّبَهُ اللَّفْظِيُّ بِالْفِعْلِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْمَعْنَى، وَهَذِهِ اللُّغَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي بَابِ الْإِعْمَالِ الشَّبَهُ الْمَعْنَوِيُّ بِالْفِعْلِ وَهُوَ إِثْبَاتُ التَّوْكِيدِ دُونَ الشَّبَهِ اللَّفْظِيِّ كَمَا أَنَّ التَّعْوِيلَ فِي بَابِ كَانَ عَلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ لِكَوْنِهِ فِعْلًا مَحْضًا، وَأَمَّا اللُّغَةُ الظَّاهِرَةُ وَهِيَ تَرْكُ إِعْمَالِ إِنِ الْخَفِيفَةِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الشَّبَهَ اللَّفْظِيَّ فِي إِنَّ الثَّقِيلَةِ أَحَدُ جُزْأَيِ الْعِلَّةِ فِي حَقِّ عَمَلِهَا وَعِنْدَ الْخِفَّةِ زَالَ الشَّبَهُ فَلَمْ تَعْمَلْ بِخِلَافِ السُّكُونِ فَإِنَّهُ عَامِلٌ بِمَعْنَاهُ لِكَوْنِهِ فِعْلًا مَحْضًا وَلَا عِبْرَةَ لِلَفْظِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا أَسَرُّوهُ مِنَ النَّجْوَى حَكَى عَنْهُمْ مَا أَظْهَرُوهُ وَمَجْمُوعُهُ يَدُلُّ عَلَى التَّنْفِيرِ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُتَابَعَةِ دِينِهِ. فَأَحَدُهَا: قَوْلُهُمْ: هذانِ لَساحِرانِ وَهَذَا طَعْنٌ مِنْهُمْ فِي مُعْجِزَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ مُبَالَغَةٌ فِي التَّنْفِيرِ عَنْهُ لِمَا أَنَّ كُلَّ طَبْعٍ سَلِيمٍ يَقْتَضِي النَّفْرَةَ عَنِ السِّحْرِ وَكَرَاهَةَ رُؤْيَةِ السَّاحِرِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِنْسَانَ يَعْلَمُ أَنَّ السِّحْرَ لَا بَقَاءَ لَهُ فَإِذَا اعْتَقَدُوا فِيهِ السِّحْرَ قَالُوا: كَيْفَ نَتَّبِعُهُ فَإِنَّهُ لَا بَقَاءَ لَهُ وَلَا لِدِينِهِ وَلَا لِمَذْهَبِهِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ وَهَذَا فِي نِهَايَةِ التَّنْفِيرِ لِأَنَّ الْمُفَارَقَةَ عَنِ الْمَنْشَأِ، وَالْمَوْلِدِ شَدِيدَةٌ عَلَى الْقُلُوبِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَكَاهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ: أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا

[سورة طه (20) : الآيات 65 إلى 69]

مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى [طه: 57] وَكَأَنَّ السَّحَرَةَ تَلَقَّفُوا هَذِهِ الشُّبْهَةَ مِنْ فِرْعَوْنَ ثُمَّ أَعَادُوهَا. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى وَهَذَا أَيْضًا لَهُ تَأْثِيرٌ شَدِيدٌ فِي الْقَلْبِ فَإِنَّ الْعَدُوَّ إِذَا جَاءَ وَاسْتَوْلَى عَلَى جَمِيعِ الْمَنَاصِبِ وَالْأَشْيَاءِ الَّتِي يَرْغَبُ فِيهَا فَذَلِكَ يَكُونُ فِي نِهَايَةِ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّفْسِ فَهُمْ ذَكَرُوا هَذِهِ الْوُجُوهَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْفِيرِ عَنْ مُوسَى والترغيب في دفعه وإبطال أمره وهاهنا بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الطَّرِيقَةُ الرِّجَالُ الْأَشْرَافُ الَّذِينَ هُمْ قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِمْ يُقَالُ هُمْ طَرِيقَةُ قَوْمِهِمْ، وَيُقَالُ لِلْوَاحِدِ أَيْضًا: هُوَ طَرِيقَةُ قَوْمِهِ، وَجَعَلَ الزَّجَّاجُ الْآيَةَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ وَيَذْهَبَا بِأَهْلِ طَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّضُونَ الْقَوْمَ بِأَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ يُرِيدَانِ أَنْ يَذْهَبَا بأشراف قومكم وأكابركم وهم بنوا إسرائيل لقول مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاءِ: 17] وَإِنَّمَا سُمُّوا بَنِي إِسْرَائِيلَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ الْقَوْمِ يَوْمَئِذٍ عَدَدًا وَأَمْوَالًا وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ الطَّرِيقَةَ المثلى بالدين سموا دينهم بالطريقة المثلى: وكُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الرُّومِ: 32] وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْجَاهِ وَالْمَنْصِبِ وَالرِّيَاسَةِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: الْمُثْلى مُؤَنَّثَةٌ لِتَأْنِيثِ الطَّرِيقَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ لِمَ سُمِّيَ الْأَفْضَلُ بِالْأَمْثَلِ/ فَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْأَمْثَلُ: الْأَشْبَهُ بِالْحَقِّ، وَقِيلَ: الْأَمْثَلُ الْأَوْضَحُ وَالْأَظْهَرُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ مُبَالَغَتَهُمْ فِي التَّنْفِيرِ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالتَّرْغِيبِ فِي إِبْطَالِ أَمْرِهِ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِوَصْلِ الْأَلِفِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مِنِ اجْمَعُوا يَعْنِي لَا تَدَعُوا شَيْئًا مِنْ كَيْدِهِمْ إِلَّا جِئْتُمْ بِهِ دَلِيلُهُ قَوْلُهُ: فَجَمَعَ كَيْدَهُ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَلَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْإِجْمَاعُ الْإِحْكَامُ وَالْعَزِيمَةُ عَلَى الشَّيْءِ، يُقَالُ: أَجْمَعْتُ عَلَى الْخُرُوجِ مِثْلَ أَزْمَعْتُ. وَالثَّانِي: بِمَعْنَى الْجَمْعِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ [يُونُسَ: 71] قَالَ الزَّجَّاجُ: لِيَكُنْ عَزْمُكُمْ كُلُّكُمْ كَالْيَدِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ لَا تَخْتَلِفُوا ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا، ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّفَّ مَوْضِعُ الْجَمْعِ وَالْمَعْنَى ائْتُوا الْمَوْضِعَ الَّذِي تَجْتَمِعُونَ فِيهِ لِعِيدِكُمْ وَصَلَاتِكُمْ، وَالْمَعْنَى: ائْتُوا مُصَلًّى مِنَ الْمُصَلَّيَاتِ أَوْ كَانَ الصَّفُّ عَلَمًا لِلْمُصَلَّى بِعَيْنِهِ فَأُمِرُوا بِأَنْ يَأْتُوهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الصَّفُّ مَصْدَرًا وَالْمَعْنَى ثُمَّ ائْتُوا مُصْطَفِّينَ مُجْتَمِعِينَ لِكَيْ يَكُونَ أَنْظَمَ لِأَمْرِكُمْ وَأَشَدَّ لِهَيْبَتِكُمْ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَوْلُهُ: وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى اعْتِرَاضٌ، يَعْنِي: وَقَدْ فَازَ مَنْ غَلَبَ فَكَانُوا يُقِرُّونَ بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ فِيمَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ إِظْهَارِ ما يظهرونه من السحر. [سورة طه (20) : الآيات 65 الى 69] قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) [في قوله تعالى قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى] اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمَوْعِدِ وَهُوَ يَوْمُ الزِّينَةِ وَتَقَدَّمَ أَيْضًا قَوْلُهُ: ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا [طَه: 64] صَارَ ذَلِكَ مُغْنِيًا عَنْ قَوْلِهِ فَحَضَرُوا هَذَا الْمَوْضِعَ وَقَالُوا: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ

نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى مَعْنَاهُ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ مَا مَعَكَ قَبْلَنَا، وَإِمَّا أَنْ نُلْقِيَ مَا مَعَنَا قَبْلَكَ، وَهَذَا التَّخْيِيرُ مَعَ تَقْدِيمِهِ فِي الذِّكْرِ حُسْنُ أَدَبٍ مِنْهُمْ وَتَوَاضُعٌ لَهُ، فَلَا جَرَمَ رَزَقَهُمُ اللَّه تَعَالَى الْإِيمَانَ بِبَرَكَتِهِ، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَابَلَ أَدَبَهُمْ بِأَدَبٍ فَقَالَ: بَلْ أَلْقُوا أَمَّا قَوْلُهُ: بَلْ أَلْقُوا فَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: بَلْ أَلْقُوا فَيَأْمُرُهُمْ بِمَا هُوَ سِحْرٌ وَكُفْرٌ لِأَنَّهُمْ إِذَا قَصَدُوا بِذَلِكَ تَكْذِيبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ كُفْرًا. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ نَفْسَ الْإِلْقَاءِ كُفْرٌ وَمَعْصِيَةٌ لِأَنَّهُمْ إِذَا أَلْقَوْا وَكَانَ غَرَضُهُمْ أَنْ يَظْهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ الْإِلْقَاءِ وَبَيْنَ مُعْجِزَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ مُوسَى كَانَ ذَلِكَ الْإِلْقَاءُ إِيمَانًا وَإِنَّمَا الْكُفْرُ هُوَ الْقَصْدُ إِلَى تَكْذِيبِ مُوسَى وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا أَمَرَ بِالْإِلْقَاءِ لَا بِالْقَصْدِ إِلَى التَّكْذِيبِ فَزَالَ السُّؤَالُ. وَثَانِيهَا: ذَلِكَ الْأَمْرُ كَانَ مَشْرُوطًا وَالتَّقْدِيرُ: أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ إِنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ... إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْبَقَرَةِ: 23] أَيْ إِنْ كُنْتُمْ قَادِرِينَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَمَّا تَعَيَّنَ ذَلِكَ طَرِيقًا إِلَى كَشْفِ الشُّبْهَةِ صَارَ ذَلِكَ جَائِزًا. وَهَذَا كَالْمُحِقِّ إِذَا عَلِمَ أَنَّ فِي قَلْبِ وَاحِدٍ شُبْهَةً وَأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُطَالِبْهُ بِذِكْرِهَا وَتَقْرِيرِهَا بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَبَقِيَتْ تِلْكَ الشُّبْهَةُ فِي قَلْبِهِ، وَيَخْرُجُ بِسَبَبِهَا عَنِ الدِّينِ فَإِنَّ لِلْمُحِقِّ أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَقْرِيرِهَا عَلَى أَقْصَى الْوُجُوهِ وَيَكُونُ غَرَضُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُجِيبَ عَنْهَا وَيُزِيلَ أَثَرَهَا عَنْ قَلْبِهِ فَمُطَالَبَتُهُ بِذِكْرِ الشُّبْهَةِ لهذا الغرض تكون جائزة فكذا هاهنا. وَرَابِعُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ أَمْرًا بَلْ يَكُونُ مَعْنَاهُ إِنَّكُمْ إِنْ أَرَدْتُمْ فِعْلَهُ فَلَا مَانِعَ مِنْهُ حِسًّا لِكَيْ يَنْكَشِفَ الْحَقُّ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ كَارِهًا لِذَلِكَ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ [طه: 61] وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ أَمْرًا لَهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ كَوْنِهِ نَاهِيًا وَآمِرًا بِالْفِعْلِ الْوَاحِدِ مُحَالٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مَحْمُولٍ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحِينَئِذٍ يَزُولُ الْإِشْكَالُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَدَّمَهُمْ فِي الْإِلْقَاءِ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ أَنَّ تَقْدِيمَ اسْتِمَاعِ الشُّبْهَةِ عَلَى اسْتِمَاعِ الْحُجَّةِ غَيْرُ جَائِزٍ فَكَذَا تَقْدِيمُ إِيرَادِ الشُّبْهَةِ عَلَى إِيرَادِ الْحُجَّةِ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رُبَّمَا أَدْرَكَ الشُّبْهَةَ ثُمَّ لَا يَتَفَرَّغُ لِإِدْرَاكِ الْحُجَّةِ بَعْدَهُ فَيَبْقَى حِينَئِذٍ فِي الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ لَمَّا قَدَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَابَلَ ذَلِكَ بِأَنْ قَدَّمَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ أَمْثَالَ ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْسُنُ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى حَظِّ النَّفْسِ، فَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى الدَّلِيلِ وَالشُّبْهَةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ أَظْهَرَ الْمُعْجِزَةَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَا كَانَ بِهِ حَاجَةٌ إِلَى إِظْهَارِهَا مَرَّةً أُخْرَى وَالْقَوْمُ إِنَّمَا جَاءُوا لِمُعَارَضَتِهِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَوْ أَنِّي بَدَأْتُ بِإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ أَوَّلًا لَكُنْتُ كَالسَّبَبِ فِي إِقْدَامِهِمْ عَلَى إِظْهَارِ السِّحْرِ وَقَصْدِ إِبْطَالِ الْمُعْجِزَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَكِنِّي أُفَوِّضُ الْأَمْرَ إِلَيْهِمْ حَتَّى أَنَّهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ يُظْهِرُونَ ذَلِكَ السِّحْرَ ثُمَّ أَنَا أُظْهِرُ الْمُعْجِزَ الَّذِي يُبْطِلُ سِحْرَهُمْ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ سَبَبًا لِإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ، وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَكُونُ سَبَبًا لِوُقُوعِ الشُّبْهَةِ فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى. أَمَّا قَوْلُهُ: فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عنهما: فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ مَيْلًا مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَمَيْلًا مِنْ هَذَا الْجَانِبِ فَخُيِّلَ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا حَيَّاتٌ وَأَنَّهَا تَسْعَى/ فخاف فلما قيل له: أَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا أَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ أَعْظَمُ مِنْ حَيَّاتِهِمْ ثُمَّ أَخَذَتْ تَزْدَادُ عِظَمًا حَتَّى مَلَأَتِ الْوَادِيَ ثُمَّ صَعَدَتْ وَعَلَتْ حَتَّى عَلَّقَتْ ذَنَبَهَا بِطَرَفِ الْقُبَّةِ ثُمَّ هَبَطَتْ فَأَكَلَتْ كُلَّ مَا عَمِلُوا فِي الْمَيْلَيْنِ وَالنَّاسُ

يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا لَا يَحْسَبُونَ إِلَّا أَنَّهُ سِحْرٌ ثُمَّ أَقْبَلَتْ نَحْوَ فِرْعَوْنَ لِتَبْتَلِعَهُ فَاتِحَةً فَاهَا ثَمَانِينَ ذِرَاعًا فَصَاحَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخَذَهَا فإذا هي عصى كَمَا كَانَتْ وَنَظَرَتِ السَّحَرَةُ فَإِذَا هِيَ لَمْ تَدَعْ مِنْ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا أَكَلَتْهُ فَعَرَفَتِ السَّحَرَةُ أَنَّهُ لَيْسَ بِسِحْرٍ وَقَالُوا أَيْنَ حِبَالُنَا وَعِصِيُّنَا لَوْ لَمْ تَكُنْ سِحْرًا «1» لَبَقِيَتْ فَخَرُّوا سُجَّدًا وَقَالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ، رَبِّ مُوسى وَهارُونَ [الْأَعْرَافِ: 121، 122] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ السَّحَرَةِ قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: كَانُوا سَبْعِينَ أَلْفًا مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ عَصَا وَحَبْلٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ عَصًا وَحَبْلٌ، وَقَالَ وَهْبٌ: كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَعِكْرِمَةُ كانوا تسعمائة: ثلاثمائة من الفرس وثلاثمائة من الروم وثلاثمائة مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَاحِرًا اثْنَانِ مِنْهُمْ مِنَ الْقِبْطِ وَسَبْعُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْرَهَهُمْ فِرْعَوْنُ عَلَى ذَلِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الِاخْتِلَافَ وَالتَّفَاوُتَ وَاقِعٌ فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ وَالْأَقْوَالُ إِذَا تَعَارَضَتْ تَسَاقَطَتْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يُقَالُ فِي إِذَا هَذِهِ إِذَا الْمُفَاجَأَةُ وَالتَّحْقِيقُ فِيهَا أَنَّهَا إِذَا الْكَائِنَةُ بِمَعْنَى الْوَقْتِ الطَّالِبَةُ نَاصِبًا لَهَا وَجُمْلَةً تُضَافُ إِلَيْهَا خُصَّتْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِأَنْ تَكُونَ نَاصِبًا فِعْلًا مَخْصُوصًا وَهُوَ فِعْلُ الْمُفَاجَأَةِ وَالْجُمْلَةُ ابْتِدَائِيَّةٌ لَا غَيْرُ فَتَقْدِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ فَفَاجَأَ مُوسَى وَقْتَ تَخَيُّلِ سَعْيِ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ وَهَذَا تَمْثِيلٌ، وَالْمَعْنَى عَلَى مُفَاجَأَتِهِ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ مُخَيِّلَةً إِلَيْهِ السَّعْيَ اه-. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُرِئَ عُصِيُّهُمْ بِالضَّمِّ وَهُوَ الْأَصْلُ وَالْكَسْرُ إِتْبَاعٌ نَحْوَ دُلِيٌّ وَدِلِيٌّ وَقُسِيٌّ وَقِسِيٌّ وَقُرِئَ تُخَيَّلُ بِالتَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ وَقُرِئَ بِالضَّمِّ بِالْيَاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ تَحْتُ بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْكَيْدِ وَالسِّحْرِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ أَيْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ سَعْيُهَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ كِنَايَةٌ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي سِحْرِهِمُ الْمَبْلَغَ الَّذِي صَارَ يُخَيَّلُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهَا تَسْعَى كَسَعْيِ مَا يَكُونُ حَيًّا مِنَ الْحَيَّاتِ لَا أَنَّهَا كَانَتْ حَيَّةً فِي الْحَقِيقَةِ وَيُقَالُ إِنَّهُمْ حَشَوْهَا بِمَا إِذَا وَقَعَتِ الشَّمْسُ عَلَيْهِ يَضْطَرِبُ وَيَتَحَرَّكُ. وَلَمَّا كَثُرَتْ وَاتَّصَلَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فَمَنْ رَآهَا كَانَ يَظُنُّ أَنَّهَا تَسْعَى، فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ وَهْبٍ أَنَّهُمْ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَعَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى تَخَيَّلَ ذَلِكَ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الْأَعْرَافِ: 116] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ وَقْتُ إِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ وَالْأَدِلَّةِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ فَلَوْ صَارَ بِحَيْثُ لَا يُمَيِّزُ الْمَوْجُودَ عَنِ الْخَيَالِ الْفَاسِدِ/ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ فَحِينَئِذٍ يَفْسُدُ الْمَقْصُودُ، فَإِذَنِ الْمُرَادُ أَنَّهُ شَاهَدَ شَيْئًا لَوْلَا عِلْمُهُ بِأَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِذَلِكَ الشَّيْءِ لَظَنَّ فِيهَا أَنَّهَا تَسْعَى، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى فَالْإِيجَاسُ اسْتِشْعَارُ الْخَوْفِ أَيْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ خَوْفًا، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا مَزِيدَ فِي إِزَالَةِ الْخَوْفِ عَلَى مَا فَعَلَهُ اللَّه تَعَالَى فِي حَقِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ كَلَّمَهُ أَوَّلًا وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةَ كَالْعَصَا وَالْيَدِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى صَيَّرَهَا كَمَا كَانَتْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ كَأَعْظَمِ ثُعْبَانٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أَعْطَاهُ الِاقْتِرَاحَاتِ الثَّمَانِيَةَ وَذَكَرَ مَا أَعْطَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ الْمِنَنِ الثَّمَانِيَةِ ثُمَّ قَالَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: 46] فَمَعَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْكَثِيرَةِ كَيْفَ وَقَعَ الْخَوْفُ فِي قَلْبِهِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْخَوْفَ إِنَّمَا كَانَ لِمَا طُبِعَ

_ (1) الضمير في قوله: (تكن) و (بقيت) لا يعود على عصى موسى وإنما يعود على حبال السحرة وعصيهم. (الصاوي) .

الْآدَمِيُّ عَلَيْهِ مِنْ ضَعْفِ الْقَلْبِ وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ وَأَنَّ اللَّه نَاصِرُهُ وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ خَافَ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى النَّاسِ شُبْهَةٌ فِيمَا يَرَوْنَهُ فَيَظُنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ سَاوَوْا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَشْتَبِهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُتَأَكَّدٌ بِقَوْلِهِ: لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وَهَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ خَافَ حَيْثُ بَدَءُوا وَتَأَخَّرَ إِلْقَاؤُهُ أَنْ يَنْصَرِفَ بَعْضُ الْقَوْمِ قَبْلَ مُشَاهَدَةِ مَا يُلْقِيهِ فَيَدُومُوا عَلَى اعْتِقَادِ الْبَاطِلِ. وَرَابِعُهَا: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَأْمُورًا بِأَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا إِلَّا بِالْوَحْيِ فَلَمَّا تَأَخَّرَ نُزُولُ الْوَحْيِ عَلَيْهِ فِي ذلك الوقت خاف أن لا ينزل عليه الْوَحْيُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَبْقَى فِي الْخَجَالَةِ. وَخَامِسُهَا: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَافَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَبْطَلَ سِحْرَ أُولَئِكَ الْحَاضِرِينَ فَلَعَلَّ فِرْعَوْنَ قَدْ أَعَدَّ أَقْوَامًا آخَرِينَ فَيَأْتِيهِ بِهِمْ فَيَحْتَاجُ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى إِبْطَالِ سِحْرِهِمْ وَهَكَذَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ مَقْطَعٌ وَحِينَئِذٍ لَا يَتِمُّ الْأَمْرُ وَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَزَالَ ذَلِكَ الْخَوْفَ بِالْإِجْمَالِ أَوَّلًا وَبِالتَّفْصِيلِ ثَانِيًا، أَمَّا الْإِجْمَالُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْنا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وَدَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّ خَوْفَهُ كَانَ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ أَمْرَهُ لَا يَظْهَرُ لِلْقَوْمِ فَآمَنَهُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وَفِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمُبَالَغَةِ. أَحَدُهَا: ذِكْرُ كَلِمَةِ التَّأْكِيدِ وَهِيَ إِنَّ. وَثَانِيهَا: تَكْرِيرُ الضَّمِيرِ. وَثَالِثُهَا: لَامُ التَّعْرِيفِ. وَرَابِعُهَا: لَفْظُ الْعُلُوِّ وَهُوَ الْغَلَبَةُ الظَّاهِرَةُ وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَقَوْلُهُ: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ وَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لِمَ لَمْ يَقُلْ وَأَلْقِ عَصَاكَ. وَالْجَوَابُ: جَازَ أَنْ يَكُونَ تَصْغِيرًا لَهَا أَيْ لَا تُبَالِ بِكَثْرَةِ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ وَأَلْقِ الْعُوَيْدَ الْفَرْدَ الصَّغِيرَ الْجِرْمِ الَّذِي بِيَمِينِكَ فَإِنَّهُ بِقُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى يَتَلَقَّفُهَا عَلَى وَحْدَتِهِ وَكَثْرَتِهَا وَصِغَرِهِ وَعِظَمِهَا وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَعْظِيمًا لَهَا أَيْ لَا تَحْتَفِلْ بِهَذِهِ الْأَجْرَامِ الْكَثِيرَةِ فَإِنَّ فِي يَمِينِكَ شَيْئًا أَعْظَمُ مِنْهَا كُلِّهَا وَهَذِهِ عَلَى كَثْرَتِهَا أَقَلُّ شَيْءٍ عِنْدَهَا فَأَلْقِهِ يَتَلَقَّفْهَا بِإِذْنِ اللَّه تعالى ويمحقها، أما قوله: تَلْقَفْ [إلى قوله حَيْثُ أَتى] أَيْ فَإِنَّكَ إِذَا أَلْقَيْتَهَا فَإِنَّهَا تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ تَلَقَّفْ بِالْجَزْمِ وَالتَّشْدِيدِ أَيْ فَأَلْقِهَا تَتَلَقَّفْهَا وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ تَلَقَّفُ بِالتَّشْدِيدِ وَضَمِّ الْفَاءِ عَلَى مَعْنَى الْحَالِ أَيْ أَلْقِهَا مُتَلَقِّفَةً أَوْ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَرَوَى حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِسُكُونِ اللَّامِ مَعَ التَّخْفِيفِ أَيْ تَأْخُذْ بِفِيهَا ابْتِلَاعًا بِسُرْعَةٍ وَاللَّقْفُ وَالتَّلَقُّفُ جَمِيعًا يرجعان إلى هذا المعنى، وصنعوا هاهنا بمعنى اختلفوا وَزَوَّرُوا وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي الْكَذِبِ: هُوَ كَلَامٌ مَصْنُوعٌ وَمَوْضُوعٌ وَصِحَّةُ قَوْلِهِ: تَلْقَفْ أَنَّهُ إِذَا أَلْقَى ذَلِكَ وَصَارَتْ حَيَّةً تَلَقَّفَتْ/ مَا صَنَعُوا وفي قوله: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً [طه: 70] دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَلْقَى الْعَصَا وَصَارَتْ حَيَّةً وَتَلَقَّفَتْ مَا صَنَعُوهُ وَفِي التَّلَقُّفِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ مَا أَلْقَوْهُ تَلَقَّفَتْهُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ عِظَمِ جَسَدِهَا وَشِدَّةِ قُوَّتِهَا. وَقَدْ حُكِيَ عَنِ السَّحَرَةِ أَنَّهُمْ عِنْدَ التَّلَقُّفِ أَيْقَنُوا بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ مِنْ مَقْدُورِ الْبَشَرِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: ظُهُورُ حَرَكَةِ الْعَصَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ مِثْلُهُ بِالْحِيلَةِ. وَثَانِيهَا: زِيَادَةُ عِظَمِهِ «1» عَلَى وَجْهٍ لَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِالْحِيلَةِ. وَثَالِثُهَا: ظُهُورُ الْأَعْضَاءِ عَلَيْهِ «2» مِنَ الْعَيْنِ وَالْمَنْخِرَيْنِ وَالْفَمِ وَغَيْرِهَا وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِالْحِيلَةِ. وَرَابِعُهَا: تَلَقُّفُ جَمِيعِ مَا أَلْقَوْهُ عَلَى كَثْرَتِهِ وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ بِالْحِيلَةِ. وَخَامِسُهَا: عَوْدُهُ «3» خَشَبَةً صَغِيرَةً كَمَا كَانَتْ وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ بِالْحِيلَةِ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ مَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي مَعَكَ يَا مُوسَى مُعْجِزَةٌ إِلَهِيَّةٌ وَالَّذِي مَعَهُمْ تَمْوِيهَاتٌ بَاطِلَةٌ فَكَيْفَ

_ (1) الصواب (عظمها) و (عليها) و (عودها) لأن العصي مؤنثة وقد وردت في القرآن كذلك مؤنثة. قال تعالى: تَلْقَفْ وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ ... قالَ هِيَ ... أَهُشُّ بِها ... وَلِيَ فِيها ... قالَ أَلْقِها وعلى فرض عود الضمير على (ما) في قوله تعالى: ما فِي يَمِينِكَ فإن التأنيث أولى. (الصاوي) . (2) الصواب (عظمها) و (عليها) و (عودها) لأن العصي مؤنثة وقد وردت في القرآن كذلك مؤنثة. قال تعالى: تَلْقَفُ ... وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ ... قالَ هِيَ ... أَهُشُّ بِها ... وَلِيَ فِيها ... قالَ أَلْقِها وعلى فرض عود الضمير على (ما) في قوله تعالى: ما فِي يَمِينِكَ فإن التأنيث أولى. (الصاوي) . [.....] (3) الصواب (عظمها) و (عليها) و (عودها) لأن العصي مؤنثة وقد وردت في القرآن كذلك مؤنثة. قال تعالى: تَلْقَفُ وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ ... قالَ هِيَ ... أَهُشُّ بِها ... وَلِيَ فِيها ... قالَ أَلْقِها وعلى فرض عود الضمير على (ما) في قوله تعالى: ما فِي يَمِينِكَ فإن التأنيث أولى. (الصاوي) .

[سورة طه (20) : الآيات 70 إلى 71]

يَحْصُلُ التَّعَارُضُ. وَقُرِئَ كَيْدُ سَاحِرٍ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ فَمَنْ رَفَعَ فَعَلَى أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ وَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى أَنَّهَا كَافَّةٌ وَقُرِئَ كَيْدُ سِحْرٍ بِمَعْنَى ذِي سِحْرٍ أَوْ ذَوِي سِحْرٍ أَوْ هُمْ لِتَوَغُّلِهِمْ فِي سِحْرِهِمْ كَأَنَّهُمُ السِّحْرُ بِعَيْنِهِ وَبِذَاتِهِ أَوْ بَيِّنُ الْكَيْدِ لِأَنَّهُ يَكُونُ سِحْرًا وَغَيْرَ سِحْرٍ، كَمَا يُبَيَّنُ الْمِائَةُ بِدِرْهَمٍ وَنَحْوُهُ عِلْمُ فِقْهٍ وَعِلْمُ نَحْوٍ، بَقِيَ سَؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ وَحَّدَ السَّاحِرَ، وَلَمْ يَجْمَعْ. الْجَوَابُ: لِأَنَّ الْقَصْدَ فِي هَذَا الْكَلَامِ إِلَى مَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ لَا إِلَى مَعْنَى الْعَدَدِ فَلَوْ جَمَعَ تُخِيَّلَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْعَدَدُ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى أَيْ هَذَا الْجِنْسَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ نَكَّرَ أَوَّلًا ثُمَّ عَرَّفَ ثَانِيًا. الْجَوَابُ: كَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا الَّذِي أَتَوْا بِهِ قِسْمٌ وَاحِدٌ مِنْ أَقْسَامِ السِّحْرِ وَجَمِيعُ أَقْسَامِ السِّحْرِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَبْلَغُ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّاحِرَ لَا يَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُهُ بِالسِّحْرِ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا وَذَلِكَ يَقْتَضِي نَفْيَ السِّحْرِ بِالْكُلِّيَّةِ. الْجَوَابُ: الْكَلَامُ فِي السِّحْرِ وَحَقِيقَتُهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَلَا وَجْهَ لِلْإِعَادَةِ واللَّه أعلم. [سورة طه (20) : الآيات 70 الى 71] فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَلْقَى مَا فِي يَمِينِهِ وَصَارَ حَيَّةً تَلْقَفُ مَا صَنَعُوا وَظَهَرَ الْأَمْرُ فَخَرُّوا عِنْدَ ذَلِكَ سُجَّدًا وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا مِنْ عِلْمِ السِّحْرِ فَلَمَّا رَأَوْا مَا فَعَلَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَارِجًا عَنْ صِنَاعَتِهِمْ عَرَفُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ السِّحْرِ الْبَتَّةَ وَيُقَالُ: قَالَ رَئِيسُهُمْ كُنَّا نُغَالِبُ النَّاسَ بِالسِّحْرِ وَكَانَتِ الْآلَاتُ تَبْقَى عَلَيْنَا لَوْ غَلَبَنَا فَلَوْ كَانَ هَذَا سِحْرًا فَأَيْنَ مَا أَلْقَيْنَاهُ فَاسْتَدَلُّوا بِتَغَيُّرِ أَحْوَالِ الْأَجْسَامِ عَلَى الصَّانِعِ الْعَالِمِ الْقَادِرِ وَبِظُهُورِهَا عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى كَوْنَهُ رَسُولًا صَادِقًا مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى، فَلَا جَرَمَ تَابُوا وَآمَنُوا وَأَتَوْا بِمَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي الْخُضُوعِ وَهُوَ السُّجُودُ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أنهم أجبروا على السجود إلا لَمَا كَانُوا مَحْمُودِينَ بَلِ التَّأْوِيلُ فِيهِ مَا قَالَ الْأَخْفَشُ وَهُوَ أَنَّهُمْ مِنْ سُرْعَةِ مَا سَجَدُوا كَأَنَّهُمْ أُلْقُوا، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مَا أَعْجَبَ أَمْرَهُمْ قَدْ أَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ لِلْكُفْرِ والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بَعْدَ سَاعَةٍ لِلشُّكْرِ وَالسُّجُودِ. فَمَا أَعْظَمَ الْفَرْقَ بين الإلقاءين، وروى أنهم لم يرفعوا رؤوسهم حَتَّى رَأَوُا الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَرَأَوْا ثَوَابَ أَهْلِهَا. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: لَمَّا خَرُّوا سُجَّدًا أَرَاهُمُ اللَّه فِي سُجُودِهِمْ مَنَازِلَهُمُ الَّتِي يَصِيرُونَ إِلَيْهَا فِي الْجَنَّةِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَرَاهُمْ عِيَانًا لَصَارُوا مُلْجَئِينَ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِهِ قَوْلُهُمْ: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا [طه: 73] . وَجَوَابُهُ: لَمَّا جَازَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ قَطْعِهِ بِكَوْنِهِ مَغْفُورًا لَهُ أَنْ يَقُولَ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي [الشُّعَرَاءِ: 82] فَلِمَ لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي حَقِّ السَّحَرَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ تُنَبِّهُ عَلَى أَسْرَارٍ عَجِيبَةٍ مِنْ أُمُورِ الرُّبُوبِيَّةِ وَنَفَاذِ الْقَضَاءِ الْإِلَهِيِّ وَقَدَرِهِ فِي جُمْلَةِ الْمُحْدَثَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ظُهُورَ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ كَانَتْ بِمَرْأًى مِنَ الْكُلِّ وَمَسْمَعٍ فَكَانَ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ فِيهَا جَلِيًّا ظَاهِرًا وَهُوَ أَنَّهُ حَدَثَتْ أُمُورٌ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُؤَثِّرٍ وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ ضَرُورِيٌّ، وَذَلِكَ الْمُؤَثِّرُ إِمَّا الْخَلْقُ، وَإِمَّا غَيْرُهُمْ. وَالْأَوَّلُ بَدِيهِيُّ الْبُطْلَانِ لِأَنَّ كُلَّ

عَاقِلٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِيجَادِ الْحَيَوَانَاتِ وَتَعْظِيمِ جُثَّتِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً ثُمَّ يُصَغِّرُهَا مَرَّةً أُخْرَى كَمَا كَانَتْ وَهَذِهِ الْعُلُومُ الْجَلِيَّةُ مَتَى حَصَلَتْ فِي الْعَقْلِ أَفَادَتِ الْقَطْعَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُدَبِّرٍ لِهَذَا الْعَالَمِ، فَمَاذَا يَقُولُ أَلَا تَرَى أَنَّ أُولَئِكَ الْمُنْكِرِينَ جَهِلُوا صِحَّةَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ وَهَذَا فِي نِهَايَةِ الْبُعْدِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ ارْتِيَابُ الْعَاقِلِ فِيهِ وَإِذًا فَقَدْ عَرَفُوا صِحَّتَهَا لَكِنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى الْجَهْلِ وَكَرِهُوا تَحْصِيلَ الْعِلْمِ وَالسَّعَادَةِ لِأَنْفُسِهِمْ وَأَحَبُّوا تَحْصِيلَ الْجَهْلِ وَالشَّقَاوَةِ لِأَنْفُسِهِمْ مَا أَرَى أَنَّ عَاقِلًا يَرْضَى بِذَلِكَ لِنَفْسِهِ قَطُّ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْعَقْلُ وَالدَّلِيلُ لَا يَكْفِي بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مُدَبِّرٍ يَخْلُقُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ فِي الْقُلُوبِ، وَيَخْلُقُ الشُّعُورَ بِكَيْفِيَّةِ تَرْتِيبِهَا وَبِكَيْفِيَّةِ اسْتِنْتَاجِهَا/ لِلنَّتِيجَةِ حَتَّى إِنَّهُ مَتَى فَعَلَ ذَلِكَ حَصَلَتِ النَّتَائِجُ فِي الْقُلُوبِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ فَإِنَّهُ لَا اعْتِمَادَ عَلَى الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ فِي مَجَارِيهَا وَتَصَرُّفَاتِهَا وَمَنْ طَرَحَ التَّعَصُّبَ عَنْ قَلْبِهِ وَنَظَرَ إِلَى أَحْوَالِ نَفْسِهِ فِي مَجَارِي أَفْكَارِهِ وَأَنْظَارِهِ ازْدَادَ وُثُوقًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ. أَمَّا قَوْلُهُ: قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى فَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْلِيمِيَّةَ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: إِنَّهُمْ آمَنُوا باللَّه الَّذِي عَرَفُوهُ مِنْ قِبَلِ هَارُونَ وَمُوسَى فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّه لَا تُسْتَفَادُ إِلَّا مِنَ الْإِمَامِ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ بَلْ فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى فَائِدَتَانِ سِوَى مَا ذَكَرُوهُ. الْفَائِدَةُ الْأُولَى: وَهِيَ أَنَّ فِرْعَوْنَ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ فِي قَوْلِهِ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النَّازِعَاتِ: 24] وَالْإِلَهِيَّةَ فِي قَوْلِهِ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَصِ: 38] فَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ لَكَانَ فِرْعَوْنُ يَقُولُ: إِنَّهُمْ آمَنُوا بِي لَا بِغَيْرِي فَلِقَطْعِ هَذِهِ التُّهْمَةِ اخْتَارُوا هَذِهِ الْعِبَارَةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ قَدَّمُوا ذِكْرَ هَارُونَ عَلَى مُوسَى لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَدَّعِي رُبُوبِيَّتَهُ لِمُوسَى بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ رَبَّاهُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشُّعَرَاءِ: 18] فَالْقَوْمُ لَمَّا احْتَرَزُوا عَنْ إِيهَامَاتِ فِرْعَوْنَ لَا جَرَمَ قَدَّمُوا ذِكْرَ هَارُونَ عَلَى مُوسَى قَطْعًا لِهَذَا الْخَيَالِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا شَاهَدُوا أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَصَّهُمَا بِتِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالدَّرَجَاتِ الشَّرِيفَةِ لَا جَرَمَ قَالُوا: رَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى لِأَجْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا شَاهَدَ مِنْهُمُ السُّجُودَ وَالْإِقْرَارَ خَافَ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاقْتِدَاءِ سَائِرِ النَّاسِ بِهِمْ فِي الْإِيمَانِ باللَّه تَعَالَى وَبِرَسُولِهِ فَفِي الْحَالِ أَلْقَى شُبْهَةً أُخْرَى فِي النَّبِيِّ فَقَالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ وَهَذَا الْكَلَامُ مُشْتَمِلٌ عَلَى شُبْهَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: قَوْلُهُ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْخَاطِرِ الْأَوَّلِ غَيْرُ جَائِزٍ بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِالْخَوَاطِرِ، فَلَمَّا لَمْ تَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَلْ فِي الْحَالِ: آمَنْتُمْ لَهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إِيمَانَكُمْ لَيْسَ عَنِ الْبَصِيرَةِ بَلْ عَنْ سَبَبٍ آخَرَ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ يَعْنِي أَنَّكُمْ تَلَامِذَتُهُ فِي السِّحْرِ فَاصْطَلَحْتُمْ عَلَى أَنْ تُظْهِرُوا الْعَجْزَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ تَرْوِيجًا لِأَمْرِهِ وَتَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ، ثُمَّ بَعْدَ إِيرَادِ الشُّبْهَةِ اشْتَغَلَ بِالتَّهْدِيدِ تَنْفِيرًا لَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَتَنْفِيرًا لِغَيْرِهِمْ عَنِ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ قُرِئَ لَأَقْطَعَنَّ وَلَأَصْلِبَنَّ بِالتَّخْفِيفِ. وَالْقَطْعُ مِنْ خِلَافٍ أَنْ تُقْطَعَ الْيَدُ الْيُمْنَى وَالرِّجْلُ الْيُسْرَى لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْعُضْوَيْنِ خِلَافُ الْآخَرِ، فَإِنَّ هَذَا يَدٌ وَذَاكَ رِجْلٌ وَهَذَا يَمِينٌ وَذَاكَ شِمَالٌ وَقَوْلُهُ: مِنْ خِلافٍ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ أَيْ: لَأُقَطِّعَنَّهَا مُخْتَلِفَاتٍ لِأَنَّهَا إِذَا خَالَفَ بَعْضُهَا بَعْضًا فَقَدِ اتَّصَفَتْ بِالِاخْتِلَافِ ثُمَّ قَالَ: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ فَشَبَّهَ تَمَكُّنَ الْمَصْلُوبِ فِي الجذع يتمكن الشَّيْءِ الْمُوعَى فِي وِعَائِهِ فَلِذَلِكَ قَالَ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَالَّذِي يُقَالُ فِي الْمَشْهُورِ أَنَّ فِي بِمَعْنَى عَلَى فَضَعِيفٌ ثُمَّ قَالَ: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا

[سورة طه (20) : الآيات 72 إلى 76]

أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى أَرَادَ بِقَوْلِهِ: أَيُّنا نَفْسَهُ لَعَنَهُ اللَّه لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَيُّنا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ أَرَادَ نَفْسَهُ وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: آمَنْتُمْ لَهُ وَفِيهِ تَصَالُفٌ بِاقْتِدَارِهِ وَقَهْرِهِ وَمَا أَلِفَهُ مِنْ تَعْذِيبِ النَّاسِ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَاسْتِضْعَافِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ الْهُزْءِ بِهِ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَطُّ لَمْ/ يَكُنْ مِنَ التَّعْذِيبِ فِي شَيْءٍ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ مَعَ قُرْبِ عَهْدِهِ بِمُشَاهَدَةِ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً بِتِلْكَ الْعَظَمَةِ الَّتِي شَرَحْتُمُوهَا وَذَكَرْتُمْ أَنَّهَا قَصَدَتِ ابْتِلَاعَ قَصْرِ فِرْعَوْنَ وَآلَ الْأَمْرُ إِلَى أَنِ اسْتَغَاثَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ شَرِّ ذَلِكَ الثُّعْبَانِ فَمَعَ قُرْبِ عَهْدِهِ بِذَلِكَ وَعَجْزِهِ عَنْ دَفْعِهِ كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُهَدِّدَ السَّحَرَةَ وَيُبَالِغَ فِي وَعِيدِهِمْ إِلَى هَذَا الْحَدِّ وَيَسْتَهْزِئَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى قُلْنَا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ فِي أَشَدِّ الْخَوْفِ فِي قَلْبِهِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ تِلْكَ الْجَلَادَةَ وَالْوَقَاحَةَ تَمْشِيَةً لِنَامُوسِهِ وَتَرْوِيجًا لِأَمْرِهِ، وَمَنِ اسْتَقْرَى أَحْوَالَ أَهْلِ الْعَالَمِ عَلِمَ أَنَّ الْعَاجِزَ قَدْ يَفْعَلُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ عَذَابَ اللَّه أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الْبَشَرِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَقَدْ كَانَ عَالِمًا بِكَذِبِهِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا خَالَطَهُمُ الْبَتَّةَ وَمَا لَقِيَهُمْ وَكَانَ يَعْرِفُ مِنْ سَحَرَتِهِ أَنَّ أُسْتَاذَ كُلِّ وَاحِدٍ مَنْ هُوَ وَكَيْفَ حَصَّلَ ذَلِكَ الْعِلْمَ، ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ كَانَ يَقُولُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَثَبَتَ أَنَّ سَبِيلَهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: «كَانُوا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ سَحَرَةً، وَفِي آخِرِهِ شُهَدَاءَ» . [سورة طه (20) : الآيات 72 الى 76] قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) [في قوله تعالى قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ إلى قوله خَيْرٌ وَأَبْقى] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى تَهْدِيدَ فِرْعَوْنَ لِأُولَئِكَ حَكَى جَوَابَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْيَقِينِ التَّامِّ وَالْبَصِيرَةِ الْكَامِلَةِ لَهُمْ فِي أُصُولِ الدِّينِ، فَقَالُوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ طَلَبَ مِنْهُمُ الرُّجُوعَ عَنِ الْإِيمَانِ وَإِلَّا فَعَلَ بِهِمْ مَا أَوْعَدَهُمْ فَقَالُوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ جَوَابًا لِمَا قَالَهُ وَبَيَّنُوا الْعِلَّةَ وَهِيَ أَنَّ الَّذِي جَاءَهُمْ بَيِّنَاتٌ وَأَدِلَّةٌ، وَالَّذِي يَذْكُرُهُ فِرْعَوْنُ مَحْضُ الدُّنْيَا، وَمَنَافِعُ الدُّنْيَا وَمَضَارُّهَا لَا تُعَارِضُ مَنَافِعَ الْآخِرَةِ وَمَضَارَّهَا، أَمَّا قَوْلُهُ: وَالَّذِي فَطَرَنا فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّقْدِيرَ لَنْ نُؤْثِرَكَ يَا فِرْعَوْنُ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَعَلَى الَّذِي فَطَرَنَا أَيْ وَعَلَى طَاعَةِ الَّذِي فَطَرَنَا وَعَلَى عِبَادَتِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَفْضًا عَلَى الْقَسَمِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَتَى أَصَرُّوا عَلَى الْإِيمَانِ فَعَلَ فِرْعَوْنُ مَا أَوْعَدَهُمْ بِهِ فَقَالُوا: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ أَمَرُوهُ بِذَلِكَ لَكِنْ أَظْهَرُوا أَنَّ ذَلِكَ الْوَعِيدَ لَا يُزِيلُهُمُ الْبَتَّةَ عَنْ إِيمَانِهِمْ وَعَمَّا عَرَفُوهُ مِنَ الْحَقِّ عِلْمًا وَعَمَلًا، ثُمَّ بَيَّنُوا مَا لِأَجْلِهِ يَسْهُلُ عَلَيْهِمِ احْتِمَالُ ذَلِكَ فَقَالُوا: إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا وقرئ: (نقضي هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) وَوَجْهُهَا أَنَّ الْحَيَاةَ فِي الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ مُنْتَصِبَةٌ عَلَى الظَّرْفِ فَاتُّسِعَ فِي الظَّرْفِ بِإِجْرَائِهِ مُجْرَى الْمَفْعُولِ بِهِ كَقَوْلِكَ: فِي صُمْتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صِيمَ وَالْمَعْنَى أَنَّ قَضَاءَكَ وَحُكْمَكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي هَذِهِ

الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهِيَ كَيْفَ كَانَتْ فَانِيَةً وَإِنَّمَا مَطْلَبُنَا سَعَادَةُ الْآخِرَةِ وَهِيَ بَاقِيَةٌ، وَالْعَقْلُ يَقْتَضِي تَحَمُّلَ الضَّرَرِ الْفَانِي الْمُتَوَصَّلِ بِهِ إِلَى السَّعَادَةِ الْبَاقِيَةِ ثُمَّ قَالُوا: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَلَمَّا كَانَ أَقْرَبُ خَطَايَاهُمْ عَهْدًا مَا أَظْهَرُوهُ مِنَ السِّحْرِ، قَالُوا: وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ الْإِكْرَاهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُلُوكَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْبَعْضَ مِنْ رَعِيَّتِهِمْ وَيُكَلِّفُونَهُمْ تَعَلُّمَ السِّحْرِ فَإِذَا شَاخَ بَعَثُوا إِلَيْهِ أَحْدَاثًا لِيُعَلِّمَهُمْ لِيَكُونَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَنْ يُحْسِنُهُ فَقَالُوا هَذَا الْقَوْلَ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَيْ كُنَّا فِي التَّعَلُّمِ أَوَّلًا وَالتَّعْلِيمِ ثَانِيًا مُكْرَهِينَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّ رُؤَسَاءَ السَّحَرَةِ كَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، اثْنَانِ مِنَ الْقِبْطِ، وَالْبَاقِي مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا لِفِرْعَوْنَ: أَرِنَا مُوسَى نَائِمًا فَرَأَوْهُ فَوَجَدُوهُ تَحْرُسُهُ عَصَاهُ فَقَالُوا: مَا هَذَا بِسَاحِرٍ، السَّاحِرُ إِذَا نَامَ بَطَلَ سِحْرُهُ فَأَبَى إِلَّا أَنْ يُعَارِضُوهُ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ السَّحَرَةَ حُشِرُوا مِنَ الْمَدَائِنِ لِيُعَارِضُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأُحْضِرُوا بِالْحَشْرِ وَكَانُوا مُكْرَهِينَ فِي الْحُضُورِ وَرُبَّمَا كَانُوا مُكْرَهِينَ أَيْضًا فِي إِظْهَارِ السِّحْرِ. وَرَابِعُهَا: قَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: دَعْوَةُ السُّلْطَانِ إِكْرَاهٌ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ دَعْوَةَ السُّلْطَانِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا خَوْفٌ لَمْ تَكُنْ إِكْرَاهًا، ثُمَّ قَالُوا: وَاللَّهُ خَيْرٌ ثَوَابًا لِمَنْ أَطَاعَهُ. وَأَبْقى عِقَابًا لِمَنْ عَصَاهُ، وَهَذَا جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى [طه: 71] . قَالَ الْحَسَنُ: سُبْحَانَ اللَّه الْقَوْمُ كُفَّارٌ وَهُمْ أَشَدُّ الْكَافِرِينَ كُفْرًا ثَبَتَ فِي قُلُوبِهِمِ الْإِيمَانُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ فَلَمْ يَتَعَاظَمْ عِنْدَهُمْ أَنْ قَالُوا: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ فِي ذَاتِ اللَّه تَعَالَى واللَّه إِنَّ أَحَدَكُمُ الْيَوْمَ لَيَصْحَبُ الْقُرْآنَ سِتِّينَ عَامًا ثُمَّ إِنَّهُ يَبِيعُ دِينَهُ بِثَمَنٍ حَقِيرٍ، ثُمَّ خَتَمُوا هَذَا الْكَلَامَ بِشَرْحِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَحْوَالِ الْمُجْرِمِينَ فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ، فَقَالُوا فِي الْمُجْرِمِينَ: / إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ يَعْنِي أَنَّ الْأَمْرَ وَالشَّأْنَ كَذَا وَكَذَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقَطْعِ عَلَى وَعِيدِ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ قَالُوا: صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ مُجْرِمٌ وَكُلُّ مُجْرِمٍ فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لِقَوْلِهِ: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً وَكَلِمَةُ مَنْ فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ تُفِيدُ الْعُمُومَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ، وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا عَلَى هَذَا الْكَلَامِ، فَقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُجْرِمٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْمُجْرِمَ فِي مُقَابَلَةِ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: 29] وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى وَالْمُؤْمِنُ صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ وَإِنْ عُذِّبَ بِالنَّارِ لَا يَكُونُ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَفِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ ضَعِيفَةٌ، أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ الْمُجْرِمَ فِي مُقَابَلَةِ الْمُؤْمِنِ فَهَذَا مُسَلَّمٌ لَكِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَنْفَعُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، وَمَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ فَهَذَا الْمُعْتَرِضُ كَأَنَّهُ بَنَى هَذَا الِاعْتِرَاضَ عَلَى مَذْهَبِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ سَاقِطٌ، قَوْلُهُ ثَانِيًا: إِنَّهُ لَا يَلِيقُ بِصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ أَنْ يُقَالَ فِي حَقِّهِ: إِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى، قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ فَإِنَّ عَذَابَ جَهَنَّمَ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ قَالَ تَعَالَى: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آلِ عِمْرَانَ: 192] وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَيُقَالُ: «الْقُرْآنُ مُتَوَاتِرٌ فَلَا يُعَارِضُهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ» . وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلِلْخَصْمِ أَنْ يُجِيبَ فَيَقُولُ ذَلِكَ يُفِيدُ الظَّنَّ فَيَجُوزُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي الْعَمَلِيَّاتِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنَ الْعَمَلِيَّاتِ بَلْ مِنَ الاعتقادات،

فلا يجوز المصير إليها هاهنا. فَإِنِ اعْتَرَضَ إِنْسَانٌ آخَرُ، وَقَالَ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَشْرُوطَةٌ بِنَفْيِ التَّوْبَةِ وَبِأَنْ لَا يَكُونَ عِقَابُهُ مُحْبَطًا بِثَوَابِ طَاعَتِهِ وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ هُوَ أَنْ لَا يُوجَدَ مَا يُحْبِطُ ذَلِكَ الْعِقَابَ وَلَكِنْ عِنْدَنَا الْعَفْوُ مُحْبِطٌ لِلْعِقَابِ، وَعِنْدَنَا أَنَّ الْمُجْرِمَ الَّذِي لَا يُوجَدُ فِي حَقِّهِ الْعَفْوُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَدْخُلَ جَهَنَّمَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ أَيْضًا ضَعِيفٌ أَمَّا شَرْطُ نَفْيِ التَّوْبَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ: مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً أَيْ حَالَ كَوْنِهِ مُجْرِمًا وَالتَّائِبُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَتَى رَبَّهُ حَالَ كَوْنِهِ مُجْرِمًا. وَأَمَّا صَاحِبُ الصَّغِيرَةِ فَلِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُجْرِمًا لِأَنَّ الْمُجْرِمَ اسْمٌ لِلذَّمِّ فَلَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ عَلَى صَاحِبِ الصَّغِيرَةِ، بَلِ الِاعْتِرَاضُ الصَّحِيحُ أَنْ نَقُولَ: عُمُومُ هَذَا الْوَعِيدِ مُعَارَضٌ بِمَا جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ عُمُومِ الْوَعْدِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى وَكَلَامُنَا فِيمَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ثُمَّ أَتَى بَعْدَ ذَلِكَ بِبَعْضِ الْكَبَائِرِ. فَإِنْ قِيلَ: عِقَابُ الْمَعْصِيَةِ يُحْبِطُ ثَوَابَ الطَّاعَةِ، قُلْنَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: ثَوَابُ الْإِيمَانِ يَدْفَعُ عِقَابَ الْمَعْصِيَةِ فَإِنْ قَالُوا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَعْنُهُ وَإِقَامَةُ الْحَدِّ عليه. قلنا: أما اللعن الغير جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَأَمَّا إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَقَدْ تَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الْمِحْنَةِ كَمَا فِي حَقِّ التَّائِبِ وَقَدْ تَكُونُ/ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيلِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ [الْمَائِدَةِ: 38] فاللَّه تَعَالَى نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إقامة الحد عليه عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيلِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِلْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ الثَّوَابُ كَمَا قُلْنَا. فَدَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عِقَابَ الْكَبِيرَةِ أَوْلَى بِإِزَالَةِ ثَوَابِ الطَّاعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنَ الطَّاعَاتِ بِدَفْعِ عِقَابِ الْكَبِيرَةِ الطَّارِئَةِ. هَذَا مُنْتَهَى كَلَامِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الْوَعِيدِ قُلْنَا حَاصِلُ الْكَلَامِ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ النَّصَّ الدَّالَّ عَلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيلِ صَارَ مُعَارِضًا لِلنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ، فَلِمَ كَانَ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ كَانَ يَنْقَسِمُ إِلَى السَّارِقِ وَغَيْرِ السَّارِقِ، فَالسَّارِقُ يَنْقَسِمُ إِلَى الْمُؤْمِنِ وَإِلَى غَيْرِ الْمُؤْمِنِ فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا مَزِيَّةٌ عَلَى الْآخَرِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَإِذَا تَعَارَضَا تَسَاقَطَا. ثُمَّ نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كَلِمَةَ مَنْ فِي إِفَادَةِ الْعُمُومِ قَطْعِيَّةٌ بَلْ ظَنِّيَّةٌ وَمَسْأَلَتُنَا قَطْعِيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ التَّعْوِيلُ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْمَحْصُولِ فِي الْأُصُولِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكَتِ الْمُجَسِّمَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَقَالُوا: الْجِسْمُ إِنَّمَا يَأْتِي رَبَّهُ لَوْ كَانَ الرَّبُّ فِي الْمَكَانِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ إِتْيَانَهُمْ مَوْضِعَ الْوَعْدِ إِتْيَانًا إِلَى اللَّه مَجَازًا كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصَّافَّاتِ: 99] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْجِسْمُ الْحَيُّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَبْقَى إِمَّا حَيًّا أَوْ يَصِيرُ مَيِّتًا فَخُلُوُّهُ عَنِ الْوَصْفَيْنِ مُحَالٌ، فَمَعْنَاهُ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ يَكُونُ فِي جَهَنَّمَ بِأَسْوَأِ حَالٍ لَا يَمُوتُ مَوْتَةً مُرِيحَةً وَلَا يَحْيَا حَيَاةً مُمْتِعَةً. ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ آتِيًا بِكُلِّ الصَّالِحَاتِ. وَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَلَا مُمْكِنٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى، ثُمَّ فَسَّرَهَا فَقَالَ: جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَفِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى حُصُولِ الْعَفْوِ لِأَصْحَابِ الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى مِنَ الْجَنَّةِ لِمَنْ أَتَى رَبَّهُ بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَسَائِرُ الدَّرَجَاتِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ عَالِيَةٍ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ لِغَيْرِهِمْ. مَا هُمْ إِلَّا الْعُصَاةُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مَنْ قَالَ

[سورة طه (20) : الآيات 77 إلى 79]

لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، وَأَقُولُ لَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةَ هِيَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى أَيْ تَطَهَّرَ عَنِ الذُّنُوبِ وَجَبَ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْخِطَابِ أَنَّ الدَّرَجَاتِ الَّتِي لَا تَكُونُ عَالِيَةً أَنْ لَا تَكُونَ جَزَاءَ مَنْ تَزَكَّى فَهِيَ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَكُونُ قَدْ أَتَى بِالْمَعَاصِي وَعَفَا اللَّه بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ عَنْهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ فِرْعَوْنَ فَعَلَ بِأُولَئِكَ الْقَوْمِ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَوْعَدَهُمْ بِهِ ولكن ثبت ذلك في الأخبار. [سورة طه (20) : الآيات 77 الى 79] وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَثُرَ مُسْتَجِيبُوهُ. فَأَرَادَ اللَّه تَعَالَى تَمْيِيزَهُمْ مِنْ طَائِفَةِ فِرْعَوْنَ وَخَلَاصَهُمْ فَأَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ يَسْرِيَ بِهِمْ لَيْلًا، وَالسُّرَى اسْمٌ لِسَيْرِ اللَّيْلِ وَالْإِسْرَاءُ مِثْلُهُ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنْ يَسْرِيَ بِهِمْ لَيْلًا، قُلْنَا لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ اجْتِمَاعُهُمْ لَا بِمَشْهَدٍ مِنَ الْعَدُوِّ فَلَا يَمْنَعُهُمْ عَنِ اسْتِكْمَالِ مُرَادِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: لِيَكُونَ عَائِقًا عَنْ طَلَبِ فِرْعَوْنَ وَمُتَّبِعِيهِ. وَثَالِثُهَا: لِيَكُونَ إِذَا تَقَارَبَ الْعَسْكَرَانِ لَا يَرَى عَسْكَرُ مُوسَى عَسْكَرَ فِرْعَوْنَ فَلَا يَهَابُوهُمْ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَيْ فَاجْعَلْ لَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ ضَرَبَ لَهُ فِي مَالِهِ سَهْمًا، وَضَرَبَ اللَّبِنَ عَمِلَهُ. وَالثَّانِي: بَيِّنْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ بِالضَّرْبِ بِالْعَصَا وَهُوَ أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِالْعَصَا حَتَّى يَنْفَلِقَ، فَعَدَّى الضَّرْبَ إِلَى الطَّرِيقِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِضَرْبِ الطَّرِيقِ جَعْلُ الطَّرِيقِ بِالضَّرْبِ يَبَسًا ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ جَمِيعَ أَسْبَابِ الْأَمْنِ كَانَ حَاصِلًا فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ يَبَسًا قُرِئَ يَابِسًا وَيَبْسًا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَسْكِينِ الْبَاءِ فَمَنْ قَالَ: يَابِسًا جَعَلَهُ بِمَعْنَى الطَّرِيقِ وَمَنْ قَالَ يَبَسًا بِتَحْرِيكِ الْبَاءِ فَالْيَبَسُ وَالْيَابِسُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَالْمَعْنَى طَرِيقًا أَيْبَسَ. وَمَنْ قَالَ: يَبْسًا بِتَسْكِينِ الْبَاءِ فَهُوَ مُخَفَّفٌ عَنِ الْيَبْسِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مَا كَانَ فِيهِ وَحَلٌ وَلَا نَدَاوَةٌ فَضْلًا عَنِ الْمَاءِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: لَا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى أَيْ لَا تَخَافُ أَنْ يُدْرِكَكَ فِرْعَوْنُ فَإِنِّي أَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ بِالتَّأْخِيرِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: قَوْلُهُ: تَخافُ رَفَعَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْحَالِ كَقَوْلِكَ غَيْرُ خَائِفٍ وَلَا خَاشٍ. وَالثَّانِي: عَلَى الِابْتِدَاءِ أَيْ أَنْتَ لَا تَخَافُ وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ، قَالَ الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لَا تَخَافُ فِيهِ كَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ [الْبَقَرَةِ: 48] أَيْ لَا تَجْزِي فِيهِ نَفْسٌ وَقَرَأَ حَمْزَةُ لَا تَخَفْ وَفِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَهْيٌ. وَالثَّانِي: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: جَعَلَهُ جَوَابَ الشَّرْطِ عَلَى مَعْنَى إِنْ تَضْرِبْ لَا تَخَفْ وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: وَلا تَخْشى ثَلَاثَةَ «1» أَوْجُهٍ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَأْنِفَ كَأَنَّهُ قِيلَ وَأَنْتَ لَا تَخْشَى أَيْ وَمِنْ شَأْنِكَ أَنَّكَ آمِنٌ لَا تَخْشَى. وَثَانِيهَا: أَنْ لَا تَكُونَ الْأَلِفُ هِيَ الْأَلِفَ الْمُنْقَلِبَةَ عَنِ الْيَاءِ الَّتِي هِيَ لَامُ الْفِعْلِ وَلَكِنْ زَائِدَةٌ لِلْإِطْلَاقِ مِنْ أَجْلِ الْفَاصِلَةِ كَقَوْلِهِ تعالى: فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب: 67] وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الْأَحْزَابِ: 10] . وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مِثْلَ قَوْلِهِ: [وَتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّةٌ «2» ] ... كَأَنْ لَمْ تَرَيْ قَبْلِي أسيرا يمانيا

_ (1) الصواب أربعة أوجه كما سيأتي. (2) الشعر لمالك بن الريب وقد وضعت صدره بين معكفين لأنه ليس في الأصول.

وَثَالِثُهَا «1» : قَوْلُهُ: وَلا تَخْشى وَالْمَعْنَى أَنَّكَ لَا تَخَافُ إِدْرَاكَ فِرْعَوْنَ وَلَا تَخْشَى الْغَرَقَ بِالْمَاءِ أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: زَعَمَ رُوَاةُ اللُّغَةِ أَنَّ أَتْبَعَهُمْ وَتَبِعَهُمْ وَاحِدٌ وَذَلِكَ جَائِزٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ زَائِدَةً وَالْمَعْنَى أَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ جُنُودَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه: 94] أَسْرَى بِعَبْدِهِ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قُرِئَ: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ) أَيْ وَمَعَهُ جُنُودُهُ وَقُرِئَ: بِجُنُودِهِ وَمَعْنَاهُ أَلْحَقَ جُنُودَهُ بِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مَعَهُمْ أَمَّا قَوْلُهُ: فَغَشِيَهُمْ فَالْمَعْنَى: عَلَاهُمْ وَسَتَرَهُمْ وَمَا غَشِيَهُمْ تَعْظِيمٌ لِلْأَمْرِ أَيْ غَشِيَهُمْ مَا لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّه تَعَالَى وَقُرِئَ: (فَغَشَّاهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ) وَفَاعِلُ غَشَّاهُمْ إِمَّا اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْ مَا غَشِيَهُمْ أَوْ فِرْعَوْنُ لِأَنَّهُ الَّذِي وَرَّطَ جُنُودَهُ وَتَسَبَّبَ فِي هَلَاكِهِمْ أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى فَاحْتَجَّ الْقَاضِي بِهِ وَقَالَ لَوْ كَانَ الضَّلَالُ مِنْ خَلْقِ اللَّه تَعَالَى لَمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ بَلْ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ اللَّه تَعَالَى أَضَلَّهُمْ وَلِأَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَمَّهُ بِذَلِكَ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِلْكُفْرِ لِأَنَّ مَنْ ذَمَّ غَيْرَهُ بِشَيْءٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ هُوَ غَيْرَ فَاعِلٍ لِذَلِكَ الْفِعْلِ وَإِلَّا لَاسْتَحَقَّ ذَلِكَ الذَّمَّ وَقَوْلُهُ: وَما هَدى تَهَكَّمَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ [غَافِرٍ: 29] وَلْنَذْكُرِ الْقِصَّةَ وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَبَاحِثِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا لَمَّا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى مُوسَى أَنْ يَقْطَعَ بِقَوْمِهِ الْبَحْرَ وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ اسْتَعَارُوا مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ الْحُلِيَّ وَالدَّوَابَّ لِعِيدٍ يَخْرُجُونَ إِلَيْهِ فَخَرَجَ بِهِمْ لَيْلًا وَهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ وَثَلَاثَةُ آلَافٍ وَنَيِّفٌ لَيْسَ فِيهِمُ ابْنُ سِتِّينَ وَلَا عِشْرِينَ وَقَدْ كَانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَهِدَ إِلَيْهِمْ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ يَخْرُجُوا بِعِظَامِهِ مَعَهُمْ مِنْ مِصْرَ فَلَمْ يَخْرُجُوا بِهَا فَتَحَيَّرَ الْقَوْمُ حَتَّى دَلَّتْهُمْ عَجُوزٌ عَلَى مَوْضِعِ الْعِظَامِ فَأَخَذُوهَا فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْعَجُوزِ: احْتَكِمِي فَقَالَتْ: أَكُونُ مَعَكَ فِي الْجَنَّةِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ هَجَمُوا عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ وَامْرَأَةٍ لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا عَنْزٌ فَذَبَحُوهَا لَهُمَا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِذَا سَمِعْتَ بِرَجُلٍ قَدْ ظَهَرَ بِيَثْرِبَ فَأْتِهِ فَلَعَلَّ اللَّه يَرْزُقُكَ مِنْهُ خَيْرًا، فَلَمَّا سَمِعَ بِظُهُورِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ مَعَ امْرَأَتِهِ فَقَالَ: أَتَعْرِفُنِي؟ قَالَ: نَعَمْ عَرَفْتُكَ فقال له: احتكم، فقال: ثمانون ضائنة فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا وَقَالَ لَهُ: «أَمَا إِنَّ عَجُوزَ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَيْرٌ مِنْكَ» وَخَرَجَ فِرْعَوْنُ فِي طَلَبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ أَلْفُ أَلْفٍ وَخَمْسُمِائَةِ أَلْفٍ سِوَى الْجَنْبَيْنِ وَالْقَلْبِ فَلَمَّا انتهى موسى إلى البحر قال: هاهنا أُمِرْتُ ثُمَّ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْبَحْرِ: انْفَرِقْ فَأَبَى، فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَضَرَبَهُ فَانْفَلَقَ فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ادْخُلُوا فِيهِ فَقَالُوا: كَيْفَ وَأَرْضُهُ رَطْبَةٌ فَدَعَا اللَّه فَهَبَّتْ عَلَيْهِ الصَّبَا فَجَفَّتْ فَقَالُوا: نَخَافُ الْغَرَقَ فِي بَعْضِنَا فَجَعَلَ بَيْنَهُمْ كُوًى حَتَّى يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا ثُمَّ دَخَلُوا حَتَّى جَاوَزُوا الْبَحْرَ فَأَقْبَلَ فِرْعَوْنُ إِلَى تِلْكَ الطُّرُقِ فَقَالَ قَوْمُهُ لَهُ: إِنَّ مُوسَى قَدْ سَحَرَ الْبَحْرَ فَصَارَ كَمَا تَرَى وَكَانَ عَلَى فَرَسٍ حِصَانٍ وَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى فَرَسٍ أُنْثَى فِي ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَصَارَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ وَأَبْصَرَ الْحِصَانُ الْفَرَسُ الْحِجْرَ فَاقْتَحَمَ بِفِرْعَوْنَ عَلَى أَثَرِهَا وَصَاحَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي النَّاسِ/ الْحَقُوا الْمَلِكَ حَتَّى إِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ وَكَادَ أَوَّلُهُمْ أَنْ يَخْرُجَ الْتَقَى الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ فَغَرِقُوا فَسَمِعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ خَفْقَةَ الْبَحْرِ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: مَا هَذَا يَا مُوسَى؟ قَالَ: قَدْ أَغْرَقَ اللَّه فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فَرَجَعُوا لِيَنْظُرُوا إِلَيْهِمْ فَقَالُوا: يَا مُوسَى ادْعُ اللَّه أَنْ يُخْرِجَهُمْ لَنَا حَتَّى نَنْظُرَ إِلَيْهِمْ، فَدَعَا فَلَفَظَهُمُ الْبَحْرُ إِلَى السَّاحِلِ وَأَصَابُوا مِنْ سِلَاحِهِمْ، وَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام قال: يا

_ (1) الصواب (ورابعها) ويبدو أنه سقط بيان تعليل الوجه. وهو أن يقول قوله: وَلا تَخْشى فيه إيجاز بالجذف أي ولا تخشى شيئا من الغرق أو غيره.

[سورة طه (20) : الآيات 80 إلى 82]

مُحَمَّدُ لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَدُسُّ فِرْعَوْنَ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ مَخَافَةَ أَنْ يَتُوبَ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَفِي الْقِصَّةِ أَبْحَاثٌ. الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ضَرَبَ بِعَصَاهُ الْبَحْرَ حَصَلَ اثْنَا عَشَرَ طَرِيقًا يَابِسًا يَتَهَيَّأُ طُرُوقُهُ وَبَقِيَ الْمَاءُ قَائِمًا بَيْنَ الطَّرِيقِ وَالطَّرِيقِ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَهُوَ الْجَبَلُ. فَأَخَذَ كُلُّ سِبْطٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي طَرِيقٍ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ حَصَلَ طَرِيقٌ وَاحِدٌ وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْأَخْبَارُ وَمِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشُّعَرَاءِ: 63] وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا حَصَلَ هُنَاكَ طُرُقٌ حَتَّى يَكُونَ الْمَاءُ الْقَائِمُ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي ظَاهِرُ قوله: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الطَّرِيقَ الْوَاحِدَ وَإِنْ أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الطُّرُقِ نَظَرًا إِلَى الْجِنْسِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: رُوِيَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ أَنْ أَظْهَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمُ الطَّرِيقَ وَبَيَّنَهَا لَهُمْ تَعَنَّتُوا وَقَالُوا: نُرِيدُ أَنْ يَرَى بَعْضُنَا بَعْضًا وَهَذَا كَالْبَعِيدِ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا أَبْصَرُوا مَجِيءَ فِرْعَوْنَ صَارُوا فِي نِهَايَةِ الْخَوْفِ وَالْخَائِفُ إِذَا وَجَدَ طَرِيقَ الْفِرَارِ وَالْخَلَاصِ كَيْفَ يَتَفَرَّغُ لِلتَّعَنُّتِ الْبَارِدِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَاقِلًا بَلْ كَانَ فِي نِهَايَةِ الدَّهَاءِ فَكَيْفَ اخْتَارَ إِلْقَاءَ نَفْسِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ فَإِنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ انْفِلَاقَ الْبَحْرِ لَيْسَ بِأَمْرِهِ فَعِنْدَ هَذَا ذَكَرُوا وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَلَى الرَّمَكَةِ فَتَبِعَهُ فَرَسُ فِرْعَوْنَ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنَّ يَكُونَ خَوْضُ الْمَلِكِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مُقَدَّمًا عَلَى خَوْضِ جَمِيعِ الْعَسْكَرِ وَمَا ذَكَرُوهُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوهُ لَكَانَ فِرْعَوْنُ فِي ذَلِكَ الدُّخُولِ كَالْمَجْبُورِ وَذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُهُ خَوْفًا وَيَحْمِلُهُ عَلَى الْإِمْسَاكِ فِي أَنْ لَا يَدْخُلَ وَأَيْضًا فَأَيُّ حَاجَةٍ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى هَذِهِ الْحِيلَةِ وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مَعَ قَوْمِهِ وَيَرْمِيَهُ فِي الْمَاءِ ابْتِدَاءً، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَمَرَ مُقَدِّمَةَ عَسْكَرِهِ بِالدُّخُولِ فَدَخَلُوا وَمَا غَرِقُوا فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ السَّلَامَةُ فَلَمَّا دَخَلَ الْكُلُّ أَغْرَقَهُمُ اللَّه تَعَالَى. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: أَنَّ الَّذِي نَقَلَ عَنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَدُسُّهُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُؤْمِنَ فَبَعِيدٌ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْإِيمَانِ لَا يَلِيقُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. الْبَحْثُ الْخَامِسُ: الَّذِي رُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَلَّمَ الْبَحْرَ قَالَ لَهُ: انْفَلِقْ لِي لِأَعْبُرَ عَلَيْكَ، فَقَالَ الْبَحْرُ: لَا يَمُرُّ عَلَيَّ رَجُلٌ عَاصٍ. فَهُوَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَلَى أُصُولِنَا لِأَنَّ عِنْدَنَا الْبِنْيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْحَيَاةِ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ الْحَالِ لَا على لسان المقال. واللَّه أعلم. [سورة طه (20) : الآيات 80 الى 82] يَا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْعَمَ عَلَى قَوْمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ ذَكَّرَهُمْ إِيَّاهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ إِزَالَةَ الْمَضَرَّةِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلَى إِيصَالِ الْمَنْفَعَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ إِيصَالَ الْمَنْفَعَةِ الدِّينِيَّةِ أَعْظَمُ فِي كَوْنِهِ نِعْمَةً مِنْ إِيصَالِ الْمَنْفَعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَلِهَذَا بَدَأَ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى إِزَالَةِ الضَّرَرِ فَإِنَّ فِرْعَوْنَ

كَانَ يُنْزِلُ بِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ كَثِيرًا مِنَ الْقَتْلِ وَالْإِذْلَالِ وَالْإِخْرَاجِ وَالْإِتْعَابِ فِي الْأَعْمَالِ، ثُمَّ ثَنَّى بِذِكْرِ الْمَنْفَعَةِ الدِّينِيَّةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَوَجْهُ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ أَنَّهُ أَنْزَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَيْهِمْ كِتَابًا فِيهِ بَيَانُ دِينِهِمْ وَشَرْحُ شَرِيعَتِهِمْ ثُمَّ ثَلَّثَ بِذِكْرِ الْمَنْفَعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ ثُمَّ زَجَرَهُمْ عَنِ الْعِصْيَانِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ عَصَى ثُمَّ تَابَ كَانَ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّه بِقَوْلِهِ: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَهَذَا بيان المقصود من الآية ثم هاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ قَدْ أَنْجَيْتُكُمْ وَوَعَدْتُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ كُلَّهَا بِالتَّاءِ إِلَّا قَوْلَهُ: وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى فَإِنَّهَا بِالنُّونِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ كُلَّهَا بِالنُّونِ وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَوَاعَدْنَاكُمْ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَوَاعَدْتُكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا جَاوَزَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ قَالُوا لَهُ: أَلَيْسَ وَعَدْتَنَا أَنْ تَأْتِيَنَا مِنْ رَبِّنَا بِكِتَابٍ فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالْأَحْكَامُ. قَالَ بَلَى، ثُمَّ تَعَجَّلَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ لِيَأْتِيَهُمْ بِالْكِتَابِ وَوَعَدَهُمْ أَنْ يَأْتِيَهُمْ إِلَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً مِنْ يَوْمِ انْطَلَقَ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَواعَدْناكُمْ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَاعَدَ مُوسَى أَنْ يُؤْتِيَهُ التَّوْرَاةَ لِأَجْلِهِمْ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّمَا قَالَ: وَاعَدْنَاكُمْ لِأَنَّ الْخِطَابَ لَهُ وَلِلسَّبْعِينَ الْمُخْتَارَةِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَيْسَ لِلْجَبَلِ يَمِينٌ وَلَا يَسَارٌ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ طُورَ سَيْنَاءَ عَنْ/ يَمِينِ مَنِ انْطَلَقَ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ وَقُرِئَ الْأَيْمَنِ بالجر على الجوار نحو حجر ضَبٍّ خَرِبٍ وَانْتِفَاعُ الْقَوْمِ بِذَلِكَ إِمَّا لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَيْهِمْ وَفِيهَا شَرْحُ دِينِهِمْ، وَإِمَّا لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا كَلَّمَ مُوسَى عَلَى الطُّورِ حَصَلَ لِلْقَوْمِ بِسَبَبِ ذَلِكَ شَرَفٌ عَظِيمٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: كُلُوا لَيْسَ أَمْرَ إِيجَابٍ بَلْ أَمْرَ إِبَاحَةٍ كَقَوْلِهِ: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [الْمَائِدَةِ: 2] . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي الطَّيِّبَاتِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: اللَّذَائِذُ لِأَنَّ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى مِنْ لَذَائِذِ الْأَطْعِمَةِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ الْحَلَالُ لِأَنَّهُ شَيْءٌ أَنْزَلَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِمْ وَلَمْ تَمَسَّهُ يَدُ الْآدَمِيِّينَ وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ مَعْنًى مُشْتَرَكًا. وَتَمَامُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَطْغَوْا فِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لَا تَطْغَوْا، أَيْ لَا يَظْلِمْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَيَأْخُذَهُ مِنْ صَاحِبِهِ. وَثَانِيهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ وَالضَّحَّاكُ: لَا تَظْلِمُوا فِيهِ أَنْفُسَكُمْ بِأَنْ تَتَجَاوَزُوا حَدَّ الْإِبَاحَةِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا تَكْفُرُوا النِّعْمَةَ أَيْ لَا تَسْتَعِينُوا بِنِعْمَتِي على مخالفتي ولا تعرضوا عن الشُّكْرِ وَلَا تَعْدِلُوا عَنِ الْحَلَالِ إِلَى الْحَرَامِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالْكِسَائِيُّ فَيَحُلَّ وَمَنْ يَحْلُلْ كِلَاهُمَا بِالضَّمِّ وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّه فَيَحِلَّ بِالْكَسْرِ وَمَنْ يَحْلُلْ بِالرَّفْعِ وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالْكَسْرِ فِي الْكَلِمَتَيْنِ أَمَّا مَنْ كَسَرَ فَمَعْنَاهُ الْوُجُوبُ مِنْ حَلَّ الدَّيْنُ يَحِلُّ إِذَا وَجَبَ أَدَاؤُهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [الْبَقَرَةِ: 196] وَالْمَضْمُومُ فِي مَعْنَى النُّزُولِ وَقَوْلُهُ: فَقَدْ هَوى أَيْ شَقِيَ وَقِيلَ فَقَدْ وَقَعَ فِي الْهَاوِيَةِ، يُقَالُ: هَوَى يَهْوِي هَوِيًّا إِذَا سَقَطَ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ غَافِرًا وَغَفُورًا وَغَفَّارًا، وَبِأَنَّ لَهُ غُفْرَانًا وَمَغْفِرَةً وَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ وَالْأَمْرِ. أَمَّا إِنَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ غَافِرًا فَقَوْلُهُ: غافِرِ الذَّنْبِ [غَافِرٍ: 3] وَأَمَّا كَوْنُهُ غَفُورًا فَقَوْلُهُ: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ [الْكَهْفِ: 58] وَأَمَّا كَوْنُهُ غَفَّارًا فَقَوْلُهُ: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَأَمَّا الْغُفْرَانُ فَقَوْلُهُ: غُفْرانَكَ رَبَّنا [الْبَقَرَةِ: 285] وَأَمَّا الْمَغْفِرَةُ فَقَوْلُهُ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ [الرَّعْدِ: 6] وَأَمَّا صِيغَةُ الْمَاضِي فَقَوْلُهُ: فِي حَقِّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ [ص: 25] وَأَمَّا صِيغَةُ الْمُسْتَقْبَلِ فَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزُّمَرِ: 53] وَقَوْلُهُ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ [الْفَتْحِ: 2] وَأَمَّا لَفْظُ الِاسْتِغْفَارِ فَقَوْلُهُ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [مُحَمَّدٍ: 19] وَفِي حَقِّ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً [نُوحٍ: 10] وَفِي الْمَلَائِكَةِ: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشُّورَى: 5] وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كُلَّهُمْ طَلَبُوا الْمَغْفِرَةَ أَمَّا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الْأَعْرَافِ: 23] ، وَأَمَّا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي [هُودٍ: 47] ، وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: وَالَّذِي أَطْمَعُ/ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشُّعَرَاءِ: 82] وَطَلَبَهَا لِأَبِيهِ: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مَرْيَمَ: 47] وَأَمَّا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ فِي إِخْوَتِهِ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [يُوسُفَ: 92] وَأَمَّا موسى عليه السلام ففي قصة القبطي: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي [الأعراف: 151] وَأَمَّا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ [ص: 24] أَمَّا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً [ص: 35] وَأَمَّا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الْمَائِدَةِ: 118] وَأَمَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم فقول: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [مُحَمَّدٍ: 19] وَأَمَّا الْأُمَّةُ فقوله: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا [الحشر: 10] واعلم أن بسط الكلام هاهنا أَنْ نُبَيِّنَ أَوَّلًا حَقِيقَةَ الْمَغْفِرَةِ ثُمَّ نَتَكَلَّمَ فِي كَوْنِهِ تَعَالَى غَافِرًا وَغَفُورًا وَغَفَّارًا ثُمَّ نَتَكَلَّمَ فِي أَنَّ مَغْفِرَتَهُ عَامَّةٌ ثُمَّ نُبَيِّنَ أَنَّ مَغْفِرَتَهُ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَيْفَ تُعْقَلُ مَعَ أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُمْ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ اسْتِدْلَالُ أَصْحَابِنَا فِي إِثْبَاتِ الْعَفْوِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الذَّنْبَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا بَعْدَ التَّوْبَةِ أَوْ قَبْلَ التَّوْبَةِ وَالْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ يَقْبُحُ مِنَ اللَّه عَذَابُهُمَا وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّجَاوُزُ عَنْهُمَا وَتَرْكُ الْقَبِيحِ لَا يُسَمَّى غُفْرَانًا فَتَعَيَّنَ أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ الْغُفْرَانُ إِلَّا فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْآيَةِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْغُفْرَانَ فِي حَقِّ مَنِ اسْتَجْمَعَ أُمُورًا أَرْبَعَةً: التَّوْبَةُ وَالْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَالِاهْتِدَاءُ، قُلْنَا: إِنَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ثُمَّ أَذْنَبَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ تَائِبًا وَمُؤْمِنًا وَآتِيًا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمُهْتَدِيًا وَمَعَ ذَلِكَ يكون مذنبا فحينئذ يستقيم كلامنا، وهاهنا نُكْتَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ أَسْمَاءٌ ثَلَاثَةٌ: الظَّالِمُ وَالظَّلُومُ وَالظَّلَّامُ. فَالظَّالِمُ: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ [فَاطِرٍ: 32] وَالظَّلُومُ: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا [الْأَحْزَابِ: 72] وَالظَّلَّامُ إِذَا كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ، وللَّه فِي مُقَابَلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ اسْمٌ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنْ كُنْتَ ظَالِمًا فَأَنَا غَافِرٌ وَإِنْ كُنْتَ ظَلُومًا فَأَنَا غَفُورٌ، وَإِنْ كُنْتَ ظَلَّامًا فَأَنَا غَفَّارٌ: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ [طه: 82] . المسألة التاسعة: كثير اخْتِلَافُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اهْتَدى وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُهْتَدِيًا، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ ثُمَّ اهْتَدَى بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؟ وَالْوُجُوهُ الْمُلَخَّصَةُ فِيهِ

[سورة طه (20) : الآيات 83 إلى 84]

ثَلَاثَةٌ. أَحَدُهَا: الْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى تِلْكَ الطريقة إذا الْمُهْتَدِي فِي الْحَالِ لَا يَكْفِيهِ ذَلِكَ فِي الْفَوْزِ بِالنَّجَاةِ حَتَّى يَسْتَمِرَّ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَيَمُوتَ عَلَيْهِ وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فُصِّلَتْ: 30] وَكَلِمَةُ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَيْسَتْ لِتَبَايُنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ بَلْ لِتَبَايُنِ الْوَقْتَيْنِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: الْإِتْيَانُ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِمَّا قَدْ يَتَّفِقُ لِكُلِّ أَحَدٍ وَلَا صُعُوبَةَ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا الصُّعُوبَةُ فِي الْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذَلِكَ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ. وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ اهْتَدى أَيْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ بِهِدَايَةِ اللَّه وَتَوْفِيقِهِ وَبَقِيَ مُسْتَعِينًا باللَّه فِي إِدَامَةِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ مِنَ الْإِيمَانِ الِاعْتِقَادُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الدَّلِيلِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ إِشَارَةٌ إِلَى أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَطْهِيرِ الْقَلْبِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالطَّرِيقَةِ فِي لِسَانِ الصُّوفِيَّةِ، ثُمَّ انْكِشَافُ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ لَهُ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْحَقِيقَةِ فِي/ لِسَانِ الصُّوفِيَّةِ فَهَاتَانِ الْمَرْتَبَتَانِ هُمَا الْمُرَادَتَانِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ اهْتَدى. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: تَجِبُ التَّوْبَةُ عَنِ الْكُفْرِ أَوَّلًا ثُمَّ الْإِتْيَانُ بِالْإِيمَانِ ثَانِيًا وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ التَّوْبَةَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ للمعطوف عليه. [سورة طه (20) : الآيات 83 الى 84] وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ قَوْمَهُ فِي الْمَسِيرِ إِلَى الْمَكَانِ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ [طه: 80] فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِي سَائِرِ السُّوَرِ كَقَوْلِهِ: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً [الْأَعْرَافِ: 142] يُرِيدُ الْمِيقَاتَ عِنْدَ الطُّورِ وَعَلَى الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَما أَعْجَلَكَ اسْتِفْهَامٌ وَهُوَ عَلَى اللَّه مُحَالٌ. الْجَوَابُ: أَنَّهُ إِنْكَارٌ فِي صِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَلَا امْتِنَاعَ فِيهِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ مَمْنُوعًا عَنْ ذَلِكَ التَّقَدُّمِ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَمْنُوعًا عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا كَانَ ذَلِكَ التَّقَدُّمُ مَعْصِيَةً فَيَلْزَمُ وُقُوعُ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ مَا كَانَ مَمْنُوعًا كَانَ ذَلِكَ الْإِنْكَارُ غَيْرَ جَائِزٍ مِنَ اللَّه تَعَالَى. وَالْجَوَابُ: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا وَجَدَ نَصًّا فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِاجْتِهَادِهِ تَقَدَّمَ فَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ فَاسْتَوْجَبَ الْعِتَابَ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَالَ: وَعَجِلْتُ وَالْعَجَلَةُ مَذْمُومَةٌ. وَالْجَوَابُ: إِنَّهَا مَمْدُوحَةٌ فِي الدِّينِ. قَالَ تَعَالَى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آلِ عِمْرَانَ: 133] . السُّؤَالُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: لِتَرْضى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِتَحْصِيلِ الرِّضَا للَّه تَعَالَى وَذَلِكَ بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَلْزَمُ تَجَدُّدُ صِفَةِ اللَّه تَعَالَى، وَالْآخَرُ أَنَّهُ تَعَالَى قَبْلَ حُصُولِ ذَلِكَ الرِّضَا وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى مَا كَانَ رَاضِيًا عَنْ مُوسَى لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا عَنْهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَاخِطًا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحَالِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. الْجَوَابُ: الْمُرَادُ تَحْصِيلُ دَوَامِ الرِّضَا كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ:

[سورة طه (20) : الآيات 85 إلى 89]

ثُمَّ اهْتَدى الْمُرَادُ دَوَامُ الِاهْتِدَاءِ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الْمِيعَادِ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي/ عَيَّنَهُ اللَّه تَعَالَى لَهُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَعْجِيلًا ثُمَّ ظَنَّ أَنَّ مُخَالَفَةَ أَمْرِ اللَّه تَعَالَى سَبَبٌ لِتَحْصِيلِ رِضَاهُ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِأَجْهَلِ النَّاسِ فَضْلًا عَنْ كَلِيمِ اللَّه تَعَالَى. وَالْجَوَابُ: مَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالِاجْتِهَادِ وَأَخْطَأَ فِيهِ. السُّؤَالُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ: إِلَيْكَ يَقْتَضِي كَوْنَ اللَّه فِي الْجِهَةِ لِأَنَّ إِلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ. الْجَوَابُ: تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَكُنْ فِي الْجَبَلِ فَالْمُرَادُ إِلَى مَكَانِ وَعْدِكَ. السؤال السابع: ما أَعْجَلَكَ سُؤَالٌ عَنْ سَبَبِ الْعَجَلَةِ فَكَانَ جَوَابُهُ اللَّائِقُ بِهِ أَنْ يَقُولَ: طَلَبْتُ زِيَادَةَ رِضَاكَ وَالشَّوْقَ إِلَى كَلَامِكَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي فَغَيْرُ مُنْطَبِقٍ عَلَيْهِ كَمَا تَرَى وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ سُؤَالَ اللَّه تَعَالَى يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنْكَارُ نَفْسِ الْعَجَلَةِ. وَالثَّانِي: السُّؤَالُ عَنْ سَبَبِ التَّقَدُّمِ فَكَانَ أَهَمُّ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْجَوَابِ هَذَا الثَّانِي فَقَالَ: لَمْ يُوجَدْ مِنِّي إِلَّا تَقَدُّمٌ يَسِيرٌ لَا يُحْتَفَلُ بِهِ فِي الْعَادَةِ وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ سَبَقْتُهُ إِلَّا تَقَدُّمٌ يَسِيرٌ يَتَقَدَّمُ بِمِثْلِهِ الْوَفْدُ عَنْ قَوْمِهِمْ ثُمَّ عَقَّبَهُ بِجَوَابِ السُّؤَالِ عَنِ الْعَجَلَةِ فَقَالَ: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى. الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ هَيْبَةِ عِتَابِ اللَّه تَعَالَى مَا وَرَدَ ذَهَلَ عَنِ الْجَوَابِ الْمُنْطَبِقِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى حُدُودِ الْكَلَامِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِحُضُورِ الْمِيقَاتِ مَعَ قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْقَوْمِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمُ النُّقَبَاءُ السَّبْعُونَ الَّذِينَ قَدِ اخْتَارَهُمُ اللَّه تَعَالَى لِيَخْرُجُوا مَعَهُ إِلَى الطُّورِ فَتَقَدَّمَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ شَوْقًا إِلَى رَبِّهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْقَوْمُ جُمْلَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمُ الَّذِينَ خَلَّفَهُمْ مُوسَى مَعَ هَارُونَ وَأَمَرَهُ أَنْ يُقِيمَ فِيهِمْ خَلِيفَةً لَهُ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ هُوَ مَعَ السَّبْعِينَ فَقَالَ: هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي يَعْنِي بِالْقُرْبِ مِنِّي يَنْتَظِرُونَنِي، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو وَيَعْقُوبَ إِثْرِي بِالْكَسْرِ وَعَنْ عِيسَى بْنِ عُمَرَ أُثْرِي بِالضَّمِّ، وَعَنْهُ أَيْضًا أُولَى بِالْقَصْرِ، وَالْأَثَرُ أَفْصَحُ مِنَ الْأُثْرِ. وَأَمَّا الْأَثْرُ فَمَسْمُوعٌ فِي فرند السيف وهو بمعنى الأثر غريب. [سورة طه (20) : الآيات 85 الى 89] قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ لِمُوسَى: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ [طه: 83] وَقَالَ مُوسَى فِي جَوَابِهِ: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى [طه: 84] عَرَّفَهُ اللَّه تَعَالَى مَا حَدَثَ مِنَ الْقَوْمِ بَعْدَ أَنْ فَارَقَهُمْ مِمَّا كَانَ يَبْعُدُ أَنْ يَحْدُثَ لَوْ كَانَ مَعَهُمْ فَقَالَ: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ فِيهِمُ الْكُفْرَ لِوَجْهَيْنِ، الْوَجْهُ

الْأَوَّلُ: الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنَ اللَّه أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ وَلَوْ كَانَ اللَّه خَلَقَ الضَّلَالَ فِيهِمْ لَمْ يَكُنْ لِفِعْلِ السَّامِرِيِّ فِيهِ أَثَرٌ وَكَانَ يَبْطُلُ قَوْلُهُ: وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ وَأَيْضًا فَلِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا طَالَبَهُمْ بِذِكْرِ سَبَبِ تِلْكَ الْفِتْنَةِ قَالَ: أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَلَوْ حَصَلَ ذَلِكَ بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ اللَّه خَلَقَهُ فِينَا لَا مَا ذَكَرْتَ فَكَانَ يَبْطُلُ تَقْسِيمُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَيْضًا فَقَالَ: أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِخَلْقِهِ لَاسْتَحَالَ أَنْ يَغْضَبَ عَلَيْهِمْ فِيمَا هُوَ الْخَالِقُ لَهُ وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِقَوْلِهِ: فَتَنَّا مَعْنًى آخَرُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الِامْتِحَانِ. يُقَالُ: فَتَنْتُ الذَّهَبَ بِالنَّارِ إِذَا امْتَحَنْتَهُ بِالنَّارِ لِكَيْ يَتَمَيَّزَ الْجَيِّدُ مِنَ الرَّدِيءِ فَهَهُنَا شَدَّدَ اللَّه التَّكْلِيفَ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّامِرِيَّ لَمَّا أَخْرَجَ لَهُمْ ذَلِكَ الْعِجْلَ صَارُوا مُكَلَّفِينَ بِأَنْ يَسْتَدِلُّوا بِحُدُوثِ جُمْلَةِ الْعَالَمِ وَالْأَجْسَامِ عَلَى أَنَّ لَهَا إِلَهًا لَيْسَ بِجِسْمٍ وَحِينَئِذٍ يَعْرِفُونَ أَنَّ الْعِجْلَ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ فَكَانَ هَذَا التَّعَبُّدُ تَشْدِيدًا فِي التَّكْلِيفِ فَكَانَ فِتْنَةً وَالتَّشْدِيدُ فِي التَّكْلِيفِ مَوْجُودٌ قَالَ تَعَالَى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: 2] هَذَا تَمَامُ كَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ قَالَ الْأَصْحَابُ: لَيْسَ فِي ظُهُورِ صَوْتٍ عَنْ عِجْلٍ مُتَّخَذٍ مِنَ الذَّهَبِ شُبْهَةٌ أَعْظَمَ مِمَّا فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالدَّلِيلُ الَّذِي يَنْفِي كَوْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِلَهًا أَوْلَى بِأَنْ يَنْفِيَ كَوْنَ ذَلِكَ الْعِجْلِ إِلَهًا فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ حُدُوثُ ذَلِكَ الْعِجْلِ تَشْدِيدًا فِي التَّكْلِيفِ فَلَا يَصِحُّ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى خَلْقِ الضَّلَالِ/ فِيهِمْ، قَوْلُهُمْ: أَضَافَ الْإِضْلَالَ إِلَى السَّامِرِيِّ قُلْنَا: أَلَيْسَ أَنَّ جَمِيعَ الْمُسَبَّبَاتِ الْعَادِيَّةِ تُضَافُ إِلَى أَسْبَابِهَا فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ الموجد لها هو اللَّه تعالى فكذا هاهنا وَأَيْضًا قُرِئَ وَأَضَلُّهُمُ السَّامِرِيُّ أَيْ وَأَشَدُّهُمْ ضَلَالًا السَّامِرِيُّ وَعَلَى هَذَا لَا يَبْقَى لِلْمُعْتَزِلَةِ الِاسْتِدْلَالُ، ثُمَّ الَّذِي يَحْسِمُ مَادَّةَ الشَّغَبِ التَّمَسُّكُ بِفَصْلِ الدَّاعِي عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا كَثِيرَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِالْقَوْمِ هاهنا هُمُ الَّذِينَ خَلَّفَهُمْ مَعَ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ وَكَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ افْتَتَنُوا بِالْعَجَلِ غَيْرَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: كَانَ السَّامِرِيُّ عِلْجًا مِنْ أَهْلِ كَرْمَانَ وَقَعَ إِلَى مِصْرَ وَكَانَ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقْرَ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ عُظَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهَا السَّامِرَةُ، قَالَ الزَّجَّاجُ وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بَلْ كَانَ رَجُلًا مِنَ الْقِبْطِ جَارًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ آمَنَ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: رُوِيَ فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُمْ أَقَامُوا بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَحَسِبُوهَا أَرْبَعِينَ مَعَ أَيَّامِهَا وَقَالُوا: قَدْ أَكْمَلْنَا الْعِدَّةَ ثُمَّ كَانَ أَمْرُ الْعِجْلِ بَعْدَ ذَلِكَ وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ لِمُوسَى عِنْدَ مَقْدِمِهِ: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الْفِتْنَةِ الْمُتَرَقَّبَةِ بِلَفْظِ الْمَوْجُودَةِ الْكَائِنَةِ عَلَى عَادَتِهِ. الثَّانِي: أَنَّ السَّامِرِيَّ شَرَعَ فِي تَدْبِيرِ الْأَمْرِ لَمَّا غَابَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَزَمَ عَلَى إِضْلَالِهِمْ حَالَ مُفَارَقَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَأَنَّهُ قَدَّرَ الْفِتْنَةَ مَوْجُودَةً. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِنَّمَا رَجَعَ مُوسَى عليه السلام بعد ما اسْتَوْفَى الْأَرْبَعِينَ ذَا الْقَعْدَةِ وَعَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ذَكَرُوا فِي الْأَسَفِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّهُ شِدَّةُ الْغَضَبِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: غَضْبَانَ يُفِيدُ أَصْلَ الْغَضَبِ وَقَوْلَهُ: أَسِفًا يُفِيدُ كَمَالَهُ. وَثَانِيهَا: قَالَ الْأَكْثَرُونَ حُزْنًا وَجَزَعًا يُقَالُ أَسِفَ

يَأْسَفُ أَسَفًا إِذَا حَزِنَ فَهُوَ آسِفٌ. وَثَالِثُهَا: قَالَ قَوْمُ: الْآسِفُ الْمُغْتَاظُ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الِاغْتِيَاظِ وَالْغَضَبِ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِالْغَيْظِ وَيُوصَفُ بِالْغَضَبِ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْغَضَبُ إِرَادَةَ الْإِضْرَارِ بِالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ وَالْغَيْظُ تَغَيُّرٌ يَلْحَقُ الْمُغْتَاظَ وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى الْأَجْسَامِ كَالضَّحِكِ والبكاء [في قوله تعالى فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً إلى قوله وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً] ثُمَّ إِنَّ اللَّه تَعَالَى حَكَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ عَاتَبَهُمْ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَيْهِمْ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْكُفْرَ فِيهِمْ وَإِلَّا لَمَا عَاتَبَهُمْ بَلْ يَجِبُ أَنْ يُعَاتَبَ اللَّه تَعَالَى قَالَ الْأَصْحَابُ: وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ [الْأَعْرَافِ: 155] وَمَجْمُوعُ تِلْكَ الْمُعَاتَبَاتِ أُمُورٌ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً وَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ هَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمْ لَوْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِإِلَهٍ آخَرَ سِوَى الْعِجْلِ أَمَّا لَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ سِوَاهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا هذا/ إلهكم وَإِلَهُ مُوسَى كَيْفَ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْكَلَامُ. الْجَوَابُ: أَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِالْإِلَهِ لَكِنَّهُمْ عَبَدُوا الْعِجْلَ عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي يَذْكُرُهُ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْوَعْدِ الْحَسَنِ. الْجَوَابُ: ذَكَرُوا وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مَا وَعَدَهُمْ مِنْ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِمْ لِيَقِفُوا عَلَى الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَيَحْصُلَ لَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَزِيَّةٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ [طه: 80] . وَثَانِيهَا: أَنَّ الْوَعْدَ الْحَسَنَ هُوَ الْوَعْدُ الصِّدْقُ بِالثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَاتِ. وَثَالِثُهَا: الْوَعْدُ هُوَ الْعَهْدُ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَذَلِكَ الْعَهْدُ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي إلى قوله: ثُمَّ اهْتَدى [طه: 81، 82] وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَفَنَسِيتُمْ ذَلِكَ الَّذِي قَالَ اللَّه لَكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ. وَرَابِعُهَا: الوعد الحسن هاهنا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَعْدًا حَسَنًا فِي مَنَافِعِ الدِّينِ وَأَنْ يَكُونَ فِي مَنَافِعِ الدُّنْيَا، أَمَّا مَنَافِعُ الدِّينِ فَهُوَ الْوَعْدُ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ الشَّرِيفِ الْهَادِي إِلَى الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوَعْدُ بِحُصُولِ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ فِي الْآخِرَةِ. وَأَمَّا مَنَافِعُ الدُّنْيَا فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَبْلَ إِهْلَاكِ فِرْعَوْنَ كَانَ قَدْ وَعَدَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَالْمُرَادُ أَفَنَسِيتُمْ ذَلِكَ الْعَهْدَ أَمْ تَعَمَّدْتُمُ الْمَعْصِيَةَ، وَاعْلَمْ أَنَّ طُولَ الْعَهْدِ يَحْتَمِلُ أُمُورًا: أَحَدُهَا: أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ بِنِعَمِ اللَّه تَعَالَى مِنْ إِنْجَائِهِ إِيَّاكُمْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ الْمَعْدُودَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الْحَدِيدِ: 16] . وَثَانِيهَا: يُرْوَى أَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّ الْأَجَلَ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً فَجَعَلُوا كُلَّ يَوْمٍ بِإِزَاءِ لَيْلَةٍ وَرَدُّوهُ إِلَى عِشْرِينَ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا رَكِيكٌ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكَادُ يَشْتَبِهُ عَلَى أَحَدٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَدَهُمْ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً فَلَمَّا زَادَ اللَّه تَعَالَى فِيهَا عَشَرَةً أُخْرَى كَانَ ذَلِكَ طُولَ الْعَهْدِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَهَذَا لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُرِيدُ ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْمَعْصِيَةَ لَمَّا كَانَتْ تُوجِبُ ذَلِكَ، وَمُرِيدُ السَّبَبِ مُرِيدٌ لِلْمُسَبَّبِ بِالْعَرَضِ صَحَّ هَذَا الْكَلَامُ وَاحْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْغَضَبَ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ لَا مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ لِأَنَّ صِفَةَ ذَاتِ اللَّه تَعَالَى لَا تَنْزِلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَجْسَامِ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَوْعِدٍ كَانَ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ الْقَوْمِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مَا وَعَدُوهُ مِنَ اللَّحَاقِ بِهِ وَالْمَجِيءِ عَلَى أَثَرِهِ. وَالثَّانِي: مَا وَعَدُوهُ مِنَ الْإِقَامَةِ عَلَى دِينِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ مِنَ

الطُّورِ، فَعِنْدَ هَذَا قَالُوا: مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَفِي أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْجَوَابِ مَنْ هُوَ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوا الْعِجْلَ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا أَيْ بِأَمْرٍ كُنَّا نَمْلِكُهُ وَقَدْ يُضِيفُ الرَّجُلُ فِعْلَ قَرِيبِهِ إِلَى نَفْسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [الْبَقَرَةِ: 50] ، وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً [الْبَقَرَةِ: 72] وَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ آبَاءَهُمْ لَا هُمْ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: الشُّبْهَةُ قَوِيَتْ عَلَى عَبَدَةِ الْعِجْلِ فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَى مَنْعِهِمْ عَنْهُ وَلَمْ نَقْدِرْ أَيْضًا عَلَى مُفَارَقَتِهِمْ لِأَنَّا خِفْنَا/ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوعِ التَّفْرِقَةِ وَزِيَادَةِ الْفِتْنَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا قَوْلُ عَبَدَةِ الْعِجْلِ وَالْمُرَادُ أَنَّ غَيْرَنَا أَوْقَعَ الشُّبْهَةَ فِي قُلُوبِنَا وَفَاعِلُ السَّبَبِ فَاعِلُ الْمُسَبَّبِ وَمُخْلِفُ الْوَعْدِ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَ الشُّبْهَةَ فَإِنَّهُ كَانَ كَالْمَالِكِ لَنَا. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُعْقَلُ رُجُوعُ قَرِيبٍ مِنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ الْمُكَلَّفِينَ عَنِ الدِّينِ الْحَقِّ دُفْعَةً وَاحِدَةً إِلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ الَّذِي يُعْرَفُ فَسَادُهَا بِالضَّرُورَةِ، ثُمَّ إِنَّ مِثْلَ هَذَا الْجَمْعِ لَمَّا فَارَقُوا الدِّينَ وَأَظْهَرُوا الْكُفْرَ فَكَيْفَ يُعْقَلُ رُجُوعُهُمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً عَنْ ذَلِكَ الدِّينِ بِسَبَبِ رُجُوعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحْدَهُ إِلَيْهِمْ، قُلْنَا: هَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فِي حَقِّ الْبُلْهِ مِنَ النَّاسِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي بِمَلْكِنَا ثَلَاثَ قِرَاءَاتٍ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّ الْمِيمِ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ بِالْكَسْرِ، أَمَّا الْكَسْرُ وَالْفَتْحُ فَهُمَا وَاحِدٌ وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ رِطْلٍ وَرَطْلٍ. وَأَمَّا الضَّمُّ فَهُوَ السُّلْطَانُ، ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ فَسَّرُوا ذَلِكَ الْعُذْرَ الْمُجْمَلَ فَقَالُوا: وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ حَمَلْنَا مُخَفَّفَةً مِنَ الْحَمْلِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَحَفْصٌ وَابْنُ عَامِرٍ: حُمِّلْنَا مُشَدَّدَةً، فَمَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ فَمَعْنَاهُ حَمَلْنَا مَعَ أَنْفُسِنَا مَا كُنَّا اسْتَعَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَيْ أَمَرَهُمْ بِاسْتِعَارَةِ الْحُلِيِّ وَالْخُرُوجِ بِهَا فَكَأَنَّهُ أَلْزَمَهُمْ ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: جَعَلَنَا كَالضَّامِنِ لَهَا إِلَى أَنْ نُؤَدِّيَهَا إِلَى حَيْثُ يَأْمُرُنَا اللَّه. وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَمَّلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ أَلْزَمَهُمْ فِيهِ حُكْمَ الْمَغْنَمِ، أَمَّا الْأَوْزَارُ فَهِيَ الْأَثْقَالُ وَمِنْ ذَلِكَ سُمِّيَ الذَّنْبُ وِزْرًا لِأَنَّهُ ثِقَلٌ ثُمَّ فِيهِ احْتِمَالَاتٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لِكَثْرَتِهَا كَانَتْ أَثْقَالًا. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَغَانِمَ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ فَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ حِفْظُهَا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ فَكَانَتْ أَثْقَالًا. وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ بِالْأَوْزَارِ الْآثَامُ وَالْمَعْنَى حَمَلْنَا آثَامًا، رُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: إِنَّهَا نَجِسَةٌ فَتَطَهَّرُوا مِنْهَا، وَقَالَ السَّامِرِيُّ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا احْتُبِسَ عُقُوبَةً بِالْحُلِيِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا هَذَا الْقَوْلَ. وَقَدْ يَقُولُ الْإِنْسَانُ لِلشَّيْءِ الَّذِي يَلْزَمُهُ رَدُّهُ هَذَا كُلُّهُ إِثْمٌ وَذَنْبٌ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْحُلِيَّ كَانَ الْقِبْطُ يَتَزَيَّنُونَ بِهِ فِي مَجَامِعٍ لَهُمْ يَجْرِي فِيهَا الْكُفْرُ لَا جَرَمَ أَنَّهَا وُصِفَتْ بِكَوْنِهَا أَوْزَارًا كَمَا يُقَالُ مِثْلُهُ فِي آلَاتِ الْمَعَاصِي. أَمَّا قَوْلُهُ: فَقَذَفْناها فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا فِي أَنَّهُمْ أَيْنَ قَذَفُوهَا؟ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَذَفُوهَا فِي حُفْرَةٍ كَانَ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ بِجَمْعِ الْحُلِيِّ فِيهَا انْتِظَارًا لِعَوْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَذَفُوهَا فِي مَوْضِعٍ أَمَرَهُمُ السَّامِرِيُّ بِذَلِكَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي مَوْضِعٍ جُمِعَ فِيهِ النَّارُ ثُمَّ قَالُوا: فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ أَيْ فَعَلَ السَّامِرِيُّ مِثْلَ مَا فَعَلْنَا، أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ ذَلِكَ الْجَسَدُ حَيًّا أَمْ لَا؟ فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِظْهَارُ خَرْقِ الْعَادَةِ عَلَى يَدِ الضَّالِّ بَلِ السَّامِرِيُّ صَوَّرَ صُورَةً عَلَى شَكْلِ الْعِجْلِ وَجَعَلَ فِيهَا مَنَافِذَ وَمَخَارِقَ بِحَيْثُ تَدْخُلُ فِيهَا الرِّيَاحُ فَيَخْرُجُ صَوْتٌ يُشْبِهُ صَوْتَ الْعِجْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ صَارَ حَيًّا وَخَارَ كَمَا يَخُورُ الْعِجْلُ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ [طه: 96] وَلَوْ لَمْ يَصِرْ حَيًّا لَمَا بَقِيَ لِهَذَا الْكَلَامِ فَائِدَةٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى/ سَمَّاهُ عِجْلًا وَالْعِجْلُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَيَوَانِ وَسَمَّاهُ جَسَدًا وَهُوَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْحَيَّ. وَثَالِثُهَا: أَثْبَتَ لَهُ الْخُوَارَ وَأَجَابُوا عَنْ حُجَّةِ الْأَوَّلِينَ بِأَنَّ ظُهُورَ خَوَارِقِ الْعَادَةِ عَلَى يَدِ مُدَّعِي الْإِلَهِيَّةِ جَائِزٌ لأنه لا يحصل الالتباس وهاهنا كذلك

[سورة طه (20) : الآيات 90 إلى 91]

فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ، وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِالسَّامِرِيِّ وَهُوَ يَصْنَعُ الْعِجْلَ فَقَالَ: مَا تَصْنَعُ؟ فَقَالَ: أَصْنَعُ مَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ فَادْعُ لِي فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعْطِهِ مَا سَأَلَ فَلَمَّا مَضَى هَارُونُ قَالَ السَّامِرِيُّ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ يَخُورَ فَخَارَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ ذَلِكَ مُعْجِزًا لِلنَّبِيِّ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ الْقَوْمَ إِنْ كَانُوا فِي الْجَهَالَةِ بِحَيْثُ اعْتَقَدُوا أَنَّ ذَلِكَ الْعِجْلَ المعمول في تلك الساعة هو الخالق للسموات وَالْأَرْضِ فَهُمْ مَجَانِينُ وَلَيْسُوا بِمُكَلَّفِينَ وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْجُنُونِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ مُحَالٌ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدُوا ذَلِكَ فَكَيْفَ قَالُوا: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى، وَجَوَابُهُ: لَعَلَّهُمْ كَانُوا مِنَ الْحُلُولِيَّةِ فَجَوَّزُوا حُلُولَ الْإِلَهِ أَوْ حُلُولَ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ فِي ذَلِكَ الْجِسْمِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِأَنَّ ظُهُورَ الْخُوَارِ لَا يُنَاسِبُ الْإِلَهِيَّةَ، وَلَكِنْ لَعَلَّ الْقَوْمَ كَانُوا فِي نِهَايَةِ الْبَلَادَةِ وَالْجَلَافَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَنَسِيَ فَفِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَلَامُ اللَّه تَعَالَى كَأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ السَّامِرِيِّ أَنَّهُ نَسِيَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَأَنَّ الْإِلَهَ لَا يَحِلُّ فِي شَيْءٍ وَلَا يَحِلُّ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ الْمَعْنَى الَّذِي يَجِبُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أَيْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ أَنَّ مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ لَا يَكُونُ إِلَهًا وَلَا يَكُونُ لِلْإِلَهِ تَعَلُّقٌ بِهِ فِي الْحَالِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا قَوْلُ السَّامِرِيِّ وَصَفَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ مُوسَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِلَهُ فَذَهَبَ يَطْلُبُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَنَسِيَ وَقْتَ الْمَوْعِدِ فِي الرُّجُوعِ أَمَّا قَوْلُهُ: أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً فَهَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى عَدَمِ إِلَهِيَّتِهَا بِأَنَّهَا لَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مَرْيَمَ: 42] وَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ لَا يُعَوِّلُ إِلَّا عَلَى دَلَائِلِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام بقي هاهنا بَحْثَانِ. الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الِاخْتِيَارُ أَنْ لَا يَرْجِعُ بِالرَّفْعِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا [الْمَائِدَةِ: 71] بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا تَكُونُ وَقُرِئَ بالنصب أيضا على أَنْ هَذِهِ هِيَ النَّاصِبَةُ لِلْأَفْعَالِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا [الْأَعْرَافِ: 148] وَهُوَ قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ فِي ذَمِّ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها [الْأَعْرَافِ: 195] وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعِجْلَ لَوْ كَانَ يُكَلِّمُهُمْ لَكَانَ إِلَهًا لَأَنَّ الشَّيْءَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِشُرُوطٍ كَثِيرَةٍ فَفَوَاتُ وَاحِدٍ مِنْهَا يَقْتَضِي فَوَاتَ الْمَشْرُوطِ، وَلَكِنَّ/ حُصُولَ الْوَاحِدِ فِيهَا لَا يَقْتَضِي حُصُولَ الْمَشْرُوطِ. الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُ الْيَهُودِ لِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا دَفَنْتُمْ نَبِيَّكُمْ حَتَّى اخْتَلَفْتُمْ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا اخْتَلَفْنَا عَنْهُ وَمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ، وَأَنْتُمْ مَا جَفَّتْ أَقْدَامُكُمْ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ حَتَّى قُلْتُمْ لِنَبِيِّكُمُ اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلهة؟ [سورة طه (20) : الآيات 90 الى 91] وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91)

اعْلَمْ أَنَّ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ شَفَقَةً مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْخَلْقِ أَمَّا شَفَقَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَلِأَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا مِنْ عِنْدِ اللَّه بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَكَانَ مَأْمُورًا مِنْ عِنْدِ أَخِيهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الْأَعْرَافِ: 142] فَلَوْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لَكَانَ مُخَالِفًا لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَلِأَمْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، أَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَى يُوشَعَ بْنِ نُونٍ أَنِّي مُهْلِكٌ مِنْ قَوْمِكَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِنْ خِيَارِهِمْ وَسِتِّينَ أَلْفًا مِنْ شِرَارِهِمْ، فَقَالَ: يَا رَبِّ هَؤُلَاءِ الْأَشْرَارُ فَمَا بَالُ الْأَخْيَارِ؟ فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَغْضَبُوا لِغَضَبِي. وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ قَالَ أَنَسٌ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أَصْبَحَ وَهْمُّهُ غَيْرُ اللَّه تَعَالَى فَلَيْسَ مِنَ اللَّه فِي شَيْءٍ وَمَنْ أَصْبَحَ لَا يَهْتَمُّ بِالْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم: «مثل المؤمنين في تواددهم وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ الْغُورِيُّ: كُنْتُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَرَأَيْتُ زَوْرَقًا فِيهَا دِنَانٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا لَطِيفٌ فَقُلْتُ لِلْمَلَّاحِ: أَيْشٍ هَذَا فَقَالَ: أَنْتَ صُوفِيٌّ فُضُولِيٌّ وَهَذِهِ خُمُورُ الْمُعْتَضِدِ، فَقُلْتُ لَهُ: أَعْطِنِي ذَلِكَ الْمِدْرَى، فَقَالَ لِغُلَامِهِ: أَعْطَهِ حَتَّى نُبْصِرَ أَيْشٍ يَعْمَلُ فَأَخَذْتُ الْمِدْرَى وَصَعَدْتُ الزَّوْرَقَ فَكُنْتُ أَكْسِرُ دِنًّا دِنًّا وَالْمَلَّاحُ يَصِيحُ حَتَّى بَقِيَ وَاحِدٌ فَأَمْسَكْتُ فَجَاءَ صَاحِبُ السَّفِينَةِ فَأَخَذَنِي وَحَمَلَنِي إِلَى الْمُعْتَضِدِ وَكَانَ سَيْفُهُ قَبْلَ كَلَامِهِ فَلَمَّا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيَّ قَالَ مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ الْمُحْتَسِبُ، قَالَ مَنْ وَلَّاكَ الْحِسْبَةَ؟ قُلْتُ: الَّذِي وَلَّاكَ الْخِلَافَةَ. قَالَ: لِمَ كَسَرْتَ هَذِهِ الدِّنَانَ؟ قُلْتُ شَفَقَةً عَلَيْكَ إِذَا لَمْ تَصِلْ يَدِي إِلَى دَفْعِ مَكْرُوهٍ عَنْكَ. قَالَ: فَلِمَ أَبْقَيْتَ هَذَا الْوَاحِدَ قُلْتُ إِنِّي لَمَّا كَسَرْتُ هَذِهِ الدِّنَانَ فَإِنِّي إِنَّمَا كَسَرْتُهَا حَمِيَّةً فِي دِينِ اللَّه فَلَمَّا وَصَلْتُ إِلَى هَذَا أُعْجِبْتُ فَأَمْسَكْتُ وَلَوْ بَقِيتُ كَمَا كُنْتُ لَكَسَرْتُهُ، فَقَالَ: اخْرُجْ يَا شَيْخُ فَقَدْ وَلَّيْتُكَ الْحِسْبَةَ، فَقُلْتُ كُنْتُ أَفْعَلُهُ للَّه تَعَالَى فَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ شُرْطِيًّا. وَأَمَّا الشَّفَقَةُ عَلَى/ الْمُسْلِمِينَ فَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَقِيقَ الْقَلْبِ مُشْفِقًا عَلَى أَبْنَاءِ جِنْسِهِ وَأَيُّ شَفَقَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَرَى جَمْعًا يَتَهَافَتُونَ عَلَى النَّارِ فَيَمْنَعَهُمْ مِنْهَا، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَقُولُ اللَّه تَعَالَى اطْلُبُوا الْفَضْلَ عِنْدَ الرُّحَمَاءِ مِنْ عِبَادِي تَعِيشُوا فِي أَكْنَافِهِمْ فَإِنِّي جَعَلْتُ فِيهِمْ رَحْمَتِي وَلَا تَطْلُبُوهَا فِي الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ فَإِنَّ فِيهِمْ غَضَبِي» ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: «خَرَجْتُ أُرِيدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ مَعَهُ فَجَاءَ صَغِيرٌ فَبَكَى فَقَالَ لِعُمَرَ: ضُمَّ الصَّبِيَّ إِلَيْكَ فَإِنَّهُ ضَالٌّ فَأَخَذَهُ عُمَرُ فَإِذَا امْرَأَةٌ تُوَلْوِلُ كَاشِفَةً رَأْسَهَا جَزَعًا عَلَى ابْنِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَدْرِكِ الْمَرْأَةَ فَنَادَاهَا فَجَاءَتْ فَأَخَذَتْ وَلَدَهَا وَجَعَلَتْ تَبْكِي وَالصَّبِيُّ فِي حِجْرِهَا فَالْتَفَتَتْ فَرَأَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَحْيَتْ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَتَرَوْنَ هَذِهِ رَحِيمَةً بِوَلَدِهَا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه كَفَى بِهَذِهِ رَحْمَةً فَقَالَ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ اللَّه أَرْحَمُ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا» . وَيُرْوَى: «أَنَّهُ بَيْنَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ إِذْ نَظَرَ إِلَى شَابٍّ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنَّ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا فَسَمِعَ الشَّابُّ ذَلِكَ فَوَلَّى، فَقَالَ: إِلَهِي وَسَيِّدِي هَذَا رَسُولُكَ يَشْهَدُ عَلَيَّ بِأَنِّي مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ صَادِقٌ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَأَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَنِي فِدَاءَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُشْعِلَ النَّارَ بِي حَتَّى تَبَرَّ يَمِينُهُ وَلَا تُشْعِلِ النَّارَ بِأَحَدٍ آخَرَ، فَهَبَطَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ بَشِّرِ الشَّابَّ بِأَنِّي قَدْ أَنْقَذْتُهُ مِنَ النَّارِ بِتَصْدِيقِهِ لَكَ وَفِدَائِهِ أُمَّتَكَ بِنَفْسِهِ وَشَفَقَتِهِ عَلَى الْخَلْقِ» . إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالشَّفَقَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَاجِبٌ. ثُمَّ إِنَّ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى الْقَوْمَ مُتَهَافِتِينَ عَلَى النَّارِ وَلَمْ يُبَالِ بِكَثْرَتِهِمْ وَلَا بِقُوَّتِهِمْ بَلْ صَرَّحَ بِالْحَقِّ فقال: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ الآية وهاهنا دَقِيقَةٌ وَهِيَ أَنَّ الرَّافِضَةَ تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعَلِيٍّ: «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى» ثُمَّ إِنَّ هَارُونَ مَا مَنَعَتْهُ

[سورة طه (20) : الآيات 92 إلى 94]

التُّقْيَةُ «1» فِي مِثْلِ هَذَا الْجَمْعِ بَلْ صَعَدَ الْمِنْبَرَ وَصَرَّحَ بِالْحَقِّ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى مُتَابَعَةِ نَفْسِهِ وَالْمَنْعِ مِنْ مُتَابَعَةِ غَيْرِهِ، فَلَوْ كَانَتْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخَطَأِ لَكَانَ يَجِبُ عَلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَهُ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنْ يَصْعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ مِنْ غَيْرِ تُقْيَةٍ وَخَوْفٍ وَأَنْ يَقُولَ: فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْأُمَّةَ كَانُوا عَلَى الصَّوَابِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَلَكَ فِي هَذَا الْوَعْظِ أَحْسَنَ الْوُجُوهِ لِأَنَّهُ زَجَرَهُمْ عَنِ الْبَاطِلِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى ثَانِيًا بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ ثُمَّ دَعَاهَا ثَالِثًا إِلَى مَعْرِفَةِ النُّبُوَّةِ بِقَوْلِهِ: فَاتَّبِعُونِي ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى الشَّرَائِعِ رَابِعًا بِقَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا أَمْرِي وَهَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الْجَيِّدُ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ إِمَاطَةِ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَهُوَ إِزَالَةُ الشُّبُهَاتِ ثُمَّ مَعْرِفَةُ اللَّه تَعَالَى هِيَ الْأَصْلُ ثُمَّ النُّبُوَّةُ ثُمَّ الشَّرِيعَةُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَخَصَّ هَذَا الْمَوْضِعَ بِاسْمِ الرَّحْمَنِ لِأَنَّهُ كَانَ يُنْبِئُهُمْ بِأَنَّهُمْ مَتَى تَابُوا قَبِلَ اللَّه تَوْبَتَهُمْ لِأَنَّهُ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ أَنْ خَلَّصَهُمْ مِنْ آفَاتِ فِرْعَوْنَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لِجَهْلِهِمْ قَابَلُوا هَذَا التَّرْتِيبَ الْحَسَنَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالتَّقْلِيدِ وَالْجُحُودِ فَقَالُوا: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى كَأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا نَقْبَلُ حُجَّتَكَ وَلَكِنْ نَقْبَلُ قَوْلَ/ مُوسَى وَعَادَةُ الْمُقَلِّدِ لَيْسَ إِلَّا ذاك. [سورة طه (20) : الآيات 92 الى 94] قالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) اعْلَمْ أَنَّ الطَّاعِنِينَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَمَرَ هَارُونَ بِاتِّبَاعِهِ أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ، فَإِنْ أَمَرَهُ بِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَارُونُ قَدِ اتَّبَعَهُ أَوْ لَمْ يتبعه، فإن اتبعه كانت ملامة موسى لهرون مَعْصِيَةً وَذَنْبًا لِأَنَّ مَلَامَةَ غَيْرِ الْمُجْرِمِ مَعْصِيَةٌ. وَإِنْ لَمْ يَتَّبِعْهُ كَانَ هَارُونُ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ فَكَانَ فَاعِلًا لِلْمَعْصِيَةِ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِهِ كَانَتْ مَلَامَتُهُ إِيَّاهُ بِتَرْكِ الِاتِّبَاعِ مَعْصِيَةً فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ يَلْزَمُ إِسْنَادُ الْمَعْصِيَةِ إِمَّا إِلَى مُوسَى أَوْ إِلَى هَارُونَ. وَثَانِيهَا: قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَارُونُ قَدْ عَصَاهُ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعِصْيَانُ مُنْكَرًا، وَإِلَّا لَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَاذِبًا وَهُوَ مَعْصِيَةٌ، فَإِذَا فَعَلَ هَارُونُ ذَلِكَ فَقَدْ فَعَلَ الْمَعْصِيَةَ. وثالثها: قوله: ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي وَهَذَا مَعْصِيَةٌ لِأَنَّ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ فَعَلَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ النَّصِيحَةِ وَالْوَعْظِ وَالزَّجْرِ، فَإِنْ كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ بَحَثَ عَنِ الْوَاقِعَةِ، وَبَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّ هَارُونَ قَدْ فَعَلَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ كَانَ الْأَخْذُ بِرَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ مَعْصِيَةً وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ تَعَرُّفِ الْحَالِ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مَعْصِيَةً. ورابعها: إن هارون عليه السلام قال: تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي فَإِنْ كَانَ الْأَخْذُ بِلِحْيَتِهِ وَبِرَأْسِهِ جَائِزًا كَانَ قَوْلُ هَارُونَ لَا تَأْخُذْ مَنْعًا لَهُ عَمَّا كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَعْصِيَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْأَخْذُ جَائِزًا كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ

_ (1) في الأصل التنقية وهو خطأ، والتقية: المحافظة والخوف والحذر.

فَاعِلًا لِلْمَعْصِيَةِ فَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ لَطِيفَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْكُلِّ: أَنَّا بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها [الْبَقَرَةِ: 36] أَنْوَاعًا مِنَ الدَّلَائِلِ الْجَلِيَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صُدُورُ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَحَاصِلُ هَذِهِ الْوُجُوهِ تَمَسُّكٌ بِظَوَاهِرَ قَابِلَةٍ لِلتَّأْوِيلِ وَمُعَارَضَةُ مَا يَبْعُدُ عَنِ التَّأْوِيلِ بِمَا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ التَّأْوِيلُ غَيْرُ جَائِزٍ، إِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فَاعْلَمْ أَنَّ لَنَا فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الْإِشْكَالَاتِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّا وَإِنِ اخْتَلَفْنَا فِي جَوَازِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لَكِنِ اتَّفَقْنَا عَلَى جَوَازِ تَرْكِ الْأَوْلَى عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَالْفِعْلُ الَّذِي يَفْعَلُهُ أَحَدُهُمَا وَيَمْنَعُهُ الْآخَرُ أَعْنِي بِهِمَا/ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَعَلَّهُ كَانَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى وَالْآخَرُ كَانَ تَرْكَ الْأَوْلَى فَلِذَلِكَ فَعَلَهُ أَحَدُهُمَا وَتَرَكَهُ الْآخَرُ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا التَّأْوِيلُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ جَازِمًا فِيمَا يَأْتِي بِهِ فِعْلًا كَانَ أَوْ تَرْكًا وَفِعْلُ الْمَنْدُوبِ وَتَرْكُهُ لَا يُجْزَمُ بِهِ، قُلْنَا: تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِالدَّلِيلِ غَيْرُ مُمْتَنَعٍ، فَنَحْنُ نَحْمِلُ ذَلِكَ الْجَزْمَ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ افْعَلْ ذَلِكَ أَوِ اتْرُكْهُ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْأَصْلَحَ، وَقَدْ يُتْرَكُ ذَلِكَ الشَّرْطُ إِذَا كَانَ تَوَاطُؤُهُمَا عَلَى رِعَايَتِهِ مَعْلُومًا مُتَقَرِّرًا. وَثَانِيهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْبَلَ وَهُوَ غَضْبَانُ عَلَى قَوْمِهِ فَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ وَجَرَّهُ إِلَيْهِ كَمَا يَفْعَلُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ مِثْلَ ذَلِكَ عِنْدَ الْغَضَبِ فَإِنَّ الْغَضْبَانَ الْمُتَفَكِّرَ قَدْ يَعَضُّ عَلَى شَفَتَيْهِ وَيَفْتِلُ أَصَابِعَهُ وَيَقْبِضُ لِحْيَتِهِ فَأَجْرَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَاهُ هَارُونَ مَجْرَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ كَانَ أَخَاهُ وَشَرِيكَهُ فَصَنَعَ بِهِ مَا يَصْنَعُ الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ فِي حال الفكر والغضب فأما قوله: تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَافَ مِنْ أَنْ يَتَوَهَّمَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ سُوءِ ظَنِّهِمْ أَنَّهُ مُنْكِرٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مُعَاوِنٍ لَهُ، ثُمَّ أَخَذَ في شرح القصة فقال: نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا عَلَى نِهَايَةِ سُوءِ الظَّنِّ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى إِنَّ هَارُونَ غَابَ عَنْهُمْ غَيْبَةً فَقَالُوا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنْتَ قَتَلْتَهُ، فَلَمَّا وَاعَدَ اللَّه تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتَمَّهَا بِعَشْرٍ وَكَتَبَ لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ثُمَّ رَجَعَ فَرَأَى فِي قَوْمِهِ مَا رَأَى فَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ لِيُدْنِيَهُ فَيَتَفَحَّصَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْوَاقِعَةِ فَخَافَ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَسْبِقَ إِلَى قُلُوبِهِمْ مَا لَا أَصْلَ لَهُ فَقَالَ إِشْفَاقًا عَلَى مُوسَى: لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي لِئَلَّا يَظُنَّ الْقَوْمُ مَا لَا يَلِيقُ بِكَ. وَرَابِعُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجُلًا حَدِيدًا مَجْبُولًا عَلَى الْحِدَّةِ وَالْخُشُونَةِ وَالتَّصَلُّبِ فِي كُلِّ شَيْءٍ شَدِيدَ الْغَضَبِ للَّه تَعَالَى وَلِدِينِهِ فَلَمْ يَتَمَالَكْ حِينَ رَأَى قَوْمَهُ يَعْبُدُونَ عِجْلًا مِنْ دُونِ اللَّه تَعَالَى مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ أَنْ أَلْقَى أَلْوَاحَ التَّوْرَاةِ لِمَا غَلَبَ عَلَى ذِهْنِهِ مِنَ الدَّهْشَةِ الْعَظِيمَةِ غَضَبًا للَّه تَعَالَى وَحَمِيَّةً وَعَنَّفَ بِأَخِيهِ وَخَلِيفَتِهِ عَلَى قَوْمِهِ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ إِقْبَالَ الْعَدُوِّ الْمُكَاشِرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ سَاقِطٌ لِأَنَّهُ يُقَالُ: هَبْ أَنَّهُ كَانَ شَدِيدَ الْغَضَبِ وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ الْغَضَبِ الشَّدِيدِ هَلْ كَانَ يَبْقَى عَاقِلًا مُكَلَّفًا أَمْ لَا؟ فَإِنْ بَقِيَ عَاقِلًا مُكَلَّفًا فَالْأَسْئِلَةُ بَاقِيَةٌ بِتَمَامِهَا أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّكَ ذَكَرْتَ أَنَّهُ أَتَى بِغَضَبٍ شَدِيدٍ وَذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَاصِي فَقَدْ زِدْتَ إِشْكَالًا آخَرَ. فَإِنْ قُلْتُمْ بِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْغَضَبِ لَمْ يَبْقَ عَاقِلًا وَلَا مُكَلَّفًا فَهَذَا مِمَّا لَا يَرْتَضِيهِ مُسْلِمٌ الْبَتَّةَ فَهَذِهِ أَجْوِبَةُ مَنْ لَمْ يُجَوِّزِ الصَّغَائِرَ وَأَمَّا مَنْ جَوَّزَهَا فَلَا شَكَّ فِي سُقُوطِ السُّؤَالِ واللَّه أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَا صِلَةٌ وَالْمُرَادُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَتَّبِعَنِي. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا دَعَاكَ إِلَى أَنْ لَا تَتَّبِعَنِي فَأَقَامَ مَنَعَكَ مَقَامَ دَعَاكَ وَفِي الِاتِّبَاعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا مَنَعَكَ مِنِ اتِّبَاعِي بِمَنْ أَطَاعَكَ وَاللُّحُوقِ بِي وَتَرْكِ الْمُقَامِ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ. وَالثَّانِي: أَنْ تَتَّبِعَنِي فِي وَصِيَّتِي إِذْ قُلْتُ لَكَ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الْأَعْرَافِ: 142] فَلِمَ تَرَكْتَ قِتَالَهُمْ وَتَأْدِيبَهُمْ وَهَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ ثُمَّ قَالَ: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ/ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الْمَأْمُورِ بِهِ عَاصٍ وَالْعَاصِي مُسْتَحِقٌّ

[سورة طه (20) : الآيات 95 إلى 98]

لِلْعِقَابِ لِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها [الْجِنِّ: 23] وَلِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها [النِّسَاءِ: 14] فَمَجْمُوعُ الْآيَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، فَأَجَابَ هَارُونُ عَلَيْهِ السلام وقال: ابْنَ أُمَ قِيلَ: إِنَّمَا خَاطَبَهُ بِذَلِكَ لِيَدْفَعَهُ عَنْهُ فيتركه، وقيل: كان أخاه لأمه: تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَنْهِيِّ فَاعِلًا لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَقَوْلِهِ: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَابِ: 48] وَقَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: 65] وَالَّذِي فِيهِ أَنَّهُ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ بِهِ بَلْ قَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِسَائِرِ الْأَغْرَاضِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ أَخَذَ ذُؤَابَتَيْهِ بِيَمِينِهِ ولحيته بيساره ثم قال: نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: (مَا مَنَعَكَ أَنْ لا تتبعن أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَهُ بِشَيْءٍ فَكَيْفَ يَحْسُنُ فِي جَوَابِهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا لَمْ أَمْتَثِلْ قَوْلَكَ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَقُولَ: لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي فَهَلْ يَجُوزُ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى الْعَاقِلِ. وَالْجَوَابُ: لَعَلَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِالذَّهَابِ إِلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى فَسَادٍ فِي الْقَوْمِ فَلَمَّا قَالَ مُوسَى: (مَا مَنَعَكَ أَنْ لَا تَتَّبِعَنِ) قَالَ لِأَنَّكَ إِنَّمَا أَمَرْتَنِي بِاتِّبَاعِكَ إِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْفَسَادُ فَلَوْ جِئْتُكَ مَعَ حُصُولِ الْفَسَادِ مَا كُنْتُ مُرَاقِبًا لِقَوْلِكَ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ: الْهِدَايَةُ أَنْفَعُ مِنَ الدَّلَالَةِ فَإِنَّ السَّحَرَةَ كَانُوا أَجَانِبَ عَنِ الْإِيمَانِ وَمَا رَأَوْا إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً فَآمَنُوا وَتَحَمَّلُوا الْعَذَابَ الشَّدِيدَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَرْجِعُوا عَنِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا قَوْمُهُ فَإِنَّهُمْ رَأَوُا انْقِلَابَ الْعَصَا ثُعْبَانًا وَالْتَقَمَ كُلَّ مَا جَمَعَهُ السَّحَرَةُ ثُمَّ عَادَ عَصًا وَرَأَوُا اعْتِرَافَ السَّحَرَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسِحْرٍ وَأَنَّهُ أَمْرٌ إِلَهِيٌّ وَرَأَوُا الْآيَاتِ التِّسْعَ مُدَّةً مَدِيدَةً ثُمَّ رَأَوُا انْفِرَاقَ الْبَحْرِ اثْنَيْ عَشَرَ طَرِيقًا وَأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْجَاهُمْ مِنَ الْغَرَقِ وَأَهْلَكَ أَعْدَاءَهُمْ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ مَعَ مَا شَاهَدُوا مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ لَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْبَحْرِ وَرَأَوْا قَوْمًا يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ قَالُوا: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ، وَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتًا مِنْ عِجْلٍ عَكَفُوا عَلَى عِبَادَتِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ بِالدَّلَائِلِ بَلْ بِالْهِدَايَةِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (يَا ابْنَ أُمِّ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالْإِضَافَةِ وَدَلَّتْ كَسْرَةُ الْمِيمِ عَلَى الْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ وتقديره يا ابن أماه واللَّه أعلم. [سورة طه (20) : الآيات 95 الى 98] قالَ فَما خَطْبُكَ يَا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) [في قوله تعالى قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ] اعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ مُخَاطَبَةِ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَرَفَ الْعُذْرَ لَهُ فِي التَّأْخِيرِ أَقْبَلَ عَلَى السَّامِرِيِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ حَاضِرًا مَعَ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا قَطَعَ مُوسَى الْكَلَامَ مَعَ هَارُونَ أَخَذَ فِي التَّكَلُّمِ مَعَ السَّامِرِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا ثُمَّ حَضَرَ السَّامِرِيُّ مِنْ بَعْدُ أَوْ ذَهَبَ إِلَيْهِ مُوسَى لِيُخَاطِبَهُ، فَقَالَ موسى عليه السلام: فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ وَالْخَطْبُ مَصْدَرٌ خَطَبَ الْأَمْرَ إِذَا طَلَبَهُ، فَإِذَا قِيلَ لِمَنْ يَفْعَلُ شَيْئًا مَا

خَطْبُكَ؟ مَعْنَاهُ مَا طَلَبُكَ لَهُ وَالْغَرَضُ مِنْهُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَتَعْظِيمُ صُنْعِهِ ثُمَّ ذَكَرَ السَّامِرِيُّ عُذْرَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ بِالْكَسْرِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِمَا لَمْ تَبْصُرُوا بِالتَّاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ فَوْقُ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ أَيْ بِمَا لَمْ يَبْصُرْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْإِبْصَارِ قَوْلَانِ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: عَلِمْتُ بِمَا لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رَجُلٌ بَصِيرٌ أَيْ عَالِمٌ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي تَقْرِيرِهِ: أَبْصَرْتُهُ بِمَعْنَى رَأَيْتُهُ وَبَصُرْتُ بِهِ بِمَعْنَى صِرْتُ بِهِ بَصِيرًا عَالِمًا. وَقَالَ آخَرُونَ: رَأَيْتُ مَا لَمْ يَرَوْهُ فَقَوْلُهُ بَصُرْتُ بِهِ بِمَعْنَى أَبْصَرْتُهُ وَأَرَادَ أَنَّهُ رَأَى دَابَّةَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخَذَ مِنْ مَوْضِعِ حَافِرِ دَابَّتِهِ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْحَسَنُ قُبْضَةً بِضَمِّ الْقَافِ وَهِيَ اسْمٌ لِلْمَقْبُوضِ كَالْغُرْفَةِ وَالضُّفَّةِ وَأَمَّا الْقَبْضَةُ فَالْمَرَّةُ مِنَ الْقَبْضِ وَإِطْلَاقُهَا عَلَى الْمَقْبُوضِ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ كَضَرْبِ الْأَمِيرِ وَقُرِئَ أَيْضًا فَقَبَصْتُ قَبْصَةً بِالضَّادِ وَالصَّادِ فَالضَّادُ بِجَمِيعِ الْكَفِّ وَالصَّادُ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ وَنَظِيرِهُمَا الْخَضْمُ وَالْقَضْمُ الْخَاءُ بِجَمِيعِ الْفَمِ وَالْقَافُ بِمُقَدَّمِهِ. قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنْ أَثَرِ فَرَسِ الرَّسُولِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: الْمُرَادُ بِالرَّسُولِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَرَادَ بِأَثَرِهِ التُّرَابَ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ مَوْضِعِ حَافِرِ دَابَّتِهِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا أَنَّهُ مَتَى رَآهُ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّمَا رَآهُ يَوْمَ فُلِقَ الْبَحْرُ. وَعَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا نَزَلَ لِيَذْهَبَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الطُّورِ أَبْصَرَهُ السَّامِرِيُّ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ السَّامِرِيَّ كَيْفَ اخْتَصَّ بِرُؤْيَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَعْرِفَتِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النَّاسِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ: إِنَّمَا عَرَفَهُ/ لِأَنَّهُ رَآهُ فِي صِغَرِهِ وَحَفِظَهُ مِنَ الْقَتْلِ حِينَ أَمَرَ فِرْعَوْنُ بِذَبْحِ أَوْلَادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلِدُ وَتَطْرَحُ وَلَدَهَا حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ آلُ فِرْعَوْنَ فَتَأْخُذُ الْمَلَائِكَةُ الْوِلْدَانَ فَيُرَبُّونَهُمْ حَتَّى يَتَرَعْرَعُوا وَيَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ فَكَانَ السَّامِرِيُّ مِمَّنْ أَخَذَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَعَلَ كَفَّ نَفْسِهِ فِي فِيهِ وَارْتَضَعَ مِنْهُ الْعَسَلَ وَاللَّبَنَ فَلَمْ يَزَلْ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ حَتَّى عَرَفَهُ، فَلَمَّا رَآهُ عَرَفَهُ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ بِمَعْنَى رَأَيْتُ مَا لَمْ يَرَوْهُ وَمَنْ فَسَّرَ الْكَلِمَةَ بِالْعِلْمِ فَهُوَ صَحِيحٌ وَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلِمْتُ أَنَّ تُرَابَ فَرَسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ خَاصِّيَّةُ الْإِحْيَاءِ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ تَصْرِيحٌ بِهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فَهَهُنَا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالرَّسُولِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِأَثَرِهِ سُنَّتَهُ وَرَسْمَهُ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ: فُلَانٌ يَقْفُو أَثَرَ فُلَانٍ وَيَقْبِضُ أَثَرَهُ إِذَا كَانَ يَمْتَثِلُ رَسْمَهُ وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَقْبَلَ عَلَى السَّامِرِيِّ بِاللَّوْمِ وَالْمَسْأَلَةِ عَنِ الْأَمْرِ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى إِضْلَالِ الْقَوْمِ فِي بَابِ الْعِجْلِ، فَقَالَ: بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ، أَيْ عَرَفْتُ أَنَّ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَيْسَ بِحَقٍّ وَقَدْ كُنْتُ قَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَيْ شَيْئًا مِنْ سُنَّتِكَ وَدِينِكَ فَقَذَفْتُهُ أَيْ طَرَحْتُهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَعْلَمَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا لَهُ مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ بِلَفْظِ الْإِخْبَارِ عَنْ غَائِبٍ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِرَئِيسِهِ وَهُوَ مُوَاجِهٌ لَهُ مَا يَقُولُ الْأَمِيرُ فِي كَذَا وَبِمَاذَا يَأْمُرُ الْأَمِيرُ، وَأَمَّا دُعَاؤُهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَسُولًا مَعَ جَحْدِهِ وَكُفْرِهِ فَعَلَى مِثْلِ مذهب من حكى اللَّه عنه قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحِجْرِ: 6] وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْإِنْزَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ لَيْسَ

فِيهِ إِلَّا مُخَالَفَةُ الْمُفَسِّرِينَ وَلَكِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى التَّحْقِيقِ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ بِمَشْهُورٍ بَاسِمِ الرَّسُولِ وَلَمْ يَجْرِ لَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرٌ حَتَّى تُجْعَلَ لَامُ التَّعْرِيفِ إِشَارَةً إِلَيْهِ فَإِطْلَاقُ لَفْظِ الرَّسُولِ لِإِرَادَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَأَنَّهُ تَكْلِيفٌ بِعِلْمِ الْغَيْبِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْإِضْمَارِ وَهُوَ قَبْضَةٌ مِنْ أَثَرِ حَافِرِ فَرَسِ الرَّسُولِ وَالْإِضْمَارُ خِلَافُ الْأَصْلِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّعَسُّفِ فِي بَيَانِ أَنَّ السَّامِرِيَّ كَيْفَ اخْتَصَّ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ النَّاسِ بِرُؤْيَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَعْرِفَتِهِ ثُمَّ كَيْفَ عَرَفَ أَنَّ لِتُرَابِ حَافِرِ فَرَسِهِ هَذَا الْأَثَرَ وَالَّذِي ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي رَبَّاهُ فَبَعِيدٌ، لِأَنَّ السَّامِرِيَّ إِنْ عَرَفَ جِبْرِيلَ حَالَ كَمَالِ عَقْلِهِ عَرَفَ قَطْعًا أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبِيٌّ صَادِقٌ فَكَيْفَ يُحَاوِلُ الْإِضْلَالَ وَإِنْ كَانَ مَا عَرَفَهُ حَالَ الْبُلُوغِ فَأَيُّ مَنْفَعَةٍ لِكَوْنِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُرَبِّيًا لَهُ فِي الطُّفُولِيَّةِ فِي حُصُولِ تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لَوْ جَازَ اطِّلَاعُ بَعْضِ الْكَفَرَةِ عَلَى تُرَابٍ هَذَا شَأْنُهُ لَكَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: فَلَعَلَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اطَّلَعَ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ يُشْبِهُ ذَلِكَ فَلِأَجْلِهِ أَتَى بِالْمُعْجِزَاتِ وَيَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى سُؤَالِ مَنْ يَطْعَنُ فِي الْمُعْجِزَاتِ وَيَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِمَعْرِفَةِ بَعْضِ الْأَدْوِيَةِ الَّتِي لَهَا خَاصِّيَّةُ أَنْ تُفِيدَ حُصُولَ تِلْكَ الْمُعْجِزَةِ، أَتَوْا بِتِلْكَ الْمُعْجِزَةِ، وَحِينَئِذٍ يَنْسَدُّ بَابُ الْمُعْجِزَاتِ بِالْكُلِّيَّةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي فَالْمَعْنَى فَعَلْتُ مَا دَعَتْنِي إِلَيْهِ نَفْسِي وَسَوَّلَتْ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّؤَالِ فَالْمَعْنَى لَمْ/ يَدْعُنِي إِلَى مَا فَعَلْتُهُ أَحَدٌ غَيْرِي بَلِ اتَّبَعْتُ هَوَايَ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ السَّامِرِيِّ أَجَابَهُ بِأَنْ بَيَّنَ حَالَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَبَيَّنَ حَالَ إِلَهِهِ أَمَّا حَالُهُ فِي الدُّنْيَا فَقَوْلُهُ: فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ: أَنِّي لَا أَمَسُّ وَلَا أُمَسُّ قالوا: وإذا مسه أحد حم الماس والمسوس فَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَمَسَّهُ صَاحَ خَوْفًا مِنَ الْحُمَّى وَقَالَ لَا مِسَاسَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: لَا مِساسَ الْمَنْعُ مِنْ أَنْ يُخَالِطَ أَحَدًا أَوْ يُخَالِطَهُ أَحَدٌ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْرَجَهُ مِنْ مَحَلَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ أَنْتَ وَأَهْلُكَ فَخَرَجَ طَرِيدًا إِلَى الْبَرَارِي، اعْتَرَضَ الْوَاحِدِيُّ عَلَيْهِ فَقَالَ الرَّجُلُ: إِذَا صَارَ مَهْجُورًا فَلَا يَقُولُ هُوَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا بَقِيَ طَرِيدًا فَرِيدًا فَإِذَا قِيلَ لَهُ: كَيْفَ حَالُكَ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ لَا مِسَاسَ أَيْ لَا يَمَاسُّنِي أَحَدٌ وَلَا أَمَاسُّ أَحَدًا، وَالْمَعْنَى إِنِّي أَجْعَلُكَ يَا سَامِرِيُّ فِي الْمَطْرُودِيَّةِ بِحَيْثُ لَوْ أَرَدْتَ أَنْ تُخْبِرَ غَيْرَكَ عَنْ حَالِكَ لَمْ تَقُلْ إِلَّا أَنَّهُ لَا مِسَاسَ وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ وَأَقْرَبُ إِلَى نَظْمِ الْكَلَامِ مِنَ الْأَوَّلِ. وَثَالِثُهَا: مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ وَهُوَ أنه يجوز في حمله ما أريد مسي النِّسَاءِ فَيَكُونُ مِنْ تَعْذِيبِ اللَّه إِيَّاهُ انْقِطَاعُ نَسْلِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ يُؤْنِسُهُ فَيُخْلِيَهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ زِينَتِي الدُّنْيَا اللَّتَيْنِ ذَكَرَهُمَا بِقَوْلِهِ: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الْكَهْفِ: 46] وقرى لا مساس بوزن فجاز وَهُوَ اسْمُ عَلَمٍ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْمَسِّ، وَأَمَّا شَرْحُ حَالِهِ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَالْمَوْعِدُ بِمَعْنَى الْوَعْدِ أَيْ هَذِهِ عُقُوبَتُكَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَكَ الْوَعْدُ بِالْمَصِيرِ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ فَأَنْتَ مِمَّنْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ: لَنْ تُخْلَفَهُ بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ لَنْ تُخْلَفَ ذَلِكَ الْوَعْدَ أَيْ سَيَأْتِيكَ بِهِ اللَّه وَلَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْكَ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْحَسَنُ بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ تَجِيءُ إِلَيْهِ وَلَنْ تَغِيبَ عَنْهُ وَلَنْ تَتَخَلَّفَ عَنْهُ وَفَتْحُ اللَّامِ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ كَأَنَّهُ قَالَ: مَوْعِدًا حَقًّا لَا خُلْفَ فِيهِ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَنْ نُخْلَفَهُ بِالنُّونِ فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَكَى قَوْلَ اللَّه تَعَالَى بِلَفْظِهِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ: لِأَهَبَ لَكِ [مَرْيَمَ: 19] وَأَمَّا شَرْحُ حَالِ إِلَهِهِ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً قَالَ الْمُفَضَّلُ فِي ظَلْتَ: إِنَّهُ يُقْرَأُ بِفَتْحِ الظَّاءِ وَكَسْرِهَا وَكَذَلِكَ: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [الْوَاقِعَةِ: 65] وَأَصْلُهُ ظَلِلْتَ فَحُذِفَتِ اللَّامُ الْأُولَى وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَتِ اللَّامُ الثَّانِيَةُ سَاكِنَةً تَسْتَحِبُّ الْعَرَبُ طَرْحَ الْأُولَى وَمَنْ كَسَرَ الظَّاءَ

[سورة طه (20) : الآيات 99 إلى 104]

نَقَلَ كَسْرَةَ اللَّامِ السَّاقِطَةِ إِلَيْهَا وَمَنْ فَتَحَهَا تَرَكَ الظَّاءَ عَلَى حَالِهَا وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي الْمُضَاعَفِ يَقُولُونَ: مَسْتُهُ وَمَسَسْتُهُ ثُمَّ قَالَ: لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً وَفِي قَوْلِهِ: لَنُحَرِّقَنَّهُ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ إِحْرَاقُهُ بِالنَّارِ وَهَذَا أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَارَ لَحْمًا وَدَمًا، لِأَنَّ الذَّهَبَ لَا يُمْكِنُ إِحْرَاقُهُ بِالنَّارِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَبْحِ الْعِجْلِ فَذُبِحَ فَسَالَ مِنْهُ الدَّمُ ثُمَّ أُحْرِقَ ثُمَّ نُسِفَ رَمَادُهُ وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَنَذْبَحَنَّهُ وَلَنُحَرِّقَنَّهُ وَثَانِيهِمَا لَنُحَرِّقَنَّهُ أَيْ لَنَبْرُدَنَّهُ بِالْمِبْرَدِ، يُقَالُ: حَرَقَهُ يَحْرُقُهُ إِذَا بَرَدَهُ وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْقَلِبْ لَحْمًا وَلَا دَمًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُبَرَدَ بِالْمِبْرَدِ، وَيُمْكِنَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ صَارَ لَحْمًا فَذُبِحَ ثُمَّ بُرِدَتْ عِظَامُهُ بِالْمِبْرَدِ/ حَتَّى صَارَتْ بِحَيْثُ يُمْكِنُ نَسْفُهَا، قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَمَعْنَاهُ لَنُحَرِّقَنَّهُ بِالنَّارِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ لَنَحْرُقَنَّهُ بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الرَّاءِ خَفِيفَةً يَعْنِي لَنَبْرُدَنَّهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ إِبْطَالِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ السَّامِرِيُّ عَادَ إِلَى بَيَانِ الدِّينِ الْحَقِّ فَقَالَ: إِنَّما إِلهُكُمُ أَيِ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَالتَّعْظِيمِ: اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْلَمُ من يعبده ومن لا يعبده. [سورة طه (20) : الآيات 99 الى 104] كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) [في قَوْلُهُ تَعَالَى كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا شَرَحَ قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ فِرْعَوْنَ أَوَّلًا ثُمَّ مَعَ السَّامِرِيِّ ثَانِيًا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ سَائِرِ أَخْبَارِ الْأُمَمِ وَأَحْوَالِهِمْ تَكْثِيرًا لِشَأْنِكَ وَزِيَادَةً فِي مُعْجِزَاتِكَ وَلِيَكْثُرَ الِاعْتِبَارُ وَالِاسْتِبْصَارُ لِلْمُكَلَّفِينَ بِهَا فِي الدِّينِ: وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً يَعْنِي الْقُرْآنَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ [الْأَنْبِيَاءِ: 50] وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ [الزُّخْرُفِ: 44] وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: 1] مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ [الأنبياء: 2] يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [الْحِجْرِ: 6] ثُمَّ فِي تَسْمِيَةِ الْقُرْآنِ بِالذِّكْرِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ كِتَابٌ فِيهِ ذِكْرُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَذْكُرُ أَنْوَاعَ آلَاءِ اللَّه تَعَالَى وَنَعْمَائِهِ فَفِيهِ التَّذْكِيرُ وَالْمَوَاعِظُ. وَثَالِثُهَا: فِيهِ الذِّكْرُ وَالشَّرَفُ لَكَ وَلِقَوْمِكَ عَلَى مَا قَالَ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزُّخْرُفِ: 44] ، [في قوله تعالى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ إلى قوله يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ] وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى سَمَّى كُلَّ كُتُبِهِ ذكرا فقال: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [النحل: 43] وَكَمَا بَيَّنَ نِعْمَتَهُ بِذَلِكَ بَيَّنَ شِدَّةَ الْوَعِيدِ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا وَالْوِزْرُ هُوَ الْعُقُوبَةُ الثَّقِيلَةُ سَمَّاهَا وِزْرًا تَشْبِيهًا فِي ثِقَلِهَا/ عَلَى الْمُعَاقَبِ وَصُعُوبَةِ احْتِمَالِهَا الَّذِي يَثْقُلُ عَلَى الْحَامِلِ وَيُنْقِضُ ظَهْرَهُ أَوْ لِأَنَّهَا جَزَاءُ الْوِزْرِ وَهُوَ الْإِثْمُ وَقُرِئَ يُحَمَّلُ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى صِفَةَ ذَلِكَ الْوِزْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ مُخَلَّدًا مُؤَبَّدًا. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا أَيْ وَمَا أَسْوَأَ هَذَا الْوِزْرَ حِمْلًا أَيْ مَحْمُولًا وَحِمْلًا مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَثَانِيهَا: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَالْمُرَادُ بَيَانُ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو نَنْفُخُ بِفَتْحِ النُّونِ كَقَوْلِهِ: وَنَحْشُرُ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يُنْفَخُ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَنَحْشُرُ بِالنُّونِ لِأَنَّ النَّافِخَ مَلَكٌ الْتَقَمَ الصُّورَ وَالْحَاشِرَ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَقُرِئَ يَوْمَ يَنْفُخُ بِالْيَاءِ الْمَفْتُوحَةِ عَلَى الْغَيْبَةِ وَالضَّمِيرُ للَّه تَعَالَى أَوْ لِإِسْرَافِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَمَّا: يَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ فَلَمْ يَقْرَأْ بِهِ إِلَّا الْحَسَنُ وَقُرِئَ فِي الصُّوَرِ بِفَتْحِ الْوَاوِ جَمْعُ صُورَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الصُّورِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ يُدْعَى بِهِ النَّاسُ إِلَى الْمَحْشَرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَمْعُ صُورَةٍ وَالنَّفْخُ نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: الصُّوَرِ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ [الْمُدَّثِّرِ: 8] واللَّه تَعَالَى يُعَرِّفُ النَّاسَ أُمُورَ الْآخِرَةِ بِأَمْثَالِ مَا شُوهِدَ فِي الدُّنْيَا وَمِنْ عَادَةِ النَّاسِ النَّفْخُ فِي الْبُوقِ عِنْدَ الْأَسْفَارِ وَفِي الْعَسَاكِرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا النَّفْخِ هُوَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ لِأَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ النَّفْخَ فِي الصُّورِ كَالسَّبَبِ لِحَشْرِهِمْ فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً [النَّبَأِ: 18] ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ: الْمُجْرِمِينَ يَتَنَاوَلُ الْكُفَّارَ وَالْعُصَاةَ فَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْعَفْوِ عَنِ الْعُصَاةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: يُرِيدُ بِالْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْكَلَامُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالزُّرْقَةِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي زُرْقَ الْعُيُونِ سُودَ الْوُجُوهِ وَهِيَ زُرْقَةٌ تَتَشَوَّهُ بِهَا خِلْقَتُهُمْ وَالْعَرَبُ تَتَشَاءَمُ بِذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمْ: يُحْشَرُونَ عُمْيًا فَكَيْفَ يَكُونُ أَعْمَى وَأَزْرَقَ؟ قُلْنَا: لَعَلَّهُ يَكُونُ أَعْمَى فِي حَالٍ وَأَزْرَقَ فِي حَالٍ. وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ مِنَ الزُّرْقَةِ الْعَمَى. قَالَ الْكَلْبِيُّ: زُرْقًا أَيْ عُمْيًا، قَالَ الزَّجَّاجُ: يَخْرُجُونَ بُصَرَاءَ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ وَيَعْمُونَ فِي الْمَحْشَرِ. وَسَوَادُ الْعَيْنِ إِذَا ذَهَبَ تَزْرَقُّ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ أَعْمَى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إِبْرَاهِيمَ: 41] وَشُخُوصُ الْبَصَرِ مِنَ الْأَعْمَى مُحَالٌ، وَقَدْ قَالَ فِي حَقِّهِمُ: اقْرَأْ كِتابَكَ [الْإِسْرَاءِ: 14] وَالْأَعْمَى كَيْفَ يَقْرَأُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ أَحْوَالَهُمْ قَدْ تَخْتَلِفُ. وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الزُّرْقَةِ شُخُوصُ أَبْصَارِهِمْ وَالْأَزْرَقُ شَاخِصٌ لِأَنَّهُ لِضَعْفِ بَصَرِهِ يَكُونُ مُحَدِّقًا نَحْوَ الشَّيْءِ يُرِيدُ أَنْ يَتَبَيَّنَهُ وَهَذِهِ حَالُ الْخَائِفِ الْمُتَوَقِّعِ لِمَا يَكْرَهُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إِبْرَاهِيمَ: 41] . وَرَابِعُهَا: زُرْقًا عِطَاشًا هَكَذَا رَوَاهُ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: لِأَنَّهُمْ مِنْ شِدَّةِ/ الْعَطَشِ يَتَغَيَّرُ سَوَادُ عُيُونِهِمْ حَتَّى تَزْرَقَّ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً [مَرْيَمَ: 86] . وَخَامِسُهَا: حَكَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: طَامِعِينَ فِيمَا لَا يَنَالُونَهُ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَتَخَافَتُونَ أَيْ يَتَسَارُّونَ. يُقَالُ: خَفَتَ يَخْفِتُ وَخَافَتَ مُخَافَتَةً وَالتَّخَافُتُ السِّرَارُ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه: 108] وَإِنَّمَا يَتَخَافَتُونَ لِأَنَّهُ امْتَلَأَتْ صُدُورُهُمْ مِنَ الرُّعْبِ وَالْهَوْلِ أَوْ لِأَنَّهُمْ صَارُوا بِسَبَبِ الْخَوْفِ فِي نِهَايَةِ الضَّعْفِ فَلَا يُطِيقُونَ الْجَهْرَ.

[سورة طه (20) : الآيات 105 إلى 112]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: إِنْ لَبِثْتُمْ اللُّبْثُ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْقَبْرِ، فَقَالَ قَوْمٌ أَرَادُوا بِهِ اللُّبْثَ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ. قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 112، 113] فَإِنْ قِيلَ: إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ نَسُوا قَدْرَ لُبْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا، أَوْ مَا نَسُوا ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ غَيْرُ جَائِزٍ إِذْ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَبْقَى الْإِنْسَانُ خَمْسِينَ سَنَةً فِي بَلَدٍ ثُمَّ يَنْسَاهُ. وَالثَّانِي غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَأَهْلُ الْآخِرَةِ لَا يَكْذِبُونَ لَا سِيَّمَا وَهَذَا الْكَذِبُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: لَعَلَّهُمْ إِذَا حُشِرُوا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَعَايَنُوا تِلْكَ الْأَهْوَالَ فَلِشِدَّةِ وَقْعِهَا عَلَيْهِمْ ذَهَلُوا عَنْ مِقْدَارِ عُمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَمَا ذَكَرُوا إِلَّا الْقَلِيلَ فَقَالُوا: لَيْتَنَا مَا عِشْنَا إِلَّا تِلْكَ الْأَيَّامَ الْقَلِيلَةَ فِي الدُّنْيَا حَتَّى لَا نَقَعَ فِي هَذِهِ الْأَهْوَالِ، وَالْإِنْسَانُ عِنْدَ الْهَوْلِ الشَّدِيدِ قَدْ يَذْهَلُ عَنْ أَظْهَرِ الْأَشْيَاءِ وَتَمَامُ تَقْرِيرِهِ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: 23] . وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ عَالِمُونَ بِمِقْدَارِ عُمُرِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا قَابَلُوا أَعْمَارَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِأَعْمَارِ الْآخِرَةِ وَجَدُوهَا فِي نِهَايَةِ الْقِلَّةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا لَبِثْنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَقَالَ أَعْقَلُهُمْ: بَلْ مَا لَبِثْنَا إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا أَيْ قَدْرُ لُبْثِنَا فِي الدُّنْيَا بِالْقِيَاسِ إِلَى قَدْرِ لُبْثِنَا فِي الْآخِرَةِ كَعَشَرَةِ أَيَّامٍ بَلْ كَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ بَلْ كَالْعَدَمِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْعَشَرَةَ وَالْوَاحِدَ بِالذِّكْرِ لأن القليل في أمثال هذه الواضع لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ إِلَّا بِالْعَشَرَةِ وَالْوَاحِدِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا عَايَنُوا الشَّدَائِدَ تَذَكَّرُوا أَيَّامَ النِّعْمَةِ وَالسُّرُورِ وَتَأَسَّفُوا عَلَيْهَا فَوَصَفُوهَا بِالْقِصَرِ لِأَنَّ أَيَّامَ السُّرُورِ قِصَارٌ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ أَيَّامَ الدُّنْيَا قَدِ انْقَضَتْ وَأَيَّامَ الْآخِرَةِ مُسْتَقْبَلَةٌ وَالذَّاهِبُ وَإِنْ طَالَتْ مُدَّتُهُ قَلِيلٌ بِالْقِيَاسِ إِلَى الْآتِي وَإِنْ قَصُرَتْ مُدَّتُهُ فَكَيْفَ وَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ وَلِهَذِهِ الْوُجُوهِ رَجَّحَ اللَّه تَعَالَى قَوْلَ مَنْ بَالَغَ فِي التَّقْلِيلِ فَقَالَ: إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ اللُّبْثُ فِي الْقَبْرِ وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ [الرُّومِ: 55] وَقَالَ: الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ [الرُّومِ: 56] فَأَمَّا مَنْ جَوَّزَ الْكَذِبَ عَلَى أَهْلِ الْقِيَامَةِ فَلَا إِشْكَالَ لَهُ فِي الْآيَةِ، أَمَّا مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ، قَالَ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا أَحْيَاهُمْ فِي الْقَبْرِ وَعَذَّبَهُمْ ثُمَّ أَمَاتَهُمْ ثُمَّ بَعَثَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يَعْرِفُوا أَنْ قَدْرَ لُبْثِهِمْ فِي الْقَبْرِ كَمْ كَانَ، فَخَطَرَ بِبَالِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ يَوْمٌ/ وَاحِدٌ، فَلَمَّا وَقَعُوا فِي الْعَذَابِ مَرَّةً أُخْرَى، تَمَنَّوْا زَمَانَ الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ زَمَانُ الْخَلَاصِ لِمَا نَالَهُمْ مِنْ هَوْلِ الْعَذَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً أَيْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَيَكُونُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً أَقَلَّ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً أَيْ عَشْرَ سَاعَاتٍ كَقَوْلِهِ: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النَّازِعَاتِ: 46] وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْيَوْمُ أَكْثَرَ، واللَّه أَعْلَمُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَعْظَمَ مَا نَالَهُمْ مِنَ الْحَيْرَةِ الَّتِي دُفِعُوا عندها إلى هذا الجنس من التخافت. [سورة طه (20) : الآيات 105 الى 112] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً (106) لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ أَمْرَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَكَى سُؤَالَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْحَشْرِ فقال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ وَفِي تَقْرِيرِ هَذَا السُّؤَالِ وُجُوهٌ. أحدها: أن قوله: يَتَخافَتُونَ [طه: 103] وَصْفٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى لِكُلِّ الْمُجْرِمِينَ بِذَلِكَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: كَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ وَالْجِبَالُ حَائِلَةٌ وَمَانِعَةٌ مِنْ هَذَا التَّخَافُتِ/ وَثَانِيهَا: قَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ تَكُونُ الْجِبَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ وَكَانَ سُؤَالُهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَثَالِثُهَا: لَعَلَّ قَوْمَهُ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَدَّعِي أَنَّ الدُّنْيَا سَتَنْقَضِي فَلَوْ صَحَّ مَا قُلْتَهُ لَوَجَبَ أَنْ تَبْتَدِئَ أَوَّلًا بِالنُّقْصَانِ ثُمَّ تَنْتَهِيَ إِلَى الْبُطْلَانِ، لَكِنَّ أَحْوَالَ الْعَالَمِ بَاقِيَةٌ كَمَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ مَا قُلْتَهُ مِنْ خَرَابِ الدُّنْيَا؟ وَهَذِهِ شُبْهَةٌ تَمَسَّكَ بِهَا جَالِينُوسُ فِي أن السموات لا تفنى، قال: لأنها لو فنبت لَابْتَدَأَتْ فِي النُّقْصَانِ أَوَّلًا حَتَّى يَنْتَهِيَ نُقْصَانُهَا إِلَى الْبُطْلَانِ، فَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا النُّقْصَانُ عَلِمْنَا أَنَّ الْقَوْلَ بِالْبُطْلَانِ بَاطِلٌ، ثُمَّ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى رَسُولَهُ بِالْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ وَضَمَّ إِلَى الْجَوَابِ أُمُورًا أُخَرَ فِي شَرْحِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهَا. الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا قَالَ: فَقُلْ مَعَ فَاءِ التَّعْقِيبِ لِأَنَّ مَقْصُودَهُمْ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ الطَّعْنُ فِي الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، فَلَا جَرَمَ أَمَرَهُ بِالْجَوَابِ مَقْرُونًا بِفَاءِ التَّعْقِيبِ. لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْأُصُولِيَّةِ غَيْرُ جَائِزٍ، أَمَّا فِي الْمَسَائِلِ الفروعية فجائزة، لِذَلِكَ ذَكَرَ هُنَاكَ قُلْ مِنْ غَيْرِ حَرْفِ التَّعْقِيبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: يَنْسِفُها عَائِدٌ إِلَى الْجِبَالِ وَالنَّسْفُ التَّذْرِيَةُ، أَيْ تَصِيرُ الْجِبَالُ كَالْهَبَاءِ الْمَنْثُورِ تُذْرَى تَذْرِيَةً فَإِذَا زَالَتِ الجبال الْحَوَائِلُ فَيُعْلَمُ صِدْقُ قَوْلِهِ: يَتَخافَتُونَ قَالَ الْخَلِيلُ: يَنْسِفُها أَيْ يُذْهِبُهَا وَيُطَيِّرُهَا، أَمَّا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَيَذَرُها فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى الْأَرْضِ فَاسْتَغْنَى عَنْ تَقْدِيمِ ذِكْرِهَا كَمَا فِي عَادَةِ النَّاسِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهَا بِالْإِضْمَارِ كَقَوْلِهِمْ: مَا عَلَيْهَا أَكْرَمُ مِنْ فُلَانٍ وَقَالَ تَعَالَى: مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَإِنَّمَا قَالَ: فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً لِيُبَيِّنَ أَنَّ ذَلِكَ النَّسْفَ لَا يُزِيلُ الِاسْتِوَاءَ لِئَلَّا يُقَدَّرَ أَنَّهَا لَمَّا زَالَتْ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ صَارَتْ هُنَاكَ حَائِلَةً، هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ سُؤَالِهِمُ الِاعْتِرَاضَ عَلَى كَيْفِيَّةِ الْمُخَافَتَةِ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْغَرَضُ مِنَ السُّؤَالِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا نُقْصَانَ فِيهَا فِي الْحَالِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْتَهِيَ أَمْرُهَا إِلَى الْبُطْلَانِ، كَانَ تَقْرِيرُ الْجَوَابِ: أَنَّ بُطْلَانَ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ بُطْلَانًا يَقَعُ تَوْلِيدِيًّا، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ تَقْدِيمُ النُّقْصَانِ عَلَى الْبُطْلَانِ وَقَدْ يَكُونُ بطلانا يقع دفعة واحدة، وهاهنا لَا يَجِبُ تَقْدِيمُ النُّقْصَانِ عَلَى الْبُطْلَانِ، فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ يُفَرِّقُ تَرْكِيبَاتِ هَذَا الْعَالَمِ الجسماني دفعة بقدرته ومشيئته فلا حاجة هاهنا إِلَى تَقْدِيمِ النُّقْصَانِ عَلَى الْبُطْلَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْأَرْضَ ذَلِكَ الْوَقْتَ بِصِفَاتٍ. أَحَدُهَا: كَوْنُهَا قَاعًا وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ وَقِيلَ مُسْتَنْقَعُ الْمَاءِ. وَثَانِيهَا: الصَّفْصَفُ وَهُوَ الَّذِي لَا نَبَاتَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْقَاعُ الْأَرْضُ الْمَلْسَاءُ الْمُسْتَوِيَةُ وَكَذَلِكَ الصَّفْصَفُ. وَثَالِثُهَا: قَوْلِهِ: لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَدْ فَرَّقُوا

بَيْنَ الْعِوَجِ وَالْعَوَجِ فَقَالُوا: الْعِوَجُ بِالْكَسْرِ فِي الْمَعَانِي وَالْعَوَجُ بِالْفَتْحِ فِي الْأَعْيَانِ، فَإِنْ قِيلَ: الْأَرْضُ عَيْنٌ فَكَيْفَ صَحَّ فِيهَا الْمَكْسُورُ الْعَيْنِ؟ قُلْنَا: اخْتِيَارُ هَذَا اللَّفْظِ لَهُ مَوْقِعٌ بَدِيعٌ فِي وَصْفِ الْأَرْضِ بِالِاسْتِوَاءِ وَنَفْيِ الِاعْوِجَاجِ، وَذَلِكَ لِأَنَّكَ لَوْ عَمَدْتَ إِلَى قِطْعَةِ/ أَرْضٍ فَسَوَّيْتَهَا وَبَالَغْتَ فِي التَّسْوِيَةِ فَإِذَا قَابَلْتَهَا الْمَقَايِيسَ الْهَنْدَسِيَّةَ وَجَدْتَ فِيهَا أَنْوَاعًا مِنَ الْعِوَجِ خَارِجَةً عَنِ الْحِسِّ الْبَصَرِيِّ قَالَ فَذَاكَ الْقَدْرُ فِي الِاعْوِجَاجِ لَمَّا لَطُفَ جِدًّا أُلْحِقَ بِالْمَعَانِي فَقِيلَ فِيهِ: عِوَجٌ بِالْكَسْرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ تَكُونُ ذَلِكَ الْيَوْمَ كُرَةً حَقِيقِيَّةً لِأَنَّ الْمُضَلَّعَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَّصِلَ بَعْضُ سُطُوحِهِ بِالْبَعْضِ لَا عَلَى الِاسْتِقَامَةِ بَلْ عَلَى الِاعْوِجَاجِ وَذَلِكَ يُبْطِلُهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ. وَرَابِعُهَا: الْأَمْتُ النُّتُوءُ الْيَسِيرُ، يُقَالُ: مَدَّ حَبْلَهُ حَتَّى مَا فِيهِ أَمْتٌ وَتَحَصَّلَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعِ أَنَّ الْأَرْضَ تَكُونُ ذَلِكَ الْيَوْمَ مَلْسَاءَ خَالِيَةً عَنِ الِارْتِفَاعِ وَالِانْخِفَاضِ وَأَنْوَاعِ الِانْحِرَافِ وَالِاعْوِجَاجِ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ قَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَفِي الدَّاعِي قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ الدَّاعِيَ هُوَ النَّفْخُ فِي الصُّورِ وَقَوْلُهُ: لَا عِوَجَ لَهُ أَيْ لَا يَعْدِلُ عَنْ أَحَدٍ بِدُعَائِهِ بَلْ يَحْشُرُ الْكُلَّ. الثَّانِي: أَنَّهُ مَلَكٌ قَائِمٌ عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يُنَادِي وَيَقُولُ: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ النَّخِرَةُ، وَالْأَوْصَالُ الْمُتَفَرِّقَةُ، وَاللُّحُومُ الْمُتَمَزِّقَةُ، قَوْمِي إِلَى رَبِّكِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ. فَيَسْمَعُونَ صَوْتَ الدَّاعِي فَيَتْبَعُونَهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ إِسْرَافِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَضَعُ قَدَمَهُ عَلَى الصَّخْرَةِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا الدُّعَاءُ يَكُونُ قَبْلَ الْإِحْيَاءِ أَوْ بَعْدَهُ؟ قُلْنَا: إِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِالدُّعَاءِ إِعْلَامَهُمْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ لِأَنَّ دُعَاءَ الْمَيِّتِ عَبَثٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ إِعْلَامَهُمْ بَلِ الْمَقْصُودُ مَقْصُودٌ آخَرُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لُطْفًا لِلْمَلَائِكَةِ وَمَصْلَحَةً لَهُمْ فَذَلِكَ جَائِزٌ قَبْلَ الْإِحْيَاءِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: خَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ وَخَضَعَتْ وَخَفِيَتْ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا وَهُوَ الذِّكْرُ الْخَفِيُّ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: وَقَدْ عَلِمَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ بِأَنْ لَا مَالِكَ لَهُمْ سِوَاهُ فَلَا يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ يَزِيدُ عَلَى الْهَمْسِ وَهُوَ أَخْفَى الصَّوْتِ وَيَكَادُ يَكُونُ كَلَامًا يُفْهَمُ بِتَحْرِيكِ الشَّفَتَيْنِ لِضَعْفِهِ. وَحُقَّ لِمَنْ كَانَ اللَّه مُحَاسِبَهُ أَنْ يَخْشَعَ طَرْفُهُ وَيَضْعُفَ صَوْتُهُ وَيَخْتَلِطَ قَوْلُهُ وَيَطُولَ غَمُّهُ. وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: الْهَمْسُ وَطْءُ الْأَقْدَامِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا تَسْمَعُ إِلَّا خَفْقَ الْأَقْدَامِ وَنَقْلَهَا إِلَى الْمَحْشَرِ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مَنْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا وَمَنْصُوبًا فَالرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الشَّفَاعَةِ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا شَفَاعَةُ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَالنَّصْبُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَأَقُولُ: الِاحْتِمَالُ الثَّانِي أَوْلَى لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَوَّلَ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْإِضْمَارِ وَتَغْيِيرِ الْأَعْرَابِ وَالثَّانِي: لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ يُرَادُ بِهِ مَنْ يَشْفَعُ بِهَا وَالِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا شَخْصًا مَرْضِيًّا. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ دَرَجَةَ الشَّافِعِ دَرَجَةٌ عَظِيمَةٌ فَهِيَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ اللَّه لَهُ فِيهَا وَكَانَ عِنْدَ اللَّه مَرْضِيًّا، فَلَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ صَارَتْ جَارِيَةً مَجْرَى إِيضَاحِ الْوَاضِحَاتِ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى الْمَشْفُوعِ لَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِيضَاحَ الْوَاضِحَاتِ فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُعْتَزِلَةُ/ قَالُوا: الْفَاسِقُ غَيْرُ مَرْضِيٍّ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ لَا يَشْفَعَ الرَّسُولُ فِي حَقِّهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمَشْفُوعَ لَهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّه. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى ثبوت

الشَّفَاعَةِ فِي حَقِّ الْفُسَّاقِ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا يَكْفِي فِي صِدْقِهِ أَنْ يَكُونَ اللَّه تَعَالَى قَدْ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا وَاحِدًا مِنْ أَقْوَالِهِ، وَالْفَاسِقُ قَدِ ارْتَضَى اللَّه تَعَالَى قَوْلًا وَاحِدًا مِنْ أَقْوَالِهِ وَهُوَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه. فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الشَّفَاعَةُ نَافِعَةً لَهُ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَى عَنْ ذَلِكَ النَّفْيِ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حُصُولُ الْإِذْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا، فَهَبْ أَنَّ الْفَاسِقَ قَدْ حَصَلَ فِيهِ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ أَذِنَ فِيهِ، وَهَذَا أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ قُلْنَا: هَذَا الْقَيْدُ وَهُوَ أَنَّهُ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا كَافٍ فِي حُصُولِ الِاسْتِثْنَاءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاءِ: 28] فَاكْتَفَى هُنَاكَ بِهَذَا الْقَيْدِ وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ فَظَهَرَ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا أَنَّهُ إِذَا رَضِيَ لَهُ قَوْلًا يَحْصُلُ الْإِذْنُ فِي الشَّفَاعَةِ، وَإِذَا حَصَلَ الْقَيْدَانِ حَصَلَ الِاسْتِثْنَاءُ وَتَمَّ الْمَقْصُودُ. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بَيْنَ أَيْدِيهِمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ وَمَنْ قَالَ إِنَّ قَوْلَهُ: مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ الْمُرَادُ بِهِ الشَّافِعُ. قَالَ ذَلِكُ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَيْهِ وَالْمَعْنَى لَا تَنْفَعُ شَفَاعَةُ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ فِي أَنْ تَشْفَعَ لَهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ قَالَ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَعْنِي مَا بَيْنَ أَيْدِي الْمَلَائِكَةِ كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ وَفِيهِ تَقْرِيعٌ لِمَنْ يَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ لِيَشْفَعُوا لَهُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْلَمُ مَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْمَلَائِكَةَ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ بَعْدَ خَلْقِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَما خَلْفَهُمْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا. وَثَانِيهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْأَعْمَالِ وَما خَلْفَهُمْ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الضَّحَّاكُ يَعْلَمُ مَا مَضَى وَمَا بَقِيَ وَمَتَى تَكُونُ الْقِيَامَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِي الْعِبَادِ وَمَا خَلْفَهُمْ. ثُمَّ قَالَ: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً أَيِ الْعِبَادُ لَا يُحِيطُونَ بِمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ عِلْمًا. الثَّانِي: الْمُرَادُ لَا يُحِيطُونَ باللَّه عِلْمًا وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ والأقرب هاهنا قَوْلُهُ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْرَدَ ذَلِكَ مَوْرِدَ الزَّجْرِ لِيُعْلَمَ أَنَّ سَائِرَ مَا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ وَمَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْمُجَازَاةَ مَعْلُومٌ للَّه تَعَالَى. الصِّفَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً وَمَعْنَاهُ أَنَّ فِي ذَلِكَ اليوم تعنوا الْوُجُوهُ أَيْ تَذِلُّ وَيَصِيرُ الْمُلْكُ وَالْقَهْرُ للَّه تَعَالَى دُونَ غَيْرِهِ وَمِنْ/ لَفْظِ الْعَنْوِ أَخَذُوا الْعَانِي وَهُوَ الْأَسِيرُ، يُقَالُ: عَنَا يَعْنُو عَنَاءً إِذَا صَارَ أَسِيرًا وَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى: الْوُجُوهُ وَأَرَادَ بِهِ الْمُكَلَّفِينَ أَنْفُسَهُمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَعَنَتِ مِنْ صِفَاتِ الْمُكَلَّفِينَ لَا مِنْ صِفَاتِ الْوُجُوهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ [الْغَاشِيَةِ: 8، 9] وَإِنَّمَا خَصَّ الْوُجُوهَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْخُضُوعَ بها يبين وفيها يظهر وتفسير لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ قَدْ تَقَدَّمَ، وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اطْلُبُوا اسْمَ اللَّه الْأَعْظَمَ فِي هَذِهِ السور الثلاث الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَطه» . قَالَ الرَّاوِي: فَوَجَدْنَا الْمُشْتَرِكَ فِي السُّوَرِ الثَّلَاثِ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فَبَيَّنَ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ التَّحْذِيرِ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَا يَصِحُّ الِامْتِنَاعُ مِمَّا يَنْزِلُ بِالْمَرْءِ مِنَ الْمُجَازَاةِ، وَأَنَّ حَالَهُ مُخَالِفَةٌ لِحَالِ الدُّنْيَا

[سورة طه (20) : الآيات 113 إلى 114]

الَّتِي يَخْتَارُ فِيهَا الْمَعَاصِيَ وَيَمْتَنِعُ مِنَ الطَّاعَاتِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً فَالْمُرَادُ بِالْخَيْبَةِ الْحِرْمَانُ أَيْ حُرِمَ الثَّوَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ وَافَى بِالظُّلْمِ وَلَمْ يَتُبْ عَنْهُ وَاسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْعَفْوِ فَقَالُوا قَوْلُهُ: وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً يَعُمُّ كُلَّ ظَالِمٍ، وَقَدْ حَكَمَ اللَّه تَعَالَى فِيهِ بِالْخَيْبَةِ وَالْعَفْوُ يُنَافِيهِ وَالْكَلَامُ عَلَى عُمُومَاتِ الْوَعِيدِ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ خَتَمَ الْكَلَامَ فِيهَا بِشَرْحِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً يَعْنِي وَمَنْ يَعْمَلْ شَيْئًا مِنَ الصَّالِحَاتِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْفَرَائِضُ فَكَانَ عَمَلُهُ مَقْرُونًا بِالْإِيمَانِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ [طه: 75] فَقَوْلُهُ: فَلا يَخافُ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ لِكَوْنِهِ فِي مَوْضِعِ جَوَابِ الشَّرْطِ وَالتَّقْدِيرُ فَهُوَ لَا يَخَافُ وَنَظِيرُهُ: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [الْمَائِدَةِ: 95] ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً [الْجِنِّ: 13] وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: فَلَا يَخَفْ عَلَى النَّهْيِ وَهُوَ حَسَنٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى فَلْيَأْمَنْ وَالنَّهْيُ عَنِ الْخَوْفِ أَمْرٌ بِالْأَمْنِ وَالظُّلْمُ هُوَ أَنْ يُعَاقَبَ لَا عَلَى جَرِيمَةٍ أم يُمْنَعَ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالْهَضْمُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ ثَوَابِهِ، وَالْهَضِيمَةُ النَّقِيصَةُ وَمِنْهُ هَضِيمُ الْكَشْحِ أَيْ ضَامِرُ الْبَطْنِ وَمِنْهُ: طَلْعُها هَضِيمٌ [الشُّعَرَاءِ: 148] أَيْ لَازِقٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَمِنْهُ انْهَضَمَ طَعَامِي، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الظُّلْمُ أَنْ يَنْقُصَ مِنَ الثَّوَابِ وَالْهَضْمُ أَنْ لَا يُوَفَّى حَقَّهُ مِنَ الْإِعْظَامِ لِأَنَّ الثَّوَابَ مَعَ كَوْنِهِ مِنَ اللَّذَّاتِ لَا يَكُونُ ثَوَابًا إِلَّا إِذَا قَارَنَهُ التَّعْظِيمُ وَقَدْ يَدْخُلُ النَّقْصُ فِي بَعْضِ الثَّوَابِ وَيَدْخُلُ فِيمَا يُقَارِنُهُ مِنَ التَّعْظِيمِ فَنَفَى اللَّه تعالى عن المؤمنين كلا الأمرين. [سورة طه (20) : الآيات 113 الى 114] وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً] اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَكَذلِكَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: كَذلِكَ نَقُصُّ أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا نَزَالُ وَعَلَى نَهْجِهِ أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ كُلَّهُ ثُمَّ وَصَفَ الْقُرْآنَ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ عَرَبِيًّا لِتَفْهَمَهُ الْعَرَبُ فَيَقِفُوا عَلَى إِعْجَازِهِ وَنَظْمِهِ وَخُرُوجِهِ عَنْ جِنْسِ كَلَامِ الْبَشَرِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ أَيْ كَرَّرْنَاهُ وَفَصَّلْنَاهُ وَيَدْخُلُ تَحْتَ الْوَعِيدِ بَيَانُ الْفَرَائِضِ وَالْمَحَارِمِ لِأَنَّ الْوَعِيدَ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ فَتَكْرِيرُهُ يَقْتَضِي بَيَانَ الْأَحْكَامِ فَلِذَلِكَ قَالَ: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَالْمُرَادُ اتِّقَاءُ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكُ الْوَاجِبَاتِ وَلَفْظُ لَعَلَّ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَةِ: 183] أَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً فَفِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِنَّا إِنَّمَا أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ لِأَجْلِ أَنْ يَصِيرُوا مُتَّقِينَ أَيْ مُحْتَرِزِينَ عَمَّا لَا يَنْبَغِي أَوْ يُحْدِثُ الْقُرْآنُ لَهُمْ ذِكْرًا يَدْعُوهُمْ إِلَى الطَّاعَاتِ وَفِعْلِ مَا يَنْبَغِي، وَعَلَيْهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْقُرْآنُ كَيْفَ يَكُونُ مُحْدِثًا لِلذِّكْرِ. الْجَوَابُ: لَمَّا حَصَلَ الذِّكْرُ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ أُضِيفَ الذِّكْرُ إِلَيْهِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ أُضِيفَ الذِّكْرُ إِلَى الْقُرْآنِ وَمَا أُضِيفَتِ التَّقْوَى إِلَيْهِ. الْجَوَابُ: أَنَّ التَّقْوَى عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ لَا يُفْعَلَ الْقَبِيحُ، وَذَلِكَ اسْتِمْرَارٌ عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ فَلَمْ يَجُزْ إِسْنَادُهُ إِلَى الْقُرْآنِ، أَمَّا حُدُوثُ الذِّكْرِ فَأَمْرٌ حَدَثَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَجَازَتْ إِضَافَتُهُ إِلَى الْقُرْآنِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَلِمَةُ أَوْ لِلْمُنَافَاةِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ التَّقْوَى وَحُدُوثِ الذِّكْرِ بَلْ لَا يَصِحُّ الِاتِّقَاءُ إِلَّا مَعَ الذِّكْرِ فَمَا

مَعْنَى كَلِمَةِ أَوْ. الْجَوَابُ: هَذَا كَقَوْلِهِمْ جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ أَيْ لَا تَكُنْ خاليا منهما فكذا هاهنا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: إِنَّا أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ لِيَتَّقُوا فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُحْدِثَ الْقُرْآنُ لَهُمْ ذِكْرًا وَشَرَفًا وَصِيتًا حَسَنًا، فَعَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ إِنْزَالُهُ تَقْوَى، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَظَّمَ أَمْرَ الْقُرْآنِ رَدَفَهُ بِأَنْ عَظَّمَ نَفْسَهُ فَقَالَ: فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ تَنْبِيهًا عَلَى مَا يَلْزَمُ خَلْقَهُ مِنْ تَعْظِيمِهِ وَإِنَّمَا وَصْفُهُ بِالْحَقِّ لِأَنَّ مُلْكَهُ لَا يَزُولُ وَلَا يَتَغَيَّرُ وَلَيْسَ بِمُسْتَفَادٍ مِنْ قِبَلِ الْغَيْرِ وَلَا غَيْرُهُ أَوْلَى بِهِ فَلِهَذَا وُصِفَ بِذَلِكَ، وَتَعَالَى تَفَاعَلَ مِنَ الْعُلُوِّ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُلُوَّهُ وَعَظَمَتَهُ وَرُبُوبِيَّتَهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ اتِّصَافُهُ بِنُعُوتِ الْجَلَالِ وَأَنَّهُ لَا تكيفه الْأَوْهَامُ وَلَا تُقَدِّرُهُ الْعُقُولُ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ فَهُوَ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لِيَحْتَرِزُوا عَمَّا لَا يَنْبَغِي وَلْيُقْدِمُوا عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ التَّكَمُّلِ بِطَاعَاتِهِمْ وَالتَّضَرُّرِ بِمَعَاصِيهِمْ، فَالطَّاعَاتُ إِنَّمَا تَقَعُ بِتَوْفِيقِهِ وَتَيْسِيرِهِ، وَالْمَعَاصِي إِنَّمَا تَقَعُ عَدْلًا مِنْهُ وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِهِ بِمَا قَبْلَهُ وَجْهَانِ. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إن من قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ [طه: 105] إلى هاهنا يَتِمُّ الْكَلَامُ وَيَنْقَطِعُ ثُمَّ قَوْلُهُ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ خِطَابٌ/ مُسْتَأْنَفٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَيَسْأَلُونَكَ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَخَافُ مِنْ أَنْ يَفُوتَهُ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَقْرَأُ مَعَ الْمَلَكِ فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَسْكُتَ حَالَ قِرَاءَةِ الْمَلَكِ ثُمَّ يَأْخُذَ بَعْدَ فَرَاغِهِ فِي الْقِرَاءَةِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى شَرَحَ كَيْفِيَّةِ نَفْعِ الْقُرْآنِ لِلْمُكَلَّفِينَ وَبَيَّنَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَعَالٍ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي وَأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْإِحْسَانِ وَالرَّحْمَةِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَصُونَ رَسُولَهُ عَنِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ فِي أَمْرِ الْوَحْيِ، وَإِذْ حَصَلَ الْأَمَانُ عَنِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ قَالَ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا تَعْجَلْ بِقِرَاءَتِهِ فِي نَفْسِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَعْجَلَ فِي تَأْدِيَتِهِ إِلَى غَيْرِكَ، وَيَحْتَمِلُ فِي اعْتِقَادِ ظَاهِرِهِ، وَيَحْتَمِلُ فِي تَعْرِيفِ الْغَيْرِ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ تَمَامُهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ بَيَانُهُ، لِأَنَّ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُمَا إِلَّا بِالْوَحْيِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُنْهَى عَنْ قِرَاءَتِهِ لِكَيْ يَحْفَظَهُ وَيُؤَدِّيَهُ فَالْمُرَادُ إِذَنْ أَنْ لَا يَبْعَثَ نَفْسَهُ وَلَا يَبْعَثَ غَيْرَهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ بِالْوَحْيِ تَمَامُهُ أَوْ بَيَانُهُ أَوْ هُمَا جَمِيعًا، لِأَنَّهُ يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِي مَعْنَى الْكَلَامِ مَا لَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ الْفَرَاغُ لِمَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ عَقِيبَهُ مِنِ اسْتِثْنَاءٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنَ الْمُخَصَّصَاتِ فَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَلْنَذْكُرْ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [الْقِيَامَةِ: 16] وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَحْرِصُ عَلَى أَخْذِ الْقُرْآنِ مِنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَعْجَلُ بِقِرَاءَتِهِ قَبْلَ اسْتِتْمَامِ جِبْرِيلَ مَخَافَةَ النِّسْيَانِ فَقِيلَ لَهُ: لَا تَعْجَلْ إِلَى أَنْ يَسْتَتِمَّ وَحْيُهُ فَيَكُونَ أَخَذُكَ إِيَّاهُ عَنْ تَثَبُّتٍ وَسُكُونٍ واللَّه تَعَالَى يَزِيدُكَ فَهْمًا وَعِلْمًا، وَهَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَالسُّدِّيِّ وَرَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا. وَثَانِيهَا: لَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ فَتَقْرَأَهُ عَلَى أَصْحَابِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْكَ بَيَانُ مَعَانِيهِ وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ وَأُسْقُفَّ نَجْرَانَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا عَنْ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ ضَرَبْنَا لَكَ أَجَلًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَأَبْطَأَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ وَفَشَتِ الْمَقَالَةُ بِأَنَّ الْيَهُودَ قَدْ غَلَبُوا مُحَمَّدًا فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ أَيْ بِنُزُولِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى إِسْرَافِيلَ وَمِنْهُ إِلَى جِبْرِيلَ وَمِنْهُ إِلَيْكَ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً. وَرَابِعُهَا: رَوَى الْحَسَنُ أَنَّ امْرَأَةً

[سورة طه (20) : الآيات 115 إلى 119]

أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: زَوْجِي لَطَمَ وَجْهِي فَقَالَ: بَيْنَكُمَا الْقِصَاصُ فَنَزَلَ قَوْلُهُ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ فَأَمْسَكَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقِصَاصِ حَتَّى نزل قَوْلُهُ تَعَالَى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [النِّسَاءِ: 34] وَهَذَا بَعِيدٌ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى التَّفْصِيلِ الْأَوَّلِ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً فَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَهُ بِالْفَزَعِ إِلَى اللَّه سُبْحَانَهُ فِي زِيَادَةِ الْعِلْمِ الَّتِي تَظْهَرُ بِتَمَامِ الْقُرْآنِ أَوْ بَيَانِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الِاسْتِعْجَالُ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ إِنْ كَانَ فَعَلَهُ بِالْوَحْيِ فَكَيْفَ نُهِيَ عَنْهُ. الْجَوَابُ: لَعَلَّهُ فَعَلَهُ بِالِاجْتِهَادِ، وَكَانَ الْأَوْلَى تَرْكَهُ، فَلِهَذَا نُهِيَ عنه. [سورة طه (20) : الآيات 115 الى 119] وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ] اعلم أن هذا هي الْمَرَّةُ السَّادِسَةُ مِنْ قِصَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْقُرْآنِ: أَوَّلُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ فِي الْأَعْرَافِ ثُمَّ فِي الْحِجْرِ ثُمَّ فِي الإسراء ثم في الكهف، ثم هاهنا. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ [طه: 99] ثُمَّ إِنَّهُ عَظَّمَ أَمْرَ الْقُرْآنِ وَبَالَغَ فِيهِ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ إِنْجَازًا لِلْوَعْدِ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً [طه: 113] أَرْدَفَهُ بِقِصَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ طَاعَةَ بَنِي آدَمَ لِلشَّيْطَانِ وَتَرْكَهُمُ التَّحَفُّظَ مِنْ وَسَاوِسِهِ أَمْرٌ قَدِيمٌ فَإِنَّا قَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ صَرَّفْنَا لَهُمُ الْوَعِيدَ وَبَالَغْنَا فِي تَنْبِيهِهِ حَيْثُ قُلْنَا: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ نَسِيَ وَتَرَكَ ذَلِكَ الْعَهْدَ فَأَمْرُ الْبَشَرِ فِي تَرْكِ التَّحَفُّظِ مِنَ الشَّيْطَانِ أَمْرٌ قَدِيمٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] ذَكَرَ بَعْدَهُ قِصَّةَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ بعد ما عَهِدَ اللَّه إِلَيْهِ وَبَالَغَ فِي تَجْدِيدِ الْعَهْدِ وَتَحْذِيرِهِ مِنَ الْعَدُوِّ نَسِيَ، فَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ الْقُوَّةِ الْبَشَرِيَّةِ عَنِ التَّحَفُّظِ فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِرَبِّهِ فِي أَنْ يُوَفِّقَهُ لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَيُجَنِّبَهُ عَنِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قِيلَ لَهُ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه: 114] دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْجِدِّ فِي أَمْرِ الدِّينِ بِحَيْثُ زَادَ عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ فَلَمَّا وَصَفَهُ بِالْإِفْرَاطِ وَصَفَ آدَمَ بِالتَّفْرِيطِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ تَسَاهَلَ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَتَحَفَّظْ حَتَّى نَسِيَ فَوَصَفَ الْأَوَّلَ بِالتَّفْرِيطِ وَالْآخَرَ بِالْإِفْرَاطِ لِيُعْلِمَ أَنَّ الْبَشَرَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ نَوْعِ زَلَّةٍ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قِيلَ لَهُ: وَلا تَعْجَلْ ضَاقَ قَلْبُهُ وَقَالَ فِي نَفْسِهِ: لَوْلَا أَنِّي أَقْدَمْتُ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي وَإِلَّا لَمَا نُهِيتُ عَنْهُ فَقِيلَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَ مَا نُهِيتَ عَنْهُ فَإِنَّمَا فَعَلْتَهُ حِرْصًا مِنْكَ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَحِفْظًا لِأَدَاءِ الْوَحْيِ/ وَإِنَّ أَبَاكَ أَقْدَمَ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي لِلتَّسَاهُلِ وَتَرَكَ التَّحَفُّظَ فَكَانَ أَمْرُكَ أَحْسَنَ مِنْ أَمْرِهِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَهْدِ أَمْرٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى أَوْ نَهْيٌ مِنْهُ كَمَا يُقَالُ فِي أَوَامِرِ الْمُلُوكِ وَوَصَايَاهُمْ أَشَارَ الْمَلِكُ إِلَيْهِ وَعَهِدَ إِلَيْهِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: عَهِدْنَا إِلَيْهِ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنَ الشَّجَرَةِ وَلَا يَقْرَبَهَا، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ

صَرَّفْنَا لَهُمُ الْوَعِيدَ فِي الْقُرْآنِ. وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الشَّجَرَةِ عَهِدْنَا إِلَيْهِ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهَا. وَثَالِثُهَا: أَيْ مِنْ قَبْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَنَسِيَ فَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الاستقصاء في سورة البقرة، ونعيد هاهنا مِنْهُ شَيْئًا قَلِيلًا، وَفِي النِّسْيَانِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ مَا هُوَ نَقِيضُ الذِّكْرِ، وَإِنَّمَا عُوتِبَ عَلَى تَرْكِ التَّحَفُّظِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الضَّبْطِ حَتَّى تَوَلَّدَ مِنْهُ النِّسْيَانُ، وَكَانَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّه يَقُولُ: واللَّه مَا عَصَى قَطُّ إِلَّا بِنِسْيَانٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْيَانِ التَّرْكُ وَأَنَّهُ تَرَكَ مَا عُهِدَ إِلَيْهِ مِنَ الِاحْتِرَازِ عَنِ الشَّجَرَةِ وَأَكَلَ مِنْ ثَمَرَتِهَا، وَقُرِئَ: فَنُسِّيَ أَيْ فَنَسَّاهُ الشَّيْطَانُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: أَقْدَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَأَنْ يُقَالَ: أَقْدَمَ عَلَيْهَا مَعَ التَّأْوِيلِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْوُجُودُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَمِنْهُ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا وَأَنْ يَكُونَ نَقِيضَ الْعَدَمِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَعَدِمْنَا لَهُ عَزْمًا. الْبَحْثُ الثَّانِي: الْعَزْمُ هُوَ التَّصْمِيمُ وَالتَّصَلُّبُ، ثُمَّ قَوْلُهُ: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً يَحْتَمِلُ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا عَلَى الْقِيَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَيَكُونُ إِلَى الْمَدْحِ أَقْرَبَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ أَوْ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا عَلَى التَّحَفُّظِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْغَفْلَةِ، أَوْ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا عَلَى الِاحْتِيَاطِ فِي كَيْفِيَّةِ الِاجْتِهَادِ إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا أَخْطَأَ بِالِاجْتِهَادِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى فَهَذَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ: إِحْدَاهَا: أَنَّ الْمَأْمُورِينَ كُلُّ الْمَلَائِكَةِ أَوْ بَعْضُهُمْ. وَثَانِيَتُهَا: أَنَّهُ مَا مَعْنَى السُّجُودِ. وَثَالِثَتُهَا: أَنَّ إِبْلِيسَ هَلْ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْ لَا؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَكَيْفَ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَبِأَيِّ شَيْءٍ صَارَ مَأْمُورًا بِالسُّجُودِ؟ وَرَابِعَتُهَا: أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آدَمَ أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا؟ وَخَامِسَتُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ فِي صِفَةِ إِبْلِيسَ أَنَّهُ أَبَى كَيْفَ لَزِمَ الْكُفْرَ مِنْ ذَلِكَ الْإِبَاءِ وَأَنَّهُ هَلْ كَانَ كَافِرًا ابْتِدَاءً أَوْ كَفَرَ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ مَرَّتْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، أما قوله: فَقُلْنا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: مَا سَبَبُ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ حَسُودًا فَلَمَّا رَأَى آثَارَ نِعَمِ اللَّه تَعَالَى فِي حَقِّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَسَدَهُ فَصَارَ عَدُوًّا لَهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ آدَمَ كَانَ شَابًّا عَالِمًا لِقَوْلِهِ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها، وَإِبْلِيسَ كَانَ شَيْخًا جَاهِلًا لِأَنَّهُ أَثْبَتَ فَضْلَهُ بِفَضِيلَةِ أَصْلِهِ وَذَلِكَ جَهْلٌ، وَالشَّيْخُ الْجَاهِلُ/ أَبَدًا يَكُونُ عَدُوًّا لِلشَّابِّ الْعَالِمِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ إِبْلِيسَ مَخْلُوقٌ مِنَ النَّارِ وَآدَمَ مَخْلُوقٌ مِنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ فَبَيْنَ أَصْلَيْهِمَا عَدَاوَةٌ فَبَقِيَتْ تِلْكَ الْعَدَاوَةُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ مَعَ أَنَّ الْمُخْرِجَ لَهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ هُوَ اللَّه تَعَالَى. الْجَوَابُ: لَمَّا كَانَ بِوَسْوَسَتِهِ هُوَ الَّذِي فَعَلَ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ صَحَّ ذَلِكَ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ أُسْنِدَ إِلَى آدَمَ وَحْدَهُ فِعْلُ الشَّقَاءِ دُونَ حَوَّاءَ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْفِعْلِ. الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي ضِمْنِ شَقَاءِ الرَّجُلِ وَهُوَ قَيِّمُ أَهْلِهِ وَأَمِيرُهُمْ شَقَاءَهُمْ كَمَا أَنَّ فِي ضِمْنِ سَعَادَتِهِ سَعَادَتَهُمْ فَاخْتَصَّ الْكَلَامُ بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ دُونَهَا مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى رِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ. الثَّانِي: أُرِيدَ بِالشَّقَاءِ التَّعَبُ فِي طَلَبِ الْقُوتِ وَذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ أُهْبِطَ إِلَى آدَمَ ثَوْرٌ أَحْمَرُ وَكَانَ يَحْرُثُ عَلَيْهِ وَيَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى فَفِيهِ مَسَائِلُ:

[سورة طه (20) : الآيات 120 إلى 122]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ وَأَنَّكَ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَوَجْهُ الْفَتْحِ الْعَطْفُ عَلَى أَنْ لَا تَجُوعَ فِيهَا، فَإِنْ قِيلَ: أَنْ لَا تَدْخُلُ عَلَى أَنَّ فَلَا يُقَالُ أَنْ أَنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ وَالْوَاوُ نَائِبَةٌ عَنْ أَنَّ وَقَائِمَةٌ مَقَامَهَا فَلِمَ أُدْخِلَتْ عَلَيْهَا؟ قُلْنَا: الْوَاوُ لَمْ تُوضَعْ لِتَكُونَ أَبَدًا نَائِبَةً عَنْ أَنَّ، إِنَّمَا هِيَ نَائِبَةٌ عَنْ كُلِّ عَامِلٍ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ حَرْفًا مَوْضُوعًا لِلتَّحْقِيقِ خَاصَّةً كَانَ لَمْ يَمْتَنِعِ اجْتِمَاعُهُمَا كَمَا امْتَنَعَ اجْتِمَاعُ أَنْ وَأَنَّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الشِّبَعُ وَالرِّيُّ وَالْكُسْوَةُ وَالِاكْتِنَانُ فِي الظِّلِّ هِيَ الْأَقْطَابُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا أَمْرُ الْإِنْسَانِ. فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى حُصُولَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْكَسْبِ وَالطَّلَبِ وَذَكَرَهَا بِلَفْظِ النَّفْيِ لِأَضْدَادِهَا الَّتِي هِيَ الْجُوعُ وَالْعُرْيُ وَالظَّمَأُ وَالضُّحَى لِيَطْرُقَ سَمْعُهُ شَيْئًا مِنْ أَصْنَافِ الشِّقْوَةِ الَّتِي حَذَّرَهُ مِنْهَا حَتَّى يُبَالِغَ فِي الِاحْتِرَازِ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي يُوقِعُهُ فِيهَا، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا كَأَنَّهَا تَفْسِيرُ الشَّقَاءِ الْمَذْكُورِ فِي قوله: فَتَشْقى. [سورة طه (20) : الآيات 120 الى 122] فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّهُ عَظَّمَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ جَعَلَهُ مَسْجُودًا لِلْمَلَائِكَةِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ عَرَّفَهُ شِدَّةَ عَدَاوَةِ إِبْلِيسَ لَهُ وَلِزَوْجِهِ وَأَنَّهُ لِعَدَاوَتِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْمَعْصِيَةِ الَّتِي إِذَا وَقَعَتْ زَالَتْ تِلْكَ النِّعَمُ بِأَسْرِهَا، ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ اتَّفَقَ مِنْهُ وَمِنْ حَوَّاءَ الْإِقْدَامُ عَلَى الزَّلَّةِ مَا اتَّفَقَ، وَالْعَجَبُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: «لَوْ أَنَّ أَحْلَامَ بَنِي آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وُضِعَتْ فِي كِفَّةِ مِيزَانٍ وَوُضِعَ حُلْمُ آدَمَ فِي الْأُخْرَى لَرَجَحَ حُلْمُهُ بِأَحْلَامِهِمْ» وَلَكِنَّ الْمُكَادَحَةَ مَعَ قَضَاءِ اللَّه تَعَالَى مُمْتَنَعَةٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ وَاقِعَةَ آدَمَ عَجِيبَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى رَغَّبَهُ فِي دَوَامِ الرَّاحَةِ وَانْتِظَامِ الْمَعِيشَةِ بِقَوْلِهِ: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى [طه: 117- 119] وَرَغَّبَهُ إِبْلِيسُ أَيْضًا فِي دَوَامِ الرَّاحَةِ بِقَوْلِهِ: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَفِي انْتِظَامِ الْمَعِيشَةِ بِقَوْلِهِ: وَمُلْكٍ لَا يَبْلى فَكَانَ الشَّيْءُ الَّذِي رَغَّبَ اللَّه آدَمَ فِيهِ هُوَ الَّذِي رَغَّبَهُ إِبْلِيسُ فِيهِ إِلَّا أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى الِاحْتِرَاسِ عَنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ وَإِبْلِيسَ وَقَّفَهُ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ كَمَالِ عَقْلِهِ وَعِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى مَوْلَاهُ وَنَاصِرُهُ وَمُرَبِّيهِ أَعْلَمَهُ بِأَنَّ إِبْلِيسَ عَدُوُّهُ حَيْثُ امْتَنَعَ مِنَ السُّجُودِ لَهُ وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِلَّعْنَةِ بِسَبَبِ عَدَاوَتِهِ، كَيْفَ قَبِلَ فِي الْوَاقِعَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْمَقْصُودِ الْوَاحِدِ قَوْلَ إِبْلِيسَ مَعَ عِلْمِهِ بِكَمَالِ عَدَاوَتِهِ لَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ قَوْلِ اللَّه تَعَالَى مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ هُوَ النَّاصِرُ وَالْمُرَبِّي. وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي هَذَا الْبَابِ طَالَ تَعَجُّبُهُ وَعَرَفَ آخِرِ الْأَمْرِ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا دَافِعَ لِقَضَاءِ اللَّه وَلَا مَانِعَ مِنْهُ، وَأَنَّ الدَّلِيلَ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَنِهَايَةِ الْقُوَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ النَّفْعُ بِهِ إِلَّا إِذَا قَضَى اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ وَقَدَّرَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُ كَيْفَ وَسْوَسَ، وَبِمَاذَا وَسْوَسَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ عَدَّى وَسْوَسَ تَارَةً بِاللَّامِ فِي قوله: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ [الأعراف: 20] وأخرى بإلى؟ قلنا قوله: فَوَسْوَسَ لَهُمَا مَعْنَاهُ لِأَجْلِهِ وَقَوْلُهُ: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ مَعْنَاهُ أَنْهَى إِلَيْهِ الْوَسْوَسَةَ كَقَوْلِهِ حَدَّثَ لَهُ وَأَسَرَّ إِلَيْهِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْوَسْوَسَةَ كَانَتْ بِتَطْمِيعِهِ في أمرين:

أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ أَضَافَ الشَّجَرَةَ إِلَى الْخُلْدِ وَهُوَ الْخُلُودُ لِأَنَّ مَنْ أَكَلَ مِنْهَا صَارَ مُخَلَّدًا بِزَعْمِهِ. الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَمُلْكٍ لَا يَبْلى أَيْ مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ دَامَ مُلْكُهُ، قَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ فِي الظَّاهِرِ أَنَّ آدَمَ قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ بَلْ لَوَ وُجِدَتْ هَذِهِ الْوَسْوَسَةُ حَالَ كَوْنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبِيًّا لَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَحْصُلَ بَيْنَ حَالِ التَّكْلِيفِ وَحَالِ الْمُجَازَاةِ فَتْرَةٌ بِالْمَوْتِ، وَبِالْمَعْنَى فَآدَمُ لَمَّا كَانَ نَبِيًّا امْتَنَعَ أَنْ لَا يَعْلَمَ ذَلِكَ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ هَذِهِ الْفَتْرَةِ بَيْنَ حَالِ التَّكْلِيفِ وَحَالِ الْمُجَازَاةِ، وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَا حَاجَةَ إِلَى الْفَتْرَةِ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَيَكْفِي حُصُولُ الْفَتْرَةِ بِغَشْيٍ أَوْ نَوْمٍ خَفِيفٍ. ثُمَّ إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الْفَتْرَةِ بِالْمَوْتِ فَلِمَ قُلْتَ: النَّبِيُّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ، أَلَيْسَ قَوْمٌ مِنْكُمْ يَقُولُونَ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا سَأَلَ الرُّؤْيَةَ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَعْرِفُ امْتِنَاعَهَا عَلَى اللَّه تَعَالَى فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ الْجَهْلُ فَلِمَ لَا يَجُوزُ هَذَا الْجَهْلُ، ثُمَّ مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ آدَمَ كَانَ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ وَاقِعَةَ الزَّلَّةِ إِنَّمَا حَصَلَتْ قَبْلَ رِسَالَتِهِ لَا بَعْدَهَا، / ثُمَّ إِنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبِلَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِيبَ ذِكْرِ الْوَسْوَسَةِ فَأَكَلَا مِنْهَا، وَهَذَا التَّرْتِيبُ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ كَقَوْلِهِمْ: «زَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ» «وَسَهَا رَسُولُ اللَّه فَسَجَدَ» فَإِنَّ هَذِهِ الْفَاءَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجْمَ كَالْمُسَبَّبِ لِلزِّنَا وَالسُّجُودَ كَالْمُسَبَّبِ لِلسَّهْوِ فَكَذَلِكَ هاهنا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَكْلُ كَالْمُعَلَّلِ بِاسْتِمَاعِ قَوْلُهُ: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى وَإِنَّمَا يَحْصُلُ هَذَا التَّعْلِيلُ لَوْ قَبِلَ آدَمُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَوْ رَدَّ قَوْلَهُ لَمَا أَقْدَمَ عَلَى الْأَكْلِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبِلَ ذَلِكَ مِنْ إِبْلِيسَ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّهُمَا لَمَّا أَكَلَا بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَرِيَا مِنَ النُّورِ الَّذِي كَانَ اللَّه أَلْبَسَهُمَا حَتَّى بَدَتْ فُرُوجُهُمَا وَإِنَّمَا جَمَعَ فَقِيلَ سَوْآتُهُمَا كَمَا قَالَ: صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيمِ: 4] فَإِنْ قِيلَ: هَلْ كَانَ ظُهُورُ سَوْآتِهِمَا كَالْجَزَاءِ عَلَى مَعْصِيَتِهِمَا، قُلْنَا: لَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ كَالْمُعَلَّقِ عَلَى ذَلِكَ الْأَكْلِ، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ عِقَابًا عَلَيْهِ، بَلْ إِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ لِمَصْلَحَةٍ أُخْرَى أَمَّا قَوْلُهُ: وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : طَفِقَ يَفْعَلُ كَذَا مِثْلُ جَعَلَ يَفْعَلُ وَأَخَذَ وَأَنْشَأَ وَحُكْمُهَا حُكْمُ كَادَ فِي وُقُوعِ الْخَبَرِ فِعْلًا مُضَارِعًا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَهُ مَسَافَةٌ قَصِيرَةٌ، وَهِيَ لِلشُّرُوعِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَكَادَ لِمُقَارَبَتِهِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قُرِئَ يَخِصِّفَانِ لِلتَّكْثِيرِ وَالتَّكْرِيرِ مِنْ خَصَفَ النَّعْلَ، وَهُوَ أَنْ يَخْرِزَ عَلَيْهَا الْخِصَافَ أَيْ يُلْزِقَانِ الْوَرَقَةَ عَلَى سَوْآتِهِمَا لِلسَّتْرِ وَهُوَ وَرَقُ التِّينِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى فَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَذَا فِي صُدُورِ الْكَبِيرَةِ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَاصِيَ اسْمٌ لِلذَّمِّ فَلَا يَنْطَلِقُ إِلَّا عَلَى صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها [النِّسَاءِ: 14] وَلَا مَعْنَى لِصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ إِلَّا مَنْ فَعَلَ فِعْلًا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْغَوَايَةَ وَالضَّلَالَةَ اسْمَانِ مُتَرَادِفَانِ وَالْغَيَّ ضِدُّ الرُّشْدِ وَمِثْلُ هَذَا الِاسْمِ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْفَاسِقَ الْمُنْهَمِكَ فِي فِسْقِهِ. أَجَابَ قَوْمٌ عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ فَقَالُوا: الْمَعْصِيَةُ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ، وَالْأَمْرُ قَدْ يَكُونُ بِالْوَاجِبِ وَالنَّدْبِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَشَرْتُ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ وَلَدِهِ فِي كَذَا فَعَصَانِي، وَأَمَرْتُهُ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ فَعَصَانِي، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ إِطْلَاقُ اسْمِ الْعِصْيَانِ عَلَى آدَمَ لَا لِكَوْنِهِ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ بَلْ لِكَوْنِهِ تَارِكًا لِلْمَنْدُوبِ، فَأَجَابَ الْمُسْتَدِلُّ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ بِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَاصِيَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ وَالْعُرْفُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ ذَمٍّ فَوَجَبَ تَخْصِيصُ اسْمِ الْعَاصِي بِتَارِكِ الْوَاجِبِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَارِكُ الْمَنْدُوبِ عَاصِيًا لَوَجَبَ وَصْفُ الْأَنْبِيَاءِ بِأَسْرِهِمْ بِأَنَّهُمْ عُصَاةٌ فِي كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُمْ لَا يَنْفَكُّونَ مِنْ تَرْكِ الْمَنْدُوبِ، فَإِنْ قِيلَ: وصف

تَارِكِ الْمَنْدُوبِ بِأَنَّهُ عَاصٍ مَجَازٌ وَالْمَجَازُ لَا يَطَّرِدُ، قُلْنَا: لَمَّا سَلَّمْتَ كَوْنَهُ مَجَازًا فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، أَمَّا قَوْلُهُ: أَشَرْتُ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ وَلَدِهِ فِي كَذَا فَعَصَانِي وَأَمَرْتُهُ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ فَعَصَانِي قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْعَرَبِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ إِنَّمَا يُطْلِقُونَ ذَلِكَ إِذَا جَزَمُوا عَلَى الْمُسْتَشِيرِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِذَلِكَ الْفِعْلِ/ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَعْنَى الْإِيجَابِ، حَاصِلًا وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوُجُوبُ حَاصِلًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْعِصْيَانِ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ إِلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الْإِيجَابِ، لَكِنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْإِيجَابَ مِنَ اللَّه تَعَالَى يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْعِصْيَانِ عَلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهِ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ سَلَّمَ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى صُدُورِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ لَكِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ كَانَتْ مِنَ الصَّغَائِرِ لَا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ اسْمَ الْعَاصِي اسْمٌ لِلذَّمِّ، وَلِأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالصَّغِيرَةِ، وَأَجَابَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ بِأَنَّهُ عَصَى فِي مَصَالِحَ الدُّنْيَا لَا فِيمَا يَتَّصِلُ بِالتَّكَالِيفِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي غَوَى، وَهَذَا أَيْضًا بِعِيدٌ لِأَنَّ مَصَالِحَ الدُّنْيَا تَكُونُ مُبَاحَةً، وَمَنْ يَفْعَلُهَا لَا يُوصَفُ بِالْعِصْيَانِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِلذَّمِّ وَلَا يُقَالُ: (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ) وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَغَوى فَأَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ خَابَ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَكَلَ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ لِيَصِيرَ مُلْكُهُ دَائِمًا ثُمَّ لَمَّا أَكَلَ زَالَ فَلَمَّا خَابَ سَعْيُهُ وَمَا نَجَحَ قِيلَ إِنَّهُ غَوَى، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْغَيَّ ضِدُّ الرُّشْدِ، وَالرُّشْدُ هُوَ أَنْ يُتَوَصَّلَ بِشَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ يُوَصِّلُ إِلَى الْمَقْصُودِ فَمَنْ تَوَصَّلَ بِشَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ فَحَصَلَ لَهُ ضِدُّ مَقْصُودِهِ كَانَ ذَلِكَ غَيًّا. وَثَانِيهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: غَوَى أَيْ بَشِمَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هَذَا وَإِنْ صح على لغة من يقلب الياء المكسورة مَا قَبْلَهَا أَلِفًا، فَيَقُولُ فِي فَنِيَ وَبَقِيَ فنا وبقا، وهم بنو طيء فَهُوَ تَفْسِيرٌ خَبِيثٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَوْلَى عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ وَالْأَحْسَمَ لِلشَّغَبِ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْوَاقِعَةُ كَانَتْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَقَدْ شَرَحْنَا ذلك في سورة البقرة. وهاهنا بَحْثٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ أَنْ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ وَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ آدَمَ عَصَى وَغَوَى لَكِنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ آدَمَ كَانَ عَاصِيًا غَاوِيًا، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا أُمُورٌ: أَحَدُهَا: قَالَ الْعُتْبِيُّ: يُقَالُ لِرَجُلٍ قَطَعَ ثَوْبًا وَخَاطَهُ قَدْ قَطَعَهُ وَخَاطَهُ، وَلَا يُقَالُ: خَائِطٌ وَلَا خَيَّاطٌ حَتَّى يَكُونَ مُعَاوِدًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ مَعْرُوفًا بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الزَّلَّةَ لَمْ تَصْدُرْ عَنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ إِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ إِنَّمَا وَقَعَتْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، لَمْ يَجُزْ بَعْدَ أَنْ قَبِلَ اللَّه تَوْبَتَهُ وَشَرَّفَهُ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، إِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ كَمَا لَا يُقَالُ لِمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْكُفْرِ إِنَّهُ كَافِرٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا، بَلْ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْوَاقِعَةُ وَقَعَتْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَابَ عَنْهَا، كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ إِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ أَوْ زَنَى ثُمَّ تَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ لَا يُقَالُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِنَّهُ شَارِبُ خَمْرٍ أو زان فكذا هاهنا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَنَا: عَاصٍ وَغَاوٍ يُوهِمُ كَوْنَهُ عَاصِيًا فِي أَكْثَرِ الْأَشْيَاءِ وَغَاوِيًا عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَلَمْ تَرِدْ هَاتَانِ اللَّفْظَتَانِ فِي الْقُرْآنِ مُطْلَقَتَيْنِ بَلْ مَقْرُونَتَيْنِ بِالْقِصَّةِ الَّتِي عَصَى فِيهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: عَصَى فِي كَيْتَ وَكَيْتَ وَذَلِكَ لَا يُوهِمُ التَّوَهُّمَ الْبَاطِلَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ مِنَ اللَّه تَعَالَى مَا لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ فِي عَبِيدِهِ وَوَلَدِهِ عِنْدَ مَعْصِيَتِهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ مَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ السَّيِّدِ فِي عَبْدِهِ وَوَلَدِهِ، أَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى فَالْمَعْنَى ثُمَّ اصْطَفَاهُ فَتَابَ عَلَيْهِ أَيْ عَادَ/ عَلَيْهِ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ وَهَدَاهُ رُشْدَهُ حَتَّى رَجَعَ إِلَى النَّدَمِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَقَبِلَ اللَّه مِنْهُ ذَلِكَ، رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ جُمِعَ بُكَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَى بُكَاءِ دَاوُدَ كَانَ بُكَاؤُهُ أَكْثَرَ، وَلَوْ جُمِعَ كُلُّ ذَلِكَ إِلَى بُكَاءِ نُوحٍ لَكَانَ بُكَاءُ نُوحٍ أَكْثَرَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ نُوحًا لِنَوْحِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَوْ جُمِعَ كُلُّ ذَلِكَ إِلَى بُكَاءِ آدَمَ لَكَانَ بُكَاءُ آدَمَ عَلَى خَطِيئَتِهِ أَكْثَرَ» وَقَالَ

[سورة طه (20) : الآيات 123 إلى 127]

وَهْبٌ: إِنَّهُ لَمَّا كَثُرَ بُكَاؤُهُ أَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَقُولَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ» فَقَالَهَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ قَالَ قُلْ: «لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» ثُمَّ قَالَ قُلْ: «لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: هَذِهِ الْكَلِمَاتُ هِيَ الَّتِي تَلَقَّاهَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ رَبِّهِ. [سورة طه (20) : الآيات 123 الى 127] قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127) اعْلَمْ أَنَّ عَلَى أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالًا وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: اهْبِطا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ خِطَابًا مَعَ شَخْصَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِشَخْصَيْنِ فَكَيْفَ قَالَ بَعْدَهُ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً وَهُوَ خِطَابُ الْجَمْعِ وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِأَكْثَرَ مِنْ شَخْصَيْنِ فَكَيْفَ قَالَ: اهْبِطا وَذَكَرُوا فِي جَوَابِهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْخِطَابُ لِآدَمَ وَمَعَهُ ذُرِّيَّتُهُ وَلِإِبْلِيسَ وَمَعَهُ ذُرِّيَّتُهُ فَلِكَوْنِهِمَا جِنْسَيْنِ صَحَّ قَوْلُهُ: اهْبِطا وَلِأَجْلِ اشْتِمَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجِنْسَيْنِ عَلَى الْكَثْرَةِ صَحَّ قَوْلُهُ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ ثَانِيهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : لَمَّا كَانَ آدَمُ وَحَوَّاءُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَصْلًا لِلْبَشَرِ وَالسَّبَبِ اللَّذَيْنِ مِنْهُمَا تَفَرَّعُوا جُعِلَا كَأَنَّهُمَا/ الْبَشَرُ أَنْفُسُهُمْ فَخُوطِبَا مُخَاطَبَتَهُمْ فَقَالَ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ عَلَى لَفْظِ الْجَمَاعَةِ، أَمَّا قَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَقَالَ الْقَاضِي: يَكْفِي فِي تَوْفِيَةِ هَذَا الظَّاهِرِ حَقَّهُ أَنْ يَكُونَ إِبْلِيسُ وَالشَّيَاطِينُ أَعْدَاءً لِلنَّاسِ وَالنَّاسُ أَعْدَاءً لَهُمْ، فَإِذَا انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ عَدَاوَةُ بَعْضِ الْفَرِيقَيْنِ لِبَعْضٍ لَمْ يَمْتَنِعْ دُخُولُهُ فِي الْكَلَامِ، وَقَوْلُهُ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الذُّرِّيَّةُ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْهُدَى، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الرُّسُلُ وَبَعْضُهُمْ قَالَ: الْآخَرُ وَالْأَدِلَّةُ وَبَعْضُهُمْ قَالَ الْقُرْآنُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْهُدَى عِبَارَةٌ عَنِ الدَّلَالَةِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ذَلِكَ، وَفِي قَوْلِهِ: فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْهُدَى الَّذِي ضَمِنَ اللَّه عَلَى اتِّبَاعِهِ ذَلِكَ اتِّبَاعُ الْأَدِلَّةِ، وَاتِّبَاعُهَا لَا يَتَكَامَلُ إِلَّا بِأَنْ يَسْتَدِلَّ بِهَا وَبِأَنْ يَعْمَلَ بِهَا، وَمِنْ هَذَا حَالُهُ فَقَدْ ضَمِنَ اللَّه تَعَالَى لَهُ أَنْ لَا يَضِلَّ وَلَا يَشْقَى، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا يَضِلُّ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ. وَثَانِيهَا: لَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَهْدِيهِ إِلَى الْجَنَّةِ وَيُمَكِّنُهُ فِيهَا. وَثَالِثُهَا: لَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى فِي الدُّنْيَا فَإِنْ قِيلَ: الْمُتَّبِعُ لِهُدَى اللَّه قَدْ يحلقه الشَّقَاءُ فِي الدُّنْيَا، قُلْنَا: الْمُرَادُ لَا يَضِلُّ فِي الدِّينِ وَلَا يَشْقَى بِسَبَبِ الدَّيْنِ فَإِنْ حَصَلَ الشَّقَاءُ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلَا بَأْسَ، وَلَمَّا وَعَدَ اللَّه تَعَالَى مَنْ يَتَّبِعُ الْهُدَى أَتْبَعَهُ بِالْوَعِيدِ فِيمَنْ أَعْرَضَ، فَقَالَ: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي وَالذِّكْرُ يَقَعُ عَلَى الْقُرْآنِ وَعَلَى سَائِرِ كُتُبِ اللَّه تَعَالَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْأَدِلَّةُ، وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً فَالضَّنْكُ أَصْلُهُ الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ وَهُوَ مَصْدَرٌ ثُمَّ يُوصَفُ بِهِ فَيُقَالُ: مَنْزِلٌ ضَنْكٌ، وَعَيْشٌ ضَنْكٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَعِيشَةٌ ذَاتُ ضَنْكٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الضِّيقَ الْمُتَوَعَّدَ بِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا أَوْ

فِي الْقَبْرِ أَوْ فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِي الدِّينِ أَوْ فِي كُلِّ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَالَ بِهِ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لِتَوَكُّلِهِ عَلَى اللَّه يَعِيشُ فِي الدُّنْيَا عَيْشًا طَيِّبًا كَمَا قَالَ: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النَّحْلِ: 97] وَالْكَافِرُ باللَّه يَكُونُ حَرِيصًا عَلَى الدُّنْيَا طَالِبًا لِلزِّيَادَةِ أَبَدًا فَعِيشَتُهُ ضَنْكٌ وَحَالَتُهُ مُظْلِمَةٌ، وَأَيْضًا فَمِنَ الْكَفَرَةِ مَنْ ضَرَبَ اللَّه عَلَيْهِ الذِّلَّةَ وَالْمَسْكَنَةَ لِكُفْرِهِ قَالَ تَعَالَى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 61] وَقَالَ: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [الْمَائِدَةِ: 66] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الْأَعْرَافِ: 96] وَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ [نُوحٍ: 10- 12] وَقَالَ: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً [الْجِنِّ: 16] . وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ، فَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَبْدِ اللَّه بْنِ عَبَّاسٍ وَرَفَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ لِلْكَافِرِ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَيُسَلَّطُ عَلَيْهِ فِي قَبْرِهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّينًا» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى الْمَخْزُومِيِّ وَالْمُرَادُ ضَغْطَةُ الْقَبْرِ تَخْتَلِفُ فِيهَا أَضْلَاعُهُ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ الضِّيقُ فِي الْآخِرَةِ فِي جَهَنَّمَ، فَإِنَّ طَعَامَهُمْ فِيهَا الضَّرِيعُ وَالزَّقُّومُ، وَشَرَابَهُمُ الْحَمِيمُ وَالْغِسْلِينُ فَلَا يَمُوتُونَ فِيهَا/ وَلَا يَحْيَوْنَ وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالْكَلْبِيِّ. وَأَمَّا الرَّابِعُ: وَهُوَ الضِّيقُ فِي أَحْوَالِ الدِّينِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ هِيَ أَنْ تُضَيَّقَ عَلَيْهِ أَبْوَابُ الْخَيْرِ فَلَا يَهْتَدِي لِشَيْءٍ مِنْهَا. سُئِلَ الشِّبْلِيُّ عَنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ الْبَلَاءِ فَاسْأَلُوا اللَّه الْعَافِيَةَ» فَقَالَ أَهْلُ الْبَلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْغَفَلَاتِ عَنِ اللَّه تَعَالَى فَعُقُوبَتُهُمْ أَنْ يَرُدَّهُمُ اللَّه تَعَالَى إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَيُّ مَعِيشَةٍ أَضْيَقُ وَأَشَدُّ مِنْ أَنْ يُرَدَّ الْإِنْسَانُ إِلَى نَفْسِهِ، وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ هِيَ مَعِيشَةُ الْكَافِرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُوقِنٍ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَأَمَّا الْخَامِسُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الضِّيقُ فِي كُلِّ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرِهِ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «عُقُوبَةُ الْمَعْصِيَةِ ثَلَاثَةٌ: ضِيقُ الْمَعِيشَةِ وَالْعُسْرُ فِي الشِّدَّةِ، وَأَنْ لَا يَتَوَصَّلَ إِلَى قُوَّتِهِ إِلَّا بِمَعْصِيَةِ اللَّه تَعَالَى» أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الْإِسْرَاءِ: 97] وَكَمَا فُسِّرَتِ الزُّرْقَةُ بِالْعَمَى، ثُمَّ قِيلَ: إِنَّهُ يُحْشَرُ بَصِيرًا فَإِذَا سِيقَ إِلَى الْمَحْشَرِ عَمِيَ وَالْكَلَامُ فِيهِ وَعَلَيْهِ قد تقدم في قوله: زُرْقاً [طه: 132] . وَثَانِيهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي أَعْمَى عَنِ الْحُجَّةِ، وَهِيَ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ فِي الْقِيَامَةِ لَا بُدَّ أَنْ يُعْلِمَهُمُ اللَّه تَعَالَى بُطْلَانَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ حَتَّى يَتَمَيَّزَ لَهُمُ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ إِلَّا مَجَازًا، وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَلَا يَلِيقُ بِهَذَا قَوْلُهُ: وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِي حَالِ الدُّنْيَا أَقُولُ وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الِاعْتِرَاضَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّلَ ذَلِكَ الْعَمَى بِمَا أَنَّ الْمُكَلَّفَ نَسِيَ الدَّلَائِلَ فِي الدُّنْيَا فَلَوْ كَانَ الْعَمَى الْحَاصِلُ فِي الْآخِرَةِ بَيْنَ ذَلِكَ النِّسْيَانِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَلَّفِ بِسَبَبِ ذَلِكَ ضَرَرٌ، كَمَا أَنَّهُ مَا كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ ذَلِكَ ضَرَرٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ تَحْقِيقَ الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ مَأْخُوذٌ مِنْ أَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْجَاهِلَةَ فِي الدُّنْيَا الْمُفَارَقِةَ عَنْ أَبْدَانِهَا عَلَى جَهَالَتِهَا تَبْقَى عَلَى تِلْكَ الْجَهَالَةِ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ تِلْكَ الْجَهَالَةَ تَصِيرُ هُنَاكَ سَبَبًا لِأَعْظَمِ الْآلَامِ الرُّوحَانِيَّةِ. وَبَيْنَ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَبَيْنَ طَرِيقَةِ الْقَاضِي الْمَبْنِيَّةِ عَلَى أُصُولِ الِاعْتِزَالِ بَوْنٌ شَدِيدٌ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ حَشْرِهِ أَعْمَى أَنَّهُ لَا يَهْتَدِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى طَرِيقٍ يَنَالُ مِنْهُ خَيْرًا بَلْ يَبْقَى وَاقِفًا مُتَحَيِّرًا كَالْأَعْمَى الَّذِي لَا يَهْتَدِي إِلَى شَيْءٍ، أَمَّا قَوْلُهُ: قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي

[سورة طه (20) : الآيات 128 إلى 130]

أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى فَفِي تَقْرِيرِ هَذَا الْجَوَابِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْزَلَ بِهِ هَذَا الْعَمَى جَزَاءً عَلَى تَرْكِهِ اتِّبَاعَ الْهُدَى وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ. وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ إِذَا فَارَقَتْ أَبْدَانَهَا جَاهِلَةً ضَالَّةً عَنِ الِاتِّصَالِ بِالرُّوحَانِيَّاتِ بَقِيَتْ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ وَعَظُمَتِ الْآلَامُ الرُّوحَانِيَّةُ، فَلِهَذَا عَلَّلَ اللَّه تَعَالَى حُصُولَ الْعَمَى فِي الْآخِرَةِ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الدَّلَائِلِ فِي الدُّنْيَا، وَمَنْ فَسَّرَ الْمَعِيشَةَ الضَّنْكَ بِالضِّيقِ فِي الدُّنْيَا، قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ فِي الدُّنْيَا فَلَهُ الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَمَى فِي الْآخِرَةِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ فَقَدِ/ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَبَعْضُهُمْ قَالَ: أَشْرَكَ وَكَفَرَ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: أَسْرَفَ فِي أَنْ عَصَى اللَّه وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى الْمُرَادَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: أَسْرَفَ وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَجْزِي مَنْ هَذَا حَالُهُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ وَالْعَمَى وَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ: عَذَابَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى أَمَّا الْأَشَدُّ فَلِعِظَمِهِ، وَأَمَّا الْأَبْقَى فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ. [سورة طه (20) : الآيات 128 الى 130] أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ مِنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ كَيْفَ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَتْبَعَهُ بِمَا يَعْتَبِرُ [بِهِ] الْمُكَلَّفُ مِنَ الْأَحْوَالِ الْوَاقِعَةِ فِي الدُّنْيَا بِمَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَقَالَ: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ وَالْقِرَاءَةُ الْعَامَّةُ أَفَلَمْ يَهْدِ بِالْيَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ تَحْتُ وَفَاعِلُهُ هُوَ قَوْلُهُ: كَمْ أَهْلَكْنا قَالَ الْقَفَّالُ: جَعَلَ كَثْرَةَ مَا أَهْلَكَ مِنَ الْقُرُونِ مُبَيَّنًا لَهُمْ، كَمَا جَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَاعِظًا لَهُمْ وَزَاجِرًا، وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ أَفَلَمْ نَهْدِ لَهُمْ بِالنُّونِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْنِي أَفَلَمْ نُبَيِّنْ لَهُمْ بَيَانًا يَهْتَدُونَ بِهِ لَوْ تَدَبَّرُوا وَتَفَكَّرُوا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَمْ أَهْلَكْنا فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي كَثْرَةِ مَنْ أَهْلَكَهُ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ أَنَّ قُرَيْشًا يُشَاهِدُونَ تِلْكَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةَ الدَّالَّةَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ ضُرُوبِ الْهَلَاكِ، وَلِلْمُشَاهَدَةِ فِي ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِبَارِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ آيَاتٌ لِأُولِي النُّهَى، أَيْ لِأَهْلِ الْعُقُولِ وَالْأَقْرَبُ أَنَّ لِلنُّهْيَةِ مَزِيَّةً عَلَى الْعَقْلِ، وَالنُّهَى لَا يُقَالُ إِلَّا فِيمَنْ لَهُ عَقْلٌ يَنْتَهِي بِهِ عَنِ الْقَبَائِحِ، كَمَا أَنَّ لِقَوْلِنَا: أُولُو الْعَزْمِ مَزِيَّةً على أولو الْحَزْمِ، فَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَهْلُ الْوَرَعِ وَأَهْلُ التَّقْوَى، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى الْوَجْهَ الَّذِي لِأَجْلِهِ لَا يُنَزَّلُ الْعَذَابُ مُعَجَّلًا عَلَى/ مَنْ كَذَّبَ وَكَفَرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى وَفِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وَأَجَلٌ مُسَمًّى لَكَانَ لِزَامًا، وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْكَلِمَةَ هِيَ إِخْبَارُ اللَّه تَعَالَى مَلَائِكَتَهُ وَكَتْبُهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَنَّ أُمَّتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَذَّبُوا فَسَيُؤَخَّرُونَ وَلَا يُفْعَلُ بِهِمْ مَا يُفْعَلُ بِغَيْرِهِمْ مِنَ الِاسْتِئْصَالِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لِأَجْلِهِ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ، وَقَالَ آخَرُونَ: عَلِمَ أَنَّ فِي نَسْلِهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ وَلَوْ أَنْزَلَ بِهِمُ الْعَذَابَ لَعَمَّهُمُ الْهَلَاكُ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمَصْلَحَةُ فِيهِ خَفِيَّةٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: لَهُ بِحُكْمِ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَخُصَّ مَنْ شَاءَ بِفَضْلِهِ وَمَنْ شَاءَ بِعَذَابِهِ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ، إِذْ لَوْ كَانَ فِعْلُهُ لِعِلَّةٍ لَكَانَتْ تِلْكَ الْعِلَّةُ إِنْ كَانَتْ قَدِيمَةً لَزِمَ قِدَمُ الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَتْ حَادِثَةً افْتَقَرَتْ إِلَى عِلَّةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، فَلِهَذَا قَالَ

أَهْلُ التَّحْقِيقِ: كُلُّ شَيْءٍ صَنِيعُهُ لَا لِعِلَّةٍ، وَأَمَّا الْأَجَلُ الْمُسَمَّى فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى فِي الدُّنْيَا لِذَلِكَ الْعَذَابِ وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ. وَالثَّانِي: وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى فِي الآخرة لذلك العذب وهو أَقْرَبُ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ تَتَضَمَّنُ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ إِلَى الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ [الْقَمَرِ: 46] لَكَانَ الْعِقَابُ لَازِمًا لَهُمْ فِيمَا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ تَكْذِيبِ الرَّسُولِ وَأَذِيَّتِهِمْ لَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ نَبِيَّهُ بِأَنَّهُ لَا يُهْلِكُ أَحَدًا قَبْلَ اسْتِيفَاءِ أَجَلِهِ أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا يَكْرَهُهُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَوْلَ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ شَاعِرٌ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَكْذِيبَهُمْ لَهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا تَرْكَهُمُ الْقَبُولَ مِنْهُ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا يَغُمُّهُ وَيُؤْذِيهِ فَرَغَّبَهُ تَعَالَى فِي الصَّبْرِ وَبَعَثَهُ عَلَى الْإِدَامَةِ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَإِبْلَاغِ مَا حُمِّلَ مِنَ الرِّسَالَةِ وَأَنْ لَا يَكُونَ مَا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ صَارِفًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ، ثُمَّ قَالَ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [الْبَقَرَةِ: 45] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: بِحَمْدِ رَبِّكَ في موضع الحال أي وَأَنْتَ حَامِدٌ لِرَبِّكَ عَلَى أَنْ وَفَّقَكَ لِلتَّسْبِيحِ وَأَعَانَكَ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا أَمَرَ عَقِيبَ الصَّبْرِ بِالتَّسْبِيحِ لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّه تَعَالَى يُفِيدُ السَّلْوَةَ وَالرَّاحَةَ إِذْ لَا رَاحَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ لِقَاءِ اللَّه تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي التَّسْبِيحِ عَلَى وَجْهَيْنِ، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الصَّلَاةُ وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ لَا أَزْيَدَ وَلَا أَنْقَصَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: دَخَلَتِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِيهِ، فَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ هُوَ صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا هُوَ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحِ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ الْأَخِيرَةُ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَأَطْرافَ النَّهارِ كَالتَّوْكِيدِ لِلصَّلَاتَيْنِ الْوَاقِعَتَيْنِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ وَهُمَا صَلَاةُ الْفَجْرِ وَصَلَاةُ الْمَغْرِبِ كَمَا اخْتَصَّتْ فِي قَوْلِهِ: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [الْبَقَرَةِ: 238] بِالتَّوْكِيدِ. الْقَوْلُ/ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَزِيَادَةٍ، أَمَّا دَلَالَتُهَا عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَلِأَنَّ الزَّمَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ قَبْلَ غُرُوبِهَا، فَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ دَاخِلَانِ فِي هَاتَيْنِ الْعِبَارَتَيْنِ، فَأَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ الْوَاجِبَةِ دَخَلَتْ فِيهِمَا، بَقِيَ قَوْلُهُ: وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى وَأَطْرَافُ النَّهَارِ لِلنَّوَافِلِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَقَلِّ مِنَ الْخَمْسِ، فَقَوْلُهُ: قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِلْفَجْرِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا لِلْعَصْرِ، وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ لِلْمَغْرِبِ وَالْعَتَمَةِ، فَيَبْقَى الظُّهْرُ خَارِجًا. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْوَى وَبِالِاعْتِبَارِ أَوْلَى. هَذَا كُلُّهُ إِذَا حَمَلْنَا التَّسْبِيحَ عَلَى الصَّلَاةِ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: لَا يَبْعُدُ حَمْلُهُ عَلَى التَّنْزِيهِ وَالْإِجْلَالِ، وَالْمَعْنَى اشْتَغِلْ بِتَنْزِيهِ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبُ إِلَى الظَّاهِرِ وَإِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى صَبَّرَهُ أَوَّلًا عَلَى مَا يَقُولُونَ مِنْ تَكْذِيبِهِ وَمِنْ إِظْهَارِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَالَّذِي يَلِيقُ بِذَلِكَ أَنْ يَأْمُرَ بِتَنْزِيهِهِ تَعَالَى عَنْ قَوْلِهِمْ حَتَّى يَكُونَ دَائِمًا مُظْهِرًا لِذَلِكَ وَدَاعِيًا إِلَيْهِ فَلِذَلِكَ قَالَ مَا يَجْمَعُ كُلَّ الْأَوْقَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَفْضَلُ الذِّكْرِ مَا كَانَ بِاللَّيْلِ لِأَنَّ الْجَمْعِيَّةَ فِيهِ أَكْثَرُ. وَذَلِكَ لِسُكُونِ النَّاسِ وَهَدْءِ حَرَكَاتِهِمْ وَتَعْطِيلِ الْحَوَاسِّ عَنِ الْحَرَكَاتِ وَعَنِ الْأَعْمَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: 6] وقال: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ [الزُّمَرِ: 9] وَلِأَنَّ اللَّيْلَ

[سورة طه (20) : الآيات 131 إلى 135]

وَقْتُ السُّكُونِ وَالرَّاحَةِ. فَإِذَا صُرِفَ إِلَى الْعِبَادَةِ كَانَتْ عَلَى الْأَنْفُسِ أَشَقَّ وَلِلْبَدَنِ أَتْعَبَ فَكَانَتْ أَدْخَلَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ وَالْفَضْلِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: النَّهَارُ لَهُ طَرَفَانِ فَكَيْفَ قَالَ: وَأَطْرافَ النَّهارِ بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ كَمَا قَالَ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هُودٍ: 114] ، وَجَوَابُهُ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ فَسَقَطَ السُّؤَالُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا جُمِعَ لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ نَهَارٍ وَيَعُودُ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكَ تَرْضى فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا كَمَا يَقُولُ الْمَلِكُ الْكَبِيرُ: يَا فُلَانُ اشْتَغِلْ بِالْخِدْمَةِ فَلَعَلَّكَ تَنْتَفِعُ بِهِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ إِنِّي أُوصِلُكَ إِلَى دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ فِي النِّعْمَةِ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضُّحَى: 5] وَقَوْلُهُ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الْإِسْرَاءِ: 79] ، وَثَانِيهَا: لَعَلَّكَ تَرْضَى مَا تَنَالُ مِنَ الثَّوَابِ. وَثَالِثُهَا: لَعَلَّكَ تَرْضَى مَا تَنَالُ مِنَ الشَّفَاعَةِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ: لَعَلَّكَ تَرْضى بِضَمِّ التَّاءِ وَالْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى إِذَا أَرْضَاهُ فَقَدْ رضيه وإذا رضيه فقد أرضاه. [سورة طه (20) : الآيات 131 الى 135] وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا صَبَّرَ رَسُولَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَا يَقُولُونَ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَعْدِلَ إِلَى التَّسْبِيحِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِنَهْيِهِ عَنْ مَدِّ عَيْنَيْهِ إِلَى مَا مَتَّعَ بِهِ الْقَوْمَ فَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ مِنْهُ نَظَرُ الْعَيْنِ وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: مَدُّ النَّظَرِ تَطْوِيلُهُ وَأَنْ لَا يَكَادَ يَرُدَّهُ اسْتِحْسَانًا لِلْمَنْظُورِ إِلَيْهِ إِعْجَابًا بِهِ كَمَا فَعَلَ نَظَّارَةُ قارون حيث قالوا: يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [الْقَصَصِ: 79] حَتَّى وَاجَهَهُمْ أولوا الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ بِقَوْلِهِمْ: وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [الْقَصَصِ: 80] وَفِيهِ أَنَّ النَّظَرَ غَيْرَ الْمَمْدُودِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ وَذَلِكَ كَمَا إِذَا نَظَرَ الْإِنْسَانُ إِلَى شَيْءٍ مَرَّةً ثُمَّ غَضَّ، وَلَمَّا كَانَ النَّظَرُ إِلَى الزَّخَارِفِ كَالْمَرْكُوزِ فِي الطِّبَاعِ قِيلَ: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أَيْ لَا تَفْعَلْ مَا أَنْتَ مُعْتَادٌ لَهُ. وَلَقَدْ شَدَّدَ الْمُتَّقُونَ فِي وُجُوبِ غَضِّ الْبَصَرِ عَنْ أَبْنِيَةِ الظَّلَمَةِ وَعُدَدِ الْفَسَقَةِ فِي اللِّبَاسِ وَالْمَرْكُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِعُيُونِ النَّظَّارَةِ، فَالنَّاظِرُ إِلَيْهَا مُحَصِّلٌ لِغَرَضِهِمْ وَكَالْمُقَوِّي لَهُمْ عَلَى اتِّخَاذِهَا. الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ لَيْسَ هُوَ النَّظَرَ، بَلْ هُوَ الْأَسَفُ أَيْ لَا تَأْسَفْ عَلَى مَا فَاتَكَ مِمَّا نَالُوهُ مِنْ حَظِّ الدُّنْيَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو رَافِعٍ: «نَزَلَ ضَيْفٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَنِي إِلَى يَهُودِيٍّ لِبَيْعٍ أَوْ سَلَفٍ، فَقَالَ: واللَّه لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا بِرَهْنٍ فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِهِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَذْهَبَ بِدِرْعِهِ إِلَيْهِ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّه لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَإِلَى أَعْمَالِكُمْ» وَقَالَ أَبُو

الدَّرْدَاءِ: الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ وَمَالُ/ مَنْ لَا مَالَ لَهُ وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ. وَعَنِ الْحَسَنِ: لَوْلَا حُمْقُ النَّاسِ لَخَرِبَتِ الدُّنْيَا. وَعَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لَا تَتَّخِذُوا الدُّنْيَا رَبًّا فَتَتَّخِذَكُمْ لَهَا عَبِيدًا، وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى مَا عِنْدَ السَّلَاطِينِ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ الصَّلَاةَ يَرْحَمُكُمُ اللَّه، أَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ [أَيْ] أَلْذَذْنَا بِهِ، وَالْإِمْتَاعُ الْإِلْذَاذُ بِمَا يُدْرَكُ مِنَ الْمَنَاظِرِ الْحَسَنَةِ وَيُسْمَعُ مِنَ الْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَةِ وَيُشَمُّ مِنَ الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَلَابِسِ وَالْمَنَاكَحِ، يُقَالُ أَمْتَعَهُ إِمْتَاعًا وَمَتَّعَهُ تَمْتِيعًا وَالتَّفْعِيلُ يَقْتَضِي التَّكْثِيرَ، أَمَّا قَوْلُهُ: أَزْواجاً مِنْهُمْ أَيْ أَشْكَالًا وَأَشْبَاهًا مِنَ الْكُفَّارِ وَهِيَ مِنَ الْمُزَاوَجَةِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَهِيَ الْمُشَاكَلَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَشْكَالٌ فِي الذَّهَابِ عَنِ الصَّوَابِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَصْنَافًا مِنْهُمْ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَالزَّجَّاجُ: رِجَالًا مِنْهُمْ، أَمَّا قَوْلُهُ: زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَفِي انْتِصَابِهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: عَلَى الذَّمِّ وَهُوَ النَّصْبُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَوْ عَلَى تَضْمِينِ مَتَّعْنَا مَعْنَى أَعْطَيْنَا وَكَوْنِهِ مَفْعُولًا ثَانِيًا لَهُ أَوْ عَلَى إِبْدَالِهِ مِنْ مَحَلِّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ أَوْ عَلَى إِبْدَالِهِ مِنْ أَزْوَاجًا عَلَى تَقْدِيرِ ذَوِي، فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى الزَّهْرَةِ فِيمَنْ حَرَّكَ قُلْنَا مَعْنَى الزَّهْرَةِ بِعَيْنِهِ وَهُوَ الزِّينَةُ وَالْبَهْجَةُ كَمَا جَاءَ فِي الْجَهْرَةِ. قُرِئَ: أَرِنَا اللَّه جَهْرَةً، وَأَنْ يَكُونَ جَمْعُ زَاهِرٍ وَصْفًا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ زَهْرَةُ هَذِهِ الدُّنْيَا لِصَفَاءِ أَلْوَانِهِمْ وَتَهَلُّلِ وُجُوهِهِمْ بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ الصُّلَحَاءُ مِنْ شُحُوبِ الْأَلْوَانِ وَالتَّقَشُّفِ فِي الثِّيَابِ، أَمَّا قَوْلُهُ: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: لِنُعَذِّبَهُمْ بِهِ كَقَوْلِهِ: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [التَّوْبَةِ: 55] . وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: إِضْلَالًا مِنِّي لَهُمْ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ تَشْدِيدًا فِي التَّكْلِيفِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ الدُّنْيَا عِنْدَ حُضُورِهَا وَالْإِقْبَالَ إِلَى اللَّه أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ حُضُورِهَا وَلِذَلِكَ كَانَ رُجُوعُ الْفُقَرَاءِ إِلَى خِدْمَةِ اللَّه تَعَالَى وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ تَضَرُّعِ الْأَغْنِيَاءِ، وَلِأَنَّ عَلَى مَنْ أوتي الدنيا ضروبا من التكاليف لَوْلَاهَا لَمَا لَزِمَتْهُمْ تِلْكَ التَّكَالِيفُ وَلِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْمَعَاصِي يَكُونُ الِاجْتِنَابُ عَنِ الْمَعَاصِي أَشَقَّ عَلَيْهِ مِنَ الْعَاجِزِ الْفَقِيرِ، فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ تَكُونُ الزِّيَادَةُ فِي الدُّنْيَا تَشْدِيدًا فِي التَّكْلِيفِ ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِهِ: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مَطْلُوبَكَ الَّذِي تَجِدُهُ مِنَ الثَّوَابِ خَيْرٌ مِنْ مَطْلُوبِهِمْ وَأَبْقَى، لِأَنَّهُ يَدُومُ وَلَا يَنْقَطِعُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ مَا أوتوه من مِنَ الدُّنْيَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا أُوتِيتَهُ مِنْ يَسِيرِ الدُّنْيَا إِذَا قَرَنْتَهُ بِالطَّاعَةِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حَيْثُ الْعَاقِبَةِ وَأَبْقَى، فَذَكَرَ الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا وَوَصَفَهُ بِحُسْنِ عَاقَبَتِهِ إِذَا رَضِيَ بِهِ وَصَبَرَ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا أُعْطِيَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى أَقَارِبِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى كُلِّ أَهْلِ دِينِهِ، وَهَذَا أَقْرَبُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ [مَرْيَمَ: 55] وَإِنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ يَضُمُّهُ الْمَسْكَنُ إِذِ التَّنْبِيهُ عَلَى الصَّلَاةِ وَالْأَمْرُ بِهَا فِي أَوْقَاتِهَا مُمْكِنٌ فِيهِمْ دُونَ سَائِرِ الْأُمَّةِ يَعْنَى كَمَا أَمَرْنَاكَ بِالصَّلَاةِ فَأْمُرْ أَنْتَ قَوْمَكَ بِهَا، أَمَّا قَوْلُهُ: وَاصْطَبِرْ عَلَيْها فَالْمُرَادُ كَمَا تَأْمُرُهُمْ فَحَافِظْ عَلَيْهَا فِعْلًا، فَإِنَّ الْوَعْظَ بِلِسَانِ الْفِعْلِ أَتَمُّ مِنْهُ بِلِسَانِ الْقَوْلِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّه/ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ يَذْهَبُ إِلَى فَاطِمَةَ وَعَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كُلَّ صَبَاحٍ وَيَقُولُ: «الصَّلَاةَ» وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَشْهُرًا، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ لِمَنَافِعِهِمْ وَأَنَّهُ مُتَعَالٍ عَنِ الْمَنَافِعِ بِقَوْلِهِ: لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُرِيدُ مِنْهُ وَمِنْهُمُ الْعِبَادَةُ وَلَا يُرِيدُ مِنْهُ أَنْ يَرْزُقَهُ كَمَا تُرِيدُ السَّادَةُ مِنَ الْعَبِيدِ الْخَرَاجَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56، 57] . وَثَانِيهَا: لَا نَسْئَلُكَ رِزْقاً لِنَفْسِكَ وَلَا لِأَهْلِكَ بَلْ نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَنَرْزُقُ أَهْلَكَ، فَفَرِّغْ بَالَكَ لِأَمْرِ الْآخِرَةِ، وَفِي معناه قول

النَّاسِ: مَنْ كَانَ فِي عَمَلِ اللَّه كَانَ اللَّه فِي عَمَلِهِ. وَثَالِثُهَا: الْمَعْنَى أَنَّا لَمَّا أَمَرْنَاكَ بِالصَّلَاةِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّا نَنْتَفِعُ بِصَلَاتِكَ. فعبر عن هذا المعنى بقوله: لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً بَلْ نَحْنُ نَرْزُقُكَ فِي الدُّنْيَا بِوُجُوهِ النِّعَمِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالثَّوَابِ، قَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ سَلَامٍ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ بِأَهْلِهِ ضِيقٌ أَوْ شِدَّةٌ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ» وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ رُخْصَةٌ فِي تَرْكِ التَّكَسُّبِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي وَصْفِ الْمُتَّقِينَ: رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النُّورِ: 37] ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى فَالْمُرَادُ وَالْعَاقِبَةُ الْجَمِيلَةُ لِأَهْلِ التَّقْوَى يَعْنِي تَقْوَى اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ حَكَى عَنْهُمْ شُبْهَتَهُمْ، فَكَأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ [طه: 130] وَهِيَ قَوْلُهُمْ: لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أُوهِمُوا بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ يُكَلِّفُهُمُ الْإِيمَانَ مِنْ غَيْرِ آيَةٍ، وَقَالُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 5] وَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ ما في القرآن إذ وَافَقَ مَا فِي كُتُبِهِمْ مَعَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْتَغِلْ بِالدِّرَاسَةِ وَالتَّعَلُّمِ وَمَا رَأَى أُسْتَاذًا الْبَتَّةَ كَانَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا. وَثَانِيهَا: أَنَّ بَيِّنَةَ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى مَا فِيهَا مِنَ الْبِشَارَةِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِنَبُّوتِهِ وَبَعْثَتِهِ. وَثَالِثُهَا: ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْقَفَّالُ [أَنَّ] الْمَعْنَى: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى مِنْ أَنْبَاءِ الْأُمَمِ الَّتِي أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا سَأَلُوا الْآيَاتِ وَكَفَرُوا بِهَا كَيْفَ عَاجَلْنَاهُمْ بِالْعُقُوبَةِ فَمَاذَا يُؤَمِّنُهُمْ أَنْ يَكُونَ حَالُهُمْ فِي سُؤَالِ الْآيَاتِ كَحَالِ أُولَئِكَ، وَإِنَّمَا أَتَاهُمْ هَذَا الْبَيَانُ فِي الْقُرْآنِ، فَلِهَذَا وَصَفَ الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ: بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ الضَّمِيرَ الرَّاجِعَ إِلَى الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْبُرْهَانِ وَالدَّلِيلِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى أَزَاحَ لَهُمْ كُلَّ عُذْرٍ وَعِلَّةٍ فِي التَّكْلِيفِ، فَقَالَ: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا وَالْمُرَادُ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ فَيَكُونَ عُذْرًا لَهُمْ، فَأَمَّا الْآنُ وَقَدْ أَرْسَلْنَاكَ وَبَيَّنَّا عَلَى لِسَانِكَ لَهُمْ مَا عَلَيْهِمْ وَمَا لَهُمْ فَلَا حُجَّةَ لَهُمُ الْبَتَّةَ بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ. ومعنى: مِنْ قَبْلِهِ يَحْتَمِلُ مِنْ قَبْلِ إِرْسَالِهِ وَيَحْتَمِلُ مِنْ قَبْلِ مَا أَظْهَرَهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ فَإِنْ قِيلَ فَمَا معنى قوله: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ ... لَقالُوا [طه: 134] وَالْهَالِكُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ قُلْنَا الْمَعْنَى لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، رُوِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَحْتَجُّ عَلَى اللَّه تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: الْهَالِكُ فِي الْفَتْرَةِ يَقُولُ لَمْ يَأْتِنِي رَسُولٌ وَإِلَّا كُنْتُ أَطْوَعَ خَلْقِكَ لَكَ. وَتَلَا قَوْلَهُ: لَوْلا/ أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا وَالْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ يَقُولُ لَمْ تَجْعَلْ لِي عَقْلًا أَنْتُفِعُ بِهِ، وَيَقُولُ الصَّبِيُّ: كُنْتُ صَغِيرًا لَا أَعْقِلُ فَتُرْفَعُ لَهُمْ نَارٌ، وَيُقَالُ لَهُمْ: ادْخُلُوهَا فَيَدْخُلُهَا مَنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ شَقِيٌّ وَيَبْقَى مَنْ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ سَعِيدٌ، فَيَقُولُ اللَّه تَعَالَى لَهُمْ: «عَصَيْتُمُ الْيَوْمَ فَكَيْفَ بِرُسُلِي لَوْ أَتَوْكُمْ» وَالْقَاضِي طَعَنَ فِي الْخَبَرِ وَقَالَ: لَا يَحْسُنُ الْعِقَابُ عَلَى مَنْ لَا يَعْقِلُ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ فِعْلِ اللُّطْفِ إِذِ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَفْعَلَ بِالْمُكَلَّفِينَ مَا يُؤْمِنُونَ عِنْدَهُ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا هَلَّا فَعَلْتَ ذَلِكَ بِنَا لِنُؤْمِنَ؟ وَهَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتْبَعَ آيَاتِكَ؟ وإن كان في الْمَعْلُومُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ بَعَثَ إِلَيْهِمُ الرَّسُولَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ، فَصَحَّ أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً لَهُمْ إِذَا كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ عِنْدَهُ إِذَا أَطَاعُوهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ قَوْلُهُ: لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُ الِاحْتِجَاجَ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ قَوْلُهُ: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الْأَنْبِيَاءِ: 23] كَمَا ظَنَّهُ أَهْلُ الْجَبْرِ مِنْ أَنَّ مَا هُوَ جَوْرٌ مِنَّا

يَكُونُ عَدْلًا مِنْهُ بَلْ تَأْوِيلُهُ: أَنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْهُ إِلَّا الْعَدْلُ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُ الْحُجَّةَ فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ لَكَانَ لَهُمْ فِيهِ أَعْظَمُ حُجَّةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالشَّرْعِ إِذْ لَوْ تَحَقَّقَ الْعِقَابُ قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرْعِ لَكَانَ الْعِقَابُ حَاصِلًا قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرْعِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَتَمَ السُّورَةَ بِضَرْبٍ مِنَ الْوَعِيدِ فَقَالَ: قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ أَيْ كُلٌّ مِنَّا وَمِنْكُمْ مُنْتَظِرٌ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ وَهَذَا الِانْتِظَارُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمَوْتِ، إِمَّا بِسَبَبِ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ أَوْ بِسَبَبِ ظُهُورِ الدَّوْلَةِ وَالْقُوَّةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِالْمَوْتِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ يَنْتَظِرُ مَوْتَ صَاحِبِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ ظُهُورُ أَمْرِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَإِنَّهُ يَتَمَيَّزُ فِي الْآخِرَةِ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ بِمَا يَظْهَرُ عَلَى الْمُحِقِّ مِنْ أَنْوَاعِ كَرَامَةِ اللَّه تَعَالَى، وَعَلَى الْمُبْطِلِ مِنْ أَنْوَاعِ إِهَانَتِهِ فَسَتَعْلَمُونَ عِنْدَ ذَلِكَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى إِلَيْهِ وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الشَّكِّ وَالتَّرْدِيدِ، بَلْ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ والزجر للكفار، واللَّه أعلم.

سورة الأنبياء عليهم السلام

سورة الأنبياء عليهم السلام مِائَةٌ وَاثْنَتَا عَشْرَةَ آيَةً مَكِّيَّةً بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقُرْبُ لَا يُعْقَلُ إِلَّا فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَالْقُرْبُ المكاني هاهنا مُمْتَنَعٌ فَتَعَيَّنَ الْقُرْبُ الزَّمَانِيُّ، وَالْمَعْنَى اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ وَقْتُ حِسَابِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ كَيْفَ وُصِفَ بِالِاقْتِرَابِ، وَقَدْ عَبَرَ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ قَرِيبٌ مِنْ سِتِّمِائَةِ عَامٍ وَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُقْتَرِبٌ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الْحَجِّ: 47] . وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ آتٍ قَرِيبٌ وَإِنْ طَالَتْ أَوْقَاتُ تَرَقُّبِهِ، وَإِنَّمَا الْبَعِيدُ هُوَ الَّذِي انْقَرَضَ قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَا زَالَ مَا تَهْوَاهُ أَقْرَبُ مِنْ غَدِ ... وَلَا زَالَ مَا تَخْشَاهُ أَبْعَدُ مِنْ أَمْسِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُعَامَلَةَ إِذَا كَانَتْ مُؤَجَّلَةً إِلَى سَنَةٍ ثُمَّ انْقَضَى مِنْهَا شَهْرٌ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ اقْتَرَبَ الْأَجَلُ أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَاضِي أَكْثَرَ مِنَ الْبَاقِي فَإِنَّهُ يُقَالُ: اقْتَرَبَ الْأَجَلُ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى قُرْبِ الْقِيَامَةِ، وَلِهَذَا الْوَجْهِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» وَهَذَا الْوَجْهُ قِيلَ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَتَمَ بِهِ النُّبُوَّةَ، كُلُّ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ مُدَّةِ التَّكْلِيفِ أَقَلُّ مِنَ الْمَاضِي.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا ذَكَرَ تَعَالَى هَذَا الِاقْتِرَابَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لِلْمُكَلَّفِينَ فَيَكُونُ أَقْرَبَ إلى تلافي الذنوب والتحرر عَنْهَا خَوْفًا مِنْ ذَلِكَ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا لَمْ يُعَيِّنِ الْوَقْتَ لِأَجْلِ أَنَّ كِتْمَانَهُ أَصْلَحُ، كَمَا أَنَّ كِتْمَانَ وَقْتِ الْمَوْتِ أَصْلَحُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْفَائِدَةُ فِي تَسْمِيَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِيَوْمِ الْحِسَابِ أَنَّ الْحِسَابَ هُوَ الْكَاشِفُ عَنْ حَالِ الْمَرْءِ فَالْخَوْفُ مِنْ ذِكْرِهِ أَعْظَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ مَنْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْحِسَابِ وَهُمُ الْمُكَلَّفُونَ دُونَ مَنْ لَا مَدْخَلَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْمُشْرِكُونَ. وَهَذَا مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْجِنْسِ عَلَى بَعْضِهِ لِلدَّلِيلِ الْقَائِمِ وَهُوَ مَا يَتْلُوهُ مِنْ صِفَاتِ الْمُشْرِكِينَ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِأَمْرَيْنِ الْغَفْلَةِ وَالْإِعْرَاضِ. أَمَّا الْغَفْلَةُ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنْ حِسَابِهِمْ سَاهُونَ لَا يَتَفَكَّرُونَ فِي عَاقِبَتِهِمْ مَعَ اقْتِضَاءِ عُقُولِهِمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ جَزَاءِ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ ثُمَّ إِذَا انْتَبَهُوا مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ وَرَقْدَةِ الْجَهَالَةِ مِمَّا يُتْلَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْآيَاتِ وَالنُّذُرِ أَعْرَضُوا وَسَدُّوا أَسْمَاعَهُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ مُحْدَثٌ بِالرَّفْعِ صِفَةً لِلْمَحَلِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ بَيَانًا لِكَوْنِهِمْ مُعْرِضِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يُجَدِّدُ لَهُمُ الذِّكْرَ وَقْتًا فَوَقْتًا وَيُظْهِرُ لَهُمُ الْآيَةَ بَعْدَ الْآيَةِ وَالسُّورَةَ بَعْدَ السُّورَةِ لِيُكَرِّرَ عَلَى أَسْمَاعِهِمُ التَّنْبِيهَ وَالْمَوْعِظَةَ لَعَلَّهُمْ يَتَّعِظُونَ، فَمَا يَزِيدُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا لَعِبًا وَاسْتِسْخَارًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا عَلَى حُدُوثِ الْقُرْآنِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: الْقُرْآنُ ذِكْرٌ وَالذِّكْرُ مُحْدَثٌ فَالْقُرْآنُ مُحْدَثٌ، بَيَانُ أَنَّ الْقُرْآنَ ذِكْرٌ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [ص: 87] وَقَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزُّخْرُفِ: 44] وَقَوْلُهُ: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: 1] وَقَوْلُهُ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الْحِجْرِ: 9] وَقَوْلُهُ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس: 69] وَقَوْلُهُ: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ [الْأَنْبِيَاءِ: 5] وَبَيَانُ أَنَّ الذِّكْرَ مُحْدَثٌ قَوْلُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ [الشُّعَرَاءِ: 5] ثُمَّ قَالُوا فَصَارَ مَجْمُوعُ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ الْمَنْصُوصَتَيْنِ كَالنَّصِّ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وقوله: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُرَكَّبِ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فَإِذَا ضَمَمْنَا إِلَيْهِ قَوْلَهُ: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ لَزِمَ حُدُوثُ الْمُرَكَّبِ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَلْ حُدُوثُهُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي قِدَمِ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى بِمَعْنًى آخَرَ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ لَا يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ كُلِّ مَا كَانَ ذِكْرًا بَلْ عَلَى ذِكْرِ مَا مُحْدَثٌ كَمَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الْبَلْدَةَ رَجُلٌ فَاضِلٌ إِلَّا يُبْغِضُونَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ رَجُلٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ/ فَاضِلًا بَلْ عَلَى أَنَّ فِي الرِّجَالِ مَنْ هُوَ فَاضِلٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّ بَعْضَ الذِّكْرِ مُحْدَثٌ فَيَصِيرُ نَظْمُ الْكَلَامِ هَكَذَا الْقُرْآنُ ذِكْرٌ وَبَعْضُ الذِّكْرِ مُحْدَثٌ وَهَذَا لَا يُنْتَجُ شَيْئًا كَمَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ وَبَعْضُ الْحَيَوَانِ فَرَسٌ لَا يُنْتَجُ شَيْئًا فَظَهَرَ أَنَّ الَّذِي ظَنُّوهُ

قَاطِعًا لَا يُفِيدُ ظَنًّا ضَعِيفًا فَضْلًا عَنِ الْقَطْعِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ ذَلِكَ ذَمٌّ لِلْكُفَّارِ وَزَجْرٌ لِغَيْرِهِمْ عَنْ مِثْلِهِ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِمَا يُسْمَعُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَا يَرْجِعُ إِلَى الْقَلْبِ مِنْ تَدَبُّرٍ وَتَفَكُّرٍ، وَإِذَا كَانُوا عِنْدَ اسْتِمَاعِهِ لَاعِبِينَ حَصَلُوا عَلَى مُجَرَّدِ الِاسْتِمَاعِ الَّذِي قَدْ تُشَارِكُ الْبَهِيمَةُ فِيهِ الْإِنْسَانَ ثُمَّ أَكَّدَ تَعَالَى ذَمَّهُمْ بِقَوْلِهِ: لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَاللَّاهِيَةُ مِنْ لَهَى عَنْهُ إِذَا ذَهَلَ وَغَفَلَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّعِبَ مُقَدَّمًا عَلَى اللَّهْوِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [مُحَمَّدٍ: 36] تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ اشْتِغَالَهُمْ بِاللَّعِبِ الَّذِي مَعْنَاهُ السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِهْزَاءُ مُعَلَّلٌ بِاللَّهْوِ الَّذِي مَعْنَاهُ الذُّهُولُ وَالْغَفْلَةُ، فَإِنَّهُمْ أَقْدَمُوا عَلَى اللَّعِبِ لِلَهْوِهِمْ وَذُهُولِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، واللَّه أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ حَالَانِ مُتَرَادِفَانِ أَوْ مُتَدَاخِلَانِ وَمَنْ قَرَأَ لَاهِيَةٌ بِالرَّفْعِ فَالْحَالُ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لِقَوْلِهِ: وَهُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: النَّجْوَى وَهِيَ اسْمٌ مِنَ التَّنَاجِي لَا تَكُونُ إِلَّا خُفْيَةً فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى. الْجَوَابُ: مَعْنَاهُ بَالَغُوا فِي إِخْفَائِهَا وَجَعَلُوهَا بِحَيْثُ لَا يَفْطُنُ أَحَدٌ لِتَنَاجِيهِمْ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا. الْجَوَابُ: أَبْدَلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَنْ أَسَرُّوا إِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ هُمُ الْمَوْسُومُونَ بِالظُّلْمِ الْفَاحِشِ فِيمَا أَسَرُّوا بِهِ أَوْ جَاءَ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ أَوْ هُوَ مَنْصُوبُ الْمَحَلِّ على الذم أو هو مبتدأ خبره: أَسَرُّوا النَّجْوَى قُدِّمَ عَلَيْهِ وَالْمَعْنَى وَهَؤُلَاءِ أَسَرُّوا النَّجْوَى فَوَضَعَ الْمُظْهَرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ تَسْجِيلًا عَلَى فِعْلِهِمْ بِأَنَّهُ ظُلْمٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هَذَا الْكَلَامُ كُلُّهُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بَدَلًا مِنَ النَّجْوَى أَيْ وَأَسَرُّوا هَذَا الْحَدِيثَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى وَقَالُوا هَذَا الْكَلَامَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا أَسَرُّوا هَذَا الْحَدِيثَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ شُبْهَةَ التَّشَاوُرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَالتَّحَاوُرِ فِي طَلَبِ الطَّرِيقِ إِلَى هَدْمِ أَمْرِهِ، وَعَادَةُ الْمُتَشَاوِرِينَ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِي كِتْمَانِ سِرِّهِمْ عَنْ أَعْدَائِهِمْ. الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُسِرُّوا نَجْوَاهُمْ بِذَلِكَ ثُمَّ يَقُولُوا لِرَسُولِ اللَّه وَالْمُؤْمِنِينَ إِنْ كَانَ مَا تَدْعُونَهُ حَقًّا فَأَخْبِرُونَا بِمَا أَسْرَرْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ طَعَنُوا فِي نُبُوَّتِهِ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ الَّذِي أَتَى بِهِ سِحْرٌ، وَكِلَا الطَّعْنَيْنِ فَاسِدٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ النُّبُوَّةَ تَقِفُ صِحَّتُهَا عَلَى الْمُعْجِزَاتِ وَالدَّلَائِلِ/ لَا عَلَى الصُّوَرِ إِذْ لَوْ بَعَثَ الْمَلَكَ إِلَيْهِمْ لَمَا عُلِمَ كَوْنُهُ نَبِيًّا لِصُورَتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُعْلَمُ بِالْعِلْمِ فَإِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ هُوَ بَشَرٌ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمَبْعُوثُ إِلَى الْبَشَرِ بَشَرًا لِأَنَّ الْمَرْءَ إِلَى الْقَبُولِ مِنْ أَشْكَالِهِ أَقْرَبُ وَهُوَ بِهِ آنَسُ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ مَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سِحْرٌ وَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ كَوْنَهُ سِحْرًا فَجَهْلٌ أَيْضًا، لِأَنَّ كُلَّ مَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ ظَاهِرُ الْحَالِ لَا تَمْوِيهَ فِيهِ وَلَا تَلْبِيسَ فِيهِ. فَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ وَهُمْ أَرْبَابُ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، وَكَانُوا فِي نِهَايَةِ الْحِرْصِ عَلَى إِبْطَالِ أَمْرِهِ وَأَقْوَى الْأُمُورِ فِي إِبْطَالِ أَمْرِهِ مُعَارَضَةُ الْقُرْآنِ فَلَوْ قَدِرُوا عَلَى الْمُعَارَضَةِ لَامْتَنَعَ أَنْ لَا يَأْتُوا بِهَا لِأَنَّ الْفِعْلَ عِنْدَ تَوَافُرِ الدَّوَاعِي

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 4 إلى 6]

وَارْتِفَاعِ الصَّارِفِ وَاجِبُ الْوُقُوعِ، فَلَمَّا لَمْ يَأْتُوا بِهَا دَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُعْجِزَةٌ وَأَنَّهُمْ عَرَفُوا حَالَهُ. فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ سَحِرٌ وَالْحَالُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِصِدْقِهِ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يُمَوِّهُونَ عَلَى ضُعَفَائِهِمْ بِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ وَإِنْ كَانُوا فِيهِ مُكَابِرِينَ. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 4 الى 6] قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) أَمَّا قَوْلُهُ: قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ قالَ رَبِّي حِكَايَةً لِقَوْلِ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ قُلْ بِضَمِّ الْقَافِ وَحَذْفِ الْأَلِفِ وَسُكُونِ اللَّامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْرَدَ هَذَا الْكَلَامَ عَقِيبَ مَا حَكَى عَنْهُمْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَالْجَوَابِ لِمَا قَالُوهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ إِنَّكُمْ وَإِنْ أَخْفَيْتُمْ قَوْلَكُمْ، وَطَعْنَكُمْ فَإِنَّ رَبِّي عَالِمٌ بِذَلِكَ وَإِنَّهُ مِنْ وَرَاءِ عُقُوبَتِهِ، فَتَوَعَّدُوا بِذَلِكَ لِكَيْ لَا يَعُودُوا إِلَى مِثْلِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الكاشف» : فإن قلت فهلا قيل له يعلم لقوله: وأسروا النجوى [الأنبياء: 3] قلت القول علام يَشْمَلُ السِّرَّ وَالْجَهْرَ فَكَأَنَّ فِي الْعِلْمِ بِهِ الْعِلْمُ بِالسِّرِّ وَزِيَادَةٌ فَكَانَ آكَدَ فِي بَيَانِ الِاطِّلَاعِ عَلَى نَجْوَاهُمْ مِنْ أَنْ يَقُولَ: يَعْلَمُ السِّرَّ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَعْلَمُ السِّرَّ آكَدُ مِنْ أَنْ يَقُولَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ فَإِنْ قُلْتَ فَلِمَ تَرَكَ الْآكَدَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ/ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْفُرْقَانِ: 6] قُلْتُ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَنْ يَجِيءَ بِالْآكَدِ فِي قَوْلِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، وَلَكِنْ يَجِيءُ بِالتَّوْكِيدِ مَرَّةً وَبِالْآكَدِ مَرَّةً أُخْرَى، ثم الفرق أنه قدم هاهنا أَنَّهُمْ أَسَرُّوا النَّجْوَى، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ رَبِّي يَعْلَمُ مَا أَسَرُّوهُ، فَوَضَعَ الْقَوْلَ مَوْضِعَ ذَلِكَ لِلْمُبَالِغَةِ وَثَمَّةَ قَصَدَ وَصْفَ ذَاتِهِ بِأَنْ قَالَ: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهو كقوله: عَلَّامُ الْغُيُوبِ [سَبَأٍ: 48] ، عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ [سَبَأٍ: 3] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا قَدَّمَ السَّمِيعَ عَلَى الْعَلِيمِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ سَمَاعِ الْكَلَامِ أَوَّلًا ثُمَّ مِنْ حُصُولِ الْعِلْمِ بِمَعْنَاهُ، أَمَّا قَوْلُهُ: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ، بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى عَادَ إِلَى حِكَايَةِ قَوْلِهِمُ الْمُتَّصِلِ بِقَوْلِهِ: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ [الأنبياء 3] ثُمَّ قَالَ: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَحَكَى عَنْهُمْ ثَمَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْخَمْسَةَ فَتَرْتِيبُ كَلَامِهِمْ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: نَدَّعِي أَنَّ كَوْنَهُ بَشَرًا مَانِعٌ مِنْ كَوْنِهِ رَسُولًا للَّه تَعَالَى. سَلَّمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ، ثُمَّ إِمَّا أَنْ يُسَاعِدَ عَلَى أَنَّ فَصَاحَةَ الْقُرْآنِ خَارِجَةٌ عَنْ مَقْدُورِ الْبَشَرِ، قُلْنَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سِحْرًا وَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْ عَلَيْهِ فَإِنِ ادَّعَيْنَا كَوْنَهُ فِي نِهَايَةِ الرَّكَاكَةِ قُلْنَا: إِنَّهَا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ، وَإِنِ ادَّعَيْنَا أَنَّهُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الرَّكَاكَةِ وَالْفَصَاحَةِ قُلْنَا إنه افتراه، وَإِنِ ادَّعَيْنَا أَنَّهُ كَلَامٌ فَصِيحٌ قُلْنَا إِنَّهُ مِنْ جِنْسِ فَصَاحَةِ سَائِرِ الشُّعَرَاءِ، وَعَلَى جَمِيعِ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ مُعْجِزًا، وَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ تَعْدِيدِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ قَالُوا: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 7 إلى 10]

فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ طَلَبُوا آيَةً جَلِيَّةً لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ كَالْآيَاتِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّه تَعَالَى بَدَأَ بِالْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ الْأَخِيرِ بِقَوْلِهِ: مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ فِي الْعُتُوِّ أَشَدُّ مِنَ الَّذِينَ اقْتَرَحُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِمُ الْآيَاتِ وَعَهِدُوا أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ عِنْدَهَا فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ نَكَثُوا وَخَالَفُوا، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّه، فَلَوْ أَعْطَيْنَاهُمْ مَا يَقْتَرِحُونَ لَكَانُوا أَشَدَّ نَكْثًا. قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: إِنَّهُمْ لَمْ يُجَابُوا لِأَنَّ حُكْمَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ مَنْ كَذَّبَ بَعْدَ الْإِجَابَةِ إِلَى مَا اقْتَرَحَهُ مِنَ الْآيَاتِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ وَقَدْ مَضَى حُكْمُهُ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة بخلافه فلذلك لم يجبهم. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 7 الى 10] وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ سُؤَالِهِمُ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلِهِمْ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الْمُؤْمِنُونَ: 33] بِقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ عَادَةُ اللَّه تَعَالَى فِي الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ كَوْنِهِمْ رُسُلًا لِلْآيَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ فَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فِيهِمْ فَقَدْ ظَهَرَ عَلَى مُحَمَّدٍ مِثْلُ آيَاتِهِمْ فَلَا مَقَالَ عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ بَشَرًا فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْلِمُوهُمْ أَنَّ رُسُلَ اللَّه الْمُوحَى إِلَيْهِمْ كَانُوا بَشَرًا وَلَمْ يَكُونُوا مَلَائِكَةً، وَإِنَّمَا أَحَالَهُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُتَابِعُونَ الْمُشْرِكِينَ فِي مُعَادَاةِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً [آلِ عِمْرَانَ: 186] فَإِنْ قِيلَ إِذَا لَمْ يُوثَقُ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِأَنْ يَسْأَلُوهُمْ عَنِ الرُّسُلِ قُلْنَا: إِذَا تَوَاتَرَ خَبَرُهُمْ وَبَلَغَ حَدَّ الضَّرُورَةِ جَازَ ذَلِكَ، كَمَا قَدْ يُعْمَلُ بِخَبَرِ الْكُفَّارِ إِذَا تَوَاتَرَ، مِثْلَ مَا يُعْمَلُ بِخَبَرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِأَهْلِ الذِّكْرِ أَهْلُ الْقُرْآنِ وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا طَاعِنِينَ فِي الْقُرْآنِ وَفِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا تَعَلُّقُ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى فُتْيَا الْعُلَمَاءِ وَفِي أَنَّ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ آخَرَ فَبَعِيدٌ لِأَنَّ هذه الآية خطاب مشافهة وهي واردة في هذه الْوَاقِعَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَمُتَعَلِّقَةٌ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى التَّعْيِينِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ الرُّسُلَ قَبْلَهُ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: لَا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ صِفَةُ جَسَدٍ وَالْمَعْنَى وَمَا جَعَلْنَا الْأَنْبِيَاءَ ذَوِي جَسَدٍ غَيْرَ طَاعِمِينَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: وَحَّدَ الْجَسَدَ لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ كَأَنَّهُ قَالَ ذَوِي ضَرْبٍ مِنَ الْأَجْسَادِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الْفُرْقَانِ: 7] فأجاب اللَّه بقوله: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ عَادَةُ اللَّه فِي الرُّسُلِ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ بَلْ جَسَدًا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَلَا يَخْلُدُونَ فِي الدُّنْيَا بَلْ يَمُوتُونَ كَغَيْرِهِمْ، وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِي صَارُوا بِهِ رُسُلًا غَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ ظُهُورُ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى أَيْدِيهِمْ

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 إلى 15]

وَبَرَاءَتُهُمْ عَنِ الصِّفَاتِ الْقَادِحَةِ فِي التَّبْلِيغِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [الْأَعْرَافِ: 155] وَالْأَصْلُ فِي الْوَعْدِ وَمِنْ قَوْمِهِ وَمِنْهُ صَدَقُوهُمُ الْمَقَالَ: وَمَنْ نَشاءُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ مِنْهُ/ أَنَّهُ تَقَدَّمَ وَعْدُهُ جَلَّ جَلَالُهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَهْلِكُ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ دُونَ نَفْسِ الرُّسُلِ وَدُونَ مَنْ صَدَّقَ بِهِمْ، وَجَعَلَ الْوَفَاءَ بِمَا وَعَدَ صِدْقًا مِنْ حَيْثُ يَكْشِفُ عَنِ الصِّدْقِ وَمَعْنَى: وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ أَيْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَذَابَ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَمَّا مَضَى وَتَقَدَّمَ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ عَظِيمَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِ: ذِكْرُكُمْ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: ذِكْرُكُمْ شَرَفُكُمْ وَصِيتُكُمْ، كَمَا قَالَ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزُّخْرُفِ: 44] . وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ فِيهِ تَذْكِرَةٌ لَكُمْ لِتَحْذَرُوا مَا لَا يَحِلُّ وَتَرْغَبُوا فِيمَا يَجِبُ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، كَمَا قَالَ: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذَّارِيَاتِ: 55] . وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ ذِكْرُ دِينِكُمْ مَا يَلْزَمُ وَمَا لَا يَلْزَمُ لِتَفُوزُوا بِالْجَنَّةِ إِذَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، وَقَوْلُهُ: أَفَلا تَعْقِلُونَ كَالْبَعْثِ عَلَى التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا غُفَلَاءَ لِأَنَّ الْخَوْضَ مِنْ لَوَازِمِ الْغَفْلَةِ وَالتَّدَبُّرَ دَافِعٌ لِذَلِكَ الْخَوْضِ وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ مِنْ لَوَازِمِ الْفِعْلِ فَمَنْ لَمْ يَتَدَبَّرْ فَكَأَنَّهُ خَرَجَ عَنِ الْعَقْلِ. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 الى 15] وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ تِلْكَ الِاعْتِرَاضَاتِ وَكَانَتْ تِلْكَ الِاعْتِرَاضَاتُ ظَاهِرَةَ السُّقُوطِ لِأَنَّ شَرَائِطَ الْإِعْجَازِ لَمَّا تَمَّتْ فِي الْقُرْآنِ ظَهَرَ حِينَئِذٍ لِكُلِّ عَاقِلٍ كَوْنُهُ مُعْجِزًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ اشْتِغَالَهُمْ بِإِيرَادِ تِلْكَ الِاعْتِرَاضَاتِ كَانَ لِأَجْلِ حُبِّ الدُّنْيَا وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ فِيهَا فَبَالَغَ سُبْحَانَهُ فِي زَجْرِهِمْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْقَصْمُ أَفْظَعُ الْكَسْرِ وَهُوَ الْكَسْرُ الَّذِي يُبَيِّنُ تَلَاؤُمَ الأجزاء بخلاف الفصم وَذَكَرَ الْقَرْيَةَ وَأَنَّهَا ظَالِمَةٌ وَأَرَادَ أَهْلَهَا تَوَسُّعًا لِدَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ ظَالِمَةً وَلَا مُكَلَّفَةً وَلِدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ فَالْمَعْنَى أَهْلَكْنَا قَوْمًا وَأَنْشَأْنَا قَوْمًا آخَرِينَ وَقَالَ: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا- إِلَى قَوْلِهِ-: قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِأَهْلِهَا الَّذِينَ كُلِّفُوا بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ فَكَذَّبُوهُمْ وَلَوْلَا هَذِهِ/ الدَّلَائِلُ لَمَا جَازَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ ذِكْرُ الْمَجَازِ لِأَنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ مُوهِمًا لِلْكَذِبِ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْإِهْلَاكِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْقَتْلُ بِالسُّيُوفِ وَالْمُرَادُ بِالْقَرْيَةِ حَضُورُ وَهِيَ وَسَحُولُ قَرْيَتَانِ بِالْيَمَنِ يُنْسَبُ إِلَيْهِمَا الثِّيَابُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «كُفِّنَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَوْبَيْنِ سَحُولِيَّيْنِ» وَرُوِيَ: «حَضُورِيَّيْنِ بَعَثَ اللَّه إِلَيْهِمْ نَبِيًّا فَقَتَلُوهُ فَسَلَّطَ اللَّه عَلَيْهِمْ بُخْتُنَصَّرَ كَمَا سَلَّطَهُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ الْمُقَدَّسِ فَاسْتَأْصَلَهُمْ» وَرُوِيَ: «أَنَّهُ لَمَّا أَخَذَتْهُمُ السُّيُوفُ نَادَى مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ يَا لِثَارَاتِ الْأَنْبِيَاءِ» فَنَدِمُوا وَاعْتَرَفُوا بِالْخَطَأِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا أَقْرَبُ لِأَنَّ إِضَافَةَ ذَلِكَ إِلَى اللَّه تَعَالَى أَقْرَبُ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْقَاتِلِ، ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى عَذَابِ الْقَتْلِ فَمَا

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 16 إلى 18]

الدَّلِيلُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَعَلَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ذَكَرَ حَضُورَ بِأَنَّهَا إِحْدَى الْقُرَى الَّتِي أَرَادَهَا اللَّه تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ فَالْمَعْنَى لَمَّا عَلِمُوا شِدَّةَ عَذَابِنَا وَبَطْشِنَا عِلْمَ حِسٍّ وَمُشَاهَدَةٍ رَكَضُوا فِي دِيَارِهِمْ، وَالرَّكْضُ ضَرْبُ الدَّابَّةِ بِالرِّجْلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا رَكِبُوا دَوَابَّهُمْ يَرْكُضُونَهَا هَارِبِينَ مُنْهَزِمِينَ مِنْ قَرْيَتِهِمْ لَمَّا أَدْرَكَتْهُمْ مُقَدِّمَةُ الْعَذَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُشَبَّهُوا فِي سُرْعَةِ عَدْوِهِمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ بِالرَّاكِبِينَ الرَّاكِضِينَ، أَمَّا قَوْلُهُ: لَا تَرْكُضُوا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْقَوْلُ مَحْذُوفٌ، فَإِنْ قُلْتَ مَنِ الْقَائِلُ قُلْنَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ وَمِنْ ثَمَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ يَكُونُوا خُلَقَاءَ بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُقَلْ، أَوْ يَقُولَهُ رَبُّ الْعِزَّةِ وَيُسْمِعَهُ مَلَائِكَتَهُ لِيَنْفَعَهُمْ فِي دِينِهِمْ أَوْ يُلْهِمَهُمْ ذَلِكَ فَيُحَدِّثُونَ بِهِ نُفُوسَهُمْ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ أَيْ مِنَ الْعَيْشِ وَالرَّفَاهِيَةِ وَالْحَالِ النَّاعِمَةِ، وَالْإِتْرَافُ إِبْطَارُ النِّعْمَةِ وَهِيَ التَّرَفُّهُ، أما قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ فَهُوَ تَهَكُّمٌ بِهِمْ وَتَوْبِيخٌ، ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَيِ ارْجِعُوا إِلَى نِعَمِكُمْ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ غَدًا عَمَّا جَرَى عَلَيْكُمْ وَنَزَلَ بِأَمْوَالِكُمْ وَمَسَاكِنِكُمْ فَتُجِيبُوا السَّائِلَ عَنْ عِلْمٍ وَمُشَاهَدَةٍ. وَثَانِيهَا: ارْجِعُوا كَمَا كُنْتُمْ فِي مَجَالِسِكُمْ حَتَّى تَسْأَلَكُمْ عَبِيدُكُمْ وَمَنْ يَنْفُذُ فِيهِ أَمْرُكُمْ وَنَهْيُكُمْ وَيَقُولُ لكم بم تأمرون وماذا ترسمون الْمَخْدُومِينَ. وَثَالِثُهَا: تَسْأَلُكُمُ النَّاسُ فِي أَنْدِيَتِكُمْ لِتُعَاوِنُوهُمْ فِي نَوَازِلِ الْخُطُوبِ وَيَسْتَشِيرُونَكُمْ فِي الْمُهِمَّاتِ وَيَسْتَعِينُونَ بِآرَائِكُمْ. وَرَابِعُهَا: يَسْأَلُكُمُ الْوَافِدُونَ عَلَيْكُمْ وَالطَّامِعُونَ فِيكُمْ إِمَّا لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَسْخِيَاءَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَطَلَبَ الثَّنَاءِ أَوْ كَانُوا بُخَلَاءَ فَقِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ تَهَكُّمًا إِلَى تَهَكُّمٍ وَتَوْبِيخًا إِلَى تَوْبِيخٍ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى يا وَيْلَنا لأنها عدوى كَأَنَّهُ قِيلَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ الدَّعْوَى دَعْوَاهُمْ، وَالدَّعْوَى بِمَعْنَى الدَّعْوَةِ قَالَ تَعَالَى: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُسَ: 10] فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ سُمِّيَتْ دَعْوَى؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا دعوا بالويل: ف قالُوا يا وَيْلَنا أَيْ يَا وَيْلُ احْضُرْ فَهَذَا وَقْتُكُ، وَتِلْكَ مَرْفُوعٌ أَوْ مَنْصُوبٌ اسْمًا أَوْ خَبَرًا وَكَذَلِكَ: دَعْواهُمْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمْ يَزَالُوا يُكَرِّرُونَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غَافِرٍ: 85] أَمَّا قَوْلُهُ: حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ/ فَالْحَصِيدُ الزَّرْعُ الْمَحْصُودُ أَيْ جَعَلْنَاهُمْ مِثْلَ الْحَصِيدِ شَبَّهَهُمْ بِهِ فِي اسْتِئْصَالِهِمْ، كَمَا تَقُولُ جَعَلْنَاهُمْ رَمَادًا أَيْ مِثْلَ الرَّمَادِ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَنْصِبُ جعل ثلاثة مفاعيل، قلت: حكم الاثنين الآخرين حُكْمُ الْوَاحِدِ وَالْمَعْنَى جَعَلْنَاهُمْ جَامِعِينَ لِهَذَيْنَ الْوَصْفَيْنِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ أُهْلِكُوا بِذَلِكَ الْعَذَابِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُمْ حِسٌّ وَلَا حَرَكَةٌ وَجَفُّوا كَمَا يجف الحصيد، وتخمدوا كما تخمد النار. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 16 الى 18] وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) اعْلَمْ أَنَّ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ إِهْلَاكَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ لِأَجْلِ تَكْذِيبِهِمْ أَتْبَعَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَدْلًا مِنْهُ وَمُجَازَاةً عَلَى مَا فَعَلُوا فَقَالَ: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ أَيْ وَمَا سَوَّيْنَا هَذَا السَّقْفَ الْمَرْفُوعَ وَهَذَا الْمِهَادَ الْمَوْضُوعَ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ كَمَا

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 19 إلى 20]

تُسَوِّي الْجَبَابِرَةُ سُقُوفَهُمْ وَفُرُشَهُمْ لِلَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَإِنَّمَا سَوَّيْنَاهُمْ لِفَوَائِدَ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ أَمَّا الدِّينِيَّةُ فَلْيَتَفَكَّرِ الْمُتَفَكِّرُونَ فِيهَا عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آلِ عِمْرَانَ: 191] وَأَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ فَلِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْمَنَافِعِ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [ص: 27] وَقَوْلُهُ: مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدُّخَانِ: 39] . وَالثَّانِي: أَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ تَقْرِيرُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرَّدُّ عَلَى مُنْكِرِيهِ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ الْمُعْجِزَةَ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ كَاذِبًا كَانَ إِظْهَارُ الْمُعْجِزَةِ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ اللَّعِبِ وَذَلِكَ مَنْفِيٌّ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَحِينَئِذٍ يَفْسُدُ كُلُّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمَطَاعِنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ اللَّعِبَ لَيْسَ مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ لَاعِبًا فَإِنَّ اللَّاعِبَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِفَاعِلِ اللَّعِبِ فَنَفْيُ الِاسْمِ الْمَوْضُوعِ لِلْفِعْلِ يَقْتَضِي نَفْيَ الفعل. والجواب: يبطل ذلك بمسألة الداعي عن ما مر غيره مَرَّةٍ أَمَّا قَوْلُهُ: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا مَعْنَاهُ مِنْ جِهَةِ قُدْرَتِنَا. وَقِيلَ: اللَّهْوُ الْوَلَدُ بِلُغَةِ الْيَمَنِ وَقِيلَ الْمَرْأَةُ وَقِيلَ مِنْ لَدُنَّا أَيْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا مِنَ الْإِنْسِ رَدًّا لِمَنْ قَالَ بِوِلَادَةِ الْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: بَلْ/ إِضْرَابٌ عَنِ اتِّخَاذِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَتَنْزِيهٌ مِنْهُ لِذَاتِهِ كَأَنَّهُ قَالَ سُبْحَانَنَا أَنْ نَتَّخِذَ اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ بَلْ مِنْ عَادَتِنَا وَمُوجِبِ حكمتنا أن نغلب بِالْجِدِّ وَنَدْحَضَ الْبَاطِلَ بِالْحَقِّ، وَاسْتَعَارَ لِذَلِكَ الْقَذْفَ وَالدَّمْغَ تَصْوِيرًا لِإِبْطَالِهِ فَجَعَلَهُ كَأَنَّهُ جِرْمٌ صُلْبٌ كَالصَّخْرَةِ مَثَلًا قَذَفَ بِهِ عَلَى جِرْمٍ رَخْوٍ فَدَمَغَهُ، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ يَعْنِي مَنْ تَمَسَّكَ بِتَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَسَبَ الْقُرْآنَ إِلَى أَنَّهُ سِحْرٌ وَأَضْغَاثُ أَحْلَامٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَبَاطِيلِ، وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ بِقَوْلِهِ: مِمَّا تَصِفُونَ. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 19 الى 20] وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَفَى اللَّعِبَ عَنْ نَفْسِهِ وَنَفِيُ اللَّعِبِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِنَفْيِ الْحَاجَةِ وَنَفْيُ الْحَاجَةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ، لَا جَرَمَ عَقَّبَ تِلْكَ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لِدَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى كَمَالِ الْمُلْكِ وَالْقُدْرَةِ. الثَّانِي: وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى كَلَامَ الطَّاعِنِينَ فِي النُّبُوَّاتِ وَأَجَابَ عَنْهَا وَبَيَّنَ أَنَّ غَرَضَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْمَطَاعِنِ التَّمَرُّدُ وَعَدَمُ الِانْقِيَادِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ طَاعَتِهِمْ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لِجَمِيعِ الْمُحْدَثَاتِ وَالْمَخْلُوقَاتِ، وَلِأَجْلِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ جَلَالَتِهِمْ مُطِيعُونَ لَهُ خَائِفُونَ مِنْهُ فَالْبَشَرُ مَعَ نِهَايَةِ الضَّعْفِ أَوْلَى أَنْ يُطِيعُوهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ الْمُكَلَّفِينَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَهُمْ عَبِيدُهُ وَهُوَ الْخَالِقُ لَهُمْ وَالْمُنْعِمُ عَلَيْهِمْ بِأَصْنَافِ النِّعَمِ، فَيَجِبُ عَلَى الْكُلِّ طَاعَتُهُ وَالِانْقِيَادُ لِحُكْمِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَالَةُ قَوْلِهِ: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَمَنْ عِنْدَهُ الْمُرَادُ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بأنهم:

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 21 إلى 25]

يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِالْبَشَرِ وَهَذِهِ الْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ الشَّرَفِ وَالرُّتْبَةِ لَا عِنْدِيَّةُ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: الْمَلَائِكَةُ مَعَ كَمَالِ شَرَفِهِمْ وَنِهَايَةِ جَلَالَتِهِمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ طَاعَتِهِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْبَشَرِ الضَّعِيفِ التَّمَرُّدُ عَنْ طَاعَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ وَلَا يَتْعَبُونَ وَلَا يَعْيَوْنَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فَإِنْ قُلْتَ الِاسْتِحْسَارُ مُبَالَغَةٌ فِي الْحُسُورِ فَكَانَ الْأَبْلَغُ فِي وَصْفِهِمْ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُمْ أَدْنَى/ الْحُسُورِ قُلْتُ فِي الِاسْتِحْسَارِ بَيَانُ أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ يُوجِبُ غَايَةَ الْحُسُورِ وَأَقْصَاهُ وَأَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ لِتِلْكَ الْعِبَادَاتِ الشَّاقَّةِ بِأَنْ يَسْتَحْسِرُوا فِيمَا يَفْعَلُونَ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّ تَسْبِيحَهُمْ مُتَّصِلٌ دَائِمٌ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهِمْ لَا يَتَخَلَّلُهُ فَتْرَةٌ بِفَرَاغٍ أَوْ بِشُغْلٍ آخَرَ، رُوِيَ عَنْ عبد اللَّه بن الحرث بْنِ نَوْفَلٍ، قَالَ: قُلْتُ لِكَعْبٍ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّه تَعَالَى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ ثُمَّ قَالَ: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فَاطِرٍ: 1] أَفَلَا تَكُونُ تِلْكَ الرِّسَالَةُ مَانِعَةً لَهُمْ عَنْ هَذَا التَّسْبِيحِ وَأَيْضًا قَالَ: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [الْبَقَرَةِ: 161] فَكَيْفَ يَشْتَغِلُونَ بِاللَّعْنِ حَالَ اشْتِغَالِهِمْ بِالتَّسْبِيحِ؟ أَجَابَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ فَقَالَ: التَّسْبِيحُ لَهُمْ كَالتَّنَفُّسِ لَنَا فَكَمَا أَنَّ اشْتِغَالَنَا بِالتَّنَفُّسِ لَا يَمْنَعُنَا مِنَ الْكَلَامِ فَكَذَا اشْتِغَالُهُمْ بِالتَّسْبِيحِ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ. فَإِنْ قِيلَ هَذَا الْقِيَاسُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الِاشْتِغَالُ بِالتَّنَفُّسِ إِنَّمَا لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْكَلَامِ، لِأَنَّ آلَةَ التَّنَفُّسِ غَيْرُ آلَةِ الْكَلَامِ أَمَّا التَّسْبِيحُ وَاللَّعْنُ فَهُمَا مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ فَاجْتِمَاعُهُمَا مُحَالٌ. وَالْجَوَابُ: أَيُّ اسْتِبْعَادٍ فِي أَنْ يَخْلُقَ اللَّه تَعَالَى لَهُمْ أَلْسِنَةً كَثِيرَةً بِبَعْضِهَا يُسَبِّحُونَ اللَّه وَبِبَعْضِهَا يَلْعَنُونَ أَعْدَاءَ اللَّه، أَوْ يُقَالُ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا يَفْتُرُونَ أَنَّهُمْ لَا يَفْتُرُونَ عَنِ الْعَزْمِ عَلَى أَدَائِهِ فِي أَوْقَاتِهِ اللَّائِقَةِ بِهِ كَمَا يُقَالُ: إِنَّ فُلَانًا يُوَاظِبُ عَلَى الْجَمَاعَاتِ لَا يَفْتُرُ عَنْهَا لَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ أَبَدًا مُشْتَغِلٌ بِهَا بَلْ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مُوَاظِبٌ عَلَى الْعَزْمِ عَلَى أَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 21 الى 25] أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ السورة إلى هاهنا كَانَ فِي النُّبُوَّاتِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنَ الْكَلَامِ سُؤَالًا وَجَوَابًا، وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَاتُ فَإِنَّهَا فِي بَيَانِ التَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أم هاهنا هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الْكَائِنَةُ بِمَعْنَى بَلْ وَالْهَمْزَةُ قَدْ أَذِنَتْ بِالْإِضْرَابِ عَمَّا قَبْلَهَا وَالْإِنْكَارِ لِمَا بَعْدَهَا، وَالْمُنْكَرُ هُوَ اتِّخَاذُهُمْ آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ يُنْشِرُونَ الْمَوْتَى، وَلَعَمْرِي إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ أَنْ يُنْشِرَ الْمَوْتَى بَعْضَ الْمَوَاتِ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمُ اتِّخَاذَ آلِهَةٍ يُنْشِرُونَ وَمَا كَانُوا يَدَّعُونَ ذَلِكَ لِآلِهَتِهِمْ بَلْ كَانُوا فِي نِهَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ هَذِهِ الدَّعْوَى، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مَعَ إقرارهم باللَّه وبأنه خالق السموات

والأرض منكرين للبعث، ويقولون: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 78] فَكَيْفَ يَدَّعُونَهُ لِلْجَمَادِ الَّذِي لَا يُوصَفُ بِالْقُدْرَةِ الْبَتَّةَ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُمْ لَمَّا اشْتَغَلُوا بِعِبَادَتِهَا وَلَا بُدَّ لِلْعِبَادَةِ مِنْ فَائِدَةٍ هِيَ الثَّوَابُ فَإِقْدَامُهُمْ عَلَى عِبَادَتِهَا يُوجِبُ عَلَيْهِمُ الْإِقْرَارَ بِكَوْنِهِمْ قَادِرِينَ عَلَى الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ وَالتَّجْهِيلِ، يَعْنِي إِذَا كَانُوا غَيْرَ قَادِرِينَ عَلَى أَنْ يُحْيُوا وَيُمِيتُوا وَيَضُرُّوا وَيَنْفَعُوا فَأَيُّ عَقْلٍ يُجَوِّزُ اتِّخَاذَهُمْ آلِهَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مِنَ الْأَرْضِ كَقَوْلِكَ فُلَانٌ مِنْ مَكَّةَ أَوْ مِنَ الْمَدِينَةِ، تُرِيدُ مَكِّيٌّ أَوْ مَدَنِيٌّ إِذْ مَعْنَى نِسْبَتِهَا إِلَى الْأَرْضِ الْإِيذَانُ بِأَنَّهَا الْأَصْنَامُ الَّتِي تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ الْآلِهَةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَرْضِيَّةٌ وَسَمَاوِيَّةٌ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ آلِهَةٌ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، لِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَنْحُوتَةً مِنْ بَعْضِ الْحِجَارَةِ أَوْ مَعْمُولَةً مِنْ بَعْضِ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: النُّكْتَةُ فِي هُمْ يُنْشِرُونَ مَعْنَى الْخُصُوصِيَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِنْشَارِ إِلَّا هُمْ وَحْدَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ يُنْشِرُونَ وَهُمَا لُغَتَانِ أَنْشَرَ اللَّه الْمَوْتَى وَنَشَرَهَا. أَمَّا قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَهْلُ النَّحْوِ إلا هاهنا بمعنى غير أي لو كان يتولاهما ويدير أُمُورَهُمَا شَيْءٌ غَيْرُ الْوَاحِدِ الَّذِي هُوَ فَاطِرُهُمَا لَفَسَدَتَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ لَكَانَ الْمَعْنَى لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ لَيْسَ مَعَهُمُ اللَّه لَفَسَدَتَا وَهَذَا يُوجِبُ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ مَعَهُمُ اللَّه أَنْ لَا يَحْصُلَ الْفَسَادُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ فَسَوَاءٌ لَمْ يَكُنِ اللَّه مَعَهُمْ أَوْ كَانَ فَالْفَسَادُ لَازِمٌ. وَلَمَّا بَطَلَ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: الْقَوْلُ بِوُجُودِ إِلَهَيْنِ يُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِوُجُودِ إِلَهَيْنِ مُحَالًا، إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ لِأَنَّا لَوْ فَرَضْنَا وُجُودَ إِلَهَيْنِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَادِرًا عَلَى تَحْرِيكِ زَيْدٍ وَتَسْكِينِهِ فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَرَادَ تَحْرِيكَهُ وَالْآخَرَ تَسْكِينَهُ، فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ الْمَرَادَانِ وَهُوَ مُحَالٌ لِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ أَوْ لَا يَقَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ وُجُودِ مُرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَادُ الْآخَرِ، فَلَا يَمْتَنِعُ مُرَادُ هَذَا إِلَّا عِنْدَ وُجُودِ مُرَادِ ذَلِكَ وَبِالْعَكْسِ، فَلَوِ امْتَنَعَا مَعًا لَوُجِدَا/ مَعًا وَذَلِكَ مُحَالٌ أَوْ يَقَعُ مُرَادُ أَحَدِهِمَا دُونَ الثَّانِي وَذَلِكَ مُحَالٌ أَيْضًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَادِرًا عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ امْتَنَعَ كَوْنُ أَحَدِهِمَا أَقْدَرَ مِنَ الْآخَرِ بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْقُدْرَةِ. وَإِذَا اسْتَوَيَا فِي الْقُدْرَةِ اسْتَحَالَ أَنْ يَصِيرَ مُرَادُ أَحَدِهِمَا أَوْلَى بِالْوُقُوعِ مِنْ مُرَادِ الثَّانِي وَإِلَّا لَزِمَ تَرْجِيحُ الْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجَّحٍ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ مُرَادُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَالَّذِي وَقَعَ مُرَادُهُ يَكُونُ قَادِرًا وَالَّذِي لَمْ يَقَعْ مُرَادُهُ يَكُونُ عَاجِزًا وَالْعَجْزُ نَقْصٌ وَهُوَ عَلَى اللَّه مُحَالٌ. فَإِنْ قِيلَ الْفَسَادُ إِنَّمَا يَلْزَمُ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْإِرَادَةِ وَأَنْتُمْ لَا تَدَّعُونَ وُجُوبَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْإِرَادَةِ بَلْ أَقْصَى مَا تَدَّعُونَهُ أَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي الْإِرَادَةِ مُمْكِنٌ، فَإِذَا كَانَ الْفَسَادُ مَبْنِيًّا عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْإِرَادَةِ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مُمْكِنٌ وَالْمَبْنِيُّ عَلَى الْمُمْكِنِ مُمْكِنٌ فَكَانَ الْفَسَادُ مُمْكِنًا لَا وَاقِعًا فَكَيْفَ جَزَمَ اللَّه تَعَالَى بِوُقُوعِ الْفَسَادِ؟ قُلْنَا الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَعَلَّهُ

سُبْحَانَهُ أَجْرَى الْمُمْكِنَ مَجْرَى الْوَاقِعِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الرَّعِيَّةَ تَفْسَدُ بِتَدْبِيرِ الْمَلِكَيْنِ لِمَا يَحْدُثُ بَيْنَهُمَا مِنَ التَّغَالُبِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَقْوَى أَنْ نُبَيِّنَ لُزُومَ الْفَسَادِ لَا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بَلْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَنَقُولُ: لَوْ فَرَضْنَا إِلَهَيْنِ لَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ فَيُفْضِي إِلَى وُقُوعِ مَقْدُورٍ مِنْ قَادِرَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّ اسْتِنَادَ الْفِعْلِ إِلَى الْفَاعِلِ لِإِمْكَانِهِ فَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِلًّا بِالْإِيجَادِ فَالْفِعْلُ لِكَوْنِهِ مَعَ هَذَا يَكُونُ وَاجِبَ الْوُقُوعِ فَيَسْتَحِيلُ إِسْنَادُهُ إِلَى هَذَا لِكَوْنِهِ حَاصِلًا مِنْهُمَا جَمِيعًا فَيَلْزَمُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْهُمَا مَعًا وَاحْتِيَاجُهُ إِلَيْهِمَا مَعًا وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَهَذِهِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ فِي مَسْأَلَةِ التَّوْحِيدِ، فَنَقُولُ الْقَوْلُ بِوُجُودِ الْإِلَهَيْنِ يُفْضِي إِلَى امْتِنَاعِ وُقُوعِ الْمَقْدُورِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ الْبَتَّةَ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ وُقُوعُ الْفَسَادِ قَطْعًا، أَوْ نَقُولُ لَوْ قَدَّرْنَا إِلَهَيْنِ، فَإِمَّا أَنْ يَتَّفِقَا أَوْ يَخْتَلِفَا فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَذَلِكَ الْوَاحِدُ مَقْدُورٌ لَهُمَا وَمُرَادٌ لَهُمَا فَيَلْزَمُ وُقُوعُهُ بِهِمَا وَهُوَ مُحَالٌ وَإِنِ اخْتَلَفَا، فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ الْمُرَادَانِ أَوْ لَا يَقَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَوْ يَقَعَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ وَالْكُلُّ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّ الْفَسَادَ لَازِمٌ عَلَى كُلِّ التَّقْدِيرَاتِ، فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَلَا يَلْزَمُ الْفَسَادُ لِأَنَّ الْفَسَادَ إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ أَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُوجِدَهُ هُوَ وَهَذَا اخْتِلَافٌ، أَمَّا إِذَا أَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمُوجِدُ لَهُ أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ فَهُنَاكَ لَا يَلْزَمُ وُقُوعُ مَخْلُوقٍ بَيْنَ خَالِقَيْنِ، قُلْتُ: كَوْنُهُ مُوجِدًا لَهُ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْسَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ أَوْ نَفْسَ ذَلِكَ الْأَثَرِ أَوْ أَمْرًا ثَالِثًا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَزِمَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالِاشْتِرَاكِ فِي الْمُوجِدِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَيْسَ وُقُوعُ ذَلِكَ الْأَثَرِ بِقُدْرَةِ أَحَدِهِمَا وَإِرَادَتِهِ أَوْلَى مِنْ وُقُوعِهِ بِقُدْرَةِ الثَّانِي، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِرَادَةً مُسْتَقِلَّةً بِالتَّأْثِيرِ، وَإِنْ كَانَ الثَّالِثَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُوجِدُ لَهُ أَمْرًا ثَالِثًا فَذَلِكَ الثَّالِثُ إِنْ كَانَ قَدِيمًا اسْتَحَالَ كَوْنُهُ مُتَعَلِّقَ الْإِرَادَةِ. وَإِنْ كَانَ حَادِثًا فَهُوَ نَفْسُ الْأَثَرِ، وَيَصِيرُ هَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَمَّا وَقَفْتَ عَلَى حَقِيقَةِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ عَرَفْتَ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ وَالْمَخْلُوقَاتِ فَهُوَ دَلِيلُ وَحْدَانِيَّةِ اللَّه تَعَالَى بَلْ/ وُجُودُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ دَلِيلٌ تَامٌّ عَلَى التَّوْحِيدِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ. وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ قَدْ ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، واعلم أن هاهنا أَدِلَّةً أُخْرَى عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّه تَعَالَى. أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَقْوَى أَنْ يُقَالَ: لَوْ فَرَضْنَا مَوْجُودَيْنِ وَاجِبَيِ الْوُجُودِ لِذَاتَيْهِمَا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْوُجُودِ وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَمْتَازَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ بِنَفْسِهِ وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُمَايَزَةُ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَكَّبًا مِمَّا بِهِ يُشَارِكُ الْآخَرَ وَمِمَّا بِهِ امْتَازَ عَنْهُ، وَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى جُزْئِهِ وَجُزْؤُهُ غَيْرُهُ، فَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ، وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ إِلَى غَيْرِهِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، فَوَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ مُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ. هَذَا خُلْفٌ، فَإِذِنْ وَاجِبُ الْوُجُودِ لَيْسَ إِلَّا الْوَاحِدُ وَكُلُّ مَا عَدَاهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ فِي وُجُودِهِ إِلَى الْغَيْرِ فَهُوَ مُحْدَثٌ فَكُلُّ مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى مُحْدَثٌ، وَيُمْكِنُ جَعْلُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ تَفْسِيرًا لِهَذِهِ الْآيَةِ. لِأَنَّا إِنَّمَا دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ مَوْجُودَيْنِ وَاجِبَيْنِ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْهُمَا وَاجِبًا وَإِذَا لَمْ يُوجَدِ الْوَاجِبُ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمُمْكِنَاتِ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْفَسَادُ فَثَبَتَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ إِلَهَيْنِ وُقُوعُ الْفَسَادِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ. وَثَانِيهَا: أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا إِلَهَيْنِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشَارِكًا لِلْآخَرِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَتَمَيَّزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ بِأَمْرٍ مَا وَإِلَّا لَمَا حَصَلَ التَّعَدُّدُ، فَمَا بِهِ الْمُمَايَزَةُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صِفَةَ كَمَالٍ أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كَانَ صِفَةَ كَمَالٍ فَالْخَالِي عَنْهُ يَكُونُ خَالِيًا عَنِ الْكَمَالِ فَيَكُونُ نَاقِصًا وَالنَّاقِصُ لَا يَكُونُ إِلَهًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صِفَةَ كَمَالٍ فَالْمَوْصُوفُ بِهِ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِمَا لَا يَكُونُ صِفَةَ كَمَالٍ فَيَكُونُ نَاقِصًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَا بِهِ الْمُمَايَزَةُ إِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي تَحَقُّقِ الْإِلَهِيَّةِ فَالْخَالِي عَنْهُ لَا يَكُونُ إِلَهًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فِي الْإِلَهِيَّةِ لَمْ يَكُنِ الِاتِّصَافُ بِهِ وَاجِبًا، فَيَفْتَقِرُ إِلَى

الْمُخَصَّصِ فَالْمَوْصُوفُ بِهِ مُفْتَقِرٌ وَمُحْتَاجٌ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُقَالَ: لَوْ فَرَضْنَا إِلَهَيْنِ لَكَانَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَا بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ الْغَيْرُ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا، لَكِنَّ الِامْتِيَازَ فِي عُقُولِنَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالتَّبَايُنِ فِي الْمَكَانِ أَوْ فِي الزَّمَانِ أَوْ فِي الْوُجُوبِ وَالْإِمْكَانِ وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْإِلَهِ مُحَالٌ فَيَمْتَنِعُ حُصُولُ الِامْتِيَازِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ أَحَدَ الْإِلَهَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَافِيًا فِي تَدْبِيرِ الْعَالَمِ أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كَانَ كَافِيًا كَانَ الثَّانِي ضَائِعًا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ نَقْصٌ وَالنَّاقِصُ لَا يَكُونُ إِلَهًا. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْعَقْلَ يَقْتَضِي احْتِيَاجَ الْمُحْدَثِ إِلَى الْفَاعِلِ وَلَا امْتِنَاعَ فِي كَوْنِ الْفَاعِلِ الْوَاحِدِ مُدَبِّرًا لِكُلِّ الْعَالَمِ. فَأَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَدَدٌ أَوْلَى مِنْ عَدَدٍ فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى وُجُودِ أَعْدَادٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَذَلِكَ مُحَالٌ فَالْقَوْلُ بِوُجُودِ الْآلِهَةِ مُحَالٌ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ أَحَدَ الْإِلَهَيْنِ إِمَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى أَنْ يَخُصَّ نَفْسَهُ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ لَا يَقْدِرَ عَلَيْهِ. وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ لِأَنَّ دَلِيلَ الصَّانِعِ لَيْسَ إِلَّا بِالْمُحْدَثَاتِ وَلَيْسَ فِي حُدُوثِ الْمُحْدَثَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِهِمَا دُونَ الثَّانِي وَالتَّالِي مُحَالٌ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى كَوْنِهِ عَاجِزًا عَنْ تَعْرِيفِ نَفْسِهِ عَلَى التَّعْيِينِ وَالْعَاجِزُ لَا يَكُونُ إِلَهًا. وَسَابِعُهَا: أَنَّ أَحَدَ الْإِلَهَيْنِ إِمَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى أَنْ يَسْتُرَ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِهِ عَنِ الْآخَرِ أَوْ لَا يَقْدِرَ، فَإِنْ قَدَرَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ المستور عنه جاهلا عنه جاهلا، وإن يَقْدِرْ لَزِمَ كَوْنُهُ عَاجِزًا. وَثَامِنُهَا: لَوْ/ قَدَّرْنَا إِلَهَيْنِ لَكَانَ مَجْمُوعُ قُدْرَتَيْهِمَا بَيْنَهُمَا أَقْوَى مِنْ قُدْرَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحْدَهُ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقُدْرَتَيْنِ مُتَنَاهِيًا وَالْمَجْمُوعُ ضِعْفُ الْمُتَنَاهِي فيكون الكل متناهيا. وتاسعا: الْعَدَدُ نَاقِصٌ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى الْوَاحِدِ، وَالْوَاحِدُ الَّذِي يُوجَدُ مِنْ جِنْسِهِ عَدَدٌ نَاقِصٌ نَاقِصٌ، لِأَنَّ الْعَدَدَ أَزْيَدُ مِنْهُ، وَالنَّاقِصُ لَا يَكُونُ إِلَهًا فَالْإِلَهُ وَاحِدٌ لَا مَحَالَةَ. وَعَاشِرُهَا: أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا مَعْدُومًا مُمْكِنَ الْوُجُودِ ثُمَّ قَدَّرْنَا إِلَهَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى إِيجَادِهِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَاجِزًا وَالْعَاجِزُ لَا يَكُونُ إِلَهًا، وَإِنْ قَدَرَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَهَذَا الْآخَرُ يَكُونُ إِلَهًا، وَإِنْ قَدِرَا جَمِيعًا فَإِمَّا أَنْ يُوجِدَاهُ بِالتَّعَاوُنِ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَاجًا إِلَى إِعَانَةِ الْآخَرِ، وَإِنْ قَدَرَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى إِيجَادِهِ بِالِاسْتِقْلَالِ فَإِذَا أَوْجَدَهُ أَحَدُهُمَا فَإِمَّا أَنْ يَبْقَى الثَّانِي قَادِرًا عَلَيْهِ وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّ إِيجَادَ الْمَوْجُودِ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْأَوَّلُ قَدْ أَزَالَ قُدْرَةَ الثَّانِي وَعَجْزَهُ فَيَكُونُ مَقْهُورًا تَحْتَ تَصَرُّفِهِ فَلَا يَكُونُ إِلَهًا. فَإِنْ قِيلَ الْوَاجِدُ إِذَا أَوْجَدَ مَقْدُورَهُ فَقَدْ زَالَتْ قُدْرَتُهُ عَنْهُ فَيَلْزَمُكُمُ الْعَجْزُ، قُلْنَا: الْوَاحِدُ إِذَا أَوْجَدَهُ فَقَدْ نَفَذَتْ قُدْرَتُهُ فَنَفَاذُ الْقُدْرَةِ لَا يَكُونُ عَجْزًا، أَمَّا الشَّرِيكُ فَإِنَّهُ لَمَّا نَفَذَتْ قُدْرَتُهُ لَمْ يَبْقَ لِشَرِيكِهِ قُدْرَةٌ الْبَتَّةَ بَلْ زَالَتْ قُدْرَتُهُ بِسَبَبِ قُدْرَةِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ تَعْجِيزًا. الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ نُقَرِّرَ هَذِهِ الدَّلَالَةَ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أن نعين جسما وتقول هَلْ يَقْدِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى خَلْقِ الْحَرَكَةِ فِيهِ بَدَلًا عَنِ السُّكُونِ وَبِالْعَكْسِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ كَانَ عَاجِزًا وَإِنْ قَدَرَ فَنَسُوقُ الدَّلَالَةَ إِلَى أَنْ نَقُولَ إِذَا خَلَقَ أَحَدُهُمَا فِيهِ حَرَكَةً امْتَنَعَ عَلَى الثَّانِي خَلْقُ السُّكُونِ، فَالْأَوَّلُ أَزَالَ قُدْرَةَ الثَّانِي وَعَجَّزَهُ فَلَا يَكُونُ إِلَهًا، وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ يُفِيدَانِ الْعَجْزَ نَظَرًا إِلَى قُدْرَتَيْهِمَا وَالدَّلَالَةُ الْأُولَى إِنَّمَا تُفِيدُ الْعَجْزَ بِالنَّظَرِ إِلَى إِرَادَتَيْهِمَا. وَثَانِي عَشَرَهَا: أَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا عَالِمَيْنِ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ كَانَ عِلْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِ مَعْلُومِ الْآخَرِ فَوَجَبَ تَمَاثُلُ عِلْمَيْهِمَا وَالذَّاتُ الْقَابِلَةُ لِأَحَدِ الْمِثْلَيْنِ قَابِلَةٌ لِلْمِثْلِ الْآخَرِ، فَاخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتِلْكَ الصِّفَةِ مَعَ جَوَازِ اتِّصَافِهِ بِصِفَةِ الْآخَرِ عَلَى الْبَدَلِ يَسْتَدْعِي مُخَصِّصًا يُخَصِّصُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدًا فَقِيرًا نَاقِصًا. وَثَالِثَ عَشَرَهَا: أَنَّ الشَّرِكَةَ عَيْبٌ وَنَقْصٌ فِي الشَّاهِدِ، وَالْفَرْدَانِيَّةُ وَالتَّوَحُّدُ صِفَةُ كَمَالٍ، وَنَرَى الْمُلُوكَ يَكْرَهُونَ الشَّرِكَةَ فِي الْمُلْكِ الْحَقِيرِ الْمُخْتَصَرِ أَشَدَّ الْكَرَاهِيَةِ. وَنَرَى أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الْمُلْكُ أَعْظَمَ كَانَتِ النَّفْرَةُ عَنِ الشَّرِكَةِ أَشَدَّ، فَمَا ظَنُّكَ بِمُلْكِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَمَلَكُوتِهِ فَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا اسْتِخْلَاصَ الْمُلْكِ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ كَانَ الْمَغْلُوبُ فَقِيرًا عَاجِزًا فَلَا يَكُونُ إِلَهًا، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ كَانَ فِي أَشَدِّ الْغَمِّ وَالْكَرَاهِيَةِ فَلَا يَكُونُ إِلَهًا. وَرَابِعَ

عَشَرَهَا: أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا إِلَهَيْنِ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَحْتَاجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ أَوْ يَسْتَغْنِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ أَوْ يَحْتَاجَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ وَالْآخَرُ يَسْتَغْنِي عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَاقِصًا لِأَنَّ الْمُحْتَاجَ نَاقِصٌ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ، وَالْمُسْتَغْنَى عَنْهُ نَاقِصٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَلَدَ إِذَا كَانَ لَهُ رَئِيسٌ وَالنَّاسُ يُحَصِّلُونَ مَصَالِحَ الْبَلَدِ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ مِنْهُمْ إِلَيْهِ وَمِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ مِنْهُمْ إِلَيْهِ عُدَّ ذَلِكَ الرَّئِيسُ نَاقِصًا، فَالْإِلَهُ هُوَ الَّذِي يُسْتَغْنَى بِهِ وَلَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ، وَإِنِ احْتَاجَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ/ كَانَ الْمُحْتَاجُ نَاقِصًا وَالْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ هُوَ الْإِلَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ ظَنِّيَّةٌ إِقْنَاعِيَّةٌ وَالِاعْتِمَادَ عَلَى الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَمَّا الدَّلَائِلُ السَّمْعِيَّةُ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ [الْحَدِيدِ: 3] فَالْأَوَّلُ هُوَ الْفَرْدُ السَّابِقُ، وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ اشْتَرَيْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ فَلَوِ اشْتَرَى أَوَّلًا عَبْدَيْنِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ شَرْطَ الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ فَرْدًا. وَهَذَا لَيْسَ بِفَرْدٍ فَلَوِ اشْتَرَى بَعْدَ ذَلِكَ وَاحِدًا لَمْ يَحْنَثْ أَيْضًا لِأَنَّ شَرْطَ الْفَرْدِ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا وَهَذَا لَيْسَ بِسَابِقٍ. فَلَمَّا وَصَفَ اللَّه تَعَالَى نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ أَوَّلًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَرْدًا سَابِقًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَامِ: 59] فَالنَّصُّ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ سِوَاهُ عَالِمًا بِالْغَيْبِ وَلَوْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ لَكَانَ عَالِمًا بِالْغَيْبِ وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى صَرَّحَ بِكَلِمَةِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [الْبَقَرَةِ: 163] فِي سَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ مَوْضِعًا مِنْ كِتَابِهِ وَصَرَّحَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ فِي مَوَاضِعَ مثل قَوْلِهِ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الْبَقَرَةِ: 163] وَقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاصِ: 1] وَكُلُّ ذَلِكَ صَرِيحٌ فِي الْبَابِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] حُكْمٌ بِهَلَاكِ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَمَنْ عُدِمَ بَعْدَ وَجُودِهِ لَا يَكُونُ قَدِيمًا، وَمَنْ لَا يَكُونُ قَدِيمًا لَا يَكُونُ إِلَهًا. وَخَامِسُهَا: قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 91] وَقَوْلِهِ: إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 42] . وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [الأنعام: 17] وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يُونُسَ: 107] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ [الزُّمَرِ: 38] . وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ [الْأَنْعَامِ: 46] وَهَذَا الْحَصْرُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الشَّرِيكِ. وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزُّمَرِ: 62] فَلَوْ وُجِدَ الشَّرِيكُ لَمْ يَكُنْ خَالِقًا فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ لَا تَتَوَقَّفُ مَعْرِفَةُ صِدْقِ الرُّسُلِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا بِالسَّمْعِ وَالْوَحْدَانِيَّةُ لَا تَتَوَقَّفُ مَعْرِفَةُ صِدْقِ الرُّسُلِ عَلَيْهَا، فَلَا جَرَمَ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ طَعَنَ فِي دَلَالَةِ التَّمَانُعِ فَسَرَّ الْآيَةَ بِأَنَّ الْمُرَادَ لَوْ كَانَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ آلِهَةٌ تَقُولُ بِإِلَهِيَّتِهَا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ لَزِمَ فَسَادُ الْعَالَمِ لِأَنَّهَا جَمَادَاتٌ لَا تَقْدِرُ عَلَى تَدْبِيرِ الْعَالَمِ فَيَلْزَمُ فَسَادُ الْعَالَمِ قَالُوا وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ قَوْلَهُ: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلَالَةَ عَلَى فَسَادِ هَذَا فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ الدَّلِيلُ بِهِ وباللَّه التَّوْفِيقُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَقَامَ الدَّلَالَةَ الْقَاطِعَةَ عَلَى التَّوْحِيدِ قَالَ بَعْدَهُ: فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ أَيْ هُوَ مُنَزَّهٌ لِأَجْلِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ عَنْ وَصْفِهِمْ بِأَنَّ مَعَهُ إِلَهًا، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالتَّسْبِيحِ إِنَّمَا يَنْفَعُ بَعْدَ إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُنَزَّهًا وَعَلَى أَنَّ طَرِيقَةَ التَّقْلِيدِ طَرِيقَةٌ مَهْجُورَةٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ أَيُّ فَائِدَةٍ لِقَوْلِهِ: فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ/ وَلِمَ لَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِهِ: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ؟ وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ مَعَ عَبْدَةِ الْأَصْنَامِ، إِلَّا أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى يَعُمُّ جَمِيعَ الْمُخَالِفِينَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ الدَّلِيلِ الْعَامِّ نَبَّهَ عَلَى نُكْتَةٍ خَاصَّةٍ بِعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، وَهِيَ أَنَّهُ كَيْفَ يَجُوزُ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَجْعَلَ الْجَمَادَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَلَا يُحِسُّ شَرِيكًا فِي الْإِلَهِيَّةِ لِخَالِقِ العرش العظيم وموجد السموات وَالْأَرَضِينَ وَمُدَبِّرِ الْخَلَائِقِ مِنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ وَاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ وَالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْجَمَادِ وَالنَّبَاتِ وَأَنْوَاعِ الْحَيَوَانَاتِ أجمعين. أما قوله تعالى: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى بَحْثَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ وَلَا يُقَالُ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَلَائِقَ مَسْؤُولُونَ عَنْ أَفْعَالِهِمْ، أَمَّا الْبَحْثُ الْأَوَّلُ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَجْهُ تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّ عُمْدَةَ مَنْ أَثْبَتَ للَّه شَرِيكًا لَيْسَتْ إِلَّا طَلَبَ اللَّمِّيَّةِ فِي أَفْعَالِ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّنَوِيَّةَ وَالْمَجُوسَ وَهُمُ الَّذِينَ أَثْبَتُوا الشَّرِيكَ للَّه تَعَالَى قَالُوا: رَأَيْنَا فِي الْعَالَمِ خَيْرًا وَشَرًّا وَلَذَّةً وَأَلَمًا وَحَيَاةً وَمَوْتًا وَصِحَّةً وَسَقَمًا وَغِنًى وَفَقْرًا، وَفَاعِلُ الْخَيْرِ خَيِّرٌ وَفَاعِلٌ الشَّرِّ شِرِّيرٌ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ الْوَاحِدُ خَيِّرًا وَشِرِّيرًا مَعًا، فَلَا بُدَّ مِنْ فَاعِلَيْنِ لِيَكُونَ أَحَدُهُمَا فَاعِلًا لِلْخَيْرِ وَالْآخَرُ فَاعِلًا لِلشَّرِّ. وَيَرْجِعُ حَاصِلُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ إِلَى أَنَّ مُدَبِّرَ الْعَالَمِ لَوْ كَانَ وَاحِدًا لَمَا خَصَّ هَذَا بِالْحَيَاةِ وَالصِّحَّةِ وَالْغِنَى، وَخَصَّ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ وَالْأَلَمِ وَالْفَقْرِ. فَيَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى طَلَبِ اللَّمِّيَّةِ فِي أَفْعَالِ اللَّه تَعَالَى. فَلَمَّا كَانَ مَدَارُ أَمْرِ الْقَائِلِينَ بِالشَّرِيكِ عَلَى طَلَبِ اللَّمِّيَّةِ لَا جَرَمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الدَّلِيلَ عَلَى التَّوْحِيدِ ذَكَرَ مَا هُوَ النُّكْتَةُ الْأَصْلِيَّةُ فِي الْجَوَابِ عَنْ شُبْهَةِ الْقَائِلِينَ بِالشَّرِيكِ، لِأَنَّ التَّرْتِيبَ الْجَيِّدَ فِي الْمُنَاظَرَةِ أَنْ يَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ الدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ لِلْمَطْلُوبِ. ثُمَّ يَذْكُرَ بَعْدَهُ مَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ شُبْهَةِ الْخَصْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الدَّلَالَةِ على أنه سبحانه: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ أَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَإِنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ لَكَانَتْ عِلِّيَّةُ تِلْكَ الْعِلَّةِ مُعَلَّلَةً بِعِلَّةٍ أُخْرَى وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ فَلَا بُدَّ فِي قَطْعِ التَّسَلْسُلِ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى مَا يَكُونُ غَنِيًّا عَنِ الْعِلَّةِ وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِذَلِكَ ذَاتُ اللَّه تَعَالَى وَصِفَاتُهُ، وَكَمَا أَنَّ ذَاتَهُ مُنَزَّهَةٌ عَنِ الِافْتِقَارِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ وَالْعِلَّةِ، وَصِفَاتَهُ مُبَرَّأَةٌ عَنِ الِافْتِقَارِ إِلَى الْمُبْدِعِ وَالْمُخَصِّصِ فَكَذَا فَاعِلِيَّتُهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُقَدَّسَةً عَنِ الِاسْتِنَادِ إِلَى الْمُوجِبِ وَالْمُؤَثِّرِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ فَاعِلِيَّتَهُ لَوْ كَانَتْ مُعَلَّلَةً بِعِلَّةٍ لَكَانَتْ تِلْكَ الْعِلَّةُ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً أَوْ مُمْكِنَةً فَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَزِمَ مِنْ وُجُوبِهَا وُجُوبُ كَوْنِهِ فَاعِلًا، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُوجِبًا بِالذَّاتِ لَا فَاعِلًا بِالِاخْتِيَارِ، وَإِنْ كَانَتْ مُمْكِنَةً كَانَتْ تِلْكَ الْعِلَّةُ فِعْلًا للَّه تَعَالَى أَيْضًا فَتَفْتَقِرُ فَاعِلِيَّتُهُ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ إِلَى عِلَّةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ عِلَّةَ فَاعِلِيَّةِ اللَّه تَعَالَى لِلْعَالَمِ إِنْ كَانَتْ قَدِيمَةً لَزِمَ أَنْ تَكُونَ فَاعِلِيَّتُهُ لِلْعَالَمِ قَدِيمَةً فَيَلْزَمُ قَدِمُ الْعَالَمِ وَإِنْ كَانَتْ مُحْدَثَةً افْتَقَرَ إِلَى عِلَّةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَرَابِعُهَا: أَنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْغَرَضِ بِدُونِ تِلْكَ الْوَاسِطَةِ أَوْ لَا يَكُونَ مُتَمَكِّنًا/ مِنْهُ. فَإِنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ كَانَ تَوَسُّطُ تِلْكَ الْوَاسِطَةِ عَبَثًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ كَانَ عَاجِزًا وَالْعَجْزُ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ، أَمَّا الْعَجْزُ عَلَيْنَا فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ فَلِذَلِكَ كَانَتْ أَفْعَالُنَا مُعَلَّلَةً بِالْأَغْرَاضِ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ لَوْ كان فعله معللا بغرض لكان الْغَرَضُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى اللَّه تَعَالَى أَوْ إِلَى الْعِبَادِ وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ لِأَنَّهُ

مُنَزَّهٌ عَنِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّ الْغَرَضَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْعِبَادِ، وَلَا غَرَضَ لِلْعِبَادِ إِلَّا حُصُولُ اللَّذَّاتِ وَعَدَمُ حُصُولِ الْآلَامِ، واللَّه تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِهَا ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ مِنَ الْوَسَائِطِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا لِأَجْلِ شَيْءٍ. وَسَادِسُهَا: هُوَ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ لَكَانَ وُجُودُ ذَلِكَ الْغَرَضِ وَعَدَمُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى السَّوَاءِ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ عَلَى السَّوَاءِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ غَرَضًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى السَّوَاءِ لَزِمَ كَوْنُهُ تَعَالَى نَاقِصًا بِذَاتِهِ كَامِلًا بِغَيْرِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَإِنْ قُلْتَ وُجُودُ ذَلِكَ الْغَرَضِ وَعَدَمُهُ وَإِنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ عَلَى السَّوَاءِ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِبَادِ فَالْوُجُودُ أَوْلَى مِنَ الْعَدَمِ، قُلْنَا: تَحْصِيلُ تِلْكَ الْأَوْلَوِيَّةِ لِلْعَبْدِ وَعَدَمُ تَحْصِيلِهَا لَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ عَلَى السَّوِيَّةِ أَوْ لَا عَلَى السَّوِيَّةِ، وَيَعُودُ التَّقْسِيمُ الْأَوَّلُ. وَسَابِعُهَا: وَهُوَ أَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا هُوَ سُبْحَانَهُ أَوْ مُلْكُهُ وَمُلْكُهُ وَمَنْ تَصَرَّفَ فِي مُلْكِ نَفْسِهِ لَا يُقَالُ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ. وَثَامِنُهَا: وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ فَهَذَا السُّؤَالُ إِنَّمَا يَحْسُنُ حَيْثُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَقْدِرَ السَّائِلُ عَلَى مَنْعِ الْمَسْؤُولِ مِنْهُ عَنْ فِعْلِهِ وَذَلِكَ مِنَ الْعَبْدِ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ، فَإِنَّهُ لَوْ فَعَلَ أَيَّ فِعْلٍ شَاءَ فَالْعَبْدُ كَيْفَ يَمْنَعُهُ عَنْ ذَلِكَ؟ إِمَّا بِأَنْ يُهَدِّدَهُ بِالْعِقَابِ وَالْإِيلَامِ وَذَلِكَ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ، أَوْ بِأَنْ يُهَدِّدَهُ بِاسْتِحْقَاقِ الذم والخروج عن الحكمة والإنصاف بِالسَّفَاهَةِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَذَلِكَ أَيْضًا مُحَالٌ، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْمَدْحِ وَاتِّصَافَهُ بِصِفَاتِ الْحِكْمَةِ وَالْجَلَالِ أُمُورٌ ذَاتِيَّةٌ لَهُ، وَمَا ثَبَتَ لِلشَّيْءِ لِذَاتِهِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَبَدَّلَ لِأَجْلِ تَبَدُّلِ الصِّفَاتِ الْعَرَضِيَّةِ الْخَارِجِيَّةِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ للَّه فِي أَفْعَالِهِ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا الْفِعْلَ؟ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ صُنْعُهُ وَلَا عِلَّةَ لِصُنْعِهِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ سَلَّمُوا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ للَّه لِمَ فَعَلْتَ هَذَا الْفِعْلَ وَلَكِنَّهُمْ بَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِقُبْحِ الْقَبَائِحِ، وَعَالِمٌ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهَا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَفْعَلَ الْقَبِيحَ، وَإِذَا عَرَفْنَا ذَلِكَ عَرَفْنَا إِجْمَالًا إِنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّه تَعَالَى فَهُوَ حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ للَّه لِمَ فَعَلْتَ هَذَا. أَمَّا الْبَحْثُ الثَّانِي: وهو قوله تعالى: وَهُمْ يُسْئَلُونَ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمُكَلَّفِينَ مَسْؤُولِينَ عَنْ أَفْعَالِهِمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا السُّؤَالِ إِمَّا فِي الْإِمْكَانِ الْعَقْلِيِّ أَوْ فِي الْوُقُوعِ السَّمْعِيِّ، أَمَّا الْإِمْكَانُ الْعَقْلِيُّ فَالْخِلَافُ فِيهِ مَعَ مُنْكِرِي التَّكَالِيفِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: قَالُوا: التَّكْلِيفَ إِمَّا أَنْ يَتَوَجَّهَ عَلَى الْعَبْدِ حَالَ اسْتِوَاءِ دَاعِيَتِهِ إِلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، أَوْ حَالَ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ لِأَنَّ حَالَ الِاسْتِوَاءِ يَمْتَنِعُ التَّرْجِيحُ وَحَالَ امْتِنَاعِ التَّرْجِيحِ يَكُونُ التَّكْلِيفُ/ بِالتَّرْجِيحِ تَكْلِيفًا بِالْمُحَالِ، وَالثَّانِي مُحَالٌ لِأَنَّ حَالَ الرُّجْحَانِ يَكُونُ الرَّاجِحُ وَاجِبَ الْوُقُوعِ وَالْمَرْجُوحُ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ. وَالتَّكْلِيفُ بِإِيقَاعِ مَا يَكُونُ وَاجِبَ الْوُقُوعِ عَبَثٌ، وَبِإِيقَاعِ مَا هُوَ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ. وَثَانِيهَا: قَالُوا كُلُّ مَا عَلِمَ اللَّه وُقُوعَهُ فَهُوَ وَاجِبُ الْوُقُوعِ فَيَكُونُ التَّكْلِيفُ بِهِ عَبَثًا، وَكُلُّ مَا عَلِمَ اللَّه تَعَالَى عَدَمَهُ كَانَ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، فَيَكُونُ التَّكْلِيفُ بِهِ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ. وَثَالِثُهَا: قَالُوا: سُؤَالُ العبد ما أَنْ يَكُونَ لِفَائِدَةٍ أَوْ لَا لِفَائِدَةٍ فَإِنْ كَانَ لِفَائِدَةٍ فَتِلْكَ الْفَائِدَةُ إِنْ عَادَتْ إِلَى اللَّه تَعَالَى كَانَ مُحْتَاجًا وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ عَادَتْ إِلَى الْعَبْدِ فَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ سُؤَالَهُ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِتَوْجِيهِ الْعِقَابِ عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ هَذَا نَفْعًا عَائِدًا إِلَى الْعَبْدِ بَلْ ضَرَرًا عَائِدًا إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي السُّؤَالِ فَائِدَةٌ كَانَ عَبَثًا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى الْحَكِيمِ، بَلْ كَانَ إِضْرَارًا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى الرَّحِيمِ. وَالْجَوَابُ عَنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ غَرَضَكُمْ مِنْ إِيرَادِ

هَذِهِ الشُّبْهَةِ النَّافِيَةِ لِلتَّكْلِيفِ أَنْ تُلْزِمُونَا نَفْيَ التَّكْلِيفِ فَكَأَنَّكُمْ تُكَلِّفُونَا بِنَفْيِ التَّكْلِيفِ وَهُوَ مُتَنَاقِضٌ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ مَدَارَ كَلَامِكُمْ فِي هَذِهِ الشُّبُهَاتِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ التَّكَالِيفَ كُلَّهَا تَكَالِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ فَلَا يَجُوزُ مِنَ الْحَكِيمِ أَنْ يُوجِبَهَا عَلَى الْعِبَادِ فَيَرْجِعُ حَاصِلُ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ إِلَى أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ تعالى: لم كلفت عبادك، إلا أنا قد بينا أنه سبحانه: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ فظهر بهذا أن قوله: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ كالأصل والقاعدة لقوله: وَهُمْ يُسْئَلُونَ فَتَأَمَّلْ فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ الْعَجِيبَةِ لِتَقِفَ عَلَى طَرَفٍ مِنْ أَسْرَارِ عِلْمِ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا الْوُقُوعُ السَّمْعِيُّ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ قَوْلَهُ: وَهُمْ يُسْئَلُونَ وإن كان متأكدا بقوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 92] وبقوله: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصَّافَّاتِ: 24] إِلَّا أَنَّهُ يُنَاقِضُهُ قَوْلُهُ: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرَّحْمَنِ: 39] وَالْجَوَابُ: أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ طَوِيلٌ وَفِيهِ مَقَامَاتٌ فَيَصْرِفُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ إِلَى مَقَامٍ آخَرَ دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِيهِ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ هُوَ الْخَالِقُ لِلْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ لَوَجَبَ أَنْ يُسْأَلَ عَمَّا يَفْعَلُ، بَلْ كَانَ يُذَمُّ بِمَا حَقُّهُ الذَّمُّ، كَمَا يُحْمَدُ بِمَا حَقُّهُ الْمَدْحُ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يُسْأَلَ عَنِ الْأُمُورِ إِذَا كَانَ لَا فَاعِلَ سِوَاهُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ كَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلُوا عَنْ عَمَلِهِمْ إِذْ لَا عَمَلَ لَهُمْ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ أَعْمَالَهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا عَنْهَا مِنْ حَيْثُ خَلَقَهَا وَأَوْجَدَهَا فِيهِمْ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ بِأَنَّهُ يَقْبَلُ حُجَّةَ الْعِبَادِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النِّسَاءِ: 165] وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ لَهُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةَ قَبْلَ بَعْثَةِ الرُّسُلِ، وَقَالَ: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه: 134] وَنَظَائِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ كَثِيرَةٌ وَكُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُجَّةَ الْعَبْدِ مُتَوَجِّهَةٌ عَلَى اللَّه تَعَالَى. وَسَادِسُهَا: قَالَ ثُمَامَةُ إِذَا وَقَفَ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّه تَعَالَى: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَعْصِيَتِي؟ فَيَقُولُ عَلَى مَذْهَبِ الْجَبْرِ: يَا رَبِّ إِنَّكَ خَلَقْتَنِي كَافِرًا وَأَمَرْتَنِي بِمَا لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ وَحُلْتَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عَلَى مَذْهَبِ الْجَبْرِ يَكُونُ صَادِقًا، وَقَالَ اللَّه تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ/ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [الْمَائِدَةِ: 119] فَوَجَبَ أَنْ يَنْفَعَهُ هَذَا الْكَلَامُ فَقِيلَ لَهُ، وَمَنْ يَدَعُهُ يَقُولُ: هَذَا الْكَلَامَ أَوْ يَحْتَجُّ؟ فَقَالَ ثُمَامَةُ: أَلَيْسَ إِذَا مَنَعَهُ اللَّه الْكَلَامَ وَالْحُجَّةَ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنَعَهُ مِمَّا لَوْ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ لَانْقَطَعَ فِي يَدِهِ، وَهَذَا نِهَايَةُ الِانْقِطَاعِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ: أَنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِمَسْأَلَةِ الدَّاعِي وَمَسْأَلَةِ الْعِلْمِ ثُمَّ بِالْوُجُوهِ الثَّمَانِيَةِ الَّتِي بَيَّنَّا فِيهَا أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ طَلَبُ لَمِيَّةِ أَفْعَالِ اللَّه تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّرَ قَوْلَهُ: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً اسْتِعْظَامًا لِكُفْرِهِمْ أَيْ وَصَفْتُمُ اللَّه بِأَنَّ لَهُ شَرِيكًا فَهَاتُوا بُرْهَانَكُمْ عَلَى ذَلِكَ. أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ دَلِيلَ التَّوْحِيدِ أَوَّلًا وَقَرَّرَ الْأَصْلَ الَّذِي عَلَيْهِ تَخْرُجُ شُبُهَاتُ الْقَائِلِينَ بِالتَّثْنِيَةِ ثَانِيًا، أَخَذَ يُطَالِبُهُمْ بِذِكْرِ شُبْهَتِهِمْ ثَالِثًا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِهِ وَفِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ أَيْ هَذَا هُوَ الكتاب المنزل على من معي: وهذا ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي أَيِ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَنِي مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالصُّحُفُ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنِّي أَذِنْتُ بِأَنْ تَتَّخِذُوا إِلَهًا مِنْ دُونِي بَلْ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 26 إلى 29]

أَنَا كَمَا قَالَ بَعْدَ هَذَا: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتِيَارُ الْقَفَّالِ وَالزَّجَّاجِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّ قَوْلَهُ: وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي صِفَةٌ لِلْقُرْآنِ فَإِنَّهُ كَمَا يَشْتَمِلُ عَلَى أَحْوَالِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَكَذَا يَشْتَمِلُ عَلَى أَحْوَالِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ. الثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى قُلْ لَهُمْ هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى بَيَانِ أَحْوَالِ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُخَالِفِينَ وَالْمُوَافِقِينَ وَعَلَى بَيَانِ أَحْوَالِ مَنْ قَبْلِي مِنَ الْمُخَالِفِينَ وَالْمُوَافِقِينَ فَاخْتَارُوا لِأَنْفُسِكُمْ، كَأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ التَّهْدِيدُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ: هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بِالتَّنْوِينِ وَمَنْ مَفْعُولٌ مَنْصُوبٌ بِالذِّكْرِ كَقَوْلِهِ: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً [الْبَلَدِ: 14، 15] وَهُوَ الْأَصْلُ وَالْإِضَافَةُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ: غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الرُّومِ: 2، 3] وَقُرِئَ: مِنْ مَعِي وَمِنْ قَبْلِي، بِكَسْرِ مِيمِ مَنْ عَلَى تَرْكِ الْإِضَافَةِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَإِدْخَالُ الْجَارِّ عَلَى مَعَ غَرِيبٌ وَالْعُذْرُ فِيهِ أَنَّهُ اسْمٌ هُوَ ظَرْفٌ نَحْوُ قَبْلَ وَبَعْدَ فَدَخَلَ مِنْ عَلَيْهِ كَمَا يَدْخُلُ عَلَى أَخَوَاتِهِ وَقُرِئَ: ذِكْرٌ مَعِيَ وَذِكْرٌ قَبْلِي. وَأَمَّا قَوْلُهُ: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ دَلِيلَ التَّوْحِيدِ وَطَالَبَهُمْ بِالدَّلَالَةِ عَلَى مَا ادَّعُوهُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ لَهُمُ الْبَتَّةَ عَلَيْهِ لَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَلَا مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ، ذَكَرَ بَعْدَهُ أَنَّ وُقُوعَهُمْ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ لَيْسَ لِأَجْلِ دَلِيلٍ سَاقَهُمْ إِلَيْهِ، بَلْ ذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ مَا هُوَ أَصْلُ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ كُلُّهُ وَهُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ، ثُمَّ تَرَتَّبَ عَلَى عَدَمِ الْعِلْمِ الْإِعْرَاضُ عَنِ اسْتِمَاعِ الْحَقِّ وَطَلَبِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ: الْحَقُّ بِالرَّفْعِ عَلَى تَوَسُّطِ التَّوْكِيدِ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ إِعْرَاضَهُمْ بِسَبَبِ الْجَهْلِ هُوَ الْحَقُّ لَا الْبَاطِلُ. أَمَّا قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ فَاعْلَمْ أَنَّ يُوحِي وَنُوحِي قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا سَبَقَهَا من آيات التوحيد. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 26 الى 29] وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بِالدَّلَائِلِ الْبَاهِرَةِ كَوْنَهُ مُنَزَّهًا عَنِ الشَّرِيكِ وَالضِّدِّ وَالنِّدِّ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِبَرَاءَتِهِ عَنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ فَقَالَ: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً نَزَلَتْ فِي خُزَاعَةَ حَيْثُ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه وَأَضَافُوا إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى صَاهَرَ الْجِنَّ عَلَى مَا حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ فَقَالَ: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصَّافَّاتِ: 158] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ شَبِيهًا بِالْوَالِدِ فَلَوْ كَانَ للَّه وَلَدٌ لَأَشْبَهَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، ثُمَّ لَا بُدَّ وَأَنْ يُخَالِفَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُمَايَزَةُ

فَيَقَعُ التَّرْكِيبُ فِي ذَاتِ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكُلُّ مُرَكَّبٍ مُمْكِنٌ، فَاتِّخَاذُهُ لِلْوَلَدِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُمْكِنًا غَيْرَ وَاجِبٍ. وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الْإِلَهِيَّةِ وَيُدْخِلُهُ فِي حَدِّ الْعُبُودِيَّةِ، وَلِذَلِكَ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ. أَمَّا قَوْلُهُ: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ الْوَلَدِ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ عِبَادٌ وَالْعُبُودِيَّةُ تُنَافِي الْوِلَادَةَ إِلَّا أَنَّهُمْ مُكْرَمُونَ مُفَضَّلُونَ عَلَى سَائِرِ الْعِبَادِ وَقُرِئَ: مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ مِنْ سَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ أَسْبِقُهُ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَتْبَعُونَهُ فِي قَوْلِهِ وَلَا يَقُولُونَ شَيْئًا حَتَّى يَقُولَهُ فَلَا يَسْبِقُ قَوْلُهُمْ قَوْلَهُ، وَكَمَا أَنَّ قَوْلَهُمْ تَابِعٌ لِقَوْلِهِ فَعَمَلُهُمْ أَيْضًا كَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرِهِ لَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا مَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ مَا يَجْرِي مَجْرَى السَّبَبِ لِهَذِهِ الطَّاعَةِ فَقَالَ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا عَلِمُوا كَوْنَهُ سُبْحَانَهُ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ عَلِمُوا كَوْنَهُ عَالِمًا بِظَوَاهِرِهِمْ هُمْ وَبَوَاطِنِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى نِهَايَةِ الْخُضُوعِ وَكَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ. وَذَكَرَ/ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْلَمُ مَا قَدَّمُوا وَمَا أَخَّرُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَثَانِيهَا: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمُ الْآخِرَةُ وَمَا خَلْفَهُمُ الدُّنْيَا وَقِيلَ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْلَمُ مَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ وَمَا يَكُونُ بَعْدَ خَلْقِهِمْ. وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَتَقَلَّبُونَ تَحْتَ قُدْرَتِهِ فِي مَلَكُوتِهِ وَهُوَ مُحِيطٌ بِهِمْ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ حَالَتَهُمْ فَكَيْفَ يَسْتَحِقُّونَ الْعِبَادَةَ وَكَيْفَ يَتَقَدَّمُونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّه تَعَالَى فَيَشْفَعُونَ لِمَنْ لَمْ يَأْذَنِ اللَّه تَعَالَى لَهُ. ثُمَّ كَشَفَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى أَيْ لِمَنْ هُوَ عِنْدَ اللَّه مَرْضِيٌّ: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ أَيْ مِنْ خَشْيَتِهِمْ مِنْهُ، فَأُضِيفَ الْمَصْدَرُ إِلَى الْمَفْعُولِ وَمُشْفِقُونَ خَائِفُونَ وَلَا يَأْمَنُونَ مَكْرَهُ وَعَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ سَاقِطًا كَالْحِلْسِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّه تَعَالَى» وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ [النَّبَأِ: 38] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ فَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَنْ يَقُولُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ذَلِكَ الْقَوْلَ فَإِنَّا نُجَازِي ذَلِكَ الْقَائِلَ بِهَذَا الْجَزَاءِ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ أَوْ مَا قَالُوهُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الصِّفَاتُ تَدُلُّ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ وَتُنَافِي الْوِلَادَةَ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا بَالَغُوا فِي الطَّاعَةِ إِلَى حَيْثُ لَا يَقُولُونَ قَوْلًا وَلَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا إِلَّا بِأَمْرِهِ فَهَذِهِ صِفَاتٌ لِلْعَبِيدِ لَا صِفَاتُ الْأَوْلَادِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِأَسْرَارِ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَسْرَارَ اللَّه تَعَالَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ هُوَ لَا هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ هِيَ نَفْسُ مَا ذَكَرَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [الْمَائِدَةِ: 116] . وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَمَنْ يَكُنْ إِلَهًا أَوْ وَلَدًا لِلْإِلَهِ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمْ عَلَى نِهَايَةِ الْإِشْفَاقِ وَالْوَجَلِ وَذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا مِنْ صِفَاتِ الْعَبِيدِ. وَخَامِسُهَا: نَبَّهَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ عَلَى أَنَّ حَالَهُمْ حَالُ سَائِرِ الْعَبِيدِ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَكَيْفَ يَصِحُّ كَوْنُهُمْ آلِهَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى عَلَى أَنَّ الشَّفَاعَةَ فِي الْآخِرَةِ لَا تَكُونُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ إِنَّ اللَّه يَرْتَضِيهِمْ. وَالْجَوَابُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَالضَّحَّاكُ: إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى أَيْ لِمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ لَنَا فِي إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَتَقْرِيرُهُ هُوَ أَنَّ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه فَقَدِ ارْتَضَاهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ وَمَتَى صَدَقَ عليه أنه

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 إلى 33]

ارْتَضَاهُ اللَّه تَعَالَى فِي ذَلِكَ فَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ ارْتَضَاهُ اللَّه لِأَنَّ الْمُرَكَّبَ مَتَى صَدَقَ فَقَدْ صَدَقَ لَا مَحَالَةَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اللَّه قَدِ ارْتَضَاهُ وَجَبَ انْدِرَاجُهُ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ فَثَبَتَ بِالتَّقْرِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ لَنَا عَلَى مَا قَرَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: تَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَلَائِكَةِ مُكَلَّفِينَ/ مِنْ حَيْثُ قَالَ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمِنْ حَيْثُ الْوَعِيدُ. وَثَانِيهَا: تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعْصُومُونَ لِأَنَّهُ قَالَ: وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ قَوْلُهُ: كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ ظَالِمٍ يَجْزِيهِ اللَّه جَهَنَّمَ كَمَا تَوَعَّدَ الْمَلَائِكَةَ بِهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ فِي الْآخِرَةِ. وَالْجَوَابُ: أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ مُشْعِرٌ بِالْوَعِيدِ وَهُوَ مُعَارَضٌ بعمومات الوعيد. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 الى 33] أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَرَعَ الْآنَ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَهَذِهِ الدَّلَائِلُ أَيْضًا دَالَّةٌ عَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الشَّرِيكِ، لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى حُصُولِ التَّرْتِيبِ الْعَجِيبِ فِي الْعَالَمِ، وَوُجُودُ الْإِلَهَيْنِ يَقْتَضِي وُقُوعَ الْفَسَادِ. فهذه الدلائل تدل من هذه الجهة عَلَى التَّوْحِيدِ فَتَكُونُ كَالتَّوْكِيدِ لِمَا تَقَدَّمَ. وَفِيهَا أَيْضًا رَدٌّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِلَهَ الْقَادِرَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الشَّرِيفَةِ كَيْفَ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ عِبَادَتِهِ إِلَى عِبَادَةِ حَجَرٍ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ. فَهَذَا وَجْهُ تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ هاهنا سِتَّةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الدَّلَائِلِ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ أَلَمْ يَرَ بِغَيْرِ الْوَاوِ وَالْبَاقُونَ بِالْوَاوِ وَإِدْخَالُ الْوَاوِ يَدُلُّ عَلَى الْعَطْفِ لِهَذَا الْقَوْلِ عَلَى أَمْرٍ تَقَدَّمَهُ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ رَتَقًا بِفَتْحِ التَّاءِ، وَكِلَاهُمَا فِي معنى/ المفعول كالخلق والنفض أَيْ كَانَتَا مَرْتُوقَتَيْنِ، فَإِنْ قُلْتَ الرَّتْقَ صَالِحٌ أَنْ يَقَعَ مَوْقِعَ مَرْتُوقَتَيْنِ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فَمَا بَالُ الرَّتْقِ؟ قُلْتُ: هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مَوْصُوفٍ أَيْ كَانَتَا شَيْئًا رَتْقًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْمُرَادُ مِنَ الرُّؤْيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا، إِمَّا الرُّؤْيَةُ، وَإِمَّا الْعِلْمُ وَالْأَوَّلُ مُشْكِلٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْقَوْمَ مَا رَأَوْهُمَا كَذَلِكَ الْبَتَّةَ، وَأَمَا ثَانِيًا فَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْكَهْفِ: 51] ، وَأَمَّا الْعِلْمُ فَمُشْكِلٌ لِأَنَّ الْأَجْسَامَ قَابِلَةٌ لِلْفَتْقِ وَالرَّتْقِ فِي أَنْفُسِهَا، فَالْحُكْمُ عَلَيْهَا بِالرَّتْقِ أَوَّلًا وَبِالْفَتْقِ ثَانِيًا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا السَّمْعُ، وَالْمُنَاظَرَةُ مَعَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الرِّسَالَةَ، فَكَيْفَ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِمِثْلِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ. وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ مِنَ الرُّؤْيَةِ هُوَ الْعِلْمُ وَمَا ذكروه من

السُّؤَالِ فَدْفُعُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّا نُثْبِتُ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ ثُمَّ نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ ثُمَّ نَجْعَلُهُ دَلِيلًا على حصول النظام في العالم وانتقاء الْفَسَادِ عَنْهُ وَذَلِكَ يُؤَكِّدُ الدَّلَالَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي التَّوْحِيدِ. وَثَانِيًا: أَنْ يُحْمَلَ الرَّتْقُ وَالْفَتْقُ عَلَى إِمْكَانِ الرَّتْقِ وَالْفَتْقِ وَالْعَقْلُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَجْسَامَ يَصِحُّ عَلَيْهَا الِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ فَاخْتِصَاصُهَا بِالِاجْتِمَاعِ دُونَ الِافْتِرَاقِ أَوْ بِالْعَكْسِ يَسْتَدْعِي مُخَصِّصًا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كَانُوا عَالِمِينَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ جَوْهَرَةً، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الْهَيْبَةِ فَصَارَتْ ماء، ثم خلق السموات والأرض منها وفتق بينهما، وَكَانَ بَيْنَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَبَيْنَ الْيَهُودِ نَوْعُ صَدَاقَةٍ بِسَبَبِ الِاشْتِرَاكِ فِي عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْتَجَّ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ يَقْبَلُونَ قَوْلَ الْيَهُودِ فِي ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَالَ كانَتا رَتْقاً وَلَمْ يَقُلْ كُنَّ رَتْقًا لِأَنَّ السموات لَفْظُ الْجَمْعِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ الدَّالُّ عَلَى الجنس، قال الأخفش: السموات نَوْعٌ وَالْأَرْضُ نَوْعٌ، وَمِثْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فَاطِرٍ: 41] وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ أَصْلَحْنَا بَيْنَ الْقَوْمَيْنِ، وَمَرَّتْ بِنَا غَنَمَانِ أَسْوَدَانِ، لِأَنَّ هَذَا الْقَطِيعَ غَنَمٌ وَذَلِكَ غَنَمٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الرَّتْقُ فِي اللُّغَةِ السَّدُّ، يُقَالُ: رَتَقْتُ الشَّيْءَ فَارْتَتَقَ وَالْفَتْقُ الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ الْمُلْتَصِقَيْنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الرَّتْقُ مَصْدَرٌ وَالْمَعْنَى كَانَتَا ذَوَاتَيْ رَتْقٍ، قَالَ الْمُفَضَّلُ: إِنَّمَا لَمْ يَقُلْ كَانَتَا رَتْقَيْنِ كَقَوْلِهِ: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ [الْأَنْبِيَاءِ: 8] لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ جَسَدٌ كَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ رَتْقٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ مِنَ الرَّتْقِ وَالْفَتْقِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَرِوَايَةُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَنَّ الْمَعْنَى كَانَتَا شَيْئًا وَاحِدًا مُلْتَزِقَتَيْنِ فَفَصَلَ اللَّه بَيْنَهُمَا وَرَفَعَ السَّمَاءَ إِلَى حَيْثُ هِيَ وَأَقَرَّ الْأَرْضَ وَهَذَا الْقَوْلُ يُوجِبُ أَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ مُقَدَّمٌ عَلَى خَلْقِ السَّمَاءِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا فَصَلَ بَيْنَهُمَا تَرَكَ الْأَرْضَ حَيْثُ هِيَ وَأَصْعَدَ الأجزاء السماوية، قال كعب: خلق اللَّه السموات وَالْأَرْضَ مُلْتَصِقَتَيْنِ ثُمَّ خَلَقَ رِيحًا تَوَسَّطَتْهُمَا فَفَتَقَهُمَا بِهَا. وَثَانِيهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي صَالِحٍ وَمُجَاهِدٍ أن المعنى كانت السموات مرتتقة فجعلت سبع سموات/ وَكَذَلِكَ الْأَرَضُونَ. وَثَالِثُهَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ والحسن وأكثر المفسرين أن السموات وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا بِالِاسْتِوَاءِ وَالصَّلَابَةِ فَفَتَقَ اللَّه السَّمَاءَ بِالْمَطَرِ وَالْأَرْضَ بِالنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ [الطَّارِقِ: 11، 12] وَرَجَّحُوا هَذَا الْوَجْهَ عَلَى سَائِرِ الْوُجُوهِ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا وَلِلْمَاءِ تَعَلُّقٌ بِمَا تَقَدَّمَ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْوَجْهُ مَرْجُوحٌ لِأَنَّ الْمَطَرَ لَا يَنْزِلُ من السموات بَلْ مِنْ سَمَاءٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ سَمَاءُ الدُّنْيَا، قُلْنَا: إِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْجَمْعِ، لِأَنَّ كُلَّ قِطْعَةٍ مِنْهَا سَمَاءٌ، كَمَا يُقَالُ: ثَوْبٌ أَخْلَاقٌ وَبُرْمَةٌ أَعْشَارٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَجُوزُ حَمْلُ الرُّؤْيَةِ عَلَى الْإِبْصَارِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْفَتْقِ الْإِيجَادُ وَالْإِظْهَارُ كَقَوْلِهِ: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الشورى: 11] وَكَقَوْلِهِ: قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ [الْأَنْبِيَاءِ: 56] فَأَخْبَرَ عَنِ الْإِيجَادِ بِلَفْظِ الْفَتْقِ وَعَنِ الْحَالِ قَبْلَ الْإِيجَادِ بِلَفْظِ الرَّتْقِ. أَقُولُ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْعَدَمَ نَفْيٌ مَحْضٌ، فَلَيْسَ فِيهِ ذَوَاتٌ مُمَيَّزَةٌ وَأَعْيَانٌ مُتَبَايِنَةٌ، بَلْ كَأَنَّهُ أَمْرٌ وَاحِدٌ مُتَّصِلٌ مُتَشَابِهٌ، فَإِذَا وُجِدَتِ الْحَقَائِقُ فَعِنْدَ الْوُجُودِ وَالتَّكَوُّنِ يَتَمَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَيَنْفَصِلُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ حَسُنَ جَعْلُ الرَّتْقِ مَجَازًا عَنِ الْعَدَمِ وَالْفَتْقِ عَنِ الْوُجُودِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ اللَّيْلَ سَابِقٌ عَلَى النَّهَارِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37] وكانت السموات والأرض

مُظْلِمَةً أَوَّلًا فَفَتَقَهُمَا اللَّه تَعَالَى بِإِظْهَارِ النَّهَارِ الْمُبْصِرِ، فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ الْأَقَاوِيلِ أَلْيَقُ بِالظَّاهِرِ؟ قُلْنَا: الظَّاهِرُ يَقْتَضِي أَنَّ السَّمَاءَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَالْأَرْضَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ كَانَتَا رَتْقًا، وَلَا يَجُوزُ كَوْنُهُمَا كَذَلِكَ إِلَّا وَهُمَا مَوْجُودَانِ، وَالرَّتْقُ ضِدُّ الْفَتْقِ فَإِذَا كَانَ الْفَتْقُ هُوَ الْمُفَارَقَةَ فَالرَّتْقُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُلَازَمَةَ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ صَارَ الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ مَرْجُوحًا، وَيَصِيرُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى الْوُجُوهِ وَيَتْلُوهُ الْوَجْهُ الثَّانِي. وَهُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ رَتْقًا فَفَتَقَهُمَا بِأَنْ جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبْعًا، وَيَتْلُوهُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنَّهُمَا كَانَا صُلْبَيْنِ مِنْ غَيْرِ فُطُورٍ وَفَرْجٍ، فَفَتَقَهُمَا لِيَنْزِلَ الْمَطَرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَيَظْهَرَ النَّبَاتُ عَلَى الْأَرْضِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: دَلَالَةُ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَعَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَهُمَا رَتْقًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لِلْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ لَمَّا أَسْكَنَ اللَّه الْأَرْضَ أَهْلَهَا جَعَلَهُمَا فَتْقًا لِمَا فِيهِ مِنْ مَنَافِعِ الْعِبَادِ. النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الدَّلَائِلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَوْلُهُ: وَجَعَلْنَا لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ أَوِ اثْنَيْنِ، فَإِنْ تَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ فَالْمَعْنَى خَلَقْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ حَيَوَانٍ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ [النُّورِ: 45] أَوْ كَأَنَّمَا خَلَقْنَاهُ مِنَ الْمَاءِ لِفَرْطِ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ وَحُبِّهِ لَهُ وَقِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْهُ كَقَوْلِهِ: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الْأَنْبِيَاءِ: 37] وَإِنْ تَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ فَالْمَعْنَى صَيَّرْنَا كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ بِسَبَبٍ مِنَ الْمَاءِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَمِنْ هَذَا نَحْوُ مِنْ/ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا أَنَا مِنْ دَدٍ وَلَا الدَّدُ مِنِّي» وَقُرِئَ حَيًّا وَهُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ كَيْفَ قَالَ: وَخَلَقْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ حَيَوَانٍ، وَقَدْ قَالَ: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ [الْحِجْرِ: 27] وَجَاءَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ مِنَ النُّورِ وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي [الْمَائِدَةِ: 110] وَقَالَ فِي حَقِّ آدَمَ: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آلِ عِمْرَانَ: 59] وَالْجَوَابُ: اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ عَامًّا إِلَّا أَنَّ الْقَرِينَةَ الْمُخَصِّصَةَ قَائِمَةٌ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُشَاهَدًا مَحْسُوسًا لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَخْرُجُ عَنْهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ وَآدَمُ وَقِصَّةُ عِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يَرَوْا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَقَالَ بَعْضُهُمُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ الْحَيَوَانُ فَقَطْ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ النَّبَاتُ وَالشَّجَرُ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَاءِ صَارَ نَامِيًا وَصَارَ فِيهِ الرُّطُوبَةُ وَالْخُضْرَةُ وَالنُّورُ وَالثَّمَرُ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَلْيَقُ بِالْمَعْنَى الْمَقْصُودِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَفَتَقْنَا السَّمَاءَ لِإِنْزَالِ الْمَطَرِ وَجَعَلْنَا مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ مِنَ النَّبَاتِ وَغَيْرِهِ حَيًّا، حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ النَّبَاتَ لَا يُسَمَّى حَيًّا، قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قوله تعالى: كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الرُّومِ: 50] أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلا يُؤْمِنُونَ فَالْمُرَادُ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ بِأَنْ يَتَدَبَّرُوا هَذِهِ الْأَدِلَّةَ فَيَعْلَمُوا بِهَا الْخَالِقَ الَّذِي لَا يُشْبِهُ غَيْرَهُ وَيَتْرُكُوا طَرِيقَةَ الشِّرْكِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ كَرَاهَةَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أَوْ لِئَلَّا تَمِيدَ بِهِمْ فَحَذَفَ لَا وَاللَّامَ الْأُولَى وَإِنَّمَا جَازَ حَذْفُ لَا لِعَدَمِ الِالْتِبَاسِ كَمَا تَرَى ذَلِكَ في قوله: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الرَّوَاسِي الْجِبَالُ، وَالرَّاسِي هُوَ الدَّاخِلُ فِي الْأَرْضِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: إِنَّ الْأَرْضَ بُسِطَتْ عَلَى الْمَاءِ فَكَانَتْ تَنْكَفِئُ بِأَهْلِهَا كَمَا تَنْكَفِئُ السَّفِينَةُ، لِأَنَّهَا بُسِطَتْ عَلَى الْمَاءِ فَأَرْسَاهَا اللَّه تَعَالَى بِالْجِبَالِ الثِّقَالِ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: الْفَجُّ الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ، فَإِنْ قُلْتَ فِي الْفِجَاجِ مَعْنَى الْوَصْفِ فَمَا لَهَا قُدِّمَتْ عَلَى السُّبُلِ وَلَمْ تُؤَخَّرْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً قُلْتُ لَمْ تُقَدَّمْ وَهِيَ صِفَةٌ، وَلَكِنَّهَا جُعِلَتْ حَالًا كَقَوْلِهِ: لِعَزَّةَ مُوحِشًا طَلَلٌ قَدِيمُ وَالْفَرْقُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ قَوْلَهُ سُبُلًا فِجَاجًا، إِعْلَامٌ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ فِيهَا طُرُقًا وَاسِعَةً، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فِجاجاً سُبُلًا فَهُوَ إِعْلَامٌ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ حِينَ خَلَقَهَا جَعَلَهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيَانٌ لِمَا أُبْهِمَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: فِيها قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا عَائِدَةٌ إِلَى الْجِبَالِ، أَيْ وَجَعَلْنَا فِي الْجِبَالِ الَّتِي هِيَ رَوَاسِي فِجَاجًا سُبُلًا، أَيْ طُرُقًا وَاسِعَةً وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَالضَّحَّاكِ وَرِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَتِ الْجِبَالُ مُنْضَمَّةً فَلَمَّا أَغْرَقَ اللَّه قَوْمَ نُوحٍ فَرَّقَهَا فِجَاجًا وَجَعَلَ فِيهَا طُرُقًا. الثَّانِي: / أَنَّهَا عَائِدَةٌ إِلَى الْأَرْضِ، أَيْ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ فِجَاجًا وَهِيَ الْمَسَالِكُ وَالطُّرُقُ وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ مَعْنَاهُ لِكَيْ يَهْتَدُوا إِذِ الشَّكُّ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّه تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي يَهْتَدُونَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: لِيَهْتَدُوا إِلَى الْبِلَادِ. وَالثَّانِي: لِيَهْتَدُوا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّه تَعَالَى بِالِاسْتِدْلَالِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ الِاهْتِدَاءَ. وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ قَدْ تَقَدَّمَ، وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ الِاهْتِدَاءَ إِلَى الْبِلَادِ وَالِاهْتِدَاءَ إِلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّه تَعَالَى يَشْتَرِكَانِ فِي مَفْهُومٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَصْلُ الِاهْتِدَاءِ فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى ذَلِكَ الْمُشْتَرِكِ وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْآيَةُ مُتَنَاوِلَةً لِلْأَمْرَيْنِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرِكِ مُسْتَعْمَلًا فِي مَفْهُومَيْهِ مَعًا. النَّوْعُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: سَمَّى السَّمَاءَ سَقْفًا لِأَنَّهَا لِلْأَرْضِ كَالسَّقْفِ لِلْبَيْتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمَحْفُوظِ قَوْلَانِ: أحدهما: أنه محفوظ من الوقوع والسقوط اللذين يَجْرِي مِثْلُهُمَا عَلَى سَائِرِ السُّقُوفِ كَقَوْلِهِ: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْحَجِّ: 65] وَقَالَ: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الرُّومِ: 25] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فَاطِرٍ: 41] وَقَالَ: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما [الْبَقَرَةِ: 255] . الثَّانِي: مَحْفُوظًا مِنَ الشَّيَاطِينِ قَالَ تَعَالَى: وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ [الْحِجْرِ: 17] ثم هاهنا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْفُوظٌ بِالْمَلَائِكَةِ مِنَ الشَّيَاطِينِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْفُوظٌ بِالنُّجُومِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْوَى لِأَنَّ حَمْلَ الْآيَاتِ عَلَيْهِ مِمَّا يَزِيدُ هَذِهِ النِّعْمَةَ عِظَمًا لِأَنَّهُ

سُبْحَانَهُ كَالْمُتَكَفِّلِ بِحِفْظِهِ وَسُقُوطِهِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ بِخِلَافِ الْقَوْلِ الثَّانِي لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ عَلَى السَّمَاءِ مِنِ اسْتِرَاقِ سَمْعِ الْجِنِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ مَعْنَاهُ عَمَّا وَضَعَ اللَّه تَعَالَى فِيهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالْعِبَرِ فِي حَرَكَاتِهَا وَكَيْفِيَّةِ حَرَكَاتِهَا وَجِهَاتِ حَرَكَاتِهَا وَمَطَالِعِهَا وَمَغَارِبِهَا وَاتِّصَالَاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَانْفِصَالَاتِهَا عَلَى الْحِسَابِ الْقَوِيمِ وَالتَّرْتِيبِ الْعَجِيبِ الدَّالِّ عَلَى الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُرِئَ عَنْ آيَتِهَا عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْمُرَادُ الْجِنْسُ أَيْ هُمْ مُتَفَطِّنُونَ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مِنَ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَالِاسْتِضَاءَةِ بِقَمَرِهَا وَالِاهْتِدَاءِ بِكَوَاكِبِهَا، وَحَيَاةِ الْأَرْضِ بِأَمْطَارِهَا وَهُمْ عَنْ كَوْنِهَا آيَةً بَيِّنَةً عَلَى وُجُودِ الْخَالِقِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ مُعْرِضُونَ. النَّوْعُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ: وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ فَصَّلَ تِلْكَ الْآيَاتِ هاهنا لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَخْلُقِ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لِيَظْهَرَ بِهِمَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَيَظْهَرَ بِهِمَا مِنَ الْمَنَافِعِ بِتَعَاقُبِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ لَمْ تَتَكَامَلْ نِعَمُ اللَّه تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بَلْ إِنَّمَا يَكُونُ/ ذَلِكَ بِسَبَبِ حَرَكَاتِهَا فِي أَفْلَاكِهَا، فَلِهَذَا قَالَ: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وَتَقْرِيرُهُ أَنْ نَقُولَ قَدْ ثَبَتَ بِالْأَرْصَادِ أَنَّ لِلْكَوَاكِبِ حَرَكَاتٍ مُخْتَلِفَةً فَمِنْهَا حَرَكَةٌ تَشْمَلُهَا بِأَسْرِهَا آخِذَةٌ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَهِيَ حَرَكَةُ الشَّمْسِ الْيَوْمِيَّةُ، ثُمَّ قَالَ جُمْهُورُ الْفَلَاسِفَةِ وَأَصْحَابُ الهيئة، وهاهنا حَرَكَةٌ أُخْرَى مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ قَالُوا وَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي السَّبْعَةِ السَّيَّارَةِ خَفِيَّةٌ فِي الثَّابِتَةِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهَا بِأَنَّا وَجَدْنَا الْكَوَاكِبَ السَّيَّارَةَ كُلَّمَا كَانَ مِنْهَا أَسْرَعُ حَرَكَةً إِذَا قَارَنَ مَا هُوَ أَبْطَأُ حَرَكَةً فَإِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَقَدَّمُهُ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَهَذَا فِي الْقَمَرِ ظَاهِرٌ جِدًّا فَإِنَّهُ يَظْهَرُ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ عَلَى بُعْدٍ مِنَ الشَّمْسِ ثُمَّ يَزْدَادُ كُلَّ لَيْلَةٍ بُعْدًا مِنْهَا إِلَى أَنْ يُقَابِلَهَا عَلَى قَرِيبٍ مِنْ نِصْفِ الشَّهْرِ وَكُلُّ كَوْكَبٍ كَانَ شَرْقِيًّا مِنْهُ عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي مَمَرِّ الْبُرُوجِ يَزْدَادُ كُلَّ لَيْلَةٍ قُرْبًا مِنْهُ ثُمَّ إِذَا أَدْرَكَهُ سَتَرَهُ بِطَرَفِهِ الشَّرْقِيِّ وَتَنْكَسِفُ تِلْكَ الْكَوَاكِبُ عَنْهُ بِطَرَفِهِ الْغَرْبِيِّ فَعَرَفْنَا أَنَّ لِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ حَرَكَةً مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَكَذَلِكَ وَجَدْنَا لِلْكَوَاكِبِ الثَّابِتَةِ حَرَكَةً بَطِيئَةً عَلَى تَوَالِي الْبُرُوجِ فَعَرَفْنَا أَنَّ لَهَا حَرَكَةً مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ. هَذَا مَا قَالُوهُ وَنَحْنُ خَالَفْنَاهُمْ فِيهِ، وَقُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ الشَّمْسَ مَثَلًا لَوْ كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً بِذَاتِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ حَرَكَةً بَطِيئَةً وَلَا شَكَّ أَنَّهَا مُتَحَرِّكَةٌ بِسَبَبِ الْحَرَكَةِ الْيَوْمِيَّةِ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ لَزِمَ كَوْنُ الْجِرْمِ الْوَاحِدِ مُتَحَرِّكًا حَرَكَتَيْنِ إِلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ الْحَرَكَةَ إِلَى الْجِهَةِ تَقْتَضِي حُصُولَ الْمُتَحَرِّكِ فِي الْجِهَةِ الْمُنْتَقِلِ إِلَيْهَا فَلَوْ تَحَرَّكَ الْجِسْمُ الْوَاحِدُ دَفْعَةً وَاحِدَةً إِلَى جِهَتَيْنِ لَزِمَ حُصُولُهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً فِي مَكَانَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الشَّمْسُ حَالَ حَرَكَتِهَا إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ تَنْقَطِعُ حَرَكَتُهَا إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ وَبِالْعَكْسِ، وَأَيْضًا فَمَا ذَكَرْتُمُوهُ يَنْتَقِضُ بِحَرَكَةِ الرَّحَى إلى جانب الشرقي تنقع حَرَكَتُهَا إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ وَبِالْعَكْسِ، وَأَيْضًا فَمَا ذَكَرْتُمُوهُ يَنْتَقِضُ بِحَرَكَةِ الرَّحَى إِلَى جَانِبٍ وَالنَّمْلَةُ الَّتِي تَكُونُ عَلَيْهَا تَتَحَرَّكُ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ الجانب، قلنا: أما الأول فلا يستقيم عل أُصُولِكُمْ لِأَنَّ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ مَصُونَةٌ عَنِ الِانْقِطَاعِ عِنْدَكُمْ، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ مِثَالٌ مُحْتَمَلٌ وَمَا ذَكَرْنَاهُ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ فَلَا يَتَعَارَضَانِ، أَمَّا الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ لِلْكَوَاكِبِ حَرَكَةً مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ فَهُوَ ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَنَّ جَمِيعَ الْكَوَاكِبِ مُتَحَرِّكَةٌ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ إِلَّا أَنَّ بَعْضَهَا أَبْطَأُ مِنَ الْبَعْضِ

فَيَتَخَلَّفُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّخَلُّفِ فَيُظَنُّ أَنَّهَا تَتَحَرَّكُ إِلَى خِلَافِ تِلْكَ الْجِهَةِ مَثَلًا الْفَلَكُ الْأَعْظَمُ اسْتِدَارَتُهُ مِنْ أَوَّلِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ إِلَى أَوَّلِ الْيَوْمِ الثَّانِي دَوْرَةٌ تَامَّةٌ وفلك الثوابت استدارته من أول اليوم الأولى إِلَى أَوَّلِ الْيَوْمِ الثَّانِي دَوْرَةٌ تَامَّةٌ إِلَّا مِقْدَارَ ثَانِيَةٍ فَيُظَنُّ أَنَّ فَلَكَ الثَّوَابِتِ تَحَرَّكَ مِنَ الْجِهَةِ الْأُخْرَى مِقْدَارَ ثَانِيَةٍ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ بَلْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَخَلَّفَ بِمِقْدَارِ ثَانِيَةٍ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَجَمِيعُ الْجِهَاتِ شَرْقِيَّةٌ وَأَسْرَعُهَا الْحَرَكَةُ الْيَوْمِيَّةِ، ثُمَّ يَلِيهَا فِي السُّرْعَةِ فَلَكُ الثَّوَابِتِ ثُمَّ يَلِيهَا زُحَلُ وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى فَلَكِ الْقَمَرِ فَهُوَ أَبْطَأُ الْأَفْلَاكِ حَرَكَةً وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ مَعَ مَا يَشْهَدُ لَهُ الْبُرْهَانُ الْمَذْكُورُ فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى تَرْتِيبِ الْوُجُودِ، فَإِنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ نِهَايَةُ الْحَرَكَةِ الْفَلَكَ الْمُحِيطَ وَهُوَ الْفَلَكُ الْأَعْظَمُ/ وَنِهَايَةُ السُّكُونِ الْجِرْمَ الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَهُوَ الْأَرْضُ، ثُمَّ إِنَّ كُلَّ مَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْفَلَكِ الْمُحِيطِ كَانَ أَسْرَعَ حَرَكَةً وَمَا كَانَ مِنْهُ أَبْعَدَ كَانَ أَبْطَأَ فَهَذَا مَا نَقُولُهُ فِي حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ فِي أَطْوَالِهَا وَأَمَّا حَرَكَاتُهَا فِي عُرُوضِهَا فَظَاهِرَةٌ وَذَلِكَ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ مُيُولِهَا إِلَى الشَّمَالِ وَالْجَنُوبِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْكَوَاكِبِ حَرَكَةٌ فِي الْمَيْلِ لَكَانَ التَّأْثِيرُ مَخْصُوصًا بِبُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَانَ سَائِرُ الْجَوَانِبُ تَخْلُو عَنِ الْمَنَافِعِ الْحَاصِلَةِ مِنْهُ، وَكَانَ الَّذِي يَقْرُبُ مِنْهُ مُتَشَابِهَ الْأَحْوَالِ وَكَانَتِ الْقُوَّةُ هُنَاكَ لِكَيْفِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ حَارَّةً أَفْنَتِ الرُّطُوبَاتِ فَأَحَالَتْهَا كُلَّهَا إِلَى النَّارِيَّةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَيَكُونُ الْمَوْضِعُ الْمُحَاذِي لِمَمَرِّ الْكَوَاكِبِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ وَخَطُّ مَا لَا يُحَاذِيهِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ أُخْرَى وَخَطُّ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَهُمَا عَلَى كَيْفِيَّةٍ أُخْرَى فَيَكُونُ فِي مَوْضِعٍ شِتَاءٌ دَائِمٌ وَيَكُونُ فِيهِ الْهَوَاءُ وَالْعَجَاجَةُ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ صَيْفٌ دَائِمٌ يُوجِبُ الِاحْتِرَاقَ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ رَبِيعٌ أَوْ خَرِيفٌ لَا يَتِمُّ فِيهِ النُّضْجُ وَلَوْ لَمْ تكن عودات متتالية، وكان الكواكب يَتَحَرَّكُ بَطِيئًا لَكَانَ الْمَيْلُ قَلِيلَ الْمَنْفَعَةِ وَالتَّأْثِيرُ شَدِيدَ الْإِفْرَاطِ، وَكَانَ يَعْرِضُ قَرِيبًا مِمَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَيْلٌ وَلَوْ كَانَتِ الْكَوَاكِبُ أَسْرَعَ حَرَكَةً مِنْ هَذِهِ لَمَا كَمُلَتِ الْمَنَافِعُ وَمَا تَمَّتْ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَيْلٌ يَحْفَظُ الْحَرَكَةَ فِي جِهَةٍ مُدَّةً ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى بِمِقْدَارِ الْحَاجَةِ وَيَبْقَى فِي كُلِّ جِهَةٍ بُرْهَةً تَمَّ بِذَلِكَ تَأْثِيرُهُ بِحَيْثُ يَبْقَى مَصُونًا عَنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَالْعُقُولُ لَا تَقِفُ إِلَّا عَلَى الْقَلِيلِ مِنْ أَسْرَارِ الْمَخْلُوقَاتِ فَسُبْحَانَ الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ بِالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالْقُدْرَةِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ إِلَّا وَيَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ مَعَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ النُّجُومُ لِيُثْبِتَ مَعْنَى الْجَمْعِ وَمَعْنَى الْكُلِّ فَصَارَتِ النُّجُومُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَذْكُورَةً أَوَّلًا فَإِنَّهَا مَذْكُورَةٌ لِعَوْدِ هَذَا الضَّمِيرِ إِلَيْهَا واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْفَلَكُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كُلُّ شَيْءٍ دَائِرٍ وَجَمْعُهُ أَفْلَاكٌ، وَاخْتَلَفَ الْعُقَلَاءُ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْفَلَكُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَإِنَّمَا هُوَ مَدَارُ هَذِهِ النُّجُومِ وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: بَلْ هِيَ أَجْسَامٌ تَدُورُ النُّجُومُ عَلَيْهَا، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّتِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْفَلَكُ مَوْجٌ مَكْفُوفٌ تَجْرِي الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ فِيهِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَاءٌ مَجْمُوعٌ تَجْرِي فِيهِ الْكَوَاكِبُ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ السِّبَاحَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الْمَاءِ، قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ فَإِنَّهُ يُقَالُ فِي الْفَرَسِ الَّذِي يَمُدُّ يَدَيْهِ فِي الْجَرْيِ سَابِحٌ، وَقَالَ جُمْهُورُ الْفَلَاسِفَةِ وَأَصْحَابُ الْهَيْئَةِ: إِنَّهَا أَجْرَامٌ صُلْبَةٌ لَا ثَقِيلَةٌ وَلَا خَفِيفَةٌ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْخَرْقِ وَالِالْتِئَامِ وَالنُّمُوِّ وَالذُّبُولِ، فَأَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ فَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْكُتُبِ اللَّائِقَةِ بِهِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا سبيل إلى معرفة صفات السموات إِلَّا بِالْخَبَرِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ وَالْوُجُوهُ الْمُمْكِنَةُ فِيهَا ثَلَاثَةٌ فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْفَلَكُ سَاكِنًا وَالْكَوَاكِبُ تَتَحَرَّكُ فِيهِ كَحَرَكَةِ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْفَلَكُ مُتَحَرِّكًا وَالْكَوَاكِبُ تَتَحَرَّكُ فِيهِ

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 إلى 36]

أَيْضًا إِمَّا مُخَالِفًا لِجِهَةِ حَرَكَتِهِ أَوْ مُوَافِقًا لِجِهَتِهِ إِمَّا/ بِحَرَكَةٍ مُسَاوِيَةٍ لِحَرَكَةِ الْفَلَكِ فِي السُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ أَوْ مُخَالِفَةٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الفلك متحركا والكواكب سَاكِنًا، أَمَّا الرَّأْيُ الْأَوَّلُ فَقَالَتِ الْفَلَاسِفَةُ إِنَّهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يُوجِبُ خَرْقَ الْأَفْلَاكِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَأَمَّا الرَّأْيُ الثَّانِي فَحَرَكَةُ الْكَوَاكِبِ إِنْ فُرِضَتْ مُخَالِفَةٌ لِحَرَكَةِ الْفَلَكِ فَذَاكَ أَيْضًا يُوجِبُ الْخَرْقَ وَإِنْ كَانَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى جِهَةِ الْفَلَكِ فَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لَهَا فِي السُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ لَزِمَ الِانْخِرَاقُ وَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْجِهَةِ وَالسُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ فَالْخَرْقُ أَيْضًا لَازِمٌ لِأَنَّ الْكَوَاكِبَ تَتَحَرَّكُ بِالْعَرْضِ بِسَبَبِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ فَتَبْقَى حَرَكَتُهُ الذَّاتِيَّةُ زَائِدَةٌ فَيَلْزَمُ الْخَرْقُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْكَوْكَبُ مَغْرُوزًا فِي الْفَلَكِ وَاقِفًا فِيهِ وَالْفَلَكُ يَتَحَرَّكُ فَيَتَحَرَّكُ الْكَوْكَبُ بِسَبَبِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَدَارَ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى امْتِنَاعِ الْخَرْقِ عَلَى الْأَفْلَاكِ وَهُوَ بَاطِلٌ بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ مُمْكِنَةٌ واللَّه تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْقُرْآنِ أَنْ تَكُونَ الْأَفْلَاكُ وَاقِفَةً وَالْكَوَاكِبُ تَكُونُ جَارِيَةً فِيهَا كَمَا تَسْبَحُ السَّمَكَةُ فِي الْمَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : كُلٌّ التَّنْوِينُ فِيهِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ كُلُّهُمْ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: احْتَجَّ أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِينَا عَلَى كَوْنِ الْكَوَاكِبِ أَحْيَاءً نَاطِقَةً بِقَوْلِهِ: يَسْبَحُونَ قَالَ وَالْجَمْعُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْعُقَلَاءِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يُوسُفَ: 4] ، وَالْجَوَابُ: إِنَّمَا جَعَلَ وَاوَ الضَّمِيرِ لِلْعُقَلَاءِ لِلْوَصْفِ بِفِعْلِهِمْ وَهُوَ السِّبَاحَةُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فَإِنْ قُلْتَ الْجُمْلَةُ مَا مَحَلُّهَا قُلْتُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَوْ لَا مَحَلَّ لَهَا لِاسْتِئْنَافِهَا، فَإِنْ قُلْتَ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَمَرَيْنِ فَلَكٌ عَلَى حِدَةٍ فَكَيْفَ قِيلَ جَمِيعُهُمْ يَسْبَحُونَ فِي فَلَكٍ؟ قُلْتُ: هَذَا كَقَوْلِهِمْ كَسَاهُمُ الْأَمِيرُ حُلَّةً وَقَلَّدَهُمْ سَيْفًا أَيْ كل واحد منهم. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 الى 36] وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا اسْتَدَلَّ بِالْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ الَّتِي شَرَحْنَاهَا فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ وَكَانَتْ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ مِنْ أُصُولِ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَتْبَعَهُ بِمَا نَبَّهَ بِهِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا جَعَلَهَا كَذَلِكَ لَا لِتَبْقَى وَتَدُومَ أَوْ يَبْقَى فِيهَا مَنْ خُلِقَتِ الدُّنْيَا لَهُ، بَلْ خَلَقَهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ، وَلِكَيْ يُتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْخُلُودِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: أَنَّ أُنَاسًا كَانُوا يَقُولُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمُوتُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَثَانِيهَا: كَانُوا يُقَدِّرُونَ أَنَّهُ سَيَمُوتُ فَيَشْمَتُونَ بِمَوْتِهِ فَنَفَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُ الشَّمَاتَةَ بِهَذَا أَيْ قَضَى اللَّه تَعَالَى أَنْ لَا يُخَلِّدَ فِي الدُّنْيَا بَشَرًا فَلَا أَنْتَ وَلَا هُمْ إِلَّا عُرْضَةٌ لِلْمَوْتِ أَفَإِنْ مِتَّ أَنْتَ أَيَبْقَى هَؤُلَاءِ لَا وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: فَقُلْ لِلشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا ... سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ كما لقينا

وَثَالِثُهَا: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ جَازَ أَنْ يُقَدِّرَ مُقَدِّرٌ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ إِذْ لَوْ مَاتَ لَتَغَيَّرَ شَرْعُهُ فَنَبَّهَ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَنَّ حَالَهُ كَحَالِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي الْمَوْتِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ فَإِنَّهُ تَعَالَى نَفْسٌ لِقَوْلِهِ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [الْمَائِدَةِ: 116] مَعَ أَنَّ الْمَوْتَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَكَذَا الْجَمَادَاتِ لَهَا نُفُوسٌ وَهِيَ لَا تَمُوتُ، وَالْعَامُّ الْمَخْصُوصُ حُجَّةٌ فَيَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِيمَا عَدَا هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ الْفَلَاسِفَةِ فِي أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ وَالْعُقُولَ الْمُفَارِقَةَ والنفوس الفلكية لا تموت. والثاني: الذوق هاهنا لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمَطْعُومِ حَتَّى يُذَاقَ بَلِ الذَّوْقُ إِدْرَاكٌ خَاصٌّ فَيَجُوزُ جَعْلُهُ مَجَازًا عَنْ أصل الإدراك، وأما الموت فالمراد منه هاهنا مُقَدِّمَاتُهُ مِنَ الْآلَامِ الْعَظِيمَةِ لِأَنَّ الْمَوْتَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ يَمْتَنِعُ إِدْرَاكُهُ وَحَالَ وُجُودِهِ يَصِيرُ الشَّخْصُ مَيِّتًا وَالْمَيِّتُ لَا يُدْرِكُ شَيْئًا. وَالثَّالِثُ: الْإِضَافَةُ فِي ذَائِقَةِ الْمَوْتِ فِي تَقْدِيرِ الِانْفِصَالِ لِأَنَّهُ لِمَا يُسْتَقْبَلُ كَقَوْلِهِ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ [المائدة: 1] ، وهَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [الْمَائِدَةِ: 95] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الِابْتِلَاءُ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا مَعَ التَّكْلِيفِ، فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى حُصُولِ التَّكْلِيفِ وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَقْتَصِرْ بِالْمُكَلَّفِ عَلَى مَا أَمَرَ وَنَهَى وَإِنْ كَانَ فِيهِ صُعُوبَةٌ بَلِ ابْتَلَاهُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا سَمَّاهُ خَيْرًا وَهُوَ نِعَمُ الدُّنْيَا مِنَ الصِّحَّةِ وَاللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ وَالتَّمْكِينِ مِنَ الْمُرَادَاتِ. وَالثَّانِي: مَا سَمَّاهُ شَرًّا وَهُوَ الْمَضَارُّ الدُّنْيَوِيَّةُ مِنَ الْفَقْرِ وَالْآلَامِ وَسَائِرِ الشَّدَائِدِ النَّازِلَةِ بِالْمُكَلَّفِينَ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْعَبْدَ مَعَ التَّكْلِيفِ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، لِكَيْ يَشْكُرَ عَلَى الْمِنَحِ وَيَصْبِرَ فِي الْمِحَنِ، فَيَعْظُمَ ثَوَابُهُ إِذَا قَامَ بِمَا يَلْزَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا سَمَّى ذَلِكَ ابْتِلَاءً وَهُوَ عَالِمٌ بِمَا سَيَكُونُ مِنْ أَعْمَالِ الْعَالَمِينَ قَبْلَ وُجُودِهِمْ/ لِأَنَّهُ فِي صُورَةِ الِاخْتِبَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فِتْنَةً مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِنَبْلُوكُمْ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّتِ التَّنَاسُخِيَّةُ بِقَوْلِهِ: وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ فَإِنَّ الرُّجُوعَ إِلَى مَوْضِعٍ مَسْبُوقٍ بِالْكَوْنِ فِيهِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ مَذْكُورٌ مَجَازًا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ أَنَّهُمْ يُرْجَعُونَ إِلَى حُكْمِهِ وَمُحَاسَبَتِهِ وَمُجَازَاتِهِ، فَبَيَّنَ بِذَلِكَ بُطْلَانَ قَوْلِهِمْ فِي نَفْيِ الْبَعْثِ وَالْمَعَادِ، وَاسْتَدَلَّتِ التَّنَاسُخِيَّةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا: إِنَّ الرُّجُوعَ إِلَى مَوْضِعٍ مَسْبُوقٍ بِالْكَوْنِ فِيهِ، وَقَدْ كُنَّا مَوْجُودِينَ قَبْلَ دُخُولِنَا فِي هَذَا الْعَالَمِ وَاسْتَدَلَّتِ الْمُجَسِّمَةُ بِأَنَّا أَجْسَامٌ، فَرُجُوعُنَا إِلَى اللَّه تَعَالَى يَقْتَضِي كَوْنَ اللَّه تَعَالَى جِسْمًا. وَالْجَوَابُ عَنْهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً قَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي جَهْلٍ مَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ مَعَ أَبِي جَهْلٍ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لِأَبِي سُفْيَانَ: هَذَا نَبِيُّ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَمَا تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا فِي بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ. فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُمَا فَقَالَ لِأَبِي جَهْلٍ: «مَا أَرَاكَ تَنْتَهِي حَتَّى يَنْزِلَ بِكَ مَا نَزَلَ بِعَمِّكَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أَبَا سُفْيَانَ: فَإِنَّمَا قُلْتَ مَا قُلْتَ حَمِيَّةً» فنزلت

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 37 إلى 41]

هَذِهِ الْآيَةُ، ثُمَّ فَسَّرَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَالذِّكْرُ يَكُونُ بِخَيْرٍ وَبِخِلَافِهِ، فَإِذَا دَلَّتِ الْحَالُ عَلَى أَحَدِهِمَا أُطْلِقَ وَلَمْ يُقَيَّدْ كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ سَمِعْتُ فُلَانًا يَذْكُرُكَ، فَإِنْ كَانَ الذَّاكِرُ صَدِيقًا فَهُوَ ثَنَاءٌ، وَإِنْ كَانَ عَدُوًّا فَهُوَ ذَمٌّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [الْأَنْبِيَاءِ: 60] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُبْطِلُ كَوْنَهَا مَعْبُودَةً وَيُقَبِّحُ عِبَادَتَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ فالمعنى أنه يَعِيبُونَ عَلَيْهِ ذِكْرَ آلِهَتِهِمُ الَّتِي لَا تَضُرُّ ولا تنفع بأسوء، مَعَ أَنَّهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ الَّذِي هُوَ الْمُنْعِمُ الْخَالِقُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ كَافِرُونَ وَلَا فِعْلَ أَقْبَحُ من ذلك، فيكون الهزء وَاللَّعِبُ وَالذَّمُّ عَلَيْهِمْ يَعُودُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ الْقُرْآنُ وَالْكُتُبُ، وَالْمَعْنَى فِي إِعَادَتِهِمْ أَنَّ الْأُولَى إِشَارَةٌ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ الْفِعْلَ، وَالثَّانِيَةَ إِبَانَةٌ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي أعادتها تأكيدا وتعظيما لفعلهم. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 37 الى 41] خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) / أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمُرَادِ مِنَ الْإِنْسَانِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ النَّوْعُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ. أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ عَذَابَ اللَّه تَعَالَى وَآيَاتِهِ الْمُلْجِئَةَ إِلَى الْعِلْمِ وَالْإِقْرَارِ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [الملك: 25] فَأَرَادَ زَجْرَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَقَدَّمَ أَوَّلًا ذَمَّ الْإِنْسَانِ عَلَى إِفْرَاطِ الْعَجَلَةِ ثُمَّ نَهَاهُمْ وَزَجَرَهُمْ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَبْعُدُ مِنْكُمْ أَنْ تَسْتَعْجِلُوا فَإِنَّكُمْ مَجْبُولُونَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ طَبْعُكُمْ وَسَجِيَّتُكُمْ، فَإِنْ قِيلَ: مُقَدِّمَةُ الْكَلَامِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مُنَاسِبَةً لِلْكَلَامِ، وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ مَخْلُوقًا مِنَ الْعَجَلِ يُنَاسِبُ كَوْنَهُ مَعْذُورًا فِيهِ فَلِمَ رَتَّبَ عَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ قَوْلَهُ: فَلا تَسْتَعْجِلُونِ قُلْنَا: لِأَنَّ الْعَائِقَ كُلَّمَا كَانَ أَشَدَّ، كَانَتِ الْقُدْرَةُ عليه مُخَالَفَتِهِ أَكْمَلَ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ نَبَّهَ بِهَذَا عَلَى أَنَّ تَرْكَ الِاسْتِعْجَالِ حَالَةٌ شَرِيفَةٌ عَالِيَةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا. أَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ فَهَذَا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ والضحاك، وروى ابن جريج وَلَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: خَلَقَ اللَّه آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ آخِرِ نَهَارِ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا دَخَلَ الرُّوحُ رَأْسَهُ وَلَمْ يَبْلُغْ أَسْفَلَهُ، قَالَ: يَا رَبِّ اسْتَعْجِلْ خَلْقِي قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، قَالَ لَيْثٌ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ وَعَنِ السُّدِّيِّ لَمَّا نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ فَدَخَلَ فِي رَأْسِهِ عَطَسَ، فَقَالَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: قُلِ الْحَمْدُ للَّه، فَقَالَ ذَلِكَ: فَقَالَ اللَّه لَهُ: يَرْحَمُكَ رَبُّكَ. فَلَمَّا دَخَلَ الرُّوحُ فِي عَيْنَيْهِ نَظَرَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَلَمَّا دَخَلَ الرُّوحُ فِي جَوْفِهِ اشْتَهَى الطَّعَامَ، فَوَثَبَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ رِجْلَيْهِ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَوْرَثَ أَوْلَادَهُ الْعَجَلَةَ. وَثَانِيهِمَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: نَزَلَتْ

هذه الآية في النضر بن الحرث وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُوَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِأَنَّ الْغَرَضَ ذَمُّ الْقَوْمِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا حَمَلْنَا لَفْظَ الْإِنْسَانِ عَلَى النَّوْعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ أَجْرَى هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَلَبَهَا، أَمَّا الْأَوَّلُونَ فَلَهُمْ فِيهَا أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ أَيْ خُلِقَ/ عَجُولًا، وَذَلِكَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ كَمَا قِيلَ لِلرَّجُلِ الذَّكِيِّ: هُوَ نَارٌ تَشْتَعِلُ، وَالْعَرَبُ قَدْ تُسَمِّي الْمَرْءَ بِمَا يَكْثُرُ مِنْهُ فَتَقُولُ: مَا أَنْتَ إِلَّا أَكْلٌ وَنَوْمٌ، وَمَا هُوَ إِلَّا إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَمَّا إِذَا ذُكِرَتْ حَتَّى إِذَا غَفَلَتْ ... فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ وَهَذَا الْوَجْهُ مُتَأَكِّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا [الْإِسْرَاءِ: 11] قَالَ الْمُبَرِّدُ: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ أَيْ مِنْ شَأْنِهِ الْعَجَلَةُ كَقَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ [الرُّومِ: 54] أَيْ ضُعَفَاءَ. وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْعَجَلُ الطِّينُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ وَأَنْشَدُوا: وَالنَّخْلُ يَثْبُتُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْعَجَلِ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْأَخْفَشُ: (مِنْ عَجَلٍ) أَيْ مِنْ تَعْجِيلٍ مِنَ الْأَمْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ كُنْ. وَرَابِعُهَا: مِنْ عَجَلٍ، أَيْ مِنْ ضَعْفٍ عَنِ الْحَسَنِ. أَمَّا الَّذِينَ قَلَبُوهَا فَقَالُوا الْمَعْنَى: خُلِقَ الْعَجَلُ مِنَ الْإِنْسَانِ، كَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ [الأحقاف: 20] أَيْ تُعْرَضُ النَّارُ عَلَيْهِمْ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ وَأَبْعَدُ الْأَقْوَالِ هَذَا الْقَلْبُ لِأَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَى صَحِيحٍ وَهُوَ عَلَى تَرْتِيبِهِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ مَقْلُوبٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: خُلِقَتِ الْعَجَلَةُ مِنَ الْإِنْسَانِ فِيهِ وُجُوهٌ مِنَ الْمَجَازِ. فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَغْيِيرِ النَّظْمِ إِلَى مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي الْمَجَازِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْقَوْمُ اسْتَعْجَلُوا الْوَعْدَ عَلَى وَجْهِ التَّكْذِيبِ وَمَنْ هَذَا حَالُهُ لَا يَكُونُ مُسْتَعْجِلًا عَلَى الْحَقِيقَةِ. قُلْنَا: اسْتِعْجَالُهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَدْخَلُ فِي الذَّمِّ لِأَنَّهُ إِذَا ذَمَّ الْمَرْءُ اسْتِعْجَالَ الْأَمْرِ الْمَعْلُومِ فَبِأَنْ يَذُمَّ عَلَى اسْتِعْجَالِ مَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا لَهُ كَانَ أُولَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِمَا تَوَعَّدَهُمْ مِنْ عِقَابِ الْآخِرَةِ أَوْ هَلَاكِ الدُّنْيَا يَتَضَمَّنُ اسْتِعْجَالَ الْمَوْتِ وَهُمْ عَالِمُونَ بِذَلِكَ فَكَانُوا مُسْتَعْجِلِينَ فِي الْحَقِيقَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْآيَاتِ عَلَى أقوال: أحدها: أنها هِيَ الْهَلَاكُ الْمُعَجَّلُ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَلا تَسْتَعْجِلُونِ أَيْ أَنَّهَا سَتَأْتِي لَا مَحَالَةَ فِي وَقْتِهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّهَا أَدِلَّةُ التَّوْحِيدِ وَصِدْقُ الرَّسُولِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا آثَارُ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ بِالشَّامِ وَالْيَمَنِ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى النَّظْمِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الِاسْتِعْجَالُ الْمَذْمُومُ الْمَذْكُورُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ [الْعَنْكَبُوتِ: 53] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ لِجَهْلِهِمْ وَغَفْلَتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي رَفْعِ هَذَا الْحُزْنِ عَنْ قَلْبِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: بِأَنْ بَيَّنَ مَا لِصَاحِبِ هَذَا الِاسْتِهْزَاءِ مِنَ الْعِقَابِ الشَّدِيدِ فَقَالَ: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ قَالَ صَاحِبُ «الكشاف» :

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 42 إلى 44]

جَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ وَحِينَ مَفْعُولٌ بِهِ لِيَعْلَمُ أَيْ لَوْ يَعْلَمُونَ الْوَقْتَ الَّذِي يَسْأَلُونَ عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ: مَتى هذَا الْوَعْدُ وَهُوَ وَقْتٌ صَعْبٌ شَدِيدٌ تُحِيطُ بِهِمْ فِيهِ النَّارُ مِنْ قُدَّامٍ وَمِنْ خَلْفٍ فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَلَا يَجِدُونَ أَيْضًا نَاصِرًا يَنْصُرُهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: / فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا [غَافِرٍ: 29] لِمَا كَانُوا بِتِلْكَ الصِّفَةِ مِنَ الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالِاسْتِعْجَالِ وَلَكِنَّ جَهْلَهُمْ بِهِ هُوَ الَّذِي هَوَّنَهُ عَلَيْهِمْ وَإِنَّمَا حَسُنَ حَذْفُ الْجَوَابِ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَهَذَا أَبْلَغُ وَمِثْلُهُ: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الْبَقَرَةِ: 165] ، وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْفَالِ: 50] ، وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرَّعْدِ: 31] وَإِنَّمَا خَصَّ الْوُجُوهَ وَالظُّهُورَ لِأَنَّ مَسَّ الْعَذَابِ لَهُمَا أَعْظَمُ مَوْقِعًا وَلِكَثْرَةِ مَا يُسْتَعْمَلُ ذِكْرُهُمَا فِي دَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنِ النَّفْسِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ شِدَّةَ هَذَا الْعَذَابِ بَيَّنَ أَنَّ وَقْتَ مَجِيئِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَهُمْ بَلْ تَأْتِيهِمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَهَا غَيْرُ مُحْتَسِبِينَ وَلَا لِأَمْرِهَا مُسْتَعِدِّينَ فَتَبْهَتُهُمْ أَيْ تَدَعُهُمْ حَائِرِينَ وَاقِفِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً فِي رَدِّهَا وَلَا عَمَّا يَأْتِيهِمْ مِنْهَا مَصْرِفًا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ أَيْ لَا يُمْهَلُونَ لِتَوْبَةٍ وَلَا مَعْذِرَةٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا لَمْ يُعْلِمِ الْمُكَلَّفِينَ وَقْتَ الْمَوْتِ وَالْقِيَامَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لِأَنَّ الْمَرْءَ مَعَ كِتْمَانِ ذَلِكَ أَشَدُّ حَذَرًا وَأَقْرَبُ إِلَى التَّلَافِي، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الْوَجْهَ الثَّانِيَ فِي دَفْعِ الْحُزْنِ عَنْ قَلْبِ رَسُولِهِ فَقَالَ: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وَالْمَعْنَى وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ يَا مُحَمَّدُ كَمَا اسْتَهْزَأَ بِكَ قَوْمُكَ فَحاقَ أَيْ نَزَلَ وَأَحَاطَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَيْ عُقُوبَةُ اسْتِهْزَائِهِمْ وَحَاقَ وَحَقَّ بِمَعْنَى كَزَالَّ وَزَلَّ وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى فَكَذَلِكَ يَحِيقُ بِهَؤُلَاءِ وَبَالُ استهزائهم. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 42 الى 44] قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) [في قوله تعالى قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْكُفَّارَ فِي الْآخِرَةِ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ بِسَائِرِ مَا وَصَفَهُمْ بِهِ أَتْبَعُهُ بِأَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا لَوْلَا أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَحْرُسُهُمْ وَيَحْفَظُهُمْ لَمَا بَقُوا فِي السَّلَامَةِ فَقَالَ لِرَسُولِهِ: قل لهؤلاء الكفار الذين يستهزءون وَيَغْتَرُّونَ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهَذَا كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِمَنْ حَصَلَ فِي قَبْضَتِهِ وَلَا مُخَلِّصَ لَهُ مِنْهُ إِلَى أَيْنَ مقرك مِنِّي! هَلْ لَكَ مَحِيصٌ عَنِّي! وَالْكَالِئُ الْحَافِظُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنَ الرَّحْمنِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَعْنَاهُ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ ... مِنَ الرَّحْمنِ أَيْ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَى إِنْزَالِهِ بِكُمْ مِنْ عَذَابٍ تَسْتَحِقُّونَهُ. وَثَانِيهَا: مِنْ بَأْسِ اللَّه فِي الْآخِرَةِ. وَثَالِثُهَا: مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَسَائِرِ مَا أَبَاحَهُ اللَّه لِكُفْرِهِمْ فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا حَافِظَ لَهُمْ وَلَا دَافِعَ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَوْ أَنْزَلَهَا بِهِمْ وَلَوْلَا تَفَضُّلُهُ بِحِفْظِهِمْ لَمَا عَاشُوا وَلَمَا مُتِّعُوا بِالدُّنْيَا. الْمَسْأَلَةُ الثانية: إنما خص هاهنا اسْمَ الرَّحْمَنِ بِالذِّكْرِ تَلْقِينًا لِلْجَوَابِ حَتَّى يَقُولَ الْعَاقِلُ: أَنْتَ الْكَالِئُ يَا إِلَهُنَا لِكُلِّ الْخَلَائِقِ بِرَحْمَتِكَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الِانْفِطَارِ: 6] إِنَّمَا خَصَّ اسْمَ الْكَرِيمِ بِالذِّكْرِ تلقينا للجواب.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 45 إلى 47]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا ذَكَرَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَقْتَيْنِ آفَاتٍ تَخْتَصُّ بِهِ وَالْمَعْنَى مَنْ يَحْفَظُكُمْ بِاللَّيْلِ إِذَا نِمْتُمْ وَبِالنَّهَارِ إِذَا تَصَرَّفْتُمْ فِي مَعَايِشِكُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى مَعَ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ لَيْلًا وَنَهَارًا بِالْحِفْظِ وَالْحِرَاسَةِ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمُ الَّذِي هُوَ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ وَالنَّقْلِيَّةُ وَلَطَائِفُ الْقُرْآنِ مُعْرِضُونَ فَلَا يَتَأَمَّلُونَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِيَعْرِفُوا أَنَّهُ لَا كَالِئَ لَهُمْ سِوَاهُ وَيَتْرُكُونَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا حَظَّ لَهَا فِي حِفْظِهِمْ وَلَا فِي الْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمِيمَ صِلَةٌ يَعْنِي أَلَهُمْ آلِهَةٌ تَكْلَؤُهُمْ مِنْ دوننا، والتقدير ألهم آلهة من تَمْنَعُهُمْ. وَتَمَّ الْكَلَامُ ثُمَّ وَصَفَ آلِهَتَهُمْ بِالضَّعْفِ فَقَالَ: لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَهَذَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ فَهَذِهِ الْآلِهَةُ لَا تَسْتَطِيعُ حِمَايَةَ أَنْفُسِهَا عَنِ الْآفَاتِ، وَحِمَايَةُ النَّفْسِ أَوْلَى مِنْ حِمَايَةِ الْغَيْرِ. فَإِذَا لَمْ تَقْدِرْ عَلَى حِمَايَةِ نَفْسِهَا فَكَيْفَ تَقْدِرُ عَلَى حِمَايَةِ غَيْرِهَا، وَفِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْمَازِنِيُّ: أَصْحَبْتُ الرَّجُلَ إِذَا مَنَعْتَهُ فَقَوْلُهُ: وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ مِنْ ذَلِكَ لا من الصحبة. الثاني: أن الصحبة هاهنا بِمَعْنَى النُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ وَكُلُّهَا سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى يُقَالُ: صَحِبَكَ اللَّه وَنَصَرَكَ اللَّه وَيُقَالُ لِلْمُسَافِرِ: فِي صُحْبَةِ اللَّه وَفِي حِفْظِ اللَّه فَالْمَعْنَى وَلَا هُمْ مِنَّا فِي نُصْرَةٍ وَلَا إِعَانَةٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ لَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى دَفْعِ الْآفَاتِ وَلَا يَكُونُ مَصْحُوبًا مِنَ اللَّه بِالْإِعَانَةِ، كَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ تَفَضُّلَهُ عَلَيْهِمْ مَعَ كُلِّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ يَعْنِي مَا حَمَلَهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ إِلَّا الِاغْتِرَارُ بِطُولِ الْمُهْلَةِ. يَعْنِي طَالَتْ أَعْمَارُهُمْ فِي الْغَفْلَةِ فَنَسُوا عَهْدَنَا وَجَهِلُوا مَوْقِعَ مَوَاقِعِ نِعْمَتِنَا وَاغْتَرُّوا بِذَلِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها فَالْمَعْنَى أَفَلَا يَرَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ باللَّه الْمُسْتَعْجِلُونَ بِالْعَذَابِ آثَارَ قُدْرَتِنَا فِي إِتْيَانِ الْأَرْضِ مِنْ جَوَانِبِهَا نَأْخُذُ الْوَاحِدَ بعد الْوَاحِدَ بَعْدَ الْوَاحِدِ وَنَفْتَحُ الْبِلَادَ وَالْقُرَى مِمَّا حَوْلَ مَكَّةَ وَنَزِيدُهَا فِي مُلْكِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُمِيتُ رُؤَسَاءَ الْمُشْرِكِينَ الْمُمَتَّعِينَ بِالدُّنْيَا/ وَنُنْقِصُ مِنَ الشِّرْكِ بِإِهْلَاكِ أَهْلِهِ أَمَا كَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ فَيُؤْمِنُوا بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ اللَّه وَإِرَادَتِهِ فِيهِمْ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى مُغَالَبَتِهِ ثُمَّ قَالَ: أَفَهُمُ الْغالِبُونَ أَيْ فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْغَالِبُونَ أَمْ نَحْنُ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ وَالتَّقْرِيعِ وَالْمَعْنَى بَلْ نَحْنُ الْغَالِبُونَ وَهُمُ الْمَغْلُوبُونَ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ. وَفِي تَفْسِيرِ النُّقْصَانِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ نَنْقُصُهَا بِفَتْحِ الْبُلْدَانِ. وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى يُرِيدُ نُقْصَانَ أَهْلِهَا وَبَرَكَتِهَا. وَثَالِثُهَا: قَالَ عِكْرِمَةُ: تَخْرِيبُ الْقُرَى عِنْدَ مَوْتِ أَهْلِهَا. وَرَابِعُهَا: بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ إِنْ صَحَّتْ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهَا وَإِلَّا فَالْأَظْهَرُ مِنَ الْأَقَاوِيلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَلَبَةِ فَلِذَلِكَ قَالَ: أَفَهُمُ الْغالِبُونَ وَالَّذِي يَلِيقُ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَنْقُصُهَا عَنْهُمْ وَيَزِيدُهَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، قَالَ الْقَفَّالُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كُفَّارِ مَكَّةَ فَكَيْفَ يَدْخُلُ فِيهَا الْعُلَمَاءُ وَالْفُقَهَاءُ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَرِ الَّتِي لَوِ اسْتَعْمَلُوا عَقْلَهُمْ فِيهَا لأعرضوا عن جهلهم. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 45 الى 47] قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ إلى قوله لِيَوْمِ الْقِيامَةِ] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ الْأَدِلَّةَ وَبَالَغَ فِي التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ أَيْ بِالْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ رَبِّكُمْ فَلَا تَظُنُّوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِي بَلِ اللَّه آتِيكُمْ بِهِ وَأَمَرَنِي بِإِنْذَارِكُمْ فَإِذَا قُمْتُ بِمَا أَلْزَمَنِي رَبِّي فَلَمْ يَقَعْ مِنْكُمُ الْقَبُولُ وَالْإِجَابَةُ فَالْوَبَالُ عَلَيْكُمْ يَعُودُ، وَمَثَّلَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا سَمِعُوا مِنْ إِنْذَارِهِ مَعَ كَثْرَتِهِ وَتَوَالِيهِ بِالصُّمِّ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ أَصْلًا إِذِ الْغَرَضُ بِالْإِنْذَارِ لَيْسَ السَّمَاعَ بَلِ التَّمَسُّكَ بِهِ فِي إِقْدَامٍ عَلَى وَاجِبٍ وَتَحَرُّزٍ عَنْ مُحَرَّمٍ وَمَعْرِفَةٍ بِالْحَقِّ. فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْغَرَضُ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ وَلَا تُسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ أَيْ لَا تُسْمِعُ أَنْتَ أَوْ لَا يُسْمِعُ رَسُولُ اللَّه أَوْ لَا يُسْمِعُ الصُّمَّ مَنْ أَسْمَعَ، فَإِنْ قُلْتَ: الصُّمُّ لَا تَسْمَعُ دُعَاءَ الْبَشَرِ كَمَا لَا يَسْمَعُونَ دُعَاءَ الْمُنْذِرِ. فَكَيْفَ قَالَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ؟ قُلْتُ: اللَّامُ فِي الصُّمِّ/ إِشَارَةٌ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُنْذَرِينَ كَائِنَةٌ لِلْعَهْدِ لَا لِلْجِنْسِ، وَالْأَصْلُ وَلَا يَسْمَعُونَ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ فَوَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَصَامُمِهِمْ وَسَدِّهِمْ أَسْمَاعَهُمْ إِذَا أُنْذَرُوا أَيْ هُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْجَرَاءَةِ وَالْجَسَارَةِ عَلَى التَّصَامُمِ عَنْ آيَاتِ الْإِنْذَارِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ حَالَهُمْ سَيَتَغَيَّرُ إِلَى أَنْ يَصِيرُوا بِحَيْثُ إِذَا شَاهَدُوا الْيَسِيرَ مِمَّا أُنْذَرُوا بِهِ فَعِنْدَهُ يَسْمَعُونَ وَيَعْتَذِرُونَ وَيَعْتَرِفُونَ حِينَ لَا يَنْتَفِعُونَ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ وَأَصْلُ النَّفْحِ مِنَ الرِّيحِ اللَّيِّنَةِ وَالْمَعْنَى وَلَئِنْ مَسَّهُمْ شَيْءٌ قَلِيلٌ مِنْ عَذَابِ اللَّه كَالرَّائِحَةِ مِنَ الشَّيْءِ دُونَ جِسْمِهِ لَتَنَادَوْا بِالْوَيْلِ وَاعْتَرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالظُّلْمِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي الْمَسِّ وَالنَّفْحَةِ ثَلَاثُ مُبَالَغَاتٍ: لَفْظُ الْمَسِّ وَمَا فِي النَّفْحِ مِنْ مَعْنَى الْقِلَّةِ وَالنَّزَارَةِ، يُقَالُ: نَفَحَتْهُ الدَّابَّةُ وَهُوَ رُمْحٌ يَسِيرٌ وَنَفَحَهُ بِعَطِيَّةٍ رَضَخَهُ، وَلَفْظُ الْمَرَّةِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ جَمِيعَ مَا يَنْزِلُ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَدْلًا فَهُمْ وَإِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَلَنْ يُظْلَمُوا فِي الْآخِرَةِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ وَصَفَهَا اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمِيزَانَ قَدْ يَكُونُ مُسْتَقِيمًا وَقَدْ يَكُونُ بِخِلَافِهِ، فَبَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْمَوَازِينَ تَجْرِي عَلَى حَدِّ الْعَدْلِ وَالْقِسْطِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وهاهنا مسائل: المسألة الأولى: معنى وضعها إحظارها، قَالَ الْفَرَّاءُ: الْقِسْطُ صِفَةُ الْمَوَازِينِ وَإِنْ كَانَ مُوَحَّدًا وَهُوَ كَقَوْلِكَ لِلْقَوْمِ: أَنْتُمْ عَدْلٌ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ ذَوَاتَ الْقِسْطِ وَقَوْلُهُ: لِيَوْمِ الْقِيامَةِ قَالَ الْفَرَّاءُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِأَهْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي وَضْعِ الْمَوَازِينِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ مُجَاهِدٌ هَذَا مَثَلٌ وَالْمُرَادُ بِالْمَوَازِينِ الْعَدْلُ وَيُرْوَى مِثْلُهُ عَنْ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالْمَعْنَى بِالْوَزْنِ الْقِسْطُ بَيْنَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ فَمَنْ أَحَاطَتْ حَسَنَاتُهُ بِسَيِّئَاتِهِ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ يَعْنِي أَنَّ حَسَنَاتِهِ تَذْهَبُ بِسَيِّئَاتِهِ وَمَنْ أَحَاطَتْ سَيِّئَاتُهُ بحسناته فقد خفت موازينه أَيْ أَنَّ سَيِّئَاتِهِ تَذْهَبُ بِحَسَنَاتِهِ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ هَكَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا. الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَضَعُ الْمَوَازِينَ الْحَقِيقِيَّةَ فَتُوزَنُ بِهَا الْأَعْمَالُ، وَعَنِ الْحَسَنِ: هُوَ مِيزَانٌ لَهُ كِفَّتَانِ وَلِسَانٌ وَهُوَ بَيْدِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَيُرْوَى: «أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ الْمِيزَانَ فَلَمَّا رَآهُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: يَا إِلَهِي مَنِ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يَمْلَأَ كِفَّتَهُ حَسَنَاتٍ، فَقَالَ: يَا دَاوُدُ إِنِّي إِذَا رَضِيتُ عَنْ عَبْدِي مَلَأْتُهَا بِتَمْرَةٍ» ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي كَيْفِيَّةِ

وَزْنِ الْأَعْمَالِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تُوزَنَ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ. وَالثَّانِي: يُجْعَلُ فِي كِفَّةِ الْحَسَنَاتِ جَوَاهِرُ بِيضٌ مُشْرِقَةٌ وَفِي كِفَّةِ السَّيِّئَاتِ جَوَاهِرُ سُودٌ مُظْلِمَةٌ فَإِنْ قِيلَ: أَهْلُ الْقِيَامَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِكَوْنِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَادِلًا غَيْرَ ظَالِمٍ أَوْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ. فَإِنْ عَلِمُوا ذَلِكَ كَانَ مُجَرَّدُ حُكْمِهِ كَافِيًا فِي مَعْرِفَةِ أَنَّ الْغَالِبَ هُوَ الْحَسَنَاتُ أَوِ السَّيِّئَاتُ فَلَا يَكُونُ فِي وَضْعِ الْمِيزَانِ فَائِدَةٌ الْبَتَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا لَمْ تَحْصُلِ الْفَائِدَةُ فِي وَزْنِ الصَّحَائِفِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ إِحْدَى الصَّحِيفَتَيْنِ أَثْقَلَ أَوْ أَخَفَّ ظُلْمًا فَثَبَتَ أَنَّ وَضْعَ الْمِيزَانِ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ خَالٍ عَنِ الْفَائِدَةِ. وجوابه على قولنا قوله تعالى: لا يُسْئَلُ/ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 23] وَأَيْضًا فَفِيهِ ظُهُورُ حَالِ الْوَلِيِّ مِنَ الْعَدُّوِ فِي مَجْمَعِ الْخَلَائِقِ، فَيَكُونُ لِأَحَدِ الْقَبِيلَيْنِ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ السُّرُورِ وَلِلْآخَرِ أَعْظَمُ الْغَمِّ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ نَشْرِ الصُّحُفِ وَغَيْرِهِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الْمَوَازِينِ الْحَقِيقِيَّةِ أَنَّ حَمْلَ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى مُجَرَّدِ الْعَدْلِ مَجَازٌ وَصَرْفُ اللَّفْظِ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ غَيْرُ جَائِزٍ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ فِي هَذَا الْبَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ قَوْمٌ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ يُنَاقِضُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الْكَهْفِ: 105] ، وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا يُكْرِمُهُمْ وَلَا يُعَظِّمُهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا جَمَعَ الْمُوَازِينَ لِكَثْرَةِ مَنْ تُوزَنُ أَعْمَالُهُمْ وَهُوَ جَمْعُ تَفْخِيمٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمَوْزُونَاتِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُنْقَصُ مِنْ إِحْسَانِ مُحْسِنٍ وَلَا يُزَادُ في إساءة مسيئ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ: مِثْقالَ حَبَّةٍ عَلَى كَانَ التَّامَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا آتَيْنَا بِهَا وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْإِتْيَانِ بِمَعْنَى الْمُجَازَاةِ وَالْمُكَافَأَةِ لِأَنَّهُمْ أَتَوْهُ بِالْأَعْمَالِ وَأَتَاهُمْ بِالْجَزَاءِ، وَقَرَأَ حُمَيْدٌ: أَثَبْنَا بِهَا مِنَ الثَّوَابِ، وَفِي حَرْفِ أبي جئنا بها. المسألة الثانية: لم أنت ضَمِيرُ الْمِثْقَالِ؟ قُلْنَا: لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْحَبَّةِ كَقَوْلِهِمْ ذَهَبَتْ بَعْضُ أَصَابِعِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: زَعَمَ الْجُبَّائِيُّ أَنَّ مَنِ اسْتَحَقَّ مِائَةَ جُزْءٍ مِنَ الْعِقَابِ فأتى بطاعة يستحق بها خمسين جزء من الثواب فهذا الأقل يتحبط بِالْأَكْثَرِ وَيَبْقَى الْأَكْثَرُ كَمَا كَانَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُبْطِلُ قَوْلَهُ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى تَمَدَّحَ بِأَنَّ الْيَسِيرَ مِنَ الطَّاعَةِ لَا يَسْقُطُ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ الْجُبَّائِيُّ لَسَقَطَتِ الطَّاعَةُ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ: فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَوِ ابْتَدَأَهُ اللَّه تَعَالَى لَكَانَ قَدْ ظَلَمَ، فَدَلَّ هَذَا الْوَجْهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ وَلَا يَفْعَلُ الْمَضَارَّ فِي الدُّنْيَا إِلَّا لِلْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ. وَالْجَوَابُ: الظُّلْمُ هُوَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ لِأَنَّهُ الْمَالِكُ الْمُطْلَقُ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى اسْتِحَالَةِ الظُّلْمِ عَلَيْهِ عَقْلًا أَنَّ الظُّلْمَ عِنْدَ الْخَصْمِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْجَهْلِ أَوِ الْحَاجَةِ الْمُحَالَيْنِ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَمُسْتَلْزِمُ الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَالظُّلْمُ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الظَّالِمَ سَفِيهٌ خَارِجٌ عَنِ الْإِلَهِيَّةِ فَلَوْ صَحَّ مِنْهُ الظُّلْمُ لَصَحَّ خُرُوجُهُ عَنِ الْإِلَهِيَّةِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ كَوْنُهُ إِلَهًا مِنَ الْجَائِزَاتِ لَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي إِلَهِيَّتِهِ.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 48 إلى 50]

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِنْ قِيلَ الْحَبَّةُ أَعْظَمُ مِنَ الْخَرْدَلَةِ، فَكَيْفَ قَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ؟ قُلْنَا: الْوَجْهُ فِيهِ أَنْ تَفْرِضَ الْخَرْدَلَةَ كَالدِّينَارِ ثُمَّ تَعْتَبِرَ الْحَبَّةَ مِنْ ذَلِكَ الدِّينَارِ. وَالْغَرَضُ الْمُبَالَغَةُ فِي أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا غَيْرُ ضَائِعٍ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَفى بِنا حاسِبِينَ فَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّحْذِيرُ فَإِنَّ الْمُحَاسِبَ إِذَا كَانَ فِي الْعِلْمِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَفِي الْقُدْرَةِ بِحَيْثُ لَا يَعْجِزُ عَنْ شَيْءٍ، حَقِيقٌ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ فِي أَشَدِّ الْخَوْفِ مِنْهُ، وَيُرْوَى عَنِ الشِّبْلِيِّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ رُئِيَ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّه بِكَ فَقَالَ: حَاسَبُونَا فَدَقَّقُوا ... ثم منوا فأعتقوا [سورة الأنبياء (21) : الآيات 48 الى 50] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) [القصة الأولى، قصة موسى عليه السلام] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا تَكَلَّمَ فِي دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ شَرَعَ فِي قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، تَسْلِيَةً لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا يَنَالُهُ مِنْ قَوْمِهِ وَتَقْوِيَةً لِقَلْبِهِ عَلَى أَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى كُلِّ عَارِضٍ دُونَهَا وَذَكَرَ هاهنا مِنْهَا قِصَصًا. الْقِصَّةُ الْأُولَى، قِصَّةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوَجْهُ الِاتِّصَالِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء: 45] أَتْبَعَهُ بِأَنَّ هَذِهِ عَادَةُ اللَّه تَعَالَى فِي الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ فَقَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْفُرْقَانِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ هُوَ التَّوْرَاةُ، فَكَانَ فُرْقَانًا إِذْ كَانَ يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَكَانَ ضِيَاءً إِذْ كَانَ لِغَايَةِ وُضُوحِهِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى طُرُقِ الْهُدَى وَسُبُلِ النَّجَاةِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَمَعْرِفَةِ الشَّرَائِعِ، وكان ذكرى أَيْ مَوْعِظَةً أَوْ ذِكْرَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي دِينِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ أَوِ الشَّرَفِ أَمَّا الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَضِياءً فَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَرَأَ ضِيَاءً بِغَيْرِ وَاوٍ وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْفُرْقَانِ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ فَالْمَعْنَى آتَيْنَاهُمُ الْفُرْقَانَ وَهُوَ التَّوْرَاةُ وَآتَيْنَا بِهِ ضِيَاءً وَذِكْرَى لِلْمُتَّقِينَ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ ضِيَاءٌ وَذِكْرَى أَوْ آتَيْنَاهُمَا بِمَا فِيهِ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْمَوَاعِظِ ضِيَاءً وَذِكْرَى «1» . الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْفُرْقَانِ لَيْسَ التَّوْرَاةَ ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا الْفُرْقَانُ هُوَ النَّصْرُ الَّذِي أُوتِيَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَقَوْلِهِ: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ [الْأَنْفَالِ: 41] يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ. وَثَانِيهَا: هُوَ الْبُرْهَانُ الَّذِي فَرَّقَ بِهِ دِينَ الْحَقِّ عَنِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ. وَثَالِثُهَا: فَلَقَ الْبَحْرَ عَنِ الضَّحَّاكِ. وَرَابِعُهَا: الْخُرُوجُ عَنِ الشُّبُهَاتِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كعب واعلم أنه تعالى إنما خصص الذكر بِالْمُتَّقِينَ لِمَا فِي قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: 2] أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ فقال صاحب

_ (1) رسمت في الأصل (ذكري) هكذا بالياء وجاء رسمها في المصحف وَذِكْراً بالتنوين وقد جرى المصنف على تفسيرها بالذكرى لا بالذكر. لهذا فإننا أثبتناها في الآيات: ذِكْراً متابعة لرسم المصحف. وأثبتناها في التفسير (ذكري) متابعة للتفسير، ولعل المفسر رحمه اللَّه جرى على قراءة غير قراءة حفص المشهورة بيننا. واللَّه أعلم وأحكم.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 إلى 55]

«الْكَشَّافِ» : مَحَلُّ الَّذِينَ جَرٌّ عَلَى الْوَصْفِيَّةِ أَوْ نَصْبٌ عَلَى الْمَدْحِ أَوْ رَفْعٌ عَلَيْهِ وَفِي مَعْنَى الْغَيْبِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: يَخْشَوْنَ عَذَابَ رَبِّهِمْ فَيَأْتَمِرُونَ بِأَوَامِرِهِ وَيَنْتَهُونَ عَنْ نَوَاهِيهِ وَإِيمَانُهُمْ باللَّه غَيْبِيٌّ اسْتِدْلَالِيٌّ، فَالْعِبَادُ يَعْمَلُونَ للَّه فِي الْغَيْبِ واللَّه لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا. وَثَانِيهَا: يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَهُمْ غَائِبُونَ عَنِ الْآخِرَةِ وَأَحْكَامِهَا. وَثَالِثُهَا: يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْخَلَوَاتِ إِذَا غَابُوا عَنِ النَّاسِ وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ خَشْيَتَهُمْ مِنْ عِقَابِ اللَّه لَازِمٌ لِقُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُظْهِرُونَهُ فِي الْمَلَا دُونَ الْخَلَا وَهُمْ مِنَ عَذَابِ السَّاعَةِ وَسَائِرِ مَا يَجْرِي فِيهَا مِنَ الْحِسَابِ وَالسُّؤَالِ مُشْفِقُونَ فَيَعْدِلُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْإِشْفَاقِ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ وَكَمَا أَنْزَلْتُ عَلَيْهِمُ الْفُرْقَانَ فَكَذَلِكَ هَذَا الْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْكَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ بَرَكَتُهُ كَثْرَةُ مَنَافِعِهِ وَغَزَارَةُ عُلُومِهِ وَقَوْلُهُ: أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا إِنْكَارَ فِي إِنْزَالِهِ وَفِي عَجَائِبِ مَا فِيهِ فَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ التَّوْرَاةَ، ثُمَّ هَذَا الْقُرْآنُ مُعْجِزٌ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى النَّظْمِ الْعَجِيبِ وَالْبَلَاغَةِ الْبَدِيعَةِ وَاشْتِمَالِهِ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَبَيَانِ الشَّرَائِعِ، فَمِثْلُ هَذَا الْكِتَابِ مَعَ كَثْرَةِ مَنَافِعِهِ كَيْفَ يُمْكِنُكُمْ إنكاره. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 55] وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) الْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ، [قصة] إبراهيم عليه السلام اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الرُّشْدِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ النُّبُوَّةُ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَخُصُّ بِالنُّبُوَّةِ مَنْ يَعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَقُومُ بِحَقِّهَا وَيَجْتَنِبُ/ مَا لَا يَلِيقُ بِهَا وَيَحْتَرِزُ عَمَّا يُنَفِّرُ قَوْمَهُ مِنَ الْقَبُولِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الِاهْتِدَاءُ لِوُجُوهِ الصَّلَاحِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ تَدْخُلَ النُّبُوَّةُ وَالِاهْتِدَاءُ تَحْتَ الرُّشْدِ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبْعَثَ نَبِيٌّ إِلَّا وَقَدْ دَلَّهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَدَلَّهُ أَيْضًا عَلَى مَصَالِحِ نَفْسِهِ وَمَصَالِحِ قَوْمِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الرُّشْدِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي أَنَّ الْإِيمَانَ مَخْلُوقٌ للَّه تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الرُّشْدُ هُوَ التَّوْفِيقُ وَالْبَيَانُ فَقَدْ فَعَلَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ بِالْكُفَّارِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْ آتَاهُمْ رُشْدَهُمْ. أَجَابَ الْكَعْبِيُّ: بِأَنَّ هَذَا يُقَالُ فِيمَنْ قَبِلَ لَا فِيمَنْ رَدَّ، وَذَلِكَ كَمَنْ أَعْطَى الْمَالَ لِوَلَدَيْنِ فَقَبِلَهُ أَحَدُهُمَا وَثَمَّرَهُ وَرَدَّهُ الْآخَرُ أَوْ أَخَذَهُ ثُمَّ ضَيَّعَهُ. فَيُقَالُ: أَغْنَى فُلَانٌ ابْنَهُ فِيمَنْ أَثْمَرَ الْمَالُ، وَلَا يُقَالُ مِثْلُهُ فِيمَنْ ضَيَّعَ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: هَذَا الْجَوَابُ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا جَعَلْنَا قَبُولَهُ جُزْءًا مِنْ مُسَمَّى الرُّشْدِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمُسَمَّى إِذَا كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ جُزْأَيْنِ وَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا مَقْدُورَ الْفَاعِلِ لَمْ يَجُزْ إِضَافَةُ ذَلِكَ الْمُسَمَّى إِلَى ذَلِكَ الْفَاعِلِ فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَجُوزَ إِضَافَةُ الرُّشْدِ إِلَى اللَّه تَعَالَى بِالْمَفْعُولِيَّةِ لَكِنَّ النَّصَّ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ صريح في أَنَّ ذَلِكَ الرُّشْدَ إِنَّمَا حَصَلَ مِنَ اللَّه تعالى فبطل ما قالوه.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 56 إلى 60]

المسألة الثانية: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ رَشَدَهُ كَالْعَدَمِ وَالْعُدْمِ، وَمَعْنَى إِضَافَتِهِ إِلَيْهِ أَنَّهُ رُشْدٌ مِثْلُهُ وَأَنَّهُ رُشْدٌ لَهُ شَأْنٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ قَبْلُ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ نُبُوَّتَهُ وَاهْتِدَاءَهُ مِنْ قَبْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جَرِيرٍ. وَثَانِيهَا: فِي صِغَرِهِ قَبْلَ بُلُوغِهِ حِينَ كَانَ فِي السِّرْبِ وَظَهَرَتْ لَهُ الْكَوَاكِبُ فَاسْتَدَلَّ بِهَا. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ حَمَلَ الرُّشْدَ عَلَى الِاهْتِدَاءِ وَإِلَّا لَزِمَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِنُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ الْبُلُوغِ عَنْ مُقَاتِلٍ. وَثَالِثُهَا: يَعْنِي حِينَ كَانَ فِي صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَخَذَ اللَّه مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلِمَ مِنْهُ أَحْوَالًا بَدِيعَةً وَأَسْرَارًا عَجِيبَةً وَصِفَاتٍ قَدْ رَضِيَهَا حَتَّى أَهَّلَهُ لِأَنْ يَكُونَ خَلِيلًا لَهُ، وَهَذَا كَقَوْلِكَ فِي رَجُلٍ كَبِيرٍ: أَنَا عَالِمٌ بِفُلَانٍ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى تَعْظِيمِهِ أَدَلُّ مِمَّا إِذَا شَرَحْتَ جَلَالَ كَمَالِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِذْ إِمَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِآتَيْنَا أَوْ بِرُشْدِهِ أَوْ بِمَحْذُوفٍ أَيِ اذْكُرْ مِنْ أَوْقَاتِ رُشْدِهِ هَذَا الْوَقْتَ. أَمَّا قَوْلُهُ: مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التِّمْثَالُ اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمَصْنُوعِ مُشَبَّهًا بِخَلْقٍ مِنْ خَلْقِ اللَّه تَعَالَى، وَأَصْلُهُ مِنْ مَثَّلْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إِذَا شَبَّهْتَهُ بِهِ وَاسْمُ ذَلِكَ الْمُمَثَّلِ تِمْثَالٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا عُبَّادَ أَصْنَامٍ عَلَى صُوَرٍ مَخْصُوصَةٍ كَصُورَةِ الْإِنْسَانِ أَوْ غَيْرِهِ، فَجَعَلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهُ ابْتِدَاءَ كَلَامِهِ لِيَنْظُرَ فِيمَا عَسَاهُمْ يُورِدُونَهُ مِنْ شُبْهَةٍ فَيُبْطِلَهَا عَلَيْهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : لَمْ يَنْوِ لِلْعَاكِفِينَ مَفْعُولًا وَأَجْرَاهُ مَجْرَى مَا لَا يَتَعَدَّى كَقَوْلِكَ فَاعِلُونَ لِلْعُكُوفِ أَوْ وَاقِفُونَ لَهَا، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ هَلَّا قِيلَ عَلَيْهَا عَاكِفُونَ كَقَوْلِهِ: يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ؟ قُلْتُ: لَوْ قَصَدَ التَّعْدِيَةَ لَعَدَّاهُ بِصِلَتِهِ الَّتِي هِيَ عَلَى. أَمَّا قَوْلُهُ: قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَجِدُوا فِي جَوَابِهِ إِلَّا طَرِيقَةَ التَّقْلِيدِ الَّذِي يُوجِبُ مزيد النكير لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا عَلَى خَطَأٍ مِنْ أَمْرِهِمْ لَمْ يَعْصِمْهُمْ مِنْ هَذَا الْخَطَأِ أَنَّ آبَاءَهُمْ أَيْضًا سَلَكُوا هَذَا الطَّرِيقَ فَلَا جَرَمَ أَجَابَهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فَبَيَّنَ أَنَّ الْبَاطِلَ لَا يَصِيرُ حَقًّا بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْمُتَمَسِّكِينَ بِهِ، فَلَمَّا حَقَّقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَجِدُوا مِنْ كَلَامِهِ مَخْلَصًا وَرَأَوْهُ ثَابِتًا عَلَى الْإِنْكَارِ قَوِيَّ الْقَلْبِ فِيهِ وَكَانُوا يَسْتَبْعِدُونَ أَنْ يَجْرِيَ مِثْلُ هَذَا الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَطُولِ الْعَهْدِ بِمَذْهَبِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا لَهُ: أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ مُوهِمِينَ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ جَادًّا فِي ذَلِكَ فَعِنْدَهُ عَدَلَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيَانِ التَّوْحِيدِ. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 56 الى 60] قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60)

[الآية في قَوْلُهُ تَعَالَى قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ] اعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا أُوهِمُوا أَنَّهُ يُمَازِحُ بِمَا خَاطَبَهُمْ بِهِ فِي أَصْنَامِهِمْ أَظْهَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يَعْلَمُونَ بِهِ أَنَّهُ مُجِدٌّ فِي إِظْهَارِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ التَّوْحِيدُ وَذَلِكَ بِالْقَوْلِ أَوَّلًا وَبِالْفِعْلِ ثَانِيًا، أَمَّا الطَّرِيقَةُ الْقَوْلِيَّةُ فَهِيَ قَوْلُهُ: بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَالِقَ الذي خلقها لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ هُوَ الَّذِي يَحْسُنُ أَنْ يُعْبَدَ لِأَنَّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَضُرَّ وَيَنْفَعَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِالْعِقَابِ وَالثَّوَابِ. فَيَرْجَعُ حَاصِلُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إِلَى الطَّرِيقَةِ التي ذكرها لأبيه في قوله: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مَرْيَمَ: 42] قال صاحب «الكشاف» : الضمير في فطرهن للسموات وَالْأَرْضِ أَوْ لِلتَّمَاثِيلِ، وَكَوْنُهُ لِلتَّمَاثِيلِ أَدْخَلَ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّأْكِيدِ وَالتَّحْقِيقِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ إِذَا بَالَغَ فِي مَدْحِ أَحَدٍ أَوْ ذَمِّهِ أَشْهَدُ أَنَّهُ كَرِيمٌ أَوْ ذَمِيمٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنَى بِقَوْلِهِ: وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ادِّعَاءَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِثْبَاتِ مَا ذَكَرَهُ بِالْحُجَّةِ، وَأَنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ فَأَقُولُ مَا لَا أَقْدِرُ عَلَى إِثْبَاتِهِ بِالْحُجَّةِ، كَمَا لَمْ تَقْدِرُوا عَلَى الِاحْتِجَاجِ لِمَذْهَبِكُمْ وَلَمْ تَزِيدُوا عَلَى أَنَّكُمْ وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ، وَأَمَّا الطَّرِيقَةُ الْفِعْلِيَّةُ فَهِيَ قَوْلُهُ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَإِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِالدَّلَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ عَدَلَ إِلَى أَنْ أَرَاهُمْ عَدَمَ الْفَائِدَةِ فِي عِبَادَتِهَا، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَرَأَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وباللَّه، وَقُرِئَ تَوَلَّوْا بِمَعْنَى تَتَوَلَّوْا وَيُقَوِّيهَا قَوْلُهُ: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَاءِ وَالتَّاءِ؟ قُلْتُ: إِنَّ الْبَاءَ هِيَ الْأَصْلُ وَالتَّاءَ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ الْمُبْدَلِ مِنْهَا وَالتَّاءُ فِيهَا زِيَادَةُ مَعْنًى وَهُوَ التَّعَجُّبُ، كَأَنَّهُ تَعَجَّبَ مِنْ تَسْهِيلِ الْكَيْدِ عَلَى يَدِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَمْرًا مَقْنُوطًا مِنْهُ لِصُعُوبَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ قِيلَ لِمَاذَا قَالَ: لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ وَالْكَيْدُ هُوَ الِاحْتِيَالُ عَلَى الْغَيْرِ فِي ضَرَرٍ لَا يَشْعُرُ بِهِ وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى فِي الْأَصْنَامِ. وَجَوَابُهُ: قَالَ ذَلِكَ تَوَسُّعًا لَمَّا كَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الضَّرَرَ يَجُوزُ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَأَكِيدَنَّكُمْ فِي أَصْنَامِكُمْ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ الْفِعْلِ قَدْ أَنْزَلَ بِهِمُ الْغَمَّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ أَوَّلِ الْقِصَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا إِذَا رَجَعُوا مِنْ عِيدِهِمْ دَخَلُوا عَلَى الْأَصْنَامِ فَسَجَدُوا لَهَا ثُمَّ عَادُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْوَقْتُ قَالَ آزَرُ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَوْ خَرَجْتَ مَعَنَا فَخَرَجَ مَعَهُمْ فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَلْقَى نَفْسَهُ وَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ أَشْتَكِي رِجْلِي فَلَمَّا مَضَوْا وَبَقِيَ ضُعَفَاءُ النَّاسِ نَادَى وَقَالَ: تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ. وَثَانِيهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يَنْظُرُونَ فِي النُّجُومِ وَكَانُوا إِذَا خَرَجُوا إِلَى عِيدِهِمْ لَمْ يَتْرُكُوا إِلَّا مَرِيضًا فَلَمَّا هَمَّ إِبْرَاهِيمُ بِالَّذِي هَمَّ بِهِ مِنْ كَسْرِ الْأَصْنَامِ نَظَرَ قَبْلَ يَوْمِ الْعِيدِ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَرَانِي أَشْتَكِي غَدًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصَّافَّاتِ: 88، 89]

وَأَصْبَحَ مِنَ الْغَدِ مَعْصُوبًا رَأْسُهُ فَخَرَجَ الْقَوْمُ لِعِيدِهِمْ وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ غَيْرُهُ فَقَالَ: أَمَا واللَّه لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ، وَسَمِعَ رَجُلٌ مِنْهُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَحَفِظَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ أَخْبَرَ غَيْرَهُ وَانْتَشَرَ ذَلِكَ فِي جَمَاعَةٍ فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ كِلَا الْوَجْهَيْنِ مُمْكِنٌ. ثُمَّ تَمَامُ الْقِصَّةِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَخَلَ بَيْتَ الْأَصْنَامِ وَجَدَ سَبْعِينَ صَنَمًا مُصْطَفَّةً، وَثَمَّ صَنَمٌ عَظِيمٌ مُسْتَقْبِلٌ الْبَابَ وَكَانَ مِنْ ذَهَبٍ وَكَانَ فِي عَيْنَيْهِ جَوْهَرَتَانِ تُضِيئَانِ بِاللَّيْلِ، فَكَسَرَهَا كُلَّهَا بِفَأْسٍ فِي يَدِهِ حَتَّى لَمْ يُبْقِ إِلَّا الْكَبِيرَ، ثُمَّ عَلَّقَ الْفَأْسَ فِي عُنُقِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنْ قِيلَ لِمَ قَالَ: فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً وَهَذَا جَمْعٌ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالنَّاسِ، جَوَابُهُ: مِنْ حَيْثُ اعْتَقَدُوا فِيهَا أَنَّهَا كَالنَّاسِ فِي أَنَّهَا تُعَظَّمُ وَيُتَقَرَّبُ إِلَيْهَا، وَلَعَلَّ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : جُذَاذًا قِطَعًا مِنَ الْجَذِّ وَهُوَ الْقَطْعُ، وَقُرِئَ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ وَقُرِئَ جُذَاذًا جَمْعَ جذيذ وجذاذا جَمْعَ جُذَّةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى: إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ قُلْنَا: يُحْتَمَلُ الْكَبِيرُ فِي الْخِلْقَةِ وَيُحْتَمَلُ فِي التَّعْظِيمِ وَيُحْتَمَلُ فِي الْأَمْرَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ فَيُحْتَمَلُ رُجُوعُهُمْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُحْتَمَلُ رُجُوعُهُمْ إِلَى الْكَبِيرِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى مَقَالَةِ إِبْرَاهِيمَ وَيَعْدِلُونَ عَنِ الْبَاطِلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَّا إِلَيْهِ لِمَا تَسَامَعُوهُ مِنْ إِنْكَارِهِ لِدِينِهِمْ وَسَبِّهِ لِآلِهَتِهِمْ فَبَكَّتَهُمْ بِمَا أَجَابَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: 63] أَمَّا إِذَا قُلْنَا: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْكَبِيرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ كَمَا يُرْجَعُ إِلَى الْعَالِمِ فِي حَلِّ الْمُشْكِلَاتِ فَيَقُولُونَ مَا لِهَؤُلَاءِ مَكْسُورَةً وَمَا لَكَ صَحِيحًا وَالْفَأْسُ عَلَى عَاتِقِكَ. وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى كَثْرَةِ جَهَالَاتِهِمْ فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِيهَا أَنَّهَا تُجِيبُ وَتَتَكَلَّمُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ اسْتِهْزَاءً بِهِمْ، وَإِنَّ قِيَاسَ حَالِ مَنْ يُسْجَدُ لَهُ وَيُؤَهَّلُ لِلْعِبَادَةِ أَنْ يُرْجَعَ إِلَيْهِ فِي حَلِّ الْمُشْكِلَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنْ قِيلَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ كَانُوا عُقَلَاءَ أَوْ مَا كَانُوا عُقَلَاءَ. فَإِنْ كَانُوا عُقَلَاءَ وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ تِلْكَ الْأَصْنَامَ لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، فَأَيُّ حَاجَةٍ فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ إِلَى كَسْرِهَا؟ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: الْقَوْمُ كَانُوا يُعَظِّمُونَهَا كَمَا يُعَظِّمُ الْوَاحِدُ مِنَّا الْمُصْحَفَ وَالْمَسْجِدَ وَالْمِحْرَابَ، وَكَسْرُهَا لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهَا مُعَظَّمَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمْ مَا كَانُوا عُقَلَاءَ وَجَبَ أَنْ لَا تَحْسُنَ الْمُنَاظَرَةُ مَعَهُمْ وَلَا بَعْثَةُ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ. الْجَوَابُ: أَنَّهُمْ كَانُوا عُقَلَاءَ وَكَانُوا عَالِمِينَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهَا جَمَادَاتٌ وَلَكِنْ لَعَلَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِيهَا أَنَّهَا تَمَاثِيلُ الْكَوَاكِبِ وَأَنَّهَا طَلْسَمَاتٌ مَوْضُوعَةٌ بِحَيْثُ إِنَّ كُلَّ مَنْ عَبَدَهَا انْتَفَعَ بِهَا وَكُلَّ مَنِ اسْتَخَفَّ بِهَا نَالَهُ مِنْهَا ضَرَرٌ شَدِيدٌ، ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَسَرَهَا مَعَ أَنَّهُ مَا نَالَهُ مِنْهَا الْبَتَّةَ ضَرَرٌ فَكَانَ فِعْلُهُ دَالًّا عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِهِمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ أَيْ [أَنَّ] مَنْ فَعَلَ هَذَا الْكَسْرَ وَالْحَطْمَ

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 61 إلى 67]

لَشَدِيدُ الظُّلْمِ مَعْدُودٌ فِي الْظَلَمَةِ إِمَّا لِجَرَاءَتِهِ عَلَى الْآلِهَةِ الْحَقِيقَةِ بِالتَّوْقِيرِ وَالْإِعْظَامِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ رَأَوْا إِفْرَاطًا فِي كَسْرِهَا وَتَمَادِيًا فِي الِاسْتِهَانَةِ بِهَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ: ارْتَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى مَعْنًى يُقَالُ هُوَ إِبْرَاهِيمُ. وَالثَّانِي: عَلَى النِّدَاءِ عَلَى مَعْنًى يُقَالُ لَهُ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ فَاعِلُ يُقَالُ لِأَنَّ الْمُرَادَ الِاسْمُ دُونَ الْمُسَمَّى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَائِلِينَ جَمَاعَةٌ لَا وَاحِدٌ، فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ قَدْ عَرَفُوا مِنْهُ وَسَمِعُوا مَا يَقُولُهُ فِي آلِهَتِهِمْ فَغَلَبَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَنَّهُ الْفَاعِلُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا قَوْلُهُ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ إلى غير ذلك لكفى. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 61 الى 67] قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا يَا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) اعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا شَاهَدُوا كَسْرَ الْأَصْنَامِ، وَقِيلَ إِنَّ فَاعِلَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ فِي مَحَلِّ الْحَالِ أَيْ فَأْتُوا بِهِ مُشَاهَدًا أَيْ بِمَرْأًى مِنْهُمْ وَمَنْظَرٍ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ فِي عَلَى؟ قُلْتُ: هُوَ وَارِدٌ عَلَى طَرِيقِ الْمَثَلِ أَيْ يثبت إتيانه فِي الْأَعْيُنِ ثَبَاتَ الرَّاكِبِ عَلَى الْمَرْكُوبِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يَأْخُذُوهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ فَأَرَادُوا أَنْ يَجِيئُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ بِمَا قَالَهُ فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ بِمَا فَعَلَ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَعَطَاءٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ. وَثَانِيهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَيْ يَحْضُرُونَ فَيُبْصِرُونَ مَا يُصْنَعُ بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ زَاجِرًا لَهُمْ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى مِثْلِ فِعْلِهِ، وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ مَجْمُوعُ الْوَجْهَيْنِ فَيَشْهَدُونَ عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ وَيَشْهَدُونَ عِقَابَهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا، وَهُوَ: فَأَتَوْا بِهِ وَقَالُوا أَأَنْتَ/ فَعَلْتَ، طَلَبُوا مِنْهُ الِاعْتِرَافَ بِذَلِكَ لِيُقْدِمُوا عَلَى إِيذَائِهِ، فَظَهَرَ مِنْهُ مَا انْقَلَبَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَمَنَّوُا الْخَلَاصَ مِنْهُ، فَقَالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا وَقَدْ عَلَّقَ الْفَأْسَ عَلَى رَقَبَتِهِ لِكَيْ يُورِدَ هَذَا الْقَوْلَ فَيَظْهَرَ جَهْلُهُمْ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: بَلْ فَعَلُهُ كَبِيرُهُمْ كَذِبٌ. وَالْجَوَابُ لِلنَّاسِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَذِبٍ، وَذَكَرُوا فِي الِاعْتِذَارِ عَنْهُ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّ قَصْدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ إِلَى أَنْ يَنْسُبَ الْفِعْلَ

الصادر عنه إلى الصنم، وإنما قَصَدَ تَقْرِيرَهُ لِنَفْسِهِ وَإِثْبَاتَهُ لَهَا عَلَى أُسْلُوبٍ تَعْرِيضِيٍّ يُبَلِّغُ فِيهِ غَرَضَهُ مِنْ إِلْزَامِهِمُ الْحُجَّةَ وَتَبْكِيتِهِمْ، وَهَذَا كَمَا لَوْ قَالَ لَكَ صَاحِبُكَ، وَقَدْ كَتَبْتَ كِتَابًا بِخَطٍّ رَشِيقٍ، وَأَنْتَ شَهِيرٌ بِحُسْنِ الْخَطِّ، أَأَنْتَ كَتَبْتَ هَذَا؟ وَصَاحِبُكَ أُمِّيٌّ لَا يُحْسِنُ الْخَطَّ وَلَا يَقْدِرُ إِلَّا عَلَى خَرْمَشَةٍ فَاسِدَةٍ، فَقُلْتَ لَهُ: بَلْ كَتَبْتَهُ أَنْتَ، كَأَنَّ قَصْدَكَ بِهَذَا الْجَوَابِ تَقْرِيرُ ذَلِكَ مَعَ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ لَا نَفْيُهُ عَنْكَ وَإِثْبَاتُهُ لِلْأُمِّيِّ أَوِ الْمُخَرْمِشِ، لِأَنَّ إِثْبَاتَهُ وَالْأَمْرُ دَائِرٌ بَيْنَهُمَا لِلْعَاجِزِ مِنْهُمَا اسْتِهْزَاءٌ بِهِ وَإِثْبَاتٌ لِلْقَادِرِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَاظَتْهُ تِلْكَ الْأَصْنَامُ حين أبصرها مصطفة مزبنة. وَكَانَ غَيْظُهُ مِنْ كَبِيرِهَا أَشَدَّ لِمَا رَأَى مِنْ زِيَادَةِ تَعْظِيمِهِمْ لَهُ فَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ فِي اسْتِهَانَتِهِ بِهَا وَحَطْمِهِ لها، والفعل كما يسند إلى مباشره يسد إِلَى الْحَامِلِ عَلَيْهِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِمَا يَلْزَمُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: مَا تُنْكِرُونَ أَنْ يَفْعَلَهُ كَبِيرُهُمْ، فَإِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ يُعْبَدُ وَيُدْعَى إِلَهًا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى هَذَا وَأَشَدَّ مِنْهُ. وَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ ذَكَرَهَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» . وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، أَيْ فَعَلَهُ مَنْ فَعَلَهُ وَكَبِيرُهُمْ هَذَا ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ وَيُرْوَى عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقِفُ عِنْدَ قَوْلِهِ بَلْ فَعَلَهُ ثُمَّ يَبْتَدِئُ كَبِيرُهُمْ هَذَا. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ وَقْفٌ عِنْدَ قَوْلِهِ كَبِيرُهُمْ ثُمَّ يَبْتَدِئُ فَيَقُولُ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ، وَالْمَعْنَى بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ وَعَنَى نَفْسَهُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ صَنَمٍ. وَسَادِسُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ كَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَاسْأَلُوهُمْ فَتَكُونُ إِضَافَةُ الْفِعْلِ إِلَى كَبِيرِهِمْ مَشْرُوطًا بِكَوْنِهِمْ نَاطِقِينَ فَلَمَّا لَمْ يَكُونُوا نَاطِقِينَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونُوا فَاعِلِينَ. وَسَابِعُهَا: قَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْفَعِ فَعَلَّهُ كَبِيرُهُمْ أَيْ فَلَعَلَّ الْفَاعِلَ كَبِيرُهُمْ. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحِكَايَاتِ، أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ كُلَّهَا فِي ذَاتِ اللَّه تعالى، قوله: إِنِّي سَقِيمٌ وَقَوْلُهُ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا وَقَوْلُهُ لِسَارَّةَ هِيَ أُخْتِي» وَفِي خَبَرٍ آخَرَ: «أَنَّ أَهْلَ الْمَوْقِفِ إِذَا سَأَلُوا إِبْرَاهِيمَ الشَّفَاعَةَ قَالَ: إِنِّي كَذَبْتُ ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ» ثُمَّ قَرَّرُوا قَوْلَهُمْ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَقَالُوا: الْكَذِبُ لَيْسَ قَبِيحًا لِذَاتِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا هَرَبَ مِنْ ظَالِمٍ وَاخْتَفَى فِي دَارِ إِنْسَانٍ، وَجَاءَ الظَّالِمُ وَسَأَلَ عَنْ حَالِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْكَذِبُ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَيُّ بُعْدٍ فِي أَنْ يَأْذَنَ اللَّه تَعَالَى فِي ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا هُوَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَرْغُوبٌ عَنْهُ. أَمَّا الْخَبَرُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي رَوَوْهُ فَلَأَنْ يُضَافَ الْكَذِبُ إِلَى رُوَاتِهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُضَافَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكْذِبُوا لِمَصْلَحَةٍ وَيَأْذَنَ اللَّه تَعَالَى فِيهِ، فَلْنُجَوِّزْ هَذَا/ الِاحْتِمَالَ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرُوا عَنْهُ، وَفِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ وَذَلِكَ يُبْطِلُ الْوُثُوقَ بِالشَّرَائِعِ وَتَطَّرَّقُ التُّهْمَةُ إِلَى كُلِّهَا، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْخَبَرَ لَوْ صَحَّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعَارِيضِ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ» . فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي سَقِيمٌ فَلَعَلَّهُ كَانَ بِهِ سَقَمٌ قَلِيلٌ وَاسْتِقْصَاءُ الْكَلَامِ فِيهِ يَجِيءُ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ فَقَطْ ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْهُ. أَمَّا قَوْلُهُ لِسَارَّةَ: إِنَّهَا أُخْتِي، فَالْمُرَادُ أَنَّهَا أُخْتُهُ فِي الدِّينِ، وَإِذَا أَمْكَنَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ نِسْبَةِ الْكَذِبِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَحِينَئِذٍ لَا يَحْكُمُ بِنِسْبَةِ الْكَذِبِ إِلَيْهِمْ إِلَّا زِنْدِيقٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا نَبَّهَهُمْ بِمَا أَوْرَدَهُ عَلَيْهِمْ عَلَى قُبْحِ طَرِيقِهِمْ تَنَبَّهُوا فَعَلِمُوا أَنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ بَاطِلَةٌ، وَأَنَّهُمْ عَلَى غُرُورٍ وَجَهْلٍ فِي ذَلِكَ. وَالثَّانِي: قَالَ مُقَاتِلٌ: فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَلَامُوهَا وَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ لِإِبْرَاهِيمَ حَيْثُ

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 68 إلى 71]

تَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَسَرَهَا مَعَ أَنَّ الْفَأْسَ بَيْنَ يَدَيِ الصَّنَمِ الْكَبِيرِ. وَثَالِثُهَا: الْمَعْنَى أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِكُمْ حَيْثُ سَأَلْتُمْ مِنْهُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى أَخَذَ يَسْتَهْزِئُ بِكُمْ فِي الْجَوَابِ، وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوَّلُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : نَكَسَهُ قَلَبَهُ فَجَعَلَ أَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمَعْنَى وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ اسْتَقَامُوا حِينَ رَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَتَوْا بِالْفِكْرَةِ الصَّالِحَةِ، ثُمَّ انْتَكَسُوا فَقُلِبُوا عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ، فَأَخَذُوا [فِي] الْمُجَادَلَةِ بِالْبَاطِلِ وَأَنَّ هَؤُلَاءِ مَعَ تَقَاصُرِ حَالِهَا عَنْ حَالِ الْحَيَوَانِ الناطق آلهة معبودة. وثانيها: قلبوا على رؤوسهم حَقِيقَةً لِفَرْطِ إِطْرَاقِهِمْ خَجَلًا وَانْكِسَارًا وَانْخِذَالًا مِمَّا بَهَتَهُمْ بِهِ إِبْرَاهِيمُ فَمَا أَحَارُوا جَوَابًا إِلَّا مَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ جرير ثم نكسوا على رؤوسهم فِي الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لِإِبْرَاهِيمَ حِينَ جَادَلَهُمْ. أَيْ قُلِبُوا فِي الْحُجَّةِ وَاحْتَجُّوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ بِمَا هُوَ الْحُجَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فَأَقَرُّوا بِهَذِهِ لِلْحَيْرَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ، قَالَ وَالْمَعْنَى نُكِسَتْ حُجَّتُهُمْ فَأُقِيمَ الْخَبَرُ عَنْهُمْ مَقَامَ الْخَبَرِ عَنْ حُجَّتِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ نُكِّسُوا بِالتَّشْدِيدِ وَنُكِسُوا عَلَى لَفْظِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَيْ نَكَّسُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى رؤوسهم وَهِيَ قِرَاءَةُ رِضْوَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَعْبُودِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ فَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أُفٍّ صَوْتٌ إِذَا صُوِّتَ بِهِ عُلِمَ أَنَّ صَاحِبَهُ مُتَضَجِّرٌ، وَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَضْجَرَهُ مَا رَأَى مِنْ ثَبَاتِهِمْ عَلَى عِبَادَتِهَا بَعْدَ انْقِطَاعِ عُذْرِهِمْ، وَبَعْدَ وُضُوحِ الْحَقِّ وَزُهُوقِ الْبَاطِلِ، فَتَأَفَّفَ بِهِمْ. ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ وَقَدْ عَرَفُوا صِحَّةَ قَوْلِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ وَقَدْ ظَهَرَتِ الْحُجَّةُ وَإِنْ لَمْ يَعْقِلُوا. وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ لِقَوْلِهِ: / أَفَتَعْبُدُونَ وَلِقَوْلِهِ: أَفَلا تَعْقِلُونَ. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 68 الى 71] قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مَا أَظْهَرَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ التَّمَاثِيلِ أَتْبَعَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِمْ، وَأَنَّهُمْ: قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَنِ الْقَائِلُ لِذَلِكَ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ نُمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ بْنِ سَنْجَارِيبَ بْنِ نُمْرُوذَ بْنِ كُوشِ بْنِ حَامِ بْنِ نُوحٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إِنَّمَا أَشَارَ بِتَحْرِيقِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجُلٌ مِنَ الْكُرْدِ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسَ، وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ وَهْبٍ عَنْ شُعَيْبٍ الْجُبَّائِيِّ قَالَ: إِنَّ الَّذِي قَالَ حَرِّقُوهُ رَجُلٌ اسْمُهُ هِيرِينُ، فَخَسَفَ اللَّه تَعَالَى بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا كَيْفِيَّةُ الْقِصَّةِ فَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا اجْتَمَعَ نُمْرُوذُ وَقَوْمُهُ لِإِحْرَاقِ إِبْرَاهِيمَ حَبَسُوهُ فِي بَيْتٍ

وَبَنَوْا بُنْيَانًا كَالْحَظِيرَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصَّافَّاتِ: 97] ثُمَّ جَمَعُوا لَهُ الْحَطَبَ الْكَثِيرَ حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ مَرِضَتْ قَالَتْ: إِنْ عَافَانِي اللَّه لَأَجْعَلَنَّ حَطَبًا لِإِبْرَاهِيمَ، وَنَقَلُوا لَهُ الْحَطَبَ عَلَى الدَّوَابِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا اشْتَعَلَتِ النَّارُ اشْتَدَّتْ وَصَارَ الْهَوَاءُ بِحَيْثُ لَوْ مَرَّ الطَّيْرُ فِي أَقْصَى الْهَوَاءِ لَاحْتَرَقَ، ثُمَّ أَخَذُوا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَفَعُوهُ عَلَى رَأْسِ الْبُنْيَانِ وَقَيَّدُوهُ، ثُمَّ اتَّخَذُوا مَنْجَنِيقًا وَوَضَعُوهُ فِيهِ مُقَيَّدًا مَغْلُولًا، فَصَاحَتِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ صَيْحَةً وَاحِدَةً، أَيْ رَبَّنَا لَيْسَ فِي أَرْضِكَ أَحَدٌ يَعْبُدُكَ غَيْرُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنَّهُ يُحَرَّقُ فِيكَ فَأْذَنْ لَنَا فِي نُصْرَتِهِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: إِنِ اسْتَغَاثَ بِأَحَدٍ مِنْكُمْ فَأَغِيثُوهُ، وَإِنْ لَمْ يَدْعُ غَيْرِي فَأَنَا أَعْلَمُ بِهِ وَأَنَا وَلِيُّهُ، فَخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَلَمَّا أَرَادُوا إِلْقَاءَهُ فِي النَّارِ، أَتَاهُ خَازِنُ الرِّيَاحِ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ طَيَّرْتُ النَّارَ فِي الْهَوَاءِ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا حَاجَةَ بِي إِلَيْكُمْ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْوَاحِدُ فِي السَّمَاءِ، وَأَنَا الْوَاحِدُ فِي الْأَرْضِ، لَيْسَ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ يَعْبُدُكَ غَيْرِي، أَنْتَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» وَقِيلَ إِنَّهُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، لَكَ الْحَمْدُ/ وَلَكَ الْمُلْكُ، لَا شَرِيكَ لَكَ» ثُمَّ وَضَعُوهُ فِي الْمَنْجَنِيقِ وَرَمَوْا بِهِ النَّارِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ هَلْ لَكَ حَاجَةٌ، قَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا؟ قَالَ: فَاسْأَلْ رَبَّكَ، قَالَ: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي. فَقَالَ اللَّه تَعَالَى: يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ: وَلَوْ لَمْ يُتْبِعْ بَرْدًا سَلَامًا لَمَاتَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بَرْدِهَا، قَالَ: وَلَمْ يَبْقَ يَوْمَئِذٍ فِي الدُّنْيَا نَارٌ إِلَّا طُفِئَتْ، ثُمَّ قَالَ السُّدِّيُّ: فَأَخَذَتِ الْمَلَائِكَةُ بِضَبْعَيْ إِبْرَاهِيمَ وَأَقْعَدُوهُ فِي الْأَرْضِ، فَإِذَا عَيْنُ مَاءٍ عَذْبٍ، وَوَرْدٌ أَحْمَرُ، وَنَرْجِسُ. وَلَمْ تُحْرِقِ النَّارُ مِنْهُ إِلَّا وِثَاقَهُ، وَقَالَ الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو أُخْبِرْتُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أُلْقِيَ فِي النَّارِ كَانَ فِيهَا إِمَّا أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ خَمْسِينَ يَوْمًا، وَقَالَ: مَا كُنْتُ أَيَّامًا أَطْيَبَ عَيْشًا مِنِّي إِذْ كُنْتُ فِيهَا، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: بَعَثَ اللَّه مَلَكَ الظِّلِّ فِي صُورَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَعَدَ إِلَى جَنْبِ إِبْرَاهِيمَ يُؤْنِسُهُ، وَأَتَاهُ جِبْرِيلُ بِقَمِيصٍ مِنْ حَرِيرِ الْجَنَّةِ، وَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقُولُ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّارَ لَا تَضُرُّ أَحْبَابِي، ثُمَّ نَظَرَ نُمْرُوذُ مِنْ صَرْحٍ لَهُ وَأَشْرَفَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ فَرَآهُ جَالِسًا فِي رَوْضَةٍ، وَرَأَى الْمَلَكَ قَاعِدًا إِلَى جَنْبِهِ وَمَا حَوْلَهُ نَارٌ تُحْرِقُ الْحَطَبَ، فَنَادَاهُ نُمْرُوذُ: يَا إِبْرَاهِيمُ هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُمْ فَاخْرُجْ، فَقَامَ يَمْشِي حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ لَهُ نُمْرُوذُ: مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي رَأَيْتُهُ مَعَكَ فِي صُورَتِكَ؟ قَالَ: ذَاكَ مَلَكُ الظِّلِّ أَرْسَلَهُ رَبِّي لِيُؤْنِسَنِي فِيهَا. فَقَالَ نُمْرُوذُ: إِنِّي مُقَرِّبٌ إِلَى رَبِّكَ قُرْبَانًا لِمَا رَأَيْتُ مِنْ قُدْرَتِهِ وَعِزَّتِهِ فِيمَا صَنَعَ بِكَ. فَإِنِّي ذَابِحٌ لَهُ أَرْبَعَةَ آلَافِ بَقَرَةٍ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا يَقْبَلُ اللَّه مِنْكَ مَا دُمْتَ عَلَى دِينِكَ، فَقَالَ نُمْرُوذُ: لَا أَسْتَطِيعُ تَرْكَ مُلْكِي، وَلَكِنْ سَوْفَ أَذْبَحُهَا لَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهَا لَهُ وَكَفَّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهِيَ أَنَّهُمْ بَنَوْا لِإِبْرَاهِيمَ بُنْيَانًا وَأَلْقَوْهُ فِيهِ، ثُمَّ أَوْقَدُوا عَلَيْهِ النَّارَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ أَطْبَقُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ فَتَحُوا عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ، فَإِذَا هُوَ غَيْرُ مُحْتَرِقٍ يَعْرَقُ عَرَقًا، فَقَالَ لَهُمْ هَارَانُ أَبُو لُوطٍ: إِنَّ النَّارَ لَا تُحْرِقُهُ لِأَنَّهُ سَحَرَ النَّارَ، وَلَكِنِ اجْعَلُوهُ عَلَى شَيْءٍ وَأَوْقِدُوا تَحْتَهُ فَإِنَّ الدُّخَانَ يَقْتُلُهُ، فَجَعَلُوهُ فَوْقَ بِئْرٍ وَأَوْقَدُوا تَحْتَهُ، فَطَارَتْ شَرَارَةٌ فَوَقَعَتْ فِي لِحْيَةِ أَبِي لُوطٍ فَأَحْرَقَتْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا اخْتَارُوا الْمُعَاقَبَةَ بِالنَّارِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ الْعُقُوبَاتِ، وَلِهَذَا قِيلَ: إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَنْصُرُونَ آلِهَتَكُمْ نَصْرًا شَدِيدًا، فَاخْتَارُوا أَشَدَّ الْعُقُوبَاتِ وَهِيَ الْإِحْرَاقُ. أَمَّا قوله تعالى: قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي تفسير قوله تعالى: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً الْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ النَّارَ بَرْدًا وَسَلَامًا، لَا أَنَّ هُنَاكَ كَلَامًا كَقَوْلِهِ: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أَيْ يَكُونُهُ، وَقَدِ احْتُجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ النَّارَ جَمَادٌ فَلَا يَجُوزُ خِطَابُهُ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ وُجِدَ ذَلِكَ الْقَوْلُ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قول سدي: أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الْأَلْيَقُ الْأَقْرَبُ بِالظَّاهِرِ، وَقَوْلُهُ: النَّارُ جَمَادٌ فَلَا/ يَكُونُ فِي خِطَابِهَا فَائِدَةٌ، قُلْنَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ مَصْلَحَةً عَائِدَةً إِلَى الْمَلَائِكَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ النَّارَ كَيْفَ بَرَدَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَزَالَ عَنْهَا مَا فِيهَا مِنَ الْحَرِّ وَالْإِحْرَاقِ، وَأَبْقَى مَا فِيهَا مِنَ الْإِضَاءَةِ وَالْإِشْرَاقِ واللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ فِي جِسْمِ إِبْرَاهِيمَ كَيْفِيَّةً مَانِعَةً مِنْ وُصُولِ أَذَى النَّارِ إِلَيْهِ، كَمَا يَفْعَلُ بِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ فِي الْآخِرَةِ، وَكَمَا أَنَّهُ رَكَّبَ بِنْيَةَ النَّعَامَةِ بِحَيْثُ لَا يَضُرُّهَا ابْتِلَاعُ الْحَدِيدَةِ الْمُحْمَاةِ وَبَدَنَ السَّمَنْدَلِ بِحَيْثُ لَا يَضُرُّهُ الْمُكْثُ فِي النَّارِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ حَائِلًا يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ أَثَرِ النَّارِ إِلَيْهِ، قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لأن ظاهر قوله: يا نارُ كُونِي بَرْداً أَنَّ نَفْسَ النَّارِ صَارَتْ بَارِدَةً حَتَّى سَلِمَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ تَأْثِيرِهَا، لَا أَنَّ النَّارَ بَقِيَتْ كَمَا كَانَتْ، فَإِنْ قِيلَ: النَّارُ جِسْمٌ مَوْصُوفٌ بِالْحَرَارَةِ وَاللَّطَافَةِ، فَإِذَا كَانَتِ الْحَرَارَةُ جزء مِنْ مُسَمَّى النَّارِ امْتَنَعَ كَوْنُ النَّارِ بَارِدَةً، فَإِذَا وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنَ النَّارِ الْجِسْمُ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَجْزَاءِ مُسَمَّى النَّارِ وَذَلِكَ مَجَازٌ فَلِمَ كَانَ مَجَازُكُمْ أَوْلَى مِنَ الْمَجَازَيْنِ الْآخَرَيْنِ؟ قُلْنَا: الْمَجَازُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَبْقَى مَعَهُ حُصُولُ الْبَرْدِ وَفِي الْمَجَازَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْتُمُوهُمَا لَا يَبْقَى ذَلِكَ فَكَانَ مَجَازُنَا أَوْلَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ فَالْمَعْنَى أَنَّ الْبَرْدَ إِذَا أَفْرَطَ أَهْلَكَ كَالْحَرِّ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الِاعْتِدَالِ ثُمَّ فِي حُصُولِ الِاعْتِدَالِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُقَدِّرُ اللَّه تَعَالَى بَرْدَهَا بِالْمِقْدَارِ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ بَعْضَ النَّارِ صَارَ بَرْدًا وَبَقِيَ بَعْضُهَا عَلَى حَرَارَتِهِ فَتَعَادَلَ الْحَرُّ وَالْبَرْدُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ فِي جِسْمِهِ مَزِيدَ حَرٍّ فَسَلِمَ مِنْ ذَلِكَ الْبَرْدِ بَلْ قَدِ انْتَفَعَ بِهِ وَالْتَذَّ ثُمَّ هَاهُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أو كل النَّارِ زَالَتْ وَصَارَتْ بَرْدًا. الْجَوَابُ: أَنَّ النَّارَ هُوَ اسْمُ الْمَاهِيَّةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ هَذَا الْبَرْدُ فِي الْمَاهِيَّةِ وَيَلْزَمَ مِنْهُ عُمُومُهُ فِي كُلِّ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ، وَقِيلَ: بَلِ اخْتُصَّ بِتِلْكَ النَّارِ لِأَنَّ الْغَرَضَ إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِبَرْدِ تِلْكَ النَّارِ وَفِي النَّارِ مَنَافِعُ لِلْخَلْقِ فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُهَا، وَالْمُرَادُ خَلَاصُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا إِيصَالُ الضَّرَرِ إِلَى سَائِرِ الْخَلْقِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يَجُوزُ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ مِنْ أَنَّهُ سَلَامٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الْجَوَابُ الظَّاهِرُ كَمَا أَنَّهُ جَعَلَ النَّارَ بَرْدًا جَعَلَهَا سَلَامًا عَلَيْهِ حَتَّى يَخْلُصَ، فَالَّذِي قَالَهُ يَبْعُدُ وَفِيهِ تَشْتِيتُ الْكَلَامِ الْمُرَتَّبِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَفَيَجُوزُ مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقُلْ وَسَلَامًا لَأَتَى الْبَرْدُ عَلَيْهِ. وَالْجَوَابُ: ذَلِكَ بَعِيدٌ لِأَنَّ بَرْدَ النَّارِ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهَا وَإِنَّمَا حَصَلَ مِنْ جِهَةِ اللَّه تَعَالَى فَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: كَانَ الْبَرْدُ يَعْظُمُ لَوْلَا قَوْلُهُ سَلَامًا.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 72 إلى 73]

السُّؤَالُ الرَّابِعُ: أَفَيَجُوزُ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ فِي النَّارِ أَنْعَمَ عَيْشًا مِنْهُ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ. وَالْجَوَابُ: لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَزِيدِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ وَكَمَالِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا صَارَ أَنْعَمَ/ عَيْشًا هُنَاكَ لِعِظَمِ مَا نَالَهُ مِنَ السُّرُورِ بِخَلَاصِهِ مِنْ ذلك الأمر العظيم ولعظم شروره بِظَفَرِهِ بِأَعْدَائِهِ وَبِمَا أَظْهَرُهُ مِنْ دِينِ اللَّه تَعَالَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ أَيْ أَرَادُوا أَنْ يَكِيدُوهُ فَمَا كَانُوا إِلَّا مَغْلُوبِينَ، غَالَبُوهُ بِالْجِدَالِ فَلَقَّنَهُ اللَّه تَعَالَى الْحُجَّةَ الْمُبَكِّتَةَ، ثُمَّ عَدَلُوا الْقُوَّةَ وَالْجَبَرُوتَ فَنَصَرَهُ وَقَوَّاهُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَتَمَّ النِّعْمَةَ عَلَيْهِ بِأَنْ نَجَّاهُ وَنَجَّى لُوطًا مَعَهُ وَهُوَ ابْنُ أَخِيهِ وَهُوَ لُوطُ بْنُ هَارَانَ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكَ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ. وَفِي الْأَخْبَارِ أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ كَانَتْ فِي حُدُودِ بَابِلَ فَنَجَّاهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ تِلْكَ الْبُقْعَةِ إِلَى الْأَرْضِ الْمُبَارَكَةِ، ثُمَّ قِيلَ: إِنَّهَا مَكَّةُ وَقِيلَ أَرْضُ الشَّامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ [الْإِسْرَاءِ: 1] وَالسَّبَبُ فِي بَرَكَتِهَا، أَمَّا فِي الدِّينِ فَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بُعِثُوا مِنْهَا وَانْتَشَرَتْ شَرَائِعُهُمْ وَآثَارُهُمُ الدِّينِيَّةُ فِيهَا، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلِأَنَّ اللَّه تَعَالَى بَارَكَ فِيهَا بِكَثْرَةِ الْمَاءِ وَالشَّجَرِ وَالثَّمَرِ وَالْخِصْبِ وَطِيبِ الْعَيْشِ، وَقِيلَ: مَا مِنْ مَاءٍ عَذْبٍ إِلَّا وَيَنْبُعُ أَصْلُهُ مِنْ تَحْتِ الصَّخْرَةِ التي ببيت المقدس. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 72 الى 73] وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِهِ لِإِنْعَامِهِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى لُوطٍ بِأَنْ نَجَّاهُمَا إِلَى الْأَرْضِ الْمُبَارَكَةِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ غَيْرِهِ مِنَ النِّعَمِ، وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ فِي كَوْنِ لُوطٍ مَعَهُ مَعَ مَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْقَرَابَةِ وَالشَّرِكَةِ فِي النُّبُوَّةِ مَزِيدَ إِنْعَامٍ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ النِّعَمَ الَّتِي أَفَاضَهَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ النِّعَمَ الَّتِي أَفَاضَهَا عَلَى لُوطٍ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَاعْلَمْ أَنَّ النَّافِلَةَ الْعَطِيَّةُ خَاصَّةً وَكَذَلِكَ النَّفْلُ وَيُسَمَّى الرَّجُلُ الْكَثِيرُ الْعَطَايَا نَوْفَلًا، ثُمَّ لِلْمُفَسِّرِينَ هَاهُنَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ هَاهُنَا مَصْدَرٌ مِنْ وَهَبْنَا لَهُ مَصْدَرٌ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَوَهَبْنا لَهُ هِبَةً أَيْ وَهَبْنَاهُمَا لَهُ عَطِيَّةً وَفَضْلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ جَزَاءً مُسْتَحَقًّا، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَأَلَ اللَّه وَلَدًا قَالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصَّافَّاتِ: 100] فَأَجَابَ اللَّه دُعَاءَهُ: وَوَهَبَ لَهُ إِسْحَاقَ وَأَعْطَاهُ يَعْقُوبَ مِنْ غَيْرِ دُعَائِهِ فَكَانَ ذَلِكَ: نافِلَةً كَالشَّيْءِ الْمُتَطَوَّعِ بِهِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق إجابة لدعائه: ووهبنا له يعقوب نَافِلَةً عَلَى مَا سَأَلَ كَالصَّلَاةِ النَّافِلَةِ الَّتِي هِيَ زِيَادَةٌ عَلَى الْفَرْضِ وَعَلَى هَذَا النَّافِلَةُ يَعْقُوبُ خَاصَّةً. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَقْرَبُ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَهُ: نافِلَةً فَإِذَا صَلُحَ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لَهُمَا فَهُوَ أَوْلَى. النِّعْمَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ أَيْ وَكُلًّا مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أَنْبِيَاءَ مُرْسَلِينَ، هَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَقَالَ آخَرُونَ عَامِلِينَ بِطَاعَةِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مُجْتَنِبِينَ مَحَارِمَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَقْرَبُ لِأَنَّ لَفْظَ الصَّلَاحِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 74 إلى 75]

الْخَيْراتِ فَلَوْ حَمَلْنَا الصَّلَاحَ عَلَى النُّبُوَّةِ لَزِمَ التَّكْرَارُ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ للَّه تَعَالَى لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الصَّلَاحَ مِنْ قِبَلِهِ، أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ صَالِحِينَ وَبِكَوْنِهِمْ أَئِمَّةً وَبِكَوْنِهِمْ عَابِدِينَ. وَلَمَا مَدَحَهُمْ بِذَلِكَ، وَلَمَا أَثْنَى عَلَيْهِمْ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ آتَاهُمْ مِنْ لُطْفِهِ وَتَوْفِيقِهِ مَا صَلُحُوا بِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ سَمَّاهُمْ بِذَلِكَ كَمَا يُقَالُ: زَيْدٌ فَسَّقَ فُلَانًا وَضَلَّلَهُ وَكَفَّرَهُ إِذَا وَصَفَهُ بِذَلِكَ وَكَانَ مُصَدَّقًا عِنْدَ النَّاسِ، وَكَمَا يُقَالُ فِي الْحَاكِمِ: زَكَّى فُلَانًا وَعَدَّلَهُ وَجَرَّحَهُ إِذَا حَكَمَ بِذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ مُخْتَلَّةٌ، أَمَّا اعْتِمَادُهُمْ عَلَى الْمَدْحِ وَالذَّمِّ. فَالْجَوَابُ الْمَعْهُودُ أَنْ نُعَارِضَهُ بِمَسْأَلَتَيِ الدَّاعِي وَالْعِلْمِ، وَأَمَّا الْحَمْلُ عَلَى اللُّطْفِ فَبَاطِلٌ لِأَنَّ فِعْلَ الْإِلْطَافِ عَامٌّ فِي الْمُكَلَّفِينَ فَلَا بُدَّ فِي هَذَا التَّخْصِيصِ مِنْ مَزِيدِ فَائِدَةٍ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: جَعَلْتُهُ صَالِحًا، كَقَوْلِهِ جَعَلْتُهُ مُتَحَرِّكًا، فَحَمْلُهُ عَلَى تَحْصِيلِ شَيْءٍ سِوَى الصَّلَاحِ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ، وَأَمَّا الْحَمْلُ عَلَى التَّسْمِيَةِ فَهُوَ أَيْضًا مَجَازٌ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ قَدْ يُصَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَهَاهُنَا لَا ضَرُورَةَ إِلَّا أَنْ يَرْجِعُوا مَرَّةً أُخْرَى إِلَى فَصْلِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، فَحِينَئِذٍ نَرْجِعُ أَيْضًا إِلَى مَسْأَلَتَيِ الدَّاعِي وَالْعِلْمِ. النِّعْمَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَيْ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى دِينِ اللَّه تَعَالَى وَالْخَيْرَاتِ بِأَمْرِنَا وَإِذْنِنَا. الثَّانِي: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّ هَذِهِ الْإِمَامَةَ هِيَ النُّبُوَّةُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى خَلْقِ الْأَفْعَالِ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً وَتَقْرِيرُهُ مَا مَضَى. وَالثَّانِي: عَلَى أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْحَقِّ وَالْمَنْعَ عَنِ الْبَاطِلِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى لِأَنَّ الْأَمْرَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا لَمَا كَانَ فِي قَوْلِهِ بِأَمْرِنَا فَائِدَةٌ. النِّعْمَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَصَّهُمْ بِشَرَفِ النُّبُوَّةِ وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ عَلَى الْأَبِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: حَذَفَ الْهَاءَ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ عِوَضٌ عَنْهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْإِقَامُ وَالْإِقَامَةُ مَصْدَرٌ، قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ: الصَّلَاةُ/ أَشْرَفُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَشُرِعَتْ لِذِكْرِ اللَّه تَعَالَى، وَالزَّكَاةُ أَشْرَفُ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَمَجْمُوعُهُمَا التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّه، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَهُمْ أَوَّلًا بِالصَّلَاحِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَرَاتِبِ السَّائِرِينَ إِلَى اللَّه تَعَالَى ثُمَّ تَرَقَّى فَوَصَفَهُمْ بِالْإِمَامَةِ. ثُمَّ تَرَقَّى فَوَصَفَهُمْ بِالنُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ. وَإِذَا كَانَ الصَّلَاحُ الَّذِي هُوَ الْعِصْمَةُ أَوَّلَ مَرَاتِبَ النُّبُوَّةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ فَإِنَّ الْمَحْرُومَ عَنْ أَوَّلِ الْمَرَاتِبِ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مَحْرُومًا عَنِ النِّهَايَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَمَا بَيَّنَ أَصْنَافَ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ بَيَّنَ بَعْدِ ذَلِكَ اشْتِغَالَهُمْ بِعُبُودِيَّتِهِ فَقَالَ: وَكانُوا لَنا عابِدِينَ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا وَفَى بِعَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ فِي الْإِحْسَانِ وَالْإِنْعَامِ فَهُمْ أَيْضًا وَفَوْا بِعَهْدِ الْعُبُودِيَّةِ وهو الاشتغال بالطاعة والعبادة. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 74 الى 75] وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) الْقِصَّةُ الثَّالِثَةُ، قِصَّةُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 76 إلى 77]

اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ بَيَانِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ نِعَمِهِ عَلَى لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا جَمَعَ بَيْنَهُمَا مِنْ قَبْلُ، وَهَاهُنَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: وَلُوطاً قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ [الأنبياء: 73] . وَالثَّانِي: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قوله: آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ [الأنبياء: 51] وَلَا بُدَّ مِنْ ضَمِيرٍ فِي قَوْلِهِ: وَلُوطاً فَكَأَنَّهُ قَالَ وَآتَيْنَا لُوطًا فَأَضْمَرَ ذِكْرَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي أَصْنَافِ النِّعَمِ وَهِيَ أَرْبَعَةُ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الْحُكْمُ أَيِ الْحِكْمَةُ وَهِيَ الَّتِي يَجِبُ فِعْلُهَا أَوِ الْفَصْلُ بَيْنَ الْخُصُومِ وَقِيلَ هِيَ النُّبُوَّةُ. وَثَانِيهَا: الْعِلْمُ، وَاعْلَمْ أَنَّ إِدْخَالَ التَّنْوِينِ عَلَيْهِمَا يَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ شَأْنِ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَذَلِكَ الْحُكْمِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ وَالْمُرَادُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الْخَبَائِثَ دُونَ نَفْسِ الْقَرْيَةِ وَلِأَنَّ الْهَلَاكَ بِهِمْ نَزَلَ فَنَجَّاهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ مَا أَرَادَهُ بِالْخَبَائِثِ، وَأَمْرِهِمْ فِيمَا كَانُوا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَفِي تَفْسِيرِ الرَّحْمَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ النُّبُوَّةُ أَيْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَالِحًا لِلنُّبُوَّةِ أَدْخَلَهُ اللَّه فِي رَحْمَتِهِ لِكَيْ يَقُومَ بِحَقِّهَا عَنْ مُقَاتِلٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ الثَّوَابُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا آتَاهُ اللَّه الْحُكْمَ وَالْعِلْمَ وَتَخَلَّصَ عَنْ جُلَسَاءِ السُّوءِ فُتِحَتْ عَلَيْهِ أَبْوَابُ الْمُكَاشَفَاتِ وَتَجَلَّتْ لَهُ أَنْوَارُ الْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ وَهِيَ الرَّحْمَةُ فِي الْحَقِيقَةِ. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 76 الى 77] وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) الْقِصَّةُ الرَّابِعَةُ، قِصَّةُ نُوحٍ عليه السلام أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا النِّدَاءِ دُعَاؤُهُ عَلَى قَوْمِهِ بِالْعَذَابِ وَيُؤَكِّدُهُ حِكَايَةُ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ ذَلِكَ تَارَةً عَلَى الْإِجْمَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [الْقَمَرِ: 10] وَتَارَةً عَلَى التَّفْصِيلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نُوحٍ: 26] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَجَابَهُ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَهَذَا الْجَوَابُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْجَاءَ الْمَذْكُورَ فِيهِ كَانَ هُوَ الْمَطْلُوبُ فِي السُّؤَالِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ نِدَاءَهُ وَدُعَاءَهُ كَانَ بِأَنْ يُنْجِيَهُ مِمَّا يَلْحِقُهُ مِنْ جِهَتِهِمْ مِنْ ضُرُوبِ الْأَذَى بِالتَّكْذِيبِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ وَبِأَنْ يَنْصُرَهُ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يُهْلِكَهُمْ. فَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ النِّدَاءَ كَانَ بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَكُونَ الصَّلَاحُ أَنْ لَا يُجَابَ إِلَيْهِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِنُقْصَانِ حَالِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِالْأَمْرِ لَكَانَ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي الْإِضْرَارِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا لَهُ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: لَمْ يَتَحَسَّرْ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّه تَعَالَى كَحَسْرَةِ آدَمَ وَنُوحٍ، فَحَسْرَةُ آدَمَ عَلَى قَبُولِ وَسُوسَةِ إِبْلِيسَ، وَحَسْرَةُ نُوحٍ عَلَى دُعَائِهِ عَلَى قَوْمِهِ. فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ أَنْ لَا تَتَحَسَّرَ فَإِنَّ دَعْوَتَكَ وَافَقَتْ قدري.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 78 إلى 82]

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ فَالْمُرَادُ بِالْأَهْلِ هَاهُنَا أَهْلُ دِينِهِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْكَرْبِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْعَذَابُ النَّازِلُ بِالْكُفَّارِ وَهُوَ الْغَرَقُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَكْذِيبُ قَوْمِهِ إِيَّاهُ وَمَا لَقِيَ مِنْهُمْ مِنَ الْأَذَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَهُوَ الْأَقْرَبُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ دَعَاهُمْ إِلَى اللَّه تَعَالَى مُدَّةً طَوِيلَةً وَكَانَ قَدْ يَنَالُ مِنْهُمْ كُلَّ مَكْرُوهٍ، وَكَانَ الْغَمُّ يَتَزَايَدُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَعِنْدَ إِعْلَامِ اللَّه تَعَالَى إِيَّاهُ أَنَّهُ يُغْرِقُهُمْ وَأَمَرَهُ بِاتِّخَاذِ الْفُلْكِ كَانَ أَيْضًا عَلَى غَمٍّ وَخَوْفٍ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَعْلَمْ مَنِ الَّذِي يَتَخَلَّصُ/ مِنَ الْغَرَقِ وَمَنِ الَّذِي يَغْرَقُ فَأَزَالَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ الْكَرْبَ الْعَظِيمَ بِأَنْ خَلَّصَهُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ وَخَلَّصَ جَمِيعَ مَنْ آمَنَ بِهِ مَعَهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ فَقِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَنَصَرْنَاهُ عَلَى الْقَوْمِ ثُمَّ قَالَ الْمُبَرِّدُ: تَقْدِيرُهُ وَنَصَرْنَاهُ مِنْ مَكْرُوهِ الْقَوْمِ، وَقَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ [غَافِرٍ: 29] أَيْ يَعْصِمُنَا مِنْ عَذَابِهِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مِنْ بِمَعْنَى عَلَى. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّهُ نَصَرَ الَّذِي مُطَاوِعُهُ انْتَصَرَ وَسَمِعْتُ هُذَلِيًّا يَدْعُو عَلَى سَارِقٍ: اللَّهُمَّ انْصُرْهُمْ مِنْهُ، أَيِ اجْعَلْهُمْ مُنْتَصِرِينَ مِنْهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ لِأَجْلِ رَدِّهِمْ عَلَيْهِ وَتَكْذِيبِهِمْ لَهُ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ، فَبَيَّنَ ذلك الوجه الذي به خلصه منهم. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 78 الى 82] وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) الْقِصَّةُ الْخَامِسَةُ، قِصَّةُ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السلام [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إلى قوله آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً] اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَزَكَرِيَّا وَذَا النُّونِ، كُلَّهُ نَسَقٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ [الأنبياء: 51] ومن قوله: وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء: 74] وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ نِعَمِ اللَّه تَعَالَى عَلَى دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ فَذَكَرَ أَوَّلًا النِّعْمَةَ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَخْتَصُّ بِهِ كُلَّ/ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ النِّعَمِ. أَمَّا النِّعْمَةُ الْمُشْتَرَكَةُ فَهِيَ الْقِصَّةُ الْمَذْكُورَةُ وَهِيَ قِصَّةُ الْحُكُومَةِ، وَوَجْهُ النِّعْمَةِ فِيهَا أَنَّ اللَّه تَعَالَى زَيَّنَهُمَا بِالْعِلْمِ. وَالْفَهْمِ فِي قَوْلِهِ: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً ثُمَّ فِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَفْضَلُ الْكَمَالَاتِ وَأَعْظَمُهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَهُ هَاهُنَا عَلَى سَائِرِ النِّعَمِ الْجَلِيلَةِ مِثْلَ تَسْخِيرِ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ وَالرِّيحِ وَالْجِنِّ. وَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ مُقَدَّمًا عَلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهَا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ النَّفْشُ أَنْ تَنْتَشِرَ الْغَنَمُ بِاللَّيْلِ تَرْعَى بِلَا رَاعٍ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ لَيْلًا ونهارا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْحَرْثَ هُوَ الزَّرْعُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْكَرْمُ وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِالْعُرْفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ: أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ. جَوَابُهُ: أَنَّ الْحُكْمَ كَمَا يُضَافُ إِلَى الْحَاكِمِ فَقَدْ يُضَافُ إِلَى الْمَحْكُومِ لَهُ، فَإِذَا أُضِيفَ الْحُكْمُ إِلَى الْمُتَحَاكِمِينَ كَانَ الْمَجْمُوعُ أَكْثَرَ مِنَ الِاثْنَيْنِ، وَقُرِئَ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمَا شَاهِدِينَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ الْقِصَّةِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: دَخَلَ رَجُلَانِ عَلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَحَدُهُمَا صَاحِبُ حَرْثٍ وَالْآخَرُ صَاحِبُ غَنَمٍ فَقَالَ صَاحِبُ الْحَرْثِ: إِنَّ غَنَمَ هَذَا دَخَلَتْ حَرْثِي وَمَا أَبْقَتْ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اذْهَبْ فَإِنَّ الْغَنَمَ لَكَ. فَخَرَجَا فَمَرَّا عَلَى سُلَيْمَانَ، فَقَالَ: كَيْفَ قَضَى بَيْنَكُمَا؟ فَأَخْبَرَاهُ: فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا الْقَاضِيَ لَقَضَيْتُ بِغَيْرِ هَذَا. فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَدَعَاهُ وَقَالَ: كَيْفَ كُنْتَ تَقْضِي بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: أَدْفَعُ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِ الْحَرْثِ فَيَكُونُ لَهُ مَنَافِعُهَا مِنَ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالْوَبَرِ حَتَّى إِذَا كَانَ الْحَرْثُ مِنَ الْعَامِ الْمُسْتَقْبَلِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ أُكِلَ دَفَعْتُ الْغَنَمَ إِلَى أَهْلِهَا وَقَبَضَ صَاحِبُ الْحَرْثِ حَرْثَهُ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَشُرَيْحٌ وَمُقَاتِلٌ رَحِمَهُمُ اللَّه: أَنَّ رَاعِيًا نَزَلَ ذَاتَ لَيْلَةٍ بِجَنْبِ كَرْمٍ، فَدَخَلَتِ الْأَغْنَامُ الْكَرْمَ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ فَأَكَلَتِ الْقُضْبَانَ وَأَفْسَدَتِ الْكَرْمَ، فَذَهَبَ صَاحِبُ الْكَرْمِ مِنَ الْغَدِ إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَضَى لَهُ بِالْغَنَمِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ ثَمَنِ الْكَرْمِ وَثَمَنِ الْغَنَمِ تَفَاوَتٌ، فَخَرَجُوا وَمَرُّوا بِسُلَيْمَانَ فَقَالَ لَهُمْ: كَيْفَ قَضَى بَيْنَكُمَا؟ فَأَخْبَرَاهُ بِهِ، فَقَالَ غَيْرُ هَذَا أَرْفَقُ بِالْفَرِيقَيْنِ، فَأُخْبِرَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ فَدَعَا سُلَيْمَانَ وَقَالَ لَهُ: بِحَقِّ الْأُبُوَّةِ وَالنُّبُوَّةِ إِلَّا أَخْبَرْتَنِي بِالَّذِي هُوَ أَرْفَقُ بِالْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ: تُسَلِّمُ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِ الْكَرْمِ حَتَّى يَرْتَفِقَ بِمَنَافِعِهَا وَيَعْمَلُ الرَّاعِي فِي إِصْلَاحِ الْكَرْمِ حَتَّى يَصِيرَ كَمَا كَانَ، ثُمَّ تَرُدُّ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِهَا، فَقَالَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّمَا الْقَضَاءُ مَا قَضَيْتَ وَحَكَمَ بِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: حَكَمَ سُلَيْمَانُ بِذَلِكَ وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَهَاهُنَا أُمُورٌ وَلَا بُدَّ مِنَ الْبَحْثِ عَنْهَا. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هَلْ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمَا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ اخْتَلَفَا فِي الْحُكْمِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الْأَصَمَّ قَالَ: إِنَّهُمَا لَمْ يَخْتَلِفَا الْبَتَّةَ، وَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لَهُمَا الْحُكْمَ لَكِنَّهُ بَيَّنَهُ عَلَى لِسَانِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الْجَوَابُ: الصَّوَابُ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا وَالدَّلِيلُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ عَلَى/ مَا رَوَيْنَاهُ، وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ ثُمَّ قَالَ: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحُكْمُ سَابِقًا عَلَى هَذَا التَّفْهِيمِ، وَذَلِكَ الْحُكْمُ السَّابِقُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: اتَّفَقَا فِيهِ أَوِ اخْتَلَفَا فِيهِ، فَإِنِ اتَّفَقَا فِيهِ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ فَائِدَةٌ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِيهِ فَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: سَلَّمْنَا أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْحُكْمِ وَلَكِنْ هَلْ كَانَ الْحُكْمَانِ صَادِرَيْنِ عَنِ النَّصِّ أَوْ عَنِ الِاجْتِهَادِ. الْجَوَابُ: الْأَمْرَانِ جَائِزَانِ عِنْدَنَا وَزَعَمَ الْجُبَّائِيُّ أَنَّهُمَا كَانَا صَادِرَيْنِ عَنِ النَّصِّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَارَةً يَبْنِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ غَيْرُ جَائِزٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأُخْرَى عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا مِنْهُمْ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. أَمَّا الْمَأْخَذُ الْأَوَّلُ: فَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى بِالْمَحْصُولِ فِي الْأُصُولِ وَلْنَذْكُرْ هَاهُنَا أُصُولَ الْكَلَامِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ غَيْرُ جَائِزٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا:

قوله تعالى: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [يُونُسَ: 15] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النَّجْمِ: 3] . وَثَانِيهَا: أَنَّ الِاجْتِهَادَ طَرِيقُهُ الظَّنُّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِدْرَاكِهِ يَقِينًا فَلَا يَجُوزُ مَصِيرُهُ إِلَى الظَّنِّ كَالْمُعَايِنِ لِلْقِبْلَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ. ثَالِثُهَا: أَنَّ مُخَالَفَةَ الرَّسُولِ تُوجِبُ الْكُفْرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النِّسَاءِ: 65] وَمُخَالَفَةُ الْمَظْنُونِ وَالْمُجْتَهَدَاتِ لَا تُوجِبُ الْكُفْرَ. وَرَابِعُهَا: لَوْ جَازَ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْأَحْكَامِ لَكَانَ لَا يَقِفُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَمَّا وَقَفَ فِي مَسْأَلَةِ الظِّهَارِ وَاللِّعَانِ إِلَى وُرُودِ الْوَحْيِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الِاجْتِهَادَ إِنَّمَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ عِنْدَ فَقْدِ النَّصِّ، لَكِنَّ فِقْدَانَ النَّصِّ فِي حَقِّ الرَّسُولِ كَالْمُمْتَنِعِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الِاجْتِهَادُ مِنْهُ. وَسَادِسُهَا: لَوْ جَازَ الِاجْتِهَادُ مِنَ الرَّسُولِ لَجَازَ أَيْضًا مِنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحِينَئِذٍ لَا يَحْصُلُ الْأَمَانُ بِأَنَّ هَذِهِ الشَّرَائِعَ الَّتِي جَاءَ بِهَا أَهِيَ مِنْ نُصُوصِ اللَّه تَعَالَى أَوْ مِنَ اجْتِهَادِ جِبْرِيلَ؟ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ لَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِكُمْ لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي إِبْدَالِ آيَةٍ بِآيَةٍ لِأَنَّهُ عَقِيبَ قَوْلِهِ: قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يُونُسَ: 15] وَلَا مَدْخَلَ لِلِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى فَبَعِيدٌ لِأَنَّ مَنْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ يَقُولُ إِنَّ الَّذِي أَجْتَهِدُ فِيهِ هُوَ عَنْ وَحْيٍ عَلَى الْجُمْلَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَإِنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي الْأَدَاءِ عَنِ اللَّه تَعَالَى لَا فِي حُكْمِهِ الَّذِي يَكُونُ بِالْعَقْلِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ اللَّه تَعَالَى إِذَا قَالَ لَهُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّكَ كَوْنُ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا فِي الْأَصْلِ بِكَذَا، ثُمَّ غَلَبَ عَلَى ظَنِّكَ قِيَامُ ذَلِكَ المعنى في صورة أخرى فاحكم بذلك فههنا الْحُكْمُ مَقْطُوعٌ بِهِ وَالظَّنُّ غَيْرُ وَاقِعٍ فِيهِ بَلْ فِي طَرِيقِهِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُخَالَفَةَ الْمُجْتَهَدَاتِ جَائِزَةٌ مُطْلَقًا بَلْ جَوَازُ مُخَالَفَتِهَا مَشْرُوطٌ بِصُدُورِهَا عَنْ غَيْرِ الْمَعْصُومِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ يُجْمِعُوا اجْتِهَادًا ثُمَّ يَمْتَنِعُ مُخَالَفَتُهُمْ وَحَالُ الرسول أؤكد. وَالْجَوَابُ عَنِ الرَّابِعِ: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي بَعْضِ الْأَنْوَاعِ أَوْ كَانَ مَأْذُونًا مُطْلَقًا لَكِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ وَجْهُ الِاجْتِهَادِ، فَلَا جَرَمَ/ أَنَّهُ تَوَقَّفَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْخَامِسِ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْبَسَ النَّصُّ عَنْهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ شَرْطُ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ. وَالْجَوَابُ عَنِ السَّادِسِ: أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ مَدْفُوعٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى خِلَافِهِ فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ شُبَهِ الْمُنْكِرِينَ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ عَلَيْهِمْ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ مُعَلَّلٌ بِمَعْنًى ثُمَّ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ قِيَامَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي صُورَةٍ أُخْرَى فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ حُكْمَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مِثْلُ مَا فِي الْأَصْلِ، وَعِنْدَهُ مُقَدِّمَةٌ يَقِينِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ مُخَالَفَةَ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ فَيَتَوَلَّدُ مِنْ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ ظَنُّ اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ لِمُخَالَفَةِ هَذَا الْحُكْمِ الْمَظْنُونِ. وَعِنْدَ هَذَا، إِمَّا أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ مَعًا وَهُوَ مُحَالٌ لِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. أَوْ يَتْرُكُهُمَا وَهُوَ مُحَالٌ لِاسْتِحَالَةِ الْخُلُوِّ عَنِ النَّقِيضَيْنِ، أَوْ يُرَجِّحُ الْمَرْجُوحَ عَلَى الرَّاجِحِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ، أَوْ يُرَجِّحُ الرَّاجِحَ عَلَى الْمَرْجُوحِ وَذَلِكَ هُوَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ. وَهَذِهِ النُّكْتَةُ هِيَ الَّتِي عَلَيْهَا التَّعْوِيلُ فِي الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ وَهِيَ قَائِمَةٌ أَيْضًا فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَهَذَا يَتَوَجَّهُ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ مِنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وثانيها: قوله تعالى: فَاعْتَبِرُوا أَمْرٌ لِلْكُلِّ بِالِاعْتِبَارِ فَوَجَبَ انْدِرَاجُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ لِأَنَّهُ إِمَامُ الْمُعْتَبِرِينَ وَأَفْضَلُهُمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الِاسْتِنْبَاطَ أَرْفَعُ دَرَجَاتِ الْعُلَمَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلرَّسُولِ فِيهِ مَدْخَلٌ وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْمُجْتَهِدِينَ أَفْضَلَ مِنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ. فَإِنْ قِيلَ هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ لَمْ تَكُنْ دَرَجَةٌ أَعْلَى مِنَ الِاعْتِبَارِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَدْرِكُ الْأَحْكَامَ وَحْيًا عَلَى سَبِيلِ الْيَقِينِ، فَكَانَ

أَرْفَعَ دَرَجَةً مِنَ الِاجْتِهَادِ الَّذِي لَيْسَ قُصَارَاهُ إِلَّا الظَّنَّ. قُلْنَا: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَجِدَ النَّصَّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، فَلَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الِاجْتِهَادِ لَكَانَ أَقَلَّ دَرَجَةً مِنَ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْرِفَ ذَلِكَ الْحُكْمَ مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَأَيْضًا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِالِاجْتِهَادِ كَانَ ذَلِكَ مُفِيدًا لِلْقَطْعِ بِالْحُكْمِ. وَرَابِعُهَا: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ لِلْأَنْبِيَاءِ دَرَجَةُ الِاجْتِهَادِ لِيَرِثَ الْعُلَمَاءُ عَنْهُمْ ذَلِكَ. هَذَا تَمَامُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: 43] فَذَاكَ الْإِذْنُ إِنْ كَانَ بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى اسْتَحَالَ أَنْ يَقُولَ: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ، وَإِنْ كَانَ بِهَوَى النَّفْسِ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِنْ كَانَ بِالِاجْتِهَادِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الْمَأْخَذُ الثَّانِي: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: لَوْ جَوَّزْنَا الِاجْتِهَادَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَجِبُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الَّذِي وَصَلَ إِلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ مِنْ دَرِّ الْمَاشِيَةِ وَمِنْ مَنَافِعِهَا مَجْهُولُ الْمِقْدَارِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ فِي الِاجْتِهَادِ جَعْلُ أَحَدِهِمَا عِوَضًا عَنِ الْآخَرِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ اجْتِهَادَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْ كَانَ صَوَابًا لَزِمَ أَنْ لَا يُنْقَضَ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا ينتقض بِالِاجْتِهَادِ. وَإِنْ كَانَ خَطَأً وَجَبَ أَنْ يُبَيِّنَ اللَّه تَعَالَى تَوْبَتَهُ كَسَائِرِ مَا حَكَاهُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَلَمَّا مَدَحَهُمَا بِقَوْلِهِ: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعِ الْخَطَأُ مِنْ دَاوُدَ. وَثَالِثُهَا: لَوْ حَكَمَ بِالِاجْتِهَادِ لَكَانَ الْحَاصِلُ هُنَاكَ ظَنًّا لَا عِلْمًا لَأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً. وَرَابِعُهَا: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ/ عَنِ اجتهاد من مَعَ قَوْلِهِ: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْقَدْرِ لَا تَمْنَعُ مِنَ الِاجْتِهَادِ كَالْجَعَالَاتِ وَحُكْمِ الْمُصَرَّاةِ. وَعَنِ الثَّانِي: لَعَلَّهُ كَانَ خَطَأً مِنْ بَابِ الصَّغَائِرِ. وَعَنِ الثَّالِثِ: بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْقِيَاسِ فَالظَّنُّ وَاقِعٌ فِي طَرِيقِ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فَأَمَّا الْحُكْمُ فَمَقْطُوعٌ بِهِ. وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّهُ إِذَا تَأَمَّلَ وَاجْتَهَدَ فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى مَا ذَكَرْنَا كَانَ اللَّه تَعَالَى فَهَّمَهُ مِنْ حَيْثُ بَيَّنَ لَهُ طَرِيقَ ذلك. فهذا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ الِاجْتِهَادِ. وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِيهِ بِسَبَبِ النَّصِّ فَطَرِيقُهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَأْمُورًا مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْحُكْمِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ نَسَخَ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ إِلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاصَّةً وَأَمَرَهُ أَنْ يُعَرِّفَ دَاوُدَ ذَلِكَ فَصَارَ ذَلِكَ الْحُكْمُ حُكْمَهُمَا جَمِيعًا فَقَوْلُهُ: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ أَيْ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى الْحُكْمَ الْأَوَّلَ عَلَى دَاوُدَ وَجَبَ أَنْ يَنْزِلَ نَسْخُهُ أَيْضًا عَلَى دَاوُدَ لَا عَلَى سُلَيْمَانَ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّه تَعَالَى مَدَحَ كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى الْفَهْمِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ النَّصِّ لَمْ يَكُنْ فِي فَهْمِهِ كَثِيرُ مَدْحٍ إِنَّمَا الْمَدْحُ الْكَثِيرُ عَلَى قُوَّةِ الْخَاطِرِ وَالْحَذَاقَةِ فِي الِاسْتِنْبَاطِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: إِذَا أَثْبَتُّمْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا لِأَجْلِ النَّصِّ وَأَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ الِاجْتِهَادِ فَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ أَوْلَى. وَالْجَوَابُ: الِاجْتِهَادُ أَرْجَحُ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ الْكَثِيرَةِ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ قَدْ بَتَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ حَتَّى سَمِعَ مِنْ سُلَيْمَانَ أَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَاشَدَهُ لِكَيْ يُورِدَ مَا عِنْدَهُ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالنَّصِّ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَصًّا لَكَانَ يُظْهِرُهُ وَلَا يَكْتُمُهُ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: بَيِّنُوا أَنَّهُ كَيْفَ كَانَ طَرِيقُ الِاجْتِهَادِ. الْجَوَابُ: أَنَّ وَجْهَ الِاجْتِهَادِ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا مِنْ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوَّمَ قَدْرَ الضَّرَرِ بِالْكَرْمِ فَكَانَ مُسَاوِيًا لِقِيمَةِ الْغَنَمِ فَكَانَ عِنْدَهُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذَلِكَ الضَّرَرِ أَنْ يُزَالَ بِمِثْلِهِ مِنَ النَّفْعِ فَلَا جَرَمَ سَلَّمَ الْغَنَمَ إِلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فِي الْعَبْدِ إِذَا جَنَى عَلَى النَّفْسِ يَدْفَعُهُ الْمَوْلَى بِذَلِكَ أَوْ يَفْدِيهِ، وَأَمَّا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ اجْتِهَادَهُ أدى إلى أنه يجب

مُقَابَلَةُ الْأُصُولِ بِالْأُصُولِ وَالزَّوَائِدِ بِالزَّوَائِدِ، فَأَمَّا مُقَابَلَةُ الْأُصُولِ بِالزَّوَائِدِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْحَيْفَ وَالْجَوْرَ، وَلَعَلَّ مَنَافِعَ الْغَنَمِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ كَانَتْ مُوَازِيَةً لِمَنَافِعِ الْكَرْمِ فَحَكَمَ بِهِ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: فِيمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَأَبَقَ مِنْ يَدِهِ أَنَّهُ يَضْمَنُ الْقِيمَةَ لِيَنْتَفِعَ بِهَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِإِزَاءِ مَا فَوَّتَهُ الْغَاصِبُ مِنْ مَنَافِعِ الْعَبْدِ فَإِذَا ظَهَرَ تَرَادَّا. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ ثَبَتَ قَطْعًا أَنَّ تِلْكَ الْمُخَالَفَةَ كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى الِاجْتِهَادِ، فَهَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْقِصَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ أَوِ الْكُلَّ مُصِيبُونَ. الْجَوَابُ: أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ فَفِيهِمْ مَنِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ قَالَ وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ مُصِيبًا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ/ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذَا التَّفْهِيمِ فَائِدَةٌ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْكُلَّ مُصِيبُونَ فَفِيهِمْ مَنِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَلَوْ كَانَ الْمُصِيبُ وَاحِدًا وَمُخَالِفُهُ مُخْطِئًا لَمَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَيْنِ ضَعِيفَانِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ فَهَّمَهُ الصَّوَابَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَهَّمَهُ النَّاسِخَ وَلَمْ يُفَهِّمْ ذَلِكَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُصِيبٌ فِيمَا حَكَمَ بِهِ، عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْآيَةِ أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مَا كَانَا مُصِيبَيْنِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي شَرْعِنَا. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ إِنَّ كُلًّا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا بِمَا حَكَمَ بِهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا بِوُجُوهِ الِاجْتِهَادِ وَطُرُقِ الْأَحْكَامِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا فِي شَرْعِهِمْ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي شَرْعِنَا. السُّؤَالُ السَّادِسُ: لَوْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ فِي شَرْعِنَا مَا حُكْمُهَا؟ الْجَوَابُ: قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ، وَالْقُضَاةُ بِذَلِكَ يَقْضُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالْإِجْمَاعِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِنْ كَانَ ذَلِكَ بِالنَّهَارِ لَا ضَمَانَ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْمَاشِيَةِ تَسْيِيبَ مَاشِيَتِهِ بِالنَّهَارِ، وَحِفْظَ الزَّرْعِ بِالنَّهَارِ عَلَى صَاحِبِهِ. وَإِنْ كَانَ لَيْلًا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ لِأَنَّ حِفْظَهَا بِاللَّيْلِ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا بِالْإِرْسَالِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ» وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه بِمَا رُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَتْ نَاقَةٌ ضَارِيَةٌ فَدَخَلَتْ حَائِطًا فَأَفْسَدَتْهُ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى أَنَّ حِفْظَ الْحَوَائِطِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ حِفْظَ الْمَاشِيَةِ بِاللَّيْلِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ عَلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ مَا أَصَابَتْ مَاشِيَتُهُمْ بِاللَّيْلِ» وَهَذَا تَمَامُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. ثُمَّ إِنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي خَصَّ بها داود عليه أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ هَذَا التَّسْبِيحِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجِبَالَ كَانَتْ تُسَبِّحُ ثُمَّ ذَكَرُوا وُجُوهًا. أَحَدُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ إِذَا ذَكَرَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ ذَكَرَتِ الْجِبَالُ وَالطَّيْرُ رَبَّهَا مَعَهُ. وَثَانِيهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِذَا سَبَّحَ دَاوُدُ أَجَابَتْهُ الْجِبَالُ. وَثَالِثُهَا: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ: كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا وَجَدَ فَتْرَةً أَمَرَ اللَّه تَعَالَى الْجِبَالَ فَسَبَّحَتْ فَيَزْدَادُ نَشَاطًا وَاشْتِيَاقًا. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ أَصْحَابِ الْمَعَانِي أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَسْبِيحُ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 44] وَتَخْصِيصُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْرِفُ ذَلِكَ ضَرُورَةً فَيَزْدَادُ يَقِينًا وَتَعْظِيمًا، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: لَوْ حَصَلَ الْكَلَامُ مِنَ الْجَبَلِ لَحَصَلَ إِمَّا بِفِعْلِهِ أَوْ بِفِعْلِ اللَّه تَعَالَى فِيهِ. وَالْأَوَّلُ: مُحَالٌ لِأَنَّ بِنْيَةَ الْجَبَلِ لَا تَحْتَمِلُ الْحَيَاةَ والعلم والقدرة، وما يَكُونُ حَيًّا/ عَالِمًا قَادِرًا

يَسْتَحِيلُ مِنْهُ الْفِعْلُ. وَالثَّانِي: أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ عِنْدَهُمْ مَنْ كَانَ فَاعِلًا لِلْكَلَامِ لَا مَنْ كَانَ مَحَلًّا لِلْكَلَامِ، فَلَوْ كَانَ فَاعِلُ ذَلِكَ الْكَلَامِ هُوَ اللَّه تَعَالَى لَكَانَ الْمُتَكَلِّمُ هُوَ اللَّه تَعَالَى لَا الْجَبَلُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَعِنْدَ هَذَا قَالُوا فِي: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ ومثله قوله تعالى: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سَبَأٍ: 10] مَعْنَاهُ تَصَرَّفِي مَعَهُ وَسِيرِي بِأَمْرِهِ وَيُسَبِّحْنَ مِنَ السَّبْحِ الَّذِي السِّبَاحَةُ خَرَجَ اللَّفْظُ فِيهِ عَلَى التَّكْثِيرِ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدِ التَّكْثِيرَ لَقِيلَ يَسْبَحْنَ فَلَمَّا كَثُرَ قِيلَ يُسَبِّحْنَ مَعَهُ، أَيْ سِيرِي وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 7] أَيْ تَصَرُّفًا وَمَذْهَبًا. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ سَيْرَهَا هُوَ التَّسْبِيحُ لِدَلَالَتِهِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَعَلَى سَائِرِ مَا تَنَزَّهَ عَنْهُ وَاعْلَمْ أَنَّ مَدَارَ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى أَنَّ بِنْيَةَ الْجَبَلِ لَا تَقْبَلُ الْحَيَاةَ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ وَعَلَى أَنَّ التَّكَلُّمَ مِنْ فِعْلِ اللَّه وَهُوَ أَيْضًا مَمْنُوعٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا الطَّيْرُ فَلَا امْتِنَاعَ فِي أَنْ يَصْدُرَ عَنْهَا الْكَلَامُ، وَلَكِنْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ إِمَّا الْجِنُّ أَوِ الْإِنْسُ أَوِ الْمَلَائِكَةُ فَيَمْتَنِعُ فِيهَا أَنْ تَبْلُغَ فِي الْعَقْلِ إِلَى دَرَجَةِ التَّكْلِيفِ، بَلْ تَكُونُ عَلَى حَالَةٍ كَحَالِ الطِّفْلِ فِي أَنْ يُؤْمَرَ وَيُنْهَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا فَصَارَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً مِنْ حَيْثُ جَعَلَهَا فِي الْفَهْمِ بِمَنْزِلَةِ الْمُرَاهِقِ، وَأَيْضًا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَعَلَى تَنَزُّهِهِ عَمَّا لَا يَجُوزُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْجِبَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يُسَبِّحْنَ حَالٌ بِمَعْنَى مُسَبِّحَاتٍ أَوِ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: كَيْفَ سَخَّرَهُنَّ؟ فَقَالَ: يُسَبِّحْنَ. وَالطَّيْرَ إِمَّا مَعْطُوفٌ عَلَى الْجِبَالِ وَإِمَّا مَفْعُولٌ مَعَهُ. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قُدِّمَتِ الْجِبَالُ عَلَى الطَّيْرِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ تَسْخِيرَهَا وَتَسْبِيحَهَا أَعْجَبُ وَأَدَلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ وَأَدْخَلُ فِي الْإِعْجَازِ، لِأَنَّهَا جَمَادٌ وَالطَّيْرُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَكُنَّا فاعِلِينَ فَالْمَعْنَى أَنَّا قَادِرُونَ عَلَى أَنْ نَفْعَلَ هَذَا وَإِنْ كَانَ عَجَبًا عِنْدَكُمْ وَقِيلَ نَفْعَلُ ذلك بالأنبياء عليهم السلام. الثاني: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّبُوسُ اللِّبَاسُ، قَالَ الْبَسْ لِكُلِّ حَالَةٍ لَبُوسَهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِتُحْصِنَكُمْ قُرِئَ بِالنُّونِ وَالْيَاءِ وَالتَّاءِ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِهَا، فَالنُّونُ للَّه عَزَّ وَجَلَّ وَالتَّاءُ لِلصَّنْعَةِ أَوْ لِلَّبُوسِ عَلَى تَأْوِيلِ الدِّرْعِ وَالْيَاءُ للَّه تَعَالَى أَوْ لِدَاوُدَ أَوْ لِلَّبُوسِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ قَتَادَةُ: أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ الدِّرْعَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ صَفَائِحَ قَبْلَهُ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَرَدَهَا وَاتَّخَذَهَا حِلَقًا، ذَكَرَ الْحَسَنُ أَنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَضَرَهُ وَهُوَ يَعْمَلُ الدِّرْعَ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَمَّا يَفْعَلُ ثُمَّ سَكَتَ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا وَلَبِسَهَا عَلَى نَفْسِهِ، فَقَالَ: الصَّمْتُ حِكْمَةٌ وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ «1» قَالُوا إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَلَانَ الْحَدِيدَ لَهُ يَعْمَلُ مِنْهُ بِغَيْرِ نَارٍ كَأَنَّهُ طِينٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْبَأْسُ هَاهُنَا الْحَرْبُ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى السُّوءِ كُلِّهِ، وَالْمَعْنَى لِيَمْنَعَكُمْ وَيَحْرُسَكُمْ مِنْ/ بَأْسِكُمْ أَيْ مِنَ الْجَرْحِ وَالْقَتْلِ والسيف والسهم والرمح.

_ (1) الذي أحفظه: الصمت حكم وقليل فاعله، ولو كان حكمة كما روى لقال فاعلها.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ عَمِلَ الدِّرْعَ دَاوُدُ ثُمَّ تَعَلَّمُ النَّاسُ مِنْهُ، فَتَوَارَثَ النَّاسُ عَنْهُ ذَلِكَ. فَعَمَّتِ النِّعْمَةُ بِهَا كُلَّ الْمُحَارِبِينَ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، فَلَزِمَهُمْ شُكْرُ اللَّه تَعَالَى عَلَى النِّعْمَةِ فَقَالَ: فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ أَيِ اشْكُرُوا اللَّه عَلَى مَا يَسَّرَ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّنْعَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ النِّعَمَ الَّتِي خَصَّ دَاوُدَ بِهَا ذَكَرَ بَعْدَهُ النِّعَمَ الَّتِي خَصَّ بِهَا سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: وَرَّثَ اللَّه تَعَالَى سُلَيْمَانَ مِنْ دَاوُدَ مُلْكَهُ وَنُبُوَّتَهُ وَزَادَهُ عَلَيْهِ أَمْرَيْنِ سَخَّرَ لَهُ الرِّيحَ وَالشَّيَاطِينَ. الْإِنْعَامُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ أَيْ جَعَلْنَاهَا طَائِعَةً مُنْقَادَةً لَهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ إِنْ أَرَادَهَا عَاصِفَةً كَانَتْ عَاصِفَةً وَإِنْ أَرَادَهَا لَيِّنَةً كَانَتْ لَيِّنَةً واللَّه تَعَالَى مُسَخِّرُهَا فِي الْحَالَتَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ: الْعَاصِفُ الشَّدِيدَةُ الْهُبُوبِ، وَقَدْ وَصَفَهَا اللَّه تَعَالَى بِالرَّخَاوَةِ في قوله: رُخاءً حَيْثُ أَصابَ فَكَيْفَ يَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا كَانَتْ فِي نَفْسِهَا رَخِيَّةً طَيِّبَةً كَالنَّسِيمِ، فَإِذَا مَرَّتْ بِكُرْسِيِّهِ أَبْعَدَتْ بِهِ فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ عَلَى مَا قَالَ: غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَكَانَتْ جَامِعَةً بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ رُخَاءٍ فِي نَفْسِهَا وَعَاصِفَةٍ فِي عَمَلِهَا مَعَ طَاعَتِهَا لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُبُوبُهَا عَلَى حَسَبِ مَا يُرِيدُ وَيُحْكِمُ آيَةً إِلَى آيَةٍ وَمُعْجِزَةً إِلَى مُعْجِزَةٍ. الثَّانِي: أَنَّهَا كَانَتْ فِي وَقْتٍ رُخَاءً وَفِي وَقْتٍ عَاصِفًا، لِأَجْلِ هُبُوبِهَا عَلَى حُكْمِ إِرَادَتِهِ. المسألة السادسة: قرئ الريح والرياح بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ فِيهِمَا فَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالنَّصْبُ لِلْعَطْفِ عَلَى الْجِبَالِ، فَإِنْ قِيلَ: قَالَ فِي دَاوُدَ: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ وَقَالَ فِي حَقِّ سُلَيْمَانَ: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ فَذَكَرَهُ فِي حَقِّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِكَلِمَةِ مَعَ وَفِي حَقِّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِاللَّامِ وَرَاعَى هَذَا التَّرْتِيبَ أيضا في قوله: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وقال: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَخْصِيصِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِلَفْظِ مَعَ، وَسُلَيْمَانَ بِاللَّامِ قُلْنَا يُحْتَمَلُ أَنَّ الْجَبَلَ لَمَّا اشْتَغَلَ بِالتَّسْبِيحِ حَصَلَ لَهُ نَوْعُ شَرَفٍ، فَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ بِلَامِ التَّمْلِيكِ، أَمَّا الرِّيحُ فَلَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ إِلَّا مَا يَجْرِي مَجْرَى الْخِدْمَةِ، فَلَا جَرَمَ أُضِيفَ إِلَى سُلَيْمَانَ بِلَامِ التَّمْلِيكِ، وَهَذَا إِقْنَاعِي. أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ أَيْ إِلَى الْمُضِيِّ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَتْ تسير في إِصْطَخْرَ إِلَى الشَّامِ يَرْكَبُ عَلَيْهَا سُلَيْمَانُ وَأَصْحَابُهُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ أَيْ لِعِلْمِنَا بِالْأَشْيَاءِ صَحَّ مِنَّا أَنْ نُدَبِّرَ هَذَا التَّدْبِيرَ فِي رُسُلِنَا وَفِي خَلْقِنَا، وَأَنْ نَفْعَلَ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةَ. الْإِنْعَامُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَغُوصُونَ لَهُ فِي الْبِحَارِ فَيَسْتَخْرِجُونَ الْجَوَاهِرَ وَيَتَجَاوَزُونَ ذَلِكَ إِلَى الْأَعْمَالِ وَالْمِهَنِ وَبِنَاءِ الْمُدُنِ وَالْقُصُورِ وَاخْتِرَاعِ الصَّنَائِعِ الْعَجِيبَةِ كَمَا قَالَ: يَعْمَلُونَ/ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ وَأَمَّا الصِّنَاعَاتُ فَكَاتِّخَاذِ الْحَمَّامِ وَالنَّوْرَةِ وَالطَّوَاحِينِ وَالْقَوَارِيرِ وَالصَّابُونِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ يَعْنِي وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ نَسَقًا عَلَى الرِّيحِ قَالَ الزَّجَّاجُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ مِنْ

وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: النَّسَقُ عَلَى الرِّيحِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحُ وَلَهُ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَيَكُونُ لَهُ هُوَ الْخَبَرُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ يَغُوصُ مِنْهُمْ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ سَائِرَ الْأَعْمَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ فِرْقَةٌ أُخْرَى وَيَكُونُ الْكُلُّ دَاخِلِينَ فِي لَفْظَةِ مَنْ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَقْرَبَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَيْسَ فِي الظَّاهِرِ إِلَّا أَنَّهُ سَخَّرَهُمْ، لَكِنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ تَعَالَى سَخَّرَ كُفَّارَهُمْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ الْأَقْرَبُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِطْلَاقُ لَفْظِ الشَّيَاطِينِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا سُخِّرَ فِي أَمْرٍ لَا يَجِبُ أَنْ يُحْفَظَ لِئَلَّا يُفْسِدَ، وَإِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي الْكَافِرِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى وَكَّلَ بِهِمْ جَمْعًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ جَمْعًا مِنْ مُؤْمِنِي الْجِنِّ. وَثَانِيهَا: سَخَّرَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِأَنْ حَبَّبَ إِلَيْهِمْ طَاعَتَهُ وَخَوَّفَهُمْ مِنْ مُخَالَفَتِهِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: يُرِيدُ وَسُلْطَانُهُ مُقِيمٌ عَلَيْهِمْ يَفْعَلُ بِهِمْ مَا يَشَاءُ، فَإِنْ قِيلَ وَعَنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانُوا مَحْفُوظِينَ قُلْنَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ يَحْفَظُهُمْ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَذْهَبُوا وَيَتْرُكُوهُ. وَثَانِيهَا قَالَ الْكَلْبِيُّ كَانَ يَحْفَظُهُمْ مِنْ أَنْ يُهَيِّجُوا أَحَدًا فِي زَمَانِهِ. وَثَالِثُهَا: كَانَ يَحْفَظُهُمْ مِنْ أَنْ يُفْسِدُوا مَا عَمِلُوا فَكَانَ دَأْبُهُمْ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يُفْسِدُونَهُ فِي اللَّيْلِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: سَأَلَ الْجُبَّائِيُّ نَفْسَهُ، وَقَالَ: كَيْفَ يَتَهَيَّأُ لَهُمْ هَذِهِ الْأَعْمَالُ وَأَجْسَامُهُمْ رَقِيقَةٌ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى عَمَلِ الثَّقِيلِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُمُ الْوَسْوَسَةُ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ كَثَّفَ أَجْسَامَهُمْ خَاصَّةً وَقَوَّاهُمْ وَزَادَ فِي عَظْمِهِمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ مُعْجِزًا لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ رَدَّهُمُ اللَّه إِلَى الْخِلْقَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ لَوْ بَقَّاهُمْ عَلَى الْخِلْقَةِ الثَّانِيَةِ لَصَارَ شُبْهَةً عَلَى النَّاسِ، ولو ادعى متنبى النُّبُوَّةَ وَجَعَلَهُ دَلَالَةً لَكَانَ كَمُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ فَلِذَا رَدَّهُمْ إِلَى خِلْقَتِهِمُ الْأُولَى، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ سَاقِطٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: لِمَ قُلْتَ إِنَّ الْجِنَّ مِنَ الْأَجْسَامِ، وَلِمَ لَا يَجُوزُ وُجُودُ مُحْدَثٍ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ وَلَا قَائِمٍ بِالْمُتَحَيِّزِ وَيَكُونُ الْجِنُّ مِنْهُمْ؟ فَإِنْ قُلْتَ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ مِثْلًا لِلْبَارِي تَعَالَى، قُلْتُ: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي اللَّوَازِمِ الثُّبُوتِيَّةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْمَلْزُومَاتِ فَكَيْفَ اللَّوَازِمُ السَّلْبِيَّةُ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ جِسْمٌ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ حُصُولُ الْقُدْرَةِ عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ فِي الْجِسْمِ اللَّطِيفِ، وَكَلَامُهُ بِنَاءً عَلَى الْبِنْيَةِ شَرْطٌ وَلَيْسَ فِي يَدِهِ إِلَّا الِاسْتِقْرَاءُ الضَّعِيفُ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَكْثِيفِ أَجْسَامِهِمْ لَكِنْ لِمَ قُلْتَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَدِّهَا إِلَى الْخِلْقَةِ الْأُولَى بَعْدَ مَوْتِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنْ قَالَ: لِئَلَّا يُفْضِيَ إِلَى التَّلْبِيسِ/ قُلْنَا التَّلْبِيسُ غَيْرُ لَازِمٍ، لِأَنَّ الْمُتَنَبِّيَ إِذَا جَعَلَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِنَفْسِهِ فَلِلْمُدَّعِي أَنْ يَقُولَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ قُوَّةَ أَجْسَادِهِمْ كَانَتْ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ آخَرَ قَبْلَكَ، وَمَعَ قِيَامِ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا يَتَمَكَّنُ الْمُتَنَبِّي مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَجْسَامَ هَذَا الْعَالَمِ إِمَّا كَثِيفَةٌ أَوْ لَطِيفَةٌ، أَمَّا الْكَثِيفُ فَأَكْثَفُ الْأَجْسَامِ الْحِجَارَةُ وَالْحَدِيدُ وَقَدْ جَعَلَهُمَا اللَّه تَعَالَى مُعْجِزَةً لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَنْطَقَ الْحَجْرَ وَلَيَّنَ الْحَدِيدَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا يَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْحَشْرِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَدَرَ عَلَى إِحْيَاءِ الْحِجَارَةِ فَأَيُّ بُعْدٍ فِي إِحْيَاءِ الْعِظَامِ الرَّمِيمَةِ، وَإِذَا قَدَرَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ فِي إِصْبَعِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قُوَّةَ النَّارِ مَعَ كَوْنِ الْإِصْبَعِ فِي نِهَايَةِ اللَّطَافَةِ، فَأَيُّ بُعْدٍ فِي أَنْ يَجْعَلَ التُّرَابَ الْيَابِسَ جِسْمًا حَيَوَانِيًّا، وَأَلْطَفُ الْأَشْيَاءِ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْهَوَاءُ وَالنَّارُ، وَقَدْ جَعَلَهُمَا اللَّه مُعْجِزَةً لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَمَّا الْهَوَاءُ فَقَوْلُهُ تعالى: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ وَأَمَّا النَّارُ فَلِأَنَّ الشَّيَاطِينَ مَخْلُوقُونَ مِنْهَا وَقَدْ سَخَّرَهُمُ اللَّه تَعَالَى فَكَانَ يَأْمُرُهُمْ

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 إلى 84]

بِالْغَوْصِ فِي الْمِيَاهِ وَالنَّارُ تَنْطَفِئُ بِالْمَاءِ وَهُمْ مَا كَانَ يَضُرُّهُمْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قدرته على إظهار الضد من الضد. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 84] وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) الْقِصَّةُ السَّادِسَةُ، قصة أيوب عليه السلام اعْلَمْ أَنَّ فِي أَمْرِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ شَأْنِهِ هَاهُنَا وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْقُرْآنِ مِنَ الْعِبَرِ وَالدَّلَائِلِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى مَعَ عَظِيمِ فَضْلِهِ أَنْزَلَ بِهِ مِنَ الْمَرَضِ الْعَظِيمِ ما أنزله مما كان عبرة لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَلِسَائِرِ مَنْ سَمِعَ بِذَلِكَ وَتَعْرِيفًا لَهُمْ أَنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا يَنَالُهُ مِنَ الْبَلَاءِ فِيهَا، وَيَجْتَهِدَ فِي الْقِيَامِ بِحَقِّ اللَّه تَعَالَى وَيَصْبِرَ عَلَى حَالَتَيِ الضَّرَّاءِ وَالسَّرَّاءِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجُلًا مِنَ الرُّومِ وَهُوَ أَيُّوبُ بْنُ أَنُوصَ وَكَانَ مِنْ وَلَدِ عِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ وَكَانَتْ أُمُّهُ مِنْ وَلَدِ لُوطٍ، وَكَانَ اللَّه تَعَالَى قَدِ اصْطَفَاهُ وَجَعَلَهُ نَبِيًّا، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ أَعْطَاهُ مِنَ الدُّنْيَا حَظًّا وَافِرًا مِنَ النِّعَمِ وَالدَّوَابِّ وَالْبَسَاتِينِ وَأَعْطَاهُ أَهْلًا وَوَلَدًا مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، وَكَانَ رَحِيمًا بِالْمَسَاكِينِ، وَكَانَ يَكْفُلُ الْأَيْتَامَ وَالْأَرَامِلَ وَيُكْرِمُ/ الضَّيْفَ وَكَانَ مَعَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَدْ آمَنُوا بِهِ وَعَرَفُوا فَضْلَهُ، قَالَ وَهْبٌ: وَإِنَّ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّه تَعَالَى مَقَامًا لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مِثْلُهُ فِي الْقُرْبَةِ وَالْفَضِيلَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَلَقَّى الْكَلَامَ فَإِذَا ذَكَرَ اللَّه عَبْدًا بِخَيْرٍ تَلَقَّاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ تَلَقَّاهُ مِيكَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ مَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، فَإِذَا شَاعَ ذَلِكَ فَهُمْ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ. ثُمَّ صَلَّتْ مَلَائِكَةُ السموات ثُمَّ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ. وَكَانَ إِبْلِيسُ لَمْ يُحْجَبْ عن شيء من السموات، وَكَانَ يَقِفُ فِيهِنَّ حَيْثُمَا أَرَادَ، وَمِنْ هُنَاكَ وَصَلَ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ. وَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى رُفِعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَحُجِبَ عَنْ أَرْبَعٍ. فَكَانَ يَصْعَدُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى ثَلَاثٍ إِلَى زَمَانِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحجب عند ذلك عن جميع السموات إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ، قَالَ: فَسَمِعَ إِبْلِيسُ تَجَاوُبَ الْمَلَائِكَةِ بِالصَّلَاةِ عَلَى أَيُّوبَ فَأَدْرَكَهُ الْحَسَدُ، فَصَعِدَ سَرِيعًا حَتَّى وَقَفَ مِنَ السَّمَاءِ مَوْقِفًا كَانَ يَقِفُهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّكَ أَنْعَمْتَ عَلَى عَبْدِكَ أَيُّوبَ فَشَكَرَكَ وَعَافَيْتَهُ فَحَمِدَكَ ثُمَّ لَمْ تُجَرِّبْهُ بِشِدَّةٍ وَلَا بَلَاءٍ وَأَنَا لَكَ زَعِيمٌ لَئِنْ ضَرَبْتَهُ بِالْبَلَاءِ لَيَكْفُرَنَّ بِكَ، فَقَالَ اللَّه تَعَالَى: انْطَلِقْ فَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى مَالِهِ. فَانْقَضَّ الْمَلْعُونُ حَتَّى وَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ وَجَمَعَ عَفَارِيتَ الشَّيَاطِينِ، وَقَالَ لَهُمْ: مَاذَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ فَإِنِّي سُلِّطْتُ عَلَى مَالِ أَيُّوبَ؟ قَالَ عِفْرِيتٌ: أُعْطِيتُ مِنَ الْقُوَّةِ مَا إِذَا شِئْتُ تَحَوَّلْتُ إِعْصَارًا مِنْ نَارٍ فَأَحْرَقْتُ كُلَّ شَيْءٍ آتِي عَلَيْهِ، فَقَالَ إِبْلِيسُ: فَأْتِ الْإِبِلَ وَرِعَاءَهَا فَذَهَبَ وَلَمْ يَشْعُرِ النَّاسُ حَتَّى ثَارَ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ إِعْصَارٌ مِنْ نَارٍ لَا يَدْنُو مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا احْتَرَقَ فَلَمْ يَزَلْ يُحْرِقُهَا وَرِعَاءَهَا حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهَا، فَذَهَبَ إِبْلِيسُ عَلَى شَكْلِ بَعْضِ أُولَئِكَ الرُّعَاةِ إِلَى أَيُّوبَ فَوَجَدَهُ قَائِمًا يُصَلِّي، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ: يَا أَيُّوبُ هَلْ تَدْرِي مَا صَنَعَ رَبُّكَ الَّذِي اخْتَرْتَهُ بِإِبِلِكَ وَرِعَائِهَا؟ فَقَالَ أَيُّوبُ: إِنَّهَا مَالُهُ أَعَارَنِيهِ وَهُوَ أَوْلَى بِهِ إِذَا شَاءَ نَزَعَهُ. قَالَ إِبْلِيسُ: فَإِنَّ رَبَّكَ أَرْسَلَ عَلَيْهَا نَارًا مِنَ السَّمَاءِ فَاحْتَرَقَتْ وَرِعَاؤُهَا كُلُّهَا وَتَرَكَتِ النَّاسَ مَبْهُوتِينَ مُتَعَجِّبِينَ مِنْهَا. فَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ: مَا كَانَ أَيُّوبُ يَعْبُدُ شَيْئًا وَمَا كَانَ إِلَّا فِي غُرُورٍ، وَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ:

لَوْ كَانَ إِلَهُ أَيُّوبَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ لَمَنَعَ مِنْ وَلِيِّهِ، وَمِنْ قَائِلٍ آخَرَ يَقُولُ: بَلْ هُوَ الَّذِي فَعَلَ مَا فَعَلَ لِيُشْمِتَ عَدُوَّهُ بِهِ وَيُفْجِعَ بِهِ صَدِيقَهُ. فَقَالَ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الْحَمْدُ للَّه حِينَ أَعْطَانِي وَحِينَ نَزَعَ مِنِّي، عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَانًا أَعُودُ فِي التُّرَابِ، وَعُرْيَانًا أُحْشَرُ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَلَوْ عَلِمَ اللَّه فِيكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ خَيْرًا لَنَقَلَ رُوحَكَ مَعَ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ وَصِرْتَ شَهِيدًا وَآجَرَنِي فِيكَ، وَلَكِنَّ اللَّه عَلِمَ مِنْكَ شَرًّا فَأَخَّرَكَ. فَرَجَعَ إِبْلِيسُ إِلَى أَصْحَابِهِ خَاسِئًا. فَقَالَ عِفْرِيتٌ آخَرُ: عِنْدِي مِنَ الْقُوَّةِ مَا إِذَا شِئْتْ صِحْتُ صَوْتًا لَا يَسْمَعُهُ ذُو رُوحٍ إِلَّا خَرَجَتْ رُوحُهُ، فَقَالَ إِبْلِيسُ: فَأْتِ الْغَنَمَ وَرِعَاءَهَا فَانْطَلَقَ فَصَاحَ بِهَا فَمَاتَتْ وَمَاتَ رِعَاؤُهَا. فَخَرَجَ إِبْلِيسُ مُتَمَثِّلًا بِقَهْرَمَانِ الرُّعَاةِ إِلَى أَيُّوبَ فَقَالَ لَهُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ: وَرَدَّ عَلَيْهِ أَيُّوبُ الرَّدَّ الْأَوَّلَ، فَرَجَعَ إِبْلِيسُ صَاغِرًا. فَقَالَ عِفْرِيتٌ آخَرُ: عِنْدِي مِنَ الْقُوَّةِ مَا إِذَا شِئْتُ تَحَوَّلْتُ رِيحًا عَاصِفَةً أَقْلَعُ كُلَّ شَيْءٍ أَتَيْتُ عَلَيْهِ، قَالَ فَاذْهَبْ إِلَى الْحَرْثِ وَالثِّيرَانِ فَأَتَاهُمْ فَأَهْلَكَهُمْ ثُمَّ رَجَعَ إِبْلِيسُ مُتَمَثِّلًا حَتَّى جَاءَ أَيُّوبَ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ فَرَدَّ عَلَيْهِ أَيُّوبُ الرَّدَّ الْأَوَّلَ، فَجَعَلَ/ إِبْلِيسُ يُصِيبُ أَمْوَالَهُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى أَتَى عَلَى جَمِيعِهَا. فَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ صَبْرَهُ عَلَى ذَلِكَ وَقَفَ الْمَوْقِفَ الَّذِي كَانَ يَقِفُهُ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى، وَقَالَ: يَا إِلَهِي هَلْ أَنْتَ مُسَلِّطِي عَلَى وَلَدِهِ، فَإِنَّهَا الْفِتْنَةُ الْمُضِلَّةُ. فقال اللَّه تعالى: انطلق فقد سلطتك على وَلَدِهِ، فَأَتَى أَوْلَادَ أَيُّوبَ فِي قَصْرِهِمْ فَلَمْ يَزَلْ يُزَلْزِلُهُ بِهِمْ مِنْ قَوَاعِدِهِ حَتَّى قَلَبَ الْقَصْرَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى أَيُّوبَ مُتَمَثِّلًا بِالْمُعَلِّمِ وَهُوَ جَرِيحٌ مَشْدُوخُ الرَّأْسِ يَسِيلُ دَمُهُ وَدِمَاغُهُ، فَقَالَ: لَوْ رَأَيْتَ بَنِيكَ كَيْفَ انْقَلَبُوا منكوسين على رؤوسهم تَسِيلُ أَدْمِغَتُهُمْ مِنْ أُنُوفِهِمْ لَتَقَطَّعَ قَلْبُكَ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ هَذَا وَيُرَقِّقُهُ حَتَّى رَقَّ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَكَى وَقَبَضَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ وَوَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ. فَاغْتَنَمَ ذَلِكَ إِبْلِيسُ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى اسْتَغْفَرَ وَاسْتَرْجَعَ فَصَعِدَ إِبْلِيسُ وَوَقَفَ مَوْقِفَهُ وَقَالَ: يَا إِلَهِي إِنَّمَا يَهُونُ عَلَى أَيُّوبَ خَطَرُ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، لِعِلْمِهِ أَنَّكَ تُعِيدُ لَهُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ فَهَلْ أَنْتَ مُسَلِّطِي عَلَى جَسَدِهِ وَإِنِّي لَكَ زَعِيمٌ لَوِ ابْتَلَيْتَهُ فِي جَسَدِهِ لَيَكْفُرَنَّ بِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: انْطَلِقْ فَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى جَسَدِهِ وَلَيْسَ لَكَ سُلْطَانٌ عَلَى عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ فَانْقَضَّ عَدُوُّ اللَّه سَرِيعًا فَوَجَدَ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَاجِدًا للَّه تَعَالَى فَأَتَاهُ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ فَنَفَخَ فِي مَنْخَرِهِ نَفْخَةً اشْتَعَلَ مِنْهَا جَسَدُهُ وَخَرَجَ بِهِ مِنْ فَرْقِهِ إِلَى قَدَمِهِ ثَآلِيلُ وَقَدْ وَقَعَتْ فِيهِ حَكَّةٌ لَا يَمْلِكُهَا، وَكَانَ يَحُكُّ بِأَظْفَارِهِ حَتَّى سَقَطَتْ أَظْفَارُهُ، ثُمَّ حَكَّهَا بِالْمُسُوحِ الْخَشِنَةِ ثُمَّ بِالْفَخَّارِ وَالْحِجَارَةِ، وَلَمْ يَزَلْ يَحُكُّهَا حَتَّى تَقَطَّعَ لَحْمُهُ وَتَغَيَّرَ وَنَتَنَ، فَأَخْرَجَهُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ وَجَعَلُوهُ عَلَى كُنَاسَةٍ وَجَعَلُوا لَهُ عَرِيشًا وَرَفَضَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ غَيْرَ امْرَأَتِهِ رَحْمَةَ بِنْتِ أَفْرَايِمَ بْنِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانَتْ تُصْلِحُ أُمُورَهُ، ثُمَّ إِنَّ وَهْبًا طَوَّلَ فِي الْحِكَايَةِ إِلَى أَنْ قَالَ: إِنَّ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْبَلَ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُسْتَغِيثًا مُتَضَرِّعًا إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَبِّ لِأَيِّ شَيْءٍ خَلَقْتَنِي يَا لَيْتَنِي كُنْتُ حَيْضَةً أَلْقَتْنِي أُمِّي، وَيَا لَيْتَنِي كُنْتُ عَرَفْتُ الذَّنْبَ الَّذِي أَذْنَبْتُهُ، وَالْعَمَلَ الَّذِي عَمِلْتُ حَتَّى صَرَفْتَ وَجْهَكَ الْكَرِيمَ عَنِّي، أَلَمْ أَكُنْ لِلْغَرِيبِ دَارًا، وَلِلْمِسْكِينِ قَرَارًا، وَلِلْيَتِيمِ وَلِيًّا، وَلِلْأَرْمَلَةِ قَيِّمًا، إِلَهِي أَنَا عَبْدٌ ذَلِيلٌ إِنْ أَحْسَنْتُ فَالْمَنُّ لَكَ وَإِنْ أَسَأْتُ فَبِيَدِكَ عُقُوبَتِي، جَعَلْتَنِي لِلْبَلَاءِ غَرَضًا، وَلِلْفِتْنَةِ نَصْبًا، وَسَلَّطْتَ عَلَيَّ مَا لَوْ سَلَّطْتَهُ عَلَى جَبَلٍ لَضَعُفَ مِنْ حَمْلِهِ. إِلَهِي تَقَطَّعَتْ أَصَابِعِي، وَتَسَاقَطَتْ لَهَوَاتِي، وَتَنَاثَرَ شَعْرِي وَذَهَبَ الْمَالُ، وَصِرْتُ أَسْأَلُ اللُّقْمَةَ فَيُطْعِمُنِي مَنْ يَمُنُّ بِهَا عَلَيَّ وَيُعَيِّرُنِي بِفَقْرِي وَهَلَاكِ أَوْلَادِي. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّه، وَفِي جُمْلَةِ هَذَا الْكَلَامِ: لَيْتَكَ لَوْ كَرِهْتَنِي لَمْ تَخْلُقْنِي، ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَاغْتَنَمَهُ إِبْلِيسُ، فَإِنَّ قَصْدَهُ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى الشَّكْوَى، وَأَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ حِلْيَةِ الصَّابِرِينَ، واللَّه تَعَالَى لَمْ يُخْبِرْ عَنْهُ إِلَّا قَوْلَهُ: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 44] وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي السَّبَبِ الَّذِي قَالَ لِأَجْلِهِ: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ

وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَفِي مُدَّةِ بَلَائِهِ. فَالرِّوَايَةُ الْأُولَى: رَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَقِيَ فِي الْبَلَاءِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ كَانَا يَغْدُوَانِ وَيَرُوحَانِ إِلَيْهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ ذَاتَ يَوْمٍ: واللَّه لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا/ مَا أَذَنَبَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: وَمَا ذَاكَ؟ فَقَالَ: مُنْذُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ اللَّه تَعَالَى وَلَمْ يَكْشِفْ مَا به. فلما راحا إِلَى أَيُّوبَ لَمْ يَصْبِرِ الرَّجُلُ حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَقَالَ أَيُّوبُ: مَا أدري ما تقولان، غَيْرَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرَّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فَيَذْكُرَانِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَأَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي فَأُكَفِّرُ عَنْهُمَا كَرَاهِيَةَ أَنْ يُذْكَرَ اللَّه إِلَّا فِي حَقٍّ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ الرَّجُلَيْنِ لَمَّا دَخَلَا عَلَيْهِ وَجَدَا رِيحًا فَقَالَا: لَوْ كَانَ لِأَيُّوبَ عِنْدَ اللَّه خَيْرٌ مَا بَلَغَ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، قَالَ: فَمَا شَقَّ عَلَى أَيُّوبَ شَيْءٌ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ أَشَدُّ مِمَّا سَمِعَ مِنْهُمَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَبِتْ شَبْعَانًا وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَكَانِ جَائِعٍ فَصَدِّقْنِي فَصَدَّقَهُ وَهُمَا يَسْمَعَانِ، ثُمَّ خَرَّ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَاجِدًا ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أَرْفَعَ رَأْسِي حَتَّى تَكْشِفَ مَا بِي قَالَ فَكَشَفَ اللَّه مَا بِهِ. الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّه: مَكَثَ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ مَا أُلْقِيَ عَلَى الْكُنَاسَةِ سَبْعَ سِنِينَ وَأَشْهُرًا، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَالٌ وَلَا وَلَدٌ وَلَا صَدِيقٌ غَيْرَ امْرَأَتِهِ رَحْمَةَ صَبَرَتْ مَعَهُ وَكَانَتْ تَأْتِيهِ بِالطَّعَامِ وَتَحْمَدُ اللَّه تَعَالَى مَعَ أَيُّوبَ وَكَانَ أَيُّوبُ مُوَاظِبًا عَلَى حَمْدِ اللَّه تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالصَّبْرِ عَلَى مَا ابْتَلَاهُ، فَصَرَخَ إِبْلِيسُ صَرْخَةً جَزَعًا مِنْ صَبْرِ أَيُّوبَ، فَاجْتَمَعَ جُنُودُهُ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَقَالُوا لَهُ مَا خَبَرُكَ؟ قَالَ: أَعْيَانِي هَذَا الْعَبْدُ الَّذِي سَأَلْتُ اللَّه أَنْ يُسَلِّطَنِي عَلَيْهِ وَعَلَى مَالِهِ وَوَلَدِهِ فَلَمْ أَدَعْ لَهُ مَالًا وَلَا وَلَدًا وَلَمْ يَزْدَدْ بِذَلِكَ إِلَّا صَبْرًا وَحَمْدًا للَّه تَعَالَى، ثُمَّ سُلِّطْتُ عَلَى جَسَدِهِ فَتَرَكْتُهُ مُلْقًى فِي كُنَاسَةٍ وَمَا يَقْرَبُهُ إِلَّا امْرَأَتُهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَفْتُرُ عَنِ الذِّكْرِ وَالْحَمْدِ للَّه، فَاسْتَعَنْتُ بِكُمْ لِتُعِينُونِي عَلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ: أَيْنَ مَكْرُكَ! أَيْنَ عَمَلُكَ الَّذِي أَهْلَكْتَ بِهِ مَنْ مَضَى؟ قَالَ: بَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي أَيُّوبَ فَأَشِيرُوا عَلَيَّ، قَالُوا: أَدْلَيْتَ آدَمَ حِينَ أَخْرَجْتَهُ مِنَ الْجَنَّةِ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتَهُ؟ قَالَ مِنْ قِبَلِ امْرَأَتِهِ، قَالُوا: فَشَأْنُكَ بِأَيُّوبَ مِنْ قِبَلِ امْرَأَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْصِيَهَا لِأَنَّهُ لَا يَقْرُبُهُ أَحَدٌ غَيْرَهَا. قَالَ: أَصَبْتُمْ فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى امْرَأَتَهُ فَتَمَثَّلَ لَهَا فِي صُورَةِ رَجُلٍ، فَقَالَ: أَيْنَ بَعْلُكِ يَا أَمَةَ اللَّه؟ قَالَتْ: هُوَ هَذَا يَحُكُّ قُرُوحَهُ وَتَتَرَدَّدُ الدَّوَابُّ فِي جَسَدِهِ، فَلَمَّا سَمِعَهَا طَمِعَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ جَزَعًا، فَوَسْوَسَ إِلَيْهَا وَذَكَّرَهَا مَا كَانَ لَهَا مِنَ النِّعَمِ وَالْمَالِ، وَذَكَّرَهَا جَمَالَ أَيُّوبَ وَشَبَابَهُ. قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّه: فَصَرَخَتْ، فَلَمَّا صَرَخَتْ عَلِمَ أَنَّهَا قَدْ جَزِعَتْ فَأَتَاهَا بِسَخْلَةٍ، وَقَالَ لِيَذْبَحْ هَذِهِ لِي أَيُّوبُ وَيَبْرَأْ، قَالَ: فَجَاءَتْ تَصْرُخُ إِلَى أَيُّوبَ يَا أَيُّوبُ حَتَّى مَتَى يُعَذِّبُكَ رَبُّكَ، أَلَا يَرْحَمُكَ أَيْنَ الْمَالُ، أَيْنَ الْمَاشِيَةُ، أَيْنَ الْوَلَدُ، أَيْنَ الصَّدِيقُ، أَيْنَ اللَّوْنُ الْحَسَنُ، أَيْنَ جِسْمُكَ الَّذِي قَدْ بَلِيَ وَصَارَ مِثْلَ الرَّمَادِ، وَتَرَدَّدَ فِيهِ الدَّوَابُّ اذْبَحْ هَذِهِ السَّخْلَةِ وَاسْتَرِحْ؟ فَقَالَ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَتَاكِ عَدُوُّ اللَّه وَنَفَخَ فِيكِ فَأَجَبْتِيهِ! وَيْلَكِ أَتَرَيْنَ مَا تَبْكِينَ عَلَيْهِ مِمَّا تَذْكُرِينَ مِمَّا كُنَّا فِيهِ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالصِّحَّةِ، مَنْ أَعْطَانَا ذَلِكَ؟ قَالَتِ اللَّه. قَالَ: فَكَمْ مَتَّعَنَا بِهِ؟ قَالَتْ: ثَمَانِينَ سَنَةً. قَالَ: فَمُنْذُ كَمِ ابْتَلَانَا اللَّه بِهَذَا الْبَلَاءِ؟ قَالَتْ: مُنْذُ سَبْعِ سِنِينَ وَأَشْهُرٍ، قَالَ وَيْلَكِ، واللَّه مَا أَنْصَفْتِ رَبَّكِ، أَلَا صَبَرْتِ فِي الْبَلَاءِ ثَمَانِينَ سَنَةً كَمَا كُنَّا فِي الرَّخَاءِ ثَمَانِينَ سَنَةً. واللَّه لَئِنْ شَفَانِي اللَّه لَأَجْلِدَنَّكِ مِائَةَ جَلْدَةٍ. أمرتيني أَنْ أَذْبَحَ لِغَيْرِ اللَّه، وَحَرَامٌ عَلَيَّ أَنْ أَذُوقَ بَعْدَ هَذَا شَيْئًا مِنْ طَعَامِكِ وَشَرَابِكِ الَّذِي تَأْتِينِي بِهِ، فَطَرَدَهَا فَذَهَبَتْ، فَلَمَّا نَظَرَ/ أَيُّوبُ فِي شَأْنِهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ وَلَا صَدِيقٌ، وَقَدْ ذَهَبَتِ امْرَأَتُهُ خَرَّ ساجدا، وقال: رب أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَقَالَ: ارْفَعْ رَأْسَكَ فَقَدِ اسْتَجَبْتُ لَكَ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ فَنَبَعَتْ عَيْنُ مَاءٍ فَاغْتَسَلَ مِنْهَا، فَلَمْ يَبْقَ فِي ظَاهِرِ بَدَنِهِ دَابَّةٌ إِلَّا سَقَطَتْ مِنْهُ، ثُمَّ ضَرَبَ بِرِجْلِهِ مَرَّةً أُخْرَى فَنَبَعَتْ عَيْنٌ أُخْرَى فَشَرِبَ

مِنْهَا، فَلَمْ يَبْقَ فِي جَوْفِهِ دَاءٌ إِلَّا خَرَجَ وَقَامَ صَحِيحًا، وَعَادَ إِلَيْهِ شَبَابُهُ وَجِمَالُهُ حَتَّى صَارَ أَحْسَنَ مَا كَانَ، ثُمَّ كُسِيَ حُلَّةً فَلَمَّا قَامَ جَعَلَ يَلْتَفِتُ فَلَا يَرَى شَيْئًا مِمَّا كَانَ لَهُ مِنَ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَالْمَالِ، إِلَّا وَقَدْ ضَعَّفَهُ اللَّه تَعَالَى حَتَّى صَارَ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَ، حَتَّى ذُكِرَ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي اغْتَسَلَ مِنْهُ تَطَايَرَ عَلَى صَدْرِهِ جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: فَجَعَلَ يَضُمُّهُ بِيَدِهِ فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أُغْنِكَ؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنَّهَا بَرَكَتُكَ فَمَنْ يَشْبَعُ مِنْهَا، قَالَ: فَخَرَجَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى مَكَانٍ مُشْرِفٍ، ثُمَّ إِنَّ امْرَأَتَهُ قَالَتْ: هَبْ أَنَّهُ طَرَدَنِي أَفَأَتْرُكُهُ حَتَّى يَمُوتَ جُوعًا وَتَأْكُلَهُ السِّبَاعُ لَأَرْجِعَنَّ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَجَعَتْ مَا رَأَتْ تِلْكَ الْكُنَاسَةَ وَلَا تِلْكَ الْحَالَ وَإِذَا بِالْأُمُورِ قَدْ تَغَيَّرَتْ، فَجَعَلَتْ تَطُوفُ حَيْثُ كَانَتِ الْكُنَاسَةُ وَتَبْكِي وَذَلِكَ بِعَيْنِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَابَتْ صَاحِبَ الْحُلَّةِ أَنْ تَأْتِيَهُ وَتَسْأَلَهُ عَنْهُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَدَعَاهَا وَقَالَ: مَا تُرِيدِينَ يَا أَمَةَ اللَّه؟ فَبَكَتْ وَقَالَتْ: أَرَدْتُ ذَلِكَ الْمُبْتَلَى الَّذِي كَانَ مُلْقًى عَلَى الْكُنَاسَةِ، فَقَالَ لَهَا أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا كَانَ مِنْكِ، فَبَكَتْ وقالت بعلي، فقال: أتعرفينه إذا رأيتيه، قَالَتْ وَهَلْ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ يَرَاهُ! فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: أَنَا هُوَ، فَعَرَفَتْهُ بِضَحِكِهِ فَاعْتَنَقَتْهُ ثُمَّ قال إنك أمرتيني أَنْ أَذْبَحَ سَخْلَةً لِإِبْلِيسَ، وَإِنِّي أَطَعْتُ اللَّه وَعَصَيْتُ الشَّيْطَانَ وَدَعَوْتُ اللَّه تَعَالَى فَرَدَّ عَلَيَّ مَا تَرَيْنَ. الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: بَقِيَ فِي الْبَلَاءِ سَبْعَ سِنِينَ وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ وَسَبْعَ سَاعَاتٍ وَقَالَ وَهْبٌ رَحِمَهُ اللَّه بَقِيَ فِي الْبَلَاءِ ثَلَاثَ سِنِينَ، فَلَمَّا غَلَبَ أَيُّوبُ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّه ذَهَبَ إِبْلِيسُ إِلَى امْرَأَتِهِ عَلَى هَيْئَةٍ لَيْسَتْ كَهَيْئَةِ بَنِي آدَمَ فِي الْعِظَمِ وَالْجَمَالِ عَلَى مَرْكَبٍ لَيْسَ كَمَرَاكِبَ النَّاسِ وَقَالَ لَهَا: أَنْتِ صَاحِبَةُ أَيُّوبَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفِينِي؟ قَالَتْ لَا: قَالَ: أَنَا إِلَهُ الْأَرْضِ أَنَا صَنَعْتُ بِأَيُّوبَ مَا صَنَعْتُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَبَدَ إِلَهَ السَّمَاءِ وَتَرَكَنِي فَأَغْضَبَنِي وَلَوْ سَجَدَ لِي سَجْدَةً وَاحِدَةً رَدَدْتُ عَلَيْكِ وَعَلَيْهِ جَمِيعَ مَا لَكُمَا مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدِي، قَالَ وَهْبٌ وَسَمِعْتُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ صَاحِبَكِ أَكَلَ طَعَامًا وَلَمْ يُسَمِّ اللَّه تَعَالَى لَعُوفِيَ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: بَلْ قَالَ لَهَا لَوْ شِئْتِ فَاسْجُدِي لِي سَجْدَةً وَاحِدَةً حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْكِ الْمَالَ وَالْوَلَدَ وَأُعَافِيَ زَوْجَكِ، فَرَجَعَتْ إِلَى أَيُّوبَ فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا قَالَ لَهَا، فَقَالَ لَهَا أَيُّوبُ: أَتَاكِ عَدُوُّ اللَّه لِيَفْتِنَكِ عَنْ دِينِكِ، ثُمَّ أَقْسَمَ لَئِنْ عَافَانِي اللَّه لَأَجْلِدَنَّكِ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ مَسَّنِيَ الضُّرُّ يَعْنِي مِنْ طَمَعِ إِبْلِيسَ فِي سُجُودِي لَهُ وَسُجُودِ زَوْجَتِي وَدُعَائِهِ إِيَّاهَا وَإِيَّايَ إِلَى الْكُفْرِ. الرِّوَايَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ وَهْبٌ: كَانَتِ امْرَأَةُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعْمَلُ لِلنَّاسِ وَتَأْتِيهِ بِقُوتِهِ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ الْبَلَاءُ سَئِمَهَا النَّاسُ فَلَمْ يَسْتَعْمِلُوهَا فَالْتَمَسَتْ ذَاتَ يَوْمٍ شَيْئًا مِنَ الطَّعَامِ فَلَمْ تَجِدْ شَيْئًا فَجَزَّتْ قَرْنًا مِنْ رَأْسِهَا فَبَاعَتْهُ بِرَغِيفٍ فَأَتَتْهُ بِهِ فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ قَرْنُكِ فَأَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ قَالَ: مَسَّنِيَ الضُّرُّ. الرِّوَايَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ إِسْمَاعِيلُ السُّدِّيُّ: لَمْ يَقُلْ أَيُّوبُ مَسَّنِيَ الضُّرُّ إِلَّا لِأَشْيَاءَ/ ثَلَاثٍ. أَحَدُهَا: قَوْلُ الرَّجُلَيْنِ لَهُ لَوْ كَانَ عَمَلُكَ الَّذِي كُنَّا نَرَى للَّه تَعَالَى لَمَا أَصَابَكَ الَّذِي أَصَابَكَ. وَثَانِيهَا: كَانَ لِامْرَأَتِهِ ثَلَاثُ ذَوَائِبَ فَعَمَدَتْ إِلَى إِحْدَاهَا وَقَطَعَتْهَا وَبَاعَتْهَا فَأَعْطَوْهَا بِذَلِكَ خُبْزًا وَلَحْمًا فَجَاءَتْ إِلَى أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ فَقَالَتْ: كُلْ فَإِنَّهُ حَلَالٌ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ لَمْ تَجِدْ شَيْئًا فَبَاعَتِ الثَّانِيَةَ وَكَذَلِكَ فَعَلَتْ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَقَالَتْ: كُلْ فَإِنَّهُ حَلَالٌ فَقَالَ: لَا آكُلُ مَا لَمْ تُخْبِرِينِي فَأَخْبَرَتْهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مِنْ أَيُّوبَ مَا اللَّه بِهِ عَلِيمٌ، وَقِيلَ: إِنَّمَا بَاعَتْ ذَوَائِبَهَا لِأَنَّ إِبْلِيسَ تَمَثَّلَ لِقَوْمٍ فِي صُورَةِ بَشَرٍ، وَقَالَ: لَئِنْ تَرَكْتُمْ أَيُّوبَ فِي قَرْيَتِكُمْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُعْدِيَ إِلَيْكُمْ مَا بِهِ مِنَ الْعِلَّةِ فَأَخْرَجُوهُ إِلَى بَابِ الْبَلَدِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ امْرَأَتَهُ تَدْخُلُ فِي بُيُوتِكُمْ وَتَعْمَلُ وَتَمَسُّ زَوْجَهَا أَمَا تَخَافُونَ أَنْ تُعْدِيَ إِلَيْكُمْ عِلَّتَهُ، فَحِينَئِذٍ لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا أَحَدٌ فَبَاعَتْ ضَفِيرَتَهَا. وَثَالِثُهَا: حِينَ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ مَا قَالَتْ فَحِينَئِذٍ دَعَا. الرِّوَايَةُ السَّادِسَةُ: قِيلَ: سَقَطَتْ دُودَةٌ مِنْ فَخْذِهِ فَرَفَعَهَا وَرَدَّهَا إِلَى مَوْضِعِهَا، وَقَالَ قَدْ جَعَلَنِي اللَّه تَعَالَى طُعْمَةً لَكِ فَعَضَّتْهُ عَضَّةً شَدِيدَةً، فَقَالَ: مَسَّنِيَ الضُّرُّ. فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ لَوْلَا أني

جَعَلْتُ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ مِنْكَ صَبْرًا لَمَا صَبَرْتَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ قَدْ طَعَنُوا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: ذَهَبَ بَعْضُ الْجُهَّالِ إِلَى أَنَّ مَا كَانَ بِهِ مِنَ الْمَرَضِ كَانَ فِعْلًا لِلشَّيْطَانِ سَلَّطَهُ اللَّه عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عنه: مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ وَهَذَا جَهْلٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى إِحْدَاثِ الْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ وَضِدِّهِمَا مِنَ الْعَافِيَةِ لَتَهَيَّأَ لَهُ فِعْلُ الْأَجْسَامِ، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ يَكُونُ إِلَهًا، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُ وَعَنْ جُنُودِهِ بِأَنَّهُ قَالَ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إِبْرَاهِيمَ: 22] وَالْوَاجِبُ تَصْدِيقُ خَبَرِ اللَّه تَعَالَى، دُونَ الرُّجُوعِ إِلَى مَا يُرْوَى عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْحِكَايَةِ أَنَّ الشَّيْطَانَ نَفَخَ فِي مَنْخَرِهِ فَوَقَعَتِ الْحَكَّةُ فِيهِ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْقَادِرَ عَلَى النَّفْخَةِ الَّتِي تُوَلِّدُ مِثْلَ هَذِهِ الْحَكَّةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الْأَجْسَامِ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا مَحْضُ التَّحَكُّمِ، وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِالنَّصِّ فَضَعِيفٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقْدِمُ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ مَتَى عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ لَمَا مَنَعَهُ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ لَمْ تَحْصُلْ إِلَّا فِي حَقِّ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَا دَلَّتِ الْحِكَايَةُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ اللَّه تَعَالَى فَأَذِنَ لَهُ فِيهِ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَبْقَ بَيْنَ ذَلِكَ النَّصِّ وَبَيْنَ هَذِهِ الْحِكَايَةِ مُنَاقَضَةٌ. وَثَانِيهَا: قَالُوا: مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَسْأَلْ إِلَّا عِنْدَ أُمُورٍ مَخْصُوصَةٍ فَبَعِيدٌ، لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي الْعَقْلِ أَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ الْمَرْءِ أَنْ يَسْأَلَ فِي ذَلِكَ رَبَّهُ وَيَفْزَعَ إِلَيْهِ كَمَا يَحْسُنُ مِنْهُ الْمُدَاوَاةُ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ عِنْدَ الْغَمِّ مِمَّا يَرَاهُ مِنْ إِخْوَانِهِ وَأَهْلِهِ جَازَ أَيْضًا أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَا يَجُوزُ أَنَّهُ تَعَالَى تَعَبَّدَهُ بِأَنْ لَا يَسْأَلَ الْكَشْفَ إِلَّا فِي آخِرِ أَمْرِهِ، قُلْنَا: يَجُوزُ ذَلِكَ بِأَنْ يُعْلِمَهُ بِأَنَّ إِنْزَالَ ذَلِكَ بِهِ مُدَّةً مَخْصُوصَةً مِنْ مَصَالِحِهِ وَمَصَالِحِ غَيْرِهِ لَا مَحَالَةَ، فَعَلِمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْخَاصِّ، فَإِذَا قَرُبَ الْوَقْتُ جَازَ أَنْ يَسْأَلَ ذَلِكَ، مِنْ حَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يَدُومَ وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقَطِعَ. وَثَالِثُهَا: قَالُوا: انْتِهَاءُ ذَلِكَ الْمَرَضِ إِلَى حَدِّ التَّنْفِيرِ عَنْهُ غَيْرُ/ جَائِزٍ، لِأَنَّ الْأَمْرَاضَ الْمُنَفِّرَةَ مِنَ الْقَبُولِ غَيْرُ جَائِزَةٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَهَذَا جُمْلَةُ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ أَيْ نَادَاهُ بِأَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ، وَقُرِئَ إِنِّي بِالْكَسْرِ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ أَوْ لِتَضْمِينِ النِّدَاءِ مَعْنَاهُ، وَالضَّرُّ بِالْفَتْحِ الضَّرَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَبِالضَّمِّ الضَّرَرُ فِي النَّفْسِ مِنْ مَرَضٍ وَهُزَالٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَلْطَفَ فِي السُّؤَالِ حَيْثُ ذَكَرَ نَفْسَهُ بِمَا يُوجِبُ الرَّحْمَةَ وَذَكَرَ رَبَّهُ بِغَايَةِ الرَّحْمَةِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْمَطْلُوبِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ الشَّكْوَى تقدح في كونه صابرا. والجواب: قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ رَحِمَهُ اللَّه مَنْ شَكَا إِلَى اللَّه تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ ذَلِكَ جَزَعًا إِذَا كَانَ فِي شَكْوَاهُ رَاضِيًا بقضاء اللَّه تعالى إِذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الصَّبْرِ اسْتِحْلَاءُ الْبَلَاءِ، ألم تسمع قول يعقوب عليه السلام: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يُوسُفَ: 86] أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أُمُورٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ رَحِمَ غَيْرَهُ فَأَمَّا أَنْ يَرْحَمَهُ طَلَبًا لِلثَّنَاءِ فِي الدُّنْيَا أَوِ الثَّوَابُ فِي الْآخِرَةِ أَوْ دَفْعًا لِلرِّقَّةِ الْجِنْسِيَّةِ عَنِ الطَّبْعِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَطْلُوبُ ذَلِكَ الرَّاحِمِ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ، أَمَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ يَرْحَمُ عِبَادَهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الرَّحْمَةِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ مِنَ الثَّنَاءِ وَمِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، فَكَانَ سُبْحَانَهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْحَمُ غَيْرَهُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِمَعُونَةِ رَحْمَةِ اللَّه تَعَالَى لِأَنَّ مَنْ أَعْطَى غَيْرَهُ

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 85 إلى 86]

طَعَامًا أَوْ ثَوْبًا أَوْ دَفَعَ عَنْهُ بَلَاءً، فَلَوْلَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْمَطْعُومَ وَالْمَلْبُوسَ وَالْأَدْوِيَةَ وَالْأَغْذِيَةَ وَإِلَّا لَمَا قَدَرَ أَحَدٌ عَلَى إِعْطَاءِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، ثُمَّ بَعْدَ وُصُولِ تِلْكَ الْعَطِيَّةِ إِلَيْهِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَهُ سَبَبًا لِلرَّاحَةِ لَمَا حَصَلَ النَّفْعُ بِذَلِكَ، فَإِذَا رَحْمَةُ الْعِبَادِ مَسْبُوقَةٌ بِرَحْمَةِ اللَّه تَعَالَى وَمَلْحُوقَةٌ بِرَحْمَتِهِ بَلْ رَحْمَتُهُمْ فِيمَا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ كَالْقَطْرَةِ فِي الْبَحْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَعَالَى هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَوْ لَمْ يَخْلُقْ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ تِلْكَ الدَّوَاعِيَ وَالْإِرَادَاتِ لَاسْتَحَالَ صُدُورُ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَنْهُ، فَكَانَ الرَّاحِمُ هُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ تِلْكَ الدَّاعِيَةَ، فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَلَأَ الدُّنْيَا مِنَ الْآفَاتِ وَالْأَسْقَامِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْآلَامِ وَسَلَّطَ الْبَعْضَ عَلَى الْبَعْضِ بِالذَّبْحِ وَالْكَسْرِ وَالْإِيذَاءِ، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُغْنِيَ كُلَّ وَاحِدٍ عَنْ إِيلَامِ الْآخَرِ وَإِيذَائِهِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ كَوْنَهُ سُبْحَانَهُ ضَارًّا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ نَافِعًا، بَلْ هُوَ الضَّارُّ النَّافِعُ فَإِضْرَارُهُ لَيْسَ لِدَفْعِ مَشَقَّةٍ وَإِنْفَاعُهُ لَيْسَ لِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ، بَلْ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ دَعَا رَبَّهُ، لَكِنَّ هَذَا الدُّعَاءَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْرِيضِ، كَمَا يُقَالُ إِنْ رَأَيْتَ أَوْ أَرَدْتَ أَوْ أَحْبَبْتَ فَافْعَلْ كَذَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ التَّصْرِيحِ وَإِنْ كَانَ الْأَلْيَقُ بِالْأَدَبِ وَبِدَلَالَةِ الْآيَةِ هو الأول، ثم إنه سبحانه بين أن كَشَفَ مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَذَلِكَ يَقْتَضِي إِعَادَتَهُ إِلَى مَا كَانَ فِي بَدَنِهِ وَأَحْوَالِهِ، وَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ آتَاهُ أَهْلَهُ وَيَدْخُلُ/ فِيهِ مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ مِنْ زَوْجَةٍ وَوَلَدٍ وَغَيْرِهِمَا ثُمَّ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ وَكَعْبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَحْيَا لَهُ أَهْلَهُ يَعْنِي أَوْلَادَهُ بِأَعْيَانِهِمْ. وَالثَّانِي: رَوَى اللَّيْثُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: أَرْسَلَ مُجَاهِدٌ إِلَى عِكْرِمَةَ وَسَأَلَهُ عَنِ الْآيَةِ فَقَالَ: قِيلَ لَهُ إِنَّ أَهْلَكَ لَكَ فِي الْآخِرَةِ فَإِنْ شِئْتَ عَجَّلْنَاهُمْ لَكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ شِئْتَ كَانُوا لَكَ فِي الْآخِرَةِ وَآتَيْنَاكَ مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا. فَقَالَ: يَكُونُونَ لِي فِي الْآخِرَةِ وَأُوتَى مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ يَدُلُّ بِظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَعَادَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَأَعْطَاهُ مَعَهُمْ مِثْلَهُمْ أَيْضًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَ ذَلِكَ لِكَيْ يَتَفَكَّرَ فِيهِ فَيَكُونَ دَاعِيَةً لِلْعَابِدِينَ فِي الصَّبْرِ وَالِاحْتِسَابِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْعَابِدِينَ بِالذِّكْرِ [ى] لأنهم يختصون بالانتفاع بذلك. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 85 الى 86] وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) الْقِصَّةُ السابعة اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ صَبْرَ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَانْقِطَاعَهُ إِلَيْهِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَيْضًا مِنَ الصَّابِرِينَ عَلَى الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ وَالْعِبَادَةِ، أَمَّا إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلِأَنَّهُ صَبَرَ عَلَى الِانْقِيَادِ لِلذَّبْحِ، وَصَبَرَ عَلَى الْمُقَامِ بِبَلَدٍ لَا زَرْعَ فِيهِ وَلَا ضَرْعَ وَلَا بِنَاءَ، وَصَبَرَ فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ، فَلَا جَرَمَ أكرمه اللَّه تعالى وأخرج صُلْبِهِ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَأَمَّا إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا. «بَعَثَ إِلَى قَوْمِهِ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى اللَّه تَعَالَى فَأَبَوْا فَأَهْلَكَهُمُ اللَّه تَعَالَى وَرَفَعَ إِدْرِيسَ إلى السماء الرابعة» وأما ذوا الْكِفْلِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِيهَا بَحْثَانِ:

الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ الْكِفْلُ فِي اللُّغَةِ الْكِسَاءُ الَّذِي يُجْعَلُ عَلَى عَجُزِ الْبَعِيرِ، وَالْكِفْلُ أَيْضًا النَّصِيبُ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ لِمَ سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ ضِعْفُ عَمَلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي زَمَانِهِ وَضِعْفُ ثَوَابِهِمْ. وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي رواية: «إِنَّ نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ آتَاهُ اللَّه الْمُلْكَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ أَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ إِنِّي أُرِيدُ قَبْضَ رُوحِكَ، فَاعْرِضْ مُلْكَكَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَنْ تَكَفَّلَ لَكَ أَنَّهُ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ حَتَّى يُصْبِحَ وَيَصُومُ بِالنَّهَارِ فَلَا يُفْطِرُ، وَيَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ فَلَا يَغْضَبُ فَادْفَعْ مُلْكَكَ إِلَيْهِ، فَقَامَ ذَلِكَ النَّبِيُّ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ/ وَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ، فَقَامَ شَابٌّ وَقَالَ: أَنَا أَتَكَفَّلُ لَكَ بِهَذَا. فَقَالَ فِي الْقَوْمِ: مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْكَ فَاقْعُدْ ثُمَّ صَاحَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ فَقَامَ الرَّجُلُ وَقَالَ: أَتَكَفَّلُ لَكَ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ فَدَفَعَ إِلَيْهِ مُلْكَهُ، وَوَفَى بِمَا ضَمِنَ. فَحَسَدَهُ إِبْلِيسُ فَأَتَاهُ وَقْتَ مَا يُرِيدُ أَنْ يُقِيلَ، فَقَالَ: إِنَّ لِي غَرِيمًا قَدْ مَطَلَنِي حَقِّي وَقَدْ دَعَوْتُهُ إِلَيْكَ فَأَبَى فَأَرْسِلْ مَعِيَ مَنْ يَأْتِيكَ بِهِ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ وَقَعَدَ حَتَّى فَاتَتْهُ الْقَيْلُولَةُ وَدَعَا إِلَى صِلَاتِهِ وَصَلَّى لَيْلَهُ إِلَى الصَّبَاحِ، ثُمَّ أَتَاهُ مِنَ الْغَدِ عِنْدَ الْقَيْلُولَةِ فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي اسْتَأْذَنْتُكَ لَهُ فِي مَوْضِعِ كَذَا فَلَا تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ بِهِ، فَذَهَبَ وَبَقِيَ مُنْتَظَرًا حَتَّى فَاتَتْهُ الْقَيْلُولَةُ، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: هَرَبَ مِنِّي فَمَضَى ذُو الْكِفْلِ إِلَى صِلَاتِهِ فَصَلَّى لَيْلَتَهُ حَتَّى أَصْبَحَ، فَأَتَاهُ إِبْلِيسُ وَعَرَّفَهُ نَفْسَهُ، وَقَالَ لَهُ: حَسَدْتُكَ عَلَى عِصْمَةِ اللَّه إِيَّاكَ فَأَرَدْتُ أَنْ أُخْرِجَكَ حَتَّى لَا تَفِيَ بِمَا تَكَفَّلْتَ بِهِ، فَشَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ وَنَبَّأَهُ، فَسُمِّيَ ذَا الْكِفْلِ» . وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالْكِفْلِ هُنَا الْكَفَالَةُ. وَثَالِثُهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ: لَمَّا كَبِرَ الْيَسَعُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: لَوْ أَنِّي اسْتَخْلَفْتُ رَجُلًا عَلَى النَّاسِ فِي حَيَاتِي حَتَّى أَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُ، فَجَمَعَ النَّاسَ وَقَالَ مَنْ يَتَقَبَّلُ مِنِّي حَتَّى اسْتَخْلَفَهُ ثَلَاثًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَيَصُومُ بِالنَّهَارِ وَيَقْضِي فَلَا يَغْضَبُ، وَذَكَرَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّه وَجْهَهُ نَحْوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مِنْ فِعْلِ إِبْلِيسَ وَتَفْوِيتِهِ عَلَيْهِ الْقَيْلُولَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَزَادَ أَنَّ ذَا الْكِفْلِ قَالَ لِلْبَوَّابِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ: قَدْ غَلَبَ عَلَيَّ النُّعَاسُ فَلَا تَدَعَنَّ أَحَدًا يَقْرَبُ هَذَا الْبَابَ حَتَّى أَنَامَ فَإِنِّي قَدْ شَقَّ عَلَيَّ النُّعَاسُ، فَجَاءَ إِبْلِيسُ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْبَوَّابُ فَدَخَلَ مِنْ كُوَّةٍ فِي الْبَيْتِ وَتَسَوَّرَ فِيهَا فَإِذَا هُوَ يَدُقُّ الْبَابُ مِنْ دَاخِلٍ، فَاسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ وَعَاتَبَ الْبَوَّابَ، فَقَالَ: أَمَّا مِنْ قِبَلِي فَلَمْ تُؤْتَ. فَقَامَ إِلَى الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُغْلَقٌ وَإِبْلِيسُ عَلَى صُورَةِ شَيْخٍ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ لَهُ: أَتَنَامُ وَالْخُصُومُ عَلَى الْبَابِ. فَعَرَفَهُ فَقَالَ: أَنْتَ إِبْلِيسُ، قَالَ نَعَمْ أَعْيَيْتَنِي فِي كُلِّ شَيْءٍ فَفَعَلْتُ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لِأُغْضِبَكَ فَعَصَمَكَ اللَّه مِنِّي. فَسُمِّيَ ذَا الْكِفْلِ لِأَنَّهُ قَدْ وَفَّى بِمَا تَكَفَّلَ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَمُجَاهِدٌ ذُو الْكِفْلِ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَلَكِنْ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا، وَقَالَ الْحَسَنُ وَالْأَكْثَرُونَ إِنَّهُ مِنَ الأنبياء عليهم السلام وهذا أولى الوجوه: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَا الْكِفْلِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَقَبًا وَأَنْ يَكُونَ اسْمًا، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا، لِأَنَّ الِاسْمَ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى مَا يُفِيدُ فَهُوَ أَوْلَى مِنَ اللَّقَبِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ الْكِفْلُ هُوَ النَّصِيبُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا سَمَّاهُ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْكِفْلُ هُوَ كِفْلُ الثَّوَابِ فَهُوَ إِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ عَمَلَهُ وَثَوَابَ عَمَلِهِ كَانَ ضِعْفَ عَمَلِ غَيْرِهِ وَضِعْفَ ثَوَابِ غَيْرِهِ وَلَقَدْ كَانَ فِي زَمَنِهِ أَنْبِيَاءُ عَلَى مَا رُوِيَ وَمَنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ لَا يَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَرَنَ ذِكْرَهُ بِذِكْرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَالْغَرَضُ ذِكْرُ الْفُضَلَاءِ مِنْ عِبَادِهِ لِيُتَأَسَّى بِهِمْ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ السُّورَةَ مُلَقَّبَةٌ بِسُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فَكُلُّ مَنْ ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِيهَا فَهُوَ نَبِيٌّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قِيلَ إِنَّ ذَا الْكِفْلِ زَكَرِيَّا وَقِيلَ يُوشَعُ وَقِيلَ إِلْيَاسُ، ثُمَّ قَالُوا خَمْسَةٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ سَمَّاهُمُ اللَّه تَعَالَى بِاسْمَيْنِ: إِسْرَائِيلُ وَيَعْقُوبُ، إِلْيَاسُ وَذُو الْكِفْلِ، عِيسَى وَالْمَسِيحُ، يُونُسُ/ وَذُو النُّونِ، مُحَمَّدٌ وأحمد.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 87 إلى 88]

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ أَيْ عَلَى الْقِيَامِ بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَاحْتِمَالِ الْأَذَى فِي نُصْرَةِ دِينِهِ. وَقَوْلُهُ: وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا قَالَ مُقَاتِلٌ: الرَّحْمَةُ النُّبُوَّةُ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ يتناول جميع أعمال البر والخير. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 87 الى 88] وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) الْقِصَّةُ الثَّامِنَةُ، قِصَّةُ يُونُسَ عليه السلام اعلم أن هنها مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ ذَا النُّونِ هُوَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ النُّونَ هُوَ السَّمَكَةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْمَ إِذَا دَارَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَقَبًا مَحْضًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا، فَحَمْلُهُ عَلَى الْمُفِيدِ أَوْلَى، خُصُوصًا إِذَا عُلِمَتِ الْفَائِدَةُ الَّتِي يَصْلُحُ لَهَا ذَلِكَ الْوَصْفُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ وُقُوعَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَطْنِ السَّمَكَةِ كَانَ قَبْلَ اشْتِغَالِهِ بِأَدَاءِ رِسَالَةِ اللَّه تَعَالَى أَوْ بَعْدَهُ. أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: كَانَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْمُهُ يَسْكُنُونَ فِلَسْطِينَ، فَغَزَاهُمْ مَلِكٌ وَسَبَى مِنْهُمْ تِسْعَةَ أَسْبَاطٍ وَنِصْفًا، وَبَقِيَ سِبْطَانِ وَنِصْفٌ. فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَى شُعَيْبٍ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنِ اذْهَبْ إِلَى حِزْقِيلَ الْمَلِكِ وَقُلْ لَهُ حَتَّى يُوَجِّهَ نَبِيًّا قَوِيًّا أَمِينًا فَإِنِّي أُلْقِي فِي قُلُوبِ أُولَئِكَ أَنْ يُرْسِلُوا مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: فَمَنْ تَرَى وَكَانَ فِي مَمْلَكَتِهِ خَمْسَةٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ يُونُسُ بْنُ مَتَّى: فَإِنَّهُ قَوِيٌّ أَمِينٌ فَدَعَا الْمَلِكُ بِيُونُسَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ فَقَالَ يُونُسُ: هَلْ أَمَرَكَ اللَّه بِإِخْرَاجِي؟ قَالَ: لَا، قَالَ فَهَلْ سَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ: لَا قَالَ فههنا أَنْبِيَاءٌ غَيْرِي، فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ فَخَرَجَ مُغَاضِبًا لِلْمَلِكِ وَلِقَوْمِهِ فَأَتَى بَحْرَ الرُّومِ فَوَجَدَ قَوْمًا هَيَّئُوا سَفِينَةً فَرَكِبَ مَعَهُمْ فَلَمَّا تَلَجَّجَتِ السَّفِينَةُ تَكَفَّأَتْ بِهِمْ وَكَادُوا أَنْ يَغْرَقُوا، فَقَالَ الْمَلَّاحُونَ: هَاهُنَا رَجُلٌ عَاصٍ أَوْ عَبْدٌ آبِقٌ لِأَنَّ السَّفِينَةَ لَا تَفْعَلُ هَذَا مِنْ غَيْرِ رِيحٍ إِلَّا وَفِيهَا رَجُلٌ عَاصٍ، وَمِنْ رَسْمِنَا أَنَّا إِذَا ابْتُلِينَا بِمِثْلِ هَذَا الْبَلَاءِ أَنْ نَقْتَرِعَ فَمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ أَلْقَيْنَاهُ فِي الْبَحْرِ، وَلَأَنْ يَغْرَقَ [وَ] احِدٌ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَغْرَقَ السَّفِينَةُ، فَاقْتَرَعُوا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ فِيهَا كُلِّهَا عَلَى يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: أَنَا/ الرَّجُلُ الْعَاصِي وَالْعَبْدُ الْآبِقُ، وَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ فَجَاءَ حُوتٌ فَابْتَلَعَهُ، فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَى الْحُوتِ لَا تُؤْذِ مِنْهُ شَعْرَةً. فَإِنِّي جَعَلْتُ بَطْنَكَ سِجْنًا لَهُ وَلَمْ أَجْعَلْهُ طَعَامًا لَكَ، ثُمَّ لَمَّا نَجَّاهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ نَبَذَهُ بِالْعَرَاءِ كَالْفَرْخِ الْمَنْتُوفِ لَيْسَ عَلَيْهِ شَعَرٌ وَلَا جِلْدٌ، فَأَنْبَتَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ يَسْتَظِلُّ بِهَا وَيَأْكُلُ مِنْ ثَمَرِهَا حَتَّى اشْتَدَّ، فَلَمَّا يَبِسَتِ الشَّجَرَةُ حَزِنَ عَلَيْهَا يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقِيلَ لَهُ: أَتَحْزَنُ عَلَى شَجَرَةٍ وَلَمْ تَحْزَنْ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، حَيْثُ لَمْ تَذْهَبْ إِلَيْهِمْ وَلَمْ تَطْلُبْ رَاحَتَهُمْ. ثُمَّ أَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَيْهِمْ فَتَوَجَّهُ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَحْوَهُمْ حَتَّى دَخَلَ أَرْضَهُمْ وَهُمْ مِنْهُ غَيْرُ بَعِيدٍ فَأَتَاهُمْ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ لِمَلِكِهِمْ إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ لِتُرْسِلَ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا: مَا نَعْرِفُ مَا تَقُولُ، وَلَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ صَادِقٌ لَفَعَلْنَا، وَلَقَدْ أَتَيْنَاكُمْ فِي دِيَارِكُمْ وَسَبَيْنَاكُمْ فَلَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ لَمَنَعَنَا اللَّه عَنْكُمْ، فَطَافَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ فَأَبَوْا عَلَيْهِ فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ: قُلْ لَهُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا جَاءَكُمُ الْعَذَابُ فَأَبْلَغَهُمْ فَأَبَوْا، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِمْ فَلَمَّا فَقَدُوهُ نَدِمُوا عَلَى فِعْلِهِمْ فَانْطَلَقُوا يَطْلُبُونَهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ،

ثُمَّ ذَكَرُوا أَمْرَهُمْ وَأَمْرَ يُونُسَ لِلْعُلَمَاءِ الَّذِينَ كَانُوا فِي دِينِهِمْ، فَقَالُوا انْظُرُوا وَاطْلُبُوهُ فِي الْمَدِينَةِ فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَلَيْسَ مِمَّا ذَكَرَ مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ فَهُوَ كَمَا قَالَ: فَطَلَبُوهُ فَقِيلَ لَهُمْ إِنَّهُ خَرَجَ الْعَشِيَّ فَلَمَّا آيَسُوا أَغْلَقُوا بَابَ مَدِينَتِهِمْ فَلَمْ يَدْخُلْهَا بَقَرُهُمْ وَلَا غَنَمُهُمْ وَعَزَلُوا الْوَالِدَةَ عَنْ وَلَدِهَا وَكَذَا الصِّبْيَانُ وَالْأُمَّهَاتُ، ثُمَّ قَامُوا يَنْتَظِرُونَ الصُّبْحَ. فَلَمَّا انْشَقَّ الصُّبْحُ رَأَوُا الْعَذَابَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ فَشَقُّوا جُيُوبَهُمْ وَوَضَعَتِ الْحَوَامِلُ مَا فِي بُطُونِهَا، وَصَاحَ الصِّبْيَانُ وَثَغَتِ الْأَغْنَامُ وَالْبَقَرُ، فَرَفَعَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمُ الْعَذَابَ، فَبَعَثُوا إِلَى يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَآمَنُوا بِهِ، وَبَعَثُوا مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَانَتْ رِسَالَةُ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ مَا نَبَذَهُ الْحُوتُ، وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصَّافَّاتِ: 145- 147] وَفِي هَذَا الْقَوْلِ رِوَايَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِيُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: انْطَلِقْ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى وَأَنْذِرْهُمْ أَنَّ الْعَذَابَ قَدْ حَضَرَهُمْ، فَقَالَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَلْتَمِسُ دَابَّةً فَقَالَ الْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ فَغَضِبَ وَانْطَلَقَ إِلَى السَّفِينَةِ، وَبَاقِي الْحِكَايَةِ كَمَا مَرَّتْ إِلَى أَنِ الْتَقَمَهُ الْحُوتُ فَانْطَلَقَ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى نِينَوَى فَأَلْقَاهُ هُنَاكَ. أَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ قِصَّةَ الْحُوتِ كَانَتْ بَعْدَ دُعَائِهِ أَهْلَ نِينَوَى وَتَبْلِيغِهِ رِسَالَةَ اللَّه إِلَيْهِمْ قَالُوا إِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا وَعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ، فَلَمَّا كُشِفَ الْعَذَابُ عَنْهُمْ بَعْدَ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ خَرَجَ مِنْهُمْ مُغَاضِبًا، ثُمَّ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ الْخُرُوجِ والغضب أمورا. أحدها: أنه استحى أَنْ يَكُونَ بَيْنَ قَوْمٍ قَدْ جَرَّبُوا عَلَيْهِ الْكَذِبَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ كَانَ مَنْ عَادَتِهِمْ قَتْلُ الْكَاذِبِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ دَخَلَتْهُ الْأَنَفَةُ. وَرَابِعُهَا: لَمَّا لَمْ يَنْزِلِ الْعَذَابُ بِأُولَئِكَ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قِصَّةَ الْحُوتِ وَذَهَابِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُغَاضِبًا بَعْدَ أَنْ أَرْسَلَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِمْ، وَبَعْدَ رَفْعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ الذَّنْبِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ/ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ ذَهَبَ يُونُسُ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ وَيُقَالُ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَوَهْبٍ وَاخْتِيَارُ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَلْزَمُ أَنَّ مُغَاضَبَتَهُ للَّه تَعَالَى مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ، ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْمُغَاضَبَةَ لَمْ تَكُنْ مَعَ اللَّه تَعَالَى بَلْ كَانَتْ مَعَ ذَلِكَ الْمَلِكِ أَوْ مَعَ الْقَوْمِ فَهُوَ أَيْضًا كَانَ مَحْظُورًا لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ [الْقَلَمِ: 48] وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ مِنْ يُونُسَ كَانَ مَحْظُورًا. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ شَاكًّا فِي قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ وَالظُّلْمُ مِنْ أَسْمَاءِ الذَّمِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هُودٍ: 18] . وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ الذَّنْبُ، فَلِمَ عَاقَبَهُ اللَّه بِأَنْ أَلْقَاهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ. وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصَّافَّاتِ: 142] وَالْمُلِيمُ هُوَ ذُو الْمَلَامَةِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُذْنِبٌ. وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ الْحُوتِ مُذْنِبًا لَمْ يَجُزِ النَّهْيُ عَنِ التَّشَبُّهِ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُذْنِبًا فَقَدْ حَصَلَ الْغَرَضُ. وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ قَالَ: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ وقال: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَافِ: 35] فَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ يُونُسُ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ وَكَانَ مُوسَى مِنْ أُولِي الْعَزْمِ، ثُمَّ قَالَ: فِي حَقِّهِ لَوْ كَانَ ابْنُ عِمْرَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي، وَقَالَ فِي يُونُسَ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى» وَهَذَا خَارِجٌ عَنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَنْ غَاضَبَهُ، لَكِنَّا نَقْطَعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى نَبِيِّ اللَّه أَنْ يُغَاضِبَ رَبَّهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ صِفَةُ مَنْ يَجْهَلُ كَوْنَ اللَّه مَالِكًا

لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْجَاهِلُ باللَّه لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهُ خَرَجَ مُغَاضِبًا لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الِاسْتِعْدَادِ، وَتَنَاوُلِ النَّفْلِ فَمِمَّا يَرْتَفِعُ حَالُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَنْهُ، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى إِذَا أَمَرَهُمْ بِشَيْءٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفُوهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الْأَحْزَابِ: 36] وَقَوْلُهُ: فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ إِلَى قَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ [النِّسَاءِ: 65] فَإِذَا كَانَ فِي الِاسْتِعْدَادِ مُخَالَفَةٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُ هَذِهِ الْمُغَاضَبَةِ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ خَرَجَ مُغَاضِبًا لِغَيْرِ اللَّه، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُغَاضِبُ مَنْ يَعْصِيهِ فِيمَا يَأْمُرُهُ بِهِ فَيَحْتَمِلُ قَوْمَهُ أَوِ الْمَلِكَ أَوْ هُمَا جَمِيعًا، وَمَعْنَى مُغَاضَبَتِهِ لِقَوْمِهِ أَنَّهُ أَغْضَبَهُمْ بِمُفَارَقَتِهِ لِخَوْفِهِمْ حُلُولَ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ عِنْدَهَا، وَقَرَأَ أَبُو شَرَفٍ مُغْضَبًا. أَمَّا قَوْلُهُ مُغَاضَبَةُ الْقَوْمِ أَيْضًا كَانَتْ مَحْظُورَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ [القلم: 48] قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا كَانَتْ مَحْظُورَةً، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَهُ بِتَبْلِيغِ تِلْكَ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ، وَمَا أَمَرَهُ بِأَنْ يَبْقَى مَعَهُمْ أَبَدًا فَظَاهِرُ الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَلَمْ يَكُنْ خُرُوجُهُ مِنْ بَيْنِهِمْ مَعْصِيَةً، وَأَمَّا الْغَضَبُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ إِلَّا غَضَبًا للَّه تَعَالَى وَأَنَفَةً لِدِينِهِ وَبُغْضًا لِلْكُفْرِ وَأَهْلِهِ، بَلْ كَانَ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يُصَابِرَ وَيَنْتَظِرَ الْإِذْنَ مِنَ اللَّه/ تَعَالَى فِي الْمُهَاجَرَةِ عَنْهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ كَأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَرَادَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الْمَنَازِلِ وَأَعْلَاهَا. وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ: وَهِيَ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أَنْ نَقُولَ مَنْ ظَنَّ عَجْزَ اللَّه تَعَالَى فَهُوَ كَافِرٌ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَيْفَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَإِذَنْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ [الْعَنْكَبُوتِ: 12] أَيْ يُضَيِّقُ: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطَّلَاقِ: 7] أَيْ ضُيِّقَ: وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الْفَجْرِ: 16] أَيْ ضَيَّقَ وَمَعْنَاهُ أَنْ لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَصِيرُ الْآيَةُ حُجَّةً لَنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ظَنَّ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ أَقَامَ وَإِنْ شَاءَ خَرَجَ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُضَيِّقُ عَلَيْهِ فِي اخْتِيَارِهِ، وَكَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّ الصَّلَاحَ فِي تَأَخُّرِ خُرُوجِهِ، وَهَذَا مِنَ اللَّه تَعَالَى بَيَانٌ لِمَا يَجْرِي مَجْرَى الْعُذْرِ لَهُ مِنْ حَيْثُ خَرَجَ، لَا عَلَى تَعَمُّدِ الْمَعْصِيَةِ لَكِنْ لِظَنِّهِ أَنَّ الْأَمْرَ فِي خُرُوجِهِ مُوَسَّعٌ يَجُوزُ أَنْ يُقَدِّمَ وَيُؤَخِّرَ، وَكَانَ الصَّلَاحُ خِلَافَ ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ بِمَعْنَى فَكَانَتْ حَالَتُهُ مُمَثَّلَةً بِحَالَةِ مَنْ ظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فِي خُرُوجِهِ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ غَيْرِ انْتِظَارٍ لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى. وَثَالِثُهَا: أَنْ تُفَسَّرَ الْقُدْرَةُ بِالْقَضَاءِ فَالْمَعْنَى فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْضِيَ عَلَيْهِ بِشِدَّةٍ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالْكَلْبِيِّ، وَرِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: نَقْدِرَ بِمَعْنَى نُقَدِّرُ. يُقَالُ: قَدَرَ اللَّه الشَّيْءَ قَدْرًا وَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، فَالْقَدْرُ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيُّ: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ بِضَمِّ النُّونِ وَالتَّشْدِيدِ من التقدير، وقرأ عبيد بن عمر بِالتَّشْدِيدِ عَلَى الْمَجْهُولِ وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: (يُقْدَرُ عَلَيْهِ) بِالتَّخْفِيفِ عَلَى الْمَجْهُولِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ دَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَلَى مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَقَدْ ضَرَبَتْنِي أَمْوَاجُ الْقُرْآنِ الْبَارِحَةَ فَغَرِقْتُ فِيهَا فَلَمْ أَجِدْ لِنَفْسِي خَلَاصًا إِلَّا بِكَ فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: يَظُنُّ نَبِيُّ اللَّه أَنْ لَنْ يَقْدِرَ اللَّه عَلَيْهِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا هَذَا مِنَ الْقَدْرِ لَا مِنَ الْقُدْرَةِ. وَرَابِعُهَا: فظن أَنْ لَنْ نَقْدِرَ: أَيْ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَفْعَلَ لِأَنَّ بَيْنَ الْقُدْرَةِ وَالْفِعْلِ

مُنَاسِبَةً فَلَا يَبْعُدُ جَعْلُ أَحَدِهِمَا مَجَازًا عَنِ الْآخَرِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّوْبِيخِ مَعْنَاهُ أَفَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ كَانَتْ قَبْلَ رِسَالَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ هَذَا الظَّنُّ حَاصِلًا قَبْلَ الرِّسَالَةِ، وَلَا يَبْعُدُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ أَنْ يَسْبِقَ ذَلِكَ إِلَى وَهْمِهِ بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ. ثُمَّ إِنَّهُ يَرُدُّهُ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ: وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَهُوَ أَنْ نَقُولَ إِنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَلَا كَلَامَ، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا بَعْدَهَا فَهِيَ وَاجِبَةُ التَّأْوِيلِ لِأَنَّا لَوْ أَجْرَيْنَاهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، لَوَجَبَ الْقَوْلُ بِكَوْنِ النَّبِيِّ مُسْتَحِقًّا لِلَّعْنِ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ، وَإِذَا وَجَبَ التَّأْوِيلُ فَنَقُولُ لَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ تَارِكًا لِلْأَفْضَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِ الْأَفْضَلِ فَكَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا وَالْجَوَابُ عَنِ الرَّابِعِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عُقُوبَةً إِذِ الْأَنْبِيَاءُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبُوا، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الْمِحْنَةُ، لَكِنْ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَذْكُرُونَ فِي كُلِّ مَضَرَّةٍ تُفْعَلُ/ لِأَجْلِ ذَنْبٍ أَنَّهَا عُقُوبَةٌ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْخَامِسِ: أَنَّ الْمَلَامَةَ كَانَتْ بِسَبَبِ تَرْكِ الْأَفْضَلِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي الظُّلُمَاتِ أَيْ فِي الظُّلْمَةِ الشَّدِيدَةِ الْمُتَكَاثِفَةِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ [الْبَقَرَةِ: 17] وَقَوْلِهِ: يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [الْبَقَرَةِ: 257] وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً مِنَ الظُّلُمَاتِ فَإِنْ كَانَ النِّدَاءُ فِي اللَّيْلِ فَهُنَاكَ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَالْبَحْرِ وَبَطْنِ الْحُوتِ، وَإِنْ كَانَ فِي النَّهَارِ أُضِيفَ إِلَيْهِ ظُلْمَةُ أَمْعَاءِ الْحُوتِ، أَوْ أَنَّ حُوتًا ابْتَلَعَ الْحُوتَ الَّذِي هُوَ فِي بَطْنِهِ، أَوْ لِأَنَّ الْحُوتَ إِذَا عَظُمَ غَوْصُهُ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ كَانَ مَا فَوْقَهُ مِنَ الْبَحْرِ ظُلْمَةً فِي ظُلْمَةٍ، أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْحُوتَ الَّذِي ابْتَلَعَهُ غَاصَ فِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِخَبَرٍ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ قِيلَ بِذَلِكَ لِكَيْ يَقَعَ نِدَاؤُهُ فِي الظُّلُمَاتِ فَمَا قَدَّمْنَاهُ يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ فَالْمَعْنَى بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَوْ بِمَعْنَى أَيْ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ مَكْرُوبٍ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ» وَعَنِ الْحَسَنِ: مَا نَجَّاهُ اللَّه تَعَالَى إِلَّا بِإِقْرَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِالظُّلْمِ. أَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَكَ فَهُوَ تَنْزِيهٌ عَنْ كُلِّ النَّقَائِصِ وَمِنْهَا الْعَجْزُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ مُرَادُهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أَنَّهُ ظَنَّ الْعَجْزَ، وَإِنَّمَا قَالَ: سُبْحانَكَ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ سُبْحَانَكَ أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ جَوْرًا أَوْ شَهْوَةً لِلِانْتِقَامِ، أَوْ عَجْزًا عَنْ تَخْلِيصِي عَنْ هَذَا الْحَبْسِ، بَلْ فَعَلْتَهُ بِحَقِّ الْإِلَهِيَّةِ وَبِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَالْمَعْنَى ظَلَمْتُ نَفْسِي بِفِرَارِي مِنْ قَوْمِي بِغَيْرِ إِذْنِكَ، كَأَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَأَنَا الْآنَ مِنَ التَّائِبِينَ النَّادِمِينَ، فَاكْشِفْ عَنِّي الْمِحْنَةَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ بِكَمَالِ الرُّبُوبِيَّةِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ بِضَعْفِ الْبَشَرِيَّةِ وَالْقُصُورِ فِي أَدَاءِ حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي فِي السُّؤَالِ عَلَى مَا قَالَ الْمُتَنَبِّي: وَفِي النَّفْسِ حَاجَاتٌ وَفِيكَ فَطَانَةٌ ... سُكُوتِي كَلَامٌ عِنْدَهَا وَخِطَابُ وَرَوَى عَبْدُ اللَّه بْنُ رَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا أَرَادَ اللَّه حَبْسَ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْحَى إِلَى الْحُوتِ أَنْ خُذْهُ وَلَا تَخْدِشْ لَهُ لَحْمًا، وَلَا تَكْسِرْ لَهُ عَظْمًا» فَأَخَذَهُ وَهَوَى بِهِ إِلَى أَسْفَلِ الْبَحْرِ، فَسَمِعَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِسًّا، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: مَا هَذَا؟ فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ هَذَا تَسْبِيحُ دَوَابِّ الْبَحْرِ، قَالَ فَسَبَّحَ، فَسَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ تَسْبِيحَهُ، فَقَالُوا مِثْلَهُ.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 إلى 90]

أَمَّا قَوْلُهُ: وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ أَيْ مِنْ غَمِّهِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَبِسَبَبِ خَطِيئَتِهِ، وَكَمَا أَنْجَيْنَا يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ كرب الحبس إذ دعانا: كذلك نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كَرْبِهِمْ إِذَا اسْتَغَاثُوا بِنَا. رَوَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، مَا دَعَا بِهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ قَطُّ وَهُوَ مَكْرُوبٌ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّه دُعَاءَهُ» . / قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ نُنْجِي وَنُنَجِّي وَنَجَّى وَالنُّونُ لَا تُدْغَمُ فِي الْجِيمِ، وَمَنْ تَمَحَّلَ لِصِحَّتِهِ فَجَعَلَهُ فَعَّلَ وَقَالَ: نَجَّى النَّجَاءَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلَ الْيَاءَ وَأَسْنَدَهُ إِلَى مَصْدَرِهِ، وَنَصَبَ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّجَاءِ، فَتَعَسَّفَ بَارِدَ التعسف. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 الى 90] وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) الْقِصَّةُ التَّاسِعَةُ، قِصَّةُ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السلام اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ انْقِطَاعَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى رَبِّهِ تَعَالَى لَمَّا مَسَّهُ الضُّرُّ بِتَفَرُّدِهِ، وَأَحَبَّ مَنْ يُؤْنِسُهُ وَيُقَوِّيهِ عَلَى أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَيَكُونُ قَائِمًا مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَدَعَا اللَّه تَعَالَى دُعَاءَ مُخْلِصٍ عَارِفٍ بِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنِ انْتَهَتِ الْحَالُ بِهِ وَبِزَوْجَتِهِ مِنْ كِبَرٍ وَغَيْرِهِ إِلَى الْيَأْسِ مِنْ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْعَادَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عنهما: كَانَ سِنُّهُ مِائَةً وَسِنُّ زَوْجَتِهِ تِسْعًا وَتِسْعِينَ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذَكَرَهُ فِي جُمْلَةِ دُعَائِهِ عَلَى وَجْهِ الثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِ لِيَكْشِفَ عَنْ عِلْمِهِ بِأَنَّ مَآلَ الْأُمُورِ إِلَى اللَّه تَعَالَى. وَالثَّانِي: كَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِنْ لَمْ تَرْزُقْنِي مَنْ يَرِثُنِي فَلَا أُبَالِي فَإِنَّكَ خَيْرُ وَارِثٍ» . وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ أَيْ فَعَلْنَا مَا أَرَادَهُ لِأَجْلِ سُؤَالِهِ، وَفِي ذَلِكَ إِعْظَامٌ لَهُ، فَلِذَلِكَ تَقُولُ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ الِاسْتِجَابَةَ ثَوَابٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِعْظَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى فَهُوَ كَالتَّفْسِيرِ لِلِاسْتِجَابَةِ وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَصْلَحَهَا لِلْوِلَادَةِ بِأَنْ أَزَالَ عَنْهَا الْمَانِعَ بِالْعَادَةِ، وَهَذَا أَلْيَقُ بِالْقِصَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَصْلَحَهَا فِي أَخْلَاقِهَا وَقَدْ كَانَتْ عَلَى طَرِيقَةٍ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ وَسَلَاطَةِ اللِّسَانِ تُؤْذِيهِ وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَهَا مُصْلِحَةً فِي الدِّينِ، فَإِنَّ صَلَاحَهَا فِي الدِّينِ مِنْ أَكْبَرِ أَعْوَانِهِ فِي كَوْنِهِ دَاعِيًا إِلَى اللَّه تَعَالَى فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ رَبَّهُ الْمَعُونَةَ عَلَى الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِالْوَلَدِ وَالْأَهْلِ جَمِيعًا. وَهَذَا كَأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ: أَصْلَحَ اللَّه فُلَانًا فَالْأَظْهَرُ فِيهِ مَا يَتَّصِلُ بِالدِّينِ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ/ لِأَنَّ إِصْلَاحَ الزَّوْجِ مُقَدَّمٌ عَلَى هِبَةِ الْوَلَدِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخَّرَهُ فِي اللَّفْظِ وَبَيَّنَ تَعَالَى مِصْدَاقَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأَرَادَ بِذَلِكَ زَكَرِيَّا وَوَلَدَهُ وَأَهْلَهُ فَبَيَّنَ أَنَّهُ آتَاهُمْ مَا طَلَبُوهُ وَعَضَّدَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ طَرِيقَتُهُمْ أَنَّهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ، وَالْمُسَارَعَةُ فِي طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى مِنْ أَكْبَرِ مَا يُمْدَحُ الْمَرْءُ بِهِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حِرْصٍ عَظِيمٍ عَلَى الطَّاعَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً قُرِئَ رغبا ورهبا وهو كقوله: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ

[سورة الأنبياء (21) : آية 91]

رَبِّهِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ ضَمُّوا إِلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَالْمُسَارَعَةِ فِيهَا أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْفَزَعُ إِلَى اللَّه تَعَالَى لِمَكَانِ الرَّغْبَةِ فِي ثَوَابِهِ وَالرَّهْبَةِ فِي عِقَابِهِ. وَالثَّانِي: الْخُشُوعُ وَهُوَ الْمَخَافَةُ الثَّابِتَةُ فِي الْقَلْبِ، فَيَكُونُ الْخَاشِعُ هُوَ الْحَذِرُ الَّذِي لَا يَنْبَسِطُ في الأمور خوفا من الإثم. [سورة الأنبياء (21) : آية 91] وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) الْقِصَّةُ الْعَاشِرَةُ، قِصَّةُ مريم عليها السلام اعْلَمْ أَنَّ التَّقْدِيرَ وَاذْكُرِ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا، ثُمَّ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا إِحْصَانًا كُلِّيًّا مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ جَمِيعًا كَمَا قَالَتْ: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مَرْيَمَ: 20] . وَالثَّانِي: مِنْ نَفْخَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ مَنَعَتْهُ مِنْ جَيْبِ دِرْعِهَا قَبْلَ أَنْ تَعْرِفَهُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنَ اللَّفْظِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: نَفْخُ الرُّوحِ فِي الْجَسَدِ عِبَارَةٌ عَنْ إِحْيَائِهِ قَالَ تَعَالَى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الْحِجْرِ: 29] أَيْ أَحْيَيْتُهُ وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا ظَاهِرَ الْإِشْكَالِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى إِحْيَاءِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَعْنَاهُ فَنَفَخْنَا الرُّوحَ فِي عِيسَى فِيهَا، أَيْ أَحْيَيْنَاهُ فِي جَوْفِهَا كَمَا يَقُولُ الزَّمَّارُ نَفَخْتُ فِي بَيْتِ فُلَانٍ أَيْ فِي الْمِزْمَارِ فِي بَيْتِهِ. وَثَانِيهَا: فَعَلْنَا النَّفْخَ فِي مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ مِنْ جِهَةِ رُوحِنَا وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا فَوَصَلَ النَّفْخُ إِلَى جَوْفِهَا ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى بِأَخْصَرِ الْكَلَامِ مَا خَصَّ بِهِ مَرْيَمَ وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مِنَ الْآيَاتِ فَقَالَ: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ أَمَّا مَرْيَمُ فَآيَاتُهَا كَثِيرَةٌ: أَحَدُهَا: ظُهُورُ الْحَبَلِ فِيهَا لَا مِنْ ذَكَرٍ فَصَارَ ذَلِكَ آيَةً وَمُعْجِزَةً خَارِجَةً عَنِ الْعَادَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ رِزْقَهَا كَانَ يَأْتِيهَا بِهِ الْمَلَائِكَةُ مِنَ الْجَنَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَثَالِثُهَا وَرَابِعُهَا: قَالَ الْحَسَنُ إِنَّهَا لَمْ تَلْتَقِمْ ثَدْيًا يَوْمًا قَطُّ وَتَكَلَّمَتْ هِيَ أَيْضًا فِي صِبَاهَا كَمَا تَكَلَّمَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَمَّا آيَاتُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ جَعَلَهُمَا آيَةً لِلنَّاسِ يَتَدَبَّرُونَ فِيمَا خُصَّا بِهِ مِنَ الْآيَاتِ وَيَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ سُبْحَانَهُ/ وَتَعَالَى فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا قِيلَ آيَتَيْنِ كَمَا قَالَ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ [الْإِسْرَاءِ: 12] قُلْنَا لِأَنَّ حَالَهُمَا بِمَجْمُوعِهِمَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ وِلَادَتُهَا إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ فحل. وهنا آخر القصص. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 92 الى 93] إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْأُمَّةُ الْمِلَّةُ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، أَيْ أَنَّ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ هِيَ مِلَّتُكُمُ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَكُونُوا عَلَيْهَا يُشَارُ إِلَيْهَا بِمِلَّةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرِ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَنَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاعْبُدُونِ، وَنَصَبَ الْحَسَنُ (أُمَّتَكُمْ) عَلَى الْبَدَلِ مِنْ هَذِهِ وَرَفَعَ أُمَّةٌ خَبَرًا وَعَنْهُ رَفْعُهُمَا جَمِيعًا خَبَرَيْنِ أَوْ نَوَى لِلثَّانِي الْمُبْتَدَأَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَالْأَصْلُ وَتَقَطَّعْتُمْ إِلَّا أَنَّ الْكَلَامَ صُرِفَ إِلَى الْغَيْبَةِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ كَأَنَّهُ يَنْقُلُ عَنْهُمْ مَا أَفْسَدُوهُ إِلَى آخَرِينَ وَيُقَبِّحُ عِنْدَهُمْ فِعْلَهُمْ وَيَقُولُ لَهُمْ: أَلَا تَرَوْنَ إِلَى عَظِيمِ مَا ارْتَكَبَ هَؤُلَاءِ، وَالْمَعْنَى جَعَلُوا أَمْرَ دِينِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ قِطَعًا كَمَا تَتَوَزَّعُ الْجَمَاعَةُ الشَّيْءَ وَيُقَسِّمُونَهُ فَيَصِيرُ لِهَذَا نَصِيبٌ وَلِذَلِكَ نَصِيبٌ تَمْثِيلًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِيهِ وَصَيْرُورَتِهِمْ فِرَقًا وَأَحْزَابًا شَتَّى.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 94 إلى 97]

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ فَقَدْ تَوَعَّدَهُمْ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْفِرَقَ الْمُخْتَلِفَةَ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، فَهُوَ مُحَاسِبُهُمْ وَمُجَازِيهِمْ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «تَفَرَّقَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَهَلَكَتْ سَبْعُونَ وَخَلَصَتْ فِرْقَةٌ، وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَتَهْلِكُ إِحْدَى وَسَبْعُونَ فِرْقَةً وَتَخْلُصُ فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه مَنْ تِلْكَ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ؟ قَالَ: الْجَمَاعَةُ الْجَمَاعَةُ الْجَمَاعَةُ» فَتَبَيَّنَ بِهَذَا الْخَبَرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ الْجَمَاعَةُ الْمُتَمَسِّكَةُ بِمَا بَيَّنَهُ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّاتِ، وَأَنَّ فِي قَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاجِيَةِ إِنَّهَا الْجَمَاعَةُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ هَذِهِ أَشَارَ بِهَا إِلَى أُمَّةِ الْإِيمَانِ وَإِلَّا كَانَ قَوْلُهُ فِي تَعْرِيفِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ إِنَّهَا الْجَمَاعَةُ لَغْوًا إِذْ لَا فِرْقَةَ تَمَسَّكَتْ بِبَاطِلٍ أَوْ بِحَقٍّ إِلَّا وَهِيَ جَمَاعَةٌ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدِ وَطَعَنَ بَعْضُهُمْ فِي صِحَّةِ هَذَا الْخَبَرِ، فَقَالَ: إِنْ أَرَادَ بِالثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً أُصُولَ الْأَدْيَانِ فَلَمْ يَبْلُغْ هَذَا الْقَدْرَ، وَإِنْ أَرَادَ الْفُرُوعَ فَإِنَّهَا تَتَجَاوَزُ هَذَا الْقَدْرَ إِلَى أَضْعَافِ ذَلِكَ، وَقِيلَ أَيْضًا: قَدْ رُوِيَ ضِدُّ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهَا كُلَّهَا نَاجِيَةٌ إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً. وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي فِي حَالٍ مَا وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى افْتِرَاقِهَا فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ لَا يَجُوزُ أَنْ يزيد وينقص. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 94 الى 97] فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) [في قَوْلُهُ تَعَالَى فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ أَمْرَ الْأُمَّةِ مِنْ قَبْلُ وَذَكَرَ تَفَرُّقَهُمْ وَأَنَّهُمْ أَجْمَعَ رَاجِعُونَ إِلَى حَيْثُ لَا أَمْرَ إِلَّا لَهُ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا وَبَيْنَ أَنْ يَعْمَلَ الصَّالِحَاتِ فَيَدْخُلُ فِي الْأَوَّلِ الْعِلْمُ وَالتَّصْدِيقُ باللَّه وَرَسُولِهِ وَفِي الثَّانِي فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكُ الْمَحْظُورَاتِ: فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ أَيْ لَا بُطْلَانَ لِثَوَابِ عَمَلِهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الْإِسْرَاءِ: 19] فَالْكُفْرَانُ مَثَلٌ فِي حِرْمَانِ الثَّوَابِ وَالشُّكْرُ مَثَلٌ فِي إِعْطَائِهِ وَقَوْلُهُ: فَلا كُفْرانَ الْمُرَادُ نَفْيُ الْجِنْسِ لِيَكُونَ فِي نِهَايَةِ الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ نَفْيَ الْمَاهِيَّةِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ جَمِيعِ أَفْرَادِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ فَالْمُرَادُ وَإِنَّا لِسَعْيِهِ كَاتِبُونَ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ حَافِظُونَ لِنُجَازِيَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: كَاتِبُونَ إِمَّا فِي أُمِّ الْكِتَابِ أَوْ فِي الصُّحُفِ الَّتِي تُعْرَضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ تَرْغِيبُ الْعِبَادِ فِي التَّمَسُّكِ بِطَاعَةِ اللَّه تَعَالَى. أَمَّا قَوْلُهُ: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَحَرامٌ خَبَرٌ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَهُوَ إِمَّا قَوْلُهُ: أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ أَوْ شَيْءٌ آخَرُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالتَّقْدِيرُ أَنَّ عَدَمَ رُجُوعِهِمْ حَرَامٌ أَيْ مُمْتَنِعٌ وَإِذَا كَانَ عَدَمُ رُجُوعِهِمْ مُمْتَنِعًا كَانَ رُجُوعُهُمْ وَاجِبًا فَهَذَا الرُّجُوعُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الرُّجُوعَ إِلَى الْآخِرَةِ أَوْ إِلَى الدُّنْيَا. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ رُجُوعَهُمْ إِلَى الْحَيَاةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَاجِبٌ، وَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهُ إبطال قول

مَنْ يُنْكِرُ الْبَعْثَ، وَتَحْقِيقُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا/ كُفْرَانَ لِسَعْيِ أَحَدٍ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ سَيُعْطِيهِ الْجَزَاءَ عَلَى ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ تَأْوِيلُ أَبِي مُسْلِمِ بْنِ بَحْرٍ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ رُجُوعَهُمْ إِلَى الدُّنْيَا وَاجِبٌ لَكِنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّهُمْ لَمْ يَرْجِعُوا إِلَى الدُّنْيَا فَعِنْدَ هَذَا ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَرَامَ قَدْ يَجِيءُ بِمَعْنَى الْوَاجِبِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالِاسْتِعْمَالُ وَالشِّعْرُ، أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [الْأَنْعَامِ: 151] وَتَرْكُ الشِّرْكِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، وَأَمَّا الشِّعْرُ فَقَوْلُ الْخَنْسَاءِ: وَإِنَّ حَرَامًا لَا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيًا ... عَلَى شَجْوِهِ إِلَّا بَكَيْتُ عَلَى عَمْرِو يَعْنِي وَإِنَّ وَاجِبًا، وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَلِأَنَّ تَسْمِيَةَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ بِاسْمِ الْآخَرِ مَجَازٌ مَشْهُورُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْمَعْنَى أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى أَهْلِ كُلِّ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الرُّجُوعِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَنِ الشِّرْكِ وَلَا يَتَوَلَّوْنَ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ. وَثَانِيهَا: لَا يَرْجِعُونَ إِلَى الدُّنْيَا وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُتْرَكَ قَوْلُهُ وَحَرَامٌ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيُجْعَلَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَرْجِعُونَ صِلَةٌ زَائِدَةٌ كَمَا أَنَّهُ صِلَةٌ فِي قَوْلِهِ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الْأَعْرَافِ: 12] وَالْمَعْنَى حَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا رُجُوعُهُمْ إِلَى الدُّنْيَا وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس: 50] أَوْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَحَرَامٌ عَلَيْهِمْ رُجُوعُهُمْ عَنِ الشِّرْكِ وَتَرْكِ الْإِيمَانَ، وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا جَعَلْنَا قَوْلَهُ وَحَرَامٌ خَبَرًا لِقَوْلِهِ: أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ أَمَّا إِذَا جَعَلْنَاهُ خَبَرًا لِشَيْءٍ آخَرَ فَالتَّقْدِيرُ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ذَاكَ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالسَّعْيِ الْمَشْكُورِ غَيْرِ الْمَكْفُورِ ثُمَّ عَلَّلَ فَقَالَ: أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَنِ الْكُفْرِ فَكَيْفَ لَا يَمْتَنِعُ، ذَلِكَ هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ إِنَّهُمْ بِالْكَسْرِ وَالْقِرَاءَةُ بِالْفَتْحِ يَصِحُّ حَمْلُهَا أَيْضًا عَلَى هَذَا أَيْ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَفِيهِ مسائل: المسألة الأولى: أن (حتى) متعلقة بحرام فَأَمَّا عَلَى تَأْوِيلِ أَبِي مُسْلِمٍ فَالْمَعْنَى أَنَّ رُجُوعَهُمْ إِلَى الْآخِرَةِ وَاجِبٌ حَتَّى إِنَّ وَجُوبَهُ يَبْلُغُ إِلَى حَيْثُ إِنَّهُ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَكُونُونَ أَوَّلَ النَّاسِ حُضُورًا فِي مَحْفِلِ الْقِيَامَةِ، فَحَتَّى مُتَعَلِّقَةٌ بحرام وَهِيَ غَايَةٌ لَهُ وَلَكِنَّهُ غَايَةٌ مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ كَقَوْلِكَ دَخَلَ الْحَاجُّ حَتَّى الْمُشَاةُ. وَحَتَّى هَاهُنَا هِيَ الَّتِي يُحْكَى بَعْدَهَا الْكَلَامُ. وَالْكَلَامُ الْمَحْكِيُّ هُوَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ أَعْنِي قَوْلَهُ: إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ... وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَهُنَاكَ يَتَحَقَّقُ شُخُوصُ أَبْصَارِ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الشَّرْطَ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي آخِرِ أَيَّامِ الدُّنْيَا وَالْجَزَاءُ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَا مُتَقَارِبَيْنِ، قُلْنَا التَّفَاوُتُ الْقَلِيلُ يَجْرِي مَجْرَى الْمَعْدُومِ، وَأَمَّا عَلَى التَّأْوِيلَاتِ الْبَاقِيَةِ فَالْمَعْنَى أَنَّ امْتِنَاعَ رُجُوعِهِمْ لَا يَزُولُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ الْمَعْنَى فُتِحَ سَدُّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُدْخَلِتْ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ فِي فُتِحَتْ لَمَّا حُذِفَ الْمُضَافُ لِأَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُؤَنَّثَانِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبِيلَتَيْنِ، وَقِيلَ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ جِهَةُ يَأْجُوجَ.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 98 إلى 100]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هُمَا قَبِيلَتَانِ مِنْ جِنْسِ الْإِنْسِ، يُقَالُ: النَّاسُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ مِنْهَا يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ يَخْرُجُونَ حِينَ يُفْتَحُ السَّدُّ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قِيلَ: السَّدُّ يَفْتَحُهُ اللَّه تَعَالَى ابْتِدَاءً، وَقِيلَ: بَلْ إِذَا جَعَلَ اللَّه تَعَالَى الْأَرْضَ دَكًّا زَالَتِ الصَّلَابَةُ عَنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ فَحِينَئِذٍ يَنْفَتِحُ السَّدُّ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فَحَشْوٌ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، وَالْمَعْنَى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ شَخَصَتْ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَالْحَدَبُ النَّشَزُ مِنَ الْأَرْضِ، وَمِنْهُ حَدَبَةُ الْأَرْضِ، وَمِنْهُ حَدَبَةُ الظَّهْرِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا مِنْ كُلِّ جَدَثٍ يَنْسِلُونَ، اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ: فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: 51] وَقُرِئَ بِضَمِّ السِّينِ وَنَسَلَ وَعَسَلَ أَسْرَعَ ثُمَّ فِيهِ قَوْلَانِ، قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ أَيْ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ فَيُحْشَرُونَ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَوْجَهُ وَإِلَّا لَتَفَكَّكَ النَّظْمُ، وَأَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ إِذَا كَثُرُوا عَلَى مَا رُوِيَ فِي «الْخَبَرِ» ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُنْشَرُوا فَيَظْهَرَ إِقْبَالُهُمْ عَلَى النَّاسِ مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَلَا شُبْهَةَ أَنَّ الْوَعْدَ الْمَذْكُورَ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَإِذا هِيَ فَاعْلَمْ أَنَّ (إِذَا) هَاهُنَا لِلْمُفَاجَأَةِ فَسَمَّى الْمَوْعِدَ وَعْدًا تَجَوُّزًا، وَهِيَ تَقَعُ فِي الْمُجَازَاةِ سَادَّةً مَسَدَّ الْفَاءِ كَقَوْلِهِ: إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ [الرُّومِ: 36] فَإِذَا جَاءَتِ الْفَاءُ مَعَهَا تَعَاوَنَتَا عَلَى وَصْلِ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ فَيَتَأَكَّدُ وَلَوْ قيل: فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ [إلي آخر الآية] أَوْ فَهِيَ شَاخِصَةٌ كَانَ سَدِيدًا، أَمَّا لَفْظَةُ هِيَ فَقَدْ ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْأَبْصَارِ، وَالْمَعْنَى فَإِذَا أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا شَاخِصَةٌ أَبْصَارُهُمْ كَنَى عَنِ الْأَبْصَارِ ثُمَّ أَظْهَرَ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ عِمَادًا وَيَصْلُحُ فِي مَوْضِعِهَا هُوَ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ [النمل: 9] وَمِثْلُهُ: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ [الْحَجِّ: 46] وَجَازَ التَّأْنِيثُ لِأَنَّ الْأَبْصَارَ مُؤَنَّثَةٌ وَجَازَ التَّذْكِيرُ لِلْعِمَادِ وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ الضَّمِيرُ لِلْقِصَّةِ بِمَعْنَى فَإِذَا الْقِصَّةُ شَاخِصَةٌ، يَعْنِي أَنَّ الْقِصَّةَ أَنَّ أَبْصَارَ الَّذِينَ كَفَرُوا تَشْخَصُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ الْقِيَامَةَ إِذَا قَامَتْ شَخَصَتْ أَبْصَارُ هَؤُلَاءِ مِنْ شِدَّةِ الْأَهْوَالِ، فَلَا تَكَادُ تَطْرِفُ مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمِنْ تَوَقُّعِ مَا يَخَافُونَهُ، وَيَقُولُونَ: يَا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا يَعْنِي فِي الدُّنْيَا حَيْثُ كَذَّبْنَاهُ وَقُلْنَا: إِنَّهُ غَيْرُ كَائِنٍ بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ أَنْفُسَنَا بِتِلْكَ الْغَفْلَةِ وَبِتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ قَبْلَ قَوْلِهِ يَا وَيْلَنَا من حذف والتقدير يقولون يا ويلنا. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 98 الى 100] إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لَا يَسْمَعُونَ (100) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّكُمْ خِطَابٌ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَصَنَادِيدُ قُرَيْشٍ فِي الْحَطِيمِ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ فَعَرَضَ لَهُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَكَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَأَفْحَمَهُ ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِمْ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الْآيَةَ فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّه بْنُ الزِّبَعْرَى فَرَآهُمْ يَتَهَامَسُونَ فَقَالَ: فِيمَ خَوْضُكُمْ؟ فَأَخْبَرَهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بِقَوْلِ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقال عَبْدُ اللَّه أَمَّا واللَّه لَوْ وَجَدْتُهُ لَخَصَمْتُهُ فَدَعَوْهُ، فَقَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى أَأَنْتَ قُلْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ قَدْ خَصَمْتُكَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ أَلَيْسَ الْيَهُودُ عَبَدُوا عُزَيْرًا وَالنَّصَارَى عَبَدُوا الْمَسِيحَ وبنوا مَلِيحٍ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ «1» ثُمَّ رُوِيَ فِي ذَلِكَ روايتان: إحداها: أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكَتَ وَلَمْ يُجِبْ فَضَحِكَ الْقَوْمُ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزُّخْرُفِ: 57، 58] وَنَزَلَ فِي عِيسَى وَالْمَلَائِكَةِ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى [الْأَنْبِيَاءِ: 101] الْآيَةَ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَجَابَ وَقَالَ بَلْ هُمْ عَبَدُوا الشَّيَاطِينَ الَّتِي أَمَرَتْهُمْ بِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّه سُبْحَانَهُ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى [الْأَنْبِيَاءِ: 101] الْآيَةَ يَعْنِي عُزَيْرًا وَالْمَسِيحَ وَالْمَلَائِكَةَ وَاعْلَمْ أَنَّ سُؤَالَ ابْنِ الزِّبَعْرَى سَاقِطٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّكُمْ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ وَكَانَ ذَلِكَ مَعَ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ فَقَطْ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ وَمَنْ تَعْبُدُونَ بَلْ قَالَ مَا تَعْبُدُونَ وَكَلِمَةُ مَا لَا تَتَنَاوَلُ الْعُقَلَاءَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشَّمْسِ: 5] وَقَوْلُهُ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الْكَافِرُونَ: 2] فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّيْءِ وَنَظِيرُهُ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّكُمْ وَالشَّيْءَ الَّذِي تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه لَكِنْ لَفْظُ الشَّيْءِ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ فَلَا يَتَوَجَّهُ سُؤَالُ ابْنِ الزِّبَعْرَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَنْ عَبَدَ الْمَلَائِكَةَ لَا يَدَّعِي أَنَّهُمْ آلِهَةٌ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها. وَرَابِعُهَا: هَبْ أَنَّهُ ثَبَتَ الْعُمُومُ لَكِنَّهُ/ مَخْصُوصٌ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ لِبَرَاءَتِهِمْ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَوَعَدَ اللَّه إِيَّاهُمْ بِكُلِّ مَكْرُمَةٍ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 101] . وَخَامِسُهَا: الْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الشَّيَاطِينَ، فَإِنْ قِيلَ الشَّيَاطِينُ عُقَلَاءُ، وَلَفْظُ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُمْ فَكَيْفَ قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ؟ قُلْنَا كَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لَوْ ثَبَتَ لَكُمْ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْعُقَلَاءَ فَسُؤَالُكُمْ أَيْضًا غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَمَّا مَا قِيلَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَكَتَ عِنْدَ إِيرَادِ ابْنِ الزِّبَعْرَى هَذَا السُّؤَالَ فَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّهُ لَا أَقَلَّ مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَتَنَبَّهُ لِهَذِهِ الْأَجْوِبَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُمْ بِاللُّغَةِ وَبِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَظْهَرَ هَذِهِ الْأَجْوِبَةُ لِغَيْرِهِ، وَلَا يَظْهَرَ شَيْءٌ مِنْهَا لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَإِنْ قِيلَ: جَوَّزُوا أَنْ يَسْكُتَ عَلَيْهِ السَّلَامُ انْتِظَارًا لِلْبَيَانِ قُلْنَا: لَمَّا كَانَ الْبَيَانُ حَاضِرًا مَعَهُ لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِ السُّكُوتُ لِكَيْ لَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ الِانْقِطَاعُ عَنْ سُؤَالِهِمْ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَجَابَ عَنْ سُؤَالِ ابْنِ الزِّبَعْرَى فَقَالَ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى يُصَوِّرُ لَهُمْ فِي النَّارِ مَلَكًا عَلَى صُورَةِ مَنْ عَبَدُوهُ، وَحِينَئِذٍ تَبْقَى الْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَعْبُدُوا تِلْكَ الصُّورَةَ وَإِنَّمَا عَبَدُوا شَيْئًا آخَرَ لَمْ يَحْصُلْ مَعَهُمْ فِي النَّارِ. الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمَلَكَ لَا يَصِيرُ حَصَبَ جَهَنَّمَ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ صَحَّ أَنْ يَدْخُلَهَا، فَإِنَّ خَزَنَةَ النَّارِ يَدْخُلُونَهَا مَعَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا حَصَبَ جَهَنَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْحِكْمَةُ في أنهم قرنوا بآلهتهم أمور. أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ لِمُقَارَنَتِهِمْ فِي زِيَادَةِ غم

_ (1) لهذا الخبر تتمة، وهي أن الرسول صلى اللَّه عليه وسلم رد على ابن الزبعري حينئذاك بقوله: «ما أجهلك بلغة قومك! ما لما لا يعقل، أي أن العرب جعلوا من للعقلاء وما لغيرهم وعزير والأنبياء والملائكة من العقلاء فلا يشار إليهم بما.

وَحَسْرَةٍ، لِأَنَّهُمْ مَا وَقَعُوا فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ إِلَّا بِسَبَبِهِمْ وَالنَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ بَابٌ مِنَ الْعَذَابِ «1» . وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقَوْمَ قَدَّرُوا أَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ فِي دَفْعِ الْعَذَابِ، فَإِذَا وَجَدُوا الْأَمْرَ عَلَى عَكْسِ مَا قَدَّرُوا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَيْهِمْ مِنْهُمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ إِلْقَاءَهَا فِي النَّارِ يَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِهْزَاءِ بِعِبَادِهَا. وَرَابِعُهَا: قِيلَ مَا كَانَ مِنْهَا حَجَرًا أَوْ حَدِيدًا يُحْمَى وَيَلْزَقُ بِعُبَّادِهَا، وَمَا كَانَ خَشَبًا يُجْعَلُ جَمْرَةً يُعَذَّبُ بِهَا صَاحِبُهَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَصَبُ جَهَنَّمَ فَالْمُرَادُ يُقْذَفُونَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَشَبَّهَهُمْ بِالْحَصْبَاءِ الَّتِي يُرْمَى بِهَا الشَّيْءُ فَلَمَّا رَمَى بِهَا كَرَمْيِ الْحَصْبَاءِ، جَعَلَهُمْ حَصَبَ جَهَنَّمَ تَشْبِيهًا، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْحَصْبُ الرَّمْيُ وَقُرِئَ بِسُكُونِ الصَّادِ وَصْفًا بِالْمَصْدَرِ، وَقُرِئَ حطب وحضب بِالضَّادِ الْمَنْقُوطَةِ مُتَحَرِّكًا وَسَاكِنًا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ فَإِنَّمَا جَازَ مَجِيءُ اللَّامِ فِي لَهَا لِتَقَدُّمِهَا عَلَى الْفِعْلِ تَقُولُ أَنْتَ لِزَيْدٍ ضَارِبٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ [الْمُؤْمِنُونَ: 8] وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ [الْمُؤْمِنُونَ: 5] أَيْ أَنْتُمْ فِيهَا دَاخِلُونَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَرِدُوهَا وَلَا مَعْدِلَ لَكُمْ عَنْ دُخُولِهَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بِالْأَصْنَامِ أَلْيَقُ لِدُخُولِ لَفْظَةِ مَا، وَهَذَا الْكَلَامُ بِالشَّيَاطِينِ أَلْيَقُ لِقَوْلِهِ هَؤُلَاءِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ/ الشَّيَاطِينَ وَالْأَصْنَامَ فَيَغْلِبُ بِأَنْ يُذْكَرُوا بِعِبَارَةِ الْعُقَلَاءِ، وَنَبَّهَ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَنَّ مَنْ يُرْمَى إِلَى النَّارِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا. وَهَاهُنَا سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها لَكِنَّهُمْ وَرَدُوهَا فَهُمْ لَيْسُوا آلِهَةً حُجَّةً، وَهَذِهِ الْحُجَّةُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَكَرَهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ ذَكَرَهَا لِنَفْسِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهَا لَيْسَتْ آلِهَةً وَإِنْ ذَكَرَهَا لِغَيْرِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَذْكُرَهَا لِمَنْ يُصَدِّقُ بِنُبُوَّتِهِ أَوْ لِمَنْ يُكَذِّبُ بِنُبُوَّتِهِ، فَإِنْ ذَكَرَهَا لِمَنْ صَدَّقَ بِنُبُوَّتِهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذِهِ الْحُجَّةِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَدَّقَ بِنُبُوَّتِهِ لَمْ يَقُلْ بِإِلَهِيَّةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ وَإِنْ ذَكَرَهَا لِمَنْ يُكَذِّبُ بِنُبُوَّتِهِ، فَذَلِكَ الْمُكَذِّبُ لَا يُسَلِّمُ أَنَّ تِلْكَ الْآلِهَةَ يَرِدُونَ النَّارَ وَيُكَذِّبُونَهُ فِي ذلك، فكان ذكر هَذِهِ الْحُجَّةَ ضَائِعًا كَيْفَ كَانَ، وَأَيْضًا فَالْقَائِلُونَ بِإِلَهِيَّتِهَا لَمْ يَعْتَقِدُوا فِيهَا كَوْنَهَا مُدَبِّرَةً لِلْعَالَمِ وَإِلَّا لَكَانُوا مَجَانِينَ، بَلِ اعْتَقَدُوا فِيهَا كَوْنَهَا تَمَاثِيلَ الْكَوَاكِبِ أَوْ صُوَرَ الشُّفَعَاءِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِهَا فِي النَّارِ. وَأُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: الْمَعْنَى لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ يَعْنِي الْأَصْنَامَ آلِهَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ مَا وَرَدُوهَا أَيْ مَا دَخَلَ عَابِدُوهَا النَّارَ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَ ذَلِكَ الْعَذَابَ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: الْخُلُودُ فَقَالَ: وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ يَعْنِي الْعَابِدِينَ وَالْمَعْبُودِينَ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ قَالَ الْحَسَنُ: الزَّفِيرُ هُوَ اللَّهِيبُ، أَيْ يَرْتَفِعُونَ بِسَبَبِ لَهَبِ النَّارِ حَتَّى إِذَا ارْتَفَعُوا وَرَجَوُا الْخُرُوجَ ضُرِبُوا بِمَقَامِعِ الْحَدِيدِ فَهَوَوْا إِلَى أَسْفَلِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا، قَالَ الْخَلِيلُ: الزَّفِيرُ أَنْ يَمْلَأَ الرَّجُلُ صَدْرَهُ غَمًّا ثُمَّ يَتَنَفَّسُ قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ وَقَوْلُهُ لَهُمْ: عَامٌّ لِكُلِّ مُعَذَّبٍ، فَنَقُولُ لَهُمْ: زَفِيرٌ مِنْ شِدَّةِ مَا يَنَالُهُمْ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ فِيها لَا يَسْمَعُونَ يَرْجِعُ إِلَى الْمَعْبُودِينَ أَيْ لَا يَسْمَعُونَ صُرَاخَهُمْ وَشَكْوَاهُمْ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ لَا يُغِيثُونَهُمْ وَشِبْهُهُ سَمِعَ اللَّه لِمَنْ حَمِدَهُ أَيْ أَجَابَ اللَّه دُعَاءَهُ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَهُمْ فِيها لَا يَسْمَعُونَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَصْنَامِ خَاصَّةً عَلَى مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الْكُفَّارِ، ثُمَّ هَذَا يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ يُحْشَرُونَ صُمًّا كَمَا يُحْشَرُونَ عُمْيًا زِيَادَةً فِي عَذَابِهِمْ.

_ (1) قال أبو الطيب المتنبي في هذا المعنى: واحتمال الأذى ورؤية جالي ... هـ غذاء تضوى به الأجسام

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 101 إلى 103]

وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ مَا يَنْفَعُهُمْ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَسْمَعُونَ أَصْوَاتَ الْمُعَذَّبِينَ أَوْ كَلَامَ مَنْ يَتَوَلَّى تَعْذِيبَهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ إِنَّ الْكُفَّارَ يُجْعَلُونَ فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ وَالتَّوَابِيتُ فِي تَوَابِيتَ أُخَرَ فَلِذَلِكَ لَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا وَالْأَوَّلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَسْمَعُونَ كَلَامَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلِذَلِكَ يَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي سُورَةِ الأعراف. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 101 الى 103] إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) اعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ ابْنَ الزِّبَعْرَى لَمَّا أَوْرَدَ ذَلِكَ السُّؤَالَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَقِيَ سَاكِتًا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ تِلْكَ الْآيَةِ. وَأَمَّا نَحْنُ فَقَدَ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ وَذَكَرْنَا أَنَّ سُؤَالَهُ لَمْ يَكُنْ وَارِدًا، وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِي دَفْعِ سُؤَالِهِ إِلَى نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَبْقَ هَاهُنَا إِلَّا أَحَدُ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ عَادَةَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ مَتَى شَرَحَ عِقَابَ الْكُفَّارِ أَرْدَفَهُ بِشَرْحِ ثَوَابِ الْأَبْرَارِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ عَقِيبَ تِلْكَ فَهِيَ عَامَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ. الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ لِتَكُونَ كَالتَّأْكِيدِ فِي دَفْعِ سُؤَالِ ابْنِ الزِّبَعْرَى، ثُمَّ مَنْ قَالَ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَهُوَ الْحَقُّ أَجْرَاهَا عَلَى عُمُومِهَا فَتَكُونُ الْمَلَائِكَةُ وَالْمَسِيحُ وَعُزَيْرٌ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ دَاخِلِينَ فِيهَا، لَا أَنَّ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِهِمْ، وَمَنْ قَالَ: الْعِبْرَةُ بِخُصُوصِ السَّبَبِ خَصَّصَ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ بِهَؤُلَاءِ فَقَطْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْحُسْنَى الْخَصْلَةُ الْمُفَضَّلَةُ وَالْحُسْنَى تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ، وَهِيَ إِمَّا السَّعَادَةُ وَإِمَّا الْبُشْرَى بِالثَّوَابِ، وَإِمَّا التَّوْفِيقُ لِلطَّاعَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مُثْبِتِي الْعَفْوِ حَمَلُوا الْحُسْنَى عَلَى وَعْدِ الْعَفْوِ وَمُنْكِرِي الْعَفْوِ حَمَلُوهُ عَلَى وَعْدِ الثَّوَابِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَرَحَ مِنْ أَحْوَالِ ثَوَابِهِمْ أُمُورًا خَمْسَةً: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ فَقَالَ أَهْلُ الْعَفْوِ مَعْنَاهُ أُولَئِكَ عَنْهَا مُخْرَجُونَ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ: الأول: قوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] أَثْبَتَ الْوُرُودَ وَهُوَ الدُّخُولُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِبْعَادَ هُوَ الْإِخْرَاجُ. الثَّانِي: أَنَّ إِبْعَادَ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا كَانَا مُتَقَارِبَيْنِ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا مُتَبَاعِدَيْنِ اسْتَحَالَ إِبْعَادُ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، لَأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، وَاحْتَجَّ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى يَقْتَضِي أَنَّ الْوَعْدَ بِثَوَابِهِمْ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَ هَذَا حَالُ مَنْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ وَكَيْفَ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْ وَقَعَ فِيهَا. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَقَوْلُهُ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: لَا نُسَلِّمُ أَنْ [يُقَالَ] الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى هُوَ أَنَّ الْوَعْدَ بِثَوَابِهِمْ قَدْ تَقَدَّمَ، وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْحُسْنَى تَقَدُّمُ الْوَعْدِ بِالْعَفْوِ، سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْحُسْنَى تَقَدُّمُ الْوَعْدِ بِالثَّوَابِ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْوَعْدَ بِالثَّوَابِ لَا يَلِيقُ بِحَالِ مَنْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ فَإِنَّ عِنْدَنَا الْمُحَابَطَةَ بَاطِلَةٌ وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: أُولئِكَ عَنْها

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 104 إلى 107]

مُبْعَدُونَ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ كَانَ فِي النَّارِ. وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها مَخْصُوصٌ بِمَا بَعْدَ الْخُرُوجِ. أَمَّا قَوْلُهُ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ فَالْفَزَعُ الْأَكْبَرُ هُوَ عَذَابُ الْكُفَّارِ، وَهَذَا بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَصْغَرُ، فَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى ثُبُوتِهِ وَلَا عَلَى عَدَمِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ أَنَّ الْمُرَادَ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى لَا يَدْخُلُونَ النَّارَ وَلَا يَقْرَبُونَهَا الْبَتَّةَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ بَطَلَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَرِدُونَ النَّارَ ثُمَّ يَخْرُجُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَانِعَةٌ مِنْهُ وَحِينَئِذٍ يَجِبُ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] وَقَدْ تَقَدَّمَ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَالْحَسِيسُ الصَّوْتُ الَّذِي يُحَسُّ، وَفِيهِ سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَيُّ وَجْهٍ فِي أَنْ لَا يَسْمَعُوا حَسِيسَهَا مِنَ الْبِشَارَةِ وَلَوْ سَمِعُوهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُمْ. قُلْنَا: الْمُرَادُ تَأْكِيدُ بُعْدِهِمْ عَنْهَا لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا وَقَرُبَ مِنْهَا قَدْ يَسْمَعُ حَسِيسَهَا. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَلَيْسَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَرَوْنَ أَهْلَ النَّارِ فَكَيْفَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَ النَّارِ؟ الْجَوَابُ: إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى التَّأْكِيدِ زَالَ هَذَا السُّؤَالُ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ وَالشَّهْوَةُ طَلَبُ النَّفْسِ لِلَذَّةٍ يَعْنِي نَعِيمُهَا مُؤَبَّدٌ، قَالَ الْعَارِفُونَ: لِلنُّفُوسِ شَهْوَةٌ وَلِلْقُلُوبِ شَهْوَةٌ وَلِلْأَرْوَاحِ شَهْوَةٌ، وَقَالَ الْجُنَيْدُ: سَبَقَتِ الْعِنَايَةُ فِي الْبِدَايَةِ، فَظَهَرَتِ الْوِلَايَةُ فِي النِّهَايَةِ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [النَّمْلِ: 87] . وَثَانِيهَا: أَنَّهُ الْمَوْتُ قَالُوا: إِذَا اسْتَقَرَّ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ بَعَثَ اللَّه تَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَعَهُ الْمَوْتُ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيَقُولُ لِأَهْلِ الدَّارَيْنِ أَتَعْرِفُونَ هَذَا فَيَقُولُونَ: لَا فَيَقُولُ هَذَا الْمَوْتُ ثُمَّ يَذْبَحُهُ ثُمَّ يُنَادِي يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ وَلَا مَوْتَ أَبَدًا، وَكَذَلِكَ لِأَهْلِ النَّارِ، وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِلُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ إِنَّمَا ذُكِرَ بَعْدَ قوله: وَهُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة: 25] فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا تَعَلُّقٌ بِالْآخَرِ، وَالْفَزَعُ الْأَكْبَرُ الَّذِي هُوَ يُنَافِي الْخُلُودَ هُوَ الْمَوْتُ. وَثَالِثُهَا: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ هُوَ إِطْبَاقُ النَّارِ عَلَى أَهْلِهَا فَيَفْزَعُونَ لِذَلِكَ فَزْعَةً عَظِيمَةً، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: الْأَوْلَى فِي ذَلِكَ أَنَّهُ الْفَزَعُ مِنَ النَّارِ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهَا لِأَنَّهُ لَا فَزَعَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْزُنُهُمْ فَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْمُؤْمِنَ آمِنٌ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ عَذَابَ النَّارِ عَلَى مَرَاتِبَ فَعَذَابُ الْكُفَّارِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الْفُسَّاقِ، وَإِذَا كَانَتْ مَرَاتِبُ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ مُتَفَاوِتَةً كَانَتْ مَرَاتِبُ الْفَزَعِ مِنْهَا مُتَفَاوِتَةً، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ نَفْيُ الْفَزَعِ مِنَ النَّارِ. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ قَالَ الضَّحَّاكُ: هُمُ الْحَفَظَةُ الَّذِينَ كَتَبُوا أَعْمَالَهُمْ وَأَقْوَالَهُمْ وَيَقُولُونَ لَهُمْ مُبَشِّرِينَ: هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 104 الى 107] يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ] اعْلَمْ أَنَّ التَّقْدِيرَ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ، أَوْ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ. وَقُرِئَ يَوْمَ تُطْوَى السَّمَاءُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَالسِّجِلُّ بِوَزْنِ الْعِتِلِّ وَالسَّجْلُ بِوَزْنِ الدَّلْوِ وَرُوِيَ فِيهِ الْكَسْرُ، وَفِي السِّجِلِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْمٌ لِلطُّومَارِ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ وَالْكِتَابُ أَصْلُهُ الْمَصْدَرُ كَالْبِنَاءِ، ثُمَّ يُوقَعُ عَلَى الْمَكْتُوبِ، وَمَنْ جَمَعَ فَمَعْنَاهُ لِلْمَكْتُوبَاتِ أَيْ لِمَا يُكْتَبُ فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ، فَيَكُونُ مَعْنَى طَيِّ السِّجِلِّ لِلْكِتَابِ كَوْنَ السِّجِلِّ سَاتِرًا لِتِلْكَ الْكِتَابَةِ وَمُخْفِيًا لَهَا لِأَنَّ الطَّيَّ ضِدُّ النَّشْرِ الَّذِي يَكْشِفُ وَالْمَعْنَى نَطْوِي السَّمَاءَ كَمَا يُطْوَى الطُّومَارُ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ اسْمًا لِلطُّومَارِ ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: السِّجِلُّ اسْمُ مَلَكٍ يَطْوِي كُتُبَ بَنِي آدَمَ إِذَا رُفِعَتْ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَرَوَى أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ اسْمُ كَاتِبٍ كَانَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ كِتَابُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مَعْرُوفِينَ وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ سُمِّيَ بِهَذَا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ الرَّجُلُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ، وَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ فَهُوَ عَلَى نَحْوِ مَا يُقَالُ: كَطَيِّ زَيْدٍ الْكِتَابَ وَاللَّامُ فِي لِلْكِتَابِ زَائِدَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ رَدِفَ لَكُمْ، وَإِذَا قُلْنَا: الْمُرَادُ بِالسِّجِلِّ الطُّومَارُ فَالْمَصْدَرُ وَهُوَ الطَّيُّ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ كَطَيِّ الطَّاوِي السِّجِلَّ، وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْفَرَّاءُ: انْقَطَعَ الْكَلَامُ عند قوله الكتاب ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: كَما بَدَأْنا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء: 103] عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ فَوَصَفَ الْيَوْمَ بِذَلِكَ، ثُمَّ وَصَفَهُ بِوَصْفٍ آخَرَ فَقَالَ: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» رَحِمَهُ اللَّه: أَوَّلَ خَلْقٍ مَفْعُولُ (نُعِيدُ) الَّذِي يُفَسِّرُهُ نُعِيدُهُ وَالْكَافُ مَكْفُوفَةٌ بِمَا وَالْمَعْنَى نُعِيدُ أَوَّلَ الْخَلْقِ كَمَا بَدَأْنَاهُ تَشْبِيهًا لِلْإِعَادَةِ بِالِابْتِدَاءِ، فَإِنْ قُلْتَ: مَا بَالُ خَلْقٍ مُنَكَّرًا؟ قُلْتُ: هُوَ كَقَوْلِكَ أَوَّلُ رَجُلٍ جَاءَنِي زَيْدٌ، تُرِيدُ أَوَّلَ الرِّجَالِ وَلَكِنَّكَ وَحَّدْتَهُ وَنَكَّرْتَهُ إِرَادَةَ تَفْصِيلِهِمْ رَجُلًا رَجُلًا، فَكَذَلِكَ مَعْنَى أَوَّلَ خَلْقٍ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِمَعْنَى أَوَّلِ الْخَلَائِقِ لِأَنَّ الْخَلْقَ مَصْدَرٌ لَا يُجْمَعُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْإِعَادَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى يُفَرِّقُ أَجْزَاءَ الْأَجْسَامِ وَلَا يَعْدِمُهَا ثُمَّ إِنَّهُ يُعِيدُ تَرْكِيبَهَا فَذَلِكَ هُوَ الْإِعَادَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يَعْدِمُهَا بِالْكُلِّيَّةِ ثُمَّ إِنَّهُ يُوجِدُهَا بِعَيْنِهَا مَرَّةً أُخْرَى وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَالَةٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ شَبَّهَ الْإِعَادَةَ بِالِابْتِدَاءِ. وَلَمَّا كَانَ الِابْتِدَاءُ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ تَرْكِيبِ الْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ بَلْ عَنِ الْوُجُودِ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي الْإِعَادَةِ كَذَلِكَ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] فدل هذا على أن السموات حَالَ كَوْنِهَا مَطْوِيَّةً تَكُونُ مَوْجُودَةً، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إِبْرَاهِيمَ: 48] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَجْزَاءَ الْأَرْضِ بَاقِيَةٌ لَكِنَّهَا جُعِلَتْ غَيْرَ الْأَرْضِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعْداً عَلَيْنا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَعْدًا مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: نُعِيدُهُ عِدَةٌ

لِلْإِعَادَةِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حَقًّا عَلَيْنَا بِسَبَبِ الْإِخْبَارِ عَنْ ذَلِكَ وَتَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِوُقُوعِهِ مَعَ أَنَّ وُقُوعَ مَا عَلِمَ اللَّه وُقُوعَهُ وَاجِبٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَقَّقَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ أَيْ سَنَفْعَلُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْوَعْدِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ بِضَمِّ الزَّايِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا يَعْنِي الزَّبُورِ كَالْحَلُوبِ وَالرَّكُوبِ يُقَالُ: زَبَرْتُ الْكِتَابَ أَيْ كتبته والمزبور بِضَمِّ الزَّايِ جَمْعُ زِبْرٍ كَقِشْرٍ وَقُشُورٍ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ لِأَنَّ الزَّبُورَ هُوَ الْكِتَابُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الزَّبُورِ وَالذِّكْرِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ وَابْنِ زَيْدٍ الزَّبُورُ هُوَ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ وَالذِّكْرُ الْكِتَابُ الَّذِي هُوَ أُمُّ الْكِتَابِ فِي السَّمَاءِ، لِأَنَّ فِيهَا كِتَابَةَ كُلِّ مَا سَيَكُونُ اعْتِبَارًا لِلْمَلَائِكَةِ وَكُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ تُنْسَخُ. وَثَانِيهَا: الزَّبُورُ هُوَ الْقُرْآنُ وَالذِّكْرُ هُوَ التَّوْرَاةُ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَالشَّعْبِيِّ. وَثَالِثُهَا: الزَّبُورُ زَبُورُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالذِّكْرُ هُوَ الَّذِي يُرْوَى عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: كَانَ اللَّه تَعَالَى وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ، ثُمَّ خَلَقَ الذِّكْرَ. وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الْعِلْمُ أَيْ كَتَبْنَا ذَلِكَ فِي الزَّبُورِ بَعْدَ أَنْ كُنَّا عَالِمِينَ عِلْمًا لَا يَجُوزُ السَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ عَلَيْنَا، فَإِنَّ مَنْ كَتَبَ شَيْئًا وَالْتَزَمَهُ وَلَكِنَّهُ يَجُوزُ السَّهْوُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِ السَّهْوُ وَالْخُلْفُ فَإِذَا الْتَزَمَ شَيْئًا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ وَاجِبَ الْوُقُوعِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: الْأَرْضُ أَرْضُ الْجَنَّةِ وَالْعِبَادُ الصَّالِحُونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْعَامِلُونَ بِطَاعَةِ اللَّه تَعَالَى فَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى كَتَبَ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَفِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنَّهُ سَيُورِثُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ صَالِحًا مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَهَؤُلَاءِ أَكَّدُوا هَذَا الْقَوْلَ بِأُمُورٍ: أَمَّا أَوَّلًا: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ/ الْعامِلِينَ [الزُّمَرِ: 74] ، وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّهَا الْأَرْضُ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا الصَّالِحُونَ لِأَنَّهَا لَهُمْ خُلِقَتْ، وَغَيْرُهُمْ إِذَا حَصَلَ مَعَهُمْ فِي الْجَنَّةِ فَعَلَى وَجْهِ التَّبَعِ، فَأَمَّا أَرْضُ الدُّنْيَا فَلِأَنَّهَا لِلصَّالِحِ وَغَيْرِ الصَّالِحِ. وَأَمَّا ثَالِثًا: فَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ مَذْكُورَةٌ عَقِيبَ الْإِعَادَةِ وَبَعْدَ الْإِعَادَةِ الْأَرْضُ الَّتِي هَذَا وَصْفُهَا لَا تَكُونُ إِلَّا الْجَنَّةَ. وَأَمَّا رَابِعًا: فَقَدْ رُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهَا أَرْضُ الْجَنَّةِ فَإِنَّهَا بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَرْضِ أَرْضُ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَيُورِثُهَا الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى قَوْلِهِ: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النُّورِ: 55] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [الْأَعْرَافِ: 128] . وَثَالِثُهَا: هِيَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ يَرِثُهَا الصَّالِحُونَ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الْأَعْرَافِ: 137] ثُمَّ بِالْآخِرَةِ يُورِثُهَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ فَقَوْلُهُ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْمَوَاعِظِ الْبَالِغَةِ وَالْبَلَاغُ الْكِفَايَةُ وَمَا تُبْلَغُ بِهِ الْبُغْيَةُ وَقِيلَ فِي الْعَابِدِينَ إِنَّهُمُ الْعَالِمُونَ

وَقِيلَ بَلِ الْعَامِلُونَ وَالْأَوْلَى أَنَّهُمُ الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ كَالشَّجَرِ وَالْعَمَلَ كَالثَّمَرِ، وَالشَّجَرُ بدون الثمر غير مفيد، والقمر بِدُونِ الشَّجَرِ غَيْرُ كَائِنٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ رَحْمَةً فِي الدِّينِ وَفِي الدُّنْيَا، أَمَّا فِي الدِّينِ فَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بُعِثَ وَالنَّاسُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَضَلَالَةٍ، وَأَهْلُ الْكِتَابَيْنِ كَانُوا فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ لِطُولِ مُكْثِهِمْ وَانْقِطَاعِ تَوَاتُرِهِمْ وَوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِي كُتُبِهِمْ فَبَعَثَ اللَّه تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ لَمْ يَكُنْ لِطَالِبِ الْحَقِّ سَبِيلٌ إِلَى الْفَوْزِ وَالثَّوَابِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَبَيَّنَ لَهُمْ سَبِيلَ الثَّوَابِ، وَشَرَعَ لَهُمُ الْأَحْكَامَ وَمَيَّزَ الْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ، ثُمَّ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ مَنْ كَانَتْ هِمَّتُهُ طَلَبَ الْحَقِّ فَلَا يَرْكَنُ إِلَى التَّقْلِيدِ وَلَا إِلَى الْعِنَادِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَكَانَ التَّوْفِيقُ قَرِينًا لَهُ قَالَ اللَّه تَعَالَى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فُصِّلَتْ: 44] وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلِأَنَّهُمْ تَخَلَّصُوا بِسَبَبِهِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الذُّلِّ وَالْقِتَالِ وَالْحُرُوبِ وَنُصِرُوا بِبَرَكَةِ دِينِهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ كَانَ رَحْمَةً وَقَدْ جَاءَ بِالسَّيْفِ وَاسْتِبَاحَةِ الْأَمْوَالِ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّمَا جَاءَ بِالسَّيْفِ لِمَنِ اسْتَكْبَرَ وَعَانَدَ وَلَمْ يَتَفَكَّرْ وَلَمْ يَتَدَبَّرْ، وَمِنْ أَوْصَافِ اللَّه الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، ثُمَّ هُوَ مُنْتَقِمٌ مِنَ الْعُصَاةِ. وَقَالَ: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً [ق: 9] ثُمَّ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلْفَسَادِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ قَبْلَ نَبِيِّنَا كَانَ إِذَا كَذَّبَهُ قَوْمُهُ أَهْلَكَ اللَّه الْمُكَذِّبِينَ بِالْخَسْفِ وَالْمَسْخِ وَالْغَرَقِ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَخَّرَ عَذَابَ مَنْ كَذَّبَ رَسُولَنَا إِلَى الْمَوْتِ أَوْ إِلَى الْقِيَامَةِ قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَالِ: 33] لَا يُقَالُ: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التَّوْبَةِ: 14] وَقَالَ تَعَالَى: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ [الْأَحْزَابِ: 73] لِأَنَّا نَقُولُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ لَا يَقْدَحُ فِيهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي/ نِهَايَةِ حُسْنِ الْخُلُقِ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [الْقَلَمِ: 4] وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: إِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً وَلَمْ أُبْعَثْ عَذَابًا» وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَغْضَبَ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ سَبَبْتُهُ أَوْ لَعَنْتُهُ فَاجْعَلْهَا اللَّهُمَّ عَلَيْهِ صَلَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَرَابِعُهَا: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً، قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ وَالْقَوْلَانِ يَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ رَحْمَةً لِلْكُلِّ لَوْ تَدَبَّرُوا فِي آيَاتِ اللَّه وَآيَاتِ رَسُولِهِ، فَأَمَّا مَنْ أَعْرَضَ وَاسْتَكْبَرَ، فَإِنَّمَا وَقَعَ فِي الْمِحْنَةِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ كَمَا قال: وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ لَوْ كَانَ اللَّه تَعَالَى أَرَادَ مِنَ الْكَافِرِينَ الْكُفْرَ وَلَمْ يُرِدْ مِنْهُمُ الْقَبُولَ مِنَ الرَّسُولِ، بَلْ مَا أَرَادَ مِنْهُمْ إِلَّا الرَّدَّ عَلَيْهِ وَخَلَقَ ذَلِكَ فِيهِمْ وَلَمْ يَخْلُقْهُمْ إِلَّا كَذَلِكَ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِرْسَالُهُ نِقْمَةً وَعَذَابًا عَلَيْهِمْ لَا رَحْمَةً وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ هَذَا النَّصِّ، لَا يُقَالُ: إِنَّ رِسَالَتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَحْمَةٌ لِلْكُفَّارِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يُعَجِّلْ عَذَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا، كَمَا عَجَّلَ عَذَابَ سَائِرِ الْأُمَمِ، لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ كَوْنَهُ رَحْمَةً لِلْجَمِيعِ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ لِلْكُفَّارِ فَهُوَ حَاصِلٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا، فَإِذًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَحْمَةً لِلْكَافِرِينَ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي صَارَ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِي ذَكَرُوهُ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا كَانَتْ حَاصِلَةً لِلْكُفَّارِ قَبْلَ بَعْثَتِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَحُصُولِهَا بَعْدَهُ، بَلْ كَانَتْ نِعَمُهُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ بَعْثَتِهِ أَعْظَمَ لِأَنَّ بَعْدَ بَعْثَتِهِ نَزَلَ بِهِمُ الْغَمُّ وَالْخَوْفُ مِنْهُ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْجِهَادِ الَّذِي فَنِيَ أَكْثَرُهُمْ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ. وَالْجَوَابُ: أَنْ نَقُولَ لَمَّا عَلِمَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ أَبَا لَهَبٍ لَا

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 108 إلى 112]

يُؤْمِنُ الْبَتَّةَ وَأَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ كَانَ أَمْرُهُ إِيَّاهُ بِالْإِيمَانِ أَمْرًا يَقْلِبُ عِلْمِهِ جَهْلًا وَخَبَرِهِ الصِّدْقِ كَذِبًا وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَكَانَ قَدْ أَمَرَهُ بِالْمُحَالِ. وَإِنْ كَانَتِ الْبَعْثَةُ مَعَ هَذَا الْقَوْلِ رَحْمَةً، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْبَعْثَةُ رَحْمَةٌ مَعَ أَنَّهُ خَلَقَ الْكُفْرَ فِي الْكَافِرِ؟ وَلِأَنَّ قُدْرَةَ الْكَافِرِ إِنْ لَمْ تَصْلُحْ إِلَّا لِلْكُفْرِ فَقَطْ فَالسُّؤَالُ عَلَيْهِمْ لَازِمٌ، وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِلضِّدَّيْنِ تُوقَفُ لِلتَّرْجِيحِ عَلَى مُرَجِّحٍ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى، قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ. وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْإِلْزَامُ ثُمَّ نَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَحْمَةً لِلْكَافِرِ بِمَعْنَى تَأْخِيرِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ عَنْهُ؟ قَوْلُهُ: أَوَّلًا لَمَّا كَانَ رَحْمَةً لِلْجَمِيعِ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ وَجَبَ أَنْ يكون رحمة للكافر مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، قُلْنَا: لَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَحْمَةٌ لِلْكُلِّ بِاعْتِبَارٍ وَاحِدٍ أَوْ بِاعْتِبَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَدَعْوَاكَ بِكَوْنِ الْوَجْهِ وَاحِدًا تَحَكُّمٌ. قَوْلُهُ نِعَمُ الدُّنْيَا كَانَتْ حَاصِلَةً لِلْكُفَّارِ مِنْ قَبْلُ قُلْنَا: نَعَمْ وَلَكِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِكَوْنِهِ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لَمَّا بُعِثَ حَصَلَ الْخَوْفُ لِلْكَفَّارِ مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ، فَلَمَّا انْدَفَعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِسَبَبِ حُضُورِهِ كَانَ ذَلِكَ رَحْمَةً فِي حَقِّ الْكُفَّارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، قَالُوا: لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ مِنَ الْعَالَمِينَ. فَوَجَبَ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَحْمَةً لِلْمَلَائِكَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْهُمْ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غَافِرٍ: 7] وَذَلِكَ رَحْمَةٌ/ مِنْهُمْ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَالرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَاخِلٌ فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56] . [سورة الأنبياء (21) : الآيات 108 الى 112] قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ (112) [في قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ إلى قوله عَلى سَواءٍ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْرَدَ عَلَى الْكُفَّارِ الْحُجَجَ فِي أَنْ لَا إِلَهَ سِوَاهُ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَرْسَلَ رَسُولَهُ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يَكُونُ إِعْذَارًا وَإِنْذَارًا فِي مُجَاهَدَتِهِمْ وَالْإِقْدَامِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّمَا يَقْصُرُ الْحُكْمُ عَلَى شَيْءٍ أَوْ يَقْصُرُ الشَّيْءُ عَلَى حُكْمٍ، كَقَوْلِكَ إِنَّمَا زِيدٌ قَائِمٌ أَوْ إِنَّمَا يَقُومُ زَيْدٌ، وَقَدِ اجْتَمَعَ الْمِثَالَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. لأن: إِنَّما يُوحى إِلَيَّ مَعَ فَاعِلِهِ بِمَنْزِلَةِ إِنَّمَا يقوم زيد: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ بِمَنْزِلَةِ إِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ، وَفَائِدَةُ اجْتِمَاعِهِمَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْوَحْيَ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْصُورٌ عَلَى إِثْبَاتِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّه تَعَالَى وَفِي قَوْلِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَنَّ الْوَحْيَ الْوَارِدَ عَلَى هَذَا السَّنَنِ يُوجِبُ أَنْ تُخْلِصُوا التَّوْحِيدَ لَهُ وَأَنْ تَتَخَلَّصُوا مِنْ نِسْبَةِ الْأَنْدَادِ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ إِثْبَاتُ التَّوْحِيدِ بِالسَّمْعِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ دَلَّتْ إِنَّمَا عَلَى الْحَصْرِ لَزِمَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُوحَ إِلَى الرَّسُولِ شَيْءٌ إِلَّا التَّوْحِيدَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ فَاسِدٌ، قُلْنَا: الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : آذَنَ مَنْقُولٌ مِنْ أَذِنَ إِذَا عَلِمَ وَلَكِنَّهُ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْجَرْيِ مَجْرَى الْإِنْذَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ

وَرَسُولِهِ [الْبَقَرَةِ: 279] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْإِيذَانُ عَلَى/ السَّوَاءِ الدُّعَاءُ إِلَى الْحَرْبِ مُجَاهَرَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الْأَنْفَالِ: 58] وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَدِّرَ عَلَى مَنْ أَشْرَكَ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّ حَالَهُمْ مُخَالِفٌ لِسَائِرِ الْكُفَّارِ فِي الْمُجَاهَدَةِ، فَعَرَّفَهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ كَالْكُفَّارِ فِي ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ فَقَدْ أَعْلَمْتُكُمْ مَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْكُمْ مِنَ التوحيد وغيره على سواء، فَلَمْ أُفَرِّقْ فِي الْإِبْلَاغِ وَالْبَيَانِ بَيْنَكُمْ، لِأَنِّي بُعِثْتُ مُعَلِّمًا. وَالْغَرَضُ مِنْهُ إِزَاحَةُ الْعُذْرِ لِئَلَّا يَقُولُوا: رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا [طه: 134] . وَثَالِثُهَا: عَلَى سَوَاءٍ عَلَى إِظْهَارٍ وَإِعْلَانٍ. وَرَابِعُهَا: عَلَى مَهَلٍ، وَالْمُرَادُ أَنِّي لَا أُعَاجِلُ بِالْحَرْبِ الَّذِي آذَنْتُكُمْ بِهِ بَلْ أُمْهِلُ وَأُؤَخِّرُ رَجَاءَ الْإِسْلَامِ مِنْكُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا ثُمَّ قِيلَ: نَسَخَهُ قَوْلُهُ: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ [الْأَنْبِيَاءِ: 97] يَعْنِي مِنْهُمَا، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْخَبَرِ لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ. وثانيها: الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي آذَنَهُمْ فِيهِ مِنَ الْحَرْبِ لَا يَدْرِي هُوَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ لِئَلَّا يُقَدَّرَ أَنَّهُ يَتَأَخَّرُ كَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِأَنْ يُنْذِرَهُمْ بِالْجِهَادِ الَّذِي يُوحَى إِلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهُ مِنْ بَعْدُ وَلَمْ يُعَرِّفْهُ الْوَقْتَ، فَلِذَلِكَ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ لَا يَعْلَمُ قُرْبَهُ أَمْ بُعْدَهُ. تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَكَانَ الْأَمْرُ بِالْجِهَادِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَا يُوعَدُونَ بِهِ مِنْ غَلَبَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَلَا بُدَّ أَنْ يَلْحَقَهُمْ بِذَلِكَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ، وَإِنْ كُنْتُ لَا أَدْرِي مَتَى يَكُونُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يُطْلِعْنِي عَلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْأَمْرُ بِالْإِخْلَاصِ وَتَرْكُ النِّفَاقِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالضَّمَائِرِ وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يُبَالِغَ فِي الْإِخْلَاصِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: لَعَلَّ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ عَنْكُمْ. وَثَانِيهَا: لَعَلَّ إِبْهَامَ الْوَقْتِ الَّذِي يَنْزِلُ بِكُمُ الْعَذَابُ فِيهِ فِتْنَةٌ لَكُمْ أَيْ بَلِيَّةٌ وَاخْتِبَارٌ لَكُمْ لِيَرَى صُنْعَكُمْ وَهَلْ تُحْدِثُونَ تَوْبَةً وَرُجُوعًا عَنْ كُفْرِكُمْ أَمْ لَا. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: لَعَلَّ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الدُّنْيَا بَلِيَّةٌ لَكُمْ وَالْفِتْنَةُ الْبَلْوَى وَالِاخْتِبَارُ. وَرَابِعُهَا: لَعَلَّ تَأْخِيرَ الْجِهَادِ فِتْنَةٌ لَكُمْ إِذَا أَنْتُمْ دُمْتُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ، لِأَنَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى الضَّرَرِ الْعَظِيمِ يَكُونُ فِتْنَةً، وَإِنَّمَا قَالَ لَا أَدْرِي لِتَجْوِيزِ أَنْ يُؤْمِنُوا فَلَا يَكُونُ تَبْقِيَتُهُمْ فِتْنَةً بَلْ يَنْكَشِفُ عَنْ نِعْمَةٍ وَرَحْمَةٍ. وَخَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّ مَا بَيَّنْتُ وَأَعْلَمْتُ وَأَوْعَدْتُ فِتْنَةٌ لَكُمْ، لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي عَذَابِكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِأَنَّ الْمُعْرِضَ عَنِ الْإِيمَانِ مَعَ الْبَيَانِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ يَكُونُ عَذَابُهُ أَشَدَّ، وَإِذَا مَتَّعَهُ اللَّه تَعَالَى بِالدُّنْيَا يَكُونُ ذَلِكَ كَالْحُجَّةِ عَلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ: (قُلْ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْكَسْرَةِ (وَرَبُّ احْكُمْ) عَلَى الضَّمِّ (وَرَبِّي أَحْكَمُ) أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ (وَرَبِّيَ أَحْكَمَ) مِنَ الْإِحْكَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَيْ رَبِّي اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ قَوْمِي/ بِالْحَقِّ أَيْ بِالْعَذَابِ. كَأَنَّهُ قَالَ: اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ كَذَّبَنِي بِالْعَذَابِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَقْتَدِيَ بِالْأَنْبِيَاءِ فِي هَذِهِ الدَّعْوَةِ وَكَانُوا يَقُولُونَ: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الْأَعْرَافِ: 89] فَلَا جَرَمَ حَكَمَ اللَّه تَعَالَى عليهم

بِالْقَتْلِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَثَانِيهَا: افْصِلْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ بِمَا يُظْهِرُ الْحَقَّ لِلْجَمِيعِ وَهُوَ أَنْ تَنْصُرَنِي عَلَيْهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَيْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَمَا تُعَارِضُونَ بِهِ دَعْوَتِي مِنَ الْأَبَاطِيلِ وَالتَّكْذِيبِ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: قُلْ دَاعِيًا لِي: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَقُلْ مُتَوَعِّدًا لِلْكُفَّارِ: وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتٍ، أَيْ قُلْ لِأَصْحَابِكَ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا يَصِفُ الْكُفَّارُ مِنَ الْأَبَاطِيلِ، أَيْ مِنَ الْعَوْنِ عَلَى دَفْعِ أَبَاطِيلِهِمْ. وَثَانِيهَا: كَانُوا يَطْمَعُونَ أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الشَّوْكَةُ وَالْغَلَبَةُ فَكَذَّبَ اللَّه ظُنُونَهُمْ وَخَيَّبَ آمَالَهُمْ وَنَصَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَخَذَلَهُمْ، قَالَ الْقَاضِيَ: إنما ختم اللَّه هذه السورة بقوله: قل رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ بَلَغَ فِي الْبَيَانِ الْغَايَةَ لَهُمْ وَبَلَغُوا النِّهَايَةَ فِي أَذِيَّتِهِ وَتَكْذِيبِهِ فَكَانَ قُصَارَى أَمْرِهِ تعالى بِذَلِكَ تَسْلِيَةً لَهُ وَتَعْرِيفًا أَنَّ الْمَقْصُودَ مَصْلَحَتُهُمْ، فَإِذَا أَبَوْا إِلَّا التَّمَادِيَ فِي كُفْرِهِمْ، فَعَلَيْكَ بِالِانْقِطَاعِ إِلَى رَبِّكَ لِيَحْكُمَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، إِمَّا بِتَعْجِيلِ الْعِقَابِ بِالْجِهَادِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَإِمَّا بِتَأْخِيرِ ذَلِكَ فَإِنَّ أَمْرَهُمْ وَإِنْ تَأَخَّرَ فَمَا هُوَ كَائِنٌ قَرِيبٌ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ فِي حُرُوبِهِ كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ كَالِاسْتِعْجَالِ لِلْأَمْرِ بِمُجَاهَدَتِهِمْ وباللَّه التَّوْفِيقُ، وَصَلَاتُهُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وسلم تسليما آمين. وقد عني بتصحيحه ومراجعته والتعليق عليه على النسخة الأميرية المطبوعة في مطبعة بولاق المقر بالعجز والتقصير عبد اللَّه إسماعيل الصاوي عامله اللَّه بلطفه وجزى اللَّه طابعه حضرة السيد الفاضل عبد الرحمن أفندي محمد صاحب المطبعة البهية أحسن الجزاء وأثابه أجزل الصواب بحرصه على نشر العلم ونفع علماء المسلمين إنه سميع مجيب. (تَمَّ الْجُزْءُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ، وَيَلِيهِ الْجُزْءُ الثَّالِثُ والعشرون وأوله سورة الحج)

الجزء الثالث والعشرون

الجزء الثالث والعشرون سُورَةُ الْحَجِّ سَبْعُونَ وَسِتُّ آيَاتٍ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ هذانِ خَصْمانِ- إِلَى قَوْلِهِ- صِراطِ الْحَمِيدِ «1» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ النَّاسَ بِالتَّقْوَى فَدَخَلَ فِيهِ أَنْ يَتَّقِيَ كُلَّ مُحَرَّمٍ وَيَتَّقِيَ تَرْكَ كُلِّ وَاجِبٍ وَإِنَّمَا دَخَلَ فِيهِ الْأَمْرَانِ، لِأَنَّ الْمُتَّقِيَ إِنَّمَا يَتَّقِي مَا يَخَافُهُ مِنْ عَذَابِ اللَّه تَعَالَى فَيَدَعُ لِأَجْلِهِ الْمُحَرَّمَ وَيَفْعَلُ لِأَجْلِهِ الْوَاجِبَ، وَلَا يَكَادُ يَدْخُلُ فِيهِ النَّوَافِلُ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَخَافُ بِتَرْكِهَا الْعَذَابَ، وَإِنَّمَا يَرْجُو بِفِعْلِهَا الثَّوَابَ فَإِذَا قَالَ: اتَّقُوا رَبَّكُمْ فَالْمُرَادُ اتَّقُوا عَذَابَ رَبِّكُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: الزَّلْزَلَةُ شِدَّةُ حَرَكَةِ الشَّيْءِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَلَا تَخْلُو السَّاعَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ الْفَاعِلَةِ لَهَا كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُزَلْزِلُ الْأَشْيَاءَ عَلَى الْمَجَازِ الْحُكْمِيِّ فَتَكُونُ الزَّلْزَلَةُ مَصْدَرًا مُضَافًا إِلَى فَاعِلِهِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ فِيهَا عَلَى طَرِيقَةِ الِاتِّسَاعِ فِي الظَّرْفِ وَإِجْرَائِهِ مَجْرَى الْمَفْعُولِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سَبَأٍ: 33] وَهِيَ الزَّلْزَلَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [الزَّلْزَلَةِ: 1] . المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِهَا فَعَنْ عَلْقَمَةَ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّ هَذِهِ الزَّلْزَلَةَ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ مَعَهَا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا. وَقِيلَ هِيَ الَّتِي تَكُونُ مَعَهَا السَّاعَةُ. وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الصُّورِ «إِنَّهُ قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلَاثُ نَفَخَاتٍ: نَفْخَةُ الْفَزَعِ، وَنَفْخَةُ الصَّعْقَةِ، وَنَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِنَّ عِنْدَ

_ (1) هكذا بالأصل المطبوع في المطبعة الأميرية، والذي في المصحف الملكي (سورة الحج مدنية إلا الآيات 52، 53، 54، 55 فبين مكة والمدينة وآياتها 78 نزلت بعد النور) وفي تفسير أبي السعود بهامش الطبعة الأميرية لتفسير الفخر (سورة الحج مكية إلا ست آيات من هذانِ خَصْمانِ إلى صِراطِ الْحَمِيدِ وهي ثمان وسبعون آية) .

نَفْخَةِ الْفَزَعِ يُسَيِّرُ اللَّه الْجِبَالَ وَتَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، قُلُوبٌ/ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ، وَتَكُونُ الْأَرْضُ كَالسَّفِينَةِ تَضْرِبُهَا الْأَمْوَاجُ أَوْ كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ تُرَجْرِجُهُ الرِّيَاحُ» وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ زَيْدٍ هَذَا فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ تَصِحُّ وَإِنْ كَانَتِ الزَّلْزَلَةُ قَبْلَهَا، وَتَكُونُ مِنْ أَمَارَاتِهَا وَأَشْرَاطِهَا، وَتَصِحُّ إِذَا كَانَتْ فِيهَا وَمَعَهَا، كَقَوْلِنَا آيَاتُ السَّاعَةِ وَأَمَارَاتُ السَّاعَةِ. المسألة الثَّالِثَةُ: رُوِيَ «أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ يَسِيرُونَ فَنَادَى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ حَوْلَهُ فَقَرَأَهُمَا عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يُرَ بَاكِيًا أَكْثَرَ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا لَمْ يَحُطُّوا السُّرُجَ وَلَمْ يَضْرِبُوا الْخِيَامَ وَلَمْ يَطْبُخُوا الْقُدُورَ، وَالنَّاسُ بَيْنَ بَاكٍ وَجَالِسٍ حَزِينٍ مُتَفَكِّرٍ. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَتَدْرُونَ أَيَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ هُوَ؟ قَالُوا اللَّه وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ ذَلِكَ يَوْمُ يَقُولُ اللَّه لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ مِنْ وَلَدِكَ، فَيَقُولُ آدَمُ وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ يَعْنِي مِنْ كَمْ كَمْ؟ فَيَقُولُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النَّارِ وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى، فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَبَكَوْا، وَقَالُوا فَمَنْ يَنْجُو يَا رَسُولَ اللَّه؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَبْشِرُوا وَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا فَإِنَّ مَعَكُمْ خَلِيقَتَيْنِ مَا كَانَا فِي قَوْمٍ إِلَّا كَثَّرَتَاهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، ثم قال إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَبَّرُوا، ثم قال إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَبَّرُوا وَحَمِدُوا اللَّه، ثم قال إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَيْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِائَةٌ وعشرون صفا ثمانون منها أُمَّتِي وَمَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْكُفَّارِ إِلَّا كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ الْبَعِيرِ أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ، ثم قال وَيَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا إِلَى الْجَنَّةِ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَقَالَ عُمَرُ سَبْعُونَ أَلْفًا؟ قَالَ نَعَمْ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ سَبْعُونَ أَلْفًا، فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه ادْعُ اللَّه أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ أَنْتَ مِنْهُمْ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ، فَقَالَ سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ» فَخَاضَ النَّاسُ فِي السَّبْعِينَ أَلْفًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُمُ الَّذِينَ وُلِدُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَجَاهَدُوا مَعَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالُوا فَقَالَ: «هُمُ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَكْوُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» . المسألة الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ النَّاسَ بِالتَّقْوَى ثُمَّ عَلَّلَ وُجُوبَهَا عَلَيْهِمْ بِذِكْرِ السَّاعَةِ وَوَصَفَهَا بِأَهْوَلِ صِفَةٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّ التَّقْوَى تَقْتَضِي دَفْعَ مِثْلِ هَذَا الضَّرَرِ الْعَظِيمِ عَنِ النَّفْسِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ مَعْلُومُ الْوُجُوبِ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ التَّقْوَى وَاجِبَةً. المسألة الْخَامِسَةُ: احْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ وَصَفَهَا بِأَنَّهَا شَيْءٌ مَعَ أَنَّهَا مَعْدُومَةٌ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الْبَقَرَةِ: 20] فَالشَّيْءُ الَّذِي قَدَرَ اللَّه عَلَيْهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا، وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ وَإِلَّا لَزِمَ كَوْنُ الْقَادِرِ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِ الْمَوْجُودِ، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي قَدَرَ اللَّه عَلَيْهِ مَعْدُومٌ فَالْمَعْدُومُ شَيْءٌ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً [الْكَهْفِ: 23] أَطْلَقَ اسْمَ الشَّيْءِ فِي الْحَالِ عَلَى مَا يَصِيرُ مَفْعُولًا/ غَدًا، وَالَّذِي يَصِيرُ مَفْعُولًا غَدًا يَكُونُ مَعْدُومًا فِي الْحَالِ، فَالْمَعْدُومُ شَيْءٌ واللَّه أَعْلَمُ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الزَّلْزَلَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَجْسَامِ الْمُتَحَرِّكَةِ وَهِيَ جَوَاهِرُ قَامَتْ بِهَا أَعْرَاضٌ وَتَحَقُّقُ ذَلِكَ فِي الْمَعْدُومِ مُحَالٌ، فَالزَّلْزَلَةُ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ شَيْئًا حَالَ عَدَمِهَا، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ بِالِاتِّفَاقِ وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهَا إِذَا وُجِدَتْ صَارَتْ شَيْئًا، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنِ الْبَوَاقِي.

[سورة الحج (22) : الآيات 3 إلى 4]

المسألة السَّادِسَةُ: وَصَفَ اللَّه تَعَالَى الزَّلْزَلَةَ بِالْعَظِيمِ وَلَا عَظِيمَ أَعْظَمُ مِمَّا عَظَّمَهُ اللَّه تَعَالَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَرَوْنَها فَهُوَ مَنْصُوبٌ بِتَذْهَلُ أَيْ تَذْهَلُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَالضَّمِيرُ فِي تَرَوْنَهَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الزَّلْزَلَةِ وَأَنْ يَرْجِعَ إِلَى السَّاعَةِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِمَا، وَالْأَقْرَبُ رُجُوعُهُ إِلَى الزَّلْزَلَةِ لِأَنَّ مُشَاهَدَتَهَا هِيَ الَّتِي تُوجِبُ الْخَوْفَ الشَّدِيدَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ مِنْ أَهْوَالِ ذَلِكَ الْيَوْمِ أُمُورًا ثَلَاثَةً أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ أَيْ تُذْهِلُهَا الزَّلْزَلَةُ وَالذُّهُولُ الذَّهَابُ عَنِ الْأَمْرِ مَعَ دَهْشَةٍ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ مُرْضِعَةٍ دُونَ مُرْضِعٍ؟ قُلْتُ الْمُرْضِعَةُ هِيَ الَّتِي فِي حَالِ الْإِرْضَاعِ وَهِيَ مُلْقِمَةٌ ثَدْيَهَا الصَّبِيَّ وَالْمُرْضِعُ شَأْنُهَا أَنْ تُرْضِعَ، وَإِنْ لَمْ تُبَاشِرِ الْإِرْضَاعَ فِي حَالِ وَصْفِهَا بِهِ، فَقِيلَ مُرْضِعَةٌ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْهَوْلَ إِذَا فُوجِئَتْ بِهِ هَذِهِ وَقَدْ أَلْقَمَتِ الرَّضِيعَ ثَدْيَهَا نَزَعَتْهُ مِنْ فِيهِ لِمَا يَلْحَقُهَا مِنَ الدَّهْشَةِ، وَقَوْلُهُ: عَمَّا أَرْضَعَتْ أَيْ عَنْ إِرْضَاعِهَا أَوْ عَنِ الَّذِي أَرْضَعَتْهُ وَهُوَ الطِّفْلُ فَتَكُونُ مَا بِمَعْنَى مَنْ» عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَالْمَعْنَى أَنَّهَا تُسْقِطُ وَلَدَهَا لِتَمَامٍ أَوْ لِغَيْرِ تَمَامٍ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزَّلْزَلَةَ إِنَّمَا تَكُونُ قَبْلَ الْبَعْثِ، قَالَ الْحَسَنُ: تَذْهَلُ الْمُرْضِعَةُ عَنْ وَلَدِهَا بِغَيْرِ فِطَامٍ وَأَلْقَتِ الْحَوَامِلُ مَا فِي بُطُونِهَا لِغَيْرِ تَمَامٍ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ مَنْ مَاتَتْ حَامِلًا أَوْ مُرْضِعَةً تُبْعَثُ حَامِلًا أَوْ مُرْضِعَةً تَضَعُ حَمْلَهَا مِنَ الْفَزَعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ ذُهُولِ الْمُرْضِعَةِ وَوَضْعِ الْحَمْلِ عَلَى جِهَةِ الْمَثَلِ كَمَا قَدْ تَأَوَّلَ قَوْلُهُ: يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً [المزمل: 17] ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قُرِئَ (وَتُرَى) بِالضَّمِّ تَقُولُ أُرِيتُكَ قَائِمًا أَوْ رَأَيْتُكَ قَائِمًا وَالنَّاسَ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ، أَمَّا النَّصْبُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَلِأَنَّهُ جَعَلَ النَّاسَ اسْمَ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَأَنَّثَهُ على تأويل الجماعة، وقرئ (سكرى) و (سكارى) ، وَهُوَ نَظِيرُ جَوْعَى وَعَطْشَى فِي جَوْعَانَ وَعَطْشَانَ، سَكَارَى وَسُكَارَى نَحْوُ كَسَالَى وَعُجَالَى، وَعَنِ الْأَعْمَشِ: سَكْرَى وَسُكْرَى بِالضَّمِّ وَهُوَ غَرِيبٌ. المسألة الثَّانِيَةُ: الْمَعْنَى وَتَرَاهُمْ سُكَارَى عَلَى التَّشْبِيهِ وَمَا هُمْ بِسُكَارَى عَلَى التَّحْقِيقِ، وَلَكِنْ مَا أَرْهَقَهُمْ مِنْ هَوْلِ عَذَابِ اللَّه تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَذْهَبَ عُقُولَهُمْ وَطَيَّرَ تَمْيِيزَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَنَرَاهُمْ سُكَارَى مِنَ الْخَوْفِ وَمَا هُمْ بِسُكَارَى مِنَ الشَّرَابِ، فَإِنْ قُلْتَ لِمَ قِيلَ أَوَّلًا (تَرَوْنَ) ثُمَّ قِيلَ (تَرَى) عَلَى الْإِفْرَادِ؟ قُلْنَا لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ أَوَّلًا عُلِّقَتْ بِالزَّلْزَلَةِ، فَجُعِلَ النَّاسُ جَمِيعًا رَائِينَ لَهَا، وَهِيَ مُعَلَّقَةٌ آخِرًا بِكَوْنِ النَّاسِ عَلَى حَالٍ مِنَ السُّكْرِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَائِيًا لِسَائِرِهِمْ. المسألة الثَّالِثَةُ: إِنْ قِيلَ أَتَقُولُونَ إِنَّ شِدَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَحْصُلُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَوْ لِأَهْلِ النَّارِ خَاصَّةً؟ قُلْنَا قَالَ قَوْمٌ إِنَّ الْفَزَعَ الْأَكْبَرَ وَغَيْرَهُ يَخْتَصُّ بِأَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُحْشَرُونَ وَهُمْ آمِنُونَ. وَقِيلَ بَلْ يَحْصُلُ لِلْكُلِّ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حق. [سورة الحج (22) : الآيات 3 الى 4] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4)

_ (1) هو من باب التغليب لكثرة عدد غير العقلاء على العقلاء في الحقيقة، وبذلك يشمل الأناسي وغيرهم من الحيوانات.

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَخْبَرَ تَعَالَى فِيمَا تَقَدَّمَ عَنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَشِدَّتِهَا، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى تَقْوَى اللَّه. ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْمًا مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْأَوَّلِ. وَأَخْبَرَ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ مَعَ هَذَا التَّحْذِيرِ الشَّدِيدِ بِذِكْرِ زَلْزَلَةِ السَّاعَةِ وَشَدَائِدِهَا، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّه بِغَيْرِ عِلْمٍ، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ [يس: 77] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَصْفُ الْبَعْثِ وَمَا بَعْدَهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْبَعْثِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْمُجَادَلَةِ هُوَ الْمُجَادَلَةَ فِي الْبَعْثِ وَالثَّانِي: أَنَّهَا نزلت في النضر بن الحرث، كَانَ يُكَذِّبُ بِالْقُرْآنِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَيَقُولُ مَا يَأْتِيكُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ كَمَا كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ بِهِ عَنِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا. المسألة الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ بِمَفْهُومِهَا تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمُجَادَلَةِ الْحَقَّةِ، لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْمُجَادَلَةِ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالدَّلَائِلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُجَادَلَةَ مَعَ الْعِلْمِ جَائِزَةٌ، فَالْمُجَادَلَةُ الْبَاطِلَةُ هِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا [الزُّخْرُفِ: 58] وَالْمُجَادَلَةُ الْحَقَّةُ هِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْلِ: 125] . المسألة الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَهُمْ رُؤَسَاءُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَدْعُونَ مَنْ دُونَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ إِبْلِيسَ وَجُنُودَهُ، قَالَ الزَّجَّاجُ الْمَرِيدُ وَالْمَارِدُ الْمُرْتَفِعُ الْأَمْلَسُ، يُقَالُ صَخْرَةٌ مَرْدَاءُ أَيْ مَلْسَاءُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي غَيْرِ الشَّيْطَانِ إِذَا جَاوَزَ حَدَّ مِثْلِهِ. أَمَّا قوله: كُتِبَ عَلَيْهِ [إلى آخر الآية] فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكِتْبَةَ عَلَيْهِ مَثَلٌ أَيْ كَأَنَّمَا كُتِبَ إِضْلَالُ مَنْ عَلَيْهِ وَرَقَمَ بِهِ لِظُهُورِ ذَلِكَ فِي حَالِهِ وَالثَّانِي: كُتِبَ عَلَيْهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْهَاءَ بَعْدَ ذِكْرِ مَنْ يُجَادِلُ وَبَعْدَ ذِكْرِ الشَّيْطَانِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى مَنْ/ يُجَادِلُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى لَفْظِهِ الَّذِي هُوَ مُوَحَّدٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ كُتِبَ عَلَى مَنْ يَتَّبِعُ الشَّيْطَانَ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّى الشَّيْطَانَ أَضَلَّهُ عَنِ الْجَنَّةِ وَهَدَاهُ إِلَى النَّارِ. وَذَلِكَ زَجْرٌ مِنْهُ تَعَالَى فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ كُتِبَ عَلَى مَنْ هَذَا حَالُهُ أَنَّهُ يَصِيرُ أَهْلًا لِهَذَا الْوَعِيدِ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى الشَّيْطَانِ كَانَ الْمَعْنَى وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ قَدْ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ يَقْبَلُ مِنْهُ فَهُوَ فِي ضَلَالٍ. وَعَلَى هَذَا الوجه أَيْضًا يَكُونُ زَجْرًا عَنِ اتِّبَاعِهِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ إِذَا قِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْهِ قُضِيَ عَلَيْهِ فَلَا جَائِزَ أَنْ يُرَدَّ إِلَّا إِلَى مَنْ يَتَّبِعُ الشَّيْطَانَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ عَلَى الشَّيْطَانِ أَنَّهُ يُضِلُّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ عَلَى مَنْ يَقْبَلُهُ بِقَوْلِهِ، قَدْ أَضَلَّهُ عَنِ الْجَنَّةِ وَهَدَاهُ إِلَى النَّارِ. قَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّه لَمَّا كُتِبَ ذَلِكَ عليه فلو لم يقع لا نقلب خَبَرُ اللَّه الصِّدْقُ كَذِبًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ وَمُسْتَلْزَمُ الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَكَانَ لَا وُقُوعُهُ مُحَالًا. المسألة الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُجَادِلَ فِي اللَّه إِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ الْحَقَّ فَهُوَ مَذْمُومٌ مُعَاقَبٌ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعَارِفَ لَيْسَتْ ضَرُورِيَّةً. المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُجَادَلَةَ فِي اللَّه لَيْسَتْ مِنْ خَلْقِ اللَّه تَعَالَى وَبِإِرَادَتِهِ، وَإِلَّا لَمَا

[سورة الحج (22) : الآيات 5 إلى 7]

كَانَتْ مُضَافَةً إِلَى اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ، وَكَانَ لَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ يُضِلُّهُ بَلْ كَانَ اللَّه تَعَالَى قَدْ أَضَلَّهُ وَالْجَوَابُ: الْمُعَارَضَةُ بِمَسْأَلَةِ الْعِلْمِ وَبِمَسْأَلَةِ الدَّاعِي. المسألة الرَّابِعَةُ: قُرِئَ (أَنَّهُ) بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ فَمَنْ فَتَحَ فَلِأَنَّ الْأَوَّلَ فَاعِلُ كُتِبَ وَالثَّانِي عُطِفَ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَسَرَ فَعَلَى حِكَايَةِ الْمَكْتُوبِ كَمَا هُوَ كَأَنَّمَا كُتِبَ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ، كَمَا يَقُولُ كَتَبْتُ أَنَّ اللَّه هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ قِيلَ أَوْ عَلَى أَنَّ كُتِبَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ. [سورة الحج (22) : الآيات 5 الى 7] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) الْقِرَاءَةُ قَرَأَ الْحَسَنُ مِنَ الْبَعْثِ بِالتَّحْرِيكِ وَنَظِيرُهُ الْحَلَبُ وَالطَّرَدُ فِي الحلب وفي الطرد ومُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ بِجَرِّ التَّاءِ وَالرَّاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِنَصْبِهِمَا الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالنُّونِ فِي قَوْلِهِ: لِنُبَيِّنَ وَفِي قَوْلِهِ: وَنُقِرُّ وَفِي قَوْلِهِ: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالْيَاءِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، أَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنُّونِ فَفِيهَا وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ وَثَانِيهَا: رَوَى السِّيرَافِيُّ عَنْ دَاوُدَ عَنْ يَعْقُوبَ (وَنَقُرُّ) بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الْقَافِ وَالرَّاءِ وَهُوَ مِنْ قَرَّ الْمَاءَ إِذَا صَبَّهُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِنَصْبِ الرَّاءِ وَثَالِثُهَا: وَنُقِرَّ وَنُخْرِجَكُمْ بِنَصْبِ الرَّاءِ وَالْجِيمِ أَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْيَاءِ فَفِيهَا وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: يُقَرَّ وَيُخْرِجَكُمْ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ وَالْجِيمِ وَثَانِيهَا: يُقُرُّ وَيُخْرِجُكُمْ بِضَمِّ الْقَافِ وَالرَّاءِ وَالْجِيمِ وَثَالِثُهَا: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَضَمِّ الرَّاءِ أَبُو حَاتِمٍ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى بِفَتْحِ الْيَاءِ أَيْ يَتَوَفَّاهُ اللَّه تَعَالَى ابْنُ عَمْرَةَ وَالْأَعْمَشُ الْعُمْرِ بِإِسْكَانِ الْمِيمِ الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّه وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يَكُونُ شُيُوخًا بِغَيْرِ الْقِرَاءَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَرَبَتْ أَبُو جَعْفَرٍ وَرَبَأَتْ أَيِ ارْتَفَعَتْ، وَرَوَى الْعُمَرِيُّ عَنْهُ بِتَلْيِينِ الْهَمْزَةِ وَقُرِئَ وَأَنَّهُ بَاعِثُ. الْمَعَانِي: اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا حَكَى عَنْهُمُ الْجِدَالَ بِغَيْرِ الْعِلْمِ فِي إِثْبَاتِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَذَمَّهُمْ عَلَيْهِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَوْرَدَ الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الِاسْتِدْلَالُ بِخِلْقَةِ الْحَيَوَانِ أَوَّلًا وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا أَجْمَلَهُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس: 79] وَقَوْلِهِ: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الْإِسْرَاءِ: 51] فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا وَعَدْنَاكُمْ مِنَ الْبَعْثِ، فَتَذَكَّرُوا فِي خِلْقَتِكُمُ الْأُولَى لِتَعْلَمُوا أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى خَلْقِكُمْ أَوَّلًا قَادِرٌ عَلَى خَلْقِكُمْ ثَانِيًا، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ مِنْ مَرَاتِبِ الْخِلْقَةِ الْأُولَى أُمُورًا سَبْعَةً: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّا خَلَقْنَا أَصْلَكُمْ وَهُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ تُرَابٍ، لِقَوْلِهِ: كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آلِ عِمْرَانَ: 59] وَقَوْلِهِ: مِنْها خَلَقْناكُمْ

[طه: 55] ، وَالثَّانِي: أَنَّ خِلْقَةَ الْإِنْسَانِ مِنَ الْمَنِيِّ وَدَمِ الطَّمْثِ وَهُمَا إِنَّمَا يَتَوَلَّدَانِ مِنَ الْأَغْذِيَةِ، وَالْأَغْذِيَةُ إِمَّا حَيَوَانٌ أَوْ نَبَاتٌ وَغِذَاءُ الْحَيَوَانِ يَنْتَهِي قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ إِلَى النَّبَاتِ، وَالنَّبَاتُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ، فَصَحَّ قَوْلُهُ: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ وَالنُّطْفَةُ اسْمٌ لِلْمَاءِ الْقَلِيلِ أَيِّ مَاءٍ كَانَ، وَهُوَ هَاهُنَا مَاءُ الْفَحْلِ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: أَنَا الَّذِي قَلَبْتُ ذَلِكَ التُّرَابَ الْيَابِسَ مَاءً لَطِيفًا، مَعَ أَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا الْبَتَّةَ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ الْعَلَقَةُ قِطْعَةُ الدَّمِ الْجَامِدَةُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بَيْنَ الْمَاءِ وَبَيْنَ الدَّمِ الْجَامِدِ مُبَايَنَةً شَدِيدَةً الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ، لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ فَالْمُضْغَةُ اللَّحْمَةُ الصَّغِيرَةُ قَدْرُ مَا يُمْضَغُ، وَالْمُخَلَّقَةُ الْمُسَوَّاةُ الْمَلْسَاءُ السَّالِمَةُ مِنَ النُّقْصَانِ وَالْعَيْبِ، يُقَالُ خَلَّقَ السِّوَاكَ وَالْعُودَ إِذَا سَوَّاهُ وَمَلَّسَهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ صَخْرَةٌ خَلْقَاءُ إِذَا كَانَتْ مَلْسَاءَ. ثُمَّ لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ تَمَّتْ فِيهِ أَحْوَالُ الْخَلْقِ وَمَنْ لَمْ تَتِمَّ، كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَسَّمَ الْمُضْغَةَ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَامَّةُ الصُّوَرِ وَالْحَوَاسِّ وَالتَّخَاطِيطِ وَثَانِيهِمَا: النَّاقِصَةُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ فَبَيَّنَ أَنَّ بَعْدَ أَنْ صَيَّرَهُ مُضْغَةً مِنْهَا مَا خَلَقَهُ إِنْسَانًا تَامًّا بِلَا نَقْصٍ وَمِنْهَا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ، فَكَأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَخْلُقُ الْمُضَغَ مُتَفَاوِتَةً مِنْهَا مَا هُوَ كَامِلُ الْخِلْقَةِ أَمْلَسُ مِنَ الْعُيُوبِ وَمِنْهَا مَا هُوَ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ فَتَبِعَ ذَلِكَ التَّفَاوُتَ، تَفَاوُتُ النَّاسِ فِي خَلْقِهِمْ وَصُوَرِهِمْ وَطُولِهِمْ وَقِصَرِهِمْ وَتَمَامِهِمْ وَنُقْصَانِهِمْ وَثَانِيهَا: الْمُخَلَّقَةُ الْوَلَدُ الَّذِي يَخْرُجُ حَيًّا وَغَيْرُ الْمُخَلَّقَةِ السَّقْطُ وَهُوَ قَوْلُ مجاهدو ثالثها: الْمُخَلَّقَةُ الْمُصَوَّرَةُ وَغَيْرُ الْمُخَلَّقَةِ أَيْ غَيْرُ الْمُصَوَّرَةِ وَهُوَ الَّذِي يَبْقَى لَحْمًا مِنْ غَيْرِ تَخْطِيطٍ وَتَشْكِيلٍ وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّه قَالَ: «إِذَا وَقَعَتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ بَعَثَ اللَّه مَلَكًا وَقَالَ يَا رَبِّ مُخَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ، فَإِنْ قَالَ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ مَجَّتْهَا الْأَرْحَامُ دَمًا، وَإِنْ قَالَ مُخَلَّقَةٌ، قَالَ يَا رَبِّ فَمَا صِفَتُهَا، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى، مَا رِزْقُهَا، مَا أَجَلُهَا، أَشَقِيٌّ، أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيَقُولُ اللَّه سُبْحَانَهُ انْطَلِقَ إِلَى أُمِّ الْكِتَابِ فَاسْتَنْسِخْ مِنْهُ صِفَةَ هَذِهِ النُّطْفَةِ، فَيَنْطَلِقُ الْمَلَكُ فَيَنْسَخُهَا، فَلَا يَزَالُ مَعَهُ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى آخِرِ صِفَتِهَا» وَرَابِعُهَا: قَالَ الْقَفَّالُ: التَّخْلِيقُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَلْقِ فَمَا تَتَابَعَ عَلَيْهِ الْأَطْوَارُ وَتَوَارَدَ عَلَيْهِ الْخَلْقُ بَعْدَ الْخَلْقِ فَذَاكَ هُوَ الْمُخَلَّقُ لِتَتَابُعِ الْخَلْقِ عَلَيْهِ، قَالُوا فَمَا تَمَّ فَهُوَ الْمُخَلَّقُ وَمَا لَمْ يَتِمَّ فَهُوَ غَيْرُ الْمُخَلَّقِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَارَدْ عَلَيْهِ التَّخْلِيقَاتُ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ وَأَشَارَ إِلَى النَّاسِ فَيَجِبُ أَنْ تُحْمَلَ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ عَلَى مَنْ سَيَصِيرُ إِنْسَانًا وَذَلِكَ يَبْعُدُ فِي السَّقْطِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَقْطًا وَلَمْ يَتَكَامَلْ فِيهِ الْخِلْقَةُ فَإِنْ قِيلَ هَلَّا حَمَلْتُمْ ذَلِكَ عَلَى السَّقْطِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ وَذَلِكَ كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ فِيهِ مَا لَا يُقِرُّهُ في الرحم وهو السقط، فلنا إِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا فِي كَوْنِ الْمُضْغَةِ مُخَلَّقَةً وَغَيْرَ مُخَلَّقَةٍ، لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ تَمَّمَ خِلْقَةَ الْبَعْضِ وَنَقَصَ خِلْقَةَ الْبَعْضِ لَا يَجِبُ أَنْ يَتَكَامَلَ ذَلِكَ بَلْ فِيهِ مَا يُقِرُّهُ اللَّه فِي الرَّحِمِ وَفِيهِ مَا لَا يُقِرُّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَظْهَرَ فِيهِ خِلْقَةَ الْإِنْسَانِ فَيَكُونُ مِنْ هَذَا الوجه قَدْ دَخَلَ فِيهِ السَّقْطُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ أَنَّ تَغْيِيرَ الْمُضْغَةِ إِلَى الْمُخَلَّقَةِ هُوَ بِاخْتِيَارِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَلَوْلَاهُ لَمَا صَارَ بَعْضُهُ مُخَلَّقًا وَبَعْضُهُ غَيْرَ مُخَلَّقٍ وَثَانِيهِمَا: التَّقْدِيرُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا أَخْبَرْنَاكُمْ أَنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ كَذَا وَكَذَا لِنُبَيِّنَ لَكُمْ مَا يُزِيلُ عَنْكُمْ ذَلِكَ الرَّيْبَ/ فِي أَمْرِ بَعْثِكُمْ، فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَيْفَ يَكُونُ عَاجِزًا عَنِ الْإِعَادَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَالْمُرَادُ مِنْهُ مَنْ يُبَلِّغُهُ اللَّه تَعَالَى حد الولادة،

وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى هُوَ الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ لِلْوِلَادَةِ وَهُوَ آخِرُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، أَوْ تِسْعَةٌ، أَوْ أَرْبَعُ سِنِينَ أَوْ كَمَا شَاءَ وَقَدَّرَ اللَّه تَعَالَى فَإِنْ كَتَبَ ذَلِكَ صَارَ أَجَلًا مُسَمًّى الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا وَإِنَّمَا وَحَّدَ الطِّفْلَ لِأَنَّ الْغَرَضَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْجِنْسِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَخْرُجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ طِفْلًا كَقَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التَّحْرِيمِ: 4] الْمَرْتَبَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَالْأَشُدُّ كَمَالُ الْقُوَّةِ وَالْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ وَهُوَ مِنْ أَلْفَاظِ الْجُمُوعِ الَّتِي لَمْ يُسْتَعْمَلْ لَهَا وَاحِدٌ وَكَأَنَّهَا شِدَّةٌ فِي غَيْرِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَبُنِيَتْ لِذَلِكَ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ واللَّه أَعْلَمُ ثُمَّ سَهَّلَ فِي تَرْبِيَتِكُمْ وَأَغْذِيَتِكُمْ أُمُورًا لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى الْأَحْوَالِ الَّتِي بَيْنَ خُرُوجِ الطِّفْلِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ وَبَيْنَ بُلُوغِ الْأَشُدِّ وَيَكُونُ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ وَسَائِطُ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ حَالِ الطُّفُولِيَّةُ وَبَيْنَ ابْتِدَاءِ حَالِ بُلُوغِ الْأَشُدِّ وَاسِطَةٌ حَتَّى جَوَّزَ أَنْ يَبْلُغَ فِي السِّنِّ وَيَكُونَ طِفْلًا كَمَا يَكُونُ غُلَامًا ثُمَّ يَدْخُلُ فِي الْأَشُدِّ الْمَرْتَبَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَالْمَعْنَى أَنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى عَلَى قُوَّتِهِ وَكَمَالِهِ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَهُوَ الْهَرَمُ وَالْخَرَفُ، فَيَصِيرُ كَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ طُفُولِيَّتِهِ ضَعِيفَ الْبِنْيَةِ، سَخِيفَ الْعَقْلِ، قَلِيلَ الْفَهْمِ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ: لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ كَالطِّفْلِ؟ قُلْنَا الْمُرَادُ أَنَّهُ يَزُولُ عَقْلُهُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ قَدْ يُذْكَرُ فِي النَّفْيِ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْحَالَةُ لَا تَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التين: 5] هُوَ دَلَالَةٌ عَلَى الذَّمِّ فَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعُقُوبَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التِّينِ: 6] فَهَذَا تَمَامُ الِاسْتِدْلَالِ بِحَالِ خِلْقَةِ الْحَيَوَانِ عَلَى صِحَّةِ الْبَعْثِ الوجه الثَّانِي: الِاسْتِدْلَالُ بِحَالِ خِلْقَةِ النَّبَاتِ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً وَهُمُودُهَا يُبْسُهَا وَخُلُوُّهَا عَنِ النَّبَاتِ وَالْخُضْرَةِ فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَالِاهْتِزَازُ الْحَرَكَةُ عَلَى سُرُورٍ فَلَا يَكَادُ يُقَالُ اهْتَزَّ فُلَانٌ لِكَيْتٍ وَكَيْتٍ إِلَّا إِذَا كَانَ الْأَمْرُ مِنَ الْمَحَاسِنِ وَالْمَنَافِعِ فَقَوْلُهُ: اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ أَيْ تَحَرَّكَتْ بِالنَّبَاتِ وَانْتَفَخَتْ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ فَهُوَ مَجَازٌ لِأَنَّ الْأَرْضَ يَنْبُتُ مِنْهَا واللَّه تَعَالَى هُوَ الْمُنْبِتُ لِذَلِكَ، لَكِنَّهُ يُضَافُ إِلَيْهَا تَوَسُّعًا، وَمَعْنَى مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ مِنْ زَرْعٍ وَغَرْسٍ، وَالْبَهْجَةُ حُسْنُ الشَّيْءِ وَنَضَارَتُهُ، وَالْبَهِيجُ بِمَعْنَى الْمُبْهِجِ قَالَ الْمُبَرِّدُ وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُشْرِقُ الْجَمِيلُ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَرَّرَ هَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ رَتَّبَ عَلَيْهِمَا مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ وَالنَّتِيجَةُ وَذَكَرَ أُمُورًا خَمْسَةً أَحَدُهَا: قَوْلُهُ ذَلِكَ: بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَالْحَقُّ هُوَ الْمَوْجُودُ الثَّابِتُ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ دَالَّةٌ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَحَاصِلُهَا رَاجِعٌ إِلَى أَنَّ/ حُدُوثَ هَذِهِ الأعراض الْمُتَنَافِيَةِ وَتَوَارُدَهَا عَلَى الْأَجْسَامِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصانع وثانيها: قوله تعالى: وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى فَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُسْتَبْعَدْ مِنَ الْإِلَهِ إِيجَادُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ إِعَادَةُ الْأَمْوَاتِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَعْنِي أَنَّ الَّذِي يَصِحُّ مِنْهُ إِيجَادُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الْإِنْصَافِ لِذَاتِهِ بِالْقُدْرَةِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْإِعَادَةِ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا أَقَامَ الدَّلَائِلَ عَلَى أَنَّ الْإِعَادَةَ فِي نَفْسِهَا مُمْكِنَةٌ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْإِعَادَةِ فِي نَفْسِهَا، وَإِذَا ثَبَتَ الْإِمْكَانُ وَالصَّادِقُ أَخْبَرَ عَنْ وُقُوعِهِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَطْعِ بِوُقُوعِهِ، واعلم أن

[سورة الحج (22) : الآيات 8 إلى 10]

تَحْرِيرَ هَذِهِ الدَّلَالَةِ عَلَى الوجه النَّظَرِيِّ أَنْ يُقَالَ الْإِعَادَةُ فِي نَفْسِهَا مُمْكِنَةٌ وَالصَّادِقُ أَخْبَرَ عَنْ وُقُوعِهَا فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَطْعِ بِوُقُوعِهَا، أَمَّا بَيَانُ الْإِمْكَانِ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْسَامَ بَعْدَ تَفَرُّقِهَا قَابِلَةٌ لِتِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي كَانَتْ قَائِمَةً بِهَا حَالَ كَوْنِهَا حَيَّةً عَاقِلَةً وَالْبَارِئُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ الْمُمْكِنَةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِإِمْكَانِ الْإِعَادَةِ لِمَا قُلْنَا إِنَّ تِلْكَ الْأَجْسَامَ بَعْدَ تَفَرُّقِهَا قَابِلَةٌ لِتِلْكَ الصِّفَاتِ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ قَابِلَةً لَهَا فِي وَقْتٍ لَمَا كَانَتْ قَابِلَةً لَهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، لِأَنَّ الْأُمُورَ الذَّاتِيَّةَ لَا تَزُولُ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ قَابِلَةً لَهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ لَمَا كَانَتْ حَيَّةً عَاقِلَةً فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، لَكِنَّهَا كَانَتْ حَيَّةً عَاقِلَةً فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ قَابِلَةً أَبَدًا لِهَذِهِ الصِّفَاتِ. وَأَمَّا أَنَّ الْبَارِئَ سُبْحَانَهُ يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُ ذَلِكَ الْمُمْكِنِ فَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ فَيَكُونُ عَالِمًا بِأَجْزَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى التَّعْيِينِ وَقَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، فَيَكُونُ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِ تِلْكَ الصِّفَاتِ فِي تِلْكَ الذَّوَاتِ. فَثَبَتَ أَنَّ الْإِعَادَةَ فِي نَفْسِهَا مُمْكِنَةٌ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُ ذَلِكَ الْمُمْكِنِ. فَثَبَتَ أَنَّ الْإِعَادَةَ مُمْكِنَةٌ فِي نَفْسِهَا. فَإِذَا أَخْبَرَ الصَّادِقُ عَنْ وُقُوعِهَا فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَطْعِ بِوُقُوعِهَا، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْأَصْلِ. فَإِنْ قِيلَ فَأَيُّ مَنْفَعَةٍ لِذِكْرِ مَرَاتِبِ خِلْقَةِ الْحَيَوَانَاتِ وَخِلْقَةِ النَّبَاتِ فِي هَذِهِ الدَّلَالَةِ؟ قُلْنَا إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ وَعَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، وَمَتَى صَحَّ ذَلِكَ فَقَدْ صَحَّ كَوْنُ الْإِعَادَةِ مُمْكِنَةً فَإِنَّ الْخَصْمَ لَا يُنْكِرُ الْمَعَادَ إِلَّا بِنَاءً عَلَى إِنْكَارِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى حَيْثُ أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى الْبَعْثِ فِي كِتَابِهِ ذَكَرَ مَعَهُ كَوْنَهُ قَادِرًا عَالِمًا كَقَوْلِهِ: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: 79] فَقَوْلُهُ: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها بَيَانٌ لِلْقُدْرَةِ وَقَوْلُهُ: وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ بَيَانٌ للعلم واللَّه أعلم. [سورة الحج (22) : الآيات 8 الى 10] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) الْقِرَاءَةُ: ثانِيَ عِطْفِهِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْحَسَنُ وَحْدَهُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ لِيُضِلَّ قُرِئَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ وَنُذِيقُهُ بِالنُّونِ وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ أُذِيقُهُ، الْمَعَانِي فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ [الْحَجِّ: 3] مَنْ هُمْ؟ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْآيَةُ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ وَارِدَةٌ فِي الْأَتْبَاعِ الْمُقَلِّدِينَ وَهَذِهِ الْآيَةُ وَارِدَةٌ فِي الْمَتْبُوعِينَ الْمُقَلِّدِينَ، فَإِنَّ كِلَا الْمُجَادِلَيْنِ جَادَلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا تَبَعًا وَالْآخَرُ مَتْبُوعًا وَبَيَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ فَإِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ فِي الْمُقَلِّدِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ فِيمَنْ يُخَاصِمُ بِنَاءً عَلَى شُبْهَةٍ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ مَا قُلْتُمْ وَالْمُقَلِّدُ لَا يَكُونُ مُجَادِلًا؟ قُلْنَا قَدْ يُجَادِلُ تَصْوِيبًا لِتَقْلِيدِهِ وَقَدْ يُورِدُ الشُّبْهَةَ الظَّاهِرَةَ إِذَا تَمَكَّنَ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ مُعْتَمَدُهُ الْأَصْلِيُّ هُوَ التَّقْلِيدَ وَثَانِيهَا: أَنَّ الآية الأولى نزلت في النضر بن الحرث، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي جَهْلٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ أَيْضًا فِي النَّضْرِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَفَائِدَةُ التَّكْرِيرِ الْمُبَالَغَةُ فِي الذَّمِّ وَأَيْضًا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى اتِّبَاعَهُ لِلشَّيْطَانِ تَقْلِيدًا بِغَيْرِ حُجَّةٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ مُجَادَلَتَهُ فِي الدِّينِ وَإِضْلَالَهُ غَيْرَهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَالوجه الْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِمَا تَقَدَّمَ.

[سورة الحج (22) : الآيات 11 إلى 13]

المسألة الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْجِدَالَ مَعَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ حَقٌّ حَسَنٌ عَلَى مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ. المسألة الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ، وَبِالْهُدَى الِاسْتِدْلَالُ وَالنَّظَرُ لِأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى الْمَعْرِفَةِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ الْوَحْيُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُجَادِلُ مِنْ غَيْرِ مُقَدِّمَةٍ ضَرُورِيَّةٍ وَلَا نَظَرِيَّةٍ وَلَا سَمْعِيَّةٍ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ [الْحَجِّ: 71] وَقَوْلِهِ: ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا [الْأَحْقَافِ: 4] أَمَّا قَوْلُهُ: ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَاعْلَمْ أَنَّ ثَنْيَ الْعِطْفِ عِبَارَةٌ عَنِ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ كَتَصْعِيرِ الْخَدِّ وَلَيِّ الْجِيدِ وَقَوْلُهُ: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِضَمِّ الْيَاءِ فَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُجَادِلَ فَعَلَ الْجِدَالَ وَأَظْهَرَ التَّكَبُّرَ لِكَيْ يَتَّبِعَهُ غَيْرُهُ فَيُضِلَّهُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ فَجَمَعَ بَيْنَ الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ وَإِضْلَالِ الْغَيْرِ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِفَتْحِ الْيَاءِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا أَدَّى جِدَالُهُ إِلَى الضَّلَالِ جُعِلَ كَأَنَّهُ غَرَضُهُ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَرَحَ حَالَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيَوْمُ/ بَدْرٍ رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عنهما أنهما نزلت في النضر بن الحرث وَأَنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يُخَصِّصُوا هَذِهِ الْآيَةَ بِوَاحِدٍ مُعَيَّنٍ قَالُوا الْمُرَادُ بِالْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا مَا أُمِرَ الْمُؤْمِنُونَ بِذَمِّهِ وَلَعْنِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَقَوْلُهُ: وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْخِزْيَ الْمُعَجَّلَ وَذَلِكَ الْعِقَابَ الْمُؤَجَّلَ لِأَجْلِ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى مَطَالِبَ: الْأَوَّلُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ الْعِقَابِ بِسَبَبِ عَمَلِهِ وَفِعْلِهِ فَلَوْ كَانَ فِعْلُهُ خَلْقًا للَّه تَعَالَى لَكَانَ حِينَمَا خَلَقَهُ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اسْتَحَالَ مِنْهُ أَنْ يَنْفَكَّ عَنْهُ، وَحِينَمَا لَا يَخْلُقُهُ اللَّه تَعَالَى اسْتَحَالَ مِنْهُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْعِقَابُ بِسَبَبِ فِعْلِهِ فَإِذَا عَاقَبَهُ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ مَحْضَ الظُّلْمِ وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا بِفِعْلِ ذَلِكَ الْعَذَابِ لِأَجْلِ أَنَّ الْمُكَلَّفَ فَعَلَ فِعْلًا اسْتَحَقَّ بِهِ ذَلِكَ الْعِقَابَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ عَاقَبَهُ لَا بِسَبَبِ فِعْلٍ يَصْدُرُ مِنْ جِهَتِهِ لَكَانَ ظَالِمًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْذِيبُ الْأَطْفَالِ بِكُفْرِ آبَائِهِمْ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ تَمَدَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ الظُّلْمَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ خِلَافَ مَا يَقُولُهُ النَّظَّامُ، وَأَنْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنْهُ خِلَافَ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ. الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ لَا يَجُوزَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَظْلِمُ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ صِحَّةَ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى نَفْيِ الظُّلْمِ فَلَوْ أَثْبَتْنَا ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ لَزِمَ الدَّوْرُ وَالْجَوَابُ: عن الكل المعارضة بالعلم والداعي. [سورة الحج (22) : الآيات 11 الى 13] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) الْقِرَاءَةُ: قُرِئَ: خَاسِرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ فَالنَّصْبُ عَلَى الْحَالِ وَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ

مَحْذُوفٍ، وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّه مَنْ ضَرُّهُ بِغَيْرِ لَامٍ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُظْهِرِينَ لِلشِّرْكِ الْمُجَادِلِينَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَقِبَهُ بِذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ وَفِي تَفْسِيرِ الْحَرْفِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: مَا قَالَهُ الْحَسَنُ وَهُوَ أَنَّ الْمَرْءَ فِي بَابِ الدِّينِ مُعْتَمَدُهُ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ فَهُمَا حَرْفَا الدِّينِ، فَإِذَا وَافَقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَقَدْ تَكَامَلَ فِي الدِّينِ وَإِذَا أَظْهَرَ بِلِسَانِهِ الدِّينَ لِبَعْضِ الْأَغْرَاضِ وَفِي قَلْبِهِ النِّفَاقُ جَازَ أَنْ يُقَالَ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ يَعْبُدُ اللَّه عَلَى حَرْفٍ الثَّانِي: قَوْلُهُ: عَلى حَرْفٍ أَيْ عَلَى طَرَفٍ مِنَ الدِّينِ لَا فِي وَسَطِهِ وَقَلْبِهِ، وَهَذَا مَثَلٌ لِكَوْنِهِمْ عَلَى قَلَقٍ وَاضْطِرَابٍ فِي دِينِهِمْ لَا عَلَى سُكُونِ طُمَأْنِينَةٍ كَالَّذِي يَكُونُ عَلَى طَرَفٍ مِنَ الْعَسْكَرِ فَإِنْ أَحَسَّ بِغَنِيمَةٍ قَرَّ وَاطْمَأَنَّ وَإِلَّا فَرَّ وَطَارَ عَلَى وَجْهِهِ. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ لِأَنَّ الثَّبَاتَ فِي الدِّينِ إِنَّمَا يَكُونُ لَوْ كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ إِصَابَةَ الْحَقِّ وَطَاعَةَ اللَّه وَالْخَوْفَ مِنْ عِقَابِهِ فَأَمَّا إِذَا كَانَ غَرَضُهُ الْخَيْرَ الْمُعَجَّلَ فَإِنَّهُ يُظْهِرُ الدِّينَ عِنْدَ السَّرَّاءِ وَيَرْجِعُ عَنْهُ عِنْدَ الضَّرَّاءِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا مُنَافِقًا مَذْمُومًا وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ [النِّسَاءِ: 143] وَكَقَوْلِهِ: فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [النِّسَاءِ: 141] . المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَعْرَابٍ كَانُوا يَقْدَمُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ مُهَاجِرِينَ مِنْ بَادِيَتِهِمْ فَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا صَحَّ بِهَا جِسْمُهُ وَنَتَجَتْ فَرَسُهُ مُهْرًا حَسَنًا وَوَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا وَكَثُرَ مَالُهُ وَمَاشِيَتُهُ رَضِيَ بِهِ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ وَإِنْ أَصَابَهُ وَجَعٌ وَوَلَدَتِ امْرَأَتُهُ جَارِيَةً أَوْ أُجْهِضَتْ رَمَاكُهُ «1» وَذَهَبَ مَالُهُ وَتَأَخَّرَتْ عَنْهُ الصَّدَقَةُ أَتَاهُ الشَّيْطَانُ وَقَالَ لَهُ مَا جَاءَتْكَ هَذِهِ الشُّرُورُ إِلَّا بِسَبَبِ هَذَا الدِّينِ فَيَنْقَلِبُ عَنْ دِينِهِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَثَانِيهَا: وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ نَزَلَتْ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، مِنْهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَالْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ نَدْخُلُ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ فَإِنْ أَصَبْنَا خَيْرًا عَرَفْنَا أَنَّهُ حَقٌّ، وَإِنْ أَصَبْنَا غَيْرَ ذَلِكَ عَرَفْنَا أَنَّهُ بَاطِلٌ وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: «أَسْلَمَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَذَهَبَ بَصَرُهُ وَمَالُهُ وَوَلَدُهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه أَقِلْنِي فَإِنِّي لَمْ أُصِبْ مِنْ دِينِي هَذَا خَيْرًا، ذَهَبَ بَصَرِي وَوَلَدِي وَمَالِي. فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُقَالُ، إِنَّ الْإِسْلَامَ لَيَسْبِكُ كَمَا تَسْبِكُ النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: كَيْفَ قَالَ: وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ وَالْخَيْرُ أَيْضًا فِتْنَةٌ لِأَنَّهُ امْتِحَانٌ وَقَالَ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] ، وَالْجَوَابُ: مِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ لِأَنَّ النِّعْمَةَ بَلَاءٌ وَابْتِلَاءٌ لِقَوْلِهِ: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ [الْفَجْرِ: 15] وَلَكِنْ إِنَّمَا يُطْلَقُ اسْمُ الْبَلَاءِ عَلَى مَا يَثْقُلُ عَلَى الطَّبْعِ، وَالْمُنَافِقُ لَيْسَ عِنْدَهُ الْخَيْرُ إِلَّا الْخَيْرُ الدُّنْيَوِيُّ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ الشَّرُّ إِلَّا الشَّرُّ الدُّنْيَوِيُّ، لِأَنَّهُ لَا دِينَ لَهُ. فَلِذَلِكَ وَرَدَتِ/ الْآيَةُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ، وَإِنْ كَانَ الْخَيْرُ كُلُّهُ فِتْنَةً، لَكِنَّ أَكْثَرَ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يشتد ويثقل. السُّؤَالُ الثَّانِي: إِذَا كَانَتِ الْآيَةُ فِي الْمُنَافِقِ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى يَنْقَلِبَ وَيَرْتَدَّ؟ وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ أَظْهَرَ بِلِسَانِهِ خِلَافَ مَا كَانَ أَظْهَرَهُ فَصَارَ يَذُمُّ الدِّينَ عِنْدَ الشِّدَّةِ وَكَانَ مِنْ قَبْلُ يَمْدَحُهُ وَذَلِكَ انْقِلَابٌ فِي الحقيقة.

_ (1) الرماك جمع رمكة وهي الفرس أنثى الحصان، أو البرذونة أنثى الحمار، تتخذ للنسل والنتاج، وتجمع ما أرماك أيضا.

السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: الْخَيْرُ هُوَ ضِدُّ الشَّرِّ فَلَمَّا قَالَ: فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ: وَإِنْ أَصَابَهُ شَرٌّ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ الْجَوَابُ: لَمَّا كَانَتِ الشِّدَّةُ لَيْسَتْ بِقَبِيحَةٍ لَمْ يَقُلْ تَعَالَى وَإِنْ أَصَابَهُ شَرٌّ بَلْ وَصَفَهُ بِمَا لَا يُفِيدُ فِيهِ الْقُبْحَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ فَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَخْسَرُ فِي الدُّنْيَا الْعِزَّةَ وَالْكَرَامَةَ وَإِصَابَةَ الْغَنِيمَةِ وَأَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ وَالْإِمَامَةِ وَالْقَضَاءِ وَلَا يَبْقَى مَالُهُ وَدَمُهُ مَصُونًا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَيَفُوتُهُ الثَّوَابُ الدَّائِمُ وَيَحْصُلُ لَهُ الْعِقَابُ الدائم وذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ. أما قوله: يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لَا يَنْفَعُهُ فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ الْمُشْرِكُ الَّذِي يَعْبُدُ الْأَوْثَانَ وَهَذَا كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَرِدْ فِي الْيَهُودِيِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّه الْأَصْنَامَ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهَا وَارِدَةٌ فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ انْقَطَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ النِّفَاقِ وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ، وَأَرَادَ بِهِ عِظَمَ ضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعْنِيَ بِذَلِكَ بُعْدَ ضَلَالِهِمْ عَنِ الصَّوَابِ لِأَنَّ جَمِيعَهُ وَإِنْ كَانَ يَشْتَرِكُ فِي أَنَّهُ خَطَأٌ فَبَعْضُهُ أَبْعَدُ مِنَ الْحَقِّ مِنَ الْبَعْضِ، وَاسْتُعِيرَ الضلال البعيد من ضلال من أبعد في التِّيهِ ضَالًّا وَطَالَتْ وَبَعُدَتْ مَسَافَةُ ضَلَالِهِ. أَمَّا قوله تعالى: يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ رُؤَسَاؤُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَفْزَعُونَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُمْ أَنْ يَضُرُّوا، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الْأَوْثَانَ لَا تَضُرُّهُمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي كَوْنَ الْمَذْكُورِ فِيهَا ضَارًّا نَافِعًا، فَلَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْأَوْثَانَ لَزِمَ التَّنَاقُضُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ الْوَثَنُ وَأَجَابُوا عَنِ التَّنَاقُضِ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ بِأَنْفُسِهَا وَلَكِنَّ عِبَادَتَهَا سَبَبُ الضَّرَرِ وَذَلِكَ يَكْفِي فِي إِضَافَةِ الضَّرَرِ إِلَيْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إِبْرَاهِيمَ: 36] فَأَضَافَ الْإِضْلَالَ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ كَانُوا سَبَبًا لِلضَّلَالِ، فَكَذَا هَاهُنَا نَفَى الضَّرَرَ عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِمَعْنَى كَوْنِهَا فَاعِلَةً وَأَضَافَ الضَّرَرَ إِلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى أَنَّ عِبَادَتَهَا سَبَبُ الضَّرَرِ. وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، ثم قال فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: لَوْ سَلَّمْنَا كَوْنَهَا ضَارَّةً نَافِعَةً لَكِنَّ ضَرَرَهَا أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهَا. وَثَالِثُهَا: كَانَ الْكُفَّارُ إِذَا أَنْصَفُوا عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مِنْهَا نَفْعٌ وَلَا ضَرَرٌ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ يُشَاهِدُونَ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ بِسَبَبِ عِبَادَتِهَا، فَكَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهَا فِي الْآخِرَةِ: إِنَّ ضَرَرَكُمْ أَعْظَمُ مِنْ نَفْعِكُمْ. المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ. أَمَّا قَوْلُهُ: لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ فَالْمَوْلَى هُوَ الْوَلِيُّ وَالنَّاصِرُ، وَالْعَشِيرُ الصَّاحِبُ وَالْمُعَاشِرُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ بِالرُّؤَسَاءِ أَلْيَقُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَوْثَانِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَعْدِلُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى الَّذِي يَجْمَعُ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَإِلَى طَاعَةِ الرُّؤَسَاءِ، ثُمَّ ذَمَّ الرُّؤَسَاءَ بِقَوْلِهِ: لَبِئْسَ الْمَوْلى وَالْمُرَادُ ذم من انتصر بهم والتجأ إليهم.

[سورة الحج (22) : الآيات 14 إلى 16]

[سورة الحج (22) : الآيات 14 الى 16] إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ حَالَ عِبَادَةِ الْمُنَافِقِينَ وَحَالَ مَعْبُودِهِمْ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ صِفَةَ عِبَادَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَصِفَةَ مَعْبُودِهِمْ، أَمَّا عِبَادَتُهُمْ فَقَدْ كَانَتْ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ صَوَابُهُ، وَأَمَّا مَعْبُودُهُمْ فَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَعِبَادَتُهُمْ حَقِيقِيَّةٌ وَمَعْبُودُهُمْ يُعْطِيهِمْ أَعْظَمَ الْمَنَافِعِ وَهُوَ الْجَنَّةُ، ثُمَّ بَيَّنَ كَمَالَ الْجَنَّةِ الَّتِي تَجْمَعُ بَيْنَ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ وأن تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ بِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ زِيَادَةً عَلَى أُجُورِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاءِ: 173] وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي خَلْقِ الْأَفْعَالِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ قَالُوا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ الْإِيمَانَ وَلَفْظَةُ (مَا) لِلْعُمُومِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِلْإِيمَانِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ أَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ لَا مَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ غَيْرُهُ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ مَا يُرِيدُ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِنَا مَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَمِنْ قَوْلِنَا مَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ غَيْرُهُ فَالتَّقْيِيدُ خِلَافُ النَّصِّ. أَمَّا قَوْلُهُ: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَالْهَاءُ إِلَى مَاذَا يَرْجِعُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ وَالسُّدِّيِّ، وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا بِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ/ وَإِظْهَارِ دِينِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِإِعْلَاءِ دَرَجَتِهِ وَالِانْتِقَامِ مِمَّنْ كَذَّبَهُ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْآيَةِ فَفِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ ذِكْرُ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَالْإِيمَانُ لَا يَتِمُّ إِلَّا باللَّه وَرَسُولِهِ فَيَجِبُ الْبَحْثُ هَاهُنَا عَنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَنِ الَّذِي كَانَ يَظُنُّ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَنْصُرُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ؟. أَمَّا الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: كَانَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِشِدَّةِ غَيْظِهِمْ وَحَنَقِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَسْتَبْطِئُونَ مَا وَعَدَ اللَّه رَسُولَهُ مِنَ النَّصْرِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَثَانِيهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنْ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ قَالُوا نَخَافُ أَنَّ اللَّه لَا يَنْصُرُ مُحَمَّدًا فَيَنْقَطِعُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ حُلَفَائِنَا مِنَ الْيَهُودِ فَلَا يَمِيرُونَنَا. وَثَالِثُهَا: أَنْ حُسَّادَهُ وَأَعْدَاءَهُ كَانُوا يَتَوَقَّعُونَ أَنْ لَا يَنْصُرَهُ اللَّه وَأَنْ لَا يُعْلِيَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ، فَمَتَى شَاهَدُوا أَنَّ اللَّه نَصَرَهُ غَاظَهُمْ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْبَحْثُ الثَّانِي: فَاعْلَمْ أَنَّ فِي لَفْظِ السَّبَبِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْحَبْلُ وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فِي السَّمَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ سَمَاءُ الْبَيْتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ السَّمَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ، فَقَالُوا الْمَعْنَى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّه، ثُمَّ يَغِيظُهُ أَنَّهُ لَا يَظْفَرُ بِمَطْلُوبِهِ فَلْيَسْتَقْصِ وُسْعَهُ فِي إِزَالَةِ مَا يَغِيظُهُ بِأَنْ يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُ مَنْ بَلَغَ مِنْهُ الْغَيْظُ

كُلَّ مَبْلَغٍ حَتَّى مَدَّ حَبْلًا إِلَى سَمَاءِ بَيْتِهِ فَاخْتَنَقَ، فَلْيَنْظُرْ أَنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ هَلْ يَذْهَبُ نَصْرُ اللَّه الَّذِي يَغِيظُهُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي الْقَطْعِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَمَّى الِاخْتِنَاقَ قَطْعًا لِأَنَّ الْمُخْتَنِقَ يَقْطَعُ نَفَسَهُ بِحَبْسِ مَجَارِيهِ، وَسَمَّى فِعْلَهُ كَيْدًا لِأَنَّهُ وَضَعَهُ مَوْضِعَ الْكَيْدِ حَيْثُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكِدْ بِهِ مَحْسُودَهُ وَإِنَّمَا كَادَ بِهِ نَفْسَهُ، وَالْمُرَادُ لَيْسَ فِي يَدِهِ إِلَّا مَا لَيْسَ بِمُذْهِبٍ لِمَا يَغِيظُ. وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: يَشُدُّ الْحَبْلَ فِي عُنُقِهِ وَفِي سَقْفِ الْبَيْتِ، ثُمَّ لْيَقْطَعِ الْحَبْلَ حَتَّى يَخْتَنِقَ وَيَهْلِكَ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا حَمَلْنَا السَّمَاءَ عَلَى سَقْفِ الْبَيْتِ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْسُ السَّمَاءِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى نَفْسِ السَّمَاءِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى سَمَاءِ الْبَيْتِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا مُقَيَّدًا، وَلِأَنَّ الْغَرَضَ لَيْسَ الْأَمْرَ بِأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، بَلِ الْغَرَضُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صَارِفًا لَهُ عَنِ الْغَيْظِ إِلَى طَاعَةِ اللَّه تعالى، وإذا كان كذلك فكل ما كَانَ الْمَذْكُورُ أَبْعَدَ مِنَ الْإِمْكَانِ كَانَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَدَّ الْحَبْلِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَالِاخْتِنَاقَ بِهِ أَبْعَدُ فِي الْإِمْكَانِ مِنْ مَدِّهِ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ. أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا السَّبَبُ لَيْسَ هُوَ الْحَبْلَ فَقَدْ ذَكَرُوا وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: كَأَنَّهُ قَالَ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ لْيَقْطَعْ بِذَلِكَ السَّبَبِ الْمَسَافَةَ، ثُمَّ لْيَنْظُرْ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ مَعَ تَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ فِيمَا ظَنَّهُ خَاسِرَ الصَّفْقَةِ كَأَنْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ. وَالثَّانِي: كَأَنَّهُ قَالَ فَلْيَطْلُبْ سَبَبًا يَصِلُ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَلْيَقْطَعْ نَصْرَ اللَّه لِنَبِيِّهِ، وَلْيَنْظُرْ هَلْ يَتَهَيَّأُ لَهُ الْوُصُولُ إِلَى السَّمَاءِ بِحِيلَةٍ، وَهَلْ يَتَهَيَّأُ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ بِذَلِكَ نَصْرَ اللَّه عَنْ رَسُولِهِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا كَانَ غَيْظُهُ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصِدَ عَلَى كُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ مَعْلُومٌ فَإِنَّهُ زَجْرٌ لِلْكُفَّارِ عَنِ الْغَيْظِ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ/ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ [الْأَنْعَامِ: 35] مُبَيِّنًا بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا حِيلَةَ لَهُ فِي الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْهَاءَ فِي قَوْلِهِ: لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ وَمِنْ حَقِّ الْكِنَايَةِ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى مَذْكُورٍ إِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ وَمَنْ قَالَ بِذَلِكَ حَمَلَ النُّصْرَةَ عَلَى الرِّزْقِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَقَفَ عَلَيْنَا سَائِلٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ فَقَالَ: مَنْ يَنْصُرُنِي نَصَرَهُ اللَّه. أَيْ مَنْ يُعْطِينِي أَعْطَاهُ اللَّه، فَكَأَنَّهُ قَالَ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَرْزُقَهُ اللَّه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلِهَذَا الظَّنِّ يَعْدِلُ عَنِ التَّمَسُّكِ بِدِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا وَصَفَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ [الْحَجِّ: 11] فَيَبْلُغُ غَايَةَ الْجَزَعِ وَهُوَ الِاخْتِنَاقُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَغْلِبُ التَّسْمِيَةَ وَيَجْعَلُهُ مَرْزُوقًا. أَمَّا قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ فَمَعْنَاهُ وَمِثْلَ ذَلِكَ الْإِنْزَالِ أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ كُلَّهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ فَقَدِ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهِ فَقَالُوا: الْمُرَادُ مِنَ الْهِدَايَةِ، إِمَّا وَضْعُ الْأَدِلَّةِ أَوْ خَلْقُ الْمَعْرِفَةِ وَالْأَوَّلُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ الْمُكَلَّفِينَ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِ بَلْ هِيَ مُعَلَّقَةٌ بِمَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ وَوَضْعُ الْأَدِلَّةِ عِنْدَ الْخَصْمِ وَاجِبٌ فَبَقِيَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ خَلْقُ الْمَعْرِفَةِ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي الِاعْتِذَارِ هَذَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: يُكَلِّفُ مَنْ يُرِيدُ لِأَنَّ مَنْ كَلَّفَ أَحَدًا شَيْئًا فَقَدْ وَصَفَهُ لَهُ وَبَيَّنَهُ لَهُ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَالْإِثَابَةِ مَنْ يُرِيدُ مِمَّنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَلْطُفُ بِمَنْ يُرِيدُ مِمَّنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا زَادَهُ هُدًى ثَبَتَ عَلَى إِيمَانِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [مُحَمَّدٍ: 17] وَهَذَا الوجه هُوَ الَّذِي أَشَارَ الْحَسَنُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّه يَهْدِي مَنْ قَبِلَ لَا مَنْ لَمْ يَقْبَلْ، وَالْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ ذَكَرَهُمَا أَبُو عَلِيٍّ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ بَيَانِ الْأَدِلَّةِ وَالْجَوَابِ عَنِ الشُّبَهَاتِ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى مَحْضِ التَّكْلِيفِ، وَأَمَّا الْوَجْهَانِ الْأَخِيرَانِ فَمَدْفُوعَانِ

[سورة الحج (22) : الآيات 17 إلى 18]

لِأَنَّهُمَا عِنْدَكَ وَاجِبَانِ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَقَوْلُهُ: يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ يقتضي عدم الوجوب. [سورة الحج (22) : الآيات 17 الى 18] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ (18) الْقِرَاءَةُ قُرِئَ حُقَّ بِالضَّمِّ وَقُرِئَ (حَقًّا) أَيْ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ حَقًّا وقرئ مُكْرِمٍ بفتح الراء بمعنى الإكرام، [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ [الحج: 16] أَتْبَعَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِبَيَانِ مَنْ يَهْدِيهِ وَمَنْ لَا يَهْدِيهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُخَالِفُهُ فِي الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ إِلَّا طَبَقَاتٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: الطَّبَقَةُ الْمُشَارِكَةُ لَهُ فِي نُبُوَّةِ نَبِيِّهِ كَالْخِلَافِ بَيْنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ فِي خَلْقِ الْأَفْعَالِ الْبَشَرِيَّةِ وَالْخِلَافِ بَيْنَ مُثْبِتِي الصِّفَاتِ وَالرُّؤْيَةِ وَنُفَاتِهَا. وَثَانِيهَا: الَّذِينَ يُخَالِفُونَهُ فِي النُّبُوَّةِ وَلَكِنْ يُشَارِكُونَهُ فِي الِاعْتِرَافِ بِالْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ كَالْخِلَافِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِيسَى وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَثَالِثُهَا: الَّذِينَ يُخَالِفُونَهُ فِي الْإِلَهِ وَهَؤُلَاءِ هُمُ السُّوفِسْطَائِيَّةُ الْمُتَوَقِّفُونَ فِي الْحَقَائِقِ، وَالدَّهْرِيَّةُ الَّذِينَ لَا يَعْتَرِفُونَ بِوُجُودِ مُؤَثِّرٍ فِي الْعَالَمِ، وَالْفَلَاسِفَةُ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ مُؤَثِّرًا مُوجَبًا لَا مُخْتَارًا. فَإِذَا كَانَتْ الِاخْتِلَافَاتُ الْوَاقِعَةُ فِي أُصُولِ الْأَدْيَانِ مَحْصُورَةً فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ لَا يُشَكُّ أَنَّ أَعْظَمَ جِهَاتِ الْخِلَافِ هُوَ مِنْ جِهَةِ الْقِسْمِ الْأَخِيرِ مِنْهَا. وَهَذَا الْقِسْمُ الْأَخِيرُ بِأَقْسَامِهِ الثَّلَاثَةِ لَا يوجدون في العالم المتظاهرين بعقائدهم ومذاهبهم بكل يَكُونُونَ مُسْتَتِرِينَ، أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الِاخْتِلَافُ الْحَاصِلُ بِسَبَبِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَتَقْسِيمُهُ أَنْ يُقَالَ الْقَائِلُونَ بِالْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، إِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُعْتَرِفِينَ بِوُجُودِ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ لَا يَكُونُوا مُعْتَرِفِينَ بِذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا أَتْبَاعًا لِمَنْ كَانَ نَبِيًّا فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ لِمَنْ كَانَ مُتَنَبِّئًا، أَمَّا أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَفِرْقَةٌ أُخْرَى بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وهم الصابئون، وأما أتباع المتنبي فَهُمُ الْمَجُوسُ، وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَهُمْ عَبْدَةُ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَهُمُ الْمُسَمَّوْنَ بِالْمُشْرِكِينَ، وَيَدْخُلُ فِيهِمُ الْبَرَاهِمَةُ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ. فَثَبَتَ أَنَّ الْأَدْيَانَ الْحَاصِلَةَ بِسَبَبِ الِاخْتِلَافَاتِ فِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ هِيَ هَذِهِ السِّتَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ الْأَدْيَانُ سِتَّةٌ وَاحِدَةٌ للَّه تَعَالَى وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَخَمْسَةٌ لِلشَّيْطَانِ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ هَذَا خَبَرٌ لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا كَمَا تَقُولُ إِنَّ أَخَاكَ، إِنَّ الدَّيْنَ عَلَيْهِ لَكَثِيرٌ. قَالَ جَرِيرٌ: إِنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّ اللَّه سَرْبَلَهُ ... سِرْبَالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجَى الْخَوَاتِيمُ المسألة الثَّانِيَةُ: الْفَصْلُ مُطْلَقٌ فَيُحْتَمَلُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمْ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَمَاكِنِ جَمِيعًا فَلَا يُجَازِيهِمْ/ جَزَاءً وَاحِدًا بِغَيْرِ تَفَاوُتٍ وَلَا يَجْمَعُهُمْ فِي مَوْطِنٍ وَاحِدٍ وَقِيلَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَقْضِي بَيْنَهُمْ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ وَهُوَ عَالِمٌ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ كُلٌّ مِنْهُمْ فَلَا يَجْرِي فِي ذَلِكَ الْفَصْلِ ظُلْمٌ وَلَا حَيْفٌ. أَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ فَفِيهِ أَسْئِلَةٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الرُّؤْيَةُ هَاهُنَا الْجَوَابُ: أَنَّهَا الْعِلْمُ أَيْ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّه يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السموات وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّمَا عَرَفَ ذَلِكَ بِخَبَرِ اللَّه لَا أَنَّهُ رَآهُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا السُّجُودُ هَاهُنَا قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ أَجْوَدُ الْوُجُوهِ فِي سُجُودِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَنَّهَا تَسْجُدُ مُطِيعَةً للَّه تَعَالَى وَهُوَ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فُصِّلَتْ: 11] ، أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ: 40] ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 74] ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 44] ، وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ [الأنبياء: 79] وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْأَجْسَامَ لَمَّا كَانَتْ قَابِلَةً لِجَمِيعِ الْأَعْرَاضِ الَّتِي يُحْدِثُهَا اللَّه تَعَالَى فِيهَا مِنْ غَيْرِ امْتِنَاعٍ الْبَتَّةَ أَشْبَهَتِ الطَّاعَةَ وَالِانْقِيَادَ وَهُوَ السُّجُودُ فَإِنْ قِيلَ هَذَا التَّأْوِيلُ يُبْطِلُهُ قَوْلُهُ: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَإِنَّ السُّجُودَ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْتُهُ عَامٌّ فِي كُلِّ النَّاسِ فَإِسْنَادُهُ إِلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ يَكُونُ تَخْصِيصًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ السُّجُودَ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي حَقِّ الْكُلِّ إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ تَمَرَّدَ وَتَكَبَّرَ وَتَرَكَ السُّجُودَ فِي الظَّاهِرِ، فَهَذَا الشَّخْصُ وَإِنْ كَانَ سَاجِدًا بِذَاتِهِ لَكِنَّهُ مُتَمَرِّدٌ بِظَاهِرِهِ، أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَإِنَّهُ سَاجِدٌ بِذَاتِهِ وَبِظَاهِرِهِ فَلِأَجْلِ هَذَا الْفَرْقِ حَصَلَ التَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ. وَثَانِيهَا: أَنْ نَقْطَعَ قَوْلَهُ: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَمَّا قَبْلَهُ ثُمَّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ تَقْدِيرُ الآية: وللَّه يسجد من في السموات وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَيَسْجُدُ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَيَكُونُ السُّجُودُ الْأَوَّلُ بِمَعْنَى الِانْقِيَادِ وَالثَّانِي بِمَعْنَى الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي معنييه جَمِيعًا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ مُثَابٌ لِأَنَّ خَبَرَ مُقَابِلِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ، وَالثَّالِثُ: أَنْ يُبَالِغَ فِي تَكْثِيرِ الْمَحْقُوقِينَ بِالْعَذَابِ فَيَعْطِفَ كَثِيرٌ عَلَى كَثِيرٌ ثُمَّ يُخْبِرُ عَنْهُمْ بِحَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ كَأَنَّهُ قِيلَ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَنْ يُجَوِّزُ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَفْهُومَيْهِ جَمِيعًا يَقُولُ: الْمُرَادُ بِالسُّجُودِ فِي حَقِّ الْأَحْيَاءِ الْعُقَلَاءِ الْعِبَادَةُ وَفِي حَقِّ الْجَمَادَاتِ الِانْقِيَادُ، وَمَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ يَقُولُ إِنَّ اللَّه تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ مَرَّتَيْنِ، فَعَنَى بِهَا فِي حَقِّ الْعُقَلَاءِ، الطَّاعَةَ وَفِي حَقِّ الْجَمَادَاتِ الانقياد. السؤال الثالث: قوله: أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ لَفْظُهُ لَفْظُ الْعُمُومِ فَيَدْخُلُ فِيهِ النَّاسُ فَلِمَ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْجَوَابُ: لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَأَوْهَمَ أَنَّ كُلَّ النَّاسِ يَسْجُدُونَ كَمَا أَنَّ كُلَّ الْمَلَائِكَةِ يَسْجُدُونَ فَبَيَّنَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَسْجُدُونَ طَوْعًا/ دُونَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ عَنْ ذَلِكَ وَهُمُ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ السُّجُودِ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يَتَرَجَّحُ وُجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ إِلَّا عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ كَمَا قَالَ: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النَّجْمِ: 42] وَكَمَا أَنَّ الْإِمْكَانَ لَازِمٌ لِلْمُمْكِنِ حَالَ حُدُوثِهِ وَبَقَائِهِ فَافْتِقَارُهُ إِلَى الْوَاجِبِ حَاصِلٌ حَالَ حُدُوثِهِ وَحَالَ بَقَائِهِ، وَهَذَا الِافْتِقَارُ الذَّاتِيُّ اللَّازِمُ لِلْمَاهِيَّةِ أَدَلُّ عَلَى الْخُضُوعِ وَالتَّوَاضُعِ مِنْ وَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ فَإِنَّ ذلك علامة وضعية للافتقار الذاتي، وقد يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، أَمَّا نَفْسُ الِافْتِقَارِ الذَّاتِيِّ فَإِنَّهُ مُمْتَنِعُ التَّغَيُّرِ

[سورة الحج (22) : الآيات 19 إلى 24]

وَالتَّبَدُّلِ، فَجَمِيعُ الْمُمْكِنَاتِ سَاجِدَةٌ بِهَذَا الْمَعْنَى للَّه تَعَالَى أَيْ خَاضِعَةٌ مُتَذَلِّلَةٌ مُعْتَرِفَةٌ بِالْفَاقَةِ إِلَيْهِ وَالْحَاجَةِ إِلَى تَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ، وَعَلَى هَذَا تَأَوَّلُوا قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 44] وَهَذَا قَوْلُ الْقَفَّالِ رَحِمَهُ اللَّه. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ سُجُودَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ سُجُودُ ظِلِّهَا كقوله تعالى: يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ [النَّحْلِ: 48] وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) يُوَحِّدُهُ (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) مِمَّنْ لَا يُوَحِّدُهُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) فِي الْجَنَّةِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُؤَكِّدُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ أَيْ وَجَبَ بِإِبَائِهِ وَامْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ فَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ لَيْسَ لَهُمْ أَحَدٌ يَقْدِرُ عَلَى إِزَالَةِ ذَلِكَ الْهَوَانِ عَنْهُمْ فَيَكُونُ مُكْرِمًا لَهُمْ «1» ، ثُمَّ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ أَنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ مِنْهُ الْإِكْرَامُ وَالْهَوَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالثَّوَابِ والعقاب، واللَّه أعلم. [سورة الحج (22) : الآيات 19 الى 24] هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) الْقِرَاءَةُ: رُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ خِصْمَانِ بِكَسْرِ الْخَاءِ، وَقُرِئَ قُطِعَتْ بِالتَّخْفِيفِ كَأَّنَ اللَّه يُقَدِّرُ «2» لَهُمْ نِيرَانًا عَلَى مَقَادِيرِ جُثَثِهِمْ تَشْتَمِلُ عَلَيْهِمْ كَمَا تُقَطَّعُ الثِّيَابُ الْمَلْبُوسَةُ، قَرَأَ الْأَعْمَشُ: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ رُدُّوا فِيهَا الْحَسَنُ يُصَهَّرُ بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَقُرِئَ وَلُؤْلُؤاً بِالنَّصْبِ عَلَى تقدير ويؤتون لؤلؤا كقوله وحورا عينا ولؤلؤا بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ وَاوًا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ النَّاسَ قِسْمَانِ مِنْهُمْ مَنْ يَسْجُدُ للَّه وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ذَكَرَ هَاهُنَا كَيْفِيَّةَ اخْتِصَامِهِمْ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ مَنْ قَالَ أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ بِقَوْلِهِ: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا، وَالْجَوَابُ: الْخَصْمُ صِفَةٌ وُصِفَ بِهَا الْفَوْجُ أَوِ الْفَرِيقُ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: هَذَانِ فَوْجَانِ أَوْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمَانِ، فَقَوْلُهُ: هذانِ لِلَّفْظِ وَاخْتَصَمُوا لِلْمَعْنَى كَقَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا [محمد: 16] .

_ (1) في الأصل الأميري: فيكون مكرما ما لهم بتكرار لفظ ما. (2) هكذا في الأصل الأميري ولعل صواب العبارة هكذا (كأن يقدر اللَّه لهم نيرانا) . [.....]

المسألة الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْخَصْمَيْنِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: الْمُرَادُ طَائِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَجَمَاعَتُهُمْ وَطَائِفَةُ الْكُفَّارِ وَجَمَاعَتُهُمْ وَأَنَّ كُلَّ الْكُفَّارِ يَدْخُلُونَ فِي ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ السِّتَّةِ فِي رَبِّهِمْ أَيْ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَثَانِيهَا: رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَالُوا نَحْنُ أَحَقُّ باللَّه وَأَقْدَمُ مِنْكُمْ كِتَابًا وَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ نَحْنُ أَحَقُّ باللَّه آمَنَّا بِمُحَمَّدٍ وَآمَنَّا بِنَبِيِّكُمْ وَبِمَا أَنْزَلَ اللَّه مِنْ كِتَابٍ، وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَ كِتَابَنَا وَنَبِيَّنَا ثُمَّ تَرَكْتُمُوهُ وَكَفَرْتُمْ بِهِ حَسَدًا، فَهَذِهِ خُصُومَتُهُمْ فِي رَبِّهِمْ وَثَالِثُهَا: رَوَى قَيْسُ بْنُ عُبَادَةَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ كَانَ يَحْلِفُ باللَّه أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سِتَّةِ نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ: حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ، وَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو لِلْخُصُومَةِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّه تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَرَابِعُهَا: قَالَ عِكْرِمَةُ: هُمَا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ قَالَتِ النَّارُ خَلَقَنِي اللَّه لِعُقُوبَتِهِ. وَقَالَتِ الْجَنَّةُ خَلَقَنِي اللَّه لِرَحْمَتِهِ فَقَصَّ اللَّه مِنْ خَبَرِهِمَا عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ السَّبَبَ وَإِنْ كَانَ خاصا فالواجب حمل الكلام على ظاهره/ قوله: هذانِ كَالْإِشَارَةِ إِلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُمْ أَهْلُ الْأَدْيَانِ السِّتَّةِ، وَأَيْضًا ذَكَرَ صِنْفَيْنِ أَهْلَ طَاعَتِهِ وَأَهْلَ مَعْصِيَتِهِ مِمَّنْ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رُجُوعُ ذَلِكَ إِلَيْهِمَا، فَمَنْ خَصَّ بِهِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَوِ الْيَهُودَ مِنْ حَيْثُ قَالُوا فِي كِتَابِهِمْ وَنَبِيِّهِمْ مَا حَكَيْنَاهُ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ [الْحَجِّ: 17] أَرَادَ بِهِ الْحُكْمَ لِأَنَّ ذِكْرَ التَّخَاصُمِ يَقْتَضِي الْوَاقِعَ بَعْدَهُ يَكُونُ حُكْمًا فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى حُكْمَهُ فِي الْكُفَّارِ، وَذَكَرَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ أُمُورًا ثَلَاثَةً: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ وَالْمُرَادُ بِالثِّيَابِ إِحَاطَةُ النَّارِ بِهِمْ كَقَوْلِهِ: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الْأَعْرَافِ: 41] عَنْ أَنَسٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مِنْ نُحَاسٍ أُذِيبَ بِالنَّارِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ [إِبْرَاهِيمَ: 5] وَأُخْرِجَ الْكَلَامُ بِلَفْظِ الماضي كقوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [الكهف: 99] ، وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: 21] لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَهُوَ كالواقع. وثانيها: قوله: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ، الْحَمِيمُ الْمَاءُ الْحَارُّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا لَوْ سَقَطَتْ مِنْهُ قَطْرَةٌ عَلَى جِبَالِ الدُّنْيَا لَأَذَابَتْهَا، (يُصْهَرُ) أَيْ يُذَابُ أَيْ إذا صب الحميم على رؤوسهم كَانَ تَأْثِيرُهُ فِي الْبَاطِنِ نَحْوَ تَأْثِيرِهِ فِي الظَّاهِرِ فَيُذِيبُ أَمْعَاءَهُمْ وَأَحْشَاءَهُمْ كَمَا يُذِيبُ جُلُودَهُمْ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ: وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [مُحَمَّدٍ: 15] . وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ الْمَقَامِعُ السِّيَاطُ وَفِي الْحَدِيثِ «لَوْ وُضِعَتْ مِقْمَعَةٌ مِنْهَا فِي الْأَرْضِ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهَا الثَّقَلَانِ مَا أَقَلُّوهَا» وَأَمَّا قَوْلُهُ: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها فَاعْلَمْ أَنَّ الْإِعَادَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْخُرُوجِ وَالْمَعْنَى كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ فَخَرَجُوا أُعِيدُوا فِيهَا، وَمَعْنَى الْخُرُوجِ مَا يُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ النَّارَ تَضْرِبُهُمْ بِلَهَبِهَا فَتَرْفَعُهُمْ حَتَّى إِذَا كَانُوا فِي أَعْلَاهَا ضربوا بالمقاطع فَهَوُوا فِيهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ، وَالْحَرِيقُ الْغَلِيظُ مِنَ النَّارِ الْعَظِيمُ الْإِهْلَاكِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ حُكْمَهُ فِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: الْمَسْكَنُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَثَانِيهَا: الْحِلْيَةُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ مُوَصِّلُهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَى مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَإِنْ كَانَ مَنْ أَحَلَّهُ لَهُمْ أَيْضًا شَارَكَهُمْ فِيهِ لِأَنَّ الْمُحَلَّلَ لِلنِّسَاءِ فِي الدُّنْيَا يَسِيرٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا سَيَحْصُلُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَثَالِثُهَا: الْمَلْبُوسُ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ، وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وفيه وجوه: أحدها: أن شهادة

[سورة الحج (22) : آية 25]

لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه هُوَ الطَّيِّبُ مِنَ الْقَوْلِ لِقَوْلِهِ: مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً [إِبْرَاهِيمَ: 24] وَقَوْلِهِ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فَاطِرٍ: 10] وَهُوَ صِرَاطُ الْحَمِيدِ لِقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشُّورَى: 52] ، وَثَانِيهَا: قَالَ السُّدِّيُّ (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) هُوَ الْقُرْآنُ: وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ هُوَ قَوْلُهُمْ الْحَمْدُ للَّه الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمْ إِذَا سَارُوا إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ هُدُوا إِلَى الْبِشَارَاتِ الَّتِي تَأْتِيهِمْ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى بِدَوَامِ النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ وَالسَّلَامِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلُهُ: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ/ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْدِ: 23، 24] وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ. خَامِسٌ: وَهُوَ أَنَّ الْعَلَاقَةَ الْبَدَنِيَّةَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْحِجَابِ لِلْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ فِي الِاتِّصَالِ بِعَالَمِ الْقُدُسِ فَإِذَا فَارَقَتْ أَبْدَانَهَا انْكَشَفَ الْغِطَاءُ وَلَاحَتِ الْأَنْوَارُ الْإِلَهِيَّةُ، وَظُهُورُ تِلْكَ الْأَنْوَارِ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ وَالتَّعْبِيرُ عَنْهَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ. [سورة الحج (22) : آية 25] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ ذَكَرَ عِظَمَ حُرْمَةِ الْبَيْتِ وَعِظَمَ كُفْرِ هَؤُلَاءِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَذَلِكَ بِالْمَنْعِ مِنَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْبَوْنَ ذَلِكَ. وَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ عَطَفَ الْمُسْتَقْبَلَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الْمَاضِي وَهُوَ قَوْلُهُ: كَفَرُوا وَالْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُقَالُ فُلَانٌ يُحْسِنُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَيُعِينُ الضُّعَفَاءَ لَا يُرَادُ بِهِ حَالٌ وَلَا اسْتِقْبَالٌ وَإِنَّمَا يُرَادُ اسْتِمْرَارُ وُجُودِ الْإِحْسَانِ مِنْهُ فِي جَمِيعِ أَزْمِنَتِهِ وَأَوْقَاتِهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ شَأْنِهِمُ الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّه، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ. [الرَّعْدِ: 28] وَثَانِيهِمَا: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ التَّقْدِيرُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فِيمَا مَضَى وَهُمُ الْآنَ يَصُدُّونَ وَيَدْخُلُ فِيهِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْحَالِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ يَعْنِي وَيَصُدُّوهُمْ «1» أَيْضًا عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَأَصْحَابِهِ حِينَ صَدُّوا رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَنْ أَنْ يَحُجُّوا وَيَعْتَمِرُوا وَيَنْحَرُوا الْهَدْيَ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِتَالَهُمْ وَكَانَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ صَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَعُودَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ. أَمَّا قَوْلُهُ: الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ أَيْ جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ مَنْسَكًا وَمُتَعَبَّدًا وَقَوْلُهُ: سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ رُفِعَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُقَدَّمٌ أَيِ الْعَاكِفُ وَالْبَادِ فِيهِ سَوَاءٌ، وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ مَنْسَكًا فَالْعَاكِفُ وَالْبَادِي فِيهِ سَوَاءٌ وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ (سَوَاءً) بِالنَّصْبِ بِإِيقَاعِ الْجَعْلِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْجَعْلَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ واللَّه أَعْلَمُ. المسألة الثَّانِيَةُ: الْعَاكِفُ الْمُقِيمُ بِهِ الْحَاضِرُ. وَالْبَادِي الطَّارِئُ مِنَ الْبَدْوِ وَهُوَ النازع إليه من غربته، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَدْخُلُ فِي الْعَاكِفِ الْقَرِيبُ إِذَا جَاوَرَ وَلَزِمَهُ لِلتَّعَبُّدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أهله.

_ (1) الصواب: ويصدونهم لأنه لا داعي لحذف النون لعدم وجود ناصب أو جازم.

المسألة الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُمَا فِي أَيِّ شَيْءٍ يَسْتَوِيَانِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إِنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي سُكْنَى مَكَّةَ وَالنُّزُولِ بِهَا فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَحَقَّ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْآخَرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَاحِدٌ سَبَقَ إِلَى الْمَنْزِلِ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمِنْ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ أَنَّ كِرَاءَ دُورِ مَكَّةَ وَبَيْعَهَا حَرَامٌ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْآيَةِ. وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ هَذِهِ قَالُوا إِنَّ أَرْضَ مَكَّةَ لَا تُمَلَّكُ فَإِنَّهَا لَوْ مُلِّكَتْ لَمْ يَسْتَوِ الْعَاكِفُ فِيهَا وَالْبَادِي، فَلَمَّا اسْتَوَيَا ثَبَتَ أَنَّ سَبِيلَهُ سَبِيلُ الْمَسَاجِدِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَكَّةُ مُبَاحٌ لِمَنْ سَبَقَ إِلَيْهَا» وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَذْهَبُ أَبِي حنيفة وإسحاق الْحَنْظَلِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَعَلَى هَذَا الْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْحَرَمُ كُلُّهُ لِأَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْبَلَدُ جَائِزٌ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْإِسْرَاءِ: 1] وَهَاهُنَا قَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ وَهُوَ قَوْلُهُ: الْعاكِفُ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُقِيمُ إِقَامَةً، وَإِقَامَتُهُ لَا تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ بَلْ فِي الْمَنَازِلِ فَيَجِبُ أَنْ يُقَالَ ذَكَرَ الْمَسْجِدَ وَأَرَادَ مَكَّةَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ جَعَلَ اللَّه النَّاسَ فِي الْعِبَادَةِ فِي الْمَسْجِدِ سَوَاءً لَيْسَ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَمْنَعَ الْبَادِيَ وَبِالْعَكْسِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ مَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ شَيْئًا فَلَا يَمْنَعَنَّ أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ أَوْ صَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» «1» وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَوْلُ مَنْ أَجَازَ بَيْعَ دُورِ مَكَّةَ. وَقَدْ جَرَتْ مُنَاظَرَةٌ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ الْحَنْظَلِيِّ بِمَكَّةَ وَكَانَ إِسْحَاقُ لَا يُرَخِّصُ فِي كِرَاءِ بُيُوتِ مَكَّةَ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ [الْحَجِّ: 4] فَأُضِيفَتِ الدَّارُ إِلَى مَالِكِهَا وَإِلَى غَيْرِ مَالِكِهَا، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ» وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رَبْعٍ» وَقَدِ اشْتَرَى عُمَرُ بن الخطاب رضي اللَّه عنهما دَارَ السِّجْنِ، أَتُرَى أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ مَالِكِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ مَالِكِهَا؟ قَالَ إِسْحَاقُ: فَلَمَّا عَلِمْتُ أَنَّ الحجة قَدْ لَزِمَتْنِي تَرَكْتُ قَوْلِي. أَمَّا الَّذِي قَالُوهُ مِنْ حَمْلِ لَفْظِ الْمَسْجِدِ عَلَى مَكَّةَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ الْعَاكِفُ، فَضَعِيفٌ لِأَنَّ الْعَاكِفَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُلَازِمُ لِلْمَسْجِدِ الْمُعْتَكِفُ فِيهِ عَلَى الدَّوَامِ، أَوْ فِي الْأَكْثَرِ فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرُوهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَاكِفِ الْمُجَاوِرُ لِلْمَسْجِدِ الْمُتَمَكِّنُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنَ التَّعَبُّدِ فِيهِ فَلَا وَجْهَ لِصَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ مَعَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قُرِئَ يَرِدْ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنَ الْوُرُودِ، وَمَعْنَاهُ مَنْ أَتَى فِيهِ بِإِلْحَادٍ وَعَنِ الْحَسَنِ وَمَنْ يُرِدْ إِلْحَادَهُ بِظُلْمٍ، وَالْمَعْنَى وَمَنْ يُرِدْ إِيقَاعَ إِلْحَادٍ فِيهِ، فَالْإِضَافَةُ صَحِيحَةٌ عَلَى الِاتِّسَاعِ فِي الظَّرْفِ كَمَكْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمَعْنَاهُ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُلْحِدَ فِيهِ ظَالِمًا. المسألة الثَّانِيَةُ: الْإِلْحَادُ الْعُدُولُ عَنِ الْقَصْدِ وَأَصْلُهُ إِلْحَادُ الْحَافِرِ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْإِلْحَادِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الشِّرْكُ، يَعْنِي مَنْ لَجَأَ إِلَى حَرَمِ اللَّه لِيُشْرِكَ بِهِ عَذَّبَهُ اللَّه تَعَالَى، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْلُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ. وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّه بْنِ سَعْدٍ حَيْثُ اسْتَسْلَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارْتَدَّ مُشْرِكًا، وَفِي قَيْسِ بْنِ ضَبَابَةَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّه بْنِ خَطَلٍ حِينَ قَتَلَ الْأَنْصَارِيَّ وَهَرَبَ إِلَى مَكَّةَ كَافِرًا، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ يَوْمَ الْفَتْحِ كَافِرًا. وَثَالِثُهَا: قَتْلُ مَا نَهَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُ مِنَ الصَّيْدِ. وَرَابِعُهَا: دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ وَارْتِكَابُ مَا لَا يَحِلُّ للمحرم. وخامسها: أنه

_ (1) في النسخة الأميرية (فلا يمنعن عن أحدا) ويظهر أن كلمة (عن) زائدة ولذلك حذفناها.

[سورة الحج (22) : الآيات 26 إلى 29]

الِاحْتِكَارُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَسَادِسُهَا: الْمَنْعُ مِنْ عِمَارَتِهِ. وَسَابِعُهَا: عَنْ عَطَاءٍ قَوْلُ الرَّجُلِ فِي الْمُبَايَعَةِ لَا واللَّه وَبَلَى واللَّه. وَعَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ فُسْطَاطَانِ أَحَدُهُمَا فِي الْحِلِّ وَالْآخَرُ فِي الْحَرَمِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُعَاتِبَ أَهْلَهُ عَاتَبَهُمْ فِي الْحِلِّ، فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ: كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّ مِنَ الْإِلْحَادِ فِيهِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لَا واللَّه وَبَلَى واللَّه. وَثَامِنُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ: أَنَّ الْإِلْحَادَ بِظُلْمٍ عَامٌّ فِي كُلِّ الْمَعَاصِي، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ صَغُرَ أَمْ كَبُرَ يَكُونُ هُنَاكَ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي سَائِرِ الْبِقَاعِ حَتَّى قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا بِعَدَنَ هَمَّ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً عِنْدَ الْبَيْتِ أَذَاقَهُ اللَّه عَذَابًا أَلِيمًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تُضَاعَفُ السَّيِّئَاتُ فِيهِ كَمَا تُضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُقَالُ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ غَيْرُ لَائِقٍ بِكُلِّ الْمَعَاصِي قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ، فَإِنَّ كُلَّ عَذَابٍ يَكُونُ أَلِيمًا، إِلَّا أَنَّهُ تَخْتَلِفُ مَرَاتِبُهُ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَعْصِيَةِ. المسألة الثَّالِثَةُ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِإِلْحادٍ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَوْلَى وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» أَنَّ قَوْلَهُ: بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ حَالَانِ مُتَرَادِفَانِ وَمَفْعُولُ يُرِدْ مَتْرُوكٌ لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ مُتَنَاوَلٍ كَأَنَّهُ قَالَ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ مُرَادًا مَا عَادِلًا عَنِ الْقَصْدِ ظَالِمًا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، يَعْنِي أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى مَنْ كَانَ فِيهِ أَنْ يَضْبِطَ نَفْسَهُ وَيَسْلُكَ طَرِيقَ السَّدَادِ وَالْعَدْلِ فِي جَمِيعِ مَا يَهُمُّ بِهِ وَيَقْصِدُهُ. الثَّانِي: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَجَازُهُ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ إِلْحَادًا وَالْبَاءُ مِنْ حُرُوفِ الزَّوَائِدِ. المسألة الرَّابِعَةُ: لَمَّا كَانَ الْإِلْحَادُ بِمَعْنَى الْمَيْلِ مِنْ أَمْرٍ إِلَى أَمْرٍ بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِلْحَادِ مَا يَكُونُ مَيْلًا إِلَى الظُّلْمِ، فَلِهَذَا قَرَنَ الظُّلْمَ بِالْإِلْحَادِ لِأَنَّهُ لَا مَعْصِيَةَ كَبُرَتْ أَمْ صَغُرَتْ إِلَّا وَهُوَ ظُلْمٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ فَهُوَ بَيَانُ الْوَعِيدِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: مَنْ قَالَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي ابْنِ خَطَلٍ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْعَذَابِ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ إِذَا أَمْكَنَ التَّعْمِيمُ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُتَوَعَّدُ بِهِ. المسألة الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْءَ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ بِإِرَادَتِهِ لِلظُّلْمِ كَمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَى عَمَلِ جَوَارِحِهِ. المسألة الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا قَوْلَيْنِ فِي خَبَرِ إِنَّ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ. الثَّانِي: أَنَّهُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ تَقْدِيرُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ نُذِيقُهُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. وَكُلُّ من ارتكب فيه ذنبا فهو كذلك. [سورة الحج (22) : الآيات 26 الى 29] وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً] اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذْ بَوَّأْنا أَيْ وَاذْكُرْ حِينَ جَعَلْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ مَبَاءَةً، أَيْ مَرْجِعًا يَرْجِعُ إِلَيْهِ لِلْعِمَارَةِ وَالْعِبَادَةِ. وَكَانَ قَدْ رَفَعَ الْبَيْتَ إِلَى السَّمَاءِ أَيَّامَ الطُّوفَانِ وَكَانَ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، فَأَعْلَمَ اللَّه تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَكَانَهُ بِرِيحٍ أَرْسَلَهَا فَكَشَفَتْ مَا حَوْلَهُ فَبَنَاهُ عَلَى وَضْعِهِ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ يَأْتِيَ مَوْضِعَ الْبَيْتِ فَيَبْنِيَ، فَانْطَلَقَ فَخَفِيَ عَلَيْهِ مَكَانُهُ فَبَعَثَ اللَّه تَعَالَى عَلَى قَدْرِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ فِي الْعَرْضِ وَالطُّولِ غَمَامَةً وَفِيهَا رَأْسٌ يَتَكَلَّمُ وَلَهُ لِسَانٌ وَعَيْنَانِ فَقَالَ يَا إِبْرَاهِيمُ ابْنِ عَلَى قَدْرِي وَحِيَالِي فَأَخَذَ فِي الْبِنَاءِ وَذَهَبَتِ السَّحَابَةُ، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَا شَكَّ أَنَّ (أَنْ) هِيَ الْمُفَسِّرَةُ فَكَيْفَ يَكُونُ النَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ وَالْأَمْرُ/ بِتَطْهِيرِ الْبَيْتِ تَفْسِيرًا لِلتَّبْوِئَةِ الْجَوَابُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَرْجِعًا لِإِبْرَاهِيمَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ مَا مَعْنَى كَوْنِ الْبَيْتِ مَرْجِعًا لَهُ، فَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ بِقَلْبِهِ مُوَحِّدًا لِرَبِّ الْبَيْتِ عَنِ الشَّرِيكِ وَالنَّظِيرِ، وَبِقَالَبِهِ مُشْتَغِلًا بِتَنْظِيفِ الْبَيْتِ عَنِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا لَمْ يُشْرِكْ باللَّه فَكَيْفَ قَالَ (أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي) الْجَوَابُ: الْمَعْنَى لَا تَجْعَلْ فِي الْعِبَادَةِ لِي شَرِيكًا، وَلَا تُشْرِكْ بِي غَرَضًا آخَرَ فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: الْبَيْتُ مَا كَانَ مَعْمُورًا قَبْلَ ذَلِكَ فَكَيْفَ قَالَ (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) الْجَوَابُ: لَعَلَّ ذَلِكَ الْمَكَانَ كَانَ صَحْرَاءَ وَكَانُوا يَرْمُونَ إِلَيْهَا الْأَقْذَارَ، فَأَمَرَ إِبْرَاهِيمَ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَتَطْهِيرِهِ مِنَ الْأَقْذَارِ، وَكَانَتْ مَعْمُورَةً فَكَانُوا قَدْ وَضَعُوا فِيهَا أَصْنَامًا فَأَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِتَخْرِيبِ ذَلِكَ الْبِنَاءِ وَوَضْعِ بِنَاءٍ جَدِيدٍ وَذَلِكَ هُوَ التَّطْهِيرُ عَنِ الْأَوْثَانِ، أَوْ يُقَالُ الْمُرَادُ أَنَّكَ بَعْدَ أَنْ تَبْنِيَهُ فَطَهِّرْهُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي مِنَ الشِّرْكِ وَقَوْلِ الزُّورِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا لِلطَّائِفِينَ بِالْبَيْتِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْقائِمِينَ أَيِ الْمُقِيمِينَ بِهَا وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ أَيْ مِنَ الْمُصَلِّينَ مِنَ الْكُلِّ، وَقَالَ آخَرُونَ الْقَائِمُونَ وَهُمُ الْمُصَلُّونَ، لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِي صَلَاتِهِ جَامِعًا بَيْنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ واللَّه أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَآذِنْ بِمَعْنَى أَعْلِمْ. المسألة الثَّانِيَةُ: فِي الْمَأْمُورِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ هُوَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالُوا لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ قَالَ سُبْحَانَهُ: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ قَالَ يَا رَبِّ وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي؟ قَالَ عَلَيْكَ الْأَذَانُ وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ. فَصَعِدَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الصَّفَا وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَبَا قُبَيْسٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَلَى الْمَقَامِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ كَيْفَ أَقُولُ؟ قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قُلْ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ لَبَّى، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ صَعِدَ الصَّفَا فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّه كَتَبَ عَلَيْكُمْ حَجَّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ فَسَمِعَهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَمَا بَقِيَ شَيْءٌ سَمِعَ صَوْتَهُ إِلَّا أَقْبَلَ يُلَبِّي يَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِنَّ اللَّه يَدْعُوكُمْ إِلَى حَجِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ لِيُثِيبَكُمْ بِهِ الْجَنَّةَ وَيُخْرِجَكُمْ مِنَ النَّارِ، فَأَجَابَهُ يَوْمَئِذٍ مَنْ كَانَ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ،

وَكُلُّ مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ صَوْتُهُ مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ وَمَدَرٍ وَأَكَمَةٍ أَوْ تُرَابٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: فَمَا حَجَّ إِنْسَانٌ وَلَا يَحُجُّ أَحَدٌ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ إِلَّا وَقَدْ أَسْمَعَهُ ذَلِكَ النِّدَاءَ، فَمَنْ أَجَابَ مَرَّةً حَجَّ مَرَّةً، وَمَنْ أَجَابَ مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ. فَالْحَجُّ مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى ذَلِكَ الْمِقْدَارِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْأَذَانِ تَوَاضَعَتْ لَهُ الْجِبَالُ وَخَفَضَتْ وَارْتَفَعَتْ لَهُ الْقُرَى، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: يَبْعُدُ قَوْلُهُمْ إِنَّهُ أَجَابَهُ الصَّخْرُ وَالْمَدَرُ، لِأَنَّ الْإِعْلَامَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمَنْ يُؤْمَرُ بِالْحَجِّ/ دُونَ الْجَمَادِ، فَأَمَّا مَنْ يَسْمَعُ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ نِدَاءَهُ فَلَا يَمْتَنِعُ إِذَا قَوَّاهُ اللَّه تَعَالَى وَرَفَعَ الْمَوَانِعَ وَمِثْلُ ذَلِكَ قَدْ يَجُوزُ فِي زَمَانِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَأْمُورَ بِقَوْلِهِ: وَأَذِّنْ هُوَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَاخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَأُمْكِنَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِهِ فَهُوَ أَوْلَى وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ لا يوجب أن يكون قوله: وَأَذِّنْ يرجع إليه إذ قد بينا أن معنى قوله: وَإِذْ بَوَّأْنا أي واذكر يا محمد إذ بَوَّأْنَا فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَذْكُورِ، فَإِذَا قَالَ تَعَالَى: وَأَذِّنْ فَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الْخِطَابُ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَذِّنْ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُعْلِمَ النَّاسَ بِالْحَجِّ. وَثَانِيهَا: قَالَ الْجُبَّائِيُّ أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُعْلِنَ التَّلْبِيَةَ فَيُعْلِمَ النَّاسَ أَنَّهُ حَاجٌّ فَيَحُجُّوا مَعَهُ قَالَ وَفِي قَوْلِهِ: يَأْتُوكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَحُجَّ فَيُقْتَدَى بِهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ ابْتِدَاءُ فَرْضِ الْحَجِّ مِنَ اللَّه تَعَالَى لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَمَّا قَوْلُهُ: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: الرِّجَالُ الْمُشَاةُ وَاحِدُهُمْ رَاجِلٌ كَنِيَامٍ وَنَائِمٍ وَقُرِئَ رُجَالٌ بِضَمِّ الرَّاءِ مُخَفَّفَ الْجِيمِ وَمُثَقَّلَهُ وَرِجَالٌ كَعِجَالٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَقَوْلُهُ: وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ أَيْ رُكْبَانًا وَالضُّمُورُ الْهُزَالُ ضَمُرَ يَضْمُرُ ضُمُورًا، وَالْمَعْنَى أَنَّ النَّاقَةَ صَارَتْ ضَامِرَةً لِطُولِ سَفَرِهَا. وَإِنَّمَا قَالَ: يَأْتِينَ أَيْ جَمَاعَةُ الْإِبِلِ وَهِيَ الضَّوَامِرُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ مَعْنَاهُ عَلَى إِبِلٍ ضَامِرَةٍ فَجُعِلَ الْفِعْلُ بِمَعْنَى كُلٍّ وَلَوْ قَالَ يَأْتِي عَلَى اللَّفْظِ صَحَّ وَقُرِئَ يَأْتُونَ صِفَةً لِلرِّجَالِ وَالرُّكْبَانِ، وَالْفَجُّ الطَّرِيقُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي سَائِرِ الطُّرُقِ اتِّسَاعًا، وَالْعَمِيقُ الْبَعِيدُ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَعِيقٍ يُقَالُ بِئْرٌ بَعِيدَةُ الْعُمْقِ وَالْمَعْقِ. المسألة الثَّانِيَةُ: الْمَعْنَى: وَأَذِّنْ، لِيَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ، أَيْ وَأَذِّنْ، لِيَأْتُوكَ عَلَى هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ: وَأَذِّنْ فَإِنَّهُمْ يَأْتُوكَ عَلَى هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ. المسألة الثَّالِثَةُ: بَدَأَ اللَّه بِذِكْرِ الْمُشَاةِ تَشْرِيفًا لَهُمْ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ بِإِسْنَادِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْحَاجَّ الرَّاكِبَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ تَخْطُوهَا رَاحِلَتُهُ سَبْعُونَ حَسَنَةً وَلِلْمَاشِي سَبْعُمِائَةِ حَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّه وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ قَالَ الْحَسَنَةُ بِمِائَةِ أَلْفِ حَسَنَةٍ» . المسألة الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا قَالَ: يَأْتُوكَ رِجالًا لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنَادِي فَمَنْ أَتَى بِمَكَّةَ حَاجًّا فَكَأَنَّهُ أَتَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ يُجِيبُ نِدَاءَهُ. أَمَّا قَوْلُهُ: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْحَجِّ فِي قَوْلِهِ: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ذَكَرَ حِكْمَةَ ذَلِكَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَاخْتَلَفُوا فِيهَا فَبَعْضُهُمْ حَمَلَهَا عَلَى مَنَافِعِ الدُّنْيَا. وَهِيَ أَنْ يَتَّجِرُوا فِي أَيَّامِ الْحَجِّ،

وَبَعْضُهُمْ حَمَلَهَا عَلَى مَنَافِعِ الْآخِرَةِ، وَهِيَ الْعَفْوُ وَالْمَغْفِرَةُ عَنْ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَعْضُهُمْ حَمَلَهَا عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَهُوَ الْأَوْلَى. المسألة الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا نَكَّرَ الْمَنَافِعَ لِأَنَّهُ أَرَادَ مَنَافِعَ مُخْتَصَّةً بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ دِينِيَّةً وَدُنْيَوِيَّةً لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ. المسألة الثَّالِثَةُ: كَنَّى عَنِ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّه تَعَالَى لِأَنَّ أَهْلَ الْإِسْلَامِ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْ ذِكْرِ اسْمِهِ إِذَا نَحَرُوا وَذَبَحُوا وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْغَرَضَ الْأَصْلِيَّ فِيمَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّه تَعَالَى، وَأَنْ يُخَالِفَ الْمُشْرِكِينَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَذْبَحُونَهَا لِلنُّصُبِ وَالْأَوْثَانِ قَالَ مُقَاتِلٌ إِذَا ذَبَحْتَ فَقُلْ بِسْمِ اللَّه واللَّه أَكْبَرُ اللَّهُمَّ مِنْكَ وَإِلَيْكَ وَتَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، وَزَادَ الْكَلْبِيُّ فَقَالَ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَكَانَ الْمُتَقَرِّبُ بِهَا وَبِإِرَاقَةِ دِمَائِهَا مُتَصَوِّرٌ بِصُورَةِ مَنْ يَفْدِي نَفْسَهُ بِمَا يُعَادِلُهَا فَكَأَنَّهُ يَبْذُلُ تِلْكَ الشَّاةَ بَدَلَ مُهْجَتِهِ طَلَبًا لمرضاة اللَّه تعالى، واعترافا بأن تقصيره كاد يَسْتَحِقُّ مُهْجَتَهُ. المسألة الرَّابِعَةُ: أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ صَارُوا إِلَى أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ عَشْرُ ذِي الحجة وَالْمَعْدُودَاتِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ، وَرِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّه، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ عِنْدَ النَّاسِ لِحِرْصِهِمْ عَلَى عِلْمِهَا مِنْ أَجْلِ أَنَّ وَقْتَ الْحَجِّ فِي آخِرِهَا. ثُمَّ لِلْمَنَافِعِ أَوْقَاتٌ مِنَ الْعَشْرِ مَعْرُوفَةٌ كَيَوْمِ عَرَفَةَ، وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَكَذَلِكَ الذَّبَائِحُ لَهَا وَقْتٌ مِنْهَا وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ إِنَّهَا يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ قَالَ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْعَرَبِ بَعْدَهَا وَهِيَ أَيَّامُ النَّحْرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّه. أَمَّا قَوْلُهُ: بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْبَهْمَةُ مُبْهَمَةٌ فِي كُلِّ ذَاتِ أَرْبَعٍ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَبُيِّنَتْ بِالْأَنْعَامِ وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالضَّأْنُ وَالْمَعَزُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُلُوا مِنْها فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ أَمْرُ وُجُوبٍ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ مِنْهَا تَرَفُّعًا عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْكُفَّارِ وَمُسَاوَاةِ الْفُقَرَاءِ وَاسْتِعْمَالِ التَّوَاضُعِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ. ثم قال الْعُلَمَاءُ مَنْ أَهْدَى أَوْ ضَحَّى فَحَسَنٌ أَنْ يَأْكُلَ النِّصْفَ وَيَتَصَدَّقَ بِالنِّصْفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَأْكُلُ الثلث ويدخر الثُّلُثَ وَيَدَّخِرُ الثُّلُثَ وَيَتَصَدَّقُ بِالثُّلُثِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ الْأَكْلَ مُسْتَحَبٌّ وَالْإِطْعَامَ وَاجِبٌ فَإِنْ أَطْعَمَ جَمِيعَهَا أَجْزَأَهُ وَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَهَا لَمْ يُجْزِهُ، هَذَا فِيمَا كَانَ تَطَوُّعًا، فَأَمَّا الْوَاجِبَاتُ كَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْجُبْرَانَاتُ لِنُقْصَانِ مِثْلِ دَمِ الْقِرَانِ وَدَمِ التَّمَتُّعِ وَدَمِ الْإِسَاءَةِ وَدِمَاءِ الْقَلْمِ وَالْحَلْقِ فَلَا يُؤْكَلُ مِنْهَا. أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ فَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّهُ أَمْرُ إِيجَابٍ، وَالْبَائِسُ الَّذِي أَصَابَهُ بُؤْسٌ أَيْ شِدَّةٌ وَالْفَقِيرُ الَّذِي أَضْعَفَهُ الْإِعْسَارُ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ فَقَارِ الظَّهْرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْبَائِسُ الَّذِي ظَهَرَ بُؤْسُهُ فِي ثِيَابِهِ وَفِي وَجْهِهِ، وَالْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَتَكُونُ ثِيَابُهُ نَقِيَّةً وَوَجْهُهُ وَجْهَ غَنِيٍّ. أَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَعْرِفُونَ التَّفَثَ إِلَّا مِنَ التَّفْسِيرِ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ أَصْلُ التَّفَثِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كُلُّ قَاذُورَةٍ تَلْحَقُ الْإِنْسَانَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ نَقْضُهَا. وَالْمُرَادُ هَاهُنَا قص الشارب

[سورة الحج (22) : الآيات 30 إلى 32]

وَالْأَظْفَارِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْقَضَاءِ إِزَالَةُ التَّفَثِ، وَقَالَ الْقَفَّالُ قَالَ نِفْطَوَيْهِ: سَأَلْتُ أَعْرَابِيًّا فَصِيحًا مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ؟ فَقَالَ مَا أُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَلَكِنَّا نَقُولُ لِلرَّجُلِ مَا أَتْفَثَكَ وَمَا أَدْرَنَكَ، ثم قال الْقَفَّالُ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الزَّجَّاجِ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُثْبِتِ لَا قَوْلُ النَّافِي. أما قوله: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ فقرىء بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ ثُمَّ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ الدُّخُولُ فِي الْحَجِّ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَنَاسِكِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا أَوْجَبُوهُ بِالنَّذْرِ الَّذِي هو القول، وهذا القول هو الْأَقْرَبُ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ فَقَدْ يُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْهَدْيِ وَغَيْرِهِ مَا لَوْلَا إِيجَابُهُ لَمْ يَكُنِ الْحَجُّ يَقْتَضِيهِ فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِالْوَفَاءِ بِذَلِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ فَالْمُرَادُ الطَّوَافُ الْوَاجِبُ وَهُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَالزِّيَارَةِ، أَمَّا كَوْنُ هَذَا الطَّوَافِ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَالْحَلْقِ، ثُمَّ هُوَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ بَعْدَهُ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ، وَسُمِّيَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الْعَتِيقُ الْقَدِيمُ لِأَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ عَنِ الْحَسَنِ. وَثَانِيهَا: لِأَنَّهُ أُعْتِقَ مِنَ الْجَبَابِرَةِ فَكَمْ مِنْ جَبَّارٍ سَارَ إِلَيْهِ لِيَهْدِمَهُ فَمَنَعَهُ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَرَوَوْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولما قصد أَبْرَهَةُ فُعِلَ بِهِ مَا فُعِلَ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ تَسَلَّطَ الْحَجَّاجُ عَلَيْهِ فَالْجَوَابُ: قُلْنَا مَا قَصَدَ التَّسَلُّطَ عَلَى الْبَيْتِ وَإِنَّمَا تَحَصَّنَ بِهِ عَبْدُ اللَّه بْنُ الزُّبَيْرِ فَاحْتَالَ لِإِخْرَاجِهِ ثُمَّ بَنَاهُ وَثَالِثُهَا: لَمْ يُمْلَكْ قَطُّ عَنِ ابْنِ عيينة ورابعها: أعتق من الغرق عن مجاهدو خامسها: بَيْتٌ كَرِيمٌ مِنْ قَوْلِهِمْ عِتَاقُ الطَّيْرِ وَالْخَيْلِ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّامَ فِي لِيَقْضُوا وَلْيُوفُوا وَلْيَطَّوَّفُوا لَامُ الْأَمْرِ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَنَافِعٍ وَالْأَكْثَرِينَ تَخْفِيفُ هَذِهِ اللَّامَاتِ وَفِي قِرَاءَةِ أَبِي عمرو تحريكها بالكسر. [سورة الحج (22) : الآيات 30 الى 32] ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ذلِكَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيِ الْأَمْرُ وَالشَّأْنُ ذَلِكَ كَمَا يُقَدِّمُ الْكَاتِبُ جُمْلَةً مِنْ كَلَامِهِ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي فَإِذَا أَرَادَ الْخَوْضَ فِي مَعْنًى آخَرَ قَالَ هَذَا وَقَدْ كَانَ كَذَا، وَالْحُرْمَةُ مَا لَا يَحِلُّ هَتْكُهُ وَجَمِيعُ مَا كَلَّفَهُ اللَّه تَعَالَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَغَيْرِهَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي جَمِيعِ تَكَالِيفِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَجِّ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ الْحُرُمَاتُ خَمْسٌ: الْكَعْبَةُ الْحَرَامُ وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَالْبَلَدُ الْحَرَامُ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، وَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ وَلَا تَدْخُلُ النَّوَافِلُ فِي حُرُمَاتِ اللَّه تَعَالَى: فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ أَيْ فَالتَّعْظِيمُ خَيْرٌ لَهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ يَجِبُ الْقِيَامُ بِمُرَاعَاتِهَا وَحِفْظِهَا، وَقَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِ يَدُلُّ عَلَى الثَّوَابِ الْمُدَّخَرِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ عِنْدَ رَبِّهِ فِيمَا قَدْ حَصَلَ مِنَ الْخَيْرَاتِ، قَالَ الْأَصَمُّ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ التَّهَاوُنِ بِذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَادَ إِلَى بَيَانِ حُكْمِ الْحَجِّ فَقَالَ: وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ فَقَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ الْإِحْرَامَ إِذَا حَرَّمَ الصَّيْدَ وَغَيْرَهُ فَالْأَنْعَامُ أَيْضًا تُحَرَّمُ فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا فَهِيَ مُحَلَّلَةٌ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ مَا يُتْلَى فِي كِتَابِ اللَّه مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ النَّعَمِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ [الْمَائِدَةِ: 1، 3] وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ

وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ وَقَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الْأَنْعَامِ: 121] ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا حَثَّ عَلَى تَعْظِيمِ حُرُمَاتِهِ وَحَمِدَ مَنْ يُعَظِّمُهَا أَتْبَعَهُ بِالْأَمْرِ بِاجْتِنَابِ الْأَوْثَانِ وَقَوْلِ الزُّورِ. لِأَنَّ تَوْحِيدَ اللَّه تَعَالَى وَصِدْقَ الْقَوْلِ أَعْظَمُ الْخَيْرَاتِ، وَإِنَّمَا جَمَعَ الشِّرْكَ وَقَوْلَ الزُّورِ فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الشِّرْكَ مِنْ بَابِ الزُّورِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكَ زَاعِمٌ أَنَّ الْوَثَنَ تَحِقُّ لَهُ الْعِبَادَةُ فَكَأَنَّهُ قَالَ فَاجْتَنِبُوا عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ الَّتِي هِيَ رَأْسُ الزُّورِ، وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ كُلَّهُ، وَلَا تَقْرَبُوا مِنْهُ شَيْئًا لِتَمَادِيهِ فِي الْقُبْحِ وَالسَّمَاجَةِ، وَمَا ظَنُّكَ بِشَيْءٍ مِنْ قَبِيلِهِ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ وَسَمَّى الْأَوْثَانَ رِجْسًا لَا لِلنَّجَاسَةِ، لَكِنْ لِأَنَّ وُجُوبَ تَجَنُّبِهَا أَوْكَدُ مِنْ وُجُوبِ تَجَنُّبِ الرِّجْسِ وَلِأَنَّ عِبَادَتَهَا أَعْظَمُ مِنَ التَّلَوُّثِ بِالنَّجَاسَاتِ. ثم قال الْأَصَمُّ إِنَّمَا وَصَفَهَا بِذَلِكَ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ فِي الْمُتَقَرَّبَاتِ أَنْ يَتَعَمَّدُوا سُقُوطَ الدِّمَاءِ عَلَيْهَا وَهَذَا بَعِيدٌ وَقِيلَ إِنَّهُ إِنَّمَا وَصَفَهَا بِذَلِكَ اسْتِحْقَارًا وَاسْتِخْفَافًا وَهَذَا أَقْرَبُ، وَقَوْلُهُ: مِنَ الْأَوْثانِ بَيَانٌ لِلرِّجْسِ وَتَمْيِيزٌ لَهُ كَقَوْلِهِ عِنْدِي عِشْرُونَ مِنَ الدَّرَاهِمِ لِأَنَّ الرِّجْسَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيهَامِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ شَيْءٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ بَعْضَهَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالزُّورُ مِنَ الزُّورِ وَالِازْوِرَارِ وَهُوَ الِانْحِرَافُ، كَمَا أَنَّ الْإِفْكَ مِنْ أَفِكَهُ إِذَا صَرَفَهُ، وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِي قَوْلِ الزُّورِ/ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَوْلُهُمْ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنِ افْتِرَائِهِمْ وَثَانِيهَا: شَهَادَةُ الزُّورِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ صَلَّى الصُّبْحَ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ قَائِمًا وَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ بِوَجْهِهِ وَقَالَ عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ باللَّه» وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَثَالِثُهَا: الْكَذِبُ وَالْبُهْتَانُ وَرَابِعُهَا: قَوْلُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي تَلْبِيَتِهِمْ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حُنَفاءَ لِلَّهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ تَفْسِيرِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ وَالْمَيْلُ إِلَى الْحَقِّ عَلَى قَوْلِ الْبَعْضِ، وَالْمُرَادُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ الْإِخْلَاصُ فَكَأَنَّهُ قَالَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي أَمَرْتُ وَنَهَيْتُ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ للَّه وَحْدَهُ لَا عَلَى وَجْهِ إِشْرَاكِ غَيْرِ اللَّه بِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَنْوِيَ بِمَا يَأْتِيهِ مِنَ الْعِبَادَةِ الْإِخْلَاصَ فَبَيَّنَ تَعَالَى مَثَلَيْنِ لِلْكُفْرِ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِمَا فِي بَيَانِ أَنَّ الْكَافِرَ ضَارٌّ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُنْتَفِعٍ بِهَا. وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِنْ كَانَ هَذَا تَشْبِيهًا مُرَكَّبًا فَكَأَنَّهُ قِيلَ مَنْ أَشْرَكَ باللَّه فَقَدْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ إِهْلَاكًا لَيْسَ وَرَاءَهُ هَلَاكٌ بِأَنْ صَوَّرَ حَالَهُ بِصُورَةِ حَالِ من خر من السماء فاختطفه الطَّيْرُ فَتَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ فِي حَوَاصِلِهَا أَوْ عَصَفَتْ بِهِ الرِّيحُ حَتَّى هَوَتْ بِهِ فِي بَعْضِ الْمَهَالِكِ الْبَعِيدَةِ. وَإِنْ كَانَ تَشْبِيهًا مُفَرَّقًا فَقَدْ شَبَّهَ الْإِيمَانَ فِي عُلُوِّهِ بِالسَّمَاءِ، وَالَّذِي تَرَكَ الْإِيمَانَ وَأَشْرَكَ باللَّه كَالسَّاقِطِ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَهْوَاءَ الَّتِي تَتَوَزَّعُ أَفْكَارُهُ بِالطَّيْرِ الْمُخْتَطِفَةِ وَالشَّيْطَانَ الَّذِي يَطْرَحُهُ فِي وَادِي الضَّلَالَةِ بِالرِّيحِ الَّتِي تَهْوِي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة. وَقُرِئَ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ وَبِكَسْرِ الْفَاءِ مَعَ كَسْرِهِمَا وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَأَصْلُهَا تَخْتَطِفُهُ وَقُرِئَ الرِّيَاحُ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَكَّدَ مَا تَقَدَّمَ فَقَالَ ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ وَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ عِبَادَةٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلِ الْمَنَاسِكُ فِي الْحَجِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلِ الْمُرَادُ الْهَدْيُ خَاصَّةً وَالْأَصْلُ فِي الشَّعَائِرِ الْأَعْلَامُ الَّتِي بِهَا يُعْرَفُ الشَّيْءُ فَإِذَا فَسَّرْنَا الشَّعَائِرَ بِالْهَدَايَا فَتَعْظِيمُهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَارَهَا عِظَامَ الْأَجْسَامِ حِسَانًا جِسَامًا سِمَانًا غَالِيَةَ الْأَثْمَانِ وَيَتْرُكَ الْمِكَاسَ فِي شِرَائِهَا، فَقَدْ كَانُوا يَتَغَالَوْنَ فِي ثَلَاثَةٍ وَيَكْرَهُونَ الْمِكَاسَ فِيهِنَّ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَةِ وَالرَّقَبَةِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَنْ أَبِيهِ «أَنَّهُ أَهْدَى نَجِيبَةً طُلِبَتْ مِنْهُ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَهَا وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا بُدْنًا فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ بَلْ أَهْدِهَا» «وَأَهْدَى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم مائة

[سورة الحج (22) : الآيات 33 إلى 35]

بدنة فيها جمل لأبي فِي أَنْفِهِ بُرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ» وَالوجه الثَّانِي: فِي تَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ طَاعَةَ اللَّه تَعَالَى فِي التَّقَرُّبِ بِهَا وَإِهْدَائِهَا إِلَى بَيْتِهِ الْمُعَظَّمِ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا بُدَّ وَأَنْ يُحْتَفَلَ بِهِ وَيُتَسَارَعَ فِيهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ أي إن تَعْظِيمَهَا مِنْ أَفْعَالِ ذَوِي تَقْوَى الْقُلُوبِ فَحُذِفَتْ هَذِهِ الْمُضَافَاتُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى إِلَّا بِتَقْدِيرِهَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَاجِعٍ مِنَ الْجَزَاءِ إِلَى مَنِ ارْتَبَطَ بِهِ وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ الْقُلُوبُ لِأَنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يُظْهِرُ التَّقْوَى مِنْ نَفْسِهِ. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ قَلْبُهُ خَالِيًا عَنْهَا لَا جَرَمَ لَا يَكُونُ مُجِدًّا فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ، أَمَّا الْمُخْلِصُ الَّذِي تَكُونُ التَّقْوَى مُتَمَكِّنَةً فِي قَلْبِهِ/ فَإِنَّهُ يُبَالِغُ فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ اللَّه تَعَالَى بَالَغَ فِي تَعْظِيمِ ذبح الحيوانات هذه المبالغة؟ فالجواب قوله تعالى: [سورة الحج (22) : الآيات 33 الى 35] لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى مَا أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَا يَلِيقُ إِلَّا بِأَنْ تُحْمَلَ الشَّعَائِرُ عَلَى الْهَدْيِ الَّذِي فِيهِ مَنَافِعُ إِلَى وَقْتِ النَّحْرِ، وَمَنْ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ يَقُولُ لَكُمْ فِيهَا أَيْ فِي التَّمَسُّكِ بِهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ يَنْقَطِعُ التَّكْلِيفُ عِنْدَهُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَقْرَبُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمَنَافِعُ مُفَسَّرَةٌ بِالدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالْأَوْبَارِ وَرُكُوبِ ظُهُورِهَا، فَأَمَّا قَوْلُهُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْتَفِعُوا بِهَذِهِ الْبَهَائِمِ إِلَى أَنْ تُسَمُّوهَا ضَحِيَّةً وَهَدْيًا فَإِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَفِعُوا بِهَا، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَقَالَ آخَرُونَ لَكُمْ فِيها أَيْ فِي الْبُدْنِ مَنافِعُ مَعَ تَسْمِيَتِهَا هَدْيًا بِأَنْ تَرْكَبُوهَا إِنِ احْتَجْتُمْ إِلَيْهَا وَأَنْ تَشْرَبُوا أَلْبَانَهَا إِذَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهَا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يَعْنِي إِلَى أَنْ تَنْحَرُوهَا هَذِهِ هِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ أَيْ فِي الشَّعَائِرِ وَلَا تُسَمَّى شَعَائِرَ قَبْلَ أَنْ تُسَمَّى هَدْيًا وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «مَرَّ بِرَجُلٍ يَسُوقُ بَدَنَةً وَهُوَ فِي جُهْدٍ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ارْكَبْهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّهَا هَدْيٌ فَقَالَ ارْكَبْهَا وَيْلَكَ» وَرَوَى جَابِرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ارْكَبُوا الْهَدْيَ بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى تَجِدُوا ظَهْرًا» وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَهَا بِأَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَهَا لِلرُّكُوبِ فَلَوْ كَانَ مَالِكًا لِمَنَافِعِهَا لِمِلْكِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا كَمَنَافِعِ سَائِرِ الْمَمْلُوكَاتِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا يُمْكِنُهُ بَيْعُهَا، وَيُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فَكَذَا هَاهُنَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ فَالْمَعْنَى أَنَّ لَكُمْ فِي الْهَدَايَا مَنَافِعَ كَثِيرَةً فِي دُنْيَاكُمْ وَدِينِكُمْ وَأَعْظَمُ هَذِهِ الْمَنَافِعِ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أَيْ وُجُوبُ نَحْرِهَا أَوْ وَقْتُ وُجُوبِ نَحْرِهَا مُنْتَهِيَةٌ إِلَى الْبَيْتِ، كَقَوْلِهِ: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [الْمَائِدَةِ: 95] وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: مَحِلُّها يَعْنِي حَيْثُ يَحِلُّ نَحْرُهَا، وَأَمَّا الْبَيْتُ الْعَتِيقُ فَالْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ كُلُّهُ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا [التَّوْبَةِ: 28] أَيِ الْحَرَمَ كُلَّهُ فَالْمَنْحَرُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كُلُّ مَكَّةَ، وَلَكِنَّهَا تَنَزَّهَتْ عَنِ الدِّمَاءِ إِلَى مِنًى وَمِنًى مِنْ مَكَّةَ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كُلُّ

[سورة الحج (22) : الآيات 36 إلى 37]

فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ وَكُلُّ فِجَاجِ مِنًى مَنْحَرٌ» قَالَ الْقَفَّالُ هَذَا إِنَّمَا يَخْتَصُّ بِالْهَدَايَا الَّتِي بَلَغَتْ مِنًى فَأَمَّا الْهَدْيُ الْمُتَطَوَّعُ بِهِ إِذَا عَطَبَ قَبْلَ بُلُوغِ مَكَّةَ فَإِنَّ مَحِلَّهُ مَوْضِعُهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فَالْمَعْنَى شَرَعْنَا لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ ضَرْبًا مِنَ الْقُرْبَانِ وَجَعَلَ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ أَنْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّه تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ عَلَى الْمَنَاسِكِ، وَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَذْبَحُهُ لِلصَّنَمِ يُسَمَّى الْعَتْرَ وَالْعَتِيرَةَ كَالذَّبْحِ وَالذَّبِيحَةِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَّا عَاصِمًا مَنْسِكًا بِكَسْرِ السِّينِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى النُّسُكِ وَالْمَكْسُورُ بِمَعْنَى الْمَوْضِعِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَفِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتِ التَّكَالِيفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَشْخَاصِ لِاخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ الثَّانِي: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَا تَذْكُرُوا عَلَى ذَبَائِحِكُمْ غَيْرَ اسْمِ اللَّه فَلَهُ أَسْلِمُوا أَيْ أَخْلِصُوا لَهُ الذِّكْرَ خَاصَّةً بِحَيْثُ لَا يَشُوبُهُ إِشْرَاكٌ الْبَتَّةَ، وَالْمُرَادُ الِانْقِيَادُ للَّه تَعَالَى فِي جَمِيعِ تَكَالِيفِهِ، وَمَنِ انْقَادَ لَهُ كَانَ مُخْبِتًا فَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ وَالْمُخْبِتُ الْمُتَوَاضِعُ الْخَاشِعُ. قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: حَقِيقَةُ الْمُخْبِتِ مَنْ صَارَ فِي خَبْتٍ مِنَ الْأَرْضِ، يُقَالُ أَخْبَتَ الرَّجُلُ إِذَا صَارَ فِي الْخَبْتِ كَمَا يُقَالُ أَنْجَدَ وَأَشْأَمَ وَأَتْهَمَ، وَالْخَبْتُ هُوَ الْمُطْمَئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ عِبَارَاتٌ أَحَدُهَا: الْمُخْبِتِينَ الْمُتَوَاضِعِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَثَانِيهَا: الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَثَالِثُهَا: الْمُخْلِصِينَ عَنْ مُقَاتِلٍ وَرَابِعُهَا: الْمُطْمَئِنِّينَ إِلَى ذِكْرِ اللَّه تَعَالَى وَالصَّالِحِينَ عَنْ مجاهدو خامسها: هُمُ الَّذِينَ لَا يَظْلِمُونَ وَإِذَا ظُلِمُوا لَمْ يَنْتَصِرُوا عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ. ثُمَّ وَصَفَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فَيَظْهَرُ عَلَيْهِمُ الْخَوْفُ مِنْ عِقَابِ اللَّه تَعَالَى وَالْخُشُوعُ وَالتَّوَاضُعُ للَّه، ثُمَّ لِذَلِكَ الْوَجَلِ أَثَرَانِ أَحَدُهُمَا: الصَّبْرُ عَلَى الْمَكَارِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَالصَّابِرِينَ عَلى مَا أَصابَهُمْ وَعَلَى مَا يَكُونُ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى، لِأَنَّهُ الَّذِي يَجِبُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ كَالْأَمْرَاضِ وَالْمِحَنِ وَالْمَصَائِبِ. فَأَمَّا مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ قِبَلِ الظَّلَمَةِ فَالصَّبْرُ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاجِبٍ بَلْ إِنْ أَمْكَنَهُ دَفْعُ ذَلِكَ لَزِمَهُ الدَّفْعُ وَلَوْ بِالْمُقَاتَلَةِ وَالثَّانِي: الِاشْتِغَالُ بِالْخِدْمَةِ وَأَعَزُّ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ الْإِنْسَانِ نَفْسُهُ وَمَالُهُ. أَمَّا الْخِدْمَةُ بِالنَّفْسِ فَهِيَ الصَّلَاةُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَأَمَّا الْخِدْمَةُ بِالْمَالِ فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ قَرَأَ الْحَسَنُ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ النُّونِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ عَلَى الأصل. [سورة الحج (22) : الآيات 36 الى 37] وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالْبُدْنَ فِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: الْبُدْنُ جَمْعُ بَدَنَةٍ كَخُشْبٍ وَخَشَبَةٍ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ إِذَا أُهْدِيَتْ لِلْحَرَمِ لِعِظَمِ بَدَنِهَا وَهِيَ الْإِبِلُ خَاصَّةً، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْحَقَ الْبَقَرَ بِالْإِبِلِ حِينَ قَالَ: «الْبَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ» وَلِأَنَّهُ قَالَ: فَإِذا

وَجَبَتْ جُنُوبُها وَهَذَا يَخْتَصُّ بِالْإِبِلِ فَإِنَّهَا تُنْحَرُ قَائِمَةً دُونَ الْبَقَرِ، وَقَالَ قَوْمٌ الْبُدْنُ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِعِظَمِ الْبَدَنِ فَالْأَوْلَى دُخُولُهَا فِيهِ، أَمَّا الشَّاةُ فَلَا تَدْخُلُ وَإِنْ كَانَتْ تَجُوزُ فِي النُّسُكِ لِأَنَّهَا صَغِيرَةُ الْجِسْمِ فَلَا تُسَمَّى بَدَنَةً. المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ وَالْبُدُنَ بِضَمَّتَيْنِ كَثُمُرٍ فِي جَمْعِ ثَمَرَةٍ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِالضَّمَّتَيْنِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ عَلَى لَفْظِ الْوَقْفِ، وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ كَقَوْلِهِ: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس: 39] واللَّه أَعْلَمُ. المسألة الثَّالِثَةُ: إِذَا قَالَ للَّه عَلَيَّ بَدَنَةٌ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ نَحْرُهَا فِي غَيْرِ مَكَّةَ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّه يَجُوزُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّه لَا يَجُوزُ إِلَّا بِمَكَّةَ وَاتَّفَقُوا فِيمَنْ نَذَرَ هَدْيًا أَنَّ عَلَيْهِ ذَبْحَهُ بِمَكَّةَ، وَلَوْ قَالَ: للَّه عَلَيَّ جَزُورٌ، أَنَّهُ يَذْبَحُهُ حَيْثُ شَاءَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه الْبَدَنَةُ بِمَنْزِلَةِ الْجَزُورِ فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لَهُ نَحْرُهَا حَيْثُ يَشَاءُ بِخِلَافِ الْهَدْيِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [الْمَائِدَةِ: 95] فَجَعَلَ بُلُوغَ الْكَعْبَةِ مِنْ صِفَةِ الْهَدْيِ، وَاحْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّه بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَكَانَ اسْمُ الْبَدَنَةِ يُفِيدُ كَوْنَهَا قُرْبَةً فَكَانَ كَاسْمِ الْهَدْيِ، أَجَابَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه/ بِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ ذَبْحُهُ قُرْبَةً اخْتَصَّ بِالْحَرَمِ فَإِنَّ الْأُضْحِيَةَ قُرْبَةٌ وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي سَائِرِ الْأَمَاكِنِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: جَعَلْناها لَكُمْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا خَلَقَ الْبُدْنَ وَأَوْجَبَ أَنْ تُهْدَى فِي الْحَجِّ جَازَ أَنْ يَقُولَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أَمَّا قَوْلُهُ: لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَالْكَلَامُ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ [الْحَجِّ: 33] وَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ: لَكُمْ فِيها خَيْرٌ كَالتَّرْغِيبِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُرَادَ بِهِ الثَّوَابُ فِي الْآخِرَةِ وَمَا أَخْلَقَ الْعَاقِلَ بِالْحِرْصِ عَلَى شَيْءٍ شَهِدَ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّ فِيهِ خَيْرًا وَبِأَنَّ فِيهِ مَنَافِعَ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها فَفِيهِ حَذْفٌ أَيِ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّه عَلَى نَحْرِهَا، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ هُوَ أَنْ يُقَالَ عِنْدَ النَّحْرِ أَوِ الذَّبْحِ بِسْمِ اللَّه واللَّه أَكْبَرُ اللَّهُمَّ مِنْكَ وَإِلَيْكَ، أَمَّا قَوْلُهُ: صَوافَّ، فَالْمَعْنَى قَائِمَاتٍ قَدْ صَفَفْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَأَرْجُلَهُنَّ وَقُرِئَ صَوَافِنَ مِنْ صُفُونِ الْفَرَسِ، وَهُوَ أَنْ تَقُومَ عَلَى ثَلَاثٍ وَتَنْصِبَ الرَّابِعَةَ عَلَى طَرَفِ سُنْبُكِهِ لِأَنَّ الْبَدَنَةَ تُعْقَلُ إِحْدَى يَدَيْهَا فَتَقُومُ عَلَى ثَلَاثٍ، وَقُرِئَ صَوَافِيَ أَيْ خَوَالِصَ لِوَجْهِ اللَّه تَعَالَى لَا تُشْرِكُوا باللَّه فِي التَّسْمِيَةِ عَلَى نَحْرِهَا أَحَدًا كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُونَ، وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ صَوَافِيًا بِالتَّنْوِينِ عِوَضًا عَنْ حَرْفِ الْإِطْلَاقِ عِنْدَ الْوَقْفِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ صَوَافِيَ نَحْوُ قَوْلِ الْعَرَبِ أَعْطِ الْقَوْسَ بَارِيَهَا وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ فِي إِصْفَافِهَا ظُهُورَ كَثْرَتِهَا لِلنَّاظِرِينَ فَتَقْوَى نُفُوسُ الْمُحْتَاجِينَ وَيَكُونُ التَّقَرُّبُ بِنَحْرِهَا عِنْدَ ذَلِكَ أَعْظَمَ أَجْرًا وَأَقْرَبَ إِلَى ظُهُورِ التَّكْبِيرِ وَإِعْلَاءِ اسْمِ اللَّه وَشَعَائِرِ دِينِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَاعْلَمْ أَنَّ وُجُوبَ الْجُنُوبِ وُقُوعُهَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ وَجَبَ الْحَائِطُ وَجْبَةً إِذَا سَقَطَ، وَوَجَبَتِ الشَّمْسُ وَجْبَةً إِذَا غَرَبَتْ، وَالْمَعْنَى إِذَا سَقَطَتْ عَلَى الْأَرْضِ وَذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِ الرُّوحِ مِنْهَا فَكُلُوا مِنْها وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِيمَا يَجُوزُ أَكْلُهُ مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ الْقَانِعُ السَّائِلُ يُقَالُ قَنِعَ يَقْنَعُ قُنُوعًا إِذَا سَأَلَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هُوَ الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَ الْقَوْمِ يَطْلُبُ فَضْلَهُمْ وَيَسْأَلُ مَعْرُوفَهُمْ وَنَحْوَهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْمَعْنَى الثَّانِي الْقَانِعُ هُوَ الَّذِي لَا يَسْأَلُ مِنَ الْقَنَاعَةِ يُقَالُ قَنِعَ يَقْنَعُ قَنَاعَةً إِذَا رَضِيَ بِمَا قُسِمَ لَهُ وَتَرَكَ السُّؤَالَ، أَمَّا الْمُعْتَرُّ فَقِيلَ إِنَّهُ الْمُتَعَرِّضُ بِغَيْرِ سُؤَالٍ، وَقِيلَ إِنَّهُ الْمُتَعَرِّضُ بِالسُّؤَالِ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ يُقَالُ عَرَوْتَ فُلَانًا وَأَعْرَرْتَهُ وَعَرَوْتَهُ وَاعْتَرَيْتَهُ إِذَا أَتَيْتَهُ تَطْلُبُ مَعْرُوفَهُ وَنَحْوَهُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْقَانِعَ هُوَ الرَّاضِي بِمَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ وَإِلْحَاحٍ، وَالْمُعْتَرُّ هُوَ الَّذِي يَتَعَرَّضُ وَيَطْلُبُ وَيَعْتَرِيهِمْ حَالًا بَعْدَ حَالٍ فَيَفْعَلُ مَا يدل على

[سورة الحج (22) : الآيات 38 إلى 41]

أَنَّهُ لَا يَقْنَعُ بِمَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ أَبَدًا وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْمُعْتَرِي وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ الْقَنِعَ وَهُوَ الرَّاضِي لَا غَيْرُ يُقَالُ قَنِعَ فَهُوَ قَنِعٌ وَقَانِعٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ فَالْمَعْنَى أَنَّهَا أَجْسَمُ وَأَعْظَمُ وَأَقْوَى مِنَ السِّبَاعِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَمْتَنِعُ عَلَيْنَا التَّمَكُّنُ مِنْهُ، فاللَّه تَعَالَى جَعَلَ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ بِالصِّفَةِ الَّتِي يُمْكِنُنَا تَصْرِيفُهَا عَلَى مَا نُرِيدُ، وَذَلِكَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى هَذِهِ النِّعْمَةَ قَالَ بَعْدَهُ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَالْمُرَادُ لِكَيْ تَشْكُرُوا. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ مِنْ جَمِيعِهِمْ أَنْ يَشْكُرُوا فَدَلَّ هَذَا/ عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ كُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ مِمَّنْ أَطَاعَ وَعَصَى، لَا كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ إِلَّا مِنَ الْمَعْلُومِ أَنْ يُطِيعَ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ قَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: لَمَّا كَانَتْ عَادَةُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الْقُرْبَانِ أَنَّهُمْ يُلَوِّثُونَ بِدِمَائِهَا وَلُحُومِهَا الْوَثَنَ وَحِيطَانَ الْكَعْبَةِ بَيَّنَ تَعَالَى مَا هُوَ الْقَصْدُ مِنَ النَّحْرِ فَقَالَ: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي يَصِلُ إِلَيْهِ تَعَالَى وَيَرْتَفِعُ إِلَيْهِ مِنْ صُنْعِ الْمَهْدِيِّ مِنْ قَوْلِهِ وَنَحْرِهِ وَمَا شَاكَلَهُ مِنْ فَرَائِضِهِ هُوَ تَقْوَى اللَّه دُونَ نَفْسِ اللَّحْمِ وَالدَّمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ يَنَالُهُ سُبْحَانَهُ فَالْمُرَادُ وَصُولُ ذَلِكَ إِلَى حَيْثُ يُكْتَبُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فَاطِرٍ: 10] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَرْءُ فِعْلُهُ دُونَ الْجِسْمِ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِنَحْرِهِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ يَجْتَهِدَ الْعَبْدُ فِي امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْأَجْسَامِ الَّتِي هِيَ اللُّحُومُ وَالدِّمَاءُ وَانْتَفَعَ بِتَقْوَاهُ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ تَقْوَاهُ فِعْلًا وَإِلَّا لَكَانَتْ تَقْوَاهُ بِمَنْزِلَةِ اللُّحُومِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لَمَّا شَرَطَ الْقَبُولَ بِالتَّقْوَى وَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ غَيْرُ مُتَّقٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ عَمَلُهُ مَقْبُولًا وَأَنَّهُ لَا ثَوَابَ لَهُ وَالْجَوَابُ: أَمَّا الْأَوَّلَانِ فَحَقَّانِ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَمُعَارَضٌ بِالدَّاعِي وَالْعِلْمِ، وَأَمَّا الرَّابِعُ فَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّقِيًا مُطْلَقًا وَلَكِنَّهُ مُتَّقٍ فِيمَا أَتَى بِهِ مِنَ الطَّاعَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ طَاعَتُهُ مَقْبُولَةً وَعِنْدَ هَذَا تَنْقَلِبُ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ. المسألة الثَّالِثَةُ: كلهم قرءوا يَنالَ اللَّهَ وَيَنَالُهُ بِالْيَاءِ إِلَّا يَعْقُوبَ فَإِنَّهُ قَرَأَ بِالتَّاءِ فِي الْحَرْفَيْنِ فَمَنْ أَنَّثَ فَقَدْ رَدَّهُ إِلَى اللَّفْظِ وَمَنْ ذَكَّرَ فَلِلْحَائِلِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ. ثم قال: كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ إِنَّمَا سَخَّرَهَا كَذَلِكَ لِتُكَبِّرُوا اللَّه وَهُوَ التَّعْظِيمُ، بِمَا نَفْعَلُهُ عِنْدَ النَّحْرِ وَقَبْلَهُ وَبَعْدَهُ عَلَى مَا هَدَانَا وَدَلَّنَا عَلَيْهِ وَبَيَّنَهُ لَنَا، ثم قال بَعْدَهُ عَلَى وَجْهِ الْوَعْدِ لِمَنِ امْتَثَلَ أَمْرَهُ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ كَمَا قَالَ من قبل وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ [الحج: 34] وَالْمُحْسِنُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ الْحَسَنَ مِنَ الْأَعْمَالِ وَيَتَمَسَّكُ بِهِ فَيَصِيرُ مُحْسِنًا إِلَى نَفْسِهِ بِتَوْفِيرِ الثواب عليه. [سورة الحج (22) : الآيات 38 الى 41] إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مَا يَلْزَمُ الْحَجَّ وَمَنَاسِكَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْكُفَّارَ صَدُّوهُمْ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَيَانِ مَا يُزِيلُ الصَّدَّ وَيُؤْمَنُ مَعَهُ التَّمَكُّنُ مِنَ الْحَجِّ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وفي مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَنَافِعٌ بِالْأَلِفِ وَمِثْلُهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِغَيْرِ أَلِفٍ فِيهِمَا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ بِالْأَلِفِ وَلَوْلا دَفْعُ بِغَيْرِ أَلِفٍ، فَمَنْ قَرَأَ يُدَافِعُ فَمَعْنَاهُ يُبَالِغُ فِي الدَّفْعِ عَنْهُمْ، وَقَالَ الْخَلِيلُ يُقَالُ دَفَعَ اللَّه الْمَكْرُوهَ عَنْكَ دَفْعًا وَدَافَعَ عَنْكَ دِفَاعًا وَالدِّفَاعُ أَحْسَنُهُمَا. المسألة الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ولم يذكر ما يدفعه حتى يكون أفحم وَأَعْظَمَ وَأَعَمَّ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ أَنَّهُ يُدَافِعُ بَأْسَ الْمُشْرِكِينَ. فَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَدْفَعُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ كَيْدَ مَنْ هَذَا صِفَتُهُ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ اللَّه يُدَافِعُ كُفَّارَ مَكَّةَ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَكَّةَ، هَذَا حِينَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْكَفِّ عَنْ كُفَّارِ مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ حِينَ آذَوْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِهِمْ سِرًّا فَنَهَاهُمْ. المسألة الرَّابِعَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ بِشَارَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِإِعْلَائِهِمْ عَلَى الْكُفَّارِ وَكَفِّ بَوَائِقِهِمْ عَنْهُمْ وَهِيَ كَقَوْلِهِ: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [آلِ عِمْرَانَ: 111] وَقَوْلِهِ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا [غَافِرٍ: 51] وَقَالَ: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [الصَّافَّاتِ: 172] وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصَّفِّ: 13] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْعِلَّةَ فِي أَنَّهُ يُدَافِعُ/ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ اللَّه لَا يُحِبُّ صَدَّهُمْ، وَهُوَ الْخَوَّانُ الْكَفُورُ أَيْ خَوَّانٌ فِي أَمَانَةِ اللَّه كَفُورٌ لِنِعْمَتِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [الْأَنْفَالِ: 27] قَالَ مُقَاتِلٌ أَقَرُّوا بِالصَّانِعِ وَعَبَدُوا غَيْرَهُ فَأَيُّ خِيَانَةٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ؟ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ أُذِنَ بِضَمِّ الْأَلِفِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا أَيْ أَذِنَ اللَّه لَهُمْ فِي الْقِتَالِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَعَاصِمٌ يُقاتَلُونَ بِنَصْبِ التَّاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وحمزة والكسائي أذن بنصب ألف ويقاتلون بِكَسْرِ التَّاءِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: يَعْنِي أَذِنَ اللَّه لِلَّذِينَ يَحْرِصُونَ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَمَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ التَّاءِ فَالتَّقْدِيرُ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ فِي الْقِتَالِ. المسألة الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ فِي الْقِتَالِ فَحُذِفَ الْمَأْذُونُ فِيهِ لِدَلَالَةِ يُقَاتَلُونَ عَلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ أُذِنُوا فِي الْقِتَالِ بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ مَظْلُومِينَ وَهُمْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُشْرِكُو مَكَّةَ يُؤْذُونَهُمْ أَذًى شَدِيدًا وَكَانُوا يَأْتُونَ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من بَيْنِ مَضْرُوبٍ وَمَشْجُوجٍ يَتَظَلَّمُونَ

إليه فيقول لهم اصبروا فإني لم أومر بِقِتَالٍ حَتَّى هَاجَرَ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ أَذِنَ فِيهَا بِالْقِتَالِ بَعْدَ مَا نَهَى عَنْهُ فِي نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ آيَةً، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ خَرَجُوا مُهَاجِرِينَ فَاعْتَرَضَهُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ فَأُذِنَ فِي مُقَاتَلَتِهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ فَذَلِكَ وَعْدٌ مِنْهُ تَعَالَى بِنَصْرِهِمْ كَمَا يَقُولُ الْمَرْءُ لِغَيْرِهِ إِنْ أَطَعْتَنِي فَأَنَا قَادِرٌ عَلَى مُجَازَاتِكَ لَا يَعْنِي بِذَلِكَ الْقُدْرَةَ بَلْ يُرِيدُ أَنَّهُ سَيَفْعَلُ ذَلِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا أُذِنُوا فِي الْقِتَالِ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ ظُلِمُوا فَبَيَّنَ ذَلِكَ الظُّلْمَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ فَبَيَّنَ تَعَالَى ظُلْمَهُمْ لَهُمْ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قَالُوا: رَبُّنَا اللَّه وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَجْهَيْنِ عَظِيمٌ فِي الظُّلْمِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ اسْتَثْنَى مِنْ غَيْرِ حَقٍّ قَوْلَهُمْ: رَبُّنَا اللَّهُ وَهُوَ مِنَ الْحَقِّ؟ قُلْنَا تَقْدِيرُ الْكَلَامِ أَنَّهُمْ أُخْرِجُوا بِغَيْرِ مُوجِبٍ سِوَى التَّوْحِيدِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُوجِبَ الْإِقْرَارِ وَالتَّمْكِينِ لَا مُوجِبَ الْإِخْرَاجِ وَالتَّسْيِيرِ، وَمِثْلُهُ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ [المائدة: 59] ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ أَنَّ عَادَتَهُ جَلَّ جَلَالُهُ أَنْ يَحْفَظَ دِينَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ قَرَأَ نَافِعٌ لَهُدِّمَتْ بِالتَّخْفِيفِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْمُرَادُ بِهَذَا الدِّفَاعِ الَّذِي أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ؟ الْجَوَابُ: هُوَ إِذْنُهُ لِأَهْلِ دِينِهِ بِمُجَاهَدَةِ الْكُفَّارِ فَكَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّه أَهْلَ الشِّرْكِ بِالْمُؤْمِنِينَ، مِنْ حَيْثُ يَأْذَنُ لَهُمْ فِي جِهَادِهِمْ وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ لَاسْتَوْلَى أَهْلُ الشِّرْكِ عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَعَطَّلُوا مَا يَبْنُونَهُ مِنْ/ مَوَاضِعِ الْعِبَادَةِ، وَلَكِنَّهُ دَفَعَ عَنْ هَؤُلَاءِ بِأَنْ أَمَرَ بِقِتَالِ أَعْدَاءِ الدِّينِ لِيَتَفَرَّغَ أَهْلُ الدِّينِ لِلْعِبَادَةِ وَبِنَاءِ الْبُيُوتِ لَهَا، وَلِهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَ الصَّوَامِعَ وَالْبِيَعَ وَالصَّلَوَاتِ وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وُجُوهًا أُخَرَ: أَحَدُهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ يَدْفَعُ اللَّه بِالنَّبِيِّينَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَبِالْمُجَاهِدِينَ عَنِ الْقَاعِدِينَ عَنِ الْجِهَادِ وَثَانِيهَا: رَوَى أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ يَدْفَعُ اللَّه بِالْمُحْسِنِ عَنِ الْمُسِيءِ، وَبِالَّذِي يُصَلِّي عَنِ الَّذِي لَا يُصَلِّي، وَبِالَّذِي يَتَصَدَّقُ عَنِ الَّذِي لَا يَتَصَدَّقُ وَبِالَّذِي يَحُجُّ عَنِ الَّذِي لَا يَحُجُّ، وَعَنِ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ اللَّه يَدْفَعُ بِالْمُسْلِمِ الصَّالِحِ عَنْ مِائَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَمِنْ جِيرَانِهِ» ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَثَالِثُهَا: قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا يَدْفَعُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ وَبِأَهْلِهِ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَرَابِعُهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ يَدْفَعُ عَنِ الْحُقُوقِ بِالشُّهُودِ وَعَنِ النُّفُوسِ بِالْقِصَاصِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَاذَا جَمَعَ اللَّه بَيْنَ مَوَاضِعِ عِبَادَاتِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَبَيْنَ مَوَاضِعِ عِبَادَةِ الْمُسْلِمِينَ؟ الْجَوَابُ: لِأَجْلِ مَا سَأَلْتَ عَنْهُ اخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَجْمَعَ مَوَاضِعُ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَاتُ عَنْهَا وَثَانِيهَا: قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّه النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَ فِي شَرْعِ كُلِّ نَبِيٍّ الْمَكَانُ الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ، فَلَوْلَا ذَلِكَ الدَّفْعُ لَهُدِّمَ فِي زَمَنِ مُوسَى الْكَنَائِسُ الَّتِي كَانُوا يُصَلُّونَ فِيهَا فِي شَرْعِهِ، وَفِي زَمَنِ عِيسَى الصَّوَامِعُ، وَفِي زَمَنِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَاجِدُ فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا دُفِعَ عَنْهُمْ حِينَ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ قَبْلَ التَّحْرِيفِ وَقَبْلَ النَّسْخِ وَثَالِثُهَا: بَلِ الْمُرَادُ لَهُدِّمَتْ هَذِهِ الصَّوَامِعُ فِي أَيَّامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ يَجْرِي فِيهَا ذِكْرُ اللَّه تَعَالَى فَلَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الصَّوَامِعُ وَالْبِيَعُ وَالصَّلَوَاتُ وَالْمَسَاجِدُ؟ الْجَوَابُ: ذَكَرُوا فِيهَا وُجُوهًا: أَحَدُهَا:

الصَّوَامِعُ لِلنَّصَارَى وَالْبِيَعُ لِلْيَهُودِ وَالصَّلَوَاتُ لِلصَّابِئِينَ وَالْمَسَاجِدُ لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَثَانِيهَا: الصَّوَامِعُ لِلنَّصَارَى وَهِيَ الَّتِي بَنَوْهَا فِي الصَّحَارَى وَالْبِيَعُ لَهُمْ أَيْضًا وَهِيَ الَّتِي يَبْنُونَهَا فِي الْبَلَدِ وَالصَّلَوَاتُ لِلْيَهُودِ، قَالَ الزَّجَّاجُ وَهِيَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ صَلُوتَا وَثَالِثُهَا: الصَّوَامِعُ لِلصَّابِئِينَ وَالْبِيَعُ لِلنَّصَارَى وَالصَّلَوَاتُ لِلْيَهُودِ عَنْ قَتَادَةَ وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا بِأَسْرِهَا أَسْمَاءُ الْمَسَاجِدِ عَنِ الْحَسَنِ، أَمَّا الصَّوَامِعُ فَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ يَتَّخِذُونَ الصَّوَامِعَ، وَأَمَّا الْبِيَعُ فَأُطْلِقَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْمَسَاجِدِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ، وَأَمَّا الصَّلَوَاتُ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ الدَّفْعُ لَانْقَطَعَتِ الصَّلَوَاتُ وَلَخُرِّبَتِ الْمَسَاجِدُ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: الصَّلَوَاتُ كَيْفَ تُهَدَّمُ خُصُوصًا عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الْمُرَادُ بِهَدْمِ الصَّلَاةِ إِبْطَالُهَا وَإِهْلَاكُ مَنْ يَفْعَلُهَا كَقَوْلِهِمْ هَدَمَ فُلَانٌ إِحْسَانَ فُلَانٍ إِذَا قَابَلَهُ بِالْكُفْرِ دُونَ الشُّكْرِ وَثَانِيهَا: بَلِ الْمُرَادُ مَكَانُ الصلوات لأنه الذي يصح هدمه كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] أَيْ أَهْلَهَا وَثَالِثُهَا: لَمَّا كَانَ الأغلب فيما ذكر ما يصح أن/ أَنْ يُهَدَّمَ جَازَ ضَمُّ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُهَدَّمَ إِلَيْهِ، كَقَوْلِهِمْ مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا، وَإِنْ كَانَ الرُّمْحُ لَا يُتَقَلَّدُ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً مُخْتَصٌّ بِالْمَسَاجِدِ أَوْ عَائِدٌ إِلَى الْكُلِّ؟ الْجَوَابُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ عَائِدٌ إِلَى الْكُلِّ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يُذْكَرُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كَثِيرًا، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمَسَاجِدِ تَشْرِيفًا لَهَا بِأَنَّ ذِكْرَ اللَّه يَحْصُلُ فِيهَا كَثِيرًا. السُّؤَالُ السَّادِسُ: لِمَ قَدَّمَ الصَّوَامِعَ وَالْبِيَعَ فِي الذِّكْرِ عَلَى الْمَسَاجِدِ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّهَا أَقْدَمُ فِي الْوُجُودِ، وَقِيلَ أَخَّرَهَا فِي الذِّكْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فَاطِرٍ: 32] وَلِأَنَّ أَوَّلَ الْفِكْرِ آخِرُ الْعَمَلِ، فَلَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ الرُّسُلِ وَأُمَّتُهُ خَيْرَ الْأُمَمِ لَا جَرَمَ كَانُوا آخِرَهُمْ وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ» . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَنْ يَنْصُرُهُ بِتَلَقِّي الْجِهَادِ بِالْقَبُولِ نُصْرَةً لِدِينِ اللَّه تَعَالَى، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ مَنْ يَقُومُ بِسَائِرِ دِينِهِ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّ نُصْرَةَ اللَّه عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا تَصِحُّ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْ نُصْرَةِ اللَّه نُصْرَةُ دِينِهِ كَمَا يُقَالُ فِي وِلَايَةِ اللَّه وَعَدَاوَتِهِ مِثْلُ ذَلِكَ وَفِي قَوْلِهِ: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَعْدٌ بِالنَّصْرِ لِمَنْ هَذِهِ حَالُهُ وَنَصْرُ اللَّه تَعَالَى لِلْعَبْدِ أَنْ يُقَوِّيَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الظَّافِرَ وَيَكُونَ قَائِمًا بِإِيضَاحِ الْأَدِلَّةِ وَالْبَيِّنَاتِ، وبكون بِالْإِعَانَةِ عَلَى الْمَعَارِفِ وَالطَّاعَاتِ، وَفِيهِ تَرْغِيبٌ فِي الْجِهَادِ مِنْ حَيْثُ وَعَدَهُمُ النَّصْرَ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ قَوِيٌّ عَلَى هَذِهِ النُّصْرَةِ الَّتِي وَعَدَهَا الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَنْعُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَزِيزٌ لِأَنَّ الْعَزِيزَ هُوَ الَّذِي لَا يُضَامُ وَلَا يُمْنَعُ مِمَّا يُرِيدُهُ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصَفَ الَّذِينَ أَذِنَ لَهُمْ فِي الْقِتَالِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى فَقَالَ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّمَكُّنِ السَّلْطَنَةُ وَنَفَاذُ الْقَوْلِ عَلَى الْخَلْقِ لِأَنَّ الْمُتَبَادَرَ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ قَوْلِهِ: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ لَيْسَ إِلَّا هَذَا، وَلِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى أَصْلِ الْقُدْرَةِ لَكَانَ كُلُّ الْعِبَادِ كَذَلِكَ وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ تَرَتُّبُ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَيْهِ فِي مَعْرِضِ الْجَزَاءِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ أَتَى بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ هُمُ الْمُهَاجِرُونَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ صِفَةٌ لِمَنْ تَقَدَّمَ وَهُوَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَالْأَنْصَارُ مَا أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فَيَصِيرُ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَصَفَ الْمُهَاجِرِينَ بِأَنَّهُ إِنْ مَكَّنَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَأَعْطَاهُمُ السَّلْطَنَةَ، فَإِنَّهُمْ أَتَوْا

[سورة الحج (22) : الآيات 42 إلى 46]

بِالْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ، وَهِيَ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَكِنْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى مَكَّنَ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ مِنَ الْأَرْضِ وَأَعْطَاهُمُ السَّلْطَنَةَ عَلَيْهَا فَوَجَبَ كَوْنُهُمْ آتِينَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ. وَإِذَا كَانُوا آمِرِينَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَنَاهِينَ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا عَلَى الْحَقِّ، فَمِنْ هَذَا الوجه دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِمَامَةِ الْأَرْبَعَةِ. وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحْدَهُ لِأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْجَمْعِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ سَلْطَنَتِهِمْ وَمُلْكِهِمْ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. ثُمَّ إِنَّ الْأُمُورَ تَرْجِعُ إِلَى اللَّه تَعَالَى بِالْعَاقِبَةِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي/ لَا يَزُولُ مُلْكُهُ أَبَدًا وَهُوَ أَيْضًا يُؤَكِّدُ ما قلناه. [سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 46] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ إلى قوله فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِيمَا تَقَدَّمَ إِخْرَاجَ الْكُفَّارِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَأَذِنَ فِي مُقَاتَلَتِهِمْ وَضَمِنَ لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ النُّصْرَةَ وَبَيَّنَ أَنَّ للَّه عَاقِبَةَ الْأُمُورِ، أَرْدَفَهُ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَذِيَّتِهِ وَأَذِيَّةِ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّكْذِيبِ وَغَيْرِهِ، فَقَالَ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ سَائِرُ الْأُمَمِ أَنْبِيَاءَهُمْ، وَذَكَرَ اللَّه سَبْعَةً مِنْهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ قَالَ: وَكُذِّبَ مُوسى وَلَمْ يَقُلْ قَوْمُ مُوسَى؟ فَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَذَّبَهُ قَوْمُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَإِنَّمَا كَذَّبَهُ غَيْرُ قَوْمِهِ وَهُمُ الْقِبْطُ الثَّانِي: كَأَنَّهُ قِيلَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ تَكْذِيبَ كُلِّ قَوْمٍ رَسُولَهُ، وَكُذِّبَ مُوسَى أَيْضًا مَعَ وُضُوحِ آيَاتِهِ وَعِظَمِ مُعْجِزَاتِهِ فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ يَعْنِي أَمْهَلْتُهُمْ إِلَى الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ عِنْدِي ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِ [يٌّ] ، أَيْ فَكَيْفَ كَانَ إِنْكَارِي عَلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ، أَلَيْسَ كَانَ وَاقِعًا/ قَطْعًا؟ أَلَمْ أُبْدِلْهُمْ بِالنِّعْمَةِ نِقْمَةً وَبِالْكَثْرَةِ قِلَّةً وَبِالْحَيَاةِ مَوْتًا وَبِالْعِمَارَةِ خَرَابًا؟ أَلَسْتُ أَعْطَيْتُ الْأَنْبِيَاءَ جَمِيعَ مَا وَعَدْتُهُمْ مِنَ النُّصْرَةِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَالتَّمْكِينِ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ. فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَادَتُكَ يَا مُحَمَّدُ الصَّبْرَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُمْهِلُ لِلْمَصْلَحَةِ فَلَا بُدَّ مِنَ الرِّضَاءِ وَالتَّسْلِيمِ، وَإِنْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْقَلْبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ بِدُونِ ذَلِكَ يَحْصُلُ التَّسْلِيَةُ لِمَنْ حَالُهُ دُونَ حَالِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَيْفَ بِذَلِكَ مَعَ مَنْزِلَتِهِ، لَكِنَّهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِمْ مَا يَزِيدُهُ غَمًّا، فَأَجْرَى اللَّه عَادَتَهُ بِأَنْ يُصَبِّرَهُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ وَبِأَيِّ جِنْسٍ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ هَلَكُوا. وَهَاهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ بِهِ وَبِقَوْمِهِ كُلَّ مَا فَعَلَ بِهِمْ وَبِقَوْمِهِمْ إِلَّا عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ بِقَوْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ قَدْ مَكَّنَهُمْ مِنْ قَتْلِ أَعْدَائِهِمْ وَثَبَّتَهُمْ. قَالَ الْحَسَنُ: السَّبَبُ فِي

تَأَخُّرِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ مَشْرُوطٌ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عِنْدَ اللَّه حَدًّ [ا] مِنَ الْكُفْرِ مَنْ بَلَغَهُ عَذَّبَهُ وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ لَمْ يُعَذِّبْهُ وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّه لَا يُعَذِّبُ قَوْمًا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يُؤْمِنُ، فَأَمَّا إِذَا حَصَلَ الشَّرْطَانِ وَهُوَ أَنْ يَبْلُغُوا ذَلِكَ الْحَدَّ مِنَ الْكُفْرِ وَعَلِمَ اللَّه أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يُؤْمِنُ، فَحِينَئِذٍ يَأْمُرُ الْأَنْبِيَاءَ فَيَدْعُونَ عَلَى أُمَمِهِمْ فَيَسْتَجِيبُ اللَّه دُعَاءَهُمْ فَيُعَذِّبُهُمْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وهو المراد من قوله: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ [يُوسُفَ: 110] أَيْ مِنْ إِجَابَةِ الْقَوْمِ، وَقَوْلِهِ لِنُوحٍ: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هُودٍ: 36] وَإِذَا عَذَّبَهُمُ اللَّه تَعَالَى فَإِنَّهُ يُنَجِّي الْمُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا [هُودٍ: 66] أَيْ بِالْعَذَابِ نَجَّيْنَا هُودًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ المسألة قَدْ تَقَدَّمَ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُوصَفُ مَا يُنْزِلُهُ بِالْكَفَّارِ مِنَ الْهَلَاكِ بِالْعَذَابِ الْمُعَجَّلِ بِأَنَّهُ نَكِيرٌ؟ قُلْنَا إِذَا كَانَ رَادِعًا لِغَيْرِهِ وَصَادِعًا لَهُ عَنْ مِثْلِ مَا أَوْجَبَ ذَلِكَ صَارَ نَكِيرًا. أَمَّا قَوْلُهُ: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مَنْ قَوْلِهِ: فَكَأَيِّنْ فَكَمْ عَلَى وَجْهِ التَّكْثِيرِ، وَقِيلَ أَيْضًا مَعْنَاهُ، وَرُبَّ قَرْيَةٍ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَوْكَدُ فِي الزَّجْرِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ قَوْمٍ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ وَأَنَّهُ عَجَّلَ إِهْلَاكَهُمْ أَتْبَعَهُ بِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ لِذَلِكَ أَمْثَالًا وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ مُفَصَّلًا. المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ وَالْمَدِينَةِ أَهْلَكْناها بِالنُّونِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ أَهْلَكْتُهَا وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: أَهْلَكْناها أَيْ أَهْلَهَا وَدَلَّ بِقَوْلِهِ وَهِيَ ظَالِمَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِهْلَاكَ نَفْسِ الْقَرْيَةِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ إِهْلَاكِهَا إِهْلَاكُ مَنْ فِيهَا لِأَنَّ الْعَذَابَ النَّازِلَ إِذَا بَلَغَ أَنْ يُهْلِكَ الْقَرْيَةَ فَتَصِيرَ مُنْهَدِمَةً حَصَلَ بِهَلَاكِهَا هَلَاكُ مَنْ فِيهَا وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَقْرَبَ. أَمَّا قَوْلُهُ وَهِيَ: خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها فَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا مَعْنَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ؟ فَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: كُلُّ مُرْتَفِعٍ أَظَلَّكَ مِنْ سَقْفِ بَيْتٍ أَوْ خَيْمَةٍ أَوْ ظُلَّةٍ فَهُوَ عَرْشٌ، وَالْخَاوِي السَّاقِطُ مِنْ خَوِيَ النَّجْمُ إِذَا سَقَطَ أَوِ الْخَالِي مِنْ/ خَوِيَ الْمَنْزِلُ إِذَا خَلَا مِنْ أَهْلِهِ، فَإِنْ فَسَّرْنَا الْخَاوِيَ بِالسَّاقِطِ، كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهَا سَاقِطَةٌ عَلَى سُقُوفِهَا، أَيْ خَرَّتْ سُقُوفُهَا عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ تَهَدَّمَتْ حِيطَانُهَا فَسَقَطَتْ فَوْقَ السُّقُوفِ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهُ بِالْخَالِي كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهَا خَالِيَةٌ عَنِ النَّاسِ مَعَ بَقَاءِ عُرُوشِهَا وَسَلَامَتِهَا، قَالَ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ هِيَ خَاوِيَةٌ وَهِيَ عَلَى عُرُوشِهَا، بِمَعْنَى أَنَّ السُّقُوفَ سَقَطَتْ عَلَى الْأَرْضِ فَصَارَتْ فِي قَرَارِ الْحِيطَانِ وَبَقِيَتِ الْحِيطَانُ قَائِمَةً فَهِيَ مُشْرِفَةٌ عَلَى السُّقُوفِ السَّاقِطَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهَا بَقِيَتْ مَحَلًّا لِلِاعْتِبَارِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَحَلُّ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ مِنَ الْإِعْرَابِ. أَعْنِي وَهِيَ ظالِمَةٌ، فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها الْجَوَابُ: الْأُولَى: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ وَالثَّانِيَةُ: لَا مَحَلَّ لَهَا لأنها مقطوعة عَلَى (أَهْلَكْنَاهَا) وَهَذَا الْفِعْلُ لَيْسَ لَهُ مَحَلٌّ. قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمَعْنَى فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ كَانَتْ ظَالِمَةً وَهِيَ الْآنَ خَاوِيَةٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَرَأَ الْحَسَنُ مُعَطَّلَةٍ مِنْ أَعْطَلَهُ بِمَعْنَى مُعَطَّلَةٍ وَمَعْنَى الْمُعَطَّلَةِ أَنَّهَا عَامِرَةٌ فيها الماء

وَيُمْكِنُ الِاسْتِقَاءُ مِنْهَا إِلَّا أَنَّهَا عُطِّلَتْ أَيْ تُرِكَتْ لَا يُسْتَقَى مِنْهَا لِهَلَاكِ أَهْلِهَا وَفِي الْمَشِيدِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْمُجَصَّصُ لِأَنَّ الْجِصَّ بِالْمَدِينَةِ يُسَمَّى الشِّيدَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْمَرْفُوعُ الْمُطَوَّلُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْقَرْيَةَ مَعَ تَكَلُّفِ بِنَائِهِمْ لَهَا وَاغْتِبَاطِهِمْ بِهَا جُعِلَتْ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَكَذَلِكَ الْبِئْرُ الَّتِي كَلَّفُوهَا وَصَارَتْ شِرْبَهُمْ صَارَتْ مُعَطَّلَةً بِلَا شَارِبٍ وَلَا وَارِدٍ، وَالْقَصْرُ الَّذِي أَحْكَمُوهُ بِالْجِصِّ وَطَوَّلُوهُ صَارَ ظَاهِرًا خَالِيًا بِلَا سَاكِنٍ، وَجَعَلَ ذَلِكَ تَعَالَى عِبْرَةً لِمَنِ اعْتَبَرَ وَتَدَبَّرَ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ تَفْسِيرَ عَلَى بِمَعَ أَوْلَى لِأَنَّ التَّقْدِيرَ وَهِيَ خَاوِيَةٌ مَعَ عُرُوشِهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ كَانَتْ أَدْخَلَ فِي الِاعْتِبَارِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ [الصَّافَّاتِ: 137] واللَّه أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. المسألة الثَّانِيَةُ: رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْبِئْرَ نَزَلَ عَلَيْهَا صَالِحٌ مَعَ أَرْبَعَةِ آلَافِ نَفَرٍ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ، وَنَجَّاهُمُ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْعَذَابِ وَهُمْ بِحَضْرَمَوْتَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ صَالِحًا حِينَ حَضَرَهَا مَاتَ ثَمَّ، وَثَمَّ بَلْدَةٌ عِنْدَ الْبِئْرِ اسْمُهَا حَاضُورَا بَنَاهَا قَوْمُ صَالِحٍ، وَأَمَّرُوا عَلَيْهَا حَاسِرَ بْنَ جُلَاسٍ وَجَعَلُوا وَزِيرَهُ سنجاريب وَأَقَامُوا بِهَا زَمَانًا ثُمَّ كَفَرُوا وَعَبَدُوا صَنَمًا، وَأَرْسَلَ اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِمْ حَنْظَلَةَ بْنَ صَفْوَانَ فَقَتَلُوهُ فِي السُّوقِ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّه تَعَالَى، وَعَطَّلَ بِئْرَهُمْ وَخَرَّبَ قُصُورَهُمْ، قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ، وَهَذَا عَجِيبٌ لِأَنِّي زُرْتُ قَبْرَ صَالِحٍ بِالشَّامِ بِبَلْدَةٍ يُقَالُ لَهَا عَكَّةُ فَكَيْفَ يُقَالُ إِنَّهُ بِحَضْرَمَوْتَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ ذِكْرُ مَا يَتَكَامَلُ بِهِ ذَلِكَ الِاعْتِبَارُ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ لَهَا حَظٌّ عَظِيمٌ فِي الِاعْتِبَارِ وَكَذَلِكَ/ اسْتِمَاعُ الْأَخْبَارِ فِيهِ مَدْخَلٌ، وَلَكِنْ لَا يَكْمُلُ هَذَانِ الْأَمْرَانِ إِلَّا بِتَدَبُّرِ الْقَلْبِ لِأَنَّ مَنْ عَايَنَ وَسَمِعَ ثُمَّ لَمْ يَتَدَبَّرْ وَلَمْ يَعْتَبِرْ لَمْ ينتفع ألبتة ولو تفكر فيها سَمِعَ لَانْتَفَعَ، فَلِهَذَا قَالَ: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ كَأَنَّهُ قَالَ لَا عَمًى فِي أَبْصَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ بِهَا لَكِنَّ الْعَمَى فِي قُلُوبِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا أَبْصَرُوهُ، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ هَلْ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالسَّفَرِ الْجَوَابُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ مَا سَافَرُوا فَحَثَّهُمْ عَلَى السَّفَرِ لِيَرَوْا مَصَارِعَ مَنْ أَهْلَكَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ وَيُشَاهِدُوا آثَارَهُمْ فَيَعْتَبِرُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ سَافَرُوا وَرَأَوْا ذَلِكَ وَلَكِنْ لَمْ يَعْتَبِرُوا فَجُعِلُوا كَأَنْ لَمْ يُسَافِرُوا وَلَمْ يَرَوْا. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَالْجَوَابُ: هَذَا الضَّمِيرُ ضَمِيرُ الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ يَجِيءُ مُؤَنَّثًا وَمُذَكَّرًا وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا مُبْهَمًا يُفَسِّرُهُ الْأَبْصَارُ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَيُّ فَائِدَةٍ فِي ذِكْرِ الصُّدُورِ مَعَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْقَلْبَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الصَّدْرِ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ الْمُتَعَارَفَ أَنَّ الْعَمَى مَكَانُهُ الْحَدَقَةُ، فَلَمَّا أُرِيدَ إِثْبَاتُهُ لِلْقَلْبِ عَلَى خِلَافِ الْمُتَعَارَفِ احْتِيجَ إِلَى زِيَادَةِ بَيَانٍ كَمَا تَقُولُ: لَيْسَ الْمَضَاءُ لِلسَّيْفِ وَلَكِنَّهُ لِلِسَانِكَ الَّذِي بَيْنَ فَكَّيْكَ، فَقَوْلُكَ الَّذِي بَيْنَ فَكَّيْكَ تَقْرِيرٌ لِمَا ادَّعَيْتَهُ لِلِّسَانِ وَتَثْبِيتٌ، لِأَنَّ مَحَلَّ الْمَضَاءِ هُوَ هُوَ لَا غَيْرُ، وَكَأَنَّكَ قُلْتَ مَا نَفَيْتُ الْمَضَاءَ عَنِ السَّيْفِ وَأَثْبَتُّهُ لِلِسَانِكَ سَهْوًا، وَلَكِنِّي تَعَمَّدْتُهُ عَلَى الْيَقِينِ. وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْقَلْبَ قَدْ يُجْعَلُ كِنَايَةً عَنِ الْخَاطِرِ وَالتَّدَبُّرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: 37] وَعِنْدَ قَوْمٍ أَنَّ مَحَلَّ التَّفَكُّرِ هُوَ الدِّمَاغُ فاللَّه تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ هُوَ الصَّدْرُ.

[سورة الحج (22) : الآيات 47 إلى 49]

السُّؤَالُ الرَّابِعُ: هَلْ تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ هُوَ الْعِلْمُ وَعَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْعِلْمِ هُوَ الْقَلْبُ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ: قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها الْعِلْمُ وَقَوْلُهُ: يَعْقِلُونَ بِها كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْقَلْبَ آلَةٌ لِهَذَا التَّعَقُّلِ، فَوَجَبَ جَعْلُ الْقَلْبِ مَحَلًّا لِلتَّعَقُّلِ وَيُسَمَّى الْجَهْلُ بِالْعَمَى لِأَنَّ الْجَاهِلَ لِكَوْنِهِ مُتَحَيِّرًا يُشْبِهُ الأعمى. [سورة الحج (22) : الآيات 47 الى 49] وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى مِنْ عِظَمِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ أَنَّهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِاسْتِعْجَالِ الْعَذَابِ فَقَالَ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُخَوِّفُهُمْ بِالْعَذَابِ إِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَلِأَنَّ قَوْلَهُمْ: لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ [الْحِجْرِ: 7] يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ لِأَنَّ الْوَعْدَ بِالْعَذَابِ إِذَا كَانَ فِي الْآخِرَةِ دُونَ الدُّنْيَا فَاسْتِعْجَالُهُ يَكُونُ كَالْخُلْفِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعْجِلَ عَذَابَ الْآخِرَةِ فَقَالَ: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ يَعْنِي فِيمَا يَنَالُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَشِدَّتِهِ كَأَلْفِ سَنَةٍ لَوْ بَقِيَ وَعُذِّبَ فِي كَثْرَةِ الْآلَامِ وَشِدَّتِهَا فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَوْ عَرَفُوا حَالَ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَأَنَّهُ بِهَذَا الْوَصْفِ لَمَا اسْتَعْجَلُوهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ وَهُوَ أَوْلَى الْوُجُوهِ: الوجه الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ طُولُ أَيَّامِ الْآخِرَةِ فِي الْمُحَاسَبَةِ وَيَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى قَرِيبٍ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَيَّامَ الْقَصِيرَةَ إِذَا مَرَّتْ فِي الشِّدَّةِ كَانَتْ مُسْتَطِيلَةً فَكَيْفَ تَكُونُ الْأَيَّامُ الْمُسْتَطِيلَةُ إِذَا مَرَّتْ فِي الشِّدَّةِ. ثُمَّ إِنَّ الْعَذَابَ الَّذِي يَكُونُ طُولُ أَيَّامِهَا إِلَى هَذَا الْحَدِّ لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَسْتَعْجِلَهُ وَالوجه الثَّالِثُ: أَنَّ الْيَوْمَ الْوَاحِدَ وَأَلْفَ سَنَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ عَلَى السَّوَاءِ لِأَنَّهُ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَبْعِدُوا إِمْهَالَ يَوْمٍ فَلَا يَسْتَبْعِدُوا أَيْضًا إِمْهَالَ أَلْفِ سَنَةٍ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَالْمُرَادُ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَخَّرْتُ إِهْلَاكَهُمْ مَعَ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَاغْتَرُّوا بِذَلِكَ التَّأْخِيرِ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بِأَنْ أَنْزَلْتُ الْعَذَابَ بِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَعَذَابُهُمْ مُدَّخَرٌ إِذَا صَارُوا إِلَيَّ وَهُوَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ قَالَ فِيمَا قَبْلُ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ [الحج: 45] وَقَالَ هَاهُنَا: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها الْأُولَى بِالْفَاءِ وَهَذِهِ بِالْوَاوِ؟ قُلْنَا: الْأُولَى وَقَعَتْ بدلا عن قوله: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ [الحج: 44] وَأَمَّا هَذِهِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا تَقَدَّمَهَا مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمَعْطُوفَتَيْنِ بِالْوَاوِ، أَعْنِي قَوْلَهُ: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. أما قوله: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يُدِيمَ لَهُمُ التَّخْوِيفَ وَالْإِنْذَارَ، وَأَنْ لَا يَصُدَّهُ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ مَنَ الِاسْتِعْجَالِ لِلْعَذَابِ عَلَى سَبِيلِ الْهُزْءِ عَنْ إِدَامَةِ التَّخْوِيفِ وَالْإِنْذَارِ، وَأَنْ يَقُولَ لَهُمْ إِنَّمَا بُعِثْتُ لِلْإِنْذَارِ فَاسْتِهْزَاؤُكُمْ بذلك لا يمنعني منه. [سورة الحج (22) : الآيات 50 الى 51] فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51)

[سورة الحج (22) : الآيات 52 إلى 57]

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِأَنْ أَمَرَهُ بِوَعْدِهِمْ وَوَعِيدِهِمْ، لِأَنَّ الرَّجُلَ إِنَّمَا يَكُونُ مُنْذِرًا بِذِكْرِ الْوَعْدِ لِلْمُطِيعِينَ وَالْوَعِيدِ/ لِلْعَاصِينَ. فَقَالَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَجَمَعَ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ خَارِجٌ عَنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَيَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ كُلُّ مَا يَجِبُ مِنَ الِاعْتِقَادِ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ، وَيَدْخُلُ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ أَدَاءُ كُلِّ وَاجِبٍ وَتَرْكُ كُلِّ مَحْظُورٍ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فاللَّه تَعَالَى يَجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْمَغْفِرَةِ وَالرِّزْقِ الْكَرِيمِ. أَمَّا الْمَغْفِرَةُ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عِبَارَةً عَنْ غُفْرَانِ الصَّغَائِرِ، أَوْ عَنْ غُفْرَانِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، أَوْ عَنْ غُفْرَانِهَا قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَالْأَوَّلَانِ وَاجِبَانِ عِنْدَ الْخَصْمِ، وَأَدَاءُ الْوَاجِبِ لَا يُسَمَّى غُفْرَانًا، فَبَقِيَ الثَّالِثُ وَهُوَ دَلَالَتُهُ عَلَى الْعَفْوِ عَنْ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَأَمَّا الرِّزْقُ الْكَرِيمُ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الثَّوَابِ، وَكَرَمُهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ هُنَاكَ يَسْتَغْنِي عَنِ الْمَكَاسِبِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ وَالذُّلِّ فِيهَا وَارْتِكَابِ الْمَآثِمِ وَالدَّنَاءَةِ بِسَبَبِهَا، وَأَنْ يَكُونَ لِلصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ رِزْقًا كَثِيرًا دَائِمًا خَالِصًا عَنْ شَوَائِبِ الضَّرَرِ، مَقْرُونًا بِالتَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ. وَالْأَوْلَى جَعْلُ الْكَرِيمِ دَالًّا عَلَى كُلِّ هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَهَذَا شَرْحُ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا حَالُ الْكُفَّارِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ وَالْمُرَادُ اجْتَهَدُوا فِي رَدِّهَا وَالتَّكْذِيبِ بِهَا حَيْثُ سَمَّوْهَا سِحْرًا وَشِعْرًا وَأَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ، وَيُقَالُ لِمَنْ بَذَلَ جُهْدَهُ فِي أَمْرٍ: إِنَّهُ سَعَى فِيهِ تَوَسُّعًا مِنْ حَيْثُ بَلَغَ فِي بَذْلِ الْجُهْدِ النِّهَايَةَ، كَمَا إِذَا بَلَغَ الْمَاشِي نِهَايَةَ طَاقَتِهِ فَيُقَالُ لَهُ سَعَى، وَذَكَرَ الْآيَاتِ وَأَرَادَ التَّكْذِيبَ بِهَا مَجَازًا. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يُقَالُ سَعَى فِي أَمْرِ فُلَانٍ إِذَا أَصْلَحَهُ أَوْ أَفْسَدَهُ بِسَعْيِهِ، أَمَّا الْمُعَاجِزُ فَيُقَالُ عَاجَزْتُهُ، أَيْ طَمِعْتُ فِي إِعْجَازِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ، هَلْ مُعَاجِزِينَ للَّه أَوْ لِلرَّسُولِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْأَقْرَبُ هُوَ الثَّانِي لِأَنَّهُمْ إِنْ أَنْكَرُوا اللَّه اسْتَحَالَ مِنْهُمْ أَنْ يَطْمَعُوا فِي إِعْجَازِهِ وَإِنْ أَثْبَتُوهُ فَيَبْعُدُ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ يُعْجِزُونَهُ وَيَغْلِبُونَهُ، وَيَصِحُّ مِنْهُمْ أَنْ يَظُنُّوا ذَلِكَ فِي الرَّسُولِ بِالْحِيَلِ وَالْمَكَايِدِ. أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا الْمُرَادُ مُعَاجِزِينَ للَّه، فَقَدْ ذَكَرُوا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: الْمُرَادُ بِمُعَاجِزِينَ مُغَالِبِينَ مُفَوِّتِينَ لِرَبِّهِمْ مِنْ عَذَابِهِمْ وَحِسَابِهِمْ حَيْثُ جَحَدُوا الْبَعْثَ وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ يُثَبِّطُونَ غَيْرَهُمْ عَنِ التَّصْدِيقِ باللَّه وَيُثَبِّطُونَهُمْ بِسَبَبِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَثَالِثُهَا: يُعْجِزُونَ اللَّه بِإِدْخَالِ الشُّبَهِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَنْ جَحَدَ أَصْلَ الشَّيْءِ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُغَالِبٌ لِمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ الشَّيْءَ، وَمَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُمْ ظَنُّوا مُغَالَبَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا كَانَ يَقُولُهُ مِنْ أَمْرِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ أَنَّ الْمُغَالَبَةَ فِي الْحَقِيقَةِ تَرْجِعُ إِلَى الرَّسُولِ وَالْأُمَّةِ، لَا إِلَى اللَّه تَعَالَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَدُومُونَ فِيهَا وَشَبَّهَهُمْ مِنْ حَيْثُ الدَّوَامِ بِالصَّاحِبِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَشَّرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوَّلًا وَأَنْذَرَ الْكَافِرِينَ ثَانِيًا، فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ، قُلْنَا الْكَلَامُ مَسُوقٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَيَا أَيُّهَا النَّاسُ نِدَاءٌ لَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [الحج: 46] وَوُصِفُوا بِالِاسْتِعْجَالِ وَإِنَّمَا أَلْقَى ذِكْرَ الْمُؤْمِنِينَ وَثَوَابِهِمْ في البين زيادة لغيظهم وإيذائهم. [سورة الحج (22) : الآيات 52 الى 57] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57)

أَمَّا قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الرَّسُولُ هُوَ الَّذِي حُدِّثَ وَأُرْسِلَ، وَالنَّبِيُّ هُوَ الَّذِي لَمْ/ يُرْسَلْ وَلَكِنَّهُ أُلْهِمَ أَوْ رَأَى فِي النَّوْمِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ كُلَّ رَسُولٍ نَبِيٌّ، وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ يَكُونُ رَسُولًا، وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَالْفَرَّاءِ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ كُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ، وَكُلُّ نَبِيٍّ رَسُولٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَاحْتَجُّوا عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ قَدْ يَكُونُ مُرْسَلًا، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ [الْأَعْرَافِ: 94] ، وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَاطَبَ مُحَمَّدًا مَرَّةً بِالنَّبِيِّ وَمَرَّةً بِالرَّسُولِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْمُنَافَاةُ حَاصِلَةٌ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَرَابِعُهَا: أَنَّ اشْتِقَاقَ لَفْظِ النَّبِيِّ إِمَّا مِنَ النَّبَأِ وَهُوَ الْخَبَرُ، أَوْ مِنْ قَوْلِهِمْ نَبَأَ إِذَا ارْتَفَعَ، وَالْمَعْنَيَانِ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا بِقَبُولِ الرِّسَالَةِ. أَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: فَاعْلَمْ أَنَّ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ لَا يُبْطِلُهُ، بَلْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَطَفَ النَّبِيَّ عَلَى الرَّسُولِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمُغَايَرَةَ وَهُوَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ [الزُّخْرُفِ: 6] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا، فَجَعَلَهُ اللَّه مُرْسَلًا وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى قولنا: «و قِيلَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كم المرسلون؟ فقال ثلاثمائة وثلاثة عشرة، فَقِيلَ وَكَمِ الْأَنْبِيَاءُ؟ فَقَالَ مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا الْجَمُّ الْغَفِيرُ» إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ذَكَرُوا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ أُمُورًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّسُولَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ جَمَعَ إِلَى الْمُعْجِزَةِ الْكِتَابَ الْمُنَزَّلَ عَلَيْهِ، وَالنَّبِيُّ غَيْرُ الرَّسُولِ مَنْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ كِتَابٌ، وَإِنَّمَا أُمِرَ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى كِتَابِ مَنْ قَبْلَهُ وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ كَانَ صَاحِبَ الْمُعْجِزَةِ وَصَاحِبَ الْكِتَابِ وَنَسَخَ شَرْعَ مَنْ قَبْلَهُ فَهُوَ الرَّسُولُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَجْمِعًا لِهَذِهِ الْخِصَالِ فَهُوَ النَّبِيُّ غَيْرُ الرَّسُولِ، وَهَؤُلَاءِ يَلْزَمُهُمْ أَنْ لَا يَجْعَلُوا إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ رُسُلًا لِأَنَّهُمْ مَا جَاءُوا بِكِتَابٍ نَاسِخٍ وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ جَاءَهُ الْمَلَكُ ظَاهِرًا وَأَمَرَهُ بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ فَهُوَ الرَّسُولُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ رَأَى فِي النَّوْمِ كَوْنَهُ رسولا، أو أخبره أحد من الرسال بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّه، فَهُوَ النَّبِيُّ الَّذِي لَا يَكُونُ رَسُولًا وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى.

المسألة الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى إِعْرَاضَ قَوْمِهِ عَنْهُ وَشَقَّ عَلَيْهِ مَا رَأَى مِنْ مُبَاعَدَتِهِمْ عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ تَمَنَّى فِي نَفْسِهِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ مِنَ اللَّه مَا يُقَارِبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ وَذَلِكَ لِحِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِهِمْ فَجَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي نَادٍ مِنْ أَنْدِيَةِ قُرَيْشٍ كَثِيرٍ أَهْلُهُ وَأَحَبَّ يَوْمَئِذٍ أَنْ لَا يَأْتِيَهُ مِنَ اللَّه شَيْءٌ يَنْفِرُوا عَنْهُ وَتَمَنَّى ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى سُورَةَ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى [النَّجْمِ: 1] فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النَّجْمِ: 19، 20] أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ «تِلْكَ الْغَرَانِيقُ العلى مِنْهَا الشَّفَاعَةُ تُرْتَجَى» فَلَمَّا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ فَرِحُوا وَمَضَى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِرَاءَتِهِ فَقَرَأَ السُّورَةَ كُلَّهَا فَسَجَدَ وَسَجَدَ الْمُسْلِمُونَ لِسُجُودِهِ وَسَجَدَ جَمِيعُ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَسْجِدِ مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ إِلَّا سَجَدَ سِوَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَبِي أُحَيْحَةَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي فَإِنَّهُمَا أَخَذَا حَفْنَةً مِنَ التُّرَابِ مِنَ الْبَطْحَاءِ وَرَفَعَاهَا إِلَى/ جَبْهَتَيْهِمَا وَسَجَدَا عَلَيْهَا لِأَنَّهُمَا كَانَا شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَلَمْ يَسْتَطِيعَا السُّجُودَ وَتَفَرَّقَتْ قُرَيْشٌ وَقَدْ سَرَّهُمْ مَا سَمِعُوا وَقَالُوا قَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ آلِهَتَنَا بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ فَلَمَّا أَمْسَى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ مَاذَا صَنَعْتَ تَلَوْتَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ آتِكَ بِهِ عَنِ اللَّه وَقُلْتَ مَا لَمْ أَقُلْ لَكَ؟! فَحَزِنَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُزْنًا شَدِيدًا وَخَافَ مِنَ اللَّه خَوْفًا عَظِيمًا حَتَّى نَزَلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ الْآيَةَ. هَذَا رِوَايَةُ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ الظَّاهِرِيِّينَ، أَمَّا أَهْلُ التَّحْقِيقِ فَقَدْ قَالُوا هَذِهِ الرِّوَايَةُ بَاطِلَةٌ مَوْضُوعَةٌ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَوُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الْحَاقَّةِ: 44- 46] ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [يُونُسَ: 15] وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى فَلَوْ أَنَّهُ قَرَأَ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ تِلْكَ الغرانيق العلى لَكَانَ قَدْ ظَهَرَ كَذِبُ اللَّه تَعَالَى فِي الْحَالِ وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 73] وَكَلِمَةُ كَادَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ مَعْنَاهُ قَرُبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 74] وَكَلِمَةُ لَوْلَا تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الرُّكُونَ الْقَلِيلَ لَمْ يَحْصُلْ وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الْفُرْقَانِ: 32] . وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الْأَعْلَى: 6] . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَهِيَ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَالَ هَذَا وُضْعٌ مِنَ الزَّنَادِقَةِ وَصَنَّفَ فِيهِ كِتَابًا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بن الحسن الْبَيْهَقِيُّ هَذِهِ الْقِصَّةُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ ثُمَّ أَخَذَ يَتَكَلَّمُ فِي أَنَّ رُوَاةَ هَذِهِ الْقِصَّةِ مَطْعُونٌ فِيهِمْ، وَأَيْضًا فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ وَسَجَدَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَلَيْسَ فِيهِ حَدِيثُ الْغَرَانِيقِ. وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ وَلَيْسَ فِيهَا الْبَتَّةَ حَدِيثُ الْغَرَانِيقِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ جَوَّزَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْظِيمَ الْأَوْثَانِ فَقَدْ كَفَرَ لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ أَعْظَمَ سَعْيِهِ كَانَ فِي نَفْيِ الْأَوْثَانِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَقْرَأَ الْقُرْآنَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ آمِنًا أَذَى الْمُشْرِكِينَ لَهُ حَتَّى كَانُوا رُبَّمَا مَدُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا كَانَ يُصَلِّي إِذَا لَمْ يَحْضُرُوهَا لَيْلًا أَوْ فِي أَوْقَاتِ خَلْوَةٍ وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُعَادَاتَهُمْ لِلرَّسُولِ كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُقِرُّوا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْقِرَاءَةِ دُونَ أَنْ يَقِفُوا عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فَكَيْفَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ عَظَّمَ آلِهَتَهُمْ حَتَّى خَرُّوا سُجَّدًا مَعَ

أَنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ عِنْدَهُمْ مُوَافَقَتَهُ لَهُمْ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ إِحْكَامَ الْآيَاتِ بِإِزَالَةِ مَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ عَنِ الرَّسُولِ أَقْوَى مِنْ نَسْخِهِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي تَبْقَى الشُّبْهَةُ مَعَهَا، فَإِذَا أَرَادَ اللَّه إِحْكَامَ الْآيَاتِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ مَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ قُرْآنًا، فَبِأَنْ يُمْنَعَ الشَّيْطَانُ مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا أَوْلَى وَخَامِسُهَا: وَهُوَ أَقْوَى الْوُجُوهِ/ أَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ ارْتَفَعَ الْأَمَانُ عَنْ شَرْعِهِ وَجَوَّزْنَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَيَبْطُلُ قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [الْمَائِدَةِ: 67] فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْعَقْلِ بَيْنَ النُّقْصَانِ عَنِ الْوَحْيِ وَبَيْنَ الزِّيَادَةِ فِيهِ فَبِهَذِهِ الْوُجُوهِ عَرَفْنَا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَوْضُوعَةٌ أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ جَمْعًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوهَا لَكِنَّهُمْ مَا بَلَغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُعَارِضُ الدَّلَائِلَ النَّقْلِيَّةَ وَالْعَقْلِيَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ، وَلْنَشْرَعِ الْآنَ فِي التَّفْصِيلِ فَنَقُولُ التَّمَنِّي جَاءَ فِي اللُّغَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَمَنِّي الْقَلْبِ وَالثَّانِي: الْقِرَاءَةُ قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ [الْبَقَرَةِ: 78] أَيْ إِلَّا قِرَاءَةً لِأَنَّ الْأُمِّيَّ لَا يَعْلَمُ الْقُرْآنَ مِنَ الْمُصْحَفِ وَإِنَّمَا يَعْلَمُهُ قِرَاءَةً، وَقَالَ حَسَّانُ: تَمَنَّى كِتَابَ اللَّه أَوَّلَ لَيْلَةٍ ... وَآخِرَهَا لَاقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ قِيلَ إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْقِرَاءَةُ أُمْنِيَّةً لِأَنَّ الْقَارِئَ إِذَا انْتَهَى إِلَى آيَةِ رَحْمَةٍ تَمَنَّى حُصُولَهَا وَإِذَا انْتَهَى إِلَى آيَةِ عَذَابٍ تَمَنَّى أَنْ لَا يُبْتَلَى بِهَا، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ التَّمَنِّي هُوَ التَّقْدِيرُ وَتَمَنَّى هُوَ تَفَعَّلَ مِنْ مُنِيتُ وَالْمَنِيَّةُ وَفَاةُ الْإِنْسَانِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّه تَعَالَى، وَمَنَى اللَّه لَكَ أَيْ قَدَّرَ لَكَ. وَقَالَ رُوَاةُ اللُّغَةِ الْأَمْنِيَّةُ الْقِرَاءَةُ وَاحْتَجُّوا بِبَيْتِ حَسَّانَ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَإِنَّ التَّالِيَ مُقَدِّرٌ لِلْحُرُوفِ وَيَذْكُرُهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ الْأَمْنِيَّةَ، إِمَّا الْقِرَاءَةُ، وَإِمَّا الْخَاطِرُ، أَمَّا إِذَا فَسَّرْنَاهَا بِالْقِرَاءَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِذَلِكَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَسْهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ وَيَشْتَبِهَ عَلَى الْقَارِئِ دُونَ مَا رَوَوْهُ مِنْ قَوْلِهِ تِلْكَ الْغَرَانِيقُ العلى الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهُ وُقُوعُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي قِرَاءَتِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يتكلم بقوله تلك الغرانيق العلى وَلَا الشَّيْطَانُ تَكَلَّمَ بِهِ وَلَا أَحَدٌ تَكَلَّمَ بِهِ لَكِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ عَلَى الْكُفَّارِ فَحَسِبُوا بَعْضَ أَلْفَاظِهِ مَا رَوَوْهُ مِنْ قَوْلِهِمْ تِلْكَ الْغَرَانِيقُ العلى وَذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ مِنْ تَوَهُّمِ بَعْضِ الْكَلِمَاتِ عَلَى غَيْرِ مَا يُقَالُ وَهَذَا الوجه ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّوَهُّمَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إِنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا قَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِسَمَاعِهِ فَأَمَّا غَيْرُ الْمَسْمُوعِ فَلَا يَقَعُ ذَلِكَ فِيهِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَقَعَ هَذَا التَّوَهُّمُ لِبَعْضِ السَّامِعِينَ دُونَ الْبَعْضِ فَإِنَّ الْعَادَةَ مَانِعَةٌ مِنَ اتِّفَاقِ الْجَمِّ الْعَظِيمِ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى خَيَالٍ وَاحِدٍ فَاسِدٍ فِي الْمَحْسُوسَاتِ وَثَالِثُهَا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُضَافًا إِلَى الشَّيْطَانِ الوجه الثَّانِي: قَالُوا إِنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ كَلَامُ شَيْطَانِ الْجِنِّ وَذَلِكَ بِأَنْ تَلَفَّظَ بِكَلَامٍ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أَوْقَعَهُ فِي دَرَجِ تِلْكَ التِّلَاوَةِ فِي بَعْضِ وَقَفَاتِهِ لِيُظَنَّ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ الْمَسْمُوعِ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا وَالَّذِي يُؤَكِّدُهُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْجِنَّ وَالشَّيَاطِينَ مُتَكَلِّمُونَ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَأْتِيَ الشَّيْطَانُ بِصَوْتٍ مِثْلِ صَوْتِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَتَكَلَّمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعِنْدَ سُكُوتِهِ فَإِذَا سَمِعَ الْحَاضِرُونَ تِلْكَ الْكَلِمَةَ بِصَوْتٍ مِثْلِ صَوْتِ الرَّسُولِ وَمَا رَأَوْا شَخْصًا آخَرَ ظَنَّ الْحَاضِرُونَ أَنَّهُ كَلَامُ/ الرَّسُولِ، ثُمَّ هَذَا لَا يَكُونُ قَادِحًا فِي النُّبُوَّةِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِعْلًا لَهُ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ فإنك إذا جوزت أن يتكلم في أثناء الشيطان كَلَامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَشْتَبِهُ عَلَى كُلِّ السَّامِعِينَ كَوْنُهُ كَلَامًا لِلرَّسُولِ بَقِيَ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي كُلِّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الرَّسُولُ فَيُفْضِي إِلَى ارْتِفَاعِ الْوُثُوقِ عَنْ كُلِّ الشَّرْعِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا الِاحْتِمَالُ قَائِمٌ في

الْكُلِّ وَلَكِنَّهُ لَوْ وَقَعَ لَوَجَبَ فِي حِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُشْرَحَ الْحَالُ فِيهِ كَمَا فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ إِزَالَةً لِلتَّلْبِيسِ، قُلْنَا لَا يَجِبُ عَلَى اللَّه إِزَالَةُ الِاحْتِمَالَاتِ كَمَا فِي الْمُتَشَابِهَاتِ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى اللَّه ذَلِكَ تَمَكَّنَ الِاحْتِمَالُ مِنَ الْكُلِّ الوجه الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ بَعْضُ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَهُمُ الْكَفَرَةُ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا انْتَهَى فِي قِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَكَرَ أَسْمَاءَ آلِهَتِهِمْ وَقَدْ عَلِمُوا مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ يَعِيبُهَا فَقَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ تِلْكَ الْغَرَانِيقُ العلى فَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ عَلَى الْقَوْمِ لِكَثْرَةِ لَغَطِ الْقَوْمِ وَكَثْرَةِ صِيَاحِهِمْ وَطَلَبِهِمْ تَغْلِيطَهُ وَإِخْفَاءَ قِرَاءَتِهِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ فِي صَلَاتِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرُبُونَ مِنْهُ فِي حَالِ صَلَاتِهِ وَيَسْمَعُونَ قِرَاءَتَهُ وَيَلْغُونَ فِيهَا، وَقِيلَ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا تَلَا الْقُرْآنَ عَلَى قُرَيْشٍ تَوَقَّفَ فِي فُصُولِ الْآيَاتِ فَأَلْقَى بَعْضُ الْحَاضِرِينَ ذَلِكَ الْكَلَامَ فِي تِلْكَ الْوَقَفَاتِ فَتَوَهَّمَ الْقَوْمُ أَنَّهُ مِنْ قِرَاءَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَضَافَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ بِوَسْوَسَتِهِ يَحْصُلُ أَوَّلًا وَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ ذَلِكَ الْمُتَكَلِّمَ فِي نَفْسِهِ شَيْطَانًا وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِزَالَةُ الشُّبْهَةِ وَتَصْرِيحُ الْحَقِّ وَتَبْكِيتُ ذَلِكَ الْقَائِلِ وَإِظْهَارُ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْهُ صَدَرَتْ وَثَانِيهِمَا: لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى بِالنَّقْلِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا لَمْ يَفْعَلِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَدَّى السُّورَةَ بِكَمَالِهَا إِلَى الْأُمَّةِ مِنْ دُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُؤَدِّيًا إِلَى التَّلْبِيسِ كَمَا يُؤَدِّي سَهْوُهُ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ أَنْ وَصَفَهَا إِلَى اللَّبْسِ، قُلْنَا إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِرًّا عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي زَمَانِ حَيَاتِهِ لِأَنَّهُ كَانَ تَأْتِيهِ الْآيَاتُ فَيُلْحِقُهَا بِالسُّورِ فَلَمْ يَكُنْ تَأْدِيَةُ تِلْكَ السُّورَةِ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ سَبَبًا لِزَوَالِ اللَّبْسِ، وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا اسْتَحَقَّ الْعِتَابَ مِنَ اللَّه تَعَالَى عَلَى مَا رَوَاهُ الْقَوْمُ الوجه الرَّابِعُ: هُوَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَذَا هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ هَذَا يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ سَهْوًا أَوْ قَسْرًا أَوِ اخْتِيَارًا أَمَّا الوجه الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ سَهْوًا فَكَمَا يُرْوَى عَنْ قَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ أَنَّهُمَا قَالَا إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ فَنَعَسَ وَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ هَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ السُّورَةِ سَجَدَ وَسَجَدَ كُلُّ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ وَفَرِحَ الْمُشْرِكُونَ بِمَا سَمِعُوهُ وَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاسْتَقْرَأَهُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْغَرَانِيقِ قَالَ لَمْ آتِكَ بِهَذَا، فَحَزِنَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ جَازَ هَذَا السَّهْوُ لَجَازَ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ وَحِينَئِذٍ تَزُولُ الثِّقَةُ عَنِ الشَّرْعِ وَثَانِيهَا: أَنَّ السَّاهِيَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمُطَابِقَةِ لِوَزْنِ السُّورَةِ وَطَرِيقَتِهَا وَمَعْنَاهَا، فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ وَاحِدًا لَوْ أَنْشَدَ قَصِيدَةً لَمَا جَازَ أَنْ يَسْهُوَ حَتَّى يَتَّفِقَ مِنْهُ بَيْتُ شِعْرٍ فِي وَزْنِهَا وَمَعْنَاهَا وَطَرِيقَتِهَا وَثَالِثُهَا: هَبْ أَنَّهُ تَكَلَّمَ/ بِذَلِكَ سَهْوًا، فَكَيْفَ لَمْ يُنَبَّهْ لِذَلِكَ حِينَ قَرَأَهَا عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ أَمَّا الوجه الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ قَسْرًا وَهُوَ الَّذِي قَالَ قَوْمٌ إِنَّ الشَّيْطَانَ أَجْبَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ يَتَكَلَّمَ بِهَذَا فَهَذَا أَيْضًا فَاسِدٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَوْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَكَانَ اقْتِدَارُهُ عَلَيْنَا أَكْثَرَ فَوَجَبَ أَنْ يُزِيلَ الشَّيْطَانُ النَّاسَ عَنِ الدِّينِ وَلَجَازَ فِي أَكْثَرِ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْوَاحِدُ مِنَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِإِجْبَارِ الشَّيَاطِينِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَوْ قَدَرَ عَلَى هَذَا الْإِجْبَارِ لَارْتَفَعَ الْأَمَانُ عَنِ الْوَحْيِ لِقِيَامِ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى حَاكِيًا عَنِ الشَّيْطَانِ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إِبْرَاهِيمَ: 22] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ [النَّحْلِ: 99، 100] وَقَالَ: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الْحِجْرِ: 40] وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ سَيِّدَ الْمُخْلَصِينَ أَمَّا الوجه الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تكلم بذلك اختيارا فههنا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ نَقُولَ إِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ بَاطِلَةٌ وَالثَّانِي: أَنْ نَقُولَ إِنَّهَا لَيْسَتْ كَلِمَةً بَاطِلَةً أَمَّا عَلَى الوجه الْأَوَّلِ فَذَكَرُوا فِيهِ

طَرِيقَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ إِنَّ شَيْطَانًا يُقَالُ لَهُ الْأَبْيَضُ أَتَاهُ عَلَى صُورَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَلْقَى عَلَيْهِ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فَقَرَأَهَا فَلَمَّا سَمِعَ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ أَعْجَبَهُمْ فَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاسْتَعْرَضَهُ فَقَرَأَهَا فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى تِلْكَ الْكَلِمَةِ قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَا مَا جِئْتُكَ بِهَذِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ أَتَانِي آتٍ عَلَى صُورَتِكَ فَأَلْقَاهَا عَلَى لِسَانِي الطَّرِيقُ الثَّانِي: قَالَ بَعْضُ الْجُهَّالِ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِ الْقَوْمِ أَدْخَلَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا، وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ لَا يَرْغَبُ فِيهِمَا مُسْلِمٌ الْبَتَّةَ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَلَكِ الْمَعْصُومِ وَالشَّيْطَانِ الْخَبِيثِ وَالثَّانِي يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ خَائِنًا فِي الْوَحْيِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خُرُوجٌ عَنِ الدِّينِ أَمَّا الوجه الثَّانِي: وَهُوَ أن هذه الكلمة ليست باطلة فههنا أَيْضًا طُرُقٌ الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ الْغَرَانِيقُ هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ قُرْآنًا مُنَزَّلًا فِي وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ. فَلَمَّا تَوَهَّمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُ يُرِيدُ آلِهَتَهُمْ نَسَخَ اللَّه تِلَاوَتَهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَشَفَاعَتُهُنَّ تُرْتَجَى؟ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ ذَكَرَ الْإِثْبَاتَ وَأَرَادَ النَّفْيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النِّسَاءِ: 176] أَيْ لَا تَضِلُّوا كَمَا قَدْ يَذْكُرُ النَّفْيَ وَيُرِيدُ بِهِ الْإِثْبَاتَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [الْأَنْعَامِ: 151] وَالْمَعْنَى أَنْ تُشْرِكُوا، وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ الْأَخِيرَانِ يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمَا بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظْهِرُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ فِي جُمْلَةِ الْقُرْآنِ أَوْ فِي الصَّلَاةِ بِنَاءً عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَلَكِنَّ الْأَصْلَ فِي الدِّينِ أَنْ لَا يَجُوزَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ نَصَبَهُمْ حُجَّةً وَاصْطَفَاهُمْ لِلرِّسَالَةِ فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ مَا يَطْعَنُ فِي ذَلِكَ أَوْ يُنَفِّرُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي التَّنْفِيرِ أَعْظَمُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي حثه اللَّه تعالى على تركها كنحو لفظاظة وَالْكِتَابَةِ وَقَوْلِ الشِّعْرِ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ/ فِي قَوْلِهِ تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا قَدْ ظَهَرَ عَلَى القطع كذبها، لهذا كُلُّهُ إِذَا فَسَّرْنَا التَّمَنِّيَ بِالتِّلَاوَةِ. وَأَمَّا إِذَا فَسَّرْنَاهَا بِالْخَاطِرِ وَتَمَنِّي الْقَلْبِ فَالْمَعْنَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَتَى تَمَنَّى بَعْضَ مَا يَتَمَنَّاهُ مِنَ الْأُمُورِ يُوَسْوِسُ الشَّيْطَانُ إِلَيْهِ بِالْبَاطِلِ وَيَدْعُوهُ إِلَى مَا لَا يَنْبَغِي ثُمَّ إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَنْسَخُ ذَلِكَ وَيُبْطِلُهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى تَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَى وَسْوَسَتِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَتَمَنَّى مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ بِالثَّنَاءِ قَالُوا إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَتَأَلَّفَهُمْ وَكَانَ يُرَدِّدُ ذلك في نفسه فعند ما لَحِقَهُ النُّعَاسُ زَادَ تِلْكَ الزِّيَادَةَ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ فِي نَفْسِهِ وَهَذَا أَيْضًا خُرُوجٌ عَنِ الدِّينِ وَبَيَانُهُ مَا تَقَدَّمَ وَثَانِيهَا: مَا قَالَ مُجَاهِدٌ مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَتَمَنَّى إِنْزَالَ الْوَحْيِ عَلَيْهِ عَلَى سُرْعَةٍ دُونَ تَأْخِيرٍ فَنَسَخَ اللَّه ذَلِكَ بِأَنْ عَرَّفَهُ بِأَنَّ إِنْزَالَ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ فِي الْحَوَادِثِ وَالنَّوَازِلِ وَغَيْرِهَا وَثَالِثُهَا: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ كَانَ يَتَفَكَّرُ فِي تَأْوِيلِهِ إِنْ كَانَ مُجْمَلًا فَيُلْقِي الشَّيْطَانُ فِي جُمْلَتِهِ مَا لَمْ يُرِدْهُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يَنْسَخُ ذَلِكَ بِالْإِبْطَالِ وَيَحْكُمُ مَا أَرَادَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَدِلَّتِهِ وَآيَاتِهِ وَرَابِعُهَا: مَعْنَى الْآيَةِ (إِذَا تَمَنَّى) إِذَا أَرَادَ فِعْلًا مُقَرَّبًا إِلَى اللَّه تَعَالَى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي فِكْرِهِ مَا يُخَالِفُهُ فَيَرْجِعُ إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي ذَلِكَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الْأَعْرَافِ: 201] وَكَقَوْلِهِ: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الْأَعْرَافِ: 200] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْأُمْنِيَّةِ عَلَى تَمَنِّي الْقَلْبِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَا يَخْطُرُ بِبَالِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِتْنَةً لِلْكُفَّارِ وَذَلِكَ يُبْطِلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ، وَالْجَوَابُ: لَا يَبْعُدُ أَنَّهُ إِذَا قَوِيَ التَّمَنِّي اشْتَغَلَ الْخَاطِرُ بِهِ فَحَصَلَ السَّهْوُ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ بِسَبَبِهِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ فِتْنَةً لِلْكُفَّارِ فَهَذَا آخِرُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ المسألة.

المسألة الثَّالِثَةُ: يَرْجِعُ حَاصِلُ الْبَحْثِ إِلَى أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللَّه تَعَالَى وَإِنْ عَصَمَهُمْ عَنِ الْخَطَأِ مَعَ الْعِلْمِ فَلَمْ يَعْصِمْهُمْ مِنْ جَوَازِ السَّهْوِ وَوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ بَلْ حَالُهُمْ فِي جَوَازِ ذَلِكَ كَحَالِ سَائِرِ الْبَشَرِ فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا يُتَّبَعُوا إِلَّا فِيمَا يَفْعَلُونَهُ عَنْ عِلْمٍ فَذَلِكَ هُوَ الْمُحْكَمُ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ نَبِيًّا إِلَّا إِذَا تَمَنَّى كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى الْبَشَرِ مَلَكًا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ نَبِيًّا إِلَّا مِنْهُمْ، وَمَا أَرْسَلْنَا نَبِيًّا خَلَا عِنْدَ تِلَاوَتِهِ الْوَحْيَ مِنْ وسوسة الشيطان وأن يلقي في خاطره وما يُضَادُّ الْوَحْيَ وَيَشْغَلُهُ عَنْ حِفْظِهِ فَيُثَبِّتُ اللَّه النَّبِيَّ عَلَى الْوَحْيِ وَعَلَى حِفْظِهِ وَيُعْلِمُهُ صَوَابَ ذَلِكَ وَبُطْلَانَ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ، قَالَ وفيما تقدم من قوله: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ تَقْوِيَةٌ لِهَذَا التَّأْوِيلِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لِلْكَافِرِينَ أَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ لَكِنِّي مِنَ الْبَشَرِ لَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَلَمْ يُرْسِلِ اللَّه تَعَالَى مِثْلِي مَلَكًا بَلْ أَرْسَلَ رِجَالًا فَقَدْ وَسْوَسَ الشَّيْطَانُ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ السَّهْوُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، قُلْنَا إِذَا كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ أَعْظَمَ دَرَجَةً مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَلْزَمْ مِنِ اسْتِيلَائِهِمْ بِالْوَسْوَسَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ اسْتِيلَاؤُهُمْ بِالْوَسْوَسَةِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا شَرَحَ حَالَ هَذِهِ الْوَسْوَسَةِ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِبَحْثَيْنِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: كَيْفِيَّةُ إِزَالَتِهَا وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فَالْمُرَادُ إِزَالَتُهُ وَإِزَالَةُ تَأْثِيرِهِ فَهُوَ النَّسْخُ اللُّغَوِيُّ لَا النَّسْخُ الشَّرْعِيُّ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْأَحْكَامِ. أَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ فَإِذَا حُمِلَ التَّمَنِّي عَلَى الْقِرَاءَةِ فَالْمُرَادُ بِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَإِلَّا فَيُحْمَلُ عَلَى أَحْكَامِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ فِيهَا الْغَلَطُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَثَرَ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ شَرَحَ أَثَرَهَا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ أَوَّلًا ثُمَّ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ ثَانِيًا، أَمَّا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ فَهُوَ قَوْلُهُ: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً وَالْمُرَادُ بِهِ تَشْدِيدُ التَّبْعِيدِ لأن عند ما يَظْهَرُ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاشْتِبَاهُ فِي الْقُرْآنِ سَهْوًا يَلْزَمُهُمُ الْبَحْثُ عَنْ ذَلِكَ لِيُمَيِّزُوا السَّهْوَ مِنَ الْعَمْدِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ الْعَمْدَ صَوَابٌ وَالسَّهْوَ قَدْ لَا يَكُونُ صَوَابًا. أَمَّا قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ فَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ: فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَلِمَ خَصَّهُمْ بِذَلِكَ الْجَوَابِ: لِأَنَّهُمْ مَعَ كُفْرِهِمْ يَحْتَاجُونَ إِلَى ذَلِكَ التَّدَبُّرِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَقَدْ تَقَدَّمَ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى التَّدَبُّرِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَرَضُ الْقَلْبِ الْجَوَابُ: أَنَّهُ الشَّكُّ وَالشُّبْهَةُ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ كَمَا قَالَ: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَأَمَّا الْقَاسِيَةُ قُلُوبُهُمْ فَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الْمُصِرُّونَ عَلَى جَهْلِهِمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ يُرِيدُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَأَصْلُهُ وَإِنَّهُمْ، فَوَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ قَضَاءً عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ وَالشِّقَاقِ وَالْمُشَاقَّةِ وَالْمُعَادَاةِ وَالْمُبَاعَدَةِ سَوَاءٌ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَفِي الْكِنَايَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا عَائِدَةٌ إِلَى نَسْخِ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ، عَنِ الْكَلْبِيِّ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ الْحَقُّ أَيِ الْقُرْآنُ عَنْ مُقَاتِلٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّ تَمَكُّنَ الشَّيْطَانِ مِنْ ذَلِكَ الْإِلْقَاءِ هُوَ الْحَقُّ، أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا فَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَيَّ شَيْءٍ فَعَلَ فَقَدْ تَصَرَّفَ فِي مُلْكِهِ وَمِلْكِهِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا فَكَانَ حَقًّا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكِيمٌ فَتَكُونُ كُلُّ أَفْعَالِهِ صَوَابًا فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أَيْ تَخْضَعُ وَتَسْكُنُ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْمَقْضِيَّ كَائِنٌ، وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خلق له، وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى

[سورة الحج (22) : الآيات 58 إلى 62]

أَنْ يَتَأَوَّلُوا مَا يَتَشَابَهُ فِي الدِّينِ بِالتَّأْوِيلَاتِ الصَّحِيحَةِ وَيَطْلُبُوا مَا أَشْكَلَ مِنْهُ مِنَ الْمُجْمَلِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْأُصُولُ الْمُحْكَمَةُ حَتَّى لَا تَلْحَقَهُمْ حَيْرَةٌ وَلَا تَعْتَرِيَهُمْ شُبْهَةٌ وَقُرِئَ (لَهَادٍ الَّذِينَ آمَنُوا) بِالتَّنْوِينِ، وَلَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْكَافِرِينَ أَوَّلًا ثُمَّ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ ثَانِيًا عَادَ إِلَى شَرْحِ حَالِ الْكَافِرِينَ مَرَّةً أُخْرَى فَقَالَ: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أَيْ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ مِنَ الرَّسُولِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَعْصَارَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ لَا تَخْلُو مِمَّنْ هَذَا وَصْفُهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَيْ فَجْأَةً مِنْ دُونِ أَنْ يَشْعُرُوا ثُمَّ جَعَلَ السَّاعَةَ غَايَةً لِكُفْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ عِنْدَ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِلْجَاءِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْيَوْمِ الْعَقِيمِ/ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَوْمُ بَدْرٍ وَإِنَّمَا وُصِفَ يَوْمُ الْحَرْبِ بِالْعَقِيمِ لِوُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَوْلَادَ النِّسَاءِ يُقْتَلُونَ فِيهِ فَيَصِرْنَ كَأَنَّهُنَّ عُقُمٌ لَمْ يَلِدْنَ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُقَاتِلِينَ يُقَالُ لَهُمْ أَبْنَاءُ الْحَرْبِ فَإِذَا قُتِلُوا وُصِفَ يَوْمُ الْحَرْبِ بِالْعَقِيمِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ وَثَالِثُهَا: هُوَ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ يُقَالُ رِيحٌ عَقِيمٌ إِذَا لَمْ تُنْشِئْ مَطَرًا وَلَمْ تُلَقِّحْ شَجَرًا وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ فِي عِظَمِ أَمْرِهِ، وَذَلِكَ لِقِتَالِ الْمَلَائِكَةِ فِيهِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا وُصِفَ بِالْعَقِيمِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ فِيهِ خَيْرًا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَا لَيْلَ فِيهِ فَيَسْتَمِرُّ كَاسْتِمْرَارِ الْمَرْأَةِ عَلَى تَعَطُّلِ الْوِلَادَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ كُلَّ ذَاتِ حَمْلٍ تَضَعُ حَمْلَهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَكَيْفَ يَحْصُلُ الْحَمْلُ فِيهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ اللَّه تَعَالَى وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَكُونَ الْمُرَادُ يَوْمَ بَدْرٍ، لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ، فَإِنْ قِيلَ لَمَّا ذَكَرَ السَّاعَةَ. فَلَوْ حَمَلْتُمُ الْيَوْمَ الْعَقِيمَ عَلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَزِمَ التَّكْرَارُ قُلْنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ السَّاعَةَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْقِيَامَةِ وَالْيَوْمُ الْعَقِيمُ هُوَ نَفْسُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَعَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَهُ لَمْ يَكُنْ تَكْرَارًا لَأَنَّ فِي الْأَوَّلِ ذَكَرَ السَّاعَةَ، وَفِي الثَّانِي ذَكَرَ عَذَابَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسَّاعَةِ وَقْتَ مَوْتِ كُلِّ أَحَدٍ وَبِعَذَابِ يَوْمٍ عَقِيمٍ الْقِيَامَةَ. أَمَّا قَوْلُهُ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ فَمِنْ أَقْوَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَوْمَ الْعَقِيمَ هُوَ ذَلِكَ الْيَوْمُ وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا مَالِكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سِوَاهُ فَهُوَ بِخِلَافِ أَيَّامِ الدُّنْيَا الَّتِي مَلَّكَ اللَّه الْأُمُورَ غَيْرَهُ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمْ لَا حَاكِمَ سِوَاهُ وَذَلِكَ زَجْرٌ عَنْ مَعْصِيَتِهِ ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّهُ يُصَيِّرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَالْكَافِرِينَ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَصْفُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَإِنْ قِيلَ التَّنْوِينُ فِي (يَوْمَئِذٍ) عَنْ أَيِّ جُمْلَةٍ يَنُوبُ؟ قُلْنَا تَقْدِيرُهُ: الْمُلْكُ يَوْمَ يُؤْمِنُونَ أَوْ يَوْمَ تَزُولُ مِرْيَتُهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ. [سورة الحج (22) : الآيات 58 الى 62] وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْمُلْكَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وَيُدْخِلُ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّاتِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ وَعْدِهِ الْكَرِيمِ لِلْمُهَاجِرِينَ، وَأَفْرَدَهُمْ بِالذِّكْرِ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِمْ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ طَالِبًا لِنُصْرَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقَرُّبًا إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ الْمُرَادُ مَنْ جَاهَدَ فَخَرَجَ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِي سَرَايَاهُ لِنُصْرَةِ الدِّينِ وَلِذَلِكَ ذَكَرَ الْقَتْلَ بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ قَوْمٌ الْمُرَادُ قَوْمٌ مَخْصُوصُونَ، رَوَى مُجَاهِدٌ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي طَوَائِفَ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِلْهِجْرَةِ فَتَبِعَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَقَاتَلُوهُمْ، وَظَاهِرُ الْكَلَامِ لِلْعُمُومِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصَفَهُمْ بِرِزْقِهِمْ وَمَسْكَنِهِمْ، أَمَّا الرِّزْقُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الرِّزْقَ الْحَسَنَ هُوَ نَعِيمُ الْجَنَّةِ، وَقَالَ الْأَصَمُّ إِنَّهُ الْعِلْمُ وَالْفَهْمُ كَقَوْلِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً [هُودٍ: 88] فَهَذَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ رِزْقًا حَسَنًا حَلَالًا وَهُوَ الْغَنِيمَةُ وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ ضَعِيفَانِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ جَزَاءً عَلَى هِجْرَتِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّه بَعْدَ الْقَتْلِ وَالْمَوْتِ وَبَعْدَهُمَا لَا يَكُونُ إِلَّا نَعِيمُ الْجَنَّةِ. المسألة الثَّانِيَةُ: لَا بُدَّ مِنْ شَرْطِ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ فِي كُلِّ وَعْدٍ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ هَذَا الْمُهَاجِرَ لَوِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً لَكَانَ حُكْمُهُ فِي الْمَشِيئَةِ عَلَى قَوْلِنَا، وَلَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْجَنَّةِ قَطْعًا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ. فَإِنْ قِيلَ فَمَا فَضْلُهُ عَلَى سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْوَعْدِ إِنْ كَانَ كَمَا قُلْتُمْ؟ قُلْنَا فَضْلُهُمْ يَظْهَرُ لِأَنَّ ثَوَابَهُمْ أَعْظَمُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ [الْحَدِيدِ: 10] فَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ هَاجَرَ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَارَقَ دِيَارَهُ وَأَهْلَهُ لِتَقْوِيَتِهِ وَنُصْرَةِ دِينِهِ مَعَ شِدَّةِ قُوَّةِ الْكُفَّارِ وَظُهُورِ صَوْلَتِهِمْ صَارَ فِعْلُهُ كَالسَّبَبِ لِقُوَّةِ الدِّينِ، وَعَلَى هَذَا الوجه عَظُمَ مَحَلُّ الْأَنْصَارِ حَتَّى صَارَ ذِكْرُهُمْ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ تَالِيًا لِذِكْرِ الْمُهَاجِرِينَ لَمَّا آوَوْهُ وَنَصَرُوهُ. المسألة الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ كُلَّ الرِّزْقِ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: التَّفَاوُتُ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُخْتَصٌّ بِأَنْ يَرْزُقَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الرِّزْقِ، وَغَيْرُهُ إِنَّمَا يَرْزُقُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الرِّزْقِ مِنْ جِهَةِ اللَّه تَعَالَى وَثَالِثُهَا: أَنَّ غَيْرَهُ يَنْقُلُ الرِّزْقَ مِنْ يَدِهِ إِلَى يَدِ غَيْرِهِ لَا أَنَّهُ يَفْعَلُ/ نَفْسَ الرِّزْقِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ غَيْرَهُ إِذَا رَزَقَ فَإِنَّمَا يَرْزُقُ لِانْتِفَاعِهِ بِهِ، إِمَّا لِأَجْلِ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْوَاجِبِ، وَإِمَّا لِأَجْلِ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ حَمْدًا أَوْ ثَنَاءً، وَإِمَّا لِأَجْلِ دَفْعِ الرِّقَّةِ الْجِنْسِيَّةِ، فَكَانَ الْوَاحِدُ مِنَّا إِذَا رَزَقَ فَقَدْ طَلَبَ الْعِوَضَ، أَمَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ فَإِنَّ كَمَالَهُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لَهُ فَلَا يَسْتَفِيدُ مِنْ شَيْءٍ كَمَالًا زَائِدًا فَكَانَ الرِّزْقُ الصَّادِرُ مِنْهُ لِمَحْضِ الْإِحْسَانِ وَخَامِسُهَا: أَنَّ غَيْرَهُ إِنَّمَا يَرْزُقُ لَوْ حَصَلَ فِي قَلْبِهِ إِرَادَةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَتِلْكَ الْإِرَادَةُ مِنَ اللَّه، فَالرَّازِقُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّه تَعَالَى وَسَادِسُهَا: أَنَّ الْمَرْزُوقَ يَكُونُ تَحْتَ مِنَّةِ الرَّازِقِ وَمِنَّةُ اللَّه تَعَالَى أَسْهَلُ تَحَمُّلًا مِنْ مِنَّةِ الْغَيْرِ، فَكَانَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وَسَابِعُهَا: أَنَّ الْغَيْرَ إِذَا رُزِقَ فَلَوْلَا أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَعْطَى ذَلِكَ الْإِنْسَانَ أَنْوَاعَ الْحَوَاسِّ وَأَعْطَاهُ السَّلَامَةَ وَالصِّحَّةَ وَالْقُدْرَةَ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ الرِّزْقِ لَمَا أَمْكَنَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَرِزْقُ الْغَيْرِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِرِزْقِ اللَّه وَمَلْحُوقًا بِهِ حَتَّى يَحْصُلَ الِانْتِفَاعُ. وَأَمَّا رِزْقُ اللَّه تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى رِزْقِ غَيْرِهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَادِرٌ وَثَانِيهَا: أَنَّ غَيْرَ اللَّه يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَرْزُقَ وَيَمْلِكَ، وَلَوْلَا كَوْنُهُ قَادِرًا فَاعِلًا لَمَا صَحَّ ذَلِكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الرِّزْقَ لَا يَكُونُ إِلَّا حَلَالًا لِأَنَّ قَوْلَهُ

خَيْرُ الرَّازِقِينَ دَلَالَةٌ عَلَى كَوْنِهِمْ مَمْدُوحِينَ وَالْجَوَابُ: لَا نِزَاعَ فِي كَوْنِ الْعَبْدِ قَادِرًا، فَإِنَّ عِنْدَنَا الْقُدْرَةَ مَعَ الدَّاعِي مُؤَثِّرَةٌ فِي الْفِعْلِ بِمَعْنَى الِاسْتِلْزَامِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَبَحْثٌ لَفْظِيٌّ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ. المسألة الْخَامِسَةُ: لَمَّا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا فَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْوَعْدِ، ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ حَالَ الْمَقْتُولِ فِي الْجِهَادِ وَالْمَيِّتِ عَلَى فِرَاشِهِ سَوَاءٌ، وَهَذَا إِنْ أَخَذُوهُ مِنَ الظَّاهِرِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي الْوَعْدِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلٍ وَلَا تَسْوِيَةٍ، كَمَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَإِنْ أَخَذُوهُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ فَهُوَ حَقٌّ، فَإِنَّهُ رَوَى أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمَقْتُولُ فِي سَبِيلِ اللَّه تَعَالَى، وَالْمُتَوَفَّى فِي سَبِيلِ اللَّه بِغَيْرِ قَتْلٍ، هُمَا فِي الْخَيْرِ وَالْأَجْرِ شَرِيكَانِ» وَلَفْظُ الشَّرِكَةِ مُشْعِرٌ بِالتَّسْوِيَةِ، وَإِلَّا فَلَا يَبْقَى لِتَخْصِيصِهِمَا بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ. وَرُوِيَ أَيْضًا: أَنَّ طَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّه هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا قَدْ عَلِمْنَا مَا أَعْطَاهُمُ اللَّه مِنَ الْخَيْرِ، وَنَحْنُ نُجَاهِدُ مَعَكَ كَمَا جَاهَدُوا، فَمَا لَنَا إِنْ مِتْنَا مَعَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى التَّسْوِيَةِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا مِقْدَارَ الْأَجْرِ، فَلَوْلَا التَّسْوِيَةُ لَمْ يَكُنِ الْجَوَابُ مُفِيدًا. أَمَّا الْمَسْكَنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قُرِئَ مُدْخَلًا بِضَمِّ الْمِيمِ وَهُوَ مِنَ الْإِدْخَالِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ فَالْمُرَادُ الْمَوْضِعُ. المسألة الثَّانِيَةُ: قِيلَ فِي الْمُدْخَلِ الَّذِي يَرْضَوْنَهُ إِنَّهُ خَيْمَةٌ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ لَا فَصْمَ فِيهَا وَلَا وَصْمَ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مِصْرَاعٍ، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ هُوَ أَنْ يُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ مَكْرُوهٍ تَقَدَّمَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: إِنَّمَا قَالَ يَرْضَوْنَهُ، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ فِي الْجَنَّةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ/ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَيَرْضَوْنَهُ وَلَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها [التَّوْبَةِ: 24] وَقَوْلُهُ: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: 21] وَقَوْلُهُ: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً [الْفَجْرِ: 28] وَقَوْلُهُ: وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَةِ: 72] . المسألة الثَّالِثَةُ: إِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ وَمَا تَعَلُّقُهُ بِمَا تَقَدَّمَ؟ قُلْنَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ فَيَفْعَلُهُ بِهِمْ وَيَزِيدُهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَرْضَوْنَهُ فَيُعْطِيهِمْ ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الْحَلِيمُ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ لِحِلْمِهِ لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ فِيمَنْ يُقْدِمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، بَلْ يُمْهِلُ لِيَقَعَ مِنْهُ التَّوْبَةُ فَيَسْتَحِقَّ مِنْهُ الْجَنَّةَ. أَمَّا قَوْلُهُ: ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: ذلِكَ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ أَيِ الْأَمْرُ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ إِنْجَازِ الْوَعْدِ لِلْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا. المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ: قَاتَلَ مَنْ كَانَ يُقَاتِلُهُ، ثُمَّ كَانَ الْمُقَاتِلُ مَبْغِيًّا عَلَيْهِ بِأَنِ اضْطُرَّ إِلَى الْهِجْرَةِ وَمُفَارَقَةِ الْوَطَنِ وَابْتُدِئَ بِالْقِتَالِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَقُوا قَوْمًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ يَكْرَهُونَ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَاحْمِلُوا عَلَيْهِمْ، فَنَاشَدَهُمُ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَكُفُّوا عَنْ قِتَالِهِمْ لِحُرْمَةِ الشَّهْرِ، فَأَبَوْا وَقَاتَلُوهُمْ. فَذَلِكَ بَغْيُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَثَبَتَ الْمُسْلِمُونَ لَهُمْ فَنُصِرُوا عَلَيْهِمْ. فَوَقَعَ فِي أَنْفُسِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْقِتَالِ فِي

الشَّهْرِ الْحَرَامِ مَا وَقَعَ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: وَعَفَا عَنْهُمْ وَغَفَرَ لَهُمْ وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَيُّ تَعَلُّقٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا؟ الْجَوَابُ: كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ مَعَ إِكْرَامِي لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِهَذَا الْوَعْدِ لَا أَدَعُ نُصْرَتَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْهِمْ. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى الْمُهَاجِرِينَ خَاصَّةً أَوْ إِلَيْهِمْ وَإِلَى الْمُؤْمِنِينَ؟ الْجَوَابُ: الْأَقْرَبُ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ فَإِنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا، وَبَيَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ وَبَعْدَ الْقَتْلِ وَالْمَوْتِ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْمُرَادُ بِالْعُقُوبَةِ الْمَذْكُورَةِ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ مَا فَعَلَهُ مُشْرِكُو مَكَّةَ مَعَ الْمُهَاجِرِينَ بِمَكَّةَ مِنْ طَلَبِ آثَارِهِمْ، وَرَدِّ بَعْضِهِمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ عَاقَبَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ بِمِثْلِ مَا فَعَلُوا فَسَيَنْصُرُهُ عَلَيْهِمْ، وَهَذِهِ النُّصْرَةُ الْمَذْكُورَةُ تُقَوِّي تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى مُجَاهَدَةِ الْكُفَّارِ لَا عَلَى الْقِصَاصِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ النَّصِّ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِذَلِكَ وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْقِصَاصِ وَالْجِرَاحَاتِ، وَهِيَ آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ عَنِ الضَّحَّاكِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لِمَ سَمَّى ابْتِدَاءَ فِعْلِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ؟ الْجَوَابُ: أَطْلَقَ اسْمَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْأَوَّلِ/ لِلتَّعَلُّقِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] ويُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ [النِّسَاءِ: 142] . السُّؤَالُ الْخَامِسُ: أَيُّ تَعَلُّقٍ لِقَوْلِهِ: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ بِمَا تَقَدَّمَ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى نَدَبَ الْمُعَاقِبَ إِلَى الْعَفْوِ عَنِ الْجَانِي بِقَوْلِهِ: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشُّورَى: 40] وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْبَقَرَةِ: 237] ، وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشُّورَى: 43] فَلَمَّا لَمْ يَأْتِ بِهَذَا الْمَنْدُوبِ فَهُوَ نَوْعُ إِسَاءَةٍ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: إِنِّي قَدْ عَفَوْتُ عَنْ هَذِهِ الْإِسَاءَةِ وَغَفَرْتُهَا، فَإِنِّي أَنَا الَّذِي أَذِنْتُ لَكَ فِيهِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَإِنْ ضَمِنَ لَهُ النَّصْرَ عَلَى الْبَاغِي، لَكِنَّهُ عَرَّضَ مَعَ ذَلِكَ بِمَا كَانَ أَوْلَى بِهِ مِنَ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ فَلَوَّحَ بِذِكْرِ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ دَلَّ بِذِكْرِ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْعُقُوبَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالْعَفْوِ إِلَّا الْقَادِرُ عَلَى ضِدِّهِ. السُّؤَالُ السَّادِسُ: أَيُّ تَعَلُّقٍ لِقَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ بِمَا قَبْلَهُ؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ذَلِكَ أَيْ ذَلِكَ النَّصْرُ بِسَبَبِ أَنَّهُ قَادِرٌ وَمِنْ آيَاتِ قُدْرَتِهِ الْبَالِغَةِ كَوْنُهُ خَالِقًا لِلَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمُتَصَرِّفًا فِيهِمَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَالِمًا بِمَا يَجْرِي فِيهِمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَادِرًا عَلَى النَّصْرِ مُصِيبًا فِيهِ وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَعَ ذَلِكَ النَّصْرِ يَنْعَمُ فِي الدُّنْيَا بِمَا يَفْعَلُهُ مِنْ تَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَوُلُوجِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ. السُّؤَالُ السَّابِعُ: مَا مَعْنَى إِيلَاجِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ وَإِيلَاجِ النَّهَارِ فِي اللَّيْلِ الْجَوَابُ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْصُلُ ظُلْمَةُ هَذَا فِي مَكَانِ ضِيَاءِ ذَلِكَ بِغَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ، وَضِيَاءُ ذَلِكَ فِي مَكَانِ ظُلْمَةِ هَذَا بِطُلُوعِهَا، كَمَا يُضِيءُ الْبَيْتُ بِالسِّرَاجِ وَيُظْلِمُ بِفَقْدِهِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَزِيدُ فِي أَحَدِهِمَا مَا يَنْقُصُ مِنَ الْآخَرِ مِنَ السَّاعَاتِ. السُّؤَالُ الثَّامِنُ: أَيُّ تَعَلُّقٍ لِقَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ بِمَا تَقَدَّمَ؟ الْجَوَابُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ كَمَا يَقْدِرُ عَلَى مَا

[سورة الحج (22) : الآيات 63 إلى 66]

لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَكَذَلِكَ يُدْرِكُ الْمَسْمُوعَ وَالْمُبْصَرَ، وَلَا يَجُوزُ الْمَنْعُ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ كَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ فِي الْمَسْمُوعِ وَالْمُبْصَرِ. السُّؤَالُ التَّاسِعُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَيُّ تَعَلُّقٍ لَهُ بِمَا تَقَدَّمَ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ إِنَّمَا حَصَلَ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّه هُوَ الْحَقُّ أَيْ هُوَ الْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ لِذَاتِهِ الَّذِي يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ وَالزَّوَالُ فَلَا جَرَمَ أَتَى بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ثَانِيهِمَا: أَنَّ مَا يُفْعَلُ مِنْ عِبَادَتِهِ هُوَ الْحَقُّ وَمَا يُفْعَلُ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ فَهُوَ الْبَاطِلُ كَمَا قَالَ: لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ [غَافِرٍ: 43] . السُّؤَالُ الْعَاشِرُ: أَيُّ تَعَلُّقٍ لِقَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ بِمَا تَقَدَّمَ؟ وَالْجَوَابُ: مَعْنَى الْعَلِيِّ الْقَاهِرُ الْمُقْتَدِرُ الَّذِي لَا يُغْلَبُ فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى الضُّرِّ وَالنَّفْعِ دُونَ سَائِرِ مَنْ يُعْبَدُ مُرَغِّبًا بِذَلِكَ فِي عِبَادَتِهِ زَاجِرًا عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ، فَأَمَّا الْكَبِيرُ فَهُوَ الْعَظِيمُ فِي قُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَذَلِكَ أَيْضًا يُفِيدُ كَمَالَ الْقُدْرَةِ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ فَإِنَّهُ وَجَدَ مُخْبِرَهُ كَمَا أُخْبِرَ فَكَانَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ. المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: مَنْ حَرَقَ حَرَقْنَاهُ، وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: بَلْ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى جَوَّزَ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يُعَاقِبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ وَوَعَدَهُ النَّصْرَ عَلَيْهِ. المسألة الْخَامِسَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ تدعون بالتاء هاهنا وفي لقمان وفي المؤمنين وَفِي الْعَنْكَبُوتِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو كُلَّهَا بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَرِ، وَالْعَرَبُ قَدْ تَنْصَرِفُ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْإِخْبَارِ وَمِنَ الْإِخْبَارِ إِلَى الخطاب. [سورة الحج (22) : الآيات 63 الى 66] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا دَلَّ عَلَى قُدْرَتِهِ مِنْ قَبْلُ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ وُلُوجِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ وَنَبَّهَ بِهِ عَلَى نِعَمِهِ، أَتْبَعَهُ بِأَنْوَاعٍ أُخَرَ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَنِعْمَتِهِ وَهِيَ سِتَّةٌ. أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ وُجُوهًا ثَلَاثَةً: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الرُّؤْيَةُ الْحَقِيقِيَّةُ، قَالُوا لِأَنَّ الْمَاءَ النَّازِلَ مِنَ السَّمَاءِ يُرَى بِالْعَيْنِ وَاخْضِرَارُ النَّبَاتِ عَلَى الْأَرْضِ مَرْئِيٌّ، وَإِذَا أُمْكِنَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى

حَقِيقَتِهِ فَهُوَ أَوْلَى وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَلَمْ تُخْبَرْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ/ وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ أَلَمْ تَعْلَمْ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمَاءَ وَإِنْ كَانَ مَرْئِيًّا إِلَّا أَنَّ كَوْنَ اللَّه مُنْزِلًا لَهُ مِنَ السَّمَاءِ غَيْرُ مَرْئِيٍّ إِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْعِلْمِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ هُوَ الْعِلْمُ، لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا الْعِلْمُ كَانَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تَحْصُلْ. المسألة الثَّانِيَةُ: قُرِئَ مُخْضَرَّةً كَمَبْقَلَةٍ وَمَسْبَعَةٍ أَيْ ذَاتَ خُضْرَةٍ، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ: فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ وَلَمْ يَقُلْ فَأَصْبَحَتْ؟ الْجَوَابُ: لِنُكْتَةٍ فِيهِ وَهِيَ إِفَادَةُ بَقَاءِ أَثَرِ الْمَطَرِ زَمَانًا بَعْدَ زَمَانٍ، كَمَا تَقُولُ أنعم على فلان عام كذا فأروح وأغد شَاكِرًا لَهُ، وَلَوْ قُلْتَ فَرِحْتُ وَغَدَوْتُ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ الْمَوْقِعَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ رُفِعَ وَلَمْ يُنْصَبْ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ؟ وَالْجَوَابُ: لَوْ نُصِبَ لَأَعْطَى عَكْسَ مَا هُوَ الْغَرَضُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ إِثْبَاتُ الِاخْضِرَارِ فَيَنْقَلِبُ بِالنَّصْبِ إِلَى نَفْيِ الِاخْضِرَارِ مِثَالُهُ أَنْ تَقُولَ لِصَاحِبِكَ أَلَمْ تَرَ أَنِّي أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ فَتَشْكُرُ. وَإِنْ نَصَبْتَهُ فَأَنْتَ نَافٍ لِشُكْرِهِ شَاكٍ لِتَفْرِيطِهِ، وَإِنْ رَفَعْتَهُ فَأَنْتَ مُثْبِتٌ لِلشُّكْرِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ أَوْرَدَ تَعَالَى ذَلِكَ دَلَالَةً عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِعَادَةِ، كَمَا قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ. الْجَوَابُ: يُحْتَمَلُ ذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَبَّهَ بِهِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَوَاسِعِ نِعَمِهِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا تَعَلُّقُ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ بِمَا تَقَدَّمَ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَرَادَ أَنَّهُ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ وَلِرَحْمَتِهِ فَعَلَ ذَلِكَ حَتَّى عَظُمَ انْتِفَاعُهُمْ بِهِ، لِأَنَّ الْأَرْضَ إِذَا أَصْبَحَتْ مُخْضَرَّةً وَالسَّمَاءَ إِذَا أَمْطَرَتْ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِعَيْشِ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا أَجْمَعَ. وَمَعْنَى خَبِيرٌ أَنَّهُ عَالِمٌ بِمَقَادِيرِ مَصَالِحِهِمْ فَيَفْعَلُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ مِنْ دُونِ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَطِيفٌ بِأَرْزَاقِ عِبَادِهِ خَبِيرٌ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْقُنُوطِ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ لَطِيفٌ فِي أَفْعَالِهِ خَبِيرٌ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ وَرَابِعُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: لَطِيفٌ بِاسْتِخْرَاجِ النَّبْتِ خَبِيرٌ بِكَيْفِيَّةِ خَلْقِهِ. الدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُنْقَادٌ لَهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَعَنْ حَمْدِ الْحَامِدِينَ أَيْضًا لِأَنَّهُ كَامِلٌ لِذَاتِهِ، وَالْكَامِلُ لِذَاتِهِ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا خَلَقَ الْحَيَوَانَ فَلَا بُدَّ فِي الْحِكْمَةِ مِنْ قَطْرٍ وَنَبَاتٍ فَخَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ رَحْمَةً لِلْحَيَوَانَاتِ وَإِنْعَامًا عَلَيْهِمْ، لَا لِحَاجَةٍ بِهِ إِلَى ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ إِنْعَامُهُ خَالِيًا عَنْ غَرَضٍ عَائِدٍ إِلَيْهِ فَكَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ. فَكَأَنَّهُ قَالَ إِنَّهُ لِكَوْنِهِ غَنِيًّا لَمْ يَفْعَلْ مَا فَعَلَهُ إِلَّا لِلْإِحْسَانِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَمِيدًا. فَلِهَذَا قَالَ: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. الدَّلَالَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ أَيْ ذَلَّلَ لَكُمْ مَا فِيهَا فَلَا أَصْلَبَ مِنَ الْحَجَرِ وَلَا أَحَدَّ مِنَ الْحَدِيدِ وَلَا أَكْثَرَ هَيْبَةً مِنَ النَّارِ، وَقَدْ سَخَّرَهَا لَكُمْ وَسَخَّرَ الْحَيَوَانَاتِ أَيْضًا حَتَّى يُنْتَفَعَ بِهَا مِنْ حَيْثُ الْأَكْلِ وَالرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ عَلَيْهَا وَالِانْتِفَاعِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا، فَلَوْلَا أَنْ سَخَّرَ اللَّه/ تَعَالَى الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ مَعَ قُوَّتِهِمَا حَتَّى يُذَلِّلَهُمَا الضَّعِيفُ مِنَ النَّاسِ وَيَتَمَكَّنَ مِنْهُمَا لَمَا كَانَ ذَلِكَ نِعْمَةً. الدَّلَالَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ، وَكَيْفِيَّةُ تَسْخِيرِهِ الْفُلْكَ هُوَ مِنْ حَيْثُ سَخَّرَ الْمَاءَ وَالرِّيَاحَ لِجَرْيِهَا، فَلَوْلَا صِفَتُهُمَا عَلَى مَا هُمَا

[سورة الحج (22) : الآيات 67 إلى 69]

عَلَيْهِ لَمَا جَرَتْ بَلْ كَانَتْ تَغُوصُ أَوْ تَقِفُ أَوْ تَعْطَبُ. فَنَبَّهَ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ بِذَلِكَ، وَبِأَنْ خَلَقَ مَا تُعْمَلُ مِنْهُ السُّفُنُ، وَبِأَنْ بَيَّنَ كَيْفَ تَعْمَلُ، وَإِنَّمَا قَالَ بِأَمْرِهِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَانَ الْمُجْرِيَ لَهَا بِالرِّيَاحِ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَى أَمْرِهِ تَوَسُّعًا، لِأَنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ تَعْظِيمَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا يُفِيدُ لَوْ أَضَافَهُ إلى فعله بِنَاءً عَلَى عَادَةِ الْمُلُوكِ فِي مِثْلِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ. الدَّلَالَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَاعْلَمْ أَنَّ النِّعَمَ الْمُتَقَدِّمَةَ لَا تَكْمُلُ إِلَّا بِهَذِهِ لِأَنَّ السَّمَاءَ مَسْكَنُ الْمَلَائِكَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صُلْبًا. وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثَقِيلًا، وما كان كذلك فلا بد مِنَ الْهُوِيِّ لَوْلَا مَانِعٌ يَمْنَعُ مِنْهُ، وَهَذِهِ الحجة مَبْنِيَّةٌ عَلَى ظَاهِرِ الْأَوْهَامِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَقَعَ قَالَ الْكُوفِيُّونَ: كَيْ لَا تَقَعَ، وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَقَعَ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ كَلَامِيَّةٍ وَهِيَ أَنَّ الْإِرَادَاتِ وَالْكَرَاهَاتِ هَلْ تَتَعَلَّقُ بِالْعَدَمِ؟ فَمَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ صَارَ إِلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَمْسَكَهَا لِكَيْ لَا تَقَعَ فَتَبْطُلَ النِّعَمُ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُنْعِمَ بِهَذِهِ النِّعَمِ الْجَامِعَةِ لِمَنَافِعِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ قَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الإحسان والإنعام، فهو إذن رؤوف رَحِيمٌ. الدَّلَالَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ سَخَّرَ لَهُ هَذِهِ الْأُمُورَ، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهَا فَهُوَ الَّذِي أَحْيَاهُ فَنَبَّهَ بِالْإِحْيَاءِ الْأَوَّلِ عَلَى إِنْعَامِ الدُّنْيَا عَلَيْنَا بِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ. وَنَبَّهَ بِالْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ الثَّانِي عَلَى نِعَمِ الدِّينِ عَلَيْنَا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الدُّنْيَا بِسَائِرِ أَحْوَالِهَا لِلْآخِرَةِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلنِّعَمِ عَلَى هَذَا الوجه مَعْنًى. يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْلَا أَمْرُ الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لِلزِّرَاعَاتِ وَتَكَلُّفِهَا وَلَا لِرُكُوبِ الْحَيَوَانَاتِ وَذَبْحِهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَعْنًى، بَلْ كَانَ تَعَالَى يَخْلُقُهُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ الزَّرْعِ وَالسَّقْيِ، وَإِنَّمَا أَجْرَى اللَّه الْعَادَةَ بِذَلِكَ لِيُعْتَبَرَ بِهِ فِي بَابِ الدِّينِ وَلَمَّا فَصَلَ تَعَالَى هَذِهِ النِّعَمَ قَالَ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ وَهَذَا كَمَا قَدْ يُعَدِّدُ الْمَرْءُ نِعَمَهُ عَلَى وَلَدِهِ، ثُمَّ يَقُولُ إِنَّ الْوَلَدَ لَكَفُورٌ لِنِعَمِ الْوَالِدِ زَجْرًا لَهُ عَنِ الْكُفْرَانِ وَبَعْثًا لَهُ عَلَى الشُّكْرِ، فَلِذَلِكَ أَوْرَدَ تَعَالَى ذَلِكَ فِي الْكُفَّارِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ دَفَعُوا هَذِهِ النِّعَمَ وَكَفَرُوا بِهَا وَجَهِلُوا خَالِقَهَا مَعَ وُضُوحِ أَمْرِهَا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سَبَأٍ: 13] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا الْإِنْسَانُ هَاهُنَا هُوَ الْكَافِرُ، وَقَالَ أَيْضًا هُوَ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ وَأَبُو جَهْلٍ وَالْعَاصِ وَأُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَالْأَوْلَى تَعْمِيمُهُ في كل المنكرين. [سورة الحج (22) : الآيات 67 الى 69] لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ نِعَمِهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ رؤوف رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَكْفُرُ وَلَا يَشْكُرُ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ نِعَمِهِ بِمَا كَلَّفَ فَقَالَ: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: إِنَّمَا حَذَفَ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: لِكُلِّ أُمَّةٍ لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِهَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ فَلَا جَرَمَ حَذَفَ العاطف.

[سورة الحج (22) : الآيات 70 إلى 72]

المسألة الثَّانِيَةُ: فِي الْمَنْسَكِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِيدً [ا] يَذْبَحُونَ فِيهِ وَثَانِيهَا: قربانا ولفظ المنسك مختص بالذبائح عن مجاهدو ثالثها: مَأْلَفًا يَأْلَفُونَهُ إِمَّا مَكَانًا مُعَيَّنًا أَوْ زَمَانًا مُعَيَّنًا لِأَدَاءِ الطَّاعَاتِ وَرَابِعُهَا: الْمَنْسَكُ هُوَ الشَّرِيعَةُ وَالْمِنْهَاجُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ وَاخْتِيَارُ الْقَفَّالِ وَهُوَ الْأَقْرَبُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [الْمَائِدَةِ: 48] وَلِأَنَّ الْمَنْسَكَ مَأْخُوذٌ مِنَ النُّسُكِ وَهُوَ الْعِبَادَةُ، وَإِذَا وَقَعَ الِاسْمُ عَلَى كُلِّ عِبَادَةٍ فَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ. فَإِنْ قِيلَ هَلَّا حَمَلْتُمُوهُ عَلَى الذَّبْحِ، لِأَنَّ الْمَنْسَكَ فِي الْعُرْفِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا الذَّبْحُ؟ وَهَلَّا حَمَلْتُمُوهُ عَلَى مَوْضِعِ الْعِبَادَةِ أَوْ عَلَى وَقْتِهَا؟ الْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَنْسَكَ فِي الْعُرْفِ مَخْصُوصٌ بِالذَّبْحِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ سَائِرَ مَا يُفْعَلُ فِي الْحَجِّ يُوصَفُ بِأَنَّهُ مَنَاسِكُ وَلِأَجْلِهِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: هُمْ ناسِكُوهُ أَلْيَقُ بِالْعِبَادَةِ مِنْهُ بِالْوَقْتِ وَالْمَكَانِ. المسألة الثَّالِثَةُ: زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: هُمْ ناسِكُوهُ مَنْ كَانَ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَمَسِّكًا بِشَرْعٍ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدَ كُلَّ مَنْ تَعَبَّدَ مِنَ الْأُمَمِ سَوَاءٌ بَقِيَتْ آثَارُهُمْ أَوْ لَمْ تَبْقَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: هُمْ ناسِكُوهُ كَالْوَصْفِ لِلْأُمَمِ وَإِنْ لَمْ يَعْبُدُوا فِي الْحَالِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ فقرىء فَلَا يَنْزِعُنَّكَ أَيِ اثْبُتْ فِي دِينِكَ ثَبَاتًا لَا يَطْمَعُونَ أَنْ يَخْدَعُوكَ لِيُزِيلُوكَ عَنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَلا يُنازِعُنَّكَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ: أَنَّهُ نُهِيَ لَهُمْ عَنْ مُنَازَعَتِهِمْ، كَمَا تَقُولُ لَا يُضَارِبَنَّكَ فُلَانٌ أَيْ لَا تضاربا وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعَكَ وَتَرْكَ مُخَالَفَتِكَ، وَقَدِ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ الْآنَ عَلَى شَرْعِكَ وَعَلَى أَنَّهُ نَاسِخٌ لِكُلِّ/ مَا عَدَاهُ. فَكَأَنَّهُ تَعَالَى نَهَى كُلَّ أُمَّةٍ بَقِيَتْ مِنْهَا بَقِيَّةٌ أَنْ تَسْتَمِرَّ عَلَى تِلْكَ الْعَادَةِ، وَأَلْزَمَهَا أَنْ تَتَحَوَّلَ إِلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِذَلِكَ قَالَ: وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أَيْ لَا تَخُصَّ بِالدُّعَاءِ أُمَّةً دُونَ أُمَّةٍ فَكُلُّهُمْ أُمَّتُكَ فَادْعُهُمْ إِلَى شَرِيعَتِكَ فَإِنَّكَ عَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ، وَالْهُدَى يَحْتَمِلُ نَفْسَ الدِّينِ وَيَحْتَمِلُ أَدِلَّةَ الدِّينِ وَهُوَ أَوْلَى. كَأَنَّهُ قَالَ ادْعُهُمْ إِلَى هَذَا الدِّينِ فَإِنَّكَ مِنْ حَيْثُ الدَّلَالَةِ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاضِحَةٍ وَلِهَذَا قَالَ: وَإِنْ جادَلُوكَ وَالْمَعْنَى فَإِنْ عَدَلُوا عَنِ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْأَدِلَّةِ إِلَى طَرِيقَةِ الْمِرَاءِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْعَادَةِ فَقَدْ بَيَّنْتَ وَأَظْهَرْتَ مَا يَلْزَمُكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ إِيضَاحِ الْأَدِلَّةِ إِلَّا هَذَا الْجِنْسُ الَّذِي يَجْرِي مَجْرَى الْوَعِيدِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ حُكْمِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّذِي يَتَرَدَّدُ بَيْنَ جَنَّةٍ وَثَوَابٍ لِمَنْ قَبِلَ، وَبَيْنَ نَارٍ وَعِقَابٍ لِمَنْ رَدَّ وَأَنْكَرَ. فَقَالَ: اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَتَعْرِفُونَ حينئذ الحق من الباطل واللَّه أعلم. [سورة الحج (22) : الآيات 70 الى 72] أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ مِنْ قَبْلُ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الحج: 69] أَتْبَعَهُ بِمَا بِهِ يُعْلَمُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ

عَالِمٌ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَيَقَعُ الْحُكْمُ مِنْهُ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ لَا بِالْجَوْرِ فَقَالَ لِرَسُولِهِ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ هُوَ عَلَى لَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ لَكِنَّ مَعْنَاهُ تَقْوِيَةُ قَلْبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْوَعْدُ لَهُ وَإِيعَادُ الْكَافِرِينَ بِأَنَّ كُلَّ فِعْلِهِمْ مَحْفُوظٌ عِنْدَ اللَّه لَا يَضِلُّ عَنْهُ وَلَا يَنْسَى. المسألة الثَّانِيَةُ: الْخِطَابُ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ سَائِرُ الْعِبَادِ وَلِأَنَّ الرِّسَالَةَ لَا تَثْبُتُ/ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ إِذْ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ الْكَاذِبُ بِالصَّادِقِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ إِظْهَارُ الْمُعْجِزِ دَلِيلًا عَلَى الصِّدْقِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ لَا يَكُونَ الرَّسُولُ عَالِمًا بِذَلِكَ. فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا مَعَ الْغَيْرِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّ مَعْنَى الْكِتَابِ الْحِفْظُ وَالضَّبْطُ وَالشَّدُّ يُقَالُ كَتَبْتُ الْمَزَادَةَ أَكْتُبُهَا إِذَا خَرَزْتُهَا فَحَفِظْتُ بِذَلِكَ مَا فِيهَا، وَمَعْنَاهُ وَمَعْنَى الْكِتَابِ بَيْنَ النَّاسِ حِفْظُ مَا يَتَعَامَلُونَ بِهِ، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ أَنَّهُ مَحْفُوظٌ عِنْدَهُ وَالتَّالِي وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ كُلَّ مَا يحدثه اللَّه في السموات وَالْأَرْضِ فَقَدْ كَتَبَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ قَالُوا وَهَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا نَظَرًا إِلَى الِاشْتِقَاقِ لَكِنَّ الْوَاجِبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْمُتَعَارَفِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكِتَابَ هُوَ مَا تُكْتَبُ فِيهِ الْأُمُورُ فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ يُوهِمُ ذَلِكَ أَنَّ عِلْمَهُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْكِتَابِ وَأَيْضًا فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ كَتْبَهُ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ مَعَ كَوْنِهَا مُطَابِقَةً لِلْمَوْجُودَاتِ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ فِي عِلْمِهِ عَنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَنْظُرُونَ فِيهِ ثُمَّ يَرَوْنَ الْحَوَادِثَ دَاخِلَةً فِي الْوُجُودِ عَلَى وَفْقِهِ فَصَارَ ذَلِكَ دَلِيلًا لَهُمْ زَائِدًا عَلَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فَمَعْنَاهُ أَنَّ كَتْبَهُ جُمْلَةَ الْحَوَادِثِ مَعَ أَنَّهَا مِنَ الْغَيْبِ مِمَّا يَتَعَذَّرُ عَلَى الْخَلْقِ لَكِنَّهَا بِحَيْثُ مَتَى أَرَادَهَا اللَّه تَعَالَى كَانَتْ فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَسِيرٌ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْوَصْفُ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِينَا مِنْ حَيْثُ تَسْهُلُ وَتَصْعُبُ عَلَيْنَا الْأُمُورُ، وَتَعَالَى اللَّه عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا يُقْدِمُ الْكُفَّارُ عَلَيْهِ مَعَ عَظِيمِ نِعَمِهِ، وَوُضُوحِ دَلَائِلِهِ. فَقَالَ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ فَبَيَّنَ أَنَّ عِبَادَتَهُمْ لِغَيْرِ اللَّه تَعَالَى لَيْسَتْ مَأْخُوذَةً عَنْ دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَلَا عَنْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ عَنْ تَقْلِيدٍ أَوْ جَهْلٍ أَوْ شُبْهَةٍ، فَوَجَبَ فِي كُلِّ قَوْلٍ هَذَا شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا، فَمِنْ هَذَا الوجه يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ قَدْ يَكُونُ كَافِرًا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ كَوْنَهُ كَافِرًا، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى فَسَادِ التَّقْلِيدِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ أَحَدٌ يَنْتَصِرُ لَهُمْ مِنَ اللَّه كَمَا قَدْ تَتَّفِقُ النُّصْرَةُ فِي الدُّنْيَا وَالثَّانِي: مَا لَهُمْ فِي كُفْرِهِمْ نَاصِرٌ بِالحجة فَإِنَّ الحجة لَيْسَتْ إِلَّا لِلْحَقِّ، وَاحْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي نَفْيِ الشَّفَاعَةِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ يَعْنِي مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهَذِهِ الْآيَاتُ هِيَ الْقُرْآنُ، وَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا بَيِّنَاتٌ لِكَوْنِهَا مُتَضَمِّنَةً لِلدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَبَيَانِ الْأَحْكَامِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ مَعَ جَهْلِهِمْ إِذَا نُبِّهُوا عَلَى الْأَدِلَّةِ وَعُرِضَتْ

[سورة الحج (22) : الآيات 73 إلى 74]

عَلَيْهِمُ الْمُعْجِزَةُ ظَهَرَ فِي وُجُوهِهِمُ الْمُنْكَرُ وَالْمُرَادُ دَلَالَةُ الْغَيْظِ وَالْغَضَبِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْمُنْكَرُ الْفَظِيعُ مِنَ التَّهَجُّمِ وَالْفُجُورِ وَالنُّشُوزِ وَالْإِنْكَارِ، كَالْمُكْرَمِ بِمَعْنَى الْإِكْرَامِ/ وَقُرِئَ تُعْرَفُ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُنْكَرِ عِبَارَاتٌ: أَحَدُهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمُ الْكَرَاهِيَةَ لِلْقُرْآنِ ثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: التَّجَبُّرَ وَالتَّرَفُّعَ وَثَالِثُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّه تَعَالَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَكادُونَ يَسْطُونَ فَقَالَ الْخَلِيلُ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: السَّطْوُ شِدَّةُ الْبَطْشِ وَالْوُثُوبِ، وَالْمَعْنَى يَهُمُّونَ بِالْبَطْشِ وَالْوُثُوبِ تَعْظِيمًا لِإِنْكَارِ مَا خُوطِبُوا بِهِ فَحَكَى تَعَالَى عَظِيمَ تَمَرُّدِهِمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يُقَابِلَهُمْ بِالْوَعِيدِ فَقَالَ: قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَوْلُهُ: مِنْ ذلِكُمُ أَيْ مِنْ غَيْظِكُمْ عَلَى النَّاسِ وَسَطْوِكُمْ عَلَيْهِمْ أَوْ مِمَّا أَصَابَكُمْ مِنَ الْكَرَاهَةِ وَالضَّجَرِ بِسَبَبِ مَا تُلِيَ عَلَيْكُمْ، فَقَوْلُهُ: مِنْ ذلِكُمُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي يَنَالُكُمْ مِنَ النَّارِ الَّتِي تَكَادُونَ تَقْتَحِمُونَهَا بِسُوءِ فِعَالِكُمْ أَعْظَمُ مِمَّا يَنَالُكُمْ عِنْدَ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنَ الْغَضَبِ وَمِنْ هَذَا الْغَمِّ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ مَا تَهُمُّونَ بِهِ فِيمَنْ يُحَاجُّكُمْ فَإِنَّ أَكْبَرَ مَا يُمْكِنُكُمْ فِيهِ الْإِهْلَاكُ ثُمَّ بَعْدَهُ مَصِيرُهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَنْتُمْ تَصِيرُونَ إِلَى النَّارِ الدَّائِمَةِ الَّتِي لَا فَرَجَ لَكُمْ عَنْهَا، وَأَمَّا النَّارُ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ النَّارُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ مَا شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقِيلَ النَّارُ أَيْ هُوَ النَّارُ. وَبِالنَّصْبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَبِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ شَرٍّ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ وَعَدَهَا الَّذِينَ كَفَرُوا إِذَا مَاتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَهُوَ بِئْسَ الْمَصِيرُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَعَدَهَا اللَّهُ اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ النَّارُ مبتدأ ووعدها خبرا. [سورة الحج (22) : الآيات 73 الى 74] يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ مِنْ قَبْلُ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه مالا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا عِلْمَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ضُرِبَ مَثَلٌ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الَّذِي جَاءَ بِهِ لَيْسَ بِمَثَلٍ فَكَيْفَ سَمَّاهُ مَثَلًا؟ وَالْجَوَابُ: لَمَّا كَانَ الْمَثَلُ فِي الْأَكْثَرِ نُكْتَةً عَجِيبَةً غَرِيبَةً جَازَ أَنْ يُسَمَّى كُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ مَثَلًا. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: ضُرِبَ يُفِيدُ فِيمَا مَضَى واللَّه تَعَالَى هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَذَا الْكَلَامِ ابْتِدَاءً؟ الْجَوَابُ: إِذَا كَانَ مَا يُورِدُ مِنَ الْوَصْفِ مَعْلُومًا مِنْ قَبْلُ جَازَ ذَلِكَ فِيهِ، وَيَكُونُ ذِكْرُهُ بِمَنْزِلَةِ إِعَادَةِ أَمْرٍ قَدْ تَقَدَّمَ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَاسْتَمِعُوا لَهُ أَيْ تَدَبَّرُوهُ حَقَّ تَدَبُّرِهِ لِأَنَّ نَفْسَ السَّمَاعِ لَا يَنْفَعُ، وَإِنَّمَا يَنْفَعُ التَّدَبُّرُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الذُّبَابَ لَمَّا كَانَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ احْتَجَّ اللَّه تَعَالَى بِهِ عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ قُرِئَ يَدْعُونَ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ وَيُدْعَوْنَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَلَنْ أَصْلٌ فِي نَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ إِلَّا أَنَّهُ يَنْفِيهِ نَفْيًا مُؤَكَّدًا فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ وَإِنِ اجْتَمَعَتْ لَنْ تَقْدِرَ عَلَى خَلْقِ ذُبَابَةٍ عَلَى ضَعْفِهَا، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ جَعْلُهَا مَعْبُودًا، فَقَوْلُهُ: وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ كَأَنَّهُ

قَالَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَخْلُقُوا الذُّبَابَ حَالَ اجْتِمَاعِهِمْ فَكَيْفَ حَالُ انْفِرَادِهِمْ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: أَتْرُكُ أَمْرَ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَأَتَكَلَّمُ فِيمَا هُوَ أَسْهَلُ مِنْهُ، فَإِنَّ الذُّبَابَ إِنْ سَلَبَ مِنْهَا شَيْئًا، فَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَى اسْتِنْقَاذِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنَ الذُّبَابِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّلَالَةَ الْأُولَى صَالِحَةٌ لِأَنْ يُتَمَسَّكَ بِهَا فِي نَفْيِ كَوْنِ الْمَسِيحِ وَالْمَلَائِكَةِ آلِهَةً، أَمَّا الثَّانِيَةُ فَلَا، فَإِنْ قِيلَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِنَفْيِ كَوْنِ الْأَوْثَانِ خَالِقَةً عَالِمَةً حَيَّةً مُدَبِّرَةً، أَوْ لِنَفْيِ كَوْنِهَا مُسْتَحِقَّةً لِلتَّعْظِيمِ وَالْأَوَّلُ: فَاسِدٌ لِأَنَّ نَفْيَ كَوْنِهَا كَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ وَأَمَّا الثَّانِي: فَهَذِهِ الدَّلَالَةُ لَا تُفِيدُهُ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ كَوْنِهَا حَيَّةً أَنْ لَا تَكُونَ مُعَظَّمَةً، فَإِنَّ جِهَاتِ التَّعْظِيمِ مُخْتَلِفَةٌ، فَالْقَوْمُ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِيهَا أَنَّهَا طَلْسَمَاتٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى صُورَةِ الْكَوَاكِبِ، أَوْ أَنَّهَا تَمَاثِيلُ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَكَانُوا يُعَظِّمُونَهَا عَلَى أَنَّ تَعْظِيمَهَا يُوجِبُ تَعْظِيمَ الْمَلَائِكَةِ، وَأُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْجَوَابُ: أَمَّا كَوْنُهَا طَلْسَمَاتٍ مَوْضُوعَةً عَلَى الْكَوَاكِبِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ مِنْهَا الْإِضْرَارُ وَالِانْتِفَاعُ، فَهُوَ يَبْطُلُ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ فَإِنَّهَا لَمَّا لَمْ تَنْفَعْ نَفْسَهَا فِي هَذَا الْقَدْرِ وَهُوَ تَخْلِيصُ النَّفْسِ عَنِ الذُّبَابَةِ فَلِأَنْ لَا تَنْفَعَ غَيْرَهَا أَوْلَى، وَأَمَّا أَنَّهَا تَمَاثِيلُ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْعَقْلِ أَنَّ تَعْظِيمَ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّه تَعَالَى، وَالْقَوْمُ كَانُوا يُعَظِّمُونَهَا غَايَةَ التَّعْظِيمِ، وَحِينَئِذٍ كَانَ يَلْزَمُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ فِي التَّعْظِيمِ، فَمِنْ هَاهُنَا صَارُوا مُسْتَوْجِبِينَ لِلذَّمِّ وَالْمَلَامِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ مِنْهُ الصَّنَمُ وَالذُّبَابُ فَالصَّنَمُ كَالطَّالِبِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَوْ طَلَبَ أَنْ يَخْلُقَهُ وَيَسْتَنْقِذَ مِنْهُ مَا اسْتَلَبَهُ لَعَجَزَ عَنْهُ وَالذُّبَابُ بِمَنْزِلَةِ/ الْمَطْلُوبِ الثَّانِي: أَنَّ الطَّالِبَ مَنْ عَبَدَ الصَّنَمَ، وَالْمَطْلُوبَ نَفْسُ الصَّنَمِ أَوْ عِبَادَتُهَا، وَهَذَا أَقْرَبُ لِأَنَّ كَوْنَ الصَّنَمِ طَالِبًا لَيْسَ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ، أَمَّا هَاهُنَا فَعَلَى سَبِيلِ التَّحْقِيقِ لَكِنَّ الْمَجَازَ فِيهِ حَاصِلٌ لِأَنَّ الْوَثَنَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا، لِأَنَّ الضَّعْفَ لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَقْوَى، وَهَاهُنَا وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ضَعُفَ لَا مِنْ حَيْثُ الْقُوَّةِ وَلَكِنْ لِظُهُورِ قُبْحِ هَذَا الْمَذْهَبِ، كَمَا يُقَالُ لِلْمَرْءِ عِنْدَ الْمُنَاظَرَةِ: مَا أَضْعَفَ هَذَا الْمَذْهَبَ وَمَا أَضْعَفَ هَذَا الوجه. أَمَّا قَوْلُهُ: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أَيْ مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ، حَيْثُ جَعَلُوا هَذِهِ الْأَصْنَامَ عَلَى نِهَايَةِ خَسَاسَتِهَا شَرِيكَةً لَهُ فِي الْمَعْبُودِيَّةِ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ مُفَسَّرَةٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهُوَ قَوِيٌّ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ فِعْلُ شَيْءٍ وعزيز لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى مُغَالَبَتِهِ، فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى الْقَوْلِ بِالشَّرِيكِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْيَهُودِ وَهُمْ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ وَغَيْرُهُمْ لَعَنَهُمُ اللَّه، حَيْثُ قَالُوا إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لما فرغ من خلق السموات وَالْأَرْضِ أَعْيَا مِنْ خَلْقِهَا فَاسْتَلْقَى وَاسْتَرَاحَ وَوَضَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَكْذِيبًا لَهُمْ وَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ. [ق: 38] وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْشَأَ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ هُوَ الْقَوْلُ بِالتَّشْبِيهِ فَيَجِبُ تَنْزِيهُ ذَاتِ اللَّه تَعَالَى عَنْ مُشَابَهَةِ سَائِرِ الذَّوَاتِ خِلَافَ مَا يَقُولُهُ الْمُشَبِّهَةُ، وَتَنْزِيهُ صِفَاتِهِ عَنْ مُشَابَهَةِ سَائِرِ الصِّفَاتِ خِلَافَ مَا يَقُولُهُ الْكَرَّامِيَّةُ، وَتَنْزِيهُ أَفْعَالِهِ عَنْ مُشَابَهَةِ سَائِرِ الْأَفْعَالِ، أَعْنِي الْغَرَضَ وَالدَّاعِيَ وَاسْتِحْقَاقَ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ خِلَافَ مَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّه، فَهُوَ سُبْحَانَهُ جَبَّارُ النَّعْتِ عَزِيزُ الْوَصْفِ فَالْأَوْهَامُ لَا تُصَوِّرُهُ وَالْأَفْكَارُ لَا تُقَدِّرُهُ وَالْعُقُولُ لَا تُمَثِّلُهُ وَالْأَزْمِنَةُ لَا تُدْرِكُهُ وَالْجِهَاتُ لَا تَحْوِيهِ وَلَا تَحُدُّهُ، صَمَدِيُّ الذَّاتِ سَرْمَدِيُّ الصِّفَاتِ.

[سورة الحج (22) : الآيات 75 إلى 76]

[سورة الحج (22) : الآيات 75 الى 76] اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِلَهِيَّاتِ ذَكَرَ هَاهُنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالنُّبُوَّاتِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَهَاهُنَا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَلِمَةُ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ فَقَوْلُهُ: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الرُّسُلُ بَعْضَهُمْ لَا كُلَّهُمْ، وقوله: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1] يَقْتَضِي كَوْنَ كُلِّهِمْ رُسُلًا فَوَقَعَ التَّنَاقُضُ وَالْجَوَابُ: جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا مَنْ كَانَ رُسُلًا إِلَى بَنِي آدَمَ، وَهُمْ أَكَابِرُ الْمَلَائِكَةِ/ كَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَعِزْرَائِيلَ وَالْحَفَظَةِ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا كُلُّ الْمَلَائِكَةِ فَبَعْضُهُمْ رُسُلٌ إِلَى الْبَعْضِ فَزَالَ التَّنَاقُضُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَالَ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشاءُ [الزُّمَرِ: 4] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ وَلَدَهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُصْطَفًى، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمَلَائِكَةِ وَبَعْضَ النَّاسِ مِنَ الْمُصْطَفِينَ، فَيَلْزَمُ بِمَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ إِثْبَاتُ الْوَلَدِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَلَدٍ مُصْطَفًى، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُصْطَفًى وَلَدٌ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُودِ مُصْطَفًى كَوْنُهُ وَلَدًا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ تَبْكِيتُ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ، كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَبْطَلَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى قَوْلَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَبْطَلَ قَوْلَ عَبَدَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَبَيَّنَ أَنَّ عُلُوَّ دَرَجَةِ الْمَلَائِكَةِ لَيْسَ لِكَوْنِهِمْ آلِهَةً، بَلْ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى اصْطَفَاهُمْ لِمَكَانِ عِبَادَتِهِمْ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ مَا قَدَرُوا اللَّه حَقَّ قَدْرِهِ أَنْ جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ مَعْبُودِينَ مَعَ اللَّه، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أَنَّهُ يَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ وَيَرَى مَا يَفْعَلُونَ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَا تَقَدَّمَ فِي الدُّنْيَا وَمَا تَأَخَّرَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أَمْرُ الْآخِرَةِ، وَما خَلْفَهُمْ أَمْرُ الدُّنْيَا، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فَقَوْلُهُ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْعِلْمِ التَّامِّ وَقَوْلُهُ: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالتَّفَرُّدِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْحُكْمِ، وَمَجْمُوعُهُمَا يَتَضَمَّنُ نِهَايَةَ الزَّجْرِ عَنِ الإقدام على المعصية. [سورة الحج (22) : الآيات 77 الى 78] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا تَكَلَّمَ فِي الْإِلَهِيَّاتِ ثُمَّ فِي النُّبُوَّاتِ أَتْبَعَهُ بِالْكَلَامِ فِي الشَّرَائِعِ وَهُوَ مِنْ أَرْبَعِ أَوْجُهٍ أَوَّلُهَا: تَعْيِينُ الْمَأْمُورِ وَثَانِيهَا: أَقْسَامُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَثَالِثُهَا: ذِكْرُ مَا يُوجِبُ قَبُولَ تِلْكَ الْأَوَامِرِ وَرَابِعُهَا: تَأْكِيدُ ذَلِكَ التكليف.

أَمَّا النوع الْأَوَّلُ: وَهُوَ تَعْيِينُ الْمَأْمُورِ فَهُوَ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ مِنْهُ كُلُّ الْمُكَلَّفِينَ سَوَاءٌ كَانَ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَامٌّ فِي كُلِّ الْمُكَلَّفِينَ فَلَا مَعْنًى لِتَخْصِيصِ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ فَقَطْ أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّ اللَّفْظَ صَرِيحٌ فِيهِ، وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ اجْتَباكُمْ وَقَوْلَهُ: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ وَقَوْلَهُ: وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ كُلُّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْمُؤْمِنِينَ. أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَى الْكُلِّ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَخْصِيصِ الْمُؤْمِنِينَ؟ لَكُنَّا نَقُولُ تَخْصِيصُهُمْ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ عَمَّا عَدَاهُمْ بَلْ قَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى كَوْنِهِمْ عَلَى التَّخْصِيصِ مَأْمُورِينَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَدَلَّتْ سَائِرُ الْآيَاتِ عَلَى كَوْنِ الْكُلِّ مَأْمُورِينَ بِهَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ الْخِطَابُ الْعَامُّ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ثُمَّ إِنَّهُ مَا قَبِلَهُ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ خَصَّهُمُ اللَّه تَعَالَى بِهَذَا الْخِطَابِ لِيَكُونَ ذَلِكَ كَالتَّحْرِيضِ لَهُمْ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ على قبوله وكالتشريف لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْإِقْرَارِ وَالتَّخْصِيصِ. أَمَّا النوع الثَّانِي: وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ فَقَدْ ذَكَرَ اللَّه أُمُورًا أَرْبَعَةً: الْأَوَّلُ: الصَّلَاةُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَذَلِكَ لِأَنَّ أَشْرَفَ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ هُوَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَالصَّلَاةُ هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِهَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ فَكَانَ ذِكْرُهُمَا جَارِيًا مَجْرَى ذِكْرِ الصَّلَاةِ وَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ النَّاسَ فِي أَوَّلِ إِسْلَامِهِمْ كَانُوا يَرْكَعُونَ وَلَا يَسْجُدُونَ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: اعْبُدُوهُ وَلَا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ وَثَانِيهَا: وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ فِي سَائِرِ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ وَثَالِثُهَا: افْعَلُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَسَائِرَ الطَّاعَاتِ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لِأَنَّهُ لَا يَكْفِي أَنْ يُفْعَلَ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ عِبَادَةَ اللَّه تَعَالَى لَا يَنْفَعُ فِي بَابِ الثَّوَابِ فَلِذَلِكَ عَطَفَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا يُرِيدُ بِهِ صِلَةَ الرَّحِمِ وَمَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَالوجه عِنْدِي فِي هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّ الصَّلَاةَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ وَالْعِبَادَةُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ فِعْلِ الْخَيْرِ، لِأَنَّ فِعْلَ الْخَيْرِ يَنْقَسِمُ إِلَى خِدْمَةِ الْمَعْبُودِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّه وَإِلَى الْإِحْسَانِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّه وَيَدْخُلُ فِيهِ الْبِرُّ وَالْمَعْرُوفُ وَالصَّدَقَةُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَحُسْنُ الْقَوْلِ لِلنَّاسِ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ كَلَّفْتُكُمْ بِالصَّلَاةِ بَلْ كَلَّفْتُكُمْ بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهَا وَهُوَ الْعِبَادَةُ بَلْ كَلَّفْتُكُمْ بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْعِبَادَةِ وَهُوَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فَقِيلَ مَعْنَاهُ لِتُفْلِحُوا، وَالْفَلَاحُ الظَّفَرُ بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ لَعَلَّ كَلِمَةٌ لِلتَّرْجِيَةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَخْلُو فِي أَدَاءِ الْفَرِيضَةِ مِنْ تَقْصِيرٍ/ وَلَيْسَ هُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّ الَّذِي أَتَى بِهِ هَلْ هُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى وَالْعَوَاقِبُ أَيْضًا مَسْتُورَةٌ «وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي اللَّهِ أَيْ فِي ذَاتِ اللَّه، وَمِنْ أَجْلِهِ. يُقَالُ هُوَ حَقُّ عَالِمٍ وَجِدُّ عَالِمٍ أَيْ عَالِمٌ حَقًّا وَجِدًّا وَمِنْهُ حَقَّ جِهادِهِ وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا وَجْهُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ وَكَانَ الْقِيَاسُ حَقَّ الْجِهَادِ فِيهِ أَوْ حَقَّ جِهَادِكُمْ فِيهِ كَمَا قَالَ: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ؟ وَالْجَوَابُ: الْإِضَافَةُ تَكُونُ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ وَاخْتِصَاصٍ، فَلَمَّا كَانَ الْجِهَادُ مُخْتَصًّا باللَّه مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَفْعُولٌ لِوَجْهِهِ وَمِنْ أَجْلِهِ صَحَّتِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا هَذَا الْجِهَادُ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ قِتَالُ الْكُفَّارِ خَاصَّةً، وَمَعْنَى حَقَّ جِهادِهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ إِلَّا عِبَادَةً لَا رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا مِنْ حَيْثُ الِاسْمِ أَوِ الْغَنِيمَةِ وَالثَّانِي: أَنْ يُجَاهِدُوا آخِرًا كَمَا

جَاهَدُوا أَوَّلًا فَقَدْ كَانَ جِهَادُهُمْ فِي الْأَوَّلِ أَقْوَى وَكَانُوا فِيهِ أَثْبَتَ نَحْوَ صُنْعِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا كُنَّا نَقْرَأُ وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ كَمَا جَاهَدْتُمُوهُ فِي أَوَّلِهِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَمَتَى ذَاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ إِذَا كَانَتْ بَنُو أُمَيَّةَ الْأُمَرَاءَ وَبَنُو الْمُغِيرَةِ الْوُزَرَاءَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنَ الْقُرْآنِ وَإِلَّا لَنُقِلَ كَنَقْلِ نَظَائِرِهِ، وَلَعَلَّهُ إِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنِ الرَّسُولِ فَإِنَّمَا قَالَهُ كَالتَّفْسِيرِ لِلْآيَةِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَرَأَ: وَجَاهِدُوا فِي اللَّه حَقَّ جِهَادِهِ كَمَا جَاهَدْتُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. فَقَالَ عُمَرُ مَنِ الَّذِي أُمِرْنَا بِجِهَادِهِ؟ فَقَالَ قَبِيلَتَانِ مِنْ قُرَيْشٍ مَخْزُومٍ وَعَبْدِ شَمْسٍ، فَقَالَ صَدَقْتَ وَالثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَقَّ جِهَادِهِ، لَا تَخَافُوا فِي اللَّه لَوْمَةَ لَائِمٍ وَالرَّابِعُ: قَالَ الضَّحَّاكُ: وَاعْمَلُوا للَّه حَقَّ عَمَلِهِ وَالْخَامِسُ: اسْتَفْرِغُوا وُسْعَكُمْ فِي إِحْيَاءِ دِينِ اللَّه وَإِقَامَةِ حُقُوقِهِ بِالْحَرْبِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ وَجَمِيعِ مَا يُمْكِنُ وَرُدُّوا أَنْفُسَكُمْ عَنِ الْهَوَى وَالْمَيْلِ وَالوجه السَّادِسُ: قَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ الْمُبَارَكِ: حَقَّ جِهَادِهِ، مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ وَالْهَوَى. وَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ: «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ التَّكَالِيفِ، فَكُلُّ مَا أُمِرَ بِهِ وَنُهِيَ عَنْهُ فَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ جِهَادٌ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَلْ يَصِحُّ مَا نُقِلَ عَنْ مُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التَّغَابُنِ: 16] كَمَا أَنَّ قَوْلُهُ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آلِ عِمْرَانَ: 102] مَنْسُوخٌ بِذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَةِ: 286] فَكَيْفَ يَقُولُ اللَّه وَجَاهِدُوا فِي اللَّه عَلَى وَجْهٍ لَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ وَقَدْ كَانَ الْجِهَادُ فِي الْأَوَّلِ مُضَيَّقًا حَتَّى لَا يَصِحَّ أَنْ يَفِرَّ الْوَاحِدُ مِنْ عَشَرَةٍ، ثُمَّ خَفَّفَهُ اللَّه بِقَوْلِهِ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ [الْأَنْفَالِ: 66] أَفَيَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُوجِبَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُطَاقُ حَتَّى يُقَالَ إِنَّهُ مَنْسُوخٌ. النوع الثَّالِثُ: بَيَانُ مَا يُوجِبُ قَبُولَ هَذِهِ الْأَوَامِرِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: هُوَ اجْتَباكُمْ وَمَعْنَاهُ أَنَّ التَّكْلِيفَ تَشْرِيفٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى لِلْعَبْدِ، فَلَمَّا خَصَّكُمْ بِهَذَا التَّشْرِيفِ فَقَدْ خَصَّكُمْ بِأَعْظَمِ التَّشْرِيفَاتِ وَاخْتَارَكُمْ لِخِدْمَتِهِ وَالِاشْتِغَالِ بِطَاعَتِهِ، فَأَيُّ رُتْبَةٍ أَعْلَى مِنْ هَذَا، وَأَيُّ سَعَادَةٍ فَوْقَ هَذَا، وَيُحْتَمَلُ فِي اجْتَبَاكُمْ خَصَّكُمْ بِالْهِدَايَةِ وَالْمَعُونَةِ وَالتَّيْسِيرِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ فَهُوَ كَالْجَوَابِ عَنْ سُؤَالٍ يُذْكَرُ وَهُوَ أَنَّ التَّكْلِيفَ وَإِنْ كَانَ تَشْرِيفًا وَاجِبًا كَمَا ذَكَرْتُمْ لَكِنَّهُ شَاقٌّ شَدِيدٌ عَلَى النَّفْسِ؟ فَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ رُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ كَيْفَ قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مَعَ أَنَّهُ مَنَعَنَا عَنِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: بَلَى وَلَكِنَّ الْإِصْرَ الَّذِي كَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وُضِعَ عَنْكُمْ، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْحَرَجُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ؟ الْجَوَابُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ هُذَيْلٍ مَا تَعُدُّونَ الْحَرَجَ فِيكُمْ؟ قَالَ الضِّيقُ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ ذَلِكَ فَقَالَ الضِّيقُ» . السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْمُرَادُ مِنَ الْحَرَجِ فِي الْآيَةِ؟ الْجَوَابُ: قِيلَ هُوَ الْإِتْيَانُ بِالرُّخَصِ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا فَلْيُصَلِّ جَالِسًا وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ فليؤم، وَأَبَاحَ لِلصَّائِمِ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ وَالْقَصْرَ فِيهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَبْتَلِ عَبْدَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ إِلَّا وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجًا مِنْهَا إِمَّا بِالتَّوْبَةِ أَوْ بِالْكَفَّارَةِ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّه

عَنْهُمَا «إِنَّهُ مَنْ جَاءَتْهُ رُخْصَةٌ فَرَغِبَ عَنْهَا كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَحْمِلَ ثِقَلَ تِنِّينٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ» وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا اجْتَمَعَ أَمْرَانِ فَأَحَبُّهُمَا إِلَى اللَّه تَعَالَى أَيْسَرُهُمَا» وَعَنْ كَعْبٍ: أَعْطَى اللَّه هذه الأمة ثلاثا لم يعطهم إِلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ: «جَعَلَهُمْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَمَا جَعَلَ عَلَيْهِمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، وَقَالَ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» . السُّؤَالُ الثَّالِثُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، فَقَالُوا: لَمَّا خَلَقَ اللَّه الْكُفْرَ وَالْمَعْصِيَةَ فِي الْكَافِرِ وَالْعَاصِي ثُمَّ نَهَاهُ عَنْهُمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْحَرَجِ وَذَلِكَ مَنْفِيٌّ بِصَرِيحِ هَذَا النَّصِّ وَالْجَوَابُ: لَمَّا أَمَرَهُ بِتَرْكِ الْكُفْرِ وَتَرْكُ الْكُفْرِ يَقْتَضِي انْقِلَابَ عِلْمِهِ جَهْلًا فَقَدْ أَمَرَ اللَّه الْمُكَلَّفَ بِقَلْبِ عِلْمِ اللَّه جَهْلًا وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْحَرَجِ، وَلَمَّا اسْتَوَى الْقَدَمَانِ زَالَ السُّؤَالُ. الْمُوجِبُ الثَّانِي: لِقَبُولِ التَّكْلِيفِ قَوْلُهُ: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي نَصْبِ الْمِلَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِمَضْمُونِ مَا تَقَدَّمَهَا كَأَنَّهُ قِيلَ وَسَّعَ دِينَكُمْ تَوْسِعَةَ مِلَّةِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ حَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ أَيْ أَعْنِي بِالدِّينِ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ التَّكَالِيفَ وَالشَّرَائِعَ هِيَ شَرِيعَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَالْعَرَبُ كَانُوا مُحِبِّينَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِهِ، فَكَانَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ كَالسَّبَبِ لِصَيْرُورَتِهِمْ مُنْقَادِينَ لِقَبُولِ هَذَا الدِّينِ وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ وَلَمْ يُدْخِلْ فِي الخطاب المؤمنون الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ وَلَدِهِ؟ «1» وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَمَّا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مِنْ وَلَدِهِ كَالرَّسُولِ وَرَهْطِهِ وَجَمِيعِ الْعَرَبِ جَازَ ذَلِكَ وَثَانِيهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعْلَ حُرْمَةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَحُرْمَةِ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الَأَحْزَابِ: 6] فَجَعَلَ حُرْمَتَهُ كَحُرْمَةِ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ، وَحُرْمَةَ نِسَائِهِ كَحُرْمَةِ الْوَالِدَةِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الَأَحْزَابِ: 6] . السُّؤَالُ الثَّانِي: هَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مِلَّةُ مُحَمَّدٍ كَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ سَوَاءً، فَيَكُونُ الرَّسُولُ لَيْسَ لَهُ شَرْعٌ مَخْصُوصٌ وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [النَّحْلِ: 123] ، الْجَوَابُ: هَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا وَقَعَ مَعَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: عِبَادَةُ اللَّه وَتَرْكُ الْأَوْثَانِ هِيَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ فَأَمَّا تَفَاصِيلُ الشَّرَائِعِ فَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِهَذَا الْمَوْضِعِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكِنَايَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [الْبَقَرَةِ: 128] فَاسْتَجَابَ اللَّه تَعَالَى لَهُ فَجَعَلَهَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْبَرَ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى سَيَبْعَثُ مُحَمَّدًا بِمِثْلِ مِلَّتِهِ وَأَنَّهُ سَتُسَمَّى أُمَّتُهُ بِالْمُسْلِمِينَ وَالثَّانِي: أَنَّ الْكِنَايَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: هُوَ اجْتَباكُمْ فَرَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّه سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ» أَيْ فِي كُلِّ الْكُتُبِ، وَفِي هَذَا أَيْ فِي الْقُرْآنِ. وَهَذَا الوجه أَقْرَبُ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فبين أنه سماهم بذلك لهذا

_ (1) صواب العبارة: أن يقال: (ولم يكونوا من ولده) رعاية لنظم الكلام.

الْغَرَضِ وَهَذَا لَا يَلِيقُ إِلَّا باللَّه، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ اللَّه سَمَّاكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْقُرْآنِ، وَفِي الْقُرْآنِ أَيْضًا بَيَّنَ فَضْلَكُمْ عَلَى الْأُمَمِ وَسَمَّاكُمْ بِهَذَا الِاسْمِ الْأَكْرَمِ، لأجل الشهادة المذكورة. فلما خَصَّكُمُ اللَّه بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ فَاعْبُدُوهُ وَلَا تَرُدُّوا تَكَالِيفَهُ. وَهَذَا هُوَ الْعِلَّةُ الثَّالِثَةُ: الْمُوجِبَةُ لِقَبُولِ التَّكْلِيفِ، وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْنَا، وَكَيْفَ تَكُونُ أُمَّتُهُ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَبَيَّنَا أَنَّهُ أُخِذَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ. النوع الرَّابِعُ: شَرْحُ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُؤَكَّدِ لِمَا مَضَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَيَجِبُ صَرْفُهَا إِلَى الْمَفْرُوضَاتِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَعْهُودَةُ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ أَيْ بدلائله العقلية والسمية وَأَلْطَافِهِ وَعِصْمَتِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «سَلُوا اللَّه الْعِصْمَةَ عَنْ كُلِّ الْمُحَرَّمَاتِ» وَقَالَ الْقَفَّالُ: اجْعَلُوا اللَّه عِصْمَةً لَكُمْ مِمَّا تَحْذَرُونَ هُوَ مَوْلَاكُمْ وسيدكم المتصرف فيكم فنعم المولى ونعم البصير، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ أَنَا مَوْلَاكَ بَلْ أَنَا نَاصِرُكَ وَحَسْبُكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ/ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ الْإِيمَانَ مِنَ الْكُلِّ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَجْعَلُ الشَّهِيدَ عَلَى عِبَادِهِ إِلَّا مَنْ كَانَ عَدْلًا مَرْضِيًّا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ تَكُونُوا شُهَدَاءَ على الناس فقد أراد تَكُونُوا جَمِيعًا صَالِحِينَ عُدُولًا، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ منهم فاسقا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَرَادَ من الفسق كَوْنَهُ عَدْلًا وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ وَكَيْفَ يُمْكِنُ الِاعْتِصَامُ بِهِ مَعَ أَنَّ الشَّرَّ لَا يُوجَدُ إِلَّا مِنْهُ؟ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: فَنِعْمَ الْمَوْلى لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّهُ خَلَقَ أَكْثَرَ عِبَادِهِ لِيَخْلُقَ فِيهِمُ الْكُفْرَ وَالْفَسَادَ ثُمَّ يُعَذِّبُهُمْ لَمَا كَانَ نِعْمَ الْمَوْلَى، بَلْ كَانَ لَا يُوجَدُ مِنْ شِرَارِ الْمَوَالِي أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ شَرُّ مِنْهُ. فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ بِئْسَ الْمَوْلَى وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَا أَرَادَ مِنْ جَمِيعِهِمْ إِلَّا الصَّلَاحَ. فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نِعْمَ الْمَوْلَى لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً كَمَا أَنَّهُ نِعْمَ النَّصِيرُ لَهُمْ خَاصَّةً؟ قُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى مَوْلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ جَمِيعًا «1» فَيَجِبُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ نِعْمَ الْمَوْلَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَبِئْسَ الْمَوْلَى لِلْكَافِرِينَ. فَإِنِ ارْتَكَبُوا ذَلِكَ فَقَدْ رَدُّوا الْقُرْآنَ وَالْإِجْمَاعَ وَصَرَّحُوا بِشَتْمِ اللَّه تَعَالَى، وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَنَّهَا مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لُغَةً لَمَا أُضِيفَتْ إِلَى اللَّه تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ. وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ كَوْنُهُ تَعَالَى مُرِيدًا لِكَوْنِهِ شَاهِدًا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ مُرِيدًا لِكَوْنِهِ عَدْلًا، فَنَقُولُ: إِنْ كَانَتْ إِرَادَةُ الشَّيْءِ مُسْتَلْزِمَةً لِإِرَادَةِ لَوَازِمِهِ فَإِرَادَةُ الْإِيمَانِ مِنَ الْكَافِرِ تُوجِبُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَلْزِمَةً لِإِرَادَةِ جَهْلِ اللَّه تَعَالَى فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ تَعَالَى مُرِيدًا لِجَهْلِ نَفْسِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَاجِبًا سَقَطَ الْكَلَامُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ فَيُقَالُ هَذَا أَيْضًا وَارِدٌ عَلَيْكُمْ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الشَّهْوَةَ فِي قَلْبِ الْفَاسِقِ وَأَكَّدَهَا وَخَلَقَ الْمُشْتَهَى وَقَرَّبَهُ مِنْهُ وَرَفَعَ الْمَانِعَ ثُمَّ سَلَّطَ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينَ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا مَحَالَةَ يَقَعُ فِي الْفُجُورِ وَالضَّلَالِ، وَفِي الشَّاهِدِ كُلُّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِئْسَ الْمَوْلَى، فَإِنْ صَحَّ قِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ فَهَذَا لَازِمٌ عَلَيْكُمْ وَإِنْ بَطَلَ سَقَطَ كَلَامُكُمْ بِالْكُلِّيَّةِ. تَمَّ تَفْسِيرُ سُورَةِ الْحَجِّ، وَيَتْلُوهُ تَفْسِيرُ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ، والحمد للَّه رب العالمين.

_ (1) كيف هذا مع قوله تعالى في سورة محمد عليه السلام [11] : ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ ولتوجيه هذا الكلام يقال المولى في الآيات بمعنى الناصر والمعين. وقد عنى به المصنف السد والمالك والرب.

سورة المؤمنون

سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ مِائَةٌ وَثَمَانِ عَشْرَةَ آيَةً مَكِّيَّةً بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَمَ بِحُصُولِ الْفَلَاحِ لِمَنْ كَانَ مُسْتَجْمِعًا لِصِفَاتٍ سَبْعٍ، وَقَبْلَ الْخَوْضِ فِي شَرْحِ تِلْكَ الصِّفَاتِ لَا بُدَّ مِنْ بَحْثَيْنِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أن (قد) نقيضة لما فقد ثبت المتوقع ولما تَنْفِيهِ «1» وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا مُتَوَقِّعِينَ لِمِثْلِ هَذِهِ الْبِشَارَةِ، وَهِيَ الْإِخْبَارُ بِثَبَاتِ الْفَلَاحِ لَهُمْ فَخُوطِبُوا بِمَا دَلَّ عَلَى ثَبَاتِ مَا توقعوه. البحث الثاني: الفلاح الظفر بالراد وَقِيلَ الْبَقَاءُ فِي الْخَيْرِ، وَأَفْلَحَ دَخَلَ فِي الْفَلَاحِ كَأَبْشَرَ دَخَلَ فِي الْبِشَارَةِ، وَيُقَالُ أَفْلَحَهُ صَيَّرَهُ إِلَى الْفَلَاحِ، وَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ أُفْلِحَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَعَنْهُ أَفْلَحُوا

_ (1) كذا في الأصل والصواب وما تنفيه يريد حرف النفي، كقول المطيع: قد أطعت، وقول العاصي: ما أطعت.

عَلَى لُغَةِ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ أَوْ عَلَى الْإِبْهَامِ وَالتَّفْسِيرِ. الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: الْمُؤْمِنُونَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْإِيمَانِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَاخْتَلَفُوا فِي الْخُشُوعِ فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ كَالْخَوْفِ وَالرَّهْبَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ كَالسُّكُونِ وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ الْأَوْلَى. فَالْخَاشِعُ فِي صَلَاتِهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ لَهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْقَلْبِ مِنَ الْأَفْعَالِ نِهَايَةُ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ لِلْمَعْبُودِ، وَمِنَ التُّرُوكِ أَنْ لَا يَكُونَ مُلْتَفِتَ الْخَاطِرِ إِلَى شَيْءٍ سِوَى التَّعْظِيمِ، وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْجَوَارِحِ أَنْ يَكُونَ سَاكِنًا مُطْرِقًا نَاظِرًا إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَمِنَ التُّرُوكِ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ يَمِينًا وَلَا شَمَالًا، وَلَكِنَّ الْخُشُوعَ الَّذِي يُرَى عَلَى الْإِنْسَانِ لَيْسَ إِلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَوَارِحِ فَإِنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَلْبِ لَا يُرَى، قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ طَأْطَأَ وَكَانَ لَا يُجَاوِزُ بَصَرُهُ مُصَلَّاهُ، فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ تَقُولُونَ إِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ؟ قُلْنَا إِنَّهُ عِنْدَنَا وَاجِبٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [مُحَمَّدٍ: 24] وَالتَّدَبُّرُ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْوُقُوفِ عَلَى الْمَعْنَى، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 4] مَعْنَاهُ قِفْ عَلَى عَجَائِبِهِ وَمَعَانِيهِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَالْغَفْلَةُ تُضَادُّ الذِّكْرِ فَمَنْ غَفَلَ فِي جَمِيعِ صَلَاتِهِ كَيْفَ يَكُونُ مُقِيمًا لِلصَّلَاةِ لِذِكْرِهِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ [الْأَعْرَافِ: 205] وَظَاهِرُ النَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النِّسَاءِ: 43] تَعْلِيلٌ لِنَهْيِ السَّكْرَانِ وَهُوَ مُطَّرِدٌ فِي الْغَافِلِ الْمُسْتَغْرِقِ الْمُهْتَمِّ بِالدُّنْيَا وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّمَا الْخُشُوعُ لِمَنْ تَمَسْكَنَ وَتَوَاضَعَ» وَكَلِمَةُ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّه إِلَّا بُعْدًا» وَصَلَاةُ الْغَافِلِ لَا تَمْنَعُ مِنَ الْفَحْشَاءِ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كَمْ مِنْ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ التَّعَبُ وَالنَّصَبُ» وَمَا أَرَادَ بِهِ إِلَّا الْغَافِلَ، وَقَالَ أَيْضًا: «لَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا مَا عَقَلَ» وَسَادِسُهَا: قَالَ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْمُصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ وَالْكَلَامُ مَعَ الْغَفْلَةِ لَيْسَ بِمُنَاجَاةٍ الْبَتَّةَ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَدَّى الزَّكَاةَ حَالَ الْغَفْلَةِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَهُوَ كَسْرُ الْحِرْصِ وَإِغْنَاءُ الْفَقِيرِ، وَكَذَا الصَّوْمُ قَاهِرٌ لِلْقُوَى كَاسِرٌ لِسَطْوَةِ الْهَوَى الَّتِي هِيَ عَدُوَّةُ اللَّه تَعَالَى. فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ مَقْصُودُهُ مَعَ الْغَفْلَةِ، وَكَذَا الْحَجُّ أَفْعَالٌ شَاقَّةٌ، وَفِيهِ مِنَ الْمُجَاهَدَةِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الِابْتِلَاءُ سَوَاءٌ كَانَ الْقَلْبُ حَاضِرًا أَوْ لَمْ يَكُنْ. أَمَّا الصَّلَاةُ فَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا ذِكْرٌ وَقِرَاءَةٌ وَرُكُوعٌ وَسُجُودٌ وَقِيَامٌ وَقُعُودٌ، أَمَّا الذِّكْرُ فَإِنَّهُ مُنَاجَاةٌ مَعَ اللَّه تَعَالَى. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ كَوْنَهُ مُنَاجَاةً، أَوِ الْمَقْصُودُ مُجَرَّدُ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، / وَلَا شَكَّ فِي فَسَادِ هَذَا الْقِسْمِ فَإِنَّ تَحْرِيكَ اللِّسَانِ بِالْهَذَيَانِ لَيْسَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ. فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمُنَاجَاةُ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا كَانَ اللِّسَانُ مُعَبِّرًا عَمَّا فِي الْقَلْبِ مِنَ التَّضَرُّعَاتِ فَأَيُّ سُؤَالٍ فِي قَوْلِهِ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَةِ: 6] وَكَانَ الْقَلْبُ غَافِلًا عَنْهُ؟ بَلْ أَقُولُ لَوْ حَلَفَ إِنْسَانٌ، وَقَالَ: واللَّه لَأَشْكُرَنَّ فُلَانًا وَأُثْنِي عَلَيْهِ وَأَسْأَلُهُ حَاجَةً. ثُمَّ جَرَتِ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي عَلَى لِسَانِهِ فِي الْيَوْمِ لَمْ يَبَرَّ فِي يَمِينِهِ وَلَوْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَذَلِكَ الْإِنْسَانُ حَاضِرٌ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ حُضُورَهُ وَلَا يَرَاهُ لَا يَصِيرُ بَارًّا فِي يَمِينِهِ، وَلَا يَكُونُ كَلَامُهُ خِطَابًا مَعَهُ مَا لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا بِقَلْبِهِ، وَلَوْ جَرَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ عَلَى لِسَانِهِ وَهُوَ حَاضِرٌ فِي بَيَاضِ النَّهَارِ إِلَّا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ غَافِلٌ لِكَوْنِهِ مُسْتَغْرِقَ الْهَمِّ بِفِكْرٍ مِنَ الْأَفْكَارِ وَلَمْ

يكن له قصد توجيه الخطاب عليه عِنْدَ نُطْقِهِ لَمْ يَصِرْ بَارًّا فِي يَمِينِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقِرَاءَةِ الْأَذْكَارُ وَالْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ وَالتَّضَرُّعُ وَالدُّعَاءُ وَالْمُخَاطَبُ هُوَ اللَّه تَعَالَى، فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ مَحْجُوبًا بِحِجَابِ الْغَفْلَةِ وَكَانَ غَافِلًا عَنْ جَلَالِ اللَّه وَكِبْرِيَائِهِ، ثُمَّ إِنَّ لِسَانَهُ يَتَحَرَّكُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ فَمَا أَبْعَدَ ذَلِكَ عَنِ الْقَبُولِ. وَأَمَّا الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُمَا التَّعْظِيمُ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ تَعْظِيمًا للَّه تَعَالَى مَعَ أَنَّهُ غَافِلٌ عَنْهُ، لَجَازَ أَنْ يَكُونَ تَعْظِيمًا لِلصَّنَمِ الْمَوْضُوعِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ غَافِلٌ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْصُلِ التَّعْظِيمُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا مُجَرَّدُ حَرَكَةِ الظَّهْرِ وَالرَّأْسِ، وَلَيْسَ فِيهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ مَا يَصِيرُ لِأَجْلِهِ عِمَادًا لِلدِّينِ، وَفَاصِلًا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَيُقْدِمُ عَلَى الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْجِهَادِ وَسَائِرِ الطَّاعَاتِ الشَّاقَّةِ، وَيَجِبُ الْقَتْلُ بِسَبَبِهِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ عَاقِلٍ يَقْطَعُ بِأَنَّ مُشَاهَدَةَ الْخَوَاصِّ الْعَظِيمَةِ لَيْسَ أَعْمَالَهَا الظَّاهِرَةَ إِلَّا أَنْ يَنْضَافَ إِلَيْهَا مَقْصُودُ هَذِهِ الْمُنَاجَاةِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْحُضُورِ وَسَابِعُهَا: أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَنْوِيهِ بِالسَّلَامِ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ وَالِانْفِرَادِ، هَلْ يَنْوِي الْحُضُورَ أَوِ الْغَيْبَةَ وَالْحُضُورَ مَعًا. فَإِذَا احْتِيجَ إِلَى التَّدَبُّرِ فِي مَعْنَى السَّلَامِ الَّذِي هُوَ آخِرُ الصَّلَاةِ فَلَأَنْ يُحْتَاجَ إِلَى التَّدَبُّرِ فِي مَعْنَى التَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ الَّتِي هِيَ الْأَشْيَاءُ الْمَقْصُودَةُ مِنَ الصَّلَاةِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ عَلَى خِلَافِ اجْتِمَاعِ الْفُقَهَاءِ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحُضُورَ عِنْدَنَا لَيْسَ شَرْطًا لِلْإِجْزَاءِ، بَلْ شَرْطٌ لِلْقَبُولِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْإِجْزَاءِ أَنْ لَا يَجِبَ الْقَضَاءُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْقَبُولِ حُكْمُ الثَّوَابِ. وَالْفُقَهَاءُ إِنَّمَا يَبْحَثُونَ عَنْ حُكْمِ الْإِجْزَاءِ لَا عَنْ حُكْمِ الثَّوَابِ، وَغَرَضُنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ هَذَا، وَمِثَالُهُ فِي الشَّاهِدِ مَنِ اسْتَعَارَ مِنْكَ ثَوْبًا ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى الوجه الْأَحْسَنِ، فَقَدْ خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ وَاسْتَحَقَّ الْمَدْحَ، وَمَنْ رَمَاهُ إِلَيْكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَافِ خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحَقَّ الذَّمَّ، كَذَا مَنْ عَظَّمَ اللَّه تَعَالَى حَالَ أَدَائِهِ الْعِبَادَةَ صَارَ مُقِيمًا لِلْفَرْضِ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ، وَمَنِ اسْتَهَانَ بِهَا صَارَ مُقِيمًا لِلْفَرْضِ ظَاهِرًا لَكِنَّهُ اسْتَحَقَّ الذَّمَّ وَثَانِيهَا: أَنَّا نَمْنَعُ هَذَا الْإِجْمَاعَ، أَمَّا الْمُتَكَلِّمُونَ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْحُضُورِ وَالْخُشُوعِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ السُّجُودَ للَّه تَعَالَى طَاعَةٌ وَلِلصَّنَمِ كُفْرٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُمَاثِلُ الْآخَرَ فِي ذَاتِهِ وَلَوَازِمِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ لِأَجْلِهِ صَارَ السُّجُودُ فِي إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ طَاعَةً، / وَفِي الْأُخْرَى مَعْصِيَةً، قَالُوا وَمَا ذَاكَ إِلَّا الْقَصْدُ وَالْإِرَادَةُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْقَصْدِ إِيقَاعُ تِلْكَ الْأَفْعَالِ لِدَاعِيَةِ الِامْتِثَالِ، وَهَذِهِ الدَّاعِيَةُ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهَا إِلَّا عِنْدَ الْحُضُورِ، فَلِهَذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْحُضُورِ، أَمَّا الْفُقَهَاءُ فَقَدْ ذَكَرَ الفقيه أبو الليث رحمه اللَّه «تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ» : أَنَّ تَمَامَ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَقْرَأَ بِغَيْرِ لَحْنٍ وَأَنْ يَقْرَأَ بِالتَّفَكُّرِ. وَأَمَّا الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّه فَإِنَّهُ نَقَلَ عَنْ أَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ عَنْ بِشْرٍ الْحَافِي أَنَّهُ قَالَ: مَنْ لَمْ يَخْشَعْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ. وَعَنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّه: كُلُّ صَلَاةٍ لَا يَحْضُرُ فِيهَا الْقَلْبُ فَهِيَ إِلَى الْعُقُوبَةِ أَسْرَعُ. وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: مَنْ عَرَفَ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ مُتَعَمِّدًا وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ. وَرُوِيَ أَيْضًا مُسْنَدًا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ لَا يُكْتَبُ لَهُ سُدُسُهَا وَلَا عُشْرُهَا، وَإِنَّمَا يُكْتَبُ لِلْعَبْدِ مِنْ صَلَاتِهِ مَا عَقَلَ مِنْهَا» . وَقَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ: أَجْمَعَتِ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا مَا عَقَلَ، وَادَّعَى فِيهِ الْإِجْمَاعَ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ هَبْ أَنَّ الْفُقَهَاءَ بِأَسْرِهِمْ حَكَمُوا بِالْجَوَازِ، أَلَيْسَ الْأُصُولِيُّونَ وَأَهْلُ الْوَرَعِ ضَيَّقُوا الْأَمْرَ فِيهَا، فَهَلَّا أَخَذْتَ بِالِاحْتِيَاطِ فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ اخْتَارَ الْإِمَامَةَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَخَافُ إِنْ تَرَكْتُ الْفَاتِحَةَ أَنْ يُعَاتِبَنِي الشَّافِعِيُّ، وَإِنْ قَرَأْتُهَا مَعَ الْإِمَامِ أَنْ يُعَاتِبَنِي أَبُو حَنِيفَةَ، فَاخْتَرْتُ الْإِمَامَةَ طَلَبًا لِلْخَلَاصِ عَنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ واللَّه أَعْلَمُ.

الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَفِي اللَّغْوِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا كَانَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ كَانَ مُبَاحًا، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ بِالْمَرْءِ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ وَحَاجَةٌ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا كَانَ حَرَامًا فَقَطْ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَخَصُّ مِنَ الْأَوَّلِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فِي الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ خَاصَّةً، وَهَذَا أَخَصُّ مِنَ الثَّانِي وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ الْمُبَاحُ الَّذِي لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ [المائدة: 89] فَكَيْفَ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى الْمَعَاصِي الَّتِي لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ، وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ اللَّغْوَ إِنَّمَا سُمِّيَ لَغْوًا بِمَا أَنَّهُ يُلْغَى وَكُلُّ مَا يَقْتَضِي الدِّينُ إِلْغَاءَهُ كَانَ أَوْلَى بِاسْمِ اللَّغْوِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ حَرَامٍ لَغْوًا، ثُمَّ اللَّغْوُ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا لِقَوْلِهِ: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فُصِّلَتْ: 26] وَقَدْ يَكُونُ كَذِبًا لِقَوْلِهِ: لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً [الْغَاشِيَةِ: 11] وَقَوْلُهُ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً [الْوَاقِعَةِ: 25] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَدَحَهُمْ بِأَنَّهُمْ يُعْرِضُونَ عَنْ هَذَا اللَّغْوِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ، هُوَ بِأَنْ لَا يَفْعَلَهُ وَلَا يَرْضَى بِهِ وَلَا يُخَالِطَ مَنْ يَأْتِيهِ، وَعَلَى هَذَا الوجه قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفُرْقَانِ: 72] وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا وَصَفَهُمْ بِالْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ أَتْبَعَهُ الْوَصْفَ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ، لِيَجْمَعَ لَهُمُ الْفِعْلَ وَالتَّرْكَ الشَّاقَّيْنِ على الأنفس الذين هُمَا قَاعِدَتَا بِنَاءِ التَّكْلِيفِ وَهُوَ أَعْلَمُ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ وَفِي الزَّكَاةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ: أَنَّ فِعْلَ الزَّكَاةِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ فِعْلٍ مَحْمُودٍ مَرَضِيٍّ، كَقَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الْأَعْلَى: 14] وَقَوْلِهِ: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النَّجْمِ: 32] وَمِنْ جُمْلَتِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْ حَقِّ الْمَالِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُطَهِّرُ مِنَ الذُّنُوبِ لِقَوْلِهِ/ تَعَالَى: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التَّوْبَةِ: 103] . وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ الْحَقُّ الْوَاجِبُ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ. لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ قَدِ اخْتَصَّتْ فِي الشَّرْعِ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ لَا يُقَالُ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ إِنَّهُ فَعَلَ الزَّكَاةَ، قُلْنَا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الزَّكَاةُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ عَيْنٍ وَمَعْنًى، فَالْعَيْنُ الْقَدْرُ الَّذِي يُخْرِجُهُ الْمُزَكِّي مِنَ النِّصَابِ إِلَى الْفَقِيرِ، وَالْمَعْنَى فِعْلُ الْمُزَكِّي الَّذِي هُوَ التَّزْكِيَةُ وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّه تَعَالَى فَجَعَلَ الْمُزَكِّينَ فَاعِلِينَ لَهُ وَلَا يَسُوغُ فِيهِ غَيْرُهُ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ مَصْدَرٍ إِلَّا يُعَبَّرُ عَنْ مَعْنَاهُ بِالْفِعْلِ. وَيُقَالُ لِمُحَدِثِهِ فَاعِلٌ، يُقَالُ لِلضَّارِبِ فَاعِلُ الضَّرْبِ، وَلِلْقَاتِلِ فَاعِلُ الْقَتْلِ، وَلِلْمُزَكِّي فَاعِلُ الزَّكَاةِ، وَعَلَى هَذَا الْكَلَامِ كُلِّهِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالزَّكَاةِ الْعَيْنُ، وَيُقَدَّرَ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ وَهُوَ الْأَدَاءُ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ اللَّه تَعَالَى هُنَاكَ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَلِمَ فَصَلَ هَاهُنَا بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ؟ قُلْنَا لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ اللَّغْوِ مِنْ مُتَمِّمَاتِ الصَّلَاةِ. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ، إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ إِلَّا عَنْ أَزْوَاجِهِمْ الْجَوَابُ: قَالَ الْفَرَّاءُ مَعْنَاهُ إِلَّا مِنْ أَزْوَاجِهِمْ وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِيهِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ إِلَّا وَالِينَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ قَوَّامِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ قَوْلِكَ كَانَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانَةٍ، وَنَظِيرُهُ كَانَ زِيَادٌ عَلَى الْبَصْرَةِ أَيْ وَالِيًا عَلَيْهَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فُلَانَةٌ تَحْتَ فُلَانٍ وَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَتِ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ فِي كافة الأحوال إلا في حال تزوجهم أَوْ تَسَرِّيهِمْ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ غَيْرُ مَلُومِينَ كَأَنَّهُ قِيلَ يُلَامُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَيْ يُلَامُونَ عَلَى كُلِّ مُبَاشَرَةٍ إِلَّا عَلَى مَا

أُطْلِقَ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ عَلَيْهِ وَهُوَ قول الزجاج وثالثها: أن تجعله صلة لحافظين. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلَّا قِيلَ مَنْ مَلَكَتْ الْجَوَابُ: لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي السُّرِّيَّةِ وَصْفَانِ: أَحَدُهُمَا: الْأُنُوثَةُ وَهِيَ مَظِنَّةُ نُقْصَانِ الْعَقْلِ وَالْآخَرُ كَوْنُهَا بِحَيْثُ تُبَاعُ وَتُشْتَرَى كَسَائِرِ السِّلَعِ، فَلِاجْتِمَاعِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فِيهَا جُعِلَتْ كَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْعُقَلَاءِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ عَلَى مَا يُرْوَى عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْجَوَابُ: نَعَمْ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً لَهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَحِلَّ لَهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً لَهُ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَةً لَهُ لَحَصَلَ التَّوَارُثُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ [النِّسَاءِ: 12] وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ لَهُ وَجَبَ أَنْ لَا تَحِلَّ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: أَلَيْسَ لَا يَحِلُّ لَهُ فِي الزَّوْجَةِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ الِاسْتِمْتَاعُ فِي أَحْوَالٍ كَحَالِ الْحَيْضِ وَحَالِ الْعِدَّةِ وَفِي الْأَمَةِ حَالَ تَزْوِيجِهَا مِنَ الْغَيْرِ وَحَالَ عِدَّتِهَا، وَكَذَا الغلام داخل في ظاهر قوله وتعالى: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ/ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ لَا يَكُونُ إِثْبَاتًا وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ وَلَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ» فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي حُصُولَ الصَّلَاةِ بِمُجَرَّدِ حُصُولِ الطُّهُورِ وَحُصُولَ النِّكَاحِ بِمُجَرَّدِ حُصُولِ الْوَلِيِّ. وَفَائِدَةُ الِاسْتِثْنَاءِ صَرْفُ الْحُكْمِ لَا صَرْفُ الْمَحْكُومِ بِهِ فَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَجِبُ حِفْظُ الْفُرُوجِ عَنِ الْكُلِّ إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ فَإِنِّي مَا ذَكَرْتُ حُكْمَهُمَا لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ الثَّانِي: أَنَّا إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، فَغَايَتُهُ أَنَّهُ عَامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ بِالدَّلِيلِ فَيَبْقَى فِيمَا وَرَاءَهُ حُجَّةً. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ يَعْنِي الْكَامِلُونَ فِي الْعُدْوَانِ الْمُتَنَاهُونَ فِيهِ. الصِّفَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ لِأَمَانَتِهِمْ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُسَمَّى الشَّيْءُ الْمُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ وَالْمُعَاهَدُ عَلَيْهِ أَمَانَةً وَعَهْدًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النِّسَاءِ: 58] وَقَالَ: وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [الْأَنْفَالِ: 27] وَإِنَّمَا تُؤَدَّى الْعُيُونُ دُونَ الْمَعَانِي فَكَانَ الْمُؤْتَمَنُ عليه الأمانة في نفسه وَالْعَهْدُ، مَا عَقَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِيمَا يُقَرِّبُهُ إِلَى رَبِّهِ وَيَقَعُ أَيْضًا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِهِ كَقَوْلِهِ: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا [آلِ عِمْرَانَ: 183] وَالرَّاعِي الْقَائِمُ عَلَى الشَّيْءِ لِحِفْظٍ وَإِصْلَاحٍ كَرَاعِي الْغَنَمِ وَرَاعِي الرَّعِيَّةِ، وَيُقَالُ مَنْ رَاعِي هَذَا الشَّيْءِ؟ أَيْ موليه. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمَانَةَ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا تَرْكُهُ يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْخِيَانَةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [الْأَنْفَالِ: 27] فَمِنْ ذَلِكَ الْعِبَادَاتُ الَّتِي الْمَرْءُ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهَا وَكُلُّ الْعِبَادَاتِ تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَخْفَى أَصْلًا كَالصَّوْمِ وَغُسْلِ الجناية وَإِسْبَاغِ الْوُضُوءِ أَوْ تَخْفَى كَيْفِيَّةُ إِتْيَانِهِ بِهَا وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَعْظَمُ النَّاسِ خِيَانَةً مَنْ لَمْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ» وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةُ وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ الصَّلَاةُ» وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَا يَلْتَزِمُهُ بِفِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ كَالْوَدَائِعِ وَالْعُقُودِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِمَا. ومن ذلك الأقوال التي يحرم بِهَا الْعَبِيدُ وَالنِّسَاءُ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ فِي ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُرَاعِيَ أَمَانَتَهُ فَلَا يُفْسِدَهَا بِغَصْبٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَمَّا الْعَهْدُ فَإِنَّهُ دَخَلَ فِيهِ الْعُقُودُ وَالْأَيْمَانُ وَالنُّذُورُ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مُرَاعَاةَ هَذِهِ الْأُمُورِ وَالْقِيَامَ بِهَا مُعْتَبَرٌ فِي حُصُولِ الْفَلَاحِ. الصِّفَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ وَإِنَّمَا أَعَادَ تَعَالَى ذِكْرَهَا لأن الخشوع

وَالْمُحَافَظَةَ مُتَغَايِرَانِ غَيْرُ مُتَلَازِمَيْنِ، فَإِنَّ الْخُشُوعَ صِفَةٌ لِلْمُصَلِّي فِي حَالِ الْأَدَاءِ لِصَلَاتِهِ وَالْمُحَافَظَةُ إِنَّمَا تَصِحُّ حَالَ مَا لَمْ يُؤَدِّهَا بِكَمَالِهَا. بَلِ الْمُرَادُ بِالْمُحَافَظَةِ التَّعَهُّدُ لِشُرُوطِهَا مِنْ وَقْتٍ وَطَهَارَةٍ وَغَيْرِهِمَا وَالْقِيَامُ عَلَى أَرْكَانِهَا وَإِتْمَامِهَا حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ دَأْبَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى مَجْمُوعَ هَذِهِ الْأُمُورِ قَالَ: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ سَمَّى مَا يَجِدُونَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْجَنَّةِ بِالْمِيرَاثِ؟ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَمَ بِأَنَّ الْجَنَّةَ حَقُّهُمْ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التَّوْبَةِ: 111] الْجَوَابُ: مِنْ/ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: مَا رُوِيَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَبْيَنُ عَلَى مَا يُقَالُ فِيهِ وَهُوَ: أَنَّهُ لَا مُكَلَّفٌ إِلَّا أَعَدَّ اللَّه لَهُ فِي النَّارِ مَا يَسْتَحِقُّهُ إِنْ عَصَى وَفِي الْجَنَّةِ مَا يَسْتَحِقُّهُ إِنْ أَطَاعَ وَجَعَلَ لِذَلِكَ عَلَامَةً. فَإِذَا آمَنَ مِنْهُمُ الْبَعْضُ وَلَمْ يُؤْمِنِ الْبَعْضُ صَارَ مَنْزِلُ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ كَالْمَنْقُولِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَصَارَ مَصِيرُهُمْ إِلَى النَّارِ الَّذِي لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ حِرْمَانِ الثَّوَابِ كَمَوْتِهِمْ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ مِيرَاثًا لِهَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ إِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا مَلَكَهُ الْمَيِّتُ وَبَيْنَ مَا يُقَدِّرُ فِيهِ الْمَلِكُ فِي أَنَّهُ يُورَثُ عَنْهُ كَذَلِكَ قَالُوا فِي الدِّيَةِ الَّتِي تَجِبُ بِالْقَتْلِ إِنَّهَا تُورَثُ مَعَ أَنَّهُ مَا مَلَكَهَا عَلَى التحقيق وذلك يشهد بما ذَكَرْنَا، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ كُلَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ إِرْثًا وَعَلَى مَا قُلْتُمْ يَدْخُلُ فِي الْإِرْثِ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُمْ لَوْ أَطَاعَ. قُلْنَا لَا يَمْتَنِعُ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مَا هُوَ مَنْزِلَةٌ لِهَذَا الْمُؤْمِنِ بِعَيْنِهِ مَنْزِلَةً لِذَلِكَ الْكَافِرِ لَوْ أَطَاعَ لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ كَانَ يَزِيدُ فِي الْمَنَازِلِ فَإِذَا آمَنَ هَذَا عَدَلَ بِذَلِكَ إِلَيْهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ انْتِقَالَ الْجَنَّةِ إِلَيْهِمْ بِدُونِ مُحَاسَبَةٍ وَمَعْرِفَةٍ بِمَقَادِيرِهِ يُشْبِهُ انْتِقَالَ الْمَالِ إِلَى الْوَارِثِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْجَنَّةَ كَانَتْ مَسْكَنَ أَبِينَا آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِذَا انْتَقَلَتْ إِلَى أَوْلَادِهِ صَارَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِالْمِيرَاثِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ حَكَمَ عَلَى الْمَوْصُوفِينَ بِالصِّفَاتِ السَّبْعِ بِالْفَلَاحِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى مَا تَمَّمَ ذِكْرَ الْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ كَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالطَّهَارَةِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ كَمَا قَدَّمْنَا وَالطَّهَارَاتُ دَخَلَتْ فِي جُمْلَةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لِكَوْنِهَا مِنْ شَرَائِطِهَا. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَفَيَدُلُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا غَيْرُهُمْ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ: هُمُ الْوارِثُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ لَكِنَّهُ يَجِبُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْجَنَّةَ يَدْخُلُهَا الْأَطْفَالُ وَالْمَجَانِينُ وَالْوِلْدَانُ وَالْحُورُ الْعِينُ وَيَدْخُلُهَا الْفُسَّاقُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بَعْدَ الْعَفْوِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] . السُّؤَالُ الرَّابِعُ: أَفَكُلُّ الْجَنَّةِ هُوَ الْفِرْدَوْسُ؟ الْجَوَابُ: الْفِرْدَوْسُ هُوَ الْجَنَّةُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ وَقِيلَ بِلِسَانِ الرُّومِ، وَرَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْفِرْدَوْسُ مَقْصُورَةُ الرَّحْمَنِ فِيهَا الْأَنْهَارُ وَالْأَشْجَارُ» وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «سَلُوا اللَّه الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهَا أَعْلَى الْجِنَانِ، وَإِنَّ أَهْلَ الْفِرْدَوْسِ يَسْمَعُونَ أَطِيطَ الْعَرْشِ» . السُّؤَالُ الْخَامِسُ: هَلْ تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ هِيَ الَّتِي لَهَا وَلِأَجْلِهَا يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: ادَّعَى الْقَاضِي أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْإِيمَانَ اسْمٌ شَرْعِيٌّ مَوْضُوعٌ لِأَدَاءِ كُلِّ الْوَاجِبَاتِ، وَعِنْدَنَا أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ مِثْلُ قد أفلح

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 إلى 17]

النَّاسُ الْأَذْكِيَاءُ الْعُدُولُ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ وَالْعَدَالَةَ دَاخِلَانِ فِي مُسَمَّى النَّاسِ فَكَذَا هَاهُنَا. السُّؤَالُ السَّادِسُ: رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّه تَعَالَى جَنَّةَ عَدْنٍ قَالَ/ لَهَا تَكَلَّمِي فَقَالَتْ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» وَقَالَ كَعْبٌ: «خَلَقَ اللَّه آدَمَ بِيَدِهِ وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ وَغَرَسَ شَجَرَةَ طُوبَى بِيَدِهِ، ثم قال لَهَا تَكَلَّمِي فَقَالَتْ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» ، وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِذَا أَحْسَنَ الْعَبْدُ الْوُضُوءَ وَصَلَّى الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا وَحَافَظَ عَلَى رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَمَوَاقِيتِهَا قَالَتْ حَفِظَكَ اللَّه كَمَا حَافَظْتَ عَلَيَّ، وَشَفَعَتْ لِصَاحِبِهَا. وَإِذَا أَضَاعَهَا قَالَتْ أَضَاعَكَ اللَّه كَمَا ضَيَّعْتَنِي وَتُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الْخَلِقُ فَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا» الْجَوَابُ: أَمَّا كَلَامُ الْجَنَّةِ فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهَا أُعِدَّتْ لِلْمُؤْمِنِينَ فَصَارَ ذَلِكَ كَالْقَوْلِ مِنْهَا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فُصِّلَتْ: 11] وَأَمَّا أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْجَنَّةَ بِيَدِهِ فَالْمُرَادُ تَوَلَّى خَلْقَهَا لَا أَنَّهُ وَكَلَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا أَنَّ الصَّلَاةَ تُثْنِي عَلَى مَنْ قَامَ بِحَقِّهَا فَهُوَ فِي الْجَوَازِ أَبْعَدُ مِنْ كَلَامِ الْجَنَّةِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ حَرَكَاتٌ وَسَكَنَاتٌ وَلَا يَصِحُّ عَلَيْهَا أَنْ تَتَصَوَّرَ وَتَتَكَلَّمَ فَالْمُرَادُ مِنْهُ ضَرْبُ الْمَثَلِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِلْمُنْعِمِ إِنَّ إِحْسَانَكَ إِلَيَّ يَنْطِقُ بِالشُّكْرِ. السُّؤَالُ السَّابِعُ: هَلْ تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْفِرْدَوْسَ مَخْلُوقَةٌ؟ الْجَوَابُ: قَالَ الْقَاضِي دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُكُلُها دائِمٌ [الرَّعْدِ: 35] عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَوَجَبَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَخْلُقُ اللَّه الْجَنَّةَ مِيرَاثًا لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْ وَإِذَا خَلَقَهَا تَقُولُ عَلَى مِثَالِ مَا تَأَوَّلْنَا عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَافِ: 50] وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ إِضْمَارُ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُضْمَرَ فِي قَوْلِهِ: أُكُلُها دائِمٌ [الرعد: 35] ثُمَّ إِنَّ أُكُلَهَا دَائِمٌ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا تَعَارَضَ هَذَانِ الظَّاهِرَانِ فَنَحْنُ نَتَمَسَّكُ فِي أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آلِ عمران: 133] . [سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 17] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَمَرَ بِالْعِبَادَاتِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالِاشْتِغَالُ بِعِبَادَةِ اللَّه لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْإِلَهِ الْخَالِقِ، لَا جَرَمَ عَقَّبَهَا بِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِهِ وَاتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ فَذَكَرَ مِنَ الدَّلَائِلِ أَنْوَاعًا: النوع الْأَوَّلُ: الِاسْتِدْلَالُ بِتَقَلُّبِ الْإِنْسَانِ فِي أَدْوَارِ الْخِلْقَةِ وَأَكْوَانِ الْفِطْرَةِ وَهِيَ تِسْعَةٌ: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ وَالسُّلَالَةُ الْخُلَاصَةُ لِأَنَّهَا تُسَلُّ مِنْ بَيْنِ الْكَدَرِ، فُعَالَةٌ وَهُوَ بِنَاءٌ يَدُلُّ عَلَى الْقِلَّةِ كَالْقُلَامَةِ وَالْقُمَامَةِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي الْإِنْسَانَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ مِنْهُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَآدَمُ سُلَّ مِنَ الطِّينِ وَخُلِقَتْ ذُرِّيَّتُهُ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَا الْكِنَايَةَ رَاجِعَةً إِلَى الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ وَلَدُ آدَمَ، وَالْإِنْسَانُ شَامِلٌ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِوَلَدِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ:

الْإِنْسَانُ هَاهُنَا وَلَدُ آدَمَ وَالطِّينُ هَاهُنَا اسْمُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالسُّلَالَةُ هِيَ الْأَجْزَاءُ الطِّينِيَّةُ الْمَبْثُوثَةُ فِي أَعْضَائِهِ الَّتِي لَمَّا اجْتَمَعَتْ وَحَصَلَتْ فِي أَوْعِيَةِ الْمَنِيِّ صَارَتْ مَنِيًّا، وَهَذَا التَّفْسِيرُ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السَّجْدَةِ: 7، 8] وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ النُّطْفَةِ وَهِيَ إِنَّمَا تَتَوَلَّدُ مِنْ فَضْلِ الْهَضْمِ الرَّابِعِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْأَغْذِيَةِ، وَهِيَ إِمَّا حَيَوَانِيَّةٌ وَإِمَّا نَبَاتِيَّةٌ، وَالْحَيَوَانِيَّةُ تَنْتَهِي إِلَى النَّبَاتِيَّةِ، وَالنَّبَاتُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ صَفْوِ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ فَالْإِنْسَانُ بِالْحَقِيقَةِ يَكُونُ مُتَوَلِّدًا مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ السُّلَالَةَ بَعْدَ أَنْ تَوَارَدَتْ عَلَى أَطْوَارِ الْخِلْقَةِ وَأَدْوَارِ الْفِطْرَةِ صَارَتْ مَنِيًّا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُطَابِقٌ لِلَّفْظِ وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى التَّكَلُّفَاتِ. الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ وَمَعْنَى جَعْلِ الْإِنْسَانِ نُطْفَةً أَنَّهُ خَلَقَ جَوْهَرَ الْإِنْسَانِ أَوَّلًا طِينًا، ثُمَّ جَعَلَ جَوْهَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ نُطْفَةً فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ فَقَذَفَهُ الصُّلْبُ بِالْجِمَاعِ إِلَى رَحِمِ الْمَرْأَةِ فَصَارَ الرَّحِمُ قَرَارًا مَكِينًا لِهَذِهِ النُّطْفَةِ وَالْمُرَادُ بِالْقَرَارِ مَوْضِعُ الْقَرَارِ وَهُوَ الْمُسْتَقَرُّ فَسَمَّاهُ بِالْمَصْدَرِ ثُمَّ وَصَفَ الرَّحِمَ بِالْمَكَانَةِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ الْمُسْتَقِرِّ فِيهَا كَقَوْلِكَ طَرِيقٌ سَائِرٌ أَوْ لِمَكَانَتِهَا فِي نَفْسِهَا لِأَنَّهَا تَمَكَّنَتْ مِنْ حَيْثُ هِيَ وَأُحْرِزَتْ. الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أَيْ حَوَّلْنَا النُّطْفَةَ عَنْ صِفَاتِهَا إِلَى صِفَاتِ الْعَلَقَةِ وَهِيَ الدَّمُ الْجَامِدُ. الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً أَيْ جَعَلْنَا ذَلِكَ الدَّمَ الْجَامِدَ مُضْغَةً أَيْ قِطْعَةَ لَحْمٍ كَأَنَّهَا مِقْدَارُ مَا يُمْضَغُ كَالْغُرْفَةِ وَهِيَ مِقْدَارُ مَا يُغْتَرَفُ، وَسُمِّيَ التَّحْوِيلُ خَلْقًا لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُفْنِي بَعْضَ أَعْرَاضِهَا وَيَخْلُقُ أعراضا غيرها فسمى خلق الأعراض خلقا لها وَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَخْلُقُ فِيهَا أَجْزَاءً زَائِدَةً. الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً أَيْ صَيَّرْنَاهَا كَذَلِكَ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ عَظْمًا وَالْمُرَادُ منه الجمع كقوله: وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا. الْمَرْتَبَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّحْمَ يَسْتُرُ الْعَظْمَ فَجَعَلَهُ كَالْكِسْوَةِ لَهَا. الْمَرْتَبَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أَيْ خَلْقًا مُبَايِنًا لِلْخَلْقِ الْأَوَّلِ مُبَايَنَةً/ مَا أَبْعَدَهَا حَيْثُ جَعَلَهُ حَيَوَانًا وَكَانَ جَمَادًا، وَنَاطِقًا وَكَانَ أَبْكَمَ، وَسَمِيعًا وَكَانَ أَصَمَّ، وَبَصِيرًا وَكَانَ أَكْمَهَ، وَأَوْدَعَ بَاطِنَهُ وَظَاهِرَهُ بَلْ كُلَّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَكُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ عَجَائِبَ فِطْرَةٍ وَغَرَائِبَ حِكْمَةٍ لَا يُحِيطُ بِهَا وَصْفُ الْوَاصِفِينَ، وَلَا شَرْحُ الشَّارِحِينَ، وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: هُوَ تَصْرِيفُ اللَّه إِيَّاهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فِي أَطْوَارِهِ فِي زَمَنِ الطُّفُولِيَّةِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى اسْتِوَاءِ الشَّبَابِ، وَخَلْقِ الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى أَنْ يَمُوتَ، وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَإِنَّمَا قَالَ: أَنْشَأْناهُ لِأَنَّهُ جَعَلَ إِنْشَاءَ الرُّوحِ فِيهِ، وَإِتْمَامَ خَلْقِهِ إِنْشَاءً لَهُ قَالُوا فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ النَّظَّامِ فِي أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ الرُّوحُ لَا الْبَدَنُ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَفِيهَا دَلَالَةٌ أَيْضًا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ الْإِنْسَانَ شَيْءٌ لَا يَنْقَسِمُ، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَيْ فَتَعَالَى اللَّه فَإِنَّ الْبَرَكَةَ يَرْجِعُ مَعْنَاهَا إِلَى الِامْتِدَادِ وَالزِّيَادَةِ، وَكُلُّ مَا زَادَ عَلَى

الشَّيْءِ فَقَدْ عَلَاهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى، وَالْبَرَكَاتُ وَالْخَيْرَاتُ كُلُّهَا مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَقِيلَ أَصْلُهُ مِنَ الْبُرُوكِ وَهُوَ الثَّبَاتُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ وَالْبَقَاءُ وَالدَّوَامُ. وَالْبَرَكَاتُ كُلُّهَا مِنْهُ فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلتَّعْظِيمِ وَالثَّنَاءِ، وَقَوْلُهُ: أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أَيْ أَحْسَنُ الْمُقَدِّرِينَ تَقْدِيرًا فَتَرَكَ ذِكْرَ الْمُمَيَّزِ لِدَلَالَةِ الْخَالِقِينَ عَلَيْهِ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ لَوْلَا أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ يَكُونُ خَالِقًا لِفِعْلِهِ إِذَا قَدَّرَهُ لَمَا جَازَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي عِبَادِهِ مَنْ يَحْكُمُ وَيَرْحَمُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ فِيهِ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَالْخَلْقُ فِي اللُّغَةِ هُوَ كُلُّ فِعْلٍ وُجِدَ مِنْ فَاعِلِهِ مُقَدَّرًا لَا عَلَى سَهْوٍ وَغَفْلَةٍ، وَالْعِبَادُ قَدْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، قَالَ الْكَعْبِيُّ هَذِهِ الْآيَةُ، وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ خَالِقٌ إِلَّا أَنَّ اسْمَ الْخَالِقِ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْعَبْدِ إِلَّا مَعَ الْقَيْدِ كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ رَبُّ الدَّارِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ رَبٌّ بِلَا إِضَافَةٍ، وَلَا يَقُولُ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ هُوَ رَبِّي، وَلَا يُقَالُ إِنَّمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ يَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ لِأَنَّا نُجِيبُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ الَّذِينَ هُمْ جَمْعٌ فَحَمْلُهُ عَلَى عِيسَى خَاصَّةً لَا يَصِحُّ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا صَحَّ وَصْفُ عِيسَى بِأَنَّهُ يَخْلُقُ صَحَّ وَصْفُ غَيْرِهِ مِنَ الْمُصَوِّرِينَ أَيْضًا بِأَنَّهُ يَخْلُقُ؟ وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُعَارَضَةٌ بِقَوْلِ اللَّه تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62] فَوَجَبَ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فِي اعْتِقَادِكُمْ وَظَنِّكُمْ، كَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: 27] أَيْ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ فِي اعْتِقَادِكُمْ وَظَنِّكُمْ وَالْجَوَابُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمُقَدِّرُ لِأَنَّ الْخَلْقَ هُوَ التَّقْدِيرُ وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَحْسَنُ الْمُقَدِّرِينَ، وَالتَّقْدِيرُ يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّه سُبْحَانَهُ مُحَالٌ، فَتَكُونُ الْآيَةُ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي/ كَوْنَ الْعَبْدِ خَالِقًا بِمَعْنَى كَوْنِهِ مُقَدِّرًا، لَكِنْ لِمَ قُلْتَ بِأَنَّهُ خَالِقٌ بِمَعْنَى كَوْنِهِ مُوجِدًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ حَسَنٌ وَحِكْمَةٌ وَصَوَابٌ وَإِلَّا لَمَا جَازَ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ خَالِقًا لِلْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ هُوَ الْمُوجِدَ لَهُمَا؟ وَالْجَوَابُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ الْحَسَنَ عَلَى الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ فِي التَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ، ثُمَّ لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا قَالُوهُ فَعِنْدَنَا أَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ اللَّه تَعَالَى كُلُّ الأشياء لأنه ليس فوقه أمر ونهي حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُ عَنْ فِعْلِ شَيْءٍ. المسألة الثَّالِثَةُ: رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ كَانَ يَكْتُبُ هَذِهِ الْآيَاتِ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: خَلْقاً آخَرَ عَجِبَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْتُبْ فَهَكَذَا نَزَلَتْ» فَشَكَّ عَبْدُ اللَّه وَقَالَ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فِيمَا يَقُولُ فَإِنَّهُ يُوحَى إِلَيَّ كَمَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَلَا خَيْرَ فِي دِينِهِ فَهَرَبَ إِلَى مَكَّةَ فَقِيلَ إِنَّهُ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ، وَقِيلَ إِنَّهُ أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا نَزَلَتْ يَا عُمَرُ. وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: وَافَقَنِي رَبِّي فِي أَرْبَعٍ، فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ الْمَقَامِ، وَفِي ضَرْبِ الْحِجَابِ عَلَى النِّسْوَةِ، وَقَوْلِي لَهُنَّ: لَتَنْتَهُنَّ أَوْ لَيُبْدِلَنَّهُ اللَّه خَيْرًا مِنْكُنَّ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ [التَّحْرِيمِ: 5] وَالرَّابِعُ قُلْتُ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فَقَالَ هَكَذَا نَزَلَتْ. قَالَ الْعَارِفُونَ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ كَانَتْ سَبَبَ السَّعَادَةِ لِعُمَرَ، وَسَبَبَ الشَّقَاوَةِ لِعَبْدِ

اللَّه كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [الْبَقَرَةِ: 26] فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى كُلِّ الرِّوَايَاتِ قَدْ تَكَلَّمَ الْبَشَرُ ابْتِدَاءً بِمِثْلِ نَظْمِ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ مُعْجِزًا كَمَا ظَنَّهُ عَبْدُ اللَّه وَالْجَوَابُ: هَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ إِذَا كَانَ قَدْرُهُ الْقَدْرَ الَّذِي لَا يَظْهَرُ فِيهِ الْإِعْجَازُ فَسَقَطَتْ شُبْهَةُ عَبْدِ اللَّه. الْمَرْتَبَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ قَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ لَمَائِتُونَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَيِّتِ وَالْمَائِتِ، أَنَّ الْمَيِّتَ كَالْحَيِّ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ، وَأَمَّا الْمَائِتُ فَيَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ تَقُولُ زَيْدٌ مَيِّتٌ الْآنَ وَمَائِتٌ غَدًا، وَكَقَوْلِكَ يَمُوتُ وَنَحْوُهُمَا ضَيِّقٌ وَضَائِقٌ فِي قَوْلِهِ: وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [هُودٍ: 12] . الْمَرْتَبَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ فاللَّه سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْإِمَاتَةَ الَّتِي هِيَ إِعْدَامُ الْحَيَاةِ وَالْبَعْثَ الَّذِي هُوَ إِعَادَةُ مَا يُفْنِيهِ وَيُعْدِمُهُ دَلِيلَيْنِ أَيْضًا عَلَى اقْتِدَارٍ عَظِيمٍ بَعْدَ الْإِنْشَاءِ وَالِاخْتِرَاعِ وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي الْمَوْتِ، وَهَلَّا وَصَلَ نَعِيمَ الْآخِرَةِ وَثَوَابَهَا بِنَعِيمِ الدُّنْيَا فَيَكُونَ ذَلِكَ فِي الْإِنْعَامِ أَبْلَغَ؟ وَالْجَوَابُ: هَذَا كَالْمَفْسَدَةِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ لِأَنَّهُ مَتَى عُجِّلَ لِلْمَرْءِ الثَّوَابُ فِيمَا يَتَحَمَّلُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي الطَّاعَاتِ صَارَ إِتْيَانُهُ بِالطَّاعَاتِ لِأَجْلِ تِلْكَ الْمَنَافِعِ لَا لِأَجْلِ طَاعَةِ اللَّه، يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لِمَنْ يُصَلِّي وَيَصُومُ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ أَدْخَلْنَاكَ الْجَنَّةَ فِي الْحَالِ، فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي بِذَلِكَ الْفِعْلِ/ إِلَّا لِطَلَبِ الْجَنَّةِ، فَلَا جَرَمَ أَخَّرَهُ اللَّه تَعَالَى وَبَعَّدَهُ بِالْإِمَاتَةِ ثُمَّ الْإِعَادَةِ لِيُكُونَ الْعَبْدُ عَابِدًا لِرَبِّهِ بِطَاعَتِهِ لَا لِطَلَبِ الِانْتِفَاعِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ عَذَابِ الْقَبْرِ لِأَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ وَلَمْ يَذْكُرْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الْإِحْيَاءَ فِي الْقَبْرِ وَالْإِمَاتَةَ وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِكْرِ الْحَيَاتَيْنِ نَفْيُ الثالثة والثاني: أن الغرض من ذكر هذه الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ الْإِنْشَاءُ وَالْإِمَاتَةُ وَالْإِعَادَةُ، وَالَّذِي تُرِكَ ذكره فهو من جنس الإعادة. النوع الثاني: من الدلائل الاستدلال بخلقة السموات وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ [المؤمنون: 17] . فقوله: سَبْعَ طَرائِقَ [المؤمنون: 17] أي سبع سموات وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا طَرَائِقُ لِتَطَارُقِهَا بِمَعْنَى كَوْنِ بَعْضِهَا فَوْقَ بَعْضٍ يُقَالُ طَارَقَ الرَّجُلُ نَعْلَيْهِ إِذَا أَطْبَقَ نَعْلًا عَلَى نَعْلٍ وَطَارَقَ بَيْنَ ثَوْبَيْنِ إِذَا لَبِسَ ثَوْبًا فَوْقَ ثَوْبٍ. هَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ وَالزَّجَّاجِ وَالْفَرَّاءِ قَالَ الزَّجَّاجُ هُوَ كقوله: سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً [نوح: 15] وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا طَرَائِقُ لِلْمَلَائِكَةِ فِي الْعُرُوجِ وَالْهُبُوطِ وَالطَّيَرَانِ، وَقَالَ آخَرُونَ لِأَنَّهَا طَرَائِقُ الْكَوَاكِبِ فِيهَا مَسِيرُهَا وَالوجه فِي إِنْعَامِهِ عَلَيْنَا بِذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا مَوْضِعًا لِأَرْزَاقِنَا بِإِنْزَالِ الْمَاءِ مِنْهَا، وَجَعَلَهَا مَقَرًّا لِلْمَلَائِكَةِ، وَلِأَنَّهَا مَوْضِعُ الثَّوَابِ، وَلِأَنَّهَا مَكَانُ إِرْسَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَنُزُولِ الْوَحْيِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ [المؤمنون: 17] فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مَا كُنَّا غَافِلِينَ بَلْ كُنَّا لِلْخَلْقِ حَافِظِينَ مِنْ أَنْ تَسْقُطَ عَلَيْهِمُ الطَّرَائِقُ السَّبْعُ فَتُهْلِكَهُمْ وَهَذَا قَوْلُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فَاطِرٍ: 41] وَثَانِيهَا: إِنَّمَا خَلَقْنَاهَا فَوْقَهُمْ لِنُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ وَالْبَرَكَاتِ مِنْهَا عَنِ الْحَسَنِ وَثَالِثُهَا: أَنَّا خَلَقْنَا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَدَلَّ خَلْقُنَا لَهَا عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِنَا ثُمَّ بَيَّنَ كَمَالَ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ [المؤمنون: 17] يَعْنِي عَنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَضَمَائِرِهِمْ وَذَلِكَ يُفِيدُ نهاية الزجر

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 18 إلى 20]

ورابعها: وما كنا عن خلق السموات غَافِلِينَ بَلْ نَحْنُ لَهَا حَافِظُونَ لِئَلَّا تَخْرُجَ عَنِ التَّقْدِيرِ الَّذِي أَرَدْنَا كَوْنَهَا عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الْمُلْكِ: 3] . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ: إِحْدَاهَا: أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ فَإِنَّ انْقِلَابَ هَذِهِ الْأَجْسَامِ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ أُخْرَى تُضَادُّ الْأُولَى مَعَ إِمْكَانِ بَقَائِهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُحَوِّلٍ وَمُغَيِّرٍ. وَثَانِيَتُهَا: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ بِالطَّبِيعَةِ فَإِنَّ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ لَوْ حَصَلَ بِالطَّبِيعَةِ لَوَجَبَ بَقَاؤُهَا وَعَدَمُ تَغَيُّرِهَا وَلَوْ قُلْتَ إِنَّمَا تَغَيَّرَتْ تِلْكَ الصِّفَاتُ لِتَغَيُّرِ تِلْكَ الطَّبِيعَةِ افْتَقَرَتْ تِلْكَ الطَّبِيعَةُ إِلَى خَالِقٍ وَمُوجِدٍ وَثَالِثَتُهَا: تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُدَبِّرَ قَادِرٌ عَالِمٌ لِأَنَّ الْمُوجِبَ/ وَالْجَاهِلَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ هَذِهِ الْأَفْعَالُ الْعَجِيبَةُ وَرَابِعَتُهَا: تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَالِمٍ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ قَادِرٍ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ وَخَامِسَتُهَا: تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ نَظَرًا إِلَى صَرِيحِ الْآيَةِ وَنَظَرًا إِلَى أَنَّ الْفَاعِلَ لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ وَعَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِعَادَةِ التَّرْكِيبِ إِلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ كَمَا كَانَتْ وَسَادِسَتُهَا: أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّه تَعَالَى يَجِبُ أَنْ تَكُونَ اسْتِدْلَالِيَّةً لَا تَقْلِيدِيَّةً وَإِلَّا لَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الدَّلَائِلِ عبثا. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 18 الى 20] وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) النوع الثَّالِثُ: الِاسْتِدْلَالُ بِنُزُولِ الْأَمْطَارِ وَكَيْفِيَّةِ تَأْثِيرَاتِهَا في النبات. اعْلَمْ أَنَّ الْمَاءَ فِي نَفْسِهِ نِعْمَةٌ وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ سَبَبٌ لِحُصُولِ النِّعَمِ فَلَا جَرَمَ ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى أَوَّلًا ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَحْصُلُ بِهِ مِنَ النِّعَمِ ثَانِيًا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي السَّمَاءِ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّهُ تَعَالَى يُنْزِلُ الْمَاءَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ السَّمَاءِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ اللَّفْظِ وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ [الذَّارِيَاتِ: 22] وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ السَّحَابُ وَسَمَّاهُ سَمَاءً لِعُلُوِّهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَصْعَدَ الْأَجْزَاءَ الْمَائِيَّةَ مِنْ قَعْرِ الْأَرْضِ إِلَى الْبِحَارِ وَمِنِ الْبِحَارِ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى صَارَتْ عَذْبَةً صَافِيَةً بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّصْعِيدِ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الذَّرَّاتِ تَأْتَلِفُ وَتَتَكَوَّنُ ثُمَّ يُنْزِلُهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُنْتَفَعْ بِتِلْكَ الْمِيَاهِ لِتَفَرُّقِهَا فِي قَعْرِ الْأَرْضِ وَلَا بِمَاءِ الْبِحَارِ لِمُلُوحَتِهِ وَلِأَنَّهُ لَا حِيلَةَ فِي إِجْرَاءِ مِيَاهِ الْبِحَارِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لِأَنَّ الْبِحَارَ هِيَ الْغَايَةُ فِي الْعُمْقِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ إِنَّمَا يَتَمَحَّلُهَا مَنْ يُنْكِرُ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ فَأَمَّا من أقربه فَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِقَدَرٍ فَمَعْنَاهُ بِتَقْدِيرٍ يَسْلَمُونَ مَعَهُ مِنَ الْمَضَرَّةِ وَيَصِلُونَ إِلَى الْمَنْفَعَةِ فِي الزَّرْعِ وَالْغَرْسِ وَالشُّرْبِ، أَوْ بِمِقْدَارِ مَا عَلِمْنَاهُ مِنْ حَاجَاتِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ قِيلَ مَعْنَاهُ جَعَلْنَاهُ ثَابِتًا فِي الْأَرْضِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَزَلَ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْجَنَّةِ خَمْسَةَ أَنْهَارٍ سَيْحُونَ وَجَيْحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتَ وَالنِّيلَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا عِنْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَيَرْفَعُ أَيْضًا الْقُرْآنَ.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 21 إلى 22]

أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ أَيْ كَمَا قَدَرْنَا عَلَى إِنْزَالِهِ فَكَذَلِكَ نَقْدِرُ عَلَى رَفْعِهِ وَإِزَالَتِهِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَقَوْلُهُ: عَلى ذَهابٍ بِهِ مَنْ أَوْقَعَ النَّكِرَاتِ وَأَخَّرَهَا لِلْفَصْلِ. وَالْمَعْنَى عَلَى وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الذَّهَابِ بِهِ وَطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِهِ. وَفِيهِ إِيذَانٌ بِكَمَالِ اقْتِدَارِ الْمُذْهِبِ وَأَنَّهُ لَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْإِيعَادِ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ [الْمُلْكِ: 30] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا نَبَّهَ عَلَى عَظِيمِ نِعْمَتِهِ بِخَلْقِ الْمَاءِ ذَكَرَ بَعْدَهُ النِّعَمَ الْحَاصِلَةَ مِنَ الْمَاءِ فَقَالَ: فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَ تَعَالَى النَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ لِكَثْرَةِ مَنَافِعِهِمَا فَإِنَّهُمَا يَقُومَانِ مَقَامَ الطَّعَامِ وَمَقَامَ الْإِدَامِ وَمَقَامَ الْفَوَاكِهِ رَطْبًا وَيَابِسًا وَقَوْلُهُ: لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ أَيْ فِي الْجَنَّاتِ، فَكَمَا أَنَّ فِيهَا النَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ فَفِيهَا الْفَوَاكِهُ الْكَثِيرَةُ وَقَوْلُهُ: وَمِنْها تَأْكُلُونَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ يَأْكُلُ مِنْ حِرْفَةٍ يَحْتَرِفُهَا وَمِنْ صَنْعَةٍ يَعْمَلُهَا يَعْنُونَ أَنَّهَا طُعْمَتُهُ وَجِهَتُهُ الَّتِي مِنْهَا يُحَصِّلُ رِزْقَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ وَهَذِهِ الْجَنَّاتُ وُجُوهُ أَرْزَاقِكُمْ وَمَعَايِشِكُمْ مِنْهَا تَتَعَيَّشُونَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى جَنَّاتٍ وَقُرِئَتْ مَرْفُوعَةً عَلَى الِابْتِدَاءِ أَيْ وَمِمَّا أَنْشَأْنَا لَكُمْ شَجَرَةٌ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» طُورُ سَيْنَاءَ وَطُورُ سِينِينَ «1» لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُضَافَ فِيهِ الطُّورُ إِلَى بُقْعَةٍ اسْمُهَا سَيْنَاءُ وَسِينُونُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْجَبَلِ مُرَكَّبًا مِنْ مُضَافٍ وَمُضَافٍ إِلَيْهِ كَامْرِئِ الْقَيْسِ وَبَعْلَبَكَّ فِيمَنْ أَضَافَ، فَمَنْ كَسَرَ سِينَ سَيْنَاءَ فَقَدْ مَنَعَ الصَّرْفَ لِلتَّعْرِيفِ وَالْعُجْمَةِ أَوِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّهَا بُقْعَةٌ وَفَعْلَاءُ لَا يَكُونُ أَلِفُهُ لِلتَّأْنِيثِ كَعَلْبَاءَ وَحَرْبَاءَ، وَمَنْ فَتَحَ لَمْ يَصْرِفْهُ لِأَنَّ أَلِفَهُ لِلتَّأْنِيثِ كَصَحْرَاءَ، وَقِيلَ هُوَ جَبَلُ فِلَسْطِينَ وَقِيلَ بَيْنَ مِصْرَ وَأَيْلَةَ، وَمِنْهُ نُودِيَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ سِينَا عَلَى الْقَصْرِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ فهو في موضع الحل أَيْ تَنْبُتُ وَفِيهَا الدُّهْنُ، كَمَا يُقَالُ رَكِبَ الْأَمِيرُ بِجُنْدِهِ، أَيْ وَمَعَهُ الْجُنْدُ وَقُرِئَ تُنْبِتُ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَنْبَتَ بِمَعْنَى نَبَتَ قَالَ زُهَيْرٌ: رَأَيْتُ ذَوِي الْحَاجَاتِ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ ... قطينا لهم حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ الْبَقْلُ وَالثَّانِي: أَنَّ مَفْعُولَهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ تُنْبِتُ زَيْتُونَهَا وَفِيهِ الزَّيْتُ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَإِنَّمَا أَضَافَهَا اللَّه تَعَالَى إِلَى هَذَا الْجَبَلِ لِأَنَّ مِنْهَا تَشَعَّبَتْ فِي الْبِلَادِ وَانْتَشَرَتْ وَلِأَنَّ مُعْظَمَهَا هُنَاكَ. أَمَّا قَوْلُهُ: / وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ فَعُطِفَ عَلَى الدُّهْنِ، أَيْ إِدَامٍ لِلْآكِلِينَ، وَالصِّبْغُ وَالصِّبَاغُ «2» مَا يُصْطَبَغُ بِهِ، أَيْ يُصْبَغُ بِهِ الْخُبْزُ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَبَّهَ عَلَى إِحْسَانِهِ بِهَذِهِ الشَّجَرَةِ، لِأَنَّهَا تُخْرِجُ هَذِهِ الثَّمَرَةَ الَّتِي يَكْثُرُ بِهَا الِانْتِفَاعُ وَهِيَ طَرِيَّةٌ وَمُدَّخَرَةُ، وَبِأَنْ تُعْصَرَ فَيَظْهَرُ الزَّيْتُ مِنْهَا وَيَعْظُمُ وجوه الانتفاع به. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 21 الى 22] وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) النوع الرابع: الاستدلال بأحوال الحيوانات.

_ (1) في الأصل الأميري: وطور سينين، وهو تحريف إذ سمى في كل التفاسير طورا بالطاء لا بالصاد والطور الجبل. (2) في الأصل الأميري: والمصباغ وأظنه خطأ، أما الصباغ فهو كدباغ ما يصبغ به وقد قرئت الآية تنبت بالدهن وصباغ للآكلين فيما ذكره أبو السعود في تفسيره.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 إلى 25]

اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ فِيهَا عِبْرَةً مُجْمَلًا ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِالتَّفْصِيلِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَالْمُرَادُ مِنْهُ جَمِيعُ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ بِأَلْبَانِهَا، وَوَجْهُ الِاعْتِبَارِ فِيهِ أَنَّهَا تَجْتَمِعُ فِي الضُّرُوعِ وَتَتَخَلَّصُ مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى، فَتَسْتَحِيلُ إِلَى طَهَارَةٍ وَإِلَى لَوْنٍ وَطَعْمٍ مُوَافِقٍ لِلشَّهْوَةِ وَتَصِيرُ غِذَاءً، فَمَنِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى قُدْرَةِ اللَّه وَحِكْمَتِهِ. كَانَ ذَلِكَ مَعْدُودًا فِي النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ وَمَنِ انْتَفَعَ بِهِ فَهُوَ فِي نِعْمَةِ الدُّنْيَا، وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْأَلْبَانُ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا إِلَى ضُرُوعِهَا تَجِدُهَا شَرَابًا طَيِّبًا، وَإِذَا ذَبَحْتَهَا لَمْ تَجِدْ لَهَا أَثَرًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَقُرِئَ تَسْقِيكُمْ بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ، أَيْ تَسْقِيكُمِ الْأَنْعَامُ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وذلك بيعها وَالِانْتِفَاعِ بِأَثْمَانِهَا وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَمِنْها تَأْكُلُونَ يَعْنِي كَمَا تَنْتَفِعُونَ بِهَا وَهِيَ حَيَّةٌ تَنْتَفِعُونَ بِهَا بَعْدَ الذَّبْحِ أَيْضًا بالأكل ورابعها: قوله: عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ لِأَنَّ وَجْهَ الِانْتِفَاعِ بِالْإِبِلِ فِي الْمَحْمُولَاتِ عَلَى الْبَرِّ بِمَنْزِلَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ، وَلِذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ فِي إِنْعَامِهِ لِكَيْ يُشْكَرَ عَلَى ذَلِكَ وَيُسْتَدَلَّ بِهِ، [سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 الى 25] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ أَرْدَفَهَا بِالْقَصَصِ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ فِي سَائِرِ السُّوَرِ وَهِيَ هَاهُنَا. الْقِصَّةُ الْأُولَى قِصَّةُ نوح عليه السلام قَالَ قَوْمٌ: إِنَّ نُوحًا كَانَ اسْمُهُ يَشْكُرُ، ثُمَّ سُمِّيَ نُوحًا لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: لِكَثْرَةِ مَا نَاحَ عَلَى نَفْسِهِ حِينَ دَعَا عَلَى قَوْمِهِ بِالْهَلَاكِ، فَأَهْلَكَهُمْ بِالطُّوفَانِ فَنَدِمَ عَلَى ذَلِكَ وَثَانِيهَا: لِمُرَاجَعَةِ رَبِّهِ فِي شَأْنِ ابْنِهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ مَرَّ بِكَلْبٍ مَجْذُومٍ، فَقَالَ لَهُ اخْسَأْ يَا قَبِيحُ، فَعُوتِبَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ اللَّه لَهُ: أَعِبْتَنِي إِذْ خَلَقْتُهُ، أَمْ عِبْتَ الْكَلْبَ. وَهَذِهِ الْوُجُوهُ مُشْكِلَةٌ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَعْلَامَ لَا تُفِيدُ صِفَةً فِي الْمُسَمَّى. أَمَّا قَوْلُهُ: اعْبُدُوا اللَّهَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرْسَلَهُ بِالدُّعَاءِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى وَحْدَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا وَقَدْ دَعَاهُمْ إِلَى مَعْرِفَتِهِ أَوَّلًا، لِأَنَّ عِبَادَةَ مَنْ لَا يَكُونُ مَعْلُومًا غَيْرُ جَائِزَةٍ وَإِنَّمَا يَجُوزُ وَيَجِبُ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فَالْمُرَادُ أَنَّ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّه لَا تَجُوزُ إِذْ لَا إِلَهَ سِوَاهُ. وَمِنْ حَقِّ الْعِبَادَةِ أَنْ تُحْسِنَ لِمَنْ أَنْعَمَ بِالْخَلْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَمَا بَعْدَهُمَا، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ إِلَّا مِنْهُ تَعَالَى فَكَيْفَ يَعْبُدُ مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ؟ وَقُرِئَ غَيْرُهُ بِالرَّفْعِ عَلَى الْمَحَلِّ وَبِالْجَرِّ عَلَى اللَّفْظِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْفَعْ فِيهِمْ هَذَا الدُّعَاءُ وَاسْتَمَرُّوا عَلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى حَذَّرَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَفَلا تَتَّقُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ زَجْرٌ وَوَعِيدٌ بِاتِّقَاءِ الْعُقُوبَةِ لِيَنْصَرِفُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَى عَنْهُمْ شُبَهَهُمْ فِي إِنْكَارِ نُبُوَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السلام.

الشُّبْهَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُمْ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ تَحْتِمَلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُسَاوِيًا لِسَائِرِ النَّاسِ فِي الْقُوَّةِ وَالْفَهْمِ وَالْعِلْمِ وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ امْتَنَعَ كَوْنُهُ رَسُولًا للَّه، لِأَنَّ الرَّسُولَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَظِيمًا عِنْدَ اللَّه تَعَالَى وَحَبِيبًا لَهُ، وَالْحَبِيبُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُخْتَصَّ عَنْ غَيْرِ الْحَبِيبِ بِمَزِيدِ الدَّرَجَةِ وَالْمَعَزَّةِ، فَلَمَّا فُقِدَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ عَلِمْنَا انْتِفَاءَ الرِّسَالَةِ وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ هَذَا الْإِنْسَانُ مُشَارِكٌ لَكُمْ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَلَكِنَّهُ أَحَبَّ الرِّيَاسَةَ وَالْمَتْبُوعِيَّةَ فَلَمْ يَجِدْ إِلَيْهِمَا سَبِيلًا إِلَّا بِادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ، فَصَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهُمْ فِي الْقَدْحِ فِي نُبُوَّتِهِ، فَهَذَا الِاحْتِمَالُ مُتَأَكَّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى خَبَرًا عَنْهُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أَيْ يُرِيدُ أَنْ يَطْلُبَ الْفَضْلَ عَلَيْكُمْ وَيَرْأَسَكُمْ كَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ [يُونُسَ: 78] . الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُمْ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً وَشَرْحُهُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَوْ شَاءَ إِرْشَادَ الْبَشَرِ لَوَجَبَ أَنْ يَسْلُكَ الطَّرِيقَ الَّذِي يَكُونُ أَشَدَّ إِفْضَاءً إِلَى الْمَقْصُودِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ بِعْثَةَ الْمَلَائِكَةِ أَشَدُّ/ إِفْضَاءً إِلَى هَذَا الْمَقْصُودِ مِنْ بِعْثَةِ الْبَشَرِ، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لِعُلُوِّ شَأْنِهِمْ وَشِدَّةِ سَطْوَتِهِمْ وَكَثْرَةِ عُلُومِهِمْ، فَالْخَلْقُ يَنْقَادُونَ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَشُكُّونَ فِي رِسَالَتِهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا أَرْسَلَ رَسُولًا الْبَتَّةَ. الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُمْ: مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ وَقَوْلُهُ بِهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ إِلَى مَا كَلَّمَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَثِّ عَلَى عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى، أَيْ مَا سَمِعْنَا بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ، أَوْ بِمِثْلِ هَذَا الَّذِي يَدَّعِي وَهُوَ بَشَرٌ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّه، وشرح هذا الشُّبْهَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا أَقْوَامًا لَا يُعَوِّلُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ إِلَّا عَلَى التَّقْلِيدِ وَالرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِ الْآبَاءِ، فَلَمَّا لَمْ يَجِدُوا فِي نُبُوَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ حَكَمُوا بِفَسَادِهَا. قَالَ الْقَاضِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ كَوْنَهُ رَسُولًا مَبْعُوثًا، لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ زَمَانِ آبَائِهِمْ أَنَّهُ كَانَ زَمَانَ فَتْرَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ دُعَاءَهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى وَحْدَهُ، لِأَنَّ آبَاءَهُمْ كَانُوا عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُمْ: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ وَالْجِنَّةُ: الْجُنُونُ أَوِ الْجِنُّ، فَإِنَّ جُهَّالَ الْعَوَامِّ يَقُولُونَ فِي الْمَجْنُونِ زَالَ عَقْلُهُ بِعَمَلِ الْجِنِّ، وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ مِنْ بَابِ التَّرْوِيجِ عَلَى الْعَوَامِّ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَفْعَلُ أَفْعَالًا عَلَى خِلَافِ عَادَاتِهِمْ، فَأُولَئِكَ الرُّؤَسَاءُ كَانُوا يَقُولُونَ لِلْعَوَامِّ إِنَّهُ مَجْنُونٌ، وَمَنْ كَانَ مَجْنُونًا فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا. الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُمْ: فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ أَيْ أَنَّهُ مَجْنُونٌ فَاصْبِرُوا إِلَى زَمَانٍ حَتَّى يَظْهَرَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ فَإِنْ أَفَاقَ وَإِلَّا قَتَلْتُمُوهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا وَهُوَ أَنْ يَقُولُوا لِقَوْمِهِمْ اصْبِرُوا فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ نَبِيًّا حَقًّا فاللَّه يَنْصُرُهُ وَيُقَوِّي أَمْرَهَ فَنَحْنُ حِينَئِذٍ نَتَّبِعُهُ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فاللَّه يَخْذُلُهُ وَيُبْطِلُ أَمْرَهُ، فَحِينَئِذٍ نَسْتَرِيحُ مِنْهُ، فَهَذِهِ مَجْمُوعُ الشُّبَهِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَا ذَكَرَ الْجَوَابَ عَنْهَا لِرَكَاكَتِهَا وَوُضُوحِ فَسَادِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يعلم أن الرسول لا يصير رسولا إلا لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمَلَكِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ كَذَلِكَ بِأَنْ يَتَمَيَّزَ مِنْ غَيْرِهِ بِالْمُعْجِزَاتِ فَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَلَكِ أَوْ مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ فَعِنْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزِ عَلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا، بَلْ جَعْلُ الرَّسُولِ مِنْ جُمْلَةِ الْبَشَرِ أَوْلَى لِمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي السُّوَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهُوَ أَنَّ الْجِنْسِيَّةَ مَظِنَّةُ الْأُلْفَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ فَإِنْ أَرَادُوا بِهِ إِرَادَتَهُ لِإِظْهَارِ فَضْلِهِ حَتَّى يَلْزَمَهُمُ الِانْقِيَادُ لِطَاعَتِهِ فَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى الرَّسُولِ، وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّجَبُّرِ وَالتَّكَبُّرِ وَالِانْقِيَادِ فَالْأَنْبِيَاءُ مُنَزَّهُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِعَدَمِ التَّقْلِيدِ عَلَى عَدَمِ وُجُودِ الشَّيْءِ

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 26 إلى 30]

وَهُوَ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ لِأَنَّ وُجُودَ التَّقْلِيدِ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الشَّيْءِ فَعَدَمُهُ مِنْ أَيْنَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ بِهِ جِنَّةٌ، فَقَدْ كَذَبُوا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ بِالضَّرُورَةِ كَمَالَ عَقْلِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: فَتَرَبَّصُوا بِهِ، فَضَعِيفٌ لأنه إن ظهرت الدولة عَلَى نُبُوَّتِهِ وَهِيَ الْمُعْجِزَةُ وَجَبَ عَلَيْهِمْ قَبُولُ قَوْلِهِ فِي الْحَالِ، وَلَا يَجُوزُ تَوْقِيفُ ذَلِكَ إِلَى ظُهُورِ دَوْلَتِهِ لِأَنَّ الدَّوْلَةَ لَا تَدُلُّ على الحقيقة، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرِ الْمُعْجِزُ لَمْ يَجُزْ قَبُولُ/ قَوْلِهِ سَوَاءٌ ظَهَرَتِ الدَّوْلَةُ أَوْ لَمْ تَظْهَرْ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَجْوِبَةُ فِي نِهَايَةِ الظُّهُورِ لا جرم تركها اللَّه سبحانه. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 26 الى 30] قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) أَمَّا قَوْلُهُ: رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ فِي نَصْرِهِ إِهْلَاكَهُمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَهْلِكْهُمْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّايَ وَثَانِيهَا: انْصُرْنِي بَدَلَ مَا كَذَّبُونِي كَمَا تَقُولُ هَذَا بِذَاكَ أَيْ بَدَلُ ذَاكَ وَمَكَانُهُ، وَالْمَعْنَى أَبْدِلْنِي مِنْ غَمِّ تَكْذِيبِهِمْ سَلْوَةَ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ وَثَالِثُهَا: انْصُرْنِي بِإِنْجَازِ مَا وَعَدْتَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَهُوَ مَا كَذَّبُوهُ فِيهِ حِينَ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الْأَعْرَافِ: 59] وَلَمَّا أَجَابَ اللَّه دُعَاءَهُ قَالَ: فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا أَيْ بِحِفْظِنَا وَكَلَئِنَا كَأَنَّ مَعَهُ مِنَ اللَّه حَافِظًا يَكْلَؤُهُ بِعَيْنِهِ لِئَلَّا يَتَعَرَّضَ لَهُ وَلَا يُفْسِدَ عَلَيْهِ مُفْسِدٌ عَمَلَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: عَلَيْهِ مِنَ اللَّه عَيْنٌ كَالِئَةٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُشَبِّهَةِ فِي تَمَسُّكِهِمْ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّه خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» لِأَنَّ ثُبُوتَ الْأَعْيُنِ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَيْفَ صَنَعَ الْفُلْكَ فَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ نَجَّارًا وَكَانَ عَالِمًا بِكَيْفِيَّةِ اتِّخَاذِهَا، وَقِيلَ إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَّمَهُ عَمَلَ السَّفِينَةِ وَوَصَفَ لَهُ كَيْفِيَّةَ اتِّخَاذِهَا، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ لِقَوْلِهِ: بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا. أَمَّا قَوْلُهُ: فَإِذا جاءَ أَمْرُنا فَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ كَمَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِي طَلَبِ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْلَاءِ، فَكَذَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الشَّأْنِ الْعَظِيمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ هَذَا أَمْرٌ بَقِيَ الذِّهْنُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْمَفْهُومَيْنِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِيهِمَا وَتَمَامُ تَقْرِيرِهِ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْمَحْصُولِ فِي الْأُصُولِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا سَمَّاهُ أَمْرًا عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ، مِثْلَ قَوْلُهُ: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [فُصِّلَتْ: 11] . أَمَّا قَوْلُهُ: وَفارَ التَّنُّورُ فَاخْتَلَفُوا فِي التَّنُّورِ، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ التَّنُّورُ الْمَعْرُوفُ. رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِنُوحٍ إِذَا رَأَيْتَ الْمَاءَ يَفُورُ مِنَ التَّنُّورِ فَارْكَبْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ فِي السَّفِينَةِ، فَلَمَّا نَبَعَ الْمَاءُ مِنَ التَّنُّورِ أَخْبَرَتْهُ امرأته فركب، وقيل كان تنور آدم وكان مِنْ حِجَارَةٍ فَصَارَ إِلَى نُوحٍ، وَاخْتُلِفَ فِي مَكَانِهِ، فَعَنِ الشَّعْبِيِّ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ عَنْ يَمِينِ الدَّاخِلِ مِمَّا يَلِي بَابَ كِنْدَةَ، وَكَانَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَمِلَ السَّفِينَةَ فِي وَسَطِ الْمَسْجِدِ، وَقِيلَ بِالشَّامِ بِمَوْضِعٍ

يُقَالُ لَهُ عَيْنُ وَرْدَةٍ وَقِيلَ بِالْهِنْدِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ التَّنُّورَ وَجْهُ الْأَرْضِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا الثَّالِثُ: أَنَّهُ أَشْرَفُ مَوْضِعٍ فِي الْأَرْضِ أَيْ أَعْلَاهُ عَنْ قَتَادَةَ والرابع: وَفارَ التَّنُّورُ أي طلع للفجر عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ إِنَّ فَوَرَانَ التَّنُّورِ كَانَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالْخَامِسُ: هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ حَمِيَ الْوَطِيسُ وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ الْمَوْضِعُ الْمُنْخَفِضُ مِنَ السَّفِينَةِ الَّذِي يَسِيلُ الْمَاءُ إِلَيْهِ عَنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّه وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّ الْعُدُولَ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لَا يَجُوزُ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ فَوَرَانَ التَّنُّورِ عَلَامَةً لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى يَرْكَبَ عِنْدَهُ السَّفِينَةَ طَلَبًا لِنَجَاتِهِ وَنَجَاةِ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَاسْلُكْ فِيها أَيْ أَدْخِلْ فِيهَا يُقَالُ سَلَكَ فِيهِ أَيْ دَخَلَ فِيهِ وَسَلَكَ غَيْرَهُ وَأَسْلَكَهُ مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أَيْ مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ مِنَ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَحْضُرُهُ فِي الْوَقْتِ اثْنَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى لِكَيْ لَا يَنْقَطِعَ نَسْلُ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ لَا كَمَا تَقُولُهُ الْعَامَّةُ مِنْ أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الِاثْنَانِ، رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْ إِلَّا مَا يَلِدُ وَيَبِيضُ، وَقُرِئَ مِنْ كُلٍّ بِالتَّنْوِينِ، أَيْ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ زَوْجَيْنِ، وَاثْنَيْنِ تَأْكِيدٌ وَزِيَادَةُ بَيَانٍ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ أَيْ وَأَدْخِلْ أَهْلَكَ وَلَفْظُ عَلَى إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَضَارِّ. قَالَ تَعَالَى: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الْبَقَرَةِ: 286] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُ بِإِدْخَالِ سَائِرِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ من أهله، وقيل المراد بأهله مَنْ آمَنَ دُونَ مَنْ يَتَّصِلُ بِهِ نَسَبًا أَوْ سَبَبًا وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَإِلَّا لَمَا جَازَ اسْتِثْنَاءُ قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا يَعْنِي كَنْعَانَ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَخْبَرَ بِإِهْلَاكِهِمْ وَجَبَ أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ أَنْ يَسْأَلَهُ فِي بَعْضِهِمْ لِأَنَّهُ إِنْ أَجَابَهُ إِلَيْهِ، فَقَدْ صَيَّرَ خَبَرَهُ الصِّدْقَ كَذِبًا، وَإِنْ لَمْ يُجِبْهُ إِلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ تَحْقِيرًا لِشَأْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ أَيِ الْغَرَقُ نَازِلٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: كَانَ فِي السَّفِينَةِ ثَمَانُونَ إِنْسَانًا، نُوحٌ وَامْرَأَتُهُ سِوَى الَّتِي غَرِقَتْ، وَثَلَاثَةُ بَنِينَ: سَامٍ وَحَامٍ وَيَافِثُ، وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ لَهُمْ، وَاثْنَانِ وَسَبْعُونَ إِنْسَانًا فَكُلُّ الْخَلَائِقِ نَسْلُ مَنْ كَانَ فِي السَّفِينَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: إِنَّمَا قَالَ: فَقُلِ وَلَمْ يَقُلْ فَقُولُوا لِأَنَّ نُوحًا كَانَ نَبِيًّا لَهُمْ وَإِمَامًا لَهُمْ، فَكَانَ قَوْلُهُ قَوْلًا لَهُمْ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِفَضْلِ النُّبُوَّةِ وَإِظْهَارِ كِبْرِيَاءِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَأَنَّ رُتْبَةَ تِلْكَ الْمُخَاطَبَةِ لَا يَتَرَقَّى إِلَيْهَا إِلَّا مَلَكٌ أَوْ نَبِيٌّ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ قَتَادَةُ عَلَّمَكُمُ اللَّه أَنْ تَقُولُوا عِنْدَ رُكُوبِ السَّفِينَةِ بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هُودٍ: 41] وَعِنْدَ رُكُوبِ الدَّابَّةِ سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزُّخْرُفِ: 13] وَعِنْدَ النُّزُولِ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 29] قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: وَقَالَ لِنَبِيِّنَا وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ [الْإِسْرَاءِ: 80] وَقَالَ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ [النَّحْلِ: 98] كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَكُونُوا عَنْ ذِكْرِهِ وَعَنِ الِاسْتِعَاذَةِ بِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ غَافِلِينَ. المسألة الثَّالِثَةُ: هَذِهِ مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ فِي تَقْبِيحِ صُورَتِهِمْ حَيْثُ أَتْبَعَ النَّهْيَ عَنِ الدُّعَاءِ لَهُمُ الْأَمْرَ بِالْحَمْدِ عَلَى

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 إلى 41]

إِهْلَاكِهِمْ وَالنَّجَاةِ مِنْهُمْ كَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْأَنْعَامِ: 45] وَإِنَّمَا جَعَلَ سُبْحَانَهُ اسْتِوَاءَهُمْ عَلَى السَّفِينَةِ نَجَاةً مِنَ الْغَرَقِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ كَانَ عَرَّفَهُ أَنَّهُ بِذَلِكَ يُنْجِيهِ وَمَنْ تَبِعَهُ، فَيَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: نَجَّانا مِنْ حَيْثُ جَعَلَهُ آمِنًا بِهَذَا الْفِعْلِ وَوَصَفَ قَوْمَهَ بِأَنَّهُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنَّ الْكُفْرَ مِنْهُمْ ظُلْمٌ لِأَنْفُسِهِمْ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ بِالْحَمْدِ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ فَقَالَ: وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَقُرِئَ مُنْزَلًا بِمَعْنَى إِنْزَالًا أَوْ مَوْضِعَ إِنْزَالٍ كَقَوْلِهِ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مَدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُنْزَلِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ نَفْسُ السَّفِينَةِ فَمَنْ رَكِبَهَا خَلَّصَتْهُ مِمَّا جَرَى عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْهَلَاكِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يُنْزِلَهُ اللَّه بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ السَّفِينَةِ مِنَ الْأَرْضِ مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِهَذَا الدُّعَاءِ فِي حَالِ اسْتِقْرَارِهِ فِي السَّفِينَةِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُنْزَلُ ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أَنَّ الْإِنْزَالَ فِي الْأَمْكِنَةِ قَدْ يَقَعُ مِنْ غَيْرِ اللَّه كَمَا يَقَعُ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَإِنْ كَانَ هُوَ سُبْحَانَهُ خَيْرَ مَنْ أَنْزَلَ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ مَنْ أَنْزَلَهُ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ وَيَدْفَعُ عَنْهُ الْمَكَارِهَ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْحُكْمُ وَالْحِكْمَةُ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ وَقَوْمِهِ لَآيَاتٍ وَدَلَالَاتٍ وَعِبَرًا فِي الدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ وَالزَّجْرِ عَنِ الْكُفْرِ فَإِنَّ إِظْهَارَ تِلْكَ الْمِيَاهِ الْعَظِيمَةِ ثُمَّ الْإِذْهَابَ بِهَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ، وَظُهُورُ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ عَلَى وَفْقِ قَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدُلُّ عَلَى الْمُعْجِزِ الْعَظِيمِ وَإِفْنَاءُ الْكُفَّارِ وَبَقَاءُ الْأَرْضِ لِأَهْلِ الدِّينِ وَالطَّاعَةِ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْعِبَرِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ، وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ فِيمَا قَبْلُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ/ يَكُونَ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ فِيمَا بَعْدُ، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ لِأَنَّهُ كَالْحَقِيقَةِ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ احْتَمَلَ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْ فَيَجِبُ فِيمَنْ كَلَّفْنَاهُ أَنْ يَعْتَبِرَ بِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَمُعَاقِبِينَ لِمَنْ سَلَكَ فِي تَكْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ مِثْلَ طَرِيقَةِ قَوْمِ نُوحٍ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَمَا نُعَاقِبُ مَنْ كَذَّبَ بِالْغَرَقِ وَغَيْرِهِ فَقَدْ نَمْتَحِنُ بِالْغَرَقِ مَنْ لَمْ يُكَذِّبْ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّعْذِيبِ، لِكَيْ لَا يُقَدَّرَ أَنَّ كُلَّ الغرق يجري على وجه واحد. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 الى 41] ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) الْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ- قِصَّةُ هُودٍ أَوْ صَالِحٍ عَلَيْهِمَا السلام

اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ هِيَ قِصَّةُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِحِكَايَةِ اللَّه تَعَالَى قَوْلَ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الْأَعْرَافِ: 69] وَمَجِيءُ قِصَّةِ هُودٍ عَقِيبَ قِصَّةِ نُوحٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَسُورَةِ هُودٍ وَالشُّعَرَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ بِهِمْ صَالِحٌ وَثَمُودُ، لِأَنَّ قَوْمَهُ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ هُمُ الَّذِينَ هَلَكُوا بِالصَّيْحَةِ، أَمَّا كَيْفِيَّةُ الدَّعْوَى فَكَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: حَقُّ (أرسل) أن يتعدى بإلى كَأَخَوَاتِهِ الَّتِي هِيَ وَجَّهَ وَأَنْفَذَ وَبَعَثَ فَلِمَ عدى في القرآن بإلى تارة وبفي أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ [الْأَعْرَافِ: 94] فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا [الْمُؤْمِنُونَ: 32] أَيْ فِي عَادٍ، وَفِي مَوْضِعٍ آخر وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [هود: 50] ؟ الجواب: لم يعد بفي كما عدى بإلى وَلَكِنَّ الْأُمَّةَ أَوِ الْقَرْيَةَ جُعِلَتْ مَوْضِعًا لِلْإِرْسَالِ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ بَعَثَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً [الْفُرْقَانِ: 51] . السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يَصِحُّ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ: أَفَلا تَتَّقُونَ غَيْرُ مَوْصُولٍ بِالْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا قَالَهُ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ كَذَّبُوهُ، وَرَدُّوا عَلَيْهِ بَعْدَ إِقَامَةِ الحجة عَلَيْهِمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ مُخَوِّفًا مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ أَفَلا تَتَّقُونَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ مَخَافَةَ الْعَذَابِ الَّذِي أَنْذَرْتُكُمْ بِهِ؟ الْجَوَابُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ بِأَنْ رَآهُمْ مُعْرِضِينَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّه مُشْتَغِلِينَ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّه وَحَذَّرَهُمْ مِنَ الْعِقَابِ بِسَبَبِ إِقْبَالِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَكَى صِفَاتِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ وَحَكَى كَلَامَهُمْ، أَمَّا الصِّفَاتُ فَثَلَاثٌ هِيَ شَرُّ الصِّفَاتِ: أَوَّلُهَا: الْكُفْرُ بِالْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: كَفَرُوا وَثَانِيهَا: الْكُفْرُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَثَالِثُهَا: الِانْغِمَاسُ فِي حُبِّ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ نَعَّمْنَاهُمْ فَإِنْ قِيلَ ذَكَرَ اللَّه مَقَالَةَ قَوْمِ هُودٍ فِي جَوَابِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَسُورَةِ هُودٍ بِغَيْرِ وَاوٍ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ [الْأَعْرَافِ: 66] ، قَالُوا مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا [هُودٍ: 27] وَهَاهُنَا مَعَ الْوَاوِ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا؟ قُلْنَا الَّذِي بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالِ سَائِلٍ قَالَ فَمَا قَالَ قَوْمُهُ؟ فَقِيلَ لَهُ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَأَمَّا الَّذِي مَعَ الْوَاوِ فَعَطْفٌ لِمَا قَالُوهُ عَلَى مَا قَالَهُ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ هَذَا الْكَلَامُ الْحَقُّ وَهَذَا الْكَلَامُ الْبَاطِلُ. وَأَمَّا شُبُهَاتُ الْقَوْمِ فَشَيْئَانِ: أَوَّلُهُمَا: قَوْلُهُمْ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ/ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ، وَقَدْ مَرَّ شَرْحُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي الْقِصَّةِ الْأُولَى وَقَوْلُهُ: مِمَّا تَشْرَبُونَ أَيْ مِنْ مَشْرُوبِكُمْ أَوْ حُذِفَ مِنْهُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ فَجَعَلُوا اتِّبَاعَ الرَّسُولِ خُسْرَانًا، وَلَمْ يَجْعَلُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ خُسْرَانًا، أَيْ لَئِنْ كُنْتُمْ أَعْطَيْتُمُوهُ الطَّاعَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ بِإِزَائِهَا مَنْفَعَةٌ فَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُمْ طَعَنُوا فِي صِحَّةِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، ثُمَّ طَعَنُوا فِي نُبُوَّتِهِ بِسَبَبِ إِتْيَانِهِ بِذَلِكَ. أَمَّا الطَّعْنُ فِي

صِحَّةِ الْحَشْرِ فَهُوَ قَوْلُهُمْ: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ مُعَادُونَ أَحْيَاءً لِلْمُجَازَاةِ، ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ حَتَّى قَرَنُوا بِهِ الِاسْتِبْعَادَ الْعَظِيمَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ ثُمَّ أَكَّدُوا الشُّبْهَةَ بِقَوْلِهِمْ: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَلَمْ يُرِيدُوا بِقَوْلِهِمْ نَمُوتُ وَنَحْيَا الشَّخْصَ الْوَاحِدَ، بَلْ أَرَادُوا أَنَّ الْبَعْضَ يَمُوتُ وَالْبَعْضَ يَحْيَا، وَأَنَّهُ لَا إِعَادَةَ وَلَا حَشْرَ. فَلِذَلِكَ قَالُوا: وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعْنِ فِي صِحَّةِ الْحَشْرِ بَنَوْا عَلَيْهِ الطَّعْنَ فِي نُبُوَّتِهِ، فَقَالُوا لَمَّا أَتَى بِهَذَا الْبَاطِلِ فَقَدَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ثُمَّ لَمَّا قَرَّرُوا الشُّبْهَةَ الطَّاعِنَةَ فِي نُبُوَّتِهِ قَالُوا: وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَالتَّبَعِ لَهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى مَا أَجَابَ عَنْ هَاتَيْنِ الشُّبْهَتَيْنِ لِظُهُورِ فَسَادِهِمَا أَمَّا الشُّبْهَةُ الْأُولَى: فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ضَعْفِهَا وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَلِأَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا الْحَشْرَ، وَلَا يُسْتَبْعَدُ الْحَشْرُ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ لَوْلَا الْإِعَادَةُ لَكَانَ تَسْلِيطُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ فِي الدُّنْيَا ظُلْمًا. وَهُوَ غَيْرُ لَائِقٍ بِالْحَكِيمِ عَلَى مَا قَرَّرَهُ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه: 15] وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: ثَنَّى «1» إِنَّكُمْ لِلتَّوْكِيدِ وَحَسُنَ ذَلِكَ الْفَصْلُ ما بين الأول والثاني بالظرف، ومخرجون خَبَرٌ عَنِ الْأَوَّلِ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [المؤمنون: 35] . المسألة الثَّانِيَةُ: قُرِئَ هَيْهاتَ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، كُلُّهَا بِتَنْوِينٍ وَبِلَا تَنْوِينٍ، وَبِالسُّكُونِ عَلَى لَفْظِ الْوَقْفِ. المسألة الثَّالِثَةُ: هِيَ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ضَمِيرٌ لَا يُعْلَمُ مَا يُعْنَى بِهِ إِلَّا بِمَا يَتْلُوهُ مِنْ بَيَانِهِ وَأَصْلُهُ: إِنِ الْحَيَاةُ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا، ثُمَّ وَضَعَ هِيَ مَوْضِعَ الْحَيَاةِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَمِنْهُ [قُوْلُ الشَّاعِرِ] : هِيَ النَّفْسُ مَا حَمَّلْتَهَا تَتَحَمَّلُ وَالْمَعْنَى لَا حَيَاةَ إِلَّا هَذِهِ الْحَيَاةُ، وَلِأَنَّ إِنْ النَّافِيَةَ دَخَلَتْ عَلَى هِيَ الَّتِي فِي مَعْنَى الْحَيَاةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْجِنْسِ فَنَفَتْهَا، فَوَازَنَتْ لَا الَّتِي نَفَتْ مَا بَعْدَهَا نَفْيَ الْجِنْسِ. وَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الرَّسُولَ لَمَّا يَئِسَ مِنْ قَبُولِ الْأَكَابِرِ وَالْأَصَاغِرِ فَزِعَ إِلَى رَبِّهِ وَقَالَ: رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فَأَجَابَهُ اللَّه تَعَالَى فِيمَا سَأَلَ وقال: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ [المؤمنون: 40] / وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِأَنْ يَظْهَرَ لَهُمْ عَلَامَاتُ الْهَلَاكِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْصُلُ مِنْهُمُ الْحَسْرَةُ وَالنَّدَامَةُ عَلَى تَرْكِ الْقَبُولِ، وَيَكُونُ الْوَقْتُ وَقْتَ إِيمَانِ الْيَأْسِ فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِالنَّدَامَةِ، وَبَيَّنَ تَعَالَى الْهَلَاكَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ وَذَكَرُوا فِي الصَّيْحَةِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَاحَ بِهِمْ، وَكَانَتِ الصَّيْحَةُ عَظِيمَةً فَمَاتُوا عِنْدَهَا وَثَانِيهَا: الصَّيْحَةُ هِيَ الرَّجْفَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَثَالِثُهَا: الصَّيْحَةُ هِيَ نَفْسُ الْعَذَابِ وَالْمَوْتِ كَمَا يُقَالُ فِيمَنْ يَمُوتُ: دُعِيَ فَأَجَابَ عَنِ الْحَسَنِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ الْعَذَابُ الْمُصْطَلِمُ، قَالَ الشَّاعِرُ: صَاحَ الزَّمَانُ بِآلِ بَرْمَكٍ صَيْحَةً ... خَرُّوا لِشِدَّتِهَا عَلَى الْأَذْقَانِ والأول أولى لأنه هو الحقيقة.

_ (1) المراد بقوله ثنى كرر وليس من التثنية المقابلة للإفراد والجمع.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 42 إلى 44]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِالْحَقِّ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ دَمَّرَهُمْ بِالْعَدْلِ مِنْ قَوْلِكَ، فُلَانٌ يَقْضِي بِالْحَقِّ إِذَا كَانَ عَادِلًا فِي قَضَايَاهُ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: بِالْحَقِّ أَيْ بِمَا لَا يُدْفَعُ، كَقَوْلِهِ: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق: 19] . أَمَّا قَوْلُهُ: فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَالْغُثَاءُ حَمِيلِ السَّيْلِ مِمَّا بَلِيَ وَاسْوَدَّ مِنَ الْوَرَقِ وَالْعِيدَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: بُعْدًا وَسُحْقًا وَدُمْرًا وَنَحْوُهَا مَصَادِرُ مَوْضُوعَةٌ مَوَاضِعَ أَفْعَالِهَا، وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَصَادِرِ الَّتِي قَالَ سِيبَوَيْهَ نُصِبَتْ بِأَفْعَالٍ لَا يُسْتَعْمَلُ إِظْهَارُهَا وَمَعْنَى بُعْدًا بَعُدُوا، أَيْ هَلَكُوا يُقَالُ بَعُدَ بُعْدًا وَبَعَدًا بِفَتْحِ الْعَيْنِ نَحْوَ رَشَدَ رُشْدًا وَرَشَدًا بِفَتْحِ الشِّينِ واللَّه أَعْلَمُ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَبُعْداً بِمَنْزِلَةِ اللَّعْنِ الَّذِي هُوَ التَّبْعِيدُ مِنَ الْخَيْرِ، واللَّه تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَافِ وَالْإِهَانَةِ لَهُمْ، وَقَدْ نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ دَالًّا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبُعْدِ مِنَ النَّعِيمِ وَالثَّوَابِ أَعْظَمُ مِمَّا حَلَّ بِهِمْ حَالًا لِيَكُونَ ذَلِكَ عِبْرَةً لِمَنْ يَجِيءُ بعدهم. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 42 الى 44] ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ مَا جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) القصة الثالثة اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُصُّ الْقَصَصَ فِي الْقُرْآنِ تَارَةً عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ وَأُخْرَى عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ كَهَاهُنَا، وَقِيلَ الْمُرَادُ قِصَّةَ لُوطٍ وَشُعَيْبٍ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَا أَخْلَى الدِّيَارَ مِنْ مُكَلَّفِينَ أَنْشَأَهُمْ وَبَلَّغَهُمْ حَدَّ التَّكْلِيفِ حَتَّى قَامُوا مَقَامَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ فِي عِمَارَةِ الدُّنْيَا. أَمَّا قَوْلُهُ: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ فَيَحْتَمِلُ فِي هَذَا الْأَجَلِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ آجَالَ حَيَاتِهَا وَتَكْلِيفِهَا، وَيَحْتَمِلُ آجَالَ مَوْتِهَا وَهَلَاكِهَا، وَإِنْ كَانَ الْأَظْهَرُ فِي الْأَجَلِ إِذَا أُطْلِقَ أَنْ يُرَادَ بِهِ وَقْتُ الْمَوْتِ، فَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ لَهَا آجَالٌ مَكْتُوبَةٌ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ، مُنَبِّهًا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا، فَلَا تُوجَدُ إِلَّا عَلَى وَفْقِ الْعِلْمِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [نُوحٍ: 4] وَهَاهُنَا مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ إِذْ لَوْ قُتِلَ قَبْلَ أَجَلِهِ لَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ الْأَجَلُ أَوْ تَأَخَّرَ، وَذَلِكَ يُنَافِيهِ هَذَا النَّصُّ.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 45 إلى 49]

المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَيْ لَا يَتَقَدَّمُونَ الْوَقْتَ الْمُؤَقَّتَ لِعَذَابِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا وَلَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ، وَلَا يَسْتَأْصِلُهُمْ إِلَّا إِذَا عَلِمَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَزْدَادُونَ إِلَّا عِنَادًا وَأَنَّهُمْ لَا يَلِدُونَ مُؤْمِنًا، وَأَنَّهُ لَا نَفْعَ فِي بَقَائِهِمْ لِغَيْرِهِمْ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى أَحَدٍ فِي هَلَاكِهِمْ، وَهُوَ كَقَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نُوحٍ: 27] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا فَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَمَا أَنْشَأْنَا بَعْضَهُمْ بَعْدَ بَعْضٍ أُرْسِلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ قَرَأَ ابن كثير تترا مُنَوَّنَةً وَالْبَاقُونَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ لِأَنَّهَا فَعْلَى مِنَ الْمُوَاتَرَةِ وَهِيَ الْمُتَابَعَةُ وَفَعْلَى لَا يُنَوَّنُ كَالدَّعْوَى وَالتَّقْوَى وَالتَّاءُ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَتَرِ وَهُوَ الْفَرْدُ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ تَتْرَى عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ مَصْدَرٌ أَوِ اسْمٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْحَالِ لِأَنَّ الْمَعْنَى مُتَوَاتِرَةٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّ مَا جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ [المؤمنون: 44] يَعْنِي أَنَّهُمْ سَلَكُوا فِي تَكْذِيبِ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْلَكَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّنْ أَهْلَكَهُ اللَّه بِالْغَرَقِ وَالصَّيْحَةِ فَلِذَلِكَ قَالَ: فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً أَيْ بِالْهَلَاكِ. [وَقَوْلُهُ] : وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جَمْعَ الْحَدِيثِ وَمِنْهُ أَحَادِيثُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَلَغَ فِي إِهْلَاكِهِمْ مَبْلَغًا صَارُوا مَعَهُ أَحَادِيثَ فَلَا يُرَى مِنْهُمْ عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يُذْكَرُ وَيُعْتَبَرُ بِهِ. وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ جَمْعَ أُحْدُوثَةٍ مِثْلَ الْأُضْحُوكَةِ وَالْأُعْجُوبَةِ، وَهِيَ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ تَلَهِّيًا وَتَعَجُّبًا. ثُمَّ قَالَ: فَبُعْداً لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ وَالذَّمِّ وَالتَّوْبِيخِ، وَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ كَمَا أُهْلِكُوا عَاجِلًا فَهَلَاكُهُمْ بِالتَّعْذِيبِ آجِلًا عَلَى التَّأْبِيدِ مُتَرَقَّبٌ وَذَلِكَ وعيد شديد. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 45 الى 49] ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) القصة الرابعة- قصة موسى عليه السلام اخْتَلَفُوا فِي (الْآيَاتِ) فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا هِيَ الْآيَاتُ التِّسْعُ وَهِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ وَالْجَرَادُ وَالْقُمَّلُ وَالضَّفَادِعُ وَالدَّمُ وَانْفِلَاقُ الْبَحْرِ وَالسُّنُونَ وَالنَّقْصُ مِنَ الثَّمَرَاتِ، وَقَالَ الْحَسَنُ قَوْلُهُ: بِآياتِنا أَيْ بِدِينِنَا وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ لو كانت هي المعجزات والسلطات الْمُبِينُ أَيْضًا هُوَ الْمُعْجِزُ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ لَفْظَ الْآيَاتِ إِذَا ذُكِرَ فِي الرُّسُلِ فَالْمُرَادُ مِنْهَا الْمُعْجِزَاتُ، وَأَمَّا الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ فَالْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّلْطَانِ الْمُبِينِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَشْرَفَ مُعْجِزَاتِهِ وَهُوَ الْعَصَا لِأَنَّهُ قَدْ تَعَلَّقَتْ بِهَا مُعْجِزَاتٌ شَتَّى مِنِ انْقِلَابِهَا حَيَّةً وَتَلَقُّفِهَا مَا أَفَكَتْهُ السَّحَرَةُ وانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر

[سورة المؤمنون (23) : آية 50]

بضربها بِهَا وَكَوْنِهَا حَارِسًا وَشَمْعَةً وَشَجَرَةً مُثْمِرَةً وَدَلْوًا وَرِشَاءً، فَلِأَجْلِ انْفِرَادِ الْعَصَا بِهَذِهِ الْفَضَائِلِ أُفْرِدَتْ بالذكر كقوله جبريل وَمِيكَالَ وَثَانِيهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ نَفْسُ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ وَبِالسُّلْطَانِ الْمُبِينِ كَيْفِيَّةُ دَلَالَتِهَا عَلَى الصِّدْقِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا وَإِنْ شَارَكَتْ سَائِرَ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ فِي كَوْنِهَا آيَاتٍ فَقَدْ فَارَقَتْهَا فِي قُوَّةِ دَلَالَتِهَا عَلَى قُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسُّلْطَانِ الْمُبِينِ اسْتِيلَاءَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَأَنَّهُ مَا كَانَ يُقِيمُ لَهُمْ قَدْرًا وَلَا وَزْنًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُعْجِزَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ مُعْجِزَاتِ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْضًا، وَأَنَّ النُّبُوَّةَ كَمَا أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا فَكَذَلِكَ الْمُعْجِزَاتُ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ صِفَتَهُمْ ثُمَّ ذَكَرَ شُبْهَتَهُمْ أَمَّا صِفَتُهُمْ فَأَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: الِاسْتِكْبَارُ وَالْأَنَفَةُ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَالِينَ أَيْ رَفِيعِي الْحَالِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، وَيَحْتَمِلُ الِاقْتِدَارَ بِالْكَثْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَأَمَّا شُبْهَتُهُمْ فَهِيَ/ قَوْلُهُمْ: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لَمْ يَقُلْ مِثْلَيْنَا كَمَا قَالَ: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ [النِّسَاءِ: 14] وَلَمْ يَقُلْ أَمْثَالَهُمْ وَقَالَ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آلِ عِمْرَانَ: 110] وَلَمْ يَقُلْ أَخْيَارَ أُمَّةٍ كُلُّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيجَازَ أَحَبُّ إِلَى الْعَرَبِ مِنَ الْإِكْثَارِ وَالشُّبْهَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُمَا مِنَ الْبَشَرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْمَ مُوسَى وَهَارُونَ كَانُوا كَالْخَدَمِ وَالْعَبِيدِ لَهُمْ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ من دان لملك عَابِدًا لَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ فَادَّعَى أَنَّ النَّاسَ عِبَادُهُ وَأَنَّ طَاعَتَهُمْ لَهُ عِبَادَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَمَّا خَطَرَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ بِبَالِهِمْ صَرَّحُوا بِالتَّكْذِيبِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَكَذَّبُوهُما. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ التَّكْذِيبُ كَالْعِلَّةِ لِكَوْنِهِمْ مِنَ الْمُهْلَكِينَ لَا جَرَمَ رَتَّبَهُ عَلَيْهِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فَقَالَ وَكَانُوا مِمَّنْ حَكَمَ اللَّه عَلَيْهِمْ بِالْغَرَقِ فَإِنَّ حُصُولَ الْغَرَقِ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا عَقِيبَ التَّكْذِيبِ، إِنَّمَا الْحَاصِلُ عَقِيبَ التَّكْذِيبِ حُكْمُ اللَّه تَعَالَى بِكَوْنِهِمْ كَذَلِكَ فِي الْوَقْتِ اللَّائِقِ بِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ فَقَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَصَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْكِتَابِ الَّذِي هُوَ التَّوْرَاةُ لَا لِذَلِكَ التَّكْذِيبِ لَكِنْ لِكَيْ يَهْتَدُوا بِهِ فَلَمَّا أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ مَعَ الْبَيَانِ الْعَظِيمِ اسْتَحَقُّوا أَنْ يُهْلَكُوا، وَاعْتَرَضَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَلَيْهِ فَقَالَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ فِي لعلهم إلى فرعون وملائه لِأَنَّ التَّوْرَاةَ إِنَّمَا أُوتِيَهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ بَعْدَ إغراق فرعون وملائه بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى [الْقَصَصِ: 43] بَلِ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِشَرَائِعِهَا وَمَوَاعِظِهَا فَذَكَرَ مُوسَى وَالْمُرَادُ آلَ مُوسَى كَمَا يُقَالُ هَاشِمٌ وَثَقِيفٌ وَالْمُرَادُ قولهما. [سورة المؤمنون (23) : آية 50] وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50) الْقِصَّةُ الْخَامِسَةُ- قِصَّةُ عِيسَى وَقِصَّةُ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السلام اعْلَمْ أَنَّ ابْنَ مَرْيَمَ هُوَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعَلَهُ اللَّه تَعَالَى آيَةً بِأَنْ خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَأَنْطَقَهُ فِي الْمَهْدِ فِي الصِّغَرِ وَأَجْرَى عَلَى يَدَيْهِ إِبْرَاءَ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَإِحْيَاءَ الْمَوْتَى، وَأَمَّا مَرْيَمُ فَقَدْ جَعَلَهَا اللَّه تَعَالَى آيَةً لِأَنَّهَا حَمَلَتْهُ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ تَكَلَّمَتْ مَرْيَمُ فِي صِغَرِهَا كَمَا تَكَلَّمَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهَا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 إلى 56]

إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [آلِ عِمْرَانَ: 37] وَلَمْ تُلْقَمْ ثَدْيًا قَطُّ، قَالَ الْقَاضِي إِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَهُوَ مُعْجِزَةٌ لِزَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً، قُلْنَا الْقَاضِي إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْإِرْهَاصَ غَيْرُ جَائِزٍ وَكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَعِنْدَنَا هُمَا جَائِزَانِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا قَالَ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ جَعَلَهُمَا آيَةً بِنَفْسِ الْوِلَادَةِ لِأَنَّهُ وُلِدَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَوَلَدَتْهُ مِنْ دُونِ ذَكَرٍ فَاشْتَرَكَا جَمِيعًا فِي هَذَا الْأَمْرِ الْعَجِيبِ الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ أَوْلَى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى/ قَالَ: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً لِأَنَّ نَفْسَ الْإِعْجَازِ ظَهَرَ فِيهِمَا لَا أَنَّهُ ظَهَرَ عَلَى يَدِهِمَا وَهَذَا أَوْلَى مِنْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْآيَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدِهِ نَحْوَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ فِيهِ وَفِيهَا آيَةٌ فيهما وكذلك أن نطقا فِي الْمَهْدِ وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ظَهَرَ عَلَى يَدِهِ لَا أَنَّهُ آيَةٌ فِيهِ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ آيَةً وَلَمْ يَقُلْ آيَتَيْنِ، وَحَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي لَا يَتِمُّ إِلَّا بِمَجْمُوعِهِمَا أَوْلَى وَذَلِكَ هُوَ أَمْرُ الْوِلَادَةِ لَا الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُسْتَقِلًّا بِهَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ أَيْ جَعَلْنَا مَأْوَاهُمَا الرَّبْوَةَ وَالرَّبْوَةُ وَالرَّبَاوَةُ فِي رَاءَيْهِمَا الْحَرَكَاتُ الثَّلَاثُ وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُرْتَفِعَةُ، ثم قال قَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةَ هِيَ إِيلِيَاءُ أَرْضُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِنَّهَا الرَّمْلَةُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ هِيَ بِمِصْرَ وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ إِنَّهَا دِمَشْقُ وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالضَّحَّاكُ هِيَ غُوطَةُ دِمَشْقَ، وَالْقَرَارُ الْمُسْتَقِرُّ مِنْ [كُلِّ] أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ مَبْسُوطَةٍ، وَعَنْ قَتَادَةَ ذَاتِ ثِمَارٍ وَمَاءٍ، يَعْنِي أَنَّهُ لِأَجْلِ الثِّمَارِ يَسْتَقِرُّ فِيهَا سَاكِنُوهَا وَالْمَعِينُ الْمَاءُ الظَّاهِرُ الْجَارِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. فَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى كَمَالِ نِعَمِهِ عَلَيْهَا بِهَذَا اللَّفْظِ عَلَى اخْتِصَارِهِ. ثُمَّ فِي الْمَعِينِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَنَّهُ لِظُهُورِهِ يُدْرَكُ بِالْعَيْنِ مِنْ عَانَهُ إِذَا أَدْرَكَهُ بِعَيْنِهِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ فَعِيلًا مِنَ الْمَاعُونِ وَيَكُونُ أَصْلُهُ مِنَ الْمَعْنِ وَالْمَاعُونِ فَاعُولٌ مِنْهُ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَالْمَعِينُ السَّهْلُ الَّذِي يَنْقَادُ وَلَا يَتَعَاصَى وَالْمَاعُونُ مَا سَهُلَ عَلَى مُعْطِيهِ، ثُمَّ قَالُوا وَسَبَبُ الْإِيوَاءِ أَنَّهَا فَرَّتْ بِابْنِهَا عِيسَى إِلَى الرَّبْوَةِ وَبَقِيَتْ بِهَا اثْنَتَيْ عَشْرَةً سَنَةً، وَإِنَّمَا ذَهَبَ بِهِمَا ابْنُ عَمِّهَا يُوسُفُ ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى أَهْلِهَا بَعْدَ أَنْ مَاتَ مَلِكُهُمْ، وَهَاهُنَا آخِرُ الْقَصَصِ واللَّه أَعْلَمُ. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 الى 56] يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) اعْلَمْ أن ظاهر قوله: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ خطاب مع كل الرُّسُلِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّ الرُّسُلَ إِنَّمَا أُرْسِلُوا مُتَفَرِّقِينَ فِي أَزْمِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ مُخْتَلِفَةٍ فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَوْجِيهُ هَذَا الْخِطَابِ إِلَيْهِمْ، فَلِهَذَا الْإِشْكَالِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى الْإِعْلَامُ بِأَنَّ كُلَّ رَسُولٍ فَهُوَ فِي زَمَانِهِ نُودِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى وَوُصِّيَ بِهِ لِيَعْتَقِدَ السَّامِعُ أَنَّ أَمْرًا نُودِيَ لَهُ جَمِيعُ الرُّسُلِ وَوُصُّوا بِهِ حَقِيقٌ بِأَنْ يُؤْخَذَ بِهِ وَيُعْمَلَ عَلَيْهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ نَبِيُّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ أَخْبَارِ الرُّسُلِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ كَمَا يُقَالُ لِلْوَاحِدِ أَيُّهَا الْقَوْمُ كُفُّوا

عَنِّي أَذَاكُمْ وَمِثْلُهُ الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آلِ عِمْرَانَ: 173] وَهُوَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا خَاطَبَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ بَيَّنَ أَنَّ الرُّسُلَ بِأَسْرِهِمْ لَوْ كَانُوا حَاضِرِينَ مُجْتَمِعِينَ لَمَا خُوطِبُوا إِلَّا بِذَلِكَ لِيَعْلَمَ رَسُولُنَا أَنَّ هَذَا التَّثْقِيلَ لَيْسَ عَلَيْهِ فَقَطْ، بَلْ لَازِمٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَثَالِثُهَا: وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ إنما ذكر ذلك بعد ما ذَكَرَ مَكَانَهُ الْجَامِعَ لِلطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّهُ أَوْفَقُ لِلَفْظِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أُمِّ عَبْدِ اللَّه أُخْتِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهَا بَعَثَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ عِنْدَ فِطْرِهِ وَهُوَ صَائِمٌ فَرَدَّهُ الرَّسُولُ إِلَيْهَا وَقَالَ مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا؟ فَقَالَتْ مِنْ شَاةٍ لِي، ثُمَّ رَدَّهُ وَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذِهِ الشَّاةُ؟ فَقَالَتْ اشْتَرَيْتُهَا بِمَالِي فَأَخَذَهُ. ثُمَّ إِنَّهَا جَاءَتْهُ وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّه لِمَ رَدَدْتَهُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ أُمِرَتِ الرُّسُلُ أَنْ لَا يَأْكُلُوا إِلَّا طَيِّبَا وَلَا يَعْمَلُوا إِلَّا صَالِحًا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَ الطَّيِّباتِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْحَلَالُ وَقِيلَ طَيِّبَاتُ الرِّزْقِ حَلَالٌ وَصَافٍ وَقِوَامٍ فَالْحَلَالُ الَّذِي لَا يُعْصَى اللَّه فِيهِ، وَالصَّافِي الَّذِي لَا يُنْسَى اللَّه فِيهِ وَالْقِوَامَ مَا يُمْسِكُ النَّفْسَ وَيَحْفَظُ الْعَقْلَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْمُسْتَطَابُ الْمُسْتَلَذُّ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْفَوَاكِهِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ وَإِنْ ثَقُلَ عَلَيْهِمْ بِالنُّبُوَّةِ وَبِمَا أَلْزَمَهُمُ الْقِيَامَ بِحَقِّهَا، فَقَدْ أَبَاحَ لَهُمْ أَكْلَ الطَّيِّبَاتِ كَمَا أَبَاحَ لِغَيْرِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سبحانه كما قال للمرسلين يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ فقال للمؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيمَ قَوْلِهِ: كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ عَلَى قَوْلِهِ: وَاعْمَلُوا صالِحاً كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِأَكْلِ الْحَلَالِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فَهُوَ تَحْذِيرٌ مِنْ مُخَالَفَةِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ تَحْذِيرًا لِلرُّسُلِ مَعَ عُلُوِّ شَأْنِهِمْ فَبِأَنْ يَكُونَ تَحْذِيرًا لِغَيْرِهِمْ أَوْلَى. أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَقَدْ فَسَّرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: الْمَعْنَى أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَكْلِ الْحَلَالِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَكَذَلِكَ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَعَلَى الِاتِّقَاءِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّه تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ لَمَّا كَانَتْ شَرَائِعُهُمْ مُخْتَلِفَةً فَكَيْفَ يَكُونُ دِينُهُمْ وَاحِدًا؟ قُلْنَا الْمُرَادُ مِنَ الدِّينِ مَا لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنْ مَعْرِفَةِ ذَاتِ اللَّه تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَأَمَّا الشَّرَائِعُ فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهَا لَا يُسَمَّى اخْتِلَافًا فِي الدِّينِ، فَكَمَا يُقَالُ فِي الْحَائِضِ وَالطَّاهِرِ/ مِنَ النِّسَاءِ إِنَّ دِينَهُنَّ وَاحِدٌ وَإِنِ افْتَرَقَ تَكْلِيفُهُمَا فَكَذَا هَاهُنَا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَكَأَنَّهُ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ دِينَ الْجَمِيعِ وَاحِدٌ فِيمَا يَتَّصِلُ بِمَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَاتِّقَاءِ مَعَاصِيهِ فَلَا مَدْخَلَ لِلشَّرَائِعِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي ذَلِكَ. المسألة الثَّانِيَةُ: قُرِئَ وَإِنَّ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَإِنَّ بمعنى ولأن وإن مخففة من الثقيلة وأمتكم مَرْفُوعَةٌ مَعَهَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً فَالْمَعْنَى فَإِنَّ أُمَمَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَفِي قَوْلِهِ: فَتَقَطَّعُوا معنى المبالغة في شدة اختلافهم والمراد بأمرهم ما يتصل بالدين. أما قوله زُبُراً فقرىء زُبُرًا جَمْعُ زَبُورٍ أَيْ كُتُبًا مُخْتَلِفَةً يَعْنِي جعلوا دينهم أديانا وزبرا قِطَعًا اسْتُعِيرَتْ مِنْ زُبَرِ الْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَزُبْرًا مخففة الباء كرسل فِي رُسُلٍ قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ وَالضَّحَّاكُ يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ وَالْمَجُوسَ وَالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 إلى 61]

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَمَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مُغْتَبِطٌ بِمَا اتَّخَذَهُ دِينًا لِنَفْسِهِ مُعْجَبٌ بِهِ يَرَى المحق أنه الرَّابِحُ، وَأَنَّ غَيْرَهُ الْمُبْطِلُ الْخَاسِرُ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى تَفَرُّقَ هَؤُلَاءِ فِي دِينِهِمْ أَتْبَعَهُ بِالْوَعِيدِ، وَقَالَ: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ الْخِطَابُ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «فَدَعْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ فِي جَهْلِهِمْ وَالْغَمْرَةُ الْمَاءُ الذي بغمر الْقَامَةَ فَكَأَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْحَيْرَةِ صَارَ غَامِرًا سَاتِرًا لِعُقُولِهِمْ» . وَعَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فِي غَمَرَاتِهِمْ حَتَّى حِينٍ وَذَكَرُوا فِي الْحِينِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: إِلَى حِينِ الْمَوْتِ وَثَانِيهَا: إِلَى حِينِ الْمُعَايَنَةِ وَثَالِثُهَا: إِلَى حِينِ الْعَذَابِ، وَالْعَادَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُذْكَرَ فِي الْكَلَامِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَالَةُ الَّتِي تَقْتَرِنُ بِهَا الْحَسْرَةُ وَالنَّدَامَةُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ إِذَا عَرَّفَهُمُ اللَّه بُطْلَانَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَعَرَّفَهُمْ سُوءَ مُنْقَلَبِهِمْ، وَيَحْصُلُ أَيْضًا عِنْدَ الْمُحَاسَبَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَيَحْصُلُ عند عذاب القبر والمسألة فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ الْقَوْمُ فِي نِعَمٍ عَظِيمَةٍ فِي الدُّنْيَا جَازَ أَنْ يَظُنُّوا أَنَّ تِلْكَ النِّعَمَ كَالثَّوَابِ الْمُعَجَّلِ لَهُمْ عَلَى أَدْيَانِهِمْ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ قُرِئَ يَمُدُّهُمْ وَيُسَارِعُ بِالْيَاءِ وَالْفَاعِلُ هُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَفِي الْمَعْنَى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الْإِمْدَادَ لَيْسَ إِلَّا اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ فِي الْمَعَاصِي، وَاسْتِجْرَارًا لَهُمْ فِي زِيَادَةِ الْإِثْمِ وَهُمْ يحسبونه مسارعة في الخيرات وبل لِلِاسْتِدْرَاكِ لِقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُونَ يَعْنِي بَلْ هُمْ أَشْبَاهُ الْبَهَائِمِ لَا فِطْنَةَ لَهُمْ وَلَا شُعُورَ حَتَّى يَتَفَكَّرُوا فِي ذَلِكَ، أَهْوَ اسْتِدْرَاجٌ أَمْ مُسَارَعَةٌ فِي الْخَيْرِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ: وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ [التَّوْبَةِ: 85] رُوِيَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ مَيْسَرَةَ: أَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ «أَيَفْرَحُ عَبْدِي أَنْ أَبْسُطَ لَهُ الدُّنْيَا وَهُوَ أَبْعَدُ لَهُ مِنِّي، وَيَجْزَعُ أَنْ أَقْبِضَ عَنْهُ الدُّنْيَا وَهُوَ أَقْرَبُ لَهُ مِنِّي» ثُمَّ تَلَا: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ وَعَنِ الْحَسَنِ: لَمَّا أُتِي عُمَرُ بِسَوَارِ كِسْرَى فَأَخَذَهُ وَوَضَعَهُ فِي يَدِ سُرَاقَةَ فَبَلَغَ مَنْكِبَهُ. فَقَالَ عُمَرُ اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ نَبِيَّكَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ/ وَالسَّلَامُ، كَانَ يُحِبُّ أَنْ يُصِيبَ مَالًا لِيُنْفِقَهُ فِي سَبِيلِكَ، فَزَوَيْتَ ذَلِكَ عَنْهُ نَظَرًا. ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُحِبُّ ذَلِكَ، اللَّهُمَّ لَا يَكُنْ ذَلِكَ مَكْرًا مِنْكَ بِعُمَرَ. ثُمَّ تَلَا: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ الوجه الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أَعْطَاهُمْ هَذِهِ النِّعَمَ لِيَكُونُوا فَارِغِي الْبَالِ، مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِكُلَفِ الْحَقِّ، فَإِذَا أَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، كَانَ لُزُومُ الحجة عَلَيْهِمْ أَقْوَى، فَلِذَلِكَ قَالَ: بَلْ لَا يَشْعُرُونَ. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 الى 61] إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَمَّ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ ثُمَّ قَالَ: بَلْ لَا يَشْعُرُونَ بَيَّنَ بَعْدَهُ صِفَاتِ مَنْ يُسَارِعُ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَشْعُرُ بِذَلِكَ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالْإِشْفَاقُ يَتَضَمَّنُ الْخَشْيَةَ مَعَ زِيَادَةِ رِقَّةٍ وَضَعْفٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: جَمَعَ بَيْنَهُمَا لِلتَّأْكِيدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ الْخَشْيَةَ عَلَى الْعَذَابِ، وَالْمَعْنَى الَّذِينَ هُمْ مِنْ

عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ الْإِشْفَاقَ عَلَى أَثَرِهِ وَهُوَ الدَّوَامُ فِي الطَّاعَةِ، وَالْمَعْنَى الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ دَائِمُونَ فِي طَاعَتِهِ، جَادُّونَ فِي طَلَبِ مَرْضَاتِهِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مَنْ بَلَغَ فِي الْخَشْيَةِ إِلَى حَدِّ الْإِشْفَاقِ وَهُوَ كَمَالُ الْخَشْيَةِ، كَانَ فِي نِهَايَةِ الْخَوْفِ مِنْ سُخْطِ اللَّه عَاجِلًا، وَمِنْ عِقَابِهِ آجِلًا، فَكَانَ فِي نِهَايَةِ الِاحْتِرَازِ عَنِ الْمَعَاصِي. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَاعْلَمْ أَنَّ آيَاتِ اللَّه تَعَالَى هِيَ الْمَخْلُوقَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُودِهِ، وَالْإِيمَانُ بِهَا هُوَ التَّصْدِيقُ بِهَا، وَالتَّصْدِيقُ بِهَا إِنْ كَانَ بِوُجُودِهَا فَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، وَصَاحِبُ هَذَا التَّصْدِيقِ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ، وَإِنْ كَانَ بِكَوْنِهَا آيَاتٍ وَدَلَائِلَ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ فَذَلِكَ مِمَّا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالنَّظَرِ وَالْفِكْرِ، وَصَاحِبُهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِيرَ عَارِفًا/ بِوُجُودِ الصَّانِعِ وَصِفَاتِهِ، وَإِذَا حَصَلَتِ الْمَعْرِفَةُ بِالْقَلْبِ حَصَلَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ ظَاهِرًا وَذَلِكَ هُوَ الْإِيمَانُ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِيمَانَ بِالتَّوْحِيدِ وَنَفْيَ الشَّرِيكِ للَّه تَعَالَى لِأَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْيُ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُخْلِصًا فِي الْعِبَادَةِ لَا يَقْدُمُ عَلَيْهَا إِلَّا لِوَجْهِ اللَّه تَعَالَى وَطَلَبِ رِضْوَانِهِ واللَّه أَعْلَمُ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ مَعْنَاهُ يُعْطُونَ مَا أَعْطَوْا فَدَخَلَ فِيهِ كُلُّ حَقٍّ يَلْزَمُ إِيتَاؤُهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ حَقِّ اللَّه تَعَالَى: كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ وَغَيْرِهِمَا، أَوْ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ: كَالْوَدَائِعِ وَالدُّيُونِ وَأَصْنَافِ الْإِنْصَافِ وَالْعَدْلِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَنْفَعُ إِذَا فَعَلُوهُ وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ، لِأَنَّ مَنْ يَقْدُمُ عَلَى الْعِبَادَةِ وَهُوَ وَجِلٌ مِنْ تَقْصِيرِهِ وَإِخْلَالِهِ بِنُقْصَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْوَجِلِ مُجْتَهِدًا فِي أَنْ يُوَفِّيَهَا حَقَّهَا فِي الْأَدَاءِ. وَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا رسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَهُوَ الَّذِي يَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ يَخَافُ اللَّه تَعَالَى؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنْ هُوَ الرَّجُلُ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ يَخَافُ اللَّه تَعَالَى» . وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْتِيبَ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي نِهَايَةِ الْحُسْنِ، لِأَنَّ الصِّفَةَ الْأُولَى دَلَّتْ عَلَى حُصُولِ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ الْمُوجِبِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتْ عَلَى تَرْكِ الرِّيَاءِ فِي الطَّاعَاتِ. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَجْمِعَ لِتِلْكَ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ يَأْتِي بِالطَّاعَاتِ مَعَ الْوَجَلِ وَالْخَوْفِ مِنَ التَّقْصِيرِ، وَذَلِكَ هُوَ نِهَايَةُ مَقَامَاتِ الصَّدِّيقِينَ رَزَقَنَا اللَّه سُبْحَانَهُ الْوُصُولَ إِلَيْهَا، فَإِنْ قِيلَ: أَفَتَقُولُونَ إِنَّ قَوْلَهُ: وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ يَرْجِعُ إِلَى يُؤْتُونَ، أَوْ يَرْجِعُ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخِصَالِ؟ قُلْنَا بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُلِّ لِأَنَّ الْعَطِيَّةَ لَيْسَتْ بِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ، إِذِ الْمُرَادُ أَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ عَلَى وَجَلٍ مِنْ تَقْصِيرِهِ، فَيَكُونُ مُبَالِغًا فِي تَوْفِيَتِهِ حَقَّهُ، فَأَمَّا إِذَا قرئ والذين يأتون مَا أَتَوْا فَالْقَوْلُ فِيهِ أَظْهَرُ، إِذِ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَيُّ شَيْءٍ أَتَوْهُ وَفَعَلُوهُ مِنْ تَحَرُّزٍ عَنْ مَعْصِيَةٍ وَإِقْدَامٍ عَلَى إِيمَانٍ وَعَمَلٍ، فَإِنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مَعَ الْوَجَلِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ عِلَّةَ ذَلِكَ الْوَجَلِ وَهِيَ عِلْمُهُمْ بِأَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، أَيْ لِلْمُجَازَاةِ وَالْمُسَاءَلَةِ وَنَشْرِ الصُّحُفِ وَتَتَبُّعِ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّ هُنَاكَ لَا تَنْفَعُ النَّدَامَةُ، فَلَيْسَ إِلَّا الْحُكْمُ الْقَاطِعُ مِنْ جِهَةِ مَالِكِ الْمُلْكِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الصِّفَاتِ لِلْمُؤْمِنِينَ

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 62 إلى 65]

الْمُخْلِصِينَ قَالَ بَعْدَهُ: أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ يَرْغَبُونَ فِي الطَّاعَاتِ أَشَدَّ الرَّغْبَةِ فَيُبَادِرُونَهَا لِئَلَّا تَفُوتَ عَنْ وقتها ولكيلا تفوتهم دون الاحترام. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ يَتَعَجَّلُونَ فِي الدُّنْيَا أَنْوَاعَ النَّفْعِ وَوُجُوهَ الْإِكْرَامِ، كَمَا قَالَ: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا/ وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آلِ عِمْرَانَ: 148] . وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: 27] لِأَنَّهُمْ إِذَا سُورِعَ لَهُمْ بِهَا فَقَدْ سَارَعُوا فِي نَيْلِهَا وَتَعَجَّلُوهَا، وَهَذَا الوجه أَحْسَنُ طِبَاقًا لِلْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، لِأَنَّ فِيهِ إِثْبَاتَ مَا نُفِيَ عَنِ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُرِئَ يُسْرِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَهُمْ لَها سابِقُونَ فَالْمَعْنَى فَاعِلُونَ السَّبْقَ لِأَجْلِهَا أَوْ سَابِقُونَ النَّاسَ لِأَجْلِهَا أَوْ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ أَيْ يَنَالُونَهَا قَبْلَ الْآخِرَةِ حَيْثُ عُجِّلَتْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ. وَالْمَعْنَى وَهُمْ لَهَا كَمَا يُقَالُ أَنْتَ لَهَا وَهِيَ لَكَ، ثُمَّ قَالَ سَابِقُونَ أَيْ وَهُمْ سَابِقُونَ. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 62 الى 65] وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ ذَكَرَ حُكْمَيْنِ مِنْ أَحْكَامِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ فَالْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَفِي الْوُسْعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الطَّاقَةُ عَنِ الْمُفَضَّلِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ دُونَ الطَّاقَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَمُقَاتِلٍ وَالضَّحَّاكِ وَالْكَلْبِيِّ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ الْوُسْعَ إِنَّمَا سُمِّيَ وُسْعًا لِأَنَّهُ يَتَّسِعُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ وَلَا يَصْعُبُ وَلَا يَضِيقُ، فَبَيَّنَ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُخْلِصِينَ لَمْ يُكَلَّفُوا أَكْثَرَ مِمَّا عَمِلُوا. قَالَ مُقَاتِلٌ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا فَلْيُصَلِّ جَالِسًا وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ جَالِسًا فَلْيُومِ إِيمَاءً لِأَنَّا لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَاسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهِ فِي نَفْيِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الْجَاثِيَةِ: 29] وَقَوْلُهُ: لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الْكَهْفِ: 49] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ الْكِتَابَ بِمَنْ يَصْدُرُ عَنْهُ الْبَيَانُ فَإِنَّ الْكِتَابَ لَا يَنْطِقُ لَكِنَّهُ يُعْرِبُ بِمَا فِيهِ كَمَا يُعْرِبُ وَيَنْطِقُ النَّاطِقُ إِذَا كَانَ مُحِقًّا، فَإِنْ قِيلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُعْرَضُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الْكِتَابُ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُحِيلِينَ الْكَذِبَ عَلَى اللَّه تَعَالَى أَوْ مُجَوِّزِينَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحَالُوهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ يُصَدِّقُونَهُ فِي كُلِّ مَا يَقُولُ سَوَاءٌ وُجِدَ الْكِتَابُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، وَإِنْ جَوَّزُوهُ عَلَيْهِ لَمْ يَثِقُوا بِذَلِكَ الْكِتَابِ لِتَجْوِيزِهِمْ أَنَّهُ/ سُبْحَانَهُ كَتَبَ فِيهِ خِلَافَ مَا حَصَلَ. فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا فَائِدَةَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ؟ قُلْنَا يَفْعَلُ اللَّه مَا يَشَاءُ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الْكَهْفِ: 49] فَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الظُّلْمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالزِّيَادَةِ فِي الْعِقَابِ أَوْ بِالنُّقْصَانِ مِنَ الثَّوَابِ أَوْ بِأَنْ يُعَذَّبَ عَلَى مَا لَمْ يَعْلَمْ أَوْ بِأَنْ يُكَلِّفَهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ فَتَكُونُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى كَوْنِ الْعَبْدِ مُوجِدًا لِفِعْلِهِ وَإِلَّا لَكَانَ تَعْذِيبُهُ عَلَيْهِ ظُلْمًا وَدَالَّةً عَلَى

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 66 إلى 72]

أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُكَلِّفُ مَا لَا يُطَاقُ الجواب: أَنَّهُ لَمَّا كَلَّفَ أَبَا لَهَبٍ أَنْ يُؤْمِنَ، وَالْإِيمَانُ يَقْتَضِي تَصْدِيقُ اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ وَمِمَّا أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّ أَبَا لَهَبٍ لَا يُؤْمِنُ فَقَدْ كَلَّفَهُ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ فَيَلْزَمُكُمْ كُلُّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْكُفَّارِ وَهُمُ الَّذِينَ يَلِيقُ بِهِمْ قَوْلُهُ: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إِذِ الْمُرَادُ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا الَّذِي بَيَّنَاهُ فِي الْقُرْآنِ أَوْ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي يَنْطِقُ بِالْحَقِّ أَوْ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ وَصْفُ الْمُشْفِقِينَ وَلَهُمْ أَيْ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ أَيْ أَعْمَالٌ سِوَى ذَلِكَ أَيْ سِوَى جَهْلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ ثم قال بَعْضُهُمْ أَرَادَ أَعْمَالَهُمْ فِي الْحَالِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ أَرَادَ الْمُسْتَقْبَلَ وَهَذَا أَقْرَبُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: هُمْ لَها عامِلُونَ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ أَقْرَبُ وَإِنَّمَا قَالَ: هُمْ لَها عامِلُونَ لِأَنَّهَا مُثْبَتَةٌ فِي عِلْمِ اللَّه تَعَالَى وَفِي حُكْمِ اللَّه وَفِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَوَجَبَ أَنْ يَعْمَلُوهَا لِيَدْخُلُوا بِهَا النَّارَ لِمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ اللَّه مِنَ الشَّقَاوَةِ الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ صِفَاتِ الْمُشْفِقِينَ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ بَعْدَ وَصْفِهِمْ: وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَنِهَايَتُهُ مَا أَتَى بِهِ هَؤُلَاءِ الْمُشْفِقُونَ وَلَدَيْنا كِتابٌ يَحْفَظُ أَعْمَالَهُمْ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ بَلْ نُوَفِّرُ عَلَيْهِمْ ثَوَابَ كُلِّ أَعْمَالِهِمْ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا هُوَ أَيْضًا وَصْفٌ لَهُمْ بِالْحَيْرَةِ كَأَنَّهُ قَالَ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ الْوَجَلِ وَالْخَوْفِ كَالْمُتَحَيِّرِينَ فِي جَعْلِ أَعْمَالِهِمْ مَقْبُولَةً أَوْ مَرْدُودَةً وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ أَيْ لَهُمْ أَيْضًا مِنَ النَّوَافِلِ وَوُجُوهِ الْبِرِّ سِوَى مَا هُمْ عَلَيْهِ إِمَّا أَعْمَالًا قَدْ عَمِلُوهَا فِي الْمَاضِي أَوْ سَيَعْمَلُونَهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ رَجَعَ بِقَوْلِهِ: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِلَى وَصْفِ الْكُفَّارِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ أَبِي مُسْلِمٍ أَوْلَى لِأَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ رَدُّ الْكَلَامِ إِلَى مَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ ذِكْرِ الْمُشْفِقِينَ كَانَ أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إِلَى مَا بَعُدَ مِنْهُ خُصُوصًا، وَقَدْ يُرَغَّبُ الْمَرْءُ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ بِأَنْ يُذَكَّرَ أَنَّ أَعْمَالَهُ مَحْفُوظَةٌ كَمَا قَدْ يُحَذَّرُ بِذَلِكَ مِنَ الشَّرِّ، وَقَدْ يُوصَفُ الْمَرْءُ لِشِدَّةِ فِكْرِهِ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِ بِأَنَّ قَلْبَهُ فِي غَمْرَةٍ وَيُرَادُ أَنَّهُ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْفِكْرُ فِي قَبُولِ عَمَلِهِ أَوْ رَدِّهِ وَفِي أَنَّهُ هَلْ أَدَّاهُ كَمَا يَجِبُ أَوْ قَصَّرَ. فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مِنْ هَذَا، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَاذَا؟ قُلْنَا هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى إِشْفَاقِهِمْ وَوَجَلِهِمْ مَعَ أَنَّهُمَا مُسْتَوْلِيَانِ عَلَى قُلُوبِهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ فقال صاحب «الكشاف» حتى هذه هي التي/ يُبْتَدَأُ بَعْدَهَا الْكَلَامُ وَالْكَلَامُ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ [فِي] أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مُتْرَفِيهِمْ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْكُفَّارِ لِأَنَّ الْعَذَابَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِهِمْ وَفِي هَذَا الْعَذَابِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَرَادَ بِالْعَذَابِ مَا نَزَلَ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَذَابُ الْآخِرَةِ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُنَعَّمِينَ مِنْهُمْ إِذَا نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ يَجْأَرُونَ أَيْ يَرْتَفِعُ صَوْتُهُمْ بِالِاسْتِغَاثَةِ وَالضَّجِيجِ لِشِدَّةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَيُقَالُ لَهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّبْكِيتِ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ فَلَا يُدْفَعُ عَنْكُمْ مَا يُرِيدُ إِنْزَالَهُ بِكُمْ، دَلَّ بِذَلِكَ سُبْحَانَهُ عَلَى أَنَّهُمْ سَيَنْتَهُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنَ الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ وَهُوَ كَالْبَاعِثِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى تَرْكِ الْكُفْرِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ فَإِنَّهُمُ الْآنَ يَنْتَفِعُونَ بذلك. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 66 الى 72] قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)

اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ فِيمَا قَبْلُ أَنَّهُ لَا يَنْصُرُ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ أَتْبَعَهُ بِعِلَّةِ ذَلِكَ وَهِيَ أَنَّهُ مَتَى تُلِيَتْ آيَاتُ اللَّه عَلَيْهِمْ أَتَوْا بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ يَنْكِصُونَ وَهَذَا مَثَلٌ يُضْرَبُ فِيمَنْ تَبَاعَدَ عَنِ الْحَقِّ كُلَّ التَّبَاعُدِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ أَيْ تَنْفِرُونَ عَنْ تِلْكَ الْآيَاتِ وَعَمَّنْ يَتْلُوهَا كَمَا يَذْهَبُ النَّاكِصُ عَلَى عَقِبَيْهِ بِالرُّجُوعِ إِلَى وَرَائِهِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ وَالْهَاءُ/ فِي (بِهِ) إِلَى مَاذَا تَعُودُ؟ فِيهِ وُجُوهٌ: أَوَّلُهَا: إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أَوِ الْحَرَمِ كَانُوا يَقُولُونَ لَا يَظْهَرُ عَلَيْنَا أَحَدٌ لِأَنَّا أَهْلُ الْحَرَمِ وَالَّذِي يُسَوِّغُ هَذَا الْإِضْمَارَ شُهْرَتُهُمْ بِالِاسْتِكْبَارِ بِالْبَيْتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَفْخَرَةٌ إِلَّا أَنَّهُمْ وُلَاتُهُ وَالْقَائِمُونَ بِهِ وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ مُسْتَكْبِرِينَ بِهَذَا التَّرَاجُعِ وَالتَّبَاعُدِ وَثَالِثُهَا: أن تتعلق الباء بسامرا أَيْ يَسْمُرُونَ بِذِكْرِ الْقُرْآنِ وَبِالطَّعْنِ فِيهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَمْرُ الثَّالِثُ الَّذِي يَأْتُونَ بِهِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا يَجْتَمِعُونَ حَوْلَ الْبَيْتِ بِاللَّيْلِ يَسْمُرُونَ وَكَانَتْ عَامَّةُ سَمَرِهِمْ ذِكْرَ الْقُرْآنِ وَتَسْمِيَتَهُ سِحْرًا وَشِعْرًا وَسَبَّ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَهْجُرُونَ، وَالسَّامِرُ نَحْوُ الْحَاضِرِ في الإطلاق على الجمع وقرئ سمرا وسامرا يَهْجُرُونَ مِنْ أَهْجَرَ فِي مَنْطِقِهِ إِذَا أَفْحَشَ وَالْهَجْرُ بِالْفَتْحِ الْهَذَيَانُ وَالْهُجْرُ بِالضَّمِّ الْفُحْشُ أَوْ مِنْ هَجَّرَ الَّذِي هُوَ مُبَالَغَةٌ فِي هَجَرَ إِذَا هَذَى. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا وَصَفَ حَالَهُمْ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنْ بَيَّنَ أَنَّ إِقْدَامَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِأَحَدِ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَتَأَمَّلُوا فِي دَلِيلِ ثُبُوتِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ فَبَيَّنَ أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ كَانَ مَعْرُوفًا لَهُمْ وَقَدْ مُكِّنُوا مِنَ التَّأَمُّلِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ كَانَ مُبَايِنًا لِكَلَامِ الْعَرَبِ فِي الْفَصَاحَةِ، وَمُبَرَّأً عَنِ التَّنَاقُضِ فِي طُولِ عُمْرِهِ، وَمِنْ حَيْثُ يُنَبِّهُ عَلَى مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ الصَّانِعِ وَمَعْرِفَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ فَلِمَ لَا يَتَدَبَّرُونَ فِيهِ لِيَتْرُكُوا الْبَاطِلَ وَيَرْجِعُوا إِلَى الْحَقِّ وَثَانِيهَا: أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ أَمْرٌ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ جاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَرَفُوا بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ الرُّسُلَ كَانَتْ تَتَوَاتَرُ عَلَى الْأُمَمِ وَتَظْهَرُ الْمُعْجِزَاتُ عَلَيْهَا وَكَانَتِ الْأُمَمُ بَيْنَ مُصَدِّقٍ نَاجٍ، وَبَيْنَ مُكَذِّبٍ هَالِكٍ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ أَفَمَا دَعَاهُمْ ذَلِكَ إِلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ وَثَالِثُهَا: أَنْ لَا يَكُونُوا عَالِمِينَ بِدِيَانَتِهِ وَحُسْنِ خِصَالِهِ قَبْلَ ادِّعَائِهِ لِلنُّبُوَّةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ نَبَّهَ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ عَرَفُوا مِنْهُ قَبْلَ ادِّعَائِهِ الرِّسَالَةَ كَوْنَهُ فِي نِهَايَةِ الْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ وَغَايَةِ الْفِرَارِ مِنَ الْكَذِبِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ فَكَيْفَ كَذَّبُوهُ بَعْدَ أَنِ اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ بِالْأَمِينِ وَرَابِعُهَا: أَنْ يَعْتَقِدُوا فِيهِ الْجُنُونَ فَيَقُولُونَ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ادِّعَائِهِ الرِّسَالَةَ جُنُونُهُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ وَهَذَا أَيْضًا ظَاهِرُ الْفَسَادِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ أَعْقَلُ النَّاسِ، وَالْمَجْنُونُ كَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ مِنَ الدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ وَالشَّرَائِعِ الْكَامِلَةِ، وَلَقَدْ كَانَ مِنَ الْمُبْغِضِينَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ سَمَّاهُ بِذَلِكَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ نَسَبُوهُ إِلَى ذَلِكَ مِنْ

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 73 إلى 75]

حَيْثُ كَانَ يَطْمَعُ فِي انْقِيَادِهِمْ لَهُ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَبْعَدِ الْأُمُورِ عِنْدَهُمْ فَنَسَبُوهُ إِلَى الْجُنُونِ لِذَلِكَ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ إِيهَامًا لِعَوَامِّهِمْ لِكَيْ لَا يَنْقَادُوا لَهُ فَأَوْرَدُوا ذَلِكَ مَوْرِدَ الِاسْتِحْقَارِ لَهُ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ أَنْ عَدَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ، وَنَبَّهَ عَلَى فَسَادِهَا قَالَ: بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ مِنْ حَيْثُ تَمَسَّكُوا بِالتَّقْلِيدِ وَمِنْ حَيْثُ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَوْ أَقَرُّوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم لزالت مناصبهم ولاختلت رئاساتهم فَلِذَلِكَ كَرِهُوهُ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: وَأَكْثَرُهُمْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَقَلَّهُمْ لَا يَكْرَهُونَ الْحَقَّ، قُلْنَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَتْرُكُ الْإِيمَانَ أَنَفَةً مِنْ تَوْبِيخِ قَوْمِهِ وَأَنْ/ يَقُولُوا تَرَكَ دِينَ آبَائِهِ لَا كَرَاهَةً لِلْحَقِّ كَمَا حُكِيَ عَنْ أَبِي طَالِبٍ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْحَقَّ لَا يَتَّبِعُ الْهَوَى، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَطْرَحَ الْهَوَى وَيَتَّبِعَ الْحَقَّ فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يُؤَدِّي إِلَى الْفَسَادِ الْعَظِيمِ فَقَالَ: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْحَقَّ فِي اتِّخَاذِ آلِهَةٍ مَعَ اللَّه تَعَالَى، لَكِنْ لَوْ صح ذلك لوقع الفساد في السموات وَالْأَرْضِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي دَلِيلِ التَّمَانُعِ فِي قَوْلُهُ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] وَالثَّانِي: أَنَّ أَهْوَاءَهُمْ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمَا مَنْشَأُ الْمَفْسَدَةِ، وَالْحَقُّ هُوَ الْإِسْلَامُ. فَلَوِ اتَّبَعَ الْإِسْلَامُ قَوْلَهُمْ لَعَلِمَ اللَّه حُصُولَ الْمَفَاسِدِ عِنْدَ بَقَاءِ هَذَا الْعَالَمِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَخْرِيبَ الْعَالَمِ وَإِفْنَاءَهُ وَالثَّالِثُ: أَنَّ آرَاءَهُمْ كَانَتْ مُتَنَاقِضَةً فَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَوَقَعَ التَّنَاقُضُ وَلَاخْتَلَّ نِظَامُ الْعَالَمِ عَنِ الْقَفَّالِ. أَمَّا قَوْلُهُ: بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَقِيلَ إِنَّهُ الْقُرْآنُ وَالْأَدِلَّةُ وَقِيلَ بَلْ شَرَفُهُمْ وَفَخْرُهُمْ بِالرَّسُولِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مُتَقَارِبٌ لِأَنَّ فِي مَجِيءِ الرَّسُولِ بَيَانَ الْأَدِلَّةِ وَفِي مَجِيءِ الْأَدِلَّةِ بَيَانُ الرَّسُولِ فَأَحَدُهُمَا مَقْرُونٌ بِالْآخَرِ، وَقِيلَ الذِّكْرُ هُوَ الْوَعْظُ وَالتَّحْذِيرُ، وَقِيلَ هُوَ الَّذِي كَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ وَيَقُولُونَ: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصَّافَّاتِ: 168، 169] وَقُرِئَ بِذِكْرَاهُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَطْمَعُ فِيهِمْ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلنُّفْرَةِ فَقَالَ: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَقُرِئَ خَرَاجًا، قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ الْخَرْجُ مَا تَبَرَّعْتَ بِهِ وَالْخَرَاجُ مَا لَزِمَكَ أَدَاؤُهُ وَالوجه أَنَّ الْخَرْجَ أَخَصُّ مِنَ الْخَرَاجِ كَقَوْلِكَ خَرَاجُ الْقَرْيَةِ وَخَرْجُ الْكُرْدَةِ زِيَادَةُ اللَّفْظِ لِزِيَادَةِ الْمَعْنَى وَلِذَلِكَ حَسُنَتْ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ يَعْنِي أَمْ تَسْأَلُهُمْ عَلَى هِدَايَتِهِمْ قَلِيلًا مِنْ عَطَاءِ الْخَلْقِ فَالْكَثِيرُ مِنْ عَطَاءِ الْخَلْقِ خَيْرٌ. فَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ التُّهْمَةَ بَعِيدَةٌ عَنْهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفِرُوا عَنْ قَبُولِ قَوْلِهِ لِأَجْلِهَا. فَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْذُورِينَ الْبَتَّةَ وَأَنَّهُمْ مَحْجُوجُونَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، قَالَ الْجُبَّائِيُّ دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْعِبَادِ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ نِعَمِهِ وَرِزْقِهِ وَلَا يُسَاوِيهِ فِي الْإِفْضَالِ عَلَى عِبَادِهِ وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ قَدْ يَرْزُقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا جَازَ أن يقول: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 73 الى 75] وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا زَيَّفَ طَرِيقَةَ الْقَوْمِ أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ صِحَّةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّ مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ فَهُوَ فِي بَابِ الِاسْتِقَامَةِ أَبْلَغُ مِنَ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 76 إلى 80]

وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ أَيْ لَعَادِلُونَ عَنْ هَذَا الطَّرِيقِ، لِأَنَّ طَرِيقَ الِاسْتِقَامَةِ وَاحِدَةٌ وَمَا يُخَالِفُهُ فَكَثِيرٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: الْمُرَادُ ضَرَرُ الْجُوعِ وَسَائِرُ مَضَارِّ الدُّنْيَا وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ ضَرَرُ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ ضَرَرُ الْآخِرَةِ وَعَذَابُهَا فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوا فِي التَّمَرُّدِ وَالْعِنَادِ الْمَبْلَغَ الَّذِي لَا مَرْجِعَ فِيهِ إِلَى دَارِ الدنيا، وأنهم لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الْأَنْعَامِ: 28] لِشِدَّةِ لَجَاجِهِمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فالمعنى لتمادوا في ضلالهم وهم متحيرون. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 76 الى 80] وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ الْحَنَفِيُّ وَلَحِقَ بِالْيَمَامَةِ مَنَعَ الْمِيرَةَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَأَخَذَهُمُ اللَّه بِالسِّنِينَ حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْجِيَفَ، فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ بعثت رحمة العالمين، ثُمَّ قَتَلْتَ الْآبَاءَ بِالسَّيْفِ وَالْأَبْنَاءَ بِالْجُوعِ، فَادْعُ اللَّه يَكْشِفُ عَنَّا هَذَا الْقَحْطَ. فَدَعَا فَكُشِفَ عَنْهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَةَ، وَالْمَعْنَى أَخَذْنَاهُمْ بِالْجُوعِ فَمَا أَطَاعُوا وَثَانِيهَا: هُوَ الَّذِي نَالَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ مَعَ شِدَّتِهِ مَا دَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ عَنِ الْأَصَمِّ وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ/ مَنْ عُذِّبَ مِنَ الْأُمَمِ الْخَوَالِي فَمَا اسْتَكانُوا أَيْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِرَبِّهِمْ عَنِ الْحَسَنِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ شِدَّةَ الدُّنْيَا أَقْرَبُ إِلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ شِدَّةِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِمْ شِدَّةُ الدُّنْيَا فَشِدَّةُ الْآخِرَةِ كَذَلِكَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الْأَنْعَامِ: 28] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابَ الْجُوعِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالثَّانِي: إِذَا عُذِّبُوا بِنَارِ جَهَنَّمَ فَحِينَئِذٍ يُبْلِسُونَ كَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ [الرُّومِ: 12] ، لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزُّخْرُفِ: 75] وَالْإِبْلَاسُ الْيَأْسُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَقِيلَ السُّكُونُ مَعَ التَّحْسِيرِ. وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا وَزْنُ اسْتَكَانَ؟ الْجَوَابُ: اسْتَفْعَلَ من السكون أَيِ انْتَقَلَ مِنْ كَوْنٍ إِلَى كَوْنٍ، كَمَا قِيلَ اسْتَحَالَ إِذَا انْتَقَلَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ افْتَعَلَ مِنَ السُّكُونِ أُشْبِعَتْ فَتْحَةُ عَيْنِهِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ جَاءَ اسْتَكانُوا بلفظ الماضي ويَتَضَرَّعُونَ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ الْمَعْنَى امْتَحَنَّاهُمْ فَمَا وَجَدْنَا مِنْهُمْ عَقِيبَ الْمِحْنَةِ اسْتِكَانَةً، وَمَا مِنْ عَادَةِ هَؤُلَاءِ أَنْ يَتَضَرَّعُوا حَتَّى يُفْتَحَ عَلَيْهِمْ بَابُ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ وَقُرِئَ فَتَّحْنَا.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 81 إلى 83]

السُّؤَالُ الثَّالِثُ: الْعَطْفُ لَا يَحْسُنُ إِلَّا مَعَ الْمُجَانَسَةِ فَأَيُّ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَ قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ؟ الْجَوَابُ: كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ مُبَالَغَةَ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ سَمَاعِ الْأَدِلَّةِ وَرُؤْيَةِ الْعِبَرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي الْحَقَائِقِ قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الَّذِي أَعْطَاكُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَوَقَفَكُمْ عَلَيْهَا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ فِيمَا خُلِقَتْ لَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَادِمِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ [الْأَحْقَافِ: 26] تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ حِرْمَانَ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ وَوِجْدَانَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّه. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ عَظِيمَ نِعَمِهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: بِإِعْطَاءِ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ وَخَصَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ يَقِلُّ مِنْهُمُ الشَّاكِرُونَ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ لَهُمْ شُكْرًا وَإِنَّ قَلَّ، لَكِنَّهُ كَمَا يُقَالُ لِلْكَفُورِ الْجَاحِدِ لِلنِّعْمَةِ مَا أَقَلَّ شُكْرَ فُلَانٍ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ خَلَقَكُمْ قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: وَيُحْتَمَلُ بَسَطَكُمْ فِيهَا ذُرِّيَّةً بَعْضَكُمْ مِنْ بَعْضٍ حَتَّى كَثُرْتُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ [الْإِسْرَاءِ: 3] فَنَقُولُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُتَنَاسِلِينَ، وَيَحْشُرُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى دَارٍ لَا حَاكِمَ فِيهَا سِوَاهُ، فَجَعَلَ حَشْرَهَمْ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ حَشْرًا إِلَيْهِ لَا بِمَعْنَى الْمَكَانِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أَيْ نِعْمَةُ الْحَيَاةِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ فَهِيَ مُنْقَطِعَةٌ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَإِنْ أَنْعَمَ بِهَا فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا الِانْتِقَالُ إِلَى دَارِ الثَّوَابِ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَوَجْهُ النِّعْمَةِ بِذَلِكَ مَعْلُومٌ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ حَذَّرَ مِنْ تَرْكِ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ فَقَالَ: أَفَلا تَعْقِلُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلَالَةُ الزَّجْرِ والتهديد وقرئ أَفَلا يَعْقِلُونَ. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 81 الى 83] بَلْ قالُوا مِثْلَ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَوْضَحَ الْقَوْلَ فِي دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ الْمَعَادِ فَقَالَ: بَلْ قالُوا مِثْلَ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ مَعَ وُضُوحِ الدَّلَائِلِ وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا أَنْكَرُوا ذَلِكَ تَقْلِيدًا لِلْأَوَّلِينَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ بِالتَّقْلِيدِ، ثُمَّ حَكَى الشُّبْهَةَ عنهم من وجهين: أحدهما: قولهم: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ وَهُوَ مَشْهُورٌ وَثَانِيهُمَا: قَوْلُهُمْ: لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هَذَا مِنْ قَبْلُ كَأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ هَذَا الْوَعْدَ كَمَا وَقَعَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَدْ وَقَعَ قَدِيمًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ لَمْ يُوجَدْ مَعَ طُولِ الْعَهْدِ، فَظَنُّوا أَنَّ الْإِعَادَةَ تَكُونُ فِي دَارِ الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالُوا لَمَّا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ وَالْأَسَاطِيرُ جَمْعُ أَسْطَارٍ وَالْأَسْطَارُ جَمْعُ سَطْرٍ أَيْ مَا كَتَبَهُ الْأَوَّلُونَ مِمَّا لَا حَقِيقَةَ له، وجمع أسطورة أوفق. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 84 الى 90] قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90)

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 91 إلى 96]

اعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الرَّدَّ عَلَى مُنْكِرِي الْإِعَادَةِ وَأَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ/ الرَّدَّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُقِرِّينَ باللَّه تَعَالَى فَقَالُوا نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ لِتُقَرِّبَنَا إِلَى اللَّه زُلْفَى، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى الْإِعَادَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كان خلقا لِلْأَرْضِ وَلِمَنْ فِيهَا مِنَ الْأَحْيَاءِ، وَخَالِقًا لِحَيَاتِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ وَغَيْرِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُعِيدَهُمْ بَعْدَ أَنْ أَفْنَاهُمْ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى نَفْيِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ عِبَادَةَ مَنْ خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ الْأَرْضَ وَكُلَّ مَا فِيهَا مِنَ النِّعَمِ هِيَ الْوَاجِبَةُ دُونَ عِبَادَةِ مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَقَوْلُهُ: أَفَلا تَذَكَّرُونَ مَعْنَاهُ التَّرْغِيبُ فِي التَّدَبُّرِ لِيَعْلَمُوا بُطْلَانَ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْأَمْرَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا قَالَ: أَفَلا تَتَّقُونَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ اتِّقَاءَ عَذَابِ اللَّه لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَرْكِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالِاعْتِرَافِ بِجَوَازِ الْإِعَادَةِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ. اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ الْأَرْضَ أَوَّلًا وَالسَّمَاءَ ثَانِيًا عَمَّمَ الْحُكْمَ هَاهُنَا، فَقَالَ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَيَدْخُلُ فِي الْمَلَكُوتِ الْمُلْكُ وَالْمِلْكُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، وَقَوْلُهُ: وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ يُقَالُ أَجَرْتُ فُلَانًا عَلَى فُلَانٍ إِذَا أَغَثْتَهُ مِنْهُ وَمَنَعْتَهُ. يَعْنِي وَهُوَ يُغِيثُ مَنْ يَشَاءُ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَلَا يُغِيثُ أَحَدٌ مِنْهُ أَحَدًا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّى تُخْدَعُونَ عَنْ تَوْحِيدِهِ وَطَاعَتِهِ، وَالْخَادِعُ هُوَ الشَّيْطَانُ وَالْهَوَى. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ أَنَّهُ قَدْ بَالَغَ فِي الْحِجِاجِ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَغَيْرِهَا وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ كَاذِبُونَ، وَذَلِكَ كَالتَّوَعُّدِ وَالتَّهْدِيدِ، وَقُرِئَ أَتَيْتُهُمْ، وأتيتهم بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قُرِئَ قُلْ لِلَّهِ فِي الْجَوَابِ الْأَوَّلِ بِاللَّامِ لَا غَيْرُ، وَقُرِئَ اللَّه فِي الْأَخِيرَيْنِ بِغَيْرِ اللَّامِ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَالْكُوفَةِ وَالشَّامِ وَبِاللَّامِ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَمَا الْفَرْقُ؟ الْجَوَابُ: لَا فَرْقَ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ قَوْلَكَ مَنْ رَبُّهُ، وَلِمَنْ هُوَ؟ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ سَيَقُولُونَ اللَّه وَفِيهِ تَنَاقُضٌ؟ الْجَوَابُ: لَا تَنَاقُضَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لا ينفي عملهم بِذَلِكَ. وَقَدْ يُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْحِجَاجِ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ لِعِلْمِهِمْ وَالْبَعْثِ عَلَى اعْتِرَافِهِمْ بما يورد من ذلك. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 91 الى 96] مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96)

اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ادَّعَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَهُوَ كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ جَمْعًا مِنْهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ وَهُوَ قَوْلُهُمْ بِاتِّخَاذِ الْأَصْنَامِ آلِهَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ إِبْطَالَ قَوْلِ النَّصَارَى وَالثَّنَوِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ الدَّلِيلَ الْمُعْتَمَدَ بِقَوْلِهِ: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ وَالْمَعْنَى لَانْفَرَدَ عَلَى [ذَلِكَ] كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْآلِهَةِ بِخَلْقِهِ الَّذِي خَلَقَهُ وَاسْتَبَدَّ بِهِ، وَلَرَأَيْتُمْ مُلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُتَمَيِّزًا عَنْ مُلْكِ الْآخَرِ، وَلَغَلَبَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ كَمَا تَرَوْنَ حَالَ مُلُوكِ الدُّنْيَا مَمَالِكُهُمْ مُتَمَيِّزَةٌ وَهُمْ مُتَغَالِبُونَ، وَحَيْثُ لَمْ تَرَوْا أَثَرَ التَّمَايُزِ فِي الْمَمَالِكِ وَالتَّغَالُبِ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ. فَإِنْ قِيلَ: (إِذًا) لَا يَدْخُلُ إِلَّا عَلَى كَلَامٍ هُوَ جَزَاءٌ وَجَوَابٌ، فَكَيْفَ وَقَعَ قَوْلُهُ لَذَهَبَ جَزَاءً وَجَوَابًا؟ وَلَمْ يَتَقَدَّمْهُ شَرْطٌ وَلَا سُؤَالُ سَائِلٍ، قُلْنَا الشَّرْطُ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ، وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ مِنْ إِثْبَاتِ الْوَلَدِ وَالشَّرِيكِ. أما قوله: عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فقرىء بِالْجَرِّ صِفَةً للَّه، وَبِالرَّفْعِ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِعِلْمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَغَيْرُهُ وَإِنْ عَلِمَ الشَّهَادَةَ فَلَنْ يَعْلَمَ مَعَهَا الْغَيْبَ، وَالشَّهَادَةُ الَّتِي يَعْلَمُهَا لَا يَتَكَامَلُ بِهَا النَّفْعُ إِلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِالْغَيْبِ وَذَلِكَ كَالْوَعِيدِ لَهُمْ، فَلِذَلِكَ قَالَ: فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ وَأَنْ يَدْعُوَهُ بِقَوْلِهِ: رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مَا وَالنُّونُ مُؤَكِّدَتَانِ، أَيْ إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تُرِيَنِّي مَا تَعِدُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، فَلَا تَجْعَلْنِي قَرِينًا لَهُمْ وَلَا تُعَذِّبْنِي بِعَذَابِهِمْ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّه نَبِيَّهُ الْمَعْصُومَ مَعَ الظَّالِمِينَ حَتَّى يَطْلُبَ أَنْ لَا يَجْعَلَهُ مَعَهُمْ؟ قُلْنَا يَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ الْعَبْدُ رَبَّهُ مَا عَلِمَ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ، وَأَنْ يَسْتَعِيذَ بِهِ مِمَّا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ إِظْهَارًا لِلْعُبُودِيَّةِ وَتَوَاضُعًا لِرَبِّهِ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْحَسَنِ فِي قَوْلِ الصِّدِّيقِ: وُلِّيتُكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ/ أَنَّهُ خَيْرُهُمْ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ يَهْضِمُ نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ رَبِّ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً قَبْلَ الشَّرْطِ وَمَرَّةً قَبْلَ الْجَزَاءِ مُبَالَغَةً فِي التَّضَرُّعِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْوَعْدَ بِالْعَذَابِ وَيَضْحَكُونَ مِنْهُ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّ اللَّه قَادِرٌ عَلَى إِنْجَازِ مَا وَعَدَ وَيَحْتَمِلُ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا مُؤَخَّرًا عَنْ أَيَّامِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ فِي أَهْلِ الْبَغْيِ، وَبَعْضُهُمْ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ قُوتِلُوا بَعْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ عَذَابُ الْآخِرَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ فَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْأَوْلَى بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُعَامِلَ بِهِ الْكُفَّارَ فَأُمِرَ بِاحْتِمَالِ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ مَنِ التَّكْذِيبِ وَضُرُوبِ الْأَذَى، وَأَنْ يَدْفَعَهُ بِالْكَلَامِ الْجَمِيلِ كَالسَّلَامِ وَبَيَانِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِمْ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا لَمْ يَقْطَعْ نِعَمَهُ عَنْهُمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُوَاظِبًا عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَوْلُهُ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 97 إلى 100]

السَّيِّئَةَ [المؤمنون: 96] أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّفْضِيلِ، وَالْمَعْنَى الصَّفْحُ عَنْ إِسَاءَتِهِمْ وَمُقَابَلَتُهَا بِمَا أَمْكَنَ مِنَ الْإِحْسَانِ، حَتَّى إِذَا اجْتَمَعَ الصَّفْحُ وَالْإِحْسَانُ وَبَذْلَ الطَّاقَةِ فِيهِ كَانَتْ حَسَنَةً مُضَاعَفَةً بِإِزَاءِ السَّيِّئَةِ. وَقِيلَ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَقِيلَ مُحْكَمَةٌ، لِأَنَّ الْمُدَارَاةَ مَحْثُوثٌ عَلَيْهَا مَا لَمْ تُؤَدِّ إِلَى نُقْصَانِ دين أو مروءة. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 97 الى 100] وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَدَّبَ رَسُولَهُ بِقَوْلِهِ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [المؤمنون: 96] أَتْبَعَهُ بِمَا بِهِ يَقْوَى عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الِاسْتِعَاذَةُ باللَّه مِنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَالْهَمَزَاتُ جَمْعُ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ الدَّفْعُ وَالتَّحْرِيكُ الشَّدِيدُ، وَهُوَ كَالْهَزِّ وَالْأَزِّ، وَمِنْهُ مِهْمَازُ الرَّائِضِ، وَهَمَزَاتُهُ هُوَ كَيْدُهُ بِالْوَسْوَسَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي الرَّسُولِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِالْوَسْوَسَةِ وَالْآخَرُ بِأَنْ/ يَبْعَثَ أَعْدَاءَهُ عَلَى إِيذَائِهِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَكِيدُهُمْ بِهَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ يَنْقَطِعُ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَيَسْأَلُهُ أَنْ يُعِيذَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَذَكِّرًا مُتَيَقِّظًا فِيمَا يَأْتِي وَيَذَرُ، فَيَكُونُ نَفْسُ هَذَا الِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّه تَعَالَى دَاعِيَةً إِلَى التَّمَسُّكِ بِالطَّاعَةِ وَزَاجِرًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ، قَالَ الْحَسَنُ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ بَعْدَ اسْتِفْتَاحِ الصَّلَاةِ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه ثَلَاثًا، اللَّه أَكْبَرُ ثَلَاثًا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ هَمْزِهِ وَنَفْثِهِ وَنَفْخِهِ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّه وَمَا هَمْزُهُ؟ قَالَ الْمَوْتَةُ الَّتِي تَأْخُذُ ابْنَ آدَمَ- أَيْ الْجُنُونُ الَّذِي يَأْخُذُ ابْنَ آدَمَ- قِيلَ فَمَا نَفْثُهُ؟ قَالَ الشِّعْرُ قِيلَ فَمَا نَفْخُهُ؟ قَالَ الْكِبْرُ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْضُرُونِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِكَيْ يَكُونَ مُتَذَكِّرًا فَيَقِلَّ سَهْوُهُ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ اسْتَعَاذَ باللَّه مِنْ نَفْسِ حُضُورِهِمْ لِأَنَّهُ الدَّاعِي إِلَى وَسْوَسَتِهِمْ كَمَا يَقُولُ الْمَرْءُ أَعُوذُ باللَّه مِنْ خُصُومَتِكَ بَلْ أَعُوذُ باللَّه مِنْ لِقَائِكَ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدِ اشْتَكَى إِلَيْهِ رَجُلٌ أَرَقًا يَجِدُهُ فَقَالَ: «إِذَا أَرَدْتَ النَّوْمَ فَقُلْ أَعُوذُ باللَّه وَبِكَلِمَاتِ اللَّه التَّامَّاتِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَمِنْ شَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ» . أَمَّا قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» حتى متعلق بيصفون أَيْ لَا يَزَالُونَ عَلَى سُوءِ الذِّكْرِ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ وَالْآيَةُ فَاصِلَةٌ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَاضِ وَالتَّأْكِيدُ لِلْإِغْضَاءِ عَنْهُمْ مُسْتَعِينًا باللَّه عَلَى الشيطان أنه يَسْتَزِلَّهُ عَنِ الْحِلْمِ واللَّه أَعْلَمُ. المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْكُفَّارِ وَقَالَ الضَّحَّاكُ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فقال من لم يترك وَلَمْ يَحُجَّ سَأَلَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَقَالَ وَاحِدٌ إِنَّمَا يَسْأَلُ ذَلِكَ الْكُفَّارُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكَ بِهِ قُرْآنًا وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ [الْمُنَافِقُونَ: 10] قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا

حَضَرَ الْإِنْسَانَ الْمَوْتُ جُمِعَ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ حَقِّهِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَعِنْدَهُ يَقُولُ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ» وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوَّلُ إِذَا عَرَفَ الْمُؤْمِنُ مَنْزِلَتَهُ فِي الْجَنَّةِ فَإِذَا شَاهَدَهَا لَا يَتَمَنَّى أَكْثَرَ مِنْهَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ أَدْوَنُهُمْ ثَوَابًا يَغْتَمُّ بِفَقْدِ مَا يَفْقِدُ مِنْ مَنْزِلَةِ غَيْرِهِ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا لَا عَنْ حَالِ الثَّوَابِ فَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. المسألة الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ مَسْأَلَةِ الرَّجْعَةِ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ يَسْأَلُ فِي حَالِ الْمُعَايَنَةِ لِأَنَّهُ عِنْدَهَا يُضْطَرُّ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَإِلَى أَنَّهُ كَانَ عَاصِيًا وَيَصِيرُ مُلْجَأً إِلَى أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ الْقَبِيحَ بِأَنْ يُعْلِمَهُ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ رَامَهُ لَمُنِعَ مِنْهُ، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ يَصِيرُ كَالْمَمْنُوعِ مِنَ الْقَبَائِحِ بِهَذَا الْإِلْجَاءِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْأَلُ الرَّجْعَةَ، وَيَقُولُ: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ يَقُولُ ذَلِكَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَعَلَّ هَذَا الْقَائِلَ إِنَّمَا تَرَكَ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى فِي كِتَابِهِ/ عَنْ أَهْلِ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ لَكِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونُوا سَائِلِينَ الرَّجْعَةَ فِي حَالِ الْمُعَايَنَةِ، واللَّه تَعَالَى يَقُولُ: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ فَعَلَّقَ قَوْلَهُمْ هَذَا بِحَالِ حُضُورِ الْمَوْتِ وَهُوَ حَالُ الْمُعَايِنَةِ فَلَا وَجْهَ لِتَرْكِ هَذَا الظَّاهِرِ. المسألة الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ارْجِعُونِ مَنِ الْمُرَادُ بِهِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَقْبِضُونَ الْأَرْوَاحَ وَهُمْ جَمَاعَةٌ فَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ الْمُرَادُ هُوَ اللَّه تَعَالَى لِأَنَّ قَوْلَهُ رَبِّ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ يَا رَبِّ وَإِنَّمَا ذَكَرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِلتَّعْظِيمِ كَمَا يُخَاطِبُ الْعَظِيمُ بِلَفْظِهِ فَيَقُولُ فَعَلْنَا وَصَنَعْنَا وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَإِنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ وَمَنْ يَقُولُ بِالْأَوَّلِ يَجْعَلُ ذِكْرَ الرَّبِّ لِلْقَسَمِ، فَكَأَنَّهُ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ قَالَ بِحَقِّ الرَّبِّ ارْجِعُونِ، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ وَقَدْ عَلِمُوا صِحَّةَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَمِنَ الدِّينِ أَنْ لَا رَجْعَةَ؟ الْجَوَابُ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَسْأَلُوهُ لِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِهَذَا الْجِنْسِ مِنَ المسألة تَحْسُنُ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ فَأَمَّا إِرَادَتُهُ لِلرَّجْعَةِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا عَلَى سَبِيلِ مَا يَفْعَلُهُ الْمُتَمَنِّي. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً أَفَيَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ الرَّجْعَةَ مَعَ الشَّكِّ؟ الْجَوَابُ: ليس المراد بلعل الشَّكَّ فَإِنَّهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ بَاذِلٌ لِلْجُهْدِ فِي الْعَزْمِ عَلَى الطَّاعَةِ إِنْ أُعْطِيَ مَا سَأَلَ، بَلْ هُوَ مِثْلُ مَنْ قَصَّرَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَعَرَفَ سُوءَ عَاقِبَةِ ذَلِكَ التَّقْصِيرِ فَيَقُولُ مَكِّنُونِي مِنَ التَّدَارُكِ لَعَلِّي أَتَدَارَكُ فَيَقُولُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مَعَ كَوْنِهِ جَازِمًا بِأَنَّهُ سَيَتَدَارَكُ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنَّ الْأَمْرَ الْمُسْتَقْبَلَ إِذَا لَمْ يَعْرِفُوهُ أَوْرَدُوا الْكَلَامَ الْمَوْضُوعَ لِلتَّرَجِّي وَالظَّنِّ دُونَ الْيَقِينِ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الْأَنْعَامِ: 28] . السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِيمَا تَرَكْتُ؟ الْجَوَابُ: قَالَ بَعْضُهُمْ فِيمَا خَلَّفْتُ مِنَ الْمَالِ لِيَصِيرَ عِنْدَ الرَّجْعَةِ مُؤَدِّيًا لِحَقِّ اللَّه تَعَالَى مِنْهُ، وَالْمَعْقُولُ مِنْ قَوْلِهِ: تَرَكْتُ التَّرِكَةُ وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ الْمُرَادُ أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا قَصَّرْتُ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ وَالْمَالِيَّةُ وَالْحُقُوقُ، وَهَذَا أَقْرَبُ كَأَنَّهُمْ تَمَنَّوُا الرَّجْعَةَ لِيُصْلِحُوا مَا أَفْسَدُوهُ وَيُطِيعُوا فِي كُلِّ ما عصوا.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 101 إلى 105]

السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ كَلَّا؟ الْجَوَابُ: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالْجَوَابِ لَهُمْ فِي الْمَنْعِ مِمَّا طَلَبُوا، كَمَا يُقَالُ لِطَالِبِ الْأَمْرِ الْمُسْتَبْعَدِ هَيْهَاتَ، رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: «إِذَا عَايَنَ الْمُؤْمِنُ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا نُرْجِعُكَ إِلَى دَارِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ إِلَى دَارِ الْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ لَا بَلْ قُدُومًا عَلَى اللَّه، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ نُرْجِعُكَ فَيَقُولُ ارْجِعُونِ فَيُقَالُ لَهُ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ تَرْغَبُ إِلَى جَمْعِ الْمَالِ أَوْ غَرْسِ الْغِرَاسِ أَوْ بِنَاءِ الْبُنْيَانِ أَوْ شَقِّ الْأَنْهَارِ؟ فَيَقُولُ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ فَيَقُولُ الْجَبَّارُ: كَلَّا» الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ وَأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ حَقٌّ فَكَأَنَّهُ قَالَ: حَقًّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا، وَالْأَقْرَبُ الْأَوَّلُ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يُخَلِّيهَا وَلَا يَسْكُتُ عَنْهَا لِاسْتِيلَاءِ الْحَسْرَةِ عَلَيْهِ الثَّانِي: أَنَّهُ قَائِلُهَا وَحْدَهُ وَلَا يُجَابُ إِلَيْهَا وَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَالْبَرْزَخُ هُوَ الْحَاجِزُ وَالْمَانِعُ كَقَوْلِهِ فِي الْبَحْرَيْنِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ [الرَّحْمَنِ: 20] أَيْ فَهَؤُلَاءِ صَائِرُونَ إِلَى حالة مانعة من التلاقي حَاجِزَةٍ عَنِ الِاجْتِمَاعِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَوْتُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ يَوْمَ الْبَعْثِ، إِنَّمَا هُوَ إِقْنَاطٌ كُلِّيٌّ لِمَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا رَجْعَةَ يوم البعث إلا إلى الآخرة. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 101 الى 105] فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 100] ذَكَرَ أَحْوَالَ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَالَ فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الصُّورَ آلَةٌ إِذَا نُفِخَ فِيهَا يَظْهَرُ صَوْتٌ عَظِيمٌ، جَعَلَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَامَةً لِخَرَابِ الدُّنْيَا وَلِإِعَادَةِ الْأَمْوَاتِ، رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الصُّورِ مَجْمُوعُ الصُّوَرِ، وَالْمَعْنَى فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّوَرِ أَرْوَاحُهَا وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ فَكَانَ يَقْرَأُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْفَتْحُ وَالْكَسْرُ عَنْ أَبِي رَزِينٍ وَهُوَ حُجَّةٌ لِمَنْ فَسَّرَ الصُّورَ بِجَمْعِ صُورَةٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّ النَّفْخَ فِي الصُّورِ اسْتِعَارَةٌ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْبَعْثُ وَالْحَشْرُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِلْخَبَرِ وَفِي قَوْلِهِ: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى [الزُّمَرِ: 68] دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْخَ الرُّوحِ وَالْإِحْيَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَكَرَّرُ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِذَا أَعَادَهُمْ فَالْأَنْسَابُ ثَابِتَةٌ لِأَنَّ الْمُعَادَ هُوَ الْوَلَدُ وَالْوَالِدُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيَ النَّسَبِ فِي الْحَقِيقَةِ بَلِ الْمُرَادُ نَفْيُ حُكْمِهِ. وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مِنْ حَقِّ النَّسَبِ أَنْ يَقَعَ بِهِ التَّعَاطُفُ وَالتَّرَاحُمُ كَمَا يُقَالُ فِي الدُّنْيَا: أَسْأَلُكَ باللَّه وَالرَّحِمِ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا. فَنَفَى سُبْحَانَهُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ/ يَكُونُ مَشْغُولًا بِنَفْسِهِ وَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى النَّسَبِ، وَهَكَذَا الْحَالُ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ الرَّجُلَ مَتَى وَقَعَ فِي الْأَمْرِ الْعَظِيمِ مِنَ الْآلَامِ يَنْسَى وَلَدَهُ وَوَالِدَهُ

وَثَانِيهَا: أَنَّ مِنْ حَقِّ النَّسَبِ أَنْ يَحْصُلَ بِهِ التَّفَاخُرُ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ يَسْأَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ كَيْفِيَّةِ نَسَبِ الْبَعْضِ، وَفِي الْآخِرَةِ لَا يَتَفَرَّغُونَ لِذَلِكَ وَثَالِثُهَا: أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ اسْتِعَارَةً عَنِ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ فَكُلُّ امْرِئٍ مَشْغُولٌ بِنَفْسِهِ عَنْ بَنِيهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ فَكَيْفَ بِسَائِرِ الْأُمُورِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يُؤْخَذُ الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رؤوس الْأَشْهَادِ وَيُنَادِي مُنَادٍ أَلَا إِنَّ هَذَا فُلَانٌ فَمَنْ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلْيَأْتِ إِلَى حَقِّهِ فَتَفْرَحُ الْمَرْأَةُ حِينَئِذٍ أَنْ يَثْبُتَ لَهَا حَقٌّ عَلَى أُمِّهَا أَوْ أُخْتِهَا أَوْ أَبِيهَا أَوْ أَخِيهَا أَوِ ابْنِهَا أَوْ زَوْجِهَا فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ وَعَنْ قَتَادَةَ لَا شَيْءَ أَبْغَضُ إِلَى الْإِنْسَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَنْ يَرَى مَنْ يَعْرِفُهُ مَخَافَةَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ ثُمَّ تَلَا يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [عَبَسَ: 34] وَعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا يَا رَسُولَ اللَّه، أَمَا نَتَعَارَفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَسْمَعُ اللَّه تَعَالَى يَقُولُ: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «ثَلَاثُ مَوَاطِنَ تَذْهَلُ فِيهَا كُلُّ نَفْسٍ حِينَ يُرْمَى إِلَى كُلِّ إِنْسَانٍ كِتَابُهُ، وَعِنْدَ الْمَوَازِينِ، وَعَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ» وَطَعَنَ بَعْضُ الْمُلْحِدَةِ فَقَالَ قوله: وَلا يَتَساءَلُونَ وقوله: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [المعارج: 10] يناقص قَوْلَهُ: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصَّافَّاتِ: 27] وَقَوْلَهُ: يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ [يُونُسَ: 45] الْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِقْدَارَهُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ فَفِيهِ أَزْمِنَةٌ وَأَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ فَيَتَعَارَفُونَ وَيَتَسَاءَلُونَ فِي بَعْضِهَا، وَيَتَحَيَّرُونَ فِي بَعْضِهَا لِشِدَّةِ الْفَزَعِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ إِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ شُغِلُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنِ التَّسَاؤُلِ، فَإِذَا نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وقالوا: يَا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ [يس: 52] وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ لَا يَتَسَاءَلُونَ بِحُقُوقِ النَّسَبِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَتَساءَلُونَ صِفَةٌ لِلْكُفَّارِ وَذَلِكَ لِشِدَّةِ خَوْفِهِمْ. أَمَّا قوله: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ فَهُوَ صِفَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوهَا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ بَعْدَ النَّفْخِ فِي الصُّورِ تَكُونُ الْمُحَاسَبَةُ، وَشَرْحُ أَحْوَالِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ، وَقِيلَ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا ثِقَلُ الْمَوَازِينِ وَخِفَّتُهَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُكَلَّفٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ الْفَلَاحِ أَوْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيَبْطُلُ بِذَلِكَ الْقَوْلُ بِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ أَوْ مَنْ يَتَسَاوَى لَهُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ شَرَحَ حَالَ السُّعَدَاءِ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَفِي الْمَوَازِينِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ مِنَ الْعَدْلِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَوَازِينَ هِيَ الْأَعْمَالُ الْحَسَنَةُ فَمَنْ أَتَى بِمَا لَهُ قَدْرٌ وَخَطَرٌ فَهُوَ الْفَائِزُ الظَّافِرُ، وَمَنْ أَتَى بِمَا لَا وَزْنَ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النُّورِ: 39] فَهُوَ خَالِدٌ فِي جَهَنَّمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا الْمَوَازِينُ جَمْعُ مَوْزُونٍ وَهِيَ الْمَوْزُونَاتُ مِنَ الْأَعْمَالِ أَيِ الصَّالِحَاتِ الَّتِي لَهَا وَزْنٌ وَقَدْرٌ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ/ الْقِيامَةِ وَزْناً [الْكَهْفِ: 105] أَيْ قَدْرًا وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ مِيزَانٌ لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ يُوزَنُ فِيهِ الْحَسَنَاتُ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، وَالسَّيِّئَاتُ فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ فَمَنْ ثَقُلَتْ حَسَنَاتُهُ سِيقَ إِلَى الْجَنَّةِ وَمَنْ ثَقُلَتْ سَيِّئَاتُهُ فَإِلَى النَّارِ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَأَمَّا الْأَشْقِيَاءُ فَقَدْ وَصَفَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِأُمُورٍ أَرْبَعَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا غُبِنُوهَا بِأَنْ صَارَتْ مَنَازِلُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ امْتَنَعَ انْتِفَاعُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ لِكَوْنِهِمْ فِي الْعَذَابِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ وَدَلَالَتُهُ عَلَى خُلُودِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ بَيِّنَةٌ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ بَدَلٌ مِنْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لأولئك

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 106 إلى 111]

أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَيِ تَضْرِبُ وَتَأْكُلُ لُحُومَهُمْ وَجُلُودَهُمْ، قَالَ الزَّجَّاجُ: اللَّفْحُ وَالنَّفْخُ وَاحِدٌ إِلَّا أَنَّ اللَّفْحَ أَشَدُّ تَأْثِيرًا وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَهُمْ فِيها كالِحُونَ وَالْكُلُوحُ أَنْ تَتَقَلَّصَ الشَّفَتَانِ وَيَتَبَاعَدَا عَنِ الْأَسْنَانِ، كما ترى الرؤوس الْمَشْوِيَّةَ، وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «تَشْوِيهِ النَّارُ فَتَتَقَلَّصُ شَفَتُهُ الْعُلْيَا حَتَّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأْسِهِ وَتَسْتَرْخِي شَفَتُهُ السُّفْلَى حَتَّى تَبْلُغَ سُرَّتَهُ» ، وَقُرِئَ (كَلِحُونَ) ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا شَرَحَ عَذَابَهَمْ، حَكَى مَا يُقَالُ لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ ثُمَّ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِهَا مَعَ وُضُوحِهَا، فَلَا جَرَمَ صِرْتُمْ مُسْتَحِقِّينَ لِمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا وَقَعُوا فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ لِسُوءِ أَفْعَالِهِمْ، وَلَوْ كَانَ فِعْلُ الْعِبَادِ بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى لَمَا صَحَّ ذَلِكَ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ إِنْ صَدَرَتِ الْمَعْصِيَةُ عَنْهُ لَا لِمُرَجِّحٍ الْبَتَّةَ كَانَ صُدُورُهَا عَنْهُ اتِّفَاقِيًّا لَا اخْتِيَارِيًّا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ الْعِقَابَ، وَإِنْ كَانَ لِمُرَجِّحٍ، فَذَاكَ الْمُرَجِّحُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ صُدُورُ تِلْكَ الطَّاعَةِ عَنْهُ اضْطِرَارِيًّا لَا اخْتِيَارِيًّا، فَوَجَبَ أن لا يستحق الثواب. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 106 الى 111] قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) [في قَوْلِهِ تَعَالَى قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ: أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ [المؤمنون: 105] ذَكَرُوا مَا يَجْرِي مَجْرَى الْجَوَابِ عَنْهُ وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُمْ: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : غَلَبَتْ عَلَيْنَا مَلَكَتْنَا مِنْ قَوْلِكَ غَلَبَنِي فُلَانٌ عَلَى كَذَا إِذَا أَخَذَهُ مِنْكَ، وَالشَّقَاوَةُ سوء العاقبة، قرئ: (شقوتنا) و (شقاوتنا) بِفَتْحِ الشِّينِ وَكَسْرِهَا فِيهِمَا، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الشِّقْوَةُ مِنَ الشَّقَاءِ كَجِرْيَةِ الْمَاءِ، وَالْمَصْدَرُ الْجَرْيُ، وَقَدْ يَجِيءُ لَفْظُ فِعْلَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْهَيْئَةُ وَالْحَالُ، فَيَقُولُ جِلْسَةٌ حَسَنَةٌ وَرِكْبَةٌ وَقِعْدَةٌ وَذَلِكَ مِنَ الْهَيْئَةِ، وَتَقُولُ عَاشَ فُلَانٌ عِيشَةً طَيِّبَةً وَمَاتَ مِيتَةً كَرِيمَةً، وَهَذَا هُوَ الْحَالُ وَالْهَيْئَةُ، فَعَلَى هَذَا الْمُرَادُ مِنَ الشِّقْوَةِ حَالُ الشَّقَاءِ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّ طَلَبَنَا اللَّذَّاتِ الْمُحَرَّمَةَ وَحِرْصَنَا عَلَى الْعَمَلِ الْقَبِيحِ سَاقَنَا إِلَى هَذِهِ الشَّقَاوَةِ، فَأُطْلِقَ اسْمُ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ. وَلَيْسَ هَذَا بِاعْتِذَارٍ مِنْهُمْ لِعِلْمِهِمْ بِأَنْ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ اعْتِرَافٌ بِقِيَامِ حُجَّةِ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي سُوءِ صَنِيعِهِمْ، قُلْنَا إِنَّكَ حَمَلْتَ الشَّقَاوَةَ عَلَى طَلَبِ تِلْكَ اللَّذَّاتِ الْمُحَرَّمَةِ، وَطَلَبُ تِلْكَ اللَّذَّاتِ حَصَلَ بِاخْتِيَارِهِمْ أَوْ لَا بِاخْتِيَارِهِمْ فَإِنْ حَصَلَ بِاخْتِيَارِهِمْ فَذَلِكَ الِاخْتِيَارُ مُحْدَثٌ، فَإِنِ اسْتَغْنَى عَنِ الْمُؤَثِّرِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ فِي كُلِّ الْحَوَادِثِ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ يَنْسَدُّ عَلَيْكَ بَابُ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ، وَإِنِ افْتَقَرَ إلى محدث

فَمُحْدِثُهُ إِمَّا الْعَبْدُ أَوِ اللَّه تَعَالَى؟ فَإِنْ كَانَ هُوَ الْعَبْدَ فَذَلِكَ بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ صَالِحَةٌ لِلْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَإِنْ تَوَقَّفَ صُدُورُ تِلْكَ الْإِرَادَةِ عَنْهَا إِلَى مُرَجِّحٍ آخَرَ، عَادَ الْكَلَامُ فِيهِ وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى الْمُرَجِّحِ فَقَدْ جَوَّزْتَ رُجْحَانُ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ، وَذَلِكَ يَسُدُّ بَابَ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَعْلَمُ كَمِّيَّةَ تِلْكَ الْأَفْعَالِ وَلَا كَيْفِيَّتَهَا، وَالْجَاهِلُ بِالشَّيْءِ لَا يَكُونُ مُحْدِثًا لَهُ، وَإِلَّا لَبَطَلَتْ دَلَالَةُ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ عَلَى الْعِلْمِ وَالثَّانِي: أَنَّ أَحَدًا فِي الدُّنْيَا لَا يَرْضَى بِأَنْ يَخْتَارَ الْجَهْلَ، بَلْ لَا يَقْصِدُ إِلَّا تَحْصِيلَ الْعِلْمِ، فَالْكَافِرُ مَا قَصَدَ إِلَّا تَحْصِيلَ الْعِلْمِ، فَإِنْ كَانَ الْمُوجِدُ لِفِعْلِهِ هُوَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ إِلَّا مَا قَصَدَ إِيقَاعَهُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا الْعِلْمَ فَكَيْفَ حَصَلَ الْجَهْلُ؟ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُوجِدَ لِلدَّوَاعِي وَالْبَوَاعِثِ هُوَ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّ الدَّاعِيَةَ إِنْ كَانَتْ سَائِقَةً إِلَى الْخَيْرِ كَانَتْ سَعَادَةً، وَإِنْ كَانَتْ سَائِقَةً إِلَى الشَّرِّ كَانَتْ شَقَاوَةً الوجه الثَّانِي: لَهُمْ فِي الْجَوَابِ قَوْلُهُمْ: وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ وَهَذَا الضَّلَالُ الَّذِي جَعَلُوهُ كَالْعِلَّةِ فِي إِقْدَامِهِمْ عَلَى التَّكْذِيبِ إِنْ كَانَ هُوَ نَفْسَ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ لَزِمَ تَعْلِيلُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الضَّلَالُ عِبَارَةً عَنْ شَيْءٍ آخَرَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ فِعْلُهُمْ وَمَا ذَاكَ إِلَّا خَلْقُ الدَّاعِي إِلَى الضَّلَالِ، ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا أَوْرَدُوا هَذَيْنِ/ العذرين، قال لهم سبحانه: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ وَهَذَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِنَا فِي أَنَّ الْمُنَاظَرَةَ مَعَ اللَّه تَعَالَى غَيْرُ جَائِزَةٍ، بَلْ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ. قَالَ الْقَاضِي فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ، فَلَوْ كَانَ كُفْرُهُمْ مِنْ خَلْقِهِ تَعَالَى وَبِإِرَادَتِهِ وَعَلِمُوا ذَلِكَ لَكَانُوا بِأَنْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ أَجْدَرَ وَإِلَى الْعُذْرِ أَقْرَبَ، فَنَقُولُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الَّذِي ذَكَرُوهُ لَيْسَ إِلَّا ذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ مُقِرُّونَ أَنْ لَا عُذْرَ لَهُمْ فَلَا جَرَمَ، قال لهم: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ. أَمَّا قَوْلُهُ: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ فَالْمَعْنَى: أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إِلَى دَارِ الدُّنْيَا، فَإِنْ عُدْنَا إِلَى الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ فَإِنَّا ظَالِمُونَ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَطْلُبُوا ذَلِكَ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ عِقَابَهُمْ دَائِمٌ؟ قُلْنَا يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَهُمُ السَّهْوُ عَنْ ذَلِكَ فِي أَحْوَالِ شِدَّةِ الْعَذَابِ فَيَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ يَسْأَلُونَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْغَوْثِ والاسترواح. أما قوله: اخْسَؤُا فِيها فَالْمَعْنَى ذِلُّوا فِيهَا وَانْزَجِرُوا كَمَا يُزْجَرُ الْكِلَابُ إِذَا زُجِرَتْ، يُقَالُ: خَسَأَ الْكَلْبُ وَخَسَأَ بِنَفْسِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تُكَلِّمُونِ فَلَيْسَ هَذَا نَهْيًا لِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ فِي الْآخِرَةِ، بَلِ الْمُرَادُ لَا تُكَلِّمُونِ فِي رَفْعِ الْعَذَابِ فَإِنَّهُ لَا يُرْفَعُ وَلَا يُخَفَّفُ، قِيلَ هُوَ آخِرُ كَلَامٍ يَتَكَلَّمُونَ بِهِ ثُمَّ لَا كَلَامَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا الشَّهِيقُ وَالزَّفِيرُ، وَالْعُوَاءُ كَعُوَاءِ الْكِلَابِ، لَا يُفْهِمُونَ وَلَا يُفْهَمُونَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَنَّ لَهُمْ سِتَّ دَعَوَاتٍ، إِذَا دَخَلُوا النَّارَ قَالُوا أَلْفَ سَنَةٍ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا [السَّجْدَةِ: 12] فَيُجَابُونَ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [السَّجْدَةِ: 13] فَيُنَادُونَ أَلْفَ سَنَةٍ ثَانِيَةٍ رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غَافِرٍ: 11] فَيُجَابُونَ ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ [غَافِرٍ: 12] فينادون ألف ثالثة يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الزُّخْرُفِ: 77] فَيُجَابُونَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ [الزُّخْرُفِ: 77] فَيُنَادُونَ أَلْفًا رَابِعَةً رَبَّنا أَخْرِجْنا فَيُجَابُونَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إِبْرَاهِيمَ: 44] فَيُنَادُونَ أَلْفًا خَامِسَةً أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً [فَاطِرٍ: 37] فَيُجَابُونَ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ [فَاطِرٍ: 37] فَيُنَادُونَ أَلْفًا سَادِسَةً رَبِّ ارْجِعُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 99] فَيُجَابُونَ اخْسَؤُا فِيها ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَنَّ فَزَعَهُمْ بِأَمْرٍ يَتَّصِلُ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 إلى 116]

فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا فَوَصَفَ تَعَالَى أَحَدَ مَا لِأَجْلِهِ عُذِّبُوا وَبُعِدُوا مِنَ الْخَيْرِ، وَهُوَ مَا عَامَلُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ بِالْفَتْحِ بِمَعْنَى لِأَنَّهُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ السِّينِ فِي جَمِيعِ القرآن، وقرأ الباقون بالكسر هاهنا وفي صلى اللَّه عليه وسلم قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ هُمَا لُغَتَانِ كَدُرِّيٍّ وَدِرِّيٍّ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ الْكَسْرُ بِمَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ بِالْقَوْلِ، وَالضَّمُّ بِمَعْنَى السُّخْرِيَةِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ وَعُتْبَةَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَضْحَكُونَ بِالْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ مِثْلِ بِلَالٍ وَخَبَّابٍ وَعَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ، وَالْمَعْنَى اتَّخَذْتُمُوهُمْ هُزُوًا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ بِتَشَاغُلِكُمْ بِهِمْ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ ذِكْرِي وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا يَقْتَضِي فِيهِمُ الْأَسَفَ وَالْحَسْرَةَ بِأَنْ وَصَفَ مَا جَازَى بِهِ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ إِنَّهُمْ بِالْكَسْرِ وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ فَالْكَسْرُ اسْتِئْنَافٌ أَيْ قَدْ فَازُوا حَيْثُ صَبَرُوا فَجُوزُوا بِصَبْرِهِمْ أَحْسَنَ الْجَزَاءِ، وَالْفَتْحُ عَلَى أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي مِنْ جَزَيْتُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا بِإِضْمَارِ الْخَافِضِ أَيْ جَزَيْتُهُمُ الْجَزَاءَ الْوَافِرَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الفائزون. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 الى 116] قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) [في قوله تعالى قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ إلى قوله فَسْئَلِ الْعادِّينَ] اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ قالَ وَهُوَ ضَمِيرُ اللَّه أَوِ الْمَأْمُورِ بسؤالهم من الملائكة، وقل فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ وَهُوَ ضَمِيرُ الْمَلَكِ أَوْ بَعْضِ رُؤَسَاءِ أَهْلِ النَّارِ. المسألة الثَّانِيَةُ: الْغَرَضُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ التَّبْكِيتُ وَالتَّوْبِيخُ، فَقَدْ كَانُوا يُنْكِرُونَ اللُّبْثَ فِي الْآخِرَةِ أَصْلًا وَلَا يَعُدُّونَ اللُّبْثَ إِلَّا فِي دَارِ الدُّنْيَا وَيَظُنُّونَ أَنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ يَدُومُ الْفَنَاءُ وَلَا إِعَادَةَ فَلَمَّا حَصَلُوا فِي النَّارِ وَأَيْقَنُوا أَنَّهَا دَائِمَةٌ وَهُمْ فِيهَا مُخَلَّدُونَ سَأَلَهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى أَنَّ مَا ظَنُّوهُ دَائِمًا طَوِيلًا فَهُوَ يَسِيرٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا أَنْكَرُوهُ، فَحِينَئِذٍ تَحْصُلُ لَهُمُ الْحَسْرَةُ عَلَى مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ حَيْثُ أَيْقَنُوا خِلَافَهُ، فَلَيْسَ الْغَرَضُ السُّؤَالُ بَلِ الْغَرَضُ مَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ يَصِحُّ فِي جَوَابِهِمْ أَنْ يَقُولُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وَلَا يَقَعُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ الْكَذِبُ قُلْنَا لَعَلَّهُمْ نَسُوا ذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَقَدِ اعْتَرَفُوا بِهَذَا النسيان حيث قالوا: فَسْئَلِ الْعادِّينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنْسَاهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ وَقِيلَ مُرَادُهُمْ بِقَوْلِهِمْ: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ تَصْغِيرُ لُبْثِهِمْ وَتَحْقِيرُهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا وَقَعُوا فِيهِ وَعَرَفُوهُ مِنْ أَلِيمِ الْعَذَابِ واللَّه أَعْلَمُ. المسألة الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ أَيِّ لُبْثٍ وَقَعَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لُبْثُهُمْ إِحْيَاؤُهُمْ فِي/ الدُّنْيَا وَيَكُونُ

الْمُرَادُ أَنَّهُمْ أُمْهِلُوا حَتَّى تَمْكَّنُوا مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ فَأَجَابُوا بِأَنَّ قَدْرَ لُبْثِهِمْ كَانَ يَسِيرًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَعْلَمَهُمْ أَنَّ الدُّنْيَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَأَنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ، وَهَذَا الْقَائِلُ احْتَجَّ عَلَى قَوْلِهِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنْ لَا حَيَاةَ سِوَاهَا، فَلَمَّا أحياهم اللَّه تعالى في النار وعذبوا سألوا عَنْ ذَلِكَ تَوْبِيخًا لِأَنَّهُ إِلَى التَّوْبِيخِ أَقْرَبُ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ الْمُرَادُ اللُّبْثُ فِي حَالِ الْمَوْتِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْأَرْضِ يُفِيدُ الْكَوْنَ فِي الْقَبْرِ وَمَنْ كَانَ حَيًّا فَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ عَلَى الْأَرْضِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [الْأَعْرَافِ: 56] ، الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الرُّومِ: 55] ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ وَأَخْبَرَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ قَوْلَهُمْ: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ [الرُّومِ: 56] . المسألة الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ مَنْ أَنْكَرَ عَذَابَ الْقَبْرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ قَوْلُهُ: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ يَتَنَاوَلُ زَمَانَ كَوْنِهِمْ أَحْيَاءً فَوْقَ الْأَرْضِ وَزَمَانَ كَوْنِهِمْ أَمْوَاتًا فِي بَطْنِ الْأَرْضِ فَلَوْ كَانُوا مُعَذَّبِينَ فِي الْقَبْرِ لَعَلِمُوا أَنَّ مُدَّةَ مُكْثِهِمْ فِي الْأَرْضِ طَوِيلَةٌ فَمَا كَانُوا يَقُولُونَ: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَوَابَ لَا بُدَّ وأن يكون بحسب السؤال، وإنما سألوا عَنْ مَوْتٍ لَا حَيَاةَ بَعْدَهُ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ عَذَابِ القبر والثاني: يحتمل أن يكونوا سألوا عَنْ قَدْرِ اللُّبْثِ الَّذِي اجْتَمَعُوا فِيهِ، فَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ تَقَدُّمُ مَوْتِ بَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُمْ لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ عِنْدَ أَنْفُسِنَا. أَمَّا قَوْلُهُ: فَسْئَلِ الْعادِّينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: الْمُرَادُ بِهِمُ الْحَفَظَةُ وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُحْصُونَ الْأَعْمَالَ وَأَوْقَاتَ الْحَيَاةِ وَيَحْسِبُونَ أَوْقَاتَ مَوْتِهِمْ وَتَقَدُّمَ مَنْ تَقَدَّمَ وَتَأَخُّرَ مَنْ تَأَخَّرَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عِكْرِمَةَ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ أَيْ الَّذِينَ يَحْسِبُونَ وَثَانِيهَا: فَاسْأَلِ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ يَعُدُّونَ أَيَّامَ الدُّنْيَا وَسَاعَاتِهَا وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى سَلْ مَنْ يَعْرِفُ عَدَدَ ذَلِكَ فَإِنَّا قَدْ نَسِينَاهُ وَرَابِعُهَا: قُرِئَ الْعَادِينَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ الظَّلَمَةَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ مِثْلَ مَا قُلْنَا وَخَامِسُهَا: قُرِئَ الْعَادِيِّينَ أَيْ الْقُدَمَاءِ الْمُعَمِّرِينَ، فَإِنَّهُمْ يَسْتَقْصِرُونَهَا فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُمْ؟ أَمَّا قَوْلُهُ: لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّا لَبِثْنَا فِي الدُّنْيَا قَلِيلًا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ صَدَقْتُمْ مَا لَبِثْتُمْ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا إِلَّا أَنَّهَا انْقَضَتْ وَمَضَتْ، فَظَهَرَ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ تَعْرِيفُ قِلَّةِ أَيَّامِ الدُّنْيَا فِي مُقَابَلَةِ أَيَّامِ الْآخِرَةِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَبَيَّنَ فِي هَذَا الوجه أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ قَلِيلٌ لَوْ عَلِمْتُمُ الْبَعْثَ وَالْحَشْرَ، لَكِنَّكُمْ لَمَّا أَنْكَرْتُمْ ذَلِكَ كُنْتُمْ تُعِدُّونَهُ طَوِيلًا. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا هُوَ فِي التَّوْبِيخِ أَعْظَمُ بِقَوْلِهِ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَبَثاً حَالٌ أَيْ عَابِثِينَ كَقَوْلِهِ: لاعِبِينَ أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ أَيْ مَا خَلَقْنَاكُمْ لِلْعَبَثِ. المسألة الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا شَرَحَ صِفَاتِ الْقِيَامَةِ خَتَمَ الْكَلَامَ فِيهَا بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِهَا وَهِيَ أَنَّهُ لَوْلَا الْقِيَامَةُ لَمَا تَمَيَّزَ الْمُطِيعُ مِنَ الْعَاصِي وَالصِّدِّيقُ مِنَ الزِّنْدِيقِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ خَلْقُ هَذَا الْعَالَمِ عَبَثًا، وَأَمَّا

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 117 إلى 118]

الرُّجُوعُ إِلَى اللَّه تَعَالَى فَالْمُرَادُ إِلَى حَيْثُ لَا مَالِكَ وَلَا حَاكِمَ سِوَاهُ لَا أَنَّهُ رُجُوعٌ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَى اللَّه تَعَالَى ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ الْعَبَثِ بِقَوْلِهِ: فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَالْمَلِكُ هُوَ الْمَالِكُ لِلْأَشْيَاءِ الَّذِي لَا يَبِيدُ وَلَا يَزُولُ مُلْكُهُ وَقُدْرَتُهُ، وَأَمَّا الْحَقُّ فَهُوَ الَّذِي يَحِقُّ لَهُ الْمُلْكُ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ وَإِلَيْهِ، وَهُوَ الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَزُولُ وَلَا يَزُولُ مُلْكُهُ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ سِوَاهُ وَأَنَّ مَا عَدَاهُ فَمَصِيرُهُ إِلَى الْفَنَاءِ وَمَا يَفْنَى لَا يَكُونُ إِلَهًا وَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى: رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ قَالَ أَبُو مسلم والعرش هاهنا السموات بِمَا فِيهَا مِنَ الْعَرْشِ الَّذِي تَطُوفُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَيَجُوزُ أَنْ يَعْنِيَ بِهِ الْمُلْكَ الْعَظِيمَ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْعَرْشُ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا وَصَفَهُ بِالْكَرِيمِ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ مِنْهُ وَالْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ وَلِنِسْبَتِهِ إِلَى أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ كَمَا يُقَالُ بَيْتٌ كَرِيمٌ إِذَا كَانَ سَاكِنُوهُ كِرَامًا وَقُرِئَ الكريم بالرفع ونحوه ذو العرش المجيد. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 117 الى 118] وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَتْبَعُهُ بِأَنَّ مَنِ ادَّعَى إِلَهًا آخَرَ فَقَدِ ادَّعَى بَاطِلًا مِنْ حَيْثُ لَا بُرْهَانَ لَهُمْ فِيهِ، وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا بُرْهَانَ فِيهِ لَا يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ، وَذَلِكَ يُوجِبُ صِحَّةَ النَّظَرِ وَفَسَادَ التَّقْلِيدِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ فَجَزَاؤُهُ الْعِقَابُ الْعَظِيمُ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ كَأَنَّهُ قَالَ إِنَّ عِقَابَهُ بَلَغَ إِلَى حَيْثُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى حِسَابِهِ إِلَّا اللَّه تَعَالَى وَقُرِئَ أَنَّهُ لَا يُفْلِحُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَمَعْنَاهُ حِسَابُهُ عَدَمُ الْفَلَاحِ جَعَلَ فَاتِحَةَ السُّورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 1] وَخَاتِمَتَهَا إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْفَاتِحَةِ وَالْخَاتِمَةِ. ثُمَّ أَمْرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِأَنَّهُ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَتَّصِلُ هَذِهِ الْخَاتِمَةُ بِمَا قَبْلَهَا؟ قُلْنَا لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ الْكُفَّارِ فِي جَهْلِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَعَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَمَرَ بِالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَالِالْتِجَاءِ إِلَى دَلَائِلِ غُفْرَانِهِ وَرَحْمَتِهِ، فَإِنَّهُمَا هُمَا الْعَاصِمَانِ عَنْ كُلِّ الْآفَاتِ وَالْمَخَافَاتِ، وَرُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ وَآخِرَهَا مِنْ كُنُوزِ الْعَرْشِ مَنْ عَمِلَ بِثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِهَا، وَاتَّعَظَ بِأَرْبَعٍ مِنْ آخِرِهَا فَقَدْ نَجَا وَأَفْلَحَ. واللَّه أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ وَالْحَمْدُ للَّه وَحْدَهُ وَصَلَاتُهُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَعِتْرَتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ.

سورة النور

سُورَةُ النُّورِ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا وَهِيَ اثْنَتَانِ وَقِيلَ أَرْبَعٌ وَسِتُّونَ آيَةً بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة النور (24) : آيَةً 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) قَرَأَ الْعَامَّةُ (سُورَةٌ) بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِالنَّصْبِ، أَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا بِالرَّفْعِ فَالْجُمْهُورُ قَالُوا الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ لَا يَجُوزُ، وَالتَّقْدِيرُ هَذِهِ سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا، أَوْ نَقُولُ سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا مُبْتَدَأٌ مَوْصُوفٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ فِيمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا، وَقَالَ الْأَخْفَشُ لَا يَبْعُدُ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ فَسُورَةٌ مُبْتَدَأٌ وَأَنْزَلْنَا خَبَرُهُ، وَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى مَعْنَى الْفِعْلِ، يَعْنِي اتَّبِعُوا سُورَةً أَوْ اتْلُ سُورَةً أَوْ أَنْزَلْنَا سُورَةً، وَأَمَّا مَعْنَى السُّورَةِ وَمَعْنَى الْإِنْزَالِ فَقَدْ تَقَدَّمَ، فَإِنْ قِيلَ الْإِنْزَالُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ صُعُودٍ إِلَى نُزُولٍ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فِي جِهَةٍ، قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَحْفَظُهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ثُمَّ يُنْزِلُهَا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلِهَذَا جَازَ أَنْ يُقَالَ أَنْزَلْنَاهَا تَوَسُّعًا وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَهَا مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا دُفْعَةً وَاحِدَةً ثُمَّ أَنْزَلَهَا بَعْدَ ذَلِكَ نُجُومًا عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَثَالِثُهَا: مَعْنَى أَنْزَلْناها أَيْ أَعْطَيْنَاهَا الرَّسُولَ، كَمَا يَقُولُ الْعَبْدُ إِذَا كَلَّمَ سَيِّدَهُ رَفَعْتُ إِلَيْهِ حَاجَتِي، كَذَلِكَ يَكُونُ مِنَ السَّيِّدِ إِلَى الْعَبْدِ الْإِنْزَالُ قَالَ اللَّه تَعَالَى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فَاطِرٍ: 10] . أَمَّا قَوْلُهُ: وَفَرَضْناها فَالْمَشْهُورُ قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالتَّشْدِيدِ. أَمَّا قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ فَالْفَرْضُ هُوَ الْقَطْعُ وَالتَّقْدِيرُ قَالَ اللَّه تَعَالَى: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [الْبَقَرَةِ: 237] أَيْ قَدَّرْتُمْ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ [الْقَصَصِ: 85] أَيْ قَدَّرَ، ثُمَّ إِنَّ السُّورَةَ لَا يُمْكِنُ فَرْضُهَا لِأَنَّهَا قَدْ دَخَلَتْ فِي الْوُجُودِ وَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَفَرَضْنَا مَا بُيِّنَ فِيهَا، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ بَابِ الْأَحْكَامِ وَالْحُدُودِ فَلِذَلِكَ عَقَّبَهَا بِهَذَا الْكَلَامِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: التَّشْدِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْثِيرِ، أَمَّا الْمُبَالَغَةُ فَمِنْ حَيْثُ إِنَّهَا حُدُودٌ وَأَحْكَامٌ فَلَا بُدَّ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي إِيجَابِهَا لِيَحْصُلَ الِانْقِيَادُ لِقَبُولِهَا، وَأَمَّا التَّكْثِيرُ فَلِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى بَيَّنَ فِيهَا أَحْكَامًا مُخْتَلِفَةً وَالثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْجَبَهَا عَلَى كُلِّ الْمُكَلَّفِينَ إِلَى آخِرِ/ الدَّهْرِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنْوَاعًا مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْحُدُودِ وَفِي آخِرِهَا دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ فَقَوْلُهُ: وَفَرَضْناها إِشَارَةٌ

[سورة النور (24) : آية 2]

إِلَى الْأَحْكَامِ الَّتِي بَيَّنَهَا أَوَّلًا ثُمَّ قَوْلُهُ: وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ إِشَارَةٌ إِلَى مَا بُيِّنَ مَنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ وَالشَّرَائِعَ مَا كَانَتْ مَعْلُومَةً لَهُمْ لِيُؤْمَرُوا بِتَذْكِيرِهَا. أَمَّا دَلَائِلُ التَّوْحِيدِ فَقَدْ كَانَتْ كَالْمَعْلُومَةِ لَهُمْ لِظُهُورِهَا فَأُمِرُوا بِتَذْكِيرِهَا. وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْحُدُودِ وَالشَّرَائِعِ كَقَوْلِهِ: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا [مَرْيَمَ: 10] سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِ عَمَلًا وَثَالِثُهَا: قَالَ الْقَاضِي إِنَّ السُّورَةَ كَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَى عَمَلِ الْوَاجِبَاتِ فَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُبَاحَثَاتِ بِأَنْ بَيَّنَهَا اللَّه تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ بَيَانُهُ سُبْحَانَهُ لَهَا مُفَصَّلًا وَصَفَ الْآيَاتِ بِأَنَّهَا بَيِّنَاتٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فقرىء بِتَشْدِيدِ الذَّالِ وَتَخْفِيفِهَا، وَمَعْنَى لَعَلَّ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، قَالَ الْقَاضِي لَعَلَّ بِمَعْنَى كَيْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ مِنْ جَمِيعِهِمْ أَنْ يَتَذَكَّرُوا وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ مِنَ الْكُلِّ لَمَا قَوَّى دَوَاعِيَهُمْ إِلَى جَانِبِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَوْ لَمْ تُوجَدْ تِلْكَ التَّقْوِيَةُ لَزِمَ وُقُوعُ الْفِعْلِ لَا لِمُرَجِّحٍ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمَا جَازَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ عَلَى وُجُودِ الْمُرَجِّحِ وَيَلْزَمُ نَفْيُ الصَّانِعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُ لَعَلَّ عَلَى سائر الوجوه المذكورة في سورة البقرة [سورة النور (24) : آية 2] الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أحكاما كثيرة: الحكم الأول [في قَوْلِهِ تَعَالَى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ] اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي رَفْعُهُمَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ عَلَى مَعْنَى: فِيمَا فَرَضَ اللَّه عَلَيْكُمُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي أَيْ فَاجْلِدُوهُمَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ فَاجْلِدُوا وَإِنَّمَا دَخَلَتِ الْفَاءُ لِكَوْنِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ بِمَعْنَى الَّذِي وَتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الشَّرْطِ تَقْدِيرُهُ الَّتِي زَنَتْ وَالَّذِي زَنَى فَاجْلِدُوهُمَا كَمَا تَقُولُ مَنْ زَنَا فَاجْلِدُوهُ، وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ، وَقُرِئَ وَالزَّانِ بِلَا يَاءٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَتَعَلَّقُ/ بِالشَّرْعِيَّاتِ وَالثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقْلِيَّاتِ وَنَحْنُ نَأْتِي عَلَى الْبَابَيْنِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. النوع الْأَوَّلُ: الشَّرْعِيَّاتُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَرَنَهُ بِالشِّرْكِ وَقَتْلِ النَّفْسِ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [الْفُرْقَانِ: 68] وَقَالَ: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 32] ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الْمِائَةَ فِيهَا بِكَمَالِهَا بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَشَرَعَ فِيهِ الرَّجْمَ، وَنَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الرَّأْفَةِ وَأَمَرَ بِشُهُودِ الطَّائِفَةِ لِلتَّشْهِيرِ وَأَوْجَبَ كَوْنَ تِلْكَ الطَّائِفَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ صُلَحَاءِ قَوْمِهِ أَخْجَلُ وَثَالِثُهَا: مَا رَوَى حُذَيْفَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ النَّاسِ اتَّقُوا الزِّنَا فَإِنَّ فِيهِ سِتَّ خِصَالٍ ثَلَاثٌ فِي الدُّنْيَا وَثَلَاثٌ فِي الْآخِرَةِ، أَمَّا الَّتِي فِي الدُّنْيَا فَيُذْهِبُ الْبَهَاءَ وَيُورِثُ الْفَقْرَ وَيُنْقِصُ العمر،

وَأَمَّا الَّتِي فِي الْآخِرَةِ فَسُخْطُ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَسُوءُ الْحِسَابِ وَعَذَابُ النَّارِ» وَعَنْ عَبْدِ اللَّه قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّه؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ للَّه نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ، وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: وَأَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ» فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى تَصْدِيقَهَا: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الْفُرْقَانِ: 68] وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ الْبَحْثُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: عَنْ مَاهِيَّةِ الزِّنَا وَثَانِيهَا: عَنْ أَحْكَامِ الزِّنَا وَثَالِثُهَا: عَنِ الشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كَوْنِ الزِّنَا مُوجِبًا لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ وَرَابِعُهَا: عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي بِهِ يُعْرَفُ حُصُولُ الزِّنَا وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: فَاجْلِدُوهُمْ [النور: 4] مَنْ هُمْ؟ وَسَادِسُهَا: أَنَّ الرَّجْمَ وَالْجَلْدَ الْمَأْمُورَ بِهِمَا فِي الزِّنَا كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمَا؟. الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: عَنْ مَاهِيَّةِ الزِّنَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إِيلَاجِ فَرْجٍ فِي فَرْجٍ مُشْتَهًى طَبْعًا مُحَرَّمٌ قَطْعًا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ اللُّواطَةَ هَلْ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الزِّنَا أَمْ لَا؟ فَقَالَ قَائِلُونَ نَعَمْ. وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ وَالْمَعْنَى، أَمَّا النَّصُّ فَمَا رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِذَا أَتَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَهُمَا زَانِيَانِ» وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ اللِّوَاطَ مِثْلُ الزِّنَا صُورَةً وَمَعْنًى. أَمَّا الصُّورَةُ فَلِأَنَّ الزِّنَا عِبَارَةٌ عَنْ إِيلَاجِ فَرْجٍ فِي فَرْجٍ مُشْتَهًى طَبْعًا مُحَرَّمٌ قَطْعًا، وَالدُّبُرُ أَيْضًا فَرْجٌ لِأَنَّ الْقُبُلَ إِنَّمَا سُمِّيَ فَرَجًا لِمَا فِيهِ مِنَ الِانْفِرَاجِ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ فِي الدُّبُرِ أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ فِي الْعُرْفِ لَا تُسَمَّى اللُّوَاطَةُ زِنًا وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَقْدَحُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، كَمَا يُقَالُ هَذَا طَبِيبٌ وَلَيْسَ بِعَالِمٍ مَعَ أَنَّ الطِّبَّ عِلْمٌ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الزِّنَا قَضَاءٌ لِلشَّهْوَةِ مِنْ مَحَلٍّ مُشْتَهًى طَبْعًا عَلَى جِهَةِ الْحَرَامِ الْمَحْضِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي اللِّوَاطِ لِأَنَّ الْقُبُلَ وَالدُّبُرَ يُشْتَهَيَانِ لِأَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ مُتَعَلِّقُ الشَّهْوَةِ مِنَ الْحَرَارَةِ وَاللِّينِ وَضِيقِ الْمَدْخَلِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ يَقُولُ بِالطَّبَائِعِ لَا يُفَرِّقُ/ بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ، وَإِنَّمَا الْمُفَرِّقُ هُوَ الشَّرْعُ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، فَهَذَا حُجَّةُ مَنْ قَالَ اللِّوَاطُ دَاخِلٌ تَحْتَ اسْمِ الزِّنَا، وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا فَقَدْ سَلَّمُوا أَنَّ اللِّوَاطَ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ اسْمِ الزِّنَا وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الْعُرْفُ الْمَشْهُورُ مِنْ أَنَّ هَذَا لِوَاطٌ وَلَيْسَ بِزِنًا وَبِالْعَكْسِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّغْيِيرِ وَثَانِيهَا: لَوْ حَلَفَ لَا يَزْنِي فَلَاطَ لَا يَحْنَثُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ اللِّوَاطِ وَكَانُوا عَالِمِينَ بِاللُّغَةِ فَلَوْ سُمِّيَ اللِّوَاطُ زِنًا لَأَغْنَاهُمْ نَصُّ الْكِتَابِ فِي حَدِّ الزِّنَا عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالِاجْتِهَادِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِثْمِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا أَتَتِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَهُمَا زَانِيَتَانِ» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ» وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَبَعِيدٌ لِأَنَّ الْفَرْجَ وَإِنْ كَانَ سُمِّيَ فَرْجًا لِمَا فِيهِ مِنَ الِانْفِرَاجِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يُسَمَّى كُلُّ مَا فِيهِ انْفِرَاجٌ بِالْفَرْجِ وَإِلَّا لَكَانَ الْفَمُ وَالْعَيْنُ فَرْجًا، وَأَيْضًا فَهُمْ سَمَّوُا النَّجْمَ نَجْمًا لِظُهُورِهِ، ثُمَّ مَا سَمَّوْا كُلَّ ظَاهِرٍ نَجْمًا. وَسَمَّوُا الْجَنِينَ جَنِينًا لِاسْتِتَارِهِ، وَمَا سَمَّوْا كُلَّ مُسْتَتِرٍ جَنِينًا، وَاعْلَمْ أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه فِي فِعْلِ اللواط قولان أَصَحُّهُمَا عَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَا إِنْ كَانَ مُحْصَنًا يُرْجَمُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا يُجْلَدُ مِائَةً وَيُغَرَّبُ عَامًا وَثَانِيهِمَا: يُقْتَلُ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُحْصَنًا أَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا، لِمَا رَوَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ قَتْلِهِ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: تُحَزُّ رَقَبَتُهُ كَالْمُرْتَدِّ وَثَانِيهَا: يُرْجَمُ بِالْحِجَارَةِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَثَالِثُهَا: يُهْدَمُ عَلَيْهِ جِدَارٌ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَرَابِعُهَا: يُرْمَى مِنْ شَاهِقِ جَبَلٍ حَتَّى يَمُوتَ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنَّمَا ذَكَرُوا هَذِهِ

الْوُجُوهَ: لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى عَذَّبَ قَوْمَ لُوطٍ بكل ذلك فقال تعالى: جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [هود: 82] وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه لَا يُحَدُّ اللوطي بَلْ يُعَذَّرُ، أَمَّا الْمَفْعُولُ بِهِ فَإِنْ كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا طَائِعًا فَإِنْ قُلْنَا عَلَى الْفَاعِلِ الْقَتْلُ فَيُقْتَلُ الْمَفْعُولُ بِهِ عَلَى صِفَةِ قَتْلِ الْفَاعِلِ لِلْخَبَرِ، وَإِنْ قُلْنَا عَلَى الْفَاعِلِ حَدُّ الزِّنَا فَعَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ مِائَةُ جَلْدَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ، وَقِيلَ إِنْ كَانَتِ امْرَأَةً مُحْصَنَةً فَعَلَيْهَا الرَّجْمُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ مُحَصَنَةً بِالتَّمْكِينِ فِي الدُّبُرِ فَلَا يَلْزَمُهَا حَدُّ الْمُحْصَنَاتِ كَمَا لَوْ كان المفعول به، ذكر حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللِّوَاطَ، إِمَّا أَنْ يُسَاوِيَ الزِّنَا فِي الْمَاهِيَّةِ أَوْ يُسَاوِيَهُ فِي لَوَازِمِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ الْحَدُّ بَيَانُ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا أَتَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَهُمَا زَانِيَانِ» فَاللَّفْظُ دَلَّ عَلَى كَوْنِ اللَّائِطِ زَانِيًا، وَاللَّفْظُ الدَّالُّ بِالْمُطَابَقَةِ عَلَى مَاهِيَّةٍ دَالٌّ بِالِالْتِزَامِ عَلَى حُصُولِ جَمِيعِ لَوَازِمِهَا، وَدَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ وَالِالْتِزَامِ مُشْتَرِكَانِ فِي أَصْلِ الدَّلَالَةِ، فَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى حُصُولِ الزِّنَا دَالٌّ عَلَى حُصُولِ جَمِيعِ اللَّوَازِمِ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا إِنْ تَحَقَّقَ مُسَمَّى الزِّنَا فِي اللِّوَاطِ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ مُسَمَّى الزِّنَا وَجَبَ أَنْ يَتَحَقَّقَ لَوَازِمُ مُسَمَّى الزِّنَا لِمَا ثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى تَحَقُّقِ مَاهِيَّةٍ دَالٌّ عَلَى تَحَقُّقِ جَمِيعِ تِلْكَ اللَّوَازِمِ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الْمَاهِيَّةِ/ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى جَمِيعِ تِلْكَ اللَّوَازِمِ، لَكِنَّ مِنْ لَوَازِمِ الزِّنَا وُجُوبَ الْحَدِّ فَوَجَبَ أَنْ يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ فِي اللِّوَاطِ. أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ تُرِكَ الْعَمَلُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا أَتَتِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَهُمَا زَانِيَتَانِ» لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الْعَمَلِ هُنَاكَ تَرْكُهُ هَاهُنَا الثَّانِي: أَنَّ اللَّائِطَ يَجِبُ قَتْلُهُ فَوَجَبَ أَنْ يُقْتَلَ رَجْمًا بَيَانُ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ مِنْهُمَا وَالْمَفْعُولَ بِهِ» وَبَيَانُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ قَتْلُهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ زَانِيًا وَإِلَّا لَمَا جَازَ قَتْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا لِإِحْدَى ثَلَاثٍ» وَهَاهُنَا لَمْ يُوجَدْ كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ وَلَا قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَوْ لَمْ يُوجَدِ الزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْتَلَ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ وُجِدَ الزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ وَجَبَ الرَّجْمُ لِهَذَا الْحَدِيثِ الثَّالِثُ: نَقِيسُ اللِّوَاطَ عَلَى الزِّنَا، وَالْجَامِعُ أَنَّ الطَّبْعَ دَاعٍ إِلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِالْتِذَاذِ وَهُوَ قَبِيحٌ فَيُنَاسِبُ الزَّجْرَ، وَالْحَدُّ يَصْلُحُ زَاجِرًا عَنْهُ. قَالُوا: وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أنه وجد في الزنا داعيات، فَكَانَ وُقُوعُهُ أَكْثَرَ فَسَادًا فَكَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الزَّاجِرِ أَتَمَّ الثَّانِي: أَنَّ الزِّنَا يَقْتَضِي فَسَادَ الْأَنْسَابِ وَالْجَوَابُ: إِلْغَاؤُهُمَا بِوَطْءِ الْعَجُوزِ الشَّوْهَاءِ وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: اللِّوَاطُ لَيْسَ بِزِنًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْتَلَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا لِإِحْدَى ثَلَاثٍ» وَثَانِيهَا: أَنَّ اللِّوَاطَ لَا يُسَاوِي الزِّنَا فِي الْحَاجَةِ إِلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ، وَلَا فِي الْجِنَايَةِ فَلَا يُسَاوِيهِ فِي الْحَدِّ بَيَانُ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ في الحاجة. أن اللواطة وَإِنْ كَانَتْ يَرْغَبُ فِيهَا الْفَاعِلُ لَكِنْ لَا يَرْغَبُ فِيهَا الْمَفْعُولُ طَبْعًا بِخِلَافِ الزِّنَا، فَإِنَّ الدَّاعِيَ حَاصِلٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَأَمَّا عَدَمُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْجِنَايَةِ فَلِأَنَّ فِي الزِّنَا إِضَاعَةَ النِّسَبِ وَلَا كَذَلِكَ اللِّوَاطُ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يُسَاوِيَهُ فِي الْعُقُوبَةِ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ يَنْفِي شَرْعَ الْحَدِّ لِكَوْنِهِ ضَرَرًا تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي الزِّنَا، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى فِي اللِّوَاطِ عَلَى الْأَصْلِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْحَدَّ كَالْبَدَلِ عَنِ الْمَهْرِ فَلَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِاللِّوَاطِ الْمَهْرُ فكذا الحدو الجواب: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ اللِّوَاطَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسَاوِيًا لِلزِّنَا فِي مَاهِيَّتِهِ لَكِنَّهُ يُسَاوِيهِ فِي الْأَحْكَامِ وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ اللِّوَاطَ وَإِنْ كَانَ لا يرغب فيه المفعول لَكَنْ ذَلِكَ بِسَبَبِ اشْتِدَادِ رَغْبَةِ الْفَاعِلِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ حَرِيصٌ عَلَى مَا مُنِعَ وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْجَامِعِ واللَّه أَعْلَمُ.

المسألة الثَّانِيَةُ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى حُرْمَةِ إِتْيَانِ الْبَهَائِمِ. وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه فِي عُقُوبَتِهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: يَجِبُ بِهِ حَدُّ الزِّنَا فَيُرْجَمُ الْمُحْصَنُ وَيُجْلَدُ غَيْرُ الْمُحْصَنِ وَيُغَرَّبُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُقْتَلُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ. لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوهَا مَعَهُ» فَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا شَأْنُ الْبَهِيمَةِ؟ فَقَالَ: مَا أَرَاهُ قَالَ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُؤْكَلَ لَحْمُهَا، وَقَدْ عُمِلَ بِهَا ذَلِكَ الْعَمَلُ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمُ اللَّه: أَنَّ عليه التعزير لِأَنَّ الْحَدَّ شُرِعَ لِلزَّجْرِ عَمَّا تَمِيلُ النَّفْسُ إِلَيْهِ، وَهَذَا الْفِعْلُ لَا تَمِيلُ النَّفْسُ إِلَيْهِ، وَضَعَّفُوا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا لِضَعْفِ إِسْنَادِهِ وَإِنْ ثَبَتَ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَى عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ إِلَّا لِأَكْلِهِ. المسألة الثَّالِثَةُ: السَّحْقُ مِنَ النِّسْوَانِ وَإِتْيَانُ الْمَيْتَةِ وَالِاسْتِمْنَاءُ بِالْيَدِ لَا يُشْرَعُ فيها إلا التعزير. الْبَحْثُ الثَّانِي: عَنْ أَحْكَامِ الزِّنَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عُقُوبَةُ الزَّانِي الْحَبْسُ إِلَى الْمَمَاتِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ، وَالْأَذَى بِالْكَلَامِ فِي حَقِّ الْبِكْرِ. قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما [النِّسَاءِ: 15، 16] ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فَجُعِلَ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الثَّيِّبِ الرَّجْمَ وَحَدُّ الْبِكْرِ الْجَلْدَ وَالتَّغْرِيبَ، وَلْنَذْكُرْ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ: المسألة الْأُولَى: الْخَوَارِجُ أَنْكَرُوا الرَّجْمَ وَاحْتَجُّوا فِيهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ [النِّسَاءِ: 25] فَلَوْ وَجَبَ الرَّجْمُ عَلَى الْمُحْصَنِ لَوَجَبَ نِصْفُ الرَّجْمِ عَلَى الرَّقِيقِ لَكِنَّ الرَّجْمَ لَا نِصْفَ لَهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ أَنْوَاعَ الْمَعَاصِي مِنَ الْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ، وَلَمْ يَسْتَقْصِ فِي أَحْكَامِهَا كَمَا اسْتَقْصَى فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الزِّنَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى نهى عن الزنا بقوله: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الْإِسْرَاءِ: 32] ثُمَّ تَوَعَّدَ عَلَيْهِ ثَانِيًا بِالنَّارِ كَمَا فِي كُلِّ الْمَعَاصِي، ثُمَّ ذَكَرَ الْجَلْدَ ثَالِثًا ثُمَّ خَصَّ الْجَلْدَ بِوُجُوبِ إِحْضَارِ الْمُؤْمِنِينَ رَابِعًا، ثُمَّ خَصَّهُ بِالنَّهْيِ عَنِ الرَّأْفَةِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ خَامِسًا، ثُمَّ أَوْجَبَ عَلَى مَنْ رَمَى مُسْلِمًا بِالزِّنَا ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَسَادِسًا، لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ عَلَى مَنْ رَمَاهُ بِالْقَتْلِ وَالْكُفْرِ وَهُمَا أَعْظَمُ مِنْهُ، ثم قال سَابِعًا: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً ثُمَّ ذَكَرَ ثَامِنًا مَنْ رَمَى زَوْجَتَهُ بِمَا يُوجِبُ التَّلَاعُنَ وَاسْتِحْقَاقَ غَضَبِ اللَّه تَعَالَى ثُمَّ ذكر تاسعا أن الزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النُّورِ: 3] ، ثُمَّ ذَكَرَ عَاشِرًا أَنَّ ثُبُوتَ الزِّنَا مَخْصُوصٌ بِالشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ فَمَعَ الْمُبَالَغَةِ فِي اسْتِقْصَاءِ أَحْكَامِ الزِّنَا قَلِيلًا وَكَثِيرًا لَا يَجُوزُ إِهْمَالُ مَا هُوَ أَجَلُّ أَحْكَامِهَا وَأَعْظَمُ آثَارِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّجْمَ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَكَانَ أَعْظَمَ الْآثَارِ فَحَيْثُ لَمْ يَذْكُرْهُ اللَّه تَعَالَى فِي كِتَابِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْجَلْدِ عَلَى كُلِّ الزُّنَاةِ، وَإِيجَابُ الرَّجْمِ عَلَى الْبَعْضِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ عُمُومِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. لِأَنَّ الْكِتَابَ قَاطِعٌ فِي مَتْنِهِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ غَيْرُ قَاطِعٍ فِي مَتْنِهِ، وَالْمَقْطُوعُ رَاجِحٌ عَلَى الْمَظْنُونِ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ من المجتهدين على وجوب رجم المحصن لما ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَعَلَ ذَلِكَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ رَوَى الرَّجْمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّه وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَبُرَيْدَةُ الْأَسْلَمِيُّ وَزَيْدُ بْنُ خَالِدٍ فِي آخَرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ الرُّوَاةِ رَوَى خَبَرَ رَجْمِ مَاعِزٍ وَبَعْضُهُمْ خَبَرَ اللَّخْمِيَّةِ وَالْغَامِدِيَّةِ وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّه لَأَثْبَتُّهُ فِي الْمُصْحَفِ. وَالْجَوَابُ: عَمَّا

احْتَجُّوا بِهِ أَوَّلًا أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْجَلْدِ. فَإِنْ قِيلَ فَيَلْزَمُ تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ قُلْنَا بَلْ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرَّجْمَ مَنْقُولٌ بِالتَّوَاتُرِ، وَأَيْضًا فَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ تَخْصِيصَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يُسْتَبْعَدُ تَجَدُّدُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِحَسَبِ تَجَدُّدُ الْمَصَالِحِ/ فَلَعَلَّ الْمَصْلَحَةَ التي تقضي وُجُوبَ الرَّجْمِ حَدَثَتْ بَعْدَ نُزُولِ تِلْكَ الْآيَاتِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّالِثِ أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَدَاوُدَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ عُمُومَ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْجَلْدِ وَالْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الرَّجْمِ وَلَا مُنَافَاةَ فَوَجَبَ الْجَمْعُ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ» وَثَالِثُهَا: رَوَى أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَجُلًا زَنَى بِامْرَأَةٍ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُلِدَ ثُمَّ أُخْبِرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ مُحْصَنًا فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ» وَرَابِعُهَا: رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ جَلَدَ شَرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ ثُمَّ رَجَمَهَا وَقَالَ جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّه وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُجْتَهِدِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَنَ يُرْجَمُ وَلَا يُجْلَدُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: قِصَّةُ الْعَسِيفِ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «يَا أُنَيْسُ اغْدُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» وَلَمْ يَذْكُرِ الْجَلْدَ وَلَوْ وَجَبَ الْجَلْدُ مَعَ الرَّجْمِ لَذَكَرَهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ قِصَّةَ مَاعِزٍ رُوِيَتْ مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَعَ الرَّجْمِ جَلْدٌ، وَلَوْ كَانَ الْجَلْدُ مُعْتَبَرًا مَعَ الرَّجْمِ لَجَلَدَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَوْ جَلَدَهُ لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ الرَّجْمُ إِذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالنَّقْلِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، وَكَذَا فِي قِصَّةِ الْغَامِدِيَّةِ حِينَ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا فَرَجَمَهَا رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ وَضَعَتْ وَلَوْ جَلَدَهَا لَنُقِلَ ذَلِكَ وَثَالِثُهَا: مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّه بْنِ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ لَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّه تَعَالَى، وقد قرأنا: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها الْبَتَّةَ، رَجَمَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّه تَعَالَى هُوَ الرَّجْمُ وَلَوْ كَانَ الْجَلْدُ وَاجِبًا مَعَ الرَّجْمِ لَذَكَرَهُ أَمَّا الْجَوَابُ: عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ وَتَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةِ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ» فَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ قَوْلِهِ: «يَا أُنَيْسُ اغْدُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» وَأَمَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَلَدَ امْرَأَةً ثُمَّ رَجَمَهَا، فَلَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا عَلِمَ إِحْصَانَهَا فَجَلَدَهَا، ثُمَّ لَمَّا عَلِمَ إِحْصَانَهَا رَجَمَهَا، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ فِعْلِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَهَذَا مَا يُمْكِنُ مِنَ التَّكَلُّفِ فِي هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ فِي حَدِّ الْبِكْرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه يُجْلَدُ، وَأَمَّا التَّغْرِيبُ فَمُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، وَقَالَ مَالِكٌ يُجْلَدُ الرَّجُلُ وَيَغَرَّبُ وَتُجْلَدُ الْمَرْأَةُ وَلَا تُغَرَّبُ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه حَدِيثُ عُبَادَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّه لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ» وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَيْهِ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَزَيْدُ بْنُ خَالِدٍ: «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى/ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا وَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِوَلِيدَةٍ وَمِائَةِ شَاةٍ، ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ فَاقْضِ بَيْنَنَا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّه أَمَّا الغنم والوليدة

فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَأَمَّا ابْنُكَ فَإِنَّ عَلَيْهِ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، ثم قال لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ اغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه عَلَى نَفْيِ التَّغْرِيبِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ إِيجَابَ التَّغْرِيبِ يَقْتَضِي نَسْخَ الْآيَةِ وَنَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ وَقَرَّرُوا النَّسْخَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَتَّبَ الْجَلْدَ عَلَى فِعْلِ الزِّنَا بِالْفَاءِ وَحَرْفُ الْفَاءِ لِلْجَزَاءِ إِلَّا أَنَّ أَئِمَّةَ اللُّغَةِ قَالُوا الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّه ذِكْرُ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ وَفَسَّرُوا الشَّرْطَ بِالَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ كَلِمَةُ إِنَّ وَالْجَزَاءَ بِالَّذِي دَخَلَ عليه حرف الفاء والجزاء اسم له يَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ جَازَيْنَاهُ أَيْ كَافَأْنَاهُ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تُجْزِيكَ وَلَا تُجْزِي أَحَدًا بَعْدَكَ» أَيْ تَكْفِيكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: اجْتَزْتُ الْإِبِلَ بِالْعُشْبِ بِالْمَاءِ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْكِفَايَةُ بِالْجَلْدِ إِذَا لَمْ يَجِبْ مَعَهُ شَيْءٌ آخَرُ فَإِيجَابُ شَيْءٍ آخَرَ يَقْتَضِي نَسْخَ كَوْنِهِ كَافِيًا الثَّانِي: أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ لَمَّا كان هو الجلد فقط كَانَ ذَلِكَ كَمَالَ الْحَدِّ فَلَوْ جَعَلْنَا النَّفْيَ مُعْتَبَرًا مَعَ الْجَلْدِ لَكَانَ الْجَلْدُ بَعْضَ الْحَدِّ لَا كُلَّ الْحَدِّ فَيُفْضِي إِلَى نَسْخِ كَوْنِهِ كُلَّ الْحَدِّ الثَّالِثُ: أَنَّ بِتَقْدِيرِ كَوْنِ الْجَلْدِ كَمَالَ الْحَدِّ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ رَدُّ الشَّهَادَةِ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ بَعْضَ الْحَدِّ لَزَالَ ذَلِكَ الْحُكْمُ، فَثَبَتَ أَنَّ إِيجَابَ التَّغْرِيبِ يَقْتَضِي نَسْخَ الْآيَةِ ثَانِيهَا: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ لَوْ كَانَ النَّفْيُ مَشْرُوعًا مَعَ الْجَلْدِ لَوَجَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْآيَةِ تَوْقِيفُ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَعْتَقِدُوا عِنْدَ سَمَاعِ الْآيَةِ أَنَّ الْجَلْدَ هُوَ كَمَالُ الْحَدِّ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ اشْتِهَارُهُ مِثْلَ اشْتِهَارِ الْآيَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ خَبَرُ النَّفْيِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ بَلْ كَانَ وُرُودُهُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ عُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَثَالِثُهَا: مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْأَمَةِ: «إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا فَإِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، فَإِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِطَفِيرٍ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا تَثْرِيبَ عَلَيْهِ» وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّفْيُ ثَابِتًا لَذَكَرَهُ مَعَ الْجَلْدِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُشْرَعَ التَّغْرِيبُ فِي حَقِّ الْأَمَةِ أَوْ لَا يُشْرَعَ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْإِضْرَارُ بِالسَّيِّدِ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ صَدَرَتْ مِنْهُ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلِأَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِيعُوهَا وَلَوْ بَطَفِيرٍ» وَلَوْ وَجَبَ نَفْيُهَا لَمَا جَازَ بَيْعُهَا لِأَنَّ الْمُكْنَةَ مِنْ تَسْلِيمِهَا إِلَى الْمُشْتَرِي لَا تَبْقَى بِالنَّفْيِ وَلَا جَائِزَ أَنْ لَا يَكُونَ مَشْرُوعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النِّسَاءِ: 25] وَخَامِسُهَا: أَنَّ التَّغْرِيبَ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ الرَّجُلِ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ أَوْ لَا يَكُونَ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّ التَّسَاوِيَ فِي الْجِنَايَةِ قَدْ وُجِدَ فِي حَقِّهِمَا، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّهَا وَحْدَهَا أَوْ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ وَالْأَوَّلُ غَيْرُ جَائِزٍ لِلنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ أَنْ تُسَافِرَ مِنْ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ» وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ/ الشَّهْوَةَ غَالِبَةٌ فِي النِّسَاءِ، وَالِانْزِجَارُ بِالدِّينِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْخَوَاصِّ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ لِعَدَمِ الزِّنَا مِنَ النِّسَاءِ بِوُجُودِ الْحُفَّاظِ مِنَ الرِّجَالِ، وَحَيَائِهِنَّ مِنَ الْأَقَارِبِ. وَبِالتَّغْرِيبِ تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ مِنْ أَيْدِي الْقُرَبَاءِ وَالْحُفَّاظِ، ثُمَّ يَقِلُّ حَيَاؤُهَا لِبُعْدِهَا عَنْ مَعَارِفِهَا فَيَنْفَتِحُ عَلَيْهَا بَابُ الزِّنَا، فَرُبَّمَا كَانَتْ فَقِيرَةً فَيَشْتَدُّ فَقْرُهَا فِي السَّفَرِ، فَيَصِيرُ مَجْمُوعُ ذَلِكَ سَبَبًا لِفَتْحِ بَابِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ الْعَظِيمَةِ عَلَيْهَا. وَلَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ إِنَّا نُغَرِّبُهَا مَعَ الزَّوْجِ أَوِ الْمَحْرَمِ، لِأَنَّ عُقُوبَةَ غَيْرِ الْجَانِي لَا تَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الْأَنْعَامِ: 164] وَسَادِسُهَا: مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ غَرَّبَ رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ فِي الْخَمْرِ إِلَى خَيْبَرَ فَلَحِقَ بِهِرَقْلَ، فَقَالَ عُمَرُ لَا أُغَرِّبُ بَعْدَهَا أَحَدًا وَلَمْ يَسْتَثْنِ الزِّنَا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ فِي الْبِكْرَيْنِ إِذَا زَنَيَا يُجْلَدَانِ وَلَا يُنْفَيَانِ وَإِنَّ نَفْيَهُمَا مِنَ الْفِتْنَةِ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ أَمَةً لَهُ زَنَتْ فَجَلَدَهَا وَلَمْ يَنْفِهَا، وَلَوْ كَانَ النَّفْيُ مُعْتَبَرًا فِي حَدِّ الزِّنَا لَمَا خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَسَابِعُهَا: مَا رُوِيَ «أَنَّ شَيْخًا وُجِدَ عَلَى بَطْنِ جَارِيَةٍ يَحْنَثُ بِهَا فِي خَرِبَةٍ فَأُتِيَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اجْلِدُوهُ مِائَةً، فَقِيلَ إِنَّهُ ضَعِيفٌ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ خُذُوا عِثْكَالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَاضْرِبُوهُ بِهَا وخلوا

سَبِيلَهُ» . وَلَوْ كَانَ النَّفْيُ وَاجِبًا لَنَفَاهُ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا لَمْ يَنْفِهِ لِأَنَّهُ كَانَ ضَعِيفًا عَاجِزًا عَنِ الْحَرَكَةِ، قُلْنَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَرَى لَهُ دَابَّةٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ يُنْفَى عَلَيْهَا. فَإِنْ قِيلَ كَانَ عَسَى يَضْعُفُ عَنِ الرُّكُوبِ، قُلْنَا مَنْ قَدَرَ عَلَى الزِّنَا كَيْفَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِمْسَاكِ! وَثَامِنُهَا: أَنَّ التَّغْرِيبَ نَظِيرُ الْقَتْلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ فَنَزَّلَهُمَا مَنْزِلَةً وَاحِدَةً، فَإِذَا لَمْ يُشْرَعَ الْقَتْلُ فِي زِنَا الْبِكْرِ وَجَبَ أَنْ لَا يُشْرَعَ أَيْضًا نَظِيرُهُ وَهُوَ التَّغْرِيبُ. وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ اللَّه تَعَالَى إِلَّا إِدْخَالُ حَرْفِ الْفَاءِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْجَلْدِ، فَأَمَّا أَنَّ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْحَرْفُ فَإِنَّهُ يُسَمَّى جَزَاءً، فَلَيْسَ هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّه وَلَا مِنْ كَلَامِ رَسُولِهِ، بَلْ هُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْأُدَبَاءِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً. أَمَّا قَوْلُهُ ثَانِيًا: لَوْ كَانَ النَّفْيُ مَشْرُوعًا لَمَا كَانَ الْجَلْدُ كُلَّ الْحَدِّ، فَنَقُولُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ زَالَ أَمْرُهُ لِأَنَّ إِثْبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ لَا أَقَلُّ مِنْ أَنْ يَقْتَضِيَ زَوَالَ عَدَمِهِ الَّذِي كَانَ، إِلَّا أَنَّ الزَّائِلَ هَاهُنَا لَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، بَلِ الزَّائِلُ مَحْضُ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْإِزَالَةِ لَا يَمْتَنِعُ إِثْبَاتُهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الزَّائِلَ مَحْضُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِيجَابَ الْجَلْدِ مَفْهُومٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ إِيجَابِ التَّغْرِيبِ وَبَيْنَ إِيجَابِهِ مَعَ نَفْيِ التَّغْرِيبِ. وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِوَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ. فَإِذَنْ إِيجَابُ الْجَلْدِ لَا إِشْعَارَ فِيهِ الْبَتَّةَ لَا بِإِيجَابِ التَّغْرِيبِ وَلَا بِعَدَمِ إِيجَابِهِ، إِلَّا أَنَّ نَفْيَ التَّغْرِيبِ كَانَ مَعْلُومًا بِالْعَقْلِ نَظَرًا إِلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَإِذَا جَاءَ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ التَّغْرِيبِ، فَمَا أَزَالَ الْبَتَّةَ شَيْئًا مِنْ مَدْلُولَاتِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ الْجَلْدِ بَلْ أَزَالَ الْبَرَاءَةَ الْأَصْلِيَّةَ، فَأَمَّا كَوْنُ الْجَلْدِ وَحْدَهُ مُجْزِيًا، وَكَوْنُهُ وَحْدَهُ كَمَالَ الْحَدِّ. وَتَعَلَّقَ رَدُّ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، فَكُلُّ ذَلِكَ تَابِعٌ لِنَفْيِ وُجُوبِ الزِّيَادَةِ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ النَّفْيُ مَعْلُومًا بِالْعَقْلِ جَازَ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيهِ، كَمَا أَنَّ الْفُرُوضَ لَوْ كَانَتْ خَمْسًا لَتَوَقَّفَ عَلَى أَدَائِهَا الْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ، وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ/ وَلَوْ زِيدَ فِيهَا شَيْءٌ آخَرُ لَتَوَقَّفَ الْخُرُوجُ عَنِ الْعُهْدَةِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى أَدَاءِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ، مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ فَكَذَا هَاهُنَا. أَمَّا لَوْ قَالَ اللَّه تَعَالَى الْجَلْدُ كَمَالُ الْحَدِّ وَعَلِمْنَا أَنَّهَا وَحْدَهَا مُتَعَلِّقُ رَدِّ الشَّهَادَةِ، فَلَا يُقْبَلُ هَاهُنَا فِي إِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ خَبَرُ الْوَاحِدِ لِأَنَّ نَفْيَ وُجُوبِ الزِّيَادَةِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَوَاتِرٍ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرَهُ لَوَجَبَ فِي كُلِّ مَا خَصَّصَ آيَةً عَامَّةً أَنْ يَبْلُغَ فِي الِاشْتِهَارِ مَبْلَغَ تِلْكَ الْآيَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّالِثِ أَنَّ قَوْلَهُ: «ثُمَّ بِيعُوهَا» لَا يُفِيدُ التَّعْقِيبَ فَلَعَلَّهَا تُنْفَى ثُمَّ بَعْدَ النَّفْيِ تُبَاعُ وَالْجَوَابُ: عَنِ الرَّابِعِ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَلَدَ وَغَرَّبَ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَلَدَ وَغَرَّبَ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْخَامِسِ أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه فِي تَغْرِيبِ الْعَبْدِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُغَرَّبُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ» وَلَمْ يَأْمُرْ بِالتَّغْرِيبِ، وَلِأَنَّ التَّغْرِيبَ لِلْمَعَرَّةِ وَلَا مَعَرَّةَ عَلَى الْعَبْدِ فِيهِ، لِأَنَّهُ يُنْقَلُ مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ، وَلِأَنَّ مَنَافِعَهُ لِلسَّيِّدِ فَفِي نَفْيِهِ إِضْرَارٌ بِالسَّيِّدِ وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُغَرَّبُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النِّسَاءِ: 25] وَلَا يُنْظَرُ إِلَى ضَرَرِ الْمَوْلَى كَمَا يُقْتَلُ الْعَبْدُ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ وَيُجْلَدُ الْعَبْدُ فِي الزِّنَا وَالْقَذْفِ، وَإِنْ تَضَرَّرَ بِهِ الْمَوْلَى فَعَلَى هَذَا كَمْ يُغَرَّبُ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُغَرَّبُ نِصْفَ سَنَةٍ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ التَّنْصِيفَ كَمَا يُجْلَدُ نِصْفَ حَدِّ الْأَحْرَارِ وَالثَّانِي: يُغَرَّبُ سَنَةً لِأَنَّ التَّغْرِيبَ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْإِيحَاشُ وَذَلِكَ مَعْنًى يَرْجِعُ إِلَى الطَّبْعِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ كَمُدَّةِ الْإِيلَاءِ أَوِ الْعُنَّةِ وَالْجَوَابُ: عَنِ السَّادِسِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُغَرَّبُ وَحْدَهَا بَلْ مَعَ مَحْرَمٍ، فَإِنْ لَمْ يَتَبَرَّعِ الْمَحْرَمُ بِالْخُرُوجِ مَعَهَا أُعْطِيَ أُجْرَتَهُ مِنْ بَيْتِ

الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ تُغَرَّبُ مَعَ النِّسَاءِ الثِّقَاتِ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ إِلَى الْحَجِّ مَعَهُنَّ. قَوْلُهُ التَّغْرِيبُ يَفْتَحُ عَلَيْهَا بَابَ الزِّنَا، قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ فَإِنَّ أَكْثَرَ الزِّنَا بِالْإِلْفِ وَالْمُؤَانَسَةِ وَفَرَاغِ الْقَلْبِ، وَأَكْثَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَبْطُلُ بِالْغُرْبَةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَقَعُ فِي الْوَحْشَةِ وَالتَّعَبِ وَالنَّصَبِ فَلَا يَتَفَرَّغُ لِلزِّنَا وَالْجَوَابُ: عَنِ السَّابِعِ، أَيُّ اسْتِبْعَادٍ فِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْ رُكُوبِ الدَّابَّةِ يَقْدِرُ عَلَى الزِّنَا؟ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّامِنِ أَنَّهُ يُنْتَقَضُ بِالتَّغْرِيبِ إِذَا وَقَعَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْزِيرِ واللَّه أَعْلَمُ. المسألة الثَّالِثَةُ: اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي يُفِيدُ الْحُكْمَ فِي كُلِّ الزُّنَاةِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تِلْكَ الدَّلَالَةِ فَقَالَ قَائِلُونَ لَفْظُ الزَّانِي يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لَبِسْتُ الثَّوْبَ أَوْ شَرِبْتُ الْمَاءَ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَوْكِيدُهُ بِمَا يُؤَكَّدُ بِهِ الْجَمْعُ، فَلَا يُقَالُ جَاءَنِي الرَّجُلُ أَجْمَعُونَ وَثَالِثُهَا: لَا يُنْعَتُ بِنُعُوتِ الْجَمْعِ فَلَا يُقَالُ جَاءَنِي الرَّجُلُ الْفُقَرَاءُ، وَتَكَلَّمَ الْفَقِيهُ الْفُضَلَاءُ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّرْهَمُ الْبِيضُ وَالدِّينَارُ الصُّفْرُ، فَمَجَازٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ، وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ الدِّينَارُ الصُّفْرُ حَقِيقَةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الدِّينَارُ الْأَصْفَرُ مَجَازًا، كَمَا أَنَّ الدَّنَانِيرَ الصُّفْرَ لَمَّا كَانَتْ/ حَقِيقَةً كَانَ الدَّنَانِيرُ الْأَصْفَرُ مَجَازًا وَرَابِعُهَا: أَنَّ الزَّانِيَ جُزْئِيٌّ مِنْ هَذَا الزَّانِي، فَإِيجَابُ جَلْدِ هَذَا الزَّانِي إِيجَابُ جَلْدِ الزَّانِي، فَلَوْ كَانَ إِيجَابُ جَلْدِ الزَّانِي إِيجَابًا لِجَلْدِ كُلِّ زَانٍ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ إِيجَابُ جَلْدِ هَذَا الزَّانِي إِيجَابَ جَلْدِ كُلِّ زَانٍ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَطَلَ مَا قَالُوهُ. فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ إِنَّمَا يُفِيدُ الْعُمُومَ بِشَرْطِ الْعَرَاءِ عَنْ لَفْظِ التَّعْيِينِ، أَوْ يُقَالُ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ وَإِنِ اقْتَضَى الْعُمُومَ إِلَّا أَنَّ لَفْظَ التَّعْيِينِ يَقْتَضِي الْخُصُوصَ، قُلْنَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَبَاطِلٌ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا دَخْلَ لَهُ فِي التَّأْثِيرِ، أَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي التَّعَارُضَ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَخَامِسُهَا: أَنْ يُقَالَ الْإِنْسَانُ هُوَ الضَّحَّاكُ فَلَوْ كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِنَا الْإِنْسَانُ هُوَ كُلُّ الْإِنْسَانِ لَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ مَا يُقَالُ كُلُّ إِنْسَانٍ هُوَ الضَّحَّاكُ، وَذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي حَصْرَ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ وَمَعْنَى الْحَصْرِ هُوَ أَنْ يَثْبُتَ فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَصْدُقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَشْخَاصِ النَّاسِ أَنَّهُ هُوَ الضَّحَّاكُ لَا غَيْرُ وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْعَصْرِ: 2، 3] وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ تَحْتَهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلتَّعْرِيفِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ حَصَلَ بِأَصْلِ الِاسْمِ، وَلَا لِتَعْرِيفِ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، وَلَا لِتَعْرِيفِ بَعْضِ مَرَاتِبَ الْخُصُوصِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَعْضُ الْمَرَاتِبِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى تَعْرِيفِ الْكُلِّ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءَ مَجَازٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ رَأَيْتُ الْإِنْسَانَ إِلَّا الْمُؤْمِنِينَ، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّهُ يُشْكِلُ بِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ، فَإِنْ جَعَلْتَهَا هُنَاكَ لِلتَّأْكِيدِ فَكَذَا هَاهُنَا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي وَإِنْ كَانَ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ بِحَسَبِ اللَّفْظِ، لَكِنَّهُ يُفِيدُهُ بِحَسَبِ الْقَرِينَةِ وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُشْتَقِّ يُفِيدُ كَوْنَ ذَلِكَ الْوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْوَصْفُ مُنَاسِبًا وَهَاهُنَا كَذَلِكَ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الزِّنَا علة لوجوب الجد، فَيَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ أَيْنَمَا تَحَقَّقَ الزِّنَا يَتَحَقَّقُ وُجُوبُ الْجَلْدِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْمَعْلُولِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلَّ الزُّنَاةِ أَوِ الْبَعْضَ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ صَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ إِمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِ، لَكِنَّ الْعَمَلَ بِهِ مَأْمُورٌ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ حَتَّى يُمْكِنَ الْعَمَلُ بِهِ واللَّه أعلم.

الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي الشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كَوْنِ الزِّنَا مُوجِبًا لِلرَّجْمِ تَارَةً وَالْجَلْدِ أُخْرَى، فَنَقُولُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كَوْنَ الزِّنَا مُوجِبًا لِهَذَيْنَ الْحُكْمَيْنِ مَشْرُوطٌ بِالْعَقْلِ وَبِالْبُلُوغِ فَلَا يَجِبُ الرَّجْمُ وَالْحَدُّ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَهَذَانَ الشَّرْطَانِ لَيْسَا مِنْ خَوَاصِّ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ بَلْ هُمَا مُعْتَبَرَانِ فِي كُلِّ الْعُقُوبَاتِ، أَمَّا كَوْنُهُمَا مُوجِبَيْنِ لِلرَّجْمِ فَلَا بُدَّ مَعَ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ مِنْ أُمُورٍ أُخَرَ: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: الْحُرِّيَّةُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرقيق لا يجب عليه الرَّجْمُ الْبَتَّةَ الشَّرْطُ الثَّانِي: التَّزَوُّجُ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَلَا يَحْصُلُ الْإِحْصَانُ بِالْإِصَابَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَلَا بِوَطْءِ الشُّبْهَةِ وَلَا بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ الشَّرْطُ/ الثَّالِثُ: الدُّخُولُ وَلَا بُدَّ مِنْهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الثَّيِّبِ بِالثَّيِّبِ» وَإِنَّمَا تَصِيرُ ثَيِّبًا بِالْوَطْءِ وَهَاهُنَا مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْإِصَابَةُ بِالنِّكَاحِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْلِ، فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُشْتَرَطُ حَتَّى لَوْ أَصَابَ عَبْدٌ أَمَةً بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ فِي حَالِ الْجُنُونِ وَالصِّغَرِ ثُمَّ كَمُلَ حَالُهُ فَزَنَى يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّجْمُ، لِأَنَّهُ وَطْءٌ يَحْصُلُ بِهِ التَّحْلِيلُ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَيَحْصُلُ بِهِ الْإِحْصَانُ كَالْوَطْءِ فِي حَالِ الْكَمَالِ، وَلِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْكَمَالِ فَكَذَلِكَ الْوَطْءُ وَالثَّانِي: وَهُوَ الأصح وهو ظاهر النص، وقول أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْإِصَابَةُ بِالنِّكَاحِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا شُرِطَ أَكْمَلُ الْإِصَابَاتِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ شُرِطَ أَنْ يَكُونَ تِلْكَ الْإِصَابَةُ فِي حَالِ الْكَمَالِ. المسألة الثَّانِيَةُ: هَلْ يُعْتَبَرُ الْكَمَالُ فِي الطَّرَفَيْنِ أَوْ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَالُهُ بِنَفْسِهِ دُونَ صَاحِبِهِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مُعْتَبَرٌ فِي الطَّرَفَيْنِ حَتَّى لَوْ وَطِئَ الصَّبِيُّ بَالِغَةً حُرَّةً عَاقِلَةً فَإِنَّهُ لَا يُحْصِنُهَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَالثَّانِي: يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَالُهُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّه. حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ وَطْءٌ لَا يُفِيدُ الْإِحْصَانَ لأحد الوطئين فَلَا يُفِيدُ فِي الْآخَرِ كَوَطْءِ الْأَمَةِ. حُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُمَا عَلَى صِفَةِ الْإِحْصَانِ وَقْتَ النِّكَاحِ وَكَذَا عِنْدَ الدُّخُولِ الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْإِسْلَامُ لَيْسَ شَرْطًا فِي كَوْنِ الزِّنَا مُوجِبًا لِلرَّجْمِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه شَرْطٌ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَإِذَا قَبِلُوا الْجِزْيَةَ فَأَنْبِئُوهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» وَمِنْ جُمْلَةِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّجْمُ عِنْدَ الْإِقْدَامِ عَلَى الزِّنَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الذِّمِّيُّ كَذَلِكَ لِتَحْصُلَ التَّسْوِيَةُ وَثَانِيهَا: حَدِيثُ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجَمَ يَهُودِيًّا وَيَهُودِيَّةً زَنَيَا فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَكَمَ بِذَلِكَ بِشَرِيعَتِهِ أَوْ بِشَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ بَيِّنٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَارَ شَرْعًا لَهُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ زِنَا الْكَافِرِ مِثْلُ زِنَا الْمُسْلِمِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَذَلِكَ لأن الزنا محرم قبيح فيناسب الزَّجْرُ وَإِيجَابُ الرَّجْمِ يَصْلُحُ زَاجِرًا لَهُ وَلَا يَبْقَى إِلَّا التَّفَاوُتُ بِالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَالْكُفْرُ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ تَغْلِيظَ الْجِنَايَةِ فَلَا يُوجِبُ تَخْفِيفَهَا وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: التَّمَسُّكُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَلَا يَجِبُ فِي الذِّمِّيِّ لِمَعْنًى مَفْقُودٍ فِي الذِّمِّيِّ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْقَتْلَ بِالْأَحْجَارِ عُقُوبَةٌ عَظِيمَةٌ فَلَا يَجِبُ إِلَّا بِجِنَايَةٍ عَظِيمَةٍ، وَالْجِنَايَةُ تَعْظُمُ بِكُفْرَانِ النِّعَمِ فِي حَقِّ الْجَانِي عَقْلًا وَشَرْعًا، أَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ وَكُلَّمَا كَانَتِ النِّعَمُ أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ كَانَ كُفْرَانُهَا أَعْظَمَ وَأَقْبَحَ، وأما الشرح فَلِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ نِسَاءِ النبي صلى اللَّه عليه وسلم: يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ/ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الَأَحْزَابِ: 30] فَلَمَّا كَانَتْ نِعَمُ اللَّه تَعَالَى فِي

حَقِّهِنَّ أَكْثَرَ كَانَ الْعَذَابُ فِي حَقِّهِنَّ أَكْثَرَ، وَقَالَ فِي حَقِّ الرَّسُولِ: لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ [الْإِسْرَاءِ: 74، 75] وَإِنَّمَا عَظُمَتْ مَعْصِيَتُهُ لِأَنَّ النِّعْمَةَ فِي حَقِّهِ أَعْظَمُ وَهِيَ نِعْمَةُ النُّبُوَّةِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ نِعَمَ اللَّه تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ الْمُحْصَنِ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ، فَكَانَتْ مَعْصِيَةُ الْمُسْلِمِ أَعْظَمَ فَوَجَبَ أَنْ تكون عقوبته أشدو ثانيها: أَنَّ الذِّمِّيَّ لَمْ يَزْنِ بَعْدَ الْإِحْصَانِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَتْلُ بَيَانُ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ أَشْرَكَ باللَّه طَرْفَةَ عَيْنٍ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» بَيَانُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي لَا يَكُونُ مُحْصَنًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَتْلُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا لِإِحْدَى ثلاث» وإذا كان مسلم كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الذِّمِّيُّ كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا قَبِلُوا عَقْدَ الْجِزْيَةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» وَثَالِثُهَا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ إِحْصَانَ الْقَذْفِ يعتبر فيه الإسلام، فكان إِحْصَانُ الرَّجْمِ وَالْجَامِعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَمَالِ النعمة والجواب: عن الأول أنه خص عنه الثَّيِّبَ الْمُسْلِمَ فَكَذَا الثَّيِّبُ الذِّمِّيُّ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ حَدِيثِ زِيَادَةِ النِّعْمَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَنَقُولُ نِعْمَةُ الْإِسْلَامِ حَصَلَتْ بِكَسْبِ الْعَبْدِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ كَالْخِدْمَةِ الزَّائِدَةِ، وَزِيَادَةُ الْخِدْمَةِ إِنْ لَمْ تَكُنْ الإحصان سَبَبًا لِلْعُذْرِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ لَا تَكُونَ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْعُقُوبَةِ، وَعَنِ الثَّانِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الذِّمِّيَّ مُشْرِكٌ سَلَّمْنَاهُ، لَكِنَّ الْإِحْصَانَ قَدْ يُرَادُ بِهِ التَّزَوُّجُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النُّورِ: 40] وَفِي التَّفْسِيرِ: فَإِذا أُحْصِنَّ [النِّسَاءِ: 25] يَعْنِي فَإِذَا تَزَوَّجْنَ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ الذِّمِّيُّ الثَّيِّبُ مُحْصَنٌ بِهَذَا التَّفْسِيرِ فَوَجَبَ رَجْمُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ رَتَّبَ الْحُكْمَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ فَدَلَّ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً وَالْوَصْفُ قَائِمٌ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ فَوَجَبَ كَوْنُهُ مُسْتَلْزِمًا لِلْحُكْمِ بِالرَّجْمِ وَعَنِ الثَّالِثِ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لِدَفْعِ الْعَارِ كَرَامَةً لِلْمَقْذُوفِ، وَالْكَافِرُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْكَرَامَةِ وَصِيَانَةِ الْعِرْضِ بِخِلَافِ مَا هَاهُنَا واللَّه أَعْلَمُ، أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَلْدِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الرَّقِيقَ لَا يُرْجَمُ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُجْلَدُ، وَثَبَتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ أَنَّ عَلَى الْإِمَاءِ نِصْفَ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ، فَلَا جَرَمَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ تُجْلَدُ خَمْسِينَ جَلْدَةً، أَمَّا الْعَبْدُ فَقَدِ اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُجْلَدُ أَيْضًا خَمْسِينَ إِلَّا أَهْلَ الظَّاهِرِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا عُمُومُ قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي يَقْتَضِي وُجُوبَ الْمِائَةِ عَلَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ إِلَّا أَنَّهُ وَرَدَ النَّصُّ بِالتَّنْصِيفِ فِي حَقِّ الْأَمَةِ، فَلَوْ قِسْنَا الْعَبْدَ عَلَيْهَا كَانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لِعُمُومِ الْكِتَابِ بِالْقِيَاسِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْأَمَةُ إِذَا تَزَوَّجَتْ فَعَلَيْهَا خَمْسُونَ جَلْدَةً وَإِذَا لَمْ تَتَزَوَّجْ فَعَلَيْهَا الْمِائَةُ، لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وذكروا أن قوله: فَإِذا أُحْصِنَّ أَيْ تَزَوَّجْنَّ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النِّسَاءِ: 25] . المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّه، الذِّمِّيُّ يُجْلَدُ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه لَا يُجْلَدُ لَنَا وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: عُمُومُ قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا زَنَتْ/ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا» وَقَوْلُهُ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْلِمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجَمَ الْيَهُودِيَّيْنِ، فَذَاكَ الرَّجْمُ إِنْ من كَانَ مِنْ شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ شَرْعِهِمْ فَلَمَّا فَعَلَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَ ذَلِكَ مِنْ شَرْعِهِ، وَحَقِيقَةُ هَذِهِ المسألة تَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: فِيمَا يَدُلُّ عَلَى صُدُورِ الزِّنَا مِنْهُ، اعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، إِمَّا بِأَنْ يَرَاهُ الْإِمَامُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِأَنْ يُقِرَّ أَوْ بِأَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ، أَمَّا الوجه الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا إِذَا رَآهُ الْإِمَامُ قَالَ الْإِمَامُ محيي

السُّنَّةِ فِي كِتَابِ التَّهْذِيبِ لَا خِلَافَ أَنَّ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَمْتَنِعَ عَنِ الْقَضَاءِ بِعِلْمِ نَفْسِهِ مِثْلَ مَا إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى آخَرَ حَقًّا وَأَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً، وَالْقَاضِي يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ أَبْرَأَهُ، أَوِ ادَّعَى أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ وَقْتَ كَذَا، وَقَدْ رَآهُ الْقَاضِي حَيًّا بَعْدَ ذَلِكَ، أَوِ ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَقَدْ سَمِعَهُ الْقَاضِي طَلَّقَهَا، لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ وَإِنْ أَقَامَ عَلَيْهِ شُهُودًا، وَهَلْ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِ نَفْسِهِ مِثْلَ أَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفًا وَقَدْ رَآهُ الْقَاضِي أَقْرَضَهُ أو سمع المدعي عليه أقربه فِيهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْمُزَنِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّه، أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ عَلَى ظَنٍّ فَلَأَنْ يَجُوزَ بِمَا رَآهُ وَسَمِعَهُ وَهُوَ مِنْهُ عَلَى عِلْمٍ أَوْلَى، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ أَقْضِي بِعِلْمِي وَهُوَ أَقْوَى مِنْ شَاهِدَيْنِ أَوْ بِشَاهِدَيْنِ وَشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ أَوْ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَهُوَ أَقْوَى مِنَ النُّكُولِ وَرَدِّ الْيَمِينِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، لِأَنَّ انْتِفَاءَ التُّهْمَةِ شَرْطٌ فِي الْقَضَاءِ وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا فِي الْمَالِ، أَمَّا فِي الْعُقُوبَاتِ فَيُنْظَرُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ هَلْ يَحْكُمُ فِيهِ بِعِلْمِ نَفْسِهِ يُرَتَّبُ عَلَى المال إن قلنا هناك لا يقضي فههنا أَوْلَى وَإِلَّا فَقَوْلَانِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ مَبْنَى حُقُوقِ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ، وَلَا فَرْقَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي فِي بَلَدِ وِلَايَتِهِ وَزَمَانِ وِلَايَتِهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه إِنْ حَصَلَ له العلم في بلد وِلَايَتِهِ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ وَإِلَّا فَلَا، فَنَقُولُ الْعِلْمُ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِهَا واللَّه أَعْلَمُ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: الْإِقْرَارُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه الْإِقْرَارُ بِالزِّنَا مَرَّةً وَاحِدَةً يُوجِبُ الْحَدَّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعِ مَجَالِسَ، وَقَالَ أَحْمَدُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ لَكِنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي أَرْبَعِ مَجَالِسَ أَوْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: قِصَّةُ الْعَسِيفِ فَإِنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنِ اعترفت فارجمها، وذلك دليل عل أَنَّ الِاعْتِرَافَ مَرَّةً وَاحِدَةً كَافٍ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالزِّنَا وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ اقْضِ بِالظَّاهِرِ، وَالْإِقْرَارُ مَرَّةً وَاحِدَةً يُوجِبُ الظُّهُورَ لَا سِيَّمَا هَاهُنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّارِفَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا قَوِيٌّ، لِمَا أَنَّهُ سَبَبُ الْعَارِ فِي الْحَالِ وَالْأَلَمِ الشَّدِيدِ فِي الْمَآلِ، وَالصَّارِفُ عَنِ الْكَذِبِ أَيْضًا/ قَائِمٌ وَعِنْدَ اجْتِمَاعِ الصَّارِفَيْنِ يَقْوَى الِانْصِرَافُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى هَذَا الْإِقْرَارِ لِكَوْنِهِ صَادِقًا. وَإِذَا ظَهَرَ انْدَرَجَ تَحْتَ الْحَدِيثِ وَتَحْتَ الْآيَةِ، أَوْ نَقِيسُهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ وَالرِّدَّةِ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قِصَّةُ مَاعِزٍ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْرَضَ عَنْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَمْ يُعْرِضْ عَنْهُ، لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ إِقَامَةِ حَدِّ اللَّه تَعَالَى بَعْدَ كَمَالِ الحجة لَا يَجُوزُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِنَّكَ شَهِدْتَ عَلَى نَفْسِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ» وَلَوْ كَانَ الْوَاحِدُ مِثْلَ الْأَرْبَعِ فِي إِيجَابِ الْحَدِّ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ لَغْوًا وَالثَّالِثُ: رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أنه قال لماعز بعد ما أَقَرَّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: «لَوْ أَقْرَرْتَ الرَّابِعَةَ لَرَجَمَكَ رَسُولُ اللَّه» وَالرَّابِعُ: عَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: «كُنَّا مَعْشَرَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقُولُ لَوْ لَمْ يُقِرَّ مَاعِزٌ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ مَا رَجَمَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ قَاسُوا الْإِقْرَارَ عَلَى الشَّهَادَةِ فَكَمَا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي الزِّنَا إِلَّا أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ فَكَذَا فِي الْإِقْرَارِ بِهِ وَالْجَامِعُ السَّعْيُ فِي كِتْمَانِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الزِّنَا لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِأَرْبَعِ شَهَادَاتٍ أَوْ بِأَرْبَعِ أَيْمَانٍ فِي اللِّعَانِ فَجَازَ أَيْضًا أَنْ لَا يَثْبُتَ إِلَّا بِالْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَبِهِ يُفَارِقُ سَائِرَ الْحُقُوقِ فَإِنَّهَا تَنْتَفِي بِيَمِينٍ وَاحِدٍ، فَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَثْبُتَ بِإِقْرَارٍ وَاحِدٍ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ

حَكَمَ بِالشَّهَادَاتِ الْأَرْبَعِ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي جَوَازَ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ الْوَاحِدَةِ وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَقْذُوفَ لَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَا مَرَّةً لَسَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ، وَلَوْلَا أَنَّ الزِّنَا ثَبَتَ لَمَا سَقَطَ كَمَا لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِالزِّنَا لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ حَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الزِّنَا واللَّه أَعْلَمُ. وَالطَّرِيقُ الثَّالِثُ: الشَّهَادَةُ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعِ شَهَادَاتٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النِّسَاءِ: 15] وَالْكَلَامُ فِيهِ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ [النُّورِ: 4] . الْبَحْثُ الْخَامِسُ: فِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاجْلِدُوا مَنْ هُوَ؟ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ هُوَ الْإِمَامُ، ثُمَّ احْتَجُّوا بِهَذَا عَلَى وُجُوبِ نَصْبِ الْإِمَامِ، قَالُوا لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَوَلَّى إِقَامَتَهُ إِلَّا الْإِمَامُ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ الْمُطْلَقُ إِلَّا بِهِ، وَكَانَ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ فَهُوَ وَاجِبٌ فَكَانَ نَصْبُ الْإِمَامِ وَاجِبًا، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [الْمَائِدَةِ: 38] بَقِيَ هَاهُنَا ثَلَاثُ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه السَّيِّدُ يَمْلِكُ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَمْلُوكِهِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَفَاطِمَةَ وَعَائِشَةَ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمُ اللَّه لَا يَمْلِكُ، وَقَالَ مَالِكٌ يَحُدُّهُ المولى من الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَذْفِ وَلَا يَقْطَعُهُ فِي السَّرِقَةِ وَإِنَّمَا يَقْطَعُهُ الْإِمَامُ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ/ فَلْيَجْلِدْهَا» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ لَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» هُوَ كَقَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ رَفْعُهُ إِلَى الْإِمَامِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَالْمُخَاطَبُونَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ هُمُ الْأَئِمَّةُ، وَسَائِرُ النَّاسِ مُخَاطَبُونَ بِرَفْعِ الْأَمْرِ إِلَيْهِمْ حَتَّى يُقِيمُوا عَلَيْهِمُ الْحُدُودَ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَأَمَّا قَوْلُهُ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا» فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ جَلْدٍ حَدًّا، لِأَنَّ الْجَلْدَ قَدْ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ، فَإِذَا عَزَّرْنَا فَقَدْ وَفَّيْنَا بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ» أَمْرٌ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ فَحَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى رَفْعِ الْوَاقِعَةِ إِلَى الْإِمَامِ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ تُرِكَ الظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ فَاجْلِدُوا، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الظَّاهِرِ هُنَاكَ تَرْكُهُ هَاهُنَا، أَمَّا قَوْلُهُ: «فَلْيَجْلِدْهَا» الْمُرَادُ هُوَ التَّعْزِيرُ فَبَاطِلٌ لِأَنَّ الْجَلْدَ الْمَذْكُورَ عَقِيبَ الزِّنَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلا الحدو ثانيها: أَنَّ السُّلْطَانَ لَمَّا مَلَكَ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَسَيِّدُهُ بِهِ أَوْلَى لِأَنَّ تَعَلُّقَ السَّيِّدِ بِالْعَبْدِ أَقْوَى مِنْ تَعَلُّقِ السُّلْطَانِ بِهِ، لِأَنَّ الْمِلْكَ أَقْوَى مَنْ عَقْدِ الْبَيْعَةِ، وَوِلَايَةُ السَّادَةِ عَلَى الْعَبِيدِ فَوْقَ وِلَايَةِ السُّلْطَانِ عَلَى الرَّعِيَّةِ، حَتَّى إِذَا كَانَ لِلْأَمَةِ سَيِّدٌ وَأَبٌ فَإِنَّ وِلَايَةَ النكاح للسيد دون الأب، ثم إن الْأَبُ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّلْطَانِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ فَيَكُونُ السَّيِّدُ مُقَدَّمًا عَلَى السُّلْطَانِ بِدَرَجَاتٍ فَكَانَ أَوْلَى، وَلِأَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْإِمَامُ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَوْلَى أَوْلَى وَثَالِثُهَا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ التَّعْزِيرَ فَكَذَا الْحَدُّ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ نَظِيرُ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُقَدَّرًا وَالْآخَرُ غَيْرَ مُقَدَّرٍ، وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ لَا شَكَّ أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْأَئِمَّةِ دُونَ عَامَّةِ النَّاسِ، فَالتَّقْدِيرُ فَاجْلِدُوا أَيُّهَا الْأَئِمَّةُ وَالْحُكَّامُ كُلَّ وَاحِدٍ

مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَلَمْ يُفَرِّقْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ الْمَحْدُودِينَ مِنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأَئِمَّةُ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ دُونَ الْمَوَالِي وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ جَازَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَسْمَعَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ عَلَى عَبْدِهِ بِالسَّرِقَةِ فَيَقْطَعَهُ، فَلَوْ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ لَوَجَبَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ تَضْمِينِ الشُّهُودِ، لِأَنَّ تَضْمِينَ الشُّهُودِ يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِالشَّهَادَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ يَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا فَكَانَ يَصِيرُ حَاكِمَا لِنَفْسِهِ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَحْكُمَ لِنَفْسِهِ. فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ اسْتِمَاعَ الْبَيِّنَةِ عَلَى عَبْدِهِ بِذَلِكَ وَلَا قَطْعَهُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَالِكَ رُبَّمَا لَا يَسْتَوْفِي الْحَدَّ بِكَمَالِهِ لِشَفَقَتِهِ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِذَا كَانَ مُتَّهَمًا وَجَبَ أَنْ لَا يُفَوَّضَ إِلَيْهِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْلَهُ فَاجْلِدُوا لَيْسَ بِصَرِيحِهِ خِطَابًا مَعَ الْإِمَامِ، لَكِنْ بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ لَمَّا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْإِمَامِ لَا يَتَوَلَّاهُ حَمَلْنَا ذَلِكَ الْخِطَابَ عَلَى الْإِمَامِ، وَهَاهُنَا لَمْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَتَوَلَّاهُ لِأَنَّهُ عَيْنُ النِّزَاعِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّانِي قَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ فِي كِتَابِ «التَّهْذِيبِ» هَلْ يَجُوزُ لِلْمَوْلَى قَطْعُ يَدِ عَبْدِهِ بِسَبَبِ السَّرِقَةِ أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْبُوَيْطِيِّ لِمَا رُوِيَ/ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَطَعَ عَبْدًا لَهُ سَرَقَ وَكَمَا يَجْلِدُهُ فِي الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالثَّانِي: لَا بَلِ الْقَطْعُ إِلَى الْإِمَامِ بِخِلَافِ الْجَلْدِ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ جِنْسَ الْجَلْدِ وَهُوَ التَّعْزِيرُ وَلَا يَمْلِكُ جِنْسَ الْقَطْعِ، ثُمَّ قَالَ وَكُلُّ حَدٍّ يُقِيمُهُ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ إِنَّمَا يُقِيمُهُ إِذَا ثَبَتَ بِاعْتِرَافِ الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَهَلْ يَسْمَعُ الْمَوْلَى الشَّهَادَةَ، فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْمَعُ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْإِقَامَةَ بِالِاعْتِرَافِ فَيَمْلِكُ بِالْبَيِّنَةِ كَالْإِمَامِ وَالثَّانِي: لَا يَسْمَعُ بَلْ ذَاكَ إِلَى الْحُكَّامِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّالِثِ أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِالتَّعْزِيرِ. المسألة الثَّانِيَةُ: إِذَا فُقِدَ الْإِمَامُ فَلَيْسَ لِآحَادِ النَّاسِ إِقَامَةُ هَذِهِ الْحُدُودِ، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يُعَيِّنُوا وَاحِدًا مِنَ الصَّالِحِينَ لِيَقُومَ بِهِ. المسألة الثَّالِثَةُ: الْخَارِجِيُّ الْمُتَغَلِّبُ هَلْ لَهُ إِقَامَةُ الْحُدُودِ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ لَهُ ذَلِكَ وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لأن إقامة الحد من جهة من لم يَلْزَمُنَا أَنْ نُزِيلَ وِلَايَتَهُ أَبْعَدُ مِنْ أَنْ نُفَوِّضَ ذَلِكَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الصَّالِحِينَ. الْبَحْثُ السَّادِسُ: فِي كَيْفِيَّةِ إِقَامَةِ الْحَدِّ، أَمَّا الْجَلْدُ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْجَلْدُ، وَهَذَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْجَلْدِ الشَّدِيدِ، وَالْجَلْدِ الْخَفِيفِ، وَالْجَلْدِ عَلَى كُلِّ الْأَعْضَاءِ أَوْ عَلَى بَعْضِ الْأَعْضَاءِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ فِي الْآيَةِ إِشْعَارٌ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقُيُودِ، بَلْ مُقْتَضَى الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ الْآتِي بِالْجَلْدِ كَيْفَ كَانَ خَارِجًا عَنِ الْعُهْدَةِ، لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْعُهْدَةِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَفِي لَفْظِ الْجَلْدِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَجَاوَزَ الْأَلَمُ إِلَى اللَّحْمِ، وَلِأَنَّ الْجَلْدَ ضَرْبُ الْجِلْدِ، يُقَالُ جَلَدَهُ كَقَوْلِكَ ظَهَرَهُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَبَطَنَهُ وَرَأَسَهُ، إِلَّا أَنَّا لَمَّا عَرَفْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الزَّجْرُ وَالزَّجْرُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْجَلْدِ الْخَفِيفِ لَا جَرَمَ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي صِفَةِ الْجَلْدِ عَلَى سَبِيلِ القياس ثم هنا مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: الْمُحْصَنُ يُجْلَدُ مَعَ ثِيَابِهِ وَلَا يُجَرَّدُ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَصِلُ الْأَلَمُ إِلَيْهِ، وَيُنْزَعُ مِنْ ثِيَابِهِ الْحَشْوُ والفرو. روي أن أبا عبيدة بن الجراح أُتِيَ بِرَجُلٍ فِي حَدٍّ فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَنْزِعُ قميصه، وقال ما ينبغي لجسدي هَذَا الْمُذْنِبِ أَنْ يُضْرَبَ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَا تَدَعُوهُ يَنْزِعُ قَمِيصَهُ فَضَرَبَهُ عَلَيْهِ. أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَجْرِيدُهَا، بَلْ يُرْبَطُ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا حَتَّى لَا تَنْكَشِفَ، وَيَلِي ذَلِكَ مِنْهَا امْرَأَةٌ. المسألة الثَّانِيَةُ: لَا يُمَدُّ وَلَا يُرْبَطُ بَلْ يُتْرَكُ حَتَّى يَتَّقِيَ بِيَدَيْهِ، وَيُضْرَبُ الرَّجُلُ قَائِمًا وَالْمَرْأَةُ جَالِسَةً. قَالَ أَبُو

يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّه: ضَرَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْمَرْأَةَ الْقَاذِفَةَ قَائِمَةً فَخَطَّأَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. المسألة الثَّالِثَةُ: يُضْرَبُ بِسَوْطٍ وَسَطٍ لَا جَدِيدٍ يَجْرَحُ وَلَا خَلِقٍ لَمْ يُؤْلِمْ، وَيُضْرَبُ ضَرْبًا بَيْنَ ضَرْبَيْنِ لَا شَدِيدٍ وَلَا وَاهٍ. رَوَى أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ قَالَ أُتِيَ عُمَرُ بِرَجُلٍ فِي حَدٍّ ثُمَّ جِيءَ بِسَوْطٍ فِيهِ شِدَّةٌ، فَقَالَ أُرِيدُ أَلْيَنَ مِنْ هَذَا، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ فِيهِ لِينٌ، فَقَالَ أُرِيدُ أَشَدَّ مِنْ هَذَا، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ بَيْنَ السَّوْطَيْنِ فَرَضِيَ بِهِ. المسألة الرَّابِعَةُ: تُفَرَّقُ السِّيَاطُ عَلَى أَعْضَائِهِ وَلَا يُجَمِّعُهَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى/ أَنَّهُ يَتَّقِي الْمَهَالِكَ كَالوجه وَالْبَطْنِ وَالْفَرْجِ، وَيَضْرِبُ عَلَى الرَّأْسِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: لَا يَضْرِبُ عَلَى الرَّأْسِ، وَهُوَ قَوْلٌ عَلَى حُجَّةِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه. قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَضْرِبُ عَلَى الرَّأْسِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ فِيهِ. وعن عمر أنه ضرب صبيغ ابن عُسَيْلٍ عَلَى رَأْسِهِ حِينَ سَأَلَ عَنِ الذَّارِيَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه، أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُضْرَبُ عَلَى الوجه فَكَذَا الرَّأْسُ وَالْجَامِعُ الْحُكْمُ وَالْمَعْنَى. أَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ الشَّيْنَ الَّذِي يَلْحَقُ الرَّأْسَ بِتَأْثِيرِ الضَّرْبِ كَالَّذِي يَلْحَقُ الْوَجْهَ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُوضِحَةَ وَسَائِرَ الشِّجَاجِ حُكْمُهَا فِي الرَّأْسِ وَالوجه وَاحِدٌ، وَفَارَقَا سَائِرَ الْبَدَنِ، لِأَنَّ الْمُوضِحَةَ فِيمَا سِوَى الرَّأْسِ وَالوجه إِنَّمَا يَجِبُ فِيهَا حُكُومَةٌ وَلَا يجب فيها أرش الموضحة والواقعة فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، فَوَجَبَ اسْتِوَاءُ الرَّأْسِ وَالوجه فِي وُجُوبِ صَوْنِهِمَا عَنِ الضَّرْبِ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ إِنَّمَا مُنِعَ مِنْ ضَرْبِ الوجه لِمَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْبَصَرِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الرَّأْسِ، لِأَنَّ ضَرْبَ الرَّأْسِ يُظْلِمُ مِنْهُ الْبَصَرُ، وَرُبَّمَا حَدَثَ مِنْهُ الْمَاءُ فِي الْعَيْنِ، وَرُبَّمَا حَدَثَ مِنْهُ اخْتِلَاطُ الْعَقْلِ. أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ بِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الوجه وَالرَّأْسِ ثَابِتٌ، لِأَنَّ الضَّرْبَةَ إِذَا وَقَعَتْ عَلَى الْوَجْهِ، فَعَظْمُ الْجَبْهَةِ رَقِيقٌ فَرُبَّمَا انْكَسَرَ بِخِلَافِ عَظْمِ الْقَفَا، فَإِنَّهُ فِي نِهَايَةِ الصَّلَابَةِ، وَأَيْضًا فَالْعَيْنُ فِي نِهَايَةِ اللَّطَافَةِ، فَالضَّرْبُ عَلَيْهَا يُورِثُ الْعَمَى، وَأَيْضًا فَالضَّرْبُ عَلَى الوجه يَكْسِرُ الْأَنْفَ لِأَنَّهُ مِنْ غُضْرُوفٍ لَطِيفٍ، وَيَكْسِرُ الْأَسْنَانَ لِأَنَّهَا عِظَامٌ لَطِيفَةٌ، وَيَقَعُ عَلَى الْخَدَّيْنِ وَهُمَا لَحَمَانِ قَرِيبَانِ مِنَ الدِّمَاغِ، وَالضَّرْبَةُ عَلَيْهِمَا فِي نِهَايَةِ الْخَطَرِ لِسُرْعَةِ وُصُولِ ذَلِكَ الْأَثَرِ إِلَى جِرْمِ الدِّمَاغِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ فِي الضَّرْبِ عَلَى الرَّأْسِ. المسألة الْخَامِسَةُ: لَوْ فَرَّقَ سِيَاطَ الْحَدِّ تَفْرِيقًا لَا يَحْصُلُ بِهِ التَّنْكِيلُ، مِثْلَ أَنْ يَضْرِبَ كُلَّ يَوْمٍ سَوْطًا أَوْ سَوْطَيْنِ لَا يُحْسَبُ، وَإِنْ ضَرَبَ كُلَّ يَوْمٍ عِشْرِينَ أَوْ أَكْثَرَ يُحْسَبُ، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُفَرِّقَ. المسألة السَّادِسَةُ: إِنْ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْحُبْلَى لَا يُقَامُ حَتَّى تَضَعَ، رَوَى عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ: أن المرأة مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَا، فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّه أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا نَبِيُّ اللَّه وَلَيَّهَا فَقَالَ أَحْسِنْ إِلَيْهَا، فَإِذَا وَضَعَتْ فَأْتِنِي بِهَا فَفَعَلَ، فَأَمَرَ بِهَا نَبِيُّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُشَدَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّأْدِيبُ دُونَ الْإِتْلَافِ. المسألة السَّابِعَةُ: إِنْ وَجَبَ الْجَلْدُ عَلَى الْمَرِيضِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ يُرْجَى زَوَالُهُ مِنْ صُدَاعٍ أَوْ ضَعْفٍ أَوْ وِلَادَةٍ يُؤَخَّرُ حَتَّى يَبْرَأَ، كَمَا لَوْ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدٌّ أَوْ قَطْعٌ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدٌّ آخَرُ حَتَّى يَبْرَأَ مِنَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، كَالسُّلِّ وَالزَّمَانَةِ فَلَا يُؤَخَّرُ وَلَا يُضْرَبُ بِالسِّيَاطِ فَإِنَّهُ يَمُوتُ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مَوْتَهُ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ سَوَاءٌ كَانَ زِنَاهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ ثُمَّ مَرِضَ أَوْ فِي حَالِ الْمَرَضِ، بَلْ يُضْرَبُ بِعِثْكَالٍ عَلَيْهِ مائة شمراخ فيقول ذَلِكَ مَقَامَ مِائَةِ جَلْدَةٍ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص: 44] وَعِنْدَ/ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: يُضْرَبُ بِالسِّيَاطِ، دَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مُقْعَدًا أَصَابَ امرأة فأمر

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذُوا مِائَةَ شِمْرَاخٍ فَضَرَبُوهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ إِذَا كَانَتْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِهِ فَالْحَدُّ أَوْلَى بِذَلِكَ. المسألة الثَّامِنَةُ: يُقَامُ الْحَدُّ فِي وَقْتِ اعْتِدَالِ الْهَوَاءِ، فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ شِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ نُظِرَ إِنْ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا يُقَامُ عَلَيْهِ كَمَا يُقَامُ فِي الْمَرَضِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَتْلُهُ، وَقِيلَ إِنْ كَانَ الرَّجْمُ ثَبَتَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ فَيُؤَخَّرُ إِلَى اعْتِدَالِ الْهَوَاءِ وَزَوَالِ الْمَرَضِ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُهُ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ فِي خِلَالِ الرَّجْمِ وَقَدْ أَثَّرَ الرَّجْمُ فِي جِسْمِهِ فَتُعِينُ شِدَّةُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْمَرَضِ عَلَى إِهْلَاكِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ، وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا لَمْ يَجُزْ إِقَامَتُهُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ كَمَا لَا يُقَامُ فِي الْمَرَضِ. أَمَّا الرَّجْمُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه، وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه: يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَحْضُرَ رَجْمَهُ وَأَنْ لَا يَحْضُرَ، وَكَذَا الشُّهُودُ لَا يَلْزَمُهُمُ الْحُضُورُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: إِنْ ثَبَتَ الزِّنَا بِالْبَيِّنَةِ وجب على الشهود أن يبدءوا بِالرَّجْمِ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ، وَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ بَدَأَ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِرَجْمِ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ وَلَمْ يَحْضُرْ رَجْمَهُمَا. المسألة الثَّانِيَةُ: إِنْ ثَبَتَ الزِّنَا بِإِقْرَارِهِ فَمَتَى رَجَعَ تُرِكَ، وَقَعَ بِهِ بَعْضُ الْحَدِّ أَوْ لَمْ يَقَعْ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَدَاوُدُ لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ، وَعَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّه رِوَايَتَانِ. حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا مَسَّتْهُ الْحِجَارَةُ وَهَرَبَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ» . المسألة الثَّالِثَةُ: يُحْفَرُ لِلْمَرْأَةِ إِلَى صَدْرِهَا حَتَّى لَا تَنْكَشِفَ ويرمى إِلَيْهَا، وَلَا يُحْفَرُ لِلرَّجُلِ، لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ «أَنَّ مَاعِزًا أَتَى رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه إِنِّي أَصَبْتُ فَاحِشَةً فَأَقِمْ عَلَيَّ الْحَدَّ، فَرَدَّهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِرَارًا، ثُمَّ سَأَلَ قَوْمَهُ، فَقَالُوا: لَا نَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا فَأَمَرَنَا أَنْ نَرْجُمَهُ، فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَمَا أَوْثَقْنَاهُ وَلَا حَفَرْنَا لَهُ، قَالَ فَرَمَيْنَاهُ بِالْعِظَامِ وَالْمَدَرِ وَالْخَزَفِ، قَالَ فَاشْتَدَّ وَاشْتَدَدْنَا خَلْفَهُ حَتَّى أَتَى عُرْضَ الْحَرَّةِ وَانْتَصَبَ لَنَا فَرَمَيْنَاهُ بِجَلَامِيدِ الْحَرَّةِ حَتَّى سَكَنَ» وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ قَالَ: «فَمَا أَوْثَقْنَاهُ وَلَا حَفَرْنَا لَهُ» وَلِأَنَّهُ هَرَبَ، وَلَوْ كَانَ فِي حُفْرَةٍ لَمَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ. المسألة الرَّابِعَةُ: إِذَا مَاتَ فِي الْحَدِّ يُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَهَذَا مَا أَرَدْنَا ذِكْرَهُ مِنْ بَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. أَمَّا الْمَبَاحِثُ الْعَقْلِيَّةُ: فَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَا شَكَّ أَنَّ الْبَدَنَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ كَثِيرَةٍ، فَإِمَّا أَنْ يَقُومَ بِكُلِّ جُزْءٍ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ عَلَى حِدَةٍ أَوْ يَقُومَ بِكُلِّ الْأَجْزَاءِ حَيَاةٌ وَاحِدَةٌ وَعِلْمٌ وَاحِدٌ وَقُدْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالثَّانِي مُحَالٌ لِاسْتِحَالَةِ قِيَامِ الْعَرَضِ الْوَاحِدِ بِالْمَحَالِّ الْكَثِيرَةِ فَتَعَيَّنَ/ الْأَوَّلُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ حَيًّا عَلَى حِدَةٍ وَعَالِمًا عَلَى حِدَةٍ وَقَادِرًا عَلَى حِدَةٍ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ الزَّانِي هُوَ الْفَرْجُ لَا الظَّهْرُ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ مِنَ الْحَكِيمِ أَنْ يَأْمُرَ بِجَلْدِ الظَّهْرِ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ الْإِنْسَانُ حَالَ إِقْدَامِهِ عَلَى الزِّنَا عَجِيفًا نَحِيفًا ثُمَّ يَسْمَنُ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَجُوزُ إِيلَامُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الزَّائِدَةِ مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ بَرِيئَةً عَنْ فِعْلِ الزِّنَا، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا مَدْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ فَاعِلًا عَلَى حِدَةٍ وَحَيًّا عَلَى حِدَةٍ وَذَلِكَ مُحَالٌ، بَلِ الْحَيَاةُ

وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ تَقُومُ بِالْجُزْءِ الْوَاحِدِ ثُمَّ تُوجِبُ حُكْمَ الْحَيِيَّةِ وَالْعَالِمِيَّةِ وَالْقَادِرِيَّةِ لِمَجْمُوعِ الْأَجْزَاءِ، فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ حَيًّا وَاحِدًا عَالِمًا وَاحِدًا قَادِرًا وَاحِدًا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ الَّذِي هُوَ الْفَاعِلُ وَالْمُحَرِّكُ وَالْمُدْرِكُ شَيْءٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جُسْمَانِيٍّ. وَإِنَّمَا هُوَ مُدَبِّرٌ لِهَذَا الْبَدَنِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا يَزُولُ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ إِذَا قَامَ بِجُزْءٍ وَاحِدٍ، فَإِمَّا أَنْ يَحْصُلَ بِمَجْمُوعِ الْأَجْزَاءِ عَالِمِيَّةٌ وَاحِدَةٌ فَيَلْزَمُ قِيَامُ الصِّفَةِ الْوَاحِدَةِ بِالْمَحَالِّ الْكَثِيرَةِ وَهُوَ مُحَالٌ، أَوْ يَقُومَ بِكُلِّ جُزْءٍ عَالِمِيَّةٌ عَلَى حِدَةٍ فَيَعُودَ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَفِي نِهَايَةِ الْبُعْدِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْفَاعِلُ لِلْقَبِيحِ هُوَ ذَلِكَ الْمُبَايِنُ فَلِمَ يُضْرَبُ هَذَا الْجَسَدُ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ رِعَايَةُ الْمَصَالِحِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ شَرْعَ الْحَدِّ يُفِيدُ الزَّجْرَ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا واللَّه أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: الرَّأْفَةُ الرِّقَّةُ وَالرَّحْمَةُ وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَقُرِئَ رَأَفَةٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَرَآفَةٌ عَلَى فَعَالَةٍ. المسألة الثَّانِيَةُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ لَا تَأْخُذَكُمْ رَأْفَةٌ بِأَنْ يُعَطَّلَ الْحَدُّ أَوْ يُنْقَصَ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى لَا تُعَطِّلُوا حُدُودَ اللَّه وَلَا تَتْرُكُوا إِقَامَتَهَا لِلشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَأْخُذَكُمْ رَأْفَةٌ بِأَنْ يُخَفَّفَ الْجَلْدُ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَيُحْتَمَلُ كِلَا الْأَمْرَيْنِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ الْأَمْرُ بِنَفْسِ الْجَلْدِ، وَلَمْ يُذْكَرْ صِفَتُهُ، فَمَا يَعْقُبُهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَيْهِ وَكَفَى بِرَسُولِ اللَّه أُسْوَةٌ فِي ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: «لَوْ سَرَقَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ فِي دِينِ اللَّه عَلَى أَنَّ الدِّينَ إِذَا أَوْجَبَ أَمْرًا لَمْ يَصِحَّ اسْتِعْمَالُ الرَّأْفَةِ فِي خِلَافِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَهُوَ من باب التهييج والنهاب الْغَضَبِ للَّه تَعَالَى وَلِدِينِهِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَلَا تَتْرُكُوا إِقَامَةَ الْحُدُودِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الْإِيمَانِ بِخِلَافِ مَا تَقُولُهُ الْمُرْجِئَةُ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الرَّأْفَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا إِذَا حَكَمَ الْإِنْسَانُ بِطَبْعِهِ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا تُقَامَ تِلْكَ الْحُدُودُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُنْكِرًا لِلدِّينِ فَيَخْرُجُ عَنِ الْإِيمَانِ فِي الْحَدِيثِ «يُؤْتَى بِوَالٍ نَقَصَ مِنَ الْحَدِّ سَوْطًا، فَيُقَالُ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ ذَاكَ؟ / فَيَقُولُ رَحْمَةً لِعِبَادِكَ، فَيُقَالُ لَهُ أَنْتَ أَرْحَمُ بِهِمْ مِنِّي! فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ، وَيُؤْتَى بِمَنْ زَادَ سَوْطًا فَيُقَالُ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ لِيَنْتَهُوا عَنْ مَعَاصِيكَ، فَيَقُولُ أَنْتَ أَحْكَمُ بِهِ مِنِّي! فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ» . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ أَمْرٌ وَظَاهِرُهُ لِلْوُجُوبِ، لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا يُسْتَحَبُّ حُضُورُ الْجَمْعِ وَالْمَقْصُودُ إِعْلَانُ إِقَامَةِ الْحَدِّ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَزِيدِ الرَّدْعِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ التُّهْمَةِ عَمَّنْ يَجْلِدُ، وَقِيلَ أَرَادَ بِالطَّائِفَةِ الشُّهُودَ لِأَنَّهُ يَجِبُ حُضُورُهُمْ لِيُعْلَمَ بَقَاؤُهُمْ عَلَى الشَّهَادَةِ. المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَقَلِّ الطَّائِفَةِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَمُجَاهِدٍ. وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الْحُجُرَاتِ: 9] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ اثْنَانِ وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ [التَّوْبَةِ: 122] وَكُلُّ ثَلَاثَةٍ

[سورة النور (24) : آية 3]

فِرْقَةٌ وَالْخَارِجُ مِنَ الثَّلَاثَةِ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ، وَالِاحْتِيَاطُ يُوجِبُ الْأَخْذَ بِالْأَكْثَرِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ ثَلَاثَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ، قَالُوا الطَّائِفَةُ هِيَ الْفِرْقَةُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تُكَوِّنَ حَلَقَةً، كَأَنَّهَا الْجَمَاعَةُ الْحَافَّةُ حَوْلَ الشَّيْءِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ أَقَلُّ مَا لَا بُدَّ فِي حُصُولِهَا هُوَ الثَّلَاثَةُ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ أَرْبَعَةٌ بِعَدَدِ شُهُودِ الزِّنَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ عَشَرَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، لِأَنَّ الْعَشَرَةَ هِيَ الْعَدَدُ الْكَامِلُ. المسألة الثَّالِثَةُ: تَسْمِيَتُهُ عَذَابًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عُقُوبَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى عَذَابًا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْمُعَاوَدَةَ كَمَا سُمِّيَ نَكَالًا لِذَلِكَ، وَنَبَّهَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا بِهَذَا الْوَصْفِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا كَذَلِكَ عَظُمَ مَوْقِعُ حُضُورِهِمْ فِي الزَّجْرِ وَعَظُمَ مَوْقِعُ إِخْبَارِهِمْ عَمَّا شَاهَدُوا فَيَخَافُ الْمَجْلُودُ مِنْ حُضُورِهِمُ الشُّهْرَةَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَقْوَى فِي الِانْزِجَارِ. واللَّه أعلم. [سورة النور (24) : آية 3] الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) الحكم الثاني قُرِئَ لَا يَنْكِحْ بِالْجَزْمِ عَنِ النَّهْيِ، وَقُرِئَ وَحَرَّمَ بِفَتْحِ الْحَاءِ ثُمَّ إِنَّ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٍ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ظَاهِرُهُ خَبَرٌ، ثُمَّ إِنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ هَذَا الظَّاهِرُ، لِأَنَّا نَرَى أَنَّ الزَّانِيَ قَدْ يَنْكِحُ الْمُؤْمِنَةَ الْعَفِيفَةَ وَالزَّانِيَةَ قَدْ يَنْكِحُهَا الْمُؤْمِنُ الْعَفِيفُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَحِلُّ لَهُ/ التَّزَوُّجُ بِالْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ وَالْجَوَابُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ لِأَجْلِ هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ ذَكَرُوا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: وَهُوَ أَحْسَنُهَا، مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ: وَهُوَ أَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ عَامًّا لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْأَعَمُّ الْأَغْلَبُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفَاسِقَ الْخَبِيثَ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ الزِّنَا وَالْفِسْقُ لَا يَرْغَبُ فِي نِكَاحِ الصَّوَالِحِ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا يَرْغَبُ فِي فَاسِقَةٍ خَبِيثَةٍ مِثْلِهِ أَوْ فِي مُشْرِكَةٍ، وَالْفَاسِقَةُ الْخَبِيثَةُ لَا يَرْغَبُ فِي نِكَاحِهَا الصُّلَحَاءُ مِنَ الرِّجَالِ وَيَنْفِرُونَ عَنْهَا، وَإِنَّمَا يَرْغَبُ فِيهَا مَنْ هُوَ مِنْ جِنْسِهَا مِنَ الْفَسَقَةِ وَالْمُشْرِكِينَ، فَهَذَا عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ كَمَا يُقَالُ لَا يَفْعَلُ الْخَيْرَ إِلَّا الرَّجُلُ التَّقِيُّ، وَقَدْ يَفْعَلُ بَعْضَ الْخَيْرِ مَنْ لَيْسَ بِتَقِيٍّ فَكَذَا هَاهُنَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ نِكَاحَ الْمُؤْمِنِ الْمَمْدُوحِ عِنْدَ اللَّه الزَّانِيَةَ وَرَغْبَتَهُ فِيهَا، وَانْخِرَاطَهُ بِذَلِكَ فِي سِلْكِ الْفَسَقَةِ الْمُتَّسِمِينَ بِالزِّنَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالْفُسَّاقِ وَحُضُورِ مَوَاضِعِ التُّهْمَةِ، وَالتَّسَبُّبِ لِسُوءِ الْمَقَالَةِ فِيهِ وَالْغِيبَةِ. وَمُجَالَسَةُ الْخَاطِئِينَ كَمْ فِيهَا مِنَ التَّعَرُّضِ لِاقْتِرَافِ الْآثَامِ، فَكَيْفَ بِمُزَاوَجَةِ الزَّوَانِي وَالْفُجَّارِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ صَرْفَ الرَّغْبَةِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى الزَّوَانِي وَتَرْكَ الرَّغْبَةِ فِي الصَّالِحَاتِ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً مَعْنَاهُ أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَرْغَبُ إِلَّا فِي الزَّانِيَةِ فَهَذَا الْحَصْرُ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُرْمَةِ هَذَا الْحَصْرِ حُرْمَةُ التَّزَوُّجِ بِالزَّانِيَةِ، فَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: الوجه الثَّانِي: أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ: الزَّانِي وَفِي قَوْلِهِ: وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ لِلْعُمُومِ ظَاهِرًا لَكِنَّهُ هَاهُنَا مَخْصُوصٌ بِالْأَقْوَامِ الَّذِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَقَتَادَةُ، قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ وَفِيهِمْ فُقَرَاءُ لَيْسَ لَهُمْ أَمْوَالٌ وَلَا عَشَائِرُ، وَبِالْمَدِينَةِ نِسَاءٌ بَغَايَا يَكْرِينَ أَنْفُسَهُنَّ

وَهُنَّ يَوْمَئِذٍ أَخْصَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَامَةٌ عَلَى بَابِهَا كَعَلَامَةِ الْبَيْطَارِ، لِيُعْرَفَ أَنَّهَا زَانِيَةٌ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ فَرَغِبَ فِي كَسْبِهِنَّ نَاسٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالُوا نَتَزَوَّجُ بِهِنَّ إِلَى أَنْ يُغْنِيَنَا اللَّه عَنْهُنَّ، فَاسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ أُولَئِكَ الزَّوَانِي لَا يَنْكِحُونَ إِلَّا تِلْكَ الزَّانِيَاتِ، وَتِلْكَ الزَّانِيَاتُ لَا يَنْكِحُهُنَّ إِلَّا أُولَئِكَ الزَّوَانِي وَحُرِّمَ نِكَاحُهُنَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الوجه الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ أَنَّ قَوْلَهُ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً وَإِنْ كَانَ خَبَرًا فِي الظَّاهِرِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ النَّهْيُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ زَانِيًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْكِحَ إِلَّا زَانِيَةً وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَهَكَذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى هَذَا الوجه ذَكَرُوا قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ بَاقٍ إِلَى الْآنِ حَتَّى يُحَرَّمَ عَلَى الزَّانِي والزاني وَالزَّانِيَةِ التَّزَوُّجُ بِالْعَفِيفَةِ وَالْعَفِيفِ وَبِالْعَكْسِ وَيُقَالُ هَذَا مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ، ثُمَّ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالدَّوَامِ. فَيَقُولُ كَمَا لَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالزَّانِيَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَهُ إِذَا زَنَتْ تَحْتَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهَا، وَمِنْهُمْ من يفصل لأن في جملة من يَمْنَعُ مِنَ التَّزْوِيجِ مَا لَا يَمْنَعُ مِنْ دَوَامِ النِّكَاحِ كَالْإِحْرَامِ وَالْعِدَّةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ صَارَ مَنْسُوخًا وَاخْتَلَفُوا فِي نَاسِخِهِ، فَعَنِ الْجُبَّائِيِّ أَنَّ نَاسِخَهُ هُوَ الْإِجْمَاعُ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِعُمُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ: 3] وَأَنْكِحُوا الْأَيامى [النُّورِ: 32] قَالَ الْمُحَقِّقُونَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ ضَعِيفَانِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ، وَأَيْضًا فَالْإِجْمَاعُ الْحَاصِلُ عَقِيبَ الْخِلَافِ لَا يَكُونُ حُجَّةً، وَالْإِجْمَاعُ فِي هَذِهِ المسألة مَسْبُوقٌ بِمُخَالَفَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ فَكَيْفَ يَصِحُّ؟ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ فَهُوَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنَ النِّكَاحِ مِنْ سَبَبٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا يَدْخُلُ فِيهِ تَزْوِيجُ الزَّانِيَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِ، كَمَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ تَزْوِيجُهَا مِنَ الْأَخِ وَابْنِ الْأَخِ، وَنَقُولُ إِنَّ لِلزِّنَا تَأْثِيرًا فِي الْفُرْقَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا قَذَفَهَا بِالزِّنَا يُتْبِعُهَا بِالْفُرْقَةِ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَلَا يَجِبُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَلِأَنَّ مِنْ حَقِّ الزِّنَا أَنْ يُورِثَ الْعَارَ وَيُؤَثِّرَ فِي الْفِرَاشِ فَفَارَقَ غَيْرَهُ. ثُمَّ احْتَجَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ هَذَا النَّسْخَ، بِأَنَّهُ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَنْ رَجُلٍ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؟ فَأَجَازَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَشَبَّهَهُ بِمَنْ سَرَقَ ثَمَرَ شَجَرَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ، وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «أَوَّلُهُ سِفَاحٌ وَآخِرُهُ نِكَاحٌ» وَالْحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ. الوجه الرَّابِعُ: أَنْ يُحْمَلَ النِّكَاحُ عَلَى الْوَطْءِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَطَأُ حِينَ يَزْنِي إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَكَذَا الزَّانِيَةُ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي وحرم الزنا على المؤمنين على وهذا تَأْوِيلُ أَبِي مُسْلِمٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ هَذَا التَّأْوِيلُ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَا وَرَدَ النِّكَاحُ فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى إِلَّا بِمَعْنَى التَّزْوِيجِ، وَلَمْ يَرِدِ الْبَتَّةَ بِمَعْنَى الْوَطْءِ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ يُخْرِجُ الْكَلَامَ عَنِ الْفَائِدَةِ، لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا الْمُرَادُ أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَطَأُ إِلَّا الزَّانِيَةَ فَالْإِشْكَالُ عَائِدٌ، لِأَنَّا نَرَى أَنَّ الزَّانِيَ قَدْ يَطَأُ الْعَفِيفَةَ حِينَ يَتَزَوَّجُ بِهَا وَلَوْ قُلْنَا الْمُرَادُ أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَطَأُ إِلَّا الزَّانِيَةَ حِينَ يَكُونُ وَطْؤُهُ زِنًا فَهَذَا الْكَلَامُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَهَذَا آخِرُ الْكَلَامِ في الْمَقَامِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ قَوْلِهِ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ؟ وَالْجَوَابُ: الْكَلَامُ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَرْغَبُ إِلَّا فِي نِكَاحِ الزَّانِيَةِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَرْغَبَ فِي نِكَاحِ الزَّانِيَةِ غَيْرُ الزَّانِي فَلَا جَرَمَ بَيْنَ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ الثَّانِي.

[سورة النور (24) : الآيات 4 إلى 5]

السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لِمَ قُدِّمَتِ الزَّانِيَةُ عَلَى الزَّانِي فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهَاهُنَا بِالْعَكْسِ الْجَوَابُ: سَبَقَتْ تِلْكَ الْآيَةُ لِعُقُوبَتِهَا عَلَى جِنَايَتِهَا، وَالْمَرْأَةُ هِيَ الْمَادَّةُ فِي الزِّنَا، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَمَسُوقَةٌ لِذِكْرِ النِّكَاحِ وَالرَّجُلُ أَصْلٌ فِيهِ لِأَنَّهُ هُوَ الرَّاغِبُ والطالب. [سورة النور (24) : الآيات 4 الى 5] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) الحكم الثالث القذف [في قوله تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ] اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي بِهِ رَمَوُا الْمُحْصَنَاتِ وَذِكْرُ الرَّمْيِ لَا يَدُلُّ عَلَى الزِّنَا، إِذْ قَدْ يَرْمِيهَا بِسَرِقَةٍ وَشُرْبِ خَمْرٍ وَكُفْرٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ قَرِينَةٍ دَالَّةٍ عَلَى التَّعْيِينِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الرَّمْيُ بِالزِّنَا وَفِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ أَحَدُهَا: تَقَدُّمُ ذِكْرِ الزِّنَا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْمُحْصَنَاتِ وَهُنَّ الْعَفَائِفُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّمْيِ رميهن بضد العفاف وثانيها: قَوْلُهُ: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ يَعْنِي عَلَى صِحَّةِ مَا رَمَوْهُنَّ بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ مِنَ الشُّهُودِ غَيْرُ مَشْرُوطٍ إِلَّا في الزنا ورابعها: انعقاد الإجماع أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْجَلْدُ بِالرَّمْيِ بِغَيْرِ الزِّنَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الرَّمْيُ بِالزِّنَا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَتَعَلَّقُ بِالرَّمْيِ وَالرَّامِي وَالْمَرْمِيِّ. الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي الرَّمْيِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: أَلْفَاظُ الْقَذْفِ تَنْقَسِمُ إِلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ وَتَعْرِيضٍ، فَالصَّرِيحُ أَنْ يَقُولَ يَا زَانِيَةُ أَوْ زَنَيْتِ أَوْ زَنَى قُبُلُكِ أَوْ دُبُرُكِ، وَلَوْ قَالَ زَنَى بَدَنُكِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ كِنَايَةٌ كَقَوْلِهِ: زَنَى يَدُكِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الزِّنَا مِنَ الْفَرْجِ فَلَا يَكُونُ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ إِلَّا الْمَعُونَةُ وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ صَرِيحٌ، لِأَنَّ الْفِعْلَ إِنَّمَا يَصْدُرُ مِنْ جُمْلَةِ الْبَدَنِ. وَالْفَرْجُ آلَةٌ فِي الْفِعْلِ. أَمَّا الْكِنَايَاتُ فَمِثْلُ أَنْ يَقُولَ يَا فَاسِقَةُ، يَا فَاجِرَةُ، يَا خَبِيثَةُ، يَا مُؤَاجَرَةُ، يَا ابْنَةَ الْحَرَامِ، أَوِ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يد لامس، والعكس فَهَذَا لَا يَكُونُ قَذْفًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِعَرَبِيٍّ يَا نَبَطِيُّ، فَهَذَا لَا يَكُونُ قَذْفًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَهُ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْقَذْفَ فَهُوَ قَذْفٌ لِأُمِّ الْمَقُولِ لَهُ وَإِلَّا فَلَا، فَإِنْ قَالَ عَنَيْتُ بِهِ نَبَطِيَّ الدَّارِ وَاللِّسَانِ، وَادَّعَتْ أُمُّ الْمَقُولِ لَهُ أَنَّهُ أَرَادَ الْقَذْفَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. أَمَّا التَّعْرِيضُ فَلَيْسَ بِقَذْفٍ وَإِنْ أَرَادَهُ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: يَا ابْنَ الْحَلَالِ، أَمَّا أَنَا فَمَا زَنَيْتُ وَلَيْسَتْ أُمِّي زَانِيَةً، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ رَحِمَهُمُ اللَّه. وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه: يَجِبُ الْحَدُّ فيه، وقال أحمد وإسحاق: هُوَ قَذْفٌ فِي حَالِ الْغَضَبِ دُونَ حَالِ الرِّضَا، لَنَا، أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ مُحْتَمَلٌ لِلْقَذْفِ وَلِغَيْرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَلَا يَرْجِعُ عَنْهُ بِالشَّكِّ، وأيضا فلقوله عليه السلام: «ادرءوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» وَلِأَنَّ الْحُدُودَ شُرِّعَتْ عَلَى خِلَافِ النص النافي للضرر. الإيذاء الْحَاصِلُ بِالتَّصْرِيحِ فَوْقَ الْحَاصِلِ بِالتَّعْرِيضِ، وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِمَا رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ

قَالَ: كَانَ عُمَرُ/ يَضْرِبُ الْحَدَّ فِي التَّعْرِيضِ. وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ رَجُلَيْنِ اسْتَبَّا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: واللَّه مَا أَنَا بِزَانٍ وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ، فَاسْتَشَارَ عُمَرُ النَّاسَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ قَائِلٌ: مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْ كَانَ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ مَدْحٌ غَيْرُ هَذَا، فَجَلَدَهُ عُمَرُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَالْجَوَابُ: أَنَّ فِي مُشَاوَرَةِ عُمَرَ الصَّحَابَةَ فِي حُكْمِ التَّعْرِيضِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِيهِ تَوْقِيفٌ، وَأَنَّهُمْ قَالُوا رَأْيًا وَاجْتِهَادًا. المسألة الثَّانِيَةُ: فِي تَعَدُّدِ الْقَذْفِ اعْلَمْ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَقْذِفَ شَخْصًا وَاحِدًا مِرَارًا أَوْ يَقْذِفَ جَمَاعَةً، فَإِنْ قَذَفَ وَاحِدًا مِرَارًا نُظِرَ إِنْ كَانَ أَرَادَ بالكل زنية وَاحِدَةً بِأَنْ قَالَ: زَنَيْتِ بِعَمْرٍو قَالَهُ مِرَارًا لَا يَجِبُ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ، وَلَوْ أَنْشَأَ الثاني بعد ما حُدَّ لِلْأَوَّلِ عُزِّرَ لِلثَّانِي، وَإِنْ قَذَفَهَا بِزَنَيَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ بِأَنْ قَالَ زَنَيْتِ بِزَيْدٍ، ثم قال زَنَيْتِ بِعَمْرٍو، فَهَلْ يَتَعَدَّدُ الْحَدُّ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَتَعَدَّدُ اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ وَلِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَلَا يَقَعُ فِيهِ التَّدَاخُلُ كَالدُّيُونِ وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ يَتَدَاخَلُ فَلَا يَجِبُ فِيهِ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ لِأَنَّهُمَا حَدَّانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لِمُسْتَحِقٍّ وَاحِدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَتَدَاخَلَ كَحُدُودِ الزِّنَا، وَلَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ مِرَارًا، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِلِعَانٍ وَاحِدٍ سَوَاءٌ قُلْنَا يَتَعَدَّدُ الْحَدُّ أَوْ لَا يَتَعَدَّدُ. أَمَّا إِذَا قَذَفَ جَمَاعَةً مَعْدُودِينَ نُظِرَ، إِنْ قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ بِكَلِمَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ كَامِلٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ. وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَرْمِي الْمُحْصَنَاتِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَلْدُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ قَاذِفَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحْصَنَاتِ لَا يُجْلَدُ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ فَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى قَاذِفِ جَمَاعَةِ الْمُحْصَنَاتِ أَكْثَرَ مِنْ حَدٍّ وَاحِدٍ فَقَدْ خَالَفَ الْآيَةَ. وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا، الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» فَلَمْ يُوجِبِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هِلَالٍ إِلَّا حَدًّا وَاحِدًا مَعَ قَذْفِهِ لِامْرَأَتِهِ وَلِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، إِلَى أَنْ نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ فَأُقِيمَ اللِّعَانُ فِي الزَّوْجَاتِ مَقَامَ الْحَدِّ فِي الْأَجْنَبِيَّاتِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَهُوَ أَنَّ سَائِرَ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ إِذَا وُجِدَ مِنْهُ مِرَارًا لَمْ يَجِبْ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ كَمَنْ زَنَى مِرَارًا أَوْ شَرِبَ مِرَارًا أَوْ سَرَقَ مِرَارًا فَكَذَا هَاهُنَا، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ دَفْعُ مَزِيدِ الضَّرَرِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ صِيغَةُ جَمْعٍ، وَقَوْلَهُ: الْمُحْصَناتِ صِيغَةُ جَمْعِ، وَالْجَمْعُ إِذَا قُوبِلَ بِالْجَمْعِ يُقَابَلُ الْفَرْدُ بِالْفَرْدِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى كُلُّ مَنْ رَمَى مُحْصَنًا وَاحِدًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ وَجْهُ تَمَسُّكِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه بِالْآيَةِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ... فَاجْلِدُوهُمْ يَدُلُّ عَلَى تَرْتِيبِ الْجَلْدِ عَلَى رَمْيِ الْمُحْصَنَاتِ وَتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مُنَاسِبًا فَإِنَّهُ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ رَمْيَ الْمُحْصَنِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هَذَا الْمُسَمَّى يُوجِبُ الْجَلْدَ إِذَا ثَبَتَ/ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا قَذَفَ وَاحِدًا صَارَ ذَلِكَ الْقَذْفُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، فَإِذَا قَذَفَ الثَّانِيَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ الثَّانِي مُوجِبًا لِلْحَدِّ أَيْضًا، ثُمَّ مُوجِبُ الْقَذْفِ الثَّانِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْحَدُّ الْأَوَّلُ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَجَبَ بِالْقَذْفِ الْأَوَّلِ وَإِيجَابُ الْوَاجِبِ مُحَالٌ، فَوَجَبَ أَنْ يُحَدَّ بِالْقَذْفِ الثَّانِي حَدًّا ثَانِيًا، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُورَدَ عَلَى هَذِهِ الدَّلَالَةِ حُدُودُ الزِّنَا. لَكِنَّا نَقُولُ تُرِكَ الْعَمَلُ هُنَاكَ بِهَذَا الدَّلِيلِ لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا أَغْلَظُ مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ، وَعِنْدَ ظُهُورِ الْفَارِقِ يَتَعَذَّرُ الْجَمْعُ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى هَذِهِ المسألة لِأَنَّ قَذْفَهُمَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَلَنَا فِي هذه المسألة تفصيل سيأتي إن شاء. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَفَاسِدٌ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقُّ الْآدَمِيِّ. بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ إِلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّ لَا تَتَدَاخَلُ بِخِلَافِ حَدِّ الزِّنَا، فَإِنَّهُ حَقُّ اللَّه تَعَالَى. هَذَا كُلُّهُ إِذَا قَذَفَ جَمَاعَةً كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِكَلِمَةٍ عَلَى حِدَةٍ. أَمَّا إِذَا قَذَفَهُمْ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَالَ أَنْتُمْ زُنَاةٌ أَوْ زَنَيْتُمْ، فَفِيهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا وَهُوَ قَوْلُهُ فِي «الْجَدِيدِ» : يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ كَامِلٌ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَلَا يَتَدَاخَلُ، وَلِأَنَّهُ أَدْخَلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَعَرَّةً فَصَارَ كَمَا لَوْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ. وَفِي «الْقَدِيمِ» لَا يَجِبُ لِلْكُلِّ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ وَاحِدٌ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ أَوْفَقُ لِمَفْهُومِ الْآيَةِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ يَكُونُ قَذْفًا لِأَبَوَيْهِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَلَيْهِ حَدَّانِ. المسألة الثَّالِثَةُ: فِيمَا يُبِيحُ الْقَذْفَ: الْقَذْفُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَحْظُورٍ وَمُبَاحٍ وَوَاجِبٍ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ فَلَا يَجِبُ، وَهَلْ يُبَاحُ أَمْ لَا يُنْظَرُ إِنْ رَآهَا بِعَيْنِهِ تَزْنِي أَوْ أَقَرَّتْ هِيَ عَلَى نَفْسِهَا وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُهَا أَوْ سَمِعَ مِمَّنْ يَثِقُ بِقَوْلِهِ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ، لَكِنَّهُ اسْتَفَاضَ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ فُلَانًا يَزْنِي بِفُلَانَةٍ، وَقَدْ رَآهُ الزَّوْجُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا أَوْ رَآهُ مَعَهَا فِي بَيْتٍ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْقَذْفُ لِتَأَكُّدِ التُّهْمَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُمْسِكَهَا وَيَسْتُرَ عَلَيْهَا. لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّ لِي امْرَأَةً لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ، قَالَ طَلِّقْهَا. قَالَ إِنِّي أُحِبُّهَا، قَالَ فَأَمْسِكْهَا» أَمَّا إِذَا سَمِعَهُ مِمَّنْ لا يوثق أَوِ اسْتَفَاضَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ وَلَكِنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَرَهُ مَعَهَا أَوْ بِالْعَكْسِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ قَذْفُهَا، لِأَنَّهُ قَدْ يَذْكُرُهُ مَنْ لَا يَكُونُ ثِقَةً فَيَنْتَشِرُ وَيَدْخُلُ بَيْتَهَا خَوْفًا مِنْ قَاصِدٍ أَوْ لِسَرِقَةٍ أَوْ لِطَلَبِ فُجُورٍ فَتَأْبَى المرأة قال اللَّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النُّورِ: 11] أَمَّا إِذَا كَانَ ثَمَّ وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ، نُظِرَ فَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ أَوْ وَطِئَهَا لَكِنَّهَا أَتَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ أَوْ لِأَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنِ اسْتِلْحَاقِ نَسَبِ الْغَيْرِ كَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ نَفْيِ نَسَبِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنَ اللَّه فِي شَيْءٍ وَلَمْ يُدْخِلْهَا اللَّه جَنَّتَهُ» فَلَمَّا حَرُمَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُدْخِلَ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ كَانَ الرَّجُلُ أَيْضًا كَذَلِكَ، أَمَّا إِنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بِأَنْ أَتَتْ به الأكثر من ستة أشهر أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ وَلِدُونِ أَرْبَعِ سِنِينَ، نُظِرَ إِنْ لَمْ/ يَكُنْ قَدِ اسْتَبْرَأَهَا بِحَيْضَةٍ، أَوِ اسْتَبْرَأَهَا وَأَتَتْ بِهِ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الِاسْتِبْرَاءِ، لَا يَحِلُّ لَهُ الْقَذْفُ وَالنَّفْيُ وَإِنِ اتَّهَمَهَا بِالزِّنَا، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ احْتَجَبَ اللَّه مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفَضَحَهُ عَلَى رُؤُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ» فَإِنِ اسْتَبْرَأَهَا وَأَتَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الِاسْتِبْرَاءِ يُبَاحُ لَهُ الْقَذْفُ وَالنَّفْيُ. وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ لِأَنَّهَا قَدْ تَرَى الدَّمَ عَلَى الْحَبَلِ وَإِنْ أَتَتِ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ لَا يُشْبِهُهُ بِأَنْ كَانَا أَبْيَضَيْنِ فَأَتَتْ بِهِ أَسْوَدَ، نُظِرَ إِنْ لَمْ يَكُنْ يَتَّهِمُهَا بِالزِّنَا فَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، فَقَالَ هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ حُمْرٌ، قَالَ فَهَلْ فِيهَا أَوْرَقُ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ فَكَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ نَزَعَهُ عِرْقٌ قَالَ فَلَعَلَّ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ» وَإِنْ كَانَ يَتَّهِمُهَا بِزِنًا أَوْ يَتَّهِمُهَا بِرَجُلٍ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ يُشْبِهُهُ هَلْ يُبَاحُ لَهُ نَفْيُهُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا لِأَنَّ الْعِرْقَ يَنْزِعُ وَالثَّانِي: لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ التُّهْمَةَ قَدْ تَأَكَّدَتْ بِالشُّبْهَةِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي الرَّامِي وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: إِذَا قَذَفَ الصَّبِيُّ أَوِ الْمَجْنُونُ امْرَأَتَهُ أَوْ أَجْنَبِيًّا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا وَلَا لِعَانَ، لَا فِي الْحَالِ ولا

بَعْدَ الْبُلُوغِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ» وَلَكِنْ يُعَزَّرَانِ لِلتَّأْدِيبِ إِنْ كَانَ لَهُمَا تَمْيِيزٌ، فَلَوْ لَمْ تَتَّفِقْ إِقَامَةُ التَّعْزِيرِ عَلَى الصَّبِيِّ حَتَّى بَلَغَ، قَالَ الْقَفَّالُ يَسْقُطُ التَّعْزِيرُ لِأَنَّهُ كَانَ لِلزَّجْرِ عَنْ إِسَاءَةِ الْأَدَبِ وَقَدْ حَدَثَ زَاجِرٌ أَقْوَى وَهُوَ الْبُلُوغُ. المسألة الثَّانِيَةُ: الْأَخْرَسُ إِذَا كَانَتْ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ أَوْ كِتَابَةٌ مَعْلُومَةٌ وَقَذَفَ بِالْإِشَارَةِ أَوْ بِالْكِنَايَةِ لَزِمَهُ الْحَدُّ، وَكَذَلِكَ يَصِحُّ لِعَانُهُ بِالْإِشَارَةِ وَالْكِنَايَةِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه لَا يَصِحُّ قَذْفُ الْأَخْرَسِ وَلَا لِعَانُهُ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَقْرَبُ إِلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ لِأَنَّ مَنْ كَتَبَ أَوْ أَشَارَ إِلَى الْقَذْفِ فَقَدْ رَمَى الْمُحْصَنَةَ وَأَلْحَقَ الْعَارَ بِهَا فَوَجَبَ انْدِرَاجُهُ تَحْتَ الظَّاهِرِ، وَلِأَنَّا نَقِيسُ قَذْفَهُ وَلِعَانَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَحْكَامِ. المسألة الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا قَذَفَ الْعَبْدُ حُرًّا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَعُثْمَانُ الْقِنُّ عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ جَلْدَةً، رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «يُجْلَدُ الْعَبْدُ فِي الْقَذْفِ أَرْبَعِينَ» وَعَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «أَدْرَكْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْخُلَفَاءِ وَكُلُّهُمْ يَضْرِبُونَ الْمَمْلُوكَ فِي الْقَذْفِ أَرْبَعِينَ» وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ يُجْلَدُ ثَمَانِينَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ أَنَّهُ جَلَدَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعَبْدَ فِي الْفِرْيَةِ ثَمَانِينَ. وَمَدَارُ المسألة عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي إِيجَابِ الثَّمَانِينَ فَمَنْ رَدَّ هَذَا الْحَدَّ إِلَى أَرْبَعِينَ فَطَرِيقُهُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النِّسَاءِ: 25] فَنَصَّ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْأَمَةِ فِي الزِّنَا نِصْفُ حَدِّ الْحُرَّةِ، ثُمَّ قَاسُوا الْعَبْدَ عَلَى الْأَمَةِ فِي تَنْصِيفِ حَدِّ الزِّنَا، ثُمَّ قَاسُوا تَنْصِيفَ حَدِّ قَذْفِ الْعَبْدِ عَلَى تَنْصِيفِ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهِ، فَرَجَعَ حَاصِلُ الْأَمْرِ إِلَى تَخْصِيصِ عُمُومِ الْكِتَابِ بِهَذَا الْقِيَاسِ. المسألة الرَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى دُخُولِ الْكَافِرِ تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُ وَلَا مَانِعَ، فَالْيَهُودِيُّ إِذَا قَذَفَ الْمُسْلِمَ يُجْلَدُ ثَمَانِينَ واللَّه أَعْلَمُ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي الْمَرْمِيِّ وَهِيَ الْمُحَصَنَةُ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: اسْمُ الْإِحْصَانِ يَقَعُ عَلَى الْمُتَزَوِّجَةِ وَعَلَى الْعَفِيفَةِ وَإِنْ لَمْ تَتَزَوَّجْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مَرْيَمَ: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها [الْأَنْبِيَاءِ: 91] وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَنْعِ الْفَرْجِ فَإِذَا تَزَوَّجَتْ مَنَعَتْهُ إِلَّا مِنْ زَوْجِهَا، وَغَيْرُ الْمُتَزَوِّجَةِ تَمْنَعُهُ كُلَّ أَحَدٍ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْعَفَائِفِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَسْلِمَةً أَوْ كَافِرَةً وَسَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ رَقِيقَةً، إِلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا: شَرَائِطُ الْإِحْصَانِ خَمْسَةٌ الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعِفَّةُ مِنَ الزِّنَا، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْإِسْلَامَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ أَشْرَكَ باللَّه فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْعَقْلَ وَالْبُلُوغَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ» وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْحَرِيَّةَ لِأَنَّ الْعَبْدَ نَاقِصُ الدَّرَجَةِ فَلَا يَعْظُمُ عَلَيْهِ التَّعْيِيرُ بِالزِّنَا، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْعِفَّةَ عَنِ الزِّنَا لِأَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ لِتَكْذِيبِ الْقَاذِفِ، فَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ زَانِيًا فَالْقَاذِفُ صَادِقٌ فِي الْقَذْفِ. وكذلك إذا كان المقذوف وطأ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الزِّنَا كَمَا فِيهِ شُبْهَةُ الْحِلِّ، فَكَمَا أَنَّ إِحْدَى الشُّبْهَتَيْنِ أَسْقَطَتِ الْحَدَّ عَنِ الْوَاطِئِ فَكَذَا الْأُخْرَى تُسْقِطُهُ عَنْ قَاذِفِهِ أَيْضًا، ثُمَّ نَقُولُ مَنْ قَذَفَ كَافِرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَمْلُوكًا، أَوْ مَنْ قَدْ رَمَى امْرَأَةً، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، بَلْ يُعَزَّرُ لِلْأَذَى، حَتَّى لَوْ زَنَى فِي عُنْفُوَانِ شَبَابِهِ مَرَّةً ثُمَّ تَابَ وَحَسُنَ حَالُهُ وَشَاخَ فِي الصَّلَاحِ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ زَنَى كَافِرٌ أَوْ رَقِيقٌ ثُمَّ أَسْلَمَ وَعُتِقَ وَصَلُحَ حَالُهُ فَقَذَفَهُ قَاذِفٌ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ زَنَى فِي حَالِ صِغَرِهِ أَوْ جُنُونِهِ ثُمَّ بَلَغَ أَوْ أَفَاقَ فَقَذَفَهُ قَاذِفٌ يُحَدُّ، لِأَنَّ فِعْلَ الصَّبِيِّ

وَالْمَجْنُونِ لَا يَكُونُ زِنًا، وَلَوْ قَذَفَ مُحْصَنًا فَقَبْلَ أَنْ يُحَدَّ الْقَاذِفُ زَنَا الْمَقْذُوفُ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ قَاذِفِهِ لِأَنَّ صُدُورَ الزِّنَا يُورِثُ رِيبَةً فِي حَالِهِ فِيمَا مَضَى لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى كَرِيمٌ لَا يَهْتِكُ سِتْرَ عَبْدِهِ فِي أَوَّلِ مَا يَرْتَكِبُ الْمَعْصِيَةَ، فَبِظُهُورِهِ يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ مُتَّصِفًا بِهِ مِنْ قَبْلُ، رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا زَنَى فِي عَهْدِ عُمَرَ، فَقَالَ واللَّه مَا زَنَيْتُ إِلَّا هَذِهِ، فَقَالَ عُمَرُ كَذَبْتَ إِنَّ اللَّه لَا يَفْضَحُ عَبْدَهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: الزِّنَا الطَّارِئُ لَا يُسْقِطُ الْحَدَّ عَنِ الْقَاذِفِ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ يَقَعُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ الْمُحْصَنَاتِ جَمْعٌ لِمُؤَنَّثٍ فَلَا يَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ، بَلِ الْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي هَذَا الْبَابِ بَيْنَ الْمُحْصَنِينَ وَالْمُحْصَنَاتِ. المسألة الثَّالِثَةُ: رَمْيُ غَيْرِ الْمُحْصَنَاتِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ بَلْ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ مَعْرُوفًا بِمَا قُذِفَ بِهِ فَلَا حَدَّ هُنَاكَ وَلَا تَعْزِيرَ، فَهَذَا مَجْمُوعُ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ. أَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَكَمَ فِي الْقَاذِفِ إِذَا لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ أَحَدُهَا: جَلْدُ ثَمَانِينَ وَثَانِيهَا: بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ وَثَالِثُهَا: الْحُكْمُ بِفِسْقِهِ إِلَى أَنْ يَتُوبَ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الْقَذْفِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الزِّنَا، فَقَالَ قَائِلُونَ قَدْ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ وَلَزِمَهُ سِمَةُ الْفِسْقِ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ شَهَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ يُحَدَّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ وَهَذَا مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ إِنَّهُ غَيْرُ مَوْسُومٍ بِسِمَةِ الْفِسْقِ مَا لَمْ يَقَعْ بِهِ الْحَدُّ. لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَتْهُ سِمَةُ الْفِسْقِ لَمَا جَازَتْ شَهَادَتُهُ إِذْ كَانَتْ سِمَةُ الْفِسْقِ مُبْطِلَةً لِشَهَادَةِ مَنْ وُسِمَ بِهَا، ثُمَّ احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي تَرَتُّبَ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَجْمُوعِ الْقَذْفِ وَالْعَجْزِ عَنْ إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ، فَلَوْ عَلَّقْنَا هَذَا الْحُكْمَ عَلَى الْقَذْفِ وَحْدَهُ قَدَحَ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ مُعَلَّقًا عَلَى الْأَمْرَيْنِ وَذَلِكَ بِخِلَافِ الْآيَةِ، وَأَيْضًا فَوُجُوبُ الْجَلْدِ حُكْمٌ مُرَتَّبٌ عَلَى مَجْمُوعِ أَمْرَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ بِمُجَرَّدِ حُصُولِ أَحَدِهِمَا، كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ وَكَلَّمْتِ فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَتَتْ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لَمْ يُوجَدِ الْجَزَاءُ فَكَذَا هَاهُنَا وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقَاذِفَ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكَذِبِ بِمُجَرَّدِ قَذْفِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا تُرَدَّ شَهَادَتُهُ بِمُجَرَّدِ الْقَذْفِ. بَيَانُ الْأَوَّلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُجَرَّدَ قَذْفِهِ لَوْ أَوْجَبَ كَوْنَهُ كَاذِبًا لَوَجَبَ أَنْ لَا تُقْبَلَ بَعْدَ ذَلِكَ بَيِّنَتُهُ عَلَى الزِّنَا إِذْ قَدْ وَقَعَ الْحُكْمُ بِكَذِبِهِ، وَالْحُكْمُ بِكَذِبِهِ فِي قَذْفِهِ حُكْمٌ بِبُطْلَانِ شَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ بِصِدْقِهِ فِي كَوْنِ الْمَقْذُوفِ زَانِيًا، وَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى قَبُولِ بَيِّنَتِهِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِالْكَذِبِ بِمُجَرَّدِ قَذْفِهِ الثَّانِي: أَنَّ قَاذِفَ امْرَأَتِهِ بِالزِّنَا لَا يُحْكَمُ بِكَذِبِهِ بِنَفْسِ قَذْفِهِ، وَإِلَّا لَمَا جَازَ إِيجَابُ اللِّعَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، وَلَمَا أُمِرَ بِأَنْ يَشْهَدَ باللَّه أَنَّهُ لَصَادِقٌ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا مَعَ الْحُكْمِ بِكَذِبِهِ. وَلَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عليه وسلم بعد ما لَاعَنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ «اللَّه يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ» فَأَخْبَرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا بِغَيْرِ تَعْيِينٍ هُوَ الْكَاذِبُ وَلَمْ يَحْكُمْ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نَفْسَ الْقَذْفِ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ كَاذِبًا الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تعالى: لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ [النُّورِ: 13] فَلَمْ يَحْكُمْ بِكَذِبِهِمْ بِنَفْسِ الْقَذْفِ فَقَطْ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْقَاذِفَ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ كَاذِبًا بِمُجَرَّدِ الْقَذْفِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا تَبْطُلَ

شَهَادَتُهُ بِمُجَرَّدِ الْقَذْفِ لِأَنَّهُ كَانَ عَدْلًا ثِقَةً وَالصَّادِرُ عَنْهُ غَيْرُ مُعَارَضٍ، وَلَمَّا كَانَ يَجِبُ أَنْ يَبْقَى عَلَى عَدَالَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ» أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم ببقاء عدالة القاذف ما لم يحدو رابعها: مَا رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي قِصَّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ لَمَّا قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه: «يُجْلَدُ هِلَالٌ وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ» فَأَخْبَرَ أَنَّ بطلان شهادته متعلق بوقوع الجلد به ذلك يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْقَذْفِ/ لَا يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ وَخَامِسُهَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّه زَعَمَ أَنَّ شُهُودَ الْقَذْفِ إِذَا جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ، فَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ قَدْ أَبْطَلَ شَهَادَتَهُ فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَقْبَلَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ شَهِدَ مَعَهُ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّهُ قَدْ فَسَقَ بِقَذْفِهِ وَوَجَبَ الْحُكْمُ بِكَذِبِهِ، وَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ إِذَا جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ مَا يَلْزَمُهُ أَنْ لَا تَبْطُلَ شَهَادَتُهُمْ بِنَفْسِ الْقَذْفِ، وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه فَهُوَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى رَتَّبَ عَلَى الْقَذْفِ مَعَ عَدَمِ الْإِتْيَانِ بِالشُّهَدَاءِ الْأَرْبَعَةِ أُمُورًا ثَلَاثَةً مَعْطُوفًا بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِحَرْفِ الْوَاوِ، وَحَرْفُ الْوَاوِ لَا يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ. فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ بَعْضُهَا مُرَتَّبًا عَلَى الْبَعْضِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ رَدُّ الشَّهَادَةِ مُرَتَّبًا عَلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ رَدُّ الشَّهَادَةِ سَوَاءٌ أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَيْهِ أَوْ مَا أُقِيمَ واللَّه أَعْلَمُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النِّسَاءِ: 15] وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: «يَا رَسُولَ اللَّه أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ قَالَ نَعَمْ» ثُمَّ هَاهُنَا مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: الْإِقْرَارُ بِالزِّنَا هَلْ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِأَرْبَعَةٍ كَفِعْلِ الزِّنَا وَالثَّانِي: يَثْبُتُ بِخِلَافِ فِعْلِ الزِّنَا، لِأَنَّ الْفِعْلَ يُغْمَضُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ فَاحْتِيطَ فِيهِ بِاشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِ وَالْإِقْرَارُ أَمْرٌ ظَاهِرٌ فَلَا يُغْمَضُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ. المسألة الثَّانِيَةُ: إِذَا شَهِدُوا عَلَى فِعْلِ الزِّنَا يَجِبُ أَنْ يَذْكُرُوا الزَّانِيَ وَمَنْ زَنَى بِهَا، لِأَنَّهُ قَدْ يَرَاهُ عَلَى جَارِيَةٍ لَهُ فَيَظُنُّ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ، وَيَجِبُ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّا رَأَيْنَا ذَكَرَهُ يَدْخُلُ فِي فَرْجِهَا دُخُولَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَلَوْ شَهِدُوا مُطْلَقًا أَنَّهُ زَنَى لَا يَثْبُتُ، لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا يَرَوْنَ الْمُفَاخَذَةَ زِنًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَذَفَ إِنْسَانًا فَقَالَ زَنَيْتَ يَجِبُ الْحَدُّ وَلَا يُسْتَفْسَرُ، وَلَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا، هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يُسْتَفْسَرَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ كَالشُّهُودِ وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ كَمَا فِي الْقَذْفِ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَجِيءَ الشُّهُودُ مُتَفَرِّقِينَ أَوْ مُجْتَمِعِينَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه إِذَا شَهِدُوا مُتَفَرِّقِينَ لَا يَثْبُتُ وَعَلَيْهِمْ حَدُّ الْقَذْفِ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِتْيَانَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْإِتْيَانِ بِهِمْ مُجْتَمِعِينَ أَوْ مُتَفَرِّقِينَ وَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِمَا بِهِ الِامْتِيَازُ، فَالْآتِي بِهِمْ مُتَفَرِّقِينَ يَكُونُ عَامِلًا بِالنَّصِّ فَوَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ الثَّانِي: كَلُّ حُكْمٍ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ إِذَا جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ يَثْبُتُ إِذَا جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُمْ إِذَا جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ كَانَ أَبْعَدَ عَنِ التُّهْمَةِ، وَعَنْ أَنْ يَتَلَقَّنَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَلِذَلِكَ قُلْنَا إِذَا وَقَعَتْ رِيبَةٌ لِلْقَاضِي فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ فَرَّقَهُمْ لِيَظْهَرَ عَلَى عَوْرَةٍ إِنْ كَانَتْ فِي شَهَادَتِهِمْ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَشْهَدُوا مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ إِذَا اجْتَمَعُوا

عِنْدَ الْقَاضِي وَكَانَ يُقَدَّمُ وَاحِدٌ بَعْدَ آخَرَ وَيَشْهَدُ فَإِنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، فَكَذَا إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى بَابِهِ. ثُمَّ كَانَ يَدْخُلُ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ/ لَمَّا شَهِدَ فَقَدْ قَذَفَهُ وَلَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةٍ مِنَ الشُّهَدَاءِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُمْ عَبَّرُوا عَنْ ذَلِكَ الْقَذْفِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ لَا عِبْرَةَ بِهِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى إِسْقَاطِ حَدِّ الْقَذْفِ رَأْسًا، لِأَنَّ كُلَّ قَاذِفٍ لَا يُعْجِزُهُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ، فَيَجْعَلُ ذَلِكَ وَسِيلَةً إِلَى إِسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُ مِنَ الْقَذْفِ الثَّانِي: مَا رُوِيَ «أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ شَهِدَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَرْبَعَةٌ: أَبُو بَكْرَةَ وَنَافِعٌ وَنُفَيْعٌ وَقَالَ زِيَادٌ وَكَانَ رَابِعَهُمْ رَأَيْتُ إِسْتًا تَنْبُو وَنَفَسًا يَعْلُو وَرِجْلَاهَا عَلَى عَاتِقِهِ كَأُذُنَيْ حِمَارٍ، وَلَا أَدْرِي مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَجَلَدَ عُمَرُ الثَّلَاثَةَ وَلَمْ يَسْأَلْ هَلْ مَعَهُمْ شَاهِدٌ آخَرُ» فَلَوْ قُبِلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَهَادَةُ غَيْرِهِمْ لَتَوَقَّفَ، لِأَنَّ الْحُدُودَ مِمَّا يُتَوَقَّفُ فِيهَا وَيُحْتَاطُ. المسألة الرَّابِعَةُ: لَوْ شَهِدَ عَلَى الزِّنَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ لَا يَثْبُتُ الزِّنَا، وَهَلْ يَجِبُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الشُّهُودِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا مَجِيءَ الشُّهُودِ، وَلِأَنَّا لَوْ حَدَدْنَا لَانْسَدَّ بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا، لَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَأْمَنُ أن لا يوافقه صاحبه فيلزمه الحدو القول الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي المسألة الثَّالِثَةِ. المسألة الْخَامِسَةُ: إِذَا قَذَفَ رَجُلٌ رَجُلًا فَجَاءَ بِأَرْبَعَةِ فُسَّاقٍ فَشَهِدُوا عَلَى الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَا، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الشُّهُودِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يُحَدُّونَ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ وَهَذَا قَدْ أَتَى بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَلَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ. وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَقَدْ وَجَدْتُ شَرَائِطَ شَهَادَةِ الزِّنَا مِنَ اجْتِمَاعِهِمْ عِنْدَ الْقَاضِي، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ، فَكَمَا اعْتَبَرْنَا التُّهْمَةَ فِي نَفْيِ الْحَدِّ عَنِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ وَجَبَ اعْتِبَارُهَا فِي نَفْيِ الْحَدِّ عَنْهُمْ، وَوَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُمْ غَيْرُ مَوْصُوفِينَ بِالشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ فَخَرَجُوا عَنْ أَنْ يَكُونُوا شَاهِدِينَ، فَبَقُوا مَحْضَ الْقَاذِفِينَ، وَهَاهُنَا آخِرُ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: فَاجْلِدُوهُمْ هُوَ الْإِمَامُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي آيَةِ الزِّنَا، أَوِ الْمَالِكُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَوْ رَجُلٌ صَالِحٌ يُنَصِّبُهُ النَّاسُ عِنْدَ فَقْدِ الْإِمَامِ. المسألة الثَّانِيَةُ: خُصَّ مِنْ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ صُوَرٌ: أَحَدُهَا: الْوَالِدُ يَقْذِفُ وَلَدَهُ أَوْ أَحَدًا مِنْ نَوَافِلِهِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ الثَّانِيَةُ: الْقَاذِفُ إِذَا كَانَ عَبْدًا فَالْوَاجِبُ جَلْدُ أَرْبَعِينَ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ فَحَدُّهُمْ حَدُّ الْعَبِيدِ الثَّالِثَةُ: مَنْ قَذَفَ رَقِيقَةً عَفِيفَةً أَوْ مَنْ زَنَتْ فِي قَدِيمِ الْأَيَّامِ ثُمَّ تَابَتْ فَهِيَ بِمُوجَبِ اللُّغَةِ مُحْصَنَةٌ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهَا. المسألة الثَّالِثَةُ: قَالُوا أَشَدُّ الضَّرْبِ فِي الْحُدُودِ ضَرْبُ الزِّنَا، ثُمَّ ضَرْبُ شُرْبِ الْخَمْرِ، ثُمَّ ضَرْبُ الْقَاذِفِ، لِأَنَّ سَبَبَ عُقُوبَتِهِ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، إِلَّا أَنَّهُ عُوقِبَ صِيَانَةً لِلْأَعْرَاضِ وَزَجْرًا عَنْ هَتْكِهَا.

المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ حَدُّ الْقَذْفِ يُوَرَّثُ، فَإِذَا مَاتَ الْمَقْذُوفُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ وَقَبْلَ الْعَفْوِ يَثْبُتُ لِوَارِثِهِ حَدُّ الْقَذْفِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْوَاجِبُ بِقَذْفِهِ التَّعْزِيرَ، فَإِنَّهُ يُوَرَّثُ عَنْهُ، وَكَذَا لَوْ أَنْشَأَ الْقَذْفَ بَعْدَ مَوْتِ الْمَقْذُوفِ ثَبَتَ لِوَارِثِهِ طَلَبُ الْحَدِّ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: حَدُّ الْقَذْفِ لَا يُوَرَّثُ وَيَسْقُطُ بِالْمَوْتِ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ هُوَ حَقُّ الْآدَمِيِّ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِعَفْوِهِ وَلَا يُسْتَوْفَى إِلَّا بِطَلَبِهِ وَيَحْلِفُ فِيهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا أَنْكَرَ، وَإِذَا كَانَ حَقَّ الْآدَمِيِّ وَجَبَ أَنْ يُوَرَّثَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَمَنْ تَرَكَ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ» حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْرُوثًا لَكَانَ لِلزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ فِيهِ نَصِيبٌ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْمَالِ وَالْوَثِيقَةِ فَلَا يُوَرَّثُ كَالْوَكَالَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَرِثُهُ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ كَالْمَالِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَانٍ أَنَّهُ يَرِثُهُ كُلُّهُمْ إِلَّا الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ، لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ تَرْتَفِعُ بِالْمَوْتِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْحَدِّ دَفْعُ الْعَارِ عَنِ النَّسَبِ، وَذَلِكَ لَا يَلْحَقُ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ. المسألة الْخَامِسَةُ: إِذَا قَذَفَ إِنْسَانٌ إِنْسَانًا بَيْنَ يَدَيِ الْحَاكِمِ، أَوْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَالرَّجُلُ غَائِبٌ، فَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَى الْمَقْذُوفِ وَيُخْبِرَهُ بِأَنَّ فُلَانًا قَذَفَكَ وَثَبَتَ لَكَ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ لَهُ مَالٌ عَلَى آخَرَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ يَلْزَمُهُ إِعْلَامُهُ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى «بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنَيْسًا لِيُخْبِرَهَا بِأَنَّ فُلَانًا قَذَفَهَا بِابْنِهِ وَلَمْ يَبْعَثْهُ لِيَتَفَحَّصَ عَنْ زِنَاهَا» قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ إِذَا رَمَى رَجُلٌ بِزِنًا أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ فَيَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ لأن اللَّه تعالى قال: وَلا تَجَسَّسُوا وَأَرَادَ بِهِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْقَاذِفُ مُعَيَّنًا، مِثْلَ إِنْ قَالَ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيِ الْحَاكِمِ النَّاسُ يَقُولُونَ إِنَّ فَلَانًا زَنَى فَلَا يَبْعَثُ الْحَاكِمُ إِلَيْهِ فَيَسْأَلُهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ، فَقَالَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِنَّهُ إِذَا تَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ رَحِمَهُمُ اللَّه لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ إِذَا تَابَ، وَهَذِهِ المسألة مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا هَلْ عَادَ إِلَى جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ أَوِ اخْتُصَّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه الِاسْتِثْنَاءُ الْمَذْكُورُ عَقِيبَ الْجُمَلِ الْكَثِيرَةِ مُخْتَصٌّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه يَرْجِعُ إِلَى الْكُلِّ، وَهَذِهِ المسألة قَدْ لَخَّصْنَاهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَنَذْكُرُ هَاهُنَا مَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه عَلَى أَنَّ شَهَادَتَهُ مَقْبُولَةٌ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ، فَالتَّائِبُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْكَافِرَ يَقْذِفُ فَيَتُوبُ عَنِ الْكُفْرِ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، فَالْقَاذِفُ/ الْمُسْلِمُ إِذَا تَابَ عَنِ الْقَذْفِ وَجَبَ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ، لِأَنَّ الْقَذْفَ مَعَ الْإِسْلَامِ أَهْوَنُ حَالًا مِنَ الْقَذْفِ مَعَ الْكُفْرِ، فَإِنْ قِيلَ الْمُسْلِمُونَ لَا يَأْلَمُونَ بِسَبِّ الْكُفَّارِ، لِأَنَّهُمْ شُهِرُوا بِعَدَاوَتِهِمْ وَالطَّعْنِ فِيهِمْ بِالْبَاطِلِ، فَلَا يَلْحَقُ الْمَقْذُوفَ بِقَذْفِ الْكَافِرِ مِنَ الشَّيْنِ وَالشَّنَآنِ مَا يَلْحَقُهُ بِقَذْفِ مُسْلِمٍ مِثْلِهِ، فَشُدِّدَ عَلَى الْقَاذِفِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ زجرا عن إلحاق العار والشنآن، وأيضا فاتائب مِنَ الْكُفْرِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالتَّائِبُ مِنَ الْقَذْفِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ، قُلْنَا هَذَا الْفَرْقُ مُلْغًى بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَنْبِئْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» وَثَالِثُهَا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ التَّائِبَ عَنِ الْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ فَكَذَا التَّائِبُ عَنِ الْقَذْفِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْكَبِيرَةَ لَيْسَتْ أَكْبَرَ مِنْ نَفْسِ الزِّنَا وَرَابِعُهَا: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه اللَّه يقبل شهادته إذ تَابَ قَبْلَ الْحَدِّ مَعَ أَنَّ الْحَدَّ حَقُّ الْمَقْذُوفِ فَلَا يَزُولُ بِالتَّوْبَةِ. فَلَأَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ إِذَا تَابَ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ وَقَدْ حَسُنَتْ حالته وزوال اسْمُ الْفِسْقِ عَنْهُ كَانَ أَوْلَى وَخَامِسُهَا:

أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا اسْتِثْنَاءٌ مَذْكُورٌ عَقِيبَ جُمَلٍ فَوَجَبَ عَوْدُهُ إِلَيْهَا بِأَسْرِهَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ عَبْدُهُ حُرٌّ وَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّه، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى الْجَمِيعِ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ الْفَرْقُ أَنَّ قوله: إن شاء الله [يوسف: 99] يَدْخُلُ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ فِيهِ شَيْءٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمَذْكُورُ بِحَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ لَا يَجُوزُ دُخُولُهُ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ رَأْسًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّه فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا طَلَاقًا كَانَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا وَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلًا لِاسْتِحَالَةِ دُخُولِهِ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ رُجُوعِ قَوْلِهِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ صِحَّةُ رُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ بِحَرْفِهِ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ، قُلْنَا هَذَا فَرْقٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْجَمْعِ، لِأَنَّ إِنْ شَاءَ اللَّه جَازَ دُخُولُهُ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا جَرَمَ جَازَ رُجُوعُهُ إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ الْمَذْكُورَةِ وَإِلَّا جَازَ دُخُولُهُ لِرَفْعِ بَعْضِ الْكَلَامِ فَوَجَبَ جَوَازُ رُجُوعِهِ إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ عَلَى هَذَا الوجه، حَتَّى يَقْتَضِيَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجُمَلِ الْمَذْكُورَةِ بَعْضُهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ فَقَوْلُهُ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ صَارَ الْجَمْعُ كَأَنَّهُ ذُكِرَ مَعًا لَا تَقَدُّمَ لِلْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ الاستثناء لَمْ يَكُنْ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى بَعْضِهَا أَوْلَى مِنْ رُجُوعِهِ إِلَى الْبَاقِي إِذْ لَمْ يَكُنْ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ تَقَدُّمٌ فِي الْمَعْنَى الْبَتَّةَ فَوَجَبَ رُجُوعُهُ إِلَى الْكُلِّ، وَنَظِيرُهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَةِ: 6] فَإِنَّ فَاءَ التَّعْقِيبِ مَا دَخَلَتْ عَلَى غَسْلِ الوجه بَلْ عَلَى مَجْمُوعِ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْوَاوَ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ. فَكَذَا هَاهُنَا كَلِمَةُ إِلَّا مَا دَخَلَتْ عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ لِأَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ بَلْ دَخَلَتْ عَلَى الْمَجْمُوعِ، فَإِنْ قِيلَ الْوَاوُ قَدْ تَكُونُ لِلْجَمْعِ عَلَى مَا ذَكَرْتَ وَقَدْ تَكُونُ لِلِاسْتِئْنَافِ وَهِيَ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ لِلْجَمْعِ فِيمَا لَا يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ وَنَظْمُهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَيَصِيرُ الْكُلُّ كَالْمَذْكُورِ مَعًا مِثْلَ آيَةِ الْوُضُوءِ فَإِنَّ الْكُلَّ أَمْرٌ/ وَاحِدٌ كَأَنَّهُ قَالَ فَاغْسِلُوا هَذِهِ الْأَعْضَاءَ فَإِنَّ الْكُلَّ قَدْ تَضَمَّنَهُ لَفْظُ الْأَمْرِ. وَأَمَّا آيَةُ الْقَذْفِ فَإِنَّ ابْتِدَاءَهَا أَمْرٌ وَآخِرَهَا خَبَرٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظِمَهُمَا جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَكَانَ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ فَيَخْتَصُّ الِاسْتِثْنَاءُ بِهِ، قُلْنَا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ نَجْعَلَ الْجُمَلَ الثَّلَاثَ بِمَجْمُوعِهِنَّ جَزَاءَ الشَّرْطِ كَأَنَّهُ قِيلَ وَمَنْ قَذَفَ الْمُحْصَنَاتِ فَاجْلِدُوهُمْ وَرُدُّوا شَهَادَتَهِمْ وَفَسِّقُوهُمْ، أَيْ فَاجْمَعُوا لَهُمُ الْجَلْدَ وَالرَّدَّ وَالْفِسْقَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا عَنِ الْقَذْفِ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّه يَغْفِرُ لَهُمْ فَيَنْقَلِبُونَ غَيْرَ مَجْلُودِينَ وَلَا مَرْدُودِينَ وَلَا مُفَسَّقِينَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ عَقِيبَ قَوْلِهِ: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي عَدَمِ قَبُولِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ كَوْنُهُ فَاسِقًا، لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْوَصْفُ مُنَاسِبًا وَكَوْنُهُ فَاسِقًا يُنَاسِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ، إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلَّةَ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ لَيْسَتْ إِلَّا كَوْنَهُ فَاسِقًا، وَدَلَّ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى زَوَالِ الْفِسْقِ فَقَدْ زَالَتِ الْعِلَّةُ فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ الْحُكْمُ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلى قوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا [البقرة: 160] وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ، وَأَنَّ التَّوْبَةَ حَاصِلَةٌ لِهَؤُلَاءِ جَمِيعًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى إِلَى قَوْلِهِ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النِّسَاءِ: 43] وَصَارَ التَّيَمُّمُ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاغْتِسَالُ، كَمَا أَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَهَذَا الوجه ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي إِثْبَاتِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ مُخْتَصٌّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ يَخْتَصُّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، فَكَذَا فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ طَرْدًا لِلْبَابِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِعُمُومِ الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ قائم

وَالْمُعَارِضَ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ يَكْفِي فِي تَصْحِيحِهِ تَعْلِيقُهُ بِجُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ يَخْرُجُ الِاسْتِثْنَاءُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَغْوًا فَوَجَبَ تَعْلِيقُهُ بِالْجُمْلَةِ الواحدة فقطو ثالثها: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَوْ رَجَعَ إِلَى كُلِّ الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَوَجَبَ أَنَّهُ إِذَا تَابَ أَنْ لَا يُجْلَدَ وَهَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ وَمِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، فَالِاسْتِثْنَاءُ عَقِيبَ الِاسْتِثْنَاءِ لَوْ رَجَعَ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ وَإِلَى الْمُسْتَثْنَى فَبِقَدْرِ مَا نَفَى مِنْ أَحَدِهِمَا أَثْبَتَ فِي الْآخَرِ فَيَنْجَبِرُ النَّاقِصُ بِالزَّائِدِ وَيَصِيرُ الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي عَدِيمَ الْفَائِدَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قُلْنَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ إِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّانِي أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فَلَمْ يَكُنْ بَعْضُ الْجُمَلِ مُتَأَخِّرًا فِي التَّقْدِيرِ عَنِ الْبَعْضِ، فَلَمْ يَكُنْ تَعْلِيقُهُ بِالْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ تعليقه بالباقي، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فِي المسألة بِوُجُوهٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَحَدُهَا: مَا رَوَى ابن عباس رضي اللَّه عنهما في قصة هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُجْلَدُ هِلَالٌ وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ» فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ أَنْ وُقُوعَ الْجَلْدِ بِهِ يُبْطِلُ شَهَادَتَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّوْبَةِ فِي قَبُولِهَا وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ على بعض إلا محدود فِي قَذْفٍ» وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ وُجُودَ التَّوْبَةِ منه وثالثها: ما روى عمر وبن شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مَحْدُودٍ فِي الْإِسْلَامِ» قَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ هَذَا مُعَارَضٌ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ» وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ فَإِذَا عَلِمَ الْمَحْدُودُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الشَّهَادَةُ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَقْبُولَةً لَمَا وَجَبَتْ لِأَنَّهَا تَكُونُ عَبَثًا وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ» وَهَاهُنَا قَدْ حَصَلَ الظُّهُورُ لِأَنَّ دِينَهُ وَعَقْلَهُ وَعِفَّتَهُ الْحَاصِلَةَ بِالتَّوْبَةِ تُفِيدُ ظَنَّ كَوْنِهِ صَادِقًا وَثَالِثُهَا: مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ «أَنَّهُ ضَرَبَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَهُمْ أَبُو بَكْرَةَ وَنَافِعٌ وَنُفَيْعٌ، ثم قال لَهُمْ مَنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ أُجِزْ شَهَادَتَهُ فأكذب نافع ونفيه أَنْفُسَهُمَا وَتَابَا وَكَانَ يَقْبَلُ شَهَادَتَهُمَا. وَأَمَّا أَبُو بَكْرَةَ فَكَانَ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ» وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِ، فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ المسألة. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَذْفَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ لِأَنَّ اسْمَ الْفِسْقِ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ الثَّانِي: أَنَّهُ اسْمٌ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُشْتَقًّا مِنْ فِعْلِهِ لَكَانَتِ التَّوْبَةُ لَا تَمْنَعُ مِنْ دَوَامِهِ كَمَا لَا تَمْنَعُ مِنْ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ ضَارِبٌ وَبِأَنَّهُ رَامٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا فَاعْلَمْ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ التَّوْبَةَ عَنِ الْقَذْفِ كَيْفَ تَكُونُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه التَّوْبَةُ مِنْهُ إِكْذَابُهُ نَفْسَهُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَعْنَاهُ فَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ يَقُولُ: كَذَبْتُ فِيمَا قُلْتُ فَلَا أَعُودُ لِمِثْلِهِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ لَا يَقُولُ كَذَبْتُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ صَادِقًا فَيَكُونُ قَوْلُهُ كَذَبْتُ كَذِبًا وَالْكَذِبُ مَعْصِيَةٌ، وَالْإِتْيَانُ بِالْمَعْصِيَةِ لَا يَكُونُ تَوْبَةً عَنْ مَعْصِيَةٍ أُخْرَى، بَلْ يَقُولُ الْقَاذِفُ بَاطِلًا نَدِمْتُ عَلَى مَا قُلْتُ وَرَجَعْتُ عَنْهُ وَلَا أَعُودُ إِلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَصْلَحُوا فَقَالَ أَصْحَابُنَا إِنَّهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لَا بُدَّ مِنْ مُضِيِّ مُدَّةٍ عَلَيْهِ فِي حُسْنِ الْحَالِ حَتَّى تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ وَتَعُودَ وِلَايَتُهُ، ثُمَّ قَدَّرُوا تِلْكَ الْمُدَّةَ بِسَنَةٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْهِ الْفُصُولُ الْأَرْبَعُ الَّتِي تَتَغَيَّرُ فِيهَا الْأَحْوَالُ وَالطِّبَاعُ كَمَا يُضْرَبُ لِلْعِنِّينِ أَجْلٌ سَنَةً، وَقَدْ عَلَّقَ الشَّرْعُ أَحْكَامًا بِالسَّنَةِ مِنَ الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ وَغَيْرِهِمَا.

[سورة النور (24) : الآيات 6 إلى 10]

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لِكَوْنِهِ غَفُورًا رَحِيمًا يَقْبَلُ التَّوْبَةَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَقْلًا إِذْ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا كَانَ فِي قَبُولِهِ غَفُورًا رَحِيمًا، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ إِنَّمَا يَقْبَلُهُ خَوْفًا وَقَهْرًا لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْبَلْهُ لَصَارَ سَفِيهًا، وَلَخَرَجَ عَنْ حَدِّ الْإِلَهِيَّةِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَقَبِلَهُ. فَهُنَاكَ تَتَحَقَّقُ الرَّحْمَةُ وَالْإِحْسَانُ وباللَّه التوفيق. [سورة النور (24) : الآيات 6 الى 10] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) الحكم الرابع حكم اللعان اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ قَذْفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ عَقَّبَهُ بِأَحْكَامِ قَذْفِ الزَّوْجَاتِ، ثُمَّ هَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَبْحَاثٍ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي سَبَبِ نُزُولِهِ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: قَالَ ابن عباس رحمهم اللَّه: «لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ قَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ إِنْ دَخَلَ مِنَّا رَجُلٌ بَيْتَهُ فَوَجَدَ رَجُلًا عَلَى بَطْنِ امْرَأَتِهِ فَإِنْ جَاءَ بِأَرْبَعَةِ رِجَالٍ يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ فَقَدْ قَضَى الرَّجُلُ حَاجَتَهُ وَخَرَجَ، وَإِنْ قَتَلَهُ قُتِلَ بِهِ، وَإِنْ قَالَ وَجَدْتُ فُلَانًا مَعَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ ضُرِبَ وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ. اللَّهُمَّ افْتَحْ. وَكَانَ لِعَاصِمٍ هَذَا ابْنُ عَمٍّ يُقَالُ لَهُ عُوَيْمِرٌ وَلَهُ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا خَوْلَةُ بِنْتُ قَيْسٍ فَأَتَى عُوَيْمِرٌ عَاصِمًا فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ شَرِيكَ بْنَ سَحْمَاءَ عَلَى بَطْنِ امْرَأَتِي خَوْلَةَ فَاسْتَرْجَعَ عَاصِمٌ وَأَتَى رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه مَا أَسْرَعَ مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا فِي أَهْلِ بَيْتِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ذَاكَ؟ فَقَالَ أَخْبَرَنِي عُوَيْمِرٌ ابْنُ عَمِّي بِأَنَّهُ رَأَى شَرِيكَ بْنَ سَحْمَاءَ عَلَى بَطْنِ امْرَأَتِهِ خَوْلَةَ وَكَانَ عُوَيْمِرٌ وَخَوْلَةُ وَشَرِيكٌ كُلُّهُمْ بَنُو عَمِّ عَاصِمٍ فَدَعَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ جَمِيعًا وَقَالَ لِعُوَيْمِرٍ اتَّقِ اللَّه فِي زَوْجَتِكَ وَابْنَةِ عَمِّكَ وَلَا تَقْذِفْهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه أُقْسِمُ باللَّه أَنِّي رَأَيْتُ شَرِيكًا عَلَى بَطْنِهَا وَأَنِّي مَا قَرَبْتُهَا مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَأَنَّهَا حُبْلَى مِنْ غَيْرِي، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّقِي اللَّه وَلَا تُخْبِرِي إِلَّا بِمَا صَنَعْتِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّ عُوَيْمِرًا رَجُلٌ غَيُورٌ وَإِنَّهُ رَأَى شَرِيكًا يُطِيلُ النَّظَرَ إِلَيَّ وَيَتَحَدَّثُ فَحَمَلَتْهُ الْغَيْرَةُ عَلَى مَا قَالَ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نُودِيَ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ فَصَلَّى الْعَصْرَ/ ثم قال لِعُوَيْمِرٍ قُمْ وَقُلْ أَشْهَدُ باللَّه أَنَّ خَوْلَةَ لَزَانِيَةٌ وَإِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ، ثم قال فِي الثَّانِيَةِ قُلْ أَشْهَدُ باللَّه أَنِّي رَأَيْتُ شَرِيكًا عَلَى بَطْنِهَا وَإِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ، ثم قال فِي الثَّالِثَةِ قُلْ أَشْهَدُ باللَّه أَنَّهَا حُبْلَى مِنْ غَيْرِي وَإِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ، ثم قال فِي الرَّابِعَةِ قُلْ أَشْهَدُ باللَّه أَنَّهَا زَانِيَةٌ

وَأَنِّي مَا قَرَبْتُهَا مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَإِنِّي لمن الصادقين. ثم قال في الخامس قُلْ لَعْنَةُ اللَّه عَلَى عُوَيْمِرٍ يَعْنِي نَفْسَهُ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا قَالَ. ثم قال اقْعُدْ، وَقَالَ لِخَوْلَةَ قُومِي، فَقَامَتْ وَقَالَتْ أَشْهَدُ باللَّه مَا أَنَا بِزَانِيَةٍ وَإِنَّ زَوْجِي عُوَيْمِرًا لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَقَالَتْ فِي الثَّانِيَةِ أَشْهَدُ باللَّه مَا رَأَى شَرِيكًا عَلَى بَطْنِي وَإِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَقَالَتْ فِي الثَّالِثَةِ أَشْهَدُ باللَّه أَنِّي حُبْلَى مِنْهُ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَقَالَتْ فِي الرَّابِعَةِ أَشْهَدُ باللَّه أَنَّهُ مَا رَآنِي عَلَى فَاحِشَةٍ قَطُّ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَقَالَتْ فِي الْخَامِسَةِ غَضَبُ اللَّه عَلَى خَوْلَةَ إِنْ كَانَ عُوَيْمِرٌ مِنَ الصَّادِقِينَ فِي قَوْلِهِ، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا» وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ: «أَنَّ عَاصِمًا ذَاتَ يَوْمٍ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ فَوَجَدَ شَرِيكَ بْنَ سَحْمَاءَ عَلَى بَطْنِ امْرَأَتِهِ فَأَتَى رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَتَمَامُ الْحَدِيثِ كَمَا تَقَدَّمَ وَثَالِثُهَا: مَا رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «لَمَّا نَزَلَ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْأَنْصَارِ لَوْ وَجَدْتُ رَجُلًا عَلَى بَطْنِهَا فَإِنِّي إِنْ جِئْتُ بِأَرْبَعَةٍ مِنَ الشُّهَدَاءِ يَكُونُ قَدْ قَضَى حَاجَتَهُ وَذَهَبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَمَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ؟ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّه لَا تَلُمْهُ فَإِنَّهُ رَجُلٌ غَيُورٌ، فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّه واللَّه إِنِّي لَأَعْرِفُ أَنَّهَا مِنَ اللَّه وَأَنَّهَا حَقٌّ، وَلَكِنِّي عَجِبْتُ مِنْهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ اللَّه يَأْبَى إِلَّا ذَلِكَ، قَالَ فَلَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ يُقَالُ لَهُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَابَ اللَّه عَلَيْهِمْ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه إِنِّي وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا رَأَيْتُ بِعَيْنِي وَسَمِعْتُ بِأُذُنِي، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ بِهِ، فَقَالَ هِلَالٌ واللَّه يَا رَسُولَ اللَّه إِنِّي لَأَرَى الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِكَ مِمَّا أَخْبَرْتُكَ بِهِ واللَّه يَعْلَمُ أَنِّي لَصَادِقٌ وَمَا قَلْتُ إِلَّا حَقًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِمَّا الْبَيِّنَةُ وَإِمَّا إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْكَ» فَاجْتَمَعَتِ الْأَنْصَارُ فَقَالُوا ابْتُلِينَا بِمَا قَالَ سَعْدٌ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ ارْبَدَّ وَجْهُهُ وَعَلَا جَسَدَهُ حُمْرَةٌ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبْشِرْ يَا هِلَالُ فَقَدْ جَعَلَ اللَّه لَكَ فَرَجًا، قَالَ قَدْ كُنْتُ أَرْجُو ذَلِكَ مِنَ اللَّه تَعَالَى فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَاتِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ادْعُوهَا فَدُعِيَتْ فَكَذَّبَتْ هِلَالًا، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اللَّه يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ وَأَمَرَ بِالْمُلَاعَنَةِ فَشَهِدَ هِلَالٌ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ باللَّه إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ اتَّقِ اللَّه يَا هِلَالُ فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ واللَّه لَا يُعَذِّبُنِي اللَّه عَلَيْهَا كَمَا لَمْ يَجْلِدْنِي رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشهد الخامسة، بم قال رَسُولُ اللَّه أَتَشْهَدِينَ فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ باللَّه أَنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَلَمَّا أَخَذَتْ فِي الْخَامِسَةِ قَالَ لَهَا اتَّقِي اللَّه فَإِنَّ الْخَامِسَةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ، فَتَفَكَّرَتْ سَاعَةً وَهَمَّتْ بِالِاعْتِرَافِ ثُمَّ قَالَتْ واللَّه لَا أَفْضَحُ قَوْمِي وَشَهِدَتِ الْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّه عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا، ثم قال: انْظُرُوهَا إِنْ جَاءَتْ بِهِ أُثَيْبِجَ أَصْهَبَ أَحْمَشَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِهِلَالٍ، وَإِنْ/ جَاءَتْ بِهِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ أَوْرَقَ جَعْدًا فَهُوَ لِصَاحِبِهِ، فَجَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» قَالَ عِكْرِمَةُ لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمِيرَ مِصْرَ مِنَ الْأَمْصَارِ وَلَا يَدْرِي مَنْ أَبُوهُ!. الْبَحْثُ الثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِرَاءَةِ قُرِئَ وَلَمْ تَكُنْ بِالتَّاءِ لِأَنَّ الشُّهَدَاءَ جَمَاعَةٌ أَوْ لِأَنَّهُمْ فِي مَعْنَى الْأَنْفُسِ وَوَجْهُ مَنْ قَرَأَ أَرْبَعَ أَنْ يَنْصِبَ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَصْدَرِ وَالْعَامِلُ فِيهِ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ وَهِيَ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ فَتَقْدِيرُهُ فَوَاجِبُ شَهَادَةِ أَحَدِهِمْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، وَقُرِئَ أَنْ لَعْنَةُ اللَّه وَأَنْ غَضَبُ اللَّه عَلَى تَخْفِيفِ أَنْ وَرَفْعِ مَا بَعْدَهَا، وَقُرِئَ أَنْ غَضِبَ اللَّه عَلَى فِعْلِ الْغَضَبِ، وَقُرِئَ بِنَصْبِ الْخَامِسَتَيْنِ عَلَى مَعْنَى وَيَشْهَدُ الْخَامِسَةَ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، وَالنَّظَرُ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِأَطْرَافٍ:

الطَّرَفُ الْأَوَّلُ: فِي مُوجِبِ اللِّعَانِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا رَمَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ كَانَتْ مُحْصَنَةً وَالتَّعْزِيرُ إِنْ لَمْ تَكُنْ مُحْصَنَةً، كَمَا فِي رَمْيِ الْأَجْنَبِيَّةِ لَا يَخْتَلِفُ مُوجِبُهُمَا غَيْرَ أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْمُخَلِّصِ فَفِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ لا يسقط الحد عن القذف إلا بإقرار المقذف أَوْ بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ عَلَى زِنَاهَا، وَفِي قَذْفِ الزوجة يقسط عَنْهُ الْحَدُّ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَوْ بِاللِّعَانِ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ الشَّرْعُ اللِّعَانَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ دُونَ الْأَجْنَبِيَّاتِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا مَعَرَّةَ عَلَيْهِ فِي زِنَا الْأَجْنَبِيَّةِ وَالْأَوْلَى لَهُ سَتْرُهُ، أَمَّا إِذَا زَنَى بِزَوْجَتِهِ فَيَلْحَقُهُ الْعَارُ وَالنَّسَبُ الْفَاسِدُ، فَلَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ وَتَوْقِيفُهُ عَلَى الْبَيِّنَةِ كَالْمُعْتَذِرِ، فَلَا جَرَمَ خَصَّ الشَّرْعُ هَذِهِ الصُّورَةَ بِاللِّعَانِ الثَّانِي: أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْمُتَعَارَفِ مِنْ أَحْوَالِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُهَا بِالْقَذْفِ إِلَّا عَنْ حَقِيقَةٍ، فَإِذَا رَمَاهَا فَنَفْسُ الرَّمْيِ يَشْهَدُ بِكَوْنِهِ صَادِقًا إِلَّا أَنَّ شَهَادَةَ الْحَالِ لَيْسَتْ بِكَامِلَةٍ فَضُمَّ إِلَيْهَا مَا يُقَوِّيهَا مِنَ الْأَيْمَانِ، كَشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ لَمَّا ضَعُفَتْ قَوِيَتْ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ وَالشَّاهِدُ الْوَاحِدُ يَتَقَوَّى بِالْيَمِينِ عَلَى قَوْلِ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ كَانَ حَدُّ قَاذِفِ الأجنبيات والزوجات والجلد، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ «ائْتِنِي بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ لَكَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ حَدَّ قَاذِفِ الزَّوْجَاتِ كَانَ كَحَدِّ قَاذِفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ إِلَّا أَنَّهُ نُسِخَ عَنِ الْأَزْوَاجِ الْجَلْدُ بِاللِّعَانِ، وَرَوَى نَحْوَ ذَلِكَ فِي الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَإِنْ تَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ، وَإِنْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ. فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى أَنَّ حَدَّ قَاذِفِ الزَّوْجَةِ كَانَ الْجَلْدَ وَأَنَّ اللَّه نَسَخَهُ بِاللِّعَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه إِذَا قَذَفَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ فَالْوَاجِبُ هُوَ الْحَدُّ وَلَكِنَّ الْمُخَلِّصَ مِنْهُ بِاللِّعَانِ، كَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِقَذْفِ الْأَجْنَبِيَّةِ الْحَدُّ وَالْمُخَلِّصَ مِنْهُ بِالشُّهُودِ، فَإِذَا نَكَلَ الزَّوْجُ عَنِ اللِّعَانِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ لِلْقَذْفِ، فَإِذَا لَاعَنَ وَنَكَلَتْ عَنِ اللِّعَانِ يَلْزَمُهَا حَدُّ الزِّنَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ/ اللَّه إِذَا نَكَلَ الزَّوْجُ عَنِ اللِّعَانِ حُبِسَ حَتَّى يُلَاعِنَ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ إِذَا نَكَلَتْ حُبِسَتْ حَتَّى لَا تُلَاعِنَ حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ فِي أول السورة: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النور: 4] يَعْنِي غَيْرَ الزَّوْجَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً [النور: 4] ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ حُكْمَ الْأَزْوَاجِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ الْآيَةَ فَكَمَا أَنَّ مُقْتَضَى قَذْفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ الْإِتْيَانُ بِالشُّهُودِ أَوِ الْجَلَدُ فَكَذَا مُوجِبُ قَذْفِ الزَّوْجَاتِ الْإِتْيَانُ بِاللِّعَانِ أَوِ الْحَدُّ وثانيها: قوله تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ الدَّاخِلَانِ عَلَى الْعَذَابِ لَا يُفِيدَانِ الْعُمُومَ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ فَوَجَبَ صَرْفُهُمَا إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ وَالْمَعْهُودُ السَّابِقُ هُوَ الْحَدُّ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور: 2] وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْحَدُّ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ من العذاب في قوله: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ هُوَ الْحَدُّ ثَبَتَ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَلَاعِنْ لَحُدَّتْ وَأَنَّهَا بِاللِّعَانِ دَفَعَتِ الْحَدَّ، فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَذَابِ هُوَ الْحَبْسُ. قُلْنَا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْمَعْهُودِ الْمَذْكُورِ، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْعَذَابُ بِمَعْنَى الْحَدِّ، وَأَيْضًا فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْحَدِّ لَا تَصِيرُ الْآيَةُ مُجْمَلَةً. أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْحَبْسِ تَصِيرُ الْآيَةُ مُجْمَلَةً لَأَنَّ مِقْدَارَ الْحَبْسِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَثَالِثُهَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْحَبْسِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ أَنَّهَا تَقُولُ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ صَادِقًا فَحُدُّونِي وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَخَلُّونِي فَمَا بَالِي وَالْحَبْسُ وَلَيْسَ حَبْسِي فِي كِتَابِ اللَّه ولا سنة

رَسُولِهِ وَلَا الْإِجْمَاعِ وَلَا الْقِيَاسِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الزَّوْجَ قَذَفَهَا وَلَمْ يَأْتِ بِالْمُخْرِجِ مِنْ شَهَادَةِ غَيْرِهِ أَوْ شَهَادَةِ نَفْسِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ [النور: 4] وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِخَوْلَةَ: «فَالرَّجْمُ أَهْوَنُ عَلَيْكِ مِنْ غَضَبِ اللَّه» وَهُوَ نَصٌّ فِي الْبَابِ حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه، أَمَّا فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ فَلِأَنَّهَا مَا فَعَلَتْ سِوَى أَنَّهَا تَرَكَتِ اللِّعَانَ، وَهَذَا التَّرْكُ لَيْسَ بَيِّنَةً على الزنا ولا إقرار مِنْهَا بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ رَجْمُهَا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ» الْحَدِيثَ. وَإِذَا لَمْ يَجِبِ الرَّجْمُ إِذَا كَانَتْ مُحْصَنَةً لَمْ يَجِبِ الْجَلْدُ فِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، وَأَيْضًا فَالنُّكُولُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْإِقْرَارِ فَلَمْ يَجُزْ إِثْبَاتُ الْحَدِّ بِهِ كَاللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ لِلزِّنَا وَلِغَيْرِهِ. المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَ الْجُمْهُورُ إِذَا قَالَ لَهَا يَا زَانِيَةُ وَجَبَ اللِّعَانُ. وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه لَا يُلَاعِنُ إِلَّا أَنْ يَقُولَ رَأَيْتُكِ تَزْنِي أَوْ يَنْفِي حَمْلًا لَهَا أَوْ وَلَدًا مِنْهَا، حُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَلِأَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيَّةِ بَيْنَ الْكُلِّ فَكَذَا فِي حَقِّ قَذْفِ الزَّوْجَةِ. الطَّرَفُ الثَّانِي: الْمُلَاعِنُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه مَنْ صَحَّ يَمِينُهُ صَحَّ لِعَانُهُ، فَيَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَ الرَّقِيقَيْنِ وَالذِّمِّيَّيْنِ وَالْمَحْدُودَيْنِ، وَكَذَا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا رَقِيقًا أَوْ كَانَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا والمرأة ذمية، وقال أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه لَا يَصِحُّ فِي صُورَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مِمَّنْ لَا يَجِبُ عَلَى/ قَاذِفِهَا الْحَدُّ إِذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا نَحْوَ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مَمْلُوكَةً أَوْ ذِمِّيَّةً وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الشَّهَادَةِ بِأَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ أَوْ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ الْفَاسِقَ وَالْأَعْمَى مَعَ أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ يَصِحُّ لِعَانُهُمَا، وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ وَلَا مَعْنَى لِلتَّخْصِيصِ وَالْقِيَاسُ أَيْضًا ظَاهِرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الْعَارِ عَنِ النَّفْسِ، وَدَفْعُ وَلَدِ الزِّنَا عَنِ النَّفْسِ، وَكَمَا يَحْتَاجُ غَيْرُ الْمَحْدُودِ إِلَيْهِ فَكَذَا الْمَحْدُودُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ وَالثَّانِي: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ لِعَانُ الْفَاسِقِ وَالْأَعْمَى، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَكَذَا الْقَوْلُ فِي غَيْرِهِمَا، وَالْجَامِعُ هُوَ الْحَاجَةُ إِلَى دَفْعِ عَارِ الزِّنَا، ووجه قول أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه النَّصُّ وَالْمَعْنَى، أَمَّا النَّصُّ فَمَا رَوَى عَبْدُ اللَّه بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «أَرْبَعٌ مِنَ النِّسَاءِ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ مُلَاعَنَةٌ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحُرِّ» أَمَّا الْمَعْنَى فَنَقُولُ أَمَّا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى فَلِأَنَّهُ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى قَاذِفِ الزَّوْجَةِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ الْحَدَّ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النور: 4] ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ عَنِ الْأَزْوَاجِ وَأُقِيمَ اللِّعَانُ مَقَامَهُ فَلَمَّا كَانَ اللِّعَانُ مَعَ الْأَزْوَاجِ قَائِمًا مَقَامَ الْحَدِّ فِي الْأَجْنَبِيَّاتِ لَمْ يَجِبِ اللِّعَانُ عَلَى مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَوْ قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ، وَأَمَّا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ فَالوجه فِيهِ أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ فَسَمَّى اللَّه تَعَالَى لِعَانَهُمَا شَهَادَةً كَمَا قَالَ: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 282] وَقَالَ: فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النِّسَاءِ: 15] الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ لَاعَنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَمَرَهُمَا بِاللِّعَانِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى لَفْظِ الْيَمِينِ، إِذَا ثَبَتَ أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ وَجَبَ أَنْ لَا تُقْبَلَ مِنَ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً [النُّورِ: 4] وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْمَحْدُودِ ثَبَتَ فِي الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ، إِمَّا لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ أو

لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه بِأَنَّ اللِّعَانَ لَيْسَ شَهَادَةً فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ هُوَ يَمِينٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَهَادَةً لَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَأْتِي بِثَمَانِ شَهَادَاتٍ، لِأَنَّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنَ الْأَعْمَى وَالْفَاسِقِ وَلَا يَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا، فَإِنْ قِيلَ الْفَاسِقُ وَالْفَاسِقَةُ قَدْ يَتُوبَانِ قُلْنَا، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ قَدْ يُعْتَقُ فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ، ثُمَّ أَكَّدَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه ذلك بِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا عُتِقَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الْحَالِ وَالْفَاسِقَ إِذَا تَابَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الْحَالِ، ثُمَّ أَلْزَمَ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بِأَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَقْبُولَةٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ اللِّعَانُ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالذِّمِّيَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه. ثم قال بَعْدَ ذَلِكَ: وَتَخْتَلِفُ الْحُدُودُ بِمَنْ وَقَعَتْ لَهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الزَّوْجَ إِنْ لَمْ يُلَاعِنْ تَنَصَّفَ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَيْهِ لِرِقِّهِ، وَإِنْ لَاعَنَ وَلَمْ تُلَاعِنِ اخْتَلَفَ حَدُّهَا بِإِحْصَانِهَا وَعَدَمِ إِحْصَانِهَا وَحُرِّيَّتِهَا وَرِقِّهَا. الطَّرَفُ الثَّالِثُ: الْأَحْكَامُ الْمُرَتَّبَةُ عَلَى اللِّعَانِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه يَتَعَلَّقُ بِاللِّعَانِ خَمْسَةُ أَحْكَامٍ دَرْءُ الْحَدِّ وَنَفْيُ الْوَلَدِ وَالْفُرْقَةُ وَالتَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ وَوُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهَا، وَكُلُّهَا تَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ لِعَانِهِ/ وَلَا يُفْتَقَرُ فِيهِ إِلَى لِعَانِهَا وَلَا إِلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِهِ كَانَ تَنْفِيذًا مِنْهُ لَا إِيقَاعًا لِلْفُرْقَةِ. فَلْنَتَكَلَّمْ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ: المسألة الْأُولَى: اخْتَلَفَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِاللِّعَانِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: قَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: لَا أَرَى مُلَاعَنَةَ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ تَقْتَضِي شَيْئًا يُوجِبُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِفَرَاغِهِمَا مِنَ اللِّعَانِ حَتَّى يُفَرِّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا وَثَالِثُهَا: قَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَزُفَرُ رَحِمَهُمُ اللَّه إِذَا فَرَغَا مِنَ اللِّعَانِ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَإِنْ لَمْ يُفَرِّقِ الْحَاكِمُ وَرَابِعُهَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه إِذَا أَكْمَلَ الزَّوْجُ الشَّهَادَةَ وَالِالْتِعَانَ فَقَدْ زَالَ فِرَاشُ امْرَأَتِهِ وَلَا تَحِلُّ لَهُ أَبَدًا الْتَعَنَتْ أَوْ لَمْ تَلْتَعِنْ، حُجَّةُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللِّعَانَ لَيْسَ بِصَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ عَنِ الْفُرْقَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفِيدَ الْفُرْقَةَ كَسَائِرِ الْأَقْوَالِ الَّتِي لَا إِشْعَارَ لَهَا بِالْفُرْقَةِ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ وَهُوَ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَحْرِيمًا فَإِذَا كَانَ كَاذِبًا وَالْمَرْأَةُ صَادِقَةً يَثْبُتُ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى التَّحْرِيمِ وَثَانِيهَا: لَوْ تَلَاعَنَا فِيمَا بَيْنَهُمَا لَمْ يُوجِبِ الْفُرْقَةَ فَكَذَا لَوْ تَلَاعَنَا عِنْدَ الْحَاكِمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللِّعَانَ قَائِمٌ مَقَامَ الشُّهُودِ فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ فَكَمَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إِحْضَارِ الشُّهُودِ هُنَاكَ إِلَّا إِسْقَاطُ الْحَدِّ، فَكَذَا اللِّعَانُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ إِلَّا إِسْقَاطُ الحدو رابعها: إِذَا أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ فِي قَذْفِهِ إِيَّاهَا ثُمَّ حُدَّ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ فُرْقَةً فَكَذَا إذا لا عن لِأَنَّ اللِّعَانَ قَائِمٌ مَقَامَ دَرْءِ الْحَدِّ، قَالَ وَأَمَّا تَفْرِيقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ فَكَانَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ الْعَجْلَانِيِّ وَكَانَ قَدْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَعْدَ اللِّعَانِ فَلِذَلِكَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ أَنَّ الْحَاكِمَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا وَدَلِيلُهُ مَا رَوَى سَهْلُ بن سعد في قصة العجلاني مضت السنة فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا وَالثَّانِي: أَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: رُوِيَ فِي قِصَّةِ عُوَيْمِرٍ أَنَّهُمَا لَمَّا فَرَغَا «قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّه إِنْ أَمْسَكْتُهَا، هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا» فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْخَبَرِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِاللِّعَانِ لَبَطَلَ قَوْلُهُ: «كَذَبْتُ عَلَيْهَا إِنْ أَمْسَكْتُهَا» لِأَنَّ إِمْسَاكَهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَثَانِيهَا: مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَنْفِيذُ الطَّلَاقِ إِنَّمَا يُمْكِنُ لَوْ لَمْ تَقَعِ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ وَثَالِثُهَا: مَا قَالَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ مَضَتِ السُّنَّةُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، وَلَوْ كَانَتِ الْفُرْقَةُ وَاقِعَةً بِاللِّعَانِ اسْتَحَالَ التَّفْرِيقُ بَعْدَهَا وثانيها: قال

أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه خِلَافُ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ لَلَاعَنَتِ الْمَرْأَةُ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ وَذَلِكَ خِلَافُ الْآيَةِ لَأَنَّ اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا أَوْجَبَ اللِّعَانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إِلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُوجِبَ الْفُرْقَةَ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ كَمَا لَا يَثْبُتُ الْمَشْهُودُ بِهِ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَرَابِعُهَا: / اللِّعَانُ تَسْتَحِقُّ بِهِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا كَمَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمُدَّعِي مُدَّعَاهُ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَجَبَ مِثْلُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا وَخَامِسُهَا: أَنَّ اللِّعَانَ لَا إِشْعَارَ فِيهِ بِالتَّحْرِيمِ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهَا زَنَتْ وَلَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ على زناها أو هي أقرت بذلك فذلك لَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ فَكَذَا اللِّعَانُ وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى التَّحْرِيمِ وَجَبَ أَنْ لَا تَقَعَ الْفُرْقَةُ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِحْدَاثِ التَّفْرِيقِ إِمَّا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْحَاكِمِ، أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ وَزُفَرَ فَحُجَّتُهُ أَنَّهُمَا لَوْ تَرَاضَيَا عَلَى الْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ لَمْ يُخَلَّيَا بَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ قَدْ أَوْجَبَ الْفُرْقَةَ، أَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه فَلَهُ دَلِيلَانِ الْأَوَّلُ: قوله تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ الْآيَةَ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلِعَانِ الْمَرْأَةِ إِلَّا فِي دَفْعِ الْعَذَابِ عَنْ نَفْسِهَا، وَأَنَّ كُلَّ مَا يَجِبُ بِاللِّعَانِ مِنَ الْأَحْكَامِ فَقَدْ وَقَعَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ الثَّانِي: أَنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ وَحْدَهُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْيِ الْوَلَدِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ بِقَوْلِهِ فِي الْإِلْحَاقِ لَا بِقَوْلِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهَا فِي لِعَانِهَا تُلْحِقُ الْوَلَدَ بِهِ وَنَحْنُ نَنْفِيهِ عَنْهُ فَيُعْتَبَرُ نَفْيُ الزَّوْجِ لَا إِلْحَاقُ الْمَرْأَةِ، وَلِهَذَا إِذَا أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ أُلْحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَمَا دَامَ يَبْقَى مُصِرًّا عَلَى اللِّعَانِ فَالْوَلَدُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِعَانَهُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْيِ الْوَلَدِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ، لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَوْ لَمْ تَقَعْ لَمْ يَنْتِفِ الْوَلَدُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» فَمَا دَامَ يَبْقَى الْفِرَاشُ الْتَحَقَ بِهِ، فَلَمَّا انْتَفَى الْوَلَدُ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ لِعَانِهِ وَجَبَ أَنَّهُ يَزُولُ الْفِرَاشُ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ لِعَانِهِ، وَأَمَّا الْأَخْبَارُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَ عَنْ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ وَحَكَمَ بِهَا وَذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْفُرْقَةِ شَيْئًا آخَرَ، وَأَمَّا الْأَقْيِسَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا فَمَدَارُهَا عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ يَمِينٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: اللِّعَانُ لَا إِشْعَارَ فِيهِ بِوُقُوعِ الْحُرْمَةِ. قُلْنَا بَيِّنَتُهُ عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ مَقْبُولَةٌ وَنَفْيُ الْوَلَدِ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ حِلْيَةِ النِّكَاحِ واللَّه أَعْلَمُ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَالْحَسَنُ الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَحُدَّ زَالَ تَحْرِيمُ الْعَقْدِ وَحَلَّتْ لَهُ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أُمُورٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْمُلَاعِنِ بَعْدَ اللِّعَانِ «لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا» وَلَمْ يُقَلْ حَتَّى تُكَذِّبَ نَفْسَكَ وَلَوْ كَانَ الْإِكْذَابُ غَايَةً لِهَذِهِ الْحُرْمَةِ لَرَدَّهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، كَمَا قَالَ فِي الْمُطَلَّقَةِ بِالثَّلَاثِ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [الْبَقَرَةِ: 230] . وَثَانِيهَا: مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لَا يَجْتَمِعُ الْمُتَلَاعِنَانِ أَبَدًا، وَهَذَا قَدْ رُوِيَ أَيْضًا مَرْفُوعًا إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَالِثُهَا: مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الْعَجْلَانِيِّ «مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّهُمَا إِذَا تَلَاعَنَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ وَقَوْلُهُ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ. المسألة الثَّالِثَةُ: اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ قَدْ يُنْفَى عَنِ الزَّوْجِ بِاللِّعَانِ، وَحُكِيَ عَنْ/ بَعْضِ مَنْ شَذَّ أَنَّهُ لِلزَّوْجِ وَلَا يَنْتَفِي نَسَبَهُ بِاللِّعَانِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ النَّسَبَ يَنْتَفِي بِاللِّعَانِ كَالْمُتَوَاتِرَةِ فَلَا يُعَارِضُهَا هَذَا الْوَاحِدُ.

المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَوْ أَتَى أَحَدُهُمَا بِبَعْضِ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَكْثَرُ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ تَعْمَلُ عَمَلَ الْكُلِّ إِذَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ، وَالظَّاهِرُ مَعَ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَدْرَأُ الْعَذَابَ عَنْ نَفْسِهَا إِلَّا بِتَمَامِ مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى، وَمَنْ قَالَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَقُولُهُ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. الطَّرَفُ الرَّابِعُ: فِي كَيْفِيَّةِ اللِّعَانِ وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَيْهَا صَرِيحًا، فَالرَّجُلُ يَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ باللَّه بِأَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ باللَّه إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا، ثُمَّ يَقُولُ مِنْ بَعْدُ، وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّه إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. وَيَتَعَلَّقُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ تِلْكَ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، ثُمَّ الْمَرْأَةُ إِذَا أَرَادَتْ إِسْقَاطَ حَدِّ الزِّنَا عَنْ نَفْسِهَا عَلَيْهَا أَنْ تُلَاعِنَ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِلِعَانِهَا إِلَّا هَذَا الْحُكْمُ الْوَاحِدُ، ثُمَّ هَاهُنَا فُرُوعٌ الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ كَالشَّهَادَةِ فَلَا يَثْبُتُ إِلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ الثَّانِي: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه يُقَامُ الرَّجُلُ حَتَّى يَشْهَدَ وَالْمَرْأَةُ قَاعِدَةٌ، وَتُقَامُ الْمَرْأَةُ حَتَّى تَشْهَدَ وَالرَّجُلُ قَاعِدٌ، وَيَأْمُرَ الْإِمَامُ مَنْ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى فِيهِ عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى اللَّعْنَةِ وَالْغَضَبِ وَيَقُولُ لَهُ إِنِّي أَخَافُ إِنْ لَمْ تَكُ صَادِقًا أَنْ تَبُوءَ بِلَعْنَةِ اللَّه الثَّالِثُ: اللِّعَانُ بِمَكَّةَ بَيْنَ الْمَقَامِ وَالرُّكْنِ وَبِالْمَدِينَةِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي مَسْجِدِهِ وَفِي غَيْرِهَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمُعَظَّمَةِ وَلِعَانُ الْمُشْرِكِ كَغَيْرِهِ فِي الْكَيْفِيَّةِ، وَأَمَّا الزَّمَانُ فَيَوْمُ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَعْيَانِ أَقَلُّهُمْ أَرْبَعَةٌ. الطَّرَفُ الْخَامِسُ: فِي سَائِرِ الْفَوَائِدِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْخَوَارِجِ فِي أَنَّ الزِّنَا وَالْقَذْفَ كُفْرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّامِيَ إِنْ صَدَقَ فَهِيَ زَانِيَةٌ، وَإِنْ كَذَبَ فَهُوَ قَاذِفٌ فَلَا بُدَّ عَلَى قَوْلِهِمْ مِنْ وُقُوعِ الْكُفْرِ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَذَلِكَ يَكُونُ رِدَّةً فَيَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ وَلَا لِعَانَ أَصْلًا، وَأَنْ تَكُونَ فُرْقَةَ الرِّدَّةِ حَتَّى لَا يَتَعَلَّقَ بِذَلِكَ تَوَارُثٌ الْبَتَّةَ الثَّانِي: أَنَّ الْكُفْرَ إِذَا ثَبَتَ عَلَيْهَا بِلِعَانِهِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تُقْتَلَ لَا أَنْ تُجْلَدَ أَوْ تُرْجَمَ، لِأَنَّ عُقُوبَةَ الْمُرْتَدِّ مُبَايِنَةٌ لِلْحَدِّ فِي الزِّنَا. المسألة الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ وُقُوعَ الزِّنَا يُفْسِدُ النِّكَاحَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجِبُ إِذَا رَمَاهَا بِالزِّنَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ هَذَا كَأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِفَسَادِ النِّكَاحِ حَتَّى يَكُونَ سَبِيلُهُ سَبِيلَ مَنْ يُقِرُّ بِأَنَّهَا أُخْتُهُ مِنَ الضراع أَوْ بِأَنَّهَا كَافِرَةٌ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الرَّمْيِ مِنْ قَبْلِ اللِّعَانِ وَقَدْ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ فَسَادُ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقَاذِفَ مُسْتَحِقٌّ لَلَعْنِ اللَّه تَعَالَى إِذَا كَانَ كَاذِبًا وَأَنَّهُ قَدْ فَسَقَ، وَكَذَلِكَ الزَّانِي وَالزَّانِيَةُ يَسْتَحِقَّانِ غَضَبَ اللَّه تَعَالَى وَعِقَابَهُ وَإِلَّا لَمْ يَحْسُنْ مِنْهُمَا أَنْ يَلْعَنَا أَنْفُسَهُمَا، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ أَحَدٌ رَبَّهُ أَنْ يَلْعَنَ الْأَطْفَالَ وَالْمَجَانِينَ، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فَقَدِ/ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ، وَالْعِقَابُ يَكُونُ دَائِمًا كَالثَّوَابِ وَلَا يَجْتَمِعَانِ فَثَوَابُهُمَا أَيْضًا مُحْبَطٌ، فَلَا يَجُوزُ إِذَا لَمْ يَتُوبَا أَنْ يَدْخُلَا الْجَنَّةَ، لِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فَهُوَ مُثَابٌ عَلَى طَاعَاتِهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى خُلُودِ الْفُسَّاقِ فِي النَّارِ، قَالَ أَصْحَابُنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كَوْنَهُ مَغْضُوبًا عَلَيْهِ بِفِسْقِهِ يُنَافِي كَوْنَهُ مَرْضِيًّا عَنْهُ لِجِهَةِ إِيمَانِهِ، ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَاهُ فَلَمْ نُسَلِّمْ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا مُسْتَحِقُّ الثَّوَابِ وَالْإِجْمَاعُ مَمْنُوعٌ. المسألة الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا خُصَّتِ الْمُلَاعَنَةُ بِأَنْ تُخَمَّسَ بِغَضَبِ اللَّه تَغْلِيظًا عَلَيْهَا لِأَنَّهَا هِيَ أَصْلُ الْفُجُورِ وَمَنْبَعُهُ بِخُيَلَائِهَا وَأَطْمَاعِهَا وَلِذَلِكَ كَانَتْ مُقَدَّمَةً فِي آيَةِ الجلد.

[سورة النور (24) : آية 11]

وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ حُكْمَ الرَّامِي لِلْمُحْصَنَاتِ وَالْأَزْوَاجِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالنِّعْمَةِ مَا لَا خَفَاءَ فِيهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ بِاللِّعَانِ لِلْمَرْءِ سَبِيلًا إِلَى مُرَادِهِ، وَلَهَا سَبِيلًا إِلَى دَفْعِ الْعَذَابِ عَنْ نَفْسِهَا، وَلَهُمَا السَّبِيلَ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ، فَلِأَجْلِ هَذَا بَيَّنَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ عِظَمَ نِعَمِهِ فِيمَا بَيَّنَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَفِيمَا أَمْهَلَ وَأَبْقَى وَمَكَّنَ مِنَ التَّوْبَةِ وَلَا شبهة في أن الْكَلَامِ حَذْفًا إِذْ لَا بُدَّ مِنْ جَوَابٍ إِلَّا أَنَّ تَرْكَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يُكْتَنَهُ، وَرُبَّ مَسْكُوتٍ عَنْهُ أَبْلَغُ من منطوق به. [سورة النور (24) : آية 11] إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) الْحُكْمُ الْخَامِسُ قِصَّةُ الإفك الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَفْسِيرُهُ وَالثَّانِي: سَبَبُ نُزُولِهِ: أَمَّا التَّفْسِيرُ فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ حَكَى الْوَاقِعَةَ وَهُوَ قوله: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ وَالْإِفْكُ أَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنَ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ، وَقِيلَ هُوَ الْبُهْتَانُ وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي لَا تَشْعُرُ بِهِ حَتَّى يَفْجَأَكَ وَأَصْلُهُ الْإِفْكُ وَهُوَ الْقَلْبُ لِأَنَّهُ قَوْلٌ مَأْفُوكٌ عَنْ وَجْهِهِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا أُفِكَ بِهِ عَلَى عَائِشَةَ، وَإِنَّمَا وَصَفَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ الْكَذِبَ بِكَوْنِهِ إِفْكًا لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ حَالِ عَائِشَةَ خِلَافُ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ كَوْنَهَا زَوْجَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَعْصُومِ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَبْعُوثُونَ إِلَى الْكُفَّارِ لِيَدْعُوهُمْ/ وَيَسْتَعْطِفُوهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُمْ مَا يُنَفِّرُهُمْ عَنْهُمْ وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ بِحَيْثُ تَكُونُ زَوْجَتُهُ مُسَافِحَةً مِنْ أَعْظَمِ الْمُنَفِّرَاتِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ جَازَ أَنْ تَكُونَ امْرَأَةُ النَّبِيِّ كَافِرَةً كَامْرَأَةِ نُوحٍ وَلُوطٍ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ فَاجِرَةً «1» وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لَكَانَ الرَّسُولُ أَعْرَفَ النَّاسِ بِامْتِنَاعِهِ وَلَوْ عَرَفَ ذَلِكَ لَمَا ضَاقَ قَلْبُهُ، وَلَمَا سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْوَاقِعَةِ قُلْنَا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ مِنَ الْمُنَفِّرَاتِ، أَمَّا كَوْنُهَا فَاجِرَةً فَمِنَ الْمُنَفِّرَاتِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّانِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَثِيرًا مَا كَانَ يَضِيقُ قَلْبُهُ مِنْ أَقْوَالِ الْكُفَّارِ مَعَ عِلْمِهِ بِفَسَادِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ [الْحِجْرِ: 97] فَكَانَ هَذَا مِنْ هَذَا الْبَابِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ حَالِ عَائِشَةَ قَبْلَ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ إِنَّمَا هُوَ الصَّوْنُ وَالْبُعْدُ عَنْ مُقَدِّمَاتِ الْفُجُورِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اللَّائِقُ إِحْسَانَ الظَّنِّ بِهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقَاذِفِينَ كَانُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ كَلَامَ الْعَدُوِّ الْمُفْتَرَى ضَرْبٌ مِنَ الْهَذَيَانِ، فَلِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْقَرَائِنِ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مَعْلُومَ الْفَسَادِ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ. أَمَّا الْعُصْبَةُ فَقِيلَ إِنَّهَا الْجَمَاعَةُ مِنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ وَكَذَلِكَ الْعِصَابَةُ وَاعْصَوْصَبُوا اجْتَمَعُوا، وَهُمْ عبد اللَّه بن أبي بن سَلُولَ رَأْسُ النِّفَاقِ، وَزَيْدُ بْنُ رِفَاعَةَ، وَحَسَّانُ بْنَ ثَابِتٍ، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جحش ومن ساعدهم.

_ (1) لعل امرأتي نوح ولوط عليهما السلام كانتا كذلك ومما يدل عليه وصف اللَّه تعالى لهما بالخيانة ومن معاني الخيانة هذا المعنى فلا يجوز العدول عن المعنى الظاهر إلى غيره بدون حاجة. ولا سيما إذا ضم إلى هذا قول اللَّه لنوح حين قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود: 45] إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود: 46] والأهل هم آل الشخص وقرابته الأدنون ولا يجوز صرف الأهل إلى غير ذلك بلا ضرورة واللَّه أعلم.

أَمَّا قَوْلُهُ: مِنْكُمْ فَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِينَ أَتَوْا بِالْكَذِبِ فِي أَمْرِ عَائِشَةَ جَمَاعَةٌ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، لِأَنَّ عَبْدَ اللَّه كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ حُكِمِ لَهُ بِالْإِيمَانِ ظَاهِرًا وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ شَرَحَ حَالَ الْمَقْذُوفَةِ وَمَنْ يَتَعَلَّقُ بِهَا بِقَوْلِهِ: لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لَيْسَ مَعَ الْقَاذِفِينَ، بَلْ مَعَ مَنْ قَذَفُوهُ وَآذَوْهُ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا مُشْكِلٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لم يتقدم ذكرهم الثاني: أَنَّ الْمَقْذُوفَيْنِ هُمَا عَائِشَةُ وَصَفْوَانُ فَكَيْفَ تُحْمَلُ عَلَيْهِمَا صِيغَةُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ: مِنْكُمْ وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ لَفْظِ الْجَمْعِ كُلُّ مَنْ تَأَذَّى بِذَلِكَ الْكَذِبِ وَاغْتَمَّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأَذَّى بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَمَنْ يَتَّصِلُ بِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَمِنْ أَيِّ جِهَةٍ يَصِيرُ خَيْرًا لَهُمْ مَعَ أَنَّهُ مَضَرَّةٌ فِي الْعَاجِلِ؟ قُلْنَا لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ صَبَرُوا عَلَى ذَلِكَ الْغَمِّ طَلَبًا لِمَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى فَاسْتَوْجَبُوا بِهِ الثَّوَابَ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ وُقُوعِ الظُّلْمِ بِهِمْ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْلَا إِظْهَارُهُمْ لِلْإِفْكِ كَانَ يَجُوزُ أَنْ تَبْقَى التُّهْمَةُ كَامِنَةً فِي صُدُورِ الْبَعْضِ، وَعِنْدَ الْإِظْهَارِ انْكَشَفَ كَذِبُ الْقَوْمِ عَلَى مَرِّ الدَّهْرِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ صَارَ خَيْرًا لَهُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ شَرَفِهِمْ وَبَيَانِ فَضْلِهِمْ مِنْ حَيْثُ نَزَلَتْ ثَمَانِ عَشْرَةَ آيَةً كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِبَرَاءَةِ عَائِشَةَ وَشَهِدَ اللَّه تَعَالَى بِكَذِبِ الْقَاذِفِينَ وَنَسَبَهُمْ إِلَى الْإِفْكِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَ وَالذَّمَّ وَهَذَا غَايَةُ الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ وَرَابِعُهَا: صَيْرُورَتُهَا بِحَالِ تَعَلُّقِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ بِقَدْحِهَا وَمَدْحِهَا فَإِنَّ اللَّه/ تَعَالَى لَمَّا نَصَّ عَلَى كَوْنِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ إِفْكًا وَبَالَغَ فِي شَرْحِهِ فَكُلُّ مَنْ يَشُكُّ فِيهِ كَانَ كَافِرًا قَطْعًا وَهَذِهِ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ خِطَابٌ مَعَ الْقَاذِفِينَ وَجَعَلَهُ اللَّه تَعَالَى خَيْرًا لَهُمْ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ صَارَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ مَانِعًا لَهُمْ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ فَصَارَ مَقْطَعَةً لَهُمْ عَنْ إِدَامَةِ هَذَا الْإِفْكِ وَثَانِيهَا: صَارَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ حَيْثُ كَانَ هَذَا الذِّكْرُ عُقُوبَةً مُعَجَّلَةً كَالْكَفَّارَةِ وَثَالِثُهَا: صَارَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ حَيْثُ تَابَ بَعْضُهُمْ عِنْدَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَهُمْ بِالْكَافِ، وَلَمَّا وَصَفَ أَهْلَ الْإِفْكِ جَعَلَ الْخِطَابَ بِالْهَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَفْسَ مَا اكْتَسَبُوهُ لَا يَكُونُ عُقُوبَةً، فَالْمُرَادُ لَهُمْ جَزَاءُ مَا اكْتَسَبُوهُ مِنَ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ وَالْمَذَمَّةِ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ قَدْرَ الْعِقَابِ يَكُونُ مِثْلَ قَدْرِ الْخَوْضِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قُرِئَ كِبْرُهُ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ وَهُوَ عِظَمُهُ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الضَّحَّاكُ: الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ حَسَّانٌ وَمِسْطَحٌ فَجَلَدَهُمَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّه عُذْرَهَا. وَجَلَدَ مَعَهُمَا امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ، وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا ذَكَرَتْ حَسَّانًا وَقَالَتْ: «أَرْجُو لَهُ الْجَنَّةَ، فَقِيلَ أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ؟ فَقَالَتْ إِذَا سَمِعْتُ شِعْرَهُ فِي مَدْحِ الرَّسُولِ رَجَوْتُ لَهُ الْجَنَّةَ» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّه يُؤَيِّدُ حَسَّانًا بِرُوحِ الْقُدُسِ فِي شِعْرِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنَ الْعَمَى» وَلَعَلَّ اللَّه جَعَلَ ذَلِكَ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ ذَهَابَ بَصَرِهِ، وَالْأَقْرَبُ فِي الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَبْدُ اللَّه بْنُ أبي بن سَلُولَ فَإِنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا يَطْلُبُ مَا يَكُونُ قَدْحًا فِي الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَغَيْرُهُ كَانَ تَابِعًا لَهُ فِيمَا كَانَ يَأْتِي، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يُتَّهَمُ بِالنِّفَاقِ. المسألة الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ مِنْ إِضَافَةِ الْكِبْرِ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ مُبْتَدِئًا بِذَلِكَ الْقَوْلِ، فَلَا جَرَمَ حَصَلَ لَهُ مِنَ الْعِقَابِ مِثْلُ مَا حَصَلَ لِكُلِّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَقِيلَ سَبَبُ تِلْكَ الْإِضَافَةِ شِدَّةُ الرَّغْبَةِ فِي إِشَاعَةِ تِلْكَ الْفَاحِشَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ.

المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أَيْ عِقَابُ مَا اكْتَسَبَ، وَلَوْ كَانُوا لَا يَسْتَحِقُّونَ عَلَى ذَلِكَ عِقَابًا لَمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى ذَلِكَ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهُمْ صَارَ إِلَى الْعَذَابِ الدَّائِمِ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّ مَعَ اسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُحَابَطَةِ قَدْ مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَا وَجْهَ لِلْإِعَادَةِ واللَّه أَعْلَمُ. أَمَّا سَبَبُ النُّزُولِ فَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُبَيْدِ اللَّه بْنِ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُقْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ كُلُّهُمْ رَوَوْا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ اسْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ، قَالَتْ فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي/ غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَبْلَ غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَخَرَجَ فِيهَا اسْمِي فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْحِجَابِ فَحُمِلْتُ فِي هَوْدَجٍ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرُبَ مِنَ الْمَدِينَةِ نَزَلَ مَنْزِلًا ثُمَّ آذَنَ بِالرَّحِيلِ فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ وَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي وَأَقْبَلْتُ إِلَى رَحْلَيْ فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ أَظْفَارٍ قَدِ انْقَطَعَ فَرَجَعْتُ وَالْتَمَسْتُ عِقْدِي وَحَبَسَنِي طَلَبُهُ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يُرَحِّلُونَنِي فَحَمَلُوا هَوْدَجِي وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ لِخِفَّتِي، فَإِنِّي كُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَظَنُّوا أَنِّي فِي الْهَوْدَجِ وَذَهَبُوا بِالْبَعِيرِ، فَلَمَّا رَجَعْتُ لَمْ أَجِدْ فِي الْمَكَانِ أَحَدًا فَجَلَسْتُ وَقُلْتُ لَعَلَّهُمْ يَعُودُونَ فِي طَلَبِي فَنِمْتُ، وَقَدْ كَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ يَمْكُثُ فِي الْعَسْكَرِ يَتَتَبَّعُ أَمْتِعَةَ النَّاسِ فَيَحْمِلُهُ إِلَى الْمَنْزِلِ الْآخَرِ لِئَلَّا يَذْهَبَ مِنْهُمْ شَيْءٌ فَلَمَّا رَآنِي عَرَفَنِي، وَقَالَ مَا خَلَّفَكِ عَنِ النَّاسِ؟ فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ فَنَزَلَ وَتَنَحَّى حَتَّى رَكِبْتُ، ثُمَّ قَادَ الْبَعِيرَ وَافْتَقَدَنِي النَّاسُ حِينَ نَزَلُوا وَمَاجَ النَّاسُ فِي ذِكْرِي، فَبَيْنَا النَّاسُ كَذَلِكَ إِذْ هَجَمْتُ عَلَيْهِمْ فَتَكَلَّمَ النَّاسُ وَخَاضُوا فِي حَدِيثِي، وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَلَحِقَنِي وَجَعٌ، وَلَمْ أَرَ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا عَهِدْتُهُ مِنَ اللُّطْفِ الَّذِي كُنْتُ أَعْرِفُ مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي، إِنَّمَا يَدْخُلُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَقُولُ كَيْفَ تِيكُمْ فَذَاكَ الَّذِي يُرِيبُنِي، وَلَا أَشْعُرُ بَعْدُ بِمَا جَرَى حَتَّى نَقِهْتُ فَخَرَجْتُ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ لِمُهِمٍّ لَنَا، ثُمَّ أَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا فَعَثَرَتْ أَمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ وَقُلْتُ أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا! فَقَالَتْ وَمَا بَلَغَكِ الْخَبَرُ! فَقُلْتُ وَمَا هُوَ فقال [ت] أَشْهَدُ أَنَّكِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ، ثُمَّ أَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي فَرَجَعْتُ أَبْكِي، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ كَيْفَ تِيكُمْ، فَقُلْتُ ائْذَنْ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوِيَّ فَأَذِنَ لِي فَجِئْتُ أَبَوِيَّ وَقُلْتُ لِأُمِّي يَا أُمَّهْ مَاذَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ قَالَتْ يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عليك فو اللَّه لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ أَلَمْ تَكُونِي عَلِمْتِ مَا قِيلَ حَتَّى الْآنَ؟ فَأَقْبَلْتُ أَبْكِي فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي فَدَخَلَ عَلَيَّ أَبِي وَأَنَا أَبْكِي فَقَالَ لِأُمِّي مَا يُبْكِيهَا؟ قَالَتْ لَمْ تَكُنْ عَلِمَتْ مَا قِيلَ فِيهَا حَتَّى الْآنَ فَأَقْبَلَ يَبْكِي ثم قال اسْكُتِي يَا بُنَيَّةُ، وَدَعَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَاسْتَشَارَهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ فَقَالَ أُسَامَةُ يَا رَسُولَ اللَّه هُمْ أَهْلُكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَقَالَ لَمْ يُضَيِّقِ اللَّه عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَإِنْ تَسْأَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقُكَ فَدَعَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ وَسَأَلَهَا عَنْ أَمْرِي قَالَتْ بِرَيْرَةُ يَا رَسُولَ اللَّه وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا حَتَّى تَأْتِيَ الدَّاجِنَ فَتَأْكُلَهُ، قَالَتْ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي يَعْنِي عبد اللَّه بن أبي فو اللَّه مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ أَعْذُرُكَ يَا رَسُولَ اللَّه مِنْهُ

[سورة النور (24) : آية 12]

إِنْ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مَنِ الْخَزْرَجِ فَمَا أَمَرْتَنَا فَعَلْنَاهُ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ/ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنْ أَخَذَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ كَذَبْتَ واللَّه لَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَقَالَ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّه لَنَقْتُلَنَّهُ وَإِنَّكَ لَمُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، فَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَرَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَمْ يَزَلْ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا، قَالَتْ وَمَكَثْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَأَبَوَايَ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي، فَبَيْنَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي إِذْ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، قَالَتْ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ فِيَّ مَا قِيلَ وَلَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحِي اللَّه إِلَيْهِ فِي شَأْنِي شَيْئًا، ثم قال: أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّه تَعَالَى وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّه وَتُوبِي إليه، فإن العبد إذا تاب اللَّه عليه قالت فما قَضَى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ، فَاضَ دَمْعِي ثُمَّ قُلْتُ لِأَبِي أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللَّه، فَقَالَ واللَّه مَا أَدْرِي ما أقول، فقلت لأمي أجنبي عَنِّي رَسُولَ اللَّه فَقَالَتْ واللَّه لَا أَدْرِي مَا أَقُولُ، فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ مَا أَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ كَثِيرًا إِنِّي واللَّه لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ فَإِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ لَا تُصَدِّقُونِي وَإِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ واللَّه يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُونِي واللَّه لَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ أَبُو يُوسُفَ وَلَمْ أَذْكُرِ اسْمَهُ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ [يُوسُفَ: 18] قَالَتْ ثُمَّ تَحَوَّلْتُ وَاضْطَجَعْتُ على فراشي، وأنا واللَّه تَعَالَى يُبَرِّئُنِي وَلَكِنْ واللَّه مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يَنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى فَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّه فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّه فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يبرئني اللَّه بها. قالت فو اللَّه مَا قَامَ رَسُولُ اللَّه مِنْ مَجْلِسِهِ وَلَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّه الْوَحْيَ عَلَى نَبِيِّهِ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ عَنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِي مِنْ ثِقَلِ الْوَحْيِ، فَسُجِّيَ بِثَوْبٍ وَوُضِعَتْ وسادة تحت رأسه فو اللَّه مَا فَرَغْتُ وَلَا بَالَيْتُ لِعِلْمِي بِبَرَاءَتِي، وَأَمَّا أبواي فو اللَّه مَا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ نَفْسَيْ أَبَوَيَّ سَتَخْرُجَانِ فَرَقًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ اللَّه بِتَحْقِيقِ مَا قَالَ النَّاسُ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ: أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ أَمَا واللَّه لَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّه. فَقُلْتُ بِحَمْدِ اللَّه لَا بِحَمْدِكَ وَلَا بِحَمْدِ أَصْحَابِكَ، فَقَالَتْ أُمِّي قَوْمِي إِلَيْهِ، فَقَلْتُ واللَّه لَا أَقُومُ إِلَيْهِ وَلَا أَحْمَدُ أَحَدًا إِلَّا اللَّه أَنْزَلَ بَرَاءَتِي، فَأَنْزَلَ اللَّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ الْعَشْرَ آيَاتٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ واللَّه لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ بَعْدَ هَذَا وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ، فأنزل اللَّه تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النُّورِ: 22] فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى واللَّه إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّه لِي فَرَجَّعَ النَّفَقَةَ عَلَى مِسْطَحٍ قَالَتْ فَلَمَّا نَزَلَ عُذْرِي قَامَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ ذَلِكَ وَتَلَا الْقُرْآنَ فَلَمَّا نَزَلَ ضَرَبَ عَبْدَ اللَّه بْنَ أُبَيٍّ وَمِسْطَحًا وحمنة وحسان الحد» . [سورة النور (24) : آية 12] لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْقِصَّةَ وَذَكَرَ حَالَ الْمَقْذُوفَيْنِ وَالْقَاذِفِينَ عَقَّبَهَا بِمَا يَلِيقُ بها من الآداب والزواجر، هي أنواع: النوع الأول

وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْآدَابِ الَّتِي كَانَ يَلْزَمُهُمُ الْإِتْيَانُ بِهَا، وَ (لَوْلَا) مَعْنَاهُ هَلَّا وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ إِذَا كَانَ يَلِيهِ الْفِعْلُ كَقَوْلِهِ: لَوْلا أَخَّرْتَنِي [الْمُنَافِقُونَ: 10] وَقَوْلِهِ: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ [يُونُسَ: 98] فَأَمَّا إِذَا وَلِيَهُ الِاسْمُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سَبَأٍ: 31] وَقَوْلِهِ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ [النور: 10] والمراد كان الواجب على المؤمنين إذا سَمِعُوا قَوْلَ الْقَاذِفِ أَنْ يُكَذِّبُوهُ وَيَشْتَغِلُوا بِإِحْسَانِ الظَّنِّ وَلَا يُسْرِعُوا إِلَى التُّهْمَةِ فِيمَنْ عَرَفُوا فِيهِ الطَّهَارَةَ، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هَلَّا قِيلَ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَنْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ خَيْرًا وَقُلْتُمْ فَلِمَ عَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ وَعَنِ الْمُضْمَرِ إِلَى الظَّاهِرِ؟ الْجَوَابُ: لِيُبَالِغَ فِي التَّوْبِيخِ بِطَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، وَفِي التَّصْرِيحِ بِلَفْظِ الْإِيمَانِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِيهِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُظَنَّ بِالْمُسْلِمِينَ إِلَّا خَيْرًا، لِأَنَّ دِينَهُ يَحْكُمُ بِكَوْنِ الْمَعْصِيَةِ مَنْشَأً لِلضَّرَرِ وَعَقْلِهِ يَهْدِيهِ إِلَى وُجُوبِ الِاحْتِرَازِ عَنِ الضَّرَرِ، وَهَذَا يُوجِبُ حصول الظن باحترازه عن العصية، فَإِذَا وُجِدَ هَذَا الْمُقْتَضَى لِلِاحْتِرَازِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي مُقَابَلَتِهِ رَاجِحٌ يُسَاوِيهِ فِي الْقُوَّةِ وَجَبَ إِحْسَانُ الظَّنِّ، وَحَرُمَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّعْنِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ بِأَنْفُسِهِمْ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنْ يَظُنَّ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ خَيْرًا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 11] وَقَوْلُهُ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 54] وَقَوْلُهُ: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّورِ: 61] وَمَعْنَاهُ أَيْ بِأَمْثَالِكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ كَأَنْفُسِكُمْ، رُوِيَ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ لِأُمِّ أَيُّوبَ أَمَا تَرَيْنَ مَا يُقَالُ؟ فَقَالَتْ لَوْ كُنْتَ بَدَلَ صَفْوَانَ أَكُنْتَ تَظُنُّ بِحَرَمِ رَسُولِ اللَّه سُوءًا؟ قَالَ لَا، قَالَتْ وَلَوْ كُنْتُ بَدَلَ عَائِشَةَ مَا خُنْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَائِشَةُ خَيْرٌ مِنِّي وَصَفْوَانُ خَيْرٌ مِنْكَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ ذَلِكَ مُعَاتَبَةً لِلْمُؤْمِنِينَ إِذِ الْمُؤْمِنُ لَا يَفْجُرُ بِأُمِّهِ وَلَا الْأُمُّ بِابْنِهَا وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا هِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ كَالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ فِيمَا يَجْرِي عَلَيْهَا مِنَ الْأُمُورِ فَإِذَا جَرَى عَلَى أَحَدِهِمْ مَكْرُوهٌ فَكَأَنَّهُ جَرَى عَلَى جَمِيعِهِمْ. عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي تواصلهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا وجع بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى وَجِعَ كُلُّهُ» وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُؤْمِنُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» . السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: هذا إِفْكٌ مُبِينٌ وهل يحل لمن يسمح مَا لَا يَعْرِفُهُ/ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ، لَكِنَّهُ يُخْبِرُ بِذَلِكَ عَنْ قَوْلِ الْقَاذِفِ الَّذِي لَا يَسْتَنِدُ إِلَى أَمَارَةٍ وَلَا عَنْ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي أَمْرِ عَائِشَةَ لِأَنَّ كَوْنَهَا زَوْجَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَعْصُومِ عَنْ جَمِيعِ الْمُنَفِّرَاتِ كَالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ فِي كَوْنِ ذَلِكَ كَذِبًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِيمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ خَيْرًا، وَيُوجِبَ أَنْ يَكُونَ عُقُودُ الْمُسْلِمِينَ وَتَصَرُّفَاتُهُمْ مَحْمُولَةً عَلَى الصِّحَّةِ وَالْجَوَازِ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ وَجَدَ رَجُلًا مَعَ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ فَاعْتَرَفَا بِالتَّزْوِيجِ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَكْذِيبُهُمَا بَلْ يَجِبُ تَصْدِيقُهُمَا وَزَعَمَ مَالِكٌ أَنَّهُ يَحُدُّهُمَا إِنْ لَمْ يُقِيمَا بَيِّنَةً عَلَى النِّكَاحِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا قَالَ أَصْحَابُنَا رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ فِيمَنْ بَاعَ دِرْهَمًا وَدِينَارًا بِدِرْهَمَيْنِ وَدِينَارَيْنِ إِنَّهُ يُخَالِفُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّا قَدْ أُمِرْنَا بِحُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُؤْمِنِينَ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَا يَجُوزُ وَهُوَ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ إِذَا بَاعَ سَيْفًا مُحَلًّى فِيهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ إِنَّا نَجْعَلُ الْمِائَةَ بِالْمِائَةِ وَالْفَضْلَ بِالسَّيْفِ، وَهُوَ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عُدُولٌ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ رِيبَةٌ لِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِحُسْنِ الظَّنِّ، وَذَلِكَ يُوجِبُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ مَا لَمْ يَظْهَرْ منه ريبة توجب التوقف عنها أوردها، قال

[سورة النور (24) : آية 13]

تَعَالَى: إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [النَّجْمِ: 28] . [سورة النور (24) : آية 13] لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) النوع الثاني وَهَذَا مِنْ بَابِ الزَّوَاجِرِ، وَالْمَعْنَى هَلَّا أَتَوْا عَلَى مَا ذَكَرُوهُ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ يَشْهَدُونَ عَلَى مُعَايَنَتِهِمْ فِيمَا رَمَوْهَا بِهِ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ أَيْ فَحِينَ لَمْ يُقِيمُوا بَيِّنَةً عَلَى مَا قَالُوا، فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّه أَيْ فِي حُكْمِهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ إِذَا لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُهُمْ صَادِقِينَ كَمَا يَجُوزُ كَوْنُهُمْ كَاذِبِينَ فَلِمَ جَزَمَ بِكَوْنِهِمْ كَاذِبِينَ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الَّذِينَ رَمَوْا عَائِشَةَ خَاصَّةً وَهُمْ كَانُوا عِنْدَ اللَّه كَاذِبِينَ الثَّانِي: الْمُرَادُ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّه فِي حُكْمِ الْكَاذِبِينَ فَإِنَّ الْكَاذِبَ يَجِبُ زَجْرُهُ عَنِ الْكَذِبِ، وَالْقَاذِفُ إِنْ لَمْ يَأْتِ بِالشُّهُودِ فَإِنَّهُ يَجِبُ زَجْرُهُ فَلَمَّا كَانَ شَأْنُهُ شَأْنَ الْكَاذِبِ فِي الزَّجْرِ لَا جَرَمَ أُطْلِقَ عليه لفظ الكاذب مجازا. [سورة النور (24) : آية 14] وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) النوع الثالث وَهَذَا مِنْ بَابِ الزَّوَاجِرِ أَيْضًا، وَلَوْلَا هَاهُنَا لِامْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِوُجُودِ غَيْرِهِ، وَيُقَالُ أَفَاضَ فِي الْحَدِيثِ وَانْدَفَعَ وَخَاضَ، وَفِي الْمَعْنَى وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَلَوْلَا أَنِّي قَضَيْتُ أَنْ أَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا بِضُرُوبِ النِّعَمِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْإِمْهَالُ لِلتَّوْبَةِ، وَأَنْ أَتَرَحَّمَ عَلَيْكُمْ فِي الْآخِرَةِ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ لَعَاجَلْتُكُمْ بِالْعِقَابِ عَلَى مَا خُضْتُمْ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ وَالثَّانِي: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعًا، فَيَكُونُ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْخِطَابُ لِلْقَذَفَةِ وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ، وَهَذَا الْفَضْلُ هُوَ حُكْمُ اللَّه تَعَالَى مِنْ تَأْخِيرِهِ الْعَذَابَ وَحُكْمِهِ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ لِمَنْ تَابَ. [سورة النور (24) : آية 15] إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) النوع الرابع وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الزَّوَاجِرِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إذ ظرف لمسكم أو لأفضتم وَمَعْنَى تَلَقَّوْنَهُ يَأْخُذُهُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ يُقَالُ تَلَقَّى الْقَوْلَ وَتَلَقَّنَهُ وَتَلَقَّفَهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [الْبَقَرَةِ: 37] وَقُرِئَ على الأصل تتلقونه واتلقونه بِإِدْغَامِ الذَّالِ فِي التَّاءِ وَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ لَقِيَهُ بِمَعْنَى لَفِقَهُ وَتُلْقُونَهُ مِنْ إِلْقَائِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بعض وتلقونه، وتألقونه من الولق والألف وَهُوَ الْكَذِبُ، وَتَلِقُونَهُ مَحْكِيَّةٌ عَنْ عَائِشَةَ، وَعَنْ سُفْيَانَ: سَمِعْتُ أُمِّي تَقْرَأُ إِذْ تَثَقَّفُونَهُ، وَكَانَ أَبُوهَا يَقْرَأُ بِحَرْفِ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِارْتِكَابِ ثَلَاثَةِ آثَامٍ وَعَلَّقَ مَسَّ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ بِهَا أَحَدُهَا: تَلَقِّي الْإِفْكِ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ لَهُ مَا وَرَاءَكَ؟ فَيُحَدِّثُهُ بِحَدِيثِ الْإِفْكِ حَتَّى شَاعَ وَاشْتَهَرَ فَلَمْ يَبْقَ بَيْتٌ وَلَا نَادٍ إِلَّا طَارَ فِيهِ، فَكَأَنَّهُمْ سَعَوْا فِي إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ

[سورة النور (24) : آية 16]

وَذَلِكَ مِنَ الْعَظَائِمِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِخْبَارُ إِلَّا مَعَ الْعِلْمِ فَأَمَّا الَّذِي لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ فَالْإِخْبَارُ عَنْهُ كَالْإِخْبَارِ عَمَّا عُلِمَ كَذِبُهُ فِي الْحُرْمَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الْإِسْرَاءِ: 36] فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: بِأَفْواهِكُمْ وَالْقَوْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْفَمِ؟ قُلْنَا مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّيْءَ الْمَعْلُومَ يَكُونُ عِلْمُهُ فِي الْقَلْبِ فَيُتَرْجَمُ عَنْهُ بِاللِّسَانِ وَهَذَا الْإِفْكُ لَيْسَ إِلَّا قَوْلًا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِكُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ فِي الْقَلْبِ عِلْمٌ بِهِ، كَقَوْلِهِ: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 167] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَصْغِرُونَ ذَلِكَ وهو من عَظِيمٌ مِنَ الْعَظَائِمِ، وَيَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ مِنَ الْكَبَائِرِ لِقَوْلِهِ: وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ الثَّانِي: نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً عَلَى أَنَّ عِظَمَ الْمَعْصِيَةِ لَا يَخْتَلِفُ بِظَنِّ فَاعِلِهَا وَحُسْبَانِهِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ مُؤَكِّدًا لِعِظَمِهَا مِنْ حَيْثُ جَهْلِ كَوْنِهَا عَظِيمًا، / الثَّالِثُ: الْوَاجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي كُلِّ مُحَرَّمٍ أَنْ يَسْتَعْظِمَ الْإِقْدَامَ عَلَيْهِ، إِذْ لَا يَأْمَنُ أَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَقِيلَ لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ. [سورة النور (24) : آية 16] وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) النوع الخامس [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا] وَهَذَا مِنْ بَابِ الْآدَابِ، أَيْ هَلَّا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِمُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُقْتَضَى لِكَوْنِهِمْ تَارِكِينَ لِهَذَا الْفِعْلِ قَائِمٌ وَهُوَ الْعَقْلُ وَالدِّينُ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُعَارِضُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ظَنُّ كَوْنِهِمْ تَارِكِينَ لِلْمَعْصِيَةِ أَقْوَى مِنْ ظَنِّ كَوْنِهِمْ فَاعِلِينَ لَهَا، فَلَوْ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ صُدُورِ الْمَعْصِيَةِ لَكَانَ قَدْ رَجَّحَ الْمَرْجُوحَ عَلَى الرَّاجِحِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ وَثَانِيهَا: وَهُوَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِيذَاءَ الرَّسُولِ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِلَّعْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الْأَحْزَابِ: 57] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ سَبَبٌ لِإِيذَاءِ عَائِشَةَ وَإِيذَاءِ أَبَوَيْهَا وَمَنْ يَتَّصِلُ بِهِمْ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ عُرِفَ إِقْدَامُهُمْ عَلَيْهِ، وَلَا جِنَايَةَ عُرِفَ صُدُورُهَا عَنْهُمْ، وَذَلِكَ حَرَامٌ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ إِقْدَامٌ على ما يجوز أن يكون سبا لِلضَّرَرِ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، وَالْعَقْلُ يَقْتَضِي التَّبَاعُدَ عَنْهُ لِأَنَّ الْقَاذِفَ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ صَادِقًا لَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ عَلَى صِدْقِهِ بَلْ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ لِأَنَّهُ أَشَاعَ الْفَاحِشَةَ، وَبِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ كَاذِبًا فَإِنَّهُ فيه يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ الْعَظِيمَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي صَرِيحُ الْعَقْلِ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَضْيِيعٌ لِلْوَقْتِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» وَسَادِسُهَا: أَنَّ فِي إِظْهَارِ مَحَاسِنِ النَّاسِ وَسَتْرِ مَقَابِحِهِمْ تَخَلُّقًا بِأَخْلَاقِ اللَّه تَعَالَى، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّه» فَهَذِهِ الْوُجُوهُ تُوجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنَّهُ إِذَا سَمِعَ الْقَذْفَ أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي الِاحْتِرَازِ عَنِ الْوُقُوعِ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ جَازَ الْفَصْلُ بَيْنَ لَوْلَا وَبَيْنَ قُلْتُمْ بِالظَّرْفِ؟ قُلْنَا الْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَحْتَرِزُوا أَوَّلَ مَا سَمِعُوا بِالْإِفْكِ عَنِ التَّكَلُّمِ بِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ فَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَلِيقُ سُبْحَانَكَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ التَّعَجُّبُ مِنْ عِظَمِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَى التَّعَجُّبِ لِأَنَّهُ يُسَبَّحُ اللَّه عِنْدَ رُؤْيَةِ الْعَجِيبِ مِنْ صَانِعِهِ ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مُتَعَجَّبٍ مِنْهُ الثَّانِي: الْمُرَادُ تَنْزِيهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةُ نَبِيِّهِ فَاجِرَةً الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عن أن يرضى

[سورة النور (24) : الآيات 17 إلى 18]

الرَّابِعُ: أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ لَا يُعَاقِبَ هَؤُلَاءِ الْقَذَفَةَ الظَّلَمَةَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ أُوجِبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ مَعَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا عَالِمِينَ بِكَوْنِهِ كَذِبًا قَطْعًا؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ بُهْتَانًا، لِأَنَّ زَوْجَةَ الرَّسُولِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فَاجِرَةً الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمَّا جَزَمُوا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا ظَانِّينَ لَهُ بِالْقَلْبِ كَانَ إِخْبَارُهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْجَزْمِ كَذِبًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [المنافقون: 1] . [سورة النور (24) : الآيات 17 الى 18] يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) النوع السادس [في قَوْلُهُ تَعَالَى يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] وَهَذَا مِنْ بَابِ الزَّوَاجِرِ، وَالْمَعْنَى يَعِظُكُمُ اللَّه بِهَذِهِ الْمَوَاعِظِ الَّتِي بِهَا تَعْرِفُونَ عِظَمَ هَذَا الذَّنَبِ وَأَنَّ فِيهِ الْحَدَّ وَالنَّكَالَ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، لِكَيْ لَا تَعُودُوا إِلَى مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ أَبَدًا وَأَبَدُهُمْ مَا دَامُوا أَحْيَاءً مُكَلَّفِينَ، وَقَدْ دَخَلَ تَحْتَ ذَلِكَ مَنْ قَالَ وَمَنْ سَمِعَ فَلَمْ يُنْكِرْ، لِأَنَّ حَالَهُمَا سَوَاءٌ فِي أَنْ فَعَلَا مَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ مَنْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ أَعْظَمَ ذَنْبًا، فَبَيَّنَ أَنَّ الْغَرَضَ بِمَا عَرَّفَهُمْ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنْ لَا يَعُودُوا إِلَى مِثْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُمْ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْقَذْفِ مِنَ الْإِيمَانِ وَعَلَى أَنَّ فِعْلَ الْقَذْفِ لَا يَبْقَى مَعَهُ الْإِيمَانُ، لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى الشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ وَالْجَوَابُ: هذا معارض بقوله: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور: 11] أَيْ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ لَا يُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنِ الْإِيمَانِ وَإِذَا ثَبَتَ التَّعَارُضُ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى التَّهْيِيجِ فِي الِاتِّعَاظِ وَالِانْزِجَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْ جَمِيعِ مَنْ وَعَظَهُ مُجَانَبَةَ مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يُطِيعُ، فَمِنْ هَذَا الوجه تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ مِنْ كُلِّهِمُ الطَّاعَةَ وَإِنْ عَصَوْا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا مَعْنَاهُ لِكَيْ لَا تَعُودُوا لِمِثْلِهِ وَذَلِكَ دَلَالَةُ الْإِرَادَةِ وَالْجَوَابُ: عَنْهُ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا. المسألة الثَّالِثَةُ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى اللَّه تَعَالَى وَاعِظًا لِقَوْلِهِ: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا؟ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى مُعَلِّمًا لِقَوْلِهِ: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرَّحْمَنِ: 1، 2] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَاتِ مَا بِهِ يَعْرِفُ الْمَرْءُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لِكَوْنِهِ عَلِيمًا حَكِيمًا يُؤَثِّرُ بِمَا يَجِبُ أَنْ يُبَيِّنَهُ وَيَجِبُ أَنْ يُطَاعَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْ لَا يَكُونُ عَالِمًا لَا يَجِبُ قَبُولُ تَكْلِيفِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يَنْبَغِي، وَلِأَنَّ/ الْمُكَلَّفَ إِذَا أَطَاعَهُ فَقَدْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَطَاعَهُ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِلطَّاعَةِ فَائِدَةٌ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَالِمًا لَكِنَّهُ لَا يَكُونُ حَكِيمًا فَقَدْ يَأْمُرُهُ بِمَا لَا يَنْبَغِي فَإِذَا أَطَاعَهُ الْمُكَلَّفُ فَقَدْ يُعَذِّبُ الْمُطِيعَ وَقَدْ يُثِيبُ الْعَاصِيَ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِلطَّاعَةِ فَائِدَةٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا يَنْبَغِي وَلَا يُهْمِلُ جَزَاءَ الْمُسْتَحِقِّينَ، فَلِهَذَا ذَكَرَ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ وَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ:

[سورة النور (24) : آية 19]

الْأَوَّلُ: الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي لَا يَأْتِي بِمَا لَا يَنْبَغِي، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَالِمًا بِقُبْحِ الْقَبِيحِ وَعَالِمًا بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُ فَيَكُونُ الْعَلِيمُ دَاخِلًا فِي الْحَكِيمِ، فَكَانَ ذِكْرُ الْحَكِيمِ مُغْنِيًا عَنْهُ. هَذَا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَالْحِكْمَةُ هِيَ الْعِلْمُ فَقَطْ، فَذِكْرُ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ يَكُونُ تَكْرَارًا مَحْضًا الْجَوَابُ: يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى التَّأْكِيدِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ قَبُولُ بَيَانِ اللَّه تَعَالَى لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ عَالِمًا حَكِيمًا، وَالْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي لَا يَفْعَلُ الْقَبَائِحَ فَتَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَالِقًا لِلْقَبَائِحِ لَمَا جَازَ الِاعْتِمَادُ على وعده ووعيده والجواب: الحكم عِنْدَنَا هُوَ الْعَلِيمُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى قَوْلِهِ لِكَوْنِهِ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، فَإِنَّ الْجَاهِلَ لَا اعْتِمَادَ عَلَى قَوْلِهِ الْبَتَّةَ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قالت المعتزلة قوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ أَيْ لِأَجْلِكُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَهُ مُعَلَّلَةٌ بِالْأَغْرَاضِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: لَكُمُ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ نَفْسَ ذَوَاتِهِمْ بَلِ الْغَرَضُ حُصُولَ انْتِفَاعِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْإِيمَانَ مِنَ الْكُلِّ وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَعَلَ بِهِمْ مَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ لكان ذلك غرضا. [سورة النور (24) : آية 19] إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) النوع السابع اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ مَا عَلَى أَهْلِ الْإِفْكِ وَمَا عَلَى مَنْ سَمِعَ مِنْهُمْ، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ آدَابِ الدِّينِ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ لِيُعْلَمَ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ فَقَدْ شَارَكَ فِي هَذَا الذَّمِّ كَمَا شَارَكَ فِيهِ مَنْ فَعَلَهُ وَمَنْ لَمْ يُنْكِرْهُ، وَلِيُعْلَمَ أَنَّ أَهْلَ الْأَفْكِ كَمَا عَلَيْهِمُ الْعُقُوبَةُ فِيمَا أَظْهَرُوهُ، فَكَذَلِكَ يَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ بِمَا أَسَرُّوهُ مِنْ مَحَبَّةِ إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ سَلَامَةِ الْقَلْبِ لِلْمُؤْمِنِينَ كَوُجُوبِ كَفِّ الجوارح والقول عما يضربهم، وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: مَعْنَى الْإِشَاعَةِ الِانْتِشَارُ يُقَالُ فِي هَذَا الْعَقَارِ سَهْمٌ شَائِعٌ إِذَا كَانَ فِي الْجَمِيعِ وَلَمْ يَكُنْ مُنْفَصِلًا، وَشَاعَ الْحَدِيثُ إِذَا ظَهَرَ فِي الْعَامَّةِ. المسألة الثَّانِيَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ يُفِيدُ الْعُمُومَ وَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَذْفِ عَائِشَةَ إِلَّا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ فَوَجَبَ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا فِي الْعُمُومِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا بِقَذَفَةِ عَائِشَةَ قوله تعالى فِي: الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّهُ صِيغَةُ جَمْعٍ وَلَوْ أَرَادَ عَائِشَةَ وَحْدَهَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، وَالَّذِينَ خَصَّصُوهُ بِقَذَفَةِ عَائِشَةَ مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّه بْنِ أُبَيٍّ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَعَى فِي إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ قَالُوا مَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ وَالْمُرَادُ عَبْدُ اللَّه أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ أَيْ الزِّنَا فِي الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ فِي عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ.

المسألة الثَّالِثَةُ: رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ قَوْمًا يَضْرِبُونَ صُدُورَهُمْ ضَرْبًا يَسْمَعُهُ أَهْلُ النَّارِ، وَهُمُ الْهَمَّازُونَ اللَّمَّازُونَ الَّذِينَ يَلْتَمِسُونَ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَيَهْتِكُونَ سُتُورَهُمْ وَيُشِيعُونَ فِيهِمْ مِنَ الْفَوَاحِشِ مَا لَيْسَ فِيهِمْ» وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَسْتُرُ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ عَوْرَةَ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلَّا سَتَرَهُ اللَّه يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا صَفْقَتَهُ أَقَالَ اللَّه عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ عَوْرَتَهُ سَتَرَ اللَّه عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ» وَعَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه وَيُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ» وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ» . المسألة الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي عَذَابِ الدُّنْيَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ الْحَدُّ وَاللَّعْنُ وَالْعَدَاوَةُ مِنَ اللَّه وَالْمُؤْمِنِينَ، ضَرَبَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّه بن أبي وحسان ومسطح، وَقَعَدَ صَفْوَانُ لِحَسَّانَ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ فَكَفَّ بَصَرَهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ عَنَى بِهِ الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا أَنْ يَغُمُّوا رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنَ أَرَادَ غَمَّ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَافِرٌ، وَعَذَابُهُمْ فِي الدُّنْيَا هُوَ مَا كَانُوا يَتْعَبُونَ فِيهِ وَيُنْفِقُونَ لِمُقَاتَلَةِ أَوْلِيَائِهِمْ مَعَ أَعْدَائِهِمْ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الَّذِينَ يُحِبُّونَ هُمُ الْمُنَافِقُونَ يُحِبُّونَ ذَلِكَ فَأَوْعَدَهُمُ اللَّه تَعَالَى الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا عَلَى يَدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُجَاهَدَةِ لِقَوْلِهِ: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَةِ: 73] وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْعَذَابِ مَا اسْتَحَقُّوهُ بِإِفْكِهِمْ وَهُوَ الْحَدُّ وَاللَّعْنُ وَالذَّمُّ. فَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ فِي الْقَبْرِ عَذَابُهُ، وَفِي الْقِيَامَةِ عَذَابُ النَّارِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فَهُوَ حَسَنُ الْمَوْقِعِ بِهَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّ مَحَبَّةَ الْقَلْبِ كَامِنَةٌ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهَا إِلَّا بِالْأَمَارَاتِ، أَمَّا اللَّه سُبْحَانَهُ فَهُوَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَصَارَ هَذَا الذِّكْرُ نِهَايَةً فِي الزَّجْرِ لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّ إِشَاعَةَ الْفَاحِشَةِ وَإِنْ بَالَغَ فِي إِخْفَاءِ تِلْكَ الْمَحَبَّةِ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ وَأَنَّ عِلْمَهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ الَّذِي أَخْفَاهُ كَعِلْمِهِ بِالَّذِي أَظْهَرَهُ وَيَعْلَمُ قَدْرَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ. المسألة الْخَامِسَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الذَّنْبِ الْعَظِيمِ عَظِيمٌ، وَأَنَّ إِرَادَةَ الْفِسْقِ فِسْقٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ الْوَعِيدَ بِمَحَبَّةِ إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ. المسألة السَّادِسَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ قَاذِفٍ لَمْ يَتُبْ مِنْ قَذْفِهِ فَلَا ثَوَابَ لَهُ مِنْ حَيْثُ اسْتَحَقَّ هَذَا الْعَذَابَ الدَّائِمَ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ ضِدِّهِ الَّذِي هُوَ الثَّوَابُ، فَمِنْ هَذَا الوجه تَدُلُّ عَلَى مَا نَقُولُهُ فِي الْوَعِيدِ، وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى مَسْأَلَةِ الْمُحَابَطَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. المسألة السَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى بَالَغَ فِي ذَمِّ مَنْ أَحَبَّ إِشَاعَةَ الْفَاحِشَةِ، فَلَوْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ لَمَا كَانَ مُشِيعُ الْفَاحِشَةِ إِلَّا هُوَ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ الذَّمَّ عَلَى إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ إِلَّا هُوَ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي فَعَلَ تِلْكَ الْإِشَاعَةَ وَغَيْرَهُ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْهَا، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ أَيْضًا قَدْ تَقَدَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: الْمُصَابَةُ بِالْفُجُورِ لَا تُسْتَنْطَقُ، لِأَنَّ استنطاقها إشاعة للفاحشة وذلك ممنوع منه.

[سورة النور (24) : آية 20]

[سورة النور (24) : آية 20] وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) النوع الثامن وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ جَوَابَهُ مَحْذُوفٌ وَكَأَنَّهُ قَالَ لَهَلَكْتُمْ أَوْ لَعَذَّبَكُمُ اللَّه وَاسْتَأْصَلَكُمْ لَكِنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْخِطَابُ لِحَسَّانَ وَمِسْطَحٍ وَحَمْنَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ عَامًّا والثاني: جوابه في قوله: ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً [النُّورِ: 21] وَالثَّالِثُ: جَوَابُهُ لَكَانَتِ الْفَاحِشَةُ تَشِيعُ فَتَعْظُمُ الْمَضَرَّةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ جَوَابَهُ مَحْذُوفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ مِنْ بَعْدِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ [النور: 21] كَالْمُنْفَصِلِ مِنَ الْأَوَّلِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلْأَوَّلِ، خُصُوصًا وَقَدْ وَقَعَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ كَلَامٌ آخَرُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَوْلَا إِنْعَامُهُ بِأَنْ بَقِيَ وَأَمْهَلَ وَمَكَّنَ مِنَ التَّلَافِي لَهَلَكُوا، لَكِنَّهُ لِرَأْفَتِهِ لَا يَدَعُ مَا هُوَ لِلْعَبْدِ أَصْلَحُ وإن جنى على نفسه. [سورة النور (24) : آية 21] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) النوع التَّاسِعُ قُرِئَ خُطُوَاتِ بِضَمِّ الطَّاءِ وَسُكُونِهَا، وَالْخُطُوَاتِ جَمْعُ خُطْوَةٍ وَهُوَ مِنْ خَطَا الرَّجُلُ يَخْطُو خَطْوًا، فَإِذَا أَرَدْتَ الْوَاحِدَةَ قُلْتَ خَطْوَةٌ مَفْتُوحَةَ الْأَوَّلِ، وَالْجَمْعُ يُفْتَحُ أَوَّلُهُ وَيَضُمُّ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ السِّيرَةُ وَالطَّرِيقَةُ، وَالْمَعْنَى لَا تَتَّبِعُوا آثَارَ الشَّيْطَانِ وَلَا تَسْلُكُوا مَسَالِكَهُ فِي الْإِصْغَاءِ إِلَى الْإِفْكِ وَالتَّلَقِّي لَهُ وَإِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ فِي الَّذِينَ آمَنُوا، واللَّه تَعَالَى وَإِنْ خَصَّ بِذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ نَهْيٌ لِكُلِّ الْمُكَلَّفِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ الْمُكَلَّفِينَ مَمْنُوعُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ تَوَعَّدَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ خُطُوَاتِهِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْكُفَّارَ لَكَانُوا قَدِ اتَّبَعُوهُ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ مَا عَلَى أَهْلِ الْإِفْكِ مِنَ الْوَعِيدِ أَدَّبَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا، بِأَنْ خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِيَتَشَدَّدُوا فِي تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، لِئَلَّا يَكُونَ حَالُهُمْ كَحَالِ أَهْلِ الْإِفْكِ وَالْفَحْشَاءِ وَالْفَاحِشَةُ ما أفرط قيحه، وَالْمُنْكَرُ مَا تُنْكِرُهُ النُّفُوسُ فَتَنْفِرُ عَنْهُ وَلَا تَرْتَضِيهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً فَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ مَا زَكَّى بِالتَّشْدِيدِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الزَّكِيَّ مَنْ بَلَغَ فِي طَاعَةِ اللَّه مَبْلَغَ الرِّضَا وَمِنْهُ يُقَالُ زَكَى الزَّرْعُ، فَإِذَا بَلَغَ الْمُؤْمِنُ مِنَ الصَّلَاحِ فِي الدِّينِ إِلَى مَا يَرْضَاهُ اللَّه تَعَالَى سُمِّيَ زَكِيًّا، وَلَا يُقَالُ زَكِيٌّ إِلَّا إِذَا وُجِدَ زَكِيًّا، كَمَا لَا يُقَالُ لِمَنْ تَرَكَ الْهُدَى هَدَاهُ اللَّه تَعَالَى مُطْلَقًا، بَلْ يُقَالُ هُدَاهُ اللَّه فَلَمْ يَهْتَدِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي مَسْأَلَةِ الْمَخْلُوقِ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ فَقَالُوا التَّزْكِيَةَ كَالتَّسْوِيدِ وَالتَّحْمِيرِ فَكَمَا أَنَّ التَّسْوِيدَ تَحْصِيلُ السَّوَادِ، فَكَذَا التَّزْكِيَةُ تَحْصِيلُ الزَّكَاءِ فِي الْمَحَلِّ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَاهُنَا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: حَمْلُ التَّزْكِيَةِ عَلَى فِعْلِ الْأَلْطَافِ وَالثَّانِي: حَمْلُهَا عَلَى الْحُكْمِ بِكَوْنِ الْعَبْدِ زَكِيًّا، قَالَ أَصْحَابُنَا: الْوَجْهَانِ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ، ثُمَّ نقيم الدلالة

[سورة النور (24) : آية 22]

الْعَقْلِيَّةَ عَلَى بُطْلَانِهِمَا أَيْضًا أَمَّا الوجه الْأَوَّلُ: فَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ فِعْلَ اللُّطْفِ هَلْ يُرَجِّحُ الدَّاعِيَ أَوْ لَا يُرَجِّحُهُ فَإِنْ لَمْ يُرَجِّحْهُ الْبَتَّةَ لَمْ يَكُنْ بِهِ تَعَلُّقٌ فَلَا يَكُونُ لُطْفًا، وَإِنْ رَجَّحَهُ فَنَقُولُ الْمُرَجَّحُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُنْتَهِيًا إِلَى حَدِّ الْوُجُوبِ، فَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ التَّرْجِيحِ إِمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ وُقُوعُ الْفِعْلِ عِنْدَهُ أَوْ يُمْكِنَ أَوْ يَجِبَ، فَإِنِ امْتَنَعَ كَانَ مَانِعًا لَا دَاعِيًا، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ وَأَنْ لَا يَكُونَ، فَكُلُّ مَا يُمْكِنُ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ، فَلْيُفْرَضْ تَارَةً وَاقِعًا وَأُخْرَى غَيْرَ وَاقِعٍ، فَامْتِيَازُ وَقْتِ الْوُقُوعِ عَنْ وَقْتِ اللَّاوُقُوعِ، إِمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى انْضِمَامِ قَيْدٍ إِلَيْهِ أَوْ لَا يَتَوَقَّفَ، فَإِنْ تَوَقَّفَ كَانَ الْمُرَجَّحُ هُوَ الْمَجْمُوعُ الْحَاصِلُ بَعْدَ انْضِمَامِ هَذَا الْقَيْدِ، فَلَا يَكُونُ الْحَاصِلُ أَوَّلًا مُرَجَّحًا، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ كَانَ اخْتِصَاصُ أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ بِالْوُقُوعِ وَالْآخَرِ بِاللَّاوُقُوعِ تَرْجِيحًا لِلْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ، وَأَمَّا إِنَّ اللُّطْفَ مُرَجِّحًا مُوجِبًا كَانَ فَاعِلُ اللُّطْفِ فَاعِلًا لِلْمَلْطُوفِ فِيهِ، فَكَانَ تَعَالَى فَاعِلًا لِفِعْلِ الْعَبْدِ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ عَلَّقَ التَّزْكِيَةَ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَفِعْلُ اللُّطْفِ وَاجِبٌ، وَالْوَاجِبُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَّقَ التَّزْكِيَةَ عَلَى الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ وَخَلْقُ/ الْأَلْطَافِ وَاجِبٌ فَلَا يَكُونُ مُعَلَّقًا بِالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ وَأَمَّا الوجه الثَّانِي: وَهُوَ الْحُكْمُ بِكَوْنِهِ زَكِيًّا فَذَلِكَ واجب لأنه لو يُحْكَمْ بِهِ لَكَانَ كَذِبًا وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالْمَشِيئَةِ؟ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ نَصٌّ فِي الْبَابِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَسْمَعُ أَقْوَالَكُمْ فِي الْقَذْفِ وَأَقْوَالَكُمْ فِي إِثْبَاتِ الْبَرَاءَةِ، عَلِيمٌ بِمَا فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ مَحَبَّةِ إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ أَوْ مِنْ كَرَاهِيَتِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ الِاحْتِرَازُ عَنْ معصيته. [سورة النور (24) : آية 22] وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا أَدَّبَ أَهْلَ الْإِفْكِ وَمَنْ سَمِعَ كَلَامَهُمْ كَمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، فَكَذَلِكَ أَدَّبَ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا حَلَفَ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ أَبَدًا، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ حَيْثُ حَلَفَ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ وَهُوَ ابْنُ خَالَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ كَانَ يَتِيمًا فِي حِجْرِهِ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَعَلَى قَرَابَتِهِ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ قَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ قُومُوا فَلَسْتُمْ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْكُمْ وَلَا يَدْخُلَنَّ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ، فَقَالَ مِسْطَحٌ أَنْشُدُكَ اللَّه وَالْإِسْلَامَ وَأَنْشُدُكَ الْقُرَابَةَ وَالرَّحِمَ أَنْ لَا تُحْوِجَنَا إِلَى أَحَدٍ، فَمَا كَانَ لَنَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مِنْ ذَنْبٍ، فَقَالَ لِمِسْطَحٍ إِنْ لَمْ تَتَكَلَّمْ فَقَدْ ضَحِكْتَ! فَقَالَ قَدْ كَانَ ذَلِكَ تَعَجُّبًا مِنْ قَوْلِ حَصَانٍ فَلَمْ يَقْبَلْ عُذْرَهُ، وَقَالَ انْطَلِقُوا أَيُّهَا الْقَوْمُ فَإِنَّ اللَّه لَمْ يَجْعَلْ لَكُمْ عُذْرًا وَلَا فَرَجًا، فَخَرَجُوا لَا يدرون أين يذهبون وأن يَتَوَجَّهُونَ مِنَ الْأَرْضِ، فَبَعَثَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ أَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا يَنْهَاكَ فِيهِ أَنْ تُخْرِجَهُمْ فَكَبَّرَ أَبُو بَكْرٍ وَسَرَّهُ، وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ عَلَيْهِ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى قَوْلِهِ: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ قَالَ بَلَى يَا رَبِّ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يُغْفَرَ لِي، وَقَدْ تَجَاوَزْتُ عَمَّا كَانَ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى بَيْتِهِ وَأَرْسَلَ إِلَى مِسْطَحٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَ قَبِلْتُ مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ، وَإِنَّمَا فَعَلْتُ بِكُمْ مَا فَعَلْتُ إِذْ سَخِطَ اللَّه عَلَيْكُمْ، أَمَّا إِذَا عَفَا عَنْكُمْ فَمَرْحَبًا بِكُمْ، وَجَعَلَ لَهُ مِثْلَيْ مَا كَانَ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: وَلا يَأْتَلِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ مِنِ ائْتَلَى إِذَا حَلَفَ، افْتَعَلَ مِنَ الْأَلِيَّةِ، وَالْمَعْنَى لَا يَحْلِفُ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ هَذَا ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: / أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنَ الْحَلِفِ عَلَى الْإِعْطَاءِ وَهُمْ أَرَادُوا الْمَنْعَ مِنَ الْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ الْإِعْطَاءِ، فَهَذَا الْمُتَأَوِّلُ قَدْ

أَقَامَ النَّفْيَ مَكَانَ الْإِيجَابِ وَجَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَأْمُورًا بِهِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ قَلَّمَا يُوجَدُ فِي الْكَلَامِ افْتَعَلْتُ مَكَانَ أَفْعَلْتُ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ مَكَانَ فَعَّلْتُ، وَهُنَا آلَيْتُ مِنَ الْأَلِيَّةِ افْتَعَلْتُ. فَلَا يُقَالُ أَفْعَلْتُ كَمَا لَا يُقَالُ مِنْ أَلْزَمْتُ الْتَزَمْتُ وَمِنْ أَعْطَيْتُ اعْتَطَيْتُ، ثم قال فِي يَأْتَلِ إِنَّ أَصْلَهُ يَأْتَلِي ذَهَبَتِ الْيَاءُ لِلْجَزْمِ لِأَنَّهُ نَهْيٌ وَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ مَا آلَوْتُ فُلَانًا نُصْحًا، وَلَمْ آلُ فِي أَمْرِي جُهْدًا، أَيْ مَا قَصَّرْتُ وَلَا يَأْلُ وَلَا يَأْتَلِ وَاحِدًا، فَالْمُرَادُ لَا تُقَصِّرُوا فِي أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِمْ وَيُوجَدُ كَثِيرًا افْتَعَلْتُ مَكَانَ فَعَلْتُ تَقُولُ كَسَبْتُ وَاكْتَسَبْتُ وَصَنَعْتُ وَاصْطَنَعْتُ وَرَضِيتُ وَارْتَضَيْتُ، فَهَذَا التَّأْوِيلُ هُوَ الصَّحِيحُ دُونَ الْأَوَّلِ، وَيُرْوَى هَذَا التَّأْوِيلُ أَيْضًا عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ. أَجَابَ الزَّجَّاجُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ بِأَنْ لَا تُخْذَفُ فِي الْيَمِينِ كَثِيرًا قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا [الْبَقَرَةِ: 224] يَعْنِي أَنْ لَا تَبَرُّوا، وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَقُلْتُ يَمِينُ اللَّه أَبْرَحُ قَاعِدًا ... وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي إِلَيْكِ وَأَوْصَالِي أَيْ لَا أَبْرَحُ، وَأَجَابُوا عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي، أَنَّ جَمِيعَ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ أَبِي مُسْلِمٍ فَسَّرُوا اللَّفْظَةَ بِالْيَمِينِ وَقَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ فَكَيْفَ الْكُلُّ، وَيُعَضِّدُهُ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَلَا يَتَأَلَّ. المسألة الثَّانِيَةُ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: أُولُوا الْفَضْلِ أَبُو بَكْرٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ أَفْضَلَ النَّاسِ بَعْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْفَضْلَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الدِّينِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ لَهُ، وَالْمَدْحُ مِنَ اللَّه تَعَالَى بِالدُّنْيَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ قَوْلُهُ: وَالسَّعَةِ تَكْرِيرًا فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْفَضْلَ فِي الدِّينِ، فَلَوْ كَانَ غَيْرُهُ مُسَاوِيًا لَهُ فِي الدَّرَجَاتِ فِي الدِّينِ لَمْ يَكُنْ هُوَ صَاحِبَ الْفَضْلِ لِأَنَّ الْمُسَاوِيَ لَا يَكُونُ فَاضِلًا، فَلَمَّا أَثْبَتَ اللَّه تَعَالَى لَهُ الْفَضْلَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِشَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلُ الْخُلُقِ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ، فَإِنْ قِيلَ نَمْنَعُ إِجْمَاعَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى اخْتِصَاصِ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَبِي بَكْرٍ، قُلْنَا كُلُّ مَنْ طَالَعَ كُتُبَ التَّفْسِيرِ وَالْأَحَادِيثِ عَلِمَ أَنَّ اخْتِصَاصَ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَبِي بَكْرٍ بَالِغٌ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، فَلَوْ جَازَ مَنْعُهُ لَجَازَ مَنْعُ كُلِّ مُتَوَاتِرٍ، وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا أَفْضَلُ النَّاسِ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ إِمَّا أَبُو بَكْرٍ أَوْ عَلِيٌّ، فَإِذَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ عَلِيًّا تَعَيَّنَتِ الْآيَةُ لِأَبِي بَكْرٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَلِيًّا لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا يَتَعَلَّقُ بِابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ فَيَكُونُ حَدِيثُ عَلِيٍّ فِي الْبَيْنِ سَمِجًا الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأَنَّهُ مِنْ أُولِي السَّعَةِ، وَإِنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ مِنْ أُولِي السَّعَةِ فِي الدُّنْيَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ قَطْعًا، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَصَفَ أَبَا بَكْرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِصِفَاتٍ عَجِيبَةٍ دَالَّةٍ عَلَى عُلُوِّ شَأْنِهِ فِي الدِّينِ أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ كَنَّى عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَالْوَاحِدُ إِذَا كُنِّيَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ دَلَّ عَلَى عُلُوِّ شَأْنِهِ/ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الْحِجْرِ: 9] ، إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الْكَوْثَرِ: 1] فَانْظُرْ إِلَى الشَّخْصِ الَّذِي كَنَّاهُ اللَّه سُبْحَانَهُ مَعَ جَلَالِهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ كَيْفَ يَكُونُ عُلُوُّ شَأْنِهِ! وَثَانِيهَا: وَصَفَهُ بِأَنَّهُ صَاحِبُ الْفَضْلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ لِذَلِكَ بِشَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، وَالْفَضْلُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِفْضَالُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَمَا كَانَ فَاضِلًا عَلَى الْإِطْلَاقِ كَانَ مُفَضَّلًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِفْضَالَ إِفَادَةُ مَا يَنْبَغِي لَا لِعِوَضٍ، فَمَنْ يَهَبُ السِّكِّينَ لِمَنْ يَقْتُلُ نَفْسَهُ لَا يُسَمَّى مُفَضَّلًا لِأَنَّهُ أَعْطَى مَا لَا يَنْبَغِي، وَمَنْ أَعْطَى لِيَسْتَفِيدَ مِنْهُ عِوَضًا إِمَّا مَالِيًّا أَوْ مَدْحًا أَوْ ثَنَاءً فَهُوَ مُسْتَفِيضٌ واللَّه تَعَالَى قَدْ وَصَفَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ

نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى [اللَّيْلِ: 17- 20] وَقَالَ فِي حَقِّ عَلِيٍّ: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً [الْإِنْسَانِ: 9، 10] فِعَلِيٌّ أَعْطَى لِلْخَوْفِ مِنَ الْعِقَابِ، وَأَبُو بَكْرٍ مَا أَعْطَى إِلَّا لِوَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، فَدَرَجَةُ أَبِي بَكْرٍ أَعْلَى فَكَانَتْ عَطِيَّتُهُ فِي الْإِفْضَالِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ قَالَ: أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ فَكَلِمَةُ مِنْ لِلتَّمْيِيزِ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَيَّزَهُ عَنْ كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ بِصِفَةِ كَوْنِهِ أُولِي الْفَضْلِ، وَالصِّفَةُ الَّتِي بِهَا يَقَعُ الِامْتِيَازُ يَسْتَحِيلُ حُصُولُهَا فِي الْغَيْرِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَتْ مُمَيِّزَةً لَهُ بِعَيْنِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ خَاصَّةٌ فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ الْبَتَّةَ وَخَامِسُهَا: أَمْكَنَ حَمْلُ الْفَضْلِ عَلَى طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى وَخِدْمَتِهِ وَقَوْلُهُ: وَالسَّعَةِ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَأَنَّهُ كَانَ مُسْتَجْمِعًا لِلتَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّه وَهُمَا مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ الصِّدِّيقِينَ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اللَّه مَعَهُ لِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ وَلِأَجْلِ اتِّصَافِهِ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ قَالَ لَهُ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التَّوْبَةِ: 40] وَسَادِسُهَا: إِنَّمَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ مَوْصُوفًا بِالسَّعَةِ لَوْ كَانَ جَوَّادًا بَذُولًا، وَلَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خَيْرُ النَّاسِ مَنْ يَنْفَعُ النَّاسَ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَلَقَدْ كَانَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ جَوَّادًا بَذُولًا فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْ جُودِهِ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ بُكْرَةَ الْيَوْمِ جَاءَ بِعُثْمَانَ بْنُ عَفَّانَ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمُوا عَلَى يَدِهِ، وَكَانَ جُودُهُ فِي التَّعْلِيمِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى الدِّينِ وَالْبَذْلِ بِالدُّنْيَا كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ، فَيَحِقُّ لَهُ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ السَّعَةِ، وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ إِسْلَامُهُ قَبْلَ إِسْلَامِ عَلِيٍّ أَوْ بَعْدَهُ، وَلَكِنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عَلِيًّا حِينَ أَسْلَمَ لَمْ يَشْتَغِلْ بِدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ اشْتَغَلَ بِالدَّعْوَةِ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَوَّلَ النَّاسِ اشْتِغَالًا بِالدَّعْوَةِ إِلَى دِينِ مُحَمَّدٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَجَلَّ الْمَرَاتِبِ فِي الدِّينِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِأَبِي بَكْرٍ مِثْلُ أَجْرِ كُلِّ مَنْ يَدْعُو إِلَى اللَّه، فَيَدُلُّ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَيْضًا وَسَابِعُهَا: أَنَّ الظُّلْمَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى أَشَدُّ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أَشُدُّ مَضَاضَةً ... عَلَى الْمَرْءِ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ وَأَيْضًا فَالْإِنْسَانُ إِذَا أَحْسَنَ إِلَى غَيْرِهِ فَإِذَا قَابَلَهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ بِالْإِسَاءَةِ كَانَ ذَلِكَ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِمَّا إِذَا صَدَرَتِ الْإِسَاءَةُ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ، وَالْجِهَتَانِ كَانَتَا مُجْتَمِعَتَيْنِ فِي حَقِّ مِسْطَحٍ ثُمَّ إِنَّهُ آذَى أَبَا بَكْرٍ بِهَذَا النوع مِنَ الْإِيذَاءِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْإِيذَاءِ، فَانْظُرْ أَيْنَ مَبْلَغُ ذَلِكَ الضَّرَرِ فِي قَلْبِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُ بِأَنْ لَا يَقْطَعَ عَنْهُ بِرَّهُ وَأَنْ يَرْجِعَ مَعَهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِحْسَانِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْمُجَاهَدَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا أَصْعَبُ مِنْ مُقَاتَلَةِ الْكُفَّارِ لِأَنَّ هَذَا مُجَاهَدَةٌ مَعَ النَّفْسِ وَذَلِكَ مُجَاهَدَةٌ مَعَ الْكَافِرِ وَمُجَاهَدَةُ النَّفْسِ أَشَقُّ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» وَثَامِنُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ بِذَلِكَ لَقَّبَهُ بِأُولِي الْفَضْلِ وَأُولِي السَّعَةِ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ أَنْتَ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ تُقَابِلَ إِسَاءَتَهُ بِشَيْءٍ وَأَنْتَ أَوْسَعُ قَلْبًا مِنْ أَنْ تُقِيمَ لِلدُّنْيَا وَزْنًا، فَلَا يَلِيقُ بِفَضْلِكَ وَسَعَةِ قَلْبِكَ أَنْ تَقْطَعَ بِرَّكَ عَنْهُ بِسَبَبِ مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنَ الْإِسَاءَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْخِطَابِ يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الْفَضْلِ وَالْعُلُوِّ فِي الدِّينِ وَتَاسِعُهَا: أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ يُفِيدَانِ الْعُمُومَ فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْفَضْلِ وَالسَّعَةِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ كُلَّ الْفَضْلِ وَكُلَّ السَّعَةِ لِأَبِي بَكْرٍ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ هُوَ الْعَالَمُ يَعْنِي قَدْ بَلَغَ فِي الْفَضْلِ

إِلَى أَنْ صَارَ كَأَنَّهُ كُلُّ الْعَالَمِ وَمَا عداه كالعدم، وهذا وأيضا مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ وَعَاشِرُهَا: قَوْلُهُ: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا وَفِيهِ وُجُوهٌ: مِنْهَا: أَنَّ الْعَفْوَ قَرِينَةُ التَّقْوَى وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَقْوَى فِي الْعَفْوِ كَانَ أَقْوَى فِي التَّقْوَى، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَفْضَلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 13] وَمِنْهَا: أَنَّ الْعَفْوَ وَالتَّقْوَى مُتَلَازِمَانِ فَلِهَذَا السَّبَبِ اجْتَمَعَا فِيهِ، أَمَّا التَّقْوَى فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [اللَّيْلِ: 17] وَأَمَّا الْعَفْوُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا وحادي عاشرها: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ [الْمَائِدَةِ: 13] وَقَالَ فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا فَمِنْ هَذَا الوجه يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ حَتَّى فِي الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَثَانِيَ عَشَرَهَا: قَوْلُهُ: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَهُ بِكِنَايَةِ الْجَمْعِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَّقَ غُفْرَانَهُ لَهُ عَلَى إِقْدَامِهِ عَلَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ فَلَمَّا حَصَلَ الشَّرْطُ مِنْهُ وَجَبَ تَرْتِيبُ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ غَفَرَ لَهُ فِي مُسْتَقْبَلِ عُمُرِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَكَانَ مِنْ هَذَا الوجه ثَانِيَ اثْنَيْنِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الْفَتْحِ: 2] وَدَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ إِمَامَتِهِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَإِنَّ إِمَامَتَهُ لَوْ كَانَتْ عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ لَمَا كَانَ مَغْفُورًا لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَدَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَبَرِ بِشَارَةِ الْعَشَرَةِ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ وَثَالِثَ عَشَرَهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا قَالَ: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ غَفُورًا رَحِيمًا، وَالْغَفُورُ مُبَالَغَةٌ فِي الْغُفْرَانِ، فَعَظَّمَ أَبَا بَكْرٍ حَيْثُ خَاطَبَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ الدل عَلَى التَّعْظِيمِ، وَعَظَّمَ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ حَيْثُ وَصَفَهُ بِمُبَالَغَةِ الْغُفْرَانِ، وَالْعَظِيمُ إِذَا عَظَّمَ نَفْسَهُ ثُمَّ عَظَّمَ مُخَاطِبَهُ فَالْعَظَمَةُ الصَّادِرَةُ مِنْهُ لِأَجْلِهِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ فِي غَايَةِ التَّعْظِيمِ، وَلِهَذَا قُلْنَا بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الْكَوْثَرِ: 1] وَجَبَ أَنْ تَكُونَ/ الْعَطِيَّةُ عَظِيمَةً، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ ثَانِيَ اثْنَيْنِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَنْقَبَةِ أَيْضًا وَرَابِعَ عَشَرَهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لما وصفه بأنه أولوا الْفَضْلِ وَالسَّعَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَدْحِ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ خَالِيًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ الْمَمْدُوحَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَوْ كَانَ عَاصِيًا لَكَانَ كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها [النِّسَاءِ: 14] وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ خَالِيًا عَنِ الْمَعَاصِي فَقَوْلُهُ: يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غُفْرَانَ مَعْصِيَةٍ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ الَّتِي لَا تَكُونُ لَا يُمْكِنُ غُفْرَانُهَا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ واللَّه أَعْلَمُ: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ لِأَجْلِ تَعْظِيمِكُمْ هَؤُلَاءِ الْقَذَفَةَ الْعُصَاةَ، فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْآيَةِ إِلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ إِنْ قَبِلْتَ هَؤُلَاءِ الْعُصَاةَ فَأَنَا أَيْضًا أَقْبَلُهُمْ وَإِنْ رَدَدْتَهُمْ، فَأَنَا أَيْضًا أَرُدُّهُمْ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْطَاهُ مَرْتَبَةَ الشَّفَاعَةِ فِي الدُّنْيَا، فَهَذَا مَا حَضَرَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ واللَّه أَعْلَمُ فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَقْدَحُ فِي فَضِيلَةِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ هَذَا الْحَلِفِ فَدَلَّ عَلَى صُدُورِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ قُلْنَا الْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّهْيَ لَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِهِ، قَالَ اللَّه تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَابِ: 48] وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَطَاعَهُمْ بَلْ دَلَّتِ الْأَخْبَارُ الظَّاهِرَةُ عَلَى صُدُورِ هَذَا الْحَلِفِ مِنْهُ، وَلَكِنْ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا تَكُونُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى قَوْلِكُمْ وَثَانِيهَا: هَبْ أَنَّهُ صَدَرَ عَنْهُ ذَلِكَ الْحَلِفُ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ كَانَ مَعْصِيَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنَ التَّفَضُّلِ قَدْ يَحْسُنُ خُصُوصًا فِيمَنْ يُسِيءُ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ أَوْ فِي حَقِّ مَنْ يَتَّخِذُهُ ذَرِيعَةً إِلَى الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ لَا يُقَالُ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً لَمَا جَازَ أَنْ يَنْهَى اللَّه عَنْهُ بقوله: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا النَّهْيُ لَيْسَ نَهْيَ زَجْرٍ وَتَحْرِيمٍ بَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ تَرْكِ

الْأَوْلَى كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ اللَّائِقُ بِفَضْلِكَ وَسَعَةِ هِمَّتِكَ أَنْ لَا تَقْطَعَ هَذَا فَكَانَ هَذَا إِرْشَادًا إِلَى الْأَوْلَى لَا مَنْعًا عَنِ الْمُحَرَّمِ. المسألة الثَّالِثَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِسْطَحٌ لِأَنَّهُ كَانَ قَرِيبًا لِأَبِي بَكْرٍ وَكَانَ مِنَ الْمَسَاكِينِ وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الذَّنْبِ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ قَذَفَ كَمَا فَعَلَهُ عَبْدُ اللَّه بْنُ أُبَيٍّ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَدَّهُ وَأَنَّهُ تَابَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا كَانَ تَارِكًا لِلنُّكْرِ وَمِظْهِرًا لِلرِّضَا، وَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ فَهُوَ ذَنْبٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى بُطْلَانِ الْمُحَابَطَةِ وَقَالُوا إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّه بَعْدَ أَنْ أَتَى بِالْقَذْفِ، وَهَذِهِ صِفَةُ مَدْحٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ثَوَابَ كَوْنِهِ مُهَاجِرًا لَمْ يُحْبَطْ بِإِقْدَامِهِ عَلَى الْقَذْفِ. المسألة الْخَامِسَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِسْطَحًا كَانَ مِنَ الْبَدْرِيِّينَ وَثَبَتَ بِالرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «لَعَلَّ اللَّه نَظَرَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ افْعَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» فَكَيْفَ/ صَدَرَتِ الْكَبِيرَةُ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ بَدْرِيًّا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ افْعَلُوا مَا شِئْتُمْ مِنَ الْمَعَاصِي فَيَأْمُرُ بِهَا أَوْ يُقِيمُهَا لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ التَّكْلِيفَ كَانَ بَاقِيًا عَلَيْهِمْ لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ لَاقْتَضَى زَوَالَ التَّكْلِيفِ عَنْهُمْ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ أَنْ يُحَدَّ مِسْطَحٌ عَلَى مَا فَعَلَ وَيُلْعَنُ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ وَقَدْ علم توبتهم وإنابتهم قال افْعَلُوا مَا شِئْتُمْ مِنَ النَّوَافِلِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ وَأَعْطَيْتُكُمُ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةَ فِي الْجَنَّةِ الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يُوَافُونَ بِالطَّاعَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ لِعِلْمِي بِأَنَّكُمْ تَمُوتُونَ عَلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ فَذَكَرَ حَالَهُمْ فِي الْوَقْتِ وَأَرَادَ الْعَاقِبَةَ. المسألة السَّادِسَةُ: الْعَفْوُ وَالصَّفْحُ عَنِ الْمُسِيءِ حَسَنٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَرُبَّمَا وَجَبَ ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ لَكَفَى، أَلَا ترى إل قوله: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النُّورِ: 22] فَعَلَّقَ الْغُفْرَانَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ لَمْ يَقْبَلْ عُذْرًا لِمُتَنَصِّلٍ كَاذِبًا كَانَ أَوْ صَادِقًا فَلَا يَرِدُ عَلَى حَوْضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُ أَخْلَاقِ الْمُسْلِمِينَ الْعَفْوُ» وَعَنْهُ أَيْضًا: «يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى اللَّه أَجْرٌ فَلْيَقُمْ فَلَا يَقُومُ إِلَّا أَهْلُ الْعَفْوِ، ثُمَّ تَلَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه» وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيْضًا: «لَا يَكُونُ الْعَبْدُ ذَا فَضْلٍ حَتَّى يَصِلَ مَنْ قَطَعَهُ وَيَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَيُعْطِيَ مَنْ حَرَمَهُ» . المسألة السَّابِعَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْخَيْرِ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ إِذَا جُعِلَتْ دَاعِيَةً لِلْخَيْرِ لَا صَارِفَةً عَنْهُ. المسألة الثَّامِنَةُ: مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا منها أنا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ يَأْتِي بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَذَلِكَ كَفَّارَتُهُ وَاحْتَجَّ ذَلِكَ الْقَائِلُ بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ بِالْحِنْثِ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةً، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَذَلِكَ كَفَّارَتُهُ» وَأَمَّا دَلِيلُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ فَأُمُورٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ [الْمَائِدَةِ: 89] فَكَفَّارَتُهُ وَقَوْلُهُ:

[سورة النور (24) : الآيات 23 إلى 25]

ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ [الْمَائِدَةِ: 89] وَذَلِكَ عَامٌّ فِي الْحَانِثِ فِي الْخَيْرِ وَغَيْرِهِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ أَيُّوبَ حِينَ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنْ يَضْرِبَهَا وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص: 44] وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْحِنْثَ كَانَ خَيْرًا مِنْ تَرْكِهِ وَأَمَرَهُ اللَّه بِضَرْبٍ لَا يَبْلُغُ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَ الْحِنْثُ فِيهَا كَفَّارَتُهَا لَمَا أُمِرَ بِضَرْبِهَا بَلْ كَانَ يَحْنَثُ بِلَا كَفَّارَةٍ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» أَمَّا الْجَوَابُ: عَمَّا ذَكَرَهُ أَوَّلًا فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ أَمْرَ الْكَفَّارَةِ فِي قِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ لَا نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا لِأَنَّ حُكْمَهُ كَانَ مَعْلُومًا فِي سَائِرِ الْآيَاتِ وَالْجَوَابُ: عَمَّا ذَكَرَهُ ثَانِيًا فِي قَوْلِهِ: «وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَذَلِكَ كَفَّارَتُهُ» فَمَعْنَاهُ تَكْفِيرُ الذَّنْبِ لَا الْكَفَّارَةُ/ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ نَقْضِ الْأَيْمَانِ فَأَمَرَهُ هَاهُنَا بِالْحِنْثِ وَالتَّوْبَةِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ يُكَفِّرُ ذَنْبَهُ الَّذِي ارْتَكَبَهُ بِالْحَلِفِ. المسألة التَّاسِعَةُ: رَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: فَضَلْتُ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَشْرِ خِصَالٍ تَزَوَّجَنِي رسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكْرًا دُونَ غَيْرِي، وَأَبَوَايَ مُهَاجِرَانِ، وَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِصُورَتِي فِي حَرِيرَةٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِي، وَكُنْتُ أَغْتَسِلُ مَعَهُ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ وَأَنَا مَعَهُ فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ، وَتَزَوَّجَنِي فِي شَوَّالٍ وَبَنَى بِي فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ، وَقُبِضَ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى عُذْرِي مِنَ السَّمَاءِ، وَدُفِنَ فِي بَيْتِي وَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يُسَاوِنِي غَيْرِي فِيهِ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَرَّأَ اللَّه أَرْبَعَةً بِأَرْبَعَةٍ: بَرَّأَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِلِسَانِ الشَّاهِدِ، وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَبَرَّأَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ بِالْحَجَرِ الَّذِي ذَهَبَ بِثَوْبِهِ، وَبَرَّأَ مَرْيَمَ بِإِنْطَاقِ وَلَدِهَا، وَبَرَّأَ عَائِشَةَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْعِظَامِ فِي كِتَابِهِ الْمُعْجِزِ الْمَتْلُوِّ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَرُبَتْ وَفَاةُ عَائِشَةَ جَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَجِيءُ الْآنَ فَيُثْنِي عَلَيَّ، فَخَبَّرَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ مَا أَرْجِعُ حَتَّى تَأْذَنَ لِي، فَأَذِنَتْ لَهُ فَدَخَلَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَعُوذُ باللَّه مِنَ النَّارِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مالك وَالنَّارَ قَدْ أَعَاذَكِ اللَّه مِنْهَا، وَأَنْزَلَ بَرَاءَتَكِ تقرأ في المساجد وطيبك فقال: الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ [النُّورِ: 26] كُنْتِ أَحَبَّ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يُحِبَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا طَيِّبًا وَأُنْزِلَ بِسَبَبِكِ التَّيَمُّمُ فَقَالَ: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [النِّسَاءِ: 43] وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ وَزَيْنَبَ تَفَاخَرَتَا، فَقَالَتْ زَيْنَبُ: أَنَا الَّتِي أَنْزَلَ رَبِّي تَزْوِيجِي، وَقَالَتْ عَائِشَةُ أَنَا الَّتِي بَرَّأَنِي رَبِّي حِينَ حَمَلَنِي ابْنُ الْمُعَطَّلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَقَالَتْ لَهَا زَيْنَبُ: مَا قُلْتِ حِينَ رَكِبْتِيهَا؟ قَالَتْ قُلْتُ: حَسْبِيَ اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَقَالَتْ قُلْتِ كَلِمَةَ المؤمنين. [سورة النور (24) : الآيات 23 الى 25] إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ هَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ كُلُّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْخُصُوصُ؟ أَمَّا الْأُصُولِيُّونَ فَقَالُوا الصِّيغَةُ عَامَّةٌ وَلَا مَانِعَ مِنْ إِجْرَائِهَا عَلَى ظَاهِرِهَا فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ فَيَدْخُلُ فِيهِ قَذَفَةُ عَائِشَةَ وَقَذَفَةُ غيرها، ومن الناس من خالف فيه ذكر وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ قَذَفَةُ عَائِشَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ: «رُمِيتُ وَأَنَا غَافِلَةٌ وَإِنَّمَا بَلَغَنِي بَعْدَ ذَلِكَ، فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدِي إِذْ

أَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ فَقَالَ أَبْشِرِي وَقَرَأَ: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ جُمْلَةُ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُنَّ لِشَرَفِهِنَّ خُصِّصْنَ بِأَنَّ مَنْ قَذَفَهُنَّ فَهَذَا الْوَعِيدُ لَاحِقٌ بِهِ وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِأُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَاذِفَ سَائِرِ الْمُحْصَنَاتِ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ إِلَى قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا [النُّورِ: 4- 5] وَأَمَّا الْقَاذِفُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَمْ يَذْكُرِ الِاسْتِثْنَاءَ، وَأَيْضًا فَهَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ: مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا [الْأَحْزَابِ: 61] ، الثَّانِي: أَنَّ قَاذِفَ سَائِرِ الْمُحْصَنَاتِ لَا يَكْفُرُ، وَالْقَاذِفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَكْفُرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: [يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَذَلِكَ صِفَةُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ كَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ [فُصِّلَتْ: 19] الْآيَاتِ الثَّلَاثَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وَالْعَذَابُ الْعَظِيمُ يَكُونُ عَذَابَ الْكُفْرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عِقَابَ هَذَا الْقَاذِفِ عِقَابُ الْكُفْرِ، وَعِقَابَ قَذْفِهِ سَائِرَ الْمُحْصَنَاتِ لَا يَكُونُ عِقَابَ الْكُفْرِ الرَّابِعُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ بِالْبَصْرَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَكَانَ يُسْأَلُ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، فَسُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا ثُمَّ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ إِلَّا مَنْ خَاضَ فِي أَمْرِ عَائِشَةَ، أَجَابَ الْأُصُولِيُّونَ عَنْهُ بِأَنَّ الْوَعِيدَ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ التَّوْبَةِ لِأَنَّ الذَّنْبَ سَوَاءٌ كَانَ كُفْرًا أَوْ فِسْقًا، فَإِذَا حَصَلَتِ التَّوْبَةُ مِنْهُ صَارَ مَغْفُورًا فَزَالَ السؤال، ومن الناس ذَكَرَ فِيهِ قَوْلًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ حِينَ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّه عَهْدٌ فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا خَرَجَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرَةً قَذَفَهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَقَالُوا إِنَّمَا خَرَجَتْ لِتَفْجُرَ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ. المسألة الثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ فِيمَنْ يَرْمِي الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: كَوْنُهُمْ مَلْعُونِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَاحْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِاللَّعْنِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْقَذَفَةِ وَمَنْ كَانَ مَلْعُونًا فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مَلْعُونٌ فِي الْآخِرَةِ وَالْمَلْعُونُ فِي الْآخِرَةِ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى الْمُحَابَطَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ وَثَانِيهَا: وقوله: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا [فُصِّلَتْ: 21] وَعِنْدَنَا الْبِنْيَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْحَيَاةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّه تَعَالَى فِي الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَكَلَامًا، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فَلَا جَرَمَ ذَكَرُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ فِي هَذِهِ/ الْجَوَارِحِ هَذَا الْكَلَامَ، وَعِنْدَهُمُ الْمُتَكَلِّمُ فَاعِلُ الْكَلَامِ، فَتَكُونُ تِلْكَ الشَّهَادَةُ مِنَ اللَّه تَعَالَى فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَضَافَهَا إِلَى الْجَوَارِحِ تَوَسُّعًا الثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَبْنِي هَذِهِ الْجَوَارِحَ عَلَى خِلَافِ مَا هِيَ عَلَيْهِ وَيُلْجِئُهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى الْإِنْسَانِ وَتُخْبِرَ عَنْهُ بِأَعْمَالِهِ، قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّهَا تَفْعَلُ الشَّهَادَةَ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ نَفْسَ دِينِهِمْ لَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ لِأَنَّ دِينَهُمْ هُوَ عَمَلُهُمْ. بَلِ الْمُرَادُ جَزَاءُ عَمَلِهِمْ، وَالدِّينُ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ مُسْتَعْمَلٌ كَقَوْلِهِمْ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَقِيلَ الدِّينُ هُوَ الْحِسَابُ كَقَوْلِهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أَيِ الْحِسَابُ الصَّحِيحُ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: الْحَقَّ أَيْ أَنَّ الَّذِي نُوَفِّيهِمْ مِنَ الْجَزَاءِ هُوَ الْقَدْرُ الْمُسْتَحَقُّ لِأَنَّهُ الْحَقُّ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ هُوَ الْبَاطِلُ، وَقُرِئَ الْحَقَّ بِالنَّصْبِ صِفَةً لِلدِّينِ وَهُوَ الْجَزَاءُ وَبِالرَّفْعِ صِفَةً للَّه. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا سُمِّيَ بِالْحَقِّ لِأَنَّ عِبَادَتَهُ هِيَ الْحَقُّ دُونَ عِبَادَةِ غَيْرِهِ أَوْ لِأَنَّهُ الْحَقُّ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ وَمَعْنَى الْمُبِينُ يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا

[سورة النور (24) : آية 26]

لِأَنَّ الْمُحِقَّ فِيمَا يُخَاطِبُ بِهِ هُوَ الْمُبِينُ مِنْ حَيْثُ يُبَيِّنُ الصَّحِيحَ بِكَلَامِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْحَقُّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى وَمَعْنَاهُ الْمَوْجُودُ، لِأَنَّ نَقِيضَهُ الْبَاطِلُ وَهُوَ الْمَعْدُومُ، وَمَعْنَى الْمُبِينِ الْمُظْهِرُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ بِقُدْرَتِهِ ظَهَرَ وُجُودُ الْمُمْكِنَاتِ، فَمَعْنَى كَوْنِهِ حَقًّا أَنَّهُ الْمَوْجُودُ لِذَاتِهِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مُبِينًا أَنَّهُ الْمُعْطِي وجود غيره. [سورة النور (24) : آية 26] الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) اعْلَمْ أَنَّ الْخَبِيثَاتِ يَقَعُ عَلَى الْكَلِمَاتِ الَّتِي هِيَ الْقَذْفُ الْوَاقِعُ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ، وَيَقَعُ أَيْضًا عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ كَالذَّمِّ وَاللَّعْنِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ لَا نَفْسَ الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى، بَلِ الْمُرَادُ مَضْمُونُ الْكَلِمَةِ، وَيَقَعُ أَيْضًا عَلَى الزَّوَانِي مِنَ النِّسَاءِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ مُحْتَمَلَةٌ، فَإِنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الْقَذْفِ الْوَاقِعِ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ كَانَ الْمَعْنَى الْخَبِيثَاتُ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ لِلْخَبِيثَيْنِ مِنَ الرِّجَالِ، وَبِالْعَكْسِ وَالطَّيِّبَاتُ مِنْ قَوْلِ مُنْكِرِي الْإِفْكِ لِلطَّيِّبِينَ مِنَ الرِّجَالِ وبالعكس، وإن حلمناها عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ كَالذَّمِّ وَاللَّعْنِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الذَّمَّ وَاللَّعْنَ مُعَدَّانِ لِلْخَبِيثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْخَبِيثُونَ مِنْهُمْ مُعَرَّضُونَ لِلَّعْنِ وَالذَّمِّ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الطَّيِّبَاتِ وَأُولَئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الطَّيِّبِينَ وَأَنَّهُمْ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُ الْخَبِيثُونَ مِنْ خَبِيثَاتِ الْكَلِمَاتِ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ حَمَلْنَاهُ عَلَى الزَّوَانِي فَالْمَعْنَى الْخَبِيثَاتُ مِنَ النِّسَاءِ لِلْخَبِيثِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَبِالْعَكْسِ، عَلَى مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: / الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً [النُّورِ: 3] وَالطَّيِّبَاتُ مِنَ النِّسَاءِ لِلطَّيِّبِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الرَّمْيِ الْوَاقِعِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْخَبِيثَاتِ وَالْخَبِيثِينَ لَا بِالطَّيِّبَاتِ وَالطَّيِّبِينَ، كَالرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجِهِ. فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا الوجه يَلْزَمُ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْعَفِيفُ بِالزَّانِيَةِ وَالْجَوَابُ: مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً وقوله: أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ يَعْنِي الطَّيِّبَاتِ وَالطَّيِّبِينَ مِمَّا يَقُولُهُ أَصْحَابُ الْإِفْكِ، سِوَى قَوْلِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْكَلِمَاتِ فَكَأَنَّهُ قَالَ الطَّيِّبُونَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُهُ الْخَبِيثُونَ، وَمَتَى حَمَلَ أُولَئِكَ عَلَى هَذَا الوجه كَانَ لَفْظُهُ كَمَعْنَاهُ فِي أَنَّهُ جَمَعَ، وَمَتَى حَمَلْتَهُ عَلَى عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ وَهُمَا اثْنَانِ فَكَيْفَ يُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ؟ فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ الرَّمْيَ قَدْ تَعَلَّقَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِعَائِشَةَ وَصَفْوَانَ فَبَرَّأَ اللَّه تَعَالَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنِ التُّهْمَةِ اللَّائِقَةِ بِهِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كُلُّ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَرَّأَهُنَّ مِنْ هَذَا الْإِفْكِ. لَكِنْ لَا يَقْدَحُ فِيهِنَّ أَحَدٌ كَمَا أَقْدَمُوا عَلَى عَائِشَةَ، وَنَزَّهَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ عَنْ أَمْثَالِ هَذَا الْأَمْرِ وَهَذَا أَبْيَنُ كَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الطَّيِّبَاتِ مِنَ النِّسَاءِ لِلطَّيِّبِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَلَا أَحَدَ أَطْيَبُ وَلَا أَطْهَرُ مِنَ الرَّسُولِ، فَأَزْوَاجُهُ إِذَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُنَّ إِلَّا طَيِّبَاتٍ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ يَعْنِي بَرَاءَةً مِنَ اللَّه وَرَسُولِهِ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فِي الْآخِرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَبَرًا مَقْطُوعًا بِهِ، فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ أَزْوَاجَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُنَّ مَعَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِشَرْطِ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَالتَّوْبَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّا إِنَّمَا نَحْتَاجُ إِلَى الشَّرْطِ إِذَا لَمْ يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ فَلَا وَجْهَ لِطَلَبِ الشَّرْطِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا تَصِيرُ إِلَى الْجَنَّةِ بِخِلَافِ مَذْهَبِ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَهَا بِسَبَبِ حَرْبِ يَوْمِ الْجَمَلِ فَإِنَّهُمْ يَرَدُّونَ بِذَلِكَ نَصَّ الْقُرْآنِ فَإِنْ قِيلَ الْقَطْعُ بِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِغْرَاءٌ لَهَا بِالْقَبِيحِ. قُلْنَا أَلَيْسَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَعْلَمَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِغْرَاءً لَهُ بِالْقَبِيحِ، وَكَذَا الْعَشَرَةُ الْمُبَشَّرَةِ بِالْجَنَّةِ فَكَذَا هَاهُنَا، واللَّه أَعْلَمُ تَمَّتْ قصة أهل الإفك.

[سورة النور (24) : الآيات 27 إلى 29]

[سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) الحكم السادس في الاستئذان اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى عَدَلَ عَمَّا يَتَّصِلُ بِالرَّمْيِ وَالْقَذْفِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنَ الْحُكْمِ إِلَى مَا يَلِيقُ بِهِ لِأَنَّ أَهْلَ الْإِفْكِ إِنَّمَا وَجَدُوا السَّبِيلَ إِلَى بُهْتَانِهِمْ مِنْ حَيْثُ اتَّفَقَتِ الْخَلْوَةُ فَصَارَتْ كَأَنَّهَا طَرِيقُ التُّهْمَةِ، فَأَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى أَنْ لَا يَدْخُلَ الْمَرْءُ بَيْتَ غَيْرِهِ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ وَالسَّلَامِ، لِأَنَّ فِي الدُّخُولِ لَا عَلَى هَذَا الوجه وُقُوعُ التُّهْمَةِ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمَضَرَّةِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِلَخْ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الِاسْتِئْنَاسُ عِبَارَةٌ عَنِ الْأُنْسِ الْحَاصِلِ مِنْ جِهَةِ الْمُجَالَسَةِ، قال تعالى: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ [الأحزاب: 53] ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَالسَّلَامِ فَكَانَ الْأَوْلَى تَقْدِيمَ السَّلَامِ عَلَى الِاسْتِئْنَاسِ فَلِمَ جَاءَ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ: عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، إِنَّمَا هُوَ حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا فَأَخْطَأَ الْكَاتِبُ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا لَكُمْ وَالتَّسْلِيمُ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ تَحِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالدُّمُورِ، وَهُوَ الدُّخُولُ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الدَّمَارِ وَهُوَ الْهَلَاكُ كَأَنَّ صَاحِبَهُ دَامِرٌ لِعِظَمِ مَا ارْتَكَبَ، وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ سَبَقَتْ عَيْنُهُ اسْتِئْذَانَهُ فَقَدْ دَمَرَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الطَّعْنَ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي نُقِلَ بِالتَّوَاتُرِ وَيَقْتَضِي صِحَّةَ الْقُرْآنِ الَّذِي لَمْ يُنْقَلُ بِالتَّوَاتُرِ وَفَتْحُ هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ يُطْرِقُ الشَّكَّ إِلَى كُلِّ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ وَثَانِيهَا: مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَالْمَعْنَى: حَتَّى تُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا وَتَسْتَأْنِسُوا، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّلَامَ مُقَدَّمٌ عَلَى الِاسْتِئْنَاسِ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّه: حَتَّى تُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا وَتَسْتَأْذِنُوا، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَثَالِثُهَا: أَنْ تُجْرِيَ الْكَلَامَ عَلَى ظَاهِرِهِ. ثُمَّ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِئْنَاسِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا بِالْإِذْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِذَا اسْتَأْذَنُوا وَسَلَّمُوا أَنِسَ أَهْلُ الْبَيْتِ، وَلَوْ دَخَلُوا بِغَيْرِ إِذْنٍ لَاسْتَوْحَشُوا وَشَقَّ عَلَيْهِمُ الثَّانِي: تَفْسِيرُ الِاسْتِئْنَاسِ بِالِاسْتِعْلَامِ وَالِاسْتِكْشَافِ اسْتِفْعَالٌ مِنْ آنَسَ الشَّيْءَ إِذَا أَبْصَرَهُ ظَاهِرًا مَكْشُوفًا، وَالْمَعْنَى حَتَّى تَسْتَعْلِمُوا وَتَسْتَكْشِفُوا الْحَالَ هَلْ يُرَادُ دُخُولُكُمْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمُ اسْتَأْنِسْ هَلْ تَرَى أَحَدًا، وَاسْتَأْنَسْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا أَيْ تَعَرَّفْتُ وَاسْتَعْلَمْتُ، فَإِنْ قِيلَ وَإِذَا حُمِلَ عَلَى الْأُنْسِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمَهُ السَّلَامُ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَقُولُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ» قُلْنَا الْمُسْتَأْذِنُ رُبَّمَا لَا يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا فِي الْمَنْزِلِ فَلَا مَعْنَى لِسَلَامِهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَسْتَعْلِمَ بِالِاسْتِئْذَانِ هَلْ هُنَاكَ مَنْ يَأْذَنُ، فَإِذَا أُذِنَ وَدَخَلَ صَارَ مُوَاجِهًا لَهُ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ اشْتِقَاقُ الِاسْتِئْنَاسِ/ مِنَ الْإِنْسِ وَهُوَ أَنْ يَتَعَرَّفَ هَلْ ثَمَّ إِنْسَانٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مُقَدَّمٌ عَلَى السَّلَامِ وَالرَّابِعُ: لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ إِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ السَّلَامِ وَلَكِنَّ الْوَاوَ لا توجب

التَّرْتِيبَ، فَتَقْدِيمُ الِاسْتِئْنَاسِ عَلَى السَّلَامِ فِي اللَّفْظِ لَا يُوجِبُ تَقْدِيمَهُ عَلَيْهِ فِي الْعَمَلِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْحُكْمُ فِي إِيجَابِ تَقْدِيمِ الِاسْتِئْذَانِ؟ وَالْجَوَابُ: تِلْكَ الْحِكْمَةُ هِيَ الَّتِي نَبَّهَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِي لِأَجْلِهِ حُرِّمَ الدُّخُولُ إِلَّا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ هُوَ كَوْنُ الْبُيُوتِ مَسْكُونَةً، إِذْ لَا يَأْمَنُ مَنْ يَهْجُمُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ أَنْ يَهْجُمَ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ مِنْ عَوْرَةٍ، أَوْ عَلَى مَا لَا يُحِبُّ الْقَوْمُ أَنْ يَعْرِفَهُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْعِلَلِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهَا بِالنَّصِّ، وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِرِضَاهُ وَإِلَّا أَشْبَهَ الْغَصْبَ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ يَكُونُ الِاسْتِئْذَانُ؟ الْجَوَابُ: اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَأَلِجُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِامْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا رَوْضَةُ «قُومِي إِلَى هَذَا فَعَلِّمِيهِ فَإِنَّهُ لَا يُحْسِنُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ قَوْلِي لَهُ يَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ فَسَمِعَهَا الرَّجُلُ فَقَالَهَا، فَقَالَ ادْخُلْ فَدَخَلَ وَسَأَلَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ أَشْيَاءَ وَكَانَ يُجِيبُ، فَقَالَ هَلْ فِي الْعِلْمِ مَا لَا تَعْلَمُهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لقد آتاني اللَّه خَيْرًا كَثِيرًا وَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّه، وَتَلَا إِنَّ اللَّه عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إِلَى آخِرِهِ» وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِذَا دَخَلَ بَيْتًا غَيْرَ بَيْتِهِ حَيِيتُمْ صَبَاحًا وَحَيِيتُمْ مَسَاءً، ثُمَّ يَدْخُلُ فَرُبَّمَا أَصَابَ الرَّجُلَ مَعَ امْرَأَتِهِ فِي لِحَافٍ واحد، فصدق اللَّه تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ وَعَلَّمَ الْأَحْسَنَ وَالْأَجْمَلَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا هُوَ التَّنَحْنُحُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَنَحْوُهُ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: كَمْ عَدَدُ الِاسْتِئْذَانِ الْجَوَابُ: رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ بِالْأُولَى يَسْتَنْصِتُونَ، وَبِالثَّانِيَةِ يَسْتَصْلِحُونَ، وَبِالثَّالِثَةِ يَأْذَنُونَ أَوْ يَرُدُّونَ» وَعَنْ جُنْدُبٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ» وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «كُنْتُ جَالِسًا فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ، فَجَاءَ أَبُو مُوسَى فَزِعًا، فَقُلْنَا لَهُ مَا أَفْزَعَكَ؟ فَقَالَ أَمَرَنِي عُمَرُ أَنْ آتِيَهُ فَأَتَيْتُهُ، فَاسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ، فَقَالَ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي؟ فَقُلْتُ قَدْ جِئْتُ فَاسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي. وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ فَقَالَ لَتَأْتِيَنِّي عَلَى هَذَا بِالْبَيِّنَةِ، أَوْ لَأُعَاقِبَنَّكَ. فَقَالَ أُبَيٌّ لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، قَالَ فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ فَشَهِدَ لَهُ» وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِأَبِي مُوسَى إِنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ، وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَتَقَوَّلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنْ قَتَادَةَ الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثَةٌ: الْأُولَى يُسْمِعُ الْحَيَّ، وَالثَّانِي لِيَتَأَهَّبُوا وَالثَّالِثُ إِنْ شَاءُوا أَذِنُوا، وَإِنْ شَاءُوا رَدُّوا، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الْآدَابِ، لِأَنَّ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ/ رُبَّمَا مَنَعَهُمْ بَعْضُ الْأَشْغَالِ مِنَ الْإِذْنِ، وَفِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ رُبَّمَا كَانَ هُنَاكَ مَا يَمْنَعُ أَوْ يَقْتَضِي الْمَنْعَ أَوْ يَقْتَضِي التَّسَاوِيَ، فَإِذَا لَمْ يُجَبْ فِي الثَّالِثَةِ يَسْتَدِلُّ بِعَدَمِ الْإِذْنِ عَلَى مَانِعٍ ثَابِتٍ، وَرُبَّمَا أَوْجَبَ ذَلِكَ كَرَاهَةَ قُرْبِهِ مِنَ الْبَابِ فَلِذَلِكَ يُسَنُّ لَهُ الرُّجُوعُ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ يَجِبُ فِي الِاسْتِئْذَانِ ثَلَاثًا، أَنْ لَا يَكُونَ مُتَّصِلًا، بَلْ يَكُونُ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدَةٍ وَالْأُخْرَى وَقْتٌ، فَأَمَّا قَرْعُ الْبَابِ بِعُنْفٍ وَالصِّيَاحُ بِصَاحِبِ الدَّارِ، فَذَاكَ حَرَامٌ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْإِيذَاءَ وَالْإِيحَاشَ، وَكَفَى بِقِصَّةِ بَنِي أَسَدٍ زَاجِرَةٌ وَمَا نَزَلَ فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الْحُجُرَاتِ: 4] . السُّؤَالُ الْخَامِسُ: كَيْفَ يَقِفُ عَلَى الْبَابِ الْجَوَابُ: رُوِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ اسْتَأْذَنَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْبَابَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَا تَسْتَأْذِنْ وَأَنْتَ مُسْتَقْبِلُ الْبَابِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِذَا أَتَى

بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ أَوِ الْأَيْسَرِ فَيَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا حِينَئِذٍ سُتُورٌ. السُّؤَالُ السَّادِسُ: أَنَّ كَلِمَةَ (حَتَّى) لِلْغَايَةِ وَالْحُكْمُ بَعْدَ الْغَايَةِ يَكُونُ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا فَقَوْلُهُ: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا يَقْتَضِي جَوَازَ الدُّخُولِ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ صَاحِبِ الْبَيْتِ إِذْنٌ فَمَا قَوْلُكُمْ فِيهِ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ الْغَايَةَ الِاسْتِئْنَاسَ لَا الِاسْتِئْذَانَ، وَالِاسْتِئْنَاسُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا حَصَلَ الْإِذْنُ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ وَثَانِيهَا: أَنَّا لَمَّا عَلِمْنَا بِالنَّصِّ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الِاسْتِئْذَانِ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْإِنْسَانُ عَلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَسُوءُهُ، وَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ الْإِذْنِ، عَلِمْنَا أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْإِذْنُ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ كَافِيًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ فَحَظَرَ الدُّخُولَ إِلَّا بِإِذْنٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِذْنَ مَشْرُوطٌ بِإِبَاحَةِ الدُّخُولِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، فَإِنْ قِيلَ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ فَهَلْ يَقُومُ مَقَامَهُ غَيْرُهُ أَمْ لَا؟ قُلْنَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَسُولُ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ إِذْنُهُ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ إِذْنٌ» وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِذْنَ مَحْذُوفٌ مِنْ قَوْلِهِ: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ وَالثَّانِي: أَنَّ الدُّعَاءَ إِذْنٌ إِذَا جَاءَ مَعَ الرَّسُولِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْذَانٍ ثَانٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ مَنْ قَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ لَهُ بِإِبَاحَةِ الدُّخُولِ فَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ. السُّؤَالُ السَّابِعُ: مَا حُكْمُ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى دَارِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؟ الْجَوَابُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَوْ فُقِئَتْ عَيْنُهُ فَهِيَ هَدَرٌ، وَتَمَسَّكَ بِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: «اطَّلَعَ رَجُلٌ فِي حُجْرَةٍ مِنْ حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ مِدْرًى يَحُكُّ بِهَا رَأْسَهُ فَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَنْظُرُ إِلَيَّ لَطَعَنْتُ بِهَا فِي عَيْنِكَ إِنَّمَا الِاسْتِئْذَانُ قَبْلَ النَّظَرِ» وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَنِ/ اطَّلَعَ فِي دَارِ قَوْمٍ بغير إذنهم ففقؤوا عَيْنَهُ فَقَدْ هُدِرَتْ عَيْنُهُ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: هَذَا الْخَبَرُ يُرَدُّ لِوُرُودِهِ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ الْأُصُولِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ دَارَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَفَقَأَ عَيْنَهُ كَانَ ضَامِنًا وَكَانَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إِنْ كَانَ عَامِدًا وَالْأَرْشُ إِنْ كَانَ مُخْطِئًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الدَّاخِلَ قَدِ اطَّلَعَ وَزَادَ عَلَى الِاطِّلَاعِ، فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ مُخَالِفٌ لِمَا حَصَلَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ، فَإِنْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ: مَنِ اطَّلَعَ فِي دَارِ قَوْمٍ وَنَظَرَ إِلَى حَرَمِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَمُونِعَ فَلَمْ يَمْتَنِعْ فَذَهَبَتْ عَيْنُهُ فِي حَالِ الْمُمَانَعَةِ فَهِيَ هَدَرٌ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا النَّظَرُ وَلَمْ يَقَعْ فِيهِ مُمَانَعَةٌ وَلَا نَهْيٌ، ثُمَّ جَاءَ إِنْسَانٌ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَهَذَا جَانٍ يَلْزَمُهُ حُكْمُ جِنَايَتِهِ لظاهر قوله تعالى: الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [الْمَائِدَةِ: 45] وَاعْلَمْ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ فِي هَذِهِ المسألة ضَعِيفٌ، لِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا النَّصَّ مَشْرُوطٌ بِمَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْعَيْنُ مُسْتَحَقَّةً، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً لَمْ يَلْزَمِ الْقِصَاصُ، فَلِمَ قُلْتَ: إِنَّ مَنِ اطَّلَعَ فِي دَارِ إِنْسَانٍ لَمْ تَكُنْ عَيْنُهُ مُسْتَحَقَّةً؟ وَهَذَا أَوَّلُ المسألة. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَوْ دَخَلَ لَمْ يَجُزْ فَقْءُ عَيْنِهِ، فَكَذَا إِذَا نَظَرَ قُلْنَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ إِذَا دَخَلَ عَلِمَ الْقَوْمُ دُخُولَهُ عَلَيْهِمْ فَاحْتَرَزُوا عَنْهُ وَتَسَتَّرُوا، فَأَمَّا إِذَا نَظَرَ فَقَدْ لَا يَكُونُونَ عَالِمِينَ بِذَلِكَ فَيَطَّلِعُ مِنْهُمْ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ، فَلَا يَبْعُدُ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ أَنْ يُبَالِغَ هَاهُنَا فِي الزَّجْرِ حَسْمًا لِبَابِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَرَدُّ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْكَلَامِ غَيْرُ جَائِزٍ. السُّؤَالُ الثَّامِنُ: لَمَّا بَيَّنْتُمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ فَهَلْ يَكْفِي الْإِذْنُ كَيْفَ كَانَ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ إِذْنٍ مَخْصُوصٍ؟

الْجَوَابُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي قَبُولَ الْإِذْنِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ الْآذِنُ صَبِيًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ عَبْدًا أَوْ ذِمِّيًّا فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي هَذَا الْإِذْنِ صِفَاتُ الشَّهَادَةِ وَكَذَلِكَ قَبُولُ أَخْبَارِ هَؤُلَاءِ فِي الْهَدَايَا وَنَحْوِهَا. السُّؤَالُ التَّاسِعُ: هَلْ يُعْتَبَرُ الِاسْتِئْذَانُ عَلَى الْمَحَارِمِ؟ وَالْجَوَابُ: نَعَمْ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي؟ فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَعَمْ أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً» وَسَأَلَ رَجُلٌ حُذَيْفَةَ أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي، فَقَالَ إِنْ لَمْ تَسْتَأْذِنْ عليها رأيت ما يسوؤك، وَقَالَ عَطَاءٌ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي وَمَنْ أُنْفِقُ عَلَيْهَا؟ قَالَ نَعَمْ إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُولُ: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النُّورِ: 59] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا أَوْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْكَ الِاسْتِئْذَانِ عَلَى الْمَحَارِمِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ إِلَّا أَنَّهُ أَيْسَرُ لِجَوَازِ النَّظَرِ إِلَى شَعْرِهَا وَصَدْرِهَا وَسَاقِهَا وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ. وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْهُجُومِ عَلَى الْغَيْرِ إِنْ كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ رُبَّمَا كَانَ مُنْكَشِفَ الْأَعْضَاءِ فَهَذَا دَخَلَ فِيهِ الْكُلُّ إِلَّا الزَّوْجَاتِ وَمِلْكَ الْيَمِينِ، وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ مُشْتَغِلًا بِأَمْرٍ يَكْرَهُ إِطْلَاعَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَعُمَّ فِي الْكُلِّ، حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ إِلَّا بِإِذْنٍ. السُّؤَالُ الْعَاشِرُ: إِذَا عَرَضَ أَمْرُ فِي دَارٍ مِنْ حَرِيقٍ أَوْ هُجُومِ سَارِقٍ أَوْ ظُهُورِ مُنْكَرٍ فَهَلْ يَجِبُ الِاسْتِئْذَانُ؟ الْجَوَابُ: كُلُّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى بِالدَّلِيلِ فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الِاسْتِئْذَانِ، وَأَمَّا السَّلَامُ فَهُوَ مِنْ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا، وَأَمَانٌ لِلْقَوْمِ وَهُوَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَجْلَبَةٌ لِلْمَوَدَّةِ وَنَافٍ لِلْحِقْدِ وَالضَّغِينَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّه تَعَالَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ عَطَسَ، فَقَالَ الْحَمْدُ للَّه، فَحَمِدَ اللَّه بِإِذْنِ اللَّه، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ يَرْحَمُكَ رَبُّكَ يَا آدَمُ اذْهَبْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ، وَهُمْ مَلَأٌ مِنْهُمْ جُلُوسٌ فَقُلِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ» وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ، وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ، وَيَنْصَحُ لَهُ بِالْغَيْبِ، وَيُشَمِّتُهُ إِذَا عَطَسَ، وَيَعُودُهُ إِذَا مَرِضَ، وَيَشْهَدُ جِنَازَتَهُ إِذَا مَاتَ» وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنْ سَرَّكُمْ أَنْ يُسَلَّ الْغِلُّ مِنْ صُدُورِكُمْ فَأَفْشَوُا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ فَالْمَعْنَى فِيهِ ظَاهِرٌ، إِذِ الْمُرَادُ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَوْلَى لَكُمْ مِنَ الْهُجُومِ بِغَيْرِ إِذْنٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أَيْ لِكَيْ تَتَذَكَّرُوا هَذَا التَّأْدِيبَ فَتَتَمَسَّكُوا بِهِ، ثم قال: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَيْ فِي الْبُيُوتِ أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوها لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الصُّورَتَيْنِ وَاحِدَةٌ وَهِيَ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَحْوَالٌ مَكْتُومَةٌ يُكْرَهُ إِطْلَاعُ الدَّاخِلِ عَلَيْهَا، ثم قال: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَمَا يَكُونُ الدُّخُولُ قَدْ يَكْرَهُهُ صَاحِبُ الدَّارِ فَكَذَا الْوُقُوفُ عَلَى الْبَابِ قَدْ يَكْرَهُهُ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الْأَوْلَى وَالْأَزْكَى لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِزَالَةً لِلْإِيحَاشِ وَالْإِيذَاءِ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى حُكْمَ الدُّورِ الْمَسْكُونَةِ ذَكَرَ بَعْدَهُ حُكْمَ الدُّورِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَسْكُونَةٍ، فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنَ الدُّخُولِ إِلَّا بِإِذْنٍ زَائِلٌ عَنْهَا وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بن الحنفية أنها الخانات والرباطات وحوانيت البياعين والمتاع المنفعة، كالاستكان مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَإِيوَاءِ الرِّحَالِ وَالسِّلَعِ وَالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، يُرْوَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّ اللَّه قَدْ أَنْزَلَ عَلَيْكَ آيَةً فِي الِاسْتِئْذَانِ وَإِنَّا نَخْتَلِفُ فِي تِجَارَتِنَا فَنَنْزِلُ هَذِهِ الْخَانَاتِ، أَفَلَا نَدْخُلُهَا إِلَّا بِإِذْنٍ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَثَانِيهَا: أَنَّهَا الْخَرِبَاتُ يُتَبَرَّزُ فِيهَا وَالْمَتَاعُ التَّبَرُّزُ وَثَالِثُهَا:

[سورة النور (24) : الآيات 30 إلى 31]

الْأَسْوَاقُ وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا الْحَمَّامَاتُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ دُخُولُ الْجَمِيعِ تَحْتَ الْآيَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْكُلِّ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ فَهِيَ مَأْذُونٌ بِدُخُولِهَا مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ، فَكَذَلِكَ نَقُولُ إِنَّهَا لَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَسْكُونَةٍ وَلَكِنَّهَا كَانَتْ مَغْصُوبَةً، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلدَّاخِلِ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْخَانَاتِ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِدُخُولِ الدَّاخِلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ فَهُوَ وَعِيدٌ لِلَّذِينِ يَدْخُلُونَ الْخَرِبَاتِ وَالدُّورَ الخالية من أهل الريبة. [سورة النور (24) : الآيات 30 الى 31] قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) الحكم السابع حكم النظر اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّ غَيْرَهُمْ لَا يَلْزَمُهُ غَضُّ الْبَصَرِ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُ وَيَحْفَظُ الْفَرْجَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ كَالْفُرُوعِ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُؤْمِنُونَ مَأْمُورُونَ بِهَا ابْتِدَاءً، وَالْكُفَّارُ مَأْمُورُونَ قَبْلَهَا بِمَا تَصِيرُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ تَابِعَةً لَهُ، وَإِنْ كَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهَا، لَكِنَّ الْمُؤْمِنَ يَتَمَكَّنُ مِنْ هَذِهِ الطَّاعَةِ مَنْ دُونِ مُقَدِّمَةٍ، وَالْكَافِرَ لَا يَتَمَكَّنُ إِلَّا بِتَقْدِيمِ مُقَدِّمَةِ مَنْ قَبْلَهُ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ لُزُومِ التَّكَالِيفِ لَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ الرِّجَالَ بِغَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ، وَأَمَرَ النِّسَاءَ بِمِثْلِ مَا أَمَرَ بِهِ الرِّجَالَ وَزَادَ فِيهِنَّ أَنْ لَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِأَقْوَامٍ مَخْصُوصِينَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَالَ الْأَكْثَرُونَ (مِنْ) هَاهُنَا لِلتَّبْعِيضِ وَالْمُرَادُ غَضُّ الْبَصَرِ عَمَّا يَحْرُمُ وَالِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى مَا يَحِلُّ، وَجَوَّزَ الْأَخْفَشُ أَنْ تَكُونَ مَزِيدَةً، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الْأَعْرَافِ: 85] فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الْحَاقَّةِ: 47] وَأَبَاهُ سِيبَوَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ دَخَلَتْ فِي غَضِّ الْبَصَرِ دُونَ حِفْظِ الْفَرْجِ؟ قُلْنَا دَلَالَةً عَلَى أَنَّ أَمْرَ النَّظَرِ أَوْسَعُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَحَارِمَ لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى شُعُورِهِنَّ وَصُدُورِهِنَّ وَكَذَا الْجَوَارِي الْمُسْتَعْرِضَاتُ، وَأَمَّا أَمْرُ الْفَرْجِ فَمُضَيَّقٌ، وَكَفَاكَ فَرْقًا أَنْ أُبِيحَ النَّظَرُ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ مِنْهُ وَحُظِرَ الْجِمَاعُ إِلَّا مَا استثنى

مِنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ أَيْ يُنْقِصُوا مِنْ نَظَرِهِمْ فَالْبَصَرُ إِذَا لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ عَمَلِهِ فَهُوَ مَغْضُوضٌ مَمْنُوعٌ عَنْهُ، وَعَلَى هَذَا مِنْ لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ وَلَا هِيَ لِلتَّبْعِيضِ بَلْ هِيَ مِنْ صِلَةِ الْغَضِّ يُقَالُ غَضَضْتُ مِنْ فُلَانٍ إِذَا نَقَصْتُ مِنْ قَدْرِهِ. المسألة الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعَوْرَاتِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ عَوْرَةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ وَعَوْرَةُ الْمَرْأَةِ مَعَ الْمَرْأَةِ وَعَوْرَةُ الْمَرْأَةِ مَعَ الرَّجُلِ وَعَوْرَةُ الرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ، فَأَمَّا الرَّجُلُ مَعَ الرَّجُلِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ إِلَّا عَوْرَتَهُ وَعَوْرَتُهُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَالسُّرَّةُ وَالرُّكْبَةُ لَيْسَتَا بِعَوْرَةٍ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه الرُّكْبَةُ عَوْرَةُ، وَقَالَ مَالِكٌ الْفَخْذُ لَيْسَتْ بِعَوْرَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا عَوْرَةٌ مَا رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ كَاشِفٌ عَنْ فَخْذِهِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَطِّ فَخْذَكَ فَإِنَّهَا مِنَ الْعَوْرَةِ» وَقَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «لَا تُبْرِزْ فَخْذَكَ وَلَا تَنْظُرْ إِلَى فَخْذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ» فَإِنْ كَانَ فِي نَظَرِهِ إِلَى وَجْهِهِ أَوْ سَائِرِ بَدَنِهِ شَهْوَةٌ أَوْ خَوْفُ فِتْنَةٍ بِأَنْ كَانَ أَمْرَدَ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ مُضَاجَعَةُ الرَّجُلِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَانِبٍ مِنَ الْفِرَاشِ، لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «لَا يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَلَا تُفْضِي الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ» وَتُكْرَهُ الْمُعَانَقَةُ وَتَقْبِيلُ الوجه إِلَّا لِوَلَدِهِ شَفَقَةً، وَتُسْتَحَبُّ الْمُصَافَحَةُ لِمَا رَوَى أَنَسٌ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّه الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَالَ لَا، قَالَ أَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ؟ قَالَ لَا، قَالَ أَفَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ؟ قَالَ نَعَمْ» أَمَّا عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ مَعَ الْمَرْأَةِ فَكَعَوْرَةِ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ، فَلَهَا النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهَا إِلَّا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَعِنْدَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ الْمُضَاجَعَةُ. وَالْمَرْأَةُ الذِّمِّيَّةُ هَلْ يَجُوزُ لَهَا النَّظَرُ إِلَى بَدَنِ الْمُسْلِمَةِ، قِيلَ يَجُوزُ كَالْمُسْلِمَةِ مَعَ الْمُسْلِمَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ، فِي الدِّينِ واللَّه تَعَالَى يَقُولُ: أَوْ نِسائِهِنَّ وَلَيْسَتِ الذِّمِّيَّةُ مِنْ نِسَائِنَا، أَمَّا عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ مَعَ الرَّجُلِ فَالْمَرْأَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَجْنَبِيَّةً أَوْ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ، أَوْ مُسْتَمْتَعَةً، فَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ حُرَّةً أَوْ أَمَةً فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَجَمِيعُ بَدَنِهَا عَوْرَةٌ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا الوجه وَالْكَفَّيْنِ، لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى إِبْرَازِ الوجه فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَإِلَى إِخْرَاجِ/ الْكَفِّ لِلْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ، وَنَعْنِي بِالْكَفِّ ظَهْرَهَا وَبَطْنَهَا إِلَى الْكُوعَيْنِ، وَقِيلَ ظَهْرُ الْكَفِّ عَوْرَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا، وَيَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفِّهَا، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ اسْتِثْنَاءٌ. أَمَّا قَوْلُهُ يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفِّهَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ «1» لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ غَرَضٌ وَلَا فِيهِ فِتْنَةٌ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ فِتْنَةٌ وَلَا غَرَضَ فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ فِتْنَةٌ وَغَرَضٌ أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَمَّدَ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ لِغَيْرِ غَرَضٍ وَإِنْ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهَا بَغْتَةً يَغُضُّ بَصَرَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَقِيلَ يَجُوزُ مَرَّةً وَاحِدَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ مَحَلَّ فِتْنَةٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَرِّرَ النَّظَرَ إِلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الْإِسْرَاءِ: 36] وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ» وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ نَظَرِ الْفَجْأَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي» وَلِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنِ الْأُولَى لَا يُمْكِنْ فَوَقَعَ عَفْوًا قَصَدَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ غَرَضٌ وَلَا فتنة فيه فذاك أمور: أحدها: بأن

_ (1) اعلم أن القسمة في هذه المسألة رباعية لا ثلاثية والقسم الذي تركه المؤلف في الإجمال ذكره عند التفصيل لكنه أهمل القسم الثاني ذكره هنا فلعل السقط في الموضعين من الناسخ.

يُرِيدَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ فَيَنْظُرَ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا، رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْظُرُ إِلَيْهَا فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا إِذَا كَانَ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا لِلْخِطْبَةِ» وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ «خَطَبْتُ امْرَأَةً فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَظَرْتَ إِلَيْهَا، فَقُلْتُ لَا، قَالَ فَانْظُرْ فَإِنَّهَا أَحْرَى أَنْ يَدُومَ بَيْنَكُمَا «1» » فَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا لِلشَّهْوَةِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَيَدُلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ [الْأَحْزَابِ: 52] وَلَا يُعْجِبُهُ حُسْنُهُنَّ إِلَّا بَعْدَ رُؤْيَةِ وُجُوهِهِنَّ وَثَانِيهَا: إِذَا أَرَادَ شِرَاءَ جَارِيَةٍ فَلَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ مِنْهَا وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عِنْدَ الْمُبَايَعَةِ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهَا مُتَأَمِّلًا حَتَّى يَعْرِفَهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَرَابِعُهَا: يَنْظُرُ إِلَيْهَا عِنْدَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَى غَيْرِ الوجه لأن المعرفة تحصل أَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا لِلشَّهْوَةِ فَذَاكَ مَحْظُورٌ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ «2» » وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي» وَقِيلَ: مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ النَّظْرَةُ تَزْرَعُ فِي الْقَلْبِ الشَّهْوَةَ، وَرُبَّ شَهْوَةٍ أَوْرَثَتْ حُزْنًا طَوِيلًا. أَمَّا الْكَلَامُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ النَّظَرُ إِلَى بَدَنِ الْأَجْنَبِيَّةِ فَقَدِ اسْتَثْنَوْا مِنْهُ صُوَرًا إِحْدَاهَا: يَجُوزُ لِلطَّبِيبِ الْأَمِينِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا لِلْمُعَالَجَةِ، كَمَا يَجُوزُ لِلْخَتَّانِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى فَرْجِ الْمَخْتُونِ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ. وَثَانِيَتُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَتَعَمَّدَ النَّظَرَ إِلَى فَرْجِ الزَّانِيَيْنِ لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا، وَكَذَلِكَ يَنْظُرُ إِلَى/ فَرْجِهَا لِتَحَمُّلِ شَهَادَةِ الْوِلَادَةِ، وَإِلَى ثَدْيِ الْمُرْضِعَةِ لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الرَّضَاعِ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْصِدَ النَّظَرَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، لِأَنَّ الزِّنَا مَنْدُوبٌ إِلَى سَتْرِهِ، وَفِي الْوِلَادَةِ وَالرَّضَاعِ تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى نَظَرِ الرِّجَالِ لِلشَّهَادَةِ وَثَالِثَتُهَا: لَوْ وَقَعَتْ فِي غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ فَلَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى بَدَنِهَا لِيُخَلِّصَهَا، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأَجْنَبِيَّةُ أَمَةً فَقَالَ بَعْضُهُمْ عَوْرَتُهَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ عَوْرَتُهَا مَا لَا يَبِينُ لِلْمِهْنَةِ فَخَرَجَ مِنْهُ أَنَّ رَأْسَهَا وَسَاعِدَيْهَا وَسَاقَيْهَا وَنَحْرَهَا وَصَدْرَهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَفِي ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا وَمَا فَوْقَ سَاعِدَيْهَا الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ، وَلَا يَجُوزُ لَمْسُهَا وَلَا لَهَا لَمْسُهُ بِحَالٍ لَا لِحِجَامَةٍ وَلَا اكْتِحَالٍ وَلَا غَيْرِهِ، لِأَنَّ اللَّمْسَ أَقْوَى مِنَ النَّظَرِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْإِنْزَالَ بِاللَّمْسِ يُفْطِرُ الصَّائِمَ وَبِالنَّظَرِ لَا يُفْطِرُهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه يَجُوزُ أَنْ يَمَسَّ مِنَ الْأَمَةِ مَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ أَمَّا إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ ذَاتَ مَحْرَمٍ لَهُ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ فَعَوْرَتُهَا مَعَهُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ كَعَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ عَوْرَتُهَا مَا لَا يَبْدُو عِنْدَ الْمِهْنَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فَأَمَّا سَائِرُ التَّفَاصِيلِ فَسَتَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُسْتَمْتَعَةً كَالزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ الَّتِي يَحِلُّ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهَا حَتَّى إِلَى فَرْجِهَا غَيْرَ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْفَرْجِ وَكَذَا إِلَى فَرْجِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ يُرْوَى أَنَّهُ يُورِثُ الطَّمْسَ، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى فَرْجِهَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْأَمَةُ قِنَّةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مَرْهُونَةً. فَإِنْ كَانَتْ مَجُوسِيَّةً أَوْ مُرْتَدَّةً أَوْ وَثَنِيَّةً أَوْ مُشْتَرِكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَوْ مُتَزَوِّجَةً أَوْ مُكَاتَبَةً فَهِيَ كَالْأَجْنَبِيَّةِ، رَوَى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ جَارِيَتَهُ عَبْدَهُ أَوْ أَجِيرَهُ فَلَا يَنْظُرْ إِلَى مَا دُونَ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ» وَأَمَّا عَوْرَةُ الرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ [فَفِيهِ] نَظَرٌ إِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا مِنْهَا فَعَوْرَتُهُ مَعَهَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَقِيلَ جَمِيعُ بَدَنِهِ إِلَّا الوجه وَالْكَفَّيْنِ كَهِيَ مَعَهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ، لِأَنَّ بَدَنَ الْمَرْأَةِ فِي ذَاتِهِ عَوْرَةٌ بدليل أنه لا تصح

_ (1) احفظ هذا الحديث برواية أخرى بلفظ «فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» أي تكون بينكما معيشة. (2) احفظ لهذا الحديث تتمة وهي «وزناهما النظر» .

صَلَاتُهَا مَكْشُوفَةَ الْبَدَنِ وَبَدَنُ الرَّجُلِ بِخِلَافِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا قَصْدُ النَّظَرِ عِنْدَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ وَلَا تَكْرِيرُ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: «أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَيْمُونَةُ إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: احْتَجِبَا مِنْهُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه أَلَيْسَ هُوَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُنَا؟ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام أفعميا وإن أَنْتُمَا أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ» وَإِنْ كَانَ مَحْرَمًا لَهَا فَعَوْرَتُهُ مَعَهَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ وَإِنْ كَانَ زَوْجَهَا أَوْ سَيِّدَهَا الَّذِي يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا فَلَهَا أَنْ تَنْظُرَ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ غَيْرَ أَنَّهُ يُكْرَهُ النَّظَرُ إِلَى الْفَرْجِ كَهُوَ مَعَهَا، وَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْلِسَ عَارِيًا فِي بَيْتٍ خَالٍ وَلَهُ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: «اللَّه أَحَقُّ أَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنْهُ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالتَّعَرِّيَ فَإِنَّ مَعَكُمْ مَنْ لَا يُفَارِقُكُمْ إِلَّا عِنْدَ الْغَائِطِ، وَحِينَ يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى أَهْلِهِ» واللَّه أَعْلَمُ. المسألة الثَّالِثَةُ: سُئِلَ الشِّبْلِيُّ عَنْ قوله: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ فقال أبصار الرؤوس عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَبْصَارُ الْقُلُوبِ عَمَّا سِوَى اللَّه تَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ فَالْمُرَادُ بِهِ عَمَّا لَا يَحِلُّ، وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قوله: يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ، مِنَ الزِّنَا إِلَّا الَّتِي في النور: يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، ويَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ أَنْ لَا يَنْظُرَ إِلَيْهَا أَحَدٌ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى حِفْظُهَا عَنْ سَائِرِ مَا حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِ مِنَ الزِّنَا وَالْمَسِّ وَالنَّظَرِ، وَعَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ حَظْرَ النَّظَرِ فَالْمَسُّ وَالْوَطْءُ أَيْضًا مُرَادَانِ بِالْآيَةِ، إِذْ هُمَا أَغْلَظُ مِنَ النَّظَرِ، فَلَوْ نَصَّ اللَّه تَعَالَى عَلَى النَّظَرِ لَكَانَ فِي مَفْهُومِ الْخِطَابِ مَا يُوجِبُ حَظْرَ الْوَطْءِ وَالْمَسِّ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الْإِسْرَاءِ: 23] اقْتَضَى حَظْرَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ مِنَ السَّبِّ وَالضَّرْبِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ [النُّورِ: 30] أَيْ تَمَسُّكُهُمْ بِذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ وَأَطْهَرُ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ مَا يُزَكَّوْنَ بِهِ وَيَسْتَحِقُّونَ الثَّنَاءَ وَالْمَدْحَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ فِي الْخِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ لِمَا أَرَادَهُ مِنْ تَزْكِيَتِهِمْ بِذَلِكَ، وَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِالْكَافِرِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ فَالْقَوْلُ فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ قُدِّمَ غَضُّ الْأَبْصَارِ عَلَى حِفْظِ الْفُرُوجِ، قُلْنَا لِأَنَّ النَّظَرَ بَرِيدُ الزِّنَا وَرَائِدُ الْفُجُورِ وَالْبَلْوَى فِيهِ أَشَدُّ وَأَكْثَرُ، وَلَا يَكَادُ يُقْدَرُ عَلَى الِاحْتِرَاسِ مِنْهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها فَمِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِهَا النِّسَاءُ فِي الْأَغْلَبِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا فِي الْأَغْلَبِ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُبْدِيَ زِينَتَهُ حُلِيًّا وَلِبَاسًا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِزِينَتِهِنَّ، وَاعْلَمْ أَنَّ الزِّينَةَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى مَحَاسِنِ الْخَلْقِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّه تَعَالَى وَعَلَى سَائِرِ مَا يَتَزَيَّنُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ فَضْلِ لِبَاسٍ أَوْ حُلِيٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ وُقُوعَ اسْمِ الزينة عل الْخِلْقَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُقَالُ فِي الْخِلْقَةِ إِنَّهَا مِنْ زِينَتِهَا. وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِيمَا تَكْتَسِبُهُ مِنْ كُحْلٍ وَخِضَابٍ وَغَيْرِهِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْخِلْقَةَ دَاخِلَةٌ فِي الزِّينَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَثِيرَ مِنَ النِّسَاءِ يَنْفَرِدْنَ بِخِلْقَتِهِنَّ عن سائر

مَا يُعَدُّ زِينَةً، فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْخِلْقَةِ وَفَّيْنَا الْعُمُومَ حَقَّهُ، وَلَا يُمْنَعُ دُخُولُ مَا عَدَا الْخِلْقَةَ فِيهِ أَيْضًا الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ مَا يَعُمُّ الْخِلْقَةَ وَغَيْرَهَا فَكَأَنَّهُ تَعَالَى مَنَعَهُنَّ مِنْ إِظْهَارِ مَحَاسِنِ خِلْقَتِهِنَّ بِأَنْ أَوْجَبَ سَتْرَهَا بِالْخِمَارِ، وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا الزِّينَةُ عِبَارَةٌ عَمَّا سِوَى الْخِلْقَةِ فَقَدْ حَصَرُوهُ فِي أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: الْأَصْبَاغُ كَالْكُحْلِ وَالْخِضَابِ بِالْوَسْمَةِ فِي حَاجِبَيْهَا وَالْغَمْرَةِ فِي خَدَّيْهَا وَالْحِنَّاءِ فِي كَفَّيْهَا وَقَدَمَيْهَا وَثَانِيهَا: الْحُلِىُّ كَالْخَاتَمِ وَالسُّوَارِ وَالْخَلْخَالِ وَالدُّمْلُجِ وَالْقِلَادَةِ وَالْإِكْلِيلِ وَالْوِشَاحِ وَالْقُرْطِ. وَثَالِثُهَا: الثِّيَابُ قَالَ اللَّه تَعَالَى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الْأَعْرَافِ: 31] وَأَرَادَ الثِّيَابَ. المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها أَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوا الزِّينَةَ عَلَى الْخِلْقَةِ، فَقَالَ الْقَفَّالُ مَعْنَى الْآيَةِ إِلَّا مَا يُظْهِرُهُ الْإِنْسَانُ فِي الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ، وَذَلِكَ فِي النِّسَاءِ الوجه وَالْكَفَّانِ، وَفِي الرَّجُلِ الْأَطْرَافُ مِنَ الوجه وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، فَأُمِرُوا بِسَتْرِ مَا لَا تُؤَدِّي/ الضَّرُورَةُ إِلَى كَشْفِهِ وَرُخِّصَ لَهُمْ فِي كَشْفِ مَا اعْتِيدَ كَشْفُهُ وَأَدَّتِ الضَّرُورَةُ إِلَى إِظْهَارِهِ إِذْ كَانَتْ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ حَنِيفِيَّةً سَهْلَةً سَمْحَةً، وَلَمَّا كَانَ ظُهُورُ الوجه وَالْكَفَّيْنِ كَالضَّرُورِيِّ لَا جَرَمَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمَا لَيْسَا بِعَوْرَةٍ، أَمَّا الْقَدَمُ فَلَيْسَ ظُهُورُهُ بِضَرُورِيٍّ فَلَا جَرَمَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ مِنَ الْعَوْرَةِ أَمْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ عَوْرَةٌ كَظَهْرِ الْقَدَمِ، وَفِي صَوْتِهَا وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، لِأَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ يَرْوِينَ الْأَخْبَارَ لِلرِّجَالِ، وَأَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوا الزِّينَةَ عَلَى مَا عَدَا الْخِلْقَةَ فَقَالُوا إِنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا ذَكَرَ الزِّينَةَ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهَا حَالَمَا لَمْ تَكُنْ مُتَّصِلَةً بِأَعْضَاءِ الْمَرْأَةِ، فَلَمَّا حَرَّمَ اللَّه سُبْحَانَهُ النَّظَرَ إِلَيْهَا حَالَ اتِّصَالِهَا بِبَدَنِ الْمَرْأَةِ كَانَ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي حُرْمَةِ النَّظَرِ إِلَى أَعْضَاءِ الْمَرْأَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَى زِينَةِ وَجْهِهَا مِنَ الْوَشْمَةِ وَالْغَمْرَةِ وَزِينَةِ بَدَنِهَا مِنَ الْخِضَابِ وَالْخَوَاتِيمِ وَكَذَا الثِّيَابُ، وَالسَّبَبُ فِي تَجْوِيزِ النَّظَرِ إِلَيْهَا أَنَّ تَسَتُّرَهَا فِيهِ حَرَجٌ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُنَاوَلَةِ الْأَشْيَاءِ بِيَدَيْهَا وَالْحَاجَةِ إِلَى كَشْفِ وَجْهِهَا فِي الشَّهَادَةِ وَالْمُحَاكَمَةِ وَالنِّكَاحِ. المسألة الثَّالِثَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى تَخْصِيصِ قَوْلِهِ: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها بِالْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمَةَ مَالٌ فَلَا بُدَّ مِنَ الِاحْتِيَاطِ فِي بَيْعِهَا وَشِرَائِهَا، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ بِخِلَافِ الْحُرَّةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ فَالْخُمُرُ وَاحِدُهَا خِمَارٌ، وَهِيَ الْمَقَانِعُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ نِسَاءَ الْجَاهِلِيَّةِ كُنَّ يَشْدُدْنَ خُمُرَهُنَّ مِنْ خَلْفِهِنَّ، وَإِنَّ جُيُوبَهُنَّ كَانَتْ مِنْ قُدَّامُ فَكَانَ يَنْكَشِفُ نُحُورُهُنَّ وَقَلَائِدُهُنَّ، فَأُمِرْنَ أَنْ يَضْرِبْنَ مَقَانِعَهُنَّ عَلَى الْجُيُوبِ لِيَتَغَطَّى بِذَلِكَ أَعْنَاقُهُنَّ وَنُحُورُهُنَّ وَمَا يُحِيطُ بِهِ مِنْ شَعْرٍ وَزِينَةٍ مِنَ الْحُلِيِّ فِي الْأُذُنِ وَالنَّحْرِ وَمَوْضِعِ الْعُقْدَةِ مِنْهَا، وَفِي لَفْظِ الضَّرْبِ مُبَالَغَةٌ فِي الْإِلْقَاءِ، وَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا «مَا رَأَيْتُ خَيْرًا مِنْ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ، لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إِلَى مِرْطِهَا فَصَدَعَتْ مِنْهُ صَدْعَةً فَاخْتَمَرَتْ فَأَصْبَحْنَ على رؤوسهن الْغِرْبَانُ» وَقُرِئَ جُيُوبِهِنَّ بِكَسْرِ الْجِيمِ لِأَجْلِ الْيَاءِ وَكَذَلِكَ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ فَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا تَكَلَّمَ فِي مُطْلَقِ الزِّينَةِ تَكَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الزِّينَةِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي نَهَاهُنَّ عَنْ إِبْدَائِهَا لِلْأَجَانِبِ، وَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الزِّينَةَ الْخَفِيَّةَ يَجِبُ إِخْفَاؤُهَا عَنِ الْكُلِّ، ثُمَّ اسْتَثْنَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ صُورَةً أَحَدُهَا: أَزْوَاجُهُنَّ وَثَانِيهَا: آبَاؤُهُنَّ وَإِنْ عَلَوْنَ مِنْ جِهَةِ الذُّكْرَانِ وَالْإِنَاثِ كَآبَاءِ الْآبَاءِ وَآبَاءِ

الْأُمَّهَاتِ وَثَالِثُهَا: آبَاءُ أَزْوَاجِهِنَّ وَرَابِعُهَا وَخَامِسُهَا: أَبْنَاؤُهُنَّ وَأَبْنَاءُ بُعُولَتِهِنَّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ وَإِنْ سَفَلُوا مِنَ الذَّكَرَانِ وَالْإِنَاثِ كَبَنِي الْبَنِينَ وَبَنِي الْبَنَاتِ وَسَادِسُهَا: إِخْوَانُهُنَّ سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الْأَبِ أَوْ مِنَ الْأُمِّ أَوْ مِنْهُمَا وَسَابِعُهَا: بَنُو إِخْوَانِهِنَّ وَثَامِنُهَا: بَنُو أَخَوَاتِهِنَّ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مَحَارِمُ، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَفَيَحِلُّ لِذَوِي الْمَحْرَمِ فِي الْمَمْلُوكَةِ وَالْكَافِرَةِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فِي الْمُؤْمِنَةِ؟ الْجَوَابُ: إِذَا مَلَكَ الْمَرْأَةَ وَهِيَ مِنْ مَحَارِمِهِ فَلَهُ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا إِلَى بَطْنِهَا وَظَهْرِهَا لَا عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ، بَلْ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى مَزِيَّةِ الْمِلْكِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ الْقَوْلُ فِي الْعَمِّ وَالْخَالِ؟ الْجَوَابُ: الْقَوْلُ الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا كَسَائِرِ الْمَحَارِمِ فِي جَوَازِ النَّظَرِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَ لِأَنَّ الْآيَةَ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا الرَّضَاعُ وَهُوَ كَالنَّسَبِ وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ [الْأَحْزَابِ: 55] الْآيَةَ. وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهَا الْبُعُولَةُ وَلَا أبناءهم وَقَدْ ذُكِرُوا هَاهُنَا، وَقَدْ يُذْكَرُ الْبَعْضُ لِيُنَبِّهُ عَلَى الْجُمْلَةِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: إِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُمَا اللَّه لئلا يصفهما العم عند ابنه الخال كَذَلِكَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ سَائِرَ الْقَرَابَاتِ تُشَارِكُ الْأَبَ وَالِابْنَ فِي الْمَحْرَمِيَّةِ إِلَّا الْعَمَّ وَالْخَالَ وَأَبْنَاءَهُمَا، فَإِذَا رَآهَا الْأَبُ فَرُبَّمَا وَصَفَهَا لِابْنِهِ وَلَيْسَ بِمَحْرَمٍ فَيَقْرُبُ تَصَوُّرُهُ لَهَا بِالْوَصْفِ مِنْ نَظَرِهِ إِلَيْهَا، وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الدَّلَالَاتِ الْبَلِيغَةِ عَلَى وجوب الاحتياط عليهن فِي التَّسَتُّرِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا السَّبَبُ فِي إِبَاحَةِ نَظَرِ هَؤُلَاءِ إِلَى زِينَةِ الْمَرْأَةِ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّهُمْ مَخْصُوصُونَ بِالْحَاجَةِ إِلَى مُدَاخَلَتِهِنَّ وَمُخَالَطَتِهِنَّ وَلِقِلَّةِ تَوَقُّعِ الْفِتْنَةِ بِجِهَاتِهِنَّ، وَلِمَا فِي الطِّبَاعِ مِنَ النَّفْرَةِ عَنْ مُجَالَسَةِ الْغَرَائِبِ، وَتَحْتَاجُ الْمَرْأَةُ إِلَى صُحْبَتِهِمْ فِي الْأَسْفَارِ وَلِلنُّزُولِ وَالرُّكُوبِ وَتَاسِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ نِسائِهِنَّ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ وَالنِّسَاءُ اللَّاتِي هُنَّ عَلَى دِينِهِنَّ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لَيْسَ لِلْمُسْلِمَةِ أَنْ تَتَجَرَّدَ بَيْنَ نِسَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا تُبْدِي لِلْكَافِرَةِ إِلَّا مَا تُبْدِي لِلْأَجَانِبِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ أَمَةً لَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ أَنْ يَمْنَعَ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامِ مَعَ الْمُؤْمِنَاتِ وَثَانِيهِمَا: الْمُرَادُ بِنِسَائِهِنَّ جَمِيعُ النِّسَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَقَوْلُ السَّلَفِ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالْأَوْلَى وَعَاشِرُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَظَاهِرُ الْكَلَامِ يَشْمَلُ الْعَبِيدَ وَالْإِمَاءَ، وَاخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ عَلَيْهِنَّ فِي أَنْ يُظْهِرْنَ لِعَبِيدِهِنَّ مِنْ زِينَتِهِنَّ مَا يُظْهِرْنَ لِذَوِي مَحَارِمِهِنَّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، وَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَبِمَا رَوَى أَنَسٌ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَتَى فَاطِمَةَ بِعَبْدٍ قَدْ وَهَبَهُ لَهَا وَعَلَيْهَا ثَوْبٌ إِذَا قَنَّعَتْ بِهِ رَأْسَهَا لَمْ يَبْلُغْ رِجْلَيْهَا، وَإِذَا غَطَّتْ بِهِ رِجْلَيْهَا لَمْ يَبْلُغْ رَأْسَهَا، فَلَمَّا رَأَى رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بِهَا، قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكِ بَأْسٌ إِنَّمَا هُوَ أَبُوكِ وَغُلَامُكِ» وَعَنْ مُجَاهِدٍ: كَانَ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَحْتَجِبْنَ عَنْ مُكَاتَبِهِنَّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: أَنَّهَا قَالَتْ لِذَكْوَانَ: «إِنَّكَ إِذَا وَضَعْتَنِي فِي الْقَبْرِ وَخَرَجْتَ فَأَنْتَ حُرٌّ. وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: كَانَتْ تَمْتَشِطُ وَالْعَبْدُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ: إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَنْظُرُ إِلَى شَعْرِ مَوْلَاتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ باللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِذِي مَحْرَمٍ مِنْهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ السَّفَرُ بِهَا لَمْ/ يَجُزْ لَهُ النَّظَرُ إِلَى شَعْرِهَا كَالْحُرِّ الْأَجْنَبِيِّ وَثَانِيهَا: أَنَّ مِلْكَهَا

لِلْعَبْدِ لَا يُحَلِّلُ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَبْلَ الملك إذ ملك النساء للرجل لَيْسَ كَمِلْكِ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّهَا لَا تَسْتَبِيحُ بِمِلْكِ الْعَبْدِ مِنْهُ شَيْئًا مِنَ التَّمَتُّعِ كَمَا يَمْلِكُهُ الرَّجُلُ مِنَ الْأَمَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْعَبْدَ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِمَوْلَاتِهِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ عَارِضٌ كَمَنَ عِنْدَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّزَوُّجُ بِغَيْرِهِنَّ فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْحُرْمَةُ مُؤَبَّدَةً كَانَ الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَجَانِبِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ قَوْلِهِ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ الْإِمَاءُ فَإِنْ قِيلَ الْإِمَاءُ دَخَلْنَ فِي قَوْلِهِ: نِسائِهِنَّ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي الْإِعَادَةِ؟ قُلْنَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَنَى بِنِسَائِهِنَّ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ مَنْ فِي صُحْبَتِهِنَّ مِنَ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ أَوَّلًا أَحْوَالَ الرِّجَالِ بِقَوْلِهِ: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ فَجَازَ أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الرِّجَالَ مَخْصُوصُونَ بِذَلِكَ إِذْ كَانُوا ذَوِي الْمَحَارِمِ أَوْ غَيْرَ ذَاتِ الْمَحَارِمِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَاءَ بِقَوْلِهِ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ الْإِبَاحَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْحَرَائِرِ مِنَ النِّسَاءِ إِذْ كَانَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَوْ نِسائِهِنَّ يَقْتَضِي الْحَرَائِرَ دُونَ الْإِمَاءِ كَقَوْلِهِ: شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 282] عَلَى الْأَحْرَارِ لِإِضَافَتِهِمْ إِلَيْنَا كَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَوْ نِسائِهِنَّ عَلَى الْحَرَائِرِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِنَّ الْإِمَاءَ فَأَبَاحَ لَهُنَّ مِثْلَ مَا أَبَاحَ فِي الْحَرَائِرِ وَحَادِيَ عَشَرَهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قِيلَ هُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَكُمْ لِيَنَالُوا مِنْ فَضْلِ طَعَامِكُمْ، وَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى النِّسَاءِ، لِأَنَّهُمْ بُلْهٌ لَا يَعْرِفُونَ مِنْ أَمْرِهِنَّ شَيْئًا، أَوْ شُيُوخٌ صُلَحَاءُ إِذَا كَانُوا مَعَهُنَّ غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَصِيَّ وَالْعِنِّينِ وَمَنْ شَاكَلَهُمَا قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ إِرْبَةٌ فِي نَفْسِ الْجِمَاعِ وَيَكُونُ لَهُ إِرْبَةٌ قَوِيَّةٌ فِيمَا عَدَاهُ مِنَ التَّمَتُّعِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ. فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ الْمُرَادُ عَلَى مَنِ الْمَعْلُومُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا إِرْبَةَ لَهُ فِي سَائِرِ وُجُوهِ التَّمَتُّعِ، إِمَّا لِفَقْدِ الشَّهْوَةِ، وَإِمَّا لِفَقْدِ الْمَعْرِفَةِ، وَإِمَّا لِلْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ، فَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُمُ الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ بِهِمُ الْفَاقَةُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَعْتُوهُ وَالْأَبْلَهُ وَالصَّبِيُّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الشَّيْخُ، وَسَائِرُ مَنْ لَا شَهْوَةَ لَهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ دُخُولُ الْكُلِّ فِي ذَلِكَ، وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا مُخَنَّثٌ فَأَقْبَلَ عَلَى أَخِي أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّه إِنْ فَتَحَ اللَّه لَكُمْ غَدًا الطَّائِفَ دَلَلْتُكَ عَلَى بِنْتِ غَيْلَانَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ» فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُمْ هَذَا» فَأَبَاحَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دُخُولَ الْمُخَنَّثِ عَلَيْهِنَّ حِينَ ظَنَّ «1» أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ يَعْرِفُ أَحْوَالَ النِّسَاءِ وَأَوْصَافَهُنَّ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ أُولِي الْإِرْبَةِ فَحَجَبَهُ، وَفِي الْخَصِيِّ وَالْمَجْبُوبِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: اسْتِبَاحَةُ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ مَعَهُمَا وَالثَّانِي: تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِمَا وَالثَّالِثَةُ: تَحْرِيمُهَا عَلَى الْخَصِيِّ دُونَ الْمَجْبُوبِ. المسألة الثَّانِيَةُ: الْإِرْبَةُ الْفِعْلَةُ مِنَ الْأَرَبِ كَالْمِشْيَةِ وَالْجِلْسَةِ مِنَ الْمَشْيِ وَالْجُلُوسِ وَالْأَرَبُ/ الْحَاجَةُ وَالْوُلُوعُ بِالشَّيْءِ وَالشَّهْوَةُ لَهُ، وَالْإِرْبَةُ الْحَاجَةُ فِي النِّسَاءِ، وَالْإِرْبَةُ الْعَقْلُ وَمِنْهُ الْأَرِيبُ. المسألة الثَّالِثَةُ: فِي غَيْرِ قِرَاءَتَانِ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ غَيْرَ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ أَوِ الْحَالِ يَعْنِي أَوِ التَّابِعَيْنِ عَاجِزِينَ عَنْهُنَّ وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ بِالْخَفْضِ عَلَى الْوَصْفِيَّةِ وَثَانِيَ عَشَرَهَا: قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: الطِّفْلُ اسْمٌ لِلْوَاحِدِ لَكِنَّهُ وُضِعَ هَاهُنَا مَوْضِعَ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْجِنْسَ، وَيُبَيِّنُ ما بعده أنه

_ (1) في المطبعة الأميرية «حتى ظن» وهو تصنيف لأن المعنى لا يستقيم بها.

يُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الْحَجِّ: 5] . المسألة الثَّانِيَةُ: الظُّهُورُ عَلَى الشَّيْءِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْعِلْمُ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ [الْكَهْفِ: 20] أَيُ إِنْ يَشْعُرُوا بِكُمْ وَالثَّانِي: الْغَلَبَةُ لَهُ وَالصَّوْلَةُ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ [الصَّفِّ: 14] فَعَلَى الوجه الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَتَصَوَّرُوا عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَمْ يَدْرُوا مَا هِيَ مِنَ الصِّغَرِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ، وَعَلَى الثَّانِي الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا أَنْ يُطِيقُوا إِتْيَانَ النِّسَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ. المسألة الثَّالِثَةُ: أَنَّ الصَّغِيرَ الَّذِي لَمْ يَتَنَبَّهْ لِصِغَرِهِ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ فَلَا عَوْرَةَ لِلنِّسَاءِ مَعَهُ، وَإِنْ تَنَبَّهَ لِصِغَرِهِ وَلِمُرَاهَقَتِهِ لَزِمَ أَنْ تَسْتُرَ عَنْهُ الْمَرْأَةُ مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا وَرُكْبَتِهَا، وَفِي لُزُومِ سَتْرِ مَا سِوَاهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُ لِأَنَّ الْقَلَمَ غَيْرُ جَارٍ عَلَيْهِ وَالثَّانِي: يَلْزَمُ كَالرَّجُلِ لِأَنَّهُ يَشْتَهِي وَالْمَرْأَةُ قَدْ تَشْتَهِيهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلُهُ: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَاسْمُ الطِّفْلِ شَامِلٌ لَهُ إِلَى أَنْ يَحْتَلِمَ، وَأَمَّا الشَّيْخُ إِنْ بَقِيَتْ لَهُ شَهْوَةٌ فَهُوَ كَالشَّابِّ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَهُ شَهْوَةٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزِّينَةَ الْبَاطِنَةَ مَعَهُ مُبَاحَةٌ وَالْعَوْرَةَ مَعَهُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ الْبَدَنِ مَعَهُ عَوْرَةٌ إِلَّا الزِّينَةَ الظَّاهِرَةَ، وَهَاهُنَا آخِرُ الصُّوَرِ الَّتِي اسْتَثْنَاهَا اللَّه تَعَالَى، قَالَ الْحَسَنُ هَؤُلَاءِ وَإِنِ اشْتَرَكُوا فِي جَوَازِ رُؤْيَةِ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ فَهُمْ عَلَى أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ، فَأَوَّلُهُمُ الزَّوْجُ وَلَهُ حُرْمَةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهَا، وَالْحُرْمَةُ الثَّانِيَةُ لِلِابْنِ وَالْأَبِ وَالْأَخِ وَالْجَدِّ وَأَبِي الزَّوْجِ وَكُلِّ ذِي مَحْرَمٍ وَالرَّضَاعِ كَالنَّسَبِ يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى الشَّعْرِ وَالصَّدْرِ وَالسَّاقَيْنِ وَالذِّرَاعِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَالْحُرْمَةُ الثَّالِثَةُ هِيَ لِلتَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ وَكَذَا مَمْلُوكُ الْمَرْأَةِ فَلَا بَأْسَ أَنْ تَقُومَ الْمَرْأَةُ الشَّابَّةُ بَيْنَ يَدَيْ هَؤُلَاءِ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ صَفِيقٍ بِغَيْرِ مِلْحَفَةٍ، وَلَا يَحِلُّ لِهَؤُلَاءِ أَنْ يَرَوْا مِنْهَا شَعْرًا وَلَا بَشَرًا وَالسِّتْرُ فِي هَذَا كُلِّهِ أَفْضَلُ، وَلَا يَحِلُّ لِلشَّابَّةِ أَنْ تَقُومَ بَيْنَ يَدَيِ الْغَرِيبِ حَتَّى تَلْبَسَ الْجِلْبَابَ، فَهَذَا ضَبْطُ هَؤُلَاءِ الْمَرَاتِبِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَمُرُّ بِالنَّاسِ وَتَضْرِبُ بِرِجْلِهَا لِيُسْمَعَ قَعْقَعَةُ خَلْخَالِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَيْهِ شَهْوَةُ النِّسَاءِ إِذَا سَمِعَ صَوْتُ الْخَلْخَالِ يَصِيرُ ذَلِكَ دَاعِيَةً لَهُ زَائِدَةً فِي مُشَاهَدَتِهِنَّ، وَقَدْ عَلَّلَ تَعَالَى ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ فَنَبَّهَ بِهِ عَلَى أَنَّ الَّذِي لِأَجْلِهِ نُهِيَ عَنْهُ أَنْ يُعْلَمَ زِينَتُهُنَّ مِنَ/ الْحُلِيِّ وَغَيْرِهِ وَفِي الْآيَةِ فَوَائِدُ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: لَمَّا نَهَى عَنِ اسْتِمَاعِ الصَّوْتِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِ الزِّينَةِ فَلَأَنْ يَدُلَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ إِظْهَارِ الزِّينَةِ أَوْلَى الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ مَنْهِيَّةٌ عَنْ رَفْعِ صَوْتِهَا بِالْكَلَامِ بِحَيْثُ يَسْمَعُ ذَلِكَ الْأَجَانِبُ إِذْ كَانَ صَوْتُهَا أَقْرَبَ إِلَى الْفِتْنَةِ مِنْ صَوْتِ خَلْخَالِهَا، وَلِذَلِكَ كَرِهُوا أَذَانَ النِّسَاءِ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى رَفْعِ الصَّوْتِ وَالْمَرْأَةُ مَنْهِيَّةٌ عَنْ ذَلِكَ الثَّالِثَةُ: تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى حَظْرِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهَا بِشَهْوَةٍ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إِلَى الْفِتْنَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: فِي التَّوْبَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَكَالِيفَ اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ بَابٍ لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَلَى مُرَاعَاتِهَا وَإِنْ ضَبَطَ نَفْسَهُ وَاجْتَهَدَ، وَلَا يَنْفَكُّ مِنْ تَقْصِيرٍ يَقَعُ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ وَصَّى الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَتَأْمِيلِ الْفَلَاحِ إِذَا تَابُوا وَاسْتَغْفَرُوا وَالثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا تُوبُوا مِمَّا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَعَلَّكُمْ تَسْعَدُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ صَحَّتِ التَّوْبَةُ بِالْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ فَمَا مَعْنَى

[سورة النور (24) : آية 32]

هَذِهِ التَّوْبَةِ؟ قُلْنَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا ثُمَّ تَابَ عَنْهُ لَزِمَهُ كُلَّمَا ذَكَرَهُ أَنْ يُجَدِّدَ عَنْهُ التَّوْبَةَ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى نَدَمِهِ إِلَى أَنْ يلقى ربه. المسألة الثانية: قرئ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِضَمِّ الْهَاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهَا كَانَتْ مَفْتُوحَةً لِوُقُوعِهَا قَبْلَ الْأَلِفِ، فَلَمَّا سَقَطَتِ الْأَلِفُ لِالْتِقَاءِ الساكنين اتَّبَعَتْ حَرَكَتُهَا حَرَكَةَ مَا قَبْلَهَا واللَّه أَعْلَمُ. المسألة الثَّالِثَةُ: تَفْسِيرُ لَعَلَّ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] واللَّه أعلم. [سورة النور (24) : آية 32] وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) الْحُكْمُ الثَّامِنُ مَا يَتَعَلَّقُ بالنكاح اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مِنْ قَبْلُ بِغَضِّ الْأَبْصَارِ وَحِفْظِ الْفُرُوجِ بَيَّنَ مِنْ بَعْدُ أَنَّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا لَا يَحِلُّ، فَبَيَّنَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ طَرِيقَ الْحِلِّ فَقَالَ: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْأَيَامَى وَالْيَتَامَى أَصْلُهُمَا أَيَايِمُ وَيَتَايِمُ فَقُلِبَا، وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ الْأَيِّمُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كُلُّ ذَكَرٍ لَا أُنْثَى مَعَهُ وَكُلُّ أُنْثَى لَا ذَكَرَ مَعَهَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي رواية الضحاك، تقول: زوجوا أياماكم بَعْضَكُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وَإِنْ تَتَأَيَّمِي ... وَإِنْ كُنْتُ أَفْتَى مِنْكُمُوا أَتَأَيَّمُ المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى [النُّورِ: 32] أَمْرٌ وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ يَجِبُ عَلَيْهِ تَزْوِيجُ مَوْلَاتِهِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ النِّكَاحُ إِلَّا بِوَلِيٍّ، إِمَّا لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَى الْوَلِيِّ حَكَمَ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنَ الْمُوَلِّيَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُوَلِّيَةَ لَوْ فَعَلَتْ ذَلِكَ لَفَوَّتَتْ عَلَى الْوَلِيِّ التَّمَكُّنَ مِنْ أَدَاءِ هَذَا الْوَاجِبِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِمَّا لِتَطَابُقِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنِ اقْتَضَتْ بِظَاهِرِهَا الْإِيجَابَ إِلَّا أَنَّهُ أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ الْإِيجَابُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا لَوَرَدَ النَّقْلُ بِفِعْلِهِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنَ السَّلَفِ مُسْتَفِيضًا شَائِعًا لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَجَدْنَا عَصْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَائِرَ الْأَعْصَارِ بَعْدَهُ قَدْ كَانَ فِي النَّاسِ أَيَامَى مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَلَمْ يُنْكِرُوا عَدَمَ تَزْوِيجِهِنَّ ثَبَتَ أَنَّهُ مَا أُرِيدَ بِهِ الْإِيجَابُ وَثَانِيهَا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْأَيِّمَ الثَّيِّبَ لَوْ أَبَتِ التَّزَوُّجَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ إِجْبَارُهَا عَلَيْهِ وَثَالِثُهَا: اتِّفَاقُ الْكُلِّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَزْوِيجِ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَيَامَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْجَمِيعِ بَلْ نَدْبٌ فِي الْجَمِيعِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ اسْمَ الْأَيَامَى يَنْتَظِمُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَهُوَ فِي الرِّجَالِ مَا أُرِيدَ بِهِ الْأَوْلِيَاءُ دُونَ غَيْرِهِمْ كَذَلِكَ فِي النِّسَاءِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرْتُهُ تَخْصِيصَاتٌ تَطَرَّقَتْ إِلَى الْآيَةِ وَالْعَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ يَبْقَى حُجَّةً، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى حُجَّةً فِيمَا إِذَا الْتَمَسَتِ الْمَرْأَةُ الْأَيِّمُ مِنَ الْوَلِيِّ التَّزْوِيجَ وَجَبَ، وَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ وَجْهُ الْكَلَامِ.

المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه، الْآيَةُ تَقْتَضِي جَوَازَ تَزْوِيجِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ بِدُونِ رِضَاهَا، لِأَنَّ الْآيَةَ وَالْحَدِيثَ يَدُلَّانِ عَلَى أَمْرِ الْوَلِيِّ بِتَزْوِيجِهَا، وَلَوْلَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُزَوِّجُ الثَّيِّبَ الْكَبِيرَةَ بِغَيْرِ رِضَاهَا لَكَانَ جَائِزًا لَهُ تَزْوِيجُهَا أَيْضًا بِغَيْرِ رِضَاهَا، لِعُمُومِ الْآيَةِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى لَا يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَلَمَّا كَانَ الِاسْمُ شَامِلًا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَقَدْ أُضْمِرَ فِي الرِّجَالِ تَزْوِيجُهُمْ بِإِذْنِهِمْ فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ الضَّمِيرِ فِي النِّسَاءِ، وَأَيْضًا فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باستثمار الْبِكْرِ بِقَوْلِهِ: «الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا» وَذَلِكَ أَمْرٌ وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا وَالْجَوَابُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلنَّصِّ وَهُوَ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَيِّمَ مِنَ الرِّجَالِ يَتَوَلَّى أَمْرَ نَفْسِهِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ تَعَهُّدُ أَمْرِهِ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ، فَإِنَّ احْتِيَاجَهَا إِلَى مَنْ يُصْلِحُ أَمْرَهَا فِي التَّزْوِيجِ أَظْهَرُ، وَأَيْضًا فَلَفْظُ الْأَيَامَى وَإِنْ تَنَاوَلَ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، فَإِذَا أُطْلِقَ لَمْ يَتَنَاوَلْ إِلَّا النِّسَاءَ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ إِذَا قُيِّدَ وَأَمَّا الثَّانِي: فَفِي تَخْصِيصِ الْآيَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَلَامٌ مَشْهُورٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّه الْعَمُّ وَالْأَخُ يَلِيَانِ تَزْوِيجِ الْبِنْتِ الصَّغِيرَةِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. المسألة الْخَامِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه، النَّاسُ فِي النِّكَاحِ قِسْمَانِ مِنْهُمْ مَنْ تَتُوقُ نَفْسُهُ فِي النِّكَاحِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ إِنْ وَجَدَ أُهْبَةَ النِّكَاحِ سَوَاءٌ كَانَ مُقْبِلًا عَلَى الْعِبَادَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ أَنْ يَنْكِحَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ أُهْبَةَ النِّكَاحِ يَكْسِرُ شَهْوَتَهُ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّه بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ، أَمَّا الَّذِي لَا تَتُوقُ نَفْسُهُ إِلَى النِّكَاحِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ بِهِ مِنْ كِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ عَجْزٍ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ، لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ مَا لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِحَقِّهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى النَّفَقَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ عَجْزٌ وَكَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ بِحَقِّهِ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ النِّكَاحُ، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَتَخَلَّى لِعِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: النِّكَاحُ أَفْضَلُ مِنَ التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 39] مَدَحَ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِكَوْنِهِ حَصُورًا وَالْحَصُورُ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِنَّ، وَلَا يُقَالُ هُوَ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ مَعَ الْعَجْزِ عَنْهُنَّ، لِأَنَّ مَدْحَ الْإِنْسَانِ بِمَا يَكُونُ عَيْبًا غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَدْحٌ فِي حَقِّ يَحْيَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْهُدَى عَلَى الْأُصُولِ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ فِيهَا غَيْرُ جَائِزٍ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْفُرُوعِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ أَفْضَلَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ» وَيَتَمَسَّكُ أَيْضًا بِمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِي قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» وَثَالِثُهَا: أَنَّ النِّكَاحَ مُبَاحٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَحَبُّ الْمُبَاحَاتِ إِلَى اللَّه تَعَالَى النِّكَاحُ» وَيُحْمَلُ الْأَحَبُّ عَلَى الْأَصْلَحِ فِي الدُّنْيَا لِئَلَّا يَقَعَ التَّنَاقُضُ بَيْنَ كَوْنِهِ أَحَبَّ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُبَاحًا، وَالْمُبَاحُ مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالْمَنْدُوبُ مَا تَرَجَّحَ وُجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ فَتَكُونُ الْعِبَادَةُ أَفْضَلَ وَرَابِعُهَا: أَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ وَالْعِبَادَةُ لَا تَصِحُّ مِنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ أَفْضَلَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] وَالِاشْتِغَالُ بِالْمَقْصُودِ أَوْلَى وَخَامِسُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى سَوَّى بَيْنَ التَّسَرِّي وَالنِّكَاحِ ثُمَّ التَّسَرِّي

مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِبَادَةِ وَمُسَاوِي الْمَرْجُوحِ مَرْجُوحٌ، فَالنِّكَاحُ مَرْجُوحٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ سَوَّى بَيْنَ التَّسَرِّي وَالنِّكَاحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النِّسَاءِ: 3] وَذَكَرَ كَلِمَةَ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَمَارَةُ التَّسَاوِي، كَقَوْلِ الطَّبِيبِ لِلْمَرِيضِ كُلِ الرُّمَّانَ أَوِ التُّفَّاحَ، وَإِذَا ثَبَتَ الِاسْتِوَاءُ فَالتَّسَرِّي مَرْجُوحٌ، وَمُسَاوِي الْمَرْجُوحِ مَرْجُوحٌ، فَالنِّكَاحُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَرْجُوحًا وَسَادِسُهَا: أَنَّ النَّافِلَةَ أَشَقُّ فَتَكُونُ أَكْثَرَ ثَوَابًا بَيَانُ أَنَّهَا أَشَقُّ أَنَّ مَيْلَ الطِّبَاعِ إِلَى النِّكَاحِ أَكْثَرُ، وَلَوْلَا تَرْغِيبُ الشَّرْعِ لَمَا رَغَبَ أَحَدٌ فِي النَّوَافِلِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا أَشَقُّ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ ثَوَابًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ أَحَمَزُهَا» وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ: «أَجْرُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ» وَسَابِعُهَا: لَوْ كَانَ النِّكَاحُ مُسَاوِيًا لِلنَّوَافِلِ فِي الثَّوَابِ مَعَ/ أَنَّ النَّوَافِلَ أَشَقُّ مِنْهُ لَمَا كَانَتِ النَّوَافِلُ مَشْرُوعَةً. لِأَنَّهُ إِذَا حَصَلَ طَرِيقَانِ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ وكانا في الإفضاء إلى المقصود سببين وَكَانَ أَحَدُهُمَا شَاقًّا وَالْآخَرُ سَهْلًا، فَإِنَّ الْعُقَلَاءَ يَسْتَقْبِحُونَ تَحْصِيلَ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ بِالطَّرِيقِ الشَّاقِّ مَعَ الْمُكْنَةِ مِنَ الطَّرِيقِ السَّهْلِ، وَلَمَّا كَانَتِ النَّوَافِلُ مَشْرُوعَةً عَلِمْنَا أَنَّهَا أَفْضَلُ وَثَامِنُهَا: لَوْ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِالنِّكَاحِ أَوْلَى مِنَ النَّافِلَةِ لَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالْحِرَاثَةِ وَالزِّرَاعَةِ أَوْلَى مِنَ النَّافِلَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَى النِّكَاحِ وَالْجَامِعُ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبًا لِبَقَاءِ هَذَا الْعَالَمِ وَمُحَصِّلًا لِنِظَامِهِ وَتَاسِعُهَا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ يُقَدَّمُ وَاجِبُ الْعِبَادَةِ عَلَى وَاجِبِ النِّكَاحِ، فَيُقَدَّمُ مَنْدُوبُهَا عَلَى مَنْدُوبِهِ لِاتِّحَادِ السَّبَبِ وَعَاشِرُهَا: أَنَّ النِّكَاحَ اشْتِغَالٌ بِتَحْصِيلِ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الدُّنْيَا، وَالنَّافِلَةَ قَطْعُ الْعَلَائِقِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَإِقْبَالٌ عَلَى اللَّه تَعَالَى فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ؟ وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» فَرَجَّحَ الصَّلَاةَ عَلَى النِّكَاحِ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النِّكَاحَ يَتَضَمَّنُ صَوْنَ النَّفْسِ عَنِ الزِّنَا فَيَكُونُ ذَلِكَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ، وَالنَّافِلَةُ جَلْبُ النَّفْعِ وَدَفْعُ الضَّرَرِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ النَّفْعِ الثَّانِي: أَنَّ النِّكَاحَ يَتَضَمَّنُ الْعَدْلَ وَالْعَدْلُ أَفْضَلُ مِنَ الْعِبَادَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَعَدْلُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً» الثَّالِثُ: النِّكَاحُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وَقَالَ فِي الصَّلَاةِ وَإِنَّهَا خَيْرُ مَوْضُوعٍ: «فَمَنْ شَاءَ فَلْيَسْتَكْثِرْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَسْتَقْلِلْ» فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ أَفْضَلَ. المسألة السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى [النُّورِ: 32] وَإِنْ كَانَتْ تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَيَامَى بِحَسَبِ الظَّاهِرِ لَكِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ شُرُوطٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي قَوْلِهِ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ [النِّسَاءِ: 24] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْكُمْ فَقَدْ حَمَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُمُ الْأَحْرَارُ لِيَنْفَصِلَ الْحُرُّ مِنَ الْعَبْدِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلِ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مَنْ يَكُونُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْمَأْمُورِ مِنَ الْوَلَدِ أَوِ الْقَرِيبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْإِضَافَةُ تُفِيدُ الْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: ظَاهِرٌ أَنَّهُ أَيْضًا أَمْرٌ لِلسَّادَةِ بِتَزْوِيجِ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ إِذَا كَانُوا صَالِحِينَ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْأَمْرِ وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِتَزْوِيجِ الْأَيَامَى فِي بَابِ الْوُجُوبِ، لَكِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِبَاحَةٌ أَوْ تَرْغِيبٌ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فَلَا، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَزْوِيجِ الْأَيَامَى بِأَنَّ فِي تَزْوِيجِ الْعَبْدِ الْتِزَامَ مُؤْنَةٍ وَتَعْطِيلَ خِدْمَةٍ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى السَّيِّدِ وَفِي تَزْوِيجِ الْأَمَةِ اسْتِفَادَةُ مَهْرٍ وَسُقُوطُ نَفَقَةٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ عَلَى المولى.

[سورة النور (24) : آية 33]

المسألة الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا خَصَّ الصَّالِحِينَ بِالذِّكْرِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: لِيُحَصِّنَ دِينَهُمْ وَيَحْفَظَ عَلَيْهِمْ صَلَاحَهُمُ الثَّانِي: لِأَنَّ الصَّالِحِينَ مِنَ الْأَرِقَّاءِ هُمُ الَّذِينَ مَوَالِيهِمْ يُشْفِقُونَ عَلَيْهِمْ [وَ] يُنْزِلُونَهُمْ مَنْزِلَةَ/ الْأَوْلَادِ فِي الْمَوَدَّةِ، فَكَانُوا مَظَنَّةً لِلتَّوْصِيَةِ بِشَأْنِهِمْ وَالِاهْتِمَامِ بِهِمْ وَتَقَبُّلِ الْوَصِيَّةِ فِيهِمْ، وَأَمَّا الْمُفْسِدُونَ مِنْهُمْ فَحَالُهُمْ عِنْدَ مَوَالِيهِمْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الصَّلَاحَ لِأَمْرِ النِّكَاحِ حَتَّى يَقُومَ الْعَبْدُ بِمَا يَلْزَمُ لَهَا، وَتَقُومُ الْأَمَةُ بِمَا يَلْزَمُ لِلزَّوْجِ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الصَّلَاحَ فِي نَفْسِ النِّكَاحِ بِأَنْ لَا تَكُونَ صَغِيرَةً فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى النِّكَاحِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَتَزَوَّجُ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى الْمَوْلَى تَزْوِيجَهُ، لَكِنْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ إِذَا أَمَرَهُ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ جَازَ أَنْ يَتَوَلَّى تَزْوِيجَ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ تَوَلِّيهِ بِإِذْنِهِ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ نَفْسُ السَّيِّدِ، فَأَمَّا الْإِمَاءُ فَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمَوْلَى يَتَوَلَّى تَزْوِيجَهُنَّ خُصُوصًا عَلَى قَوْلِ مَنْ لا يجوز النكاح إلى بِوَلِيٍّ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: الْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا لَيْسَ وَعْدًا مِنَ اللَّه تَعَالَى بِإِغْنَاءِ مَنْ يَتَزَوَّجُ. بَلِ الْمَعْنَى لَا تَنْظُرُوا إِلَى فَقْرِ مَنْ يَخْطُبُ إِلَيْكُمْ أَوْ فَقَرِ مَنْ تُرِيدُونَ تَزْوِيجَهَا فَفِي فَضْلِ اللَّه مَا يُغْنِيهِمْ، وَالْمَالُ غَادٍ وَرَائِحٌ، وَلَيْسَ فِي الْفَقْرِ مَا يَمْنَعُ مِنَ الرَّغْبَةِ فِي النِّكَاحِ، فَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْكَلَامَ قُصِدَ بِهِ وَعْدُ الْغِنَى حَتَّى لَا يَجُوزَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ خُلْفٌ، وَرُوِيَ عَنْ قُدَمَاءِ الصَّحَابَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ وَعْدًا، عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: أَطِيعُوا اللَّه فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ النِّكَاحِ يُنْجِزْ لَكُمْ مَا وَعَدَكُمْ مِنَ الْغِنَى، وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْتَمِسُوا الرزق بالنكاح، وشكا رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَاجَةَ فَقَالَ: «عَلَيْكَ بِالْبَاءَةِ» وَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ مُطَرِّفٍ: تَزَوَّجُوا فَإِنَّهُ أَوْسَعُ لَكُمْ فِي رِزْقِكُمْ وَأَوْسَعُ لَكُمْ فِي أَخْلَاقِكُمْ وَيَزِيدُ فِي مُرُوءَتِكُمْ، فَإِنْ قِيلَ: فَنَحْنُ نَرَى مَنْ كَانَ غَنِيًّا فَيَتَزَوَّجُ فَيَصِيرُ فَقِيرًا؟ قُلْنَا الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْوَعْدَ مَشْرُوطٌ بِالْمَشِيئَةِ كَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التَّوْبَةِ: 28] الْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ كان عاما إلا أنه يَكُونَ الْمُرَادُ الْغِنَى بِالْعَفَافِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى وُقُوعَ الْغِنَى بِمِلْكِ الْبُضْعِ وَالِاسْتِغْنَاءَ بِهِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الزِّنَا. المسألة الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ وَالْأَمَةَ يُمَلَّكَانِ، لِأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى كُلِّ مَنْ تَقَدَّمَ فَتَقْتَضِي الْآيَةُ بَيَانَ أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يكون فقيرا وقد يكون غنيا، فإن ذل ذَلِكَ عَلَى الْمِلْكِ ثَبَتَ أَنَّهُمَا يُمَلَّكَانِ، وَلَكِنِ الْمُفَسِّرُونَ تَأَوَّلُوهُ عَلَى الْأَحْرَارِ خَاصَّةً. فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَيَامَى، أَمَّا إِذَا فَسَّرْنَا الْغِنَى بِالْعَفَافِ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى ذَلِكَ سَاقِطٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْإِفْضَالِ لَا يَنْتَهِي إِلَى حَدٍّ تَنْقَطِعُ قُدْرَتُهُ عَلَى الْإِفْضَالِ دُونَهُ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْمَقْدُورَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ عَلِيمٌ بِمَقَادِيرِ مَا يُصْلِحُهُمْ مِنَ الإفضال والرزق. [سورة النور (24) : آية 33] وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)

الحكم التاسع في الكتابة

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ تَزْوِيجَ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ، ذَكَرَ حَالَ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَلْيَسْتَعْفِفِ أَيْ وَلْيَجْتَهِدْ فِي الْعِفَّةِ، كَأَنَّ الْمُسْتَعْفِفَ طَالِبٌ مِنْ نَفْسِهِ الْعَفَافَ وَحَامِلُهَا عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا يَجِدُونَ نِكاحاً فَالْمَعْنَى لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، يُقَالُ لَا يَجِدُ الْمَرْءُ الشَّيْءَ إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ [النساء: 92] وَالْمُرَادُ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ مَنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ، وَيُقَالُ فِي أَحَدِنَا هُوَ غَيْرُ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا، إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالنِّكَاحِ مَا يُنْكَحُ بِهِ مِنَ الْمَالِ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ مَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَطْلُبِ التَّعَفُّفَ، وَلْيَنْتَظِرْ أَنْ يُغْنِيَهُ اللَّه مِنْ فَضْلِهِ، ثُمَّ يَصِلْ إِلَى بُغْيَتِهِ مِنَ النِّكَاحِ، فَإِنْ قِيلَ أَفَلَيَسَ مِلْكُ الْيَمِينِ يَقُومُ مَقَامَ نَفْسِ النِّكَاحِ؟ قُلْنَا لَكِنَّ مَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ، فَبِأَنْ لَا يَجِدَ ثَمَنَ الْجَارِيَةِ أَوْلَى واللَّه أَعْلَمُ. الْحُكْمُ التَّاسِعُ فِي الْكِتَابَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً، وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَ السَّيِّدَ عَلَى تَزْوِيجِ الصَّالِحِينَ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ مَعَ الرِّقِّ، رَغَّبَهُمْ فِي أَنْ يُكَاتِبُوهُمْ إِذَا طَلَبُوا ذَلِكَ، لِيَصِيرُوا أَحْرَارًا فَيَتَصَرَّفُوا فِي أَنْفُسِهِمْ كَالْأَحْرَارِ، فَقَالَ: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَوْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ فَكَاتِبُوهُمْ، كَقَوْلِكَ زَيْدًا فَاضْرِبْهُ، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِتَضَمُّنِ مَعْنَى الشَّرْطِ. المسألة الثَّانِيَةُ: الْكِتَابُ وَالْكِتَابَةُ كَالْعِتَابِ وَالْعِتَابَةِ، وَفِي اشْتِقَاقِ لَفْظِ الْكِتَابَةِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ مِنَ الْكَتْبِ وَهُوَ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ وَمِنْهُ الْكَتِيبَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَضُمُّ النُّجُومَ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَتَضُمُّ مَالَهُ إِلَى مَالِهِ وَثَانِيهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَأْخُوذًا مِنَ الْكِتَابِ وَمَعْنَاهُ كَتَبْتُ لَكَ عَلَى نَفْسِي أَنْ تَعْتِقَ مِنِّي إِذَا وَفَّيْتَ بِالْمَالِ، وَكَتَبْتُ لِي عَلَى نَفْسِكَ أَنْ تَفِيَ لِي بِذَلِكَ، أَوْ كَتَبْتُ لِي كِتَابًا عَلَيْكَ بِالْوَفَاءِ بِالْمَالِ وَكَتَبْتُ عَلَى الْعِتْقِ، وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَثَالِثُهَا: إِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ التَّأْجِيلِ بِالْمَالِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ عَلَى مَالٍ هُوَ فِي يَدِ الْعَبْدِ حِينَ يُكَاتَبُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ لِسَيِّدِهِ اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ مَا كَانَتْ يَدُ السَّيِّدِ غَيْرَ/ مَقْبُوضَةٍ عَنْ كَسْبِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِهَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَقَعَ هَذَا الْعَقْدُ حَالًا وَلَكِنَّهُ يفع مُؤَجَّلًا لِيَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الِاكْتِسَابِ وَغَيْرِهِ حِينَ ما انفبضت يَدُ السَّيِّدِ عَنْهُ، ثُمَّ مِنْ آدَابِ الشَّرِيعَةِ أَنْ يُكْتَبَ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الْمَالُ الْمُؤَجَّلُ كتاب، فسمى لهذا المعنى هذا العقد كتاب لِمَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْأَجَلِ، قَالَ تَعَالَى: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرَّعْدِ: 38] . المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ: الْكِتَابَةُ أَنْ يَقُولَ لِمَمْلُوكِهِ كَاتَبْتُكَ عَلَى كَذَا وَيُسَمِّي مَالًا مَعْلُومًا يُؤَدِّيهِ فِي نَجْمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَيُبَيِّنُ عَدَدَ النُّجُومِ وَمَا يُؤَدِّي فِي كُلِّ نَجْمٍ، وَيَقُولُ إِذَا أَدَّيْتَ ذلك المال فأنت حر، أو ينوي ذَلِكَ بِقَلْبِهِ وَيَقُولُ الْعَبْدُ قَبِلْتُ، وَفِي هَذَا الضبط أبحاث.

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِنْ لم يقل بلسانه أو يَنْوِ بِقَلْبِهِ إِذَا أَدَّيْتَ ذَلِكَ الْمَالَ فَأَنْتَ حُرٌّ لَمْ يُعْتَقْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وأبو يوسف ومحمد وزفر رحمهم اللَّه حِلَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَكاتِبُوهُمْ خَالٍ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ فَوَجَبَ أَنْ تَصِحَّ الْكِتَابَةُ بِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ، وَإِذَا صَحَّتِ الْكِتَابَةُ وَجَبَ أَنْ يُعْتَقَ بِالْأَدَاءِ لِلْإِجْمَاعِ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ، لِأَنَّ مَا فِي يَدِ الْعَبْدِ فَهُوَ مِلْكُ السَّيِّدِ وَالْإِنْسَانُ لَا يُمْكِنُهُ بَيْعُ مِلْكِهِ بِمِلْكِهِ، بَلْ قوله كاتبتك كتابة في العت ق فلا بد من لفظ العت ق أَوْ نِيَّتِهِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: لَا تَجُوزُ الْكِتَابَةُ الْحَالَّةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَتَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُتَصَوَّرُ لَهُ مِلْكٌ يُؤَدِّيهِ فِي الْحَالِ، وَإِذَا عُقِدَ حَالًّا تَوَجَّهَتِ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنِ الْأَدَاءِ لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ لَا يُوجَدُ عِنْدَ الْمَحَلِّ لَا يَصِحُّ بِخِلَافٍ مَا لَوْ أَسْلَمَ إِلَى مُعْسِرٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، لِأَنَّهُ حِينَ الْعَقْدِ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِلْكٌ فِي الْبَاطِنِ، فَالْعَجْزُ لَا يَتَحَقَّقُ عَنْ أَدَائِهِ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَكاتِبُوهُمْ مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ الْكِتَابَةَ الْحَالَّةَ وَالْمُؤَجَّلَةَ، وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ مَالُ الْكِتَابَةِ بَدَلًا عَنِ الرَّقَبَةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ أَثْمَانِ السِّلَعِ الْمَبِيعَةِ فَيَجُوزُ عَاجِلًا وَآجِلًا، وَأَيْضًا أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ الْعِتْقِ مُعَلَّقًا عَلَى مَالٍ حَالٍّ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْكِتَابَةُ مِثْلَهُ، لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنِ الْعِتْقِ فِي الْحَالَيْنِ إِلَّا أَنَّ فِي أَحَدِهِمَا الْعِتْقَ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطِ الْأَدَاءِ وَفِي الْآخَرِ مُعَجَّلٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُهُمَا. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَا تَجُوزُ الْكِتَابَةُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ نَجْمَيْنِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ، رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ غَضِبَ عَلَى عَبْدِهِ، فَقَالَ: لَأُضَيِّقَنَّ الْأَمْرَ عَلَيْكَ، وَلَأُكَاتِبَنَّكَ عَلَى نَجْمَيْنِ، وَلَوْ جَازَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَكَاتَبَهُ عَلَى الْأَقَلِّ، لِأَنَّ التَّضْيِيقَ فِيهِ أَشَدُّ، وَإِنَّمَا شَرَطْنَا التَّنْجِيمَ لِأَنَّهُ عَقْدُ إِرْفَاقٍ، وَمِنْ شَرْطِ الْإِرْفَاقِ التَّنْجِيمُ لِيَتَيَسَّرَ عَلَيْهِمُ الْأَدَاءُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: تَجُوزُ الْكِتَابَةُ عَلَى نَجْمٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: فَكاتِبُوهُمْ لَيْسَ فِيهِ تَقْيِيدٌ. المسألة الرَّابِعَةُ: تَجُوزُ كِتَابَةُ الْمَمْلُوكِ عَبْدًا كَانَ أَوْ أَمَةً، وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا بَالِغًا، فَإِذَا كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا لَا تَصِحُّ كِتَابَتُهُ، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: وَالَّذِينَ/ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ وَلَا يُتَصَوَّرُ الِابْتِغَاءُ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: تَجُوزُ كِتَابَةُ الصَّبِيِّ وَيَقْبَلُ عَنْهُ الْمَوْلَى. المسألة الْخَامِسَةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى مُكَلَّفًا مُطْلَقًا، فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ لَا تَصِحُّ كِتَابَتُهُ كَمَا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: فَكاتِبُوهُمْ خطاب فلا يتناول غير العاقل، وعن أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه تَصِحُّ كِتَابَةُ الصَّبِيِّ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ. المسألة السَّادِسَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: فَكاتِبُوهُمْ أَمْرُ إِيجَابٍ أَوْ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ؟ فَقَالَ قَائِلُونَ هُوَ أَمْرُ إِيجَابٍ، فَيَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُكَاتِبَ مَمْلُوكَهُ إِذَا سَأَلَهُ ذَلِكَ بِقِيمَتِهِ أَوْ أَكْثَرَ إِذَا عَلِمَ فِيهِ خَيْرًا، وَلَوْ كَانَ بِدُونِ قِيمَتِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَهَذَا قَوْلُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَعَطَاءٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْآيَةِ وَالْأَثَرِ. أَمَّا الْآيَةُ فَظَاهِرُ قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ لأنه وَهُوَ لِلْإِيجَابِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي غُلَامٍ لِحُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى يُقَالُ لَهُ صُبَيْحٌ سَأَلَ مَوْلَاهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَنَزَلَتِ

الْآيَةُ فَكَاتَبَهُ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ وَوَهَبَ لَهُ مِنْهَا عِشْرِينَ دِينَارًا، وَأَمَّا الْأَثَرُ فَمَا رُوِيَ أن عمر أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ أَنَسًا أَنْ يُكَاتِبَ سِيرِينَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَأَبَى، فَرَفَعَ عَلَيْهِ الدُّرَّةَ وَضَرَبَهُ وَقَالَ: فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَحَلَفَ عَلَيْهِ لَيُكَاتِبَنَّهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَاجِبًا لَكَانَ ضَرْبُهُ بِالدُّرَّةِ ظُلْمًا، وَمَا أَنْكَرَ عَلَى عُمَرَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْإِجْمَاعِ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِنَّهُ أمر استجاب وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ» وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ أَنْ يَطْلُبَ الْكِتَابَةَ أَوْ يَطْلُبَ بَيْعَهُ مِمَّنْ يُعْتِقُهُ فِي الْكَفَّارَةِ، فَكَمَا لَا يَجِبُ ذَلِكَ فَكَذَا الْكِتَابَةُ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُعَاوَضَاتِ أَجْمَعَ وَهَاهُنَا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ بِمَالِهِ؟ قُلْنَا إذا ورد الشرع به أن يجوز كما إذا علق عَتَقَهُ عَلَى مَالٍ يَكْتَسِبُهُ فَيُؤَدِّيهِ أَوْ يُؤَدِّي عَنْهُ صَارَ سَبَبًا لِعِتْقِهِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يَسْتَفِيدُ الْعَبْدُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ مَا لَا يَمْلِكُهُ؟ لَوْلَا الْكِتَابَةُ؟ قُلْنَا نَعَمْ لِأَنَّهُ لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ الزَّكَاةَ، وَلَمْ يُكَاتِبْ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا وَإِذَا صَارَ مُكَاتَبًا حَلَّ لَهُ وَإِذَا دَفَعَ إِلَى مَوْلَاهُ حَلَّ لَهُ، سَوَاءٌ أَدَّى فَعَتَقَ أَوْ عَجَزَ فَعَادَ إِلَى الرِّقِّ، وَيَسْتَفِيدُ أَيْضًا أَنَّ الْكِتَابَةَ تَبْعَثُهُ عَلَى الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْكَسْبِ، فَلَوْلَاهَا لَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ، وَيَسْتَفِيدُ الْمَوْلَى الثَّوَابَ لِأَنَّهُ إِذَا بَاعَهُ فلا ثَوَابٌ، وَيَسْتَفِيدُ أَيْضًا الْوَلَاءُ لِأَنَّهُ لَوْ عُتِقَ من قبل غيره لم يكن له وأذلاء وَإِذَا عُتِقَ بِالْكِتَابَةِ فَالْوَلَاءُ لَهُ، فَوَرَدَ الشَّرْعُ بِجَوَازِ الْكِتَابَةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْفَوَائِدِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً فَذَكَرُوا فِي الْخَيْرِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنْ عَلِمْتُمْ لَهُمْ حِرْفَةً، فَلَا تَدَعُوهُمْ كَلًّا عَلَى النَّاسِ» وَثَانِيهَا: قَالَ عَطَاءٌ الْخَيْرُ/ الْمَالُ وَتَلَا كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً أَيْ تَرَكَ مَالًا، قَالَ وَبَلَغَنِي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَثَالِثُهَا: عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ إذا صلى وقال النخعي وفاء وصدقا قال الْحَسَنُ صَلَاحًا فِي الدِّينِ وَرَابِعُهَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه الْمُرَادُ بِالْخَيْرِ الْأَمَانَةُ وَالْقُوَّةُ عَلَى الْكَسْبِ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْكِتَابَةِ قَلَّمَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهِمَا فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَسُوبًا يُحَصِّلُ الْمَالَ وَيَكُونُ أَمِينًا يَصْرِفُهُ فِي نُجُومِهِ وَلَا يُضَيِّعُهُ فَإِذَا فُقِدَ الشَّرْطَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا لَا يستجب أَنْ يُكَاتِبَهُ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَالِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إِذَا قَالُوا فُلَانٌ فِيهِ خَيْرٌ إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الصَّلَاحَ فِي الدِّينِ وَلَوْ أَرَادَ الْمَالَ لَقَالَ إِنْ عَلِمْتُمْ لَهُمْ خَيْرًا، لأنه إنما يُقَالُ فِيهِ مَالٌ الثَّانِي: أَنَّ الْعَبْدَ لَا مَالَ لَهُ بَلِ الْمَالُ لِسَيِّدِهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا يَعُودُ عَلَى كِتَابَتِهِ بِالتَّمَامِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه وَهُوَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْكَسْبِ وَيُوثَقَ بِهِ بِحِفْظِ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا يَعُودُ عَلَى كِتَابَتِهِ بِالتَّمَامِ وَدَخَلَ فِيهِ تَفْسِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَيْرَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَسَّرَهُ بِالْكَسْبِ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي تَفْسِيرِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه. أَمَّا قَوْلُهُ: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ: وَآتُوهُمْ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ هُوَ الْمَوْلَى يَحُطُّ عَنْهُ جزءا من مال الكتابة أو يدفع إليه جُزْءًا مِمَّا أُخِذَ مِنْهُ، وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْخِيَارَ لَهُ وَقَالَ يَجِبُ أَنْ يَحُطَّ قَدْرًا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِغْنَاءُ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَقِلَّتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَحُطُّ رُبْعَ الْمَالِ، رَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ كَاتَبَ غلاما لَهُ رُبْعَ مُكَاتَبَتِهِ، وَقَالَ إِنَّ عَلِيًّا كَانَ يَأْمُرُنَا بِذَلِكَ وَيَقُولُ وَهُوَ قَوْلُ اللَّه تَعَالَى: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالسُّبُعُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ

رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ بِخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا وَوَضَعَ عَنْهُ خَمْسَةَ آلَافٍ، وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ فَجَاءَ بِنَجْمِهِ فَقَالَ لَهُ اذْهَبْ فَاسْتَعِنْ بِهِ عَلَى أَدَاءِ مَالِ الْكِتَابَةِ، فَقَالَ الْمُكَاتَبُ لَوْ تَرَكْتُهُ إِلَى آخِرِ نَجْمٍ؟ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ أَنْ لا أدرك ذلك ثم قرأ هذه الآية، وكان ابن عمر يؤخره إلى آخر النجوم مخافة أن يعجز. وثانيها: المراد وآتوهم سَهْمَهُمُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّه لَهُمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ في قوله: وَفِي الرِّقابِ وَعَلَى هَذَا فَالْخِطَابُ لِغَيْرِ السَّادَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ، وَرِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَدْفَعَ صَدَقَتَهُ الْمَفْرُوضَةَ إِلَى مُكَاتَبِ نَفْسِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى لِلسَّادَةِ وَالنَّاسِ أَنْ يُعِينُوا الْمُكَاتَبَ عَلَى كِتَابَتِهِ بِمَا يُمْكِنُهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَعِكْرِمَةَ وَالْمُقَاتِلِينَ وَالنَّخَعِيُّ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَعَانَ مُكَاتَبًا عَلَى فَكِّ رَقَبَتِهِ أَظَلَّهُ اللَّه تَعَالَى فِي ظِلِّ عَرْشِهِ» ، وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ قَالَ: «لَئِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أَعْظَمْتَ المسألة، أَعْتَقِ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ، فَقَالَ أَلَيْسَا وَاحِدًا؟ فَقَالَ لَا، عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا» قَالُوا وَيُؤَكِّدُ هَذَا الْقَوْلَ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَمْرٌ بِإِعْطَائِهِ/ مِنْ مَالِ اللَّه تَعَالَى وَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْإِضَافَةُ فَهُوَ مَا كَانَ سَبِيلُهُ الصَّدَقَةَ وَصَرْفُهُ فِي وُجُوهِ الْقُرْبِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ هُوَ الَّذِي قَدْ صَحَّ مِلْكُهُ لِلْمَالِكِ وَأُمِرَ بِإِخْرَاجِ بَعْضِهِ، وَمَالُ الْكِتَابَةِ لَيْسَ بِدَيْنٍ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ عَلَى عَبْدِهِ وَالْمَوْلَى لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ صَحِيحٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَا آتَاهُ اللَّه فَهُوَ الَّذِي يَحْصُلُ فِي يَدِهِ وَيُمْكِنُهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَمَا سَقَطَ عَقِيبَ الْعَقْدِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ عَلَيْهِ يَدُ مِلْكٍ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الصِّفَةَ بِأَنَّهُ مِنْ مَالِ اللَّه الَّذِي آتَاهُ، فَإِنْ قِيلَ هَاهُنَا وَجْهَانِ يَقْدَحَانِ فِي صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَيْفَ يَحِلُّ لِمَوْلَاهُ إِذَا كَانَ غَنِيًّا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَآتُوهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَكاتِبُوهُمْ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدًا، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ الْمُخَاطَبُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى السَّادَاتِ، وَفِي الثانية سَائِرَ الْمُسْلِمِينَ قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَجَوَابُهُ أَنَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ لِمَوْلَاهُ وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ تَقِفِ الصَّدَقَةُ بِجَمِيعِ النُّجُومِ وَعَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الْبَاقِي كَانَ لِلْمَوْلَى مَا أَخَذَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهُ بِسَبَبِ الصَّدَقَةِ، وَلَكِنْ بِسَبَبِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ كَمَنِ اشْتَرَى الصَّدَقَةَ مِنَ الْفَقِيرِ أَوْ وَرِثَهَا مِنْهُ. يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ «هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ» وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ يَصِحُّ الْخِطَابُ لِقَوْمٍ ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ لَفْظِهِ خطابا لغيرهم، كقوله تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [البقرة: 231] فَالْخِطَابُ لِلْأَزْوَاجِ ثُمَّ خَاطَبَ الْأَوْلِيَاءَ بِقَوْلِهِ: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ وقوله: مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ وَالْقَائِلُونَ غَيْرُ الْمُبَرَّئِينَ فَكَذَا هَاهُنَا قَالَ لِلسَّادَةِ فَكاتِبُوهُمْ وَقَالَ لِغَيْرِهِمْ وَآتُوهُمْ أَوْ قَالَ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى إِيتَاءُ الْمُكَاتَبِ وَهُوَ أَنْ يحط عنه جزءا من مال الكتابة أو يَدْفَعَ إِلَيْهِ جُزْءًا مِمَّا أُخِذَ مِنْهُ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لَكِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ فَقِيلَ عَلَيْهِ إِنَّ قَوْلَهُ: فَكاتِبُوهُمْ وَقَوْلَهُ: وَآتُوهُمْ أَمْرَانِ وَرَدَا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ فَلِمَ جُعِلَتِ الْأُولَى نَدْبًا وَالثَّانِيَ إِيجَابًا؟ وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ وَآتُوهُمْ لَيْسَ خِطَابًا مَعَ الْمَوَالِي بَلْ مَعَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ. حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه مِنْ حَيْثُ السنة والقياس، أما السنة فما روى عمر وبن شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «أَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا إِلَّا عَشْرَ أَوَاقٍ فَهُوَ عَبْدٌ» فَلَوْ كَانَ الْحَطُّ وَاجِبًا لَسَقَطَ عَنْهُ بِقَدْرِهِ، وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ

الحكم العاشر الإكراه على الزنا

رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: «جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ يَا عَائِشَةُ إِنِّي قَدْ كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ فَأَعْيَتْنِي وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا ارْجِعِي إِلَى أَهْلِكِ فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أُعْطِيَهُمْ ذَلِكَ جَمِيعًا وَيَكُونُ وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْتُ، فَأَبَوْا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَا يَمْنَعُكِ ذَلِكَ مِنْهَا ابْتَاعِي وَأَعْتِقِي، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهَا مَا قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا وَأَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنْ تُؤَدِّيَ عَنْهَا كِتَابَتَهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَذَكَرَتْهُ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَ رَسُولُ اللَّه النُّكْرَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهَا تَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَطَّ عَنْهَا بَعْضُ كِتَابَتِهَا فَثَبَتَ قَوْلُنَا. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: لَوْ كَانَ الْإِيتَاءُ وَاجِبًا لَكَانَ وُجُوبُهُ مُتَعَلِّقًا بِالْعَقْدِ فَيَكُونُ الْعَقْدُ مُوجِبًا/ لَهُ وَمُسْقِطًا لَهُ وَذَلِكَ مُحَالٌ لِتَنَافِي الْإِسْقَاطِ وَالْإِيجَابِ الثَّانِي: لَوْ كَانَ الْحَطُّ وَاجِبًا لَمَا احْتَاجَ إِلَى أَنْ يُضَعَ عَنْهُ بَلْ كَانَ يَسْقُطُ الْقَدْرُ الْمُسْتَحَقُّ كَمَنْ لَهُ عَلَى إِنْسَانٍ دَيْنٌ ثُمَّ حَصَلَ لِذَلِكَ الْآخَرِ عَلَى الْأَوَّلِ مِثْلُهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ قِصَاصًا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ قَدْرُ الْإِيتَاءِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا فَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْكِتَابَةُ بِأَلْفَيْنِ فَيُعْتَقُ إِذَا أَدَّى ثَلَاثَةَ آلَافٍ. وَالْكِتَابَةُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ أَدَاءَ جَمِيعِهَا مَشْرُوطٌ فَلَا يُعْتَقُ بِأَدَاءِ بَعْضِهَا، وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا صَارَتِ الْكِتَابَةُ مَجْهُولَةً لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْحَطِّ مَجْهُولٌ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إِلَّا شَيْئًا وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ واللَّه أَعْلَمُ. الْحُكْمُ الْعَاشِرُ الْإِكْرَاهُ عَلَى الزِّنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مَا يَلْزَمُ مِنْ تَزْوِيجِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَكِتَابَتِهِمْ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْمَنْعِ مِنْ إِكْرَاهِ الْإِمَاءِ عَلَى الْفُجُورِ، وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِهَا عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: كَانَ لِعَبْدِ اللَّه بْنِ أُبَيٍّ الْمُنَافِقِ سِتُّ جَوَارٍ مُعَاذَةُ وَمُسَيْكَةُ وَأُمَيْمَةُ وَعَمْرَةُ وَأَرْوَى وَقُتَيْلَةُ يُكْرِهُهُنَّ عَلَى الْبِغَاءِ وَضَرَبَ عَلَيْهِنَّ ضَرَائِبَ فَشَكَتِ [ا] ثَنَتَانِ مِنْهُنَّ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزلت الْآيَةُ وَثَانِيهَا: أَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنِ أُبَيٍّ أَسَرَ رَجُلًا فَرَاوَدَ الْأَسِيرُ جَارِيَةَ عَبْدِ اللَّه وَكَانَتِ الْجَارِيَةُ مُسْلِمَةً فَامْتَنَعَتِ الْجَارِيَةُ لِإِسْلَامِهَا وَأَكْرَهَهَا ابْنُ أُبَيٍّ عَلَى ذَلِكَ، رَجَاءَ أَنْ تَحْمِلَ مِنَ الْأَسِيرِ فَيَطْلُبَ فِدَاءَ وَلَدِهِ فَنَزَلَتْ وَثَالِثُهَا: رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: «جَاءَ عَبْدُ اللَّه بْنُ أُبَيٍّ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ جَارِيَةٌ مِنْ أَجْمَلِ النِّسَاءِ تُسَمَّى مُعَاذَةُ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه هَذِهِ لِأَيْتَامِ فُلَانٍ أَفَلَا نَأْمُرُهَا بِالزِّنَا فَيُصِيبُونَ مِنْ مَنَافِعِهَا؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا فَأَعَادَ الْكَلَامَ» فَنَزَلَتِ الْآيَةُ وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّه «جَاءَتْ جَارِيَةٌ لِبَعْضِ النَّاسِ فَقَالَتْ إِنَّ سَيِّدِي يُكْرِهُنِي عَلَى الْبِغَاءِ» فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. المسألة الثَّانِيَةُ: الْإِكْرَاهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ مَتَى حَصَلَ التَّخْوِيفُ بِمَا يَقْتَضِي تَلَفَ النَّفْسِ فَأَمَّا بِالْيَسِيرِ مِنَ الْخَوْفِ فَلَا تَصِيرُ مُكْرَهَةً، فَحَالُ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا كَحَالِ الْإِكْرَاهِ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَالنَّصُّ وَإِنْ كَانَ مُخْتَصًّا بِالْإِمَاءِ إِلَّا أَنَّ حَالَ الْحَرَائِرِ كَذَلِكَ. المسألة الثَّالِثَةُ: الْعَرَبُ تَقُولُ لِلْمَمْلُوكِ فَتًى وَلِلْمَمْلُوكَةِ فَتَاةٌ، قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ

[سورة النور (24) : آية 34]

[الْكَهْفِ: 62] وَقَالَ: تُراوِدُ فَتاها [يُوسُفَ: 30] وَقَالَ: فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ [النِّسَاءِ: 25] وفي الحديث/ «ليقل أحدكم فتاتي وَلَا يَقُلْ عَبْدِي وَأَمَتِي» . المسألة الرَّابِعَةُ: الْبِغَاءُ الزِّنَا يُقَالُ بَغَتْ تَبْغِي بِغَاءً فَهِيَ بَغِيٌّ. المسألة الْخَامِسَةُ: الَّذِي نَقُولُ بِهِ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِكَلِمَةِ إِنَّ عَلَى الشَّيْءِ عُدِمَ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ إِنْ لِلشَّرْطِ وَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ مَا يَنْتَفِي الْحُكْمُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ، وَمَجْمُوعُ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ النَّقْلِيَّتَيْنِ، يُوجِبُ الْحُكْمَ بِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِكَلِمَةِ إِنَّ عَلَى الشَّيْءِ عُدِمَ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَّقَ الْمَنْعَ مِنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْبِغَاءِ عَلَى إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ بِكَلِمَةِ إِنْ فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ لَزِمَ أَنْ لَا يَنْتَفِيَ الْمَنْعُ مِنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا لَمْ تُوجَدْ إِرَادَةُ التَّحَصُّنِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ سَوَاءٌ وُجِدَتْ إِرَادَةُ التَّحَصُّنِ أَوْ لَمْ تُوجَدْ فَإِنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا حَاصِلٌ وَالْجَوَابُ: لَا نِزَاعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا عِنْدَ عَدَمِ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ وَلَكِنَّهُ فَسَدَ ذَلِكَ لِامْتِنَاعِهِ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّهُ مَتَى لَمْ تُوجَدُ إِرَادَةُ التَّحَصُّنِ فِي حَقِّهَا لَمْ تَكُنْ كَارِهَةً لِلزِّنَا، وَحَالُ كَوْنِهَا غَيْرَ كَارِهَةٍ لِلزِّنَا يَمْتَنِعُ إِكْرَاهُهَا عَلَى الزِّنَا فَامْتَنَعَ ذَلِكَ لِامْتِنَاعِهِ فِي نَفْسِهِ وَذَاتِهِ، وَمِنَ النَّاسِ مِنْ ذَكَرَ فِيهِ جَوَابًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ غَالِبَ الْحَالِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، وَالْكَلَامُ الْوَارِدُ عَلَى سَبِيلِ الْغَالِبِ لَا يَكُونُ لَهُ مَفْهُومُ الْخِطَابِ كَمَا أَنَّ الْخُلْعَ يَجُوزُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الشِّقَاقِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ وُقُوعَ الْخُلْعِ فِي حَالَةِ الشِّقَاقِ لَا جَرَمَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [الْبَقَرَةِ: 229] مَفْهُومٌ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النِّسَاءِ: 101] وَالْقَصْرُ لَا يَخْتَصُّ بِحَالِ الْخَوْفِ وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَجْرَاهُ عَلَى سَبِيلِ الْغَالِبِ، فكذا هاهنا وَالْجَوَابُ: الثَّالِثُ مَعْنَاهُ إِذَا أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِأَنَّ الْقِصَّةَ الَّتِي وَرَدَتِ الْآيَةُ فِيهَا كَانَتْ كَذَلِكَ على ما رويناه أَنَّ جَارِيَةَ عَبْدِ اللَّه بْنِ أُبَيٍّ أَسْلَمَتْ وَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ طَلَبًا لِلْعَفَافِ فَأَكْرَهَهَا فَنَزَلَتِ الْآيَةُ مُوَافِقَةً لِذَلِكَ، نَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [الْبَقَرَةِ: 23] أَيْ وَإِذَا كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ. المسألة السَّادِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَنَعَ مِنْ إِكْرَاهِهِنَّ عَلَى الزِّنَا فَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُمْ إِكْرَاهَهُنَّ عَلَى النِّكَاحِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ عَلَى السَّيِّدِ إِذَا زَوَّجَهَا بَلْ لَهُ أَنْ يكرهها على ذلك وهذه الدلالة دَلِيلِ الْخِطَابِ. أَمَّا قَوْلُهُ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً أَيْ تَعَفُّفًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا يَعْنِي كسبهن وأولادهن. أما قوله: وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ [بَيَانٌ] أَنَّهُ تَعَالَى غَفُورٌ رَحِيمٌ لِلْمُكْرِهِ أَوْ لِلْمُكْرَهَةِ لَا جَرَمَ ذَكَرُوا فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فَإِنَّ اللَّه غَفُورٌ رَحِيمٌ بِهِنَّ، لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ أَزَالَ الْإِثْمَ وَالْعُقُوبَةَ، لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عُذْرٌ لِلْمُكْرَهَةِ، أَمَّا الْمُكْرِهُ فَلَا عُذْرَ لَهُ فِيمَا فَعَلَ الثَّانِي: الْمُرَادُ فَإِنَّ اللَّه غَفُورٌ رَحِيمٌ بِالْمُكْرِهِ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ عَلَى التَّفْسِيرِ/ الْأَوَّلِ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ، وَعَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي يحتاج إليه. [سورة النور (24) : آية 34] وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَصَفَ الْقُرْآنَ بِصِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ أَيْ مُفَصِّلَاتٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ مُبَيِّنَاتٍ بِكَسْرِ الْيَاءِ

[سورة النور (24) : آية 35]

عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا تُبَيِّنُ لِلنَّاسِ كَمَا قَالَ: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاءِ: 195] أَوْ تَكُونُ مِنْ بَيَّنَ بِمَعْنَى تَبَيَّنَ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ: قَدْ بَيَّنَ «1» الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ بِالْمَثَلِ مَا ذُكِرَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ فَأَنْزَلَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَمَثَلًا أَيْ شَبَهًا مِنْ حَالِهِمْ بِحَالِكُمْ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ، يَعْنِي بَيَّنَّا لَكُمْ مَا أَحْلَلْنَا بِهِمْ مِنَ الْعِقَابِ لِتَمَرُّدِهِمْ عَلَى اللَّه تَعَالَى، فَجَعَلْنَا ذَلِكَ مَثَلًا لَكُمْ لِتَعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِذَا شَارَكْتُمُوهُمْ فِي الْمَعْصِيَةِ كُنْتُمْ مِثْلَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ، وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَالْمُرَادُ بِهِ الْوَعِيدُ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ فِعْلِ الْمَعَاصِي وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّهُ مَوْعِظَةٌ لِلْكُلِّ، لَكِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذكرناها في قوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وهاهنا آخر الكلام في الأحكام. [سورة النور (24) : آية 35] اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) الْقَوْلُ فِي الْإِلَهِيَّاتِ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَثَلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي بَيَانِ أَنَّ دَلَائِلَ الْإِيمَانِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ أديان الكفرة في نهاية الظلمة والخفاء. أَمَّا الْمَثَلُ الْأَوَّلُ فَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُرَتَّبٌ عَلَى فُصُولٍ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ النُّورِ عَلَى اللَّه تَعَالَى اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ النُّورِ مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ لِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ الْفَائِضَةِ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنَّارِ عَلَى الْأَرْضِ وَالْجُدْرَانِ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ إِلَهًا لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ إِنْ كَانَتْ عِبَارَةً عَنِ الْجِسْمِ كَانَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى حُدُوثِ الْجِسْمِ دَالًّا عَلَى حُدُوثِهَا، وَإِنْ كَانَتْ عرضا فمتى ثَبَتَ حُدُوثُ جَمِيعِ الْأَعْرَاضِ الْقَائِمَةِ بِهِ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ إِنَّمَا تَثْبُتُ بَعْدَ إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْحُلُولَ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ وَثَانِيهَا: أَنَّا سَوَاءٌ قُلْنَا النُّورُ جِسْمٌ أَوْ أَمْرٌ حَالٌّ فِي الْجِسْمِ فَهُوَ مُنْقَسِمٌ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ جِسْمًا فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مُنْقَسِمٌ، وَإِنْ كَانَ حَالًّا فِيهِ، فَالْحَالُّ فِي الْمُنْقَسِمِ مُنْقَسِمٌ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالنُّورُ مُنْقَسِمٌ وَكُلُّ مُنْقَسِمٍ فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ فِي تَحَقُّقِهِ إِلَى تَحَقُّقِ أَجْزَائِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ غَيْرُهُ، وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ فَهُوَ فِي تَحَقُّقِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْمُفْتَقِرُ إِلَى الْغَيْرِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ مُحْدَثٌ بِغَيْرِهِ، فَالنُّورُ مُحْدَثٌ فَلَا يَكُونُ إِلَهًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا النُّورَ الْمَحْسُوسَ لَوْ كَانَ هُوَ اللَّه لَوَجَبَ أَنْ لَا يَزُولَ هَذَا النُّورُ لِامْتِنَاعِ الزَّوَالِ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا النُّورَ الْمَحْسُوسَ يَقَعُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَالْكَوَاكِبِ. وَذَلِكَ

_ (1) يروي المثل: قد وضح الصبح لذي عينين. [.....]

عَلَى اللَّه مُحَالٌ وَخَامِسُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَارَ لَوْ كَانَتْ أَزَلِيَّةً لَكَانَتْ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَحَرِّكَةً أَوْ سَاكِنَةً، لَا جَائِزَ أَنْ تَكُونَ مُتَحَرِّكَةً لِأَنَّ الْحَرَكَةَ مَعْنَاهَا الِانْتِقَالُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ فَالْحَرَكَةُ مَسْبُوقَةٌ بِالْحُصُولِ فِي الْمَكَانِ الْأَوَّلِ. وَالْأَزَلِيُّ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالْغَيْرِ فَالْحَرَكَةُ الْأَزَلِيَّةُ مُحَالٌ. وَلَا جَائِزَ أَنْ تَكُونَ سَاكِنَةً لِأَنَّ السُّكُونَ لَوْ كَانَ أَزَلِيًّا لَكَانَ مُمْتَنِعَ الزَّوَالِ لَكِنَّ السُّكُونَ جَائِزُ الزَّوَالِ، لِأَنَّا نَرَى الْأَنْوَارَ تَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى حُدُوثِ الْأَنْوَارِ وَسَادِسُهَا: أَنَّ النُّورَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جِسْمًا أَوْ كَيْفِيَّةً قَائِمَةً بِالْجِسْمِ، وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ لِأَنَّا قَدْ نَعْقِلُ الْجِسْمَ جِسْمًا مَعَ الذُّهُولِ عَنْ كَوْنِهِ نَيِّرًا وَلِأَنَّ الْجِسْمَ قَدْ يَسْتَنِيرُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُظْلِمًا فَثَبَتَ الثَّانِي لَكِنَّ الْكَيْفِيَّةَ الْقَائِمَةَ بِالْجِسْمِ مُحْتَاجَةٌ إِلَى الْجِسْمِ، وَالْمُحْتَاجُ إِلَى الْغَيْرِ لَا يَكُونُ إِلَهًا، وَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ يَبْطُلُ قَوْلُ الْمَانَوِيَّةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِلَهَ سُبْحَانَهُ هُوَ النُّورُ الْأَعْظَمُ. وَأَمَّا الْمُجَسِّمَةُ الْمُعْتَرِفُونَ بِصِحَّةِ الْقُرْآنِ فَيُحْتَجُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: 11] وَلَوْ كَانَ نُورًا لَبَطَلَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَنْوَارَ كُلَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَثَلُ نُورِهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَيْسَ ذَاتُهُ نَفْسَ النُّورِ بَلِ النُّورُ مُضَافٌ إِلَيْهِ. وَكَذَا قَوْلُهُ: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ أَنَّهُ فِي ذَاتِهِ نُورٌ. وقوله: مَثَلُ نُورِهِ يقتضي أن لا أَنْ لَا يَكُونَ هُوَ فِي ذَاتِهِ نُورًا وَبَيْنَهُمَا تَنَاقُضٌ، قُلْنَا نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُكَ زَيْدٌ/ كَرَمٌ وَجُودٌ، ثُمَّ تَقُولُ يُنْعِشُ النَّاسَ بِكَرَمِهِ وَجُودِهِ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَا تَنَاقُضَ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: 1] وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَاهِيَّةَ النُّورِ مَجْعُولَةٌ للَّه تَعَالَى فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ نُورًا، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَالْعُلَمَاءُ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ النُّورَ سَبَبٌ لِلظُّهُورِ وَالْهِدَايَةُ لَمَّا شَارَكَتِ النُّورَ فِي هذا النُّورَ فِي هَذَا الْمَعْنَى صَحَّ إِطْلَاقُ اسْمِ النُّورِ عَلَى الْهِدَايَةِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الْبَقَرَةِ: 257] . وَقَوْلِهِ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً [الْأَنْعَامِ: 122] وَقَالَ: وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشُّورَى: 52] فَقَوْلُهُ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ ذو نور السموات وَالْأَرْضِ وَالنُّورُ هُوَ الْهِدَايَةُ وَلَا تَحْصُلُ إِلَّا لأهل السموات، والحاصل أن المراد اللَّه هادي أهل السموات وَالْأَرْضِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْأَكْثَرِينَ رَضِيَ اللَّه عنهم وثانيها: المراد أنه مدبر السموات وَالْأَرْضِ بِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ وَحُجَّةٍ نَيِّرَةٍ فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ كَمَا يُوصَفُ الرَّئِيسُ الْعَالِمُ بِأَنَّهُ نُورُ الْبَلَدِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ مُدَبِّرَهُمْ تَدْبِيرًا حَسَنًا فَهُوَ لَهُمْ كَالنُّورِ الَّذِي يُهْتَدَى بِهِ إِلَى مَسَالِكِ الطُّرُقِ، قَالَ جَرِيرٌ: وَأَنْتَ لَنَا نُورٌ وَغَيْثٌ وَعِصْمَةٌ وَهَذَا اخْتِيَارُ الْأَصَمِّ وَالزَّجَّاجِ وَثَالِثُهَا: المراد ناظم السموات وَالْأَرْضِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْأَحْسَنِ فَإِنَّهُ قَدْ يُعَبَّرُ بِالنُّورِ عَلَى النِّظَامِ، يُقَالُ مَا أَرَى لِهَذَا الأمر نورا ورابعها: معناه منور السموات وَالْأَرْضِ ثُمَّ ذَكَرُوا فِي هَذَا الْقَوْلِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُنَوِّرُ السَّمَاءِ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْأَرْضِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالثَّانِي: مُنَوِّرُهَا بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ زَيَّنَ السَّمَاءَ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَزَيَّنَ الْأَرْضَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَالْحَسَنِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنُّورِ الْهِدَايَةُ إِلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْخَ الْغَزَالِيَّ رَحِمَهُ اللَّه صَنَّفَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكِتَابَ الْمُسَمَّى بِمِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ، وَزَعَمَ أَنَّ اللَّه نُورٌ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ لَيْسَ النُّورُ إِلَّا هُوَ، وَأَنَا أَنْقُلُ مُحَصِّلَ مَا ذَكَرَهُ

مَعَ زَوَائِدَ كَثِيرَةٍ تُقَوِّي كَلَامَهُ ثُمَّ نَنْظُرُ فِي صِحَّتِهِ وَفَسَادِهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْصَافِ فَقَالَ: اسْمُ النُّورِ إِنَّمَا وُضِعَ لِلْكَيْفِيَّةِ الْفَائِضَةِ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنَّارِ عَلَى ظَوَاهِرِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ، فَيُقَالُ اسْتَنَارَتِ الْأَرْضُ وَوَقَعَ نُورُ الشَّمْسِ عَلَى الثَّوْبِ وَنُورُ السِّرَاجِ عَلَى الْحَائِطِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ إِنَّمَا اخْتُصَّتْ بِالْفَضِيلَةِ وَالشَّرَفِ لِأَنَّ الْمَرْئِيَّاتِ تَصِيرُ بِسَبَبِهَا ظَاهِرَةً مُنْجَلِيَةً، ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ كَمَا يَتَوَقَّفُ إِدْرَاكُ هَذِهِ الْمَرْئِيَّاتِ عَلَى كَوْنِهَا مُسْتَنِيرَةً فَكَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الْعَيْنِ الْبَاصِرَةِ إِذِ الْمَرْئِيَّاتُ بَعْدَ اسْتِنَارَتِهَا لَا تَكُونُ ظَاهِرَةً فِي حَقِّ الْعُمْيَانِ فَقَدْ سَاوَى الرُّوحُ الْبَاصِرَةُ النُّورَ الظَّاهِرَةَ فِي كَوْنِهِ رُكْنًا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلظُّهُورِ، ثُمَّ يُرَجَّحُ عَلَيْهِ فِي أَنَّ الرُّوحَ الْبَاصِرَةَ هِيَ الْمُدْرِكَةُ وَبِهَا الْإِدْرَاكُ، وَأَمَّا النُّورُ الْخَارِجُ فَلَيْسَ بِمُدْرِكٍ ولا به الإدراك بل عند الْإِدْرَاكُ، فَكَانَ وَصْفُ الْإِظْهَارِ بِالنُّورِ الْبَاصِرِ أَحَقَّ مِنْهُ بِالنُّورِ الْمُبْصَرِ فَلَا جَرَمَ أَطْلَقُوا/ اسْمَ النُّورِ عَلَى نُورِ الْعَيْنِ الْمُبْصِرَةِ فَقَالُوا فِي الْخُفَّاشِ إِنَّ نُورَ عَيْنِهِ ضَعِيفٌ، وَفِي الْأَعْمَشِ إِنَّهُ ضَعُفَ نُورُ بَصَرِهِ. وَفِي الْأَعْمَى إِنَّهُ فَقَدَ نُورَ الْبَصَرِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّ لِلْإِنْسَانِ بَصَرًا وَبَصِيرَةً فَالْبَصَرُ هُوَ الْعَيْنُ الظَّاهِرَةُ الْمُدْرِكَةُ لِلْأَضْوَاءِ وَالْأَلْوَانِ، وَالْبَصِيرَةُ هِيَ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِدْرَاكَيْنِ يَقْتَضِي ظُهُورَ الْمُدْرَكِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِدْرَاكَيْنِ نُورٌ إِلَّا أَنَّهُمْ عَدَّدُوا لِنُورِ الْعَيْنِ عُيُوبًا لَمْ يَحْصُلْ شيء منها في نور العقلي، وَالْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّه ذَكَرَ مِنْهَا سَبْعَةً، وَنَحْنُ جَعَلْنَاهَا عِشْرِينَ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ لَا تُدْرِكُ نَفْسَهَا وَلَا تُدْرِكُ إِدْرَاكَهَا وَلَا تُدْرِكُ آلَتَهَا، أَمَّا أَنَّهَا لَا تُدْرِكُ نَفْسَهَا وَلَا تُدْرِكُ إِدْرَاكَهَا فَلِأَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ وَإِدْرَاكَ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ لَيْسَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُبْصَرَةِ بِالْعَيْنِ الْبَاصِرَةِ، وَأَمَّا آلَتُهَا فَهِيَ الْعَيْنُ، وَالْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ بِالْعَيْنِ لَا تُدْرِكُ الْعَيْنَ، وَأَمَّا الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ فَإِنَّهَا تُدْرِكُ نَفْسَهَا وَتُدْرِكُ إِدْرَاكَهَا وَتُدْرِكُ آلَتَهَا فِي الْإِدْرَاكِ وَهِيَ الْقَلْبُ وَالدِّمَاغُ، فَثَبَتَ أَنَّ نُورَ الْعَقْلِ أَكْمَلُ مِنْ نُورِ الْبَصَرِ الثَّانِي: أَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ لَا تُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ وَالْقُوَّةَ الْعَاقِلَةَ تُدْرِكُهَا، وَمُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ وَهُوَ الْقَلْبُ أَشْرَفُ مِنْ مُدْرِكِ الْجُزْئِيَّاتِ، أَمَّا أَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ لَا تُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ فَلِأَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ لَوْ أَدْرَكَتْ كُلَّ مَا فِي الْوُجُودِ فَهِيَ مَا أَدْرَكَتِ الْكُلَّ لِأَنَّ الْكُلَّ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا يُمْكِنُ دُخُولُهُ فِي الْوُجُودِ فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ والمستقبل، وأما أن القوة العاقلة تدرك الكيات فَلِأَنَّا نَعْرِفُ أَنَّ الْأَشْخَاصَ الْإِنْسَانِيَّةَ مُشْتَرِكَةٌ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ وَمُتَمَايِزَةٌ بِخُصُوصِيَّاتِهَا، وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُمَايَزَةُ، فَالْإِنْسَانِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ إِنْسَانِيَّةٌ أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِهَذِهِ الْمُشَخَّصَاتِ فَقَدْ عَقَلْنَا الْمَاهِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ، وَأَمَّا أَنَّ إِدْرَاكَ الْكُلِّيَّاتِ أَشْرَفُ فَلِأَنَّ إِدْرَاكَ الْكُلِّيَّاتِ مُمْتَنِعُ التَّغَيُّرِ، وَإِدْرَاكُ الْجُزْئِيَّاتِ وَاجِبُ التَّغَيُّرِ، وَلِأَنَّ إِدْرَاكَ الْكُلِّيِّ يَتَضَمَّنُ إِدْرَاكَ الْجُزْئِيَّاتِ الْوَاقِعَةِ تَحْتَهُ، لِأَنَّ مَا ثَبَتَ لِلْمَاهِيَّةِ ثَبَتَ لِجَمِيعِ أَفْرَادِهَا وَلَا يَنْعَكِسُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِدْرَاكَ الْعَقْلِيَّ أَشْرَفُ الثَّالِثُ: الْإِدْرَاكُ الْحِسِّيُّ غَيْرُ مُنْتِجٍ وَالْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ مُنْتِجٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ أَشْرَفَ، أَمَّا كَوْنُ الْإِدْرَاكِ الْحِسِّيِّ غَيْرَ مُنْتِجٍ فَلِأَنَّ مَنْ أَحَسَّ بِشَيْءٍ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْإِحْسَاسُ سَبَبًا لِحُصُولِ إِحْسَاسٍ آخَرَ لَهُ، بَلْ لَوِ اسْتَعْمَلَ لَهُ الْحِسَّ مَرَّةً أُخْرَى لَأَحَسَّ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِنْتَاجَ الْإِحْسَاسِ لِإِحْسَاسٍ آخَرَ، وَأَمَّا أَنَّ الْإِدْرَاكَ الْعَقْلِيَّ مُنْتِجٌ فَلِأَنَّا إِذَا عَقَلْنَا أُمُورًا ثُمَّ رَكَّبْنَاهَا فِي عُقُولِنَا تَوَسَّلْنَا بِتَرْكِيبِهَا إِلَى اكْتِسَابِ عُلُومٍ أُخْرَى، وَهَكَذَا كُلُّ تَعَقُّلٍ حَاصِلٍ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ التَّوَسُّلُ بِهِ إِلَى تَحْصِيلِ تَعَقُّلٍ آخَرَ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِدْرَاكَ الْعَقْلِيَّ أَشْرَفُ الرَّابِعُ: الْإِدْرَاكُ الْحِسِّيُّ لَا يَتَّسِعُ لِلْأُمُورِ الْكَثِيرَةِ وَالْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ، يَتَّسِعُ لَهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ أَشْرَفَ. أَمَّا أَنَّ الْإِدْرَاكَ الْحِسِّيَّ لَا يَتَّسِعُ لَهَا فَلِأَنَّ الْبَصَرَ إِذَا تَوَالَى عَلَيْهِ أَلْوَانٌ كَثِيرَةٌ عَجَزَ عَنْ تَمْيِيزِهَا، فَأَدْرَكَ لَوْنًا كَأَنَّهُ حَاصِلٌ مِنَ اخْتِلَاطِ تِلْكَ الْأَلْوَانِ [وَ] السَّمْعُ إِذَا تَوَالَتْ عَلَيْهِ كَلِمَاتٌ كَثِيرَةٌ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْكَلِمَاتُ وَلَمْ يَحْصُلِ التَّمْيِيزُ، وَأَمَّا أَنَّ الْإِدْرَاكَ الْعَقْلِيَّ مُتَّسِعٌ لَهَا فَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ تَحْصِيلُهُ لِلْعُلُومِ أَكْثَرَ كَانَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى كَسْبِ الْجَدِيدِ أَسْهَلَ، وَبِالْعَكْسِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِأَنَّ الإدراك

الْعَقْلِيَّ أَشْرَفُ الْخَامِسُ: الْقُوَّةُ الْحِسِّيَّةُ إِذَا/ أَدْرَكَتِ الْمَحْسُوسَاتِ الْقَوِيَّةَ فَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تَعْجِزُ عَنْ إِدْرَاكِ الضَّعِيفَةِ، فَإِنَّ مَنْ سَمِعَ الصَّوْتَ الشَّدِيدَ فَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْمَعَ الصَّوْتَ الضَّعِيفَ وَالْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ لَا يَشْغَلُهَا مَعْقُولٌ عَنْ مَعْقُولٍ السَّادِسُ: الْقُوَى الْحِسِّيَّةُ تَضْعُفُ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ، وَتَضْعُفُ عِنْدَ كَثْرَةِ الْأَفْكَارِ الَّتِي هِيَ موجبا لِاسْتِيلَاءِ النَّفْسِ عَلَى الْبَدَنِ الَّذِي هُوَ مُوجِبٌ لِخَرَابِ الْبَدَنِ، وَالْقُوَى الْعَقْلِيَّةُ تَقْوَى بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ وَتَقْوَى عِنْدَ كَثْرَةِ الْأَفْكَارِ الْمُوجِبَةِ لِخَرَابِ الْبَدَنِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اسْتِغْنَاءِ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَنْ هَذِهِ الْآلَاتِ وَاحْتِيَاجِ الْقُوَى الْحِسِّيَّةِ إِلَيْهَا السَّابِعُ: الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ لَا تُدْرِكُ الْمَرْئِيَّ مَعَ الْقُرْبِ الْقَرِيبِ وَلَا مَعَ الْبُعْدِ الْبَعِيدِ، وَالْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ لَا يَخْتَلِفُ حَالُهَا بِحَسَبِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، فَإِنَّهَا تَتَرَقَّى إِلَى مَا فَوْقَ الْعَرْشِ وَتَنْزِلُ إِلَى مَا تَحْتَ الثَّرَى فِي أَقَلِّ مِنْ لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ تُدْرِكُ ذَاتَ اللَّه وَصِفَاتِهِ مَعَ كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ وَالْجِهَةِ فَكَانَتِ الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ أَشْرَفَ الثَّامِنُ: الْقُوَّةُ الْحِسِّيَّةُ لَا تُدْرِكُ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا ظَوَاهِرِهَا فَإِذَا أَدْرَكَتِ الْإِنْسَانَ فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مَا أَدْرَكَتِ الْإِنْسَانَ لِأَنَّهَا مَا أَدْرَكَتْ إِلَّا السَّطْحَ الظَّاهِرَ مِنْ جِسْمِهِ، وَإِلَّا اللَّوْنَ الْقَائِمَ بِذَلِكَ السَّطْحِ، وَبِالِاتِّفَاقِ فَلَيْسَ الْإِنْسَانُ عِبَارَةً عَنْ مُجَرَّدِ السَّطْحِ وَاللَّوْنِ فَالْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ عَاجِزَةٌ عَنِ النُّفُوذِ فِي الْبَاطِنِ، أَمَّا الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ فَإِنَّ بَاطِنَ الْأَشْيَاءِ وَظَاهِرَهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا عَلَى السَّوَاءِ فَإِنَّهَا تُدْرِكُ الْبَوَاطِنَ وَالظَّوَاهِرَ وَتَغُوصُ فِيهَا وَفِي أَجْزَائِهَا، فَكَانَتِ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ نُورًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، أَمَّا الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الظَّاهِرِ نُورٌ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَاطِنِ ظُلْمَةٌ، فَكَانَتِ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ أَشْرَفَ مِنَ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ التَّاسِعُ: أَنَّ مُدْرِكَ القوة العاقلة هو اللَّه تعالى وجميع أفعاله، وَمُدْرِكَ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ هُوَ الْأَلْوَانُ وَالْأَشْكَالُ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ نِسْبَةُ شَرَفِ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ إِلَى شَرَفِ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ كَنِسْبَةِ شَرَفِ ذَاتِ اللَّه تَعَالَى إِلَى شَرَفِ الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ الْعَاشِرُ: الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ تُدْرِكُ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَالْمَاهِيَّاتِ الَّتِي هِيَ مَعْرُوضَاتُ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ أَوَّلَ حِكَمِهِ أَنَّ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ، وَذَلِكَ مَسْبُوقٌ لَا مَحَالَةَ بِتَصَوُّرِ مُسَمَّى الْوُجُودِ وَمُسَمَّى الْعَدَمِ فَكَأَنَّهُ بِهَذَيْنِ التَّصَوُّرَيْنِ قَدْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ الْأُمُورِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. وَأَمَّا الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ فَإِنَّهَا لَا تُدْرِكُ إِلَّا الْأَضْوَاءَ وَالْأَلْوَانَ وَهُمَا مِنْ أَخَسِّ عَوَارِضِ الْأَجْسَامِ وَالْأَجْسَامُ أَخَسُّ مِنَ الْجَوَاهِرِ الرُّوحَانِيَّةِ، فَكَانَ مُتَعَلِّقُ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ أَخَسَّ الْمَوْجُودَاتِ. وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ فَهُوَ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ فَكَانَتِ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ أَشْرَفَ. الْحَادِي عَشَرَ: الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ تَقْوَى عَلَى تَوْحِيدِ الْكَثِيرِ وَتَكْثِيرِ الْوَاحِدِ، وَالْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ لَا تَقْوَى عَلَى ذَلِكَ. أَمَّا أَنَّ الْقُوَّةَ الْعَاقِلَةَ تَقْوَى عَلَى تَوْحِيدِ الْكَثِيرِ، فَذَاكَ لِأَنَّهَا تَضُمُّ الْجِنْسَ إِلَى الْفَصْلِ فَيَحْدُثُ مِنْهُمَا طَبِيعَةٌ نَوْعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَمَّا أَنَّهَا تَقْوَى عَلَى تَكْثِيرِ الْوَاحِدِ فَلِأَنَّهَا تَأْخُذُ الْإِنْسَانَ وَهِيَ مَاهِيَّةٌ وَاحِدَةٌ فَتُقَسِّمُهَا إِلَى مَفْهُومَاتِهَا وَإِلَى عَوَارِضِهَا اللَّازِمَةِ وَعَوَارِضِهَا الْمُفَارِقَةِ، ثُمَّ تُقَسِّمُ مُقَوِّمَاتِهِ إِلَى الْجِنْسِ وَجِنْسِ الْجِنْسِ، وَالْفَصْلِ وَفَصْلِ الْفَصْلِ، وَجِنْسِ الْفَصْلِ وَفَصْلِ الْجِنْسِ، / إِلَى سَائِرِ الْأَجْزَاءِ الْمُقَوِّمَةِ الَّتِي لَا تُعَدُّ مِنَ الْأَجْنَاسِ وَلَا مِنَ الْفُصُولِ، ثُمَّ لَا تزال تأتي بهذا لتقسيم فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ حَتَّى تَنْتَهِيَ مِنْ تِلْكَ الْمُرَكَّبَاتِ إِلَى الْبَسَائِطِ الْحَقِيقِيَّةِ، ثُمَّ تُعْتَبَرُ فِي الْعَوَارِضِ اللَّازِمَةِ أَنَّ تِلْكَ الْعَوَارِضَ مُفْرَدَةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ وَلَازِمَةٌ بِوَسَائِطَ أَوْ بِوَسَطٍ، أَوْ بِغَيْرِ وَسَطٍ، فَالْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ كَأَنَّهَا نَفَذَتْ فِي أَعْمَاقِ الْمَاهِيَّاتِ وَتَغَلْغَلَتْ فِيهَا وَمَيَّزَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهَا عَنْ صَاحِبِهِ، وَأَنْزَلَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي الْمَكَانِ اللَّائِقِ بِهِ. فَأَمَّا الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ فَلَا تَطَّلِعُ عَلَى أَحْوَالِ الْمَاهِيَّاتِ، بَلْ لَا تَرَى إِلَّا أَمْرًا وَاحِدًا وَلَا تَدْرِي مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ، فَظَهَرَ أَنَّ الْقُوَّةَ الْعَاقِلَةَ أَشْرَفُ الثَّانِي عَشَرَ: الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ تَقْوَى عَلَى إِدْرَاكَاتٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالْقُوَّةُ الْحَاسَّةُ لَا تَقْوَى عَلَى ذَلِكَ: بَيَانُ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ يُمْكِنُهَا أَنْ تَتَوَسَّلَ بِالْمَعَارِفِ الْحَاضِرَةِ إِلَى اسْتِنْتَاجِ الْمَجْهُولَاتِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَجْعَلُ تِلْكَ

النَّتَائِجَ مُقَدِّمَاتٍ فِي نَتَائِجَ أُخْرَى لَا إِلَى نِهَايَةٍ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْقُوَّةَ الْحَاسَّةَ لَا تَقْوَى عَلَى الِاسْتِنْتَاجِ أَصْلًا الثَّانِي: أَنَّ الْقُوَّةَ الْعَاقِلَةَ تَقْوَى عَلَى تَعَقُّلِ مَرَاتِبِ الْأَعْدَادِ وَلَا نِهَايَةَ لَهَا الثَّالِثُ: أَنَّ الْقُوَّةَ الْعَاقِلَةَ يُمْكِنُهَا أَنْ تَعْقِلَ نَفْسَهَا، وَأَنْ تَعْقِلَ أَنَّهَا عَقَلَتْ وَكَذَا إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ الرَّابِعُ: النَّسَبُ وَالْإِضَافَاتُ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَهِيَ مَعْقُولَةٌ لَا مَحْسُوسَةٌ فَظَهَرَ أَنَّ الْقُوَّةَ الْعَاقِلَةَ أَشْرَفُ الثَّالِثَ عَشَرَ: الْإِنْسَانُ بِقُوَّتِهِ الْعَاقِلَةِ يُشَارِكُ اللَّه تَعَالَى فِي إِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ وَبِقُوَّتِهِ الْحَاسَّةِ يُشَارِكُ الْبَهَائِمَ، وَالنِّسْبَةُ مُعْتَبَرَةٌ فَكَانَتِ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ أَشْرَفَ الرَّابِعَ عَشَرَ: الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ غَنِيَّةٌ فِي إِدْرَاكِهَا الْعَقْلِيِّ عَنْ وُجُودِ الْمَعْقُولِ فِي الْخَارِجِ، وَالْقُوَّةُ الْحَاسَّةُ مُحْتَاجَةٌ فِي إِدْرَاكِهَا الْحِسِّيِّ إِلَى وُجُودِ الْمَحْسُوسِ فِي الْخَارِجِ، وَالْغَنِيُّ أَشْرَفُ مِنَ الْمُحْتَاجِ. الْخَامِسَ عَشَرَ: هَذِهِ الْمَوْجُودَاتُ الْخَارِجِيَّةُ مُمْكِنَةٌ لِذَوَاتِهَا وَإِنَّهَا مُحْتَاجَةٌ إِلَى الْفَاعِلِ، وَالْفَاعِلُ لَا يُمْكِنُهُ الْإِيجَادُ عَلَى سَبِيلِ الْإِتْقَانِ إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ الْعِلْمِ، فَإِذَنْ وُجُودُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الْخَارِجِ تَابِعٌ لِلْإِدْرَاكِ الْعَقْلِيِّ، وَأَمَّا الْإِحْسَاسُ بِهَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَابِعٌ لِوُجُودِهَا فِي الْخَارِجِ، فَإِذَنِ الْقُوَّةُ الْحَسَّاسَةُ تَبَعٌ لِتَبَعِ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ السَّادِسَ عَشَرَ: الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ فِي الْعَقْلِ إِلَى الْآلَاتِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوِ اخْتَلَّتْ حَوَاسُّهُ الْخَمْسُ، فَإِنَّهُ يَعْقِلُ أَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ، وَأَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُسَاوِيَةَ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ مُتَسَاوِيَةٌ. وَأَمَّا الْقُوَّةُ الْحَسَّاسَةُ فَإِنَّهَا مُحْتَاجَةٌ إِلَى آلَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَالْغَنِيُّ أَفْضَلُ مِنَ الْمُحْتَاجِ، السَّابِعَ عَشَرَ: الْإِدْرَاكُ الْبَصَرِيُّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِلشَّيْءِ الَّذِي فِي الْجِهَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ فِي كُلِّ الْجِهَاتِ بَلْ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْمُقَابِلَ أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمُقَابِلِ، وَاحْتَرَزْنَا بِقَوْلِنَا فِي حُكْمِ الْمُقَابِلِ عَنْ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ: الْأَوَّلُ: الْعَرْضُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُقَابِلٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَكَانِ، وَلَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُقَابِلِ لِأَجْلِ كَوْنِهِ قَائِمًا بِالْجِسْمِ الَّذِي هُوَ مُقَابِلٌ الثَّانِي: رُؤْيَةُ الوجه فِي الْمِرْآةِ، فَإِنَّ الشُّعَاعَ يَخْرُجُ مِنَ الْعَيْنِ إِلَى الْمِرْآةِ، ثُمَّ يَرْتَدُّ مِنْهَا إِلَى الوجه فَيَصِيرُ الوجه مَرْئِيًّا، وَهُوَ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ كَالْمُقَابِلِ لِنَفْسِهِ. الثَّالِثُ: رُؤْيَةُ الْإِنْسَانِ قَفَاهُ إِذَا جَعَلَ إِحْدَى الْمِرْآتَيْنِ مُحَاذِيَةً لِوَجْهِهِ وَالْأُخْرَى لِقَفَاهُ. وَالرَّابِعُ: رُؤْيَةُ مَا لَا يُقَابَلُ بِسَبَبِ انْعِطَافِ الشُّعَاعِ فِي الرُّطُوبَاتِ كَمَا هُوَ مَشْرُوحٌ فِي كِتَابِ الْمَنَاظِرِ «1» وَأَمَّا/ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ فَإِنَّهَا مُبَرَّأَةٌ عَنِ الْجِهَاتِ، فَإِنَّهَا تَعْقِلُ الْجِهَةَ وَالْجِهَةُ لَيْسَتْ فِي الْجِهَةِ، وَلِذَلِكَ تَعْقِلُ أَنَّ الشَّيْءَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْجِهَةِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْجِهَةِ، وَهَذَا التَّرْدِيدُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ تَعَقُّلِ مَعْنَى قَوْلِنَا لَيْسَ فِي الْجِهَةِ. الثَّامِنَ عَشَرَ: الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ تَعْجِزُ عِنْدَ الْحِجَابِ، وَأَمَّا الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ فَإِنَّهَا لَا يَحْجُبُهَا شَيْءٌ أصلا فكانت أشرف. التاسع عشر: القوة العاملة كَالْأَمِيرِ، وَالْحَاسَّةُ كَالْخَادِمِ وَالْأَمِيرُ أَشْرَفُ مِنَ الْخَادِمِ، وَتَقْرِيرُ [الْفَرْقِ بَيْنَ] الْإِمَارَةِ وَالْخِدْمَةِ مَشْهُورٌ. الْعِشْرُونَ: الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ قَدْ تَغْلَطُ كَثِيرًا فَإِنَّهَا قَدْ تُدْرِكُ الْمُتَحَرِّكَ سَاكِنًا وَبِالْعَكْسِ، كَالْجَالِسِ فِي السَّفِينَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُدْرِكُ السَّفِينَةَ الْمُتَحَرِّكَةَ سَاكِنَةً وَالشَّطَّ السَّاكِنَ مُتَحَرِّكًا، وَلَوْلَا الْعَقْلُ لَمَا تَمَيَّزَ خَطَأُ الْبَصَرِ عَنْ صَوَابِهِ، وَالْعَقْلُ حَاكِمٌ وَالْحِسُّ مَحْكُومٌ، فثبت بما ذكرنا أن الإدراك العقل أَشْرَفُ مِنَ الْإِدْرَاكِ الْبَصَرِيِّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِدْرَاكَيْنِ يَقْتَضِي الظُّهُورَ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ خَوَاصِّ النُّورِ، فَكَانَ الْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ أَوْلَى بِكَوْنِهِ نُورًا مِنَ الْإِدْرَاكِ الْبَصَرِيِّ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ هَذِهِ الْأَنْوَارُ الْعَقْلِيَّةُ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: وَاجِبُ الْحُصُولِ عِنْدَ سَلَامَةِ الْأَحْوَالِ وَهِيَ التَّعَقُّلَاتُ الْفِطْرِيَّةُ وَالثَّانِي: مَا يَكُونُ مُكْتَسَبًا وَهِيَ التَّعَقُّلَاتُ النَّظَرِيَّةُ أَمَّا الْفِطْرِيَّةُ فَلَيْسَتْ هِيَ مِنْ لَوَازِمِ جَوْهَرِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ حَالَ الطُّفُولِيَّةِ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا الْبَتَّةَ فَهَذِهِ الْأَنْوَارُ الْفِطْرِيَّةُ إِنَّمَا حَصَلَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ سَبَبٍ وَأَمَّا النَّظَرِيَّاتُ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفِطْرَةَ الْإِنْسَانِيَّةَ قَدْ يَعْتَرِيهَا الزَّيْغُ فِي الْأَكْثَرِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ هَادٍ مُرْشِدٍ وَلَا مُرْشِدَ فوق كلام اللَّه تعالى وفوق

_ (1) يريد بالمناظر المرايا. وهو من مباحث العلوم الطبيعية في الضوء والانعكاس الضوئي.

إِرْشَادِ الْأَنْبِيَاءِ، فَتَكُونُ مَنْزِلَةُ آيَاتِ الْقُرْآنِ عِنْدَ عَيْنِ الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ نُورِ الشَّمْسِ عِنْدَ الْعَيْنِ الْبَاصِرَةِ إِذْ بِهِ يَتِمُّ الْإِبْصَارُ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يُسَمَّى الْقُرْآنُ نُورًا كَمَا يُسَمَّى نُورُ الشَّمْسِ نُورًا، فَنُورُ الْقُرْآنِ يُشْبِهُ نُورَ الشَّمْسِ وَنُورُ الْعَقْلِ يُشْبِهُ نُورَ الْعَيْنِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا [التَّغَابُنِ: 8] وَقَوْلِهِ: قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ [النِّسَاءِ: 174] وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [النِّسَاءِ: 174] وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيَانَ الرَّسُولِ أَقْوَى مِنْ نُورِ الشَّمْسِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ الْقُدْسِيَّةُ أَعْظَمَ فِي النُّورَانِيَّةِ مِنَ الشَّمْسِ، وَكَمَا أَنَّ الشَّمْسَ فِي عَالَمِ الْأَجْسَامِ تُفِيدُ النُّورَ لِغَيْرِهِ وَلَا تَسْتَفِيدُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَكَذَا نَفْسُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُفِيدُ الْأَنْوَارَ الْعَقْلِيَّةَ لِسَائِرِ الْأَنْفُسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَلَا تَسْتَفِيدُ الْأَنْوَارَ الْعَقْلِيَّةَ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَنْفُسِ الْبَشَرِيَّةِ، فَلِذَلِكَ وَصَفَ اللَّه تَعَالَى الشَّمْسَ بِأَنَّهَا سِرَاجٌ حَيْثُ قَالَ: وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الْفُرْقَانِ: 61] وَوَصَفَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ سِرَاجٌ مُنِيرٌ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ ثَبَتَ بِالشَّوَاهِدِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ أَنَّ الْأَنْوَارَ الْحَاصِلَةَ فِي أَرْوَاحِ الْأَنْبِيَاءِ مُقْتَبَسَةٌ مِنَ الْأَنْوَارِ الْحَاصِلَةِ فِي أَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ قَالَ تَعَالَى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [النَّحْلِ: 2] وَقَالَ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: 193، 194] وقال: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل: 102] وقال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النجم: 4، 5] وَالْوَحْيُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ فَإِذَا جَعَلْنَا أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ أَعْظَمَ اسْتِنَارَةً مِنَ الشَّمْسِ فَأَرْوَاحُ الْمَلَائِكَةِ الَّتِي هِيَ كَالْمَعَادِنِ لِأَنْوَارِ عُقُولِ الْأَنْبِيَاءِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ أَعْظَمَ مِنْ أَنْوَارِ أَرْوَاحِ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّ السَّبَبَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنَ الْمُسَبَّبِ. ثُمَّ نَقُولُ ثَبَتَ أَيْضًا بِالشَّوَاهِدِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ أَنَّ الْأَرْوَاحَ السَّمَاوِيَّةَ مُخْتَلِفَةٌ فَبَعْضُهَا مُسْتَفِيدَةٌ وَبَعْضُهَا/ مُفِيدَةٌ، قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التَّكْوِيرِ: 21] وَإِذَا كَانَ هُوَ مُطَاعُ الْمَلَائِكَةِ فَالْمُطِيعُونَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُوا تَحْتَ أَمْرِهِ وَقَالَ: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصَّافَّاتِ: 164] وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْمُفِيدُ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ نُورًا مِنَ الْمُسْتَفِيدِ لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَلِمَرَاتِبِ الْأَنْوَارِ فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ مِثَالٌ وَهُوَ أَنَّ ضَوْءَ الشَّمْسِ إِذَا وَصَلَ إِلَى الْقَمَرِ ثُمَّ دَخَلَ فِي كُوَّةِ بَيْتٍ وَوَقَعَ عَلَى مِرْآةٍ مَنْصُوبَةٍ عَلَى حَائِطٍ ثُمَّ انْعَكَسَ مِنْهَا إِلَى حَائِطٍ آخَرَ نُصِبَ عَلَيْهِ مِرْآةٌ أُخْرَى ثُمَّ انْعَكَسَ مِنْهَا إِلَى طَسْتٍ مَمْلُوءٍ مِنَ الْمَاءِ مَوْضُوعٍ عَلَى الْأَرْضِ انْعَكَسَ مِنْهُ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ فَالنُّورُ الْأَعْظَمُ فِي الشَّمْسِ الَّتِي هِيَ الْمَعْدِنُ، وَثَانِيًا فِي الْقَمَرِ، وَثَالِثًا مَا وَصَلَ إِلَى الْمِرْآةِ الْأُولَى، وَرَابِعًا مَا وَصَلَ إِلَى الْمِرْآةِ الثَّانِيَةِ، وَخَامِسًا مَا وَصَلَ إِلَى الْمَاءِ، وَسَادِسًا مَا وَصَلَ إِلَى السَّقْفِ، وَكُلَّ مَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْمَنْبَعِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ أَقْوَى مِمَّا هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ فَكَذَا الْأَنْوَارُ السَّمَاوِيَّةُ لَمَّا كَانَتْ مُرَتَّبَةً لَا جَرَمَ كَانَ نُورُ الْمُفِيدِ أَشَدَّ إِشْرَاقًا مِنْ نُورِ الْمُسْتَفِيدِ، ثُمَّ تِلْكَ الْأَنْوَارُ لَا تَزَالُ تَكُونُ مُتَرَقِّيَةً حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى النُّورِ الْأَعْظَمِ وَالرُّوحِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْأَرْوَاحِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّه الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا [النَّبَأِ: 38] ثُمَّ نَقُولُ لَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَارَ الْحِسِّيَّةَ إِنْ كَانَتْ سُفْلِيَّةً كَانَتْ كَأَنْوَارِ النِّيرَانِ أَوْ عُلْوِيَّةً كَانَتْ كَأَنْوَارِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ، وَكَذَا الْأَنْوَارُ الْعَقْلِيَّةُ سفلية كانت كالأرواح السفلية التي للأنبياء أَوْ عُلْوِيَّةً كَالْأَرْوَاحِ الْعُلْوِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَلَائِكَةُ، فَإِنَّهَا بِأَسْرِهَا مُمْكِنَةٌ لِذَوَاتِهَا وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ يَسْتَحِقُّ الْعَدَمَ مِنْ ذَاتِهِ وَالْوُجُودَ مِنْ غَيْرِهِ، وَالْعَدَمُ هُوَ الظُّلْمَةُ الْحَاصِلَةُ وَالْوُجُودُ هُوَ النُّورُ، فَكُلُّ ما سوى اللَّه مظلم لذاته مستنير بإنارة اللَّه تَعَالَى وَكَذَا جَمِيعُ مَعَارِفِهَا بَعْدَ وُجُودِهَا حَاصِلٌ مِنْ وُجُودِ اللَّه تَعَالَى، فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي أَظْهَرَهَا بِالْوُجُودِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ فِي ظُلُمَاتِ الْعَدَمِ وَأَفَاضَ عَلَيْهَا أَنْوَارَ الْمَعَارِفِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ فِي ظُلُمَاتِ الْجَهَالَةِ، فَلَا ظُهُورَ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا بِإِظْهَارِهِ، وَخَاصَّةُ النُّورِ إِعْطَاءُ الْإِظْهَارِ وَالتَّجَلِّي وَالِانْكِشَافِ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ النُّورَ الْمُطْلَقَ هُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَأَنَّ إِطْلَاقَ النُّورِ عَلَى

غَيْرِهِ مَجَازٌ إِذْ كُلُّ مَا سِوَى اللَّه، فإنه من حيث هو هو ظلمة محضة لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ، بَلِ الْأَنْوَارُ إِذَا نَظَرْنَا إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ فَهِيَ ظُلُمَاتٌ، لِأَنَّهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ مُمْكِنَاتٌ، وَالْمُمْكِنُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ مَعْدُومٌ، وَالْمَعْدُومُ مُظْلِمٌ. فَالنُّورُ إِذَا نُظِرَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ ظُلْمَةٌ، فَأَمَّا إِذَا الْتُفِتَ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ أَفَاضَ عَلَيْهَا نُورَ الْوُجُودِ فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ صَارَتْ أَنْوَارًا. فَثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ النُّورُ. وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَلَيْسَ بِنُورٍ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. ثُمَّ إِنَّهُ رَحِمَهُ اللَّه تَكَلَّمَ بَعْدَ هَذَا فِي أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سبحانه لم أضاف النور إلى السموات والأرض؟ وأجاب فقال قد عرفت أن السموات وَالْأَرْضَ مَشْحُونَةٌ بِالْأَنْوَارِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْأَنْوَارِ الْحِسِّيَّةِ، أَمَّا الحسية فما يشاهد في السموات مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَا يُشَاهَدُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْأَشِعَّةِ الْمُنْبَسِطَةِ عَلَى سُطُوحِ الْأَجْسَامِ حَتَّى ظَهَرَتْ بِهِ الْأَلْوَانُ الْمُخْتَلِفَةُ، وَلَوْلَاهَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَلْوَانِ ظُهُورٌ بَلْ وُجُودٌ، وَأَمَّا الْأَنْوَارُ الْعَقْلِيَّةُ فَالْعَالَمُ الْأَعْلَى مَشْحُونٌ بِهَا وَهِيَ جَوَاهِرُ الْمَلَائِكَةِ وَالْعَالَمُ الْأَسْفَلُ/ مَشْحُونٌ بِهَا وَهِيَ الْقُوَى النَّبَاتِيَّةُ وَالْحَيَوَانِيَّةُ وَالْإِنْسَانِيَّةُ وَبِالنُّورِ الْإِنْسَانِيِّ السُّفْلِيِّ ظَهَرَ نظام عالم السفل كما بالنور الملكي ظهر نِظَامِ عَالَمِ الْعُلُوِّ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النُّورِ: 55] وَقَالَ: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ [النَّمْلِ: 62] فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا عَرَفْتَ أَنَّ الْعَالَمَ بِأَسْرِهِ مَشْحُونٌ بِالْأَنْوَارِ الظَّاهِرَةِ الْبَصَرِيَّةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، ثُمَّ عَرَفْتَ أَنَّ السُّفْلِيَّةَ فَائِضَةٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فَيَضَانَ النُّورِ مِنَ السِّرَاجِ فَإِنَّ السِّرَاجَ هُوَ الرُّوحُ النَّبَوِيُّ، ثُمَّ إِنَّ الْأَنْوَارَ النَّبَوِيَّةَ الْقُدْسِيَّةَ مُقْتَبَسَةٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْعُلْوِيَّةِ اقْتِبَاسَ السِّرَاجِ مِنَ النُّورِ، وَإِنَّ الْعُلْوِيَّاتِ مُقْتَبِسَةٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّ بَيْنَهَا تَرْتِيبًا فِي الْمَقَامَاتِ، ثُمَّ تَرْتَقِي جُمْلَتُهَا إِلَى نُورِ الْأَنْوَارِ وَمَعْدِنِهَا وَمَنْبَعِهَا الْأَوَّلِ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ اللَّه وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِذَنِ الْكُلُّ نُورُهُ فَلِهَذَا قَالَ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: فَإِذَا كَانَ اللَّه النُّورَ فَلِمَ احْتِيجَ فِي إِثْبَاتِهِ إِلَى الْبُرْهَانِ؟ أَجَابَ فَقَالَ إِنَّ مَعْنَى كونه نور السموات وَالْأَرْضِ مَعْرُوفٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النُّورِ الظَّاهِرِ الْبَصَرِيِّ، فَإِذَا رَأَيْتَ خُضْرَةَ الرَّبِيعِ فِي ضِيَاءِ النَّهَارِ فَلَسْتَ تَشُكُّ فِي أَنَّكَ تَرَى الْأَلْوَانَ فَرُبَّمَا ظَنَنْتَ أَنَّكَ لَا تَرَى مَعَ الْأَلْوَانِ غَيْرَهَا، فَإِنَّكَ تَقُولُ لَسْتُ أَرَى مَعَ الْخُضْرَةِ غَيْرَ الْخُضْرَةِ إِلَّا أَنَّكَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ تُدْرِكُ تَفْرِقَةً ضَرُورِيَّةً بَيْنَ اللَّوْنِ حَالَ وُقُوعِ الضَّوْءِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ وُقُوعِهِ عَلَيْهِ، فَلَا جَرَمَ تَعْرِفُ أَنَّ النُّورَ مَعْنًى غَيْرُ اللَّوْنِ يُدْرَكُ مَعَ الْأَلْوَانِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لِشِدَّةِ اتِّحَادِهِ بِهِ لَا يُدْرَكُ وَلِشِدَّةِ ظُهُورِهِ يَخْتَفِي وَقَدْ يَكُونُ الظُّهُورُ سَبَبَ الْخَفَاءِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا ظَهَرَ كُلُّ شَيْءٍ لِلْبَصَرِ بِالنُّورِ الظَّاهِرِ فَقَدْ ظَهَرَ كُلُّ شَيْءٍ لِلْبَصِيرَةِ الْبَاطِنَةِ باللَّه وَنُورُهُ حَاصِلٌ مَعَ كُلِّ شَيْءٍ لَا يفارقه، ولكن بقي هاهنا تَفَاوُتٌ وَهُوَ أَنَّ النُّورَ الظَّاهِرَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَغِيبَ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، وَيُحْجَبَ فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّهُ غَيْرُ اللَّوْنِ، وَأَمَّا النُّورُ الْإِلَهِيُّ الَّذِي بِهِ يَظْهَرُ كُلُّ شَيْءٍ لَا يُتَصَوَّرُ غَيْبَتُهُ بَلْ يَسْتَحِيلُ تَغَيُّرُهُ فَيَبْقَى مَعَ الْأَشْيَاءِ دَائِمًا، فَانْقَطَعَ طَرِيقُ الِاسْتِدْلَالِ بِالتَّفْرِقَةِ، وَلَوْ تُصُوِّرَتْ غَيْبَتُهُ لَانْهَدَمَتِ السموات وَالْأَرْضُ وَلَأُدْرِكَ عِنْدَهُ مِنَ التَّفْرِقَةِ مَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا تَسَاوَتِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى وُجُودِ خَالِقِهَا، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ لَا بَعْضَ الْأَشْيَاءِ، وَفِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ لَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ارْتَفَعَتِ التَّفْرِقَةُ وَخَفِيَ الطَّرِيقُ، إِذِ الطَّرِيقُ الظَّاهِرُ مَعْرِفَةُ الْأَشْيَاءِ بِالْأَضْدَادِ فَمَا لَا ضِدَّ لَهُ وَلَا تَغَيُّرَ لَهُ بِتَشَابُهِ أَحْوَالِهِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْفَى وَيَكُونُ خَفَاؤُهُ لِشِدَّةِ ظُهُورِهِ وَجَلَائِهِ، فَسُبْحَانَ مَنِ اخْتَفَى عَنِ الْخَلْقِ لِشِدَّةِ ظُهُورِهِ وَاحْتَجَبَ عَنْهُمْ بِإِشْرَاقِ نُورِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنِ الشَّيْخِ الْغَزَالِيِّ رَحِمَهُ اللَّه كَلَامٌ مُسْتَطَابٌ وَلَكِنْ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ بَعْدَ التَّحْقِيقِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ نُورًا أَنَّهُ خَالِقٌ لِلْعَالَمِ

القسم الثاني: الحجب النورانية المحضة

وَأَنَّهُ خَالِقٌ لِلْقُوَى الدَّرَّاكَةِ، وَهُوَ الْمَعْنَى مِنْ قولنا معنى كونه نور السموات والأرض أنه هادي أهل السموات وَالْأَرْضِ، فَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ مَا قَالَهُ وَبَيْنَ الَّذِي نَقَلْنَاهُ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْمَعْنَى واللَّه أَعْلَمُ. الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ للَّه سَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ/ وَظُلْمَةٍ لَوْ كَشَفَهَا لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ مَا أَدْرَكَ بَصَرُهُ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ سَبْعُمِائَةٍ وَفِي بَعْضِهَا سَبْعُونَ أَلْفًا، فَأَقُولُ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَجَلٍّ فِي ذَاتِهِ لِذَاتِهِ كَانَ الْحِجَابُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَحْجُوبِ لَا مَحَالَةَ وَالْمَحْجُوبُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَحْجُوبًا، إِمَّا بِحِجَابٍ مُرَكَّبٍ مِنْ نُورٍ وَظُلْمَةٍ، وَإِمَّا بِحِجَابٍ مُرَكَّبٍ مِنْ نُورٍ فَقَطْ، أَوْ بِحِجَابٍ مُرَكَّبٍ مِنْ ظُلْمَةٍ فَقَطْ، أَمَّا الْمَحْجُوبُونَ بِالظُّلْمَةِ الْمَحْضَةِ فَهُمُ الَّذِينَ بَلَغُوا فِي الِاشْتِغَالِ بِالْعَلَائِقِ الْبَدَنِيَّةِ إِلَى حَيْثُ لَمْ يَلْتَفِتْ خَاطِرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِوُجُودِ هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ عَلَى وُجُودِ وَاجِبِ الْوُجُودِ أَمْ لَا؟ وَذَلِكَ لِأَنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ مُظْلِمٌ، وَإِنَّمَا كَانَ مُسْتَنِيرًا مِنْ حَيْثُ اسْتَفَادَ النُّورَ مِنْ حَضْرَةِ اللَّه تَعَالَى، فَمَنِ اشْتَغَلَ بِالْجُسْمَانِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ وَصَارَ ذَلِكَ الِاشْتِغَالُ حَائِلًا لَهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى جَانِبِ النُّورِ كَانَ حِجَابُهُ مَحْضَ الظُّلْمَةِ، وَلَمَّا كَانَتْ أَنْوَاعُ الِاشْتِغَالِ بِالْعَلَائِقِ الْبَدَنِيَّةِ خَارِجَةً عَنِ الْحَدِّ وَالْحَصْرِ فَكَذَا أَنْوَاعُ الْحُجُبِ الظُّلْمَانِيَّةِ خَارِجَةٌ عَنِ الْحَدِّ وَالْحَصْرِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمَحْجُوبُونَ بِالْحُجُبِ الْمَمْزُوجَةِ مِنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ اعْلَمْ أَنَّ مَنْ نَظَرَ إِلَى هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ فَإِمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهَا أَنَّهَا غَنِيَّةٌ عَنِ الْمُؤَثِّرِ، أَوْ يَعْتَقِدَ فِيهَا أَنَّهَا مُحْتَاجَةٌ، فَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا غَنِيَّةٌ فَهَذَا حِجَابٌ مَمْزُوجٌ مِنْ نُورٍ وَظُلْمَةٍ أَمَّا النُّورُ: فَلِأَنَّهُ تَصَوَّرَ مَاهِيَّةَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْغَيْرِ، وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ جَلَالِ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ النُّورِ وَأَمَّا الظُّلْمَةُ: فَلِأَنَّهُ اعْتَقَدَ حُصُولَ ذَلِكَ الْوَصْفِ فِي هَذِهِ الْأَجْسَامِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْوَصْفِ وَهَذَا ظُلْمَةٌ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا حِجَابٌ مَمْزُوجٌ مِنْ نُورٍ وَظُلْمَةٍ، ثُمَّ أَصْنَافُ هَذَا الْقِسْمِ كَثِيرَةٌ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُمْكِنَ غَنِيٌّ عَنِ الْمُؤَثِّرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَلِّمُ ذَلِكَ لَكِنَّهُ يَقُولُ الْمُؤَثِّرُ فِيهَا طَبَائِعُهَا أَوْ حَرَكَاتُهَا أَوِ اجْتِمَاعُهَا وَافْتِرَاقُهَا أَوْ نِسْبَتُهَا إِلَى حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ أَوْ إِلَى مُحَرِّكَاتِهَا وَكُلُّ هَؤُلَاءِ مِنْ هَذَا القسم. القسم الثاني: الْحُجُبُ النُّورَانِيَّةُ الْمَحْضَةُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ تِلْكَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ وَلَا نِهَايَةَ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَلِمَرَاتِبِهَا، فَالْعَبْدُ لَا يَزَالُ يَكُونُ مُتَرَقِّيًا فِيهَا فَإِنْ وَصَلَ إِلَى دَرَجَةٍ وَبَقِيَ فِيهَا كَانَ اسْتِغْرَاقُهُ فِي مُشَاهَدَةِ تِلْكَ الدَّرَجَةِ حِجَابًا لَهُ عَنِ التَّرَقِّي إِلَى مَا فَوْقَهَا، وَلَمَّا كَانَ لَا نِهَايَةَ لِهَذِهِ الدَّرَجَاتِ كَانَ الْعَبْدُ أَبَدًا فِي السَّيْرِ وَالِانْتِقَالِ، وَأَمَّا حَقِيقَتُهُ الْمَخْصُوصَةُ فَهِيَ مُحْتَجِبَةٌ عَنِ الْكُلِّ فَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى كَيْفِيَّةِ مَرَاتِبِ الْحَجْبِ، وَأَنْتَ تَعْرِفُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا حَصَرَهَا فِي سَبْعِينَ أَلْفًا تَقْرِيبًا لَا تَحْدِيدًا فَإِنَّهَا لَا نِهَايَةَ لَهَا فِي الحقيقة.

الفصل الثالث في شرح كيفية التمثيل

الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي شَرْحِ كَيْفِيَّةِ التَّمْثِيلِ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي التَّشْبِيهِ مِنْ أَمْرَيْنِ: المشبه والمشبه به، واختلف الناس هاهنا في أن المشبه أي شي هُوَ؟ وَذَكَرُوا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَنَصَرَهُ الْقَاضِي أَنَّ الْمُرَادَ/ مِنَ الْهُدَى الَّتِي هِيَ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هِدَايَةَ اللَّه تَعَالَى قَدْ بَلَغَتْ فِي الظُّهُورِ وَالْجَلَاءِ إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ وَصَارَتْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمِشْكَاةِ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا زُجَاجَةٌ صَافِيَةٌ. وَفِي الزُّجَاجَةِ مِصْبَاحٌ يَتَّقِدُ بِزَيْتٍ بَلَغَ النِّهَايَةَ فِي الصَّفَاءِ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ شَبَّهَهُ بِذَلِكَ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ ضَوْءَ الشَّمْسِ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ، قُلْنَا إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَصِفَ الضَّوْءَ الْكَامِلَ الَّذِي يَلُوحُ وَسَطَ الظُّلْمَةِ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى أَوْهَامِ الْخَلْقِ وَخَيَالَاتِهِمْ إِنَّمَا هُوَ الشُّبُهَاتُ الَّتِي هِيَ كَالظُّلُمَاتِ وَهِدَايَةُ اللَّه تَعَالَى فِيمَا بَيْنَهَا كَالضَّوْءِ الْكَامِلِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيمَا بَيْنَ الظُّلُمَاتِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ لِأَنَّ ضَوْءَهَا إِذَا ظَهَرَ امْتَلَأَ الْعَالَمُ مِنَ النُّورِ الْخَالِصِ، وَإِذَا غَابَ امْتَلَأَ الْعَالَمُ مِنَ الظُّلْمَةِ الْخَالِصَةِ فَلَا جَرَمَ كَانَ ذلك المثل هاهنا أَلْيَقَ وَأَوْفَقَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي اعْتَبَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي هَذَا الْمِثَالِ مِمَّا تُوجِبُ كَمَالَ الضَّوْءِ فَأَوَّلُهَا: الْمِصْبَاحُ لِأَنَّ الْمِصْبَاحَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمِشْكَاةِ تَفَرَّقَتْ أَشِعَّتُهُ، أَمَّا إِذَا وُضِعَ فِي الْمِشْكَاةِ اجْتَمَعَتْ أَشِعَّتُهُ فَكَانَتْ أَكْثَرَ إِنَارَةً، وَالَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ الْمِصْبَاحَ إِذَا كَانَ فِي بَيْتٍ صَغِيرٍ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ مِنْ ضَوْئِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَظْهَرُ فِي الْبَيْتِ الْكَبِيرِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمِصْبَاحَ إِذَا كَانَ فِي زُجَاجَةٍ صَافِيَةٍ فَإِنَّ الْأَشِعَّةَ الْمُنْفَصِلَةَ عَنِ الْمِصْبَاحِ تَنْعَكِسُ مِنْ بَعْضِ جَوَانِبِ الزُّجَاجَةِ إِلَى الْبَعْضِ لِمَا فِي الزُّجَاجَةِ مِنَ الصَّفَاءِ وَالشَّفَافِيَّةِ وَبِسَبَبِ ذَلِكَ يَزْدَادُ الضَّوْءُ وَالنُّورُ، وَالَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ إِذَا وَقَعَ عَلَى الزُّجَاجَةِ الصَّافِيَةِ تَضَاعَفَ الضَّوْءُ الظَّاهِرُ حَتَّى أَنَّهُ يَظْهَرُ فِيمَا يُقَابِلُهُ مِثْلُ ذَلِكَ الضَّوْءِ، فَإِنِ انْعَكَسَتْ تِلْكَ الْأَشِعَّةُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جَوَانِبِ الزُّجَاجَةِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ كَثُرَتِ الْأَنْوَارُ وَالْأَضْوَاءُ وَبَلَغَتِ النِّهَايَةَ الْمُمْكِنَةَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ ضَوْءَ الْمِصْبَاحِ يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ مَا يَتَّقِدُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الدُّهْنُ صَافِيًا خَالِصًا كَانَتْ حَالَتُهُ بِخِلَافِ حَالَتِهِ إِذَا كَانَ كَدِرًا وَلَيْسَ فِي الْأَدْهَانِ الَّتِي تُوقِدُ مَا يَظْهَرُ فِيهِ مِنَ الصَّفَاءِ مِثْلَ الَّذِي يَظْهَرُ فِي الزَّيْتِ فَرُبَّمَا يَبْلُغُ فِي الصَّفَاءِ وَالرِّقَّةِ مَبْلَغَ الْمَاءِ مَعَ زِيَادَةِ بَيَاضٍ فِيهِ وَشُعَاعٍ يَتَرَدَّدُ فِي أَجْزَائِهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا الزَّيْتَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ شَجَرَتِهِ، فَإِذَا كَانَتْ لَا شَرْقِيَّةً وَلَا غَرْبِيَّةً بِمَعْنَى أَنَّهَا كَانَتْ بَارِزَةً لِلشَّمْسِ فِي كُلِّ حَالَاتِهَا يَكُونُ زَيْتُونُهَا أَشَدَّ نُضْجًا، فَكَانَ زَيْتُهُ أَكْثَرَ صَفَاءً وَأَقْرَبَ إِلَى أَنْ يَتَمَيَّزَ صَفْوُهُ مِنْ كَدَرِهِ لِأَنَّ زِيَادَةَ الشَّمْسِ تُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ الْأَرْبَعَةُ وَتَعَاوَنَتْ صَارَ ذَلِكَ الضَّوْءُ خَالِصًا كَامِلًا فَيَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَ مَثَلًا لِهِدَايَةِ اللَّه تَعَالَى وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النُّورِ فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ نُورِهِ الْقُرْآنُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ [الْمَائِدَةِ: 15] وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الرَّسُولُ لِأَنَّهُ الْمُرْشِدُ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي وَصْفِهِ: وَسِراجاً مُنِيراً [الْأَحْزَابِ: 46] وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ دَاخِلَانِ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ إِنْزَالَ الْكُتُبِ وَبِعْثَةَ الرُّسُلِ. قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْكُتُبِ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشُّورَى: 52] وَقَالَ فِي صِفَةِ الرُّسُلِ: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النِّسَاءِ: 165] وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَعْرِفَةِ/ اللَّه تَعَالَى وَمَعْرِفَةِ الشَّرَائِعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَصَفَ الْإِيمَانَ بِأَنَّهُ نُورٌ وَالْكُفْرَ بِأَنَّهُ ظُلْمَةٌ، فَقَالَ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزُّمَرِ: 22] وقال تَعَالَى: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ حَمَلَ الْهُدَى عَلَى الِاهْتِدَاءِ،

وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّمْثِيلِ أَنَّ إِيمَانَ الْمُؤْمِنِ قَدْ بَلَغَ فِي الصَّفَاءِ عَنِ الشُّبُهَاتِ، وَالِامْتِيَازِ عَنْ ظُلُمَاتِ الضَّلَالَاتِ مَبْلَغَ السِّرَاجِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ أُبَيٌّ: مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِ، وَهَكَذَا كَانَ يَقْرَأُ، وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: مَثَلُ نُورِ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَثَلُ نُورِهِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَخَامِسُهَا: مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّه وَهُوَ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ أَنْوَارٌ، وَمَرَاتِبُ الْقُوَى الْمُدْرِكَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ خَمْسَةٌ أَحَدُهَا: الْقُوَّةُ الْحَسَّاسَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَتَلَقَّى مَا تُورِدُهُ الْحَوَاسُّ الْخَمْسُ وَكَأَنَّهَا أَصْلُ الرُّوحِ الْحَيَوَانِيِّ، وَأَوَّلُهُ إِذْ بِهِ يَصِيرُ الْحَيَوَانُ حَيَوَانًا وَهُوَ مَوْجُودٌ لِلصَّبِيِّ الرَّضِيعِ وَثَانِيهَا: الْقُوَّةُ الْخَيَالِيَّةُ وَهِيَ الَّتِي تَسْتَثْبِتُ مَا أَوْرَدَهُ الْحَوَاسُّ وَتَحْفَظُهُ مَخْزُونًا عِنْدَهَا لِتَعْرِضَهُ عَلَى الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي فَوْقَهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَثَالِثُهَا: الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الْمُدْرِكَةُ لِلْحَقَائِقِ الْكُلِّيَّةِ وَرَابِعُهَا: الْقُوَّةُ الْفِكْرِيَّةُ وَهِيَ الَّتِي تأخذ المعارف العقلية فتؤلفها تأليفا فستنتج مِنْ تَأْلِيفِهَا عِلْمًا بِمَجْهُولٍ وَخَامِسُهَا: الْقُوَّةُ الْقُدْسِيَّةُ الَّتِي تَخْتَصُّ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ، وَتَتَجَلَّى فِيهَا لَوَائِحُ الْغَيْبِ وَأَسْرَارُ الْمَلَكُوتِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشُّورَى: 52] وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْقُوَى فَهِيَ بِجُمْلَتِهَا أَنْوَارٌ، إِذْ بِهَا تَظْهَرُ أَصْنَافُ الْمَوْجُودَاتِ، وَأَنَّ هَذِهِ المراتب الخمسة يمكن تشبيهها بالأمور الحسنة الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى وَهِيَ: الْمِشْكَاةُ وَالزُّجَاجَةُ وَالْمِصْبَاحُ وَالشَّجَرَةُ وَالزَّيْتُ. أَمَّا الرُّوحُ الْحَسَّاسُ فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى خَاصِّيَّتِهِ وَجَدْتَ أَنْوَارَهُ خَارِجَةً مِنْ عِدَّةِ أَثْقُبٍ كَالْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْمِنْخَرَيْنِ وَأَوْفَقُ مِثَالٍ لَهُ مِنْ عَالَمِ الْأَجْسَامِ الْمِشْكَاةُ وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ الرُّوحُ الْخَيَالِيُّ فَنَجِدُ لَهُ خَوَاصَّ ثَلَاثَةً: الْأُولَى: أَنَّهُ مِنْ طِينَةِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ الْكَثِيفِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُتَخَيَّلَ ذُو قَدْرٍ وَشَكْلٍ وَحَيِّزٍ، وَمِنْ شَأْنِ الْعَلَائِقِ الْجُسْمَانِيَّةِ أَنْ تُحْجَبَ عَنِ الْأَنْوَارِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ الَّتِي هِيَ التَّعَقُّلَاتُ الْكُلِّيَّةُ الْمُجَرَّدَةُ وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذَا الْخَيَالَ الْكَثِيفَ إِذَا صَفَا وَرَقَّ وَهُذِّبَ صَارَ مُوَازِنًا لِلْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةِ وَمُؤَدِّيًا لِأَنْوَارِهَا وَغَيْرَ حَائِلٍ عَنْ إِشْرَاقِ نُورِهَا، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْمُعَبِّرَ يَسْتَدِلُّ بِالصُّوَرِ الْخَيَالِيَّةِ عَلَى الْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةِ، كَمَا يَسْتَدِلُّ بِالشَّمْسِ عَلَى الْمَلِكِ، وَبِالْقَمَرِ عَلَى الْوَزِيرِ، وَبِمَنْ يَخْتِمُ فُرُوجَ النَّاسِ وَأَفْوَاهَهُمْ عَلَى أَنَّهُ مُؤَذِّنٌ يُؤَذِّنُ قَبْلَ الصُّبْحِ وَالثَّالِثَةُ: أَنَّ الْخَيَالَ فِي بِدَايَةِ الْأَمْرِ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ جِدًّا لِيَضْبِطَ بِهَا الْمَعَارِفَ الْعَقْلِيَّةَ وَلَا تَضْطَرِبَ، فَنِعْمَ الْمِثَالَاتُ الْخَيَالِيَّةُ الْجَالِبَةُ لِلْمَعَارِفِ الْعَقْلِيَّةِ، وَأَنْتَ لَا تَجِدُ شَيْئًا فِي الْأَجْسَامِ يُشْبِهُ الْخَيَالَ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ إِلَّا الزُّجَاجَةُ، فَإِنَّهَا فِي الْأَصْلِ مِنْ جَوْهَرٍ كَثِيفٍ وَلَكِنْ صَفَا وَرَقَّ حَتَّى صَارَ لَا يَحْجُبُ نُورَ الْمِصْبَاحِ بَلْ يُؤَدِّيهِ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ يَحْفَظُهُ عَلَى الِانْطِفَاءِ بِالرِّيَاحِ الْعَاصِفَةِ وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ فَهِيَ الْقَوِيَّةُ عَلَى إِدْرَاكِ الْمَاهِيَّاتِ الْكُلِّيَّةِ وَالْمَعَارِفِ/ الْإِلَهِيَّةِ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ وَجْهُ تَمْثِيلِهِ بِالْمِصْبَاحِ، وَقَدْ عَرَفْتَ هَذَا حَيْثُ بَيَّنَّا كَوْنَ الْأَنْبِيَاءِ سُرُجًا مُنِيرَةً وَأَمَّا الرَّابِعُ: وَهُوَ الْقُوَّةُ الْفِكْرِيَّةُ فَمِنْ خَوَاصِّهَا أَنَّهَا تَأْخُذُ مَاهِيَّةً واحدة، ثم تقسيمها إِلَى قِسْمَيْنِ كَقَوْلِنَا الْمَوْجُودُ إِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ، ثُمَّ تَجْعَلُ كُلَّ قِسْمٍ مَرَّةً أُخْرَى قِسْمَيْنِ وَهَكَذَا إِلَى أَنْ تَكْثُرَ الشُّعَبُ بِالتَّقْسِيمَاتِ العقلية، ثم تقضي بالآخرة إلى نتائج وَهِيَ ثَمَرَاتُهَا، ثُمَّ تَعُودُ فَتَجْعَلُ تِلْكَ الثَّمَرَاتِ بُذُورًا لِأَمْثَالِهَا حَتَّى تَتَأَدَّى إِلَى ثَمَرَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَكُونَ مِثَالُهُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ الشَّجَرَةَ، وَإِذَا كَانَتْ ثِمَارُهَا مَادَّةً لِتَزَايُدِ أَنْوَارِ الْمَعَارِفِ وَنَبَاتِهَا، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ لَا يُمَثَّلَ بِشَجَرَةِ السَّفَرْجَلِ وَالتُّفَّاحِ، بَلْ بِشَجَرَةِ الزَّيْتُونِ خَاصَّةً، لِأَنَّ لُبَّ ثَمَرَتِهَا هُوَ الزَّيْتُ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ الْمَصَابِيحِ، وَلَهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَدْهَانِ خَاصِّيَّةُ زِيَادَةِ الْإِشْرَاقِ وَقِلَّةِ الدُّخَانِ، وَإِذَا كَانَتِ الْمَاشِيَةُ الَّتِي يَكْثُرُ دَرُّهَا وَنَسْلُهَا وَالشَّجَرَةُ الَّتِي تَكْثُرُ ثَمَرَتُهَا تُسَمَّى مُبَارَكَةً فَالَّذِي لَا يَتَنَاهَى إِلَى حَدٍّ مَحْدُودٍ أَوْلَى أَنْ يُسَمَّى شَجَرَةً مُبَارَكَةً، وَإِذَا كَانَتْ شُعَبُ الْأَفْكَارِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ مُجَرَّدَةً عَنْ لَوَاحِقِ الْأَجْسَامِ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ تكون

لَا شَرْقِيَّةً وَلَا غَرْبِيَّةً وَأَمَّا الْخَامِسُ: وَهُوَ الْقُوَّةُ الْقُدْسِيَّةُ النَّبَوِيَّةُ فَهِيَ فِي نِهَايَةِ الشَّرَفِ وَالصَّفَاءِ ، فَإِنَّ الْقُوَّةَ الْفِكْرِيَّةَ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْلِيمٍ وَتَنْبِيهٍ وَإِلَى مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ هَذَا الْقِسْمِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْقِسْمِ بِكَمَالِهِ وَصَفَائِهِ وَشِدَّةِ اسْتِعْدَادِهِ بِأَنَّهُ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، فَهَذَا الْمِثَالُ مُوَافِقٌ لِهَذَا الْقِسْمِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَنْوَارُ مُرَتَّبَةً بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَالْحِسُّ هُوَ الْأَوَّلُ وَهُوَ كَالْمُقَدِّمَةِ لِلْخَيَالِ وَالْخَيَالُ كَالْمُقَدَّمَةِ لِلْعَقْلِ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ تَكُونَ الْمِشْكَاةُ كَالظَّرْفِ لِلزُّجَاجَةِ الَّتِي هِيَ كَالظَّرْفِ لِلْمِصْبَاحِ وَسَادِسُهَا: مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِينَا فَإِنَّهُ نَزَّلَ هَذِهِ الْأَمْثِلَةَ الْخَمْسَةَ عَلَى مَرَاتِبِ إِدْرَاكَاتِ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَقَالَ لَا شَكَّ أَنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ قَابِلَةٌ لِلْمَعَارِفِ الْكُلِّيَّةِ وَالْإِدْرَاكَاتِ الْمُجَرَّدَةِ، ثُمَّ إِنَّهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ تَكُونُ خَالِيَةً عَنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَارِفِ فَهُنَاكَ تُسَمَّى عَقْلًا هَيُولِيًّا وَهِيَ الْمِشْكَاةُ وَفِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ: يَحْصُلُ فِيهَا الْعُلُومُ الْبَدِيهِيَّةُ الَّتِي يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِتَرْكِيبَاتِهَا إِلَى اكْتِسَابِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّ أَمْكِنَةَ الِانْتِقَالِ إِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةً فَهِيَ الشَّجَرَةُ، وَإِنْ كَانَتْ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ فَهِيَ الزَّيْتُ، وَإِنْ كَانَتْ شَدِيدَةَ الْقُوَّةِ جِدًّا فَهِيَ الزُّجَاجَةُ الَّتِي تَكُونُ كَأَنَّهَا الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ، وَإِنْ كَانَتْ فِي النِّهَايَةِ الْقُصْوَى وَهِيَ النَّفْسُ الْقُدْسِيَّةُ الَّتِي لِلْأَنْبِيَاءِ فَهِيَ الَّتِي يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ وَفِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ: يُكْتَسَبُ مِنَ الْعُلُومِ الْفِطْرِيَّةِ الضَّرُورِيَّةِ الْعُلُومُ النَّظَرِيَّةُ إِلَّا أَنَّهَا لَا تَكُونُ حَاضِرَةً بِالْفِعْلِ وَلَكِنَّهَا تَكُونُ بِحَيْثُ مَتَى شَاءَ صَاحِبُهَا اسْتِحْضَارَهَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَهَذَا يُسَمَّى عَقْلًا بِالْفِعْلِ وَهَذَا الْمِصْبَاحُ وَفِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ: أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَعَارِفُ الضَّرُورِيَّةُ وَالنَّظَرِيَّةُ حَاصِلَةً بِالْفِعْلِ وَيَكُونُ صَاحِبُهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَهَذَا يُسَمَّى عَقْلًا مُسْتَفَادًا وَهُوَ نُورٌ عَلَى نُورٍ لِأَنَّ الْمَلَكَةَ نُورٌ وَحُصُولُ مَا عَلَيْهِ الْمَلَكَةُ نُورٌ آخَرُ، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ الَّتِي تَحْصُلُ فِي الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ، إِنَّمَا تَحْصُلُ مِنْ جَوْهَرٍ رُوحَانِيٍّ يُسَمَّى بِالْعَقْلِ الْفَعَّالِ وَهُوَ مُدَبِّرُ مَا تَحْتَ كُرَةِ الْقَمَرِ وَهُوَ النَّارُ وَسَابِعُهَا: قَوْلُ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ هُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ شَبَّهَ الصَّدْرَ بِالْمِشْكَاةِ وَالْقَلْبَ/ بِالزُّجَاجَةِ وَالْمَعْرِفَةَ بِالْمِصْبَاحِ، وَهَذَا الْمِصْبَاحُ إِنَّمَا تَوَقَّدَ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ وَهِيَ إِلْهَامَاتُ الْمَلَائِكَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [النَّحْلِ: 2] وَقَوْلُهُ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: 193، 194] وَإِنَّمَا شَبَّهَ الْمَلَائِكَةَ بِالشَّجَرَةِ الْمُبَارَكَةِ لِكَثْرَةِ مَنَافِعِهِمْ، وَإِنَّمَا وَصَفَهَا بِأَنَّهَا لَا شَرْقِيَّةٌ وَلَا غَرْبِيَّةٌ لِأَنَّهَا رُوحَانِيَّةٌ وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ لِكَثْرَةِ عُلُومِهَا وَشِدَّةِ إِطِّلَاعِهَا عَلَى أَسْرَارِ مَلَكُوتِ اللَّه تعالى والظاهر هاهنا أَنَّ الْمُشَبَّهَ غَيْرُ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَثَامِنُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ مَثَلُ نُورِهِ أَيْ مَثَلُ نُورِ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ، فَالْمِشْكَاةُ نَظِيرُ صُلْبِ عَبْدِ اللَّه وَالزُّجَاجَةُ نَظِيرُ جَسَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمِصْبَاحُ نَظِيرُ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِ مُحَمَّدٍ أَوْ نَظِيرُ النُّبُوَّةِ فِي قَلْبِهِ وَتَاسِعُهَا: قَالَ قَوْمٌ الْمِشْكَاةُ نَظِيرُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالزُّجَاجَةُ نَظِيرُ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمِصْبَاحُ نَظِيرُ جَسَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشَّجَرَةُ النُّبُوَّةُ وَالرِّسَالَةُ وَعَاشِرُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ مَثَلُ نُورِهِ يَرْجِعُ إِلَى الْمُؤْمِنِ وَهُوَ قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَكَانَ يَقْرَأُهَا مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُخْتَارُ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَثَلُ نُورِهِ أَيْ مَثَلُ هُدَاهُ وَبَيَانِهِ كَانَ ذَلِكَ مُطَابِقًا لِمَا قَبْلَهُ، وَلِأَنَّا لَمَّا فَسَّرْنَا قَوْلَهُ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بأنه هادي أهل السموات وَالْأَرْضِ فَإِذَا فَسَّرْنَا قَوْلَهُ: مَثَلُ نُورِهِ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَثَلُ هُدَاهُ كَانَ ذَلِكَ مُطَابِقًا لِمَا قبله.

الفصل الرابع - في بقية المباحث المتعلقة بهذه الآية

الْفَصْلُ الرَّابِعُ- فِي بَقِيَّةِ الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: الْمِشْكَاةُ الْكُوَّةُ فِي الْجِدَارِ غَيْرُ النَّافِذَةِ، هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ، وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أُخَرَ: أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ الْمِشْكَاةُ الْقَائِمُ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقِنْدِيلِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْفَتِيلَةُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْقُرَظِيِّ وَالثَّانِي: قَالَ الزجاج هي هاهنا قَصَبَةُ الْقِنْدِيلِ مِنَ الزُّجَاجَةِ الَّتِي تُوضَعُ فِيهَا الْفَتِيلَةُ الثَّالِثُ: قَالَ الضَّحَّاكُ إِنَّهَا الْحَلْقَةُ الَّتِي يُعَلَّقُ بِهَا الْقِنْدِيلُ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ. المسألة الثَّانِيَةُ: زَعَمُوا أَنَّ الْمِشْكَاةَ هِيَ الْكُوَّةُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ، قَالَ الزَّجَّاجُ الْمِشْكَاةُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَمِثْلُهَا الْمِشْكَاةُ وَهِيَ الدَّقِيقُ الصَّغِيرُ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْمَقْلُوبِ، وَالتَّقْدِيرُ مَثَلُ نُورِهِ كَمِصْبَاحٍ فِي مِشْكَاةٍ لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مَعْدِنًا لِلنُّورِ وَمَنْبَعًا لَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْمِصْبَاحُ لَا الْمِشْكَاةُ. المسألة الرَّابِعَةُ: الْمِصْبَاحُ السِّرَاجُ وَأَصْلُهُ مِنَ الضَّوْءِ وَمِنْهُ الصُّبْحُ. المسألة الْخَامِسَةُ: قُرِئَ زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ بِالضَّمِّ والفتح والكسر، أما دري فقرىء بِضَمِّ الدَّالِ وَكَسْرِهَا وَفَتْحِهَا، أَمَّا الضَّمُّ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: ضَمُّ الدَّالِ وَتَشْدِيدُ الرَّاءِ وَالْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُشْبِهُ الدُّرَّ لِصَفَائِهِ وَلَمَعَانِهِ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّكُمْ لَتَرَوْنَ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ» الثَّانِي: / أَنَّهُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالْمَدِّ وَالْهَمْزَةِ وَهُوَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَعَاصِمٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَصَارَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَحْنٌ قَالَ سِيبَوَيْهِ وَهَذَا أَضْعَفُ اللُّغَاتِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الضَّوْءِ وَالتَّلَأْلُؤِ وَلَيْسَ بِمَنْسُوبٍ إِلَى الدُّرِّ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَجْهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ فَعِيلٌ مِنَ الدَّرْءِ بِمَعْنَى الدَّفْعِ وَأَنَّهُ صِفَةٌ وَأَنَّهُ فِي الصِّفَةِ مِثْلُ الْمَرِيءِ فِي الِاسْمِ وَالثَّالِثُ: ضَمُّ الدَّالِ وَتَخْفِيفُ الرَّاءِ وَالْيَاءِ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ وَلَا هَمْزٍ، أَمَّا الكسر ففيه وجهان: الأول: دريء بِكَسْرِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَالْمَدِّ وَالْهَمْزِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَالْكِسَائِيِّ قَالَ الْفَرَّاءُ هُوَ فَعِيلٌ مِنَ الدَّرْءِ وَهُوَ الدَّفْعُ كَالسِّكِّيرِ وَالْفِسِّيقِ فكان ضوأه يَدْفَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا مِنْ لَمَعَانِهِ الثَّانِي: بِكَسْرِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ وَلَا مَدٍّ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ خُلَيْدٍ وَعُتْبَةَ بْنِ حَمَّادٍ عَنْ نَافِعٍ، أَمَّا الْفَتْحُ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: بِفَتْحِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَالْمَدِّ وَالْهَمْزِ عَنِ الْأَعْمَشِ الثَّانِي: بِفَتْحِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ وَلَا هَمْزٍ عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ الثَّالِثُ: بِفَتْحِ الدَّالِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ مَهْمُوزًا مِنْ غَيْرِ مَدٍّ وَلَا يَاءٍ عَنْ عَاصِمٍ الرَّابِعُ: كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَهْمُوزٍ وَبِيَاءٍ خَفِيفَةٍ بَدَلَ الْهَمْزَةِ، أَمَّا قَوْلُهُ: توقد الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ تَوَقَّدَ بِالْفَتَحَاتِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ تَشْدِيدِ الْقَافِ بِوَزْنِ تَفَعَّلُ وَعَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ يَضُمُّ الدَّالَ، وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» يَوَقَّدُ بِفَتْحِ الْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتِ بِنُقْطَتَيْنِ وَالْوَاوِ وَالْقَافِ وَتَشْدِيدِهَا وَرَفْعِ الدَّالِ قَالَ وَحَذْفُ التَّاءِ لِاجْتِمَاعِ حَرْفَيْنِ زَائِدَيْنِ وَهُوَ غَرِيبٌ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الْقَافِ مُخَفَّفَةً وَرَفْعِ الدَّالِ وَعَنْ نَافِعٍ وَحَفْصٍ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالتَّاءِ، وَعَنْ عَاصِمٍ بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ وَفَتْحِهَا، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالتَّاءِ، وَعَنْ طَلْحَةَ تُوقِدُ بِتَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَوَاوٍ سَاكِنَةٍ وَكَسْرِ الْقَافِ وَتَخْفِيفِهَا. المسألة السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ أَيْ ضَخْمٌ مُضِيءٌ وَدَرَارِيُّ النُّجُومِ عِظَامُهَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ

الْمُرَادَ بِهِ كَوْكَبٌ مِنَ الْكَوَاكِبِ الْمُضِيئَةِ كَالزُّهْرَةِ وَالْمُشْتَرِي وَالثَّوَابِتِ الَّتِي فِي الْعِظَمِ الْأَوَّلِ. المسألة السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ أَيْ مِنْ زَيْتِ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ أَيْ كَثِيرَةِ الْبَرَكَةِ وَالنَّفْعِ، وَقِيلَ هِيَ أَوَّلُ شَجَرَةٍ نَبَتَتْ بَعْدَ الطُّوفَانِ وَقَدْ بَارَكَ فِيهَا سَبْعُونَ نَبِيًّا، مِنْهُمُ الْخَلِيلُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ زَيْتُونُ الشَّامِ، لِأَنَّهَا هِيَ الْأَرْضُ الْمُبَارَكَةُ فَلِهَذَا جَعَلَ اللَّه هَذِهِ شَجَرَةً مُبَارَكَةً. المسألة الثَّامِنَةُ: اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى وَصْفِ الشَّجَرَةِ بِأَنَّهَا لَا شَرْقِيَّةٌ وَلَا غَرْبِيَّةٌ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ إِنَّهَا شَجَرَةُ الزَّيْتِ مِنَ الْجَنَّةِ إِذْ لَوْ كَانَتْ مِنْ شَجَرِ الدُّنْيَا إِمَّا شَرْقِيَّةً أَوْ غَرْبِيَّةً وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ضَرَبَ الْمَثَلَ بِمَا شَاهَدُوهُ وَهُمْ مَا شَاهَدُوا شَجَرَةَ الْجَنَّةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ شَجَرَةُ الزَّيْتُونِ فِي الشَّامِ لِأَنَّ الشَّامَ وَسَطُ الدُّنْيَا فَلَا يُوصَفُ شَجَرُهَا بِأَنَّهَا شَرْقِيَّةٌ أَوْ غَرْبِيَّةٌ وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّ مَنْ قَالَ الْأَرْضُ كُرَةٌ لَمْ يُثْبِتِ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ مَوْضِعَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ بَلْ لِكُلِّ بَلَدٍ مَشْرِقٌ وَمَغْرِبٌ عَلَى حِدَةٍ، وَلِأَنَّ الْمَثَلَ مَضْرُوبٌ لِكُلِّ مَنْ يَعْرِفُ الزَّيْتَ، وَقَدْ يُوجَدُ فِي/ غَيْرِ الشَّامِ كَوُجُودِهِ فِيهَا وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا شَجَرَةٌ تَلْتَفُّ بِهَا الْأَشْجَارُ فَلَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ فِي شَرْقٍ وَلَا غَرْبٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هِيَ شَجَرَةٌ يَلْتَفُّ بِهَا وَرَقُهَا الْتِفَافًا شَدِيدًا فَلَا تَصِلُ الشَّمْسُ إِلَيْهَا سَوَاءً كَانَتِ الشَّمْسُ شَرْقِيَّةً أَوْ غَرْبِيَّةً، وَلَيْسَ فِي الشَّجَرِ مَا يُورِقُ غُصْنُهُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ مِثْلُ الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْغَرَضَ صَفَاءُ الزَّيْتِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِكَمَالِ نُضْجِ الزَّيْتُونِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الْعَادَةِ بِوُصُولِ أَثَرِ الشَّمْسِ إِلَيْهِ لَا بِعَدَمِ وُصُولِهِ وَرَابِعُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمُرَادُ الشَّجَرَةُ الَّتِي تَبْرُزُ عَلَى جَبَلٍ عَالٍ أَوْ صَحْرَاءَ وَاسِعَةٍ فَتَطْلُعُ الشَّمْسُ عَلَيْهَا حَالَتَيِ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ، قَالَا وَمَعْنَاهُ لَا شَرْقِيَّةٌ وَحْدَهَا وَلَا غَرْبِيَّةٌ وَحْدَهَا وَلَكِنَّهَا شَرْقِيَّةٌ وَغَرْبِيَّةٌ وَهُوَ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ لَا مُسَافِرٌ وَلَا مُقِيمٌ إِذَا كَانَ يُسَافِرُ وَيُقِيمُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُخْتَارُ لِأَنَّ الشَّجَرَةَ مَتَى كَانَتْ كَذَلِكَ كَانَ زَيْتُهَا فِي نِهَايَةِ الصَّفَاءِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَقْصُودُ التَّمْثِيلِ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ وَخَامِسُهَا: الْمِشْكَاةُ صَدْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالزُّجَاجَةُ قَلْبُهُ وَالْمِصْبَاحُ مَا فِي قَلْبِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدِّينِ، تُوقَدُ من شجرة مباركة، يعني واتبعوا ملة أبيكم إبراهيم صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ فَالشَّجَرَةُ هِيَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ وَصَفَ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ لَا شَرْقِيَّةٌ وَلَا غَرْبِيَّةٌ أَيْ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَلَا قِبَلَ الْمَغْرِبِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَلْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ. المسألة التَّاسِعَةُ: وَصَفَ اللَّه تَعَالَى زَيْتَهَا بِأَنَّهُ يَكَادُ يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ لِأَنَّ الزَّيْتَ إِذَا كَانَ خَالِصًا صَافِيًا ثُمَّ رُؤِيَ مِنْ بَعِيدٍ يُرَى كَأَنَّ لَهُ شُعَاعًا، فَإِذَا مسه النار ازداد ضوأ عَلَى ضَوْءٍ، كَذَلِكَ يَكَادُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ يَعْمَلُ بِالْهُدَى قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْعِلْمُ، فَإِذَا جَاءَهُ الْعِلْمُ ازْدَادَ نُورًا عَلَى نُورٍ وَهُدًى عَلَى هُدًى، قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ يَعْرِفُ الْحَقَّ قَبْلَ أَنْ يُبَيَّنَ لَهُ لِمُوَافَقَتِهِ لَهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّه» وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ الْمُرَادُ مِنَ الزَّيْتِ نُورُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ يَكَادُ نُورُهُ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ يَكَادُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَكَلَّمُ بِالْحِكْمَةِ قَبْلَ الْوَحْيِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ رَوَاحَةَ: لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ ... كَانَتْ بَدِيهَتُهُ تُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ المسألة الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: نُورٌ عَلى نُورٍ الْمُرَادُ تَرَادُفُ هَذِهِ الْأَنْوَارِ وَاجْتِمَاعُهَا، قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: الْمُؤْمِنُ بَيْنَ أَرْبَعِ خِلَالٍ إِنْ أُعْطِيَ شَكَرَ وَإِنِ ابْتُلِيَ صَبَرَ وَإِنْ قَالَ صَدَقَ وَإِنْ حَكَمَ عَدَلَ، فَهُوَ فِي سَائِرِ النَّاسِ كَالرَّجُلِ الْحَيِّ الَّذِي يَمْشِي بَيْنَ الْأَمْوَاتِ يَتَقَلَّبُ فِي خَمْسٍ مِنَ النُّورِ، كَلَامُهُ نُورٌ وَعَمَلُهُ نُورٌ وَمَدْخَلُهُ نُورٌ وَمَخْرَجُهُ

نُورٌ وَمَصِيرُهُ إِلَى النُّورِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ الرَّبِيعُ سَأَلْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ عَنْ مَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ فَقَالَ سِرُّهُ وَعَلَانِيَتُهُ. المسألة الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ جَهِلَ فَمِنْ قِبَلِهِ أَتَى وَإِلَّا فَالْأَدِلَّةُ وَاضِحَةٌ وَلَوْ نَظَرُوا فِيهَا لَعَرَفُوا، قَالَ أَصْحَابُنَا هَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحُ مَذْهَبِنَا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ أَنْ/ بَيَّنَ أَنْ هَذِهِ الدَّلَائِلَ بَلَغَتْ فِي الظُّهُورِ وَالْوُضُوحِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، قَالَ: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ يَعْنِي وُضُوحُ هَذِهِ الدَّلَائِلِ لَا يَكْفِي وَلَا يَنْفَعُ مَا لَمْ يَخْلُقِ اللَّه الْإِيمَانَ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَهْدِي اللَّهُ إِيضَاحُ الْأَدِلَّةِ وَالْبَيَانَاتِ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَا النُّورَ عَلَى إِيضَاحِ الْأَدِلَّةِ لَمْ يَجُزْ حَمْلُ الْهُدَى عَلَيْهِ أَيْضًا، وَإِلَّا لَخَرَجَ الْكَلَامُ عَنِ الْفَائِدَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا حَمْلُ الْهُدَى هاهنا عَلَى خَلْقِ الْعِلْمِ أَجَابَ أَبُو مُسْلِمِ بْنُ بَحْرٍ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ مَحْمُولٌ عَلَى زِيَادَاتِ الْهُدَى الَّذِي هُوَ كَالضِّدِّ لِلْخِذْلَانِ الْحَاصِلِ لِلضَّالِّ الثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَهْدِي لِنُورِهِ الَّذِي هُوَ طَرِيقُ الْجَنَّةِ مَنْ يَشَاءُ وَشَبَّهَهُ بِقَوْلِهِ: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ [الْحَدِيدِ: 12] وَزَيَّفَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَقَدِّمَ هُوَ فِي ذِكْرِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْهُدَى دَخَلَ الْكُلُّ فِيهِ وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الزِّيَادَةِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ إِلَّا الْبَعْضُ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ أَصْلًا إِلَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ وَلَمَّا زَيَّفَ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ، قَالَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى هَدَى بِذَلِكَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ وَهُمُ الَّذِينَ بَلَغَهُمْ حَدُّ التَّكْلِيفِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ أَضْعَفُ مِنَ الْجَوَابَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعَ وُضُوحِهَا لَا تَكْفِي، وَهَذَا لَا يَتَنَاوَلُ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ فَسَقَطَ مَا قَالُوهُ. المسألة الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَالْمُرَادُ لِلْمُكَلَّفِينَ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ النَّبِيُّ وَمَنْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَاسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهِ فَقَالُوا إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ نِعْمَةً عَظِيمَةً لَوْ أَمْكَنَهُمُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى لَمَا تَمَكَّنُوا مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَذَلِكَ كَالْوَعِيدِ لِمَنْ لَا يَعْتَبِرُ وَلَا يَتَفَكَّرُ فِي أَمْثَالِهِ وَلَا يَنْظُرُ فِي أَدِلَّتِهِ فَيَعْرِفُ وُضُوحَهَا وَبُعْدَهَا عَنِ الشُّبُهَاتِ. بحمد اللَّه تم الجزء الثالث والعشرون، ويليه الجزء الرابع والعشرون وأوله تفسير قول اللَّه تَعَالَى فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ أعان اللَّه على إكماله، بحق محمد صلى اللَّه عليه وسلم

الجزء الرابع والعشرون

الجزء الرابع والعشرون بسم اللَّه الرحمن الرحيم [تتمة سورة النور] [سورة النور (24) : الآيات 36 الى 38] فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) [فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ إلى قوله لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ يَقْتَضِي محذوفا يكون فيها وذكروا فيه وجوه: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّقْدِيرَ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، اعْتَرَضَ أَبُو مُسْلِمِ بْنُ بَحْرٍ الْأَصْفَهَانِيُّ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ الْمِصْبَاحِ الْمِثْلُ وَكَوْنُ الْمِصْبَاحِ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّه لَا يَزِيدُ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَزِيدُ الْمِصْبَاحَ إِنَارَةً وَإِضَاءَةً الثَّانِي: أَنَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِيهِ وُجُوهٌ تقتضي كونه واحدا كقوله: كَمِشْكاةٍ وقوله: فِيها مِصْباحٌ وقوله: فِي زُجاجَةٍ وَقَوْلِهِ: كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ [النُّورِ: 35] وَلَفْظُ الْبُيُوتِ جَمْعٌ وَلَا يَصِحُّ كَوْنُ هَذَا الْوَاحِدِ فِي كُلِّ الْبُيُوتِ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمِصْبَاحَ الْمَوْضُوعَ فِي الزُّجَاجَةِ الصَّافِيَةِ إِذَا كَانَ فِي الْمَسَاجِدِ كَانَ أَعْظَمَ وَأَضْخَمَ فَكَانَ أَضْوَأَ، فَكَانَ التَّمْثِيلُ بِهِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ بِالْمِثْلِ هُوَ الَّذِي لَهُ هَذَا الْوَصْفُ فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ كُلٌّ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ فِي زُجَاجَةٍ تَتَوَقَّدُ مِنَ الزَّيْتِ، وَتَكُونُ الْفَائِدَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ ضَوْأَهَا يَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْبُيُوتِ بِاللَّيَالِي عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ الَّذِي يَصْلُحُ لِخِدْمَتِي رَجُلٌ يَرْجِعُ إِلَى عِلْمٍ وَكِفَايَةٍ وَقَنَاعَةٍ يَلْتَزِمُ بَيْتَهُ لَكَانَ وَإِنْ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ فَالْمُرَادُ النوع فَكَذَا مَا ذَكَرَهُ اللَّه سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَثَانِيهَا: التَّقْدِيرُ تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَعَ وَثَالِثُهَا: وَهُوَ قَوْلُ/ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [النُّورِ: 34] أَيْ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَعَ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالَّذِينِ خَلَوُا الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْبُيُوتُ الْمَسَاجِدُ، وَقَدِ اقْتَصَّ اللَّه أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَذَكَرَ أَمَاكِنَهُمْ فَسَمَّاهَا مَحَارِيبَ «1» بِقَوْلِهِ: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ [ص: 21] وكُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ [آلِ عِمْرَانَ: 37] فَيَقُولُ: ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات، وَأَنْزَلْنَا أَقَاصِيصَ مَنْ بُعِثَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَعَ ورابعها: قول

_ (1) ومن تسمية اللَّه تعالى للمساجد محاريب قوله تعالى في سورة سبأ [13] يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ الآية.

الْجُبَّائِيِّ إِنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا تَقَدَّمَ وَالتَّقْدِيرُ صَلُّوا فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَعَ وَخَامِسُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ إِنَّهُ لَا حَذْفَ فِي الْآيَةِ بَلْ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ كَأَنَّهُ قَالَ يُسَبِّحُ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَعَ رِجَالٌ صِفَتُهُمْ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ فَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْقَاضِي مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قوله: وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [النور: 34] المراد منه خَلَا مِنَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ لِتَعَلُّقِهِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا ابْتِغَاءً لِلدُّنْيَا فَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِوَصْفِ هَذِهِ الْبُيُوتِ لِأَنَّهَا بُيُوتٌ أَذِنَ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ صَارَتْ مُنْقَطِعَةً عَنْ تِلْكَ الْآيَةِ بِمَا تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّورِ: 35] وَأَمَّا قَوْلُ الْجُبَّائِيِّ فَقِيلَ الْإِضْمَارُ لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَعَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ عَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ إِشْكَالٌ أَيْضًا لِأَنَّ عَلَى قَوْلِهِ يَصِيرُ الْمَعْنَى فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ فِيهَا تَكْرَارًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ تَحَمُّلَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أولى من تحمل مثل ذَلِكَ النُّقْصَانِ؟ قُلْنَا الزِّيَادَةُ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ كَثِيرَةٌ فَكَانَ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا أَوْلَى. المسألة الثَّانِيَةُ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي بُيُوتٍ الْمَسَاجِدُ وَعَنْ عِكْرِمَةَ فِي بُيُوتٍ قَالَ هِيَ الْبُيُوتُ كُلُّهَا وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي الْبُيُوتِ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَذِنَ أَنْ تُرْفَعَ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهَا بِالذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ وَالصَّلَاةِ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْمَسَاجِدِ ثُمَّ لِلْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْمَسَاجِدُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَرْبَعُ مَسَاجِدَ الْكَعْبَةُ بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ بَنَاهُ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ عليهما الصلاة والسلام، ومسجد بَنَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسْجِدُ قُبَاءَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى بَنَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِ الْحَسَنِ هُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ يُسْرَجُ فِيهِ عَشَرَةُ آلَافِ قِنْدِيلٍ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ جَمِيعُ الْمَسَاجِدِ وَالْأَوَّلُ ضعيف لأنه تخصيص بلا دليل فالأول حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا الْمَسَاجِدُ بُيُوتُ اللَّه فِي الْأَرْضِ وَهِيَ تُضِيءُ لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا تُضِيءُ النُّجُومُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ. المسألة الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ تُرْفَعَ عَلَى أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ مِنْ رَفْعِهَا بِنَاؤُهَا لِقَوْلِهِ: بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها [النَّازِعَاتِ: 27، 28] وَقَوْلِهِ: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [الْبَقَرَةِ: 127] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا هِيَ الْمَسَاجِدُ أَمَرَ اللَّه أَنْ تُبْنَى وَثَانِيهَا: تُرْفَعُ أَيْ تُعَظَّمُ وَتُطَهَّرُ عَنِ الْأَنْجَاسِ وَعَنِ اللَّغْوِ مِنَ الْأَقْوَالِ عَنِ الزَّجَّاجِ وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَوْلَى لِأَنَّ قَوْلَهُ: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ظَاهِرُهُ أَنَّهَا كَانَتْ بُيُوتًا قَبْلَ الرَّفْعِ فَأَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَعَ. المسألة الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ ذِكْرٍ وَالثَّانِي: أَنْ يُتْلَى فِيهَا كِتَابُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالثَّالِثُ: لَا يُتَكَلَّمُ فِيهَا بِمَا لَا يَنْبَغِي وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِعُمُومِ اللَّفْظِ. المسألة الْخَامِسَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ يُسَبِّحُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى يَكُونُ الْقَوْلُ مُمْتَدًّا إِلَى آخِرِ الظُّرُوفِ الثَّلَاثَةِ أَعْنِي لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، ثم قال الزَّجَّاجُ رِجالٌ مَرْفُوعٌ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها فَكَأَنَّهُ قِيلَ مَنْ يُسَبِّحُ؟ فَقِيلَ يُسَبِّحُ رِجَالٌ. المسألة السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي هَذَا التَّسْبِيحِ فَالْأَكْثَرُونَ حَمَلُوهُ عَلَى نَفْسِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ

حَمَلَهُ عَلَى كُلِّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى صَلَاتَيِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ فَقَالَ كَانَتَا وَاجِبَتَيْنِ فِي ابْتِدَاءِ الْحَالِ ثُمَّ زِيدَ فِيهِمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى التَّسْبِيحِ الَّذِي هُوَ تَنْزِيهِ اللَّه تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ فِي ذَاتِهِ وَفِعْلِهِ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ قَدْ عَطَفَهُمَا عَلَى ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ قَالَ عَنْ ذِكْرِ اللَّه وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَهَذَا الوجه أَظْهَرُ. المسألة السَّابِعَةُ: الْآصَالُ جمل أصل والأصل جميع أَصِيلٍ وَهُوَ الْعَشِيُّ وَإِنَّمَا وُجِدَ الْغُدُوُّ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ لَا يُجْمَعُ وَالْأَصِيلُ اسْمُ جَمْعٍ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِالْغُدُوِّ أَيْ بِأَوْقَاتِ الْغُدُوِّ أَيْ بِالْغَدَوَاتِ وَقُرِئَ وَالْإِيصَالِ وَهُوَ الدُّخُولُ فِي الْأَصِيلِ يُقَالُ آصَلَ كَأَعْتَمَ وَأَظْهَرَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَحِمَهُمَا اللَّه إِنَّ صَلَاةَ الضُّحَى لَفِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى مَذْكُورَةٌ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَغْدُو وَيَرُوحُ إِلَى الْمَسْجِدِ يُؤْثِرُهُ عَلَى مَا سِوَاهُ إِلَّا وَلَهُ عِنْدَ اللَّه نُزُلٌ يعد له فِي الْجَنَّةِ» وَفِي رِوَايَةِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ لِيُعَلِّمَ خيرا أو ليتعلمه كما كَمَثَلِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّه يَرْجِعُ غَانِمًا» . المسألة الثَّامِنَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَفَى كَوْنَهُمْ تُجَّارًا وَبَاعَةً أَصْلًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ أَثْبَتَهُمْ تُجَّارًا وَبَاعَةً وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَشْغَلُهُمْ عَنْهَا شَاغِلٌ مِنْ ضُرُوبِ مَنَافِعِ التِّجَارَاتِ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، قَالَ الْحَسَنُ أَمَا واللَّه إِنْ كَانُوا لَيَتَّجِرُونَ، وَلَكِنْ إِذَا جَاءَتْ فَرَائِضُ اللَّه لَمْ يُلْهِهِمْ عَنْهَا شَيْءٌ فَقَامُوا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَعَنْ سَالِمٍ نَظَرَ إِلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ السُّوقِ تَرَكُوا بِيَاعَاتِهِمْ وَذَهَبُوا إِلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ هُمُ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ إِنَّ فُلَانًا لَا تُلْهِيهِ التِّجَارَةُ عَنْ كَيْتَ وَكَيْتَ إِلَّا وَهُوَ تَاجِرٌ، وَإِنِ احْتَمَلَ الوجه الأول وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَمَّا قَالَ: لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ دَخَلَ فِيهِ الْبَيْعُ فَلِمَ أَعَادَ ذِكْرَ الْبَيْعِ؟ قُلْنَا الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التجارة جنس يدخل تحت أَنْوَاعُ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ إِلَّا أَنَّهُ/ سُبْحَانَهُ خَصَّ الْبَيْعَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ فِي الْإِلْهَاءِ أَدْخَلَ، لِأَنَّ الرِّبْحَ الْحَاصِلَ فِي الْبَيْعِ يَقِينٌ نَاجِزٌ، وَالرِّبْحَ الْحَاصِلَ فِي الشِّرَاءِ شَكٌّ مُسْتَقْبَلٌ الثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي تَبْدِيلَ الْعَرْضِ بِالنَّقْدِ، وَالشِّرَاءِ بِالْعَكْسِ وَالرَّغْبَةِ فِي تَحْصِيلِ النَّقْدِ أَكْثَرَ مِنَ الْعَكْسِ الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: التِّجَارَةُ لِأَهْلِ الْجَلَبِ، يُقَالُ: اتَّجَرَ فُلَانٌ فِي كَذَا إِذَا جَلَبَهُ مِنْ غَيْرِ بَلَدِهِ، وَالْبَيْعُ مَا بَاعَهُ عَلَى يَدَيْهِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ خَصَّ الرِّجَالَ بِالذِّكْرِ؟ وَالْجَوَابُ: لِأَنَّ النِّسَاءَ لَسْنَ مِنْ أَهْلِ التِّجَارَاتِ أَوِ الْجَمَاعَاتِ. المسألة التَّاسِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِذِكْرِ اللَّه تَعَالَى، فَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَالدَّعَوَاتُ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ الصَّلَوَاتُ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَإِقامِ الصَّلاةِ؟ قُلْنَا عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا الْمُرَادُ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ إِقَامَتُهَا لِمَوَاقِيتِهَا وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَإِقامِ الصَّلاةِ تَفْسِيرًا لِذِكْرِ اللَّه فَهُمْ يَذْكُرُونَ اللَّه قَبْلَ الصَّلَاةِ وَفِي الصَّلَاةِ. المسألة الْعَاشِرَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [3] فِي قَوْلِهِ: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ أَنَّ إِقَامَ الصَّلَاةِ هُوَ الْقِيَامُ بِحَقِّهَا عَلَى شُرُوطِهَا، وَالوجه فِي حَذْفِ الْهَاءِ مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ، يُقَالُ أَقَمْتُ الصَّلَاةَ إِقَامَةً وَكَانَ الْأَصْلُ إِقْوَامًا، وَلَكِنْ قُلِبَتِ الْوَاوُ أَلِفًا فَاجْتَمَعَ أَلِفَانِ فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ فَبَقِيَ أَقَمْتُ الصَّلَاةَ إِقَامًا،

فَأُدْخِلَتِ الْهَاءُ عِوَضًا مِنَ الْمَحْذُوفِ وَقَامَتِ الْإِضَافَةُ هاهنا فِي التَّعْوِيضِ مَقَامَ الْهَاءِ الْمَحْذُوفَةِ، قَالَ وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ. المسألة الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: اخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هِيَ الْفَرَائِضُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَدْخَلَ فِيهِ النَّقْلَ عَلَى مَا حَكَيْنَاهُ فِي صَلَاةِ الضُّحَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّهُ إِلَى التَّعْرِيفِ أَقْرَبَ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الزَّكَاةِ أَنَّ الْمُرَادَ الْمَفْرُوضُ لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ فِي الشَّرْعِ الْمُسَمَّى بِذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا الْمُرَادُ مِنَ الزَّكَاةِ طَاعَةُ اللَّه تَعَالَى وَالْإِخْلَاصُ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ [مَرْيَمَ: 55] وَقَوْلِهِ: ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ [النُّورِ: 21] وَقَوْلِهِ: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التَّوْبَةِ: 103] وَهَذَا ضَعِيفٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ الزَّكَاةَ بِالْإِيتَاءِ، وَهَذَا لَا يُحْمَلُ إِلَّا عَلَى مَا يُعْطَى مِنْ حُقُوقِ الْمَالِ. المسألة الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الرِّجَالَ وَإِنْ تَعَبَّدُوا بِذِكْرِ اللَّه وَالطَّاعَاتِ فَإِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ مَوْصُوفُونَ بِالْوَجَلِ وَالْخَوْفِ فَقَالَ: يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ وَذَلِكَ الْخَوْفُ إِنَّمَا كَانَ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَا عَبَدُوا اللَّه حَقَّ عِبَادَتِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِتَقَلُّبِ القوب وَالْأَبْصَارِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُلُوبَ تَضْطَرِبُ مِنَ الْهَوْلِ وَالْفَزَعِ وَتَشْخَصُ الْأَبْصَارُ لِقَوْلِهِ: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الْأَحْزَابِ: 10] الثَّانِي: أَنَّهَا تَتَغَيَّرُ أَحْوَالُهَا فَتَفْقَهُ الْقُلُوبُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَطْبُوعًا عَلَيْهَا لَا تَفْقَهُ وَتُبْصِرُ الْأَبْصَارُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ لَا تُبْصِرُ، فَكَأَنَّهُمُ انْقَلَبُوا مِنَ الشَّكِّ إِلَى الظَّنِّ، وَمِنَ الظَّنِّ إِلَى الْيَقِينِ، وَمِنَ الْيَقِينِ إِلَى الْمُعَايَنَةِ، لِقَوْلِهِ: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ/ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزُّمَرِ: 47] وَقَوْلِهِ: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ [ق: 22] ، الثَّالِثُ: أَنَّ الْقُلُوبَ تَتَقَلَّبُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ طَمَعًا في النجابة وَحَذَرًا مِنَ الْهَلَاكِ وَالْأَبْصَارَ تَنْقَلِبُ مِنْ أَيِّ نَاحِيَةٍ يُؤْمَرُ بِهِمْ، أَمِنْ نَاحِيَةِ الْيَمِينِ أَمْ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّمَالِ؟ وَمِنْ أَيِّ نَاحِيَةٍ يُعْطُونَ كِتَابَهُمْ أَمِنْ قِبَلِ الْأَيْمَانِ أَمْ مِنْ قِبَلِ الشَّمَائِلِ؟ وَالْمُعْتَزِلَةُ لَا يَرْضَوْنَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ أَهْلَ الثَّوَابِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمُ الْبَتَّةَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَهْلَ الْعِقَابِ لَا يَرْجُونَ الْعَفْوَ، لَكِنَّا بَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا الْمَذْهَبِ غَيْرَ مَرَّةٍ الرَّابِعُ: أَنَّ الْقُلُوبَ تَزُولُ عَنْ أَمَاكِنِهَا فَتَبْلُغُ الْحَنَاجِرَ، وَالْأَبْصَارُ تَصِيرُ زُرْقًا، قَالَ الضَّحَّاكُ: يُحْشَرُ الْكَافِرُ وَبَصَرُهُ حَدِيدٌ وَتَزْرَقُّ عَيْنَاهُ ثُمَّ يَعْمَى، وَيَتَقَلَّبُ الْقَلْبُ مِنَ الْخَوْفِ حَيْثُ لَا يَجِدُ مُخَلِّصًا حَتَّى يَقَعَ فِي الْحَنْجَرَةِ فَهُوَ قَوْلُهُ: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ [غَافِرٍ: 18] ، الْخَامِسُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ الْمُرَادُ بِتَقَلُّبِ الْقُلُوبِ والأبصار تغير هيئاتهما بِسَبَبِ مَا يَنَالُهَا مِنَ الْعَذَابِ، فَتَكُونُ مَرَّةً بِهَيْئَةِ مَا أُنْضِجَ بِالنَّارِ وَمَرَّةً بِهَيْئَةِ مَا احْتَرَقَ، قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ تَقَلُّبَهَا عَلَى جَمْرِ جَهَنَّمَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الْأَنْعَامِ: 110] . المسألة الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا أَيْ يَفْعَلُونَ هَذِهِ الْقُرُبَاتِ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّه وَيُثِيبَهُمْ عَلَى أَحْسَنِ مَا عَمِلُوا، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِالْأَحْسَنِ الْحَسَنَاتُ أَجْمَعُ، وَهِيَ الطَّاعَاتُ فَرْضُهَا وَنَفْلُهَا، قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّمَا ذَكَرَ الْأَحْسَنَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُجَازِيهِمْ عَلَى مَسَاوِئِ أَعْمَالِهِمْ بَلْ يَغْفِرُهَا لَهُمْ. الثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَجْزِيهِمْ جَزَاءَ أَحْسَنِ مَا عَمِلُوا عَلَى الْوَاحِدِ عَشْرًا إِلَى سَبْعِمِائَةٍ الثَّالِثُ: قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الطَّاعَاتُ مِنْهُمْ مُكَفِّرَةً لِمَعَاصِيهِمْ وَإِنَّمَا يَجْزِيهِمُ اللَّه تَعَالَى بِأَحْسَنِ الْأَعْمَالِ، وَهَذَا مُسْتَقِيمٌ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْإِحْبَاطِ وَالْمُوَازَنَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَجْزِيهِمْ بِأَحْسَنِ الْأَعْمَالِ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرِ

[سورة النور (24) : الآيات 39 إلى 40]

اسْتِحْقَاقِهِمْ بَلْ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي سَائِرِ الْآيَاتِ مِنَ التَّضْعِيفِ، فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِفِعْلِ الطَّاعَةِ أَثَرًا فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى مَيَّزَ الْجَزَاءَ عَنِ الْفَضْلِ وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِذَلِكَ، فَإِنَّ عِنْدَكُمُ الْعَبْدَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى رَبِّهِ شَيْئًا، قُلْنَا نَحْنُ نُثْبِتُ الِاسْتِحْقَاقَ لَكِنْ بِالْوَعْدِ فَذَاكَ الْقَدْرُ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ وَالزَّائِدُ عَلَيْهِ هُوَ الْفَضْلُ ثم قال: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ نَبَّهَ بِهِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَكَمَالِ جُودِهِ وَنَفَاذِ مَشِيئَتِهِ وَسَعَةِ إِحْسَانِهِ، فَكَانَ سُبْحَانَهُ لَمَّا وَصَفَهُمْ بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ فِي الطَّاعَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَكُونُونَ فِي نِهَايَةِ الْخَوْفِ، فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ يُعْطِيهِمُ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ عَلَى طَاعَاتِهِمْ، وَيَزِيدُهُمُ الْفَضْلَ الَّذِي لَا حَدَّ لَهُ فِي مقابلة خوفهم. [سورة النور (24) : الآيات 39 الى 40] وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُؤْمِنِ، وَأَنَّهُ فِي الدُّنْيَا يَكُونُ فِي النُّورِ وَبِسَبَبِهِ يَكُونُ مُتَمَسِّكًا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ فَائِزًا بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالثَّوَابِ الْعَظِيمِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِأَنْ بَيَّنَ أَنَّ الْكَافِرَ يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ فِي أَشَدِّ الْخُسْرَانِ، وَفِي الدُّنْيَا فِي أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الظُّلُمَاتِ، وَضَرَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَثَلًا، أَمَّا الْمَثَلُ الدَّالُّ عَلَى خَيْبَتِهِ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: السَّرَابُ مَا يَتَرَاءَى لِلْعَيْنِ وَقْتَ الضُّحَى الْأَكْبَرِ فِي الْفَلَوَاتِ شَبِيهَ الْمَاءِ الْجَارِي وَلَيْسَ بِمَاءٍ وَلَكِنَّ الَّذِي يَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ بِعِيدٍ يَظُنُّهُ مَاءً جَارِيًا يُقَالُ سَرَبَ الْمَاءُ يَسْرُبُ سُرُوبًا إِذَا جَرَى فَهُوَ سَارِبٌ، أَمَّا الْآلُ فَهُوَ مَا يَتَرَاءَى لِلْعَيْنِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَيَرَى النَّاظِرُ الصَّغِيرَ كَبِيرًا، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخَلِيلِ أَنَّ الْآلَ وَالسَّرَابَ وَاحِدٌ، وَأَمَّا الْقِيعَةُ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ جَمْعُ قَاعٍ مِثْلُ جَارِ وَجِيرَةٍ وَالْقَاعُ الْمُنْبَسِطُ الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْقِيعَةُ بِمَعْنَى الْقَاعِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ الظَّمْآنُ: قَدْ يُخَفَّفُ هَمْزُهُ، وَهُوَ الشَّدِيدُ الْعَطَشِ، ثُمَّ وَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْكَافِرُ إِنْ كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْبِرِّ فَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ ثَوَابًا، مَعَ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ لَهُ ثَوَابًا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْإِثْمِ فَهُوَ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ عِقَابًا مَعَ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ ثَوَابًا، فَكَيْفَ كَانَ فَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ لَهُ ثَوَابًا عِنْدَ اللَّه تَعَالَى، فَإِذَا وَافَى عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، وَلَمْ يَجِدِ الثَّوَابَ بَلْ وَجَدَ الْعِقَابَ الْعَظِيمَ عَظُمَتْ حَسْرَتُهُ وَتَنَاهَى غَمُّهُ، فَيُشْبِهُ حَالُهُ حَالَ الظَّمْآنِ الَّذِي تَشْتَدُّ حَاجَتُهُ إِلَى الْمَاءِ فَإِذَا شَاهَدَ السَّرَابَ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهِ وَيَرْجُو بِهِ النَّجَاةَ وَيَقْوَى طَمَعُهُ فَإِذَا جَاءَهُ وَأَيِسَ مِمَّا كَانَ يَرْجُوهُ فَيَعْظُمُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَهَذَا الْمِثَالُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، قَالَ مُجَاهِدٌ السَّرَابُ عَمَلُ الْكَافِرِ وَإِتْيَانُهُ إِيَّاهُ مَوْتُهُ وَمُفَارَقَةُ الدُّنْيَا فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا جاءَهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ شَيْئًا وَقَوْلُهُ: لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً مُنَاقِضٌ لَهُ؟ قُلْنَا الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا نَافِعًا كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ مَا عَمِلَ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ قَدِ اجْتَهَدَ الثَّانِي: / حَتَّى إِذَا جَاءَهُ أَيْ جَاءَ مَوْضِعَ السَّرَابِ لَمْ يَجِدِ السَّرَابَ شَيْئًا فَاكْتَفَى بِذِكْرِ السَّرَابِ عَنْ ذِكْرِ مَوْضِعِهِ الثَّالِثُ: الْكِنَايَةُ لِلسَّرَابِ لِأَنَّ السَّرَابَ يُرَى مِنْ بَعِيدٍ بِسَبَبِ الْكَثَافَةِ كَأَنَّهُ ضَبَابٌ وَهَبَاءٌ وَإِذَا قَرُبَ مِنْهُ رَقَّ وَانْتَثَرَ وَصَارَ كَالْهَوَاءِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ أَيْ وَجَدَ عِقَابَ اللَّه الَّذِي تَوَعَّدَ بِهِ الْكَافِرَ عِنْدَ ذَلِكَ فَتَغَيَّرَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ ظَنِّ النَّفْعِ الْعَظِيمِ إِلَى تَيَقُّنِ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ، أَوْ وَجَدَ زَبَانِيَةَ اللَّه عِنْدَهُ يَأْخُذُونَهُ فَيُقْبِلُونَ بِهِ إِلَى جَهَنَّمَ فَيَسْقُونَهُ

الْحَمِيمَ وَالْغَسَّاقَ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّه تَعَالَى فِيهِمْ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ [الْغَاشِيَةِ: 3] ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الْكَهْفِ: 104] ، وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ [الْفُرْقَانِ: 23] وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أُمَيَّةَ، كَانَ قَدْ تَعَبَّدَ وَلَبِسَ الْمُسُوحَ وَالْتَمَسَ الدِّينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ كَفَرَ فِي الْإِسْلَامِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ فَذَاكَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ فَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ الْحِسَابُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ مَعْنَاهُ لَا يَشْغَلُهُ مُحَاسَبَةُ وَاحِدٍ عَنْ آخَرٍ كَنَحْنُ، وَلَوْ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِآلَةٍ كَمَا يَقُولُهُ الْمُشَبِّهَةُ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْمَثَلُ الثَّانِي فَهُوَ قَوْلُهُ: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ وفي لفظة (أو) هاهنا وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ أَعْمَالَ الْكُفَّارِ إِنْ كَانَتْ حَسَنَةً فَمِثْلُهَا السَّرَابُ وَإِنْ كَانَتْ قَبِيحَةً فَهِيَ الظُّلُمَاتُ وَثَانِيهَا: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ إِمَّا كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ وَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ وَإِمَّا كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ وَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَثَالِثُهَا: الْآيَةُ الْأُولَى فِي ذِكْرِ أَعْمَالِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا يَتَحَصَّلُونَ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِي ذِكْرِ عَقَائِدِهِمْ فَإِنَّهَا تشبه الظلمات كما قال: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: 257] أَيْ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40] وَأَمَّا الْبَحْرُ اللُّجِّيُّ فَهُوَ ذُو اللُّجَّةِ الَّتِي هِيَ مُعْظَمُ الْمَاءِ الْغَمْرِ الْبَعِيدِ الْقَعْرِ، وَفِي اللُّجِّيِّ لُغَتَانِ كَسْرُ اللَّامِ وَضَمُّهَا، وَأَمَّا تَقْرِيرُ الْمِثْلِ فَهُوَ أَنَّ الْبَحْرَ اللُّجِّيَّ يَكُونُ قَعْرُهُ مُظْلِمًا جِدًّا بِسَبَبِ غُمُورَةِ الْمَاءِ، فَإِذَا تَرَادَفَتْ عَلَيْهِ الْأَمْوَاجُ ازْدَادَتِ الظُّلْمَةُ فَإِذَا كَانَ فَوْقَ الْأَمْوَاجِ سَحَابٌ بَلَغَتِ الظُّلْمَةُ النِّهَايَةَ الْقُصْوَى، فَالْوَاقِعُ فِي قَعْرِ هَذَا الْبَحْرِ اللُّجِّيِّ يَكُونُ فِي نِهَايَةِ شِدَّةِ الظُّلْمَةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْعَادَةُ فِي الْيَدِ أَنَّهَا مِنْ أَقْرَبِ مَا يَرَاهَا وَمِنْ أَبْعَدِ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَرَاهَا فَقَالَ تَعَالَى: لَمْ يَكَدْ يَراها وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ بِهَذَا البلوغ تِلْكَ الظُّلْمَةِ إِلَى أَقْصَى النِّهَايَاتِ ثُمَّ شَبَّهَ بِهِ الْكَافِرَ فِي اعْتِقَادِهِ وَهُوَ ضِدُّ الْمُؤْمِنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نُورٌ عَلى نُورٍ [النُّورِ: 35] وَفِي قَوْلِهِ: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الْحَدِيدِ: 12] وَلِهَذَا قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الْكَافِرُ يَتَقَلَّبُ فِي خَمْسٍ مِنَ الظُّلَمِ كَلَامُهُ وَعَمَلُهُ وَمَدْخَلُهُ وَمَخْرَجُهُ وَمَصِيرُهُ إِلَى النَّارِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّشْبِيهِ وُجُوهٌ أُخَرُ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الظُّلُمَاتِ ظُلْمَةَ الْبَحْرِ وَظُلْمَةَ الْأَمْوَاجِ وَظُلْمَةَ السَّحَابِ وَكَذَا الْكَافِرُ لَهُ ظُلُمَاتٌ ثَلَاثَةٌ ظُلْمَةُ الِاعْتِقَادِ وَظُلْمَةُ الْقَوْلِ وَظُلْمَةُ الْقَوْلِ وَظُلْمَةُ الْعَمَلِ عَنِ الْحَسَنِ وَثَانِيهَا: شَبَّهُوا قَلْبَهُ وَبَصَرَهُ وَسَمْعَهُ بِهَذِهِ الظُّلُمَاتِ الثَّلَاثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْكَافِرَ لَا يدري أنه وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ لَا يَدْرِي وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ يدري، فهذه المراتب الثالث تُشْبِهُ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ متراكمة فكذا الكفار لِشِدَّةِ إِصْرَارِهِ عَلَى كُفْرِهِ، قَدْ تَرَاكَمَتْ عَلَيْهِ/ الضَّلَالَاتُ حَتَّى أَنَّ أَظْهَرَ الدَّلَائِلِ إِذَا ذُكِرَتْ عِنْدَهُ لَا يَفْهَمُهَا وَخَامِسُهَا: قَلْبٌ مُظْلِمٌ فِي صَدْرٍ مُظْلِمٍ. أَمَّا قَوْلُهُ: ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَرَأَ (سَحَابٍ) وَقَرَأَ (ظُلُمَاتٍ) بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: أَوْ كَظُلُماتٍ وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَأَ سَحابٌ ظُلُماتٌ كَمَا يُقَالُ سَحَابُ رَحْمَةٍ وَسَحَابُ عَذَابٍ عَلَى الْإِضَافَةِ وَقِرَاءَةُ الْبَاقِينَ سَحابٌ ظُلُماتٌ كِلَاهُمَا بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ وَتَمَامُ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: سَحابٌ ثُمَّ ابْتَدَأَ ظُلُماتٌ أَيْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ. أَمَّا قَوْلُهُ: لَمْ يَكَدْ يَراها فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كَادَ نَفْيُهُ إِثْبَاتٌ وَإِثْبَاتُهُ نَفْيٌ فَقَوْلُهُ: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [الْبَقَرَةِ: 71] نَفْيٌ فِي اللَّفْظِ وَلَكِنَّهُ إِثْبَاتٌ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا» إِثْبَاتٌ فِي اللَّفْظِ لَكِنَّهُ نَفْيٌ فِي المعنى لأنه لم يكفر فكذا هاهنا قَوْلُهُ: لَمْ يَكَدْ يَراها

[سورة النور (24) : الآيات 41 إلى 42]

مَعْنَاهُ أَنَّهُ رَآهَا وَالثَّانِي: أَنَّ كَادَ مَعْنَاهُ الْمُقَارَبَةُ فَقَوْلُهُ: لَمْ يَكَدْ يَراها مَعْنَاهُ لَمْ يُقَارِبِ الْوُقُوعَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي لَمْ يُقَارِبِ الْوُقُوعَ لَمْ يَقَعْ أَيْضًا وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُخْتَارُ وَالْأَوَّلُ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ فَإِنَّهُ لَا يُرَى فِيهِ شَيْءٌ فَكَيْفَ مَعَ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ الْمُبَالَغَةُ فِي جَهَالَةِ الْكُفَّارِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا لَمْ تُوجَدِ الرُّؤْيَةُ الْبَتَّةَ مَعَ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ فَقَالَ أَصْحَابُنَا إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا وَصَفَ هِدَايَةَ الْمُؤْمِنِ بِأَنَّهَا فِي نِهَايَةِ الْجَلَاءِ وَالظُّهُورِ عَقَّبَهَا بِأَنْ قَالَ: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَلَمَّا وَصَفَ ضَلَالَةَ الْكَافِرِ بِأَنَّهَا فِي نِهَايَةِ الظُّلْمَةِ عَقَّبَهَا بِقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَعْرِفَ الْإِنْسَانُ أَنَّ ظُهُورَ الدَّلَائِلِ لَا يُفِيدُ الْإِيمَانَ وَظُلْمَةُ الطَّرِيقِ لَا تَمْنَعُ مِنْهُ، فَإِنَّ الْكُلَّ مَرْبُوطٌ بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى وَهِدَايَتِهِ وَتَكْوِينِهِ، وَقَالَ الْقَاضِي الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً أَيْ فِي الدُّنْيَا بِالْأَلْطَافِ فَما لَهُ مِنْ نُورٍ أَيْ لَا يَهْتَدِي فَيَتَحَيَّرُ وَيُحْتَمَلُ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً أَيْ مَخْلَصًا فِي الْآخِرَةِ وَفَوْزًا بِالثَّوَابِ فَما لَهُ مِنْ نُورٍ والكلام عليه تزييفا وتقريرا معلوم. [سورة النور (24) : الآيات 41 الى 42] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا وَصَفَ أَنْوَارَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَظُلُمَاتِ قُلُوبِ الْجَاهِلِينَ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِدَلَائِلِ التَّوْحِيدِ: فَالنوع الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الآية [في قَوْلُهُ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ] وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ أَلَمْ تَعْلَمْ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ لَا/ تَتَنَاوَلُهُ الرُّؤْيَةُ بِالْبَصَرِ وَيَتَنَاوَلُهُ الْعِلْمُ بِالْقَلْبِ، وَهَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ اسْتِفْهَامًا فَالْمُرَادُ التَّقْرِيرُ وَالْبَيَانُ، فَنَبَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْظِيمِهِ بِأَنَّ مَنْ فِي السموات يُسَبِّحُ لَهُ وَكَذَلِكَ مَنْ فِي الْأَرْضِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ التَّسْبِيحِ دَلَالَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ النَّقَائِصِ مَوْصُوفًا بِنُعُوتِ الْجَلَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهَا تَنْطِقُ بِالتَّسْبِيحِ وَتَتَكَلَّمُ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ الدَّلَالَةَ عَلَى التَّنْزِيهِ وَفِي حَقِّ الْبَاقِينَ النُّطْقَ بِاللِّسَانِ، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّ الْقِسْمَ الثَّانِي مُتَعَذِّرٌ، لِأَنَّ فِي الْأَرْضِ مَنْ لَا يَكُونُ مُكَلَّفًا لَا يُسَبِّحُ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَالْمُكَلَّفُونَ مِنْهُمْ مَنْ لَا يُسَبِّحُ أَيْضًا بِهَذَا الْمَعْنَى كَالْكُفَّارِ، أَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يقال إن من في السموات وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِاللِّسَانِ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي الْأَرْضِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُسَبِّحُ بِاللِّسَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَبِّحُ عَلَى سَبِيلِ الدَّلَالَةِ فَهَذَا يَقْتَضِي اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعًا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُشْتَرِكَةٌ فِي أَنَّ أَجْسَامَهَا وَصِفَاتِهَا دَالَّةٌ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَعَلَى قُدْرَتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَعَدْلِهِ فَسُمِّيَ ذَلِكَ تَنْزِيهًا عَلَى وَجْهِ التَّوَسُّعِ. فَإِنْ قِيلَ فَالتَّسْبِيحُ بِهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فَمَا وجه تخصيصه هاهنا بِالْعُقَلَاءِ؟ قُلْنَا لِأَنَّ خِلْقَةَ الْعُقَلَاءِ أَشَدُّ دَلَالَةً عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ لِأَنَّ الْعَجَائِبَ وَالْغَرَائِبَ فِي خَلْقِهِمْ أَكْثَرُ وَهِيَ الْعَقْلُ وَالنُّطْقُ وَالْفَهْمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ مَا وَجْهُ اتِّصَالِ هَذَا بِمَا قَبْلَهُ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ السموات وَأَهْلَ الْأَرْضِ يُسَبِّحُونَ ذَكَرَ أَنَّ الَّذِينَ اسْتَقَرُّوا فِي الْهَوَاءِ الَّذِي هُوَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ

وَهُوَ الطَّيْرُ يُسَبِّحُونَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِعْطَاءَ الْجِرْمِ الثَّقِيلِ الْقُوَّةَ الَّتِي بِهَا يَقْوَى عَلَى الْوُقُوفِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ صَافَّةً بَاسِطَةً أَجْنِحَتَهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى قُدْرَةِ الصَّانِعِ الْمُدَبِّرِ سُبْحَانَهُ وَجَعْلِ طَيَرَانِهَا سُجُودًا مِنْهَا لَهُ سُبْحَانَهُ، وَذَلِكَ يُؤَكِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّسْبِيحِ دَلَالَةُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عَلَى التَّنْزِيهِ لَا النُّطْقُ اللِّسَانِيُّ. أَمَّا قَوْلُهُ: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ اللَّه صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ قَالُوا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ وَهُوَ اخْتِيَارُ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالثَّانِي: أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ عَلَى لَفْظِ كُلٌّ أَيْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ رَاجِعَةً عَلَى ذِكْرِ اللَّه يَعْنِي قَدْ عَلِمَ كُلُّ مُسَبِّحٍ وَكُلُّ مُصَلٍّ صَلَاةَ اللَّه الَّتِي كَلَّفَهُ إِيَّاهَا وَعَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ فَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ اسْتِئْنَافٌ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ لِي: أَتَدْرِي مَا تَقُولُ هَذِهِ الْعَصَافِيرُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَبَعْدَ طُلُوعِهَا؟ قَالَ لَا، قَالَ فَإِنَّهُنَّ يُقَدِّسْنَ رَبَّهُنَّ وَيَسْأَلْنَهُ قُوتَ يَوْمِهِنَّ. وَاسْتَبْعَدَ الْمُتَكَلِّمُونَ ذَلِكَ فَقَالُوا الطَّيْرُ لَوْ كَانَتْ عَارِفَةً باللَّه تَعَالَى لَكَانَتْ كَالْعُقَلَاءِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ كَلَامَنَا وَإِشَارَتَنَا لَكِنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهَا أَشَدُّ نُقْصَانًا مِنَ الصَّبِيِّ الَّذِي/ لَا يَعْرِفُ هَذِهِ الْأُمُورَ فَبِأَنْ يَمْتَنِعَ ذَلِكَ فِيهَا أَوْلَى، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَا تَعْرِفُ اللَّه تَعَالَى اسْتَحَالَ كَوْنُهَا مُسَبِّحَةً لَهُ بِالنُّطْقِ، فَثَبَتَ أَنَّهَا لَا تُسَبِّحُ اللَّه إِلَّا بِلِسَانِ الْحَالِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّا نُشَاهِدُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَلْهَمَ الطُّيُورُ وَسَائِرَ الْحَشَرَاتِ أَعْمَالًا لَطِيفَةً يَعْجَزُ عَنْهَا أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلْهِمَهَا مَعْرِفَتَهُ وَدُعَاءَهُ وَتَسْبِيحَهُ، وَبَيَانُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَلْهَمَهَا الْأَعْمَالَ اللَّطِيفَةَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: احْتِيَالُهَا فِي كَيْفِيَّةِ الِاصْطِيَادِ فَتَأَمَّلْ فِي الْعَنْكَبُوتِ كَيْفَ يَأْتِي بِالْحِيَلِ اللَّطِيفَةِ فِي اصْطِيَادِ الذُّبَابِ، وَيُقَالُ إِنَّ الدُّبَّ يَسْتَلْقِي فِي مَمَرِّ الثَّوْرِ فَإِذَا أَرَامَ نَطْحَهُ شَبَّثَ ذِرَاعَيْهِ بقرينه وَلَا يَزَالُ يَنْهَشُ مَا بَيْنَ ذِرَاعَيْهِ حَتَّى يُثْخِنَهُ، وَأَنَّهُ يَرْمِي بِالْحِجَارَةِ وَيَأْخُذُ الْعَصَا وَيَضْرِبُ الْإِنْسَانَ حَتَّى يَتَوَهَّمَ أَنَّهُ مَاتَ فَيَتْرُكُهُ وَرُبَّمَا عاود يتشممه ويتجسس نَفَسَهُ وَيَصْعَدُ الشَّجَرَ أَخَفَّ صُعُودٍ وَيُهَشِّمُ الْجَوْزَ بَيْنَ كَفَّيْهِ تَعْرِيضًا بِالْوَاحِدَةِ وَصَدْمَةً بِالْأُخْرَى ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ فَيَذَرُ قِشْرَهُ وَيَسْتَفُّ لُبَّهُ، وَيُحْكَى عَنِ الْفَأْرِ فِي سَرِقَتِهِ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ. وَثَانِيهَا: أمر النحل ومالها مِنَ الرِّيَاسَةِ وَبِنَاءِ الْبُيُوتِ الْمُسَدَّسَةِ الَّتِي لَا بتمكن مِنْ بِنَائِهَا أَفَاضِلُ الْمُهَنْدِسِينَ وَثَالِثُهَا: انْتِقَالُ الْكَرَاكِيِّ مِنْ طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ الْعَالَمِ إِلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ طَلَبًا لِمَا يُوَافِقُهَا مِنَ الْأَهْوِيَةِ، وَيُقَالُ إِنَّ مِنْ خَوَاصِّ الْخَيْلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَعْرِفُ صَوْتَ الْفَرَسِ الَّذِي قَابَلَهُ وَقْتًا مَا وَالْكِلَابُ تَتَصَايَحُ بِالْعَيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ لَهَا، وَالْفَهْدُ إِذَا سُقِيَ أَوْ شَرِبَ مِنَ الدَّوَاءِ الْمَعْرُوفِ بِخَانِقِ الْفَهْدِ عَمَدَ إِلَى زِبْلِ الْإِنْسَانِ فَأَكَلَهُ، وَالتَّمَاسِيحُ تَفْتَحُ أَفْوَاهَهَا لِطَائِرٍ يَقَعُ عَلَيْهَا كَالْعَقْعَقِ وَيُنَظِّفُ مَا بَيْنَ أَسْنَانِهَا، وَعَلَى رَأْسِ ذَلِكَ الطَّيْرِ كَالشَّوْكِ فَإِذَا هَمَّ التِّمْسَاحُ بِالْتِقَامِ ذَلِكَ الطَّيْرَ تَأَذَّى مِنْ ذَلِكَ الشَّوْكِ فَيَفْتَحُ فَاهُ فَيَخْرُجُ الطَّائِرُ، وَالسُّلَحْفَاةُ تَتَنَاوَلُ بَعْدَ أَكْلِ الْحَيَّةِ صَعْتَرًا جَبَلِيًّا ثُمَّ تَعُودُ وَقَدْ عُوفِيَتْ مِنْ ذَلِكَ، وَحَكَى بَعْضُ الثِّقَاتِ الْمُجَرِّبِينَ لِلصَّيْدِ أَنَّهُ شَاهَدَ الْحُبَارَى تُقَاتِلُ الْأَفْعَى وَتَنْهَزِمُ عَنْهُ إِلَى بَقْلَةٍ تَتَنَاوَلُ مِنْهَا ثُمَّ تَعُودُ وَلَا يَزَالُ ذَلِكَ دَأْبُهُ فَكَانَ ذَلِكَ الشَّيْخُ قَاعِدًا فِي كُنٍّ غَائِرٍ فِعْلَ الْقَنَصَةِ وَكَانَتِ الْبَقْلَةُ قَرِيبَةً مِنْ مَكْمَنِهِ فَلَمَّا اشْتَغَلَ الْحُبَارَى بِالْأَفْعَى قَلَعَ الْبَقْلَةَ فَعَادَتِ الْحُبَارَى إِلَى مَنْبَتِهَا فَفَقَدَتْهُ وَأَخَذَتْ تَدُورُ حَوْلَ مَنْبَتِهَا دَوَرَانًا مُتَتَابِعًا حَتَّى خَرَّ مَيِّتًا فَعَلِمَ الشَّيْخُ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَالَجُ بِأَكْلِهَا مِنَ اللَّسْعَةِ، وَتِلْكَ الْبَقْلَةُ كَانَتْ هِيَ الْجِرْجِيرُ الْبَرِّيُّ، وَأَمَّا ابْنُ عِرْسٍ فَيَسْتَظْهِرُ فِي قِتَالِ

[سورة النور (24) : الآيات 43 إلى 44]

الْحَيَّةِ بِأَكْلِ السَّذَابِ فَإِنَّ النَّكْهَةَ السَّذَابِيَّةَ مِمَّا تَنْفِرُ مِنْهَا الْأَفْعَى وَالْكِلَابُ إِذَا دَوَّدَتْ بُطُونُهَا أَكَلَتْ سُنْبُلَ الْقَمْحِ، وَإِذَا جَرَحَتِ اللَّقَالِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا دَاوَتْ جِرَاحَهَا بِالصَّعْتَرِ الْجَبَلِيِّ وَرَابِعُهَا: الْقَنَافِذُ قَدْ تُحِسُّ بِالشَّمَالِ وَالْجَنُوبِ قَبْلَ الْهُبُوبِ فَتُغَيِّرُ الْمَدْخَلَ إِلَى جُحْرِهَا وَكَانَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ رَجُلٌ قَدْ أَثْرَى بِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَ يُنْذِرُ بِالرِّيَاحِ قَبْلَ هُبُوبِهَا وَيَنْتَفِعُ النَّاسُ بِإِنْذَارِهِ وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ قُنْفُذًا فِي دَارِهِ يَفْعَلُ الصَّنِيعَ الْمَذْكُورَ فَيَسْتَدِلُّ بِهِ، وَالْخُطَّافُ صَانِعٌ جَيِّدٌ فِي اتِّخَاذِ الْعُشِّ مِنَ الطِّينِ وَقِطَعِ الْخَشَبِ فَإِنْ أَعْوَزَهُ الطِّينُ ابْتَلَّ وَتَمَرَّغَ فِي التُّرَابِ لِيَحْمِلَ جَنَاحَاهُ قَدْرًا مِنَ الطِّينِ، وَإِذَا أَفْرَخَ بَالَغَ فِي تَعَهُّدِ الْفِرَاخِ وَيَأْخُذُ ذَرْقَهَا بِمِنْقَارِهِ وَيَرْمِيهَا عَنِ الْعُشِّ، ثُمَّ يُعَلِّمُهَا إِلْقَاءَ الذَّرْقِ نَحْوَ طَرَفِ الْعُشِّ، وَإِذَا دَنَا الصَّائِدُ مِنْ مَكَانِ فِرَاخِ الْقَبَجَةِ ظَهَرَتْ لَهُ الْقَبَجَةُ وَقَرُبَتْ مِنْهُ مُطَمِّعَةً لَهُ/ لِيَتْبَعَهَا ثُمَّ تَذْهَبُ إِلَى جَانِبٍ آخَرَ سِوَى جَانِبِ فِرَاخِهَا، وَنَاقِرُ الْخَشَبِ قَلَّمَا يَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ بَلْ عَلَى الشَّجَرِ يَنْقُرُ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ دُودًا، وَالْغَرَانِيقُ تَصْعَدُ فِي الْجَوِّ جِدًّا عِنْدَ الطَّيَرَانِ فَإِنْ حَجَبَ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ ضَبَابٌ أَوْ سَحَابٌ أَحْدَثَتْ عَنْ أَجْنِحَتِهَا حَفِيفًا مَسْمُوعًا يَلْزَمُ بِهِ بَعْضُهَا بَعْضًا، فإذا نامت على جبل فإنها تضع رؤوسها تَحْتَ أَجْنِحَتِهَا إِلَّا الْقَائِدُ فَإِنَّهُ يَنَامُ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ فَيُسْرِعُ انْتِبَاهُهُ، وَإِذَا سَمِعَ حَرَسًا صَاحَ، وَحَالُ النَّمْلِ فِي الذَّهَابِ إِلَى مَوَاضِعِهَا عَلَى خَطٍّ مُسْتَقِيمٍ يَحْفَظُ بَعْضُهَا بَعْضًا أَمْرٌ عَجِيبٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِقْصَاءَ فِي هَذَا الْبَابِ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ طَبَائِعِ الْحَيَوَانِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَكْيَاسَ مِنَ الْعُقَلَاءِ يَعْجِزُونَ عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْحِيَلِ فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا مُلْهَمَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى بِمَعْرِفَتِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ عَارِفَةٍ بِسَائِرِ الْأُمُورِ الَّتِي يَعْرِفُهَا النَّاسُ؟ وللَّه دَرُّ شِهَابِ الْإِسْلَامِ السَّمْعَانِيِّ حَيْثُ قَالَ: جَلَّ جَنَابُ الْجَلَالِ عَنْ أَنْ يُوزَنَ بِمِيزَانِ الِاعْتِزَالِ. أَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فَهُوَ مَعَ وَجَازَتِهِ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَمَامِ عِلْمِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، فَقَوْلُهُ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ مِنْهُ لِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ وَمُحْدَثٌ وَالْمُمْكِنُ وَالْمُحْدَثُ لَا يُوجَدَانِ إِلَّا عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى الْقَدِيمِ الْوَاجِبِ فَدَخَلَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ جَمِيعُ الْأَجْرَامِ وَالْأَعْرَاضِ وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ وَأَقْوَالُهُمْ وَخَوَاطِرُهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فَهُوَ عِبَارَةٌ تَامَّةٌ فِي مَعْرِفَةِ الْمَعَادِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَصِيرِ الْكُلِّ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْوُجُودَ يَبْدَأُ مِنَ الْأَشْرَفِ فَالْأَشْرَفِ نَازِلًا إِلَى الْأَخَسِّ فَالْأَخَسِّ ثُمَّ يَأْخُذُ مِنَ الْأَخَسِّ فَالْأَخَسِّ مُتَرَقِّيًا إِلَى الْأَشْرَفِ فَالْأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ جِسْمًا ثُمَّ يُصَيِّرُهُ مَوْصُوفًا بِالنَّبَاتِيَّةِ ثُمَّ الْحَيَوَانِيَّةِ ثُمَّ الْإِنْسَانِيَّةِ ثُمَّ الْمَلَكِيَّةِ ثُمَّ يَنْتَهِي إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، فَالِاعْتِبَارُ الْأَوَّلُ هُوَ قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والثاني هو قوله: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ. [سورة النور (24) : الآيات 43 الى 44] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الدَّلَائِلِ [في قَوْلُهُ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ] وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ بِعَيْنِ عَقْلِكَ وَالْمُرَادُ التَّنْبِيهُ وَالْإِزْجَاءُ السَّوْقُ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَمِنْهُ الْبِضَاعَةُ الْمُزْجَاةُ الَّتِي يُزْجِيهَا كُلُّ أَحَدٍ وَإِزْجَاءُ السَّيْرِ فِي الْإِبِلِ الرِّفْقُ بِهَا حَتَّى تَسِيرَ شَيْئًا فَشَيْئًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ، قال الفراء

(بَيْنَ) لَا يَصْلُحُ إِلَّا مُضَافًا إِلَى اسْمَيْنِ فَمَا زَادَ، وَإِنَّمَا قَالَ بَيْنَهُ لِأَنَّ السَّحَابَ وَاحِدٌ فِي اللَّفْظِ، وَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ وَالْوَاحِدُ سَحَابَةٌ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ [الرَّعْدِ: 12] وَالتَّأْلِيفُ ضَمُّ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ أَيْ يَجْمَعُ بَيْنَ قِطَعِ السَّحَابِ فَيَجْعَلُهَا سَحَابًا وَاحِدًا ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أَيْ مُجْتَمِعًا، وَالرَّكْمُ جَمْعُكَ شَيْئًا فَوْقَ شَيْءٍ حَتَّى تَجْعَلَهُ مَرْكُومًا، وَالْوَدْقُ: الْمَطَرُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْقَطْرُ، وَعَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ: الْمَاءُ. مِنْ خِلالِهِ مِنْ (شُقُوقِهِ وَمَخَارِقِهِ) «1» جَمْعُ خَلَلٍ كَجِبَالٍ فِي جَمْعِ جَبَلٍ، وَقُرِئَ مِنْ خَلَلِهِ. المسألة الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: يُزْجِي سَحاباً يَحْتَمِلُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُنْشِئُهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُغَيِّرَهُ مِنْ سَائِرِ الْأَجْسَامِ لَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فَعَلَى الوجه الْأَوَّلِ يَكُونُ نَفْسُ السَّحَابِ مُحْدَثًا، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُؤَلِّفُ بَيْنَ أَجْزَائِهِ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْمُحْدِثُ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى تِلْكَ الصِّفَاتُ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا صَارَتْ تِلْكَ الْأَجْسَامُ سَحَابًا، وَفِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ دَلَالَةً عَلَى وُجُودِهَا مُتَقَدِّمًا مُتَفَرِّقًا إِذِ التَّأْلِيفُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَيْنَ مَوْجُودَيْنِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَجْعَلُهُ رُكَامًا، وَذَلِكَ بِتَرَكُّبٍ بَعْضِهَا عَلَى الْبَعْضِ، وَهَذَا مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ لِأَنَّ السَّحَابَ إِنَّمَا يَحْمِلُ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَاءِ إِذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَجَائِبِ خَلْقِهِ وَدَلَالَةِ مُلْكِهِ وَاقْتِدَارِهِ، قَالَ أَهْلُ الطَّبَائِعِ إِنَّ تَكَوُّنَ السَّحَابِ وَالْمَطَرِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالطَّلِّ وَالصَّقِيعِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ يَكُونُ مِنْ تَكَاثُفِ الْبُخَارِ وَفِي الْأَقَلِّ مِنْ تَكَاثُفِ الْهَوَاءِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْبُخَارُ الصَّاعِدُ إِنْ كَانَ قَلِيلًا وَكَانَ فِي الْهَوَاءِ مِنَ الْحَرَارَةِ مَا يُحَلِّلُ ذَلِكَ الْبُخَارَ فَحِينَئِذٍ يَنْحَلُّ وَيَنْقَلِبُ هَوَاءً. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْبُخَارُ كَثِيرًا وَلَمْ يَكُنْ فِي الْهَوَاءِ مِنَ الْحَرَارَةِ مَا يُحَلِّلُ ذَلِكَ الْبُخَارَ فَتِلْكَ الْأَبْخِرَةُ الْمُتَصَاعِدَةُ إِمَّا أَنْ تَبْلُغَ فِي صُعُودِهَا إِلَى الطَّبَقَةِ الْبَارِدَةِ مِنَ الْهَوَاءِ أَوْ لَا تَبْلُغَ فَإِنْ بَلَغَتْ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَرَدُ هُنَاكَ قَوِيًّا أَوْ لَا يَكُونُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْبَرَدُ هُنَاكَ قَوِيًّا تَكَاثَفَ ذَلِكَ الْبُخَارُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْبَرَدِ، وَاجْتَمَعَ وَتَقَاطَرَ فَالْبُخَارُ الْمُجْتَمِعُ هُوَ السَّحَابُ، وَالْمُتَقَاطِرُ هُوَ الْمَطَرُ، وَالدِّيمَةُ وَالْوَابِلُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْغُيُومِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْبَرَدُ شَدِيدًا فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَصِلَ الْبَرَدُ إِلَى الْأَجْزَاءِ الْبُخَارِيَّةِ قَبْلَ اجتماعها وانحلالها جبات كِبَارًا أَوْ بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الوجه الْأَوَّلِ نَزَلَ ثَلْجًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى الوجه الثَّانِي نَزَلَ بَرْدًا، وَأَمَّا إِذَا لم تبلغ الأبخرة إِلَى الطَّبَقَةِ الْبَارِدَةِ فَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ كَثِيرَةً أَوْ تَكُونَ قَلِيلَةً، فَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فَهِيَ قَدْ تَنْعَقِدُ سَحَابًا مَاطِرًا وَقَدْ لَا تَنْعَقِدُ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَذَاكَ لِأَحَدِ أَسْبَابٍ خَمْسَةٍ: أَحَدُهَا: إِذَا مَنَعَ هُبُوبُ الرِّيَاحِ عَنْ تَصَاعُدِ تِلْكَ الْأَبْخِرَةِ وَثَانِيهَا: أَنْ تَكُونَ الرِّيَاحُ ضَاغِطَةً إِيَّاهَا إِلَى الِاجْتِمَاعِ بِسَبَبِ وُقُوفِ جِبَالٍ قُدَّامَ الرِّيحِ. وَثَالِثُهَا: / أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ رِيَاحٌ مُتَقَابِلَةٌ مُتَصَادِمَةٌ فَتَمْنَعُ صُعُودَ الْأَبْخِرَةِ حِينَئِذٍ وَرَابِعُهَا: أَنْ يَعْرِضَ لِلْجُزْءِ الْمُتَقَدِّمِ وُقُوفٌ لِثِقَلِهِ وَبُطْءِ حَرَكَتِهِ، ثم يلتصق به سائر الأجزاء الكثيرة العدد وَخَامِسُهَا: لِشِدَّةِ بَرْدِ الْهَوَاءِ الْقَرِيبِ مِنَ الْأَرْضِ. وَقَدْ نُشَاهِدُ الْبُخَارَ يَصْعَدُ فِي بَعْضِ الْجِبَالِ صُعُودًا يَسِيرًا حَتَّى كَأَنَّهُ مِكَبَّةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى وَهْدَةٍ، وَيَكُونُ النَّاظِرُ إِلَيْهَا فَوْقَ تِلْكَ الْغَمَامَةِ وَالَّذِينَ يَكُونُونَ تَحْتَ الْغَمَامَةِ يُمْطَرُونَ وَالَّذِينَ يَكُونُونَ فَوْقَهَا يَكُونُونَ فِي الشَّمْسِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأَبْخِرَةُ الْقَلِيلَةُ الِارْتِفَاعِ قَلِيلَةً لَطِيفَةً فَإِذَا ضَرَبَهَا بَرْدُ اللَّيْلِ كَثَّفَهَا وَعَقَدَهَا مَاءً مَحْسُوسًا فَنَزَلَ نُزُولًا مُتَفَرِّقًا لَا يُحِسُّ بِهِ إِلَّا عِنْدَ اجْتِمَاعِ شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجْمُدْ كَانَ طَلًّا، وَإِنْ جَمَدَ كَانَ صَقِيعًا، وَنِسْبَةُ الصَّقِيعِ إِلَى الطَّلِّ نِسْبَةُ الثَّلْجِ إِلَى الْمَطَرِ، وَأَمَّا تَكَوُّنُ السَّحَابِ مِنَ انْقِبَاضِ الْهَوَاءِ فَذَلِكَ عند ما يَبْرُدُ الْهَوَاءُ وَيَنْقَبِضُ، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ مِنْهُ الْأَقْسَامُ الْمَذْكُورَةُ وَالْجَوَابُ: أَنَّا لَمَّا دَلَّلْنَا عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَتَوَسَّلْنَا بِذَلِكَ إِلَى كَوْنِهِ قَادِرًا مُخْتَارًا يمكنه إيجاد

_ (1) في الكشاف (فتوقه ومخارجه) 3/ 70 ط. دار الفكر.

الْأَجْسَامِ لَمْ يُمْكِنَّا الْقَطْعُ بِمَا ذَكَرْتُمُوهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ أَجْزَاءَ السَّحَابِ دُفْعَةً لَا بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ، وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْتُمْ، وَلَكِنَّ الْأَجْسَامَ بِالِاتِّفَاقِ مُمْكِنَةٌ فِي ذَوَاتِهَا فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُؤَثِّرٍ. ثُمَّ إِنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ، فَاخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِصِفَتِهِ الْمُعَيَّنَةِ مِنَ الصُّعُودِ وَالْهُبُوطِ وَاللَّطَافَةِ وَالْكَثَافَةِ وَالْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُخَصِّصٍ، فَإِذَا كَانَ هُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقًا لِتِلْكَ الطَّبَائِعِ وَتِلْكَ الطَّبَائِعُ مُؤَثِّرَةٌ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَخَالِقُ السَّبَبِ خَالِقُ الْمُسَبَّبِ، فَكَانَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يُزْجِي سَحَابًا، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ تِلْكَ الطَّبَائِعَ الْمُحَرِّكَةَ لِتِلْكَ الْأَبْخِرَةِ مِنْ بَاطِنِ الْأَرْضِ إِلَى جَوِّ الْهَوَاءِ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْأَبْخِرَةَ إِذَا تَرَادَفَتْ فِي صُعُودِهَا وَالْتَصَقَ بَعْضُهَا بِالْبَعْضِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهَا رُكَامًا، فَثَبَتَ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ. أَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي السَّمَاءِ جِبَالًا مِنْ بَرَدٍ خَلَقَهَا اللَّه تَعَالَى كَذَلِكَ، ثُمَّ يُنَزِّلُ مِنْهَا مَا شَاءَ وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ: جِبَالٌ مِنْ بَرَدٍ فِي السَّمَاءِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ السماء هو الغيم المرتفع على رؤوس النَّاسِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِسُمُوِّهِ وَارْتِفَاعِهِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ مِنْ هَذَا الْغَيْمِ الَّذِي هُوَ سَمَاءٌ الْبَرَدَ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ مِنْ جِبالٍ السَّحَابَ الْعِظَامَ لِأَنَّهَا إِذَا عَظُمَتْ أَشْبَهَتِ الْجِبَالَ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يَمْلِكُ جِبَالًا مِنْ مَالٍ وَوُصِفَتْ بِذَلِكَ تَوَسُّعًا وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْبَرَدَ مَاءٌ جَامِدٌ خَلَقَهُ اللَّه تَعَالَى فِي السَّحَابِ، ثُمَّ أَنْزَلَهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا سَمَّى اللَّه ذَلِكَ الْغَيْمَ جِبَالًا، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَهَا مِنَ الْبَرَدِ، وَكُلُّ جِسْمٍ شَدِيدٍ مُتَحَجِّرٍ فَهُوَ مِنَ الْجِبَالِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ [الشُّعَرَاءِ: 184] وَمِنْهُ فُلَانٌ مَجْبُولٌ عَلَى كَذَا، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ السَّمَاءَ اسْمٌ لِهَذَا الْجِسْمِ الْمَخْصُوصِ، فَجَعْلُهُ اسْمًا لِلسَّحَابِ بِطَرِيقَةِ الِاشْتِقَاقِ مَجَازٌ، وَكَمَا يَصِحُّ أَنْ يَجْعَلَ اللَّه الْمَاءَ فِي السَّحَابِ ثُمَّ يُنْزِلُهُ بَرَدًا، فَقَدْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي/ السَّمَاءِ جِبَالٌ مِنْ بَرَدٍ، وَإِذَا صَحَّ فِي الْقُدْرَةِ كِلَا الْأَمْرَيْنِ فَلَا وَجْهَ لِتَرْكِ الظَّاهِرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَمِنَ الْأُولَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْإِنْزَالِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ مَا يُنَزِّلُهُ اللَّه بَعْضَ تِلْكَ الْجِبَالِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ وَالثَّالِثَةُ لِلتَّبْيِينِ لِأَنَّ جِنْسَ تِلْكَ الْجِبَالِ جِنْسُ الْبَرَدِ، ثم قال وَمَفْعُولُ الْإِنْزَالِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ، إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ فالظاهر أنه راجح إِلَى الْبَرَدِ، وَمَعْلُومٌ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ قَدْ يَضُرُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ مِنْ حَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ عَلَى وَفْقِ الْمَصْلَحَةِ وَيَصْرِفُهُ، أَيْ يَصْرِفُ ضَرَرَهُ عَمَّنْ يَشَاءُ بِأَنْ لَا يَسْقُطَ عَلَيْهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ الْبَرَدَ عَلَى الْحَجَرِ وَجَعَلَ نُزُولَهُ جَارِيًا مَجْرَى عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَذَلِكَ بِعِيدٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قُرِئَ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ عَلَى الْإِدْغَامِ وَقُرِئَ (بُرُقِهِ) جَمْعُ بُرْقَةٍ وَهِيَ الْمِقْدَارُ مِنَ الْبَرْقِ وَبُرُقِهِ بِضَمَّتَيْنِ لِلْإِتْبَاعِ كَمَا قِيلَ فِي جَمْعِ فُعْلَةٍ فُعُلَاتٍ كَظُلُمَاتٍ، وَ (سَنَاءُ بَرْقِهِ) عَلَى الْمَدِّ وَالْمَقْصُورُ بِمَعْنَى الضَّوْءِ وَالْمَمْدُودُ بِمَعْنَى الْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ مِنْ قولك سنى للمرتفع ويَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ عَلَى زِيَادَةِ الْبَاءِ كَقَوْلِهِ: وَلا

[سورة النور (24) : الآيات 45 إلى 46]

تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [الْبَقَرَةِ: 195] عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَدَنِيِّ. المسألة الثَّانِيَةُ: وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ أَنَّ الْبَرْقَ الَّذِي يَكُونُ صِفَتُهُ ذَلِكَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ نَارًا عَظِيمَةً خَالِصَةً، وَالنَّارُ ضِدُّ الْمَاءِ وَالْبَرَدِ فَظُهُورُهُ مِنَ الْبَرَدِ يَقْتَضِي ظُهُورَ الضِّدِّ مِنَ الضِّدِّ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِقُدْرَةِ قَادِرٍ حَكِيمٍ. المسألة الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَهَبْتُ بِزَيْدٍ إِلَى الدَّارِ فَهَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ ذَاهِبًا مَعَهُ إِلَى الدَّارِ، فَالْمُنْكِرُونَ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ فَقِيلَ فِيهِ وُجُوهٌ: مِنْهَا تَعَاقُبُهُمَا وَمَجِيءُ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْآخَرِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً [الْفُرْقَانِ: 62] وَمِنْهَا وُلُوجُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ وَأَخْذُ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ. وَمِنْهَا تَغَيُّرُ أَحْوَالِهِمَا فِي الْبَرْدِ وَالْحَرِّ وَغَيْرِهِمَا وَلَا يَمْتَنِعُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنْ يُرِيدَ تَعَالَى مَعَانِيَ الْكُلِّ لِأَنَّهُ فِي الْإِنْعَامِ وَالِاعْتِبَارِ أَوْلَى وَأَقْوَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ فَالْمَعْنَى أَنَّ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ دَلَالَةً لِمَنْ يَرْجِعُ إِلَى بَصِيرَةٍ، فَمِنْ هَذَا الوجه يَدُلُّ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَتَدَبَّرَ وَيَتَفَكَّرَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، وَيَدُلَّ أَيْضًا عَلَى فَسَادِ التقليد. [سورة النور (24) : الآيات 45 الى 46] وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الدَّلَائِلِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَدَلَّ أَوَّلًا بِأَحْوَالِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَثَانِيًا بِالْآثَارِ الْعُلْوِيَّةِ اسْتَدَلَّ ثَالِثًا بِأَحْوَالِ الْحَيَوَانَاتِ، وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ مِنَ الْمَاءِ؟ أَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَهُمْ أَعْظَمُ الْحَيَوَانَاتِ عَدَدًا وَهُمْ مَخْلُوقُونَ مِنَ النُّورِ، وَأَمَّا الْجِنُّ فَهُمْ مَخْلُوقُونَ مِنَ النَّارِ، وَخَلَقَ اللَّه آدَمَ مِنَ التُّرَابِ لِقَوْلِهِ: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آلِ عِمْرَانَ: 59] وَخَلَقَ عِيسَى مِنَ الرِّيحِ لِقَوْلِهِ: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [التَّحْرِيمِ: 12] وَأَيْضًا نَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ مُتَوَلِّدٌ لَا عَنِ النُّطْفَةِ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَحْسَنُ مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ ماءٍ صِلَةُ كُلِّ دَابَّةٍ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ صِلَةِ خَلَقَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ دَابَّةٍ مُتَوَلِّدَةٌ مِنَ الْمَاءِ فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ للَّه تَعَالَى وَثَانِيهَا: أَنَّ أَصْلَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَاءُ عَلَى مَا يُرْوَى «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّه تَعَالَى جَوْهَرَةٌ فَنَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الْهَيْبَةِ فَصَارَتْ مَاءً ثُمَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ خَلَقَ النَّارَ وَالْهَوَاءَ وَالنُّورَ» ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَكَانَ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمَاءُ لَا جَرَمَ ذَكَرَهُ عَلَى هَذَا الوجه وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الدَّابَّةِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَمَسْكَنُهُمْ هُنَاكَ فَيَخْرُجُ عَنْهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ، وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ جِدًّا مِنْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ كَوْنُهُمْ مَخْلُوقِينَ مِنَ الْمَاءِ، إِمَّا لِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنَ النُّطْفَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا لَا تَعِيشُ إِلَّا بِالْمَاءِ لَا جَرَمَ أَطْلَقَ لَفْظَ الْكُلِّ تَنْزِيلًا لِلْغَالِبِ مَنْزِلَةَ الْكُلِّ.

السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ نَكَّرَ الْمَاءَ فِي قَوْلِهِ: مِنْ ماءٍ وَجَاءَ مُعَرَّفًا فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الْأَنْبِيَاءِ: 30] وَالْجَوَابُ: إنما جاء هاهنا مُنَكَّرًا لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ نَوْعٍ مِنَ الْمَاءِ يَخْتَصُّ بِتِلْكَ الدَّابَّةِ، وَإِنَّمَا جَاءَ مُعَرَّفًا فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ كونهم مخلوقين من هذا الجنس، وهاهنا بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ الْجِنْسَ يَنْقَسِمُ إِلَى أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: فَمِنْهُمْ ضَمِيرُ الْعُقَلَاءِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: مِنْ فَلِمَ اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَا لَا يَعْقِلُ مَعَ مَنْ يَعْقِلُ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ فَغَلَبَ/ اللَّفْظُ اللَّائِقُ بِمَنْ يَعْقِلُ، لِأَنَّ جَعْلَ الشَّرِيفِ أَصْلًا وَالْخَسِيسِ تَبَعًا أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، وَيُقَالُ فِي الْكَلَامِ: مَنِ الْمُقْبِلَانِ؟ لِرَجُلٍ وَبَعِيرٍ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لِمَ سَمَّى الزَّحْفَ عَلَى الْبَطْنِ مَشْيًا؟ وَيُبَيِّنُ صِحَّةَ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ الصَّبِيَّ قَدْ يُوصَفُ بِأَنَّهُ يَحْبُو وَلَا يُقَالُ إِنَّهُ يَمْشِي وَإِنْ زَحَفَ عَلَى حَدِّ مَا تَزْحَفُ الْحَيَّةُ وَالْجَوَابُ: هَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ كَمَا قَالُوا فِي الْأَمْرِ الْمُسْتَمِرِّ قَدْ مَشَى هَذَا الْأَمْرُ، وَيُقَالُ فُلَانٌ لَا يَتَمَشَّى لَهُ أَمْرٌ أَوْ عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ (لِذَلِكَ) «1» الزَّاحِفِ مَعَ الْمَاشِينَ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ الْقِسْمَةَ لِأَنَّا نَجِدُ مَا يَمْشِي عَلَى أَكْثَرَ من أربع مثال الْعَنَاكِبِ وَالْعَقَارِبِ وَالرُّتَيْلَاتِ بَلْ مِثْلُ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَهُ أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رِجْلًا الَّذِي يُسَمَّى دَخَّالُ الْأُذُنِ وَالْجَوَابُ: الْقِسْمُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ كَالنَّادِرِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ وَلِأَنَّ الْفَلَاسِفَةَ يُقِرُّونَ بِأَنَّ مَا لَهُ قَوَائِمُ كَثِيرَةٌ فَاعْتِمَادُهُ إِذَا مَشَى عَلَى أَرْبَعِ جِهَاتِهِ لَا غَيْرَ فَكَأَنَّهُ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ كَالتَّنْبِيهِ عَلَى سَائِرِ الْأَقْسَامِ. السُّؤَالُ السَّادِسُ: لم جاءت الأجناس الثابثة عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ؟ وَالْجَوَابُ: قَدْ قَدَّمَ مَا هُوَ (أَعْجَبُ) «2» وَهُوَ الْمَاشِي بِغَيْرِ آلَةِ مَشْيٍ من أجل أَوْ قَوَائِمَ ثُمَّ الْمَاشِي عَلَى رِجْلَيْنِ ثُمَّ الْمَاشِي عَلَى أَرْبَعٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ كَمَا اخْتَلَفَتْ بِحَسَبِ كَيْفِيَّةِ الْمَشْيِ فَكَذَا هِيَ مختلفة بحسب أمور أخر، فلنذكر هاهنا بَعْضَ التَّقْسِيمَاتِ: التَّقْسِيمُ الْأَوَّلُ: الْحَيَوَانَاتُ قَدْ تَشْتَرِكُ فِي أَعْضَاءٍ وَقَدْ تَتَبَايَنُ بِأَعْضَاءٍ، أَمَّا الشَّرِكَةُ فَمِثْلُ اشْتِرَاكِ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ فِي أَنَّ لَهُمَا لَحْمًا وَعَصَبًا وَعَظْمًا، وَأَمَّا التَّبَايُنُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْعُضْوِ أَوْ فِي صِفَتِهِ، أَمَّا التَّبَايُنُ فِي نَفْسِ الْعُضْوِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ الْعُضْوُ حَاصِلًا لِلْآخَرِ، وَإِنْ كَانَتْ أَجْزَاؤُهُ حَاصِلَةً لِلثَّانِي كَالْفَرَسِ وَالْإِنْسَانِ، فَإِنَّ الْفَرَسَ لَهُ ذَنَبٌ وَالْإِنْسَانُ لَيْسَ لَهُ ذَنَبٌ وَلَكِنَّ أَجْزَاءَ الذَّنَبِ لَيْسَتْ إِلَّا الْعَظْمَ وَالْعَصَبَ وَاللَّحْمَ وَالْجِلْدَ وَالشَّعْرَ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَاصِلٌ لِلْإِنْسَانِ وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الْعُضْوُ حَاصِلًا لِلثَّانِي لَا بِذَاتِهِ وَلَا بِأَجْزَائِهِ مِثْلُ أَنَّ لِلسُّلَحْفَاةِ صَدَفًا يُحِيطُ بِهِ وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ ذَلِكَ وَكَذَا لِلسَّمَكِ فُلُوسٌ وَلِلْقُنْفُذِ شَوْكٌ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا لِلْإِنْسَانِ وَأَمَّا التَّبَايُنُ فِي صِفَةِ الْعُضْوِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْكَمِّيَّةِ أَوِ الْكَيْفِيَّةِ أَوِ الْوَضْعِ أَوِ الْفِعْلِ أَوِ الِانْفِعَالِ، أَمَّا الَّذِي فِي الْكَمِّ، فَإِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمِقْدَارِ مِثْلَ أَنَّ عَيْنَ الْبُومِ كَبِيرَةٌ وَعَيْنَ الْعُقَابِ صَغِيرَةٌ أَوْ بِالْعَدَدِ مِثْلَ أَنَّ أرجل

_ (1) في الكشاف للزمخشري (لذكر) 3/ 71 ط. دار الفكر. (2) في الكشاف للزمخشري (أعرق في القدرة) 3/ 71 ط. دار الفكر.

ضَرْبٍ مِنَ الْعَنَاكِبِ سِتَّةٌ وَأَرْجُلَ ضَرْبٍ آخَرَ ثَمَانِيَةٌ أَوْ عَشْرَةٌ، وَالَّذِي فِي الْكَيْفِ فَكَاخْتِلَافِهَا فِي الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ وَالصَّلَابَةِ وَاللِّينِ، وَالَّذِي فِي الْوَضْعِ فَمِثْلُ اخْتِلَافِ وَضْعِ ثَدْيِ الْفِيلِ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَرِيبًا مِنَ الصَّدْرِ وَثَدْيِ الْفَرَسِ فَإِنَّهُ عِنْدَ السُّرَّةِ. وَأَمَّا الَّذِي فِي الْفِعْلِ فَمِثْلُ كَوْنِ أُذُنِ الْفِيلِ صَالِحًا لِلذَّبِّ مَعَ كَوْنِهِ آلَةً لِلسَّمْعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْإِنْسَانِ وَكَوْنِ/ أَنْفِهِ آلَةً لِلْقَبْضِ دُونَ أَنْفِ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الَّذِي فِي الِانْفِعَالِ فَمِثْلُ كَوْنِ عَيْنِ الْخُفَّاشِ سَرِيعَةَ التَّحَيُّرِ فِي الضَّوْءِ وَعَيْنُ الْخُطَّافِ بِخِلَافِ ذَلِكَ. التَّقْسِيمُ الثَّانِي: الْحَيَوَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَائِيًّا بِمَعْنَى أَنَّ مَسْكَنَهُ الْأَصْلِيَّ هُوَ الْمَاءُ أَوْ أَرْضِيًّا أَوْ يَكُونُ مَائِيًّا ثُمَّ يَصِيرُ أَرْضِيًّا، أَمَّا الْحَيَوَانَاتُ الْمَائِيَّةُ فَتَغَيُّرُ أَحْوَالِهَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَكَانُهُ وَغِذَاؤُهُ وَنَفَسُهُ مَائِيًّا فَلَهُ بَدَلُ التَّنَفُّسِ فِي الْهَوَاءِ التَّنَشُّقُ الْمَائِيُّ فَهُوَ يَقْبَلُ الْمَاءَ إِلَى بَاطِنِهِ ثُمَّ يَرُدُّهُ وَلَا يَعِيشُ إِذَا فَارَقَهُ، وَالسَّمَكُ كُلُّهُ كَذَلِكَ وَمِنْهُ مَا مَكَانُهُ وَغِذَاؤُهُ مَائِيٌّ وَلَكِنَّهُ يَتَنَفَّسُ مِنَ الْهَوَاءِ مِثْلُ السُّلَحْفَاةِ الْمَائِيَّةِ، وَمِنْهُ مَا مَكَانُهُ وَغِذَاؤُهُ مَائِيٌّ وَلَيْسَ يَتَنَفَّسُ وَلَا يَسْتَنْشِقُ مِثْلُ أَصْنَافٍ مِنَ الصَّدَفِ لَا تَظْهَرُ لِلْهَوَاءِ وَلَا تَسْتَدْخِلُ الْمَاءَ إِلَى بَاطِنِهَا الوجه الثَّانِي: الْحَيَوَانَاتُ الْمَائِيَّةُ بَعْضُهَا مَأْوَاهَا مِيَاهُ الْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ وَبَعْضُهَا مِيَاهُ الْبَطَائِحِ مِثْلُ الضَّفَادِعِ وَبَعْضُهَا مَأْوَاهَا مِيَاهُ الْبَحْرِ الوجه الثَّالِثُ: مِنْهَا لُجِّيَّةٌ وَمِنْهَا شَطِّيَّةٌ وَمِنْهَا طِينِيَّةٌ وَمِنْهَا صَخْرِيَّةٌ الوجه الرَّابِعُ: الْحَيَوَانُ الْمُنْتَقِلُ فِي الْمَاءِ مِنْهُ مَا يَعْتَمِدُ فِي غَوْصِهِ عَلَى رَأْسِهِ وَفِي السِّبَاحَةِ عَلَى أَجْنِحَتِهِ كَالسَّمَكِ وَمِنْهُ مَا يَعْتَمِدُ فِي السِّبَاحَةِ عَلَى رِجْلَيْهِ كَالضِّفْدَعِ وَمِنْهُ مَا يَمْشِي فِي قَعْرِ الْمَاءِ كَالسَّرَطَانِ وَمِنْهُ مَا يَزْحَفُ مِثْلَ ضَرْبٍ مِنَ السَّمَكِ لَا جَنَاحَ لَهُ وَكَالدُّودِ، أَمَّا الْحَيَوَانَاتُ الْبَرِّيَّةُ فَتُغَيِّرُ أَحْوَالَهَا أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مِنْهَا مَا يَتَنَفَّسُ مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدٍ كَالْفَمِ وَالْخَيْشُومِ وَمِنْهَا مَا لَا يَتَنَفَّسُ كَذَلِكَ بَلْ عَلَى نَحْوٍ آخَرَ مِنْ مَسَامِّهِ مِثْلَ الزُّنْبُورِ وَالنَّحْلِ الثَّانِي: أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ الْأَرْضِيَّةَ مِنْهَا مَا لَهُ مَأْوًى مَعْلُومٌ، وَمِنْهَا مَا مَأْوَاهُ كَيْفَ اتُّفِقَ إِلَّا أَنْ يَلِدَ فَيُقِيمُ لِلْحَضَانَةِ وَاللَّوَاتِي لَهَا مَأْوَى فَبَعْضُهَا مَأْوَاهُ شَقٌّ وَبَعْضُهَا حُفَرٌ وَبَعْضُهَا مَأْوَاهُ قُلَّةٌ رَابِيَةٌ وَبَعْضُهَا مَأْوَاهُ وَجْهُ الْأَرْضِ الثَّالِثُ: الْحَيَوَانُ الْبَرِّيُّ كُلُّ طَائِرٍ مِنْهُ ذُو جَنَاحٍ فَإِنَّهُ يَمْشِي بِرِجْلَيْهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَا مَشْيُهُ صَعْبٌ عَلَيْهِ كَالْخُطَّافِ الْكَبِيرِ الْأَسْوَدِ وَالْخُفَّاشِ. وَأَمَّا الَّذِي جَنَاحُهُ جِلْدٌ أَوْ غِشَاءٌ فَقَدْ يَكُونُ عَدِيمَ الرِّجْلِ كَضَرْبٍ مِنَ الْحَيَّاتِ الْحَبَشِيَّةِ يَطِيرُ الرَّابِعُ: الطَّيْرُ يَخْتَلِفُ فَبَعْضُهَا يَتَعَايَشُ مَعًا كَالْكَرَاكِيِّ وَبَعْضُهَا يُؤْثِرُ التَّفَرُّدَ كَالْعُقَابِ وَجَمِيعِ الْجَوَارِحِ الَّتِي تَتَنَازَعُ عَلَى الطُّعْمِ لِاحْتِيَاجِهَا إِلَى الِاحْتِيَالِ لِتَصِيدَ وَمُنَافَسَتِهَا فِيهِ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَايَشُ زَوْجًا وَيَكُونُ مَعًا كَالْقَطَا، وَمِنْهُ مَا يَجْتَمِعُ تَارَةً وَيَنْفَرِدُ أُخْرَى وَالْحَيَوَانَاتُ الْمُنْفَرِدَةُ قَدْ تَكُونُ مَدَنِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ بَرِّيَّةً صِرْفَةً وَقَدْ تَكُونُ بُسْتَانِيَّةً وَالْإِنْسَانُ مِنْ بَيْنِ الْحَيَوَانِ هُوَ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعِيشَ وَحْدَهُ فَإِنَّ أَسْبَابَ حَيَاتِهِ وَمَعِيشَتِهِ تَلْتَئِمُ بِالْمُشَارَكَةِ الْمَدَنِيَّةِ وَالنَّحْلُ وَالنَّمْلُ وَبَعْضُ الْغَرَانِيقِ يُشَارِكُ الْإِنْسَانَ فِي ذَلِكَ لَكِنَّ النَّحْلَ وَالْكَرَاكِيَّ تُطِيعُ رَئِيسًا وَاحِدًا وَالنَّمْلَ لَهُ اجْتِمَاعٌ وَلَا رَئِيسَ الْخَامِسُ: الطَّيْرُ مِنْهُ آكِلُ لحم ومنه لا قط حَبٍّ وَمِنْهُ آكِلُ عُشْبٍ، وَقَدْ يَكُونُ لِبَعْضِ الطَّيْرِ طَعْمٌ مُعَيَّنٌ كَالنَّحْلِ فَإِنَّ غِذَاءَهُ زَهْرٌ وَالْعَنْكَبُوتِ فَإِنَّ غِذَاءَهُ الذُّبَابُ وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُ مُتَّفِقُ الطَّعْمِ أَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْحَيَوَانُ الَّذِي يَكُونُ تَارَةً مَائِيًّا، وَأُخْرَى بَرِّيًّا فَيُقَالُ إِنَّهُ حَيَوَانٌ يَكُونُ فِي الْبَحْرِ وَيَعِيشُ فِيهِ ثُمَّ إِنَّهُ يَبْرُزُ إِلَى الْبَرِّ وَيَبْقَى فِيهِ. التَّقْسِيمُ الثَّالِثُ: الْحَيَوَانُ مِنْهُ مَا هُوَ إِنْسِيٌّ بِالطَّبْعِ كَالْإِنْسَانِ وَمِنْهُ مَا هُوَ إِنْسِيٌّ بِالْمَوْلِدِ كَالْهِرَّةِ وَالْفَرَسِ وَمِنْهُ مَا هُوَ إِنْسِيٌّ بِالْقَسْرِ كَالْفَهْدِ وَمِنْهُ مَا لَا يَأْنَسُ كَالنَّمِرِ وَالْمُسْتَأْنَسُ بِالْقَسْرِ مِنْهُ مَا يُسْرِعُ اسْتِئْنَاسُهُ وَيَبْقَى مُسْتَأْنَسًا كَالْفِيلِ وَمِنْهُ مَا يُبْطِئُ كَالْأَسَدِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ صِنْفٌ إِنْسِيٌّ وَصِنْفٌ وَحْشِيٌّ حَتَّى مِنَ النَّاسِ.

[سورة النور (24) : الآيات 47 إلى 50]

التَّقْسِيمُ الرَّابِعُ: مِنَ الْحَيَوَانِ مَا هُوَ مُصَوِّتٌ وَمِنْهُ مَا لَا صَوْتَ لَهُ وَكُلُّ مُصَوِّتٍ فَإِنَّهُ يَصِيرُ عِنْدَ الِاغْتِلَامِ وَحَرَكَةِ شَهْوَةِ الْجِمَاعِ أَشَدَّ تَصْوِيتًا إِلَّا الْإِنْسَانُ، وَأَيْضًا لِبَعْضِ الْحَيَوَانِ شَبَقٌ يَشْتَدُّ كُلَّ وَقْتٍ كَالدِّيكِ وَمِنْهُ عَفِيفٌ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ. التَّقْسِيمُ الْخَامِسُ: بِحَسَبِ الْأَخْلَاقِ بَعْضُ الْحَيَوَانَاتِ هَادِئُ الطَّبْعِ قَلِيلُ الْغَضَبِ مِثْلُ الْبَقَرَةِ وَبَعْضُهُ شَدِيدُ الْجَهْلِ حَادُّ الْغَضَبِ كَالْخِنْزِيرِ الْبَرِّيِّ وَبَعْضُهَا حَلِيمٌ خَدُوعٌ كَالْبَعِيرِ وَبَعْضُهَا رَدِيءُ الْحَرَكَاتِ مُغْتَالٌ كَالْحَيَّةِ وَبَعْضُهَا جَرِيءٌ قَوِيٌّ شَهْمٌ كَبِيرُ النَّفْسِ كَرِيمُ الطَّبْعِ كَالْأَسَدِ وَمِنْهَا قَوِيٌّ مُغْتَالٌ وَحْشِيٌّ كَالذِّئْبِ وَبَعْضُهَا مُحْتَالٌ مَكَّارٌ رَدِيءُ الْحَرَكَاتِ كَالثَّعْلَبِ وَبَعْضُهَا غَضُوبٌ شَدِيدُ الْغَضَبِ سَفِيهٌ إِلَّا أَنَّهُ مَلِقٌ مُتَوَدِّدٌ كَالْكَلْبِ وَبَعْضُهَا شَدِيدُ الْكَيْسِ مُسْتَأْنَسٌ كَالْفِيلِ وَالْقِرْدِ وَبَعْضُهَا حَسُودٌ مُتَبَاهٍ بِجَمَالِهِ كَالطَّاوُوسِ وَبَعْضُهَا شَدِيدُ التَّحَفُّظِ كَالْجَمَلِ وَالْحِمَارِ. التَّقْسِيمُ السَّادِسُ: مِنَ الْحَيَوَانِ مَا تَنَاسُلُهُ بِأَنْ تَلِدَ أُنْثَاهُ حَيَوَانًا وَبَعْضُهَا مَا تَنَاسُلُهُ بِأَنْ تَلِدَ أُنْثَاهُ دُودًا كَالنَّحْلِ وَالْعَنْكَبُوتِ فَإِنَّهَا تَلِدُ دُودًا، ثُمَّ إِنَّ أَعْضَاءَهُ تُسْتَكْمَلُ بَعْدُ وَبَعْضُهَا تَنَاسُلُهُ بِأَنْ تَبِيضَ أُنْثَاهُ بَيْضًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُقُولَ قَاصِرَةٌ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِأَحْوَالِ أَصْغَرِ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى الصَّانِعِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِتَرْكِيبِ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ فَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُلِّ عَلَى السَّوِيَّةِ فَاخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ بِأَعْضَائِهَا وَقُوَاهَا وَمَقَادِيرِ أَبْدَانِهَا وَأَعْمَارِهَا وَأَخْلَاقِهَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ قَاهِرٍ حَكِيمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الْجَاحِدُونَ. وَأَحْسَنُ كَلَامٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى الْكُلِّ وَالْعَالِمُ بِالْكُلِّ فَهُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَى أَحْوَالِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ، فَأَيُّ عَقْلٍ يَقِفُ عَلَيْهَا وَأَيُّ خَاطِرٍ يَصِلُ إِلَى ذَرَّةٍ مِنْ أَسْرَارِهَا، بَلْ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ مَانِعٌ وَلَا دَافِعٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ فَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى كُلِّ الْأَدِلَّةِ وَالْعِبَرِ، وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ كَالْمُشْتَمِلِ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ صَحَّ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فَاسْتِدْلَالُ أَصْحَابِنَا بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالْجَوَابُ: أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ يَهْدِي مَنْ بَلَغَهُ حَدُّ التَّكْلِيفِ دُونَ غَيْرِهِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ مَنْ أَطَاعَهُ وَاسْتَحَقَّ الثَّوَابَ فَيَهْدِيهِ إِلَى الْجَنَّةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ، وَجَوَابُنَا عَنْ هَذَا الْجَوَابِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ واللَّه أعلم. [سورة النور (24) : الآيات 47 الى 50] وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ أَتْبَعَهُ بِذَمِّ قَوْمٍ اعْتَرَفُوا بِالدِّينِ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوهُ بِقُلُوبِهِمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي بِشْرٍ الْمُنَافِقِ وَكَانَ قَدْ خَاصَمَ يَهُودِيًّا فِي أَرْضٍ وَكَانَ الْيَهُودِيُّ يَجُرُّهُ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا، وَجَعَلَ الْمُنَافِقُ يَجُرُّهُ إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَيَقُولُ إِنَّ محمدا

يَحِيفُ عَلَيْنَا وَقَدْ مَضَتْ قِصَّتُهُمَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي الْمُغِيرَةِ بْنِ وَائِلٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَرْضٌ فَتَقَاسَمَا فَوَقَعَ إِلَى عَلِيٍّ مِنْهَا مَا لَا يُصِيبُهُ الْمَاءُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ، فَقَالَ المغيرة بمعني أَرْضَكَ فَبَاعَهَا إِيَّاهُ وَتَقَابَضَا فَقِيلَ لِلْمُغِيرَةِ أَخَذْتَ سَبْخَةً لَا يَنَالُهَا الْمَاءُ. فَقَالَ لِعَلِيٍّ اقْبِضْ أَرْضَكَ فَإِنَّمَا اشْتَرَيْتُهَا إِنْ رَضِيتُهَا وَلَمْ أَرْضَهَا فَلَا يَنَالُهَا الْمَاءُ فَقَالَ عَلِيٌّ بَلِ اشْتَرَيْتَهَا وَرَضِيتَهَا وَقَبَضْتَهَا وَعَرَفْتَ حَالَهَا لَا أَقْبَلُهَا مِنْكَ، وَدَعَاهُ إِلَى أَنْ يُخَاصِمَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ أَمَّا مُحَمَّدٌ فَلَسْتُ آتِيهِ وَلَا أُحَاكِمُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يُبْغِضُنِي وَأَنَا أَخَافُ أَنْ يَحِيفَ عَلَيَّ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَالَ الْحَسَنُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَيُسِرُّونَ الْكُفْرَ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ آمَنَّا إِلَى قَوْلِهِ: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ إِذْ لَوْ كَانَ بِهِ لَمَا صَحَّ أَنْ يَنْفِيَ كَوْنَهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَقَدْ فَعَلُوا مَا هُوَ إِيمَانٌ فِي الْحَقِيقَةِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ كُلِّهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ آمَنَّا، ثُمَّ حَكَى عَنْ فَرِيقٍ مِنْهُمُ التَّوَلِّيَ/ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ فِي جَمِيعِهِمْ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّ الَّذِي تَوَلَّى مِنْهُمْ هُوَ الْبَعْضُ؟ قُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَاجِعٌ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا لَا إِلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَأَيْضًا فَلَوْ رَجَعَ إِلَى الْأَوَّلِ يَصِحُّ وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ أَيْ يَرْجِعُ هَذَا الْفَرِيقُ إِلَى الْبَاقِينَ مِنْهُمْ فَيُظْهِرُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ الرُّجُوعَ عَمَّا أَظْهَرُوهُ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّه وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ، وَهَذَا تَرْكٌ لِلرِّضَا بِحُكْمِ الرَّسُولِ، وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُعْرِضُونَ مَتَى عَرَفُوا الْحَقَّ لِغَيْرِهِمْ أَوْ شَكُّوا فَأَمَّا إِذَا عَرَفُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ عَدَلُوا عَنِ الْإِعْرَاضِ بَلْ سَارَعُوا إِلَى الْحُكْمِ وَأَذْعَنُوا بِبَذْلِ الرِّضَا، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِهِمُ اتِّبَاعُ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ النَّفْعَ الْمُعَجَّلَ، وَذَلِكَ أَيْضًا نِفَاقٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَلِمَةُ (أَمْ) لِلِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَالْجَوَابُ: اللَّفْظُ اسْتِفْهَامٌ وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ كَمَا قَالَ جَرِيرٌ: أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... [وَأَنْدَى الْعَالِمِينَ بُطُونَ رَاحِ «1» ] السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَوْ خَافُوا أَنْ يَحِيفَ اللَّه عَلَيْهِمْ فقد ارتابوا في الدين وإذا ارْتَابُوا فَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، فَالْكُلُّ وَاحِدٌ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي التَّعْدِيدِ؟ الْجَوَابُ: قَوْلُهُ: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ إِشَارَةٌ إِلَى النِّفَاقِ وَقَوْلُهُ: أَمِ ارْتابُوا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ حَدَثَ هَذَا الشَّكُّ وَالرَّيْبُ بَعْدَ تَقْرِيرِ الْإِسْلَامِ فِي الْقَلْبِ، وَقَوْلُهُ: أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي حُبِّ الدُّنْيَا إِلَى حَيْثُ يَتْرُكُونَ الدِّينَ بِسَبَبِهِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَبْ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مُتَغَايِرَةٌ وَلَكِنَّهَا مُتَلَازِمَةٌ فَكَيْفَ أَدْخَلَ عَلَيْهَا كَلِمَةَ (أَمْ) ؟ الْجَوَابُ: الْأَقْرَبُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّهُمْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فَكَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَهُوَ النِّفَاقُ، وَكَانَ فِيهَا شَكٌّ وَارْتِيَابٌ، وَكَانُوا يَخَافُونَ الْحَيْفَ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ كُفْرٌ وَنِفَاقٌ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بُطْلَانَ مَا هُمْ عَلَيْهِ لِأَنَّ الظُّلْمَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَعْصِيَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] إِذِ الْمَرْءُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ أَوْ ظَالِمًا لِغَيْرِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى فِي الْأَقْسَامِ كَوْنَهُمْ خَائِفِينَ مِنَ الْحَيْفِ، أَبْطَلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَيْ لَا يَخَافُونَ أن يحيف

_ (1) معناه إثبات أنهم كذلك، ولو كان الاستفهام على حقيقته لكان ذما لهم.

[سورة النور (24) : الآيات 51 إلى 54]

الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِمْ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِأَمَانَتِهِ وَصِيَانَتِهِ وَإِنَّمَا هُمْ ظَالِمُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يَظْلِمُوا مَنْ لَهُ الْحَقُّ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَهُ جُحُودٌ، وَذَلِكَ شَيْءٌ لَا يَسْتَطِيعُونَهُ فِي مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَأْبَوْنَ المحاكمة إليه. [سورة النور (24) : الآيات 51 الى 54] إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى قَوْلَ الْمُنَافِقِينَ وَمَا قَالُوهُ وَمَا فَعَلُوهُ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَا كَانَ يَجِبُ أَنْ يَفْعَلُوهُ وَمَا يَجِبُ أَنْ يَسْلُكَهُ الْمُؤْمِنُونَ فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَرَأَ الْحَسَنُ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ بِالرَّفْعِ، وَالنَّصْبُ أَقْوَى لِأَنَّ أَوْلَى الِاسْمَيْنِ بِكَوْنِهِ اسما لكان أو غلهما في التعريف وأَنْ يَقُولُوا أَوْغَلُ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ لِلتَّنْكِيرِ بِخِلَافِ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ مَعْنَاهُ كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ وَطَرِيقَتُهُمْ إِذَا دُعُوا إِلَى حُكْمِ كِتَابِ اللَّه وَرَسُولِهِ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، فَيَكُونُ إِتْيَانُهُمْ إِلَيْهِ وَانْقِيَادُهُمْ لَهُ سَمْعًا وَطَاعَةً، وَمَعْنَى سَمِعْنا أَجَبْنَا عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ سَمِعَ اللَّه لِمَنْ حَمِدَهُ أَيْ قَبِلَ وَأَجَابَ، ثم قال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَيْ فِيمَا سَاءَهُ وَسَرَّهُ وَيَخْشَ اللَّهَ فِيمَا صَدَرَ عَنْهُ مِنَ الذُّنُوبِ فِي الْمَاضِي وَيَتَّقْهِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ وَهَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِيجَازِهَا حَاوِيَةٌ لِكُلِّ مَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَفْعَلُوهُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ فَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَنْ حَلَفَ باللَّه/ فَقَدْ أَجْهَدَ فِي الْيَمِينِ، ثم قال لَمَّا بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى كَرَاهِيَةَ الْمُنَافِقِينَ لِحُكْمِ رَسُولِ اللَّه، فَقَالُوا واللَّه لَئِنْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَخْرُجَ مِنْ دِيَارِنَا وَأَمْوَالِنَا وَنِسَائِنَا لَخَرَجْنَا، وَإِنْ أَمَرْتَنَا بِالْجِهَادِ جَاهَدْنَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْ هَذَا الْقَسَمِ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَا تُقْسِمُوا وَلَوْ كَانَ قَسَمُهُمْ كَمَا يَجِبُ لَمْ يَجُزِ النَّهْيُ عَنْهُ لِأَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى الْقِيَامِ بِالْبِرِّ وَالْوَاجِبِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ، وَإِذَا ثَبَتَ ذلك أَنَّ قَسَمَهُمْ كَانَ لِنِفَاقِهِمْ وَأَنَّ بَاطِنَهُمْ خِلَافُ ظَاهِرِهِمْ، وَمَنْ نَوَى الْغَدْرَ لَا الْوَفَاءَ فَقَسَمُهُ لَا يَكُونُ إِلَّا قَبِيحًا. أَمَّا قَوْلُهُ: طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ فَهُوَ إِمَّا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ الْمَطْلُوبُ مِنْكُمْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ لَا أَيْمَانٌ كَاذِبَةٌ، أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أَمْثَلُ مِنْ قَسَمِكُمْ بِمَا لَا تَصْدُقُونَ فِيهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ دَعُوا الْقَسَمَ وَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ وَعَلَيْكُمْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ فَتَمَسَّكُوا بِهَا. وَقَرَأَ الْيَزِيدِيُّ طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى أَطِيعُوا طَاعَةَ (اللَّه) «1»

_ (1) لفظ (اللَّه) غير مثبت في الكشاف للزمخشري حيث إن الكلام منقول عنه. 3/ 73 ط. دار الفكر.

[سورة النور (24) : آية 55]

إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أَيْ بَصِيرٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ سَرَائِرِكُمْ، وَإِنَّهُ فَاضِحُكُمْ لَا مَحَالَةَ وَمُجَازِيكُمْ عَلَى نِفَاقِكُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى صَرَفَ الْكَلَامَ عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي تَبْكِيتِهِمْ فَإِنْ تَوَلَّوْا يَعْنِي إِنْ تَوَلَّوْا عَنْ طَاعَةِ اللَّه وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فَإِنَّمَا عَلَى الرَّسُولِ مَا حُمِّلَ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ مِنَ الطَّاعَةِ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا أَيْ تُصِيبُوا الْحَقَّ وَإِنْ عَصَيْتُمُوهُ فَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، وَالْبَلَاغُ بِمَعْنَى التَّبْلِيغِ، وَالْمُبِينُ الْوَاضِحُ، وَالْمُوَضِّحُ لِمَا بِكُمْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ قَرَأَ فَإِنَّما عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالتَّخْفِيفِ أَيْ فَعَلَيْهِ إثم ما حمل من المعصية. [سورة النور (24) : آية 55] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ] اعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ النَّظْمِ بَلِّغْ أَيُّهَا الرَّسُولُ وَأَطِيعُوهُ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فَقَدْ وَعَدَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَيِ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ أَنْ يَسْتَخْلِفَهُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَجْعَلَهُمُ الْخُلَفَاءَ وَالْغَالِبِينَ وَالْمَالِكِينَ كَمَا اسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا مَنْ قَبْلَهُمْ فِي زَمَنِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَغَيْرَهُمَا، وَأَنَّهُ يُمَكِّنُ لَهُمْ دِينَهُمْ وَتَمْكِينُهُ ذَلِكَ هُوَ أَنْ يُؤَيِّدَهُمْ بِالنُّصْرَةِ وَالْإِعْزَازِ وَيُبَدِّلَهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ مِنَ الْعَدُوِّ أَمْنًا بِأَنْ يَنْصُرَهُمْ عَلَيْهِمْ فَيَقْتُلُوهُمْ وَيَأْمَنُوا بِذَلِكَ شَرَّهُمْ، فَيَعْبُدُونَنِي آمِنِينَ لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَلَا يَخَافُونَ وَمَنْ كَفَرَ أَيْ مِنْ بَعْدِ هَذَا الْوَعْدِ وَارْتَدَّ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى بَيَانِ أَكْثَرِ الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ الدِّينِيَّةِ فَلْنُشِرْ إِلَى مَعَاقِدِهَا: المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَكَلِّمٌ لِأَنَّ الْوَعْدَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ وَالْمَوْصُوفُ بِالنوع مَوْصُوفٌ بِالْجِنْسِ، وَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَلِكٌ مُطَاعٌ وَالْمَلِكُ الْمُطَاعُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ وَعْدَ أَوْلِيَائِهِ وَوَعِيدَ أَعْدَائِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَكَلِّمٌ. المسألة الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُقُوعِهَا خِلَافًا لِهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، فَإِنَّهُ قَالَ لَا يَعْلَمُهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنْ وُقُوعِ شَيْءٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِخْبَارًا عَلَى التَّفْصِيلِ وَقَدْ وَقَعَ الْمُخْبَرُ مُطَابِقًا لِلْخَبَرِ وَمِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ لَا يَصِحُّ إِلَّا مَعَ الْعِلْمِ. المسألة الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَيٌّ قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ لِأَنَّهُ قَالَ: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ... وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً وَقَدْ فَعَلَ كُلَّ ذَلِكَ وَصُدُورُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنَ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ. المسألة الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ لِأَنَّهُ قَالَ يَعْبُدُونَنِي، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ اللَّه تَعَالَى مُعَلَّلٌ بِالْغَرَضِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لِكَيْ يَعْبُدُونِي وَقَالُوا أَيْضًا الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ الْعِبَادَةَ مِنَ الْكُلِّ، لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِذَلِكَ الْغَرَضِ.

المسألة الْخَامِسَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الشَّرِيكِ لِقَوْلِهِ: لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْإِلَهِ الثَّانِي، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِبَادَةُ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ كَوْكَبًا كَمَا تَقَوَّلَهُ الصَّابِئَةُ أَوْ صَنَمًا كَمَا تَقَوَّلَهُ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ. المسألة السَّادِسَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ الغيب في قوله: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ... وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً وَقَدْ وُجِدَ هَذَا الْمُخْبَرُ مُوَافِقًا لِلْخَبَرِ وَمِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ مُعْجِزٌ، وَالْمُعْجِزُ دَلِيلُ الصِّدْقِ فَدَلَّ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. المسألة السَّابِعَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ خَارِجٌ عَنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّهُ عَطَفَ الْعَمَلَ الصالح عن الإيمان والمعطوف عَلَيْهِ. المسألة الثَّامِنَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى إِمَامَةِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الْحَاضِرِينَ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَأَنْ يُمَكِّنَ لَهُمْ دِينَهُمُ الْمَرْضِيَّ وَأَنْ يُبَدِّلَهُمْ بَعْدَ الْخَوْفِ أَمْنًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْوَعْدِ بَعْدَ الرَّسُولِ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ اسْتِخْلَافَ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَنِ الْمُرَادُ بِهَذَا الِاسْتِخْلَافِ طَرِيقَةُ الْإِمَامَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَعْدَ الرَّسُولِ الِاسْتِخْلَافُ الَّذِي هَذَا وَصْفُهُ إِنَّمَا كَانَ فِي أَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ لِأَنَّ فِي أَيَّامِهِمْ كَانَتِ الْفُتُوحُ الْعَظِيمَةُ وَحَصَلَ التَّمْكِينُ وَظُهُورُ الدِّينِ وَالْأَمْنِ وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَفَرَّغْ لِجِهَادِ الْكُفَّارِ لِاشْتِغَالِهِ بِمُحَارَبَةِ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ فَثَبَتَ بِهَذَا دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ خِلَافَةِ هَؤُلَاءِ، فَإِنْ قِيلَ الْآيَةُ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي حُصُولَ الْخِلَافَةِ لِكُلِّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ نَزَلْنَا عَنْهُ، لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُسْكِنُهُمُ الْأَرْضَ وَيُمَكِّنُهُمْ مِنَ التَّصَرُّفِ لَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ خِلَافَةُ اللَّه تَعَالَى وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَاسْتِخْلَافُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِ الْإِمَامَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا كَذَلِكَ نَزَلْنَا عنه، لكن هاهنا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى خِلَافَةِ رَسُولِ اللَّه لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِكُمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَسْتَخْلِفْ أَحَدًا وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ أَتْرُكُكُمْ كَمَا تَرَكَكُمْ رَسُولُ اللَّه. نَزَلْنَا عَنْهُ، لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْوَاحِدُ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: 1] وَقَالَ فِي حَقِّ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ [الْمَائِدَةِ: 55] نَزَلْنَا عَنْهُ، وَلَكِنْ نَحْمِلُهُ عَلَى الْأَئِمَّةِ الْإِثْنَى عَشَرَ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ فَقَوْلُهُ: مِنْكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْخِطَابِ بَعْضُهُمْ وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ بالمعنى الذي ذكرتموه حاصل لجميع الخلق فالذكور هاهنا فِي مَعْرِضِ الْبِشَارَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَالَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ كَانُوا خُلَفَاءَ تَارَةً بِسَبَبِ النُّبُوَّةِ وَتَارَةً بِسَبَبِ الْإِمَامَةِ وَالْخِلَافَةُ حَاصِلَةٌ فِي الصُّورَتَيْنِ وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَسْتَخْلِفْ أَحَدًا بِالتَّعْيِينِ وَلَكِنَّهُ قَدِ اسْتَخْلَفَ بِذِكْرِ الْوَصْفِ وَالْأَمْرِ بِالِاخْتِيَارِ فَلَا يَمْتَنِعُ فِي هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ تَعَالَى يَسْتَخْلِفُهُمْ وَأَنَّ الرَّسُولَ اسْتَخْلَفَهُمْ، وَعَلَى هَذَا الوجه قَالُوا فِي أَبِي بَكْرٍ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّه، فَالَّذِي قِيلَ إِنَّهُ

[سورة النور (24) : الآيات 56 إلى 57]

عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَسْتَخْلِفْ أُرِيدَ بِهِ عَلَى وَجْهِ التَّعْيِينِ وَإِذَا قِيلَ اسْتَخْلَفَ فَالْمُرَادُ عَلَى طَرِيقَةِ الْوَصْفِ وَالْأَمْرِ وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّ حَمْلَ لَفْظِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ مَجَازٌ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَعَنِ الْخَامِسِ: أَنَّهُ بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ كَانَ مَعَ الْحَاضِرِينَ وَهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ مَا كَانُوا حَاضِرِينَ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَهُمُ الْقُوَّةَ وَالشَّوْكَةَ وَالنَّفَاذَ فِي الْعَالَمِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِيهِ فَثَبَتَ بِهَذَا صِحَّةُ إِمَامَةِ الْأَئِمَّةِ/ الْأَرْبَعَةِ وَبَطَلَ قَوْلُ الرَّافِضَةِ الطَّاعِنِينَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْخَوَارِجِ الطَّاعِنِينَ عَلَى عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ. أَمَّا قَوْلُهُ: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ أَيْنَ الْقَسَمُ الْمُتَلَقَّى بِاللَّامِ وَالنُّونِ فِي لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ، قُلْنَا: هُوَ محذوف تقديره: وعدهم اللَّه [وأقسم] «1» لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ أَوْ نَزَلَ وَعْدُ اللَّه فِي تَحَقُّقِهِ مَنْزِلَةَ الْقَسَمِ فَتُلُقِّيَ بِمَا يُتَلَقَّى بِهِ الْقَسَمُ كَأَنَّهُ قَالَ أَقْسَمَ اللَّه لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يَعْنِي كَمَا اسْتَخْلَفَ هَارُونَ وَيُوشَعَ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَتَقْدِيرُ النَّظْمِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمُ اسْتِخْلَافًا كَاسْتِخْلَافِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَقُرِئَ كَمَا اسْتُخْلِفَ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَقُرِئَ بِالْفَتْحِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُثَبِّتُ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ ويعقوب وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ ومن الْإِبْدَالِ بِالتَّخْفِيفِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [النِّسَاءِ: 56] . أَمَّا قَوْلُهُ: يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ عَنَاهُمْ لَا يَتَغَيَّرُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى إِلَى الشِّرْكِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى مَعْنَى: وَعَدَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي حَالِ عِبَادَتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ للَّه لَيَفْعَلَنَّ بِهِمْ كَيْتَ وَكَيْتَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا عَلَى طَرِيقِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ أَيْ جَحَدَ حَقَّ هَذِهِ النِّعَمِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي العاصون. [سورة النور (24) : الآيات 56 الى 57] وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) أَمَّا تَفْسِيرُ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَفْظَةِ لَعَلَّ وَلَفْظَةِ الرَّحْمَةِ، فَالْكُلُّ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ فَالْمَعْنَى لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ كَفَرُوا سَابِقِينَ فَائِقِينَ حَتَّى يُعْجِزُونَنِي عَنْ إِدْرَاكِهِمْ. وَقُرِئَ لَا يَحْسَبَنَّ بِالْيَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ تَحْتِهَا، وَفِيهِ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ هُمَا الْمَفْعُولَانِ، وَالْمَعْنَى لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا/ أَحَدًا يُعْجِزُ اللَّه فِي الْأَرْضِ حَتَّى يَطْمَعُوا هُمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَمِيرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتقدم ذكره في قوله: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النور: 54] وَالْمَعْنَى: لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ وَلَا يَحْسَبَنَّهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ، ثُمَّ حُذِفَ الضَّمِيرُ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ الأول.

_ (1) زيادة من الكشاف 3/ 74 ط. دار الفكر.

[سورة النور (24) : الآيات 58 إلى 60]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ فَقَالَ صَاحِبُ [الْكَشَّافِ] : النَّظْمُ لَا يَحْتِمِلُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: لَا تَحْسَبَنَّ لِأَنَّ ذَلِكَ نَفِيٌ وَهَذَا إِيجَابٌ، فَهُوَ إِذَنْ مَعْطُوفٌ بِالْوَاوِ عَلَى مُضْمَرٍ قَبْلَهُ تَقْدِيرُهُ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ بَلْ هُمْ مَقْهُورُونَ وَمَأْوَاهُمُ النار. [سورة النور (24) : الآيات 58 الى 60] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لَا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قال القاضي: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الرِّجَالَ فَالْمُرَادُ بِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ يُغَلَّبُ عَلَى التَّأْنِيثِ فإذا لم يميز فيدخل تحت قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الْكُلُّ وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ يُقَالُ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ فِي النِّسَاءِ بِقِيَاسٍ جَلِيٍّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النِّسَاءَ فِي بَابِ حِفْظِ الْعَوْرَةِ أَشَدُّ حَالًا مِنَ الرِّجَالِ، فَهَذَا الْحُكْمُ لَمَّا ثَبَتَ فِي الرِّجَالِ فَثُبُوتُهُ فِي النِّسَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، كَمَا أَنَّا نُثْبِتُ حُرْمَةَ الضَّرْبِ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ عَلَى حُرْمَةِ التَّأْفِيفِ. المسألة الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يَدْخُلُ فِيهِ الْبَالِغُونَ وَالصِّغَارُ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ الصِّغَارُ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْكَبِيرَ مِنَ الْمَمَالِيكِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ مِنَ الْمَالِكِ إِلَّا إلى ما يجوز للحر أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: لَا يَغُرَّنَّكُمْ قَوْلُهُ: وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أَنْ يَنْظُرَ عَبْدُهَا إِلَى قُرْطِهَا وَشَعْرِهَا وَشَيْءٍ مِنْ مَحَاسِنِهَا، وَقَالَ الْآخَرُونَ: بَلِ الْبَالِغُ مِنَ الْمَمَالِيكِ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَعْرِ مَالِكَتِهِ وَمَا شَاكَلَهُ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ عَبِيدِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْأَطْفَالِ مِنَ الْأَحْرَارِ بِإِبَاحَةِ مَا حَظَرَهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ قَبْلُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [النُّورِ: 27] فَإِنَّهُ أَبَاحَ لَهُمْ إِلَّا فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ وَجَوَّزَ دُخُولَهُمْ مَعَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَدُخُولَ الْمَوَالِي عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أَيْ يَطُوفُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا عَدَا الْأَوْقَاتَ الثَّلَاثَةَ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ أَوْجَبَ عَلَى مَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ الْجَرْيَ عَلَى سُنَّةِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْبَالِغِينَ فِي الِاسْتِئْذَانِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ وَأَلْحَقَهُمْ بِمَنْ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها. المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ إِذَا كَانُوا بَالِغِينَ فَغَيْرُ

مُمْتَنِعٍ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ، وإن أريد الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لَهُمْ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لَنَا بأن نأمرهم بذلك ونبعثهم عليه كَمَا أَمَرْنَا بِأَمْرِ الصَّبِيِّ، وَقَدْ عَقَلَ الصَّلَاةَ أَنْ يَفْعَلَهَا لَا عَلَى وَجْهِ التَّكْلِيفِ لَهُمْ، لَكِنَّهُ تَكْلِيفٌ لَنَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لَنَا وَلَهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مُتَوَجِّهًا عَلَى الْمَوْلَى كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ: لِيَخَفْكَ أَهْلُكَ وَوَلَدُكَ، فَظَاهِرُ الْأَمْرِ لَهُمْ وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ لَهُ بِفِعْلِ مَا يَخَافُونَ عِنْدَهُ. المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ غُلَامًا مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى عُمَرَ لِيَدْعُوهُ فَوَجَدَهُ نَائِمًا فِي الْبَيْتِ فَدَفَعَ الْبَابَ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ عُمَرُ فَعَادَ وَرَدَّ الْبَابَ/ وَقَامَ مِنْ خَلْفِهِ وَحَرَّكَهُ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ فَقَالَ الْغُلَامُ اللَّهُمَّ أَيْقِظْهُ لِي وَدَفَعَ الْبَابَ ثُمَّ نَادَاهُ فَاسْتَيْقَظَ وَجَلَسَ وَدَخَلَ الْغُلَامُ فَانْكَشَفَ مِنْ عُمَرَ شَيْءٌ وَعَرَفَ عُمَرُ أَنَّ الْغُلَامَ رَأَى ذَلِكَ مِنْهُ فَقَالَ وَدِدْتُ أَنَّ اللَّه نَهَى أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا وَخَدَمَنَا أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْنَا فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ إِلَّا بِإِذْنٍ ثُمَّ انْطَلَقَ مَعَهُ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَهُ قَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَحَمِدَ اللَّه تَعَالَى عُمَرُ عِنْدَ ذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا ذَاكَ يَا عُمَرُ؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا فَعَلَ الْغُلَامُ فَتَعَجَّبَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صُنْعِهِ وَتَعَرَّفَ اسْمَهُ وَمَدَحَهُ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّه يُحِبُّ الْحَلِيمَ الحي الْعَفِيفَ الْمُتَعَفِّفَ، وَيُبْغِضُ الْبَذِيءَ الْجَرِيءَ السَّائِلَ الْمُلْحِفَ» فَهَذِهِ الْآيَةُ إِحْدَى الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ بِسَبَبِ عُمَرَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ فِي أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي مَرْثَدٍ قَالَتْ إِنَّا لَنَدْخُلُ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَلَعَلَّهُمَا يَكُونَانِ فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ، وَقِيلَ دَخَلَ عَلَيْهَا غُلَامٌ لَهَا كَبِيرٌ فِي وَقْتٍ كَرِهَتْ دُخُولَهُ فِيهِ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إِنَّ خَدَمَنَا وَغِلْمَانَنَا يَدْخُلُونَ عَلَيْنَا فِي حَالٍ نَكْرَهُهَا فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. المسألة الْخَامِسَةُ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ قَوْلُهُ: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ عَنَى بِهِ الذُّكُورَ دُونَ الْإِنَاثِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ صِيغَةُ الذُّكُورِ لَا صِيغَةُ الْإِنَاثِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا هِيَ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ يَسْتَأْذِنُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ إِثْبَاتُ هَذَا الْحُكْمِ فِي النِّسَاءِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا يَكْرَهُ اطِّلَاعَ الذُّكُورِ عَلَى أَحْوَالِهِ فَقَدْ يَكْرَهُ أَيْضًا اطِّلَاعَ النِّسَاءِ عَلَيْهَا وَلَكِنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ فِي النِّسَاءِ بِالْقِيَاسِ لَا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. المسألة السَّادِسَةُ: مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ عَلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ عَلَى الْإِيجَابِ وَهَذَا أَوْلَى، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عُمَرَ الْحُلْمَ بِالسُّكُونِ. المسألة الثَّانِيَةُ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الِاحْتِلَامَ بُلُوغٌ وَاخْتَلَفُوا إِذَا بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَلَمْ يَحْتَلِمْ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه لَا يَكُونُ الْغُلَامُ بَالِغًا حَتَّى يَبْلُغَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً وَيَسْتَكْمِلَهَا وَفِي الْجَارِيَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمُ اللَّه فِي الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ حَدَّ الْبُلُوغِ خَمْسَ عَشْرَةَ إِذَا لَمْ يَحْتَلِمْ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ بَلَغَهَا وَبَيْنَ مَنْ قَصَرَ عَنْهَا بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ بَلَغَ الْحُلُمَ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ» وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهَا، فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا الْكَلَامُ يُبْطِلُ التَّقْدِيرَ أَيْضًا بِثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً

أَجَابَ بِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا بِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الْبُلُوغِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَكُلُّ مَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى طَرِيقِ الْعَادَاتِ فَقَدْ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ وَالنُّقْصَانُ مِنْهُ، وَقَدْ وَجَدْنَا مَنْ بَلَغَ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى/ الْمُعْتَادِ جَائِزَةٌ كَالنُّقْصَانِ مِنْهُ فَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه الزِّيَادَةَ كَالنُّقْصَانِ، وَهِيَ ثَلَاثُ سِنِينَ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً لِلْغُلَامِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى اسْتِكْمَالِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً وَالدُّخُولِ فِي التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ عُرِضَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَلَهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْهُ وَعُرِضَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَلَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَهُ اعْتَرَضَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَلَيْهِ فَقَالَ هَذَا الْخَبَرُ مُضْطَرِبٌ لِأَنَّ أُحُدًا كَانَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَالْخَنْدَقَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ فَكَيْفَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا سَنَةٌ؟ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْإِجَازَةَ فِي الْقِتَالِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْبُلُوغِ لِأَنَّهُ قَدْ يَرُدُّ الْبَالِغَ لِضَعْفِهِ وَيُؤْذِنُ غَيْرَ الْبَالِغِ لِقُوَّتِهِ وَلِطَاقَتِهِ حَمْلَ السِّلَاحِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا سَأَلَهُ عَنِ الِاحْتِلَامِ وَالسِّنِّ. الْبَحْثُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي الْإِنْبَاتِ هَلْ يَكُونُ بُلُوغًا، فَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ مَا جَعَلُوهُ بُلُوغًا وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه جَعَلَهُ بُلُوغًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللَّه ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْبَاتُ بُلُوغًا إِذَا لَمْ يَحْتَلِمْ كَمَا نَفَى كَوْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً بُلُوغًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ» حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى مَا رَوَى عَطِيَّةُ الْقُرَظِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ مَنْ أَنْبَتَ مِنْ قُرَيْظَةَ وَاسْتِحْيَاءِ مَنْ لَمْ يُنْبِتْ قَالَ فَنَظَرُوا إِلَيَّ فَلَمْ أَكُنْ قَدْ أَنْبَتُّ فَاسْتَبَقَانِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ الشَّرْعِ بِهِ وَبِمِثْلِهِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ عَطِيَّةَ هَذَا مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْخَبَرِ لَا سِيَّمَا مَعَ اعْتِرَاضِهِ عَلَى الْآيَةِ، وَالْخَبَرُ فِي نَفْيِ الْبُلُوغِ إِلَّا بِالِاحْتِلَامِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مُخْتَلِفُ الْأَلْفَاظِ فَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى، وَفِي بَعْضِهَا مَنِ اخْضَرَّ عِذَارُهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ هَذِهِ الْحَالَ إِلَّا وَقَدْ تَقَدَّمَ بُلُوغُهُ وَلَا يَكُونُ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى إِلَّا وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ، فَجَعْلُ الْإِنْبَاتِ وَجَرْيِ الْمُوسَى عَلَيْهِ كِنَايَةٌ عَنْ بُلُوغِ الْقَدْرِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنَ السِّنِّ وَهِيَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَكْثَرَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِنْبَاتَ يَدُلُّ عَلَى الْقُوَّةِ الْبَدَنِيَّةِ فَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ لِذَاكَ لَا لِلْبُلُوغِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ مَرْدُودَةٌ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ سُئِلَ عَنْ غُلَامٍ فَقَالَ هَلِ اخْضَرَّ عِذَارُهُ؟ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ كَالْأَمْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: وَيُرْوَى عَنْ قَوْمٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُمُ اعْتَبَرُوا فِي الْبُلُوغِ أَنْ يَبْلُغَ الْإِنْسَانُ فِي طُولِهِ خَمْسَةَ أَشْبَارٍ، رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ إِذَا بَلَغَ الْغُلَامُ خَمْسَةَ أَشْبَارٍ فَقَدْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ وَيُقْتَصُّ لَهُ وَيُقْتَصُّ مِنْهُ، وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ أُتِيَ أَبُو بَكْرٍ بِغُلَامٍ قَدْ سَرَقَ فَأَمَرَ بِهِ فَشُبِرَ فَنَقَصَ أُنْمُلَةً فَخَلَّى عَنْهُ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ أَخَذَ بِهِ الْفَرَزْدَقُ فِي قَوْلِهِ: مَا زَالَ مُذْ عَقَدَتْ يَدَاهُ إِزَارَهُ ... وَسَمَا فَأَدْرَكَ خَمْسَةَ الْأَشْبَارِ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ دُونَ الْبُلُوغِ وَيَكُونُ طَوِيلًا، وَفَوْقَ الْبُلُوغِ وَيَكُونُ قَصِيرًا فَلَا عِبْرَةَ بِهِ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ، وَقَدْ عَقَلَ يُؤْمَرُ بِفِعْلِ الشَّرَائِعِ وَيُنْهَى عَنِ ارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ فَإِنَّ اللَّه أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعٍ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ» وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ نُعَلِّمُ الصَّبِيَّ الصَّلَاةَ إِذَا عَرَفَ يَمِينَهُ

مِنْ شِمَالِهِ، وَعَنْ زَيْنِ الْعَابِدِينَ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ الصِّبْيَانَ أَنْ يُصَلُّوا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، فَقِيلَ لَهُ يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ لغير وقتها فقال خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَنَاهَوْا عَنْهَا، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ عَشْرَ سِنِينَ كُتِبَتْ لَهُ الْحَسَنَاتُ وَلَا تُكْتَبُ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتُ حَتَّى يَحْتَلِمَ، ثم قال أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ إِنَّمَا يُؤْمَرُ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ وَلِيَعْتَادَهُ وَيَتَمَرَّنَ عَلَيْهِ فَيَكُونَ أَسْهَلَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَأَقَلَّ نُفُورًا مِنْهُ، وَكَذَلِكَ يُجَنَّبُ شُرْبَ الْخَمْرِ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَيُنْهَى عَنْ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ فِي الصِّغَرِ لَصَعُبَ عَلَيْهِ الِامْتِنَاعُ بَعْدَ الْكِبَرِ، وَقَالَ اللَّه تَعَالَى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التَّحْرِيمِ: 6] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ أَدِّبُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ. المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ فِي الْحِلْمِ حَلَمَ الرَّجُلُ بِفَتْحِ اللَّامِ، يَحْلُمُ حِلْمًا بِضَمِّ اللَّامِ، وَمِنَ الْحُلُمِ حَلُمَ بِضَمِّ اللَّامِ، يَحْلِمُ حِلْمًا بِكَسْرِ اللَّامِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: ثَلاثَ مَرَّاتٍ يَعْنِي ثَلَاثَ أَوْقَاتٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى فَسَّرَهُنَّ بِالْأَوْقَاتِ، وَإِنَّمَا قِيلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلْأَوْقَاتِ لِأَنَّهُ أَرَادَ مَرَّةً فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، لِأَنَّهُ يَكْفِيهِمْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ بَيَّنَ الْأَوْقَاتَ فَقَالَ: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ، يَعْنِي الْغَالِبُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُتَجَرِّدًا عَنِ الثِّيَابِ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ثَلاثُ عَوْراتٍ قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: ثَلَاثَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: ثَلاثَ مَرَّاتٍ وَكَأَنَّهُ قَالَ فِي أَوْقَاتِ ثَلَاثِ عَوْرَاتٍ لَكُمْ، فَلَمَّا حَذَفَ الْمُضَافَ أَعْرَبَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ بِإِعْرَابِهِ وَقِرَاءَةُ الْبَاقِينَ بِالرَّفْعِ أَيْ: هِيَ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ فَارْتَفَعَ لِأَنَّهُ خَبَرُ مبتدأ محذوف، قال القفال فكأن الْمَعْنَى ثَلَاثَ انْكِشَافَاتٍ وَالْمُرَادُ وَقْتَ الِانْكِشَافِ. المسألة الثَّالِثَةُ: الْعَوْرَةُ الْخَلَلُ وَمِنْهُ اعْوَرَّ الْفَارِسُ وَاعَوَرَّ الْمَكَانُ وَالْأَعْوَرُ الْمُخْتَلُّ الْعَيْنِ، فَسَمَّى اللَّه تَعَالَى كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ عَوْرَةً، لِأَنَّ النَّاسَ يَخْتَلُّ حِفْظُهُمْ وَتَسَتُّرُهُمْ فِيهَا. المسألة الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ اعْتِبَارُ الْعِلَلِ فِي الْأَحْكَامِ إِذَا أَمْكَنَ لِأَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ وَالثَّانِي: بِالتَّنْبِيهِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ وَبَيْنَ مَا عَدَاهَا بِأَنَّهُ لَيْسَ ذَاكَ إِلَّا لِعِلَّةِ التَّكَشُّفِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ وُقُوعُ التَّكَشُّفِ فِيهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا عَدَا هَذِهِ الْأَوْقَاتَ. المسألة الْخَامِسَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النُّورِ: 27] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ وَاجِبٌ فِي كُلِّ حَالٍ، وَصَارَ ذَلِكَ مَنْسُوخًا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ الْآيَةُ الْأُولَى أُرِيدَ بِهَا الْمُكَلَّفُ لِأَنَّهُ خِطَابٌ لِمَنْ آمَنَ، وَمَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ فِيمَنْ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ فَقِيلَ فِيهِ إِنَّ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لَا يَدْخُلُ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَفِي بَعْضِهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ. فَلَا وَجْهَ لِحَمْلِ ذَلِكَ عَلَى النَّسْخِ، لِأَنَّ مَا تَنَاوَلَتْهُ الْآيَةُ الْأُولَى مِنَ الْمُخَاطَبِينَ لَمْ تَتَنَاوَلْهُ الْآيَةُ الثَّانِيَةُ أَصْلًا، فَإِنْ قِيلَ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ قَدْ بَلَغَ

فَالنَّسْخُ لَازِمٌ، قُلْنَا لَا يَجِبُ ذَلِكَ أَيْضًا، لأن قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ لَا يَدْخُلُ إِلَّا مَنْ يَمْلِكُ الْبُيُوتَ لِحَقِّ هَذِهِ الْإِضَافَةِ، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، فَلَا يَجِبُ النَّسْخُ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَأَمَّا إِنْ حُمِلَ الْكَلَامُ عَلَى صِغَارِ الْمَمَالِيكِ فَالْقَوْلُ فِيهِ أَبْيَنُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: لَمْ يَصِرْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاسْتِئْذَانِ مَنْسُوخٌ. وَرَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثُ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّه تَرَكَهُنَّ النَّاسُ وَلَا أَرَى أَحَدًا يَعْمَلُ بِهِنَّ، قَالَ عَطَاءٌ حَفِظْتُ اثْنَتَيْنِ وَنَسِيتُ واحدة، وقرأ هذه الآية وقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الْحُجُرَاتِ: 13] وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّ الْآيَةَ الثَّالِثَةَ قوله: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى [النِّسَاءِ: 8] الْآيَةَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَتَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ أَنَّهُ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ عَلَى كُلِّ حَالٍ؟ الْجَوَابُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ فِي الصِّغَارِ خَاصَّةً، فَمُبَاحٌ لَهُمُ الدُّخُولُ لِلْخِدْمَةِ بِغَيْرِ الْإِذْنِ فِي غَيْرِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَمُبَاحٌ لَنَا تَمْكِينُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَالدُّخُولُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا. السُّؤَالُ الثَّانِي: فَهَلْ يَقْتَضِي ذَلِكَ إِبَاحَةُ كَشْفِ الْعَوْرَةِ لَهُمْ؟ الْجَوَابُ: لَا وَإِنَّمَا أَبَاحَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْعَادَةُ أَنْ لَا تُكْشَفَ الْعَوْرَةُ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ، فَمَتَى كَشَفَتِ الْمَرْأَةُ عَوْرَتَهَا مَعَ ظَنِّ دُخُولِ الْخَدَمِ إِلَيْهَا فَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ الْخَادِمُ مِمَّنْ يَتَنَاوَلُهُ التَّكْلِيفُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الدُّخُولُ أَيْضًا إِذَا ظَنَّ أَنَّ هُنَاكَ كَشْفَ عَوْرَةٍ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ مِنَ النَّاسِ مَنْ جَوَّزَ لِلْبَالِغِ مِنَ الْمَمَالِيكِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَعْرِ مَوْلَاتِهِ؟ قُلْنَا مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ أَخْرَجَ الشَّعْرَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَوْرَةً لِحَقِّ الْمِلْكِ، كَمَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَوْرَةً لِحَقِّ الرَّحِمِ، إِذِ الْعَوْرَةُ تَنْقَسِمُ فَفِيهِ مَا يَكُونُ عَوْرَةً عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَفِيهِ مَا يَخْتَلِفُ حَالُهُ بِالْإِضَافَةِ فيكون عورة مع الأجنبي غير عورة عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَتَقُولُونَ هَذِهِ الْإِبَاحَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْخَدَمِ دُونَ غَيْرِهِمْ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ/ وَفِي قَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ يَخْتَصُّ بِالصِّغَارِ دُونَ الْبَالِغِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَقَدْ نَصَّ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ مِنْ بَعْدُ فَقَالَ: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ والمراد من تجدد منه البلوغ يجب أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَقَدَّمَ بُلُوغُهُ فِي وُجُوبِ الِاسْتِئْذَانِ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ مَنْ خَدَمَ فِي حَالِ الصِّغَرِ، فَإِذَا بَلَغَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ لَا يَسْتَأْذِنَ وَيُفَارِقُ حَالُهُ حَالَ مَنْ لَمْ يَخْدِمْ وَلَمْ يُمَلَّكْ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ كَمَا حَظَرَ عَلَى الْبَالِغِينَ الدُّخُولَ إِلَّا بِالِاسْتِئْذَانِ فَكَذَلِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ إِذَا بَلَغُوا وَإِنْ تَقَدَّمَتْ لَهُمْ خِدْمَةٌ أَوْ ثَبَتَ فِيهِمْ مِلْكٌ لَهُنَّ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: الْأَمْرُ بِالِاسْتِئْذَانِ هَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمَمْلُوكِ وَمَنْ لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ أَوْ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ؟ وَالْأَجْنَبِيُّ أَيْضًا لَوْ كَانَ الْمَمْلُوكُ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِئْذَانُ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا الصُّورَةُ الْأُولَى فَنَعَمْ، إِمَّا لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور: 27] أَوْ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَمْلُوكِ، وَمَنْ لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَأَمَّا الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِئْذَانُ لِعُمُومِ الْآيَةِ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: مَا مَحَلُّ لَيْسَ عَلَيْكُمْ؟ الْجَوَابُ: إِذَا رُفِعَتْ ثَلاثُ عَوْراتٍ كَانَ ذَلِكَ فِي مَحَلِّ

[سورة النور (24) : آية 61]

الرَّفْعِ عَلَى الْوَصْفِ، وَالْمَعْنَى هُنَّ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ مَخْصُوصَةٌ بِالِاسْتِئْذَانِ، وَإِذَا نُصِبَتْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَحَلٌّ، وَكَانَ كَلَامًا مُقَرَّرًا لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ خَاصَّةً. السُّؤَالُ السَّادِسُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ؟ الْجَوَابُ: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ إِنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ كَقَوْلِكَ فِي الْكَلَامِ إِنَّمَا هُمْ خَدَمُكُمْ وَطَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ، وَالطَّوَّافُونَ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ الدُّخُولَ وَالْخُرُوجَ وَالتَّرَدُّدَ، وَأَصْلُهُ مِنَ الطَّوَافِ، وَالْمَعْنَى يَطُوفُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِغَيْرِ إِذْنٍ. السُّؤَالُ السَّابِعُ: بِمَ ارْتَفَعَ بَعْضُكُمْ؟ الْجَوَابُ: بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ عَلى بَعْضٍ عَلَى مَعْنَى طَائِفٌ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنَّمَا حُذِفَ لِأَنَّ طَوَّافُونَ يَدُلُّ عَلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكاحاً فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: امْرَأَةٌ قَاعِدٌ إِذَا قَعَدَتْ عَنِ الْحَيْضِ وَالْجَمْعُ قَوَاعِدُ، وَإِذَا أَرَدْتَ الْقُعُودَ قُلْتَ قَاعِدَةٌ، وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْقَوَاعِدُ هُنَّ اللَّوَاتِي قَعَدْنَ عَنِ الْحَيْضِ وَالْوَلَدِ مِنَ الْكِبَرِ وَلَا مَطْمَعَ لَهُنَّ فِي الْأَزْوَاجِ، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُعْتَبَرَ قُعُودُهُنَّ عَنِ الْحَيْضِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْقَطِعُ وَالرَّغْبَةُ فِيهِنَّ بَاقِيَةٌ، فَالْمُرَادُ قُعُودُهُنَّ عَنْ حَالِ الزَّوْجِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا بَلَغْنَ فِي السِّنِّ بِحَيْثُ لَا يَرْغَبُ فِيهِنَّ الرِّجَالُ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي النِّسَاءِ: لَا يَرْجُونَ كَقَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ [الْبَقَرَةِ: 237] . المسألة الثَّالِثَةُ: لَا شُبْهَةَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَأْذَنْ فِي أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ أَجْمَعَ لِمَا فِيهِ مِنْ كَشْفِ كُلِّ عَوْرَةٍ، فَلِذَلِكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ بِالثِّيَابِ هاهنا الْجِلْبَابُ وَالْبُرُدُ وَالْقِنَاعُ الَّذِي فَوْقَ الْخِمَارِ، وَرُوِيَ/ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَرَأَ أَنْ يَضَعْنَ جَلَابِيبَهُنَّ وَعَنِ السُّدِّيِّ عَنْ شيوخه (أن يضعن خمرهن رؤوسهن) وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَرَأَ (أَنْ يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابِهِنَّ) ، وَإِنَّمَا خَصَّهُنَّ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ لِأَنَّ التُّهْمَةَ مُرْتَفِعَةٌ عَنْهُنَّ، وَقَدْ بَلَغْنَ هَذَا الْمَبْلَغَ فَلَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِنَّ خِلَافُ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ لَهُنَّ وَضْعُ الثِّيَابِ وَلِذَلِكَ قَالَ: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَإِنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَبْعَدُ مِنَ الْمَظِنَّةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ عِنْدَ الْمَظِنَّةِ يَلْزَمُهُنَّ أَنْ لَا يَضَعْنَ ذَلِكَ كَمَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الشَّابَّةِ. المسألة الرَّابِعَةُ: حَقِيقَةُ التَّبَرُّجِ تَكَلُّفُ إِظْهَارِ مَا يَجِبُ إِخْفَاؤُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ سَفِينَةٌ بَارِجٌ لَا غطاء عليها، والبرج سِعَةُ الْعَيْنِ الَّتِي يُرَى بَيَاضُهَا مُحِيطًا بِسَوَادِهَا كُلِّهِ، لَا يَغِيبُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا أَنَّهُ اخْتَصَّ بِأَنْ تَنْكَشِفَ الْمَرْأَةُ لِلرِّجَالِ بِإِبْدَاءِ زِينَتِهَا وإظهار محاسنها. [سورة النور (24) : آية 61] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ إلى قوله أَوْ صَدِيقِكُمْ] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ رَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ فَقَالَ/ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ وَلَا إِثْمَ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ، وَقَالَ الْحَسَنُ نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَضَعَ اللَّه الْجِهَادَ عَنْهُ وَكَانَ أَعْمَى وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: أَنْ تَأْكُلُوا فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا رُفِعَ الْحَرَجُ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَحْظَرُونَ الْأَكْلَ مَعَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ وَفِي هَذِهِ الْمَنَازِلِ، فاللَّه تَعَالَى رَفَعَ ذَلِكَ الْحَظْرَ وَأَزَالَهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُمْ لِأَيِّ سَبَبٍ اعْتَقَدُوا ذَلِكَ الْحَظْرَ، أَمَّا فِي حَقِّ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ مَعَ الْأَعْمَى لِأَنَّهُ لَا يُبْصِرُ الطَّعَامَ الْجَيِّدَ فَلَا يَأْخُذُهُ، وَلَا مَعَ الْأَعْرَجِ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْجُلُوسِ فَإِلَى أَنْ يَأْكُلَ لُقْمَةً يَأْكُلُ غَيْرُهُ لُقْمَتَيْنِ، وَكَذَا الْمَرِيضُ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى لَهُ أَنْ يَأْكُلَ كَمَا يَأْكُلُ الصَّحِيحُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَكُونُ (عَلَى) بِمَعْنَى فِي يَعْنِي لَيْسَ عَلَيْكُمْ فِي مُوَاكَلَةٍ هَؤُلَاءِ حَرَجٌ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعُمْيَانَ وَالْعُرْجَانَ وَالْمَرْضَى تَرَكُوا مُوَاكَلَةَ الْأَصِحَّاءِ، أَمَّا الْأَعْمَى فَقَالَ إِنِّي لَا أَرَى شَيْئًا فَرُبَّمَا آخُذُ الْأَجْوَدَ وَأَتْرُكُ الْأَرْدَأَ، وَأَمَّا الْأَعْرَجُ وَالْمَرِيضُ فَخَافَا أَنْ يُفْسِدَا الطَّعَامَ عَلَى الْأَصِحَّاءِ لِأُمُورٍ تَعْتَرِي الْمَرْضَى، وَلِأَجْلِ أَنَّ الْأَصِحَّاءَ يَتَكَرَّهُونَ مِنْهُمْ وَلِأَجْلِ أَنَّ الْمَرِيضَ رُبَّمَا حَمَلَهُ الشَّرَهُ عَلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ نَظَرُهُ وَقَلْبُهُ بِلُقْمَةِ الْغَيْرِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ احْتَرَزُوا عَنْ مُوَاكَلَةِ الْأَصِحَّاءِ، فاللَّه تَعَالَى أَطْلَقَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَثَالِثُهَا: رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعُبَيْدِ اللَّه بْنِ عَبْدِ اللَّه فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا إِذَا غَزَوْا خَلَّفُوا زَمْنَاهُمْ وَكَانُوا يُسَلِّمُونَ إِلَيْهِمْ مَفَاتِيحَ أَبْوَابِهِمْ وَيَقُولُونَ لَهُمْ قَدْ أَحْلَلْنَا لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِمَّا فِي بُيُوتِنَا فَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ قَالُوا لَا نَدْخُلُهَا وَهُمْ غَائِبُونَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رُخْصَةً لَهُمْ وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ نَفْيُ الْحَرَجِ عَنِ الزَّمْنَى فِي أَكْلِهِمْ مِنْ بَيْتِ مَنْ يَدْفَعُ إِلَيْهِمُ الْمِفْتَاحَ إِذَا خَرَجَ إِلَى الْغَزْوِ وَرَابِعُهَا: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو وَذَلِكَ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غازيا وخلف بن مَالِكِ بْنِ زَيْدٍ عَلَى أَهْلِهِ فَلَمَّا رَجَعَ وَجَدَهُ مَجْهُودًا فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ تَحَرَّجْتُ أَنْ آكُلَ مِنْ طَعَامِكَ بِغَيْرِ إِذْنِكَ، وَأَمَّا فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ فَذَكَرُوا وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَذْهَبُونَ بِالضُّعَفَاءِ وَذَوِي الْعَاهَاتِ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَقَرَابَاتِهِمْ وَأَصْدِقَائِهِمْ فَيُطْعِمُونَهُمْ مِنْهَا، فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً [النِّسَاءِ: 29] أَيْ بَيْعًا فَعِنْدَ ذَلِكَ امْتَنَعَ النَّاسُ أَنْ يَأْكُلَ بَعْضُهُمْ مِنْ طَعَامِ بَعْضٍ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الثَّانِي: قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتِ الْأَنْصَارُ فِي أَنْفُسِهَا قَزَازَةٌ وَكَانَتْ لَا تَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْبُيُوتِ إِذَا اسْتَغْنَوْا، قَالَ السُّدِّيُّ كَانَ الرَّجُلُ يَدْخُلُ بَيْتَ أَبِيهِ أَوْ بَيْتَ أَخِيهِ أَوْ أُخْتِهِ فَتُتْحِفُهُ الْمَرْأَةُ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّعَامِ فَيَتَحَرَّجُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ رَبُّ الْبَيْتِ. فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الرُّخْصَةَ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ الْحَرَجُ فِي اللُّغَةِ الضِّيقُ وَمَعْنَاهُ فِي الدِّينِ الْإِثْمُ. المسألة الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ الْأَكْلَ لِلنَّاسِ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى/ أَنَّ إِبَاحَةَ الْأَكْلِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ فَنُقِلَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الْأَكْلَ مُبَاحٌ وَلَكِنْ لَا يَجْمُلُ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: كَانَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا النَّسْخِ قَوْلُهُ: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الْأَحْزَابِ: 53] وَكَانَ فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَهُنَّ الْآبَاءُ وَالْإِخْوَةُ

وَالْأَخَوَاتُ، فَعَمَّ بِالنَّهْيِ عَنْ دُخُولِ بُيُوتِهِنَّ إِلَّا بَعْدَ الْإِذْنِ فِي الدُّخُولِ وَفِي الْأَكْلِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا أَذِنَ تَعَالَى فِي هَذَا لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا يَمْنَعُونَ قَرَابَاتِهِمْ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِهِمْ حَضَرُوا أَوْ غَابُوا، فَجَازَ أَنْ يُرَخِّصَ فِي ذَلِكَ، قُلْنَا لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ هَؤُلَاءِ الْأَقَارِبِ بِالذِّكْرِ مَعْنًى لَأَنَّ غَيْرَهُمْ كَهُمْ فِي ذَلِكَ الثَّانِي: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَقَارِبِ إِذَا لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى نَهَى مِنْ قَبْلُ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْمُجَادَلَةِ: 22] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا حَظَرَهُ هُنَاكَ، قَالَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَمْرٌ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى أَهْلِ الْبُيُوتِ فَقَالَ: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النور: 27] وَفِي بُيُوتِ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ، بَلْ أَمَرَ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِثْبَاتُ الْإِبَاحَةِ فِي الْجُمْلَةِ، لَا إِثْبَاتُ الْإِبَاحَةِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ بِالْعَادَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ بِأَكْلِ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَالْعَادَةُ كَالْإِذْنِ فِي ذَلِكَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ خَصَّهُمُ اللَّه بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْعَادَةَ فِي الْأَغْلَبِ تُوجَدُ فِيهِمْ وَلِذَلِكَ ضَمَّ إِلَيْهِمُ الصَّدِيقَ، وَلَمَّا عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْإِبَاحَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِأَجْلِ حُصُولِ الرِّضَا فِيهَا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ. المسألة الرَّابِعَةُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ وَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ أَيُّ فَائِدَةٍ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِ الْإِنْسَانِ طَعَامَهُ فِي بَيْتِهِ؟ وَجَوَابُهُ الْمُرَادُ فِي بُيُوتِ أَزْوَاجِكُمْ وَعِيَالِكُمْ أَضَافَهُ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ بَيْتَ الْمَرْأَةِ كَبَيْتِ الزَّوْجِ، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَرَادَ بُيُوتَ أَوْلَادِهِمْ فَنَسَبَ بُيُوتَ الْأَوْلَادِ إِلَى الْآبَاءِ لِأَنَّ الْوَلَدَ كَسْبُ وَالِدِهِ وَمَالُهُ كَمَالِهِ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَدَّدَ الْأَقَارِبَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَوْلَادَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ هُوَ الْقَرَابَةُ كَانَ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُمْ أَوْلَى وَثَانِيهَا: بُيُوتُ الْآبَاءِ وَثَالِثُهَا: بُيُوتُ الْأُمَّهَاتِ وَرَابِعُهَا: بُيُوتُ الْإِخْوَانِ وَخَامِسُهَا: بُيُوتُ الْأَخَوَاتِ وَسَادِسُهَا: بُيُوتُ الْأَعْمَامِ وَسَابِعُهَا: بُيُوتُ الْعَمَّاتِ وَثَامِنُهَا: بُيُوتُ الْأَخْوَالِ وَتَاسِعُهَا: بُيُوتُ الْخَالَاتِ وَعَاشِرُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ وَقُرِئَ مِفْتَاحَهُ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: وَكِيلُ الرَّجُلِ وَقَيِّمُهُ فِي ضَيْعَتِهِ وَمَاشِيَتِهِ، لَا بَأْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرِ/ ضَيْعَتِهِ، وَيَشْرَبَ مِنْ لَبَنِ مَاشِيَتِهِ، وَمِلْكُ الْمَفَاتِحِ كَوْنُهَا فِي يَدِهِ وَفِي حِفْظِهِ الثَّانِي: قَالَ الضَّحَّاكُ: يُرِيدُ الزَّمْنَى الَّذِينَ كَانُوا يَحْرُسُونَ لِلْغُزَاةِ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ بُيُوتُ الْمَمَالِيكِ لِأَنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ قَالَ الْفَضْلُ الْمَفَاتِحُ وَاحِدُهَا مَفْتَحٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَوَاحِدُ الْمَفَاتِيحِ مِفْتَحٌ بِالْكَسْرِ الْحَادِي عَشَرَ: قَوْلُهُ: أَوْ صَدِيقِكُمْ وَالْمَعْنَى أَوْ بُيُوتِ أَصْدِقَائِكُمْ، وَالصَّدِيقُ يكون واحدا وجمعا، وكذلك الخليط والقطين والعدو وَيُحْكَى عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ دَخَلَ دَارَهُ وَإِذَا حَلْقَةٌ مِنْ أَصْدِقَائِهِ وَقَدْ (أَخْرَجُوا) «1» سِلَالًا مِنْ تَحْتِ سَرِيرِهِ فِيهَا الْخَبِيصُ وَأَطَايِبُ الْأَطْعِمَةِ وَهُمْ مُكِبُّونَ عَلَيْهَا يَأْكُلُونَ، فَتَهَلَّلَتْ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ سُرُورًا وَضَحِكَ وَقَالَ هَكَذَا وَجَدْنَاهُمْ يُرِيدُ كُبَرَاءَ الصَّحَابَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: الصَّدِيقُ أَكْثَرُ مِنَ الْوَالِدَيْنِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَمَّا اسْتَغَاثُوا لَمْ يَسْتَغِيثُوا بِالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ بَلْ بِالْأَصْدِقَاءِ، فقالوا مالنا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ، وَحُكِيَ أَنَّ أَخًا لِلرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ فِي اللَّه دَخَلَ منزله في حال غيبة فَانْبَسَطَ إِلَى جَارِيَتِهِ حَتَّى قَدَّمَتْ إِلَيْهِ مَا أَكَلَ، فَلَمَّا عَادَ أَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ، فَلِسُرُورِهِ بِذَلِكَ قال إن صدقت فأنت حرة.

_ (1) في الكشاف (استلوا) 3/ 77 ط. دار الفكر.

[سورة النور (24) : الآيات 62 إلى 64]

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِإِبَاحَةِ اللَّه تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ الْأَكْلَ مِنْ بُيُوتِهِمْ وَدُخُولِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، فَلَا يَكُونُ مَالُهُ مُحْرَزًا مِنْهُمْ، فَإِنْ قِيلَ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يُقْطَعَ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ صَدِيقِهِ، قُلْنَا مَنْ أَرَادَ سَرِقَةَ مَالِهِ لَا يَكُونُ صَدِيقًا لَهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي بَنِي لَيْثِ بْنِ عَمْرٍو وَهُمْ حَيٌّ مِنْ كِنَانَةَ، كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَا يَأْكُلُ وَحْدَهُ يَمْكُثُ يَوْمَهُ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُؤَاكِلُهُ لَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا، وَرُبَّمَا كَانَتْ مَعَهُ الْإِبِلُ الْحُفَّلُ فَلَا يَشْرَبُ مِنْ أَلْبَانِهَا حَتَّى يَجِدَ مَنْ يُشَارِبُهُ، فَأَعْلَمَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَكَلَ وَحْدَهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو صَالِحٍ رَحِمَهُمَا اللَّه: كَانَتِ الْأَنْصَارُ إِذَا نَزَلَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ ضَيْفٌ لَمْ يَأْكُلْ إِلَّا وَضَيْفُهُ مَعَهُ، فَرَخَّصَ اللَّه لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا كَيْفَ شَاءُوا مُجْتَمِعِينَ وَمُتَفَرِّقِينَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانُوا إِذَا اجْتَمَعُوا لِيَأْكُلُوا طَعَامًا عَزَلُوا لِلْأَعْمَى طَعَامًا عَلَى حِدَةٍ، وَكَذَلِكَ لِلزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ، فَبَيَّنَ اللَّه لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: كَانُوا يَأْكُلُونَ فُرَادَى خَوْفًا مِنْ أَنْ يَحْصُلَ عِنْدَ الْجَمْعِيَّةِ مَا يُنَفِّرُ أَوْ يُؤْذِي، فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ وَقَوْلُهُ: جَمِيعاً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وأَشْتاتاً جَمْعُ شَتٍّ وَشَتَّى جَمْعُ شَتِيتٍ وَشَتَّانَ تَثْنِيَةُ شَتٍّ قَالَهُ الْمُفَضَّلُ وَقِيلَ الشَّتُّ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّفَرُّقِ ثُمَّ يُوصَفُ بِهِ وَيُجْمَعُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ أَنْفُسَ الْمُسْلِمِينَ كَالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ عَلَى مِثَالِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاءِ: 29] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فَعَلَى نَفْسِهِ لِيَقُلِ السَّلَامُ عَلَيْنَا مِنْ قِبَلِ رَبِّنَا، وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلِ السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّه وَعَلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا. قَالَ قَتَادَةُ: وَحُدِّثْنَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَرُدُّ عَلَيْهِ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ أَهْلُ الذِّمَّةِ/ فَلْيَقُلِ السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى وَقَوْلُهُ تَحِيَّةً نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَحَيُّوا تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّه، أَيْ مِمَّا أَمَرَكُمُ اللَّه بِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: مَنْ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ مَعْنَاهُ اسْمُ اللَّه عَلَيْكُمْ وَقَوْلُهُ: مُبارَكَةً طَيِّبَةً قَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَى الْبَرَكَةِ فِيهِ تَضْعِيفُ الثَّوَابِ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَ اللَّه سُبْحَانَهُ أَنَّ السَّلَامَ مُبَارَكٌ ثَابِتٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ وَأَنَّهُ إِذَا أَطَاعَ اللَّه فِيهِ أَكْثَرَ خَيْرَهُ وَأَجْزَلَ أَجْرَهُ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أَيْ يُفَصِّلُ اللَّه شَرَائِعَهُ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لِتَفْهَمُوا عَنِ اللَّه أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَرَوَى حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي فِي شَيْءٍ فَعَلْتُهُ لِمَ فَعَلْتَهُ وَلَا قَالَ لِي فِي شَيْءٍ تَرَكْتُهُ لِمَ تَرَكْتَهُ، وَكُنْتُ وَاقِفًا عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى يَدَيْهِ فَرَفَعَ رَأَسَهُ إِلَيَّ وَقَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ ثَلَاثَ خِصَالٍ تَنْتَفِعُ بِهِنَّ؟ قُلْتُ بِأَبِي وَأُمِّي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّه بَلَى، فَقَالَ مَنْ لَقِيتَ مِنْ أُمَّتِي فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ يَطُلْ عُمْرُكَ، وَإِذَا دَخَلْتَ بَيْتًا فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ يَكْثُرْ خَيْرُ بَيْتِكَ، وَصَلِّ صَلَاةَ الضحى فإنها صلاة [الأبرار] «1» الأوابين» . [سورة النور (24) : الآيات 62 الى 64] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)

_ (1) زيادة من الكشاف 3/ 78 ط. دار الفكر.

[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قُرِئَ عَلَى أَمْرٍ جَمِيعٍ ثُمَّ ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَمْرَ الْجَامِعَ هُوَ الْأَمْرُ الْمُوجِبُ لِلِاجْتِمَاعِ عَلَيْهِ فَوُصِفَ الْأَمْرُ بِالْجَمْعِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَذَلِكَ نَحْوُ مُقَاتَلَةِ عَدُوٍّ أَوْ تَشَاوُرٍ فِي خَطْبٍ مُهِمٍّ أَوِ الْأَمْرِ الَّذِي يَعُمُّ ضَرَرُهُ وَنَفْعُهُ وَفِي قَوْلِهِ: إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ إِشَارَةً إِلَى أنه خطب جليل لا بد لرسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَرْبَابِ التَّجَارِبِ وَالْآرَاءِ لِيَسْتَعِينَ بِتَجَارِبِهِمْ فَمُفَارَقَةُ أَحَدِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِمَّا يَشُقُّ عَلَى قَلْبِهِ وَثَانِيهَا: عَنِ الضَّحَّاكِ فِي أَمْرٍ جَامِعٍ الْجُمُعَةُ وَالْأَعْيَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ تَكُونُ فِيهِ الْخُطْبَةُ وَثَالِثُهَا: عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ. المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِهِ قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَرِّضُ فِي خُطْبَتِهِ بِالْمُنَافِقِينَ وَيَعِيبُهُمْ فَيَنْظُرُ الْمُنَافِقُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا لَمْ يَرَهُمْ أَحَدٌ انْسَلُّوا وَخَرَجُوا وَلَمْ يُصَلُّوا، وَإِنْ أَبْصَرَهُمْ أَحَدٌ ثَبَتُوا وَصَلُّوا خَوْفًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَكَانَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَخْرُجُ الْمُؤْمِنُ لِحَاجَتِهِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَخْرُجُونَ بِغَيْرِ إِذْنٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِئْذَانَهُمُ الرَّسُولَ مِنْ إِيمَانِهِمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَكُونُوا كَامِلِي الْإِيمَانِ وَإِنْ تَرَكُوا الِاسْتِئْذَانَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ فَرْضٍ للَّه تَعَالَى وَاجْتِنَابِ مُحَرَّمٍ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْجَوَابُ: هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ وَأَيْضًا فَالْمُنَافِقُونَ إِنَّمَا تَرَكُوا الِاسْتِئْذَانَ اسْتِخْفَافًا وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ كُفْرٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ الْمَعْنَى تَعْظِيمًا لَكَ وَرِعَايَةً لِلْأَدَبِ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَيْ يَعْمَلُونَ بِمُوجَبِ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ، قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اسْتَأْذَنَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ فَأَذِنَ لَهُ وَقَالَ لَهُ انطلق فو اللَّه مَا أَنْتَ بِمُنَافِقٍ يُرِيدُ أَنْ يُسْمِعَ الْمُنَافِقِينَ ذَلِكَ الْكَلَامَ، فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ قَالُوا مَا بَالُ مُحَمَّدٍ إِذَا اسْتَأْذَنَهُ أَصْحَابُهُ أَذِنَ لَهُمْ، وإذا استأذناه لم يأذن لنا فو اللَّه مَا نَرَاهُ يَعْدِلُ، وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُمْرَةِ فَأَذِنَ لَهُ، ثم قال يَا أَبَا حَفْصٍ لَا تَنْسَنَا مِنْ صَالِحِ دُعَائِكَ، وَفِي قَوْلِهِ: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَقَعَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْهُمْ وَإِنْ أَذِنَ، لِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ يَدُلُّ عَلَى الذَّنْبِ وَرُبَّمَا ذُكِرَ عِنْدَ بَعْضِ الرُّخَصِ الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِأَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ مُقَابَلَةً عَلَى تَمَسُّكِهِمْ بِآدَابِ اللَّه تَعَالَى فِي الِاسْتِئْذَانِ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ قَتَادَةُ نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: 43] . المسألة الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوَّضَ إِلَى رَسُولِهِ بَعْضَ أَمْرِ الدِّينِ لِيَجْتَهِدَ فِيهِ بِرَأْيِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ففيه وجوه: أحدها: وهو اختيار

الْمُبَرِّدِ وَالْقَفَّالِ، وَلَا تَجْعَلُوا أَمْرَهُ إِيَّاكُمْ وَدُعَاءَهُ لَكُمْ كَمَا يَكُونُ مِنْ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ إِذْ كَانَ/ أَمْرُهُ فَرْضًا لَازِمًا، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ عَقِيبَ هَذَا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ وَثَانِيهَا: لَا تُنَادُوهُ كَمَا يُنَادِي بَعْضُكُمْ بَعْضًا يَا مُحَمَّدُ، وَلَكِنْ قُولُوا يَا رَسُولَ اللَّه يَا نَبِيَّ اللَّه، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَثَالِثُهَا: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فِي دُعَائِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [الْحُجُرَاتِ: 3] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَابِعُهَا: احْذَرُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ عَلَيْكُمْ إِذَا أَسْخَطْتُمُوهُ فَإِنَّ دُعَاءَهُ مُوجِبٌ لَيْسَ كَدُعَاءِ غَيْرِهِ، وَالوجه الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى نَظْمِ الْآيَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَالْمَعْنَى يَتَسَلَّلُونَ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَنَظِيرُ تَسَلَّلَ تَدَرَّجَ وَتَدَخَّلَ، وَاللِّوَاذُ: الْمُلَاوَذَةُ وَهِيَ أَنْ يَلُوذَ هَذَا بِذَاكَ وَذَاكَ بِهَذَا، يَعْنِي يَتَسَلَّلُونَ عَنِ الْجَمَاعَةِ (عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ) «1» وَاسْتِتَارِ بعضهم ببعض، و (لواذا) حَالٌ أَيْ مُلَاوِذِينَ وَقِيلَ كَانَ بَعْضُهُمْ يَلُوذُ بِالرَّجُلِ إِذَا اسْتَأْذَنَ فَيُؤْذَنُ لَهُ فَيَنْطَلِقُ الَّذِي لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ مَعَهُ، وَقُرِئَ لِواذاً بِالْفَتْحِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ الْمُنَافِقُونَ تُثْقِلُ عَلَيْهِمْ خُطْبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيَلُوذُونَ بِبَعْضِ أَصْحَابِهِ وَيَخْرُجُونَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَثَانِيهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ يَتَسَلَّلُونَ مِنَ الصَّفِّ فِي الْقِتَالِ وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ هَذَا كَانَ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ وَرَابِعُهَا: يَتَسَلَّلُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ كِتَابِهِ وَعَنْ ذِكْرِهِ، وَقَوْلُهُ: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ مَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ بِالْمُجَازَاةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَالَ الْأَخْفَشُ (عَنْ) صِلَةٌ وَالْمَعْنَى يُخَالِفُونَ أَمْرَهُ وَقَالَ غَيْرُهُ مَعْنَاهُ يُعْرِضُونَ عَنْ أَمْرِهِ وَيَمِيلُونَ عَنْ سُنَّتِهِ فَدَخَلَتْ (عَنْ) لِتَضْمِينِ الْمُخَالَفَةِ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ. المسألة الثَّانِيَةُ: كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الرَّسُولِ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ اللَّه تَعَالَى لَكِنَّ الْقَصْدَ هُوَ الرَّسُولُ فَإِلَيْهِ تَرْجِعُ الْكِنَايَةُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: الْأَظْهَرُ أَنَّهَا للَّه تَعَالَى لِأَنَّهُ يَلِيهِ، وَحُكْمُ الْكِنَايَةِ رُجُوعُهَا إِلَى مَا يَلِيهَا دُونَ مَا تَقَدَّمَهَا. المسألة الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنْ نَقُولَ: تَارِكُ الْمَأْمُورِ بِهِ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ الْأَمْرِ وَمُخَالِفُ الْأَمْرِ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ فَتَارِكُ الْمَأْمُورِ بِهِ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ وَلَا مَعْنًى لِلْوُجُوبِ إِلَّا ذَلِكَ، إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ تَارِكَ الْمَأْمُورِ بِهِ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ الْأَمْرِ، لِأَنَّ مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمُقْتَضَاهُ، وَالْمُخَالَفَةُ ضِدُّ الْمُوَافَقَةِ فَكَانَتْ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِخْلَالِ بِمُقْتَضَاهُ فَثَبَتَ أَنَّ تَارِكَ الْمَأْمُورِ بِهِ مُخَالِفٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ مُخَالِفَ الْأَمْرِ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فَأَمَرَ مُخَالِفَ هَذَا الْأَمْرِ بِالْحَذَرِ عَنِ الْعِقَابِ، وَالْأَمْرُ بِالْحَذَرِ عَنِ الْعِقَابِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ قِيَامِ الْمُقْتَضَى لِنُزُولِ الْعِقَابِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُخَالِفَ أَمْرِ اللَّه تَعَالَى أَوْ أَمْرِ رَسُولِهِ قَدْ وُجِدَ فِي حَقِّهِ مَا يَقْتَضِي نُزُولَ الْعَذَابِ، فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَارِكَ الْمَأْمُورِ بِهِ مُخَالِفٌ لِلْأَمْرِ قَوْلُهُ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمُقْتَضَاهُ وَمُخَالَفَتُهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِخْلَالِ بِمُقْتَضَاهُ، قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟ ثُمَّ/ إِنَّا نُفَسِّرُ مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ بِتَفْسِيرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ عَلَى الوجه الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ فَإِنَّ الْأَمْرَ لَوِ اقْتَضَاهُ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ، وَأَنْتَ تَأْتِي بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ كَانَ ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِلْأَمْرِ الثَّانِي:

_ (1) في الكشاف (في الخفية على سبيل الملاوذة) 3/ 79 ط. دار الفكر.

أَنَّ مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ عِبَارَةٌ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْأَمْرِ حَقًّا وَاجِبَ الْقَبُولِ فَمُخَالَفَتُهُ تَكُونُ عِبَارَةً عَنْ إِنْكَارِ كَوْنِهِ حَقًّا وَاجِبَ الْقَبُولِ، سَلَّمْنَا أَنَّ مَا ذَكَرْتَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُخَالَفَةَ الْأَمْرِ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ مُقْتَضَاهُ لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِوُجُوهٍ أُخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ تَرْكُ الْمَأْمُورِ بِهِ مُخَالَفَةٌ لِلْأَمْرِ لَكَانَ تَرْكُ الْمَنْدُوبِ لَا مَحَالَةَ مُخَالَفَةٌ لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَإِلَّا لَاسْتَحَقَّ الْعِقَابَ عَلَى مَا بَيَّنْتُمُوهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ، سَلَّمْنَا أَنَّ تَارِكَ الْمَأْمُورِ بِهِ مُخَالِفٌ لِلْأَمْرِ فَلِمَ قُلْتَ إِنَّ مُخَالِفَ الْأَمْرِ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ؟ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَمْرِ مَنْ يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْأَمْرِ بِالْحَذَرِ بَلْ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْحَذَرِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ؟ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُخَالِفَ عَنِ الْأَمْرِ يَلْزَمُهُ الْحَذَرُ، فَلِمَ قُلْتَ إِنَّ مُخَالِفَ الْأَمْرِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَذَرُ؟ فَإِنْ قُلْتَ لَفْظَةُ (عَنْ) صِلَةٌ زَائِدَةٌ فَنَقُولُ الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ لَا سِيَّمَا فِي كَلَامِ اللَّه تَعَالَى أَنْ لَا يَكُونَ زَائِدًا، سَلَّمْنَا دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ مُخَالِفَ أَمْرِ اللَّه تَعَالَى مَأْمُورٌ بِالْحَذَرِ عَنِ الْعَذَابِ، فَلِمَ قُلْتَ إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَذَرُ عَنِ الْعَذَابِ؟ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ وَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ لَكِنْ لِمَ قُلْتَ إِنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ؟ وَهَذَا أَوَّلُ المسألة، فَإِنْ قُلْتَ هَبْ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْحَذَرِ لَكِنْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَدُلَّ عَلَى حُسْنِ الْحَذَرِ، وَحُسْنُ الْحَذَرِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِنُزُولِ الْعَذَابِ قُلْتُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ حُسْنَ الْحَذَرِ مَشْرُوطٌ بِقِيَامِ الْمُقْتَضِي لِنُزُولِ الْعَذَابِ بَلِ الْحَذَرُ يَحْسُنُ عِنْدَ احْتِمَالِ نُزُولِ الْعَذَابِ وَلِهَذَا يَحْسُنُ الِاحْتِيَاطُ وَعِنْدَنَا مُجَرَّدُ الِاحْتِمَالِ قَائِمٌ لِأَنَّ هَذِهِ المسألة احْتِمَالِيَّةٌ لَا قَطْعِيَّةٌ، سَلَّمْنَا دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى وُجُودِ مَا يَقْتَضِي نُزُولَ الْعِقَابِ، لَكِنْ لَا فِي كُلِّ أَمْرٍ بَلْ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَنْ أَمْرِهِ لا يفيد إلا أمرا واحدا، وعند ما أَنَّ أَمْرًا وَاحِدًا يُفِيدُ الْوُجُوبَ، فَلِمَ قُلْتَ إِنَّ كُلَّ أَمْرٍ كَذَلِكَ؟ سَلَّمْنَا أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ كَذَلِكَ، لَكِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: عَنْ أَمْرِهِ يُحْتَمَلُ عَوْدُهُ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَعَوْدُهُ إِلَى الرَّسُولِ، وَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ فِي حَقِّ الْآخَرِ كَذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: قَوْلُهُ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّ مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمُقْتَضَاهُ؟ قُلْنَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا امْتَثَلَ أَمْرَ السَّيِّدِ حَسُنَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا الْعَبْدَ مُوَافِقٌ لِلسَّيِّدِ وَيَجْرِي عَلَى وَفْقِ أَمْرِهِ، وَلَوْ لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ يُقَالُ إِنَّهُ مَا وَافَقَهُ بَلْ خَالَفَهُ، وَحُسْنُ هَذَا الْإِطْلَاقِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فَثَبَتَ أَنَّ مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمُقْتَضَاهُ، قَوْلُهُ الْمُوَافَقَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ عَلَى الوجه الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ، قُلْنَا لَمَّا سَلَّمْتُمْ أَنَّ مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الْإِتْيَانِ بِمُقْتَضَى الْأَمْرِ، فَنَقُولُ لَا شَكَّ أَنَّ مُقْتَضَى الْأَمْرِ هُوَ الْفِعْلُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: افْعَلْ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى اقْتِضَاءِ الْفِعْلِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدِ الْفِعْلُ لَمْ يُوجَدْ مُقْتَضَى الْأَمْرِ، فَلَا تُوجَدُ الْمُوَافَقَةُ فَوَجَبَ حُصُولُ الْمُخَالَفَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ وَاسِطَةٌ قَوْلُهُ: الْمُوَافَقَةُ عِبَارَةٌ عَنِ اعْتِقَادِ كَوْنِ ذَلِكَ/ الْأَمْرِ حَقًّا وَاجِبَ الْقَبُولِ، قُلْنَا هَذَا لَا يَكُونُ مُوَافَقَةً لِلْأَمْرِ بَلْ يَكُونُ مُوَافَقَةً لِلدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ حَقٌّ، فَإِنَّ مُوَافَقَةَ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمَا يَقْتَضِي تَقْرِيرَ مُقْتَضَاهُ، فَإِذَا دَلَّ عَلَى حَقِّيَّةِ الشَّيْءِ كَانَ الِاعْتِرَافُ بِحَقِّيَّتِهِ يَقْتَضِي تَقْرِيرَ مُقْتَضَى ذَلِكَ الدَّلِيلِ، أَمَّا الْأَمْرُ فَلَمَّا اقْتَضَى دُخُولَ الْفِعْلِ فِي الْوُجُودِ كَانَتْ مُوَافَقَتُهُ عِبَارَةٌ عَمَّا يُقَرِّرُ ذَلِكَ الدُّخُولَ وَإِدْخَالُهُ فِي الْوُجُودِ يَقْتَضِي تَقْرِيرَ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ فَكَانَتْ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ عِبَارَةً عَنْ فِعْلِ مُقْتَضَاهُ. قَوْلُهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ تَارِكُ الْمَنْدُوبِ مُخَالِفًا فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْعِقَابَ، قُلْنَا هَذَا الْإِلْزَامُ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ الْمَنْدُوبُ مَأْمُورًا بِهِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، قَوْلُهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَلْيَحْذَرِ أَمْرًا بِالْحَذَرِ عَنِ الْمُخَالِفِ لَا أَمْرًا لِلْمُخَالِفِ بِالْحَذَرِ؟ قُلْنَا لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَصَارَ التَّقْدِيرُ فَلْيَحْذَرِ الْمُتَسَلِّلُونَ لِوَاذًا عَنِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ أَمْرَهُ وَحِينَئِذٍ يَبْقَى قَوْلُهُ: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ضَائِعًا لِأَنَّ الْحَذَرَ لَيْسَ فِعْلًا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ. قَوْلُهُ كَلِمَةُ (عَنْ) لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ،

قُلْنَا ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهَا فِي المسألة الْأُولَى. قَوْلُهُ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّ قَوْلَهُ: فَلْيَحْذَرِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْحَذَرِ عَنِ الْعِقَابِ؟ قُلْنَا لَا نَدَّعِي وُجُوبَ الْحَذَرِ، وَلَكِنْ لَا أَقَلَّ مِنْ جَوَازِ الْحَذَرِ، وَذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِوُجُودِ مَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الْعِقَابِ. قَوْلُهُ لِمَ قُلْتَ إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُخَالِفٍ لِلْأَمْرِ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ؟ قُلْنَا لِأَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ نُزُولَ الْعِقَابِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّلًا بِهِ، فَيَلْزَمُ عُمُومُهُ لِعُمُومِ الْعِلَّةِ. قَوْلُهُ هَبْ أَنَّ أَمْرَ اللَّه أَوْ أَمْرَ رَسُولِهِ لِلْوُجُوبِ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ؟ قُلْنَا لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ واللَّه أَعْلَمُ. المسألة الرَّابِعَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ لَفْظُ الْأَمْرِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَمْرِ الْقَوْلِيِّ وَبَيْنَ الشَّأْنِ وَالطَّرِيقِ، كَمَا يُقَالُ أَمْرُ فُلَانٍ مُسْتَقِيمٌ. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَنْ أَمْرِهِ يَتَنَاوَلُ قَوْلَ الرَّسُولِ وَفِعْلَهُ وَطَرِيقَتَهُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَكُونُ وَاجِبًا عَلَيْنَا، وَهَذِهِ المسألة مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْكِنَايَةَ فِي قَوْلِهِ عَنْ أَمْرِهِ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا لَوْ كَانَتْ رَاجِعَةً إِلَى اللَّه تَعَالَى فَالْبَحْثُ سَاقِطٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَتَمَامُ تَقْرِيرِ ذَلِكَ ذَكَرْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، واللَّه أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فَالْمُرَادُ أَنَّ مُخَالَفَةَ الْأَمْرِ تُوجِبُ أَحَدَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَالْمُرَادُ بالفتنة العقوبة في الدنيا، والعذاب الْأَلِيمِ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا رَدَّدَ اللَّه تَعَالَى حَالَ ذَلِكَ الْمُخَالِفِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُخَالِفَ قَدْ يَمُوتُ مِنْ دُونِ عِقَابِ الدُّنْيَا وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَوْرَدَهُ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّرْدِيدِ، ثم قال الْحَسَنُ: الْفِتْنَةُ هِيَ ظُهُورُ نِفَاقِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: الْقَتْلُ. وَقِيلَ: الزَّلَازِلُ وَالْأَهْوَالُ، وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ يُسَلَّطُ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَذَاكَ كَالدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا/ وَعَلَى مَا بَيْنَهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَاقْتِدَارِهِ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِيمَا يُعَامَلُ بِهِ مِنَ الْمُجَازَاةِ بِثَوَابٍ أَوْ بِعِقَابٍ، وَعِلْمِهِ بِمَا يُخْفِيهِ وَيُعْلِنُهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ كَالزَّجْرِ عَنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا أَدْخَلَ (قَدْ) لِتَوْكِيدِ عِلْمِهِ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فِي الدِّينِ وَالنِّفَاقِ. وَيَرْجِعُ تَوْكِيدُ الْعِلْمِ إِلَى تَوْكِيدِ الْوَعِيدِ: وَذَلِكَ لِأَنَّ قَدْ إِذَا أُدْخِلَتْ عَلَى الْمُضَارِعِ كَانَتْ بِمَعْنَى رُبَّمَا، فَوَافَقَتْ رُبَّمَا فِي خُرُوجِهَا إِلَى مَعْنَى التَّكْثِيرِ. كَمَا في قوله الشَّاعِرِ: فَإِنْ يُمْسِ مَهْجُورَ الْفِنَاءِ فَرُبَّمَا ... أَقَامَ بِهِ بَعْدَ الْوُفُودِ وُفُودٌ وَالْخِطَابُ وَالْغَيْبَةُ فِي قوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا لِلْمُنَافِقِينَ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ عَامًّا وَيَرْجِعُونَ لِلْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى حَيْثُ لَا حُكْمَ إِلَّا لَهُ فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ واللَّه أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّه عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

سورة الفرقان

سُورَةُ الْفُرْقَانِ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ آيَةً مَكِّيَّةً بِسْمِ اللَّه الرحمن الرحيم [سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) اعْلَمْ أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَأَحْوَالِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ خَتَمَهَا بِذِكْرِ صِفَاتِ الْعِبَادِ الْمُخْلِصِينَ الْمُوقِنِينَ، وَلَمَّا كَانَ إِثْبَاتُ الصَّانِعِ وَإِثْبَاتُ صِفَاتِ جَلَالِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى الْكُلِّ لَا جَرَمَ افْتَتَحَ اللَّه هَذِهِ السُّورَةَ بِذَلِكَ فَقَالَ: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ: تَبَارَكَ: تَفَاعَلَ مِنَ الْبَرَكَةِ، وَالْبَرَكَةُ كَثْرَةُ الْخَيْرِ وَزِيَادَتُهُ وَفِيهِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: تَزَايَدَ خَيْرُهُ وَتَكَاثَرَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: 34] وَالثَّانِي: تَزَايَدَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَتَعَالَى عَنْهُ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: 11] وَأَمَّا تَعَالِيهِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي ذَاتِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى جَلَّ بِوُجُوبِ وَجُودِهِ وَقِدَمِهِ عَنْ جَوَازِ الْفَنَاءِ وَالتَّغَيُّرِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى جَلَّ بِفَرْدَانِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ عَنْ مُشَابَهَةِ شَيْءٍ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ، وَأَمَّا تَعَالِيهِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي صِفَاتِهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى جَلَّ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ ضَرُورِيًّا أَوْ كَسْبِيًّا أَوْ تَصَوُّرًا أَوْ تَصْدِيقًا وَفِي قُدْرَتِهِ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى مَادَّةٍ وَمُدَّةٍ وَمِثَالٍ وَجَلْبِ غَرَضٍ وَمَنَالٍ، وَأَمَّا فِي أفعاله فحل أَنْ يَكُونَ الْوُجُودُ وَالْبَقَاءُ وَصَلَاحُ حَالِ الْوُجُودِ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: أَصْلُ الْكَلِمَةِ تَدُلُّ عَلَى الْبَقَاءِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ بُرُوكِ الْبَعِيرِ، وَمِنْ بُرُوكِ الطَّيْرِ عَلَى الْمَاءِ، وَسُمِّيَتِ الْبِرْكَةُ بِرْكَةً لِثُبُوتِ الْمَاءِ فِيهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَاقٍ فِي ذَاتِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا مُمْتَنِعُ التَّغَيُّرِ وَبَاقٍ/ فِي صِفَاتِهِ مُمْتَنِعُ التَّبَدُّلِ، وَلَمَّا كَانَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِوُجُوهِ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ وَالْمُبْقِي لَهَا وَجَبَ وَصْفُهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: كَلِمَةُ (الَّذِي) مَوْضُوعَةٌ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الشَّيْءِ عِنْدَ مُحَاوَلَةِ تَعْرِيفِهِ بِقَضِيَّةٍ مَعْلُومَةٍ، وَعِنْدَ هَذَا يَتَوَجَّهُ الْإِشْكَالُ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْمَ مَا كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ فكيف حسن هاهنا لَفْظُ (الَّذِي) ؟ وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ لَمَّا قَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا ظَهَرَ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ كَوْنُهُ مِنْ عِنْدِ اللَّه، فَلِقُوَّةِ الدَّلِيلِ وَظُهُورِهِ أَجْرَاهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَجْرَى الْمَعْلُومِ.

المسألة الثَّالِثَةُ: لَا نِزَاعَ أَنَّ الْفُرْقَانَ هُوَ الْقُرْآنُ وُصِفَ بِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، أَوْ لِأَنَّهُ فَرَّقَ فِي النُّزُولِ كَمَا قَالَ: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ [الْإِسْرَاءِ: 106] وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَقْرَبُ لِأَنَّهُ قَالَ: نَزَّلَ الْفُرْقانَ وَلَفْظَةُ (نَزَّلَ) تَدُلُّ عَلَى التَّفْرِيقِ، وَأَمَّا لَفْظَةُ (أَنْزَلَ) فَتَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ... وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [آلِ عِمْرَانَ: 3] وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا قَالَ أَوَّلًا تَبارَكَ وَمَعْنَاهُ كَثْرَةُ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِبَهُ أَمْرَ الْقُرْآنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَنْشَأُ الْخَيْرَاتِ وَأَعَمُّ الْبَرَكَاتِ، لَكِنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ إِلَّا مَنْبَعًا لِلْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ وَالْحِكَمِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ خَيْرًا وَبَرَكَةً. المسألة الرَّابِعَةُ: لَا نِزَاعَ أَنَّ الْمُرَادَ من العبد هاهنا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى عِبَادِهِ وَهُمْ رَسُولُ اللَّه وَأُمَّتُهُ كَمَا قَالَ: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: 10] ، قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا [الْبَقَرَةِ: 136] ، وَقَوْلِهِ: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً فَالْمُرَادُ لِيَكُونَ هَذَا الْعَبْدُ نَذِيرًا لِلْعَالَمِينَ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْفُرْقَانِ فَأَضَافَ الْإِنْذَارَ إِلَيْهِ كَمَا أَضَافَ الْهِدَايَةَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي [الْإِسْرَاءِ: 9] فَبَعِيدٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنْذِرَ وَالنَّذِيرَ مِنْ صِفَاتِ الْفَاعِلِ لِلتَّخْوِيفِ، وَإِذَا وُصِفَ بِهِ الْقُرْآنُ فَهُوَ مَجَازٌ، وَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِذَا أَمْكَنَ هُوَ الْوَاجِبُ، ثُمَّ قَالُوا هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَحْكَامٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَالَمَ كُلَّ مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى وَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْمَلَائِكَةِ، لَكِنَّا أَجْمَعْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا إِلَى الْمَلَائِكَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ جَمِيعًا، وَيَبْطُلُ بِهَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ كَانَ رَسُولًا إِلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ لِلْعالَمِينَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ رَسُولٌ لِلْخَلْقِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ الثَّالِثُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ الْإِيمَانَ وَفِعْلَ الطَّاعَاتِ مِنَ الْكُلِّ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا بَعَثَهُ إِلَى الْكُلِّ لِيَكُونَ نَذِيرًا لِلْكُلِّ، وَأَرَادَ مِنَ الْكُلِّ الِاشْتِغَالَ بِالْحُسْنِ وَالْإِعْرَاضَ عَنِ الْقَبِيحِ وَعَارَضَهُمْ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ [الْأَعْرَافِ: 179] الْآيَةَ، الرَّابِعُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ قَوْلَهُ تَبارَكَ كَمَا دَلَّ عَلَى كَثْرَةِ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ عَقِيبَهُ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِكَثْرَةِ الْخَيْرِ/ وَالْمَنَافِعِ، وَالْإِنْذَارُ يُوجِبُ الْغَمَّ وَالْخَوْفَ فَكَيْفَ يَلِيقُ هَذَا لِهَذَا الْمَوْضِعِ؟ جَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا الْإِنْذَارَ يَجْرِي مَجْرَى تَأْدِيبِ الْوَلَدِ، وَكَمَا أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَأْدِيبِ الْوَلَدِ أَكْثَرَ كَانَ الْإِحْسَانُ إِلَيْهِ أَكْثَرَ، لِمَا أَنَّ ذَاكَ يُؤَدِّي فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلَى الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ، فَكَذَا هاهنا كُلَّمَا كَانَ الْإِنْذَارُ كَثِيرًا كَانَ رُجُوعُ الْخَلْقِ إِلَى اللَّه أَكْثَرَ، فَكَانَتِ السَّعَادَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ أَتَمَّ وَأَكْثَرَ، وَهَذَا كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا الْتِفَاتَ إِلَى الْمَنَافِعِ الْعَاجِلَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ الَّذِي يُعْطِي الْخَيْرَاتِ الْكَثِيرَةَ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا مَنَافِعَ الدِّينِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْبَتَّةَ شَيْئًا مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَ ذَاتَهُ بِأَرْبَعِ أَنْوَاعٍ مِنْ صِفَاتِ الْكِبْرِيَاءِ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهَذَا كَالتَّنْبِيهِ عَلَى الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِهِ سُبْحَانَهُ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى إِثْبَاتِهِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ احْتِيَاجِ أَفْعَالِهِ إِلَيْهِ، فَكَانَ تَقْدِيمُ هَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى سَائِرِ الصِّفَاتِ كَالْأَمْرِ الْوَاجِبِ وَقَوْلُهُ: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى احْتِيَاجِ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِزَمَانِ حُدُوثِهَا وَزَمَانِ بَقَائِهَا فِي مَاهِيَّتِهَا وَفِي وَجُودِهَا، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا كَيْفَ يَشَاءُ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ هُوَ الْمَعْبُودُ أَبَدًا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مَعْبُودًا وَوَارِثًا لِلْمُلْكِ عَنْهُ فَتَكُونُ هَذِهِ الصِّفَةُ كَالْمُؤَكِّدَةِ لِقَوْلِهِ: تَبارَكَ وَلِقَوْلِهِ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهَذَا كَالرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَإِذَا عَرَفَ الْعَبْدُ ذَلِكَ انْقَطَعَ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ عَنِ الْكُلِّ، وَلَا يَبْقَى مَشْغُولَ الْقَلْبِ إِلَّا بِرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ. وَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى الثَّنَوِيَّةِ وَالْقَائِلِينَ بِعِبَادَةِ النُّجُومِ وَالْقَائِلِينَ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: هَلْ فِي قَوْلِهِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَالِقٌ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ؟ وَالْجَوَابُ: نَعَمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ فَيَتَنَاوَلُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ، وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ نَفَى الشَّرِيكَ ذَكَرَ ذَلِكَ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا نفى الشريك كأن قائلا قال: هاهنا أَقْوَامٌ يَعْتَرِفُونَ بِنَفْيِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَقُولُونَ إِنَّهُمْ يَخْلُقُونَ أَفْعَالَ أَنْفُسِهِمْ فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ لِتَكُونَ مُعِينَةً فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، قَالَ الْقَاضِي الْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ صَرَّحَ بِكَوْنِ الْعَبْدِ خَالِقًا فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [الْمَائِدَةِ: 110] وَقَالَ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 14] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ تَمَدَّحَ بِذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ خَلْقَ الْفَسَادِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ تَمَدَّحَ بِأَنَّهُ قَدَّرَهُ تَقْدِيرًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ إِلَّا الْحُسْنَ وَالْحِكْمَةَ دُونَ غَيْرِهِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ لَوْ دَلَّتِ الْآيَةُ بِظَاهِرِهَا عَلَيْهِ، فَكَيْفَ وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا الْبَتَّةَ، لِأَنَّ الْخَلْقَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ فَهُوَ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا مَا يَظْهَرُ فِيهِ التَّقْدِيرُ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الْأَجْسَامِ لَا فِي الْأَعْرَاضِ وَالْجَوَابُ: أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذْ تَخْلُقُ وَقَوْلُهُ: أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فَهُمَا مُعَارَضَانِ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزُّمَرِ: 62] / وَبِقَوْلِهِ: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فَاطِرٍ: 3] وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا يَجُوزُ التَّمَدُّحُ بِخَلْقِ الْفَسَادِ، قُلْنَا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ التَّمَدُّحُ بِهِ نَظَرًا إِلَى تَقَادِيرِ الْقُدْرَةِ وَإِلَى أَنَّ صِفَةَ الْإِيجَادِ مِنَ الْعَدَمِ وَالْإِعْدَامِ مِنَ الْوُجُودِ لَيْسَتْ إِلَّا لَهُ؟ وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْخَلْقُ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْأَجْسَامَ، فَنَقُولُ لَوْ كان كذلك لكان قوله خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ خَطَأٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إِضَافَةَ الْخَلْقِ إِلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي الْعَقْلِ إِضَافَتُهُ إِلَيْهَا. السُّؤَالُ الثَّانِي: فِي الْخَلْقِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ (فَقَوْلُهُ) «1» : وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (مَعْنَاهُ) «2» وَقَدَّرَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تقديرا؟ والجواب: المعنى [أنه] «3» أَحْدَثَ كُلَّ شَيْءٍ إِحْدَاثًا يُرَاعِي فِيهِ التَّقْدِيرَ وَالتَّسْوِيَةَ، فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا وَهَيَّأَهُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ، مِثَالُهُ أَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَى هَذَا الشَّكْلِ الْمُقَدَّرِ (الْمُسْتَوِي) «4» الَّذِي تَرَاهُ، فَقَدَّرَهُ لِلتَّكَالِيفِ وَالْمَصَالِحِ الْمَنُوطَةِ (بِهِ فِي بَابِ) «5» الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ جَاءَ بِهِ عَلَى الْجِبِلَّةِ الْمُسْتَوِيَةِ الْمُقَدَّرَةِ بِأَمْثِلَةِ الْحِكْمَةِ وَالتَّدْبِيرِ فَقَدَّرَهُ لِأَمْرٍ ما ومصلحة ما مطابقا لما قدر [له] «6» غَيْرَ (مُتَخَلِّفٍ) «7» عَنْهُ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَلْ فِي قَوْلِهِ: فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً دَلَالَةٌ عَلَى مَذْهَبِكُمْ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّقْدِيرَ فِي حَقِّنَا يَرْجِعُ إِلَى الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ، أَمَّا فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ فَلَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا العلم به والإخبار

_ (1) في الكشاف (فما معنى قوله) 3/ 81 ط. دار الفكر. (2) في الكشاف (كأنه قال وقدر ... ) . (3) زيادة من الكشاف. [.....] (4) في الكشاف (المسوى) . (5) في الكشاف (في بابي) . (6) زيادة من الكشاف. (7) في الكشاف (متجاف) .

[سورة الفرقان (25) : آية 3]

عَنْهُ، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَلَمَّا عَلِمَ فِي الشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ فَلَوْ وَقَعَ ذَلِكَ الشَّيْءُ لَزِمَ انْقِلَابُ عِلْمِهِ جَهْلًا وَانْقِلَابُ خَبَرِهِ الصِّدْقِ كَذِبًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ وَالْمُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ فَإِذَنْ وُقُوعُ ذَلِكَ الشَّيْءِ مُحَالٌ وَالْمُحَالُ غَيْرُ مُرَادٍ فَذَلِكَ الشَّيْءُ غَيْرُ مُرَادٍ وَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ وَالْإِرَادَةَ لَا يَتَلَازَمَانِ، وَظَهَرَ أَنَّ السَّعِيدَ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالشَّقِيَّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عِنْدَ حُصُولِ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِيَةِ الْخَالِصَةِ إِنْ وَجَبَ الْفِعْلُ، كَانَ فِعْلُ الْعَبْدِ يُوجِبُ فِعْلَ اللَّه تَعَالَى، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْ فَإِنِ اسْتَغْنَى عَنِ الْمُرَجِّحِ فَقَدْ وَقَعَ الْمُمْكِنُ لَا عَنْ مُرَجَّحٍ وَتَجْوِيزُهُ يَسُدُّ بَابَ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنِ الْمُرَجِّحِ، فَالْكَلَامُ يَعُودُ فِي ذَلِكَ الْمُرَجِّحِ، وَلَا يَنْقَطِعُ إِلَّا عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَوْ وَقَعَ بِقُدْرَتِهِ لَمَا وَقَعَ إِلَّا الشَّيْءُ الَّذِي أَرَادَ تَكْوِينَهُ وَإِيجَادَهُ، لَكِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الْعِلْمَ وَالْحَقَّ فَلَا يَحْصُلُ لَهُ إِلَّا الْجَهْلُ وَالْبَاطِلُ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِقُدْرَتِهِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ شُبْهَةً أَوْجَبَتْ لَهُ ذَلِكَ الْجَهْلَ، قُلْنَا إِنِ اعْتَقَدَ تِلْكَ الشُّبْهَةَ لِشُبْهَةٍ أُخْرَى لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ فَلَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى جَهْلٍ أَوَّلٍ، وَوَقَعَ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ لَا بِسَبَبِ جَهْلٍ سَابِقٍ، بَلِ الْإِنْسَانُ أَحْدَثَهُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَطُّ لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ بِالْجَهْلِ وَلَا يُحَاوِلُ تَحْصِيلَ الْجَهْلِ لِنَفْسِهِ بَلْ لَا يُحَاوِلُ إِلَّا الْعِلْمَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ لَهُ إِلَّا مَا قَصَدَهُ وَأَرَادَهُ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْكُلَّ بِقَضَاءٍ سَارٍ وَقَدَرٍ نَافِذٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً. [سورة الفرقان (25) : آية 3] وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْعِزَّةِ وَالْعُلُوِّ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِتَزْيِيفِ مَذْهَبِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَبَيَّنَ نُقْصَانَهَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَيْسَتْ خَالِقَةً لِلْأَشْيَاءِ، وَالْإِلَهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَثَانِيهَا: أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ وَالْمَخْلُوقُ مُحْتَاجٌ، وَالْإِلَهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ لِأَنْفُسِهَا ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ لَا يَمْلِكُ لِغَيْرِهِ أَيْضًا نَفْعًا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي عِبَادَتِهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا، أَيْ لَا تَقْدِرُ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ فِي زَمَانِ التَّكْلِيفِ وَثَانِيًا فِي زَمَانِ الْمُجَازَاةِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَيْفَ يُسَمَّى إِلَهًا؟ وَكَيْفَ يَحْسُنُ عِبَادَتُهُ مَعَ أَنَّ حَقَّ مَنْ يَحِقُّ لَهُ الْعِبَادَةُ أَنْ يَنْعَمَ بِهَذِهِ النِّعَمِ الْمَخْصُوصَةِ، وهاهنا سُؤَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً هَلْ يَخْتَصُّ بِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ أَوْ يَدْخُلُ فِيهِ النَّصَارَى وَعَبَدَةُ الْكَوَاكِبِ وَعَبَدَةُ الْمَلَائِكَةِ؟ وَالْجَوَابُ: قَالَ الْقَاضِي: بَعِيدٌ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ النَّصَارَى لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّه آلِهَةً عَلَى الْجَمْعِ، فَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ مَنْ عَبَدَ الْمَلَائِكَةَ لِأَنَّ لِمَعْبُودِهِمْ كَثْرَةً، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ قَوْلُهُ وَاتَّخَذُوا صِيغَةُ جَمْعٍ وَقَوْلُهُ آلِهَةً جَمْعٌ، وَالْجَمْعُ إِذَا قُوبِلَ بِالْجَمْعِ يُقَابَلُ الْمُفْرَدُ بِالْمُفْرَدِ، فَلَمْ يَكُنْ كَوْنُ مَعْبُودِ النَّصَارَى وَاحِدًا مَانِعًا مِنْ دُخُولِهِ تَحْتَ هَذَا اللَّفْظِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: احْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِقَوْلِهِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ للَّه تَعَالَى فَقَالَ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى عَابَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ مِنْ حَيْثُ عَبَدُوا مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا، وَذَلِكَ

[سورة الفرقان (25) : الآيات 4 إلى 9]

يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ خَلَقَ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ، فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ خَالِقًا لَكَانَ مَعْبُودًا إِلَهًا، أَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ بِأَنَّا لَا نُطْلِقُ اسْمَ الْخَالِقِ إِلَّا عَلَى اللَّه تَعَالَى. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي الْخَلْقِ إِنَّهُ الْإِحْدَاثُ لَا بِعِلَاجٍ وَفِكْرٍ وَتَعَبٍ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا للَّه تَعَالَى، ثم قال: وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها [الْأَعْرَافِ: 195] فِي وَصْفِ الْأَصْنَامِ أَفَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ رِجْلٌ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ؟ فَإِذَا قَالُوا لَا قِيلَ فَكَذَلِكَ مَا ذَكَرْتُمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 14] هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ الْكَعْبِيِّ وَالْجَوَابُ: قَوْلُهُ لَا يُطْلَقُ اسْمُ الْخَالِقِ عَلَى الْعَبْدِ، قُلْنَا بَلْ يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْخَلْقَ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّقْدِيرُ، وَالتَّقْدِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْخَالِقِ حَقِيقَةً فِي/ الْعَبْدِ مَجَازًا فِي اللَّه تَعَالَى، فَكَيْفَ يُمْكِنُكُمْ مَنْعُ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْخَالِقِ عَلَى الْعَبْدِ؟ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها فَالْعَيْبُ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَيْهِمْ بِالْعَجْزِ فَلَا جَرَمَ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ فِي حَقِّهِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ لَمْ يَحْسُنْ عِبَادَتُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا يَقْوَى اسْتِدْلَالُ أَصْحَابِنَا بِهَا لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْعَيْبَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِمَجْمُوعِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِخَالِقِينَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ، وَالْعَبْدُ وَإِنْ كَانَ خَالِقًا إِلَّا أَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ إِلَهًا مَعْبُودًا. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الْبَعْثِ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ النُّشُورَ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمَعْبُودَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَى الْمُطِيعِينَ وَالْعِقَابِ إِلَى الْعُصَاةِ، فَمَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وجب أن لا يصلح للإلهية. [سورة الفرقان (25) : الآيات 4 الى 9] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ تَكَلَّمَ أَوَّلًا فِي التَّوْحِيدِ، وَثَانِيًا فِي الرَّدِّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَثَالِثًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةِ النُّبُوَّةِ، وَحَكَى سُبْحَانَهُ شُبَهَهُمْ فِي إِنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّبْهَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُمْ: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النَّحْلِ: 103] وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدُوا بِهِ أَنَّهُ كَذَبَ فِي نَفْسِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدُوا بِهِ أَنَّهُ كَذَبَ فِي إضافته إلى اللَّه تعالى، ثم هاهنا بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الِافْتِرَاءُ افْتِعَالٌ مِنْ فَرَيْتُ، وَقَدْ يُقَالُ فِي تَقْدِيرِ الْأَدِيمِ فَرَيْتُ الْأَدِيمَ، فَإِذَا أُرِيدَ قَطْعُ الْإِفْسَادِ قِيلَ أَفْرَيْتُ وَافْتَرَيْتُ وَخَلَقْتُ وَاخْتَلَقْتُ، وَيُقَالُ فِيمَنْ شَتَمَ امرءا بِمَا لَيْسَ فِيهِ افْتَرَى عَلَيْهِ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ فَهُوَ الَّذِي قَالَ هَذَا الْقَوْلَ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ يَعْنِي عَدَّاسٌ مَوْلَى حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى وَيَسَارٌ (غُلَامُ عَامِرِ) «1» بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَجَبْرٌ مَوْلَى عَامِرٍ، وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانُوا يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَيُحَدِّثُونَ أَحَادِيثَ مِنْهَا فَلَمَّا أَسْلَمُوا وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَهَّدُهُمْ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ النَّضْرُ مَا قَالَ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بقوله: فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ إِنَّمَا يَكْفِي جَوَابًا عَنِ الشُّبْهَةِ الْمَذْكُورَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ وَهُمُ النِّهَايَةُ فِي الْفَصَاحَةِ، وَقَدْ بَلَغُوا فِي الْحِرْصِ عَلَى إِبْطَالِ أَمْرِهِ كُلَّ غَايَةٍ، حَتَّى أَخْرَجَهُمْ ذَلِكَ إِلَى مَا وَصَفُوهُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، فَلَوْ أَمْكَنَهُمْ أَنْ يُعَارِضُوهُ لَفَعَلُوا، وَلَكَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إِلَى أَنْ يَبْلُغُوا مُرَادَهُمْ فِيهِ مِمَّا أَوْرَدُوهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَوِ اسْتَعَانَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِهِ لَأَمْكَنَهُمْ أَيْضًا أَنْ يَسْتَعِينُوا بِغَيْرِهِمْ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأُولَئِكَ الْمُنْكِرِينَ فِي مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ وَفِي الْمَكِنَةِ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ عُلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ بَلَغَ النِّهَايَةَ فِي الْفَصَاحَةِ وَانْتَهَى إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ، وَلَمَّا تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ مَرَّاتٍ وَكَرَّاتٍ فِي الْقُرْآنِ وَظَهَرَ بِسَبَبِهَا سُقُوطُ هَذَا السُّؤَالِ، ظَهَرَ أَنَّ إِعَادَةَ هَذَا السُّؤَالِ بَعْدَ تَقَدُّمِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلتَّمَادِي فِي الْجَهْلِ وَالْعِنَادِ، فَلِذَلِكَ اكْتَفَى اللَّه فِي الْجَوَابِ بقوله: فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْكِسَائِيُّ: قَوْلُهُ تعالى: فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً أَيْ أَتَوْا ظُلْمًا وَكَذِبًا وَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا [مَرْيَمَ: 89] فَانْتَصَبَ بِوُقُوعِ الْمَجِيءِ عَلَيْهِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: انْتَصَبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ جَاءُوا بِالظُّلْمِ وَالزُّورِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَصَفَ كَلَامَهُمْ بِأَنَّهُ ظُلْمٌ وَبِأَنَّهُ زُورٌ، أَمَّا أَنَّهُ ظُلْمٌ فَلِأَنَّهُمْ نَسَبُوا هَذَا الْفِعْلَ الْقَبِيحَ إِلَى مَنْ كَانَ مُبَرَّأً عَنْهُ، فَقَدْ وَضَعُوا الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَذَلِكَ هُوَ الظُّلْمُ، وَأَمَّا الزُّورُ فَلِأَنَّهُمْ كَذَبُوا فِيهِ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الظُّلْمُ تَكْذِيبُهُمُ الرَّسُولَ وَالرَّدُّ عَلَيْهِ، وَالزُّورُ كَذِبُهُمْ عَلَيْهِمْ. الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ لَهُمْ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْأَسَاطِيرُ مَا سَطَّرَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ كَأَحَادِيثِ رُسْتُمَ وَأسفنديَارَ، جَمْعُ أَسْطَارٍ أَوْ أُسْطُورَةٍ كَأُحْدُوثَةٍ اكْتَتَبَها انْتَسَخَهَا مُحَمَّدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَعْنِي عامرا ويسارا وجبرا، ومعنى اكتتب هاهنا أَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ لَهُ كَمَا يُقَالُ احْتَجَمَ وَافْتَصَدَ إِذَا أَمَرَ بِذَلِكَ فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ أَيْ تُقْرَأُ عَلَيْهِ وَالْمَعْنَى أَنَّهَا كُتِبَتْ لَهُ وَهُوَ أُمِّيٌّ فَهِيَ تُلْقَى عَلَيْهِ مِنْ كِتَابِهِ لِيَحْفَظَهَا لِأَنَّ صُورَةَ الْإِلْقَاءِ عَلَى الْحَافِظِ كَصُورَةِ الْإِلْقَاءِ عَلَى الْكَاتِبِ. أَمَّا قَوْلُهُ: بُكْرَةً وَأَصِيلًا قَالَ الضَّحَّاكُ مَا يُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً يَقْرَؤُهُ عَلَيْكُمْ عَشِيَّةً، وَمَا يُمْلَى عَلَيْهِ عَشِيَّةً يَقْرَؤُهُ عَلَيْكُمْ بُكَرَةً. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ قَوْلُهُ: فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا كَلَامُ اللَّه ذَكَرَهُ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تُمْلَى عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، فَكَيْفَ يُنْسَبُ إِلَى أَنَّهُ أَسَاطِيرُ الأولين، وأما جمهور

_ (1) في الكشاف (مولى العلاء) 3/ 81 ط. دار الفكر.

الْمُفَسِّرِينَ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كلام القوم، وأ أرادوا بِهِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ أَمْلَوْا عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْرَبُ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: شِدَّةُ تَعَلُّقِ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا اكْتَتَبَ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ كَلَامِهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، وَقَوْلُ الْحَسَنِ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ لَوْ فُتِحَتِ الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الَّذِي فِي مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَحَقُّ الْحَسَنِ أَنَّ يَقِفَ عَلَى الْأَوَّلِينَ، وَأَجَابَ اللَّه عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ أَنَّ هَذَا كَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ؟ وَتَقْرِيرُهُ مَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَحَدَّاهُمْ بِالْمُعَارَضَةِ وَظَهَرَ عَجْزُهُمْ عَنْهَا وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى بِالْقُرْآنِ بِأَنِ اسْتَعَانَ بِأَحَدٍ لَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ أَيْضًا أَنَّ يَسْتَعِينُوا بِأَحَدٍ فَيَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ، فَلَمَّا عَجَزُوا عَنْهُ ثَبَتَ أَنَّهُ وَحْيُ اللَّه وَكَلَامُهُ، فَلِهَذَا قَالَ: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى تَرْكِيبِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ ظَاهِرِهَا وَخَافِيهَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْفَصَاحَةِ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِنَ الْعَالِمِ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِنَ الْعَالِمِ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ مُبَرَّأٌ عَنِ النَّقْصِ وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِنَ الْعَالِمِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاءِ: 82] وَرَابِعُهَا: اشْتِمَالُهُ عَلَى الْأَحْكَامِ الَّتِي هِيَ مُقْتَضِيَةٌ لِمَصَالِحِ الْعَالَمِ وَنِظَامِ الْعِبَادِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْعَالِمِ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ وَخَامِسُهَا: اشْتِمَالُهُ عَلَى أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِنَ الْعَالِمِ بِكُلِّ/ الْمَعْلُومَاتِ، فَلَمَّا دَلَّ الْقُرْآنُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى أَنَّهُ ليس إلا كلام بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ لَا جَرَمَ اكْتَفَى فِي جَوَابِ شُبَهِهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ. الْبَحْثُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالسِّرِّ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمَعْنَى أَنَّ الْعَالِمَ بِكُلِّ سِرٍّ في السموات وَالْأَرْضِ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُهُ إِنْزَالُ مِثْلِ هَذَا الْكِتَابِ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمَعْنَى أَنَّهُ أَنْزَلَهُ من يعلم السر فلو كذب عليه لا لَانْتَقَمَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [الْحَاقَّةِ: 44] وَقَالَ آخَرُونَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ سِرٍّ خَفِيَ في السموات وَالْأَرْضِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ مَا تُسِرُّونَهُ أَنْتُمْ مِنَ الْكَيْدِ لِرَسُولِهِ مَعَ عِلْمِكُمْ بِأَنَّ مَا يَقُولُهُ حَقٌّ ضَرُورَةً، وَكَذَلِكَ بَاطِنُ أَمَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَرَاءَتُهُ مِمَّا تَتَّهِمُونَهُ بِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُجَازِيكُمْ وَمُجَازِيهِ عَلَى مَا عَلِمَ مِنْكُمْ وَعَلِمَ مِنْهُ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: إِنَّمَا ذَكَرَ الْغَفُورَ الرَّحِيمَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْمَعْنَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْزَلَهُ لِأَجْلِ الْإِنْذَارِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَفُورًا رَحِيمًا غَيْرَ مُسْتَعْجِلٍ فِي الْعُقُوبَةِ الثَّانِي: أَنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَوْجَبُوا بِمُكَايَدَتِهِمْ هَذِهِ أَنْ يَصُبَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ صَبًّا وَلَكِنْ صَرَفَ ذَلِكَ عَنْهُمْ كَوْنُهُ غَفُورًا رَحِيمًا يُمْهِلُ وَلَا يُعَجِّلُ. الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ فِي نِهَايَةِ الرَّكَاكَةِ ذَكَرُوا لَهُ صِفَاتٍ خَمْسَةً فَزَعَمُوا أَنَّهَا تُخِلُّ بِالرِّسَالَةِ إِحْدَاهَا: قَوْلُهُمْ: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَثَانِيَتُهَا: قَوْلُهُمْ: وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا كَانَ كَذَلِكَ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ الْفَضْلُ عَلَيْنَا وَهُوَ مِثْلُنَا فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَثَالِثَتُهَا: قَوْلُهُمْ: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً يُصَدِّقُهُ أَوْ يَشْهَدُ لَهُ وَيَرُدُّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ وَرَابِعَتُهَا: قَوْلُهُمْ: أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَيْ مِنَ السَّمَاءِ فَيُنْفِقُهُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّرَدُّدِ لِطَلَبِ

[سورة الفرقان (25) : الآيات 10 إلى 14]

الْمَعَاشِ وَخَامِسَتُهَا: قَوْلُهُمْ: أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ نَأْكُلَ مِنْها بِالنُّونِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ وَالْمَعْنَى إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ كَنْزٌ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ كَوَاحِدٍ مِنَ الدَّهَاقِينَ فَيَكُونَ لَكَ بُسْتَانٌ تَأْكُلُ مِنْهُ وَسَادِسَتُهَا: قَوْلُهُمْ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي آخِرِ سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا كَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ؟ وَبَيَانُهُ أَنَّ الَّذِي يَتَمَيَّزُ الرَّسُولُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ هُوَ الْمُعْجِزَةُ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي ذَكَرُوهَا لَا يَقْدَحُ شَيْءٌ مِنْهَا فِي الْمُعْجِزَةِ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا قَادِحًا فِي النُّبُوَّةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ انْظُرْ كَيْفَ اشْتَغَلَ الْقَوْمُ بِضَرْبِ هَذِهِ الْأَمْثَالِ الَّتِي لَا فَائِدَةَ فِيهَا لِأَجْلِ أَنَّهُمْ لَمَّا ضَلُّوا وَأَرَادُوا الْقَدْحَ فِي نُبُوَّتِكَ لَمْ يَجِدُوا إِلَى الْقَدْحِ فِيهِ سَبِيلًا الْبَتَّةَ إِذِ الطَّعْنُ عَلَيْهِ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَا يَقْدَحُ فِي الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي ادَّعَاهَا لَا بِهَذَا الْجِنْسِ مِنَ الْقَوْلِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا ضَلُّوا لَمْ يَبْقَ فِيهِمُ اسْتِطَاعَةُ قَبُولِ الْحَقِّ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِنَا وَتَقْرِيرُهُ بِالْعَقْلِ ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَوِيَ الدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَاعِيَتُهُ إِلَى أَحَدِهِمَا أَرْجَحَ مِنْ دَاعِيَتِهِ إِلَى الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَحَالُ الِاسْتِوَاءِ مُمْتَنِعُ الرُّجْحَانِ فَيَمْتَنِعُ الْفِعْلُ/ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَحَالُ رُجْحَانِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ يَكُونُ حُصُولُ الطَّرَفِ الْآخَرِ مُمْتَنِعًا، فَثَبَتَ أَنَّ حَالَ رُجْحَانِ الضَّلَالَةِ فِي قَلْبِهِ اسْتَحَالَ مِنْهُ قَبُولُ الْحَقِّ، وَمَا كَانَ مُحَالًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قُدْرَةٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ لَمَّا ضَلُّوا مَا كَانُوا مستطيعين. [سورة الفرقان (25) : الآيات 10 الى 14] تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ الثَّانِي عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ فَقَوْلُهُ: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ أي من اللَّه ذَكَرُوهُ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا كَالْكَنْزِ وَالْجَنَّةِ وَفَسَّرَ ذَلِكَ الْخَيْرَ بِقَوْلِهِ: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً نَبَّهَ بِذَلِكَ سُبْحَانَهُ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ الرَّسُولُ كُلَّ مَا ذَكَرُوهُ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يُدَبِّرُ عِبَادَهُ بِحَسَبِ الصَّالِحِ أَوْ عَلَى وَفْقِ الْمَشِيئَةِ وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ، فَيَفْتَحُ عَلَى وَاحِدٍ أَبْوَابَ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ، وَيَسُدُّ عليه أبواب الدنيا، وفي حس الْآخَرِ بِالْعَكْسِ وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهُ فَعَّالٌ لما يريد، وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا عَيَّرُوكَ بِفَقْدِهِ الْجَنَّةُ، لِأَنَّهُمْ عَيَّرُوكَ بِفَقْدِ الْجَنَّةِ الْوَاحِدَةِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعْطِيَكَ جَنَّاتٍ كَثِيرَةً، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ: خَيْراً مِنْ ذلِكَ أَيْ مِنَ الْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ وَابْتِغَاءِ الْمَعَاشِ.

المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِنْ شاءَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ لَا أَنَّهُ تَعَالَى شَاكٌّ لِأَنَّ الشَّكَّ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّه تعالى، وقال قوم: (إن) هاهنا بِمَعْنَى إِذَا، أَيْ قَدْ جَعَلْنَا لَكَ فِي الْآخِرَةِ جَنَّاتٍ وَبَنَيْنَا لَكَ قُصُورًا وَإِنَّمَا أَدْخَلَ إِنْ تَنْبِيهًا لِلْعِبَادِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنَالُ ذَلِكَ إِلَّا بِرَحْمَتِهِ، وَأَنَّهُ مُعَلَّقٌ عَلَى/ مَحْضِ مَشِيئَتِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ عَلَى اللَّه حَقٌّ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. المسألة الثَّالِثَةُ: الْقُصُورُ جَمَاعَةُ قَصْرٍ وَهُوَ الْمَسْكَنُ الرَّفِيعُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ جَنَّةٍ قَصْرٌ فَيَكُونَ مَسْكَنًا وَمُتَنَزَّهًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقُصُورُ مَجْمُوعَةً وَالْجَنَّاتُ مَجْمُوعَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ جَنَّاتٍ فِي الْآخِرَةِ وَقُصُورًا فِي الدُّنْيَا. المسألة الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ وَيَجْعَلْ فَرَفَعَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ اللَّامَ وَجَزَمَهُ الْآخَرُونَ، فَمَنْ جَزَمَ فَلِأَنَّ الْمَعْنَى إِنْ شَاءَ يَجْعَلْ لَكَ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا وَمَنْ رَفَعَ فَعَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَالْمَعْنَى سَيَجْعَلُ لَكَ قُصُورًا، هَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَبَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فَرْقٌ فِي الْمَعْنَى، فَمَنْ جَزَمَ فَالْمَعْنَى إِنْ شَاءَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا فِي الدُّنْيَا وَلَا يَحْسُنُ الْوُقُوفُ عَلَى الْأَنْهَارِ، وَمَنْ رَفَعَ حَسُنَ لَهُ الْوُقُوفُ عَلَى الْأَنْهَارِ، وَاسْتَأْنَفَ أَيْ وَيَجْعَلُ لَكَ قُصُورًا فِي الْآخِرَةِ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ: (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ يَجْعَلُ) . المسألة الْخَامِسَةُ: عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَهُ قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا مَلَكٌ قَدْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي زِيَارَتِكَ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى جَاءَ الْمَلَكُ وَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «إِنَّ اللَّه يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَكَ مَفَاتِيحَ كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يُعْطِهَا أَحَدًا قَبْلَكَ وَلَا يُعْطِيهِ أَحَدًا بَعْدَكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَكَ مِمَّا ادَّخَرَ لَكَ شَيْئًا، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلْ يَجْمَعُهَا جَمِيعًا لِي فِي الْآخِرَةِ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ» الْآيَةَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «عَرَضَ عَلَيَّ جِبْرِيلُ بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا فَقُلْتُ بَلْ شُبْعَةٌ وَثَلَاثُ جَوْعَاتٍ» وَذَلِكَ أَكْثَرُ لِذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي لِرَبِّي، وَفِي رِوَايَةِ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ ثَلَاثًا، فَأَحْمَدُكَ إِذَا شَبِعْتُ وَأَتَضَرَّعُ إِلَيْكَ إِذَا جُعْتُ» وَعَنِ الضَّحَّاكِ «لَمَّا عَيَّرَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَاقَةِ حَزِنَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السلام معزيا له، وقال إن اللَّه يقرؤك السَّلَامَ وَيَقُولُ: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ [الْفُرْقَانِ: 20] الْآيَةَ، قَالَ فَبَيْنَمَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَدَّثَانِ إِذْ فُتِحَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ لَمْ يَكُنْ فُتِحَ قَبْلَ ذَلِكَ، ثم قال أَبْشِرْ يَا مُحَمَّدُ هَذَا رِضْوَانُ خَازِنُ الْجَنَّةِ قَدْ أَتَاكَ بِالرِّضَا مِنْ رَبِّكَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ إِنَّ رَبَّكَ يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا وَمَعَهُ سَفَطٌ مِنْ نُورٍ يَتَلَأْلَأُ ثم قال هَذِهِ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِ الدُّنْيَا فَاقْبِضْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَكَ اللَّه مِمَّا أَعَدَّ لَكَ فِي الْآخِرَةِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ فَنَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ أَنْ تَوَاضَعْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ نَبِيًّا عَبْدًا» قَالَ فَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَأْكُلْ مُتَّكِئًا حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً فَهَذَا جَوَابٌ ثَالِثٌ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ لَيْسَ مَا تَعَلَّقُوا به شبهة عيلمة فِي نَفْسِ المسألة، بَلِ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِكَ تَكْذِيبُهُمْ بِالسَّاعَةِ اسْتِثْقَالًا لِلِاسْتِعْدَادِ لَهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ/ بِالسَّاعَةِ فَلَا يَرْجُونَ ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا وَلَا يَتَحَمَّلُونَ كُلْفَةَ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ، فَلِهَذَا لَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا يُورَدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الدَّلَائِلِ، ثم قال: وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً وَفِيهِ مَسَائِلُ:

المسألة الْأُولَى: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: وَأَعْتَدْنا أَيْ جَعَلْنَاهَا عَتِيدًا وَمُعَدَّةً لَهُمْ، وَالسَّعِيرُ النَّارُ الشَّدِيدَةُ الِاسْتِعَارِ، وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ. المسألة الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 133] وَعَلَى أَنَّ النَّارَ الَّتِي هِيَ دَارُ الْعِقَابِ مَخْلُوقَةٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً وقوله: أَعْتَدْنا إِخْبَارٌ عَنْ فِعْلٍ وَقَعَ فِي الْمَاضِي، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ دَارَ الْعِقَابِ مَخْلُوقَةٌ قَالَ الْجُبَّائِيُّ يَحْتَمِلُ وَأَعْتَدْنَا النَّارَ فِي الدُّنْيَا وَبِهَا نُعَذِّبُ الْكُفَّارَ وَالْفُسَّاقَ فِي قُبُورِهِمْ وَيَحْتَمِلُ نَارَ الْآخِرَةِ وَيَكُونُ مَعْنَى وَأَعْتَدْنا أَيْ سَنَعُدُّهَا لَهُمْ كَقَوْلِهِ: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ [الْأَعْرَافِ: 44] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ فِي نِهَايَةِ السُّقُوطِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ السَّعِيرِ، إِمَّا نَارُ الدُّنْيَا وَإِمَّا نَارُ الْآخِرَةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى يُعَذِّبُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِنَارِ الدُّنْيَا أَوْ يُعَذِّبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِنَارِ الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَا عَذَّبَهُمْ بِالنَّارِ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّالِي أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَّةِ إِنَّهُ تَعَالَى يُعَذِّبُ الْكَفَرَةَ فِي الْآخِرَةِ بِنِيرَانِ الدُّنْيَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ نَارُ الْآخِرَةِ وَثَبَتَ أَنَّهَا مُعَدَّةٌ، وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّه سَيَجْعَلُهَا مُعَدَّةً تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَعَلَى أَنَّ الْحَسَنَ قَالَ السَّعِيرُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ فَقَوْلُهُ: وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ تَعَالَى أَعَدَّ جَهَنَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ السَّعِيدَ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَقَالُوا إِنَّ الَّذِينَ أَعَدَّ اللَّه تَعَالَى لَهُمُ السَّعِيرَ وَأَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ وَحَكَمَ بِهِ أَنْ صَارُوا مُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ انْقَلَبَ حُكْمُ اللَّه بِكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ السَّعِيرِ كَذِبًا وَانْقَلَبَ بِذَلِكَ عِلْمُهُ جَهْلًا، وَهَذَا الِانْقِلَابُ مُحَالٌ وَالْمُؤَدِّي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ فَصَيْرُورَةُ أُولَئِكَ مُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ السَّعِيدَ لَا يَنْقَلِبُ شَقِيًّا، وَالشَّقِيَّ لَا يَنْقَلِبُ سَعِيدًا، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصَفَ السَّعِيرَ بِصِفَاتٍ إِحْدَاهَا قَوْلُهُ: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: السَّعِيرُ مذكر ولكن جاء هاهنا مُؤَنَّثًا لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: رَأَتْهُمْ وَقَالَ: سَمِعُوا لَها وَإِنَّمَا جَاءَ مُؤَنَّثًا عَلَى مَعْنَى النَّارِ. المسألة الثَّانِيَةُ: مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْبِنْيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْحَيَاةِ، فَالنَّارُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّه الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ وَالنُّطْقَ فِيهَا، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَهَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةُ لَيْسَ لَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ حُجَّةٌ إِلَّا اسْتِقْرَاءُ الْعَادَاتِ، وَلَوْ صَدَقَ ذَلِكَ لَوَجَبَ التَّكْذِيبُ بِانْخِرَاقِ الْعَادَاتِ فِي حَقِّ الرُّسُلِ، فَهَؤُلَاءِ قَوْلُهُمْ مُتَنَاقِضٌ، بَلْ إِنْكَارُ الْعَادَاتِ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِأُصُولِ الْفَلَاسِفَةِ، فَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا قَوْلُ اللَّه تَعَالَى فِي صِفَةِ النَّارِ: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً يَجِبُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي أَنْ تَكُونَ النَّارُ حَيَّةً رَائِيَةً مُغْتَاظَةً عَلَى الْكُفَّارِ، أَمَّا/ الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدِ احْتَاجُوا إِلَى التَّأْوِيلِ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: قَالُوا مَعْنَى رَأَتْهُمْ ظَهَرَتْ لَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ دُورُهُمْ تَتَرَاءَى وَتَتَنَاظَرُ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا» أَيْ لَا تَتَقَابَلَانِ لِمَا يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ مُجَانَبَةِ الْكَافِرِ وَالْمُشْرِكِ، وَيُقَالُ دُورُ فُلَانٍ مُتَنَاظِرَةٌ، أَيْ مُتَقَابِلَةٌ وَثَانِيهَا: أَنَّ النَّارَ لِشِدَّةِ اضْطِرَامِهَا وَغَلَيَانِهَا صَارَتْ تَرَى الْكُفَّارَ وَتَطْلُبُهُمْ وَتَتَغَيَّظُ عَلَيْهِمْ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ النَّارَ وَأَرَادَ الْخَزَنَةَ الْمُوَكَّلَةَ بِتَعْذِيبِ أَهْلِ النَّارِ، لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ تَصِحُّ مِنْهُمْ وَلَا تَصِحُّ مِنَ النَّارِ فهو كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] أَرَادَ أَهْلَهَا.

المسألة الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ التَّغَيُّظُ عِبَارَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ مَسْمُوعًا، فَكَيْفَ قَالَ اللَّه تَعَالَى: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً؟ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّغَيُّظَ وَإِنْ لَمْ يُسْمَعْ فَإِنَّهُ قَدْ يُسْمَعُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الصَّوْتِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: رَأَيْتُ غَضَبَ الْأَمِيرِ عَلَى فُلَانٍ إِذَا رَأَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْمَحَبَّةِ فكذا هاهنا، وَالْمَعْنَى سَمِعُوا لَهَا صَوْتًا يُشْبِهُ صَوْتَ الْمُتَغَيِّظِ وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَثَانِيهَا: الْمَعْنَى عَلِمُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَسَمِعُوا لَهَا زَفِيرًا وَهَذَا قَوْلُ قُطْرُبٍ، وهو كقول الشاعر: مقلدا سَيْفًا وَرُمْحًا وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ تَغَيُّظُ الْخَزَنَةِ. المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: إِنَّ جَهَنَّمَ لَتَزْفِرُ زَفْرَةً لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا وَتُرْعَدُ فَرَائِصُهُ حَتَّى إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَجْثُو عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيَقُولُ نَفْسِي نَفْسِي. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ لِلسَّعِيرِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ لَمَّا وَصَفَ حَالَ الْكُفَّارِ حِينَمَا يكونون بالبعد من جهنم وصف حالهم عند ما يُلْقَوْنَ فِيهَا، نَعُوذُ باللَّه مِنْهُ بِمَا لَا شَيْءَ أَبْلَغُ مِنْهُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: فِي ضَيِّقاً قِرَاءَتَانِ التَّشْدِيدُ وَالتَّخْفِيفُ وَهُوَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ. المسألة الثَّانِيَةُ: نُقِلَ فِي تَفْسِيرِ الضِّيقِ أُمُورٌ، قَالَ قَتَادَةُ: ذَكَرَ لَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ عُمَرَ قَالَ: «إِنَّ جَهَنَّمَ لَتَضِيقُ عَلَى الْكَافِرِ كَضِيقِ الزُّجِّ عَلَى الرُّمْحِ» وَسُئِلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ يُسْتَكْرَهُونَ فِي النَّارِ كَمَا يُسْتَكْرَهُ الْوَتَدُ فِي الْحَائِطِ» قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْأَسْفَلُونَ يَرْفَعُهُمُ اللَّهِيبُ، وَالْأَعْلَوْنَ يَخْفِضُهُمُ الدَّاخِلُونَ فَيَزْدَحِمُونَ فِي تِلْكَ الْأَبْوَابِ الضَّيِّقَةِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْكَرْبُ مَعَ الضِّيقِ، كَمَا أَنَّ الرُّوحَ مَعَ السَّعَةِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللَّه الْجَنَّةَ بِأَنَّ عرضها السموات وَالْأَرْضُ، وَجَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ «إِنَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ الْقُصُورِ وَالْجِنَانِ كَذَا وَكَذَا» وَلَقَدْ جَمَعَ اللَّه عَلَى أَهْلِ النَّارِ أَنْوَاعَ (الْبَلَاءِ حَيْثُ ضَمَّ إِلَى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ الضِّيقَ) «1» . المسألة الثَّالِثَةُ: قَالُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ إِنَّ أَهْلَ النَّارِ مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ وَالضِّيقِ الشَّدِيدِ، يَكُونُونَ مُقَرَّنِينَ فِي السَّلَاسِلِ قُرِنَتْ أَيْدِيهِمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ وَقِيلَ يُقْرَنُ مَعَ كُلِّ كَافِرٍ شَيْطَانُهُ فِي سِلْسِلَةٍ، وَفِي أَرْجُلِهِمُ الْأَصْفَادُ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَى عن أهل النار أنهم حين ما يُشَاهِدُونَ هَذَا النوع مِنَ الْعِقَابِ الشَّدِيدِ دَعَوْا ثبورا، والثبور الهلاك، ودعاؤهم/ أن يقولوا ووا ثبوراه، أَيْ يَقُولُوا يَا ثُبُورُ هَذَا حِينُكَ وَزَمَانُكَ، وَرَوَى أَنَسٌ مَرْفُوعًا: «أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى حُلَّةً مِنَ النَّارِ إِبْلِيسُ فَيَضَعُهَا عَلَى جَانِبَيْهِ وَيَسْحَبُهَا مِنْ خَلْفِهِ ذُرِّيَّتُهُ وَهُوَ يَقُولُ يَا ثُبُورَاهْ وَيُنَادَوْنَ يَا ثُبُورَهُمْ حَتَّى يَرِدُوا النَّارَ» . أَمَّا قَوْلُهُ: لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ، وَهُمْ أَحِقَّاءُ بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ قَوْلٌ، وَمَعْنَى وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً، أَنَّكُمْ وَقَعْتُمْ فِيمَا لَيْسَ ثُبُورُكُمْ مِنْهُ وَاحِدًا، إِنَّمَا هُوَ ثُبُورٌ كَثِيرٌ، إِمَّا لِأَنَّ الْعَذَابَ أَنْوَاعٌ وَأَلْوَانٌ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا ثُبُورٌ لِشِدَّتِهِ وَفَظَاعَتِهِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بُدِّلُوا غَيْرَهَا، أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ دَائِمٌ خَالِصٌ عَنِ الشَّوْبِ فَلَهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا ثُبُورٌ، أَوْ لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا يَجِدُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقَوْلِ نَوْعًا مِنَ الْخِفَّةِ، فَإِنَّ الْمُعَذَّبَ إِذَا صَاحَ وَبَكَى وَجَدَ بِسَبَبِهِ نَوْعًا مِنَ الْخِفَّةِ فَيُزْجَرُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَيُخْبَرُونَ بِأَنَّ هَذَا الثُّبُورَ سَيَزْدَادُ كُلَّ يَوْمٍ لِيَزْدَادَ حُزْنُهُمْ وَغَمُّهُمْ نَعُوذُ باللَّه مِنْهُ، قَالَ الْكَلْبِيُّ نَزَلَ هذا كله

_ (1) في الكشاف (التضييق والإرهاق حيث ألقاهم في مكان ضيق يتراصون فيه تراصا) 3/ 84 ط. دار الفكر.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 15 إلى 16]

فِي حَقِّ أَبِي جَهْلٍ وَالْكُفَّارِ الَّذِينَ ذَكَرُوا تلك الشبهات. [سورة الفرقان (25) : الآيات 15 الى 16] قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16) [في قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ حَالَ الْعِقَابِ الْمُعَدِّ لِلْمُكَذِّبِينَ بِالسَّاعَةِ أَتْبَعَهُ بِمَا يُؤَكِّدُ الْحَسْرَةَ وَالنَّدَامَةَ، فَقَالَ لِرَسُولِهِ: قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ أَنْ يَلْتَمِسُوهَا بِالتَّصْدِيقِ وَالطَّاعَةِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُقَالُ الْعَذَابُ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الْعَاقِلُ السُّكَّرُ أَحْلَى أَمِ الصبر؟ قلنا هذا يحسن في معرض التفريع، كَمَا إِذَا أَعْطَى السَّيِّدُ عَبْدَهُ مَالًا فَتَمَرَّدَ وَأَبَى وَاسْتَكْبَرَ فَيَضْرِبُهُ ضَرْبًا وَجِيعًا، وَيَقُولُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ: هَذَا أَطْيَبُ أَمْ ذَاكَ؟ المسألة الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ: وُعِدَ الْمُتَّقُونَ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى اللَّه تَعَالَى، لِأَنَّ مَنْ قَالَ السُّلْطَانُ وَعَدَ فُلَانًا أَنْ يُعْطِيَهُ كَذَا، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى التَّفْضِيلِ، فَأَمَّا لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْإِعْطَاءُ وَاجِبًا لَا يُقَالُ إِنَّهُ وَعَدَهُ بِهِ، أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدِ احْتَجُّوا بِهِ أَيْضًا عَلَى مَذْهَبِهِمْ قَالُوا لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَثْبَتَ ذَلِكَ الْوَعْدَ لِلْمَوْصُوفِينَ بِصِفَةِ التَّقْوَى، وَتَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالْعِلْيَةِ فَكَذَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَعْدَ إِنَّمَا حَصَلَ مُعَلَّلًا بِصِفَةِ التَّقْوَى، وَالتَّفْضِيلُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْمُتَّقِينَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَصُّ بِهِمْ وَاجِبًا. المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: جَنَّةُ الْخُلْدِ هِيَ الَّتِي لَا يَنْقَطِعُ نَعِيمُهَا، وَالْخُلْدُ وَالْخُلُودُ سَوَاءٌ، كَالشُّكْرِ/ وَالشُّكُورِ قَالَ اللَّه تَعَالَى: لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً [الْإِنْسَانِ: 9] فَإِنْ قِيلَ: الْجَنَّةُ اسْمٌ لِدَارِ الثَّوَابِ وَهِيَ مُخَلَّدَةٌ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي قَوْلِهِ: جَنَّةُ الْخُلْدِ؟ قُلْنَا الْإِضَافَةُ قَدْ تَكُونُ لِلتَّمْيِيزِ وَقَدْ تَكُونُ لِبَيَانِ صِفَةِ الْكَمَالِ، كَمَا يُقَالُ اللَّه الْخَالِقُ الْبَارِئُ، وَمَا هُنَا مِنْ هَذَا الْبَابِ. أَمَّا قَوْلُهُ: كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: الْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اسْمَ الْجَزَاءِ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْمُسْتَحِقَّ، فَأَمَّا الْوَعْدُ بِمَحْضِ التَّفْضِيلِ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى جَزَاءً، وَالثَّانِي: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْجَزَاءِ الْأَمْرَ الَّذِي يَصِيرُونَ إِلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الْوَعْدِ فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى بَيْنَ قوله: جَزاءً وبين قوله: مَصِيراً تَفَاوُتٌ فَيَصِيرُ ذَلِكَ تَكْرَارًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ. قَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّه لَا نِزَاعَ فِي كَوْنِهِ جَزاءً، إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ كَوْنَهُ جَزَاءً ثَبَتَ بِالْوَعْدِ أَوْ بِالِاسْتِحْقَاقِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْيِينِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَعْفُو عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ، لِأَنَّ الثَّوَابَ هُوَ النَّفْعُ الدَّائِمُ الْخَالِصُ عَنْ شَوْبِ الضَّرَرِ، وَالْعِقَابُ هُوَ الضَّرَرُ الدَّائِمُ الْخَالِصُ عَنْ شَوْبِ النَّفْعِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ، وَمَا كَانَ مُمْتَنِعَ الْوُجُودِ امْتَنَعَ أَنْ يَحْصُلَ اسْتِحْقَاقُهُ، فَإِذَنْ مَتَى ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ وَجَبَ أَنْ يَزُولَ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ فَنَقُولُ: لَوْ عَفَا اللَّه عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ النَّارِ وَلَا يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِمَّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:

فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشُّورَى: 7] وَإِمَّا أَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ النَّارِ وَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْجَنَّةَ حَقُّ الْمُتَّقِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً فَجَعَلَ الْجَنَّةَ لَهُمْ وَمُخْتَصَّةً بِهِمْ وَبَيَّنَ أَنَّهَا إِنَّمَا كَانَتْ لَهُمْ لِكَوْنِهَا جَزَاءً لَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فَكَانَتْ حَقًّا لَهُمْ، وَإِعْطَاءُ حَقِّ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِهِ لَا يَجُوزُ، وَلَمَّا بَطَلَتِ الْأَقْسَامُ ثَبَتَ أَنَّ الْعَفْوَ غَيْرُ جَائِزٍ أَجَابَ أَصْحَابُنَا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْمُتَّقُونَ يَرْضَوْنَ بِإِدْخَالِ اللَّه أَهْلَ الْعَفْوِ فِي الْجَنَّةِ؟ فَحِينَئِذٍ لَا يَمْتَنِعُ دُخُولُهُمْ فِيهَا، الوجه الثَّانِي: قَالُوا: الْمُتَّقِي فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مُخْتَصٌّ بِمَنِ اتَّقَى الْكُفْرَ وَالْكَبَائِرَ، وَإِنِ اخْتَلَفْنَا فِي أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ هَلْ يُسَمَّى مُؤْمِنًا أَمْ لَا، لَكِنَّا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُتَّقِيًا، ثم قال فِي وَصْفِ الْجَنَّةِ إِنَّهَا كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا وَهَذَا لِلْحَصْرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مَصِيرٌ لِلْمُتَّقِينَ لَا لِغَيْرِهِمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ، قُلْنَا أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ صَرِيحٌ فِي الْوَعِيدِ فَتَخُصُّهُ بِآيَاتِ الْوَعْدِ. المسألة الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْجَنَّةَ سَتَصِيرُ لِلْمُتَّقِينَ جَزَاءً وَمَصِيرًا، لَكِنَّهَا بعد ما صَارَتْ كَذَلِكَ، فَلِمَ قَالَ اللَّه تَعَالَى: كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً؟ جَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَا وَعَدَ اللَّه فَهُوَ فِي تَحَقُّقِهِ كَأَنَّهُ قَدْ كَانَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ مَكْتُوبًا فِي اللَّوْحِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمُ/ اللَّه تَعَالَى بِأَزْمِنَةٍ مُتَطَاوِلَةٍ أَنَّ الْجَنَّةَ جَزَاؤُهُمْ وَمَصِيرُهُمْ. أَمَّا قوله تعالى: لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ فهو نطير قَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ [فُصِّلَتْ: 31] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ أَهْلُ الدَّرَجَاتِ النَّازِلَةِ إِذَا شَاهَدُوا الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةَ لَا بُدَّ وَأَنْ يُرِيدُوهَا، فَإِذَا سَأَلُوهَا رَبَّهُمْ، فَإِنْ أَعْطَاهُمْ إِيَّاهَا لَمْ يَبْقَ بَيْنَ النَّاقِصِ وَالْكَامِلِ تَفَاوُتٌ فِي الدَّرَجَةِ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهَا قَدَحَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ فِيها مَا يَشاؤُنَ وَأَيْضًا فَالْأَبُ إِذَا كَانَ وَلَدُهُ فِي دَرَجَاتِ النِّيرَانِ وَأَشَدُّ الْعَذَابِ إِذَا اشْتَهَى أَنْ يُخَلِّصَهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنْهُ، فَإِنْ فَعَلَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ قَدَحَ فِي أَنَّ عَذَابَ الْكَافِرِ مُخَلَّدٌ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَدَحَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وفي قوله: لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ وَجَوَابُهُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى يُزِيلُ ذَلِكَ الْخَاطِرَ عَنْ قُلُوبِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بَلْ يَكُونُ اشْتِغَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ اللَّذَّاتِ شَاغِلًا عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى حَالِ غَيْرِهِ. المسألة الثَّانِيَةُ: شَرْطُ نَعِيمِ الْجَنَّةِ أَنْ يَكُونَ دَائِمًا، إِذْ لَوِ انْقَطَعَ لَكَانَ مَشُوبًا بِضَرْبٍ مِنَ الْغَمِّ وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُتَنَبِّي: أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ ... تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالَا وَلِذَلِكَ اعْتَبَرَ الْخُلُودَ فِيهِ فَقَالَ: لَهُمْ فِيها مَا يَشاؤُنَ خالِدِينَ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْمُرَادَاتِ بِأَسْرِهَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْجَنَّةِ فَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ، بَلْ لَا بُدَّ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَنْ تَكُونَ رَاحَاتُهَا مَشُوبَةً بِالْجِرَاحَاتِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ طَلَبَ مَا لَمْ يُخْلَقْ أَتْعَبَ نَفْسَهُ وَلَمْ يُرْزَقْ، فَقِيلَ وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّه؟ فَقَالَ سُرُورُ يَوْمٍ» . أَمَّا قَوْلُهُ: كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَلِمَةُ (عَلَى) لِلْوُجُوبِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى» فَقَوْلُهُ: كانَ عَلى رَبِّكَ يُفِيدُ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى اللَّه تَعَالَى، وَالْوَاجِبُ هُوَ الَّذِي لَوْ لَمْ يُفْعَلْ لَاسْتَحَقَّ تَارِكُهُ بِفِعْلِهِ الذَّمَّ، أَوْ أَنَّهُ الَّذِي يَكُونُ عَدَمُهُ مُمْتَنِعًا، فَإِنْ كَانَ الْوُجُوبُ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ كَانَ تَرْكُهُ مُحَالًا، لِأَنَّ تَرْكَهُ لَمَّا

[سورة الفرقان (25) : الآيات 17 إلى 20]

اسْتَلْزَمَ اسْتِحْقَاقَ الذَّمِّ وَاسْتِحْقَاقُ اللَّه تَعَالَى الذَّمَّ مُحَالٌ، وَمُسْتَلْزَمُ الْمُحَالِ مُحَالٌ كَانَ ذَلِكَ التَّرْكُ مُحَالًا وَالْمُحَالُ غَيْرُ مَقْدُورٍ، فَلَمْ يَكُنِ اللَّه تَعَالَى قَادِرًا عَلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُلْجَأً إِلَى الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ الْوُجُوبُ عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْوَاجِبُ مَا يَكُونُ عَدَمُهُ مُمْتَنِعًا يَكُونُ الْقَوْلُ بِالْإِلْجَاءِ لَازِمًا، فَلَمْ يَكُنِ اللَّه قَادِرًا، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ ثَبَتَ بِحُكْمِ الْوَعْدِ، فَنَقُولُ لَوْ لم يفعل لا نقلب خَبَرُهُ الصِّدْقُ كَذِبًا وَعِلْمُهُ جَهْلًا وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَالْمُؤَدِّي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ فَالتَّرْكُ مُحَالٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُلْجَأً إِلَى الْفِعْلِ وَالْمُلْجَأُ إِلَى الْفِعْلِ لَا يَكُونُ قَادِرًا، وَلَا يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لِلثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ، / تَمَامُ السُّؤَالِ وَجَوَابُهُ: أَنَّ فِعْلَ الشَّيْءِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ فِعْلِهِ وَعَنِ الْعِلْمِ بِفِعْلِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ فِعْلًا لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ، فَكَانَ قَادِرًا وَمُسْتَحِقًّا لِلثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَعْداً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ حَصَلَتْ بِحُكْمِ الْوَعْدِ لَا بِحُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: مَسْؤُلًا ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ سَأَلُوهُ بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [آلِ عِمْرَانَ: 194] ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ سَأَلُوهُ بِلِسَانِ الْحَالِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا تَحَمَّلُوا الْمَشَقَّةَ الشَّدِيدَةَ فِي طَاعَتِهِ كَانَ ذَلِكَ قَائِمًا مَقَامَ السُّؤَالِ، قَالَ الْمُتَنَبِّي: وَفِي النَّفْسِ حَاجَاتٌ وَفِيكَ فَطَانَةٌ ... سُكُوتِي كَلَامٌ عِنْدَهَا وَخِطَابُ وَثَالِثُهَا: الْمَلَائِكَةُ سَأَلُوا اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ [غافر: 8] ورابعها: وَعْداً مَسْؤُلًا أي واجبا، يقال لأعطينك ألفا وعدا مسؤولا أي واجبا وإن لم تسأل، قال الْفَرَّاءُ. وَسَائِرُ الْوُجُوهِ أَقْرَبُ مِنْ هَذَا لِأَنَّ سَائِرَ الْوُجُوهِ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ، وَمَا قَالَهُ الفراء مجاز وخامسها: مسؤولا أي من حقه أن يكون مسؤولا لِأَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ، إِمَّا بِحُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، أَوْ بِحُكْمِ الْوَعْدِ عَلَى قَوْلِ أهل السنة. [سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 20] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ] اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً [الْفُرْقَانِ: 3] ثم هاهنا مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: يَحْشُرُهُمْ فَنَقُولُ كِلَاهُمَا بِالنُّونِ وَالْيَاءِ وَقُرِئَ نَحْشِرُهُمْ بِكَسْرِ الشِّينِ.

المسألة الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَما يَعْبُدُونَ أَنَّهَا الْأَصْنَامُ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي أَنَّهُ مَنْ عُبِدَ مِنَ الْأَحْيَاءِ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ وَغَيْرِهِمَا، لِأَنَّ الْإِضْلَالَ وَخِلَافَهُ مِنْهُمْ يَصِحُّ فَلِأَجْلِ هَذَا اخْتَلَفُوا، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْأَوْثَانِ، فَإِنْ قِيلَ لَهُمُ الْوَثَنُ جَمَادٌ فَكَيْفَ خَاطَبَهُ اللَّه تَعَالَى، وَكَيْفَ قَدَرَ عَلَى الْجَوَابِ؟ فَعِنْدَ ذَلِكَ ذَكَرُوا وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَخْلُقُ فِيهِمُ الْحَيَاةَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُخَاطِبُهُمْ فَيَرُدُّونَ الْجَوَابَ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْكَلَامُ لَا بِالْقَوْلِ اللِّسَانِيِّ بَلْ عَلَى سَبِيلِ لِسَانِ الْحَالِ كَمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي تَسْبِيحِ الْمَوَاتِ وَكَلَامِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ، وَكَمَا قِيلَ: سَلِ الْأَرْضَ مَنْ شَقَّ أَنْهَارَكِ، وَغَرَسَ أَشْجَارَكِ؟ فَإِنْ لَمْ تُجِبْكَ حِوَارًا، أَجَابَتْكَ اعْتِبَارًا! وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَزَعَمُوا أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْمَلَائِكَةُ وَعِيسَى وَعُزَيْرٌ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، قَالُوا وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الْقَوْلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [سَبَأٍ: 40] وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: لَفْظَةُ (مَا) لَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْعُقَلَاءِ أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كَلِمَةَ (مَا) لِمَا لَا يَعْقِلُ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ قَالُوا (مَنْ) لِمَا لَا يَعْقِلُ وَالثَّانِي: أُرِيدَ بِهِ الْوَصْفُ كَأَنَّهُ قِيلَ (وَمَعْبُودَهُمْ) «1» ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشَّمْسِ: 5] وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الْكَافِرُونَ: 3] لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَكَيْفَ كَانَ فَالسُّؤَالُ سَاقِطٌ. المسألة الثَّالِثَةُ: حَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَحْشُرُ الْمَعْبُودِينَ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُمْ أَأَنْتُمْ أَوْقَعْتُمْ عِبَادِي فِي الضَّلَالِ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، أَمْ هُمْ ضَلُّوا عَنْهُ بِأَنْفُسِهِمْ؟ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: وَفِيهِ كَسْرٌ بَيِّنٌ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ اللَّه يُضِلُّ عِبَادَهُ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنْ يَقُولُوا إلهنا هاهنا قِسْمٌ ثَالِثٌ غَيْرُهُمَا هُوَ الْحَقُّ وَهُوَ أَنَّكَ أَنْتَ أَضْلَلْتَهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ بَلْ نَسَبُوا إِضْلَالَهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، عَلِمْنَا أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يُضِلُّ أَحَدًا مِنْ عِبَادِهِ. فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَعْبُودِينَ مَا تَعَرَّضُوا لِهَذَا الْقِسْمِ بَلْ ذَكَرُوهُ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ ضَلَالَهُمْ إِنَّمَا حَصَلَ لِأَجْلِ مَا فَعَلَ اللَّه بِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَتَّعَهُمْ وَآبَاءَهُمْ بِنَعِيمِ الدُّنْيَا. قُلْنَا: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَصِيرَ اللَّه مَحْجُوبًا فِي يَدِ أُولَئِكَ الْمَعْبُودِينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ ذَلِكَ بَلِ الْغَرَضُ أَنْ يَصِيرَ الْكَافِرُ مَحْجُوجًا مُفْحَمًا مُلْزَمًا هَذَا تَمَامُ تَقْرِيرِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْآيَةِ، أَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الضَّلَالِ إِنْ لَمْ تَصْلُحْ لِلِاهْتِدَاءِ فَالْإِضْلَالُ مِنَ اللَّه تعالى، وإن صحلت لَهُ لَمْ تَتَرَجَّحْ مَصْدَرِيَّتُهَا لِلْإِضْلَالِ عَلَى مَصْدَرِيَّتِهَا لِلِاهْتِدَاءِ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَعِنْدَ/ لذلك يَعُودُ السُّؤَالُ، وَأَمَّا ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِسَائِرِ الظَّوَاهِرِ الْمُطَابِقَةِ لِقَوْلِنَا. المسألة الرَّابِعَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَإِنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى. بَقِيَ عَلَى الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ. الْأَوَّلُ: مَا فَائِدَةُ أَنْتُمْ وَهُمْ؟ وَهَلَّا قِيلَ أَأَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ السُّؤَالُ عَنِ الْفِعْلِ وَوُجُودِهِ، لِأَنَّهُ لَوْلَا وُجُودُهُ لَمَا تَوَجَّهَ هَذَا الْعِتَابُ، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ فَاعِلِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ وَإِيلَائِهِ حرف الاستفهام حتى يعلم أنه المسؤول عَنْهُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ كَانَ عَالِمًا في الأزل بحال المسؤول عَنْهُ فَمَا فَائِدَةُ هَذَا السُّؤَالِ؟ الْجَوَابُ: هَذَا

_ (1) في الكشاف (ومعبوديهم) 3/ 84 ط. دار الفكر.

اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا قَالَ لِعِيسَى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَةِ: 116] وَلِأَنَّ أُولَئِكَ الْمَعْبُودِينَ لَمَّا بَرَّءُوا أَنْفُسَهُمْ، وَأَحَالُوا ذَلِكَ الضَّلَالَ عَلَيْهِمْ صَارَ تَبَرُّؤُ الْمَعْبُودِينَ عَنْهُمْ أَشَدَّ فِي حَسْرَتِهِمْ وَحَيْرَتِهِمْ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَالَ تَعَالَى: أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ ضَلَّ عَنِ السَّبِيلِ، الْجَوَابُ: الْأَصْلُ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ مُتَنَاهِيًا فِي التَّفْرِيطِ وَقِلَّةِ الِاحْتِيَاطِ، يُقَالُ ضَلَّ السَّبِيلَ. أَمَّا قَوْلُهُ: سُبْحانَكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَى جَوَابَهُمْ، وَفِي قَوْلِهِ: سُبْحانَكَ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَجَّبَ مِنْهُمْ فَقَدْ تَعَجَّبُوا مِمَّا قِيلَ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ وَأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ فَمَا أَبْعَدَهُمْ عَنِ الْإِضْلَالِ الَّذِي هُوَ مُخْتَصٌّ بِإِبْلِيسَ وَحِزْبِهِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ نَطَقُوا بِسُبْحَانَكَ لِيَدُلُّوا عَلَى أَنَّهُمُ الْمُسَبِّحُونَ (الْمُقَدِّسُونَ الْمُؤْمِنُونَ) «1» بِذَلِكَ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِحَالِهِمْ أَنْ يُضِلُّوا عِبَادَهُ وَثَالِثُهَا: قَصَدُوا بِهِ تَنْزِيهَهُ عَنِ الْأَنْدَادِ، سَوَاءً كَانَ وَثَنًا أَوْ نَبِيًّا أَوْ مَلَكًا وَرَابِعُهَا: قَصَدُوا تَنْزِيهَهُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ اسْتِفَادَةَ عِلْمٍ أَوْ إِيذَاءَ مَنْ كَانَ بَرِيئًا عَنِ الْجُرْمِ، بَلْ إِنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَهُمْ تَقْرِيعًا لِلْكُفَّارِ وَتَوْبِيخًا لَهُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ أَنْ نَتَّخِذَ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْخَاءِ وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَابْنِ عَامِرٍ بِرَفْعِ النُّونِ وَفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، قَالَ الزَّجَّاجُ أَخْطَأَ مَنْ قَرَأَ أَنْ نُتَّخَذَ بِضَمِّ النُّونِ لِأَنَّ (مِنْ) إِنَّمَا تَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي الْأَسْمَاءِ إِذَا كَانَ مَفْعُولًا أَوَّلًا وَلَا تَدْخُلُ عَلَى مَفْعُولِ الْحَالِ تَقُولُ مَا اتَّخَذْتُ مِنْ أَحَدٍ وَلِيًّا، وَلَا يَجُوزُ مَا اتَّخَذْتُ أَحَدًا مِنْ وَلِيٍّ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» اتَّخَذَ يتعدى إلى مفعول واحد كقولك اتخذت وَلِيًّا، وَإِلَى مَفْعُولَيْنِ كَقَوْلِكَ اتَّخَذَ فُلَانًا وَلِيًّا، قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [النِّسَاءِ: 125] وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى مِنَ الْمُتَعَدِّي إِلَى وَاحِدٍ وَهُوَ مِنْ أَوْلِياءَ، وَالْأَصْلُ أَنْ نَتَّخِذَ أَوْلِيَاءَ فَزِيدَتْ مِنْ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى النَّفْيِ، وَالثَّانِيَةُ مِنَ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولَيْنِ، فَالْأَوَّلُ مَا بُنِيَ لَهُ الْفِعْلُ، وَالثَّانِي مِنْ/ أَوْلِياءَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ لَا نَتَّخِذُ بَعْضَ أَوْلِيَاءَ وَتَنْكِيرُ أَوْلِيَاءَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ مَخْصُوصُونَ وَهُمُ الْجِنُّ وَالْأَصْنَامُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا: أَوَّلُهَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ الْأَقْوَى، أَنَّ الْمَعْنَى إِذَا كُنَّا لَا نَرَى أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ أَوْلِيَاءَ فَكَيْفَ نَدْعُو غَيْرَنَا إِلَى ذَلِكَ وَثَانِيهَا: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَكُونَ أَمْثَالَ الشَّيَاطِينِ فِي تَوَلِّيهِمُ الْكُفَّارَ كَمَا يُوَلِّيهِمُ الْكُفَّارُ، قَالَ تَعَالَى: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ [النِّسَاءِ: 76] يُرِيدُ الْكَفَرَةَ، وَقَالَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [الْبَقَرَةِ: 257] عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ وَثَالِثُهَا: مَا كَانَ لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِ رِضَاكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ، أَيْ لَمَّا عَلِمْنَا أَنَّكَ لَا تَرْضَى بِهَذَا مَا فَعَلْنَاهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مُقَامُهُ وَرَابِعُهَا: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ إِنَّهُمْ عَبِيدُكَ، فَلَا يَنْبَغِي لِعَبِيدِكَ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ إِذْنِكَ وَلِيًّا وَلَا حَبِيبًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَّخِذَ عَبْدٌ عَبْدًا آخَرَ إِلَهًا لِنَفْسِهِ وَخَامِسُهَا: أَنَّ عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ الْإِشْكَالُ زَائِلٌ، فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ غَيْرُ جَائِزَةٍ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُمْ فِي أَنْ يَتَّخِذَهُمْ غَيْرُهُمْ أَوْلِيَاءَ، قُلْنَا: الْمُرَادُ أَنَّا لَا نَصْلُحُ لِذَلِكَ، فَكَيْفَ نَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَتِنَا وَسَادِسُهَا: أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْأَصْنَامِ، وَأَنَّهَا قَالَتْ لَا يَصِحُّ مِنَّا أَنْ نَكُونَ مِنَ الْعَابِدِينَ، فَكَيْفَ يمكننا ادعاؤنا أنا من المعبودين.

_ (1) في الكشاف (المتقدسون الموسومون) 3/ 86 ط. دار الفكر.

المسألة الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْوِلَايَةُ وَالْعَدَاوَةُ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه، فَكُلُّ وِلَايَةٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى مَيْلِ النَّفْسِ وَنَصِيبِ الطَّبْعِ فَذَاكَ عَلَى خِلَافِ الشَّرْعِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّكَ يَا إِلَهَنَا أَكْثَرْتَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى آبَائِهِمْ مِنَ النِّعَمِ وَهِيَ تُوجِبُ الشُّكْرَ وَالْإِيمَانَ لَا الْإِعْرَاضَ وَالْكُفْرَانَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّهُمْ ضَلُّوا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ لَا بِإِضْلَالِنَا، فَإِنَّهُ لَوْلَا عِنَادُهُمُ الظَّاهِرُ، وَإِلَّا فَمَعَ ظُهُورِ هَذِهِ الحجة لَا يُمْكِنُ الْإِعْرَاضُ عَنْ طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ كَالرَّمْزِ فِيمَا صَرَّحَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ [الْأَعْرَافِ: 155] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجِيبَ قَالَ: إِلَهِي أَنْتَ الَّذِي أَعْطَيْتَهُ جَمِيعَ مَطَالِبِهِ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى صَارَ كَالْغَرِيقِ فِي بَحْرِ الشَّهَوَاتِ، وَاسْتِغْرَاقُهُ فِيهَا صَارَ صَادًّا لَهُ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى طَاعَتِكَ وَالِاشْتِغَالِ بِخِدْمَتِكَ، فَإِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ. المسألة الثَّانِيَةُ: الذكر اللَّه والإيمان به (و) «1» القرآن وَالشَّرَائِعِ، أَوْ مَا فِيهِ حُسْنُ ذِكْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ رَجُلٌ بُورٌ وَرَجُلَانِ بُورٌ وَرِجَالٌ بُورٌ، وَكَذَلِكَ الْأُنْثَى، وَمَعْنَاهُ هَالِكٌ، وَقَدْ يُقَالُ رَجُلٌ بَائِرٌ وَقَوْمٌ بُورٌ، وَهُوَ مِثْلُ هَائِرٍ وَهُورٍ، وَالْبَوَارُ الْهَلَاكُ، وَقَدِ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ وَكَانُوا مِنَ الَّذِينَ حُكِمَ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِالْعَذَابِ وَالْهَلَاكِ، فَالَّذِي حَكَمَ اللَّه عَلَيْهِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ وَعَلَّمَ ذَلِكَ وَأَثْبَتَهُ/ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَأَطْلَعَ الْمَلَائِكَةَ عَلَيْهِ، لَوْ صَارَ مُؤْمِنًا لَصَارَ الْخَبَرُ الصِّدْقُ كَذِبًا، وَلَصَارَ الْعِلْمُ جَهْلًا وَلَصَارَتِ الْكِتَابَةُ الْمُثْبَتَةُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ بَاطِلَةً، وَلَصَارَ اعْتِقَادُ الْمَلَائِكَةِ جَهْلًا وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ وَمُسْتَلْزَمُ الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَصُدُورُ الْإِيمَانِ مِنْهُ مُحَالٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السَّعِيدَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ شَقِيًّا، وَالشَّقِيُّ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ سَعِيدًا، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ هُوَ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ اللَّه تَعَالَى آتَاهُمْ أَسْبَابَ الضَّلَالِ وَهُوَ إِعْطَاءُ الْمُرَادَاتِ فِي الدُّنْيَا وَاسْتِغْرَاقُ النَّفْسِ فِيهَا، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ بَلَغَ مَبْلَغًا يُوجِبُ الْبَوَارَ، فَإِنَّ ذِكْرَ الْبَوَارِ عَقِيبَ ذَلِكَ السَّبَبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَوَارَ إِنَّمَا حَصَلَ لِأَجْلِ ذَلِكَ السَّبَبِ، فَرَجَعَ حَاصِلُ الْكَلَامِ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَ بِالْكَافِرِ مَا صَارَ مَعَهُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ تَرْكُ الْكُفْرِ، وَحِينَئِذٍ ظَهَرَ أَنَّ السَّعِيدَ لَا يَنْقَلِبُ شَقِيًّا، وَأَنَّ الشَّقِيَّ لَا يَنْقَلِبُ سَعِيدًا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ قُرِئَ يَقُولُونَ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ، فَمَعْنَى مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِقَوْلِكُمْ إِنَّهُمْ آلِهَةٌ، أَيْ كَذَّبُوكُمْ فِي قَوْلِكُمْ إِنَّهُمْ آلِهَةٌ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتُ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَذَّبُوكُمْ (بِقَوْلِكُمْ) «2» سُبْحانَكَ، وَمِثَالُهُ قَوْلُكَ كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً فَاعْلَمْ أنه قرئ يستطيعون بالياء أَيْضًا، يَعْنِي فَمَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْتُمْ يَا أَيُّهَا الْكُفَّارُ صَرْفَ الْعَذَابِ عَنْكُمْ، وَقِيلَ الصَّرْفُ التَّوْبَةُ، وَقِيلَ الْحِيلَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لَيَتَصَرَّفُ، أَيْ يَحْتَالُ أَوْ فَمَا يَسْتَطِيعُ آلِهَتُكُمْ أَنْ يَصْرِفُوا عنكم العذاب (و) «3» أن يحتالوا لكم.

_ (1) في الكشاف (أو) 3/ 86 ط. دار الفكر. (2) في الكشاف (بقولهم) / 63/ 86 ط. دار الفكر. (3) في الكشاف (أو) 3/ 87 ط. دار الفكر.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: قُرِئَ يُذِقْهُ بِالْيَاءِ وَفِيهِ ضَمِيرُ اللَّه تَعَالَى أَوْ ضَمِيرُ (الظُّلْمِ) «1» . المسألة الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقَطْعِ بِوَعِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ، فَقَالُوا ثَبَتَ أَنَّ (مَنْ) لِلْعُمُومِ فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْكَافِرَ ظَالِمٌ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] وَالْفَاسِقَ ظَالِمٌ لِقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الْحُجُرَاتِ: 11] فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يُعْفَى عَنْهُ، بَلْ يُعَذَّبُ لَا مَحَالَةَ وَالْجَوَابُ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كَلِمَةَ (مَنْ) فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ لِلْعُمُومِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ لِلْعُمُومِ وَلَكِنْ قَطْعًا أَمْ ظَاهِرًا؟ وَدَعْوَى الْقَطْعِ مَمْنُوعَةٌ، فَإِنَّا نَرَى فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ الْمَشْهُورِ اسْتِعْمَالَ صِيَغِ الْعُمُومِ، مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْأَكْثَرُ، أَوْ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَقْوَامٌ مُعَيَّنُونَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَةِ: 6] ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا قَدْ آمَنُوا فَلَا دَافِعَ لَهُ إِلَّا أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ الْعُمُومَ، لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْغَالِبُ أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَقْوَامٌ مَخْصُوصُونَ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ ثَبَتَ أَنَّ اسْتِعْمَالَ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فِي الْأَغْلَبِ عُرْفٌ ظَاهِرٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ دَلَالَةُ هَذِهِ الصِّيَغِ عَلَى الْعُمُومِ دَلَالَةً ظَاهِرَةً لَا قَاطِعَةً، وَذَلِكَ لَا يَنْفِي تَجْوِيزَ الْعَفْوِ. سَلَّمْنَا دَلَالَتَهُ قَطْعًا، وَلَكِنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ مَشْرُوطٌ بِأَنْ لَا يُوجَدَ مَا يُزِيلُهُ، وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ هَذَا مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لِمَ قُلْتَ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ مَا يُزِيلُهُ؟ فَإِنَّ الْعَفْوَ عِنْدَنَا أَحَدُ الْأُمُورِ الَّتِي تُزِيلُهُ، وَذَلِكَ هُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ أَوَّلَ المسألة سَلَّمْنَا/ دَلَالَتَهُ عَلَى مَا قَالَ، وَلَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِآيَاتِ الْوَعْدِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الْكَهْفِ: 107] فَإِنْ قِيلَ آيَاتُ الْوَعِيدِ أَوْلَى لِأَنَّ السَّارِقَ يُقْطَعُ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيلِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ لَا يَجُوزُ قَطْعُ يَدِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيلِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ ثَبَتَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ أَحْبَطُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الِاسْتِحْقَاقَيْنِ مُحَالٌ. قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّارِقَ يُقْطَعُ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَابَ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيلِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْمِحْنَةِ، نَزَلْنَا عَنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ إِنَّهُ خِطَابٌ مَعَ قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ مُعَيَّنِينَ فَهَبْ أَنَّهُ لَا يَعْفُو عَنْهُمْ فَلِمَ قُلْتَ إِنَّهُ لَا يَعْفُو عَنْ غَيْرِهِمْ؟ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلُهُمْ: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفُرْقَانِ: 7] بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ عَادَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ مِنَ اللَّه فِي كُلِّ رُسُلِهِ فَلَا وَجْهَ لِهَذَا الطَّعْنِ. المسألة الثَّانِيَةُ: حَقُّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: أَلَا أَنَّهُمْ بِفَتْحِ الْأَلِفِ لِأَنَّهُ مُتَوَسِّطٌ وَالْمَكْسُورَةُ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالِابْتِدَاءِ، فَلِأَجْلِ هَذَا ذَكَرُوا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْجُمْلَةُ بَعْدَ (إِلَّا) صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، وَالْمَعْنَى وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ أَحَدًا مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا آكِلِينَ وَمَاشِينَ، وَإِنَّمَا حُذِفَ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْمُرْسَلِينَ دَلِيلًا عَلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصَّافَّاتِ: 164] عَلَى مَعْنَى وَمَا مِنَّا أَحَدٌ وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ إِنَّهُ صِلَةٌ لِاسْمٍ مَتْرُوكٍ اكْتُفِيَ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْمُرْسَلِينَ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى إِلَّا مَنْ أَنَّهُمْ كَقَوْلِهِ: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ أَيْ مَنْ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مَرْيَمَ: 71] أَيْ إِلَّا مَنْ يَرِدُهَا فَعَلَى قول

_ (1) في الكشاف (مصدر يظلم) 3/ 87.

الزَّجَّاجِ: الْمَوْصُوفُ مَحْذُوفٌ، وَعَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ: الْمَوْصُولُ هُوَ الْمَحْذُوفُ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ الْمَوْصُولِ وَتَبْقِيَةُ الصِّلَةِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: تُكْسَرُ إِنَّ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ بِإِضْمَارِ وَاوٍ عَلَى تقدير إلا وإنهم ورابعها: قَالَ بَعْضُهُمُ الْمَعْنَى إِلَّا قِيلَ إِنَّهُمْ. المسألة الثَّالِثَةُ: قُرِئَ يُمَشَّوْنَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ تمشيهم حَوَائِجُهُمْ أَوِ النَّاسُ، وَلَوْ قُرِئَ يَمْشُونَ لَكَانَ أَوْجَهَ لَوْلَا الرِّوَايَةُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: فِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا فِي رُؤَسَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَفُقَرَاءِ الصَّحَابَةِ، فَإِذَا رَأَى الشَّرِيفُ الْوَضِيعَ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ أَنِفَ أَنْ يُسْلِمَ فَأَقَامَ عَلَى كُفْرِهِ لِئَلَّا يَكُونَ لِلْوَضِيعِ السَّابِقَةُ وَالْفَضْلُ عَلَيْهِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ [الْأَحْقَافِ: 11] وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّاسِ، رَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَيْلٌ لِلْعَالِمِ مِنَ الْجَاهِلِ، وَوَيْلٌ لِلسُّلْطَانِ مِنَ الرَّعِيَّةِ، وَوَيْلٌ لِلرَّعِيَّةِ مِنَ السُّلْطَانِ، وَوَيْلٌ لِلْمَالِكِ مِنَ/ الْمَمْلُوكِ، وَوَيْلٌ لِلشَّدِيدِ مِنَ الضَّعِيفِ، وَلِلضَّعِيفِ مِنَ الشَّدِيدِ، بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةٌ» وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا فِي أَصْحَابِ الْبَلَاءِ وَالْعَافِيَةِ، هَذَا يَقُولُ لِمَ لَمْ أُجْعَلْ مِثْلَهُ فِي الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ وَفِي الْعَقْلِ وَفِي الْعِلْمِ وَفِي الرِّزْقِ وَفِي الْأَجَلِ؟ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَرَابِعُهَا: هَذَا احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ فِي تَخْصِيصِ مُحَمَّدٍ بِالرِّسَالَةِ مَعَ مُسَاوَاتِهِ إِيَّاهُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَصِفَاتِهَا، فَابْتَلَى الْمُرْسَلِينَ بِالْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ وَأَنْوَاعِ أَذَاهُمْ عَلَى مَا قَالَ: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً [آلِ عِمْرَانَ: 186] وَالْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ يَتَأَذَّوْنَ أَيْضًا مِنَ الْمُرْسَلِ بِسَبَبِ الْحَسَدِ وَصَيْرُورَتِهِ مُكَلَّفًا بِالْخِدْمَةِ وَبَذْلِ النَّفْسِ وَالْمَالِ بَعْدَ أَنْ كَانَ رَئِيسًا مَخْدُومًا، وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْكُلِّ لِأَنَّ بَيْنَ الْجَمِيعِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً قَالَ الْجُبَّائِيُّ هَذَا الْجَعْلُ هُوَ بِمَعْنَى التَّعْرِيفِ كَمَا يُقَالُ فِيمَنْ سَرَقَ، إِنَّ فُلَانًا لِصٌّ جَعَلَهُ لِصًّا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْجَعْلَ إِلَى وَصْفِ كَوْنِهِ فِتْنَةً لَا إِلَى الْحُكْمِ بِكَوْنِهِ كَذَلِكَ، بَلِ الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ مَا ذَكَرَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ فَاعِلَ السَّبَبِ فَاعِلٌ لِلْمُسَبَّبِ، فَمَنْ خَلَقَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى مِزَاجِ الصَّفْرَاءِ وَالْحَرَارَةِ وَخُلُقِ الْغَضَبِ فِيهِ ثُمَّ خَلَقَ فِيهِ الْإِدْرَاكَ الَّذِي يُطْلِعُهُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُغْضِبِ فَمَنْ فَعَلَ هَذَا الْمَجْمُوعَ كَانَ هُوَ الْفَاعِلَ لِلْغَضَبِ لَا مَحَالَةَ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْحَسَدِ وَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْبَعْضَ فِتْنَةً لِلْبَعْضِ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مَا قَالَهُ الْجُبَّائِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْجَعْلِ هُوَ الْحُكْمُ وَلَكِنَّ الْمَجْعُولَ إِنِ انْقَلَبَ لَزِمَ انْقِلَابُهُ انْقِلَابَ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى مِنَ الصِّدْقِ إِلَى الْكَذِبِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَانْقِلَابُ ذَلِكَ الْجَعْلِ مُحَالٌ، فَانْقِلَابُ الْمَجْعُولِ أَيْضًا مُحَالٌ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ الْقَوْلُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ. المسألة الثَّالِثَةُ: الوجه فِي تعلق هذه الآية بما قلبها أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا طَعَنُوا فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ وَبِأَنَّهُ فَقِيرٌ كَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ جَارِيَةً مَجْرَى الْخُرَافَاتِ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى النُّبُوَّةِ لَمْ يَكُنْ لِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَثَرٌ فِي الْقَدْحِ فِيهَا، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَذَّى مِنْهُمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ كَانُوا يَشْتُمُونَهُ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ كَانُوا يَذْكُرُونَ الْكَلَامَ الْمُعْوَجَّ الْفَاسِدَ وَمَا كَانُوا يَفْهَمُونَ الْجَوَابَ الْجَيِّدَ، فَلَا جَرَمَ صَبَّرَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى كُلِّ تِلْكَ الْأَذِيَّةِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ جَعَلَ الْخَلْقَ بَعْضَهُمْ فِتْنَةً لِلْبَعْضِ.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 21 إلى 24]

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً الْخَبَرَ لَمَا ذَكَرَ عَقِيبَهُ أَتَصْبِرُونَ لِأَنَّ أَمْرَ الْعَاجِزِ غَيْرُ جَائِزٍ. المسألة الثَّانِيَةُ: الْمَعْنَى أَتَصْبِرُونَ عَلَى الْبَلَاءِ فَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا وَعَدَ اللَّه الصَّابِرِينَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً أَيْ هُوَ الْعَالِمُ بِمَنْ يَصْبِرُ وَمَنْ لَا يَصْبِرُ، فَيُجَازِي كُلًّا مِنْهُمْ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: أَتَصْبِرُونَ اسْتِفْهَامٌ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّقْرِيرُ وَمَوْقِعُهُ بَعْدَ ذِكْرِ الْفِتْنَةِ مَوْقِعُ أَيُّكُمْ بَعْدَ الِابْتِلَاءِ فِي قَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. [سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 24] وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لَا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا هُوَ الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ لِمُنْكِرِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَاصِلُهَا: لِمَ لَمْ يُنْزِلِ اللَّه الْمَلَائِكَةَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّ مُحَمَّدًا مُحِقٌّ فِي دَعْوَاهُ أَوْ نَرى رَبَّنا حَتَّى يُخْبِرَنَا بِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ إِلَيْنَا؟ وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ أَنَّ مَنْ أَرَادَ تَحْصِيلَ شَيْءٍ، وَكَانَ لَهُ إِلَى تَحْصِيلِهِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا يُفْضِي إِلَيْهِ قَطْعًا وَالْآخَرُ قَدْ يُفْضِي وَقَدْ لَا يُفْضِي، فَالْحَكِيمُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي حِكْمَتِهِ أَنْ يَخْتَارَ فِي تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ الطَّرِيقَ الْأَقْوَى وَالْأَحْسَنَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِنْزَالَ الْمَلَائِكَةِ لِيَشْهَدُوا بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ إِفْضَاءً إِلَى الْمَقْصُودِ، فَلَوْ أَرَادَ اللَّه تَعَالَى تَصْدِيقَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفَعَلَ ذَلِكَ وَحَيْثُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا أَرَادَ تَصْدِيقَهُ هَذَا حَاصِلُ الشبهة، ثم هاهنا مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَالَ الْفَرَّاءُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا مَعْنَاهُ لَا يَخَافُونَ لِقَاءَنَا وَوَضْعُ الرَّجَاءِ فِي مَوْضِعِ الْخَوْفِ لُغَةٌ تِهَامِيَّةٌ، إِذَا كَانَ مَعَهُ جَحْدٌ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [نُوحٍ: 13] أَيْ لَا تَخَافُونَ لَهُ عَظَمَةً، وَقَالَ الْقَاضِي لَا وَجْهَ لِذَلِكَ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مَتَى أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِنْ حَالِ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ أَنَّهُمْ كَمَا لَا يَخَافُونَ الْعِقَابَ لِتَكْذِيبِهِمْ بِالْمَعَادِ، فَكَذَلِكَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَوَعْدَنَا عَلَى الطَّاعَةِ مِنَ الْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ/ لَا يَرْجُو ذَلِكَ لَا يَخَافُ الْعِقَابَ أَيْضًا، فَالْخَوْفُ تَابِعٌ لِهَذَا الرَّجَاءِ. المسألة الثَّانِيَةُ: الْمُجَسِّمَةُ تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِقاءَنا أَنَّهُ جِسْمٌ وَقَالُوا اللِّقَاءُ هُوَ الْوُصُولُ يُقَالُ هَذَا الْجِسْمُ لَقِيَ ذَلِكَ أَيْ وَصَلَ إِلَيْهِ وَاتَّصَلَ بِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [الْقَمَرِ: 12] فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جِسْمٌ وَالْجَوَابُ عَلَى طَرِيقَيْنِ الْأَوَّلُ: طَرِيقُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا قَالَ الْمُرَادُ مِنَ اللِّقَاءِ هُوَ الرُّؤْيَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّائِيَ يَصِلُ بِرُؤْيَتِهِ إِلَى حَقِيقَةِ الْمَرْئِيِّ فَسُمِّيَ اللِّقَاءُ أَحَدَ أَنْوَاعِ الرُّؤْيَةِ وَالنوع الْآخَرُ الِاتِّصَالُ وَالْمُمَاسَّةُ،

فَدَلَّتِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الوجه عَلَى جَوَازِ الرُّؤْيَةِ الطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ كَلَامُ الْمُعْتَزِلَةِ، قَالَ الْقَاضِي تَفْسِيرُ اللِّقَاءِ بِرُؤْيَةِ الْبَصَرِ جَهْلٌ بِاللُّغَةِ، فَيُقَالُ فِي الدُّعَاءِ لَقَّاكَ اللَّه الْخَيْرَ وَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ لَمْ أَلْقَ الْأَمِيرَ وَإِنْ رَآهُ مِنْ بُعْدٍ أَوْ حُجِبَ عَنْهُ، وَيُقَالُ فِي الضَّرِيرِ لَقِيَ الْأَمِيرَ إِذَا أُذِنَ لَهُ وَلَمْ يُحْجَبْ وَقَدْ يَلْقَاهُ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، وَلَا يراه بل المراد من اللقاء هاهنا هُوَ الْمَصِيرُ إِلَى حُكْمِهِ حَيْثُ لَا حُكْمَ لِغَيْرِهِ فِي يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شيئا لَا أَنَّهُ رُؤْيَةُ الْبَصَرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ ضَعِيفٌ لِأَنَّا لَا نُفَسِّرُ اللِّقَاءَ بِرُؤْيَةِ الْبَصَرِ بَلْ نُفَسِّرُهُ بِمَعْنًى مُشْتَرَكٍ بَيْنَ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ، وَبَيْنَ الِاتِّصَالِ وَالْمُمَاسَّةِ وَهُوَ الْوُصُولُ إِلَى الشَّيْءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الرَّائِيَ يَصِلُ بِرُؤْيَتِهِ إِلَى الْمَرْئِيِّ وَاللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِمَعْنًى مُشْتَرَكٍ بَيْنَ مَعَانٍ كَثِيرَةٍ، يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي فَيَصِحُّ قَوْلُهُ لَقَّاكَ الْخَيْرَ، وَيَصِحُّ قَوْلُ الْأَعْمَى لَقِيتُ الْأَمِيرَ، وَيَصِحُّ قَوْلُ الْبَصِيرِ لَقِيتُهُ بِمَعْنَى رَأَيْتُهُ وَمَا لَقِيتُهُ بِمَعْنَى مَا وَصَلْتُ إِلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا مَذْكُورٌ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَجَاءُ اللِّقَاءِ حَاصِلًا، وَمُسَمَّى اللِّقَاءِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوُصُولِ الْمَكَانِيِّ، وَبَيْنَ الْوُصُولِ بِالرُّؤْيَةِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ الْأَوَّلُ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، وَقَوْلُهُ الْمُرَادُ مِنَ اللِّقَاءِ الْوُصُولُ إِلَى حُكْمِهِ صَرْفٌ لِلَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَثَبَتَ دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ الرُّؤْيَةِ بَلْ عَلَى وُجُوبِهَا، بَلْ عَلَى أَنَّ إِنْكَارَهَا لَيْسَ إِلَّا مِنْ دِينِ الْكُفَّارِ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: لَوْلا أُنْزِلَ مَعْنَاهُ هَلَّا أُنْزِلَ، قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ وَأَصْحَابِهِمَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: فِي تَقْرِيرِ كَوْنِهِ جَوَابًا، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا ظَهَرَ كَوْنُهُ مُعْجِزًا فَقَدْ ثَبَتَتْ دَلَالَةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ اقْتِرَاحُ أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَحْضَ الِاسْتِكْبَارِ وَالتَّعَنُّتِ وَثَانِيهَا: أَنَّ نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ لَوْ حَصَلَ لَكَانَ أَيْضًا مِنْ جُمْلَةِ الْمُعْجِزَاتِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ لِخُصُوصِ كَوْنِهِ بِنُزُولِ الْمَلَكِ، بَلْ لِعُمُومِ كَوْنِهِ مُعْجِزًا، فَيَكُونُ قَبُولُ ذَلِكَ الْمُعْجِزِ وَرَدُّ ذَلِكَ الْمُعْجِزِ الْآخَرِ تَرْجِيحًا لِأَحَدِ الْمَثَلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ مَزِيدِ فَائِدَةٍ وَمُرَجِّحٍ، وَهُوَ مَحْضُ الِاسْتِكْبَارِ وَالتَّعَنُّتِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَرَوُا الرَّبَّ وَيَسْأَلُوهُ عَنْ/ صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ نَعَمْ هُوَ رَسُولِي، فَذَلِكَ لَا يَزِيدُ فِي التَّصْدِيقِ عَلَى إِظْهَارِ الْمُعْجِزُ عَلَى يَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْجِزَ يَقُومُ مَقَامَ التَّصْدِيقِ بِالْقَوْلِ إذا لَا فَرْقَ وَقَدِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ بَيْنَ أَنْ يقول اللهم إن كنت صادقا فأحيي هَذَا الْمَيِّتَ فَيُحْيِيهِ اللَّه تَعَالَى وَالْعَادَةُ لَمْ تَجْرِ بِمِثْلِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ لَهُ صَدَقْتَ، وَإِذَا كَانَ التَّصْدِيقُ الْحَاصِلُ بِالْقَوْلِ أَوِ الْحَاصِلُ بالمعجز تعيين فِي كَوْنِهِ تَصْدِيقًا لِلْمُدَّعِي كَانَ تَعْيِينُ أَحَدِهِمَا مَحْضَ الِاسْتِكْبَارِ وَالتَّعَنُّتِ وَرَابِعُهَا: وَهُوَ أَنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَفْعَلُ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ على ما يقوله المعتزلة، أن نَقُولُ إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَفْعَلُ بِحَسَبِ الْمَشِيئَةِ عَلَى مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ أَنْ يُعَيِّنُوا الْمُعْجِزَ إِذْ رُبَّمَا كَانَ إِظْهَارُ ذَلِكَ الْمُعْجِزِ مُشْتَمِلًا عَلَى مَفْسَدَةٍ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا اللَّه تَعَالَى، وَكَانَ التَّعْيِينُ اسْتِكْبَارًا وَعُتُوًّا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمَّا ظَنَّهُ مَصْلَحَةً قَطَعَ بِكَوْنِهِ مَصْلَحَةً، فَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدِ اعْتَقَدَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، وَذَلِكَ اسْتِكْبَارٌ عَظِيمٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقْتَرِحَ عَلَى رَبِّهِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ فَكَانَ الِاقْتِرَاحُ اسْتِكْبَارًا وَعُتُوًّا وَخُرُوجًا عَنْ جد الْعُبُودِيَّةِ إِلَى مَقَامِ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُعَارَضَةِ وَخَامِسُهَا: وَهُوَ أن

الْمَقْصُودَ مِنْ بِعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ فَالْمَلِكُ الْكَبِيرُ إِذَا أَحْسَنَ إِلَى بَعْضِ الضُّعَفَاءِ رَحْمَةً عَلَيْهِ فَأَخَذَ ذَلِكَ الضَّعِيفُ إِلَى اللَّجَاجِ وَالنِّزَاعِ، وَيَقُولُ لَا أُرِيدُ هَذَا بَلْ أُرِيدُ ذَاكَ، حَسُنَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا الْمُكْدِيَ قَدِ اسْتَكْبَرَ فِي نَفْسِهِ وَعَتَا عُتُوًّا شَدِيدًا مِنْ حَيْثُ لَا يَعْرِفُ قَدْرَ نَفْسِهِ وَمُنْتَهَى درجته فكذا هاهنا وَسَادِسُهَا: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّهُمْ مَا ذَكَرُوا هَذَا السُّؤَالَ لِأَجْلِ الِاسْتِكْبَارِ وَالْعُتُوِّ الشَّدِيدِ لَأَعْطَيْتُهُمْ مُقْتَرَحَهُمْ، وَلَكِنِّي عَلِمْتُ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا هَذَا الِاقْتِرَاحَ لِأَجْلِ الِاسْتِكْبَارِ وَالتَّعَنُّتِ فَلَوْ أَعْطَيْتُهُمْ مُقْتَرَحَهُمْ لَمَا انْتَفَعُوا بِهِ فَلَا جَرَمَ لَا أُعْطِيهِمْ ذَلِكَ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يُعْرَفُ مِنَ اللَّفْظِ وَسَابِعُهَا: لَعَلَّهُمْ سَمِعُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يُرَى فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُنْزِلُ الْمَلَائِكَةَ فِي الدُّنْيَا عَلَى عَوَامِّ الْخَلْقِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ عَلَّقُوا إِيمَانَهُمْ عَلَى ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ لِأَنَّ رُؤْيَتَهُ لَوْ كَانَتْ جَائِزَةً لَمَا كَانَ سُؤَالُهَا عُتُوًّا وَاسْتِكْبَارًا، قَالُوا وَقَوْلُهُ: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً لَيْسَ إِلَّا لِأَجْلِ سُؤَالِ الرُّؤْيَةِ حَتَّى لَوْ أَنَّهُمُ اقْتَصَرُوا عَلَى نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ لَمَا خُوطِبُوا بِذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ أَمْرَ الرُّؤْيَةِ فِي آيَةٍ أُخْرَى عَلَى حِدَةٍ وَذَكَرَ الِاسْتِعْظَامَ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ [الْبَقَرَةِ: 55] وَذَكَرَ نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى حِدَةٍ فِي آيَةٍ أُخْرَى فَلَمْ يَذْكُرِ الِاسْتِعْظَامَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ وَهَلْ نَرَى الْمَلَائِكَةَ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الِاسْتِكْبَارَ وَالْعُتُوَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا حَصَلَ لِأَجْلِ سُؤَالِ الرُّؤْيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ قَدْ تقدم في سورة البقرة، والذي نريده هاهنا أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ/ وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا يَدُلُّ عَلَى الرُّؤْيَةِ، وَأَمَّا الِاسْتِكْبَارُ وَالْعُتُوُّ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ مُسْتَحِيلَةٌ لِأَنَّ مَنْ طَلَبَ شَيْئًا مُحَالًا، لَا يُقَالُ إِنَّهُ عَتَا وَاسْتَكْبَرَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ لَمْ يُثْبِتْ لَهُمْ بِطَلَبِ هَذَا الْمُحَالِ عُتُوًّا وَاسْتِكْبَارًا، بَلْ قَالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الْأَعْرَافِ: 138] بَلِ الْعُتُوُّ وَالِاسْتِكْبَارُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا إِذَا طَلَبَ الْإِنْسَانُ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِمَّنْ فَوْقَهُ أَوْ كَانَ لَائِقًا بِهِ، وَلَكِنَّهُ يَطْلُبُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوهًا كَثِيرَةً فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الِاسْتِكْبَارِ وَالْعُتُوِّ سَوَاءً كَانَتِ الرُّؤْيَةُ مُمْتَنِعَةً أَوْ مُمْكِنَةً، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ مُوسَى لَمَّا سَأَلَ الرُّؤْيَةَ مَا وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى بِالِاسْتِكْبَارِ وَالْعُتُوِّ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ الرُّؤْيَةَ شَوْقًا، وَهَؤُلَاءِ طَلَبُوهَا امْتِحَانًا وَتَعَنُّتًا، لَا جَرَمَ وَصَفَهُمْ بِذَلِكَ فَثَبَتَ فَسَادُ مَا قَالَهُ الْمُعْتَزِلَةُ. المسألة الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَالَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ أَضْمَرُوا الِاسْتِكْبَارَ [عَنِ الْحَقِّ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالْعِنَادُ] «1» فِي قُلُوبِهِمْ وَاعْتَقَدُوهُ كَمَا قَالَ: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ [غَافِرٍ: 56] وَقَوْلُهُ: وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً أَيْ تَجَاوَزُوا الْحَدَّ فِي الظلم يقال عتا [عَتَا] «2» فُلَانٌ وَقَدْ وَصَفَ الْعُتُوَّ بِالْكِبْرِ فَبَالَغَ فِي إِفْرَاطِهِ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمْ يَجْتَرِئُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْعَظِيمِ إِلَّا لِأَنَّهُمْ بَلَغُوا غَايَةَ الِاسْتِكْبَارِ وَأَقْصَى الْعُتُوِّ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لَا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً فَهُوَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي سَأَلُوهُ سيوجد، ولكنهم يلقون منه ما يكرهون، وهاهنا مسائل:

_ (1) زيادة من الكشاف 3/ 88 ط. دار الفكر. (2) المصدر السابق. [.....]

المسألة الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي انْتِصَابِ يَوْمَ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَامِلَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَا بُشْرى أَيْ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ (يَبْغُونَ الْبُشْرَى) «1» ويَوْمَئِذٍ لِلتَّكْرِيرِ الثَّانِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ اذْكُرْ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ. المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَقَالَ الْبَاقُونَ يُرِيدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. المسألة الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا يُقَالُ لِلْكَافِرِ لَا بُشْرَى لِأَنَّ الْكَافِرَ وَإِنْ كَانَ ضَالًّا مُضِلًّا إِلَّا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ كَانَ هَادِيًا مُهْتَدِيًا، فَكَانَ يَطْمَعُ فِي ذَلِكَ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَلِأَنَّهُمْ رُبَّمَا عَمِلُوا مَا رَجَوْا فِيهِ النَّفْعَ كَنُصْرَةِ الْمَظْلُومِ وَعَطِيَّةِ الْفَقِيرِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَلَكِنَّهُ أَبْطَلَهَا بِكُفْرِهِ فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يُشَافَهُونَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الْيَأْسِ وَالْخَيْبَةِ، وَذَلِكَ هُوَ النِّهَايَةُ فِي الْإِيلَامِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلُهُ: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزُّمَرِ: 47] . المسألة الرَّابِعَةُ: حَقُّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى لَهُمْ، لَكِنَّهُ قَالَ لَا بُشْرَى لِلْمُجْرِمِينَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي مَوْضِعِ ضَمِيرٍ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ فَقَدْ تَنَاوَلَهُمْ بِعُمُومِهِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى الْقَطْعِ بِوَعِيدِ الْفُسَّاقِ وَعَدَمِ الْعَفْوِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْبُشْرَى فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ/ أَرَادَ تَكْذِيبَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ قَالَ بَلْ لَهُ بُشْرَى فِي الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ، فَلَمَّا كَانَ ثُبُوتُ الْبُشْرَى فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ يُذْكَرُ لِتَكْذِيبِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، عَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا بُشْرى يَقْتَضِي نَفْيَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْبُشْرَى فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَكَّدَ هَذَا النَّفْيَ بِقَوْلِهِ: حِجْراً مَحْجُوراً وَالْعَفْوُ مِنَ اللَّه مِنْ أَعْظَمِ الْبُشْرَى، وَالْخَلَاصُ مِنَ النَّارِ بَعْدَ دُخُولِهَا مِنْ أَعْظَمِ الْبُشْرَى، وَشَفَاعَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَعْظَمِ الْبُشْرَى فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، وَالْكَلَامُ عَلَى التَّمَسُّكِ بِصِيَغِ الْعُمُومِ قَدْ تَقَدَّمَ غير مرة، قال المفسرون المراد بالمجرمين هاهنا الْكُفَّارُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [الْمَائِدَةِ: 72] . المسألة الْخَامِسَةُ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: حِجْراً مَحْجُوراً ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ الْمَصَادِرِ غَيْرِ الْمُتَصَرِّفَةِ الْمَنْصُوبَةِ بِأَفْعَالٍ مَتْرُوكٍ إِظْهَارُهَا نَحْوُ مَعَاذَ اللَّه وَقِعْدَكَ [اللَّه] «2» وَعَمْرَكَ [اللَّه] ، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِهَا عِنْدَ لِقَاءِ عَدُوٍّ [مَوْتُورٍ] أَوْ هُجُومِ نَازِلَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَضَعُونَهَا مَوْضِعَ الِاسْتِعَاذَةِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ (يَفْعَلُ) «3» كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ حِجْرًا، وَهِيَ مِنْ حَجَرَهُ إِذَا مَنَعَهُ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيذَ طَالِبٌ مِنَ اللَّه أَنْ يَمْنَعَ الْمَكْرُوهَ فَلَا يَلْحَقُهُ، فَكَانَ الْمَعْنَى أَسْأَلُ اللَّه أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ مَنْعًا وَيَحْجُرَهُ حَجْرًا وَمَجِيئُهُ عَلَى فِعْلٍ أَوْ فَعْلٍ فِي قِرَاءَةِ الْحَسَنِ تَصَرُّفٌ فِيهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِمَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَصَادِرِ فَمَا مَعْنَى وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ مَحْجُورًا؟ قُلْنَا: جَاءَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْحَجْرِ كَمَا قَالُوا (ذَبْلٌ ذَابِلٌ فَالذَّبْلُ) «4» الْهَوَانُ وَمَوْتٌ مَائِتٌ وَحَرَامٌ مُحَرَّمٌ. المسألة السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا مَنْ هُمْ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: القول الأول:

_ (1) في الكشاف (يمنعون البشرى أو يعدمونها) 3/ 88 ط. دار الفكر. (2) زيادة من الكشاف 3/ 88 ط. دار الفكر. (3) في الكشاف (أتفعل) . (4) في الكشاف (ذيل ذائل والذيل) .

أَنَّهُمْ هُمُ الْكُفَّارُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ وَيَقْتَرِحُونَهُ، (ثُمَّ) «1» إِذَا رَأَوْهُمْ عِنْدَ الموت (و) «2» يوم الْقِيَامَةِ كَرِهُوا لِقَاءَهُمْ وَفَزِعُوا مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَلْقَوْنَهُمْ إِلَّا بِمَا يَكْرَهُونَ، فَقَالُوا عِنْدَ رُؤْيَتِهِمْ مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ [الْمَوْتُورِ] «3» وَنُزُولِ الشِّدَّةِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَائِلِينَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَمَعْنَاهُ حَرَامًا مُحَرَّمًا عَلَيْكُمُ الْغُفْرَانُ وَالْجَنَّةُ وَالْبُشْرَى، أَيْ جَعَلَ اللَّه ذَلِكَ حَرَامًا عَلَيْكُمْ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ الْكُفَّارَ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ، قَالَتِ الْحَفَظَةُ لَهُمْ حِجْرًا مَحْجُورًا، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُبَشِّرُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ وَيَقُولُونَ لِلْمُشْرِكِينَ حِجْرًا مَحْجُورًا، وَقَالَ عَطِيَّةُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَلْقَى الْمَلَائِكَةُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْبُشْرَى فَإِذَا رَأَى الْكُفَّارُ ذَلِكَ قَالُوا لَهُمْ بَشِّرُونَا فَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْقَفَّالِ وَالْوَاحِدِيِّ وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا شَاهَدُوا مَا يَخَافُونَهُ فَيَتَعَوَّذُونَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لَا يُعَاذُ مِنْ شَرِّ هَذَا الْيَوْمِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدِمْنا فَقَدِ اسْتَدَلَّتِ الْمُجَسِّمَةُ بِقَوْلِهِ: وَقَدِمْنا لِأَنَّ الْقُدُومَ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى الْأَجْسَامِ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمَّا قَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى امْتِنَاعِ الْقُدُومِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقُدُومَ حَرَكَةٌ وَالْمَوْصُوفُ بِالْحَرَكَةِ مُحْدَثٌ، وَلِذَلِكَ اسْتَدَلَّ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأُفُولِ الْكَوَاكِبِ عَلَى حُدُوثِهَا وَثَبَتَ أَنَّ اللَّه عَزَّ/ وَجَلَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا، فَوَجَبَ تَأْوِيلُ لَفْظِ الْقُدُومِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ أَيْ وَقَصَدْنَا إِلَى أَعْمَالِهِمْ، فَإِنَّ الْقَادِمَ إِلَى الشَّيْءِ قَاصِدٌ لَهُ، فَالْقَصْدُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْمَقْدُومِ إِلَيْهِ وَأَطْلَقَ الْمُسَبَّبَ عَلَى السَّبَبِ مَجَازًا وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ قُدُومُ الْمَلَائِكَةِ إِلَى مَوْضِعِ الْحِسَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمَّا كَانُوا بِأَمْرِهِ يَقْدَمُونَ جَازَ أَنْ يَقُولَ: وَقَدِمْنا عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزُّخْرُفِ: 55] وَثَالِثُهَا: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها [النَّمْلِ: 34] فَلَمَّا أَبَادَ اللَّه أَعْمَالَهُمْ وَأَفْسَدَهَا بِالْكُلِّيَّةِ صَارَتْ شَبِيهَةً بِالْمَوَاضِعِ الَّتِي يُقَدِّمُهَا الْمَلِكُ فَلَا جَرَمَ قَالَ وَقَدِمْنا. أَمَّا قَوْلُهُ: إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ يَعْنِي الْأَعْمَالَ الَّتِي اعْتَقَدُوهَا بِرًّا وَظَنُّوا أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَالْمَعْنَى إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ أَيِّ عَمَلٍ كَانَ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً فَالْمُرَادُ أَبْطَلْنَاهُ وَجَعَلْنَاهُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَالْهَبَاءِ الْمَنْثُورِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الْقَبْضُ عَلَيْهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ [النُّورِ: 39] كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ [إِبْرَاهِيمَ: 18] كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الْفِيلِ: 5] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ: الْهَبَاءُ مِثْلُ الْغُبَارِ يَدْخُلُ مِنَ الْكُوَّةِ مَعَ ضَوْءِ الشَّمْسِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّهُ الْغُبَارُ الَّذِي يَسْتَطِيرُ مِنْ حَوَافِرِ الدَّوَابِّ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا فَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْكُفَّارِ فِي الْخَسَارِ الْكُلِّيِّ وَالْخَيْبَةِ التَّامَّةِ شَرَحَ وَصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْحَظَّ كُلَّ الحظ في طاعة اللَّه تعالى، وهاهنا سُؤَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَكُونُ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَيْرًا مُسْتَقِرًّا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَا خَيْرَ فِي النار، ولا يقال في العسل هو

_ (1) في الكشاف (وهم) . (2) في الكشاف (أو) . (3) زيادة من الكشاف.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 25 إلى 29]

أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ [الْفُرْقَانِ: 15] وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ أنهم في غاية الخير، لأن مستقر خَيْرٌ مِنَ النَّارِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ الثَّالِثُ: التَّفَاضُلُ الَّذِي ذُكِرَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ إِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى الْمَوْضِعِ، وَالْمَوْضِعُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَوْضِعٌ لَا شَرَّ فِيهِ الرَّابِعُ: هَذَا التَّفَاضُلُ وَاقِعٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، أَيْ لَوْ كَانَ لَهُمْ مُسْتَقَرٌّ فِيهِ خَيْرٌ لَكَانَ مُسْتَقَرُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَيْرًا مِنْهُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مُسْتَقَرَّهُمْ غَيْرُ مَقِيلِهِمْ فَكَيْفَ ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُسْتَقَرَّ مَكَانُ الِاسْتِقْرَارِ، وَالْمَقِيلَ زَمَانُ الْقَيْلُولَةِ، فَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ مِنَ الْمَكَانِ فِي أَحْسَنِ مَكَانٍ، وَمِنَ الزَّمَانِ فِي أَطْيَبِ زَمَانٍ الثَّانِي: أَنَّ مُسْتَقَرَّ أَهْلِ الْجَنَّةِ غَيْرُ مَقِيلِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَقِيلُونَ فِي الْفِرْدَوْسِ، ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى مُسْتَقَرِّهِمْ الثَّالِثُ: أَنَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْمُحَاسَبَةِ وَالذَّهَابِ إِلَى الْجَنَّةِ يَكُونُ الْوَقْتُ وَقْتَ الْقَيْلُولَةِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «لَا يَنْتَصِفُ النَّهَارُ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقِيلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ» وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (ثُمَّ إِنَّ مَقِيلَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) . / وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى إِذَا أَخَذَ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ قَضَى بَيْنَهُمْ بِقَدْرِ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ إِلَى انْتِصَافِ النَّهَارِ، فَيَقِيلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يُخَفِّفُ الْحِسَابَ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَكُونَ بِمِقْدَارِ نِصْفِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَقِيلُونَ مِنْ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ يَصِحُّ الْقَيْلُولَةُ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَعِنْدَكُمْ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ لَا يَنَامُونَ، وَأَهْلَ النَّارِ أَبَدًا فِي عَذَابٍ يَعْرِفُونَهُ، وَأَهْلَ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمٍ يَعْرِفُونَهُ؟ وَالْجَوَابُ: قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مَرْيَمَ: 62] وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ بُكْرَةٌ وَعَشِيٌّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً [الْإِنْسَانِ: 13] ولأنه إذا لم يكون هُنَاكَ شَمْسٌ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نِصْفُ النَّهَارِ وَلَا وَقْتُ الْقَيْلُولَةِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ أَطْيَبُ الْمَوَاضِعِ وَأَحْسَنُهَا، كَمَا أَنَّ مَوْضِعَ الْقَيْلُولَةِ يَكُونُ أَطْيَبَ الْمَوَاضِعِ واللَّه أعلم. [سورة الفرقان (25) : الآيات 25 الى 29] وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا اسْتَدْعَوْهُ مِنْ إِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ لَهُ صِفَاتٌ: الصِّفَةُ الْأُولَى: أَنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَشَقُّقَ السَّمَاءِ بِالْغَمَامِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الِانْفِطَارِ: 1] يَدُلُّ عَلَى التَّشَقُّقِ وَقَوْلُهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ [الْبَقَرَةِ: 210] يَدُلُّ عَلَى الْغَمَامِ فَقَوْلُهُ: تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ جَامِعٌ لِمَعْنَى الْآيَتَيْنِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً [النَّبَأِ: 19] وَقَوْلُهُ: فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ [الْحَاقَّةِ: 16] .

المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَهْلُ الْكُوفَةِ بتخفيف الشين هاهنا وَفِي سُورَةِ ق، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الِاخْتِيَارُ التَّخْفِيفُ كَمَا يُخَفَّفُ تَسَاءَلُونَ وَمَنْ شَدَّدَ فَمَعْنَاهُ تَتَشَقَّقُ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: بِالْغَمامِ أَيْ عَنِ الْغَمَامِ، لِأَنَّ السَّمَاءَ لَا تَتَشَقَّقُ بِالْغَمَامِ بَلْ عَنِ الْغَمَامِ، وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْعَلَ تَعَالَى الْغَمَامَ بِحَيْثُ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِاعْتِمَادِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [الْمُزَّمِّلُ: 18] . المسألة الرابعة: لا بد من أن يكون لهذا التشقق تعلق بنزول الملائكة، فقيل الملائكة في أيام الأنبياء عليهم السلام كانوا ينزلون من مواضع مخصوصة والسماء على اتصالها، ثم في ذلك اليوم تتشقق السماء فإذا انشقت خرج من أن يكون حائلا بين الملائكة وبين الأرض فنزلت الملائكة إلى الأرض. المسألة الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ صِيغَةُ عُمُومٍ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَلِأَنَّ السَّمَاءَ مَقَرُّ الْمَلَائِكَةِ فَإِذَا تَشَقَّقَ وَجَبَ أَنْ يَنْزِلُوا إِلَى الْأَرْضِ، ثم قال مُقَاتِلٌ: تَشَقَّقُ سَمَاءُ الدُّنْيَا فَيَنْزِلُ أَهْلُهَا وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ سُكَّانِ الدُّنْيَا، كَذَلِكَ تَتَشَقَّقُ سَمَاءً سَمَاءً، ثُمَّ يَنْزِلُ الْكَرُوبِيُّونَ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ، ثُمَّ يَنْزِلُ الرَّبُّ تَعَالَى. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ تَتَشَقَّقُ كُلُّ سَمَاءٍ وَيَنْزِلُ سُكَّانُهَا فَيُحِيطُونَ بِالْعَالَمِ وَيَصِيرُونَ سَبْعَ صُفُوفٍ حَوْلَ الْعَالَمِ، وَاعْلَمْ أَنَّ نُزُولَ الرَّبِّ بِالذَّاتِ بَاطِلٌ قَطْعًا، لِأَنَّ النُّزُولَ حَرَكَةٌ وَالْمَوْصُوفُ بِالْحَرَكَةِ مُحْدَثٌ وَالْإِلَهُ لَا يَكُونُ مُحْدَثًا. وَأَمَّا نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الْأَرْضِ فَعَلَيْهِ سُؤَالٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْأَرْضَ بِالْقِيَاسِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ، فَكَيْفَ بِالْقِيَاسِ إِلَى الْكُرْسِيِّ وَالْعَرْشِ فَمَلَائِكَةُ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِأَسْرِهَا كَيْفَ تَتَّسِعُ لَهُمُ الْأَرْضُ جَمِيعًا؟ فَلَعَلَّ اللَّه تَعَالَى يَزِيدُ فِي طُولِ الْأَرْضِ وَعَرْضِهَا وَيُبَلِّغُهَا مَبْلَغًا يَتَّسِعُ لِكُلِّ هَؤُلَاءِ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: الْمَلَائِكَةُ يَكُونُونَ فِي الْغَمَامِ مِنْهُ، واللَّه تَعَالَى يُسَكِّنُ الْغَمَامَ فَوْقَ أَهْلِ الْقِيَامَةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْغَمَامُ مَقَرَّ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ الْحَسَنُ: وَالْغَمَامُ سُتْرَةٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ فِيهِ بِنَسْخِ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ وَالْمُحَاسَبَةُ تَكُونُ فِي الْأَرْضِ. المسألة السَّادِسَةُ: أَمَّا نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ فَظَاهِرٌ، وَمَعْنَى تَنْزِيلًا تَوْكِيدٌ لِلنُّزُولِ وَدَلَالَةٌ عَلَى إِسْرَاعِهِمْ فِيهِ. المسألة السَّابِعَةُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْغَمَامِ لَيْسَ لِلْعُمُومِ فَهُوَ المعهود، وَالْمُرَادُ مَا ذَكَرُوهُ فِي قَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ [الْبَقَرَةِ: 210] . المسألة الثَّامِنَةُ: قُرِئَ: وَنُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ، وَنُنْزِلُ الْمَلَائِكَةَ، وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ، وَنُزِلَتِ الْمَلَائِكَةُ وَنُزِلَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى حَذْفِ النُّونِ الَّذِي هُوَ فَاءُ الْفِعْلِ مَنْ نُنْزِلُ قِرَاءَةُ أَهْلِ مَكَّةَ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ لِذَلِكَ الْيَوْمِ: قَوْلُهُ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ قَالَ الزَّجَّاجُ الْحَقُّ صِفَةٌ لِلْمُلْكِ وَتَقْدِيرُهُ الْمُلْكُ الْحَقُّ يَوْمَئِذٍ لِلرَّحْمَنِ، وَيَجُوزُ الْحَقَّ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْنِي وَلَمْ يُقْرَأْ بِهِ وَمَعْنَى/ وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ حَقًّا أَنَّهُ لَا يَزُولُ وَلَا يَتَغَيَّرُ، فَإِنْ قِيلَ: مِثْلُ هَذَا الْمُلْكِ لَمْ يَكُنْ قَطُّ إِلَّا لِلرَّحْمَنِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ يَوْمَئِذٍ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا مَالِكَ سِوَاهُ لَا فِي الصُّورَةِ وَلَا فِي الْمَعْنَى، فَتَخْضَعُ لَهُ الْمُلُوكُ وَتَعْنُو لَهُ الْوُجُوهُ وَتَذِلُّ لَهُ الْجَبَابِرَةُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّه الثَّوَابُ وَالْعِوَضُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَاسْتَحَقَّ الذَّمَّ بِتَرْكِهِ فَكَانَ خَائِفًا مِنْ أَنْ لَا يَفْعَلَ فَلَمْ يَكُنْ مُلْكًا مُطْلَقًا وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ يُفِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ مُلْكٌ وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، لِأَنَّ كُلَّ مَنِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ شيئا

فَإِنَّهُ يَكُونُ مَالِكًا لَهُ، وَلَا يَكُونُ هُوَ سبحانه مالكا لذلك المستحق، ولأنه سُبْحَانَهُ إِذَا اسْتَحَقَّ عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا أَمْكَنَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، أَمَّا غَيْرُهُ إِذَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ إِبْرَاؤُهُ عَنْهُ، فكانت العبودية هاهنا أَتَمَّ، وَلِأَنَّ مَنْ كَفَرَ باللَّه إِلَى آخِرِ عُمُرِهِ ثُمَّ فِي آخِرِ عُمُرِهِ عَرَفَ اللَّه لَحْظَةً وَمَاتَ فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَوْ أَعْطَاهُ أَلْفَ أَلْفِ سَنَةٍ أَنْوَاعَ الثَّوَابِ وَأَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ لَا يُعْطِيَهُ لَحْظَةً وَاحِدَةً صَارَ سَفِيهًا، وَهَذَا نِهَايَةُ الْعُبُودِيَّةِ وَالذُّلِّ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِمَنْ هَذَا حَالُهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَأَيْضًا فَكُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ لَكَانَ مُسْتَوْجِبًا لِلذَّمِّ وَكَانَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ مُكْتَسِبًا لِلْكَمَالِ وَبِتَرْكِهِ مُكْتَسِبًا لِلنُّقْصَانِ فَلَمْ يَكُنْ مَلِكًا بَلْ فَقِيرًا مُسْتَحِقًّا، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ غَيْرُ لَائِقٍ بِأُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً فَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْأَحْوَالِ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ مَا يُرِيدُهُ وَأَمَّا غَيْرُهُ فَالْكُلُّ فِي رِبْقَةِ الْعَجْزِ وَلِجَامِ الْقَهْرِ، فَكَانَ فِي نِهَايَةِ الْعُسْرِ عَلَى الْكَافِرِ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الظَّالِمِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِلْعُمُومِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِلْمَعْهُودِ، وَالْقَائِلُونَ بِالْمَعْهُودِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمُرَادُ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ كَانَ لَا يَقْدَمُ مِنْ مَقَرٍّ إِلَّا صَنَعَ طَعَامًا يَدْعُو إِلَيْهِ جِيرَتَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَيُكْثِرُ مُجَالَسَةَ الرَّسُولِ وَيُعْجِبُهُ حَدِيثُهُ فَصَنَعَ طَعَامًا وَدَعَا الرَّسُولَ فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا آكُلُ مِنْ طَعَامِكَ حَتَّى تَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَفَعَلَ فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَعَامِهِ فَبَلَغَ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ فَقَالَ صَبَوْتَ يَا عُقْبَةُ وَكَانَ خَلِيلَهُ فَقَالَ إِنَّمَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِيَأْكُلَ مِنْ طَعَامِي فَقَالَ لَا أَرْضَى أَبَدًا حَتَّى تَأْتِيَهُ فَتَبْزُقَ فِي وَجْهِهِ وَتَطَأَ عَلَى عُنُقِهِ فَفَعَلَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا أَلْقَاكَ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ إِلَّا عَلَوْتُ رَأْسَكَ بِالسَّيْفِ فَنَزَلَ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ نَدَامَةً يَعْنِي عُقْبَةَ يَقُولُ: يَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ أُمَيَّةَ خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ. أَيْ صَرَفَنِي عَنِ الذِّكْرِ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالْإِيمَانُ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسِرَ عُقْبَةُ يَوْمَ بَدْرٍ فَقُتِلَ صَبْرًا وَلَمْ يُقْتَلْ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْأُسَارَى غَيْرُهُ وَغَيْرُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ الثَّانِي: قَالَتِ الرَّافِضَةُ: هَذَا الظَّالِمُ هُوَ رَجُلٌ بِعَيْنِهِ وَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ غَيَّرُوا اسْمَهُ/ وَكَتَمُوهُ وَجَعَلُوا فُلَانًا بَدَلًا مِنَ اسْمِهِ، وَذَكَرُوا فَاضِلِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّه، وَاعْلَمْ أَنَّ إِجْرَاءَ اللَّفْظِ عَلَى الْعُمُومِ لَيْسَ لِنَفْسِ اللَّفْظِ، لِأَنَّا بينا في أصول الفقه أن لألف واللم إِذَا دَخَلَ عَلَى الِاسْمِ الْمُفْرَدِ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ بَلْ إِنَّمَا يُفِيدُهُ لِلْقَرِينَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِعَلِيَّةِ الْوَصْفِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْعَضِّ عَلَى الْيَدَيْنِ كَوْنُهُ ظَالِمًا وَحِينَئِذٍ يَعُمُّ الْحُكْمُ لِعُمُومِ عِلَّتِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى مِنَ التَّخْصِيصِ بِصُورَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَنُزُولُهُ فِي وَاقِعَةٍ أُخْرَى خَاصَّةٍ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْعُمُومَ حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ تِلْكَ الصُّورَةِ وَغَيْرِهَا وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ زَجْرُ الْكُلِّ عَنِ الظُّلْمِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْعُمُومِ، وَأَمَّا قَوْلُ الرَّافِضَةِ فَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ وَإِثْبَاتِ أَنَّهُ غَيْرٌ وَبَدَلٌ وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ كُفْرٌ. المسألة الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ قَالُوا الظَّالِمُ يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ وَالْفَاسِقَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَعْفُو عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ تَقَدَّمَ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ قَالَ الضَّحَّاكُ: يَأْكُلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقِ ثُمَّ تَنْبُتُ فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ كُلَّمَا أَكَلَهَا نَبَتَتْ، وَقَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مُشْعِرَةٌ بِالتَّحَسُّرِ وَالْغَمِّ، يُقَالُ عَضَّ أَنَامِلَهُ وَعَضَّ عَلَى يَدَيْهِ.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 30 إلى 31]

المسألة الرَّابِعَةُ: كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ الظَّالِمَ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِشَخْصٍ وَاحِدٍ بَلْ يَعُمُّ جَمِيعَ الظَّلَمَةِ فَكَذَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فُلَانًا لَيْسَ شَخْصًا وَاحِدًا بَلْ كُلُّ مَنْ أُطِيعَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّه، وَاسْتَشْهَدَ الْقَفَّالُ بِقَوْلِهِ: وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً [الفرقان: 55] ، يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [النَّبَأِ: 40] يَعْنِي بِهِ جَمَاعَةَ الْكُفَّارِ. المسألة الْخَامِسَةُ: قُرِئَ يَا وَيْلَتِي بِالْيَاءِ وَهُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّ الرَّجُلَ يُنَادِي وَيْلَتَهُ وَهِيَ هَلَكَتُهُ يَقُولُ لَهَا: تَعَالَيْ فَهَذَا أَوَانُكَ، وَإِنَّمَا قُلِبَتِ الْيَاءُ أَلِفًا كَمَا فِي صَحَارَى وَ (عَذَارَى) «1» . المسألة السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: عَنِ الذِّكْرِ أَيْ عَنْ ذِكْرِ اللَّه أَوِ الْقُرْآنِ وَمَوْعِظَةِ الرَّسُولِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ نُطْقَهُ بِشَهَادَةِ الْحَقِّ (وَغَيْرَتَهُ) «2» عَلَى الْإِسْلَامِ وَالشَّيْطَانُ إِشَارَةٌ إِلَى خَلِيلِهِ سَمَّاهُ شَيْطَانًا لِأَنَّهُ أَضَلَّهُ كَمَا يُضِلُّ الشَّيْطَانُ ثُمَّ خَذَلَهُ وَلَمْ يَنْفَعْهُ فِي الْعَاقِبَةِ، أَوْ أَرَادَ إِبْلِيسَ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى أَنْ صَارَ خَلِيلًا لِذَلِكَ الْمُضِلِّ وَمُخَالَفَةِ الرَّسُولِ ثُمَّ خَذَلَهُ أَوْ أَرَادَ الْجِنْسَ وَكُلَّ مَنْ تَشَيْطَنَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَكانَ الشَّيْطانُ حِكَايَةَ كَلَامِ الظَّالِمِ وَأَنْ يَكُونَ كَلَامَ اللَّه. [سورة الفرقان (25) : الآيات 30 الى 31] وَقالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) اعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا أَكْثَرُوا مِنَ الِاعْتِرَاضَاتِ الْفَاسِدَةِ وَوُجُوهِ التَّعَنُّتِ ضَاقَ صَدْرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَكَاهُمْ إِلَى اللَّه تَعَالَى وقال: يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ قَوْلٌ وَاقِعٌ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُهُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاءِ: 41] وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلَّفْظِ وَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ [الْفُرْقَانِ: 31] تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَلِيقُ إِلَّا إِذَا كَانَ وَقَعَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مِنْهُ. المسألة الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي الْمَهْجُورِ قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنَ الْهِجْرَانِ أَيْ تَرَكُوا الْإِيمَانَ بِهِ وَلَمْ يَقْبَلُوهُ وَأَعْرَضُوا عَنِ اسْتِمَاعِهِ الثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ أَهْجَرَ أَيْ مَهْجُورًا فِيهِ ثُمَّ حَذَفَ الْجَارَّ وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 67] ثُمَّ هَجْرُهُمْ فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّهُ سِحْرٌ وَشِعْرٌ وَكَذِبٌ وَهَجْرٌ أَيْ هَذَيَانٌ، وَرَوَى أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ [وَعَلَّمَهُ] «3» وَعَلَّقَ مُصْحَفًا لَمْ يتعهده ولم ينطر فِيهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَعَلِّقًا بِهِ يَقُولُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ عَبْدُكَ هَذَا اتَّخَذَنِي مَهْجُورًا، اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ» ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ مُسَلِّيًا لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمُعَزِّيًا لَهُ وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ لَهُ أُسْوَةً بِسَائِرِ الرُّسُلِ، فَلْيَصْبِرْ عَلَى مَا يَلْقَاهُ مِنْ قَوْمِهِ كَمَا صَبَرُوا ثُمَّ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا

_ (1) في الكشاف (مدارى) . (2) في الكشاف (وعزمه) 3/ 90 ط. دار الفكر. (3) زيادة من الكشاف.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 32 إلى 34]

يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْعَدَاوَةَ مِنْ جَعْلِ اللَّه وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْعَدَاوَةَ كُفْرٌ قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْمُرَادُ مِنَ الْجَعْلِ التَّبْيِينُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ أَعْدَاؤُهُ، جَازَ أَنْ يَقُولَ: جَعَلْنَاهُمْ أَعْدَاءَهُ، كَمَا إِذَا بَيَّنَ الرَّجُلُ أَنَّ فُلَانًا لِصٌّ يُقَالُ جَعَلَهُ لِصًّا كَمَا يُقَالُ فِي الْحَاكِمِ عَدَّلَ فُلَانًا وَفَسَّقَ فُلَانًا وَجَرَّحَهُ، قَالَ الْكَعْبِيُّ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْأَنْبِيَاءَ بِعَدَاوَةِ الْكُفَّارِ وَعَدَاوَتُهُمْ لِلْكُفَّارِ تَقْتَضِي عَدَاوَةَ الْكُفَّارِ لَهُمْ، فَلِهَذَا جَازَ أَنْ يَقُولَ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُ وَدَعَاهُ إِلَى مَا اسْتَعْقَبَ تِلْكَ الْعَدَاوَةَ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: يَحْتَمِلُ فِي الْعَدُوِّ أَنَّهُ الْبَعِيدُ لَا الْقَرِيبُ إِذِ الْمُعَادَاةُ الْمُبَاعَدَةُ كَمَا أَنَّ النَّصْرَ الْقُرْبُ وَالْمُظَاهَرَةُ، وَقَدْ بَاعَدَ اللَّه تَعَالَى بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ التَّبْيِينَ لَا يُسَمُّونَهُ الْبَتَّةَ جَعْلًا لِأَنَّ مَنْ بَيَّنَ لِغَيْرِهِ وُجُودَ الصَّانِعِ وَقِدَمَهُ لَا يُقَالُ إِنَّهُ جَعَلَ الصَّانِعَ وَجَعَلَ قِدَمَهُ وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِهِ هَلْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي وُقُوعِ الْعَدَاوَةِ فِي قُلُوبِهِمْ أَوْ لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَقَدْ تَمَّ الْكَلَامُ لِأَنَّ عَدَاوَتَهُمْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفْرٌ فَإِذَا أَمَرَ اللَّه الرَّسُولَ بِمَا لَهُ أَثَرٌ فِي تِلْكَ الْعَدَاوَةِ فَقَدْ أَمَرَهُ بِمَا لَهُ أَثَرٌ فِي وُقُوعِ الْكُفْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَأْثِيرٌ الْبَتَّةَ كَانَ مُنْقَطِعًا عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَيَمْتَنِعُ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ. المسألة الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السلام: يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا/ الْقُرْآنَ مَهْجُوراً فِي الْمَعْنَى كَقَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نُوحٍ: 5، 6] وَكَمَا أَنَّ المقصود من هذا إنزال العذاب فكذا هاهنا فَكَيْفَ يَلِيقُ هَذَا بِمَنْ وَصَفَهُ اللَّه بِالرَّحْمَةِ فِي قَوْلُهُ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 107] ؟ جَوَابُهُ: أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ دَعَا عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَمَّا ذَكَرَ هَذَا مَا دَعَا عَلَيْهِمْ بَلِ انْتَظَرَ فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ كَانَ ذَلِكَ كَالْأَمْرِ لَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ وَتَرْكِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ جَعَلْنا صيغة العظماء والتعظيم إِذَا ذَكَرَ نَفْسَهُ فِي كُلِّ مَعْرِضٍ مِنَ التَّعْظِيمِ وَذَكَرَ أَنَّهُ يُعْطِي فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْعَطِيَّةُ عَظِيمَةً كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الْحِجْرِ: 87] وَقَوْلِهِ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الْكَوْثَرِ: 1] فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْعَطِيَّةُ هِيَ الْعَدَاوَةَ الَّتِي هِيَ مَنْشَأُ الضَّرَرِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا؟ وَجَوَابُهُ: أَنَّ خَلْقَ الْعَدَاوَةِ سَبَبٌ لِازْدِيَادِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي هِيَ مُوجِبَةٌ لِمَزِيدِ الثَّوَابِ واللَّه أَعْلَمُ. المسألة الرَّابِعَةُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ وَاحِدًا وَجَمْعًا كَقَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي [الشُّعَرَاءِ: 77] وَجَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ عَدُوَّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو جَهْلٍ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً فَقَالَ الزَّجَّاجُ الْبَاءُ زَائِدَةٌ يَعْنِي كَفَى رَبُّكَ وَهَادِيًا وَنَصِيرًا مَنْصُوبَانِ عَلَى الْحَالِ هَادِيًا إِلَى مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَنَصِيرًا عَلَى الْأَعْدَاءِ، ونظيره يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. [الْأَنْفَالِ: 64] [سورة الفرقان (25) : الآيات 32 الى 34] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34)

[فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ لِمُنْكِرِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَالُوا تَزْعُمُ أَنَّكَ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّه أَفَلَا تَأْتِينَا بِالْقُرْآنِ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ جُمْلَةً عَلَى مُوسَى وَالْإِنْجِيلُ عَلَى عِيسَى/ وَالزَّبُورُ عَلَى دَاوُدَ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ اثْنَتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً وَأَجَابَ اللَّه بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَبَيَانُ هَذَا الْجَوَابِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ فَلَوْ نَزَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَانَ لَا يَضْبِطُهُ وَلَجَازَ عَلَيْهِ الْغَلَطُ وَالسَّهْوُ، وَإِنَّمَا نَزَلَتِ التَّوْرَاةُ جُمْلَةً لِأَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ يَقْرَؤُهَا مُوسَى وَثَانِيهَا: أَنَّ مَنْ كَانَ الْكِتَابُ عِنْدَهُ، فَرُبَّمَا اعْتَمَدَ عَلَى الْكِتَابِ وَتَسَاهَلَ فِي الْحِفْظِ فاللَّه تَعَالَى مَا أَعْطَاهُ الْكِتَابَ دُفْعَةً وَاحِدَةً بَلْ كَانَ يُنْزِلُ عَلَيْهِ وَظِيفَةً لِيَكُونَ حِفْظُهُ لَهُ أَكْمَلَ فَيَكُونُ أَبْعَدَ لَهُ عَنِ الْمُسَاهَلَةِ وَقِلَّةِ التَّحْصِيلِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى الْخَلْقِ لَنَزَلَتِ الشَّرَائِعُ بِأَسْرِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً عَلَى الْخَلْقِ فَكَانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، أَمَّا لَمَّا نَزَلَ مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا لَا جَرَمَ نَزَلَتِ التَّكَالِيفُ قَلِيلًا قَلِيلًا فَكَانَ تَحَمُّلُهَا أَسْهَلَ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ إِذَا شَاهَدَ جِبْرِيلَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ يَقْوَى قَلْبُهُ بِمُشَاهَدَتِهِ فَكَانَ أَقْوَى عَلَى أَدَاءِ مَا حُمِّلَ، وَعَلَى الصَّبْرِ عَلَى عَوَارِضِ النُّبُوَّةِ وَعَلَى احْتِمَالِهِ أَذِيَّةَ قَوْمِهِ وَعَلَى الْجِهَادِ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ لَمَّا تَمَّ شَرْطُ الْإِعْجَازِ فِيهِ مَعَ كَوْنِهِ مُنَجَّمًا ثَبَتَ كَوْنُهُ مُعْجِزًا، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ لَوَجَبَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا وَسَادِسُهَا: كَانَ الْقُرْآنُ يَنْزِلُ بِحَسَبِ أَسْئِلَتِهِمْ وَالْوَقَائِعِ الْوَاقِعَةِ لَهُمْ فَكَانُوا يَزْدَادُونَ بَصِيرَةً، لِأَنَّ بِسَبَبِ ذَلِكَ كَانَ يَنْضَمُّ إِلَى الْفَصَاحَةِ الْإِخْبَارُ عَنِ الْغُيُوبِ وَسَابِعُهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا نَزَلَ مَنَجَّمًا مُفَرَّقًا وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يتحداهم من أول الأمر فكأنه تحدواهم بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ نُجُومِ الْقُرْآنِ فَلَمَّا عَجَزُوا عَنْهُ كَانَ عَجْزُهُمْ عَنْ مُعَارَضَةِ الْكُلِّ أَوْلَى فَبِهَذَا الطَّرِيقِ ثَبَتَ فِي فُؤَادِهِ أَنَّ الْقَوْمَ عاجزون عن المعارضة لا محالة وثامنها: أَنَّ السِّفَارَةَ بَيْنَ اللَّه تَعَالَى وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ وَتَبْلِيغَ كَلَامِهِ إِلَى الْخَلْقِ مَنْصِبٌ عَظِيمٌ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَبَطَلَ ذَلِكَ الْمَنْصِبُ عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا أَنْزَلَهُ مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا بَقِيَ ذَلِكَ الْمَنْصِبُ الْعَالِي عَلَيْهِ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَعَلَهُ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا. أَمَّا قَوْلُهُ: كَذلِكَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الْمُشْرِكِينَ أَيْ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ أَيْ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارٍ فِي الْآيَةِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَنْزَلْنَاهُ مُفَرَّقًا لنثبت بِهِ فُؤَادَكَ الثَّانِي: أَنَّهُ كَلَامُ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَهُ جَوَابًا لَهُمْ أَيْ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ مُفَرَّقًا فَإِنْ قِيلَ: ذَلِكَ فِي كَذلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى شَيْءٍ تَقَدَّمَهُ وَالَّذِي تَقَدَّمَ فَهُوَ إِنْزَالُهُ جُمْلَةً [وَاحِدَةً] «1» فَكَيْفَ فَسَّرَ بِهِ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ مُفَرَّقًا؟ قُلْنَا لِأَنَّ قَوْلَهُمْ لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً مَعْنَاهُ لِمَ نَزَلَ مُفَرَّقًا فَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا فَمَعْنَى التَّرْتِيلِ فِي الْكَلَامِ أَنْ يَأْتِيَ بَعْضُهُ عَلَى أَثَرِ بَعْضٍ عَلَى تُؤَدَةٍ وَتَمَهُّلٍ وَأَصْلُ التَّرْتِيلِ فِي الْأَسْنَانِ وَهُوَ تَفَلُّجُهَا يُقَالُ ثَغْرٌ رَتْلٌ وَهُوَ ضِدُّ الْمُتَرَاصِّ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فَسَادَ قَوْلِهِمْ بِالْجَوَابِ الْوَاضِحِ قَالَ: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الشُّبُهَاتِ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ الَّذِي يَدْفَعُ قَوْلَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ/ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الْأَنْبِيَاءِ: 18] وَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ أَحْسَنُ تَفْسِيرًا لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَزِيَّةِ فِي الْبَيَانِ وَالظُّهُورِ، وَلَمَّا كَانَ التَّفْسِيرُ هُوَ الْكَشْفَ عَمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وُضِعَ مَوْضِعَ مَعْنَاهُ، فَقَالُوا تَفْسِيرُ هَذَا الْكَلَامِ كَيْتَ وَكَيْتَ كَمَا قِيلَ مَعْنَاهُ كَذَا وَكَذَا. أَمَّا قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ فَفِيهِ مسائل:

_ (1) زيادة من الكشاف.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 35 إلى 36]

المسألة الْأُولَى: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ صِنْفٍ عَلَى الدَّوَابِّ وَصِنْفٍ عَلَى الْأَقْدَامِ وَصِنْفٍ عَلَى الْوُجُوهِ» وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ» . المسألة الثَّانِيَةُ: الْأَقْرَبُ أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ أَوْرَدُوا هَذِهِ الْأَسْئِلَةَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَدْخُلُ مَعَهُمْ. المسألة الثَّالِثَةُ: حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ يَمْشُونَ فِي الْآخِرَةِ مَقْلُوبِينَ، وُجُوهُهُمْ إِلَى الْقَرَارِ وَأَرْجُلُهُمْ إِلَى فَوْقُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ آخَرُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ وَيُسْحَبُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَهَذَا أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ أَوْلَى، وَقَالَ الصُّوفِيَّةُ: الَّذِينَ تَعَلَّقَتْ قُلُوبُهُمْ بِمَا سِوَى اللَّه فَإِذَا مَاتُوا بَقِيَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ فَعَبَّرَ عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ بِأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ شَرٌّ مَكَانًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَضَلُّ سَبِيلًا وَطَرِيقًا، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الزَّجْرُ عَنْ طَرِيقِهِمْ وَالسُّؤَالِ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَلَى قَوْلِهِ: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا [الفرقان: 24] وقد تقدم الجواب عنه. [سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 36] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ تَكَلَّمَ فِي التَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الْأَنْدَادِ وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَالْجَوَابِ عَنْ شُبُهَاتِ الْمُنْكِرِينَ لَهَا وَفِي أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ شَرَعَ فِي ذِكْرِ الْقَصَصِ عَلَى السُّنَّةِ الْمَعْلُومَةِ. الْقِصَّةُ الأولى- قصة موسى عليه السلام اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا [الْفُرْقَانِ: 31] أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَعَرَّفَهُ بِمَا نَزَلَ بِمَنْ كَذَّبَ مِنْ أُمَمِهِمْ فَقَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً وَالْمَعْنَى: لَسْتَ يَا مُحَمَّدُ بِأَوَّلِ مَنْ أَرْسَلْنَاهُ فَكُذِّبَ، وَآتَيْنَاهُ الْآيَاتِ فَرُدَّ، فَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى التَّوْرَاةَ وَقَوَّيْنَا عَضُدَهُ بِأَخِيهِ هَارُونَ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ رُدَّ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: كَوْنُهُ وَزِيرًا لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ شَرِيكًا لَهُ فِي النُّبُوَّةِ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ: فَقُلْنَا اذْهَبا إِنَّهُ خِطَابٌ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحْدَهُ بَلْ يَجْرِي مَجْرَى قَوْلِهِ: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه: 43] فَإِنْ قِيلَ إِنَّ كَوْنَهُ وَزِيرًا كَالْمُنَافِي لِكَوْنِهِ شَرِيكًا بَلْ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَمَّا صَارَ شَرِيكًا خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ وَزِيرًا، قُلْنَا لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَشْرَكَهُ فِي النُّبُوَّةِ وَيَكُونَ وَزِيرًا وَظَهِيرًا وَمُعِينًا لَهُ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ الْوَزِيرُ فِي اللُّغَةِ الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ وَيُتَحَصَّنُ بِرَأْيِهِ وَالْوَزَرُ مَا يُعْتَصَمُ بِهِ وَمِنْهُ كَلَّا لَا وَزَرَ [الْقِيَامَةِ: 11] أَيْ لَا مَنْجَى وَلَا مَلْجَأَ، قَالَ الْقَاضِي: وَلِذَلِكَ لَا يُوصَفُ تَعَالَى بِأَنَّ لَهُ وَزِيرًا وَلَا يُقَالُ فِيهِ أَيْضًا بِأَنَّهُ وَزِيرٌ لِأَنَّ الِالْتِجَاءَ إِلَيْهِ فِي الْمُشَاوَرَةِ وَالرَّأْيِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ لا يصح. المسألة الثالثة: فَدَمَّرْناهُمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِهْلَاكًا فَإِنْ قِيلَ: الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ وَالْإِهْلَاكُ لَمْ يَحْصُلْ عَقِيبَ ذَهَابِ

[سورة الفرقان (25) : آية 37]

مُوسَى وَهَارُونَ إِلَيْهِمْ بَلْ بَعْدَ مُدَّةٍ مَدِيدَةٍ، قلنا: التعقيب محمول هاهنا عَلَى الْحُكْمِ لَا عَلَى الْوُقُوعِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ اخْتِصَارَ الْقِصَّةِ فَذَكَرَ حَاشِيَتَيْهَا أَوَّلَهَا وَآخِرَهَا لِأَنَّهُمَا الْمَقْصُودُ مِنَ الْقِصَّةِ بِطُولِهَا أَعْنِي إِلْزَامَ الحجة بِبَعْثَةِ الرُّسُلِ وَاسْتِحْقَاقِ التَّدْمِيرِ بِتَكْذِيبِهِمْ. المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنْ حَمَلْنَا تَكْذِيبَ الْآيَاتِ عَلَى تَكْذِيبِ آيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى تَكْذِيبِ آيَاتِ النُّبُوَّةِ فَاللَّفْظُ، وَإِنْ كَانَ لِلْمَاضِي إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْمُسْتَقْبَلُ. [سورة الفرقان (25) : آية 37] وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) القصة الثانية- قصة نوح عليه السلام اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا قَالَ: كَذَّبُوا الرُّسُلَ إِمَّا لِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنَ الْبَرَاهِمَةِ الْمُنْكِرِينَ لِكُلِّ الرُّسُلِ أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ تَكْذِيبُهُمْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ تَكْذِيبًا لِلْجَمِيعِ، لِأَنَّ تَكْذِيبَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالْقَدْحِ فِي الْمُعْجِزِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَكْذِيبَ الْكُلِّ، أَوْ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّسُلِ وَإِنْ كَانَ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحْدَهُ وَلَكِنَّهُ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يَرْكَبُ الْأَفْرَاسَ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَغْرَقْناهُمْ فَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَمْطَرَ اللَّه عَلَيْهِمُ السَّمَاءَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَخْرَجَ مَاءَ الْأَرْضِ أَيْضًا فِي تِلْكَ الْأَرْبَعِينَ فَصَارَتِ الْأَرْضُ بَحْرًا وَاحِدًا وَجَعَلْناهُمْ أَيْ وَجَعَلْنَا إِغْرَاقَهُمْ أَوْ قِصَّتَهُمْ آيَةً، وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ أَيْ لِكُلِّ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ عَذَابًا أَلِيمًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قوم نوح. [سورة الفرقان (25) : الآيات 38 الى 39] وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) الْقِصَّةُ الثَّالِثَةُ- قِصَّةُ عَادٍ وَثَمُودَ وَأَصْحَابِ الرَّسِّ في الآية مسائل: المسألة الأولى: عطف عاداً عَلَى (هُمْ) فِي وَجَعَلْناهُمْ أَوْ عَلَى (الظَّالِمِينَ) لِأَنَّ الْمَعْنَى وَوَعَدْنَا الظَّالِمِينَ. المسألة الثَّانِيَةُ: قُرِئَ وثَمُودَ عَلَى تَأْوِيلِ الْقَبِيلَةِ، وَأَمَّا عَلَى الْمُنْصَرِفِ فَعَلَى تَأْوِيلِ الْحَيِّ أَوْ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْأَبِ الْأَكْبَرِ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الرَّسُّ هُوَ الْبِئْرُ غَيْرُ الْمَطْوِيَّةِ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: فِي الْبِلَادِ مَوْضِعٌ يُقَالُ لَهُ الرَّسُّ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَادِي سَكَنًا لَهُمْ، وَالرَّسُّ عِنْدَ الْعَرَبِ الدَّفْنُ، وَيُسَمَّى بِهِ الْحَفْرُ يُقَالُ رُسَّ الْمَيِّتُ إِذَا دُفِنَ وَغُيِّبَ فِي الْحُفْرَةِ، وَفِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ الْبِئْرُ، وَأَيُّ شَيْءٍ كَانَ فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الرَّسِّ بِالْهَلَاكِ انْتَهَى. المسألة الرَّابِعَةُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَصْحَابِ الرَّسِّ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: كَانُوا قَوْمًا مِنْ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ أَصْحَابَ آبَارٍ وَمَوَاشٍ، فَبَعَثَ اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِمْ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَتَمَادَوْا فِي طُغْيَانِهِمْ وَفِي إِيذَائِهِ فَبَيْنَمَا

هُمْ حَوْلَ الرَّسِّ خَسَفَ اللَّه بِهِمْ وَبِدَارِهِمْ وَثَانِيهَا: الرَّسُّ قَرْيَةٌ بِفَلَجِ الْيَمَامَةِ قَتَلُوا نَبِيَّهُمْ فَهَلَكُوا وَهُمْ بَقِيَّةُ ثَمُودَ وَثَالِثُهَا: أَصْحَابُ النَّبِيِّ حنظلة بْنِ صَفْوَانَ كَانُوا مُبْتَلَيْنَ بِالْعَنْقَاءِ، وَهِيَ أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنَ الطَّيْرِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِطُولِ عُنُقِهَا وَكَانَتْ تَسْكُنُ جَبَلَهُمُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ فتح وَهِيَ تَنْقَضُّ عَلَى صِبْيَانِهِمْ فَتَخْطَفُهُمْ إِنْ أَعْوَزَهَا الصَّيْدُ فَدَعَا عَلَيْهَا حَنْظَلَةُ فَأَصَابَتْهَا الصَّاعِقَةُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَتَلُوا حَنْظَلَةَ فَأُهْلِكُوا وَرَابِعُهَا: هُمْ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، وَالرَّسُّ هُوَ الْأُخْدُودُ وَخَامِسُهَا: الرَّسُّ أَنْطَاكِيَةُ قَتَلُوا فِيهَا حَبِيبًا النَّجَّارَ، وَقِيلَ (كَذَّبُوهُ) «1» وَرَسُّوهُ فِي بِئْرٍ أَيْ دَسُّوهُ فِيهَا وَسَادِسُهَا: عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا يَعْبُدُونَ شَجَرَةَ الصَّنَوْبَرِ وَإِنَّمَا سُمُّوا بِأَصْحَابِ الرَّسِّ لِأَنَّهُمْ رَسُّوا نَبِيَّهُمْ فِي الْأَرْضِ وَسَابِعُهَا: أَصْحَابُ الرَّسِّ قَوْمٌ كَانَتْ لَهُمْ قُرًى عَلَى شَاطِئِ نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ الرَّسُّ مِنْ بِلَادِ الْمَشْرِقِ فَبَعَثَ اللَّه تعالى إليهم نبيا من ولد يهودا بْنِ يَعْقُوبَ فَكَذَّبُوهُ فَلَبِثَ فِيهِمْ زَمَنًا فَشَكَى إِلَى اللَّه تَعَالَى مِنْهُمْ فَحَفَرُوا بِئْرًا وَرَسُّوهُ فِيهَا وَقَالُوا نَرْجُو أَنْ يَرْضَى عَنَّا إِلَهُنَا وَكَانُوا عَامَّةَ يَوْمِهِمْ يَسْمَعُونَ أَنِينَ نَبِيِّهِمْ يَقُولُ: إِلَهِي وَسَيِّدِي تَرَى ضِيقَ مَكَانِي وَشِدَّةَ كَرْبِي وَضَعْفَ قَلْبِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي فَعَجِّلْ قَبْضَ رُوحِي حَتَّى مَاتَ، فَأَرْسَلَ اللَّه تَعَالَى رِيحًا/ عَاصِفَةً شَدِيدَةَ الْحُمْرَةِ فَصَارَتِ الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِهِمْ حَجَرَ كِبْرِيتٍ مُتَوَقِّدٍ وَأَظَلَّتْهُمْ سَحَابَةٌ سَوْدَاءُ فَذَابَتْ أَبْدَانُهُمْ كَمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ وَثَامِنُهَا: رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّه بَعَثَ نَبِيًّا إِلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنْ أَهْلِهَا أَحَدٌ إِلَّا عَبْدٌ أَسْوَدُ ثُمَّ عَدَوْا عَلَى الرَّسُولِ فَحَفَرُوا لَهُ بِئْرًا فَأَلْقَوْهُ فِيهَا، ثُمَّ أَطْبَقُوا عَلَيْهِ حَجَرًا ضَخْمًا، وَكَانَ ذَلِكَ الْعَبْدُ يَحْتَطِبُ فَيَشْتَرِي لَهُ طَعَامًا وَشَرَابًا وَيَرْفَعُ الصَّخْرَةَ وَيُدْلِيهِ إِلَيْهِ فَكَانَ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّه فَاحْتَطَبَ يَوْمًا فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَحْمِلَهَا وَجَدَ نَوْمًا فَاضْطَجَعَ فَضَرَبَ اللَّه عَلَى أُذُنِهِ سَبْعَ سِنِينَ نَائِمًا، ثُمَّ انْتَبَهَ وَتَمَطَّى وَتَحَوَّلَ لِشِقِّهِ الْآخَرِ فَنَامَ سَبْعَ سِنِينَ أُخْرَى، ثُمَّ هَبَّ فَحَمَلَ حُزْمَتَهُ فَظَنَّ أَنَّهُ نَامَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَجَاءَ إِلَى الْقَرْيَةِ فَبَاعَ حُزْمَتَهُ وَاشْتَرَى طَعَامًا وَشَرَابًا وَذَهَبَ إِلَى الْحُفْرَةِ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا، وَكَانَ قَوْمُهُ قَدِ اسْتَخْرَجُوهُ وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَكَانَ ذَلِكَ النَّبِيُّ يَسْأَلُهُمْ عَنِ الْأَسْوَدِ، فَيَقُولُونَ لَا نَدْرِي حَالَهُ حَتَّى قَبَضَ اللَّه النَّبِيَّ وَقَبَضَ ذَلِكَ الْأَسْوَدَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ ذَلِكَ الْأَسْوَدَ لَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ» وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ وَهُوَ أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ غَيْرُ مَعْلُومٍ بِالْقُرْآنِ، وَلَا بِخَبَرٍ قَوِيِّ الْإِسْنَادِ، وَلَكِنَّهُمْ كَيْفَ كَانُوا فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أُهْلِكُوا بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ. المسألة الْخَامِسَةُ: قَالَ النَّخَعِيُّ: الْقَرْنُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: بَلْ سَبْعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ. المسألة السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ بَيْنَ ذلِكَ أَيْ بَيْنَ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ وَقَدْ يَذْكُرُ الذَّاكِرُ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةً ثُمَّ يُشِيرُ إِلَيْهَا بِذَلِكَ وَيَحْسِبُ الْحَاسِبُ أَعْدَادًا مُتَكَاثِرَةً، ثُمَّ يَقُولُ فَذَلِكَ كَيْتَ وَكَيْتَ عَلَى مَعْنَى فَذَلِكَ الْمَحْسُوبُ أَوِ الْمَعْدُودُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ فَالْمُرَادُ بَيَّنَّا لَهُمْ وَأَزَحْنَا عِلَلَهُمْ فَلَمَّا كَذَّبُوا تَبَّرْنَاهُمْ تَتْبِيرًا وَيَحْتَمِلُ وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ بِأَنْ أَجَبْنَاهُمْ عَمَّا أَوْرَدُوهُ مِنَ الشُّبَهِ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ كَمَا أَوْرَدَهُ قَوْمُكَ يَا مُحَمَّدُ، فَلَمَّا لَمْ يَنْجَعْ فِيهِ تَبَّرْنَاهُمْ تَتْبِيرًا، فَحَذَّرَ تَعَالَى بِذَلِكَ قَوْمَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِاسْتِمْرَارِ عَلَى تَكْذِيبِهِ لِئَلَّا يَنْزِلَ بِهِمْ مِثْلُ الَّذِي نَزَلَ بِالْقَوْمِ عَاجِلًا وآجلا. المسألة السابعة: (كلا) الْأَوَّلُ مَنْصُوبٌ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَهُوَ أَنْذَرْنَا أَوْ حَذَّرْنَا، وَالثَّانِي بِتَبَّرْنَا لأنه فارغ له.

_ (1) في الكشاف (كذبوا نبيهم) 3/ 92 ط. دار الفكر.

[سورة الفرقان (25) : آية 40]

المسألة الثَّامِنَةُ: التَّتْبِيرُ التَّفْتِيتُ وَالتَّكْسِيرُ، وَمِنْهُ التِّبْرُ وهو كسارة الذهب والفضة والزجاج. [سورة الفرقان (25) : آية 40] وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) القصة الرابعة- قصة لوط عليه السلام وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِالْقَرْيَةِ سَدُومَ مِنْ قُرَى قَوْمِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَتْ خَمْسًا أَهْلَكَ اللَّه تَعَالَى أَرْبَعًا بِأَهْلِهَا وَبَقِيَتْ وَاحِدَةٌ، وَ (مَطَرَ السَّوْءِ) الْحِجَارَةُ يَعْنِي أَنَّ قُرَيْشًا مَرُّوا مِرَارًا كَثِيرَةً فِي مَتَاجِرِهِمْ إِلَى الشَّأْمِ عَلَى تِلْكَ الْقَرْيَةِ الَّتِي أُهْلِكَتْ بِالْحِجَارَةِ مِنَ السماء، أَفَلَمْ يَكُونُوا في [مرار] مُرُورِهِمْ يَنْظُرُونَ إِلَى آثَارِ عَذَابِ اللَّه تَعَالَى ونكاله [ويذكررون] «1» بَلْ كانُوا قَوْمًا كَفَرَةً لَا يَرْجُونَ نُشُوراً وَذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ يَرْجُونَ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي وَهُوَ الْأَقْوَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَةِ الرَّجَاءِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَحَمَّلُ مَتَاعِبَ التَّكَالِيفِ وَمَشَاقَّ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ إِلَّا لِرَجَاءِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ فَإِذَا لَمْ يُؤْمِنْ بِالْآخِرَةِ لَمْ يَرْجُ ثَوَابَهَا فَلَا يَتَحَمَّلُ تِلْكَ الْمَشَاقَّ وَالْمَتَاعِبَ وَثَانِيهَا: مَعْنَاهُ لَا يَتَوَقَّعُونَ نُشُورًا [وَعَاقِبَةً] ، فَوَضَعَ الرَّجَاءَ مَوْضِعَ التَّوَقُّعِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَوَقَّعُ الْعَاقِبَةَ مَنْ يُؤْمِنُ، وَثَالِثُهَا: مَعْنَاهُ لَا يَخَافُونَ عَلَى اللُّغَةِ التِّهَامِيَّةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْحَقُّ. [سورة الفرقان (25) : الآيات 41 الى 44] وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ مُبَالَغَةَ الْمُشْرِكِينَ فِي إِنْكَارِ نُبُوَّتِهِ وَفِي إِيرَادِ الشُّبُهَاتِ فِي ذَلِكَ، بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أنهم إدا رَأَوُا الرَّسُولَ اتَّخَذُوهُ هُزُوًا فَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بِهِ بَلْ زَادُوا عَلَيْهِ بِالِاسْتِهْزَاءِ وَالِاسْتِحْقَارِ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» (إِنْ) الْأُولَى نَافِيَةٌ وَالثَّانِيَةُ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَهُمَا. المسألة الثَّانِيَةُ: جَوَابُ (إِذَا) هُوَ مَا أُضْمِرَ مِنَ الْقَوْلِ يَعْنِي وَإِذَا رَأَوْكَ مُسْتَهْزِئِينَ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّه هَذَا رَسُولًا، وَقَوْلُهُ: إِنْ يَتَّخِذُونَكَ جُمْلَةٌ اعْتَرَضَتْ بَيْنَ (إِذَا) وَجَوَابِهَا. المسألة الثَّالِثَةُ: اتَّخَذُوهُ هزوا في معنى استهزؤا بِهِ وَالْأَصْلُ اتَّخَذُوهُ مَوْضِعَ هُزْءٍ أَوْ مَهْزُوءًا بِهِ. المسألة الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ مَتَى رَأَوُا الرَّسُولَ أتوا بنوعين من الأفعال

_ (1) زيادة من الكشاف.

أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ، وَفَسَّرَ ذَلِكَ الِاسْتِهْزَاءَ بِقَوْلِهِ: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا وَذَلِكَ جَهْلٌ عَظِيمٌ لِأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ إِمَّا أَنْ يَقَعَ بِصُورَتِهِ أَوْ بِصِفَتِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَبَاطِلٌ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ أَحْسَنَ مِنْهُمْ صُورَةً وَخِلْقَةً، وَبِتَقْدِيرِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَكِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَدَّعِي التَّمْيِيزَ عَنْهُمْ بِالصُّورَةِ بَلْ بِالحجة. وَأَمَّا الثَّانِي فَبَاطِلٌ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ادَّعَى التَّمَيُّزَ عَنْهُمْ فِي ظُهُورِ الْمُعْجِزِ عَلَيْهِ دُونَهُمْ، وَأَنَّهُمْ مَا قَدَرُوا عَلَى الْقَدْحِ فِي حُجَّتِهِ وَدَلَالَتِهِ، فَفِي الْحَقِيقَةِ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يُهْزَأَ بِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لوقاحتهم قلبوا القضية واستهزؤا بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُبْطِلِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ إِلَّا السَّفَاهَةُ وَالْوَقَاحَةُ. وَثَانِيهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ سَمَّوْا ذَلِكَ إِضْلَالًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُبَالِغِينَ فِي تَعْظِيمِ آلِهَتِهِمْ وَفِي اسْتِعْظَامِ صَنِيعِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَرْفِهِمْ عَنْهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَقُّ، فَمِنْ هَذَا الوجه يَبْطُلُ قَوْلُ أَصْحَابِ الْمَعَارِفِ فِي أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ إِلَّا مَنْ يَعْرِفُ الدَّلَائِلَ لِأَنَّهُمْ جَهِلُوهُ، ثُمَّ نَسَبَهُمُ اللَّه تَعَالَى إِلَى الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَقَوْلُهُمْ: لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ الثَّانِي: يَدُلُّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ عَلَى جِدِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاجْتِهَادِهِ فِي صَرْفِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَالُوا: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَهَكَذَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بَالَغَ فِي إِيرَادِ الدَّلَائِلِ وَالْجَوَابِ عَنِ الشُّبُهَاتِ وَتَحَمَّلَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ أَنْوَاعِ السَّفَاهَةِ وَسُوءِ الْأَدَبِ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِرَافِ الْقَوْمِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَرِضُوا الْبَتَّةَ عَلَى دَلَائِلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا عَارَضُوهَا إِلَّا بِمَحْضِ الْجُحُودِ وَالتَّقْلِيدِ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها إِشَارَةٌ إِلَى الْجُحُودِ وَالتَّقْلِيدِ، وَلَوْ ذَكَرُوا اعْتِرَاضًا عَلَى دَلَائِلِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ مُجَرَّدِ الْجُحُودِ وَالْإِصْرَارِ الَّذِي هُوَ دَأْبُ الْجُهَّالِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مَقْهُورِينَ تَحْتَ حُجَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ إِلَّا مُجَرَّدُ الْوَقَاحَةِ الرَّابِعُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ صَارُوا فِي ظُهُورِ حُجَّتِهِ عَلَيْهِ السلام عليهم كالمجانين لأنهم استهزؤا بِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ وَصَفُوهُ بِأَنَّهُ كَادَ يُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ قَابَلْنَاهُ بِالْجُحُودِ وَالْإِصْرَارِ، فَهَذَا الْكَلَامُ الْأَخِيرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ سَلَّمُوا لَهُ قُوَّةَ الحجة وَكَمَالَ الْعَقْلِ وَالْكَلَامُ الْأَوَّلُ وَهُوَ السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِهْزَاءُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْجَاهِلِ الْعَاجِزِ، فَالْقَوْمُ لَمَّا جَمَعُوا بَيْنَ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا كَالْمُتَحَيِّرِينَ فِي أَمْرِهِ، فَتَارَةً بِالْوَقَاحَةِ يَسْتَهْزِئُونَ مِنْهُ، وَتَارَةً يَصِفُونَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْعَالِمِ الْكَامِلِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ هَذَا/ الْكَلَامَ زَيَّفَ طَرِيقَتَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا لِأَنَّهُمْ لَمَّا وَصَفُوهُ بِالْإِضْلَالِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ سَيَظْهَرُ لَهُمْ مَنِ الْمُضِلُّ وَمَنِ الضَّالُّ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْعَذَابِ الَّذِي لَا مَخْلَصَ لَهُمْ مِنْهُ فَهُوَ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لَهُمْ عَلَى التَّعَامِي وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّ بُلُوغَ هَؤُلَاءِ فِي جَهَالَتِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الدَّلَائِلِ إِنَّمَا كَانَ لِاسْتِيلَاءِ التَّقْلِيدِ عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُمُ اتخذوا أهواءهم آلهة، فكل ما دَعَاهُمُ الْهَوَى إِلَيْهِ انْقَادُوا لَهُ، سَوَاءً مَنَعَ الدليل منه أو لم يمنع، ثم هاهنا أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ كَلِمَةٌ تَصْلُحُ لِلْإِعْلَامِ والسؤال، وهاهنا هِيَ تَعْجِيبٌ مَنْ جَهْلِ مَنْ هَذَا وَصْفُهُ وَنَعْتُهُ. الثَّانِي: قَوْلُهُ: اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ مَعْنَاهُ اتَّخَذَ إِلَهَهُ مَا يَهْوَاهُ أَوْ إِلَهًا يَهْوَاهُ، وَقِيلَ هُوَ مَقْلُوبٌ وَمَعْنَاهُ اتَّخَذَ

هَوَاهُ إِلَهَهُ وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ لَمْ يَتَّخِذْ لِنَفْسِهِ إِلَهًا إِلَّا هَوَاهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ عِنْدَ الْقَلْبِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْهَوَى إِلَهٌ يُعْبَدُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَعْبُدُ الصَّنَمَ فَإِذَا رَأَى أَحْسَنَ مِنْهُ رَمَاهُ وَاتَّخَذَ الْآخَرَ وَعَبَدَهُ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَيْ حَافِظًا تَحْفَظُهُ مِنَ اتِّبَاعِ هَوَاهُ أَيْ لَسْتَ كَذَلِكَ. الرَّابِعُ: نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الْغَاشِيَةِ: 22] وَقَوْلُهُ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق: 45] وَقَوْلُهُ: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [الْبَقَرَةِ: 256] قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ أَمْ هاهنا مُنْقَطِعَةٌ، مَعْنَاهُ بَلْ تَحْسَبُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَذَمَّةَ أَشَدُّ مِنَ الَّتِي تَقَدَّمَتْهَا حَتَّى حَقَّتْ بِالْإِضْرَابِ عَنْهَا إِلَيْهَا، وَهِيَ كَوْنُهُمْ مَسْلُوبِي الْأَسْمَاعِ وَالْعُقُولِ، لِأَنَّهُمْ لِشِدَّةِ عِنَادِهِمْ لَا يُصْغُونَ إِلَى الْكَلَامِ، وَإِذَا سَمِعُوهُ لَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهِ، فَكَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ عَقْلٌ وَلَا سَمْعٌ الْبَتَّةَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ شَبَّهَهُمْ بِالْأَنْعَامِ فِي عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْكَلَامِ وَعَدَمِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى التَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى اللَّذَّاتِ الْحَاضِرَةِ الْحِسِّيَّةِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ طلب السعادات الباقية العقلية وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ فَحَكَمَ بِذَلِكَ عَلَى الْأَكْثَرِ دُونَ الْكُلِّ؟ وَالْجَوَابُ: لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعْرِفُ اللَّه تَعَالَى وَيَعْقِلُ الْحَقَّ، إِلَّا أَنَّهُ تَرَكَ الْإِسْلَامَ لِمُجَرَّدِ حُبِّ الرِّيَاسَةِ لَا لِلْجَهْلِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ جُعِلُوا أَضَلَّ مِنَ الْأَنْعَامِ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَنْعَامَ تَنْقَادُ لِأَرْبَابِهَا وَلِلَّذِي يَعْلِفُهَا وَيَتَعَهَّدُهَا وَتُمَيِّزُ بَيْنَ مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْهَا وَبَيْنَ مَنْ يُسِيءُ إِلَيْهَا، وَتَطْلُبُ مَا ينفعها وتجتنب ما يضره، وَهَؤُلَاءِ لَا يَنْقَادُونَ لِرَبِّهِمْ وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وَبَيْنَ إِسَاءَةِ الشَّيْطَانِ إِلَيْهِمُ الَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمْ، وَلَا يَطْلُبُونَ الثَّوَابَ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْمَنَافِعِ، وَلَا يَحْتَرِزُونَ مِنَ الْعِقَابِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْمَضَارِّ وَثَانِيهَا: أَنَّ قُلُوبَ الْأَنْعَامِ كَمَا أَنَّهَا تَكُونُ خَالِيَةً عَنِ الْعِلْمِ فَهِيَ/ خَالِيَةٌ عَنِ الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ اعْتِقَادُ الْمُعْتَقِدِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مَعَ التَّصْمِيمِ. وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَقُلُوبُهُمْ كَمَا خَلَتْ عَنِ الْعِلْمِ فَقَدِ اتَّصَفَتْ بِالْجَهْلِ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، بَلْ هُمْ مُصِرُّونَ عَلَى أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ عَدَمَ عِلْمِ الْأَنْعَامِ لَا يَضُرُّ بِأَحَدٍ أَمَّا جَهْلُ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُ مَنْشَأٌ لِلضَّرَرِ الْعَظِيمِ، لِأَنَّهُمْ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْأَنْعَامَ لَا تَعْرِفُ شَيْئًا وَلَكِنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنِ الطَّلَبِ وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا عَاجِزِينَ عَنِ الطَّلَبِ، وَالْمَحْرُومُ عَنْ طَلَبِ الْمَرَاتِبِ الْعَالِيَةِ إِذَا عَجَزَ عَنْهُ لَا يَكُونُ فِي اسْتِحْقَاقِ الذَّمِّ كَالْقَادِرِ عَلَيْهِ التَّارِكِ لَهُ لِسُوءِ اخْتِيَارِهِ وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْبَهَائِمَ لَا تَسْتَحِقُّ عِقَابًا عَلَى عَدَمِ الْعِلْمِ، أَمَّا هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهِ أَعْظَمَ الْعِقَابِ وَسَادِسُهَا: أَنَّ الْبَهَائِمَ تُسَبِّحُ اللَّه تَعَالَى عَلَى مَذْهَبِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى مَا قَالَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 44] وَقَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ إِلَى قَوْلِهِ: وَالدَّوَابُّ [الْحَجِّ: 18] وَقَالَ: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النُّورِ: 41] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَضَلَالُ الْكُفَّارِ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ مِنْ ضَلَالِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا نَفَى عَنْهُمُ السَّمْعَ وَالْعَقْلَ، فَكَيْفَ ذَمَّهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الدِّينِ وَكَيْفَ بَعَثَ الرَّسُولَ إِلَيْهِمْ فَإِنَّ مِنْ شَرْطِ التَّكْلِيفِ الْعَقْلَ؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ بَلْ إِنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ الْعَقْلِ، فَهُوَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ إِذَا لم يفهم إنما أنت أعمى وأصم.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 إلى 49]

[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 49] أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ جَهْلَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ دَلَائِلِ اللَّه تَعَالَى وَفَسَادِ طَرِيقِهِمْ فِي ذَلِكَ ذكره بَعْدَهُ أَنْوَاعًا مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ. النوع الْأَوَّلُ: الِاسْتِدْلَالُ بِحَالِ الظِّلِّ فِي زِيَادَتِهِ وَنُقْصَانِهِ وَتَغَيُّرِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ يَعْنِي الْعِلْمَ، فَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى رُؤْيَةِ الْعَيْنِ فَالْمَعْنَى أَلَمْ تَرَ إِلَى الظِّلِّ كَيْفَ مَدَّهُ رَبُّكَ وَإِنْ كَانَ تَخْرِيجُ لَفْظِهِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ أَفْصَحَ وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعِلْمِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ، فَالْمَعْنَى أَلَمْ تَعْلَمْ وَهَذَا أَوْلَى وَذَلِكَ أَنَّ الظِّلَّ إِذَا جَعَلْنَاهُ مِنَ الْمُبْصَرَاتِ فَتَأْثِيرُ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى فِي تَمْدِيدِهِ غَيْرُ مَرْئِيٍّ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ مُتَغَيِّرٍ جَائِزٍ فَلَهُ مُؤَثِّرٌ فَحَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى رُؤْيَةِ الْقَلْبِ أَوْلَى مِنْ هَذَا الوجه. المسألة الثَّانِيَةُ: الْمُخَاطَبُ بِهَذَا الْخِطَابِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِحَسَبِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَلَكِنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ نِعَمِ اللَّه تَعَالَى بِالظِّلِّ، وَجَمِيعُ الْمُكَلَّفِينَ مُشْتَرِكُونَ فِي أَنَّهُ يَجِبُ تَنَبُّهُهُمْ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَتَمَكُّنُهُمْ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ. المسألة الثَّالِثَةُ: النَّاسُ أَكْثَرُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْكَلَامُ الْمُلَخَّصُ يَرْجِعُ إِلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الظِّلَّ هُوَ الْأَمْرُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الضَّوْءِ الْخَالِصِ وَبَيْنَ الظُّلْمَةِ الْخَالِصَةِ وَهُوَ مَا بَيْنَ ظُهُورِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَكَذَا الْكَيْفِيَّاتُ الْحَاصِلَةُ دَاخِلَ السَّقْفِ وَأَفْنِيَةِ الْجُدْرَانِ وَهَذِهِ الْحَالَةُ أَطْيَبُ الْأَحْوَالِ لِأَنَّ الظُّلْمَةَ الْخَالِصَةَ يَكْرَهُهَا الطَّبْعُ وَيَنْفِرُ عَنْهَا الْحِسُّ، وَأَمَّا الضَّوْءُ الْخَالِصُ وَهُوَ الْكَيْفِيَّةُ الْفَائِضَةُ مِنَ الشَّمْسِ فَهِيَ لِقُوَّتِهَا تَبْهَرُ الْحِسَّ الْبَصَرِيَّ وَتُفِيدُ السُّخُونَةَ الْقَوِيَّةَ وَهِيَ مُؤْذِيَةٌ، فَإِذَنْ أَطْيَبُ الْأَحْوَالِ هُوَ الظِّلُّ وَلِذَلِكَ وَصَفَ الْجَنَّةَ بِهِ فَقَالَ: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الْوَاقِعَةِ: 30] وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّهُ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ وَالْمَنَافِعِ الْجَلِيلَةِ، ثُمَّ إِنَّ النَّاظِرَ إِلَى الْجِسْمِ الْمُلَوَّنِ وَقْتَ الظِّلِّ كَأَنَّهُ لَا يُشَاهِدُ شَيْئًا سِوَى الْجِسْمِ وَسِوَى اللَّوْنِ، وَنَقُولُ الظِّلُّ لَيْسَ أَمْرًا ثَالِثًا، وَلَا يُعْرَفُ بِهِ إِلَّا إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَوَقَعَ ضوؤها عَلَى الْجِسْمِ زَالَ ذَلِكَ الظِّلُّ فَلَوْلَا الشَّمْسُ وَوُقُوعُ ضَوْئِهَا عَلَى الْأَجْرَامِ لَمَا عُرِفَ أَنَّ لِلظِّلِّ وُجُودًا وَمَاهِيَّةً لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ إِنَّمَا تُعْرَفُ بِأَضْدَادِهَا، فَلَوْلَا الشَّمْسُ لَمَا عُرِفَ الظِّلُّ، وَلَوْلَا الظُّلْمَةُ لَمَا عُرِفَ النُّورُ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا طَلَعَ الشَّمْسُ عَلَى الْأَرْضِ وَزَالَ الظِّلُّ، فَحِينَئِذٍ ظَهَرَ لِلْعُقُولِ أَنَّ الظِّلَّ كَيْفِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْجِسْمِ وَاللَّوْنِ، فَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا أَيْ خَلَقْنَا الظِّلَّ أَوَّلًا بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَاللَّذَّاتِ ثُمَّ إِنَّا هَدَيْنَا الْعُقُولَ إِلَى مَعْرِفَةِ وَجُودِهِ بِأَنْ أَطْلَعْنَا الشَّمْسَ فَكَانَتِ الشَّمْسُ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِ هَذِهِ النِّعْمَةِ، ثُمَّ قَبَضْنَاهُ أَيْ أَزَلْنَا الظِّلَّ لَا دَفْعَةً بَلْ يَسِيرًا يَسِيرًا فَإِنَّ كُلَّمَا ازداد

ارْتِفَاعُ الشَّمْسِ ازْدَادَ نُقْصَانُ الظِّلِّ فِي جَانِبِ الْمَغْرِبِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْحَرَكَاتُ الْمَكَانِيَّةُ لَا تُوجَدُ دَفْعَةً بَلْ يَسِيرًا يَسِيرًا فَكَذَا زَوَالُ الْإِظْلَالِ لَا يَكُونُ/ دَفْعَةً بَلْ يَسِيرًا يَسِيرًا، وَلِأَنَّ قبض الظل لو حصل دفعة لا ختلت الْمَصَالِحُ، وَلَكِنَّ قَبْضَهَا يَسِيرًا يَسِيرًا يُفِيدُ مَعَهُ أَنْوَاعَ مَصَالِحِ الْعَالَمِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَبْضِ الْإِزَالَةُ وَالْإِعْدَامُ هَذَا أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ. التَّأْوِيلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ وَخَلَقَ الْكَوَاكِبَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَقَعَ الظِّلُّ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الشَّمْسَ دَلِيلًا عَلَيْهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ بِحَسَبِ حَرَكَاتِ الْأَضْوَاءِ تَتَحَرَّكُ الْأَظْلَالُ فَإِنَّهُمَا مُتَعَاقِبَانِ مُتَلَازِمَانِ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا فَبِمِقْدَارِ مَا يَزْدَادُ أَحَدُهُمَا يَنْقُصُ الْآخَرُ، وَكَمَا أَنَّ الْمُهْتَدِيَ يَهْتَدِي بِالْهَادِي وَالدَّلِيلِ وَيُلَازِمُهُ، فَكَذَا الْأَظْلَالُ كَأَنَّهَا مُهْتَدِيَةٌ وَمُلَازِمَةٌ لِلْأَضْوَاءِ فَلِهَذَا جَعَلَ الشَّمْسَ دَلِيلًا عَلَيْهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ انْتِهَاءَ الْأَظْلَالِ يَسِيرًا يَسِيرًا إِلَى غَايَةِ نُقْصَانَاتِهَا، فَسَمَّى إِزَالَةَ الْأَظْلَالِ قَبْضًا لَهَا أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ قَبْضِهَا يَسِيرًا قَبْضَهَا عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَذَلِكَ بِقَبْضِ أَسْبَابِهَا وَهِيَ الْأَجْرَامُ الَّتِي تُلْقِي الْأَظْلَالَ وَقَوْلُهُ: يَسِيراً هُوَ كَقَوْلِهِ: ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ [ق: 44] فَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الْمُلَخَّصُ. المسألة الرَّابِعَةُ: وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُحْسِنِ أَنَّ حُصُولَ الظِّلِّ أَمْرٌ نَافِعٌ لِلْأَحْيَاءِ وَالْعُقَلَاءِ، وَأَمَّا حُصُولُ الضَّوْءِ الْخَالِصِ، أَوِ الظُّلْمَةِ الْخَالِصَةِ، فَهُوَ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْمَنَافِعِ، فَحُصُولُ ذَلِكَ الظِّلِّ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ أَوْ مِنَ الْجَائِزَاتِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ وَإِلَّا لَمَا تَطَرَّقَ التَّغَيُّرُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتَغَيَّرُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْجَائِزَاتِ، فَلَا بُدَّ لَهُ فِي وُجُودِهِ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَعَدَمِهِ بَعْدَ الْوُجُودِ، مِنْ صَانِعٍ قَادِرٍ مُدَبِّرٍ مُحْسِنٍ يُقَدِّرُهُ بِالوجه النَّافِعِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا مَنْ يَقْدِرُ عَلَى تَحْرِيكِ الْأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ وَتَدْبِيرِ الْأَجْسَامِ الْفَلَكِيَّةِ وَتَرْتِيبِهَا عَلَى الْوَصْفِ الْأَحْسَنِ وَالتَّرْتِيبِ الْأَكْمَلِ، وَمَا هُوَ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: الظِّلُّ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الضَّوْءِ عَمَّا شَأْنُهُ أَنْ يُضِيءَ، فَكَيْفَ اسْتَدَلَّ بِالْأَمْرِ الْعَدَمِيِّ عَلَى ذَاتِهِ، وَكَيْفَ عَدَّهُ مِنَ النِّعَمِ؟ قُلْنَا: الظِّلُّ لَيْسَ عَدَمًا مَحْضًا، بَلْ هُوَ أَضْوَاءٌ مَخْلُوطَةٌ بِظُلَمٍ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الظِّلَّ عِبَارَةٌ عَنِ الضَّوْءِ الثَّانِي وَهُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ، وَفِي تَحْقِيقِهِ وَبَسْطِهِ كَلَامٌ دَقِيقٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى كُتُبِنَا الْعَقْلِيَّةِ. النوع الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ اللَّيْلَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَسْتُرُ الْكُلَّ وَيُغَطِّي بِاللِّبَاسِ السَّاتِرِ لِلْبَدَنِ، وَنَبَّهَ عَلَى مَا لَنَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ بِقَوْلِهِ: وَالنَّوْمَ سُباتاً وَالسُّبَاتُ هُوَ الرَّاحَةُ وَجَعَلَ النَّوْمَ سُبَاتًا لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلرَّاحَةِ قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: السُّبَاتُ الرَّاحَةُ وَمِنْهُ يَوْمُ السَّبْتِ لِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنَ الِاسْتِرَاحَةِ فِيهِ، وَيُقَالُ لِلْعَلِيلِ إِذَا اسْتَرَاحَ مِنْ تَعَبِ الْعِلَّةِ مَسْبُوتٌ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» السُّبَاتُ الْمَوْتُ وَالْمَسْبُوتُ الْمَيِّتُ لِأَنَّهُ مَقْطُوعُ الْحَيَاةِ قَالَ: وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الْأَنْعَامِ: 60] وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ تَفْسِيرَهُ بِالْمَوْتِ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهِ بِالرَّاحَةِ، لِأَنَّ النُّشُورَ فِي مُقَابَلَتِهِ يَأْبَاهُ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً هُوَ بِمَعْنَى الِانْتِشَارِ وَالْحَرَكَةِ كَمَا سَمَّى تَعَالَى نَوْمَ الْإِنْسَانِ وَفَاةً، فَقَالَ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ/ حِينَ مَوْتِها [الزمر: 42] وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا كَذَلِكَ وَفَّقَ بَيْنَ الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ وَالْقِيَامِ مِنَ الْمَوْتِ فِي التَّسْمِيَةِ بِالنُّشُورِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَعَ دَلَالَتِهَا عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ فِيهَا إِظْهَارٌ لِنِعَمِهِ عَلَى خَلْقِهِ، لِأَنَّ الِاحْتِجَابَ بِسَتْرِ اللَّيْلِ كَمْ فِيهِ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ فَوَائِدَ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ، وَالنَّوْمُ وَالْيَقَظَةُ شَبَّهَهُمَا بِالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ، وَعَنْ لُقْمَانَ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ: كَمَا تَنَامُ فَتُوقَظُ، كَذَلِكَ تموت فتنشر.

النوع الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، ثُمَّ فِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قُرِئَ (الرِّيحَ) وَ (الرِّيَاحَ) ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَفِي (نَشْرًا) خَمْسَةُ أَوْجُهٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَبِضَمِّهَا وَبِضَمِّ النُّونِ وَالشِّينِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ مَعَ أَلِفٍ والمؤنث وبشرا بالتنوين، قال أبو مسلم في قَرَأَ (بُشْرًا) أَرَادَ جَمْعَ بَشِيرٍ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ [الرُّومِ: 46] وَأَمَّا بِالنُّونِ فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَالنَّاشِراتِ نَشْراً [المرسلات: 3] وَهِيَ الرِّيَاحُ، وَالرَّحْمَةُ الْغَيْثُ وَالْمَاءُ وَالْمَطَرُ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً نَصٌّ فِي أَنَّهُ تَعَالَى يُنْزِلُ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ، لَا مِنَ السَّحَابِ. وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ السَّحَابُ سَمَاءٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ ذَاكَ بِحَسَبِ الِاشْتِقَاقِ، وَأَمَّا بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ فَالسَّمَاءُ اسْمٌ لِهَذَا السَّقْفِ الْمَعْلُومِ فَصَرْفُهُ عَنْهُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ. المسألة الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الطَّهُورَ مَا هُوَ؟ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الطَّهُورُ مَا يُتَطَهَّرُ بِهِ كَالْفَطُورِ مَا يُفْطَرُ بِهِ، وَالسَّحُورِ مَا يُتَسَحَّرُ بِهِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنْ ثَعْلَبٍ، وَأَنْكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ذَلِكَ، وَقَالَ لَيْسَ فَعُولٌ مِنَ التَّفْعِيلِ فِي شَيْءٍ وَالطَّهُورُ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي الْعَرَبِيَّةِ: صِفَةٌ وَاسْمٌ غَيْرُ صِفَةٍ فَالصِّفَةُ قَوْلُكَ: مَاءٌ طَهُورٌ كَقَوْلِكَ طَاهِرٌ، وَالِاسْمُ قَوْلُكَ طَهُورٌ لِمَا يُتَطَهَّرُ بِهِ كَالْوَضُوءِ وَالْوَقُودِ لِمَا يُتَوَضَّأُ بِهِ وَيُوقَدُ بِهِ النَّارُ. حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ حِجَجٍ» وَلَوْ كَانَ مَعْنَى الطَّهُورِ الطَّاهِرَ لَكَانَ مَعْنَاهُ التُّرَابُ طَاهِرٌ لِلْمُسْلِمِ وَحِينَئِذٍ لَا يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ، وَكَذَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعًا» وَلَوْ كَانَ الطَّهُورُ الطَّاهِرَ لَكَانَ مَعْنَاهُ طَاهِرٌ إِنَاءُ أَحَدِكُمْ وَحِينَئِذٍ لَا يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الْأَنْفَالِ: 11] فَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمَاءِ إِنَّمَا هُوَ التَّطَهُّرُ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ طَهُورًا أَنَّهُ هُوَ الْمُطَهَّرُ بِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الْإِنْعَامِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْوَصْفِ الْأَكْمَلِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُطَهِّرَ أَكْمَلُ مِنَ الطَّاهِرِ. المسألة الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ مَنَافِعِ الْمَاءِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّبَاتِ وَالثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَيَوَانِ، أَمَّا أَمْرُ النَّبَاتِ فَقَوْلُهُ: لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَلَمْ يَقُلْ مَيْتَةً؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ الْبَلْدَةَ فِي مَعْنَى الْبَلَدِ فِي قَوْلِهِ: فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ [فَاطِرٍ: 9] . السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْمُرَادُ مِنْ حَيَاةِ الْبَلَدِ وَمَوْتِهَا؟ الْجَوَابُ: النَّاسُ يُسَمُّونَ مَا لَا عِمَارَةَ فِيهِ مِنَ الْأَرْضِ مَوَاتًا، وَسَقْيُهَا الْمُقْتَضِي لِعِمَارَتِهَا إِحْيَاءٌ لَهَا. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ جَمَاعَةَ الطَّبَائِعِيِّينَ «1» وَكَذَا الْكَعْبِيُّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ قَالُوا إِنَّ بِطَبْعِ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ وَتَأْثِيرِ الشَّمْسِ فِيهِمَا يَحْصُلُ النَّبَاتُ وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً فَإِنَّ الْبَاءَ فِي (بِهِ) تَقْتَضِي أن للماء

_ (1) هكذا في الأصل وهو مخالف للقياس فإن النسبة لا تكون إلا للمفرد فالأولى أن يقول (جماعة الطبيعيين) نسبة للطبيعة، وقد خطأ العلماء ذلك أيضا فقالوا: الصواب النسبة للطبع وللطبيعة. وحينئذ يكون الصواب أن يقال (جماعة الطبيعيين) وقد سبق المصنف إلى هذا أبو عثمان بن جني إمام أهل العربية فسمى كتابه بالتصريف الملوكي خروجا على القياس المقتضي كون التسمية التصريف الملكي فلعله من خطأ النساخ. [.....]

تَأْثِيرًا فِي ذَلِكَ الْجَوَابُ: الظَّاهِرُ وَإِنْ دَلَّ عَلَيْهِ لَكِنِ الْمُتَكَلِّمُونَ تَرَكُوهُ لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى فَسَادِ الطَّبْعِ وَأَمَّا أَمْرُ الْحَيَوَانِ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ خَصَّ الْإِنْسَانَ وَالْأَنْعَامَ هاهنا بِالذِّكْرِ دُونَ الطَّيْرِ وَالْوَحْشِ مَعَ انْتِفَاعِ الْكُلِّ بِالْمَاءِ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ الطَّيْرَ وَالْوَحْشَ تَبْعُدُ فِي طَلَبِ الْمَاءِ فَلَا يُعْوِزُهَا الشُّرْبُ بِخِلَافِ الْأَنْعَامِ لِأَنَّهَا قِنْيَةُ الْأَنَاسِيِّ وَعَامَّةُ مَنَافِعِهِمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَا فَكَأَنَّ الْإِنْعَامَ عَلَيْهِمْ بِسَقْيِ أَنْعَامِهِمْ كَالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ بِسَقْيِهِمْ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى تَنْكِيرِ الْأَنْعَامِ وَالْأَنَاسِيِّ وَوَصْفِهِمَا بِالْكَثْرَةِ؟ الْجَوَابُ: مَعْنَاهُ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَجْتَمِعُونَ فِي الْبِلَادِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْأَوْدِيَةِ وَالْأَنْهَارِ (وَمَنَافِعِ) «1» الْمِيَاهِ فَهُمْ فِي غِنْيَةٍ (فِي شُرْبِ الْمِيَاهِ عَنِ الْمَطَرِ) «2» ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ نَازِلُونَ فِي الْبَوَادِي فَلَا يَجِدُونَ الْمِيَاهَ لِلشُّرْبِ إِلَّا عِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً يُرِيدُ بَعْضَ بِلَادِ هَؤُلَاءِ الْمُتَبَاعِدِينَ عَنْ مَظَانِّ الْمَاءِ وَيَحْتَمِلُ فِي (كَثِيرٍ) أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قَوْلِهِ: وَنُسْقِيَهُ لِأَنَّ الْحَيَّ يَحْتَاجُ إِلَى الْمَاءِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلنَّبَاتِ الَّذِي يَكْفِيهِ مِنَ الْمَاءِ قَدْرٌ مُعَيَّنٌ، حَتَّى لَوْ زِيدَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَكَانَ إِلَى الضَّرَرِ أَقْرَبَ، وَالْحَيَوَانُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ مَا دَامَ حَيًّا. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَدَّمَ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ وَسَقْيَ الْأَنْعَامِ عَلَى سَقْيِ الْأَنَاسِيِّ الْجَوَابُ: لِأَنَّ حَيَاةَ الْأَنَاسِيِّ بِحَيَاةِ أَرْضِهِمْ وَحَيَاةِ أَنْعَامِهِمْ، فَقَدَّمَ مَا هُوَ سَبَبُ حَيَاتِهِمْ وَمَعِيشَتِهِمْ عَلَى سَقْيِهِمْ لِأَنَّهُمْ إِذَا ظَفِرُوا بِمَا يَكُونُ سَقْيًا لِأَرْضِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ فَقَدْ ظَفِرُوا أَيْضًا بِسُقْيَاهُمْ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ [الفرقان: 50] يَعْنِي صَرَّفَ الْمَطَرَ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى جَانِبٍ آخَرَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَسْقِي الْكُلَّ مِنْهُ بَلْ يَسْقِي كُلَّ سَنَةٍ أَنَاسِيَّ كَثِيرًا مِنْهُ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا الْأَنَاسِيُّ؟ الْجَوَابُ: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: الْإِنْسِيُّ وَالْأَنَاسِيُّ كَالْكُرْسِيِّ وَالْكَرَاسِيِّ، وَلَمْ يَقُلْ كَثِيرِينَ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فَعِيلٌ مُفْرَدًا وَيُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ كَقَوْلِهِ: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [الْفُرْقَانِ: 38] وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النِّسَاءِ: 69] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَدِ اسْتَنْبَطُوا أَحْكَامَ الْمِيَاهِ مِنْ قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماء طَهُوراً وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى مَعَاقِدِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ فَنَقُولُ هاهنا نَظَرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَاءَ مُطَهِّرٌ وَالثَّانِي: أَنَّ غَيْرَ الْمَاءِ هَلْ هُوَ مُطَهِّرٌ أَمْ لَا؟ النَّظَرُ الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ الْمَاءُ إِمَّا أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ أَوْ يَتَغَيَّرَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ فَهُوَ طَاهِرٌ فِي ذَاتِهِ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ، إِلَّا الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ/ فَإِنَّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ طَاهِرٌ وَلَيْسَ بِمُطَهِّرٍ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ إِنَّهُ نَجِسٌ فَهَهُنَا مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُطَهِّرٍ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ» وَلَوْ بَقِيَ الْمَاءُ كَمَا كَانَ طَاهِرًا مُطَهِّرًا لَمَا كَانَ لِلْمَنْعِ مِنْهُ مَعْنًى، وَمِنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ أَنَّ الصحابة كانوا يتوضؤون فِي الْأَسْفَارِ وَمَا كَانُوا يَجْمَعُونَ تِلْكَ الْمِيَاهَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِاحْتِيَاجِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْمَاءِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمَاءُ مُطَهِّرًا لَحَمَلُوهُ لِيَوْمِ الْحَاجَةِ، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ. أَمَّا الْآيَةُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً وَقَوْلُهُ: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الْأَنْفَالِ: 11] فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى حُصُولِ وَصْفِ الْمُطَهِّرِيَّةِ لِلْمَاءِ، وَالْأَصْلُ فِي الثَّابِتِ بَقَاؤُهُ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِبَقَاءِ هَذِهِ الصفة للماء

_ (1) في الكشاف (ومنابع) . (2) في الكشاف (عن سقي السماء وأعقابهم) .

بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ مُسْتَعْمَلًا، وَأَيْضًا قَوْلُهُ: طَهُوراً يَقْتَضِي جَوَازَ التَّطَهُّرِ بِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِالْغَسْلِ مُطْلَقًا فِي قَوْلِهِ: فَاغْسِلُوا [الْمَائِدَةِ: 6] وَاسْتِعْمَالُ كُلِّ الْمَائِعَاتِ غَسْلٌ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْغَسْلِ إِلَّا إِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ، قَالَ الشَّاعِرِ: فَيَا حُسْنَهَا إِذْ يَغْسِلُ الدَّمْعُ كُحْلَهَا فَمَنِ اغْتَسَلَ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَقَدْ أَتَى بِالْغَسْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُجْزِئًا لَهُ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «تَوَضَّأَ فَمَسَحَ رَأْسَهُ بِفَضْلِ مَا فِي يَدِهِ» وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَأَخَذَ مِنْ بَلَلِ لِحْيَتِهِ فَمَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اغْتَسَلَ فَرَأَى لُمْعَةً فِي جَسَدِهِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ، فَأَخَذَ شَعْرَةً عَلَيْهَا بَلَلٌ فَأَمَرَّهَا عَلَى تِلْكَ اللُّمْعَةِ» . وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَإِنَّهُ مَاءٌ طَاهِرٌ لَقِيَ جَسَدًا طَاهِرًا فَأَشْبَهَ مَا إِذَا لَقِيَ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، وَكَذَا الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْكَرَّةِ الرَّابِعَةِ وَالْمُسْتَعْمَلِ فِي التَّبَرُّدِ وَالتَّنْظِيفِ، وَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ إِذَا وَضَعَ الْمَاءَ عَلَى أَعْلَى وَجْهِهِ وَسَقَطَ بِهِ فَرْضُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، ثُمَّ نَزَلَ ذَلِكَ الْمَاءُ بِعَيْنِهِ إِلَى بَقِيَّةِ الوجه فَإِنَّهُ يُجْزِيهِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ صَارَ مُسْتَعْمَلًا فِي أَعْلَى الوجه. المسألة الثَّانِيَةُ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً وَمِنَ السُّنَّةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَخَذَ مِنْ بَلَلِ لِحْيَتِهِ وَمَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ، وَقَالَ: «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ أَوْ لَوْنَهُ» وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوَضَّأَ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَصَابَهُ مَا تَسَاقَطَ مِنْهُ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ غَيَّرَ ثَوْبَهُ وَلَا أَنَّهُ غَسَلَهُ، وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَ ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَلِأَنَّهُ مَاءٌ طَاهِرٌ لَقِيَ جِسْمًا طَاهِرًا فَأَشْبَهَ مَا إِذَا لَاقَى حِجَارَةً. المسألة الثَّالِثَةُ: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ أَوْ فِي غَسْلِ الثِّيَابِ، أَمَّا الْمُسْتَعْمَلُ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا كَانَ فَرْضًا وَعِبَادَةً، أَوْ فِيمَا كَانَ فَرْضًا وَلَا يَكُونُ عِبَادَةً، أَوْ فِيمَا كَانَ عِبَادَةً وَلَا يَكُونُ فَرْضًا، أَوْ فِيمَا لَا يَكُونُ فَرْضًا وَلَا عِبَادَةً. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا كَانَ فَرْضًا وَعِبَادَةً فَهُوَ غَيْرُ مُطَهِّرٍ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَهُوَ كَالْمَاءِ الَّذِي اسْتَعْمَلَتْهُ الذِّمِّيَّةُ الَّتِي تَحْتَ الزَّوْجِ الْمُسْلِمِ، أَيْ فِي غَسْلِ/ حَيْضِهَا لِيَحِلَّ لِلزَّوْجِ غِشْيَانُهَا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَهُوَ كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْكَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، وَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ، وَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْأَغْسَالِ الْمَسْنُونَةِ، فَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ وَجْهَانِ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: فَهُوَ كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْكَرَّةِ الرَّابِعَةِ، وَفِي التَّبَرُّدِ وَالتَّنَظُّفِ، فَذَاكَ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ، وَهُوَ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، أَمَّا الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَسْلِ الثِّيَابِ، فَإِذَا غَسَلَ ثَوْبًا مِنْ نَجَاسَةٍ وَطَهُرَ بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ، يُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْسِلَهُ ثَلَاثًا فَالْمُنْفَصِلُ فِي الْكَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ مُطَهِّرٌ عَلَى الْأَصَحِّ الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمَاءُ الَّذِي يَتَغَيَّرُ فَنَقُولُ الْمَاءُ إِذَا تَغَيَّرَ، فَإِمَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَالْمُتَغَيِّرِ بِطُولِ الْمُكْثِ فَيَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ (قُضَاعَةَ) «1» ، وَكَانَ مَاؤُهَا كَأَنَّهُ نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ، وَأَمًّا الْمُتَغَيِّرُ بِسَبَبِ غَيْرِهِ فَذَلِكَ الْغَيْرُ إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُتَّصِلًا بِهِ أَوْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِهِ. أَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ مُتَّصِلًا بِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ وقع بقرب الماء جيفة

_ (1) المعروف أنه من بئر بضاعة وهي بئر معروفة بالمدينة كان يطرح فيها خرق الحيض ولحوم الكلاب والمنتن.

فَصَارَ الْمَاءُ مُنْتِنًا بِسَبَبِهَا فَهُوَ أَيْضًا مُطَهِّرٌ، وَأَمَّا إِذَا تَغَيَّرَ بِسَبَبِ شَيْءٍ مُتَّصِلٍ بِهِ فَذَلِكَ الْمُتَّصِلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا أَوْ نَجِسًا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إِذَا كَانَ طَاهِرًا فَهُوَ إِمَّا أَنْ لَا يُخَالِطَهُ أَوْ يُخَالِطَهُ، فَإِنْ لَمْ يُخَالِطْهُ فَهُوَ كَالْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ بِسَبَبِ وُقُوعِ الدُّهْنِ وَالطِّيبِ وَالْعُودِ وَالْعَنْبَرِ وَالْكَافُورِ الصُّلْبِ فِيهِ وَهَذَا أَيْضًا مُطَهِّرٌ كَمَا لَوْ كَانَ بِقُرْبِ الْمَاءِ جِيفَةٌ، وَلِأَنَّ الطَّهُورِيَّةَ ثَبَتَتْ بِقَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً وَالْأَصْلُ فِي الثَّابِتِ بَقَاؤُهُ، وَأَمَّا الْمُتَغَيِّرُ بِسَبَبِ شَيْءٍ يُخَالِطُهُ، فَذَلِكَ الْمُخَالِطُ إِمَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ صَوْنُ الْمَاءِ عَنْهُ أَوْ يُمْكِنَ، أَمَّا الَّذِي لَا يُمْكِنُ فَكَالْمُتَغَيِّرِ بِالتُّرَابِ وَالْحَمْأَةِ وَالْأَوْرَاقِ الَّتِي تَقَعُ فِيهِ وَالطُّحْلُبِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ فِيهِ، وَهَذَا أَيْضًا مُطَهِّرٌ، لِأَنَّ الطَّهُورِيَّةَ ثَبَتَتْ بِالْآيَةِ وَالِاحْتِرَازُ عَنْ ذَلِكَ عسير، فيكون مرفوعا لقوله: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَجِّ: 78] وَكَذَا لَوْ جَرَى الْمَاءُ فِي طَرِيقِهِ عَلَى مَعْدِنِ زِرْنِيخٍ أَوْ نُورَةٍ أَوْ كُحْلٍ أَوْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْهَا فِيهِ أَوْ نَبَعَ مِنْ مَعَادِنِهَا، أَمَّا إِذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِسَبَبِ مُخَالَطَةِ مَا يَسْتَغْنِي الْمَاءُ عَنْ جِنْسِهِ نُظِرَ إِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ قَلِيلًا، بِحَيْثُ لَا يُضَافُ الْمَاءُ إِلَيْهِ بِأَنْ وَقَعَ فِيهِ زَعْفَرَانٌ فَاصْفَرَّ قَلِيلًا، أَوْ دَقِيقٌ فَابْيَضَّ قَلِيلًا، جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْلُبْهُ إِطْلَاقَ اسْمِ الْمَاءِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ كَثِيرًا فَإِنِ اسْتَحْدَثَ اسْمًا جَدِيدًا كَالْمَرَقَةِ لَمْ يَجُزِ الْوُضُوءُ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحْدِثِ اسْمًا جَدِيدًا فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوَضَّأَ ثُمَّ قَالَ: «هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّه الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ» فَذَلِكَ الْوُضُوءُ إِنْ كَانَ وَاقِعًا بِالْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ إِلَّا بِهِ، وَبِالِاتِّفَاقِ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ بِمَاءٍ غَيْرِ مُتَغَيِّرٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَطَ مَاءُ الْوَرْدِ بِالْمَاءِ ثُمَّ تَوَضَّأَ الْإِنْسَانُ بِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَ الْأَعْضَاءِ قَدِ انْغَسَلَ بِمَاءِ الْوَرْدِ دُونَ الْمَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي حُصُولِ الْوُضُوءِ وَكَانَ تَيَقُّنُ الْحَدَثِ قَائِمًا، وَالشَّكُّ لَا يُعَارِضُ الْيَقِينَ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَى الْحَدَثِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ قَلِيلًا لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فَإِنَّهُ صَارَ كَالْمَعْدُومِ، / أَمَّا إِذَا ظَهَرَ أَثَرُهُ عَلِمْنَا أَنَّهُ بَاقٍ فَيَتَوَجَّهُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْوُضُوءَ تَعَبُّدٌ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، فَإِنَّهُ لَوْ تَوَضَّأَ بِمَاءِ الْوَرْدِ لَا يصح وضوؤه ولو توضأ بالماء الكدر المتعفن صح وضوؤه. وَمَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ وَجَبَ الِاقْتِصَارُ فِيهِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَتَرْكِ الْقِيَاسِ. حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى كَوْنِ الْمَاءِ مُطَهِّرًا وَالْأَصْلُ فِي الثَّابِتِ بَقَاؤُهُ، فَوَجَبَ بَقَاءُ هَذِهِ الصِّفَةِ بَعْدَ التَّغَيُّرِ بِالْمُخَالَطَةِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاغْسِلُوا [الْمَائِدَةِ: 6] أَمْرٌ بِمُطْلَقِ الْغَسْلِ وَقَدْ أَتَى بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُخْرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا تَقْرِيرَ هَذَا الوجه فِيمَا تَقَدَّمَ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النِّسَاءِ: 43] عَلَّقَ جَوَازَ التَّيَمُّمِ بِعَدَمِ وِجْدَانِ الْمَاءِ وَوَاجِدُ هَذَا الْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمُتَغَيِّرَ مَاءٌ مَعَ صِفَةِ التَّغَيُّرِ، وَالْمَوْصُوفُ مَوْجُودٌ حَالَ وُجُودِ الصِّفَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ التَّيَمُّمُ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ» ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ الطَّهَارَةِ بِهِ وَإِنْ خَالَطَهُ غَيْرُهُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَقَ ذَلِكَ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبَاحَ الْوُضُوءَ بِسُؤْرِ الْهِرَّةِ وَسُؤْرِ الْحَائِضِ وَإِنْ خَالَطَهُ شَيْءٌ مِنْ لُعَابِهِمَا وَسَادِسُهَا: لَا خِلَافَ فِي الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْمَدَرِ وَالسُّيُولِ مَعَ تَغَيُّرِ لَوْنِهِ بِمُخَالَطَةِ الطِّينِ وَمَا يَكُونُ فِي الصَّحَارِي مِنَ الْحَشِيشِ وَالنَّبَاتِ، وَمِنْ أَجْلِ مُخَالَطَةِ ذَلِكَ لَهُ يُرَى تَارَةً مُتَغَيِّرًا إِلَى السَّوَادِ وَأُخْرَى إِلَى الْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي جَمِيعِ مَا خَالَطَ الْمَاءَ إِذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ فَيَسْلُبُهُ اسْمَ الْمَاءِ الْقِسْمُ الثَّانِي: إِذَا كَانَ الْمُخَالِطُ لِلْمَاءِ شَيْئًا نَجِسًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالنَّجَاسَةِ سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ

كَثِيرًا وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَمَالِكٍ وَدَاوُدَ، وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّيْخُ الْغَزَالِيِّ فِي كِتَابِ «الْإِحْيَاءِ» ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أن كل ما تيقنا فيه جزأ مِنَ النَّجَاسَةِ أَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ ذَلِكَ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ وَلَا يَخْتَلِفُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ مَاءُ الْبَحْرِ وَمَاءُ الْبِئْرِ وَالْغَدِيرِ وَالرَّاكِدِ وَالْجَارِي، لِأَنَّ مَاءَ الْبَحْرِ لَوْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ النَّجَاسَةُ وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الْجَارِي، وَأَمَّا اعْتِبَارُ أَصْحَابِنَا لِلْغَدِيرِ الَّذِي إِذَا حُرِّكَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ لَمْ يَتَحَرَّكِ الطَّرَفُ الْآخَرُ، فَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي جِهَةِ تَغْلِيبِ الظَّنِّ فِي بُلُوغِ النَّجَاسَةِ الْوَاقِعَةِ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ إِلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَلَيْسَ هُوَ كَلَامَنَا فِي أَنَّ بَعْضَ الْمِيَاهِ الَّذِي فِيهِ النَّجَاسَةُ قَدْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا، وَبَعْضُهَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ أَبِي بَكْرٍ وَأَقُولُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَعَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ: «إِذَا كَانَ الْمَاءُ أَرْبَعِينَ قُلَّةً لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: «الْحَوْضُ لَا يَغْتَسِلُ فِيهِ جُنُبٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَرْبَعُونَ غَرْبًا» وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَقَالَ مَسْرُوقٌ وَابْنُ سِيرِينَ: إِذَا كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْمَاءُ الرَّاكِدُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِذَا كَانَ قَدْرَ ثَلَاثِ قِلَالٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ بِقِلَالِ هَجَرٍ لَمْ يُنَجِّسْهُ إِلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ أَوْ لَوْنَهُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ يُنَجَّسُ لِظُهُورِ النَّجَاسَةِ فِيهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ لِنُصْرَةِ قَوْلِ مَالِكٍ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ/ مَاءً طَهُوراً تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْمَاءِ الَّذِي تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ لِظُهُورِ النَّجَاسَةِ فِيهِ فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «خَلَقَ اللَّه الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ أَوْ رِيحَهُ» وَهُوَ نَصٌّ فِي الْبَابِ وَثَالِثُهَا: قوله تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] والمتوضئ بِهَذَا الْمَاءِ قَدْ غَسَلَ وَجْهَهُ فَيَكُونُ آتِيًا بِمَا أُمِرَ بِهِ فَيَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ مِنْ شَأْنِ كُلِّ مُخْتَلِطَيْنِ كَانَ أَحَدُهُمَا غَالِبًا عَلَى الْآخَرِ أَنْ يَتَكَيَّفَ الْمَغْلُوبُ بِكَيْفِيَّةِ الْغَالِبِ فَالْقَطْرَةُ مِنَ الْخَلِّ لَوْ وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ بَطَلَتْ صِفَةُ الْخَلِيَّةِ عَنْهَا وَاتَّصَفَتْ بِصِفَةِ الْمَاءِ، وَكَوْنُ أَحَدِهُمَا غَالِبًا عَلَى الْآخَرِ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِغَلَبَةِ الْخَوَاصِّ وَالْآثَارِ الْمَحْسُوسَةِ وَهِيَ الطَّعْمُ أَوِ اللَّوْنُ أَوِ الرِّيحُ، فَلَا جَرَمَ مَهْمَا ظَهَرَ طَعْمُ النَّجَاسَةِ أَوْ لَوْنُهَا أَوْ رِيحُهَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ غَالِبَةً عَلَى الْمَاءِ وَكَانَ الْمَاءُ مُسْتَهْلَكًا فِيهَا، فَلَا جَرَمَ يَغْلِبُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْمَاءَ وَكَانَتِ النَّجَاسَةُ مُسْتَهْلَكَةً فِيهِ فَيَغْلِبُ حُكْمُ الطَّهَارَةِ وَخَامِسُهَا: مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ [أَنَّهُ] تَوَضَّأَ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ، مَعَ أَنَّ نَجَاسَةَ أَوَانِي النَّصَارَى مَعْلُومَةٌ بِظَنٍّ قَرِيبٍ مِنَ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُمَرَ لَمْ يُعَوِّلْ إِلَّا عَلَى عَدَمِ التَّغَيُّرِ وَسَادِسُهَا: أَنَّ تَقْدِيرَ الْمَاءِ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ وَلَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا كَالْقُلَّتَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَعَشْرٍ فِي عَشْرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَكَانَ أَوْلَى الْمَوَاضِعِ بِالطَّهَارَةِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ لِأَنَّهُ لَا تَكْثُرُ الْمِيَاهُ هُنَاكَ لَا الْجَارِيَةُ وَلَا الرَّاكِدَةُ الْكَثِيرَةُ وَمِنْ أَوَّلِ عَصْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى آخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمْ خَاضُوا فِي تَقْدِيرِ الْمِيَاهِ بِالْمَقَادِيرِ الْمُعَيَّنَةِ، وَلَا أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ كَيْفِيَّةِ حِفْظِ الْمِيَاهِ عَنِ النَّجَاسَاتِ وَكَانَتْ أَوَانِي مِيَاهِهِمْ يَتَعَاطَاهَا الصِّبْيَانُ وَالْإِمَاءُ الَّذِينَ لَا يَحْتَرِزُونَ عَنِ النَّجَاسَاتِ وَسَابِعُهَا: إِصْغَاءُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِنَاءَ لِلْهِرَّةِ وَعَدَمُ مَنْعِهِمُ الْهِرَّةَ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ مِنْ أَوَانِيهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ تَأْكُلُ الْفَأْرَةُ وَلَمْ يَكُنْ فِي بِلَادِهِمْ حِيَاضٌ تَلَغُ السَّنَانِيرُ فِيهَا وَكَانَتْ لَا تَنْزِلُ إِلَى الْآبَارِ وَثَامِنُهَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى أَنَّ غَسَّالَةَ النَّجَاسَاتِ طَاهِرَةٌ إِذَا لَمْ تَتَغَيَّرْ وَنَجِسَةٌ إِذَا تَغَيَّرَتْ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يُلَاقِيَ الْمَاءُ النَّجَاسَةَ بِالْوُرُودِ عَلَيْهَا أَوْ بِوُرُودِهَا عَلَيْهِ؟ وَأَيُّ مَعْنًى لِقَوْلِ الْقَائِلِ إِنَّ قُوَّةَ الْوُرُودِ تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ مَعَ أَنَّ قُوَّةَ الْوُرُودِ لَمْ تَمْنَعِ الْمُخَالَطَةَ وَتَاسِعُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ عَلَى أَطْرَافِ الْمِيَاهِ الْجَارِيَةِ الْقَلِيلَةِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ إِذَا وَقَعَ بول في

مَاءٍ جَارٍ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ أَنَّهُ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الْجَارِي وَالرَّاكِدِ؟ وَلَيْتَ شِعْرِي الْحَوَالَةَ عَلَى عَدَمِ التَّغَيُّرِ أَوْلَى أَوْ عَلَى قُوَّةِ الْمَاءِ بِسَبَبِ الْجَرَيَانِ؟ وَعَاشِرُهَا: إِذَا وَقَعَ بَوْلٌ فِي قُلَّتَيْنِ ثُمَّ فُرِّقَتَا فَكُلُّ كُوزٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ فَهُوَ طَاهِرٌ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَوْلَ مُنْتَشِرٌ فِيهِ وَهُوَ قَلِيلٌ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُ إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ الْقَلِيلُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْمَاءِ ابْتِدَاءً، وَبَيْنَهُ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِنْدَ اتِّصَالِ غَيْرِهِ بِهِ؟ وَحَادِيَ عَشَرِهَا: أَنَّ الْحَمَّامَاتِ لَمْ تَزَلْ فِي الْأَعْصَارِ الْخَالِيَةِ يَتَوَضَّأُ فِيهَا الْمُتَقَشِّفُونَ وَيَغْمِسُونَ الْأَيْدِيَ وَالْأَوَانِيَ فِي ذَلِكَ الْقَلِيلِ مِنَ الْمَاءِ مِنْ تِلْكَ الْحِيَاضِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْأَيْدِيَ الطَّاهِرَةَ وَالنَّجِسَةَ كَانَتْ تَتَوَارَدُ عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَ التَّقْدِيرُ بِالْقُلَّتَيْنِ مُعْتَبَرًا لَاشْتُهِرَ ذَلِكَ وَلَبَلَغَ ذَلِكَ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي تَشْتَدُّ حَاجَةُ/ الْجُمْهُورِ إِلَيْهِ يَجِبُ بُلُوغُ نَقْلِهِ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عِلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَثَانِي عَشَرِهَا: أَنَّا لَوْ حَكَمْنَا بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ فَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَحْكُمَ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ إِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ مِثْلَ مَاءِ الْأَوْدِيَةِ الْعَظِيمَةِ وَالْغُدْرَانِ الْكِبَارِ، فَإِنَّ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّقْدِيرِ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، وَقَدْ نَقَلْنَا عَنِ النَّاسِ تَقْدِيرَاتٍ مُخْتَلِفَةً فَلَيْسَ بَعْضُهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ فَوَجَبَ التَّعَارُضُ وَالتَّسَاقُطُ، أَمَّا تَقْدِيرُ أَبِي حَنِيفَةَ بِعَشْرٍ فِي عَشْرٍ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مُجَرَّدُ تَحَكُّمٍ، وَأَمَّا تَقْدِيرُ الشَّافِعِيِّ بِالْقُلَّتَيْنِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا» فَضَعِيفٌ أَيْضًا لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمَّا رَوَى هَذَا الْخَبَرَ، قَالَ أَخْبَرَنِي رَجُلٌ فَيَكُونُ الرَّاوِي مَجْهُولًا، وَيَكُونُ الْحَدِيثُ مُرْسَلًا وَهُوَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَأَيْضًا زَعَمَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، سَلَّمْنَا صِحَّةَ الرِّوَايَةِ لَكِنَّهُ إِحَالَةُ مَجْهُولٍ عَلَى مَجْهُولٍ لِأَنَّ الْقُلَّةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ فَإِنَّهَا تَصْلُحُ لِلْكُوزِ وَالْجَرَّةِ وَلِكُلِّ مَا نُقِلَ بِالْيَدِ، وَهُوَ أَيْضًا اسْمٌ لِهَامَةِ الرَّجُلِ وَلِقُلَّةِ الْجَبَلِ، سَلَّمْنَا كَوْنَ الْقُلَّةِ مَعْلُومَةً لَكِنْ فِي مَتْنِ الْخَبَرَ اضْطِرَابٌ فَإِنَّهُ رُوِيَ «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ» ، وَرُوِيَ «إِذَا بَلَغَ قُلَّةً» ، وَرُوِيَ «أَرْبَعِينَ قُلَّةً» ، وَرُوِيَ «إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا» ، وَرُوِيَ «إِذَا بَلَغَ كُوزَيْنِ» سَلَّمْنَا صِحَّةَ الْمَتْنِ وَلَكِنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ لِأَنَّ قَوْلَهُ «لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا» لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَإِنَّ الْخَبَثَ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ فَقَدْ حَمَلَهُ، سَلَّمْنَا إِمْكَانَ إِجْرَائِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ لَكِنَّ الْخَبَثَ عَلَى قِسْمَيْنِ خَبَثٌ شَرْعِيٌّ وَخَبَثٌ حَقِيقِيٌّ، وَالِاسْمُ إِذَا دَارَ بَيْنَ الْمُسَمَّى اللُّغَوِيِّ وَالْمُسَمَّى الشَّرْعِيِّ، كَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْمُسَمَّى اللُّغَوِيِّ أَوْلَى، لِأَنَّ الِاسْمَ حَقِيقَةٌ فِي الْمُسَمَّى اللُّغَوِيِّ مَجَازٌ فِي الْمُسَمَّى الشَّرْعِيِّ، دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ وَالنَّقْلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، وَالْمُسَمَّى اللُّغَوِيُّ لِلْخَبَثِ الْمُسْتَقْذِرِ بِالطَّبْعِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا اسْتَخْبَثَتْهُ الْعَرَبُ فَهُوَ حَرَامٌ» إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَعْنَى قَوْلِهِ «لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا» أَيْ لَا يَصِيرُ مُسْتَقْذَرًا طَبْعًا، وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ لَكِنْ لِمَ قُلْتَ إِنَّهُ لَا يَنْجُسُ شَرْعًا، سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْخَبَثِ النَّجَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ لَكِنَّ قَوْلَهُ «لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا» أَيْ يَضْعُفُ عَنْ حَمْلِهِ وَمَعْنَى الضَّعْفِ تَأَثُّرُهُ بِهِ، فَيَكُونُ هَذَا دَلِيلًا عَلَى صَيْرُورَتِهِ نَجِسًا لَا عَلَى بَقَائِهِ طَاهِرًا. لَا يُقَالُ: الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الشَّافِعِيَّ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ الرَّاوِي فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ فَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُرْسَلًا، وَلِأَنَّ سَائِرَ الْمُحَدِّثِينَ قَدْ عَيَّنُوا اسْمَ الرَّاوِي. قَوْلُهُ إِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ فَإِنَّ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ قَالَ إِنَّهُ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ ابْنَ عُلَيَّةَ وَقَفَهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ إِنْ كَانَ ابْنُ عُلَيَّةَ وَقَفَهُ فَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ رَفَعَهُ وَقَوْلُهُ الْقُلَّةُ مَجْهُولَةٌ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ لِأَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ «بِقِلَالِ هَجَرٍ» . ثم قال: وَقَدْ شَاهَدْتُ قِلَالَ هَجَرٍ فَكَانَتِ الْقُلَّةُ تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ أَوْ قِرْبَتَيْنِ وَشَيْئًا. قَوْلُهُ فِي مَتْنِهِ اضْطِرَابٌ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ لِأَنَّا وَأَنْتُمْ تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّ سَائِرَ الْمَقَادِيرِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فَيَبْقَى مَا ذَكَرْنَاهُ مُعْتَبَرًا. قَوْلُهُ إِنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ قُلْنَا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْخُبْثِ الشَّرْعِيِّ انْدَفَعَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَوْلَى لِأَنَّ حَمْلَ كَلَامِ الشَّرْعِ عَلَى الْفَائِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَعْنَى الْعَقْلِيِّ، لَا سِيَّمَا وَفِي حَمْلِهِ عَلَى الْمَعْنَى الْعَقْلِيِّ يَلْزَمُ التَّعْطِيلُ، قَوْلُهُ الْمُرَادُ أَنَّهُ

يَضْعُفُ عَنْ حَمْلِهِ قُلْنَا صَحَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَنْجُسْ» ، وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعَلَ الْقُلَّتَيْنِ شَرْطًا لِهَذَا الْحُكْمِ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ عَدَمٌ/ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ وَعَلَى مَا ذَكَرُوهُ لَا يَبْقَى لِلْقُلَّتَيْنِ فَائِدَةٌ لِأَنَّا نَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ بِتَقْدِيرِ الصِّحَّةِ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً وَعُمُومِ قَوْلِهِ: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [الْمَائِدَةِ: 6] وَعُمُومِ قَوْلِهِ: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَةِ: 6] وَعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لا ينجسه شيء» وهذا المخصص لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بَعِيدًا عَنِ الِاحْتِمَالِ وَالِاشْتِبَاهِ وَقِلَالُ هَجَرٍ مَجْهُولَةٌ وَقَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ الْقُلَّةُ تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ أَوْ قِرْبَتَيْنِ وَشَيْئًا لَيْسَ بِحُجَّةٍ، لِأَنَّ الْقُلَّةَ كَمَا أَنَّهَا مَجْهُولَةٌ فَكَذَا الْقِرْبَةُ مَجْهُولَةٌ فَإِنَّهَا قَدْ تَكُونُ كَبِيرَةً، وَقَدْ تَكُونُ صَغِيرَةً، وَلِأَنَّ الرِّوَايَاتِ أَيْضًا مُخْتَلِفَةٌ فَتَارَةً قَالَ «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ» ، وَتَارَةً «أَرْبَعِينَ قلة» ، وتارة كرين فَإِذَا تَدَافَعَتْ وَتَعَارَضَتْ لَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الظَّاهِرَةِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الِاحْتِمَالِ بِمِثْلِ هَذَا الْخَبَرِ. هَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي نُصْرَةِ قَوْلِ مَالِكٍ، وَاحْتَجَّ مَنْ حَكَمَ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الَّذِي تَقَعُ النَّجَاسَةُ فِيهِ بِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الْأَعْرَافِ: 157] وَالنَّجَاسَاتُ مِنَ الْخَبَائِثِ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ [النَّحْلِ: 115] ، وَقَالَ فِي الْخَمْرِ: رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [الْمَائِدَةِ: 90] وَمَرَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ إِنَّ أَحَدَهُمَا كَانَ لَا يَسْتَبْرِئُ مِنَ الْبَوْلِ وَالْآخَرَ كَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ» فَحَرَّمَ اللَّه هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَالِ انْفِرَادِهَا وَاخْتِلَاطِهَا بِالْمَاءِ، فَوَجَبَ تَحْرِيمُ اسْتِعْمَالِ كُلِّ مَا يَبْقَى فِيهِ جُزْءٌ مِنَ النَّجَاسَةِ أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ على كون الماء مطهرا تقضي جَوَازَ الطَّهَارَةِ بِهِ، وَلَكِنْ تِلْكَ الدَّلَائِلُ مُبِيحَةٌ وَالدَّلَائِلُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا حَاظِرَةٌ وَالْمُبِيحُ وَالْحَاظِرُ إِذَا اجْتَمَعَا فَالْغَلَبَةُ لِلْحَاظِرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَارِيَةَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا مِنْهَا مِائَةُ جُزْءٍ وَلِلْآخَرِ جُزْءٌ وَاحِدٌ، أَنَّ جِهَةَ الْحَظْرِ فِيهَا أَوْلَى مِنْ جِهَةِ الْإِبَاحَةِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جائز لواحد منهما وطؤها فكذا هاهنا وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ» ذَكَرَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا الْإِنَاءَ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» فَأَمَرَ بِغَسْلِ الْيَدِ احْتِيَاطًا مِنْ نَجَاسَةٍ قَدْ أَصَابَتْهُ مِنْ مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَهَا إِذَا أُدْخِلَتِ الْمَاءَ لَمْ تُغَيِّرْهُ وَلَوْلَا أَنَّهَا تُفْسِدُهُ مَا كَانَ لِلْأَمْرِ بِالِاحْتِيَاطِ مِنْهَا مَعْنًى وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا» يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَحْمِلَ الْخَبَثَ. أَجَابَ مَالِكٌ عَنِ الوجه الْأَوَّلِ فَقَالَ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ النَّجَاسَةِ وَلَكِنَّ الْجُزْءَ الْقَلِيلَ مِنَ النَّجَاسَةِ الْمَائِعَةِ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ لَوْنُهُ وَلَا طَعْمُهُ وَلَا رَائِحَتُهُ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ تِلْكَ النَّجَاسَةَ بَقِيَتْ، وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا انْقَلَبَتْ عَنْ صِفَتِهَا؟ وَتَقْرِيرُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ» فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ هَذَا النَّهْيَ لَيْسَ إِلَّا لِمَا ذَكَرْتُمُوهُ، بَلْ لَعَلَّ النَّهْيَ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ رُبَّمَا شَرِبَهُ إِنْسَانٌ وَذَلِكَ مِمَّا يَنْفِرُ طَبْعُهُ عَنْهُ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي نَفْرَةِ الطَّبْعِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ ثَلَاثًا» فَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ اسْتِحْبَابٌ، فَالْمُرَتَّبُ عَلَيْهِ كَيْفَ يَكُونُ أَمْرَ إِيجَابٍ/ ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ أَمْرَ إِيجَابٍ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ لَمْ يُوَجِّهْ ذَلِكَ الْإِيجَابَ إِلَّا لِمَا ذَكَرْتُمُوهُ؟ وَأَمَّا قوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء قلتين» فَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، ثُمَّ بَعْدَ النُّزُولِ عَنْ كُلِّ مَا قُلْنَاهُ فَهُوَ تَمَسُّكٌ بِالْمَفْهُومِ وَالنُّصُوصِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مَنْطُوقَةً وَالْمَنْطُوقُ رَاجِحٌ عَلَى الْمَفْهُومِ، واللَّه أَعْلَمُ.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 50 إلى 52]

النَّظَرُ الثَّانِي: فِي أَنَّ غَيْرَ الْمَاءِ هَلْ هُوَ طَهُورٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْأَصَمُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِجَمِيعِ الْمَائِعَاتِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ فِي السَّفَرِ، وَقَالَ أَيْضًا تَجُوزُ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِجَمِيعِ الْمَائِعَاتِ الَّتِي تُزِيلُ أَعْيَانَ النَّجَاسَاتِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ الطَّهُورِيَّةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْمَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَدَلِيلُهُ فِي صُورَةِ الْحَدَثِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النِّسَاءِ: 43] أَوْجَبَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَلَوْ جَازَ الْوُضُوءُ بِالْخَلِّ أَوْ نَبِيذِ التَّمْرِ لَمَا وَجَبَ التَّيَمُّمُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَأَمَّا فِي صُورَةِ الْخَبَثِ، فَلِأَنَّ الْخَلَّ لَوْ أَفَادَ طَهَارَةَ الْخَبَثِ لَكَانَ طَهُورًا لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلطَّهُورِ إِلَّا الْمُطَهِّرَ وَلَوْ كَانَ طَهُورًا لَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ بِهِ طَهَارَةُ الْحَدَثِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَقْبَلُ اللَّه صَلَاةَ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ» وَكَلِمَةُ (حَتَّى) لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ فَوَجَبَ انْتِهَاءُ عَدَمِ الْقَبُولِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الطَّهُورِ وَانْتِهَاءُ عَدَمِ الْقَبُولِ يَكُونُ بِحُصُولِ الْقَبُولِ، فَلَوْ كَانَ الْخَلُّ طَهُورًا لَحَصَلَ بِاسْتِعْمَالِهِ قَبُولُ الصَّلَاةِ، وَحَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ عَلِمْنَا أَنَّ الطَّهُورِيَّةَ في الخبث أيضا مختصة بالماء. [سورة الفرقان (25) : الآيات 50 الى 52] وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً] وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْهَاءَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَرْجِعُ وَذَكَرُوا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْمَطَرِ، ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ مَعْنَى (صَرَّفْنَاهُ) أَنَّا أَجْرَيْنَاهُ فِي الْأَنْهَارِ حَتَّى انْتَفَعُوا بِالشُّرْبِ وَبِالزِّرَاعَاتِ وَأَنْوَاعِ الْمَعَاشِ بِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُنْزِلُهُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ وَفِي عَامٍ دُونَ عَامٍ، ثُمَّ فِي الْعَامِ الثَّانِي يَقَعُ بِخِلَافِ مَا وَقَعَ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا عَامٌ بِأَكْثَرَ مَطَرًا مِنْ عَامٍ، وَلَكِنَّ اللَّه يُصَرِّفُهُ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَرَوَى ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ عَامٍ بِأَمْطَرَ مِنْ عَامٍ، وَلَكِنْ إِذَا عَمِلَ قَوْمٌ بِالْمَعَاصِي حَوَّلَ اللَّه ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِمْ، فَإِذَا عَصَوْا جَمِيعًا صَرَفَ اللَّه ذَلِكَ إِلَى الْفَيَافِي» وَثَانِيهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ: أَنَّ قَوْلَهُ: صَرَّفْناهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَطَرِ وَالرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ وَالْأَظْلَالِ وَسَائِرِ مَا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْأَدِلَّةِ وَثَالِثُهَا: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ أَيْ هَذَا الْقَوْلَ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْكُتُبِ وَالصُّحُفِ التي أنزلت على/ رسل وَهُوَ ذِكْرُ إِنْشَاءِ السَّحَابِ وَإِنْزَالِ الْقَطْرِ لِيَتَفَكَّرُوا وَيَسْتَدِلُّوا بِهِ عَلَى الصَّانِعِ، وَالوجه الْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ إِلَى الضَّمِيرِ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَذَّكَّرُوا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُرِيدٌ مِنَ الْكُلِّ أَنْ يَتَذَكَّرُوا وَيَشْكُرُوا وَلَوْ أَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا وَيُعْرِضُوا لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّه تَعَالَى مُرِيدٌ لِلْكُفْرِ مِمَّنْ يَكْفُرُ، قَالَ وَدَلَّ قَوْلُهُ: فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً عَلَى قُدْرَتِهِمْ عَلَى فِعْلِ هَذَا التَّذَكُّرِ إِذْ لَوْ لَمْ يَقْدِرُوا لَمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ أَبَوْا أَنْ يَفْعَلُوهُ كَمَا لَا يُقَالُ فِي الزَّمَنِ أَبَى أَنْ يَسْعَى، وَقَالَ الْكَعْبِيُّ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَبَالٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِإِنْزَالِهِ أَنْ يُؤْمِنُوا لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِيَذَّكَّرُوا عَامٌّ فِي الْكُلِّ، وَقَوْلُهُ: فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْأَكْثَرُ دَاخِلًا فِي ذَلِكَ الْعَامِّ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَنْزَلْنَاهُ عَلَى قُرَيْشٍ لِيُؤْمِنُوا، فَأَبَى أَكْثَرُ- بَنِي تَمِيمٍ- إِلَّا كُفُورًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَيْهِ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا. المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً الْمُرَادُ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ وَجُحُودُهَا مِنْ حَيْثُ لَا يتفكرون

[سورة الفرقان (25) : آية 53]

فِيهَا وَلَا يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنَ الْكُفُورِ هُوَ الْكُفْرُ وَذَلِكَ الْكُفْرُ إِنَّمَا حَصَلَ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا لِأَنَّ مَنْ جَحَدَ كَوْنَ النِّعَمِ صَادِرَةً مِنَ الْمُنْعِمِ، وَأَضَافَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ إِلَى الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ فَقَدْ كَفَرَ، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مَنْ جَعَلَ الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ مُسْتَقِلَّةً بِاقْتِضَاءِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَا شَكَّ فِي كُفْرِهِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ الصَّانِعُ تَعَالَى جَبَلَهَا عَلَى خَوَاصَّ وَصِفَاتٍ تَقْتَضِي هَذِهِ الْحَوَادِثَ، فَلَعَلَّهُ لَا يَبْلُغُ خَطَؤُهُ إِلَى حَدِّ الْكُفْرِ. المسألة الرَّابِعَةُ: قَالُوا الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ خِلَافَ مَعْلُومِ اللَّه مَقْدُورٌ لَهُ لِأَنَّ كَلِمَةَ لَوْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ خِلَافَ مَعْلُومِ اللَّه مَقْدُورٌ لَهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَالْأَقْوَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ تَعْظِيمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى بِعْثَةِ رَسُولٍ وَنَذِيرٍ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ خَصَّهُ بِالرِّسَالَةِ وَفَضَّلَهُ بِهَا عَلَى الْكُلِّ وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ أَيْ لَا تُوَافِقْهُمْ وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ وَلَوْ شِئْنَا لَخَفَّفْنَا عَنْكَ أَعْبَاءَ الرِّسَالَةِ إِلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ وَلَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا وَلَكِنَّا قَصَرْنَا الْأَمْرَ عَلَيْكَ وَأَجْلَلْنَاكَ وَفَضَّلْنَاكَ عَلَى سَائِرِ الرُّسُلِ، فَقَابِلْ هَذَا الْإِجْلَالَ بِالتَّشَدُّدِ فِي الدِّينِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي مَزْجَ اللُّطْفِ بِالْعُنْفِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا مِثْلَ مُحَمَّدٍ، وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِالْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، إِلَى مُحَمَّدٍ الْبَتَّةَ، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَبِالنَّظَرِ إِلَى الْأَوَّلِ يَحْصُلُ التَّأْدِيبُ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى الثَّانِي يَحْصُلُ الْإِعْزَازُ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فَالْمُرَادُ نَهْيُهُ عَنْ طَاعَتِهِمْ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مُشْتَغِلًا بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بَذْلُ الْجُهْدِ فِي الْأَدَاءِ، وَالدُّعَاءِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ الْقِتَالُ، وَقَالَ آخَرُونَ: كِلَاهُمَا، وَالْأَقْرَبُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَالْأَمْرُ بِالْقِتَالِ وَرَدَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِزَمَانٍ وَإِنَّمَا قَالَ: جِهاداً كَبِيراً لِأَنَّهُ لَوْ بَعَثَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا لَوَجَبَ عَلَى كُلِّ نَذِيرٍ مُجَاهَدَةُ قَرْيَتِهِ، فَاجْتَمَعَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّه تِلْكَ الْمُجَاهَدَاتُ وَكَثُرَ جِهَادُهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَظُمَ فَقَالَ لَهُ: وَجاهِدْهُمْ بِسَبَبِ كَوْنِكَ نَذِيرَ كَافَّةِ الْقُرَى جِهاداً كَبِيراً جَامِعًا لِكُلِّ مجاهدة. [سورة الفرقان (25) : آية 53] وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) [النوع الرابع من دلائل التوحيد] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَقَوْلُهُ: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أَيْ خَلَّاهُمَا وَأَرْسَلَهُمَا يُقَالُ: مَرَجْتُ الدَّابَّةَ إِذَا خَلَّيْتَهَا تَرْعَى، وَأَصْلُ الْمَرَجِ الْإِرْسَالُ وَالْخَلْطُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق: 5] سَمَّى الْمَاءَيْنِ الْكَبِيرَيْنِ الْوَاسِعَيْنِ بَحْرَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ، أَيْ أَرْسَلَهُمَا فِي مَجَارِيهِمَا كَمَا تُرْسَلُ الْخَيْلُ فِي الْمَرْجِ وَهُمَا يَلْتَقِيَانِ، وَقَوْلُهُ: هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْفُرَاتِ الْبَلِيغُ فِي الْعُذُوبَةِ حَتَّى (يَصِيرَ) «1» إِلَى الْحَلَاوَةِ، وَالْأُجَاجُ نَقِيضُهُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ بِقُدْرَتِهِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا وَيَمْنَعُهُمَا التَّمَازُجَ، وجعل من

_ (1) في الكشاف (يضرب) 3/ 96 ط. دار الفكر.

[سورة الفرقان (25) : آية 54]

عظيم اقتداره برزخا حائلا من قدرته، وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَحِجْراً مَحْجُوراً؟ الْجَوَابُ: هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي يَقُولُهَا الْمُتَعَوِّذُ وقد فسرناها، وهي هاهنا وَاقِعَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ يَتَعَوَّذُ مِنْ صَاحِبِهِ وَيَقُولُ لَهُ حِجْرًا مَحْجُورًا، كَمَا قَالَ: لَا يَبْغِيانِ [الرَّحْمَنِ: 20] أَيْ لَا يَبْغِي أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْمُمَازَجَةِ فانتفاء البغي [ثمة] «1» كالتعوذ، وهاهنا جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صُورَةِ الْبَاغِي عَلَى صَاحِبِهِ، فَهُوَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُ وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِعَارَاتِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لَا وُجُودَ لِلْبَحْرِ العذب، فكيف ذكره اللَّه تعالى هاهنا؟ لَا يُقَالُ: هَذَا مَدْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْأَوْدِيَةُ الْعِظَامُ كَالنِّيلِ وَجَيْحُونَ الثَّانِي: لَعَلَّهُ جَعَلَ فِي الْبِحَارِ مَوْضِعًا يَكُونُ أَحَدُ جَانِبَيْهِ عَذْبًا وَالْآخَرُ مِلْحًا، لِأَنَّا نَقُولُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَضَعِيفٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَوْدِيَةَ لَيْسَ فيها ماء مِلْحٌ، وَالْبِحَارُ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ عَذْبٌ، فَلَمْ يَحْصُلِ الْبَتَّةَ مَوْضِعُ التَّعَجُّبِ وَأَمَّا/ الثَّانِي فَضَعِيفٌ، لِأَنَّ مَوْضِعَ الِاسْتِدْلَالِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، فَأَمَّا بِمَحْضِ التَّجْوِيزِ فَلَا يَحْسُنُ الِاسْتِدْلَالُ، لِأَنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ مِنَ الْبَحْرِ الْعَذْبِ هَذِهِ الْأَوْدِيَةُ، وَمِنَ الْأُجَاجِ الْبِحَارُ الْكِبَارُ، وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا، أَيْ حَائِلًا مِنَ الْأَرْضِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ هاهنا بَيِّنٌ، لِأَنَّ الْعُذُوبَةَ وَالْمُلُوحَةَ إِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ طَبِيعَةِ الْأَرْضِ أَوِ الْمَاءِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِوَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ قَادِرٍ حَكِيمٍ يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الأجسام بصفة خاصة معينة. [سورة الفرقان (25) : آية 54] وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) [النوع الخامس من دلائل التوحيد] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النوع الْخَامِسُ مِنْ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: ذَكَرُوا فِي هَذَا الْمَاءِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْمَاءُ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ أُصُولُ الْحَيَوَانِ، وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ [النُّورِ: 45] وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ النُّطْفَةُ لِقَوْلِهِ: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ [الطَّارِقِ: 6] ، مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [الْمُرْسَلَاتِ: 20] . الْبَحْثُ الثَّانِي: الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى قَسَّمَ الْبَشَرَ قَسَمَيْنِ ذَوِي نَسَبٍ، أَيْ ذُكُورًا يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ، فَيُقَالُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، وَفُلَانَةُ بِنْتُ فلان، وذوات صهر، أي إناثا (يصاهرن) «2» وَنَحْوَهُ، قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [الْقِيَامَةِ: 39] ، وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً حَيْثُ خَلَقَ مِنَ النُّطْفَةِ الْوَاحِدَةِ نَوْعَيْنِ مِنَ الْبَشَرِ الذَّكَرَ والأنثى. [سورة الفرقان (25) : الآيات 55 الى 58] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ عَادَ إِلَى تَهْجِينِ سِيرَتِهِمْ في عبادة الأوثان، وفي الآية مسائل:

_ (1) زيادة من الكشاف. (2) في الكشاف (يصاهر بهن) .

المسألة الْأُولَى: قِيلَ الْمُرَادُ بِالْكَافِرِ أَبُو جَهْلٍ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ، لِأَنَّ خُصُوصَ السَّبَبِ لَا يَقْدَحُ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ، وَلِأَنَّهُ أَوْفَقُ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. المسألة الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي الظَّهِيرِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الظَّهِيرَ بِمَعْنَى الْمُظَاهِرِ، كَالْعَوِينِ بِمَعْنَى الْمُعَاوِنِ، وَفَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ غَيْرُ (غَرِيبٍ) «1» ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكَافِرَ يُظَاهِرُ الشَّيْطَانَ عَلَى رَبِّهِ بِالْعَدَاوَةِ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ فِي الْكَافِرِ أَنْ يَكُونَ مُعَاوِنًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى رَبِّهِ بِالْعَدَاوَةِ؟ قُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ نَفْسَهُ وَأَرَادَ رَسُولَهُ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ [الْأَحْزَابِ: 57] وَثَانِيهَا: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالظَّهِيرِ الْجَمَاعَةَ، كَقَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التَّحْرِيمِ: 4] كَمَا جَاءَ الصَّدِيقُ وَالْخَلِيطُ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْكَافِرِ الْجِنْسَ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ مُظَاهِرٌ لِبَعْضٍ عَلَى إِطْفَاءِ نُورِ [دِينِ] «2» اللَّه تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ [الْأَعْرَافِ: 202] ، وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: الظَّهِيرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: ظَهَرَ فُلَانٌ بِحَاجَتِي إِذَا نَبَذَهَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا [هُودٍ: 92] ويقال فيمن يستهين بالشيء: نبذه وراء وَقِيَاسُ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُقَالَ مَظْهُورٌ، أَيْ مُسْتَخَفٌّ بِهِ مَتْرُوكٌ وَرَاءَ الظَّهْرِ، فَقِيلَ فِيهِ ظَهِيرٌ فِي مَعْنَى مَظْهُورٍ، وَمَعْنَاهُ هَيِّنٌ عَلَى اللَّه أَنْ يَكْفُرَ الْكَافِرُ وَهُوَ تَعَالَى مُسْتَهِينٌ بِكُفْرِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً فَتَعَلُّقُ ذَلِكَ بِمَا تَقَدَّمَ، هُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَطْلُبُونَ الْعَوْنَ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَعَلَى رَسُولِهِ، واللَّه تَعَالَى بَعَثَ رَسُولَهُ لِنَفْعِهِمْ، لِأَنَّهُ بَعَثَهُ لِيُبَشِّرَهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ، وَيُنْذِرَهُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَيَسْتَحِقُّوا الثَّوَابَ وَيَحْتَرِزُوا عَنِ الْعِقَابِ، فَلَا جَهْلَ أَعْظَمُ مِنْ جَهْلِ مَنِ اسْتَفْرَغَ جُهْدَهُ فِي إِيذَاءِ شَخْصٍ اسْتَفْرَغَ جُهْدَهُ فِي إِصْلَاحِ مُهِمَّاتِهِ دِينًا وَدُنْيَا، وَلَا يَسْأَلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْبَتَّةَ أَجْرًا. أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ شاءَ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا مُتَقَارِبَةً أَحَدُهَا: لَا يَسْأَلُهُمْ عَلَى الْأَدَاءِ وَالدُّعَاءِ أَجْرًا إِلَّا أَنْ يَشَاءُوا أَنْ يَتَقَرَّبُوا بِالْإِنْفَاقِ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ، فَيَتَّخِذُوا بِهِ سَبِيلًا إِلَى رَحْمَةِ رَبِّهِمْ وَنَيْلِ ثَوَابِهِ وَثَانِيهَا: قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا لِنَفْسِي وَأَسْأَلُكُمْ أَنْ تَطْلُبُوا الْأَجْرَ لِأَنْفُسِكُمْ بِاتِّخَاذِ السَّبِيلِ إِلَى رَبِّكُمْ وَثَالِثُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مِثَالُ قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ شاءَ وَالْمُرَادُ إِلَّا فِعْلَ مَنْ شَاءَ، وَاسْتِثْنَاؤُهُ عَنِ الْأَجْرِ قَوْلُ ذِي شَفَقَةٍ عَلَيْكَ قَدْ سَعَى لَكَ فِي تَحْصِيلِ مَالٍ مَا أَطْلُبُ مِنْكَ ثَوَابًا عَلَى مَا سَعَيْتُ، إِلَّا أَنْ تَحْفَظَ هَذَا الْمَالَ وَلَا تُضَيِّعَهُ، فَلَيْسَ حِفْظُكَ الْمَالَ لِنَفْسِكِ مِنْ جِنْسِ الثَّوَابِ، وَلَكِنْ صَوَّرَهُ هُوَ بِصُورَةِ الثَّوَابِ وَسَمَّاهُ بِاسْمِهِ فَأَفَادَ فَائِدَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا قَلْعُ شُبْهَةِ الطَّمَعِ فِي الثَّوَابِ مِنْ أَصْلِهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَكَ إِنْ كَانَ حِفْظُكَ لِمَالِكَ ثَوَابًا، فَإِنِّي أَطْلُبُ الثَّوَابَ، وَالثَّانِيَةُ إِظْهَارُ الشَّفَقَةِ الْبَالِغَةِ، وَأَنَّ حِفْظَكَ لِمَالِكَ يَجْرِي مَجْرَى الثَّوَابِ الْعَظِيمِ الَّذِي تُوصِلُهُ إِلَيَّ، وَمَعْنَى اتِّخَاذِهِمْ إِلَى اللَّه سَبِيلًا، تَقَرُّبُهُمْ إِلَيْهِ وَطَلَبُهُمْ عِنْدَهُ الزُّلْفَى بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ التَّقَرُّبُ بِالصَّدَقَةِ وَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّه. أَمَّا قَوْلُهُ: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْكُفَّارَ مُتَظَاهِرُونَ عَلَى إِيذَائِهِ، فَأَمَرَهُ بِأَنْ لَا يَطْلُبَ مِنْهُمْ أَجْرًا الْبَتَّةَ، أَمَرَهُ بِأَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي دَفْعِ جَمِيعِ الْمَضَارِّ، وَفِي جَلْبِ جَمِيعِ الْمَنَافِعِ، وَإِنَّمَا قَالَ: عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ لِأَنَّ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى الحي الذي يموت، فإذا مات المتوكل

_ (1) في الكشاف (عزيز) 3/ 97 ط. دار الفكر. (2) زيادة من الكشاف.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 59 إلى 60]

عَلَيْهِ صَارَ الْمُتَوَكِّلُ ضَائِعًا، أَمَّا هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِنَّهُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ فَلَا يَضِيعُ الْمُتَوَكِّلُ عَلَيْهِ الْبَتَّةَ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى نَفْسِ التَّسْبِيحِ بِالْقَوْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى التَّنْزِيهِ للَّه تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ فِي تَوْحِيدِهِ وَعَدْلِهِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ثم قال: وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً وَهَذِهِ كَلِمَةٌ يُرَادُ بِهَا الْمُبَالَغَةُ يُقَالُ: كَفَى بِالْعِلْمِ جَمَالًا، وَكَفَى بِالْأَدَبِ مَالًا وَهُوَ بِمَعْنَى حَسْبُكَ، أَيْ لَا تَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ خَبِيرٌ بِأَحْوَالِهِمْ قَادِرٌ عَلَى مُكَافَأَتِهِمْ وَذَلِكَ وَعِيدٌ شَدِيدٌ، كَأَنَّهُ قَالَ إِنْ أَقْدَمْتُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ كَفَاكُمْ عِلْمُهُ فِي مُجَازَاتِكُمْ بما تستحقون من العقوبة. [سورة الفرقان (25) : الآيات 59 الى 60] الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) [في قَوْلُهُ تَعَالَى الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَمَرَ الرَّسُولَ بِأَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأُمُورٍ: أَوَّلُهَا: بِأَنَّهُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [الْفُرْقَانِ: 58] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً [الْفُرْقَانِ: 58] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فَقَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ لِأَنَّهُ سبحانه لما كان هو الخالق للسموات وَالْأَرَضِينَ وَلِكُلِّ مَا بَيْنَهُمَا ثَبَتَ أَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى جَمِيعِ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، وَأَنَّ النِّعَمَ كُلَّهَا مِنْ جِهَتِهِ فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ التَّوَكُّلُ إِلَّا عَلَيْهِ. وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْأَيَّامُ عِبَارَةٌ عَنْ حَرَكَاتِ الشَّمْسِ في السموات فقبل السموات لَا أَيَّامَ، فَكَيْفَ قَالَ اللَّه خَلَقَهَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ؟ الْجَوَابُ: يَعْنِي فِي مُدَّةٍ مِقْدَارُهَا هَذِهِ الْمُدَّةُ لَا يُقَالُ الشَّيْءُ الَّذِي يَتَقَدَّرُ بِمِقْدَارٍ مَحْدُودٍ وَيَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَالتَّجْزِئَةَ لَا يَكُونُ عَدَمًا مَحْضًا، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ مُدَّةٍ قَبْلَ وُجُودِ الْعَالَمِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي قِدَمَ الزَّمَانِ، لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا/ مُعَارَضٌ بِنَفْسِ الزَّمَانِ، لِأَنَّ الْمُدَّةَ الْمُتَوَهَّمَةَ الْمُحْتَمَلَةَ لِعَشَرَةِ أَيَّامٍ لَا تَحْتَمِلُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَالْمُدَّةُ الْمُتَوَهَّمَةُ الَّتِي تَحْتَمِلُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ لَا تَحْتَمِلُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُدَّةِ مُدَّةٌ أُخْرَى، فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمْ هَذَا لَمْ يَلْزَمْ مَا قُلْتُمُوهُ وَعَلَى هَذَا نَقُولُ لَعَلَّ اللَّه سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْمُدَّةَ أَوَّلًا ثم السموات وَالْأَرْضَ فِيهَا بِمِقْدَارِ سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ وَكُلُّ يَوْمٍ أَلْفُ سَنَةٍ وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِأَمْرٍ مَعْلُومٍ لَا بِأَمْرٍ مَجْهُولٍ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَدَّرَ الْخَلْقَ وَالْإِيجَادَ بِهَذَا التَّقْدِيرِ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا فَالْمَشِيئَةُ وَالْقُدْرَةُ كَافِيَةٌ فِي التَّخْصِيصِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ دَاعِي حِكْمَةٍ وَهُوَ أَنَّ تَخْصِيصَ خَلْقِ الْعَالَمِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ أَصْلَحُ لِلْمُكَلَّفِينَ وَهَذَا بَعِيدٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُصُولَ تِلْكَ الْحِكْمَةِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ أَوْ جَائِزًا فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا وَجَبَ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ فَيَكُونُ حَاصِلًا فِي كُلِّ الْأَزْمِنَةِ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِتَخْصِيصِ زَمَانٍ مُعَيَّنٍ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا افْتَقَرَ حُصُولُ تِلْكَ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى مُخَصِّصٍ آخَرَ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَالثَّانِي: أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ خَاطِرُ الْمُكَلَّفِ وَعَقْلُهُ، فَحُصُولُ ذَلِكَ التَّفَاوُتِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَشْعُورًا بِهِ كَيْفَ يَقْدَحُ فِي حصول المصالح.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ سَوَاءً كَانَ عَلَى قَوْلِنَا أَوْ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يَقْطَعَ الطَّمَعَ عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ، فَإِنَّهُ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ. مِنْ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ بِتِسْعَةَ عَشَرَ وَحَمَلَةِ الْعَرْشِ بِالثَّمَانِيَةِ وَشُهُورِ السَّنَةِ بِاثْنَيْ عَشَرَ والسموات بالسبع وَكَذَا الْأَرْضِ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي عَدَدِ الصَّلَوَاتِ وَمَقَادِيرِ النُّصُبِ فِي الزَّكَوَاتِ وَكَذَا مَقَادِيرُ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ فَالْإِقْرَارُ بِأَنَّ كُلَّ مَا قَالَهُ اللَّه تَعَالَى حَقٌّ هُوَ الدِّينُ، وَتَرْكُ الْبَحْثِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ هُوَ الْوَاجِبُ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ تَعَالَى فِي قَوْلُهُ: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا ثم قَالَ: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [الْمُدَّثِّرِ: 31] وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ أَيْضًا فِي أنه لم لَمْ يَخْلُقْهَا فِي لَحْظَةٍ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ؟ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ إِنَّمَا خَلَقَهَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَخْلُقَهَا فِي لَحْظَةٍ تَعْلِيمًا لِخَلْقِهِ الرِّفْقَ والتثبت، قيل ثم خَلْقُهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَجَعَلَهَا اللَّه تَعَالَى عِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ؟ وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِيلَاءِ وَالْقُدْرَةِ، لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ وَالْقُدْرَةَ فِي أَوْصَافِ اللَّه لَمْ تَزَلْ وَلَا يَصِحُّ دُخُولُ (ثُمَّ) فِيهِ وَالْجَوَابُ: الِاسْتِقْرَارُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي التَّغَيُّرَ الَّذِي هُوَ دَلِيلُ الْحُدُوثِ، وَيَقْتَضِي التَّرْكِيبَ وَالْبَعْضِيَّةَ وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى اللَّه مُحَالٌ بَلِ الْمُرَادُ ثُمَّ خَلَقَ الْعَرْشَ وَرَفَعَهُ وَهُوَ مُسْتَوْلٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ [مُحَمَّدٍ: 31] فَإِنَّ الْمُرَادَ حَتَّى يُجَاهِدَ الْمُجَاهِدُونَ وَنَحْنُ بِهِمْ عَالِمُونَ، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَلْزَمُ أَنْ يكون خلق العرش بعد خلق السموات وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هُودٍ: 7] قُلْنَا: كَلِمَةُ (ثُمَّ) / مَا دَخَلَتْ عَلَى خَلْقِ الْعَرْشِ، بَلْ عَلَى رَفْعِهِ عَلَى السموات. السؤال الرابع: كيف إعراب قوله: الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً؟ الجواب: الَّذِي خَلَقَ مبتدأ والرَّحْمنُ خبره، أو هو صفة للحي، أو الرحمن خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَلِهَذَا أَجَازَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ عَلَى الْعَرْشِ ثُمَّ يَبْتَدِئُ بِالرَّحْمَنِ أَيْ هُوَ الرَّحْمَنُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي السُّجُودُ وَالتَّعْظِيمُ إِلَّا لَهُ، وَيَجُوزُ أن يكون الرحمن مبتدأ وخبره قوله: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً؟ الْجَوَابُ: ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ مَعْنَاهُ فَاسْأَلْ خَبِيرًا بِهِ وَقَوْلُهُ: بِهِ يَعُودُ إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَالْبَاءُ مِنْ صِلَةِ الْخَبِيرِ وَذَلِكَ الْخَبِيرُ هُوَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي الْعَقْلِ عَلَى كيفية خلق اللَّه السموات وَالْأَرْضَ فَلَا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّه تَعَالَى وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ الْخَبِيرَ هُوَ جبريل عليه السلام وإنما قدم لرؤوس الْآيِ وَحُسْنِ النَّظْمِ وَثَانِيهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ قَوْلُهُ: بِهِ مَعْنَاهُ عَنْهُ وَالْمَعْنَى فَاسْأَلْ عَنْهُ خَبِيرًا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ [الْمَعَارِجِ: 1] وَقَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ: فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي ... بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِهِ صِلَةٌ وَالْمَعْنَى فَسَلْهُ خَبِيرًا، وَخَبِيرًا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ بِهِ يَجْرِي مَجْرَى الْقَسَمِ كَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ [النساء: 1] .

[سورة الفرقان (25) : الآيات 61 إلى 62]

أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ فَهُوَ خَبَرٌ عَنْ قَوْمٍ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ جَهِلُوا اللَّه تَعَالَى، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ وَإِنْ عَرَفُوهُ لَكِنَّهُمْ جَحَدُوهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ وَإِنِ اعْتَرَفُوا بِهِ لَكِنَّهُمْ جَهِلُوا أَنَّ هَذَا الِاسْمَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ قَالُوا الرَّحْمَنُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّه مَذْكُورٌ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالْعَرَبُ مَا عَرَفُوهُ قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ إِنَّ الَّذِي يَقُولُهُ مُحَمَّدٌ شِعْرٌ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الشِّعْرُ غَيْرُ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا كَلَامُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ بَخٍ بَخٍ لَعَمْرِي واللَّه إِنَّهُ لَكَلَامُ الرَّحْمَنِ الَّذِي بِالْيَمَامَةِ هُوَ يُعَلِّمُكَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الرَّحْمَنُ الَّذِي هُوَ إِلَهُ السَّمَاءِ وَمِنْ عِنْدِهِ يَأْتِينِي الْوَحْيُ» فَقَالَ يَا آلَ غَالِبٍ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ مُحَمَّدٍ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّه وَاحِدٌ، وَهُوَ يَقُولُ اللَّه يُعَلِّمُنِي وَالرَّحْمَنُ، أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُمَا إِلَهَانِ ثم قال رَبُّكُمُ اللَّه الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، أَمَّا الرَّحْمَنُ فَهُوَ مُسَيْلِمَةُ. قَالَ الْقَاضِي وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ إِنْكَارُهُمْ للَّه لَا لِلِاسْمِ، لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ عَرَبِيَّةٌ، وَهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا تُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي الْإِنْعَامِ، ثُمَّ إِنْ قُلْنَا بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ للَّه كَانَ قَوْلُهُمْ: وَمَا الرَّحْمنُ سُؤَالَ طَالِبٍ عَنِ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ يَجْرِي مَجْرَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: 23] وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ باللَّه لَكِنَّهُمْ جَهِلُوا كَوْنَهُ تَعَالَى مُسَمًّى بِهَذَا الِاسْمِ كَانَ قَوْلُهُمْ وَمَا الرَّحْمنُ سُؤَالًا عَنِ الِاسْمِ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا فَالْمَعْنَى لِلَّذِي تَأْمُرُنَا بِسُجُودِهِ عَلَى قَوْلِهِ أَمَرْتُكَ بِالْخَيْرِ، أَوْ لِأَمْرِكَ/ لَنَا، وَقُرِئَ يَأْمُرُنَا بِالْيَاءِ كَأَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ لِبَعْضٍ أَنَسْجُدُ لِمَا يَأْمُرُنَا مُحَمَّدٌ أَوْ يَأْمُرُنَا الْمُسَمَّى بِالرَّحْمَنِ وَلَا نَعْرِفُ مَا هُوَ، وَزَادَهُمْ أَمْرُهُ نُفُورًا، وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَكُونَ بَاعِثًا عَلَى الْفِعْلِ وَالْقَبُولِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: فَسَجَدَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَعَمْرُو بْنُ عَنْبَسَةَ، وَلَمَّا رَآهُمُ الْمُشْرِكُونَ يَسْجُدُونَ تَبَاعَدُوا فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ مُسْتَهْزِئِينَ. فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قوله: وَزادَهُمْ نُفُوراً أي فزادهم سجودهم نفورا. [سورة الفرقان (25) : الآيات 61 الى 62] تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ مَزِيدَ النَّفْرَةِ عَنِ السُّجُودِ ذَكَرَ مَا لَوْ تَفَكَّرُوا فِيهِ لَعَرَفُوا وُجُوبَ السُّجُودِ وَالْعِبَادَةِ لِلرَّحْمَنِ فَقَالَ: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً أَمَّا تَبَارَكَ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ، وَأَمَّا الْبُرُوجُ فَهِيَ مَنَازِلُ السَّيَّارَاتِ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ سُمِّيَتْ بِالْبُرُوجِ الَّتِي هِيَ الْقُصُورُ الْعَالِيَةُ لِأَنَّهَا لِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ كَالْمَنَازِلِ لِسُكَّانِهَا، وَاشْتِقَاقُ الْبُرُوجِ مِنَ التَّبَرُّجِ لِظُهُورِهِ، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ الْبُرُوجَ هِيَ الْكَوَاكِبُ الْعِظَامُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ فِيها أَيْ فِي الْبُرُوجِ فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِيها رَاجِعًا إِلَى السَّمَاءِ دُونَ الْبُرُوجِ؟ قُلْنَا لِأَنَّ الْبُرُوجَ أَقْرَبُ فَعَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهَا أَوْلَى. وَالسِّرَاجُ الشَّمْسُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً [نُوحٍ: 16] وَقُرِئَ سُرُجًا وَهِيَ الشَّمْسُ وَالْكَوَاكِبُ الْكِبَارُ فِيهَا وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَقَمَراً مُنِيراً وَهِيَ جمع ليلة قمراء كأنه قيل وذا قمرا منيرا، لِأَنَّ اللَّيَالِيَ تَكُونُ قَمْرَاءَ بِالْقَمَرِ فَأَضَافَهُ إِلَيْهَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْقُمْرُ بِمَعْنَى الْقَمَرِ كَالرَّشَدِ وَالرُّشْدِ وَالْعَرَبِ وَالْعُرْبِ. وَأَمَّا الْخِلْفَةُ فَفِيهَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الشَّيْئَيْنِ بِحَيْثُ أَحَدُهُمَا يَخْلُفُ الْآخَرَ وَيَأْتِي خَلْفَهُ، يُقَالُ بِفُلَانٍ خِلْفَةٌ وَاخْتِلَافٌ، إِذَا اخْتَلَفَ كَثِيرًا إِلَى مُتَبَرَّزِهِ، وَالْمَعْنَى جَعَلَهُمَا ذَوَيْ خِلْفَةٍ أَيْ ذَوَيْ عُقْبَةٍ يَعْقُبُ هَذَا ذَاكَ وَذَاكَ هَذَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه

[سورة الفرقان (25) : الآيات 63 إلى 67]

عَنْهُمَا جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَخْلُفُ صَاحِبَهُ فِيمَا يَحْتَاجُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ فَمَنْ فَرَّطَ فِي عَمَلٍ فِي أَحَدِهِمَا قَضَاهُ فِي الْآخَرِ، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَدْ فَاتَتْهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ: «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ لَقَدْ أَنْزَلَ اللَّه فِيكَ آيَةً وَتَلَا: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ مَا فَاتَكَ مِنَ النَّوَافِلِ بِاللَّيْلِ فَاقْضِهِ فِي نَهَارِكَ، وَمَا فَاتَكَ مِنَ النَّهَارِ فَاقْضِهِ فِي لَيْلِكَ» الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالْكِسَائِيِّ يُقَالُ لِكُلِّ شَيْئَيْنِ اخْتَلَفَا هُمَا خِلْفَانِ فَقَوْلُهُ خِلْفَةً أَيْ مُخْتَلِفَيْنِ وَهَذَا أَسْوَدُ وَهَذَا أَبْيَضُ وَهَذَا طَوِيلٌ وَهَذَا قَصِيرٌ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ يَذَّكَّرَ فَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالتَّشْدِيدِ وَقِرَاءَةُ حَمْزَةَ بِالتَّخْفِيفِ وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (يَتَذَكَّرَ) ، وَالْمَعْنَى لِيَنْظُرَ النَّاظِرُ فِي اخْتِلَافِهِمَا فَيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي انْتِقَالِهِمَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ [وتغيرهما] مِنْ نَاقِلٍ وَمُغَيِّرٍ وَقَوْلُهُ: أَنْ يَذَّكَّرَ رَاجِعٌ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ النِّعَمِ، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ لَوْ تَفَكَّرُوا فِي هَذِهِ النِّعَمِ وَتَذَكَّرُوهَا لَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَلِشُكْرِ الشَّاكِرِينَ عَلَى النِّعْمَةِ فِيهِمَا مِنَ السُّكُونِ بِاللَّيْلِ وَالتَّصَرُّفِ بِالنَّهَارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [الْقَصَصِ: 73] أَوْ لِيَكُونَا وَقْتَيْنِ لِلْمُتَذَكِّرِينَ وَالشَّاكِرِينَ، مَنْ فَاتَهُ فِي أَحَدِهِمَا وِرْدٌ مِنَ الْعِبَادَةِ قَامَ بِهِ فِي الْآخَرِ، وَالشُّكُورُ مَصْدَرُ شَكَرَ يَشْكُرُ شُكُورًا. [سورة الفرقان (25) : الآيات 63 الى 67] وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَعِبادُ الرَّحْمنِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَاتُهُمْ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ الَّذِينَ يَمْشُونَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَصَّ اسْمَ الْعُبُودِيَّةِ بِالْمُشْتَغِلِينَ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ مِنْ أشرف صفات المخلوقات، وَقُرِئَ وَعِبادُ الرَّحْمنِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَهُمْ بِتِسْعَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الصِّفَاتِ: الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَهَذَا وَصْفُ سِيرَتِهِمْ بِالنَّهَارِ وَقُرِئَ يَمْشُونَ هَوْناً حَالٌ أَوْ صِفَةٌ لِلْمَشْيِ بِمَعْنَى هَيِّنِينَ أَوْ بِمَعْنَى مَشْيًا هَيِّنًا، إِلَّا أَنَّ فِي وَضْعِ الْمَصْدَرِ مَوْضِعَ الصِّفَةِ مُبَالَغَةً، وَالْهَوْنُ الرِّفْقُ وَاللِّينُ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا» وَقَوْلُهُ: «الْمُؤْمِنُونَ هَيِّنُونَ لَيِّنُونَ» وَالْمَعْنَى أَنَّ مَشْيَهُمْ يَكُونُ فِي لِينٍ وَسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ وَتَوَاضُعٍ، وَلَا يَضْرِبُونَ بِأَقْدَامِهِمْ [وَلَا يَخْفُقُونَ بِنِعَالِهِمْ] «1» أَشَرًا وَبَطَرًا، وَلَا يَتَبَخْتَرُونَ لِأَجْلِ الْخُيَلَاءِ كَمَا قَالَ: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً [الْإِسْرَاءِ: 37] وَعَنْ زَيْدِ بْنِ/ أَسْلَمَ الْتَمَسْتُ تَفْسِيرَ هَوْناً فَلَمْ أَجِدْ، فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ فَقِيلَ لِي هُمُ الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ الْفَسَادَ في الأرض، وعن ابن زيد لا

_ (1) زيادة من الكشاف 3/ 99.

يَتَكَبَّرُونَ وَلَا يَتَجَبَّرُونَ وَلَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً مَعْنَاهُ لَا نُجَاهِلُكُمْ وَلَا خَيْرَ بَيْنَنَا وَلَا شَرَّ أَيْ نُسَلِّمُ مِنْكُمْ تَسْلِيمًا، فَأُقِيمَ السَّلَامُ مَقَامَ التَّسْلِيمِ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ طَلَبَ السَّلَامَةِ وَالسُّكُوتِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّنْبِيهَ عَلَى سُوءِ طَرِيقَتِهِمْ لِكَيْ يَمْتَنِعُوا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمُ الْعُدُولَ عَنْ طَرِيقِ الْمُعَامَلَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِظْهَارَ الْحِلْمِ فِي مُقَابَلَةِ الْجَهْلِ، قَالَ الْأَصَمُّ: قالُوا سَلاماً أَيْ سَلَامَ تَوْدِيعٍ لَا تَحِيَّةٍ، كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ: سَلامٌ عَلَيْكَ [مَرْيَمَ: 47] ثم قال الْكَلْبِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِغْضَاءَ عَنِ السُّفَهَاءِ وَتَرْكَ الْمُقَابَلَةِ مُسْتَحْسَنٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَسَبَبٌ لِسَلَامَةِ الْعِرْضِ وَالْوَرَعِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ سِيرَتَهُمْ فِي النَّهَارِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَرْكُ الْإِيذَاءِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَالْآخَرُ تَحَمُّلُ التَّأَذِّي، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً فَكَأَنَّهُ شَرَحَ سِيرَتَهُمْ مَعَ الْخَلْقِ فِي النَّهَارِ، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ سِيرَتَهُمْ فِي اللَّيَالِي عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِخِدْمَةِ الْخَالِقِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [السَّجْدَةِ: 16] ثم قال الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَنْ أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ قِيلَ بَاتَ وَإِنْ لَمْ يَنَمْ كَمَا يُقَالُ بَاتَ فُلَانٌ قَلِقًا، وَمَعْنَى يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ أَنْ يَكُونُوا فِي لَيَالِيهِمْ مُصَلِّينَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ قَرَأَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فِي صَلَاةٍ وَإِنْ قَلَّ، فَقَدْ بَاتَ سَاجِدًا وَقَائِمًا، وَقِيلَ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَأَرْبَعًا بَعْدَ الْعِشَاءِ الْأَخِيرَةِ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لَهُمْ بِإِحْيَاءِ اللَّيْلِ أَوْ أَكْثَرِهِ يُقَالُ فُلَانٌ يَظَلُّ صَائِمًا وَيَبِيتُ قَائِمًا، قَالَ الْحَسَنُ يَبِيتُونَ للَّه عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَيَفْرِشُونَ لَهُ وُجُوهَهُمْ تَجْرِي دُمُوعُهُمْ عَلَى خُدُودِهِمْ خَوْفًا مِنْ رَبِّهِمْ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا يَقُولُونَ فِي سُجُودِهِمْ وَقِيَامِهِمْ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَالَ الْحَسَنُ خَشَعُوا بِالنَّهَارِ وَتَعِبُوا بِاللَّيْلِ فَرَقًا مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَقَوْلُهُ: غَراماً أَيْ هَلَاكًا وَخُسْرَانًا مُلِحًّا لَازِمًا، وَمِنْهُ الْغَرِيمُ لِإِلْحَاحِهِ وَإِلْزَامِهِ، وَيُقَالُ فُلَانٌ مُغْرَمٌ بِالنِّسَاءِ إِذَا كَانَ مُولَعًا بِهِنَّ، وَسَأَلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْغَرَامِ فَقَالَ هُوَ الْمُوجِعُ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فِي غَراماً أَنَّهُ سَأَلَ الْكُفَّارَ ثَمَنَ نِعَمِهِ فَمَا أَدَّوْهَا إِلَيْهِ فَأَغْرَمَهُمْ فَأَدْخَلَهُمُ النَّارَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِإِحْيَاءِ اللَّيْلِ سَاجِدِينَ وَقَائِمِينَ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ دَعْوَتِهِمْ هَذِهِ إِيذَانًا بِأَنَّهُمْ مَعَ اجْتِهَادِهِمْ خَائِفُونَ مُبْتَهِلُونَ إِلَى اللَّه فِي صَرْفِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ كَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [الْمُؤْمِنُونَ: 60] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً فَقَوْلُهُ: ساءَتْ فِي حُكْمِ بِئْسَتْ وَفِيهَا ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ تَفْسِيرُهُ (مُسْتَقِرًّا) ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ مَعْنَاهُ سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا هِيَ [وَهَذَا الضَّمِيرُ هُوَ الَّذِي رَبَطَ الْجُمْلَةَ بِاسْمِ إِنَّ وَجَعَلَهَا خَبَرًا، لَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَاءَتْ بِمَعْنَى أَحْزَنَتْ، وَفِيهَا ضَمِيرُ اسْمِ إِنَّ] «1» وَمُسْتَقِرًّا حَالٌ أَوْ/ تَمْيِيزٌ، فَإِنْ قِيلَ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُمْ سَأَلُوا اللَّه تَعَالَى أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُمْ عَذَابَ جَهَنَّمَ لِعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ؟ وَأَيْضًا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسْتَقَرِّ وَالْمُقَامِ؟ قُلْنَا الْمُتَكَلِّمُونَ ذَكَرُوا أَنَّ عِقَابَ الْكَافِرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَضَرَّةً خَالِصَةً عَنْ شَوَائِبِ النفع دائمة، فقوله:

_ (1) زيادة من الكشاف 3/ 100 ط. دار الفكر.

إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ مَضَرَّةً خَالِصَةً عَنْ شَوَائِبِ النَّفْعِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهَا دَائِمَةً، وَلَا شَكَّ فِي الْمُغَايَرَةِ، أَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسْتَقَرِّ وَالْمُقَامِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَقَرُّ لِلْعُصَاةِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَقِرُّونَ فِي النَّارِ ولا يقيمون فيها، وأم الْإِقَامَةُ فَلِلْكُفَّارِ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِقَوْلِهِمْ. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً قُرِئَ يَقْتُرُوا بِكَسْرِ التَّاءِ وَضَمِّهَا وَيُقْتِرُوا بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ وَكَسْرِ التَّاءِ وَأَيْضًا بِضَمِّ الباء وَفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا وَكُلُّهَا لُغَاتٌ. وَالْقَتْرُ وَالْإِقْتَارُ وَالتَّقْتِيرُ التَّضْيِيقُ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْإِسْرَافِ، وَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي النَّفَقَةِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْإِسْرَافِ وَالتَّقْتِيرِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَقْوَى أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِالْقَصْدِ الَّذِي هُوَ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ وَبِمِثْلِهِ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الْإِسْرَاءِ: 29] وَعَنْ وُهَيْبِ بْنِ الْوَرْدِ قَالَ لِعَالِمٍ: مَا الْبِنَاءُ الَّذِي لَا سَرَفَ فِيهِ؟ قَالَ: مَا سَتَرَكَ عَنِ الشَّمْسِ وَأَكَنَّكَ مِنَ الْمَطَرِ، فَقَالَ لَهُ فَمَا الطَّعَامُ الَّذِي لَا سَرَفَ فِيهِ؟ قَالَ مَا سَدَّ الْجَوْعَةَ، فَقَالَ لَهُ فِي اللِّبَاسِ، قَالَ مَا سَتَرَ عَوْرَتَكَ وَوَقَاكَ مِنَ الْبَرْدِ، وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا صَنَعَ طَعَامًا فِي إِمْلَاكٍ فَأَرْسَلَ إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: «حَقٌّ فَأَجِيبُوا» ثُمَّ صَنَعَ الثَّانِيَةَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ: «حَقٌّ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُجِبْ وَإِلَّا فَلْيَقْعُدْ» ثُمَّ صَنَعَ الثَّالِثَةَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ: «رِيَاءٌ وَلَا خَيْرَ فِيهِ» ، وَثَانِيهَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ أَنَّ الْإِسْرَافَ الْإِنْفَاقُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّه تَعَالَى، وَالْإِقْتَارَ مَنْعُ حَقِّ اللَّه تَعَالَى، قَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ أَنْفَقَ رَجُلٌ مِثْلَ أَبِي قُبَيْسٍ ذَهَبًا فِي طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَكُنْ سَرَفًا وَلَوْ أَنْفَقَ صَاعًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّه تَعَالَى كَانَ سَرَفًا، وَقَالَ الْحَسَنُ لَمْ يُنْفِقُوا فِي مَعَاصِي اللَّه وَلَمْ يُمْسِكُوا عَمَّا يَنْبَغِي، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ فِي الْإِمْسَاكِ عَنْ حَقِّ اللَّه، وَهُوَ أَقْبَحُ التَّقْتِيرِ، وَقَدْ يَكُونُ عَمَّا لَا يَجِبُ، وَلَكِنْ يَكُونُ مَنْدُوبًا مِثْلُ الرَّجُلِ الْغَنِيِّ الْكَثِيرِ الْمَالِ إِذَا مَنَعَ الْفُقَرَاءَ مِنْ أَقَارِبِهِ وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ بِالسَّرَفِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي التَّنَعُّمِ وَالتَّوَسُّعِ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَلَالٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْخُيَلَاءِ، وَالْإِقْتَارُ هُوَ التَّضْيِيقُ فَالْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ النَّفْسَ عَنِ الْعِبَادَةِ سَرَفٌ وَإِنْ أَكَلَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَذَاكَ إِقْتَارٌ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ صِفَةُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ طَعَامًا لِلتَّنَعُّمِ وَاللَّذَّةِ، وَلَا يَلْبَسُونَ ثَوْبًا لِلْجَمَالِ وَالزِّينَةِ، وَلَكِنْ كَانُوا يَأْكُلُونَ مَا يَسُدُّ جُوعَهُمْ وَيُعِينُهُمْ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِمْ، وَيَلْبَسُونَ مَا يَسْتُرُ عوراتهم ويصونهم من الحر والبرد، وهاهنا مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: الْقَوَامُ قَالَ ثَعْلَبٌ: الْقَوَامُ بِالْفَتْحِ الْعَدْلُ وَالِاسْتِقَامَةُ، وَبِالْكَسْرِ مَا يَدُومُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَيَسْتَقِرُّ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْقَوَامُ الْعَدْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لِاسْتِقَامَةِ الطَّرَفَيْنِ وَاعْتِدَالِهِمَا، وَنَظِيرُ الْقَوَامِ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ السَّوَاءُ مِنَ الِاسْتِوَاءِ، وَقُرِئَ قَواماً بِالْكَسْرِ وَهُوَ مَا يُقَامُ بِهِ الشَّيْءُ، يُقَالُ أَنْتَ قِوَامُنَا، يَعْنِي مَا يُقَامُ بِهِ الْحَاجَةُ لَا يَفْضُلُ عَنْهُ وَلَا يَنْقُصُ. المسألة الثَّانِيَةُ: الْمَنْصُوبَانِ أَعْنِي بَيْنَ ذلِكَ قَواماً جَائِزٌ أَنْ يَكُونَا خَبَرَيْنِ مَعًا، وَأَنْ يُجْعَلَ بَيْنَ ذَلِكَ لَغْوًا وَقَوَامًا مُسْتَقِرًّا، وَأَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ خَبَرًا وَقِوَامًا حَالًا مُؤَكِّدَةً، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ بَيْنَ ذلِكَ اسْمَ كَانَ، كَمَا تَقُولُ كَانَ دُونَ هَذَا كَافِيًا، تُرِيدُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ مَعْنَى بَيْنَ ذلِكَ، أَيْ كَانَ الْوَسَطُ مِنْ ذَلِكَ قَوَامًا، أَيْ عَدْلًا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْقَوَامَ هُوَ الْوَسَطُ فَيَصِيرُ التأويل، وكان الوسط وسطا وهذا لغو.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 68 إلى 71]

[سورة الفرقان (25) : الآيات 68 الى 71] وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) الصِّفَةُ السادسة [فِي قَوْلُهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً إلى قوله وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ مِنْ صِفَةِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ الِاحْتِرَازَ عَنِ الشِّرْكِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمَ مَنْ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنَ الْعِقَابِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى من جملتهم التائب، وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَبْلَ ذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ نَزَّهَ عِبَادَ الرَّحْمَنِ عَنِ الْأُمُورِ الْخَفِيفَةِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُطَهِّرَهُمْ عَنِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ مِثْلَ الشِّرْكِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا، أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّرْتِيبُ بِالْعَكْسِ مِنْهُ كَانَ أَوْلَى؟ الْجَوَابُ: أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ السَّالِفَةِ قَدْ يَكُونُ/ مُتَمَسِّكًا بِالشِّرْكِ تَدَيُّنًا وَمُقْدِمًا عَلَى قَتْلِ الْمَوْءُودَةِ تَدَيُّنًا وَعَلَى الزِّنَا تَدَيُّنًا، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَصِيرُ بِتِلْكَ الْخِصَالِ وَحْدَهَا مِنْ عِبَادِ الرَّحْمَنِ، حَتَّى يُضَافَ إِلَى ذَلِكَ كَوْنُهُ مُجَانِبًا لِهَذِهِ الْكَبَائِرِ، وَأَجَابَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّه مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ التَّنْبِيهُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ سِيرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَسِيرَةِ الْكُفَّارِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ هُمُ الَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَرَ وَأَنْتُمْ تَدَعُونَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَنْتُمْ تَقْتُلُونَ الْمَوْءُودَةَ، وَلا يَزْنُونَ وَأَنْتُمْ تَزْنُونَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَنْ يَحِلُّ قَتْلُهُ لَا يَدْخُلُ فِي النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ؟ الْجَوَابُ: الْمُقْتَضِي لِحُرْمَةِ الْقَتْلِ قَائِمٌ أَبَدًا، وَجَوَازُ الْقَتْلِ إِنَّمَا ثَبَتَ بِالْمُعَارِضِ فَقَوْلُهُ: حَرَّمَ اللَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُقْتَضِي وَقَوْلُهُ إِلَّا بِالْحَقِّ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُعَارِضِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: بِأَيِّ سَبَبٍ يَحِلُّ الْقَتْلُ؟ الْجَوَابُ: بِالرِّدَّةِ وَبِالزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ، وَبِالْقَتْلِ قَوَدًا عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ، وَقِيلَ وَبِالْمُحَارَبَةِ وَبِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِمَا شَهِدْتَ بِهِ حَقِيقَةٌ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ قَوْلَهُ: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ بِالرِّدَّةِ فَهَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: لَفْظُ الْقَتْلِ عَامٌّ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ للَّه نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ، قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ» فَأَنْزَلَ اللَّه تَصْدِيقَهُ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: مَا الْأَثَامُ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَثَامَ جَزَاءُ الْإِثْمِ، بِوَزْنِ الْوَبَالِ وَالنَّكَالِ وَثَانِيهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ: أَنَّ الْأَثَامَ وَالْإِثْمَ واحد، والمراد هاهنا جَزَاءُ الْأَثَامِ فَأَطْلَقَ اسْمَ الشَّيْءِ عَلَى جَزَائِهِ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: الْأَثَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَثاماً وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، (وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ

أَثاماً أَيْ شَدِيدًا، يُقَالُ يَوْمٌ ذُو أَثَامٍ لِلْيَوْمِ الْعَصِيبِ) «1» . أَمَّا قَوْلُهُ: يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: يُضاعَفْ بَدَلٌ مِنْ يَلْقَ لِأَنَّهُمَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَقُرِئَ (يُضْعَفْ) وَ (نُضْعِفْ لَهُ الْعَذَابَ) بِالنُّونِ وَنَصْبِ الْعَذَابِ، وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَوْ عَلَى الْحَالِ، وَكَذَلِكَ (يَخْلُدْ) [وَقُرِئَ] «2» (وَيُخْلَدْ) عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مُخَفَّفًا وَمُثَقَّلًا مِنَ الْإِخْلَادِ وَالتَّخْلِيدِ، وَقُرِئَ (وَتَخْلُدْ) بِالتَّاءِ عَلَى الِالْتِفَاتِ. المسألة الثَّانِيَةُ: سَبَبُ تَضْعِيفِ الْعَذَابِ أَنَّ الْمُشْرِكَ إِذَا ارْتَكَبَ الْمَعَاصِيَ مَعَ الشِّرْكِ عُذِّبَ عَلَى الشِّرْكِ وَعَلَى الْمَعَاصِي جَمِيعًا، فَتُضَاعَفُ الْعُقُوبَةُ لِمُضَاعَفَةِ الْمُعَاقَبِ عَلَيْهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي: بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ وَالزِّيَادَةَ يَكُونُ حَالُهُمَا فِي الدَّوَامِ كَحَالِ الْأَصْلِ، فَقَوْلُهُ: وَيَخْلُدْ فِيهِ أَيْ وَيَخْلُدْ فِي ذَلِكَ التَّضْعِيفِ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ التَّضْعِيفَ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ الْعِقَابِ عَلَى الْمَعَاصِي، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عِقَابُ هَذِهِ الْمَعَاصِي فِي حَقِّ الْكَافِرِ دَائِمًا، / وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ حَالَهُ فِيمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ لَا يَتَغَيَّرُ سَوَاءً فَعَلَ مَعَ غَيْرِهِ أَوْ مُنْفَرِدًا وَالْجَوَابُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِتْيَانِ بِالشَّيْءِ مَعَ غَيْرِهِ أَثَرٌ فِي مَزِيدِ الْقُبْحِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْئَيْنِ قَدْ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَفْسِهِ حَسَنًا وَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا قَبِيحًا، وَقَدْ يَكُونُ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبِيحًا، وَيَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَقْبَحَ، فكذا هاهنا. المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِشَارَةٌ إِلَى مَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِقَابَ هُوَ الْمَضَرَّةُ الْخَالِصَةُ الْمَقْرُونَةُ بِالْإِذْلَالِ وَالْإِهَانَةِ، كَمَا أَنَّ الثَّوَابَ هُوَ الْمَنْفَعَةُ الْخَالِصَةُ الْمَقْرُونَةُ بِالتَّعْظِيمِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ أَنَّهُ يُضَاعِفُ لَهُ الْعَذَابَ ضِعْفَيْنِ، فَيَكْفِي لِصِحَّةِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ لَا يُضَاعِفَ لِلتَّائِبِ الْعَذَابَ ضِعْفَيْنِ، وَإِنَّمَا الدَّالُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: تَوْبَةُ الْقَاتِلِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَزَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً [النِّسَاءِ: 93] وَقَالُوا نَزَلَتِ الْغَلِيظَةُ بَعْدَ اللَّيِّنَةِ بِمُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ بِثَمَانِ سِنِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. المسألة الثَّالِثَةُ: فَإِنْ قِيلَ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَدْخُلُ فِيهِ التَّوْبَةُ وَالْإِيمَانُ، فَكَانَ ذِكْرُهُمَا قَبْلَ ذِكْرِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ حَشْوًا، قُلْنَا: أَفْرَدَهُمَا بِالذِّكْرِ لِعُلُوِّ شَأْنِهِمَا، وَلَمَّا كَانَ لَا بُدَّ مَعَهُمَا مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ لَا جَرَمَ ذَكَرَ عَقِيبَهُمَا الْعَمَلَ الصَّالِحَ. المسألة الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ على وجوه: أحدها:

_ (1) في الكشاف (وقرأ ابن مسعود أياما أي شدائد، يقال: يوم ذو أيام لليوم العصيب) 3/ 101 ط. دار الفكر. (2) زيادة من الكشاف 3/ 101 ط. دار الفكر.

[سورة الفرقان (25) : آية 72]

قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: إِنَّ التَّبْدِيلَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا، فَيُبَدِّلُ اللَّه تَعَالَى قَبَائِحَ أَعْمَالِهِمْ فِي الشِّرْكِ بِمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ فِي الْإِسْلَامِ فَيُبَدِّلُهُمْ بِالشِّرْكِ إِيمَانًا، وَبِقَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ، وَبِالزِّنَا عِفَّةً وَإِحْصَانًا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يُبَشِّرُهُمْ بِأَنَّهُ يُوَفِّقُهُمْ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَيَسْتَوْجِبُوا بِهَا الثَّوَابَ وَثَانِيهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: السَّيِّئَةُ بِعَيْنِهَا لَا تَصِيرُ حَسَنَةً، وَلَكِنَّ التَّأْوِيلَ أَنَّ السَّيِّئَةَ تُمْحَى بِالتَّوْبَةِ وَتُكْتَبُ الْحَسَنَةُ مَعَ التَّوْبَةِ وَالْكَافِرُ يُحْبِطُ اللَّه عَمَلَهُ وَيُثْبِتُ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ قَوْمٌ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَمْحُو السَّيِّئَةَ عَنِ الْعَبْدِ وَيُثْبِتُ لَهُ بَدَلَهَا الْحَسَنَةَ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَمَكْحُولٍ، وَيَحْتَجُّونَ بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَيَتَمَنَّيَنَّ أَقْوَامٌ أَنَّهُمْ أَكْثَرُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ، قِيلَ مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّه؟ قَالَ الَّذِينَ يُبَدِّلُ اللَّه سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ» وَعَلَى هَذَا التَّبْدِيلُ فِي الْآخِرَةِ وَرَابِعُهَا: قَالَ الْقَفَّالُ وَالْقَاضِي: أَنَّهُ تَعَالَى يُبَدِّلُ الْعِقَابَ بِالثَّوَابِ فَذَكَرَهُمَا وَأَرَادَ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِمَا، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ كَانَتِ الْإِضَافَةُ إِلَى اللَّه حَقِيقَةً لِأَنَّ الْإِثَابَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً فَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا فَائِدَةُ هَذَا التَّكْرِيرِ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَكْرِيرٍ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا كَانَ فِي تِلْكَ الْخِصَالِ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ جَمِيعَ الذُّنُوبِ بِمَنْزِلَتِهَا فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ مِنْهَا الثَّانِي: أَنَّ التَّوْبَةَ الْأُولَى رُجُوعٌ عَنِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَالتَّوْبَةَ الثَّانِيَةَ رُجُوعٌ إِلَى اللَّه تَعَالَى لِلْجَزَاءِ وَالْمُكَافَأَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ [الرَّعْدِ: 30] أَيْ مَرْجِعِي. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ تَكُونُ التَّوْبَةُ إِلَّا إِلَى اللَّه تَعَالَى فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ التَّوْبَةَ الْأُولَى الرُّجُوعُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَالثَّانِيَةَ الرُّجُوعُ إِلَى حُكْمِ اللَّه تَعَالَى وَثَوَابِهِ الثَّانِي: مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ تَابَ إِلَى اللَّه فَقَدْ أَتَى بِتَوْبَةٍ مُرْضِيَةٍ للَّه مُكَفِّرَةٍ لِلذُّنُوبِ مُحَصِّلَةٍ لِلثَّوَابِ الْعَظِيمِ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَمَنْ تابَ يَرْجِعُ إِلَى الْمَاضِي فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ أَتَى بِهَذِهِ التَّوْبَةِ فِي الْمَاضِي عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ فَقَدْ وَعَدَهُ بِأَنَّهُ سَيُوَفِّقُهُ لِلتَّوْبَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهَذَا مِنْ أعظم البشارات. [سورة الفرقان (25) : آية 72] وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) الصفة السابعة وفيه مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: الزُّورُ يَحْتَمِلُ إِقَامَةَ الشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ شَهَادَةَ الزُّورِ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ وَيَحْتَمِلُ حُضُورَ مَوَاضِعِ الْكَذِبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الْأَنْعَامِ: 68] وَيَحْتَمِلُ حُضُورَ كُلِّ مَوْضِعٍ يَجْرِي فِيهِ مَا لَا يَنْبَغِي وَيَدْخُلُ فِيهِ أَعْيَادُ الْمُشْرِكِينَ وَمَجَامِعُ الْفُسَّاقِ، لِأَنَّ مَنْ خَالَطَ أَهْلَ الشَّرِّ وَنَظَرَ إِلَى أَفْعَالِهِمْ وَحَضَرَ مَجَامِعَهُمْ فَقَدْ شَارَكَهُمْ فِي تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ الْحُضُورَ وَالنَّظَرَ دَلِيلُ الرِّضَا بِهِ، بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِوُجُودِهِ وَالزِّيَادَةِ فِيهِ، لِأَنَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى فِعْلِهِ اسْتِحْسَانُ النَّظَّارَةِ وَرَغْبَتُهُمْ فِي النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا الْمُرَادُ مَجَالِسُ الزُّورِ الَّتِي يَقُولُونَ فِيهَا الزُّورَ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَعَلَى رسوله، وقال محمد بن الْحَنَفِيَّةِ الزُّورُ الْغِنَاءُ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ مُحْتَمِلَةٌ وَلَكِنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي الْكَذِبِ أَكْثَرُ.

[سورة الفرقان (25) : آية 73]

المسألة الثَّانِيَةُ: الْأَصَحُّ أَنَّ اللَّغْوَ كُلُّ مَا يَجِبُ أَنْ يُلْغَى وَيُتْرَكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ اللَّغْوَ بِكُلِّ مَا لَيْسَ بِطَاعَةٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمُبَاحَاتِ لَا تُعَدُّ لَغْوًا فَقَوْلُهُ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ أَيْ بِأَهْلِ اللَّغْوِ. المسألة الثَّالِثَةُ: لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: مَرُّوا كِراماً مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُكْرِمُونَ أَنْفُسَهُمْ عَنْ مِثْلِ حَالِ اللَّغْوِ وَإِكْرَامُهُمْ لَهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْإِعْرَاضِ وَبِالْإِنْكَارِ وَبِتَرْكِ الْمُعَاوَنَةِ وَالْمُسَاعَدَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الشِّرْكُ وَاللَّغْوُ فِي الْقُرْآنِ وَشَتْمُ الرَّسُولِ، وَالْخَوْضُ فِيمَا لَا يَنْبَغِي وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ نَاقَةٌ كَرِيمَةٌ إِذَا كَانَتْ تُعْرِضُ عِنْدَ الْحَلْبِ تَكَرُّمًا، كَأَنَّهَا لَا تُبَالِي بِمَا يُحْلَبُ مِنْهَا لِلْغَزَارَةِ، / فَاسْتُعِيرَ ذَلِكَ لِلصَّفْحِ عَنِ الذَّنْبِ، وَقَالَ اللَّيْثُ يُقَالُ تَكَرَّمَ فُلَانٌ عَمَّا يَشِينُهُ إِذَا تَنَزَّهَ وَأَكْرَمَ نَفْسَهُ عَنْهُ «1» وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [الْقَصَصِ: 55] وَعَنِ الْحَسَنِ لَمْ تُسَفِّهْهُمُ الْمَعَاصِي وَقِيلَ إِذَا سَمِعُوا مِنَ الْكُفَّارِ الشَّتْمَ وَالْأَذَى أَعْرَضُوا، وَقِيلَ إِذَا ذُكِرَ النِّكَاحُ كَنَّوْا عَنْهُ. [سورة الفرقان (25) : آية 73] وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) الصفة الثامنة قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَوْلُهُ: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً لَيْسَ بِنَفْيٍ لِلْخُرُورِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِثْبَاتٌ لَهُ وَنَفْيٌ لِلصَّمَمِ وَالْعَمَى كَمَا يُقَالُ لَا يَلْقَانِي زَيْدٌ مُسْلِمًا، هُوَ نَفْيٌ لِلسَّلَامِ لَا لِلِّقَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا أَكَبُّوا عَلَيْهَا حِرْصًا عَلَى اسْتِمَاعِهَا، وَأَقْبَلُوا عَلَى الْمُذَكِّرِ بِهَا، وَهُمْ فِي إِكْبَابِهِمْ عَلَيْهَا سَامِعُونَ بِآذَانٍ وَاعِيَةٍ، مُبْصِرُونَ بِعُيُونٍ رَاعِيَةٍ، لَا كَالَّذِينِ يُذَكِّرُونَ بِهَا فَتَرَاهُمْ مُكِبِّينَ عَلَيْهَا مُقْبِلِينَ عَلَى مَنْ يُذَكِّرُ بِهَا مُظْهِرِينَ الْحِرْصَ الشَّدِيدَ عَلَى اسْتِمَاعِهَا وَهُمْ كَالصُّمِّ وَالْعُمْيَانِ حَيْثُ لَا (يَفْهَمُونَهَا ولا يبصرون) «2» ما فيها كالمنافقين. [سورة الفرقان (25) : آية 74] وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) الصفة التاسعة وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كثير وابن عامر وحفص عن عاصم ذُرِّيَّاتِنا بِأَلِفِ الْجَمْعِ وَحَذَفَهَا الْبَاقُونَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالذُّرِّيَّةُ تَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا. المسألة الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَكُونَ قُرَّةَ أَعْيُنٍ لَهُمْ فِي الدِّينِ لَا فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ سَأَلُوا أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً فِي الدُّنْيَا يُشَارِكُونَهُمْ فَأَحَبُّوا أَنْ يَكُونُوا مَعَهُمْ فِي التَّمَسُّكِ بِطَاعَةِ اللَّه فَيَقْوَى طَمَعُهُمْ فِي أَنْ يَحْصُلُوا مَعَهُمْ فِي الْجَنَّةِ فَيَتَكَامَلُ سُرُورُهُمْ فِي الدُّنْيَا بهذا الطمع وفي

_ (1) في الأصل عنها، ولعل الصواب ما أثبته لأن الضمير راجع إلى (ما يشينه) وهو واقع مذكر. (2) في الكشاف يعونها ولا يتبصرون 3/ 102 ط. دار الفكر. [.....]

[سورة الفرقان (25) : آية 75]

الْآخِرَةِ عِنْدَ حُصُولِ الثَّوَابِ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ سَأَلُوا أَنْ يُلْحِقَ اللَّه أَزْوَاجَهُمْ وَذُرِّيَّتَهُمْ بِهِمْ فِي الْجَنَّةِ لِيَتِمَّ سُرُورُهُمْ بِهِمْ. المسألة الثَّالِثَةُ: فَإِنْ قِيلَ: (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَزْواجِنا مَا هِيَ؟ قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بَيَانِيَّةً كَأَنَّهُ قِيلَ: هَبْ لَنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ثُمَّ بُيِّنَتِ الْقُرَّةُ وَفُسِّرَتْ بِقَوْلِهِ: مِنْ أَزْواجِنا وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: / رَأَيْتُ مِنْكَ أَسَدًا أَيْ أَنْتَ أَسَدٌ، وَأَنْ تَكُونَ ابْتِدَائِيَّةً عَلَى مَعْنَى هَبْ لَنَا مِنْ جِهَتِهِمْ مَا تَقَرُّ بِهِ عُيُونُنَا مِنْ طَاعَةٍ وَصَلَاحٍ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ قَالَ قُرَّةَ أَعْيُنٍ فَنُكِّرَ وَقُلِّلَ؟ قُلْنَا أَمَّا التَّنْكِيرُ فَلِأَجْلِ تَنْكِيرِ الْقُرَّةِ لِأَنَّ الْمُضَافَ لَا سَبِيلَ إِلَى تَنْكِيرِهِ إِلَّا بِتَنْكِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ قَالَ: هَبْ لَنَا مِنْهُمْ سُرُورًا وَفَرَحًا وَإِنَّمَا قَالَ (أَعْيُنٍ) دُونَ عُيُونٍ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَعْيُنَ الْمُتَّقِينَ وَهِيَ قَلِيلَةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى عُيُونِ غَيْرِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سَبَأٍ: 13] . المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ أَقَرَّ اللَّه عَيْنَكَ أَيْ صَادَفَ فُؤَادُكَ مَا يُحِبُّهُ، وَقَالَ الْمُفَضَّلُ فِي قُرَّةِ الْعَيْنِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: يَرُدُّ دَمْعَتَهَا وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ مَعَ الضَّحِكِ وَالسُّرُورِ وَدَمْعَةُ الْحُزْنِ حَارَّةٌ وَالثَّانِي: نَوْمُهَا لِأَنَّهُ يَكُونُ مَعَ ذَهَابِ الْحُزْنِ وَالْوَجَعِ وَالثَّالِثُ: حُضُورُ الرِّضَا. المسألة الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً الْأَقْرَبُ أَنَّهُمْ سَأَلُوا اللَّه تَعَالَى أَنْ يُبَلِّغَهُمْ فِي الطَّاعَةِ الْمَبْلَغَ الَّذِي يُشَارُ إِلَيْهِمْ وَيُقْتَدَى بِهِمْ، قَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرِّيَاسَةَ فِي الدِّينِ يَجِبُ أَنْ تُطْلَبَ وَيُرْغَبَ فِيهَا قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشُّعَرَاءِ: 84] وَقِيلَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ. المسألة السَّادِسَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ للَّه تَعَالَى، قَالُوا لِأَنَّ الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ إِنَّمَا يَكُونُ بِجَعْلِ اللَّه تَعَالَى وَخَلْقِهِ، وَقَالَ الْقَاضِي الْمُرَادُ مِنَ السُّؤَالِ الْأَلْطَافُ الَّتِي إِذَا كَثُرَتْ صَارُوا مُخْتَارِينَ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَيَصِيرُونَ أَئِمَّةً وَالْجَوَابُ: أَنْ تِلْكَ الْأَلْطَافَ مَفْعُولَةٌ لَا مَحَالَةَ فَيَكُونُ سُؤَالُهَا عَبَثًا. المسألة السَّابِعَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: قَالَ (إِمَامًا) ، وَلَمْ يَقُلْ أَئِمَّةً كَمَا قَالَ لِلِاثْنَيْنِ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الزُّخْرُفِ: 46] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى اجْعَلْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا إِمَامًا كَمَا قَالَ: يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غَافِرٍ: 67] وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْإِمَامُ جَمْعٌ وَاحِدُهُ آمٌّ كَصَائِمٍ وَصِيَامٍ. وَقَالَ الْقَفَّالُ وَعِنْدِي أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا ذُهِبَ بِهِ مَذْهَبَ الِاسْمِ وُحِّدَ كَأَنَّهُ قِيلَ اجْعَلْنَا حُجَّةً لِلْمُتَّقِينَ، وَمِثْلُهُ الْبَيِّنَةُ يُقَالُ هَؤُلَاءِ بَيِّنَةُ فلان. [سورة الفرقان (25) : آية 75] أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا عَدَّدَ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ الْمُخْلِصِينَ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْوَاعَ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وَهِيَ مَجْمُوعَةٌ فِي أَمْرَيْنِ الْمَنَافِعِ وَالتَّعْظِيمِ. أَمَّا الْمَنَافِعُ: فَهِيَ قَوْلُهُ: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا. وَالْمُرَادُ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرُفَاتِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ [سَبَأٍ: 37] وَقَالَ: لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ [الزُّمَرِ: 20] وَالْغُرْفَةُ فِي اللُّغَةِ الْعُلِّيَّةُ وَكُلُّ بِنَاءٍ عَالٍ فَهُوَ غُرْفَةٌ وَالْمُرَادُ بِهِ الدَّرَجَاتُ الْعَالِيَةُ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ الْغُرْفَةُ اسْمُ الْجَنَّةِ، فَالْمَعْنَى يُجْزَوْنَ الْجَنَّةَ وَهِيَ جَنَّاتٌ كَثِيرَةٌ، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ فِي الْغُرْفَةِ) وَقَوْلُهُ: بِما صَبَرُوا فِيهِ بَحْثَانِ:

[سورة الفرقان (25) : آية 76]

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: احْتَجَّ بِالْآيَةِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْجَنَّةَ بِالِاسْتِحْقَاقِ فَقَالَ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما/ صَبَرُوا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ حُصُولُهَا بِالْوَعْدِ لَمَا صَدَقَ ذَلِكَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: ذَكَرَ الصَّبْرَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَصْبُورَ عَنْهُ، لِيَعُمَّ كُلَّ نَوْعٍ فَيَدْخُلُ فِيهِ صَبْرُهُمْ عَلَى مَشَاقِّ التَّفَكُّرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى، وَعَلَى مَشَاقِّ الطَّاعَاتِ، وَعَلَى مَشَاقِّ تَرْكِ الشَّهَوَاتِ وَعَلَى مَشَاقِّ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَعَلَى مَشَاقِّ الْجِهَادِ وَالْفَقْرِ وَرِيَاضَةِ النَّفْسِ فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ الْمُرَادُ الصَّبْرُ عَلَى الْفَقْرِ خَاصَّةً، لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ إِذَا حَصَلَتْ مَعَ الْغِنَى اسْتَحَقَّ مَنْ يختص بها الجنة كما يستحقه بالفقر. وثانيها التَّعْظِيمُ: وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً: قُرِئَ يُلَقَّوْنَ كَقَوْلِهِ: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً [الإنسان: 11] ويُلَقَّوْنَ كَقَوْلِهِ: يَلْقَ أَثاماً [الْفُرْقَانِ: 68] ، وَالتَّحِيَّةُ الدُّعَاءُ بِالتَّعْمِيرِ وَالسَّلَامُ الدُّعَاءُ بِالسَّلَامَةِ، فَيَرْجِعُ حَاصِلُ التَّحِيَّةِ إِلَى كَوْنِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ بَاقِيًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ، وَيَرْجِعُ السَّلَامُ إِلَى كَوْنِ ذَلِكَ النَّعِيمِ خَالِصًا عَنْ شَوَائِبِ الضَّرَرِ، ثُمَّ هَذِهِ التَّحِيَّةُ وَالسَّلَامُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّه تَعَالَى لِقَوْلِهِ: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِقَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرَّعْدِ: 23، 24] وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. أَمَّا قوله: [سورة الفرقان (25) : آية 76] خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) فَالْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا وَعَدَ بِالْمَنَافِعِ أَوَّلًا وَبِالتَّعْظِيمِ ثَانِيًا، بَيَّنَ أَنَّ مِنْ صِفَتِهِمَا الدَّوَامَ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها وَمَنْ صِفَتِهِمَا الْخُلُوصُ أَيْضًا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً وَهَذَا فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً أَيْ مَا أَسْوَأَ ذَلِكَ وَمَا أَحْسَنَ هذا. أما قوله: [سورة الفرقان (25) : آية 77] قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) فَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا شَرَحَ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ، وَشَرَحَ حَالَ ثَوَابِهِمْ أَمَرَ رَسُولَهُ أن يقول: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ عِبَادَتِهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا كَلَّفَهُمْ لِيَنْتَفِعُوا بِطَاعَتِهِمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَالَ الْخَلِيلُ مَا أَعْبَأُ بِفُلَانٍ أَيْ مَا أَصْنَعُ بِهِ كَأَنَّهُ (يَسْتَقِلُّهُ) «1» وَيَسْتَحْقِرُهُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَا أَعْبَأُ بِهِ أَيْ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ عِنْدِي سَوَاءٌ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ مَعْنَاهُ أَيْ لَا وَزْنَ لَكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، وَالْعِبْءُ فِي اللُّغَةِ الثِّقَلُ، وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ مَا يُبَالِي بِكُمْ رَبِّي. المسألة الثَّانِيَةُ: فِي (مَا) قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ وَهِيَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَصْدَرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ وَأَيُّ عِبْءٍ يَعْبَأُ بِكُمْ لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ، وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ مَا نَافِيَةً.

_ (1) أحسبها: يستثقله لأن العبء الثقل كما سيذكر المصنف.

المسألة الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: لَوْلا دُعاؤُكُمْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَوْلَا دُعَاؤُهُ إِيَّاكُمْ إِلَى الدِّينِ وَالطَّاعَةُ وَالدُّعَاءُ عَلَى هَذَا مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الدُّعَاءَ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ لَوْلَا إِيمَانُكُمْ وَثَانِيهَا: لَوْلَا عِبَادَتُكُمْ وَثَالِثُهَا: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ إِيَّاهُ فِي الشَّدَائِدِ كَقَوْلِهِ: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ [الْعَنْكَبُوتِ: 65] وَرَابِعُهَا: دُعَاؤُكُمْ يَعْنِي لَوْلَا شُكْرُكُمْ لَهُ عَلَى إِحْسَانِهِ لِقَوْلِهِ: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ [النِّسَاءِ: 147] وَخَامِسُهَا: مَا خَلَقْتُكُمْ وَبِي إِلَيْكُمْ حَاجَةٌ إِلَّا أَنْ تَسْأَلُونِي فَأُعْطِيَكُمْ وَتَسْتَغْفِرُونِي فَأَغْفِرَ لَكُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَالْمَعْنَى أَنِّي إِذَا أَعْلَمْتُكُمْ أَنَّ حُكْمِي أَنِّي لَا أَعْتَدُّ بِعِبَادِي إِلَّا لِعِبَادَتِهِمْ فَقَدْ خَالَفْتُمْ بِتَكْذِيبِكُمْ حُكْمِي فَسَوْفَ يَلْزَمُكُمْ أَثَرُ تَكْذِيبِكُمْ وَهُوَ عِقَابُ الْآخِرَةِ، وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الْمَلِكُ لِمَنِ اسْتَعْصَى عَلَيْهِ: إِنَّ مِنْ عَادَتِي أَنْ أُحْسِنَ إِلَى مَنْ يُطِيعُنِي، وَقَدْ عَصَيْتَ فَسَوْفَ تَرَى مَا أُحِلُّ بِكَ بِسَبَبِ عِصْيَانِكَ. فَإِنْ قِيلَ إِلَى مَنْ يَتَوَجَّهُ هَذَا الْخِطَابُ؟ قُلْنَا إِلَى النَّاسِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمِنْهُمْ [مُؤْمِنُونَ] «1» عَابِدُونَ وَمُكَذِّبُونَ عَاصُونَ، فَخُوطِبُوا بِمَا وُجِدَ فِي جِنْسِهِمْ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالتَّكْذِيبِ، وَقُرِئَ (فَقَدْ كَذَّبَ الْكَافِرُونَ) (فَسَوْفَ) «2» يَكُونُ الْعَذَابُ لِزَامًا، وَقُرِئَ لِزاماً بِالْفَتْحِ بِمَعْنَى اللُّزُومِ كَالثَّبَاتِ وَالثُّبُوتِ، وَالوجه أَنَّ تَرْكَ اسْمِ كَانَ غَيْرَ منطوق به بعد ما عُلِمَ أَنَّهُ مِمَّا تَوَعَّدَ بِهِ لِأَجْلِ الْإِبْهَامِ وَيَتَنَاوَلُ مَا لَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ، ثُمَّ قِيلَ هَذَا الْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ رَحِمَهُ اللَّه، واللَّه أَعْلَمُ. تَمَّ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَالْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا محمد النبي الأمي وآله وصحبه أجمعين

_ (1) زيادة من الكشاف. (2) في الكشاف (وقيل:) .

سورة الشعراء

سُورَةُ الشُّعَرَاءِ مَكِّيَّةٌ إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ فَإِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ إِلَى آخِرِهَا وهي مائتان أو ست أَوْ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرحيم [سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) الطَّاءُ إِشَارَةٌ إِلَى طَرَبِ قُلُوبِ الْعَارِفِينَ، وَالسِّينُ سُرُورُ الْمُحِبِّينَ، وَالْمِيمُ مُنَاجَاةُ الْمُرِيدِينَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَرَأَ قَتَادَةُ بَاخِعُ نَفْسِكَ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَقُرِئَ فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعَةً. المسألة الثَّانِيَةُ: الْبَخْعُ أَنْ يَبْلُغَ بِالذَّبْحِ الْبِخَاعَ، وَهُوَ الْخُرْمُ النَّافِذُ فِي ثَقْبِ الْفِقْرَاتِ وَذَلِكَ أَقْصَى حَدِّ الذَّابِحِ، وَلَعَلَّ لِلْإِشْفَاقِ. المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ مَعْنَاهُ: آيَاتُ هَذِهِ السُّورَةِ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، وَتَمَامُ تَقْرِيرِهِ مَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ [الْبَقَرَةِ: 2] وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ هُوَ الْقُرْآنُ وَالْمُبِينُ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ فَقَدْ يُضَافُ إِلَى الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ يَتَبَيَّنُ بِهِ عِنْدَ النَّظَرِ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ الْقَوْمُ لَمَّا كَانُوا كُفَّارًا فَكَيْفَ تَكُونُ آيَاتُ الْقُرْآنِ مُبَيِّنَةً لَهُمْ مَا يَلْزَمُهُمْ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِذَلِكَ الْأَحْكَامُ؟ قُلْنَا أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى فَاعِلٍ مُخَالِفٍ لَهُمْ كَمَا يُسْتَدَلُّ بِسَائِرِ مَا لَا يَقْدِرُ الْعِبَادُ عَلَى مِثْلِهِ، فَهُوَ دَلِيلُ التَّوْحِيدِ مِنْ هَذَا الوجه وَدَلِيلُ النُّبُوَّةِ مِنْ حَيْثُ الْإِعْجَازُ، وَيُعْلَمُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّه/ تَعَالَى فَهُوَ دَلَالَةُ الْأَحْكَامِ أَجْمَعَ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا صَارَتْ آيَاتُ الْقُرْآنِ كَافِيَةً فِي كُلِّ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ أَجْمَعَ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ بَيَّنَ الْأُمُورَ قَالَ بَعْدَهُ: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ مُنَبِّهًا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ وَإِنْ بَلَغَ فِي الْبَيَانِ كُلَّ غَايَةٍ فَغَيْرُ مُدْخِلٍ لَهُمْ فِي الْإِيمَانِ لَمَّا أَنَّهُ سَبَقَ حُكْمُ اللَّه بِخِلَافِهِ، فَلَا تُبَالِغْ فِي الْحُزْنِ وَالْأَسَفِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّكَ إِنْ بَالَغْتَ فِيهِ كُنْتَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقْتُلُ نَفْسَهُ ثُمَّ لَا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ أَصْلًا فَصَبَّرَهُ وَعَزَّاهُ وَعَرَّفَهُ أَنَّ غَمَّهُ وَحُزْنَهُ لَا نَفْعَ فِيهِ كَمَا أَنَّ وُجُودَ الْكِتَابِ عَلَى بَيَانِهِ وَوُضُوحِهِ لَا نَفْعَ لَهُمْ فِيهِ، ثُمَّ بَيَّنَ تعالى

[سورة الشعراء (26) : الآيات 5 إلى 9]

أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْزِلَ آيَةً يَذِلُّونَ عِنْدَهَا وَيَخْضَعُونَ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ صَحَّ مَجِيءُ خاضِعِينَ خَبَرًا عَنِ الْأَعْنَاقِ؟ قُلْنَا أَصْلُ الْكَلَامِ: فَظَلُّوا لَهَا خَاضِعِينَ، فَذُكِرَتِ الْأَعْنَاقُ لِبَيَانِ مَوْضِعِ الْخُضُوعِ، ثُمَّ تُرِكَ الْكَلَامُ عَلَى أَصْلِهِ، وَلَمَّا وُصِفَتْ بِالْخُضُوعِ الَّذِي هُوَ لِلْعُقَلَاءِ، قِيلَ خاضِعِينَ كَقَوْلِهِ: لِي ساجِدِينَ [يُوسُفَ: 4] ، وَقِيلَ أَعْنَاقُ النَّاسِ رُؤَسَاؤُهُمْ وَمُقَدَّمُوهُمْ شُبِّهُوا بِالْأَعْنَاقِ كَمَا يُقَالُ هُمُ الرؤوس وَالصُّدُورُ، وَقِيلَ هُمْ جَمَاعَاتُ النَّاسِ، يُقَالُ جَاءَنَا عُنُقٌ مِنَ النَّاسِ لِفَوْجٍ مِنْهُمْ. المسألة الرَّابِعَةُ: نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [6] : فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ وَقَوْلُهُ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر: 8] . [سورة الشعراء (26) : الآيات 5 الى 9] وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وفيه مسائل: المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ مِنْ تَمَامِ قَوْلِهِ: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ [الشُّعَرَاءِ: 4] فَنَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُمْ مُؤْمِنِينَ بِالْإِلْجَاءِ رَحِيمٌ بِهِمْ مِنْ حَيْثُ يَأْتِيهِمْ حَالًا بَعْدَ حَالٍ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ الذِّكْرُ وَيُكَرِّرُهُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فِي الْإِعْرَاضِ وَالتَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، ثُمَّ عِنْدَ ذَلِكَ زَجَرَ وَتَوَعَّدَ لِأَنَّ الْمَرْءَ إِذَا اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ فَلَيْسَ يَنْفَعُ فِيهِ إِلَّا الزَّجْرُ الشَّدِيدُ فَلِذَلِكَ قَالَ: فَقَدْ كَذَّبُوا أَيْ بَلَغُوا النِّهَايَةَ/ فِي رَدِّ آيَاتِ اللَّه تعالى فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وَذَلِكَ إِمَّا عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا أَوْ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ أَوْ فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص: 88] وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ فِيمَنْ يُسِيءُ أَنْ يُقَالَ لَهُ سَتَرَى حَالَكَ مِنْ بَعْدُ عَلَى وَجْهِ الْوَعِيدِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ مَعَ إِنْزَالِهِ الْقُرْآنَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ قَدْ أَظْهَرَ أَدِلَّةً تَحْدُثُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ فَقَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ وَالزَّوْجُ هُوَ الصِّنْفُ [مِنَ النَّبَاتِ] «1» وَالْكَرِيمُ صِفَةٌ لِكُلِّ مَا يُرْضَى وَيُحْمَدُ فِي بَابِهِ، يُقَالُ وَجْهٌ كَرِيمٌ إِذَا كَانَ مَرْضِيًّا فِي حُسْنِهِ وَجَمَالِهِ. وَكِتَابٌ كَرِيمٌ إِذَا كَانَ مَرْضِيًّا فِي فَوَائِدِهِ وَمَعَانِيهِ، وَالنَّبَاتُ الْكَرِيمُ هُوَ الْمَرْضِيُّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَفِي وَصْفِ الزَّوْجِ بِالْكَرِيمِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبَاتَ عَلَى نَوْعَيْنِ نَافِعٍ وَضَارٍّ، فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ كَثْرَةَ مَا أَنْبَتَ فِي الْأَرْضِ مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ النَّبَاتِ النَّافِعِ وَتَرَكَ ذِكْرَ الضَّارِّ وَالثَّانِي: أنه يعم جَمِيعَ النَّبَاتِ نَافِعِهِ وَضَارِّهِ وَوَصَفَهُمَا جَمِيعًا بِالْكَرَمِ، وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ مَا أَنْبَتَ شَيْئًا إِلَّا وفيه فائدة إن غَفَلَ عَنْهَا الْغَافِلُونَ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: 2] وَالْمَعْنَى أَنَّ فِي ذَلِكَ دَلَالَةً لِمَنْ يَتَفَكَّرُ وَيَتَدَبَّرُ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ مَعَ كُلِّ ذَلِكَ يَسْتَمِرُّ أكثرهم على كفرهم، فأما

_ (1) زيادة من الكشاف 3/ 105 ط. دار الفكر.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 10 إلى 11]

قَوْلُهُ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فَإِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ الْعَزِيزِ عَلَى ذِكْرِ الرَّحِيمِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَدِّمْهُ لَكَانَ رُبَّمَا قِيلَ إِنَّهُ رَحِمَهُمْ لِعَجْزِهِ عَنْ عُقُوبَتِهِمْ، فَأَزَالَ هَذَا الْوَهْمَ بِذِكْرِ الْعَزِيزِ وَهُوَ الْغَالِبُ الْقَاهِرُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ، فَإِنَّ الرَّحْمَةَ إِذَا كَانَتْ عَنِ الْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ كَانَتْ أَعْظَمَ وَقْعًا. وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ مَعَ كُفْرِهِمْ وَقُدْرَةِ اللَّه عَلَى أَنْ يُعَجِّلَ عِقَابَهُمْ لَا يَتْرُكُ رَحْمَتَهُمْ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ خَلْقِ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ مِنَ النَّبَاتِ، ثُمَّ مِنْ إِعْطَاءِ الصِّحَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْهِدَايَةِ. المسألة الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْكُفَّارَ بِالْإِعْرَاضِ أَوَّلًا وَبِالتَّكْذِيبِ ثَانِيًا وَبِالِاسْتِهْزَاءِ ثَالِثًا وَهَذِهِ دَرَجَاتُ مَنْ أَخَذَ يَتَرَقَّى فِي الشَّقَاوَةِ، فَإِنَّهُ يُعَرِّضُ أَوَّلًا ثُمَّ يُصَرِّحُ بِالتَّكْذِيبِ وَالْإِنْكَارِ إِلَى حَيْثُ يَسْتَهْزِئُ بِهِ ثَالِثًا. المسألة الثَّالِثَةُ: فَإِنْ قُلْتَ مَا مَعْنَى الْجَمْعِ بَيْنَ كَمْ وَكُلٍّ، وَلِمَ لَمْ يَقُلْ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مَنْ زَوْجٍ كَرِيمٍ؟ قُلْتُ: قَدْ دَلَّ كُلٌّ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِأَزْوَاجِ النَّبَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ وَكَمْ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُحِيطَ مُتَكَاثِرٌ مُفْرِطُ الْكَثْرَةِ، فَهَذَا مَعْنَى الْجَمْعِ (رَتَّبَهُ) «1» عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، فَإِنْ قُلْتَ: فَحِينَ ذَكَرَ الْأَزْوَاجَ وَدَلَّ عَلَيْهَا بِكَلِمَتَيِ الْكَثْرَةِ وَالْإِحَاطَةِ وَكَانَتْ بِحَيْثُ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا عَالِمُ الْغَيْبِ فَكَيْفَ قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَهَلَّا قَالَ لَآيَاتٍ؟ قُلْتُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُشَارًا بِهِ إِلَى مَصْدَرِ أَنْبَتْنَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ إِنَّ فِي ذَلِكَ الْإِنْبَاتِ لَآيَةً أَيَّ آيَةٍ وَالثَّانِي: أَنْ يُرَادَ أَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَزْوَاجِ لَآيَةً. المسألة الرَّابِعَةُ: احْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ فَقَالُوا الذِّكْرُ هُوَ الْقُرْآنُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ [الْأَنْبِيَاءِ: 50] وَبَيَّنَ في الْآيَةِ أَنَّ الذِّكْرَ مُحْدَثٌ فَيَلْزَمُ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ/ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً [الزُّمَرِ: 23] وَبِقَوْلِهِ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [الْمُرْسَلَاتِ: 50] وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُحْدَثٌ فَلَهُ خَالِقٌ فَيَكُونُ مَخْلُوقًا لَا مَحَالَةَ وَالْجَوَابُ: أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ حُدُوثَهَا إِنَّمَا نَدَّعِي قِدَمَ أَمْرٍ آخَرَ وَرَاءَ هَذِهِ الْحُرُوفِ، وليس في الآية دلالة على ذلك. [سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 11] وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) [القول في القصص التي ذكر في هذه السورة] [القصة الأولى قصة موسى عليه السلام] [في قوله تعالى وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى] اخْتَلَفَ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي النِّدَاءِ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ اللَّه تَعَالَى، هَلْ هُوَ كَلَامُهُ الْقَدِيمُ أَوْ هُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْأَصْوَاتِ، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ: الْمَسْمُوعُ هُوَ الْكَلَامُ الْقَدِيمُ، وَكَمَا أَنَّ ذَاتَهُ تَعَالَى لَا تُشْبِهُ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ، مَعَ أَنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مَعْلُومَةٌ وَمُرَتَّبَةٌ فَكَذَا كَلَامُهُ مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ مَعَ أَنَّهُ مَسْمُوعٌ، وَقَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ: الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ نِدَاءً مِنْ جِنْسِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّا رَأَيْنَا الْجَوْهَرَ وَالْعَرَضَ، وَلَا بُدَّ مِنْ عِلَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُمَا لِصِحَّةِ الرُّؤْيَةِ، وَلَا عِلَّةَ إِلَّا الْوُجُودُ، حَكَمْنَا بِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يَصِحُّ أَنْ يُرَى، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا أَنَّا نَسْمَعُ الْأَصْوَاتَ وَالْأَجْسَامَ حَتَّى يَحْكُمَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْجِسْمِ وَالصَّوْتِ، فَلَمْ يَلْزَمْ صِحَّةُ كَوْنِ كُلِّ مَوْجُودٍ مَسْمُوعًا فَظَهَرَ الْفَرْقُ، أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَسْمُوعَ مَا كَانَ إِلَّا حُرُوفًا وَأَصْوَاتًا، فَعِنْدَ هَذَا قَالُوا إِنَّ ذَلِكَ النِّدَاءَ، وَقَعَ عَلَى وَجْهٍ عَلِمَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى، فَصَارَ مُعْجِزًا عَلِمَ بِهِ أَنَّ اللَّه مُخَاطِبٌ لَهُ فَلَمْ يَحْتَجْ مع ذلك إلى واسطة،

_ (1) في الكشاف (بينهما وبه نبه ... ) 3/ 105 ط. دار الفكر.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 12 إلى 14]

وَكَفَى فِي الْوَقْتِ أَنْ يُحَمِّلَهُ الرِّسَالَةَ الَّتِي هِيَ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لِأَنَّ فِي بَدْءِ الْبَعْثَةِ يَجِبُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالدُّعَاءِ إِلَى التَّوْحِيدِ، ثُمَّ بَعْدَهُ يَأْمُرُهُ بِالْأَحْكَامِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُ تَعَالَى بِذَلِكَ إِلَّا وَقَدْ عَرَّفَهُ أَنَّهُ سَتَظْهَرُ عَلَيْهِ الْمُعْجِزَاتُ إِذَا طُولِبَ بِذَلِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى سَجَّلَ عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ، وَقَدِ اسْتَحَقُّوا هَذَا الِاسْمَ مِنْ وَجْهَيْنِ مِنْ وَجْهِ ظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ، وَمِنْ وَجْهِ ظُلْمِهِمْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. أَمَّا قَوْلُهُ: قَوْمَ فِرْعَوْنَ فَقَدْ عَطَفَ (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) عَلَى (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) عَطْفَ بَيَانٍ، كَأَنَّ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَقَوْمَ فِرْعَوْنَ لَفْظَانِ يَدُلَّانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَلا يَتَّقُونَ فقرىء (أَلَا يَتَّقُونِ) بِكَسْرِ النُّونِ، بِمَعْنَى أَلَا يَتَّقُونَنِي، فَحُذِفَتِ النُّونُ لِاجْتِمَاعِ النُّونَيْنِ وَالْيَاءُ لِلِاكْتِفَاءِ بِالْكَسْرَةِ، وَقَوْلُهُ: أَلا يَتَّقُونَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ أَتْبَعَهُ تَعَالَى إِرْسَالَهُ إِلَيْهِمْ لِلْإِنْذَارِ وَالتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ، تَعْجِيبًا لموسى عليه السلام من حالهم [التي شفت] «1» فِي الظُّلْمِ وَالْعَسْفِ، وَمِنْ أَمْنِهِمُ الْعَوَاقِبَ وَقِلَّةِ خوفهم [وحذرهم من أيام اللَّه] ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَلا يَتَّقُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي (الظَّالِمِينَ) / أَيْ يَظْلِمُونَ غَيْرَ مُتَّقِينَ اللَّه وَعِقَابَهُ، فَأُدْخِلَتْ هَمْزَةُ الْإِنْكَارِ عَلَى الْحَالِ، وَوَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَلَا يا ناس اتقون، كقوله: (ألا يسجدوا) «2» . وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ (أَلَا تَتَّقُونَ) عَلَى الْخِطَابِ، فَعَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِمْ وَصَرْفِ وُجُوهِهِمْ بِالْإِنْكَارِ وَالْغَضَبِ عَلَيْهِمْ، كَمَا يَرَى مَنْ يَشْكُو مِمَّنْ رَكِبَ جِنَايَةً وَالْجَانِي حَاضِرٌ، فَإِذَا انْدَفَعَ فِي الشِّكَايَةِ وَحَمِيَ غَضَبُهُ، قَطَعَ مُبَاثَةَ صَاحِبِهِ وَأَقْبَلَ عَلَى الْجَانِي يُوَبِّخُهُ وَيُعَنِّفُهُ بِهِ، وَيَقُولُ لَهُ أَلَا تَتَّقِي اللَّه أَلَّا تَسْتَحِي مِنَ النَّاسِ، فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا الِالْتِفَاتِ وَالْخِطَابُ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي وَقْتِ الْمُنَاجَاةِ، وَالْمُلْتَفَتُ إِلَيْهِمْ غَائِبُونَ لَا يَشْعُرُونَ؟ قُلْتُ: إِجْرَاءُ ذَلِكَ فِي تَكْلِيمِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ فِي مَعْنَى إِجْرَائِهِ بِحَضْرَتِهِمْ وَإِلْقَائِهِ إِلَى مَسَامِعِهِمْ، لِأَنَّهُ (مُبَلِّغُهُمْ) «3» وَمُنْهِيهِ إِلَيْهِمْ، وَلَهُ فِيهِ لُطْفٌ وَحَثٌّ عَلَى زِيَادَةِ التَّقْوَى، وَكَمْ مِنْ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْكَافِرِينَ وَفِيهَا أَوْفَرُ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِينَ تدبرا لها واعتبارا بمواردها. [سورة الشعراء (26) : الآيات 12 الى 14] قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالذَّهَابِ إِلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ، طَلَبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُ هَارُونَ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ الْأُمُورَ الدَّاعِيَةَ لَهُ إِلَى ذَلِكَ السُّؤَالِ وَحَاصِلُهَا أنه لو لم يكن هارون، لاختلف الْمَصْلَحَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ بَعْثَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِرْعَوْنَ رُبَّمَا كَذَّبَهُ، وَالتَّكْذِيبُ سَبَبٌ لِضِيقِ الْقَلْبِ، وَضِيقُ الْقَلْبِ سَبَبٌ لِتَعَسُّرِ الْكَلَامِ عَلَى مَنْ يَكُونُ فِي لسانه حبسة، لأن عند ضيق

_ (1) زيادة من الكشاف 3/ 106 ط. دار الفكر. (2) في الكشاف (ألا يا اسجدوا) . (3) في الكشاف (مبلغه) .

الْقَلْبِ تَنْقَبِضُ الرُّوحُ وَالْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ إِلَى بَاطِنِ الْقَلْبِ، وَإِذَا انْقَبَضَا إِلَى الدَّاخِلِ وَخَلَا مِنْهُمَا الْخَارِجُ ازْدَادَتِ الْحُبْسَةُ فِي اللِّسَانِ، فَالتَّأَذِّي مِنَ التَّكْذِيبِ سَبَبٌ لِضِيقِ الْقَلْبِ، وَضِيقُ الْقَلْبِ سَبَبٌ لِلْحُبْسَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ بَدَأَ بِخَوْفِ التَّكْذِيبِ، ثُمَّ ثَنَّى بِضِيقِ الصَّدْرِ، ثُمَّ ثَلَّثَ بِعَدَمِ انْطِلَاقِ اللِّسَانِ. وَأَمَّا هَارُونُ فَهُوَ أَفْصَحُ لِسَانًا مِنِّي وَلَيْسَ فِي حَقِّهِ هَذَا الْمَعْنَى، فَكَانَ إِرْسَالُهُ لَائِقًا الثَّانِي: أَنَّ لَهُمْ عِنْدِي ذَنْبًا فَأَخَافُ أَنْ يُبَادِرُوا إِلَى قَتْلِي، وَحِينَئِذٍ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْبَعْثَةِ. وَأَمَّا هَارُونُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْبَعْثَةِ. المسألة الثَّانِيَةُ: قُرِئَ (يَضِيقُ) وَ (يَنْطَلِقُ) بِالرَّفْعِ، لِأَنَّهُمَا مَعْطُوفَانِ عَلَى خَبَرِ (إِنَّ) ، وَبِالنَّصْبِ لِعَطْفِهِمَا عَلَى صِلَةِ أَنْ، وَالْمَعْنَى: أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ، وَأَخَافُ أَنْ يَضِيقَ صَدْرِي، وَأَخَافُ أَنْ لَا يَنْطَلِقَ لِسَانِي، وَالْفَرْقُ أَنَّ الرَّفْعَ يُفِيدُ ثَلَاثَ عِلَلٍ فِي طَلَبِ إِرْسَالِ هَارُونَ، وَالنَّصْبَ يُفِيدُ عِلَّةً/ وَاحِدَةً، وَهِيَ الْخَوْفُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ قُلْتَ: الْخَوْفُ غَمٌّ يَحْصُلُ لِتَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ سَيَقَعُ وَعَدَمُ انْطِلَاقِ اللِّسَانِ كَانَ حَاصِلًا، فَكَيْفَ جَازَ تَعَلُّقُ الْخَوْفِ بِهِ؟ قُلْتُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّكْذِيبَ الَّذِي سَيَقَعُ يُوجِبُ ضِيقَ الْقَلْبِ، وَضِيقُ الْقَلْبِ يُوجِبُ زِيَادَةَ الِاحْتِبَاسِ، فَتِلْكَ الزِّيَادَةُ مَا كَانَتْ حَاصِلَةً فِي الْحَالِ بَلْ كَانَتْ مُتَوَقَّعَةً، فَجَازَ تَعْلِيقُ الْخَوْفِ عَلَيْهَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ فَلَيْسَ فِي الظَّاهِرِ ذِكْرُ مَنِ الَّذِي يُرْسَلُ إِلَيْهِ، وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَرْسَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَيْهِ، قَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَارَ بِأَهْلِهِ إلى مصر والتقى بهرون وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ، فَقَالَ أَنَا مُوسَى، فَتَعَارَفَا وَأَمَرَهُ أَنْ يَنْطَلِقَ مَعَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ لِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ، فَصَاحَتْ أُمُّهُمَا لِخَوْفِهَا عَلَيْهِمَا فَذَهَبَا إِلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَرْسِلْ إِلَيْهِ جِبْرِيلَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّه إِلَى الْأَنْبِيَاءِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا كَانَ هُوَ مُتَعَيِّنًا لِهَذَا الْأَمْرِ حُذِفَ ذِكْرُهُ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، وَأَيْضًا لَيْسَ فِي الظَّاهِرِ أَنَّهُ يُرْسَلُ لِمَاذَا، لَكِنَّ فَحْوَى الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ طَلَبَهُ لِلْمَعُونَةِ فِيمَا سَأَلَ، كَمَا يُقَالُ إِذَا نَابَتْكَ نَائِبَةٌ، فَأَرْسِلْ إِلَى فُلَانٍ أَيْ لِيُعِينَكَ فِيهَا وَلَيْسَ فِي الظَّاهِرِ أنه التمس كون وهارون نبيا معه، لكن قوله: قُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ يَدُلُّ عَلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَرَادَ بِالذَّنْبِ قَتْلَهُ الْقِبْطِيَّ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْقِصَّةَ مَشْرُوحَةً فِي سُورَةِ الْقَصَصِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْتِمَاسِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ هَارُونُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْتَعْفَى مِنَ الذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ بَلْ مَقْصُودُهُ فِيمَا سَأَلَ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ الذَّهَابُ عَلَى أَقْوَى الْوُجُوهِ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْمُرَادِ، وَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا فَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِأَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى يُؤَدِّيَ الرِّسَالَةَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أُمِرَ بِذَلِكَ بِشَرْطِ التَّمْكِينِ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَعْبِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ لِأَنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ دُخُولَ الشَّرْطِ فِي تَكْلِيفِ اللَّه تَعَالَى الْعَبْدَ، وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَمَرَ فَهُوَ عَالِمٌ بِمَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ الْمَأْمُورُ وَبِأَوْقَاتِ تَمَكُّنِهِ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُهُ بِهِ، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فَالْأَقْرَبُ فِي الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ إِذَا حَمَّلَهُمُ اللَّه تَعَالَى الرِّسَالَةَ أَنَّهُ تَعَالَى يُمَكِّنُهُمْ مِنْ أَدَائِهَا وَأَنَّهُمْ سَيَبْقَوْنَ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِغْرَاءً فِي الْأَنْبِيَاءِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ إِغْرَاءً فِي غَيْرِهِمْ. المسألة الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ هَلْ يَدُلُّ عَلَى صُدُورِ الذَّنْبِ مِنْهُ؟ جَوَابُهُ: لَا وَالْمُرَادُ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فِي زعمهم.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 15 إلى 17]

[سورة الشعراء (26) : الآيات 15 الى 17] قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) اعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ شَرَّهُمْ وَالثَّانِي: أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ هَارُونَ فَأَجَابَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَى الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ: كَلَّا وَمَعْنَاهُ ارْتَدِعْ يَا مُوسَى عَمَّا تَظُنُّ وَأَجَابَهُ إِلَى الثَّانِي بِقَوْلِهِ: فَاذْهَبا أَيِ اذْهَبْ أَنْتَ وَالَّذِي طَلَبْتَهُ وَهُوَ هَارُونُ فَإِنْ قِيلَ عَلَامَ عَطَفَ قَوْلَهُ: فَاذْهَبا قُلْنَا عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ (كَلَّا) كَأَنَّهُ قَالَ: ارْتَدِعْ يَا مُوسَى عَمَّا تَظُنُّ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَهَارُونُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ فَمِنْ مَجَازِ الْكَلَامِ يُرِيدُ أَنَا لَكُمَا وَلِعَدُوِّكُمَا كَالنَّاصِرِ الظَّهِيرِ لَكُمَا عَلَيْهِ إِذًا أَحْضُرَ وَأَسْتَمِعَ مَا يَجْرِي بَيْنَكُمَا فَأُظْهِرَكُمَا عَلَيْهِ وَأُعْلِيكُمَا وَأَكْسِرُ شَوْكَتَهُ عَنْكُمَا، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا الِاسْتِمَاعَ مَجَازًا لِأَنَّ الِاسْتِمَاعَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِصْغَاءِ وَذَلِكَ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ. وأما قوله: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ فَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ هَلَّا ثُنِّيَ الرَّسُولُ كَمَا ثُنِّيَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّسُولَ اسْمٌ لِلْمَاهِيَّةِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ أَنَّ تِلْكَ الْمَاهِيَّةَ وَاحِدَةٌ أَوْ كَثِيرَةٌ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لَا يُفِيدَانِ إِلَّا الْوَحْدَةَ لَا الِاسْتِغْرَاقَ، بِدَلِيلِ أَنَّكَ تَقُولُ الْإِنْسَانُ هُوَ الضَّحَّاكُ وَلَا تَقُولُ كُلُّ إِنْسَانٍ هُوَ الضَّحَّاكُ وَلَا أَيْضًا هَذَا الْإِنْسَانُ هُوَ الضَّحَّاكُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ الرَّسُولِ لَا يُفِيدُ إِلَّا الْمَاهِيَّةَ وَثَبَتَ أَنَّ الْمَاهِيَّةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الِاثْنَيْنِ ثَبَتَ صِحَّةُ قَوْلِهِ: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ وَثَانِيهَا: أَنَّ الرَّسُولَ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الرِّسَالَةَ قَالَ الشَّاعِرُ: لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا فُهْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ وَلَا أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى إِنَّا ذُو رِسَالَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمَا لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ وَاتِّحَادِهِمَا بِسَبَبِ الْأُخُوَّةِ كَأَنَّهُمَا رَسُولٌ وَاحِدٌ وَرَابِعُهَا: الْمُرَادُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا رَسُولٌ وَخَامِسُهَا: مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لَا بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ لِكَوْنِهِ هُوَ الرَّسُولُ خَاصَّةً وَقَوْلُهُ: نَّا فكما في قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ [يوسف: 2] وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ فَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْإِرْسَالِ التَّخْلِيَةُ وَالْإِطْلَاقُ كَقَوْلِكَ أَرْسِلِ الْبَازِيَّ، يُرِيدُ خَلِّهِمْ يَذْهَبُوا معنا. [سورة الشعراء (26) : الآيات 18 الى 19] قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) اعمل أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا وَهُوَ أَنَّهُمَا أَتَيَاهُ وَقَالَا مَا أَمَرَ اللَّه بِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا قَالَ، يُرْوَى أَنَّهُمَا انْطَلَقَا إِلَى بَابِ فِرْعَوْنَ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُمَا سَنَةً حتى قال البواب: إن هاهنا إِنْسَانًا يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ ائْذَنْ لَهُ لَعَلَّنَا نَضْحَكُ مِنْهُ، فَأَدَّيَا إِلَيْهِ الرِّسَالَةَ فَعَرَفَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَدَّدَ عَلَيْهِ نِعَمَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ إِسَاءَةَ مُوسَى إِلَيْهِ ثَانِيًا، أَمَّا النِّعَمُ فَهِيَ قَوْلُهُ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَالْوَلِيدُ: الصَّبِيُّ لِقُرْبِ عَهْدِهِ مِنَ الْوِلَادَةِ وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ

[سورة الشعراء (26) : الآيات 20 إلى 22]

عُمُرِكَ وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو بِسُكُونِ الْمِيمِ سِنِينَ قِيلَ لَبِثَ عِنْدَهُمْ ثَلَاثِينَ سَنَةً وَقِيلَ وَكَزَ الْقِبْطِيَّ وَهُوَ ابْنُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَفَرَّ منهم [على أثرها] «1» واللَّه أَعْلَمُ بِصَحِيحِ ذَلِكَ، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ فَعْلَتَكَ بِالْكَسْرِ وَهِيَ قَتْلُهُ الْقِبْطِيَّ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِالْوَكْزِ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْقَتْلِ، وَأَمَّا الْفَعْلَةُ فَلِأَنَّهَا [كانت] «2» وَكْزَةٌ وَاحِدَةٌ عَدَّدَ عَلَيْهِ نِعَمَهُ مِنْ تَرْبِيَتِهِ وَتَبْلِيغِهِ مَبْلَغَ الرِّجَالِ وَوَبَّخَهُ بِمَا جَرَى عَلَى يده من قتل خبازه وعظم ذلك [وفظعه] «3» بِقَوْلِهِ: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: يَجُوزُ أن يكون حالا أي قتلته وأنت بذلك مِنَ الْكَافِرِينَ بِنِعْمَتِي وَثَانِيهَا: وَأَنْتَ إِذْ ذَاكَ مِمَّنْ تَكْفُرُهُمُ السَّاعَةُ وَقَدِ افْتَرَى عَلَيْهِ أَوْ جَهِلَ أَمْرَهُ لِأَنَّهُ كَانَ (يُعَاشِرُهُمْ) «4» بِالتَّقِيَّةِ فَإِنَّ الْكُفْرَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وثالثها: وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ معناه وأنت ممن عادته كفران النعم ومن كان هذا حاله لم يستبعد منه قتل خواص ولي نعمته ورابعها: وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ بِفِرْعَوْنَ وَإِلَهِيَّتِهِ أَوْ مِنَ الذين [كانوا] «5» يَكْفُرُونَ فِي دِينِهِمْ فَقَدْ كَانَتْ لَهُمْ آلِهَةٌ يَعْبُدُونَهَا، يَشْهَدُ بِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف: 127] . [سورة الشعراء (26) : الآيات 20 الى 22] قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) اعْلَمْ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا ذَكَرَ التَّرْبِيَةَ وَذَكَرَ الْقَتْلَ وَقَدْ كَانَتْ تَرْبِيَتُهُ لَهُ مَعْلُومَةً ظَاهِرَةً، لَا جَرَمَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أَنْكَرَهَا، وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِالْجَوَابِ عَنْهَا، لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ أَنَّ الرَّسُولَ إِلَى الْغَيْرِ إِذَا كَانَ مَعَهُ مُعْجِزٌ وَحُجَّةٌ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ أَنْعَمَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، فَصَارَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ لَمَّا قَالَهُ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ الْبَتَّةَ، وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ أَوْلَى وَلَكِنْ أَجَابَ عَنِ الْقَتْلِ بِمَا لَا شَيْءَ أَبْلَغَ مِنْهُ فِي الْجَوَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الذَّاهِلِينَ عن معرفة ما يؤول إِلَيْهِ مِنَ الْقَتْلِ لِأَنَّهُ فَعَلَ الْوَكْزَةَ عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ رُبَّمَا/ حَسُنَ وَإِنْ أَدَّى إِلَى الْقَتْلِ فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ مَعَهُ أَنْ يُؤَاخَذَ بِهِ أَوْ يُعَدَّ مِنْهُ كَافِرًا أَوْ كَافِرًا لِنِعَمِهِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَالْمُرَادُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَأَنَا ذَاهِلٌ عَنْ كَوْنِهِ مُهْلِكًا وَكَانَ مِنِّي فِي حُكْمِ السَّهْوِ، فَلَمْ أَسْتَحِقَّ التَّخْوِيفَ الَّذِي يُوجِبُ الْفِرَارَ وَمَعَ ذَلِكَ فَرَرْتُ مِنْكُمْ عِنْدَ قَوْلِكُمْ: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [الْقَصَصِ: 20] فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا نِعْمَةَ لَهُ عَلَيْهِ فِي بَابِ تِلْكَ الْفِعْلَةِ، بَلْ بِأَنْ يَكُونَ مُسِيئًا فِيهِ أَقْرَبُ مِنْ حَيْثُ خُوِّفَ تَخْوِيفًا أَوْجَبَ الْفِرَارَ، ثُمَّ بَيَّنَ نِعْمَةَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ بَعْدَ الْفِرَارِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ أَسَأْتُمْ وَأَحْسَنَ اللَّه إِلَيَّ بِأَنْ وَهَبَ لِي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْحُكْمِ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ غَيْرُ النُّبُوَّةِ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَالنُّبُوَّةُ مَفْهُومَةٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْمُرَادُ بِالْحُكْمِ الْعِلْمُ وَيَدْخُلُ فِي الْعِلْمِ الْعَقْلُ وَالرَّأْيُ وَالْعِلْمُ بِالدِّينِ الَّذِي هُوَ التَّوْحِيدُ، وَهَذَا أَقْرَبُ لِأَنَّهُ لا يجوز أن

_ (1) زيادة من الكشاف 3/ 108 ط. دار الفكر. (2) زيادة من الكشاف 3/ 108 ط. دار الفكر. (3) في الكشاف (يعايشهم) . (4) زيادة من الكشاف 3/ 108 ط. دار الفكر. (5) زيادة من الكشاف 3/ 108 ط. دار الفكر.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 23 إلى 31]

يَبْعَثَهُ تَعَالَى إِلَّا مَعَ كَمَالِهِ فِي الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ وَالْعِلْمِ بِالتَّوْحِيدِ وَقَوْلُهُ: فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً كَالتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مِنْ خَلْقِ اللَّه تَعَالَى، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْأَلْطَافُ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا لِأَنَّ الْأَلْطَافَ مَفْعُولَةٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ وَلَا تَقْصِيرٍ، فَالتَّخْصِيصُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ فَائِدَةٍ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ فَهُوَ جَوَابُ قَوْلِهِ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشعراء: 18] ويقال عَبَّدْتُ الرَّجُلَ وَأَعْبَدْتُهُ إِذَا اتَّخَذْتُهُ عَبْدًا، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ جَوَابَهُ وَلَا تَعَلُّقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؟ قُلْنَا بَيَانُ التَّعَلُّقِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي يَدِهِ وَفِي تَرْبِيَتِهِ لِأَنَّهُ قَصَدَ تَعْبِيدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَذَبْحَ أَبْنَائِهِمْ، فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُ كُنْتُ مُسْتَغْنِيًا عَنْ تَرْبِيَتِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْكَ ذَلِكَ الظُّلْمُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَسْلَافِنَا وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا الْإِنْعَامَ الْمُتَأَخِّرَ صَارَ مُعَارَضًا بِذَلِكَ الظُّلْمِ الْعَظِيمِ عَلَى أَسْلَافِنَا وَإِذَا تَعَارَضَا تَسَاقَطَا وَثَالِثُهَا: مَا قَالَهُ الْحَسَنُ: أَنَّكَ اسْتَعْبَدْتَهُمْ وَأَخَذْتَ أَمْوَالَهُمْ وَمِنْهَا أَنْفَقْتَ عَلَيَّ فَلَا نِعْمَةَ لَكَ بِالتَّرْبِيَةِ وَرَابِعُهَا: الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي تَوَلَّى تَرْبِيَتِي هُمُ الَّذِينَ قَدِ اسْتَعْبَدْتَهُمْ فَلَا نِعْمَةَ لَكَ عَلَيَّ لِأَنَّ التَّرْبِيَةَ كَانَتْ مِنْ قِبَلِ أُمِّي وَسَائِرِ مَنْ هُوَ مِنْ قَوْمِي لَيْسَ لَكَ إِلَّا أَنَّكَ مَا قَتَلْتَنِي، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَعُدُّ إِنْعَامًا وَخَامِسُهَا: أَنَّكَ كُنْتَ تَدَّعِي أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَبِيدُكَ وَلَا مِنَّةَ لِلْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ فِي أَنْ يُطْعِمَهُ وَيُعْطِيَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ كُفْرَ الْكَافِرِ لَا يُبْطِلُ نِعْمَتَهُ عَلَى مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْهِ وَلَا يُبْطِلُ مِنَّتَهُ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا أَبْطَلَ ذَلِكَ بِوَجْهٍ آخَرَ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِذَا كَانَ كَافِرًا لَا يَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ عَلَى نِعَمِهِ عَلَى النَّاسِ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْإِهَانَةَ بِكُفْرِهِ، فَلَوِ اسْتَحَقَّ الشُّكْرَ بِإِنْعَامِهِ وَالشُّكْرُ لَا يُوجَدُ إِلَّا مَعَ التَّعْظِيمِ فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ مُسْتَحِقًّا لِلْإِهَانَةِ وَلِلتَّعْظِيمِ مَعًا، وَاسْتِحْقَاقُ الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ مُحَالٌ، وَقَالَ آخَرُونَ لَا يَبْطُلُ الشُّكْرُ بِالْكُفْرِ وَإِنَّمَا يَبْطُلُ بِالْكُفْرِ الثَّوَابُ وَالْمَدْحُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِنَّمَا جمع الضمير في مِنْكُمْ وخِفْتُكُمْ مع إفراده في تَمُنُّها وعَبَّدْتَ لِأَنَّ الْخَوْفَ وَالْفِرَارَ لَمْ يَكُونَا مِنْهُ وَحْدَهُ ولكن منه ومن ملائه الْمُؤْتَمِرِينَ بِقَتْلِهِ، بِدَلِيلِ/ قَوْلِهِ: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [القصص: 20] وَأَمَّا الِامْتِنَانُ فَمِنْهُ وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ التَّعْبِيدُ، فَإِنْ قلت: تِلْكَ إشارة إلى ماذا وأَنْ عَبَّدْتَ مَا مَحَلُّهَا مِنَ الْإِعْرَابِ؟ قُلْتُ: (تِلْكَ) إِشَارَةٌ إِلَى خَصْلَةٍ شَنْعَاءَ مُبْهَمَةٍ لَا يُدْرَى مَا هِيَ إِلَّا بِتَفْسِيرِهَا وَهِيَ أَنْ عَبَّدْتَ فَإِنَّ أَنْ عَبَّدْتَ عَطْفُ بَيَانٍ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الْحِجْرِ: 66] وَالْمَعْنَى تَعْبِيدُكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (أَنْ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالْمَعْنَى إِنَّمَا صَارَتْ نِعْمَةً عَلَيَّ، لِأَنَّ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ لَوْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ لَكَفَانِي أهلي. [سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 31] قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)

اعْلَمْ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَقُلْ لِمُوسَى وَما رَبُّ الْعالَمِينَ، إِلَّا وَقَدْ دَعَاهُ مُوسَى إِلَى طَاعَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يُبَيِّنُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ من قوله: أْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: 16] فَلَا بُدَّ عِنْدَ دُخُولِهِمَا عَلَيْهِ أَنَّهُمَا قَالَا ذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ فِرْعَوْنُ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ ثم هاهنا بحثان: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِرْعَوْنَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ عَارِفًا باللَّه، وَلَكِنَّهُ قَالَ مَا قَالَ طَلَبًا لِلْمُلْكِ وَالرِّيَاسَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَارِفًا باللَّه، وَهُوَ قَوْلُهُ: قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْإِسْرَاءِ: 102] فَإِذَا قُرِئَ بِفَتْحِ التَّاءِ مِنْ عَلِمْتَ فَالْمُرَادُ أَنَّ فِرْعَوْنَ عَلِمَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَارِفًا باللَّه، لَكِنَّهُ كَانَ يَسْتَأْكِلُ قَوْمَهُ بِمَا يُظْهِرُهُ مِنْ/ إِلَهِيَّتِهِ، وَالْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى بِرَفْعِ التَّاءِ مِنْ عَلِمْتُ فَهِيَ تَقْتَضِي أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي عَرَفَ ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ فِرْعَوْنَ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا لَمْ يَجُزْ مِنَ اللَّه تَعَالَى بَعْثَةُ الرَّسُولِ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا فَهُوَ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ مَا كَانَ مَوْجُودًا وَلَا حَيًّا وَلَا عَاقِلًا ثُمَّ صَارَ كَذَلِكَ، وَبِالضَّرُورَةِ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُؤَثِّرٍ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَتَوَلَّدَ لَهُ مِنْ هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ عِلْمٌ ثَالِثٌ بِافْتِقَارِهِ فِي تَرْكِيبِهِ وَفِي حَيَاتِهِ وَعَقْلِهِ إِلَى مُؤَثِّرٍ مُوجِدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ الدَّهْرِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْأَفْلَاكَ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ فِي ذَوَاتِهَا وَمُتَحَرِّكَةٌ لِذَوَاتِهَا، وَأَنَّ حَرَكَاتِهَا أَسْبَابٌ لِحُصُولِ الْحَوَادِثِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، أَوْ يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الْقَائِلِينَ بِالْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لَا بِالْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، ثُمَّ اعْتَقَدَ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِلَهِ لِأَهْلِ إِقْلِيمِهِ مِنْ حَيْثُ اسْتَعْبَدَهُمْ وَمَلَكَ ذِمَّاتِهِمْ وَزِمَامَ أَمْرِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ الْحُلُولِيَّةِ، الْقَائِلِينَ بِأَنَّ ذَاتَ الْإِلَهِ يَتَدَرَّعُ بِجَسَدِ إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ، حَتَّى يَكُونَ الْإِلَهُ سُبْحَانَهُ لِذَلِكَ الْجَسَدِ بِمَنْزِلَةِ رُوحِ كُلِّ إِنْسَانٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَسَدِهِ، وَبِهَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ كَانَ يُسَمِّي نَفْسَهُ إِلَهًا. الْبَحْثُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ السُّؤَالَ بِمَا طَلَبَ لِتَعْرِيفِ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ، وَتَعْرِيفُ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِنَفْسِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا أَوْ بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهَا أَوْ بِمَا يَتَرَكَّبُ مِنَ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ. أَمَّا تَعْرِيفُهَا بِنَفْسِهَا فَمُحَالٌ، لِأَنَّ الْمُعَرَّفَ مَعْلُومٌ قَبْلَ الْمُعَرِّفِ، فَلَوْ عَرَّفَ الشَّيْءَ بِنَفْسِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا قَبْلَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَهُوَ مُحَالٌ. وَأَمَّا تَعْرِيفُهَا بِالْأُمُورِ الدَّاخِلَةِ فِيهَا فَهَهُنَا فِي حَقِّ وَاجِبِ الْوُجُودِ مُحَالٌ، لِأَنَّ التَّعْرِيفَ بِالْأُمُورِ الدَّاخِلَةِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُعَرَّفُ مُرَكَّبًا، وَوَاجِبُ الْوُجُودِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا، لِأَنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ فَهُوَ غَيْرُهُ، فَكُلُّ مُرَكَّبٍ مُحْتَاجٌ إِلَى غَيْرِهِ، وَكُلُّ مَا احْتَاجَ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُمْكِنٌ، فَمَا لَيْسَ بِمُمْكِنٍ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا، فَوَاجِبُ الْوُجُودِ لَيْسَ بِمُرَكَّبٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُرَكَّبًا اسْتَحَالَ تَعْرِيفُهُ بِأَجْزَائِهِ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَانِ الْقِسْمَانِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَعْرِيفُ مَاهِيَّةِ وَاجِبِ الْوُجُودِ إِلَّا بِلَوَازِمِهِ وَآثَارِهِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّوَازِمَ قَدْ تَكُونُ خَفِيَّةً، وَقَدْ تَكُونُ جَلِيَّةً، وَلَا يَجُوزُ تَعْرِيفُ الْمَاهِيَّةِ بِاللَّوَازِمِ الْخَفِيَّةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهَا بِاللَّوَازِمِ الْجَلِيَّةِ، وَأَظْهَرُ آثَارِ ذَاتِ وَاجِبِ الْوُجُودِ هو هذا العالم المحسوس وهو السموات وَالْأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا فَقَدْ ثَبَتَ

أَنَّهُ لَا جَوَابَ الْبَتَّةَ لِقَوْلِ فِرْعَوْنَ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ إِلَّا مَا قَالَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السلام، وهو أنه رب السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ فَمَعْنَاهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بِإِسْنَادِ هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ إِلَى مَوْجُودٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ فَاعْرِفُوا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَعْرِيفُهُ إِلَّا بِمَا ذَكَرْتُهُ لِأَنَّكُمْ لَمَّا سَلَّمْتُمُ انْتِهَاءَ هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ إِلَى الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، ثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ لِذَاتِهِ فَرْدٌ مُطْلَقٌ، وَثَبَتَ أَنَّ الْفَرْدَ الْمُطْلَقَ لَا يُمْكِنُ تَعْرِيفُهُ إِلَّا بِآثَارِهِ، وَثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الْآثَارَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ أَظْهَرَ آثَارِهِ، وَأَبْعَدَهَا عَنِ الخفاء وما ذاك إلا السموات/ وَالْأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا، فَإِنْ أَيْقَنْتُمْ بِذَلِكَ لَزِمَكُمْ أَنْ تَقْطَعُوا بِأَنَّهُ لَا جَوَابَ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ إِلَّا هَذَا الْجَوَابُ، وَلَمَّا ذَكَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا الْجَوَابَ الْحَقَّ قَالَ فِرْعَوْنَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ مِنْ جَوَابِ مُوسَى، يَعْنِي أَنَا أَطْلُبُ مِنْهُ الْمَاهِيَّةَ وَخُصُوصِيَّةَ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ يُجِيبُنِي بِالْفَاعِلِيَّةِ وَالْمُؤَثِّرِيَّةِ، وَتَمَامُ الْإِشْكَالِ أَنَّ تَعْرِيفَ الْمَاهِيَّةِ بِلَوَازِمِهَا لَا يُفِيدُ الْوُقُوفَ عَلَى نَفْسِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا قُلْنَا فِي الشَّيْءِ إِنَّهُ الَّذِي يَلْزَمُهُ اللَّازِمُ الْفُلَانِيُّ، فَهَذَا الْمَذْكُورُ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ أَمْرًا مَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ اللَّازِمُ أَوْ لِخُصُوصِيَّةِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ الَّتِي عَرَضَتْ لَهَا هَذِهِ الْمَلْزُومِيَّةِ، وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ لِأَنَّ كَوْنَهُ أَمْرًا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ اللازم جعلناه فَلَوْ كَانَ الْمَكْشُوفُ هُوَ هَذَا الْقَدْرَ لَزِمَ كَوْنُ الشَّيْءِ مَعْرُوفًا لِنَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَالثَّانِي مُحَالٌ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ أَمْرٌ مَا يَلْزَمُهُ اللَّازِمُ الْفُلَانِيُّ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِخُصُوصِيَّةِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ الْمَلْزُومَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ اشْتِرَاكُ الْمَاهِيَّاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي لَوَازِمَ مُتَسَاوِيَةٍ فَثَبَتَ أَنَّ التَّعْرِيفَ بِالْوَصْفِ الْخَارِجِيِّ لَا يُفِيدُ مَعْرِفَةَ نَفْسِ الْحَقِيقَةِ فَلَمْ يَكُنْ كَوْنُهُ رَبًّا لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ فَأَجَابَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: بِأَنْ قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ وَكَأَنَّهُ عَدَلَ عَنِ التَّعْرِيفِ بِخَالِقَيَّةِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَى التَّعْرِيفِ بِكَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقًا لَنَا وَلِآبَائِنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لا يمتنع أن يعتقد أحد أن السموات وَالْأَرَضِينَ وَاجِبَةٌ لِذَوَاتِهَا فَهِيَ غَنِيَّةٌ عَنِ الْخَالِقِ وَالْمُؤَثِّرِ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَقِدَ الْعَاقِلُ فِي نَفْسِهِ وَأَبِيهِ وَأَجْدَادِهِ كَوْنَهُمْ وَاجِبِينَ لِذَوَاتِهِمْ، لم أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُمْ وُجِدُوا بَعْدَ الْعَدَمِ ثُمَّ عُدِمُوا بَعْدَ الْوُجُودِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لِذَاتِهِ اسْتَحَالَ وُجُودُهُ إِلَّا لِمُؤَثِّرٍ، فَكَانَ التَّعْرِيفُ بِهَذَا الْأَثَرِ أَظْهَرَ فَلِهَذَا عَدَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ إِلَيْهِ فَقَالَ فِرْعَوْنَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ يَعْنِي الْمَقْصُودَ مِنْ سُؤَالِ مَا طَلَبُ الْمَاهِيَّةِ وَخُصُوصِيَّةِ الْحَقِيقَةِ وَالتَّعْرِيفُ بِهَذِهِ الْآثَارِ الْخَارِجِيَّةِ لَا يُفِيدُ الْبَتَّةَ تِلْكَ الْخُصُوصِيَّةَ، فَهَذَا الَّذِي يَدَّعِي الرِّسَالَةَ مَجْنُونٌ لَا يَفْهَمُ السُّؤَالَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ، فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فَعَدَلَ إِلَى طَرِيقٍ ثَالِثٍ أَوْضَحَ مِنَ الثَّانِي، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَشْرِقِ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَظُهُورَ النَّهَارِ، وَأَرَادَ بِالْمَغْرِبِ غُرُوبَ الشَّمْسِ وَزَوَالَ النَّهَارِ، وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ هَذَا التَّدْبِيرَ الْمُسْتَمِرَّ عَلَى الوجه الْعَجِيبِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ وَهَذَا بِعَيْنِهِ طَرِيقَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ نَمْرُوذَ، فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ أَوَّلًا بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ مُوسَى عليه السلام هاهنا بِقَوْلِهِ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فَأَجَابَهُ نَمْرُوذُ بِقَوْلِهِ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [الْبَقَرَةِ: 258] فَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [الْبَقَرَةِ: 258] وَهُوَ الذي ذكره موسى عليه السلام هاهنا بِقَوْلِهِ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ إِنْ كُنْتَ مِنَ الْعُقَلَاءِ عَرَفْتَ أَنَّهُ لَا جَوَابَ عَنْ سُؤَالِكَ إِلَّا مَا ذَكَرْتَ لِأَنَّكَ طَلَبْتَ مني تعريف حقيقته بنفس حقيقته، وقد ثبت/ أنه لا يمكن تَعْرِيفَ حَقِيقَتِهِ بِنَفْسِ

حَقِيقَتِهِ وَلَا بِأَجْزَاءِ حَقِيقَتِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أن أعرف حَقِيقَتِهِ، وَأَنَا قَدْ عَرَّفْتُ حَقِيقَتَهُ بِآثَارِ حَقِيقَتِهِ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ عَاقِلًا يَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا جَوَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ إِلَّا مَا ذَكَرْتُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [18] فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِلَهِ سُبْحَانَهُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ لِلْبَشَرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَذْكُرَ مَا تُعْرَفُ بِهِ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ، إِلَّا أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْخُصُوصِيَّةِ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الرِّسَالَةِ فَكَانَ حَاصِلُ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ ادِّعَاءَ رِسَالَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى إِثْبَاتِ أَنَّ لِلْعَالِمِينَ رَبًّا وَإِلَهًا وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِخُصُوصِيَّةِ الرَّبِّ تَعَالَى وَمَاهِيَّتِهِ الْمُعَيَّنَةِ، فَكَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُقِيمُ الدَّلَالَةَ عَلَى إِثْبَاتِ الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ فِي صِحَّةِ دَعْوَى الرِّسَالَةِ، وَفِرْعَوْنُ يُطَالِبُهُ بِبَيَانِ الْمَاهِيَّةِ، وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُعْرِضُ عَنْ سُؤَالِهِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِذَلِكَ السُّؤَالِ نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ، فَهَذَا تَمَامُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْبَحْثِ واللَّه أَعْلَمُ، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا خَشَّنَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ فِرْعَوْنُ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ فَإِنَّهُ لَمَّا عَجَزَ عَنِ الْحِجَاجِ عَدَلَ إِلَى التَّخْوِيفِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ ذَكَرَ موسى عليه السلام كلاما مجملا ليعلق قبله بِهِ فَيَعْدِلَ عَنْ وَعِيدِهِ فَقَالَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟ أَيْ هَلْ تَسْتَجِيزُ أَنْ تَسْجُنَنِي مَعَ اقْتِدَارِي عَلَى أَنْ آتِيَكَ بِأَمْرٍ بَيِّنٍ فِي بَابِ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِ اللَّه تَعَالَى وَعَلَى أَنِّي رَسُولُهُ؟ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ وهاهنا فُرُوعٌ: الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جِسْمًا وَلَهُ صُورَةٌ لَكَانَ جَوَابُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذِكْرِ حَقِيقَتِهِ وَلَكَانَ كَلَامُ فِرْعَوْنَ لَازِمًا لَهُ لِعُدُولِهِ عَنِ الْجَوَابِ الْحَقِّ الثَّانِي: الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ يَدْعُو غَيْرَهُ إِلَى اللَّه تَعَالَى أَنْ لَا يُجِيبَ عَنِ السَّفَاهَةِ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنَّهُ مَجْنُونٌ لَمْ يَعْدِلْ عَنْ ذِكْرِ الدَّلَالَةِ وَكَذَلِكَ لَمَّا تَوَعَّدَهُ أَنْ يَسْجُنَهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَسْئُولِ أَنْ يَعْدِلَ فِي حُجَّتِهِ مِنْ مِثَالٍ إِلَى مِثَالٍ لِإِيضَاحِ الْكَلَامِ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الِانْقِطَاعِ الرَّابِعُ: إِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَطَعَ الْكَلَامَ بِمَا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ وَالْمُعْجِزُ لَا يَدُلُّ عَلَى اللَّه تَعَالَى كَدَلَالَةِ سَائِرِ مَا تَقَدَّمَ؟ قُلْنَا بَلْ يَدُلُّ مَا أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَهُ مِنَ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً عَلَى اللَّه تَعَالَى وَعَلَى تَوْحِيدِهِ، وَعَلَى أَنَّهُ صَادِقٌ فِي الرِّسَالَةِ فَالَّذِي خَتَمَ بِهِ كَلَامَهُ أَقْوَى مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ وَأَجْمَعُ الْخَامِسُ: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا عَلَى التَّثْنِيَةِ وَالْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ مَجْمُوعٌ؟ جَوَابُهُ أَرِيدَ مَا بين الجهتين، فإن قيل: ذكر السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا قَدِ اسْتَوْعَبَ الْخَلَائِقَ كُلَّهُمْ، فَمَا مَعْنَى ذِكْرُهُمْ وَذِكْرُ آبَائِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَذِكْرُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ؟ جَوَابُهُ: قَدْ عَمَّمَ أَوَّلًا ثُمَّ خَصَّصَ مِنَ الْعَامِّ لِلْبَيَانِ أَنْفُسَهُمْ وَآبَاءَهُمْ لِأَنَّ أَقْرَبَ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْعَاقِلِ نَفْسُهُ وَمَنْ وُلِدَ مِنْهُ وَمَا شَاهَدَ مِنَ انْتِقَالِهِ مِنْ وَقْتِ مِيلَادِهِ إِلَى وَقْتِ وَفَاتِهِ مِنْ حَالَةٍ إِلَى/ حَالَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ خَصَّصَ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ لِأَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ أَحَدِ الْخَافِقَيْنِ وَغُرُوبَهَا عَلَى تَقْدِيرٍ مُسْتَقِيمٍ فِي فُصُولِ السَّنَةِ مِنْ أَظْهَرِ الدَّلَائِلِ السَّادِسُ: فَإِنْ قِيلَ لِمَ قَالَ: لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ وَلَمْ يَقُلْ لَأَسْجُنَنَّكَ مَعَ أَنَّهُ أَخْصَرُ؟ جَوَابُهُ: لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَأَسْجُنَنَّكَ لَا يُفِيدُ إِلَّا صَيْرُورَتَهُ مَسْجُونًا. أَمَّا قَوْلُهُ: لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ فَمَعْنَاهُ أَنِّي أَجْعَلُكَ وَاحِدًا مِمَّنْ عَرَفْتَ حَالَهُمْ فِي سُجُونِي، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَأْخُذَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَسْجُنَهُ فَيَطْرَحَهُ فِي بِئْرٍ عَمِيقَةٍ فَرْدًا لَا يُبْصِرُ فِيهَا وَلَا يَسْمَعُ فَكَانَ ذَلِكَ أَشَدَّ مِنَ الْقَتْلِ السَّابِعُ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ وَاوُ الْحَالِ دَخَلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مَعْنَاهُ أَتَفْعَلُ بِي ذَلِكَ وَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي جائيا بالمعجزة.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 32 إلى 37]

[سورة الشعراء (26) : الآيات 32 الى 37] فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: قَرَأَ الْأَعْمَشُ: بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ. المسألة الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ [الشعراء: 30] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَبْلَ أَنْ أَلْقَى الْعَصَا عَرَّفَهُ بِأَنَّهُ يُصَيِّرُهَا ثُعْبَانًا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَالَ مَا قَالَ: فَلَمَّا أَلْقَى عَصَاهُ ظَهَرَ مَا وَعَدَهُ اللَّه بِهِ فَصَارَ ثُعْبَانًا مُبِينًا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَبَيَّنَ لِلنَّاظِرِينَ أَنَّهُ ثُعْبَانٌ بِحَرَكَاتِهِ وَبِسَائِرِ الْعَلَامَاتِ، رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا انْقَلَبَتْ حَيَّةً ارْتَفَعَتْ فِي السَّمَاءِ قَدْرَ مَيْلٍ ثُمَّ انْحَطَّتْ مُقْبِلَةً إِلَى فِرْعَوْنَ وَجَعَلَتْ تَقُولُ يَا مُوسَى مُرْنِي بِمَا شِئْتَ، وَيَقُولُ فِرْعَوْنُ يَا مُوسَى أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَرْسَلَكَ أَلَا أَخَذْتَهَا فعادت عصا فإن قيل كيف قال هاهنا: ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى [طه: 20] وَفِي آيَةٍ ثَالِثَةٍ: كَأَنَّها جَانٌّ [القصص: 31] وَالْجَانُّ مَائِلٌ إِلَى الصِّغَرِ وَالثُّعْبَانُ مَائِلٌ إِلَى الْكِبَرِ؟ جَوَابُهُ: أَمَّا الْحَيَّةُ فَهِيَ اسْمُ الْجِنْسِ ثُمَّ إِنَّهَا لِكِبَرِهَا صَارَتْ ثُعْبَانًا، وَشَبَّهَهَا بِالْجَانِّ لِخِفَّتِهَا وَسُرْعَتِهَا فَصَحَّ الْكَلَامَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ شَبَّهَهَا بِالشَّيْطَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ [الْحِجْرِ: 27] وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَتْ أَوَّلًا صَغِيرَةً كَالْجَانِّ ثُمَّ عَظُمَتْ/ فَصَارَتْ ثُعْبَانًا، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَتَى بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ هَلْ غَيْرَهَا؟ قَالَ نَعَمْ فَأَرَاهُ يَدَهُ ثُمَّ أَدْخَلَهَا جَيْبَهُ ثُمَّ أَخْرَجَهَا فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ يُضِيءُ الْوَادِي مِنْ شِدَّةِ بَيَاضِهَا مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ لَهَا شُعَاعٌ كَشُعَاعِ الشَّمْسِ، فَعِنْدَ هَذَا أَرَادَ فِرْعَوْنُ تَعْمِيَةَ هَذِهِ الحجة عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ فِيهَا أُمُورًا ثَلَاثَةً: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الزَّمَانَ كَانَ زَمَانَ السَّحَرَةِ وَكَانَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَنَّ السَّاحِرَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَهِيَ بِسِحْرِهِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَلِهَذَا رَوَّجَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْقَوْلَ وَثَانِيهَا: قَوْلِهِ: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّنْفِيرِ عَنْهُ لِئَلَّا يَقْبَلُوا قَوْلَهُ، وَالْمَعْنَى يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِمَا يُلْقِيهِ بَيْنَكُمْ مِنَ الْعَدَاوَاتِ فَيُفَرِّقُ جَمْعَكُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُفَارَقَةَ الْوَطَنِ أَصْعَبُ الْأُمُورِ فَنَفَّرَهُمْ عَنْهُ بِذَلِكَ، وَهَذَا نِهَايَةُ مَا يَفْعَلُهُ الْمُبْطِلُ فِي التَّنْفِيرِ عَنِ الْمُحِقِّ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ لَهُمْ: فَماذا تَأْمُرُونَ أَيْ فَمَا رَأْيُكُمْ فِيهِ وَمَا الَّذِي أَعْمَلُهُ، يُظْهِرُ مِنْ نَفْسِهِ أَنِّي مُتَبِّعٌ لِرَأْيِكُمْ وَمُنْقَادٌ لِقَوْلِكُمْ، وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ يُوجِبُ جَذْبَ الْقُلُوبِ وَانْصِرَافَهَا عَنِ الْعَدُوِّ فَعِنْدَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَابٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَرْجِهْ قُرِئَ (أَرْجِئْهُ) وَ (أَرْجِهْ) بِالْهَمْزِ وَالتَّخْفِيفِ، وَهُمَا لُغَتَانِ يُقَالُ: أَرْجَأْتُهُ وَأَرْجَيْتُهُ إِذَا أَخَّرْتَهُ، وَالْمَعْنَى أَخِّرْهُ وَمُنَاظَرَتَهُ لِوَقْتِ اجْتِمَاعِ السَّحَرَةِ، وَقِيلَ احْبِسْهُ وذلك محتمل، لأنك إذا حسبت الرَّجُلَ عَنْ حَاجَتِهِ فَقَدْ أَخَّرْتَهُ. رُوِيَ أَنَّ فِرْعَوْنَ أَرَادَ قَتْلَهُ وَلَمْ يَكُنْ يَصِلُ إِلَيْهِ، فَقَالُوا لَهُ لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّكَ إِنْ قَتَلْتَهُ أَدْخَلْتَ عَلَى النَّاسِ فِي أَمْرِهِ شُبْهَةً، وَلَكِنْ أَرْجِئْهُ وَأَخَاهُ إِلَى أَنْ تَحْشُرَ السَّحَرَةَ لِيُقَاوِمُوهُ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْكَ حُجَّةٌ، ثُمَّ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِإِنْفَاذِ حَاشِرِينَ يَجْمَعُونَ السَّحَرَةَ، ظَنًّا مِنْهُمْ

[سورة الشعراء (26) : الآيات 38 إلى 42]

بأنهم إذا كثروا غَلَبُوهُ وَكَشَفُوا حَالَهُ وَعَارَضُوا قَوْلَهُ: إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ بقولهم: بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فجاؤوا بِكَلِمَةِ الْإِحَاطَةِ وَبِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ لِيُطَيِّبُوا قَلْبَهُ وَلِيُسْكِنُوا بَعْضَ قَلَقِهِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فَإِنْ قُلْتَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ مَا الْعَامِلُ فِي (حَوْلِهِ) ؟ قُلْتُ: هُوَ مَنْصُوبٌ نَصْبَيْنِ نَصْبٌ فِي اللَّفْظِ وَنَصْبٌ فِي الْمَحَلِّ وَالْعَامِلُ فِي النَّصْبِ اللَّفْظِيِّ مَا يُقَدَّرُ فِي الظَّرْفِ، وَالْعَامِلُ فِي النَّصْبِ الْمَحَلِّيِّ هُوَ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ. [سورة الشعراء (26) : الآيات 38 الى 42] فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: المسألة الْأُولَى: الْيَوْمُ الْمَعْلُومُ يَوْمُ الزِّينَةِ وَمِيقَاتُهُ وَقْتُ الضُّحَى، لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي وَقَّتَهُ لَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ يَوْمِ الزِّينَةِ فِي قَوْلِهِ: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه: 59] وَالْمِيقَاتُ مَا وُقِّتَ بِهِ أَيْ حُدِّدَ مِنْ مَكَانٍ وَزَمَانٍ وَمِنْهُ مَوَاقِيتُ الْإِحْرَامِ. المسألة الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا أَشَارُوا بِتَأْخِيرِ أَمْرِهِ وَبِأَنْ يَجْمَعَ لَهُ السَّحَرَةَ لِيَظْهَرَ عِنْدَ حُضُورِهِمْ فَسَادُ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، رَضِيَ فِرْعَوْنُ بِمَا قَالُوهُ وَعَمِيَ عَمَّا شَاهَدَهُ وَحُبُّ الشَّيْءِ يُعْمِي وَيُصِمُّ فَجَمَعَ السَّحَرَةَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ تَقَعَ تِلْكَ الْمُنَاظَرَةُ يَوْمَ عِيدٍ لَهُمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ بِمَحْضَرِ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَطْلُبُ ذَلِكَ لِتَظْهَرَ حُجَّتُهُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ وَكَانَ هَذَا أَيْضًا مِنْ لُطْفِ اللَّه تَعَالَى فِي ظُهُورِ أَمْرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ بُعِثُوا عَلَى الْحُضُورِ لِيُشَاهِدُوا مَا يَكُونُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ فَالْمُرَادُ إِنَّا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ الْغَلَبَةُ لَهُمْ فَنَتَّبِعُهُمْ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ ابتدءوا بِطَلَبِ الْجَزَاءِ، وَهُوَ إِمَّا الْمَالُ وَإِمَّا الْجَاهُ فَبَذَلَ لَهُمْ ذَلِكَ وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ لِأَنَّ نِهَايَةَ مَطْلُوبِهِمْ مِنْهُ الْبَذْلُ ورفع المنزلة فبذل كلا الأمرين. [سورة الشعراء (26) : الآيات 43 الى 48] قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48)

اعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا اجْتَمَعُوا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَبْدَأَ مُوسَى أَوْ يَبْدَءُوا ثُمَّ إِنَّهُمْ تَوَاضَعُوا لَهُ فَقَدَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَقَالُوا: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى [طه: 65] فَلَمَّا تَوَاضَعُوا لَهُ تَوَاضَعَ هُوَ أَيْضًا لَهُمْ فَقَدَّمَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَالَ: أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ جَازَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَأْمُرَ السَّحَرَةَ بِإِلْقَاءِ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ وَذَلِكَ سِحْرٌ وَتَلْبِيسٌ وَكُفْرٌ وَالْأَمْرُ بِمِثْلِهِ لَا يَجُوزُ الْجَوَابُ: لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِأَمْرٍ لِأَنَّ مُرَادَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُمْ كَانَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَلَا يَقْدُمُوا عَلَى مَا يَجْرِي/ مَجْرَى الْمُغَالَبَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ تَأْوِيلُ صِيغَةِ الْأَمْرِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: ذَلِكَ الْأَمْرُ كَانَ مَشْرُوطًا وَالتَّقْدِيرُ أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ إِنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ... إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْبَقَرَةِ: 23] وَثَانِيهَا: لَمَّا تَعَيَّنَ ذَلِكَ طَرِيقًا إِلَى كَشْفِ الشُّبْهَةِ صَارَ جَائِزًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِأَمْرٍ بَلْ هُوَ تَهْدِيدٌ، أَيْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ أَتَيْنَا بِمَا تُبْطِلُهُ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ لَئِنْ رَمَيْتَنِي لَأَفْعَلَنَّ وَلَأَصْنَعَنَّ ثُمَّ يُفَوِّقُ لَهُ السَّهْمَ فَيَقُولُ لَهُ ارْمِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ تَهْدِيدًا وَرَابِعُهَا: مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ لَمَّا تَوَاضَعُوا لَهُ وَقَدَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَهُوَ قَدَّمَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى رَجَاءِ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ التَّوَاضُعُ سَبَبًا لِقَبُولِ الْحَقِّ وَلَقَدْ حَصَلَ بِبَرَكَةِ ذَلِكَ التَّوَاضُعِ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ اللَّائِقَ بِالْمُسْلِمِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ التَّوَاضُعُ، لِأَنَّ مِثْلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا لَمْ يَتْرُكِ التَّوَاضُعَ مَعَ أُولَئِكَ السَّحَرَةِ، فَبِأَنْ يَفْعَلَ الْوَاحِدُ مِنَّا أَوْلَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ لَمَّا أَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَدْ كَانَتِ الْحِبَالُ مَطْلِيَّةً بِالزِّئْبَقِ وَالْعِصِيُّ مُجَوَّفَةً مَمْلُوءَةً مِنَ الزِّئْبَقِ فَلَمَّا حَمِيَتِ اشْتَدَّتْ حَرَكَتُهَا فَصَارَتْ كَأَنَّهَا حَيَّاتٌ تَدِبُّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنَ الْأَرْضِ فَهَابَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ أَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ثُمَّ فَتَحَتْ فَاهَا فَابْتَلَعَتْ كُلَّ مَا رَمَوْهُ مِنْ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ حتى أكلت الكل ثم أخد مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ كَمَا كَانَتْ فَلَمَّا رَأَتِ السَّحَرَةُ ذَلِكَ قَالَتْ لِفِرْعَوْنَ كُنَّا نُسَاحِرُ النَّاسَ فَإِذَا غَلَبْنَاهُمْ بَقِيَتِ الْحِبَالُ وَالْعِصِيُّ، وَكَذَلِكَ إِنْ غَلَبُونَا وَلَكِنَّ هَذَا حَقٌّ فَسَجَدُوا وَآمَنُوا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآثَارِ اخْتِلَافًا فَمِنْهُمْ مَنْ كَثَّرَ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَسَّطَ واللَّه أَعْلَمُ بِعَدَدِ ذَلِكَ، وَالَّذِي يَدُلُّ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ أَنَّهَا كَثِيرَةٌ مِنْ حَيْثُ حُشِرُوا مِنْ كُلِّ بَلَدٍ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بَلَغَ عِنْدَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فِي الْعِظَمِ مَبْلَغًا يَبْعُدُ أَنْ يَدَّخِرَ عَنْهُ مَا يُمْكِنُ مِنْ جَمْعِ السَّحَرَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا مَا يَجْرِي مَجْرَى الْقَطْعِ عَلَى أَنَّهُمْ يَغْلِبُونَ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَمَّا ظَهَرَ كَانَ أَقْوَى لِأَمْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا يَأْفِكُونَ مَا يَقْلِبُونَهُ عَنْ وَجْهِهِ وَحَقِيقَتِهِ بِسِحْرِهِمْ وكيدهم [ويزورونه] فَيُخَيِّلُونَ فِي حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ أَنَّهَا حَيَّاتٌ تَسْعَى، [بالتمويه على الناظرين أو إفكهم] «1» وَسَمَّى تِلْكَ الْأَشْيَاءَ إِفْكًا مُبَالَغَةً. أَمَّا قَوْلُهُ: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ فَالْمُرَادُ خَرُّوا سُجَّدًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الطَّبَقَةِ الْعَالِيَةِ مِنْ عِلْمِ السِّحْرِ، فَلَا جَرَمَ كَانُوا عَالِمِينَ بِمُنْتَهَى السِّحْرِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ وَشَاهَدُوهُ خَارِجًا عَنْ حَدِّ السِّحْرِ عَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِسِحْرٍ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ إِلَّا بِبَرَكَةِ تَحْقِيقِهِمْ فِي عِلْمِ السِّحْرِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ لَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ رَمَوْا بأنفسهم إلى الأرض

_ (1) زيادة من الكشاف 3/ 113 ط. دار الفكر. [.....]

[سورة الشعراء (26) : الآيات 49 إلى 51]

سَاجِدِينَ كَأَنَّهُمْ أُخِذُوا فَطُرِحُوا طَرْحًا، فَإِنْ قِيلَ فَاعِلُ الْإِلْقَاءِ مَا هُوَ لَوْ صَرَّحَ بِهِ؟ جَوَابُهُ: هُوَ اللَّه تَعَالَى بِمَا (حَصَلَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الدَّوَاعِي الْجَازِمَةِ الْخَالِيَةِ عَنِ الْمُعَارَضَاتِ/ وَلَكِنَّ الْأَوْلَى) «1» أَنْ لَا نُقَدِّرَ فَاعِلًا لِأَنَّ أُلْقِيَ بِمَعْنَى خَرَّ وَسَقَطَ. أَمَّا قَوْلُهُ: رَبِّ مُوسى وَهارُونَ فَهُوَ عَطْفُ بَيَانٍ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ فَأَرَادُوا عَزْلَهُ وَمَعْنَى إِضَافَتِهِ إِلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ أَنَّهُ الَّذِي دَعَا مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إِلَيْهِ. [سورة الشعراء (26) : الآيات 49 الى 51] قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) اعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا آمَنُوا بِأَجْمَعِهِمْ لَمْ يَأْمَنْ فِرْعَوْنُ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ إِنَّ هَؤُلَاءِ السَّحَرَةَ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَتَظَاهُرِهِمْ لَمْ يُؤْمِنُوا إِلَّا عَنْ مَعْرِفَةٍ بِصِحَّةِ أَمْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَسْلُكُونَ مِثْلَ طَرِيقِهِمْ فَلَبَّسَ عَلَى الْقَوْمِ وَبَالَغَ فِي التَّنْفِيرِ عَنْ مُوسَى عليه السلام من وجوه: أولها: قَوْلُهُ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ وَهَذَا فِيهِ إِيهَامٌ أَنَّ مُسَارَعَتَكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّكُمْ كُنْتُمْ مَائِلِينَ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ يَطْرُقُ التُّهْمَةَ إِلَيْهِمْ فَلَعَلَّهُمْ قَصَّرُوا فِي السِّحْرِ حِيَالَهُ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِمَا رَمَزَ بِهِ أَوَّلًا، وَغَرَضُهُ مِنْهُ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ عَنْ مُوَاطَأَةٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَصَّرُوا فِي السِّحْرِ لِيَظْهَرَ أَمْرُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِلَّا فَفِي قُوَّةِ السَّحَرَةِ أَنْ يَفْعَلُوا مِثْلَ مَا فَعَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذِهِ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ فِي تَنْفِيرِ مَنْ يَقْبَلُ قَوْلَهُ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وَهُوَ وَعِيدٌ مُطْلَقٌ وَتَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ وَهَذَا هُوَ الْوَعِيدُ الْمُفَصَّلُ وَقَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ هُوَ قَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى وَالصَّلْبُ مَعْلُومٌ، وَلَيْسَ فِي الْإِهْلَاكِ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَجَابُوا عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُمْ: لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ الضُّرُّ وَالضَّيْرُ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ إِنْ وَقَعَ لَمْ يَضُرَّ وَإِنَّمَا عَنَوْا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا عَرَفُوهُ مِنْ دَارِ الْجَزَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُمْ: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ فِيهِ نُكْتَةٌ شَرِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوا فِي حُبِّ اللَّه/ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَا أَرَادُوا شَيْئًا سِوَى الْوُصُولِ إِلَى حَضْرَتِهِ، وَأَنَّهُمْ مَا آمَنُوا رَغْبَةً فِي ثَوَابٍ أَوْ رَهْبَةً مِنْ عِقَابٍ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُمْ مَحْضُ الْوُصُولِ إِلَى مَرْضَاتِهِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي أَنْوَارِ مَعْرِفَتِهِ، وَهَذَا أَعْلَى دَرَجَاتِ الصَّدِّيقِينَ الْجَوَابُ الثَّانِي: قَوْلُهُمْ: إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا فَهُوَ إِشَارَةٌ مِنْهُمْ إِلَى الْكُفْرِ وَالسِّحْرِ وَغَيْرِهِمَا، وَالطَّمَعُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَحْتَمِلُ الْيَقِينَ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشُّعَرَاءِ: 82] وَيَحْتَمِلُ الظَّنَّ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَعْلَمُ مَا سَيَجِيءُ مِنْ بَعْدُ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ فَالْمُرَادُ لِأَنْ كُنَّا أَوَّلَ المؤمنين من الجماعة الذين حضروا ذلك

_ (1) في الكشاف (خولهم من التوفيق أو إيمانهم أو ما عاينوا من المعجزة الباهرة ولك ... ) .

[سورة الشعراء (26) : الآيات 52 إلى 62]

الْمَوْقِفَ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ السَّحَرَةِ خَاصَّةً، أَوْ مِنْ رَعِيَّةِ فِرْعَوْنَ أَوْ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِمْ، وَقُرِئَ (إِنْ كُنَّا) بِالْكَسْرِ، وَهُوَ مِنَ الشرط الذي يجيء به المدل [بأمره لصحته وهم كانوا متحققين أنهم أول المؤمنين] «1» ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ (الْقَائِلِ) «2» لِمَنْ يُؤَخِّرُ جُعْلَهُ: إِنْ كنت عملت لك فوفني حقي. [سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 62] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) قُرِئَ أَسْرِ بقطع الهمزة ووصلها وسر. لَمَّا ظَهَرَ أَمْرُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْآيَةِ، أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَنْ يَخْرُجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا كَانَ فِي الْمَعْلُومِ مِنْ تَدْبِيرِ اللَّه تَعَالَى فِي مُوسَى وَتَخْلِيصِهِ مِنَ الْقَوْمِ وَتَمْلِيكِهِ بِلَادَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَمْ يَأْمَنْ وَقَدْ جَرَتْ تِلْكَ الْغَلَبَةُ الظَّاهِرَةُ أَنْ يَقَعَ مِنْ فِرْعَوْنَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مَا يُؤَدِّي إِلَى الِاسْتِئْصَالِ، فَلِذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَسْرِيَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، / وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا مِنْ قَوْمِ مُوسَى، وَلَا شُبْهَةَ أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا وَهُوَ أَنَّهُ أَسْرَى بِهِمْ كَمَا أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّ قَوْمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالُوا لِقَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ لَنَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ عِيدًا، ثُمَّ اسْتَعَارُوا مِنْهُمْ حُلِيَّهُمْ وَحُلَلَهُمْ بِهَذَا السَّبَبِ، ثُمَّ خَرَجُوا بِتِلْكَ الْأَمْوَالِ فِي اللَّيْلِ إِلَى جَانِبِ الْبَحْرِ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ فِرْعَوْنُ أَرْسَلَ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، ثُمَّ إِنَّهُ قَوَّى نَفْسَهُ وَنَفْسَ أَصْحَابِهِ بِأَنْ وَصَفَ قَوْمَ مُوسَى بِوَصْفَيْنِ مِنْ أَوْصَافِ الذَّمِّ، وَوَصَفَ قَوْمَ نَفْسِهِ بِصِفَةِ الْمَدْحِ أَمَّا وَصْفُ قَوْمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالذَّمِّ. فَالصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَالشِّرْذِمَةُ الطَّائِفَةُ الْقَلِيلَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ ثَوْبٌ شَرَاذِمُ لِلَّذِي بَلِيَ، وَتَقَطَّعَ قِطَعًا ذَكَرَهُمْ بِالِاسْمِ الدَّالِّ عَلَى الْقِلَّةِ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ قَلِيلًا بِالْوَصْفِ، ثُمَّ جَمَعَ الْقَلِيلَ فَجَعَلَ كُلَّ حِزْبٍ مِنْهُمْ قَلِيلًا وَاخْتَارَ جَمْعَ السَّلَامَةِ الذي هو للقلة [وقد يجمع القليل على أقلة وقلل] «3» ، ويجوز أن يريد

_ (1) زيادة من الكشاف 3/ 113 ط. دار الفكر. (2) في الكشاف (العامل) . (3) زيادة من الكشاف 3/ 114 ط. دار الفكر.

بالقلة الذلة [والقماءة] «1» لَا قِلَّةَ الْعَدَدِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لِقِلَّتِهِمْ لَا يُبَالِي بِهِمْ وَلَا يَتَوَقَّعُ غَلَبَتَهُمْ وَعُلُوَّهُمْ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي عَدَدِ تِلْكَ الشِّرْذِمَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: كَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ لَا شَابَّ فِيهِمْ دُونَ عِشْرِينَ سَنَةً، وَلَا شَيْخَ يُوفِي عَلَى السِّتِّينَ سِوَى الْحَشَمِ، وَفِرْعَوْنُ يُقَلِّلُهُمْ لِكَثْرَةِ مَنْ مَعَهُ، وَهَذَا الْوَصْفُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْكَثِيرِ عِنْدَ الْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ، فَرُوِيَ أَنَّ فِرْعَوْنَ خَرَجَ عَلَى فَرَسٍ أَدْهَمَ حِصَانٍ وَفِي عسكره على لون فرسه ثلاثمائة أَلْفٍ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ يَعْنِي يَفْعَلُونَ أَفْعَالًا تَغِيظُنَا وَتُضَيِّقُ صُدُورَنَا، وَاخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْأَفْعَالِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِ الْحُلِيِّ وَغَيْرِهِ وَثَانِيهَا: خُرُوجُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ عُبُودِيَّةِ فِرْعَوْنَ وَاسْتِقْلَالُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَثَالِثُهَا: مُخَالَفَتُهُمْ لَهُمْ فِي الدِّينِ وَخُرُوجُهُمْ عَلَيْهِمْ وَرَابِعُهَا: لَيْسَ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَتَّخِذُوا فِرْعَوْنَ إِلَهًا. أَمَّا الَّذِي وَصَفَ فِرْعَوْنُ بِهِ قَوْمَهُ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ وَفِيهِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ (حَذِرُونِ) وَ (حاذِرُونَ) وَ (حَادِرُونَ) بِالدَّالِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الصِّفَةَ إِذَا كَانَتْ جَارِيَةً عَلَى الْفِعْلِ وَهِيَ اسْمُ الْفَاعِلِ وَاسْمُ الْمَفْعُولِ كَالضَّارِبِ وَالْمَضْرُوبِ أَفَادَتِ الْحُدُوثَ، وَإِذَا لَمْ تكن كذلك وهي الشبهة أَفَادَتِ الثُّبُوتَ، فَمَنْ قَرَأَ حَذِرُونَ ذَهَبَ إِلَى إِنَّا قَوْمٌ مِنْ عَادَتِنَا الْحَذَرُ وَاسْتِعْمَالُ الْحَزْمِ، وَمَنْ قَرَأَ حاذِرُونَ فَكَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى مَعْنَى إِنَّا قَوْمٌ مَا عَهِدْنَا أَنْ نَحْذَرَ إِلَّا عَصْرَنَا هَذَا. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ حَادِرُونَ بِالدَّالِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ فَكَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى نَفْيِ الْحَذَرِ أَصْلًا، لِأَنَّ الْحَادِرَ هُوَ الْمُشَمِّرُ، فَأَرَادَ إِنَّا قَوْمٌ أَقْوِيَاءُ أَشِدَّاءُ، أَوْ أَرَادَ إِنَّا مُدَجَّجُونَ فِي السِّلَاحِ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْمَعَاذِيرِ أَنْ لَا يَتَوَهَّمَ أَهْلُ الْمَدَائِنِ أَنَّهُ مُنْكَسِرٌ مِنْ قَوْمِ مُوسَى أَوْ خَائِفٌ مِنْهُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَخْرَجْناهُمْ فَالْمُرَادُ إِنَّا جَعَلْنَا فِي قُلُوبِهِمْ دَاعِيَةَ الْخُرُوجِ فَاسْتَوْجَبَتِ الدَّاعِيَةُ الْفِعْلَ، فَكَانَ الْفِعْلُ مُضَافًا إِلَى اللَّه تَعَالَى لَا مَحَالَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ فَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَمَّاهَا كُنُوزًا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُنْفِقُوا مِنْهَا فِي/ طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى، وَالْمَقَامُ الْكَرِيمُ يُرِيدُ الْمَنَازِلَ الْحَسَنَةَ وَالْمَجَالِسَ الْبَهِيَّةَ، وَالْمَعْنَى إِنَّا أَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ بَسَاتِينِهِمُ الَّتِي فِيهَا عُيُونُ الْمَاءِ وَكُنُوزُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي كَانُوا يَتَنَعَّمُونَ فِيهَا لِنُسَلِّمَهَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. أَمَّا قَوْلُهُ كَذَلِكَ فَيَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: النَّصْبَ عَلَى أَخْرَجْنَاهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ، وَالْجَرَّ عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِمَقَامٍ كَرِيمٍ، أَيْ مَقَامٍ كَرِيمٍ مِثْلِ ذَلِكَ الْمَقَامِ الَّذِي كَانَ لَهُمْ، وَالرَّفْعَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَتْبَعُوهُمْ أَيْ فَلَحِقُوهُمْ، وَقُرِئَ (فَاتَّبَعُوهُمْ) مُشْرِقِينَ دَاخِلِينَ فِي وَقْتِ الشُّرُوقِ مِنْ أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ شروقا إذا طلعت. أما قوله: فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ أَيْ رَأَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قَالَ أَصْحَابُ موسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي لملحقون وقالوا يا موسى أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا كَانُوا يَذْبَحُونَ أَبْنَاءَنَا، مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا يُدْرِكُونَنَا، أَيْ فِي السَّاعَةِ فَيَقْتُلُونَنَا، وَقُرِئَ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ بتشديد الدال وكسر الراء من أدرك الشَّيْءُ إِذَا تَتَابَعَ فَفَنِيَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ [النمل:

_ (1) زيادة من الكشاف 3/ 114 ط. دار الفكر.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 63 إلى 68]

66] قَالَ الْحَسَنُ: جَهِلُوا عِلْمَ الْآخِرَةِ، وَالْمَعْنَى إِنَّا لَمُتَتَابِعُونَ فِي الْهَلَاكِ عَلَى أَيْدِيهِمْ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنَّا أَحَدٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ كَلَّا وَذَلِكَ كَالْمَنْعِ مِمَّا تَوَهَّمُوهُ، ثُمَّ قَوَّى نُفُوسَهُمْ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ مَعِي رَبِّي وَهَذَا دَلَالَةُ النُّصْرَةِ وَالتَّكَفُّلِ بِالْمَعُونَةِ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: سَيَهْدِينِ وَالْهُدَى هُوَ طَرِيقُ النَّجَاةِ وَالْخَلَاصِ، وَإِذَا دَلَّهُ عَلَى طَرِيقِ نَجَاتِهِ وَهَلَاكِ أَعْدَائِهِ، فَقَدْ بَلَغَ النهاية في النصرة. [سورة الشعراء (26) : الآيات 63 الى 68] فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلَهُ: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62] بَيَّنَ تَعَالَى بَعْدَهُ كَيْفَ هَدَاهُ وَنَجَّاهُ، وَأَهْلَكَ أَعْدَاءَهُ بِذَلِكَ التَّدْبِيرِ الْجَامِعِ لِنِعَمِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَقَالَ: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ لِأَنَّهُ كَالْمَعْلُومِ مِنَ الْكَلَامِ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَلِقَ مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ وَمَعَ ذَلِكَ يَأْمُرُهُ بِالضَّرْبِ لِأَنَّهُ كَالْعَبَثِ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ الَّتِي ظَهَرَتْ بِالْعَصَا وَلِأَنَّ انْفِلَاقَهُ بِضَرْبِهِ أَعْظَمُ فِي النِّعْمَةِ عَلَيْهِ، وَأَقْوَى لِعِلْمِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا حَصَلَ لِمَكَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْبَحْرِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا انْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَخُوضُوا الْبَحْرَ فَامْتَنَعُوا إِلَّا يُوشَعَ بْنَ نُونٍ فَإِنَّهُ ضَرَبَ دَابَّتَهُ وَخَاضَ فِي الْبَحْرِ حَتَّى عَبَرَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِمْ فَأَبَوْا أَنْ يَخُوضُوا فَقَالَ مُوسَى لِلْبَحْرِ انْفَرِقْ لِي فَقَالَ مَا أُمِرْتُ بِذَلِكَ ولا يعبر عن الْعُصَاةُ، فَقَالَ مُوسَى يَا رَبِّ قَدْ أَبَى الْبَحْرُ أَنْ يَنْفَرِقَ، فَقِيلَ لَهُ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَضَرَبَهُ فَانْفَرَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ أَيْ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ وَصَارَ فِيهِ اثْنَا عَشَرَ طَرِيقًا لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ طَرِيقٌ فَقَالَ كُلُّ سِبْطٍ قُتِلَ أَصْحَابُنَا فَعِنْدَ ذَلِكَ دَعَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ فَجَعَلَهَا مَنَاظِرَ كَهَيْئَةِ الطَّبَقَاتِ حَتَّى نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ عَلَى أَرْضٍ يَابِسَةٍ، وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَيْنَ آلِ فِرْعَوْنَ وَكَانَ يَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ لِيَلْحَقْ آخِرُكُمْ بِأَوَّلِكُمْ، وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْطَ فَيَقُولُ رُوَيْدَكُمْ لِيَلْحَقَ آخِرُكُمْ، وَرَوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: «يَا مَنْ كَانَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَالْمُكَوِّنُ لِكُلِّ شَيْءٍ وَالْكَائِنُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ» . فَأَمَّا قَوْلُهُ: فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ فَالْفِرْقُ الْجُزْءُ الْمُنْفَرِقُ مِنْهُ، وَقُرِئَ (كُلُّ فَلْقِ) وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَالطَّوْدُ الْجَبَلُ الْمُتَطَاوِلُ أَيِ الْمُرْتَفِعُ فِي السَّمَاءِ وَهُوَ مُعْجِزٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ تَفَرُّقَ ذَلِكَ الْمَاءِ مُعْجِزٌ وَثَانِيهَا: أَنَّ اجْتِمَاعَ ذَلِكَ الْمَاءِ فَوْقَ كُلِّ طَرَفٍ مِنْهُ حَتَّى صَارَ كَالْجَبَلِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ أَيْضًا لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَمْتَنِعُ فِي الْمَاءِ الَّذِي أُزِيلَ بِذَلِكَ التَّفْرِيقِ أَنْ يُبَدِّدَهُ اللَّه تَعَالَى حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَلَمَّا جُمِعَ عَلَى الطَّرَفَيْنِ صَارَ مُؤَكِّدًا لِهَذَا الْإِعْجَازِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ مَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنَ الرِّيَاحِ وَالظُّلْمَةِ مَا حَيَّرَهُمْ فَاحْتَبَسُوا الْقَدْرَ الَّذِي يَتَكَامَلُ مَعَهُ عُبُورُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَهُوَ مُعْجِزٌ ثَالِثٌ وَرَابِعُهَا: أَنْ جَعَلَ اللَّه فِي تلك

الْجُدْرَانِ الْمَائِيَّةِ كُوًى يَنْظُرُ مِنْهَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَهُوَ مُعْجِزٌ رَابِعٌ وَخَامِسُهَا: أَنْ أَبْقَى اللَّه تَعَالَى تِلْكَ الْمَسَالِكَ حَتَّى قَرُبَ مِنْهَا آلُ فِرْعَوْنَ وَطَمِعُوا أَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنَ الْبَحْرِ كَمَا تَخَلَّصَ قَوْمُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ مُعْجِزٌ خَامِسٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَأَزْلَفْنا أَيْ وَقَرَّبْنَا ثَمَّ أَيْ حَيْثُ انْفَلَقَ الْبَحْرُ لِلْآخَرِينَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ ثَمَّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: قَرَّبْنَاهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَثَانِيهَا: قَرَّبْنَا بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَجَمَعْنَاهُمْ حَتَّى لَا يَنْجُوَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَثَالِثُهَا: قَدَّمْنَاهُمْ إِلَى الْبَحْرِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: وَأَزْلَفْنا أَيْ حَبَسْنَا فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ عِنْدَ طَلَبِهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ أَظْلَمْنَا عَلَيْهِمُ الدُّنْيَا بِسَحَابَةٍ وَقَفَتْ عَلَيْهِمْ فَوَقَفُوا حَيَارَى، وَقُرِئَ وَأَزْلَقْنَا بِالْقَافِ أَيْ أَزْلَلْنَا أَقْدَامَهُمْ/ وَالْمَعْنَى أَذْهَبْنَا عِزَّهُمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّه طَرِيقَهُمْ فِي الْبَحْرِ عَلَى خِلَافِ مَا جَعَلَهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ يَبَسًا وَأَزْلَقَهُمْ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ ذَلِكَ الْإِزْلَافَ إِلَى نَفْسِهِ مَعَ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ هُنَالِكَ فِي طَلَبِ مُوسَى كُفْرٌ أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ تَبِعُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى فَلَمَّا كَانَ مَسِيرُهُمْ بِتَدْبِيرِهِ وَهَؤُلَاءِ تَبِعُوا ذَلِكَ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ تَوَسُّعًا وَهَذَا كَمَا يَتْعَبُ أَحَدُنَا فِي طَلَبِ غُلَامٍ لَهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَتْعَبَنِي الْغُلَامُ لَمَّا حَدَثَ ذَلِكَ فَعَلَهُ الثَّانِي: قِيلَ: وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ أَيْ أَزْلَفْنَاهُمْ إِلَى الْمَوْتِ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَرُبُوا مِنْ أَجَلِهِمْ وَأَنْشَدَ: وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى أَوْ لَيْلَةٌ سَلَفَتْ ... فِيهَا النُّفُوسُ إِلَى الْآجَالِ تَزْدَلِفُ وَأَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَلُمَ عَنْهُمْ، وَتَرَكَ الْبَحْرَ لَهُمْ يَبَسًا وَطَمِعُوا فِي عُبُورِهِ جَازَتِ الْإِضَافَةُ كَالرَّجُلِ يَسْفَهُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ مِرَارًا فَيَحْلُمُ عَنْهُ، فَإِذَا تَمَادَى فِي غَيِّهِ وَأَرَاهُ قُدْرَتَهُ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ أَنَا أَحْوَجْتُكَ إِلَى هَذَا وَصَيَّرْتُكَ إِلَيْهِ بِحِلْمِي، لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ مَا فَعَلَ الثَّانِي: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَزْلَفَهُمْ أَيْ جَمْعَهُمْ لِيُغْرِقَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَلِكَيْ لَا يَصِلُوا إِلَى مُوسَى وَقَوْمِهِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ هَلْ لَهُ أَثْرٌ فِي اسْتِجْلَابِ دَاعِيَةِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِلَى الذَّهَابِ خَلْفَهُمْ أَوْ لَيْسَ لَهُ أَثَرٌ فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ لِأَنَّ لِفِعْلِ اللَّه تَعَالَى أَثَرًا فِي حُصُولِ الدَّاعِيَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِذَلِكَ الْإِزْلَافِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ أَثَرٌ الْبَتَّةَ فَقَدْ زَالَ التَّعَلُّقُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَحْسُنَ الْإِضَافَةُ، وَأَمَّا إِذَا تَعِبَ أَحَدُنَا فِي طَلَبِ غُلَامٍ لَهُ، فَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَتْعَبَنِي ذَلِكَ الْغُلَامُ لِمَا أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ الْغُلَامِ صَارَ كَالْمُؤَثِّرِ فِي حُصُولِ ذَلِكَ التَّعَبِ لِأَنَّهُ مَتَى فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَصِيرُ مَعْلُومًا لِلسَّيِّدِ، وَمَتَى عَلِمَهُ صَارَ عِلْمُهُ دَاعِيًا لَهُ إِلَى ذَلِكَ التَّعَبِ، وَمُؤَثِّرًا فِيهِ فَصَحَّتِ الْإِضَافَةُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَعِنْدَنَا الْقَادِرُ لَا يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ إِلَّا بِالدَّاعِي فَالدَّاعِي مُؤَثِّرٌ فِي صَيْرُورَةِ الْقَادِرِ مُؤَثِّرًا فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَا جَرَمَ حَسُنَتِ الْإِضَافَةُ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّهُ أَزْلَفَهُمْ لِيُغْرِقَهُمْ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَزْلَفَهُمْ بَلْ هُمْ بِأَنْفُسِهِمُ ازْدَلَفُوا ثُمَّ حَصَلَ الْغَرَقُ بَعْدَهُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ إِضَافَةُ هَذَا الْإِزْلَافِ إِلَى اللَّه تَعَالَى؟ أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ الدَّاعِيَةَ الْمُسْتَعْقِبَةَ لِذَلِكَ الِازْدِلَافِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّالِثِ وَهُوَ أَنَّ حِلْمَهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَحَمْلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَنَقُولُ ذَلِكَ الْحِلْمُ هَلْ لَهُ أَثَرٌ فِي اسْتِجْلَابِ هَذِهِ الدَّاعِيَةِ أَمْ لَا؟ وَبَاقِي التَّقْرِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالْجَوَابُ: عَنِ الرَّابِعِ هُوَ بِعَيْنِهِ الْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي واللَّه أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْبَحْرَ

[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 إلى 77]

يَبَسًا فِي حَقِّ مُوسَى وَقَوْمِهِ حَتَّى خَرَجُوا مِنْهُ وَأَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا تَكَامَلَ دُخُولُهُمُ الْبَحْرَ انْطَبَقَ الْمَاءُ عَلَيْهِمْ فَغَرِقُوا فِي ذَلِكَ الْمَاءِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً فَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي حَدَثَ فِي الْبَحْرِ آيَةٌ عَجِيبَةٌ مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ لِأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْبَشَرِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَعَلَى حِكْمَتِهِ مِنْ حَيْثُ وَقَعَ مَا كَانَ مَصْلَحَةً فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَعَلَى صِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حَيْثُ كَانَ مُعْجِزَةً لَهُ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الْمُعْتَبِرِينَ بِهِ أَبَدًا فَيَصِيرُ تَحْذِيرًا مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَأَمْرِ رَسُولِهِ، وَيَكُونُ فِيهِ اعْتِبَارٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ قَالَ عَقِيبَ ذَلِكَ: وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لَهُ فَقَدْ كَانَ يَغْتَمُّ بِتَكْذِيبِ قَوْمِهِ مَعَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَيْهِ فَنَبَّهَهُ اللَّه تَعَالَى بِهَذَا الذِّكْرِ عَلَى أَنَّ لَهُ أُسْوَةً بِمُوسَى وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ الَّذِي ظَهَرَ عَلَى مُوسَى مِنْ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الْعِظَامِ الَّتِي تَبْهَرُ الْعُقُولَ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ كَذَّبُوهُ وَكَفَرُوا بِهِ مَعَ مُشَاهَدَتِهِمْ لِمَا شَاهَدُوهُ فِي الْبَحْرِ وَغَيْرِهِ. فَكَذَلِكَ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ لَا تَعْجَبْ مِنْ تَكْذِيبِ أَكْثَرِهِمْ لَكَ وَاصْبِرْ عَلَى إِيذَائِهِمْ فَلَعَلَّهُمْ أَنْ يُصْلِحُوا وَيَكُونَ فِي هَذَا الصَّبْرِ تَأْكِيدُ الحجة عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فَتَعَلُّقُهُ بِمَا قَبْلَهُ أَنَّ الْقَوْمَ مَعَ مُشَاهَدَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الْبَاهِرَةِ كَفَرُوا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَزِيزًا قَادِرًا عَلَى أَنْ يُهْلِكَهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى مَا أَهْلَكَهُمْ بَلْ أَفَاضَ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعَ رَحْمَتِهِ فَدَلَّ ذَلِكَ على كمال رحمته وسعة جوده وفضله. [سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 77] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) القصة الثانية- قصة إبراهيم عليه السلام اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ شِدَّةَ حُزْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ كُفْرِ قَوْمِهِ/ ثُمَّ إِنَّهُ ذَكَرَ قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَعْرِفَ مُحَمَّدٌ أَنَّ مِثْلَ تِلْكَ الْمِحْنَةِ كَانَتْ حَاصِلَةً لِمُوسَى: ثُمَّ ذَكَرَ عَقِبَهَا قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَعْرِفَ مُحَمَّدٌ أَيْضًا أَنَّ حُزْنَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذَا السَّبَبِ كَانَ أَشَدَّ مِنْ حُزْنِهِ، لِأَنَّ مِنْ عَظِيمِ الْمِحْنَةِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَرَى أَبَاهُ وَقَوْمَهُ فِي النَّارِ وَهُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِنْقَاذِهِمْ إِلَّا بِقَدْرِ الدُّعَاءِ وَالتَّنْبِيهِ فَقَالَ لَهُمْ: مَا تَعْبُدُونَ

وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ عَبَدَةُ أَصْنَامٍ وَلَكِنَّهُ سَأَلَهُمُ لِيُرِيَهُمْ أَنَّ مَا يَعْبُدُونَهُ لَيْسَ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ فِي شَيْءٍ كَمَا تَقُولُ لِتَاجِرِ الرَّقِيقِ مَا مَالُكَ؟ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مَالَهُ الرَّقِيقُ، ثُمَّ تَقُولُ: الرَّقِيقُ جَمَالٌ وَلَيْسَ بِمَالٍ. فَأَجَابُوا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِمْ: نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ وَالْعُكُوفُ: الْإِقَامَةُ عَلَى الشَّيْءِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: فَنَظَلُّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ يَكْفِيهِمْ فِي الْجَوَابِ أَنْ يَقُولُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا، وَلَكِنَّهُمْ ضَمُّوا إِلَيْهِ زِيَادَةً عَلَى الْجَوَابِ وَهِيَ قَوْلُهُمْ: فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ وَإِنَّمَا ذَكَرُوا هَذِهِ الزِّيَادَةَ إِظْهَارًا لِمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الِابْتِهَاجِ وَالِافْتِخَارِ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُنَبِّهًا عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِهِمْ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : لَا بُدَّ فِي يَسْمَعُونَكُمْ مِنْ تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ مَعْنَاهُ هَلْ يَسْمَعُونَ دُعَاءَكُمْ وَقَرَأَ قَتَادَةُ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ أَيْ هَلْ يُسْمِعُونَكُمُ الْجَوَابَ عَنْ دُعَائِكُمْ وَهَلْ يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْحُجَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ مَنْ يَعْبُدُ غَيْرَهُ أَنْ يَلْتَجِئَ إِلَيْهِ فِي المسألة لِيَعْرِفَ مُرَادَهُ إِذَا سَمِعَ دُعَاءَهُ ثُمَّ يَسْتَجِيبَ لَهُ فِي بَذْلِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ، فَقَالَ لَهُمْ فَإِذَا كَانَ مَنْ تَعْبُدُونَهُ لَا يَسْمَعُ دُعَاءَكُمْ حَتَّى يَعْرِفَ مَقْصُودَكُمْ، وَلَوْ عَرَفَ ذَلِكَ لَمَا صَحَّ أَنْ يَبْذُلَ النَّفْعَ أَوْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ فَكَيْفَ تَسْتَجِيزُونَ أَنْ تَعْبُدُوا مَا هَذَا وَصْفُهُ؟ فَعِنْدَ هَذِهِ الحجة الْقَاهِرَةِ لَمْ يَجِدْ أَبُوهُ وَقَوْمُهُ مَا يَدْفَعُونَ بِهِ هَذِهِ الحجة فَعَدَلُوا إِلَى أَنْ قَالُوا: وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ التَّقْلِيدِ وَوُجُوبِ التَّمَسُّكِ بِالِاسْتِدْلَالِ، إِذْ لَوْ قَلَبْنَا الْأَمْرَ فَمَدَحْنَا التَّقْلِيدَ وَذَمَمْنَا الِاسْتِدْلَالَ لَكَانَ ذَلِكَ مَدْحًا لِطَرِيقَةِ الْكُفَّارِ الَّتِي ذَمَّهَا اللَّه تَعَالَى وَذَمًّا لِطَرِيقَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّتِي مَدَحَهَا اللَّه تعالى فأجابهم إبراهيم عليه السلام بقوله: أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْبَاطِلَ لَا يَتَغَيَّرُ بِأَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَوْ حَدِيثًا، وَلَا بِأَنْ يَكُونَ فِي فَاعِلِيهِ كَثْرَةٌ أَوْ قِلَّةٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ فَفِيهِ أَسْئِلَةٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَكُونُ الصَّنَمُ عَدُوًّا مَعَ أَنَّهُ جَمَادٌ؟ جَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: «1» أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [82] فِي صِفَةِ الْأَوْثَانِ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا فَقِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ إِنَّ اللَّه يُحْيِي مَا عَبَدُوهُ مِنَ الْأَصْنَامِ حَتَّى يَقَعَ مِنْهُمُ التَّوْبِيخُ لَهُمْ وَالْبَرَاءَةُ مِنْهُمْ، فَعَلَى هَذَا الوجه أَنَّ الْأَوْثَانَ سَتَصِيرُ أَعْدَاءً لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ فَأَطْلَقَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَفْظَ الْعَدَاوَةِ عَلَيْهِمْ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا عَبَدُوهَا وَعَظَّمُوهَا وَرَجَوْهَا فِي طَلَبِ/ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الْأَحْيَاءِ الْعُقَلَاءِ فِي اعْتِقَادِ الْكُفَّارِ، ثُمَّ إِنَّهَا صَارَتْ أَسْبَابًا لِانْقِطَاعِ الْإِنْسَانِ عَنِ السَّعَادَةِ وَوُصُولِهِ إِلَى الشَّقَاوَةِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ مَنْزِلَةَ الْأَحْيَاءِ وَجَرَتْ مَجْرَى الدَّافِعِ لِلْمَنْفَعَةِ وَالْجَالِبِ لِلْمَضَرَّةِ لَا جَرَمَ جَرَتْ مَجْرَى الْأَعْدَاءِ، فَلَا جَرَمَ أَطْلَقَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عليها لفظ العدو وثالثها: المراد في قَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي عَدَاوَةُ مَنْ يَعْبُدُهَا، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ لَمْ يَقُلْ إِنَّ مَنْ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ عَدُوٌّ لِي لِيَكُونَ الْكَلَامُ حَقِيقَةً؟ جَوَابُهُ: لِأَنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَا عَبَدُوهُ دُونَ الْعَابِدِينَ. السُّؤَالُ الْثَّانِي: لِمَ قَالَ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي وَلَمْ يَقُلْ فَإِنَّهَا عَدُوٌّ لَكُمْ؟ جَوَابُهُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَوَّرَ المسألة فِي نَفْسِهِ عَلَى مَعْنَى إِنِّي فَكَّرْتُ فِي أَمْرِي فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو فاجتنبتها، [وآثرت عبادة من الخير كله

_ (1) الصواب أن يقال: من وجوه لا من وجهين، لأن الوجوه التي ذكرها ثلاثة.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 78 إلى 82]

منه] وأراهم [بذلك] «1» أَنَّهَا نَصِيحَةٌ نَصَحَ بِهَا نَفْسَهُ، فَإِذَا تَفَكَّرُوا قَالُوا مَا نَصَحَنَا إِبْرَاهِيمُ إِلَّا بِمَا نَصَحَ بِهِ نَفْسَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَدْعَى لِلْقَبُولِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ فَإِنَّهُمْ أَعْدَائِي؟ جَوَابُهُ الْعَدُوُّ وَالصَّدِيقُ يَجِيئَانِ فِي مَعْنَى الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ، قَالَ: وَقَوْمٍ عَلَيَّ ذَوِي (مِرَّةٍ) «2» ... أَرَاهُمْ عَدُوًّا وَكَانُوا صَدِيقًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الكهف: 50] وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 16] . السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ؟ جَوَابُهُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ كَأَنَّهُ قَالَ لَكِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ. [سورة الشعراء (26) : الآيات 78 الى 82] الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَثْنَى رَبَّ الْعَالَمِينَ، حَكَى عَنْهُ أَيْضًا مَا وَصَفَهُ بِهِ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ لِأَجْلِهِ، ثُمَّ حَكَى عَنْهُ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ، أَمَّا الْأَوْصَافُ فَأَرْبَعَةٌ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الْأَعْلَى: 2، 3] وَاعْلَمْ أن الخلق والهداية مهما يَحْصُلُ جَمِيعُ الْمَنَافِعِ لِكُلِّ مَنْ يَصِحُّ الِانْتِفَاعُ عَلَيْهِ، فَلْنَتَكَلَّمْ فِي الْإِنْسَانِ فَنَقُولُ إِنَّهُ مَخْلُوقٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ «3» هُوَ مِنْ عَالَمِ الْخَلْقِ وَالْجُسْمَانِيَّاتِ، وَمَنْ قَالَ «4» هُوَ مِنْ عَالَمِ الْأَمْرِ وَالرُّوحَانِيَّاتِ، وَتَرْكِيبُ الْبَدَنِ الَّذِي هُوَ مِنْ عَالَمِ الْخَلْقِ مُقَدَّمٌ عَلَى إِعْطَاءِ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مِنْ عَالَمِ/ الْأَمْرِ عَلَى مَا أَخْبَرَ عَنْهُ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص: 72] فَالتَّسْوِيَةُ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْدِيلِ الْمِزَاجِ وَتَرْكِيبِ الْأَمْشَاجِ، وَنَفْخُ الرُّوحِ إِشَارَةٌ إِلَى اللَّطِيفَةِ الرَّبَّانِيَّةِ النُّورَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ عَالَمِ الْأَمْرِ، وَأَيْضًا قَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 12] وَلَمَّا تَمَّمَ مَرَاتِبَ تَغَيُّرَاتِ الْأَجْسَامِ قَالَ: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [الْمُؤْمِنُونَ: 14] وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الرُّوحِ الَّذِي هُوَ مِنْ عَالَمِ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْهِدَايَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ مِنَ الرُّوحِ، فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْخَلْقَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْهِدَايَةِ. أَمَّا تَحْقِيقُهُ بِحَسَبِ الْمَبَاحِثِ الْحَقِيقِيَّةِ، فَهُوَ أَنَّ بَدَنَ الْإِنْسَانِ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ عند امتزاج المني بدم الطمث،

_ (1) زيادة من الكشاف 3/ 116 ط. دار الفكر. (2) في الكشاف (مئرة) . (3) في الأصل (فمنهم من قالب) . (4) في الأصل (من قلب) .

وَهُمَا إِنَّمَا يَتَوَلَّدَانِ مِنَ الْأَغْذِيَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مَنْ تَرَكُّبِ الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةَ وَتَفَاعُلِهَا، فَإِذَا امْتَزَجَ الْمَنِيُّ بِالدَّمِ فَلَا يَزَالُ مَا فِيهَا مِنَ الْحَارِّ وَالْبَارِدِ وَالرَّطْبِ وَالْيَابِسِ مُتَفَاعِلًا، وَمَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنَ الْقُوَى كَاسِرًا سَوْرَةَ كَيْفِيَّةِ الْآخَرِ، فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ مِنْ تَفَاعُلِهِمَا كَيْفِيَّةً مُتَوَسِّطَةً تَسْتَحِرُّ بِالْقِيَاسِ إِلَى الْبَارِدِ وَتَسْتَبْرِدُ بِالْقِيَاسِ إِلَى الْحَارِّ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الِاسْتِعْدَادُ لِقَبُولِ قُوًى مُدَبِّرَةٍ لِذَلِكَ الْمُرَكَّبِ فَبَعْضُهَا قُوًى نَبَاتِيَّةٌ وَهِيَ الَّتِي تَجْذِبُ الْغِذَاءَ، ثُمَّ تُمْسِكُهُ ثُمَّ تَهْضِمُهُ ثُمَّ تَدْفَعُ الْفَضْلَةَ الْمُؤْذِيَةَ، ثُمَّ تُقِيمُ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ بَدَلَ مَا تَحَلَّلَ مِنْهَا، ثُمَّ تَزِيدُ فِي جَوْهَرِ الْأَعْضَاءِ طُولًا وَعَرْضًا، ثُمَّ يَفْضُلُ عَنْ تِلْكَ الْمَوَادِّ فَضْلَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَلَّدَ عَنْهَا مِثْلُ ذَلِكَ، وَمِنْهَا قُوًى حَيَوَانِيَّةٌ بَعْضُهَا مُدْرِكَةٌ كَالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ وَالْخَيَالِ وَالْحِفْظِ وَالذِّكْرِ، وَبَعْضُهَا فَاعِلَةٌ: إِمَّا آمِرَةٌ كَالشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ أَوْ مَأْمُورَةٌ كَالْقُوَى الْمَرْكُوزَةِ فِي الْعَضَلَاتِ، وَمِنْهَا قُوًى إِنْسَانِيَّةٌ وَهِيَ إِمَّا مُدْرِكَةٌ أَوْ عَامِلَةٌ، وَالْقُوَى الْمُدْرِكَةُ هِيَ الْقُوَى الْقَوِيَّةُ عَلَى إِدْرَاكِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْجُسْمَانِيَّةِ وَالْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّكَ إِذَا فَتَّشْتَ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ مُرَكَّبَاتِ هَذَا الْعَالِمِ الْجُسْمَانِيِّ، وَمُفْرَدَاتِهَا وَجَدْتَ لَهَا أَشْيَاءَ تُلَائِمُهَا وَتُكْمِلُ حَالَهَا وَأَشْيَاءَ تُنَافِرُهَا وَتُفْسِدُ حَالَهَا، وَوَجَدْتَ فِيهَا قُوًى جَذَّابَةً للملائم دفاعة لِلْمُنَافِي، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ صَلَاحَ الْحَالِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْخَلْقِ وَالْهِدَايَةِ. أَمَّا الْخَلْقُ فَبِتَصْيِيرِهِ مَوْجُودًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَعْدُومًا، وَأَمَّا الْهِدَايَةُ فَبِتِلْكَ الْقُوَى الْجَذَّابَةِ لِلْمَنَافِعِ والدفاعة لِلْمَضَارِّ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ حَاوِيَةٌ لِجَمِيعِ الْمَنَافِعِ فِي الدُّنْيَا والدين، ثم هاهنا دَقِيقَةٌ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: خَلَقَنِي فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَقَالَ: يَهْدِينِ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ خَلْقَ الذَّاتِ لَا يَتَجَدَّدُ فِي الدُّنْيَا، بَلْ لَمَّا وَقَعَ بَقِيَ إِلَى الْأَمَدِ الْمَعْلُومِ. أَمَّا هِدَايَتُهُ تَعَالَى فَهِيَ مِمَّا يَتَكَرَّرُ كُلَّ حِينٍ وَأَوَانٍ سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ هِدَايَةً فِي الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنَّ تَحَكُّمَ الْحَوَاسِّ بِتَمْيِيزِ الْمَنَافِعِ عَنِ الْمَضَارِّ أَوْ فِي الْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَحْكُمَ الْعَقْلِ بِتَمْيِيزِ الْحَقِّ عَنِ الْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ عَنِ الشَّرِّ، فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ بِسَائِرِ مَا تَكَامَلَ بِهِ خَلْقُهُ فِي الْمَاضِي دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَأَنَّهُ يَهْدِيهِ إِلَى مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِضُرُوبِ الْهِدَايَاتِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَلَمْحَةٍ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَقَدْ دَخَلَ فِيهِ كُلُّ مَا يَتَّصِلُ بِمَنَافِعِ الرِّزْقِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِذَا خَلَقَ لَهُ الطَّعَامَ وَمَلَّكَهُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ أَكْلِهِ وَالِاغْتِذَاءِ بِهِ نَحْوَ الشَّهْوَةِ وَالْقُوَّةِ/ وَالتَّمْيِيزِ لَمْ تَكْمُلْ هَذِهِ النِّعْمَةُ، وَذَكَرَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَنَبَّهَ بِذِكْرِهِمَا عَلَى مَا عَدَاهُمَا وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ لِمَ قَالَ: مَرِضْتُ دُونَ أَمْرَضَنِي؟ وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَسْبَابِ الْمَرَضِ يَحْدُثُ بِتَفْرِيطٍ مِنَ الْإِنْسَانِ فِي مَطَاعِمِهِ وَمَشَارِبِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَتِ الْحُكَمَاءُ: لَوْ قِيلَ لَأَكْثَرِ الْمَوْتَى مَا سَبَبُ آجَالِكُمْ؟ لَقَالُوا التُّخَمُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَرَضَ إِنَّمَا يَحْدُثُ بِاسْتِيلَاءِ بَعْضِ الْأَخْلَاطِ عَلَى بَعْضٍ، وَذَلِكَ الِاسْتِيلَاءُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ مَا بَيْنَهَا مِنَ التَّنَافُرِ الطَّبِيعِيِّ. أَمَّا الصِّحَّةُ فَهِيَ إِنَّمَا تَحْصُلُ عِنْدَ بَقَاءِ الْأَخْلَاطِ عَلَى اعْتِدَالِهَا وَبَقَاؤُهَا عَلَى اعْتِدَالِهَا، إِنَّمَا يَكُونُ بِسَبَبٍ قَاهِرٍ يَقْهَرُهَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ، وَعَوْدُهَا إِلَى الصِّحَّةِ إِنَّمَا يَكُونُ أَيْضًا بِسَبَبٍ قَاهِرٍ يَقْهَرُهَا عَلَى الْعَوْدِ إِلَى الِاجْتِمَاعِ والاعتدال بعد أن كانت بطباعها مُشْتَاقَةً إِلَى التَّفَرُّقِ وَالنِّزَاعِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَضَافَ الشِّفَاءَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمَا أَضَافَ الْمَرَضَ إِلَيْهِ وَثَالِثُهَا: وَهُوَ أَنَّ الشِّفَاءَ مَحْبُوبٌ وَهُوَ من أصول النعم، والمرض مكروه وليس من النِّعَمِ، وَكَانَ مَقْصُودُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعْدِيدَ النِّعَمِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْمَرَضُ مِنَ النِّعَمِ لَا جَرَمَ لَمْ يُضِفْهُ إِلَيْهِ تَعَالَى، فَإِنْ نَقَضْتَهُ بِالْإِمَاتَةِ فَجَوَابُهُ: أَنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ بِضَرَرٍ، لِأَنَّ شَرْطَ كَوْنِهِ ضَرَرًا وُقُوعُ الْإِحْسَاسِ بِهِ، وَحَالَ حُصُولِ الْمَوْتِ لَا يَقَعُ الْإِحْسَاسُ بِهِ، إِنَّمَا الضَّرَرُ فِي مُقَدِّمَاتِهِ وَذَلِكَ هُوَ عَيْنُ الْمَرَضِ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ إِذَا كَمُلَتْ فِي

الْعُلُومِ وَالْأَخْلَاقِ كَانَ بَقَاؤُهَا فِي هَذِهِ الْأَجْسَادِ عَيْنَ الضَّرَرِ وَخُلَاصَتُهَا عَنْهَا عَيْنَ السَّعَادَةِ بِخِلَافِ الْمَرَضِ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْإِمَاتَةُ فِي الدُّنْيَا وَالتَّخَلُّصُ عَنْ آفَاتِهَا وَعُقُوبَاتِهَا، وَالْمُرَادُ مِنَ الْإِحْيَاءِ الْمُجَازَاةُ وَخَامِسُهَا: قَوْلِهِ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا هُوَ مَطْلُوبُ كُلِّ عَاقِلٍ مِنَ الْخَلَاصِ عَنِ الْعَذَابِ وَالْفَوْزِ بِالثَّوَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ جَمِيعَ نِعَمِ اللَّه تَعَالَى مِنْ أَوَّلِ الْخَلْقِ إِلَى آخِرِ الْأَبَدِ في الدار الآخرة، ثم هاهنا أَسْئِلَةٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ: وَالَّذِي أَطْمَعُ وَالطَّمَعُ عِبَارَةٌ عَنِ الظَّنِّ وَالرَّجَاءِ، وَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَاطِعًا بِذَلِكَ؟ جَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِنَا، حَيْثُ قُلْنَا إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّه لِأَحَدٍ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ يَحْسُنُ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ، وَأَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلِهِ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي أَرَادَ بِهِ سَائِرَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَطْمَعُونَ وَلَا يَقْطَعُونَ بِهِ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنَ الطَّمَعِ الْيَقِينُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ وَأَجَابَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : بِأَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَهُ عَلَى هَذَا الوجه تَعْلِيمًا مِنْهُ لِأُمَّتِهِ كَيْفِيَّةَ الدُّعَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ ضَعِيفَةٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ اللَّه تَعَالَى حَكَى عَنْهُ الثَّنَاءَ أَوَّلًا وَالدُّعَاءَ ثَانِيًا وَمِنْ أَوَّلِ الْمَدْحِ إِلَى آخِرِ الدُّعَاءِ كَلَامُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَجَعَلَ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ وَهُوَ قَوْلِهِ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ كَلَامَ غَيْرِهِ مِمَّا يُبْطِلُ نَظْمَ الْكَلَامِ وَيُفْسِدُهُ، وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الطَّمَعَ هُوَ الْيَقِينُ فَهَذَا عَلَى خِلَافِ اللُّغَةِ، وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ تَعْلِيمُ/ الْأُمَّةِ فَبَاطِلٌ أَيْضًا لِأَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّهُ كَذَبَ عَلَى نَفْسِهِ لِغَرَضِ تَعْلِيمِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ أَسْنَدَ إِلَى نَفْسِهِ الْخَطِيئَةَ مَعَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مُنَزَّهُونَ عَنِ الْخَطَايَا قَطْعًا؟ وَفِي جَوَابِهِ ثَلَاثَةُ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى كَذِبِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: 63] وَقَوْلِهِ: إِنِّي سَقِيمٌ [الصَّافَّاتِ: 89] وَقَوْلِهِ لِسَارَّةَ: (إِنَّهَا أُخْتِي) وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ نِسْبَةَ الْكَذِبِ إِلَيْهِ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ وَهَضْمِ النَّفْسِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا فِي هَذَا التَّوَاضُعِ فَقَدْ لَزِمَ الْإِشْكَالُ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ حَاصِلُ الْجَوَابِ إِلَى إِلْحَاقِ الْمَعْصِيَةِ بِهِ لِأَجْلِ تَنْزِيهِهِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَثَالِثُهَا: وَهُوَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى، وَقَدْ يُسَمَّى ذَلِكَ خَطَأً فَإِنَّ مَنْ مَلَكَ جَوْهَرَةً وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَبِيعَهَا بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ فَإِنْ بَاعَهَا بِدِينَارٍ، قِيلَ إِنَّهُ أَخْطَأَ، وَتَرْكُ الْأَوْلَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ جَائِزٌ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ عَلَّقَ مَغْفِرَةَ الْخَطِيئَةِ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَإِنَّمَا تُغْفَرُ فِي الدُّنْيَا؟ جَوَابُهُ: لِأَنَّ أَثَرَهَا يَظْهَرُ يَوْمَ الدِّينِ وَهُوَ الْآنَ خَفِيٌّ لَا يُعْلَمُ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا فَائِدَةُ (لِي) فِي قَوْلِهِ: يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي؟ وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَبَ إِذَا عَفَا عَنْ وَلَدِهِ وَالسَّيِّدَ عَنْ عَبْدِهِ وَالزَّوْجَ عَنْ زَوْجَتِهِ فَذَلِكَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ إِنَّمَا يَكُونُ طَلَبًا لِلثَّوَابِ وَهَرَبًا عَنِ الْعِقَابِ أَوْ طَلَبًا لِحُسْنِ الثَّنَاءِ وَالْمَحْمَدَةِ أَوْ دَفْعًا لِلْأَلَمِ الْحَاصِلِ مِنَ الرِّقَّةِ الْجِنْسِيَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْعَفْوِ رِعَايَةَ جَانِبِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ بَلْ رِعَايَةَ جَانِبِ نَفْسِهِ، إِمَّا لِتَحْصِيلِ مَا يَنْبَغِي أَوْ لِدَفْعِ مَا لَا يَنْبَغِي، أَمَّا الْإِلَهُ

[سورة الشعراء (26) : الآيات 83 إلى 89]

سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ كَامِلٌ لِذَاتِهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَحْدُثَ له كَمَالٍ لَمْ تَكُنْ أَوْ يَزُولَ عَنْهُ نُقْصَانٌ كَانَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَفْوُهُ إِلَّا رِعَايَةً لِجَانِبِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ فَقَوْلُهُ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي يَعْنِي هُوَ الَّذِي إِذَا غَفَرَ كَانَ غُفْرَانُهُ لِي وَلِأَجْلِي لَا لِأَجْلِ أَمْرٍ عَائِدٍ إِلَيْهِ الْبَتَّةَ وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ قَالَ خَلَقْتَنِي لَا لِي فَإِنَّكَ حِينَ خَلَقْتَنِي مَا كُنْتُ مَوْجُودًا وَإِذَا لَمْ أَكُنْ مَوْجُودًا اسْتَحَالَ تَحْصِيلُ شَيْءٍ لِأَجْلِي ثُمَّ مَعَ هَذَا فَأَنْتَ خَلَقْتَنِي، أَمَّا لَوْ عَفَوْتَ كَانَ ذَلِكَ الْعَفْوُ لَأَجْلِي، فَلَمَّا خَلَقْتَنِي أَوَّلًا مَعَ أَنِّي كُنْتُ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ الْخَلْقِ فَلِأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَعْفُوَ عَنِّي حَالَ مَا أَكُونُ فِي أَشَدِّ الْحَاجَةِ إِلَى الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ كَانَ أَوْلَى وَثَالِثُهَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ لِشِدَّةِ اسْتِغْرَاقِهِ فِي بَحْرِ الْمَعْرِفَةِ شَدِيدَ الْفِرَارِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْوَسَائِطِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا» فَهَهُنَا قَالَ: أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ أَيْ لِمُجَرَّدِ عُبُودِيَّتِي لَكَ وَاحْتِيَاجِي إِلَيْكَ تَغْفِرُ لِي خَطِيئَتِي لَا أن تغفرها لي بواسطة شفاعة شافع. [سورة الشعراء (26) : الآيات 83 الى 89] رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) [البحث الأول] اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَنَاءَهُ عَلَى اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ دُعَاءَهُ وَمَسْأَلَتَهُ وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الثَّنَاءِ عَلَى الدُّعَاءِ مِنَ الْمُهِمَّاتِ وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ فَكُلَّمَا كَانَ اشْتِغَالُهَا بِمَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَمَحَبَّتِهِ وَالِانْجِذَابُ إِلَى عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ أَشَدَّ كَانَتْ مُشَاكَلَتُهَا لِلْمَلَائِكَةِ أَتَمَّ، فَكَانَتْ أَقْوَى عَلَى التَّصَرُّفِ فِي أَجْسَامِ هَذَا الْعَالَمِ، وَكُلَّمَا كَانَ اشْتِغَالُهَا بِلَذَّاتِ هَذَا الْعَالَمِ وَاسْتِغْرَاقُهَا فِي ظُلُمَاتِ هَذِهِ الْجُسْمَانِيَّاتِ أَشَدَّ كَانَتْ مُشَاكَلَتُهَا لِلْبَهَائِمِ أَشَدَّ فَكَانَتْ أَكْثَرَ عَجْزًا وَضَعْفًا وَأَقَلَّ تَأْثِيرًا فِي هَذَا الْعَالَمِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالدُّعَاءِ يَجِبُ أَنْ يُقَدِّمَ عَلَيْهِ ثَنَاءَ اللَّه تَعَالَى وَذِكْرَ عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ حَتَّى أَنَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الذِّكْرِ يَصِيرُ مُسْتَغْرِقًا فِي مَعْرِفَةِ اللَّه وَمَحَبَّتِهِ وَيَصِيرُ قَرِيبَ الْمُشَاكَلَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَتَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ تِلْكَ الْمُشَاكَلَةِ قُوَّةٌ إِلَهِيَّةٌ سَمَاوِيَّةٌ فَيَصِيرُ مَبْدَأً لِحُدُوثِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ الْمَطْلُوبُ بِالدُّعَاءِ فَهَذَا هُوَ الْكَشْفُ عَنْ مَاهِيَّةِ الدُّعَاءِ وَظَهَرَ أَنَّ تَقْدِيمَ الثَّنَاءِ عَلَى الدُّعَاءِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَظَهَرَ بِهِ تَحْقِيقُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِكَايَةً عَنِ اللَّه تَعَالَى: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَ لَمْ يَقْتَصِرْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الثَّنَاءِ، لَا سِيَّمَا وَيُرْوَى عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ حِينَ كَانَ مُشْتَغِلًا بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: 77] ثُمَّ ذَكَرَ الثَّنَاءَ، ثُمَّ ذَكَرَ الدُّعَاءَ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَعْلِيمِ الشَّرْعِ، فَأَمَّا حِينَ مَا خَلَا بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَكُنْ غَرَضُهُ تَعْلِيمَ الشَّرْعِ كَانَ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي.

الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي الْأُمُورِ الَّتِي طَلَبَهَا فِي الدُّعَاءِ وَهِيَ مَطَالِيبُ: الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وَلَقَدْ أَجَابَهُ اللَّه تَعَالَى حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [الْبَقَرَةِ: 130] وَفِيهِ مَطَالِبُ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ الْحُكْمِ بِالنُّبُوَّةِ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ كَانَتْ حَاصِلَةً فَلَوْ طَلَبَ النُّبُوَّةَ لَكَانَتِ النُّبُوَّةُ الْمَطْلُوبَةُ، إِمَّا عَيْنَ النُّبُوَّةِ الْحَاصِلَةَ أَوْ غَيْرَهَا، وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، وَالثَّانِي مُحَالٌ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ نَبِيًّا مَرَّتَيْنِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنَ الْحُكْمِ مَا هُوَ كَمَالُ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، وَذَلِكَ بِإِدْرَاكِ الْحَقِّ وَمِنْ قَوْلِهِ/ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ كَمَالُ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ عَامِلًا بِالْخَيْرِ فَإِنَّ كَمَالَ الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ، وَالْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ قَوْلَهُ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً عَلَى قَوْلِهِ: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ لِمَا أَنَّ الْقُوَّةَ النَّظَرِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ بِالشَّرَفِ وَبِالذَّاتِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْلَمَ الْحَقَّ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْخَيْرِ وَعَكْسُهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ صِفَةُ الرُّوحِ وَالْعَمَلَ صِفَةُ الْبَدَنِ، وَلَمَّا كَانَ الرُّوحُ أَشْرَفَ مِنَ الْبَدَنِ كَانَ الْعِلْمُ أَفْضَلَ مِنَ الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا مَعْرِفَةَ الْأَشْيَاءِ بِالْحُكْمِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْرِفُ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا إِذَا اسْتَحْضَرَ فِي ذِهْنِهِ صُوَرَ الْمَاهِيَّاتِ، ثُمَّ نَسَبَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ بِالنَّفْيِ أَوْ بِالْإِثْبَاتِ، وَتِلْكَ النِّسْبَةُ وَهِيَ الْحُكْمُ، ثُمَّ إِنْ كَانَتِ النِّسَبُ الذِّهْنِيَّةُ مُطَابِقَةً لِلنِّسَبِ الْخَارِجِيَّةِ كَانَتِ النِّسَبُ الذِّهْنِيَّةُ مُمْتَنِعَةَ التَّغَيُّرِ فَكَانَتْ مُسْتَحْكِمَةً قَوِيَّةً، فَمِثْلُ هَذَا الْإِدْرَاكِ يُسَمَّى حكمة حكما، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَرِنَا الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ» وَأَمَّا الصَّلَاحُ فَهُوَ كَوْنُ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ رَذِيلَتِيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِفْرَاطَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ تَفْرِيطٌ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ وَبِالْعَكْسِ فَالصَّلَاحُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالِاعْتِدَالِ، وَلَمَّا كَانَ الِاعْتِدَالُ الْحَقِيقِيُّ شَيْئًا وَاحِدًا لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ الْبَتَّةَ وَالْأَفْكَارُ الْبَشَرِيَّةُ فِي هَذَا الْعَالَمِ قَاصِرَةً عَلَى إِدْرَاكِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، لَا جَرَمَ لَا يَنْفَكُّ الْبَشَرُ عَنِ الْخُرُوجِ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِّ وَإِنْ قَلَّ، إِلَّا أَنَّ خُرُوجَ الْمُقَرَّبِينَ عَنْهُ يَكُونُ فِي الْقِلَّةِ بِحَيْثُ لَا يُحَسُّ بِهِ وَخُرُوجُ الْعُصَاةِ عَنْهُ يَكُونُ مُتَفَاحِشًا جِدًّا فَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا تَحْقِيقُ مَا قِيلَ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، وَظَهَرَ احْتِيَاجُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنْ يَقُولَ: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ. الْمَطْلَبُ الثَّانِي: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْحُكْمِ الْعِلْمُ، ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ مِنَ اللَّه أَنْ يُعْطِيَهُ الْعِلْمَ باللَّه تَعَالَى وَبِصِفَاتِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّه تَعَالَى لَا تَحْصُلُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَ العبد صالحا ليس إلا بخلق اللَّه وَحَمْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْأَلْطَافِ بَعِيدٌ، لِأَنَّ عِنْدَ الْخَصْمِ كُلَّ مَا فِي قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْأَلْطَافِ فَقَدْ فَعَلَهُ فَلَوْ صَرَفْنَا الدُّعَاءَ إِلَيْهِ لَكَانَ ذَلِكَ طَلَبًا لِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَهُوَ فَاسِدٌ. الْمَطْلَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْحُكْمَ الْمَطْلُوبَ فِي الدُّعَاءِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعِلْمَ باللَّه أَوْ بِغَيْرِهِ وَالثَّانِي بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ حَالَ كَوْنِهِ مُسْتَحْضِرًا لِلْعِلْمِ بِشَيْءٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحْضِرًا لِلْعِلْمِ بِشَيْءٍ آخَرَ فَلَوْ كَانَ الْمَطْلُوبُ بِهَذَا الدُّعَاءِ الْعِلْمَ بِغَيْرِ اللَّه تَعَالَى، وَالْعِلْمُ بِغَيْرِ اللَّه تَعَالَى شَاغِلٌ عَنِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي الْعِلْمِ باللَّه كَانَ هَذَا السُّؤَالُ طَلَبًا لِمَا يَشْغَلُهُ عَنِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي الْعِلْمِ باللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ لَا كَمَالَ فَوْقَ ذَلِكَ الِاسْتِغْرَاقِ فَإِذَنِ الْمَطْلُوبُ بِهَذَا الدُّعَاءِ هُوَ الْعِلْمُ باللَّه، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعِلْمَ باللَّه تَعَالَى الَّذِي هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِيمَانِ أَوْ غَيْرُهُ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا لِكُلِّ الْمُؤْمِنِينَ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ حَاصِلًا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ

السَّلَامُ، وَإِذَا كَانَ حَاصِلًا عِنْدَهُ امْتَنَعَ طَلَبُ تَحْصِيلِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِهَذَا الدُّعَاءِ دَرَجَاتٌ فِي مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى أَزْيَدُ مِنَ الْعِلْمِ/ بِوُجُودِهِ وَبِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ وَلَا حَالٍّ فِي الْمُتَحَيِّزِ وَبِأَنَّهُ عَالَمٌ قَادِرٌ حَيٌّ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا الْوُقُوفُ عَلَى صِفَاتِ الْجَلَالِ أَوِ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَةِ الذَّاتِ أَوْ ظُهُورُ نُورِ تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ فِي الْقَلْبِ. ثُمَّ هُنَاكَ أَحْوَالٌ لَا يُعَبِّرُ عَنْهَا الْمَقَالُ وَلَا يَشْرَحُهَا الْخَيَالُ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا فَلْيَكُنْ مِنَ الْوَاصِلِينَ إِلَى الْعَيْنِ، دُونَ السَّامِعِينَ لِلْأَثَرِ. الْمَطْلُوبُ الثَّانِي: قَوْلِهِ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وفيه ثلاثة تَأْوِيلَاتٍ: التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ابْتَدَأَ بِطَلَبِ مَا هُوَ الْكَمَالُ الذَّاتِيُّ لِلْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ طَلَبُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ، ثُمَّ طَلَبَ بَعْدَهُ كِمَالَاتِ الدُّنْيَا وَبَعْدَ ذَلِكَ طَلَبَ كِمَالَاتِ الْآخِرَةِ، فَأَمَّا كِمَالَاتُ الدُّنْيَا فَبَعْضُهَا دَاخِلِيَّةٌ وَبَعْضُهَا خَارِجِيَّةٌ، أَمَّا الدَّاخِلِيَّةُ فَهِيَ الْخَلْقُ الظَّاهِرُ وَالْخَلْقُ الْبَاطِنُ وَالْخَلْقُ الظَّاهِرُ أَشَدُّ جُسْمَانِيَّةً وَالْخَلْقُ الْبَاطِنُ أَشَدُّ رُوحَانِيَّةً، فَتَرَكَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْأَمْرَ الْجُسْمَانِيَّ وَهُوَ الْخَلْقُ الظَّاهِرُ وَطَلَبَ الْأَمْرَ الرُّوحَانِيَّ وَهُوَ الْخَلْقُ الْبَاطِنُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَأَمَّا الْخَارِجِيَّةُ فَهِيَ الْمَالُ وَالْجَاهُ، وَالْمَالُ أَشَدُّ جُسْمَانِيَّةً وَالْجَاهُ أَشَدُّ رُوحَانِيَّةً فَتَرَكَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْأَمْرَ الْجُسْمَانِيَّ وَهُوَ الْمَالُ وَطَلَبَ الْأَمْرَ الرُّوحَانِيَّ وَهُوَ الْجَاهُ وَالذِّكْرُ الْجَمِيلُ الْبَاقِي عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وقد أعطاه اللَّه ذلك بقوله: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ فَإِنْ قِيلَ وَأَيُّ غَرَضٍ لَهُ فِي أَنْ يُثْنِيَ عَلَيْهِ وَيَمْدَحَ؟ جَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ عَلَى لِسَانِ الْحِكْمَةِ أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ فِي الْجُمْلَةِ إِلَّا أَنَّ بَعْضَهَا قَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا فَيَعْجِزُ عَنِ التَّأْثِيرِ فَإِذَا اجْتَمَعَتْ طَائِفَةٌ مِنْهَا فَرُبَّمَا قَوِيَ مَجْمُوعُهَا عَلَى مَا عَجَزَتِ الْآحَادُ عَنْهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَشَاهَدٌ فِي الْمُؤَثِّرَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْإِنْسَانُ الْوَاحِدُ إِذَا كَانَ بِحَيْثُ يُثْنِي عَلَيْهِ الْجَمْعُ الْعَظِيمُ وَيَمْدَحُونَهُ وَيُعَظِّمُونَهُ، فَرُبَّمَا صَارَ انْصِرَافُ هِمَمِهِمْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ إِلَيْهِ سَبَبًا لِحُصُولِ زِيَادَةِ كَمَالٍ لَهُ الثَّانِي: وَهُوَ عَلَى لِسَانِ الْكَمَالِ أَنَّ مَنْ صَارَ مَمْدُوحًا فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ بِسَبَبِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْفَضَائِلِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ ذَلِكَ الْمَدْحُ وَتِلْكَ الشُّهْرَةُ دَاعِيًا لِغَيْرِهِ إِلَى اكْتِسَابِ مِثْلِ تِلْكَ الْفَضَائِلِ. التَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّهُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مَنْ يَكُونُ دَاعِيًا إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ بَعْثَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْأَدْيَانِ عَلَى حُبِّهِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَعْطَاهُ ذَلِكَ لِأَنَّكَ لَا ترى أهل دين إلا ويتوالون إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدَحَ بَعْضُهُمْ فِيهِ بِأَنَّهُ لَا تَقْوَى الرَّغْبَةُ فِي مَدْحِ الْكَافِرِ وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مَدْحَ الْكَافِرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَافِرٌ، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ مَمْدُوحَ كُلِّ إِنْسَانٍ وَمَحْبُوبَ كُلِّ قَلْبٍ. الْمَطْلُوبُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ سَعَادَةَ الدُّنْيَا/ طَلَبَ بَعْدَهَا سَعَادَةَ الْآخِرَةِ وَهِيَ جَنَّةُ النَّعِيمِ، وَشَبَّهَهَا بِمَا يُوَرَّثُ لِأَنَّهُ الَّذِي يُغْتَنَمُ فِي الدُّنْيَا، فَشَبَّهَ غَنِيمَةَ الْآخِرَةِ بِغَنِيمَةِ الدُّنْيَا. الْمَطْلُوبُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ طَلَبِ السَّعَادَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ لِنَفْسِهِ طَلَبَهَا لِأَشَدِّ النَّاسِ الْتِصَاقًا بِهِ وَهُوَ أَبُوهُ فَقَالَ: وَاغْفِرْ لِأَبِي ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَغْفِرَةَ مَشْرُوطَةٌ بِالْإِسْلَامِ وَطَلَبُ الْمَشْرُوطِ مُتَضَمِّنٌ لِطَلَبِ الشَّرْطِ فَقَوْلُهُ: وَاغْفِرْ لِأَبِي يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى أَنَّهُ دُعَاءٌ لِأَبِيهِ بِالْإِسْلَامِ الثَّانِي: أَنَّ أَبَاهُ وَعَدَهُ الْإِسْلَامَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [التَّوْبَةِ: 114] فَدَعَا لَهُ لِهَذَا الشَّرْطِ وَلَا يَمْتَنِعُ الدُّعَاءُ لِلْكَافِرِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ

[سورة الشعراء (26) : الآيات 90 إلى 104]

تَبَرَّأَ مِنْهُ [التَّوْبَةِ: 114] وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الدُّعَاءَ بِهَذَا الشَّرْطِ جَائِزٌ لِلْكَافِرِ فَلَوْ كَانَ دُعَاؤُهُ مَشْرُوطًا لَمَا مَنَعَهُ اللَّه عَنْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ أَبَاهُ قَالَ لَهُ إِنَّهُ عَلَى دِينِهِ بَاطِنًا وَعَلَى دِينِ نَمْرُوذَ ظَاهِرًا تَقِيَّةً وَخَوْفًا، فَدَعَا لَهُ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ خِلَافَ ذَلِكَ تَبَرَّأَ مِنْهُ، لِذَلِكَ قَالَ فِي دُعَائِهِ: إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ فَلَوْلَا اعْتِقَادُهُ فِيهِ أَنَّهُ فِي الْحَالِ لَيْسَ بِضَالٍّ لَمَا قَالَ ذَلِكَ. الْمَطْلُوبُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْإِخْزَاءُ مِنَ الْخِزْيِ وَهُوَ الْهَوَانُ، أَوْ مِنَ الْخَزَايَةِ وهي الحياء وهاهنا أَبْحَاثٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تُخْزِنِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّه تَعَالَى شَيْءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء: 82] . وَثَانِيهَا: أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَمَّا قَالَ أَوَّلًا: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَمَتَى حَصَلَتِ الْجَنَّةُ، امْتَنَعَ حُصُولُ الْخِزْيِ، فَكَيْفَ قَالَ بَعْدَهُ: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ [النَّحْلِ: 27] فَمًا كَانَ نَصِيبُ الْكُفَّارِ فَقَطْ فَكَيْفَ يَخَافُهُ الْمَعْصُومُ؟ جَوَابُهُ: كَمَا أَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ فَكَذَا دَرَجَاتُ الْأَبْرَارِ دَرَكَاتُ الْمُقَرَّبِينَ وَخِزْيُ كُلِّ وَاحِدٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فِي (يُبْعَثُونَ) ضَمِيرُ الْعِبَادِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَوْ ضَمِيرُ الضَّالِّينَ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَكْرَمُهُ بِهَذَا الْوَصْفِ حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصَّافَّاتِ: 83، 84] . ثُمَّ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا قِيلَ لَكَ: هَلْ لِزَيْدٍ مَالٌ وَبَنُونَ؟ فَتَقُولُ مَالُهُ وَبَنُوهُ سَلَامَةُ قَلْبِهِ، تُرِيدُ نَفْيَ الْمَالِ وَالْبَنِينَ عَنْهُ وَإِثْبَاتَ سَلَامَةِ الْقَلْبِ لَهُ بَدَلًا عَنْ ذَلِكَ، فَكَذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَثَانِيهَا: أَنْ نَحْمِلَ الْكَلَامَ عَلَى الْمَعْنَى وَنَجْعَلَ الْمَالَ وَالْبَنِينَ فِي مَعْنَى الْغِنَى كَأَنَّهُ قِيلَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ غِنًى إِلَّا غِنَى مَنْ أَتَى اللَّه بِقَلْبٍ سَلِيمٍ لِأَنَّ غِنَى الرَّجُلِ فِي دِينِهِ بِسَلَامَةِ قَلْبِهِ كَمَا أَنَّ غِنَاهُ فِي دُنْيَاهُ بِمَالِهِ وبنيه وثالثها: أن نجعل (من) مفعولا لينفع أَيْ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا رَجُلًا سَلِمَ قَلْبُهُ مَعَ مَالِهِ حَيْثُ أَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى، وَمَعَ بَنِيهِ حَيْثُ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الدِّينِ، وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ/ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ وَالْبَنِينَ، أَمَّا السَّلِيمُ فَفِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ سَلَامَةُ الْقَلْبِ عَنِ الْجَهْلِ وَالْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَمَا أَنَّ صِحَّةَ الْبَدَنِ وَسَلَامَتَهُ عِبَارَةٌ عَنْ حُصُولِ مَا يَنْبَغِي مِنَ الْمِزَاجِ وَالتَّرْكِيبِ وَالِاتِّصَالِ وَمَرَضَهُ عِبَارَةٌ عَنْ زَوَالِ أَحَدِ تِلْكَ الْأُمُورِ فَكَذَلِكَ سَلَامَةُ الْقَلْبِ عِبَارَةٌ عَنْ حُصُولِ مَا يَنْبَغِي لَهُ وَهُوَ الْعِلْمُ وَالْخُلُقُ الْفَاضِلُ وَمَرَضُهُ عِبَارَةٌ عَنْ زَوَالِ أَحَدِهِمَا فَقَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنِ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ وَالْمِيلِ إِلَى شَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا فَإِنْ قِيلَ فَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ سَلِمَ قَلْبُهُ كَانَ نَاجِيًا وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى سَلَامَةِ اللِّسَانِ وَالْيَدِ جَوَابُهُ: أَنَّ الْقَلْبَ مُؤَثِّرٌ وَاللِّسَانَ وَالْجَوَارِحَ تَبَعٌ فَلَوْ كَانَ الْقَلْبُ سَلِيمًا لَكَانَا سَلِيمَيْنِ لَا مَحَالَةَ، وَحَيْثُ لَمْ يَسْلَمَا ثَبَتَ عَدَمُ سَلَامَةِ الْقَلْبِ التَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ السَّلِيمَ هُوَ اللَّدِيغُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّه تَعَالَى التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ السَّلِيمَ هُوَ الَّذِي سَلِمَ وَأَسْلَمَ وَسَالَمَ وَاسْتَسْلَمَ واللَّه أعلم. [سورة الشعراء (26) : الآيات 90 الى 104] وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)

اعْلَمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ فِي وَصْفِ هَذَا الْيَوْمِ أُمُورًا: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْجَنَّةَ قَدْ تَكُونُ قَرِيبَةً مِنْ مَوْقِفِ السُّعَدَاءِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا وَيَفْرَحُونَ بِأَنَّهُمُ الْمَحْشُورُونَ إِلَيْهَا وَالنَّارُ تَكُونُ بَارِزَةً مَكْشُوفَةً لِلْأَشْقِيَاءِ بِمَرْأًى مِنْهُمْ يَتَحَسَّرُونَ عَلَى أَنَّهُمُ الْمَسُوقُونَ إِلَيْهَا قَالَ اللَّه تَعَالَى فِي صِفَةِ أَهْلِ الثَّوَابِ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق: 31] وَقَالَ فِي صِفَةِ أَهْلِ الْعِقَابِ: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْمُلْكِ: 27] وَإِنَّمَا يَفْعَلُ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ لِيَكُونَ سُرُورًا مُعَجَّلًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَغَمًّا عَظِيمًا لِلْكَافِرِينَ ثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ وَالْمَعْنَى أَيْنَ آلِهَتُكُمْ هَلْ يَنْفَعُونَكُمْ بِنُصْرَتِهِمْ لَكُمْ أَوْ هَلْ يَنْفَعُونَ أَنْفُسَهُمْ بِانْتِصَارِهِمْ لِأَنَّهُمْ وَآلِهَتَهُمْ وَقُودُ النَّارِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ أَيِ الْآلِهَةُ وَعَبَدَتُهُمُ الَّذِينَ بُرِّزَتْ لَهُمُ الْجَحِيمُ، وَالْكَبْكَبَةُ تَكْرِيرُ الْكَبِّ جَعَلَ التَّكْرِيرَ فِي اللَّفْظِ دَلِيلًا عَلَى التَّكْرِيرِ فِي الْمَعْنَى كَأَنَّهُ إِذَا أُلْقِيَ فِي جَهَنَّمَ يَنْكَبُّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى يَسْتَقِرَّ فِي قَعْرِهَا وَجُنُودُ إِبْلِيسَ مُتَّبِعُوهُ مِنْ عُصَاةِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ عَبَدَ خَاصَمَ الْمَعْبُودَ وَخَاطَبَهُ بِهَذَا الْكَلَامِ، فَلَيْسَ يَخْلُو حَالُ الْأَصْنَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ إِمَّا أَنْ يَخْلُقَهَا اللَّه تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ جَمَادًا يُعَذِّبُ بِهَا أَهْلَ النَّارِ فَحِينَئِذٍ لَا يَصِحُّ أَنْ تُخَاطَبَ وَيَجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِمْ: إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِخِطَابٍ لَهُمْ أَوْ يُقَالُ إِنَّهُ تَعَالَى يُحْيِيهَا فِي النَّارِ، وَذَلِكَ أَيْضًا

[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 إلى 122]

غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهَا بِأَنْ عَبَدَهَا غَيْرُهَا. فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا ذَلِكَ لَمَّا رَأَوْا صُوَرَهَا عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَافِ بِالْخَطَأِ الْعَظِيمِ وَعَلَى وَجْهِ النَّدَامَةِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُخَاطَبَةِ، وَالَّذِي يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ فِي الْحَقِيقَةِ قَوْلُهُمْ: وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ وَأَرَادُوا بِذَلِكَ مَنْ دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الْأَحْزَابِ: 67] فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ كَمَا نَرَى الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ شُفَعَاءُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَلا صَدِيقٍ كَمَا نَرَى لَهُمْ أَصْدِقَاءَ لِأَنَّهُ لَا يَتَصَادَقُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ، وَأَمَّا أَهْلُ النَّارِ فَبَيْنَهُمُ التَّعَادِي وَالتَّبَاغُضُ قَالَ تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزُّخْرُفِ: 67] أَوْ فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء: 100، 101] مِنَ الَّذِينَ كُنَّا نَعُدُّهُمْ شُفَعَاءَ وَأَصْدِقَاءَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي أَصْنَامِهِمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى، وَكَانَ لَهُمْ أَصْدِقَاءُ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ، أَوْ أَرَادُوا أَنَّهُمْ إِنْ وَقَعُوا فِي مَهْلَكَةٍ عَلِمُوا أَنَّ الشُّفَعَاءَ وَالْأَصْدِقَاءَ لَا يَنْفَعُونَهُمْ وَلَا يَدْفَعُونَ عَنْهُمْ، فَقَصَدُوا بِنَفْيِهِمْ نَفِيَ مَا تعلق بهم من النفع، لأن مالا يَنْفَعُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَعْدُومِ، وَالْحَمِيمُ مِنَ الِاحْتِمَامِ وَهُوَ الِاهْتِمَامُ وَهُوَ الَّذِي يَهُمُّهُ مَا يَهُمُّكَ، أَوْ مِنَ الْحَامَّةِ بِمَعْنَى الْخَاصَّةِ وَهُوَ الصَّدِيقُ الْخَالِصُ، وَإِنَّمَا جَمَعَ الشُّفَعَاءَ وَوَحَّدَ الصَّدِيقَ لِكَثْرَةِ الشُّفَعَاءِ فِي الْعَادَةِ وَقِلَّةِ الصَّدِيقِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ الْمُمْتَحَنَ بِإِرْهَاقِ الظَّالِمِ قَدْ يَنْهَضُ جَمَاعَةٌ وَافِرَةٌ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ لِشَفَاعَتِهِ رَحْمَةً لَهُ، وَأَمَّا الصَّدِيقُ وَهُوَ الصَّادِقُ فِي وِدَادِكَ، فَأَعَزُّ مِنْ بَيْضِ الْأَنُوقِ، وَيَجُوزُ أَنْ/ يُرِيدَ بِالصَّدِيقِ الْجَمْعَ ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْهُمْ قَوْلَهُمْ: فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّهُمْ تَمَنَّوُا الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا، وَلَوْ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَضْعِ فِي مَعْنَى التَّمَنِّي كَأَنَّهُ قِيلَ فَلَيْتَ لَنَا كَرَّةً، وَذَلِكَ لِمَا بَيْنَ مَعْنَى لَوْ وَلَيْتَ مِنَ التَّلَاقِي فِي التَّقْدِيرِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَلَى أَصْلِهَا وَيُحْذَفُ الْجَوَابُ وَهُوَ لَفَعَلْنَا كَيْتَ وَكَيْتَ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ: إِنْ قَوْلَهُمْ فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ بِخَبَرٍ عَنْ إِيمَانِهِمْ لَكِنَّهُ خَبَرٌ عَنْ عَزْمِهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرًا عَنْ إِيمَانِهِمْ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا، لَأَنَّ الْكَذِبَ لَا يَقَعُ مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى بِخِلَافِ ذَلِكَ فِي قَوْلُهُ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الْأَنْعَامِ: 28] وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ بَيَانُ فَسَادِ هَذَا الْكَلَامِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَآيَةً لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِذَلِكَ ثم قال: وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلُوهُ عَلَى قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مَعَ كُلِّ هَذِهِ الدَّلَائِلِ فَأَكْثَرُ قَوْمِهِ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ فَيَكُونُ هَذَا تَسْلِيَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَجِدُهُ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَعْجِيلِ الانتقام لكنه رحيم بالإمهال لكي يؤمنوا. [سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 122] كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) القصة الثالثة- قصة نوح عليه السلام

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَصَّ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ تَسْلِيَةً لَهُ فِيمَا يَلْقَاهُ مِنْ قَوْمِهِ قَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا نَبَأَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَدْ كَانَ نَبَؤُهُ أَعْظَمَ مِنْ نَبَأِ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَدْعُوهُمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، وَمَعَ ذَلِكَ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ فَقَالَ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ وَإِنَّمَا قَالَ (كَذَّبَتْ) لِأَنَّ الْقَوْمَ مُؤَنَّثٌ وَتَصْغِيرُهَا قُوَيْمَةٌ، وَإِنَّمَا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا الْمُرْسَلِينَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ وَإِنْ كَذَّبُوا نُوحًا لَكِنَّ تَكْذِيبَهُ فِي الْمَعْنَى يَتَضَمَّنُ تَكْذِيبَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ طَرِيقَةَ مَعْرِفَةِ الرُّسُلِ لَا تَخْتَلِفُ فَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا الْمُرْسَلِينَ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ كَذَّبُوا بِجَمِيعِ رُسُلِ اللَّه تَعَالَى، إِمَّا لِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنَ الزَّنَادِقَةِ أَوْ مِنَ الْبَرَاهِمَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَخُوهُمْ فَلِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ يُرِيدُونَ يَا وَاحِدًا مِنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَوَّلًا خَوَّفَهُمْ، وَثَانِيًا أَنَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ، أَمَّا التَّخْوِيفُ فَهُوَ قَوْلُهُ: أَلا تَتَّقُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا قَبِلُوا تِلْكَ الْأَدْيَانَ لِلتَّقْلِيدِ وَالْمُقَلِّدُ إِذَا خُوِّفَ خَافَ، وَمَا لَمْ يَحْصُلِ الْخَوْفُ فِي قَلْبِهِ لَا يَشْتَغِلُ بِالِاسْتِدْلَالِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ عَلَى جَمِيعِ كَلِمَاتِهِ قَوْلَهُ: أَلا تَتَّقُونَ. وَأَمَّا وَصْفُهُ نَفْسَهُ فَذَاكَ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَشْهُورًا بِالْأَمَانَةِ كَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُرَيْشٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ كُنْتُ أَمِينًا مِنْ قَبْلُ، فَكَيْفَ تَتَّهِمُونِي الْيَوْمَ؟ وَثَانِيهِمَا: قوله: وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أَيْ عَلَى مَا أَنَا فِيهِ مِنَ ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ لِئَلَّا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ دَعَاهُمْ لِلرَّغْبَةِ، فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَاذَا كَرَّرَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى؟ جَوَابُهُ: لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ أَرَادَ ألا

تَتَّقُونَ مُخَالَفَتِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّه، وَفِي الثَّانِي: أَلَا تَتَّقُونَ مُخَالَفَتِي وَلَسْتُ آخُذُ مِنْكُمْ أَجْرًا فَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ وَلَا تَكْرَارَ فِيهِ، وَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: أَلَا تَتَّقِي اللَّه فِي عُقُوقِي وَقَدْ رَبَّيْتُكُ صَغِيرًا! أَلَا تَتَّقِي اللَّه فِي/ عُقُوقِي وَقَدْ عَلَّمْتُكَ كَبِيرًا، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْأَمْرَ بِتَقْوَى اللَّه تَعَالَى عَلَى الْأَمْرِ بِطَاعَتِهِ، لِأَنَّ تَقْوَى اللَّه عِلَّةٌ لِطَاعَتِهِ فَقَدَّمَ الْعِلَّةَ عَلَى الْمَعْلُولِ، ثُمَّ إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ أَجَابُوهُ بِقَوْلِهِمْ: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وقرى وَأَتْبَاعُكَ الْأَرْذَلُونَ جَمْعُ تَابِعٍ كَشَاهِدٍ وَأَشْهَادٍ أَوْ جَمْعُ تَبَعٍ كَبَطَلٍ وَأَبْطَالٍ وَالْوَاوُ لِلْحَالِ وَحَقُّهَا أَنْ يُضْمَرَ بَعْدَهَا قَدْ فِي وَاتَّبَعَكَ وَقَدْ جُمِعَ أَرْذَالٌ عَلَى الصِّحَّةِ وَعَلَى التَّكْسِيرِ فِي قَوْلِهِمْ: الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا [هُودٍ: 27] وَالرَّذَالَةُ الْخِسَّةُ، وَإِنَّمَا اسْتَرْذَلُوهُمْ لِاتِّضَاعِ نَسَبِهِمْ وَقِلَّةِ نَصِيبِهِمْ مِنَ الدُّنْيَا، وَقِيلَ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الصِّنَاعَاتِ الْخَسِيسَةِ كَالْحِيَاكَةِ وَالْحِجَامَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ فِي نِهَايَةِ الرَّكَاكَةِ، لِأَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بُعِثَ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، فَلَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ فِي ذَلِكَ بِسَبَبِ الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَشَرَفِ الْمَكَاسِبِ وَدَنَاءَتِهَا، فأجابهم نوع عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْجَوَابِ الْحَقِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَهَذَا الْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ نَسَبُوهُمْ مَعَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا عَنْ نَظَرٍ وَبَصِيرَةٍ، وَإِنَّمَا آمَنُوا بِالْهَوَى وَالطَّمَعِ كَمَا حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [هُودٍ: 27] ثم قال: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي مَعْنَاهُ لَا نَعْتَبِرُ إِلَّا الظَّاهِرَ مِنْ أَمْرِهِمْ دُونَ مَا يَخْفَى، وَلَمَّا قَالَ: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي وَكَانُوا لَا يُصَدِّقُونَ بِذَلِكَ أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: لَوْ تَشْعُرُونَ ثم قال: وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ سَأَلُوهُ إِبْعَادَهُمْ لِكَيْ يَتَّبِعُوهُ أَوْ لِيَكُونُوا أَقْرَبَ إِلَى ذَلِكَ، فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي يَمْنَعُهُ عَنْ طَرْدِهِمْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِهِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ غَرَضَهُ بِمَا حَمَلَ مِنَ الرِّسَالَةِ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ وَالْمُرَادُ إِنِّي أُخَوِّفُ مَنْ كَذَّبَنِي وَلَمْ يَقْبَلْ مِنِّي، فَمَنْ قَبِلَ فَهُوَ الْقَرِيبُ، وَمَنْ رَدَّ فَهُوَ الْبَعِيدُ، ثُمَّ إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا تَمَّمَ هَذَا الْجَوَابَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ إِلَّا التَّهْدِيدُ، فَقَالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ خَوَّفُوهُ بِأَنْ يُقْتَلَ بِالْحِجَارَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ حَصَلَ الْيَأْسُ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ فَلَاحِهِمْ، وَقَالَ: رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَلَيْسَ الْغَرَضُ مِنْهُ إِخْبَارُ اللَّه تَعَالَى بِالتَّكْذِيبِ لِعِلْمِهِ أَنَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَعْلَمُ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ إِنِّي لَا أَدْعُوكَ عَلَيْهِمْ لَمَّا آذَوْنِي، وَإِنَّمَا أَدْعُوكَ لِأَجْلِكَ وَلِأَجَلِ دَيْنِكَ وَلِأَنَّهُمْ كَذَّبُونِي فِي وَحْيِكِ وَرِسَالَتِكَ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ أَيْ فَاحْكُمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ وَالْفَتَاحَةُ الْحُكُومَةَ، وَالْفَتَّاحُ الْحَاكِمُ لِأَنَّهُ يَفْتَحُ الْمُسْتَغْلَقَ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ إِنْزَالُ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ قَالَ عَقِبَهُ: وَنَجِّنِي وَلَوْلَا أَنَّ الْمُرَادَ إِنْزَالُ الْعُقُوبَةِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ النَّجَاةِ بَعْدَهُ مَعْنًى، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي قِصَّتِهِ مَشْرُوحًا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَسُورَةِ هُودٍ. ثم قال تَعَالَى: فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْفُلْكُ السَّفِينَةُ وَجَمْعُهُ فَلَكٌ قَالَ تَعَالَى: وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ [فَاطِرٍ: 12] فَالْوَاحِدُ بِوَزْنِ قُفْلٍ وَالْجَمْعُ بِوَزْنِ أَسَدٍ «1» وَالْمَشْحُونُ الْمَمْلُوءُ يُقَالُ شَحَنَهَا عَلَيْهِمْ خَيْلًا وَرِجَالًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ نَجَوْا مَعَهُ كَانَ فِيهِمْ كَثْرَةٌ، وَأَنَّ/ الْفُلْكَ امْتَلَأَ

_ (1) عبارة المفسر توهم خلاف الصحيح. فإن كلمة (فلك) بضم فائها وإسكان عينها يقع على المفرد والجمع ويفرق بينهما بالقرائن فقوله تعالى: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ المراد به الواحد لأن سفينة نوح كانت واحدة وقوله تعالى: مَواخِرَ أريد به سفن كثيرة.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 123 إلى 140]

بِهِمْ وَبِمَا صَحِبَهُمْ، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَنْجَاهُمْ أَغْرَقَ الْبَاقِينَ وَأَنَّ إِغْرَاقَهُ لَهُمْ كان كالمتأخر عن نجاتهم. [سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 140] كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) القصة الرابعة- قصة هود عليه السلام اعْلَمْ أَنَّ فَاتِحَةَ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَفَاتِحَةَ قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاحِدَةٌ فَلَا فَائِدَةَ فِي إِعَادَةِ التَّفْسِيرِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْأُمُورَ الَّتِي تَكَلَّمَ فِيهَا هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَهُمْ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ قُرِئَ بِكُلِّ رِيعٍ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ كَمْ رَيْعُ أَرْضِكَ وَهُوَ ارْتِفَاعُهَا، وَالْآيَةُ الْعَلَمُ، ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يبنون بكل ريع علما يعبئون فِيهِ بِمَنْ يَمُرُّ فِي الطَّرِيقِ إِلَى هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يَبْنُونَ فِي الْأَمَاكِنِ الْمُرْتَفِعَةِ لِيُعْرَفَ بِذَلِكَ غِنَاهُمْ تَفَاخُرًا فَنُهُوا عَنْهُ وَنُسِبُوا إِلَى الْعَبَثِ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا مِمَّنْ يَهْتَدُونَ بِالنُّجُومِ فِي أَسْفَارِهِمْ فَاتَّخَذُوا فِي طَرِيقِهِمْ أَعْلَامًا طِوَالًا فَكَانَ ذَلِكَ عَبَثًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَغْنِينَ عَنْهَا بِالنُّجُومِ الرَّابِعُ: بَنَوْا بِكُلِّ رِيعٍ بُرُوجَ الْحَمَامِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ

تَخْلُدُونَ الْمَصَانِعُ مَآخِذُ الْمَاءِ، وَقِيلَ الْقُصُورُ الْمُشَيَّدَةُ وَالْحُصُونُ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ تَرْجُونَ الْخُلْدَ فِي الدُّنْيَا أَوْ يُشْبِهُ حَالُكُمْ حَالَ مَنْ يَخْلُدُ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: (كَأَنَّكُمْ) ، وَقُرِئَ (تُخْلَدُونَ) بِضَمِّ التَّاءِ مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَوَّلَ إِنَّمَا صَارَ مَذْمُومًا لِدَلَالَتِهِ إِمَّا عَلَى السَّرَفِ، أَوْ عَلَى الْخُيَلَاءِ، وَالثَّانِي: إِنَّمَا صَارَ مَذْمُومًا لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْأَمَلِ الطَّوِيلِ وَالْغَفْلَةِ عَنْ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ مَمَرٍّ لَا دَارُ مَقَرٍّ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ بَيَّنَ أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ السَّرَفِ وَالْحِرْصِ فَإِنَّ مُعَامَلَتَهُمْ مَعَ غَيْرِهِمْ مُعَامَلَةُ الْجَبَّارِينَ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ فِي الْعِبَادِ ذَمٌّ وَإِنْ كَانَ فِي وَصْفِ اللَّه تَعَالَى مَدْحًا فَكَأَنَّ مَنْ يُقْدِمُ عَلَى الْغَيْرِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ وَلَكِنْ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعْلَاءِ يُوصَفُ بِأَنَّ بَطْشَهُ بَطْشُ جَبَّارٍ، وَحَاصِلُ الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ اتِّخَاذَ الْأَبْنِيَةِ الْعَالِيَةِ، يَدُلُّ عَلَى حُبِّ الْعُلُوِّ، وَاتِّخَاذُ الْمَصَانِعِ يَدُلُّ عَلَى حُبِّ الْبَقَاءِ، وَالْجَبَّارِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى حُبِّ التَّفَرُّدِ بِالْعُلُوِّ، فَيَرْجِعُ الْحَاصِلُ إِلَى أَنَّهُمْ أَحَبُّوا الْعُلُوَّ وَبَقَاءَ الْعُلُوِّ وَالتَّفَرُّدَ بِالْعُلُوِّ وَهَذِهِ صِفَاتُ الْإِلَهِيَّةِ، وَهِيَ مُمْتَنِعَةُ الْحُصُولِ لِلْعَبْدِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُبَّ الدُّنْيَا قَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمْ بِحَيْثُ اسْتَغْرَقُوا فِيهِ وَخَرَجُوا عَنْ حَدِّ الْعُبُودِيَّةِ وَحَامُوا حَوْلَ ادِّعَاءِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّ حُبَّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ وَعُنْوَانُ كُلِّ كُفْرٍ وَمَعْصِيَةٍ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ قَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ زِيَادَةً فِي دُعَائِهِمْ إِلَى الْآخِرَةِ وَزَجْرًا لَهُمْ عَنْ حُبِّ الدُّنْيَا وَالِاشْتِغَالِ بِالسَّرَفِ وَالْحِرْصِ وَالتَّجَبُّرِ، ثُمَّ وَصَلَ بِهَذَا الْوَعْظِ مَا يُؤَكِّدُ الْقَبُولَ وَهُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى نِعَمِ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِالْإِجْمَالِ أَوَّلًا ثُمَّ التَّفْصِيلِ ثَانِيًا فَأَيْقَظَهُمْ عَنْ سِنَةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْهَا حَيْثُ قَالَ: أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ ثُمَّ فَصَّلَهَا مِنْ بَعْدُ بِقَوْلِهِ: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَبَلَغَ فِي دُعَائِهِمْ بِالْوَعْظِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّخْوِيفِ وَالْبَيَانِ النِّهَايَةَ فَكَانَ جَوَابُهُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ أَظْهَرُوا قِلَّةَ اكْتِرَاثِهِمْ بِكَلَامِهِ، وَاسْتِخْفَافَهُمْ بِمَا أَوْرَدَهُ فَإِنْ قِيلَ لَوْ قَالَ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَعِظْ كَانَ أَخْصَرَ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ جَوَابُهُ: ليس المعنى بواحد [وبينهما فرق] «1» لِأَنَّ الْمُرَادَ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَفَعَلْتَ هَذَا الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ الْوَعْظُ أَمْ لَمْ تَكُنْ أَصْلًا مِنْ أَهْلِهِ (وَمُبَاشَرَتِهِ) «2» ، فَهُوَ أَبْلَغُ فِي/ قِلَّةِ اعْتِدَادِهِمْ بِوَعْظِهِ مِنْ قَوْلِكَ أَمْ لَمْ تَعِظْ، ثُمَّ احْتَجُّوا عَلَى قِلَّةِ اكْتِرَاثِهِمْ بِكَلَامِهِ بِقَوْلِهِمْ: إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ فَمَنْ قَرَأَ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ بِالْفَتْحِ فَمَعْنَاهُ أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ اخْتِلَاقُ الْأَوَّلِينَ، وَتَخَرُّصُهُمْ كَمَا قَالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْعَامِ: 25] أَوْ مَا خَلْقُنَا هَذَا إِلَّا خَلْقُ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ نَحْيَا كَحَيَاتِهِمْ وَنَمُوتُ كَمَمَاتِهِمْ وَلَا بَعْثَ وَلَا حِسَابَ، وَمَنْ قَرَأَ خُلُقُ بِضَمَّتَيْنِ وَبِوَاحِدَةٍ، فَمَعْنَاهُ مَا هَذَا الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ وَعَادَتُهُمْ كَانُوا بِهِ يَدِينُونَ وَنَحْنُ بِهِمْ مُقْتَدُونَ أَوْ مَا هَذَا الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ إِلَّا عَادَةٌ لَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا النَّاسُ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ، أَوْ مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ مِنَ الْكَذِبِ إِلَّا عَادَةُ الْأَوَّلِينَ كَانُوا يُلَفِّقُونَ مِثْلَهُ وَيَسْطُرُونَهُ، ثُمَّ قَالُوا: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أَظْهَرُوا بِذَلِكَ تَقْوِيَةَ نُفُوسِهِمْ فِيمَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ إِنْكَارِ الْمَعَادِ، فَعِنْدَ هَذَا بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ أَهْلَكَهُمْ، وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُ كَيْفِيَّةِ الْهَلَاكِ فِي سَائِرِ السُّوَرِ. واللَّه أعلم.

_ (1) زيادة في الكشاف 3/ 122 ط. دار الفكر. (2) في الكشاف (ومباشريه) .

[سورة الشعراء (26) : الآيات 141 إلى 159]

[سورة الشعراء (26) : الآيات 141 الى 159] كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) القصة الخامسة- قصة صالح عليه السلام اعْلَمْ أَنَّ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاطَبَ قَوْمَهُ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهُنا آمِنِينَ أَيْ أَتَظُنُّونَ أَنَّكُمْ تُتْرَكُونَ فِي دِيَارِكُمْ آمِنِينَ وَتَطْمَعُونَ فِي ذَلِكَ وَأَنْ لَا دَارَ لِلْمُجَازَاةِ. وَقَوْلُهُ: فِي مَا هاهُنا آمِنِينَ فِي الَّذِي اسْتَقَرَّ فِي هَذَا الْمَكَانِ مِنَ النَّعِيمِ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَهَذَا أَيْضًا إِجْمَالٌ ثُمَّ تَفْصِيلٌ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ وَنَخْلٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: فِي جَنَّاتٍ وَالْجَنَّةُ تَتَنَاوَلُ النَّخْلَ جَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خَصَّ النَّخْلَ بِإِفْرَادِهِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي جُمْلَةِ سَائِرِ الشَّجَرِ تَنْبِيهًا عَلَى فَضْلِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَشْجَارِ وَالثَّانِي: أَنْ يُرَادَ بِالْجَنَّاتِ غَيْرُهَا مِنَ الشَّجَرِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَيْهَا النَّخْلَ، وَالطَّلْعُ هُوَ الَّذِي يَطْلُعُ مِنَ النَّخْلَةِ كَنَصْلِ السَّيْفِ فِي جَوْفِهِ شَمَارِيخُ، وَالْهَضِيمُ اللَّطِيفُ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِمْ: كَشْحٌ

[سورة الشعراء (26) : الآيات 160 إلى 175]

هَضِيمٌ، وَقِيلَ الْهَضِيمُ اللَّيِّنُ النَّضِيجُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَنَخْلٌ قَدْ أَرْطَبَ ثَمَرُهُ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ قَرَأَ الْحَسَنُ وتنحتون بفتح الحاء، وقرئ فرهين وفارِهِينَ وَالْفَرَاهَةُ الْكَيْسُ وَالنَّشَاطُ، فَقَوْلُهُ: فارِهِينَ حَالٌ مِنَ النَّاحِيَتَيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى قَوْمِ هُودٍ هُوَ اللَّذَّاتُ الْحَالِيَّةُ، وَهِيَ طَلَبُ الِاسْتِعْلَاءِ وَالْبَقَاءِ وَالتَّفَرُّدِ وَالتَّجَبُّرِ، وَالْغَالِبُ عَلَى قَوْمِ صَالِحٍ هُوَ اللَّذَّاتُ الْحِسِّيَّةُ، وَهِيَ طَلَبُ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَسَاكِنِ الطَّيِّبَةِ الْحَصِينَةِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الِاكْتِفَاءُ مِنَ الدُّنْيَا بِقَدْرِ الْكَفَافِ، وَلَا يَجُوزُ التَّوَسُّعُ فِي طَلَبِهَا وَالِاسْتِكْثَارُ مِنْ لَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا، فَإِنْ قِيلَ مَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: وَلا يُصْلِحُونَ جَوَابُهُ: فَائِدَتُهُ بَيَانُ أَنَّ فَسَادَهُمْ فَسَادٌ خَالِصٌ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الصَّلَاحِ، كَمَا يَكُونُ حَالُ بَعْضِ الْمُفْسِدِينَ مَخْلُوطَةً بِبَعْضِ الصَّلَاحِ، ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ أَجَابُوهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُمْ: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: الْمُسَحَّرُ هُوَ الَّذِي سُحِرَ كَثِيرًا حَتَّى غَلَبَ عَلَى عَقْلِهِ وَثَانِيهَا: مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أَيْ مَنْ لَهُ/ سِحْرٌ، وَكُلُّ دَابَّةٍ تَأْكُلُ فَهِيَ مُسَحَّرَةٌ، وَالسِّحْرُ أَعْلَى الْبَطْنِ، وَعَنِ الْفَرَّاءِ الْمُسَحَّرُ مَنْ لَهُ جَوْفٌ، أَرَادَ أَنَّكَ تَأْكُلُ الطَّعَامَ وَتَشْرَبُ الشَّرَابَ وَثَالِثُهَا: عَنِ الْمُؤَرِّجِ الْمُسَحَّرُ هُوَ الْمَخْلُوقُ بِلُغَةِ بَجِيلَةَ وَثَانِيهِمَا: قَوْلُهُمْ: مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّكَ بَشَرٌ مِثْلُنَا فَكَيْفَ تَكُونُ نَبِيًّا؟ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا كَانُوا يَذْكُرُونَ فِي الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا صَادِقِينَ، لَكَانُوا مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ إِنَّكَ بَشَرٌ مِثْلُنَا، فَلَا بُدَّ لَنَا فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّتِكَ مِنَ الدَّلِيلِ، فَقَالَ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَقُرِئَ بِالضَّمِّ، رُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: نُرِيدُ نَاقَةً عُشَرَاءَ تَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ فَتَلِدُ سَقْبًا، فَقَعَدَ صَالِحٌ يَتَفَكَّرُ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَسَلْ رَبَّكَ النَّاقَةَ، فَفَعَلَ فَخَرَجَتِ النَّاقَةُ وَبَرَكَتْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَحَصَلَ لَهَا سَقْبٌ مِثْلُهَا فِي الْعِظَمِ، وَوَصَّاهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ قَالَ قَتَادَةُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ شِرْبِهَا شَرِبَتْ مَاءَهُمْ كُلَّهُ، وَشِرْبُهُمْ فِي الْيَوْمِ الَّذِي لَا تَشْرَبُ هِيَ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ أَيْ بِضَرْبٍ أَوْ عَقْرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ عَظَّمَ الْيَوْمَ لِحُلُولِ الْعَذَابِ فِيهِ، وَوَصْفُ الْيَوْمِ بِهِ أَبْلَغُ مِنْ وَصْفِ الْعَذَابِ، لِأَنَّ الْوَقْتَ إِذَا عُظِّمَ بِسَبَبِهِ كَانَ مَوْقِعُهُ مِنَ الْعِظَمِ أَشَدَّ، ثُمَّ إِنَّ اللَّه تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ عَقَرُوهَا. روي أن (مصدعا) «1» ألجأها إلى مضيق [في شعب] «2» فرماها بسهم [فأصحاب رجلها] «3» فَسَقَطَتْ، ثُمَّ ضَرَبَهَا قُدَارٌ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ أَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَقَدْ نَدِمُوا جَوَابُهُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَدَمُهُمْ نَدَمَ التَّائِبِينَ، لَكِنْ نَدَمَ الْخَائِفِينَ مِنَ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ الثَّانِي: أَنَّ النَّدَمَ وَإِنْ كَانَ نَدَمَ التَّائِبِينَ، وَلَكِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ وَقْتِ التَّوْبَةِ، بَلْ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ [النِّسَاءِ: 18] الْآيَةَ. وَاللَّامُ فِي العذاب إشارة إلى عذاب يوم عظيم. [سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 175] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) القصة السادسة- قصة لوط عليه السلام

_ (1) في الكشاف (مسطعا) 3/ 123 ط. دار الفكر. [.....] (2) زيادة من الكشاف. (3) زيادة من الكشاف.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ فَيُحْتَمَلُ عَوْدُهُ إِلَى الْآتِي: أَيْ أَنْتُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْعَالَمِينَ صِرْتُمْ مَخْصُوصِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَهِيَ إِتْيَانُ الذُّكْرَانِ، وَيُحْتَمَلُ عَوْدُهُ إِلَى الْمَأْتِيِّ، أَيْ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ لَا الْإِنَاثَ مِنْهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ أَزْواجِكُمْ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَبْيِينًا لِمَا خَلَقَ وَأَنْ يَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ، وَيُرَادُ بِمَا خَلَقَ الْعُضْوُ الْمُبَاحُ مِنْهُنَّ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ بِنِسَائِهِمْ، وَالْعَادِي هُوَ الْمُتَعَدِّي فِي ظُلْمِهِ، وَمَعْنَاهُ أَتَرْتَكِبُونَ هَذِهِ الْمَعْصِيَةَ عَلَى عِظَمِهَا بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ فِي جَمِيعِ الْمَعَاصِي فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ ذَاكَ، أَوْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ أَحِقَّاءُ بِأَنْ تُوصَفُوا بِالْعُدْوَانِ حَيْثُ ارْتَكَبْتُمْ مِثْلَ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ، فَقَالُوا له عليه السلام: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أَيْ لَتَكُونَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَخْرَجْنَاهُ مِنْ بَلَدِنَا، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يُخْرِجُونَ مَنْ أَخْرَجُوهُ عَلَى أَسْوَأِ الْأَحْوَالِ، فَقَالَ لَهُمْ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ الْقِلَى الْبُغْضُ الشَّدِيدُ، كَأَنَّهُ بُغْضٌ يَقْلِي الْفُؤَادَ وَالْكَبِدَ، وَقَوْلُهُ: مِنَ الْقالِينَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يَقُولَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ قَالٍ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ فُلَانٌ عَالِمٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنَ الْكَامِلِينَ فِي قِلَاكُمْ، ثم قال تَعَالَى: فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ وَالْمُرَادُ: فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ عُقُوبَةِ عَمَلِهِمْ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ فَإِنْ قِيلَ: فِي الْغابِرِينَ صِفَةٌ لَهَا كَأَنَّهُ قِيلَ إِلَّا عَجُوزًا غَابِرَةً، وَلَمْ يَكُنِ الْغُبُورُ صِفَتَهَا وَقْتَ تَنْجِيَتِهِمْ جَوَابُهُ: مَعْنَاهُ إِلَّا عَجُوزًا مُقَدَّرًا غُبُورُهَا، قِيلَ إِنَّهَا هَلَكَتْ مَعَ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْقَرْيَةِ

[سورة الشعراء (26) : الآيات 176 إلى 191]

بِمَا أُمْطِرُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحِجَارَةِ، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي «تَفْسِيرِهِ» فِي قَوْلِهِ/ تَعَالَى: وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ الْجَبْرِ مِنْ جِهَاتٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يُقَالُ تَذَرُونَ إِلَّا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى خِلَافِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يُقَالُ لِلْمَرْءِ لِمَ تَذَرُ الصُّعُودَ إِلَى السَّمَاءِ، كَمَا يُقَالُ لَهُ لِمَ تَذَرُ الدُّخُولَ وَالْخُرُوجَ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قَالَ: مَا خَلَقَ لَكُمْ وَلَوْ كَانَ خَلْقُ الْفِعْلِ للَّه تَعَالَى لَكَانَ الَّذِي خَلَقَ لَهُمْ مَا خَلَقَهُ فِيهِمْ وَأَوْجَبَهُ لَا مَا لَمْ يَفْعَلُوهُ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ فَإِنْ كَانَ تَعَالَى خَلَقَ فِيهِمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَكَيْفَ يُنْسَبُونَ إِلَى أَنَّهُمْ تَعَدَّوْا، وَهَلْ يُقَالُ لِلْأَسْوَدِ إِنَّكَ مُتَعَدٍّ فِي لَوْنِكَ؟ فَنَقُولُ حَاصِلُ هَذِهِ الْوُجُوهِ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُوجِدًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ لَمَا تَوَجَّهَ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عَلَيْهِ، وَلِهَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى خَاصِّيَّةٌ أَزْيَدُ مِمَّا وَرَدَ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ وَسَائِرِ الْقَصَصِ، فَكَيْفَ خَصَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ دُونَ سَائِرِ الْقَصَصِ، وَإِذَا ثَبَتَ بُطْلَانُ هَذِهِ الْوُجُوهِ بَقِيَ ذَلِكَ الوجه الْمَشْهُورُ فَنَحْنُ نُجِيبُ عَنْهَا بِالْجَوَابَيْنِ الْمَشْهُورَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ وُقُوعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَعَدَمُهَا مُحَالٌ لِأَنَّ عَدَمَهَا يَسْتَلْزِمُ انْقِلَابَ الْعِلْمِ جَهْلًا وَهُوَ مُحَالٌ وَالْمُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ عَدَمُهَا مُحَالًا كَانَ التَّكْلِيفُ بِالتَّرْكِ تَكْلِيفًا بِالْمُحَالِ الثَّانِي: أَنَّ الْقَادِرَ لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى الضِّدَّيْنِ امْتَنَعَ أَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُ الْمَقْدُورَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ وَهُوَ الدَّاعِي أَوِ الْإِرَادَةُ وَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ مُحْدَثٌ فَلَهُ مُؤَثِّرٌ وَذَلِكَ الْمُؤَثِّرُ إِنْ كَانَ هُوَ الْعَبْدَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ وَإِنْ كَانَ هُوَ اللَّه تَعَالَى فَذَلِكَ هُوَ الْجَبْرُ عَلَى قَوْلِكَ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ الْبُرْهَانَيْنِ القاطعين سقوط ما قاله واللَّه أعلم. [سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 191] كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) القصة السابعة- قصة شعيب عليه السلام

قُرِئَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ بِالْهَمْزَةِ وَبِتَخْفِيفِهَا وَبِالْجَرِّ عَلَى الْإِضَافَةِ وَهُوَ الوجه، وَمَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ وَزَعَمَ أن ليكة بِوَزْنِ لَيْلَةٍ اسْمُ بَلَدٍ يُعْرَفُ فَتَوَهُّمٌ قَادَ إِلَيْهِ خَطُّ الْمُصْحَفِ حَيْثُ وُجِدَتْ مَكْتُوبَةً فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي سُورَةِ ص بِغَيْرِ أَلِفٍ لَكِنْ قَدْ كُتِبَتْ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ عَلَى الأصل والقصة واحدة على أن ليكة اسْمٌ لَا يُعْرَفُ، رُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ كَانُوا أَصْحَابَ شَجَرٍ مُلْتَفٍّ وَتِلْكَ الشَّجَرُ هِيَ الَّتِي حِمْلُهَا الْمُقْلُ، فَإِنْ قِيلَ هَلَّا قَالَ أَخُوهُمْ شُعَيْبٌ كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ جَوَابُهُ: أَنَّ شُعَيْبًا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ شُعَيْبًا أَخَا مَدْيَنَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ» ثُمَّ إِنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ بِأَشْيَاءَ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَيْلَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ وَافٍ وَطَفِيفٌ وَزَائِدٌ فَأَمَرَ بِالْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ الْإِيفَاءُ بِقَوْلِهِ: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَنَهَى عَنِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي هُوَ التَّطْفِيفُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّائِدَ لِأَنَّهُ بِحَيْثُ إِنْ فَعَلَهُ فَقَدْ أَحْسَنَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِالْإِيفَاءِ بَيَّنَ أَنَّهُ كَيْفَ يَفْعَلُ فَقَالَ: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ قُرِئَ بِالْقِسْطَاسِ مَضْمُومًا وَمَكْسُورًا وَهُوَ الْمِيزَانُ، وَقِيلَ الْقَرَسْطُونُ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ يُقَالُ بَخَسَهُ حَقَّهُ إِذَا نَقَصَهُ إِيَّاهُ وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ حَقٍّ يَثْبُتُ لِأَحَدٍ أَنْ لَا يُهْضَمَ وَفِي كُلِّ مِلْكٍ أَنْ لَا يُغْصَبَ [علية] «1» مالكه [ولا يتحيف منه] «2» وَلَا يُتَصَرَّفُ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ تَصَرُّفًا شَرْعِيًّا وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ يُقَالُ عَثَا فِي الْأَرْضِ وَعَثِيَ وَعَاثَ وَذَلِكَ نَحْوُ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَالْغَارَةِ وَإِهْلَاكِ الزَّرْعِ، وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مَعَ/ تَوْلِيَتِهِمْ أَنْوَاعَ الْفَسَادِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ وَقُرِئَ (الْجُبُلَّةَ) بِوَزْنِ الْأُبُلَّةِ وَقُرِئَ (الْجِبْلَةَ) بِوَزْنِ الْخِلْقَةِ وَمَعْنَاهُنَّ وَاحِدٌ أَيْ ذَوِي الْجِبِلَّةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ الْمُتَفَضِّلُ بِخَلْقِهِمْ وَخَلْقِ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِمَّنْ لَوْلَا خَلْقُهُمْ لَمَا كَانُوا مَخْلُوقِينَ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْقَوْمِ جَوَابٌ إِلَّا مَا لَوْ تَرَكُوهُ لَكَانَ أَوْلَى بِهِمْ وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُمْ: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَإِنْ قِيلَ: هل اختلف المعنى بإدخال الواو هاهنا وَتَرْكِهَا فِي قِصَّةِ ثَمُودَ؟ جَوَابُهُ: إِذَا دَخَلَتِ الْوَاوُ فَقَدْ قُصِدَ مَعْنَيَانِ كِلَاهُمَا مُنَافٍ لِلرِّسَالَةِ عِنْدَهُمُ السِّحْرُ وَالْبَشَرِيَّةُ وَإِذَا تُرِكَتِ الْوَاوُ فَلَمْ يَقْصِدُوا إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا وَهُوَ كَوْنُهُ مُسَحَّرًا ثُمَّ قَرَّرَهُ بِكَوْنِهِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ الثَّانِي: قَوْلُهُمْ: وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ، ثُمَّ إِنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَتَوَعَّدُهُمْ بِالْعَذَابِ إِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ فَقَالُوا: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ قُرِئَ كِسْفًا بِالسُّكُونِ وَالْحَرَكَةِ وَكِلَاهُمَا جَمْعُ كِسْفَةٍ وَهِيَ الْقِطْعَةُ وَالسَّمَاءُ السَّحَابُ أَوِ الظُّلَّةُ، وَهُمْ إِنَّمَا طَلَبُوا ذَلِكَ لِاسْتِبْعَادِهِمْ وُقُوعَهُ فَظَنُّوا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقَعْ ظَهَرَ كَذِبُهُ فَعِنْدَهُ قَالَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ فَلَمْ يَدْعُ عَلَيْهِمْ بَلْ فَوَّضَ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى فَلَمَّا اسْتَمَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ عَلَى مَا اقْتَرَحُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنْ أَرَادُوا بِالسَّمَاءِ السَّحَابَ، وَإِنْ أَرَادُوا الظُّلَّةَ فَقَدْ خَالَفَ بِهِمْ عَنْ مُقْتَرَحِهِمْ يُرْوَى أَنَّهُ حَبَسَ عَنْهُمُ الرِّيحَ سَبْعًا وَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الرَّمْلَ فأخذ بأنفاسهم، لا ينفعهم ظل

_ (1) زيادة من الكشاف 3/ 127 ط. دار الفكر. (2) زيادة من الكشاف 3/ 127 ط. دار الفكر.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 192 إلى 196]

وَلَا مَاءٌ فَاضْطُرُّوا إِلَى أَنْ خَرَجُوا إِلَى الْبَرِّيَّةِ فَأَظَلَّتْهُمْ سَحَابَةٌ وَجَدُوا لَهَا بَرَدًا وَنَسِيمًا فَاجْتَمَعُوا تَحْتَهَا فَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ نَارًا فَاحْتَرَقُوا، وَرُوِيَ أَنَّ شُعَيْبًا بُعِثَ إِلَى أُمَّتَيْنِ أَصْحَابِ مَدْيَنَ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ فَأُهْلِكَتْ مَدْيَنُ بِصَيْحَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السلام وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة، وهاهنا آخِرُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْقَصَصِ السَّبْعِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ تَسْلِيَةً لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا نَالَهُ من الغم الشديد، بقي هاهنا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْعَذَابَ النَّازِلَ بِعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَغَيْرِهِمْ مَا كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ قِرَانَاتِ الْكَوَاكِبِ وَاتِّصَالَاتِهَا عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ النُّجُومِ؟ وَإِذَا قَامَ هَذَا الِاحْتِمَالُ لَمْ يَحْصُلِ الِاعْتِبَارُ بِهَذِهِ الْقَصَصِ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ إِنَّمَا يَحْصُلُ أَنْ لَوْ عَلِمْنَا أَنَّ نُزُولَ هَذَا الْعَذَابِ كَانَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ يُنْزِلُ الْعَذَابَ مِحْنَةً لِلْمُكَلَّفِينَ وَابْتِلَاءً لَهُمْ عَلَى مَا قَالَ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [مُحَمَّدٍ: 31] وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَدِ ابْتَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْبَلَاءِ الْعَظِيمِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَدُلَّ نُزُولُ الْبَلَاءِ بِهِمْ عَلَى كَوْنِهِمْ مُبْطِلِينَ وَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ هَذِهِ الْقَصَصَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيَةً وَإِزَالَةً لِلْحُزْنِ عَنْ قَلْبِهِ، فَلَمَّا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى مُحَمَّدًا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ الْعَذَابَ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِمْ، عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يحصل به التسلية وَالْفَرَحُ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاحْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى الْقَدْحِ فِي عِلْمِ الْأَحْكَامِ/ بِأَنْ قَالَ الْمُؤَثِّرُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، إِمَّا الْكَوَاكِبُ أَوِ الْبُرُوجُ أَوْ كَوْنُ الْكَوْكَبِ فِي الْبُرْجِ الْمُعَيَّنِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَإِلَّا لَحَصَلَتْ هَذِهِ الْآثَارُ أَيْنَ حَصَلَ الْكَوْكَبُ وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ، وَإِلَّا لَزِمَ دَوَامُ الْأَثَرِ بِدَوَامِ الْبُرْجِ وَالثَّالِثُ أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْفَلَكَ عَلَى قَوْلِهِمْ بَسِيطٌ لَا مُرَكَّبٌ فَيَكُونُ طَبْعُ كُلِّ بُرْجٍ مُسَاوِيًا لِطَبْعِ الْبُرْجِ الْآخَرِ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، فَيَكُونُ حَالُ الْكَوْكَبِ وَهُوَ فِي بُرْجِهِ كَحَالِهِ وَهُوَ فِي بُرْجٍ آخَرَ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَدُومَ ذَلِكَ الْأَثَرُ بِدَوَامِ الْكَوْكَبِ، وَلِلْقَوْمِ أَنْ يَقُولُوا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صُدُورُ الْأَثَرِ عَنِ الْكَوْكَبِ الْمُعَيَّنِ مَوْقُوفًا عَلَى كَوْنِهِ مُسَامِتًا مُسَامَتَةً مَخْصُوصَةً لِكَوْكَبٍ آخَرَ، فَإِذَا فُقِدَتْ تِلْكَ الْمُسَامَتَةُ فُقِدَ شَرْطُ التَّأْثِيرِ فَلَا يَحْصُلُ التَّأْثِيرُ؟ وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الدَّلَالَةُ، إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُؤَثِّرَةً بِحَسَبِ ذَوَاتِهَا وَطَبَائِعِهَا، وَلَكِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُؤَثِّرَةً بِحَسَبِ جَرْيِ الْعَادَةِ، فَإِذَا أَجْرَى اللَّه تَعَالَى عَادَتَهُ بِحُصُولِ تَأْثِيرَاتٍ مَخْصُوصَةٍ عَقِيبَ اتِّصَالَاتِ الْكَوَاكِبِ وَقِرَانَاتِهَا وَأَدْوَارِهَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ حُصُولِ هَذِهِ الْآثَارِ الْقَطْعُ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَهَا لِأَجْلِ زَجْرِ الْكُفَّارِ بَلْ لَعَلَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا تَكْرِيرًا لِتِلْكَ الْعَادَاتِ واللَّه أعلم. [سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 196] وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) الْقَوْلُ فِيمَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ أَحْوَالِ محمد عليه الصلاة والسلام

اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا خَتَمَ مَا اقْتَصَّهُ مِنْ خَبَرِ الْأَنْبِيَاءِ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لِفَصَاحَتِهِ مُعْجِزٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَوْ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ الْقَصَصِ الْمَاضِيَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمٍ الْبَتَّةَ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ كَأَنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِهَذَا الِاحْتِمَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْقَصَصَ السَّبْعَ عَلَى مَا هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ أَصْلًا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَغِلْ بِالتَّعَلُّمِ وَالِاسْتِعْدَادِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ فَالْمُرَادُ بِالتَّنْزِيلِ الْمُنَزَّلُ، ثُمَّ قَدْ كَانَ يَجُوزُ فِي الْقُرْآنِ وَهَذِهِ الْقَصَصِ أَنْ يَكُونَ تَنْزِيلًا مِنَ اللَّه تَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا وَاسِطَةٍ فَقَالَ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ وَالْبَاءُ في قوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ ونَزَلَ بِهِ الرُّوحُ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ لِلتَّعْدِيَةِ، وَمَعْنَى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ جَعَلَ اللَّه الرُّوحَ نَازِلًا بِهِ عَلى قَلْبِكَ أي [حفظكه و] «1» فَهَّمَكَ إِيَّاهُ وَأَثْبَتَهُ فِي قَلْبِكَ إِثْبَاتَ مَا لَا يُنْسَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ/ فَلا تَنْسى [الْأَعْلَى: 6] وَالرُّوحُ الْأَمِينُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَمَّاهُ رُوحًا مِنْ حَيْثُ خُلِقَ مِنَ الرُّوحِ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ نَجَاةُ الْخَلْقِ فِي بَابِ الدِّينِ فَهُوَ كَالرُّوحِ الَّذِي تَثْبُتُ مَعَهُ الْحَيَاةُ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ رُوحٌ كُلُّهُ لَا كَالنَّاسِ الَّذِينَ فِي أَبْدَانِهِمْ رُوحٌ وَسَمَّاهُ أَمِينًا لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا يُؤَدِّيهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَإِلَى غَيْرِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: عَلى قَلْبِكَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ: عَلى قَلْبِكَ وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ لِيُؤَكِّدَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْمُنَزَّلَ مَحْفُوظٌ لِلرَّسُولِ مُتَمَكِّنٌ فِي قَلْبِهِ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ فَيُوثَقُ بِالْإِنْذَارِ الْوَاقِعِ مِنْهُ الَّذِي بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَلِذَلِكَ قَالَ: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ الثَّانِي: أَنَّ الْقَلْبَ هُوَ الْمُخَاطَبُ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ التمييز والاختبار، وَأَمَّا سَائِرُ الْأَعْضَاءِ فَمُسَخَّرَةٌ لَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَآيَاتٌ إِحْدَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [97] : فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ وقال هاهنا: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ وَقَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: 37] ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْجَزَاءِ لَيْسَ إِلَّا عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ مِنَ الْمَسَاعِي فَقَالَ: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ، وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [الْبَقَرَةِ: 225] وَقَالَ: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ [الْحَجِّ: 37] وَالتَّقْوَى فِي الْقَلْبِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى [الْحُجُرَاتِ: 3] وَقَالَ تَعَالَى: وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [الْعَادِيَاتِ: 10] . وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ أَهْلِ النَّارِ: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ [الْمُلْكِ: 10] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَقْلَ فِي الْقَلْبِ وَالسَّمْعَ مُنْفِذٌ إِلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الْإِسْرَاءِ: 36] وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ لَا يُسْتَفَادُ مِنْهُمَا إِلَّا مَا يُؤَدِّيَانِهِ إِلَى الْقَلْبِ، فَكَانَ السُّؤَالُ عَنْهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ سُؤَالًا عَنِ الْقَلْبِ وَقَالَ تَعَالَى: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ [غَافِرٍ: 19] ، وَلَمْ تُخْفِ «2» الْأَعْيُنُ إِلَّا بِمَا تُضْمِرُ الْقُلُوبُ عِنْدَ التَّحْدِيقِ بِهَا وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [السَّجْدَةِ: 9] فَخَصَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ بِإِلْزَامِ الحجة مِنْهَا وَاسْتِدْعَاءِ الشُّكْرِ عَلَيْهَا، وَقَدْ قُلْنَا لَا طَائِلَ فِي السَّمْعِ وَالْأَبْصَارَ إِلَّا بِمَا يُؤَدِّيَانِ إِلَى الْقَلْبِ لِيَكُونَ الْقَلْبُ هُوَ الْقَاضِيَ فِيهِ والمتحكم

_ (1) زيادة من الكشاف 3/ 128 ط. دار الفكر. (2) مقتضى الكلام أن يقول ولم تخن الأعين لأن القلوب هي التي تخفي.

عَلَيْهِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ [الْأَحْقَافِ: 26] فَجَعَلَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ تَمَامَ مَا أَلْزَمَهُمْ مِنْ حُجَّتِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْفُؤَادُ الْقَاضِي فِيمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 7] فَجَعَلَ الْعَذَابَ لَازِمًا عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَقَالَ: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِها [الْأَعْرَافِ: 179] وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ قَصَدَ إِلَى نَفْيِ الْعِلْمِ عَنْهُمْ رَأْسًا، فَلَوْ ثَبَتَ الْعِلْمُ فِي غَيْرِ الْقَلْبِ كَثَبَاتِهِ فِي الْقَلْبِ لَمْ يَتِمَّ الْغَرَضُ فَهَذِهِ الْآيَاتُ وَمُشَاكِلُهَا نَاطِقَةٌ بِأَجْمَعِهَا أَنَّ الْقَلْبَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِإِلْزَامِ الحجة، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا قُرِنَ بِذِكْرِهِ مِنْ ذِكْرِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا آلَتَانِ لِلْقَلْبِ فِي تَأْدِيَةِ صُوَرِ الْمَحْسُوسَاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَمَا رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ قَالَ سَمِعْتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً/ إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَوُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَلْبَ إِذَا غُشِيَ عَلَيْهِ فَلَوْ قُطِعَ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ لَمْ يَحْصُلِ الشُّعُورُ بِهِ وَإِذَا أَفَاقَ الْقَلْبُ فَإِنَّهُ يَشْعُرُ بِجَمِيعِ مَا يَنْزِلُ بِالْأَعْضَاءِ مِنَ الْآفَاتِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سائر الأعراض النفسانية وثانيها: أن القلب إذا فرح أو حزن فإنه بتغير حَالُ الْأَعْضَاءِ عِنْدَ ذَلِكَ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْأَعْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقَلْبَ مَنْبَعُ الْمَشَاقِّ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ مِنْ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَإِذَا كَانَتِ الْمَشَاقُّ مَبَادِئَ لِلْأَفْعَالِ وَمَنْبَعُهَا هُوَ الْقَلْبُ كَانَ الْآمِرُ الْمُطْلَقُ هُوَ الْقَلْبَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَعْدِنَ الْعَقْلِ هُوَ الْقَلْبُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْآمِرُ الْمُطْلَقُ هُوَ الْقَلْبَ. أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: فَفِيهَا النِّزَاعُ فَإِنَّ طَائِفَةً مِنَ الْقُدَمَاءِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ مَعْدِنَ الْعَقْلِ هُوَ الدِّمَاغُ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها [الْحَجِّ: 46] وَقَوْلُهُ: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها [الْأَعْرَافِ: 179] وَقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: 37] أَيْ عَقْلٌ، أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْقَلْبِ لِمَا أَنَّهُ مَعْدِنُهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ أَضْدَادَ الْعِلْمِ إِلَى الْقَلْبِ، وَقَالَ: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة: 10] ، خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة: 7] وقولهم: قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النِّسَاءِ: 155] ، يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ [التَّوْبَةِ: 64] ، يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الْفَتْحِ: 11] ، كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ [الْمُطَفِّفِينَ: 14] ، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [مُحَمَّدٍ: 24] ، فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الْحَجِّ: 46] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ الْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ هُوَ الْقَلْبُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ أَيْضًا هُوَ الْقَلْبَ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّا إِذَا جَرَّبْنَا أَنْفُسَنَا وَجَدْنَا عُلُومَنَا حَاصِلَةً فِي نَاحِيَةِ الْقَلْبِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا إِذَا أَمْعَنَ فِي الْفِكْرِ وَأَكْثَرَ مِنْهُ أَحَسَّ مِنْ قَلْبِهِ ضِيقًا وَضَجَرًا حَتَّى كَأَنَّهُ يَتَأَلَّمُ بِذَلِكَ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ الْعَقْلِ هُوَ الْقَلْبُ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ هُوَ الْقَلْبَ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ مَشْرُوطٌ بِالْعَقْلِ وَالْفَهْمِ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ الْقَلْبَ أَوَّلُ الْأَعْضَاءِ تَكَوُّنًا، وَآخِرُهَا مَوْتًا، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالتَّشْرِيحِ وَلِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ فِي الصَّدْرِ الَّذِي هُوَ أَوْسَطُ الْجَسَدِ، وَمِنْ شَأْنِ الْمُلُوكِ الْمُحْتَاجِينَ إِلَى الْخَدَمِ أَنْ يَكُونُوا فِي وَسَطِ الْمَمْلَكَةِ لِتَكْتَنِفَهُمُ الْحَوَاشِي مِنَ الْجَوَانِبِ فَيَكُونُوا أَبْعَدَ مِنَ الْآفَاتِ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ الْعَقْلُ فِي الدِّمَاغِ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَوَاسَّ الَّتِي هِيَ الْآلَاتُ لِلْإِدْرَاكِ نَافِذَةٌ إِلَى الدِّمَاغِ دُونَ الْقَلْبِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَعْصَابَ الَّتِي هِيَ الْآلَاتُ في الحركات

الاختيارية نافذة من الدماغ من دُونَ الْقَلْبِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْآفَةَ إِذَا حَلَّتْ فِي الدِّمَاغِ اخْتَلَّ الْعَقْلُ وَرَابِعُهَا: أَنَّ فِي الْعُرْفِ كُلُّ مَنْ أُرِيدَ وَصْفُهُ بِقِلَّةِ الْعَقْلِ قِيلَ إِنَّهُ خَفِيفُ الدِّمَاغِ خَفِيفُ الرَّأْسِ وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْعَقْلَ أَشْرَفُ فَيَكُونُ مَكَانُهُ أَشْرَفَ، وَالْأَعْلَى هُوَ الْأَشْرَفُ وَذَلِكَ هُوَ الدِّمَاغُ لَا الْقَلْبُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحِلُّ الْعَقْلِ هُوَ الدِّمَاغَ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْحَوَاسُّ تُؤَدِّي آثَارُهَا إِلَى الدِّمَاغِ، ثُمَّ إِنِ الدِّمَاغَ يُؤَدِّي تِلْكَ الْآثَارَ إِلَى الْقَلْبِ، فالدماغ آلة قريبة للقلب/ لِلْقَلْبِ وَالْحَوَاسُّ آلَاتٌ بَعِيدَةٌ فَالْحِسُّ يَخْدِمُ الدِّمَاغَ، ثُمَّ الدِّمَاغُ يَخْدِمُ الْقَلْبَ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّا نُدْرِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنَّا إِذَا عَقَلْنَا أَنَّ الْأَمْرَ الْفُلَانِيَّ يَجِبُ فِعْلُهُ أَوْ يَجِبُ تَرْكُهُ، فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ تَتَحَرَّكُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَنَحْنُ نَجِدُ التَّعَقُّلَاتِ مِنْ جَانِبِ الْقَلْبِ لَا مِنْ جَانِبِ الدِّمَاغِ وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَأَدَّى الْأَثَرُ مِنَ الْقَلْبِ إِلَى الدِّمَاغِ، ثُمَّ الدِّمَاغُ يُحَرِّكُ الْأَعْضَاءَ بِوَاسِطَةِ الْأَعْصَابِ النَّابِتَةِ مِنْهُ، وَعَنِ الثَّالِثِ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ سَلَامَةُ الدِّمَاغِ شَرْطًا لِوُصُولِ تَأْثِيرِ الْقَلْبِ إِلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّ ذَلِكَ الْعُرْفَ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ الْقَلْبَ إِنَّمَا يَعْتَدِلُ مِزَاجُهُ بِمَا يَسْتَمِدُّ مِنَ الدِّمَاغِ مِنْ بُرُودَتِهِ، فَإِذَا لَحِقَ الدِّمَاغَ خُرُوجٌ عَنِ الِاعْتِدَالِ خَرَجَ الْقَلْبُ عَنِ الِاعْتِدَالِ أَيْضًا، إِمَّا لِازْدِيَادِ حَرَارَتِهِ عَنِ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ أَوْ لِنُقْصَانِ حَرَارَتِهِ عَنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ فَحِينَئِذٍ يَخْتَلُّ الْعَقْلُ وَعَنِ الْخَامِسِ: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَا قَالُوهُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ الْعَقْلِ هُوَ الْقِحْفَ، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ ثَبَتَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ واللَّه أَعْلَمُ. فَرْعٌ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي بَيَّنَّا كَوْنَهَا مُخْتَصَّةً بِالْقُلُوبِ قَدْ تُضَافُ إِلَى الصَّدْرِ تَارَةً وَإِلَى الْفُؤَادِ أُخْرَى، أَمَّا الصَّدْرُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [الْعَادِيَاتِ: 10] وَقَوْلِهِ: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 154] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [هود: 5] ، وإِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ [آلِ عِمْرَانَ: 29] وَأَمَّا الْفُؤَادُ فَقَوْلُهُ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ [الْأَنْعَامِ: 110] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْفُؤَادِ فَقَالَ: الْقَلْبُ هُوَ الْعَلَقَةُ السَّوْدَاءُ فِي جَوْفِ الْفُؤَادِ دُونَ مَا يَكْتَنِفُهَا مِنَ اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ، وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ هُوَ الْفُؤَادُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْقَلْبُ وَالْفُؤَادُ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ، وَكَيْفَ كَانَ فَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْعُضْوِ الْمُسَمَّى قَلْبًا وَفُؤَادًا مَوْضِعًا هُوَ الْمَوْضِعُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلْعَقْلِ وَالِاخْتِيَارِ، وَأَنَّ مُعْظَمَ جِرْمِ هَذَا الْعُضْوِ مُسَخَّرٌ لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ، كَمَا أَنَّ سَائِرَ الْأَعْضَاءِ مُسَخَّرَةٌ لِلْقَلْبِ، فَإِنَّ الْعُضْوَ قَدْ تَزِيدُ أَجْزَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ ازْدِيَادِ الْمَعَانِي الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِ أَعْنِي الْعَقْلَ وَالْفَرَحَ وَالْحُزْنَ وَقَدْ يَنْقُصُ مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ فِي تِلْكَ الْمَعَانِي، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْقَلْبِ اسْمًا لِلْأَجْزَاءِ الَّتِي تَحِلُّ فِيهَا هَذِهِ الْمَعَانِي بِالْحَقِيقَةِ، وَاسْمُ الْفُؤَادِ يَكُونُ اسْمًا لِمَجْمُوعِ الْعُضْوِ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ واللَّه الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْإِنْذَارِ الدُّعَاءُ إِلَى كُلِّ وَاجِبٍ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَالْمَنْعُ مَنْ كُلِّ قَبِيحٍ لِأَنَّ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا يَدْخُلُ الْخَوْفُ مِنَ الْعِقَابِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ فَالْبَاءُ إِمَّا أَنْ تتعلق بالمنذرين فَيَكُونَ الْمَعْنَى لِتَكُونَ مِنَ الَّذِينَ أَنْذَرُوا بِهَذَا اللِّسَانِ، وَهُمْ خَمْسَةٌ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَإِسْمَاعِيلُ ومحمد عليهم السلام، وإما أن تتعلق بنزل فَيَكُونَ الْمَعْنَى نَزَلَّهُ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ لِيُنْذِرَ بِهِ لأنه لو نزله باللسان الأعجمي [لتجافوا عنه أصلا و] «1» لَقَالُوا لَهُ مَا نَصْنَعُ بِمَا لَا نَفْهَمُهُ فَيَتَعَذَّرُ الْإِنْذَارُ بِهِ، وَفِي هَذَا الوجه أَنَّ تَنْزِيلَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ الَّتِي هِيَ لِسَانُكَ وَلِسَانُ قَوْمِكَ تَنْزِيلٌ لَهُ عَلَى قَلْبِكَ لِأَنَّكَ تَفْهَمُهُ وَيَفْهَمُهُ قَوْمُكَ، وَلَوْ كَانَ أَعْجَمِيًّا لَكَانَ نَازِلًا عَلَى سمعك دون قلبك، لأنك تسمع أجراس

_ (1) زيادة من الكشاف 3/ 128 ط. دار الفكر.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 197 إلى 201]

حُرُوفٍ لَا تَفْهَمُ مَعَانِيَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ فَيَحْتَمِلُ هَذِهِ الْأَخْبَارَ خَاصَّةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ صِفَةَ الْقُرْآنِ، وَيَحْتَمِلُ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وُجُوهَ التَّخْوِيفِ، لِأَنَّ ذكر هذه الأشياء بأسرها قد تقدم. [سورة الشعراء (26) : الآيات 197 الى 201] أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ الْمُرَادُ مِنْهُ ذِكْرُ الحجة الثَّانِيَةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصِدْقِهِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَسْلَمُوا وَنَصُّوا عَلَى مَوَاضِعَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ذُكِرَ فِيهَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِصِفَتِهِ وَنَعْتِهِ، وَقَدْ كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يَذْهَبُونَ إِلَى الْيَهُودِ وَيَتَعَرَّفُونَ مِنْهُمْ هَذَا الْخَبَرَ، وَهَذَا يَدُلُّ دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى نُبُوَّتِهِ لِأَنَّ تَطَابُقَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى نَعْتِهِ وَوَصْفِهِ يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ قُرِئَ يَكُنْ بالتذكير، وآية النصب عَلَى أَنَّهَا خَبَرُهُ وَ (أَنْ يَعْلَمَهُ) هُوَ الِاسْمُ، وَقُرِئَ تَكُنْ بِالتَّأْنِيثِ وَجُعِلَتْ (آيَةٌ) اسْمًا وَ (أَنْ يَعْلَمَهُ) خَبَرًا، وَلَيْسَتْ كَالْأُولَى لِوُقُوعِ النَّكِرَةِ اسْمًا وَالْمَعْرِفَةِ خَبَرًا، وَيَجُوزُ مَعَ نَصْبِ الْآيَةِ تَأْنِيثُ (يَكُنْ) كَقَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا [الْأَنْعَامِ: 23] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بِالدَّلِيلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِدْقَ لَهْجَتِهِ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ لَا تَنْفَعُهُمُ الدَّلَائِلُ وَلَا الْبَرَاهِينُ، فَقَالَ: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ يَعْنِي إِنَّا أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى رَجُلٍ عَرَبِيٍّ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، فَسَمِعُوهُ وَفَهِمُوهُ وَعَرَفُوا فَصَاحَتَهُ، وَأَنَّهُ مُعْجِزٌ لَا يُعَارَضُ بِكَلَامٍ مِثْلِهِ، وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ بِشَارَةُ كُتُبِ اللَّه السَّالِفَةِ بِهِ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَجَحَدُوهُ، وَسَمَّوْهُ شِعْرًا تَارَةً وَسِحْرًا أُخْرَى، فَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ الَّذِي لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لَكَفَرُوا بِهِ أَيْضًا وَلَتَمَحَّلُوا لِجُحُودِهِمْ عُذْرًا، ثم قال: كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أَيْ مِثْلُ هَذَا السَّلْكِ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَهَكَذَا مَكَّنَّاهُ وَقَرَّرْنَاهُ فِيهَا/ وَكَيْفَمَا فَعَلَ بِهِمْ فَلَا سَبِيلَ إِلَى أَنْ يَتَغَيَّرُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُفِيدُ تَسْلِيَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ إِذَا عَرَفَ رَسُولُ اللَّه إِصْرَارَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَأَنَّهُ قَدْ جَرَى الْقَضَاءُ الْأَزَلِيُّ بِذَلِكَ حَصَلَ الْيَأْسُ، وَفِي الْمَثَلِ: الْيَأْسُ إِحْدَى الرَّاحَتَيْنِ. المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ بِقَضَاءِ اللَّه وَخَلْقِهِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ صَارَ ذَلِكَ التَّكْذِيبُ مُتَمَكِّنًا فِي قُلُوبِهِمْ أَشَدَّ التَّمَكُّنِ فَصَارَ ذَلِكَ كَالشَّيْءِ الْجِبِلِّيِّ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ فَعَلَ اللَّه فِيهِمْ مَا يَقْتَضِي رُجْحَانَ التَّكْذِيبِ عَلَى التَّصْدِيقِ أَوْ مَا فَعَلَ ذَلِكَ فِيهِمْ،

[سورة الشعراء (26) : الآيات 202 إلى 209]

فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ دَلَّلْنَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ عَلَى أَنَّ التَّرْجِيحَ لَا يَتَحَقَّقُ مَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَى حَدِّ الْوُجُوبِ وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فِيهِمْ مَا يَقْتَضِي التَّرْجِيحَ الْبَتَّةَ، امْتَنَعَ قَوْلُهُ: كَذلِكَ سَلَكْناهُ كَمَا أَنَّ طَيَرَانَ الطَّائِرِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعَلُّقٌ بِكُفْرِهِمْ، امْتَنَعَ إِسْنَادُ الْكُفْرِ إِلَى ذَلِكَ الطَّيَرَانِ. المسألة الْخَامِسَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَوْقِعُ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ؟ قُلْتُ مَوْقِعُهُ مِنْهُ مُوقِعُ الْمُوَضِّحِ (وَالْمُبَيِّنِ) «1» ، لِأَنَّهُ مَسُوقٌ (لِبَيَانِهِ مُؤَكِّدٌ لِلْجُحُودِ) «2» فِي قُلُوبِهِمْ، فَاتَّبَعَ مَا يُقَرِّرُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ عَلَى التكذيب به حتى يعاينوا الوعيد. [سورة الشعراء (26) : الآيات 202 الى 209] فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، وَأَنَّهُ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً أَتْبَعَهُ بِمَا يَكُونُ مِنْهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحَسْرَةَ فَقَالَ: فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ كَمَا يَسْتَغِيثُ الْمَرْءُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْخَلَاصِ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ فِي الْآخِرَةِ أَنْ لَا مَلْجَأَ، لَكِنَّهُمْ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ اسْتِرْوَاحًا. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَسْتَعْجِلُونَ الْعَذَابَ، مَعَ أَنَّ حَالَهُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ طَلَبُ النَّظْرَةِ لِيُعْرَفَ تَفَاوُتُ الطَّرِيقَيْنِ فَيُعْتَبَرَ بِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ/ تَعَالَى أَنَّ اسْتِعْجَالَ الْعَذَابِ عَلَى وَجْهِ التَّكْذِيبِ إِنَّمَا يَقَعُ مِنْهُمْ لِيَتَمَتَّعُوا فِي الدُّنْيَا، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ جَهْلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُدَّةَ التَّمَتُّعِ فِي الدُّنْيَا مُتَنَاهِيَةٌ قَلِيلَةٌ، وَمُدَّةَ الْعَذَابِ الَّذِي يَحْصُلُ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ تَرْجِيحٌ لَذَّاتٍ مُتَنَاهِيَةٍ قَلِيلَةٍ عَلَى آلَامٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ، وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ أَنَّهُ لَقِيَ الْحَسَنَ فِي الطَّوَافِ، فَقَالَ لَهُ عِظْنِي، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ مَيْمُونٌ: لَقَدْ وَعَظْتَ فَأَبْلَغْتَ، وَقُرِئَ يُمَتَّعُونَ بِالتَّخْفِيفِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُهْلِكْ قَرْيَةً إِلَّا وَهُنَاكَ نَذِيرٌ يُقِيمُ عَلَيْهِمُ الحجة. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذِكْرى فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : ذِكْرَى مَنْصُوبَةٌ بِمَعْنَى تَذْكِرَةٍ، إِمَّا لِأَنَّ أَنْذَرَ وَذَكَّرَ مُتَقَارِبَانِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ مُذَكِّرُونَ تَذْكِرَةً، وَإِمَّا لِأَنَّهَا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُنْذِرُونَ، أَيْ يُنْذِرُونَهُمْ ذَوِي تَذْكِرَةٍ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا مَفْعُولٌ لَهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ يُنْذِرُونَ لِأَجْلِ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّذْكِرَةِ، أَوْ مَرْفُوعَةٌ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ بِمَعْنَى هَذِهِ ذِكْرَى، وَالْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ أَوْ صِفَةٌ بِمَعْنَى مُنْذِرُونَ ذَوُو ذِكْرَى، وجعلوا ذكرى لإمعانهم في التذكرة

_ (1) في الكشاف (والملخص) 3/ 129 ط. دار الفكر. (2) في الكشاف (لثباته مكذبا مجحودا) .

[سورة الشعراء (26) : الآيات 210 إلى 213]

وَإِطْنَابِهِمْ فِيهَا، وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذكرى متعلقة بأهلكنا مَفْعُولًا لَهُ، وَالْمَعْنَى وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ أَهْلِ قرية قوم ظَالِمِينَ إِلَّا بَعْدَ مَا أَلْزَمْنَاهُمُ الحجة بِإِرْسَالِ الْمُنْذِرِينَ إِلَيْهِمْ لِيَكُونَ إِهْلَاكُهُمْ تَذْكِرَةً وَعِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ فَلَا يَعْصُوا مِثْلَ عِصْيَانِهِمْ، وَما كُنَّا ظالِمِينَ فَنُهْلِكَ قَوْمًا غَيْرَ ظَالِمِينَ، وَهَذَا الوجه عَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ، فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ عَزَلْتَ الْوَاوَ عَنِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ إِلَّا، وَلَمْ تَعْزِلْ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الْحِجْرِ: 4] قُلْتُ: الْأَصْلُ عَزْلُ الْوَاوِ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ صِفَةٌ لِقَرْيَةٍ، وَإِذَا زِيدَتْ فَلِتَأْكِيدِ وصل الصفة بالموصوف. [سورة الشعراء (26) : الآيات 210 الى 213] وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا احْتَجَّ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ تَنْزِيلَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ لِوُقُوعِهِ مِنَ الْفَصَاحَةِ فِي النِّهَايَةِ الْقُصْوَى، وَلِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى قَصَصِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ، مَعَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَشْتَغِلْ بِالتَّعَلُّمِ وَالِاسْتِفَادَةِ، فَكَانَ الْكُفَّارُ يَقُولُونَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ إِلْقَاءِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ كَسَائِرِ مَا يَنْزِلُ عَلَى الْكَهَنَةِ؟، فَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَسَهَّلُ لِلشَّيَاطِينِ لِأَنَّهُمْ مَرْجُومُونَ بِالشُّهُبِ مَعْزُولُونَ عَنِ اسْتِمَاعِ كَلَامِ أَهْلِ السَّمَاءِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْعِلْمُ بِكَوْنِ الشَّيَاطِينِ مَمْنُوعِينَ عَنْ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ خَبَرِ النَّبِيِّ الصَّادِقِ، فَإِذَا أَثْبَتْنَا كَوْنِ/ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقًا بِفَصَاحَةِ الْقُرْآنَ وَإِخْبَارِهِ عَنِ الْغَيْبِ، وَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ كَوْنِ الْفَصَاحَةِ وَالْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ مُعْجِزًا إِلَّا إِذَا ثَبَتَ كَوْنُ الشَّيَاطِينِ مَمْنُوعِينَ عَنْ ذَلِكَ، لَزِمَ الدَّوْرُ وَهُوَ بَاطِلٌ وَجَوَابُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الشَّيَاطِينِ مَمْنُوعِينَ عَنْ ذَلِكَ لَا يُسْتَفَادُ إِلَّا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الِاهْتِمَامَ بِشَأْنِ الصَّدِيقِ أَقْوَى مِنَ الِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ الْعَدُوِّ، وَنَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْعَنُ الشَّيَاطِينَ وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِلَعْنِهِمْ، فَلَوْ كَانَ هَذَا الْغَيْبُ إِنَّمَا حَصَلَ مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيَاطِينِ، لَكَانَ الْكُفَّارُ أَوْلَى بِأَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ مِثْلُ هَذَا الْعِلْمِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ اقْتِدَارُ الْكُفَّارِ عَلَى مِثْلِهِ أَوْلَى، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عِلِمْنَا أَنَّ الشَّيَاطِينَ مَمْنُوعُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ مَعْزُولُونَ عَنْ تَعَرُّفِ الْغُيُوبِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْجَوَابَ ابْتَدَأَ بِخِطَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ خِطَابٌ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْحَكِيمِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَكِّدَ خِطَابَ الْغَيْرِ أَنْ يُوَجِّهَهُ إِلَى الرُّؤَسَاءِ فِي الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ هُمُ الْأَتْبَاعَ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُتْبِعَهُ مَا يَلِيقُ بِذَلِكَ، فَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ أفرده بالمخاطبة. [سورة الشعراء (26) : الآيات 214 الى 220] وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)

اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَالَغَ فِي تَسْلِيَةِ رَسُولِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ أَقَامَ الحجة عَلَى نُبُوَّتِهِ، ثَانِيًا ثُمَّ أَوْرَدَ سُؤَالَ الْمُنْكِرِينَ، وَأَجَابَ عَنْهُ ثَالِثًا، أَمَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِبَابِ التبليغ والرسالة وهو هاهنا أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بِالرَّسُولِ فَتَوَعَّدَهُ إِنْ دَعَا مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَرَ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِدَعْوَةِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا تَشَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ ثَانِيًا، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِيهِ طَعْنٌ الْبَتَّةَ وَكَانَ قَوْلُهُ أَنْفَعَ وَكَلَامُهُ أَنْجَعَ، وَرُوِيَ «أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ صَعِدَ الصَّفَا فَنَادَى الْأَقْرَبَ فالأقرب وقال: يا بني عبد المطلب، يَا بَنِي هَاشِمٍ، يَا بَنِي عَبْدِ مُنَافٍ، يَا عَبَّاسُ عَمَّ مُحَمَّدٍ، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ مُحَمَّدٍ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّه شَيْئًا، سَلُونِي مِنَ الْمَالِ/ مَا شِئْتُمْ» وَرُوِيَ «أَنَّهُ جَمَعَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ رَجُلًا عَلَى رِجْلِ شَاةٍ وَقَعْبٍ مِنْ لَبَنٍ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَأْكُلُ الْجَذَعَةَ وَيَشْرَبُ الْعُسَّ، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا، ثم قال يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ خَيْلًا، أَكَنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا نَعَمْ فَقَالَ: إِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» . الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَاخْفِضْ جَناحَكَ وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّائِرَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْحَطَّ لِلْوُقُوعِ كَسَرَ جَنَاحَهُ وَخَفَضَهُ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْهَضَ لِلطَّيَرَانِ رَفَعَ جَنَاحَهُ فَجَعَلَ خَفْضَ جَنَاحِهِ عِنْدَ الِانْحِطَاطِ مَثَلًا فِي التَّوَاضُعِ وَلِينِ الْجَانِبِ، فَإِنْ قِيلَ الْمُتَّبِعُونَ لِلرَّسُولِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَبِالْعَكْسِ فَلِمَ قَالَ: لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ جَوَابُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُتَّبِعِينَ لِلرَّسُولِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ كَانُوا يَتَّبِعُونَهُ لِلْقَرَابَةِ وَالنَّسَبِ لَا لِلدِّينِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ فَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ، قَالَ الْجُبَّائِيُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَرِيئًا مِنْ مَعَاصِيهِمْ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَيْضًا بَرِيءٌ مِنْ عَمَلِهِمْ كَالرَّسُولِ وَإِلَّا كَانَ مُخَالِفًا للَّه، كَمَا لَوْ رَضِيَ عَمَّنْ سَخِطَ اللَّه عَلَيْهِ لَكَانَ كَذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ تَعَالَى بَرِيئًا مِنْ عَمَلِهِمْ فَكَيْفَ يَكُونُ فَاعِلًا لَهُ وَمُرِيدًا لَهُ؟ الْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَرِيءٌ مِنَ الْمَعَاصِي بِمَعْنَى أَنَّهُ مَا أَمَرَ بِهَا بَلْ نَهَى عَنْهَا، فَأَمَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُهَا فَلَا نُسَلِّمُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَلِمَ وُقُوعَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ مَا هُوَ مَعْلُومُ الْوُقُوعِ فَهُوَ وَاجِبُ الْوُقُوعِ وَإِلَّا لَانْقَلَبَ عِلْمُهُ جَهْلًا وَهُوَ مُحَالٌ وَالْمُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ، وَعَلِمَ أَنَّ مَا هُوَ وَاجِبُ الْوُقُوعِ فَإِنَّهُ لَا يُرَادُ عَدَمُ وُقُوعِهِ فَثَبَتَ مَا قُلْنَاهُ وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَتَوَكَّلْ وَالتَّوَكُّلُ عِبَارَةٌ عَنْ تَفْوِيضِ الرَّجُلِ أَمْرَهُ إِلَى مَنْ يَمْلِكُ أَمْرَهُ وَيَقْدِرُ عَلَى نَفْعِهِ وَضُرِّهِ، وَقَوْلُهُ: عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أَيْ عَلَى الَّذِي يقهر أعدائك بِعِزَّتِهِ وَيَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ ثُمَّ أَتْبَعُ كَوْنَهُ رَحِيمًا عَلَى رَسُولِهِ مَا هُوَ كَالسَّبَبِ لِتِلْكَ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ قِيَامُهُ وَتَقَلُّبُهُ فِي السَّاجِدِينَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: الْمُرَادُ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ مِنْ قِيَامِهِ لِلتَّهَجُّدِ وَتَقَلُّبِهِ فِي تَصَفُّحِ أَحْوَالِ (الْمُجْتَهِدِينَ) «1» لِيَطَّلِعَ عَلَى أَسْرَارِهِمْ، كَمَا يُحْكَى أَنَّهُ حِينَ نُسِخَ فَرْضُ قِيَامِ اللَّيْلِ طَافَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بِبُيُوتِ أَصْحَابِهِ لِيَنْظُرَ مَا يَصْنَعُونَ لِحِرْصِهِ عَلَى مَا يُوجَدُ مِنْهُمْ مَنِ الطَّاعَاتِ، فَوَجَدَهَا كَبُيُوتِ الزَّنَابِيرِ لِمَا يَسْمَعُ مِنْهَا مِنْ دَنْدَنَتِهِمْ بِذِكْرِ اللَّه تَعَالَى وَالْمُرَادُ بِالسَّاجِدِينَ الْمُصَلِّينَ وَثَانِيهَا: الْمَعْنَى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ لِلصَّلَاةِ بِالنَّاسِ جَمَاعَةً وَتُقَلُّبُهُ فِي السَّاجِدِينَ تَصَرُّفُهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِقِيَامِهِ وَرُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ وَقُعُودِهِ إِذْ كَانَ إِمَامًا لَهُمْ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُكَ كُلَّمَا قُمْتَ وَتَقَلَّبْتَ مَعَ السَّاجِدِينَ فِي

_ (1) في الكشاف (المتهجدين من أصحابه) 3/ 132 ط. دار الفكر.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 221 إلى 223]

كِفَايَةِ أُمُورِ الدِّينِ وَرَابِعُهَا: الْمُرَادُ تَقَلُّبُ بَصَرِهِ فِيمَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عليه وسلم: «أتموا الركوع والسجود فو اللَّه إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ خَلْفِي» ثم قال: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ أَيْ لِمَا تَقُولُهُ الْعَلِيمُ أَيْ بِمَا تَنْوِيهِ وَتَعْمَلُهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ سَمِيعًا أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِعِلْمِهِ بِالْمَسْمُوعَاتِ وَإِلَّا لَكَانَ لَفْظُ الْعَلِيمُ مُفِيدًا فَائِدَتَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قُرِئَ وَنُقَلِّبُكَ «1» . وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّافِضَةَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ آبَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَتَمَسَّكُوا فِي ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ/ وَبِالْخَبَرِ، أَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَقَالُوا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ يَحْتَمِلُ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرْتُمْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى نَقَلَ رُوحَهُ مِنْ سَاجِدٍ إِلَى سَاجِدٍ كَمَا نَقُولُهُ نَحْنُ، وَإِذَا احْتَمَلَ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَجَبَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْكُلِّ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ وَلَا رُجْحَانَ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَمْ أَزَلْ أُنْقَلُ مِنْ أَصْلَابِ الطَّاهِرَيْنِ إِلَى أَرْحَامِ الطَّاهِرَاتِ» وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَافِرًا فَهُوَ نَجَسٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التَّوْبَةِ: 28] قَالُوا: فَإِنْ تَمَسَّكْتُمْ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْمَذْهَبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الْأَنْعَامِ: 74] قُلْنَا الْجَوَابُ: عَنْهُ أَنَّ لَفْظَ الْأَبِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْعَمِّ كَمَا قَالَ أَبْنَاءُ يَعْقُوبَ لَهُ: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [الْبَقَرَةِ: 133] فَسَمَّوْا إِسْمَاعِيلَ أَبًا لَهُ مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَمًّا لَهُ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رُدُّوا عَلَيَّ أَبِي» يَعْنِي العباس، ويحتمل أيضا أن يكون متخذا لأصنام أَبَ أُمِّهِ فَإِنَّ هَذَا قَدْ يُقَالُ لَهُ الْأَبُ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ إِلَى قَوْلِهِ: وَعِيسى [الْأَنْعَامِ: 84، 85] فَجَعَلَ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ جَدَّهُ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ. وَاعْلَمْ أَنَّا نَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِأَبِيهِ آزَرَ وَمَا ذَكَرُوهُ صَرْفٌ لِلَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَأَمَّا حَمْلُ قَوْلِهِ: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَمْلَ الْمُشْتَرَكِ عَلَى كُلِّ مَعَانِيهِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَهُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ فلا يعارض القرآن. [سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 223] هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَعَادَ الشُّبْهَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ وَأَجَابَ عَنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْكُفَّارَ يُدْعَوْنَ إِلَى طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، وَمُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَدْعُو إِلَى لَعْنِ الشَّيْطَانِ وَالْبَرَاءَةِ عَنْهُ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ كان يَقِيسُونَ حَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَالِ سَائِرِ الْكَهَنَةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ فَكَمَا أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى سَائِرِ الْكَهَنَةِ الْكَذِبُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَالُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ أَيْضًا، فَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ فِي إِخْبَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ إِلَّا الصِّدْقُ عَلِمْنَا أَنَّ حَالَهُ بِخِلَافِ حَالِ الْكَهَنَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا فِي الْآيَةِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الشَّيَاطِينُ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ أَنْ حُجِبُوا بِالرَّجْمِ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى فَيَخْتَطِفُونَ بَعْضَ مَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ مما اطلعوا عليه

_ (1) في الكشاف (ويقلبك) .

[سورة الشعراء (26) : الآيات 224 إلى 227]

مِنَ الْغُيُوبِ، ثُمَّ يُوحُونَ بِهِ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ فِيمَا (يُوحِي) «1» بِهِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ يُسْمِعُونَهُمْ مَا لَمْ يَسْمَعُوا وَثَانِيهَا: يُلْقُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمُ السَّمْعَ أَيِ الْمَسْمُوعَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَثَالِثُهَا: الْأَفَّاكُونَ/ يُلْقُونَ السَّمْعَ إِلَى الشَّيَاطِينِ فَيُلْقُونَ وَحْيَهُمْ إِلَيْهِمْ وَرَابِعُهَا: يُلْقُونَ الْمَسْمُوعَ مِنَ الشَّيَاطِينِ إِلَى النَّاسِ، وَأَكْثَرُ الْأَفَّاكِينَ كَاذِبُونَ يَفْتَرُونَ عَلَى الشَّيَاطِينِ مَا لَمْ يُوحُوا إِلَيْهِمْ، فَإِنْ قُلْتَ يُلْقُونَ مَا مَحَلُّهُ؟ قُلْتُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ أَيْ تَنَزَّلُ مُلْقِينَ السمع، وفي محل الجر صفة لكل أَفَّاكٍ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَحَلٌّ بِأَنْ يَسْتَأْنِفَ كَأَنَّ قَائِلًا قال: لم ننزل عَلَى الْأَفَّاكِينَ؟ فَقِيلَ يَفْعَلُونَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَإِنْ قلت كيف قال: وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ بعد ما قَضَى عَلَيْهِمْ أَنَّ كَلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَفَّاكٌ؟ قُلْتُ: الْأَفَّاكُونَ هُمُ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ الْكَذِبَ، لَا أَنَّهُمُ الَّذِينَ لَا يَنْطِقُونَ إِلَّا بِالْكَذِبِ، فَأَرَادَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَفَّاكِينَ قَلَّ مَنْ يَصْدُقُ مِنْهُمْ فِيمَا يَحْكِي عَنِ الْجِنِّ وَأَكْثَرُهُمْ يَفْتَرِي عَلَيْهِمْ. [سورة الشعراء (26) : الآيات 224 الى 227] وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) اعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا قَالُوا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنَزَّلُ بِالْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا أَنَّهُمْ يَنْزِلُونَ بِالْكَهَانَةِ عَلَى الْكَهَنَةِ وَبِالشِّعْرِ عَلَى الشُّعَرَاءِ؟ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ فَرَّقَ بَيْنَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الكهنة، فذكر هاهنا مَا يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيْنَ الشُّعَرَاءِ، وَذَلِكَ هُوَ أَنَّ الشُّعَرَاءَ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَيِ الضَّالُّونَ، ثُمَّ بَيَّنَ تِلْكَ الْغِوَايَةَ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الطُّرُقُ الْمُخْتَلِفَةُ كَقَوْلِكَ أَنَا فِي وَادٍ وَأَنْتَ فِي وَادٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَدْ يَمْدَحُونَ الشَّيْءَ بَعْدَ أَنْ ذَمُّوهُ وَبِالْعَكْسِ، وَقَدْ يُعَظِّمُونَهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَحْقَرُوهُ وَبِالْعَكْسِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَطْلُبُونَ بِشِعْرِهِمُ الْحَقَّ وَلَا الصِّدْقَ بِخِلَافِ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِ إِلَى آخِرِهِ بَقِيَ عَلَى طَرِيقٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَالتَّرْغِيبُ فِي الْآخِرَةِ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الدنيا الثاني: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَذَلِكَ أَيْضًا مِنْ عَلَامَاتِ الْغُوَاةِ، فَإِنَّهُمْ يُرَغِّبُونَ فِي الْجُودِ وَيَرْغَبُونَ عَنْهُ، وَيُنَفِّرُونَ عَنِ الْبُخْلِ وَيُصِرُّونَ عَلَيْهِ، وَيَقْدَحُونَ فِي النَّاسِ بِأَدْنَى شَيْءٍ صَدَرَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ أَسْلَافِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَا يَرْتَكِبُونَ إِلَّا الْفَوَاحِشَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْغِوَايَةِ وَالضَّلَالَةِ. وَأَمَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ اللَّه تَعَالَى لَهُ: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ [الشعراء: 213] ثُمَّ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ حَيْثُ قَالَ اللَّه تَعَالَى له: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ طَرِيقَةِ الشُّعَرَاءِ، فَقَدْ ظهر بهذا الذي بيناه أن حلال مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يُشْبِهُ حَالَ الشُّعَرَاءِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الشُّعَرَاءَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ بَيَانًا لِهَذَا الْفَرْقِ اسْتَثْنَى عَنْهُمُ الْمَوْصُوفِينَ بِأُمُورٍ أَرْبَعَةٍ: أَحَدُهَا: الْإِيمَانُ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا، وَثَانِيهَا: الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ،

_ (1) في الكشاف (يوحون) 3/ 132) ط. دار الفكر.

وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ شِعْرُهُمْ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً، وَرَابِعُهَا: أَنْ لَا يَذْكُرُوا هَجْوَ أَحَدٍ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الِانْتِصَارِ مِمَّنْ يَهْجُوهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا قَالَ اللَّه تَعَالَى: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النِّسَاءِ: 148] ثُمَّ إِنَّ الشَّرْطَ فِيهِ تَرْكُ الِاعْتِدَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 194] وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ عَبْدُ اللَّه بْنُ رَوَاحَةَ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَكَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَهْجُونَ قُرَيْشًا، وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مالك: «أن رسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: اهْجُهُمْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشُدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ رَشْقِ النَّبْلِ» وَكَانَ يَقُولُ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ «قُلْ وَرُوحُ الْقُدُسِ مَعَكَ» . فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ فَالَّذِي عِنْدِي فِيهِ واللَّه اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا يُزِيلُ الْحُزْنَ عَنْ قَلْبِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمِنْ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلَائِلَ عَلَى نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ ذَكَرَ سُؤَالَ الْمُشْرِكِينَ فِي تَسْمِيَتِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارَةً بِالْكَاهِنِ، وَتَارَةً بِالشَّاعِرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَاهِنِ أَوَّلًا: ثُمَّ بَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّاعِرِ ثَانِيًا: خَتَمَ السُّورَةَ بِهَذَا التَّهْدِيدِ الْعَظِيمِ، يَعْنِي أَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَعْرَضُوا عَنْ تَدَبُّرِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَالتَّأَمُّلِ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ فَإِنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ بَعْدَ ذَلِكَ أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الزَّجْرُ عَنِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي وَصَفَ اللَّه بِهَا هَؤُلَاءِ الشُّعَرَاءَ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى نَظْمِ السُّورَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا واللَّه أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَوَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى التَّابِعَيْنِ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

سورة النمل

سُورَةُ النَّمْلِ تِسْعُونَ وَثَلَاثُ أَوْ أَرْبَعُ أَوْ خَمْسُ آيَاتٍ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى آيَاتِ السُّورَةِ وَالْكِتَابُ الْمُبِينُ هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ وَإِبَانَتُهُ أَنَّهُ قَدْ خَطَّ فِيهِ كُلَّ مَا هُوَ كَائِنٌ، فَالْمَلَائِكَةُ النَّاظِرُونَ فِيهِ يُبَيِّنُونَ الْكَائِنَاتِ، وَإِنَّمَا نَكَّرَ الْكِتَابَ الْمُبِينَ لِيَصِيرَ مُبْهَمًا بِالتَّنْكِيرِ فَيَكُونُ أَفْخَمَ لَهُ كَقَوْلِهِ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَرِ: 55] وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَكِتَابٌ مُبِينٌ بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ وَآيَاتُ كتاب مبين فحذف الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ [الْحِجْرِ: 1] ؟ قُلْتُ: لَا فَرْقَ لِأَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ. أَمَّا قَوْلُهُ: هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ أَوِ الرَّفْعِ فَالنَّصْبُ عَلَى الْحَالِ أَيْ هَادِيَةً وَمُبَشِّرَةً، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَا فِي تِلْكَ مِنْ مَعْنَى الْإِشَارَةِ، وَالرَّفْعُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ عَلَى مَعْنَى هِيَ هُدًى وَبُشْرَى، وَعَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْآيَاتِ، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، أَيْ جَمَعَتْ آيَاتُهَا آيَاتِ الْكِتَابِ وَأَنَّهَا هُدًى وَبُشْرَى، وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ تَخْصِيصِ الْهُدَى بِالْمُؤْمِنِينَ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يَهْدِيهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَبُشْرَى لَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً [النِّسَاءِ: 175] فَلِهَذَا اخْتُصَّ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ الثَّانِي: المراد بالهدى الدلائلة ثُمَّ ذَكَرُوا فِي تَخْصِيصِهِ بِالْمُؤْمِنِينَ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِنَّمَا خَصَّهُ بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ ذَكَرَ مَعَ الْهُدَى الْبُشْرَى، وَالْبُشْرَى/ إِنَّمَا تَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَثَانِيهَا: أَنَّ وَجْهَ الِاخْتِصَاصِ أَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِهِ فَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ كَقَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النَّازِعَاتِ: 45] ، وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهَا هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا زَائِدَةٌ فِي هُدَاهُمْ، قَالَ تَعَالَى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً [مَرْيَمَ: 76] . أَمَّا قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ فَالْأَقْرَبُ أَنَّهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ أَنْ يُؤْتَى بِهَا بِشَرَائِطِهَا، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا هِيَ الْوَاجِبَةُ، وَإِقَامَتُهَا وَضْعُهَا في حقها.

[سورة النمل (27) : الآيات 4 إلى 5]

أَمَّا قَوْلُهُ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ فَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُوا مُتَيَقِّنِينَ بِالْآخِرَةِ، فَمَا الوجه مَنْ ذِكْرِهِ مَرَّةً أُخْرَى؟ جَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ صِلَةِ الْمَوْصُولِ، ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَمَالُ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ، وَالْخَبَرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَأَمَّا عِرْفَانُ الْحَقِّ فَأَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ لَكِنَّ الَّذِي يُسْتَفَادُ مِنْهُ طَرِيقُ النَّجَاةِ مَعْرِفَةُ الْمَبْدَأِ، وَمَعْرِفَةُ الْمَعَادِ، وَأَمَّا الخبر الذي يعمل به فأقسام كثيرة أشرفها قِسْمَانِ: الطَّاعَةُ بِالنَّفْسِ وَالطَّاعَةُ بِالْمَالِ فَقَوْلُهُ: لِلْمُؤْمِنِينَ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ، وَقَوْلُهُ: يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ إِشَارَةٌ إِلَى الطَّاعَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ، وَقَوْلُهُ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِ الْمَعَادِ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعْلَ مَعْرِفَةَ الْمَبْدَأِ طَرَفًا أَوَّلًا، وَمَعْرِفَةَ الْمَعَادِ طَرَفًا أَخِيرًا وَجَعَلَ الطَّاعَةَ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ مُتَوَسِّطًا بَيْنَهُمَا الثَّانِي: أن المؤمنين الذي يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، مِنْهُمْ مَنْ هُوَ جَازِمٌ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ شَاكًّا فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ يَأْتِي بِهَذِهِ الطَّاعَاتِ لِلِاحْتِيَاطِ، فَيَقُولُ إِنْ كُنْتُ مُصِيبًا فِيهَا فَقَدْ فُزْتُ بِالسَّعَادَةِ، وَإِنْ كُنْتُ مُخْطِئًا فِيهَا لَمْ يَفُتْنِي إِلَّا خَيْرَاتٌ قَلِيلَةٌ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، فَمَنْ يَأْتِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ عَلَى هَذَا الوجه لَمْ يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ مُهْتَدِيًا بِالْقُرْآنِ، أَمَّا مَنْ كَانَ حَازِمًا بِالْآخِرَةِ كَانَ مُهْتَدِيًا بِهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ هَذَا الْقَيْدَ الثَّانِي: أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ جُمْلَةً اعْتِرَاضِيَّةً كَأَنَّهُ قِيلَ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وَيَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ هُمُ الْمُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَقَدَ جُمْلَةً ابْتِدَائِيَّةً وَكَرَّرَ فِيهَا الْمُبْتَدَأَ الَّذِي هُوَ هُمْ حَتَّى صَارَ مَعْنَاهَا وَمَا يُوقِنُ بِالْآخِرَةِ حَقَّ الْإِيقَانِ إِلَّا هَؤُلَاءِ الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، لِأَنَّ خَوْفَ الْعَاقِبَةِ يحملهم على تحمل المشاق. [سورة النمل (27) : الآيات 4 الى 5] إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مَا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْبُشْرَى أَتْبَعَهُ بِمَا عَلَى الْكُفَّارِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّهُ كَيْفَ أَسْنَدَ تَزْيِينَ أَعْمَالِهِمْ إِلَى ذَاتِهِ مَعَ أَنَّهُ أَسْنَدَهُ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ: فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [النَّحْلِ: 63] ؟ فَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَقَدْ أَجْرَوُا الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لا يفعل سيئا الْبَتَّةَ إِلَّا إِذَا دَعَاهُ الدَّاعِي إِلَى الْفِعْلِ وَالْمَعْقُولُ مِنَ الدَّاعِي هُوَ الْعِلْمُ وَالِاعْتِقَادُ وَالظَّنُّ بِكَوْنِ الْفِعْلِ مُشْتَمِلًا عَلَى مَنْفَعَةٍ، وَهَذَا الدَّاعِي لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ فِعْلِ اللَّه تَعَالَى لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ لَافْتَقَرَ فِيهِ إِلَى دَاعٍ آخَرَ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَرُورِيًّا أَوْ كَسْبِيًّا، فَإِنْ كَانَ ضَرُورِيًّا فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَصَوُّرَيْنِ وَالتَّصَوُّرُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُكْتَسَبًا لِأَنَّ الْمُكْتَسِبَ إِنْ كَانَ شَاعِرًا بِهِ فَهُوَ مُتَصَوِّرٌ لَهُ، وَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ مُحَالٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَاعِرًا بِهِ كَانَ غَافِلًا عَنْهُ وَالْغَافِلُ عَنِ الشَّيْءِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا لَهُ، فَإِنْ قُلْتَ هُوَ مَشْعُورٌ بِهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، قُلْتُ فَالْمَشْعُورُ بِهِ غَيْرُ مَا هُوَ غَيْرُ مَشْعُورٍ بِهِ فَيَعُودُ التَّقْسِيمُ الْمُتَقَدِّمُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّصَوُّرَ غَيْرُ مُكْتَسَبٍ الْبَتَّةَ وَالْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ هُوَ الَّذِي يَكُونُ حُضُورُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تَصَوُّرَيْهِ كَافِيًا فِي حُصُولِ التَّصْدِيقِ، فَالتَّصَوُّرَاتُ غَيْرُ كَسَبِيَّةٍ وَهِيَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلتَّصْدِيقَاتِ، فَإِذَنْ مَتَى حَصَلَتِ التَّصَوُّرَاتُ حَصَلَ التَّصْدِيقُ لَا مَحَالَةَ، وَمَتَى لَمْ تحصل التَّصْدِيقُ الْبَتَّةَ، فَحُصُولُ هَذِهِ التَّصْدِيقَاتِ الْبَدِيهِيَّةِ لَيْسَ بِالْكَسْبِ، ثُمَّ إِنَّ التَّصْدِيقَاتِ الْبَدِيهِيَّةَ إِنْ كَانَتْ مستلزمة

[سورة النمل (27) : الآيات 6 إلى 9]

لِلتَّصْدِيقَاتِ النَّظَرِيَّةِ لَمْ تَكُنِ التَّصْدِيقَاتُ النَّظَرِيَّةُ كَسَبِيَّةً، لِأَنَّ لَازِمَ الضَّرُورِيِّ ضَرُورِيٌّ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَلْزِمَةً لَهَا لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي فَرَضْنَاهَا عُلُومًا نَظَرِيَّةً كَذَلِكَ بَلْ هِيَ اعْتِقَادَاتٌ تَقْلِيدِيَّةٌ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِاعْتِقَادِ الْمُقَلِّدِ إِلَّا اعْتِقَادٌ تَحْسِينِيٌّ يَفْعَلُهُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يكون له موجب فثبت هذا أَنَّ الْعُلُومَ بِأَسْرِهَا ضَرُورِيَّةٌ، وَثَبَتَ أَنَّ مَبَادِئَ الْأَفْعَالِ هِيَ الْعُلُومُ فَأَفْعَالُ الْعِبَادِ بِأَسْرِهَا ضَرُورِيَّةٌ، وَالْإِنْسَانُ مُضْطَرٌّ فِي صُورَةِ مُخْتَارٍ، فَثَبَتَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى هُوَ الَّذِي زَيَّنَ لِكُلِّ عَامِلٍ عَمَلَهُ. وَالْمُرَادُ مِنَ التَّزْيِينِ هُوَ أَنَّهُ يَخْلُقُ فِي قَلْبِهِ الْعِلْمَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَاللَّذَّاتِ وَلَا يَخْلُقُ فِي قَلْبِهِ الْعِلْمَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَضَارِّ وَالْآفَاتِ، فَقَدْ ثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ الْعَقْلِيَّةِ وُجُوبُ إِجْرَاءِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا، أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي تَأْوِيلِهَا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بَيَّنَّا لَهُمْ أَمْرَ الدِّينِ وَمَا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِهِ وَزَيَّنَّاهُ بِأَنْ بَيَّنَّا حُسْنَهُ وَمَا لَهُمْ فِيهِ مِنَ الثَّوَابِ، لِأَنَّ التَّزْيِينَ مِنَ اللَّه تَعَالَى لِلْعَمَلِ لَيْسَ إِلَّا وَصْفُهُ بِأَنَّهُ حَسَنٌ وَوَاجِبٌ وَحَمِيدُ الْعَاقِبَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 7] وَمَعْنَى فَهُمْ يَعْمَهُونَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ فَهُمْ يَعْدِلُونَ وَيَنْحَرِفُونَ عَمَّا زَيَّنَّا مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَتَّعَهُمْ بِطُولِ الْعُمُرِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ جَعَلُوا إِنْعَامَ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ ذَرِيعَةً إِلَى اتِّبَاعِ شَهَوَاتِهِمْ وَعَدَمِ الِانْقِيَادِ لِمَا يَلْزَمُهُمْ مِنَ التَّكَالِيفِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى زَيَّنَ بِذَلِكَ أَعْمَالَهُمْ وَإِلَيْهِ إِشَارَةُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِمْ: وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ [الْفُرْقَانِ: 18] وَثَالِثُهَا: أَنَّ إِمْهَالَهُ الشَّيْطَانَ وَتَخْلِيَتَهُ حَتَّى يُزَيِّنَ لَهُمْ مُلَابَسَةٌ ظَاهِرَةٌ/ لِلتَّزْيِينِ فَأُسْنِدَ إِلَيْهِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَعْمالَهُمْ صيغة حتى عُمُومٍ تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّه تَعَالَى قَدْ زَيَّنَ لَهُمْ كُلَّ أَعْمَالِهِمْ حَسَنًا كَانَ الْعَمَلُ أَوْ قَبِيحًا وَمَعْنَى التَّزْيِينِ قَدْ قَدَّمْنَاهُ، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا مَتَّعَهُمْ بِطُولِ الْعُمُرِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ فَهَلْ لِهَذِهِ الْأُمُورِ أَثَرٌ فِي تَرْجِيحِ فَاعِلِيَّةِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى تَرْكِهَا أَوْ لَيْسَ لَهَا فِيهِ أَثَرٌ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ التَّرْجِيحَ مَتَى حَصَلَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى حَدِّ الِاسْتِلْزَامِ وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الْغَرَضُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَثَرٌ صَارَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَعْمَالِهِمْ كَصَرِيرِ الْبَابِ وَنَعِيقِ الْغُرَابِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ إِسْنَادِ فِعْلِهِمْ إِلَيْهَا وَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ الْجَوَابُ عَنِ التَّأْوِيلِ الثَّالِثِ الَّذِي ذَكَرُوهُ واللَّه أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهُمْ يَعْمَهُونَ فَالْعَمَهُ التَّحَيُّرُ وَالتَّرَدُّدُ كَمَا يَكُونُ حَالُ الضَّالِّ عَنِ الطَّرِيقِ. أَمَّا قَوْلُهُ: أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ يَوْمَ بَدْرٍ وَالثَّانِي: مُطْلَقُ الْعَذَابِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ وَالْمُرَادُ بِالسُّوءِ شَدَّتُهُ وَعِظَمُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: هُمُ الْأَخْسَرُونَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا خُسْرَانَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَخْسَرَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ بِأَنْ يُسْلَبَ عَنْهُ الصِّحَّةُ وَالسَّلَامَةُ فِي الدُّنْيَا وَيُسْلَمَ فِي الْآخِرَةِ إِلَى الْعَذَابِ الْعَظِيمِ الثَّانِي: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ خَسِرُوا مَنَازِلَهُمْ فِي الْجَنَّةِ لَوْ أَطَاعُوا، فَإِنَّهُ لَا مُكَلَّفَ إِلَّا وَعُيِّنَ لَهُ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ لَوْ أَطَاعَ فَإِذَا عَصَى عُدِلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ فيكون قد خسر ذلك المنزل. [سورة النمل (27) : الآيات 6 الى 9] وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يَا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)

القصة الأولى - قصة موسى عليه الصلاة والسلام

أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ فَمَعْنَاهُ لَتُؤْتَاهُ (وَتُلَقَّاهُ) «1» مِنْ عِنْدِ أَيِّ حَكِيمٍ وَأَيِّ عَلِيمٍ، وَهَذَا مَعْنَى مَجِيئِهِمَا نَكِرَتَيْنِ وَهَذِهِ الْآيَةُ بِسَاطٌ وَتَمْهِيدٌ لِمَا يُرِيدُ أَنْ يَسُوقَ بَعْدَهَا مِنَ الْأَقَاصِيصِ، وَ (إِذْ) مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ وَهُوَ اذْكُرْ كَأَنَّهُ قَالَ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ خُذْ مِنْ آثَارِ حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ قصة موسى، ويجوز أن ينتصب بعليم فَإِنْ قِيلَ الْحِكْمَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ نَفْسَ الْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ/ دَاخِلًا فِيهَا، فَلَمَّا ذَكَرَ الْحِكْمَةَ فَلِمَ ذَكَرَ الْعِلْمَ؟ جَوَابُهُ: الْحِكْمَةُ هِيَ الْعِلْمُ بِالْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ، فَقَطْ وَالْعِلْمُ أَعَمُّ مِنْهُ، لِأَنَّ الْعِلْمَ قَدْ يَكُونُ عَمَلِيًّا وَقَدْ يَكُونُ نَظَرِيًّا وَالْعُلُومُ النَّظَرِيَّةُ أَشْرَفُ مِنَ العلوم العلمية، فَذَكَرَ الْحِكْمَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْعُلُومِ الْعَمَلِيَّةِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْعَلِيمَ وَهُوَ الْبَالِغُ فِي كَمَالِ الْعِلْمِ وَكَمَالُ الْعِلْمِ يَحْصُلُ مِنْ جِهَاتٍ ثَلَاثَةٍ وَحْدَتُهُ وَعُمُومُ تَعَلُّقِهِ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ وَبَقَاؤُهُ مَصُونًا عَنْ كُلِّ التَّغَيُّرَاتِ، وَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْكِمَالَاتُ الثَّلَاثَةُ إِلَّا فِي عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَنْوَاعًا مِنَ الْقَصَصِ. الْقِصَّةُ الْأُولَى- قِصَّةُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَّا قَوْلُهُ: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ غَيْرُ امْرَأَتِهِ ابْنَةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ كَنَّى اللَّه تَعَالَى عَنْهَا بِالْأَهْلِ فَتَبِعَ ذَلِكَ وُرُودُ الْخِطَابِ عَلَى لَفْظِ الجمع وهو قوله امْكُثُوا [القصص: 29] «2» . أَمَّا قَوْلُهُ: إِنِّي آنَسْتُ نَارًا فَالْمَعْنَى أَنَّهُمَا كَانَا يَسِيرَانِ لَيْلًا، وَقَدِ اشْتَبَهَ الطَّرِيقُ عَلَيْهِمَا وَالْوَقْتُ وَقْتُ بَرْدٍ وَفِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ تَقْوَى النَّفْسُ بِمُشَاهَدَةِ نَارٍ مِنْ بُعْدٍ لِمَا يُرْجَى فِيهَا مِنْ زَوَالِ الْحَيْرَةِ فِي أَمْرِ الطَّرِيقِ، وَمِنَ الِانْتِفَاعِ بِالنَّارِ لِلِاصْطِلَاءِ فَلِذَلِكَ بَشَّرَهَا فَقَالَ: إِنِّي آنَسْتُ نَارًا وَقَدِ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ أَبْصَرْتُ وَرَأَيْتُ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ الْمُرَادُ صَادَفْتُ وَوَجَدْتُ فَآنَسْتُ بِهِ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، لِأَنَّهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ آنَسْتُ بِبَصَرِي وَرَأَيْتُ بِبَصَرِي. أَمَّا قَوْلُهُ: سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ فالخبر ما بخبر بِهِ عَنْ حَالِ الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ ضَلَّ، ثُمَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا أَبْصَرَ النَّارَ تَوَجَّهَ إِلَيْهَا وَقَالَ: سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ يَعْرِفُ بِهِ الطَّرِيقَ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ فَالشِّهَابُ الشُّعْلَةُ وَالْقَبَسُ النار المقبوسة. وأضاف اشهاب إِلَى الْقَبَسِ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَبَسًا وَغَيْرَ قَبَسٍ وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّنْوِينِ جَعَلَ الْقَبَسَ بَدَلًا أَوْ صِفَةً لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْقَبَسِ ثُمَّ هاهنا أسئلة: السؤال الأول: سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ ولَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ «3» [القصص: 29] كَالْمُتَدَافِعَيْنِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا تَرَجٍّ وَالْآخِرَ تَيَقُّنٌ؟ نَقُولُ جَوَابُهُ: قَدْ يَقُولُ الرَّاجِي إِذَا قَوِيَ رَجَاؤُهُ سَأَفْعَلُ كَذَا وَسَيَكُونُ كَذَا مَعَ تَجْوِيزِهِ الْخَيْبَةَ.

_ (1) في الكشاف (وتلقنه) 3/ 137 ط. دار الفكر. (2) آية النمل إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ليس فيها (امكثوا) ، وإنما وردت في القصص، ولما لم ينبه المصنف إلى ذلك لزم التنبيه عليه. [.....] (3) فالآية الأولى في سورة النمل والثانية في سورة القصص.

السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ جَاءَ بِسِينِ التَّسْوِيفِ؟ جَوَابُهُ: عِدَةٌ مِنْهُ لِأَهْلِهِ أَنَّهُ يَأْتِيهِمْ بِهِ وَإِنْ أَبْطَأَ أَوْ كَانَتِ الْمَسَافَةُ بَعِيدَةً. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَاذَا أَدْخَلَ (أَوْ) بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَهَلَّا جَمَعَ بَيْنَهُمَا لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِمَا مَعًا؟ جَوَابُهُ: بَنَى الرَّجَاءَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَظْفَرْ بِهَذَيْنِ الْمَقْصُودَيْنِ ظَفِرَ بِأَحَدِهِمَا، إِمَّا هِدَايَةُ الطَّرِيقِ، وَإِمَّا اقْتِبَاسُ النَّارِ ثِقَةً بِعَادَةِ اللَّه تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَجْمَعُ بَيْنَ حِرْمَانَيْنِ عَلَى عَبْدِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَالْمَعْنَى لِكَيْ تَصْطَلُونَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى حَاجَةٍ بِهِمْ إِلَى الِاصْطِلَاءِ وحينئذ لا يكون كذلك إِلَّا فِي حَالِ بَرْدٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنْ أَنْ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِأَنَّ النِّدَاءَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَالْمَعْنَى قِيلَ لَهُ بُورِكَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِيمَنْ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ بُورِكَ بِمَعْنَى تَبَارَكَ والنار بِمَعْنَى النُّورِ وَالْمَعْنَى تَبَارَكَ مَنْ فِي النُّورِ، وَذَلِكَ هُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَمَنْ حَوْلَها يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَإِنْ كُنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ هَذِهِ الرواية موضوعة مختلفة وَثَانِيهَا: مَنْ فِي النَّارِ هُوَ نُورُ اللَّه، وَمَنْ حَوْلَها الْمَلَائِكَةُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ قَتَادَةَ وَالزَّجَّاجِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى نَادَاهُ بِكَلَامٍ سَمِعَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ فَكَانَتِ الشَّجَرَةُ مَحَلًّا لِلْكَلَامِ، واللَّه هُوَ الْمُكَلِّمُ لَهُ بِأَنَّ فِعْلَهُ فِيهِ دُونَ الشَّجَرَةِ. ثُمَّ إِنَّ الشَّجَرَةَ كَانَتْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا مَلَائِكَةٌ فَلِذَلِكَ قَالَ: بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَهُوَ قَوْلُ الْجُبَّائِيُّ وَرَابِعُهَا: مَنْ فِي النَّارِ هُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقُرْبِهِ مِنْهَا مَنْ حَوْلَها يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، وَهَذَا أَقْرَبُ لِأَنَّ الْقَرِيبَ مِنَ الشَّيْءِ قَدْ يُقَالُ إِنَّهُ فِيهِ وَخَامِسُهَا: قَوْلُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ أَيْ مَنْ فِي مَكَانِ النَّارِ وَمَنْ حَوْلَ مَكَانِهَا هِيَ الْبُقْعَةُ الَّتِي حَصَلَتْ فِيهَا وَهِيَ الْبُقْعَةُ الْمُبَارَكَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ [الْقَصَصِ: 30] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ (تَبَارَكَتِ الْأَرْضُ وَمَنْ حَوْلَهَا) وَعَنْهُ أَيْضًا (بُورِكَتِ النَّارُ) . الْبَحْثُ الثَّالِثُ: السَّبَبُ الَّذِي لِأَجْلِهِ بُورِكَتِ الْبُقْعَةُ، وَبُورِكَ مَنْ فِيهَا وَحَوَالَيْهَا حُدُوثُ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ فِيهَا وَهُوَ تَكْلِيمُ اللَّه مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَعْلُهُ رَسُولًا وَإِظْهَارُ الْمُعْجِزَاتِ عَلَيْهِ وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّه أَرْضَ الشَّامِ مَوْسُومَةً بِالْبَرَكَاتِ فِي قَوْلِهِ: وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 71] وَحُقَّتْ أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ فَهِيَ مَبْعَثُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِمْ، وَمَهْبِطُ الْوَحْيِ وَكِفَاتُهُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ هَذَا الْقَوْلَ مُقَدِّمَةً لِمُنَاجَاةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَوْلُهُ: بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ قُضِيَ أَمْرٌ عَظِيمٌ تَنْتَشِرُ الْبَرَكَةُ مِنْهُ فِي أَرْضِ الشَّامِ كُلِّهَا. وَقَوْلُهُ: وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فِيهِ فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ فِي ذَاتِهِ وَحِكْمَتِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ مُقَدِّمَةً فِي صِحَّةِ رِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِيذَانًا بِأَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ مُرِيدُهُ وَمُكَوِّنُهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْكَائِنَ مِنْ جَلَائِلِ الْأُمُورِ وَعَظَائِمِ الْوَقَائِعِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْهَاءُ فِي (إِنَّهُ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضمير الشأن وأَنَا اللَّهُ مبتدأ وخبر، والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صِفَتَانِ لِلْخَبَرِ، وَأَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ يَعْنِي أَنَّ

[سورة النمل (27) : الآيات 10 إلى 14]

مكلمك أنا واللَّه بيان لأنا والعزيز الْحَكِيمُ صِفَتَانِ (لِلتَّعْيِينِ) «1» وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِمَا أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَهُ عَلَى يَدِهِ مِنَ الْمُعْجِزَةِ يُرِيدُ أَنَا الْقَوِيُّ الْقَادِرُ عَلَى مَا يَبْعُدُ مِنَ الأوهام كقلب العصا حية، الفاعل [كل] «2» مَا أَفْعَلُهُ بِحِكْمَةٍ وَتَدْبِيرٍ. فَإِنْ قِيلَ هَذَا النِّدَاءُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى، فَكَيْفَ عَلِمَ مُوسَى/ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ مِنَ اللَّه؟ جَوَابُهُ: لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِيهِ طَرِيقَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سَمِعَ الْكَلَامَ الْمُنَزَّهَ عَنْ مُشَابَهَةِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فَعَلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ صِفَةُ اللَّه تَعَالَى الثَّانِي: قَوْلُ أَئِمَّةِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمِعَ الصَّوْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ فَنَقُولُ إِنَّمَا عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّه تَعَالَى لِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النِّدَاءَ إِذَا حَصَلَ فِي النَّارِ أَوِ الشَّجَرَةِ عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى لِأَنَّ أَحَدًا منا لا يقدر عليه وهو ضعف لِاحْتِمَالِ أَنْ يُقَالَ الشَّيْطَانُ دَخَلَ فِي النَّارِ وَالشَّجَرَةِ ثُمَّ نَادَى وَثَانِيهَا: يَجُوزُ فِي نَفْسِ النِّدَاءِ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلَغَ فِي الْعِظَمِ مَبْلَغًا لَا يَكُونُ إِلَّا مُعْجِزًا، وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ مَقَادِيرَ قُوَى الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ فَلَا قَدْرَ إِلَّا وَيَجُوزُ صُدُورُهُ مِنْهُمْ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَنَ بِهِ مُعْجِزٌ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، فَقِيلَ إِنَّ النَّارَ كَانَتْ مُشْتَعِلَةً فِي شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ لَمْ تَحْتَرِقْ فَصَارَ ذَلِكَ كالمعجز، وهذا هو الأصح واللَّه أعلم. [سورة النمل (27) : الآيات 10 الى 14] وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) اعْلَمْ أَنَّ أكثر ما في هذا الْآيَاتِ قَدْ مَرَّ شَرْحُهُ، وَلْنَذْكُرْ مَا هُوَ مِنْ خَوَاصِّ هَذَا الْمَوْضِعِ: يُقَالُ عَلَامَ عَطَفَ قوله: وَأَلْقِ عَصاكَ؟ جوابه: على بُورِكَ [النمل: 8] لِأَنَّ الْمَعْنَى: نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النار وأن ألق عصاك، كلاهما تفسير لنودي. أَمَّا قَوْلُهُ: كَأَنَّها جَانٌّ فَالْجَانُّ الْحَيَّةُ الصَّغِيرَةُ، سُمِّيَتْ جَانًّا، لِأَنَّهَا تَسْتَتِرُ عَنِ النَّاسِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ جَانٌ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَهْرُبُ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَيَقُولُ شَابَةٌ وَدَابَةٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَمْ يُعَقِّبْ مَعْنَاهُ لَمْ يَرْجِعْ، يُقَالُ عَقَّبَ الْمُقَاتِلُ إِذَا (مَرَّ) «3» بَعْدَ الْفِرَارِ، وَإِنَّمَا خَافَ لِظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ لِأَمْرٍ أُرِيدَ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ إِنِّي إِذَا أَمَرْتُهُمْ بِإِظْهَارِ مُعْجِزٍ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخَافُوا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ وَإِلَّا فَالْمُرْسِلُ قَدْ يَخَافُ لَا مَحَالَةَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ مَعْنَاهُ لَكِنْ مَنْ ظُلِمَ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَصْدُرُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ تَرْكِ الْأَفْضَلِ أَوِ الصَّغِيرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْرِيضَ بِمَا وُجِدَ مِنْ مُوسَى وَهُوَ مِنَ التَّعْرِيضَاتِ اللَّطِيفَةِ. قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّه: كَانَ واللَّه مُوسَى مِمَّنْ ظَلَمَ بِقَتْلِ الْقِبْطِيِّ ثُمَّ بَدَّلَ، فإنه عليه السلام قال:

_ (1) في الكشاف (للمبين) 3/ 138 ط. دار الفكر. (2) زيادة من الكشاف. (3) في الكشاف (كرّ) .

[سورة النمل (27) : الآيات 15 إلى 19]

رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [الْقَصَصِ: 16] وَقُرِئَ (أَلَا مَنْ ظَلَمَ) بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَالْمُرَادُ حُسْنُ التَّوْبَةِ وَسُوءُ الذَّنْبِ، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ فِي رِوَايَةِ عَاصِمٍ (حَسَنًا) . أَمَّا قَوْلُهُ: فِي تِسْعِ آياتٍ فَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَحَرْفُ الْجَرِّ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَالْمَعْنَى اذْهَبْ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَانَتِ الْآيَاتُ إِحْدَى عَشْرَةَ، اثْنَتَانِ مِنْهَا الْيَدُ وَالْعَصَا، وَالتُّسْعُ: الْفَلْقُ وَالطُّوفَانُ وَالْجَرَادُ وَالْقَمَّلُ وَالضَّفَادِعُ وَالدَّمُ وَالطَّمْسَةُ وَالْجَدْبُ فِي بَوَادِيهِمْ وَالنُّقْصَانُ فِي مَزَارِعِهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً فَقَدْ جَعَلَ الْإِبْصَارَ لَهَا، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لِمُتَأَمِّلِهَا، وَذَلِكَ بِسَبَبِ نَظَرِهِمْ وَتَفَكُّرِهِمْ فِيهَا، أَوْ جُعِلَتْ كَأَنَّهَا لِظُهُورِهَا تُبْصِرُ فَتَهْتَدِي، وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَقَتَادَةُ مُبْصِرَةً وَهُوَ نَحْوُ مَجْبَنَةٍ وَمَبْخَلَةٍ، أَيْ مَكَانًا يَكْثُرُ فِيهِ التَّبَصُّرُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ فَالْوَاوُ فِيهَا وَاوُ الْحَالِ، وَقَدْ بَعْدَهَا مُضْمَرَةٌ وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْأَنْفُسِ أَنَّهُمْ جَحَدُوهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَاسْتَيْقَنُوهَا فِي قُلُوبِهِمْ وَضَمَائِرِهِمْ، وَالِاسْتِيقَانُ أَبْلَغُ مِنَ الْإِيقَانِ. أَمَّا قَوْلُهُ: ظُلْماً وَعُلُوًّا فَأَيُّ ظُلْمٍ أَفْحَشُ مِنْ ظُلْمِ مَنِ اسْتَيْقَنَ أَنَّهَا آيَاتٌ بَيِّنَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ كَابَرَ بِتَسْمِيَتِهَا سِحْرًا بَيِّنًا. وَأَمَّا الْعُلُوُّ فَهُوَ التَّكَبُّرُ وَالتَّرَفُّعُ عَنِ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى كَقَوْلِهِ: فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 46] وَقُرِئَ (عُلِيًّا) وَ (عِلِيًّا) بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ، كما قرئ [عتيا و] «1» عِتِيًّا [مريم: 8، 69] واللَّه أعلم. [سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 19] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) الْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ- قِصَّةُ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ والسلام أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: عِلْماً فَالْمُرَادُ طَائِفَةٌ مِنَ العلم أو علما سنيا (عزيزا) «2» ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْفَاءِ دُونَ الواو، كقولك أعطيته فشكر [ومنعته فصبر] «3» ؟ جَوَابُهُ: أَنَّ الشُّكْرَ بِاللِّسَانِ إِنَّمَا يَحْسُنُ مَوْقِعُهُ إذا كان

_ (1) زيادة من الكشاف. (2) في الكشاف (غزيرا) . (3) زيادة من الكشاف.

مَسْبُوقًا بِعَمَلِ الْقَلْبِ وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ وَتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، وَبِعَمَلِ الْجَوَارِحِ وَهُوَ الِاشْتِغَالُ بِالطَّاعَاتِ، وَلَمَّا كَانَ الشُّكْرُ بِاللِّسَانِ يَجِبُ كَوْنُهُ مَسْبُوقًا بِهِمَا فَلَا جَرَمَ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنَاهُمَا عِلْمًا، فَعَمِلَا بِهِ قَلْبًا وَقَالِبًا، وَقَالَا بِاللِّسَانِ الْحَمْدُ للَّه الَّذِي فَعَلَ كَذَا وَكَذَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَفِيهَا أَبْحَاثٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْكَثِيرَ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ هُوَ مَنْ لَمْ يُؤْتَ عِلْمًا أَوْ مَنْ لَمْ يُؤْتَ مِثْلَ عِلْمِهِمَا، وَفِيهِ أَنَّهُمَا فُضِّلَا عَلَى كَثِيرٍ وَفُضِّلَ عَلَيْهِمَا كَثِيرٌ وَثَانِيهَا: فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى عُلُوِّ مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُمَا أُوتِيَا مِنَ الْمُلْكِ مَا لَمْ يُؤْتَ غَيْرُهُمَا فَلَمْ يَكُنْ شُكْرُهُمَا عَلَى الْمُلْكِ كَشُكْرِهِمَا عَلَى الْعِلْمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ لَمْ يُفَضِّلُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْكُلِّ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ التَّوَاضُعِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الظَّاهِرَ يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ الْفَضِيلَةَ لَيْسَتْ إِلَّا ذَلِكَ الْعِلْمَ، ثُمَّ الْعِلْمُ باللَّه وَبِصِفَاتِهِ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الشُّكْرُ لَيْسَ إِلَّا عَلَى هَذَا الْعِلْمِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ حَاصِلٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِفَضِيلَتِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَإِذَنْ الفضيلة هُوَ أَنْ يَصِيرَ الْعِلْمُ باللَّه وَبِصِفَاتِهِ جَلِيًّا بِحَيْثُ يَصِيرُ الْمَرْءُ مُسْتَغْرِقًا/ فِيهِ بِحَيْثُ لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ شَيْءٌ مِنَ الشُّبَهَاتِ وَلَا يَغْفُلُ الْقَلْبُ عَنْهُ فِي حِينٍ مِنَ الْأَحْيَانِ وَلَا سَاعَةٍ مِنَ السَّاعَاتِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ الْحَسَنُ الْمَالُ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ عَطِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ وَلَا تُورَثُ، وَقَالَ غَيْرُهُ بَلِ النُّبُوَّةُ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ الْمُلْكُ وَالسِّيَاسَةُ، وَلَوْ تَأَمَّلَ الْحَسَنُ لَعَلِمَ أَنَّ الْمَالَ إِذَا وَرِثَهُ الْوَلَدُ فَهُوَ أَيْضًا عَطِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَلِذَلِكَ يَرِثُ الْوَلَدُ إِذَا كَانَ مُؤْمِنًا وَلَا يَرِثُ إِذَا كَانَ كَافِرًا أَوْ قَاتِلًا، لَكِنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ سَبَبَ الْإِرْثِ فِيمَنْ يَرِثُ الْمَوْتَ عَلَى شَرَائِطَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ النُّبُوَّةُ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَكُونُ سببا لنبوة الولد فمن هذا لوجه يَفْتَرِقَانِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ وَرِثَ النُّبُوَّةَ لَمَّا قَامَ بِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، كَمَا يَرِثُ الْوَلَدُ الْمَالَ إِذَا قَامَ بِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ وَمِمَّا يُبَيِّنُ مَا قُلْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ فَصَّلَ فَقَالَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ داود ماله لم يكن لقوله: وَقالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ مَعْنًى، وَإِذَا قُلْنَا وَوَرِثَ مَقَامَهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ حَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّ تَعْلِيمَ مَنْطِقِ الطَّيْرِ يَكُونُ دَاخِلًا فِي جُمْلَةِ مَا وَرِثَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّ وَارِثَ الْمُلْكِ يَجْمَعُ ذَلِكَ وَوَارِثَ الْمَالِ لَا يَجْمَعُهُ وَقَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ لَا يَلِيقُ أَيْضًا إِلَّا بِمَا ذَكَرْنَا دُونَ الْمَالِ الَّذِي قَدْ يَحْصُلُ لِلْكَامِلِ وَالنَّاقِصِ، وَمَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ جُنُودِ سُلَيْمَانَ بَعْدَهُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَبَطَلَ بِمَا ذَكَرْنَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَرِثْ إِلَّا الْمَالَ، فَأَمَّا إِذَا قِيلَ وَرِثَ الْمَالَ وَالْمُلْكَ مَعًا فَهَذَا لَا يَبْطُلُ بِالْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، بَلْ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَحْنُ معاشر الأنبياء لا نورث» «1» . فأما قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَشْهِيرُ نِعْمَةِ اللَّه تَعَالَى وَالتَّنْوِيهُ بِهَا وَدُعَاءُ النَّاسِ إِلَى التَّصْدِيقِ بِذِكْرِ الْمُعْجِزَةِ الَّتِي هِيَ عِلْمُ مَنْطِقِ الطَّيْرِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْمَنْطِقُ كُلُّ مَا يُصَوَّتُ بِهِ مِنَ الْمُفْرَدِ وَالْمُؤَلَّفِ الْمُفِيدِ وَغَيْرِ الْمُفِيدِ، وَقَدْ تَرْجَمَ يَعْقُوبُ كِتَابَهُ «بِإِصْلَاحِ الْمَنْطِقِ» وَمَا أَصْلَحَ فِيهِ إِلَّا مُفْرَدَاتِ الْكَلِمِ، وَقَالَتِ الْعَرَبُ نَطَقَتِ الحمامة [وكل صنف من الطير يتفاهم أصواته] «2» فَالَّذِي عَلَّمَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ مَنْطِقِ الطَّيْرِ هُوَ مَا يُفْهَمُ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ من مقاصده وأغراضه.

_ (1) للحديث بقية لم يذكرها المفسر وهي «ما تركناه صدقة» . (2) زيادة من الكشاف.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَالْمُرَادُ كَثْرَةُ مَا أُوتِيَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُلَّ وَالْبَعْضَ الْكَثِيرَ يَشْتَرِكَانِ فِي صِفَةِ الْكَثْرَةِ، وَالْمُشَارَكَةُ سَبَبٌ لِجَوَازِ الِاسْتِعَارَةِ فَلَا جَرَمَ يُطْلَقُ لَفْظُ الْكُلِّ عَلَى الْكَثِيرِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْلِ: 23] . أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ فَهُوَ تَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الشُّكْرُ وَالْمَحْمَدَةُ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ: عُلِّمْنا ... وَأُوتِينا وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الْمُتَكَبِّرِينَ؟ جَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُرِيدَ نَفْسَهُ وَأَبَاهُ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ النُّونَ يُقَالُ لَهَا نُونُ الْوَاحِدِ الْمُطَاعِ وَكَانَ مَلِكًا مُطَاعًا، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِتَعْظِيمِ الْمَلِكِ مَصَالِحُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ التَّعْظِيمُ وَاجِبًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَالْحَشْرُ هُوَ الْإِحْضَارُ وَالْجَمْعُ مِنَ الْأَمَاكِنِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَ اللَّه تَعَالَى كُلَّ هَذِهِ الْأَصْنَافِ جُنُودَهُ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا بِأَنْ يَتَصَرَّفَ عَلَى مُرَادِهِ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا مَعَ الْعَقْلِ الَّذِي يَصِحُّ مَعَهُ التَّكْلِيفُ، أَوْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُرَاهِقِ الَّذِي قَدْ قَارَبَ حَدَّ التَّكْلِيفِ فَلِذَلِكَ قُلْنَا إِنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ الطَّيْرَ فِي أَيَّامِهِ مِمَّا لَهُ عَقْلٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الطُّيُورِ فِي أَيَّامِنَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا قَدْ أَلْهَمَهُ اللَّه تَعَالَى الدَّقَائِقَ الَّتِي خُصَّتْ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهَا أَوْ خَصَّهَا اللَّه بِهَا لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ كَالنَّحْلِ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهُمْ يُوزَعُونَ مَعْنَاهُ يُحْبَسُونَ وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي كُلِّ قَبِيلٍ مِنْهَا وَازِعٌ، وَيَكُونُ لَهُ تَسَلُّطٌ عَلَى مَنْ يَرُدُّهُ وَيَكُفُّهُ وَيَصْرِفُهُ، فَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ بِهَذَا الْقَدْرِ وَالَّذِي جَاءَ فِي الْخَبَرِ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَمْنَعُونَ مَنْ يَتَقَدَّمُ لِيَكُونَ مَسِيرُهُ مَعَ جُنُودِهِ عَلَى تَرْتِيبٍ فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ فَقِيلَ هُوَ وَادٍ بِالشَّامِ كَثِيرُ النَّمْلِ، ويقال لِمَ عَدَّى أَتَوْا بِعَلَى؟ فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِتْيَانَهُمْ كَانَ مِنْ فَوْقُ فَأَتَى بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ وَالثَّانِي: أَنْ يُرَادَ قَطْعُ الْوَادِي وَبُلُوغُ آخِرِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ أَتَى عَلَى الشَّيْءِ إذا [أنفذه و] «1» بَلَغَ آخِرَهُ كَأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَنْزِلُوا عِنْدَ مُنْقَطَعِ الْوَادِي، وَقُرِئَ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَبِضَمِّ النُّونِ وَالْمِيمِ وَكَانَ الْأَصْلُ النَّمُلَ بِوَزْنِ الرَّجُلِ وَالنَّمْلُ الَّذِي عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ تخفيف عنه [كقولهم السبع في السبع] «2» . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَتْ نَمْلَةٌ فَالْمَعْنَى أَنَّهَا تَكَلَّمَتْ بِذَلِكَ وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ فِيهَا الْعَقْلَ وَالنُّطْقَ. وَعَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ دَخَلَ الْكُوفَةَ فَالْتَفَّ عَلَيْهِ النَّاسُ فَقَالَ سَلُوا عَمَّا شِئْتُمْ وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه حَاضِرًا وَهُوَ غُلَامٌ حَدَثٌ فَقَالَ سَلُوهُ عَنْ نَمْلَةِ سُلَيْمَانَ أَكَانَتْ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى؟ فَسَأَلُوهُ فَأُفْحِمَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَتْ أُنْثَى فَقِيلَ لَهُ مَنْ أَيْنَ عَرَفْتَ؟ فَقَالَ مِنْ كِتَابِ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُهُ: قالَتْ نَمْلَةٌ وَلَوْ كَانَ ذَكَرًا لَقَالَ (قَالَ نَمْلَةٌ) ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّمْلَةَ مِثْلُ الْحَمَامَةِ وَالشَّاةِ فِي وُقُوعِهَا عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَيُمَيَّزُ بَيْنَهُمَا بِعَلَامَةٍ نَحْوُ قَوْلِهِمْ حَمَامَةٌ ذَكَرٌ وَحَمَامَةٌ أُنْثَى وَهُوَ وَهِيَ «3» . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ فَاعْلَمْ أَنَّ النَّمْلَةَ لَمَّا قَارَبَتْ حَدَّ الْعَقْلِ، لَا جَرَمَ ذُكِرَتْ بِمَا يُذْكَرُ بِهِ الْعُقَلَاءُ فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ فَإِنْ قُلْتَ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ مَا هو؟ قلت يحتمل أن يكون جوابا

_ (1) زيادة من الكشاف. (2) زيادة من الكشاف. (3) مقتضى ما ذكره من أن النملة تقع على المذكر والمؤنث يبطل رد أبي حنيفة رحمه اللَّه تعالى.

لِلْأَمْرِ وَأَنْ يَكُونَ نَهْيًا بَدَلًا مِنَ الْأَمْرِ، وَالْمَعْنَى لَا تَكُونُوا حَيْثُ أَنْتُمْ فَيَحْطِمَنَّكُمْ عَلَى طريقة: لا أرينك هاهنا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ يَسِيرُ فِي الطَّرِيقِ لَا يَلْزَمُهُ التَّحَرُّزُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مَنْ فِي الطَّرِيقِ التَّحَرُّزُ وَثَانِيهَا: أَنَّ النَّمْلَةَ قَالَتْ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ كَأَنَّهَا عَرَفَتْ أَنَّ النَّبِيَّ مَعْصُومٌ فَلَا يَقَعُ مِنْهُ قَتْلُ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَظِيمٌ عَلَى وُجُوبِ الْجَزْمِ بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَثَالِثُهَا: مَا رَأَيْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ تِلْكَ النَّمْلَةَ إِنَّمَا أَمَرَتْ غَيْرَهَا بِالدُّخُولِ لِأَنَّهَا خَافَتْ عَلَى قَوْمِهَا أَنَّهَا إِذَا رَأَتْ سُلَيْمَانَ فِي جَلَالَتِهِ، فَرُبَّمَا وَقَعَتْ فِي كُفْرَانِ نِعْمَةِ اللَّه تَعَالَى وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَا يَحْطِمَنَّكُمْ/ سُلَيْمانُ فَأَمَرَتْهَا بِالدُّخُولِ فِي مَسَاكِنِهَا لِئَلَّا تَرَى تِلْكَ النِّعَمِ فَلَا تَقَعُ فِي كُفْرَانِ نِعْمَةِ اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مُجَالَسَةَ أَرْبَابِ الدُّنْيَا مَحْذُورَةٌ وَرَابِعُهَا: قُرِئَ (مَسْكَنَكُمْ) وَ (لَا يَحْطِمَنْكُمْ) بِتَخْفِيفِ النُّونِ، وَقُرِئَ (لَا يَحْطَمَنَّكُمْ) بِفَتْحِ الطَّاءِ وَكَسْرِهَا وَأَصْلُهَا (يَحْطِمَنَّكُمْ) «1» . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها يَعْنِي تَبَسَّمَ شَارِعًا فِي الضحك [وآخذا فيه] «2» ، بمعنى أَنَّهُ قَدْ تَجَاوَزَ حَدَّ التَّبَسُّمِ إِلَى الضَّحِكِ، وَإِنَّمَا ضَحِكَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِعْجَابُهُ بِمَا دَلَّ مِنْ قَوْلِهَا عَلَى ظُهُورِ رَحْمَتِهِ وَرَحْمَةِ جُنُودِهِ [وشفقتهم] «3» وَعَلَى شُهْرَةِ حَالِهِ وَحَالِهِمْ فِي بَابِ التَّقْوَى، وَذَلِكَ قَوْلُهَا: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَالثَّانِي: سُرُورُهُ بِمَا آتَاهُ اللَّه مِمَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا من سماعه لكلام النملة وإحاطته بمعناه. وأما قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبِّ أَوْزِعْنِي فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : حَقِيقَةُ أَوْزِعْنِي: اجْعَلْنِي أَزَعُ شُكْرَ نِعْمَتِكَ عِنْدِي وَأَكُفُّهُ عَنْ أَنْ يَنْقَلِبَ عَنِّي، حَتَّى أَكُونَ شاكرا لك أبدا، وهذا يدل على مذهبا فَإِنَّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ كُلَّ مَا أَمْكَنَ فِعْلُهُ مِنَ الْأَلْطَافِ فَقَدْ صَارَتْ مَفْعُولَةً وَطَلَبَ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ عَبَثٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلى والِدَيَّ فَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَدَّ نِعَمَ اللَّه تَعَالَى عَلَى وَالِدَيْهِ نِعْمَةً عَلَيْهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ طَلَبَ الْإِعَانَةَ فِي الشُّكْرِ وَفِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، ثم قال: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا طَلَبَ فِي الدُّنْيَا الْإِعَانَةَ عَلَى الْخَيْرَاتِ طَلَبَ أَنْ يُجْعَلَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَقَوْلُهُ: بِرَحْمَتِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ لَا بِاسْتِحْقَاقٍ مِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ وَاعْلَمْ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إِلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ أَوَّلًا ثُمَّ طَلَبَ ثَوَابَ الْآخِرَةِ ثَانِيًا، أَمَّا وَسِيلَةُ الثَّوَابِ فَهِيَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: شُكْرُ النِّعْمَةِ السَّالِفَةِ وَالثَّانِي: الِاشْتِغَالُ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْخِدْمَةِ، أَمَّا الِاشْتِغَالُ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ السَّالِفَةِ، فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَلَمَّا كَانَ الْإِنْعَامُ عَلَى الْآبَاءِ إِنْعَامًا عَلَى الْأَبْنَاءِ لِأَنَّ انْتِسَابَ الِابْنِ إِلَى أَبٍ شَرِيفٍ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى عَلَى الِابْنِ، لَا جَرَمَ اشْتَغَلَ بِشُكْرِ نِعَمِ اللَّه عَلَى الْآبَاءِ بِقَوْلِهِ: وَعَلى والِدَيَّ وَأَمَّا الِاشْتِغَالُ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْخِدْمَةِ، فَقَوْلُهُ: وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَمَّا طَلَبُ ثَوَابِ الْآخِرَةِ فَقَوْلُهُ: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ فَإِنْ قِيلَ دَرَجَاتُ الْأَنْبِيَاءِ أَعْظَمُ مِنْ دَرَجَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، فَمَا السَّبَبُ فِي أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَطْلُبُونَ جَعْلَهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ فقال يوسف: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وقال سليمان: أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ؟ جَوَابُهُ: الصَّالِحُ الْكَامِلُ هو الذي لا يعصي اللَّه وَلَا يَهُمُّ بِمَعْصِيَةٍ وَهَذِهِ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ، واللَّه أعلم.

_ (1) في الكشاف (يحتطمنكم) . (2) زيادة من الكشاف. [.....] (3) زيادة من الكشاف.

[سورة النمل (27) : الآيات 20 إلى 24]

[سورة النمل (27) : الآيات 20 الى 24] وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) اعْلَمْ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا تَفَقَّدَ الطَّيْرَ أَوْهَمَ ذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا تَفَقَّدَهُ لِأَمْرٍ يَخْتَصُّ بِهِ ذَلِكَ الطَّيْرُ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لِأَجْلِهِ تَفَقَّدَهُ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُ وَهْبٍ أَنَّهُ أَخَلَّ بِالنَّوْبَةِ الَّتِي كَانَ يَنُوبُهَا فَلِذَلِكَ تَفَقَّدَهُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَفَقَّدَهُ لِأَنَّ مَقَايِيسَ الْمَاءِ كَانَتْ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَعْرِفُ الْفَصْلَ بَيْنَ قَرِيبِهِ وَبَعِيدِهِ، فَلِحَاجَةِ سُلَيْمَانَ إِلَى ذَلِكَ طَلَبَهُ وَتَفَقَّدَهُ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ كَانَ يُظِلُّهُ مِنَ الشَّمْسِ، فَلَمَّا فَقَدَ ذَلِكَ تَفَقَّدَهُ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَقالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ فَأَمْ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ نَظَرَ إِلَى مَكَانِ الْهُدْهُدِ فَلَمْ يُبْصِرْهُ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَاهُ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَرَاهُ وَهُوَ حَاضِرٌ لِسَاتِرٍ سَتَرَهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ لَاحَ لَهُ أَنَّهُ غَائِبٌ فَأَضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ وَأَخَذَ يَقُولُ: أَهْوَ غَائِبٌ؟ كَأَنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ صِحَّةِ مَا لَاحَ لَهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ: إِنَّهَا لَإِبِلٌ أَمْ شَاءٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ فَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَهُ إِلَّا فِيمَنْ هُوَ مُكَلَّفٌ أَوْ فِيمَنْ قَارَبَ الْعَقْلَ فَيَصْلُحُ لِأَنْ يُؤَدَّبَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: لَأُعَذِّبَنَّهُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّهُ نَتْفُ الرِّيشِ وَالْإِلْقَاءُ فِي الشَّمْسِ، وَقِيلَ أَنْ يُطْلَى بِالْقَطِرَانِ وَيُشَمَّسُ، وَقِيلَ أَنْ يُلْقَى لِلنَّمْلِ فَتَأْكُلُهُ، وَقِيلَ إِيدَاعُهُ الْقَفَصَ، وَقِيلَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِلْفِهِ، وَقِيلَ لَأُلْزِمَنَّهُ صُحْبَةَ الْأَضْدَادِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ: أَضْيَقُ السُّجُونِ مُعَاشَرَةُ الْأَضْدَادِ، وَقِيلَ لَأُلْزِمَنَّهُ خِدْمَةَ أَقْرَانِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَمَكَثَ فَقَدْ قُرِئَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا غَيْرَ بَعِيدٍ [غير زمان بَعِيدٍ] «1» كَقَوْلِكَ عَنْ قَرِيبٍ، / وَوَصَفَ مُكْثَهُ بِقِصَرِ الْمُدَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِسْرَاعِهِ خَوْفًا مِنْ سُلَيْمَانَ وَلِيُعْلَمَ كَيْفَ كَانَ الطَّيْرُ مُسَخَّرًا لَهُ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ فَفِيهِ تَنْبِيهٌ لِسُلَيْمَانَ عَلَى أَنَّ فِي أَدْنَى خَلْقِ اللَّه تَعَالَى مَنْ أَحَاطَ عِلْمًا بِمَا لَمْ يُحِطْ بِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ لُطْفًا فِي تَرْكِ الْإِعْجَابِ وَالْإِحَاطَةُ بِالشَّيْءِ عِلْمًا أَنْ يُعْلَمَ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ فَاعْلَمْ أَنَّ سَبَأً قُرِئَ بِالصَّرْفِ وَمَنْعِهِ، وَقَدْ رُوِيَ بِسُكُونِ الْبَاءِ، وَعَنِ ابْنِ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ سَبَا بِالْأَلْفِ كَقَوْلِهِمْ ذَهَبُوا أَيْدِيَ سَبَا وَهُوَ سَبَأُ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ، فَمَنْ جَعَلَهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ لَمْ يَصْرِفْ، وَمِنْ جَعَلَهُ اسْمًا لِلْحَيِّ أَوْ لِلْأَبِ الْأَكْبَرِ صَرَفَ، ثُمَّ سُمِّيَتْ مَدِينَةُ مَأْرِبَ بِسَبَأٍ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ صَنْعَاءَ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، والنبأ الخبر الذي له شأن.

_ (1) زيادة من الكشاف.

وَقَوْلُهُ: مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ مِنْ مَحَاسِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ وَشَرْطُ حُسْنِهِ صِحَّةُ الْمَعْنَى، ولقد جاء هاهنا زَائِدًا عَلَى الصِّحَّةِ فَحَسُنَ لَفْظًا وَمَعْنًى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ مَكَانَ (بِنَبَأٍ) بِخَبَرٍ لَكَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا، وَلَكِنَّ لَفْظَ النَّبَأِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ الَّتِي يُطَابِقُهَا وَصْفُ الْحَالِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ فَالْمَرْأَةُ بِلْقِيسُ بِنْتُ شَرَاحِيلَ، وَكَانَ أَبُوهَا مَلِكُ أَرْضِ الْيَمَنِ وَكَانَتْ هِيَ وَقَوْمُهَا مَجُوسًا يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ، وَالضَّمِيرُ فِي تَمْلِكُهُمْ رَاجِعٌ إِلَى سَبَأٍ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْقَوْمُ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَإِنْ أريدت المدين فَمَعْنَاهُ تَمْلِكُ أَهْلَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ قَالَ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَعَ قَوْلِ سليمان وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: 16] فَكَأَنَّ الْهُدْهُدَ سَوَّى بَيْنَهُمَا جَوَابُهُ: أَنَّ قَوْلَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَرْجِعُ إِلَى مَا أُوتِيَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ، ثُمَّ إِلَى الْمُلْكِ وَأَسْبَابِ الدُّنْيَا، وَأَمَّا قَوْلُ الْهُدْهُدِ فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ فَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ اسْتَعْظَمَ الْهُدْهُدُ عَرْشَهَا مَعَ مَا كَانَ يَرَى مِنْ مُلْكِ سُلَيْمَانَ؟ وَأَيْضًا فَكَيْفَ سَوَّى بَيْنِ عَرْشِ بِلْقِيسَ وَعَرْشِ اللَّه تَعَالَى فِي الْوَصْفِ بِالْعَظِيمِ؟ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: يَجُوزُ أَنْ يَسْتَصْغِرَ حَالَهَا إِلَى حَالِ سُلَيْمَانَ فَاسْتَعْظَمَ لَهَا ذَلِكَ الْعَرْشَ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ لِسُلَيْمَانَ مَعَ جَلَالَتِهِ مِثْلُهُ كَمَا قَدْ يَتَّفِقُ لِبَعْضِ الْأُمَرَاءِ شَيْءٌ لَا يَكُونُ مِثْلُهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ وَصْفَ عَرْشِهَا بِالْعِظَمِ تَعْظِيمٌ لَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى عُرُوشِ أَبْنَاءِ جِنْسِهَا مِنَ الْمُلُوكِ وَوَصْفَ عَرْشِ اللَّه بِالْعِظَمِ تَعْظِيمٌ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إلى سائر ما خلق من السموات والأرض، واعلم أن هاهنا بَحْثَيْنِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَلَاحِدَةَ طَعَنَتْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَنَّ النَّمْلَةَ وَالْهُدْهُدَ تَكَلَّمَا بِكَلَامٍ لَا يَصْدُرُ ذَلِكَ الْكَلَامُ إِلَّا مِنَ الْعُقَلَاءِ وَذَلِكَ يَجُرُّ إِلَى السَّفْسَطَةِ، فَإِنَّا لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَمَا أَمِنَّا فِي النَّمْلَةِ الَّتِي نُشَاهِدُهَا فِي زَمَانِنَا هَذَا، أَنْ تَكُونَ أَعْلَمَ بِالْهَنْدَسَةِ مِنْ إِقْلِيدِسَ، وَبِالنَّحْوِ مِنْ سِيبَوَيْهِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْقَمْلَةِ وَالصِّئْبَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمُ/ الْأَنْبِيَاءُ وَالتَّكَالِيفُ وَالْمُعْجِزَاتُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ كَانَ إِلَى الْجُنُونِ أَقْرَبَ وَثَانِيهَا: أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بِالشَّامِ فَكَيْفَ طَارَ الْهُدْهُدُ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ اللَّطِيفَةِ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْيَمَنِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ؟ وَثَالِثُهَا: كَيْفَ خَفِيَ عَلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَالَ مِثْلِ تِلْكَ الْمَلِكَةِ الْعَظِيمَةِ مَعَ مَا يُقَالُ إِنَّ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ كَانُوا فِي طَاعَةِ سُلَيْمَانَ، وَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَلِكَ الدُّنْيَا بِالْكُلِّيَّةِ وَكَانَ تَحْتَ رَايَةِ بِلْقِيسَ عَلَى مَا يُقَالُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَلِكٍ تَحْتَ رَايَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ، وَمَعَ أَنَّهُ يُقَالُ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ سُلَيْمَانَ وَبَيْنَ بَلْدَةِ بِلْقِيسَ حَالَ طَيَرَانِ الْهُدْهُدِ إِلَّا مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَرَابِعُهَا: مَنْ أَيْنَ حَصَلَ لِلْهُدْهُدِ مَعْرِفَةُ اللَّه تَعَالَى وَوُجُوبُ السُّجُودِ لَهُ وَإِنْكَارُ سُجُودِهِمْ لِلشَّمْسِ وَإِضَافَتُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ وَتَزْيِينُهُ؟ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ قَائِمٌ فِي أَوَّلِ الْعَقْلِ، وَإِنَّمَا يُدْفَعُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ، وَعَنِ الْبَوَاقِي أَنَّ الْإِيمَانَ بِافْتِقَارِ الْعَالَمِ إِلَى الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ يُزِيلُ هَذِهِ الشُّكُوكَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ: يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مِنْ جِهَتِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى الشَّيْطَانِ بَعْدَ إِضَافَتِهِ إِلَيْهِمْ وَلِأَنَّهُ أَوْرَدَهُ مَوْرِدَ الذَّمِّ وَلِأَنَّهُ

[سورة النمل (27) : الآيات 25 إلى 28]

بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَهْتَدُونَ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْهُدْهُدِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ، فَإِنَّهُ قَالَ: فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَعِنْدَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا صَدَّ الْكَافِرَ عَنِ السَّبِيلِ إِذْ لَوْ كَانَ مَصْدُودًا ممنوعا لسقط عنه التكليف، فلم يبق هاهنا إِلَّا التَّمَسُّكُ بِفَصْلِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالْجَوَابُ: قَدْ تَقَدَّمَ عَنْهُ مِرَارًا فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ واللَّه أعلم. [سورة النمل (27) : الآيات 25 الى 28] أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَّا يَسْجُدُوا قِرَاءَاتٍ أَحَدُهَا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ (أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ وَيَا حَرْفُ النِّدَاءِ وَمُنَادَاهُ مَحْذُوفٌ، كَمَا حَذَفَهُ مَنْ قَالَ: أَلَا يَا أسلمي يا دارمي عَلَى الْبِلَى ... [وَلَا زَالَ مُنْهَلًّا بِجَرْعَائِكِ الْقَطْرُ] / وَثَانِيهَا: بِالتَّشْدِيدِ أَرَادَ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ لِئَلَّا يَسْجُدُوا، فَحَذَفَ الْجَارَّ مَعَ أَنْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَا مَزِيدَةً، وَيَكُونُ الْمَعْنَى فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (إِلَّا) «1» أَنْ يَسْجُدُوا وَثَالِثُهَا: وَهِيَ حَرْفُ عبد اللَّه و [هي] «2» قراءة الْأَعْمَشِ هَلَّا بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ هَاءً، وَعَنْ عَبْدِ اللَّه هَلَّا تَسْجُدُونَ بِمَعْنَى أَلَا تَسْجُدُونَ عَلَى الْخِطَابِ وَرَابِعُهَا: قِرَاءَةُ أُبَيٍّ أَلَا يَسْجُدُونَ للَّه الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ (فِي السَّمَاوَاتِ) «3» وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَمَا تُعْلِنُونَ. المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ قَوْلُهُ: أَلَّا يَسْجُدُوا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِمَعْنَى الْمَنْعِ مِنَ السَّجْدَةِ لَمْ يَكُنْ لِوَصْفِهِ تَعَالَى بِمَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ السُّجُودُ لَهُ وَهُوَ كَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى إِخْرَاجِ الْخَبْءِ عَالِمًا بِالْأَسْرَارِ مَعْنًى. المسألة الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى وَصْفِ اللَّه تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ، أَمَّا الْقُدْرَةُ فَقَوْلُهُ: يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَسَمَّى الْمَخْبُوءَ بِالْمَصْدَرِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْأَرْزَاقِ وَالْأَمْوَالِ وَإِخْرَاجُهُ مِنَ السَّمَاءِ بِالْغَيْثِ، وَمِنَ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ. وَأَمَّا الْعِلْمُ فَقَوْلُهُ: وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَعْبُدُ الشَّمْسَ وَتَحْرِيرُ الدَّلَالَةِ هَكَذَا: الْإِلَهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِخْرَاجِ الْخَبْءِ وَعَالِمًا بِالْخَفِيَّاتِ، وَالشَّمْسُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَهِيَ لَا تَكُونُ إِلَهًا وَإِذَا لَمْ تَكُنْ إِلَهًا لَمْ يَجُزِ السُّجُودُ لَهَا، أَمَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَالِمًا عَلَى الوجه الْمَذْكُورِ، فَلَمَّا أَنَّهُ وَاجِبٌ لِذَاتِهِ فَلَا تَخْتَصُّ قَادِرِيَّتُهُ وَعَالَمِيَّتُهُ بِبَعْضِ الْمَقْدُورَاتِ وَالْمَعْلُومَاتِ دُونَ الْبَعْضِ، وَأَمَّا أَنَّ الشَّمْسَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَلِأَنَّهَا جِسْمٌ مُتَنَاهٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ مُتَنَاهِيًا فِي الذَّاتِ كَانَ مُتَنَاهِيًا فِي الصِّفَاتِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهَا قَادِرَةً عَلَى

_ (1) في الكشاف (إلى) . (2) زيادة من الكشاف. (3) في الكشاف (من السماء) .

إِخْرَاجِ الْخَبْءِ عَالِمَةً بِالْخَفِيَّاتِ، فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ مِنْ حَالِهَا ذَلِكَ لَمْ يُعْلَمْ مِنْ حَالِهَا كَوْنُهَا قَادِرَةً عَلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، فَرَجَعَ حَاصِلُ الدَّلَالَةِ إِلَى مَا ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مَرْيَمَ: 42] وَفِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا اسْتَدَلَّ بِهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [الْبَقَرَةِ: 258] وَفِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [الْبَقَرَةِ: 258] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي يُخْرِجُ الشَّمْسَ مِنَ الْمَشْرِقِ بَعْدَ أُفُولِهَا فِي الْمَغْرِبِ فَهَذَا هُوَ إِخْرَاجُ الْخَبْءِ فِي السموات وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الْأَنْعَامِ: 76] ومن قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ ومن قوله موسى عليه السلام: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الشعراء: 28] وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ أُفُولَ الشَّمْسِ وَطُلُوعَهَا يَدُلَّانِ عَلَى كَوْنِهَا تَحْتَ تَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ قَاهِرٍ فَكَانَتِ الْعِبَادَةُ لِقَاهِرِهَا وَالْمُتَصَرِّفِ فِيهَا أَوْلَى، وَأَمَّا إِخْرَاجُ الْخَبْءِ مِنَ الْأَرْضِ فَهُوَ يَتَنَاوَلُ إِخْرَاجَ النُّطْفَةِ مِنَ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ وَتَكْوِينَ الْجَنِينِ مِنْهُ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ قَدَّمَا دَلَالَةَ الْأَنْفُسِ عَلَى دَلَالَةِ الْآفَاقِ فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ثم قال: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ/ الْأَوَّلِينَ [الشُّعَرَاءِ: 26] ثم قال: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فلم كان الأمر هاهنا بالعكس فقدم خبء السموات عَلَى خَبْءِ الْأَرْضِ؟ جَوَابُهُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ نَاظَرَا مَعَ مَنِ ادَّعَى إِلَهِيَّةَ البشر، فلا جرم ابتدأ بِإِبْطَالِ إِلَهِيَّةِ الْبَشَرِ ثُمَّ انْتَقَلَا إِلَى إِبْطَالِ إلهية السموات، وهاهنا الْمُنَاظَرَةُ مَعَ مَنِ ادَّعَى إِلَهِيَّةَ الشَّمْسِ لِقَوْلِهِ: وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَلَا جَرَمَ ابْتَدَأَ بِذِكْرِ السَّمَاوِيَّاتِ ثُمَّ بِالْأَرْضِيَّاتِ. أَمَّا قَوْلُهُ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لما بين افتقار السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَى الْمُدَبِّرِ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ مَا هُوَ أَعْظَمُ الْأَجْسَامِ فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ وَمَرْبُوبَةٌ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُنْتَهَى فِي الْقُدْرَةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ إِلَى مَا لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ واللَّه أَعْلَمُ. المسألة الرَّابِعَةُ: قيل من أَحَطْتُ إلى عَظِيمٌ كَلَامُ الْهُدْهُدِ وَقِيلَ كَلَامُ رَبِّ الْعِزَّةِ. المسألة الْخَامِسَةُ: الْحَقُّ أَنَّ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ وَاجِبَةٌ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ سَجَدَاتِ الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً، وَهَذَا وَاحِدٌ مِنْهَا وَلِأَنَّ مَوَاضِعَ السَّجْدَةِ إِمَّا أَمْرٌ بِهَا أَوْ مَدْحٌ لِمَنْ أَتَى بِهَا أَوْ ذَمٌّ لِمَنْ تَرَكَهَا، وَإِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ أَمْرٌ بِالسُّجُودِ وَالْأُخْرَى ذَمٌّ لِلتَّارِكِ فَثَبَتَ أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ مِنْ وُجُوبِ السَّجْدَةِ مَعَ التَّخْفِيفِ دُونَ التَّشْدِيدِ غَيْرُ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهِ. المسألة السَّادِسَةُ: يُقَالُ هَلْ يُفَرِّقُ الْوَاقِفُ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ؟ جَوَابُهُ: نَعَمْ إِذَا خفف وقف على فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ [النمل: 24] ثم ابتدأ بألا يَسْجُدُوا وَإِنْ شَاءَ وَقَفَ عَلَى أَلَا يَا ثُمَّ ابْتَدَأَ اسْجُدُوا وَإِذَا شَدَّدَ لَمْ يَقِفْ إِلَّا عَلَى (الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) . أَمَّا قَوْلُهُ: سَنَنْظُرُ فَمِنَ النَّظَرِ الَّذِي هُوَ التَّأَمُّلُ، وَأَرَادَ صَدَقْتَ أَمْ كَذَبْتَ إِلَّا أَنَّ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ أَبْلَغُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالْكَذِبِ كَانَ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ فَلَمْ يُوثَقْ بِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ قَالَ: وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ [النمل: 24] فَقَالَ: فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ أَيْ إِلَى الَّذِينَ هَذَا دينهم.

[سورة النمل (27) : الآيات 29 إلى 33]

أَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أَيْ تَنَحَّ عَنْهُمْ إِلَى مَكَانٍ قَرِيبٍ تَتَوَارَى فِيهِ لِيَكُونَ ما يقولونه بمسمع منك ويَرْجِعُونَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ [سَبَأٍ: 30] وَيُقَالُ دَخَلَ عَلَيْهَا مِنْ كُوَّةٍ وألقى إليها الكتاب وتوارى في الكوة. [سورة النمل (27) : الآيات 29 الى 33] قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) اعلم أن قوله: قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ بِمَعْنَى أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْهُدْهُدَ أَلْقَى إِلَيْهَا الْكِتَابَ فَهُوَ مَحْذُوفٌ كَأَنَّهُ ثَابِتٌ، رُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا رَقَدَتْ غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَوَضَعَتِ الْمَفَاتِيحَ تَحْتَ رَأْسِهَا فَدَخَلَ مِنْ كُوَّةٍ وَطَرَحَ الْكِتَابَ عَلَى نَحْرِهَا وَهِيَ مُسْتَلْقِيَةٌ، وَقِيلَ نَقَرَهَا فَانْتَبَهَتْ فَزِعَةً. أَمَّا قَوْلُهُ: كِتابٌ كَرِيمٌ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: حُسْنُ مَضْمُونِهِ وَمَا فيه وثانيها: وصفته بِالْكَرِيمِ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ مَلِكٍ كَرِيمٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْكِتَابَ كَانَ مَخْتُومًا وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كَرَّمَ الْكِتَابَ خَتْمُهُ» وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «يَكْتُبُ إِلَى الْعَجَمِ، فَقِيلَ لَهُ إِنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ إِلَّا كِتَابًا عَلَيْهِ خَاتَمٌ فَاتَّخَذَ لِنَفْسِهِ خَاتَمًا» . أَمَّا قَوْلِهِ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ وَتَبْيِينٌ لِمَا أُلْقِيَ إِلَيْهَا كَأَنَّهَا لَمَّا قَالَتْ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ قِيلَ لَهَا مِمَّنْ هُوَ وَمَا هُوَ فَقَالَتْ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّه إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ عَطْفًا عَلَى إِنِّي وَقُرِئَ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِالْفَتْحِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ كِتَابٌ كَأَنَّهُ قِيلَ أُلْقِيَ إِلَيَّ أنه من سليمان وثانيهما: أن يريد أن مِنْ سُلَيْمَانَ وَلِأَنَّهُ بِسْمِ اللَّه كَأَنَّهَا عَلَّلَتْ كَرَمَهُ بِكَوْنِهِ مِنْ سُلَيْمَانَ وَتَصْدِيرِهِ بِسْمِ اللَّه وَقَرَأَ أُبَيٌّ (أَنْ مِنْ سُلَيْمَانَ وَأَنْ بِسْمِ اللَّه) على أن المفسرة، وأن في (ألا تَعْلُوا) مُفَسِّرَةٌ أَيْضًا وَمَعْنَى لَا تَعْلُوا لَا تَتَكَبَّرُوا كَمَا تَفْعَلُ الْمُلُوكُ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَالْغَيْنِ مُعْجَمَةً مِنَ الْغُلُوِّ وَهِيَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ. الْبَحْثُ الثَّانِي: يُقَالُ لِمَ قَدَّمَ سُلَيْمَانُ اسْمَهُ عَلَى قَوْلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؟ جَوَابُهُ: حَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ بَلِ ابْتَدَأَ هُوَ بِبَسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَتْ بِلْقِيسُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مِنْ سُلَيْمَانَ ثُمَّ حَكَتْ مَا فِي الْكِتَابِ واللَّه تَعَالَى حَكَى ذَلِكَ فَالتَّقْدِيمُ وَاقِعٌ فِي الْحِكَايَةِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَا يُطِيلُونَ بَلْ يَقْتَصِرُونَ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَهَذَا الْكِتَابُ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَمَامِ الْمَقْصُودِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ الْخَلْقِ، إِمَّا الْعِلْمُ أَوِ الْعَمَلُ وَالْعِلْمُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَمَلِ فَقَوْلُهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مُشْتَمِلٌ عَلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَإِثْبَاتِ كَوْنِهِ عَالِمًا قَادِرًا حَيًّا مُرِيدًا حَكِيمًا رَحِيمًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ فَهُوَ نَهْيٌ عَنِ الِانْقِيَادِ لِطَاعَةِ النَّفْسِ وَالْهَوَى وَالتَّكَبُّرِ.

[سورة النمل (27) : الآيات 34 إلى 37]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فَالْمُرَادُ مِنَ الْمُسْلِمِ إِمَّا الْمُنْقَادُ أَوِ الْمُؤْمِنُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ عَلَى وَجَازَتِهِ يَحْوِي كُلِّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَإِنْ قِيلَ النَّهْيُ عَنِ الِاسْتِعْلَاءِ وَالْأَمْرِ بِالِانْقِيَادِ قَبْلَ إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ رَسُولًا حَقًّا يَدُلُّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالتَّقْلِيدِ جَوَابُهُ: مَعَاذَ اللَّه أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ تَقْلِيدٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ رَسُولَ سُلَيْمَانَ إِلَى بِلْقِيسَ كَانَ الْهُدْهُدُ وَرِسَالَةُ الْهُدْهُدِ مُعْجِزٌ وَالْمُعْجِزُ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَعَلَى صِفَاتِهِ وَيَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الرِّسَالَةُ دَلَالَةً تَامَّةً عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ لَا جَرَمَ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ دَلِيلًا آخَرَ. أَمَّا قوله: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي فَالْفَتْوَى هِيَ الْجَوَابُ فِي الْحَادِثَةِ اشْتُقَّتْ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ مِنَ الْفَتِيِّ فِي السِّنِّ أَيْ أَجِيبُونِي فِي الْأَمْرِ الْفَتِيِّ، وَقَصَدَتْ بِالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِمْ وَاسْتِطْلَاعِ رَأْيِهِمْ تَطْيِيبَ قُلُوبِهِمْ مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً أَيْ لَا أَبُتُّ أَمْرًا إِلَّا بِمَحْضَرِكُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ فالمراد قوة الأجسام وقوة الآلات [والعدد] «1» وَالْمُرَادُ بِالْبَأْسِ النَّجْدَةُ (وَالثَّبَاتُ) «2» فِي الْحَرْبِ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ الْقَوْمَ ذَكَرُوا أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِظْهَارُ الْقُوَّةِ الذَّاتِيَّةِ وَالْعَرَضِيَّةِ لِيَظْهَرَ أَنَّهَا إِنْ أَرَادَتْهُمْ لِلدَّفْعِ وَالْحَرْبِ وَجَدَتْهُمْ بِحَيْثُ تُرِيدُ، وَالْآخَرُ قَوْلُهُمْ: وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ وَفِي ذَلِكَ إِظْهَارُ الطَّاعَةِ لَهَا إِنْ أَرَادَتِ السِّلْمَ، وَلَا يُمْكِنُ ذِكْرُ جَوَابٍ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا واللَّه أعلم. [سورة النمل (27) : الآيات 34 الى 37] قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) اعْلَمْ أَنَّهَا لَمَّا عَرَضَتِ الْوَاقِعَةَ عَلَى أَكَابِرِ قَوْمِهَا وَقَالُوا مَا تَقَدَّمَ أَظْهَرَتْ رَأْيَهَا، وَهُوَ أَنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً بِالْقَهْرِ أَفْسَدُوهَا، أَيْ خَرَّبُوهَا وَأَذَلُّوا أَعِزَّتَهَا، فَذَكَرَتْ لَهُمْ عَاقِبَةَ الْحَرْبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا أَهْوَ مِنْ كَلَامِهَا أَوْ مِنْ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى كَالتَّصْوِيبِ لَهَا وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِهَا، وَأَنَّهَا ذَكَرَتْهُ تَأْكِيدًا لِمَا وَصَفَتْهُ مِنْ حَالِ الْمُلُوكِ. فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي صفة الهداية فَالنَّاسُ أَكْثَرُوا فِيهَا لَكِنْ لَا ذِكْرَ لَهَا فِي الْكِتَابِ وَقَوْلُهَا: فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَثِقْ بِالْقَبُولِ وَجَوَّزَتِ الرَّدَّ، وَأَرَادَتْ بِذَلِكَ أَنْ يَنْكَشِفَ لَهَا غَرَضُ سُلَيْمَانَ، وَلَمَّا وَصَلَتِ الْهَدَايَا إِلَى سُلَيْمَانَ عليه السلام ذكر أمرين: الأول: قوله: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَأَظْهَرَ بِهَذَا الْكَلَامِ قِلَّةَ الِاكْتِرَاثِ بِذَلِكَ الْمَالِ. أَمَّا قَوْلُهُ: بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْهَدِيَّةَ اسْمٌ لِلْمُهْدَى، كَمَا أَنَّ الْعَطِيَّةَ اسْمٌ لِلْمُعْطَى، فَتُضَافُ إِلَى الْمَهْدِيِّ وَإِلَى الْمُهْدَى لَهُ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ هاهنا هُوَ الْمُهْدَى إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى آتَانِي الدِّينَ الَّذِي هُوَ السَّعَادَةُ الْقُصْوَى، وَآتَانِي مِنَ الدُّنْيَا مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يُسْتَمَالُ مِثْلِي بِمِثْلِ هَذِهِ الْهَدِيَّةِ، بَلْ أَنْتُمْ تَفْرَحُونَ بِمَا يُهْدَى إِلَيْكُمْ، لَكِنَّ حَالِي خِلَافُ حَالِكُمْ وَثَانِيهَا: بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ هَذِهِ الَّتِي

_ (1) زيادة من الكشاف. (2) في الكشاف (والبلاء) .

[سورة النمل (27) : الآيات 38 إلى 40]

أَهْدَيْتُمُوهَا تَفْرَحُونَ مِنْ حَيْثُ إِنَّكُمْ قَدَرْتُمْ عَلَى إِهْدَاءِ مِثْلِهَا وَثَالِثُهَا: كَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ مِنْ حَقِّكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا هَدِيَّتَكُمْ وَتَفْرَحُوا بِهَا الثَّانِي: قَوْلُهُ: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَقِيلَ ارْجِعْ خِطَابٌ للرسول، وقيل للهدهد مجملا كِتَابًا آخَرَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا قِبَلَ أَيْ لَا طَاقَةَ، وَحَقِيقَةُ الْقِبَلِ الْمُقَاوَمَةُ وَالْمُقَابَلَةُ، أَيْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُقَابِلُوهُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِمْ) ، وَالضَّمِيرُ فِي (مِنْهَا) لِسَبَأٍ، وَالذُّلُّ أَنْ يَذْهَبَ عَنْهُمْ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِزِّ وَالْمُلْكِ، وَالصَّغَارُ أَنْ يَقَعُوا فِي أَسْرٍ وَاسْتِعْبَادٍ، وَلَا يَقْتَصِرُ بِهِمْ عَلَى أَنْ يَرْجِعُوا سُوقَةً بَعْدَ أَنْ كَانُوا ملوكا. [سورة النمل (27) : الآيات 38 الى 40] قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) اعْلَمْ أَنَّ في قوله تعالى: قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها دَلَالَةً عَلَى أَنَّهَا عَزَمَتْ عَلَى اللُّحُوقِ بِسُلَيْمَانَ، وَدَلَالَةً عَلَى أَنَّ أَمْرَ ذَلِكَ الْعَرْشِ كَانَ مَشْهُورًا، فَأَحَبَّ أَنْ يَحْصُلَ عِنْدَهُ قَبْلَ حُضُورِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي غَرَضِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ إِحْضَارِ ذَلِكَ الْعَرْشِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَلَالَةٌ لِبِلْقِيسَ عَلَى قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَعَلَى نُبُوَّةِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَتَّى تَنْضَمَّ هَذِهِ الدَّلَالَةُ إِلَى سَائِرِ الدَّلَائِلِ الَّتِي سَلَفَتْ وَثَانِيهَا: أَرَادَ أَنْ يُؤْتَى بِذَلِكَ الْعَرْشِ فَيُغَيَّرَ وَيُنَكَّرَ، ثُمَّ يُعْرَضَ عَلَيْهَا حَتَّى أَنَّهَا هَلْ تَعْرِفُهُ أَوْ تُنْكِرُهُ، وَالْمَقْصُودُ اخْتِبَارُ عَقْلِهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي [النَّمْلِ: 41] كَالدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ وَثَالِثُهَا: قَالَ قَتَادَةُ: أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ قَبْلَ إِسْلَامِهَا، لِعِلْمِهِ أَنَّهَا إِذَا أَسْلَمَتْ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَخْذُ مَالِهَا وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْعَرْشَ سَرِيرُ الْمَمْلَكَةِ، فَأَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ مِقْدَارَ مَمْلَكَتِهَا قَبْلَ وُصُولِهَا إِلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ فَالْعِفْرِيتُ مِنَ الرِّجَالِ الْخَبِيثُ الْمُنْكَرُ الَّذِي يُعَفِّرُ أَقْرَانَهُ، وَمِنَ الشَّيَاطِينِ الْخَبِيثُ الْمَارِدُ. أَمَّا قَوْلُهُ: قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ فَالْمَعْنَى مِنْ مَجْلِسِكَ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عَادَةٍ مَعْلُومَةٍ حَتَّى يَصِحَّ أَنْ يُؤَقِّتَ، فَقِيلَ الْمُرَادُ مَجْلِسُ الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ، وَقِيلَ الْوَقْتُ الَّذِي يَخْطُبُ فِيهِ النَّاسَ، وَقِيلَ إِلَى انْتِصَافِ النَّهَارِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَقَوِيٌّ أَيْ عَلَى حَمْلِهِ أَمِينٌ آتِي بِهِ كَمَا هُوَ لَا أَخْتَزِلُ مِنْهُ شَيْئًا. أَمَّا قَوْلُهُ: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الشَّخْصِ عَلَى قَوْلَيْنِ: قِيلَ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ كَانَ مِنَ الْإِنْسِ، فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ اخْتَلَفُوا، قِيلَ هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ هُوَ مَلَكٌ أَيَّدَ اللَّه تَعَالَى بِهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي اخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّهُ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَثَانِيهَا: وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ آصَفُ بْنُ بَرْخِيَا وَزِيرُ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ صَدِّيقًا يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ إِذَا دَعَا بِهِ أُجِيبَ وَثَالِثُهَا: قَوْلُ قَتَادَةَ: رَجُلٌ مِنَ الْإِنْسِ كَانَ يَعْلَمُ اسْمَ اللَّه الْأَعْظَمِ وَرَابِعُهَا: قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ: كَانَ رَجُلًا صَالِحًا فِي جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ، خَرَجَ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَنْظُرُ إِلَى سُلَيْمَانَ وَخَامِسُهَا: بَلْ هُوَ سُلَيْمَانُ نَفْسُهُ وَالْمُخَاطَبُ هُوَ الْعِفْرِيتُ الَّذِي كَلَّمَهُ،

[سورة النمل (27) : الآيات 41 إلى 43]

وَأَرَادَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِظْهَارَ مُعْجِزَةٍ فَتَحَدَّاهُمْ أَوَّلًا، ثُمَّ بَيَّنَ لِلْعِفْرِيتِ أَنَّهُ يَتَأَتَّى لَهُ مِنْ سُرْعَةِ الْإِتْيَانِ بِالْعَرْشِ مَا لَا يَتَهَيَّأُ لِلْعِفْرِيتِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبُ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ لَفْظَةَ (الَّذِي) مَوْضُوعَةٌ فِي/ اللُّغَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ عِنْدَ مُحَاوَلَةِ تَعْرِيفِهِ بِقِصَّةٍ مَعْلُومَةٍ وَالشَّخْصُ الْمَعْرُوفُ بِأَنَّهُ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ هُوَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَوَجَبَ انْصِرَافُهُ إِلَيْهِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ، كَانَ آصَفُ كَذَلِكَ أَيْضًا لَكِنَّا نَقُولُ إِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ أَعْرَفَ بِالْكِتَابِ مِنْهُ لِأَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ، فَكَانَ صَرْفُ هَذَا اللَّفْظِ إِلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْلَى الثَّانِي: أَنَّ إِحْضَارَ الْعَرْشِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ اللَّطِيفَةِ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ، فَلَوْ حَصَلَتْ لِآصَفَ دُونَ سُلَيْمَانَ لَاقْتَضَى ذَلِكَ تَفْضِيلَ آصَفَ عَلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ الثَّالِثُ: أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَوِ افتقر في ذلك إلى آصف لَاقْتَضَى ذَلِكَ قُصُورَ حَالِ سُلَيْمَانَ فِي أَعْيُنِ الْخَلْقِ الرَّابِعُ: أَنَّ سُلَيْمَانَ قَالَ: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُعْجِزُ قَدْ أَظْهَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِدُعَاءِ سُلَيْمَانَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ، فَقِيلَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَالَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ كِتَابُ سُلَيْمَانَ، أَوْ كِتَابُ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَعْلُومٌ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّ ذَلِكَ مَدْحٌ، وَأَنَّ لِهَذَا الْوَصْفِ تَأْثِيرًا فِي نَقْلِ ذَلِكَ الْعَرْشِ، فَلِذَلِكَ قَالُوا إِنَّهُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ وَإِنَّ عِنْدَهُ وَقَعَتِ الْإِجَابَةُ مِنَ اللَّه تَعَالَى فِي أَسْرَعِ الْأَوْقَاتِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: (آتِيكَ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا وَاسْمَ فَاعِلٍ. الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي السُّرْعَةِ، كَمَا تَقُولُ لِصَاحِبِكَ افْعَلْ ذَلِكَ فِي لَحْظَةٍ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ الثَّانِي: أَنْ نُجْرِيَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالطَّرْفُ تَحْرِيكُ الْأَجْفَانِ عِنْدَ النَّظَرِ، فَإِذَا فَتَحْتَ الْجَفْنَ فَقَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ نُورَ الْعَيْنِ امْتَدَّ إِلَى الْمَرْئِيِّ، وَإِذَا أَغْمَضْتَ الْجَفْنَ فَقَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ ذَلِكَ النُّورَ ارْتَدَّ إِلَى الْعَيْنِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ من ارتداد الطرف وهاهنا سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ يَجُوزُ وَالْمَسَافَةُ بَعِيدَةٌ أَنْ يَنْقُلَ الْعَرْشَ فِي هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الزَّمَانِ، وَهَذَا يَقْتَضِي إِمَّا الْقَوْلَ بِالطَّفْرَةِ أَوْ حُصُولَ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي مَكَانَيْنِ جَوَابُهُ: أَنَّ الْمُهَنْدِسِينَ قَالُوا كُرَةُ الشَّمْسِ مِثْلُ كُرَةِ الْأَرْضِ مِائَةً وَأَرْبَعَةً وَسِتِّينَ مَرَّةً، ثُمَّ إِنَّ زَمَانَ طُلُوعِهَا زَمَانٌ قَصِيرٌ. فَإِذَا قَسَمْنَا زَمَانَ طُلُوعِ تَمَامِ الْقُرْصِ عَلَى زَمَانِ الْقَدْرِ الَّذِي بَيْنَ الشَّامِ وَالْيَمَنِ كَانَتِ اللَّمْحَةُ كَثِيرَةً فَلَمَّا ثَبَتَ عَقْلًا إِمْكَانُ وُجُودِ هَذِهِ الْحَرَكَةِ السَّرِيعَةِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ زَالَ السُّؤَالُ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَالْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ الِابْتِلَاءِ قَدْ مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَّنَ أَنَّ نَفْعَ الشُّكْرِ عَائِدٌ إِلَى الشَّاكِرِ لَا إِلَى اللَّه تَعَالَى، أَمَّا أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الشَّاكِرِ فَلِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الشُّكْرِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَسْتَمِدُّ بِهِ الْمَزِيدَ عَلَى مَا قَالَ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إِبْرَاهِيمَ: 7] ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُشْتَغِلَ بِالشُّكْرِ مُشْتَغِلٌ بِاللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ وَفَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا كَفَرْقِ مَا بَيْنَ الْمُنْعِمِ وَالنِّعْمَةِ فِي الشَّرَفِ، ثم قال: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ/ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ غَنِيٌ عَنْ شُكْرِهِ لَا يَضُرُّهُ كُفْرَانُهُ، كَرِيمٌ لَا يَقْطَعُ عنه نعمه بسبب إعراضه عن الشكر. [سورة النمل (27) : الآيات 41 الى 43] قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها مَا كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43)

[سورة النمل (27) : آية 44]

اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: نَكِّرُوا مَعْنَاهُ اجْعَلُوا الْعَرْشَ مُنَكَّرًا مُغَيَّرًا عَنْ شَكْلِهِ كَمَا يَتَنَكَّرُ الرَّجُلُ لِلنَّاسِ لِئَلَّا يَعْرِفُوهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ تُرِكَ عَلَى مَا كَانَ لَعَرَفَتْهُ لَا مَحَالَةَ، وَكَانَ لَا تَدُلُّ مَعْرِفَتُهَا بِهِ عَلَى ثَبَاتِ عَقْلِهَا وَإِذَا غُيِّرَ دَلَّتْ مَعْرِفَتُهَا أَوْ تَوَقُّفُهَا فِيهِ عَلَى فَضْلِ عَقْلٍ، وَلَا يَمْتَنِعُ صِحَّةُ مَا قِيلَ إِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُلْقِيَ إِلَيْهِ أَنَّ فِيهَا نُقْصَانَ عَقْلٍ لِكَيْ لَا يَتَزَوَّجَهَا أَوْ لَا تَحْظَى عِنْدَهُ عَلَى وَجْهِ الْحَسَدِ، فَأَرَادَ بِمَا ذَكَرْنَا اخْتِبَارَ عَقْلِهَا. أَمَّا قَوْلُهُ: نَنْظُرْ فقرىء بِالْجَزْمِ عَلَى الْجَوَابِ وَبِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَتَهْتَدِي عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَتَعْرِفُ أَنَّهُ عَرْشُهَا أَمْ لَا؟ كَمَا قَدَّمْنَا الثَّانِي: أَتَعْرِفُ بِهِ نُبُوَّةَ سُلَيْمَانَ أَمْ لَا وَلِذَلِكَ قَالَ: أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ وَذَلِكَ كَالذَّمِّ وَلَا يَلِيقُ إِلَّا بِطَرِيقَةِ الدَّلَالَةِ، فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحَبَّ أَنْ تَنْظُرَ فَتَعْرِفَ بِهِ نُبُوَّتَهُ مِنْ حَيْثُ صَارَ مُتَنَقِّلًا مِنَ الْمَكَانِ الْبَعِيدِ إِلَى هُنَاكَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَعَلَى صِدْقِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَعْرِفُ بِذَلِكَ أَيْضًا فَضْلَ عَقْلِهَا لِأَغْرَاضٍ كَانَتْ لَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ سَأَلَهَا. أَمَّا قَوْلُهُ: أَهكَذا عَرْشُكِ فَاعْلَمْ أَنَّ هَكَذَا ثَلَاثُ كَلِمَاتٍ، حَرْفُ التَّنْبِيهِ وَكَافُ التَّشْبِيهِ وَاسْمُ الْإِشَارَةِ، وَلَمْ يَقُلْ أَهَذَا عَرْشُكِ، وَلَكِنْ أَمِثْلُ هَذَا عَرْشُكِ لِئَلَّا يَكُونَ تَلْقِينًا فَقَالَتْ: كَأَنَّهُ هُوَ وَلَمْ تَقُلْ هُوَ هُوَ وَلَا لَيْسَ بِهِ وَذَلِكَ مِنْ كَمَالِ عَقْلِهَا حَيْثُ تَوَقَّفَتْ فِي مَحَلِّ التَّوَقُّفِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها فَفِيهِ سُؤَالَانِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ كَلَامُ مَنْ؟ وَأَيْضًا فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ عَطَفَ هَذَا الْكَلَامَ؟ وَعَنْهُ جَوَابَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَلَامُ سُلَيْمَانَ وَقَوْمِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بِلْقِيسَ/ لَمَّا سُئِلَتْ عَنْ عَرْشِهَا، ثُمَّ إِنَّهَا أَجَابَتْ بِقَوْلِهَا: كَأَنَّهُ هُوَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ سُلَيْمَانَ وَقَوْمَهُ قَالُوا إِنَّهَا قَدْ أَصَابَتْ فِي جَوَابِهَا وَهِيَ عَاقِلَةٌ لَبِيبَةٌ وَقَدْ رُزِقَتِ الْإِسْلَامَ، ثُمَّ عَطَفُوا عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُمْ وَأُوتِينَا نَحْنُ الْعِلْمَ باللَّه وَبِقُدْرَتِهِ قَبْلَ عِلْمِهَا وَيَكُونُ غَرَضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ شُكْرَ اللَّه تَعَالَى فِي أَنْ خَصَّهُمْ بِمَزِيَّةِ التَّقَدُّمِ فِي الْإِسْلَامِ الثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ بِلْقِيسَ مَوْصُولًا بِقَوْلِهَا: كَأَنَّهُ هُوَ وَالْمَعْنَى: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ باللَّه وَبِصِحَّةِ نُبُوَّةِ سُلَيْمَانَ قَبْلَ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ أَوْ قَبْلَ هَذِهِ الْحَالَةِ، ثُمَّ (إِنَّ قَوْلَهُ: وَصَدَّها مَا كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ يَكُونُ مِنْ كَلَامِ رَبِّ الْعِزَّةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَصَدَّها مَا كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ: وَصَدَّهَا عِبَادَتُهَا لِغَيْرِ اللَّه عَنِ الْإِيمَانِ الثَّانِي: وَصَدَّهَا اللَّه أَوْ سُلَيْمَانُ عَمَّا كَانَتْ تَعْبُدُ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ الْجَارِّ وَإِيصَالِ الْفِعْلِ، وَقُرِئَ أَنَّهَا بِالْفَتْحِ عَلَى أنه بدل من فاعل صدا وَبِمَعْنَى لِأَنَّهَا، وَاحْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا لَوْ كَانَ تَعَالَى خَلَقَ الْكُفْرَ فِيهَا لَمْ يَكُنِ الصَّادُّ لَهَا كُفْرَهَا الْمُتَقَدِّمَ وَلَا كَوْنَهَا مِنْ جُمْلَةِ الْكُفَّارِ، بَلْ كَانَ يَكُونُ الصَّادُّ لَهَا عَنِ الْإِيمَانِ تَجَدُّدَ خَلْقِ اللَّه الْكُفْرَ فِيهَا وَالْجَوَابُ: أَمَّا عَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي فَلَا شَكَّ فِي سُقُوطِ الِاسْتِدْلَالِ، وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَجَوَابُنَا أَنَّ كَوْنَهَا مِنْ جُمْلَةِ الْكُفَّارِ صَارَ سَبَبًا لِحُصُولِ الدَّاعِيَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْكُفْرِ، وَحِينَئِذٍ يَبْقَى ظاهر الآية موافقا لقولنا واللَّه أعلم. [سورة النمل (27) : آية 44] قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)

[سورة النمل (27) : الآيات 45 إلى 53]

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى إِقَامَتَهَا عَلَى الْكُفْرِ مَعَ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلَائِلِ ذَكَرَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَظْهَرَ مِنَ الْأَمْرِ مَا صَارَ دَاعِيًا لَهَا إِلَى الْإِسْلَامِ وهو قوله يلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ والصرح القصر كقوله: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً [غَافِرٍ: 36] وَقِيلَ صَحْنُ الدَّارِ، وقرأ ابن كثير عن اقَيْها بِالْهَمْزِ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ سَمِعَ سُؤْقًا فَأَجْرَى عَلَيْهِ الْوَاحِدَ، وَالْمُمَرَّدُ الْمُمَلَّسُ، رُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ قَبْلَ قُدُومِهَا فَبُنِيَ لَهُ عَلَى طَرِيقِهَا قَصْرٌ مِنْ زُجَاجٍ أَبْيَضَ كَالْمَاءِ بَيَاضًا، ثُمَّ أَرْسَلَ الْمَاءَ تَحْتَهُ وَأَلْقَى فِيهِ السَّمَكَ وَغَيْرَهُ وَوَضَعَ سَرِيرَهُ فِي صَدْرِهِ فَجَلَسَ عَلَيْهِ وَعَكَفَ عَلَيْهِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالطَّيْرُ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَزِيدَهَا اسْتِعْظَامًا لِأَمْرِهِ وَتَحَقُّقًا لِنُبُوَّتِهِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْجِنَّ كَرِهُوا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَتُفْضِي/ إِلَيْهِ بِأَسْرَارِهِمْ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِنْتَ جِنِّيَّةٍ، وَقِيلَ خَافُوا أَنْ يُولَدَ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ فَيَجْتَمِعُ لَهُ فِطْنَةُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَيَخْرُجُونَ مِنْ مُلْكِ سُلَيْمَانَ إِلَى مُلْكٍ هُوَ أَشَدُّ، فَقَالُوا إِنَّ فِي عَقْلِهَا نُقْصَانًا وَإِنَّهَا شَعْرَاءُ السَّاقَيْنِ وَرِجْلُهَا كَحَافِرِ حِمَارٍ فَاخْتَبَرَ سُلَيْمَانُ عَقْلَهَا بِتَنْكِيرِ الْعَرْشِ، وَاتَّخَذَ الصَّرْحَ لِيَتَعَرَّفَ سَاقَهَا، وَمَعْلُومٌ مِنْ حَالِ الزُّجَاجِ الصَّافِي أَنَّهُ يَكُونُ كَالْمَاءِ فَلَمَّا أَبْصَرَتْ ذَلِكَ ظَنَّتْهُ مَاءًا رَاكِدًا فَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا لِتَخُوضَهُ، فَإِذَا هِيَ أَحْسَنُ النَّاسِ سَاقًا وَقَدَمًا، وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ يَقُولُ تَزَوَّجَهَا، وَقَالَ آخَرُونَ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الصَّرْحِ تَهْوِيلَ الْمَجْلِسِ وَتَعْظِيمَهُ، وَحَصَلَ كَشْفُ السَّاقِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ، فَلَمَّا قِيلَ لَهَا هُوَ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ اسْتَتَرَتْ، وَعَجِبَتْ مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَدَلَّتْ بِهِ عَلَى التوحيد والنبوة، فقالت: بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فِيمَا تَقَدَّمَ بِالثَّبَاتِ عَلَى الكفر ثم قالت: أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَقِيلَ حَسِبَتْ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُغْرِقُهَا فِي اللُّجَّةِ، فقالت ظلمت نفسي بسوء ظني سليمان، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ تَزَوَّجَهَا أَمْ لَا، وَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ أَوْ قَبْلَ أَنْ كَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا، وَالْأَظْهَرُ فِي كَلَامِ النَّاسِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، وَلَيْسَ لِذَلِكَ ذِكْرٌ فِي الْكِتَابِ، وَلَا فِي خَبَرٍ مَقْطُوعٍ بِصِحَّتِهِ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا لَمَّا أَسْلَمَتْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي مِنْ قَوْمِكِ مَنْ أُزَوِّجُكِ مِنْهُ فَقَالَتْ مِثْلِي لَا يَنْكِحُ الرِّجَالَ مَعَ سُلْطَانِي، فَقَالَ النِّكَاحُ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَتْ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَزَوِّجْنِي ذَا تُبَّعٍ مَلِكَ هَمْدَانَ فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْيَمَنِ، وَلَمْ يَزَلْ بها ملكا واللَّه أعلم. [سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 53] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) القصة الثالثة- قصة صالح عليه السلام

قُرِئَ أَنُ اعْبُدُوا اللَّهَ بِالضَّمِّ عَلَى اتْبَاعِ النُّونِ الْبَاءَ «1» . أَمَّا قَوْلُهُ: فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ فَرِيقٌ مُؤْمِنٌ وَفَرِيقٌ كَافِرٌ الثَّانِي: الْمُرَادُ قَوْمُ صَالِحٍ قَبْلَ أَنْ يُؤْمِنَ مِنْهُمْ أَحَدٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: يَخْتَصِمُونَ فَالْمَعْنَى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا آمَنُوا لِأَنَّهُمْ نَظَرُوا فِي حُجَّتِهِ فَعَرَفُوا صِحَّتَهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ خَصْمًا لِمَنْ لَمْ يَقْبَلْهَا، وَإِذَا كَانَ هَذَا الِاخْتِصَامُ فِي بَابِ الدِّينِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجِدَالَ فِي بَابِ الدِّينِ حَقٌّ وَفِيهِ إِبْطَالُ التَّقْلِيدِ. أَمَّا قوله: يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: فِي تَفْسِيرِ اسْتِعْجَالِ السَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا لَمْ يَنْفَعْهُمُ الْحِجَاجُ تَوَعَّدَهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْعَذَابِ فَقَالُوا: ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: 29] عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهْزَاءِ، فَعِنْدَهُ قَالَ صَالِحٌ: لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ مَكَّنَكُمْ مِنَ التَّوَصُّلِ إِلَى رَحْمَةِ اللَّه تَعَالَى وَثَوَابِهِ، فَلِمَاذَا تَعْدِلُونَ عَنْهُ إِلَى اسْتِعْجَالِ عَذَابِهِ وَثَانِيهِمَا: إِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِجَهْلِهِمْ إِنَّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي يَعِدُهَا صَالِحٌ إِنْ وَقَعَتْ عَلَى زَعْمِهِ أَتَيْنَا حِينَئِذٍ وَاسْتَغْفَرْنَا فَحِينَئِذٍ يَقْبَلُ اللَّه تَوْبَتَنَا وَيَدْفَعُ الْعَذَابَ عَنَّا، فَخَاطَبَهُمْ صَالَحٌ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِهِمْ، وَقَالَ هَلَّا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّه قَبْلَ نُزُولِ الْعَذَابِ فَإِنَّ اسْتِعْجَالَ الْخَيْرِ أَوْلَى مِنَ اسْتِعْجَالِ الشَّرِّ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّيِّئَةِ الْعِقَابُ وَبِالْحَسَنَةِ الثَّوَابُ، فَأَمَّا وَصْفُ الْعَذَابِ بِأَنَّهُ سَيِّئَةٌ فَهُوَ مَجَازٌ وَسَبَبُ هَذَا التَّجْوِيزِ، إِمَّا لِأَنَّ الْعِقَابَ مِنْ لَوَازِمِهِ أَوْ لِأَنَّهُ يُشْبِهُهُ فِي كَوْنِهِ مَكْرُوهًا، وَأَمَّا وَصْفُ الرَّحْمَةِ بِأَنَّهَا حَسَنَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ حَقِيقَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مَجَازٌ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، ثُمَّ إِنَّ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَرَّرَ هَذَا الْكَلَامَ الْحَقَّ أَجَابُوهُ بِكَلَامٍ فَاسِدٍ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: اطَّيَّرْنا بِكَ أَيْ/ تَشَاءَمْنَا بِكَ لِأَنَّ الَّذِي يُصِيبُنَا مِنْ شِدَّةٍ وَقَحْطٍ فَهُوَ بِشُؤْمِكَ وَبِشُؤْمِ مَنْ مَعَكَ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» كَانَ الرَّجُلُ يَخْرُجُ مُسَافِرًا فَيَمُرُّ بِطَائِرٍ فَيَزْجُرُهُ فَإِنْ مَرَّ سَانِحًا تَيَمَّنَ وَإِنْ مَرَّ بَارِحًا تَشَاءَمَ فَلَمَّا نَسَبُوا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ إِلَى الطَّائِرِ اسْتُعِيرَ لِمَا كَانَ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَهُوَ قَدَرُ اللَّه وَقِسْمَتُهُ، فَأَجَابَ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَيِ السَّبَبُ الَّذِي مِنْهُ يَجِيءُ خَيْرُكُمْ وَشَرُّكُمْ عِنْدَ اللَّه وَهُوَ قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ إِنْ شَاءَ رَزَقَكُمْ وَإِنْ شَاءَ حَرَمَكُمْ وَقِيلَ بَلِ الْمُرَادُ إِنَّ جَزَاءَ الطِّيَرَةِ مِنْكُمْ عِنْدَ اللَّه وَهُوَ الْعِقَابُ، وَالْأَقْرَبُ الوجه الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْقَوْمَ أَشَارُوا إِلَى الْأَمْرِ الْحَاصِلِ فَيَجِبُ فِي جَوَابِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا جَهْلٌ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ غَيْرَهُمْ دَعَاهُمْ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَفْتِنُكُمْ بِوَسْوَسَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تِسْعَةَ جَمْعٍ إِذِ الظَّاهِرُ مِنَ الرَّهْطِ الْجَمَاعَةُ لَا الْوَاحِدُ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا قَبَائِلَ، ويحتمل أنهم دخلوا تحت

_ (1) الاتباع هنا ليس للباء التي في اعبدوا لوجود الفاصل وهو العين والهمزة، والصواب أن يقال على إتباع النون للألف من اعبدوا لأن الأمر من عبد أعبد مضموم الألف.

[سورة النمل (27) : الآيات 54 إلى 58]

الْعَدَدِ لِاخْتِلَافِ صِفَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ لَا لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يَمْزِجُونَ ذَلِكَ الْفَسَادَ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّلَاحِ، فَلِهَذَا قَالَ: يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَا هَمُّوا بِهِ مِنْ أَمْرِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. أَمَّا قَوْلُهُ: تَقاسَمُوا بِاللَّهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا أَوْ خَبَرًا فِي مَحَلِّ الْحَالِ بِإِضْمَارِ قَدْ، أَيْ قَالُوا مُتَقَاسِمِينَ، وَالْبَيَاتُ مُتَابَعَةُ الْعَدُوِّ لَيْلًا. أَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ يَعْنِي لَوِ اتَّهَمَنَا قَوْمُهُ حَلَفْنَا لَهُمْ أَنَّا لَمْ نَحْضُرْ. وَقُرِئَ (مَهْلَكَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ وَكَسْرِهَا «1» مِنْ هَلَكَ وَمُهْلَكٌ بِضَمِّ الْمِيمِ مِنْ أَهْلَكَ، وَيُحْتَمَلُ الْمَصْدَرُ وَالْمَكَانُ وَالزَّمَانُ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَكْرِ اللَّه تَعَالَى عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّ مَكْرَ اللَّه إِهْلَاكُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، شُبِّهَ بِمَكْرِ الْمَاكِرِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لِصَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَسْجِدٌ فِي الْحِجْرِ فِي شِعْبٍ يُصَلِّي فِيهِ، فَقَالُوا زَعَمَ صَالِحٌ أَنَّهُ يَفْرَغُ مِنَّا إِلَى ثَلَاثٍ فَنَحْنُ نَفْرَغُ مِنْهُ، وَمِنْ أَهْلِهِ قَبْلَ الثَّلَاثِ فَخَرَجُوا إِلَى الشِّعْبِ وَقَالُوا إِذَا جَاءَ يُصَلِّي قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى أَهْلِهِ فَقَتَلْنَاهُمْ، فَبَعَثَ اللَّه تَعَالَى صَخْرَةً فَطَبِقَتِ الصَّخْرَةُ عَلَيْهِمْ فَمَ الشِّعْبِ فَهَلَكُوا وَهَلَكَ الْبَاقُونَ بِالصَّيْحَةِ وَثَانِيهَا: جَاءُوا بِاللَّيْلِ شَاهِرِينَ سُيُوفَهُمْ وَقَدْ أَرْسَلَ اللَّه تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ مِلْءَ دَارِ صَالِحٍ فَدَمَغُوهُمْ بِالْحِجَارَةِ، يَرَوْنَ الْأَحْجَارَ وَلَا يَرَوْنَ رَامِيًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّه تعالى أخبر صالحا بمكرهم فتحرز عنهم فذلك مَكْرُ اللَّه تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَنَّا دَمَّرْناهُمْ اسْتِئْنَافٌ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ رَفَعَهُ بَدَلًا مِنَ الْعَاقِبَةِ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هِيَ تُدَمِّرُهُمْ أَوْ نَصَبَهُ عَلَى مَعْنَى لِأَنَّا أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ أَيْ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمُ الدَّمَارَ. أَمَّا قَوْلُهُ: خاوِيَةً فَهُوَ حَالٌ عَمِلَ فِيهَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ تِلْكَ، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ (خَاوِيَةٌ) بِالرَّفْعِ على خبر المبتدأ المحذوف واللَّه أعلم «2» . [سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 58] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) القصة الرابعة- قصة لوط عليه السلام

_ (1) يريد كسر اللام، وأما الميم فهو مفتوح في الحالين. (2) لا داعي لحذف المبتدأ وهو هنا فَتِلْكَ وبُيُوتُهُمْ بدل و (خاوية) خبر.

[سورة النمل (27) : آية 59]

قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، وَاذْكُرْ لُوطًا أَوْ أَرْسَلَنَا لوطا بدلالة وَلَقَدْ أَرْسَلْنا [النمل: 45] عليه، و (إذ) بَدَلٌ عَلَى الْأَوَّلِ ظَرْفٌ عَلَى الثَّانِي. أَمَّا قَوْلُهُ: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ فَهُوَ عَلَى وَجْهِ التَّنْكِيرِ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ وَرُبَّمَا كَانَ التَّوْبِيخُ بِمِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ أَبْلَغَ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَتَحَاشَوْنَ مِنْ إِظْهَارِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْخَلَاعَةِ وَلَا يَتَكَاتَمُونَ وَذَلِكَ أَحَدُ مَا لِأَجْلِهِ عَظُمَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنْهُمْ فَذَكَرَ فِي تَوْبِيخِهِ لَهُمْ ماله عَظُمَ ذَلِكَ الْفِعْلُ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بَصَرُ الْقَلْبِ أَيْ تَعْلَمُونَ أَنَّهَا فَاحِشَةٌ لَمْ تُسْبَقُوا إِلَيْهَا وَأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَخْلُقِ الذَّكَرَ لِلذَّكَرِ فَهِيَ مُضَادَّةٌ للَّه فِي حِكْمَتِهِ وَثَالِثُهَا: تُبْصِرُونَ آثَارَ الْعُصَاةِ قَبْلَكُمْ وَمَا نَزَلَ بِهِمْ، فَإِنْ قُلْتَ فَسَّرْتَ (تُبْصِرُونَ) بِالْعِلْمِ وَبَعْدَهُ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فَكَيْفَ يَكُونُونَ عُلَمَاءَ وَجُهَلَاءَ؟ قُلْتُ أَرَادَ تَفْعَلُونَ فِعْلَ الْجَاهِلِينَ بِأَنَّهَا فَاحِشَةٌ مَعَ عِلْمِكُمْ بِذَلِكَ أَوْ تَجْهَلُونَ الْعَاقِبَةَ أَوْ أَرَادَ بِالْجَهْلِ السَّفَاهَةَ وَالْمَجَانَةَ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ جَهْلَهُمْ بِأَنْ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَجَابُوا عَنْ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لَهُ فَقَالَ: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَجَعَلُوا الَّذِي لِأَجْلِهِ يُخْرَجُونَ أَنَّهُمْ يَتَطَهَّرُونَ مِنْ هَذَا الصَّنِيعِ الْفَاحِشِ وَهَذَا يُوجِبُ تَنْعِيمَهُمْ وَتَعْظِيمَهُمْ أَوْلَى لَكِنْ فِي الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: إنما قالوا ذلك عمى/ وَجْهِ الْهُزُءِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ نَجَّاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ وَأَهْلَكَ الْبَاقِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ كل ذلك مشروحا واللَّه أعلم، وهاهنا آخِرُ الْقَصَصِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ واللَّه أَعْلَمُ. [سورة النمل (27) : آية 59] قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) الْقَوْلُ فِي خِطَابِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْقَصَصِ وَالْمَعْنَى الْحَمْدُ للَّه عَلَى إِهْلَاكِهِمْ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى بِأَنْ أَرْسَلَهُمْ وَنَجَّاهُمُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَكَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْمُخَالِفِ لِمَنْ قَبْلَهُ فِي أَمْرِ الْعَذَابِ لِأَنَّ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ مُرْتَفِعٌ عَنْ قَوْمِهِ، أَمَرَهُ تَعَالَى بِأَنْ يَشْكُرَ رَبَّهُ عَلَى مَا خَصَّهُ بِهَذِهِ النِّعَمِ، وَبِأَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى مَشَاقِّ الرسالة. فأما قوله: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ فَهُوَ تَبْكِيتٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَتَهَكُّمٌ بِحَالِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ آثَرُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ عَلَى عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى، وَلَا يُؤْثِرُ عَاقِلٌ شَيْئًا عَلَى شَيْءٍ إِلَّا لِزِيَادَةِ خَيْرٍ وَمَنْفَعَةٍ، فَقِيلَ لَهُمْ هَذَا الْكَلَامُ تَنْبِيهًا عَلَى نِهَايَةِ ضَلَالِهِمْ وَجَهْلِهِمْ وَقُرِئَ يُشْرِكُونَ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ، عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَهَا قَالَ: «بَلِ اللَّه خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأَجَلُّ وَأَكْرَمُ» . [سورة النمل (27) : آية 60] أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَكَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ فُصُولٍ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي الرَّدِّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَمَدَارُ هَذَا الْفَصْلِ عَلَى بَيَانِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِأُصُولِ النِّعَمِ وَفُرُوعِهَا، فَكَيْفَ تَحْسُنُ عِبَادَةُ مَا لَا مَنْفَعَةَ مِنْهُ الْبَتَّةَ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ أَنْوَاعًا:

[سورة النمل (27) : آية 61]

النوع الأول: ما يتعلق بالسموات وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الفرق بين أم وأم في أَمَّا يُشْرِكُونَ وأَمَّنْ خَلَقَ أَنَّ الْأُولَى مُتَّصِلَةٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَيُّهُمَا خَيْرٌ وَهَذِهِ مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى بَلْ، وَالْحَدِيقَةُ الْبُسْتَانُ عَلَيْهِ سُورٌ مِنَ الْإِحْدَاقِ وَهُوَ الْإِحَاطَةُ، وَقِيلَ ذاتَ لِأَنَّ الْمَعْنَى جَمَاعَةُ حَدَائِقِ ذَاتِ بَهْجَةٍ، كَمَا يُقَالُ النِّسَاءُ ذَهَبَتْ/ وَالْبَهْجَةُ الْحُسْنُ، لِأَنَّ الناظر يبتهج به أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أَغَيْرُهُ يُقْرَنُ بِهِ وَيُجْعَلُ شَرِيكًا لَهُ وَقُرِئَ أَإِلَهًا مَعَ اللَّه بِمَعْنَى (تَدْعُونَ أَوْ تُشْرِكُونَ) «1» . المسألة الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ الَّذِي اختص بأن خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَجَعَلَ السَّمَاءَ مَكَانًا لِلْمَاءِ، وَالْأَرْضَ لِلنَّبَاتِ، وَذَكَرَ أَعْظَمَ النِّعَمِ وَهِيَ الْحَدَائِقُ ذَاتُ الْبَهْجَةِ، وَنَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِنْبَاتَ فِي الْحَدَائِقِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّه تَعَالَى، لِأَنَّ أَحَدَنَا لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ لَمَا احْتَاجَ إِلَى غَرْسٍ وَمُصَابَرَةٍ عَلَى ظُهُورِ الثَّمَرَةِ وَإِذَا كَانَ تَعَالَى هُوَ الْمُخْتَصُّ بِهَذَا الْإِنْعَامِ وَجَبَ أَنْ يُخَصَّ بِالْعِبَادَةِ، ثم قال: بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقِيلَ يَعْدِلُونَ عَنْ هَذَا الْحَقِّ الظَّاهِرِ وَقِيلَ، يَعْدِلُونَ باللَّه سِوَاهُ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَوَّلُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. المسألة الثَّالِثَةُ: يُقَالُ مَا حِكْمَةُ الِالْتِفَاتِ فِي قَوْلِهِ: فَأَنْبَتْنا؟ جَوَابُهُ: أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ لِلْعَاقِلِ في أن خالق السموات وَالْأَرْضِ وَمُنْزِلَ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ لَيْسَ إِلَّا اللَّه تَعَالَى، وَرُبَّمَا عَرَضَتِ الشُّبْهَةُ فِي أَنَّ مُنْبِتَ الشَّجَرَةَ هُوَ الْإِنْسَانُ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَقُولُ أَنَا الَّذِي أُلْقِي الْبَذْرَ فِي الْأَرْضِ الْحَرَّةِ وَأُسْقِيهَا الْمَاءَ وَأَسْعَى فِي تَشْمِيسِهَا، وَفَاعِلُ السَّبَبِ فَاعِلٌ لِلْمُسَبَّبِ، فَإِذَنْ أَنَا الْمُنْبِتُ لِلشَّجَرَةِ فَلَمَّا كَانَ هَذَا الِاحْتِمَالُ قَائِمًا، لَا جَرَمَ أَزَالَ هَذَا الِاحْتِمَالَ فَرَجَعَ مِنْ لَفْظِ الْغَيْبَةِ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَنْبَتْنا وَقَالَ: مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَأْتِي بِالْبَذْرِ وَالسَّقْيِ وَالْكَرَبِ «2» وَالتَّشْمِيسِ ثُمَّ لَا يَأْتِي عَلَى وِفْقِ مُرَادِهِ وَالَّذِي يَقَعُ عَلَى وِفْقِ مُرَادِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ جَاهِلًا بِطَبْعِهِ وَمِقْدَارِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ فَاعِلًا لَهَا، فَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ حَسُنَ الِالْتِفَاتُ هاهنا. [سورة النمل (27) : آية 61] أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) النوع الثاني- ما يتعلق بالأرض قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَمَّنْ جَعَلَ وَمَا بَعْدَهُ بدل من أَمَّنْ خَلَقَ [النمل: 6] فكان (حكمها) «3» حكمه.

_ (1) في الكشاف (أتدعون أو تشركون) . (2) الكرب هنا معناه إثارة الأرض الزرع بحراثتها. (3) في الكشاف (حكمهما) .

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ مَنَافِعِ الْأَرْضِ أُمُورًا أَرْبَعَةً: الْمَنْفَعَةُ الْأُولَى: كَوْنُهَا قَرَارًا وَذَلِكَ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ دَحَاهَا وَسَوَّاهَا لِلِاسْتِقْرَارِ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا مُتَوَسِّطَةً فِي الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ فَلَيْسَتْ فِي الصَّلَابَةِ كَالْحَجَرِ الَّذِي يَتَأَلَّمُ الْإِنْسَانُ بِالِاضْطِجَاعِ عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ فِي الرَّخَاوَةِ كَالْمَاءِ الَّذِي يَغُوصُ فِيهِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا كَثِيفَةً/ غَبْرَاءَ لِيَسْتَقِرَّ عَلَيْهَا النُّورُ، وَلَوْ كَانَتْ لَطِيفَةً لَمَا اسْتَقَرَّ النُّورُ عَلَيْهَا، وَلَوْ لَمْ يَسْتَقِرَّ النُّورُ عَلَيْهَا لَصَارَتْ مِنْ شِدَّةِ بَرْدِهَا بِحَيْثُ تَمُوتُ الْحَيَوَانَاتُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الشَّمْسَ بِسَبَبِ مَيْلِ مَدَارِهَا عَنْ مَدَارِ مِنْطَقَةِ الْكُلِّ بِحَيْثُ تَبْعُدُ تَارَةً وَتَقْرُبُ أُخْرَى مِنْ سَمْتِ الرَّأْسِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا اخْتَلَفَتِ الْفُصُولُ، وَلَمَا حَصَلَتِ الْمَنَافِعُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَهَا سَاكِنَةً فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً لَكَانَتْ إِمَّا مُتَحَرِّكَةٌ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ أَوْ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَحْصُلُ الِانْتِفَاعُ بِالسُّكْنَى عَلَى الْأَرْضِ السَّادِسُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَهَا كِفَاتًا لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ وَأَنَّهُ يَطْرَحُ عَلَيْهَا كُلَّ قَبِيحٍ وَيُخْرِجُ مِنْهَا كل مليح. المنفعة الثانية الأرض: قَوْلُهُ: وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً فَاعْلَمْ أَنَّ أَقْسَامَ الْمِيَاهِ الْمُنْبَعِثَةِ عَنِ الْأَرْضِ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: مَاءُ الْعُيُونِ السَّيَّالَةُ وَهِيَ تَنْبَعِثُ مِنْ أَبْخِرَةٍ كَثِيرَةِ الْمَادَّةِ قَوِيَّةِ الِانْدِفَاعِ تُفَجِّرُ الْأَرْضَ بِقُوَّةٍ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَسْتَتْبِعُ جُزْءٌ مِنْهَا جُزْءًا الثَّانِي: مَاءُ الْعُيُونِ الرَّاكِدَةِ وَهِيَ تَحْدُثُ مِنْ أَبْخِرَةٍ بَلَغَتْ مِنْ قُوَّتِهَا أَنِ انْدَفَعَتْ إِلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَلَمْ تَبْلُغْ مِنْ قُوَّتِهَا وَكَثْرَةِ مَادَّتِهَا أَنْ يَطْرُدَ تَالِيهَا سَابِقَهَا الثَّالِثُ: مِيَاهُ الْقُنِيِّ وَالْأَنْهَارِ وَهِيَ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ أَبْخِرَةٍ نَاقِصَةِ الْقُوَّةِ عن أَنْ تَشُقَّ الْأَرْضَ، فَإِذَا أُزِيلَ عَنْ وَجْهِهَا ثِقَلُ التُّرَابِ صَادَفَتْ حِينَئِذٍ تِلْكَ الْأَبْخِرَةُ مَنْفَذًا تَنْدَفِعُ إِلَيْهِ بِأَدْنَى حَرَكَةٍ الرَّابِعُ: مِيَاهُ الْآبَارِ وَهِيَ نَبْعِيَّةٌ كَمِيَاهِ الْأَنْهَارِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ لَهُ سَيْلٌ إِلَى مَوْضِعٍ يَسِيلُ إِلَيْهِ ونسبة القنى إلى الآبار نسبة العيون السيالة إلى الْعُيُونِ الرَّاكِدَةِ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَوْلَا صَلَابَةُ الْأَرْضِ لَمَا اجْتَمَعَتْ تِلْكَ الْأَبْخِرَةُ فِي بَاطِنِهَا إِذْ لَوْلَا اجْتِمَاعُهَا فِي بَاطِنِهَا لَمَا حَدَثَتْ هَذِهِ الْعُيُونُ فِي ظَاهِرِهَا. الْمَنْفَعَةُ الثَّالِثَةُ لِلْأَرْضِ: قَوْلُهُ: وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَالْمُرَادُ مِنْهَا الْجِبَالُ، فَنَقُولُ أَكْثَرُ الْعُيُونِ وَالسُّحُبِ وَالْمَعْدِنِيَّاتِ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْجِبَالِ أَوْ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْهَا، أَمَّا الْعُيُونُ فَلِأَنَّ الْأَرْضَ إِذَا كَانَتْ رَخْوَةً نَشِفَتِ الْأَبْخِرَةُ عَنْهَا فَلَا يَجْتَمِعُ مِنْهَا قَدْرٌ يُعْتَدُّ بِهِ، فَإِذَنْ هَذِهِ الْأَبْخِرَةُ لَا تَجْتَمِعُ إِلَّا فِي الْأَرْضِ الصَّلْبَةِ وَالْجِبَالُ أَصْلَبُ الْأَرْضِ، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ أَقْوَاهَا عَلَى حَبْسِ هَذَا الْبُخَارِ حَتَّى يَجْتَمِعَ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَادَّةً لِلْعُيُونِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقَرُّ الْجَبَلِ مَمْلُوءًا مَاءً، وَيَكُونَ الْجَبَلُ فِي حَقْنِهِ الْأَبْخِرَةَ مِثْلَ الْأَنْبِيقِ الصَّلْبِ الْمُعَدِّ لِلتَّقْطِيرِ لَا يَدَعُ شَيْئًا مِنَ الْبُخَارِ يَتَحَلَّلُ وَنَفَسُ الْأَرْضِ الَّتِي تَحْتَهُ كَالْقَرْعَةِ وَالْعُيُونُ كَالْأَذْنَابِ وَالْبُخَارُ كَالْقَوَابِلِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْعُيُونِ إِنَّمَا تَنْفَجِرُ مِنَ الْجِبَالِ وَأَقَلُّهَا فِي الْبَرَارِي، وَذَلِكَ الْأَقَلُّ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ صَلْبَةً، وَأَمَّا أَنَّ أَكْثَرَ السُّحُبِ تَكُونُ فِي الْجِبَالِ فَلِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: أن في باطن الجبال من النداوات مالا يَكُونُ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِينَ الرَّخْوَةِ وَثَانِيهَا: إِنَّ الْجِبَالَ بِسَبَبِ ارْتِفَاعِهَا أَبْرَدُ فَلَا جَرَمَ يَبْقَى عَلَى ظَاهِرِهَا مِنَ الْأَنْدَاءِ وَمِنَ الثُّلُوجِ مَا لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ سَائِرِ الْأَرْضِينَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأَبْخِرَةَ الصَّاعِدَةَ تَكُونُ مَحْبُوسَةً بِالْجِبَالِ فَلَا تَتَفَرَّقُ وَلَا تَتَحَلَّلُ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ أَسْبَابَ كَثْرَةِ السُّحُبِ فِي الْجِبَالِ أَكْثَرُ لِأَنَّ الْمَادَّةَ فِيهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَكْثَرُ، وَالِاحْتِقَانَ أَشَدُّ وَالسَّبَبُ الْمُحَلِّلُ وَهُوَ الْحَرُّ أَقَلُّ، فَلِذَلِكَ كَانَتِ السُّحُبُ فِي الْجِبَالِ أَكْثَرَ. وَأَمَّا الْمَعْدِنِيَّاتُ الْمُحْتَاجَةُ إِلَى أَبْخِرَةٍ يَكُونُ اخْتِلَاطُهَا بِالْأَرْضِيَّةِ أَكْثَرَ/ وَإِلَى بَقَاءِ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ يَتِمُّ النُّضْجُ فِيهَا فَلَا شَيْءَ لَهَا فِي هَذَا الْمَعْنَى كَالْجِبَالِ. الْمَنْفَعَةُ الرَّابِعَةُ لِلْأَرْضِ: قَوْلُهُ: وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ لَا يَفْسُدَ الْعَذْبُ

[سورة النمل (27) : آية 62]

بِالِاخْتِلَاطِ، وَأَيْضًا فَلْيُنْتَفَعْ بِذَلِكَ الْحَاجِزِ، وَأَيْضًا الْمُؤْمِنُ فِي قَلْبِهِ بَحْرَانِ بَحْرُ الْإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ وَبَحْرُ الطُّغْيَانِ وَالشَّهْوَةِ وَهُوَ بِتَوْفِيقِهِ جَعَلَ بَيْنَهُمَا حَاجِزًا لِكَيْ لَا يُفْسَدَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ فِي قَوْلِهِ: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ [الرَّحِمَنِ: 19، 20] قَالَ عِنْدَ عَدَمِ الْبَغْيِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرَّحِمَنِ: 22] فَعِنْدَ عَدَمِ الْبَغْيِ فِي الْقَلْبِ يَخْرُجُ الدِّينُ وَالْإِيمَانُ بِالشُّكْرِ، فَإِنْ قِيلَ وَلِمَ جَعَلَ الْبَحْرَ مِلْحًا؟ قُلْنَا لَوْلَا مُلُوحَتُهُ لَأَجَنَ «1» وَانْتَشَرَ فَسَادُ أُجُونَتِهِ فِي الْأَرْضِ وَأَحْدَثَ الْوَبَاءَ الْعَامَّ، وَاعْلَمْ أَنَّ اخْتِصَاصَ الْبَحْرِ بِجَانِبٍ مِنَ الْأَرْضِ دُونَ جَانِبٍ أَمْرٌ غَيْرُ وَاجِبٍ بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْبَحْرَ يَنْتَقِلُ فِي مُدَدٍ لَا تَضْبُطُهَا التَّوَارِيخُ الْمَنْقُولَةُ مِنْ قَرْنٍ إِلَى قَرْنٍ لِأَنَّ اسْتِمْدَادَ الْبَحْرِ فِي الْأَكْثَرِ مِنَ الْأَنْهَارِ، وَالْأَنْهَارُ تَسْتَمِدُّ فِي الْأَكْثَرِ مِنَ الْعُيُونِ، وَأَمَّا مِيَاهُ السَّمَاءِ فَإِنَّ حُدُوثَهَا فِي فَصْلٍ بِعَيْنِهِ دُونَ فَصْلٍ، ثُمَّ لَا الْعُيُونُ وَلَا مِيَاهُ السَّمَاءِ يَجِبُ أَنْ تَتَشَابَهَ أَحْوَالُهَا فِي بِقَاعٍ وَاحِدَةٍ بِأَعْيَانِهَا تَشَابُهًا مُسْتَمِرًّا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُيُونِ يَغُورُ، وَكَثِيرًا مَا تَقْحَطُ السَّمَاءُ فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ نُضُوبِ الْأَوْدِيَةِ وَالْأَنْهَارِ فَيَعْرِضُ بِسَبَبِ ذَلِكَ نُضُوبُ الْبِحَارِ، وَإِذَا حَدَثَتِ الْعُيُونُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ حَدَثَتِ الْأَنْهَارُ هُنَاكَ فَحَصَلَتِ الْبِحَارُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْقُدْرَةِ عَلَى خَلْقِ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا هَذِهِ الْمَنَافِعُ الْجَلِيلَةُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ عَلَى عَظِيمِ جَهْلِهِمْ بِالذَّهَابِ عَنْ هَذَا التَّفَكُّرِ. [سورة النمل (27) : آية 62] أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) النوع الثَّالِثُ- مَا يَتَعَلَّقُ بِاحْتِيَاجِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ سبحانه اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ نَبَّهَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الضَّرُورَةُ الْحَالَةُ الْمُحْوِجَةُ إِلَى الِالْتِجَاءِ وَالِاضْطِرَارِ افْتِعَالٌ مِنْهَا: يُقَالُ اضْطَرَّهُ إِلَى كَذَا وَالْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ مُضْطَرٌّ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُضْطَرَّ هُوَ الَّذِي أَحْوَجَهُ مَرَضٌ أَوْ فَقْرٌ أَوْ نَازِلَةٌ مِنْ نَوَازِلِ الدَّهْرِ إِلَى التَّضَرُّعِ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَعَنِ السُّدِّيِّ: الَّذِي لَا حَوْلَ لَهُ وَلَا قُوَّةَ، وَقِيلَ الْمُذْنِبُ إِذَا اسْتَغْفَرَ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ عَمَّ الْمُضْطَرِّينَ بِقَوْلِهِ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَكَمْ مِنْ مُضْطَرٍّ يَدْعُو فَلَا يُجَابُ؟ جَوَابُهُ: قَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُعَرَّفَ لَا يُفِيدُ/ الْعُمُومَ وَإِنَّمَا يُفِيدُ الْمَاهِيَّةَ فَقَطْ، وَالْحُكْمُ الْمُثْبِتُ لِلْمَاهِيَّةِ يَكْفِي فِي صِدْقِهِ ثُبُوتُهُ فِي فَرْدٍ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ بِالِاسْتِجَابَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يَسْتَجِيبُ فِي الْحَالِ وَتَمَامُ الْقَوْلِ فِي شَرَائِطَ الدُّعَاءِ وَالْإِجَابَةِ مَذْكُورٌ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: 60] فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَكْشِفُ السُّوءَ فَهُوَ كَالتَّفْسِيرِ لِلِاسْتِجَابَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى كَشْفِ مَا دَفَعَ إِلَيْهِ مِنْ فَقْرٍ إِلَى غِنًى وَمَرَضٍ إِلَى صِحَّةٍ وَضِيقٍ إِلَى سَعَةٍ إِلَّا الْقَادِرُ الَّذِي لَا يَعْجَزُ وَالْقَاهِرُ الَّذِي لَا يُنَازَعُ وَثَانِيهِمَا: قَوْلُهُ: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ فَالْمُرَادُ تَوَارُثُهُمْ سُكْنَاهَا وَالتَّصَرُّفُ فِيهَا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَأَرَادَ بِالْخِلَافَةِ الْمِلْكَ وَالتَّسَلُّطَ، وَقُرِئَ يَذَّكَّرُونَ بِالْيَاءِ مَعَ الْإِدْغَامِ وَبِالتَّاءِ مَعَ الْإِدْغَامِ وَبِالْحَذْفِ وَمَا مَزِيدَةٌ أَيْ يَذَّكَّرُونَ تَذَكُّرًا قَلِيلًا، وَالْمَعْنَى نَفْيُ التَّذَكُّرِ وَالْقِلَّةُ تستعمل في معنى النفي.

_ (1) أجن الماء: صار آجنا أي تغير لونه أو طعمه أو ريحه وفسد. [.....]

[سورة النمل (27) : آية 63]

[سورة النمل (27) : آية 63] أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) النوع الرَّابِعُ- مَا يَتَعَلَّقُ أَيْضًا بِاحْتِيَاجِ الْخَلْقِ ولكنه حاجة خاصة في وقت خاص اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ وَالْمُرَادُ يَهْدِيكُمْ بِالنُّجُومِ فِي السَّمَاءِ وَالْعَلَامَاتِ فِي الْأَرْضِ إِذَا جَنَّ اللَّيْلُ عَلَيْكُمْ مُسَافِرِينَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يُحَرِّكُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ السَّحَابَ ثُمَّ تَسُوقُهُ إِلَى حَيْثُ يَشَاءُ، فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُحَرِّكُ الرِّيَاحَ، فَإِنَّ الْفَلَاسِفَةَ قَالَتْ الرِّيَاحُ إِنَّمَا تَتَوَلَّدُ عَنِ الدُّخَانِ وَلَيْسَ الدُّخَانُ كُلُّهُ هُوَ الْجِسْمَ الْأَسْوَدَ الْمُرْتَفِعَ مِمَّا احْتَرَقَ بِالنَّارِ، بَلْ كُلُّ جِسْمٍ أَرْضِيٍّ يَرْتَفِعُ بِتَصْعِيدِ الْحَرَارَةِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْحَرَارَةُ حَرَارَةَ النَّارِ أَوْ حَرَارَةَ الشَّمْسِ فَهُوَ دُخَانٌ قَالُوا وَتَوَلُّدُ الرِّيَاحِ مِنَ الْأَدْخِنَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَكْثَرِيٌّ، وَالْآخَرُ أَقَلِّيٌّ، أَمَّا الْأَكْثَرِيُّ فَهُوَ أَنَّهُ إِذَا صَعِدَتْ أَدْخِنَةٌ كَثِيرَةٌ إِلَى فَوْقَ فَعِنْدَ وُصُولِهَا إِلَى الطَّبَقَةِ الْبَارِدَةِ إِمَّا أَنْ يَنْكَسِرَ حَرُّهَا بِبَرْدِ ذَلِكَ الْهَوَاءِ أَوْ لَا يَنْكَسِرُ فَإِنِ انْكَسَرَ فَلَا مَحَالَةَ يَثْقُلُ وَيَنْزِلُ فَيَحْصُلُ مِنْ نُزُولِهَا تَمَوُّجُ الْهَوَاءِ فَتَحْدُثُ الرِّيحُ، وَإِنْ لَمْ يَنْكَسِرْ حَرُّهَا بِبَرْدِ ذَلِكَ الْهَوَاءِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَتَصَاعَدَ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى كُرَةِ النَّارِ الْمُتَحَرِّكَةِ بِحَرَكَةِ الْفَلَكِ وَحِينَئِذٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الصُّعُودِ بِسَبَبِ حَرَكَةِ النَّارِ فَتَرْجِعُ تِلْكَ الْأَدْخِنَةُ وَتَصِيرُ رِيحًا، لَا يُقَالُ لَوْ كَانَ انْدِفَاعُ هَذِهِ الْأَدْخِنَةِ بِسَبَبِ حَرَكَةِ الْهَوَاءِ الْعَالِي لَمَا كَانَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى أَسْفَلَ بَلْ إِلَى جِهَةِ حَرَكَةِ الْهَوَاءِ الْعَالِي لِأَنَّا نَقُولُ الْجَوَابَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رُبَّمَا أَوْجَبَتْ هَيْئَةُ صُعُودِ تِلْكَ الْأَدْخِنَةِ وَهَيْئَةُ لُحُوقِ الْمَادَّةِ بِهَا أَنْ يَتَحَرَّكَ إِلَى خِلَافِ جِهَةِ الْمُتَحَرِّكِ/ الْمَانِعِ، كَالسَّهْمِ يُصِيبُ جِسْمًا مُتَحَرِّكًا فَيَعْطِفُهُ تَارَةً إِلَى جِهَتِهِ إِنْ كَانَ الْحَابِسُ كَمَا يَقْدِرُ عَلَى صَرْفِ الْمُتَحَرِّكِ عَنْ مُتَوَجَّهِهِ يَقْدِرُ أَيْضًا عَلَى صَرْفِهِ إِلَى جِهَةِ حَرَكَةِ نَفْسِهِ وَتَارَةً إِلَى خِلَافِ تِلْكَ الْجِهَةِ إِذَا كَانَ الْمُفَارِقُ يَقْدِرُ عَلَى الْحَبْسِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّرْفِ الثَّانِي: أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ صُعُودُ بَعْضُ الْأَدْخِنَةِ مِنْ تَحْتٍ مَانِعًا لِلْأَدْخِنَةِ النَّازِلَةِ مِنْ فَوْقٍ إِلَى أَنْ يَتَسَفَّلَ ذَلِكَ فَلِأَجْلِ هَذَا السَّبَبِ يَتَحَرَّكُ إِلَى سَائِرِ الْجَوَانِبِ، وَاعْلَمْ أن لأهل الإسلام هاهنا مَقَامَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ يُقِيمَ الدَّلَالَةَ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْعِلَّةِ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَجْزَاءَ الدُّخَانِيَّةَ أَرْضِيَّةٌ فَهِيَ أَثْقَلُ مِنَ الْأَجْزَاءِ الْبُخَارِيَّةِ الْمَائِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّ الْبُخَارَ لَمَّا يَبْرُدْ يَنْزِلْ عَلَى الْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ مَطَرًا فَالدُّخَانُ لَمَّا بَرَدَ فَلِمَاذَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَى الْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ بَلْ ذَهَبَ يُمْنَةً وَيُسْرَةً؟ الثَّانِي: أَنَّ حَرَكَةَ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ إِلَى أَسْفَلَ طَبِيعِيَّةٌ وَحَرَكَتَهَا يُمْنَةً وَيُسْرَةً عَرَضِيَّةٌ وَالطَّبِيعِيَّةُ أَقْوَى مِنَ الْعَرَضِيَّةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَقْوَى فَلَا أَقَلَّ مِنَ الْمُسَاوَاةِ، ثُمَّ إِنَّ الرِّيحَ عِنْدَ حَرَكَتِهَا يُمْنَةً وَيُسْرَةً رُبَّمَا تَقْوَى عَلَى قَلْعِ الْأَشْجَارِ وَرَمْيِ الْجِدَارِ بل الجبال، فتلك الأجزاء الدخانية عند ما تَحَرَّكَتْ حَرَكَتُهَا الطَّبِيعِيَّةُ الَّتِي لَهَا وَهِيَ الْحَرَكَةُ إِلَى السُّفْلِ وَجَبَ أَنْ تَهْدِمَ السَّقْفَ، وَلَكِنَّا نَرَى الْغُبَارَ الْكَثِيرَ يَنْزِلُ مِنَ الْهَوَاءِ وَيَسْقُطُ عَلَى السَّقْفِ وَلَا يُحَسُّ بِنُزُولِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَهْدِمَهُ فَثَبَتَ فَسَادُ مَا ذَكَرُوهُ الْمَقَامُ الثَّانِي: هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرُوهُ وَلَكِنَّ الْأَسْبَابَ الْفَاعِلِيَّةَ وَالْقَابِلِيَّةَ لَهَا مَخْلُوقَةٌ للَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَإِنَّهُ لَوْلَا الشَّمْسُ وَتَأْثِيرُهَا فِي تَصْعِيدِ الْأَبْخِرَةِ وَالْأَدْخِنَةِ وَلَوْلَا طَبَقَاتُ الْهَوَاءِ، وَإِلَّا «1» لَمَا حَدَثَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ وَضَعَ أَسْبَابًا فَأَدَّتْهُ إِلَى مَنَافِعَ عَجِيبَةٍ وَحِكَمٍ بَالِغَةٍ

_ (1) إلا هذه لا معنى لها ولا محل لوقوعها بين لولا وجوابها، وهي زائدة قطعا من الناسخ أو مصحح الطبعة الأولى الأميرية.

[سورة النمل (27) : آية 64]

فَذَلِكَ الْوَاضِعُ هُوَ الَّذِي فَعَلَ تِلْكَ الْمَنَافِعَ، فَعَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ لَا بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى مُدَبِّرٍ حَكِيمٍ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ، قطعا لسلسلة الحاجات. [سورة النمل (27) : آية 64] أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) النوع الخامس- ما يتعلق بالحشر والنشر اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَدَّدَ نِعَمَ الدُّنْيَا أتبع ذلك بنعم الآخرة بقوله: أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِأَنَّ نِعَمَ الْآخِرَةِ بِالثَّوَابِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْإِعَادَةِ بَعْدَ الِابْتِدَاءِ وَالْإِبْلَاغِ إِلَى حَدِّ التَّكْلِيفِ فَقَدْ تَضَمَّنَ الْكَلَامُ كُلَّ هَذِهِ النِّعَمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْأَرْزَاقِ فَلِذَلِكَ قَالَ: وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، ثم قال: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ مُنْكِرًا لِمَا هُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَنْ لَا بُرْهَانَ لَكُمْ فَإِذَنْ هُمْ مُبْطِلُونَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الدَّعْوَى مِنْ/ وَعَلَى فَسَادِ التَّقْلِيدِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قِيلَ لهم: أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُمْ مُنْكِرُونَ لِلْإِعَادَةِ؟ جَوَابُهُ: كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِالِابْتِدَاءِ، وَدَلَالَةُ الِابْتِدَاءِ عَلَى الْإِعَادَةِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ قَوِيَّةٌ، فَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ مَقْرُونًا بِالدَّلَالَةِ الظَّاهِرَةِ صَارُوا كَأَنَّهُمْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ عذر في الإنكار، وهاهنا آخِرُ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّه تعالى. [سورة النمل (27) : الآيات 65 الى 66] قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ الْمُخْتَصُّ بِالْقُدْرَةِ فَكَذَلِكَ بَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ثَبْتَ أَنَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ، لِأَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ مِنْهُ مُجَازَاةُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْتَبِسُ بِأَهْلِ الْعِقَابِ، فَإِنْ قِيلَ الِاسْتِثْنَاءُ حُكْمُهُ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَوَجَبَ أَوْ لَصَحَّ دخوله تحت المستثنى منه ودلت الآية هاهنا عَلَى اسْتِثْنَاءِ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّنْ فِي السموات والأرض فوجب كونه ممن في السموات وَالْأَرْضِ وَذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَهُ تَعَالَى فِي الْمَكَانِ وَالْجَوَابُ: هَذِهِ الْآيَةُ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ لِأَنَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى فِي الْمَكَانِ زَعَمَ أَنَّهُ فوق السموات، وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ فِي مَكَانٍ فَقَدْ نَزَّهَهُ عَنْ كُلِّ الْأَمْكِنَةِ، فَثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ تعالى ليس في السموات وَالْأَرْضِ فَإِذَنْ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى ممن في السموات وَالْأَرْضِ كَمَا يَقُولُ الْمُتَكَلِّمُونَ: اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَانٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّ عِلْمَهُ فِي الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا، لَا يُقَالُ إِنَّ كَوْنَهُ فِي السموات وَالْأَرْضِ مَجَازٌ وَكَوْنَهُمْ فِيهِنَّ حَقِيقَةٌ وَإِرَادَةُ الْمُتَكَلِّمِ بِعِبَارَةٍ وَاحِدَةٍ حَقِيقَةً وَمَجَازًا غَيْرُ جَائِزَةٍ، لِأَنَّا نقول كونهم في السموات وَالْأَرْضِ، كَمَا أَنَّهُ حَاصِلٌ حَقِيقَةً وَهُوَ حُصُولُ ذَوَاتِهِمْ فِي الْأَحْيَازِ فَكَذَلِكَ حَاصِلٌ مَجَازًا، وَهُوَ كَوْنُهُمْ عَالِمِينَ بِتِلْكَ الْأَمْكِنَةِ فَإِذَا حَمَلْنَا هَذِهِ الْغَيْبَةَ عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ وَهُوَ الْكَوْنُ فِيهَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ دَخَلَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْعَبِيدُ فِيهِ فَصَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَما يَشْعُرُونَ فهو صفة لأهل السموات وَالْأَرْضِ نَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَلِمُ الْغَيْبِ وَذَكَرَ فِي جُمْلَةِ الْغَيْبِ مَتَى الْبَعْثُ بِقَوْلِهِ: أَيَّانَ يُبْعَثُونَ فَأَيَّانَ بِمَعْنَى مَتَى وَهِيَ كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ أَيْ وَالْآنَ وَهُوَ الْوَقْتُ وَقُرِئَ إِيَّانَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ.

[سورة النمل (27) : الآيات 67 إلى 75]

أَمَّا قَوْلُهُ: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» فِيهِ مُرَتَّبٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَبْحَاثٍ: / الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِيهِ اثْنَتَا عشرة قراءة بَلِ ادَّرَكَ بَلِ ادَّارَكَ بَلْ تَدَارَكَ بَلْ أأدرك بهمزتين بل ءاأدرك بِأَلْفٍ بَيْنَهُمَا بَلْ آدْرَكَ بِالتَّخْفِيفِ وَالنَّقْلُ بَلَ ادَّرَكَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ وَأَصْلُهُ بَلْ أَدَّرَكَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ بَلَى أَدْرَكَ بَلَى أَأَدْرَكَ أم تدارك أو أَدْرَكَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: ادَّارَكَ أَصْلُهُ تَدَارَكَ فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ وَأَدَّرَكَ افْتَعَلَ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: مَعْنَى ادَّرَكَ عِلْمُهُمُ انْتَهَى وَتَكَامَلَ وَأَدْرَكَ تَتَابَعَ وَاسْتَحْكَمَ ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَسْبَابَ اسْتِحْكَامِ الْعِلْمِ وَتَكَامُلِهِ بِأَنَّ الْقِيَامَةَ كَائِنَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا قَدْ حَصَلَتْ لَهُمْ وَمُكِّنُوا مِنْ مَعْرِفَتِهَا وَهُمْ شَاكُّونَ جَاهِلُونَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ يُرِيدُ الْمُشْرِكِينَ مِمَّنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مِنْ جُمْلَتِهِمْ نُسِبَ فِعْلُهُمْ إِلَى الْجَمِيعِ كَمَا يُقَالُ بَنُو فُلَانٍ فَعَلُوا كَذَا وَإِنَّمَا فَعَلَهُ نَاسٌ مِنْهُمْ. فَإِنْ قِيلَ الْآيَةُ سِيقَتْ لِاخْتِصَاصِ اللَّه تَعَالَى بِعِلْمِ الْغَيْبِ وَإِنَّ الْعِبَادَ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَإِنَّ وَقْتَ بَعْثِهِمْ وَنُشُورِهِمْ مِنْ جُمْلَةِ الْغَيْبِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ، فَكَيْفَ نَاسَبَ هَذَا الْمَعْنَى وَصْفَ الْمُشْرِكِينَ بِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ مَعَ اسْتِحْكَامِ أَسْبَابِ الْعِلْمِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ؟ وَالْجَوَابُ: كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ كَيْفَ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَعَ أَنَّهُمْ شَكُّوا فِي ثُبُوتِ الْآخِرَةِ الَّتِي دَلَّتِ الدَّلَائِلُ الظَّاهِرَةُ الْقَاهِرَةُ عَلَيْهَا فَمَنْ غَفَلَ عَنْ هَذَا الشَّيْءِ الظَّاهِرِ كَيْفَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ الَّذِي هُوَ أَخْفَى الْأَشْيَاءِ الوجه الثَّانِي: أَنَّ وَصْفَهُمْ بِاسْتِحْكَامِ الْعِلْمِ تَهَكُّمٌ بِهِمْ كَمَا تَقُولُ لِأَجْهَلِ النَّاسِ مَا أَعْلَمَكَ عَلَى سَبِيلِ الْهُزُءِ وَذَلِكَ حَيْثُ شَكُّوا فِي إِثْبَاتِ مَا الطَّرِيقُ إِلَيْهِ وَاضِحٌ ظَاهِرٌ الوجه الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَدْرَكَ بِمَعْنَى انْتَهَى وَفَنِيَ مِنْ قَوْلِكَ أَدْرَكَتُ الثَّمَرَةَ لِأَنَّ تِلْكَ غَايَتُهَا الَّتِي عِنْدَهَا تُعْدَمُ وَقَدْ فَسَّرَهُ الْحَسَنُ بِاضْمَحَلَّ عِلْمُهُمْ وَتَدَارَكَ مِنْ تَدَارَكَ بَنُو فُلَانٍ إِذَا تَتَابَعُوا فِي الْهَلَاكِ، أَمَّا وَجْهُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بَلْ أَأَدْرَكَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ فَهُوَ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ لِإِدْرَاكِ عِلْمِهُمْ وَكَذَا مَنْ قَرَأَ أَمْ أَدْرَكَ وَأَمْ تَدَارَكَ لِأَنَّهَا أَمْ هِيَ الَّتِي بِمَعْنَى بَلْ وَالْهَمْزَةِ وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بَلَى أَدْرَكَ فَإِنَّهُ لَمَّا جَاءَ بِبِلَى بَعْدَ قَوْلِهِ: وَما يَشْعُرُونَ كَانَ مَعْنَاهُ بَلَى يَشْعُرُونَ ثُمَّ فَسَّرَ الشُّعُورَ بِقَوْلِهِ أَدْرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ الَّذِي مَعْنَاهُ الْمُبَالَغَةُ فِي نَفْيِ الْعِلْمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ شُعُورُهُمْ بِوَقْتِ الْآخِرَةِ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ كَوْنَهَا فَيَرْجِعُ إِلَى نَفْيِ الشُّعُورِ عَلَى أَبْلَغِ مَا يَكُونُ، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بَلَى أَأَدْرَكَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ فَمَعْنَاهُ بَلَى يَشْعُرُونَ مَتَى يُبْعَثُونَ، ثُمَّ أَنْكَرَ عِلْمَهُمْ بِكَوْنِهَا وَإِذْ أُنْكِرَ علمهم بكونها وإذا أُنْكِرَ عِلْمُهُمْ بِكَوْنِهَا لَمْ يَتَحَصَّلْ لَهُمْ شُعُورٌ بِوَقْتِ كَوْنِهَا. فَإِنْ قُلْتَ هَذِهِ الْإِضْرَابَاتُ الثَّلَاثُ مَا مَعْنَاهَا؟ قُلْتُ مَا هِيَ إِلَّا بَيَانُ دَرَجَاتِهِمْ وَصَفَهُمْ أَوَّلًا بِأَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَقْتَ الْبَعْثِ، ثُمَّ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْقِيَامَةَ كَائِنَةٌ، ثُمَّ بِأَنَّهُمْ يَخْبِطُونَ فِي شَكٍّ وَمِرْيَةٍ، ثُمَّ بِمَا هُوَ أَسْوَأُ حَالًا وَهُوَ الْعَمَى وَفِيهِ نُكْتَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْآخِرَةَ مَبْدَأَ عَمَاهُمْ فَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِمِنْ دُونَ عَنْ لِأَنَّ الْفِكْرَ بِالْعَاقِبَةِ وَالْجَزَاءُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُمْ كالبهائم. [سورة النمل (27) : الآيات 67 الى 75] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75)

اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا تَكَلَّمَ فِي حَالِ الْمَبْدَأِ تَكَلَّمَ بَعْدَهُ فِي حَالِ الْمَعَادِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّكَّ فِي الْمَعَادِ لَا يَنْشَأُ إِلَّا مِنَ الشَّكِّ فِي كَمَالِ الْقُدْرَةِ، أَوْ فِي كَمَالِ الْعِلْمِ فَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، وَعَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى يُمْكِنُهُ تَمْيِيزُ أَجْزَاءِ بَدَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ عَنْ أَجْزَاءِ بَدَنِ غَيْرِهِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعِيدَ التَّرْكِيبَ وَالْحَيَاةَ إِلَيْهَا وَإِذَا ثَبَتَ إِمْكَانُ ذَلِكَ ثَبَتَ صِحَّةُ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ فَلَمَّا بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، لَا جَرَمَ لَمْ يَحْكِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَحَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ تَعَجَّبُوا مِنْ إِخْرَاجِهِمْ أَحْيَاءً وَقَدْ صَارُوا تُرَابًا وَطَعَنُوا فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُمْ: لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا نَحْنُ وَآباؤُنا أَيْ هَذَا كَلَامٌ كَمَا قِيلَ لَنَا فَقَدْ قِيلَ لِمَنْ/ قَبْلَنَا، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَثَرٌ فَهُوَ إِذَنْ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ يُرِيدُونَ مَا لَا يصح من الأخبار، فإن قيل ذكر هاهنا لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا نَحْنُ وَآباؤُنا وَفِي آيَةٍ أخرى: لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا [المؤمنون: 83] فَمَا الْفَرْقُ؟ قُلْنَا التَّقْدِيمُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُقَدَّمَ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ وَأَنَّ الْكَلَامَ سِيقَ لِأَجْلِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَانَ قَدْ بَيَّنَ الدَّلَالَةَ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَحَاطَ بِهِمَا فَقَدْ عَرَفَ صِحَّةَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ ثَبَتَ أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْهَا وَلَمْ يَتَأَمَّلُوهَا، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ الْإِعْرَاضِ حُبَّ الدُّنْيَا وَحُبَّ الرِّيَاسَةِ وَالْجَاهِ وَعَدَمَ الِانْقِيَادِ لِلْغَيْرِ، لَا جَرَمَ اقْتَصَرَ عَلَى بَيَانِ أَنَّ الدُّنْيَا فَانِيَةٌ زَائِلَةٌ فَقَالَ: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ؟ جَوَابُهُ: لِأَنَّ تَأْنِيثَهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ وَلِأَنَّ الْمَعْنَى كَيْفَ كَانَ آخِرُ أَمْرِهِمْ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ لَمْ يَقُلْ عَاقِبَةَ الْكَافِرِينَ؟ جَوَابُهُ: الْغَرَضُ أَنْ يَحْصُلَ التَّخْوِيفُ لِكُلِّ الْعُصَاةِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى صَبَّرَ رَسُولَهُ عَلَى مَا يَنَالُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ فَقَالَ: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ فَجَمَعَ بَيْنَ إِزَالَةِ الْغَمِّ عَنْهُ بِكُفْرِهِمْ وَبَيْنَ إِزَالَةِ الْخَوْفِ مِنْ جَانِبِهِمْ، وَصَارَ ذَلِكَ كَالتَّكَفُّلِ بِنُصْرَتِهِ عَلَيْهِمْ وَقَوْلُهُ: وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ أَيْ فِي حَرَجِ قَلْبٍ يُقَالُ ضَاقَ الشَّيْءُ ضَيْقًا وَضِيقًا بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَالضَّيْقُ تَخْفِيفُ الضَّيِّقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ فِي أَمْرٍ ضَيِّقٍ مِنْ مَكْرِهِمْ الوجه الثَّانِي: لِلْكَفَّارِ قَوْلُهُمْ: مَتى هذَا الْوَعْدُ وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ ذَكَرُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ فَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ وَهُوَ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ، فَزِيدَتِ اللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ كَالْبَاءِ فِي وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ [الْبَقَرَةِ: 195] أَوْ ضُمِّنَ مَعْنَى فِعْلٍ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ نَحْوُ دَنَا لَكُمْ وَأَزِفَ لَكُمْ، وَمَعْنَاهُ تَبِعَكُمْ وَلَحِقَكُمْ، وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ رَدِفَ لَكُمْ بِوَزْنِ ذَهَبَ وَهُمَا لُغَتَانِ، وَالْكَسْرُ أفصح، وهاهنا بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ عَسَى وَلَعَلَّ فِي وَعْدِ الْمُلُوكِ وَوَعِيدِهِمْ يَدُلَّانِ عَلَى صِدْقِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يَعْنُونَ بِذَلِكَ

[سورة النمل (27) : الآيات 76 إلى 81]

إِظْهَارَ وَقَارِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يُعَجِّلُونَ بِالِانْتِقَامِ لِوُثُوقِهِمْ بِأَنَّ عَدُوَّهُمْ لَا يَفُوتُهُمْ، فَعَلَى ذَلِكَ جَرَى وَعْدُ اللَّه وَوَعِيدُهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ عَذَابَ الْحِجَابِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ [الْمُطَفِّفِينَ: 15، 16] فَقَدَّمَ الْحِجَابَ عَلَى الْجَحِيمِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا مَحْجُوبِينَ فِي الْحَالِ، فَكَانَ سَبَبُ الْعَذَابِ بِكَمَالِهِ حَاصِلًا، إِلَّا أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا كَالْعَائِقِ عَنْ إِدْرَاكِ ذَلِكَ الْأَلَمِ، كَمَا أَنَّ الْعُضْوَ الْخَدِرَ إِذَا مَسَّتْهُ النَّارُ، فَإِنَّ سَبَبَ الْأَلَمِ حَاصِلٌ فِي الْحَالِ، لَكِنَّهُ لَا يَحْصُلُ الشُّعُورُ بِذَلِكَ الْأَلَمِ لِقِيَامِ الْعَائِقِ، فَإِذَا زال العائق عظم البلاء، فكذا هاهنا إِذَا زَالَ الْبَدَنُ عَظُمَ عَذَابُ الْحِجَابِ، فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ يَعْنِي الْمُقْتَضِيَ لَهُ وَالْمُؤَثِّرَ فِيهِ حَاصِلٌ، وَتَمَامُهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بَعْدَ الْمَوْتِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ/ السَّبَبَ فِي تَرْكِ تَعْجِيلِ الْعَذَابِ فَقَالَ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَالْفَضْلُ الْإِفْضَالُ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مُتَفَضِّلٌ عَلَيْهِمْ بِتَأْخِيرِ الْعُقُوبَةِ، وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْرِفُونَ هَذِهِ النِّعْمَةَ وَلَا يَشْكُرُونَهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ تُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَا نِعْمَةَ للَّه عَلَى الْكُفَّارِ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَقَالَ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ وهاهنا بَحْثٌ عَقْلِيٌّ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدَّمَ مَا تُكِنُّهُ صُدُورُهُمْ عَلَى مَا يُعْلِنُونَ مِنَ الْعِلْمِ وَالسَّبَبُ أَنَّ مَا تُكِنُّهُ صُدُورُهُمْ هُوَ الدَّوَاعِي وَالْقُصُودُ، وَهِيَ أَسْبَابٌ لِما يُعْلِنُونَ، وَهِيَ أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ، وَالْعِلْمُ بِالْعِلَّةِ عِلَّةٌ لِلْعِلْمِ بِالْمَعْلُولِ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ التَّقْدِيمِ، قُرِئَ (تَكُنُّ) يُقَالُ كَنَنْتُ الشَّيْءَ وَأَكْنَنْتُهُ إِذَا سَتَرْتَهُ وَأَخْفَيْتَهُ، يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا يُخْفُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ مِنْ عَدَاوَةِ الرَّسُولِ وَمَكَايِدِهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَما مِنْ غائِبَةٍ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : سُمِّيَ الشَّيْءُ الَّذِي يَغِيبُ وَيَخْفَى غَائِبَةٌ وَخَافِيَةٌ، فَكَانَتِ التَّاءُ فِيهَا بِمَنْزِلَتِهَا فِي الْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَالذَّبِيحَةِ وَالرَّمِيَّةِ فِي أَنَّهَا أَسْمَاءٌ غَيْرُ صِفَاتٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا صِفَتَيْنِ وَتَاؤُهُمَا لِلْمُبَالَغَةِ كَالرَّاوِيَةِ فِي قَوْلِهِمْ: وَيْلٌ لِلشَّاعِرِ مِنْ رَاوِيَةِ السُّوءِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمَا مِنْ شَيْءٍ شَدِيدِ الْغَيْبُوبَةِ وَالْخَفَاءِ، إِلَّا وَقَدْ عَلِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَأَحَاطَ بِهِ، وَأَثْبَتَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَالْمُبَيَّنِ الظَّاهِرِ البين لمن ينظر فيه من الملائكة. [سورة النمل (27) : الآيات 76 الى 81] إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا تَمَّمَ الْكَلَامَ فِي إِثْبَاتِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنُّبُوَّةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْعُمْدَةُ الْكُبْرَى فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْقُرْآنَ، لَا جَرَمَ بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَوَّلًا كَوْنَهُ/ مُعْجِزَةً مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّ الْأَقَاصِيصَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ مُوَافِقَةٌ لِمَا كَانَتْ مَذْكُورَةً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ أُمِّيًّا، وَأَنَّهُ لَمْ يُخَالِطْ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يَشْتَغِلْ قَطُّ بِالِاسْتِفَادَةِ وَالتَّعَلُّمِ، فَإِذَنْ لَا يَكُونُ

[سورة النمل (27) : الآيات 82 إلى 86]

ذَلِكَ إِلَّا مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى، وَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَرَادَ بِهِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَتَبَايَنُوا، وَقَالَ آخَرُونَ أَرَادَ بِهِ مَا حَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ أَرَادَ بِهِ أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ إِنَّا لَمَّا تَأَمَّلْنَا الْقُرْآنَ فَوَجَدْنَا فِيهِ مِنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْحَشْرِ وَالنُّبُوَّةِ، وَشَرْحِ صِفَاتِ اللَّه تَعَالَى وَبَيَانِ نُعُوتِ جَلَالِهِ مَا لَمْ نَجِدْهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ، وَوَجَدْنَا مَا فِيهِ مِنَ الشَّرَائِعِ مُطَابِقَةً لِلْعُقُولِ مُوَافِقَةً لَهَا، وَوَجَدْنَاهُ مُبَرَّأً عَنِ التَّنَاقُضِ وَالتَّهَافُتِ، فَكَانَ هُدَىً وَرَحْمَةً مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ وَوَجَدْنَا الْقُوَى البشرية قاصرة عن جَمْعِ كِتَابٍ عَلَى هَذَا الوجه، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى، فَكَانَ الْقُرْآنُ مُعْجِزًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ هُدَىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، لِبُلُوغِهِ فِي الْفَصَاحَةِ إِلَى حَيْثُ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَذَلِكَ مُعْجِزٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَوْنَهُ مُعْجِزًا دَالًّا عَلَى الرِّسَالَةِ ذَكَرَ بَعْدَهُ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ وَالْمُرَادُ أَنَّ الْقُرْآنَ وَإِنْ كَانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، لَكِنْ لَا تَكُنْ أَنْتَ فِي قَيْدِهِمْ، فَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ الَّذِي يَقْضِي بَيْنَهُمْ، أَيْ بَيْنَ الْمُصِيبِ وَالْمُخْطِئِ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ كَالزَّجْرِ لِلْكُفَّارِ فَلِذَلِكَ قَالَ: وَهُوَ الْعَزِيزُ أَيِ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يُمْنَعُ الْعَلِيمُ بِمَا يَحْكُمُ فَلَا يَكُونُ إِلَّا الْحَقُّ، فَإِنْ قِيلَ الْقَضَاءُ وَالْحُكْمُ شَيْءٌ واحد فقوله: يقضي بِحُكْمِهِ كَقَوْلِهِ يَقْضِي بِقَضَائِهِ وَيَحْكُمُ بِحُكْمِهِ وَالْجَوَابُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: بِحُكْمِهِ أَيْ بِمَا يَحْكُمُ بِهِ وَهُوَ عَدْلُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي إِلَّا بِالْعَدْلِ، أَوْ أَرَادَ بِحُكْمِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ (بِحِكَمِهِ) جَمْعُ حِكْمَةٍ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بَعْدَ ظُهُورِ حُجَّةِ رِسَالَتِهِ بِأَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّه، وَلَا يَلْتَفِتَ إِلَى أَعْدَاءِ اللَّه، وَيَشْرَعَ فِي تَمْشِيَةِ مُهِمَّاتِ الرِّسَالَةِ بِقَلْبٍ قَوِيٍّ، فَقَالَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْمُحِقَّ حَقِيقٌ بِنُصْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَأَنَّهُ لَا يُخْذَلُ وَثَانِيهِمَا: قَوْلُهُ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَإِنَّمَا حَسُنَ جَعْلُهُ سَبَبًا لِلْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ يَطْمَعُ فِي أَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يَقْوَى قَلْبُهُ عَلَى إِظْهَارِ مُخَالَفَتِهِ، فَإِذَا قَطَعَ طَمَعَهُ عَنْهُ قَوِيَ قَلْبُهُ عَلَى إِظْهَارِ مُخَالَفَتِهِ، فاللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَطَعَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ بِأَنْ بَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمْ كَالْمَوْتَى وَكَالصُّمِّ وَكَالْعُمْيِ فَلَا يَفْهَمُونَ وَلَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الدَّلَائِلِ، وَهَذَا سَبَبٌ لِقُوَّةِ قَلْبِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى إِظْهَارِ الدِّينِ كَمَا يَنْبَغِي، فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ جَوَابُهُ: هُوَ تَأْكِيدٌ لِحَالِ الْأَصَمِّ، لِأَنَّهُ إِذَا تَبَاعَدَ عَنِ الدَّاعِي بِأَنْ تَوَلَّى عَنْهُ مُدْبِرًا كَانَ أَبْعَدَ عَنْ إِدْرَاكِ صَوْتِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَالْمَعْنَى مَا يُجْدِي إِسْمَاعُكَ إِلَّا الَّذِينَ عَلِمَ اللَّه أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِهِ، أَيْ يُصَدِّقُونَ بِهَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ، أَيْ مُخْلِصُونَ مِنْ قَوْلِهِ: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [الْبَقَرَةِ: 112] / يَعْنِي جَعَلَهُ سَالِمًا للَّه تَعَالَى خَالِصًا لَهُ، واللَّه أعلم. [سورة النمل (27) : الآيات 82 الى 86] وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)

اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى بَيَّنَ بِالدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ كَمَالَ الْقُدْرَةِ وَكَمَالَ الْعِلْمِ، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَيْهِمَا الْقَوْلَ بِإِمْكَانِ الْحَشْرِ، ثُمَّ بَيَّنَ الوجه فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَيْهِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ الْآنَ فِي مُقَدِّمَاتِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا أَخَّرَ تَعَالَى الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ إِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ، لِمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا إِلَّا بِقَوْلِ النَّبِيِّ الصَّادِقِ وَهَذَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي جَوْدَةِ التَّرْتِيبِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ تَارَةً مَا يَكُونُ كَالْعَلَامَةِ لِقِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَتَارَةً الْأُمُورَ الَّتِي تَقَعُ عِنْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا مِنْ عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ دَابَّةَ الْأَرْضِ، وَالنَّاسُ تَكَلَّمُوا فِيهَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: فِي مِقْدَارِ جِسْمِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ طُولَهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا، وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ رَأْسَهَا تَبْلُغُ السَّحَابَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا بَيْنَ قَرْنَيْهَا فَرْسَخٌ لِلرَّاكِبِ وَثَانِيهَا: فِي كَيْفِيَّةِ خِلْقَتِهَا، فَرُوِيَ أَنَّ لَهَا أَرْبَعَ قَوَائِمَ وَزَغَبٌ وَرِيشٌ وَجَنَاحَانِ. وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي وَصْفِهَا: رَأْسُ ثَوْرٍ وَعَيْنُ خِنْزِيرٍ وَأُذُنُ فِيلٍ وَقَرْنُ أَيْلٍ وَصَدْرُ أَسَدٍ وَلَوْنُ نَمِرٍ وَخَاصِرَةُ (بَقَرَةٍ) «1» وَذَنَبُ كَبْشٍ وَخُفُّ بَعِيرٍ وَثَالِثُهَا: فِي كَيْفِيَّةِ خُرُوجِهَا عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهَا تَخْرُجُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ فَلَا يَخْرُجُ إِلَّا ثُلُثُهَا. وَعَنِ الْحَسَنِ: لَا يَتِمُّ خُرُوجُهَا إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَرَابِعُهَا: فِي مَوْضِعِ خُرُوجِهَا «سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَيْنَ تَخْرُجُ الدَّابَّةُ؟ فَقَالَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَسَاجِدِ/ حُرْمَةً عَلَى اللَّه تَعَالَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» وَقِيلَ تَخْرُجُ مِنَ الصَّفَا فَتُكَلِّمُهُمْ بِالْعَرَبِيَّةِ وَخَامِسُهَا: فِي عَدَدِ خُرُوجِهَا فَرُوِيَ أَنَّهَا تَخْرُجُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، تَخْرُجُ بِأَقْصَى الْيَمَنِ، ثُمَّ تَكْمُنُ، ثُمَّ تَخْرُجُ بِالْبَادِيَةِ، ثُمَّ تَكْمُنُ دَهْرًا طَوِيلًا، فَبَيْنَا النَّاسُ فِي أَعْظَمِ الْمَسَاجِدِ حُرْمَةً وَأَكْرَمِهَا عَلَى اللَّه فَمَا يَهُولُهُمْ إِلَّا خُرُوجُهَا مِنْ بَيْنِ الرُّكْنِ حِذَاءَ دَارِ بَنِيَ مَخْزُومٍ عَنْ يَمِينِ الْخَارِجِ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَوْمٌ يهربون قوم يقفون [نظارة] «2» . وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْكِتَابِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَإِنْ صَحَّ الْخَبَرُ فِيهِ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبِلَ وَإِلَّا لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ فَالْمُرَادُ مِنَ الْقَوْلِ مُتَعَلِّقُهُ وَهُوَ مَا وُعِدُوا بِهِ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ وَوُقُوعُهُ حُصُولُهُ، وَالْمُرَادُ مُشَارَفَةُ السَّاعَةِ وَظُهُورُ أَشْرَاطِهَا، أَمَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ فَقَدْ عَرَفْتَهَا. وأما قوله: تُكَلِّمُهُمْ فقرىء (تَكْلَمُهُمْ) مِنَ الْكَلْمِ وَهُوَ الْجُرْحُ، رُوِيَ أَنَّ الدَّابَّةَ تَخْرُجُ مِنَ الصَّفَا وَمَعَهَا عَصَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ، فَتَضْرِبُ الْمُؤْمِنَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ بِعَصَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَتَنْكُتُ نُكْتَةً بَيْضَاءَ فَتَفْشُو تِلْكَ النُّكْتَةُ فِي وَجْهِهِ حَتَّى يُضِيءَ لَهَا وَجْهُهُ، وَتَنْكُتُ الْكَافِرَ فِي أَنْفِهِ فَتَفْشُو النُّكْتَةُ حَتَّى يَسْوَدَّ لَهَا وَجْهُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تُكَلِّمُهُمْ مِنَ الْكَلْمِ أَيْضًا عَلَى مَعْنَى التَّكْثِيرِ يُقَالُ فُلَانٌ مُكَلَّمٌ، أَيْ مُجَرَّحٌ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ (تُنَبِّئُهُمْ) ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ تُكَلِّمُهُمْ بِأَنَّ النَّاسَ، وَالْقِرَاءَةُ بِأَنَّ مَكْسُورَةً حِكَايَةٌ لِقَوْلِ الدَّابَّةِ ذَلِكَ، أَوْ هِيَ حِكَايَةٌ لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى بَيَّنَ بِهِ أَنَّهُ أَخْرَجَ الدَّابَّةَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. فَإِنْ قِيلَ إِذَا كَانَتْ حِكَايَةً لِقَوْلِ الدَّابَّةِ فَكَيْفَ يَقُولُ (بِآيَاتِنَا) ؟ جَوَابُهُ: إِنَّ قَوْلَهَا حِكَايَةٌ لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى، أَوْ عَلَى مَعْنَى بِآيَاتِ رَبِّنَا، أَوْ لِاخْتِصَاصِهَا باللَّه تَعَالَى أَضَافَتْ آيَاتِ اللَّه إِلَى نَفْسِهَا، كَمَا يقال بَعْضُ خَاصَّةِ الْمَلِكِ خَيْلُنَا وَبِلَادُنَا، وَإِنَّمَا هِيَ خَيْلُ مَوْلَاهُ وَبِلَادُهُ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ فَعَلَى حَذْفِ الْجَارِّ، أَيْ تُكَلِّمُهُمْ بِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا بآياتنا لا يوقنون.

_ (1) في الكشاف (هر) 3/ 160 ط. دار الفكر. (2) زيادة من الكشاف.

[سورة النمل (27) : آية 87]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنَ الْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَ مَنِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، أَنَّ الْأُولَى لِلتَّبْعِيضِ، وَالثَّانِيَةَ لِلتَّبْيِينِ كَقَوْلِهِ: مِنَ الْأَوْثانِ [الْحَجِّ: 30] . أَمَّا قَوْلُهُ: فَهُمْ يُوزَعُونَ مَعْنَاهُ يُحْبَسُ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ حَتَّى يَجْتَمِعُوا فَيُكَبْكَبُوا فِي النَّارِ، وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الْعَدَدِ وَتَبَاعُدِ أَطْرَافِهِ، كَمَا وُصِفَتْ جُنُودُ سُلَيْمَانَ بِذَلِكَ وَقَوْلُهُ: حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي فَهَذَا وَإِنِ احْتَمَلَ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، فَالْمُرَادُ كُلُّ الْآيَاتِ فَيَدْخُلُ فِيهِ سَائِرُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّه أَجْمَعَ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهَا. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً فَالْوَاوُ لِلْحَالِ كَأَنَّهُ قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِهَا، بَادِيَ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ وَلَا نَظَرٍ يُؤَدِّي إِلَى إِحَاطَةِ الْعِلْمِ بكنهها. أما قوله: أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَالْمُرَادُ لَمَّا لَمْ تَشْتَغِلُوا بِذَلِكَ الْعَمَلِ الْمُهِمِّ، فَأَيُّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعْمَلُونَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؟! كَأَنَّهُ قَالَ كُلُّ عَمَلٍ سِوَاهُ فَكَأَنَّهُ لَيْسَ بِعَمَلٍ، ثم قال: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ يُرِيدُ أَنَّ/ الْعَذَابَ الْمَوْعُودَ يَغْشَاهُمْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِ اللَّه فَيَشْغَلُهُمْ عَنِ النُّطْقِ وَالِاعْتِذَارِ كَقَوْلِهِ: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ [الْمُرْسَلَاتِ: 35] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ أَنْ خَوَّفَهُمْ بِأَحْوَالِ الْقِيَامَةِ ذَكَرَ كَلَامًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى التَّوْحِيدِ وَعَلَى الْحَشْرِ وَعَلَى النُّبُوَّةِ مُبَالَغَةً فِي الْإِرْشَادِ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْمَنْعِ مِنَ الْكُفْرِ فَقَالَ: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً أَمَّا وَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى التَّوْحِيدِ فَلَمَّا ظَهَرَ فِي الْعُقُولِ أَنَّ التَّقْلِيبَ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلْمَةِ، وَمِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى النُّورِ، لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِقُدْرَةٍ قَاهِرَةٍ عَالِيَةٍ. وَأَمَّا وَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى الْحَشْرِ فَلِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَتْ قُدْرَتُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى الْقَلْبِ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلْمَةِ وَبِالْعَكْسِ، فَأَيُّ امْتِنَاعٍ فِي ثُبُوتِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْقَلْبِ مِنَ الْحَيَاةِ إِلَى الْمَوْتِ مَرَّةً، وَمِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ أُخْرَى. وَأَمَّا وَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى النُّبُوَّةِ فَلِأَنَّهُ تَعَالَى يُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِمَنَافِعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَفِي بِعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ إِلَى الْخَلْقِ مَنَافِعٌ عَظِيمَةٌ، فَمَا الْمَانِعُ مِنْ بَعْثَتِهِمْ إِلَى الْخَلْقِ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ تِلْكَ الْمَنَافِعِ؟ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ كَافِيَةٌ فِي إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى تَصْحِيحِ الأصول الثلاثة التي منها منشؤ كُفْرِهِمْ وَاسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَذَابَ، ثُمَّ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا السَّبَبُ فِي أَنْ جَعَلَ الْإِبْصَارَ لِلنَّهَارِ وَهُوَ لِأَهْلِهِ؟ جَوَابُهُ: تَنْبِيهًا عَلَى كَمَالِ هَذِهِ الصِّفَةِ فِيهِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لَمَّا قال: جعل لكم الليل لتسكنوا فيه فَلِمَ لَمْ يَقُلْ وَالنَّهَارَ لِتُبْصِرُوا فِيهِ؟ جَوَابُهُ: لِأَنَّ السُّكُونَ فِي اللَّيْلِ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ اللَّيْلِ، وَأَمَّا الْإِبْصَارُ فِي النَّهَارِ فَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ بَلْ هُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَتْ أَدِلَّةً لِلْكُلِّ مِنْ حَيْثُ اخْتُصُّوا بِالْقَبُولِ والانتفاع على ما تقدم في نظائره. [سورة النمل (27) : آية 87] وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْعَلَامَةُ الثَّانِيَةُ لِقِيَامِ الْقِيَامَةِ.

[سورة النمل (27) : آية 88]

أَمَّا قَوْلُهُ: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ شَيْءٌ شَبِيهٌ بِالْقَرْنِ، وَأَنَّ إِسْرَافِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْفُخُ فِيهِ بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى، فَإِذَا سَمِعَ النَّاسُ ذَلِكَ الصَّوْتَ وَهُوَ فِي الشِّدَّةِ بِحَيْثُ لَا تَحْتَمِلُهُ طَبَائِعُهُمْ يَفْزَعُونَ عِنْدَهُ وَيُصْعَقُونَ وَيَمُوتُونَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ [الْمُدَّثِّرِ: 8] وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وثانيها: يجوز أن يكون تمثيلا لدعاء الموتى فَإِنَّ خُرُوجَهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ كَخُرُوجِ الْجَيْشِ/ عِنْدَ سَمَاعِ صَوْتِ الْآلَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الصُّوَرَ جَمْعُ الصور وَجَعَلُوا النَّفْخَ فِيهَا نَفْخَ الرُّوحِ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِدَلَالَةِ الظَّاهِرِ عَلَيْهِ وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْهُ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ (فَفَزِعَ) وَلَمْ يَقُلْ فَيَفْزَعُ لِلْإِشْعَارِ بِتَحْقِيقِ الْفَزَعِ وَثُبُوتِهِ، وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْفِعْلِ وَكَوْنِهِ مَقْطُوعًا بِهِ وَالْمُرَادُ فَزَعُهُمْ عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى. أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ فَالْمُرَادُ إِلَّا مَنْ ثَبَّتَ اللَّه قَلْبَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَالُوا هُمْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ، وَمَلَكُ الْمَوْتِ، وَقِيلَ الشُّهَدَاءُ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ الْحُورُ وَخَزَنَةُ النَّارِ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَعَنْ جَابِرٍ مُوسَى مِنْهُمْ لِأَنَّهُ صُعِقَ مَرَّةً وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزُّمَرِ: 68] وَلَيْسَ فِيهِ خَبَرٌ مَقْطُوعٌ، وَالْكِتَابُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْجُمْلَةِ. أَمَّا قوله: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ فقرىء (أَتَوْهُ) وَ (أَتَاهُ) وَدَخِرِينَ وَدَاخِرِينَ فَالْجَمْعُ عَلَى الْمَعْنَى وَالتَّوْحِيدُ عَلَى اللَّفْظِ وَالدَّاخِرُ وَالدَّخِرُ الصَّاغِرُ، وَقِيلَ مَعْنَى الْإِتْيَانِ حُضُورُهُمُ الْمَوْقِفَ بَعْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ رُجُوعُهُمْ إِلَى أَمْرِ اللَّه وانقيادهم له. [سورة النمل (27) : آية 88] وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْعَلَامَةُ الثَّالِثَةُ لِقِيَامِ الْقِيَامَةِ وَهِيَ تَسْيِيرُ الْجِبَالِ، وَالوجه فِي حُسْبَانِهِمْ أَنَّهَا جَامِدَةٌ فَلِأَنَّ الْأَجْسَامَ الْكِبَارَ إِذَا تَحَرَّكَتْ حَرَكَةً سَرِيعَةً عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ فِي السَّمْتِ وَالْكَيْفِيَّةِ ظَنَّ النَّاظِرُ إِلَيْهَا أَنَّهَا وَاقِفَةٌ مَعَ أَنَّهَا تَمُرُّ مَرًّا حَثِيثًا. أَمَّا قَوْلُهُ: صُنْعَ اللَّهِ فَهُوَ مِنَ المصادر المؤكدة كقوله: وَعَدَ اللَّهُ [النساء: 95] وصِبْغَةَ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 138] إِلَّا أَنَّ مُؤَكِّدَهُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ الناصب ليوم يُنْفَخُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا سِوَاهُ جَعَلَ هَذَا الصُّنْعَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي أَتْقَنَهَا وَأَتَى بِهَا عَلَى الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْقَبَائِحَ لَيْسَتْ مِنْ خَلْقِهِ وَإِلَّا وَجَبَ وَصْفُهَا بِأَنَّهَا مُتْقَنَةٌ وَلَكِنَّ الْإِجْمَاعَ مَانِعٌ مِنْهُ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِتْقَانَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي الْمُرَكَبَّاتِ فَيَمْتَنِعُ وصف الأعراض بها واللَّه أعلم. [سورة النمل (27) : الآيات 89 الى 90] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَكَلَّمَ فِي عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ شَرَحَ بَعْدَ ذَلِكَ أَحْوَالَ الْمُكَلَّفِينَ بَعْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ وَالْمُكَلَّفُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُطِيعًا أَوْ عَاصِيًا، أَمَّا الْمُطِيعُ فَهُوَ الَّذِي جَاءَ بِالْحَسَنَةِ وَلَهُ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَهُ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا

[سورة النمل (27) : الآيات 91 إلى 93]

وَذَلِكَ هُوَ الثَّوَابُ، فَإِنْ قِيلَ الْحَسَنَةُ الَّتِي جَاءَ الْعَبْدُ بِهَا يَدْخُلُ فِيهَا مَعْرِفَةُ اللَّه تَعَالَى وَالْإِخْلَاصُ فِي الطَّاعَاتِ وَالثَّوَابُ، إِنَّمَا هُوَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ خَيْرٌ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّه جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ثَوَابَ الْمَعْرِفَةِ النَّظَرِيَّةِ الْحَاصِلَةِ فِي الدُّنْيَا هِيَ الْمَعْرِفَةُ الضَّرُورِيَّةُ الْحَاصِلَةُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَذَّةُ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَقَدْ دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّ أَشْرَفَ السَّعَادَاتِ هِيَ هَذِهِ اللَّذَّةُ، وَلَوْ لَمْ تُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ خَيْرًا مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَأَنَّهُ بَاطِلٌ وَثَانِيهَا: أَنَّ الثَّوَابَ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الثَّوَابَ دَائِمٌ وَالْعَمَلَ مُنْقَضِي وَلِأَنَّ الْعَمَلَ فِعْلُ الْعَبْدِ، وَالثَّوَابَ فِعْلُ اللَّه تَعَالَى وَثَالِثُهَا: فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها أَيْ لَهُ خَيْرٌ حَاصِلٌ مِنْ جِهَتِهَا وَهُوَ الْجَنَّةُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: الْحَسَنَةُ لَفْظَةٌ مُفْرَدَةٌ مُعَرَّفَةٌ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا لَا تُفِيدُ الْعُمُومَ بَلْ يَكْفِي فِي تَحَقُّقِهَا حُصُولُ فَرْدٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلْنَحْمِلْهَا عَلَى أَكْمَلِ الْحَسَنَاتِ شَأْنًا وَأَعْلَاهَا دَرَجَةً وَهُوَ الْإِيمَانُ، فَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ أَفْرَادِ الْحَسَنَةِ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ، وَهَذَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنْ لَا يُعَاقَبَ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَجَوَابُهُ: ذَلِكَ الْخَيْرُ هُوَ أَنْ لَا يَكُونَ عِقَابُهُ مُخَلَّدًا الْأَمْرُ الثَّانِي: لِلْمُطِيعِ هُوَ أَنَّهُمْ آمِنُونَ مِنْ كُلِّ فَزَعٍ، لَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ أَهْوَالَ الْقِيَامَةِ تَعُمُّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [النَّمْلِ: 87] فكيف نفى الفزع هاهنا؟ جَوَابُهُ: أَنَّ الْفَزَعَ الْأَوَّلَ هُوَ مَا لَا يَخْلُو مِنْهُ أَحَدٌ عِنْدَ الْإِحْسَاسِ لِشِدَّةٍ تَقَعُ وَهُوَ يَفْجَأُ مِنْ رُعْبٍ وَهَيْبَةٍ وَإِنْ كَانَ الْمُحْسِنُ يَأْمَنُ وُصُولَ ذَلِكَ الضَّرَرِ إِلَيْهِ كَمَا قِيلَ، يَدْخُلُ الرَّجُلُ بِصَدْرٍ هَيَّابٍ وَقَلْبٍ وَجَّابٍ، وَإِنْ كَانَتْ سَاعَةَ إِعْزَازٍ وَتَكْرِمَةٍ، وَأَمَّا الثَّانِي فَالْخَوْفُ مِنَ الْعَذَابِ. أَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ مِنْ فَزَعٍ بِالتَّنْوِينِ فَهِيَ تَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ مِنْ فَزَعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ خَوْفُ الْعِقَابِ، وَأَمَّا مَا يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْهَيْبَةِ وَالرُّعْبِ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْأَهْوَالِ فَلَا يَنْفَكُّ مِنْهُ أَحَدٌ، وَفِي الْأَخْبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَمِنْ فَزَعٍ شَدِيدٍ مُفْرِطِ الشِّدَّةِ لَا يَكْتَنِهُهُ الْوَصْفُ، وَهُوَ خَوْفُ النَّارِ وَأَمِنَ يُعَدَّى بِالْجَارِّ وَبِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ [الْأَعْرَافِ: 99] فَهَذَا شَرْحُ حَالِ الْمُطِيعِينَ، أَمَّا شَرْحُ حَالِ الْعُصَاةِ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ قِيلَ السَّيِّئَةُ الْإِشْرَاكُ وَقَوْلُهُ: فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يُعَبِّرُ عَنِ الْجُمْلَةِ بِالوجه وَالرَّأْسِ وَالرَّقَبَةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ فَكُبُّوا فِي النَّارِ كَقَوْلِهِ: فَكُبْكِبُوا [الشُّعَرَاءِ: 94] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْوُجُوهِ إِيذَانًا بِأَنَّهُمْ يُلْقَوْنَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِيهَا (مَكْبُوبِينَ) «1» . أَمَّا قَوْلُهُ: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَيَجُوزُ فِيهِ الِالْتِفَاتُ، وَحِكَايَةُ مَا يُقَالُ لهم عند الكب بإضمار القول. [سورة النمل (27) : الآيات 91 الى 93] إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْمَبْدَأَ وَالْمَعَادَ وَالنُّبُوَّةَ وَمُقَدِّمَاتِ الْقِيَامَةِ وَصِفَةَ أَهْلِ الْقِيَامَةِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَذَلِكَ كَمَالُ مَا يَتَعَلَّقُ بِبَيَانِ أُصُولِ الدِّينِ خَتَمَ الْكَلَامَ بِهَذِهِ الْخَاتِمَةِ اللَّطِيفَةِ فَقَالَ: قُلْ يَا محمد إني

_ (1) في الكشاف (منكوسين) .

أُمِرْتُ بِأَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ: أَنِّي أُمِرْتُ أَنَّ أَخُصَّ اللَّه وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ وَلَا أَتَّخِذَ لَهُ شَرِيكًا، وَأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا قَدَّمَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ فَكَأَنَّهُ أَمَرَ مُحَمَّدًا بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذِهِ الدَّلَائِلُ الَّتِي ذَكَرْتُهَا لَكُمْ إِنْ لَمْ تُفِدْ لَكُمُ الْقَوْلَ بِالتَّوْحِيدِ فَقَدْ أَفَادَتْ لِي ذَلِكَ فَسَوَاءٌ قَبِلْتُمْ هَذِهِ الدَّعْوَةَ أَوْ أَعْرَضْتُمْ عَنْهَا، فَإِنِّي مُصِرٌّ عَلَيْهَا غَيْرُ مُرْتَابٍ فِيهَا ثُمَّ إِنَّهُ وَصَفَ اللَّه تَعَالَى بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَبُّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ وَالْمُرَادُ مَكَّةُ وَإِنَّمَا اخْتَصَّهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْبِلَادِ بِإِضَافَةِ اسْمِهِ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا أَحَبُّ بِلَادِهِ إِلَيْهِ وَأَكْرَمُهَا عَلَيْهِ وَأَشَارَ إِلَيْهَا إِشَارَةَ تَعْظِيمٍ لَهَا دَالًّا عَلَى أَنَّهَا مَوْطِنُ نَبِيِّهِ وَمَهْبِطُ وَحْيِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: الَّذِي حَرَّمَها فقرىء (الَّتِي حَرَّمَهَا) ، وَإِنَّمَا وَصَفَهَا بِالتَّحْرِيمِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَرَّمَ فِيهَا أَشْيَاءَ عَلَى مَنْ يَحُجُّ وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّاجِئَ إِلَيْهَا آمِنٌ وَثَالِثُهَا: لَا يَنْتَهِكُ حُرْمَتَهَا إِلَّا ظَالِمٌ وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِكَوْنِ مَكَّةَ مُحَرَّمَةً وَعَلِمُوا أَنَّ تِلْكَ الْفَضِيلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْأَصْنَامِ بَلْ مِنَ اللَّه تَعَالَى، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَمَّا عَلِمْتَ وَعَلِمْتُمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِهَذِهِ النِّعَمِ وَجَبَ عَلَيَّ أَنْ أَخُصَّهُ بِالْعِبَادَةِ وَثَانِيهَا: وَصَفَ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ مِنْ كَوْنِهِ تعالى خالقا لجميع النعم فأجمل هاهنا تِلْكَ الْمُفَصَّلَاتِ، وَهَذَا كَمَنْ أَرَادَ صِفَةَ بَعْضِ الْمُلُوكِ بِالْقُوَّةِ فَيَعَدُّ تِلْكَ التَّفَاصِيلَ ثُمَّ بَعْدَ التَّطْوِيلِ يَقُولُ إِنَّ كُلَّ الْعَالَمِ لَهُ وَكُلَّ النَّاسِ فِي طَاعَتِهِ الثَّانِي: أُمِرَ بِأَنْ يَكُونَ/ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الثَّالِثُ: أُمِرَ بِأَنْ يَتْلُوَ الْقُرْآنَ عَلَيْهِمْ، وَلَقَدْ قَامَ بِكُلِّ ذَلِكَ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ أَتَمَّ قِيَامٍ فَمَنِ اهْتَدَى فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَالْحَشْرُ وَالنُّبُوَّةُ فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أَيْ مَنْفَعَةُ اهْتِدَائِهِ رَاجِعَةٌ إِلَيْهِ وَمَنْ ضَلَّ فَلَا عَلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا رَسُولٌ مُنْذِرٌ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَتَمَ هَذِهِ [السُّورَةَ] بِخَاتِمَةٍ فِي نِهَايَةِ الْحُسْنِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَعْطَانِي مِنْ نِعْمَةِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالنُّبُوَّةِ أَوْ عَلَى مَا وَفَّقَنِي مِنَ الْقِيَامِ بِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَبِالْإِنْذَارِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ الْقَاهِرَةَ فَتَعْرِفُونَها لَكِنْ حِينَ لَا يَنْفَعُكُمُ الْإِيمَانُ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ لِأَنَّهُ مِنْ وَرَاءِ جَزَاءِ الْعَامِلِينَ، واللَّه أَعْلَمُ. تَمَّ تَفْسِيرُ السُّورَةِ وَالْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ على أَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ

سورة القصص

سُورَةُ الْقَصَصِ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا إِلَّا قَوْلَهُ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ وَقِيلَ إِلَّا آيَةً وَهِيَ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ الْآيَةِ وَهِيَ سَبْعٌ أَوْ ثَمَانٌ وَثَمَانُونَ آيَةً بسم اللَّه الرحمن الرحيم [سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ مَا كانُوا يَحْذَرُونَ (6) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: طسم كَسَائِرِ الْفَوَاتِحِ وَقَدْ تَقَدَّمَ القول فيها وتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى آيَاتِ السُّورَةِ والْكِتابِ الْمُبِينِ هُوَ إِمَّا اللَّوْحُ وَإِمَّا الْكِتَابُ الَّذِي وَعَدَ اللَّه إِنْزَالَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيَّنَ أَنَّ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ هِيَ آيَاتُ ذَلِكَ الْكِتَابِ وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ مُبِينٌ لِأَنَّهُ بَيَّنَ فِيهِ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، أَوْ لِأَنَّهُ بَيَّنَ بِفَصَاحَتِهِ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّه دُونَ كَلَامِ الْعِبَادِ، أَوْ لِأَنَّهُ يُبَيِّنُ صِدْقِ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِأَنَّهُ يُبَيِّنُ خَبَرَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، أَوْ لِأَنَّهُ يُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ التَّخَلُّصِ عَنْ شُبَهَاتِ أَهْلِ الضَّلَالِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: نَتْلُوا عَلَيْكَ أَيْ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ كَانَ يَتْلُو عَلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى يَحْفَظَهُ، وَقَوْلُهُ: مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ فَهُوَ مَفْعُولُ نَتْلُوا عَلَيْكَ أَيْ نَتْلُو عَلَيْكَ بَعْضَ خَبَرِهِمَا بِالْحَقِّ مُحِقِّينَ، كَقَوْلِهِ: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [الْمُؤْمِنُونَ: 20] وَقَوْلُهُ: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَنْ لَا يُؤْمِنُ أَيْضًا لَكِنَّهُ خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ قَبِلُوا وَانْتَفَعُوا فَهُوَ كَقَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ

[الْبَقَرَةِ: 2] ، وَالثَّانِي: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ الصَّلَاحَ فِي تِلَاوَتِهِ هُوَ إِيمَانُهُمْ وَتَكُونُ إِرَادَتُهُ لِمَنْ لَا يُؤْمِنُ كَالتَّبَعِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ قُرِئَ فُرْعَوْنَ بِضَمِّ الْفَاءِ وَكَسْرِهَا، وَالْكَسْرُ أَحْسَنُ وَهُوَ كَالْقُسْطَاسِ وَالْقِسْطَاسِ عَلا اسْتَكْبَرَ وَتَجَبَّرَ وَتَعَظَّمَ وَبَغَى، وَالْمُرَادُ بِهِ قُوَّةُ الْمُلْكِ وَالْعُلُوُّ فِي الْأَرْضِ يَعْنِي أَرْضَ مَمْلَكَتِهِ، ثُمَّ فَصَّلَ اللَّه تَعَالَى بَعْضَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أَيْ فِرَقًا يُشَيِّعُونَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ وَيُطِيعُونَهُ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُخَالَفَتَهُ أَوْ يَشَيِّعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي اسْتِخْدَامِهِ أَوْ أَصْنَافًا فِي اسْتِخْدَامِهِ أَوْ فِرَقًا مُخْتَلِفَةً قَدْ أَغْرَى بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ لِيَكُونُوا لَهُ أَطْوَعَ أَوِ الْمُرَادُ مَا فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ أي يستخدمهم ويُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالشِّيَعِ. قَوْلُهُ: يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَفِي سَبَبِ ذَبْحِ الْأَبْنَاءِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ كَاهِنًا قَالَ لَهُ يُولَدُ مَوْلُودٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي لَيْلَةِ كَذَا يَذْهَبُ مُلْكُكَ عَلَى يَدِهِ، فَوُلِدَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ اثْنَا عَشَرَ غُلَامًا فَقَتَلَهُمْ، وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ بَقِيَ هَذَا الْعَذَابُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ سِنِينَ كَثِيرَةً، قَالَ وَهْبٌ قَتَلَ الْقِبْطُ فِي طَلَبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تِسْعِينَ أَلْفًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى حُمْقِ فِرْعَوْنَ، فَإِنَّهُ إِنْ صَدَّقَ الْكَاهِنَ لَمْ يَدْفَعِ الْقَتْلُ الْكَائِنَ وَإِنَّ كَذَبَ فَمَا وَجْهُ الْقَتْلِ؟ وَهَذَا السُّؤَالُ قَدْ يُذْكَرُ فِي تَزْيِيفِ عِلْمِ الْأَحْكَامِ مِنْ عِلْمِ النُّجُومِ وَنَظِيرُهُ مَا يَقُولُهُ نُفَاةُ التَّكْلِيفِ إِنْ كَانَ زَيْدٌ فِي عِلْمِ اللَّه وَفِي قَضَائِهِ مِنَ السُّعَدَاءِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الطَّاعَةِ، وَأَيْضًا فَهَذَا السُّؤَالُ لَوْ صَحَّ لَبَطَلَ عِلْمُ التَّعْبِيرِ وَمَنْفَعَتُهُ، وَأَيْضًا فَجَوَابُ الْمُنَجِّمِ أَنَّ النُّجُومَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ يُولَدُ وَلَدٌ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ لَصَارَ كَذَا وَكَذَا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ السَّعْيُ فِي قَتْلِهِ عَبَثًا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الوجه ضَعِيفٌ لِأَنَّ إِسْنَادَ مِثْلِ هَذَا الْخَبَرِ إِلَى الْكَاهِنِ اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُ قَدْ يُخْبِرُ عَنِ الْغَيْبِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَلَوْ جَوَّزْنَاهُ لَبَطَلَتْ دَلَالَةُ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ وَهُوَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بَاطِلٌ وَثَانِيهَا: وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ أَنَّ فِرْعَوْنَ رَأَى فِي مَنَامِهِ أَنَّ نَارًا أَقْبَلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَاشْتَمَلَتْ عَلَى مِصْرَ فَأَحْرَقَتِ الْقِبْطَ دُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسَأَلَ عَنْ رُؤْيَاهُ فَقَالُوا يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ الَّذِي جَاءَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْهُ رَجُلٌ يَكُونُ عَلَى يَدِهِ هَلَاكُ مِصْرَ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الذُّكُورِ وَثَالِثُهَا: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَشَّرُوا بِمَجِيئِهِ وَفِرْعَوْنُ كَانَ قَدْ سَمِعَ ذَلِكَ فَلِهَذَا كَانَ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهَذَا الوجه هُوَ الْأَوْلَى بِالْقَبُولِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يَسْتَضْعِفُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي وَجَعَلَ أَوْ صِفَةٌ لشيعا، أو كلام مستأنف ويُذَبِّحُ بَدَلٌ مِنْ يَسْتَضْعِفُ/ وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَتْلَ مَا حَصَلَ مِنْهُ إِلَّا الْفَسَادُ، وَأَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي دَفْعِ قَضَاءِ اللَّه تَعَالَى. أَمَّا قَوْلُهُ: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ فَهُوَ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ لِأَنَّهَا نَظِيرَةُ تِلْكَ فِي وُقُوعِهَا تَفْسِيرًا لِنَبَأِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِرْعَوْنَ وَاقْتِصَاصًا لَهُ، وَاللَّفْظُ فِي قَوْلِهِ: وَنُرِيدُ لِلِاسْتِقْبَالِ وَلَكِنْ أُرِيدَ بِهِ حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ يَسْتَضْعِفُ أَيْ يَسْتَضْعِفُهُمْ فِرْعَوْنُ وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجْتَمِعُ اسْتِضْعَافُهُمْ وَإِرَادَةُ اللَّه تَعَالَى الْمَنَّ عَلَيْهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّه شَيْئًا كَانَ وَلَمْ يَتَوَقَّفْ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ؟ قُلْنَا لَمَّا كَانَ مِنَّةُ اللَّه عَلَيْهِمْ بِتَخْلِيصِهِمْ مِنْ فِرْعَوْنَ قَرِيبَةَ الْوُقُوعِ جُعِلَتْ إِرَادَةُ وُقُوعِهَا كَأَنَّهَا مُقَارِنَةٌ لِاسْتِضْعَافِهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً أَيْ مُتَقَدِّمِينَ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ دُعَاةً إِلَى الْخَيْرِ وَعَنْ قَتَادَةَ ولاة

[سورة القصص (28) : الآيات 7 إلى 9]

كَقَوْلِهِ: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً [الْمَائِدَةِ: 20] ، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ يَعْنِي لِمُلْكِ فِرْعَوْنَ وَأَرْضِهِ وَمَا فِي يَدِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يُقَالُ مُكِّنَ لَهُ إِذَا جُعِلَ لَهُ مَكَانًا يَقْعُدُ عَلَيْهِ [أَوْ يَرْقُدُ] «1» فَوَطَّأَهُ وَمَهَّدَهُ، وَنَظِيرُهُ أَرَّضَ لَهُ وَمَعْنَى التَّمْكِينِ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَهِيَ أَرْضُ مِصْرَ وَالشَّامِ أَنْ يُنَفِّذَ أَمْرَهُمْ وَيُطْلِقَ أَيْدِيَهُمْ وَقَوْلُهُ: وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ مَا كانُوا يَحْذَرُونَ قُرِئَ وَيَرَى فِرْعَوْنُ وَهَامَانُ وَجُنُودُهُمَا أَيْ يَرَوْنَ مِنْهُمْ مَا كَانُوا خَائِفِينَ مِنْهُ مِنْ ذَهَابِ مُلْكِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ عَلَى يد مولود بني إسرائيل. [سورة القصص (28) : الآيات 7 الى 9] وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ [القصص: 5] ابْتَدَأَ بِذِكْرِ أَوَائِلِ نِعَمِهِ فِي هَذَا الْبَابِ بِقَوْلِهِ: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْوَحْيِ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ طه [37، 38] فِي قوله: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ مَا يُوحى وَقَوْلِهِ: أَنْ أَرْضِعِيهِ كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ حَدُّ ذَلِكَ، فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ أَنْ يَفْطُنَ بِهِ جِيرَانُكِ وَيَسْمَعُونَ صَوْتَهُ عِنْدَ الْبُكَاءِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إِنَّهُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ صَاحَ فَأُلْقِيَ فِي الْيَمِّ والمراد باليم هاهنا النِّيلُ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي وَالْخَوْفُ غَمٌّ يَحْصُلُ بِسَبَبِ مَكْرُوهٍ يُتَوَقَّعُ حُصُولُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْحُزْنُ غَمٌّ يَلْحَقُهُ بِسَبَبِ مَكْرُوهٍ حَصَلَ فِي الْمَاضِي، فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَلَا تَخَافِي مِنْ هَلَاكِهِ ولا تحزني بسبب فراقه ف إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ لِتَكُونِي أَنْتِ الْمُرْضِعَةُ لَهُ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَى أَهْلِ مِصْرَ وَالشَّامِ وَقِصَّةُ الْإِلْقَاءِ فِي الْيَمِّ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ طه. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أُمَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا تَقَارَبَ وِلَادُهَا كَانَتْ قابلة من القوابل التي وكلهن فِرْعَوْنُ بِالْحَبَالَى مُصَافِيَةً لِأُمِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا أَحَسَّتْ بِالطَّلْقِ أَرْسَلَتْ إِلَيْهَا وَقَالَتْ لَهَا قَدْ نَزَلَ بِي مَا نَزَلَ وَلْيَنْفَعْنِي الْيَوْمَ حُبُّكِ إِيَّايَ فَجَلَسَتِ الْقَابِلَةُ فَلَمَّا وَقَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْأَرْضِ هَالَهَا نُورٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَارْتَعَشَ كُلُّ مَفْصِلٍ مِنْهَا، وَدَخَلَ حُبُّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَلْبَهَا فَقَالَتْ يَا هَذِهِ مَا جِئْتُكِ إِلَّا لِقَتْلِ مَوْلُودِكِ، وَلَكِنِّي وَجَدْتُ لِابْنِكِ هَذَا حُبًّا شَدِيدًا فَاحْتَفِظِي بِابْنِكِ، فَإِنَّهُ أَرَاهُ عَدُوَّنَا، فَلَمَّا خَرَجَتِ الْقَابِلَةُ مِنْ عِنْدِهَا أَبْصَرَهَا بَعْضُ الْعُيُونِ فَجَاءَ إِلَى بَابِهَا لِيَدْخُلَ عَلَى أُمِّ مُوسَى فَقَالَتْ أُخْتُهُ يَا أُمَّاهُ هَذَا الْحَرَسُ فَلَفَّتْهُ وَوَضَعَتْهُ فِي تَنُّورٍ مَسْجُورٍ فَطَاشَ عَقْلُهَا فَلَمْ تَعْقِلْ مَا تَصْنَعُ، فَدَخَلُوا فَإِذَا التَّنُّورُ مَسْجُورٌ وَرَأَوْا أُمَّ مُوسَى لَمْ يَتَغَيَّرْ لَهَا لَوْنٌ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهَا لَبَنٌ فَقَالُوا لِمَ دَخَلَتِ الْقَابِلَةُ عَلَيْكِ؟ قَالَتْ إِنَّهَا حَبِيبَةٌ لِي دَخَلَتْ لِلزِّيَارَةِ فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهَا وَرَجَعَ إِلَيْهَا عَقْلُهَا فَقَالَتْ لِأُخْتِ مُوسَى أَيْنَ الصَّبِيُّ؟ قَالَتْ لَا أَدْرِي فَسَمِعَتْ بُكَاءً فِي التَّنُّورِ فَانْطَلَقَتْ إِلَيْهِ وَقَدْ جَعَلَ اللَّه النَّارَ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا فَأَخَذَتْهُ، ثُمَّ إِنَّ أُمَّ موسى عليه

_ (1) زيادة من الكشاف.

السَّلَامُ لَمَّا رَأَتْ فِرْعَوْنَ جَدَّ فِي طَلَبِ الْوِلْدَانِ خَافَتْ عَلَى ابْنِهَا فَقَذَفَ اللَّه فِي قَلْبِهَا أَنْ تَتَّخِذَ لَهُ تَابُوتًا ثُمَّ تَقْذِفُ التَّابُوتَ فِي النِّيلِ، فَذَهَبَتْ إِلَى نَجَّارٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ فَاشْتَرَتْ مِنْهُ تَابُوتًا فَقَالَ لَهَا مَا تَصْنَعِينَ بِهِ؟ فَقَالَتْ ابْنٌ لِي أَخْشَى عليه كيد فرعون أخبؤه فيه وَمَا عَرَفَتْ أَنَّهُ يُفْشِي ذَلِكَ الْخَبَرَ، فَلَمَّا انْصَرَفَتْ ذَهَبَ النَّجَّارُ لِيُخْبِرَ بِهِ الذَّبَّاحِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ أَمْسَكَ اللَّه لِسَانَهُ وَجَعَلَ يُشِيرُ بِيَدِهِ، فَضَرَبُوهُ وَطَرَدُوهُ فَلَمَّا عَادَ إِلَى مَوْضِعِهِ رَدَّ اللَّه عَلَيْهِ نُطْقَهُ فَذَهَبَ مَرَّةً أُخْرَى لِيُخْبِرَهُمْ بِهِ فَضَرَبُوهُ وَطَرَدُوهُ فَلَمَّا عَادَ إِلَى مَوْضِعِهِ رَدَّ اللَّه نُطْقَهُ، فَذَهَبَ مَرَّةً أُخْرَى لِيُخْبِرَهُمْ بِهِ فَضَرَبُوهُ وَطَرَدُوهُ فَأَخَذَ اللَّه بَصَرَهُ وَلِسَانَهُ، فَجَعَلَ للَّه تَعَالَى أَنَّهُ إِنْ رَدَّ عَلَيْهِ بصره ولسانه فإنه لا يد لهم عَلَيْهِ فَعَلِمَ اللَّه تَعَالَى مِنْهُ الصِّدْقَ فَرَدَّ عَلَيْهِ بَصَرَهُ وَلِسَانَهُ وَانْطَلَقَتْ أُمُّ مُوسَى وَأَلْقَتْهُ فِي النِّيلِ، وَكَانَ لِفِرْعَوْنَ بِنْتٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ غَيْرَهَا وَكَانَ لَهَا كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَ حَاجَاتٍ تَرْفَعُهَا إِلَى أَبِيهَا وَكَانَ بِهَا بَرَصٌ شَدِيدٌ وَكَانَ فِرْعَوْنُ قَدْ شَاوَرَ الْأَطِبَّاءَ وَالسَّحَرَةَ فِي أَمْرِهَا، فَقَالُوا أَيُّهَا الْمَلِكُ لَا تَبْرَأُ هَذِهِ إِلَّا مِنْ قِبَلِ الْبَحْرِ يُوجَدُ مِنْهُ شِبْهُ الْإِنْسَانِ فَيُؤْخَذُ مِنْ رِيقِهِ فَيُلَطَّخُ بِهِ بَرَصُهَا فَتَبْرَأُ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ/ كَذَا فِي شَهْرِ كَذَا حِينَ تُشْرِقُ الشَّمْسُ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ غَدَا فِرْعَوْنُ إِلَى مَجْلِسٍ كَانَ لَهُ عَلَى شَفِيرِ النِّيلِ وَمَعَهُ آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ وَأَقْبَلَتْ بِنْتُ فِرْعَوْنَ فِي جَوَارِيهَا حَتَّى جَلَسَتْ عَلَى الشَّاطِئِ إِذْ أَقْبَلَ النِّيلُ بِتَابُوتٍ تَضْرِبُهُ الْأَمْوَاجُ وَتَعَلَّقَ بِشَجَرَةٍ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِهِ فَابْتَدَرُوهُ بِالسُّفُنِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَعَالَجُوا فَتْحَ الْبَابِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَعَالَجُوا كَسْرَهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، فَنَظَرَتْ آسِيَةُ فَرَأَتْ نُورًا فِي جَوْفِ التَّابُوتِ لَمْ يَرَهُ غَيْرُهَا فَعَالَجَتْهُ وَفَتَحَتْهُ، فَإِذَا هِيَ بِصَبِيٍّ صَغِيرٍ فِي الْمَهْدِ وَإِذَا نُورٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَأَلْقَى اللَّه مَحَبَّتَهُ فِي قُلُوبِ الْقَوْمِ، وَعَمَدَتِ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ إِلَى رِيقِهِ فَلَطَّخَتْ بِهِ بَرَصَهَا فَبَرِئَتْ وَضَمَّتْهُ إِلَى صَدْرِهَا فَقَالَتِ الْغُوَاةُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّا نَظُنُّ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي نَحْذَرُ مِنْهُ رُمِيَ فِي الْبَحْرِ فَرَقًا مِنْكَ فَهَمَّ فِرْعَوْنُ بِقَتْلِهِ فَاسْتَوْهَبَتْهُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَتَبَنَّتْهُ فَتَرَكَ قَتْلَهُ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ فَالِالْتِقَاطُ إِصَابَةُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ، وَالْمُرَادُ بِآلِ فِرْعَوْنَ جَوَارِيهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً فَالْمَشْهُورُ أَنَّ هَذِهِ اللَّامَ يُرَادُ بِهَا الْعَاقِبَةُ قالوا وإلا نقض قوله: وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ وَنَقَضَ قَوْلَهُ: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: 39] وَنَظِيرُ هَذِهِ اللَّامِ قَوْلُهُ تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ [الأعراف: 179] وقوله الشَّاعِرِ: لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ اللَّامَ هِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَقْصُودَ الشَّيْءِ وَغَرَضَهُ يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُ فَاسْتَعْمَلُوا هَذِهِ اللَّامَ فِيمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ الشَّيْءُ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ، كَإِطْلَاقِ لَفْظِ الْأَسَدِ عَلَى الشُّجَاعِ وَالْبَلِيدِ عَلَى الْحِمَارِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (حُزْنًا) بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ السُّقْمِ وَالسَّقَمِ. أَمَّا قَوْلُهُ: كَانُوا خَاطِئِينَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ الْحَسَنُ مَعْنَى كانُوا خاطِئِينَ لَيْسَ مِنَ الْخَطِيئَةِ بَلِ الْمَعْنَى وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُ الَّذِي يَذْهَبُ بِمُلْكِهِمْ، وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ فَقَالُوا مَعْنَاهُ كَانُوا خَاطِئِينَ فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ، فَعَاقَبَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِأَنْ رَبَّى عَدُوَّهُمْ وَمَنْ هُوَ سَبَبُ هَلَاكِهِمْ عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَقُرِئَ خَاطِينَ تَخْفِيفُ خَاطِئِينَ أَيْ خَاطِينَ الصَّوَابَ إِلَى الْخَطَأِ وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهَا الْتَقَطَتْهُ لِيَكُونَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهَا وَلَهُ جَمِيعًا، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَلْقَى مَحَبَّتَهُ فِي قلبها لأنه كان في وجهه ملاحة كل مَنْ رَآهُ أَحَبَّهُ، وَلِأَنَّهَا

[سورة القصص (28) : الآيات 10 إلى 11]

حِينَ فَتَحَتِ التَّابُوتَ رَأَتِ النُّورَ، وَلِأَنَّهَا لَمَّا فَتَحَتِ التَّابُوتَ رَأَتْهُ يَمْتَصُّ إِصْبَعَهُ، وَلِأَنَّ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ لَمَّا لَطَّخَتْ بَرَصَهَا بِرِيقِهِ زَالَ بَرَصُهَا وَيُقَالُ مَا كَانَ لَهَا وَلَدٌ فَأَحَبَّتْهُ، قَالَ ابن عباس لما قالت: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ فَقَالَ فِرْعَوْنُ يَكُونُ لَكِ وَأَمَّا أَنَا فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَوْ أَقَرَّ فِرْعَوْنُ أَنْ يَكُونَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُ كَمَا أَقَرَّتْ لَهَدَاهُ اللَّه تَعَالَى كَمَا هَدَاهَا» قَالَ صاحب «الكشاف» قُرَّتُ عَيْنٍ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَلَا يَقْوَى أَنْ يُجْعَلَ مُبْتَدَأً وَلَا تَقْتُلُوهُ خَبَرًا وَلَوْ نُصِبَ لَكَانَ أَقْوَى، وَقِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ دَلِيلٌ عَلَى أنه خبر، قرأ لا تقتلوه قرت عَيْنٍ لِي وَلَكَ، وَذَلِكَ لِتَقْدِيمِ لَا تَقْتُلُوهُ، ثُمَّ قَالَتِ الْمَرْأَةُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا فَنُصِيبَ/ مِنْهُ خَيْرًا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلتَّبَنِّي. أَمَّا قَوْلُهُ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مِنَ اللَّه تَعَالَى أَيْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ هَلَاكَهُمْ بِسَبَبِهِ وَعَلَى يَدِهِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ لَا يَشْعُرُونَ إِلَى مَاذَا يَصِيرُ أَمْرُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ آخَرُونَ هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الْمَرْأَةِ أَيْ لَا يَشْعُرُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَهْلُ مِصْرَ أنا التقطناه، وهذا قول الكلبي. [سورة القصص (28) : الآيات 10 الى 11] وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً وُجُوهًا: أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ فَارِغًا مَنْ كُلِّ هَمٍّ إِلَّا مِنْ هَمِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ فَرَاغُ الْفُؤَادِ هُوَ الْخَوْفُ وَالْإِشْفَاقُ كَقَوْلِهِ: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ [إِبْرَاهِيمَ: 43] ، وَثَالِثُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فَارِغًا صِفْرًا مِنَ الْعَقْلِ، وَالْمَعْنَى إِنَّهَا حِينَ سَمِعَتْ بِوُقُوعِهِ فِي يَدِ فِرْعَوْنَ طَارَ عَقْلُهَا مِنْ فَرْطِ الْجَزَعِ وَالْخَوْفِ وَرَابِعُهَا: قَالَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فَارِغًا مِنَ الْوَحْيِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْهَا أَنْ أَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ فَجَاءَهَا الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهَا كَرِهْتِ أَنْ يَقْتُلَ فِرْعَوْنُ وَلَدَكِ فَيَكُونَ لَكِ أَجْرٌ فَتَوَلَّيْتِ إِهْلَاكَهُ، وَلَمَّا أَتَاهَا خَبَرُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي يَدِ فِرْعَوْنَ فَأَنْسَاهَا عِظَمُ الْبَلَاءِ مَا كَانَ مِنْ عَهْدِ اللَّه إِلَيْهَا، وَخَامِسُهَا: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَارِغًا مِنَ الْحُزْنِ لِعِلْمِهَا بِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ اعْتِمَادًا عَلَى تَكَفُّلِ اللَّه بِمَصْلَحَتِهِ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَهَذَا مِنَ الْعَجَائِبِ كَيْفَ يَكُونُ فُؤَادُهَا فَارِغًا مِنَ الْحُزْنِ واللَّه تَعَالَى يَقُولُ: لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها وَهَلْ يُرْبَطُ إِلَّا عَلَى قَلْبِ الْجَازِعِ الْمَحْزُونِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنَّهَا لِشِدَّةِ ثِقَتِهَا بِوَعْدِ اللَّه لَمْ تَخَفْ عِنْدَ إِظْهَارِ اسْمِهِ، وَأَيْقَنَتْ أَنَّهَا وَإِنْ أَظْهَرَتْ فَإِنَّهُ يَسْلَمُ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْوَعْدِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِظْهَارَ يَضُرُّ فَرَبَطَ اللَّه عَلَى قَلْبِهَا، وَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها بِالْوَحْيِ فَأَمِنَتْ وَزَالَ عَنْ قَلْبِهَا الْحُزْنُ، فَعَلَى هَذَا الوجه يَصِحُّ أَنْ يُتَأَوَّلَ عَلَى أَنَّ قَلْبَهَا سَلِمَ مِنَ الْحُزْنِ عَلَى مُوسَى أَصْلًا، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّهَا سَمِعَتْ أَنَّ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ عَطَفَتْ عَلَيْهِ وَتَبَنَّتْهُ إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ بِأَنَّهُ وَلَدُهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَمْلِكْ نَفْسَهَا فَرَحًا بِمَا سَمِعَتْ، لَوْلَا أَنْ سكنا مَا بِهَا مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ وَالِابْتِهَاجِ لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْوَاثِقِينَ/ بِوَعْدِ اللَّه تَعَالَى لَا يتبنى امرأة فرعون اللعين وبعطفها، وقرئ (قرعا) أَيْ خَالِيًا مِنْ قَوْلِهِمْ أَعُوذُ باللَّه مِنْ صفر الإناء وقرع الْفِنَاءِ وَفَرَغًا مِنْ قَوْلِهِمْ: دِمَاؤُهُمْ بَيْنَهُمْ فَرَغٌ أَيْ هَدَرٌ يَعْنِي بَطَلَ قَلْبُهَا مِنْ شِدَّةِ مَا وَرَدَ عَلَيْهَا.

[سورة القصص (28) : الآيات 12 إلى 13]

أَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ فَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ الْفَرَاغَ بِالْفَرَاغِ مِنَ الْحُزْنِ، قَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ قَوْلِهِ: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ الْفَرَاغَ بِحُصُولِ الْخَوْفِ فَذَكَرُوا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَادَتْ تُخْبِرُ بِأَنَّ الَّذِي وَجَدْتُمُوهُ ابْنِي، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ كَادَتْ تَقُولُ وا ابناه مِنْ شَدَّةِ وَجْدِهَا بِهِ وَذَلِكَ حِينَ رَأَتِ الْمَوْجَ يَرْفَعُ وَيَضَعُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ ذَلِكَ حِينَ سَمِعَتِ النَّاسَ يَقُولُونَ إِنَّهُ ابْنُ فِرْعَوْنَ وَقَالَ السُّدِّيُّ لَمَّا أُخِذَ ابْنُهَا كَادَتْ تَقُولُ هُوَ ابْنِي فَعَصَمَهَا اللَّه تَعَالَى، ثم قال: لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها بِإِلْهَامِ الصَّبْرِ كَمَا يُرْبَطُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُتَفَلِّتِ لِيَسْتَقِرَّ وَيَطْمَئِنَّ لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمُصَدِّقِينَ بِوَعْدِ اللَّه وَهُوَ قوله: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ [القصص: 7] . أَمَّا قَوْلُهُ: وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ أَيِ اتَّبِعِي أَثَرَهُ وَانْظُرِي إِلَى أَيْنَ وَقَعَ وَإِلَى مَنْ صَارَ وَكَانَتْ أُخْتُهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَاسْمُهَا مَرْيَمُ فَبَصُرَتْ بِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَبْصَرَتْهُ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَبْصَرَتْهُ وَبَصُرَتْ بِهِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَقَوْلُهُ: عَنْ جُنُبٍ أَيْ عَنْ بُعْدٍ وَقُرِئَ عَنْ جَانِبٍ وَعَنْ جَنْبٍ وَالْجَنْبُ الْجَانِبُ أَيْ نَظَرَتْ نَظْرَةً مُزْوَرَّةً مُتَجَانِبَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بحالها وغرضها. [سورة القصص (28) : الآيات 12 الى 13] وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا مَنْ قَبْلِهِ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ بِالتَّعَبُّدِ وَالنَّهْيِ لَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ فَلَا بُدَّ مِنْ فِعْلٍ سِوَاهُ وَذَلِكَ الْفِعْلُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَعَالَى مَعَ حَاجَتِهِ إِلَى اللَّبَنِ أَحْدَثَ فِيهِ نِفَارَ الطَّبْعِ عَنْ لَبَنِ سَائِرِ النِّسَاءِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَرْضَعْ أَوْ أَحْدَثَ فِي لَبَنِهِنَّ مِنَ الطَّعْمِ مَا يَنْفِرُ عَنْهُ طَبْعُهُ أَوْ وَضَعَ فِي لَبَنِ أُمِّهِ لَذَّةً فَلَمَّا تَعَوَّدَهَا لَا جَرَمَ كَانَ يَكْرَهُ لَبَنَ غَيْرِهَا، وَعَنِ الضَّحَّاكِ كَانَتْ أُمُّهُ قَدْ أَرْضَعَتْهُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ حَتَّى عَرَفَ رِيحَهَا وَالْمَرَاضِعُ جَمْعُ مُرْضِعٍ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تُرْضِعُ أَوْ جَمْعُ مَرْضَعٍ وَهُوَ مَوْضِعُ الرِّضَاعِ أَيِ الثَّدْيِ أَوِ الرِّضَاعِ وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ رَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ وَمِنْ قَبْلِ مَجِيءِ أُخْتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنْ قَبْلِ وِلَادَتِهِ فِي حُكْمِنَا وَقَضَائِنَا فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَتْ/ أُخْتُهُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ أَيْ يَضْمَنُونَ رَضَاعَهُ وَالْقِيَامَ بِمَصَالِحِهِ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ لَا يَمْنَعُونَهُ مَا يَنْفَعُهُ فِي تَرْبِيَتِهِ وَإِغْذَائِهِ، وَلَا يَخُونُونَكُمْ فِيهِ وَالنُّصْحُ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ مِنْ شَائِبَةِ الْفَسَادِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ إِنَّهَا لَمَّا قَالَتْ: وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ دَلَّ ظَاهِرُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ يَعْرِفُونَهُ فَقَالَ لَهَا هَامَانُ قَدْ عَرَفْتِ هَذَا الْغُلَامَ فَدُلِّينَا عَلَى أَهْلِهِ فَقَالَتْ مَا أَعْرِفُهُ، وَلَكِنِّي إِنَّمَا قُلْتُ هُمْ لِلْمَلِكِ نَاصِحُونَ لِيَزُولَ شَغْلُ قَلْبِهِ، وَكُلُّ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ آسِيَةَ فِي شِدَّةِ مَحَبَّتِهِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا عَلَى مَا قَالَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِذَلِكَ فَقَطْ ثم قال تَعَالَى: فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ اللُّطْفِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أَيْ فِيمَا كَانَ وَعَدَهَا مِنْ أَنَّهُ يَرُدُّهُ إِلَيْهَا، وَلَقَدْ كَانَتْ عَالِمَةً بِذَلِكَ، وَلَكِنْ لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ فَتَحَقَّقَتْ بِوُجُودِ الْمَوْعُودِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فِيهِ وُجُوهٌ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ وَبَعْدُ لَا يَعْلَمُونَ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللَّه وَثَانِيهَا: قَالَ

[سورة القصص (28) : الآيات 14 إلى 17]

الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ يَعْنِي أَهْلَ مِصْرَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّه وَعَدَهَا بِرَدِّهِ إِلَيْهَا وَثَالِثُهَا: هَذَا كَالتَّعْرِيضِ بِمَا فَرَطَ مِنْهَا حِينَ سَمِعَتْ بِخَبَرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَجَزِعَتْ وَأَصْبَحَ فُؤَادُهَا فَارِغًا وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِنَّا إِنَّمَا رَدَدْنَاهُ إليها لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ ذَلِكَ الرَّدِّ هَذَا الْغَرَضُ الدِّينِيُّ، وَلَكِنَّ الْأَكْثَرَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُ مِنْ قُرَّةِ الْعَيْنِ وَذَهَابِ الْحُزْنِ تَبَعٌ، قَالَ الضَّحَّاكُ لَمَّا قَبِلَ ثَدْيَهَا قَالَ هَامَانُ إِنَّكِ لَأُمُّهُ، قَالَتْ لَا قَالَ فَمَا بَالُكِ قَبِلَ ثَدْيَكِ مِنْ بَيْنِ النِّسْوَةِ قَالَتْ أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنِّي امْرَأَةٌ طَيِّبَةُ الرِّيحِ حُلْوَةُ اللَّبَنِ مَا شَمَّ رِيحِي صَبِيٌّ إِلَّا أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِي، قَالُوا صَدَقْتِ فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ إِلَّا أَهْدَى إِلَيْهَا وأتحفها بالذهب والجواهر. [سورة القصص (28) : الآيات 14 الى 17] وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ اسْتِكْمَالُ الْقُوَّةِ وَاعْتِدَالُ الْمِزَاجِ وَالْبِنْيَةِ وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُمَا مَعْنَيَانِ مُتَغَايِرَانِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنَّ الْأَشُدَّ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ الْقُوَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالِاسْتِوَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَثَانِيهَا: الْأَشُدُّ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ الْقُوَّةِ، وَالِاسْتِوَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ الْبِنْيَةِ وَالْخِلْقَةِ وَثَالِثُهَا: الْأَشُدُّ عِبَارَةٌ عَنِ الْبُلُوغِ، وَالِاسْتِوَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ الْخِلْقَةِ وَرَابِعُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْأَشُدُّ مَا بَيْنَ الثَّمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً «1» إِلَى الثَّلَاثِينَ ثُمَّ مِنَ الثَّلَاثِينَ سَنَةً إِلَى الْأَرْبَعِينَ يَبْقَى سَوَاءً مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَمِنَ الْأَرْبَعِينَ يَأْخُذُ فِي النُّقْصَانِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا حَقٌّ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ فِي أَوَّلِ الْعُمْرِ فِي النُّمُوِّ وَالتَّزَايُدِ ثُمَّ يَبْقَى مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الِانْتِقَاصِ فَنِهَايَةُ مُدَّةِ الِازْدِيَادِ مَنْ أَوَّلِ الْعُمْرِ إِلَى الْعِشْرِينَ وَمِنِ الْعِشْرِينَ إِلَى الثَّلَاثِينَ يَكُونُ التَّزَايُدُ قَلِيلًا وَالْقُوَّةُ قَوِيَّةً جِدًّا ثُمَّ مِنَ الثَّلَاثِينَ إِلَى الْأَرْبَعِينَ يَقِفُ فَلَا يَزْدَادُ وَلَا يَنْتَقِصُ وَمِنَ الْأَرْبَعِينَ إِلَى السِّتِّينَ يَأْخُذُ فِي الِانْتِقَاصِ الْخَفِيِّ، وَمِنَ السِّتِّينَ إِلَى آخِرِ الْعُمُرِ يَأْخُذُ فِي الِانْتِقَاصِ الْبَيِّنِ الظَّاهِرِ، وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ نَبِيٌّ إِلَّا عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَالْحِكْمَةُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ إِلَى رَأْسِ الْأَرْبَعِينَ قُوَاهُ الْجُسْمَانِيَّةُ مِنَ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَالْحِسِّ قَوِيَّةً مُسْتَكْمَلَةً فَيَكُونُ الْإِنْسَانُ مُنْجَذِبًا إِلَيْهَا فَإِذَا انْتَهَى إِلَى الْأَرْبَعِينَ أَخَذَتِ الْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةُ فِي الِانْتِقَاصِ، وَالْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ فِي الِازْدِيَادِ فَهُنَاكَ يَكُونُ الرَّجُلُ أَكْمَلَ مَا يَكُونُ فَلِهَذَا السِّرِّ اخْتَارَ اللَّه تَعَالَى هَذَا السِّنَّ لِلْوَحْيِ. المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي وَاحِدِ الْأَشُدِّ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَشُدُّ وَاحِدُهَا شَدٌّ فِي الْقِيَاسِ وَلَمْ يُسْمَعْ لها

_ (1) في الأصل: ما بين الثمانية عشر سنة، ولعله خطأ من الناسخ.

بِوَاحِدٍ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: وَاحِدَةُ الْأَشُدِّ شِدَّةٌ، كَمَا أَنَّ وَاحِدَةَ الْأَنْعُمِ نِعْمَةٌ، وَالشِّدَّةُ الْقُوَّةُ وَالْجَلَادَةُ. أَمَّا قَوْلُهُ: آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا النُّبُوَّةُ وَمَا يُقْرَنُ بِهَا مِنَ الْعُلُومِ وَالْأَخْلَاقِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ النُّبُوَّةَ كَانَتْ قَبْلَ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ أَوْ بَعْدَهُ، لِأَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ الثَّانِي: آتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَالْعِلْمَ قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الْأَحْزَابِ: 34] وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النُّبُوَّةَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ الْبَشَرِيَّةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَسْبُوقَةً بِالْكَمَالِ فِي الْعِلْمِ وَالسِّيرَةِ الْمُرْضِيَةِ الَّتِي هِيَ/ أَخْلَاقُ الْكُبَرَاءِ وَالْحُكَمَاءِ وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَعْطَاهُ الْحُكْمَ وَالْعِلْمَ مُجَازَاةً عَلَى إِحْسَانِهِ وَالنُّبُوَّةُ لَا تَكُونُ جَزَاءً عَلَى الْعَمَلِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ لَوْ كَانَ هُوَ النُّبُوَّةَ، لَوَجَبَ حُصُولُ النُّبُوَّةِ لِكُلِّ مَنْ كَانَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ لِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَكَذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْحُكْمِ وَالْعِلْمِ، ثُمَّ بَيَّنَ إِنْعَامَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الْمَدِينَةِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا هِيَ الْمَدِينَةُ الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا فِرْعَوْنُ، وَهِيَ قَرْيَةٌ عَلَى رَأْسِ فَرْسَخَيْنِ مِنْ مِصْرَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ عَيْنُ شَمْسٍ. المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها عَلَى أَقْوَالٍ: فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى وَآتَاهُ اللَّه الْحُكْمَ وَالْعِلْمَ فِي دِينِهِ وَدِينِ آبَائِهِ، عَلِمَ أَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ عَلَى الْبَاطِلِ، فَتَكَلَّمَ بِالْحَقِّ وَعَابَ دِينَهُمْ، وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ مِنْهُ حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ أَخَافُوهُ وَخَافَهُمْ، وَكَانَ لَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ شِيعَةٌ يَقْتَدُونَ بِهِ وَيَسْمَعُونَ مِنْهُ، وَبَلَغَ فِي الْخَوْفِ بِحَيْثُ مَا كَانَ يَدْخُلُ مَدِينَةَ فِرْعَوْنَ إِلَّا خَائِفًا، فَدَخَلَهَا يَوْمًا عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَخَلَهَا نِصْفَ النَّهَارِ وَقْتَ مَا هُمْ قَائِلُونَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُرِيدُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْغَفْلَةَ إِلَى أَهْلِهَا، وَإِذَا دَخَلَ الْمَرْءُ مُسْتَتِرًا لِأَجْلِ خَوْفٍ، لَا تُضَافُ الْغَفْلَةُ إِلَى الْقَوْمِ الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ كَبِرَ كَانَ يَرْكَبُ مَرَاكِبَ فِرْعَوْنَ، وَيَلْبَسُ مِثْلَ مَا يَلْبَسُ، وَيُدْعَى مُوسَى ابْنُ فِرْعَوْنَ، فَرَكِبَ يَوْمًا فِي أَثَرِهِ فَأَدْرَكَهُ الْمَقِيلُ فِي مَوْضِعٍ، فَدَخَلَهَا نِصْفَ النَّهَارِ، وَقَدْ خَلَتِ الطُّرُقُ، فَهُوَ قَوْلُهُ: عَلى حِينِ غَفْلَةٍ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها حُصُولُ الْغَفْلَةِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، بَلِ الْمُرَادُ الْغَفْلَةُ مِنْ ذِكْرِ مُوسَى وَأَمْرِهِ، فَإِنَّ مُوسَى حِينَ كَانَ صَغِيرًا ضَرَبَ رَأْسَ فِرْعَوْنَ بِالْعَصَا وَنَتَفَ لِحْيَتَهُ، فَأَرَادَ فِرْعَوْنُ قَتْلَهُ، فَجِيءَ بِجَمْرٍ فَأَخَذَهُ وَطَرَحَهُ فِي فِيهِ، فَمِنْهُ عُقْدَةُ لِسَانِهِ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: لَا أَقْتُلُهُ، وَلَكِنْ أَخْرِجُوهُ عَنِ الدَّارِ وَالْبَلَدِ، فَأُخْرِجَ وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ حَتَّى كَبِرَ، وَالْقَوْمُ نَسُوا ذِكْرَهُ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: عَلى حِينِ غَفْلَةٍ وَلَا مَطْمَعَ فِي تَرْجِيحِ بَعْضِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَلَى بَعْضٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا. المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ تَعَالَى: فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ، هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ قَالَ الزَّجَّاجُ: قَالَ: هَذَا وَهَذَا وَهُمَا غَائِبَانِ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ، أَيْ وَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ، إِذَا نَظَرَ النَّاظِرُ إِلَيْهِمَا قَالَ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدِوِّهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ مُقَاتِلٌ: الرَّجُلَانِ كَانَا كَافِرَيْنِ، إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْآخَرُ مِنَ الْقِبْطِ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ [الْقَصَصِ: 18] وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ كَانَ مُسْلِمًا، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِيمَنْ يُخَالِفُ الرَّجُلَ فِي دِينِهِ وَطَرِيقِهِ: إِنَّهُ مِنْ شِيعَتِهِ،

وَقِيلَ إِنَّ الْقِبْطِيَّ الَّذِي سَخَّرَ الْإِسْرَائِيلِيَّ كَانَ/ طَبَّاخَ فِرْعَوْنَ، اسْتَسْخَرَهُ لِحَمْلِ الْحَطَبِ إِلَى مَطْبَخِهِ، وَقِيلَ الرَّجُلَانِ الْمُقْتَتِلَانِ: أَحَدُهُمَا السَّامِرِيُّ وَهُوَ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ، وَالْآخَرُ طَبَّاخُ فِرْعَوْنَ واللَّه أَعْلَمُ بِكَيْفِيَّةِ الْحَالِ، فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ، أَيْ سَأَلَهُ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنْهُ وَاسْتَنْصَرَهُ عَلَيْهِ، فَوَكَزَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، الْوَكْزُ الدَّفْعُ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ، وَقِيلَ بِجَمْعِ الْكَفِّ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (فَلَكَزَهُ مُوسَى) ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْوَكْزُ فِي الصَّدْرِ وَاللَّكْزُ فِي الظَّهْرِ، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَدِيدَ الْبَطْشِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: فَوَكَزَهُ بِعَصَاهُ، قَالَ الْمُفَضَّلُ هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ وَكَزَهُ بِالْعَصَا فَقَضى عَلَيْهِ أَيْ أَمَاتَهُ وَقَتَلَهُ. المسألة الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ طَعَنَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْقِبْطِيَّ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ مُسْتَحِقَّ الْقَتْلِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلِمَ قَالَ: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ وَلِمَ قَالَ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ وَلِمَ قَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [الشُّعَرَاءِ: 20] ؟ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الْقِبْطِيَّ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقَّ الْقَتْلِ كَانَ قَتْلُهُ مَعْصِيَةً وَذَنْبًا وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا حَرْبِيًّا فَكَانَ دَمُهُ مُبَاحًا فَلِمَ اسْتَغْفَرَ عَنْهُ، وَالِاسْتِغْفَارُ عَنِ الْفِعْلِ الْمُبَاحِ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ يُوهِمُ فِي الْمُبَاحِ كَوْنَهُ حَرَامًا؟ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْوَكْزَ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْلُ ظَاهِرًا، فَكَانَ ذَلِكَ الْقَتْلُ قَتْلَ خَطَأٍ، فَلِمَ اسْتَغْفَرَ مِنْهُ؟ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ لِكُفْرِهِ مُبَاحَ الدَّمِ. أَمَّا قَوْلُهُ: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: لَعَلَّ اللَّه تَعَالَى وَإِنْ أَبَاحَ قَتْلَ الْكَافِرِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ الْأَوْلَى تَأْخِيرُ قَتْلِهِمْ إِلَى زَمَانٍ آخَرَ، فَلَمَّا قَتَلَ فَقَدْ تَرَكَ ذَلِكَ الْمَنْدُوبَ فَقَوْلُهُ: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ مَعْنَاهُ إِقْدَامِي عَلَى تَرْكِ الْمَنْدُوبِ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ (هَذَا) إِشَارَةٌ إِلَى عَمَلِ الْمَقْتُولِ لَا إِلَى عَمَلِ نَفْسِهِ فَقَوْلُهُ: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أَيْ عَمَلُ هَذَا الْمَقْتُولِ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، الْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانُ كَوْنِهِ مُخَالِفًا للَّه تَعَالَى مُسْتَحِقًّا لِلْقَتْلِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ (هَذَا) إِشَارَةً إِلَى الْمَقْتُولِ، يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ جُنْدِ الشَّيْطَانِ وَحِزْبِهِ، يُقَالُ فُلَانٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، أَيْ مِنْ أَحْزَابِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَعَلَى نَهْجِ قَوْلِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: 23] وَالْمُرَادُ أَحَدُ وَجْهَيْنِ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَالِاعْتِرَافِ بِالتَّقْصِيرِ عَنِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ذَنْبٌ قَطُّ، أَوْ مِنْ حَيْثُ حَرَمَ نَفْسَهُ الثَّوَابَ بِتَرْكِ الْمَنْدُوبِ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَاغْفِرْ لِي أَيْ فَاغْفِرْ لِي تَرْكَ هَذَا الْمَنْدُوبِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي حَيْثُ قَتَلْتُ هَذَا الْمَلْعُونَ، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ لَقَتَلَنِي بِهِ فَاغْفِرْ لِي أَيْ فَاسْتُرْهُ عَلَيَّ وَلَا تُوصِلْ خَبَرَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ فَغَفَرَ لَهُ أَيْ سَتَرَهُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ عَلَى عَقِبِهِ قَالَ: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ وَلَوْ كَانَتْ إِعَانَةُ المؤمن هاهنا سَبَبًا لِلْمَعْصِيَةِ لَمَا قَالَ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَلَمْ يَقُلْ إِنِّي صِرْتُ بِذَلِكَ ضَالًّا، وَلَكِنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا/ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا فِي حَالِ الْقَتْلِ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ كَوْنَهُ كَافِرًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ كَانَ ضَالًّا أَيْ مُتَحَيِّرًا لَا يَدْرِي مَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَمَا يَدَّبَّرُ بِهِ فِي ذَلِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ إِنْ كَانَ كَافِرًا حَرْبِيًّا فَلِمَ اسْتَغْفَرَ عَنْ قَتْلِهِ؟ قُلْنَا كَوْنُ الْكَافِرِ مُبَاحَ الدَّمِ أَمْرٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ فَلَعَلَّ قَتْلَهُمْ كَانَ حَرَامًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ إِنْ كَانَ مُبَاحًا لَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ

[سورة القصص (28) : الآيات 18 إلى 21]

عَلَى مَا قَرَّرْنَا، قَوْلُهُ ذَلِكَ الْقَتْلُ كَانَ قَتْلَ خَطَأٍ، قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ فَلَعَلَّ الرَّجُلَ كَانَ ضَعِيفًا وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي نِهَايَةِ الشِّدَّةِ، فَوَكْزُهُ كَانَ قَاتِلًا قَطْعًا. ثُمَّ إِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ وَلَكِنْ لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُخَلِّصَ الْإِسْرَائِيلِيَّ مِنْ يَدِهِ بِدُونِ ذَلِكَ الْوَكْزِ الَّذِي كَانَ الْأَوْلَى تَرْكَهُ، فَلِهَذَا أَقْدَمَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ عَلَى أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا دَلَالَةَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صُدُورِ الْمَعْصِيَةِ لَكِنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ الْبَتَّةَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ رَسُولًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَكُونُ ذَلِكَ صَادِرًا مِنْهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَذَلِكَ لَا نِزَاعَ فِيهِ المسألة الْخَامِسَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ نَسَبَ الْمَعَاصِيَ إِلَى اللَّه تَعَالَى لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَنَسَبَ الْمَعْصِيَةَ إِلَى الشَّيْطَانِ، فَلَوْ كَانَتْ بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى لَكَانَتْ مِنَ اللَّه لَا مِنَ الشَّيْطَانِ وَهُوَ كَقَوْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [يُوسُفَ: 100] وَقَوْلِ صَاحِبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ [الكهف: 63] وقوله تعالى: لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الأعراف: 27] . أَمَّا قَوْلُهُ: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ ظَاهِرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَالَ إِنَّكَ لَمَّا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ بِهَذَا الْإِنْعَامِ فَإِنِّي لَا أَكُونُ مُعَاوِنًا لِأَحَدٍ مِنَ الْمُجْرِمِينَ بَلْ أَكُونُ مُعَاوِنًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مِنْ إِعَانَةِ الْإِسْرَائِيلِيِّ عَلَى الْقِبْطِيِّ كَانَ طَاعَةً لَا مَعْصِيَةً، إِذْ لَوْ كَانَتْ مَعْصِيَةً، لَنَزَلَ الْكَلَامُ مَنْزِلَةَ مَا إِذَا قِيلَ إِنَّكَ لَمَّا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ بِقَبُولِ تَوْبَتِي عَنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ فَإِنِّي أَكُونُ مُوَاظِبًا عَلَى مِثْلِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ وَثَانِيهَا: قَالَ الْقَفَّالُ: كَأَنَّهُ أَقْسَمَ بِمَا أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِ أَنْ لَا يُظَاهِرَ مُجْرِمًا، وَالْبَاءُ لِلْقَسَمِ أَيْ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ إِنَّهُ خَبَرٌ، وَمَعْنَاهُ الدُّعَاءُ كَأَنَّهُ قَالَ فَلَا تَجْعَلْنِي ظَهِيرًا، قَالَ الْفَرَّاءُ وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّه فَلَا تَجْعَلْنِي ظَهِيرًا، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُعَاوَنَةُ الظَّلَمَةِ وَالْفَسَقَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَسْتَثْنِ وَلَمْ يَقُلْ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا إِنْ شَاءَ اللَّه، فَابْتُلِيَ بِهِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي تَرَكَ الْإِعَانَةَ، وَإِنَّمَا خَافَ مِنْهُ ذَلِكَ الْعَدُوُّ فَقَالَ: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ [الْقَصَصِ: 19] لَا أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ. [سورة القصص (28) : الآيات 18 الى 21] فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يَا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يَا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) اعْلَمْ أَنَّ عِنْدَ مَوْتِ ذَلِكَ الرَّجُلِ مِنَ الْوَكْزِ أَصْبَحَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ غَدٍ ذَلِكَ الْيَوْمِ خَائِفًا مِنْ أَنْ يَظْهَرَ أَنَّهُ هُوَ الْقَاتِلُ فَيُطْلَبُ بِهِ، وَخَرَجَ عَلَى اسْتِتَارٍ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ وَهُوَ الْإِسْرَائِيلِيُّ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ

[سورة القصص (28) : الآيات 22 إلى 28]

يَطْلُبُ نُصْرَتَهُ بِصِيَاحٍ وَصُرَاخٍ، قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْغَوِيُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا بِمَعْنَى مُفْعِلٍ أَيْ إِنَّكَ لَمُغْوٍ لِقَوْمِي فَإِنِّي وَقَعْتُ بِالْأَمْسِ فِيمَا وَقَعْتُ فِيهِ بِسَبَبِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْغَاوِي. وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ قَدَحَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَقَالَ كَيْفَ يَجُوزُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَقُولَ لِرَجُلٍ مَنْ شِيعَتِهُ يَسْتَصْرِخُهُ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ؟ الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانُوا غِلَاظًا جُفَاةً أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ الْآيَاتِ اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الْأَعْرَافِ: 138] فَالْمُرَادُ بِالْغَوِيِّ الْمُبِينِ ذَلِكَ الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا سَمَّاهُ غَوِيًّا لِأَنَّ مَنْ تَكْثُرُ مِنْهُ الْمُخَاصَمَةُ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ دَفْعُ خَصْمِهِ عَمَّا يَرُومُهُ مِنْ ضَرَرِهِ يَكُونُ خِلَافَ طَرِيقَةِ الرُّشْدِ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ تعالى: قالَ يَا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ أَهْوَ مِنْ كَلَامِ الْإِسْرَائِيلِيِّ أَوِ الْقِبْطِيِّ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَمَّا خَاطَبَ مُوسَى الْإِسْرَائِيلِيَّ بِأَنَّهُ غَوِيٌّ وَرَآهُ عَلَى غَضَبٍ ظَنَّ لَمَّا هَمَّ بِالْبَطْشِ أَنَّهُ يُرِيدُهُ، فَقَالَ هَذَا الْقَوْلَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ قَتْلَهُ بِالْأَمْسِ لِلرَّجُلِ إِلَّا هُوَ، وَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِظُهُورِ الْقَتْلِ وَمَزِيدِ الْخَوْفِ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ هُوَ/ قَوْلُ الْقِبْطِيِّ، وَقَدْ كَانَ عَرَفَ الْقِصَّةَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّ، وَالظَّاهِرُ هَذَا الوجه لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى فَهَذَا الْقَوْلُ إِذَنْ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ قَوْلًا لِلْكَافِرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَبَّارَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ مِنَ الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ بِظُلْمٍ لَا يَنْظُرُ فِي الْعَوَاقِبِ وَلَا يَدْفَعُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَقِيلَ الْمُتَعَظِّمُ الَّذِي لَا يَتَوَاضَعُ لِأَمْرِ أَحَدٍ، وَلَمَّا وَقَعَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ انْتَشَرَ الْحَدِيثُ فِي الْمَدِينَةِ وَانْتَهَى إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» يَسْعَى يَجُوزُ ارتفاعه وصفا لرجل، وَانْتِصَابُهُ حَالًا عَنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَخَصَّصَ بِقَوْلِهِ: مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالِائْتِمَارُ التَّشَاوُرُ يُقَالُ الرَّجُلَانِ [يتآمران] «1» يَأْتَمِرَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَأْمُرُ صَاحِبَهُ بِشَيْءٍ أَوْ يُشِيرُ عَلَيْهِ بِأَمْرٍ وَالْمَعْنَى يَتَشَاوَرُونَ بِسَبَبِكَ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، فَعَلَى وَجْهِ الْإِشْفَاقِ أَسْرَعَ إِلَيْهِ لِيُخَوِّفَهُ بِأَنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ أَيْ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَنْتَظِرُ هَلْ يَلْحَقُهُ طَلَبٌ فَيُؤْخَذُ، ثُمَّ الْتَجَأَ إِلَى اللَّه تَعَالَى لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا مَلْجَأَ سِوَاهُ فَقَالَ: رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَتْلَهُ لِذَلِكَ الْقِبْطِيِّ لَمْ يَكُنْ ذَنْبًا، وَإِلَّا لَكَانَ هُوَ الظَّالِمُ لَهُمْ وَمَا كَانُوا ظَالِمِينَ لَهُ بِسَبَبِ طَلَبِهِمْ إِيَّاهُ ليقتلوه قصاصا. [سورة القصص (28) : الآيات 22 الى 28] وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)

_ (1) زيادة من الكشاف.

اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ فقال بَعْضُهُمْ إِنَّهُ خَرَجَ وَمَا قَصَدَ مَدْيَنَ وَلَكِنَّهُ سَلَّمَ نَفْسَهُ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَأَخَذَ يَمْشِي مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ فَأَوْصَلَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَى مَدْيَنَ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ آخَرُونَ لَمَّا خَرَجَ قَصَدَ مَدْيَنَ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ قَرَابَةً لِأَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِالطَّرِيقِ بَلِ اعْتَمَدَ عَلَى فَضْلِ اللَّه تَعَالَى، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ بَلْ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَّمَهُ الطَّرِيقَ وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ لَمَّا أَخَذَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمَسِيرِ جَاءَهُ مَلَكٌ عَلَى فَرَسٍ فَسَجَدَ لَهُ مُوسَى مِنَ الْفَرَحِ، فَقَالَ لَا تَفْعَلْ وَاتَّبِعْنِي فَاتَّبَعَهُ نَحْوَ مَدْيَنَ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ خَرَجَ وَمَا قَصَدَ مَدْيَنَ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ وَلَوْ كَانَ قَاصِدًا لِلذَّهَابِ إِلَى مَدْيَنَ لَقَالَ، وَلَمَّا تَوَجَّهَ إِلَى مَدْيَنَ فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ بَلْ قَالَ: تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَّا إِلَى ذَلِكَ الْجَانِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ الْجَانِبَ إِلَى أَيْنَ يَنْتَهِي وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ وَهَذَا كَلَامُ شَاكٍّ لَا عَالِمٍ وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ قَصَدَ الذَّهَابَ إِلَى مَدْيَنَ وَمَا كَانَ عَالِمًا بِالطَّرِيقِ. ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ يَسْأَلُ النَّاسَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي عَقْلِهِ وَذَكَائِهِ أَنْ لَا يَسْأَلَ، ثم قال ابْنُ إِسْحَاقَ خَرَجَ مِنْ مِصْرَ إِلَى مَدْيَنَ بِغَيْرِ زَادٍ وَلَا ظَهْرٍ، وَبَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ طَعَامٌ إِلَّا وَرَقَ الشَّجَرِ. أَمَّا قَوْلُهُ: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ جَدِّهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصَّافَّاتِ: 99] وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَلَّمَا يَذْكُرُ كَلَامًا فِي الِاسْتِدْلَالِ وَالْجَوَابِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَّا مَا ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَكَذَا الْخَلَفُ الصِّدْقُ لِلسَّلَفِ الصَّالِحِ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِمْ وَعَلَى جَمِيعِ الطَّيِّبِينَ الْمُطَهَّرِينَ وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يَسْقُونَ مِنْهُ وَكَانَ بِئْرًا فِيمَا رُوِيَ وَوُرُودُهُ مَجِيئُهُ وَالْوُصُولُ إِلَيْهِ وَجَدَ عَلَيْهِ أَيْ فَوْقَ شَفِيرِهِ وَمُسْتَقَاهُ أُمَّةً جَمَاعَةً كَثِيرَةَ الْعَدَدِ مِنَ النَّاسِ مِنْ أُنَاسٍ مُخْتَلِفِينَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ فِي مَكَانٍ أَسْفَلَ مِنْ مَكَانِهِمْ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ وَالذَّوْدُ الدَّفْعُ وَالطَّرْدُ فَقَوْلُهُ (تَذُودَانِ) أَيْ تَحْبِسَانِ ثُمَّ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: تَحْبِسَانِ أَغْنَامَهُمَا وَاخْتَلَفُوا فِي عِلَّةِ ذَلِكَ الْحَبْسِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ لِأَنَّ عَلَى الْمَاءِ مَنْ كَانَ أَقْوَى مِنْهُمَا فَلَا يَتَمَكَّنَانِ مِنَ السَّقْيِ وَثَانِيهَا: كَانَتَا تَكْرَهَانِ الْمُزَاحِمَةَ عَلَى الْمَاءِ وَثَالِثُهَا: لِئَلَّا تَخْتَلِطَ أَغْنَامُهُمَا بِأَغْنَامِهِمْ وَرَابِعُهَا: لِئَلَّا تَخْتَلِطَا بِالرِّجَالِ الْقَوْلُ الثَّانِي: كَانَتَا تَذُودَانِ عن وجوههما نظرا النَّاظِرِ لِيَرَاهُمَا وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: تَذُودَانِ النَّاسَ عَنْ غَنَمِهِمَا الْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَالَ الْفَرَّاءُ تَحْبِسَانِهَا عَنْ أَنْ تَتَفَرَّقَ وَتَتَسَرَّبَ قالَ مَا خَطْبُكُما أَيْ مَا شَأْنُكُمَا وَحَقِيقَتُهُ مَا مَخْطُوبُكُمَا أَيْ مَطْلُوبُكُمَا مِنَ الذِّيَادِ فَسُمِّيَ الْمَخْطُوبُ خَطْبًا كَمَا يُسَمَّى المشئون شأنا في قولك ما شأنك فقالتا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ وذلك

يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِمَا عَنِ السَّقْيِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعَادَةَ فِي السَّقْيِ لِلرِّجَالِ، وَالنِّسَاءُ يَضْعُفْنَ عَنْ ذَلِكَ وَثَانِيهَا: مَا ظَهَرَ مِنْ ذَوْدِهِمَا الْمَاشِيَةَ عَلَى طَرِيقِ التَّأْخِيرِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُمَا حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَرَابِعُهَا: انْتِظَارُهُمَا لِمَا يَبْقَى مِنَ الْقَوْمِ مِنَ الْمَاءِ وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُمَا: وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ وَدَلَالَةُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوِيًّا حَضَرَ وَلَوْ حَضَرَ لَمْ يَتَأَخَّرِ السَّقْيُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ سَقَى لَهُمَا قَبْلَ صَدْرِ الرِّعَاءِ، وَعَادَتَا إِلَى أَبِيهِمَا قَبْلَ الْوَقْتِ الْمُعْتَادِ. قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الدَّالِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَكَسْرِ الدَّالِ فَالْمَعْنَى فِي الْقِرَاءَةِ الْأُولَى حَتَّى يَنْصَرِفُوا عَنِ الْمَاءِ وَيَرْجِعُوا عَنْ سَقْيِهِمْ وَصَدَرَ ضِدُّ وَرَدَ، وَمَنْ قَرَأَ بِضَمِّ الْيَاءِ فَالْمَعْنَى فِي الْقِرَاءَةِ حَتَّى يُصْدِرَ الْقَوْمُ مَوَاشِيهمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَسَقى لَهُما أَيْ سَقَى غَنَمَهُمَا لِأَجْلِهِمَا، وَفِي كَيْفِيَّةِ السَّقْيِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ الْقَوْمَ أَنْ يَسْمَحُوا فَسَمَحُوا وَثَانِيهِمَا: قَالَ قَوْمٌ عَمَدَ إِلَى بِئْرٍ عَلَى رَأْسِهِ صَخْرَةٌ لَا يُقِلُّهَا إِلَّا عَشَرَةٌ، وَقِيلَ أَرْبَعُونَ، وَقِيلَ مِائَةٌ فَنَحَّاهَا بِنَفْسِهِ وَاسْتَقَى الْمَاءَ مِنْ ذَلِكَ الْبِئْرِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا زَاحَمَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعَمَّدُوا إِلْقَاءَ ذَلِكَ الْحَجَرِ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ فَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَمَى ذَلِكَ الْحَجَرَ وَسَقَى لَهُمَا وَلَيْسَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ واللَّه أَعْلَمُ بِالصَّحِيحِ مِنْهُ، لَكِنَّ الْمَرْأَةَ وَصَفَتْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْقُوَّةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا شَاهَدَتْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ قُوَّتِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ سَقَى لَهُمَا فِي شَمْسٍ وَحَرٍّ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ أَيْضًا عَلَى كَمَالِ قُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَتَى مُوسَى أَهْلَ الْمَاءَ فَسَأَلَهُمْ دَلْوًا مِنْ مَاءٍ، فَقَالُوا لَهُ إِنْ/ شِئْتَ ائْتِ الدلو فاستق لهما قال تعم، وَكَانَ يَجْتَمِعُ عَلَى الدَّلْوِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا حَتَّى يُخْرِجُوهُ مِنَ الْبِئْرِ فَأَخَذَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الدَّلْوَ فَاسْتَقَى بِهِ وَحْدَهُ وَصَبَّ فِي الْحَوْضِ وَدَعَا بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ قَرَّبَ غَنَمَهُمَا فَشَرِبَتْ حَتَّى رَوِيَتْ ثُمَّ سَرَّحَهُمَا مَعَ غَنَمِهِمَا. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ سَاغَ لِنَبِيِّ اللَّه الَّذِي هُوَ شُعَيْبٌ أن يرضى لا بنتيه بِسَقْيِ الْمَاشِيَةِ؟ قُلْنَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَاهُمَا كَانَ شُعَيْبًا وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا إِنَّ أَبَاهُمَا هُوَ بَيْرُونُ ابْنُ أَخِي شعيب وشعيب مات بعد ما عَمِيَ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَبِيدٍ وَقَالَ الْحَسَنُ إِنَّهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ قَبِلَ الدِّينَ عَنْ شُعَيْبٍ عَلَى أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ كَانَ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَكِنْ لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ لِأَنَّ الدِّينَ لَا يَأْبَاهُ، وَأَمَّا الْمُرُوءَةُ فَالنَّاسُ فِيهَا مُخْتَلِفُونَ وَأَحْوَالُ أَهْلِ الْبَادِيَةِ غَيْرُ أَحْوَالِ أَهْلِ الْحَضَرِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتِ الْحَالَةُ حَالَةَ الضَّرُورَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَالْمَعْنَى إِنِّي لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ غَثٍّ أَوْ سَمِينٍ لَفَقِيرٌ، وَإِنَّمَا عَدَّى فَقِيرًا بِاللَّامِ لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى سَائِلٍ وَطَالِبٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ، إِمَّا إِلَى الطَّعَامِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ، إِلَّا أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلُوهُ عَلَى الطَّعَامِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ طَعَامًا يَأْكُلُهُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ مَكَثَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَذُقْ فِيهَا طَعَامًا إِلَّا بَقْلَ الْأَرْضِ، وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَفَعَ صَوْتَهُ لِيُسْمِعَ الْمَرْأَتَيْنِ ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَقِيَ مَعَهُ مِنَ الْقُوَّةِ مَا قَدَرَ بِهَا عَلَى حَمْلِ ذَلِكَ الدَّلْوِ الْعَظِيمِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِمَّتِهِ الْعَالِيَةِ أَنْ يَطْلُبَ الطَّعَامَ، أَلَيْسَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي قُوَّةٍ سَوِيٍّ» ؟ قُلْنَا أَمَّا رَفْعُ الصَّوْتِ بِذَلِكَ لِإِسْمَاعِ الْمَرْأَتَيْنِ وَطَلَبِ الطَّعَامِ فَذَاكَ لَا يَلِيقُ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْبَتَّةَ فَلَا تُقْبَلُ تِلْكَ الرِّوَايَةُ وَلَكِنْ لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ مَعَ رَبِّهِ تَعَالَى، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ كَأَنَّهُ قَالَ رَبِّ إِنِّي بِسَبَبِ مَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرِ الدِّينِ صِرْتُ فَقِيرًا فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ كان عند

فِرْعَوْنَ فِي مُلْكٍ وَثَرْوَةٍ، فَقَالَ ذَلِكَ رِضًى بِهَذَا الْبَدَلِ وَفَرَحًا بِهِ وَشُكْرًا لَهُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَلْيَقُ بِحَالِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ فَقَوْلُهُ عَلَى اسْتِحْياءٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ مُسْتَحْيِيَةً، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدِ اسْتَتَرَتْ بِكُمِّ قَمِيصِهَا، وَقِيلَ مَاشِيَةٌ عَلَى بُعْدٍ مَائِلَةٌ عَنِ الرِّجَالِ وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَلَى إِجْلَالٍ لَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ عَلَى قَوْلِهِ: تَمْشِي ثُمَّ يَبْتَدِئُ فَيَقُولُ: عَلَى اسْتِحْياءٍ قَالَتْ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ يَعْنِي أَنَّهَا عَلَى الِاسْتِحْيَاءِ قَالَتْ هَذَا الْقَوْلَ لِأَنَّ الْكَرِيمَ إِذَا دَعَا غَيْرَهُ إِلَى الضِّيَافَةِ يَسْتَحْيِي، لَا سِيَّمَا الْمَرْأَةُ وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ شُعَيْبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُعِينٌ سِوَاهُمَا وَرُوِيَ أَنَّهُمَا لَمَّا رَجَعَتَا إِلَى أَبِيهِمَا قَبْلَ النَّاسِ، قَالَ لَهُمَا مَا أَعْجَلَكُمَا قَالَتَا وَجَدْنَا رَجُلًا صَالِحًا رَحِمَنَا فَسَقَى لَنَا، فَقَالَ لِإِحْدَاهُمَا اذْهَبِي فَادْعِيهِ لِي، أَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْخَ كَانَ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ غَيْرَهُ فَقَدْ تَقَدَّمَ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ شُعَيْبٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي الْبِنْتَيْنِ اسْمُ الْكُبْرَى صَفُورَا، وَالصُّغْرَى لِيَا، وَقَالَ غَيْرُهُ صَفْرَا وَصَفِيرَا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ صَافُورَا وَالَّتِي جَاءَتْ إِلَى/ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هِيَ الْكُبْرَى عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ الصُّغْرَى، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ دَلَالَةٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ التَّفَاصِيلِ. أَمَّا قَوْلُهُ: قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا فَفِيهِ إِشْكَالَاتٌ: أَحَدُهَا: كَيْفَ سَاغَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَعْمَلَ بِقَوْلِ امْرَأَةٍ وَأَنْ يَمْشِيَ مَعَهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُورِثُ التُّهْمَةَ الْعَظِيمَةَ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اتَّقُوا مَوَاضِعَ التُّهَمِ» ؟ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ سَقَى أَغْنَامَهُمَا تَقَرُّبًا إِلَى اللَّه تَعَالَى فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْمُرُوءَةِ، وَلَا فِي الشَّرِيعَةِ؟ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَرَفَ فَقْرَهُنَّ وَفَقْرَ أَبِيهِنَّ وَعَجْزَهُمْ وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي نِهَايَةِ الْقُوَّةِ بِحَيْثُ كَانَ يُمْكِنُهُ الْكَسْبُ الْكَثِيرُ بِأَقَلِّ سَعْيٍ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِمُرُوءَةِ مِثْلِهِ طَلَبُ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ السَّقْيِ مِنَ الشَّيْخِ الْفَقِيرِ وَالْمَرْأَةِ الْفَقِيرَةِ؟ وَرَابِعُهَا: كَيْفَ يَلِيقُ بِشُعَيْبٍ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَبْعَثَ ابْنَتَهُ الشَّابَّةَ إِلَى رَجُلٍ شَابٍّ قَبْلَ الْعِلْمِ بِكَوْنِ ذَلِكَ الرَّجُلِ عَفِيفًا أَوْ فَاسِقًا؟ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنْ نَقُولَ: أَمَّا الْعَمَلُ بِقَوْلِ امْرَأَةٍ فَكَمَا نَعْمَلُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى فِي الْأَخْبَارِ وَمَا كَانَتْ إِلَّا مُخْبِرَةً عَنْ أَبِيهَا، وَأَمَّا الْمَشْيُ مَعَ الْمَرْأَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ مَعَ الِاحْتِيَاطِ وَالتَّوَرُّعِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّانِي، أَنَّ الْمَرْأَةَ وَإِنْ قَالَتْ ذَلِكَ فَلَعَلَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِمْ طَلَبًا لِلْأُجْرَةِ بَلْ لِلتَّبَرُّكِ بِرُؤْيَةِ ذَلِكَ الشَّيْخِ، وَرُوِيَ أَنَّهَا لَمَّا قَالَتْ لِيَجْزِيَكَ كَرِهَ ذَلِكَ، وَلَمَّا قُدِّمَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ امْتَنَعَ، وَقَالَ إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نَبِيعُ دِينَنَا بِدُنْيَانَا، وَلَا نَأْخُذُ عَلَى الْمَعْرُوفِ ثَمَنًا، حَتَّى قَالَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ عَادَتُنَا مَعَ كُلِّ مَنْ يَنْزِلُ بِنَا، وَأَيْضًا فَلَيْسَ بِمُنْكَرٍ أَنَّ الْجُوعَ قَدْ بَلَغَ إِلَى حَيْثُ مَا كَانَ يُطِيقُ تَحَمُّلَهُ فَقَبِلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاضْطِرَارِ وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ: عَنِ الثَّالِثِ فَإِنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الرَّابِعِ لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ عَلِمَ بِالْوَحْيِ طَهَارَتَهَا وَبَرَاءَتَهَا فَكَانَ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا. أَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمَّا جاءَهُ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَامَ يَمْشِي وَالْجَارِيَةُ أَمَامَهُ فَهَبَّتِ الرِّيحُ فَكَشَفَتْ عَنْهَا فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنِّي مِنْ عُنْصُرِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكُونِي مِنْ خَلْفِي حَتَّى لَا تَرْفَعَ الرِّيحُ ثِيَابَكِ فَأَرَى مَا لَا يَحِلُّ لِي، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى شُعَيْبٍ فَإِذَا الطَّعَامُ مَوْضُوعٌ، فَقَالَ شُعَيْبٌ تَنَاوَلْ يَا فَتَى، فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعُوذُ باللَّه قَالَ شُعَيْبٌ وَلِمَ؟ قَالَ لِأَنَّا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ لَا نَبِيعُ دِينَنَا بِمَلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، فَقَالَ شُعَيْبٌ وَلَكِنَّ عَادَتِي وَعَادَةَ آبَائِي إِطْعَامُ الضَّيْفِ فَجَلَسَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَكَلَ، وَإِنَّمَا كَرِهَ أَكْلَ الطَّعَامِ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ

أُجْرَةً لَهُ عَلَى عَمَلِهِ، وَلَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ مَعَ الْخَضِرِ حِينَ قَالَ: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً [الكهف: 77] وَالْفَرْقُ أَنَّ أَخْذَ الْأَجْرِ عَلَى الصَّدَقَةِ لَا يَجُوزُ، أَمَّا الِاسْتِئْجَارُ ابْتِدَاءً فَغَيْرُ مَكْرُوهٍ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ فَالْقَصَصُ مَصْدَرٌ كَالْعَلَلِ سُمِّيَ بِهِ الْمَقْصُوصُ، قَالَ الضَّحَّاكُ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ مَنْ أَنْتَ يَا عَبْدَ اللَّه، فَقَالَ أَنَا مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثَ بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ وَذَكَرَ لَهُ جَمِيعَ أَمْرِهِ مِنْ لَدُنْ وِلَادَتِهِ وَأَمْرِ الْقَوَابِلِ وَالْمَرَاضِعِ وَالْقَذْفِ فِي الْيَمِّ، وَقَتْلِ/ الْقِبْطِيِّ وَأَنَّهُمْ يَطْلُبُونَهُ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ شُعَيْبٌ: لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أَيْ لَا سُلْطَانَ لَهُ بِأَرْضِنَا فَلَسْنَا فِي مَمْلَكَتِهِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَنِ الْوَحْيِ أَوْ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْعَادَةُ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُفَسِّرُونَ قَالُوا إِنَّ فِرْعَوْنَ يَوْمَ رَكِبَ خَلْفَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَكِبَ فِي أَلْفِ أَلْفٍ وَسِتِّمِائَةِ أَلْفٍ، فَالْمَلِكُ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي مُلْكِهِ قَرْيَةٌ عَلَى بُعْدِ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ مِنْ دَارِ مَمْلَكَتِهِ؟ قُلْنَا هَذَا وَإِنْ كَانَ نَادِرًا إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَالٍ. أَمَّا قَوْلُهُ: قالَتْ إِحْداهُما يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: وَصَفَتْهُ بِالْقُوَّةِ لِمَا شَاهَدَتْ مِنْ كَيْفِيَّةِ السَّقْيِ وَبِالْأَمَانَةِ لِمَا حَكَيْنَا مِنْ غَضِّ بَصَرِهِ حَالَ ذَوْدِهِمَا الْمَاشِيَةَ وَحَالَ سَقْيِهِ لَهُمَا وَحَالَ مَشْيِهِ بَيْنَ يَدَيْهَا إِلَى أَبِيهَا. المسألة الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا جعل خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ اسما والْقَوِيُّ الْأَمِينُ خَبَرًا مَعَ أَنَّ الْعَكْسَ أَوْلَى لِأَنَّ الْعِنَايَةَ هِيَ سَبَبُ التَّقْدِيمِ. المسألة الثَّالِثَةُ: الْقُوَّةُ وَالْأَمَانَةُ لَا يَكْفِيَانِ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِمَا الْفِطْنَةُ وَالْكِيَاسَةُ، فَلِمَ أَهْمَلَ أَمْرَ الْكِيَاسَةِ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْأَمَانَةِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّه: «أَفْرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ بِنْتُ شُعَيْبٍ وَصَاحِبُ يُوسُفَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي عُمَرَ» . أَمَّا قَوْلُهُ: قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ فَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى التَّرْدِيدِ لَكِنَّهُ عِنْدَ التَّزْوِيجِ عَيَّنَ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى أَقَلِّ الْأَجَلَيْنِ، فَكَانَتِ الزِّيَادَةُ كَالتَّبَرُّعِ، وَالْفُقَهَاءُ رُبَّمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ قَدْ يَكُونُ مَهْرًا كَالْمَالِ وَعَلَى أَنَّ إِلْحَاقَ الزِّيَادَةِ بِالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ جَائِزٌ، وَلَكِنَّهُ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا فَلَا يَلْزَمُنَا، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ جَائِزًا فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ أَنْ يُشْرَطَ لِلْوَلِيِّ مَنْفَعَةٌ، وَعَلَى أَنَّهُ كَانَ جَائِزًا فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ بَدَلٍ تَسْتَحِقُّهُ الْمَرْأَةُ وَعَلَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا تُفْسِدُهُ الشُّرُوطُ الَّتِي لَا يُوجِبُهَا الْعَقْدُ، ثم قال: عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ تأجرني من أجرته مِنْ أَجَرْتُهُ إِذَا كُنْتَ لَهُ أَجِيرًا وَثَمَانِيَ حِجَجٍ ظَرْفُهُ أَوْ مِنْ أَجَرْتُهُ كَذَا إِذَا أثبته إياه ومنه أجركم اللَّه ورحمكم وثماني حِجَجٍ مَفْعُولٌ بِهِ وَمَعْنَاهُ رَعِيَّةً ثَمَانِيَ حِجَجٍ ثم قال: وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: لَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بِإِلْزَامِ إِثْمِ الرَّجُلَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ مَا حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ شَقَقْتُ عَلَيْهِ وَشَقَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ؟ قُلْنَا حَقِيقَتُهُ أَنَّ الْأَمْرَ إِذَا تَعَاظَمَكَ فَكَأَنَّهُ شَقَّ عَلَيْكَ ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ، تَقُولُ تَارَةً أُطِيقُهُ وَتَارَةً لَا أُطِيقُهُ الثَّانِي: لَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ فِي الرَّعْيِ وَلَكِنِّي أُسَاهِلُكَ فِيهَا وَأُسَامِحُكَ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَلَا أُكَلِّفُكَ الِاحْتِيَاطَ الشَّدِيدَ فِي كَيْفِيَّةِ الرَّعْيِ، وَهَكَذَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ آخِذِينَ بِالْأَسْمَحِ فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «كَانَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِيكِي فَكَانَ خَيْرَ شَرِيكٍ لَا يُدَارِي وَلَا يُشَارِي وَلَا يُمَارِي» ثُمَّ قَالَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: يُرِيدُ بِالصَّلَاحِ حُسْنَ الْمُعَامَلَةِ وَلِينَ الْجَانِبِ وَالثَّانِي: يُرِيدُ الصَّلَاحَ عَلَى الْعُمُومِ وَيَدْخُلُ تَحْتَهُ حُسْنُ الْمُعَامَلَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّه لِلِاتِّكَالِ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَمَعُونَتِهِ.

[سورة القصص (28) : الآيات 29 إلى 32]

فَإِنْ قِيلَ فَالْعَقْدُ كَيْفَ يَنْعَقِدُ مَعَ هَذَا الشَّرْطِ، فَإِنَّكَ لَوْ قُلْتَ امْرَأَتِي طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّه لَا تُطَلَّقُ؟ قُلْنَا هَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ بِالشَّرَائِعِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ مُبْتَدَأٌ وَبَيْنِي وَبَيْنَكَ خَبَرُهُ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا عَاهَدَهُ عَلَيْهِ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يُرِيدُ ذَلِكَ الَّذِي قُلْتَهُ وَعَاهَدَتْنِي عَلَيْهِ قَائِمٌ بَيْنَنَا جَمِيعًا لَا يَخْرُجُ كِلَانَا عَنْهُ لَا أَنَا عَمَّا شَرَطْتُ عَلَيَّ وَلَا أَنْتَ عَمَّا شَرَطْتَ عَلَى نَفْسِكِ، ثم قال: أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ مِنَ الْأَجَلَيْنِ أَطْوَلُهُمَا الَّذِي هُوَ الْعَشْرُ أَوْ أَقْصَرُهُمَا الَّذِي هُوَ الثَّمَانُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أَيْ لَا يُعْتَدَى عَلَيَّ فِي طَلَبِ الزِّيَادَةِ أَرَادَ بِذَلِكَ تَقْرِيرَ أَمْرِ الْخِيَارِ، يَعْنِي إِنْ شَاءَ هَذَا وَإِنْ شَاءَ هَذَا وَيَكُونُ اخْتِيَارُ الْأَجَلِ الزَّائِدِ مَوْكُولًا إِلَى رَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ إِجْبَارٌ، ثم قال: وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ وَالْوَكِيلُ هُوَ الَّذِي وُكِلَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ وَلَمَّا اسْتُعْمِلَ الْوَكِيلُ فِي مَعْنَى الشاهد عدي بعلي لهذا السبب. [سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 32] فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَارًا قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) اعْلَمْ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «تَزَوَّجَ صُغْرَاهُمَا وَقَضَى أَوْفَاهُمَا» أَيْ قَضَى أَوْفَى الْأَجَلَيْنِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ قَضَى الْأَجَلَ عَشْرَ سِنِينَ وَمَكَثَ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَهُ عَشْرَ سِنِينَ وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِينَاسَ حَصَلَ عَقِيبَ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ عَقِيبَ أَحَدِهِمَا وَهُوَ قَضَاءُ الْأَجَلِ، فَبَطَلَ مَا قَالَهُ الْقَاضِي مِنْ أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ: وَسارَ بِأَهْلِهِ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ مُنْفَرِدًا مَعَهَا وَقَوْلُهُ: امْكُثُوا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْجَمْعِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنِّي آنَسْتُ نَارًا فَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ طه وَالنَّمْلِ. أَمَّا قَوْلُهُ: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْجَذْوَةُ بِاللُّغَاتِ الثَّلَاثِ وَقَدْ قُرِئَ بِهِنَّ جَمِيعًا وَهُوَ الْعُودُ الْغَلِيظُ كَانَتْ فِي رَأْسِهِ نَارٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ، قَالَ الزَّجَّاجُ الْجَذْوَةُ الْقِطْعَةُ الْغَلِيظَةُ مِنَ الْحَطَبِ الثَّانِي: قَدْ حَكَيْنَا فِي سُورَةِ طه إِنَّهُ أَظْلَمَ عَلَيْهِ اللَّيْلُ فِي الصَّحْرَاءِ وَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَرَّقَتْ مَاشِيَتَهُ وَضَلَّ وَأَصَابَهُمْ مَطَرٌ فَوَجَدُوا بَرْدًا شَدِيدًا فَعِنْدَهُ أَبْصَرَ نَارًا بَعِيدَةً فَسَارَ إِلَيْهَا يَطْلُبُ مَنْ يَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ وَهُوَ قَوْلُهُ: آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ مِنْ هَذِهِ النَّارِ بِجَذْوَةٍ مِنَ الْحَطَبِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ وَفِي قَوْلِهِ: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها

بِخَبَرٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ ضَلَّ وَفِي قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ دَلَالَةٌ عَلَى الْبَرْدِ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فَاعْلَمْ أَنَّ شَاطِئَ الْوَادِي جَانِبُهُ وَجَاءَ النِّدَاءُ عَنْ يَمِينِ مُوسَى مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي مِنْ قِبَلِ الشَّجَرَةِ وَقَوْلُهُ: مِنَ الشَّجَرَةِ بَدَلٌ مِنْ قوله: مِنْ شاطِئِ الْوادِ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ لِأَنَّ الشَّجَرَةَ كَانَتْ نَابِتَةً عَلَى الشَّاطِئِ كَقَوْلِهِ: لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ [الزُّخْرُفِ: 33] وَإِنَّمَا وَصَفَ الْبُقْعَةَ بِكَوْنِهَا مُبَارَكَةً لِأَنَّهُ حَصَلَ فِيهَا ابْتِدَاءُ الرِّسَالَةِ وَتَكْلِيمُ اللَّه تَعَالَى إياه وهاهنا مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: احْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى قَوْلِهِمْ إِنَّ اللَّه تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ يَخْلُقُهُ فِي جِسْمٍ بِقَوْلِهِ: مِنَ الشَّجَرَةِ فَإِنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمِعَ النِّدَاءَ مِنَ الشَّجَرَةِ وَالْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ النِّدَاءِ هُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَهُوَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ أَنْ يَكُونَ فِي جِسْمٍ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِخَلْقِ الْكَلَامِ فِي جِسْمٍ أَجَابَ الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْكَلَامِ فَقَالُوا لَنَا مَذْهَبَانِ الْأَوَّلُ: قَوْلُ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ وَأَئِمَّةِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ الْقَائِمَ بِذَاتِ اللَّه تَعَالَى غَيْرُ مَسْمُوعٍ إِنَّمَا الْمَسْمُوعُ هُوَ الصَّوْتُ وَالْحَرْفُ وَذَلِكَ كَانَ مَخْلُوقًا فِي الشَّجَرَةِ وَمَسْمُوعًا مِنْهَا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ زَالَ السُّؤَالُ/ الثَّانِي: قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَسْمُوعًا، كَمَا أَنَّ الذَّاتَ الَّتِي لَيْسَتْ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَرْئِيَّةً فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَبْعُدُ أَنَّهُ سَمِعَ الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ وَسَمِعَ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ مِنَ اللَّه تَعَالَى لَا مِنَ الشَّجَرَةِ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ السُّنَّةِ بِأَنَّ مَحَلَّ قَوْلِهِ: إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ لَوْ كَانَ هُوَ الشَّجَرَةَ لَكَانَ قَدْ قَالَتِ الشَّجَرَةُ إِنِّي أَنَا اللَّه، وَالْمُعْتَزِلَةُ أَجَابُوا بِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلَامِ هُوَ مَحَلُّ الْكَلَامِ لَا فَاعِلُهُ وَهَذَا هُوَ أَصْلُ المسألة، أَجَابَ أَهْلُ السُّنَّةِ بِأَنَّ الذِّرَاعَ الْمَسْمُومَ قَالَ لَا تَأْكُلْ مِنِّي فَإِنِّي مَسْمُومٌ فَفَاعِلُ ذَلِكَ الْكَلَامِ هُوَ اللَّه تَعَالَى، فَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلَامِ هُوَ فَاعِلُ ذَلِكَ الْكَلَامِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ اللَّه قَدْ قَالَ لَا تَأْكُلْ مِنِّي فَإِنِّي مَسْمُومٌ، وَهَذَا بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ هُوَ مَحَلُّ الْكَلَامِ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الشَّجَرَةُ قَدْ قَالَتْ إِنِّي أَنَا اللَّه وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ. المسألة الثَّانِيَةُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِيهِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِأَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ كَلَامُ اللَّه، وَالْمُعْتَزِلَةُ لَا يَرْضَوْنَ بِذَلِكَ قَالُوا لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ كَلَامُ اللَّه لَوَجَبَ أَنْ يَعْلَمَ بِالضَّرُورَةِ وُجُودَ اللَّه تَعَالَى لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ مَعْلُومَةً بِالضَّرُورَةِ وَالذَّاتُ مَعْلُومَةٌ بِالنَّظَرِ وَلَوْ عَلِمَ مُوسَى أَنَّهُ اللَّه تَعَالَى بِالضَّرُورَةِ لَزَالَ التَّكْلِيفُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَسْمَعَهُ الْكَلَامَ الَّذِي لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ عَرَفَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْكَلَامِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ الْخَلْقِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ ظُهُورَ الْكَلَامِ مِنَ الشَّجَرَةِ كَظُهُورِ التَّسْبِيحِ مِنَ الْحَصَى فِي أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُعْجِزُ هُوَ أَنَّهُ رَأَى النَّارَ فِي الشَّجَرَةِ الرَّطْبَةِ فَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ النَّارِ وَبَيْنَ خُضْرَةِ الشَّجَرَةِ إِلَّا اللَّه تَعَالَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَصِحَّ مَا يُرْوَى أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا قَالَ لَهُ كَيْفَ عَرَفْتَ أَنَّهُ نِدَاءُ اللَّه تَعَالَى؟ قَالَ لِأَنِّي سَمِعْتُهُ بِجَمِيعِ أَجَزَائِي، فَلَمَّا وَجَدَ حِسَّ السَّمْعِ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ سِوَى اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِنَا حَيْثُ قلنا البنية لَيْسَتْ شَرْطًا. المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [8] نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وقال هاهنا نُودِيَ ... إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وَقَالَ فِي طه [11، 12] : نُودِيَ ... إِنِّي أَنَا رَبُّكَ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَهُوَ تَعَالَى ذَكَرَ الْكُلَّ إِلَّا أَنَّهُ حَكَى فِي كُلِّ سُورَةٍ بَعْضَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ النِّدَاءُ.

المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَ الْحَسَنُ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نُودِيَ نِدَاءَ الْوَحْيِ لَا نِدَاءَ الْكَلَامِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى قَالَ الْجُمْهُورُ إِنَّ اللَّه تَعَالَى كَلَّمَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النِّسَاءِ: 164] وَسَائِرُ الْآيَاتِ، وَأَمَّا الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ الْحَسَنُ فَضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى لَمْ يَكُنْ بِالْوَحْيِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا بِالْوَحْيِ لَانْتَهَى آخِرُ الْأَمْرِ إِلَى كَلَامٍ يَسْمَعُهُ الْمُكَلَّفُ لَا بِالْوَحْيِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ بَلِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى وَصِيَّتُهُ بِأَنْ يَتَشَدَّدَ فِي الْأُمُورِ الَّتِي تَصِلُ إِلَيْهِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ بِالْوَحْيِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ فَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ كُلِّ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ كَأَنَّها جَانٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَهَا بِالْجَانِّ وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ فِي نَفْسِهِ جَانٌّ، فَلَا يَكُونُ هَذَا مُنَاقِضًا لِكَوْنِهِ ثُعْبَانًا بَلْ شَبَّهَهَا بِالْجَانِّ مِنْ حَيْثُ الِاهْتِزَازِ وَالْحَرَكَةِ لَا مِنْ حَيْثُ الْمِقْدَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي خَوْفِهِ، وَمَعْنَى وَلَمْ يُعَقِّبْ لَمْ يَرْجِعْ، يُقَالُ عَقَّبَ الْمُقَاتِلُ إِذَا كَرَّ بَعْدَ الْفَرِّ، وَقَالَ وَهْبٌ إِنَّهَا لَمْ تَدَعْ شَجَرَةً وَلَا صَخْرَةً إِلَّا ابْتَلَعَتْهَا حَتَّى سَمِعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صَرِيرَ أَسْنَانِهَا وَسَمِعَ قَعْقَعَةَ الصَّخْرِ فِي جَوْفِهَا فَحِينَئِذٍ وَلَّى، وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَصَا عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالُوا إِنَّ شُعَيْبًا كَانَتْ عِنْدَهُ عِصِيُّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَقَالَ لِمُوسَى بِاللَّيْلِ إِذَا دَخَلْتَ ذَلِكَ الْبَيْتَ فَخُذْ عَصًا مِنْ تلك العصي. فأخذ؟؟؟ هَبَطَ بِهَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْجَنَّةِ وَلَمْ تَزَلِ الْأَنْبِيَاءُ تَتَوَارَثُهَا حَتَّى وَقَعَتْ إِلَى شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ أَرِنِي الْعَصَا فَلَمَسَهَا وَكَانَ مَكْفُوفًا فَضَنَّ بِهَا فَقَالَ خُذْ غَيْرَهَا فَمَا وَقَعَ فِي يَدِهِ إِلَّا هِيَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ مَعَهَا شَأْنًا. وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ ابْنَتَهُ أَنْ تَأْتِيَ بِعَصًا لِأَجْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَدَخَلَتِ الْبَيْتَ وَأَخَذَتِ الْعَصَا وَأَتَتْهُ بِهَا فَلَمَّا رَآهَا الشَّيْخُ قَالَ ائْتِيهِ بِغَيْرِهَا فَأَلْقَتْهَا وَأَرَادَتْ أَنْ تَأْخُذَ غَيْرَهَا فَلَمْ يَقَعْ فِي يَدِهَا غَيْرُهَا، فَلَمَّا رَأَى الشَّيْخُ ذَلِكَ رَضِيَ بِهِ ثُمَّ نَدِمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَخَرَجَ يَطْلُبُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا لَقِيَهُ قَالَ أَعْطِنِي الْعَصَا، قَالَ مُوسَى هِيَ عَصَايَ فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهَا فَاخْتَصَمَا، ثُمَّ تَوَافَقَا عَلَى أَنْ يَجْعَلَا بَيْنَهُمَا أَوَّلَ رَجُلٍ يَلْقَاهُمَا فَأَتَاهُمَا مَلَكٌ يَمْشِي فَقَضَى بَيْنَهُمَا فَقَالَ ضَعُوهَا عَلَى الْأَرْضِ فَمَنْ حَمَلَهَا فَهِيَ لَهُ فَعَالَجَهَا الشَّيْخُ فَلَمْ يُطِقْ وَأَخَذَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِسُهُولَةٍ، فَتَرَكَهَا الشَّيْخُ لَهُ وَرَعَى لَهُ عَشْرَ سِنِينَ وَثَانِيهَا: رَوَى ابْنُ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ فِي دَارِ بَيْرُونَ ابْنِ أَخِي شُعَيْبٍ بَيْتٌ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا بَيْرُونُ وَابْنَتُهُ الَّتِي زَوَّجَهَا مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهَا كَانَتْ تَكْنُسُهُ وتنطفه، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ عَصَا، وَكَانَ لِبَيْرُونَ أَحَدَ عَشَرَ وَلَدًا مِنَ الذُّكُورِ فَكُلَّمَا أَدْرَكَ مِنْهُمْ وَلَدٌ أَمَرَهُ بِدُخُولِ الْبَيْتِ وَإِخْرَاجِ عَصًا مِنْ تِلْكَ الْعِصِيِّ فَرَجَعَ مُوسَى ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَلَمْ يَجِدْ أَهْلَهُ واحتج إِلَى عَصَا لِرَعْيهِ فَدَخَلَ ذَلِكَ الْبَيْتَ وَأَخَذَ عَصًا مِنْ تِلْكَ الْعِصِيِّ وَخَرَجَ بِهَا فَلَمَّا عَلِمَتِ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ انْطَلَقَتْ إِلَى أَبِيهَا وَأَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ فَسُرَّ بِذَلِكَ بَيْرُونُ وَقَالَ لَهَا إِنَّ زَوْجَكِ هَذَا لَنَبِيٌّ، وَإِنَّ لَهُ مَعَ هَذِهِ الْعَصَا لَشَأْنًا وَثَالِثُهَا: فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا عَقَدَ الْعَقْدَ مَعَ شُعَيْبٍ وَأَصْبَحَ مِنَ الْغَدِ وَأَرَادَ الرَّعْيَ قَالَ لَهُ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ اذْهَبْ بِهَذِهِ الْأَغْنَامِ فَإِذَا بَلَغْتَ مَفْرِقَ الطَّرِيقِ فَخُذْ عَلَى يَسَارِكَ وَلَا تَأْخُذْ عَلَى يَمِينِكَ وَإِنْ كَانَ الْكَلَأُ بِهَا أَكْثَرَ فَإِنَّ بِهَا تِنِّينًا عَظِيمًا فَأَخْشَى عَلَيْكَ وَعَلَى الْأَغْنَامِ مِنْهُ، فَذَهَبَ مُوسَى بِالْأَغْنَامِ فَلَمَّا بَلَغَ مَفْرِقَ الطَّرِيقِ أَخَذَتِ الْأَغْنَامُ ذَاتَ الْيَمِينِ فَاجْتَهَدَ مُوسَى عَلَى أَنْ يَرُدَّهَا فَلَمْ يَقْدِرْ فَسَارَ عَلَى أَثَرِهَا فَرَأَى عُشْبًا كَثِيرًا، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَامَ وَالْأَغْنَامُ تَرْعَى وَإِذَا بِالتِّنِّينِ قَدْ جَاءَ فَقَامَتْ عَصَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَاتَلَتْهُ حَتَّى قَتَلَتْهُ وَعَادَتْ إِلَى جَنْبِ مُوسَى وَهِيَ دَامِيَةٌ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ موسى

عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى الْعَصَا دَامِيَةً وَالتِّنِّينَ/ مَقْتُولًا فَارْتَاحَ لِذَلِكَ وَعَلِمَ أَنَّ للَّه تَعَالَى فِي تِلْكَ الْعَصَا قُدْرَةً وَآيَةً، وَعَادَ إِلَى شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ ضَرِيرًا فَمَسَّ الْأَغْنَامَ فَإِذَا هِيَ أَحْسَنُ حَالًا مِمَّا كَانَتْ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْقِصَّةِ فَفَرِحَ بِذَلِكَ وَعَلِمَ أَنَّ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَصَاهُ شَأْنًا، فَأَرَادَ أَنْ يُجَازِيَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى حُسْنِ رَعْيِهِ إِكْرَامًا وَصِلَةً لِابْنَتِهِ فَقَالَ إِنِّي وَهَبْتُ لَكَ مِنَ السِّخَالِ الَّتِي تَضَعُهَا أَغْنَامِي فِي هَذِهِ السَّنَةِ كُلَّ أَبْلَقٍ وَبَلْقَاءَ، فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْمَاءَ الَّذِي تَسْقِي الْغَنَمَ مِنْهُ فَفَعَلَ ثُمَّ سَقَى الْأَغْنَامَ مِنْهُ فَمَا أَخْطَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا إِلَّا وَضَعَتْ حَمْلَهَا مَا بَيْنَ أَبْلَقٍ وَبَلْقَاءَ، فَعَلِمَ شُعَيْبٌ أَنَّ ذَلِكَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَامْرَأَتِهِ فَوَفَّى لَهُ شَرْطَهُ وَرَابِعُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ تِلْكَ الْعَصَا هِيَ عَصَا آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَذَ تِلْكَ الْعَصَا بَعْدَ مَوْتِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانَتْ مَعَهُ حَتَّى لَقِيَ بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ لَيْلًا وَخَامِسُهَا: قَالَ الْحَسَنُ مَا كَانَتْ إِلَّا عَصًا مِنَ الشَّجَرِ اعْتَرَضَهَا اعْتِرَاضًا أَيْ أَخَذَهَا مِنْ عَرْضِ الشَّجَرِ يُقَالُ اعْتَرَضَ إِذَا لَمْ يَتَخَيَّرْ، وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: الشَّجَرَةُ الَّتِي مِنْهَا نُودِيَ شَجَرَةُ الْعَوْسَجِ وَمِنْهَا كَانَتْ عَصَاهُ وَلَا مَطْمَعَ فِي تَرْجِيحِ بَعْضِ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى بَعْضٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا وَالْأَخْبَارُ مُتَعَارِضَةٌ واللَّه أَعْلَمُ بِهَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِثَلَاثِ عِبَارَاتٍ أَحَدُهَا: هَذِهِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ فِي طه [22] وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ فِي النَّمْلِ [12] وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ قَالَ الْعَزِيزِيُّ فِي غَرِيبِ الْقُرْآنِ: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أَدْخِلْهَا فِيهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَأَحْسَنُ النَّاسِ كَلَامًا فِيهِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فِيهِ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَلَبَ اللَّه لَهُ الْعَصَا حَيَّةً فَزِعَ وَاضْطَرَبَ فَاتَّقَاهَا بِيَدِهِ كَمَا يَفْعَلُ الْخَائِفُ مِنَ الشَّيْءِ، فَقِيلَ لَهُ إِنَّ اتِّقَاءَكَ بِيَدِكَ فِيهِ غَضَاضَةٌ عِنْدَ الْأَعْدَاءِ، فَإِذَا أَلْقَيْتَهَا فَكَمَا تَنْقَلِبُ حَيَّةً فَأَدْخِلْ يَدَكَ تَحْتَ عَضُدِكَ مَكَانَ اتِّقَائِكَ بِهَا، ثُمَّ أَخْرِجْهَا بَيْضَاءَ لِيَحْصُلَ الْأَمْرَانِ اجْتِنَابُ مَا هُوَ غَضَاضَةٌ عَلَيْكَ وَإِظْهَارُ مُعْجِزَةٍ أُخْرَى، وَالْمُرَادُ بِالْجَنَاحِ الْيَدُ لِأَنَّ يَدَيِ الْإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةِ جَنَاحَيِ الطَّائِرِ، وَإِذَا أَدْخَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ عَضُدِهِ الْيُسْرَى فَقَدْ ضَمَّ جَنَاحَهُ إِلَيْهِ الثَّانِي: أَنْ يُرَادَ بِضَمِّ جَنَاحِهِ إِلَيْهِ تَجَلُّدُهُ وَضَبْطُهُ نَفْسَهُ وَتَشَدُّدُهُ عِنْدَ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً حَتَّى لَا يَضْطَرِبَ وَلَا يَرْهَبَ اسْتَعَارَهُ مِنْ فِعْلِ الطَّائِرِ، لِأَنَّهُ إِذَا خَافَ نَشَرَ جَنَاحَيْهِ وَأَرْخَاهُمَا وَإِلَّا فَجَنَاحَاهُ مَضْمُومَانِ إليه مشمران، ومعنى قوله: مِنَ الرَّهْبِ من أجل الرَّهْبِ، أَيْ إِذَا أَصَابَكَ الرَّهْبُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْحَيَّةِ فَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ وَقَوْلُهُ: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ وَاحِدٌ، وَلَكِنْ خُولِفَ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ، وَإِنَّمَا كَرَّرَ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْغَرَضَ فِي أَحَدِهِمَا خُرُوجُ الْيَدِ بَيْضَاءَ وَفِي الثَّانِي إِخْفَاءُ الرَّهْبِ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ جُعِلَ الْجَنَاحُ وَهُوَ الْيَدُ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ/ مَضْمُومًا وَفِي الْآخَرِ مَضْمُومًا إِلَيْهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ وَقَوْلُهُ: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ [طه: 22] فَمَا التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْنَا الْمُرَادُ بِالْجَنَاحِ الْمَضْمُومِ هُوَ الْيَدُ الْيُمْنَى، وَبِالْمَضْمُومِ إِلَيْهِ الْيَدُ الْيُسْرَى، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ يُمْنَى الْيَدَيْنِ وَيُسْرَاهُمَا جَنَاحٌ، هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ فِي نِهَايَةِ الْحُسْنِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذانِكَ قُرِئَ مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا، فَالْمُخَفَّفُ مُثَنَّى (ذَا) «1» ، وَالْمُشَدَّدُ مُثَنَّى

_ (1) في الكشاف (ذلك)

[سورة القصص (28) : الآيات 33 إلى 37]

(ذَانٍ) «1» ، قَوْلُهُ: بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ حُجَّتَانِ نَيِّرَتَانِ عَلَى صِدْقِهِ فِي النُّبُوَّةِ وَصِحَّةِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَظَاهِرُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِذَلِكَ قَبْلَ لِقَاءِ فِرْعَوْنَ حَتَّى عَرَفَ مَا الَّذِي يُظْهِرُهُ عِنْدَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [القصص: 33] قَالَ الْقَاضِي: وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ ظُهُورِ الْبُرْهَانَيْنِ هُنَاكَ مَنْ دَعَاهُ إِلَى رِسَالَتِهِ مِنْ أَهْلِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ، إِذِ الْمُعْجِزَاتُ إِنَّمَا تَظْهَرُ عَلَى الرُّسُلِ فِي حَالِ الْإِرْسَالِ لَا قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ لِكَيْ يَسْتَدِلَّ بِهَا غَيْرُهُمْ عَلَى الرِّسَالَةِ وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي إِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ مِنْ حِكْمَةٍ وَلَا حِكْمَةَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهَا الْغَيْرُ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي، وأما كونه لا حكمة هاهنا فَلَا نُسَلِّمُ، فَلَعَلَّ هُنَاكَ أَنْوَاعًا مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَقَاصِدِ سِوَى ذَلِكَ، لَا سِيَّمَا وَهَذِهِ الْآيَاتُ مُتَطَابِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَعَ موسى عليه السلام أحد. [سورة القصص (28) : الآيات 33 الى 37] قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ [القصص: 32] تَضَمَّنَ ذَلِكَ أَنْ يَذْهَبَ مُوسَى بِهَذَيْنَ الْبُرْهَانَيْنِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ طَلَبَ مِنَ اللَّه تَعَالَى مَا يُقَوِّي قَلْبَهُ وَيُزِيلُ خَوْفَهُ فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ، وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً لِأَنَّهُ كَانَ فِي لِسَانِهِ حُبْسَةٌ، إِمَّا فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَإِمَّا لِأَجْلِ أَنَّهُ وَضَعَ الجمرة في فيه عند ما نَتَفَ لِحْيَةَ فِرْعَوْنَ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الرِّدْءُ اسْمُ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ، فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ بِهِ، كَمَا أَنَّ الدِّفْءَ اسْمٌ لِمَا يُدْفَأُ بِهِ، يُقَالُ رَدَأْتُ الْحَائِطَ أَرْدَؤُهُ إِذَا دَعَمْتَهُ بِخَشَبٍ أَوْ غَيْرِهِ لِئَلَّا يَسْقُطَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قرأ نافع (ردا) بِغَيْرِ هَمْزٍ وَالْبَاقُونَ بِالْهَمْزِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ (يُصَدِّقُنِي) بِرَفْعِ الْقَافِ، وَيُرْوَى ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالْبَاقُونَ بِجَزْمِ الْقَافِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، فَمَنْ رَفَعَ فَالتَّقْدِيرُ رِدْءًا مُصَدِّقًا لِي، وَمَنْ جَزَمَ كَانَ عَلَى مَعْنَى الْجَزَاءِ، يَعْنِي إِنْ أَرْسَلْتَهُ صَدَّقْنِي وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي [مَرْيَمَ: 5، 6] بِجَزْمِ الثَّاءِ مِنْ يَرِثُنِي. وَرَوَى السُّدِّيُّ عَنْ بعض شيوخه ردءا كيما يصدقني.

_ (1) في الكشاف (ذلك) .

البحث الثالث: الجمهور على أن التصديق لهرون، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمَعْنَى كَيْ يُصَدِّقَنِي فِرْعَوْنُ وَالْمَعْنَى أَرْسِلْ مَعِيَ أَخِي حَتَّى يُعَاضِدَنِي عَلَى إِظْهَارِ الحجة وَالْبَيَانِ، فَعِنْدَ اجْتِمَاعِ الْبُرْهَانَيْنِ رُبَّمَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ تَصْدِيقِ فِرْعَوْنَ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: لَيْسَ الْغَرَضُ بِتَصْدِيقِ هَارُونَ أَنْ يَقُولَ لَهُ صَدَقْتَ، أَوْ يَقُولَ لِلنَّاسِ صَدَقَ مُوسَى، وَإِنَّمَا هُوَ أَنْ يُلَخِّصَ بِلِسَانِهِ الْفَصِيحِ وُجُوهَ الدَّلَائِلِ، وَيُجِيبَ عَنِ الشُّبَهَاتِ وَيُجَادِلَ بِهِ الْكُفَّارَ فَهَذَا هُوَ التَّصْدِيقُ الْمُفِيدُ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي وَفَائِدَةُ الْفَصَاحَةِ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ لَا فِي مُجَرَّدِ قَوْلِهِ: صَدَقْتَ. الْبَحْثُ الْخَامِسُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: إِنَّمَا سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُرْسَلَ هَارُونُ بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَإِنْ كَانَ لَا يَدْرِي هَلْ يَصْلُحُ هَارُونُ لِلْبَعْثَةِ أَمْ لا؟ فلم يكن ليسأل مالا يَأْمَنُ أَنْ يُجَابَ أَوْ لَا يَكُونُ حِكْمَةً، وَيُحْتَمُلُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ سَأَلَهُ لَا مُطْلَقًا بَلْ مَشْرُوطًا عَلَى مَعْنَى، إِنِ اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُهُ الدَّاعِي فِي دُعَائِهِ. الْبَحْثُ السَّادِسُ: قَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ نَبِيَّيْنِ وَآيَتَيْنِ أقوى من نبي يواحد وَآيَةٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ الْقَاضِي وَالَّذِي قَالَهُ مِنْ جِهَةِ الْعَادَةِ أَقْوَى، فَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الدَّلَالَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مُعْجِزَةٍ وَمُعْجِزَتَيْنِ وَنَبِيٍّ وَنَبِيَّيْنِ، لِأَنَّ الْمَبْعُوثَ إِلَيْهِ إِنْ نَظَرَ فِي أَيِّهِمَا كَانَ عَلِمَ، وَإِنْ لَمْ يَنْظُرْ فَالْحَالَةُ وَاحِدَةٌ، هَذَا إِذَا/ كَانَتْ طَرِيقَةُ الدَّلَالَةِ فِي الْمُعْجِزَتَيْنِ وَاحِدَةً، فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتْ وَأَمْكَنَ فِي إِحْدَاهُمَا إِزَالَةُ الشُّبْهَةِ مَا لَا يُمْكِنُ فِي الْأُخْرَى، فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ يَخْتَلِفَا وَيَصْلُحُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمَا بِمَجْمُوعِهِمَا أَقْوَى مِنْ إِحْدَاهُمَا عَلَى مَا قَالَهُ السُّدِّيُّ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى فِي مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، لِأَنَّ مُعْجِزَتَهُمَا كَانَتْ وَاحِدَةً لَا مُتَغَايِرَةً. أَمَّا قَوْلُهُ: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَضُدَ قَوَامُ الْيَدِ وَبِشِدَّتِهَا تَشْتَدُّ، يُقَالُ فِي دُعَاءِ الْخَيْرِ شَدَّ اللَّه عَضُدَكَ، وَفِي ضِدِّهِ فَتَّ اللَّه فِي عَضُدِكِ. وَمَعْنَى سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ سَنُقَوِّيكَ بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْيَدَ تَشْتَدُّ لِشِدَّةِ الْعَضُدِ وَالْجُمْلَةُ تَقْوَى بِشِدَّةِ الْيَدِ عَلَى مُزَاوَلَةِ الْأُمُورِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الرَّجُلَ شُبِّهَ بِالْيَدِ فِي اشْتِدَادِهَا بِاشْتِدَادِ الْعَضُدِ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ يَدٌ مُشْتَدَّةٌ بِعَضُدٍ شَدِيدَةٍ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما فَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى آمَنُهُ مِمَّا كَانَ يَحْذَرُ فَإِنْ قِيلَ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ السُّلْطَانَ هُوَ بِالْآيَاتِ فَكَيْفَ لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِمَا لِأَجْلِ الْآيَاتِ أَوَ لَيْسَ فِرْعَوْنُ قَدْ وَصَلَ إِلَى صَلْبِ السَّحَرَةِ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ ظَاهِرَةً، قُلْنَا إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي هِيَ قَلْبُ الْعَصَا حَيَّةً كَمَا أَنَّهَا مُعْجِزَةٌ فَهِيَ أَيْضًا تَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ ضَرَرِ فِرْعَوْنَ إِلَى مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، لِأَنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا أَنَّهُ مَتَى أَلْقَاهَا صَارَتْ حَيَّةً عَظِيمَةً وَإِنْ أَرَادَ إِرْسَالَهَا عَلَيْهِمْ أَهْلَكَتْهُمْ زَجَرَهُمْ ذَلِكَ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِمَا فَصَارَتْ مَانِعَةً مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِمَا بِالْقَتْلِ وَغَيْرِهِ وَصَارَتْ آيَةً وَمُعْجِزَةً فَجَمَعَتْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَأَمَّا صَلْبُ السَّحَرَةِ فَفِيهِ خِلَافٌ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ مَا صُلِبُوا وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما فَالْمَنْصُوصُ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَيْهِمَا وَإِيصَالُ الضَّرَرِ إِلَى غَيْرِهِمَا لَا يَقْدَحُ فِيهِ، ثم قال: أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ وَالْمُرَادُ إِمَّا الْغَلَبَةُ بِالحجة وَالْبُرْهَانِ فِي الْحَالِ، أَوِ الْغَلَبَةُ فِي الدَّوْلَةِ وَالْمَمْلَكَةِ فِي ثَانِي الْحَالِ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى اللَّفْظِ.

[سورة القصص (28) : الآيات 38 إلى 43]

أَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ طه أَنَّهُ كَيْفَ أَطْلَقَ لَفْظَ الْآيَاتِ وَهُوَ جَمْعٌ عَلَى الْعَصَا وَالْيَدِ. أَمَّا قَوْلُهُ: قالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مُفْتَرًى، فَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ سِحْرًا وَفَاعِلُهُ يُوهِمُ خِلَافَهُ فَهُوَ الْمُفْتَرَى، وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَهُوَ مِنْ قِبَلِهِ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا هُوَ كَذِبٌ مِنْ هَذَا الوجه ثُمَّ ضَمُّوا إِلَيْهِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أَيْ مَا حُدِّثَنَا بِكَوْنِهِ فِيهِمْ، وَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونُوا كَاذِبِينَ فِي ذَلِكَ وَقَدْ سَمِعُوا مِثْلَهُ، أَوْ يُرِيدُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا بِمِثْلِهِ فِي فَظَاعَتِهِ، أَوْ مَا كَانَ الْكُهَّانُ يُخْبِرُونَ بِظُهُورِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَجِيئِهِ بِمَا جَاءَ بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ سَاقِطَةٌ لِأَنَّ حَاصِلَهَا يَرْجِعُ إِلَى التَّقْلِيدِ وَلِأَنَّ حَالَ الْأَوَّلِينَ لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ، إِمَّا أَنْ لَا يُورِدَ عَلَيْهِمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الحجة فَحِينَئِذٍ الْفَرْقُ ظَاهِرٌ أَوْ أُورِدَ عَلَيْهِمْ فَدَفَعُوهُ فَحِينَئِذٍ/ لَا يَجُوزُ جَعْلُ جَهْلِهِمْ وَخَطَئِهِمْ حُجَّةً، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ عَرَفَ مِنْهُمُ الْعِنَادَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ فَإِنَّ مَنْ أَظْهَرَ الحجة وَلَمْ يَجِدْ مِنَ الْخَصْمِ اعْتِرَاضًا عَلَيْهَا وَإِنَّمَا لَمَّا وَجَدَ مِنْهُ الْعِنَادَ صَحَّ أَنْ يَقُولَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ مَعَهُ الْهُدَى وَالحجة مِنَّا جَمِيعًا وَمَنْ هُوَ عَلَى الْبَاطِلِ وَيَضُمَّ إِلَيْهِ طَرِيقَ الْوَعِيدِ وَالتَّخْوِيفِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ مِنْ ثَوَابٍ عَلَى تَمَسُّكِهِ بِالْحَقِّ أَوْ مِنْ عِقَابٍ وَعَاقِبَةُ الدَّارِ هِيَ الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ [الرَّعْدِ: 22، 23] وَقَوْلُهُ: وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْدِ: 42] وَالْمُرَادُ بِالدَّارِ الدُّنْيَا وَعَاقِبَتُهَا وَعُقْبَاهَا أَنْ يُخْتَمَ لِلْعَبْدِ بِالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ وَتَلَقِّي الْمَلَائِكَةِ بِالْبُشْرَى عِنْدَ الْمَوْتِ فَإِنْ قِيلَ الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ وَالْمَذْمُومَةُ كِلْتَاهُمَا يَصِحُّ أَنْ تُسَمَّى عَاقِبَةَ الدَّارِ، لِأَنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَكُونُ خَاتِمَتُهَا بِخَيْرٍ فِي حَقِّ الْبَعْضِ وَبَشَرٍّ فِي حَقِّ الْبَعْضِ الْآخَرِ، فَلِمَ اخْتُصَّتْ خَاتِمَتُهَا بِالْخَيْرِ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ دُونَ خَاتِمَتِهَا بِالشَّرِّ؟ قُلْنَا إِنَّهُ قَدْ وَضَعَ اللَّه سُبْحَانَهُ الدُّنْيَا مَجَازًا إِلَى الْآخِرَةِ وَأَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ لَا يَعْمَلُوا فِيهَا إِلَّا الْخَيْرَ لِيَبْلُغُوا خَاتِمَةَ الْخَيْرِ وَعَاقِبَةَ الصِّدْقِ، فَمَنْ عَمِلِ فِيهَا خِلَافَ مَا وَضَعَهَا اللَّه لَهُ فَقَدْ حَرَّفَ، فَإِذَنْ عَاقِبَتُهَا الْأَصْلِيَّةُ هِيَ عَاقِبَةُ الْخَيْرِ، وَأَمَّا عَاقِبَةُ السُّوءِ فَلَا اعْتِدَادَ بِهَا لِأَنَّهَا مِنْ نَتَائِجِ تَحْرِيفِ الْفُجَّارِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَظْفَرُونَ بِالْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ وَالْمَنَافِعِ بَلْ يَحْصُلُونَ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ وَهَذَا نِهَايَةٌ فِي زَجْرِهِمْ عَنِ العناد الذي ظهر منهم. [سورة القصص (28) : الآيات 38 الى 43] وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)

اعْلَمْ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَتْ عَادَتُهُ مَتَى ظَهَرَتْ حُجَّةُ مُوسَى أَنْ يَتَعَلَّقَ فِي دَفْعِ تِلْكَ الحجة بِشُبْهَةٍ يُرَوِّجُهَا عَلَى أَغْمَارِ قَوْمِهُ وَذَكَرَ هاهنا شُبْهَتَيْنِ الْأُولَى: قَوْلُهُ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى كَلَامَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَفْيُ إِلَهٍ غَيْرِهِ وَالثَّانِي: إِثْبَاتُ إِلَهِيَّةِ نَفْسِهِ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ كَانَ اعْتِمَادُهُ عَلَى أَنَّ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إِثْبَاتُهُ، أَمَّا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَلِأَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ وَالْأَفْلَاكَ كَافِيَةٌ فِي اخْتِلَافِ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِثْبَاتِ صَانِعٍ، وَأَمَّا أَنَّ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إِثْبَاتُهُ فَالْأَمْرُ فِيهِ ظَاهِرٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى كَاذِبَةٌ فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا عَرَفْنَا بِالدَّلِيلِ حُدُوثَ الْأَجْسَامِ عَرَفْنَا حُدُوثَ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ، وَعَرَفْنَا بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمُحْدَثَ، لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ فَحِينَئِذٍ نَعْرِفُ بِالدَّلِيلِ أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ لَهُ صَانِعٌ، وَالْعَجَبُ أَنَّ جَمَاعَةً اعْتَمَدُوا فِي نَفْيِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ عَلَى أَنْ قَالُوا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَوَجَبَ نَفْيُهُ، قَالُوا وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ لَا دَلِيلَ لِأَنَّا بَحَثْنَا وَسَبَرْنَا فَلَمْ نَجِدْ عَلَيْهِ دَلِيلًا، فَرَجَعَ حَاصِلُ كَلَامِهِمْ بَعْدَ التَّحْقِيقِ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُعَرَفُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَجَبَ نَفْيُهُ، وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَقْطَعْ بِالنَّفْيِ بَلْ قَالَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَلَا أُثْبِتُهُ بَلْ أَظُنُّهُ كَاذِبًا فِي دَعْوَاهُ، فَفِرْعَوْنُ عَلَى نِهَايَةِ جَهْلِهِ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ هَذَا الْمُسْتَدِلِّ. أَمَّا الثَّانِي وَهُوَ إِثْبَاتُهُ إِلَهِيَّةَ نَفْسِهِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ يدعي كونه خالقا للسموات وَالْأَرْضِ وَالْبِحَارِ وَالْجِبَالِ وَخَالِقًا لِذَوَاتِ النَّاسَ وَصِفَاتِهِمْ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ مِنْ أَوَائِلِ الْعُقُولِ فَالشَّكُّ فِيهِ يَقْتَضِي زَوَالَ الْعَقْلِ، بَلِ الْإِلَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ فَالرَّجُلُ كَانَ يَنْفِي الصَّانِعَ وَيَقُولُ لَا تَكْلِيفَ عَلَى النَّاسِ إِلَّا أَنْ يُطِيعُوا مَلِكَهُمْ وَيَنْقَادُوا لِأَمْرِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ ادِّعَائِهِ الْإِلَهِيَّةَ لَا مَا ظَنَّهُ الْجُمْهُورُ مِنَ ادِّعَائِهِ كَوْنَهُ خَالِقًا لِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ دَلَّلْنَا فِي سُورَةِ طه [49] فِي تَفْسِيرِ قوله: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَارِفًا باللَّه تَعَالَى وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ تَرْوِيجًا عَلَى الْأَغْمَارِ مِنَ الناس الشبهة الثانية: قوله: فَأَوْقِدْ لِي يَا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ وهاهنا أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ: تَعَلَّقَتِ الْمُشَبِّهَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ اللَّه تَعَالَى فِي السَّمَاءِ قَالُوا لَوْلَا أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ لَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ هَذَا الْقَوْلَ وَالْجَوَابُ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ دَلَّ فِرْعَوْنَ بِقَوْلِهِ: / رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الشعراء: 24] وَلَمْ يَقُلْ هُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ دُونَ الْأَرْضِ، فَأُوهِمَ فِرْعَوْنُ أَنَّهُ يَقُولُ إِنَّ إِلَهَهُ فِي السَّمَاءِ، وَذَلِكَ أَيْضًا مِنْ خُبْثِ فِرْعَوْنَ وَمَكْرِهِ وَدَهَائِهِ. الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ فِرْعَوْنَ هل بنى هذا الصرح؟ قال قَوْمٌ إِنَّهُ بَنَاهُ قَالُوا إِنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِبِنَاءِ الصَّرْحِ جَمَعَ هَامَانُ الْعُمَّالَ حَتَّى اجْتَمَعَ خَمْسُونَ أَلْفَ بَنَّاءٍ سِوَى الْأَتْبَاعِ وَالْأُجَرَاءِ وَأَمَرَ بِطَبْخِ الْآجُرِّ وَالْجِصِّ وَنَجْرِ الْخَشَبِ وَضَرْبِ الْمَسَامِيرِ فَشَيَّدُوهُ حَتَّى بَلَغَ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ بُنْيَانُ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ، فَبَعَثَ اللَّه تَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَضَرَبَهُ بِجَنَاحِهِ فَقَطَعَهُ ثَلَاثَ قِطَعٍ قِطْعَةٌ وَقَعَتْ عَلَى عَسْكَرِ فِرْعَوْنَ فَقَتَلَتْ أَلْفَ أَلْفَ رَجُلٍ وَقِطْعَةٌ وَقَعَتْ فِي الْبَحْرِ وَقِطْعَةٌ فِي الْمَغْرِبِ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ عُمَّالِهِ إِلَّا وَقَدْ هَلَكَ، وَيُرْوَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ فِرْعَوْنَ ارْتَقَى فَوْقَهُ وَرَمَى بِنُشَّابَةٍ نَحْوَ السَّمَاءِ فَأَرَادَ اللَّه أَنْ يَفْتِنَهُمْ فَرُدَّتْ إِلَيْهِمْ وَهِيَ مَلْطُوخَةٌ بِالدَّمِ، فَقَالَ قَدْ قَتَلْتُ إِلَهَ

مُوسَى فَعِنْدَ ذَلِكَ بَعَثَ اللَّه تَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِهَدْمِهِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَمْ يَبْنِ ذَلِكَ الصَّرْحَ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ مِنَ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَظُنُّوا أَنَّهُمْ بِصُعُودِ الصَّرْحِ يَقْرَبُونَ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ مَنْ عَلَى أَعْلَى الْجِبَالِ الشَّاهِقَةِ يَرَى السَّمَاءَ كَمَا كَانَ يَرَاهَا حِينَ كَانَ عَلَى قَرَارِ الْأَرْضِ، وَمَنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْعَقْلِ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا يُقَالُ مِنْ رَمْيِ السَّهْمِ إِلَى السَّمَاءِ وَرُجُوعِهِ مُتَلَطِّخًا بِالدَّمِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ كَامِلَ الْعَقْلِ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إِيصَالَ السَّهْمِ إِلَى السَّمَاءِ، وَأَنَّ مَنْ حَاوَلَ ذَلِكَ كَانَ مِنَ الْمَجَانِينِ فَلَا يَلِيقُ بِالْعَقْلِ وَالدِّينِ حَمْلُ الْقِصَّةِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّه تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَحْمَلٍ يُعَرَفُ فَسَادُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ مَشْرَعًا قَوِيًّا لِمَنْ أَحَبَّ الطَّعْنَ فِي الْقُرْآنِ، فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ كَانَ أُوهِمَ الْبِنَاءَ وَلَمْ يَبِنِ أَوْ كَانَ هَذَا مِنْ تَتِمَّةِ قَوْلِهِ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي يَعْنِي لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِهِ بِالدَّلِيلِ، فَإِنَّ حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ كَافِيَةٌ فِي تَغَيُّرِ هَذَا الْعَالَمِ وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِهِ بالحسن، فَإِنَّ الْإِحْسَاسَ بِهِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ صُعُودِ السَّمَاءِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، ثم قال عِنْدَ ذَلِكَ لِهَامَانَ: ابْنِ لِي صرحا أبلغ به أسباب السماوات وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ فَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَرَّرَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى الصَّانِعِ، ثُمَّ إِنَّهُ رَتَّبَ النَّتِيجَةَ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ فَهَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى مِمَّا عَدَاهُ. الثَّالِثُ: إِنَّمَا قَالَ: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ وَلَمْ يَقُلْ اطْبُخْ لِي الْآجُرَّ وَاتَّخِذْهُ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ عَمِلَ الْآجُرَّ فَهُوَ يُعَلِّمُهُ الصَّنْعَةَ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ أَلْيَقُ بِفَصَاحَةِ الْقُرْآنِ وَأَشْبَهُ بِكَلَامِ الْجَبَابِرَةِ وَأَمَرَ هَامَانَ، وَهُوَ وزيره بالإيقاد على الطين فنادى باسمه بيافي وَسَطِ الْكَلَامِ دَلِيلٌ عَلَى التَّعَظُّمِ وَالتَّجَبُّرِ، وَالطُّلُوعُ وَالِاطِّلَاعُ الصُّعُودُ يُقَالُ طَلَعَ الْجَبَلَ وَاطَّلَعَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِكْبَارَ بِالْحَقِّ إِنَّمَا هُوَ للَّه تَعَالَى وَهُوَ الْمُتَكَبِّرُ فِي الْحَقِيقَةِ أَيِ الْمُبَالِغُ فِي كِبْرِيَاءِ الشَّأْنِ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا حَكَى عَنْ رَبِّهِ «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظْمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِي النَّارِ «1» » وَكُلُّ مُسْتَكْبِرٍ سِوَاهُ فَاسْتِكْبَارُهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَعْطَاهُ الْمُلْكَ وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ بِحَقٍّ وَهَكَذَا كُلُّ مُتَغَلِّبٍ، لَا كَمَا ادَّعَى مُلُوكُ بَنِي أُمَيَّةَ عِنْدَ تَغَلُّبِهِمْ أَنَّ مُلْكَهُمْ مِنَ اللَّه تَعَالَى فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ فِي كُلِّ غَاصِبٍ لِحُكْمِ اللَّه أَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ وُصُولَ ذَلِكَ الْمُلْكِ إِلَيْهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ أَوْ مِنَ اللَّه تَعَالَى، أَوْ لَا مِنْهُ وَلَا مِنَ اللَّه تَعَالَى، فَإِنْ كَانَ مِنْهُ فَلِمَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَرُبَّمَا كَانَ الْعَاجِزُ أَقْوَى وَأَعْقَلَ بِكَثِيرٍ مِنَ الْمُتَوَلِّي لِلْأَمْرِ؟ وَإِنْ كَانَ مِنَ اللَّه تَعَالَى فَقَدْ صَحَّ الْغَرَضُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ فَلِمَ اجْتَمَعَتْ دَوَاعِي النَّاسِ عَلَى نُصْرَةِ أَحَدِهِمَا وَخِذْلَانِ الْآخَرِ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَرْتَابَ فِيهِ الْعَاقِلُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا يُرْجَعُونَ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عَارِفِينَ باللَّه تَعَالَى إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ تَمَرَّدُوا وَطَغَوْا «2» . أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَهُوَ مِنَ الْكَلَامِ الْمُفْحِمِ الَّذِي دَلَّ بِهِ عَلَى عِظَمِ شَأْنِهِ وَكِبْرِيَاءِ سُلْطَانِهِ، شَبَّهَهُمُ اسْتِحْقَارًا لَهُمْ وَاسْتِقْلَالًا لِعَدَدِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا الْكَبِيرَ الْكَثِيرَ وَالْجَمَّ الْغَفِيرَ بحصيات

_ (1) لهذا الحديث تتمة وهي «فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِي النَّارِ ولا أبالي» . (2) إن تواريخ قدماء المصريين وآثارهم والنقوش التي في معابدهم وأهرامهم تشهد بأنهم كانوا يؤمنون بالرجعة والبعث، فالمراد بالآية تشبيه حالهم في اتباع الأهواء والانصراف عن الآخرة وعدم العمل لما بعد الموت بحال من ينكر البعث.

أَخَذَهُنَّ آخِذٌ فِي كَفِّهِ فَطَرَحَهُنَّ فِي الْبَحْرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ [المرسلات: 27] وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [الْحَاقَّةِ: 14] وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَيْسَ الْغَرَضُ مِنْهُ إِلَّا تَصْوِيرُ أَنَّ كُلَّ مَقْدُورٍ وَإِنْ عَظُمَ فَهُوَ حَقِيرٌ بِالْقِيَاسِ إِلَى قُدْرَتِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ فَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ الْأَصْحَابُ فِي كَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقًا لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ، قَالَ الْجُبَّائِيُّ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلْناهُمْ أَيْ بَيَّنَا ذَلِكَ مِنْ حَالِهِمْ وَسَمَّيْنَاهُمْ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزُّخْرُفِ: 19] وَتَقُولُ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ فِسْقِهِ وَبُخْلِهِ جَعَلَهُ فَاسِقًا وَبَخِيلًا، لَا أَنَّهُ خَلَقَهُمْ أَئِمَّةً لأنهم حال خلقهم لَهُمْ كَانُوا أَطْفَالًا، وَقَالَ الْكَعْبِيُّ: إِنَّمَا قَالَ: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً مِنْ حَيْثُ خَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا فَعَلُوهُ وَلَمْ يُعَاجِلْ بِالْعُقُوبَةِ، وَمِنْ حَيْثُ كَفَرُوا وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ بِالْقَسْرِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: فَزادَتْهُمْ رِجْساً [التَّوْبَةِ: 125] لَمَّا زَادُوا عِنْدَهَا وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ يَسْأَلُ مَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ فَإِذَا بَخِلَ بِهِ قِيلَ لِلسَّائِلِ جَعَلْتَ فُلَانًا بَخِيلًا أَيْ قَدْ بَخَّلْتُهُ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ مَعْنَى الْإِمَامَةِ التَّقَدُّمِ فَلَمَّا عَجَّلَ اللَّه تَعَالَى لَهُمُ الْعَذَابَ صَارُوا مُتَقَدِّمِينَ لِمَنْ وَرَاءَهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: [83] فِي قَوْلِهِ: أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ وَمَعْنَى دَعَوْتِهِمْ إِلَى النَّارِ دَعْوَتُهُمْ إِلَى مُوجِبَاتِهَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَدْعُو إِلَى النَّارِ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُمُ اللَّه تَعَالَى أَئِمَّةً فِي هَذَا الْبَابِ، لِأَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي هذا الباب أقص النِّهَايَاتِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَقَّ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ الْبَابِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ الْعِقَابَ سَيَنْزِلُ بِهِمْ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ التَّخَلُّصُ مِنْهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهُ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ كَمَا يَنْصُرُ الْأَئِمَّةَ الدُّعَاةَ إِلَى الْجَنَّةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً مَعْنَاهُ لَعْنَةُ اللَّه وَالْمَلَائِكَةِ لَهُمْ وَأَمْرُهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ أَيِ الْمُبْعَدِينَ الْمَلْعُونِينَ، وَالْقُبْحُ هُوَ الْإِبْعَادُ، قَالَ اللَّيْثُ يُقَالُ قَبَّحَهُ اللَّه، أَيْ نَحَّاهُ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: مَنْ الْمَشْئُومِينَ بِسَوَادِ الوجه وَزُرْقَةِ الْعَيْنِ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالْأَوَّلُونَ حَمَلُوا الْقُبْحَ عَلَى الْقُبْحِ الرُّوحَانِيِّ، وَهُوَ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّه تَعَالَى، وَالْبَاقُونَ حَمَلُوهُ عَلَى الْقُبْحِ فِي الصُّوَرِ. وَقِيلَ فِيهِ إِنَّهُ تَعَالَى يُقَبِّحُ صُوَرَهُمْ وَيُقَبِّحُ عَلَيْهِمْ عَمَلَهُمْ وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْفَضِيحَتَيْنِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي يَجِبُ التَّمَسُّكُ بِهِ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى وَالْكِتَابُ هُوَ التَّوْرَاةُ، وَوَصَفَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ بَصَائِرُ لِلنَّاسِ، مِنْ حَيْثُ يُسْتَبْصَرُ بِهِ فِي بَابِ الدِّينِ، وَهُدًى مِنْ حَيْثُ يُسْتَدَلُّ بِهِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُتَمَسِّكَ بِهِ يَفُوزُ بِطَلِبَتِهِ مِنَ الثَّوَابِ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِأَنَّهُ مِنْ نِعَمِ اللَّه تَعَالَى عَلَى مَنْ تَعَبَّدَ بِهِ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَهْلَكَ اللَّه تَعَالَى قَرْنًا مِنَ الْقُرُونِ بِعَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا مِنَ الْأَرْضِ مُنْذُ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ، غَيْرَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّتِي مَسَخَهَا قِرَدَةً» . أَمَّا قَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَالْمُرَادُ لِكَيْ يَتَذَكَّرُوا، قَالَ الْقَاضِي: وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ التَّذَكُّرِ مِنْ كُلِّ مُكَلَّفٍ سَوَاءٌ اخْتَارَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَخْتَرْهُ، فَفِيهِ إِبْطَالُ مَذْهَبِ الْمُجْبِرَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا أَرَادَ التَّذَكُّرَ إِلَّا مِمَّنْ يَتَذَكَّرُ، فَأَمَّا مَنْ لَا يَتَذَكَّرُ فَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَنَصُّ الْقُرْآنِ دَافِعٌ لِهَذَا الْقَوْلِ، قُلْنَا أليس أنكم حملتهم قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ [الْأَعْرَافِ: 179] عَلَى العاقبة، فلم لا يجوز حمله هاهنا عَلَى الْعَاقِبَةِ، فَإِنَّ عَاقِبَةَ الْكُلِّ حُصُولُ هَذَا التذكر له وذلك في الآخرة.

[سورة القصص (28) : الآيات 44 إلى 47]

[سورة القصص (28) : الآيات 44 الى 47] وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ إلى قوله فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْجَانِبُ مَوْصُوفٌ، وَالْغَرْبِيُّ صِفَةٌ، فَكَيْفَ أَضَافَ الْمَوْصُوفَ إِلَى الصِّفَةِ؟ الْجَوَابُ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ، فَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَجُوزُ إِضَافَةُ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ إِلَّا بِشَرْطٍ خَاصٍّ سَنَذْكُرُهُ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ يَجُوزُ ذَلِكَ مُطْلَقًا حُجَّةُ الْبَصْرِيِّينَ، أَنَّ إِضَافَةَ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ تَقْتَضِي إِضَافَةَ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ فَذَاكَ أَيْضًا غَيْرُ جَائِزٍ، بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ جَاءَنِي زَيْدٌ الظَّرِيفُ، فَلَفْظُ الظَّرِيفِ يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ فِي نَفْسِهِ مَجْهُولٌ بِحَسْبَ هَذَا اللَّفْظِ حَصَلَتْ لَهُ الظَّرَافَةُ، فَإِذَا نَصَصْتَ عَلَى زَيْدٍ عَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ الَّذِي حَصَلَتْ لَهُ الظَّرَافَةُ هُوَ زَيْدٌ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَوْ أَضَفْتَ زَيْدًا إِلَى الظَّرِيفِ، كُنْتَ قَدْ أَضَفْتَ زَيْدًا إِلَى زَيْدٍ، وَإِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ غَيْرُ جَائِزَةٍ، فَإِضَافَةُ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ وَجَبَ أَنْ لَا تَجُوزَ، إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَلْفَاظٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ وَقَوْلُهُ: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [الْبَيِّنَةِ: 5] وَقَوْلُهُ: حَقُّ الْيَقِينِ [الواقعة: 95] وَلَدارُ الْآخِرَةِ [النحل: 30] وَيُقَالُ صَلَاةُ الْأُولَى وَمَسْجِدُ الْجَامِعِ وَبَقْلَةُ الْحَمْقَاءِ، فَقَالُوا التَّأْوِيلُ فِيهِ جَانِبُ الْمَكَانِ الْغَرْبِيِّ وَدِينُ الْمِلَّةِ الْقَيِّمَةِ وَحَقُّ الشَّيْءِ الْيَقِينِ وَدَارُ السَّاعَةِ الْآخِرَةِ وَصَلَاةُ السَّاعَةِ الْأُولَى وَمَسْجِدُ الْمَكَانِ الْجَامِعِ وَبَقْلَةُ الْحَبَّةِ الْحَمْقَاءِ، ثُمَّ قَالُوا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ: الْمُضَافُ إِلَيْهِ لَيْسَ هُوَ النَّعْتَ، بَلِ الْمَنْعُوتُ، إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ الْمَنْعُوتُ وَأُقِيمَ النَّعْتُ مَقَامَهُ فَهَهُنَا يُنْظَرُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ النَّعْتُ كَالْمُتَعَيِّنِ لِذَلِكَ الْمَنْعُوتِ، حَسُنَ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لَكَ أَنْ تَقُولَ عِنْدِي جَيِّدٌ عَلَى مَعْنَى عِنْدِي دِرْهَمٌ جَيِّدٌ، وَيَجُوزُ مَرَرْتُ بِالْفَقِيهِ عَلَى مَعْنَى مَرَرْتُ بِالرَّجُلِ الْفَقِيهِ، لِأَنَّ الْفَقِيهَ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ النَّاسِ وَالْجَيِّدُ قَدْ يَكُونُ دِرْهَمًا وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حَسُنَ قَوْلُهُ جَانِبُ الْغَرْبِيِّ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمَوْصُوفَ بِالْغَرْبِيِّ الَّذِي يُضَافُ إِلَيْهِ الْجَانِبُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَكَانًا أَوْ مَا يُشْبِهُهُ، فَلَا جَرَمَ حَسُنَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْبَوَاقِي واللَّه أَعْلَمُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ؟ الْجَوَابُ: الْجَانِبُ الْغَرْبِيُّ هُوَ الْمَكَانُ الْوَاقِعُ فِي شِقِّ الْغَرْبِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ مِيقَاتُ مُوسَى عَلَيْهِ السلام من الطور، وكتب اللَّه [له] «1» فِي الْأَلْوَاحِ وَالْأَمْرُ الْمَقْضِيُّ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْوَحْيُ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: وَمَا كُنْتَ حاضرا

_ (1) زيادة من الكشاف.

الْمَكَانِ الَّذِي أَوْحَيْنَا فِيهِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا كُنْتَ مِنْ جُمْلَةِ الشَّاهِدِينَ لِلْوَحْيِ إِلَيْهِ أَوْ عَلَى (الْمُوحَى) «1» إِلَيْهِ، (وَهِيَ لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ حَاضِرًا) «2» ، وَهُمْ نُقَبَاؤُهُ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ لِلْمِيقَاتِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لَمَّا قَالَ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَاهِدًا، لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي إِعَادَةِ قَوْلِهِ: وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ؟ الْجَوَابُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: التَّقْدِيرُ لَمْ تَحْضُرْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، وَلَوْ حَضَرْتَ فَمَا شَاهَدْتَ تِلْكَ الْوَقَائِعَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ، وَلَا يَشْهَدُ وَلَا يَرَى. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: كَيْفَ يَتَّصِلُ قَوْلُهُ: وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً بِهَذَا الْكَلَامِ وَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ يَكُونُ اسْتِدْرَاكًا لَهُ؟ الْجَوَابُ: مَعْنَى الْآيَةِ: وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا بَعْدَ عَهْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى عَهْدِكَ قُرُونًا كَثِيرَةً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَهُوَ الْقَرْنُ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ، فَانْدَرَسَتِ الْعُلُومُ فَوَجَبَ إِرْسَالُكَ إِلَيْهِمْ، فَأَرْسَلْنَاكَ وَعَرَّفْنَاكَ أَحْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَحْوَالَ مُوسَى، فَالْحَاصِلُ كَأَنَّهُ قَالَ وَمَا كُنْتَ شَاهِدًا لِمُوسَى وَمَا جَرَى عَلَيْهِ، وَلَكِنَّا أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْكَ فَذَكَرَ سَبَبَ الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ إِطَالَةُ الْفَتْرَةِ وَدَلَّ بِهِ عَلَى الْمُسَبَّبِ، فَإِذَنْ هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ شَبِيهُ الِاسْتِدْرَاكَيْنِ بَعْدَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْمُعْجِزِ كَأَنَّهُ قَالَ إِنَّ فِي إِخْبَارِكَ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ غَيْرِ حُضُورٍ وَلَا مُشَاهَدَةٍ وَلَا تَعَلُّمٍ مِنْ أَهْلِهِ، دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى نُبُوَّتِكَ كَمَا قَالَ: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى [طه: 133] . أَمَّا قَوْلُهُ: وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ فالمعنى ما كنت مقيما فيه. وأما قوله: تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: يَقُولُ لَمْ تَشْهَدْ أَهْلَ مَدْيَنَ فَتَقْرَأَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ خَبَرَهُمْ وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ أَيْ أَرْسَلْنَاكَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عَلِمْتَهَا الثَّانِي: قَالَ الضَّحَّاكُ: يَقُولُ إِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لَمْ تَكُنِ الرَّسُولَ إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ وَإِنَّمَا كَانَ غَيْرُكَ وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ رَسُولًا، فَأَرْسَلْنَا إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ شُعَيْبًا وَأَرْسَلْنَاكَ إِلَى الْعَرَبِ لِتَكُونَ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا يُرِيدُ مُنَادَاةَ مُوسَى لَيْلَةَ الْمُنَاجَاةِ وَتَكْلِيمَهُ وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أَيْ عَلَّمْنَاكَ رَحْمَةً، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِالرَّفْعِ أَيْ هِيَ رَحْمَةٌ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ: إِذْ نادَيْنا وُجُوهًا أُخَرَ أَحَدُهَا: إِذْ نَادَيْنَا أَيْ قُلْنَا لموسى وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْأَعْرَافِ: 156، 157] . وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذْ نَادَيْنَا أُمَّتَكَ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ: «يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أَجَبْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي، وَأَعْطَيْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي، وَغَفَرْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْتَغْفِرُونِي» قَالَ وَإِنَّمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ حِينَ اخْتَارَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِ رَبِّهِ وَثَالِثُهَا: قَالَ وَهْبٌ: «لَمَّا ذَكَرَ اللَّه لِمُوسَى فَضْلِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَبِّ أَرِنِيهِمْ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تُدْرِكَهُمْ وَإِنْ شِئْتَ أَسْمَعْتُكَ أَصْوَاتَهُمْ قَالَ بَلَى يَا رَبِّ فَقَالَ سُبْحَانَهُ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ فَأَجَابُوهُ مِنْ أَصْلَابِ آبَائِهِمْ فَأَسْمَعَهُ اللَّه تَعَالَى أَصْوَاتَهُمْ ثم قال: أَجَبْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُوَنِي» الْحَدِيثَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَرَابِعُهَا: رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا قَالَ كَتَبَ اللَّه كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ بِأَلْفَيْ عَامٍ ثُمَّ وَضَعَهُ عَلَى الْعَرْشِ ثُمَّ/ نَادَى «يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ إن رحمتي سبقت

_ (1) في الكشاف (الوحي) . (2) السؤال الثاني منقول عن الكشاف ولكن ما بين الهلالين غير مثبت فيه. [.....]

غَضَبِي أَعْطَيْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي وَغَفَرْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْتَغْفِرُونِي مَنْ لَقِيَنِي مِنْكُمْ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ» . أَمَّا قَوْلُهُ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ فَالْإِنْذَارُ هُوَ التَّخْوِيفُ بِالْعِقَابِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِرَسُولِهِ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ ... وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ... وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ فَجَمَعَ تَعَالَى بَيْنَ كُلِّ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ الثَّلَاثَةَ هِيَ الْأَحْوَالُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي اتَّفَقَتْ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ إِنْزَالُ التَّوْرَاةِ حَتَّى تَكَامَلَ دِينُهُ وَاسْتَقَرَّ شَرْعُهُ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَما كُنْتَ ثاوِياً أَوَّلَ أَمْرِهِ وَالْمُرَادُ نَادَيْنَاهُ وَسَطَ أَمْرِهِ وَهُوَ لَيْلَةُ الْمُنَاجَاةِ، وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ حَاضِرًا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَهُ وَعَرَّفَهُ هَذِهِ الْأَحْوَالَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ثُمَّ فَسَّرَ تِلْكَ الرَّحْمَةَ بِأَنْ قَالَ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَمْ يُبْعَثْ إِلَيْهِمْ نَذِيرٌ مِنْهُمْ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حُجَّةُ الْأَنْبِيَاءِ كَانَتْ قَائِمَةً عَلَيْهِمْ وَلَكِنَّهُ مَا بَعَثَ إِلَيْهِمْ مَنْ يجد تِلْكَ الحجة عَلَيْهِمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَبْعُدُ وُقُوعُ الْفَتْرَةِ فِي التَّكَالِيفِ فَبَعَثَهُ اللَّه تَعَالَى تَقْرِيرًا لِلتَّكَالِيفِ وَإِزَالَةً لِتِلْكَ الْفَتْرَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ الْآيَةِ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : (لَوْلَا) الْأُولَى امْتِنَاعِيَّةٌ وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ، وَالثَّانِيَةُ تَحْضِيضِيَّةٌ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَيَقُولُوا لِلْعَطْفِ، (وَفِي قَوْلِهِ لِلْعَطْفِ) «1» . وَفِي قَوْلِهِ: فَنَتَّبِعَ جَوَابُ (لَوْلَا) لِكَوْنِهَا فِي حُكْمِ الْأَمْرِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْأَمْرَ بَاعِثٌ عَلَى الْفِعْلِ، وَالْبَاعِثُ وَالْمُحَضِّضُ مِنْ واد واحد، والمعنى لولا أَنَّهُمْ قَائِلُونَ إِذَا عُوقِبُوا بِمَا قَدَّمُوا مِنَ الشرك والمعاصي: هلا أرسلت لينا رَسُولًا، مُحْتَجِّينَ عَلَيْنَا بِذَلِكَ لَمَا أَرْسَلَنَا إِلَيْهِمْ، يَعْنِي إِنَّمَا أَرْسَلْنَا الرَّسُولَ إِزَالَةً لِهَذَا الْعُذْرِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ [الْمَائِدَةِ: 19] لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ وَلَوْلَا أَنْ يَقُولُوا هَذَا الْعُذْرَ لَمَا أَرْسَلْنَا، بَلْ قَالَ: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ ... فَيَقُولُوا هَذَا الْعَدُوُّ لَمَا أَرْسَلْنَا وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِنُكْتَةٍ وَهِيَ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يُعَاقَبُوا مَثَلًا وَقَدْ عَرَفُوا بُطْلَانَ دِينِهِمْ لَمَا قَالُوا ذَلِكَ، بَلْ إِنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ إِذَا نَالَهُمُ الْعِقَابُ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا هَذَا الْعُذْرَ تَأَسُّفًا عَلَى كُفْرِهِمْ، بَلْ لِأَنَّهُمْ مَا أَطَاقُوا وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِحْكَامِ كُفْرِهِمْ وَرُسُوخِهِ فِيهِمْ كَقَوْلِهِ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الْأَنْعَامِ: 28] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ عَلَى وُجُوبِ فِعْلِ اللُّطْفِ قَالَ لَوْ لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: هَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ، إِذْ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ لَا يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا لَا يَخْتَارُونَ الْإِيمَانَ إِلَّا عِنْدَهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ خَالَفَ فِي وُجُوبِ اللُّطْفِ كَمَا مَرَّ أَنَّ الْجَائِزَ إِذَا كَانَ فِي الْمَعْلُومِ لَوْ خُلِقَ لَهُ لَمْ يُمْكِنْ إِلَّا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. المسألة الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْكَعْبِيُّ بِهِ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقْبَلُ حُجَّةَ الْعِبَادِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ الحجة وَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّهُ ليس المراد من قوله: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الْأَنْبِيَاءِ: 23] مَا يَظُنُّهُ أَهْلُ السُّنَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَقْبَلُ الحجة وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ فِعْلُ الْعَبْدِ بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى وَإِلَّا لَكَانَ لِلْكَافِرِ أَعْظَمُ حُجَّةٍ عَلَى اللَّه تعالى.

_ (1) ما بين الهلالين غير مثبت في الكشاف ويستحسن الرجوع إليه.

[سورة القصص (28) : الآيات 48 إلى 55]

المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ إِبْطَالُ الْقَوْلِ بِالْجَبْرِ مِنْ جِهَاتٍ: إِحْدَاهَا: أَنَّ اتِّبَاعَهُمْ وَإِيمَانَهُمْ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ اللَّه ذَلِكَ فِيهِمْ سَوَاءٌ أَرْسَلَ الرَّسُولَ إِلَيْهِمْ أَمْ لَا وَثَانِيَتُهَا: أَنَّهُ إِذَا خَلَقَ الْقُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ فِيهِمْ وجب سواء أرسل الرسول أم لا ثالثتها: إِذَا أَرَادَ ذَلِكَ وَجَبَ أَرْسَلَ الرَّسُولَ إِلَيْهِمْ أَمْ لَا، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا لَوْ كَانَتْ أَفْعَالُهُمْ خَلْقًا للَّه تَعَالَى؟ فَيُقَالُ لِلْقَاضِي هَبْ أَنَّكَ نَازَعْتَ فِي الْخَلْقِ وَالْإِرَادَةِ وَلَكِنَّكَ وَافَقْتَ فِي الْعِلْمِ فَإِذَا عَلِمَ الْكُفْرَ مِنْهُمْ فَهَلْ يَجِبُ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَجِبْ أَمْكَنَ أَنْ لَا يُوجَدَ الْكُفْرُ مَعَ حُصُولِ الْعِلْمِ بِالْكُفْرِ وَذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَإِنْ وَجَبَ لَزِمَكَ مَا أَوْرَدْتَهُ عَلَيْنَا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا حَسَنًا إِلَّا أَنَّهُ إِذَا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ النَّقْضُ الَّذِي لَا مَحِيصَ عَنْهُ، فَكَيْفَ يَرْضَى الْعَاقِلُ بِأَنْ يُعَوِّلَ عليه؟ [سورة القصص (28) : الآيات 48 الى 55] فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَ الْخَوْفِ قَالُوا هَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ «1» ، بَيَّنَ أَيْضًا أَنَّهُ بَعْدَ الْإِرْسَالِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى فَهَؤُلَاءِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ يَتَعَلَّقُونَ بِشُبْهَةٍ وَبَعْدَ الْبَعْثَةِ يَتَعَلَّقُونَ بِأُخْرَى، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا مَقْصُودَ لَهُمْ سِوَى الزَّيْغِ وَالْعِنَادِ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا أَيْ جَاءَهُمُ الرَّسُولُ الْمُصَدِّقُ بِالْكِتَابِ الْمُعْجِزِ مَعَ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ قالوا لولا أتي مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى مِنَ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَمِنْ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ كَقَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً وَالْيَدِ الْبَيْضَاءِ وَفَلْقِ الْبَحْرِ وَتَظْلِيلِ الْغَمَامِ وَانْفِجَارِ الْحَجَرِ بِالْمَاءِ وَالْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَمِنْ أَنَّ اللَّه كَلَّمَهُ وَكَتَبَ لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ وَغَيْرِهَا من الآيات فجاؤا بِالِاقْتِرَاحَاتِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ كَمَا قَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ [هود: 12] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي اقْتَرَحُوهُ غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةً وَلَا فِيمَا يَنْزِلُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْكُتُبِ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ إِذِ الصَّلَاحُ قَدْ يَكُونُ في إنزاله مجموعا كالتوراة ومفرقا

_ (1) يشير إلى الآية [47] السابقة.

كَالْقُرْآنِ، ثُمَّ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا إِلَى مَنْ يَعُودُ، وَذَكَرُوا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الْيَهُودَ أَمَرُوا قُرَيْشًا أَنْ يَسْأَلُوا مُحَمَّدًا أَنْ يُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى يعني أو لم تَكْفُرُوا يَا هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ الَّذِينَ اسْتَخْرَجُوا هَذَا السُّؤَالَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ تِلْكَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ وَثَانِيهَا: إِنَّ الَّذِينَ أَوْرَدُوا هَذَا الِاقْتِرَاحَ كُفَّارُ مَكَّةَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِمُوسَى هُمُ الَّذِينَ كانوا في زطمان مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمْ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالتَّعَنُّتِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ إِنَّ مُشْرِكِي مَكَّةَ بَعَثُوا رَهْطًا إِلَى يَهُودِ الْمَدِينَةِ لِيَسْأَلَهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ وَشَأْنِهِ فَقَالُوا إِنَّا نَجِدُهُ فِي التَّوْرَاةِ بِنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ، فَلَمَّا/ رَجَعَ الرَّهْطُ إِلَيْهِمْ وَأَخْبَرُوهُمْ بِقَوْلِ الْيَهُودِ قَالُوا إِنَّهُ كَانَ سَاحِرًا كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا سَاحِرٌ، فَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى وَرَابِعُهَا: قَالَ الْحَسَنُ قَدْ كَانَ لِلْعَرَبِ أَصْلٌ فِي أَيَّامِ مُوسَى عَلَيْهِ السلام فمعناه على هذا أو لم يَكْفُرْ آبَاؤُهُمْ بِأَنْ قَالُوا فِي مُوسَى وَهَارُونَ ساحران وخامسها: قال قتادة أو لم يَكْفُرِ الْيَهُودُ فِي عَصْرِ مُحَمَّدٍ بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ مِنَ الْبِشَارَةِ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَقَالُوا سَاحِرَانِ وَسَادِسُهَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَمَكَّةَ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِجَمِيعِ النُّبُوَّاتِ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْجِزَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ اللَّه تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ بَلْ بِمَا أُوتِيَ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلُ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا غَرَضَ لَكُمْ فِي هَذَا الِاقْتِرَاحِ إِلَّا التَّعَنُّتَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى كَيْفِيَّةَ كُفْرِهِمْ بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُمْ: ساحران تَظَاهَرَا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ (سَاحِرَانِ) بِالْأَلْفِ وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِغَيْرِ أَلْفٍ وَذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ السَّاحِرَيْنَ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: الْمُرَادُ هَارُونُ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ تَظاهَرا أَيْ تَعَاوَنَا وَقُرِئَ (اظَّاهَرَا) عَلَى الْإِدْغَامِ وَسِحْرَانِ بِمَعْنَى ذَوَيْ سِحْرٍ وَجَعَلُوهُمَا سِحْرَيْنِ مُبَالَغَةً فِي وَصْفِهِمَا بِالسِّحْرِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَسَّرُوا قَوْلَهُ: سِحْرَانِ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْقُرْآنُ وَالتَّوْرَاةُ وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْقِرَاءَةَ بِالْأَلِفِ لِأَنَّ الْمُظَاهَرَةَ بِالنَّاسِ وَأَفْعَالِهِمْ أَشْبَهُ مِنْهَا بِالْكُتُبِ وَجَوَابُهُ: إِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: سِحْرانِ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الرَّجُلَيْنِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْكِتَابَيْنِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْكِتَابَيْنِ يُقَوِّي الْآخَرَ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُقَالَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ تَعَاوَنَا كَمَا تَقُولُ تَظَاهَرَتِ الْأَخْبَارُ وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ إِنَّمَا تَصِحُّ إِذَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى إِمَّا عَلَى كُفَّارِ مَكَّةَ أَوْ عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ أَلْيَقُ بِمَسَاقِ الْآيَةِ الثَّانِي: قَوْلُهُمْ: إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ أَيْ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَمُوسَى وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لا يلق إِلَّا بِالْمُشْرِكِينَ لَا بِالْيَهُودِ وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي أَنَّهُمْ مَعَ كَثْرَةِ آيَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَّبُوهُ فَمَا الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ مِثْلِهِ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ ظَهَرَتْ حُجَّتُهُ، وَلَمَّا أَجَابَ اللَّه تَعَالَى عَنْ شُبَهِهِمْ ذَكَرَ الحجة الدَّالَّةَ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى عَجْزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، قَالَ الزَّجَّاجُ (أَتَّبِعْهُ) بِالْجَزْمِ عَلَى الشَّرْطِ وَمَنْ قَرَأَ (أَتَّبِعُهُ) بِالرَّفْعِ فَالتَّقْدِيرُ أَنَا أَتَّبِعُهُ، ثم قال: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ فَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْحُجَجِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِكِتَابِ أَفْضَلَ مِنْهُمَا وَهَذَا أَشْبَهُ بِالْآيَةِ فَإِنْ قِيلَ الِاسْتِجَابَةُ تَقْتَضِي دُعَاءً فأين الدعاء هاهنا؟ قُلْنَا قَوْلُهُ: فَأْتُوا بِكِتابٍ أَمْرٌ وَالْأَمْرُ دُعَاءٌ إِلَى الْفِعْلِ ثم قال: فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ يَعْنِي قَدْ صَارُوا مُلْزَمِينَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ شَيْءٌ إِلَّا اتِّبَاعَ الْهَوَى ثُمَّ زَيَّفَ طَرِيقَتَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ التَّقْلِيدِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الحجة وَالِاسْتِدْلَالِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَهُوَ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ لِقَوْلِهِ:

إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] وَاحْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهِ فِي أَنَّ هِدَايَةَ اللَّه تَعَالَى خَاصَّةً بِالْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْأَلْطَافُ مِنْهَا مَا يَحْسُنُ فِعْلُهَا مُطْلَقًا وَمِنْهَا مَا لَا يَحْسُنُ إِلَّا بَعْدَ الْإِيمَانِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [مُحَمَّدٍ: 17] فَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقِسْمِ الثَّانِي وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ عَدَمَ بَعْثَةِ الرَّسُولِ جَارٍ مَجْرَى الْعُذْرِ لَهُمْ، فَبِأَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْهِدَايَةِ عُذْرًا لَهُمْ أَوْلَى، وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ قَالَ: وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ وَتَوْصِيلُ الْقَوْلِ هُوَ إِتْيَانُ بَيَانٍ بَعْدَ بَيَانٍ، وَهُوَ مِنْ وَصَلَ الْبَعْضَ بِالْبَعْضِ، وهذا القول الموصل يتحمل أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِنَّا أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا يَتَّصِلُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إِلَى التَّذْكِيرِ وَالتَّنْبِيهِ، فَإِنَّهُمْ كُلَّ يَوْمٍ يطلعون على حكمة أخرى وفائدة زائدة فيكون عِنْدَ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى التَّذَكُّرِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ هَذَا جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ هَلَّا أُوتِيَ مُحَمَّدٌ كِتَابَهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً كَمَا أُوتِيَ مُوسَى كِتَابَهُ كَذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَصَّلْنَا أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ وَأَخْبَارَ الْكُفَّارِ فِي كَيْفِيَّةِ هَلَاكِهِمْ تَكْثِيرًا لِمَوَاضِعِ الِاتِّعَاظِ وَالِانْزِجَارِ ويتحمل أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: بَيَّنَّا الدَّلَالَةَ عَلَى كَوْنِ هذا القرآن معجزا مرة تعد أخى لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى النُّبُوَّةِ أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ أَيْ مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ أَسْلَمُوا بِمُحَمَّدٍ فَمَنْ لَا يَعْرِفُ الْكُتُبَ أَوْلَى بِذَلِكَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: قَالَ قَتَادَةُ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا عَلَى شَرِيعَةٍ حَقَّةٍ يَتَمَسَّكُونَ بِهَا فَلَمَّا بَعَثَ اللَّه تَعَالَى مُحَمَّدًا آمَنُوا به من جملتهم سليمان وَعَبْدُ اللَّه بْنُ سَلَامٍ وَثَانِيهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ نَزَلَتْ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ وهم أصحاب السفينة جاءوا من الحبسة مَعَ جَعْفَرٍ وَثَالِثُهَا: قَالَ رِفَاعَةُ بْنُ قَرَظَةَ نَزَلَتْ فِي عَشْرَةٍ أَنَا أَحَدُهُمْ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَكُلُّ مَنْ حَصَلَ فِي حَقِّهِ تِلْكَ الصِّفَةُ كَانَ دَاخِلًا فِي الْآيَةِ ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ ما يدل على تأكيد إيمانهم وهم قَوْلُهُمْ آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ فَقَوْلُهُ: إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا يَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ يَعْنِي أَنَّ كَوْنَهُ حَقًّا مِنْ عِنْدِ اللَّه يُوجِبُ الْإِيمَانَ بِهِ وَقَوْلُهُ: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ بيان لقوله: آمَنَّا بِهِ لأنه يتحمل أَنْ يَكُونَ إِيمَانًا قَرِيبَ الْعَهْدِ وَبَعِيدَهُ، فَأَخْبَرُوا أَنَّ إِيمَانَهُمْ بِهِ مُتَقَادِمٌ وَذَلِكَ لِمَا وَجَدُوهُ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْبِشَارَةِ بِمَقْدِمِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَدَحَهُمْ بِهَذَا الْمَدْحِ الْعَظِيمِ قَالَ: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِإِيمَانِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ بَعْثَتِهِ وَبَعْدَ بَعْثَتِهِ وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِهِ بَعْدَ الْبَعْثَةِ وَبَيَّنَ أَيْضًا أنهم كانوا به قبل مؤمنين الْبَعْثَةِ ثُمَّ أَثْبَتَ الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى ذَلِكَ وَثَانِيهَا: يُؤْتَوْنَ الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِإِيمَانِهِمْ بِالْأَنْبِيَاءِ الَّذِي كَانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَرَّةً أُخْرَى بِإِيمَانِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَالِثُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ هَؤُلَاءِ لَمَّا آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَتَمَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَصَفَحُوا عَنْهُمْ فَلَهُمْ أجران أجر على الصف وَأَجْرٌ عَلَى الْإِيمَانِ، يُرْوَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَسْلَمُوا لَعَنَهُمْ أَبُو جَهْلٍ فَسَكَتُوا عَنْهُ، قَالَ السُّدِّيُّ الْيَهُودُ/ عَابُوا عَبْدَ اللَّه بْنَ سَلَامٍ وَشَتَمُوهُ وهو يقول سلام عليكم ثم قال: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَالْمَعْنَى [يَدْفَعُونَ] بِالطَّاعَةِ الْمَعْصِيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ، ويحتمل أن يكون المراد دفعوا بالعفو الصفح الْأَذَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحَسَنَةِ امْتِنَاعَهُمْ مِنَ الْمَعَاصِي لِأَنَّ نَفْسَ الِامْتِنَاعِ حَسَنَةٌ وَيَدْفَعُ بِهِ مَا لَوْلَاهُ لَكَانَ سَيِّئَةً، وَيَحْتَمِلُ التَّوْبَةَ وَالْإِنَابَةَ وَالِاسْتِقْرَارَ عَلَيْهَا، ثم قال: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَهُمْ أَوَّلًا بِالْإِيمَانِ ثُمَّ بالطاعات البدنية في قوله: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ثُمَّ بِالطَّاعَاتِ الْمَالِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ قَالَ الْقَاضِي دَلَّ هَذَا الْمَدْحُ عَلَى أَنَّ الْحَرَامَ لَا يَكُونُ رِزْقًا جَوَابُهُ: أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْمَدْحَ بِإِنْفَاقِ بَعْضِ مَا كَانَ رِزْقًا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ اسْتِدْلَالُهُ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ اشْتِغَالِهِمْ بِالطَّاعَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْجُهَّالِ فَقَالَ: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَاللَّغْوُ مَا حَقُّهُ أَنْ يُلْغَى وَيُتْرَكَ مِنَ الْعَبَثِ وَغَيْرِهِ وَكَانُوا يَسْمَعُونَ ذَلِكَ فَلَا يَخُوضُونَ فِيهِ بَلْ يُعْرِضُونَ عَنْهُ إِعْرَاضًا جَمِيلًا فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّه فِي أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَحِيَّةٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَامَةُ الِاحْتِمَالِ مِنَ الْجَاهِلِينَ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الْفُرْقَانِ: 63] ثُمَّ أَكَّدَ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ حَاكِيًا عَنْهُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ وَالْمُرَادُ لَا نُجَازِيهِمْ بِالْبَاطِلِ عَلَى بَاطِلِهِمْ، قَالَ قَوْمٌ نَسَخَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالْقِتَالِ وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ تَرْكَ الْمُسَافَهَةِ مَنْدُوبٌ، وإن كان القتال واجبا. بحمد اللَّه تم الجزء الرابع والعشرون، ويليه الجزء الخامس والعشرون وأوله تفسير قوله تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ من سورة القصص جمع هذا الجزء والأجزاء الثلاثة قبله وراجعها على أصولها بالمطبعة الأميرية وعلق عليها حضرة الأستاذ عبد اللَّه إسماعيل الصاوي بالإدارة العامة للثقافة بوزارة المعارف.

الجزء الخامس والعشرون

الجزء الخامس والعشرون [تتمة سورة القصص] بسم الله الرحمن الرحيم [سورة القصص (28) : الآيات 56 الى 57] إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) / اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ لَا دَلَالَةَ فِي ظَاهِرِهَا عَلَى كُفْرِ أَبِي طَالِبٍ ثُمَّ قَالَ الزَّجَّاجُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَطِيعُوا مُحَمَّدًا وَصَدِّقُوهُ تُفْلِحُوا وَتَرْشُدُوا، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «يَا عَمِّ تَأْمُرُهُمْ بِالنُّصْحِ لِأَنْفُسِهِمْ وَتَدَعُهَا لِنَفْسِكَ! قَالَ فَمَا تُرِيدُ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ أُرِيدَ مِنْكَ كَلِمَةً وَاحِدَةً، فَإِنَّكَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَنْ تَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ يَا أَخِي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ جَزِعَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ عَلَيْكَ وَعَلَى بَنِي أَبِيكَ غَضَاضَةٌ وَمَسَبَّةٌ بَعْدِي لَقُلْتُهَا وَلَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ عِنْدَ الْفِرَاقِ لِمَا أَرَى مِنْ شِدَّةِ وَجْدِكَ وَنُصْحِكَ، وَلَكِنِّي سَوْفَ أَمُوتُ عَلَى مِلَّةِ الْأَشْيَاخِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهَاشِمٍ وَعَبْدِ مَنَافٍ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشُّورَى: 52] وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الَّذِي أَثْبَتَهُ وَأَضَافَهُ إِلَيْهِ الدَّعْوَةُ وَالْبَيَانُ وَالَّذِي نَفَى عَنْهُ هِدَايَةُ التَّوْفِيقِ، وَشَرْحُ الصَّدْرِ وَهُوَ نُورٌ يُقْذَفُ فِي الْقَلْبِ فَيَحْيَا بِهِ الْقَلْبُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً [الْأَنْعَامِ: 122] الْآيَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، فَقَالُوا: قَوْلِهِ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْهِدَايَةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْهِدَايَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي شَيْئًا وَفِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ شَيْئًا آخَرَ لَاخْتَلَّ النَّظْمُ، ثُمَّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْهِدَايَةِ بَيَانَ الدَّلَالَةِ أَوِ الدَّعْوَةَ إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ تَعْرِيفَ/ طَرِيقِ الْجَنَّةِ أَوْ خَلْقَ الْمَعْرِفَةِ فِي الْقُلُوبِ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ أَوْ خَلْقَ الْمَعْرِفَةِ فِي الْقُلُوبِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَيَانَ الْأَدِلَّةِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَدَى الْكُلَّ بِهَذَا الْمَعْنَى فَهِيَ غَيْرُ الْهِدَايَةِ الَّتِي نَفَى اللَّهُ عُمُومَهَا، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْهِدَايَةِ بِمَعْنَى الدَّعْوَةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الْهِدَايَةُ بِمَعْنَى تَعْرِيفِ طَرِيقِ الْجَنَّةِ فَهِيَ أَيْضًا غَيْرُ مُرَادَةٍ مِنَ الْآيَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ هَذِهِ الْهِدَايَةَ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَتَعْرِيفُ طَرِيقِ الْجَنَّةِ غَيْرُ مُعَلَّقٍ عَلَى الْمَشِيئَةِ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْوَاجِبُ لَا يَكُونُ

مُعَلَّقًا عَلَى الْمَشِيئَةِ فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ إِنِّي أُعْطِي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ إِنْ شِئْتُ، وَأَمَّا الْهِدَايَةُ بِمَعْنَى الْإِلْجَاءِ وَالْقَسْرِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ قَبِيحٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ وَفِعْلُ الْقَبِيحِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْجَهْلِ أَوِ الْحَاجَةِ وَهُمَا مُحَالَانِ وَمُسْتَلْزِمُ الْمُحَالِ مُحَالٌ فَذَلِكَ مُحَالٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُحَالُ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ فِي الْمَشِيئَةِ، وَلَمَّا بَطَلَتِ الْأَقْسَامُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى يَخُصُّ الْبَعْضَ بِخَلْقِ الْهِدَايَةِ وَالْمَعْرِفَةِ وَيَمْنَعُ الْبَعْضَ مِنْهَا، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَمَتَى أَوْرَدْتَ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ سَقَطَ كُلُّ مَا أَوْرَدَهُ الْقَاضِي عُذْرًا عَنْ ذَلِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ الْمُخْتَصُّ بِعِلْمِ الْغَيْبِ فَيَعْلَمُ مَنْ يَهْتَدِي بَعْدُ وَمَنْ لَا يَهْتَدِي، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ شُبَهَهُمْ وَأَجَابَ عَنْهَا بِالْأَجْوِبَةِ الْوَاضِحَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ وُضُوحَ الدَّلَائِلِ لَا يَكْفِي مَا لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ هِدَايَةُ اللَّهِ تَعَالَى، حَكَى عَنْهُمْ شُبْهَةً أُخْرَى مُتَعَلِّقَةً بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا وَهِيَ قَوْلُهُمْ: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا [القصص: 57] قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْخَطْفُ، الِانْتِزَاعُ بِسُرْعَةٍ، رُوِيَ أَنَّ الْحَرْثَ بْنَ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي تَقُولُهُ حَقٌّ، وَلَكِنْ يَمْنَعُنَا مِنْ ذَلِكَ تَخَطُّفُنَا مِنْ أَرْضِنَا، أَيْ يَجْتَمِعُونَ عَلَى مُحَارَبَتِنَا وَيُخْرِجُونَنَا مِنْ أَرْضِنَا، فَأَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهَا مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً أَيْ أَعْطَيْنَاكُمْ مَسْكَنًا لَا خَوْفَ لَكُمْ فِيهِ، إِمَّا لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَحْتَرِمُونَ الْحَرَمَ وَمَا كَانُوا يَتَعَرَّضُونَ أَلْبَتَّةَ لِسُكَّانِهِ، فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّ الْعَرَبَ خَارِجَ الْحَرَمِ كَانُوا مُشْتَغِلِينَ بِالنَّهْبِ وَالْغَارَةِ، وَمَا كَانُوا يَتَعَرَّضُونَ أَلْبَتَّةَ لِسُكَّانِ الْحَرَمِ، أَوْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آلِ عمران: 97] وأما قَوْلُهُ: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ تَعَالَى كَمَا بَيَّنَ كَوْنَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ خَالِيًا عَنِ الْمَخَاوِفِ وَالْآفَاتِ بَيَّنَ كَثْرَةَ النِّعَمِ فِيهِ، وَمَعْنَى: يُجْبى يُجْمَعُ مِنْ قَوْلِهِمْ: جَبَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ إِذَا جَمَعْتُهُ، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ تُجْبَى بِالتَّاءِ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ، وَأَبُو عَمْرٍو بِالْيَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ تَأْنِيثَ الثَّمَرَاتِ تَأْنِيثُ جَمْعٍ وَلَيْسَ بِتَأْنِيثٍ حَقِيقِيٍّ، فَيَجُوزُ تَأْنِيثُهُ عَلَى اللَّفْظِ وَتَذْكِيرُهُ عَلَى الْمَعْنَى، وَمَعْنَى الْكُلِّيَّةِ الْكَثْرَةُ كَقَوْلِهِ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْلِ: 23] وَحَاصِلُ الْجَوَابِ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا جَعَلَ الْحَرَمَ آمِنًا وَأَكْثَرَ فِيهِ الرِّزْقَ حَالَ كَوْنِهِمْ مُعْرِضِينَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُقْبِلِينَ عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَلَوْ آمَنُوا لَكَانَ بَقَاءُ هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْلَى، قَالَ الْقَاضِي: وَلَوْ أَنَّ الرَّسُولَ قَالَ لَهُمْ إِنَّ الَّذِي ذَكَرْتُمْ مِنَ التَّخَطُّفِ لَوْ كَانَ حَقًّا لَمْ يَكُنْ عُذْرًا لَكُمْ فِي أَنْ لَا تُؤْمِنُوا وَقَدْ ظَهَرَتِ الْحُجَّةُ لَانْقَطَعُوا، أَوْ قَالَ لَهُمْ إِنَّ تَخَطُّفَهُمْ لَكُمْ بِالْقَتْلِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ آمَنْتُمْ كَالشَّهَادَةِ لَكُمْ فَهُوَ/ نَفْعٌ عَائِدٌ عَلَيْكُمْ لَانْقَطَعُوا أَيْضًا، وَلَوْ قَالَ لَهُمْ مَا قَدْرُ مَضَرَّةِ التَّخَطُّفِ فِي جَنْبِ الْعِقَابِ الدَّائِمِ الَّذِي أُخَوِّفُكُمْ مِنْهُ إِنْ بَقِيتُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ لَانْقَطَعُوا، لَكِنَّهُ تَعَالَى احْتَجَّ بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْ حَيْثُ بَيَّنَ كَذِبَهُمْ فِي أَنَّهُمْ يُتَخَطَّفُونَ مِنْ حَيْثُ عَرَفُوا مِنْ حَالِ الْبُقْعَةِ بِالْعَادَةِ، أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجْرِي إِنْ آمَنُوا، وَمِثْلُ ذَلِكَ إِذَا أَمْكَنَ بَيَانُهُ لِلْخَصْمِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ مَا ذَكَرْنَا، فَلِذَلِكَ قَدَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ الْحِجَاجِ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلى إزالة شبهة المبطلين. بقي هاهنا بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي انْتِصَابِ رِزْقًا إِنْ جَعَلْتَهُ مَصْدَرًا جَازَ أَنْ يَنْتَصِبَ بِمَعْنَى مَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ مَعْنَى يُجْبَى إِلَيْهِ ثمرات كل شيء، ويرزق ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ وَاحِدٌ، وَأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، وَإِنْ جَعَلْتَهُ بِمَعْنَى مَرْزُوقٍ كَانَ حَالًا من الثمرات لتخصيصها بالإضافة، كما ينتصب عن النَّكِرَةِ الْمُتَخَصِّصَةِ بِالصِّفَةِ. الثَّانِي: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِقَوْلِهِ: رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا فِي أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَيَانُهُ أَنَّ تِلْكَ الْأَرْزَاقَ

[سورة القصص (28) : الآيات 58 إلى 59]

إِنَّمَا كَانَتْ تَصِلُ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَحْمِلُونَهَا إِلَيْهِمْ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُ الْعَبْدِ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى لَمَا صَحَّتْ تِلْكَ الْإِضَافَةُ، فَإِنْ قِيلَ سَبَبُ تِلْكَ الْإِضَافَةِ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَلْقَى تِلْكَ الدَّوَاعِيَ فِي قُلُوبِ مَنْ ذَهَبَ بِتِلْكَ الْأَرْزَاقِ إِلَيْهِمْ، قُلْنَا تِلْكَ الدَّوَاعِي إِنِ اقْتَضَتِ الرُّجْحَانَ، فَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الرُّجْحَانُ، فَقَدْ حَصَلَ الْوُجُوبُ وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلِ الرُّجْحَانُ انْقَطَعَتِ الْإِضَافَةُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا بَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْأَرْزَاقَ مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِمْ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَجْلِ أَنَّهُمْ مَتَى عَلِمُوا ذَلِكَ صَارُوا بِحَيْثُ لَا يَخَافُونَ أَحَدًا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَرْجُونَ أَحَدًا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَبْقَى نَظَرُهُمْ مُنْقَطِعًا عَنِ الْخَلْقِ مُتَعَلِّقًا بِالْخَالِقِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ كَمَالَ الْإِيمَانِ وَالْإِعْرَاضَ بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِقْبَالُ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى طاعة الله تعالى. [سورة القصص (28) : الآيات 58 الى 59] وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ الثَّانِي عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ لِأَهْلِ مَكَّةَ مَا خُصُّوا بِهِ من النعم أتبعه بما أنزله اللَّهُ تَعَالَى بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي نِعَمِ الدُّنْيَا، فَلَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَزَالَ اللَّهُ عَنْهُمْ تِلْكَ النِّعَمَ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا قَالُوا إِنَّا لَا نُؤْمِنُ خَوْفًا مِنْ زَوَالِ نِعْمَةِ الدُّنْيَا، فَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ الْإِيمَانِ هُوَ الَّذِي يُزِيلُ هَذِهِ النِّعَمَ، لَا الْإِقْدَامُ عَلَى الْإِيمَانِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْبَطَرُ سُوءُ احْتِمَالِ الْغِنَى وَهُوَ أَنْ لَا يَحْفَظَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ وَانْتَصَبَتْ مَعِيشَتَهَا إِمَّا بِحَذْفِ الْجَارِّ وَاتِّصَالِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الْأَعْرَافِ: 155] أَوْ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ الزَّمَانِ الْمُضَافِ وَأَصْلُهُ بَطِرَتْ أَيَّامَ مَعِيشَتِهَا، وَإِمَّا تَضْمِينُ بَطِرَتْ مَعْنَى كَفَرَتْ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا فَفِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمْ يَسْكُنْهَا إِلَّا الْمُسَافِرُ وَمَارُّ الطَّرِيقِ يَوْمًا أَوْ سَاعَةً. وَثَانِيهَا: يُحْتَمَلُ أَنَّ شُؤْمَ مَعَاصِي الْمُهْلَكِينَ بَقِيَ أَثَرُهُ فِي دِيَارِهِمْ، فَكُلُّ مَنْ سَكَنَهَا مِنْ أَعْقَابِهِمْ لَمْ يَبْقَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ لَهَا بَعْدَ هَلَاكِ أَهْلِهَا، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ لِلشَّيْءِ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ قِيلَ إِنَّهُ مِيرَاثُ اللَّهِ لِأَنَّهُ الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَهْلَكَ تِلْكَ الْقُرَى بِسَبَبِ بَطَرِ أَهْلِهَا، فَكَأَنَّ سَائِلًا أَوْرَدَ السُّؤَالَ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: لِمَاذَا مَا أَهْلَكَ اللَّهُ الْكُفَّارَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَغْرِقِينَ فِي الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ؟ الثَّانِي: لِمَاذَا مَا أَهْلَكَهُمْ بَعْدَ مَبْعَثِ محمد صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مَعَ تَمَادِي الْقَوْمِ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ تعالى والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ؟ فَأَجَابَ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ بَيَانَ أَنَّ عَدَمَ الْبَعْثَةِ يَجْرِي مَجْرَى الْعُذْرِ لِلْقَوْمِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ إِهْلَاكُهُمْ إِلَّا بَعْدَ الْبَعْثَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا أَيْ فِي الْقَرْيَةِ الَّتِي هِيَ أُمُّهَا وَأَصْلُهَا وَقَصَبَتُهَا الَّتِي هِيَ أَعْمَالُهَا وَتَوَابِعُهَا رَسُولًا لِإِلْزَامِ الْحُجَّةِ وَقَطْعِ الْمَعْذِرَةِ الثَّانِي: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى الَّتِي فِي الْأَرْضِ حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّ الْقُرَى يَعْنِي مَكَّةَ رَسُولًا وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسلم خاتم الأنبياء، ومعنى: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا يؤدي ويبلغ، وأجاب عن

[سورة القصص (28) : الآيات 60 إلى 61]

بِقَوْلِهِ: وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالشِّرْكِ وَأَهْلُ مَكَّةَ لَيْسُوا كَذَلِكَ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ آمَنَ وَبَعْضَهُمْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ سَيُؤْمِنُونَ وَبَعْضٌ آخَرُونَ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا لَكِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ نسلهم من يكون مؤمنا. [سورة القصص (28) : الآيات 60 الى 61] وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ الثَّالِثُ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ لِأَنَّ حَاصِلَ شُبْهَتِهِمْ أَنْ قَالُوا تَرَكْنَا الدِّينَ لِئَلَّا تَفُوتَنَا الدُّنْيَا فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ عَظِيمٌ لِأَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى، أَمَّا أَنَّهُ خَيْرٌ فَلِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَنَافِعَ هُنَاكَ أَعْظَمُ وَثَانِيهِمَا: أَنَّهَا خَالِصَةٌ عَنِ الشَّوَائِبِ وَمَنَافِعُ الدُّنْيَا مَشُوبَةٌ بِالْمَضَارِّ بَلِ الْمَضَارُّ فِيهَا أَكْثَرُ، وَأَمَّا أَنَّهَا أَبْقَى فَلِأَنَّهَا دَائِمَةٌ غَيْرُ مُنْقَطِعَةٍ وَمَنَافِعُ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ وَمَتَى قُوبِلَ الْمُتَنَاهِي بِغَيْرِ الْمُتَنَاهِي كَانَ عَدَمًا فَكَيْفَ وَنَصِيبُ كَلِّ أَحَدٍ بِالْقِيَاسِ إِلَى مَنَافِعِ الدُّنْيَا كُلِّهَا كَالذَّرَّةِ بِالْقِيَاسِ إِلَى الْبَحْرِ، فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنَافِعَ الدُّنْيَا لَا نِسْبَةَ لَهَا إِلَى مَنَافِعِ الْآخِرَةِ أَلْبَتَّةَ فَكَانَ مِنَ الْجَهْلِ الْعَظِيمِ تَرْكُ مَنَافِعِ الْآخِرَةِ لِاسْتِبْقَاءِ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَلَمَّا نَبَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ: أَفَلا تَعْقِلُونَ يَعْنِي أَنَّ مَنْ لَا يُرَجِّحُ مَنَافِعَ الْآخِرَةِ عَلَى مَنَافِعِ الدُّنْيَا كَأَنَّهُ يَكُونُ خَارِجًا عَنْ حَدِّ الْعَقْلِ، وَرَحِمَ اللَّهُ الشَّافِعِيَّ حَيْثُ قَالَ: مَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَعْقَلِ النَّاسِ صَرَفَ ذَلِكَ الثُّلُثَ إِلَى الْمُشْتَغِلِينَ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ أَعْقَلَ النَّاسِ مَنْ أَعْطَى الْقَلِيلَ وَأَخَذَ الْكَثِيرَ وَمَا هُمْ إِلَّا الْمُشْتَغِلُونَ بِالطَّاعَةِ فَكَأَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ هَذَا التَّرْجِيحَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ كَانَتْ تَنْتَهِي إِلَى الِانْقِطَاعِ وَالْفَنَاءِ وَمَا كَانَتْ تَتَّصِلُ بِالْعَذَابِ الدَّائِمِ لَكَانَ صَرِيحُ الْعَقْلِ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ نِعَمِ الْآخِرَةِ عَلَى نِعَمِ الدُّنْيَا فَكَيْفَ إِذَا اتَّصَلَتْ نِعَمُ الدُّنْيَا بِعِقَابِ الْآخِرَةِ فَأَيُّ عَقْلٍ يَرْتَابُ فِي أَنَّ نِعَمَ الْآخِرَةِ رَاجِحَةٌ عَلَيْهَا، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ [الصافات: 57] فَهُوَ يَكُونُ كَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ قَدْرًا قَلِيلًا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ لِلْعَذَابِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا تَرَكْنَا الدِّينَ لِلدُّنْيَا فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ عَقِيبَ دُنْيَاكُمْ مَضَرَّةُ الْعِقَابِ لَكَانَ الْعَقْلُ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ مَنَافِعِ الْآخِرَةِ عَلَى مَنَافِعِ الدُّنْيَا، فَكَيْفَ وَهَذِهِ الدُّنْيَا يَحْصُلُ بَعْدَهَا الْعِقَابُ الدَّائِمُ، وَأَوْرَدَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى لَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الِاعْتِرَافِ بِالتَّرْجِيحِ وَتَخْصِيصُ لَفْظِ الْمُحْضَرِينَ بِالَّذِينِ أُحْضِرُوا لِلْعَذَابِ أَمْرٌ عُرِفَ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصَّافَّاتِ: 57] فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصَّافَّاتِ: 127] وَفِي لَفْظِهِ إِشْعَارٌ بِهِ لِأَنَّ الْإِحْضَارَ مُشْعِرٌ بِالتَّكْلِيفِ وَالْإِلْزَامِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِمَجَالِسِ اللَّذَّةِ إِنَّمَا يَلِيقُ بِمَجَالِسِ الضَّرَرِ والمكاره. [سورة القصص (28) : الآيات 62 الى 66] وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَساءَلُونَ (66)

اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَسْأَلُ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدْ عَرَفُوا بُطْلَانَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَعَرَفُوا صِحَّةَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ بِالضَّرُورَةِ فَيَقُولُ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَهُ وَتَجْعَلُونَهُ شَرِيكًا فِي الْعِبَادَةِ وَتَزْعُمُونَ أَنَّهُ يَشْفَعُ؟ أَيْنَ هُوَ لِيَنْصُرَكُمْ وَيُخَلِّصَكُمْ مِنْ هَذَا الَّذِي نَزَلَ بِكُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا يَقُولُهُ مَنْ حَقَّ عَلَيْهِ الْقَوْلُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْقَوْلِ هُوَ قَوْلُهُ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 119] وَمَعْنَى حَقَّ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أَيْ حَقَّ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ هَذَا الْقَوْلُ مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمُ الرُّؤَسَاءُ الدُّعَاةُ إِلَى الضَّلَالِ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ الشَّيَاطِينُ قَوْلُهُ: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا هَؤُلَاءِ مُبْتَدَأٌ وَالَّذِينَ أَغْوَيْنَا صِفَتُهُ وَالرَّاجِعُ إِلَى الْمَوْصُوفِ مَحْذُوفٌ وَأَغْوَيْنَاهُمُ الْخَبَرُ وَالْكَافُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَغْوَيْنَاهُمْ فَغَوَوْا غَيًّا مِثْلَ مَا غَوَيْنَا وَالْمُرَادُ كَمَا أَنَّ غَيَّنَا بِاخْتِيَارِنَا فَكَذَا غَيُّهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ يَعْنِي أَنَّ إِغْوَاءَنَا لَهُمْ مَا أَلْجَأَهُمْ إِلَى الْغَوَايَةِ بَلْ كَانُوا مُخْتَارِينَ بِالْإِقْدَامِ عَلَى تِلْكَ الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنِ الشَّيْطَانِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إِبْرَاهِيمَ: 22] وَقَالَ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الْحِجْرِ: 42] فَقَوْلُهُ: إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِاتِّبَاعَ لَهُمْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ لَا مِنْ قِبَلِ إِلْجَاءِ الشَّيْطَانِ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مِنْهُمْ وَمِنْ عَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ إِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ أَهْوَاءَهُمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ يَتَبَرَّءُونَ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [الْبَقَرَةِ: 166] وَأَيْضًا فَلَا يَمْتَنِعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيْنَ شُرَكائِيَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءَ وَالشَّيَاطِينَ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَطَاعُوهُمْ فَقَدْ صَيَّرُوهُمْ لِمَكَانِ الطَّاعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيكِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا حُمِلَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ جَوَابُهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِلَهَنَا هَؤُلَاءِ مَا عَبَدُونَا إِنَّمَا عَبَدُوا أَهْوَاءَهُمُ الْفَاسِدَةَ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَالْأَقْرَبُ أَنَّ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي دُعَائِهِمْ لَهُمْ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَوْ دَعَوْهُمْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ إِجَابَةٌ فِي النُّصْرَةِ وَأَنَّ الْعَذَابَ ثَابِتٌ فِيهِمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّوْبِيخِ، وَفِي ذِكْرِهِ رَدْعٌ وَزَجْرٌ فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ فَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ زَعَمُوا أَنَّ جَوَابَ لَوْ مَحْذُوفٌ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ يَعْنِي الْمَتْبُوعُ وَالتَّابِعُ يَرَوْنَ الْعَذَابَ وَلَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ فِي الدُّنْيَا مَا أَبْصَرُوهُ فِي الْآخِرَةِ وَثَانِيهَا: لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُهْتَدِينَ فِي الدُّنْيَا لَعَلِمُوا أَنَّ الْعَذَابَ حَقٌّ وَثَالِثُهَا: وَدُّوا حِينَ رَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَهْتَدُونَ وَرَابِعُهَا: لَوْ كَانُوا يَهْتَدُونَ لِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْحِيَلِ لَدَفَعُوا بِهِ الْعَذَابَ وَخَامِسُهَا: قَدْ آنَ لَهُمْ أَنْ يَهْتَدُوا لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ إِذَا رَأَوُا الْعَذَابَ وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [الشُّعَرَاءِ: 201] وَعِنْدِي أَنَّ الْجَوَابَ غَيْرُ مَحْذُوفٍ وَفِي تَقْرِيرِهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تعالى إذا خاطبهم بقوله: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فههنا يشتد الخوف عليهم ويلحقهم شيء كالسدر وَالدُّوَارِ وَيَصِيرُونَ بِحَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ شَيْئًا فَقَالَ تَعَالَى: وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ شَيْئًا أَمَّا لَمَّا صَارُوا مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ بِحَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ شَيْئًا لَا جَرَمَ مَا رَأَوُا الْعَذَابَ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ عن الشركاء

[سورة القصص (28) : الآيات 67 إلى 70]

وَهِيَ الْأَصْنَامُ أَنَّهُمْ لَا يُجِيبُونَ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ قَالَ فِي حَقِّهِمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ أَيْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ كَانُوا يُشَاهِدُونَ الْعَذَابَ لَوْ كَانُوا مِنَ الْأَحْيَاءِ الْمُهْتَدِينَ وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَلَا جَرَمَ مَا رَأَتِ الْعَذَابَ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: وَرَأَوُا الْعَذابَ ضَمِيرٌ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْعُقَلَاءِ فَكَيْفَ يَصِحُّ عَوْدُهُ إِلَى الْأَصْنَامِ؟ قُلْنَا هَذَا كَقَوْلِهِ: فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ [الكهف: 52] وَإِنَّمَا وَرَدَ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِ الْقَوْمِ فَكَذَا هَاهُنَا وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الرؤية رؤية القلب أي والكفار علموا حقيقة هَذَا الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا لَوْ كَانُوا يَهْتَدُونَ وَهَذِهِ الْوُجُوهُ عِنْدِي خَيْرٌ مِنَ الْوُجُوهِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى أَنَّ جَوَابَ لَوْ مَحْذُوفٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَفْكِيكَ النَّظْمِ مِنَ الْآيَةِ الْأَمْرُ الثَّالِثُ: مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَسْأَلُ اللَّهُ الْكُفَّارَ عَنْهَا قَوْلُهُ: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ أَيْ فَصَارَتِ الْأَنْبَاءُ كَالْعَمَى عَلَيْهِمْ جَمِيعًا لَا تَهْتَدِي إِلَيْهِمْ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ لَا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا يَتَسَاءَلُ النَّاسُ فِي الْمُشْكِلَاتِ لِأَنَّهُمْ يَتَسَاوَوْنَ جَمِيعًا فِي عَمَى الْأَنْبَاءِ عَلَيْهِمْ وَالْعَجْزِ عَنِ الْجَوَابِ، وَقُرِئَ فَعَمِيَتْ وَإِذَا كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ لِهَوْلِ ذَلِكَ يُتَعْتِعُونَ فِي الْجَوَابِ عَنْ مِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ، وَيُفَوِّضُونَ الأمر إلى علم الله وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قالُوا لَا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [الْمَائِدَةِ: 109] فَمَا ظَنُّكَ بِهَؤُلَاءِ الضُّلَّالِ، قَالَ الْقَاضِي هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِالْجَبْرِ لِأَنَّ فِعْلَهُمْ لَوْ كَانَ خَلْقًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَجِبُ وُقُوعُهُ بالقدرة والإرادة لما عميت عليهم الأنبياء وَلَقَالُوا إِنَّمَا أَتَيْنَا فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ مِنْ جِهَةِ خَلْقِكَ فِينَا تَكْذِيبَهُمْ وَالْقُدْرَةَ الْمُوجِبَةَ لِذَلِكَ، فَكَانَتْ حُجَّتُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ظَاهِرَةً وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِيمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لَهُ أَنْ يَقُولَ إِنَّمَا أَغْوَيْتُ بِخَلْقِكَ فِيَّ الْغَوَايَةَ، وَإِنَّمَا قَبِلَ مَنْ دَعْوَتُهُ لِمِثْلِ ذَلِكَ/ فَتَكُونُ الْحُجَّةُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوِيَّةً وَالْعُذْرُ ظَاهِرًا وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتْرُكُ آيَةً مِنَ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ إِلَّا وَيُعِيدُ اسْتِدْلَالَهُ بِهَا، وَكَمَا أَنَّ وَجْهَ اسْتِدْلَالِهِ فِي الْكُلِّ هَذَا الْحَرْفُ فَكَذَا وَجْهُ جَوَابِنَا حَرْفٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِعَدَمِ الْإِيمَانِ مَعَ وُقُوعِ الْإِيمَانِ مُتَنَافِيَانِ لِذَاتَيْهِمَا فَمَعَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ إِذَا أَمَرَ بِإِدْخَالِ الْإِيمَانِ فِي الْوُجُودِ فَقَدْ أَمَرَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَالَّذِي اعْتَمَدَ الْقَاضِي عَلَيْهِ فِي دَفْعِ هَذَا الْحَرْفِ فِي كُتُبِهِ الْكَلَامِيَّةِ قَوْلُهُ خَطَأٌ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ يُمْكِنُ وَخَطَأٌ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَلِ الْوَاجِبُ السُّكُوتُ وَلَوْ أَوْرَدَ الْكَافِرُ هَذَا السُّؤَالَ عَلَى رَبِّهِ لَمَا كَانَ لِرَبِّهِ عَنْهُ جَوَابٌ إِلَّا السُّكُوتَ، فَتَكُونُ حُجَّةُ الْكَافِرِ قَوِيَّةً وَعُذْرُهُ ظَاهِرًا فَثَبَتَ أَنَّ الْإِشْكَالَ مُشْتَرَكٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة القصص (28) : الآيات 67 الى 70] فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُعَذَّبِينَ مِنَ الْكُفَّارِ وَمَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ التَّوْبِيخِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَنْ يَتُوبُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا تَرْغِيبًا فِي التَّوْبَةِ وَزَجْرًا عَنِ الثَّبَاتِ عَلَى الْكُفْرِ فَقَالَ: فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ وَفِي عَسَى وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِنَ الْكِرَامِ تَحْقِيقٌ وَاللَّهُ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ وَثَانِيهَا: أَنْ يُرَادَ تَرَجِّي التَّائِبِ وَطَمَعُهُ كَأَنَّهُ قَالَ فَلْيَطْمَعْ فِي الْفَلَاحِ وَثَالِثُهَا: عَسَى أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ إِنْ دَامُوا عَلَى التَّوْبَةِ والإيمان لجواز

أَنْ لَا يَدُومُوا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَذْكُرُونَ شُبْهَةً أُخْرَى وَيَقُولُونَ: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزُّخْرُفِ: 31] يَعْنُونَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ أَوْ أَبَا مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ، فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ الْمَالِكُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ فَلَهُ أَنْ يَخُصَّ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، وَعَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ حَكِيمٌ مُطْلَقٌ عُلِمَ أَنَّهُ كُلَّ مَا فَعَلَهُ كَانَ حِكْمَةً وَصَوَابًا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ: مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ وَالْخِيَرَةُ اسْمٌ مِنَ الِاخْتِيَارِ قَامَ مَقَامَ الْمَصْدَرِ/ وَالْخِيَرَةُ أَيْضًا اسْمٌ لِلْمُخْتَارِ يُقَالُ مُحَمَّدٌ خِيَرَةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ تَمَامُ الْوَقْفِ عَلَى قَوْلِهِ: وَيَخْتارُ وَيَكُونُ مَا نَفْيًا، وَالْمَعْنَى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ لَيْسَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ إِذْ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَخْتَارُوا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَفْعَلَ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا بِمَعْنَى الَّذِي فَيَكُونُ الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ ثُمَّ يَقُولُ: وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ، قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ وَهَذَا مُتَعَلَّقُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي إِيجَابِ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ عَلَيْهِ، وَأَيُّ صَلَاحٍ فِي تَكْلِيفِ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَلَوْ لَمْ يُكَلِّفْهُ لَاسْتَحَقَّ الْجَنَّةَ وَالنَّعِيمَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، فَإِنْ قِيلَ لَمَّا كَلَّفَهُ اسْتَوْجَبَ عَلَى اللَّهِ مَا هُوَ الْأَفْضَلُ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ أَفْضَلُ مِنَ الْمُتَفَضِّلِ بِهِ قُلْنَا إِذَا عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الْأَفْضَلُ فَتَوْرِيطُهُ فِي الْعِقَابِ الْأَبَدِيِّ لَا يَكُونُ رِعَايَةً لِلْمَصْلَحَةِ، ثُمَّ قَوْلُهُمُ الْمُسْتَحِقُّ خَيْرٌ مِنَ الْمُتَفَضِّلِ بِهِ جَهْلٌ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّفَاوُتَ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي حَقِّ مَنْ يَسْتَنْكِفُ مِنْ تُفَضُّلِهِ، أَمَّا الَّذِي مَا حَصَّلَ الذَّاتَ وَالصِّفَاتِ إِلَّا بِخَلْقِهِ وَبِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ فَكَيْفَ يَسْتَنْكِفُ مِنْ تَفَضُّلِهِ، ثُمَّ قَالَ: سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْخَلْقَ وَالِاخْتِيَارَ وَالْإِعْزَازَ وَالْإِذْلَالَ مُفَوَّضٌ إِلَيْهِ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ شَرِكَةٌ وَمُنَازَعَةٌ ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ مِنْ عَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَمَا يُعْلِنُونَ مِنْ مَطَاعِنِهِمْ فِيهِ وَقَوْلِهِمْ هَلَّا اخْتِيرَ غَيْرُهُ فِي النُّبُوَّةِ، وَلَمَّا بَيَّنَ عِلْمَهُ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْغِلِّ وَالْحَسَدِ وَالسَّفَاهَةِ قَالَ: وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، وَعَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، مُنَزَّهًا عَنِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ يُجَازِي الْمُحْسِنِينَ عَلَى طَاعَتِهِمْ وَيُعَاقِبُ الْعُصَاةَ عَلَى عِصْيَانِهِمْ وَفِيهِ نِهَايَةُ الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ لِلْعُصَاةِ وَنِهَايَةُ تَقْوِيَةِ الْقَلْبِ لِلْمُطِيعِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ فَسَادَ طَرِيقِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قوله: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ [القصص: 62] خَتَمَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ بِإِظْهَارِ هَذَا التَّوْحِيدِ وَبَيَانِ أَنَّ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ فَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى قَوْلِنَا لِأَنَّ الثَّوَابَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يُعْطِيهِ فَضْلًا وَإِحْسَانًا فَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ أَهْلِ الْجَنَّةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فَاطِرٍ: 34] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ [الزُّمَرِ: 74] وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُسَ: 10] أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَعِنْدَهُمُ الثَّوَابُ مُسْتَحَقٌّ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ بِفِعْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا أَهْلُ النَّارِ فَمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَسْتَحِقَّ الْحَمْدَ مِنْهُمْ، قَالَ الْقَاضِي إِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ وَالشُّكْرَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَيْضًا بِمَا فَعَلَهُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ التَّمْكِينِ وَالتَّيْسِيرِ وَالْأَلْطَافِ وَسَائِرِ النِّعَمِ، لِأَنَّهُمْ بِإِسَاءَتِهِمْ لَا يَخْرُجُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يُوجِبَ الشُّكْرَ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ مُضْطَرُّونَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فَإِذَا عَلِمُوا بِالضَّرُورَةِ أَنَّ التَّوْبَةَ عَنِ الْقَبَائِحِ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ قَبُولُهَا وَعَلِمُوا بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالشُّكْرِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ يُوجِبُ عَلَى اللَّهِ الثَّوَابَ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَعَالِمُونَ بِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُخَلِّصُهُمْ عَنِ الْعَذَابِ وَيُدْخِلُهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ أَفَتَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَعَ

[سورة القصص (28) : الآيات 71 إلى 73]

الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ يَتْرُكُ هَذِهِ التَّوْبَةَ؟ كَلَّا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَتُوبُوا وَأَنْ يَشْتَغِلُوا بِالشُّكْرِ، وَمَتَى فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ بَطَلَ الْعِقَابُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَهُ الْحُكْمُ فَهُوَ إِمَّا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَحُكْمُ كُلِّ أَحَدٍ سِوَاهُ إِنَّمَا نُفِّذَ بِحُكْمِهِ، فَلَوْلَا حُكْمُهُ لَمَا نُفِّذَ عَلَى الْعَبْدِ حُكْمُ سَيِّدِهِ وَلَا عَلَى الزَّوْجَةِ حُكْمُ زَوْجِهَا وَلَا عَلَى الِابْنِ حُكْمُ أَبِيهِ وَلَا عَلَى الرَّعِيَّةِ حُكْمُ سُلْطَانِهِمْ وَلَا عَلَى الْأُمَّةِ حُكْمُ الرَّسُولِ، فَهُوَ الْحَاكِمُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ هُوَ الْحَاكِمُ، لِأَنَّهُ الَّذِي يَتَوَلَّى الْحُكْمَ بَيْنَ الْعِبَادِ فِي الْآخِرَةِ، فَيَنْتَصِفُ لِلْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فَالْمَعْنَى وَإِلَى مَحَلِّ حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ تُرْجَعُونَ، فَإِنَّ كَلِمَةَ إِلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ وَهُوَ تَعَالَى منزه من المكان والجهة. [سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 73] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مِنْ قَبْلُ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْحَمْدِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 70] فَصَّلَ عَقِيبَ ذَلِكَ بِبَعْضِ مَا يَجِبُ أَنْ يُحْمَدَ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ سِوَاهُ فَقَالَ لِرَسُولِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْوَجْهَ فِي كَوْنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ نِعْمَتَانِ يَتَعَاقَبَانِ عَلَى الزَّمَانِ، لِأَنَّ الْمَرْءَ فِي الدُّنْيَا وَفِي حَالِ التَّكْلِيفِ مَدْفُوعٌ إِلَى أَنْ يَتْعَبَ لِتَحْصِيلِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلَا يَتِمُّ لَهُ ذَلِكَ لَوْلَا ضَوْءُ النَّهَارِ، وَلِأَجْلِهِ يَحْصُلُ الِاجْتِمَاعُ فَيُمْكِنُ الْمُعَامَلَاتُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ لَوْلَا الرَّاحَةُ وَالسُّكُونُ بِاللَّيْلِ فَلَا بُدَّ مِنْهُمَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ، فَأَمَّا فِي الْجَنَّةِ فَلَا نَصَبَ وَلَا تَعَبَ فَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى اللَّيْلِ فَلِذَلِكَ يَدُومُ لَهُمُ الضِّيَاءُ وَاللَّذَّاتُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا قَادِرَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا قَالَ: أَفَلا تَسْمَعُونَ/ أَفَلا تُبْصِرُونَ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ ذَلِكَ الِانْتِفَاعُ بِمَا يَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ مِنْ جِهَةِ التَّدَبُّرِ فَلَمَّا لَمْ يَنْتَفِعُوا نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ قَالَ الْكَلْبِيُّ قَوْلُهُ: أَفَلا تَسْمَعُونَ مَعْنَاهُ أَفَلَا تُطِيعُونَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: أَفَلا تُبْصِرُونَ مَعْنَاهُ أَفَلَا تُبْصِرُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَأِ وَالضَّلَالِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» السَّرْمَدُ الدَّائِمِ الْمُتَّصِلُ مِنَ السَّرْدِ وَهُوَ الْمُتَابَعَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ وَوَاحِدٌ فَرْدٌ، فَإِنْ قِيلَ هَلَّا قَالَ: بِنَهَارٍ تَتَصَرَّفُونَ فِيهِ، كَمَا قِيلَ: بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ؟ قُلْنَا ذَكَرَ الضِّيَاءِ وَهُوَ ضَوْءُ الشَّمْسِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهِ مُتَكَاثِرَةٌ لَيْسَ التَّصَرُّفُ فِي الْمَعَاشِ وَحْدَهُ وَالظَّلَامُ لَيْسَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، وَإِنَّمَا قَرَنَ بِالضِّيَاءِ أَفَلَا تَسْمَعُونَ، لِأَنَّ السَّمْعَ يُدْرِكُ مَا لَا يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ مِنْ دَرْكِ مَنَافِعِهِ وَوَصْفِ فَوَائِدِهِ، وَقَرَنَ بِاللَّيْلِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ لِأَنَّ غَيْرَكَ يُدْرِكُ مِنْ مَنْفَعَةِ الظَّلَامِ مَا تُبْصِرُهُ أَنْتَ مِنَ السُّكُونِ وَنَحْوِهِ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ زَاوَجَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِأَغْرَاضٍ ثَلَاثَةٍ لِتَسْكُنُوا فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ اللَّيْلُ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فِي الْآخَرِ وَهُوَ النَّهَارُ وَلِأَدَاءِ الشُّكْرِ عَلَى الْمَنْفَعَتَيْنِ معا.

[سورة القصص (28) : الآيات 74 إلى 75]

واعلم أنه وإن كان السكون في النهار ممكنا وابتغاء فضل الله بالليل ممكنا إلا أن الأليق بكل واحد منهما ما ذكره الله تعالى به فلهذا خصه به. [سورة القصص (28) : الآيات 74 الى 75] وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (75) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا هَجَّنَ طَرِيقَةَ الْمُشْرِكِينَ، أَوَّلًا ثُمَّ ذَكَرَ التوحيد ودلائله، ثانيا عاد إلى تهجن طَرِيقَتِهِمْ مَرَّةً أُخْرَى وَشَرَحَ حَالَهُمْ فِي الْآخِرَةِ فقال: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَالْمَعْنَى أَيْنَ الَّذِينَ ادَّعَيْتُمْ إِلَهِيَّتَهُمْ لِتَخَلُّصِكُمْ، أَوْ أَيْنَ قَوْلُكُمْ تُقَرِّبُنَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى وَقَدْ عَلِمُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ زَائِدًا فِي غَمِّهِمْ إِذَا خُوطِبُوا بِهَذَا الْقَوْلِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَالْمُرَادُ مَيَّزْنَا وَاحِدًا لِيَشْهَدَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ يَشْهَدُونَ بِأَنَّهُمْ بَلَّغُوا الْقَوْمَ الدَّلَائِلَ وَبَلَغُوا فِي إِيضَاحِهَا كُلَّ غَايَةٍ لِيُعْلَمَ أَنَّ التَّقْصِيرَ مِنْهُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ زَائِدًا فِي غَمِّهِمْ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ هُمُ الشُّهَدَاءُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَى النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَيَدْخُلُ فِي جُمْلَتِهِمُ الْأَنْبِيَاءُ وَهَذَا أَقْرَبُ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَمَّ كَلَّ أُمَّةٍ وَكُلَّ جَمَاعَةٍ بِأَنْ يَنْزِعَ مِنْهُمُ الشَّهِيدَ فَيَدْخُلَ فِيهِ الْأَحْوَالُ الَّتِي لَمْ يُوجَدْ فِيهَا النَّبِيُّ وَهِيَ أَزْمِنَةُ الْفَتَرَاتِ وَالْأَزْمِنَةُ الَّتِي حَصَلَتْ بَعْدَ/ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ فَعَلِمُوا حِينَئِذٍ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَلِرُسُلِهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ غَابَ عَنْهُمْ غَيْبَةَ الشَّيْءِ الضَّائِعِ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الباطل والكذب. [سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 78] إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) اعْلَمْ أَنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَظَاهِرُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ قَدْ آمَنَ بِهِ وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا حَمْلُهُ عَلَى الْقَرَابَةِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ كَانَ قَارُونُ بْنَ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثِ بْنِ لَاوِي، وَمُوسَى بْنَ عِمْرَانَ بْنِ قَاهِثِ بْنِ لَاوِي وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ إِنَّهُ كَانَ عَمَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثَ وَقَارُونَ بْنُ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ خَالَتِهِ، ثُمَّ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ يُسَمَّى الْمُنَوَّرَ لِحُسْنِ صُورَتِهِ وَكَانَ أَقْرَأَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلتَّوْرَاةِ، إِلَّا أَنَّهُ نَافَقَ كَمَا نافق السامري. أما قوله: فَبَغى عَلَيْهِمْ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ بَغَى بِسَبَبِ مَالِهِ، وَبَغْيُهُ أَنَّهُ اسْتَخَفَّ بِالْفُقَرَاءِ وَلَمْ يَرْعَ لَهُمْ

حَقَّ الْإِيمَانِ وَلَا عَظَّمَهُمْ مَعَ كَثْرَةِ أَمْوَالِهِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الظُّلْمِ، قِيلَ مَلَّكَهُ فِرْعَوْنُ عَلَى/ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَظَلَمَهُمْ الثَّالِثُ: قَالَ الْقَفَّالُ: بَغَى عَلَيْهِمْ، أَيْ طَلَبَ الْفَضْلَ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يَكُونُوا تَحْتَ يَدِهِ الرَّابِعُ: قَالَ الضَّحَّاكُ: طَغَى عَلَيْهِمْ وَاسْتَطَالَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يُوَفِّقْهُمْ فِي أَمْرٍ الْخَامِسُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَجَبَّرَ وَتَكَبَّرَ عَلَيْهِمْ وَسَخِطَ عَلَيْهِمْ السَّادِسُ: قَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: بَغْيُهُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ زَادَ عَلَيْهِمْ فِي الثِّيَابِ شِبْرًا، وَهَذَا يَعُودُ إِلَى التَّكَبُّرِ السَّابِعُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: بَغْيُهُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ حَسَدَ هَارُونَ عَلَى الْحُبُورَةِ، يُرْوَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَطَعَ الْبَحْرَ وَأَغْرَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِرْعَوْنَ جَعَلَ الحبورة لهرون، فَحَصَلَتْ لَهُ النُّبُوَّةُ وَالْحُبُورَةُ وَكَانَ صَاحِبَ الْقُرْبَانِ وَالْمَذْبَحِ، وَكَانَ لِمُوسَى الرِّسَالَةُ، فَوَجَدَ قَارُونُ مِنْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ يَا مُوسَى لَكَ الرسالة، ولهرون الْحُبُورَةُ، وَلَسْتُ فِي شَيْءٍ وَلَا أَصْبِرُ أَنَا عَلَى هَذَا، فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَاللَّهِ ما صنعت ذلك لهرون وَلَكِنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ لَهُ، فَقَالَ وَاللَّهِ لَا أُصَدِّقُكَ أَبَدًا حَتَّى تَأْتِيَنِي بِآيَةٍ أَعْرِفُ بِهَا أن الله جعل ذلك لهرون، قَالَ فَأَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رُؤَسَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَجِيءَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِعَصَاهُ، فَجَاءُوا بِهَا، فَأَلْقَاهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قُبَّةٍ لَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَدَعَا رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُمْ بَيَانَ ذَلِكَ، فَبَاتُوا يَحْرُسُونَ عِصِيَّهُمْ فَأَصْبَحَتْ عَصَا هَارُونَ تَهْتَزُّ لَهَا وَرَقٌ أَخْضَرُ وَكَانَتْ مِنْ شَجَرِ اللَّوْزِ، فَقَالَ مُوسَى: يَا قَارُونُ أَمَا تَرَى مَا صَنَعَ الله لهرون! فَقَالَ وَاللَّهِ مَا هَذَا بِأَعْجَبَ مِمَّا تَصْنَعُ مِنَ السِّحْرِ، فَاعْتَزَلَ قَارُونُ وَمَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَوَلِيَ هَارُونُ الْحُبُورَةَ وَالْمَذْبَحَ وَالْقُرْبَانَ، فَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَأْتُونَ بِهَدَايَاهُمْ إِلَى هَارُونَ فَيَضَعُهَا فِي الْمَذْبَحِ وَتَنْزِلُ النَّارُ مِنَ السَّمَاءِ فَتَأْكُلُهَا، وَاعْتَزَلَ قَارُونُ بِأَتْبَاعِهِ وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ وَالتَّبَعِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَا كَانَ يَأْتِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا يُجَالِسُهُ، وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ قَارُونُ مِنَ السَّبْعِينَ الْمُخْتَارَةِ الَّذِينَ سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى» . أَمَّا قَوْلُهُ: وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ففيه أبحاث: الْأَوَّلُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ: أَلَسْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يُعْطِي الْحَرَامَ فَكَيْفَ أَضَافَ اللَّهُ مَالَ قَارُونَ إِلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: وَآتَيْناهُ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي أَنَّهُ كَانَ حَرَامًا، وَيَجُوزُ أَنَّ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْمُلُوكِ جَمَعُوا وَكَنَزُوا فَظَفِرَ قَارُونُ بِذَلِكَ، وَكَانَ هَذَا الظَّفَرُ طَرِيقَ التَّمَلُّكِ، أَوْ وَصَلَ إِلَيْهِ بِالْإِرْثِ مِنْ جِهَاتٍ، ثُمَّ بِالتَّكَسُّبِ مِنْ جِهَةِ الْمُضَارَبَاتِ وَغَيْرِهَا وَكَانَ الكل محتملا. البحث الثاني: المفتاح جَمْعُ مِفْتَحٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ مَا يُفْتَحُ بِهِ، وَقِيلَ هِيَ الْخَزَائِنُ وَقِيَاسُ وَاحِدِهَا مَفْتَحٌ بفتح الميم، ويقال ناء به المحل إِذَا أَثْقَلَهُ حَتَّى أَمَالَهُ، وَالْعُصْبَةُ الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ وَالْعِصَابَةُ مِثْلُهَا، فَالْعَشَرَةُ عُصْبَةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي إِخْوَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَنَحْنُ عُصْبَةٌ [يُوسُفَ: 8] وَكَانُوا عَشْرَةً لِأَنَّ يُوسُفَ وَأَخَاهُ لَمْ يَكُونَا مَعَهُمْ. إِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى الْأَلْفَاظِ فَنَقُولُ: هاهنا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَفَاتِحِ الْمَفَاتِيحُ وَهِيَ الَّتِي يُفْتَحُ بِهَا الْبَابُ، قَالُوا كَانَتْ مَفَاتِيحُهُ مِنْ جُلُودِ الْإِبِلِ وَكُلُّ مِفْتَاحٍ مِثْلُ إِصْبَعٍ، وَكَانَ لِكُلِّ خِزَانَةٍ مِفْتَاحٌ، وَكَانَ إِذَا رَكِبَ قَارُونُ حُمِلَتِ الْمَفَاتِيحُ عَلَى سِتِّينَ بَغْلًا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ طَعَنَ فِي هَذَا الْقَوْلِ/ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَالَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ لَا يَبْلُغُ هَذَا الْمَبْلَغَ، وَلَوْ أَنَّا قَدَّرْنَا بَلْدَةً مَمْلُوءَةً مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ لَكَفَاهَا أَعْدَادٌ قَلِيلَةٌ مِنَ الْمَفَاتِيحِ، فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى تَكْثِيرِ هَذِهِ الْمَفَاتِيحِ الثَّانِي: أَنَّ الْكُنُوزَ هِيَ الْأَمْوَالُ الْمُدَّخَرَةُ فِي الْأَرْضِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَفَاتِيحُ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَالَ إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْعُرُوضِ، لَا مِنْ جِنْسِ النَّقْدِ جَازَ أَنْ يَبْلُغَ فِي الْكَثْرَةِ إِلَى

هَذَا الْحَدِّ، وَأَيْضًا فَهَذَا الَّذِي يُقَالُ إِنَّ تِلْكَ الْمَفَاتِيحَ بَلَغَتْ سِتِّينَ حِمْلًا، لَيْسَ مَذْكُورًا فِي الْقُرْآنِ فَلَا تُقْبَلُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ، وَتَفْسِيرُ الْقُرْآنِ أَنَّ تِلْكَ الْمَفَاتِيحَ كَانَتْ كَثِيرَةً، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُعَيَّنًا لِشَيْءٍ آخَرَ، فَكَانَ يَثْقُلُ عَلَى الْعُصْبَةِ ضَبْطُهَا وَمَعْرِفَتُهَا بِسَبَبِ كَثْرَتِهَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَزُولُ الِاسْتِبْعَادُ، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ ظَاهِرَ الْكَنْزِ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ مَا قَالُوا فَقَدْ يَقَعُ عَلَى الْمَالِ الْمَجْمُوعِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي عَلَيْهَا أَغْلَاقٌ الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ أَنْ تُحْمَلَ الْمَفَاتِحُ عَلَى نَفْسِ الْمَالِ وَهَذَا أَبْيَنُ وَعَنِ الشُّبْهَةِ أَبْعَدُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ خَزَائِنُهُ يَحْمِلُهَا أَرْبَعُونَ رَجُلًا أَقْوِيَاءَ، وَكَانَتْ خَزَائِنُهُ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ فَيَحْمِلُ كُلُّ رَجُلٍ عَشَرَةَ آلَافٍ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَفَاتِحِ الْعِلْمُ وَالْإِحَاطَةُ كَقَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الْأَنْعَامِ: 59] وَالْمُرَادُ آتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ حِفْظَهَا وَالِاطِّلَاعَ عَلَيْهَا لَيَثْقُلُ عَلَى الْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ وَالْهِدَايَةِ، أَيْ هَذِهِ الْكُنُوزُ لِكَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا تُتْعِبُ حَفَظَتَهَا وَالْقَائِمِينَ عَلَيْهَا أَنْ يَحْفَظُوهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ فِي قَوْمِهِ مَنْ وَعَظَهُ بِأُمُورٍ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَالْمُرَادُ لَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْبَطَرِ وَالتَّمَسُّكِ بِالدُّنْيَا مَا يُلْهِيهِ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ أَصْلًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَا يَفْرَحُ بِالدُّنْيَا إِلَّا مَنْ رَضِيَ بِهَا وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهَا، فَأَمَّا مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيُفَارِقُ الدُّنْيَا عَنْ قَرِيبٍ لَمْ يَفْرَحْ بِهَا وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ الْمُتَنَبِّي: أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ ... تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالًا وَأَحْسَنُ وَأَوْجَزُ مِنْهُ مَا قَالَ تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ [الْحَدِيدِ: 23] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فَرَحُهُ ذَلِكَ شِرْكًا، لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَخَافُ مَعَهُ عُقُوبَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ مُقِرًّا بِالْآخِرَةِ، وَالْمُرَادُ أَنْ يَصْرِفَ الْمَالَ إِلَى مَا يُؤَدِّيهِ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَسْلُكُ طَرِيقَةَ التَّوَاضُعِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: لَعَلَّهُ كَانَ مُسْتَغْرِقَ الْهَمِّ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا فَلِأَجْلِ ذَلِكَ مَا كَانَ يَتَفَرَّغُ لِلتَّنَعُّمِ وَالِالْتِذَاذِ فَنَهَاهُ الْوَاعِظُ عَنْ ذَلِكَ وَثَانِيهَا: لَمَّا أَمَرَهُ الْوَاعِظُ بِصَرْفِ الْمَالِ إِلَى الْآخِرَةِ بَيَّنَ لَهُ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالتَّمَتُّعِ بِالْوُجُوهِ الْمُبَاحَةِ وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِنْفَاقُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ نَصِيبُ الْمَرْءِ مِنَ الدُّنْيَا دُونَ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَلْيَأْخُذِ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَمِنْ دُنْيَاهُ لِآخِرَتِهِ، وَمِنَ الشَّبِيبَةِ قَبْلَ الْكِبَرِ، وَمِنَ الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَوْتِ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ مُسْتَعْتَبٍ وَلَا بَعْدَ الدُّنْيَا دَارٌ إِلَّا الْجَنَّةٌ وَالنَّارُ» وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ لَمَّا أَمَرَهُ/ بِالْإِحْسَانِ بِالْمَالِ أَمَرَهُ بِالْإِحْسَانِ مُطْلَقًا وَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِعَانَةُ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ وَحُسْنِ اللِّقَاءِ وَحُسْنِ الذِّكْرِ، وَإِنَّمَا قَالَ: كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ تَنْبِيهًا عَلَى قَوْلِهِ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إِبْرَاهِيمَ: 7] وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ وَالْمُرَادُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَقِيلَ إِنَّ هَذَا الْقَائِلَ هُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ مُؤْمِنُو قَوْمِهِ، وَكَيْفَ كَانَ فَقَدْ جَمَعَ فِي هَذَا الْوَعْظِ مَا لَوْ قَبِلَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَزِيدٌ، لَكِنَّهُ أَبَى أَنْ يَقْبَلَ بَلْ زَادَ عَلَيْهِ بِكُفْرِ النِّعْمَةِ فَقَالَ: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: كَانَ قَارُونُ أَقْرَأَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلتَّوْرَاةِ فَقَالَ: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ لِفَضْلِ عِلْمِي وَاسْتِحْقَاقِي لِذَلِكَ وَثَانِيهَا: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالضَّحَّاكُ: كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ عِلْمُ الْكِيمْيَاءِ مِنَ السَّمَاءِ فَعَلَّمَ قَارُونَ ثُلُثَ الْعِلْمِ وَيُوشَعَ ثُلُثَهُ وَكَالِبَ ثُلُثَهُ فَخَدَعَهُمَا قَارُونُ حَتَّى أَضَافَ عِلْمَهُمَا إِلَى عِلْمِهِ فَكَانَ يَأْخُذُ الرَّصَاصَ فَيَجْعَلُهُ فِضَّةً وَالنُّحَاسَ فَيَجْعَلُهُ ذَهَبًا وَثَالِثُهَا: أَرَادَ بِهِ عِلْمَهُ بِوُجُوهِ الْمَكَاسِبِ وَالتِّجَارَاتِ وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: إِنَّما أُوتِيتُهُ

[سورة القصص (28) : الآيات 79 إلى 81]

عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَيِ اللَّهُ أَعْطَانِي ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ عَالِمًا بِي وَبِأَحْوَالِي فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لَمَا فَعَلَ وَقَوْلُهُ: عِنْدِي أَيْ عِنْدِي أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، كَمَا يَقُولُ الْمُفْتِي عِنْدِي أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ أَيْ مَذْهَبِي وَاعْتِقَادِي ذَلِكَ، ثُمَّ أَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ كَلَامِهِ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِثْبَاتًا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَهْلَكَ قَبْلَهُ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَأَغْنَى لِأَنَّهُ قَدْ قَرَأَهُ فِي التَّوْرَاةِ وَأَخْبَرَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَمِعَهُ مِنْ حُفَّاظِ التَّوَارِيخِ كَأَنَّهُ قيل له: أو لم يَعْلَمْ فِي جُمْلَةِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ هَذَا حَتَّى لَا يَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ مَالِهِ وَقُوَّتِهِ: الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا لِعِلْمِهِ بِذَلِكَ كَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي فَتَصَلَّفَ بِالْعِلْمِ وَتَعَظَّمَ بِهِ، قِيلَ أَعِنْدَهُ مِثْلُ ذَلِكَ الْعِلْمِ الَّذِي ادَّعَاهُ، وَرَأَى نَفْسَهُ بِهِ مُسْتَوْجِبَةً لِكُلِّ نِعْمَةٍ، وَلَمْ يَعْلَمْ هَذَا الْعِلْمَ النَّافِعَ حَتَّى يَقِيَ بِهِ نَفْسَهُ مَصَارِعَ الْهَالِكِينَ؟ أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَكْثَرُ جَمْعاً فَالْمَعْنَى أَكْثَرُ جَمْعًا لِلْمَالِ أَوْ أَكْثَرُ جَمَاعَةً وَعَدَدًا، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ اغْتِرَارَهُ بِمَالِهِ وَقُوَّتِهِ وَجُمُوعِهِ مِنَ الْخَطَأِ الْعَظِيمِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ إِهْلَاكَهُ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ وَلَا مَا يَزِيدُ عَلَيْهِ أَضْعَافًا. فأما قوله: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ فَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا عَاقَبَ الْمُجْرِمِينَ فَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْ كَيْفِيَّةِ ذُنُوبِهِمْ وَكَمِّيَّتِهَا، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ فَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى السُّؤَالِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وبين قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الْحِجْرِ: 92] قُلْنَا يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى وَقْتَيْنِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، وَذَكَرَ أَبُو مُسْلِمٌ وَجْهًا آخَرَ فَقَالَ: السُّؤَالُ قَدْ يَكُونُ لِلْمُحَاسَبَةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّبْكِيتِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلِاسْتِعْتَابِ، وَأَلْيَقُ الْوُجُوهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الِاسْتِعْتَابُ لِقَوْلِهِ: ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [النَّحْلِ: 84] هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 35، 36] . [سورة القصص (28) : الآيات 79 الى 81] فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) أَمَّا قَوْلُهُ: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ بِأَظْهَرِ زِينَةٍ وَأَكْمَلِهَا وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا هَذَا الْقَدْرُ، إِلَّا أَنَّ النَّاسَ ذَكَرُوا وُجُوهًا مُخْتَلِفَةً فِي كَيْفِيَّةِ تِلْكَ الزِّينَةِ، قَالَ مُقَاتِلٌ خَرَجَ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ عَلَيْهَا سَرْجٌ مِنْ ذَهَبٍ وَمَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ فَارِسٍ على الخيول وعليها الثياب الأرجوانية ومعه ثلاثمائة جَارِيَةٍ بِيضٍ عَلَيْهِنَّ الْحُلِيُّ وَالثِّيَابُ الْحُمْرُ عَلَى الْبِغَالِ الشُّهْبِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ خَرَجَ فِي تِسْعِينَ أَلْفًا هَكَذَا، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ عَلَى ثلاثمائة. وَالْأَوْلَى تَرْكُ هَذِهِ التَّقْرِيرَاتِ لِأَنَّهَا مُتَعَارِضَةٌ، ثُمَّ إن الناس لما رأوه على تِلْكَ الزِّينَةَ قَالَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَرْغَبُ في الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَالْأَمْوَالِ، وَالرَّاغِبُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْكُفَّارِ وَأَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُحِبُّونَ الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ وَأَهْلُ الدِّينِ فَقَالُوا لِلَّذِينِ تَمَنَّوْا هَذَا وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ النِّعَمِ، لِأَنَّ لِلثَّوَابِ مَنَافِعَ عَظِيمَةً وَخَالِصَةً عَنْ شَوَائِبِ الْمَضَارِّ وَدَائِمَةً، وَهَذِهِ النِّعَمُ الْعَاجِلَةُ

عَلَى الضِّدِّ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَيْلَكَ أَصْلُهُ الدُّعَاءُ بِالْهَلَاكِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ وَالْبَعْثِ عَلَى تَرْكِ مَا لَا يُرْتَضَى. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَا يُوَفَّقُ لَهَا وَالضَّمِيرُ فِي يُلَقَّاهَا إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً يَعْنِي هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا يُؤْتَاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ وَالثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْنِي، وَلَا يُلَقَّى هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَهِيَ قَوْلُهُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ إِلَّا الصَّابِرُونَ عَلَى أَدَاءِ الطَّاعَاتِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَعَلَى الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ فِي كُلِّ مَا قَسَمَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا أَشِرَ وَبَطِرَ وَعَتَا خَسَفَ اللَّهُ بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ جَزَاءً عَلَى عُتُوِّهِ وَبَطَرِهِ، وَالْفَاءُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْفَاءَ تُشْعِرُ بِالْعِلِّيَّةِ وَثَانِيهَا: قِيلَ إِنَّ قَارُونَ كَانَ يُؤْذِي نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كُلَّ وَقْتٍ وَهُوَ يُدَارِيهِ لِلْقَرَابَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا حَتَّى نَزَلَتِ الزَّكَاةُ فَصَالَحَهُ عَنْ كُلِّ أَلْفِ دِينَارٍ عَلَى دِينَارٍ، وَعَنْ كُلِّ أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى دِرْهَمٍ فَحَسَبَهُ فَاسْتَكْثَرَهُ فَشَحَّتْ نَفْسُهُ فَجَمَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ: إِنَّ مُوسَى يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ أَمْوَالَكُمْ فَقَالُوا: أَنْتَ سَيِّدُنَا وَكَبِيرُنَا فَمُرْنَا بِمَا شِئْتَ، قَالَ: نُبَرْطِلُ فُلَانَةَ الْبَغِيَّ حَتَّى تَنْسُبَهُ إِلَى نَفْسِهَا فَيَرْفُضَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَجَعَلَ لَهَا طَسْتًا مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءًا ذَهَبًا فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ قَامَ مُوسَى فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مَنْ سَرَقَ قَطَعْنَاهُ، وَمَنْ زَنَى وَهُوَ [غَيْرُ] مُحْصَنٍ جَلَدْنَاهُ وَإِنْ أَحْصَنَ رَجَمْنَاهُ، فَقَالَ قَارُونُ وَإِنْ كُنْتَ أَنْتَ؟ قَالَ: وَإِنْ كُنْتُ أَنَا، قَالَ: فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَقُولُونَ إِنَّكَ فَجَرْتَ بِفُلَانَةَ فَأُحْضِرَتْ فَنَاشَدَهَا مُوسَى بِاللَّهِ الَّذِي فَلَقَ الْبَحْرَ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ أَنْ تَصْدُقَ فَتَدَارَكَهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَتْ: كَذَبُوا بَلْ جَعَلَ لِي قَارُونُ جُعْلًا عَلَى أَنْ أَقْذِفَكَ بِنَفْسِي، فَخَرَّ مُوسَى سَاجِدًا يَبْكِي، وَقَالَ: يَا رَبِّ إِنْ كُنْتُ رَسُولَكَ فَاغْضَبْ لِي، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ أَنْ مُرِ الْأَرْضَ بِمَا شِئْتَ فَإِنَّهَا مُطِيعَةٌ لَكَ، فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَى قَارُونَ كَمَا بَعَثَنِي إِلَى فِرْعَوْنَ فَمَنْ كَانَ مَعَهُ فَلْيَلْزَمْ مَكَانَهُ وَمَنْ كَانَ مَعِيَ فَلْيَعْتَزِلْ فَاعْتَزَلُوا جَمِيعًا غَيْرَ رَجُلَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى الرُّكَبِ ثُمَّ قَالَ خُذِيهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى الْأَوْسَاطِ ثُمَّ قَالَ: خُذِيهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى الْأَعْنَاقِ وَقَارُونُ وَأَصْحَابُهُ يَتَضَرَّعُونَ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيُنَاشِدُونَهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ، وَمُوسَى لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ لِشِدَّةِ غَضَبِهِ، ثُمَّ قَالَ: خُذِيهِمْ فَانْطَبَقَتِ الْأَرْضُ عَلَيْهِمْ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أَفَظَّكَ اسْتَغَاثُوا بِكَ مِرَارًا فلم ترحمهم، أما وعزتي لودعوني مَرَّةً وَاحِدَةً لَوَجَدُونِي قَرِيبًا مُجِيبًا فَأَصْبَحَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَتَنَاجَوْنَ بَيْنَهُمْ إِنَّمَا دَعَا مُوسَى عَلَى قَارُونَ لِيَسْتَبِدَّ بِدَارِهِ وَكُنُوزِهِ فَدَعَا اللَّهَ حَتَّى خَسَفَ بِدَارِهِ وَأَمْوَالِهِ، ثُمَّ إِنَّ قَارُونَ يُخْسَفُ بِهِ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ قَامَةٍ، قَالَ الْقَاضِي: إِذَا هَلَكَ بِالْخَسْفِ فَسَوَاءٌ نَزَلَ عَنْ ظَاهِرِ الْأَرْضِ إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مَا رُوِيَ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَوِ اسْتَغَاثَ بِي لَأَغَثْتُهُ، فَإِنْ صَحَّ حُمِلَ عَلَى اسْتِغَاثَةٍ مَقْرُونَةٍ بِالتَّوْبَةِ فَأَمَّا وَهُوَ ثَابِتٌ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي حَكَمَ بِذَلِكَ الْخَسْفِ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا فَعَلَهُ إِلَّا عَنْ أَمْرِهِ فَبَعِيدٌ، وَقَوْلُهُمْ إِنَّهُ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا فَبَعِيدٌ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نِهَايَةٍ وَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ عَدَدِ الْقَامَاتِ، وَالَّذِي عِنْدِي فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ أَنَّهَا قَلِيلَةُ الْفَائِدَةِ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَلَا تُفِيدُ الْيَقِينَ، وَلَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةً عَمَلِيَّةً حَتَّى يُكْتَفَى فِيهَا بِالظَّنِّ، ثُمَّ إِنَّهَا فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ مُتَعَارِضَةٌ مُضْطَرِبَةٌ فَالْأَوْلَى طَرْحُهَا وَالِاكْتِفَاءُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ نَصُّ الْقُرْآنِ وَتَفْوِيضُ سَائِرِ التَّفَاصِيلِ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ فَالْمُرَادُ مِنَ الْمُنْتَقِمِينَ مِنْ مُوسَى أَوْ مِنَ الْمُمْتَنِعِينَ مِنْ عَذَابِ/ الله

[سورة القصص (28) : الآيات 82 إلى 83]

تَعَالَى يُقَالُ نَصَرَهُ مِنْ عَدُوِّهِ فَانْتَصَرَ، أَيْ منعه منه فامتنع. [سورة القصص (28) : الآيات 82 الى 83] وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) اعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ شَاهَدُوا قَارُونَ فِي زِينَتِهِ لَمَّا شَاهَدُوا مَا نَزَلَ بِهِ مِنَ الْخَسْفِ صَارَ ذَلِكَ زَاجِرًا لَهُمْ عَنْ حُبِّ الدُّنْيَا وَمُخَالَفَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَدَاعِيًا إِلَى الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِسْمَتِهِ وَإِلَى إِظْهَارِ الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ لِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَيْكَأَنَّ اللَّهَ فَاعْلَمْ أَنَّ وَيْ كَلِمَةٌ مَفْصُولَةٌ عَنْ كَأَنَّ وَهِيَ كَلِمَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ عِنْدَ التَّنَبُّهِ لِلْخَطَأِ وَإِظْهَارِ التندم، فلما قالوا: يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ [القصص: 79] ثُمَّ شَاهَدُوا الْخَسْفَ تَنَبَّهُوا لِخَطَئِهِمْ فَقَالُوا: وَيْ ثُمَّ قَالُوا: كَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ لَا لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ، وَيُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ لَا لِهَوَانِ مَنْ يُضَيِّقُ عَلَيْهِ بَلْ لِحِكْمَتِهِ وَقَضَائِهِ ابْتِلَاءً وَفِتْنَةً قَالَ سِيبَوَيْهِ: سَأَلْتُ الْخَلِيلَ عَنْ هَذَا الْحَرْفِ فَقَالَ إِنَّ وَيْ مَفْصُولَةٌ مِنْ كَأَنَّ وَإِنَّ الْقَوْمَ تَنَبَّهُوا وَقَالُوا مُتَنَدِّمِينَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ وَيْ. وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى وَيْلَكَ فَحَذَفَ اللَّامَ وَإِنَّمَا جَازَ هَذَا الْحَذْفُ لِكَثْرَتِهَا فِي الْكَلَامِ وَجَعَلَ أَنَّ مَفْتُوحَةً بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ كَأَنَّهُ قَالَ وَيْلَكَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ، وَهَذَا قَوْلُ قُطْرُبٍ حَكَاهُ عَنْ يُونُسَ الثَّانِي: وَيْ مُنْفَصِلَةٌ مِنْ كَأَنَّ وَهُوَ لِلتَّعَجُّبِ يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ وَيْ أَمَا تَرَى مَا بَيْنَ يَدَيْكَ فَقَالَ اللَّهُ وَيْ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ كَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ فَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَهَا تَعْجِيبًا لِخَلْقِهِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا وَجْهٌ مُسْتَقِيمٌ غَيْرَ أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَكْتُبْهَا مُنْفَصِلَةً وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا قَالُوهُ لَكَتَبُوهَا مُنْفَصِلَةً، وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ خَطَّ الْمُصْحَفِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالُوا: لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ. أَمَّا قَوْلُهُ: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ فَتَعْظِيمٌ لَهَا وَتَفْخِيمٌ لِشَأْنِهَا يَعْنِي تِلْكَ الَّتِي سَمِعْتَ بِذِكْرِهَا وَبَلَغَكَ وَصْفُهَا وَلَمْ يُعَلَّقِ الْوَعْدُ بِتَرْكِ الْعُلُوِّ وَالْفَسَادِ، وَلَكِنْ بِتَرْكِ إِرَادَتِهِمَا وَمَيْلِ الْقَلْبِ إِلَيْهِمَا، وَعَنْ عَلِيٍّ/ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّ الرَّجُلَ لَيُعْجِبُهُ أَنْ يَكُونَ شِرَاكُ نَعْلِهِ أَجْوَدَ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِ صَاحِبِهِ فَيَدْخُلُ تَحْتَهَا، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَمِنَ الطُّمَّاعِ مَنْ يَجْعَلُ الْعُلُوَّ لِفِرْعَوْنَ لِقَوْلِهِ: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ [الْقَصَصِ: 4] وَالْفَسَادَ لِقَارُونَ لِقَوْلِهِ: وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ [القصص: 77] وَيَقُولُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَ فِرْعَوْنَ وَقَارُونَ فَلَهُ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ وَلَا يَتَدَبَّرُ قَوْلَهُ: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ كَمَا تَدَبَّرَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب عليه السلام. [سورة القصص (28) : الآيات 84 الى 88] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ لِمَنْ يُرِيدُ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا، بَلْ هِيَ لِلْمُتَّقِينَ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ فَقَالَ: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وفيه وجوه أحدهما: الْمَعْنَى مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ حَصَلَ لَهُ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ خَيْرٌ وَثَانِيهَا: حَصَلَ لَهُ شَيْءٌ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ تِلْكَ الْحَسَنَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُزَادُونَ عَلَى ثَوَابِهِمْ وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ فِي آخِرِ النَّمْلِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ فَظَاهِرُهُ أَنْ لَا يُزَادُوا عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَ. / وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فِي السَّيِّئَاتِ دَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْحَسَنَاتِ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَزِيدِ الْفَضْلِ عَلَى الثَّوَابِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لَكِنَّهُ كَرَّرَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِي إِسْنَادِ عَمَلِ السَّيِّئَةِ إِلَيْهِمْ مُكَرَّرًا فَضْلَ تَهْجِينٍ لِحَالِهِمْ وَزِيَادَةَ تَبْغِيضٍ لِلسَّيِّئَةِ إِلَى قُلُوبِ السَّامِعِينَ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ أَنَّهُ لَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ إِلَّا مِثْلَهَا، وَيَجْزِي بِالْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، وهاهنا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَالَ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: 7] كَرَّرَ ذَلِكَ الْإِحْسَانَ وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْإِسَاءَةِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ كَرَّرَ ذِكْرَ الْإِسَاءَةِ مَرَّتَيْنِ وَاكْتَفَى فِي ذِكْرِ الْإِحْسَانِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَمَا السَّبَبُ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ هَذَا الْمَقَامَ مَقَامُ التَّرْغِيبِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَكَانَتِ الْمُبَالَغَةُ فِي الزَّجْرِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ لَائِقَةً بِهَذَا الْبَابِ، لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الزَّجْرِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ مُبَالَغَةٌ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْآخِرَةِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الْأُخْرَى فَهِيَ شَرْحُ حَالِهِمْ فَكَانَتِ الْمُبَالَغَةُ فِي ذِكْرِ مَحَاسِنِهِمْ أَوْلَى. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ قَالَ: لَا تُجْزَى السَّيِّئَةُ إِلَّا بِمِثْلِهَا؟ مَعَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ إِذَا مَاتَ فِي الْحَالِ عُذِّبَ أَبَدَ الْآبَادِ وَالْجَوَابُ: لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى عَزْمٍ أَنَّهُ لَوْ عَاشَ أَبَدًا لَقَالَ ذَلِكَ فَعُومِلَ بِمُقْتَضَى عَزْمِهِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَ الْأَطْفَالَ عَذَابًا دَائِمًا بِغَيْرِ جُرْمٍ، قُلْنَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا شَرَحَ لِرَسُولِهِ أَمْرَ الْقِيَامَةِ وَاسْتَقْصَى فِي ذَلِكَ، شَرَحَ لَهُ مَا يَتَّصِلُ بِأَحْوَالِهِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ أَحْكَامَهُ وَفَرَائِضَهُ لَرَادُّكَ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى مَعَادٍ، وَتَنْكِيرُ الْمَعَادِ لِتَعْظِيمِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ إِلَى مَعَادٍ وَأَيُّ مَعَادٍ، أَيْ لَيْسَ لِغَيْرِكَ مِنَ الْبَشَرِ مِثْلُهُ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ مَكَّةُ، وَوَجْهُهُ أَنْ يُرَادَ بِرَدِّهِ إِلَيْهَا يَوْمُ الْفَتْحِ، وَوَجْهُ تَنْكِيرِهِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَعَادًا لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ لاستيلاء رسول الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ عَلَيْهَا وَقَهْرِهِ لِأَهْلِهَا وَإِظْهَارِ عِزِّ الْإِسْلَامِ وَإِذْلَالِ حِزْبِ الْكُفْرِ وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُ وَهُوَ بِمَكَّةَ فِي أَذًى وَغَلَبَةٍ مِنْ أَهْلِهَا أَنَّهُ يُهَاجِرُ مِنْهَا وَيُعِيدُهُ إِلَيْهَا ظَاهِرًا ظَافِرًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ مِنَ الْغَارِ وَسَارَ فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ مَخَافَةَ الطَّلَبِ، فَلَمَّا أَمِنَ رَجَعَ إِلَى الطَّرِيقِ وَنَزَلَ بِالْجُحْفَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَعَرَفَ الطَّرِيقَ إِلَى مَكَّةَ وَاشْتَاقَ إِلَيْهَا وَذَكَرَ مَوْلِدَهُ وَمَوْلِدَ أَبِيهِ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: تَشْتَاقُ إِلَى بَلَدِكَ وَمَوْلِدِكَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: نَعَمْ، فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ يَعْنِي إِلَى مَكَّةَ ظَاهِرًا عَلَيْهِمْ وَهَذَا أَقْرَبُ، لِأَنَّ ظَاهِرَ

الْمَعَادِ أَنَّهُ كَانَ فِيهِ وَفَارَقَهُ وَحَصَلَ الْعَوْدُ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِمَكَّةَ، وَإِنْ كَانَ سَائِرُ الْوُجُوهِ مُحْتَمَلًا لَكِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ، قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: وَهَذَا أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ الْغَيْبِ وَوَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ فَيَكُونُ مُعْجِزًا، ثُمَّ قَالَ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَوَجْهُ تَعَلُّقِهِ بِمَا قَبْلَهُ أَنَّ/ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ رَسُولَهُ الرَّدَّ إِلَى مَعَادٍ، قَالَ: قُلْ لِلْمُشْرِكِينَ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى يَعْنِي نَفْسَهُ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الثَّوَابِ فِي الْمَعَادِ وَالْإِعْزَازِ بِالْإِعَادَةِ إِلَى مَكَّةَ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يَعْنِيهِمْ وَمَا يَسْتَحِقُّونَ مِنَ الْعِقَابِ فِي مَعَادِهِمْ، ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِهِ وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَفِي كَلِمَةِ إِلَّا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لِلِاسْتِثْنَاءِ، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هَذَا كَلَامٌ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ: (وَمَا أُلْقِيَ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) وَيُمْكِنُ أَيْضًا إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، أَيْ وَمَا كُنْتَ تَرْجُو إِلَّا أَنْ يَرْحَمَكَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ فَيُنْعِمَ عَلَيْكَ بِذَلِكَ، أَيْ مَا كُنْتَ تَرْجُو إِلَّا عَلَى هَذَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ إِلَّا بِمَعْنَى لَكِنْ لِلِاسْتِدْرَاكِ، أَيْ وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أُلْقِيَ إِلَيْكَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الْقَصَصِ: 46] خَصَّصَكَ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ كَلَّفَهُ بِأُمُورٍ أَحَدُهَا: كَلَّفَهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ مُظَاهِرًا لِلْكُفَّارِ فَقَالَ: فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ وَثَانِيهَا: أَنْ قَالَ: وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ الْمَيْلُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ الضَّحَّاكُ وَذَلِكَ حِينَ دَعَوْهُ إِلَى دِينِ آبَائِهِ ليزوجوه ويقاسموه شطرا من مالهم، أَيْ لَا تَلْتَفِتْ إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا تَرْكَنْ إِلَى قَوْلِهِمْ فَيَصُدُّوكَ عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِ اللَّهِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أَيْ: إِلَى دِينِ رَبِّكَ، وَأَرَادَ التَّشَدُّدَ فِي دُعَاءِ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ، فَلِذَلِكَ قَالَ: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ مَنْ رَضِيَ بِطَرِيقَتِهِمْ أَوْ مَالَ إِلَيْهِمْ كَانَ مِنْهُمْ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْكُلِّ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَهُ بِهِ خُصُوصًا لِأَجْلِ التَّعْظِيمِ، فَإِنْ قِيلَ الرَّسُولُ كَانَ مَعْلُومًا مِنْهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ فَمَا فَائِدَةُ هَذَا النَّهْيِ؟ قُلْنَا لَعَلَّ الْخِطَابَ مَعَهُ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ غَيْرُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَا تَعْتَمِدْ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ وَلَا تَتَّخِذْ غَيْرَهُ وَكِيلًا فِي أُمُورِكَ، فَإِنَّ مَنْ وَثِقَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَأَنَّهُ لَمْ يُكْمِلْ طَرِيقَهُ فِي التَّوْحِيدِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَيْ لَا نَافِعَ وَلَا ضَارَّ وَلَا مُعْطِيَ وَلَا مَانِعَ إِلَّا هُوَ، كَقَوْلِهِ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 9] فَلَا يجوز اتخاذ إله سواء، ثُمَّ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ فَسَّرَ الْهَلَاكَ بِالْعَدَمِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْدِمُ كُلَّ شَيْءٍ سِوَاهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ الْهَلَاكَ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ كَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ، إِمَّا بِالْإِمَاتَةِ أَوْ بِتَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ أَجْزَاؤُهُ بَاقِيَةً، فَإِنَّهُ يُقَالُ هَلَكَ الثَّوْبُ وَهَلَكَ الْمَتَاعُ وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ فَنَاءَ أَجْزَائِهِ، بَلْ خُرُوجَهُ عَنْ كَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَعْنَى كَوْنِهِ هَالِكًا كَوْنُهُ قَابِلًا لِلْهَلَاكِ فِي ذَاتِهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَكُلُّ مَا كَانَ مُمْكِنَ الْوُجُودِ كَانَ قَابِلًا لِلْعَدَمِ فَكَانَ قَابِلًا لِلْهَلَاكِ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْهَلَاكِ نَظَرًا إِلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ لَمَّا أَرَادُوا إِقَامَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى يَقْبَلُ الْعَدَمَ وَالْهَلَاكَ قَالُوا: ثَبَتَ أَنَّ الْعَالَمَ مُحْدَثٌ، وَكُلُّ مَا كَانَ مُحْدَثًا فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ قَابِلَةٌ لِلْعَدَمِ وَالْوُجُودِ، وَكُلَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ أَبَدًا، لِأَنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ لَوَازِمَ الْمَاهِيَّةِ، وَلَازِمُ الْمَاهِيَّةِ/ لَا يَزُولُ قَطُّ، إِلَّا أَنَّا لَمَّا نَظَرْنَا فِي هَذِهِ الدَّلَالَةِ مَا وَجَدْنَاهَا وَافِيَةً بِهَذَا الْغَرَضِ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا أَقَامُوا الدَّلَالَةَ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ، فَلَوْ قَدَرُوا عَلَى إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا مُتَحَيِّزٌ أَوْ قَائِمٌ بِالْمُتَحَيِّزِ لَتَمَّ غَرَضُهُمْ، إِلَّا أَنَّ الْخَصْمَ يثبت

مَوْجُودَاتٍ لَا مُتَحَيِّزَةً وَلَا قَائِمَةً بِالْمُتَحَيِّزِ، فَالدَّلِيلُ الَّذِي يُبَيِّنُ حُدُوثَ الْمُتَحَيِّزِ وَالْقَائِمِ بِالْمُتَحَيِّزِ لَا يُبَيِّنُ حُدُوثَ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَلَهُمْ فِي نَفْيِ هَذَا الْقِسْمِ الثَّالِثِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُمْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَوَجَبَ نَفْيُهُ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ رَكِيكَةٌ بَيَّنَّا سُقُوطَهَا فِي الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ وَالثَّانِي: قَوْلُهُمْ لَوْ وُجِدَ مَوْجُودٌ هَكَذَا لَكَانَ مُشَارِكًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي نَفْيِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالْإِمْكَانِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَصَارَ مِثْلًا لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمَا وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي هَذَا السَّلْبِ إِلَّا أَنَّهُ يَتَمَيَّزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ بِمَاهِيَّةٍ وَحَقِيقَةٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ دَلِيلَهُمُ الْعَقْلِيَّ لَا يَفِي بِإِثْبَاتِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، وَالَّذِي يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ نَقُولَ ثَبَتَ أَنَّ صَانِعَ الْعَالِمِ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ فَيَسْتَحِيلُ وُجُودُ مَوْجُودٍ آخَرَ وَاجِبٌ لِذَاتِهِ، وَإِلَّا لَاشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ وَامْتَازَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ بِخُصُوصِيَّتِهِ، وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُمَايَزَةُ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَكَّبًا عَمَّا بِهِ الْمُشَارَكَةُ وَعَمَّا بِهِ الْمُمَايَزَةُ وَكُلُّ مُرَكَّبٍ مُمْكِنٌ مُفْتَقِرٌ إِلَى جُزْئِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْجُزْأَيْنِ إِنْ كَانَا وَاجِبَيْنِ كَانَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي الْوُجُوبِ وَمُتَمَايِزَيْنِ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ فَيَلْزَمُ تَرَكُّبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَيْضًا وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا وَاجِبَيْنِ فَالْمُرَكَّبُ عَنْهُمَا الْمُفْتَقِرُ إِلَيْهِمَا أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا، فَثَبَتَ أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَاحِدٌ وَأَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ، وَافْتِقَارُهُ إِلَى الْمُرَجِّحِ، إِمَّا حَالَ عَدَمِهِ أَوْ حَالَ وُجُودِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ ثَبَتَ أَنَّهُ مُحْدَثٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَافْتِقَارُ الْمَوْجُودِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، إِمَّا حَالَ حُدُوثِهِ أَوْ حَالَ بَقَائِهِ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ إِيجَادُ الْمَوْجُودِ وَهُوَ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّ الِافْتِقَارَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا حَالَ الْحُدُوثِ، وَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى مُحْدَثٌ سَوَاءٌ كَانَ مُتَحَيِّزًا أَوْ قَائِمًا بِالْمُتَحَيِّزِ أَوْ لَا مُتَحَيِّزًا وَلَا قَائِمًا بِالْمُتَحَيِّزِ، فَإِنْ نَقَضْتَ هَذِهِ الدَّلَالَةَ بِذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، فَاعْلَمْ أَنَّ هُنَاكَ فَرْقًا قَوِيًّا وَإِذَا ثَبَتَ حُدُوثُ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُحْدَثًا كَانَ قَابِلًا لِلْعَدَمِ ثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْبَاهِرِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، بِمَعْنَى كَوْنِهِ قَابِلًا لِلْهَلَاكِ وَالْعَدَمِ، ثُمَّ إِنَّ الَّذِينَ فَسَّرُوا الْآيَةَ بِذَلِكَ قَالُوا هَذَا أَوْلَى وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَمَ بِكَوْنِهَا هَالِكَةً فِي الْحَالِ، وَعَلَى مَا قُلْنَاهُ فَهِيَ هَالِكَةٌ فِي الْحَالِ، وَعَلَى مَا قُلْتُمُوهُ أَنَّهَا سَتَهْلَكُ لَا أَنَّهَا هَالِكَةٌ فِي الْحَالِ، فَكَانَ قَوْلُنَا أَوْلَى وَأَيْضًا فَالْمُمْكِنُ إِذَا وُجِدَ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لَا لِلْوُجُودِ وَلَا لِلْعَدَمِ مِنْ ذَاتِهِ، فَهَذِهِ الِاسْتِحْقَاقِيَّةُ مُسْتَحَقَّةٌ لَهُ مِنْ ذَاتِهِ، وَأَمَّا الْوُجُودُ فَوَارِدٌ عَلَيْهِ مِنَ الْخَارِجِ فَالْوُجُودُ لَهُ كَالثَّوْبِ الْمُسْتَعَارِ لَهُ وَهُوَ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ كَالْإِنْسَانِ الْفَقِيرِ الَّذِي اسْتَعَارَ ثَوْبًا مِنْ رَجُلٍ غَنِيٍّ، فَإِنَّ الْفَقِيرَ لَا يَخْرُجُ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ فَقِيرًا كَذَا الْمُمْكِنَاتُ عَارِيَةٌ عَنِ الْوُجُودِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، وَإِنَّمَا الْوُجُودُ ثَوْبٌ حَصَلَ لَهَا بِالْعَارِيَةِ فَصَحَّ أَنَّهَا أَبَدًا هَالِكَةٌ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، أَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوهُ عَلَى أَنَّهَا/ سَتُعْدَمُ فَقَدِ احْتَجُّوا بِأَنْ قَالُوا: الْهَلَاكُ فِي اللُّغَةِ لَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا: خُرُوجُ الشَّيْءِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ وَالثَّانِي: الْفَنَاءُ وَالْعَدَمُ لَا جَائِزٌ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ هَلَاكَهَا بِمَعْنَى خُرُوجِهَا عَنْ حَدِّ الِانْتِفَاعِ مُحَالٌ، لِأَنَّهَا وَإِنْ تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهَا فَإِنَّهَا مُنْتَفَعٌ بِهَا لِأَنَّ النَّفْعَ الْمَطْلُوبَ كَوْنُهَا بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْقَدِيمِ، وَهَذِهِ الْمَنْفَعَةُ بَاقِيَةٌ سَوَاءٌ بَقِيَتْ مُتَفَرِّقَةً أَوْ مُجْتَمِعَةٌ، وَسَوَاءٌ بَقِيَتْ مَوْجُودَةً أَوْ صَارَتْ مَعْدُومَةً. وَإِذَا تَعَذَّرَ حَمْلُ الْهَلَاكِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْفَنَاءِ. أَجَابَ مَنْ حَمَلَ الْهَلَاكَ عَلَى التَّفَرُّقِ قَالَ: هَلَاكُ الشَّيْءِ خُرُوجُهُ عَنِ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يَكُونُ الشَّيْءُ مَطْلُوبًا لِأَجْلِهَا، فَإِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ قِيلَ هَلَكَ لِأَنَّ الصِّفَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنْهُ حَيَاتُهُ وَعَقْلُهُ، وَإِذَا تَمَزَّقَ الثَّوْبُ قِيلَ هَلَكَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ صَلَاحِيَتُهُ لِلُّبْسِ، فَإِذَا تَفَرَّقَتْ أجزاء العالم خرجت السموات وَالْكَوَاكِبُ وَالْجِبَالُ وَالْبِحَارُ عَنْ صِفَاتِهَا الَّتِي لِأَجْلِهَا كَانَتْ مُنْتَفَعًا بِهَا انْتِفَاعًا خَاصًّا، فَلَا جَرَمَ صَحَّ إِطْلَاقُ اسْمِ الْهَالِكِ عَلَيْهَا فَأَمَّا صِحَّةُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ فَهَذِهِ الْمَنْفَعَةُ ليست منفعة

خَاصَّةً بِالشَّمْسِ مِنْ حَيْثُ هِيَ شَمْسٌ وَالْقَمَرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ قَمَرٌ، فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ بَقَائِهَا أَنْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْهَالِكِ ثُمَّ احْتَجُّوا عَلَى بَقَاءِ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إِبْرَاهِيمَ: 48] وَهَذَا صَرِيحٌ بِأَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ بَاقِيَةٌ إِلَّا أَنَّهَا صَارَتْ مُتَّصِفَةً بِصِفَةٍ أُخْرَى فَهَذَا مَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَهْلُ التَّوْحِيدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَيْءٌ، قَالُوا لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِهِ: كُلُّ شَيْءٍ اسْتِثْنَاءً يُخْرِجُ مَا لَوْلَاهُ لَوَجَبَ أَوْ لَصَحَّ دُخُولُهُ تَحْتَ اللَّفْظِ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ شَيْئًا يُؤَكِّدُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ [الْأَنْعَامِ: 19] وَاحْتِجَاجُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: 11] وَالْكَافُ مَعْنَاهُ الْمِثْلُ فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ لَيْسَ مِثْلُ مِثْلِهِ شَيْءٌ وَمِثْلُ مِثْلِ اللَّهِ هُوَ اللَّهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ شَيْئًا، جَوَابُهُ: أَنَّ الْكَافَ صِلَةٌ زَائِدَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُجَسِّمَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جِسْمٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: قَالُوا الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْوَجْهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْجِسْمِيَّةَ (وَالثَّانِي) : قَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَكَلِمَةُ إِلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ وَذَلِكَ لَا يُعْقَلُ إِلَّا فِي الْأَجْسَامِ وَالْجَوَابُ: لَوْ صَحَّ هَذَا الْكَلَامُ يَلْزَمُ أَنْ يَفْنَى جَمِيعُ أَعْضَائِهِ وَأَنْ لَا يَبْقَى مِنْهُ إِلَّا الْوَجْهُ. وَقَدِ الْتَزَمَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُشَبِّهَةِ مِنَ الرَّافِضَةِ. وَهُوَ بَيَانُ ابن سَمْعَانَ وَذَلِكَ لَا يَقُولُ بِهِ عَاقِلٌ، ثُمَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ الْوَجْهُ هُوَ الْوُجُودُ وَالْحَقِيقَةُ يُقَالُ وَجْهُ هَذَا الْأَمْرِ كَذَا أَيْ حَقِيقَتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْوَجْهُ صِلَةٌ، وَالْمُرَادُ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا هُوَ، وَأَمَّا كَلِمَةُ إِلَى فَالْمَعْنَى وَإِلَى مَوْضِعِ حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ تُرْجَعُونَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهِ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ غَيْرُ مَخْلُوقَتَيْنِ، قَالُوا لِأَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي فَنَاءَ الْكُلِّ فَلَوْ كَانَتَا مَخْلُوقَتَيْنِ لَفَنِيَتَا، وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ: أُكُلُها دائِمٌ [الرَّعْدِ: 35] وَالْجَوَابُ: هَذَا مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 133] وَفِي صِفَةِ النَّارِ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [الْبَقَرَةِ: 24] ثُمَّ إِمَّا أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ عَلَى الْأَكْثَرِ، كَقَوْلِهِ: / وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْلِ: 23] أَوْ يُحْمَلُ قَوْلُهُ: أُكُلُها دائِمٌ عَلَى أَنَّ زَمَانَ فَنَائِهِمَا لَمَّا كَانَ قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَمَانِ بَقَائِهِمَا لَا جَرَمَ أُطْلِقَ لَفْظُ الدَّوَامِ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذَّاتَ ذَاتٌ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّهُ حَكَمَ بِالْهَلَاكِ عَلَى الشَّيْءِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ فِي كَوْنِهِ شَيْئًا قَابِلٌ لِلْهَلَاكِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَعْدُومُ شَيْئًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رب العالمين.

سورة العنكبوت

سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ مَكِّيَّةٌ وَقِيلَ مَدَنِيَّةٌ وَقِيلَ نَزَلَتْ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى رَأْسِ عَشْرٍ بِمَكَّةَ وَبَاقِيهَا بِالْمَدِينَةِ أَوْ نَزَلَ إِلَى آخِرِ الْعَشْرِ بِالْمَدِينَةِ وباقيها بمكة بالعكس، وَهِيَ سَبْعُونَ أَوْ تِسْعٌ وَسِتُّونَ آيَةً بِسْمِ الله الرحمن الرحيم [سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) في تفسير الآية وفيما يتعلق بالتفسير مسائل: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: 85] وَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى مَكَّةَ ظَاهِرًا غَالِبًا عَلَى الْكُفَّارِ ظَافِرًا طَالِبًا لِلثَّأْرِ، وَكَانَ فِيهِ احْتِمَالُ مَشَاقِّ الْقِتَالِ صَعُبَ عَلَى الْبَعْضِ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَلَا يُؤْمَرُوا بِالْجِهَادِ الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ فِي أَوَاخِرِ السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ [القصص: 87] وَكَانَ فِي الدُّعَاءِ إِلَيْهِ الطِّعَانُ وَالْحِرَابُ وَالضِّرَابُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِالْجِهَادِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنِ الْكُفَّارُ بِمُجَرَّدِ الدُّعَاءِ فَشَقَّ عَلَى الْبَعْضِ ذَلِكَ فَقَالَ: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يُبْطِلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِينَ لِلْحَشْرِ فَقَالَ: لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 88] يَعْنِي لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكًا مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ بَلْ كُلُّ هَالِكٍ وَلَهُ رُجُوعٌ إِلَى اللَّهِ. إِذَا تَبَيَّنَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّ مُنْكِرِي الْحَشْرِ يَقُولُونَ لَا فَائِدَةَ فِي التَّكَالِيفِ فَإِنَّهَا مَشَاقُّ فِي الْحَالِ وَلَا فَائِدَةَ لَهَا فِي الْمَآلِ إِذْ لَا مَآلَ وَلَا مَرْجِعَ بَعْدَ الْهَلَاكِ وَالزَّوَالِ، فَلَا فَائِدَةَ فِيهَا. فَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ بَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ عَلَى مَا حَسِبُوهُ، بَلْ حَسُنَ التَّكْلِيفُ لِيُثِيبَ/ الشَّكُورَ وَيُعَذِّبَ الْكَفُورَ فَقَالَ: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا غَيْرَ مُكَلَّفِينَ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ يَرْجِعُونَ بِهِ إِلَى رَبِّهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي حِكْمَةِ افْتِتَاحِ هَذِهِ السُّورَةِ بِحُرُوفٍ مِنَ التَّهَجِّي، وَلْنُقَدِّمْ عَلَيْهِ كَلَامًا كُلِّيًّا فِي افْتِتَاحِ السُّوَرِ بِالْحُرُوفِ فَنَقُولُ: الْحَكِيمُ إِذَا خَاطَبَ مَنْ يَكُونُ مَحَلَّ الْغَفْلَةِ أَوْ مَنْ يَكُونُ مَشْغُولَ الْبَالِ بِشُغْلٍ مِنَ الْأَشْغَالِ يُقَدِّمُ عَلَى الْكَلَامِ الْمَقْصُودِ شَيْئًا غَيْرَهُ لِيَلْتَفِتَ الْمُخَاطَبُ بِسَبَبِهِ إِلَيْهِ وَيُقْبِلَ بِقَلْبِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَشْرَعُ فِي الْمَقْصُودِ. إِذَا

ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ ذَلِكَ الْمُقَدَّمُ عَلَى الْمَقْصُودِ قد يكون كلاما له معنى مفعوم، كَقَوْلِ الْقَائِلِ اسْمَعْ، وَاجْعَلْ بَالَكَ إِلَيَّ، وَكُنْ لِي، وَقَدْ يَكُونُ شَيْئًا هُوَ فِي مَعْنَى الْكَلَامِ الْمَفْهُومِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ أَزَيْدُ وَيَا زَيْدُ وألا يَا زَيْدُ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمُقَدَّمُ عَلَى الْمَقْصُودِ صَوْتًا غَيْرَ مَفْهُومٍ كَمَنْ يُصَفِّرُ خَلْفَ إِنْسَانٍ لِيَلْتَفِتَ إِلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الصَّوْتُ بِغَيْرِ الْفَمِ كَمَا يُصَفِّقُ الْإِنْسَانُ بِيَدَيْهِ لِيُقْبِلَ السَّامِعُ عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّ مَوْقِعَ الْغَفْلَةِ كُلَّمَا كَانَ أَتَمَّ وَالْكَلَامَ الْمَقْصُودَ كَانَ أَهَمَّ، كَانَ الْمُقَدَّمُ عَلَى الْمَقْصُودِ أَكْثَرَ. وَلِهَذَا يُنَادَى الْقَرِيبُ بِالْهَمْزَةِ فَيُقَالُ أَزَيْدُ وَالْبَعِيدُ بِيَا فَيُقَالُ يَا زَيْدُ، وَالْغَافِلُ يُنَبَّهُ أَوَّلًا فَيُقَالُ أَلَا يَا زَيْدُ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ يَقْظَانَ الْجَنَانِ لَكِنَّهُ إِنْسَانٌ يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ فَكَانَ يَحْسُنُ مِنَ الْحَكِيمِ أَنْ يُقَدِّمَ عَلَى الْكَلَامِ الْمَقْصُودِ حُرُوفًا هِيَ كَالْمُنَبِّهَاتِ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْحُرُوفَ إِذَا لَمْ تَكُنْ بِحَيْثُ يُفْهَمُ مَعْنَاهَا تَكُونُ أَتَمَّ فِي إِفَادَةِ الْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ التَّنْبِيهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْحُرُوفِ الَّتِي لَهَا مَعْنًى، لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْحُرُوفِ إِذَا كَانَ لِإِقْبَالِ السَّامِعِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ لِسَمَاعِ مَا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْمُقَدَّمُ كَلَامًا مَنْظُومًا وَقَوْلًا مَفْهُومًا فَإِذَا سَمِعَهُ السَّامِعُ رُبَّمَا يَظُنُّ أَنَّهُ كُلُّ الْمَقْصُودِ وَلَا كَلَامَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَقْطَعُ الِالْتِفَاتَ عَنْهُ. أَمَّا إِذَا سَمِعَ مِنْهُ صَوْتًا بِلَا مَعْنًى يُقْبِلُ عَلَيْهِ وَلَا يَقْطَعُ نَظَرَهُ عَنْهُ مَا لَمْ يَسْمَعْ غَيْرَهُ لِجَزْمِهِ بِأَنَّ مَا سَمِعَهُ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ، فَإِذَنْ تَقْدِيمُ الْحُرُوفِ الَّتِي لَا مَعْنَى لَهَا فِي الْوَضْعِ عَلَى الْكَلَامِ الْمَقْصُودِ فِيهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِصَاصِ بَعْضِ السُّوَرِ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ؟ فَنَقُولُ عَقْلُ الْبَشَرِ عَنْ إِدْرَاكِ الْأَشْيَاءِ الْجُزْئِيَّةِ عَلَى تَفَاصِيلِهَا عَاجِزٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، لَكِنْ نَذْكُرُ مَا يُوَفِّقُنَا اللَّهُ لَهُ فَنَقُولُ كُلُّ سُورَةٍ فِي أَوَائِلَهَا حُرُوفُ التَّهَجِّي فإن في أوائلها ذكر الكتاب أو التنزيل أَوِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الم ذلِكَ الْكِتابُ [الْبَقَرَةِ: 1، 2] الم اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ [آلِ عِمْرَانَ: 1- 3] المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الْأَعْرَافِ: 1، 2] ، يس وَالْقُرْآنِ [يس: 1، 2] ، ص وَالْقُرْآنِ [ص: 1] ق وَالْقُرْآنِ [ق: 1] ، الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ [السَّجْدَةِ: 1، 2] ، حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ [الْجَاثِيَةِ: 1، 2] إِلَّا ثَلَاثَ سُوَرٍ كهيعص [مَرْيَمَ: 1] ، الم أَحَسِبَ النَّاسُ، الم غُلِبَتِ الرُّومُ [الرُّومِ: 1، 2] وَالْحِكْمَةُ فِي افْتِتَاحِ السُّوَرِ الَّتِي فِيهَا الْقُرْآنُ أَوِ التَّنْزِيلُ أَوِ الْكِتَابُ بِالْحُرُوفِ هِيَ أَنَّ الْقُرْآنَ عَظِيمٌ وَالْإِنْزَالَ لَهُ ثِقَلٌ وَالْكِتَابَ لَهُ عِبْءٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 5] وَكُلُّ سُورَةٍ فِي أَوَّلِهَا ذِكْرُ الْقُرْآنِ وَالْكِتَابِ وَالتَّنْزِيلِ قُدِّمَ عَلَيْهَا مُنَبِّهٌ يُوجِبُ ثَبَاتَ الْمُخَاطَبِ لِاسْتِمَاعِهِ، لَا يُقَالُ كُلُّ سُورَةٍ قُرْآنٌ وَاسْتِمَاعُهُ اسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا ذِكْرُ الْقُرْآنِ لَفْظًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَائِلِ كُلِّ سُورَةٍ مُنَبِّهٌ، وَأَيْضًا فقد وردت/ سور فِيهَا ذِكْرُ الْإِنْزَالِ وَالْكِتَابِ وَلَمْ يُذْكَرْ قَبْلَهَا حُرُوفٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الْكَهْفِ: 1] وَقَوْلِهِ: سُورَةٌ أَنْزَلْناها [النُّورِ: 1] وَقَوْلِهِ: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ [الْفَرْقَانِ: 1] وَقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: 1] لِأَنَّا نَقُولُ جَوَابًا عَنِ الْأَوَّلِ لَا رَيْبَ فِي أَنَّ كُلَّ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَكِنَّ السُّورَةَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْقُرْآنِ وَالْكِتَابِ مَعَ أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ تُنَبِّهُ عَلَى كُلِّ الْقُرْآنِ فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: طه مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ [طه: 1، 2] مَعَ أَنَّهَا بَعْضُ الْقُرْآنِ فِيهَا ذِكْرُ جَمِيعِ الْقُرْآنِ فَيَصِيرُ مِثَالُهُ مِثَالَ كِتَابٍ يَرِدُ مِنْ مَلِكٍ عَلَى مَمْلُوكِهِ فِيهِ شُغْلٌ مَا، وَكِتَابٍ آخَرَ يَرِدُ مِنْهُ عَلَيْهِ فِيهِ: إنا كتبنا إليك كتبا فيها أَوَامِرُنَا فَامْتَثِلْهَا، لَا شَكَّ أَنَّ عِبْءَ الْكِتَابِ الْآخَرِ أَكْثَرُ مِنْ ثِقَلِ الْأَوَّلِ وَعَنِ الثَّانِي أن قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وتَبارَكَ الَّذِي تَسْبِيحَاتٌ مَقْصُودَةٌ وَتَسْبِيحُ اللَّهِ لَا يَغْفُلُ عَنْهُ الْعَبْدُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مُنَبِّهٍ بِخِلَافِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَأَمَّا ذِكْرُ الْكِتَابِ فِيهَا فَلِبَيَانِ وصف عظمة من له التسبيح وسُورَةٌ أَنْزَلْناها قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ فِيهَا ذِكْرُ إِنْزَالِهَا وَفِي السُّورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ذِكْرُ جميع القرآن

فَهُوَ أَعْظَمُ فِي النَّفْسِ وَأَثْقَلُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فَنَقُولُ هَذَا لَيْسَ وَارِدًا عَلَى مَشْغُولِ الْقَلْبِ بِشَيْءٍ غَيْرِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْكِنَايَةَ فِيهَا وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى مَذْكُورٍ سَابِقٍ أَوْ مَعْلُومٍ وَقَوْلُهُ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ الْهَاءُ رَاجِعٌ إِلَى مَعْلُومٍ عند النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فَكَانَ مُتَنَبِّهًا لَهُ فَلَمْ يُنَبَّهْ، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّنْبِيهَ قَدْ حَصَلَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْحُرُوفِ الَّتِي لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهَا كَمَا فِي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1] وقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: 1] ويا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ [التَّحْرِيمِ: 1] لِأَنَّهَا أَشْيَاءُ هَائِلَةٌ عَظِيمَةٌ، فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ حَقَّ تُقَاتِهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ فَقُدِّمَ عَلَيْهَا النِّدَاءُ الَّذِي يَكُونُ لِلْبَعِيدِ الْغَافِلِ عَنْهَا تَنْبِيهًا، وَأَمَّا هَذِهِ السُّورَةُ افْتُتِحَتْ بِالْحُرُوفِ وَلَيْسَ فِيهَا الِابْتِدَاءُ بِالْكِتَابِ وَالْقُرْآنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ ثِقَلُهُ وَعِبْئُهُ بِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَالِيفِ وَالْمَعَانِي، وَهَذِهِ السُّورَةُ فِيهَا ذِكْرُ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ حَيْثُ قَالَ: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا يَعْنِي لَا يُتْرَكُونَ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ بَلْ يُؤْمَرُونَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّكَالِيفِ فَوُجِدَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي السُّوَرِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْقُرْآنِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَإِنْ قِيلَ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ، وَفِي مَعْنَاهُ وَرَدَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ [التَّوْبَةِ: 16] وَلَمْ يُقَدَّمْ عَلَيْهِ حُرُوفُ التَّهَجِّي فَنَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ، وَلِهَذَا وَقَعَ الِاسْتِفْهَامُ بِالْهَمْزَةِ فَقَالَ أَحَسِبَ وَذَلِكَ وَسَطُ كَلَامٍ بِدَلِيلِ وُقُوعِ الِاسْتِفْهَامِ بِأَمْ وَالتَّنْبِيهُ يَكُونُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ لَا فِي أَثْنَائِهِ، وَأَمَّا الم غُلِبَتِ الرُّومُ [الرُّومِ: 1، 2] فَسَيَجِيءُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي الْحُرُوفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي إِعْرَابِ الم وَقَدْ ذُكِرَ تَمَامُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَعَ الْوُجُوهِ المنقولة في تفسيره ونزيد هاهنا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْحُرُوفَ لَا إِعْرَابَ لَهَا لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَصْوَاتِ الْمُنَبِّهَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَعَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ وَكَانُوا يُعَذَّبُونَ بِمَكَّةَ الثَّانِي: / أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَقْوَامٍ بِمَكَّةَ هَاجَرُوا وَتَبِعَهُمُ الْكُفَّارُ فَاسْتُشْهِدَ بَعْضُهُمْ وَنَجَا الْبَاقُونَ الثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَهْجِعِ بْنِ عَبْدِ اللَّه قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي التَّفْسِيرِ قَوْلُهُ: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا يَعْنِي أَظَنُّوا أَنَّهُمْ يُتْرَكُونَ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِمْ آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ لَا يُبْتَلَوْنَ بِالْفَرَائِضِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، وَاخْتَلَفَ أَئِمَّةُ النَّحْوِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَقُولُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْ يُتْرَكُوا بِأَنْ يَقُولُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْ يُتْرَكُوا يَقُولُونَ آمَنَّا، وَمُقْتَضَى ظَاهِرِ هَذَا بعيد أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ آمَنَّا، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ تَظُنُّ أَنَّكَ تُتْرَكُ أَنْ تضرب زيد أَيْ تُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ أَنْ يَقُولَ آمَنْتُ، وَلَكِنْ مُرَادُ هَذَا الْمُفَسِّرِ هُوَ أَنَّهُمْ لَا يُتْرَكُونَ يَقُولُونَ آمَنَّا مِنْ غَيْرِ ابْتِلَاءٍ فَيُمْنَعُونَ مِنْ هَذَا الْمَجْمُوعِ بِإِيجَابِ الْفَرَائِضِ عَلَيْهِمْ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي الْفَوَائِدِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَهِيَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَقْصَى مِنَ الْخَلْقِ الْعِبَادَةُ وَالْمَقْصِدُ الْأَعْلَى فِي الْعِبَادَةِ حُصُولُ مَحَبَّةِ اللَّهِ كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ «لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالْعِبَادَةِ حَتَّى أُحِبَّهُ وَكُلُّ مَنْ كَانَ قَلْبُهُ أَشَدَّ امْتَلَأَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ فَهُوَ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ، لَكِنْ لِلْقَلْبِ تُرْجُمَانٌ وَهُوَ اللِّسَانُ، وَلِلِّسَانِ مُصَدِّقَاتٌ هِيَ الْأَعْضَاءُ، وَلِهَذِهِ الْمُصَدِّقَاتِ مُزَكِّيَاتٌ فَإِذَا قَالَ الْإِنْسَانُ آمَنْتُ بِاللِّسَانِ فَقَدِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ فِي الْجَنَانِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ شُهُودٍ فَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْأَرْكَانَ فِي الْإِتْيَانِ بِمَا عَلَيْهِ بُنْيَانُ الْإِيمَانِ حَصَلَ لَهُ عَلَى دَعْوَاهُ شُهُودٌ مُصَدِّقَاتٌ فَإِذَا بَذَلَ فِي

[سورة العنكبوت (29) : آية 3]

سَبِيلِ اللَّهِ نَفْسَهُ وَمَالَهُ، وَزَكَّى بِتَرْكِ مَا سِوَاهُ أَعْمَالَهُ، زَكَّى شُهُودَهُ الَّذِينَ صَدَّقُوهُ فِيمَا قَالَهُ، فَيُحَرِّرُ فِي جَرَائِدِ الْمُحِبِّينَ اسْمَهُ، وَيُقَرِّرُ فِي أَقْسَامِ الْمُقَرَّبِينَ قَسْمَهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا يَعْنِي أَظَنُّوا أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ دَعْوَاهُمْ بِلَا شُهُودٍ وَشُهُودُهُمْ بِلَا مُزَكِّينَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ جَمِيعِهِ لِيَكُونُوا مِنَ الْمُحِبِّينَ. فَائِدَةٌ ثَانِيَةٌ: وَهِيَ أَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فَإِنَّ مَا دُونَهُ دَرَكَاتُ الْكُفْرِ، فَالْإِسْلَامُ أَوَّلُ دَرَجَةٍ تَحْصُلُ لِلْعَبْدِ فَإِذَا حَصَلَ لَهُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ كُتِبَ اسْمُهُ وَأُثْبِتَ قَسْمُهُ، لَكِنَّ الْمُسْتَخْدَمِينَ عِنْدَ الْمُلُوكِ عَلَى أَقْسَامٍ مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ نَاهِضًا فِي شُغْلِهِ مَاضِيًا فِي فعله، فينقل من خدمة إلى خِدْمَةٍ إِلَى خِدْمَةٍ أَعْلَى مِنْهَا مَرْتَبَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ كَسْلَانًا مُتَخَلِّفًا فَيُنْقَلُ مِنْ خِدْمَةٍ إِلَى خِدْمَةٍ أَدْنَى مِنْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُتْرَكُ عَلَى شَغْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقْطَعُ رَسْمُهُ وَيُمْحَى مِنَ الْجَرَائِدِ اسْمُهُ، فَكَذَلِكَ عِبَادُ اللَّهِ قَدْ يَكُونُ الْمُسْلِمُ عَابِدًا مُقْبِلًا عَلَى الْعِبَادَةِ مَقْبُولًا لِلسَّعَادَةِ فَيُنْقَلُ مِنْ مَرْتَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى دَرَجَةِ الْمُوقِنِينَ وَهِيَ دَرَجَةُ الْمُقَرَّبِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ قَلِيلَ الطَّاعَةِ مُشْتَغِلًا بِالْخَلَاعَةِ، فَيُنْقَلُ إِلَى مَرْتَبَةٍ دُونَهُ وَهِيَ مَرْتَبَةُ الْعُصَاةِ وَمَنْزِلَةُ الْقُسَاةِ، وَقَدْ يَسْتَصْغِرُ الْعُيُوبَ وَيَسْتَكْثِرُ الذُّنُوبَ فَيَخْرُجُ مِنَ الْعِبَادَةِ مَحْرُومًا وَيَلْحَقُ بِأَهْلِ الْعِنَادِ مَرْجُومًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْقَى فِي أَوَّلِ دَرَجَةِ الْجَنَّةِ وَهُمُ الْبُلْهُ، فَقَالَ اللَّهُ بِشَارَةً لِلْمُطِيعِ النَّاهِضِ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا يَعْنِي أَظَنُّوا أَنَّهُمْ يُتْرَكُونَ فِي أَوَّلِ الْمَقَامَاتِ لَا، بَلْ يُنْقَلُونَ إِلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [الْمُجَادَلَةِ: 11] فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ ... عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً [النِّسَاءِ: 95] . وَقَالَ بِضِدِّهِ لِلْكَسْلَانِ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا يَعْنِي إِذَا قَالَ آمَنْتُ وَيَتَخَلَّفُ/ بِالْعِصْيَانِ يُتْرَكُ وَيُرْضَى مِنْهُ، لَا بَلْ يُنْقَلُ إِلَى مَقَامٍ أدنى وهو مقام العاصي أو الكافر. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 3] وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) ذَكَرَ اللَّهُ مَا يُوجِبُ تَسْلِيَتَهُمْ فَقَالَ: كَذَلِكَ فَعَلَ اللَّهُ بِمَنْ قَبْلَكُمْ وَلَمْ يَتْرُكْهُمْ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِمْ آمَنَّا بَلْ فَرَضَ عَلَيْهِمُ الطَّاعَاتِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ وَفِي قَوْلِهِ: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ مُقَاتِلٍ فَلَيَرَيَنَّ اللَّهُ الثَّانِي: فَلَيُظْهِرَنَّ اللَّهُ الثَّالِثُ: فَلَيُمَيِّزَنَّ اللَّهُ، فَالْحَاصِلُ عَلَى هَذَا هُوَ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ ظَنُّوا أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا يُوجِبُ تَجَدُّدَ عِلْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ عَالِمٌ بِالصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ قَبْلَ الِامْتِحَانِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِعِلْمِهِ عِنْدَ الِامْتِحَانِ فَنَقُولُ الْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَاهِرِهَا وَذَلِكَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ صِفَةٌ يَظْهَرُ فِيهَا كُلُّ مَا هُوَ وَاقِعٌ كَمَا هُوَ وَاقِعٌ، فَقَبْلَ التَّكْلِيفِ كَانَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ زَيْدًا مَثَلًا سَيُطِيعُ وَعَمْرًا سَيَعْصِي، ثُمَّ وَقْتَ التَّكْلِيفِ وَالْإِتْيَانِ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُطِيعٌ وَالْآخَرَ عَاصٍ وَبَعْدَ الْإِتْيَانِ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَطَاعَ وَالْآخَرَ عَصَى وَلَا يَتَغَيَّرُ عِلْمُهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَإِنَّمَا الْمُتَغَيِّرُ الْمَعْلُومُ وَنُبَيِّنُ هَذَا بِمِثَالٍ مِنَ الْحِسِّيَّاتِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، وَهُوَ أَنَّ الْمِرْآةَ الصَّافِيَةَ الصَّقِيلَةَ إِذَا عُلِّقَتْ مِنْ مَوْضِعٍ وَقُوبِلَ بِوَجْهِهَا جِهَةٌ وَلَمْ تُحَرَّكْ ثُمَّ عَبَرَ عَلَيْهَا زَيْدٌ لَابِسًا ثَوْبًا أَبْيَضَ ظَهَرَ فِيهَا زَيْدٌ فِي ثَوْبٍ أَبْيَضَ، وَإِذَا عَبَرَ عَلَيْهَا عَمْرٌو فِي لِبَاسٍ أَصْفَرَ يَظْهَرُ فِيهَا كَذَلِكَ فَهَلْ يَقَعُ فِي ذِهْنِ أَحَدٍ أَنَّ الْمِرْآةَ فِي كَوْنِهَا حَدِيدًا تَغَيَّرَتْ، أَوْ يَقَعُ لَهُ أَنَّهَا فِي تَدْوِيرِهَا تَبَدَّلَتْ، أَوْ يَذْهَبُ فَهْمُهُ إِلَى أَنَّهَا فِي صِقَالَتِهَا اخْتَلَفَتْ أَوْ يَخْطُرُ بِبَالِهِ أَنَّهَا عَنْ سُكَّانِهَا انْتَقَلَتْ، لَا يَقَعُ لِأَحَدٍ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيَقْطَعُ بِأَنَّ الْمُتَغَيِّرَ الْخَارِجَاتُ، فَافْهَمْ عِلْمُ اللَّهِ مِنْ هَذَا الْمِثَالِ بَلْ أَعْلَى مِنْ هَذَا الْمِثَالِ، فَإِنَّ الْمِرْآةَ مُمْكِنَةُ التَّغَيُّرِ وَعِلْمُ اللَّهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا يَعْنِي يَقَعُ مِمَّنْ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنْ يُطِيعَ الطَّاعَةَ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ مُطِيعٌ بِذَلِكَ الْعِلْمِ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ يَعْنِي مَنْ قَالَ أَنَا مُؤْمِنٌ وَكَانَ صَادِقًا عِنْدَ فَرْضِ الْعِبَادَاتِ

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 4 إلى 5]

يَظْهَرُ مِنْهُ ذَلِكَ وَيُعْلَمُ وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ وَكَانَ مُنَافِقًا كَذَلِكَ يَبِينُ، وَفِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ صَدَقُوا بِصِيغَةِ الْفِعْلِ وَقَوْلِهِ الْكاذِبِينَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ فَائِدَةٌ مَعَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي اللَّفْظِ أَدَلُّ عَلَى الْفَصَاحَةِ، وَهِيَ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ يَدُلُّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ عَلَى ثُبُوتِ الْمَصْدَرِ فِي الْفَاعِلِ وَرُسُوخِهِ فِيهِ وَالْفِعْلُ الْمَاضِي لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ شَرِبَ الْخَمْرَ وَفُلَانٌ شَارِبُ الْخَمْرِ وَفُلَانٌ نَفَذَ أَمْرُهُ وَفُلَانٌ نَافِذُ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْ صِيغَةِ الْفِعْلِ التَّكْرَارُ وَالرُّسُوخُ، وَمِنَ اسْمِ الْفَاعِلِ يُفْهَمُ ذَلِكَ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَتِ الْحِكَايَةُ عَنْ قَوْمٍ قَرِيبِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ فِي أَوَائِلِ إِيجَابِ التَّكَالِيفِ وَعَنْ قَوْمٍ مُسْتَدِيمِينَ لِلْكُفْرِ مُسْتَمِرِّينَ عَلَيْهِ فَقَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ صَدَقُوا بِصِيغَةِ الْفِعْلِ أَيْ وُجِدَ مِنْهُمُ الصِّدْقُ وَقَالَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ الْكاذِبِينَ بِالصِّيغَةِ الْمُنْبِئَةِ عَنِ الثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ وَلِهَذَا قَالَ: يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [الْمَائِدَةِ: 119] بِلَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ الصِّدْقُ قَدْ يَرْسَخُ فِي قَلْبِ/ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ الْيَوْمُ الآخر ولا كذلك في أوائل الإسلام. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 4 الى 5] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ لَمَّا بَيَّنَ حُسْنَ التَّكْلِيفِ بِقَوْلِهِ: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا بَيَّنَ أَنَّ مَنْ كُلِّفَ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ يُعَذَّبُ وَإِنْ لَمْ يُعَذَّبْ فِي الْحَالِ فَسَيُعَذَّبُ فِي الِاسْتِقْبَالِ وَلَا يَفُوتُ اللَّهَ شَيْءٌ فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَآلِ، وَهَذَا إِبْطَالُ مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ التَّكَالِيفُ إِرْشَادَاتٌ وَالْإِيعَادُ عَلَيْهِ تَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ وَلَا يُوجَدُ مِنَ اللَّهِ تَعْذِيبٌ وَلَوْ كَانَ يُعَذِّبُ مَا كان عاجزا عن العذاب عاجلا فلم كَانَ يُؤَخِّرُ الْعِقَابَ فَقَالَ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا يَعْنِي لَيْسَ كَمَا قَالُوا بَلْ يُعَذِّبُ مَنْ يُعَذِّبُ وَيُثِيبُ مَنْ يُثِيبُ بِحُكْمِ الْوَعْدِ وَالْإِيعَادِ وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَأَمَّا الْإِمْهَالُ فَلَا يُفْضِي إِلَى الْإِهْمَالِ وَالتَّعْجِيلُ فِي جَزَاءِ الْأَعْمَالِ شُغْلُ مَنْ يَخَافُ الْفَوْتَ لَوْلَا الِاسْتِعْجَالُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ساءَ مَا يَحْكُمُونَ يَعْنِي حُكْمَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَعْصُونَ ويخالفون أمر الله ولا يعاقبون حكم سيء فَإِنَّ الْحُكْمَ الْحَسَنَ لَا يَكُونُ إِلَّا حُكْمَ الْعَقْلِ أَوْ حُكْمَ الشَّرْعِ وَالْعَقْلُ لَا يَحْكُمُ عَلَى اللَّهِ بِذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يُرِيدُ وَالشَّرْعُ حُكْمُهُ بِخِلَافِ مَا قَالُوهُ، فَحُكْمُهُمْ حُكْمٌ فِي غَايَةِ السُّوءِ وَالرَّدَاءَةِ. ثم قال: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. لَمَّا بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُتْرَكُ فِي الدُّنْيَا سُدًى، وَبَيَّنَ فِي قَوْلُهُ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ مَنْ تَرَكَ مَا كُلِّفَ بِهِ يعذب كذا بين أن يَعْتَرِفُ بِالْآخِرَةِ وَيَعْمَلُ لَهَا لَا يَضِيعُ عَمَلُهُ وَلَا يَخِيبُ أَمَلُهُ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّا ذَكَرْنَا فِي مَوَاضِعَ أَنَّ الْأُصُولَ الثَّلَاثَةَ وَهِيَ الْأَوَّلُ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَوَحْدَانِيَّتُهُ وَالْأَصْلُ الْآخَرُ وَهُوَ الْيَوْمُ الْآخِرُ وَالْأَصْلُ الْمُتَوَسِّطُ وَهُوَ النَّبِيُّ الْمُرْسَلُ مِنَ الْأَوَّلِ الْمُوَصِّلُ إِلَّا الْآخِرِ لَا يَكَادُ يَنْفَصِلُ فِي الذِّكْرِ الْإِلَهِيِّ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، فَقَوْلُهُ: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا [العنكبوت: 2] فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَصْلِ الْأَوَّلِ يَعْنِي أَظَنُّوا أَنَّهُ يَكْفِي الْأَصْلُ الْأَوَّلُ وَقَوْلُهُ وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [العنكبوت: 2، 3] يَعْنِي بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِيضَاحِ السُّبُلِ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَصْلِ الثَّانِي وَقَوْلُهُ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ مع قوله: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَصْلِ الثَّالِثِ وهو الآخر.

[سورة العنكبوت (29) : آية 6]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ لِقَاءِ اللَّهِ أَنَّهُ الرُّؤْيَةُ وَهُوَ ضَعِيفٌ فَإِنَّ اللِّقَاءَ وَالْمُلَاقَاةَ بِمَعْنًى وَهُوَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْوُصُولِ حَتَّى أَنَّ جَمَادَيْنِ إِذَا تَوَاصَلَا فَقَدْ لَاقَى أَحَدُهُمَا الْآخَرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُرَادُ مِنَ الرَّجَاءِ الْخَوْفُ وَالْمَعْنَى مِنْ قوله: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ مَنْ كَانَ يَخَافُ اللَّهَ وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الْمَشْهُورَ فِي الرَّجَاءِ هُوَ تَوَقُّعُ الْخَيْرِ لَا غَيْرُ وَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الرَّجَاءَ وَرَدَ بِهَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ أَرْجُو فَضْلَ اللَّهِ وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَخَافُ فَضْلَ اللَّهِ، وَإِذَا كَانَ وَارِدًا لِهَذَا لَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِأَجَلِ اللَّهِ الْمَوْتَ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْحَيَاةَ الثَّانِيَةَ بِالْحَشْرِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَوْتَ فَهَذَا يُنْبِئُ عَنْ بَقَاءِ النُّفُوسِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ مَنْ كَانَ يَرْجُو الْخَيْرَ فَإِنَّ السُّلْطَانَ وَاصِلٌ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ مُتَّصِلًا بِوُصُولِ السُّلْطَانِ يَكُونُ هُوَ الْخَيْرَ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ وَصَلَ هُوَ وَتَأَخَّرَ الْخَيْرُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِلْقَائِلِ، أَمَا قُلْتَ مَا قُلْتَ وَوَصَلَ السُّلْطَانُ وَلَمْ يَظْهَرِ الْخَيْرُ، فَلَوْ لَمْ يَحْصُلِ اللِّقَاءُ عِنْدَ الْمَوْتِ لَمَا حَسُنَ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمِثَالِ، وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَلَوْلَا الْبَقَاءُ لَمَا حَصَلَ اللِّقَاءُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قوله: مَنْ كانَ يَرْجُوا شَرْطٌ وَجَزَاؤُهُ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ فَمَنْ لَا يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ لَا يَكُونُ أَجَلُ اللَّهِ آتِيًا لَهُ، وَهَذَا بَاطِلٌ فَمَا الْجَوَابُ عَنْهُ؟ نَقُولُ الْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِ إِتْيَانِ الْأَجَلِ وَعْدُ الْمُطِيعِ بِمَا بَعْدَهُ مِنَ الثَّوَابِ، يَعْنِي مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لِآتٍ بِثَوَابِ اللَّهِ يُثَابُ عَلَى طَاعَتِهِ عِنْدَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ لَا يَرْجُوهُ لَا يَكُونُ أَجَلُ اللَّهِ آتِيًا عَلَى وَجْهٍ يُثَابُ هُوَ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَلَمْ يَذْكُرْ صِفَةً غَيْرَهُمَا كَالْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وَغَيْرِهِمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سَبَقَ الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا وَسَبَقَ الْفِعْلُ بِقَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَبِقَوْلِهِ: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَبِقَوْلِهِ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَوْلَ يُدْرَكُ بِالسَّمْعِ وَالْعَمَلُ مِنْهُ مَا لَا يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ وَمِنْهُ مَا يُدْرَكُ بِهِ كَالْقُصُودِ وَالْعِلْمُ يَشْمَلُهُمَا وَهُوَ السَّمِيعُ يَسْمَعُ مَا قَالُوهُ وَهُوَ الْعَلِيمُ يَعْلَمُ مَنْ صَدَقَ فِيمَا قَالَ: مِمَّنْ كَذَبَ وَأَيْضًا عليم يعلم ما يعمل فيثيب ويعاقب وهاهنا لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ هِيَ أَصْنَافُ حَسَنَاتِهِ أَحَدُهَا: عَمَلُ قَلْبِهِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَهُوَ لَا يُرَى وَلَا يُسْمَعُ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ وَعَمَلُ لِسَانِهِ وَهُوَ يُسْمَعُ وَعَمَلُ أَعْضَائِهِ وَجَوَارِحِهِ وَهُوَ يُرَى فَإِذَا أَتَى بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَجْعَلُ اللَّهُ لِمَسْمُوعِهِ مَا لَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلِمَرْئِيِّهِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلِعَمَلِ قَلْبِهِ مَا لَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ أَحَدٍ، كَمَا وصف في الخبر في وصف الجنة. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 6] وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) [في قوله تعالى وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ] لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ التَّكْلِيفَ حَسَنٌ وَاقِعٌ وَأَنَّ عَلَيْهِ وَعْدًا وَإِيعَادًا لَيْسَ لَهُمَا دَافِعٌ، بَيَّنَ أَنَّ طَلَبَ اللَّهِ ذَلِكَ/ مِنَ الْمُكَلِّفِ لَيْسَ لِنَفْعٍ يَعُودُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ غَنِيٌّ مُطْلَقًا لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرُهُ يَتَوَقَّفُ كَمَالُهُ عَلَيْهِ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ [فُصِّلَتْ: 46] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [الْإِسْرَاءِ: 7] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ السَّابِقَةُ مَعَ هَذِهِ الْآيَةِ يُوجِبَانِ إِكْثَارَ الْعَبْدِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَإِتْقَانَهُ لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا لِأَجْلِ مَلِكٍ وَيَعْلَمُ أَنَّ الْمَلِكَ يَرَاهُ وَيُبْصِرُهُ يُحْسِنُ الْعَمَلَ وَيُتْقِنُهُ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ نَفْعَهُ لَهُ وَمُقَدَّرٌ بقدر

[سورة العنكبوت (29) : آية 7]

عَمَلِهِ يُكْثِرُ مِنْهُ، فَإِذَا قَالَ اللَّهُ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَالْعَبْدُ يُتْقِنُ عَمَلَهُ وَيُخَلِّصُهُ لَهُ وَإِذَا قَالَ بِأَنَّ جِهَادَهُ لِنَفْسِهِ يُكْثِرُ مِنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْعَمَلِ لِأَنَّ اللَّهَ تعالى لما قال: مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ مَنْ جَاهَدَ رَبِحَ بِجِهَادِهِ مَا لَوْلَاهُ لَمَا رَبِحَ فَنَقُولُ هُوَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ بِحُكْمِ الْوَعْدِ لَا بِالِاسْتِحْقَاقِ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا جَاهَدَ يُثِيبُهُ فَإِذَا أَتَى بِهِ هُوَ يَكُونُ جِهَادًا نَافِعًا لَهُ وَلَا نِزَاعَ فِيهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ اللَّهَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُثِيبَ عَلَى الْعَمَلِ لَوْلَا الْوَعْدُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْسِنَ إِلَى أَحَدٍ إِلَّا بِالْعَمَلِ وَلَا دَلَالَةَ لِلْآيَةِ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَإِنَّما يَقْتَضِي الْحَصْرَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جِهَادُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ فَحَسْبُ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ جَاهَدَ يَنْتَفِعُ بِهِ وَمَنْ يُرِيدُ هُوَ نَفْعَهُ، حَتَّى أَنَّ الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ بِبَرَكَةِ الْمُجَاهِدِ وَجِهَادِهِ يَنْتَفِعَانِ فَنَقُولُ ذَلِكَ نَفْعٌ لَهُ فَإِنَّ انتفاع الولد انتفاع للأب والحصر هاهنا مَعْنَاهُ أَنَّ جِهَادَهُ لَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ مِنْهُ نَفْعٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ رِعَايَةَ الْأَصْلَحِ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ بِالْأَصْلَحِ لَا يَسْتَفِيدُ فَائِدَةً وَإِلَّا لَكَانَ مُسْتَكْمِلًا بِتِلْكَ الْفَائِدَةِ وَهِيَ غَيْرُهُ وَهِيَ مِنَ الْعَالَمِ فَيَكُونُ مُسْتَكْمِلًا بِغَيْرِهِ فَيَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، وَأَيْضًا أَفْعَالُهُ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ لِمَا بَيَّنَّا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَكَانٍ وَلَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ عَلَى الْخُصُوصِ فَإِنَّهُ مِنَ الْعَالَمِ وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُ وَالْمُسْتَغْنِي عَنِ الْمَكَانِ لَا يُمْكِنُ دُخُولُهُ فِي مَكَانٍ لِأَنَّ الداخل في المكان يشار إليه بأنه هاهنا أَوْ هُنَاكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ، وَمَا يُشَارُ إليه بأنه هاهنا أَوْ هُنَاكَ يَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يُوجَدُ لَا هاهنا وَلَا هُنَاكَ وَإِلَّا لَجَوَّزَ الْعَقْلُ إِدْرَاكَ جِسْمٍ لَا فِي مَكَانٍ وَإِنَّهُ مُحَالٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ لَيْسَتْ قَادِرِيَّتُهُ بِقُدْرَةٍ وَلَا عَالَمِيَّتُهُ بِعِلْمٍ وَإِلَّا لَكَانَ هُوَ فِي قَادِرِيَّتِهِ مُحْتَاجًا إِلَى قُدْرَةٍ هِيَ غَيْرُهُ وَكُلُّ مَا هُوَ غَيْرُهُ فَهُوَ مِنَ الْعَالَمِ فَيَكُونُ مُحْتَاجًا وَهُوَ غَنِيٌّ، نَقُولُ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّ قُدْرَتَهُ مِنَ الْعَالَمِ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَالَمَ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ بِصِفَاتِهِ أَيْ كُلُّ مَوْجُودٍ هُوَ خَارِجٌ عَنْ مَفْهُومِ الْإِلَهِ الْحَيِّ الْقَادِرِ الْمُرِيدِ الْعَالِمِ السَّمِيعِ الْبَصِيرِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْقُدْرَةُ لَيْسَتْ خَارِجَةً عَنْ مَفْهُومِ الْقَادِرِ، وَالْعِلْمُ لَيْسَ خَارِجًا عَنْ مَفْهُومِ الْعَالِمِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ فِيهَا بِشَارَةٌ وَفِيهَا إِنْذَارٌ، أَمَّا الْإِنْذَارُ فَلِأَنَّ اللَّهَ إِذَا كَانَ غَنِيًّا عَنِ/ الْعَالَمِينَ فَلَوْ أَهْلَكَ عِبَادَهُ بِعَذَابِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِغِنَاهُ عَنْهُمْ وَهَذَا يُوجِبُ الْخَوْفَ الْعَظِيمَ، وَأَمَّا الْبِشَارَةُ فَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَ غَنِيًّا، فَلَوْ أَعْطَى جَمِيعَ مَا خَلَقَهُ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِاسْتِغْنَائِهِ عنه، وهذا يوجب الرجاء التام. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 7] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) لَمَّا بَيَّنَ إِجْمَالًا أَنَّ مَنْ يَعْمَلُ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ بَيَّنَ مُفَصِّلًا بَعْضَ التَّفْصِيلِ أَنَّ جَزَاءَ الْمُطِيعِ الصَّالِحِ عَمَلُهُ فَقَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ مُغَايِرَةٌ لِلْإِيمَانِ لِأَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ التَّغَايُرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ دَاخِلَةٌ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِيمَانِ لِأَنَّ تَكْفِيرَ السيئات والجزاء

بِالْأَحْسَنِ مُعَلَّقٌ عَلَيْهَا وَهِيَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ، وَمِثَالُ هَذَا شَجَرَةٌ مُثْمِرَةٌ لَا شَكَّ فِي أَنَّ عُرُوقَهَا وَأَغْصَانَهَا مِنْهَا، وَالْمَاءُ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهَا وَالتُّرَابُ الَّذِي حَوَالَيْهَا غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهَا لَكِنَّ الثَّمَرَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِذَلِكَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ الْخَارِجِ فَكَذَلِكَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ مَعَ الْإِيمَانِ وَأَيْضًا الشَّجَرَةُ لَوِ احْتَفَّتْ بِهَا الْحَشَائِشُ الْمُفْسِدَةُ وَالْأَشْوَاكُ الْمُضِرَّةُ يَنْقُصُ ثَمَرَةُ الشَّجَرَةِ وَإِنْ غَلَبَتْهَا عُدِمَتِ الثَّمَرَةُ بِالْكُلِّيَّةِ وَفَسَدَتْ فَكَذَلِكَ الذُّنُوبُ تَفْعَلُ بِالْإِيمَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ كَمَا قَالَ: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا [يُوسُفَ: 17] أَيْ بِمُصَدِّقٍ وَاخْتُصَّ فِي اسْتِعْمَالِ الشَّرْعِ بِالتَّصْدِيقِ بِجَمِيعِ مَا قَالَ اللَّهُ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ إِنْ عُلِمَ مُفَصَّلًا أَنَّهُ قَوْلُ اللَّهِ أَوْ قَوْلُ الرَّسُولِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ عِنْدَنَا كُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ صَارَ صَالِحًا بِأَمْرِهِ، وَلَوْ نَهَى عَنْهُ لَمَا كَانَ صَالِحًا فَلَيْسَ الصَّلَاحُ وَالْفَسَادُ مِنْ لَوَازِمَ الْفِعْلِ فِي نَفْسِهِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، فَالصِّدْقُ عَمَلٌ صَالِحٌ فِي نَفْسِهِ وَيَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ لِذَلِكَ، فَعِنْدَنَا الصَّلَاحُ وَالْفَسَادُ وَالْحُسْنُ وَالْقُبْحُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَعِنْدَهُمُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالْمَسْأَلَةُ بِطُولِهَا فِي [كُتُبِ] الْأُصُولِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ بَاقٍ لِأَنَّ الصَّالِحَ فِي مُقَابَلَةِ الْفَاسِدِ وَالْفَاسِدُ هُوَ الْهَالِكُ التَّالِفُ، يُقَالُ فَسَدَتِ الزُّرُوعُ إِذَا هَلَكَتْ أَوْ خَرَجَتْ عَنْ دَرَجَةِ الِانْتِفَاعِ وَيُقَالُ هِيَ بَعْدُ صَالِحَةٌ أَيْ بَاقِيَةٌ عَلَى مَا يَنْبَغِي. إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ لَا يَبْقَى بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ عَرَضٌ، وَلَا يَبْقَى بِالْعَامِلِ أَيْضًا لِأَنَّهُ هَالِكٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ فَبَقَاؤُهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِشَيْءٍ بَاقٍ، لَكِنَّ الْبَاقِيَ هُوَ وَجْهُ اللَّهِ/ لِقَوْلِهِ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88] فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ لِوَجْهِ اللَّهِ حَتَّى يَبْقَى فَيَكُونَ صَالِحًا، وَمَا لَا يَكُونُ لِوَجْهِهِ لَا يبقى لا بنفسه ولا بالعمل وَلَا بِالْمَعْمُولِ لَهُ فَلَا يَكُونُ صَالِحًا، فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الَّذِي أَتَى بِهِ الْمُكَلَّفُ مُخْلِصًا لِلَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ شَرْطًا فِي الصَّالِحَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَهِيَ قَصْدُ الْإِيقَاعِ لِلَّهِ، وَيَنْدَرِجُ فِيهَا النِّيَّةُ فِي الصَّوْمِ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَفِي الْوُضُوءِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ مرفوع لقوله تعالى: الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فَاطِرٍ: 10] لَكِنَّهُ لَا يَرْتَفِعُ إِلَّا بِالْكَلِمِ الطَّيِّبِ فَإِنَّهُ يَصْعَدُ بِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فَاطِرٍ: 10] وَهُوَ يَرْفَعُ الْعَمَلَ فَالْعَمَلُ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ لَا يقبل، ولهذا قدم الإيمان على العمل، وهاهنا لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ أَعْمَالَ الْمُكَلَّفِ ثَلَاثَةٌ عَمَلُ قَلْبِهِ وَهُوَ فِكْرُهُ وَاعْتِقَادُهُ وَتَصْدِيقُهُ، وَعَمَلُ لِسَانِهِ وَهُوَ ذِكْرُهُ وَشَهَادَتُهُ، وَعَمَلُ جَوَارِحِهِ وَهُوَ طَاعَتُهُ وَعِبَادَتُهُ. فَالْعِبَادَةُ الْبَدَنِيَّةُ لَا تَرْتَفِعُ بِنَفْسِهَا وَإِنَّمَا تَرْتَفِعُ بِغَيْرِهَا، وَالْقَوْلُ الصَّادِقُ يَرْتَفِعُ بِنَفْسِهِ كَمَا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَهُوَ الْفِكْرُ يَنْزِلُ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَيَقُولُ هَلْ مِنْ تَائِبٍ» وَالتَّائِبُ النَّادِمُ بِقَلْبِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجل أنا عند المنكسرة قلوبهم» يعني بالكفرة فِي عَجْزِهِ وَقُدْرَتِي وَحَقَارَتِهِ وَعَظَمَتِي وَمِنْ حَيْثُ الْعَقْلُ مَنْ تَفَكَّرَ فِي آلَاءِ اللَّهِ وَجَدَ اللَّهَ وَحَضَرَ ذِهْنُهُ، فَعَلِمَ أَنَّ لِعَمَلِ الْقَلْبِ يَأْتِي اللَّهَ وَعَمَلُ اللِّسَانِ يَذْهَبُ إِلَى اللَّهِ وَعَمَلُ الْأَعْضَاءِ يُوَصِّلُ إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى فَضْلِ عَمَلِ الْقَلْبِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْعَبْدِ نَوْعَيْنِ: الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَذَكَرَ فِي مُقَابَلَتِهِمَا مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ أَمْرَيْنِ تَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ وَالْجَزَاءَ بِالْأَحْسَنِ حَيْثُ قَالَ: لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ فَتَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِيمَانِ، وَالْجَزَاءُ بِالْأَحْسَنِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أُمُورًا الْأَوَّلُ: الْمُؤْمِنُ لا

[سورة العنكبوت (29) : آية 8]

يُخَلَّدُ فِي النَّارِ لِأَنَّ بِإِيمَانِهِ تُكَفَّرُ سَيِّئَاتُهُ فَلَا يُخَلَّدُ فِي الْعَذَابِ الثَّانِي: الْجَزَاءُ الْأَحْسَنُ المذكور هاهنا غَيْرُ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ بِإِيمَانِهِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِذْ تُكَفَّرُ سَيِّئَاتُهُ وَمَنْ كُفِّرَتْ سَيِّئَاتُهُ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، فَالْجَزَاءُ الْأَحْسَنُ يَكُونُ غَيْرَ الْجَنَّةِ وَهُوَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الرُّؤْيَةَ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَسْتُرُ قُبْحَ الذُّنُوبِ فِي الدُّنْيَا فَيَسْتُرُ اللَّهُ عُيُوبَهُ فِي الْأُخْرَى، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ يُحَسِّنُ حَالَ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا فَيَجْزِيهِ اللَّهُ الْجَزَاءَ الْأَحْسَنَ فِي الْعُقْبَى، فَالْإِيمَانُ إِذَنْ لَا يُبْطِلُهُ الْعِصْيَانُ بَلْ هُوَ يَغْلِبُ الْمَعَاصِي وَيَسْتُرُهَا وَيَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى النَّدَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ يَسْتَدْعِي وُجُودَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى تُكَفَّرَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِأَسْرِهَا مِنْ أَيْنَ يَكُونُ لَهُمْ سَيِّئَةٌ؟ فَنَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَعْدَ الْجَمِيعِ بِأَشْيَاءَ لَا يَسْتَدْعِي وَعْدَ كُلِّ وَاحِدٍ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، مِثَالُهُ: إِذَا قَالَ الْمَلِكُ لِأَهْلِ بَلَدٍ إِذَا أَطَعْتُمُونِي أُكْرِمْ آبَاءَكُمْ وَأَحْتَرِمْ أَبْنَاءَكُمْ وَأُنْعِمْ عَلَيْكُمْ وَأُحْسِنْ/ إِلَيْكُمْ، لَا يَقْتَضِي هَذَا أَنَّهُ يُكْرِمُ آبَاءَ مَنْ تُوُفِّيَ أَبُوهُ، أَوْ يَحْتَرِمُ ابْنَ مَنْ لَمْ يُولَدْ لَهُ وَلَدٌ، بَلْ مَفْهُومُهُ أَنَّهُ يُكْرِمُ أَبَ مَنْ لَهُ أَبٌ، وَيَحْتَرِمُ ابْنَ مَنْ لَهُ ابْنٌ، فَكَذَلِكَ يُكَفِّرُ سَيِّئَةَ مَنْ لَهُ سَيِّئَةٌ الْجَوَابُ الثَّانِي: مَا مِنْ مُكَلِّفٍ إِلَّا وَلَهُ سَيِّئَةٌ أَمَّا غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ فَلِأَنَّ تَرْكَ الْأَفْضَلِ مِنْهُمْ كَالسَّيِّئَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: 43] . الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: لَنَجْزِيَنَّهُمْ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ وَثَانِيهِمَا: لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَعْنَاهُ نُقَدِّرُ أَعْمَالَهُمْ أَحْسَنَ مَا تَكُونُ وَنَجْزِيهِمْ عَلَيْهَا لَا أَنَّهُ يُخْتَارُ مِنْهَا أَحْسَنَهَا وَيَجْزِي عَلَيْهِ وَيَتْرُكُ الْبَاقِي، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: مَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: 160] وقوله: فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها [النمل: 89] . الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: ذَكَرَ حَالَ الْمُسِيءِ مُجْمَلًا بِقَوْلِهِ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا إِشَارَةً إِلَى التَّعْذِيبِ مُجْمَلًا. وَذَكَرَ حَالَ الْمُحْسِنِ مُجْمَلًا بِقَوْلِهِ: وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ وَمُفَصَّلًا بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ أَتَمُّ مِنْ غَضَبِهِ وَفَضْلَهُ أَعَمُّ من عدله. [سورة العنكبوت (29) : آية 8] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: مَا وَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا؟ نَقُولُ: لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ حُسْنَ التَّكَالِيفِ وَوُقُوعِهَا، وَبَيَّنَ ثَوَابَ مَنْ حَقَّقَ التَّكَالِيفَ أُصُولَهَا وَفُرُوعَهَا تَحْرِيضًا لِلْمُكَلَّفِ عَلَى الطَّاعَةِ، ذَكَرَ الْمَانِعَ وَمَنَعَهُ مِنْ أَنْ يَخْتَارَ اتِّبَاعَهُ، فَقَالَ الْإِنْسَانُ إِنِ انْقَادَ لِأَحَدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَنْقَادَ لِأَبَوَيْهِ، وَمَعَ هَذَا لَوْ أَمَرَاهُ بِالْمَعْصِيَةِ لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُمَا فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمَا فَلَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ شَيْءٌ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَلَا يَتَّبِعَنَّ أَحَدٌ مَنْ يَأْمُرُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْقِرَاءَةِ قُرِئَ حُسْنًا وَإِحْسَانًا وَحُسْنًا أظهر هاهنا، وَمَنْ قَرَأَ إِحْسَانًا فَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [البقرة: 83] وَالتَّفْسِيرُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَّى الْإِنْسَانَ بِأَنْ يَفْعَلَ مَعَ وَالِدَيْهِ حُسْنَ التَّأَبِّي بِالْفِعْلِ وَالْقَوْلِ، وَنُكِّرَ حُسْنًا لِيَدُلَّ عَلَى الْكَمَالِ، كَمَا يُقَالُ إِنَّ لِزَيْدٍ مَالًا.

[سورة العنكبوت (29) : آية 9]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُتَابَعَتَهُمْ فِي الْكُفْرِ لَا يَجُوزُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ بِالْوَالِدَيْنِ وَجَبَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَوْ تَرَكَ الْعَبْدُ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِ الْوَالِدَيْنِ لَتَرَكَ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَنْقَادُ لِمَا وَصَّاهُ بِهِ فَلَا يُحْسِنُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، فَاتِّبَاعُ الْعَبْدِ أَبَوَيْهِ/ لِأَجْلِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ يُفْضِي إِلَى تَرْكِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، وَمَا يُفْضِي وُجُودُهُ إِلَى عَدَمِهِ بَاطِلٌ فَالِاتِّبَاعُ بَاطِلٌ، وَأَمَّا إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الشِّرْكِ بَقِيَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمَا مِنَ الطَّاعَةِ فَيَأْتِي بِهِ فَتَرْكُ هَذَا الْإِحْسَانِ صُورَةً يُفْضِي إِلَى الْإِحْسَانِ حَقِيقَةً. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْإِحْسَانُ بِالْوَالِدَيْنِ مَأْمُورٌ بِهِ، لِأَنَّهُمَا سَبَبُ وُجُودِ الْوَلَدِ بِالْوِلَادَةِ وَسَبَبُ بَقَائِهِ بِالتَّرْبِيَةِ الْمُعْتَادَةِ فَهُمَا سَبَبٌ مَجَازًا، وَاللَّهُ تَعَالَى سَبَبٌ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ بِالْإِرَادَةِ، وَسَبَبُ بَقَائِهِ بِالْإِعَادَةِ لِلسَّعَادَةِ، فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُحْسِنَ الْعَبْدُ حَالَهُ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما فَقَوْلُهُ: مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يَعْنِي التَّقْلِيدَ فِي الْإِيمَانِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ فَضْلًا عَنِ التَّقْلِيدِ فِي الْكُفْرِ، فَإِذَا امْتَنَعَ الْإِنْسَانُ مِنَ التَّقْلِيدِ فِيهِ وَلَا يُطِيعُ بِغَيْرِ الْعِلْمِ لَا يُطِيعُهُمَا أَصْلًا، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ قَوْلِهِمَا مُحَالُ الْحُصُولِ، فَإِذَا لَمْ يُشْرِكْ تَقْلِيدًا وَيَسْتَحِيلُ الشِّرْكُ مَعَ الْعِلْمِ، فَالشِّرْكُ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ قَطُّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يَعْنِي عَاقِبَتُكُمْ وَمَآلُكُمْ إِلَيَّ، وَإِنْ كَانَ الْيَوْمَ مُخَالَطَتُكُمْ وَمُجَالَسَتُكُمْ مَعَ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَقَارِبِ وَالْعَشَائِرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ مُجَالَسَتَهُ مَعَ وَاحِدٍ خَالِيَةٌ مُنْقَطِعَةٌ، وَحُضُورَهُ بَيْنَ يَدَيْ غَيْرِهِ دَائِمٌ غير منقطع لا يترك مراضي مَنْ تَدُومُ مَعَهُ صُحْبَتُهُ لِرِضَا مَنْ يَتْرُكُهُ فِي زَمَانٍ آخَرَ. ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأُنَبِّئُكُمْ فِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لَا تَظُنُّوا أَنِّي غَائِبٌ عَنْكُمْ وَآبَاؤُكُمْ حَاضِرُونَ فَتُوَافِقُونَ الْحَاضِرِينَ فِي الْحَالِ اعْتِمَادًا عَلَى غَيْبَتِي وَعَدَمِ عِلْمِي بِمُخَالَفَتِكُمْ إِيَّايَ فَإِنِّي حَاضِرٌ مَعَكُمْ أَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلَا أَنْسَى فَأُنَبِّئُكُمْ بِجَمِيعِهِ. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 9] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْفَائِدَةُ في إعادة الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مَرَّةً أُخْرَى؟ نَقُولُ: اللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ قَسَمَيْنِ مُهْتَدِيًا وَضَالًّا بِقَوْلِهِ: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: 3] وَذَكَرَ حَالَ الضَّالِّ مُجْمَلًا وَحَالَ الْمُهْتَدِي مُفَصَّلًا بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَمَّا تَمَّمَ ذَلِكَ ذَكَرَ قِسْمَيْنِ آخَرَيْنِ هَادِيًا وَمُضِلًّا فَقَوْلُهُ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً [العنكبوت: 8] يَقْتَضِي أَنْ يَهْتَدِيَ بِهِمَا وَقَوْلُهُ: وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بَيَانُ إِضْلَالِهِمَا وَقَوْلُهُ: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ تَهْدِيدُ الْمُضِلِّ وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا على سبيل التفصيل وعد الهادي فذكر الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مَرَّةً لِبَيَانِ حَالِ الْمُهْتَدِي، وَمَرَّةً أُخْرَى لِبَيَانِ حَالِ الْهَادِي وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلًا: لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ، وَقَالَ ثَانِيًا: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ وَالصَّالِحُونَ هُمُ الْهُدَاةُ لِأَنَّهُ مَرْتَبَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَلِهَذَا قَالَ كثير من الأنبياء أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف: 101] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّالِحَ بَاقٍ وَالصَّالِحُونَ بَاقُونَ وَبَقَاؤُهُمْ لَيْسَ بِأَنْفُسِهِمْ بَلْ بِأَعْمَالِهِمُ الباقية

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 10 إلى 11]

فَأَعْمَالُهُمْ بَاقِيَةٌ وَالْمَعْمُولُ لَهُ وَهُوَ وَجْهُ اللَّهِ بَاقٍ، وَالْعَامِلُونَ بَاقُونَ بِبَقَاءِ أَعْمَالِهِمْ وَهَذَا عَلَى خِلَافِ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِنَّ فِي الدُّنْيَا بَقَاءَ الْفِعْلِ بِالْفَاعِلِ وَفِي الْآخِرَةِ بَقَاءَ الْفَاعِلِ بِالْفِعْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قِيلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي مَقَامِ الصَّالِحِينَ أَوْ فِي دَارِ الصَّالِحِينَ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لَا حَاجَةَ إِلَى الْإِضْمَارِ بَلْ يُدْخِلُهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أَيْ يَجْعَلُهُمْ مِنْهُمْ وَيُدْخِلُهُمْ فِي عِدَادِهِمْ كَمَا يُقَالُ الْفَقِيهُ دَاخِلٌ فِي الْعُلَمَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْحُكَمَاءُ عَالَمُ الْعَنَاصِرِ عَالَمُ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ وَمَا فِيهِ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ فَإِنَّ الْمَاءَ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَاءً وَيَفْسُدُ وَيَتَكَوَّنُ مِنْهُ هواء، وعالم السموات لَا كَوْنَ فِيهِ وَلَا فَسَادَ بَلْ يُوجَدُ مِنْ عَدَمٍ وَلَا يَعْدَمُ وَلَا يَصِيرُ الْمَلَكُ تُرَابًا بِخِلَافِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ تُرَابًا أَوْ شَيْئًا آخَرَ وَعَلَى هَذَا فَالْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ لَيْسَ بِفَاسِدٍ فَهُوَ صَالِحٌ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أَيْ فِي الْمُجَرَّدِينَ الَّذِينَ لَا فَسَادَ لهم. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 10 الى 11] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) نَقُولُ أَقْسَامُ الْمُكَلَّفِينَ ثَلَاثَةٌ مُؤْمِنٌ ظَاهِرٌ بِحُسْنٍ اعْتِقَادِهِ، وَكَافِرٌ مُجَاهِرٌ بِكُفْرِهِ وَعِنَادِهِ، وَمُذَبْذَبٌ بَيْنَهُمَا يُظْهِرُ الْإِيمَانَ بِلِسَانِهِ وَيُضْمِرُ الْكُفْرَ فِي فُؤَادِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْقِسْمَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: 3] وَبَيَّنَ أَحْوَالَهُمَا بِقَوْلِهِ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ إِلَى قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [العنكبوت: 4- 7] بَيَّنَ الْقِسْمَ الثَّالِثَ وَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا وَلَمْ يَقُلْ آمَنْتُ مَعَ أَنَّهُ وَحَّدَ الْأَفْعَالَ الَّتِي بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ وَقَوْلِهِ: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنَافِقَ كَانَ يُشَبِّهُ/ نَفْسَهُ بِالْمُؤْمِنِ، وَيَقُولُ إِيمَانِي كَإِيمَانِكَ فَقَالَ: آمَنَّا يَعْنِي أَنَا وَالْمُؤْمِنُ حَقًّا آمَنَّا، إِشْعَارًا بِأَنَّ إِيمَانَهُ كَإِيمَانِهِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْجَبَانَ الضَّعِيفَ إِذَا خَرَجَ مَعَ الْأَبْطَالِ فِي الْقِتَالِ، وَهَزَمُوا خُصُومَهُمْ يَقُولُ الْجَبَانُ خَرَجْنَا وَقَاتَلْنَاهُمْ وَهَزَمْنَاهُمْ، فَيَصِحُّ مِنَ السَّامِعِ لِكَلَامِهِ أَنْ يَقُولَ وَمَاذَا كُنْتَ أَنْتَ فِيهِمْ حَتَّى تَقُولَ خَرَجْنَا وَقَاتَلْنَا؟ وَهَذَا الرَّدُّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ خُرُوجَهُ وَقِتَالَهُ كَخُرُوجِهِمْ وَقِتَالِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ فِي دَعْوَى نَفْسِ الْخُرُوجِ وَالْقِتَالِ، وَكَذَا قَوْلُ الْقَائِلِ أَنَا وَالْمَلِكُ أَلْفَيْنَا فُلَانًا وَاسْتَقْبَلْنَاهُ يُنْكَرُ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ الْمُسَاوَاةُ فَهُمْ لَمَّا أَرَادُوا إِظْهَارَ كَوْنِ إِيمَانِهِمْ كَإِيمَانِ الْمُحِقِّينَ كَانَ الْوَاحِدُ يَقُولُ: آمَنَّا أَيْ أَنَا وَالْمُحِقُّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ هُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي [آلِ عِمْرَانَ: 195] غَيْرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ الْآيَةِ الصَّابِرُونَ على أذية الكافرين والمراد هاهنا الَّذِينَ لَمْ يَصْبِرُوا عَلَيْهَا فَقَالَ هُنَاكَ: وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي [آل عمران: 195] وقال هاهنا: أُوذِيَ فِي اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّطِيفَةُ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بَيَانَ شَرَفِ الْمُؤْمِنِ الصَّابِرِ وَخِسَّةَ الْمُنَافِقِ الْكَافِرِ فَقَالَ هُنَاكَ أُوذِيَ الْمُؤْمِنُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِيَتْرُكَ سَبِيلَهُ وَلَمْ يَتْرُكْهُ، وَأُوذِيَ الْمُنَافِقُ الْكَافِرُ فَتَرَكَ اللَّهَ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُظْهِرَ مُوَافَقَتَهُمْ إن بلغ

الْإِيذَاءُ إِلَى حَدِّ الْإِكْرَاهِ، وَيَكُونُ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًا بِالْإِيمَانِ فَلَا يَتْرُكُ اللَّهَ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ بَلْ تَرَكَ اللَّهَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالْمُؤْمِنُ أُوذِيَ وَلَمْ يَتْرُكْ سَبِيلَ اللَّهِ بَلْ أَظْهَرَ كَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ وَصَبَرَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ صَارِفَةً عَنِ الْإِيمَانِ كَمَا أَنَّ عَذَابَ اللَّهِ صَارِفٌ عَنِ الْكُفْرِ، وَقِيلَ جَزِعُوا مِنْ عَذَابِ النَّاسِ كَمَا جَزِعُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَبِالْجُمْلَةِ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا فِتْنَةَ النَّاسِ مَعَ ضَعْفِهَا وَانْقِطَاعِهَا كَعَذَابِ اللَّهِ الْأَلِيمِ الدَّائِمِ حَتَّى تَرَدَّدُوا فِي الْأَمْرِ، وَقَالُوا إِنْ آمَنَّا نَتَعَرَّضُ لِلتَّأَذِّي مِنَ النَّاسِ وَإِنْ تَرَكْنَا الْإِيمَانَ نَتَعَرَّضُ لِمَا تَوَعَّدَنَا بِهِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَاخْتَارُوا الِاحْتِرَازَ عَنِ التَّأَذِّي الْعَاجِلِ وَلَا يَكُونُ التَّرَدُّدُ إِلَّا عِنْدَ التَّسَاوِي وَمِنْ أَيْنَ إِلَى أَيْنَ تَعْذِيبُ النَّاسِ لَا يَكُونُ شَدِيدًا، وَلَا يَكُونُ مَدِيدًا لِأَنَّ الْعَذَابَ إِنْ كَانَ شَدِيدًا كَعَذَابِ النَّارِ وَغَيْرِهِ يَمُوتُ الْإِنْسَانُ فِي الْحَالِ فَلَا يَدُومُ التَّعْذِيبُ، وَإِنْ كَانَ مَدِيدًا كَالْحَبْسِ وَالْحَصْرِ لَا يَكُونُ شَدِيدًا وَعَذَابُ اللَّهِ شَدِيدٌ وَزَمَانُهُ مَدِيدٌ، وَأَيْضًا عَذَابُ الناس له دافع وعذاب الله ماله مِنْ دَافِعٍ، وَأَيْضًا عَذَابُ النَّاسِ عَلَيْهِ ثَوَابٌ عَظِيمٌ، وَعَذَابُ اللَّهِ بَعْدَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَالْمَشَقَّةُ إِذَا كَانَتْ مُسْتَعْقِبَةً لِلرَّاحَةِ الْعَظِيمَةِ تَطِيبُ وَلَا تُعَدُّ عَذَابًا كَمَا تُقْطَعُ السِّلْعَةُ الْمُؤْذِيَةُ وَلَا تُعَدُّ عَذَابًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ: فِتْنَةَ النَّاسِ وَلَمْ يَقُلْ عَذَابَ النَّاسِ لِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ مِنَ اللَّهِ وَفِتْنَتُهُ تَسْلِيطُ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى مَنْ أَظْهَرَ كَلِمَةَ الْإِيمَانِ لِيُؤْذِيَهُ فَتَبِينُ مُنْزِلَتُهُ كَمَا جَعَلَ التَّكَالِيفَ ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْبَلِيَّةِ الصادرة ابتلاء وامتحانا مِنَ الْإِنْسَانِ كَالصَّبْرِ عَلَى الْعِبَادَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا يَقْتَضِي مَنْعَ الْمُؤْمِنِ مِنْ إِظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ بِالْإِكْرَاهِ، لَأَنَّ مَنْ أَظْهَرَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ بِالْإِكْرَاهِ احْتِرَازًا عَنِ التَّعْذِيبِ الْعَاجِلِ يَكُونُ قَدْ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ، فَنَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَجْعَلْ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ، لِأَنَّ عَذَابَ اللَّهِ يُوجِبُ تَرْكَ مَا يُعَذِّبُ عَلَيْهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَهَذَا الْمُؤْمِنَ الْمُكْرَهَ لَمْ يَجْعَلْ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ، بِحَيْثُ يَتْرُكُ مَا يُعَذِّبُ عَلَيْهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، بَلْ فِي بَاطِنِهِ الْإِيمَانُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ يَعْنِي دَأْبُ الْمُنَافِقِ أَنَّهُ إِنْ رَأَى الْيَدَ لِلْكَافِرِ أَظْهَرَ مَا أَضْمَرَ وَأَظْهَرَ الْمَعِيَّةَ وَادَّعَى التَّبَعِيَّةَ، وَفِيهِ فَوَائِدُ نذكرها في مسائل: الْأُولَى: قَالَ: وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ وَلَمْ يَقُلْ مِنَ اللَّهِ، مَعَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ كَانَ كُلُّهُ بِذِكْرِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: أُوذِيَ فِي اللَّهِ وَقَوْلُهُ: كَعَذابِ اللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّبَّ اسْمٌ مَدْلُولُهُ الْخَاصُّ بِهِ الشَّفَقَةُ وَالرَّحْمَةُ، وَاللَّهُ اسْمٌ مَدْلُولُهُ الْهَيْبَةُ وَالْعَظَمَةُ، فَعِنْدَ النَّصْرِ ذَكَرَ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الرَّحْمَةِ وَالْعَاطِفَةِ، وَعِنْدَ الْعَذَابِ ذَكَرَ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الْعَظَمَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمْ يَقُلْ وَلَئِنْ جَاءَكُمْ أَوْ جَاءَكَ بَلْ قَالَ: وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ وَالنَّصْرُ لَوْ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا قَائِلِينَ: إِنَّا مَعَكُمْ إِذَا جَاءَ نَصْرٌ سَوَاءٌ جَاءَهُمْ أَوْ جَاءَ الْمُؤْمِنِينَ، فَنَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا قَائِلِينَ إِنَّا مَعَكُمْ إِذَا جَاءَ النَّصْرُ، لَكِنَّ النَّصْرَ لَا يَجِيءُ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، كما قال تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الرُّومِ: 47] وَلِأَنَّ غَلَبَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَيْسَ بِنَصْرٍ، لِأَنَّ النَّصْرَ مَا يَكُونُ عَاقِبَتُهُ سَلِيمَةً بِدَلِيلِ أَنَّ أَحَدَ الْجَيْشَيْنِ إِنِ انْهَزَمَ فِي الْحَالِ ثُمَّ كَرَّ الْمُنْهَزِمُ كَرَّةً أُخْرَى وَهَزَمُوا الْغَالِبِينَ، لَا يُطْلَقُ اسْمُ الْمَنْصُورِ إِلَّا عَلَى مَنْ كَانَ لَهُ الْعَاقِبَةُ، فَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ وَإِنْ كُسِرَ فِي الْحَالِ فَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، فَالنَّصْرُ لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ.

[سورة العنكبوت (29) : آية 12]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي لَيَقُولُنَّ قِرَاءَتَانِ إِحْدَاهُمَا: الْفَتْحُ حَمْلًا عَلَى قَوْلِهِ: مَنْ يَقُولُ آمَنَّا يَعْنِي مَنْ يَقُولُ آمَنَّا إِذَا أُوذِيَ يَتْرُكُ ذَلِكَ الْقَوْلَ، وَإِذَا جَاءَ النَّصْرُ يَقُولُ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ وَثَانِيَتُهُمَا: الضَّمُّ عَلَى الْجَمْعِ إِسْنَادًا لِلْقَوْلِ إِلَى الْجَمِيعِ الَّذِينَ دَلَّ عَلَيْهِمُ الْمَفْهُومُ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا جَمَاعَةً، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا التَّلْبِيسَ وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لَهُمْ لأن التلبيس إنما يكون عند ما يُخَالِفُ الْقَوْلُ الْقَلْبَ، فَالسَّامِعُ يَبْنِي الْأَمْرَ عَلَى قَوْلِهِ وَلَا يَدْرِي مَا فِي قَلْبِهِ فَيَلْتَبِسُ الْأَمْرُ عَلَيْهِ وَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْإِنْسَانِ فَلَا يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَا فِي الْقَلْبِ، فَالْمُنَافِقُ الَّذِي يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَيُضْمِرُ الْكُفْرَ كَافِرٌ، وَالْمُؤْمِنُ الْمُكْرَهُ الَّذِي يُظْهِرُ الْكُفْرَ وَيُضْمِرُ الْإِيمَانَ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ، وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ أَعْلَمَ بِمَا فِي قُلُوبِ الْعَالَمِينَ، بَيَّنَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنَ الْمُحِقَّ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ، وَالْمُنَافِقَ وَإِنْ تَكَلَّمَ فَقَالَ: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهُ، لَكِنْ فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ هُنَاكَ: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وقال هاهنا: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فَنَقُولُ لَمَّا كَانَ الذِّكْرُ هُنَاكَ لِلْمُؤْمِنِ/ وَالْكَافِرِ، وَالْكَافِرُ فِي قَوْلِهِ كَاذِبٌ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ، وَالْمُؤْمِنُ فِي قَوْلِهِ صَادِقٌ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ اللَّهُ وَاحِدٌ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ذِكْرُ مَنْ يُضْمِرُ خِلَافَ مَا يُظْهِرُ، فَكَانَ الْحَاصِلُ هُنَاكَ قسمين صادقا وكاذبا «1» وكان هاهنا الْمُنَافِقُ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ اللَّهُ وَاحِدٌ، فَاعْتَبَرَ أَمْرَ الْقَلْبِ فِي الْمُنَافِقِ فَقَالَ: وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ وَاعْتَبَرَ أَمْرَ الْقَلْبِ فِي الْمُؤْمِنِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ فَقَالَ: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 12] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْفِرَقَ الثَّلَاثَةَ وَأَحْوَالَهُمْ، وَذَكَرَ أَنَّ الْكَافِرَ يَدْعُو مَنْ يَقُولُ آمَنْتُ إِلَى الْكُفْرِ بِالْفِتْنَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ عَذَابَ اللَّهِ فَوْقَهَا، وَكَانَ الْكَافِرُ يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِ تَصْبِرُ فِي الذُّلِّ وَعَلَى الْإِيذَاءِ لِأَيِّ شَيْءٍ وَلِمَ لَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِكَ الذُّلَّ وَالْعَذَابَ بِمُوَافَقَتِنَا؟ فَكَانَ جَوَابُ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَقُولَ خَوْفًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَلَى خَطِيئَةِ مَذْهَبِكُمْ، فَقَالُوا لَا خَطِيئَةَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ خَطِيئَةٌ فَعَلَيْنَا، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَلْنَحْمِلْ صِيغَةُ أَمْرٍ، وَالْمَأْمُورُ غَيْرُ الْأَمْرِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَمْرُ النَّفْسِ مِنَ الشَّخْصِ؟ فَنَقُولُ الصِّيغَةُ أَمْرٌ وَالْمَعْنَى شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، أَيْ إِنِ اتَّبَعْتُمُونَا حَمَلْنَا خَطَايَاكُمْ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِ مَنْ يُرِيدُ اجْتِمَاعَ أَمْرَيْنِ فِي الْوُجُودِ، فَيَقُولُ لِيَكُنْ مِنْكَ الْعَطَاءُ وَلْيَكُنْ مِنِّي الدُّعَاءُ، فَقَوْلُهُ وَلْنَحْمِلْ، أَيْ لِيَكُنْ مِنَّا الْحَمْلُ وَلَيْسَ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ أَمْرُ طَلَبٍ وَإِيجَابٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ: وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ وَقَالَ بَعْدَ هَذَا: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: 13] فهناك نفى الحمل، وهاهنا أَثْبَتَ الْحَمْلَ، فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَنَقُولُ قَوْلُ الْقَائِلِ: فُلَانٌ حَمَلَ عَنْ فُلَانٍ يُفِيدُ أَنَّ حِمْلَ فُلَانٍ خَفَّ، وَإِذَا لَمْ يَخِفَّ حِمْلُهُ فَلَا يَكُونُ قَدْ حَمَلَ مِنْهُ شَيْئًا، فَكَذَلِكَ هاهنا مَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ يَعْنِي لَا يَرْفَعُونَ عَنْهُمْ خَطِيئَةً وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارًا بِسَبَبِ إضلالهم ويحملون أوزارا

_ (1) في الأصول صادق وكاذب ولما كانا بدلا من خبر كان المنصوب فتعين نصبهما.

[سورة العنكبوت (29) : آية 13]

بِسَبَبِ ضَلَالَتِهِمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ وِزْرِهِ شَيْءٌ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الصِّيغَةُ أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ لَا يَدْخُلُهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ، فَكَيْفَ يُفْهَمُ قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ نَقُولُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَاهُ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ تَتَّبِعُونَا نَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَهُمْ كَذَبُوا فِي هَذَا فَإِنَّهُمْ لا يحملون شيئا. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 13] وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) فِي الَّذِي كَانُوا يَفْتَرُونَهُ يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: كَانَ قولهم: وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: 12] صَادِرًا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنْ لَا خَطِيئَةَ فِي الْكُفْرِ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَظْهَرُ لَهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ فَيُسْأَلُونَ عَنْ ذَلِكَ الِافْتِرَاءِ وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ: وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ كَانَ عَنِ اعْتِقَادِ أَنْ لَا حَشْرَ، فَإِذَا جَاءَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ظَهَرَ لَهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ فَيُسْأَلُونَ وَيُقَالُ لَهُمْ أَمَا قُلْتُمْ أَنْ لَا حَشْرَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا إِنْ تَتَّبِعُونَا نَحْمِلْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَطَايَاكُمْ، يُقَالُ لَهُمْ فَاحْمِلُوا خَطَايَاهُمْ فَلَا يَحْمِلُونَ فَيُسْأَلُونَ وَيُقَالُ لهم لم افتريتم. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 14] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) وَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ التَّكْلِيفَ وَذَكَرَ أَقْسَامَ الْمُكَلَّفِينَ وَوَعَدَ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَأَوْعَدَ الْكَافِرَ وَالْمُنَافِقَ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالنَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَأُمَّتِهِ حَتَّى صَعُبَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، بَلْ قَبْلَهُ كَانَ كَذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: 3] ذَكَرَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ كَلَّفَ جَمَاعَةً مِنْهُمْ نُوحٌ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْمُهُ وَمِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرُهُمَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً وفي الآية مسائل: الْأُولَى: مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ مُدَّةٍ لُبْثِهِ؟ نَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَضِيقُ صَدْرُهُ بِسَبَبِ عَدَمِ دُخُولِ الْكُفَّارِ فِي الْإِسْلَامِ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ فَقَالَ إِنَّ نُوحًا لَبِثَ أَلْفَ سَنَةٍ تَقْرِيبًا فِي الدُّعَاءِ وَلَمْ يُؤْمِنْ مِنْ قَوْمِهِ إِلَّا قَلِيلٌ، وَصَبَرَ وَمَا ضَجِرَ فَأَنْتَ أَوْلَى بِالصَّبْرِ لِقِلَّةِ مُدَّةِ لُبْثِكَ وَكَثْرَةِ عَدَدِ أُمَّتِكَ، وَأَيْضًا كَانَ الْكُفَّارُ يَغْتَرُّونَ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ أَكْثَرَ وَمَعَ ذَلِكَ مَا نَجَوْا فَبِهَذَا الْمِقْدَارِ مِنَ التَّأْخِيرِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْتَرُّوا فَإِنَّ الْعَذَابَ يَلْحَقُهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْعَدَدِ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا ثَلَاثَةً، فَكَأَنَّهُ قَالَ عَلَيَّ سَبْعَةٌ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَقَوْلُهُ: أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا كَقَوْلِهِ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي الْعُدُولِ عَنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ إِلَى غَيْرِهَا؟ فَنَقُولُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ فَائِدَتَانِ إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَدُلُّ عَلَى التَّحْقِيقِ وَتَرْكَهُ قَدْ يُظَنُّ بِهِ التَّقْرِيبُ فَإِنَّ مَنْ قَالَ: / عَاشَ فُلَانٌ أَلْفَ سَنَةٍ يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنْ يَقُولَ: أَلْفُ سَنَةٍ تَقْرِيبًا لَا تَحْقِيقًا، فَإِذَا قَالَ إِلَّا شَهْرًا أَوْ إِلَّا سَنَةً يَزُولُ ذَلِكَ التَّوَهُّمُ وَيُفْهَمُ مِنْهُ التَّحْقِيقُ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنَّ ذِكْرَ لُبْثِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْمِهِ كَانَ لِبَيَانِ أَنَّهُ صَبَرَ كَثِيرًا فَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْلَى بِالصَّبْرِ مَعَ قِصَرِ مُدَّةِ دُعَائِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَذِكْرُ الْعَدَدِ الَّذِي فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْأَعْدَادِ الَّتِي لَهَا اسْمٌ مُفْرَدٌ مَوْضُوعٌ، فَإِنَّ مراتب الأعداء هِيَ الْآحَادُ إِلَى

[سورة العنكبوت (29) : آية 15]

الْعَشَرَةِ وَالْعَشَرَاتُ إِلَى الْمِائَةِ وَالْمِئَاتُ إِلَى الْأَلْفِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ التَّكْثِيرُ بِالتَّكْرِيرِ فَيُقَالُ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَمِائَةُ أَلْفٍ، وَأَلْفُ أَلْفٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ الْعُمُرُ الْإِنْسَانِيُّ لَا يَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِمْ، وَالْعَقْلُ يُوَافِقُهَا فَإِنَّ الْبَقَاءَ عَلَى التَّرْكِيبِ الَّذِي فِي الْإِنْسَانِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَإِلَّا لَمَا بَقِيَ، وَدَوَامُ تَأْثِيرِ الْمُؤَثِّرِ فِيهِ مُمْكِنٌ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِيهِ إِنْ كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ فَظَاهِرُ الدَّوَامِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَلَهُ مُؤَثِّرٌ، وَيَنْتَهِي إِلَى الْوَاجِبِ وَهُوَ دَائِمٌ، فَتَأْثِيرُهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَائِمًا فَإِذَنْ الْبَقَاءُ مُمْكِنٌ فِي ذَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِعَارِضٍ لَكِنَّ الْعَارِضَ مُمْكِنُ الْعَدَمِ وَإِلَّا لَمَا بَقِيَ هَذَا الْمِقْدَارُ لِوُجُوبِ وُجُودِ الْعَارِضِ الْمَانِعِ فَظَهَرَ أَنَّ كَلَامَهُمْ عَلَى خِلَافِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ ثُمَّ نَقُولُ لَا نِزَاعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْعُمُرُ الطَّبِيعِيُّ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَنَحْنُ نَقُولُ هَذَا الْعُمُرُ لَيْسَ طَبِيعِيًّا بَلْ هُوَ عَطَاءٌ إِلَهِيٌّ، وَأَمَّا الْعُمُرُ الطَّبِيعِيُّ فَلَا يَدُومُ عِنْدَنَا وَلَا لَحْظَةً، فَضْلًا عَنْ مِائَةٍ أَوْ أَكْثَرَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ. فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى لَطِيفَةٍ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ عَلَى مُجَرَّدِ وُجُودِ الظُّلْمِ وَإِلَّا لَعَذَّبَ مَنْ ظَلَمَ وَتَابَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ وُجِدَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يُعَذِّبُ عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الظُّلْمِ، فَقَوْلُهُ: وَهُمْ ظالِمُونَ يَعْنِي أَهْلَكَهُمْ وَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، وَلَوْ كَانُوا تَرَكُوهُ لَمَا أهلكهم. [سورة العنكبوت (29) : آية 15] فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) فِي الراجع إليه الهاء في قوله: جَعَلْناها وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى السَّفِينَةِ الْمَذْكُورَةِ وَعَلَى هَذَا فَفِي كَوْنِهَا آيَةً وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أنه اتُّخِذَتْ قَبْلَ ظُهُورِ الْمَاءِ وَلَوْلَا إِعْلَامُ اللَّهِ نُوحًا وَإِنْبَاؤُهُ إِيَّاهُ بِهِ لَمَا اشْتَغَلَ بِهَا فَلَا تَحْصُلُ لَهُمُ النَّجَاةُ وَثَانِيهَا: أَنَّ نُوحًا أُمِرَ بِأَخْذِ قَوْمٍ مَعَهُ وَرَفْعِ قَدْرٍ مِنَ الْقُوتِ وَالْبَحْرُ الْعَظِيمُ لَا يَتَوَقَّعُ أَحَدٌ نُضُوبَهُ، ثُمَّ إِنَّ الْمَاءَ غِيضَ قَبْلَ نَفَادِ الزَّادِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا حَصَلَ النَّجَاةُ فَهُوَ بِفَضْلِ اللَّهِ لَا بِمُجَرَّدِ السَّفِينَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ سَلَامَةَ السَّفِينَةِ عَنِ الرِّيَاحِ الْمُرْجِفَةِ وَالْحَيَوَانَاتِ الْمُؤْذِيَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا حَصَلَتِ النَّجَاةُ وَالثَّانِي: أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى/ الْوَاقِعَةِ أَوْ إِلَى النَّجَاةِ أَيْ جَعَلْنَا الْوَاقِعَةَ أَوِ النَّجَاةَ آيَةً للعالمين. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 16] وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) لَمَّا فَرَغَ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى حِكَايَةِ نُوحٍ ذَكَرَ حِكَايَةَ إِبْرَاهِيمَ وَفِي إِبْرَاهِيمَ وَجْهَانِ مِنَ الْقِرَاءَةِ أَحَدُهُمَا: النَّصْبُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَالثَّانِي: الرَّفْعُ عَلَى مَعْنَى وَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِبْرَاهِيمُ، وَالْأَوَّلُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ وَهُوَ معنى اذكر إِبْرَاهِيمَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِمَذْكُورٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا [العنكبوت: 14] فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ وَأَرْسَلْنَا إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى هَذَا ففي الآية مسائل: الْأُولَى: قَوْلُهُ: إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ظَرْفُ أَرْسَلْنَا أَيْ أَرْسَلْنَا إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ لَكِنَّ قَوْلَهُ: لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ دَعْوَةٌ وَالْإِرْسَالُ يَكُونُ قَبْلَ الدَّعْوَةِ فَكَيْفَ يُفْهَمُ قَوْلُهُ، وَأَرْسَلْنَا إِبْرَاهِيمَ حِينَ قَالَ لِقَوْمِهِ مَعَ أَنَّهُ يَكُونُ مُرْسَلًا قَبْلَهُ؟ نَقُولُ الْجَوَابَ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِرْسَالَ أَمْرٌ يَمْتَدُّ فَهُوَ حَالَ قَوْلِهِ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ كَانَ مُرْسَلًا، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ وَقَفْنَا لِلْأَمِيرِ إِذْ خَرَجَ مِنَ الدَّارِ وَقَدْ يَكُونُ الْوُقُوفُ قَبْلَ الْخُرُوجِ، لَكِنْ لما كان

[سورة العنكبوت (29) : آية 17]

الْوُقُوفُ مُمْتَدًّا إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ صَحَّ ذَلِكَ الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بِمُجَرَّدِ هِدَايَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ كَانَ يَعْلَمُ فَسَادَ قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ يَهْدِيهِمْ إِلَى الرَّشَادِ قَبْلَ الْإِرْسَالِ، وَلَمَّا كَانَ هُوَ مُشْتَغِلًا بِالدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ أَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَوْلُهُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ إِشَارَةٌ إِلَى التَّوْحِيدِ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ إِثْبَاتُ الْإِلَهِ وَنَفْيُ غَيْرِهِ فَقَوْلُهُ: اعْبُدُوا اللَّهَ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِثْبَاتِ، وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوهُ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ الْغَيْرِ لِأَنَّ من يشرك م الْمَلِكِ غَيْرَهُ فِي مُلْكِهِ يَكُونُ قَدْ أَتَى بِأَعْظَمِ الْجَرَائِمِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: اعْبُدُوا اللَّهَ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْوَاجِبَاتِ، وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوهُ إِشَارَةٌ إِلَى الِامْتِنَاعِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَدْخُلُ فِي الْأَوَّلِ الِاعْتِرَافُ بِاللَّهِ، وَفِي الثَّانِي الِامْتِنَاعُ مِنَ الشِّرْكِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَعْنِي عِبَادَةُ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ خَيْرٌ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ خِلَافَ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى تَعْطِيلٌ وَخِلَافَ تَقْوَاهُ تَشْرِيكٌ وَكِلَاهُمَا شَرٌّ عَقْلًا وَاعْتِبَارًا، أَمَّا عَقْلًا فَلِأَنَّ الْمُمْكِنَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُؤَثِّرٍ لَا يَكُونُ مُمْكِنًا قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ وَهُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ فَلَا تَعْطِيلَ إِذْ لَنَا إِلَهٌ، وَأَمَّا التَّشْرِيكُ فَبُطْلَانُهُ عَقْلًا وَكَوْنُ خِلَافِهِ خَيْرًا وَهُوَ أَنَّ شَرِيكَ الْوَاجِبِ إِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَكَيْفَ يَكُونُ شَرِيكًا وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا لَزِمَ وُجُودُ وَاجِبَيْنِ فَيَشْتَرِكَانِ فِي الْوُجُوبِ وَيَتَبَايَنَانِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَمَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ غَيْرُ مَا بِهِ الِامْتِيَازُ فَيَلْزَمُ التَّرْكِيبُ فِيهِمَا فَلَا يَكُونَانِ وَاجِبَيْنِ لِكَوْنِهِمَا مُرَكَّبَيْنِ فَيَلْزَمُ التَّعْطِيلُ، وَإِمَّا اعتبارا فلأن الشرف بأن يَكُونَ مَلَكًا أَوْ قَرِيبَ مَلَكٍ، لَكِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ مَلَكًا لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِينَ/ فَأَعْلَى دَرَجَاتِهِ أَنْ يَكُونَ قَرِيبَ الْمَلَكِ لَكِنَّ الْقُرْبَةَ بِالْعِبَادَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [الْعَلَقِ: 19] . وَقَالَ: «لَنْ يَتَقَرَّبَ الْمُتَقَرِّبُونَ إِلَيَّ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ» وَقَالَ: «لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ بِالْعِبَادَةِ إِلَيَّ» فَالْمُعَطِّلُ لَا مَلَكٌ وَلَا قَرِيبُ مَلَكٍ لِعَدَمِ اعْتِقَادِهِ بِمِلْكٍ فَلَا مَرْتَبَةَ لَهُ أَصْلًا، وَأَمَّا التَّشْرِيكُ فَلِأَنَّ مَنْ يَكُونُ سَيِّدُهُ لَا نَظِيرَ لَهُ يَكُونُ أَعْلَى رُتْبَةً مِمَّنْ يَكُونُ سَيِّدُهُ لَهُ شُرَكَاءُ خَسِيسَةُ، فَإِذَنْ مَنْ يَقُولُ إِنَّ رَبِّي لَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ أَعْلَى مَرْتَبَةً مِمَّنْ يَقُولُ سَيِّدِي صَنَمٌ مَنْحُوتٌ عَاجِزٌ مِثْلُهُ، فَثَبَتَ أَنَّ عِبَادَةَ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ خَيْرٌ لِلنَّاسِ إِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالِاعْتِبَارَاتِ. [سورة العنكبوت (29) : آية 17] إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً. ذَكَرَ بُطْلَانَ مَذْهَبِهِمْ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْبُودَ إِنَّمَا يُعْبَدُ لِأَحَدِ أُمُورٍ، إِمَّا لِكَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ بِذَاتِهِ كَالْعَبْدِ يَخْدُمُ سَيِّدَهُ الَّذِي اشْتَرَاهُ سَوَاءٌ أَطْعَمَهُ مِنَ الْجُوعِ أَوْ مَنَعَهُ مِنَ الْهُجُوعِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ نَافِعًا فِي الْحَالِ كَمَنْ يَخْدُمُ غَيْرَهُ لِخَيْرٍ يُوَصِّلُهُ إِلَيْهِ كَالْمُسْتَخْدِمِ بِأُجْرَةٍ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ نَافِعًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَنْ يَخْدُمُ غَيْرَهُ مُتَوَقِّعًا مِنْهُ أَمْرًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ خَائِفًا مِنْهُ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ لِذَاتِهَا لِكَوْنِهَا أَوْثَانًا لَا شَرَفَ لَهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْحَالِ وَفِي الْمَآلِ، وَهَذَا لِأَنَّ النَّفْعَ، إِمَّا فِي الْوُجُودِ، وَإِمَّا فِي الْبَقَاءِ لَكِنْ لَيْسَ مِنْهُمْ نَفْعٌ فِي الْوُجُودِ، لِأَنَّ وَجُودَهُمْ مِنْكُمْ حَيْثُ تَخْلُقُونَهَا وَتَنْحِتُونَهَا، وَلَا نَفْعَ فِي الْبَقَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ بِالرِّزْقِ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ حَاصِلٌ مِنَ اللَّهِ فَقَالَ: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ فَقَوْلُهُ: اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى

[سورة العنكبوت (29) : آية 18]

اسْتِحْقَاقِ عُبُودِيَّتِهِ لِذَاتِهِ وَقَوْلُهُ: الرِّزْقَ إِشَارَةٌ إِلَى حُصُولِ النَّفْعِ مِنْهُ عَاجِلًا وَآجِلًا وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ: لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً نَكِرَةً، وَقَالَ: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ مُعَرَّفًا فَمَا الْفَائِدَةُ؟ فَنَقُولُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً نَكِرَةٌ فِي مَعْرِضِ النَّفْيِ أَيْ لَا رِزْقَ عِنْدَهُمْ أَصْلًا، وَقَالَ مَعْرِفَةٌ عِنْدَ الْإِثْبَاتِ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ كُلُّ الرِّزْقِ عِنْدَهُ فَاطْلُبُوهُ مِنْهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الرِّزْقَ مِنَ اللَّهِ مَعْرُوفٌ بِقَوْلِهِ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هُودٍ: 6] وَالرِّزْقُ/ مِنَ الْأَوْثَانِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَقَالَ: لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً لِعَدَمِ حُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ وَقَالَ: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ الْمَوْعُودَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاعْبُدُوهُ أَيِ اعْبُدُوهُ لِكَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ لِذَاتِهِ وَاشْكُرُوا لَهُ أَيْ لِكَوْنِهِ سَابِقَ النِّعَمِ بِالْخَلْقِ وَوَاصِلَهَا بِالرِّزْقِ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَيِ اعْبُدُوهُ لِكَوْنِهِ مَرْجِعًا مِنْهُ يُتَوَقَّعُ الخير لا غير. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 18] وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ التَّوْحِيدِ أَتَى بَعْدَهُ بِالتَّهْدِيدِ فَقَالَ: وَإِنْ تُكَذِّبُوا وَفِي الْمُخَاطَبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَالْآيَةُ حِكَايَةٌ عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ كَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لقومه: إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَأَنَا أَتَيْتُ بِمَا عَلَيَّ مِنَ التَّبْلِيغِ فَإِنَّ الرَّسُولَ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَالْبَيَانُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ قَوْمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْحِكَايَاتِ أَكْثَرُهَا إِنَّمَا تَكُونُ لِمَقَاصِدَ لَكِنَّهَا تُنْسَى لِطِيبِ الْحِكَايَةَ وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا يَقُولُ الْحَاكِي لِأَيِّ شَيْءٍ حَكَيْتُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ فَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَقْصُودُهُ تَذْكِيرَ قَوْمِهِ بِحَالِ مَنْ مَضَى حَتَّى يَمْتَنِعُوا مِنَ التَّكْذِيبِ وَيَرْتَدِعُوا خَوْفًا مِنَ التَّعْذِيبِ، فَقَالَ فِي أَثْنَاءِ حِكَايَتِهِمْ يَا قَوْمِ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ قَبْلَكُمْ أَقْوَامٌ وَأُهْلِكُوا فَإِنْ كَذَّبْتُمْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا جَاءَ عَلَى غَيْرِكُمْ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي الآية مسائل: الْأُولَى: أَنَّ قَوْلَهُ: فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ كَيْفَ يُفْهَمُ، مَعَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَّا قَوْمُ نُوحٍ وَهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ وَالْجَوَابُ عَنْهُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَبْلَ نُوحٍ كَانَ أَقْوَامٌ كَقَوْمِ إِدْرِيسَ وَقَوْمِ شِيثَ وَآدَمَ وَالثَّانِي: أَنَّ نُوحًا عَاشَ أَلْفًا وَأَكْثَرَ وَكَانَ الْقَرْنُ يَمُوتُ وَيَجِيءُ أَوْلَادُهُ وَالْآبَاءُ يُوصُونَ الْأَبْنَاءَ بِالِامْتِنَاعِ عَنِ الِاتِّبَاعِ فَكَفَى بِقَوْمِ نُوحٍ أُمَمًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْبَلاغُ وَمَا الْمُبِينُ؟ فَنَقُولُ الْبَلَاغُ هُوَ ذِكْرُ الْمَسَائِلِ، وَالْإِبَانَةُ هِيَ إِقَامَةُ الْبُرْهَانِ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الرَّسُولَ إِذَا بَلَّغَ شَيْئًا وَلَمْ يُبَيِّنْهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْبَلَاغِ الْمُبِينِ، فَلَا يَكُونُ آتِيًا بما عليه. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 19] أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) لَمَّا بَيَّنَ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَأَشَارَ إِلَى الْأَصْلِ الثَّانِي وَهُوَ الرِّسَالَةُ بِقَوْلِهِ: وَما عَلَى/ الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْأَصْلِ الثَّالِثِ وَهُوَ الْحَشْرُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ الْأُصُولَ الثَّلَاثَةَ لَا يَكَادُ يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ فِي الذِّكْرِ الْإِلَهِيِّ، فَأَيْنَمَا يَذْكُرُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا اثْنَيْنِ يَذْكُرُ الثَّالِثَ. وَفِي الآية مسائل: الْأُولَى: الْإِنْسَانُ مَتَى رَأَى بَدْءَ الْخَلْقِ حَتَّى يقال: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ؟ فنقول المراد

[سورة العنكبوت (29) : آية 20]

الْعِلْمُ الْوَاضِحُ الَّذِي كَالرُّؤْيَةِ وَالْعَاقِلُ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَدْءَ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّ الْخَلْقَ الْأَوَّلَ لَا يَكُونُ مِنْ مَخْلُوقٍ وَإِلَّا لَمَّا كَانَ الْخَلْقُ الْأَوَّلُ خَلْقًا أَوَّلَ، فَهُوَ مِنَ اللَّهِ هَذَا إِنْ قُلْنَا أَنَّ الْمُرَادَ إِثْبَاتُ نَفْسِ الْخَلْقِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْمُرَادَ بِالْبَدْءِ خَلْقُ الْآدَمِيِّ أَوَّلًا وَبِالْإِعَادَةِ خَلْقُهُ ثَانِيًا، فَنَقُولُ الْعَاقِلُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ خَالِقَ نَفْسِهِ «1» لَيْسَ إِلَّا قَادِرٌ حَكِيمٌ يُصَوِّرُ الْأَوْلَادَ فِي الْأَرْحَامِ، وَيَخْلُقُهُ مِنْ نُطْفَةٍ فِي غَايَةِ الْإِتْقَانِ وَالْإِحْكَامِ، فَذَلِكَ الَّذِي خُلِقَ أَوَّلًا مَعْلُومٌ ظَاهِرٌ فَأُطْلِقَ عَلَى ذَلِكَ الْعِلْمِ لَفْظُ الرُّؤْيَةِ، وَقَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَيْ أَلَمْ يَعْلَمُوا عِلْمًا ظَاهِرًا وَاضِحًا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ يَخْلُقُهُ مِنْ تُرَابٍ يَجْمَعُهُ فَكَذَلِكَ يَجْمَعُ أَجْزَاءَهُ مِنَ التُّرَابِ يَنْفُخُ فِيهِ رُوحَهُ بَلْ هُوَ أَسْهَلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْكُمْ، فَإِنَّ مَنْ نَحَتَ حِجَارَاتٍ وَوَضَعَ شَيْئًا بِجَنْبِ شَيْءٍ فَفَرَّقَهُ أَمْرٌ مَا فَإِنَّهُ يَقُولُ وَضْعُهُ شَيْئًا بِجَنْبِ شَيْءٍ فِي هَذِهِ النَّوْبَةِ أَسْهَلُ عَلَيَّ لِأَنَّ الْحِجَارَاتِ مَنْحُوتَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ آيَةً وَاحِدَةً مِنْهَا تَصْلُحُ لِأَنْ تَكُونَ بِجَنْبِ الْأُخْرَى، وَعَلَى هَذَا الْمَخْرَجِ خَرَجَ كَلَامُ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ أَهْوَنُ [الرُّومِ: 27] وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ عَلَّقَ الرُّؤْيَةَ بِالْكَيْفِيَّةِ لَا بِالْخَلْقِ وَمَا قَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ، أَوْ بَدَأَ الْخَلْقَ، وَالْكَيْفِيَّةُ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ؟ فَنَقُولُ هَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْكَيْفِيَّةِ مَعْلُومٌ، وَهُوَ أَنَّهُ خَلَقَهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَأَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ هِيَ مِنْ غِذَاءٍ هُوَ مِنْ مَاءٍ وَتُرَابٍ وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي حُصُولِ الْعِلْمِ بِإِمْكَانِ الْإِعَادَةِ فَإِنَّ الْإِعَادَةَ مِثْلُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِمَ قَالَ: ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فَأَبْرَزَ اسْمَهُ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ يَسِيرٌ كَمَا قَالَ ثُمَّ يُعِيدُهُ مِنْ غَيْرِ إِبْرَازٍ؟ نَقُولُ مَعَ إِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى أَنَّهُ يَسِيرٌ فَأَكَّدَهُ بِإِظْهَارِ اسْمِهِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْمَعْرِفَةَ أَيْضًا بِكَوْنِ ذَلِكَ يَسِيرًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا سَمِعَ لَفْظَ اللَّهِ وَفَهِمَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ الْحَيُّ الْقَادِرُ، بِقُدْرَةٍ كَامِلَةٍ، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، الْعَالِمُ بِعِلْمٍ مُحِيطٍ بِذَرَّاتِ كُلِّ جِسْمٍ، نَافِذُ الْإِرَادَةِ لَا رَادَّ لِمَا أَرَادَهُ، يَقْطَعُ بجواز الإعادة. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 20] قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ كَانَتْ إِشَارَةً إِلَى الْعِلْمِ الْحَدْسِيِّ وَهُوَ الْحَاصِلُ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ فَقَالَ أَوَلَمْ يَرَوْا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى اسْتِبْعَادِ عَدَمِهِ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَكُمْ هَذَا الْعِلْمُ فَتَفَكَّرُوا فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ لِتَعْلَمُوا بِالْعِلْمِ الْفِكْرِيِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ مَرَاتِبُ فِي الْإِدْرَاكِ بَعْضُهُمْ يُدْرِكُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمٍ وَإِقَامَةِ بُرْهَانٍ لَهُ، وَبَعْضُهُمْ لَا يَفْهَمُ إِلَّا بِإِبَانَةٍ وَبَعْضُهُمْ لَا يَفْهَمُهُ أَصْلًا فَقَالَ: إِنْ كُنْتُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْقَبِيلِ الْأَوَّلِ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، أَيْ سَيِّرُوا فِكْرَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَأَجِيلُوا ذِهْنَكُمْ فِي الْحَوَادِثِ الْخَارِجَةِ عَنْ أَنْفُسِكُمْ لِتَعْلَمُوا بدء الخلق وفي الآية مسائل: الْأُولَى: قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِلَفْظِ الرُّؤْيَةِ وَفِي هَذِهِ بِلَفْظِ النَّظَرِ مَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ الْعِلْمُ الْحَدْسِيُّ أَتَمُّ مِنَ الْعِلْمِ الْفِكْرِيِّ كَمَا تَبَيَّنَ، وَالرُّؤْيَةُ أَتَمُّ مِنَ النَّظَرِ لِأَنَّ النَّظَرَ يُفْضِي إِلَى الرُّؤْيَةِ، يُقَالُ نَظَرْتُ فَرَأَيْتُ

_ (1) - المراد بنفسه هنا نفس الإنسان فهو من إضافة اسم الفاعل لمفعوله له لا لفاعله كما يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، تعالى الله عن الشبه والمثل والنظير.

وَالْمُفْضِي إِلَى الشَّيْءِ دُونَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَقَالَ فِي الْأَوَّلِ أَمَا حَصَلَتْ لَكُمُ الرُّؤْيَةُ فَانْظُرُوا فِي الْأَرْضِ لِتَحْصُلَ لَكُمُ الرُّؤْيَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَفِي الْآيَةِ الْأَوْلَى بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْحَدْسِيَّ إِنْ حَصَلَ فَالْأَمْرُ بِهِ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ فَلَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالطَّلَبِ لِأَنَّ بِالطَّلَبِ يَصِيرُ الْحَاصِلُ فِكْرِيًّا فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِهِ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ، وَأَمَّا الْعِلْمُ الْفِكْرِيُّ فَهُوَ مَقْدُورٌ فَوَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَبْرَزَ اسْمَ اللَّهِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عِنْدَ الْبَدْءِ حَيْثُ قَالَ: كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ وَأَضْمَرَهُ عِنْدَ الْإِعَادَةِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَضْمَرَهُ عِنْدَ الْبَدْءِ وَأَبْرَزَهُ عِنْدَ الْإِعَادَةِ حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ لِأَنَّ فِي الْآيَةِ الْأُولَى لَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُ اللَّهِ بِفِعْلٍ حَتَّى يُسْنَدَ إِلَيْهِ الْبَدْءُ فَقَالَ: كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ يُعِيدُهُ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا ثُمَّ ضَرَبَ بَكْرًا وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِظْهَارِ اسْمِ زَيْدٍ اكْتِفَاءً بِالْأَوَّلِ، وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ كَانَ ذِكْرُ الْبَدْءِ مُسْنَدًا إِلَى اللَّهِ فَاكْتَفَى به ولم يبرزه كقوله الْقَائِلِ أَمَا عَلِمْتَ كَيْفَ خَرَجَ زَيْدٌ، اسْمَعْ مِنِّي كَيْفَ خَرَجَ، وَلَا يُظْهِرُ اسْمَ زَيْدٍ، وَأَمَّا إِظْهَارُهُ عِنْدَ الْإِنْشَاءِ ثَانِيًا حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَكْفِي أَنْ يَقُولَ: ثُمَّ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ، فَلِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعَ إِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى إِمْكَانِ الْإِعَادَةِ أَظْهَرَ اسْمًا مَنْ يَفْهَمُ الْمُسَمَّى بِهِ بِصِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ يَقْطَعُ بِجَوَازِ الْإِعَادَةِ فَقَالَ اللَّهُ مُظْهِرًا مُبْرِزًا لِيَقَعَ فِي ذِهْنِ الْإِنْسَانِ مِنِ اسْمِهِ كَمَالُ قُدْرَتِهِ وَشُمُولُ عِلْمِهِ وَنُفُوذُ إِرَادَتِهِ وَيَعْتَرِفُ بِوُقُوعِ بَدْئِهِ وَجَوَازِ إِعَادَتِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ لَمْ يَقُلْ ثُمَّ اللَّهُ يُعِيدُهُ لِعَيْنِ مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْفَائِدَةِ؟ نَقُولُ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ كَانَ مُظْهِرًا مُبْرِزًا بِقُرْبٍ مِنْهُ وَهُوَ فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ وَلَمْ يكن بينهما إلا لفظ الخلق وأما هاهنا فَلَمْ يَكُنْ/ مَذْكُورًا عِنْدَ الْبَدْءِ فَأَظْهَرَهُ وَثَانِيهِمَا: أن الدليل هاهنا تَمَّ عَلَى جَوَازِ الْإِعَادَةِ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ مُنْحَصِرَةٌ فِي الْآفَاقِ وَفِي الْأَنْفُسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فُصِّلَتْ: 53] وَفِي الْآيَةِ الْأُولَى أَشَارَ إِلَى الدَّلِيلِ النَّفْسِيِّ الْحَاصِلِ لِهَذَا الْإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ، وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ أَشَارَ إِلَى الدَّلِيلِ الْحَاصِلِ مِنَ الْآفَاقِ بِقَوْلِهِ: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ وَعِنْدَهُمَا تَمَّ الدليلان، فأكده بإظهار اسمه، وما الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ فَأَكَّدَهُ بِالدَّلِيلِ الثَّانِي، فَلَمْ يَقُلْ ثُمَّ اللَّهُ يُعِيدُهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْآيَةِ الْأُولَى ذَكَرَ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ فَقَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ وهاهنا قَالَ بِلَفْظِ الْمَاضِي فَقَالَ: فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ وَلَمْ يَقُلْ كَيْفَ يَبْدَأُ، فَنَقُولُ الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ هُوَ الدَّلِيلُ النَّفْسِيُّ الْمُوجِبُ لِلْعِلْمِ الْحَدْسِيِّ وَهُوَ فِي كُلِّ حَالٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِبَدْءِ الْخَلْقِ، فَقَالَ إِنْ كَانَ لَيْسَ لَكُمْ عِلْمٌ بِأَنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ حَالٍ يَبْدَأُ خَلْقًا فَانْظُرُوا إِلَى الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ لِيَحْصُلَ لَكُمْ عِلْمٌ بِأَنَّ اللَّهَ بَدَأَ خَلْقًا، وَيَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ مِنْ هَذَا القدر فإنه ينشئ كَمَا بَدَأَ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وَفِيهِ فَائِدَتَانِ إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الدَّلِيلَ الْأَوَّلَ هُوَ الدَّلِيلُ النَّفْسِيُّ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُوجِبُهُ الْعِلْمَ الْحَدْسِيَّ التَّامَّ وَلَكِنْ عِنْدَ انْضِمَامِ دَلِيلِ الْآفَاقِ إِلَيْهِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ الْعَامُّ، لِأَنَّهُ بِالنَّظَرِ فِي نَفْسِهِ عَلِمَ نَفْسَهُ وَحَاجَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَوُجُودَهُ مِنْهُ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى الْآفَاقِ عَلِمَ حَاجَةَ غَيْرِهِ إِلَيْهِ وَوُجُودَهُ مِنْهُ، فَتَمَّ عِلْمُهُ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ اللَّهِ فَقَالَ عِنْدَ تَمَامِ ذِكْرِ الدَّلِيلَيْنِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَقَالَ عِنْدَ الدَّلِيلِ الْوَاحِدِ إِنَّ ذلِكَ وَهُوَ إِعَادَتُهُ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْعِلْمَ الْأَوَّلَ أَتَمُّ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَعَمَّ وَكَوْنُ الْأَمْرِ يَسِيرًا عَلَى الْفَاعِلِ أَتَمُّ مِنْ كَوْنِهِ مَقْدُورًا له

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 21 إلى 22]

بِدَلِيلِ أَنَّ الْقَائِلَ يَقُولُ فِي حَقِّ مَنْ يَحْمِلُ مِائَةً مِنْ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَلَا يَقُولُ إِنَّهُ سَهْلٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا سُئِلَ عَنْ حَمْلِهِ عَشْرَةَ أَمْنَانٍ يَقُولُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ سهل يَسِيرٌ، فَنَقُولُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَكُمُ الْعِلْمُ التَّامُّ بِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ عِنْدَ اللَّهِ سَهْلٌ يَسِيرٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ لِتَعْلَمُوا أَنَّهُ مَقْدُورٌ، وَنَفْسُ كَوْنِهِ مَقْدُورًا كَافٍ في إمكان الإعادة. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 21 الى 22] يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) لَمَّا ذَكَرَ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ذَكَرَ مَا يَكُونُ فِيهِ وَهُوَ تَعْذِيبُ أَهْلِ التَّكْذِيبِ عَدْلًا وَحِكْمَةً، وَإِثَابَةُ أَهْلِ الْإِنَابَةِ فَضْلًا وَرَحْمَةً، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدَّمَ التَّعْذِيبَ فِي الذِّكْرِ عَلَى الرَّحْمَةِ مَعَ أَنَّ رَحْمَتَهُ سَابِقَةٌ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَاكِيًا عَنْهُ «سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي» فَنَقُولُ ذَلِكَ الوجهين أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّابِقَ ذِكْرُ الْكُفَّارِ فَذَكَرَ الْعَذَابَ لِسَبْقِ ذِكْرِ مُسْتَحِقِّيهِ بِحُكْمِ الْإِيعَادِ وَعَقَّبَهُ بِالرَّحْمَةِ، وَكَمَا ذَكَرَ، بَعْدَ إِثْبَاتِ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ- التَّهْدِيدَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ [العنكبوت: 18] وَأُهْلِكُوا بِالتَّكْذِيبِ كَذَلِكَ ذَكَرَ بَعْدَ إِثْبَاتِ الْأَصْلِ الْآخَرِ التَّهْدِيدَ بِذِكْرِ التَّعْذِيبِ، وَذِكْرُ الرَّحْمَةِ وَقَعَ تَبَعًا لِئَلَّا يَكُونَ الْعَذَابُ مَذْكُورًا وَحْدَهُ وَهَذَا يُحَقِّقُ قَوْلَهُ: (سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي) وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ حَيْثُ كَانَ الْمَقْصُودُ ذِكْرَ الْعَذَابِ لَمْ يُمَحِّضْهُ فِي الذِّكْرِ بَلْ ذَكَرَ الرَّحْمَةَ مَعَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ ذَكَرَ هَذَا لِتَخْوِيفِ الْعَاصِي وَتَفْرِيحِ الْمُؤْمِنِ فَلَوْ قَالَ يُعَذِّبُ الْكَافِرَ وَيَرْحَمُ الْمُؤْمِنَ لَكَانَ أَدْخَلَ فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ وَقَوْلُهُ: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ لَا يَزْجُرُ الْكَافِرَ لِجَوَازِ أَنْ يَقُولَ لَعَلِّي لَا أَكُونُ مِمَّنْ يَشَاءُ اللَّهُ عَذَابَهُ، فَنَقُولُ: هَذَا أَبْلَغُ فِي التَّخْوِيفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَثْبَتَ بِهَذَا إِنْفَاذَ مَشِيئَتِهِ إِذَا أَرَادَ تَعْذِيبَ شَخْصٍ فَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ مَانِعٌ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ لِلْعِبَادِ بِحُكْمِ الْوَعْدِ وَالْإِيعَادِ أَنَّهُ شَاءَ تَعْذِيبَ أَهْلِ الْعِنَادِ، فَلَزِمَ مِنْهُ الْخَوْفُ التَّامُّ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ يُعَذِّبُ الْعَاصِيَ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ مَشِيئَتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ عَذَابَ الْمُؤْمِنِ لَعَذَّبَهُ، فَإِذَا لَمْ يُفِدْ هَذَا فَيَقُولُ الْكَافِرُ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُهُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ فِي صُورَةٍ أُخْرَى، وَلْنَضْرِبْ لَهُ مَثَلًا فَنَقُولُ: إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمَلِكَ يَقْدِرُ عَلَى ضَرْبِ كُلِّ مَنْ فِي بِلَادِهِ وَقَالَ مَنْ خَالَفَنِي أَضْرِبُهُ يَحْصُلُ الْخَوْفُ التَّامُّ لِمَنْ يُخَالِفُهُ، وَإِذَا قِيلَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى ضَرْبِ الْمُخَالِفِينَ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ضَرْبِ الْمُطِيعِينَ، فَإِذَا قَالَ مَنْ خَالَفَنِي أَضْرِبُهُ يَقَعُ فِي وَهْمِ الْمُخَالِفِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ضَرْبِ فُلَانٍ الْمُطِيعِ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَيَّ أَيْضًا لِكَوْنِي مِثْلَهُ، وَفِي هَذَا فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهُوَ الْخَوْفُ الْعَامُّ وَالرَّجَاءُ الْعَامُّ، لِأَنَّ الْأَمْنَ الْكُلِّيَّ مِنَ اللَّهِ يُوجِبُ الْجَرَاءَةَ فَيُفْضِي إِلَى صَيْرُورَةِ الْمُطِيعِ عَاصِيًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ: وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَدْ سَبَقَ إِثْبَاتُهَا وَتَقْرِيرُهَا فَلِمَ أَعَادَهَا؟ فَنَقُولُ لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ التَّعْذِيبَ وَالرَّحْمَةَ وَهُمَا قَدْ يَكُونَانِ عَاجِلَيْنِ، فَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْكُمْ ذَلِكَ فَلَا تَظُنُّوا أَنَّهُ فَاتَ، فَإِنَّ إِلَيْهِ إِيَابَكُمْ وَعَلَيْهِ حِسَابَكُمْ وَعِنْدَهُ يُدَّخَرُ ثَوَابُكُمْ وَعِقَابُكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهَا وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ يَعْنِي لَا تَفُوتُونَ اللَّهَ بَلِ الِانْقِلَابُ إِلَيْهِ وَلَا يُمْكِنُ الِانْفِلَاتُ مِنْهُ، وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ لَطَائِفُ إِحْدَاهَا: هِيَ إِعْجَازُ الْمُعَذَّبِ عَنِ التَّعْذِيبِ إِمَّا بِالْهَرَبِ مِنْهُ أَوِ الثَّبَاتِ لَهُ وَالْمُقَاوَمَةِ مَعَهُ لِلدَّفْعِ، وَذَكَرَ اللَّهُ الْقِسْمَيْنِ فَقَالَ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ يَعْنِي بِالْهَرَبِ لَوْ صَعِدْتُمْ إِلَى مَحَلِّ السِّمَاكِ فِي السَّمَاءِ أَوْ هَبَطْتُمْ إِلَى مَوْضِعِ

[سورة العنكبوت (29) : آية 23]

السُّمُوكِ فِي الْمَاءِ لَا تَخْرُجُونَ مِنْ قَبْضَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ فَلَا مَطْمَعَ فِي الْإِعْجَازِ بِالْهَرَبِ، وَأَمَّا بِالثَّبَاتِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِعْجَازَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالِاسْتِنَادِ إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ يَشْفَعُ وَلَا يُمْكِنُ لِلْمُعَذِّبِ مُخَالَفَتُهُ فَيَفُوتُهُ الْمُعَذَّبُ وَيَعْجِزُ عَنْهُ أَوْ بِالِانْتِصَارِ بِقَوْمٍ يَقُومُ مَعَهُ بِالدَّفْعِ وَكِلَاهُمَا محال، فإنكم مالكم مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ يَشْفَعُ وَلَا نَصِيرٌ يَدْفَعُ فَلَا إِعْجَازَ/ لَا بِالْهُرُوبِ وَلَا بِالثَّبَاتِ الثَّانِيَةُ: قَالَ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلَمْ يَقُلْ لَا تُعْجِزُونَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْيَ الْفِعْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الصَّلَاحِيَةِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ إِنَّ فُلَانًا لَا يَخِيطُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ إِنَّهُ لَيْسَ بِخَيَّاطٍ الثَّالِثَةُ: قَدَّمَ الْأَرْضَ عَلَى السَّمَاءِ، وَالْوَلِيَّ عَلَى النَّصِيرِ، لِأَنَّ هَرَبَهُمُ الْمُمْكِنُ فِي الْأَرْضِ، فَإِنْ كَانَ يَقَعُ مِنْهُمْ هَرَبٌ يَكُونُ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ إِنْ فَرَضْنَا لَهُمْ قُدْرَةً غَيْرَ ذَلِكَ فَيَكُونُ لَهُمْ صُعُودٌ فِي السَّمَاءِ، وَأَمَّا الدَّفْعُ فَإِنَّ الْعَاقِلَ مَا أَمْكَنَهُ الدَّفْعُ بِأَجْمَلِ الطُّرُقِ فَلَا يَرْتَقِي إِلَى غَيْرِهِ، وَالشَّفَاعَةُ أَجْمَلُ. وَلِأَنَّ مَا مِنْ أَحَدٍ فِي الشَّاهِدِ إِلَّا وَيَكُونُ لَهُ شَفِيعٌ يَتَكَلَّمُ فِي حَقِّهِ عِنْدَ مَلِكٍ وَلَا يَكُونُ كُلُّ أَحَدٍ لَهُ ناصر يعادي الملك لأجله. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 23] وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) لَمَّا بَيَّنَ الْأَصْلَيْنِ التَّوْحِيدَ وَالْإِعَادَةَ وَقَرَّرَهُمَا بِالْبُرْهَانِ وَهَدَّدَ مَنْ خَالَفَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ إِشَارَةً إِلَى الْكُفَّارِ بِاللَّهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ آيَةً دَالَّةً عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، فَإِذَا أَشْرَكَ كَفَرَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَإِشَارَةً إِلَى الْمُنْكِرِ لِلْحَشْرِ فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَهُ كَفَرَ بِلِقَاءِ اللَّهِ فَقَالَ: أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي لَمَّا أَشْرَكُوا أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ مَحَلِّ الرَّحْمَةِ لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ لَهُ جِهَةٌ وَاحِدَةٌ تَدْفَعُ حَاجَتَهُ لَا غَيْرُ يُرْحَمُ، وَإِذَا كَانَ لَهُ جِهَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ لَا يُبْقِي مَحَلًّا لِلرَّحْمَةِ، فَإِذَا جَعَلُوا لَهُمْ آلِهَةً لَمْ يَعْتَرِفُوا بِالْحَاجَةِ إِلَى طَرِيقٍ مُتَعَيَّنٍ فَيَيْأَسُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَمَّا أَنْكَرُوا الْحَشْرَ وَقَالُوا لَا عَذَابَ فَنَاسَبَ تَعْذِيبَهُمْ تَحْقِيقًا لِلْأَمْرِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا قَالَ أُعَذِّبُ مَنْ يُخَالِفُنِي فَأَنْكَرَهُ بَعِيدٌ عَنْهُ وَقَالَ هُوَ لَا يَصِلُ إِلَيَّ، فَإِذَا أُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَحْسُنُ مِنْهُ أَنْ يُعَذِّبَهُ وَيَقُولَ هَلْ قَدَرْتُ وَهَلْ عَذَّبْتُ أَمْ لَا، فَإِذَنْ تَبَيَّنَ أَنَّ عَدَمَ الرَّحْمَةِ يُنَاسِبُ الْإِشْرَاكَ، وَالْعَذَابَ الْأَلِيمَ يُنَاسِبُ إِنْكَارَ الْحَشْرِ. ثُمَّ إِنَّ فِي الْآيَةِ فَوَائِدَ إِحْدَاهَا: قَوْلُهُ: أُولئِكَ يَئِسُوا حَتَّى يَكُونَ مُنْبِئًا عَنْ حَصْرِ الناس فيهم وقال أيضا أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ لِذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، مَا كَانَ يَحْصُلُ هَذِهِ الْفَائِدَةُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَوِ اكْتَفَى بِقَوْلِهِ أُولئِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً كَانَ يَكْفِي فِي إِفَادَةِ مَا ذَكَرَ، ثُمَّ قُلْنَا لَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ أُولَئِكَ يَئِسُوا وَلَهُمْ عَذَابٌ، كَانَ يَذْهَبُ وَهْمُ أَحَدٍ إِلَى أَنَّ هَذَا الْمَجْمُوعَ مُنْحَصِرٌ فِيهِمْ، فَلَا يُوجَدُ الْمَجْمُوعُ إِلَّا فِيهِمْ وَلَكِنَّ وَاحِدًا مِنْهُمَا وَحْدَهُ يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ فِي غَيْرِهِمْ، فَإِذَا قَالَ أُولَئِكَ يَئِسُوا وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَفَادَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِيهِمْ الثَّانِيَةُ: عِنْدَ ذِكْرِ الرَّحْمَةِ أَضَافَهَا إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ رَحْمَتِي وَعِنْدَ العذاب لم يضفه لسبق رحمة وَإِعْلَامًا لِعِبَادِهِ بِعُمُومِهَا لَهُمْ وَلُزُومِهَا لَهُ الثَّالِثَةُ: أَضَافَ الْيَأْسَ إِلَيْهِمْ/ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ يَئِسُوا فَحَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ وَلَوْ طَمِعُوا لَأَبَاحَهَا لَهُمْ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ مَا ذَكَرْتَ مِنْ مُقَابَلَةِ الْأَمْرَيْنِ وَهُمَا الْيَأْسُ وَالْعَذَابُ بِأَمْرَيْنِ وَهُمَا الْكُفْرُ بِالْآيَاتِ وَالْكُفْرُ بِاللِّقَاءِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ لِمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَاعْتَرَفَ بِالْحَشْرِ، أَوْ لَا يَكُونَ الْيَأْسُ لِمَنْ كَفَرَ بِالْحَشْرِ وَآمَنَ بِاللَّهِ فَنَقُولُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ يَئِسُوا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ زَائِدٌ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِالْحَشْرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّعْذِيبَ بِسَبَبِ الْكُفْرِ بِالْحَشْرِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْكَافِرِ بِالْحَشْرِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَالْكَافِرُ بِالْحَشْرِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِهِ لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا صَدَّقَهُ فِيمَا قَالَهُ والحشر من جملة ذلك. ثم قال:

[سورة العنكبوت (29) : آية 24]

[سورة العنكبوت (29) : آية 24] فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) لَمَّا أَتَى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِبَيَانِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ وَأَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَيْهِ، بَقِيَ الْأَمْرُ مِنْ جَانِبِهِمْ إِمَّا الْإِجَابَةُ أَوِ الْإِتْيَانُ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابَهُ فَلَمْ يَأْتُوا إِلَّا بِقَوْلِهِمُ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَيْفَ سَمَّى قَوْلَهُمُ اقْتُلُوهُ جَوَابًا، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِجَوَابٍ؟ فَنَقُولُ (الْجَوَابُ عَنْهُ) مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُمْ مَخْرَجَ كَلَامِ الْمُتَكَبِّرِ كَمَا يَقُولُ الْمَلِكُ لِرَسُولِ خَصْمِهِ جَوَابُكُمُ السَّيْفُ، مَعَ أَنَّ السَّيْفَ لَيْسَ بِجَوَابٍ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ لَا أُقَابِلُهُ بِالْجَوَابِ، وَإِنَّمَا أُقَابِلُهُ بِالسَّيْفِ فَكَذَلِكَ قَالُوا لَا تُجِيبُوا عَنْ بَرَاهِينِهِ وَاقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ الثَّانِي هُوَ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بَيَانَ ضلالهم وَهُوَ أَنَّهُمْ ذُكِرُوا فِي مَعْرِضِ الْجَوَابِ هَذَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِجَوَابٍ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ أَصْلًا وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ لَا يُجِيبُ غَيْرَهُ وَيَسْكُتُ، لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجَوَابِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ لِعَدَمِ الِالْتِفَاتِ، أَمَّا إِذَا أَجَابَ بِجَوَابٍ فَاسِدٍ، عُلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ الْجَوَابَ وَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَائِلُونَ الَّذِينَ قَالُوا اقْتُلُوهُ هُمْ قَوْمُهُ وَالْمَأْمُورُونَ بِقَوْلِهِمُ اقْتُلُوهُ أَيْضًا هُمْ، فَيَكُونُ الْآمِرُ نَفْسَ الْمَأْمُورِ؟ فَنَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَالَ لِمَنْ عَدَاهُ اقْتُلُوهُ، فَحَصَلَ الْأَمْرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَصَارَ الْمَأْمُورُ كُلَّ وَاحِدٍ وَلَا اتِّحَادَ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ أَمَرَ غَيْرَهُ وَثَانِيهِمَا: هُوَ أَنَّ الْجَوَابَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْأَكَابِرِ وَالرُّؤَسَاءِ، فَإِذَا قَالَ أَعْيَانُ بَلَدٍ كَلَامًا يُقَالُ اتَّفَقَ أَهْلُ الْبَلْدَةِ عَلَى هَذَا وَلَا يلتفت إلى عدم قول العبيد والأرذال، فَكَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ وَهُمُ الرُّؤَسَاءُ أَنْ قَالُوا لِأَتْبَاعِهِمْ وَأَعْوَانِهِمُ اقْتُلُوهُ، لِأَنَّ الْجَوَابَ لَا يُبَاشِرُهُ إِلَّا الْأَكَابِرُ وَالْقَتْلَ لَا يُبَاشِرُهُ إِلَّا الْأَتْبَاعُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (أَوْ) يُذْكَرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ الثَّانِي مِنْهُمَا يَنْفَكُّ عَنِ الْأَوَّلِ كَمَا يُقَالُ زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ، وَيُقَالُ هَذَا إِنْسَانٌ أَوْ حَيَوَانٌ، يَعْنِي إِنْ لَمْ يَكُنْ إِنْسَانًا فَهُوَ حَيَوَانٌ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هَذَا حَيَوَانٌ/ أَوْ إِنْسَانٌ إِذْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يَقُولُ هُوَ حَيَوَانٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَيَوَانًا فَهُوَ إِنْسَانٌ وَهُوَ مُحَالٌ لَكِنَّ التَّحْرِيقَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْقَتْلِ فَقَوْلُهُ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ حَيَوَانٌ أَوْ إِنْسَانٌ، الْجَوَابُ عَنْهُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ عَلَى خِلَافِ مَا ذُكِرَ شَائِعٌ وَيَكُونُ (أَوْ) مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضِعِ بَلْ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ أَعْطَيْتُهُ دِينَارًا أَوْ دِينَارَيْنِ، وَكَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ أَعْطِهِ دِينَارًا بَلْ دِينَارَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل: 2- 4] فكذلك هاهنا اقْتُلُوهُ أَوْ زِيدُوا عَلَى الْقَتْلِ وَحَرِّقُوهُ (الْجَوَابُ الثَّانِي) : هُوَ أَنَّا نُسَلِّمُ مَا ذَكَرْتُمْ وَالْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ، لِأَنَّ التَّحْرِيقَ فِعْلٌ مُفْضٍ إِلَى الْقَتْلِ وَقَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الْقَتْلُ فَإِنَّ مَنْ أَلْقَى غَيْرَهُ فِي النَّارِ حَتَّى احْتَرَقَ جِلْدُهُ بِأَسْرِهِ وَأُخْرِجَ مِنْهَا حَيًّا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ احْتَرَقَ فُلَانٌ وَأَحْرَقَهُ فُلَانٌ وَمَا مَاتَ، فَكَذَلِكَ هاهنا قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ لَا تُعَجِّلُوا قَتْلَهُ وَعَذِّبُوهُ بِالنَّارِ، وَإِنْ تَرَكَ مَقَالَتَهُ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ وَإِنْ أَصَرَّ فَخَلُّوا فِي النَّارِ مَقِيلَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ اخْتَلَفَ الْعُقَلَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِنْجَاءِ، بَعْضُهُمْ قَالَ بَرَّدَ النَّارَ وهو الأصح الموافق لقوله تعالى: يا نارُ كُونِي بَرْداً [الْأَنْبِيَاءِ: 69] وَبَعْضُهُمْ قَالَ خَلَقَ فِي إِبْرَاهِيمَ كَيْفِيَّةً اسْتَبْرَدَ مَعَهَا النَّارَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ تَرَكَ إِبْرَاهِيمَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَالنَّارَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ وَمَنَعَ أَذَى النَّارِ عَنْهُ، وَالْكُلُّ مُمْكِنٌ وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ، وَأَنْكَرَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ الْكُلَّ، أَمَّا سَلْبُ الْحَرَارَةِ عَنِ النَّارِ، قَالُوا الْحَرَارَةُ فِي النَّارِ ذَاتِيَّةٌ كَالزَّوْجِيَّةِ في الأربعة

لَا يُمْكِنُ أَنْ تُفَارِقَهَا، وَأَمَّا خَلْقُ كَيْفِيَّةٍ تَسْتَبْرِدُ النَّارَ فَلِأَنَّ الْمِزَاجَ الْإِنْسَانِيَّ لَهُ طَرَفَا تَفْرِيطٍ وَإِفْرَاطٍ، فَلَوْ خَرَجَ عَنْهُمَا لَا يَبْقَى إِنْسَانًا أَوْ لَا يَعِيشُ. مَثَلًا الْمِزَاجُ إِنْ كَانَ الْبَارِدُ فِيهِ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ يَكُونُ إِنْسَانًا فَإِنْ صَارَ أَحَدَ عَشَرَ لَا يَكُونُ إِنْسَانًا وَإِنْ صَارَتِ الْأَجْزَاءُ الْبَارِدَةُ خَمْسَةً يَبْقَى إِنْسَانًا فَإِذَا صَارَتْ أَرْبَعَةً لَا يَبْقَى إِنْسَانًا لَكِنَّ الْبُرُودَةَ الَّتِي يَسْتَبْرِدُ مَعَهَا النَّارَ مِزَاجُ السَّمَنْدَلِ فَلَوْ حَصَلَ فِي الْإِنْسَانِ لَمَاتَ أَوْ لَكَانَ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّفْسَ تَابِعَةٌ لِلْمِزَاجِ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَمُحَالٌ أَنْ تَكُونَ الْقُطْنَةُ فِي النَّارِ وَالنَّارُ كَمَا هِيَ، وَالْقُطْنَةُ كَمَا هِيَ وَلَا تَحْتَرِقُ، فَنَقُولُ الْآيَةُ رَدٌّ عَلَيْهِمْ وَالْعَقْلُ مُوَافِقٌ لِلنَّقْلِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَرَارَةَ فِي النَّارِ تَقْبَلُ الِاشْتِدَادَ وَالضَّعْفَ، فَإِنَّ النَّارَ فِي الْفَحْمِ إِذَا نُفِخَ فِيهِ يَشْتَدُّ حَتَّى يُذِيبَ الْحَدِيدَ وَإِنْ لَمْ يُنْفَخْ لَا يَشْتَدُّ لَكِنَّ الضعف هو عدم بعض من الجرارة الَّتِي كَانَتْ فِي النَّارِ، فَإِذَا أَمْكَنَ عُدْمُ الْبَعْضِ جَازَ عُدْمُ بَعْضٍ آخَرَ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى حَدٍّ لَا يُؤْذِي الْإِنْسَانَ، وَلَا كَذَلِكَ الزَّوْجِيَّةٌ فَإِنَّهَا لَا تَشْتَدُّ وَلَا تَضْعُفُ وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ فِي أُصُولِ الطِّبِّ ذُكِرَ أَنَّ النَّارَ لَهَا كَيْفِيَّةٌ حَارَةٌ كَمَا أَنَّ الْمَاءَ لَهُ كَيْفِيَّةٌ بَارِدَةٌ لَكِنْ رَأَيْنَا أَنَّ الْمَاءَ تَزُولُ عَنْهُ الْبُرُودَةُ وَهُوَ مَاءٌ فَكَذَلِكَ النَّارُ تَزُولُ عَنْهَا الْحَرَارَةُ وَتَبْقَى نَارًا وَهُوَ نُورٌ غَيْرُ مُحْرِقٍ، وَأَمَّا الثَّانِي فَأَيْضًا مُمْكِنٌ وَقَوْلُهُمْ مَدْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَنْعُ أَصْلِهِمْ مِنْ كَوْنِ النَّفْسِ تَابِعَةً لِلْمِزَاجِ بَلِ اللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ فِي الْمِزَاجِ الَّذِي مِثْلَ مِزَاجِ الْجَمَدِ وَثَانِيهِمَا: أَنْ نَقُولَ عَلَى أَصْلِكُمْ لَا يَلْزَمُ الْمُحَالُ لِأَنَّ الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا تَكُونُ في ظاهر الجلد كَالْأَجْزَاءِ الرَّشِّيَّةِ عَلَيْهِ وَلَا يَتَأَدَّى إِلَى الْقَلْبِ وَالْأَعْضَاءِ الرَّئِيسَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ/ إِذَا مَسَّ الْجَمَدَ زَمَانًا ثُمَّ مَسَّ جَمْرَةَ نَارٍ لَا تُؤَثِّرُ النَّارُ فِي إِحْرَاقِ يَدِهِ مِثْلَ مَا تُؤَثِّرُ فِي إِحْرَاقِ يَدِ مَنْ أَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ، وَلِهَذَا تَحْتَرِقُ يَدُهُ قَبْلَ يَدِ هَذَا. فَإِذَا جَازَ وُجُودُ كَيْفِيَّةٍ فِي ظَاهِرِ جِلْدِ الْإِنْسَانِ تَمْنَعُ تَأْثِيرَ النَّارِ فِيهِ بِالْإِحْرَاقِ زَمَانًا فَيَجُوزُ أَنْ تَتَجَدَّدَ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ لَحْظَةً فَلَحْظَةً حَتَّى لَا تَحْتَرِقَ، وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَمُجَرَّدُ اسْتِبْعَادِ بَيَانِ عَدَمِ الِاعْتِيَادِ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَادٍ لِأَنَّهُ مُعْجِزٌ وَالْمُعْجِزُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خَارِقًا لِلْعَادَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يَعْنِي فِي إِنْجَائِهِ مِنَ النَّارِ لَآيَاتٍ، وَهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ فِي إِنْجَاءِ نُوحٍ وأصحاب السفينة جَعَلْناها آيَةً [العنكبوت: 15] وقال هاهنا لَآياتٍ بِالْجَمْعِ لِأَنَّ الْإِنْجَاءَ بِالسَّفِينَةِ شَيْءٌ تَتَّسِعُ لَهُ الْعُقُولُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنَ الْآيَةِ إِلَّا بِسَبَبِ إِعْلَامِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِالِاتِّخَاذِ وَقْتَ الْحَاجَةِ، فَإِنَّهُ لَوْلَاهُ لَمَا اتَّخَذَهُ لِعَدَمِ حُصُولِ عِلْمِهِ بِمَا فِي الْغَيْبِ، وَبِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ صَانَ السَّفِينَةَ عَنِ الْمُهْلِكَاتِ كَالرِّيَاحِ الْعَاصِفَةِ، وَأَمَّا الْإِنْجَاءُ مِنَ النَّارِ فَعَجِيبٌ فَقَالَ فِيهِ آيَاتٌ. المسألة الثانية: قال هناك آيَةً لِلْعالَمِينَ [العنكبوت: 15] وقال هاهنا لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خَصَّ الْآيَاتِ بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ السَّفِينَةَ بَقِيَتْ أَعْوَامًا حَتَّى مَرَّ عَلَيْهَا النَّاسُ وَرَأَوْهَا فَحَصَلَ الْعِلْمُ بِهَا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَأَمَّا تَبْرِيدُ النَّارِ [فَإِنَّهُ] لَمْ يَبْقَ فَلَمْ يَظْهَرْ لِمَنْ يعده إِلَّا بِطَرِيقِ الْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّصْدِيقِ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا بَرَّدَ النَّارَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بِسَبَبِ اهْتِدَائِهِ فِي نَفْسِهِ وَهِدَايَتِهِ لِأَبْنَاءِ جِنْسِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ أُسْوَةً حَسَنَةً فِي إِبْرَاهِيمَ، فَحَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِشَارَةٌ بِأَنَّ اللَّهَ يُبَرِّدُ عَلَيْهِمُ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ إِنَّ فِي ذَلِكَ التَّبْرِيدِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يؤمنون. المسألة الثالثة: قال هناك جَعَلْناها وقال هاهنا جَعَلْنَاهُ لِأَنَّ السَّفِينَةَ مَا صَارَتْ آيَةً فِي نَفْسِهَا وَلَوْلَا خَلْقُ اللَّهِ الطُّوفَانَ لَبَقِيَ فِعْلُ نُوحٍ سَفَهًا، فَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ السَّفِينَةَ بَعْدَ وُجُودِهَا آيَةً، وَأَمَّا تَبْرِيدُ النَّارِ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ آيَةٌ إِذَا وُجِدَتْ لَا تَحْتَاجُ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ كَخَلْقِ الطُّوفَانِ حَتَّى يَصِيرَ آيَةً. ثم قال تعالى:

[سورة العنكبوت (29) : آية 25]

[سورة العنكبوت (29) : آيَةً 25] وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) لَمَّا خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ النَّارِ عَادَ إِلَى عَذْلِ الْكُفَّارِ وَبَيَانِ فَسَادِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَقَالَ إِذَا بَيَّنْتُ لَكُمْ فَسَادَ مَذْهَبِكُمْ وَمَا كَانَ لَكُمْ جَوَابٌ وَلَا تَرْجِعُونَ عَنْهُ، فَلَيْسَ هَذَا إِلَّا تَقْلِيدًا، فَإِنَّ بَيْنَ بَعْضِكُمْ وَبَعْضٍ مَوَدَّةً/ فَلَا يُرِيدُ أَحَدُكُمْ أَنْ يُفَارِقَهُ صَاحِبُهُ فِي السِّيرَةِ وَالطَّرِيقَةِ أَوْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ آبَائِكُمْ مَوَدَّةٌ فَوَرِثْتُمُوهُمْ وَأَخَذْتُمْ مَقَالَتَهُمْ وَلَزِمْتُمْ ضَلَالَتَهُمْ وَجَهَالَتَهُمْ فَقَوْلُهُ: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ ... مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ يَعْنِي لَيْسَ بِدَلِيلٍ أَصْلًا وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ تَحْقِيقٌ دَقِيقٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ ... مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ أَيْ مَوَدَّةً بَيْنَ الْأَوْثَانِ وَبَيْنَ عَبَدَتِهَا، وَتِلْكَ الْمَوَدَّةُ هِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُشْتَمِلٌ عَلَى جِسْمٍ وَعَقْلٍ، وَلِجِسْمِهِ لَذَّاتٌ جُسْمَانِيَّةٌ وَلِعَقْلِهِ لَذَّاتٌ عَقْلِيَّةٌ، ثُمَّ إِنَّ مَنْ غَلَبَتْ فِيهِ الْجِسْمِيَّةُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى اللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْعَقْلِيَّةُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، كَالْمَجْنُونِ إِذَا احْتَاجَ إِلَى قَضَاءِ حَاجَةٍ مِنْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ إِرَاقَةِ مَاءٍ وَهُوَ بَيْنَ قَوْمٍ مِنَ الْأَكَابِرِ فِي مَجْمَعٍ يَحْصُلُ مَا فِيهِ لَذَّةُ جِسْمِهِ مِنَ الْأَكْلِ وَإِرَاقَةِ الْمَاءِ وَغَيْرِهِمَا وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى اللَّذَّةِ الْعَقْلِيَّةِ مِنْ حُسْنِ السِّيرَةِ وَحَمْدِ الْأَوْصَافِ وَمَكْرُمَةِ الْأَخْلَاقِ. وَالْعَاقِلُ يَحْمِلُ الْأَلَمَ الْجُسْمَانِيَّ وَيُحَصِّلُ اللَّذَّةَ الْعَقْلِيَّةَ، حَتَّى لَوْ غَلَبَتْ قُوَّتُهُ الدَّافِعَةُ عَلَى قُوَّتِهِ الْمَاسِكَةِ وَخَرَجَ مِنْهُ رِيحٌ أَوْ قَطْرَةُ مَاءٍ يَكَادُ يَمُوتُ مِنَ الْخَجَالَةِ وَالْأَلَمِ الْعَقْلِيِّ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهُمْ كَانُوا قَلِيلِي الْعَقْلِ غَلَبَتِ الْجِسْمِيَّةُ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَتَّسِعْ عَقْلُهُمْ لِمَعْبُودٍ لَا يَكُونُ فَوْقَهُمْ وَلَا تَحْتَهُمْ، وَلَا يَمِينَهُمْ وَلَا يَسَارَهُمْ، وَلَا قُدَّامَهُمْ وَلَا وَرَاءَهُمْ، وَلَا يَكُونُ جِسْمًا مِنَ الْأَجْسَامِ، وَلَا شَيْئًا يَدْخُلُ فِي الْأَوْهَامِ، وَرَأَوُا الْأَجْسَامَ الْمُنَاسِبَةَ لِلْغَالِبِ فِيهِمْ مُزَيَّنَةً بِجَوَاهِرَ فَوَدُّوهَا فَاتِّخَاذُهُمُ الْأَوْثَانَ كَانَ مَوَدَّةً بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَوْثَانِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ يَعْنِي يَوْمَ يَزُولُ عَمَى الْقُلُوبِ وَتَتَبَيَّنُ الْأُمُورُ لِلَّبِيبِ وَالْغَفُولِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَعْلَمُ فَسَادَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فَيَقُولُ الْعَابِدُ مَا هَذَا مَعْبُودِي، وَيَقُولُ المعبود ما هؤلاء عبدتي ويعلن بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَيَقُولُ هَذَا لِذَاكَ أَنْتَ أَوْقَعْتَنِي فِي الْعَذَابِ حَيْثُ عَبَدْتَنِي، وَيَقُولُ ذَاكَ لِهَذَا أَنْتَ أَوْقَعْتَنِي فِيهِ حَيْثُ أَضْلَلْتَنِي بِعِبَادَتِكَ، وَيُرِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ أَنْ يُبْعِدَ صَاحِبَهُ بِاللَّعْنِ وَلَا يَتَبَاعَدُونَ، بَلْ هُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي النَّارِ كَمَا كَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِي هَذِهِ الدَّارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَأْواكُمُ النَّارُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يَعْنِي لَيْسَ تِلْكَ النَّارُ مِثْلَ نَارِكُمُ الَّتِي أَنْجَى اللَّهُ مِنْهَا إِبْرَاهِيمَ وَنَصَرَهُ فَأَنْتُمْ فِي النَّارِ وَلَا نَاصِرَ لَكُمْ، وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ قَبْلَ هَذَا وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [العنكبوت: 22] على لفظ الواحد، وقال هاهنا عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا إِحْرَاقَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالُوا نَحْنُ نَنْصُرُ آلِهَتَنَا كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: 68] فَقَالَ أَنْتُمُ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ لِهَؤُلَاءِ نَاصِرِينَ فَمَا لَكُمْ وَلَهُمْ، أَيْ لِلْأَوْثَانِ وَعَبَدَتِهَا مِنْ نَاصِرِينَ، وَأَمَّا هُنَاكَ مَا سَبَقَ مِنْهُمْ دَعْوَى النَّاصِرِينَ فَنَفَى الْجِنْسَ بِقَوْلِهِ: وَلا نَصِيرٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ هُنَاكَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ وَمَا ذَكَرَ الولي هاهنا فَنَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَلِيِّ الشَّفِيعُ يَعْنِي لَيْسَ لَكُمْ شَافِعٌ وَلَا نَصِيرٌ دَافِعٌ، وهاهنا لَمَّا كَانَ الْخِطَابُ دَخَلَ فِيهِ الْأَوْثَانُ أَيْ مَا لَكُمْ كُلِّكُمْ لَمْ يَقُلْ شَفِيعٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ أَنَّ كُلَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ شَافِعٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ شُفَعَاءُ، كَمَا قال

[سورة العنكبوت (29) : آية 26]

تَعَالَى عَنْهُمْ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا [يُونُسَ: 18] وَالشَّفِيعُ لَا يَكُونُ/ لَهُ شَفِيعٌ، فَمَا نَفَى عَنْهُمُ الشَّفِيعَ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى نَفْيِهِ لِاعْتِرَافِهِمْ بِهِ، وَأَمَّا هُنَاكَ فَكَانَ الْكَلَامُ مَعَهُمْ وَهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّ لِأَنْفُسِهِمْ شُفَعَاءَ فَنَفَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ هناك ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَذُكِرَ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فَيُفْهَمُ أَنَّ لَهُمْ نَاصِرًا وَوَلِيًّا هُوَ اللَّهُ وَلَيْسَ لَهُمْ غَيْرُهُ وَلِيٌّ وَنَاصِرٌ وَقَالَ هاهنا ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ فَنَقُولُ كَانَ ذَلِكَ وَارِدًا عَلَى أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، لَا تَظُنُّوا أَنَّكُمْ تُعْجِزُونَ اللَّهَ فَمَا لَكُمْ أَحَدٌ يَنْصُرُكُمْ، بَلِ اللَّهُ تَعَالَى يَنْصُرُكُمْ إِنْ تُبْتُمْ، فَهُوَ نَاصِرٌ مُعَدٌّ لَكُمْ مَتَى أَرَدْتُمُ اسْتَنْصَرْتُمُوهُ بِالتَّوْبَةِ وَهَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَعَدَمُ النَّاصِرِ عَامٌّ لِأَنَّ التَّوْبَةَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا تُقْبَلْ فَسَوَاءٌ تَابُوا أَوْ لَمْ يَتُوبُوا لَا يَنْصُرُهُمُ اللَّهُ وَلَا نَاصِرَ لَهُمْ غَيْرُهُ فَلَا نَاصِرَ لهم مطلقا. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 26] فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) يعني لما رأى لوط معجزته آمن وَقالَ إبراهيم إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي أَيْ إِلَى حَيْثُ أَمَرَنِي بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ عَزِيزٌ يَمْنَعُ أَعْدَائِي عَنْ إِيذَائِي بِعِزَّتِهِ، وَحَكِيمٌ لَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِمَا يُوَافِقُ لِكَمَالِ حِكْمَتِهِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ أي بعد ما رَأَى مِنْهُ الْمُعْجِزَ الْقَاهِرَ وَدَرَجَةُ لُوطٍ كَانَتْ عَالِيَةً، وَبَقَاؤُهُ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ مِمَّا يُنْقِصُ مِنَ الدَّرَجَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا قَبِلَ دِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَكَانَ نَيِّرَ الْقَلْبِ قَبِلَهُ قَبْلَ الْكُلِّ، مِنْ غَيْرِ سَمَاعِ تَكَلُّمِ الْحَصَى وَلَا رُؤْيَةِ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ، فَنَقُولُ إِنَّ لُوطًا لَمَّا رَأَى مُعْجِزَتَهُ آمَنَ بِرِسَالَتِهِ، وَأَمَّا بِالْوَحْدَانِيَّةِ فَآمَنَ حَيْثُ سَمِعَ حُسْنَ مَقَالَتِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَمَا قَالَ فَآمَنَ لُوطٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا تَعَلُّقُ قَوْلِهِ وَقَالَ: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي بِمَا تَقَدَّمَ؟ فَنَقُولُ (لَمَّا بَالَغَ إِبْرَاهِيمُ فِي الْإِرْشَادِ وَلَمْ يَهْتَدِ قَوْمُهُ، وَحَصَلَ الْيَأْسُ الْكُلِّيُّ حَيْثُ رَأَى الْقَوْمُ الْآيَةَ الْكُبْرَى وَلَمْ يُؤْمِنُوا وَجَبَتِ الْمُهَاجَرَةُ، لِأَنَّ الْهَادِيَ إِذَا هَدَى قَوْمَهُ وَلَمْ يَنْتَفِعُوا فَبَقَاؤُهُ فِيهِمْ مَفْسَدَةٌ لِأَنَّهُ إِنْ دَامَ عَلَى الْإِرْشَادِ كَانَ اشْتِغَالًا بِمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ عِلْمِهِ فَيَصِيرُ كَمَنْ يَقُولُ لِلْحَجَرِ صَدِّقْ وَهُوَ عَبَثٌ أَوْ يَسْكُتُ وَالسُّكُوتُ دَلِيلُ الرِّضَا فَيُقَالُ بِأَنَّهُ صَارَ مِنَّا وَرَضِيَ بِأَفْعَالِنَا، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ لِلْإِقَامَةِ وَجْهٌ وَجَبَتِ الْمُهَاجَرَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ: مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي وَلَمْ يَقُلْ مُهَاجِرٌ إِلَى حَيْثُ أَمَرَنِي رَبِّي مَعَ أَنَّ الْمُهَاجَرَةَ إِلَى الرَّبِّ تُوهِمُ الْجِهَةَ، فَنَقُولُ قَوْلُهُ: مُهَاجِرٌ إِلَى حَيْثُ أَمَرَنِي رَبِّي لَيْسَ فِي الْإِخْلَاصِ كَقَوْلِهِ: إِلى رَبِّي لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا صَدَرَ مِنْهُ أَمَرٌ بِرَوَاحِ الْأَجْنَادِ إِلَى الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ، ثُمَّ إِنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ سَافَرَ إِلَيْهِ لِغَرَضٍ [فِي] نَفْسِهِ يُصِيبُهُ فَقَدْ هَاجَرَ إِلَى حَيْثُ أَمَرَهُ الْمَلِكُ وَلَكِنْ لَا مُخْلِصًا لِوَجْهِهِ فَقَالَ: مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي يَعْنِي تَوَجُّهِي إِلَى الْجِهَةِ الْمَأْمُورُ بِالْهِجْرَةِ إِلَيْهَا لَيْسَ طَلَبًا لِلْجِهَةِ إِنَّمَا هُوَ طَلَبٌ لله/ ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 27] وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ [الْعَنْكَبُوتِ: 7] أَنَّ أَثَرَ رَحْمَةِ اللَّهِ فِي

أَمْرَيْنِ فِي الْأَمَانِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ وَالِامْتِنَانِ بِحُسْنِ الثَّوَابِ وَهُوَ وَاصِلٌ إِلَى الْمُؤْمِنِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ قَطْعًا بِحُكْمِ وَعْدِ اللَّهِ نَفْيَ الْعَذَابِ عَنْهُ لِنَفْيِهِ الشِّرْكَ وَإِثْبَاتَ الثَّوَابِ لِإِثْبَاتِهِ الْوَاحِدَ، وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِوَاجِبِ الْحُصُولِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ كَثِيرًا مَا يَكُونُ الْكَافِرُ فِي رَغَدٍ وَالْمُؤْمِنُ جَائِعٌ فِي يَوْمِهِ مُتَفَكِّرٌ فِي أَمْرِ غَدِهِ لَكِنَّهُمَا مَطْلُوبَانِ فِي الدُّنْيَا، أَمَّا دَفْعُ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ فَلِأَنَّهُ وَرَدَ فِي دُعَاءِ النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، قَوْلُهُ: «وَقِنَا عَذَابَ الْفَقْرِ وَالنَّارِ» فَعَذَابُ الْفَقْرِ إِشَارَةٌ إِلَى دَفْعِ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ، وَأَمَّا الثَّوَابُ الْعَاجِلُ فَفِي قَوْلِهِ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [الْبَقَرَةِ: 201] إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَتَى بِبَيَانِ التَّوْحِيدِ أَوَّلًا دَفَعَ اللَّهُ عَنْهُ عَذَابَ الدُّنْيَا وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ، وَلَمَّا أَتَى بِهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ مَعَ إِصْرَارِ الْقَوْمِ عَلَى التَّكْذِيبِ وَإِضْرَارِهِمْ بِهِ بِالتَّعْذِيبِ، أَعْطَاهُ الْجَزَاءَ الْآخَرَ، وَهُوَ الثَّوَابُ الْعَاجِلُ وَعَدَّدَهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَفِي الْآيَةِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ بَدَّلَ جَمِيعَ أَحْوَالِ إِبْرَاهِيمَ فِي الدُّنْيَا بِأَضْدَادِهَا لَمَّا أَرَادَ الْقَوْمُ تَعْذِيبَهُ بِالنَّارِ وَكَانَ وَحِيدًا فَرِيدًا فَبَدَّلَ وَحْدَتَهُ بِالْكَثْرَةِ حَتَّى مَلَأَ الدُّنْيَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَلَمَّا كَانَ أَوَّلًا قَوْمُهُ وَأَقَارِبُهُ الْقَرِيبَةُ ضَالِّينَ مُضِلِّينَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ آزَرُ، بَدَّلَ اللَّهُ أَقَارِبَهُ بِأَقَارِبَ مُهْتَدِينَ هَادِينَ وَهُمْ ذُرِّيَّتُهُ الَّذِينَ جَعَلَ اللَّهُ فِيهِمُ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، وَكَانَ أَوَّلًا لَا جَاهَ لَهُ وَلَا مَالَ وَهُمَا غَايَةُ اللَّذَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ آتَاهُ اللَّهُ أَجْرَهُ مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ، فَكَثُرَ مَالُهُ حَتَّى كَانَ لَهُ مِنَ الْمَوَاشِي مَا عَلِمَ اللَّهُ عَدَدَهُ، حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ كَانَ لَهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ كَلْبٍ حَارِسٍ بِأَطْوَاقٍ ذَهَبٍ، وَأَمَّا الْجَاهُ فَصَارَ بِحَيْثُ يَقْرِنُ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ بِالصَّلَاةِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَصَارَ مَعْرُوفًا بِشَيْخِ الْمُرْسَلِينَ بَعْدَ أَنْ كَانَ خَامِلًا، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [الْأَنْبِيَاءِ: 60] وَهَذَا الْكَلَامُ لَا يُقَالُ إِلَّا فِي مَجْهُولٍ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ يَعْنِي لَيْسَ لَهُ هَذَا فِي الدُّنْيَا فَحَسْبُ كَمَا يَكُونُ لِمَنْ قَدَّمَ لَهُ ثَوَابَ حَسَنَاتِهِ أَوْ أَمْلَى لَهُ اسْتِدْرَاجًا لِيُكْثِرَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ بَلْ هَذَا لَهُ عُجَالَةٌ وَلَهُ فِي الْآخِرَةِ ثَوَابُ الدَّلَالَةِ وَالرِّسَالَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّ كَوْنَ الْعَبْدِ صَالِحًا أَعْلَى مَرَاتِبِهِ، لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ الصَّالِحَ هُوَ الْبَاقِي عَلَى مَا يَنْبَغِي، يُقَالُ الطَّعَامُ بَعْدُ صَالِحٌ، أَيْ هُوَ بَاقٍ عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَمَنْ بَقِيَ عَلَى مَا يَنْبَغِي لَا يَكُونُ فِي عَذَابٍ، وَيَكُونُ لَهُ كُلُّ مَا يُرِيدُ من حسن ثواب وفي الآية مسألتان: إحداهما: أَنَّ إِسْمَاعِيلَ كَانَ مِنْ أَوْلَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ لِأَمْرِ اللَّهِ بِالذَّبْحِ وَانْقَادَ/ لِحُكْمِ اللَّهِ، فَلِمَ لَمْ يُذْكَرْ؟ فَيُقَالُ هُوَ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَلَكِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِاسْمِهِ لِأَنَّهُ كَانَ غَرَضُهُ تَبْيِينَ فَضْلِهِ عَلَيْهِ بِهِبَةِ الْأَوْلَادِ وَالْأَحْفَادِ، فَذَكَرَ مِنَ الْأَوْلَادِ وَاحِدًا وَهُوَ الْأَكْبَرُ، وَمِنَ الْأَحْفَادِ وَاحِدًا وَهُوَ الْأَظْهَرُ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ إِنَّ السُّلْطَانَ فِي خِدْمَتِهِ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ الْمَلِكُ الْفُلَانِيُّ وَالْأَمِيرُ الْفُلَانِيُّ وَلَا يُعَدِّدُ [الْكُلَّ] لِأَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ الْوَاحِدِ لِبَيَانِ الْجِنْسِ لَا لِخُصُوصِيَّتِهِ وَلَوْ ذَكَرَ غَيْرَهُ لَفُهِمَ مِنْهُ التَّعْدِيدُ وَاسْتِيعَابُ الْكُلِّ بِالذِّكْرِ، فَيُظَنُّ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُ الْمَذْكُورِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ إِجَابَةً لِدُعَائِهِ وَالْوَالِدُ يَسْتَحِبُّ مِنْهُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ وَلَدَيْهِ، فَكَيْفَ صَارَتِ النُّبُوَّةُ فِي أَوْلَادِ إِسْحَاقَ أَكْثَرَ مِنَ النُّبُوَّةِ فِي أَوْلَادِ إِسْمَاعِيلَ؟ فَنَقُولُ: اللَّهُ تَعَالَى قَسَمَ الزَّمَانَ مِنْ وَقْتِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى الْقِيَامَةِ قِسْمَيْنِ وَالنَّاسَ أَجْمَعِينَ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنَ الزَّمَانِ بَعَثَ اللَّهُ فِيهِ أَنْبِيَاءَ فِيهِمْ فَضَائِلُ جَمَّةٌ وَجَاءُوا تَتْرَى وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَمُجْتَمِعِينَ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ كُلُّهُمْ مِنْ وَرَثَةِ إِسْحَاقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنَ الزَّمَانِ أَخْرَجَ مِنْ ذُرِّيَّةِ وَلَدِهِ الْآخَرِ وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ وَاحِدًا جَمَعَ فِيهِ مَا كَانَ فِيهِمْ وَأَرْسَلَهُ إِلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ وهو

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 إلى 30]

محمد صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَجَعَلَهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَقَدْ دَامَ الْخَلْقُ عَلَى دِينِ أَوْلَادِ إِسْحَاقَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَبْقَى الْخَلْقُ عَلَى دِينِ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ مِثْلَ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 30] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) الْإِعْرَابُ فِي لُوطٍ، وَالتَّفْسِيرُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي قوله: وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ [العنكبوت: 16] وهاهنا مسائل: الْأُولَى: قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَقَالَ عن لوط هاهنا أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ فَنَقُولُ لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ لُوطًا عِنْدَ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ لُوطٌ فِي زَمَانِ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَذْكُرْ عَنْ لوط أنه أمر قدمه بِالتَّوْحِيدِ مَعَ أَنَّ الرَّسُولَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ فَنَقُولُ حِكَايَةُ لُوطٍ وَغَيْرُهَا/ هاهنا ذَكَرَهَا اللَّهُ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ، فَاقْتَصَرَ عَلَى مَا اخْتَصَّ بِهِ لُوطٌ وَهُوَ الْمَنْعُ مِنَ الْفَاحِشَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ الْأَمْرَ بِالتَّوْحِيدِ وَإِنْ كَانَ قَالَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 59] لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَدْ أَتَى بِهِ إِبْرَاهِيمُ وَسَبَقَهُ فَصَارَ كَالْمُخْتَصِّ بِهِ وَلُوطٌ يُبَلِّغُ ذَلِكَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ. وَأَمَّا الْمَنْعُ مِنْ عَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ كَانَ مُخْتَصًّا بِلُوطٍ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ [فِي زَمَنِهِ] وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْهُ فَذَكَرَ كُلَّ وَاحِدٍ بِمَا اخْتَصَّ بِهِ وَسَبَقَ بِهِ غَيْرَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِمَ سَمَّى ذَلِكَ الْفِعْلَ فَاحِشَةً؟ فَنَقُولُ الْفَاحِشَةُ هُوَ الْقَبِيحُ الظَّاهِرُ قُبْحُهُ، ثُمَّ إِنَّ الشَّهْوَةَ وَالْغَضَبَ صِفَتَا قُبْحٍ لَوْلَا مَصْلَحَةٌ مَا كَانَ يَخْلُقُهُمَا اللَّهُ فِي الْإِنْسَانِ، فَمَصْلَحَةُ الشَّهْوَةِ الْفَرْجِيَّةِ هِيَ بَقَاءُ النَّوْعِ بِتَوْلِيدِ الشَّخْصِ، وَهَذِهِ الْمَصْلَحَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِوُجُودِ الْوَلَدِ وَبَقَائِهِ بَعْدَ الْأَبِ، فَإِنَّهُ لَوْ وُجِدَ وَمَاتَ قَبْلَ الْأَبِ كَانَ يَفْنَى النَّوْعُ بِفَنَاءِ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ، لَكِنَّ الزِّنَا قَضَاءُ شَهْوَةٍ وَلَا يُفْضِي إِلَى بَقَاءِ النَّوْعِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْبِنَاءَ بِالْوُجُودِ وَبَقَاءِ الْوَلَدِ بَعْدَ الْأَبِ لَكِنَّ الزِّنَا وَإِنْ كَانَ يُفْضِي إِلَى وُجُودِ الْوَلَدِ وَلَكِنْ لَا يُفْضِي إِلَى بَقَائِهِ، لِأَنَّ الْمِيَاهَ إِذَا اشْتَبَهَتْ لَا يَعْرِفُ الْوَالِدُ وَلَدَهُ فَلَا يَقُومُ بِتَرْبِيَتِهِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ فَيَضِيعُ وَيَهْلِكُ، فَلَا يَحْصُلُ مَصْلَحَةُ الْبَقَاءِ، فَإِذَنِ الزِّنَا شَهْوَةٌ قَبِيحَةٌ خَالِيَةٌ عَنِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا خُلِقَتْ، فَهُوَ قَبِيحٌ ظَاهِرٌ قُبْحُهُ حَيْثُ لَا تَسْتُرُهُ الْمَصْلَحَةُ فَهُوَ فَاحِشَةٌ، وَإِذَا كَانَ الزِّنَا فَاحِشَةً مَعَ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى وُجُودِ الْوَلَدِ وَلَكِنْ لَا يُفْضِي إِلَى بَقَائِهِ، فَاللِّوَاطَةُ الَّتِي لَا تُفْضِي إِلَى وُجُودِهِ أَوْلَى بِأَنْ تَكُونَ فَاحِشَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ فِي اللِّوَاطَةِ، لِأَنَّهَا مَعَ الزِّنَا اشْتَرَكَتْ فِي كَوْنِهِمَا فَاحِشَةً حَيْثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً [الْإِسْرَاءِ: 32] وَاشْتِرَاكُهُمَا فِي الْفَاحِشَةِ يُنَاسِبُ الزَّجْرَ عَنْهُ، فَمَا شَرَعَ زَاجِرًا هُنَاكَ يشرع زاجرا هاهنا، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا إِلَّا أَنَّ جَامِعَهُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْآيَةِ، وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ عَذَابَ مَنْ أَتَى بِهَا إِمْطَارَ الْحِجَارَةِ حَيْثُ أَمْطَرَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً عَاجِلًا، فَوَجَبَ أَنْ يُعَذَّبَ مَنْ أَتَى بِهِ بِأَمْطَارِ الْحِجَارَةِ بِهِ عَاجِلًا وَهُوَ الرَّجْمُ، وَقَوْلُهُ: مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ قبلهم لم

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 31 إلى 32]

يَأْتِ أَحَدٌ بِهَذَا الْقَبِيحِ وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَالثَّانِي: أَنَّ قَبْلَهُمْ رُبَّمَا أَتَى بِهِ وَاحِدٌ فِي النُّدْرَةِ لَكِنَّهُمْ بَالَغُوا فِيهِ، فَقَالَ لَهُمْ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ، كَمَا يُقَالُ إِنَّ فُلَانًا سَبَقَ الْبُخَلَاءَ فِي الْبُخْلِ، وَسَبَقَ اللِّئَامَ فِي اللُّؤْمِ إِذَا زَادَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ بَيَانًا لِمَا ذَكَرْنَا، يَعْنِي تَقْضُونَ الشَّهْوَةَ بِالرِّجَالِ مَعَ قَطْعِ السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ مَعَ النِّسَاءِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الَّتِي هِيَ بَقَاءُ النَّوْعِ، حَتَّى يُظْهِرَ أَنَّهُ قَبِيحٌ لَمْ يَسْتُرْ قُبْحَهُ مَصْلَحَةً، وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ [الْأَعْرَافِ: 81] يَعْنِي إِتْيَانُ النِّسَاءِ شَهْوَةٌ قَبِيحَةٌ مُسْتَتِرَةٌ بِالْمَصْلَحَةِ فَلَكُمْ دَافِعٌ لِحَاجَتِكُمْ لَا فَاحِشَةَ فِيهِ وَتَتْرُكُونَهُ وَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مَعَ الْفَاحِشَةِ وَقَوْلُهُ: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ يَعْنِي مَا كَفَاكُمْ قُبْحُ فِعْلِكُمْ حَتَّى تَضُمُّونَ إِلَيْهِ قُبْحَ الْإِظْهَارِ، وَقَوْلُهُ: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ فِي التَّفْسِيرِ، كَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ وَفِي الْآيَةِ مسائل: / الْأُولَى: قَالَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ [العنكبوت: 24] وَقَالَ قَوْمُ لُوطٍ ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ وَمَا هَدَّدُوهُ، مَعَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أَعْظَمَ مِنْ لُوطٍ، فَإِنَّ لُوطًا كَانَ مِنْ قَوْمِهِ، فَنَقُولُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَقْدَحُ فِي دِينِهِمْ وَيَشْتُمُ آلِهَتَهُمْ بِتَعْدِيدِ صِفَاتِ نَقْصِهِمْ بِقَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُ، وَلَا يُبْصِرُ، وَلَا يُغْنِي وَالْقَدْحُ فِي الدِّينِ صَعْبٌ، فَجَعَلُوا جَزَاءَهُ الْقَتْلَ وَالتَّحْرِيقَ، وَلُوطٌ كَانَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ فِعْلَهُمْ وَيَنْسُبُهُمْ إِلَى ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ وَهُمْ مَا كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ هَذَا وَاجِبٌ مِنَ الدِّينِ، فَلَمْ يَصْعُبْ عَلَيْهِمْ مِثْلَ مَا صَعُبَ عَلَى قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالُوا إِنَّكَ تَقُولُ إِنَّ هَذَا حَرَامٌ وَاللَّهُ يُعَذِّبُ عَلَيْهِ وَنَحْنُ نَقُولُ لَا يُعَذِّبُ، فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأْتِنَا بِالْعَذَابِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي مَوْضِعٍ أَخَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ [النمل: 56] وقال هاهنا فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا فَكَيْفَ الْجَمْعُ؟ فَنَقُولُ لُوطٌ كَانَ ثَابِتًا عَلَى الْإِرْشَادِ مُكَرِّرًا عَلَيْهِمُ التَّغْيِيرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعِيدَ، فَقَالُوا أَوَّلًا ائْتِنَا، ثُمَّ لَمَّا كَثُرَ مِنْهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَسْكُتْ عَنْهُمْ قَالُوا أَخْرِجُوا، ثُمَّ إِنَّ لُوطًا لَمَّا يَئِسَ مِنْهُمْ طَلَبَ النُّصْرَةَ مِنَ اللَّهِ وَذَكَّرَهُمْ بِمَا لَا يُحِبُّ اللَّهُ فقال رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ، حَتَّى يُنْجِزَ النَّصْرَ. وَاعْلَمْ أَنَّ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا طَلَبَ هَلَاكَ قَوْمٍ إِلَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّ عَدَمَهُمْ خَيْرٌ مِنْ وُجُودِهِمْ، كَمَا قَالَ نُوحٌ: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نُوحٍ: 27] يَعْنِي الْمَصْلَحَةُ إِمَّا فِيهِمْ حَالًا أَوْ بِسَبَبِهِمْ مَآلًا وَلَا مَصْلَحَةَ فِيهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَضِلُّونَ فِي الْحَالِ وَفِي الْمَآلِ فَإِنَّهُمْ يُوصُونَ الْأَوْلَادَ مِنْ صِغَرِهِمْ بِالِامْتِنَاعِ مِنَ الِاتِّبَاعِ، فَكَذَلِكَ لُوطٌ لَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِي الْحَالِ وَاشْتَغَلُوا بِمَا لَا يُرْجَى مَعَهُ مِنْهُمْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَعْبُدُ اللَّهَ، بَطَلَتِ الْمَصْلَحَةُ حَالًا وَمَآلًا، فعدمهم صار خيرا، فطلب العذاب. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 31 الى 32] وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) لَمَّا دَعَا لُوطٌ عَلَى قَوْمِهِ بِقَوْلِهِ: رَبِّ انْصُرْنِي اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، وَأَمَرَ مَلَائِكَتَهُ بِإِهْلَاكِهِمْ وَأَرْسَلَهُمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، فَجَاءُوا إِبْرَاهِيمَ وبشروه بذرية طيبة وقالوا: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ يَعْنِي أَهْلَ سَدُومَ،

وَفِي الْآيَةِ لَطِيفَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، / لَكِنَّ الْبِشَارَةَ أَثَرُ الرَّحْمَةِ وَالْإِنْذَارَ بِالْإِهْلَاكِ أَثَرُ الْغَضَبِ، وَرَحْمَتُهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، فَقَدَّمَ الْبِشَارَةَ عَلَى الْإِنْذَارِ. وَقَالَ: جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى ثم قال: إِنَّا مُهْلِكُوا الثَّانِيَةُ: حِينَ ذَكَرُوا الْبُشْرَى مَا عَلَّلُوا وَقَالُوا إِنَّا نُبَشِّرُكَ لِأَنَّكَ رَسُولٌ، أَوْ لِأَنَّكَ مُؤْمِنٌ أَوْ لِأَنَّكَ عَادِلٌ، وَحِينَ ذَكَرُوا الْإِهْلَاكَ عَلَّلُوا، وَقَالُوا: إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ لِأَنَّ ذَا الْفَضْلِ لَا يَكُونُ فَضْلُهُ بِعِوَضٍ، وَالْعَادِلُ لَا يَكُونُ عَذَابُهُ إِلَّا عَلَى جُرْمٍ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: لَوْ قَالَ قَائِلٌ أَيُّ تَعَلُّقٍ لِهَذِهِ الْبُشْرَى بِهَذَا الْإِنْذَارِ، نَقُولُ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِهْلَاكَ قَوْمٍ وَكَانَ فِيهِ إِخْلَاءُ الْأَرْضِ عَنِ الْعِبَادِ قَدَّمَ عَلَى ذَلِكَ إِعْلَامَ إِبْرَاهِيمَ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَمْلَأُ الْأَرْضَ مِنَ الْعِبَادِ الصَّالِحِينَ حَتَّى لَا يَتَأَسَّفَ عَلَى إِهْلَاكِ قَوْمٍ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ. وَالثَّانِيَةُ: قَالَ فِي قَوْمِ نُوحٍ فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ [العنكبوت: 14] وَقَدْ قُلْتُ إِنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ كانوا على ظلمهم حين أخذهم، ولو يقل فأخذهم وكانوا ظالمين، وهاهنا قَالَ: إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ وَلَمْ يَقُلْ وَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ، فَنَقُولُ لَا فَرْقَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي كَوْنِهِمْ مُهْلَكِينَ وَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى الظُّلْمِ، لَكِنْ هُنَاكَ الْإِخْبَارُ مِنَ اللَّهِ وَعَنِ الْمَاضِي حَيْثُ قَالَ: فَأَخَذَهُمُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ، فَقَالَ أَخَذَهُمْ وهم عند الوقوع في العذاب ظالمون، وهاهنا الْإِخْبَارُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَعَنِ الْمُسْتَقْبَلِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّا مُهْلِكُوا فَالْمَلَائِكَةُ ذَكَرُوا مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي إِبَانَةِ حُسْنِ الْأَمْرِ مِنَ اللَّهِ بِالْإِهْلَاكِ، فَقَالُوا: إِنَّا مُهْلِكُوهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا، وَحَالَ مَا أَمَرَنَا بِهِ كَانُوا ظَالِمِينَ، فَحَسُنَ أَمْرُ اللَّهِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَا نُخْبِرُ بِمَا لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ عَنِ الْمَلِكِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ سُوءُ أَدَبٍ، فَنَحْنُ مَا احْتَجْنَا إِلَّا إِلَى هَذَا الْقَدْرِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ حَيْثُ أَمَرَنَا اللَّهُ بِإِهْلَاكِهِمْ بَيَانًا لِحُسْنِ الْأَمْرِ، وَأَمَّا أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ فِي وَقْتِنَا هَذَا أَوْ يَبْقَوْنَ كَذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ لَنَا إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُمْ قَالَ لَهُمْ إِنَّ فِيهَا لُوطًا إِشْفَاقًا عَلَيْهِ لِيُعْلَمَ حَالُهُ، أَوْ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا قَالُوا: إِنَّا مُهْلِكُوا وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُهْلِكُ قَوْمًا وَفِيهِمْ رَسُولُهُ، فَقَالَ تَعَجُّبًا إِنَّ فِيهِمْ لُوطًا فَكَيْفَ يُهْلَكُونَ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ نَحْنُ أَعْلَمُ بمن فيها، يعني تعلم أَنَّ فِيهِمْ لُوطًا فَلَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ وَنُهْلِكُ الْبَاقِينَ، وهاهنا لَطِيفَةٌ: وَهُوَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ كَانُوا أَهْلَ الْخَيْرِ، أَعْنِي إِبْرَاهِيمَ وَالْمَلَائِكَةَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ كَانَ يَزِيدُ عَلَى صَاحِبِهِ فِي كَوْنِهِ خَيْرًا. أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فلما سمع قوله الملائكة إِنَّا مُهْلِكُوا أَظْهَرَ الْإِشْفَاقَ عَلَى لُوطٍ وَنَسِيَ نَفْسَهُ وَمَا بَشَّرُوهُ وَلَمْ يُظْهِرْ بِهَا فَرَحًا، وَقَالَ: إِنَّ فِيها لُوطاً [العنكبوت: 32] ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ مِنْهُ زَادُوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا إِنَّكَ ذَكَرْتَ لُوطًا وَحْدَهُ وَنَحْنُ نُنْجِيهِ وَنُنْجِي مَعَهُ أَهْلَهُ، ثُمَّ اسْتَثْنَوْا من الأهل امرأته، وقالوا: إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أَيْ مِنَ الْمُهْلَكِينَ، وَفِي اسْتِعْمَالِ الْغَابِرِ فِي الْمُهْلَكِ وَجْهَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَابِرَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ فِي الْمَاضِي، وَفِي الْبَاقِي يُقَالُ فِيمَا غَبَرَ مِنَ الزَّمَانِ أَيْ فِيمَا مَضَى وَيُقَالُ الْفِعْلُ مَاضٍ وَغَابِرٌ أَيْ بَاقٍ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ نَقُولُ إِنَّ ذِكْرَ الظَّالِمِينَ سبق في قولهم: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ ثُمَّ جَرَى ذِكْرُ لُوطٍ بِتَذْكِيرِ إِبْرَاهِيمَ وَجَوَابِ الْمَلَائِكَةِ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ إِنَّهَا/ مِنَ الْغَابِرِينَ أَيِ الْمَاضِي ذِكْرُهُمْ لَا مِنَ الَّذِينَ نُنْجِي مِنْهُمْ، أَوْ نَقُولُ الْمُهْلَكُ يَفْنَى وَيَمْضِي زَمَانُهُ وَالنَّاجِي هُوَ الْبَاقِي فَقَالُوا إِنَّهَا مِنَ الْغَابِرِينَ أَيْ مِنَ الرَّائِحِينَ الْمَاضِينَ لَا مِنَ الْبَاقِينَ الْمُسْتَمِرِّينَ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَنَقُولُ لَمَّا قَضَى اللَّهُ عَلَى الْقَوْمِ بِالْإِهْلَاكِ كَانَ الْكُلُّ فِي الْهَلَاكِ إِلَّا مَنْ نُنْجِي مِنْهُ فَقَالُوا إِنَّا نُنْجِي لُوطًا وَأَهْلَهُ، وَأَمَّا امْرَأَتُهُ فَهِيَ مِنَ الباقين في الهلاك. ثم قال تعالى:

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 33 إلى 35]

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 33 الى 35] وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) [في قوله تعالى وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً إلى قوله بِما كانُوا يَفْسُقُونَ] ثُمَّ إِنَّهُمْ جَاءُوا مِنْ عِنْدِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى لُوطٍ عَلَى صُورَةِ الْبَشَرِ فَظَنَّهُمْ بَشَرًا فَخَافَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى أَحْسَنِ صُورَةٍ خَلَقَ اللَّهُ وَالْقَوْمُ كَمَا عُرِفَ حَالُهُمْ فَسِيءَ بِهِمْ أَيْ جَاءَهُ مَا سَاءَهُ وَخَافَ ثُمَّ عَجَزَ عَنْ تَدْبِيرِهِمْ فَحَزِنَ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا كِنَايَةً عَنِ الْعَجْزِ فِي تَدْبِيرِهِمْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يُقَالُ طَالَ ذَرْعُهُ وَذِرَاعُهُ لِلْقَادِرِ وَضَاقَ لِلْعَاجِزِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ طَالَ ذِرَاعُهُ يَصِلُ إِلَى مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ قَصِيرُ الذِّرَاعِ وَالِاسْتِعْمَالُ يَحْتَمِلُ وَجْهًا مَعْقُولًا غَيْرَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ يُوجِبَانِ انْقِبَاضَ الرُّوحِ وَيَتْبَعُهُ اشْتِمَالُ الْقَلْبِ عَلَيْهِ فَيَنْقَبِضُ هُوَ أَيْضًا وَالْقَلْبُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ مِنَ الْإِنْسَانِ، فَكَأَنَّ الْإِنْسَانَ انْقَبَضَ وَانْجَمَعَ وَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ يَقِلُّ ذَرْعُهُ وَمِسَاحَتُهُ فَيَضِيقُ، وَيُقَالُ فِي الْحَزِينِ ضَاقَ ذَرْعُهُ وَالْغَضَبُ وَالْفَرَحُ يُوجِبَانِ انْبِسَاطَ الرُّوحِ فَيَنْبَسِطُ مَكَانَهُ وَهُوَ الْقَلْبُ وَيَتَّسِعُ فَيُقَالُ اتَّسَعَ ذَرْعُهَ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا رَأَوْا خَوْفَهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَحُزْنَهُ بِسَبَبِ تَدْبِيرِهِمْ فِي ثَانِي الْأَمْرِ قَالُوا لَا تَخَفْ عَلَيْنَا وَلَا تَحْزَنْ بِسَبَبِ التَّفَكُّرِ فِي أَمْرِنَا ثُمَّ ذَكَرُوا مَا يُوجِبُ زَوَالَ خَوْفِهِ وَحُزْنِهِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِ الْقَائِلِ لَا تَخَفْ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْخَوْفِ فَقَالُوا مُعَرِّضِينَ بِحَالِهِمْ: إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ وَإِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ فَيَطُولُ ذَرْعُهُ وَيَزُولُ رَوْعُهُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مِنْ قَبْلُ: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ [العنكبوت: 31] وقال هاهنا: وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ فَنَقُولُ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْوَاقِعَ فِي وقت المجيء هناك قول/ الملائكة إِنَّا مُهْلِكُوا وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا بِمَجِيئِهِمْ لِأَنَّهُمْ بَشَّرُوا أَوَّلًا وَلَبِثُوا، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّا مُهْلِكُوا وَأَيْضًا فَالتَّأَنِّي وَاللُّبْثُ بَعْدَ الْمَجِيءِ ثُمَّ الْإِخْبَارُ بِالْإِهْلَاكِ حَسَنٌ فَإِنَّ مَنْ جَاءَ وَمَعَهُ خَبَرٌ هَائِلٌ يحسن منه أن لا يفاجئ به، والواقع هاهنا هُوَ خَوْفُ لُوطٍ عَلَيْهِمْ، وَالْمُؤْمِنُ حِينَ مَا يَشْعُرُ بِمَضَرَّةٍ تَصِلُ بَرِيئًا مِنَ الْجِنَايَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَحْزَنَ وَيَخَافَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ، إذا علم هذا فقوله هاهنا: وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا يُفِيدُ الِاتِّصَالَ يَعْنِي خَافَ حِينَ الْمَجِيءِ، فَإِنْ قُلْتَ هَذَا بَاطِلٌ بِمَا أَنَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ جَاءَتْ فِي سُورَةِ هُودٍ [77] ، وَقَالَ: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً مِنْ غَيْرِ أَنْ، فَنَقُولُ هُنَاكَ جَاءَتْ حِكَايَةُ إِبْرَاهِيمَ بِصِيغَةٍ أُخْرَى حَيْثُ قَالَ هُنَاكَ: وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى [هود: 69] فَقَوْلُهُ هُنَالِكَ: وَلَقَدْ جاءَتْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ: إِنَّا أُرْسِلْنا كَانَ فِي وَقْتِ الْمَجِيءِ. وَقَوْلُهُ: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ حُزْنَهُ كَانَ وَقْتَ الْمَجِيءِ. إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ: هُنَاكَ قَدْ حَصَلَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَقْصُودِ بِقَوْلِهِ فِي حِكَايَةِ إِبْرَاهِيمَ: وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى ثُمَّ جَرَى أُمُورٌ مِنَ الْكَلَامِ وَتَقْدِيمِ الطَّعَامِ، ثُمَّ قَالُوا: لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ [هود: 70] فَحَصَلَ تَأْخِيرُ الْإِنْذَارِ، وَبِقَوْلِهِ فِي حِكَايَةِ لُوطٍ وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا حَصَلَ بَيَانُ تَعْجِيلِ الْحُزْنِ، وَأَمَّا هُنَا لَمَّا قَالَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَلَمَّا جاءَتْ قَالَ فِي حِكَايَةِ لُوطٍ وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَائِدَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ هُنَا إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ وَقَالَ لإبراهيم لَنُنَجِّيَنَّهُ [العنكبوت: 32] بِصِيغَةِ الْفِعْلِ فَهَلْ فِيهِ

فَائِدَةٌ؟ قُلْنَا مَا مِنْ حَرْفٍ وَلَا حَرَكَةٍ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا وَفِيهِ فَائِدَةٌ، ثُمَّ إِنَّ الْعُقُولَ الْبَشَرِيَّةَ تُدْرِكُ بَعْضَهَا وَلَا تَصِلُ إِلَى أَكْثَرِهَا، وَمَا أُوتِيَ الْبَشَرُ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِعَقْلِ الضَّعِيفِ أَنَّ هُنَاكَ لَمَّا قَالَ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ فِيها لُوطاً وعدوه بالتنجية ووعد الكريم حتم، وهاهنا لَمَّا قَالُوا لِلُوطٍ وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ سَبْقِ الْوَعْدِ مَرَّةً أُخْرَى قَالُوا: إِنَّا مُنَجُّوكَ أَيْ ذَلِكَ وَاقِعٌ مِنَّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ مَيِّتٌ [الزُّمَرِ: 30] لِضَرُورَةِ وُقُوعِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُمْ: لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ لَا يُنَاسِبُهُ إِنَّا مُنَجُّوكَ لِأَنَّ خَوْفَهُ مَا كَانَ عَلَى نَفْسِهِ، نَقُولُ بَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَهِيَ أَنَّ لُوطًا لَمَّا خَافَ عَلَيْهِمْ وَحَزِنَ لِأَجْلِهِمْ قَالُوا لَهُ لَا تَخَفْ عَلَيْنَا وَلَا تَحْزَنْ لِأَجْلِنَا فَإِنَّا مَلَائِكَةٌ، ثُمَّ قَالُوا لَهُ: يَا لُوطُ خِفْتَ عَلَيْنَا وَحَزِنْتَ لِأَجْلِنَا، فَفِي مُقَابَلَةِ خَوْفِكَ وَقْتَ الْخَوْفِ نُزِيلُ خَوْفَكَ وَنُنْجِيكَ، وَفِي مُقَابَلَةِ حُزْنِكَ نُزِيلُ حُزْنَكَ وَلَا نَتْرُكُكَ تُفْجَعُ فِي أَهْلِكَ فَقَالُوا: إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْقَوْمُ عُذِّبُوا بِسَبَبِ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنَ الْفَاحِشَةِ وَامْرَأَتُهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهَا تِلْكَ فَكَيْفَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ مَعَهُمْ؟ فَنَقُولُ الدَّالُّ عَلَى الشَّرِّ لَهُ نَصِيبٌ كَفَاعِلِ الشَّرِّ، كَمَا أَنَّ الدَّالَّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ وَهِيَ كَانَتْ تَدُلُّ الْقَوْمَ عَلَى ضُيُوفِ لُوطٍ حَتَّى كَانُوا يَقْصِدُونَهُمْ، فَبِالدَّلَالَةِ صَارَتْ وَاحِدَةً مِنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ بِشَارَةِ لُوطٍ بِالتَّنْجِيَةِ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الْعَذَابَ فَقَالُوا: إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ حِجَارَةٌ/ وَقِيلَ نَارٌ وَقِيلَ خَسْفٌ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُونُ عَيَّنَهُ مِنَ السَّمَاءِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْخَسْفِ مِنَ السَّمَاءِ أَوِ الْقَضَاءُ بِهِ مِنَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الْمَلَائِكَةِ مَعَ لُوطٍ جَرَى عَلَى نَمَطِ كَلَامِهِمْ مَعَ إِبْرَاهِيمَ قَدَّمُوا الْبِشَارَةَ عَلَى الْإِنْذَارِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّا مُنَجُّوكَ ثُمَّ قَالُوا: إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ وَلَمْ يُعَلِّلُوا التَّنْجِيَةَ، فَمَا قَالُوا إِنَّا مُنَجُّوكَ لِأَنَّكَ نَبِيٌّ أَوْ عَابِدٌ، وَعَلَّلُوا الْإِهْلَاكَ بِقَوْلِهِمْ: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وَقَالُوا بِما كانُوا كَمَا قَالُوا هُنَاكَ: إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ [العنكبوت: 31] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أَيْ مِنَ الْقَرْيَةِ فَإِنَّ الْقَرْيَةَ مَعْلُومَةٌ وَفِيهَا الْمَاءُ الْأَسْوَدُ وَهِيَ بَيْنَ الْقُدْسِ وَالْكَرْكِ وَفِيهَا مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: جَعَلَ اللَّهُ الْآيَةَ فِي نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ بِالنَّجَاةِ حَيْثُ قَالَ: فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً [الْعَنْكَبُوتِ: 15] وَقَالَ: فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ [العنكبوت: 24] وجعل هاهنا الْهَلَاكَ آيَةً فَهَلْ عِنْدَكَ فِيهِ شَيْءٌ؟ نَقُولُ نَعَمْ، أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَلِأَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ فِي النَّجَاةِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ إِهْلَاكٌ، وَأَمَّا فِي نُوحٍ فَلِأَنَّ الْإِنْجَاءَ مِنَ الطُّوفَانِ الَّذِي عَلَا الْجِبَالَ بِأَسْرِهَا أَمْرٌ عَجِيبٌ إِلَهِيٌّ، وَمَا بِهِ النَّجَاةُ وَهُوَ السَّفِينَةُ كَانَ بَاقِيًا، وَالْغَرَقُ لَمْ يَبْقَ لِمَنْ بَعْدَهُ أَثَرُهُ فجعل الباقي آية، وأما هاهنا فَنَجَاةُ لُوطٍ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرٍ يَبْقَى أَثَرُهُ لِلْحِسِّ وَالْهَلَاكُ أَثَرُهُ مَحْسُوسٌ فِي الْبِلَادِ فَجَعَلَ الآية الأمر الباقي وهو هاهنا البلاد وهناك السفينة وهاهنا لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى آيَةُ قُدْرَتِهِ مَوْجُودَةٌ فِي الْإِنْجَاءِ وَالْإِهْلَاكِ فَذَكَرَ مِنْ كُلِّ بَابٍ آيَةً وَقَدَّمَ آيَاتِ الْإِنْجَاءِ لِأَنَّهَا أَثَرُ الرَّحْمَةِ وَأَخَّرَ آيَاتِ الْإِهْلَاكِ لِأَنَّهَا أَثَرُ الْغَضَبِ وَرَحْمَتُهُ سَابِقَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ فِي السَّفِينَةِ: وَجَعَلْناها آيَةً ولم يقل بينة وقال هاهنا آيَةً بَيِّنَةً نَقُولُ لِأَنَّ الْإِنْجَاءَ بِالسَّفِينَةِ أَمْرٌ يَتَّسِعُ لَهُ كُلُّ عَقْلٍ وَقَدْ يَقَعُ فِي وَهْمِ جَاهِلٍ أَنَّ الْإِنْجَاءَ بِالسَّفِينَةِ لَا يَفْتَقِرُ إلى أمر آخر، وأما الآية هاهنا الخسف وجعل ديار معمورة عاليها وسافلها وَهُوَ لَيْسَ بِمُعْتَادٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِإِرَادَةِ قَادِرٍ يُخَصِّصُهُ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ وَفِي زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، فَهِيَ بَيِّنَةٌ لَا يُمْكِنُ لِجَاهِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا أَمْرٌ يَكُونُ كَذَلِكَ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَقُولَ فِي السَّفِينَةِ

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 إلى 37]

النَّجَاةُ بِهَا أَمْرٌ يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ يُقَالَ لَهُ فَمِنْ أَيْنَ عَلِمَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا وَلَوْ دَامَ الْمَاءُ حَتَّى يَنْفَدَ زَادُهُمْ كَيْفَ كَانَ يَحْصُلُ لَهُمُ النَّجَاةُ؟ وَلَوْ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَاصِفَةَ كَيْفَ يَكُونُ أَحْوَالُهُمْ؟. المسألة الثالثة: قال هناك لِلْعالَمِينَ وقال هاهنا: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ قُلْنَا لِأَنَّ السَّفِينَةَ مَوْجُودَةٌ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْعَالَمِ فَعِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ مِثَالٌ لِسَفِينَةِ نُوحٍ يَتَذَكَّرُونَ بِهَا حَالَهُ، وَإِذَا رَكِبُوهَا يَطْلُبُونَ مِنَ اللَّهِ النَّجَاةَ وَلَا يَثِقُ أَحَدٌ بِمُجَرَّدِ السَّفِينَةِ، بَلْ يَكُونُ دَائِمًا مُرْتَجِفَ الْقَلْبِ مُتَضَرِّعًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى طَلَبًا لِلنَّجَاةِ، وَأَمَّا أَثَرُ الْهَلَاكِ فِي بِلَادِ لُوطٍ فَفِي مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ يَمُرُّ بِهَا وَيَصِلُ إِلَيْهَا وَيَكُونُ لَهُ عَقْلٌ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ الْمُرِيدِ، بِسَبَبِ اخْتِصَاصِهِ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ وَوُجُودِهِ فِي زَمَانٍ بَعْدَ زمان. / ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 37] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) [في قوله تعالى وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ] لَمَّا أَتَمَّ الْحِكَايَةَ الثَّانِيَةَ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ لِفَائِدَةِ الِاعْتِبَارِ شَرَعَ فِي الثَّالِثَةِ وَقَالَ: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَدْيَنَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ فِي الْأَصْلِ وَحَصَلَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ فَاشْتُهِرَ فِي الْقَبِيلَةِ كَتَمِيمٍ وَقَيْسٍ وَغَيْرِهِمَا، وَقَالَ بَعْضُهُمُ اسْمُ مَاءٍ نُسِبَ الْقَوْمُ إِلَيْهِ، وَاشْتُهِرَ فِي الْقَوْمِ، وَالْأَوَّلُ كَأَنَّهُ أَصَحُّ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَضَافَ الْمَاءَ إِلَى مَدْيَنَ حَيْثُ قَالَ: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ [الْقَصَصِ: 23] وَلَوْ كَانَ اسْمًا لِلْمَاءِ لَكَانَتِ الْإِضَافَةُ غَيْرَ صَحِيحَةٍ أَوْ غَيْرَ حَقِيقَةٍ وَالْأَصْلُ فِي الْإِضَافَةِ التَّغَايُرُ حَقِيقَةً، وَقَوْلُهُ: أَخاهُمْ قِيلَ لِأَنَّ شُعَيْبًا كَانَ مِنْهُمْ نَسَبًا، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نُوحٍ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [العنكبوت: 14] قَدَّمَ نُوحًا فِي الذِّكْرِ وَعَرَّفَ الْقَوْمَ بِالْإِضَافَةِ إليه وكذلك في إبراهيم ولوط، وهاهنا ذَكَرَ الْقَوْمَ أَوَّلًا وَأَضَافَ إِلَيْهِمْ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا، فَنَقُولُ الْأَصْلُ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ أَنْ يَذْكُرَ الْقَوْمَ ثُمَّ يَذْكُرَ رَسُولَهُمْ لِأَنَّ الْمُرْسِلَ لَا يَبْعَثُ رَسُولًا إِلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ قَوْمٌ أَوْ شَخْصٌ يَحْتَاجُونَ إِلَى إِنْبَاءٍ مِنَ الْمُرْسِلِ فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ مَنْ يَخْتَارُهُ غَيْرَ أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ اسْمٌ خَاصٌّ وَلَا نِسْبَةٌ مَخْصُوصَةٌ يُعْرَفُونَ بِهَا، فَعُرِفُوا بِالنَّبِيِّ فَقِيلَ قَوْمُ نُوحٍ وَقَوْمُ لُوطٍ، وَأَمَّا قَوْمُ شُعَيْبٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ فَكَانَ لَهُمْ نَسَبٌ مَعْلُومٌ اشْتُهِرُوا بِهِ عِنْدَ النَّاسِ فَجَرَى الْكَلَامُ عَلَى أَصْلِهِ وَقَالَ اللَّهُ: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً وَقَالَ: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [الْأَعْرَافِ: 65] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمْ يَذْكُرْ عَنْ لُوطٍ أَنَّهُ أَمَرَ قَوْمَهُ بِالْعِبَادَةِ وَالتَّوْحِيدِ، وَذَكَرَ عَنْ شُعَيْبٍ ذَلِكَ؟ قُلْنَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لُوطًا كَانَ لَهُ قَوْمٌ وَهُوَ كَانَ مِنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَفِي زَمَانِهِ، وَإِبْرَاهِيمُ سَبَقَهُ بِذَلِكَ وَاجْتَهَدَ فِيهِ حَتَّى اشْتُهِرَ الْأَمْرُ بِالتَّوْحِيدِ عِنْدَ الْخَلْقِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ فَلَمْ يَذْكُرْهُ عَنْ لُوطٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَ مِنْهُ مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنَ الْمَنْعِ عَنِ الْفَاحِشَةِ وَغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ هُوَ أَيْضًا يَأْمُرُ بِالتَّوْحِيدِ، إِذْ مَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا وَيَكُونُ أَكْثَرُ كَلَامِهِ فِي التَّوْحِيدِ، وَأَمَّا شُعَيْبٌ فَكَانَ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْقَوْمِ فَكَانَ هُوَ أَصْلًا أَيْضًا فِي التَّوْحِيدِ فَبَدَأَ بِهِ وَقَالَ: اعْبُدُوا اللَّهَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْإِيمَانُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ، وَالْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ لَا يُفِيدُهُ لِأَنَّ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ/ وَيَعْبُدُ غَيْرَهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ فَكَيْفَ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ؟ فَنَقُولُ: هَذَا الْأَمْرُ يُفِيدُ التَّوْحِيدَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَرَى غيره يخدم

زَيْدًا وَعَمْرٌو هُنَاكَ وَهُوَ أَكْبَرُ أَوْ هُوَ سَيِّدُ زَيْدٍ، فَإِذَا قَالَ لَهُ اخْدِمْ عَمْرًا يَفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يَأْمُرُهُ بِصَرْفِ الْخِدْمَةِ إِلَيْهِ، وَكَذَا إِذَا كَانَ لِوَاحِدٍ دِينَارٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَهُ زَيْدًا، فَإِذَا قِيلَ لَهُ أَعْطِهِ عَمْرًا يَفْهَمُ مِنْهُ لَا تُعْطِهِ زَيْدًا، فَنَقُولُ هُمْ كَانُوا مُشْتَغِلِينَ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَالِكُ ذَلِكَ الْغَيْرِ فَقَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ: اعْبُدُوا اللَّهَ فَفَهِمُوا مِنْهُ تَرْكَ عِبَادَةِ غَيْرِهِ أَوْ نَقُولُ لِكُلِّ وَاحِدٍ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ وَيُرِيدُ وَضْعَهَا فِي عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ضَعُوهَا فِي مَوْضِعِهَا وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ فَفُهِمَ مِنْهُ التَّوْحِيدُ، ثُمَّ قَالَ: وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ افْعَلُوا مَا تَرْجُونَ بِهِ الْعَاقِبَةَ إِذْ قَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ كُنْ عَاقِلًا، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ افْعَلْ فِعْلَ مَنْ يَكُونُ عَاقِلًا، وَقَوْلُهُ: وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا، فَإِنَّ عِنْدَنَا مَنْ عَبَدَ اللَّهَ طُولَ عُمُرِهِ يُثِيبُهُ اللَّهُ تَفَضُّلًا وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَابِدَ قَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ مَا لَوْ زَادَ عَلَى مَا أَتَى بِهِ لَمَا خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الشُّكْرِ، وَمَنْ شَكَرَ الْمُنْعِمَ عَلَى نِعَمٍ سَبَقَتْ لَا يَلْزَمُ الْمُنْعِمُ أَنْ يَزِيدَهُ، وَإِنْ زَادَهُ يَكُونُ إِحْسَانًا مِنْهُ إِلَيْهِ وَإِنْعَامًا عَلَيْهِ، فَنَقُولُ قَوْلُهُ: وَارْجُوا الْيَوْمَ بَعْدَ قَوْلِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ يَدُلُّ عَلَى التَّفَضُّلِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ فَإِنَّ الْفَضْلَ يُرْجَى وَالْوَاجِبُ مِنَ الْعَادِلِ يَقْطَعُ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ: وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَمْ يَقُلْ وَخَافُوهُ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مُخَوِّفٌ عِنْدَ الْكُلِّ وَغَيْرُ مَرْجُوٍّ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، لِفِسْقِهِ وَفُجُورِهِ وَمَحَبَّتِهِ الدُّنْيَا وَلَا يَرْجُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ عِبَادِهِ، فَنَقُولُ لَمَّا ذَكَرَ التَّوْحِيدَ بِطَرِيقِ الْإِثْبَاتِ وَقَالَ: اعْبُدُوا وَلَمْ يَذْكُرْهُ بِطَرِيقِ النَّفْيِ وَمَا قَالَ وَلَا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ قَالَ بِلَفْظِ الرَّجَاءِ لِأَنَّ عِبَادَةَ اللَّهِ يُرْجَى مِنْهَا الْخَيْرُ فِي الدَّارَيْنِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ حَكَى فِي حِكَايَةِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّكُمُ اتَّخَذْتُمُ الْأَوْثَانَ مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَتَكْفُرُونَ بِهَا، وَقَالَ هَاهُنَا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ لَمْ يَرْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ، فَاقْتَصَرُوا عَلَى مَوَدَّةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَاعْمَلُوا لَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ نُصِبَ مُفْسِدِينَ عَلَى الْمَصْدَرِ كَمَا يُقَالُ قُمْ قَائِمًا أَيْ قِيَامًا وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ اجْلِسْ قُعُودًا لِأَنَّ الْعَيْثَ وَالْفَسَادَ بِمَعْنًى، وَجَمَعَ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ فِي قَوْلِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَقَوْلِهِ: وَلا تَعْثَوْا ثم إن قومه كذبوه بعد ما بَلَّغَ وَبَيَّنَ، فَحَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا حُكِيَ عَنْ شُعَيْبٍ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَالْأَمْرُ لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ قُمْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ لَهُ كَذَبْتَ، فَنَقُولُ كَانَ شُعَيْبٌ يَقُولُ اللَّهُ وَاحِدٌ فَاعْبُدُوهُ، وَالْحَشْرُ كَائِنٌ فَارْجُوهُ، وَالْفَسَادُ مُحَرَّمٌ فَلَا تَقْرَبُوهُ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِيهَا إِخْبَارَاتٌ فَكَذَّبُوهُ فِيمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ هَاهُنَا وَفِي الْأَعْرَافِ: [78] فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وقال في هود: [94] : وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ «1» وَالْحِكَايَةُ وَاحِدَةٌ، نَقُولُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الصَّيْحَةَ كَانَتْ سَبَبًا لِلرَّجْفَةِ، إِمَّا لِرَجْفَةِ الْأَرْضِ إِذْ قِيلَ إِنَّ جِبْرِيلَ صَاحَ فَتَزَلْزَلَتِ الْأَرْضُ مِنْ صَيْحَتِهِ، وَإِمَّا لِرَجْفَةِ الْأَفْئِدَةِ فَإِنَّ قُلُوبَهُمُ ارْتَجَفَتْ مِنْهَا، وَالْإِضَافَةُ إِلَى السَّبَبِ لَا تُنَافِي الْإِضَافَةَ إِلَى سَبَبِ السَّبَبِ، إِذْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ رَوِيَ فَقَوِيَ، وَأَنْ يُقَالَ شَرِبَ فَقَوِيَ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حَيْثُ قَالَ: فأخذتهم الصَّيْحَةُ قَالَ: فِي دِيارِهِمْ وَحَيْثُ قَالَ: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ

_ (1) في تفسير الرازي المطبوع: وقال في هود: (فأخذتهم الصيحة) وهي خطأ وما أثبتناه هو الصواب.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 38 إلى 39]

قَالَ: فِي دارِهِمْ فَنَقُولُ الْمُرَادُ مِنَ الدَّارِ هُوَ الدَّيَّارُ، وَالْإِضَافَةُ إِلَى الْجَمْعِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَأَنْ تَكُونَ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ إِذَا أُمِنَ الِالْتِبَاسُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ اللَّفْظُ لِلَطِيفَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الرَّجْفَةَ هَائِلَةٌ فِي نَفْسِهَا فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى مُهَوِّلٍ، وَأَمَّا الصَّيْحَةُ فَغَيْرُ هَائِلَةٍ فِي نَفْسِهَا لَكِنَّ تِلْكَ الصَّيْحَةَ لَمَّا كَانَتْ عَظِيمَةٌ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى مُعَظِّمٍ لِأَمْرِهَا، وَقِيلَ إِنَّ الصَّيْحَةَ كَانَتْ أَعَمَّ حَيْثُ عَمَّتِ الْأَرْضَ وَالْجَوَّ، وَالزَّلْزَلَةُ لَمْ تَكُنْ إِلَّا فِي الْأَرْضِ فَذَكَرَ الدِّيَارَ هُنَاكَ غَيْرَ أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الدَّارَ وَالدِّيَارَ مَوْضِعُ الْجُثُومِ لَا مَوْضِعُ الصَّيْحَةِ وَالرَّجْفَةِ، فَهُمْ مَا أصبحوا جاثمين إلا في ديارهم. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 38 الى 39] وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَعاداً وَثَمُودَ أَيْ وَأَهْلَكْنَا عَادًا وَثَمُودَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ دَلَّ عَلَى الْإِهْلَاكِ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ الْأَمْرُ وَمَا تَعْتَبِرُونَ مِنْهُ، ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ مَا جَرَى عَلَيْهِمْ فَقَالَ: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَقَوْلُهُ: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ يَعْنِي عِبَادَتَهُمْ لِغَيْرِ الله وفَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ يَعْنِي عِبَادَةَ اللَّهِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ يَعْنِي بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ يَعْنِي فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ عُذْرٌ فَإِنَّ الرُّسُلَ أَوْضَحُوا السُّبُلَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ عَطْفًا عَلَيْهِمْ أَيْ: وَأَهْلَكْنَا قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ كَمَا قَالَ فِي عَادٍ وَثَمُودَ: وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ أَيْ بِالرُّسُلِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَكْبَرُوا أَيْ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يُوَضِّحُ قِلَّةَ عَقْلِهِمْ فِي اسْتِكْبَارِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ فِي الْأَرْضِ أَضْعَفُ أَقْسَامِ الْمُكَلَّفِينَ، وَمَنْ فِي السَّمَاءِ أَقْوَاهُمْ، ثُمَّ إِنَّ مَنْ فِي السَّمَاءِ لَا يَسْتَكْبِرُ عَلَى اللَّهِ وَعَنْ عِبَادَتِهِ، فَكَيْفَ [يَسْتَكْبِرُ] مَنْ فِي الْأَرْضِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما كانُوا سابِقِينَ أَيْ مَا كَانُوا يَفُوتُونَ اللَّهَ لِأَنَّا بَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ [الْعَنْكَبُوتِ: 22] أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ أَقْطَارَ الْأَرْضِ فِي قَبْضَةِ قدرة الله. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 40] فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) ذَكَرَ اللَّهُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ الْعَذَابُ بِالْحَاصِبِ، وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ بِحِجَارَةٍ مُحْمَاةٍ يَقَعُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَيَنْفُذُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى النَّارِ وَالْعَذَابُ بِالصَّيْحَةِ وَهُوَ هَوَاءٌ مُتَمَوِّجٌ، فَإِنَّ الصَّوْتَ قِيلَ سَبَبُهُ تَمَوُّجُ الْهَوَاءِ وَوُصُولُهُ إِلَى الْغِشَاءِ الَّذِي عَلَى مَنْفَذِ الْأُذُنِ وَهُوَ الصِّمَاخُ فَيَقْرَعُهُ فَيُحِسُّ، وَالْعَذَابُ بِالْخَسْفِ وَهُوَ الْغَمْرُ في

[سورة العنكبوت (29) : آية 41]

التُّرَابِ، وَالْعَذَابُ بِالْإِغْرَاقِ وَهُوَ بِالْمَاءِ. فَحَصَلَ الْعَذَابُ بِالْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ وَالْإِنْسَانُ مُرَكَّبٌ مِنْهَا وَبِهَا قِوَامُهُ وَبِسَبَبِهَا بَقَاؤُهُ وَدَوَامُهُ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ هَلَاكَ الْإِنْسَانِ جَعَلَ مَا مِنْهُ وَجُودُهُ سَبَبًا لِعَدَمِهِ، وَمَا بِهِ بَقَاؤُهُ سَبَبًا لِفَنَائِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ يَعْنِي لَمْ يَظْلِمْهُمْ بِالْهَلَاكِ، وَإِنَّمَا هُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْإِشْرَاكِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَلْطَفُ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ مَا كَانَ يَظْلِمُهُمْ أَيْ مَا كَانَ يَضَعُهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِمْ فَإِنَّ مَوْضِعَهُمُ الْكَرَامَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الْإِسْرَاءِ: 70] لَكِنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ وَضَعُوهَا مَعَ شَرَفِهِمْ فِي عِبَادَةِ الْوَثَنِ مع خسته. [سورة العنكبوت (29) : آية 41] مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً. لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ أَشْرَكَ عَاجِلًا وَعَذَّبَ مَنْ كَذَّبَ آجِلًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُ فِي الدَّارَيْنِ مَعْبُودُهُ وَلَمْ يَدْفَعْ ذَلِكَ عَنْهُ رُكُوعُهُ وَسُجُودُهُ، مَثَّلَ اتِّخَاذَهُ ذَلِكَ مَعْبُودًا بِاتِّخَاذِ الْعَنْكَبُوتِ بَيْتًا لَا يُجِيرُ آوِيًا وَلَا يُرِيحُ ثَاوِيًا، وَفِي الْآيَةِ لَطَائِفُ نَذْكُرُهَا فِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِ هَذَا الْمَثَلِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَمْثَالِ؟ فَنَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ/ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْبَيْتَ يَنْبَغِي أَنْ يكون له أمور: حائط، وَسَقْفٌ مُظِلٌّ، وَبَابٌ يُغْلَقُ، وَأُمُورٌ يُنْتَفَعُ بِهَا وَيُرْتَفَقُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا حَائِطٌ حَائِلٌ يَمْنَعُ مِنَ الْبَرْدِ وَإِمَّا سَقْفٌ مُظِلٌّ يَدْفَعُ عَنْهُ الْحَرَّ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمَا شَيْءٌ فَهُوَ كَالْبَيْدَاءِ لَيْسَ بِبَيْتٍ لَكِنَّ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ لَا يُجِنُّهَا وَلَا يُكِنُّهَا وَكَذَلِكَ الْمَعْبُودُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْهُ الْخَلْقُ وَالرِّزْقُ وَجَرُّ الْمَنَافِعِ وَبِهِ دَفْعُ الْمَضَارِّ، فَإِنْ لَمْ تَجْتَمِعْ هَذِهِ الْأُمُورُ فَلَا أَقَلَّ مِنْ دَفْعِ ضُرٍّ أَوْ جَرِّ نَفْعٍ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَهُوَ وَالْمَعْدُومُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ، فَإِذَنْ كَمَا لَمْ يَحْصُلْ لِلْعَنْكَبُوتِ بِاتِّخَاذِ ذَلِكَ الْبَيْتِ مِنْ مَعَانِي الْبَيْتِ شَيْءٌ، كَذَلِكَ الْكَافِرُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِاتِّخَاذِ الْأَوْثَانِ أَوْلِيَاءَ مِنْ مَعَانِي الْأَوْلِيَاءِ شَيْءٌ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ أَقَلَّ دَرَجَاتِ الْبَيْتِ أَنْ يَكُونَ لِلظِّلِّ فَإِنَّ الْبَيْتَ مِنَ الْحَجَرِ يُفِيدُ الِاسْتِظْلَالَ وَيَدْفَعُ أَيْضًا الْهَوَاءَ وَالْمَاءَ وَالنَّارَ وَالتُّرَابَ، وَالْبَيْتُ مِنَ الْخَشَبِ يُفِيدُ الِاسْتِظْلَالَ وَيَدْفَعُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَلَا يَدْفَعُ الْهَوَاءَ الْقَوِيَّ وَلَا الْمَاءَ وَلَا النَّارَ، وَالْخِبَاءُ الَّذِي هُوَ بَيْتٌ مِنَ الشَّعْرِ أَوِ الْخَيْمَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ ثَوْبٍ إِنْ كَانَ لَا يَدْفَعُ شَيْئًا يُظِلُّ وَيَدْفَعُ حَرَّ الشَّمْسِ لَكِنَّ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ لَا يُظِلُّ فَإِنَّ الشَّمْسَ بِشُعَاعِهَا تَنْفُذُ فِيهِ، فَكَذَلِكَ الْمَعْبُودُ أَعْلَى دَرَجَاتِهِ أَنْ يَكُونَ نَافِذَ الْأَمْرِ فِي الْغَيْرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَيَكُونُ نَافِذَ الْأَمْرِ فِي الْعَابِدِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ لَا يَنْفُذَ أَمْرُ الْعَابِدِ فِيهِ لَكِنَّ مَعْبُودَهُمْ تَحْتَ تَسْخِيرِهِمْ إِنْ أَرَادُوا أَجَلُّوهُ وَإِنْ أَحَبُّوا أَذَلُّوهُ الثَّالِثُ: أَدْنَى مَرَاتِبِ الْبَيْتِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبَ ثَبَاتٍ وَارْتِفَاقٍ لَا يَصِيرُ سَبَبَ شَتَاتٍ وَافْتِرَاقٍ، لَكِنَّ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ يَصِيرُ سَبَبَ انْزِعَاجِ الْعَنْكَبُوتِ، فَإِنَّ الْعَنْكَبُوتَ لَوْ دَامَ فِي زَاوِيَةٍ مُدَّةً لَا يَقْصِدُ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَإِذَا نَسَجَ عَلَى نَفْسِهِ وَاتَّخَذَ بَيْتًا يَتْبَعُهُ صَاحِبُ الْمِلْكِ بِتَنْظِيفِ الْبَيْتِ مِنْهُ وَالْمَسْحِ بِالْمُسُوحِ الْخَشِنَةِ الْمُؤْذِيَةِ لِجِسْمِ الْعَنْكَبُوتِ، فَكَذَلِكَ الْعَابِدُ بِسَبَبِ الْعِبَادَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِقَّ الثَّوَابَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ بِسَبَبِهَا الْعَذَابَ، وَالْكَافِرُ يَسْتَحِقُّ بِسَبَبِ الْعِبَادَةِ الْعَذَابَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَثَّلَ اللَّهُ اتِّخَاذَهُمُ الْأَوْثَانَ أَوْلِيَاءَ بِاتِّخَاذِ الْعَنْكَبُوتِ نَسْجَهُ بَيْتًا وَلَمْ يُمَثِّلْهُ بِنَسْجِهِ وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَسْجَهُ فِيهِ فَائِدَةٌ لَهُ، لَوْلَاهُ لَمَا حَصَلَ وَهُوَ اصْطِيَادُهَا الذُّبَابَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفُوتَهُ مَا هُوَ أَعْظَمُ

[سورة العنكبوت (29) : آية 42]

مِنْهُ، وَاتِّخَاذُهُمُ الْأَوْثَانَ وَإِنْ كَانَ يُفِيدُهُمْ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنَ الذُّبَابِ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، لَكِنْ يَفُوتُهُمْ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا وَهُوَ الدَّارُ الْآخِرَةُ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ وَأَبْقَى فَلَيْسَ اتِّخَاذُهُمْ كَنَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ نَسْجَهُ مُفِيدٌ لَكِنَّ اتِّخَاذَهَا ذَلِكَ بَيْتًا أَمْرٌ بَاطِلٌ فَكَذَلِكَ هُمْ لَوِ اتَّخَذُوا الْأَوْثَانَ دَلَائِلَ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ وَصِفَاتِ كَمَالِهِ وَبَرَاهِينَ عَلَى نُعُوتِ إِكْرَامِهِ وَأَوْصَافِ جَلَالِهِ لَكَانَ حِكْمَةً، لَكِنَّهُمُ اتَّخَذُوهَا أَوْلِيَاءَ كَجَعْلِ الْعَنْكَبُوتِ النَّسْجَ بَيْتًا وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَمَا أَنَّ هَذَا الْمَثَلَ صُحِّحَ فِي الْأَوَّلِ فَهُوَ صَحِيحٌ فِي الْآخِرِ، فَإِنَّ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ إِذَا هَبَّتْ رِيحٌ لَا يُرَى مِنْهُ عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ بَلْ يَصِيرُ هَبَاءً مَنْثُورًا، فَكَذَلِكَ أَعْمَالُهُمْ لِلْأَوْثَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الْفُرْقَانِ: 23] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَمْ يَقُلْ آلِهَةً إِشَارَةً إِلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ أَيْضًا، فَإِنَّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ رِيَاءً لِغَيْرِهِ فَقَدِ اتَّخَذَ وَلِيًّا غَيْرَهُ فَمَثَلُهُ مَثَلُ العنكبوت يتخذ نسجه بيتا. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. إِشَارَةً إِلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ بَيْتٍ فَفِيهِ إِمَّا فَائِدَةُ الِاسْتِظْلَالِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، وَبَيْتُهُ يَضْعُفُ عَنْ إِفَادَةِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُخَرَّبُ بِأَدْنَى شَيْءٍ وَلَا يَبْقَى مِنْهُ عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ فَكَذَلِكَ عَمَلُهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: [سورة العنكبوت (29) : آية 42] إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا زِيَادَةُ تَوْكِيدٍ عَلَى التَّمْثِيلِ حَيْثُ إِنَّهُمْ لَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، بِمَعْنَى مَا يَدْعُونَ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَهُوَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتْرُكَ الْقَادِرَ الْحَكِيمَ وَيَشْتَغِلَ بِعِبَادَةِ مَا لَيْسَ بِشَيْءٍ أَصْلًا، وَهَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ مَا نَافِيَةً، وَهُوَ صَحِيحٌ، وَالْعِلْمُ يَتَعَلَّقُ بِالْجُمْلَةِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ حَقٌّ، يَعْنِي أَعْلَمُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ، وَإِنْ كُنَّا نَجْعَلُ مَا خَبَرِيَّةً فَيَكُونُ مَعْنَاهُ مَا يَدْعُونَ مِنْ شَيْءٍ فَاللَّهُ يَعْلَمُهُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قَادِرٌ عَلَى إِعْدَامِهِ وَإِهْلَاكِهِمْ، لَكِنَّهُ حَكِيمٌ يُمْهِلُهُمْ لِيَكُونَ الْهَلَاكُ عن بينة والحياة عن بينة، ومن هاهنا يَكُونُ الْخِطَابُ مَعَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ مَا وَجْهُ تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالتَّمْثِيلِ السَّابِقِ؟ فَنَقُولُ لَمَّا قَالَ إِنَّ مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ، فَكَانَ لِلْكَافِرِ أَنْ يَقُولَ أَنَا لَا أَعْبُدُ هَذِهِ الْأَوْثَانَ الَّتِي أَتَّخِذُهَا وَهِيَ تَحْتَ تَسْخِيرِي، وَإِنَّمَا هِيَ صُورَةُ كَوْكَبٍ أَنَا تَحْتَ تَسْخِيرِهِ وَمِنْهُ نَفْعِي وَضُرِّي وَخَيْرِي وَشَرِّي وَوُجُودِي وَدَوَامِي فَلَهُ سُجُودِي وَإِعْظَامِي، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هُوَ مِثْلُ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ لِأَنَّ الْكَوْكَبَ وَالْمَلَكَ وَكُلَّ مَا عَدَا اللَّهَ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَعِبَادَتُكُمْ لِلْغَائِبِ كَعِبَادَتِكُمْ لِلْحَاضِرِ وَلَا مَعْبُودَ إِلَّا اللَّهُ وَلَا إِلَهَ سواه. [سورة العنكبوت (29) : آية 43] وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ. قال الكافرون كيف يضرب خالق الأرض والسموات الْأَمْثَالَ بِالْهَوَامِّ وَالْحَشَرَاتِ كَالْبَعُوضِ وَالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ؟ فَيُقَالُ الْأَمْثَالُ تُضْرَبُ لِلنَّاسِ إِنْ لَمْ تَكُونُوا كَالْأَنْعَامِ يَحْصُلْ لَكُمْ مِنْهُ إِدْرَاكُ مَا يُوجِبُ نَفْرَتَكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ يُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ تَأْثِيرًا مِثْلَ تَأْثِيرِ الدَّلِيلِ، فَإِذَا قَالَ الْحَكِيمُ لِمَنْ يَغْتَابُ إِنَّكَ بِالْغِيبَةِ كَأَنَّكَ تَأْكُلُ لَحْمَ مَيِّتٍ لِأَنَّكَ وَقَعْتَ فِي هَذَا الرَّجُلِ وَهُوَ غَائِبٌ لَا يَفْهَمُ مَا تَقُولُ وَلَا يَسْمَعُ حَتَّى يُجِيبَ كَمَنْ يَقَعُ فِي ميت

[سورة العنكبوت (29) : آية 44]

يَأْكُلُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ إِنْ كَانَ يَعْلَمُهُ فَيَنْفِرُ طَبْعُهُ مِنْهُ كَمَا يَنْفِرُ إِذَا قَالَ له إنه يوجب العذاب ويورث العقاب. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ. يَعْنِي حَقِيقَتَهَا وَكَوْنُ الْأَمْرِ كَذَلِكَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مَنْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِبُطْلَانِ مَا سِوَى اللَّهِ وَفَسَادِ عِبَادَةِ مَا عَدَاهُ، وَفِيهِ مَعْنًى حُكْمِيٌّ وَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ الْحَدْسِيَّ يَعْلَمُهُ الْعَاقِلُ وَالْعِلْمَ الْفِكْرِيَّ الدَّقِيقَ يَعْقِلُهُ الْعَالِمُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَاقِلَ إِذَا عَرَضَ عَلَيْهِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ أَدْرَكَهُ كَمَا هُوَ بِكُنْهِهِ لِكَوْنِ الْمُدْرَكِ ظَاهِرًا وَكَوْنِ الْمُدْرَكِ عَاقِلًا، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِأَشْيَاءَ قَبْلَهُ، وَأَمَّا الدَّقِيقُ فَيَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ سَابِقٍ فَلَا بُدَّ مِنْ عَالِمٍ، ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ يَكُونُ دَقِيقًا فِي غَايَةِ الدِّقَّةِ فَيُدْرِكُهُ وَلَا يُدْرِكُهُ بِتَمَامِهِ وَيَعْقِلُهُ إِذَا كَانَ عَالِمًا. إِذَا عُلِمَ هَذَا فَقَوْلُهُ: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ يَعْنِي هُوَ ضَرَبَ لِلنَّاسِ أَمْثَالًا وَحَقِيقَتُهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ بِأَسْرِهَا فَلَا يُدْرِكُهَا إِلَّا الْعُلَمَاءُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْخَلْقَ بِالْإِيمَانِ وَأَظْهَرَ الْحَقَّ بِالْبُرْهَانِ وَلَمْ يَأْتِ الْكُفَّارُ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَقَصَّ عَلَيْهِمْ قَصَصًا فِيهَا عِبَرٌ، وَأَنْذَرَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِإِهْلَاكِ مَنْ غَبَرَ، وَبَيَّنَ ضَعْفَ دَلِيلِهِمْ بِالتَّمْثِيلِ، وَلَمْ يَهْتَدُوا بِذَلِكَ إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَحَصَلَ يَأْسُ الناس عنهم سلَّى المؤمنين بقوله: [سورة العنكبوت (29) : آية 44] خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) يَعْنِي إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا هُمْ لَا يُورِثُ كُفْرُهُمْ شَكًّا فِي صِحَّةِ دِينِكُمْ، وَلَا يُؤَثِّرُ شَكُّهُمْ فِي قُوَّةِ يَقِينِكُمْ، فإن خلق الله السموات وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ لِلْمُؤْمِنِينَ بَيَانٌ ظَاهِرٌ، وَبُرْهَانٌ بَاهِرٌ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَافِرٌ، وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَةٌ يَتَبَيَّنُ بِهَا تَفْسِيرُ الْآيَةِ، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَيْفَ خَصَّ الآية في خلق السموات وَالْأَرْضِ بِالْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّ فِي خَلْقِهِمَا آيَةً لِكُلِّ عَاقِلٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: 25] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِلَى أَنْ قَالَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الْبَقَرَةِ: 164] فَنَقُولُ خَلْقُ السموات وَالْأَرْضِ آيَةٌ لِكُلِّ عَاقِلٍ وَخَلْقُهُمَا بِالْحَقِّ آيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فَحَسْبُ، وَبَيَانُهُ مِنْ حَيْثُ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ، أَمَّا النَّقْلُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الدُّخَانِ: 39] أَخْرَجَ أكثر الناس عن العلم يكون خَلْقِهِمَا بِالْحَقِّ مَعَ أَنَّهُ أَثْبَتَ عِلْمَ الْكُلِّ بأنه خلقهما حيث قَالَ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وَأَمَّا الْعَقْلُ فَهُوَ أَنَّ الْعَاقِلَ أَوَّلَ مَا ينظر إلى خلق السموات وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ أَنَّ لَهُمَا خَالِقًا وَهُوَ اللَّهُ ثُمَّ مَنْ يَهْدِيهِ اللَّهُ لَا يَقْطَعُ النَّظَرَ عَنْهُمَا عِنْدَ مُجَرَّدِ ذَلِكَ، بَلْ يَقُولُ إِنَّهُ خَلَقَهُمَا مُتْقِنًا مُحْكِمًا وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ بِالْحَقِّ، لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْإِحْكَامِ يَفْسُدُ وَيَبْطُلُ فَيَكُونُ بَاطِلًا، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ خَلَقَهُمَا مُتْقِنًا يَقُولُ إِنَّهُ قَادِرٌ كَامِلٌ حَيْثُ خَلَقَ وَعَالِمٌ عِلْمُهُ شَامِلٌ حَيْثُ أَتْقَنَ/ فَيَقُولُ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ أَجْزَاءُ الْمَوْجُودَاتِ فِي الأرض ولا في السموات وَلَا يَعْجِزُ عَنْ جَمْعِهَا كَمَا جَمَعَ أَجْزَاءَ الْكَائِنَاتِ وَالْمُبْدَعَاتِ، فَيُجَوِّزُ بَعْثَ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَبِعْثَةَ الرَّسُولِ، وَيَعْلَمُ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ لَفَسَدَتَا وَلَبَطَلَتَا وَهُمَا بِالْحَقِّ مَوْجُودَانِ فَيَحْصُلُ لَهُ الْإِيمَانُ بِتَمَامِهِ، مِنْ خَلْقِ مَا خَلَقَهُ عَلَى أَحْسَنِ نِظَامِهِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا سَلَّى الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الآية سلى رسوله: بقوله تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 45] اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)

[في قوله تَعَالَى اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ] يَعْنِي إِنْ كُنْتَ تَأْسَفُ عَلَى كُفْرِهِمْ فَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ لِتَعْلَمَ أَنَّ نُوحًا وَلُوطًا وَغَيْرَهُمَا كَانُوا عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ بَلَّغُوا الرِّسَالَةَ وَبَالَغُوا فِي إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ وَلَمْ يُنْقِذُوا قَوْمَهُمْ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ وَلِهَذَا قَالَ: اتْلُ وَمَا قَالَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ التِّلَاوَةَ مَا كَانَتْ بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْهُمْ إِلَّا لِتَسْلِيَةِ قَلْبِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّ الرَّسُولَ إِذَا كَانَ مَعَهُ كِتَابٌ وَقَرَأَ كِتَابَهُ مَرَّةً وَلَمْ يُسْمَعْ لَمْ يَبْقَ لَهُ فَائِدَةٌ فِي قِرَاءَتِهِ لِنَفْسِهِ فَنَقُولُ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ مَعَ النَّبِيِّ الْمُرْسَلِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْكُتُبَ الْمُسَيَّرَةَ مَعَ الرُّسُلِ عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ يَكُونُ فِيهِ سَلَامٌ وَكَلَامٌ، مَعَ وَاحِدٍ يَحْصُلُ بِقِرَاءَتِهِ مَرَّةً تَمَامُ الْمَرَامِ، وَقِسْمٌ يَكُونُ فِيهِ قَانُونٌ كُلِّيٌّ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الرَّعِيَّةُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ كَمَا إِذَا كَتَبَ الْمَلِكُ كِتَابًا فِيهِ إِنَّا رَفَعْنَا عَنْكُمُ الْبِدْعَةَ الْفُلَانِيَّةَ وَوَضَعْنَا فِيكُمُ السُّنَّةَ الْفُلَانِيَّةَ وَبَعَثْنَا إِلَيْكُمْ هَذَا الْكِتَابَ فِيهِ جَمِيعُ ذَلِكَ فَلْيَكُنْ ذَلِكَ كَمِنْوَالٍ يَنْسِجُ عَلَيْهِ وَالٍ بَعْدَ وَالٍ، فَمِثْلُ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُقْرَأُ وَيُتْرَكُ بَلْ يُعَلَّقُ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ، وَكَثِيرًا مَا تُكْتَبُ نُسْخَتُهُ عَلَى لَوْحٍ وَيُثَبَّتُ فَوْقَ الْمَحَارِيبِ، وَيَكُونُ نَصْبَ الْأَعْيُنِ، فَكَذَلِكَ كتاب الله مع رسوله مع مُحَمَّدٍ قَانُونٌ كُلِّيٌّ فِيهِ شِفَاءٌ لِلْعَالَمِينَ فَوَجَبَ تِلَاوَتُهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لِيَبْلُغَ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ وَيَنْقُلَهُ قَرْنٌ إِلَى قَرْنٍ وَيَأْخُذَهُ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ وَيَثْبُتَ فِي الصُّدُورِ عَلَى مُرُورِ الدُّهُورِ الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْكُتُبَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ كِتَابٌ لَا تَكْرَهُ قِرَاءَتَهُ إِلَّا لِلْغَيْرِ كَالْقَصَصِ فَإِنَّ مَنْ قَرَأَ حِكَايَةً مَرَّةً لَا يَقْرَؤُهَا مَرَّةً أُخْرَى إِلَّا لِغَيْرِهِ، ثُمَّ إِذَا سَمِعَهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ لَا يَقْرَؤُهَا إِلَّا لِآخَرَ لَمْ يَسْمَعْهُ وَلَوْ قَرَأَهُ عَلَيْهِ لَسَئِمُوهُ، وَكِتَابٌ لَا يُكَرَّرُ عَلَيْهِ إِلَّا لِلنَّفْسِ كَالنَّحْوِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِهِمَا وَكِتَابٌ يُتْلَى مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لِلنَّفْسِ وَلِلْغَيْرِ كَالْمَوَاعِظِ الْحَسَنَةِ فَإِنَّهَا تُكَرَّرُ لِلْغَيْرِ وَكُلَّمَا سَمِعَهَا يَلْتَذُّ بِهَا وَيَرِقُّ لَهَا قَلْبُهُ وَيَسْتَعِيدُهَا وَكُلَّمَا تَدْخُلُ السَّمْعَ يَخْرُجُ الْوَسْوَاسُ مَعَ الدَّمْعِ وَتُكَرَّرُ أَيْضًا لِنَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ فَإِنَّ كَثِيرًا مَا يَلْتَذُّ الْمُتَكَلِّمُ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ وَكُلَّمَا يُعِيدُهَا يَكُونُ أَطْيَبَ وَأَلَذَّ وَأَثْبَتَ فِي الْقَلْبِ وَأَنْفَذَ/ حَتَّى يَكَادُ يَبْكِي مِنْ رِقَّتِهِ دَمًا وَلَوْ أَوْرَثَهُ الْبُكَاءُ عَمًى، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَالْقُرْآنُ مِنَ الْقَبِيلِ الثَّالِثِ مَعَ أَنَّ فِيهِ الْقَصَصَ وَالْفِقْهَ وَالنَّحْوَ فَكَانَ فِي تِلَاوَتِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَائِدَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِمَ خَصَّصَ بِالْأَمْرِ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ تِلَاوَةَ الْكِتَابِ وَإِقَامَةَ الصَّلَاةِ؟ فَنَقُولُ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَرَادَ تَسْلِيَةَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُ الرَّسُولُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْخَلْقِ، فَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الطَّرَفُ الْوَاحِدُ وَلَمْ يَقْبَلُوهُ فَالطَّرَفُ الْآخَرُ مُتَّصِلٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّسُولَ إِذَا لَمْ تُقْبَلْ رِسَالَتُهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ مُرْسِلِهِ، فَإِذَا تَلَوْتَ كِتَابَكَ وَلَمْ يَقْبَلُوكَ فَوَجِّهْ وَجْهَكَ إِلَيَّ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِوَجْهِي الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ الْمُخْتَصَّةَ بِالْعَبْدِ ثَلَاثَةٌ: وَهِيَ الِاعْتِقَادُ الْحَقُّ وَلِسَانِيَّةٌ وَهِيَ الذِّكْرُ الْحَسَنُ وَبَدَنِيَّةٌ خَارِجِيَّةٌ وَهِيَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، لَكِنَّ الِاعْتِقَادَ لَا يَتَكَرَّرُ فَإِنَّ مَنِ اعْتَقَدَ شَيْئًا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْتَقِدَهُ مَرَّةً أُخْرَى بَلْ ذَلِكَ يَدُومُ مُسْتَمِرًّا وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ ذَلِكَ. حَاصِلًا لَهُ عَنْ عَيَانٍ أَكْمَلَ مِمَّا يَحْصُلُ عَنْ بَيَانٍ، فَلَمْ يُؤْمَرْ بِهِ لِعَدَمِ إِمْكَانِ تَكْرَارِهِ، لَكِنَّ الذِّكْرَ مُمْكِنُ التَّكْرَارِ، وَالْعِبَادَةُ الْبَدَنِيَّةُ كَذَلِكَ فَأَمَرَهُ بِهِمَا فَقَالَ: اتْلُ الْكِتَابَ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَيْفَ تَنْهَى الصَّلَاةُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ؟ نَقُولُ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُرَادُ مِنَ الصَّلَاةِ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَنْهَى أَيْ فِيهِ النَّهْيُ عَنْهُمَا وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ إِرَادَةَ الْقُرْآنِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي قَالَ قَبْلَهُ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ بِعِيدٌ مِنَ الْفَهْمِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَرَادَ بِهِ نَفْسَ الصَّلَاةِ وَهِيَ تَنْهَى عَنْهُمَا مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاشْتِغَالُ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا، فَنَقُولُ هَذَا كَذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَ الْمُرَادُ هَذَا وَإِلَّا لَا يَكُونُ مَدْحًا كَامِلًا لِلصَّلَاةِ،

لِأَنَّ غَيْرَهَا مِنَ الْأَشْغَالِ كَثِيرًا مَا يَكُونُ كَذَلِكَ كَالنَّوْمِ فِي وَقْتِهِ وَغَيْرِهِ فَنَقُولُ: الْمُرَادُ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ مُطْلَقًا وَعَلَى هَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الصَّلَاةُ هِيَ الَّتِي تَكُونُ مَعَ الْحُضُورِ وَهِيَ تَنْهَى، حَتَّى نقل عنه صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْمَعَاصِي لَمْ يَزْدَدْ بِهَا إِلَّا بُعْدًا» وَنَحْنُ نَقُولُ الصَّلَاةُ الصَّحِيحَةُ شَرْعًا تَنْهَى عَنِ الْأَمْرَيْنِ مُطْلَقًا وَهِيَ الَّتِي أَتَى بِهَا الْمُكَلَّفُ لِلَّهِ حَتَّى لَوْ قَصَدَ بِهَا الرِّيَاءَ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ شَرْعًا وَتَجِبْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ مَنْ نَوَى بِوُضُوئِهِ الصَّلَاةَ وَالتَّبَرُّدَ قِيلَ لَا يَصِحُّ فَكَيْفَ مَنْ نَوَى بِصَلَاتِهِ اللَّهَ وَغَيْرَهُ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ الصَّلَاةُ تَنْهَى مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ مَنْ كَانَ يَخْدِمُ مَلِكًا عَظِيمَ الشَّأْنِ كَثِيرَ الْإِحْسَانِ وَيَكُونُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةٍ، وَيَرَى عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ قَدْ طَرَدَهُ طردا لا يتصور قبوله، وفاته الخبر بِحَيْثُ لَا يُرْجَى حُصُولُهُ، يَسْتَحِيلُ مِنْ ذَلِكَ الْمُقَرَّبِ عُرْفًا أَنْ يَتْرُكَ خِدْمَةَ الْمَلِكِ وَيَدْخُلَ فِي طَاعَةِ ذَلِكَ الْمَطْرُودِ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إِذَا صَلَّى لِلَّهِ صَارَ عَبْدًا لَهُ، وَحَصَلَ لَهُ مَنْزِلَةُ الْمُصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ، فَيَسْتَحِيلُ مِنْهُ أَنْ يَتْرُكَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَيَدْخُلَ تَحْتَ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ الْمَطْرُودِ، لَكِنَّ مُرْتَكِبَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ تَحْتَ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ فَالصَّلَاةُ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ الثَّانِي: هُوَ أَنْ مَنْ يُبَاشِرُ الْقَاذُورَاتِ كَالزَّبَّالِ وَالْكَنَّاسِ يَكُونُ لَهُ لِبَاسٌ نَظِيفٌ إِذَا لَبِسَهُ لَا يُبَاشِرُ مَعَهُ الْقَاذُورَاتِ وَكُلَّمَا كَانَ ثَوْبُهُ أَرْفَعَ يَكُونُ امْتِنَاعُهُ وَهُوَ لَابِسُهُ عَنِ الْقَاذُورَاتِ أَكْثَرَ فَإِذَا لَبِسَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ثَوْبَ دِيبَاجٍ/ مُذَهَّبٍ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ مُبَاشَرَةُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ عُرْفًا، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إِذَا صَلَّى لَبِسَ لِبَاسَ التَّقْوَى لِأَنَّهُ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَاضِعٌ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ عَلَى هَيْئَةِ مَنْ يَقِفُ بِمَرْأَى مَلِكٍ ذِي هَيْبَةٍ، وَلِبَاسُ التَّقْوَى خَيْرُ لِبَاسٍ يَكُونُ نِسْبَتُهُ إِلَى الْقَلْبِ أَعْلَى مِنْ نِسْبَةِ الدِّيبَاجِ الْمُذَهَّبِ إِلَى الْجِسْمِ، فَإِذَنْ مَنْ لَبِسَ هَذَا اللِّبَاسَ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ مُبَاشَرَةُ قَاذُورَاتِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. ثُمَّ إِنَّ الصَّلَوَاتِ مُتَكَرِّرَةٌ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ فَيَدُومُ هَذَا اللُّبْسُ فَيَدُومُ الِامْتِنَاعُ الثَّالِثُ: مَنْ يَكُونُ أَمِيرُ نَفْسِهِ يَجْلِسُ حَيْثُ يُرِيدُ فَإِذَا دَخَلَ فِي خِدْمَةِ مَلِكٍ وَأَعْطَاهُ مَنْصِبًا لَهُ مَقَامٌ خَاصٌّ لَا يَجْلِسُ صَاحِبُ ذَلِكَ الْمَنْصِبِ إِلَّا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْلِسَ فِي صَفِّ النِّعَالِ لَا يُتْرَكُ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إِذَا صَلَّى دَخَلَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَلَمْ يَبْقَ بِحُكْمِ نَفْسِهِ وَصَارَ لَهُ مَقَامٌ مُعَيَّنٌ، إِذْ صَارَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقِفَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَهُوَ مَوْقِفُ أَصْحَابِ الشِّمَالِ لَا يُتْرَكُ، لَكِنَّ مُرْتَكِبَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ مِنْ أَصْحَابِ الشِّمَالِ وَهَذَا الْوَجْهُ إِشَارَةٌ إِلَى عِصْمَةِ اللَّهِ يَعْنِي مَنْ صَلَّى عَصَمَهُ اللَّهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ الرَّابِعُ: وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ وَهُوَ أَنَّ مَنْ يَكُونُ بَعِيدًا عَنِ الْمَلِكِ كَالسُّوقِيِّ وَالْمُنَادِي وَالْمُتَعَيِّشِ لَا يُبَالِي بِمَا فَعَلَ مِنَ الْأَفْعَالِ يَأْكُلُ فِي دُكَّانِ الْهَرَّاسِ وَالرَّوَّاسِ وَيَجْلِسُ مَعَ أَحْبَاشِ النَّاسِ، فَإِذَا صَارَتْ لَهُ قُرْبَةٌ يَسِيرَةٌ مِنَ الْمَلِكِ كَمَا إِذَا صَارَ وَاحِدًا مِنَ الْجُنْدَارِيَّةِ وَالْقُوَّادِ وَالسُّوَّاسِ عِنْدَ الْمَلِكِ لَا تَمْنَعُهُ تِلْكَ الْقُرْبَةُ مِنْ تَعَاطِي مَا كَانَ يَفْعَلُهُ، فَإِذَا زَادَتْ قُرْبَتُهُ وَارْتَفَعَتْ مَنْزِلَتُهُ حَتَّى صَارَ أَمِيرًا حِينَئِذٍ تَمْنَعُهُ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ عَنِ الْأَكْلِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالْجُلُوسِ مَعَ أُولَئِكَ الْخُلَّانِ، كَذَلِكَ الْعَبْدُ إِذَا صَلَّى وَسَجَدَ صَارَ لَهُ قُرْبَةٌ مَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [الْعَلَقِ: 19] فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنَ الْقُرْبَةِ يَمْنَعُهُ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْمَنَاهِي، فَبِتَكَرُّرِ الصَّلَاةِ وَالسُّجُودِ تَزْدَادُ مَكَانَتُهُ، حَتَّى يَرَى عَلَى نَفْسِهِ مِنْ آثَارِ الْكَرَامَةِ مَا يَسْتَقْذِرُ مَعَهُ مِنْ نَفْسِهِ الصَّغَائِرَ فَضْلًا عَنِ الْكَبَائِرِ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ مَعْقُولٌ يُؤَكِّدُهُ الْمَنْقُولُ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ هُوَ أَنَّهَا تَنْهَى عَنِ التَّعْطِيلِ وَالْإِشْرَاكِ، وَالتَّعْطِيلُ هُوَ إِنْكَارُ وُجُودِ اللَّهِ، وَالْإِشْرَاكُ إِثْبَاتُ أُلُوهِيَّةٍ لِغَيْرِ اللَّهِ. فَنَقُولُ التَّعْطِيلُ عَقِيدَةٌ فَحْشَاءُ لِأَنَّ الْفَاحِشَ هُوَ الْقَبِيحُ الظَّاهِرُ الْقُبْحِ، لَكِنَّ وُجُودَ اللَّهِ أَظْهَرُ مِنَ الشَّمْسِ وَمَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَفِيهِ آيَةٌ عَلَى اللَّهِ ظَاهِرَةٌ وَإِنْكَارُ الظَّاهِرِ ظَاهِرُ الْإِنْكَارِ، فَالْقَوْلُ بِأَنْ لَا إِلَهَ قَبِيحٌ وَالْإِشْرَاكُ مُنْكَرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَطْلَقَ اسْمَ الْمُنْكَرِ عَلَى مَنْ نَسَبَ نَفْسًا إِلَى غَيْرِ الْوَالِدِ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ حَيْثُ قَالَ: إِنْ

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 إلى 47]

أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ [الْمُجَادَلَةِ: 2] فَالْمُشْرِكُ الَّذِي يَقُولُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَيَنْسُبُ إِلَى مَنْ لَمْ يَلِدْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، وَلَدًا كَيْفَ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ مُنْكَرًا؟ فَالصَّلَاةُ تَنْهَى عَنْ هَذِهِ الْفَحْشَاءِ، وَهَذَا الْمُنْكَرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ أَوَّلَ مَا يَشْرَعُ فِي الصَّلَاةِ يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَبِقَوْلِهِ اللَّهُ يَنْفِي التَّعْطِيلَ وَبِقَوْلِهِ أَكْبَرُ يَنْفِي التَّشْرِيكَ لِأَنَّ الشَّرِيكَ لَا يَكُونُ أَكْبَرَ مِنَ الشَّرِيكِ الْآخَرِ فِيمَا فِيهِ الِاشْتِرَاكُ، فَإِذَا قَالَ بِسْمِ اللَّهِ نَفَى التَّعْطِيلَ، وَإِذَا قَالَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نَفَى الْإِشْرَاكَ، لِأَنَّ الرَّحْمَنَ مَنْ يُعْطِي الْوُجُودَ بِالْخَلْقِ بِالرَّحْمَةِ، وَالرَّحِيمَ مَنْ/ يُعْطِي الْبَقَاءَ بِالرِّزْقِ بِالرَّحْمَةِ، فَإِذَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، أَثْبَتَ بِقَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ خلاف التعطيل وبقوله: رَبِّ الْعالَمِينَ خلاف الإشراك، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ بِتَقْدِيمِ إِيَّاكَ نَفَى التَّعْطِيلَ وَالْإِشْرَاكَ وَكَذَا بِقَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فإذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ نَفَى التَّعْطِيلَ لِأَنَّ طَالِبَ الصِّرَاطِ لَهُ مَقْصِدٌ والمعطل لا مقصد له، وبقوله: الْمُسْتَقِيمَ نَفَى الْإِشْرَاكَ لِأَنَّ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ الْأَقْرَبُ وَالْمُشْرِكُ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ حَتَّى يَعْبُدَ صُورَةً صَوَّرَهَا إِلَهُ الْعَالَمِينَ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ وَعِبَادَةُ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ أَقْرَبُ، وَعَلَى هَذَا إِلَى آخِرِ الصَّلَاةِ يَقُولُ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَنْفِي الْإِشْرَاكَ وَالتَّعْطِيلَ، وَهَاهُنَا لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَوَّلُهَا لَفْظَةُ اللَّهِ وَآخِرُهَا لَفْظَةُ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لِيَعْلَمَ الْمُصَلِّي أَنَّهُ مِنْ أَوَّلِ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِهَا مَعَ اللَّهِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَقَدْ بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ قَوْلُهُ وَأَشْهَدَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَالصَّلَاةُ عَلَى الرَّسُولِ وَالتَّسْلِيمُ، فَنَقُولُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي آخِرِهَا دَخَلَتْ لِمَعْنًى خَارِجٍ عَنْ ذَاتِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ ذِكْرُ اللَّهِ لَا غَيْرُ، لَكِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وَصَلَ بِالصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ وَحَصَلَ مَعَ اللَّهِ لَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ اسْتَقَلَّ وَاسْتَبَدَّ وَاسْتَغْنَى عَنِ الرَّسُولِ، كَمَنْ تَقَرَّبَ مِنَ السُّلْطَانِ فَيَغْتَرُّ بِذَلِكَ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى النُّوَّابِ وَالْحُجَّابِ، فَقَالَ أَنْتَ فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ بِهِدَايَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَغَيْرُ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ فَقُلْ مَعَ ذِكْرِي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ بِبَرَكَةِ هِدَايَتِهِ فَاذْكُرْ إِحْسَانَهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا رَجَعْتَ مِنْ مِعْرَاجِكَ وَانْتَهَيْتَ إِلَى إِخْوَانِكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ وَبَلِّغْهُمْ سَلَامِي كَمَا هُوَ تَرْتِيبُ الْمُسَافِرِينَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَيْئَةَ الصَّلَاةِ هَيْئَةٌ فِيهَا هَيْبَةٌ فَإِنَّ أَوَّلَهَا وُقُوفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ كَوُقُوفِ الْمَمْلُوكِ بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ، ثُمَّ إِنَّ آخِرَهَا جُثُوٌّ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ كَمَا يَجْثُو بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ مَنْ أَكْرَمَهُ بِالْإِجْلَاسِ، كَأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا وَقَفَ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ أَكْرَمَهُ اللَّهُ وَأَجْلَسَهُ فَجَثَا، وَفِي هَذَا الْجُثُوِّ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ مَنْ جَثَا فِي الدُّنْيَا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ هَذَا الْجُثُوَّ لَا يَكُونُ لَهُ جُثُوٌّ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَكُونُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّهِمْ وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا [مريم: 72] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ. لَمَّا ذَكَرَ أَمْرَيْنِ وَهُمَا تِلَاوَةُ الْكِتَابِ وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ بَيَّنَ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ بِهِمَا عَلَى أَبْلَغِ وُجُوهِ التَّعْظِيمِ، فَقَالَ: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَأَنْتُمْ إِذَا ذَكَرْتُمْ آبَاءَكُمْ بِمَا فِيهِمْ مِنَ الصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ تَنْبَشُّوا لِذَلِكَ وَتَذْكُرُوهُمْ بِمَلْءِ أَفْوَاهِكُمْ وَقُلُوبِكُمْ، لَكِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ أَكْبَرُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى أَبْلَغِ وُجُوهِ التَّعْظِيمِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ، وَهَذَا أَحْسَنُ صُنْعِكُمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ مَعَ حَذْفِ بَيَانِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُلْ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِ فُلَانٍ لِأَنَّ مَا نُسِبَ إِلَى غَيْرِهِ بِالْكِبَرِ فَلَهُ إِلَيْهِ نِسْبَةٌ، إِذًا لَا يُقَالُ الْجَبَلُ أَكْبَرُ مِنْ خَرْدَلَةٍ، وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا الْجَبَلُ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ الْجَبَلِ فَأُسْقِطَ الْمَنْسُوبُ كَأَنَّهُ قَالَ وَلَذِكْرُ/ اللَّهِ لَهُ الْكِبَرُ لَا لِغَيْرِهِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ فِي الصَّلَاةِ اللَّهُ أَكْبَرُ أَيْ له الكبر لا لغيره. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 الى 47] وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47)

لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ طَرِيقَةَ إِرْشَادِ الْمُشْرِكِينَ وَنَفَعَ مَنِ انْتَفَعَ وَحَصَلَ الْيَأْسُ مِمَّنِ امْتَنَعَ بَيَّنَ طَرِيقَةَ إِرْشَادِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُرَادُ مِنْهُ لَا تُجَادِلُوهُمْ بِالسَّيْفِ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا إِلَّا إِذَا ظَلَمُوا وَحَارَبُوا، أَيْ إِذَا ظَلَمُوا زَائِدًا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَفِيهِ مَعْنًى أَلْطَفُ مِنْهُ وَهُوَ أَنَّ الْمُشْرِكَ جَاءَ بِالْمُنْكَرِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَكَانَ اللَّائِقُ أَنْ يُجَادَلَ بِالْأَخْشَنِ وَيُبَالَغَ فِي تَهْجِينِ مَذْهَبِهِ وَتَوْهِينِ شُبَهِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة: 18] وقال: لَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِها [الْأَعْرَافِ: 179] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَجَاءُوا بِكُلِّ حَسَنٍ إِلَّا الِاعْتِرَافَ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوَحَّدُوا وَآمَنُوا بِإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَالْحَشْرِ، فَلِمُقَابَلَةِ إِحْسَانِهِمْ يُجَادَلُونَ أَوَّلًا بالأحسن ولا تستخف آراؤهم ولا ينسب الضَّلَالِ آبَاؤُهُمْ، بِخِلَافِ الْمُشْرِكِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا تَبْيِينٌ لَهُ حُسْنٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِلَّا الَّذِينَ أَشْرَكُوا مِنْهُمْ بِإِثْبَاتِ الْوَلَدِ لِلَّهِ وَالْقَوْلِ بِثَالِثِ ثَلَاثَةٍ فَإِنَّهُمْ ضَاهَوْهُمْ فِي الْقَوْلِ الْمُنْكَرِ فَهُمُ الظَّالِمُونَ، لِأَنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ عَظِيمٌ، فَيُجَادَلُونَ بِالْأَخْشَنِ مِنْ تَهْجِينِ مَقَالَتِهِمْ وَتَبْيِينِ جَهَالَتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ ذَلِكَ الْأَحْسَنَ فَقَدَّمَ مَحَاسِنَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَيَلْزَمُنَا اتِّبَاعُ مَا قَالَهُ لَكِنَّهُ بَيَّنَ رِسَالَتِي فِي كُتُبِكُمْ فَهُوَ دَلِيلٌ مُضِيءٌ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ذَكَرَ دَلِيلًا قِيَاسِيًّا فَقَالَ: وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ يَعْنِي كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَكَ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ وَهَذَا قِيَاسٌ، ثُمَّ قَالَ: فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ لِوُجُودِ النَّصِّ وَمِنْ هَؤُلَاءِ كَذَلِكَ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِالَّذِينِ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مَنْ آمَنَ بِنَبِيِّنَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَغَيْرِهِ وَبِقَوْلِهِ: وَمِنْ هؤُلاءِ أَيْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِالَّذِينِ/ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ هُمُ الذين سبقوا محمدا صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ زَمَانًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَذَا أَقْرَبُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: هؤُلاءِ صَرْفُهُ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْلَى، لأن الكلام فيهم ولا ذكر للمشركين هاهنا، إِذْ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ ذكرهم والإعراض عنهم لإصرارهم على الكفر، وهاهنا وَجْهٌ آخَرُ أَوْلَى وَأَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْأَحْسَنِ مِنَ الْجِدَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ أَنْ نَقُولَ الْمُرَادُ بِالَّذِينِ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَبِقَوْلِهِ: وَمِنْ هؤُلاءِ أَيْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ أَقْرَبُ، لِأَنَّ الَّذِينَ آتَاهُمُ الْكِتَابَ فِي الْحَقِيقَةِ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، فَإِنَّ اللَّهَ مَا آتَى الْكِتَابَ إِلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ، كَمَا قَالَ تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ [الأنعام: 89] وقال: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [النساء: 163] وَقَالَ: آتانِيَ الْكِتابَ [مَرْيَمَ: 30] وَإِذَا حَمَلْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا لَا يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ، لِأَنَّ كُلَّ الْأَنْبِيَاءِ آمَنُوا بِكُلِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِذَا قُلْنَا بِمَا قَالُوا بِهِ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ وَاثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً مَعَهُ أَوْ عَدَدًا قَلِيلًا، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ هؤُلاءِ غَيْرَ الْمَذْكُورِينَ، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا يَكُونُ مَخْرَجُ الْكَلَامِ كَأَنَّهُ قَسَّمَ الْقَوْمَ قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا الْمُشْرِكِينَ وَتَكَلَّمَ فِيهِمْ وَفَرَغَ مِنْهُمْ وَالثَّانِي أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُوَ بُعْدٌ فِي بَيَانِ أَمْرِهِمْ، وَالْوَقْتُ وَقْتُ جَرَيَانِ ذِكْرِهِمْ، فَإِذَا قَالَ هَؤُلَاءِ يَكُونُ مُنْصَرِفًا إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ هُمْ فِي وَصْفِهِمْ، وَإِذَا قَالَ أُولَئِكَ يَكُونُ مُنْصَرِفًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ وَتَحَقَّقَ أَمْرُهُمْ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ الْجِدَالُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 48 إلى 49]

الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَئِمَّةِ قَرِيبٌ مِنَ الْخِلَافِ فِي فَضِيلَةِ الرُّؤَسَاءِ وَالْمُلُوكِ، فَإِذَا اخْتَلَفَ حِزْبَانِ فِي فَضِيلَةِ مَلِكَيْنِ أَوْ رَئِيسَيْنِ، وَأَدَّى الِاخْتِلَافُ إِلَى الِاقْتِتَالِ يَكُونُ أَقْوَى كَلَامٍ يَصْلُحُ بَيْنَهُمْ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ هَذَانِ الْمَلِكَانِ مُتَوَافِقَانِ مُتَصَادِقَانِ، فَلَا مَعْنَى لنزاعكم فكذلك هاهنا قال النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ نَحْنُ آمَنَّا بِالْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ آمَنُوا بِي فَلَا مَعْنَى لِتَعَصُّبِكُمْ لَهُمْ وَكَذَلِكَ أَكَابِرُكُمْ وَعُلَمَاؤُكُمْ آمَنُوا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ تَنْفِيرًا لَهُمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ، يَعْنِي أَنَّكُمْ آمَنْتُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَامْتَزْتُمْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِكُلِّ فَضِيلَةٍ، إِلَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْوَاحِدَةَ، وبإنكارها تلحقون بِهِمْ وَتُبْطِلُونَ مَزَايَاكُمْ، فَإِنَّ الْجَاحِدَ بِآيَةٍ يَكُونُ كافرا. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 48 الى 49] وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ هَذِهِ دَرَجَةٌ أُخْرَى بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجَادِلَ إِذَا ذَكَرَ مَسْأَلَةً مُخْتَلَفًا فِيهَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ: الزَّكَاةُ تَجِبُ فِي مَالِ الصَّغِيرِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ لِمَ؟ فَيَقُولُ كَمَا تَجِبُ النَّفَقَةُ فِي مَالِهِ، وَلَا يَذْكُرُ أَوَّلًا الْجَامِعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ قَنِعَ الطَّالِبُ بِمُجَرَّدِ التَّشْبِيهِ وَأَدْرَكَ مِنْ نَفْسِهِ الْجَامِعَ فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ أَوْ لَمْ يَقْنَعْ يُبْدِي الْجَامِعَ، فَيَقُولُ كِلَاهُمَا مَالٌ فَضَلَ عَنِ الْحَاجَةِ فَيَجِبُ فكذلك هاهنا ذَكَرَ أَوَّلًا التَّمْثِيلَ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ [العنكبوت: 47] ثُمَّ ذَكَرَ الْجَامِعَ وَهُوَ الْمُعْجِزَةُ، فَقَالَ مَا عِلْمُ كَوْنِ تِلْكَ الْكُتُبِ مُنَزَّلَةً إِلَّا بِالْمُعْجِزَةِ، وَهَذَا الْقُرْآنُ مِمَّنْ لَمْ يَكْتُبْ وَلَمْ يَقْرَأْ عَيْنُ الْمُعْجِزَةِ، فَيُعْرَفُ كَوْنُهُ مُنَزَّلًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ فِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ إِذَا كَانَ قَارِئًا كَاتِبًا مَا كَانَ يُوجِبُ كَوْنَ هَذَا الْكَلَامِ كَلَامَهُ، فَإِنَّ جَمِيعَ كَتَبَةِ الْأَرْضِ وَقُرَّائِهَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، لَكِنْ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ يَكُونُ لِلْمُبْطِلِ وَجْهُ ارْتِيَابٍ، وَعَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لَا وَجْهَ لِارْتِيَابِهِ فَهُوَ أَدْخَلُ فِي الْإِبْطَالِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَةِ: 23] أَيْ مِنْ مِثْلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَقَوْلِهِ: الم ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَةِ: 1، 2] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قَوْلُهُ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ الْآدَمِيِّينَ، لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ لَهُ كَلَامٌ مُخْتَرَعٌ يَقُولُ هَذَا مِنْ قَلْبِي وَخَاطِرِي، وَإِذَا حَفِظَهُ مِنْ غَيْرِهِ يَقُولُ إِنَّهُ فِي قَلْبِي وَصَدْرِي، فَإِذَا قَالَ: فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ لَا يَكُونُ مِنْ صَدْرِ أحد منهم، والجاهل يستحيل منه ذلك ظهور له من الصدور ويلتحقون عنده هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْمُشْرِكِينَ، فَظُهُورُهُ مِنَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ قال هاهنا الظَّالِمُونَ ومن قبل قال الْكافِرُونَ [العنكبوت: 47] مَعَ أَنَّ الْكَافِرَ ظَالِمٌ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ وَفِيهِ فَائِدَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُمْ قَبْلَ بَيَانِ الْمُعْجِزَةِ قِيلَ لَهُمْ إِنَّ لَكُمُ الْمَزَايَا فَلَا تُبْطِلُوهَا بِإِنْكَارِ مُحَمَّدٍ فَتَكُونُوا كَافِرِينَ، فَلَفْظُ الْكَافِرِ هُنَاكَ كَانَ بَلِيغًا يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ لِاسْتِنْكَافِهِمْ عَنِ الْكُفْرِ، ثُمَّ بَعْدَ بَيَانِ الْمُعْجِزَةِ قَالَ لَهُمْ إِنْ جَحَدْتُمْ هَذِهِ الْآيَةَ لَزِمَكُمْ إِنْكَارُ إِرْسَالِ الرُّسُلِ فَتَلْتَحِقُونَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِالْمُشْرِكِينَ حُكْمًا، وَتَلْتَحِقُونَ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْمُشْرِكِينَ حَقِيقَةً فَتَكُونُوا ظَالِمِينَ، أَيْ مُشْرِكِينَ، كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ الشرك ظلم عظيم، فهذا اللفظ هاهنا أبلغ وذلك اللفظ هناك أبلغ. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 50] وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 51 إلى 52]

لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ دَلِيلٍ مِنْ جَانِبِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ شُبْهَتَهُمْ وَهِيَ بِذِكْرِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَالْمَقِيسِ، فَقَالُوا إِنَّكَ تَقُولُ إِنَّهُ أُنْزِلَ إِلَيْكَ كِتَابٌ كَمَا أُنْزِلَ إِلَى مُوسَى وَعِيسَى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مُوسَى أُوتِيَ تِسْعَ آيَاتٍ عُلِمَ بِهَا كَوْنُ الْكِتَابِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنْتَ مَا أُوتِيتَ شَيْئًا مِنْهَا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْشَدَ نَبِيَّهُ إِلَى أَجْوِبَةِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْهَا قَوْلُهُ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ ادَّعَى الرِّسَالَةَ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الرِّسَالَةِ الْآيَةُ الْمُعْجِزَةُ، لِأَنَّ الرَّسُولَ يُرْسَلُ أَوَّلًا وَيَدْعُو إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ إِنْ تَوَقَّفَ الْخَلْقُ فِي قَبُولِهِ أَوْ طَلَبُوا مِنْهُ دَلِيلًا، فَاللَّهُ إِنْ رَحِمَهُمْ بَيَّنَ رِسَالَتَهُ وَإِنْ لَمْ يَرْحَمْهُمْ لَا يُبَيِّنْ، فَقَالَ أَنَا السَّاعَةَ رَسُولٌ وَأَمَّا الْآيَةُ فَاللَّهُ إِنْ أَرَادَ يُنْزِلْهَا وَإِنْ لَمْ يُرِدْ لَا يُنْزِلْهَا وَهَذَا لِأَنَّ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِ الشَّيْءِ إِذَا خَلَقَ اللَّهُ الشَّيْءَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَخْلُقَهَا كَالْمَكَانِ مِنْ ضَرُورَاتِ الْإِنْسَانِ فَلَا يَخْلُقُ اللَّهُ إِنْسَانًا إِلَّا وَيَكُونُ قَدْ خَلَقَ مَكَانًا أَوْ يَخْلُقُهُ مَعَهُ، لَكِنَّ الرِّسَالَةَ وَالْمُعْجِزَةَ لَيْسَتَا كَذَلِكَ فَاللَّهُ إِذَا خَلَقَ رَسُولًا وَجَعَلَهُ رَسُولًا لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ أَنْ تُعْلَمَ لَهُ مُعْجِزَةٌ، وَلِهَذَا عُلِمَ وُجُودُ رُسُلٍ كَشِيثَ وَإِدْرِيسَ وَشُعَيْبٍ وَلَمْ تُعْلَمْ لَهُمْ مُعْجِزَةٌ فَإِنْ قِيلَ عُلِمَ رِسَالَتُهُمْ، نَقُولُ مَنْ ثَبَتَتْ رِسَالَتُهُ بِلَا مُعْجِزَةٍ فَنَبِيُّنَا كَذَلِكَ لَا حَاجَةَ لَهُ إِلَى مُعْجِزَةٍ لِأَنَّ رِسَالَتَهُ عُلِمَتْ بِقَوْلِ مُوسَى وَعِيسَى فَتَبَيَّنَ بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ لِمَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ آيَةٌ؟ وَهَذَا لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا سَبْقَ الْآيَةِ وَلَيْسَتْ شَرْطًا حَتَّى تَسْبِقَهَا، بَلَى إِنْ كَانَ لَهُمْ سُؤَالٌ فَطَرِيقُهُ أَنْ يَقُولُوا يَا أَيُّهَا الْمُدَّعِي نَحْنُ لَا نُكَذِّبُكَ وَلَا نُصَدِّقُكَ لَكِنَّا نُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ اللَّهُ لَنَا آيَةً تُخَلِّصُنَا مِنْ تَصْدِيقِ الْمُتَنَبِّي وَتَكْذِيبِ النَّبِيِّ وَنَعْلَمُ بِهَا كَوْنَكَ نَبِيًّا وَنُؤْمِنُ بِكَ، فَبَعْدَ ذَلِكَ مَا كَانَ يَبْعُدُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أَنْ يُنْزِلَ آيَةً. ثُمَّ قَوْلُهُ: وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ مَعْنَاهُ أَنَّ الْآيَةَ عِنْدَ اللَّهِ يُنْزِلُهَا أَوْ لَا يُنْزِلُهَا لَا تَتَعَلَّقُ بِي مَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَلَيْسَ لِي عَلَيْهِ حُكْمٌ بِشَيْءٍ ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ بَيَانِ فَسَادِ شُبْهَتِهِمْ مِنْ وَجْهٍ بَيَّنَ فَسَادَهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَقَالَ هَبْ أَنَّ إِنْزَالَ الْآيَةِ شَرْطٌ لَكِنَّهُ وجد وهو في نفس الكتاب. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 51 الى 52] أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) فَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ يَعْنِي إِنْ كَانَ إِنْزَالُ الْآيَةِ شَرْطًا/ فَلَا يُشْتَرَطُ إِلَّا إِنْزَالُ آيَةٍ وَقَدْ أُنْزِلَ وَهُوَ الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ بَاقِيَةٌ وَقَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ عِبَارَةٌ تُنْبِئُ عَنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ آيَةً فَوْقَ الْكِفَايَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ أَمَا يَكْفِي لِلْمُسِيءِ أَنْ لَا يُضْرَبَ حَتَّى يَتَوَقَّعَ الْإِكْرَامَ يُنْبِئُ عَنْ أَنَّ تَرْكَ الضَّرْبِ فِي حَقِّهِ كَثِيرٌ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ وَهَذَا لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزَةٌ أَتَمُّ مِنْ كُلِّ مُعْجِزَةٍ تَقَدَّمَتْهَا لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ وُجِدَتْ ومادامت فَإِنَّ قَلْبَ الْعَصَا ثُعْبَانًا وَإِحْيَاءَ الْمَيِّتِ لَمْ يَبْقَ لَنَا مِنْهُ أَثَرٌ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ يُؤْمِنُ بِكُتُبِ اللَّهِ وَيُكَذِّبُ بِوُجُودِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا مَعَهُ بِدُونِ الْكِتَابِ وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ بَاقٍ لَوْ أَنْكَرَهُ وَاحِدٌ فَنَقُولُ لَهُ فَأْتِ بِآيَةٍ مِنْ مِثْلِهِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ قَلْبَ الْعَصَا ثُعْبَانًا كَانَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَرَهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدْ وَصَلَ إلى المشرق والمغرب وسمعه كل أحد، وهاهنا لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ آيَاتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ أَشْيَاءَ لَا تَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا

انْشِقَاقَ الْقَمَرِ وَهُوَ يَعُمُّ الْأَرْضَ، لِأَنَّ الْخُسُوفَ إِذَا وَقَعَ عَمَّ وَذَلِكَ لِأَنَّ نُبُوَّتَهُ كَانَتْ عَامَّةً لَا تَخْتَصُّ بِقُطْرٍ دُونَ قُطْرٍ وَغَاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ فِي قُطْرٍ وَسَقَطَ إِيوَانُ كِسْرَى فِي قُطْرٍ وَانْهَدَّتِ الْكَنِيسَةُ بِالرُّومِ فِي قُطْرٍ آخَرَ إِعْلَامًا بِأَنَّهُ يَكُونُ أَمْرٌ عَامٌّ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ غَيْرَ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ الْكَافِرَ الْمُعَانِدَ يَقُولُ إِنَّهُ سِحْرٌ عُمِلَ بِدَوَاءٍ، وَالْقُرْآنُ لَا يُمْكِنُ هَذَا الْقَوْلُ فِيهِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً إِشَارَةً إِلَى أَنَّا جَعَلْنَاهُ مُعْجِزَةً رَحْمَةً عَلَى الْعِبَادِ لِيَعْلَمُوا بِهَا الصَّادِقَ، وَهَذَا لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ إِظْهَارَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى يَدِ الصَّادِقِ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَكَانَ لَهُ أَنْ لَا يُظْهِرَ فَيَبْقَى الْخَلْقُ فِي وَرْطَةِ تَكْذِيبِ الصَّادِقِ أَوْ تَصْدِيقِ الْكَاذِبِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ لَا يَتَمَيَّزُ عَنِ الْمُتَنَبِّي لَوْلَا الْمُعْجِزَةُ، لَكِنَّ اللَّهَ لَهُ ذَلِكَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَقَوْلُهُ: وَذِكْرى إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ بَاقِيَةٌ يَتَذَكَّرُ بِهَا كُلُّ مَنْ يَكُونُ مَا بَقِيَ الزَّمَانُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يَعْنِي هَذِهِ الرَّحْمَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ كَانَتْ غَضَبًا عَلَى الْكَافِرِينَ لِأَنَّهَا قَطَعَتْ أَعْذَارَهُمْ وَعَطَّلَتْ إِنْكَارَهُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً لَمَّا ظَهَرَتْ رِسَالَتُهُ وَبَهَرَتْ دَلَالَتُهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ الْمُعَانِدُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ كَمَا يَقُولُ الصَّادِقُ إِذَا كُذِّبَ وَأَتَى بِكُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ وَلَمْ يُصَدَّقْ اللَّهُ يَعْلَمُ صِدْقِي وَتَكْذِيبَكَ أَيُّهَا الْمُعَانِدُ وَهُوَ عَلَى مَا أَقُولُ شَهِيدٌ يَحْكُمُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، كُلُّ ذَلِكَ إِنْذَارٌ وَتَهْدِيدٌ يُفِيدُهُ تَقْرِيرًا وَتَأْكِيدًا، ثُمَّ بَيَّنَ كَوْنَهُ كَافِيًا بِكَوْنِهِ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. فَقَالَ: يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهاهنا مَسْأَلَةٌ: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الرَّعْدِ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرَّعْدِ: 43] فَأَخَّرَ شَهَادَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ قَدَّمَهَا حَيْثُ قَالَ: فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [الْعَنْكَبُوتِ: 47] وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أَيْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَنَقُولُ الْكَلَامُ هُنَاكَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، فَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِمْ بِشَهَادَةِ غَيْرِهِمْ ثُمَّ/ إِنَّ شَهَادَةَ اللَّهِ أَقْوَى فِي إِلْزَامِهِمْ مِنْ شَهَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وهاهنا الْكَلَامُ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَشَهَادَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ إِقْرَارُهُ وَهُوَ أَقْوَى الْحُجَجِ عَلَيْهِ فَقَدَّمَ مَا هُوَ أَلْزَمُ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الطَّرِيقَيْنِ فِي إِرْشَادِ الْفَرِيقَيْنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ عَادَ إِلَى الْكَلَامِ الشَّامِلِ لَهُمَا وَالْإِنْذَارِ الْعَامِّ فَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا سِوَى اللَّهِ لِأَنَّ مَا سِوَى اللَّهِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ هَالِكٌ بِقَوْلِهِ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88] وَكُلُّ مَا هَلَكَ فَقَدْ بَطَلَ فَكُلُّ هَالِكٍ بَاطِلٌ وَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ بَاطِلٌ، فَمَنْ آمَنَ بِمَا سِوَى اللَّهِ فَقَدْ آمَنَ بِالْبَاطِلِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: قَوْلُهُ: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ يَقْتَضِي الْحَصْرَ أَيْ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ بِالْبَاطِلِ وَالْكُفْرِ بِاللَّهِ فَهُوَ خَاسِرٌ فَمَنْ يَأْتِي بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ خَاسِرًا فَنَقُولُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْآتِي بِأَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ آتِيًا بِالْآخَرِ، أَمَّا الْآتِي بِالْإِيمَانِ بِمَا سِوَى اللَّهِ فَلِأَنَّهُ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَجَعَلَ غَيْرَ اللَّهِ مِثْلَ غَيْرِهِ لَكِنَّ غَيْرَهُ عَاجِزٌ جَاهِلٌ مُمْكِنٌ بَاطِلٌ فَيَكُونُ اللَّهُ كَذَلِكَ فَيَكُونُ إِنْكَارًا لِلَّهِ وَكُفْرًا بِهِ، وَأَمَّا مَنْ كَفَرَ بِهِ وَأَنْكَرَهُ فَيَكُونُ قَائِلًا بِأَنَّ الْعَالَمَ لَيْسَ لَهُ إِلَهٌ مُوجِدٌ فَوُجُودُ الْعَالَمِ مِنْ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ قَائِلًا بِأَنَّ الْعَالَمَ وَاجِبٌ وَالْوَاجِبُ إِلَهٌ، فَيَكُونُ قَائِلًا بِأَنَّ غَيْرَ اللَّهِ إِلَهٌ فَيَكُونُ إِثْبَاتًا لِغَيْرِ اللَّهِ وإيمانا به.

[سورة العنكبوت (29) : آية 53]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ الْإِيمَانُ بِمَا سِوَى اللَّهِ كُفْرًا بِهِ، فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِالْبَاطِلِ فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ، فَهَلْ لِهَذَا الْعَطْفِ فَائِدَةٌ غَيْرُ التَّأْكِيدِ الَّذِي هُوَ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ قُمْ وَلَا تَقْعُدْ وَاقْرُبْ مِنِّي وَلَا تَبْعُدْ؟ نَقُولُ نَعَمْ فِيهِ فَائِدَةٌ غَيْرُهَا، وَهُوَ أَنَّهُ ذَكَرَ الثَّانِيَ لِبَيَانِ قُبْحِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ أَتَقُولُ بِالْبَاطِلِ وَتَتْرُكُ الْحَقَّ لِبَيَانِ أَنَّ الْقَوْلَ بَاطِلٌ قَبِيحٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَلْ يَتَنَاوَلُ هَذَا أَهْلَ الْكِتَابِ أَيْ هَلْ هُمْ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ؟ نَقُولُ نَعَمْ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا صَحَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ مُعْجِزَةَ النَّبِيِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَقَطَعُوا بِهَا وَعَانَدُوا وَقَالُوا إِنَّهَا مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، يَكُونُ كَمَنْ رَأَى شَخْصًا يَرْمِي حِجَارَةً، فَقَالَ إِنَّ رَامِيَ الْحِجَارَةِ زِيدٌ يَقْطَعُ بِأَنَّهُ قَائِلٌ بِأَنَّ هَذَا الشَّخْصَ زِيدٌ حَتَّى لَوْ سُئِلَ عَنْ عَيْنِ ذَلِكَ الشَّخْصِ وَقِيلَ لَهُ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ يَقُولُ زَيْدٌ، فَكَذَلِكَ هُمْ لَمَّا قَطَعُوا بِأَنَّ مُظْهِرَ الْمُعْجِزَةِ هُوَ اللَّهُ وَقَالُوا بِأَنَّ مُحَمَّدًا مُظْهِرُ هَذَا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا مُحَمَّدٌ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَيَكُونُ إِيمَانًا بِالْبَاطِلِ، وَإِذَا قَالُوا بِأَنَّ مَنْ أَظْهَرَ الْمُعْجِزَةَ لَيْسَ بِإِلَهٍ مَعَ أَنَّهُمْ قَطَعُوا بِخُصُوصِ مُظْهِرِ الْمُعْجِزَةِ يَكُونُونَ قَائِلِينَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْمَخْصُوصَ الَّذِي هُوَ اللَّهُ لَيْسَ بِإِلَهٍ فَيَكُونُ كُفْرًا بِهِ، وَهَذَا لَا يَرِدُ عَلَيْنَا فِيمَنْ يَقُولُ فَلَعَلَّ الْعَبْدَ مَخْلُوقُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مَخْلُوقُ الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ أَيْضًا يَنْسُبُ فِعْلَ اللَّهِ إِلَى الْغَيْرِ، كَمَا أَنَّ الْمُعْجِزَةَ فِعْلُ اللَّهِ وَهُمْ نَسَبُوهَا إِلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ جَهِلَ النِّسْبَةَ، كَمَنْ يَرَى حِجَارَةً رُمِيَتْ وَلَمْ يَرَ عَيْنَ رَامِيهَا، فَيَظُنُّ أَنَّ رَامِيَهَا زَيْدٌ فَيَقُولُ زَيْدٌ هُوَ رَامِي هَذِهِ الْحِجَارَةِ، ثُمَّ إِذَا رَأَى رَامِيَهَا بِعَيْنِهِ وَيَكُونُ غَيْرَ زَيْدٍ لَا يَقْطَعُ بِأَنْ يَقُولَ هُوَ زَيْدٌ، وَأَمَّا إِذَا رَأَى عَيْنَهُ وَرَمْيَهُ لِلْحِجَارَةِ وَقَالَ رَامِي الْحِجَارَةِ زَيْدٌ، يَقْطَعُ بِأَنَّهُ يَقُولُ هَذَا الرَّجُلُ زَيْدٌ فَظَهَرَ الْفَرْقُ مِنْ/ حَيْثُ إِنَّهُمْ كَانُوا مُعَانِدِينَ عَالِمِينَ بِأَنَّ اللَّهَ مُظْهِرُ تِلْكَ الْمُعْجِزَةِ، وَيَقُولُونَ بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ. ثُمَّ قَوْلُهُ: هُمُ الْخاسِرُونَ كَذَلِكَ بِأَتَمِّ وُجُوهِ الْخُسْرَانِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَنْ يَخْسَرُ رَأْسَ الْمَالِ وَلَا تَرْكَبُهُ دُيُونٌ يُطَالَبُ بِهَا دُونَ مَنْ يَخْسَرُ رَأْسَ الْمَالِ وَتَرْكَبُهُ تِلْكَ الدُّيُونُ، فَهُمْ لَمَّا عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ أَفْنَوُا الْعُمْرَ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ فِي مُقَابَلَتِهِ شَيْءٌ مَا أَصْلًا مِنَ الْمَنَافِعِ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ دُيُونُ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ يُطَالَبُونَ بها حيث لا طاقة لهم بها. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 53] وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) لَمَّا أَنْذَرَهُمُ اللَّهُ بِالْخُسْرَانِ وَهُوَ أَتَمُّ وُجُوهِ الْإِنْذَارِ لِأَنَّ مَنْ خَسِرَ لَا يَحْصُلُ لَهُ فِي مُقَابَلَةِ قَدْرِ الْخُسْرَانِ شَيْءٌ مِنَ الْمَنَافِعِ وَإِلَّا لَمَا كَانَ الْخُسْرَانُ ذَلِكَ الْقَدْرَ بَلْ دُونَهُ، مِثَالُهُ إِذَا خَسِرَ وَاحِدٌ مِنَ الْعَشْرَةِ دِرْهَمًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَصَلَ لَهُ فِي مُقَابَلَةِ الدِّرْهَمِ مَا يُسَاوِي نِصْفَ دِرْهَمٍ، وَإِلَّا لَا يَكُونُ الْخُسْرَانُ دِرْهَمًا بَلْ نِصْفَ دِرْهَمٍ، فَإِذَنْ هُمْ لَمَّا خَسِرُوا أَعْمَارَهُمْ لَا تَحْصُلُ لَهُمْ مَنْفَعَةُ تَخْفِيفِ عَذَابٍ وَإِلَّا يَكُونُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنَ الْعُمُرِ لَهُ مَنْفَعَةٌ فَيَكُونُ لِلْخَاسِرِ عَذَابٌ أَلِيمٌ، فَقَوْلُهُ: وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ فَقَالُوا إِنْ كَانَ عَلَيْنَا عَذَابٌ فَأْتِنَا بِهِ، إِظْهَارًا لِقَطْعِهِمْ بِعَدَمِ الْعَذَابِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَجَابَ بِأَنَّ الْعَذَابَ لَا يَأْتِيكُمْ بِسُؤَالِكُمْ وَلَا يُعَجَّلُ بِاسْتِعْجَالِكُمْ، لِأَنَّهُ أَجَّلَهُ اللَّهُ لِحِكْمَةٍ وَرَحْمَةٍ فَلِكَوْنِهِ حَكِيمًا لَا يَكُونُ مُتَغَيِّرًا مُنْقَلِبًا، وَلِكَوْنِهِ رَحِيمًا لَا يَكُونُ غَضُوبًا مُنْزَعِجًا، وَلَوْلَا ذَلِكَ الْأَجَلُ الْمُسَمَّى الَّذِي اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ وَارْتَضَتْهُ رَحْمَتُهُ لَمَا كَانَ لَهُ رَحْمَةٌ وَحِكْمَةٌ، فَيَكُونُ غَضُوبًا مُنْقَلِبًا فَيَتَأَثَّرُ بِاسْتِعْجَالِكُمْ وَيَتَغَيَّرُ مِنْ سُؤَالِكُمْ فَيَعْجَلُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا يَأْتِيكُمْ بِالْعَذَابِ وَأَنْتُمْ تَسْأَلُونَهُ وَلَا يدفع عنكم بالعذاب حِينَ تَسْتَعِيذُونَ بِهِ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها [الْحَجِّ: 22] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيَأْتِيَنَّهُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً، لِأَنَّ الْعَذَابَ

[سورة العنكبوت (29) : آية 54]

أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ، وَلِأَنَّ مَسْئُولَهُمْ كَانَ الْعَذَابَ، فَقَالَ إِنَّهُ لَيَأْتِيَنَّهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً أَيِ الْأَجَلُ، لِأَنَّ الْآتِيَ بَغْتَةً هُوَ الْأَجَلُ وَأَمَّا الْعَذَابُ بَعْدَ الْأَجَلِ يَكُونُ مُعَايَنَةً، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِي كَوْنِ الْعَذَابِ أَوِ الْأَجَلِ آتِيًا بَغْتَةً حِكْمَةً، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَقْتُهُ مَعْلُومًا، لَكَانَ كُلُّ أَحَدٍ يَتَّكِلُ عَلَى بُعْدِهِ وَعِلْمِهِ بِوَقْتِهِ فَيَفْسُقُ وَيَفْجُرُ مُعْتَمِدًا عَلَى التَّوْبَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: تَأْكِيدُ مَعْنَى قَوْلِهِ بَغْتَةً كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ أَتَيْتُهُ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْهُ بِحَيْثُ لَمْ يَدْرِ، فَقَوْلُهُ بِحَيْثُ لَمْ يَدْرِ أَكَّدَ مَعْنَى الْغَفْلَةِ وَالثَّانِي: هُوَ كَلَامٌ/ يُفِيدُ فَائِدَةً مُسْتَقِلَّةً، وَهِيَ أَنَّ الْعَذَابَ يَأْتِيهِمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ هَذَا الْأَمْرَ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ العذاب لا يأتيهم أصلا. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 54] يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) ذُكِرَ هَذَا لِلتَّعَجُّبِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَنْ تُوُعِّدَ بِأَمْرٍ فِيهِ ضَرَرٌ يَسِيرُ كَلَطْمَةٍ أَوْ لَكْمَةٍ، فَيَرَى مِنْ نَفْسِهِ الْجَلَدَ وَيَقُولُ بِاسْمِ اللَّهِ هَاتِ، وَأَمَّا مَنْ تُوُعِّدَ بِإِغْرَاقٍ أَوْ إِحْرَاقٍ وَيَقْطَعُ بِأَنَّ الْمُتَوَعِّدَ قَادِرٌ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، لَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْعَاقِلِ أَنْ يَقُولَ لَهُ هَاتِ ما تتوعدني به، فقال هاهنا يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَالْعَذَابُ بِنَارِ جَهَنَّمَ الْمُحِيطَةِ بِهِمْ، فقوله: يَسْتَعْجِلُونَكَ أَوَّلًا إِخْبَارٌ عَنْهُمْ وَثَانِيًا تَعَجُّبٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ ذكر كيفية إحاطة جهنم. فقال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 55] يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) [في قَوْلُهُ تَعَالَى يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ] وفيه مسألتان: الْأُولَى: لِمَ خَصَّ الْجَانِبَيْنِ بِالذِّكْرِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْيَمِينَ وَالشِّمَالَ وَخَلْفَ وَقُدَّامَ؟ فَنَقُولُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ مَا تَتَمَيَّزُ بِهِ نَارُ جَهَنَّمَ عَنْ نَارِ الدُّنْيَا وَنَارُ الدُّنْيَا تُحِيطُ بِالْجَوَانِبِ الْأَرْبَعِ، فَإِنَّ مَنْ دَخَلَهَا تَكُونُ الشُّعْلَةُ خَلْفَهُ وَقُدَّامَهُ وَيَمِينَهُ وَيَسَارَهُ وَأَمَّا النَّارُ مِنْ فَوْقُ فَلَا تنزل وإنما تصعد من أسف فِي الْعَادَةِ الْعَاجِلَةِ وَتَحْتَ الْأَقْدَامِ لَا تَبْقَى الشُّعْلَةُ الَّتِي تَحْتَ الْقَدَمِ، وَنَارُ جَهَنَّمَ تَنْزِلُ مِنْ فَوْقُ وَلَا تَنْطَفِئُ بِالدَّوْسِ مَوْضِعِ الْقَدَمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ: مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ، وَلَا قَالَ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِهِمْ، بَلْ ذَكَرَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ عِنْدَ ذِكْرِ تَحْتَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ عِنْدَ ذِكْرِ فَوْقُ، فَنَقُولُ لِأَنَّ نُزُولَ النَّارِ مِنْ فَوْقُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ سَمْتِ الرُّءُوسِ وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ عَجِيبٌ، فَلِهَذَا لَمْ يَخُصَّهُ بِالرَّأْسِ، وَأَمَّا بَقَاءُ النَّارِ تَحْتَ الْقَدَمِ فَحَسْبُ عَجِيبٌ، وَإِلَّا فَمِنْ جَوَانِبِ الْقَدَمِ فِي الدُّنْيَا يَكُونُ شُعَلٌ وَهِيَ تَحْتُ فَذَكَرَ الْعَجِيبَ وَهُوَ مَا تَحْتَ الْأَرْجُلِ حَيْثُ لَمْ يَنْطِقْ بِالدَّوْسِ وَمَا فَوْقُ عَلَى الْإِطْلَاقِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَمَّا بَيَّنَ عَذَابَ أَجْسَامِهِمْ بَيَّنَ عَذَابَ أَرْوَاحِهِمْ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيلِ وَالْإِهَانَةِ ذُوقُوا عَذَابَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَجَعَلَ ذَلِكَ عَيْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لِلْمُبَالَغَةِ بِطَرِيقِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، فَإِنَّ عَمَلَهُمْ كَانَ سَبَبًا لِجَعْلِ اللَّهِ إِيَّاهُ سَبَبًا لِعَذَابِهِمْ، وهذا كثير النظير في الاستعمال. / ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 56] يَا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)

وَجْهُ التَّعَلُّقِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى حِدَةٍ وَحَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى حِدَةٍ وَجَمَعَهُمَا فِي الْإِنْذَارِ وَجَعَلَهُمَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ اشْتَدَّ عِنَادُهُمْ وَزَادَ فَسَادُهُمْ وَسَعَوْا فِي إِيذَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنَعُوهُمْ مِنَ الْعِبَادَةِ فقال مخاطبا للمؤمنين يَا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ إِنْ تَعَذَّرَتِ الْعِبَادَةُ عَلَيْكُمْ فِي بَعْضِهَا فَهَاجِرُوا وَلَا تَتْرُكُوا عِبَادَتِي بِحَالٍ، وَبِهَذَا عُلِمَ أَنَّ الْجُلُوسَ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَرَامٌ وَالْخُرُوجَ مِنْهَا وَاجِبٌ، حَتَّى لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ لَزِمَهُ الْخُرُوجُ، وَ [رُ] دِعَ حَتَّى يَقَعَ الطَّلَاقُ ثُمَّ فِي الْآيَةِ مسائل: إحداها: يا عِبادِيَ لَمْ يُرِدِ إِلَّا الْمُخَاطَبَةَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ أن الكافر داخل في قوله: يا عِبادِيَ نقول ليس داخلا في قوله: يا عِبادِيَ نَقُولُ لَيْسَ دَاخِلًا فِيهِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ قَالَ فِي حَقِّهِ (عِبَادِيَ) لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الْحِجْرِ: 42] وَالْكَافِرُ تَحْتَ سَلْطَنَةِ الشَّيْطَانِ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ يا عِبادِيَ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْخِطَابَ بِعِبَادِي أَشْرَفُ مَنَازِلِ الْمُكَلَّفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ آدَمَ آتَاهُ اسْمًا عَظِيمًا وَهُوَ اسْمُ الْخِلَافَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَةِ: 30] وَالْخَلِيفَةُ أَعْظَمُ النَّاسِ مِقْدَارًا وَأَتَمُّ ذَوِي الْبَأْسِ اقْتِدَارًا، ثُمَّ إِنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يُرْهَبْ مِنْ هَذَا الِاسْمِ وَلَمْ يَنْهَزِمْ، بَلْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ وَعَادَاهُ وَغَلَبَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ [الْبَقَرَةِ: 36] ثُمَّ إِنَّ مِنْ أَوْلَادِهِ الصَّالِحِينَ مَنْ سُمِّيَ بِعِبَادِي فَانْخَنَسَ عَنْهُمُ الشَّيْطَانُ وَتَضَاءَلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: 42] وَقَالَ هُوَ بِلِسَانِهِ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا كَانَ عَبْدًا لِلَّهِ يَكُونُ أَعْلَى دَرَجَةً مِمَّا إِذَا كَانَ خَلِيفَةً لِوَجْهِ الْأَرْضِ وَلَعَلَّ آدَمَ كَدَاوُدَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ [ص: 26] لَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْ يَدِ الشَّيْطَانِ إِلَّا وَقْتَ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى في حقه عبدي وعند ما نَادَاهُ بِقَوْلِهِ: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: 23] وَاجْتَبَاهُ بِهَذَا النِّدَاءِ، كَمَا قَالَ فِي حَقِّ دَاوُدَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ [ص: 17] إِذَا عُلِمَ هَذَا فَالْكَافِرُ لَا يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ فَكَيْفَ يَصْلُحُ لِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْخِلَافَةِ؟ فَلَا يدخل في قوله يا عِبادِيَ إِلَّا الْمُؤْمِنُ. الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِ بِسَعْيِهِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: 60] فَالْمُؤْمِنُ دَعَا رَبَّهُ بِقَوْلِهِ: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا [آل عمران: 193] فأجابه الله تعالى بقوله: يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزُّمَرِ: 53] فَالْإِضَافَةُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ بِقَوْلِ الْعَبْدِ إِلَهِي وَقَوْلِ اللَّهِ عَبْدِي تَأَكَّدَتْ بِدُعَاءِ الْعَبْدِ، لَكِنَّ الْكَافِرَ لَمْ يَدْعُ فلم يجب، فلا يتناول يا عبادي غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ عِبَادِي لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْمُؤْمِنِينَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا مَعَ أَنَّ الْوَصْفَ إِنَّمَا يُذْكَرُ لِتَمْيِيزِ الْمَوْصُوفِ، كَمَا يُقَالُ يَا أَيُّهَا الْمُكَلَّفُونَ الْمُؤْمِنُونَ، وَيَا أَيُّهَا الرِّجَالُ الْعُقَلَاءُ تَمْيِيزًا عَنِ الْكَافِرِينَ وَالْجُهَّالِ، فَنَقُولُ الْوَصْفُ يُذْكَرُ لَا لِلتَّمْيِيزِ بَلْ لِمُجَرَّدِ بَيَانِ أَنَّ فِيهِ الْوَصْفَ كَمَا يُقَالُ الْأَنْبِيَاءُ الْمُكَرَّمُونَ وَالْمَلَائِكَةُ الْمُطَهَّرُونَ، مَعَ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مُكَرَّمٌ وَكُلَّ مَلَكٍ مُطَهِّرٌ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَيَانِ أَنَّ فِيهِمُ الْإِكْرَامَ وَالطَّهَارَةَ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُنَا اللَّهُ الْعَظِيمُ وَزَيْدٌ الطَّوِيلُ، فَهَهُنَا ذُكِرَ لِبَيَانِ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إذ قال يا عِبادِيَ فَهُمْ يَكُونُونَ عَابِدِينَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ بِقَوْلِهِ فَاعْبُدُونِ فَنَقُولُ فِيهِ فَائِدَتَانِ إِحْدَاهُمَا: الْمُدَاوَمَةُ أَيْ يَا مَنْ عَبَدْتُمُونِي فِي الْمَاضِي اعْبُدُونِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ الثَّانِيَةُ: الْإِخْلَاصُ أَيْ يَا مَنْ تَعْبُدُنِي أَخْلِصِ الْعَمَلَ لِي وَلَا تَعْبُدْ غيري.

[سورة العنكبوت (29) : آية 57]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِيَّايَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِشَرْطٍ فَمَا ذَلِكَ؟ فَنَقُولُ قوله: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ عِبَادَتِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ إِذَا كَانَ لَا مَانِعَ مِنْ عِبَادَتِي فَاعْبُدُونِي، وَأَمَّا الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْبُدُونِ فَهُوَ لِتَرْتِيبِ الْمُقْتَضَى عَلَى الْمُقْتَضِي كَمَا يُقَالُ هذا عالم فأكرموه فكذلك هاهنا لَمَّا أَعْلَمَ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ: فَإِيَّايَ وَهُوَ لِنَفْسِهِ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ قَالَ فَاعْبُدُونِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْعَبْدُ مِثْلَ هَذَا فِي قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وقال عقيبه: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَاللَّهُ تَعَالَى وَافَقَهُ فِي قَوْلِهِ: فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِعَانَةَ نَقُولُ بَلْ هِيَ مَذْكُورَةٌ في قوله يا عِبادِيَ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ بِعِبَادِي لَمَّا كَانَ الشَّيْطَانُ مَسْدُودَ السَّبِيلِ عَلَيْهِ مَسْدُودَ الْقَبِيلِ عَنْهُ كَانَ فِي غَايَةِ الْإِعَانَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَدَّمَ اللَّهُ الْإِعَانَةَ وَأَخَّرَ الْعَبْدُ الِاسْتِعَانَةَ، قُلْنَا لِأَنَّ الْعَبْدَ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ وَكُلُّ فِعْلٍ لِغَرَضٍ، فَإِنَّ الْغَرَضَ سَابِقٌ عَلَى الْفِعْلِ فِي الْإِدْرَاكِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَبْنِي بَيْتًا لِلسُّكْنَى يَدْخُلُ فِي ذِهْنِهِ أَوَّلًا فَائِدَةُ السُّكْنَى فَيَحْمِلُهُ عَلَى الْبِنَاءِ، لَكِنَّ الْغَرَضَ فِي الْوُجُودِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ فِعْلِ الْوَاسِطَةِ، فَنَقُولُ الِاسْتِعَانَةُ مِنَ الْعَبْدِ لِغَرَضِ الْعِبَادَةِ فَهِيَ سَابِقَةٌ فِي إِدْرَاكِهِ، وَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَلَيْسَ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ فَرَاعَى تَرْتِيبَ الْوُجُودِ، فَإِنَّ الإعانة قبل العبادة. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 57] كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُهَاجِرَةِ صَعُبَ عَلَيْهِمْ تَرْكُ الْأَوْطَانِ وَمُفَارَقَةُ الْإِخْوَانِ، فَقَالَ لَهُمْ إِنَّ مَا تَكْرَهُونَ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ فَإِنَّ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَالْمَوْتُ مُفَرِّقُ الأحباب فلأولى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُجَازِيَكُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعَكُمْ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَرَقُّ وَأَدَقُّ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: كُلُّ نَفْسٍ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُتَعَلِّقَةٍ بِغَيْرِهَا فَهِيَ لِلْمَوْتِ، ثُمَّ إِلَى اللَّهِ تَرْجِعُ فَلَا تَمُوتُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ [الدُّخَانِ: 56] إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَنْ يُرِيدُ أَلَّا يَذُوقَ الْمَوْتَ لَا يَبْقَى مَعَ نَفْسِهِ فَإِنَّ/ النَّفْسَ ذَائِقَتُهُ بَلْ يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ وَذَلِكَ الْغَيْرُ إِنْ كَانَ غَيْرَ اللَّهِ فَهُوَ ذَائِقُ الْمَوْتِ وَمُورِدُ الْهَلَاكِ بِقَوْلِهِ: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وكُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88] فَإِذًا التَّعَلُّقُ بِاللَّهِ يُرِيحُ مِنَ الْمَوْتِ فَقَالَ تَعَالَى فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ أَيْ تَعَلَّقُوا بِي، وَلَا تَتَّبِعُوا النَّفْسَ فَإِنَّهَا ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ أَيْ إِذَا تَعَلَّقْتُمْ بِي فَمَوْتُكُمْ رُجُوعٌ إِلَيَّ وَلَيْسَ بِمَوْتٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ [آلِ عِمْرَانَ: 169] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُؤْمِنُونَ لَا يَمُوتُونَ بَلْ يُنْقَلُونَ مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ» فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا يَتَبَيَّنُ وَجْهُ التَّعَلُّقِ. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 58] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) بَيَّنَ مَا يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقْتَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ كَمَا بَيَّنَ مِنْ قَبْلُ مَا يَكُونُ لِلْكَافِرِينَ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: 54] فَبَيَّنَ أَنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ الْجِنَانَ فِي مُقَابَلَةِ مَا أَنَّ لِلْكَافِرِينَ النِّيرَانَ، وَبَيَّنَ أَنَّ فِيهَا غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فِي مُقَابَلَةِ مَا بَيَّنَ أَنَّ تَحْتَ الْكَافِرِينَ النَّارَ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ أَجْرُ عَمَلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ فِي مُقَابَلَةِ مَا بَيَّنَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ جَزَاءُ عَمَلِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت: 55] ثُمَّ فِي الْآيَتَيْنِ اخْتِلَافَاتٌ فِيهَا لَطَائِفُ مِنْهَا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْعَذَابِ أَنَّ فَوْقَهُمْ عذابا أي نارا، ولم يذكر هاهنا

[سورة العنكبوت (29) : آية 59]

فَوْقَهُمْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَا فَوْقُ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ وَهُوَ الْغُرْفُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْعِقَابُ وَالثَّوَابُ الْجُسْمَانِيَّانِ، لَكِنَّ الْكَافِرَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، فَيَكُونُ فَوْقَهُ طَبَقَاتٌ مِنَ النَّارِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيَكُونُونَ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، فَلَمْ يَذْكُرْ فَوْقَهُمْ شَيْئًا إِشَارَةً إِلَى عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِمْ وَارْتِفَاعِ مَنْزِلَتِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ [الزُّمَرِ: 20] لا ينافي لِأَنَّ الْغُرَفَ فَوْقَ الْغُرَفِ لَا فَوْقَهُمْ وَالنَّارُ فَوْقَ النَّارِ وَهِيَ فَوْقَهُمْ، وَمِنْهَا أَنَّ هُنَاكَ ذكر من تحت أرجلهم النار، وهاهنا ذَكَرَ مِنْ تَحْتِ غُرَفِهِمُ الْمَاءَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّارَ لَا تُؤْلِمُ إِذَا كَانَتْ تَحْتُ مُطْلَقًا مَا لَمْ تَكُنْ فِي مُسَامَتَةِ الْأَقْدَامِ وَمُتَّصِلَةً بِهَا، أَمَّا إِذَا كَانَ الشُّعْلَةُ مَائِلَةً عَنْ سَمْتِ الْقَدَمِ وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَهَا، أَوْ تَكُونُ مُسَامِتَةً وَلَكِنْ تَكُونُ غَيْرَ مُلَاصِقَةٍ بَلْ تَكُونُ أَسْفَلَ فِي وَهْدَةٍ لَا تُؤْلِمُ، وَأَمَّا الْمَاءُ إِذَا كَانَ تَحْتَ الْغُرْفَةِ فِي أَيِّ وَجْهٍ كَانَ وَعَلَى أَيِّ بُعْدٍ كَانَ يَكُونُ مُلْتَذًّا بِهِ، فَقَالَ فِي النَّارِ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ليحصل الألم بها، وقال هاهنا مِنْ تَحْتِ الْغُرَفِ لِحُصُولِ اللَّذَّةِ بِهِ كَيْفَ كَانَ، وَمِنْهَا أَنَّ هُنَاكَ قَالَ ذُوقُوا لِإِيلَامِ قلوبهم بلفظ الأمر وقال هاهنا نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ لِتَفْرِيحِ قُلُوبِهِمْ لَا بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ يَدُلُّ عَلَى انْقِطَاعِ التَّعَلُّقِ/ بَعْدَهُ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِأَجِيرِهِ خُذْ أُجْرَتَكَ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ بِذَلِكَ يَنْقَطِعُ تَعَلُّقُهُ عَنْهُ، وَأَمَّا إِذَا قَالَ مَا أَتَمَّ أُجْرَتَكَ عِنْدِي أَوْ نِعْمَ مَالُكَ مِنَ الْأَجْرِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَلَمْ يَقُلْ هاهنا خُذُوا أُجْرَتَكُمْ أَيُّهَا الْعَامِلُونَ وَقَالَ هُنَاكَ: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ ذُوقُوا إِذَا كَانَ يُفْهَمُ مِنْهُ الِانْقِطَاعُ فَعَذَابُ الْكَافِرِ يَنْقَطِعُ، قُلْنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا قَالَ ذُوقُوا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ جَزَاءَهُمْ وَانْقَطَعَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لَكِنْ يَبْقَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ دَائِمًا وَلَا يَنْقُصُ وَلَا يَزْدَادُ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ إِذَا أَعْطَاهُ شَيْئًا فَلَا يَتْرُكُهُ مَعَ مَا أَعْطَاهُ بَلْ يَزِيدُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ فِي النِّعَمِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُسَ: 26] أَيِ الَّذِي يَصِلُ إِلَى الْكَافِرِ يَدُومُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَالَّذِي يَصِلُ إِلَى الْمُؤْمِنِ يَزْدَادُ عَلَى الدَّوَامِ، وَأَمَّا الْخُلُودُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ لَكِنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِغَيْرِهِ من النصوص. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 59] الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) ذَكَرَ أَمْرَيْنِ الصَّبْرَ وَالتَّوَكُّلَ لِأَنَّ الزَّمَانَ مَاضٍ وَحَاضِرٌ وَمُسْتَقْبَلٌ لَكِنَّ الْمَاضِيَ لَا تَدَارُكَ لَهُ وَلَا يُؤْمَرُ الْعَبْدُ فِيهِ بِشَيْءٍ، بَقِيَ الْحَاضِرُ وَاللَّائِقُ بِهِ الصَّبْرُ وَالْمُسْتَقْبَلُ وَاللَّائِقُ بِهِ التَّوَكُّلُ، فَيَصْبِرُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنَ الْأَذَى فِي الْحَالِ، وَيَتَوَكَّلُ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّبْرَ وَالتَّوَكُّلَ صِفَتَانِ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَالْعِلْمِ بِمَا سِوَى اللَّهِ، فَمَنْ عَلِمَ مَا سِوَاهُ عَلِمَ أَنَّهُ زَائِلٌ فَيَهُونُ عَلَيْهِ الصَّبْرُ إِذِ الصَّبْرُ عَلَى الزَّائِلِ هَيِّنٌ، وَإِذَا عَلِمَ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ بَاقٍ يَأْتِيهِ بِأَرْزَاقِهِ فَإِنْ فَاتَهُ شَيْءٌ فَإِنَّهُ يَتَوَكَّلُ عَلَى حي باق، وذكر الصبر والتوكل هاهنا مناسب، فإن قوله: يا عِبادِيَ كَانَ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَمَنْ يُؤْذَى فِي بُقْعَةٍ فَلْيَخْرُجْ مِنْهَا. فَحَصَلَ النَّاسُ عَلَى قِسْمَيْنِ قَادِرٌ عَلَى الْخُرُوجِ وَهُوَ مُتَوَكِّلٌ عَلَى رَبِّهِ، يَتْرُكُ الْأَوْطَانَ وَيُفَارِقُ الْإِخْوَانَ، وَعَاجِزٌ وَهُوَ صَابِرٌ عَلَى تَحَمُّلِ الْأَذَى وَمُوَاظِبٌ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: [سورة العنكبوت (29) : آية 60] وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)

لَمَّا ذَكَرَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ذَكَرَ مَا يُعِينُ عَلَى التَّوَكُّلِ وَهُوَ بَيَانُ حَالِ الدَّوَابِّ الَّتِي لَا تَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ، وَيَأْتِيهَا كُلُّ يَوْمٍ بِرِزْقٍ رَغَدٍ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَأَيِّنْ لُغَاتٌ أَرْبَعٌ [لَا] غَيْرُ هَذِهِ [وَ] كَائِنْ عَلَى وَزْنِ رَاعٍ وَكَأْيِنْ عَلَى وَزْنِ رَيْعٍ وَكَيْ عَلَى دَعْ وَلَمْ يُقْرَأْ إِلَّا كَأَيِّنْ وَكَائِنْ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَأَيِّنْ كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَافِ التَّشْبِيهِ وَأَيٍّ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ مَنْ وَمَا رُكِّبَتَا وَجُعِلَ الْمُرَكَّبُ بِمَعْنَى كَمْ، وَلَمْ تُكْتَبْ إِلَّا بِالنُّونِ لِيَفْصِلَ بَيْنَ الْمُرَكَّبِ وَغَيْرِ الْمُرَكَّبِ، لِأَنَّ كَأَيٍّ/ يُسْتَعْمَلُ غَيْرَ مُرَكَّبٍ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ رَأَيْتُ رَجُلًا لَا كَأَيِّ رَجُلٍ يَكُونُ، فَقَدْ حَذَفَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ وَيُقَالُ رَأَيْتُ رَجُلًا لَا كَأَيِّ رَجُلٍ، وَحِينَئِذٍ لَا يكون كأي مركبا، فإذا كان كأي هاهنا مُرَكَّبًا كُتِبَتْ بِالنُّونِ لِلتَّمْيِيزِ كَمَا تُكْتَبُ مَعْدِيكَرِبَ وَبَعْلَبَكَّ مَوْصُولًا لِلْفَرْقِ. وَكَمَا تُكْتَبُ ثَمَّةَ بِالْهَاءِ تَمْيِيزًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ ثُمَّتْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَأَيِّنْ بِمَعْنَى كَمْ لَمْ تُسْتَعْمَلْ مَعَ مِنْ إِلَّا نَادِرًا وَكَمْ يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ مِنْ، يُقَالُ كَمْ رَجُلًا وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ، وَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ كَأَيِّنْ بِمَعْنَى كَمْ وَكَأَيٍّ الَّتِي لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَأَيٍّ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُرَكَّبَةً لَا يَجُوزُ إِدْخَالُ مِنْ بَعْدَهَا إِذْ لَا يُقَالُ رَأَيْتُ رَجُلًا لَا كَأَيٍّ مِنْ رَجُلٍ، وَالْمُرَكَّبَةُ بِمَعْنَى كَمْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهَا فَالْتُزِمَ لِلْفَرْقِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا قِيلَ: لَا تَحْمِلُ لِضَعْفِهَا وَقِيلَ هِيَ كَالْقُمَّلِ وَالْبُرْغُوثِ وَالدُّودِ وَغَيْرِهَا وَقِيلَ لَا تَدَّخِرُ اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ أَيْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ رِزْقَهَا لَيْسَ إِلَّا بِاللَّهِ فَكَذَلِكَ يَرْزُقُكُمْ فَتَوَكَّلُوا، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مَنْ قَالَ بِأَنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ الدَّوَابَّ بَلِ النَّبَاتُ فِي الصَّحْرَاءِ مُسَبَّبٌ وَالْحَيَوَانُ يَسْعَى إِلَيْهِ وَيَرْعَى، فَنَقُولُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ نَظَرًا إِلَى الرِّزْقِ وَإِلَى الْمُرْتَزَقِ وَإِلَى مَجْمُوعِ الرِّزْقِ وَالْمُرْتَزَقِ، أَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الرِّزْقِ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَخْلُقِ النَّبَاتَ لَمْ يَكُنْ لِلْحَيَوَانِ رِزْقٌ، وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُرْتَزَقِ فَلِأَنَّ الِاغْتِذَاءَ لَيْسَ بِمُجَرَّدِ الِابْتِلَاعِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَشَبُّثِهِ بِالْأَعْضَاءِ حَتَّى يَصِيرَ الْحَشِيشُ عَظْمًا وَلَحْمًا وَشَحْمًا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ خَلَقَ فِيهِ جَاذِبَةً وَمَاسِكَةً وَهَاضِمَةً وَدَافِعَةً وَغَيْرَهَا مِنَ الْقُوَى وَبِمَحْضِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ فَهُوَ الَّذِي يَرْزُقُهَا، وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُرْتَزَقِ وَالرِّزْقِ، فَلِأَنَّ اللَّهَ لَوْ لَمْ يَهْدِ الْحَيَوَانَ إِلَى الْغِذَاءِ لِيَعْرِفَهُ مِنَ الشَّمِّ مَا كَانَ يَحْصُلُ لَهُ اغْتِذَاءٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنَ الْحَيَوَانِ مَا لَا يَعْرِفُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْغِذَاءِ حَتَّى يُوضَعَ فِي فَمِهِ بِالشِّدَّةِ لِيَذُوقَ فَيَأْكُلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ كَثِيرًا مَا يَكُونُ الْبَعِيرُ لَا يَعْرِفُ الْخَمِيرَ وَلَا الشَّعِيرَ حَتَّى يَلْقَمَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَيَعْرِفَهُ فَيَأْكُلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ يَصِحُّ قِيَاسُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْحَيَوَانِ فِيمَا يُوجِبُ التَّوَكُّلَ وَالْحَيَوَانُ رِزْقُهُ لَا يُتَعَرَّضُ إِلَيْهِ إِذَا أَكَلَ مِنْهُ الْيَوْمَ شَيْئًا وَتَرَكَ بَقِيَّةً يَجِدُهَا غَدًا، مَا مَدَّ إِلَيْهِ أَحَدٌ يَدًا، وَالْإِنْسَانُ إِنْ لَمْ يَأْخُذِ الْيَوْمَ لَا يَبْقَى لَهُ غَدًا شَيْءٌ؟ وَأَيْضًا حَاجَاتُ الْإِنْسَانِ كَثِيرَةٌ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى أَجْنَاسِ اللِّبَاسِ وَأَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ وَلَا كَذَلِكَ الْحَيَوَانُ وَأَيْضًا قُوتُ الْحَيَوَانِ مُهَيَّأٌ وَقُوتُ الْإِنْسَانِ يَحْتَاجُ إِلَى كَلَفٍ كَالزَّرْعِ وَالْحَصَادِ وَالطَّحْنِ وَالْخَبْزِ فَلَوْ لَمْ يَجْمَعْهُ قَبْلَ الْحَاجَةِ مَا كَانَ يَجِدُهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ، فَنَقُولُ نَحْنُ لَا نَقُولُ إِنَّ الْجَمْعَ يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الزَّارِعُ الْحَاصِدُ مُتَوَكِّلًا وَالرَّاكِعُ السَّاجِدُ غَيْرَ مُتَوَكِّلٍ، لِأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ يَكُونُ اعْتِمَادُهُ عَلَى اللَّهِ وَاعْتِقَادُهُ فِي اللَّهِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ يُرِيدُ يَرْزُقُ مِنْ غَيْرِ زَرْعٍ، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ لَا يَرْزُقُ مِنْ ذَلِكَ الزَّرْعِ فَيَعْمَلُ وَقَلْبُهُ مَعَ اللَّهِ هُوَ مُتَوَكِّلٌ حَقَّ التَّوَكُّلِ، وَمَنْ يُصَلِّي وَقَلْبُهُ مَعَ مَا فِي يَدِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو هُوَ غَيْرُ مُتَوَكِّلٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: حَاجَاتُ الْإِنْسَانِ كَثِيرَةٌ، فَنَقُولُ مَكَاسِبُهُ كَثِيرَةٌ أَيْضًا، فَإِنَّهُ يَكْتَسِبُ بِيَدِهِ كَالْخَيَّاطِ وَالنَّسَّاجِ وَبِرِجْلِهِ كَالسَّاعِي وَغَيْرِهِ، وَبِعَيْنِهِ كَالنَّاطُورِ وَبِلِسَانِهِ كَالْحَادِي وَالْمُنَادِي، وَبِفَهْمِهِ كَالْمُهَنْدِسِ

[سورة العنكبوت (29) : آية 61]

وَالتَّاجِرِ، / وَبِعِلْمِهِ كَالطَّبِيبِ وَالْفَقِيهِ، وَبِقُوَّةِ جِسْمِهِ كَالْعَتَّالِ وَالْحَمَّالِ، وَالْحَيَوَانُ لَا مَكَاسِبَ لَهُ، فَالرَّغِيفُ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ، بَعِيدٌ أَنْ لَا يَرْزُقَهُ اللَّهُ مَعَ هَذِهِ الْمَكَاسِبِ، فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّوَكُّلِ. وَأَيْضًا اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ بِحَيْثُ يَأْتِيهِ الرِّزْقُ وَأَسْبَابُهُ، فَإِنَّ اللَّهَ مَلَّكَ الْإِنْسَانَ عَمَائِرَ الدُّنْيَا وَجَعَلَهَا بِحَيْثُ تَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ شَاءَ أَمْ أَبَى، حَتَّى أَنَّ نِتَاجَ الْأَنْعَامِ وَثِمَارَ الْأَشْجَارِ تَدْخُلُ فِي الْمِلْكِ وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ مَالِكُ النَّعَمِ وَالشَّجَرِ، وَإِذَا مَاتَ قَرْنٌ يَنْتَقِلُ ذَلِكَ إِلَى قَرْنٍ آخَرَ قَهْرًا شَاءُوا أَمْ أَبَوْا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الْحَيَوَانِ أَصْلًا، فَإِنَّ الْحَيَوَانَ إِنْ لَمْ يَأْتِ الرِّزْقَ لَا يَأْتِيهِ رِزْقُهُ، فَإِذَنِ الْإِنْسَانُ لَوْ تَوَكَّلَ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْعَقْلِ مِنْ تَوَكُّلِ الْحَيَوَانِ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ سميع إذا طلبتم الرزق، يسمع ويجيب، عليهم إِنْ سَكَتُّمْ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ حَاجَتُكُمْ وَمِقْدَارُ حاجتكم. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 61] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) نَقُولُ لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ الْأَمْرَ لِلْمُشْرِكِ مُخَاطِبًا مَعَهُ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ وَأَعْرَضَ عَنْهُ وَخَاطَبَ الْمُؤْمِنَ بقوله: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا [العنكبوت: 56] وَأَتَمَّ الْكَلَامَ مَعَهُ ذَكَرَ مَعَهُ مَا يَكُونُ إِرْشَادًا لِلْمُشْرِكِ بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ وَهَذَا طَرِيقٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، فَإِنَّ السَّيِّدَ إِذَا كَانَ لَهُ عَبْدَانِ، أَوِ الْوَالِدَ إِذَا كَانَ لَهُ وَلَدَانِ وَأَحَدُهُمَا رَشِيدٌ وَالْآخَرُ مُفْسِدٌ، يَنْصَحُ أَوَّلًا الْمُفْسِدَ، فَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ يَقُولُ مُعْرِضًا عَنْهُ، مُلْتَفِتًا إِلَى الرَّشِيدِ، إِنَّ هَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الْخِطَابَ فَاسْمَعْ أَنْتَ وَلَا تَكُنْ مِثْلَ هَذَا الْمُفْسِدِ، فَيَتَضَمَّنُ هَذَا الْكَلَامُ نَصِيحَةَ الْمُصْلِحِ وَزَجْرَ الْمُفْسِدِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ هَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الْخِطَابَ يُوجِبُ نِكَايَةً فِي قَلْبِهِ، ثُمَّ إِذَا ذَكَرَ مَعَ الْمُصْلِحِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ وَالْمُفْسِدُ يَسْمَعُهُ، إِنَّ هذا أخاك العجب مِنْهُ أَنَّهُ يَعْلَمُ قُبْحَ فِعْلِهِ وَيَعْرِفُ الْفَسَادَ مِنَ الصَّلَاحِ وَسَبِيلَ الرَّشَادِ وَالْفَلَاحِ وَيَشْتَغِلُ بِضِدِّهِ، يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ أَيْضًا دَاعِيًا لَهُ إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ مَانِعًا لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْفَسَادِ، فَكَذَلِكَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ مَعَ الْمُؤْمِنِ الْعَجَبُ منهم أنهم إن سألتهم من خلق السموات وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ثُمَّ لَا يُؤْمِنُونَ، وَفِي الآية لطائف إحداها: ذكر في السموات وَالْأَرْضِ الْخَلْقَ، وَفِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ التَّسْخِيرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُجَرَّدَ خَلْقِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيْسَ حِكْمَةً، فَإِنَّ الشَّمْسَ لَوْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً بِحَيْثُ تَكُونُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَا تَتَحَرَّكُ مَا حَصَلَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا الصَّيْفُ وَلَا الشِّتَاءُ، فَإِذًا الْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيكِهِمَا وَتَسْخِيرِهِمَا الثَّانِيَةُ: فِي لَفْظِ التَّسْخِيرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّحْرِيكَ يَدُلُّ عَلَى مُجَرَّدِ الْحَرَكَةِ وَلَيْسَ مُجَرَّدُ الْحَرَكَةِ كَافِيًا، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَتَحَرَّكُ مِثْلَ حَرَكَتِنَا لَمَا كَانَتْ تَقْطَعُ الْفَلَكَ بِأُلُوفٍ مِنَ السِّنِينَ، فَالْحِكْمَةُ فِي تَسْخِيرِهِمَا تَحَرُّكُهُمَا فِي قَدْرِ مَا يَتَنَفَّسُ الْإِنْسَانُ/ آلَافًا مِنَ الْفَرَاسِخِ، ثُمَّ لَمْ يَجْعَلْ لَهُمَا حَرَكَةً وَاحِدَةً بَلْ حَرَكَاتٍ، إِحْدَاهَا حَرَكَتُهَا مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَرَّةً، وَالْأُخْرَى حَرَكَتُهَا مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا أَنَّ الْهِلَالَ يُرَى فِي جَانِبِ الْغَرْبِ عَلَى بُعْدٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الشَّمْسِ، ثُمَّ يَبْعُدُ مِنْهُ إِلَى جَانِبِ الشَّرْقِ حَتَّى يُرَى الْقَمَرُ فِي نِصْفِ الشَّهْرِ فِي مُقَابَلَةِ الشَّمْسِ، وَالشَّمْسُ عَلَى أُفُقِ الْمَغْرِبِ، وَالْقَمَرُ عَلَى أُفُقِ الْمَشْرِقِ، وَحَرَكَةٌ أُخْرَى حَرَكَةُ الْأَوْجِ وَحَرَكَةُ الْمَائِلِ وَالتَّدْوِيرِ فِي الْقَمَرِ، وَلَوْلَا الْحَرَكَةُ الَّتِي مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ لَمَا حَصَلَتِ الْفُصُولُ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَ الْهَيْئَةِ قَالُوا الشَّمْسُ فِي الْفَلَكِ مَرْكُوزَةٌ وَالْفَلَكُ يُدِيرُهَا بِدَوَرَانِهِ وَأَنْكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ الظَّاهِرِيُّونَ، وَنَحْنُ نَقُولُ لَا بُعْدَ فِي ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَقُولُوا بِالطَّبِيعَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَاعِلٌ مُخْتَارٌ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُحَرِّكَهُمَا فِي الْفَلَكِ وَالْفَلَكُ سَاكِنٌ يَجُوزُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُحَرِّكَهُمَا بِحَرَكَةِ الْفَلَكِ وَهُمَا سَاكِنَانِ يَجُوزُ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ قَاطِعٌ أَوْ ظَاهِرٌ، وَسَنَذْكُرُ تَمَامَ الْبَحْثِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 33] الثالثة: ذكر أمرين أحدهما خلق السموات وَالْأَرْضِ وَالْآخَرُ تَسْخِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، لِأَنَّ الْإِيجَادَ قَدْ يَكُونُ لِلذَّوَاتِ وَقَدْ يَكُونُ لِلصِّفَاتِ،

[سورة العنكبوت (29) : آية 62]

فخلق السموات وَالْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى إِيجَادِ الذَّوَاتِ، وَتَسْخِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِشَارَةٌ إِلَى إِيجَادِ الصِّفَاتِ وَهِيَ الْحَرَكَةُ وغيرها، فكأنه ذكر من القبلين مِثَالَيْنِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ يَعْنِي هُمْ يَعْتَقِدُونَ هَذَا فَكَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، مَعَ أَنَّ مَنْ عُلِمَتْ عَظَمَتُهُ وَجَبَتْ خدمته، ولا عظمة فوق عظمة خالق السموات وَالْأَرْضِ، وَلَا حَقَارَةَ فَوْقَ حَقَارَةِ الْجَمَادِ، لِأَنَّ الْجَمَادَ دُونَ الْحَيَوَانِ، وَالْحَيَوَانُ دُونَ الْإِنْسَانِ، وَالْإِنْسَانُ دون سكان السموات فَكَيْفَ يَتْرُكُونَ عِبَادَةَ أَعْظَمِ الْمَوْجُودَاتِ وَيَشْتَغِلُونَ بِعِبَادَاتِ أخس الموجودات. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 62] اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لَمَّا بَيَّنَ الْخَلْقَ ذَكَرَ الرِّزْقَ لِأَنَّ كَمَالَ الْخَلْقِ بِبَقَائِهِ وَبَقَاءَ الْإِنْسَانِ بِالرِّزْقِ، فَقَالَ الْمَعْبُودُ إِمَّا أَنْ يُعْبَدَ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْعِبَادَةَ، وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَاللَّهُ مُسْتَحِقُّهَا، وَإِمَّا لكونه على الشأن والله الذي خلق السموات عَلَى الشَّأْنِ جَلِيُّ الْبُرْهَانِ فَلَهُ الْعِبَادَةُ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ وَلِيَّ الْإِحْسَانِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ الْخَلْقَ فَلَهُ الطَّوْلُ وَالْإِحْسَانُ وَالْفَضْلُ وَالِامْتِنَانُ فَلَهُ الْعِبَادَةُ مِنْ هذا الوجه أيضا قوله: لِمَنْ يَشاءُ إشارة إِلَى كَمَالِ الْإِحْسَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا أَمَرَ الْخَازِنَ بِإِعْطَاءِ شَخْصٍ شَيْئًا، فَإِذَا أَعْطَاهُ يَكُونُ لَهُ مِنَّةٌ مَا يَسِيرَةٌ حَقِيرَةٌ، لِأَنَّ الْآخِذَ يَقُولُ هَذَا لَيْسَ بِإِرَادَتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ بِأَمْرِ الْمَلِكِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مُخْتَارًا بِأَنْ قَالَ لَهُ الْمَلِكُ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِهِ وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تُعْطِهِ، فَإِنْ أَعْطَاهُ يَكُونُ لَهُ مِنَّةٌ جَلِيلَةٌ لَا قَلِيلَةٌ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى الرِّزْقُ مِنْهُ وَبِمَشِيئَتِهِ فَهُوَ إِحْسَانٌ تَامٌّ يَسْتَوْجِبُ شُكْرًا تَامًّا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقْدِرُ لَهُ أَيْ يُضَيِّقُ لَهُ إِنْ أَرَادَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: / إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أَيْ يَعْلَمُ مَقَادِيرَ الْحَاجَاتِ وَمَقَادِيرَ الْأَرْزَاقِ وَفِي إِثْبَاتِ الْعِلْمِ هاهنا لَطَائِفُ إِحْدَاهَا: أَنَّ الرَّازِقَ الَّذِي هُوَ كَامِلُ الْمَشِيئَةِ إِذَا رَأَى عَبْدَهُ مُحْتَاجًا وَعَلِمَ جُوعَهُ لَا يُؤَخِّرُ عَنْهُ الرِّزْقَ، وَلَا يُؤَخِّرُ الرَّازِقُ الرِّزْقَ إِلَّا لِنُقْصَانٍ فِي نُفُوذِ مَشِيئَتِهِ كَالْمَلِكِ إِذَا أَرَادَ الْإِطْعَامَ وَالطَّعَامُ لَا يَكُونُ بَعْدُ قَدِ اسْتَوَى، أَوْ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِجُوعِ الْعَبِيدِ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ بِإِثْبَاتِ الْعِلْمِ اسْتَوْعَبَ ذِكْرَ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ صِفَاتُ الْإِلَهِ وَمَنْ أَنْكَرَهَا كَفَرَ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ الْحَيَاةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالْعِلْمُ وَأَمَّا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ الْقَائِمُ بِهِ مَنْ يُنْكِرُهَا يَكُونُ مُبْتَدِعًا لَا كَافِرًا، وَقَدِ اسْتَوْفَى الْأَرْبَعَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَقَوْلَهُ: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ إِشَارَةٌ إِلَى نُفُوذِ مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَقَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِشَارَةٌ إِلَى شُمُولِ عِلْمِهِ، وَالْقَادِرُ الْمُرِيدُ الْعَالِمُ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا حَيًّا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ ذَكَرَ اعْتِرَافَهُمْ بِذَلِكَ فقال: [سورة العنكبوت (29) : آية 63] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) يَعْنِي هَذَا سَبَبُ الرِّزْقِ وَمُوجِدُ السَّبَبِ مُوجِدُ الْمُسَبَّبِ، فَالرِّزْقُ مِنَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُعْتَرِضًا فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ كَأَنَّهُ قَالَ: فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ فَذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْكَلَامِ الْحَمْدُ لِذِكْرِ النِّعْمَةِ، كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: إِنَّ الثَّمَانِينَ وَبُلِّغْتَهَا ... قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إِلَى تَرْجُمَانِ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ كَلَامًا مُتَّصِلًا، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ وَيَعْتَرِفُونَ وَلَا يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ وَتَعْمَلُ فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ بِكَ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ أَنَّ الْحَمْدَ كُلَّهُ لِلَّهِ فَيَحْمَدُونَ

[سورة العنكبوت (29) : آية 64]

غَيْرَ اللَّهِ عَلَى نِعْمَةٍ هِيَ مِنَ اللَّهِ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ مِنَ اللَّهِ وَيَقُولُونَ بِإِلَهِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ فَيَظْهَرُ تناقض كلامهم وتهافت مذهبهم فقل الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ظُهُورِ تَنَاقُضِهِمْ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ هَذَا التَّنَاقُضَ أَوْ فَسَادَ هَذَا التَّنَاقُضِ. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 64] وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِكَوْنِ اللَّهِ هُوَ الْخَالِقَ وَكَوْنِهِ هُوَ الرَّزَّاقَ وَهُمْ يَتْرُكُونَ عِبَادَتَهُ وَلَا يَتْرُكُونَهَا إِلَّا لِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بَيَّنَ أَنَّ مَا يَمِيلُونَ إِلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ بِقَوْلِهِ: وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وفي الآية مسائل: الْأُولَى: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، حَتَّى يَصِحَّ عَطْفُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ؟ فَنَقُولُ الْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ شُغُلٍ يُفْرَضُ، فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ الْإِعْرَاضُ عَنْ غَيْرِهِ وَمَنْ لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَالَّذِي يُقْبِلُ عَلَى الباطل للذة يسيرة زائلة فِيهِ يَلْزَمُهُ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْحَقِّ فَالْإِقْبَالُ عَلَى الْبَاطِلِ لَعِبٌ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْحَقِّ لَهْوٌ، فَالدُّنْيَا لَعِبٌ أَيْ إِقْبَالٌ عَلَى الْبَاطِلِ، وَلَهْوٌ أَيْ إِعْرَاضٌ عَنِ الْحَقِّ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْمُشْتَغِلَ بِشَيْءٍ يُرَجِّحُ ذَلِكَ الشَّيْءَ عَلَى غَيْرِهِ لَا مَحَالَةَ حَتَّى يَشْتَغِلَ بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّرْجِيحُ عَلَى وَجْهِ التَّقْدِيمِ بِأَنْ يَقُولَ أُقَدِّمُ هَذَا وَذَلِكَ الْآخَرُ آتِي بِهِ بَعْدَهُ أَوْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِغْرَاقِ فِيهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ غَيْرِهِ بِالْكُلِّيَّةِ فَالْأَوَّلُ لَعِبٌ وَالثَّانِي لَهْوٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الشِّطْرَنْجَ وَالْحَمَامَ وَغَيْرَهُمَا مِمَّا يَقْرُبُ مِنْهُمَا لَا تُسَمَّى آلَاتِ الْمَلَاهِي فِي الْعُرْفِ، وَالْعُودُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَوْتَارِ تُسَمَّى آلَاتِ الْمَلَاهِي لِأَنَّهَا تُلْهِي الْإِنْسَانَ عَنْ غَيْرِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ اللَّذَّةِ الْحَالِيَّةِ، فَالدُّنْيَا لِلْبَعْضِ لَعِبٌ يَشْتَغِلُ بِهِ وَيَقُولُ بَعْدَ هَذَا الشُّغْلِ أَشْتَغِلُ بِالْعِبَادَةِ وَالْآخِرَةِ، وَلِلْبَعْضِ لَهْوٌ يَشْتَغِلُ بِهِ وَيَنْسَى الْآخِرَةَ بِالْكُلِّيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا [الأنعام: 32] ولم يقل وما هذه الحياة وقال هاهنا: وَما هذِهِ فَنَقُولُ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ مِنْ قَبْلُ هاهنا أَمْرُ الدُّنْيَا، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها [البقرة: 164] فَقَالَ هَذِهِ وَالْمَذْكُورُ قَبْلَهَا هُنَاكَ الْآخِرَةُ حَيْثُ قال: يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ [الْأَنْعَامِ: 31] فَلَمْ تَكُنِ الدُّنْيَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي خَاطِرِهِمْ فَقَالَ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ هُنَاكَ: إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وقال هاهنا: إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ فَنَقُولُ لَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ مِنْ قَبْلُ الْآخِرَةَ وَإِظْهَارَهُمْ لِلْحَسْرَةِ، فَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَبْعُدُ الِاسْتِغْرَاقُ فِي الدُّنْيَا بَلْ نفس الاشتغال بها فأخر الأبعد، وأما هاهنا لَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ مِنْ قَبْلُ الدُّنْيَا وَهِيَ خَدَّاعَةٌ تَدْعُو النُّفُوسَ إِلَى الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا وَالِاسْتِغْرَاقِ فِيهَا، اللَّهُمَّ إِلَّا لِمَانِعٍ يَمْنَعُهُ مِنَ الِاسْتِغْرَاقِ فَيَشْتَغِلُ بِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِغْرَاقٍ فِيهَا، وَلِعَاصِمٍ يعصمه فلا يشتغل بها أصلا، فكان هاهنا الِاسْتِغْرَاقُ أَقْرَبَ مِنْ عَدَمِهِ فَقَدَّمَ اللَّهْوَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ هُنَاكَ: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ [الْأَنْعَامِ: 32] وقال هاهنا: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ/ لَهِيَ الْحَيَوانُ فَنَقُولُ لَمَّا كَانَ الْحَالُ هُنَاكَ حَالَ إِظْهَارِ الْحَسْرَةِ مَا كَانَ الْمُكَلَّفُ يَحْتَاجُ إِلَى رَادِعٍ قَوِيٍّ فَقَالَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ ولما كان هاهنا الْحَالُ حَالَ الِاشْتِغَالِ بِالدُّنْيَا احْتَاجَ إِلَى رَادِعٍ قَوِيٍّ فَقَالَ لَا حَيَاةَ إِلَّا حَيَاةُ الْآخِرَةِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْعَاقِلَ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ شَيْئَانِ فَقَالَ فِي أَحَدِهِمَا هَذَا خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ هَذَا تَرْجِيحًا فَحَسْبُ، وَلَوْ قَالَ هذا جيد

[سورة العنكبوت (29) : آية 65]

وَهَذَا الْآخَرُ لَيْسَ بِشَيْءٍ يَكُونُ تَرْجِيحًا مَعَ المبالغة فكذلك هاهنا بَالَغَ لِكَوْنِ الْمُكَلَّفِ مُتَوَغِّلًا فِيهَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ هُنَاكَ: خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الْأَنْعَامِ: 32] وَلَمْ يقل هاهنا إِلَّا لَهِيَ الْحَيَوانُ، لِأَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لِلْمُتَّقِي فَحَسْبُ أَيِ الْمُتَّقِي عَنِ الشِّرْكِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَالدُّنْيَا جَنَّتُهُ فَهِيَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا كَوْنُ الْآخِرَةِ بَاقِيَةً فِيهَا الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ فَلَا يُخْتَصُّ بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: كَيْفَ أُطْلِقَ الْحَيَوَانُ عَلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ مَعَ أَنَّ الْحَيَوَانَ نَامٍ مُدْرِكٌ؟ فَنَقُولُ الْحَيَوَانُ مَصْدَرُ حَيَّ كَالْحَيَاةِ لَكِنَّ فِيهَا مُبَالَغَةً لَيْسَتْ فِي الْحَيَاةِ وَالْمُرَادُ بِالدَّارِ الْآخِرَةِ هِيَ الْحَيَاةُ الثَّانِيَةُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ الْحَيَاةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْحَيَاةُ الْمُعْتَبَرَةُ أَوْ نَقُولُ لَمَّا كَانَتِ الْآخِرَةُ فِيهَا الزِّيَادَةُ وَالنُّمُوُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُسَ: 26] وَكَانَتْ هِيَ مَحَلَّ الْإِدْرَاكِ التَّامِّ الْحَقِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطَّارِقِ: 9] أَطْلَقَ عَلَيْهَا الِاسْمَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي النَّامِي الْمُدْرِكِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنعام: 32] وقال هاهنا: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وَذَلِكَ لَأَنَّ الْمُثْبَتَ هُنَاكَ كَوْنُ الْآخِرَةِ خَيْرًا وَأَنَّهُ ظَاهِرٌ لَا يَتَوَقَّفُ إلا على العقل والمثبت هاهنا أَنْ لَا حَيَاةَ إِلَّا حَيَاةُ الْآخِرَةِ، وَهَذَا دقيق لا يعرف إلا بعلم نافع. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 65] فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَانِعَ مِنَ التَّوْحِيدِ هُوَ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ هُوَ أَنَّهُمْ إِذَا انْقَطَعَ رَجَاؤُهُمْ عَنِ الدُّنْيَا رَجَعُوا إِلَى الْفِطْرَةِ الشَّاهِدَةِ بِالتَّوْحِيدِ وَوَحَّدُوا وَأَخْلَصُوا، فَإِذَا أَنْجَاهُمْ وَأَرْجَأَهُمْ عَادُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا وَأَشْرَكُوا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: [سورة العنكبوت (29) : آية 66] لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّامَ لَامُ كَيْ، أَيْ يُشْرِكُونَ لِيَكُونَ إِشْرَاكُهُمْ كُفْرًا بِنِعْمَةِ الْإِنْجَاءِ، وَلِيَتَمَتَّعُوا بِسَبَبِ الشِّرْكِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ بِوَبَالِ عَمَلِهِمْ حِينَ زَوَالِ أَمَلِهِمْ وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لَامَ الْأَمْرِ وَيَكُونَ الْمَعْنَى لِيَكْفُرُوا عَلَى التَّهْدِيدِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فُصِّلَتْ: 40] وَكَمَا قال: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ/ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام: 135] فساد ما تعملون. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 67] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) التَّفْسِيرُ ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا الدَّقِيقُ وَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا، فَنَقُولُ الْإِنْسَانُ فِي الْبَحْرِ يَكُونُ عَلَى أَخْوَفِ مَا يَكُونُ وَفِي بَيْتِهِ يَكُونُ عَلَى آمَنِ مَا يَكُونُ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ بَيْتُهُ فِي بَلَدٍ حَصِينٍ فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ حَالَهُمْ عِنْدَ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ وَرَأَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ رَاجِعَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ذَكَّرَهُمْ حَالَهُمْ عِنْدَ الْأَمْنِ الْعَظِيمِ وَهِيَ كَوْنُهُمْ فِي مَكَّةَ فَإِنَّهَا مَدِينَتُهُمْ وَبَلَدُهُمْ وَفِيهَا سُكْنَاهُمْ وَمَوْلِدُهُمْ، وَهِيَ حَصِينٌ بِحِصْنِ اللَّهِ حَيْثُ كُلُّ مَنْ حَوْلَهَا يَمْتَنِعُ مِنْ قِتَالِ مَنْ حَصَلَ فِيهَا، وَالْحُصُولُ فِيهَا يَدْفَعُ الشُّرُورَ عَنِ النُّفُوسِ وَيَكُفُّهَا يَعْنِي أَنَّكُمْ فِي أَخْوَفِ مَا كُنْتُمْ دَعَوْتُمُ اللَّهَ

[سورة العنكبوت (29) : آية 68]

وَفِي آمَنِ مَا حَصَلْتُمْ عَلَيْهِ كَفَرْتُمْ بِاللَّهِ، وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّ دُعَاءَكُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ مَا كَانَ إِلَّا لِقَطْعِكُمْ بِأَنَّ النِّعْمَةَ مِنَ اللَّهِ لَا غَيْرُ فَهَذِهِ النِّعْمَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي حَصَلَتْ وَقَدِ اعْتَرَفْتُمْ بِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِهَا؟ وَالْأَصْنَامُ الَّتِي قَطَعْتُمْ فِي حَالِ الْخَوْفِ أَنْ لَا أَمْنَ مِنْهَا كَيْفَ آمَنْتُمْ بِهَا في حال الأمن؟. ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 68] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ الْأُمُورَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ أَحَدٌ بَيَّنَ أَنَّهُمْ أَظْلَمُ مَنْ يَكُونُ، لِأَنَّ الظُّلْمَ عَلَى مَا بَيَّنَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَإِذَا وَضَعَ وَاحِدٌ شَيْئًا فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ هُوَ مَوْضِعَهُ يَكُونُ ظَالِمًا فَإِذَا وَضَعَهُ فِي مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَوْضِعَهُ يَكُونُ أَظْلَمُ لِأَنَّ عَدَمَ الْإِمْكَانِ أَقْوَى مِنْ عَدَمِ الْحُصُولِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يُمْكِنُ لَا يَحْصُلُ وَلَيْسَ كُلُّ مَا لَا يَحْصُلُ لَا يُمْكِنُ، فَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ وَجَعَلُوا لَهُ شَرِيكًا فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَلِكٍ مُسْتَقِلٍّ فِي الْمُلْكِ لَكَانَ ظُلْمًا يَسْتَحِقُّ مِنَ الْمَلِكِ الْعِقَابَ الْأَلِيمَ فَكَيْفَ إِذَا جُعِلَ الشَّرِيكُ لِمَنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ، وَأَيْضًا مَنْ كَذَّبَ صَادِقًا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ يَكُونُ ظُلْمًا فَمَنْ يُكَذِّبُ صَادِقًا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ؟ فَإِذًا لَيْسَ أَظْلَمُ مِمَّنْ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ بِالشِّرْكِ وَيُكَذِّبُ اللَّهَ فِي تَصْدِيقِ نَبِيِّهِ وَالنَّبِيَّ فِي رِسَالَةِ رَبِّهِ وَالْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ مِنَ اللَّهِ إِلَى الرَّسُولِ، وَالْعَجَبُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ قَبِلُوا الْمُتَّخَذَ مِنْ خَشَبٍ منحوت/ بالإلهية، ولم يقبلوا ذا حسب منعوت بِالرِّسَالَةِ، وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ التَّوْحِيدَ وَالرِّسَالَةَ وَالْحَشْرَ وَقَرَّرَهُ وَوَعَظَ وَزَجَرَ قَالَ لِنَبِيِّهِ لِيَقُولَ لِلنَّاسِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَيْ إِنِّي جِئْتُ بِالرِّسَالَةِ وَقُلْتُ إِنَّهَا مِنَ اللَّهِ وَهَذَا كَلَامُ اللَّهِ، وَأَنْتُمْ كَذَّبْتُمُونِي فَالْحَالُ دَائِرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنَا مُفْتَرٍ مُتَنَبِّئٌ إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ أَوْ أَنْتُمْ مُكَذِّبُونَ بِالْحَقِّ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِهِ لَكِنِّي مُعْتَرِفٌ بِالْعَذَابِ الدَّائِمِ عَارِفٌ بِهِ فَلَا أُقْدِمُ عَلَى الِافْتِرَاءِ لِأَنَّ جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين والمتنبي كَافِرٌ، وَأَنْتُمْ كَذَّبْتُمُونِي فَجَهَنَّمُ مَثْوَاكُمْ إِذْ هِيَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ، وَهَذَا حِينَئِذٍ يَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سَبَأٍ: 24] . ثم قال تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 69] وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) لَمَّا فَرَغَ مِنَ التَّقْرِيرِ وَالتَّقْرِيعِ وَلَمْ يُؤْمِنِ الْكُفَّارُ سَلَّى قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا أَيْ مَنْ جَاهَدَ بِالطَّاعَةِ هَدَاهُ سُبُلَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قَالَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُسَ: 26] فَقَوْلُهُ: لَنَهْدِيَنَّهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْحُسْنَى وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعِيَّةِ وَالْقُرْبَةِ الَّتِي تَكُونُ لِلْمُحْسِنِ زِيَادَةٌ عَلَى حَسَنَاتِهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ حُكْمِيٌّ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا أَيِ الَّذِينَ نَظَرُوا فِي دَلَائِلِنَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا أَيْ لِنُحَصِّلَ فِيهِمُ الْعِلْمَ بِنَا. وَلِنُبَيِّنَ هَذَا فَضْلَ بَيَانٍ، فَنَقُولُ أَصْحَابُنَا الْمُتَكَلِّمُونَ قَالُوا إِنَّ النَّظَرَ كَالشَّرْطِ لِلْعِلْمِ الِاسْتِدْلَالِيِّ وَاللَّهُ يَخْلُقُ فِي النَّاظِرِ عِلْمًا عَقِيبَ نَظَرِهِ وَوَافَقَهُمُ الْفَلَاسِفَةُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى وَقَالُوا النَّظَرُ مُعِدٌّ لِلنَّفْسِ لِقَبُولِ الصُّورَةِ الْمَعْقُولَةِ، وَإِذَا اسْتَعَدَّتِ النَّفْسُ حَصَلَ لَهَا الْعِلْمُ مِنْ فَيْضِ وَاهِبِ الصُّوَرِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّرْتِيبُ حَسَنًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ وَلَمْ تُفِدْهُمُ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ قَالَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا فَلَمْ يَهْتَدُوا وَإِنَّمَا هُوَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يتقون التعصب

وَالْعِنَادَ فَيَنْظُرُونَ فَيَهْدِيهِمْ وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ إِشَارَةٌ إِلَى دَرَجَةٍ أَعْلَى مِنَ الِاسْتِدْلَالِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ بَعِيدًا لَا يَتَقَرَّبُ وَهُمُ الْكُفَّارُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَقَرَّبُ بِالنَّظَرِ وَالسُّلُوكِ فَيَهْدِيهِمْ وَيُقَرِّبُهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ اللَّهُ مَعَهُ وَيَكُونُ قَرِيبًا مِنْهُ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ مِنْهُ وَلَا يَعْلَمُهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَمَنْ يَكُونُ مَعَ الشَّيْءِ كَيْفَ يَطْلُبُهُ فَقَوْلُهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا إِشَارَةٌ إِلَى الثَّانِي وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ إِشَارَةٌ إِلَى الثَّالِثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَسْرَارِ كِتَابِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

سورة الروم

سُورَةُ الرُّومِ سِتُّونَ آيَةً مَكِّيَّةٌ [إِلَّا آيَةَ 17 فَمَدَنِيَّةٌ، نَزَلَتْ بَعْدَ الِانْشِقَاقِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم [سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ. وَجْهُ تَعَلُّقِ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا قَبْلَهَا يَتَبَيَّنُ مِنْهُ سَبَبُ النُّزُولِ، فَنَقُولُ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الْعَنْكَبُوتِ: 46] وَكَانَ يُجَادِلُ الْمُشْرِكِينَ بِنِسْبَتِهِمْ إِلَى عَدَمِ الْعَقْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الْبَقَرَةِ: 171] وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يُوَافِقُونَ النَّبِيَّ فِي الْإِلَهِ كَمَا قَالَ: وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ [الْعَنْكَبُوتِ: 46] وَكَانُوا يُؤْمِنُونَ بِكَثِيرٍ مِمَّا يَقُولُهُ بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ كَمَا قَالَ: فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [الْعَنْكَبُوتِ: 47] أَيْ أَبْغَضَ الْمُشْرِكُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَتَرَكُوا مُرَاجَعَتَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يُرَاجِعُونَهُمْ فِي الْأُمُورِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْكَرَّةُ عَلَيْهِمْ حِينَ قَاتَلَهُمُ الْفُرْسُ الْمَجُوسُ فَرِحَ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَاتِ لِبَيَانِ أَنَّ الْغَلَبَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ، بَلِ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ يُرِيدُ مَزِيدَ ثَوَابٍ فِي الْمُحِبِّ فَيَبْتَلِيهِ وَيُسَلِّطُ عَلَيْهِ الْأَعَادِيَ، وَقَدْ يَخْتَارُ تَعْجِيلَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ قَبْلَ يَوْمِ الْمِيعَادِ لِلْمُعَادِي، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: مَا الْحِكْمَةُ فِي افْتِتَاحِ هَذِهِ السُّورَةِ بِحُرُوفِ التَّهَجِّي؟ فَنَقُولُ قَدْ سَبَقَ مِنَّا أَنَّ كُلَّ سُورَةٍ افْتُتِحَتْ بِحُرُوفِ التَّهَجِّي فَإِنَّ في أوائلها ذكر الكتاب أو التنزيل أو الْقُرْآنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الم ذلِكَ الْكِتابُ [الْبَقَرَةِ: 1، 2] المص كِتابٌ [الْأَعْرَافِ: 1، 2] ، طه مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ [طه: 1، 2] ، الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ [السَّجْدَةِ: 1، 2] حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [فُصِّلَتْ: 1، 2] يس وَالْقُرْآنِ [يس: 1، 2] ، ص وَالْقُرْآنِ [ص: 1، 2] إِلَّا هَذِهِ السُّورَةَ وَسُورَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الْعَنْكَبُوتِ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا الْحِكْمَةُ فِيهِمَا فِي مَوْضِعِهِمَا فَنَقُولُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ السُّوَرِ وَهُوَ أَنَّ السُّورَةَ الَّتِي فِي أَوَائِلِهَا التَّنْزِيلُ وَالْكِتَابُ وَالْقُرْآنُ فِي أَوَائِلِهَا ذِكْرُ مَا هُوَ مُعْجِزَةٌ فَقُدِّمَتْ عَلَيْهَا الْحُرُوفُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي العنكبوت

[سورة الروم (30) : الآيات 5 إلى 7]

وَهَذِهِ ذَكَرَ فِي أَوَّلِهَا مَا هُوَ مُعْجِزَةٌ وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْغَيْبِ، فَقُدِّمَتِ الْحُرُوفُ الَّتِي لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهَا لِيَتَنَبَّهَ السَّامِعُ فَيُقْبِلَ بِقَلْبِهِ عَلَى الِاسْتِمَاعِ، ثُمَّ تَرِدُ عَلَيْهِ الْمُعْجِزَةُ وَتَقْرَعُ الْأَسْمَاعَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أَيْ أَرْضِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ/ لِلتَّعْرِيفِ وَالْمَعْهُودُ عِنْدَهُمْ أَرْضُهُمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ أَيَّةُ فَائِدَةٍ فِي ذِكْرِهِ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: سَيَغْلِبُونَ بَعْدَ قَوْلِهِ: غُلِبَتِ الرُّومُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ بَعْدِ الْغَلَبَةِ؟ فَنَقُولُ الْفَائِدَةُ فِيهِ إِظْهَارُ الْقُدْرَةِ وَبَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ لِأَنَّ مَنْ غَلَبَ بَعْدَ غَلَبِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا ضَعِيفًا، فَلَوْ كَانَ غَلَبَتُهُمْ لِشَوْكَتِهِمْ لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَغْلِبُوا قَبْلَ غلبهم فإذا غلبوا بعد ما غُلِبُوا، دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ، فَذَكَرَ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ لِيَتَفَكَّرُوا فِي ضَعْفِهِمْ وَيَتَذَكَّرُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِزَحْفِهِمْ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُ: فِي أَدْنَى الْأَرْضِ لِبَيَانِ شِدَّةِ ضَعْفِهِمْ، أَيِ انْتَهَى ضَعْفُهُمْ إِلَى أَنْ وَصَلَ عَدُوُّهُمْ إِلَى طَرِيقِ الْحِجَازِ وَكَسَرُوهُمْ وَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ ثُمَّ غَلَبُوا حَتَّى وَصَلُوا إِلَى الْمَدَائِنِ وَبَنَوْا هُنَاكَ الرُّومِيَّةَ لِبَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْغَلَبَةَ الْعَظِيمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ الضَّعْفِ الْعَظِيمِ بِإِذْنِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ تَعَالَى: فِي بِضْعِ سِنِينَ قِيلَ هِيَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالْعَشَرَةِ، أَبْهَمَ الْوَقْتَ مَعَ أَنَّ الْمُعْجِزَةَ فِي تَعْيِينِ الْوَقْتِ أَتَمُّ فَنَقُولُ السَّنَةُ وَالشَّهْرُ وَالْيَوْمُ وَالسَّاعَةُ كُلُّهَا مَعْلُومَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيَّنَهَا لِنَبِيِّهِ وَمَا أَذِنَ لَهُ فِي إِظْهَارِهَا لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا مُعَانِدِينَ وَالْأُمُورُ الَّتِي تَقَعُ فِي الْبِلَادِ النَّائِيَةِ تَكُونُ مَعْلُومَةَ الْوُقُوعِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهَا لَكِنَّ وَقْتَهَا يُمْكِنُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ فَالْمُعَانِدُ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَرْجُفَ بِوُقُوعِ الْوَاقِعَةِ قَبْلَ الْوُقُوعِ لِيَحْصُلَ الْخُلْفُ فِي كَلَامِهِ وَلَمَّا وَرَدَتِ الْآيَةُ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ وَأَنْكَرَهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَغَيْرُهُ، وَنَاحَبُوا أَبَا بَكْرٍ أَيْ خَاطَرُوهُ عَلَى عَشَرَةِ قَلَائِصَ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبِي بَكْرٍ الْبِضْعُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالْعَشَرَةِ فَزَايَدَهُ فِي الْإِبِلِ وَمَادَّهُ فِي الْأَجَلِ فَجَعَلَا الْقَلَائِصَ مِائَةً وَالْأَجَلَ سَبْعًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عِلْمِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِوَقْتِ الْغَلَبَةِ. [قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أَيْ مِنْ قَبْلِ الْغَلَبَةِ وَمِنْ بَعْدِهَا أَوْ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَمِنْ بَعْدِهَا، يَعْنِي إِنْ أَرَادَ غَلَبَهُمْ غَلَبَهُمْ قَبْلَ بِضْعِ سِنِينَ وَإِنْ أَرَادَ غَلَبَهُمْ غَلَبَهُمْ بَعْدَهَا، وَمَا قَدَّرَ هَذِهِ الْمُدَّةَ لِعَجْزٍ وَإِنَّمَا هِيَ إِرَادَةٌ نَافِذَةٌ، وَبُنِيَا عَلَى الضَّمِّ لَمَّا قُطِعَا عَنِ الْإِضَافَةِ لِأَنَّ غَيْرَ الضَّمَّةِ مِنَ الْفَتْحَةِ وَالْكَسْرَةِ يُشْتَبَهُ بِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمَا وَهُوَ النَّصْبُ وَالْجَرُّ، أَمَّا النَّصْبُ فَفِي قَوْلِكَ جِئْتُ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَأَمَّا الْجَرُّ فَفِي قَوْلِكَ مِنْ قَبْلِهِ وَمِنْ بعده فنيا عَلَى الضَّمِّ لِعَدَمِ دُخُولِ مِثْلِهِمَا عَلَيْهِ فِي الْإِعْرَابِ وَهُوَ الرَّفْعُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ قِيلَ يَفْرَحُونَ بِغَلَبَةِ الرُّومِ عَلَى الْفُرْسِ كَمَا فَرِحَ الْمُشْرِكُونَ بِغَلَبَةِ الْفُرْسِ عَلَى الرُّومِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ يَفْرَحُونَ بِغَلَبَتِهِمُ الْمُشْرِكِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ غَلَبَةَ الرُّومِ كَانَتْ يَوْمَ غَلَبَةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرُوهُ لَمَا صَحَّ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ خَبَرُ الْكَسْرِ فَلَا يَكُونُ فَرَحُهُمْ يَوْمَئِذٍ بَلِ الفرح يحصل بعده. / ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 5 الى 7] بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)

[سورة الروم (30) : آية 8]

قَوْلُهُ تَعَالَى: بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ قَدَّمَ الْمَصْدَرَ عَلَى الْفِعْلِ حَيْثُ قَالَ: بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ وَقَدَّمَ الْفِعْلَ عَلَى الْمَصْدَرِ فِي قوله: أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ [الأنفال: 62] وذلك لأن المقصود هاهنا بَيَانُ أَنَّ النُّصْرَةَ بِيَدِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ نَصَرَ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ لَا يَنْصُرْ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ النُّصْرَةَ وَوُقُوعَهَا وَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ إِظْهَارُ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ نَصَرَهُ، فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ الْفِعْلُ وَوُقُوعُهُ فَقَدَّمَ هُنَاكَ الْفِعْلَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الفعل مصدره عند الله، والمقصود هاهنا كَوْنُ الْمَصْدَرُ عِنْدَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ فَعَلَ فَقَدَّمَ الْمَصْدَرَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ذَكَرَ مِنْ أَسْمَائِهِ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَنْصُرِ الْمُحِبَّ بَلْ سَلَّطَ الْعَدُوَّ عَلَيْهِ فَذَلِكَ لِعِزَّتِهِ وَعَدَمِ افْتِقَارِهِ، وَإِنْ نَصَرَ الْمُحِبَّ فَذَلِكَ لِرَحْمَتِهِ عَلَيْهِ، أَوْ نَقُولُ إِنْ نَصَرَ اللَّهُ الْمُحِبِّ فَلِعِزَّتِهِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنِ الْعَدُوِّ وَرَحْمَتِهِ عَلَى الْمُحِبِّ، وَإِنْ لَمْ يَنْصُرِ الْمُحِبَّ فَلِعِزَّتِهِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنِ الْمُحِبِّ وَرَحْمَتُهُ فِي الْآخِرَةِ وَاصِلَةٌ إِلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ يَعْنِي سَيَغْلِبُونَ وَعَدَهُمُ اللَّهُ وَعْدًا وَوَعْدُ اللَّهِ لَا خُلْفَ فِيهِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ وَعْدَهُ وَأَنَّهُ لَا خُلْفَ فِي وَعْدِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا يَعْنِي عِلْمُهُمْ مُنْحَصِرٌ فِي الدُّنْيَا وَأَيْضًا لَا يَعْلَمُونَ الدُّنْيَا كَمَا هِيَ وَإِنَّمَا يَعْلَمُونَ ظَاهِرَهَا وَهِيَ مَلَاذُهَا وَمَلَاعِبُهَا، وَلَا يَعْلَمُونَ بَاطِنَهَا وَهِيَ مَضَارُّهَا وَمَتَاعِبُهَا وَيَعْلَمُونَ وُجُودَهَا الظَّاهِرَ، وَلَا يَعْلَمُونَ فَنَاءَهَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ وَالْمَعْنَى هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ غَافِلُونَ، وَذُكِرَتْ هُمُ الثَّانِيَةُ لِتُفِيدَ أَنَّ الْغَفْلَةَ مِنْهُمْ وَإِلَّا فَأَسْبَابُ التَّذَكُّرِ حَاصِلَةٌ وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ غَفَلْتُ عَنْ أَمْرِي، فَإِذَا قَالَ هُوَ شَغَلَنِي فُلَانٌ فَيَقُولُ مَا شَغَلَكَ وَلَكِنْ أنت اشتغلت. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : آية 8] أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ لَمَّا صَدَرَ مِنَ الْكُفَّارِ الْإِنْكَارَ بِاللَّهِ عِنْدَ إِنْكَارِ وَعْدِ اللَّهِ وَعَدَمِ الْخُلْفِ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الأعراف: 187] وَالْإِنْكَارُ بِالْحَشْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الروم: 7] بَيَّنَ أَنَّ الْغَفْلَةَ وَعَدَمَ الْعِلْمِ مِنْهُمْ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَإِلَّا فَأَسْبَابُ التَّذَكُّرِ حَاصِلَةٌ وَهُوَ [أَنَّ] أَنْفُسَهُمْ لَوْ تَفَكَّرُوا فِيهَا لَعَلِمُوا وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ وَصَدَّقُوا بِالْحَشْرِ، أَمَّا الْوَحْدَانِيَّةُ فَلِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ عَلَى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَلْنَذْكُرْ مِنْ حُسْنِ خَلْقِهِمْ جُزْأً مِنْ أَلْفِ أَلْفِ جُزْءٍ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ لِلْإِنْسَانِ مَعِدَةً فِيهَا يَنْهَضِمُ غِذَاؤُهُ لِتَقْوَى بِهِ أَعْضَاؤُهُ وَلَهَا مَنْفَذَانِ أَحَدُهُمَا لِدُخُولِ الطَّعَامِ فِيهِ، وَالْآخَرُ لِخُرُوجِ الطَّعَامِ مِنْهُ، فَإِذَا دَخَلَ الطَّعَامُ فِيهَا انْطَبَقَ الْمَنْفَذُ الْآخَرُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ ذَرَّةٌ وَلَا بِالرَّشْحِ، وَتُمْسِكُهُ الْمَاسِكَةُ إِلَى أَنْ يَنْضَجَ نُضْجًا صَالِحًا، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ الْمَنْفَذِ الْآخَرِ، وَخَلَقَ تَحْتَ الْمَعِدَةِ عُرُوقًا دِقَاقًا صِلَابًا كَالْمِصْفَاةِ الَّتِي يُصَفَّى بِهَا الشَّيْءُ فَيَنْزِلُ مِنْهَا الصَّافِي إِلَى الْكَبِدِ وَيَنْصَبُّ الثُّفْلُ إِلَى مِعًى مَخْلُوقٍ تَحْتَ الْمَعِدَةِ مُسْتَقِيمٍ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْخُرُوجِ، وَمَا يَدْخُلُ فِي الْكَبِدِ مِنَ الْعُرُوقِ الْمَذْكُورَةِ يُسَمَّى الْمَاسَارِيقَا بِالْعِبْرِيَّةِ، وَالْعِبْرِيَّةُ عَرَبِيَّةٌ مَفْسُودَةٌ فِي الْأَكْثَرِ، يُقَالُ لِمُوسَى مِيشَا وَلِلْإِلَهِ إِيلْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَالْمَاسَارِيقَا مَعْنَاهَا مَاسَارِيقُ اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الكبد وأنضجه

نُضْجًا آخَرَ، وَيَكُونُ مَعَ الْغِذَاءِ الْمُتَوَجِّهِ مِنَ الْمَعِدَةِ إِلَى الْكَبِدِ فَضْلُ مَاءٍ مَشْرُوبٍ لِيُرَقَّقَ وَيَنْذَرِقَ فِي الْعُرُوقِ الدِّقَاقِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِي الْكَبِدِ يَسْتَغْنِي عَنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فَيَتَمَيَّزُ عَنْهُ ذَلِكَ الْمَاءُ وَيَنْصَبُّ مِنْ جَانِبِ حَدَبَةِ الْكَبِدِ إِلَى الْكُلْيَةِ وَمَعَهُ دَمٌ يَسِيرٌ تَغْتَذِي بِهِ الْكُلْيَةُ وَغَيْرُهَا، وَيَخْرُجُ الدَّمُ الْخَالِصُ مِنَ الْكَبِدِ فِي عِرْقٍ كَبِيرٍ، ثُمَّ يَتَشَعَّبُ ذَلِكَ النَّهْرُ إِلَى جَدَاوِلَ، وَالْجَدَاوِلُ إِلَى سَوَاقٍ، وَالسَّوَاقِي إِلَى رَوَاضِعَ وَيَصِلُ فِيهَا إِلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ، فَهَذِهِ حِكْمَةٌ وَاحِدَةٌ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَهَذِهِ كِفَايَةٌ فِي مَعْرِفَةِ كَوْنِ اللَّهِ فَاعِلًا مُخْتَارًا قَادِرًا كَامِلًا عَالِمًا شَامِلًا عِلْمُهُ، وَمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ يَكُونُ وَاحِدًا وَإِلَّا لَكَانَ عَاجِزًا عِنْدَ إِرَادَةِ شَرِيكِهِ ضِدَّ مَا أَرَادَهُ. وَأَمَّا دَلَالَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْحَشْرِ فَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا تَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ يَرَى قُوَاهُ صَائِرَةً إِلَى الزَّوَالِ، وَأَجْزَاءَهُ مَائِلَةً إِلَى الِانْحِلَالِ فَلَهُ فَنَاءٌ ضَرُورِيٌّ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَيَاةٌ أُخْرَى لَكَانَ خَلْقُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِلْفَنَاءِ عَبَثًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [الْمُؤْمِنُونَ: 115] وَهَذَا ظَاهِرٌ، لِأَنَّ مَنْ يَفْعَلُ شَيْئًا لِلْعَبَثِ فَلَوْ بَالَغَ فِي إِحْكَامِهِ وَإِتْقَانِهِ يَضْحَكُ مِنْهُ، فَإِذَا خَلَقَهُ لِلْبَقَاءِ وَلَا بَقَاءَ دُونَ اللِّقَاءِ فَالْآخِرَةُ لَا بُدَّ مِنْهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ دَلِيلِ الْأَنْفُسِ دَلِيلَ الْآفَاقِ فَقَالَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى فَقَوْلُهُ: إِلَّا بِالْحَقِّ إِشَارَةٌ إِلَى وَجْهِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: 44] وَنُعِيدُهُ فَإِنَّ التَّكْرِيرَ فِي الذِّهْنِ يُفِيدُ التَّقْرِيرَ لِذِي الذِّهْنِ، فَنَقُولُ إِذَا كَانَ بِالْحَقِّ لَا يَكُونُ فِيهَا بُطْلَانٌ/ فَلَا يَكُونُ فِيهَا فَسَادٌ لِأَنَّ كُلَّ فَاسِدٍ بَاطِلٌ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَسَادٌ لَا تَكُونُ آلِهَةً وَإِلَّا لَكَانَ فِيهَا فَسَادٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] وَقَوْلُهُ: وَأَجَلٍ مُسَمًّى يُذَكِّرُ بِالْأَصْلِ الْآخَرِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ يَعْنِي لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ مِنْ لِقَاءٍ وَبَقَاءٍ إِمَّا فِي إِسْعَادٍ أَوْ شَقَاءٍ، وَفِي الْآيَةِ مسائل: المسألة الأولى: قدم هاهنا دَلَائِلَ الْأَنْفُسِ عَلَى دَلَائِلِ الْآفَاقِ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فُصِّلَتْ: 53] قَدَّمَ دَلَائِلَ الْآفَاقِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُفِيدَ إِذَا أَفَادَ فَائِدَةً يَذْكُرُهَا عَلَى وَجْهٍ جَيِّدٍ يَخْتَارُهُ فَإِنْ فَهِمَهُ السَّامِعُ الْمُسْتَفِيدُ فَذَلِكَ وَإِلَّا يَذْكُرُهَا عَلَى وَجْهٍ أَبْيَنَ مِنْهُ وَيَنْزِلُ دَرَجَةً فَدَرَجَةً، وَأَمَّا الْمُسْتَفِيدُ فَإِنَّهُ يَفْهَمُ أَوَّلًا الْأَبْيَنَ، ثُمَّ يَرْتَقِي إِلَى فَهْمِ ذَلِكَ الْأَخْفَى الَّذِي لَمْ يَكُنْ فَهِمَهُ فَيَفْهَمُهُ بَعْدَ فَهْمِ الْأَبْيَنِ الْمَذْكُورِ آخِرًا، فَالْمَذْكُورُ مِنَ الْمُفِيدِ آخِرًا مَفْهُومٌ عِنْدِ السَّامِعِ أَوَّلًا، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ هاهنا الْفِعْلُ كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى السَّامِعِ حَيْثُ قَالَ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ يَعْنِي فِيمَا فَهِمُوهُ أَوَّلًا وَلَمْ يَرْتَقُوا إِلَى مَا فَهِمُوهُ ثَانِيًا، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: سَنُرِيهِمْ الْأَمْرُ مَنْسُوبٌ إِلَى الْمُفِيدِ الْمُسْمِعِ فَذَكَرَ أَوَّلًا: الْآفَاقَ فَإِنْ لَمْ يَفْهَمُوهُ فَالْأَنْفُسَ لِأَنَّ دَلَائِلَ الْأَنْفُسِ لَا ذُهُولَ لِلْإِنْسَانِ عَنْهَا، وَهَذَا التَّرْتِيبُ مُرَاعًى فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 191] أَيْ يَعْلَمُونَ اللَّهَ بِدَلَائِلِ الْأَنْفُسِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بِدَلَائِلِ الْآفَاقِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَجْهُ دَلَالَةِ الْخَلْقِ بِالْحَقِّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا وَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى الْحَشْرِ فَكَيْفَ هُوَ؟ فَنَقُولُ وقوع تخريب السموات وَعَدَمُهَا لَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ إِلَّا إِمْكَانُهُ، وَأَمَّا وُقُوعُهُ فَلَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالسَّمْعِ، لِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى إِبْقَاءِ الْحَادِثِ أَبَدًا كَمَا أَنَّهُ يُبْقِي الْجَنَّةَ وَالنَّارَ بَعْدَ إِحْدَاثِهِمَا أَبَدًا، وَالْخَلْقُ دَلِيلُ إِمْكَانِ الْعَدَمِ، لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَمْ يَجِبْ لَهُ الْقِدَمُ فَجَازِ عَلَيْهِ الْعَدَمُ، فَإِذَا أَخْبَرَ الصَّادِقُ عَنْ أَمْرٍ لَهُ إِمْكَانٌ وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ التَّصْدِيقُ وَالْإِذْعَانُ،

[سورة الروم (30) : آية 9]

وَلِأَنَّ الْعَالَمَ لَمَّا كَانَ خَلَقَهُ بِالْحَقِّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ حَيَاةٌ أُخْرَى بَاقِيَةٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ لَيْسَتْ إِلَّا لَعِبًا ولهوا كما بين بقوله تَعَالَى: وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ [العنكبوت: 64] وخلق السموات وَالْأَرْضِ لِلَّهْوِ وَاللَّعِبِ عَبَثٌ، وَالْعَبَثُ لَيْسَ بِحَقٍّ وخلق السموات وَالْأَرْضِ بِالْحَقِّ فَلَا بُدَّ مِنْ حَيَاةٍ بَعْدَ هذه. المسألة الثالثة: قال هاهنا: كَثِيراً مِنَ النَّاسِ وَقَالَ مِنْ قَبْلُ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ [الروم: 6] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ قَبْلُ لَمْ يَذْكُرْ دَلِيلًا على الأصلين، وهاهنا قَدْ ذَكَرَ الدَّلَائِلَ الْوَاضِحَةَ وَالْبَرَاهِينَ اللَّائِحَةَ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ بَعْدَ الدَّلِيلِ أَكْثَرُ مِنَ الْإِيمَانِ قَبْلَ الدَّلِيلِ، فَبَعْدَ الدَّلَائِلِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُؤْمِنَ مِنْ ذَلِكَ الْأَكْثَرِ جَمْعٌ فَلَا يَبْقَى الْأَكْثَرُ كَمَا هُوَ، فَقَالَ بَعْدَ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ وَإِنَّ كَثِيراً وَقَبْلَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ «1» ثُمَّ بَعْدَ الدَّلِيلِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الذُّهُولُ عَنْهُ، وَالدَّلِيلِ الَّذِي لَا يَقَعُ الذُّهُولُ عَنْهُ وإن أمكن هو السموات وَالْأَرْضُ لِأَنَّ مِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يَذْهَلَ الْإِنْسَانُ عَنِ السَّمَاءِ الَّتِي فَوْقَهُ وَالْأَرْضِ الَّتِي تَحْتَهُ، ذكر مَا يَقَعُ الذُّهُولُ عَنْهُ وَهُوَ أَمْرُ أَمْثَالِهِمْ وحكاية أشكالهم. / فقال تعالى: [سورة الروم (30) : آية 9] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) وَقَالَ فِي الدَّلِيلَيْنِ المتقدمين: أَوَلَمْ يَرَوْا [العنكبوت: 19، 67] وَلَمْ يَقُلْ: أَوَلَمْ يَسِيرُوا إِذْ لَا حَاجَةَ هُنَاكَ إِلَى السَّيْرِ بِحُضُورِ النَّفْسِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وقال هاهنا: أَوَلَمْ يَسِيرُوا ... فَيَنْظُرُوا ذَكَّرَهُمْ بِحَالِ أَمْثَالِهِمْ وَوَبَالِ أَشْكَالِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ أَوْلَى بِالْهَلَاكِ لِأَنَّ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ عَادٍ وَثَمُودَ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَلَمْ تَنْفَعْهُمْ قُوَاهُمْ وَكَانُوا أَكْثَرَ مَالًا وَعِمَارَةً، وَلَمْ يَمْنَعْ عَنْهُمُ الْهَلَاكَ أَمْوَالُهُمْ وَحُصُونُهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ اعْتِمَادَ الْإِنْسَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ قُوَّةٌ جِسْمِيَّةٌ فِيهِ أَوْ فِي أَعْوَانِهِ إِذْ بِهَا المباشرة وقوة مالية إذ بِهَا التَّأَهُّبُ لِلْمُبَاشَرَةِ، وَقُوَّةٌ ظَهْرِيَّةٌ يَسْتَنِدُ إِلَيْهَا عِنْدَ الضَّعْفِ وَالْفُتُورِ وَهِيَ بِالْحُصُونِ وَالْعَمَائِرِ، فَقَالَ تَعَالَى: كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً فِي الْجِسْمِ وَأَكْثَرَ مِنْهُمْ مَالًا لِأَنَّهُمْ أَثَارُوا الْأَرْضَ أَيْ حَرَثُوهَا، وَمِنْهُ بَقَرَةٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ، وَقِيلَ مِنْهُ سُمِّيَ ثَوْرًا، وَأَنْتُمْ لَا حِرَاثَةَ لَكُمْ فَأَمْوَالُهُمْ كَانَتْ أَكْثَرَ، وَعِمَارَتُهُمْ كَانَتْ أَكْثَرَ لِأَنَّ أَبْنِيَتَهُمْ كانت رفعية وَحُصُونُهُمْ مَنِيعَةً، وَعِمَارَةُ أَهْلِ مَكَّةَ كَانَتْ يَسِيرَةً ثُمَّ هَؤُلَاءِ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَأَمَرُوهُمْ وَنَهَوْهُمْ، فَلَمَّا كَذَّبُوا أُهْلِكُوا فَكَيْفَ أَنْتُمْ، وَقَوْلُهُ: فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ يَعْنِي لَمْ يَظْلِمْهُمْ بِالتَّكْلِيفِ، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ شَرِيفٌ لَا يُؤْثَرُ لَهُ إِلَّا مَحَلٌّ شَرِيفٌ وَلَكِنْ هُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِوَضْعِهَا فِي مَوْضِعٍ خَسِيسٍ، وَهُوَ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ وَاتِّبَاعُ إِبْلِيسَ، فَكَأَنَّ اللَّهَ بِالتَّكْلِيفِ وَضَعَهُمْ فِيمَا خُلِقُوا لَهُ وَهُوَ الرِّبْحُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ خَلَقْتُكُمْ لِتَرْبَحُوا عَلَيَّ لَا لِأَرْبَحَ عَلَيْكُمْ، وَالْوَضْعُ فِي [أَيِّ] مَوْضِعٍ كَانَ الْخَلْقُ لَهُ لَيْسَ بِظُلْمٍ، وَأَمَّا هُمْ فَوَضَعُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مَوَاضِعِ الْخُسْرَانِ وَلَمْ يَكُونُوا خُلِقُوا إِلَّا لِلرِّبْحِ فَهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ، وَهَذَا الْكَلَامُ مِنَّا وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ يُشْبِهُ كَلَامَ الْمُعْتَزِلَةِ لَكِنَّ الْعَاقِلَ يَعْلَمُ كَيْفَ يَقُولُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْوَضْعَ كَانَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ، لَكِنَّهُ كَانَ منهم ومضافا إليهم. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : آية 10] ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) كَمَا قَالَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى [يُونُسَ: 26] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ كَذَّبُوا قِيلَ مَعْنَاهُ بِأَنْ كَذَّبُوا أي

_ (1) في تفسير الرازي المطبوع (أكثرهم) وهو خطأ وما أثبتناه هو الصواب.

[سورة الروم (30) : آية 11]

كَانَ عَاقِبَتُهُمْ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا، وَقِيلَ معناه أساءوا وكذبوا فكذبوا يكون تفسيرا لأساؤوا وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ لَطَائِفُ إِحْدَاهَا: قَالَ فِي حَقِّ الَّذِينَ أَحْسَنُوا: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَقَالَ فِي حَقِّ مَنْ أَسَاءَ: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْجَنَّةَ لَهُمْ مِنَ ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ فَإِنَّ الْحُسْنَى اسْمُ الْجَنَّةِ وَالسُّوءَى اسْمُ النَّارِ، فَإِذَا كَانَتِ الْجَنَّةُ لَهُمْ وَمِنْ الِابْتِدَاءِ، وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ كُلَّمَا يَزْدَادُ وَيَنْمُو فِيهِ فَهُوَ لَهُ، لِأَنَّ مِلْكَ الْأَصْلِ يُوجِبُ مِلْكَ الثَّمَرَةِ، فَالْجَنَّةُ مِنْ حَيْثُ خُلِقَتْ تَرْبُو وَتَنْمُو للمحسنين، وأما الذين أساؤا، فالسوأى وَهِيَ جَهَنَّمُ فِي الْعَاقِبَةِ مَصِيرُهُمْ إِلَيْهَا الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ الزِّيَادَةَ فِي حَقِّ الْمُحْسِنِ وَلَمْ يَذْكُرِ الزِّيَادَةَ فِي حَقِّ الْمُسِيءِ لِأَنَّ جَزَاءَ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا الثَّالِثَةُ: لَمْ يَذْكُرْ فِي الْمُحْسِنِ أَنَّ لَهُ الْحُسْنَى بِأَنَّهُ صَدَّقَ، وَذَكَرَ فِي المسيء أن له السوأى بِأَنَّهُ كَذَّبَ، لِأَنَّ الْحُسْنَى لِلْمُحْسِنِينَ فَضْلٌ وَالْمُتَفَضِّلُ لَوْ لَمْ يَكُنْ تَفَضُّلُهُ لِسَبَبٍ يَكُونُ أَبْلَغَ، وَأَمَّا السُّوءَى لِلْمُسِيءِ عَدْلٌ وَالْعَادِلُ إِذَا لَمْ يَكُنْ تَعْذِيبُهُ لِسَبَبٍ لَا يَكُونُ عَدْلًا فَذَكَرَ السَّبَبَ فِي التَّعْذِيبِ وَهُوَ الْإِصْرَارُ عَلَى التَّكْذِيبِ، وَلَمْ يَذْكُرِ السَّبَبَ فِي الثَّوَابِ. ثُمَّ قَالَ تعالى: [سورة الروم (30) : آية 11] اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ عَاقِبَتَهُمْ إِلَى الْجَحِيمِ وَكَانَ فِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِعَادَةِ وَالْحَشْرِ لَمْ يَتْرُكْهُ دَعْوًى بِلَا بَيِّنَةٍ فَقَالَ يَبْدَأُ الْخَلْقَ، يَعْنِي مَنْ خَلَقَ بِالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ لَا يَعْجِزُ عَنِ الرَّجْعَةِ وَالْإِعَادَةِ فَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا يكون وقت الرجوع إليه فقال: [سورة الروم (30) : الآيات 12 الى 13] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَتَبَيَّنُ إِفْلَاسُهُمْ وَيَتَحَقَّقُ إِبْلَاسُهُمْ، وَالْإِبْلَاسُ يَأْسٌ مَعَ حَيْرَةٍ، يَعْنِي يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَكُونُ لِلْمُجْرِمِ يَأْسٌ مُحَيِّرٌ لَا يَأْسٌ هُوَ إِحْدَى الرَّاحَتَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الطَّمَعَ إِذَا انْقَطَعَ بِالْيَأْسِ فَإِذَا كَانَ الْمَرْجُوُّ أَمْرًا غَيْرَ ضَرُورِيٍّ يَسْتَرِيحُ الطَّامِعُ مِنَ الِانْتِظَارِ وَإِنْ كَانَ ضَرُورِيًّا بِالْإِبْقَاءِ لَهُ بوونه يَنْفَطِرُ فُؤَادُهُ أَشَدَّ انْفِطَارٍ، وَمِثْلُ هَذَا الْيَأْسِ هُوَ الْإِبْلَاسُ وَلِنُبَيِّنَ حَالَ الْمُجْرِمِ وَإِبْلَاسَهُ بِمِثَالٍ، وَهُوَ أَنْ نَقُولَ مَثَلُهُ مَثَلُ مَنْ يَكُونُ فِي بُسْتَانٍ وَحَوَالَيْهِ الْمَلَاعِبُ وَالْمَلَاهِي، وَلَدَيْهِ مَا يَفْتَخِرُ بِهِ وَيُبَاهِي، فَيُخْبِرُهُ صَادِقٌ بِمَجِيءِ عَدُوٍّ لَا يَرُدُّهُ رَادٌّ، وَلَا يَصُدُّهُ صَادٌّ، إِذَا جَاءَهُ لَا يُبْلِعُهُ رِيقًا، وَلَا يَتْرُكُ لَهُ إِلَى الْخَلَاصِ طَرِيقًا، فَيَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ الِاشْتِغَالُ بِسُلُوكِ طَرِيقِ الْخَلَاصِ فَيَقُولُ لَهُ طِفْلٌ أَوْ/ مَجْنُونٌ إِنَّ هَذِهِ الشَّجَرَةَ الَّتِي أَنْتَ تَحْتَهَا لَهَا مِنَ الْخَوَاصِّ دَفْعُ الْأَعَادِي عَمَّنْ يَكُونُ تَحْتَهَا، فَيُقْبِلُ ذَلِكَ الْغَافِلُ عَلَى اسْتِيفَائِهِ مَلَاذَهُ مُعْتَمِدًا عَلَى الشَّجَرَةِ بِقَوْلِ ذَلِكَ الصَّبِيِّ فَيَجِيئُهُ الْعَدُوُّ وَيُحِيطُ بِهِ، فَأَوَّلُ مَا يُرِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ قَلْعُ تِلْكَ الشَّجَرَةِ فَيَبْقَى مُتَحَيِّرًا آيِسًا، مُفْتَقِرًا، فَكَذَلِكَ الْمُجْرِمُ فِي دَارِ الدُّنْيَا أَقْبَلَ عَلَى اسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ وَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ الصَّادِقُ بِأَنَّ اللَّهَ يَجْزِيهِ، وَيَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ وَالنَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ إِنَّ هَذِهِ الْأَخْشَابَ الَّتِي هِيَ الْأَوْثَانُ دَافِعَةٌ عَنْكِ كُلَّ بَأْسٍ، وَشَافِعَةٌ لَكَ عِنْدَ خُمُودِ الْحَوَاسِّ، فَاشْتَغَلَ بِمَا هُوَ فِيهِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى غَيِّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى فَأَوَّلُ مَا أَرَتْهُ إِلْقَاءُ الْأَصْنَامِ فِي النَّارِ فَلَا يَجِدُ إِلَى الْخَلَاصِ مِنْ طَرِيقٍ، وَيَحِقُّ عَلَيْهِ عَذَابُ الْحَرِيقِ، فَيَيْأَسُ حِينَئِذٍ أَيَّ إِيَاسٍ وَيُبْلِسُ أَشَدَّ إِبْلَاسٍ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ يعني يكفرون بهم ذلك اليوم.

[سورة الروم (30) : آية 14]

ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : آية 14] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) ثُمَّ بَيَّنَ أَمْرًا آخَرَ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ الِافْتِرَاقُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: 59] فَكَأَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى الْإِبْلَاسِ، فَكَأَنَّهُ أَوَّلًا يُبْلَسُ ثُمَّ يُمَيَّزُ وَيُجْعَلُ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، وَأَعَادَ قَوْلَهُ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ لِأَنَّ قِيَامَ السَّاعَةِ أَمْرٌ هَائِلٌ فَكَرَّرَهُ تَأْكِيدًا لِلتَّخْوِيفِ، وَمِنْهُ اعْتَادَ الْخُطَبَاءُ تَكْرِيرَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي الْخُطَبِ لِتَذْكِيرِ أَهْوَالِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ التفرق فقال تعالى: [سورة الروم (30) : آية 15] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) أَيْ فِي جَنَّةٍ يُسَرُّونَ بِكُلِّ مسرة. [سورة الروم (30) : آية 16] وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) يَعْنِي لَا غِيبَةَ لَهُمْ عَنْهُ وَلَا فُتُورَ لَهُ عَنْهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها [الحج: 22] وقال: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ [آل عمران: 88] وَفِي الْآيَتَيْنِ مَسَائِلُ فِيهَا لَطَائِفُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: بَدَأَ بِذِكْرِ حَالِ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَ أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ ذِكْرِ الْمُجْرِمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يُوَصَلُ إِلَيْهِ الثَّوَابُ قَبْلَ أَنْ يُوَصَلَ إِلَى الْكَافِرِ الْعِقَابُ حَتَّى يُرَى وَيُتَحَقَّقَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ وَصَلَ إِلَى الثَّوَابِ فَيَكُونَ أَنَكَى، وَلَوْ أُدْخِلَ الْكَافِرُ النَّارَ أَوَّلًا لَكَانَ يَظُنُّ أَنَّ الْكُلَّ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ، فَقَدَّمَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي إِيلَامِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ فِي الْمُؤْمِنِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكَافِرِ الْعَمَلَ السَّيِّئَ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ مُعْتَبَرٌ مَعَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ الْمُجَرَّدَ مُفِيدٌ لِلنَّجَاةِ دُونَ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَلَا يَبْلُغُ الْمُؤْمِنُ الدَّرَجَةَ الْعَالِيَةَ إِلَّا بِإِيمَانِهِ وَعَمَلِهِ الصَّالِحِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ فِي الدَّرَكَاتِ بِمُجَرَّدِ كُفْرِهِ فَلَوْ قَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَعَمِلُوا السَّيِّئَاتِ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ، لَكَانَ الْعَذَابُ لِمَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ الْمَجْمُوعُ، فَإِنْ قِيلَ فَمَنْ يُؤْمِنُ وَيَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْقِسْمَيْنِ، فَنَقُولُ لَهُ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ الْمُنْزِلَتَيْنِ لَا عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، بَلْ هُوَ فِي الْأَوَّلِ فِي الْعَذَابِ وَلَكِنْ لَيْسَ مِنَ الْمُحْضَرِينَ دَوَامَ الْحُضُورِ، وَفِي الْآخِرَةِ هُوَ فِي الرِّيَاضِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَحْبُورِينَ غَايَةَ الْحُبُورِ كُلُّ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْوَعْدِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ فِي الْأَوَّلِ فِي رَوْضَةٍ عَلَى التَّنْكِيرِ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ فِي الْعَذَابِ عَلَى التَّعْرِيفِ، لِتَعْظِيمِ الرَّوْضَةِ بِالتَّنْكِيرِ، كَمَا يُقَالُ لِفُلَانٍ مَالٌ وَجَاهٌ، أَيْ كَثِيرٌ وَعَظِيمٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ فِي الْأَوَّلِ: يُحْبَرُونَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ وَلَمْ يَقُلْ مَحْبُورُونَ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ: مُحْضَرُونَ بِصِيغَةِ الِاسْمِ وَلَمْ يَقُلْ يَحْضُرُونَ، لِأَنَّ الْفِعْلَ يُنْبِئُ عَنِ التَّجَدُّدِ وَالِاسْمُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: يُحْبَرُونَ يَعْنِي يَأْتِيهِمْ كُلَّ سَاعَةٍ أَمْرٌ يُسَرُّونَ بِهِ. وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَهُمْ إِذَا دخلوا العذاب يبقون فيه محضرين. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 19] فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)

[في قَوْلِهِ تَعَالَى فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ إلى قوله يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ] لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى عَظَمَتَهُ فِي الِابْتِدَاءِ بِقَوْلِهِ: مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الروم: 8] وَعَظَمَتَهُ فِي الِانْتِهَاءِ، وَهُوَ حِينَ تَقُومُ السَّاعَةُ وَيَفْتَرِقُ النَّاسُ فَرِيقَيْنِ، وَيَحْكُمُ عَلَى الْبَعْضِ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي، وَهَؤُلَاءِ إِلَى النَّارِ وَلَا أُبَالِي، أَمَرَ بِتَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ سُوءٍ ويحمده عَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَالَ: فَسُبْحانَ اللَّهِ أَيْ سَبِّحُوا اللَّهَ تَسْبِيحًا، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَعْنَى سُبْحَانَ اللَّهِ وَلَفْظِهِ، أَمَّا لَفْظُهُ فَفِعْلَانِ اسْمٌ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ التَّسْبِيحُ، سُمِّيَ التَّسْبِيحُ بِسُبْحَانَ وَجُعِلَ عَلَمًا لَهُ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ مِنْهُ الصَّلَاةُ، أَيْ صَلُّوا، وَذَكَرُوا أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَرَادَ بِهِ التَّنْزِيهَ، أَيْ نَزِّهُوهُ عَنْ/ صِفَاتِ النَّقْصِ وَصِفُوهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَهَذَا أَقْوَى وَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْأَوَّلَ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّنْزِيهَ الْمَأْمُورَ بِهِ يَتَنَاوَلُ التَّنْزِيهَ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ وَبِاللِّسَانِ مَعَ ذَلِكَ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَسَنُ وَبِالْأَرْكَانِ مَعَهُمَا جَمِيعًا وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصْلُ، وَالثَّانِي ثَمَرَةُ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثُ ثَمَرَةُ الثَّانِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اعْتَقَدَ شَيْئًا ظَهَرَ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ، وَإِذَا قَالَ ظَهَرَ صِدْقُهُ فِي مَقَالِهِ مِنْ أَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَاللِّسَانُ تَرْجُمَانُ الْجِنَانِ وَالْأَرْكَانُ بُرْهَانُ اللِّسَانِ، لَكِنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ أَعْمَالِ الْأَرْكَانِ، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ وَالْقَصْدِ بِالْجَنَانِ، وَهُوَ تَنْزِيهٌ فِي التَّحْقِيقِ، فَإِذَا قَالَ نَزِّهُونِي، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّنْزِيهِ، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى كُلِّ مَا هُوَ تَنْزِيهٌ فَيَكُونُ أَيْضًا هَذَا أَمْرًا بِالصَّلَاةِ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَنَا يُنَاسِبُ مَا تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْمَقَامَ الْأَعْلَى وَالْجَزَاءَ الْأَوْفَى لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ حَيْثُ قَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ [الروم: 15] قَالَ: إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْمَقَامَ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ وَالْإِيمَانُ تَنْزِيهٌ بِالْجَنَانِ وَتَوْحِيدٌ بِاللِّسَانِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ اسْتِعْمَالُ الْأَرْكَانِ وَالْكُلُّ تَنْزِيهَاتٌ وَتَحْمِيدَاتٌ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ أَيْ فَأْتُوا بِذَلِكَ الَّذِي هُوَ الْمُوَصِّلُ إِلَى الْحُبُورِ فِي الرِّيَاضِ، وَالْحُضُورِ عَلَى الْحِيَاضِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: خَصَّ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ بِالْأَمْرِ بِالتَّسْبِيحِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ أَدْوَمُهَا، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْمَلَائِكَةِ مُلَازِمُونَ لِلتَّسْبِيحِ عَلَى الدَّوَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 20] وَالْإِنْسَانُ مَا دَامَ فِي الدُّنْيَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَصْرِفَ جَمِيعَ أَوْقَاتِهِ إِلَى التَّسْبِيحِ، لِكَوْنِهِ مُحْتَاجًا إِلَى أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَتَحْصِيلِ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَمَلْبُوسٍ وَمَرْكُوبٍ فَأَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى أَوْقَاتٍ إِذَا أَتَى الْعَبْدُ بِتَسْبِيحِ اللَّهِ فِيهَا يَكُونُ كَأَنَّهُ لَمْ يَفْتُرْ وَهِيَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالْوَسَطُ أَوَّلُ النَّهَارِ وَآخِرُهُ وَوَسَطُهُ فَأَمَرَ بِالتَّسْبِيحِ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَوَسَطِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِالتَّسْبِيحِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ لِأَنَّ النَّوْمَ فِيهِ غَالِبٌ وَاللَّهُ مَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِالِاسْتِرَاحَةِ بِالنَّوْمِ، كَمَا قَالَ: وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ [الرُّومِ: 23] فَإِذَا صَلَّى فِي أَوَّلِ النَّهَارِ تَسْبِيحَتَيْنِ وَهُمَا رَكْعَتَانِ حُسِبَ لَهُ صَرْفُ سَاعَتَيْنِ إِلَى التَّسْبِيحِ، ثُمَّ إِذَا صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَقْتَ الظُّهْرِ حُسِبَ لَهُ صَرْفُ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ أُخَرَ فَصَارَتْ سِتَّ سَاعَاتٍ، وَإِذَا صَلَّى أَرْبَعًا فِي أَوَاخِرِ النَّهَارِ وَهُوَ الْعَصْرُ حُسِبَ لَهُ أَرْبَعٌ أُخْرَى فَصَارَتْ عَشْرَ سَاعَاتٍ، فَإِذَا صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ سَبْعَ رَكَعَاتٍ أُخَرَ حَصَلَ لَهُ صَرْفُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَاعَةً إِلَى التَّسْبِيحِ وَبَقِيَ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سَبْعُ سَاعَاتٍ وَهِيَ مَا بَيْنَ نِصْفِ اللَّيْلِ وَثُلُثَيْهِ لِأَنَّ ثُلُثَيْهِ ثَمَانِ سَاعَاتٍ وَنِصْفَهُ سِتُّ سَاعَاتٍ وَمَا بَيْنَهُمَا السَّبْعُ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَوْ نَامَ الْإِنْسَانُ فِيهِ

لَكَانَ كَثِيرًا وَإِلَيْهِ أَشَارَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [الْمُزَّمِّلِ: 2- 4] وَزِيَادَةُ الْقَلِيلِ عَلَى النِّصْفِ هِيَ سَاعَةٌ فَيَصِيرُ سَبْعَ سَاعَاتٍ مَصْرُوفَةً إِلَى النَّوْمِ وَالنَّائِمُ مَرْفُوعٌ عَنْهُ الْقَلَمُ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَبْدِي صَرَفَ جَمِيعَ أَوْقَاتِ تَكْلِيفِهِ فِي تَسْبِيحِي فَلَمْ يَبْقَ لَكُمْ أَيُّهَا الْمَلَائِكَةُ عليهم المزية التي ادعيتم بقولكم: نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [الْبَقَرَةِ: 30] عَلَى سَبِيلِ الِانْحِصَارِ بَلْ هُمْ مِثْلُكُمْ/ فَمَقَامُهُمْ مِثْلُ مَقَامِكُمْ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي وَضْعِ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا وَعَدَدِ رَكَعَاتِهَا وَاخْتِلَافِ هَيْئَاتِهَا حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، أَمَّا فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الْإِنْسَانِ يَقْظَانَ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ سَاعَةً فَفَرَضَ عَلَيْهِ سَبْعَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَ بِوُجُوبِ الْوِتْرِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَهُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، فَنَقُولُ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَلِّلَ نَوْمَهُ فَلَا يَنَامُ إِلَّا ثُلُثَ اللَّيْلِ مَأْخُوذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ قِيَامَ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ مُسْتَحْسَنٌ مُسْتَحَبٌّ مُؤَكَّدٌ بِاسْتِحْبَابٍ وَلِهَذَا قَالَ عَقِيبَهُ: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ [الْمُزَّمِّلِ: 20] ذُكِرَ بِلَفْظِ التَّوْبَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَكُونُ الْإِنْسَانُ يَقْظَانَ فِي عِشْرِينَ سَاعَةً فَأُمِرَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً، وَأَمَّا النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يَنَامَ أَصْلًا كَمَا قَالَ: «تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي» جُعِلَ لَهُ كُلُّ اللَّيْلِ كَالنَّهَارِ فَزِيدَ لَهُ التَّهَجُّدُ فَأُمِرَ بِهِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا [الْإِنْسَانِ: 26] أَيْ كُلُّ اللَّيْلِ لَكَ لِلتَّسْبِيحِ فَصَارَ هُوَ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَاعَةً مُسَبِّحًا، فَصَارَ مِنَ الَّذِينَ لَا يَفْتُرُونَ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَمَّا فِي أَوْقَاتِهِ فَمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ الْأَوَّلَ وَالْآخِرَ وَالْوَسَطَ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فَشَرَعَ التَّسْبِيحَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِهِ، وَأَمَّا اللَّيْلُ فَاعْتَبَرَ أَوَّلَهَ وَوَسَطَهُ كَمَا اعْتَبَرَ أَوَّلَ النَّهَارِ وَوَسَطَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الظُّهْرَ وَقْتُهُ نِصْفُ النَّهَارِ وَالْعِشَاءَ وَقْتُهُ نِصْفُ اللَّيْلِ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّيْلَ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمِقْدَارُ الَّذِي يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِيهِ يَقْظَانَ وَهُوَ مِقْدَارُ خَمْسِ سَاعَاتٍ فَجُعِلَ وَقْتُهُ فِي نِصْفِ هَذَا الْقَدْرِ وَهُوَ الثَّلَاثَةُ مِنَ اللَّيْلِ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ لَمَّا رَأَى وُجُوبَ الْوِتْرِ كَانَ زَمَانُ النَّوْمِ عِنْدَهُ أَرْبَعَ سَاعَاتٍ وَزَمَانُ الْيَقَظَةِ بِاللَّيْلِ ثَمَانِ سَاعَاتٍ وَأَخَّرَ وَقْتَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ إِلَى الرَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ، لِيَكُونَ فِي وَسَطِ اللَّيْلِ الْمُعْتَبَرِ، كَمَا أَنَّ الظُّهْرَ فِي وسط النهار، وأما النبي لَمَّا كَانَ لَيْلُهُ نَهَارًا وَنَوْمُهُ انْتِبَاهًا قَالَ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ وَتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ» لِيَكُونَ الْأَرْبَعُ فِي نِصْفِ اللَّيْلِ كَمَا أَنَّ الْأَرْبَعَ فِي نِصْفِ النَّهَارِ، وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَالَّذِي يَتَبَيَّنُ لِي أَنَّ النَّهَارَ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً زَمَانِيَّةً وَالصَّلَاةُ الْمُؤَدَّاةُ فِيهَا عَشْرُ رَكَعَاتٍ فَيَبْقَى عَلَى الْمُكَلَّفِ رَكْعَتَانِ يُؤَدِّيهِمَا فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَيُؤَدِّي رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ لِيَكُونَ ابْتِدَاءُ اللَّيْلِ بِالتَّسْبِيحِ كَمَا كَانَ ابْتِدَاءُ النَّهَارِ بِالتَّسْبِيحِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُؤَدَّى مِنْ تَسْبِيحِ النَّهَارِ فِي أَوَّلِهِ رَكْعَتَيْنِ كَانَ الْمُؤَدَّى مِنْ تَسْبِيحِ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِهِ رَكْعَةً لِأَنَّ سَبْحَ النَّهَارِ طَوِيلٌ مِثْلُ ضِعْفِ سَبْحِ اللَّيْلِ، لِأَنَّ الْمُؤَدَّى فِي النَّهَارِ عَشَرَةٌ وَالْمُؤَدَّى فِي اللَّيْلِ مِنْ تَسْبِيحِ اللَّيْلِ خَمْسٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي فَضِيلَةِ السَّبْحَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ فِي الْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ، وَلْنَذْكُرْهَا مِنْ حَيْثُ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ، أَمَّا النَّقْلُ فَأَخْبَرَنِي الشَّيْخُ الْوَرِعُ الْحَافِظُ الْأُسْتَاذُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُلْوَانَ بِحَلَبَ مُسْنَدًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: «أَتَعْجِزُ عَنْ أَنْ تَأْتِيَ وَقْتَ النَّوْمِ بِأَلْفِ حَسَنَةٍ؟ فَتَوَقَّفَ فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ مِائَةَ مَرَّةٍ يُكْتَبُ لَكَ بِهَا أَلْفُ حَسَنَةٍ» وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ رَحِمَهُ اللَّهُ مُسْنَدًا «مَنْ قَالَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ سُبْحَانَ اللَّهِ وَعَشْرَ/ مَرَّاتٍ اللَّهُ أَكْبَرُ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ» وَأَمَّا الْعَقْلُ فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ صِفَاتٌ لَازِمَةٌ لَا مِنْ فِعْلِهِ وَصِفَاتٌ ثَابِتَةٌ لَهُ مِنْ فِعْلِهِ، أَمَّا الْأُولَى فَهِيَ صِفَاتُ كَمَالٍ وَجَلَالٍ خِلَافُهَا نقص، فإذا

أَدْرَكَ الْمُكَلَّفُ اللَّهَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ لِكَوْنِهِ عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ فَقَدْ نَزَّهَهُ عَنِ الْجَهْلِ وَوَصَفَهُ بِضِدِّهِ، وَإِذَا عَرَفَهُ بِأَنَّهُ لَا يَعْجِزُ عَنْ شَيْءٍ لِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَقَدْ نَزَّهَهُ عَنِ الْعَجْزِ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُجْرِي فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يَشَاءُ لِكَوْنِهِ مُرِيدًا لِكُلِّ كَائِنٍ فَقَدْ وَصَفَهُ وَنَزَّهَهُ، وَإِذَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ لِكَوْنِهِ وَاجِبَ الْبَقَاءِ فَقَدْ نَزَّهَهُ، وَإِذَا بَانَ لَهُ أَنَّهُ لَا يَسْبِقُهُ الْعَدَمُ لِاتِّصَافِهِ بِالْقِدَمِ فَقَدْ نَزَّهَهُ، وَإِذَا لَاحَ لَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يكون عرضا أو جسما أو فِي مَكَانٍ لِكَوْنِهِ وَاجِبًا بَرِيئًا عَنْ جِهَاتِ الْإِمْكَانِ فَقَدْ نَزَّهَهُ. لَكِنَّ صِفَاتِهِ السَّلْبِيَّةَ وَالْإِضَافِيَّةَ لَا يَعُدُّهَا عَادٌّ وَلَوِ اشْتَغَلَ بِهَا وَاحِدٌ لَأَفْنَى فِيهَا عُمُرَهُ وَلَا يُدْرِكُ كُنْهَهَا. فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ مُسْتَحْضِرًا بِقَلْبِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ مُتَنَبِّهًا لِمَا يَقُولُهُ مِنْ كَوْنِهِ مُنَزِّهًا لَهُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ فَإِتْيَانُهُ بِالتَّسْبِيحِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الْإِجْمَالِ يَقُومُ مَقَامَ إِتْيَانِهِ بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، لَكِنْ لَا رَيْبَ فِي أَنَّ مَنْ أَتَى بِالتَّسْبِيحِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ مِمَّا لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ يَكُونُ قَدْ أَتَى بِمَا لَا تَفِي بِهِ الْأَعْمَارُ، فَيَقُولُ هَذَا الْعَبْدُ أَتَى بِتَسْبِيحِي طُولَ عُمُرِهِ وَمُدَّةَ بَقَائِهِ فَأُجَازِيهِ بِأَنْ أُطَهِّرَهُ عَنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَأُزَيِّنَهُ بِخُلَعِ الْكَرَامَةِ وَأُنْزِلَهُ بِدَارِ الْمُقَامَةِ مُدَّةً لَا انْتِهَاءَ لَهَا، وَكَمَا أَنَّ الْعَبْدَ يُنَزِّهُ اللَّهَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِهِ وَوَسَطِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُطَهِّرُهُ فِي أَوَّلِهِ وَهُوَ دُنْيَاهُ وَفِي آخِرِهِ وَهُوَ عُقْبَاهُ وَفِي وَسَطِهِ وَهُوَ حَالَةُ كَوْنِهِ فِي قَبْرِهِ الَّذِي يَحْوِيهِ إِلَى أَوَانِ حَشْرِهِ وَهُوَ مَغْنَاهُ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ وَهُوَ صِفَاتُ الْفِعْلِ فَالْإِنْسَانُ إِذَا نَظَرَ إِلَى خلق الله السموات يَعْلَمُ أَنَّهَا نِعْمَةٌ وَكَرَامَةٌ فَيَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَإِذَا رَأَى الشَّمْسَ فِيهَا بَازِغَةً فَيَعْلَمُ أَنَّهَا نِعْمَةٌ وَكَرَامَةٌ فَيَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَكَذَلِكَ الْقَمَرُ وَكُلُّ كَوْكَبٍ وَالْأَرْضُ وَكُلُّ نَبَاتٍ وَكُلُّ حَيَوَانٍ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَكِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ حَمِدَ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عَلَى حِدَةٍ لَا يَفِي عُمُرُهُ بِهِ، فَإِذَا اسْتَحْضَرَ فِي ذِهْنِهِ النِّعَمَ الَّتِي لَا تُعَدُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: 34] وَيَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ فَهَذَا الْحَمْدُ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ يَقُومُ مِنْهُ مَقَامَ الْحَمْدِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَيَقُولُ عَبْدِي اسْتَغْرَقَ عُمُرَهُ فِي حَمْدِي وَأَنَا وَعَدْتُ الشَّاكِرَ بِالزِّيَادَةِ فَلَهُ عَلَى حَسَنَةِ التَّسْبِيحِ الْحُسْنَى وَلَهُ عَلَى حَمْدِهِ الزِّيَادَةُ ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اسْتَغْرَقَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ قَدْ يَدْعُوهُ عَقْلُهُ إِلَى التَّفَكُّرِ فِي اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ التَّفَكُّرِ فِي آلَاءِ اللَّهِ، فَكُلُّ مَا يَقَعُ فِي عَقْلِهِ مِنْ حَقِيقَتِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ مِمَّا أُدْرِكُهُ، لِأَنَّ الْمُدْرَكَاتِ وَجِهَاتِ الْإِدْرَاكَاتِ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ اللَّهُ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا الَّذِي أَدْرَكْتُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَأَكْبَرُ مِمَّا أَدْرَكْتُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ وَأَكْبَرُ مِمَّا أَدْرَكْتُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ يَفْنَى عُمُرُهُ وَلَا يَفِي بِإِدْرَاكِ جَمِيعِ الْوُجُوهِ الَّتِي يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُ مُدْرِكٌ لِلَّهِ بِذَلِكَ الْوَجْهِ، فَإِذَا قَالَ مَعَ نَفْسِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ أَيْ مِنْ كُلِّ مَا أَتَصَوَّرُهُ بِقُوَّةِ عَقْلِي وَطَاقَةِ إِدْرَاكِي يَكُونُ مُتَوَغِّلًا فِي الْعِرْفَانِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إِدْرَاكٌ فَقَوْلُ الْقَائِلِ الْمُسْتَيْقِظِ: «سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ» مُفِيدٌ لِهَذِهِ الْفَوَائِدِ، لَكِنَّ شَرْطَهُ/ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُعْتَبَرًا وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مِنْ صَمِيمِ الْقَلْبِ لَا الَّذِي يَكُونُ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَعَشِيًّا عَطْفٌ عَلَى حِينَ أَيْ سَبِّحُوهُ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَعَشِيًّا، وَقَوْلُهُ: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْعِبَادَ بِالتَّسْبِيحِ كَأَنَّهُ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ تَسْبِيحَهُمُ اللَّهَ لِنَفْعِهِمْ لَا لِنَفْعٍ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَحْمَدُوا اللَّهَ إِذَا سَبَّحُوهُ وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [الحجرات: 17] .

[سورة الروم (30) : آية 20]

المسألة الخامسة: قدم الإمساء على الإصباح هاهنا وَأَخَّرَهُ فِي قَوْلِهِ: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْأَحْزَابِ: 42] وذلك لأن هاهنا أَوَّلَ الْكَلَامِ ذِكْرُ الْحَشْرِ وَالْإِعَادَةِ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِلَى قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ [الروم: 11- 16] وَآخِرَ هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا ذِكْرُ الْحَشْرِ وَالْإِعَادَةِ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ وَالْإِمْسَاءُ آخِرٌ فَذَكَرَ الْآخِرَ لِيَذْكُرَ الْآخِرَةَ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي تَعَلُّقِ إِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ وَالْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ بِمَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ عِنْدَ الْإِصْبَاحِ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ مِنْ شِبْهِ الْمَوْتِ وَهُوَ النَّوْمُ إِلَى شِبْهِ الْوُجُودِ وَهُوَ الْيَقَظَةُ،. وَعِنْدَ الْعِشَاءِ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْيَقَظَةِ إِلَى النَّوْمِ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: يُخْرِجُ الدَّجَاجَةَ مِنَ الْبَيْضَةِ وَالْبَيْضَةَ مِنَ الدَّجَاجَةِ، وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ مِنَ النُّطْفَةِ وَالنُّطْفَةُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ وَالْكَافِرُ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أَيِ الْيَقْظَانَ مِنَ النَّائِمِ وَالنَّائِمَ مِنَ الْيَقْظَانِ، وَهَذَا يَكُونُ قَدْ ذَكَرَهُ لِلتَّمْثِيلِ أَيْ إِحْيَاءُ الْمَيِّتِ عِنْدَهُ وَإِمَاتَةُ الْحَيِّ كَتَنْبِيهِ النَّائِمِ وَتَنْوِيمِ الْمُنْتَبِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ وَفِي هَذَا مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ بِالْمَوْتِ تَبْطُلُ حَيَوَانِيَّتُهُ وَأَمَّا نَفْسُهُ النَّاطِقَةُ فَتُفَارِقُهُ وَتَبْقَى بَعْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً [آلِ عِمْرَانَ: 169] لَكِنَّ الْحَيَوَانَ نَامٍ مُتَحَرِّكٌ حَسَّاسٌ لَكِنَّ النَّائِمَ لَا يَتَحَرَّكُ وَلَا يَحُسُّ وَالْأَرْضُ الْمَيْتَةُ لَا يَكُونُ فِيهَا نَمَاءٌ، ثُمَّ إِنَّ النَّائِمَ بِالِانْتِبَاهِ يَتَحَرَّكُ وَيَحُسُّ وَالْأَرْضُ الْمَيْتَةُ بَعْدَ مَوْتِهَا تَنْمُو بِنَبَاتِهَا فَكَمَا أَنَّ تَحْرِيكَ ذَلِكَ السَّاكِنِ وَإِنْمَاءَ هَذَا الْوَاقِفِ سَهْلٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَذَلِكَ إِحْيَاءُ الْمَيِّتِ سَهْلٌ عَلَيْهِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : آية 20] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّسْبِيحِ عَنِ الْأَسْوَاءِ وَذَكَرَ أَنَّ الْحَمْدَ لَهُ عَلَى خَلْقِ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَبَيَّنَ قُدْرَتَهُ عَلَى الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ بِقَوْلِهِ: فَسُبْحانَ اللَّهِ إِلَى قوله: وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ [الروم: 16- 20] ذَكَرَ مَا هُوَ حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ وَآيَةٌ/ بَاهِرَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَمِنْ جُمْلَتِهَا خَلْقُ الْإِنْسَانِ مِنْ تُرَابٍ وَتَقْرِيرُهُ هُوَ أَنَّ التُّرَابَ أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنْ دَرَجَةِ الْأَحْيَاءِ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ كَيْفِيَّتُهُ فَإِنَّهُ بَارِدٌ يَابِسٌ وَالْحَيَاةُ بِالْحَرَارَةِ وَالرُّطُوبَةِ، وَمِنْ حَيْثُ لَوْنُهُ فَإِنَّهُ كَدِرٌ وَالرُّوحُ نَيْرٌ، وَمِنْ حَيْثُ فِعْلُهُ فَإِنَّهُ ثَقِيلٌ وَالْأَرْوَاحُ الَّتِي بِهَا الْحَيَاةُ خَفِيفَةٌ، وَمِنْ حَيْثُ السُّكُونُ فَإِنَّهُ بَعِيدٌ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالْحَيَوَانُ يَتَحَرَّكُ يُمْنَةً وَيُسْرَةً وَإِلَى خَلْفٍ وَإِلَى قُدَّامٍ وَإِلَى فَوْقٍ وَإِلَى أَسْفَلَ، وَفِي الْجُمْلَةِ فَالتُّرَابُ أَبْعَدُ مِنْ قَبُولِ الْحَيَاةِ عَنْ سَائِرِ الْأَجْسَامِ لِأَنَّ الْعَنَاصِرَ أَبْعَدُ مِنَ الْمُرَكَّبَاتِ لِأَنَّ الْمُرَكَّبَ بِالتَّرْكِيبِ أَقْرَبُ دَرَجَةً مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْعَنَاصِرُ أَبْعَدُهَا التُّرَابُ لِأَنَّ الْمَاءَ فِيهِ الصَّفَاءُ وَالرُّطُوبَةُ وَالْحَرَكَةُ وَكُلُّهَا عَلَى طَبْعِ الْأَرْوَاحِ وَالنَّارِ أَقْرَبُ لِأَنَّهَا كَالْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ مُنْضَجَةٌ جَامِعَةٌ مُفَرَّقَةٌ ثُمَّ الْمُرَكَّبَاتُ وَأَوَّلُ مَرَاتِبِهَا الْمَعْدِنُ فَإِنَّهُ مُمْتَزِجٌ، وَلَهُ مَرَاتِبُ أَعْلَاهَا الذَّهَبُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ أَدْنَى مَرَاتِبِ النَّبَاتِ وَهِيَ مَرْتَبَةُ النَّبَاتِ الَّذِي يَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ وَلَا يَبْرُزُ وَلَا يَرْتَفِعُ، ثُمَّ النَّبَاتَاتُ وَأَعْلَى مَرَاتِبِهَا وَهِيَ مَرْتَبَةُ الْأَشْجَارِ الَّتِي تَقْبَلُ التَّعْظِيمَ، وَيَكُونُ لِثَمَرِهَا حَبٌّ يُؤْخَذُ مِنْهُ مِثْلُ تِلْكَ الشَّجَرَةِ كَالْبَيْضَةِ مِنَ الدَّجَاجَةِ وَالدَّجَاجَةُ مِنَ الْبَيْضَةِ قَرِيبَةٌ مِنْ أَدْنَى مَرَاتِبِ الْحَيَوَانَاتِ وَهِيَ مَرْتَبَةُ الْحَشَرَاتِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا دَمٌ سَائِلٌ وَلَا هِيَ إِلَى الْمَنَافِعِ الْجَلِيلَةِ وَسَائِلُ كَالنَّبَاتَاتِ، ثُمَّ الْحَيَوَانُ وَأَعْلَى مَرَاتِبِهَا قَرِيبَةٌ مِنْ مَرْتَبَةِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ الْأَنْعَامَ وَلَا سيما الفرس

تُشْبِهُ الْعَتَّالَ وَالْحَمَّالَ وَالسَّاعِيَ، ثُمَّ الْإِنْسَانُ، وَأَعْلَى مَرَاتِبِ الْإِنْسَانِ قَرِيبَةٌ مِنْ مَرْتَبَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُسَبِّحِينَ لِلَّهِ الْحَامِدِينَ لَهُ فَاللَّهُ الَّذِي خَلَقَ مِنْ أَبْعَدِ الْأَشْيَاءِ عَنْ مَرْتَبَةِ الْأَحْيَاءِ حَيًّا هُوَ فِي أَعْلَى الْمَرَاتِبِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُنَزَّهًا عَنِ الْعَجْزِ وَالْجَهْلِ، وَيَكُونُ لَهُ الْحَمْدُ عَلَى إِنْعَامِ الْحَيَاةِ، وَيَكُونُ لَهُ كَمَالُ الْقُدْرَةِ وَنُفُوذُ الْإِرَادَةِ فَيَجُوزُ مِنْهُ الْإِبْدَاءُ وَالْإِعَادَةُ، وَفِي الْآيَةِ لَطِيفَتَانِ إِحْدَاهُمَا: قَوْلُهُ: إِذا وَهِيَ لِلْمُفَاجَأَةِ يُقَالُ خَرَجْتُ فَإِذَا أَسَدٌ بِالْبَابِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ بِكُنْ فَكَانَ لَا أَنَّهُ صَارَ مَعْدِنًا ثُمَّ نَبَاتًا ثُمَّ حَيَوَانًا ثُمَّ إِنْسَانًا وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَسْأَلَةٍ حُكْمِيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ أولا إنسانا فينبهه أنه يحيي حَيَوَانًا وَنَامِيًا وَغَيْرُ ذَلِكَ لَا أَنَّهُ خُلِقَ أَوَّلًا حَيَوَانًا، ثُمَّ يَجْعَلُهُ إِنْسَانًا فَخَلْقُ الْأَنْوَاعِ هُوَ الْمُرَادُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ تَكُونُ الْأَنْوَاعُ فِيهَا الْأَجْنَاسُ بِتِلْكَ الْإِرَادَةِ الْأُولَى، فَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْمَرْتَبَةَ الْأَخِيرَةَ فِي الشَّيْءِ الْبَعِيدِ عَنْهَا غَايَةً مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ مِنْ مَرْتَبَةٍ إِلَى مَرْتَبَةٍ مِنَ الْمَرَاتِبِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: بَشَرٌ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُوَّةِ الْمُدْرِكَةِ لِأَنَّ الْبَشَرَ بَشَرٌ لَا بِحَرَكَتِهِ، فَإِنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ أَيْضًا كَذَلِكَ وَقَوْلُهُ: تَنْتَشِرُونَ إِلَى الْقُوَّةِ الْمُحَرِّكَةِ وَكِلَاهُمَا مِنَ التُّرَابِ عَجِيبٌ، أَمَّا الْإِدْرَاكُ فَلِكَثَافَتِهِ وَجُمُودِهِ، وَأَمَّا الْحَرَكَةُ فَلِثِقَلِهِ وَخُمُودِهِ وَقَوْلُهُ: تَنْتَشِرُونَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعَجِيبَةَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنَ التُّرَابِ بَلْ خَلْقُ الْحَيَوَانِ الْمُنْتَشِرِ مِنَ التُّرَابِ السَّاكِنِ عَجِيبٌ فَضْلًا عَنْ خَلْقِ الْبَشَرِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ وَخَلَقَنَا مِنْهُ فَكَيْفَ قَالَ: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا قِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ أَنَّهُ خَلَقَ أَصْلَكُمْ وَالثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: إِنَّ كُلَّ بَشَرٍ مَخْلُوقٍ مِنَ التُّرَابِ، أَمَّا آدَمُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلِأَنَّا خُلِقْنَا مِنْ/ نُطْفَةٍ وَالنُّطْفَةُ مِنْ صَالِحِ الْغِذَاءِ الَّذِي هُوَ بِالْقُوَّةِ بَعْضٌ مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَالْغِذَاءُ إِمَّا مِنْ لُحُومِ الْحَيَوَانَاتِ وَأَلْبَانِهَا وَأَسْمَانِهَا، وَإِمَّا مِنَ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانُ أَيْضًا لَهُ غِذَاءٌ هُوَ النَّبَاتُ لَكِنِ النَّبَاتُ مِنَ التُّرَابِ، فَإِنَّ الْحَبَّةَ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالنَّوَاةُ مِنَ الثَّمَرَةِ لَا تَصِيرُ شَجَرَةً إِلَّا بِالتُّرَابِ وَيَنْضَمُّ إِلَيْهَا أَجْزَاءٌ مَائِيَّةٌ لِيَصِيرَ ذَلِكَ النَّبَاتُ بِحَيْثُ يَغْذُو. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً [الْفُرْقَانِ: 2] وَقَالَ: مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [المرسلات: 20] وَهَاهُنَا قَالَ: مِنْ تُرابٍ فَكَيْفَ الْجَمْعُ؟ قُلْنَا أَمَّا عَلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ: فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ آدَمُ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي: فَنَقُولُ هَاهُنَا قَالَ مَا هُوَ أَصْلٌ أَوَّلٌ، وَفِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ قَالَ مَا هُوَ أَصْلٌ ثَانٍ لِأَنَّ ذَلِكَ التُّرَابَ الَّذِي صَارَ غِذَاءً يَصِيرُ مَائِعًا وَهُوَ الْمَنِيُّ، ثُمَّ يَنْعَقِدُ وَيَتَكَوَّنُ بِخَلْقِ اللَّهِ مِنْهُ إِنْسَانًا أَوْ نَقُولُ الْإِنْسَانُ لَهُ أَصْلَانِ ظَاهِرَانِ الْمَاءُ وَالتُّرَابُ فَإِنَّ التُّرَابَ لَا يُنْبِتُ إِلَّا بِالْمَاءِ فَفِي النَّبَاتِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ غِذَاءِ الْإِنْسَانِ تُرَابٌ وَمَاءٌ فَإِنْ جُعِلَ التُّرَابُ أَصْلًا وَالْمَاءُ لِجَمْعِ أَجْزَائِهِ الْمُتَفَتِّتَةِ فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ وَإِنْ جُعِلَ الْأَصْلُ هُوَ الْمَاءُ وَالتُّرَابُ لِتَثْبِيتِ أَجْزَائِهِ الرَّطْبَةِ مِنَ السَّيَلَانِ فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ اللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَصْلَ مَاذَا هُوَ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ عِنْدَنَا مُشْتَبَهٌ يَجُوزُ هَذَا وَذَاكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ هُوَ التُّرَابُ فَكَيْفَ قَالَ: مِنَ الْماءِ بَشَراً وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ فَكَيْفَ قَالَ: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ وَإِنْ كَانَا هُمَا أَصْلَيْنِ فَلِمَ لَمْ يَقُلْ خَلَقُكُمْ مِنْهُمَا فَنَقُولُ فِيهِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ كَوْنَ التُّرَابِ أَصْلًا وَالْمَاءِ أَصْلًا وَالْمَاءُ لَيْسَ لِذَاتَيْهِمَا، وَإِنَّمَا هو يجعل اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ نَظَرًا إِلَى قُدْرَتِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْلُقَ أَوَّلَ مَا يَخْلُقُ الْإِنْسَانَ ثُمَّ يُفْنِيهِ وَيَحْصُلُ مِنْهُ التُّرَابُ ثُمَّ يُذَوِّبُهُ وَيَحْصُلُ مِنْهُ الْمَاءُ، لَكِنِ الْحِكْمَةُ اقْتَضَتْ أَنْ يَكُونَ النَّاقِصُ وَسِيلَةً إِلَى الْكَامِلِ لَا الْكَامِلُ يَكُونُ وَسِيلَةً إِلَى النَّاقِصِ فَخَلَقَ التُّرَابَ وَالْمَاءَ أَوَّلًا، وَجَعَلَهُمَا أَصْلَيْنِ لِمَنْ هُوَ أَكْمَلُ مِنْهُمَا بَلْ لِلَّذِي هُوَ أَكْمَلُ مِنْ كُلِّ كَائِنٍ وَهُوَ الْإِنْسَانُ، فَإِنْ كَانَ كَوْنُهُمَا أَصْلَيْنِ ليس

[سورة الروم (30) : آية 21]

أَمْرًا ذَاتِيًّا لَهُمَا بَلْ بِجَعْلِ جَاعِلٍ فَتَارَةً جَعَلَ الْأَصْلَ التُّرَابَ وَتَارَةً الْمَاءَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَإِنْ شَاءَ جَعَلَ هَذَا أَصْلًا وَإِنْ شَاءَ جَعَلَ ذَلِكَ أَصْلًا، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُمَا أَصْلَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْحُكَمَاءُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِنَ الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ التُّرَابُ وَالْمَاءُ وَالْهَوَاءُ وَالنَّارُ، وَقَالُوا التُّرَابُ فِيهِ لِثَبَاتِهِ، وَالْمَاءُ لِاسْتِمْسَاكِهِ، فَإِنَّ التُّرَابَ يَتَفَتَّتُ بِسُرْعَةٍ، وَالْهَوَاءُ لِاسْتِقْلَالِهِ كَالزِّقِّ الْمَنْفُوخِ يَقُومُ بِالْهَوَاءِ وَلَوْلَاهُ لَمَا كَانَ فِيهِ اسْتِقْلَالٌ وَلَا انْتِصَابٌ، وَالنَّارُ لِلنُّضْجِ وَالِالْتِئَامِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَكَيْفَ اعْتَبَرَ الْأَمْرَيْنِ فَحَسْبُ وَلَمْ يَقُلْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ نَارٍ وَلَا مِنْ رِيحٍ؟ فَنَقُولُ أَمَّا قَوْلُهُمْ فَلَا مَفْسَدَةَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الشَّرْعِ فَلَا نُنَازِعُهُمْ فِيهِ إِلَّا إِذَا قَالُوا بِأَنَّهُ بِالطَّبِيعَةِ كَذَلِكَ، وَأَمَّا إِنْ قَالُوا بِأَنَّ اللَّهَ بِحِكْمَتِهِ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَا نُنَازِعُهُمْ فِيهِ، وَأَمَّا الْآيَاتُ فَنَقُولُ مَا ذَكَرْتُمْ لَا يُخَالِفُ هَذَا لِأَنَّ الْهَوَاءَ جَعَلْتُمُوهُ لِلِاسْتِقْلَالِ وَالنَّارَ لِلنُّضْجِ فَهُمَا يَكُونَانِ بَعْدَ امْتِزَاجِ الْمَاءِ بِالتُّرَابِ، فَالْأَصْلُ الْمَوْجُودُ أُولَاهُمَا لَا غَيْرَ/ فَلِذَلِكَ خَصَّهُمَا وَلِأَنَّ الْمَحْسُوسَ مِنَ الْعَنَاصِرِ فِي الْغَالِبِ هُوَ التُّرَابُ وَالْمَاءُ وَلَا سِيَّمَا كَوْنُهُمَا فِي الْإِنْسَانِ ظَاهِرٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فَخَصَّ الظاهر المحسوس بالذكر. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : آية 21] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ خَلْقَ الْإِنْسَانِ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَبْقَى وَتَدُومُ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةً أَبْقَى نَوْعَهُ بِالْأَشْخَاصِ وَجَعَلَهُ بِحَيْثُ يَتَوَالَدُ، فَإِذَا مَاتَ الْأَبُ يَقُومُ الِابْنُ مَقَامَهُ لِئَلَّا يُوجِبَ فَقْدُ الْوَاحِدِ ثُلْمَةً فِي الْعِمَارَةِ لَا تَنْسَدُّ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: خَلَقَ لَكُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ خُلِقْنَ كَخَلْقِ الدَّوَابِّ وَالنَّبَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ [الْبَقَرَةِ: 29] وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا تَكُونَ مَخْلُوقَةً لِلْعِبَادَةِ وَالتَّكْلِيفِ فَنَقُولُ خَلْقُ النِّسَاءِ مِنَ النِّعَمِ عَلَيْنَا وَخَلْقُهُنَّ لَنَا وَتَكْلِيفُهُنَّ لِإِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَيْنَا لَا لِتَوْجِيهِ التَّكْلِيفِ نَحْوَهُنَّ مِثْلُ تَوْجِيهِهِ إِلَيْنَا وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ النَّقْلِ وَالْحُكْمِ وَالْمَعْنَى، أَمَّا النَّقْلُ فَهَذَا وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تُكَلَّفْ بِتَكَالِيفٍ كَثِيرَةٍ كَمَا كُلِّفَ الرَّجُلُ بِهَا، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ ضَعِيفَةُ الْخَلْقِ سَخِيفَةٌ فَشَابَهَتِ الصَّبِيَّ لَكِنَّ الصَّبِيَّ، لَمْ يُكَلَّفْ فَكَانَ يُنَاسِبُ أَنْ لَا تُؤَهَّلَ الْمَرْأَةُ لِلتَّكْلِيفِ، لَكِنَّ النِّعْمَةَ عَلَيْنَا مَا كَانَتْ تَتِمُّ إِلَّا بِتَكْلِيفِهِنَّ لِتَخَافَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ الْعَذَابَ فَتَنْقَادُ لِلزَّوْجِ وَتَمْتَنِعُ عَنِ الْمُحَرَّمِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَظَهَرَ الْفَسَادُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مِنْ أَنْفُسِكُمْ بَعْضُهُمْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ جِسْمِ آدَمَ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مِنْ جِنْسِكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَةِ: 128] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لِتَسْكُنُوا إِلَيْها يَعْنِي أَنَّ الْجِنْسَيْنِ الْحَيَّيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ لَا يَسْكُنُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ أَيْ لَا تَثْبُتُ نَفْسُهُ مَعَهُ وَلَا يَمِيلُ قَلْبُهُ إِلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُقَالُ سَكَنَ إِلَيْهِ لِلسُّكُونِ الْقَلْبِيِّ وَيُقَالُ سَكَنَ عِنْدَهُ لِلسُّكُونِ الْجُسْمَانِيِّ، لِأَنَّ كَلِمَةَ عِنْدَ جَاءَتْ لِظَرْفِ الْمَكَانِ وَذَلِكَ لِلْأَجْسَامِ وَإِلَى لِلْغَايَةِ وَهِيَ لِلْقُلُوبِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً فِيهِ أَقْوَالٌ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَوَدَّةٌ بِالْمُجَامَعَةِ وَرَحْمَةٌ

[سورة الروم (30) : آية 22]

بالولد تمسكا بقوله تعالى: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [مَرْيَمَ: 2] وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَحَبَّةً حَالَةَ حَاجَةِ نَفْسِهِ، وَرَحْمَةً حَالَةَ حَاجَةِ صَاحِبِهِ إِلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُحِبُّ مَثَلًا وَلَدَهُ، فَإِذَا رَأَى عَدُوَّهُ فِي شِدَّةِ مِنْ جُوعٍ وَأَلَمٍ قَدْ يَأْخُذُ مِنْ وَلَدِهِ وَيُصْلِحُ بِهِ حَالَ ذَلِكَ، وَمَا ذَلِكَ لِسَبَبِ الْمَحَبَّةِ وَإِنَّمَا هُوَ لِسَبَبِ/ الرَّحْمَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: كَوْنُ الزَّوْجُ مِنْ جِنْسِهِ وَالثَّانِي: مَا تُفْضِي إِلَيْهِ الْجِنْسِيَّةُ وَهُوَ السُّكُونُ إِلَيْهِ فَالْجِنْسِيَّةُ تُوجِبُ السُّكُونَ وَذَكَرَ هَاهُنَا أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: يُفْضِي إِلَى الْآخَرِ فَالْمَوَدَّةُ تَكُونُ أَوَّلًا ثُمَّ إِنَّهَا تُفْضِي إِلَى الرَّحْمَةِ، وَلِهَذَا فَإِنَّ الزَّوْجَةَ قَدْ تَخْرُجُ عَنْ مَحَلِّ الشَّهْوَةِ بِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ وَيَبْقَى قِيَامُ الزَّوْجِ بِهَا وَبِالْعَكْسِ وَقَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ إِنَّ فِي خَلْقِ الْأَزْوَاجِ لَآيَاتٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ فِي جَعْلِ الْمَوَدَّةِ بَيْنَهُمْ آيَاتٌ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ فِكْرٍ لِأَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنَ الْوَالِدَيْنِ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَنُفُوذِ الْإِرَادَةِ وَشُمُولِ الْعِلْمِ لِمَنْ يَتَفَكَّرُ وَلَوْ فِي خُرُوجِ الْوَلَدِ مِنْ بَطْنِ الْأُمِّ، فَإِنَّ دُونَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ لَأَفْضَى إِلَى هَلَاكِ الْأُمِّ وَهَلَاكِ الْوَلَدِ أَيْضًا لَأَنَّ الْوَلَدَ لَوْ سُلَّ مِنْ مَوْضِعٍ ضَيِّقٍ بِغَيْرِ إِعَانَةِ اللَّهِ لَمَاتَ وَأَمَّا الثَّانِي: فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَجِدُ بَيْنَ الْقَرِينَيْنِ مِنَ التَّرَاحُمِ مَا لَا يَجِدُهُ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الشَّهْوَةِ فَإِنَّهَا قَدْ تَنْتَفِي وَتَبْقَى الرَّحْمَةُ فَهُوَ مِنَ اللَّهِ وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُجَرَّدُ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبُ كَثِيرُ الْوُقُوعِ وَهُوَ مُبْطِلٌ لِلشَّهْوَةِ وَالشَّهْوَةُ غَيْرُ دَائِمَةٍ فِي نَفْسِهَا لَكَانَ كُلَّ سَاعَةٍ بَيْنَهُمَا فِرَاقٌ وَطَلَاقٌ فَالرَّحْمَةُ الَّتِي بِهَا يَدْفَعُ الْإِنْسَانُ الْمَكَارِهَ عَنْ حَرِيمِ حَرَمِهِ هِيَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ولا يعلم ذلك إلا بفكر. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : آية 22] وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) لَمَّا بَيَّنَ دَلَائِلَ الْأَنْفُسِ ذَكَرَ دَلَائِلَ الْآفَاقِ وَأَظْهَرُهَا خلق السموات وَالْأَرْضِ، فَإِنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ يَقُولُ فِي خَلْقِ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُرَكَّبَاتِ إِنَّهُ بِسَبَبِ مَا في العناصر من الكيفيات وما في السموات مِنَ الْحَرَكَاتِ وَمَا فِيهَا مِنْ الِاتِّصَالَاتِ فَإِذَا قِيلَ لَهُ فَالسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَمْ تَكُنْ لِامْتِزَاجِ الْعَنَاصِرِ وَاتِّصَالَاتِ الْكَوَاكِبِ فَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ ثُمَّ لَمَّا أَشَارَ إِلَى دَلَائِلِ الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ ذَكَرَ مَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَنْفُسِ بِالِاخْتِلَافِ الَّذِي بَيْنَ أَلْوَانِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَصِغَرِ حَجْمِ خُدُودِهِمْ وَقُدُودِهِمْ لَا يشتبه بغيره والسموات مَعَ كِبَرِهَا وَقِلَّةِ عَدَدِهَا مُشْتَبِهَاتٌ فِي الصُّورَةِ وَالثَّانِي: اخْتِلَافُ كَلَامِهِمْ فَإِنَّ عَرَبِيَّيْنِ هُمَا أَخَوَانِ إِذَا تَكَلَّمَا بِلُغَةٍ وَاحِدَةٍ يُعْرَفُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ حَتَّى أَنَّ مَنْ يَكُونُ مَحْجُوبًا عَنْهُمَا لَا يُبْصِرُهُمَا يَقُولُ هَذَا صَوْتُ فُلَانٍ وَهَذَا صَوْتُ فُلَانٍ الْآخَرِ وَفِيهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْأَشْخَاصِ لِيَعْرِفَ صَاحِبَ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِهِ وَالْعَدُوَّ مِنَ الصَّدِيقِ لِيَحْتَرِزَ قَبْلَ وُصُولِ الْعَدُوِّ إِلَيْهِ، وَلِيُقْبِلَ عَلَى الصَّدِيقِ قَبْلَ أَنْ يَفُوتَهُ الْإِقْبَالُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِالْبَصَرِ فَخَلَقَ/ اخْتِلَافَ الصُّوَرِ وَقَدْ يَكُونُ بِالسَّمْعِ فَخَلَقَ اخْتِلَافَ الْأَصْوَاتِ، وَأَمَّا اللَّمْسُ وَالشَّمُّ وَالذَّوْقُ فَلَا يُفِيدُ فَائِدَةً فِي مَعْرِفَةِ الْعَدُوِّ وَالصَّدِيقِ فَلَا يَقَعُ بِهَا التَّمْيِيزُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ اخْتِلَافُ اللُّغَةِ كَالْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ لَمَّا كَانَ خَلْقُ السموات وَالْأَرْضِ لَمْ يَحْتَمِلِ الِاحْتِمَالَاتِ الْبَعِيدَةَ الَّتِي يَقُولُهَا أَصْحَابُ الطَّبَائِعِ وَاخْتِلَافُ الْأَلْوَانِ كَذَلِكَ وَاخْتِلَافُ الْأَصْوَاتِ كذلك قال: لِلْعالِمِينَ لعموم العلم بذلك.

[سورة الروم (30) : آية 23]

ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : آية 23] وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) لما ذكر بعض العرضيات اللازمة وهو الاختلاف ذِكْرِ الْأَعْرَاضِ الْمُفَارِقَةِ وَمِنْ جُمْلَتِهَا النَّوْمُ بِاللَّيْلِ وَالْحَرَكَةُ طَلَبًا لِلرِّزْقِ بِالنَّهَارِ، فَذَكَرَ مِنَ اللَّوَازِمِ أَمْرَيْنِ، وَمِنَ الْمُفَارَقَةِ أَمْرَيْنِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ قِيلَ أَرَادَ بِهِ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ وَالنَّوْمَ بِالنَّهَارِ وَهِيَ الْقَيْلُولَةُ: ثُمَّ قَالَ: وَابْتِغاؤُكُمْ أَيْ فِيهِمَا فَإِنَّ كَثِيرًا مَا يَكْتَسِبُ الْإِنْسَانُ بِاللَّيْلِ، وَقِيلَ أَرَادَ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَابْتِغَاؤُكُمْ بِالنَّهَارِ فَلَفَّ الْبَعْضَ بِالْبَعْضِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ. مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا [الْإِسْرَاءِ: 12] وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النَّبَأِ: 10، 11] وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ هَكَذَا: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ وَابْتِغَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ فَضْلِهِ، فَأَخَّرَ الِابْتِغَاءَ وقرته فِي اللَّفْظِ بِالْفِعْلِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرَى الرِّزْقَ مِنْ كَسْبِهِ وَبِحِذْقِهِ، بَلْ يَرَى كُلَّ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ رَبِّهِ، وَلِهَذَا قَرَنَ الِابْتِغَاءَ بِالْفَضْلِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الْجُمُعَةِ: 10] وَقَوْلُهُ: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [النَّحْلِ: 14] المسألة الثانية: قدم المنام بالليل على الابتغاء بالنهار في الذكر، لأن الاستراحة مطلوبة لذاتها والطلب لا يكون إلا لحاجة، فلا يتعب إلا محتاج في الحال أو خائف من المآل. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَقَالَ مِنْ قَبْلُ: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَقَالَ: لِلْعالِمِينَ فَنَقُولُ الْمَنَامُ بِاللَّيْلِ وَالِابْتِغَاءُ مِنْ فَضْلِهِ يَظُنُّ الْجَاهِلُ أَوِ الْغَافِلُ أَنَّهُمَا مِمَّا يَقْتَضِيهِ طَبْعُ الْحَيَوَانِ فَلَا يَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ كَوْنُهُمَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ فَلَمْ يَقُلْ آيَاتٌ لِلْعَالَمِينَ وَلِأَنَّ الْأَمْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَهُوَ اخْتِلَافُ الْأَلْسِنَةِ وَالْأَلْوَانِ مِنَ اللَّوَازِمِ وَالْمَنَامُ وَالِابْتِغَاءُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُفَارِقَةِ فَالنَّظَرُ إِلَيْهِمَا لَا يَدُومُ لِزَوَالِهِمَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَلَا كَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْأَلْسِنَةِ وَالْأَلْوَانِ، فَإِنَّهُمَا يَدُومَانِ بِدَوَامِ الْإِنْسَانِ/ فَجَعَلَهُمَا آيَاتٍ عَامَّةً، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا يَعْلَمُ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ، وَمِنْهَا مَا يَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ الْفِكْرَةِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَخْرُجُ بِالْفِكْرِ بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى مَوْقِفٍ يُوقَفُ عَلَيْهِ وَمُرْشِدٍ يُرْشِدُ إِلَيْهِ، فَيُفْهِمُهُ إِذَا سَمِعَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمُرْشِدِ، وَمِنْهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَى بَعْضِ النَّاسِ فِي تَفَهُّمِهِ إِلَى أَمْثِلَةٍ حِسِّيَّةٍ كَالْأَشْكَالِ الْهَنْدَسِيَّةِ لَكِنَّ خَلْقَ الْأَزْوَاجِ لَا يَقَعُ لِأَحَدٍ أَنَّهُ بِالطَّبْعِ إِلَّا إِذَا كَانَ جَامِدَ الْفِكْرِ خَامِدَ الذِّكْرِ، فَإِذَا تَفَكَّرَ عَلِمَ كَوْنَ ذَلِكَ الْخَلْقِ آيَةً، وَأَمَّا الْمَنَامُ وَالِابْتِغَاءُ فَقَدْ يَقَعُ لِكَثِيرٍ أَنَّهُمَا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إِلَى مُرْشِدٍ بِغَيْرِ فِكْرَةٍ، فَقَالَ: لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَيَجْعَلُونَ بالهم إلى كلام المرشد. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : آية 24] وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) لَمَّا ذَكَرَ الْعَرَضِيَّاتِ الَّتِي لِلْأَنْفُسِ اللَّازِمَةِ وَالْمُفَارِقَةِ ذَكَرَ الْعَرَضِيَّاتِ الَّتِي لِلْآفَاقِ، وَقَالَ: يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ وَفِي الْآيَةِ مسائل: إحداها: لَمَّا قَدَّمَ دَلَائِلَ الْأَنْفُسِ هَاهُنَا قَدَّمَ الْعَرَضِيَّاتِ الَّتِي لِلْأَنْفُسِ وَأَخَّرَ الْعَرَضِيَّاتِ الَّتِي لِلْآفَاقِ كَمَا

[سورة الروم (30) : آية 25]

أَخَّرَ دَلَائِلَ الْآفَاقِ، بِقَوْلِهِ: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الروم: 22] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدَّمَ لَوَازِمَ الْأَنْفُسِ عَلَى الْعَوَارِضِ الْمُفَارِقَةِ حَيْثُ ذَكَرَ أَوَّلًا اخْتِلَافَ الْأَلْسِنَةِ وَالْأَلْوَانِ ثُمَّ الْمَنَامَ وَالِابْتِغَاءَ، وَقَدَّمَ فِي الْآفَاقِ الْعَوَارِضَ الْمُفَارِقَةَ عَلَى اللَّوَازِمِ حَيْثُ قَالَ: يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مُتَغَيِّرُ الْحَالِ وَالْعَوَارِضُ لَهُ غَيْرُ بَعِيدَةٍ، وَأَمَّا اللَّوَازِمُ فيه فقريبة. وأما السموات وَالْأَرْضُ فَقَلِيلَةُ التَّغَيُّرِ فَالْعَوَارِضُ فِيهَا أَغْرَبُ مِنَ اللَّوَازِمِ، فَقَدَّمَ مَا هُوَ أَعْجَبُ لِكَوْنِهِ أَدْخَلَ فِي كَوْنِهِ آيَةً وَنَزِيدُهُ بَيَانًا فَنَقُولُ: الْإِنْسَانُ يَتَغَيَّرُ حَالُهُ بِالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ وَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ وَلَهُ صَوْتٌ يُعْرَفُ بِهِ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَهُ لَوْنٌ يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ يَتَغَيَّرُ فِي الْأَحْوَالِ وَذَلِكَ لَا يَتَغَيَّرُ وَهُوَ آيَةٌ عَجِيبَةٌ، وَالسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ ثَابِتَانِ لَا يَتَغَيَّرَانِ، ثُمَّ يُرَى فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَمْطَارٌ هَاطِلَةٌ وَبُرُوقٌ هَائِلَةٌ، وَالسَّمَاءُ كَمَا كَانَتْ وَالْأَرْضُ كَذَلِكَ، فَهُوَ آيَةٌ دَالَّةٌ عَلَى فَاعِلٍ مُخْتَارٍ يُدِيمُ أَمْرًا مَعَ تَغَيُّرِ الْمَحَلِّ وَيُزِيلُ أَمْرًا مَعَ ثَبَاتِ الْمَحَلِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَمَا قَدَّمَ السَّمَاءَ عَلَى الْأَرْضِ قَدَّمَ مَا هُوَ مِنَ السَّمَاءِ وَهُوَ الْبَرْقُ وَالْمَطَرُ عَلَى مَا هُوَ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ الْإِنْبَاتُ وَالْإِحْيَاءُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: كَمَا أَنَّ فِي إِنْزَالِ الْمَطَرِ وَإِنْبَاتِ الشَّجَرِ مَنَافِعَ، كَذَلِكَ فِي تَقَدُّمِ الْبَرْقِ وَالرَّعْدِ عَلَى الْمَطَرِ مَنْفَعَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَرْقَ إِذَا لَاحَ، فَالَّذِي لَا يَكُونُ تَحْتَ كن يخاف الابتلال/ فيستعدله، وَالَّذِي لَهُ صِهْرِيجٌ أَوْ مَصْنَعٌ يَحْتَاجُ إِلَى الْمَاءِ أَوْ زَرْعٌ يُسَوِّي مَجَارِيَ الْمَاءِ، وَأَيْضًا الْعَرَبُ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي فَلَا يَعْلَمُونَ الْبِلَادَ الْمُعْشِبَةَ إِنْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ رَأَوُا الْبُرُوقَ اللَّائِحَةَ مِنْ جَانِبٍ دُونَ جَانِبٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ فَوَائِدَ الْبَرْقِ وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ لِلْمُقِيمِينَ بِالْبِلَادِ فَهِيَ ظَاهِرَةٌ لِلْبَادِينَ وَلِهَذَا جَعَلَ تَقْدِيمَ الْبَرْقِ عَلَى تَنْزِيلِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ نِعْمَةً، وَآيَةً، وَأَمَّا كَوْنُهُ آيَةً فَظَاهِرٌ فَإِنَّ فِي السَّحَابِ لَيْسَ إِلَّا مَاءً وَهَوَاءً وَخُرُوجُ النَّارِ مِنْهَا بِحَيْثُ تَحْرِقُ الْجِبَالَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ هُوَ اللَّهُ، قَالَتِ الْفَلَاسِفَةُ السَّحَابُ فِيهِ كَثَافَةٌ وَلَطَافَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْهَوَاءِ وَالْمَاءِ. فَالْهَوَاءُ أَلْطَفُ مِنْهُ وَالْمَاءُ أَكْثَفُ فَإِذَا هَبَّتْ رِيحٌ قَوِيَّةٌ تَخْرِقُ السَّحَابَ بِعُنْفٍ فَيَحْدُثُ صَوْتُ الرَّعْدِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ النَّارُ كَمِسَاسِ جِسْمٍ جِسْمًا بِعُنْفٍ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ النَّارَ تَخْرُجُ مِنْ وُقُوعِ الْحَجَرِ عَلَى الْحَدِيدِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ الْحَجَرُ وَالْحَدِيدُ جِسْمَانِ صَلْبَانِ وَالسَّحَابُ وَالرِّيحُ جِسْمَانِ رَطْبَانِ، فَيَقُولُونَ لَكِنْ حَرَكَةُ يَدِ الْإِنْسَانِ ضَعِيفَةٌ وَحَرَكَةُ الرِّيحِ قَوِيَّةٌ تَقْلَعُ الْأَشْجَارَ، فَنَقُولُ لَهُمُ الْبَرْقُ وَالرَّعْدُ أَمْرَانِ حَادِثَانِ لَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ سَبَبٍ، وَقَدْ عُلِمَ بِالْبُرْهَانِ كَوْنُ كُلِّ حَادِثٍ مِنَ اللَّهِ فَهُمَا مِنَ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّا نَقُولُ هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا تَقُولُونَ فَهُبُوبُ تِلْكَ الرِّيحِ الْقَوِيَّةِ مِنَ الأمور الحادثة العجيبة لا بد مَنْ سَبَبٍ وَيَنْتَهِي إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ، فَهُوَ آيَةٌ لِلْعَاقِلِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ كَيْفَمَا فَرَضْتُمْ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ هَاهُنَا: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لَمَّا كَانَ حُدُوثُ الْوَلَدِ مِنَ الْوَالِدِ أَمْرًا عَادِيًّا مُطَّرِدًا قَلِيلَ الِاخْتِلَافِ كَانَ يَتَطَرَّقُ إِلَى الْأَوْهَامِ الْعَامِّيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ بِالطَّبِيعَةِ، لِأَنَّ الْمُطَّرِدَ أَقْرَبُ إِلَى الطَّبِيعَةِ مِنَ الْمُخْتَلِفِ، لَكِنَّ الْبَرْقَ وَالْمَطَرَ لَيْسَ أَمْرًا مُطَّرِدًا غَيْرَ مُتَخَلِّفٍ إِذْ يَقَعُ بِبَلْدَةٍ دُونَ بَلْدَةٍ وَفِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَتَارَةً تَكُونُ قَوِيَّةً وَتَارَةً تَكُونُ ضَعِيفَةً فَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْعَقْلِ دَلَالَةً عَلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، فَقَالَ هُوَ آيَةٌ لِمَنْ لَهُ عَقْلٌ إن لم يتفكر تفكرا تاما. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : آية 25] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) [في قوله تَعَالَى وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ] لَمَّا ذَكَرَ مِنَ الْعَوَارِضِ الَّتِي لِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بَعْضَهَا، ذَكَرَ مِنْ لَوَازِمِهَا الْبَعْضَ وَهِيَ قِيَامُهَا، فإن الأرض

لِثِقَلِهَا يَتَعَجَّبُ الْإِنْسَانُ مِنْ وُقُوفِهَا وَعَدَمِ نُزُولِهَا وَكَوْنُ السَّمَاءِ يَتَعَجَّبُ مِنْ عُلُوِّهَا وَثَبَاتِهَا مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ، وَهَذَا مِنَ اللَّوَازِمِ، فَإِنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْرُجُ عَنْ مَكَانِهَا الَّذِي هِيَ فِيهِ وَالسَّمَاءُ كَذَلِكَ لَا تَخْرُجُ عَنْ مَكَانِهَا الَّذِي هِيَ فِيهِ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا تَتَحَرَّكُ فِي مَكَانِهَا كَالرَّحَى وَلَكِنِ اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّهَا فِي مَكَانِهَا لَا تَخْرُجُ عَنْهُ، وَهَذِهِ آيَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّ كَوْنَهُمَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي هُمَا فِيهِ وَعَلَى الْمَوْضِعِ/ الَّذِي هُمَا عَلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُمْكِنَةِ، وَكَوْنُهُمَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ جَائِزٌ، فَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَا مِنْهُ فَلَمَّا لَمْ يَخْرُجَا كَانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لِلْجَائِزِ عَلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِفَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَالْفَلَاسِفَةُ قَالُوا كَوْنُ الْأَرْضِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي هِيَ فِيهِ طَبِيعِيٌّ لَهَا لِأَنَّهَا أَثْقَلُ الْأَشْيَاءِ وَالثَّقِيلُ يَطْلُبُ الْمَرْكَزَ وَالْخَفِيفُ يَطْلُبُ الْمُحِيطَ وَالسَّمَاءُ كَوْنُهَا فِي مَكَانِهَا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ مَكَانِ فَلَذَاتِهَا فَقِيَامُهُمَا فِيهِمَا بِطَبْعِهِمَا، فَنَقُولُ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا أَنَّ الْقَوْلَ بِالطَّبِيعَةِ بَاطِلٌ، وَالَّذِي نَزِيدُهُ هَاهُنَا أَنَّكُمْ وَافَقْتُمُونَا بِأَنَّ مَا جَازَ عَلَى أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ جَازَ عَلَى الْمِثْلِ الْآخَرِ، لَكِنَّ مُقَعَّرَ الْفَلَكِ لَا يُخَالِفُ مُحَدَّبَهُ فِي الطَّبْعِ فَيَجُوزُ حُصُولُ مُقَعَّرِهِ فِي مَوْضِعِ مُحَدَّبِهِ، وَذَلِكَ بِالْخُرُوجِ وَالزَّوَالِ فَإِذَنِ الزَّوَالُ عَنِ الْمَكَانِ مُمْكِنٌ لَا سِيَّمَا عَلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا مُحَدَّدَةُ الْجِهَاتِ عَلَى مَذْهَبِكُمْ أَيْضًا وَالْأَرْضُ كَانَتْ تَجُوزُ عَلَيْهَا الْحَرَكَةُ الدَّوْرِيَّةُ، كَمَا تَقُولُونَ عَلَى السَّمَاءِ فَعَدَمُهَا وَسُكُونُهَا لَيْسَ إِلَّا بِفَاعِلٍ مُخْتَارٍ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ كُلِّ بَابٍ أَمْرَيْنِ، أَمَّا مِنَ الْأَنْفُسِ فَقَوْلُهُ: خَلَقَ لَكُمْ اسْتَدَلَّ بِخَلْقِ الزَّوْجَيْنِ وَمِنَ الْآفَاقِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ فِي قَوْلِهِ: خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمِنْ لَوَازِمَ الْإِنْسَانِ اخْتِلَافُ اللِّسَانِ وَاخْتِلَافُ الْأَلْوَانِ وَمِنْ عَوَارِضِهِ الْمَنَامُ وَالِابْتِغَاءُ وَمِنْ عَوَارِضِ الْآفَاقِ الْبُرُوقُ وَالْأَمْطَارُ وَمِنْ لَوَازِمِهَا قِيَامُ السَّمَاءِ وَقِيَامُ الأرض، لأن الواحد يكفي للإقرار بالحق والثاني: يفيد الاستقرار بالحق، ومن هذا اعتبر شهادة شاهدين فإن قول أحدهما يُفِيدُ الظَّنَّ وَقَوْلُ الْآخَرِ يُفِيدُ تَأْكِيدَهُ وَلِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَةِ: 260] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: بِأَمْرِهِ أَيْ بقوله: قوما أو بإرادته قيامها، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ مُوَافِقٌ لِلْإِرَادَةِ، وَعِنْدَنَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ النِّزَاعَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي لِلتَّكْلِيفِ لَا فِي الْأَمْرِ الَّذِي لِلتَّكْوِينِ، فَإِنَّا لَا نُنَازِعُهُمْ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: كُنْ وكُونُوا يا نارُ كُونِي مُوَافِقٌ لِلْإِرَادَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ هَاهُنَا: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ وَقَالَ قَبْلَهُ: وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ وَلَمْ يَقُلْ أَنْ يُرِيَكُمْ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ أَنْ مُضْمَرَةٌ هُنَاكَ مَعْنَاهُ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرِيَكُمْ لِيَصِيرَ كَالْمَصْدَرِ بِأَنْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِيَامَ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ أَخْرَجَ الْفِعْلَ بِأَنَّ عَنِ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ وَجَعَلَهُ مَصْدَرًا، لِأَنَّ الْمُسْتَقْبَلَ يُنْبِئُ عَنِ التَّجَدُّدِ، وَفِي الْبَرْقِ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ فِي زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ شَيْئًا مِنَ الْحُرُوفِ الْمَصْدَرِيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرَ سِتَّةَ دَلَائِلَ، وَذَكَرَ فِي أَرْبَعَةٍ مِنْهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ [الروم: 20] وَلَا فِي الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَهُ: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ [الروم: 21] أَيْضًا دَلِيلُ الْأَنْفُسِ، فَخَلْقُ الْأَنْفُسِ وَخَلْقُ الْأَزْوَاجِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، عَلَى مَا بَيَّنَّا، غَيْرَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ كُلِّ بَابٍ أَمْرَيْنِ لِلتَّقْرِيرِ بِالتَّكْرِيرِ، فَإِذَا قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ كَانَ عَائِدًا إِلَيْهِمَا، وَأَمَّا فِي قِيَامِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَنَقُولُ فِي الْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ ذَكَرَ أَنَّهَا آيَاتٌ لِلْعَالِمِينَ

[سورة الروم (30) : الآيات 26 إلى 27]

وَلِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لِظُهُورِهَا/ فَلَمَّا كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ظَاهِرًا فَفِي آخِرِ الْأَمْرِ بَعْدَ سَرْدِ الدَّلَائِلِ يَكُونُ أَظْهَرَ، فَلَمْ يُمَيِّزْ أَحَدًا عَنْ أَحَدٍ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَ مَا هُوَ مَدْلُولُهُ وَهُوَ قُدْرَتُهُ عَلَى الْإِعَادَةِ، وَقَالَ: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ وَفِيهَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا وَجْهُ الْعَطْفِ يتم، وَبِمَ تَعَلُّقُ ثُمَّ؟ فَنَقُولُ مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِنَّهُ تَعَالَى إِذَا بَيَّنَ لَكُمْ كَمَالَ قُدْرَتِهِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ بَعْدَ ذَلِكَ يُخْبِرُكُمْ وَيُعْلِمُكُمْ أَنَّهُ إِذَا قَالَ لِلْعِظَامِ الرَّمِيمَةِ اخْرُجُوا مِنَ الْأَجْدَاثِ يَخْرُجُونَ أَحْيَاءً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُ الْقَائِلِ دَعَا فُلَانٌ فُلَانًا مِنَ الْجَبَلِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ مِنَ الْجَبَلِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ يَا فُلَانُ اصْعَدْ إِلَى الْجَبَلِ، فَيُقَالُ دَعَاهُ مِنَ الْجَبَلِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَدْعُوُّ يُدْعَى مِنَ الْجَبَلِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ يَا فُلَانُ انْزِلْ مِنَ الْجَبَلِ، فَيُقَالُ دَعَاهُ مِنَ الْجَبَلِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى الْعَاقِلِ أَنَّ الدُّعَاءَ لَا يَكُونُ مِنَ الْأَرْضِ إِذَا كَانَ الدَّاعِي هُوَ اللَّهُ، فَالْمَدْعُوُّ يُدْعَى مِنَ الْأَرْضِ يَعْنِي أَنْتُمْ تَكُونُونَ فِي الْأَرْضِ فَيَدْعُوكُمْ مِنْهَا فَتَخْرُجُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا أَنْتُمْ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لِلْمُفَاجَأَةِ يَعْنِي يَكُونُ ذَلِكَ بِكُنْ فَيَكُونُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ هَاهُنَا إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ، وَقَالَ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ أَوَّلًا: ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم: 20] فَنَقُولُ هُنَاكَ يَكُونُ خَلْقٌ وَتَقْدِيرٌ وَتَدْرِيجٌ وَتَرَاخٍ حَتَّى يَصِيرَ التُّرَابُ قَابِلًا لِلْحَيَاةِ فَيَنْفُخُ فِيهِ رُوحَهُ، فَإِذَا هُوَ بَشَرٌ، وَأَمَّا فِي الْإِعَادَةِ لَا يَكُونُ تَدْرِيجٌ وَتَرَاخٍ بَلْ يَكُونُ نِدَاءٌ وخروج، فلم يقل هاهنا ثم. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 26 الى 27] وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) لَمَّا ذَكَرَ الْآيَاتِ وَكَانَ مَدْلُولُهَا الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَشْرِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ الْآخَرُ، وَالْوَحْدَانِيَّةُ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ الْأَوَّلِ، أَشَارَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَعْنِي لَا شَرِيكَ لَهُ أَصْلًا لِأَنَّ كُلَّ مَنْ فِي السموات وكل من في الأرض، ونفس السموات والأرض لَهُ وَمِلْكُهُ، فَكُلٌّ لَهُ مُنْقَادُونَ قَانِتُونَ، وَالشَّرِيكُ يَكُونُ مُنَازِعًا مُمَاثِلًا، فَلَا شَرِيكَ لَهُ أَصْلًا ثُمَّ ذَكَرَ الْمَدْلُولَ الْآخَرَ، فَقَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أَيْ فِي نَظَرِكُمُ الْإِعَادَةُ أَهْوَنُ مِنَ الْإِبْدَاءِ/ لِأَنَّ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا أَوَّلًا يَصْعُبُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا فَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مِثْلَهُ يَكُونُ أَهْوَنَ، وَقِيلَ الْمُرَادُ هُوَ هَيِّنٌ عَلَيْهِ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ اللَّهُ أَكْبَرُ أَيْ كَبِيرٌ، وَقِيلَ الْمُرَادُ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أَيِ الْإِعَادَةُ أهون على الخالق من الإبداء لِأَنَّ فِي الْبَدْءِ يَكُونُ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ لَحْمًا ثُمَّ عَظْمًا ثُمَّ يُخْلَقُ بَشَرًا ثُمَّ يَخْرُجُ طِفْلًا يَتَرَعْرَعُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَيَصْعُبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَأَمَّا فِي الْإِعَادَةِ فَيَخْرُجُ بَشَرًا سَوِيًّا بِكُنْ فَيَكُونُ أَهْوَنَ عَلَيْهِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ وَعَلَيْهِ نَتَكَلَّمُ فَنَقُولُ هُوَ أَهْوَنُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِي الْبَدْءِ خَلْقَ الْأَجْزَاءِ وَتَأْلِيفَهَا وَالْإِعَادَةُ تَأْلِيفٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَمْرَ الْوَاحِدَ أَهْوَنُ مِنْ أَمْرَيْنِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ فِيهِ صُعُوبَةٌ، وَلِنُبَيِّنَ هَذَا فَنَقُولُ الْهَيِّنُ هُوَ مَا لَا يَتْعَبُ فِيهِ الْفَاعِلُ، وَالْأَهْوَنُ مَا لَا يَتْعَبُ فِيهِ الْفَاعِلُ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى، فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ إِنَّ الرَّجُلَ الْقَوِيَّ لَا يَتْعَبُ من نقل شعيرة من مَوْضِعٍ وَسَلَّمَ السَّامِعُ لَهُ ذَلِكَ، فَإِذَا قَالَ فَكَوْنُهُ لَا يَتْعَبُ مِنْ نَقْلِ خَرْدَلَةٍ يَكُونُ ذَلِكَ كَلَامًا مَعْقُولًا مُبْقِي عَلَى حَقِيقَتِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيْ قَوْلُنَا هُوَ أهون عليه

[سورة الروم (30) : آية 28]

يُفْهَمُ مِنْهُ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: هُوَ مَا يَكُونُ فِي الْآخَرِ تَعَبٌ كَمَا يُقَالُ إِنَّ نَقْلَ الْخَفِيفِ أَهْوَنُ مِنْ نَقْلِ الثَّقِيلِ وَالْآخَرُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَوْلَوِيَّةِ مِنْ غَيْرِ لُزُومِ تَعَبٍ فِي الْآخَرِ فَقَوْلُهُ: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كَوْنَهُ أَهْوَنَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْأَوَّلُ وَهَاهُنَا فَائِدَةٌ ذَكَرَهَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مَرْيَمَ: 21] وَقَالَ هَاهُنَا: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ فَقَدَّمَ هُنَاكَ كَلِمَةَ عَلَيَّ وَأَخَّرَهَا هُنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي قَالَ هُنَاكَ إِنَّهُ هَيِّنٌ هُوَ خَلْقُ الْوَلَدِ مِنَ الْعَجُوزِ وَأَنَّهُ صَعْبٌ عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ بِهَيِّنٍ إِلَّا عَلَيْهِ فَقَالَ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ يَعْنِي لَا عَلَى غَيْرِي، وَأَمَّا هَاهُنَا الْمَعْنَى الَّذِي ذُكِرَ أَنَّهُ أَهْوَنُ هُوَ الْإِعَادَةُ وَالْإِعَادَةُ عَلَى كُلِّ مُبْدِئٍ أَهْوَنُ فَقَالَ: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ، فَالتَّقْدِيمُ هُنَاكَ كَانَ لِلْحَصْرِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُنَا أَهْوَنُ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْكُمْ لَهُ مَعْنًى وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَهُ مَعْنًى أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَلَمَّا قَالَ: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَكَانَ ذَلِكَ مَثَلًا مَضْرُوبًا لِمَنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ النَّاسِ فَيُفِيدُ ذَلِكَ أَنَّ لَهُ الْمَثَلَ الْأَعْلَى مِنْ أَمْثِلَةِ النَّاسِ وَهُمْ أَهْلُ الْأَرْضِ وَلَا يُفِيدُ أَنَّ لَهُ الْمَثَلَ الْأَعْلَى مِنْ أَمْثِلَةِ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَعْنِي هَذَا مَثَلٌ مَضْرُوبٌ لَكُمْ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى مِنْ هَذَا الْمَثَلِ ومن كل مثل يضرب في السموات، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَمَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ الْمَثَلَ الْأَعْلَى أَيْ فِعْلَهُ وَإِنْ شَبَّهَهُ بِفِعْلِكُمْ وَمَثَّلَهُ بِهِ، لَكِنَّ ذَاتَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا. وَقِيلَ الْمَثَلُ الْأَعْلَى أَيِ الصِّفَةُ الْعُلْيَا وَهِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيْ كَامِلُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُمْكِنَاتِ، شَامِلُ الْعِلْمِ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، فَيَعْلَمُ الْأَجْزَاءَ فِي الْأَمْكِنَةِ وَيَقْدِرُ على جمعها وتأليفها. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : آية 28] ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي مَا رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) لَمَّا بَيَّنَ الْإِعَادَةَ وَالْقُدْرَةَ عَلَيْهَا بِالْمَثَلِ بَعْدَ الدَّلِيلَيْنِ بَيَّنَ الْوَحْدَانِيَّةَ أَيْضًا بِالْمَثَلِ بَعْدَ الدَّلِيلِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَمْلُوكٌ لَا يَكُونُ شَرِيكًا لَهُ فِي مَالِهِ وَلَا يَكُونُ لَهُ حُرْمَةٌ مِثْلُ حُرْمَةِ سَيِّدِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِبَادُ اللَّهِ شُرَكَاءً لَهُ وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَظَمَةٌ مِثْلُ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يُعْبَدُوا، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمَثَلِ وَالْمُمَثَّلِ بِهِ مُشَابَهَةٌ مَا، ثُمَّ إِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُخَالَفَةٌ فَقَدْ يَكُونُ مُؤَكِّدًا لِمَعْنَى الْمَثَلِ وَقَدْ يَكُونُ مُوهِنًا لَهُ وَهَاهُنَا وَجْهُ الْمُشَابَهَةِ مَعْلُومٌ، وَأَمَّا الْمُخَالَفَةُ فَمَوْجُودَةٌ أَيْضًا وَهِيَ مُؤَكَّدَةٌ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: مِنْ أَنْفُسِكُمْ يَعْنِي ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ مَعَ حَقَارَتِهَا وَنُقْصَانِهَا وَعَجْزِهَا، وَقَاسَ نَفْسَهُ عَلَيْكُمْ مَعَ عِظَمِهَا وَكَمَالِهَا وقدرتها وثانيها: قوله: مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يَعْنِي عَبْدُكُمْ لَكُمْ عَلَيْهِمْ مِلْكُ اليد وهو طار [ىء] قَابِلٌ لِلنَّقْلِ وَالزَّوَالِ، أَمَّا النَّقْلُ فَبِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ وَالزَّوَالُ بِالْعِتْقِ وَمَمْلُوكُ اللَّهِ لَا خُرُوجَ لَهُ مِنْ مُلْكِ اللَّهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكَ يَمِينِكُمْ شَرِيكًا لَكُمْ مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مِثْلَكُمْ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، بَلْ هُوَ فِي الْحَالِ مِثْلُكُمْ فِي الْآدَمِيَّةِ حَتَّى أَنَّكُمْ لَيْسَ لَكُمْ تَصَرُّفٌ فِي رُوحِهِ وَآدَمِيَّتِهِ بِقَتْلٍ وَقَطْعٍ وَلَيْسَ لَكُمْ مَنْعُهُمْ مِنَ الْعِبَادَةِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكُ اللَّهِ الَّذِي هُوَ مَمْلُوكُهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ شَرِيكًا لَهُ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: مِنْ شُرَكاءَ فِي مَا رَزَقْناكُمْ يَعْنِي الَّذِي لَكَمَ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ لَكُمْ بَلْ هُوَ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ رِزْقِهِ وَالَّذِي مِنَ اللَّهِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَهُ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ شَرِيكٌ فِي مَالِكُمْ مِنْ حَيْثُ الِاسْمِ،

[سورة الروم (30) : آية 29]

فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِيمَا لَهُ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ وَقَوْلُهُ: فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ أَيْ هَلْ أَنْتُمْ وَمَمَالِيكُكُمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا تَمْلِكُونَ سَوَاءٌ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ لِلَّهِ شَرِيكٌ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَمْلِكُهُ، لَكِنَّ كُلَّ شَيْءٍ فَهُوَ لِلَّهِ فَمَا تَدَّعُونَ إِلَهِيَّتَهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا أَصْلًا وَلَا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَلَا يُعْبَدُ لِعَظَمَتِهِ وَلَا لِمَنْفَعَةٍ تَصِلُ إِلَيْكُمْ مِنْهُ، وَأَمَّا قَوْلُكُمْ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا فَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ هَلْ لَهُ عِنْدَكُمْ حرمة كحرمة الأحرار وإذا لم يكن للملوك مَعَ مُسَاوَاتِهِ إِيَّاكُمْ فِي الْحَقِيقَةِ وَالصِّفَةِ عِنْدَكُمْ حُرْمَةٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ الْمَمَالِيكِ الَّذِينَ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَالِكِ بِوَجْهٍ مِنَ/ الْوُجُوهِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: بِهَذَا نَفَى جَمِيعَ وُجُوهِ حُسْنِ الْعِبَادَةِ عَنِ الْغَيْرِ لِأَنَّ الْأَغْيَارَ إِذَا لَمْ يَصْلُحُوا لِلشَّرِكَةِ فَلَيْسَ لَهُمْ مِلْكٌ وَلَا مُلْكٌ، فَلَا عَظَمَةَ لَهُمْ حَتَّى يُعْبَدُوا لِعَظَمَتِهِمْ وَلَا يُرْتَجَى مِنْهُمْ مَنْفَعَةٌ لِعَدَمِ مِلْكِهِمْ حَتَّى يُعْبَدُوا لِنَفْعٍ وَلَيْسَ لَهُمْ قُوَّةٌ وَقُدْرَةٌ لِأَنَّهُمْ عَبِيدٌ وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ فَلَا تَخَافُوهُمْ كَمَا تَخَافُونَ أَنْفُسَكُمْ، فَكَيْفَ تَخَافُونَهُمْ خَوْفًا أَكْثَرَ مِنْ خَوْفِكُمْ بَعْضًا مِنْ بَعْضٍ حَتَّى تَعْبُدُوهُمْ لِلْخَوْفِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أَيْ نُبَيِّنُهَا بِالدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ وَالْأَمْثِلَةِ وَالْمُحَاكِيَاتِ الْإِقْنَاعِيَّةِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، يَعْنِي لَا يَخْفَى الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى من لا يكون له عقل. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : آية 29] بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) أَيْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُشْرِكَ بِالْمَالِكِ مَمْلُوكُهُ وَلَكِنَّ الَّذِينَ أَشْرَكُوا اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَأَثْبَتُوا شُرَكَاءَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أَيْ هَؤُلَاءِ أَضَلَّهُمُ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْزِنَكَ قَوْلُهُمْ، وَهَاهُنَا لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ مُقَوٍّ لِمَا تَقَدَّمَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لِأَنَّ اللَّهَ لَا شَرِيكَ لَهُ بِوَجْهٍ مَا ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَلِ الْمُشْرِكُونَ يُشْرِكُونَ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ، يُقَالُ فِيهِ أَنْتَ أَثْبَتَّ لَهُمْ تَصَرُّفًا عَلَى خِلَافِ رِضَاهُ وَالسَّيِّدُ الْعَزِيزُ هُوَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَبْدُهُ عَلَى تَصَرُّفٍ يُخَالِفُ رِضَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِاسْتِقْلَالِهِ بَلْ بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ، لَمَّا تَرَكُوا اللَّهَ تَرَكَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ أَخَذُوهُ لَا يغني عنهم شيئا فلا ناصر لهم. [سورة الروم (30) : آية 30] فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أَيْ إِذَا تَبَيَّنَ الْأَمْرُ وَظَهَرَتِ الْوَحْدَانِيَّةُ وَلَمْ يَهْتَدِ الْمُشْرِكُ فَلَا تَلْتَفِتْ أَنْتَ إِلَيْهِمْ وَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ، وَقَوْلُهُ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أَيْ أَقْبِلْ بِكُلِّكَ عَلَى الدِّينِ عَبَّرَ عَنِ الذَّاتِ بِالْوَجْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88] أَيْ ذَاتَهُ بِصِفَاتِهِ، وَقَوْلُهُ: حَنِيفاً أَيْ مَائِلًا عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ أَيْ أَقْبِلْ عَلَى الدِّينِ وَمِلْ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ لَا يَكُونُ فِي قَلْبِكَ شَيْءٌ آخَرُ فَتَعُودَ إِلَيْهِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الروم: 31] ثم قال الله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ أَيِ الْزَمْ فِطْرَةَ اللَّهِ وَهِيَ التَّوْحِيدُ/ فَإِنَّ اللَّهَ فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهِ حَيْثُ أَخَذَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ وَسَأَلَهُمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الْأَعْرَافِ: 172] فَقَالُوا: بَلَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ فِيهِ وُجُوهٌ، قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هَذِهِ تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ عَنِ الْحُزْنِ حَيْثُ لَمْ يُؤْمِنْ قَوْمُهُ فَقَالَ هُمْ خُلِقُوا

[سورة الروم (30) : الآيات 31 إلى 32]

لِلشَّقَاوَةِ وَمَنْ كُتِبَ شَقِيًّا لَا يَسْعَدُ، وَقِيلَ: لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أَيِ الْوَحْدَانِيَّةُ مُتَرَسِّخَةٌ فِيهِمْ لَا تَغَيُّرَ لَهَا حَتَّى إِنْ سَأَلْتَهُمْ من خلق السموات وَالْأَرْضَ يَقُولُونَ اللَّهُ، لَكِنَّ الْإِيمَانَ الْفِطْرِيَّ غَيْرُ كَافٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ وَهُمْ كُلُّهُمْ عَبِيدُهُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أَيْ لَيْسَ كَوْنُهُمْ عَبِيدًا مِثْلَ كَوْنِ الْمَمْلُوكِ عَبْدًا لِإِنْسَانٍ فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ وَيَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ بِالْعِتْقِ بَلْ لَا خُرُوجَ لِلْخَلْقِ عَنِ الْعِبَادَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَهَذَا لِبَيَانِ فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الْعِبَادَةُ لِتَحْصِيلِ الْكَمَالِ وَالْعَبْدُ يَكْمُلُ بِالْعِبَادَةِ فَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ تَكْلِيفٌ، وَقَوْلُ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّ النَّاقِصَ لَا يَصْلُحُ لِعِبَادَةِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا الْإِنْسَانُ عَبَدَ الْكَوَاكِبَ وَالْكَوَاكِبُ عَبِيدُ اللَّهِ، وَقَوْلُ النَّصَارَى إِنَّ عِيسَى كَانَ يَحِلُّ اللَّهُ فِيهِ وَصَارَ إِلَهًا فَقَالَ: لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ بَلْ كُلُّهُمْ عَبِيدٌ لَا خُرُوجَ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الدين المستقيم. [سورة الروم (30) : الآيات 31 الى 32] مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) لَمَّا قَالَ حَنِيفًا أَيْ مَائِلًا عَنْ غَيْرِهِ قَالَ: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أَيْ مُقْبِلِينَ عَلَيْهِ، وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ مَعَ النَّبِيِّ وَالْمُرَادُ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوهُ يَعْنِي إِذَا أَقْبَلْتُمْ عَلَيْهِ وَتَرَكْتُمُ الدُّنْيَا فَلَا تَأْمَنُوا فَتَتْرُكُوا عِبَادَتَهُ بَلْ خَافُوهُ وَدَاوِمُوا عَلَى الْعِبَادَةِ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ أَيْ كونوا عابدين عند حصول القربة كما قلتم قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ يَعْنِي وَلَا تُشْرِكُوا بَعْدَ الْإِيمَانِ أَيْ وَلَا تَقْصِدُوا بِذَلِكَ غَيْرَ اللَّهِ، وَهَاهُنَا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ بِقَوْلِهِ: مُنِيبِينَ أَثْبَتَ التَّوْحِيدَ الَّذِي هُوَ مُخْرِجٌ عَنِ الْإِشْرَاكِ الظَّاهِرِ وَبِقَوْلِهِ: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَرَادَ إِخْرَاجَ الْعَبْدِ عَنِ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ أَيْ لَا تَقْصِدُوا بِعَمَلِكُمْ إِلَّا وَجْهَ اللَّهِ وَلَا تَطْلُبُوا بِهِ إِلَّا رِضَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ تَحْصِيلٌ وَإِنْ لَمْ تَطْلُبُوهَا إِذَا حَصَلَ رِضَا اللَّهِ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً يَعْنِي لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَذَهَبَ كُلُّ أَحَدٍ إِلَى مَذْهَبٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ وَكَانُوا شِيَعًا يَعْنِي بَعْضُهُمْ عَبَدَ اللَّهَ لِلدُّنْيَا وَبَعْضُهُمْ لِلْجَنَّةِ وَبَعْضُهُمْ/ لِلْخَلَاصِ مِنَ النَّارِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ بِمَا فِي نَظَرِهِ فَرِحٌ، وَأَمَّا الْمُخْلِصُ فَلَا يَفْرَحُ بِمَا يَكُونُ لَدَيْهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فَرَحُهُ بِأَنْ يَحْصُلَ عِنْدَ اللَّهِ وَيَقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَا لَدَيْنَا نَافِدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ [النَّحْلِ: 96] فَلَا مَطْلُوبَ لَكُمْ فِيمَا لَدَيْكُمْ حَتَّى تَفْرَحُوا بِهِ وَإِنَّمَا الْمَطْلُوبُ مَا لَدَى اللَّهِ وَبِهِ الْفَرَحُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آلِ عِمْرَانَ: 169- 170] جَعَلَهُمْ فَرِحِينَ بِكَوْنِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَبِكَوْنِ مَا أُوتُوا مِنْ فَضْلِهِ الَّذِي لَا نَفَادَ لَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يُونُسَ: 58] لَا بِمَا عِنْدَهُمْ فَإِنَّ كُلَّ مَا عِنْدَ الْعَبْدِ فَهُوَ نَافِدٌ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلِأَنَّ مَا وَصَلَ إِلَى الْعَبْدِ مِنَ الِالْتِذَاذِ بِالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ فَهُوَ يَزُولُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُجَدِّدُ لَهُ مِثْلَهُ إِلَى الْأَبَدِ مِنْ فَضْلِهِ الَّذِي لَا نَفَادَ لَهُ فَالَّذِي لَا نَفَادَ له هو فضله. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : آية 33] وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)

[سورة الروم (30) : الآيات 34 إلى 35]

لَمَّا بَيَّنَ التَّوْحِيدَ بِالدَّلِيلِ وَبِالْمَثَلِ، بَيَّنَ أَنَّ لَهُمْ حَالَةً يُعْرَفُونَ بِهَا، وَإِنْ كَانُوا يُنْكِرُونَهَا فِي وَقْتٍ وَهِيَ حَالَةُ الشِّدَّةِ، فَإِنَّ عِنْدَ انْقِطَاعِ رَجَائِهِ عَنِ الْكُلِّ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ، وَيَجِدُ نَفْسَهُ مُحْتَاجَةً إِلَى شَيْءٍ لَيْسَ كَهَذِهِ الْأَشْيَاءِ طَالِبَةً بِهِ النَّجَاةَ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ يَعْنِي إِذَا خَلَّصْنَاهُ يُشْرِكُ بِرَبِّهِ وَيَقُولُ تَخَلَّصْتُ بِسَبَبِ اتِّصَالِ الْكَوْكَبِ الْفُلَانِيِّ بِفُلَانٍ، وَبِسَبَبِ الصَّنَمِ الْفُلَانِيِّ، لَا، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْتَقِدَ أَنَّهُ تَخَلَّصَ بِسَبَبِ فُلَانٍ إِذَا كَانَ ظَاهِرًا فَإِنَّهُ شِرْكٌ خَفِيٌّ، مِثَالُهُ رَجُلٌ فِي بَحْرٍ أدركه الغرق فيهيئ لَهُ لَوْحًا يَسُوقُهُ إِلَيْهِ رِيحٌ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ وَيَنْجُو، فَيَقُولُ تَخَلَّصْتُ بِلَوْحٍ، أَوْ رَجُلٍ أَقْبَلَ عَلَيْهِ سَبْعٌ فَيُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ رَجُلًا فَيُعِينُهُ فَيَقُولُ خَلَّصَنِي زَيْدٌ، فَهَذَا إِذَا كَانَ عَنِ اعْتِقَادٍ فَهُوَ شِرْكٌ خَفِيٌّ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ خَلَّصَنِي عَلَى يَدِ زَيْدٍ فَهُوَ أخفى، وفيه مسائل: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَذاقَهُمْ فِيهِ لَطِيفَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الذَّوْقَ يُقَالُ فِي الْقَلِيلِ فَإِنَّ الْعُرْفَ [أَنَّ] مَنْ أَكَلَ مَأْكُولًا كَثِيرًا لَا يَقُولُ ذُقْتُ، وَيُقَالُ فِي النَّفْيِ مَا ذُقْتُ فِي بَيْتِهِ طَعَامًا نَفْيًا لِلْقَلِيلِ لِيَلْزَمَ نَفْيُ الْكَثِيرِ بِالْأَوْلَى، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الرَّحْمَةَ لَمَّا كَانَتْ خَالِيَةً مُنْقَطِعَةً وَلَمْ تَكُنْ مُسْتَمِرَّةً فِي الْآخِرَةِ إِذْ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ قَالَ أَذَاقَهُمْ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْعَذَابِ: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [الْقَمَرِ: 48] ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: 55] ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدُّخَانِ: 49] لِأَنَّ عَذَابَ اللَّهِ الْوَاصِلَ إِلَى الْعَبْدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّحْمَةِ الْوَاصِلَةِ إِلَى عَبِيدٍ آخَرِينَ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْهُ أَيْ مِنَ الضُّرِّ فِي هَذَا التَّخْصِيصِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْفَائِدَةِ وَهِيَ أَنَّ الرَّحْمَةَ غَيْرُ مُطْلَقَةٍ لَهُمْ إِنَّمَا هِيَ عَنْ ذَلِكَ الضُّرِّ وَحْدَهُ، وَأَمَّا الضُّرُّ الْمُؤَخَّرُ فَلَا يَذُوقُونَ مِنْهُ رَحْمَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ هَاهُنَا إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَقَالَ فِي الْعَنْكَبُوتِ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: 65] وَلَمْ يَقُلْ فَرِيقٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُنَاكَ ضُرٌّ مُعَيَّنٌ، وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْ هَوْلِ الْبَحْرِ وَالْمُتَخَلِّصُ مِنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَلْقِ قَلِيلٌ، وَالَّذِي لَا يُشْرِكُ بِهِ بَعْدَ الْخَلَاصِ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ فَلَمْ يَجْعَلِ الْمُشْرِكِينَ فَرِيقًا لِقِلَّةِ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا الْمَذْكُورُ هَاهُنَا الضُّرُّ مُطْلَقًا فيتناول ضر البر والبحر والأمراض والأهون وَالْمُتَخَلِّصُ مِنْ أَنْوَاعِ الضُّرِّ خَلْقٌ كَثِيرٌ بَلْ جَمِيعُ النَّاسِ يَكُونُونَ قَدْ وَقَعُوا فِي ضُرٍّ مَا وَتَخَلَّصُوا مِنْهُ، وَالَّذِي لَا يَبْقَى بَعْدَ الْخَلَاصِ مُشْرِكًا مِنْ جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ إِذَا جُمِعَ فَهُوَ خَلْقٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ تَخَلَّصُوا مِنْ ضُرٍّ وَلَمْ يَبْقَوْا مُشْرِكِينَ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَلَمْ يَتَخَلَّصُوا مِنْ ضُرِّ الْبَحْرِ بِأَجْمَعِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ النَّاجِي مِنَ الضُّرِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ جمعا كثيرا، جعل الباقي فريقا. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 34 الى 35] لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْعَنْكَبُوتِ بَقِيَ بَيَانُ فَائِدَةِ الْخِطَابِ هَاهُنَا فِي قَوْلِهِ: فَتَمَتَّعُوا وَعَدَمُهُ هُنَاكَ فِي قَوْلِهِ: وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فَنَقُولُ لَمَّا كَانَ الضُّرُّ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ ضُرًّا وَاحِدًا جَازَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنَ الْمُخَلَّصِينَ مِنْ ذَلِكَ الضُّرِّ أَحَدٌ، فَلَمْ يُخَاطَبْ وَلَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا مُطْلَقَ الضُّرِّ وَلَا يَخْلُو مَوْضِعٌ مِنَ الْمُخَلَّصِينَ عَنِ الضُّرِّ، فَالْحَاضِرُ يَصِحُّ خِطَابُهُ بِأَنَّهُ منهم فخاطب.

[سورة الروم (30) : الآيات 36 إلى 37]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ لَمَّا سَبَقَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ [الرُّومِ: 29] أَيِ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ بَلْ هُمْ عَالِمُونَ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُمْ وَقْتَ الضُّرِّ يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّهِ حَقَّقَ ذَلِكَ بِالِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَيْ مَا أَنْزَلْنَا بِمَا يَقُولُونَ سُلْطَانًا، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمْ لِلِاسْتِفْهَامِ وَلَا يَقَعُ إِلَّا مُتَوَسِّطًا، كَمَا قَالَ قَائِلُهُمْ: أَيَا ظَبْيَةَ الْوَعْسَاءِ بَيْنَ جُلَاجِلٍ ... وبين النقا ءاأنت أَمْ أُمُّ سَالِمٍ فَمَا الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي قَبْلَهُ؟ فَنَقُولُ تَقْدِيرُهُ إِذَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْحُجَجُ عَلَى عِنَادِهِمْ فَمَاذَا نَقُولُ، أَهُمْ يَتَّبِعُونَ الْأَهْوَاءَ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ؟ أَمْ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى مَا يَقُولُونَ؟ وَلَيْسَ الثَّانِي فَيَتَعَيَّنُ الْأَوَّلُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَهُوَ يَتَكَلَّمُ مَجَازٌ كَمَا يُقَالُ إِنَّ كِتَابَهُ لَيَنْطِقُ بِكَذَا، وَفِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ/ وَهُوَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ كَأَنَّهُ لَا كَلَامَ لَهُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ هُوَ الْمَسْمُوعُ وَمَا لَا يُقْبَلُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ فَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ، وَمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ لَا يُقْبَلُ، فَإِذَا جَازَ سَلْبُ الْكَلَامِ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ وَحَسُنَ جَازَ إِثْبَاتُ التكلم للدليل وحسن. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 36 الى 37] وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُشْرِكِ الظَّاهِرِ شِرْكُهُ بَيَّنَ حَالَ الْمُشْرِكِ الَّذِي دُونَهُ وَهُوَ مَنْ تَكُونُ عِبَادَتُهُ اللَّهَ لِلدُّنْيَا، فَإِذَا آتَاهُ رَضِيَ وَإِذَا مَنَعَهُ سَخِطَ وَقَنِطَ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ كَذَلِكَ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ فِي الشِّدَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ [الرُّومِ: 33] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُهُ إِذَا آتَاهُ نِعْمَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَالْأَوَّلُ كَالَّذِي يَخْدِمُ مُكْرَهًا مَخَافَةَ الْعَذَابِ وَالثَّانِي كَالَّذِي يَخْدِمُ أَجِيرًا لِتَوَقُّعِ الْأَجْرِ وَكِلَاهُمَا لَا يَكُونُ مِنَ الْمُثْبَتِينَ فِي دِيوَانِ الْمُرَتَّبِينَ فِي الْجَرَائِدِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ رِزْقَهُمْ سَوَاءٌ كَانَ هُنَاكَ شُغْلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَكَذَلِكَ الْقِسْمَانِ لَا يَكُونَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَهُمْ رِزْقٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَفِيهِ مَسْأَلَةٌ: وَهِيَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَرِحُوا بِها إِشَارَةٌ إِلَى دُنُوِّ هِمَّتِهِمْ وَقُصُورِ نَظَرِهِمْ فَإِنَّ فَرَحَهُمْ يَكُونُ بِمَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ لَا بِمَا وَصَلَ مِنْهُ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ الْفَرَحُ بِالرَّحْمَةِ مَأْمُورٌ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يُونُسَ: 58] وَهَاهُنَا ذَمَّهُمْ عَلَى الْفَرَحِ بِالرَّحْمَةِ، فَكَيْفَ ذَلِكَ؟ فَنَقُولُ هُنَاكَ قَالَ: فَرِحُوا بِرَحْمَةِ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُضَافَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَاهُنَا فَرِحُوا بِنَفْسِ الرَّحْمَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَطَرُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ لَكَانَ فَرَحُهُمْ بِهِ مِثْلَ فَرَحِهِمْ بِمَا إِذَا كَانَ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ كَمَا أَنَّ الْمَلِكَ لَوْ حَطَّ عِنْدَ أَمِيرٍ رَغِيفًا عَلَى السِّمَاطِ أَوْ أَمَرَ الْغِلْمَانَ بِأَنْ يَحُطُّوا عِنْدَهُ زُبْدِيَّةَ طَعَامٍ يَفْرَحُ ذَلِكَ الْأَمِيرُ بِهِ، وَلَوْ أَعْطَى الْمَلِكُ فَقِيرًا غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَيْهِ رَغِيفًا أَوْ زُبْدِيَّةَ طَعَامٍ أَيْضًا يَفْرَحُ لَكِنَّ فَرَحَ الْأَمِيرِ بِكَوْنِ ذَلِكَ مِنَ الْمَلِكِ وَفَرَحُ الْفَقِيرِ بِكَوْنِ ذَلِكَ رَغِيفًا وَزُبْدِيَّةً. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ لَمْ يَذْكُرْ عِنْدَ النِّعْمَةِ سَبَبًا لَهَا لِتَفَضُّلِهِ بِهَا وَذَكَرَ عِنْدَ الْعَذَابِ سَبَبًا لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَزِيدُ فِي الْإِحْسَانِ وَالثَّانِي يُحَقِّقُ الْعَدْلَ. قَوْلُهُ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ إِذَا لِلْمُفَاجَأَةِ أَيْ لَا يَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ قَلِيلًا لَعَلَّ اللَّهَ يُفَرِّجُ عَنْهُمْ وَإِنَّهُ يُذَكِّرُهُمْ به.

[سورة الروم (30) : آية 38]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. أَيْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ فَالْمُحَقِّقُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ نَظَرُهُ عَلَى مَا يُوجَدُ بَلْ إِلَى مَنْ يُوجِدُ وَهُوَ اللَّهُ، فَلَا يَكُونُ لَهُ تَبَدُّلُ حَالٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَهُ الْفَرَحُ الدَّائِمُ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مَرْتَبَةُ الْمُؤْمِنِ الْمُوَحِّدِ الْمُحَقِّقِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : آية 38] فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَقْصُورَةً عَلَى حَالَةِ الشِّدَّةِ بِقَوْلِهِ: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ [الرُّومِ: 33] وَلَا أَنْ تَكُونَ مَقْصُورَةً عَلَى حَالَةِ أَخْذِ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا كَمَا هُوَ عَادَةُ الْمُدَوْكَرِ الْمُتَسَلِّسِ «1» يَعْبُدُ اللَّهَ إِذَا كَانَ فِي الْخَوَانِقِ وَالرِّبَاطَات لِلرَّغِيفِ وَالزُّبْدِيَّةِ وَإِذَا خَلَا بِنَفْسِهِ لَا يَذْكُرُ اللَّهَ، بِقَوْلِهِ: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ، فِي حَالَةِ بَسْطِ الرِّزْقِ وَقَدْرِهِ عَلَيْهِ، نَظَرُهُ عَلَى اللَّهِ الْخَالِقِ الرَّازِقِ لِيَحْصُلَ الْإِرْشَادُ إِلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ وَالْإِيمَانُ قِسْمَانِ تَعْظِيمٌ لِأَمْرِ اللَّهِ وَشَفَقَةٌ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ فَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ وَيَقْدِرُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ الْإِنْسَانُ فِي الْإِحْسَانِ فَإِنَّ اللَّهَ إِذَا بَسَطَ الرِّزْقَ لَا يَنْقُصُ بِالْإِنْفَاقِ، وَإِذَا قَدَرَ لَا يَزْدَادُ بِالْإِمْسَاكِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَخْصِيصِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِمْ مَعَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ فِي الصَّدَقَاتِ فَنَقُولُ أَرَادَ هَاهُنَا بَيَانَ مَنْ يَجِبِ الْإِحْسَانُ إِلَيْهِ عَلَى كُلِّ مَنْ لَهُ مَالٌ سَوَاءٌ كَانَ زَكَوِيًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَسَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الْحَوْلِ أَوْ قَبْلَهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هَاهُنَا الشَّفَقَةُ الْعَامَّةُ، وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ يَجِبُ الْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْسِنِ مَالٌ زَائِدٌ، أَمَّا الْقَرِيبُ فَتَجِبُ نَفَقَتُهُ وَإِنْ كَانَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ كَعَقَارٍ أَوْ مَالٍ لَمْ يَحُلْ عليه الحول والمسكين كذلك فإن مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ إِذَا بَقِيَ فِي وَرْطَةِ الْحَاجَةِ حَتَّى بَلَغَ الشِّدَّةَ يَجِبُ عَلَى مَنْ لَهُ مَقْدِرَةٌ دَفْعُ حَاجَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ، وَكَذَلِكَ مَنِ انْقَطَعَ فِي مَفَازَةٍ وَمَعَ آخِرِ دَابَّةٍ يُمْكِنُهُ بِهَا إِيصَالُهُ إِلَى مَأْمَنٍ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ وَالْفَقِيرُ دَاخِلٌ فِي الْمِسْكِينِ لِأَنَّ مَنْ أَوْصَى لِلْمَسَاكِينِ شَيْئًا يُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ أَيْضًا، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى الْبَاقِينَ مِنَ الْأَصْنَافِ رَأَيْتَهُمْ لَا يَجِبُ صَرْفُ الْمَالِ إِلَيْهِمْ إِلَّا عَلَى الَّذِينَ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ عَلَيْهِمْ/ وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ فِي الْعَامِلِ وَالْمُكَاتِبِ وَالْمُؤَلَّفَةِ وَالْمَدْيُونِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ قَالَ: الْمِسْكِينُ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مَا فَنَقُولُ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكِنْ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ إِطْلَاقَ الْمِسْكِينِ عَلَى مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ جَائِزٌ فَيَكُونُ الْإِطْلَاقُ هَاهُنَا بِذَلِكَ الْوَجْهِ، وَالْفَقِيرُ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَقَدُّمِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ فَنَقُولُ لَمَّا كَانَ دَفْعُ حَاجَةِ الْقَرِيبِ وَاجِبًا سَوَاءٌ كَانَ فِي شِدَّةٍ وَمَخْمَصَةٍ، أَوْ لَمْ يَكُنْ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى مَنْ لَا يَجِبُ دَفْعُ حَاجَتِهِ مِنْ غَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي شِدَّةٍ، وَلَمَّا كَانَ

_ (1) المدوكر المتسلس: لعله اسم لطائفة من بني ساسان وهم المكدون والمتسولون، يعبدون الله رياء وسمعة والخوانق أو الخوانيق جمع خانقاه كلمة أعجمية وهي مكان للعبادات وأما الرباطات فهي جمع رباط وهو المكان يجتمع فيه المجاهدون في سبيل الله على الثغور الإسلامية للحماية على الثغور.

الْمِسْكِينُ حَاجَتُهُ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِمَوْضِعٍ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى مَنْ حَاجَتُهُ مُخْتَصَّةٌ بِمَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الْأَقَارِبَ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ كَذَا اللَّفْظُ وَهُوَ ذَوُو الْقُرْبَى، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمِسْكِينَ بِلَفْظِ ذِي الْمَسْكَنَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ لَا تَتَجَدَّدُ فَهِيَ شَيْءٌ ثَابِتٌ، وَذُو كَذَا لَا يُقَالُ إِلَّا فِي الثَّابِتِ، فَإِنَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ رَأْيٌ صَائِبٌ مَرَّةً أَوْ حَصَلَ لَهُ جَاهٌ يَوْمًا وَاحِدًا أَوْ وُجِدَ مِنْهُ فضل في وقت لا يُقَالُ ذُو رَأْيٍ وَذُو جَاهٍ وَذُو فَضْلٍ، وَإِذَا دَامَ ذَلِكَ لَهُ أَوْ وُجِدَ مِنْهُ ذَلِكَ كَثِيرًا يُقَالُ لَهُ ذُو الرَّأْيِ وَذُو الْفَضْلِ، فَقَالَ ذَا الْقُرْبى إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا حَقٌّ مُتَأَكِّدٌ ثَابِتٌ، وَأَمَّا الْمَسْكَنَةُ فَتَطْرَأُ وَتَزُولُ وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ [الْبَلَدِ: 16] فَإِنَّ الْمِسْكِينَ يَدُومُ لَهُ كَوْنُهُ ذَا مَتْرَبَةٍ مَا دَامَتْ مَسْكَنَتُهُ أَوْ يَكُونُ كَذَلِكَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ: فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ثُمَّ عَطَفَ الْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَمْ يَقُلْ فَآتِ ذَا الْقُرْبَى وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ حَقَّهُمْ، لِأَنَّ الْعِبَارَةَ الثَّانِيَةَ لِكَوْنِ صُدُورِ الْكَلَامِ أَوَّلًا لِلتَّشْرِيكِ وَالْأَوْلَى لِكَوْنِ التَّشْرِيكُ وَارِدًا عَلَى الْكَلَامِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ أَعْطِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ثُمَّ يَذْكُرُ الْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ بِالتَّبَعِيَّةِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى إِذَا قَالَ الْمَلِكُ خَلِّ فلان يَدْخُلْ، وَفُلَانًا أَيْضًا يَكُونُ فِي التَّعْظِيمِ فَوْقَ ما إذا قال خل فلانا وفلانا يدخلان، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ: «بِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ» حَيْثُ قَالَ الرَّجُلُ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدِ اهْتَدَى، ومن عصاهما فقد غورى وَلَمْ يَقُلْ وَمَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: ذلِكَ خَيْرٌ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ خَيْرٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يُقَسْ إِلَى غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [الحج: 77] اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ [الْبَقَرَةِ: 148] وَالثَّانِي أَوْلَى لِعَدَمِ احْتِيَاجِهِ إِلَى إِضْمَارٍ وَلِكَوْنِهِ أَكْثَرَ فَائِدَةً لِأَنَّ الْخَيْرَ مِنَ الْغَيْرِ قَدْ يَكُونُ نَازِلَ الدَّرَجَةِ، عِنْدَ نُزُولِ دَرَجَةٍ مَا يُقَاسُ إِلَيْهِ، كَمَا يُقَالُ السُّكُوتُ خَيْرٌ مِنَ الْكَذِبِ، وَمَا هُوَ خَيْرٌ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ حَسَنٌ يَنْفَعُ وَفِعْلٌ صَالِحٌ يَرْفَعُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْقَصْدِ لَا بِنَفْسِ الْفِعْلِ، فَإِنَّ مَنْ أَنْفَقَ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ رِيَاءَ النَّاسِ لَا يَنَالُ دَرَجَةَ مَنْ يَتَصَدَّقُ بِرَغِيفٍ لِلَّهِ، وَقَوْلُهُ: وَجْهَ اللَّهِ أَيْ يَكُونُ عَطَاؤُهُ لِلَّهِ لَا غَيْرَ، فَمَنْ أَعْطَى لِلْجَنَّةِ لَمْ يُرِدْ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مَخْلُوقَ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: كَيْفَ قَالَ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ مَعَ أَنَّ لِلْإِفْلَاحِ شَرَائِطَ أُخَرَ، وَهِيَ/ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 1] فَنَقُولُ كُلُّ وَصْفٍ مَذْكُورٍ هُنَاكَ يُفِيدُ الْإِفْلَاحَ، فَقَوْلُهُ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 4] وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 8] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ عَطْفٌ عَلَى الْمُفْلِحِ أَيْ هَذَا مُفْلِحٌ، وَذَاكَ مُفْلِحٌ، وَذَاكَ الْآخَرُ مُفْلِحٌ لَا يُقَالُ لَا يَحْصُلُ الْإِفْلَاحُ لِمَنْ يَتَصَدَّقُ وَلَا يُصَلِّي، فَنَقُولُ هَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ الْعَالِمُ مُكَرَّمٌ أَيْ نَظَرًا إِلَى عِلْمِهِ ثُمَّ إِذَا حُدَّ فِي الزِّنَا عَلَى سَبِيلِ النَّكَالِ وَقُطِعَتْ يَدُهُ فِي السَّرِقَةِ لَا يَبْطُلُ ذَلِكَ الْقَوْلُ حتى يقول القائل، إنما كان ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْفِسْقِ، فَكَذَلِكَ إِيتَاءُ الْمَالِ لِوَجْهِ اللَّهِ يُفِيدُ الْإِفْلَاحَ، اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا وُجِدَ مَانِعٌ مِنَ ارْتِكَابٍ مَحْظُورٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: لِمَ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ مِنَ الْأَفْعَالِ كَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا؟ فَنَقُولُ الصَّلَاةُ مَذْكُورَةٌ مِنْ قَبْلُ لِأَنَّ الْخِطَابَ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ: فَآتِ مع النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَغَيْرُهُ تَبَعٌ، وَقَدْ قَالَ لَهُ مِنْ قبل فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً

[سورة الروم (30) : آية 39]

[الروم: 30] وقال: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [الروم: 31] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يُفْهَمُ مِنْهُ الْحَصْرُ وَقَدْ قَالَ فِي أَوَّلِ سورة البقرة: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 5] إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ، وَآمَنَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِهِ وَبِمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ وَبِالْآخِرَةِ، فَلَوْ كَانَ الْمُفْلِحُ مُنْحَصِرًا فِي أُولَئِكَ الْمَذْكُورِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَهَذَا خَارِجٌ عَنْهُمْ فَكَيْفَ يَكُونُ مُفْلِحًا؟ فَنَقُولُ هَذَا هُوَ ذَاكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ مُتَّصِلٌ بِهَذَا الْكَلَامِ فَإِذَا أَتَى بِالصَّلَاةِ وَآتَى الْمَالَ وَأَرَادَ وَجْهَ اللَّهِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ مُقِيمٌ لِلصَّلَاةِ مُؤْتٍ لِلزَّكَاةِ مُعْتَرِفٌ بِالْآخِرَةِ فَصَارَ مِثْلَ الْمَذْكُورِ فِي الْبَقَرَةِ. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : آية 39] وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) ذَكَرَ هَذَا تَحْرِيضًا يَعْنِي أَنَّكُمْ إِذَا طُلِبَ مِنْكُمْ وَاحِدٌ باثنين ترغبون فيه وتؤتونه وذلك لا يربوا عند الله والزكاة ننمو عِنْدَ اللَّهِ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ فتربوا حَتَّى تَصِيرَ مِثْلَ الْجَبَلِ» فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِقْدَامُكُمْ عَلَى الزَّكَاةِ أَكْثَرَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ أَيْ أُولَئِكَ ذَوُو الْأَضْعَافِ كَالْمُوسِرِ لذي اليسار وأقل ذَلِكَ عَشَرَةُ أَضْعَافٍ كُلٌّ مَثَلٌ لِمَا آتَى فِي كَوْنِهِ حَسَنَةً لَا فِي الْمِقْدَارِ فَلَا يُفْهَمُ أَنَّ مَنْ أَعْطَى رَغِيفًا يُعْطِيهِ اللَّهُ عَشَرَةَ أَرْغِفَةٍ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ مَا يَقْتَضِيهِ فِعْلُهُ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى وَجْهِ الرَّحْمَةِ يُضَاعِفُهُ اللَّهُ عَشَرَةَ مَرَّاتٍ عَلَى وَجْهِ التَّفَضُّلِ، فَبِالرَّغِيفِ الْوَاحِدِ يَكُونُ لَهُ قَصْرٌ فِي الْجَنَّةِ فِيهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ثَوَابًا/ نَظَرًا إِلَى الرَّحْمَةِ، وَعَشْرُ قُصُورٍ مِثْلِهِ نَظَرًا إِلَى الْفَضْلِ. مِثَالُهُ فِي الشَّاهِدِ، مَلِكٌ عَظِيمٌ قَبِلَ مِنْ عَبْدِهِ هَدِيَّةً قِيمَتُهَا دِرْهَمٌ لَوْ عَوَّضَهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لَا يَكُونُ كَرَمًا، بَلْ إِذَا جَرَتْ عَادَتُهُ بِأَنَّهُ يُعْطِي عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ أَلْفًا، فَإِذَا أَعْطَى لَهُ عَشَرَةَ آلَافٍ فَقَدْ ضَاعَفَ لَهُ الثواب. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : آية 40] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ أَيْ أَوْجَدَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ أَيْ أَبْقَاكُمْ، فَإِنَّ الْعَرَضَ مَخْلُوقٌ وَلَيْسَ بِمُبَقًى ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ إِثْبَاتِ الْأَصْلَيْنِ الْحَشْرِ وَالتَّوْحِيدِ، أَمَّا الْحَشْرُ فَبِقَوْلِهِ: ثُمَّ يُحْيِيكُمْ وَالدَّلِيلُ قُدْرَتُهُ عَلَى الْخَلْقِ ابْتِدَاءً، وَأَمَّا التَّوْحِيدُ فَبِقَوْلِهِ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ أَيْ سَبِّحُوهُ تَسْبِيحًا أَيْ نَزِّهُوهُ وَلَا تَصِفُوهُ بِالْإِشْرَاكِ، وَقَوْلُهُ: وَتَعالى أَيْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَهَذَا لِأَنَّ مَنْ لَا يَتَّصِفُ بِشَيْءٍ قَدْ يَجُوزُ عَلَيْهِ فَإِذَا قَالَ سَبِّحُوهُ أَيْ لَا تَصِفُوهُ بِالْإِشْرَاكِ، وَإِذَا قَالَ وَتَعَالَى فَكَأَنَّهُ قال ولا يجوز عليه ذلك. ثم إنه تعالى قال: [سورة الروم (30) : آية 41] ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)

[سورة الروم (30) : آية 42]

وَجْهُ تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ الشِّرْكَ سَبَبُ الْفَسَادِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] وَإِذَا كَانَ الشِّرْكُ سَبَبُهُ جَعْلُ اللَّهِ إِظْهَارَهُمُ الشِّرْكَ مُوَرِّثًا لِظُهُورِ الْفَسَادِ وَلَوْ فَعَلَ بِهِمْ مَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُمْ: لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [الْمُؤْمِنُونَ: 71] كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [مَرْيَمَ: 90] وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا وَاخْتَلَفَتِ الْأَقْوَالُ فِي قَوْلِهِ: فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ خَوْفُ الطُّوفَانِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَدَمُ إثبات بَعْضِ الْأَرَاضِي وَمُلُوحَةِ مِيَاهِ الْبِحَارِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ مِنَ الْبَحْرِ الْمُدُنُ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْمَدَائِنَ بُحُورًا لِكَوْنِ مَبْنَى عِمَارَتِهَا عَلَى الْمَاءِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ/ إِنَّ ظُهُورَ الْفَسَادِ فِي الْبَحْرِ قِلَّةُ مِيَاهِ الْعُيُونِ فَإِنَّهَا مِنَ الْبِحَارِ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ فَسَادٍ يَكُونُ فَهُوَ بِسَبَبِ الشِّرْكِ لَكِنَّ الشِّرْكَ قَدْ يَكُونُ فِي الْعَمَلِ دُونَ الْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ فَيُسَمَّى فِسْقًا وَعِصْيَانًا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ فِعْلٌ لَا يَكُونُ لِلَّهِ بَلْ يَكُونُ لِلنَّفْسِ، فَالْفَاسِقُ مُشْرِكٌ بِاللَّهِ بِفِعْلِهِ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الشِّرْكَ بِالْفِعْلِ لَا يُوجِبُ الْخُلُودَ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَرْءِ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا إِلَّا التَّوْحِيدُ يَزُولُ الشِّرْكُ الْبَدَنِيُّ بِسَبَبِهِمَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ تَمَامَ جَزَائِهِمْ وَكُلَّ مُوجِبِ افْتِرَائِهِمْ، وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يَعْنِي كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُتَوَقِّعُ رُجُوعَهُمْ مَعَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ أَضَلَّهُ لَا يَرْجِعُ لَكِنَّ النَّاسَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ لَوْ فُعِلَ بِهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ يُوجَدُ مِنْهُمُ الرُّجُوعُ، كَمَا أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا عَلِمَ مِنْ عَبْدِهِ أَنَّهُ لَا يَرْتَدِعُ بِالْكَلَامِ، فَيَقُولُ الْقَائِلُ لِمَاذَا لَا تُؤَدِّبُهُ بِالْكَلَامِ؟ فَإِذَا قَالَ لَا يَنْفَعُ رُبَّمَا يَقَعُ فِي وَهْمِهِ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ عَنْ نَفْعٍ، فَإِذَا زَجَرَهُ وَلَمْ يَرْتَدِعْ يَظْهَرُ لَهُ صِدْقُ كَلَامِ السَّيِّدِ وَيَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : آية 42] قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) لَمَّا بَيَّنَ حَالَهُمْ بِظُهُورِ الْفَسَادِ فِي أَحْوَالِهِمْ بِسَبَبِ فَسَادِ أَقْوَالِهِمْ بَيَّنَ لَهُمْ هَلَاكَ أَمْثَالِهِمْ وَأَشْكَالِهِمُ الَّذِينَ كَانَتْ أَفْعَالُهُمْ كَأَفْعَالِهِمْ فَقَالَ: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ أَيْ قَوْمَ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، وَهَذَا تَرْتِيبٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي وَقْتِ الِامْتِنَانِ وَالْإِحْسَانِ قَالَ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ [مريم: 40] أَيْ آتَاكُمُ الْوُجُودَ ثُمَّ الْبَقَاءَ وَوَقْتَ الْخِذْلَانِ بِالطُّغْيَانِ قَالَ: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الروم: 41] أَيْ قَلَّلَ رِزْقَكُمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي هو أعدمكم كم أَعْدَمَ مَنْ قَبْلَكُمْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ أَعْطَاكُمُ الْوُجُودَ وَالْبَقَاءَ، وَيَسْلُبُ مِنْكُمُ الْوُجُودَ وَالْبَقَاءَ، وَأَمَّا سَلْبُ الْبَقَاءِ فَبِإِظْهَارِ الْفَسَادِ، وَأَمَّا سَلْبُ الْوُجُودِ فَبِالْإِهْلَاكِ، وَعِنْدَ الْإِعْطَاءِ قَدَّمَ الْوُجُودَ عَلَى الْبَقَاءِ، لِأَنَّ الْوُجُودَ أَوَّلًا ثُمَّ الْبَقَاءَ، وَعِنْدَ السَّلْبِ قَدَّمَ الْبَقَاءَ، وَهُوَ الِاسْتِمْرَارُ ثُمَّ الْوُجُودُ. وَقَوْلُهُ: كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا ثَلَاثَةً أَحَدُهَا: أَنَّ الْهَلَاكَ فِي الْأَكْثَرِ كَانَ بِسَبَبِ الشِّرْكِ الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ أَيْضًا كَالْإِهْلَاكِ بِالْفِسْقِ وَالْمُخَالَفَةِ كَمَا كَانَ عَلَى أَصْحَابِ السَّبْتِ الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ أُهْلِكَ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا بَلْ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ مُعَطِّلًا نَافِيًا لَكِنَّهُمْ قَلِيلُونَ، وَأَكْثَرُ الْكُفَّارِ مُشْرِكُونَ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَذَابَ الْعَاجِلَ لَمْ يَخْتَصَّ بِالْمُشْرِكِينَ حِينَ أَتَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَالِ: 25] بَلْ كَانَ عَلَى الصِّغَارِ والمجانين، ولكن أكثرهم كانوا مشركين/ ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 43 الى 44] فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)

[سورة الروم (30) : آية 45]

لَمَّا نَهَى الْكَافِرَ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ، أَمَرَ الْمُؤْمِنَ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ وَخَاطَبَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنُ فَضِيلَةَ مَا هُوَ مُكَلَّفٌ بِهِ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِهِ أَشْرَفَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ فِي التَّكْلِيفِ مَقَامُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ عِبَادَهُ الْمُرْسَلِينَ» وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَاهُ، وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: يَأْتِيَ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أَيِ اللَّهُ لَا يَرُدُّ وَغَيْرُهُ عَاجِزٌ عَنْ رَدِّهِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أَيْ يَتَفَرَّقُونَ. ثُمَّ أَشَارَ إِلَى التَّفَرُّقِ بِقَوْلِهِ: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً وَلَمْ يَقُلْ وَمَنْ آمَنَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ بِهِ يَكْمُلُ الْإِيمَانُ فَذَكَرَهُ تَحْرِيضًا لِلْمُكَلَّفِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْكُفْرُ إِذَا جَاءَ فَلَا زِنَةَ لِلْعَمَلِ مَعَهُ، وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْكُفْرَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: فِعْلٌ وَهُوَ الْإِشْرَاكُ وَالْقَوْلُ بِهِ، وَالثَّانِي: تَرْكٌ وَهُوَ عَدَمُ النَّظَرِ وَالْإِيمَانِ فَالْعَاقِلُ الْبَالِغُ إِذَا كَانَ فِي مَدِينَةِ الرَّسُولِ وَلَمْ يَأْتِ بِالْإِيمَانِ فَهُوَ كَافِرٌ سَوَاءٌ قَالَ بِالشِّرْكِ أَوْ لَمْ يَقُلْ، لَكِنَّ الْإِيمَانَ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَإِنَّ الِاعْتِقَادَ الْحَقَّ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَقَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَمَلُ اللِّسَانِ وَشَيْءٌ مِنْهُ لَا بُدَّ مِنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ: فَعَلَيْهِ فَوَحَّدَ الْكِنَايَةَ وَقَالَ: فَلِأَنْفُسِهِمْ جَمَعَهَا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ أَعَمُّ مِنَ الْغَضَبِ فَتَشْمَلُهُ وَأَهْلَهُ وَذُرِّيَّتَهُ، أَمَّا الْغَضَبُ فَمَسْبُوقٌ بِالرَّحْمَةِ، لَازِمٌ لِمَنْ أَسَاءَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ: فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ وَقَالَ فِي الْمُؤْمِنِ فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ تَحْقِيقًا لِكَمَالِ الرَّحْمَةِ فَإِنَّهُ عِنْدَ الْخَيْرِ بَيَّنَ وَفَصَّلَ بِشَارَةً، وَعِنْدَ غَيْرِهِ أَشَارَ إِلَيْهِ إشارة. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : آية 45] لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45) ذَكَرَ زِيَادَةَ تَفْصِيلٍ لِمَا يُمَهِّدُهُ الْمُؤْمِنَ لِفِعْلِهِ الْخَيْرَ وَعَمَلِهِ الصَّالِحِ، وَهُوَ الْجَزَاءُ الَّذِي يُجَازِيهِ بِهِ اللَّهُ/ وَالْمَلِكُ إِذَا كَانَ كَبِيرًا كَرِيمًا، وَوَعَدَ عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ بِأَنِّي أُجَازِيكَ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَوَقَّعُهُ ثُمَّ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: مِنْ فَضْلِهِ يَعْنِي أَنَا الْمُجَازِي فَكَيْفَ يَكُونُ الْجَزَاءُ، ثُمَّ إِنِّي لَا أُجَازِيكَ مِنَ الْعَدْلِ وَإِنَّمَا أُجَازِيكَ مِنَ الْفَضْلِ فَيَزْدَادُ الرَّجَاءُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أَوْعَدَهُمْ بِوَعِيدٍ وَلَمْ يَفْصِلْهُ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِ هَذَا الْإِجْمَالُ فِيهِ كَالتَّفْصِيلِ، فَإِنَّ عَدَمَ الْمَحَبَّةِ مِنَ اللَّهِ غَايَةُ الْعَذَابِ، وَافْهَمْ ذَلِكَ مِمَّنْ يَكُونُ لَهُ مَعْشُوقٌ فَإِنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ الْعَاشِقَ بِأَنَّهُ وَعَدَكَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ كَيْفَ تَكُونُ مَسَرَّتُهُ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ إِنَّهُ قَالَ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا كَيْفَ يَكُونُ سُرُورُهُ. وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أن الله عند ما أَسْنَدَ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ إِلَى الْعَبْدِ قَدَّمَ الْكَافِرَ فقال: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ [الروم: 44] وعند ما أَسْنَدَ الْجَزَاءَ إِلَى نَفْسِهِ قَدَّمَ الْمُؤْمِنَ فَقَالَ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَنْ كَفَرَ فِي الْحَقِيقَةِ لِمَنْعِ الْكَافِرِ عَنِ الْكُفْرِ بِالْوَعِيدِ ونهيه عن فعله بالتهديد وقوله: مَنْ عَمِلَ صالِحاً لِتَحْرِيضِ الْمُؤْمِنِ فَالنَّهْيُ كَالْإِيعَادِ وَالتَّحْرِيضِ لِلتَّقْرِيرِ وَالْإِيعَادُ مُقَدَّمٌ عِنْدَ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ، وَأَمَّا عند ما ذَكَرَ الْجَزَاءَ بَدَأَ بِالْإِحْسَانِ إِظْهَارًا لِلْكَرَمِ وَالرَّحْمَةِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ الذِّكْرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَذَلِكَ وليس كذلك فإن الله كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ قَدَّمَ إِيمَانَ الْمُؤْمِنِ عَلَى كُفْرِ الْكَافِرِ وَقَدَّمَ

[سورة الروم (30) : آية 46]

التَّعْذِيبَ عَلَى الْإِثَابَةِ، فَنَقُولُ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُوَفِّقُنَا لِبَيَانِ ذَلِكَ نُبَيِّنُ مَا اقْتَضَى تَقْدِيمَهُ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ لِمَعْنًى وَكُلُّ تَرْتِيبٍ وُجِدَ فَهُوَ لِحِكْمَةٍ، وَمَا ذُكِرَ عَلَى خِلَافِهِ لَا يَكُونُ فِي دَرَجَةِ مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ فَلْنُبَيِّنْ مِنْ جُمْلَتِهِ مِثَالًا وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ [الرُّومِ: 14، 15] قَدَّمَ الْمُؤْمِنَ عَلَى الْكَافِرِ، وَهَاهُنَا ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم: 43] أَيْ يَتَفَرَّقُونَ فَقَدَّمَ الْكَافِرَ عَلَى الْمُؤْمِنِ، فَنَقُولُ هُنَاكَ أَيْضًا قَدَّمَ الْكَافِرَ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّهُ قَالَ مِنْ قَبْلُ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ [الرُّومِ: 12] فَذَكَرَ الْكَافِرَ وَإِبْلَاسَهُ، ثُمَّ قَالَ تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم: 14] فَكَانَ ذِكْرُ الْمُؤْمِنِ وَحْدَهُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِيُبَيِّنَ كَيْفِيَّةَ التَّفَرُّقِ بِمَجْمُوعِ قَوْلِهِ: يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَقَوْلُهُ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ: فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَادَ ذِكْرَ الْمُجْرِمِينَ مَرَّةً أخرى للتفصيل فقال: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : آية 46] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ ظُهُورَ الْفَسَادِ وَالْهَلَاكِ/ بِسَبَبِ الشِّرْكِ ذَكَرَ ظُهُورَ الصَّلَاحِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ بِسَبَبِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، لِمَا ذَكَرْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْكَرِيمَ لَا يَذْكُرُ لِإِحْسَانِهِ عِوَضًا، وَيَذْكُرُ لِأَضْرَارِهِ سَبَبًا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ بِهِ الظُّلْمُ فَقَالَ: يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ قِيلَ بِالْمَطَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الْأَعْرَافِ: 57] أَيْ قَبْلَ الْمَطَرِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مُبَشِّرَاتٍ بِصَلَاحِ الْأَهْوِيَةِ وَالْأَحْوَالِ، فَإِنَّ الرِّيَاحَ لَوْ لَمْ تَهُبَّ لَظَهَرَ الْوَبَاءُ وَالْفَسَادُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ عَطْفٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، أَيْ لِيُبَشِّرَكُمْ بِصَلَاحِ الْهَوَاءِ وَصِحَّةِ الْأَبْدَانِ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ بِالْمَطَرِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِذَاقَةَ تُقَالُ فِي الْقَلِيلِ، وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ الدُّنْيَا قَلِيلًا وَرَاحَتُهَا نَزْرٌ قَالَ: وَلِيُذِيقَكُمْ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَيَرْزُقُهُمْ وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِمْ وَيُدِيمُ لَهُمْ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَمَّا أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الْفُلْكِ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: بِأَمْرِهِ أَيِ الْفِعْلُ ظَاهِرًا عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ: وَلِتَبْتَغُوا مُسْنَدًا إِلَى الْعِبَادِ ذَكَرَ بَعْدَهُ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ لَا اسْتِقْلَالَ لِشَيْءٍ بِشَيْءٍ وَفِي الآية مسائل: الْأُولَى: فِي التَّرْتِيبِ فَنَقُولُ فِي الرِّيَاحِ فَوَائِدُ، مِنْهَا إِصْلَاحُ الْهَوَاءِ، وَمِنْهَا إِثَارَةُ السَّحَابِ، وَمِنْهَا جَرَيَانُ الْفُلْكِ بِهَا فَقَالَ: مُبَشِّراتٍ بِإِصْلَاحِ الْهَوَاءِ فَإِنَّ إِصْلَاحَ الْهَوَاءِ يُوجَدُ مِنْ نَفْسِ الْهُبُوبِ ثُمَّ الْأَمْطَارُ بَعْدَهُ، ثُمَّ جَرَيَانُ الْفُلْكِ فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى اخْتِبَارٍ مِنَ الْآدَمِيِّ بِإِصْلَاحِ السُّفُنِ وَإِلْقَائِهَا عَلَى الْبَحْرِ ثُمَّ ابْتِغَاءُ الْفَضْلِ بِرُكُوبِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ظَهَرَ الْفَسادُ ... لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا [الرُّومِ: 41] وَقَالَ هَاهُنَا وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ فَخَاطَبَ هَاهُنَا تَشْرِيفًا وَلِأَنَّ رَحْمَتَهُ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فَالْمُحْسِنُ قَرِيبٌ فَيُخَاطَبُ وَالْمُسِيءُ بَعِيدٌ فَلَمْ يُخَاطِبْهُمْ، وَأَيْضًا قَالَ هُنَاكَ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا وَقَالَ هَاهُنَا مِنْ رَحْمَتِهِ فَأَضَافَ مَا أَصَابَهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَضَافَ مَا أَصَابَ الْمُؤْمِنَ إِلَى رَحْمَتِهِ وَفِيهِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَرِيمَ لَا يَذْكُرُ

[سورة الروم (30) : آية 47]

لِإِحْسَانِهِ وَرَحْمَتِهِ عِوَضًا، وَإِنْ وُجِدَ فَلَا يَقُولُ أَعْطَيْتُكَ لِأَنَّكَ فَعَلْتَ كَذَا بَلْ يَقُولُ هَذَا لَكَ مِنِّي. وَأَمَّا مَا فَعَلْتَ مِنَ الْحَسَنَةِ فَجَزَاؤُهُ بَعْدُ عِنْدِي وَثَانِيهِمَا: أَنَّ مَا يَكُونُ بِسَبَبِ فِعْلِ الْعَبْدِ قَلِيلٌ، فَلَوْ قَالَ أَرْسَلْتُ الرِّيَاحَ بِسَبَبِ فِعْلِكُمْ لَا يَكُونُ بِشَارَةً عَظِيمَةً، وَأَمَّا إِذَا قَالَ مِنْ رَحْمَتِهِ كَانَ غَايَةَ الْبِشَارَةِ، وَمَعْنًى ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِمَا فَعَلْتُمْ لَكَانَ ذَلِكَ مُوهِمًا لِنُقْصَانِ ثَوَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ فَإِذَا قَالَ بِمَا فَعَلْتُمْ يُنْبِئُ عَنْ نُقْصَانِ عِقَابِهِمْ وَهُوَ كَذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ هُنَاكَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقَالَ هَاهُنَا وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ قَالُوا وَإِشَارَةً إِلَى أَنَّ تَوْفِيقَهُمْ لِلشُّكْرِ مِنَ النِّعَمِ فَعَطَفَ عَلَى النِّعَمِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا أَخَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ لِأَنَّ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَدْ سَبَقَ ذِكْرُهَا قُلْنَا إِنَّهُ ذَكَرَ مِنْ كُلِّ بَابٍ آيَتَيْنِ فذكر من المنذرات يُرِيكُمُ الْبَرْقَ وَالْحَادِثُ فِي الْجَوِّ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ نَارٌ وَرِيحٌ فَذَكَرَ الرِّيَاحَ هَاهُنَا تَذْكِيرًا وَتَقْرِيرًا لِلدَّلَائِلِ، وَلَمَّا كَانَتِ الرِّيحُ فِيهَا فَائِدَةٌ غَيْرُ الْمَطَرِ وَلَيْسَ فِي الْبَرْقِ فَائِدَةٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَطَرٌ ذُكِرَ هُنَاكَ خَوْفًا وَطَمَعًا، أَيْ قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَذَكَرَ هَاهُنَا مُبَشِّراتٍ/ لِأَنَّ تَعْدِيلَ الْهَوَاءِ أَوْ تَصْفِيَتَهُ بِالرِّيحِ أَمْرٌ لازم، وحكمه به حكم جازم. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : آية 47] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) لَمَّا بَيَّنَ الْأَصْلَيْنِ بِبَرَاهِينَ ذكر الأصل الثالث وهو النبوة فقال: لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا أَيْ إِرْسَالُهُمْ دَلِيلُ رِسَالَتِكَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُغْلٌ غَيْرَ شُغْلِكَ، وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِمْ غَيْرُ مَا ظَهَرَ عَلَيْكَ وَمِنْ كَذِبِهِمْ أَصَابَهُمُ الْبَوَارُ وَمَنْ آمَنَ بِهِمْ كَانَ لَهُمْ الِانْتِصَارُ وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ يُبَيِّنُ تَعَلُّقَ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا بَيَّنَ الْبَرَاهِينَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا الْكُفَّارُ سَلَّى قَلْبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَقَالَ حَالُ مَنْ تَقَدَّمَكَ كَانَ كَذَلِكَ وَجَاءُوا أَيْضًا بِالْبَيِّنَاتِ، وَكَانَ فِي قَوْمِهِمْ كَافِرٌ وَمُؤْمِنٌ كَمَا فِي قَوْمِكَ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الْكَافِرِينَ ونصرنا المؤمنين، وفي قوله تعالى: كانَ حَقًّا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فَانْتَقَمْنَا، وَكَانَ الِانْتِقَامُ حَقًّا وَاسْتَأْنَفَ وَقَالَ عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذَا بِشَارَةً لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَيْ عَلَيْنَا نَصْرُكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَالْوَجْهُ الثاني: كانَ حَقًّا عَلَيْنا أَيْ نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا وَعَلَى الْأَوَّلِ لَطِيفَةٌ وَعَلَى الْآخَرِ أُخْرَى، أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ فَانْتَقَمْنَا بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا وَإِنَّمَا كَانَ عَدْلًا حَقًّا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِانْتِقَامَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بَعْدَ كَوْنِ بَقَائِهِمْ غَيْرَ مُفِيدٍ إِلَّا زِيَادَةَ الْإِثْمِ وَوِلَادَةَ الْكَافِرِ الْفَاجِرِ وَكَانَ عَدَمُهُمْ خَيْرًا مِنْ وُجُودِهِمُ الْخَبِيثِ، وَعَلَى الثَّانِي تَأْكِيدُ الْبِشَارَةِ. لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَى تُفِيدُ مَعْنَى اللُّزُومِ يُقَالُ عَلَى فُلَانٍ كَذَا يُنْبِئُ عَنِ اللُّزُومِ، فَإِذَا قَالَ حَقًّا أَكَّدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ النَّصْرَ هُوَ الْغَلَبَةُ الَّتِي لَا تَكُونُ عَاقِبَتُهَا وَخِيمَةً، فَإِنَّ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِذَا انْهَزَمَتْ أَوَّلًا، ثُمَّ عَادَتْ آخِرًا لَا يَكُونُ النَّصْرُ إِلَّا لِلْمُنْهَزِمِ، وَكَذَلِكَ مُوسَى وَقَوْمُهُ لَمَّا انْهَزَمُوا مِنْ فِرْعَوْنَ ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ لَمْ يَكُنِ انْهِزَامُهُمْ إِلَّا نُصْرَةً، فَالْكَافِرُ إِنْ هَزَمَ الْمُسْلِمَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لَا يَكُونُ ذلك نصرة إذ لا عاقبة له. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 48 الى 50] اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)

[سورة الروم (30) : الآيات 51 إلى 53]

بَيَّنَ دَلَائِلَ الرِّيَاحِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْأَوَّلِ فِي إِرْسَالِهَا قُدْرَةٌ وَحِكْمَةٌ. أَمَّا الْقُدْرَةُ فَظَاهِرَةٌ فَإِنَّ الْهَوَاءَ اللَّطِيفَ الَّذِي يَشُقُّهُ الْوَدْقُ «1» يَصِيرُ بِحَيْثُ يَقْلَعُ الشَّجَرَ وَهُوَ لَيْسَ بِذَاتِهِ كَذَلِكَ فَهُوَ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَفِي نَفْسِ الْهُبُوبِ فِيمَا يُفْضِي إِلَيْهِ مِنْ إِثَارَةِ السُّحُبِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنْوَاعَ السُّحُبِ فَمِنْهُ مَا يَكُونُ مُتَّصِلًا وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا، ثُمَّ الْمَطَرُ يَخْرُجُ مِنْهُ وَالْمَاءُ فِي الْهَوَاءِ أَعْجَبُ عَلَامَةً لِلْقُدْرَةِ، وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِ مِنْ إِنْبَاتِ الزَّرْعِ وَإِدْرَارِ الضَّرْعِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، ثُمَّ أَنَّهُ لَا يَعَمُّ بَلْ يَخْتَصُّ بِهِ قَوْمٌ دُونَ قَوْمٍ وَهُوَ عَلَامَةُ الْمَشِيئَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ تَأْكِيدٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها [الْحَشْرِ: 17] وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ قَبْلِ التَّنْزِيلِ مِنْ قَبْلِ الْمَطَرِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مَنْ قَبْلِهِ، أَيْ مِنْ قَبْلِ إِرْسَالِ الرِّيَاحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَعْدَ الْإِرْسَالِ يَعْرِفُ الْخَبِيرُ أَنَّ الرِّيحَ فِيهَا مَطَرٌ أَوْ لَيْسَ، فَقَبْلَ الْمَطَرِ إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ لَا يَكُونُ مُبْلِسًا، فَلَمَّا قَالَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَقُلْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُبْلِسِينَ، لِأَنَّ مَنْ قَبْلَهُ قد يكون راجيا غَالِبًا عَلَى ظَنِّهِ الْمَطَرُ بِرُؤْيَةِ السُّحُبِ وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ فَقَالَ مِنْ قَبْلِهِ، أَيْ مِنْ قَبْلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إِرْسَالِ الرِّيحِ وَبَسْطِ السَّحَابِ، ثُمَّ لَمَّا فَصَّلَ قَالَ: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ قَالَ لَمُحْيِي بِاللَّامِ الْمُؤَكِّدَةِ وَبِاسْمِ الْفَاعِلِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ إِنَّ الْمَلِكَ يُعْطِيكَ لَا يُفِيدُ مَا يُفِيدُ قَوْلُهُ إِنَّهُ مُعْطِيكَ، لِأَنَّ الثَّانِيَ يُفِيدُ أَنَّهُ أَعْطَاكَ فَكَانَ وَهُوَ مُعْطٍ مُتَّصِفًا بِالْعَطَاءِ، وَالْأَوَّلُ يُفِيدُ أَنَّهُ سَيَتَّصِفُ بِهِ وَيَتَبَيَّنُ هَذَا بِقَوْلِهِ إِنَّكَ مَيِّتٌ فَإِنَّهُ آكَدٌ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّكَ تَمُوتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَأْكِيدٌ لما يفيد الاعتراف. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 51 الى 53] وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) [في قوله تَعَالَى وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ] لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ عِنْدَ تَوَقُّفِ الْخَيْرِ يَكُونُونَ مُبْلِسِينَ آيِسِينَ، وَعِنْدَ ظُهُورِهِ يَكُونُونَ مُسْتَبْشِرِينَ، بَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ أَيْضًا لَا يَدُومُونَ عَلَيْهَا، بَلْ لَوْ أَصَابَ زَرْعَهُمْ رِيحٌ مُصْفَرٌّ لَكَفَرُوا فَهُمْ مُنْقَلِبُونَ غَيْرُ ثَابِتِينَ لِنَظَرِهِمْ إِلَى الْحَالِ لَا إِلَى الْمَآلِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى يُرْسِلُ الرِّياحَ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْإِرْسَالِ، وَقَالَ هَاهُنَا وَلَئِنْ أَرْسَلْنا لَا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْإِرْسَالِ، لِأَنَّ الرِّيَاحَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ، والريح من عذابه وهو تعالى رؤوف بِالْعِبَادِ يُمْسِكُهَا، وَلِذَلِكَ نَرَى الرِّيَاحَ النَّافِعَةَ تَهُبُّ فِي اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ فِي الْبَرَارِي وَالْآكَامِ، وَرِيحُ السَّمُومِ لَا تَهُبُّ إِلَّا فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ وفي بعض الأمكنة.

_ (1) في الأصل المطبوع بالمطبعة الأميرية «يشقه البق» وهو لا معنى له فيما يظهر لي، ولعل ما ذكرته هو الصواب.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: سَمَّى النَّافِعَةَ رِيَاحًا وَالضَّارَّةَ رِيحًا لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: النَّافِعَةُ كَثِيرَةُ الْأَنْوَاعِ كَثِيرَةُ الْأَفْرَادِ فَجَمَعَهَا، فَإِنَّ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ تَهُبُّ نَفَحَاتٌ مِنَ الرِّيَاحِ النَّافِعَةِ، وَلَا تَهُبُّ الرِّيحُ الضَّارَّةُ فِي أَعْوَامٍ، بَلِ الضَّارَّةُ فِي الْغَالِبِ لَا تَهُبُّ فِي الدُّهُورِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ النَّافِعَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا رِيَاحًا فَإِنَّ مَا يَهُبُّ مَرَّةً وَاحِدَةً لَا يُصْلِحُ الْهَوَاءَ وَلَا يُنْشِئُ السَّحَابَ وَلَا يُجْرِيَ السُّفُنَ، وَأَمَّا الضَّارَّةُ بِنَفْحَةٍ وَاحِدَةٍ تَقْتُلُ كَرِيحِ السَّمُومِ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الرِّيحَ الْمُضِرَّةَ إِمَّا أَنْ تَضُرَّ بِكَيْفِيَّتِهَا أَوْ بِكَمِّيَّتِهَا، أَمَّا الْكَيْفِيَّةُ فَهِيَ إِذَا كَانَتْ حَارَّةً أَوْ مُتَكَيِّفَةً بِكَيْفِيَّةِ سُمٍّ، وَهَذَا لَا يَكُونُ لِلرِّيحِ فِي هُبُوبِهَا وَإِنَّمَا يَكُونُ بِسَبَبِ أَنَّ الْهَوَاءَ السَّاكِنَ فِي بُقْعَةٍ فِيهَا حَشَائِشُ رَدِيئَةٌ أَوْ فِي مَوْضِعٍ غَائِرٍ وَهُوَ حَارٌّ جِدًّا، أَوْ تَكُونُ مُتَكَوِّنَةً فِي أَوَّلِ تَكَوُّنِهَا كَذَلِكَ وَكَيْفَمَا كَانَ فَتَكُونُ وَاحِدَةً، لِأَنَّ ذَلِكَ الْهَوَاءَ السَّاكِنَ إِذَا سُخِّنَ ثُمَّ وَرَدَ عَلَيْهِ رِيحٌ تُحَرِّكُهُ وَتُخْرِجُهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَتَهُبُّ عَلَى مَوَاضِعَ كَاللَّهِيبِ، ثُمَّ مَا يَخْرُجُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ لَا يَكُونُ حَارًّا وَلَا مُتَكَيِّفًا، لِأَنَّ الْمُكْثَ الطَّوِيلَ شَرْطُ التَّكَيُّفِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ أَدْخَلْتَ إِصْبَعَكَ فِي نَارٍ وَأَخْرَجْتَهَا بِسُرْعَةٍ لَا تَتَأَثَّرُ، وَالْحَدِيدُ إِذَا مَكَثَ فِيهَا يَذُوبُ، فَإِذَا تَحَرَّكَ ذَلِكَ السَّاكِنُ وَتَفَرَّقَ لَا يُوجَدُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ غَيْرُهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَأَمَّا الْمُتَوَلِّدَةُ كَذَلِكَ فَنَادِرَةٌ وَمَوْضِعُ نُدْرَتِهَا وَاحِدٌ. وَأَمَّا الْكَمِّيَّةُ فَالرِّيَاحُ إِذَا اجْتَمَعَتْ وَصَارَتْ وَاحِدَةً صَارَتْ كَالْخُلْجَانِ، وَمِيَاهُ الْعُيُونِ إِذَا اجْتَمَعَتْ تَصِيرُ نَهْرًا عَظِيمًا لَا تَسُدُّهُ السُّدُودُ وَلَا يُرُدُّهُ الْجُلْمُودُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي ذَلِكَ تَكُونُ وَاحِدَةً مُجْتَمِعَةً مِنْ كَثِيرٍ، فَلِهَذَا قَالَ فِي الْمُضِرَّةِ رِيحٌ وَفِي النَّافِعَةِ رِيَاحٌ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلَّمَ رَسُولَهُ أَنْوَاعَ الْأَدِلَّةِ وَأَصْنَافَ الْأَمْثِلَةِ وَوَعَدَ وَأَوْعَدَ وَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَاؤُهُ إِلَّا/ فِرَارًا، وَإِنْبَاؤُهُ إِلَّا كُفْرًا وَإِصْرَارًا، قَالَ لَهُ: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي التَّرْتِيبِ فَنَقُولُ إِرْشَادُ الْمَيِّتِ مُحَالٌ، وَالْمُحَالُ أَبْعَدُ مِنَ الْمُمْكِنِ، ثُمَّ إِرْشَادُ الْأَصَمِّ صَعْبٌ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ الْكَلَامَ وَإِنَّمَا يَفْهَمُ مَا يَفْهَمُهُ بِالْإِشَارَةِ لَا غَيْرَ، وَالْإِفْهَامُ بِالْإِشَارَةِ صَعْبٌ، ثُمَّ إِرْشَادُ الْأَعْمَى أَيْضًا صَعْبٌ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ لَهُ الطَّرِيقُ عَلَى يَمِينِكَ يَدُورُ إِلَى يَمِينِهِ، لَكِنَّهُ لَا يَبْقَى عَلَيْهِ بَلْ يَحِيدُ عَنْ قَرِيبٍ وَإِرْشَادُ الْأَصَمِّ أَصْعَبُ، فَلِهَذَا تَكُونُ الْمُعَاشَرَةُ مَعَ الْأَعْمَى أَسْهَلَ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ الْأَصَمِّ الَّذِي لَا يَسْمَعُ شَيْئًا، لِأَنَّ غَايَةَ الْإِفْهَامِ بِالْكَلَامِ، فَإِنَّ مَا لَا يُفْهَمُ بِالْإِشَارَةِ يُفْهَمُ بِالْكَلَامِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا يُفْهَمُ بِالْكَلَامِ يُفْهَمُ بِالْإِشَارَةِ، فَإِنَّ الْمَعْدُومَ وَالْغَائِبَ لَا إِشَارَةَ إِلَيْهِمَا فَقَالَ أَوَّلًا لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، ثُمَّ قَالَ وَلَا الْأَصَمَّ وَلَا تَهْدِي الْأَعْمَى الَّذِي دُونَ الْأَصَمِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ فِي الصُّمِّ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ لِيَكُونَ أَدْخَلَ فِي الِامْتِنَاعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصَمَّ وَإِنْ كَانَ يَفْهَمُ فَإِنَّمَا يَفْهَمُ بِالْإِشَارَةِ، فَإِذَا وَلَّى وَلَا يَكُونُ نَظَرُهُ إِلَى الْمُشِيرِ فَإِنَّهُ يَسْمَعُ وَلَا يفهم. المسألة الثالثة: قال في الأصم لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ وَلَمْ يَقُلْ فِي الْمَوْتَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصَمَّ قَدْ يَسْمَعُ الصَّوْتَ الْهَائِلَ كَصَوْتِ الرَّعْدِ الْقَوِيِّ وَلَكِنَّ صَوْتَ الدَّاعِي لَا يَبْلُغُ ذَلِكَ الْحَدَّ فَقَالَ إِنَّكَ دَاعٍ لَسْتَ بِمُلْجِئٍ إِلَى الْإِيمَانِ وَالدَّاعِي لَا يُسْمِعُ الْأَصَمَّ الدُّعَاءَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ: وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ أَيْ لَيْسَ شُغْلُكَ هِدَايَةَ الْعُمْيَانِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ فُلَانٌ لَيْسَ بِشَاعِرٍ وَإِنَّمَا يَنْظِمُ بَيْتًا وَبَيْتَيْنِ، أَيْ لَيْسَ شُغْلُهُ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى نَفْيُ ذَلِكَ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ يَعْنِي لَيْسَ شُغْلُكَ ذَلِكَ، وَمَا أُرْسِلْتَ لَهُ.

[سورة الروم (30) : آية 54]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [النمل: 81] لَمَّا نَفَى إِسْمَاعَ الْمَيِّتِ وَالْأَصَمِّ وَأَثْبَتَ إِسْمَاعَ الْمُؤْمِنِ بِآيَاتِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ حَيًّا سَمِيعًا وَهُوَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ تَرِدُ عَلَى قَلْبِهِ أَمْطَارُ الْبَرَاهِينِ فَتُنْبِتُ فِي قَلْبِهِ الْعَقَائِدَ الْحَقَّةَ، وَيَسْمَعُ زَوَاجِرَ الْوَعْظِ فَتَظْهَرُ مِنْهُ الْأَفْعَالُ الْحَسَنَةُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا اللَّهُ يُرِيدُ مِنَ الْكُلِّ الْإِيمَانَ، غَيْرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُخَالِفُ إِرَادَةَ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُؤْمِنُ فَيُسْمِعُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مَا يَجِبُ أَنْ يَفْعَلَ فَهُمْ مُسْلِمُونَ مُطِيعُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا [البقرة: 285] . ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : آية 54] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) لَمَّا أَعَادَ مِنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي مَضَتْ دَلِيلًا مِنْ دَلَائِلِ الْآفَاقِ وَهُوَ قَوْلُهُ: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [الرُّومِ: 48] وَذَكَرَ أَحْوَالَ الرِّيحِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ أَعَادَ دَلِيلًا مِنْ دَلَائِلِ الْأَنْفُسِ وَهُوَ خَلْقُ الْآدَمِيِّ وَذَكَرَ أَحْوَالَهُ، فَقَالَ: خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أَيْ مَبْنَاكُمْ عَلَى الضَّعْفِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الْأَنْبِيَاءِ: 37] وَمِنْ هَاهُنَا كَمَا تَكُونُ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ فُلَانٌ زَيَّنَ فُلَانًا مِنْ فَقْرِهِ وَجَعَلَهُ غَنِيًّا أَيْ مِنْ حَالَةِ فَقْرِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً فَقَوْلُهُ مِنْ ضَعْفٍ إِشَارَةٌ إِلَى حَالَةٍ كَانَ فِيهَا جَنِينًا وَطِفْلًا مَوْلُودًا وَرَضِيعًا وَمَفْطُومًا فَهَذِهِ أَحْوَالُ غَايَةِ الضَّعْفِ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً إِشَارَةٌ إِلَى حَالَةِ بُلُوغِهِ وَانْتِقَالِهِ وَشَبَابِهِ وَاكْتِهَالِهِ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ. إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَكُونُ بَعْدَ الْكُهُولَةِ مِنْ ظُهُورِ النُّقْصَانِ وَالشَّيْبَةُ هِيَ تَمَامُ الضَّعْفِ، ثُمَّ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ طَبْعًا بَلْ هُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي دَلَائِلِ الْآفَاقِ فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ [الروم: 48] وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ لَمَّا قَدَّمَ الْعِلْمَ عَلَى الْقُدْرَةِ؟ وَقَالَ مِنْ قَبْلُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم: 27] فَالْعِزَّةُ إِشَارَةٌ إِلَى تَمَامِ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةُ إِلَى الْعِلْمِ، فَقَدَّمَ الْقُدْرَةَ هُنَاكَ وَقَدَّمَ الْعِلْمَ عَلَى الْقُدْرَةِ هَاهُنَا فَنَقُولُ هُنَاكَ الْمَذْكُورُ الْإِعَادَةُ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الرُّومِ: 27] لِأَنَّ الْإِعَادَةَ تَكُونُ بِكُنْ فَيَكُونُ، فَالْقُدْرَةُ هُنَاكَ أَظْهَرُ وَهَاهُنَا الْمَذْكُورُ الْإِبْدَاءُ وَهُوَ أَطْوَارٌ وَأَحْوَالٌ وَالْعِلْمُ بِكُلِّ حَالٍ حَاصِلٌ فَالْعِلْمُ هَاهُنَا أَظْهَرُ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ تَبْشِيرٌ وَإِنْذَارٌ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِأَعْمَالِ الْخَلْقِ كَانَ عَالِمًا بِأَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنْ عَمِلُوا خَيْرًا عَلِمَهُ وَإِنْ عَمِلُوا شَرًّا عَلِمَهُ، ثُمَّ إِذَا كَانَ قَادِرًا فَإِذَا عَلِمَ الْخَيْرَ أَثَابَ وَإِذَا عَلِمَ الشَّرَّ عَاقَبَ، وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِالْأَحْوَالِ قبل الإثابة والعقاب الذين هُمَا بِالْقُدْرَةِ قَدَّمَ الْعِلْمَ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَالْعِلْمُ بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ مَعَ الْعِقَابِ فَقَالَ: وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَإِلَى مِثْلِ هَذَا أَشَارَ فِي قَوْلِهِ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 14] عُقَيْبَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، فَنَقُولُ أَحْسَنَ إِشَارَةً إِلَى الْعِلْمِ لِأَنَّ حُسْنَ الْخَلْقِ بِالْعِلْمِ، وَالْخَلْقُ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: الْخالِقِينَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُدْرَةِ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ ذَكَرَ الْإِبْدَاءَ وَالْإِعَادَةُ كَالْإِبْدَاءِ ذَكَرَهُ بِذِكْرِ أحوالها وأوقاتها فقال تعالى: [سورة الروم (30) : آية 55] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55)

[سورة الروم (30) : آية 56]

قِيلَ مَا لَبِثُوا فِي الدُّنْيَا غَيْرَ سَاعَةٍ. وَقِيلَ مَا لَبِثُوا فِي الْقُبُورِ، وَقِيلَ مَا لَبِثُوا مِنْ وَقْتِ فَنَاءِ الدُّنْيَا إِلَى وَقْتِ النُّشُورِ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ يُصْرَفُونَ مِنَ الْحَقِّ إلى الباطل ومن الصدق إلى الكذب. [سورة الروم (30) : آية 56] وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) قَوْلُهُ: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ وَنَحْنُ نُبَيِّنُ مَا هُوَ الْمَعْنَى اللَّطِيفُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، فَنَقُولُ الْمَوْعُودُ بِوَعْدٍ إِذَا ضُرِبَ لَهُ أَجَلٌ يَسْتَكْثِرُ الْأَجَلَ وَيُرِيدُ تَعْجِيلَهُ، وَالْمُوعَدُ بِوَعِيدٍ إِذَا ضُرِبَ لَهُ أَجَلٌ يَسْتَقِلُّ الْمُدَّةَ وَيُرِيدُ تَأْخِيرَهَا، لَكِنَّ الْمُجْرِمَ إِذَا حُشِرَ عَلِمَ أَنَّ مَصِيرَهُ إِلَى النَّارِ فَيَسْتَقِلُّ مُدَّةَ اللُّبْثِ وَيَخْتَارُ تَأْخِيرَ الْحَشْرِ وَالْإِبْقَاءَ فِي الْقَبْرِ، وَالْمُؤْمِنَ إِذَا حُشِرَ عَلِمَ أَنَّ مَصِيرَهُ إِلَى الْجَنَّةِ فَيَسْتَكْثِرُ الْمُدَّةَ وَلَا يُرِيدُ التَّأْخِيرَ فَيَخْتَلِفُ الْفَرِيقَانِ وَيَقُولُ أَحَدُهُمَا إِنَّ مُدَّةَ لُبْثِنَا قَلِيلٌ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ وَيَقُولُ الْآخَرُ لَبِثْنَا مَدِيدًا وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ يعني كان في كاتب اللَّهِ ضَرْبُ الْأَجَلِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ وَنَحْنُ صَبَرْنَا إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ يَعْنِي طَلَبَكُمُ التَّأْخِيرَ، لِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ الْبَعْثَ وَلَا تَعْتَرِفُونَ بِهِ، فَصَارَ مَصِيرُكُمْ إِلَى النَّارِ فَتَطْلُبُونَ التَّأْخِيرَ. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : آية 57] فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) أَيْ لَا يُطْلَبُ مِنْهُمُ الْإِعْتَابُ وَهُوَ إِزَالَةُ الْعَتْبِ يَعْنِي التَّوْبَةُ الَّتِي تُزِيلُ آثَارَ الْجَرِيمَةِ لَا تُطْلَبُ مِنْهُمْ لِأَنَّهَا لَا تقبل منهم. ثم قال تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 58 الى 60] وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60) قوله تَعَالَى: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ إِشَارَةٌ إِلَى إِزَالَةِ الْأَعْذَارِ وَالْإِتْيَانِ بِمَا فَوْقَ الْكِفَايَةِ مِنَ الْإِنْذَارِ، وَإِلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ جَانِبِ الرَّسُولِ تَقْصِيرٌ، فَإِنْ طَلَبُوا شَيْئًا آخَرَ فَذَلِكَ عِنَادٌ وَمَنْ هَانَ عَلَيْهِ تَكْذِيبُ دَلِيلٍ لَا يَصْعُبُ عَلَيْهِ تَكْذِيبُ الدَّلَائِلِ، بَلْ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يشرع في دليل/ آخر بعد ما ذَكَرَ دَلِيلًا جَيِّدًا مُسْتَقِيمًا ظَاهِرًا لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَعَانَدَهُ الْخَصْمُ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِوُرُودِ سُؤَالِ الْخَصْمِ عَلَيْهِ أَوْ لَا يَعْتَرِفُ، فَإِنِ اعْتَرَفَ يَكُونُ انْقِطَاعًا وَهُوَ يَقْدَحُ فِي الدَّلِيلِ أَوِ الْمُسْتَدِلِّ، إِمَّا بِأَنَّ الدَّلِيلَ فَاسِدٌ، وَإِمَّا بِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ جَاهِلٌ بِوَجْهِ الدَّلَالَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ الِاعْتِرَافُ بِهِ مِنَ الْعَالِمِ فَكَيْفَ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ يَكُونُ الشُّرُوعُ فِي غَيْرِهِ مُوهِمًا أَنَّ الْخَصْمَ لَيْسَ مُعَانِدًا فَيَكُونُ اجْتِرَاؤُهُ عَلَى الْعِنَادِ فِي الثَّانِي أَكْثَرَ لِأَنَّهُ يَقُولُ الْعِنَادُ أَفَادَ فِي الْأَوَّلِ حَيْثُ الْتَزَمَ ذِكْرَ دَلِيلٍ آخَرَ. فَإِنْ قِيلَ فَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ذَكَرُوا أَنْوَاعًا مِنَ الدَّلَائِلِ، نَقُولُ

سَرَدُوهَا سَرْدًا، ثُمَّ قَرَّرُوهَا فَرْدًا فَرْدًا، كَمَنْ يَقُولُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ كَذَا، وَالثَّانِي كَذَا، وَالثَّالِثُ كَذَا، وَفِي مِثْلِ هَذَا الْوَاجِبِ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى عِنَادِ الْمُعَانِدِ لِأَنَّهُ يَزِيدُهُ بِعِنَادِهِ حَتَّى يَضِيعَ الْوَقْتُ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَدِلُّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ مَا وَعَدَ مِنَ الدَّلَائِلِ فَتَنْحَطُّ دَرَجَتُهُ فَإِذَنْ لِكُلِّ مَكَانٍ مَقَالٌ. وَإِلَى هَذَا وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ وَفِي تَوْحِيدِ الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ: وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ وَالْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ أَنْتُمْ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَاءَ بِهَا يَقُولُونَ أَنْتُمْ كُلُّكُمْ أَيُّهَا الْمُدَّعُونَ لِلرِّسَالَةِ مُبْطِلُونَ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ بِطَبْعِ اللَّهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ فَإِنْ قِيلَ مَنْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا أَيَّةُ فَائِدَةٍ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الطَّبْعِ عَلَى قَلْبِهِ؟ نَقُولُ الْمَعْنَى هُوَ أَنَّ مَنْ لَا يَعْلَمُ الْآنَ فَقَدْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ قَبْلُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى سَلَّى قَلْبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أَيْ أَنَّ صِدْقَكَ يُبَيَّنُ وَقَوْلُهُ: وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ إِشَارَةٌ إِلَى وُجُوبِ مُدَاوَمَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ لَوْ سَكَتَ لَقَالَ الْكَافِرُ إِنَّهُ مُتَقَلِّبُ الرَّأْيِ، لَا ثَبَاتَ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أجمعين.

سورة لقمان عليه السلام

سورة لقمان عليه السلام مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا إِلَّا آيَتَيْنِ نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ وَهُمَا وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ الْآيَتَيْنِ وَإِلَّا آيَةً نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ ثَلَاثٌ وَقِيلَ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ آيَةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم [سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) وَجْهُ ارْتِبَاطِ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِآخِرِ مَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الرُّومِ: 58] إِشَارَةً إِلَى كَوْنِهِ مُعْجِزَةً وَقَالَ: وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ [الرُّومِ: 58] إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِالْآيَاتِ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بَعْدَ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً [لقمان: 7] . [سورة لقمان (31) : الآيات 3 الى 5] هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) فَقَوْلُهُ هُدىً أَيْ بَيَانًا وَفُرْقَانًا، وَأَمَّا التَّفْسِيرُ فَمِثْلُ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الم ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً [الْبَقَرَةِ: 1، 2] وَكَمَا قِيلَ هُنَاكَ إِنَّ الْمَعْنَى بِذَلِكَ هَذَا، كَذَلِكَ قِيلَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ هَذِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ كَمَا قُلْنَا هُنَاكَ إِنَّ تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْغَائِبِ مَعْنَاهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ وَعِنْدَ إِنْزَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ مَعَ الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ لَمْ تَكُنْ جَمِيعُ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فَقَالَ تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْكُلِّ أَيْ آيَاتُ الْقُرْآنِ تِلْكَ آيَاتٌ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ذلِكَ الْكِتابُ وَلَمْ يَقُلِ الْحَكِيمُ، وَهَاهُنَا قَالَ الْحَكِيمِ فَلَمَّا زَادَ ذِكْرَ وَصْفِ الْكِتَابِ زَادَ ذِكْرَ أَمْرٍ فِي أَحْوَالِهِ فَقَالَ: هُدىً وَرَحْمَةً وَقَالَ هُنَاكَ/ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فَقَوْلُهُ:

[سورة لقمان (31) : آية 6]

هُدىً فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: الْكِتابِ وَقَوْلُهُ: وَرَحْمَةً فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: الْحَكِيمِ وَوَصْفُ الْكِتَابِ بِالْحَكِيمِ عَلَى مَعْنَى ذِي الْحِكْمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: 21] أَيْ ذَاتِ رِضًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ هُنَاكَ لِلْمُتَّقِينَ وَقَالَ هَاهُنَا لِلْمُحْسِنِينَ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ هُدًى وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا آخَرَ قَالَ: لِلْمُتَّقِينَ أَيْ يَهْتَدِي بِهِ مَنْ يَتَّقِي الشِّرْكَ وَالْعِنَادَ وَالتَّعَصُّبَ، وَيَنْظُرُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ عِنَادٍ، وَلَمَّا زَادَ هَاهُنَا رَحْمَةً قَالَ: لِلْمُحْسِنِينَ أَيِ الْمُتَّقِينَ الشِّرْكَ وَالْعِنَادَ الْآتِينَ بِكَلِمَةِ الْإِحْسَانِ فَالْمُحْسِنُ هُوَ الْآتِي بِالْإِيمَانِ وَالْمُتَّقِي هُوَ التَّارِكُ لِلْكُفْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النَّحْلِ: 128] وَمِنْ جَانِبِ الْكُفْرِ كَانَ مُتَّقِيًا وَلَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ كَانَ مُحْسِنًا وَلَهُ الزِّيَادَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُسَ: 26] وَلِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ رَحْمَةٌ قَالَ: لِلْمُحْسِنِينَ لِأَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ هُنَاكَ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ [الْبَقَرَةِ: 3] وَقَالَ هَاهُنَا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَلَمْ يَقُلْ يُؤْمِنُونَ لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُتَّقِيَ هُوَ التَّارِكُ لِلْكُفْرِ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا وَالْمُحْسِنُ هُوَ الْآتِي بِحَقِّ الْإِيمَانِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَكُونَ كَافِرًا، فَلَمَّا كَانَ الْمُتَّقِي دَالًّا عَلَى الْمُؤْمِنِ فِي الِالْتِزَامِ صَرَّحَ بِالْإِيمَانِ هُنَاكَ تَبْيِينًا وَلَمَّا كَانَ الْمُحْسِنُ دَالًّا عَلَى الْإِيمَانِ بِالتَّنْصِيصِ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِيمَانِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ قَدْ ذَكَرْنَا مَا فِي الصَّلَاةِ وَإِقَامَتِهَا مِرَارًا وَمَا فِي الزَّكَاةِ وَالْقِيَامِ بِهَا، وَذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ الْأَنْفَالِ فِي أَوَائِلِهَا أَنَّ الصَّلَاةَ تَرْكُ التَّشَبُّهِ بِالسَّيِّدِ فَإِنَّهَا عِبَادَةُ صُورَةٍ وَحَقِيقَةٍ وَاللَّهُ تَعَالَى تَجِبُ لَهُ الْعِبَادَةُ وَلَا تَجُوزُ عَلَيْهِ الْعِبَادَةُ، وَتَرْكُ التَّشَبُّهِ لَازِمٌ عَلَى الْعَبْدِ أَيْضًا فِي أُمُورٍ فَلَا يَجْلِسُ عِنْدَ جُلُوسِهِ وَلَا يَتَّكِئُ عِنْدَ اتِّكَائِهِ، وَالزَّكَاةُ تَشَبَّهٌ بِالسَّيِّدِ فَإِنَّهَا دَفْعُ حَاجَةِ الْغَيْرِ وَاللَّهُ دَافِعُ الْحَاجَاتِ، وَالتَّشَبُّهُ لَازِمٌ عَلَى الْعَبْدِ أَيْضًا فِي أُمُورٍ، كَمَا أَنَّ عَبْدَ الْعَالِمِ لَا يَتَلَبَّسُ بِلِبَاسِ الْأَجْنَادِ، وَعَبْدَ الْجُنْدِيِّ لَا يتلبس بلباس الزهاد، وبهما تتم العبودية. ثم قال تعالى: [سورة لقمان (31) : آية 6] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ حَكِيمٌ يَشْتَمِلُ عَلَى آيَاتٍ حُكْمِيَّةٍ بَيَّنَ مِنْ حَالِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ ذَلِكَ وَيَشْتَغِلُونَ بِغَيْرِهِ، ثُمَّ إِنَّ فِيهِ مَا يُبَيِّنُ سُوءَ صَنِيعِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ تَرْكَ الْحِكْمَةِ وَالِاشْتِغَالَ بِحَدِيثٍ آخَرَ قَبِيحٌ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ إِذَا كَانَ لَهْوًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ كَانَ أَقْبَحَ/ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ اللَّهْوَ قَدْ يُقْصَدُ بِهِ الْإِحْمَاضُ كَمَا يُنْقَلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ أَحَمِضُوا وَنُقِلَ عَنِ النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «رَوِّحُوا الْقُلُوبَ سَاعَةً فَسَاعَةً» رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا وَيَشْهَدُ لَهُ مَا فِي مُسْلِمٍ «يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً» وَالْعَوَامُّ يَفْهَمُونَ مِنْهُ الْأَمْرَ بِمَا يَجُوزُ مِنَ الْمُطَايَبَةِ، وَالْخَوَاصُّ يَقُولُونَ هُوَ أَمْرٌ بِالنَّظَرِ إِلَى جَانِبِ الْحَقِّ فَإِنَّ التَّرْوِيحَ بِهِ لَا غَيْرُ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمْ إِلَّا الْإِضْلَالَ لِقَوْلِهِ: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ فِعْلُهُ أَدْخَلَ فِي الْقُبْحِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بِغَيْرِ عِلْمٍ عَائِدٌ إِلَى الشِّرَاءِ أَيْ يَشْتَرِي بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا أَيْ يَتَّخِذُ السَّبِيلَ هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ قَوْلُهُ: مُهِينٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَمْرٍ يُفْهَمُ مِنْهُ الدَّوَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا أَمَرَ بِتَعْذِيبِ عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ، فَالْجَلَّادُ إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مِمَّنْ يَعُودُ إِلَى خِدْمَةِ الْمَلِكِ وَلَا يَتْرُكُهُ الْمَلِكُ فِي الْحَبْسِ يُكْرِمُهُ وَيُخَفِّفُ مِنْ تَعْذِيبِهِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَأَمْرُهُ قَدِ انْقَضَى، فَإِنَّهُ لَا يُكْرِمُهُ. فَقَوْلُهُ: عَذابٌ مُهِينٌ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا وَبِهِ يُفَرَّقُ

[سورة لقمان (31) : آية 7]

بَيْنَ عَذَابِ الْمُؤْمِنِ وَعَذَابِ الْكَافِرِ، فَإِنَّ عَذَابَ المؤمن ليطهر فهو غير مهين ثم قال تعالى: [سورة لقمان (31) : آية 7] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) أَيْ يَشْتَرِي الْحَدِيثَ الْبَاطِلَ، وَالْحَقُّ الصُّرَاحُ يَأْتِيهِ مَجَّانًا يُعْرِضُ عَنْهُ، وَإِذَا نَظَرْتَ فِيهِ فَهِمْتَ حُسْنَ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُشْتَرِي يَطْلُبُ الْمُشْتَرَى مَعَ أَنَّهُ يَطْلُبُهُ بِبَذْلِ الثَّمَنِ، وَمَنْ يَأْتِيهِ الشَّيْءُ لَا يَطْلُبُهُ وَلَا يَبْذُلُ شَيْئًا، ثُمَّ إِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَطْلُبَ الْعَاقِلُ الْحِكْمَةَ بِأَيِّ شَيْءٍ يَجِدُهُ وَيَشْتَرِيهَا، وَهُمْ مَا كَانُوا يَطْلُبُونَهَا، وَإِذَا جَاءَتْهُمْ مَجَّانًا مَا كَانُوا يَسْمَعُونَهَا، ثُمَّ إِنَّ فِيهِ أَيْضًا مَرَاتِبَ الْأُولَى: التَّوْلِيَةُ عَنِ الْحِكْمَةِ وَهُوَ قَبِيحٌ وَالثَّانِي: الِاسْتِكْبَارُ، وَمَنْ يَشْتَرِي حِكَايَةَ رُسْتُمَ وَبَهْرَامَ وَيَحْتَاجُ إِلَيْهَا كَيْفَ يَكُونُ مُسْتَغْنِيًا عَنِ الْحِكْمَةِ حَتَّى يَسْتَكْبِرَ عَنْهَا؟ وَإِنَّمَا يَسْتَكْبِرُ الشَّخْصُ عَنِ الْكَلَامِ وَإِذَا كَانَ يَقُولُ أَنَا أَقُولُ مِثْلَهُ، فَمَنْ لَا يَقْدِرُ يَصْنَعُ مِثْلَ تِلْكَ الْحِكَايَاتِ الْبَاطِلَةِ كَيْفَ يَسْتَكْبِرُ عَلَى الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ الَّتِي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها شُغْلُ الْمُتَكَبِّرِ الَّذِي لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْكَلَامِ وَيَجْعَلُ نَفْسَهُ كَأَنَّهَا غَافِلَةٌ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً أَدْخَلُ فِي الْإِعْرَاضِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي له عذاب مهين بشره أَنْتَ بِهِ وَأَوْعِدْهُ، أَوْ يُقَالُ إِذَا كَانَ حاله هذا فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. [سورة لقمان (31) : الآيات 8 الى 9] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) لَمَّا بَيَّنَ حَالَ مَنْ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ الْآيَاتُ وَلَّى، بَيَّنَ حَالَ مَنْ يُقْبِلُ عَلَى تِلْكَ الْآيَاتِ وَيَقْبَلُهَا وَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ لَهُ مَرَاتِبُ مِنَ التَّوْلِيَةِ وَالِاسْتِكْبَارِ، فَهَذَا لَهُ مَرَاتِبُ مِنَ الْإِقْبَالِ وَالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ، فَإِنَّ مَنْ سَمِعَ شَيْئًا وَقَبِلَهُ قَدْ لَا يَعْمَلُ بِهِ فَلَا تَكُونُ دَرَجَتُهُ مِثْلَ مَنْ يَسْمَعُ وَيُطِيعُ ثُمَّ إِنَّ هَذَا لَهُ جَنَّاتُ النَّعِيمِ وَلِذَلِكَ عَذَابٌ مُهِينٌ وَفِيهِ لَطَائِفُ: إِحْدَاهَا: تَوْحِيدُ الْعَذَابِ وَجَمْعُ الْجَنَّاتِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ وَاسِعَةٌ أَكْثَرُ مِنَ الْغَضَبِ الثَّانِيَةُ: تَنْكِيرُ الْعَذَابِ وَتَعْرِيفُ الْجَنَّةِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمُعَرَّفِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الرَّحِيمَ يُبَيِّنُ النِّعْمَةَ وَيُعَرِّفُهَا إِيصَالًا لِلرَّاحَةِ إِلَى الْقَلْبِ، وَلَا يُبَيِّنُ النِّقْمَةَ، وَإِنَّمَا يُنَبِّهُ عَلَيْهَا تَنْبِيهًا الثَّالِثَةُ: قَالَ عَذَابٌ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُمْ فِيهِ خَالِدُونَ، وَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَى الْخُلُودِ بِقَوْلِهِ: مُهِينٌ وَصَرَّحَ فِي الثَّوَابِ بِالْخُلُودِ بِقَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها، الرَّابِعَةُ: أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَلَمْ يَذْكُرْهُ هُنَاكَ الْخَامِسَةُ: قَالَ هُنَاكَ لِغَيْرِهِ فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ وَقَالَ هَاهُنَا بِنَفْسِهِ وَعْدَ اللَّهِ، ثُمَّ لَمْ يَقُلْ أُبَشِّرُكُمْ بِهِ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِأَعْظَمِ مَا يَكُونُ، لَكِنَّ الْجَنَّةَ دُونَ مَا يَكُونُ لِلصَّالِحِينَ بِشَارَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ بِشَارَتُهُمْ مِنْهُ بِرَحْمَتِهِ وَرِضْوَانِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ [التوبة: 21] وَلَوْلَا قَوْلُهُ: مِنْهُ لَمَا عَظُمَتِ الْبِشَارَةُ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْهُ مَقْرُونَةً بِأَمْرٍ دُونَ الْجَنَّةِ لَكَانَ ذَلِكَ فَوْقَ الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ بَشَّرَ بِنَفْسِ الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ: وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فُصِّلَتْ: 30] نَقُولُ الْبِشَارَةُ هُنَاكَ لَمْ تَكُنْ بِالْجَنَّةِ وَحْدَهَا، بَلْ بِهَا وَبِمَا ذُكِرَ بَعْدَهَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فُصِّلَتْ: 32] وَالنُّزُلُ مَا يُهَيَّأُ عِنْدَ النُّزُولِ وَالْإِكْرَامِ الْعَظِيمِ بَعْدَهُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ كَامِلُ الْقُدْرَةِ يُعَذِّبُ الْمُعْرِضَ وَيُثِيبُ الْمُقْبِلَ، كَامِلُ الْعِلْمِ يَفْعَلُ الْأَفْعَالَ كَمَا يَنْبَغِي، فَلَا يُعَذِّبُ مَنْ يُؤْمِنُ وَلَا يُثِيبُ مَنْ يَكْفُرُ. [سورة لقمان (31) : آية 10] خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها. بَيَّنَ عِزَّتَهُ وَحِكْمَتَهُ بِقَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ اختلف قول العلماء في السموات فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مَبْسُوطَةٌ كَصَفِيحَةٍ مُسْتَوِيَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مُسْتَدِيرَةٌ وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ الْمُهَنْدِسِينَ، وَالْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ نَحْنُ نُوَافِقُهُمْ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا دَلِيلًا مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ وَمُخَالَفَةُ الْحِسِّ لَا تَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَابِ خَبَرٌ نُؤَوِّلُهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ، فَضْلًا مِنْ أَنَّ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ صَرِيحًا، بَلْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ/ يَسْبَحُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 33] وَالْفَلَكُ اسْمٌ لِشَيْءٍ مُسْتَدِيرٍ، بَلِ الواجب أن يقال بأن السموات سَوَاءٌ كَانَتْ مُسْتَدِيرَةً أَوْ مُصَفَّحَةً فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ لَا مَوْجُودَةٌ بِإِيجَابٍ وَطَبْعٍ، وَإِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ السَّمَاءُ فِي مَكَانٍ وَهُوَ فَضَاءٌ وَالْفَضَاءُ لَا نِهَايَةَ لَهُ وَكَوْنُ السَّمَاءُ فِي بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ لَيْسَ إِلَّا بِقُدْرَةٍ مُخْتَارَةٍ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: بِغَيْرِ عَمَدٍ أَيْ لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ يَمْنَعُهَا الزَّوَالَ مِنْ مَوْضِعِهَا وَهِيَ لَا تَزُولُ إِلَّا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وقال بعضهم المعنى أن السموات بِأَسْرِهَا وَمَجْمُوعِهَا لَا مَكَانَ لَهَا لِأَنَّ الْمَكَانَ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ مَا فِيهِ فَيَكُونُ مُتَمَكِّنًا وَالْحَيِّزُ مَا يُشَارُ إِلَى مَا فِيهِ بِسَبَبِهِ يقال هاهنا وهناك وعلى هَذَا قَالُوا إِنَّ مَنْ يَقَعُ مِنْ شَاهِقِ جَبَلٍ فَهُوَ فِي الْهَوَاءِ فِي حَيِّزٍ إِذْ يُقَالُ لَهُ هُوَ هَاهُنَا وَهُنَاكَ، وَلَيْسَ فِي مَكَانٍ إِذْ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى شَيْءٍ، فَإِذَا حَصَلَ عَلَى الْأَرْضِ حَصَلَ فِي مَكَانٍ، إِذَا علم هذا فالسماوات ليست فِي مَكَانٍ تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فَلَا عَمَدَ لَهَا وَقَوْلُهُ: تَرَوْنَها فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَاجِعٌ إلى السموات أَيْ لَيْسَتْ هِيَ بِعَمَدٍ وَأَنْتُمْ تَرَوْنَهَا كَذَلِكَ بِغَيْرِ عَمَدٍ وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْعَمَدِ أَيْ بِغَيْرِ عَمَدٍ مَرْئِيَّةٍ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ عَمَدٌ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ فَهِيَ قُدْرَةُ اللَّهِ وَإِرَادَتُهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ. أَيْ جِبَالًا رَاسِيَةً ثَابِتَةً أَنْ تَمِيدَ أَيْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَمِيدَ وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنْ لَا تَمِيدَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَرْضَ ثَبَاتُهَا بِسَبَبِ ثِقَلِهَا، وَإِلَّا كَانَتْ تَزُولُ عَنْ مَوْضِعِهَا بِسَبَبِ الْمِيَاهِ وَالرِّيَاحِ، وَلَوْ خَلَقَهَا مِثْلَ الرَّمْلِ لَمَا كَانَتْ تَثْبُتُ لِلزِّرَاعَةِ كَمَا نَرَى الْأَرَاضِيَ الرَّمْلَةَ يَنْتَقِلُ الرَّمْلُ الَّذِي فِيهَا مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ أَيْ سُكُونُ الْأَرْضِ فِيهِ مَصْلَحَةُ حَرَكَةِ الدَّوَابِّ فَأَسْكَنَّا الْأَرْضَ وَحَرَّكْنَا الدَّوَابَّ وَلَوْ كَانَتِ الْأَرْضُ مُتَزَلْزِلَةً وَبَعْضُ الْأَرَاضِي يُنَاسِبُ بَعْضَ الْحَيَوَانَاتِ لَكَانَتِ الدَّابَّةُ الَّتِي لَا تَعِيشُ فِي مَوْضِعٍ تَقَعُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيَكُونُ فِيهِ هَلَاكُ الدَّوَابِّ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ سَاكِنَةً وَالْحَيَوَانَاتُ مُتَحَرِّكَةً تَتَحَرَّكُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُنَاسِبُهَا وَتَرْعَى فِيهَا وَتَعِيشُ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً هَذِهِ نِعْمَةٌ أُخْرَى أَنْعَمَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَتَمَامُهَا بِسُكُونِ الْأَرْضِ لِأَنَّ الْبَذْرَ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ إِلَى أَنْ يَنْبُتَ لَمْ يَكُنْ يَحْصُلُ الزَّرْعُ وَلَوْ كَانَتْ أَجْزَاءُ الْأَرْضِ مُتَحَرِّكَةً كَالرَّمْلِ لَمَا حَصَلَ الثَّبَاتُ وَلَمَا كَمُلَ النَّبَاتُ، وَالْعُدُولُ مِنَ الْمُغَايَبَةِ إِلَى النَّفْسِ فِيهِ فَصَاحَةٌ وَحِكْمَةٌ، أَمَّا الْفَصَاحَةُ فَمَذْكُورَةٌ فِي بَابِ الِالْتِفَاتِ مِنْ أَنَّ السَّامِعَ إِذَا سَمِعَ كَلَامًا طَوِيلًا مِنْ نَمَطٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ وَرَدَ عَلَيْهِ نَمَطٌ آخَرُ يَسْتَطْيِبُهُ أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ قَالَ زَيْدٌ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ خَالِدٌ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ عَمْرٌو كَذَا ثُمَّ إِنَّ/ بَكْرًا قَالَ قَوْلًا حَسَنًا يُسْتَطَابُ لِمَا قَدْ تَكَرَّرَ الْقَوْلُ مِرَارًا. وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ ثَقِيلٌ، وَالسَّمَاءُ فِي غَيْرِ مَكَانٍ قَدْ يَقَعُ لِجَاهِلٍ أَنَّهُ بِالطَّبْعِ، وَبَثُّ الدَّوَابِّ يَقَعُ لِبَعْضِهِمْ أَنَّهُ بِاخْتِيَارِ الدَّابَّةِ، لِأَنَّ لَهَا اختيار، فَنَقُولُ الْأَوَّلُ طَبِيعِيٌّ وَالْآخَرُ

[سورة لقمان (31) : آية 11]

اخْتِيَارِيٌّ لِلْحَيَوَانِ، وَلَكِنْ لَا يَشُكُّ أَحَدٌ فِي أَنَّ الْمَاءَ فِي الْهَوَاءِ مِنْ جِهَةِ فَوْقٍ لَيْسَ طَبْعًا فَإِنَّ الْمَاءَ لَا يَكُونُ بِطَبْعِهِ فَوْقَ وَلَا اخْتِيَارًا، إِذِ الْمَاءُ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فَهُوَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ إِنْزَالَ الْمَاءِ نِعْمَةٌ ظَاهِرَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ، مُتَكَثِّرَةٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَأَسْنَدَهُ إِلَى نَفْسِهِ صَرِيحًا لِيَتَنَبَّهَ الْإِنْسَانُ لِشُكْرِ نِعْمَتِهِ فَيُزِيدَ لَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أَيْ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ، وَكُلُّ جِنْسٍ فَتَحْتَهُ زَوْجَانِ، لِأَنَّ النَّبَاتَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَجَرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ شَجَرٍ، وَالَّذِي هُوَ الشَّجَرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُثْمِرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُثْمِرٍ، وَالْمُثْمِرُ كَذَلِكَ يَنْقَسِمُ قسمين، وقوله تعالى: كَرِيمٍ أَيْ ذِي كَرَمٍ، لِأَنَّهُ يَأْتِي كَثِيرًا مِنْ غير حساب أو مكرم مثل بغض للمبغض. ثم قال تعالى: [سورة لقمان (31) : آية 11] هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يَعْنِي اللَّهُ خَالِقٌ وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِخَالِقٍ فَكَيْفَ تَتْرُكُونَ عِبَادَةَ الْخَالِقِ وَتَشْتَغِلُونَ بِعِبَادَةِ الْمَخْلُوقِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ بَيِّنٍ أَوْ مُبِينٍ لِلْعَاقِلِ أَنَّهُ ضَلَالٌ، وَهَذَا لِأَنَّ تَرْكَ الطَّرِيقِ وَالْحَيْدَ عَنْهُ ضَلَالٌ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْحَيْدُ يُمْنَةً أَوْ يُسْرَةً فَهُوَ لَا يَبْعُدُ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ مِثْلُ مَا يَكُونُ الْمَقْصِدُ إِلَى وَرَاءٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَايَةَ الضَّلَالِ، فَالْمَقْصِدُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَمَنْ يَطْلُبْهُ وَيَلْتَفِتْ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الدُّنْيَا وَغَيْرِهَا فَهُوَ ضَالٌّ، لَكِنَّ مَنْ وَجْهُهُ إِلَى اللَّهِ قَدْ يَصِلُ إِلَى الْمَقْصُودِ وَلَكِنْ بَعْدَ تَعَبٍ وَطُولِ مُدَّةٍ، وَمَنْ يطلبه ولا يلتفت إلى ما سواه يكون كَالَّذِي عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ يَصِلُ عَنْ قَرِيبٍ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ. وَأَمَّا الَّذِي تَوَلَّى لَا يَصِلُ إِلَى الْمَقْصُودِ أَصْلًا، وَإِنْ دَامَ فِي السَّفَرِ، وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ الْمُشْرِكُونَ الْوَاضِعُونَ لِعِبَادَتِهِمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا أَوِ الْوَاضِعُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي عِبَادَةِ غير الله. ثم قال تعالى: [سورة لقمان (31) : آية 12] وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ فَسَادَ اعْتِقَادِهِمْ بِسَبَبِ عِنَادِهِمْ/ بِإِشْرَاكِ مَنْ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا بِمَنْ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِقَوْلِهِ: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَبَيَّنَ أَنَّ الْمُشْرِكَ ظَالِمٌ ضَالٌّ، ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ضَلَالَهُمْ وَظُلْمَهُمْ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نُبُوَّةٌ وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنًى، وَهُوَ أَنَّ اتِّبَاعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَازِمٌ فِيمَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ إِظْهَارًا لِلتَّعَبُّدِ فَكَيْفَ مَا لَا يَخْتَصُّ بِالنُّبُوَّةِ، بَلْ يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ مَعْنَاهُ وَمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُدْرَكٌ بِالْحِكْمَةِ وَذَكَرَ حِكَايَةَ لُقْمَانَ وَأَنَّهُ أَدْرَكَهُ بِالْحِكْمَةِ وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ عِبَارَةٌ عَنْ تَوْفِيقِ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ، فَكُلُّ مَنْ أُوتِيَ تَوْفِيقَ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ فَقَدْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ، وَإِنْ أَرَدْنَا تَحْدِيدَهَا بِمَا يَدْخُلُ فِيهِ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى، فنقول حصول العلم عَلَى وَفْقِ الْمَعْلُومِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ تَعَلَّمَ شَيْئًا وَلَا يَعْلَمُ مَصَالِحَهُ وَمَفَاسِدَهُ لَا يُسَمَّى حَكِيمًا وَإِنَّمَا يَكُونُ مَبْخُوتًا، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ يُلْقِي نَفْسَهُ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ وَوَقَعَ عَلَى مَوْضِعٍ فَانْخَسَفَ بِهِ وَظَهَرَ لَهُ كَنْزٌ وَسَلِمَ لَا يُقَالُ إِنَّهُ حَكِيمٌ، وَإِنْ ظَهَرَ لِفِعْلِهِ مَصْلَحَةٌ وَخُلُوٌّ عَنْ مَفْسَدَةٍ، لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهِ أَوَّلًا، وَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْإِلْقَاءَ فِيهِ إِهْلَاكُ النَّفْسِ وَيُلْقِي نَفْسَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَتَنْكَسِرُ أَعْضَاؤُهُ لَا يُقَالُ إِنَّهُ حَكِيمٌ وَإِنْ عَلِمَ مَا يَكُونُ فِي فِعْلِهِ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى:

[سورة لقمان (31) : آية 13]

أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ فَإِنَّ أَنْ فِي مِثْلِ هَذَا تُسَمَّى الْمُفَسِّرَةَ فَفَسَّرَ اللَّهُ إِيتَاءَ الْحِكْمَةِ بِقَوْلِهِ: أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُقَالُ إِنَّ الْعَمَلَ مُوَافِقٌ لِلْعِلْمِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَهَمُّ مِنَ الْآخَرِ، فَإِنِ اشْتَغَلَ بِالْأَهَمِّ كَانَ عَمَلُهُ مُوَافِقًا لِعِلْمِهِ وَكَانَ حِكْمَةً، وَإِنْ أَهْمَلَ الْأَهَمَّ كَانَ مُخَالِفًا لِلْعِلْمِ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي شَيْءٍ، لَكِنَّ شُكْرَ اللَّهِ أَهَمُّ الْأَشْيَاءِ فَالْحِكْمَةُ أَوَّلُ مَا تَقْتَضِي، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ بِالشُّكْرِ لَا يَنْتَفِعُ إِلَّا الشَّاكِرُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَبَيَّنَ أَنَّ بِالْكُفْرَانِ لَا يَتَضَرَّرُ غَيْرُ الْكَافِرِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أَيِ اللَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى شُكْرٍ حَتَّى يَتَضَرَّرَ بِكُفْرَانِ الْكَافِرِ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مَحْمُودٌ سَوَاءٌ شَكَرَهُ النَّاسُ أَوْ لَمْ يَشْكُرُوهُ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ وَلَطَائِفُ الْأُولَى: فَسَّرَ اللَّهُ إِيتَاءَ الْحِكْمَةِ بِالْأَمْرِ بِالشُّكْرِ، لَكِنَّ الْكَافِرَ وَالْجَاهِلَ مَأْمُورَانِ بِالشُّكْرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَدْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ أَمْرُ تَكْوِينٍ مَعْنَاهُ آتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ بِأَنْ جَعَلْنَاهُ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَفِي الْكَافِرِ الْأَمْرُ بِالشُّكْرِ أَمْرُ تَكْلِيفٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ فِي الشُّكْرِ وَمَنْ يَشْكُرْ بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَفِي الْكُفْرَانِ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ يَجْعَلُ الْمَاضِيَ وَالْمُسْتَقْبَلَ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَهُوَ حُرٌّ، وَمَنْ يَدْخُلْ دَارِي فَهُوَ حُرٌّ، فَنَقُولُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنًى وَإِرْشَادٌ إِلَى أَمْرٍ، وَهُوَ أَنَّ الشُّكْرَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَكَرَّرَ فِي كُلِّ وَقْتٍ لِتَكَرُّرِ النِّعْمَةِ، فَمَنْ شَكَرَ يَنْبَغِي أَنْ يُكَرِّرَ، وَالْكُفْرُ يَنْبَغِي أَنْ يَنْقَطِعَ فَمَنْ كَفَرَ يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ الْكُفْرَانَ، وَلِأَنَّ الشُّكْرَ مِنَ الشَّاكِرِ لَا يَقَعُ بِكَمَالِهِ، بَلْ أَبَدًا يَكُونُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْعَدَمِ يُرِيدُ الشَّاكِرُ إِدْخَالَهُ فِي الْوُجُودِ، كَمَا قَالَ: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ [النَّمْلِ: 19] وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [النمل: 18] فَأَشَارَ إِلَيْهِ بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الشُّكْرَ بِكَمَالِهِ لَمْ يُوجَدْ وَأَمَّا الْكُفْرَانُ فَكُلُّ جُزْءٍ يَقَعُ مِنْهُ تَامٌّ، فَقَالَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ تَعَالَى هُنَا: وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ بِتَقْدِيمِ الشُّكْرِ عَلَى الْكُفْرَانِ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الرُّومِ: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [الروم: 44] فَنَقُولُ هُنَاكَ كَانَ الذِّكْرُ لِلتَّرْهِيبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ قَبْلُ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الرُّومِ: 43] وَهَاهُنَا الذِّكْرُ لِلتَّرْغِيبِ، لِأَنَّ وَعْظَ الْأَبِ لِلِابْنِ يَكُونُ بِطَرِيقِ اللُّطْفِ وَالْوَعْدِ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً يُحَقِّقُ مَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي سُورَةِ الرُّومِ لَمَّا كَانَ بَعْدَ الْيَوْمِ الَّذِي لَا مَرَدَّ لَهُ تَكُونُ الْأَعْمَالُ قَدْ سَبَقَتْ فَقَالَ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَمَنْ عَمِلَ وَهَاهُنَا لَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ فِي الِابْتِدَاءِ قَالَ وَمَنْ يَشْكُرْ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ وَقَوْلُهُ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ حَمْدِ الْحَامِدِينَ، حَمِيدٌ فِي ذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ حَمْدِهِمْ، وَإِنَّمَا الْحَامِدُ تَرْتَفِعُ مَرْتَبَتُهُ بِكَوْنِهِ حامدا لله تعالى. ثم قال تعالى: [سورة لقمان (31) : آية 13] وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) عَطْفٌ عَلَى مَعْنَى مَا سَبَقَ وَتَقْدِيرُهُ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ حِينَ جَعَلْنَاهُ شَاكِرًا فِي نَفْسِهِ وَحِينَ جَعَلْنَاهُ وَاعِظًا لِغَيْرِهِ وَهَذَا لِأَنَّ عُلُوَّ مَرْتَبَةِ الْإِنْسَانِ بِأَنْ يَكُونَ كَامِلًا فِي نَفْسِهِ وَمُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ فَقَوْلُهُ: أَنِ اشْكُرْ إِشَارَةٌ إِلَى الْكَمَالِ وَقَوْلُهُ: وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ إِشَارَةٌ إِلَى التَّكْمِيلِ، وَفِي هَذَا لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ لُقْمَانَ وَشَكَرَ سَعْيَهُ حَيْثُ أَرْشَدَ ابْنَهُ لِيُعْلَمَ مِنْهُ فَضِيلَةُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي أَرْشَدَ الْأَجَانِبَ وَالْأَقَارِبَ فَإِنَّ إِرْشَادَ الْوَلَدِ أَمْرٌ مُعْتَادٌ، وَأَمَّا تَحَمُّلُ الْمَشَقَّةِ فِي تَعْلِيمِ الْأَبَاعِدِ فَلَا، ثُمَّ إِنَّهُ فِي الْوَعْظِ بَدَأَ بِالْأَهَمِّ وَهُوَ الْمَنْعُ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَقَالَ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ أَمَّا أَنَّهُ ظُلْمٌ فَلِأَنَّهُ وَضْعٌ لِلنَّفْسِ الشَّرِيفِ الْمُكَرَّمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ

[سورة لقمان (31) : آية 14]

[الْإِسْرَاءِ: 70] فِي عِبَادَةِ الْخَسِيسِ أَوْ لِأَنَّهُ وَضْعُ الْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا وَهِيَ غَيْرُ وَجْهِ اللَّهِ وَسَبِيلِهِ، وَأَمَّا أَنَّهُ عَظِيمٌ فَلِأَنَّهُ وُضِعَ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ مَوْضِعَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ مَنْ يَأْخُذُ مَالَ زَيْدٍ وَيُعْطِي عَمْرًا يَكُونُ ظُلْمًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ وَضَعَ مَالَ زَيْدٍ فِي يَدِ عَمْرٍو، وَلَكِنْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِلْكَ عَمْرٍو أَوْ يَصِيرَ مِلْكَهُ بِبَيْعٍ سَابِقٍ أَوْ بِتَمْلِيكٍ لَاحِقٍ، وَأَمَّا الْإِشْرَاكُ فَوَضْعُ الْمَعْبُودِيَّةِ فِي غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ معبودا أصلا. ثم قال تعالى: [سورة لقمان (31) : آية 14] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) لَمَّا مَنَعَهُ مِنَ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَالْخِدْمَةُ قَرِيبَةٌ مِنْهَا فِي الصُّورَةِ بَيَّنَ أَنَّهَا غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ، بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ/ لِغَيْرِ اللَّهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مِثْلُ خِدْمَةِ الْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ بَيَّنَ السَّبَبَ فَقَالَ: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ يَعْنِي لِلَّهِ عَلَى الْعَبِيدِ نِعْمَةُ الْإِيجَادِ ابْتِدَاءً بِالْخَلْقِ وَنِعْمَةُ الْإِبْقَاءِ بِالرِّزْقِ وَجَعَلَ بِفَضْلِهِ لِلْأُمِّ مَا لَهُ صُورَةُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقِيقَةً فَإِنَّ الْحَمْلَ بِهِ يَظْهَرُ الْوُجُودُ، وَبِالرَّضَاعِ يَحْصُلُ التَّرْبِيَةُ وَالْبَقَاءُ فَقَالَ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ أَيْ صَارَتْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ سَبَبَ وُجُودِهِ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَيْ صَارَتْ بِقُدْرَتِهِ أَيْضًا سَبَبَ بَقَائِهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْهَا مَا لَهُ صُورَةُ الْوُجُودِ وَالْبَقَاءِ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا لَهُ شِبْهُ الْعِبَادَةِ مِنَ الْخِدْمَةِ، فَإِنَّ الْخِدْمَةَ لَهَا صُورَةُ الْعِبَادَةِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ وَصَّى اللَّهُ بِالْوَالِدَيْنِ وَذَكَرَ السَّبَبَ فِي حَقِّ الْأُمِّ فَنَقُولُ خَصَّ الْأُمَّ بِالذِّكْرِ وَفِي الْأَبِ مَا وُجِدَ فِي الْأُمِّ فَإِنَّ الْأَبَ حَمَلَهُ فِي صُلْبِهِ سِنِينَ وَرَبَّاهُ بِكَسْبِهِ سِنِينَ فَهُوَ أَبْلَغُ وَقَوْلُهُ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ لَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ جَعَلَ مِنَ الْوَالِدَيْنِ صُورَةَ مَا مَنَّ اللَّهُ، فَإِنَّ الْوُجُودَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ اللَّهِ وَفِي الصُّورَةِ يَظْهَرُ مِنَ الْوَالِدَيْنِ جَعَلَ الشُّكْرَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ثُمَّ بَيَّنَ الْفَرْقَ وَقَالَ: إِلَيَّ الْمَصِيرُ يَعْنِي نِعْمَتُهُمَا مُخْتَصَّةٌ بِالدُّنْيَا وَنِعْمَتِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ إِلَيَّ الْمَصِيرَ أَوْ نَقُولُ لَمَّا أَمَرَ بِالشُّكْرِ لِنَفْسِهِ وَلِلْوَالِدَيْنِ قَالَ الْجَزَاءُ عَلَيَّ وَقْتَ الْمَصِيرِ إلي. ثم قال تعالى: [سورة لقمان (31) : آية 15] وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَعْنِي أَنَّ خِدْمَتَهُمَا وَاجِبَةٌ وَطَاعَتَهُمَا لَازِمَةٌ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَرْكُ طَاعَةِ اللَّهِ، أَمَّا إِذَا أَفْضَى إِلَيْهِ فَلَا تُطِعْهُمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا تفسير الآية في العنكبوت، وقال هاهنا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ، يَعْنِي صَاحِبْهُمَا بِجِسْمِكَ فَإِنَّ حَقَّهُمَا عَلَى جِسْمِكَ، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعَقْلِكَ، فَإِنَّهُ مُرَبِّي عَقْلِكَ، كما أن الوالد مربي جسمك. ثم قال تعالى: [سورة لقمان (31) : آية 16] يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) لَمَّا قَالَ: فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَقَعَ لِابْنِهِ أَنَّ مَا يفعل في خفية يخفى فقال: يا بُنَيَّ إِنَّها أَيِ الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ إِنْ كَانَتْ فِي الصِّغَرِ مِثْلَ حَبَّةِ خَرْدَلٍ وَتَكُونُ مَعَ ذَلِكَ الصِّغَرِ فِي مَوْضِعٍ حَرِيزٍ كَالصَّخْرَةِ لَا تَخْفَى عَلَى اللَّهِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَتَكُنْ بِالْفَاءِ لِإِفَادَةِ الِاجْتِمَاعِ يَعْنِي إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً وَمَعَ صِغَرِهَا تَكُونُ خَفِيَّةً

[سورة لقمان (31) : آية 17]

فِي مَوْضِعٍ حَرِيزٍ كَالصَّخْرَةِ لَا تَخْفَى عَلَى اللَّهِ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلِاتِّصَالِ بِالتَّعْقِيبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ قِيلَ الصَّخْرَةُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تكون في السموات أَوْ فِي الْأَرْضِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهَا؟ وَلِأَنَّ الْقَائِلَ لَوْ قَالَ هَذَا رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ أَوِ ابْنُ عَمْرٍو لَا يَصِحُّ هَذَا الْكَلَامُ لِكَوْنِ ابْنِ عَمْرٍو دَاخِلًا فِي أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ فَكَيْفَ يُفْهَمُ هَذَا، فَنَقُولُ الْجَوَابَ عَنْهُ مِنْ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّخْرَةِ صَخْرَةٌ عَلَيْهَا الثَّوْرُ وَهِيَ لَا فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَالثَّانِي: مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ أَنَّ فِيهِ إِضْمَارًا تَقْدِيرُهُ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي موضع آخر في السموات أَوْ فِي الْأَرْضِ وَالثَّالِثُ: أَنْ نَقُولَ تَقْدِيمُ الْخَاصِّ وَتَأْخِيرُ الْعَامِّ فِي مِثْلِ هَذَا التَّقْسِيمِ جَائِزٌ وَتَقْدِيمُ الْعَامِّ وَتَأْخِيرُ الْخَاصِّ غَيْرُ جَائِزٍ، أَمَّا الثَّانِي فَلَمَّا بَيَّنْتُمْ أَنَّ مَنْ قَالَ هَذَا فِي دَارِ زَيْدٍ أَوْ فِي غَيْرِهَا أَوْ فِي دَارِ عَمْرٍو لَا يَصِحُّ لِكَوْنِ دَارِ عَمْرٍو دَاخِلَةً فِي قَوْلِهِ أَوْ فِي غَيْرِهَا، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ هَذَا فِي دَارِ زَيْدٍ أَوْ فِي دَارِ عَمْرٍو أَوْ فِي غَيْرِهَا صَحِيحٌ غَيْرُ قَبِيحٍ فَكَذَلِكَ هاهنا قَدَّمَ الْأَخَصَّ أَوْ نَقُولُ خَفَاءُ الشَّيْءِ يَكُونُ بِطُرُقٍ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِي ظُلْمَةٍ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، فَإِنِ انْتَفَتِ الْأُمُورُ بِأَسْرِهَا بِأَنْ يَكُونَ كَبِيرًا قَرِيبًا فِي ضَوْءٍ مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ فَلَا يَخْفَى فِي الْعِبَادَةِ، فَأَثْبَتَ اللَّهُ الرُّؤْيَةَ وَالْعِلْمَ مَعَ انْتِفَاءِ الشَّرَائِطِ فَقَوْلُهُ: إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ إِشَارَةٌ إِلَى الصِّغَرِ وَقَوْلُهُ: فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ إِشَارَةٌ إِلَى الْحِجَابِ وَقَوْلُهُ: أَوْ فِي السَّماواتِ إشارة إلى العبد فَإِنَّهَا أَبْعَدُ الْأَبْعَادِ وَقَوْلُهُ: أَوْ فِي الْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى الظُّلُمَاتِ فَإِنَّ جَوْفَ الْأَرْضِ أَظْلَمُ الْأَمَاكِنِ وَقَوْلُهُ: يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ يَعْلَمُهَا اللَّهُ لِأَنَّ مَنْ يَظْهَرُ لَهُ الشَّيْءُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِهِ لِغَيْرِهِ يَكُونُ حَالُهُ فِي الْعِلْمِ دُونَ حَالِ مَنْ يَظْهَرُ لَهُ الشَّيْءَ وَيُظْهِرُهُ لِغَيْرِهِ فَقَوْلُهُ: يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أَيْ يُظْهِرُهَا اللَّهُ لِلْإِشْهَادِ وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ أَيْ نَافِذُ الْقُدْرَةِ خَبِيرٌ أي عالم ببواطن الأمور. ثم قال تعالى: [سورة لقمان (31) : آية 17] يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) لَمَّا مَنَعَهُ مِنَ الشِّرْكِ وَخَوَّفَهُ بِعِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ أَمَرَهُ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَهِيَ الْعِبَادَةُ لِوَجْهِ اللَّهِ مُخْلِصًا، وَبِهَذَا يَعْلَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ فِي سَائِرِ الْمِلَلِ غَيْرَ أَنَّ هَيْئَتَهَا اخْتَلَفَتْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ أَيْ إِذَا كَمُلْتَ أَنْتَ فِي نَفْسِكَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ فَكَمِّلْ/ غَيْرَكَ، فَإِنَّ شُغْلَ الْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ هُوَ أَنْ يَكْمُلُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَيُكْمِلُوا غَيْرَهُمْ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ قَدَّمَ فِي وَصِيَّتِهِ لِابْنِهِ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَبْلُ قَدَّمَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ أَوَّلَ ما قال يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ ثم قال: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ فَنَقُولُ هُوَ كَانَ يَعْلَمُ مِنَ ابْنِهِ أَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِوُجُودِ اللَّهِ فَمَا أَمَرَهُ بِهَذَا الْمَعْرُوفِ وَنَهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْمَعْرُوفِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكَ بِاللَّهِ لَا يَكُونُ نَافِيًا لِلَّهِ فِي الِاعْتِقَادِ وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُهُ نَفْيُهُ بِالدَّلِيلِ فَكَانَ كُلُّ مَعْرُوفٍ فِي مُقَابَلَتِهِ مُنْكَرٌ وَالْمَعْرُوفُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ اعْتِقَادُ وُجُودِهِ وَالْمُنْكَرُ اعْتِقَادُ وُجُودِ غَيْرِهِ مَعَهُ، فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ الْمَعْرُوفِ لِحُصُولِهِ وَنَهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ ابْنَهُ كَانَ مُشْرِكًا فَوَعَظَهُ وَلَمْ يَزَلْ يَعِظُهُ حَتَّى أَسْلَمَ، وأما هاهنا فأمره أَمْرًا مُطْلَقًا وَالْمَعْرُوفُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُنْكَرِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ يَعْنِي أن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يؤذى فأمره

[سورة لقمان (31) : آية 18]

بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أَيْ مِنَ الْأُمُورِ الْوَاجِبَةِ الْمَعْزُومَةِ أَيِ الْمَقْطُوعَةِ وَيَكُونُ الْمَصْدَرُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، كَمَا تَقُولُ أَكْلِي فِي النَّهَارِ رَغِيفُ خُبْزٍ أَيْ مَأْكُولِي. ثم قال تعالى: [سورة لقمان (31) : آية 18] وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) لما أمره أَمَرَهُ بِأَنْ يَكُونَ كَامِلًا فِي نَفْسِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ وَكَانَ يَخْشَى بَعْدَهُمَا مِنْ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: التَّكَبُّرُ عَلَى الْغَيْرِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لَهُ وَالثَّانِي: التَّبَخْتُرُ فِي النَّفْسِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ كَامِلًا فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ تَكَبُّرًا وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً تَبَخْتُرًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ يَعْنِي مَنْ يَكُونُ بِهِ خُيَلَاءُ وَهُوَ الَّذِي يَرَى النَّاسُ عَظَمَةَ نَفْسِهِ وَهُوَ التَّكَبُّرُ فَخُورٍ يَعْنِي مَنْ يَكُونُ مُفْتَخِرًا بِنَفْسِهِ وَهُوَ الَّذِي يَرَى عَظَمَةً لِنَفْسِهِ فِي عَيْنِهِ، وَفِي الْآيَةِ لَطِيفَةٌ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ الْكَمَالَ عَلَى التَّكْمِيلِ حَيْثُ قَالَ أَقِمِ الصَّلاةَ ثُمَّ قَالَ: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَفِي النَّهْيِ قَدَّمَ مَا يُورِثُهُ التَّكْمِيلُ عَلَى مَا يُورِثُهُ الْكَمَالُ حَيْثُ قَالَ: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ ثُمَّ قَالَ: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً لِأَنَّ فِي طَرَفِ الْإِثْبَاتِ مَنْ لَا يَكُونُ كَامِلًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِيرَ مُكَمِّلًا فَقَدَّمَ الْكَمَالَ، وَفِي طَرَفِ النَّفْيِ مَنْ يَكُونُ مُتَكَبِّرًا عَلَى غَيْرِهِ مُتَبَخْتِرًا لِأَنَّهُ لَا يَتَكَبَّرُ عَلَى الْغَيْرِ إِلَّا عِنْدَ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْهُ مِنْ وَجْهٍ، وَأَمَّا مَنْ يَكُونُ مُتَبَخْتِرًا فِي نَفْسِهِ لَا يَتَكَبَّرُ، وَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَتَوَاضَعُ لِلنَّاسِ فَقَدَّمَ نَفْيَ التَّكَبُّرِ ثُمَّ نَفْيَ التَّبَخْتُرِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَدْ نَفَى التَّبَخْتُرَ لَلَزِمَ مِنْهُ نَفْيُ التَّكَبُّرِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى النَّهْيِ عَنْهُ وَمِثَالُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَا تُفْطِرْ وَلَا تَأْكُلْ، لِأَنَّ مَنْ لَا يُفْطِرُ لَا يَأْكُلُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَا تَأْكُلْ/ وَلَا تُفْطِرْ، لِأَنَّ مَنْ لَا يَأْكُلُ قَدْ يُفْطِرُ بِغَيْرِ الْأَكْلِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يَكُونُ لِلتَّفْسِيرِ فَيَقُولُ لَا تُفْطِرْ وَلَا تَأْكُلْ أَيْ لَا تُفْطِرْ بِأَنْ تَأْكُلَ وَلَا يَكُونُ نَهْيَيْنِ بَلْ واحدا. ثم قال تعالى: [سورة لقمان (31) : آية 19] وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) لَمَّا قَالَ: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً وَعَدَمُ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِضِدِّهِ وَهُوَ الَّذِي يُخَالِفُ غَايَةَ الِاخْتِلَافِ، وَهُوَ مَشْيُ الْمُتَمَاوِتِ الَّذِي يَرَى مِنْ نَفْسِهِ الضَّعْفَ تَزَهُّدًا فَقَالَ: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أَيْ كُنْ وَسَطًا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ الْمَذْمُومَيْنِ، وَفِي الْآيَةِ مسائل: الْأُولَى: هَلْ لِلْأَمْرِ بِالْغَضِّ مِنَ الصَّوْتِ مُنَاسَبَةٌ مَعَ الْأَمْرِ بِالْقَصْدِ فِي الْمَشْيِ؟ فَنَقُولُ: نَعَمْ سَوَاءٌ عَلِمْنَاهَا نَحْنُ أَوْ لَمْ نَعْلَمْهَا وَفِي كَلَامِ اللَّهِ مِنَ الْفَوَائِدِ مَا لَا يَحْصُرُهُ حَدٌّ وَلَا يُصِيبُهُ عَدٌّ، وَلَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ وَالَّذِي يَظْهَرُ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَمَّا كَانَ شَرِيفًا تَكُونُ مَطَالِبُهُ شَرِيفَةً فَيَكُونُ فَوَاتُهَا خَطَرًا فَأَقْدَرَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ عَلَى تَحْصِيلِهَا بِالْمَشْيِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ إِدْرَاكِ مَقْصُودِهِ يُنَادِي مَطْلُوبَهُ فَيَقِفُ لَهُ أَوْ يَأْتِيهُ مَشْيًا إِلَيْهِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ إِبْلَاغِ كَلَامِهِ إِلَيْهِ، وَبَعْضُ الْحَيَوَانَاتِ يُشَارِكُ الْإِنْسَانَ فِي تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ بِالصَّوْتِ كَمَا أَنَّ الْغَنَمَ تَطْلُبُ السَّخْلَةَ وَالْبَقَرَةَ الْعِجْلَ وَالنَّاقَةَ الْفَصِيلَ بِالثُّغَاءِ وَالْخُوَارِ وَالرُّغَاءِ وَلَكِنْ لَا تَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهَا، وَالْإِنْسَانُ يُمَيِّزُ الْبَعْضَ عَنِ الْبَعْضِ فَإِذَا كَانَ الْمَشْيُ وَالصَّوْتُ مُفْضِيَيْنِ إِلَى مَقْصُودٍ وَاحِدٍ لَمَّا أَرْشَدَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا أَرْشَدَهُ إِلَى الْآخَرِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ عَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ يُشَارِكُهُ فِيهِ الْحَيَوَانَاتُ فَإِنَّهُ حَرَكَةٌ وَسُكُونٌ، وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَعَزْمٌ بِالْقَلْبِ وَهُوَ لَا اطِّلَاعَ عليه إلا الله، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ [لقمان: 16] أَيْ أَصْلِحْ ضَمِيرَكَ فَإِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ، بَقِيَ الْأَمْرَانِ فَقَالَ: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِشَارَةً إِلَى التَّوَسُّطِ

[سورة لقمان (31) : آية 20]

فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ لُقْمَانَ أَرَادَ إِرْشَادَ ابْنِهِ إِلَى السَّدَادِ فِي الْأَوْصَافِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْأَوْصَافِ الَّتِي هِيَ لِلْمَلَكِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى مَرْتَبَةً مِنْهُ، وَالْأَوْصَافِ الَّتِي لِلْحَيَوَانِ الَّذِي هُوَ أَدْنَى مَرْتَبَةً مِنْهُ. فَقَوْلُهُ: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَكَارِمِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْإِنْسَانِ فَإِنَّ الْمَلَكَ لَا يَأْمُرُ مَلَكًا آخَرَ بِشَيْءٍ وَلَا يَنْهَاهُ عَنْ شَيْءٍ. وَقَوْلُهُ: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً الَّذِي هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ التَّكَبُّرِ وَالتَّبَخْتُرِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَكَارِمِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّ عَدَمَ التَّكَبُّرِ وَالتَّبَخْتُرِ صِفَتُهُمْ. وَقَوْلُهُ: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إشارة إِلَى الْمَكَارِمِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ الْحَيَوَانِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِمَ ذَكَرَ الْمَانِعَ مَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ وَلَمْ يُذْكَرِ الْمَانِعَ مِنْ سُرْعَةِ الْمَشْيِ، نَقُولُ أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا إِنَّ الْمَشْيَ وَالصَّوْتَ كِلَاهُمَا مُوَصِّلَانِ إِلَى شَخْصٍ مَطْلُوبٍ إِنْ أَدْرَكَهُ بِالْمَشْيِ إِلَيْهِ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَيُوقِفُهُ بِالنِّدَاءِ، فَنَقُولُ رَفْعُ الصَّوْتِ يُؤْذِي السَّامِعَ وَيَقْرَعُ الصِّمَاخَ بِقُوَّةٍ، وَرُبَّمَا يَخْرُقُ الْغِشَاءَ الَّذِي دَاخِلَ الْأُذُنِ وَأَمَّا السُّرْعَةُ فِي الْمَشْيِ فَلَا تُؤْذِي أَوْ إِنْ كَانَتْ تُؤْذِي فَلَا تُؤْذِي غَيْرَ مَنْ فِي طَرِيقِهِ وَالصَّوْتُ يَبْلُغُ مَنْ عَلَى الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ، وَلِأَنَّ الْمَشْيَ يُؤْذِي آلَةَ الْمَشْيِ وَالصَّوْتَ يُؤْذِي آلَةَ السَّمْعِ وَآلَةُ السَّمْعِ عَلَى بَابِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ يَنْتَقِلُ مِنَ السَّمْعِ إِلَى الْقَلْبِ وَلَا كَذَلِكَ الْمَشْيُ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا الْإِشَارَةُ بِالشَّيْءِ وَالصَّوْتِ إِلَى الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ فَلِأَنَّ الْقَوْلَ قَبِيحُهُ أَقْبَحُ مِنْ قَبِيحِ الْفِعْلِ وَحَسَنُهُ أَحْسَنُ لِأَنَّ اللِّسَانَ تُرْجُمَانُ الْقَلْبِ وَالِاعْتِبَارُ يُصَحِّحُ الدَّعْوَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَيْفَ يُفْهَمُ كَوْنُهُ أَنْكَرَ مَعَ أَنَّ مَسَّ الْمِنْشَارِ بِالْمِبْرَدِ وَحَتَّ النُّحَاسِ بِالْحَدِيدِ أَشَدُّ تَنْفِيرًا؟ نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ أَنْكَرَ أَصْوَاتِ الْحَيَوَانَاتِ صَوْتُ الْحَمِيرِ فَلَا يَرُدُّ مَا ذَكَرْتُمْ وَمَا ذَكَرْتُمْ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ لِمَصْلَحَةٍ وَعِمَارَةٍ فَلَا يُنْكَرُ، بِخِلَافِ صَوْتِ الْحَمِيرِ وَهَذَا وَهُوَ الْجَوَابُ الثَّانِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْكَرُ هُوَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ فَمِنْ أَيِّ بَابٍ هُوَ؟ نَقُولُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ أَطْوَعَ لَهُ مِنْ بَنَانِهِ، بِمَعْنَى أَشَدِّهَا طَاعَةً فَإِنَّ أَفْعَلَ لَا يَجِيءُ فِي مَفْعَلٍ وَلَا فِي مَفْعُولٍ وَلَا فِي بَابِ الْعُيُوبِ إِلَّا مَا شَذَّ، كَقَوْلِهِمْ أَطْوَعُ مِنْ كَذَا لِلتَّفْضِيلِ عَلَى الْمُطِيعِ، وَأَشْغَلُ مِنْ ذَاتِ النِّحْيَيْنِ لِلتَّفْضِيلِ عَلَى الْمَشْغُولِ، وَأَحْمَقُ مِنْ فُلَانٍ مِنْ بَابِ الْعُيُوبِ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ فِي بَابِ أَفْعَلَ كَأَشْغَلَ فِي بَابِ مَفْعُولٍ فَيَكُونُ لِلتَّفْضِيلِ عَلَى الْمُنْكَرِ، أَوْ نَقُولُ هُوَ مِنْ بَابِ أَشْغَلَ مَأْخُوذًا مَنْ نَكِرَ الشَّيْءَ فَهُوَ مُنْكَرٌ، وَهَذَا أَنْكَرُ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا فَلَهُ مَعْنًى لَطِيفٌ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ قَدْ يُفْهَمُ مِنْ صَوْتِهِ بِأَنَّهُ يَصِيحُ مِنْ ثِقَلٍ أَوْ تَعَبٍ كَالْبَعِيرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَالْحِمَارُ لَوْ مَاتَ تَحْتَ الْحِمْلِ لَا يَصِيحُ وَلَوْ قُتِلَ لَا يَصِيحُ، وَفِي بَعْضِ أَوْقَاتِ عَدَمِ الْحَاجَةِ يَصِيحُ وَيَنْهَقُ فَصَوْتُهُ مَنْكُورٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هُوَ مِنْ نَكِيرٍ كأجدر من جدير. ثم قال تعالى: [سورة لقمان (31) : آية 20] أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) لَمَّا اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، وَبَيَّنَ بِحِكَايَةِ لُقْمَانَ أَنَّ/ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِالنُّبُوَّةِ بَلْ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِلْحِكْمَةِ، وَمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالصَّلَاةِ وَمَكَارِمِ

[سورة لقمان (31) : الآيات 21 إلى 22]

الْأَخْلَاقِ كُلُّهَا حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، وَلَوْ كَانَ تَعَبُّدًا مَحْضًا لَلَزِمَ قَبُولُهُ، فَضْلًا عَنْ أَنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ، اسْتَدَلَّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ بِالنِّعْمَةِ لِأَنَّا بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ الْمَلِكَ يُخْدَمُ لِعَظَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُنْعِمْ وَيُخْدَمُ لِنِعْمَتِهِ أَيْضًا، فَلَمَّا بَيَّنَ أنه المعبود لعظمته بخلقه السموات بِلَا عَمَدٍ وَإِلْقَائِهِ فِي الْأَرْضِ الرَّوَاسِيَ. وَذَكَرَ بَعْضَ النِّعَمِ بِقَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً [لقمان: 10] ذَكَرَ بَعْدَهُ عَامَّةَ النِّعَمِ فَقَالَ: سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ أَيْ سَخَّرَ لِأَجْلِكُمْ مَا في السموات، فَإِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِ اللَّهِ وَفِيهَا فَوَائِدُ لِعِبَادِهِ، وَسَخَّرَ مَا فِي الْأَرْضِ لِأَجْلِ عِبَادِهِ، وَقَوْلُهُ: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَهِيَ مَا فِي الْأَعْضَاءِ مِنَ السَّلَامَةِ وَباطِنَةً وَهِيَ مَا فِي الْقُوَى فَإِنَّ الْعُضْوَ ظَاهِرٌ وَفِيهِ قُوَّةٌ بَاطِنَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ شَحْمٌ وَغُضْرُوفٌ ظَاهِرٌ، وَاللِّسَانَ وَالْأَنْفَ لَحْمٌ وَعَظْمٌ ظَاهِرٌ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مَعْنًى بَاطِنٌ مِنَ الْإِبْصَارِ وَالسَّمْعِ وَالذَّوْقِ وَالشَّمِّ، وَكَذَلِكَ كَلُّ عُضْوٍ، وَقَدْ تَبْطُلُ الْقُوَّةُ وَيَبْقَى الْعُضْوُ قَائِمًا، وَهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا قِيلَ فَإِنَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الِاسْتِدْلَالُ بِنِعْمَةِ الْآفَاقِ وَبِنِعْمَةِ الْأَنْفُسِ فَقَوْلُهُ: مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَكُونُ إِشَارَةً إِلَى النِّعَمِ الْآفَاقِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً يَكُونُ إِشَارَةً إِلَى النِّعَمِ الْأَنْفُسِيَّةِ، وَفِيهِمَا أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي جَمِيعِ كُتُبِ التَّفَاسِيرِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرْنَاهُ مَقُولًا مَنْقُولًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَائِغًا مَعْقُولًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ يَعْنِي لَمَّا ثَبَتَ الْوَحْدَانِيَّةُ بِالْخَلْقِ وَالْإِنْعَامِ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ وَيُثْبِتُ غَيْرَهُ، إِمَّا إِلَهًا أَوْ مُنْعِمًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ هَذِهِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ مَرْتَبَةُ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالْكِتَابِ، وَالْعِلْمُ أَعْلَى مِنَ الْهُدَى وَالْهُدَى مِنَ الْكِتَابِ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّ الْعِلْمَ تَدْخُلُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ الْوَاضِحَةُ اللَّائِحَةُ الَّتِي تُعْلَمُ مِنْ غَيْرِ هِدَايَةِ هَادٍ، ثُمَّ الْهُدَى يَدْخُلُ فِيهِ الَّذِي يَكُونُ فِي كِتَابٍ وَالَّذِي يَكُونُ مِنْ إِلْهَامٍ وَوَحْيٍ، فَقَالَ تَعَالَى: يُجادِلُ ذَلِكَ الْمُجَادِلُ لَا مِنْ عِلْمٍ وَاضِحٍ، وَلَا مَنْ هَدًى أَتَاهُ مِنْ هَادٍ، وَلَا مِنْ كِتَابٍ وَكَأَنَّ الْأَوَّلَ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ أُوتِيَ مِنْ لَدُنْهُ عِلْمًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النِّسَاءِ: 113] وَالثَّانِي: إِشَارَةٌ إِلَى مَرْتَبَةِ مَنْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ بِوَاسِطَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النَّجْمِ: 5] وَالثَّالِثُ: إِشَارَةٌ إِلَى مَرْتَبَةِ مَنِ اهْتَدَى بِوَاسِطَتَيْنِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: الم ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: 1، 2] وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ [لقمان: 3] وقال في السجدة: [23] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ... وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ فَالْكِتَابُ هَدًى لِقَوْمِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالنَّبِيُّ هُدَاهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ أَوْ بِوَاسِطَةِ الرُّوحِ الْأَمِينِ، فَقَالَ تَعَالَى: يُجَادِلُ مَنْ يُجَادِلُ لَا بِعِلْمٍ آتَيْنَاهُ مَنْ لَدُنَّا كَشْفًا، وَلَا بِهُدًى أَرْسَلْنَاهُ إِلَيْهِ وَحْيًا، وَلَا بِكِتَابٍ يُتْلَى عَلَيْهِ وَعْظًا. ثُمَّ فِيهِ لَطِيفَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْكِتَابِ: وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ لِأَنَّ الْمُجَادِلَ مِنْهُ مَنْ كَانَ يُجَادِلُ مِنْ كِتَابٍ وَلَكِنَّهُ مُحَرَّفٌ مِثْلُ التَّوْرَاةِ بَعْدَ التَّحْرِيفِ، فَلَوْ قَالَ/ وَلَا كِتَابٍ لَكَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا يُجَادِلُ مِنْ غَيْرِ كِتَابٍ، فَإِنَّ بَعْضَ مَا يَقُولُونَ فَهُوَ فِي كِتَابِهِمْ وَلِأَنَّ الْمَجُوسَ وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ بِالتَّثْنِيَةِ وَالتَّثْلِيثِ عَنْ كِتَابِهِمْ، فَقَالَ: وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ فَإِنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ مُظْلِمٌ، وَلَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ التَّحْرِيفَ وَالتَّبْدِيلَ لَمْ يَقُلْ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى مُنِيرٍ أَوْ حق أو غير ذلك. ثم قال تعالى: [سورة لقمان (31) : الآيات 21 الى 22] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا بَيَّنَ أَنَّ مُجَادَلَتَهُمْ مَعَ كَوْنِهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَهِيَ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدْعُوهُمْ إِلَى كَلَامِ اللَّهِ، وَهُمْ يَأْخُذُونَ بِكَلَامِ آبَائِهِمْ، وَبَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِ الْعُلَمَاءِ بَوْنٌ عَظِيمٌ فَكَيْفَ مَا بَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ الْجُهَلَاءِ ثُمَّ إن هاهنا شَيْئًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا يَعْنِي نَتْرُكُ الْقَوْلَ النَّازِلَ مِنَ اللَّهِ وَنَتَّبِعُ الْفِعْلَ، وَالْقَوْلُ أَدَلُّ مِنَ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا، وَهُمْ تَعَاطَوْهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فِي اعْتِقَادِهِمْ وَالْقَوْلُ بَيِّنُ الدَّلَالَةِ، فَلَوْ سَمِعْنَا قَوْلَ قَائِلٍ افْعَلْ وَرَأَيْنَا فِعْلَهُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ، لَكَانَ الْوَاجِبُ الْأَخْذَ بِالْقَوْلِ، فَكَيْفَ وَالْقَوْلُ مِنَ اللَّهِ وَالْفِعْلُ مِنَ الْجُهَّالِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ اسْتِفْهَامًا عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ فِي الْإِنْكَارِ يَعْنِي الشَّيْطَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْعَذَابِ وَاللَّهَ يَدْعُو إِلَى الثَّوَابِ، وَهُمْ مَعَ هَذَا يَتَّبِعُونَ الشَّيْطَانَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى، وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُشْرِكِ وَالْمُجَادِلِ فِي اللَّهِ بَيَّنَ حَالَ الْمُسْلِمِ الْمُسْتَسْلِمِ لِأَمْرِ اللَّهِ فَقَوْلُهُ: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِيمَانِ وَقَوْلُهُ: وَهُوَ مُحْسِنٌ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَتَكُونُ الْآيَةُ فِي مَعْنَى قوله تَعَالَى: مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [الْكَهْفِ: 88] وَقَوْلِهِ: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى أَيْ تَمَسَّكَ بِحَبْلٍ لَا انْقِطَاعَ لَهُ وَتَرَقَّى بِسَبَبِهِ إِلَى أَعْلَى المقامات وفي الآية مسائل: الأولى: قال هاهنا: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [112] : بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ فعدى هاهنا بإلى وَهُنَاكَ بِاللَّامِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَسْلَمَ ... لِلَّهِ أَيْ جَعَلَ نَفْسَهُ لِلَّهِ سَالِمًا أَيْ خَالِصًا/ وَالْوَجْهُ بِمَعْنَى النَّفْسِ وَالذَّاتِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ يُسْلِمُ نَفْسَهُ إِلَى اللَّهِ كَمَا يُسْلِمُ وَاحِدٌ مَتَاعًا إِلَى غَيْرِهِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ وَيُقَالَ مَنْ أَسْلَمَ لِلَّهِ أَعْلَى دَرَجَةً مِمَّنْ يُسْلِمُ إِلَى اللَّهِ، لِأَنَّ إِلَى لِلْغَايَةِ وَاللَّامَ لِلِاخْتِصَاصِ، يَقُولُ الْقَائِلُ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ أَيْ تَوَجَّهْتُ نَحْوَكَ وَيُنْبِئُ هَذَا عَنْ عَدَمِ الْوُصُولِ لِأَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى الشَّيْءِ قَبْلَ الْوُصُولِ وقوله أسلمت وجهي لك يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ وَلَا يُنْبِئُ عَنِ الْغَايَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْمَسَافَةِ وَقَطْعِهَا لِلْوُصُولِ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ فِي الْبَقَرَةِ قَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى فَقَالَ اللَّهُ رَدًّا عَلَيْهِمْ: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 111] ثُمَّ بَيَّنَ فَسَادَ قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة: 112] أَيْ أَنْتُمْ مَعَ أَنَّكُمْ تَتْرُكُونَ اللَّهَ لِلدُّنْيَا وَتُوَلُّونَ عَنْهُ لِلْبَاطِلِ وَتَشْتَرُونَ بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا تَدْخُلُونَ [النَّارَ] وَمَنْ كَانَ بِكُلِّيَّتِهِ لِلَّهِ لَا يَدْخُلُهَا، هَذَا كَلَامٌ بَاطِلٌ فَأَوْرَدَ عَلَيْهِمْ مَنْ أَسْلَمَ لِلَّهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّقْضَ بِالصُّورَةِ الَّتِي هِيَ أَلْزَمُ أَوْلَى فَأَوْرَدَ عَلَيْهِمُ الْمُخْلِصَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ أَمْرٌ إِلَّا اللَّهَ وَقَالَ: أَنْتُمْ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَهَذَا لَا يَدْخُلُهَا، ثُمَّ بَيَّنَ كَذِبَهُمْ وَقَالَ: بَلَى وَبَيَّنَ أَنَّ لَهُ فَوْقَ الْجَنَّةِ دَرَجَةً وَهِيَ الْعِنْدِيَّةُ بِقَوْلِهِ: فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وأما هاهنا أَرَادَ وَعْدَ الْمُحْسِنِ بِالثَّوَابِ وَالْوُصُولِ إِلَى الدَّرَجَةِ الْعَالِيَةِ فَوَعَدَ مَنْ هُوَ دُونَهُ لِيَدْخُلَ فِيهِ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى وَيَعُمَّ الْوَعْدُ وَهَذَا مِنَ الْفَوَائِدِ الْجَلِيلَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى أَوْثَقُ الْعُرَى جَانِبُ اللَّهِ لِأَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ هَالِكٌ مُنْقَطِعٌ وَهُوَ بَاقٍ لَا انْقِطَاعَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ يَعْنِي اسْتَمْسَكَ بِعُرْوَةٍ تُوصِلُهُ إِلَى اللَّهِ وَكُلُّ شَيْءٍ عَاقِبَتُهُ إِلَيْهِ فَإِذَا حَصَلَ فِي الْحَالِ مَا إِلَيْهِ

[سورة لقمان (31) : الآيات 23 إلى 24]

عَاقِبَتُهُ فِي عَاقِبَتِهِ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ عَاقِبَةَ الْأُمُورِ إِلَى وَاحِدٍ ثُمَّ يُقَدِّمُ إِلَيْهِ الْهَدَايَا قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ يَجِدُ فَائِدَتَهُ عِنْدَ الْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَإِلَى هَذَا وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة: 110] . ثم قال تعالى: [سورة لقمان (31) : الآيات 23 الى 24] وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُسْلِمِ رَجَعَ إِلَى بَيَانِ حَالِ الْكَافِرِ فَقَالَ: وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ أَيْ لَا تَحْزَنْ إِذَا كَفَرَ كَافِرٌ فَإِنَّ مَنْ يُكَذِّبُ وَهُوَ قَاطِعٌ بِأَنَّ صِدْقَهُ يَتَبَيَّنُ عَنْ قَرِيبٍ لَا يَحْزَنُ، بَلْ قَدْ يُؤَنَّبُ «1» الْمُكَذِّبُ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي التَّكْذِيبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْهُدَاةِ وَيَكُونُ الْمُكَذِّبُ مِنَ الْعُدَاةِ لِيُخْجِلَهُ غَايَةَ التَّخْجِيلِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لَا يَرْجُو ظُهُورَ صِدْقِهِ يَتَأَلَّمُ مِنَ التَّكْذِيبِ، فَقَالَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ، فَإِنَّ الْمَرْجِعَ إِلَيَّ فَأُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا فَيَخْجَلُونَ وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ سِرُّهُمْ وَعَلَانِيَتُهُمْ/ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا أَضْمَرَتْهُ صُدُورُهُمْ، وَذَاتُ الصُّدُورِ هِيَ الْمَهْلَكُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَصَّلَ مَا ذَكَرْنَا وَقَالَ: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا أَيْ بَقَاؤُهُمْ مُدَّةً قَلِيلَةً ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ وَبَالَ تَكْذِيبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ أَيْ نُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ أَغْلَظَ عَذَابٍ حَتَّى يَدْخُلُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابًا غَلِيظًا فَيَضْطَرُّونَ إِلَى عَذَابِ النَّارِ فِرَارًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْغِلَاظِ الشِّدَادِ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَهُمْ بِمَقَامِعَ مِنْ نَارٍ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُمُ الْأَمْرُ وَقَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَجَالَةِ مَا يَدْخُلُونَ النَّارَ وَلَا يَخْتَارُونَ الْوُقُوفَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِمْ بِمَحْضَرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ يَتَحَقَّقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا. ثم قال تعالى: [سورة لقمان (31) : آية 25] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) الْآيَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: أنه تعالى لما استدل بخلق السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ وَبِنِعَمِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ بَيَّنَ أَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ غَيْرَ مُنْكِرِينَ لَهُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْحَمْدُ كُلُّهُ لِلَّهِ، لِأَنَّ خَالِقَ السموات والأرض يحتاج إليه كل ما في السموات وَالْأَرْضِ، وَكَوْنُ الْحَمْدِ كُلُّهُ لِلَّهِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُعْبَدَ غَيْرُهُ، لَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ هَذَا وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا سَلَّى قَلْبَ النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ أَيْ لَا تَحْزَنْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ فَإِنَّ صِدْقَكَ وَكَذِبَهُمْ يَتَبَيَّنُ عَنْ قَرِيبٍ عِنْدَ رُجُوعِهِمْ إِلَيْنَا، قَالَ وَلَيْسَ لَا يَتَبَيَّنُ إِلَّا ذَلِكَ الْيَوْمَ بَلْ هُوَ يَتَبَيَّنُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأنهم معترفون بأن خلق السموات وَالْأَرْضِ مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا يُصَدِّقُكَ فِي دَعْوَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَيُبَيِّنُ كَذِبَهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ظُهُورِ صِدْقِكَ وَكَذِبِ مُكَذِّبِيكَ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ عِلْمٌ يَمْنَعُهُمْ مِنْ تَكْذِيبِكَ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِمَا يُوجِبُ تَصْدِيقَكَ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَا يَعْلَمُونَ اسْتِعْمَالًا لِلْفِعْلِ مَعَ الْقَطْعِ عَنِ الْمَفْعُولِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ فُلَانٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَلَا يَكُونُ فِي ضَمِيرِهِ مَنْ يُعْطِي بَلْ يُرِيدُ أَنَّ له عطاء ومنعا فكذلك هاهنا قَالَ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ عِلْمٌ وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ مَفْعُولٌ مَفْهُومٌ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْحَمْدَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَالثَّانِي أَبْلَغُ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: فُلَانٌ لَا عِلْمَ لَهُ بِكَذَا، دُونَ قَوْلِهِ فُلَانٌ لَا عِلْمَ لَهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ فُلَانٌ: لَا يَنْفَعُ زَيْدًا وَلَا يَضُرُّهُ، دُونَ قَوْلِهِ: فُلَانٌ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ. ثُمَّ قَالَ تعالى:

_ (1) في الطبعة الأميرية «بل قد يوثب» وما أثبته الأقرب إلى المعنى والأظهر إن شاء الله.

[سورة لقمان (31) : آية 26]

[سورة لقمان (31) : آية 26] لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) ذَكَرَ بِمَا يَلْزَمُ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ يَكُونُ لَهُ مَا فِيهِمَا وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ عَقْلًا وَشَرْعًا، أَمَّا عَقْلًا فَلِأَنَّ مَا في السموات الْمَخْلُوقَةِ مَخْلُوقٌ وَإِضَافَةُ خَلْقِهِ إِلَى مَنْ مِنْهُ خلق السموات وَالْأَرْضِ لَازِمٌ عَقْلًا لِأَنَّهَا مُمْكِنَةٌ، وَالْمُمْكِنُ لَا يَقَعُ وَلَا يُوجَدُ إِلَّا بِوَاجِبٍ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَوْ بِوَاسِطَةٍ كَمَا يَقُولُهُ غَيْرُهُمْ، وَكَيْفَمَا فُرِضَ فَكُلُّهُ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّ سَبَبَ السَّبَبِ سَبَبٌ، وَأَمَّا شَرْعًا فَلِأَنَّ مَنْ يَمْلِكُ أَرْضًا وَحَصَلَ مِنْهَا شَيْءٌ مَا يَكُونُ ذَلِكَ لِمَالِكِ الْأَرْضِ فَكَذَلِكَ كل ما في السموات والأرض حاصل فيهما ومنهما فهو لمالك السموات وَالْأَرْضِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ تَحَقَّقَ أَنَّ الْحَمْدَ كُلَّهُ لِلَّهِ. ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فِيهِ مَعَانٍ لَطِيفَةٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْكُلَّ لِلَّهِ وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ غَيْرُ مُنْتَفِعٍ بِهِ وَفِيهَا مَنَافِعُ فَهِيَ لَكُمْ خَلَقَهَا فَهُوَ غَنِيٌّ لِعَدَمِ حَاجَتِهِ حُمَيْدٌ مَشْكُورٌ لِدَفْعِهِ حَوَائِجَكُمْ بِهَا وَثَانِيهَا: أَنَّ بَعْدَ ذِكْرِ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْحَمْدَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَلَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لِلَّهِ افْتَرَقَ الْمُكَلَّفُونَ فَرِيقَيْنِ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ، وَالْكَافِرُ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ وَالْمُؤْمِنُ حَمِدَهُ فَقَالَ إِنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ حَمْدِ الْحَامِدِينَ فَلَا يَلْحَقُهُ نَقْصٌ بِسَبَبِ كُفْرِ الْكَافِرِينَ، وَحَمِيدٌ فِي نَفْسِهِ فَيَتَبَيَّنُ بِهِ إِصَابَةُ الْمُؤْمِنِينَ وتكمل بحمده الحامدون وثالثها: هو أن السموات وَمَا فِيهَا وَالْأَرْضَ وَمَا فِيهَا إِذَا كَانَتْ لِلَّهِ وَمَخْلُوقَةً لَهُ فَالْكُلُّ مُحْتَاجُونَ فَلَا غَنِيَّ إِلَّا اللَّهُ فَهُوَ الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ وَكُلٌّ مُحْتَاجٌ فَهُوَ حَامِدٌ، لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى مَنْ يَدْفَعُ حَاجَتَهُ فَلَا يَكُونُ الْحَمِيدُ الْمُطْلَقُ إِلَّا الْغَنِيَّ الْمُطْلَقَ فَهُوَ الْحَمِيدُ، وَعَلَى هَذَا [يَكُونُ] الْحَمِيدُ بِمَعْنَى الْمَحْمُودِ، وَاللَّهُ إِذَا قِيلَ لَهُ الْحَمِيدُ لَا يَكُونُ مَعْنَاهُ إِلَّا الْوَاصِفَ، أَيْ وَصَفَ نَفْسَهُ أَوْ عِبَادَهُ بِأَوْصَافٍ حَمِيدَةٍ، وَالْعَبْدُ إِذَا قِيلَ لَهُ حَامِدٌ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَيَحْتَمِلُ كَوْنُهُ عابدا شاكرا له. ثم قال تعالى: [سورة لقمان (31) : الآيات 27 الى 28] وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) لَمَّا قَالَ تَعَالَى: لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ ذَلِكَ موهما لتناهي ملكه لانحصار ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ فِيهِمَا، وَحُكْمُ الْعَقْلِ الصَّرِيحُ بِتَنَاهِيهِمَا بَيَّنَ أَنَّ فِي قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ عَجَائِبَ لَا نِهَايَةَ لَهَا فَقَالَ: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَيُكْتَبُ بِهَا وَالْأَبْحُرُ مِدَادٌ لَا تَفْنَى عَجَائِبُ صُنْعِ اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا فَالْكَلِمَةُ مُفَسَّرَةٌ بِالْعَجِيبَةِ، وَوَجْهُهَا أَنَّ الْعَجَائِبَ بقوله كن وكن كَلِمَةٌ وَإِطْلَاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ جَائِزٌ. يَقُولُ الشُّجَاعُ لِمَنْ يُبَارِزُهُ أَنَا مَوْتُكَ، وَيُقَالُ لِلدَّوَاءِ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ/ هَذَا شِفَاؤُكَ، وَدَلِيلُ صِحَّةِ هَذَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْمَسِيحَ كَلِمَةً لِأَنَّهُ كَانَ أَمْرًا عَجِيبًا وَصُنْعًا غَرِيبًا لِوُجُودِهِ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ الْآيَةُ وَارِدَةٌ فِي الْيَهُودِ حَيْثُ قَالُوا اللَّهُ ذَكَرَ كُلَّ شَيْءٍ فِي التَّوْرَاةِ وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ لَمْ يَذْكُرْهُ، فَقَالَ الَّذِي فِي التَّوْرَاةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ إِلَّا قَطْرَةً مِنْ بِحَارٍ وَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقِيلَ أَيْضًا إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَاحِدٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّكَ تَقُولُ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 85] وَتَقُولُ: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَةِ: 269] فَنَزَلَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِبَادِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ وَعُلُومِهِ قَلِيلٌ، وَقِيلَ أَيْضًا إِنَّهَا نَزَلَتْ رَدًّا عَلَى الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالُوا بِأَنَّ مَا يُورِدُهُ مُحَمَّدٌ سَيَنْفَدُ، فَقَالَ إِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ لَا يَنْفَدُ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ يُنَافِي مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ التَّفْسِيرِ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْكَلَامُ، فَنَقُولُ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ اختلاف

الْأَقْوَالِ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّهُ إِذَا صَلَحَ جَوَابًا لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا وَهِيَ مُتَبَايِنَةُ عُلِمَ أَنَّهَا عَامَّةٌ وَمَا ذَكَرْنَا لَا يُنَافِي هَذَا، لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ عَجِيبٌ مُعْجِزٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّ عَجَائِبَ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا دَخَلَ فِيهَا كَلَامُهُ، لَا يُقَالُ إِنَّكَ جَعَلْتَ الْكَلَامَ مَخْلُوقًا، لِأَنَّا نَقُولُ الْمَخْلُوقُ هُوَ الْحَرْفُ وَالتَّرْكِيبُ وَهُوَ عَجِيبٌ، وَأَمَّا الْكَلِمَاتُ فَهِيَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ وَإِنْ كَانَتْ نَازِلَةً عَلَى تَرْتِيبِ غَيْرِ الَّذِي هُوَ مَكْتُوبٌ، وَلَكِنَّ التَّرْتِيبَ الْمَكْتُوبَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ بِأَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ بِأَمْرِ الرَّسُولِ كُتِبَ كَذَلِكَ، وَأَمْرُ الرَّسُولِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَذَلِكَ مُحَقَّقٌ مُتَيَقَّنٌ مِنْ سُنَنِ التَّرْتِيبِ الَّذِي فِيهِ، ثُمَّ إِنَّ الْآيَةَ فِيهَا لَطَائِفُ الْأُولَى: قَالَ: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَحَّدَ الشَّجَرَةَ وَجَمَعَ الْأَقْلَامَ وَلَمْ يَقُلْ وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْأَشْجَارِ أَقْلَامٌ وَلَا قَالَ وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ قَلَمٌ إِشَارَةً إِلَى التَّكْثِيرِ، يَعْنِي وَلَوْ أَنَّ بِعَدَدِ كُلِّ شَجَرَةٍ أَقْلَامًا الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ تَعْرِيفُ الْبَحْرِ بِاللَّامِ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ وَكُلُّ بَحْرٍ مِدَادٌ، ثُمَّ قَوْلُهُ: يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ إِشَارَةٌ إِلَى بِحَارٍ غَيْرِ مَوْجُودَةٍ، يَعْنِي لَوْ مُدَّتِ الْبِحَارُ الْمَوْجُودَةُ بِسَبْعَةِ أَبْحُرٍ أُخَرَ وَقَوْلُهُ: سَبْعَةُ لَيْسَ لِانْحِصَارِهَا فِي سَبْعَةٍ، وَإِنَّمَا الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَدَدِ وَالْكَثْرَةِ وَلَوْ بِأَلْفِ بَحْرٍ، وَالسَّبْعَةُ خُصِّصَتْ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ الْأَعْدَادِ، لِأَنَّهَا عَدَدٌ كَثِيرٌ يَحْصُرُ الْمَعْدُودَاتِ فِي الْعَادَةِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ مَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ هُوَ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ، لِأَنَّ الْمَكَانَ فِيهِ الْأَجْسَامُ وَالزَّمَانَ فِيهِ الْأَفْعَالُ، لَكِنَّ الْمَكَانَ مُنْحَصِرٌ فِي سَبْعَةِ أَقَالِيمَ وَالزَّمَانَ فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَلِأَنَّ الْكَوَاكِبَ السَّيَّارَةَ سَبْعَةٌ، وَكَانَ الْمُنَجِّمُونَ يَنْسُبُونَ إِلَيْهَا أُمُورًا، فَصَارَتِ السَّبْعَةُ كَالْعَدَدِ الْحَاصِرِ لِلْكَثْرَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْعَادَةِ فَاسْتُعْمِلَتْ فِي كُلِّ كَثِيرٍ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْآحَادَ إِلَى الْعَشَرَةِ وَهِيَ الْعِقْدُ الْأَوَّلُ وَمَا بَعْدَهُ يَبْتَدِئُ مِنَ الْآحَادِ مَرَّةً أُخْرَى فَيُقَالُ أَحَدَ عَشَرَ وَاثْنَا عَشَرَ، ثُمَّ الْمِئَاتُ مِنَ الْعَشَرَاتِ وَالْأُلُوفُ مِنَ الْمِئَاتِ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ أَقَلُّ مَا يَلْتَئِمُ مِنْهُ أَكْثَرُ الْمَعْدُودَاتِ هُوَ الثَّلَاثَةُ، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى طَرَفَيْنِ مَبْدَأٌ وَمُنْتَهًى وَوَسَطٌ، وَلِهَذَا يُقَالُ أَقَلُّ مَا يَكُونُ الِاسْمُ وَالْفِعْلُ مِنْهُ هُوَ ثَلَاثَةَ أَحْرُفٍ، فَإِذَا كَانَتِ الثَّلَاثَةُ هُوَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ مِنَ الْعَشَرَةِ الَّتِي هُوَ الْعَدَدُ الْأَصْلِيُّ تَبْقَى/ السَّبْعَةُ الْقِسْمَ الْأَكْثَرَ، فَإِذَا أُرِيدَ بَيَانُ الْكَثْرَةِ ذُكِرَتِ السَّبْعَةُ، وَلِهَذَا فَإِنَّ الْمَعْدُودَاتِ فِي الْعِبَادَاتِ مِنَ التَّسْبِيحَاتِ فِي الِانْتِقَالَاتِ فِي الصَّلَوَاتِ ثَلَاثَةٌ، وَالْمِرَارُ فِي الْوُضُوءِ ثَلَاثَةٌ تَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ عَلَى الْمُكَلَّفِ اكْتِفَاءً بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» إِشَارَةٌ إِلَى قِلَّةِ الْأَكْلِ وَكَثْرَتِهِ مِنْ غَيْرِ إِرَادَةِ السَّبْعَةِ بِخُصُوصِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ لِجَهَنَّمَ سَبْعَةَ أَبْوَابٍ بِهَذَا التَّفْسِيرِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا فَقَوْلُنَا لِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ إِشَارَةٌ إِلَى زِيَادَتِهَا فَإِنَّ فِيهَا الْحُسْنَى وَزِيَادَةً فَلَهَا أَبْوَابٌ كَثِيرَةٌ وَزَائِدَةٌ عَلَى كَثْرَةِ غَيْرِهَا، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي السَّبْعَةِ أَنَّ الْعَرَبَ عِنْدَ الثَّامِنِ يَزِيدُونَ وَاوًا، يَقُولُ الْفَرَّاءُ إِنَّهَا وَاوُ الثَّمَانِيَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلِاسْتِئْنَافِ لِأَنَّ الْعَدَدَ بِالسَّبْعَةِ يَتِمُّ فِي الْعُرْفِ، ثُمَّ بِالثَّامِنِ اسْتِئْنَافٌ جَدِيدٌ اللَّطِيفَةُ الثَّالِثَةُ: لَمْ يَقُلْ فِي الْأَقْلَامِ الْمَدَدَ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: هُوَ أَنَّ قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هُوَ أَنْ يَكُونَ بِعَدَدِ كُلِّ شَجَرَةٍ مَوْجُودَةٍ أَقْلَامٌ فَتَكُونُ الْأَقْلَامُ أَكْثَرَ مِنَ الْأَشْجَارِ الْمَوْجُودَةِ وَقَوْلُهُ في البحر: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ ... سَبْعَةُ أَبْحُرٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْبَحْرَ لَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الْمَوْجُودِ لَاسْتَوَى الْقَلَمُ وَالْبَحْرُ فِي الْمَعْنَى وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ النُّقْصَانَ بِالْكِتَابَةِ يَلْحَقُ الْمِدَادَ أَكْثَرَ فَإِنَّهُ هُوَ النَّافِدُ وَالْقَلَمُ الْوَاحِدُ يُمْكِنُ أَنْ يُكْتَبَ بِهِ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ فَذَكَرَ الْمَدَدَ فِي الْبَحْرِ الَّذِي هُوَ كَالْمِدَادِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لما ذكر أن ملكوته كثيرا أشار إلى ما يحقق ذلك فقال: إِنَّهُ عَزِيزٌ

[سورة لقمان (31) : آية 29]

حَكِيمٌ أَيْ كَامِلُ الْقُدْرَةِ فَيَكُونُ لَهُ مَقْدُورَاتٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَإِلَّا لَانْتَهَتِ الْقُدْرَةُ إِلَى حَيْثُ لَا تَصْلُحُ لِلْإِيجَادِ وَهُوَ حَكِيمٌ كَامِلُ الْعِلْمِ فَفِي عِلْمِهِ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ فَتَحَقَّقَ أَنَّ الْبَحْرَ لَوْ كَانَ مِدَادًا لَمَا نَفِدَ مَا فِي عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ لَمَّا بَيَّنَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ ذَكَرَ ما يبطل «1» استبعادهم للمعشر وَقَالَ: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ وَمَنْ لَا نَفَادَ لِكَلِمَاتِهِ يَقُولُ لِلْمَوْتَى كُونُوا فَيَكُونُوا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ سَمِيعٌ لِمَا يَقُولُونَ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ فَإِذًا كَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى الْبَعْثِ وَمُحِيطًا بِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ يُوجِبُ ذَلِكَ الِاجْتِنَابَ التَّامَّ وَالِاحْتِرَازَ الكامل. ثم قال تعالى: [سورة لقمان (31) : آية 29] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ وَجْهَ التَّرْتِيبِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [لقمان: 20] عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ ذَكَرَ مِنْهَا بَعْضَ مَا هُوَ فِيهِمَا عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ بِقَوْلِهِ: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَقَوْلُهُ: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ إشارة إلى ما في السموات، وَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ [لُقْمَانَ: 31] إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي الْأَرْضِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ وَجْهَهُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْبَعْثَ وَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الْجَاثِيَةِ: 24] وَالدَّهْرُ هُوَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ الَّتِي تَنْسُبُونَ إِلَيْهَا الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ هِيَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ثُمَّ إِنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ إِنَّ ذَلِكَ اخْتِلَافٌ مُسَيَّرٌ الشَّمْسُ تَارَةً تَكُونُ الْقَوْسَ «2» الَّتِي هِيَ فَوْقَ الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنَ الَّتِي تَحْتَ الْأَرْضِ فَيَكُونُ اللَّيْلُ أَقْصَرَ وَالنَّهَارُ أَطْوَلَ وَتَارَةً تَكُونُ بِالْعَكْسِ وَتَارَةً يَتَسَاوَيَانِ فَيَتَسَاوَيَانِ فَقَالَ تَعَالَى: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يَعْنِي إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا فِي أَوَائِلِهَا مِنَ اللَّهِ فَلَا بُدَّ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهَا بِأَسْرِهَا عَائِدَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَالْآجَالُ إِنْ كَانَتْ بِالْمَدَدِ وَالْمَدَدُ بِسَيْرِ الْكَوَاكِبِ فَسَيْرُ الْكَوَاكِبِ لَيْسَ إِلَّا بِاللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِيلَاجُ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ إِيلَاجُ اللَّيْلِ فِي زَمَانِ النَّهَارِ أَيْ يَجْعَلُ فِي الزَّمَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ النَّهَارُ اللَّيْلَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّيْلَ إِذَا كَانَ مَثَلًا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً ثُمَّ يَطُولُ يَصِيرُ اللَّيْلُ مَوْجُودًا فِي زَمَانٍ كَانَ فِيهِ النَّهَارُ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ إِيلَاجُ زَمَانِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ أَيْ يَجْعَلُ زَمَانَ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّيْلَ إِذَا كَانَ كَمَا ذَكَرْنَا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً إِذَا قَصَّرَ صَارَ زَمَانُ اللَّيْلِ مَوْجُودًا فِي النَّهَارِ وَلَا يُمْكِنُ غَيْرُ هَذَا لِأَنَّ إِيلَاجَ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ مُحَالُ الْوُجُودِ فَمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْإِضْمَارِ لَا بُدَّ مِنْهُ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِأَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَفْعَالٌ وَالْأَفْعَالُ فِي الْأَزْمِنَةِ لِأَنَّ الزَّمَانَ ظَرْفٌ فَقَوْلُنَا اللَّيْلُ فِي زَمَانِ النَّهَارِ أَقْرَبُ مِنْ قَوْلِنَا زَمَانُ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ لِأَنَّ الثَّانِيَ يَجْعَلُ الظَّرْفَ مَظْرُوفًا. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ أَيْ يُوجِدُهُ فِي وَقْتٍ كَانَ فِيهِ النَّهَارُ وَاللَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ إِيجَادَ اللَّيْلِ عَلَى إِيجَادِ النَّهَارِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى:

_ (1) في النسخة الأميرية «يباطل» وهو تصحيف. (2) في النسخة الأميرية «تكون النفوس» وهي لا معنى لها ولعل ما ذكرته هو الصواب.

[سورة لقمان (31) : آية 30]

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ [الْإِسْرَاءِ: 12] وَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: 1] وَقَوْلِهِ: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الجاثية: 5] وَمِنْ جِنْسِهِ قَوْلُهُ: خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الْمُلْكِ: 2] وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَسْأَلَةٍ حُكْمِيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ الظُّلْمَةَ قَدْ يُظَنُّ بِهَا أَنَّهَا عَدَمُ النُّورِ وَاللَّيْلُ عَدَمُ النُّورِ وَاللَّيْلُ عَدَمُ النَّهَارِ وَالْحَيَاةُ عَدَمُ الْمَوْتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذْ فِي الْأَزَلِ لَمْ يَكُنْ نَهَارٌ وَلَا نُورٌ وَلَا حَيَاةٌ لِمُمْكِنٍ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ كَانَ فِيهِ مَوْتٌ أَوْ ظُلْمَةٌ أَوْ لَيْلٌ فَهَذِهِ الْأُمُورُ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ فَالْعَمَى وَالصَّمَمُ لَيْسَ مُجَرَّدَ عَدَمِ الْبَصَرِ وَعَدَمِ السَّمْعِ إِذِ الْحَجَرُ وَالشَّجَرُ لَا بَصَرَ لَهُمَا وَلَا سَمْعَ وَلَا يُقَالُ لِشَيْءٍ مِنْهُمَا إِنَّهُ أَصَمُّ أَوْ أَعْمَى إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْعَمَى وَالصَّمَمُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ اقْتِضَاءٌ لِخِلَافِهِمَا وَإِلَّا لَمَا كَانَ يُقَالُ لَهُ أَعْمَى وَأَصَمُّ وَمَا يَكُونُ فِيهِ اقْتِضَاءُ شَيْءٍ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ/ لَا تَطْلُبُ النَّفْسُ لَهُ سَبَبًا، لِأَنَّ مَنْ يَرَى الْمُتَعَيِّشَ فِي السُّوقِ، لَا يَقُولُ لِمَ دَخَلَ السُّوقَ وَمَا يَثْبُتُ «1» عَلَى خِلَافِ الْمُقْتَضَى تَطْلُبُ النَّفْسُ لَهُ سَبَبًا، كَمَنْ يَرَى مَلِكًا فِي السُّوقِ يَقُولُ لِمَ دَخَلَ، فَإِذَنْ سَبَبُ الْعَمَى وَالصَّمَمِ يَطْلُبُهُ كُلُّ وَاحِدٍ فَيَقُولُ لِمَ صَارَ فُلَانٌ أَعْمَى وَلَا يَقُولُ لِمَ صَارَ فُلَانٌ بَصِيرًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مَا تَطْلُبُ النَّفْسُ سَبَبَهُ وَهُوَ اللَّيْلُ الَّذِي هُوَ عَلَى وِزَانِ الْعَمَى وَالظُّلْمَةِ وَالْمَوْتِ لِكَوْنِ كل واحد طلبا سَبَبَهُ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ الْأَمْرَ الْآخَرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ: يُولِجُ بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ وَقَالَ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ سَخَّرَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِأَنَّ إِيلَاجَ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ أَمْرٌ يَتَجَدَّدُ كُلَّ فَصْلٍ بَلْ كُلَّ يَوْمٍ وَتَسْخِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَمْرٌ مُسْتَمِرٌّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: 39] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَدَّمَ الشَّمْسَ عَلَى الْقَمَرِ مَعَ تَقَدُّمِ اللَّيْلِ الَّذِي فِيهِ سُلْطَانُ الْقَمَرِ عَلَى النَّهَارِ الَّذِي فِيهِ سُلْطَانُ الشَّمْسِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تَقْدِيمَ اللَّيْلِ كَانَ لِأَنَّ الْأَنْفُسَ تَطْلُبُ سَبَبَهُ أَكْثَرَ مِمَّا تَطْلُبُ سَبَبَ النَّهَارِ، وَهَاهُنَا كَذَلِكَ، لِأَنَّ الشَّمْسَ لَمَّا كَانَتْ أَكْبَرَ وَأَعْظَمَ كَانَتْ أَعْجَبَ، وَالنَّفْسُ تَطْلُبُ سَبَبَ الْأَمْرِ الْعَجِيبِ أَكْثَرَ مِمَّا تَطْلُبُ سَبَبَ الْأَمْرِ الَّذِي لَا يَكُونُ عَجِيبًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا تَعَلُّقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ بِمَا تَقَدَّمَ؟ نَقُولُ لَمَّا كَانَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مَحَلَّ الْأَفْعَالِ بَيَّنَ أَنَّ مَا يَقَعُ فِي هَذَيْنِ الزَّمَانَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا بِتَصَرُّفِ اللَّهِ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَكَأَنَّهُ تَرَكَ الْخِطَابَ مَعَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ مَنْ هُوَ غَيْرُهُ مِنَ الْكُفَّارِ لَا فَائِدَةَ لِلْخِطَابِ مَعَهُمْ لِإِصْرَارِهِمْ، وَمَنْ هُوَ غَيْرُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَهُمْ مُؤْتَمِرُونَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَاظِرُونَ إِلَيْهِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْوَعْظُ وَالْوَاعِظُ يُخَاطِبُ وَلَا يُعَيِّنُ أَحَدًا فَيَقُولُ لِجَمْعٍ عَظِيمٍ: يَا مِسْكِينُ إِلَى اللَّهِ مَصِيرُكَ، فَمَنْ نَصِيرُكَ، وَلِمَاذَا تَقْصِيرُكَ. فَقَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ يَكُونُ خِطَابًا مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ أَيْ يَا أَيُّهَا الْغَافِلُ أَلَمْ تر هذا الأمر الواضح. ثم قال تعالى: [سورة لقمان (31) : آية 30] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَوْصَافَ الْكَمَالِ بقوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [لقمان: 26] وقوله: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان: 27] وقوله: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [لقمان: 28] وأشار إلى الإرادة والكمال بقوله:

_ (1) في النسخة الأميرية «وما ينبت» ولعل ما ذكرته هو الأولى.

[سورة لقمان (31) : آية 31]

ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [لقمان: 27] وبقوله: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ [لقمان: 29] وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: هُوَ الْغَنِيُّ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ صِفَةٍ سَلْبِيَّةٍ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ غَنِيًّا لَا يَكُونُ عَرَضًا مُحْتَاجًا إِلَى الْجَوْهَرِ فِي الْقَوَامِ، وَلَا جِسْمًا مُحْتَاجًا إِلَى الْحَيِّزِ فِي الدَّوَامِ، وَلَا شَيْئًا مِنَ/ الْمُمْكِنَاتِ الْمُحْتَاجَةِ إِلَى الْمُوجِدِ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ جَمِيعَ الْأَوْصَافِ الثُّبُوتِيَّةِ صَرِيحًا وَتَضَمُّنًا، فَإِنَّ الْحَيَاةَ فِي ضِمْنِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ قَالَ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أَيْ ذَلِكَ الِاتِّصَافُ بِأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ وَالْحَقُّ هُوَ الثُّبُوتُ وَالثَّابِتُ اللَّهُ وَهُوَ الثَّابِتُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَا زَوَالَ لَهُ وَهُوَ الثُّبُوتُ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ أَنَّ وُجُودَهُ غَيْرُ حَقِيقَتِهِ فَكُلُّ مَا عَدَاهُ فَلَهُ زَوَالٌ نَظَرًا إِلَيْهِ وَاللَّهُ لَهُ الثُّبُوتُ وَالْوُجُودُ نَظَرًا إِلَيْهِ فَهُوَ الْحَقُّ وَمَا عَدَاهُ الْبَاطِلُ لِأَنَّ الْبَاطِلَ هُوَ الزَّائِلُ يُقَالُ بَطَلَ ظِلُّهُ إِذَا زَالَ وَإِذَا كَانَ لَهُ الثُّبُوتُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَكُونُ تَامًّا لَا نَقْصَ فِيهِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْحُكَمَاءَ قَالُوا اللَّهُ تَامٌّ وَفَوْقَ التَّمَامِ وَجَعَلُوا الْأَشْيَاءَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ نَاقِصٌ وَمُكْتَفٍ وَتَامٌّ وَفَوْقَ التَّمَامِ (فَالنَّاقِصُ) مَا لَيْسَ لَهُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ كَالصَّبِيِّ وَالْمَرِيضِ وَالْأَعْمَى (وَالْمُكْتَفِي) وَهُوَ الَّذِي أُعْطِيَ مَا يَدْفَعُ بِهِ حَاجَتَهُ فِي وَقْتِهِ كَالْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ الَّذِي لَهُ مِنَ الْآلَاتِ مَا يَدْفَعُ بِهِ حَاجَتَهُ فِي وَقْتِهَا لَكِنَّهَا فِي التَّحَلُّلِ وَالزَّوَالِ (وَالتَّامُّ) مَا حَصَلَ لَهُ كُلُّ مَا جَازَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهِ كَالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ لَهُمْ دَرَجَاتٌ لَا تَزْدَادُ وَلَا يَنْقُصُ اللَّهُ مِنْهَا لَهُمْ شَيْئًا كَمَا قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَوْ دَنَوْتُ أُنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتَ» لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصَّافَّاتِ: 164] (وَفَوْقَ التَّمَامِ) هُوَ الَّذِي حَصَلَ لَهُ مَا جَازَ لَهُ وَحَصَلَ لِمَا عَدَاهُ مَا جَازَ لَهُ أَوِ احْتَاجَ إِلَيْهِ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَاصِلٌ لَهُ كُلَّ مَا يَجُوزُ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ، فَهُوَ تَامٌّ وَحَصَلَ لِغَيْرِهِ كُلُّ مَا جَازَ لَهُ أَوِ احْتَاجَ إِلَيْهِ فَهُوَ فَوْقُ التَّمَامِ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ: هُوَ الْحَقُّ إِشَارَةٌ إِلَى التَّمَامِ وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أَيْ فَوْقَ التَّمَامِ وَقَوْلُهُ: هُوَ الْعَلِيُّ أَيْ فِي صِفَاتِهِ وَقَوْلُهُ: الْكَبِيرُ أَيْ فِي ذَاتِهِ وَذَلِكَ يُنَافِي أَنْ يَكُونَ جِسْمًا فِي مَكَانٍ لِأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ جَسَدًا مُقَدَّرًا بِمِقْدَارٍ فَيُمْكِنُ فَرْضُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ فَيَكُونُ صَغِيرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَفْرُوضِ لَكِنَّهُ كَبِيرٌ من مطلقا أكبر من كل ما يتصور. [سورة لقمان (31) : آية 31] أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ لَمَّا ذَكَرَ آيَةً سَمَاوِيَّةً بِقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ [لقمان: 29] وَأَشَارَ إِلَى السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ ذَكَرَ آيَةً أَرْضِيَّةً، وَأَشَارَ إِلَى السَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ فَقَوْلُهُ: الْفُلْكَ تَجْرِي إشارة إلى المسبب وقوله: بِنِعْمَتِ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى السَّبَبِ أَيْ إِلَى الرِّيحِ الَّتِي هِيَ بِأَمْرِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ يَعْنِي يُرِيَكُمْ بِإِجْرَائِهَا بِنِعْمَتِهِ مِنْ آياتِهِ أَيْ بَعْضِ آيَاتِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ/ صَبَّارٍ شَكُورٍ صَبَّارٌ فِي الشِّدَّةِ شَكُورٌ فِي الرَّخَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مُتَذَكِّرٌ عِنْدَ الشِّدَّةِ وَالْبَلَاءِ عِنْدَ النِّعَمِ وَالْآلَاءِ فَيَصْبِرُ إِذَا أَصَابَتْهُ نِقْمَةٌ وَيَشْكُرُ إِذَا أَتَتْهُ نِعْمَةٌ وَوَرَدَ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ «الْإِيمَانُ نِصْفَانِ نِصْفٌ صَبْرٌ وَنِصْفٌ شُكْرٌ» إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّكَالِيفَ أَفْعَالٌ وَتُرُوكٌ وَالتُّرُوكُ صَبْرٌ عَنِ الْمَأْلُوفِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الصَّوْمُ صَبْرٌ وَالْأَفْعَالُ شُكْرٌ عَلَى الْمَعْرُوفِ» . ثم قال تعالى: [سورة لقمان (31) : آية 32] وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)

[سورة لقمان (31) : آية 33]

لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ ذَكَرَ أَنَّ الْكُلَّ مُعْتَرِفُونَ بِهِ غَيْرَ أَنَّ الْبَصِيرَ يُدْرِكُهُ أَوَّلًا وَمَنْ فِي بَصَرِهِ ضَعْفٌ لَا يُدْرِكُهُ أَوَّلًا، فَإِذَا غَشِيَهُ مَوْجٌ وَوَقَعَ فِي شِدَّةٍ اعْتَرَفَ بِأَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ وَدَعَاهُ مُخْلِصًا أَيْ يَتْرُكُ كُلَّ مَنْ عَدَاهُ وَيَنْسَى جَمِيعَ مَنْ سِوَاهُ، فَإِذَا نَجَّاهُ مِنْ تِلْكَ الشِّدَّةِ قَدْ بَقِيَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَقَدْ يَعُودُ إِلَى الشِّرْكِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: مَوْجٌ كَالظُّلَلِ وَحَدَّ الْمَوْجَ وَجَمَعَ الظُّلَلَ، وَقِيلَ فِي مَعْنَاهُ كَالْجِبَالِ، وَقِيلَ كَالسَّحَابِ إِشَارَةٌ إِلَى عِظَمِ الْمَوْجِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمَوْجُ الْوَاحِدُ الْعَظِيمُ يَرَى فِيهِ طُلُوعٌ وَنُزُولٌ وَإِذَا نَظَرْتَ فِي الْجَرْيَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ النَّهْرِ الْعَظِيمِ تَبَيَّنَ لَكَ ذَلِكَ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالْجِبَالِ الْمُتَلَاصِقَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ فِي الْعَنْكَبُوتِ فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ ثُمَّ قَالَ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 65] وقال هاهنا فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ فَنَقُولُ لما ذكر هاهنا أَمْرًا عَظِيمًا وَهُوَ الْمَوْجُ الَّذِي كَالْجِبَالِ بَقِيَ أَثَرُ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ فَخَرَجَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ أَيْ فِي الْكُفْرِ وَهُوَ الَّذِي انْزَجَرَ بَعْضَ الِانْزِجَارِ، أَوْ مُقْتَصِدٌ فِي الْإِخْلَاصِ فَبَقِيَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْهُ وَلَمْ يَبْقَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ، وَهُنَاكَ لَمْ يَذْكُرْ مَعَ رُكُوبِ الْبَحْرِ مُعَايَنَةً مِثْلَ ذَلِكَ الْأَمْرِ فَذَكَرَ إِشْرَاكَهُمْ حَيْثُ لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ أَثَرٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا فِي مُقَابَلَةِ قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ [لقمان: 31] يَعْنِي يَعْتَرِفُ بِهَا الصَّبَّارُ الشَّكُورُ، وَيَجْحَدُهَا الْخَتَّارُ الْكَفُورُ وَالصَّبَّارُ فِي مُوَازَنَةِ الْخَتَّارِ لَفْظًا، وَمَعْنًى الكفور فِي مُوَازَنَةِ الشَّكُورِ، أَمَّا لَفْظًا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّ الْخَتَّارَ هُوَ الْغَدَّارُ الْكَثِيرُ الْغَدْرِ أَوِ الشَّدِيدُ الْغَدْرِ، وَالْغَدْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قِلَّةِ الصَّبْرِ، لِأَنَّ الصَّبُورَ إِنْ لَمْ يَكُنْ يَعْهَدُ مَعَ أَحَدٍ لَا يُعْهَدُ مِنْهُ الْإِضْرَارُ، فَإِنَّهُ يَصْبِرُ وَيُفَوِّضُ الْأَمْرَ إِلَى اللَّهِ وَأَمَّا الْغَدَّارُ فَيَعْهَدُ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى/ الْعَهْدِ فَيَنْقُضُهُ، وَأَمَّا أَنَّ الْكَفُورَ فِي مُقَابَلَةِ الشَّكُورِ معنى فظاهر. ثم قال تعالى: [سورة لقمان (31) : آية 33] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى آخِرِهَا وَعَظَ بِالتَّقْوَى لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ وَاحِدًا أَوْجَبَ التَّقْوَى الْبَالِغَةَ فَإِنَّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ بِيَدِ اثْنَيْنِ لَا يَخَافُ أَحَدُهُمَا مِثْلَ مَا يَخَافُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِيَدِ أَحَدِهِمَا لَا غَيْرُ، ثُمَّ أَكَّدَ الْخَوْفَ بِذِكْرِ الْيَوْمِ الَّذِي يَحْكُمُ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا كَانَ وَاحِدًا وَيَعْهَدُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا وَلَا يَسْتَعْرِضُ عِبَادَهُ، لَا يَخَافُ مِنْهُ مِثْلَ مَا يَخَافُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ لَهُ يَوْمَ اسْتِعْرَاضٍ وَاسْتِكْشَافٍ، ثُمَّ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجْرِمَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ لَهُ عِنْدَ الْمَلِكِ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي حَقِّهِ وَيَقْضِي مَا يَخْرُجُ عَلَيْهِ بِرِفْدٍ مِنْ كَسْبِهِ لَا يَخَافُ مِثْلَ مَا يَخَافُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَنْ يَقْضِي عَنْهُ مَا يَخْرُجُ عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ شَخْصَيْنِ فِي غَايَةِ الشَّفَقَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَهُمَا الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ لِيَسْتَدِلَّ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، وَذِكْرُ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ جَمِيعًا فِيهِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنْ مِنَ الْأُمُورِ مَا يُبَادِرُ الْأَبُ إِلَى التَّحَمُّلِ عَنِ الْوَلَدِ كَدَفْعِ الْمَالِ وَتَحَمُّلِ الْآلَامِ وَالْوَلَدُ لَا يُبَادِرُ إِلَى تَحَمُّلِهِ عَنِ الْوَالِدِ مِثْلَ مَا يُبَادِرُ الْوَالِدُ إِلَى تَحَمُّلِهِ عَنِ الْوَلَدِ، وَمِنْهَا مَا يُبَادِرُ الْوَلَدُ إِلَى تَحَمُّلِهِ عَنِ الْوَالِدِ وَلَا يُبَادِرُ الْوَالِدُ إِلَى تَحَمُّلِهِ عَنِ الْوَلَدِ كَالْإِهَانَةِ، فَإِنَّ مَنْ يُرِيدُ إِحْضَارَ وَالِدِ أَحَدٍ عِنْدَ وَالٍ أَوْ قَاضٍ يَهُونُ عَلَى الِابْنِ أَنْ يَدْفَعَ الْإِهَانَةَ عَنْ

[سورة لقمان (31) : آية 34]

وَالِدِهِ وَيَحْضُرَ هُوَ بَدَلَهُ، فَإِذَا انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى الْإِيلَامِ يَهُونُ عَلَى الْأَبِ أَنْ يَدْفَعَ الْإِيلَامَ عَنِ ابْنِهِ وَيَتَحَمَّلَهُ هُوَ بِنَفْسِهِ فَقَوْلُهُ: لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ فِي دَفْعِ الْآلَامِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً فِي دَفْعِ الْإِهَانَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: لَا يَجْزِي وَقَوْلُهُ: وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ (لَطِيفَةٌ أُخْرَى) وَهِيَ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفِعْلَ يَتَأَتَّى وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَنْبَغِي وَلَا يَكُونُ مِنْ شَأْنِهِ لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا كَانَ يَخِيطُ شَيْئًا يُقَالُ إِنَّهُ يَخِيطُ وَلَا يُقَالُ هُوَ خَيَّاطٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَحِيكُ شَيْئًا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ صَنْعَتَهُ يُقَالُ هُوَ يَحِيكُ وَلَا يُقَالُ هُوَ حَائِكٌ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَنَقُولُ الِابْنُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ جَازِيًا عَنْ وَالِدِهِ لِمَا لَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْوَالِدُ يَجْزِي لِمَا فِيهِ مِنَ الشَّفَقَةِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ فِي الْوَالِدِ لَا يَجْزِي وَقَالَ فِي الْوَلَدِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَحْقِيقًا لِلْيَوْمِ يَعْنِي/ اخْشَوْا يَوْمًا هَذَا شَأْنُهُ وَهُوَ كَائِنٌ لِوَعْدِ اللَّهِ بِهِ وَوَعْدُهُ حَقٌّ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَحْقِيقًا لِعَدَمِ الْجَزَاءِ يَعْنِي: لَا يَجْزِي والد عن ولده لأن الله وعد بألا تزر وازرة وزر أخرى وَوَعْدُ اللَّهِ حَقٌّ، فَلَا يَجْزِي وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ وَأَظْهَرُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا يَعْنِي إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا تَغْتَرُّوا بِالدُّنْيَا فَإِنَّهَا زَائِلَةٌ لِوُقُوعِ [ذَلِكَ] الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ بِالْوَعْدِ الْحَقِّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ يَعْنِي الدُّنْيَا لَا يَنْبَغِي أَنْ تَغُرَّكُمْ بِنَفْسِهَا وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَغْتَرُّوا [بِهَا] وَإِنْ حَمَلَكُمْ عَلَى مَحَبَّتِهَا غَارٌّ مِنْ نَفْسٍ أَمَّارَةٍ أَوْ شَيْطَانٍ فَكَانَ النَّاسُ عَلَى أَقْسَامٍ مِنْهُمْ مَنْ تَدْعُوهُ الدُّنْيَا إِلَى نَفْسِهَا فَيَمِيلُ إِلَيْهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَسْوِسُ فِي صَدْرِهِ الشَّيْطَانُ وَيُزَيِّنُ فِي عَيْنِهِ الدُّنْيَا وَيُؤَمِّلُهُ وَيَقُولُ إِنَّكَ تُحَصِّلُ بِهَا الْآخِرَةَ أَوْ تَلْتَذُّ بِهَا ثُمَّ تَتُوبُ فَتَجْتَمِعُ لَكَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، فَنَهَاهُمْ عَنِ الْأَمْرَيْنِ وَقَالَ كُونُوا قِسْمًا ثَالِثًا، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَا إِلَى من يحسن الدنيا في الأعين. ثم قال تعالى: [سورة لقمان (31) : آية 34] إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) يَقُولُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَفَى عِلْمَ أُمُورٍ خَمْسَةٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنْ غَيْرِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ الَّذِي كَانَ فِي كَثِيبِ رَمْلٍ فِي زَمَانِ الطُّوفَانِ وَنَقَلَهُ الرِّيحُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ كَمْ مَرَّةٍ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ أين هو ولا يعلمه غيره، ولأن يَعْلَمُ أَنَّهُ يُوجَدُ بَعْدَ هَذِهِ السِّنِينَ ذَرَّةٌ فِي بَرِّيَّةٍ لَا يَسْلُكُهَا أَحَدٌ وَلَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، فَلَا وَجْهَ لِاخْتِصَاصِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالذِّكْرِ وَإِنَّمَا الْحَقُّ فِيهِ أَنْ نَقُولَ لَمَّا قَالَ الله: اخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَذَكَرَ أَنَّهُ كَائِنٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ فَمَتَى يَكُونُ هَذَا الْيَوْمُ فأجيب بأن هذا العلم ما لَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَكِنْ هُوَ كَائِنٌ، ثم ذكر الدليلين الذين ذَكَرْنَاهُمَا مِرَارًا عَلَى الْبَعْثِ أَحَدُهُمَا: إِحْيَاءُ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى [الروم: 49، 50] وقال تعالى: وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ [الروم: 19] وقال هاهنا يَا أَيُّهَا السَّائِلُ إِنَّكَ لَا تَعْلَمُ وَقْتَهَا وَلَكِنَّهَا كَائِنَةٌ وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهَا كَمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَرْضِ حَيْثُ قَالَ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ [الشورى: 28]

وقال: وَيُحْيِ الْأَرْضَ [الروم: 19] / وَثَانِيهِمَا: الْخَلْقُ ابْتِدَاءً كَمَا قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الرُّومِ: 27] وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ [الْعَنْكَبُوتِ: 20] إِلَى غير ذلك فقال هاهنا وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ السَّاعَةَ وَإِنْ كُنْتَ لَا تَعْلَمُهَا لَكِنَّهَا كَائِنَةٌ وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهَا، وَكَمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْخَلْقِ فِي الْأَرْحَامِ كَذَلِكَ يَقْدِرُ عَلَى الْخَلْقِ مِنَ الرُّخَامِ، ثُمَّ قَالَ لِذَلِكَ الطَّالِبِ عِلْمَهُ: يَا أَيُّهَا السَّائِلُ إِنَّكَ تَسْأَلُ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا، فَلَكَ أَشْيَاءُ أَهَمُّ مِنْهَا لَا تَعْلَمُهَا، فَإِنَّكَ لَا تَعْلَمُ مَعَاشَكَ وَمَعَادَكَ، وَلَا تَعْلَمُ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا مَعَ أَنَّهُ فِعْلُكَ وَزَمَانُكَ، وَلَا تَعْلَمُ أَيْنَ تَمُوتُ مَعَ أَنَّهُ شُغْلُكَ وَمَكَانُكَ، فَكَيْفَ تَعْلَمُ قِيَامَ السَّاعَةِ مَتَى تَكُونُ، فَاللَّهُ مَا أَعْلَمَكَ كَسْبَ غَدِكَ مَعَ أَنَّ لَكَ فِيهِ فَوَائِدَ تُبْنَى عَلَيْهَا الْأُمُورُ مِنْ يَوْمِكَ، وَلَا أَعْلَمَكَ أَيْنَ تَمُوتُ مَعَ أن لك فيه أغراضا تهيء أُمُورَكَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَإِنَّمَا لَمْ يُعْلِمْكَ لِكَيْ تَكُونَ فِي وَقْتٍ بِسَبَبِ الرِّزْقِ رَاجِعًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ وَلَا أَعْلَمَكَ الْأَرْضَ الَّتِي تَمُوتُ فِيهَا كَيْ لَا تَأْمَنَ الْمَوْتَ وَأَنْتَ فِي غَيْرِهَا، فَإِذَا لَمْ يُعْلِمْكَ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ كَيْفَ يُعْلِمُكَ مَا لَا حَاجَةَ لَكَ إِلَيْهِ، وَهِيَ السَّاعَةُ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إِلَى الْعِلْمِ بِأَنَّهَا تَكُونُ وَقَدْ أُعْلِمْتَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ لَمَّا خَصَّصَ أَوَّلًا عِلْمَهُ بِالْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ، بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ذَكَرَ أَنَّ عِلْمَهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهَا، بَلْ هُوَ عَلِيمٌ مُطْلَقًا بِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ عِلْمُهُ عِلْمًا بِظَاهِرِ الْأَشْيَاءِ فَحَسْبُ، بَلْ خَبِيرٌ عِلْمُهُ وَاصِلٌ إِلَى بَوَاطِنِ الْأَشْيَاءِ، وَاللَّهُ أعلم بالصواب.

سورة السجدة

سُورَةُ السَّجْدَةِ وَتُسَمَّى سُورَةَ الْمَضَاجِعِ مَكِّيَّةٌ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ وَهِيَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً وَقِيلَ ثَلَاثُونَ آية بسم الله الرحمن الرحيم [سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ دَلِيلَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَذَكَرَ الْأَصْلَ وَهُوَ الْحَشْرُ وَخَتَمَ السُّورَةَ بِهِمَا بَدَأَ بِبَيَانِ الرِّسَالَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَقَالَ: الم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَقَدْ عُلِمَ مَا فِي قَوْلِهِ: الم وَفِي قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وغيرها غير أن هاهنا قَالَ: مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ وَقَالَ مِنْ قَبْلُ هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ [لُقْمَانَ: 3] وَقَالَ فِي الْبَقَرَةِ [2] : هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَرَى كِتَابًا عِنْدَ غَيْرِهِ، فَأَوَّلُ مَا تَصِيرُ النَّفْسُ طَالِبَةً تَطْلُبُ مَا فِي الْكِتَابِ فَيَقُولُ مَا هَذَا الْكِتَابُ؟ فَإِذَا قِيلَ هَذَا فِقْهٌ أَوْ تَفْسِيرٌ فَيَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ تَصْنِيفُ مَنْ هُوَ؟ وَلَا يُقَالُ أَوَّلًا: هَذَا الْكِتَابُ تَصْنِيفُ مَنْ؟ ثُمَّ يقول في ماذا هُوَ؟ إِذَا عَلِمَ هَذَا فَقَالَ أَوَّلًا هَذَا الكتاب هدى ورحمة، ثم قال هاهنا هُوَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِأَنَّ كِتَابَ مَنْ يَكُونُ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَكُونُ فِيهِ عَجَائِبُ الْعَالَمِينَ فَتَدْعُو النَّفْسُ إِلَى مطالعته. ثم قال تعالى: [سورة السجده (32) : آية 3] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) يَعْنِي أَتَعْتَرِفُونَ بِهِ أَمْ تَقُولُونَ هُوَ مُفْتَرًى، ثُمَّ أَجَابَ وَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ حَقٌّ مِنْ رَبِّهِ ثُمَّ بَيَّنَ فَائِدَةَ التَّنْزِيلِ وَهُوَ الْإِنْذَارُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَيْفَ قَالَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مَعَ أَنَّ النُّذُرَ سَبَقُوهُ الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَعْقُولٌ وَالْآخَرُ مَنْقُولٌ، أَمَّا الْمَنْقُولُ فَهُوَ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ أُمَّةً أمية لم يأتيهم نذير قبل محمد صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَهُوَ بَعِيدٌ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَوْلَادِ إِبْرَاهِيمَ وَجَمِيعُ/ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَوْلَادِ أَعْمَامِهِمْ وَكَيْفَ كَانَ اللَّهُ يَتْرُكُ قَوْمًا مِنْ وَقْتِ آدَمَ إِلَى زَمَانِ مُحَمَّدٍ بِلَا دِينٍ وَلَا شَرْعٍ؟ وَإِنْ كُنْتَ تَقُولُ بِأَنَّهُمْ مَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِخُصُوصِهِمْ يَعْنِي ذَلِكَ الْقَرْنَ

[سورة السجده (32) : آية 4]

فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالْعَرَبِ بَلْ أَهْلُ الْكِتَابِ أَيْضًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْقَرْنُ قَدْ أَتَاهُمْ رَسُولٌ وَإِنَّمَا أَتَى الرُّسُلُ آبَاءَهُمْ، وَكَذَلِكَ الْعَرَبُ أَتَى الرُّسُلُ آبَاءَهُمْ كَيْفَ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ آبَاءَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانُوا كُفَّارًا وَلِأَنَّ النَّبِيَّ أَوْعَدَهُمْ وَأَوْعَدَ آبَاءَهُمْ بِالْعَذَابِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: 15] وَأَمَّا الْمَعْقُولُ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ عَصْرٍ إِذَا ضَلُّوا بِالْكُلِّيَّةِ وَلَمْ يَبْقَ فِيهِمْ مَنْ يَهْدِيهِمْ يَلْطُفُ بِعِبَادِهِ وَيُرْسِلُ رَسُولًا، ثُمَّ إِنَّهُ إِذَا أَرَادَ طُهْرَهُمْ بِإِزَالَةِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَإِنْ أَرَادَ طُهْرَ وَجْهِ الْأَرْضِ بِإِهْلَاكِهِمْ، ثُمَّ أَهْلُ الْعَصْرِ ضَلُّوا بَعْدَ الرُّسُلِ حتى لم يبق على وجه الأرض عالم هاد ينتفع بهدايته قوم وبقوا على ذلك سنين متطاولة فَلَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ قَبْلَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ أَيْ بَعْدَ الضَّلَالِ الَّذِي كَانَ بَعْدَ الْهِدَايَةِ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ التَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ فَقَوْلُهُ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ إِنْذَارُهُ مُخْتَصًّا بِمَنْ لَمْ يَأْتِهِ نَذِيرٌ لَكِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ أَتَاهُمْ نَذِيرٌ فَلَا يَكُونُ الْكِتَابُ مُنْزَلًا إِلَى الرَّسُولِ لِيُنْذِرَ أَهْلَ الْكِتَابِ فَلَا يَكُونُ رَسُولًا إِلَيْهِمْ نَقُولُ هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يُوجِبُ نَفْيَ مَا عَدَاهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ قَالَ بِهِ قَائِلٌ لَكِنَّهُ وَافَقَ غَيْرَهُ فِي أَنَّ التَّخْصِيصَ إِنْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ غَيْرُ نَفْيِ مَا عَدَاهُ لَا يُوجِبُ نَفْيَ مَا عَدَاهُ، وَهَاهُنَا وُجِدَ ذَلِكَ لِأَنَّ إِنْذَارَهُمْ كَانَ أَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاءِ: 214] وَلَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُنْذِرُ غَيْرَهُمْ أَوْ لَمْ يُؤْمَرْ بِإِنْذَارِ غَيْرِهِمْ وَإِنْذَارُ الْمُشْرِكِينَ كَانَ أَوْلَى، لِأَنَّ إِنْذَارَهُمْ كَانَ بِالتَّوْحِيدِ وَالْحَشْرِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ لَمْ يُنْذَرُوا إِلَّا بِسَبَبِ إِنْكَارِهِمُ الرِّسَالَةَ فَكَانُوا أَوْلَى بِالذِّكْرِ فَوَقَعَ التَّخْصِيصُ لِأَجْلِ ذَلِكَ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَا يُرَدُّ مَا ذَكَرَهُ أَصْلًا، لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا قَدْ ضَلُّوا وَلَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ مِنْ قَبْلِ مُحَمَّدٍ بَعْدَ ضَلَالِهِمْ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُرْسَلًا إِلَى الْكُلِّ عَلَى دَرَجَةٍ سَوَاءٍ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ حُسْنُ مَا اخْتَرْنَاهُ، وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ يَعْنِي تُنْذِرُهُمْ رَاجِيًا أنت اهتداءهم. ثم قال تعالى: [سورة السجده (32) : آية 4] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) [في قَوْلُهُ تَعَالَى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ] لَمَّا ذَكَرَ الرِّسَالَةَ بَيَّنَ مَا عَلَى الرَّسُولِ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَإِقَامَةِ الدَّلِيلِ، فَقَالَ: اللَّهُ الَّذِي/ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اللَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الَّذِي خَلَقَ، يَعْنِي اللَّهُ هُوَ الَّذِي خلق السموات وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَخْلُقْهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ فَلَا إِلَهَ إِلَّا وَاحِدٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ إِشَارَةٌ إِلَى سِتَّةِ أَحْوَالٍ في نظر الناظرين وذلك لأن السموات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ذَاتٌ وَصِفَةٌ فَنَظَرًا إِلَى خَلْقِهِ ذَاتَ السموات حَالَةٌ وَنَظَرًا إِلَى خَلْقِهِ صِفَاتِهَا أُخْرَى وَنَظَرًا إِلَى ذَاتِ الْأَرْضِ وَإِلَى صِفَاتِهَا كَذَلِكَ وَنَظَرًا إِلَى ذَوَاتِ مَا بَيْنَهُمَا وَإِلَى صِفَاتِهَا كَذَلِكَ فَهِيَ سِتَّةُ أَشْيَاءَ عَلَى سِتَّةِ أَحْوَالٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْأَيَّامَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْخَلْقِ رَآهُ فِعْلًا وَالْفِعْلُ ظَرْفُهُ الزَّمَانُ وَالْأَيَّامُ أشهر الأزمنة، وإلا فقبل السموات لَمْ يَكُنْ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ وَهَذَا مِثْلُ مَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ: إِنَّ يَوْمًا وُلِدْتَ فِيهِ ... كَانَ يَوْمًا مُبَارَكًا وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ وُلِدَ لَيْلًا وَلَا يَخْرُجُ عَنْ مُرَادِهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الزَّمَانُ الَّذِي هُوَ ظَرْفُ وِلَادَتِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ

أَحَدُهُمَا: تَرْكُ التَّعَرُّضِ إِلَى بَيَانِ الْمُرَادِ وَثَانِيهُمَا: التَّعَرُّضُ إِلَيْهِ وَالْأَوَّلُ أَسْلَمُ وَإِلَى الْحِكْمَةِ أَقْرَبُ، أَمَّا أَنَّهُ أَسْلَمُ فَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ قَالَ أَنَا لَا أَتَعَرَّضُ إِلَى بَيَانِ هَذَا وَلَا أَعْرِفُ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا، لَا يَكُونُ حَالُهُ إِلَّا حَالَ مَنْ يَتَكَلَّمُ عِنْدَ عَدَمِ وُجُوبِ الْكَلَامِ أَوْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُصُولَ ثَلَاثَةٌ التَّوْحِيدُ وَالْقَوْلُ بِالْحَشْرِ وَالِاعْتِرَافُ بِالرُّسُلِ لَكِنَّ الْحَشْرَ أَجْمَعْنَا وَاتَّفَقْنَا أَنَّ الْعِلْمَ بِهِ وَاجِبٌ وَالْعِلْمُ بِتَفْصِيلِهِ أَنَّهُ مَتَى يَكُونُ غَيْرَ وَاجِبٍ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لُقْمَانَ: 34] فَكَذَلِكَ اللَّهُ يَجِبُ مَعْرِفَةُ وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَاتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَنُعُوتِ الْكَمَالِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَتَعَالِيهِ عَنْ وَصَمَاتِ الْإِمْكَانِ وَصِفَاتِ النُّقْصَانِ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ جَمِيعَ صِفَاتِهِ كَمَا هِيَ، وَصِفَةُ الِاسْتِوَاءِ مِمَّا لَا يَجِبُ الْعِلْمُ بِهَا فَمَنْ تَرَكَ التَّعَرُّضَ إِلَيْهِ لَمْ يَتْرُكْ وَاجِبًا، وَأَمَّا مَنْ يَتَعَرَّضُ إِلَيْهِ فَقَدْ يُخْطِئُ فِيهِ فَيَعْتَقِدُ خِلَافَ مَا هُوَ عَلَيْهِ فَالْأَوَّلُ غَايَةُ مَا يَلْزَمُهُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ، وَالثَّانِي يَكَادُ أَنْ يَقَعَ فِي أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا مُرَكَّبًا وَعَدَمُ الْعِلْمِ الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ كَالسُّكُوتِ وَالْكَذِبِ وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ فِي أَنَّ السُّكُوتَ خَيْرٌ مِنَ الْكَذِبِ، وَأَمَّا إِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْحِكْمَةِ فَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يُطَالِعُ كِتَابًا صَنَّفَهُ إِنْسَانٌ وَكَتَبَ لَهُ شَرْحًا وَالشَّارِحُ دُونَ الْمُصَنِّفِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ مَا أَتَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ، وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا نَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يُورِدُ الْإِشْكَالَاتِ عَلَى الْمُصَنِّفِ الْمُتَقَدِّمِ ثُمَّ يَجِيءُ مَنْ يَنْصُرُ كَلَامَهُ وَيَقُولُ لَمْ يُرِدِ الْمُصَنِّفُ هَذَا وَإِنَّمَا أَرَادَ كَذَا وَكَذَا وَإِذَا كَانَ حَالُ الْكُتُبِ الْحَادِثَةِ الَّتِي تُكْتَبُ عَنْ عِلْمٍ قَاصِرٍ كَذَلِكَ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ الَّذِي فِيهِ كُلُّ حِكْمَةٍ يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ جَاهِلٌ أَنِّي عَلِمْتُ كُلَّ سِرٍّ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَكَيْفَ وَلَوِ ادَّعَى عَالِمٌ أَنِّي عَلِمْتُ كُلَّ سِرٍّ وَكُلَّ فَائِدَةٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْفُلَانِيُّ يُسْتَقْبَحُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَكَيْفَ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ عَلِمَ كُلَّ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ ثُمَّ لَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ كُلَّ مَا أَنْزَلَهُ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ إِلَى/ وَقْتِ الْحَاجَةِ جَائِزٌ وَلَعَلَّ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرُ نَبِيِّهِ فَبَيَّنَ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا عُلِمَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يُعْلَمُ، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى ذَلِكَ الَّذِي لَا يُعْلَمُ، لِلتَّشَابُهِ الْبَالِغِ الَّذِي فِيهِ، لَكِنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ لَهُ شَرْطٌ وَهُوَ أَنْ يَنْفِيَ بَعْضَ مَا يَعْلَمُهُ قَطْعًا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ، وَهَذَا لِأَنَّ قَائِلًا إِذَا قَالَ إِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ قُرْءِ فُلَانَةَ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ مَوْتِ فُلَانَةَ وَلَا يُرِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ سَفَرِ فُلَانَةَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مُنْحَصِرٌ في الطهر أو الحيض فكذلك هاهنا يُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ مَا يُوجِبُ نَقْصًا فِي ذَاتِهِ لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ، وَالْجُلُوسُ وَالِاسْتِقْرَارُ الْمَكَانِيُّ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فَيَجِبُ الْقَطْعُ بِنَفْيِ ذَلِكَ وَالتَّوَقُّفُ فِيمَا يَجُوزُ بَعْدَهُ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: خَطَرٌ وَمَنْ يَذْهَبُ إِلَيْهِ فَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا: مَنْ يَقُولُ الْمُرَادُ ظَاهِرُهُ وَهُوَ الْقِيَامُ وَالِانْتِصَابُ أَوِ الِاسْتِقْرَارُ الْمَكَانِيُّ وَثَانِيهِمَا: مَنْ يَقُولُ الْمُرَادُ الِاسْتِيلَاءُ وَالْأَوَّلُ جَهْلٌ مَحْضٌ وَالثَّانِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَهْلًا وَالْأَوَّلُ مَعَ كَوْنِهِ جَهْلًا هُوَ بِدْعَةٌ وَكَادَ يَكُونُ كُفْرًا، وَالثَّانِي وَإِنْ كَانَ جَهْلًا فَلَيْسَ بِجَهْلٍ يُورِثُ بِدْعَةً، وَهَذَا كَمَا أَنَّ وَاحِدًا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ يَرْحَمُ الْكُفَّارَ وَلَا يُعَاقِبُ أَحَدًا مِنْهُمْ يَكُونُ جَهْلًا وَبِدْعَةً وَكُفْرًا، وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَرْحَمُ زَيْدًا الَّذِي هُوَ مَسْتُورُ الْحَالِ لَا يَكُونُ بِدْعَةً، غَايَةُ مَا يَكُونُ أَنَّهُ اعْتِقَادٌ غَيْرُ مُطَابِقٍ، وَمِمَّا قِيلَ فِيهِ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ اسْتَوَى عَلَى مُلْكِهِ، وَالْعَرْشُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْمُلْكِ، يُقَالُ الْمَلِكُ قَعَدَ عَلَى سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ بِالْبَلْدَةِ الْفُلَانِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا وَهَذَا مِثْلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [الْمَائِدَةِ: 64] إِشَارَةٌ إِلَى الْبُخْلِ، مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا بِأَنَّ عَلَى يَدِ اللَّهِ غُلًّا عَلَى طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، وَلَوْ كَانَ مُرَادُ اللَّهِ ذَلِكَ لَكَانَ كَذِبًا جَلَّ كَلَامُ اللَّهِ عَنْهُ، ثُمَّ لِهَذَا فَضْلُ تَقْرِيرٍ وَهُوَ أَنَّ الْمُلُوكَ عَلَى دَرَجَاتٍ، فَمَنْ يَمْلِكُ مَدِينَةً صَغِيرَةً أَوْ بِلَادًا يَسِيرَةً مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنْ يَجْلِسَ أَوَّلَ مَا يَجْلِسُ عَلَى سَرِيرٍ، وَمَنْ يَكُونُ سُلْطَانًا يَمْلِكُ الْبِلَادَ الشَّاسِعَةَ وَالدِّيَارَ الْوَاسِعَةَ وَتَكُونُ الْمُلُوكُ فِي خِدْمَتِهِ يَكُونُ لَهُ سَرِيرٌ يَجْلِسُ عَلَيْهِ، وَقُدَّامَهُ كُرْسِيٌّ يَجْلِسُ عَلَيْهِ وَزِيرُهُ، فَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ فِي الْعَادَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ

عظمة المملكة، فلما كان ملك السموات وَالْأَرْضِ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ، عَبَّرَ بِمَا يُنْبِئُ فِي الْعُرْفِ عَنِ الْعَظَمَةِ، وَمِمَّا يُنَبِّهُكَ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنَّا خَلَقْنا [الْإِنْسَانِ: 2] إِنَّا زَيَّنَّا [الصَّافَّاتِ: 6] نَحْنُ أَقْرَبُ [ق: 16] نَحْنُ نَزَّلْنَا [الْحِجْرِ: 9] أَيَظُنُّ أَوْ يَشُكُّ مُسْلِمٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ ظَاهِرُهُ مِنَ الشَّرِيكِ وَهَلْ يَجِدُ لَهُ مَحْمَلًا، غَيْرَ أَنَّ الْعَظِيمَ فِي الْعُرْفِ لَا يَكُونُ وَاحِدًا وَإِنَّمَا يَكُونُ مَعَهُ غَيْرُهُ، فَكَذَلِكَ الْمَلِكُ الْعَظِيمُ فِي الْعُرْفِ لَا يَكُونُ إِلَّا ذَا سَرِيرٍ يَسْتَوِي عَلَيْهِ فَاسْتَعْمَلَ ذَلِكَ مُرِيدًا لِلْعَظَمَةِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الْمَقْهُورَ الْمَغْلُوبَ الْمَهْزُومَ يُقَالُ لَهُ ضَاقَتْ بِهِ الْأَرْضُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ مَكَانٌ، أَيَظُنُّ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهُ صَارَ لَا مَكَانَ لَهُ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْجِسْمُ بِلَا مَكَانٍ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ إِلَهَهُ فِي مَكَانٍ كَيْفَ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ عَنِ الْمَكَانِ؟ فَكَمَا يُقَالُ لِلْمَقْهُورِ الْهَارِبِ لَمْ يَبْقَ لَهُ مَكَانٌ مَعَ أَنَّ الْمَكَانَ وَاجِبٌ لَهُ، يُقَالُ لِلْقَادِرِ الْقَاهِرِ هُوَ مُتَمَكِّنٌ وَلَهُ عَرْشٌ، وَإِنْ كَانَ التَّنَزُّهُ عَنِ الْمَكَانِ وَاجِبًا لَهُ، وَعَلَى هَذَا كَلِمَةُ ثُمَّ مَعْنَاهَا خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ، ثُمَّ الْقِصَّةُ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْمُلْكِ، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: فُلَانٌ أَكْرَمَنِي وَأَنْعَمَ عَلَيَّ مِرَارًا، وَيَحْكِي عَنْهُ أَشْيَاءَ، ثُمَّ يَقُولُ إِنَّهُ مَا كَانَ يَعْرِفُنِي وَلَا كُنْتُ فَعَلْتُ مَعَهُ مَا يُجَازِينِي/ بِهَذَا، فَنَقُولُ ثُمَّ لِلْحِكَايَةِ لَا لِلْمَحْكِيِّ الْوَجْهُ الْآخَرُ: قِيلَ اسْتَوَى جَاءَ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى عَلَى الْعَرْشِ، وَاسْتَوَى جَاءَ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى نَقْلًا وَاسْتِعْمَالًا. أَمَّا النَّقْلُ فَكَثِيرٌ مَذْكُورٌ في «كتاب اللُّغَةِ» مِنْهَا دِيوَانُ الْأَدَبِ وَغَيْرُهُ مِمَّا يُعْتَبَرُ النَّقْلُ عَنْهُ. وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَقَوْلُ الْقَائِلِ: قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ وَعَلَى هَذَا فَكَلِمَةُ ثُمَّ، مَعْنَاهَا ما ذكرنا كأنه قال خلق السموات والأرض، ثم هاهنا مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، فإنه أعظم من الكرسي والكرسي وسع السموات وَالْأَرْضَ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: قِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ الِاسْتِقْرَارُ وَهَذَا الْقَوْلُ ظَاهِرٌ وَلَا يُفِيدُ أَنَّهُ فِي مَكَانٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَقُولُ اسْتَقَرَّ رَأْيُ فُلَانٍ عَلَى الْخُرُوجِ وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنَّ الرَّأْيَ فِي مَكَانٍ وَهُوَ الْخُرُوجُ، لِمَا أَنَّ الرَّأْيَ لَا يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ مُتَمَكِّنٌ أَوْ هُوَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي مَكَانٍ إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ فَهْمُ التَّمَكُّنِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ كَلِمَةِ الِاسْتِقْرَارِ مَشْرُوطٌ بِجَوَازِ التَّمَكُّنِ، حَتَّى إِذَا قَالَ قَائِلٌ اسْتَقَرَّ زَيْدٌ عَلَى الْفُلْكِ أَوْ عَلَى التَّخْتِ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّمَكُّنُ وَكَوْنُهُ فِي مَكَانٍ، وَإِذَا قَالَ قَائِلٌ اسْتَقَرَّ الْمُلْكُ عَلَى فُلَانٍ لَا يُفْهَمُ أَنَّ الْمُلْكَ فِي فُلَانٍ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ اللَّهُ اسْتَقَرَّ عَلَى الْعَرْشِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ كَوْنُهُ فِي مَكَانٍ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مِمَّا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانٍ أَوْ لَا يَجُوزُ، فَإِذَنْ فَهْمُ كَوْنِهِ فِي مَكَانٍ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ مَشْرُوطٌ بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانٍ، فَجَوَازُ كَوْنِهِ فِي مَكَانٍ إِنِ اسْتُفِيدَ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ يَلْزَمُ تَقَدُّمُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَرْشِ بِمَعْنَى كَوْنِ الْعَرْشِ مَكَانًا لَهُ وُجُوهٌ مِنَ الْقُرْآنِ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ [الْحَجِّ: 64] وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَكُلُّ مَا هُوَ فِي مَكَانٍ فَهُوَ فِي بَقَائِهِ مُحْتَاجٌ إِلَى مَكَانٍ، لِأَنَّ بَدِيهَةَ الْعَقْلِ حَاكِمَةٌ بِأَنَّ الْحَيِّزَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يَكُونُ الْمُتَحَيِّزُ بَاقِيًا، فَالْمُتَحَيِّزُ يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَاءِ الْحَيِّزِ، وَكُلُّ مَا يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَاءِ غَيْرِهِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي اسْتِمْرَارِهِ، فَالْقَوْلُ بِاسْتِقْرَارِهِ يُوجِبُ احْتِيَاجَهُ فِي اسْتِمْرَارِهِ وَهُوَ غَنِيٌّ بِالنَّصِّ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88] فَالْعَرْشُ يَهْلِكُ وَكَذَلِكَ كَلُّ مَكَانٍ فَلَا يَبْقَى وَهُوَ يَبْقَى، فَإِذَنْ لَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي مَكَانٍ، فَجَازَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي مَكَانٍ، وَمَا جَازَ لَهُ مِنَ الصِّفَاتِ وَجَبَ لَهُ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي مَكَانٍ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ مَعَكُمْ [الْحَدِيدِ: 4] وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ هُوَ أَنَّ عَلَى إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الْمَكَانِ يُفْهَمُ كَوْنُهُ عَلَيْهِ بِالذَّاتِ كَقَوْلِنَا فُلَانٌ عَلَى

[سورة السجده (32) : الآيات 5 إلى 7]

السَّطْحِ وَكَلِمَةُ مَعَ إِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي مُتَمَكِّنَيْنِ يُفْهَمُ مِنْهَا اقْتِرَانُهُمَا بِالذَّاتِ كَقَوْلِنَا زَيْدٌ مَعَ عَمْرٍو إِذَا اسْتُعْمِلَ هَذَا فَإِنْ كَانَ اللَّهُ فِي مَكَانٍ وَنَحْنُ مُتَمَكِّنُونَ، فَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التَّوْبَةِ: 40] وَقَوْلُهُ: وَهُوَ مَعَكُمْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلِاقْتِرَانِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ كَلِمَةُ مَعَ تُسْتَعْمَلُ لِكَوْنِ مَيْلِهِ إِلَيْهِ وَعِلْمِهِ مَعَهُ أَوْ نُصْرَتِهِ يُقَالُ الْمَلِكُ الْفُلَانِيُّ مَعَ الْمَلِكِ الْفُلَانِيِّ، أَيْ بِالْإِعَانَةِ وَالنَّصْرِ، فَنَقُولُ كَلِمَةُ عَلَى تُسْتَعْمَلُ لِكَوْنِ حُكْمِهِ عَلَى الْغَيْرِ، يَقُولُ الْقَائِلُ لَوْلَا فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ لَأَشْرَفَ فِي الْهَلَاكِ وَلَأَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ لَوْلَا فُلَانٌ عَلَى أَمْلَاكِ فُلَانٍ أَوْ عَلَى أَرْضِهِ لَمَا حَصَلَ لَهُ شَيْءٌ مِنْهَا وَلَا أَكَلَ/ حَاصِلَهَا بِمَعْنَى الْإِشْرَافِ وَالنَّظَرِ، فَكَيْفَ لَا نَقُولُ فِي اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ إِنَّهُ اسْتَوَى عَلَيْهِ بِحُكْمِهِ كَمَا نَقُولُ هُوَ مَعْنَاهُ بِعِلْمِهِ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الْأَنْعَامِ: 103] وَلَوْ كَانَ فِي مَكَانٍ لَأَحَاطَ بِهِ الْمَكَانُ وَحِينَئِذٍ فَإِمَّا أَنْ يُرَى وَإِمَّا أَنْ لَا يُرَى، لَا سَبِيلَ إِلَى الثَّانِي بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ فِي مَكَانٍ وَلَا يُرَى بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ يُرَى فَيُرَى فِي مَكَانٍ أَحَاطَ بِهِ فَتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَكَانٍ فَسَوَاءٌ يُرَى أَوْ لَا يُرَى لَا يَلْزَمُ أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ. أَمَّا إِذَا لَمْ يُرَ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا إذا رؤي فَلِأَنَّ الْبَصَرَ لَا يُحِيطُ بِهِ فَلَا يُدْرِكُهُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْبَصَرَ لَا يُحِيطُ بِهِ لِأَنَّ كُلَّ مَا أَحَاطَ بِهِ الْبَصَرُ فَلَهُ مَكَانٌ يَكُونُ فِيهِ وَقَدْ فَرَضْنَا عَدَمَ الْمَكَانِ، وَلَوْ تَدَبَّرَ الْإِنْسَانُ الْقُرْآنَ لَوَجَدَهَ مَمْلُوءًا مِنْ عَدَمِ جَوَازِ كَوْنِهِ فِي مَكَانٍ، كَيْفَ وَهَذَا الَّذِي يَتَمَسَّكُ بِهِ هَذَا الْقَائِلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ بِمَعْنَى كَوْنِهِ فِي الْمَكَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ بِمَعْنَى الْمَكَانِ لَكَانَ قَدْ حَصَلَ عليه بعد ما لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فَقَبْلَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانٍ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ يَلْزَمُ مُحَالَانِ أَحَدُهُمَا: كَوْنُ الْمَكَانِ أَزَلِيًّا، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْقَائِلَ يَدَّعِي مُضَادَّةَ الْفَلْسَفِيِّ فَيَصِيرُ فَلْسَفِيًّا يَقُولُ بِقِدَمِ سَمَاءٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالثَّانِي: جَوَازُ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ يُفْضِي إِلَى حُدُوثِ الْبَارِي أَوْ يُبْطِلُ دَلَائِلَ حُدُوثِ الْأَجْسَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكَانٌ وَمَا حَصَلَ فِي مَكَانٍ يُحِيلُ الْعَقْلُ وَجُودَهُ بِلَا مَكَانٍ، وَلَوْ جَازَ لَمَا أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الْجِسْمَ لَوْ كَانَ أَزَلِيًّا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَزَلِ سَاكِنًا أَوْ مُتَحَرِّكًا لِأَنَّهُمَا فَرَّعَا الْحُصُولَ فِي مَكَانٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ الْقَوْلُ بِحُدُوثِ اللَّهِ أَوْ عَدَمُ الْقَوْلِ بِحُدُوثِ الْعَالِمِ، لِأَنَّهُ إِنْ سَلَّمَ أَنَّهُ قَبْلَ الْمَكَانِ لَا يَكُونُ فَهُوَ الْقَوْلُ بِحُدُوثِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجِسْمُ فِي الْأَزَلِ لَمْ يَكُنْ فِي مَكَانٍ ثُمَّ حَصَلَ فِي مَكَانٍ فَلَا يَتِمُّ دَلِيلُهُ فِي حُدُوثِ الْعَالَمِ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَقُولَ بِحُدُوثِهِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْقَائِلَ يَقُولُ إِنَّكَ تُشَبِّهُ اللَّهَ بِالْمَعْدُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي مَكَانٍ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ جَعَلَهُ مَعْدُومًا حَيْثُ أَحْوَجَهُ إِلَى مَكَانٍ، وَكُلُّ مُحْتَاجٍ نَظَرًا إِلَى عَدَمِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَعْدُومٌ وَلَوْ كَتَبْنَا مَا فِيهَا لَطَالَ الْكَلَامُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ السموات وَالْأَرْضِ، قَالَ بَعْضُهُمْ نَحْنُ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ خَالِقَ السموات والأرض واحد هو إله السموات، وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ صُوَرُ الْكَوَاكِبِ مِنْهَا نُصْرَتُنَا وَقُوَّتُنَا، وَقَالَ آخَرُونَ هَذِهِ صُوَرُ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ شُفَعَاؤُنَا فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَا إِلَهَ غَيْرُ اللَّهِ، وَلَا نُصْرَةَ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ وَلَا شَفَاعَةَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَعِبَادَتُكُمْ لَهُمْ لِهَذِهِ الْأَصْنَامِ بَاطِلَةٌ ضَائِعَةٌ لَا هُمْ خَالِقُوكُمْ وَلَا نَاصِرُوكُمْ وَلَا شُفَعَاؤُكُمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ مَا عَلِمْتُمُوهُ مِنْ أَنَّهُ خَالِقُ السموات وَالْأَرْضِ وَخَلْقُ هَذِهِ الْأَجْسَامِ الْعِظَامِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِثْلُ هَذِهِ الْأَصْنَامِ حَتَّى تَنْصُرَكُمْ وَالْمَلِكُ الْعَظِيمُ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْحَقِيرَةِ احترام وعظمة حتى تكون لها شفاعة. ثم قال تعالى: [سورة السجده (32) : الآيات 5 الى 7] يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7)

لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَلْقَ بَيَّنَ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الْأَعْرَافِ: 54] وَالْعَظَمَةُ تَتَبَيَّنُ بِهِمَا فَإِنَّ مَنْ يَمْلِكُ مَمَالِيكَ كَثِيرِينَ عُظَمَاءَ تَكُونُ لَهُ عَظَمَةٌ، ثُمَّ إِذَا كَانَ أَمْرُهُ نَافِذًا فِيهِمْ يَزْدَادُ فِي أَعْيُنِ الْخَلْقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفَاذُ أَمْرٍ يَنْقُصُ مِنْ عَظَمَتِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ أَمْرَهُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى عِبَادِهِ وَتَعْرُجُ إِلَيْهِ أَعْمَالُهُمُ الصَّالِحَةُ الصَّادِرَةُ عَلَى مُوَافَقَةِ ذَلِكَ الْأَمْرِ، فَإِنَّ الْعَمَلَ أَثَرُ الْأَمْرِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ نُزُولَ الْأَمْرِ وَعُرُوجَ الْعَمَلِ فِي مَسَافَةِ أَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وَهُوَ فِي يَوْمٍ فَإِنَّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ فَيَنْزِلُ فِي مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَيَعْرُجُ فِي مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، فَهُوَ مِقْدَارُ أَلْفِ سَنَةٍ ثَانِيهَا: هُوَ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى امْتِدَادِ نَفَاذِ الْأَمْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ نَفَذَ أَمْرُهُ غَايَةَ النَّفَاذِ فِي يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ وَانْقَطَعَ لَا يَكُونُ مِثْلَ مَنْ يَنْفُذُ أَمْرُهُ فِي سِنِينَ مُتَطَاوِلَةٍ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ يَعْنِي يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فِي زَمَانٍ يَوْمٌ مِنْهُ أَلْفُ سَنَةٍ، فَكَمْ يَكُونُ شَهْرٌ مِنْهُ، وَكَمْ تَكُونُ سَنَةٌ مِنْهُ، وَكَمْ يَكُونُ دَهْرٌ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قوله مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج: 4] لِأَنَّ تِلْكَ إِذَا كَانَتْ إِشَارَةً إِلَى دَوَامِ نَفَاذِ الْأَمْرِ، فَسَوَاءٌ يُعَبَّرُ بِالْأَلْفِ أَوْ بِالْخَمْسِينَ أَلْفًا لَا يَتَفَاوَتُ إِلَّا أَنَّ الْمُبَالَغَةَ تَكُونُ في الخمسين أكثر وتبين فَائِدَتَهَا فِي مَوْضِعِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَفِي هَذِهِ لَطِيفَةٌ) وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَالَمَ الْأَجْسَامِ وَالْخَلْقِ، وَأَشَارَ إِلَى عَظَمَةِ الْمَلِكِ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَالَمَ الْأَرْوَاحِ وَالْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ وَالرُّوحُ من عالم الأمر كما قال تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاءِ: 85] وَأَشَارَ إِلَى دَوَامِهِ بِلَفْظٍ يُوهِمُ الزَّمَانَ وَالْمُرَادُ دَوَامُ الْبَقَاءِ كَمَا يُقَالُ فِي الْعُرْفِ طَالَ زَمَانُ فُلَانٍ وَالزَّمَانُ لَا يَطُولُ، وَإِنَّمَا الْوَاقِعُ فِي الزَّمَانِ يَمْتَدُّ فَيُوجَدُ فِي أَزْمِنَةٍ كَثِيرَةٍ فَيَطُولُ ذَلِكَ فَيَأْخُذُ أَزْمِنَةً كَثِيرَةً، فَأَشَارَ هُنَاكَ إِلَى عَظَمَةِ الْمُلْكِ بِالْمَكَانِ وَأَشَارَ إِلَى دوامه هاهنا بِالزَّمَانِ فَالْمَكَانُ مِنْ خَلْقِهِ وَمُلْكِهِ وَالزَّمَانُ بِحُكْمِهِ وَأَمْرِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فِي يَوْمٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ فِي يَوْمٍ وَالْيَوْمُ لَهُ ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ فَيَكُونُ أَمْرُهُ فِي زَمَانٍ حَادِثٍ فَيَكُونُ حَادِثًا وَبَعْضُ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى يَقُولُ بِأَنَّ أَمْرَهُ قَدِيمٌ حَتَّى الْحُرُوفِ، وَكَلِمَةِ كُنْ فَكَيْفَ فُهِمَ مِنْ كَلِمَةِ عَلَى كَوْنُهُ فِي مَكَانٍ، وَلَمْ يُفْهَمُ مِنْ كَلِمَةٍ فِي كَوْنُ أَمْرِهِ فِي زَمَانٍ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْمَلِكَ الْعَظِيمَ النَّافِذَ الْأَمْرِ غَيْرُ غَافِلٍ، فَإِنَّ الْمَلِكَ إِذَا كَانَ آمِرًا نَاهِيًا يُطَاعُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَلَكِنْ يَكُونُ/ غَافِلًا لَا يَكُونُ مَهِيبًا عَظِيمًا كَمَا يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ خَبِيرًا يَقِظًا لَا تَخْفَى عَلَيْهِ أُمُورُ الْمَمَالِكِ وَالْمَمَالِيكِ فَقَالَ: ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَلَمَّا ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ عَالَمَ الْأَشْبَاحِ بِقَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ [السجدة: 4] وَعَالَمَ الْأَرْوَاحِ بِقَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ قَالَ: عالِمُ الْغَيْبِ يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْوَاحِ وَالشَّهادَةِ يَعْلَمُ مَا فِي الْأَجْسَامِ أَوْ نَقُولُ قَالَ: عالِمُ الْغَيْبِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا لَمْ يَكُنْ بَعْدُ وَالشَّهادَةِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وُجِدَ وَكَانَ وَقَدَّمَ الْعِلْمَ بِالْغَيْبِ لِأَنَّهُ أَقْوَى وَأَشَدُّ إِنْبَاءٍ عَنْ كَمَالِ الْعِلْمِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ عَالِمٌ ذَكَرَ أَنَّهُ عَزِيزٌ قَادِرٌ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنَ الْكَفَرَةِ رَحِيمٌ وَاسِعُ الرَّحْمَةُ عَلَى الْبَرَرَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ لَمَّا بَيَّنَ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ مِنَ الْآفَاقِ بِقَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما وَأَتَمَّهُ بِتَوَابِعِهِ وَمُكَمِّلَاتِهِ ذَكَرَ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَيْهَا مِنَ الْأَنْفُسِ بِقَوْلِهِ: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ يَعْنِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَهُ

[سورة السجده (32) : الآيات 8 إلى 9]

وبين أن الذي بين السموات وَالْأَرْضِ خَلَقَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ لِأَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى الْأَشْيَاءِ رَأَيْتَهَا عَلَى مَا يَنْبَغِي صَلَابَةُ الْأَرْضِ لِلنَّبَاتِ وَسَلَاسَةُ «1» الْهَوَاءِ لِلِاسْتِنْشَاقِ وَقَبُولُ الِانْشِقَاقِ لِسُهُولَةِ الِاسْتِطْرَاقِ وَسَيَلَانُ الْمَاءِ لِنَقْدِرَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَحَرَكَةُ النَّارِ إِلَى فَوْقُ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِثْلَ الْمَاءِ تَتَحَرَّكُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً لَاحْتَرَقَ الْعَالَمُ فَخُلِقَتْ طَالِبَةً لِجِهَةِ فَوْقٍ حَيْثُ لَا شَيْءَ هُنَاكَ يَقْبَلُ الِاحْتِرَاقَ وَقَوْلُهُ: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ قِيلَ الْمُرَادُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ خُلِقَ مَنْ طِينٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الطِّينَ مَاءٌ وَتُرَابٌ مُجْتَمِعَانِ وَالْآدَمِيُّ أَصْلُهُ مَنِيٌّ وَالْمَنِيُّ أَصْلُهُ غِذَاءٌ، وَالْأَغْذِيَةُ إِمَّا حَيَوَانِيَّةٌ، وَإِمَّا نَبَاتِيَّةٌ، وَالْحَيَوَانِيَّةُ بِالْآخِرَةِ تَرْجِعُ إِلَى النَّبَاتِيَّةِ وَالنَّبَاتُ وُجُودُهُ بِالْمَاءِ وَالتُّرَابِ الَّذِي هو طين. [سورة السجده (32) : الآيات 8 الى 9] ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ آدَمَ كَانَ مِنْ طِينٍ وَنَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ هُوَ النُّطْفَةُ، وَعَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي هُوَ أَنَّ أَصْلَهُ مِنَ الطِّينِ، ثُمَّ يُوجَدُ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ سُلَالَةٌ هي من ما مَهِينٍ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ التَّفْسِيرُ الثَّانِي غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ: بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ ... ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَعْلَ النَّسْلِ بَعْدَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ فَنَقُولُ لَا بَلِ التَّفْسِيرُ الثَّانِي أَقْرَبُ إِلَى التَّرْتِيبِ اللَّفْظِيِّ فَإِنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بِذِكْرِ الْأَمْرِ مِنَ الِابْتِدَاءِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ فَقَالَ بَدَأَهُ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَهُ سُلَالَةً ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَعَلَى مَا ذَكَرْتُمْ/ يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ عَائِدٌ إِلَى آدَمَ أَيْضًا لِأَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي فَتَكُونُ التَّسْوِيَةُ بَعْدَ جَعْلِ النَّسْلِ مِنْ سُلَالَةٍ، وَذَلِكَ بَعْدَ خَلْقِ آدَمَ، وَاعْلَمْ أَنَّ دَلَائِلَ الْآفَاقِ أَدَلُّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ [غَافِرٍ: 57] وَدَلَائِلُ الْأَنْفُسِ أَدَلُّ عَلَى نَفَاذِ الْإِرَادَةِ فَإِنَّ التَّغَيُّرَاتِ فِيهَا كَثِيرَةٌ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ ... ثُمَّ سَوَّاهُ أَيْ كَانَ طِينًا فَجَعَلَهُ مَنِيًّا ثُمَّ جَعَلَهُ بَشَرًا سَوِيًّا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ إِضَافَةُ الرُّوحِ إِلَى نَفْسِهِ كَإِضَافَةِ الْبَيْتِ إِلَيْهِ لِلتَّشْرِيفِ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصَارَى يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَيَقُولُونَ بِأَنَّ عِيسَى كَانَ رُوحَ اللَّهِ فَهُوَ ابْنٌ وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ رُوحُهُ رُوحُ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ أَيِ الرُّوحِ الَّتِي هِيَ مِلْكُهُ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ دَارِي وَعَبْدِي، وَلَمْ يَقُلْ أَعْطَاهُ مِنْ جِسْمِهِ لِأَنَّ الشَّرَفَ بِالرُّوحِ فَأَضَافَ الرُّوحَ دُونَ الْجِسْمِ عَلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى نَفْخِ الرُّوحِ مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعِلْمِ فَقَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ وَجَعَلَ لَكُمُ مُخَاطِبًا وَلَمْ يُخَاطِبْ مِنْ قَبْلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخِطَابَ يَكُونُ مَعَ الْحَيِّ فَلَمَّا قَالَ: وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ خَاطَبَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَقَالَ جَعَلَ لَكُمُ، فَإِنْ قِيلَ الْخِطَابُ وَاقِعٌ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ [الرُّومِ: 20] فَنَقُولُ هُنَاكَ لَمْ يَذْكُرِ الْأُمُورَ الْمُرَتَّبَةَ وَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَى تَمَامِ الْخَلْقِ، وَهَاهُنَا ذَكَرَ الْأُمُورَ الْمُرَتَّبَةَ وَهِيَ كَوْنُ الْإِنْسَانِ طِينًا ثُمَّ مَاءً مَهِينًا ثُمَّ خَلْقًا مُسَوًّى بِأَنْوَاعِ الْقُوَى مُقَوًّى فَخَاطَبَ فِي بَعْضِ الْمَرَاتِبِ دُونَ الْبَعْضِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: التَّرْتِيبُ فِي السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَذَلِكَ لأن الإنسان يسمع

_ (1) في الطبعة الأميرية «وسلالة الهواء» ، وهي فيما أظن محرفة عما أثبته لأن السلاسة للهواء أنسب.

[سورة السجده (32) : آية 10]

أَوَّلًا مِنَ الْأَبَوَيْنِ أَوِ النَّاسِ أُمُورًا فَيَفْهَمُهَا ثُمَّ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ بَصِيرَةٌ فَيُبْصِرُ الأمور ويجريها ثُمَّ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ إِدْرَاكٌ تَامٌّ وَذِهْنٌ كَامِلٌ فَيَسْتَخْرِجُ الْأَشْيَاءَ مِنْ قِبَلِهِ وَمِثَالُهُ شَخْصٌ يَسْمَعُ مِنْ أُسْتَاذٍ شَيْئًا ثُمَّ يَصِيرُ لَهُ أَهْلِيَّةُ مُطَالَعَةِ الْكُتُبِ وَفَهْمِ مَعَانِيهَا، ثُمَّ يَصِيرُ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّصْنِيفِ فَيَكْتُبُ مِنْ قَلْبِهِ كِتَابًا، فَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ يَسْمَعُ ثُمَّ يُطَالِعُ صَحَائِفَ الْمَوْجُودَاتِ ثُمَّ يَعْلَمُ الْأُمُورَ الْخَفِيَّةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ فِي السَّمْعِ الْمَصْدَرَ وَفِي الْبَصَرِ وَالْفُؤَادِ الِاسْمَ، وَلِهَذَا جَمَعَ الْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ وَلَمْ يَجْمَعِ السَّمْعَ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يُجْمَعُ وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ وَهُوَ أَنَّ السَّمْعَ قُوَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلَهَا فِعْلٌ/ وَاحِدٌ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَضْبِطُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ كَلَامَيْنِ، وَالْأُذُنُ مَحَلُّهُ وَلَا اخْتِيَارَ لَهَا فِيهِ فَإِنَّ الصَّوْتَ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ كَانَ يَصِلُ إِلَيْهِ وَلَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى تَخْصِيصِ الْقُوَّةِ بِإِدْرَاكِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، وَأَمَّا الْإِبْصَارُ فَمَحَلُّهُ الْعَيْنُ وَلَهَا فِيهِ شِبْهُ اخْتِيَارٍ فَإِنَّهَا تَتَحَرَّكُ إِلَى جَانِبٍ مَرْئِيٍّ دُونَ آخَرَ وَكَذَلِكَ الْفُؤَادُ مَحَلُّ الْإِدْرَاكِ وَلَهُ نَوْعُ اخْتِيَارٍ يَلْتَفِتُ إِلَى مَا يُرِيدُ دُونَ غَيْرِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ لِلْمَحَلِّ فِي السَّمْعِ تَأْثِيرٌ وَالْقُوَّةُ مُسْتَبِدَّةٌ، فَذَكَرَ الْقُوَّةَ فِي الْأُذُنِ وَفِي الْعَيْنِ وَالْفُؤَادُ لِلْمَحَلِّ نَوْعُ اخْتِيَارٍ، فَذَكَرَ الْمَحَلَّ لِأَنَّ الْفِعْلَ يُسْنَدُ إِلَى الْمُخْتَارِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ سَمِعَ زَيْدٌ وَرَأَى عَمْرٌو وَلَا تَقُولُ سَمِعَ أُذُنُ زَيْدٍ وَلَا رَأَى عَيْنُ عَمْرٍو إِلَّا نَادِرًا، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُخْتَارَ هُوَ الْأَصْلُ وَغَيْرُهُ آلَتُهُ، فَالسَّمْعُ أَصْلٌ دُونَ مَحَلِّهِ لِعَدَمِ الِاخْتِيَارِ لَهُ، وَالْعَيْنُ كَالْأَصْلِ وَقُوَّةُ الْإِبْصَارِ آلَتُهَا وَالْفُؤَادُ كَذَلِكَ وَقُوَّةُ الْفَهْمِ آلَتُهُ، فَذَكَرَ فِي السَّمْعِ الْمَصْدَرَ الَّذِي هُوَ الْقُوَّةُ وَفِي الْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ الِاسْمَ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْقُوَّةِ وَلِأَنَّ السَّمْعَ لَهُ قُوَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلَهَا فِعْلٌ وَاحِدٌ وَلِهَذَا لَا يَسْمَعُ الْإِنْسَانُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ كَلَامَيْنِ عَلَى وَجْهٍ يَضْبِطُهُمَا وَيُدْرِكُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ صُورَتَيْنِ وَأَكْثَرَ وَيَسْتَبِينُهُمَا. الْمَسْأَلَةُ الرابعة: لم قدم السمع هاهنا وَالْقَلْبَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 7] فَنَقُولُ ذَلِكَ يُحَقِّقُ مَا ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ الْإِعْطَاءِ ذَكَرَ الْأَدْنَى وَارْتَقَى إِلَى الْأَعْلَى فَقَالَ أَعْطَاكُمُ السَّمْعَ ثُمَّ أَعْطَاكُمْ مَا هُوَ أَشْرَفُ مِنْهُ وَهُوَ الْقَلْبُ وَعِنْدَ السَّلْبِ قَالَ لَيْسَ لَهُمْ قَلْبٌ يُدْرِكُونَ بِهِ وَلَا مَا هُوَ دُونَهُ وَهُوَ السَّمْعُ الَّذِي يَسْمَعُونَ بِهِ مِمَّنْ لَهُ قَلْبٌ يَفْهَمُ الْحَقَائِقَ وَيَسْتَخْرِجُهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَاكَ مَا هُوَ السَّبَبُ فِي تَأْخِيرِ الْأَبْصَارِ مَعَ أَنَّهَا فِي الْوَسَطِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّرْتِيبِ وَهُوَ أَنَّ الْقَلْبَ وَالسَّمْعَ سَلَبَ قُوَّتَهُمَا بِالطَّبْعِ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا وَسَلَبَ قُوَّةَ الْبَصَرِ بِجَعْلِ الْغِشَاوَةِ عَلَيْهِ فذكرها متأخرة. [سورة السجده (32) : آية 10] وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) لما قال: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ [السجدة: 9] بَيَّنَ عَدَمَ شُكْرِهِمْ بِإِتْيَانِهِمْ بِضِدِّهِ وَهُوَ الْكُفْرُ وَإِنْكَارُ قُدْرَتِهِ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى، فِي كَلَامِهِ الْقَدِيمِ، كُلَّمَا ذَكَرَ أَصْلَيْنِ مِنَ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَتْرُكِ الْأَصْلَ الثَّالِثَ وَهَاهُنَا كَذَلِكَ لَمَّا ذَكَرَ الرِّسَالَةَ بقوله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ إِلَى قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [السجدة: 2، 3] الوحدانية بقوله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ إلى قوله: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ [السجدة: 4، 9] ذَكَرَ الْأَصْلَ الثَّالِثَ وَهُوَ الْحَشْرُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ قَالُوا مُحَمَّدٌ لَيْسَ بِرَسُولٍ وَاللَّهُ لَيْسَ بِوَاحِدٍ وَقَالُوا الْحَشْرُ لَيْسَ بِمُمْكِنٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ فِي الرِّسَالَةِ أَمْ يَقُولُونَ [يونس: 38] بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ وَقَالَ فِي تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ فِي الْحَشْرِ، وَقالُوا بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ إِيَّاهُ فِي رِسَالَتِهِ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ

[سورة السجده (32) : آية 11]

وُجُودِهِ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ حَالَةَ وُجُودِهِ فَقَالَ يَقُولُونَ يَعْنِي هُمْ فِيهِ، وَأَمَّا إِنْكَارُهُمْ لِلْحَشْرِ كَانَ سَابِقًا صَادِرًا مِنْهُمْ وَمِنْ آبَائِهِمْ فَقَالَ وَقالُوا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِذِكْرِ قَوْلِهِمْ فِي الرِّسَالَةِ حَيْثُ قَالَ: أَمْ يَقُولُونَ وفي الحشر حيث قال: وَقالُوا أَإِذا وَلَمْ يُصَرِّحْ بِذِكْرِ قَوْلِهِمْ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُصِرِّينَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ عَلَى إِنْكَارِ الْحَشْرِ وَالرَّسُولِ، وَأَمَّا الْوَحْدَانِيَّةُ فَكَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِهَا فِي الْمَعْنَى، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: 25] فَلَمْ يَقُلْ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِوَاحِدٍ وَإِنْ كَانُوا قَالُوهُ فِي الظَّاهِرِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ لَمَّا ذَكَرَ الرِّسَالَةَ ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ دَلِيلَهَا وَهُوَ التَّنْزِيلُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَمَّا ذكر الوحدانية ذكر دليلها وهو خلق السموات وَالْأَرْضِ وَخَلْقُ الْإِنْسَانِ مَنْ طِينٍ، وَلَمَّا ذَكَرَ إِنْكَارَهُمُ الْحَشْرَ لَمْ يَذْكُرِ الدَّلِيلَ، نَقُولُ فِي الْجَوَابِ: ذَكَرَ دَلِيلَهُ أَيْضًا وَذَلِكَ لِأَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ ابْتِدَاءً دَلِيلٌ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَتِهِ، وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ اللَّهُ عَلَى إِمْكَانِ الْحَشْرِ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ كَمَا قَالَ: ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: 27] وَقَوْلُهُ: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس: 79] وكذلك خلق السموات كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى [يس: 81، 82] . وقوله تعالى: أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي أإنا كَائِنُونَ فِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَوْ وَاقِعُونَ فِيهِ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ إِضْرَابٌ عَنِ الْأَوَّلِ يَعْنِي لَيْسَ إِنْكَارُهُمْ لِمُجَرَّدِ الْخَلْقِ ثَانِيًا بَلْ يَكْفُرُونَ بِجَمِيعِ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ حَتَّى لَوْ صَدَّقُوا بِالْخَلْقِ الثَّانِي لَمَّا اعْتَرَفُوا بِالْعَذَابِ وَالثَّوَابِ، أَوْ نَقُولُ مَعْنَاهُ لَمْ يُنْكِرُوا الْبَعْثَ لِنَفْسِهِ بَلْ لِكُفْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوهُ فَأَنْكَرُوا الْمُفْضِيَ إِلَيْهِ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا يَكُونُ لَهُمْ مِنَ الْمَوْتِ إلى العذاب. فقال تعالى: [سورة السجده (32) : آية 11] قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) يَعْنِي لَا بُدَّ مِنَ الْمَوْتِ ثُمَّ مِنَ الْحَيَاةِ بَعْدَهُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ وَقَوْلُهُ: الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَغْفُلُ عَنْكُمْ وَإِذَا جَاءَ أَجَلُكُمْ لَا يُؤَخِّرُكُمْ إِذْ لَا شُغْلَ لَهُ إِلَّا هَذَا وَقَوْلُهُ: يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ يُنْبِئُ عَنْ بَقَاءِ الْأَرْوَاحِ فَإِنَّ التَّوَفِّيَ الِاسْتِيفَاءُ وَالْقَبْضَ هُوَ الْأَخْذُ وَالْإِعْدَامُ الْمَحْضُ لَيْسَ بِأَخْذٍ، ثُمَّ إِنَّ الرُّوحَ الزَّكِيَّ الطَّاهِرَ يَبْقَى عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ مِثْلَ الشَّخْصِ بَيْنَ أَهْلِهِ/ الْمُنَاسِبِينَ لَهُ وَالْخَبِيثَ الْفَاجِرَ يَبْقَى عِنْدَهُمْ كَأَسِيرٍ بَيْنَ قَوْمٍ لَا يَعْرِفُهُمْ وَلَا يَعْرِفُ لِسَانَهُمْ، وَالْأَوَّلُ يَنْمُو وَيَزِيدُ وَيَزْدَادُ صَفَاؤُهُ وَقُوَّتُهُ وَالْآخَرُ يَذْبُلُ وَيَضْعُفُ وَيَزْدَادُ شَقَاؤُهُ وَكُدُورَتُهُ، وَالْحُكَمَاءُ يَقُولُونَ إِنَّ الْأَرْوَاحَ الطَّاهِرَةَ تَتَعَلَّقُ بِجِسْمٍ سَمَاوِيٍّ خَيْرٌ مِنْ بَدَنِهَا وَتَكْمُلُ بِهِ، وَالْأَرْوَاحَ الْفَاجِرَةَ لَا كَمَالَ لَهَا بَعْدَ التَّعَلُّقِ الثَّانِي فَإِنْ أَرَادُوا مَا ذُكِرَ بِهَا فَقَدْ وَافَقُونَا وَإِلَّا فَيُغَيَّرُ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ إِرَادَتِهِمْ فَقَدْ يَكُونُ قَوْلُهُمْ حَقًّا وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ حَقٍّ، فَإِنْ قِيلَ هُمْ أَنْكَرُوا الْإِحْيَاءَ وَاللَّهُ ذَكَرَ الْمَوْتَ وَبَيْنَهُمَا مُبَايَنَةٌ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ الْإِحْيَاءِ وَدَفَعَ اسْتِبْعَادَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: مَا عُدِمَ بِالْكُلِّيَّةِ كَيْفَ يَكُونُ الْمَوْجُودُ عَيْنَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: الْمَلَكُ يَقْبِضُ الرُّوحَ وَالْأَجْزَاءُ تَتَفَرَّقُ فَجَمْعُ الْأَجْزَاءِ لَا بُعْدَ فِيهِ، وَأَمْرُ الْمَلَكِ بِرَدِّ مَا قَبَضَهُ لَا صُعُوبَةَ فِيهِ أَيْضًا، فَقَوْلُهُ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ أَيِ الْأَرْوَاحُ مَعْلُومَةٌ فترد إلى أجسادها. ثم قال تعالى: [سورة السجده (32) : آية 12] وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12)

[سورة السجده (32) : آية 13]

لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ يُرْجَعُونَ إِلَى رَبِّهِمْ بَيَّنَ مَا يَكُونُ عِنْدَ الرُّجُوعِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ بقوله: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ يَعْنِي لَوْ تَرَى حَالَهُمْ وَتُشَاهِدُ اسْتِخْجَالَهُمْ لَتَرَى عَجَبًا، وَقَوْلُهُ: تَرى يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا مع الرسول صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ تَشَفِّيًا لِصَدْرِهِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُؤْذُونَهُ بِالتَّكْذِيبِ، ويحتمل أن يكون عاما مع كل أحدكما يَقُولُ الْقَائِلُ إِنَّ فُلَانًا كَرِيمٌ إِنْ خَدَمْتَهُ وَلَوْ لَحْظَةً يُحْسِنُ إِلَيْكَ طُولَ عُمُرِكَ وَلَا يُرِيدُ بِهِ خَاصًّا، وَقَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ لِبَيَانِ شِدَّةِ الْخَجَالَةِ لِأَنَّ الرَّبَّ إِذَا أَسَاءَ إِلَيْهِ الْمَرْبُوبُ، ثُمَّ وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَكُونُ فِي غَايَةِ الْخَجَالَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا يَعْنِي يَقُولُونَ أَوْ قَائِلِينَ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَحَذَفَ يَقُولُونَ إِشَارَةً إِلَى غَايَةِ خَجَالَتِهِمْ لِأَنَّ الْخَجِلَ الْعَظِيمَ الْخَجَالَةِ لَا يَتَكَلَّمُ، وَقَوْلُهُ: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا أَيْ أَبْصَرْنَا الْحَشْرَ وَسَمِعْنَا قَوْلَ الرَّسُولِ فَارْجِعْنَا إِلَى دَارِ الدُّنْيَا لِنَعْمَلَ صَالِحًا، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّا مُوقِنُونَ مَعْنَاهُ إِنَّا فِي الْحَالِ آمَنَّا وَلَكِنَّ النَّافِعَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ التَّكْلِيفِ بِهِ وَهُوَ فِي الدُّنْيَا فَارْجِعْنَا لِلْعَمَلِ، وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْهُمْ فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَا يُقْبَلُ فِي الْآخِرَةِ كَالْعَمَلِ الصَّالِحِ أَوْ نَقُولُ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الشِّرْكَ كَمَا قَالُوا: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] فَقَالُوا إِنَّ هَذَا الَّذِي جَرَى عَلَيْنَا مَا جَرَى إِلَّا بِسَبَبِ تَرْكِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَمَّا الإيمان فإنا موقنون وما أشركنا. ثم قال تعالى: [سورة السجده (32) : آية 13] وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا [السجدة: 12] وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنِّي لَوْ أَرْجَعْتُكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ لَهَدَيْتُكُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَمَّا لَمْ أَهْدِكُمْ تَبَيَّنَ أَنِّي مَا أَرَدْتُ وَمَا شِئْتُ إِيمَانَكُمْ فَلَا أَرُدُّكُمْ، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَذْهَبَنَا صَحِيحٌ حَيْثُ نَقُولُ إِنَّ اللَّهَ مَا أَرَادَ الْإِيمَانَ مِنَ الْكَافِرِ وَمَا شَاءَ مِنْهُ إِلَّا الْكُفْرَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ أَيْ وَقَعَ الْقَوْلُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى لإبليس: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ [ص: 85] هَذَا مِنْ حَيْثُ النَّقْلِ وَلَهُ وَجْهٌ فِي الْعَقْلِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَفْعَلْ فِعْلًا خَالِيًا عَنْ حِكْمَةٍ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ قَصَدَ الْفِعْلَ لِلْحِكْمَةِ أَوْ فَعَلَ الْفِعْلَ وَلَزِمَتْهُ الْحِكْمَةُ لَا بِحَيْثُ تَحْمِلُهُ تِلْكَ الْحِكْمَةُ عَلَى الْفِعْلِ؟ وَإِذَا عُلِمَ أَنْ فِعْلَهُ لَا يَخْلُو عَنِ الْحِكْمَةِ فَقَالَ الْحُكَمَاءُ حِكْمَةُ أَفْعَالِهِ بِأَمْرِهَا لَا تُدْرَكُ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ لَكِنْ تُدْرِكُ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، فَكُلُّ ضَرْبٍ يَكُونُ فِي الْعَالَمِ وَفَسَادٍ فَحِكْمَتُهُ تَخْرُجُ مِنْ تَقْسِيمٍ عَقْلِيٍّ وَهُوَ أَنَّ الْفِعْلَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مَحْضًا أَوْ شَرًّا مَحْضًا أَوْ خَيْرًا مَشُوبًا بِشَرٍّ وَهَذَا الْقِسْمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ قِسْمٌ خَيْرُهُ غَالِبٌ وَقِسْمٌ شَرُّهُ غَالِبٌ وَقِسْمٌ خَيْرُهُ وَشَرُّهُ مِثْلَانِ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَخَلَقَ اللَّهُ عَالَمًا فِيهِ الْخَيْرُ الْمَحْضُ وَهُوَ عَالَمُ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ الْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ وَخَلَقَ عَالَمًا فِيهِ خَيْرٌ وَشَرٌّ وَهُوَ عَالَمُنَا وَهُوَ الْعَالَمُ السُّفْلِيُّ وَلَمْ يَخْلُقْ عَالَمًا فِيهِ شَرٌّ مَحْضٌ، ثُمَّ إِنَّ الْعَالَمَ السُّفْلِيَّ الَّذِي هُوَ عَالَمُنَا، وَإِنْ كَانَ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ مَوْجُودَيْنِ فِيهِ لَكِنَّهُ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي خَيْرُهُ غَالِبٌ، فَإِنَّكَ إِذَا قَابَلْتَ الْمَنَافِعَ بِالْمَضَارِّ وَالنَّافِعَ بِالضَّارِّ، تَجِدُ الْمَنَافِعَ أَكْثَرَ، وَإِذَا قَابَلْتَ الشِّرِّيرَ بِالْخَيِّرِ تَجِدُ الْخَيِّرَ أَكْثَرَ، وَكَيْفَ لَا وَالْمُؤْمِنُ يُقَابِلُهُ الْكَافِرُ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يُمْكِنُ وُجُودُهُ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهِ شَرٌّ أَصْلًا مِنْ أَوَّلِ عُمُرِهِ إِلَى آخِرِهِ كَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالْأَوْلِيَاءُ، وَالْكَافِرُ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهِ خَيْرٌ

[سورة السجده (32) : آية 14]

أَصْلًا غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْكُفْرَ يُحْبِطُ خَيْرَهُ وَلَا يَنْفَعُهُ، إِنَّمَا يَسْتَحِيلُ نَظَرًا إِلَى الْعَادَةِ أَنْ يُوجَدَ كَافِرٌ لَا يَسْقِي الْعَطْشَانَ شَرْبَةَ مَاءٍ وَلَا يُطْعِمُ الْجَائِعَ لُقْمَةَ خُبْزٍ وَلَا يَذْكُرُ رَبَّهُ فِي عُمُرِهِ، وَكَيْفَ لَا وَهُوَ فِي زَمَنِ صِبَاهُ كَانَ مَخْلُوقًا عَلَى الْفِطْرَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْخَيْرَاتِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَالُوا: لَوْلَا الشَّرُّ فِي هَذَا الْعَالَمِ لَكَانَتْ مَخْلُوقَاتُ اللَّهِ تَعَالَى مُنْحَصِرَةً فِي الْخَيْرِ الْمَحْضِ وَلَا يَكُونُ قَدْ خَلَقَ الْقِسْمَ الَّذِي فِيهِ الْخَيْرُ الْغَالِبُ وَالشَّرُّ الْقَلِيلُ ثُمَّ إِنَّ تَرْكَ خَلْقِ هَذَا الْقِسْمِ إِنْ كَانَ لِمَا فِيهِ مِنَ الشَّرِّ فَتَرْكُ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ لِأَجْلِ الشَّرِّ الْقَلِيلِ لَا يُنَاسِبُ الْحِكْمَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّاجِرَ إِذَا طُلِبَ مِنْهُ دِرْهَمٌ بِدِينَارٍ، فَلَوِ امْتَنَعَ وَقَالَ فِي هَذَا شَرٌّ وَهُوَ زَوَالُ الدِّرْهَمِ عَنْ مِلْكِي فَيُقَالُ لَهُ لَكِنَّ فِي مُقَابَلَتِهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَهُوَ حُصُولُ الدِّينَارِ فِي مِلْكِكَ وَكَذَلِكَ/ الْإِنْسَانُ لَوْ تَرَكَ الْحَرَكَةَ الْيَسِيرَةَ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ تَحْصُلُ لَهُ رَاحَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ يُنْسَبُ إِلَى مُخَالَفَةِ الْحِكْمَةِ فَإِذَا نَظَرَ إِلَى الْحِكْمَةِ كَانَ وُقُوعُ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الْمَشُوبِ بِالشَّرِّ الْقَلِيلِ مِنَ اللُّطْفِ فَخَلَقَ الْعَالَمَ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الشَّرُّ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [الْبَقَرَةِ: 30] فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَوَابِهِمْ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: 30] أَيْ أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ يُنَاسِبُ الْحِكْمَةَ لِأَنَّ الْخَيْرَ فِيهِ كَثِيرٌ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ خَيْرَهُ بِالتَّعْلِيمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَةِ: 31] يَعْنِي أَيُّهَا الْمَلَائِكَةُ خَلْقُ الشَّرِّ الْمَحْضِ وَالشَّرِّ الْغَالِبِ وَالشَّرِّ الْمُسَاوِي لَا يُنَاسِبُ الْحِكْمَةَ. وَأَمَّا الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الْمَشُوبُ بِالشَّرِّ الْقَلِيلِ مُنَاسِبٌ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها إِشَارَةٌ إِلَى الشَّرِّ، وَأَجَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ بِقَوْلِهِ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى تَخْلِيصِ هَذَا الْقِسْمِ مِنَ الشَّرِّ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِيهِ شَرٌّ فَيُقَالُ لَهُ مَا قَالَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها يَعْنِي لَوْ شِئْنَا لَخَلَّصْنَا الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ، لَكِنَّ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ الْمَشُوبَ بِالشَّرِّ الْقَلِيلِ وَهُوَ قِسْمٌ مَعْقُولٌ، فَمَا كَانَ يَجُوزُ تَرْكُهُ لِلشَّرِّ الْقَلِيلِ وَهُوَ لَا يُنَاسِبُ الْحِكْمَةَ، لِأَنَّ تَرْكَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ لِلشَّرِّ الْقَلِيلِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِلْحِكْمَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا كَذَلِكَ فَلَا مَانِعَ مَنْ خَلْقِهِ فَيَخْلُقُهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ، وَهَذَا الْكَلَامُ يُعَبِّرُ عَنْهُ مَنْ يَقُولُ بِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ إِنَّ الْخَيْرَ فِي الْقَضَاءِ وَالشَّرَّ فِي الْقَدَرِ، فَاللَّهُ قَضَى بِالْخَيْرِ وَوَقَعَ الشَّرُّ فِي الْقَدَرِ بِفِعْلِهِ الْمُنَزَّهِ عَنِ الْقُبْحِ وَالْجَهْلِ، وَقَوْلُهُ: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِإِبْلِيسَ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ [ص: 85] وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النَّارَ لِمَنْ فِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، وَالَّذِينَ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ مُبَرَّءُونَ عَنْ دُخُولِ النَّارِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَوْلُهُ: أَجْمَعِينَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا وَهُوَ الظَّاهِرُ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَالًا، أَيْ مَجْمُوعِينَ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ جَعَلَ جَمِيعَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مِمَّا يَمْلَأُ بِهِمُ النَّارَ؟ نَقُولُ هَذَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ، أَيْ جَهَنَّمُ تُمْلَأُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَا غَيْرَ أَمْنًا لِلْمَلَائِكَةِ، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ دُخُولُ الْكُلِّ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ مَلَأْتُ الْكِيسَ مِنَ الدَّرَاهِمِ لَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَبْقَى دِرْهَمٌ خَارِجَ الْكِيسِ، فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ جَهَنَّمُ ضَيِّقَةً تَمْتَلِئُ بِبَعْضِ الْخَلْقِ نَقُولُ هُوَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا الْوَاسِعُ الْجَنَّةُ الَّتِي هِيَ مِنَ الرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا أَنَّهُمْ لَا رُجُوعَ لَهُمْ قَالَ لَهُمْ إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّكُمْ لَا رُجُوعَ لكم. [سورة السجده (32) : آية 14] فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)

[سورة السجده (32) : آية 15]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ لقاء يحتمل أن يكون منصوبا بذوقوا، أَيْ ذُوقُوا لِقَاءَ يَوْمِكُمْ بِمَا نَسِيتُمْ، وَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْسِيُّ هُوَ الْمِيثَاقَ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَافِ: 172] أَوْ بِمَا فِي الْفِطْرَةِ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ فَيُنْسَى بِالْإِقْبَالِ عَلَى الدُّنْيَا وَالِاشْتِغَالِ بِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ: نَسِيتُمْ أَيْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ هَذَا الْيَوْمِ ذُوقُوا، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ النِّسْيَانُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْمَعْلُومِ أَوَّلًا إِذَا جُهِلَ آخِرًا نَقُولُ لَمَّا ظَهَرَتْ بَرَاهِينُهُ فَكَأَنَّهُ ظَهَرَ وَعُلِمَ، وَلَمَّا تَرَكُوهُ بَعْدَ الظُّهُورِ ذُكِرَ بِلَفْظِ النِّسْيَانِ إِشَارَةً إِلَى كَوْنِهِمْ مُنْكِرِينَ لِأَمْرٍ ظَاهِرٍ كَمَنْ يُنْكِرُ أَمْرًا كَانَ قَدْ عَلِمَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْيَوْمِ، أَيْ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ هَذَا الْيَوْمِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى لِقَاءِ الْيَوْمِ، أَيْ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ هَذَا اللِّقَاءَ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْعَذَابِ، أَيْ فَذُوقُوا هَذَا الْعَذَابَ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ، ثُمَّ قَالَ إِنَّا نَسِينَاكُمْ، أَيْ تَرَكْنَاكُمْ بِالْكُلِّيَّةِ غَيْرَ مُلْتَفَتٍ إِلَيْكُمْ كَمَا يَفْعَلُهُ النَّاسِي قَطْعًا لِرَجَائِكُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِهِ إِيَّاهُمْ كَمَا يَتْرُكُ النَّاسِي وَهُوَ خُلُودُ الْعَذَابِ، لِأَنَّ مَنْ لَا يُخَلِّصُهُ اللَّهُ فَلَا خَلَاصَ لَهُ، فَقَالَ: وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ثم قال تعالى: [سورة السجده (32) : آية 15] إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْآيَاتِ كَالْحَاصِلِ، وَإِنَّمَا يَنْسَاهُ الْبَعْضُ فَإِذَا ذُكِّرَ بِهَا خَرَّ سَاجِدًا لَهُ، يَعْنِي انْقَادَتْ أَعْضَاؤُهُ لَهُ، وَسَبَّحَ بِحَمْدِهِ، يَعْنِي وَيُحَرِّكُ لِسَانَهُ بِتَنْزِيهِهِ عَنِ الشِّرْكِ، وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ، يَعْنِي وَكَانَ قَلْبُهُ خَاشِعًا لَا يَتَكَبَّرُ وَمَنْ لَا يَسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَتِهِ فهو المؤمن حقا. ثم قال تعالى: [سورة السجده (32) : آية 16] تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) يَعْنِي بِاللَّيْلِ قَلِيلًا مَا يَهْجَعُونَ وَقَوْلُهُ: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أَيْ يُصَلُّونَ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ وَالصَّلَاةَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ فِي الْمَعْنَى أَوْ يَطْلُبُونَهُ وَهَذَا لَا يُنَافِي الْأَوَّلَ لِأَنَّ الطَّلَبَ قَدْ يَكُونُ بِالصَّلَاةِ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى/ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَفِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا الزَّكَاةُ ذُكِرَ الصَّلَاةُ قَبْلَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [الْبَقَرَةِ: 3] وَقَوْلُهُ: خَوْفاً وَطَمَعاً يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، أَيْ خَائِفِينَ طَامِعِينَ كَقَوْلِكَ جَاءُونِي زُوَّرًا أَيْ زَائِرِينَ، وَكَأَنَّ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِشَارَةً إِلَى الْمَرْتَبَةِ الْعَالِيَةِ وَهِيَ الْعِبَادَةُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ الذُّهُولِ عَنِ الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا [السجدة: 15] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَ مُجَرَّدِ الذِّكْرِ يُوجَدُ مِنْهُمُ السُّجُودُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَوْفٌ وَطَمَعٌ. وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَرْتَبَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ وَهِيَ الْعِبَادَةُ خَوْفًا كَمَنْ يَخْدِمُ الْمَلِكَ الْجَبَّارَ مَخَافَةَ سَطْوَتِهِ أَوْ يَخْدِمُ الْمَلِكَ الْجَوَادَ طَمَعًا فِي بِرِّهِ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا يَكُونُ لهم جزاء فعلهم. ثم قال تعالى: [سورة السجده (32) : آية 17] فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) يَعْنِي مِمَّا تَقَرُّ الْعَيْنُ عِنْدَهُ وَلَا تَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهِ يُقَالُ إِنَّ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِي عَيْنِي، يَعْنِي عَيْنِي تَطَلَّعُ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ تَطَلُّعٌ لِلْعَيْنِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ لَمْ يَبْقَ لِلْعَيْنٍ مَسْرَحٌ إِلَى غَيْرِهِ فَتَقَرُّ جَزَاءً بِحُكْمِ الْوَعْدِ، وَهَذَا فِيهِ لَطِيفَةٌ

[سورة السجده (32) : الآيات 18 إلى 20]

وَهِيَ أَنَّ مِنَ الْعَبْدِ شَيْئًا وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَمِنَ اللَّهِ أَشْيَاءُ سَابِقَةٌ مِنَ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَغَيْرِهِمَا وَأَشْيَاءُ لَاحِقَةٌ مِنَ الثَّوَابِ وَالْإِكْرَامِ، فَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِحْسَانٌ، وَأَنَا أَحْسَنْتُ أَوَّلًا وَالْعَبْدُ أَحْسَنَ فِي مُقَابَلَتِهِ، فَالثَّوَابُ تَفَضُّلٌ وَمِنْحَةٌ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ جَعَلْتُ الْأَوَّلَ تَفَضُّلًا لَا أَطْلُبُ عَلَيْهِ جَزَاءً، فَإِذَا أَتَى الْعَبْدُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنِّي أَبْرَأْتُهُ مِمَّا عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ فَكَانَ هُوَ آتِيًا بِالْحَسَنَةِ ابْتِدَاءً، وَجَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِحْسَانٌ، فَأَجْعَلُ الثَّوَابَ جَزَاءً كِلَاهُمَا جَائِزٌ، لَكِنَّ غَايَةَ الْكَرَمِ أَنْ يَجْعَلَ الْأَوَّلَ هِبَةً وَيَجْعَلَ الثَّانِيَ مُقَابِلًا وَعِوَضًا لِأَنَّ الْعَبْدَ ضَعِيفٌ لَوْ قِيلَ لَهُ بِأَنَّ فِعْلَكَ جَزَاءٌ فَلَا تَسْتَحِقُّ جَزَاءً، وَإِنَّمَا اللَّهُ يَتَفَضَّلُ يَثِقُ وَلَكِنْ لَا يَطْمَئِنُ قَلْبُهُ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ الْأَوَّلُ غَيْرُ مَحْسُوبٍ عَلَيْكَ وَالَّذِي أَتَيْتَ بِهِ أَنْتَ بِهِ بَادٍ وَلَكَ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقُ ثَوَابٍ يَثِقُ وَيَطْمَئِنُ ثُمَّ إِذَا عَرَفَ أَنَّ هَذَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فَالْوَاجِبُ مِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ فِعْلِي جَزَاءُ نِعَمِ اللَّهِ السَّابِقَةِ وَلَا أَسْتَحِقُّ بِهِ جَزَاءً، فَإِذَا أَثَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الَّذِي أَتَيْتُ بِهِ كَانَ جَزَاءً، وَهَذَا ابْتِدَاءُ إِحْسَانٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَحِقُّ حَمْدًا وَشُكْرًا فَيَأْتِي بِحَسَنَةٍ فَيَقُولُ اللَّهُ إِنِّي أَحْسَنْتُ إِلَيْهِ جَزَاءَ فِعْلِهِ الْأَوَّلِ وَمَا فَعَلْتُ أَوَّلًا لَا أَطْلُبُ لَهُ جَزَاءً فَيُجَازِيهِ ثَالِثًا فَيَشْكُرُ الْعَبْدَ ثَالِثًا فَيُجَازِيهِ رَابِعًا وَعَلَى هَذَا لَا تَنْقَطِعُ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ، وَمِثْلُهُ فِي الشَّاهِدِ اثْنَانِ تَحَابَّا فَأَهْدَى أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ هَدِيَّةً وَنَسِيَهَا وَالْمُهْدَى إِلَيْهِ يَتَذَكَّرُهَا فَأَهْدَى إِلَى الْمُهْدِي عِوَضًا فَرَآهُ الْمُهْدِي الْأَوَّلُ ابْتِدَاءً لِنِسْيَانِهِ مَا أَهْدَاهُ إِلَيْهِ فَجَازَاهُ بِهَدِيَّةٍ فَقَالَ الْمُحِبُّ الْآخَرُ مَا أَهْدَيْتُهُ كَانَ جَزَاءً لِهَدِيَّتِهِ السَّابِقَةِ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ مَا عَوَّضْتُهَا فَيُعَوِّضُ وَيُعَوِّضُ/ عَنْهُ الْمُحِبُّ الْآخَرُ وَيَتَسَلْسَلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا وَلَا يَنْقَطِعُ التَّهَادِي وَالتَّحَابُّ، بِخِلَافِ مَنْ أَرْسَلَ إِلَى وَاحِدٍ هَدِيَّةً وَهُوَ يَتَذَكَّرُهَا فَإِذَا بَعَثَ إِلَيْهِ الْمُهْدَى إِلَيْهِ عِوَضًا يَقُولُ الْمُهْدِي هَذَا عِوْضُ مَا أَهْدَيْتُ إِلَيْهِ فَيَسْكُتُ وَيَتْرُكُ الْإِهْدَاءَ فَيَنْقَطِعُ، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّكَالِيفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنِ ارْتَفَعَتْ لَكِنَّ الذِّكْرَ وَالشُّكْرَ وَالْعِبَادَةَ لَا تَرْتَفِعُ بَلِ الْعَبْدُ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْبُدُهُ فِي الدُّنْيَا، وَكَيْفَ لَا وَقَدْ صَارَ حَالُهُ مِثْلَ حَالِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ قَالَ فِي حَقِّهِمْ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 20] غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَيْسَتْ عَلَيْهِمْ بِتَكْلِيفٍ بَلْ هِيَ بِمُقْتَضَى الطَّبْعِ وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِدَوَامِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ هَذَا وَكَيْفَ لَا وَخِدْمَةُ الْمُلُوكِ لَذَّةٌ وَشَرَفٌ فَلَا تُتْرَكُ وَإِنْ قَرُبَ الْعَبْدُ مِنْهُ بَلْ تَزْدَادُ لذتها. ثم قال تعالى: [سورة السجده (32) : الآيات 18 الى 20] أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُجْرِمِ وَالْمُؤْمِنِ قَالَ لِلْعَاقِلِ هَلْ يَسْتَوِي الْفَرِيقَانِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ، ثُمَّ بَيَّنَ عَدَمَ الِاسْتِوَاءِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، فَقَالَ: أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى إِشَارَةً إِلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ أَحْسَنَ ابْتِدَاءً لَا لِعِوَضٍ فَلَمَّا آمَنَ الْعَبْدُ وَعَمِلَ صَالِحًا قَبِلَهُ مِنْهُ كَأَنَّهُ ابْتِدَاءٌ فَجَازَاهُ بِأَنْ أَعْطَاهُ الْجَنَّةَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: نُزُلًا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ بَعْدَهَا أَشْيَاءَ لِأَنَّ النُّزُلَ مَا يُعْطِي الْمَلِكُ النَّازِلَ، وَقْتَ نُزُولِهِ قَبْلَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ رَاتِبًا أَوْ يَكْتُبَ لَهُ خُبْزًا وَقَوْلُهُ: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يُحَقِّقُ مَا ذَكَرْنَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها إِشَارَةٌ إِلَى حَالِ الْكَافِرِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ لَهُ مَعَ الْإِيمَانِ أَثَرٌ

[سورة السجده (32) : آية 21]

أَمَّا الْكُفْرُ إِذَا جَاءَ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى الْأَعْمَالِ، فَلَمْ يَقُلْ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا وَعَمِلُوا السَّيِّئَاتِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ فَسَقُوا كَفَرُوا وَلَوْ جَعَلَ الْعِقَابَ فِي مُقَابَلَةِ الْكُفْرِ وَالْعَمَلِ، لَظُنَّ أَنَّ مُجَرَّدَ الْكُفْرِ لَا عِقَابَ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ (لَهُمْ) بِلَامِ التَّمْلِيكِ زِيَادَةُ إِكْرَامٍ لِأَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ اسْكُنْ هَذِهِ الدَّارَ يَكُونُ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى الْعَارِيَةِ وَلَهُ اسْتِرْدَادُهُ، وَإِذَا قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لَكَ يَكُونُ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى نِسْبَةِ الْمِلْكِيَّةِ إِلَيْهِ وَلَيْسَ/ لَهُ اسْتِرْدَادُهُ بِحُكْمِ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ جَنَّاتٍ [البقرة: 25] أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَسْكَنَ آدَمَ الْجَنَّةَ وَكَانَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ يُخْرِجُهُ مِنْهَا قَالَ: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [الْبَقَرَةِ: 35] وَلَمْ يَقُلْ لَكُمَا الْجَنَّةُ وَفِي الْآخِرَةِ لَمَّا لَمْ يكن للمؤمنين خروج عنها قال: لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة: 111] ولَهُمْ جَنَّاتٍ وَقَوْلُهُ: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنًى حُكْمِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْلِمَ إِذَا تَمَكَّنَ وَالْأَلَمَ إِذَا امْتَدَّ لَمْ يَبْقَ بِهِ شُعُورٌ تَامٌّ وَلِهَذَا قَالَ الْأَطِبَّاءُ إِنَّ حَرَارَةَ حُمَّى الدَّقِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَرَارَةِ الْحُمَّى الْبَلْغَمِيَّةِ نِسْبَةُ النَّارِ إِلَى الْمَاءِ الْمُسَخَّنِ، ثُمَّ إِنَّ الْمَدْقُوقَ لَا يُحِسُّ مِنَ الْحَرَارَةِ بِمَا يُحِسُّ بِهِ مَنْ بِهِ الْحُمَّى الْبَلْغَمِيَّةُ لِتَمَكُّنِ الدَّقِّ وَقُرْبِ الْعَهْدِ بِظُهُورِ حَرَارَةِ الْحُمَّى الْبَلْغَمِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ إِذَا وَضَعَ يَدَهُ فِي مَاءٍ بَارِدٍ يَتَأَلَّمُ مِنَ الْبَرْدِ، فَإِذَا صَبَرَ زَمَانًا طَوِيلًا تَثْلُجُ يَدُهُ وَيَبْطُلُ عَنْهُ ذَلِكَ الْأَلَمُ الشَّدِيدُ مَعَ فَسَادِ مِزَاجِهِ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِلَهَ لَا يَسْكُنُ عَنْهُمْ بَلْ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ حَالِ أَمْرٍ مُؤْلِمٍ يُجَدَّدُ وَقَوْلُهُ: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ يُقَرِّرُ مَا ذَكَرْنَا وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِعَذَابِ النَّارِ، فَلَمَّا ذَاقُوهُ كَانَ أَشَدَّ إِيلَامًا لِأَنَّ مَنْ لَا يَتَوَقَّعُ شَيْئًا فَيُصِيبُهُ يَكُونُ أَشَدَّ تَأْثِيرًا، ثُمَّ إِنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فِي الدُّنْيَا يَجْزِمُونَ أَنْ لَا عَذَابَ إِلَّا وَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَتَوَقَّعُونَ شَيْئًا آخَرَ مِنَ الْعَذَابِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ عَذَابٌ أَشَدُّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَكَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ بِقَوْلِهِمْ لَا عَذَابَ فَوْقَ مَا نَحْنُ فيه فان مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ لَيْسَ مُقْتَصِرًا عَلَى تَكْذِيبِهِمُ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا بَلْ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابًا كَذَّبْتُمْ بِهِ مِنْ قَبْلُ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِكُمْ لَا عَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَبِقَوْلِكُمْ لَا عَذَابَ فَوْقَ ما نحن فيه ثم لما هددهم قال تعالى: [سورة السجده (32) : آية 21] وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) يَعْنِي قَبْلَ عَذَابِ الْآخِرَةِ نُذِيقُهُمْ عَذَابَ الدُّنْيَا فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ لِأَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا لَا يَكُونُ شَدِيدًا، وَلَا يَكُونُ مَدِيدًا فَإِنَّ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ فِي الدُّنْيَا يُهْلِكُ فَيَمُوتُ الْمُعَذَّبُ وَيَسْتَرِيحُ مِنْهُ فَلَا يَمْتَدُّ، وَإِنْ أَرَادَ الْمُعَذَّبُ أَنْ يَمْتَدَّ عَذَابُ الْمُعَذَّبِ لَا يُعَذِّبُهُ بِعَذَابٍ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ، وَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ فَشَدِيدٌ ومديد، وفي الآية مسألتان: إحداهما: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى فِي مُقَابَلَتِهِ الْعَذَابُ الْأَقْصَى وَالْعَذَابُ الْأَكْبَرُ فِي مُقَابَلَتِهِ الْعَذَابُ الْأَصْغَرُ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْأَدْنَى بِالْأَكْبَرِ؟ فَنَقُولُ حَصَلَ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَرِيبٌ وَالْآخَرُ أَنَّهُ قَلِيلٌ صَغِيرٌ وَحَصَلَ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ أَيْضًا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَعِيدٌ وَالْآخَرُ أَنَّهُ عَظِيمٌ كَثِيرٌ، لَكِنَّ الْقُرْبَ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا هُوَ الَّذِي يَصْلُحُ/ لِلتَّخْوِيفِ بِهِ، فَإِنَّ الْعَذَابَ الْعَاجِلَ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا قَدْ يَحْتَرِزُ مِنْهُ بَعْضُ النَّاسِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَرِزُ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ إِذَا كَانَ آجِلًا، وَكَذَا الثَّوَابُ الْعَاجِلُ قَدْ يَرْغَبُ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ وَيَسْتَبْعِدُ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ الْآجِلَ، وَأَمَّا فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ فَالَّذِي يَصْلُحُ لِلتَّخْوِيفِ بِهِ هُوَ الْعَظِيمُ وَالْكَبِيرُ لَا الْبَعِيدُ لِمَا بَيَّنَّا فَقَالَ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا الْعَذابِ الْأَدْنى لِيَحْتَرِزَ الْعَاقِلُ عَنْهُ وَلَوْ قَالَ: (لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأصغر) ما

[سورة السجده (32) : الآيات 22 إلى 24]

كَانَ يَحْتَرِزُ عَنْهُ لِصِغَرِهِ وَعَدَمِ فَهْمِ كَوْنِهِ عَاجِلًا وَقَالَ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ الْأَكْبَرِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَوْ قَالَ دُونَ الْعَذَابِ الْأَبْعَدِ الْأَقْصَى لَمَا حَصَلَ التَّخْوِيفُ بِهِ مِثْلَ مَا يَحْصُلُ بِوَصْفِهِ بِالْكِبَرِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدِ اخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَذَابَيْنِ الْوَصْفَ الَّذِي هُوَ أَصْلَحُ لِلتَّخْوِيفِ مِنَ الْوَصْفَيْنِ الْآخَرَيْنِ فِيهِمَا لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لَعَلَّ هَذِهِ الترجي وَاللَّهُ تَعَالَى مُحَالٌ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ لَنُذِيقَنَّهُمْ إذاقة الراجين كقوله تعالى: إِنَّا نَسِيناكُمْ [السجدة: 14] يَعْنِي تَرَكْنَاكُمْ كَمَا يُتْرَكُ النَّاسِي حَيْثُ لَا يلتفت إليه أصلا، فكذلك هاهنا نُذِيقُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَفْعَلُ بِالرَّاجِي مِنَ التَّدْرِيجِ وَثَانِيهِمَا: مَعْنَاهُ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ إِذَاقَةً يَقُولُ الْقَائِلُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بِسَبَبِهِ، وَنَزِيدُ وَجْهًا آخَرَ مِنْ عِنْدِنَا، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ يَتْلُوهُ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ يَصِحُّ تَعْلِيلُ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ اتَّجَرَ لِيَرْبَحَ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ إِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَحْصُلُ الْجَزْمُ بِحُصُولِ الْأَمْرِ مِنَ الْفِعْلِ نَظَرًا إِلَى نَفْسِ الْفِعْلِ وَإِنْ حَصَلَ الْجَزْمُ وَالْعِلْمُ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ مِنْ خَارِجٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ يَفْعَلُ كَذَا رَجَاءَ كَذَا، كَمَا يُقَالُ يَتَّجِرُ رَجَاءَ أَنْ يَرْبَحَ، وَإِنْ حَصَلَ لِلتَّاجِرِ جَزْمٌ بِالرِّبْحِ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ قَوْلِنَا يَرْجُو لِمَا أَنَّ الْجَزْمَ غَيْرُ حَاصِلٍ نَظَرًا إِلَى التِّجَارَةِ وَإِنْ كَانَ الْجَزْمُ حَاصِلًا نَظَرًا إِلَى الْفِعْلِ، لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ يَرْجُو وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْجَزْمُ يَحْتَمِلُ خِلَافَهُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ فُلَانٌ حَزَّ رَقَبَةَ عَدُوِّهِ رَجَاءَ أَنْ يَمُوتَ، لَا يَصِحُّ لِحُصُولِهِ الْجَزْمُ بِالْمَوْتِ عَقِيبَ الْحَزِّ نَظَرًا إِلَيْهِ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ لَا يَمُوتَ نَظَرًا إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُصَحِّحُ قَوْلَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي [الشُّعَرَاءِ: 82] مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِالْمَغْفِرَةِ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْجَزْمُ حَاصِلًا مِنْ نَفْسِ الْفِعْلِ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الطمع وكذلك قوله تَعَالَى: لَعَلَّهُمْ فَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى الْفِعْلِ لَا يَلْزَمُ الْجَزْمُ، فَإِنَّ مِنَ التَّعْذِيبِ لَا يَلْزَمُ الرُّجُوعُ لُزُومًا بَيِّنًا فَصَحَّ قَوْلُنَا يَرْجُو وَإِنْ كَانَ عِلْمُهُ حَاصِلًا بِمَا يَكُونُ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الرَّجَاءَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ اسْتُعْمِلَ فِيمَا لَا يَكُونُ الْأَمْرُ مَعْلُومًا فَأَوْهَمَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْإِطْلَاقُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ التَّرَجِّي يَجُوزُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ عَدَمُ الْجَزْمِ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَعِلْمُ اللَّهِ لَيْسَ مُسْتَفَادًا مِنَ الْفِعْلِ فَيَصِحُّ حَقِيقَةُ التَّرَجِّي فِي حَقِّهِ عَلَى ما ذكرنا من المعنى/ ثم قال تعالى: [سورة السجده (32) : الآيات 22 الى 24] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها يَعْنِي لَنُذِيقَنَّهُمْ وَلَا يَرْجِعُونَ فَيَكُونُونَ قَدْ ذُكِّرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ مِنَ النِّعَمِ أَوَّلًا وَالنِّقَمِ ثَانِيًا وَلَمْ يؤمنوا فلا أظلم منهم أحد، لِأَنَّ مَنْ يَكْفُرُ بِاللَّهِ ظَالِمٌ فَإِنَّ اللَّهَ لِذَوِي الْبَصَائِرِ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ الْمُسْتَنِيرُ الْبَاطِنُ إِلَى شَاهِدٍ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ شَهِيدٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53] أي دليلك الله لا تحتاج تأثير الْبَاطِنِ إِلَى دَلِيلٍ عَلَى اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ رَأَيْتُ اللَّهَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ فَمَنْ لَمْ يَكْفِهِ اللَّهُ فَسَائِرُ الْمَوْجُودَاتِ سَوَاءٌ، كَانَ فِيهَا نَفْعٌ أَوْ ضُرٌّ كَافٍ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فُصِّلَتْ: 53] فَإِنْ لَمْ يكفهم ذلك

[سورة السجده (32) : الآيات 25 إلى 26]

فَبِسَبْغِهِ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، فَالْأَوَّلُ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ هُوَ عَدْلٌ وَالثَّانِي الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ فَهُوَ مُتَوَسِّطٌ وَالثَّالِثُ الَّذِي لَمْ تَكِفْهِ الْآفَاقُ ظَالِمٌ وَالرَّابِعُ الَّذِي لَمْ تُقْنِعْهُ النِّعَمُ أَظْلَمُ مِنْ ذَلِكَ الظَّالِمِ وَقَدْ يَكُونُ أَظْلَمَ مِنْهُ آخَرُ، وَهُوَ الَّذِي إِذَا أُذِيقَ الْعَذَابَ لَا يَرْجِعُ عَنْ ضَلَالَتِهِ، فَإِنَّ الْأَكْثَرَ كَانَ مِنْ صِفَتِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا مَسَّهُمْ ضُرٌّ دَعُوا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ فَهَذَا لَمَّا عُذِّبَ وَلَمْ يَرْجِعْ فَلَا أَظْلَمَ مِنْهُ أَصْلًا فَقَالَ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ أَيْ لَمَّا لَمْ يَنْفَعْهُمُ الْعَذَابُ الْأَدْنَى فَأَنَا مُنْتَقِمٌ مِنْهُمْ بِالْعَذَابِ الْأَكْبَرِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَمَّا قَرَّرَ الْأُصُولَ الثَّلَاثَةَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ عَادَ إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَدَأَ بِهِ وَهُوَ الرِّسَالَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ [القصص: 46] وَقَالَ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَافِ: 9] بَلْ كَانَ قَبْلَكَ رُسُلٌ مِثْلُكَ وَاخْتَارَ مِنْ بَيْنِهِمْ مُوسَى لِقُرْبِهِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَوُجُودُ مَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِ إِلْزَامًا لَهُمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يَخْتَرْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلذِّكْرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّ الْيَهُودَ مَا كَانُوا يُوَافِقُونَ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِنُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَتَمَسَّكَ/ بِالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ قِيلَ مَعْنَاهُ فَلَا تَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْ لِقَاءِ مُوسَى فَإِنَّكَ تَرَاهُ وَتَلْقَاهُ، وَقِيلَ بِأَنَّهُ رَآهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ فَلَا تَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْ لِقَاءِ الْكِتَابِ فَإِنَّكَ تَلْقَاهُ كَمَا لَقِيَ مُوسَى الْكِتَابَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ وَارِدَةً لَا لِلتَّقْرِيرِ بَلْ لِتَسْلِيَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ لَمَّا أَتَى بِكُلِّ آيَةٍ وَذَكَّرَ بِهَا وَأَعْرَضَ عَنْهَا قَوْمُهُ حَزِنَ عَلَيْهِمْ، فَقِيلَ لَهُ تَذَكَّرْ حَالَ مُوسَى وَلَا تَحْزَنْ فَإِنَّهُ لَقِيَ مَا لَقِيتَ وَأُوذِيَ كَمَا أُوذِيتَ، وَعَلَى هَذَا فَاخْتِيَارُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِحِكْمَةٍ، وَهِيَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يُؤْذِهِ قَوْمُهُ إِلَّا الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ فَلَمْ يُخَالِفُوهُ غَيْرَ قَوْمِ مُوسَى فإن لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ آذَاهُ مِثْلُ فِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِ وَمَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْضًا آذَاهُ بِالْمُخَالَفَةِ وَطَلَبِ أَشْيَاءَ مِنْهُ مِثْلَ طَلَبِ رؤية الله جهرة ومثل قولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [الْمَائِدَةِ: 24] ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ أَنَّ هِدَايَتَهُ غَيْرُ خَالِيَةٍ عَنِ الْمَنْفَعَةِ كَمَا أَنَّهُ لَمْ تَخْلُ هِدَايَةُ مُوسَى، فَقَالَ: وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا فَحَيْثُ جَعَلَ اللَّهُ كِتَابَ مُوسَى هَدًى وَجَعَلَ مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ كَذَلِكَ يَجْعَلُ كِتَابَكَ هَدًى وَيَجْعَلُ مِنْ أُمَّتِكَ صَحَابَةٌ يَهْدُونَ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِالصَّبْرِ، فَقَالَ: لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ فَكَذَلِكَ اصْبِرُوا وَآمِنُوا بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ. ثم قال تعالى: [سورة السجده (32) : الآيات 25 الى 26] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ هَذَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِسُؤَالٍ: وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ كَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ كَيْفَ كَانُوا يَهْدُونَ وَهُمُ اخْتَلَفُوا وَصَارُوا فِرَقًا وَسَبِيلُ الْحَقِّ وَاحِدٌ، فَقَالَ فِيهِمْ هُدَاةٌ وَاللَّهُ بَيَّنَ الْمُبْتَدِعَ مِنَ الْمُتَّبِعِ كَمَا يُبَيِّنُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ مِنَ الْأُمَمِ

[سورة السجده (32) : الآيات 27 إلى 28]

فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْمَنَ مَنْ آمَنَ وَإِنْ لَمْ يَجْتَهِدْ، فَإِنَّ الْمُبْتَدِعَ مُعَذَّبٌ كَالْكَافِرِ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ، أَنَّ عَذَابَ الْكَافِرِ أَشُدُّ وَآلَمُ وَأَمَدُّ وَأَدْوَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَقْرِيرٌ لِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَإِعَادَةٌ لِبَيَانِ مَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ/ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [السَّجْدَةِ: 3] وَلَمَّا أَعَادَ ذِكْرَ الرِّسَالَةِ أَعَادَ ذِكْرَ التَّوْحِيدِ، فَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَوْلُهُ: يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ زِيَادَةُ إِبَانَةٍ، أَيْ مَسَاكِنُ الْمُهْلَكِينَ دَالَّةٌ عَلَى حَالِهِمْ وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ فِيهَا وَتُبْصِرُونَهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ اعْتُبِرَ فِيهِ السَّمْعُ، لِأَنَّهُمْ مَا كَانَ لَهُمْ قُوَّةُ الْإِدْرَاكِ بِأَنْفُسِهِمْ وَالِاسْتِنْبَاطُ بِعُقُولِهِمْ، فَقَالَ أَفَلَا يَسْمَعُونَ، يَعْنِي لَيْسَ لَهُمْ دَرَجَةُ الْمُتَعَلِّمِ الَّذِي يسمع الشيء ويفهمه. ثم قال تعالى: [سورة السجده (32) : الآيات 27 الى 28] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ لَمَّا بَيَّنَ الْإِهْلَاكَ وَهُوَ الْإِمَاتَةُ بَيْنَ الْإِحْيَاءِ لِيَكُونَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ بِيَدِ اللَّهِ، وَالْجُرُزُ الْأَرْضُ الْيَابِسَةُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا وَالْجُرُزُ هُوَ الْقَطْعُ وَكَأَنَّهَا الْمَقْطُوعُ عَنْهَا الْمَاءُ وَالنَّبَاتُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ قَدَّمَ الْأَنْعَامَ عَلَى الْأَنْفُسِ فِي الْأَكْلِ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الزَّرْعَ أَوَّلُ مَا يَنْبُتُ يَصْلُحُ لِلدَّوَابِّ وَلَا يَصْلُحُ لِلْإِنْسَانِ وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الزَّرْعَ غِذَاءُ الدَّوَابِّ وَهُوَ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَأَمَّا غِذَاءُ الْإِنْسَانِ فَقَدْ يَحْصُلُ مِنَ الْحَيَوَانِ، فَكَأَنَّ الْحَيَوَانَ يَأْكُلُ الزَّرْعَ، ثُمَّ الْإِنْسَانُ يَأْكُلُ مِنَ الْحَيَوَانِ الثَّالِثُ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَكْلَ مِنْ ذَوَاتِ الدَّوَابِّ وَالْإِنْسَانُ يَأْكُلُ بِحَيَوَانِيَّتِهِ أَوْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ فَكَمَالُهُ بِالْعِبَادَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَفَلا يُبْصِرُونَ لِأَنَّ الْأَمْرَ يُرَى بِخِلَافِ حَالِ الْمَاضِينَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ مَسْمُوعَةً، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ الرِّسَالَةَ وَالتَّوْحِيدَ بَيَّنَ الْحَشْرَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، فَصَارَ تَرْتِيبُ آخِرِ السُّورَةِ كَتَرْتِيبِ أَوَّلِهَا حَيْثُ ذَكَرَ الرِّسَالَةَ فِي أَوَّلِهَا بِقَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً وَفِي آخِرِهَا بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [السجدة: 23] وَذَكَرَ التَّوْحِيدَ بِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [السجدة: 4] وَقَوْلِهِ: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ [السجدة: 7] وَفِي آخِرِ السُّورَةِ ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ [السجدة: 26] وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ وَذَكَرَ الْحَشْرَ في أولها بقوله: وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [السجدة: 10] وَفِي آخِرِهَا بِقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ. [سورة السجده (32) : الآيات 29 الى 30] قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أَيْ لَا يُقْبَلُ إِيمَانُهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْمَقْبُولَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي دَارِ الدنيا، ولا يُنْظَرُونَ، أَيْ لَا يُمْهَلُونَ بِالْإِعَادَةِ إِلَى الدُّنْيَا لِيُؤْمِنُوا فَيُقْبَلُ إِيمَانُهُمْ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ الْمَسَائِلَ وَأَتْقَنَ الدَّلَائِلَ وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ. قَالَ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أَيْ لَا

تُنَاظِرْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الطَّرِيقُ بَعْدَ هَذَا الْقِتَالُ. وَقَوْلُهُ: وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: وَانْتَظِرْ هَلَاكَهُمْ فَإِنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ هَلَاكَكَ، وَعَلَى هَذَا فَرَّقَ بَيَّنَ الِانْتِظَارَيْنِ، لِأَنَّ انْتِظَارَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ وَعْدِهِ وَانْتِظَارَهُمْ بِتَسْوِيلِ أَنْفُسِهِمْ وَالتَّعْوِيلِ عَلَى الشَّيْطَانِ وَثَانِيهَا: وَانْتَظِرِ النَّصْرَ مِنَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ النَّصْرَ مِنْ آلِهَتِهِمْ وَفَرَّقَ بَيْنَ الِانْتِظَارَيْنِ وَثَالِثُهَا: وَانْتَظِرْ عَذَابَهُمْ بِنَفْسِكَ فَإِنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَهُ بِلَفْظِهِمُ اسْتِهْزَاءً، كَمَا قَالُوا: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا [الْأَعْرَافِ: 70] وَقَالُوا مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [النمل: 71] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَعَلَى أَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ.

سورة الأحزاب

سورة الأحزاب سبعون وثلاث آيات وهي مدينة بإجماع بسم الله الرحمن الرحيم [سورة الأحزاب (33) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) قَوْلُهُ تَعَالَى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ. وفي تفسير الآية مسائل: الْأُولَى: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالْمُنَادَى بِقَوْلِهِ يَا رَجُلُ وَيَا أَيُّهَا الرَّجُلُ، وَقَدْ قِيلَ فِيهِ مَا قِيلَ وَنَحْنُ نَقُولُ قَوْلُ الْقَائِلِ يَا رَجُلُ يَدُلُّ عَلَى النِّدَاءِ وَقَوْلُهُ يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا وَيُنْبِئُ عَنْ خَطَرِ خَطْبِ الْمُنَادَى لَهُ أَوْ غَفْلَةِ الْمُنَادَى أَمَّا الثَّانِي: فَمَذْكُورٌ وَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: (يَا أَيُّ) جَعَلَ الْمُنَادَى غَيْرَ مَعْلُومٍ أَوَّلًا فَيَكُونُ كُلُّ سَامِعٍ مُتَطَلِّعًا إِلَى الْمُنَادَى فَإِذَا خَصَّ وَاحِدًا كَانَ فِي ذَلِكَ إِنْبَاءُ الْكُلِّ لِتَطَلُّعِهِمْ إِلَيْهِ، وَإِذَا قَالَ يَا زَيْدُ أَوْ يَا رَجُلُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى جَانِبِ الْمُنَادَى إِلَّا الْمَذْكُورُ إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ يا أَيُّهَا لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى غَفْلَةِ النَّبِيِّ لِأَنَّ قَوْلَهُ النَّبِيُّ يُنَافِي الْغَفْلَةَ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَبِيرٌ فَلَا يَكُونُ غَافِلًا فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى خَطَرِ الْخَطْبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ اشْتِغَالِ الْمَأْمُورِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ إِذْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ لِلْجَالِسِ اجْلِسْ وَلِلسَّاكِتِ اسْكُتْ وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُتَّقِيًا فَمَا الْوَجْهُ فِيهِ؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْقُولٌ وَهُوَ أَنَّهُ أُمِرَ بِالْمُدَاوَمَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ لِلْجَالِسِ اجْلِسْ هاهنا إِلَى أَنْ أَجِيئَكَ، وَيَقُولُ الْقَائِلُ لِلسَّاكِتِ قَدْ أَصَبْتَ فَاسْكُتْ تَسْلَمْ، أَيْ دُمْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ وَالثَّانِي: وَهُوَ مَعْقُولٌ لَطِيفٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَلِكَ يَتَّقِي مِنْهُ عِبَادُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ بَعْضُهُمْ يَخَافُ مِنْ عِقَابِهِ وَبَعْضُهُمْ يَخَافُ مِنْ قَطْعِ ثَوَابِهِ وَثَالِثٌ يَخَافُ مِنِ احْتِجَابِهِ فَالنَّبِيُّ لَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّقْوَى بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَلَا بِالْمَعْنَى الثَّانِي، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَالْمُخْلِصُ لَا يَأْمَنُهُ مادام فِي الدُّنْيَا. وَكَيْفَ وَالْأُمُورُ الدُّنْيَوِيَّةُ شَاغِلَةٌ وَالْآدَمِيُّ فِي الدُّنْيَا تَارَةً مَعَ اللَّهِ، وَأُخْرَى مُقْبِلٌ عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ اللَّهُ وَإِلَى هَذَا إِشَارَةٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [فُصِّلَتَ: 6] يَعْنِي يُرْفَعُ الْحِجَابُ عَنِّي وَقْتَ الْوَحْيِ ثُمَّ أَعُودُ إِلَيْكُمْ كَأَنِّي مِنْكُمْ فَالْأَمْرُ بِالتَّقْوَى يُوجِبُ اسْتِدَامَةَ الْحُضُورِ الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلَّ لَحْظَةٍ كَانَ يَزْدَادُ عِلْمُهُ وَمَرْتَبَتُهُ حَتَّى كَانَ حَالُهُ فِيمَا مَضَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ فِيهِ تَرْكًا لِلْأَفْضَلِ، فَكَانَ لَهُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ تَقْوَى مُتَجَدِّدَةٌ فَقَوْلُهُ: اتَّقِ اللَّهَ عَلَى هَذَا أُمِرَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ: / «مَنِ اسْتَوَى يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ» وَلِأَنَّهُ طَلَبَ مِنْ رَبِّهِ بِأَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِهِ زِيَادَةَ الْعِلْمِ حَيْثُ قَالَ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 2 إلى 4]

عِلْماً [طه: 114] وَأَيْضًا إِلَى هَذَا وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» يَعْنِي يَتَجَدَّدُ لَهُ مَقَامٌ يَقُولُ الَّذِي أَتَيْتُ بِهِ مِنَ الشُّكْرِ وَالْعِبَادَةِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسلم بحكم إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [فصلت: 6] كَانَ قَدْ وَقَعَ لَهُ خَوْفٌ مَا يَسِيرٌ مِنْ جِهَةِ أَلْسِنَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَمِنْ أَيْدِيهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الْأَحْزَابِ: 37] فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِتَقْوَى أُخْرَى فَوْقَ مَا يَتَّقِيهِ بِحَيْثُ تُنْسِيهِ الْخَلْقَ وَلَا يُرِيدُ إِلَّا الْحَقَّ وَزَادَ اللَّهُ بِهِ دَرَجَتَهُ فكان ذلك بشارة له، في يا أَيُّهَا النَّبِيُّ أَنْتَ مَا بَقِيتَ فِي الدَّرَجَةِ الَّتِي يُقْنَعُ مِنْكَ بِتَقْوَى، مِثْلَ تَقْوَى الْآحَادِ أَوْ تَقْوَى الْأَوْتَادِ بَلْ لَا يُقْنَعُ مِنْكَ إِلَّا بِتَقْوَى تُنْسِيكَ نَفْسَكَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ يَخَافُ فَوْتَ مَالٍ إِنْ هَجَمَ عَلَيْهِ غَاشِمٌ يَقْصِدُ قَتْلَهُ يَذْهَلُ عَنِ الْمَالِ وَيَهْرُبُ وَيَتْرُكُهُ، فَكَذَلِكَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُمِرَ بِمِثْلِ هَذِهِ التَّقْوَى وَمَعَ هَذِهِ التَّقْوَى لَا يَبْقَى الْخَوْفُ مِنْ أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ وَخَرَجَ هَذَا مَخْرَجَ قَوْلِ الْقَائِلِ لِمَنْ يَخَافُ زيد أَوْ عَمْرًا خَفْ عَمْرًا فَإِنَّ زَيْدًا لَا يَقْدِرُ عَلَيْكَ إِذَا كَانَ عَمْرٌو مَعَكَ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا بِالْخَوْفِ مِنْ عَمْرٍو فَإِنَّهُ يَخَافُ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ نَهْيًا عَنِ الْخَوْفِ مِنْ زَيْدٍ فِي ضِمْنِ الْأَمْرِ بِزِيَادَةِ الْخَوْفِ من عمرو حتى ينسيه زيدا. ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ يُقَرِّرُ قَوْلَنَا أَيِ اتَّقِ اللَّهَ تَقْوَى تَمْنَعُكَ مِنْ طَاعَتِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِمَ خَصَّ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُطِيعَ أَحَدًا غَيْرَ اللَّهِ؟ نَقُولُ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذِكْرَ الْغَيْرِ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ لِأَنَّ غَيْرَهُمَا لَا يَطْلُبُ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الِاتِّبَاعَ، وَلَا يَتَوَقَّعُ أَنْ يَصِيرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُطِيعًا لَهُ بَلْ يَقْصِدُ اتِّبَاعَهُ وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ إِلَّا مُطَاعًا وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ مَنَعَهُ مِنْ طَاعَةِ الْكُلِّ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَاعَتَهُ فَهُوَ كَافِرٌ أَوْ مُنَافِقٌ لِأَنَّ مَنْ يَأْمُرُ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَمْرٍ أَمْرَ إِيجَابٍ مُعْتَقِدًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ يُعَاقِبُهُ بِحَقٍّ يَكُونُ كَافِرًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّقْوَى يَنْبَغِي أن تَكُونُ عَنْ صَمِيمِ قَلْبِكَ لَا تُخْفِي فِي نَفْسِكَ تَقْوَى غَيْرِ اللَّهِ كَمَا يَفْعَلُهُ الَّذِي يَرَى مِنْ نَفْسِهِ الشَّجَاعَةَ حَيْثُ يَخَافُ فِي نَفْسِهِ وَيَتَجَلَّدُ فَإِنَّ التَّقْوَى مِنَ اللَّهِ وَهُوَ عَلِيمٌ، وَقَوْلُهُ: حَكِيماً إِشَارَةٌ إِلَى دَفْعِ وَهْمِ مُتَوَهِّمٍ وَهُوَ أَنَّ مُتَوَهِّمًا لَوْ قَالَ إِذَا قَالَ اللَّهُ شَيْئًا وَقَالَ جَمِيعُ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ مَعَ أَنَّهُمْ أَقَارِبُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَيْئًا آخَرَ وَرَأَوُا الْمَصْلَحَةَ فِيهِ وَذَكَرُوا وَجْهًا مَعْقُولًا فَاتِّبَاعُهُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا مَصْلَحَةً فَقَالَ اللَّهُ/ تَعَالَى إِنَّهُ حَكِيمٌ وَلَا تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ إلى فِي قَوْلِ الْحَكِيمِ، فَإِذَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِشَيْءٍ فاتبعه ولو منعك أهل العالم عنه. وقوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 2 الى 4] وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) يُقَرِّرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ حَكِيمٌ فَاتِّبَاعُهُ هُوَ الْوَاجِبُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً لَمَّا قَالَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِمَا فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَيَّنَ أَنَّهُ عَالِمٌ خَبِيرٌ بِأَعْمَالِكُمْ فَسَوُّوا قُلُوبَكُمْ وَأَصْلِحُوا أَعْمَالَكُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:

وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا يَعْنِي اتَّقِ اللَّهَ وَإِنْ تَوَهَّمْتَ مِنْ أَحَدٍ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ كَفَى بِهِ دَافِعًا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ مَعَهُ شَيْءٌ وَإِنْ ضَرَّ لَا يَنْفَعُ مَعَهُ شَيْءٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أَبِي مَعْمَرٍ كَانَ يَقُولُ لِي قَلْبَانِ أَعْلَمُ وَأَفْهَمُ بِأَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِمَّا يَفْهَمُ مُحَمَّدٌ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلُهُ: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ أَيْ مَا جَعَلَ لِرَجُلٍ قَلْبَيْنِ كَمَا لَمْ يَجْعَلْ لِرَجُلٍ أَمِينٍ وَلَا لِابْنِ أَبَوَيْنِ، وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ بَلِ الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ النبي عليه الصلاة والسلام بالاتقاء بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ فَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا لَهُ بِتَقْوَى لَا يَكُونُ فَوْقَهَا تَقْوَى وَمَنْ يَتَّقِي وَيَخَافُ شَيْئًا خَوْفًا شَدِيدًا لَا يَدْخُلُ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ آخَرُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَائِفَ الشَّدِيدَ الْخَوْفِ يَنْسَى مُهِمَّاتِهِ حَالَةَ الْخَوْفِ فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ لَا يَكُونَ فِي قَلْبِكَ تَقْوَى غَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّ المرء ليس له قلبان حي يتقي بأحدهما الله وبالآخرة غَيْرَهُ فَإِنِ اتَّقَى غَيْرَهُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِصَرْفِ الْقَلْبِ عَنْ جِهَةِ اللَّهِ إِلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْمُتَّقِي الَّذِي يَدَّعِي أنه يتق اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّقِيَ أَحَدًا وَلَا مِثْلَ مَا اتَّقَيْتَ فِي حِكَايَةِ زَيْنَبَ زَوْجَةِ زَيْدٍ حَيْثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الْأَحْزَابِ: 37] يَعْنِي مِثْلُ تِلْكَ التَّقْوَى لَا يَنْبَغِي أَنْ تَدْخُلَ فِي/ قَلْبِكَ ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِتِلْكَ الْحَالَةِ ذَكَرَ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ السُّوءَ. فَقَالَ: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ أَيْ وَمَا جَعَلَ اللَّهُ دَعِيَّ الْمَرْءِ ابْنَهُ ثُمَّ قَدَّمَ عَلَيْهِ مَا هُوَ دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى انْدِفَاعِ الْقُبْحِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ أَيْ إِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمْ لِأَزْوَاجِكُمْ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَلَا تَصِيرُ هِيَ أُمًّا بِإِجْمَاعِ الْكُلِّ، أَمَّا فِي الْإِسْلَامِ فَلِأَنَّهُ ظِهَارٌ لَا يُحَرِّمُ الْوَطْءَ، وَأَمَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلِأَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا حَتَّى كَانَ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا مِنْ جَدِيدٍ، فَإِذَا كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ أُمِّي أَوْ كَظَهْرِ أُمِّي لَا يُوجِبُ صَيْرُورَةَ الزَّوْجَةِ أُمًّا كَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ لِلدَّعِيِّ أنت ابني لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ ابْنًا فَلَا تَصِيرُ زَوْجَتُهُ زَوْجَةَ الِابْنِ فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا فَلَمْ يَكُنْ خَوْفُكَ مِنَ النَّاسِ لَهُ وَجْهٌ كَيْفَ وَلَوْ كَانَ أَمْرًا مَخُوفًا مَا كَانَ يَجُوزُ أَنْ تَخَافَ غَيْرَ اللَّهِ أَوْ لَيْسَ لَكَ قَلْبَانِ وَقَلْبُكَ مَشْغُولٌ بِتَقْوَى اللَّهِ فَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَخَافَ أَحَدًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ فِيهِ لَطِيفَةٌ وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمُعْتَبَرَ عَلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا: كَلَامٌ يَكُونُ عَنْ شَيْءٍ كَانَ فَيُقَالُ: وَالثَّانِي: كَلَامٌ يُقَالُ فَيَكُونُ كَمَا قِيلَ وَالْأَوَّلُ كَلَامُ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا يَكُونُ وَالْآخَرُ كَلَامُ الصِّدِّيقِينَ الَّذِينَ إِذَا قَالُوا شَيْئًا جَعَلَهُ اللَّهُ كَمَا قَالُوهُ وَكِلَاهُمَا صَادِرٌ عَنْ قَلْبٍ وَالْكَلَامُ الَّذِي يَكُونُ بِالْفَمِ فَحَسْبُ هُوَ مِثْلُ نَهِيقِ الْحِمَارِ أَوْ نُبَاحِ الْكَلْبِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَالَّذِي لَا يَكُونُ عَنْ قَلْبٍ وَرَوِيَّةٍ لَا اعْتِمَادَ عليه، والله تعالى ما كَرَّمَ ابْنَ آدَمَ وَفَضَّلَهُ عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ يَنْبَغِي أَنْ يَحْتَرِزَ مِنَ التَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهَا، فَقَوْلُ الْقَائِلِ: هَذَا ابْنُ فُلَانٍ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ ابْنَهُ لَيْسَ كَلَامًا فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْفُؤَادِ وَهَذَا فِي الْفَمِ لَا غَيْرُ، وَاللَّطِيفَةُ هِيَ أن الله تعالى هاهنا قَالَ: ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ [التَّوْبَةِ: 30] يَعْنِي نِسْبَةَ الشَّخْصِ إِلَى غَيْرِ الْأَبِ قَوْلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ قَلْبٍ وَلَا يَدْخُلُ أَيْضًا فِي قَلْبٍ فَهُوَ قَوْلٌ بِالْفَمِ مِثْلُ أَصْوَاتِ الْبَهَائِمِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنًى لَطِيفٍ وَهُوَ أَنَّ الْعَاقِلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إِمَّا عَنْ

[سورة الأحزاب (33) : آية 5]

عَقْلٍ أَوْ عَنْ شَرْعٍ فَإِذَا قَالَ فُلَانٌ ابْنُ فُلَانٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَنْ حَقِيقَةٍ أَوْ يَكُونَ عَنْ شَرْعٍ بِأَنْ يَكُونَ ابْنَهُ شَرْعًا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْحَقِيقَةَ كَمَنْ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلَدًا وَكَانَتِ الزَّوْجَةُ مِنْ قَبْلُ زَوْجَةَ شَخْصٍ آخَرَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْهُ فَإِنَّا نُلْحِقُهُ بِالزَّوْجِ الثَّانِي لِقِيَامِ الْفِرَاشِ وَنَقُولُ إِنَّهُ ابْنُهُ وَفِي الدَّعِيِّ لَمْ تُوجَدِ الْحَقِيقَةُ وَلَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ وَهَذَا خِلَافُ الْحَقِّ لِأَنَّ أَبَاهُ مَشْهُورٌ ظَاهِرٌ وَوَجْهٌ آخَرُ فِيهِ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا هَذِهِ زَوْجَةُ الِابْنِ فَتَحْرُمُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى هِيَ لَكَ حَلَالٌ، وَقَوْلُهُمْ لَا اعْتِبَارَ بِهِ فَإِنَّهُ بِأَفْوَاهِهِمْ كَأَصْوَاتِ الْبَهَائِمِ، وَقَوْلُ اللَّهِ حَقٌّ فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَقَوْلُهُ: وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ يُؤَكِّدُ قَوْلَهُ: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ يَعْنِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ لِكَوْنِهِ حَقًّا وَلِكَوْنِهِ هَادِيًا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ فِيهِ لَطِيفَةٌ وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي بِالْفَمِ فَحَسْبُ يُشْبِهُ صَوْتَ الْبَهَائِمِ الَّذِي يُوجَدُ لَا عَنْ قَلْبٍ، ثُمَّ إِنَّ الْكَلَامَ الَّذِي بِالْقَلْبِ قَدْ/ يَكُونُ حَقًّا وَقَدْ يَكُونُ بَاطِلًا، لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ شَيْئًا عَنِ اعْتِقَادٍ قَدْ يَكُونُ مُطَابِقًا فَيَكُونُ حَقًّا، وَقَدْ لَا يَكُونُ فَيَكُونُ بَاطِلًا، فَالْقَوْلُ الَّذِي بِالْقَلْبِ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ مِنْ أَقْوَالِكُمْ قَدْ يَكُونُ حَقًّا وَقَدْ يَكُونُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْوُجُودَ، وَقَوْلُ اللَّهِ حَقٌّ لِأَنَّهُ يَتْبَعُهُ الْوُجُودُ فَإِنَّهُ يَقُولُ عَمَّا كَانَ أَوْ يَقُولُ فَيَكُونُ، فَإِذَنْ قَوْلُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَقْوَالِكُمُ الَّتِي عَنْ قُلُوبِكُمْ فَكَيْفَ تَكُونُ نِسْبَتُهُ إِلَى أَقْوَالِكُمُ الَّتِي بِأَفْوَاهِكُمْ، فَإِذَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَأْخُذُوا بِقَوْلِكُمُ الْكَاذِبِ اللَّاغِي وَتَتْرُكُوا قَوْلَ اللَّهِ الْحَقَّ فَمَنْ يَقُولُ بِأَنَّ تَزَوُّجَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِزَيْنَبَ لَمْ يَكُنْ حَسَنًا يَكُونُ قَدْ تَرَكَ قَوْلَ اللَّهِ الْحَقَّ وَأَخَذَ بِقَوْلٍ خَرَجَ عَنِ الْفَمِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اتِّبَاعَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ خَيْرٌ مِنَ الأخذ بقول الغير. ثم بين الهداية وقال: [سورة الأحزاب (33) : آية 5] ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ أَرْشَدُ وَقَالَ: هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ أَعْدَلُ فَإِنَّهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَرَكَ الْإِضَافَةَ لِلْعُمُومِ أَيْ أَعْدَلُ كُلِّ كَلَامٍ كَقَوْلِ الْقَائِلِ اللَّهُ أَكْبَرُ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ مَا تَقَدَّمَ مَنْوِيًّا كَأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ أَقْسَطُ مِنْ قَوْلِكُمْ هُوَ ابْنُ فُلَانٍ ثُمَّ تَمَّمَ الْإِرْشَادَ وَقَالَ: فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ يَعْنِي قُولُوا لَهُمْ إِخْوَانُنَا وَأَخُو فُلَانٍ فَإِنْ كَانُوا مُحَرَّرِينَ فَقُولُوا مَوْلَى فُلَانٍ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ يَعْنِي قَوْلَ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ يَا بُنَيَّ بِطَرِيقِ الشَّفَقَةِ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ يَا أَبِي بِطَرِيقِ التَّعْظِيمِ، فَإِنَّهُ مِثْلُ الْخَطَأِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّغْوَ فِي الْيَمِينِ مِثْلُ الْخَطَأِ وَسَبْقِ اللِّسَانِ فَكَذَلِكَ سَبْقُ اللِّسَانِ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ ابْنِي وَالسَّهْوُ فِي قَوْلِهِ ابْنِي مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى إِثْبَاتِ النَّسَبِ سَوَاءٌ، وَقَوْلُهُ: وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ وَهُوَ الْجُنَاحُ يَعْنِي مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ فِيهِ جُنَاحٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَيَرْحَمُ الْمُذْنِبَ وَقَدْ ذَكَرْنَا كَلَامًا شَافِيًا فِي المغفرة والرحمة في مواضع، ونعيد بعضها هاهنا فَنَقُولُ الْمَغْفِرَةُ هُوَ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْقَادِرُ الْقَبِيحَ الصَّادِرَ مِمَّنْ تَحْتَ قُدْرَتِهِ حَتَّى إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَتَرَ عَيْبَ سَيِّدِهِ مَخَافَةَ عِقَابِهِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ غَفَرَ لَهُ، وَالرَّحْمَةُ هُوَ أَنْ يَمِيلَ إِلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ لِعَجْزِ الْمَرْحُومِ إِلَيْهِ لَا لِعِوَضٍ فَإِنَّ مَنْ مَالَ

[سورة الأحزاب (33) : آية 6]

إِلَى إِنْسَانٍ قَادِرٍ كَالسُّلْطَانِ لَا يُقَالُ رَحِمَهُ، وَكَذَا مَنْ أَحْسَنَ إِلَى غَيْرِهِ رَجَاءً فِي خَيْرِهِ أَوْ عِوَضًا عَمَّا صَدَرَ مِنْهُ آنِفًا مِنَ الْإِحْسَانِ لَا يُقَالُ رَحِمَهُ، إِذَا عُلِمَ هَذَا/ فَالْمَغْفِرَةُ إِذَا ذُكِرَتْ قَبْلَ الرَّحْمَةِ يَكُونُ مَعْنَاهَا أَنَّهُ سَتَرَ عَيْبَهُ ثُمَّ رَآهُ مُفْلِسًا عَاجِزًا فَرَحِمَهُ وَأَعْطَاهُ مَا كَفَاهُ، وَإِذَا ذُكِرَتِ الْمَغْفِرَةُ بَعْدَ الرَّحْمَةِ وَهُوَ قَلِيلٌ يَكُونُ مَعْنَاهَا أَنَّهُ مَالَ إِلَيْهِ لِعَجْزِهِ فَتَرَكَ عِقَابَهُ وَلَمْ يقتصر عليه بل ستر ذنوبه. ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 6] النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) قَوْلُهُ تَعَالَى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ تَقْرِيرٌ لِصِحَّةِ مَا صَدَرَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ التَّزَوُّجِ بِزَيْنَبَ وَكَأَنَّ هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ هَبْ أَنَّ الْأَدْعِيَاءَ لَيْسُوا بِأَبْنَاءٍ كَمَا قُلْتَ لَكِنَّ مَنْ سَمَّاهُ غَيْرُهُ ابْنًا إِذَا كَانَ لِدَعِيِّهِ شَيْءٌ حَسَنٌ لَا يَلِيقُ بِمُرُوءَتِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ وَيَطْعَنَ فِيهِ عُرْفًا فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ وَتَقْرِيرُهُ هُوَ أَنَّ دَفْعَ الْحَاجَاتِ عَلَى مَرَاتِبَ دَفْعَ حَاجَةِ الْأَجَانِبِ ثُمَّ دَفْعَ حَاجَةِ الْأَقَارِبِ الَّذِينَ عَلَى حَوَاشِي النَّسَبِ ثُمَّ دَفْعَ حَاجَةِ الْأُصُولِ وَالْفُصُولِ ثُمَّ دَفْعَ حَاجَةِ النَّفْسِ، وَالْأَوَّلُ عُرْفًا دُونَ الثَّانِي وَكَذَلِكَ شَرْعًا فَإِنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ الدِّيَةُ عَنْهُمْ وَلَا تَتَحَمَّلُهَا عَنِ الْأَجَانِبِ وَالثَّانِي دُونَ الثَّالِثِ أَيْضًا وَهُوَ ظَاهِرٌ بِدَلِيلِ النَّفَقَةِ وَالثَّالِثُ دُونَ الرَّابِعِ فَإِنَّ النَّفْسَ تُقَدَّمُ عَلَى الْغَيْرِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَالْإِنْسَانُ إِذَا كَانَ مَعَهُ مَا يُغَطِّي بِهِ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ أَوْ يَدْفَعُ بِهِ حَاجَةً عَنْ أَحَدِ شِقَّيْ بَدَنِهِ، فَلَوْ أَخَذَ الْغِطَاءَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَغَطَّى بِهِ الْآخَرَ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ بِئْسَمَا فَعَلْتَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعُضْوَيْنِ أَشْرَفَ مِنَ الْآخَرِ مِثْلَ مَا إِذَا وَقَى الْإِنْسَانُ عَيْنَهُ بِيَدِهِ وَيَدْفَعُ الْبَرْدَ عَنْ رَأْسِهِ الَّذِي هُوَ مَعْدِنُ حَوَاسِّهِ وَيَتْرُكُ رِجْلَهُ تَبْرُدُ فَإِنَّهُ الْوَاجِبُ عَقْلًا، فَمَنْ يَعْكِسُ الْأَمْرَ يُقَالُ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ، وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِ مِنْ نَفْسِهِ فَلَوْ دَفَعَ الْمُؤْمِنُ حَاجَةَ نَفْسِهِ دُونَ حَاجَةِ نَبِيِّهِ يَكُونُ مَثَلُهُ مَثَلَ مَنْ يَدْهُنُ شَعْرَهُ وَيَكْشِفُ رَأْسَهُ فِي بَرْدٍ مُفْرِطٍ قَاصِدًا بِهِ تَرْبِيَةَ شَعْرِهِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُؤْذِي رَأْسَهُ الَّذِي لَا نَبَاتَ لِشَعْرِهِ إِلَّا مِنْهُ، فَكَذَلِكَ دَفْعُ حَاجَةِ النَّفْسِ فَرَاغُهَا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا عِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ الْعِبَادَةِ إِلَّا مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلَوْ دَفَعَ الْإِنْسَانُ حَاجَتَهُ لَا لِلْعِبَادَةِ فَهُوَ لَيْسَ/ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ لِأَنَّ دَفْعَ الْحَاجَةِ مَا هُوَ فَوْقَ تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ حَاجَةً وَإِذَا كَانَ لِلْعِبَادَةِ فَتَرْكُ النَّبِيِّ الَّذِي مِنْهُ يَتَعَلَّمُ كَيْفِيَّةَ الْعِبَادَةِ فِي الْحَاجَةِ وَدَفْعِ حَاجَةِ النَّفْسِ مِثْلُ تَرْبِيَةِ الشَّعْرِ مَعَ إِهْمَالِ أَمْرِ الرَّأْسِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا حَرُمَ عَلَى الْأُمَّةِ التَّعَرُّضُ إِلَيْهِ فِي الْحِكْمَةِ الْوَاضِحَةِ. ثُمَّ قَالَ تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ تقريرا آخَرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ زَوْجَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ مَا جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي حُكْمِ الْأُمِّ إِلَّا لِقَطْعِ نَظَرِ الْأُمَّةِ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ غَرَضُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَإِذَا تَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِامْرَأَةٍ شَارَكَتِ الزَّوْجَاتِ فِي التَّعَلُّقِ فَحَرُمَتْ مِثْلَ مَا حَرُمَتْ أَزْوَاجُهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ قَالَ: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَقَالَ مِنْ قَبْلُ: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ غَيْرَ مَنْ وَلَدَتْ لَا تَصِيرُ أُمًّا بِوَجْهٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ [الْمُجَادَلَةِ: 2] فَنَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى في

الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ جَوَابٌ عَنْ هَذَا مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّرْعَ مِثْلُ الْحَقِيقَةِ، وَلِهَذَا يَرْجِعُ الْعَاقِلُ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الشَّرِيعَةِ. كَمَا أَنَّ امْرَأَتَيْنِ إِذَا ادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ وَلَدًا بِعَيْنِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ وَحَلَفَتْ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى حُكِمَ لَهَا بِالْوَلَدِ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الَّتِي حَلَفَتْ دُونَ الْبُلُوغِ أَوْ بِكْرٌ بِبَيِّنَةٍ لَا يُحْكَمُ لَهَا بِالْوَلَدِ، فَعُلِمَ أَنَّ عِنْدَ عَدَمِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِيقَةِ يُرْجَعُ إِلَى الشَّرْعِ، لَا بَلْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَلَى النُّدُورِ تَغْلُبُ الشَّرِيعَةُ الْحَقِيقَةَ، فَإِنَّ الزَّانِيَ لَا يُجْعَلُ أَبًا لِوَلَدِ الزِّنَا. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالشَّارِعُ لَهُ الْحُكْمُ فَقَوْلُ الْقَائِلِ هَذِهِ أُمِّي قَوْلٌ يُفْهَمُ لَا عَنْ حَقِيقَةٍ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حَقِيقَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّارِعِ [فَهُوَ] حَقٌّ وَالَّذِي يُؤَيِّدُهُ هُوَ أَنَّ الشَّارِعَ بِهِ الْحَقَائِقُ حَقَائِقُ فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُمَّ مَا صَارَتْ أُمًّا إِلَّا بِخَلْقِ اللَّهِ الْوَلَدَ فِي رَحِمِهَا، وَلَوْ خَلَقَهُ فِي جَوْفِ غَيْرِهَا لَكَانَتِ الْأُمُّ غَيْرَهَا، فَإِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي يَجْعَلُ الْأُمَّ الْحَقِيقِيَّةَ أُمًّا فَلَهُ أَنْ يُسَمِّيَ امْرَأَةً أُمًّا وَيُعْطِيَهَا حُكْمَ الْأُمُومَةِ، وَالْمَعْقُولُ فِي جَعْلِ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِنَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ زَوْجَةَ الْأَبِ مُحَرَّمَةً عَلَى الِابْنِ، لِأَنَّ الزَّوْجَةَ مَحَلُّ الْغَيْرَةِ وَالتَّنَازُعِ فِيهَا، فَإِنَّ تَزَوُّجَ الِابْنِ بِمَنْ كَانَتْ تَحْتَ الْأَبِ يُفْضِي ذَلِكَ إِلَى قَطْعِ الرَّحِمِ وَالْعُقُوقِ، لَكِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَشْرَفُ وَأَعْلَى دَرَجَةً مِنَ الْأَبِ وَأَوْلَى بِالْإِرْضَاءِ، فَإِنَّ الْأَبَ يُرَبِّي فِي الدُّنْيَا فَحَسْبُ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُرَبِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ زَوْجَاتُهُ مِثْلَ زَوْجَاتِ الْآبَاءِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَلِمَ لَمْ يَقُلْ إِنَّ النَّبِيَّ أَبُوكُمْ وَيَحْصُلُ هَذَا الْمَعْنَى، أَوْ لَمْ يَقُلْ إِنَّ أَزْوَاجَهُ أَزْوَاجُ أَبِيكُمْ فَنَقُولُ لِحِكْمَةٍ، وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ زَوْجَةَ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِ تَرْكُهَا لِيَتَزَوَّجَ بِهَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلَوْ قَالَ أَنْتَ أَبُوهُمْ لَحَرُمَ عَلَيْهِ زَوْجَاتُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَالنَّفْسُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَبِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْمُحْتَاجَ إِلَى الْقُوتِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ صَرْفُهُ إِلَى الْأَبِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ صَرْفُهُ إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثُمَّ إِنَّ أَزْوَاجَهُ لَهُمْ حُكْمُ زَوْجَاتِ/ الْأَبِ حَتَّى لَا تَحْرُمَ أَوْلَادُهُنَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا أَخَوَاتُهُنَّ وَلَا أُمَّهَاتُهُنَّ، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ يَحْرُمْنَ فِي الْأُمِّ الْحَقِيقِيَّةِ وَالرَّضَاعِيَّةِ. ثُمَّ قال تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً إِشَارَةً إِلَى الْمِيرَاثِ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً إِشَارَةٌ إِلَى الْوَصِيَّةِ، يَعْنِي إِنْ أَوْصَيْتُمْ فَغَيْرُ الْوَارِثِينَ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ تُوصُوا فَالْوَارِثُونَ أَوْلَى بِمِيرَاثِكُمْ وَبِمَا تَرَكْتُمْ، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا أَيُّ تَعَلُّقٍ لِلْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ بِمَا ذَكَرْتَ نَقُولُ تَعَلُّقٌ قَوِيٌّ خَفِيٌّ لَا يَتَبَيَّنُ إِلَّا لِمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ بِنُورِهِ، وَهُوَ أَنَّ غَيْرَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لَا يَصِيرُ لَهُ مَالُ الْغَيْرِ، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ لَا يَصِيرُ مَالُهُ لِغَيْرِ وَرَثَتِهِ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ كَانَ يَصِيرُ لَهُ مَالُ الْغَيْرِ إِذَا أَرَادَهُ وَلَا يَصِيرُ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَوَّضَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ قَطْعِ مِيرَاثِهِ بِقُدْرَتِهِ عَلَى تَمَلُّكِ مَالِ الْغَيْرِ وَعَوَّضَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ مَا تَرَكَهُ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ، حَتَّى لَا يَكُونَ حَرَجٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ في أن النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا يَصِيرُ لَهُ ثُمَّ يَمُوتُ وَيَبْقَى لِوَرَثَتِهِ فَيُفَوَّتُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَرْجِعُ إليهم فقال تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ يَعْنِي بَيْنَكُمُ التَّوَارُثُ فَيَصِيرُ مَالُ أَحَدِكُمْ لِغَيْرِهِ بِالْإِرْثِ وَالنَّبِيُّ لَا تَوَارُثَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَقَارِبِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ بَدَلُ هَذَا أَنَّهُ أَوْلَى فِي حَيَاتِهِ بِمَا فِي أَيْدِيكُمْ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ أَنَّ أُولِي الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ، ثُمَّ إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ بِرًّا مَعَ صَدِيقٍ فَيُوصِي لَهُ بِشَيْءٍ فيصير

[سورة الأحزاب (33) : آية 7]

أَوْلَى مِنْ قَرِيبِهِ وَكَأَنَّهُ بِالْوَصِيَّةِ قَطَعَ الْإِرْثَ وَقَالَ هَذَا مَالِي لَا يَنْتَقِلُ عَنِّي إِلَّا إِلَى مَنْ أُرِيدُهُ، فَكَذَلِكَ اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لِصَدِيقِهِ مِنَ الدُّنْيَا مَا أَرَادَهُ ثُمَّ مَا يَفْضُلُ مِنْهُ يَكُونُ لِغَيْرِهِ وَقَوْلُهُ: كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ آيَةُ الْمَوَارِيثِ وَالْوَصِيَّةِ وَالثَّانِي: فِي اللوح المحفوظ. ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 7] وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) وَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ النبي عليه الصلاة والسلام بالاتقاء بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: 1] وَأَكَّدَهُ بِالْحِكَايَةِ الَّتِي خَشِيَ فِيهَا النَّاسَ لِكَيْ لَا يَخْشَى فِيهَا أَحَدًا غَيْرَهُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَرْتَكِبْ أَمْرًا يُوجِبُ الْخَشْيَةَ بِقَوْلِهِ: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب: 6] أَكَّدَهُ بِوَجْهٍ آخَرَ وَقَالَ: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ كَأَنَّهُ قَالَ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَخَفْ أَحَدًا وَاذْكُرْ أَنَّ اللَّهَ أَخَذَ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ فِي أَنَّهُمْ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ خَوْفٌ وَلَا طَمَعٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ مِنَ الْمِيثَاقِ الْمَأْخُوذِ مِنَ النَّبِيِّينَ إِرْسَالُهُمْ وَأَمْرُهُمْ بِالتَّبْلِيغِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: خَصَّ بِالذِّكْرِ أَرْبَعَةً مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى لِأَنَّ مُوسَى وَعِيسَى كَانَ لَهُمَا فِي زَمَانِ نَبِيِّنَا قَوْمٌ وَأُمَّةٌ فَذَكَرَهُمَا احْتِجَاجًا عَلَى قَوْمِهِمَا، وَإِبْرَاهِيمَ كَانَ الْعَرَبُ يَقُولُونَ بِفَضْلِهِ وَكَانُوا يَتْبَعُونَهُ فِي الشَّعَائِرِ بَعْضِهَا، وَنُوحًا لِأَنَّهُ كَانَ أَصْلًا ثَانِيًا لِلنَّاسِ حَيْثُ وُجِدَ الْخَلْقُ مِنْهُ بَعْدَ الطُّوفَانِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ فَآدَمُ كَانَ أَوْلَى بِالذِّكْرِ مِنْ نُوحٍ فَنَقُولُ خَلْقُ آدَمَ كَانَ لِلْعِمَارَةِ وَنُبُوَّتُهُ كَانَتْ مِثْلَ الْإِرْشَادِ لِلْأَوْلَادِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ إِهْلَاكُ قَوْمٍ وَلَا تَعْذِيبٌ، وَأَمَّا نُوحٌ فَكَانَ مَخْلُوقًا لِلنُّبُوَّةِ وَأُرْسِلَ لِلْإِنْذَارِ وَلِهَذَا أُهْلِكَ قَوْمُهُ وَأُغْرِقُوا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي كَثِيرٍ مِنَ المواضع يقول الله: عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ [البقرة: 87] الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: 17] إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَا أَبَ لَهُ إِذْ لَوْ كَانَ لَوَقَعَ التَّعْرِيفُ بِهِ، وَقَوْلُهُ: وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً غِلَظُ الْمِيثَاقِ هُوَ سُؤَالُهُمْ عَمَّا فَعَلُوا فِي الْإِرْسَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الْأَعْرَافِ: 6] وَهَذَا لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا أَرْسَلَ رَسُولًا وَأَمَرَهُ بِشَيْءٍ وَقَبِلَهُ فَهُوَ مِيثَاقٌ، فَإِذَا أَعْلَمَهُ بِأَنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ حَالِهِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ يَكُونُ ذَلِكَ تَغْلِيظًا لِلْمِيثَاقِ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَزِيدَ وَلَا يَنْقُصَ فِي الرِّسَالَةِ، وَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [النِّسَاءِ: 21] هو الإخبار بأنهم مسؤلون عَنْهَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ» وَكَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الرِّجَالَ قَوَّامِينَ عَلَى النِّسَاءِ جَعَلَ الْأَنْبِيَاءَ قَائِمِينَ بِأُمُورِ أُمَّتِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى سَبِيلِ الرشاد. ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 8] لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) يَعْنِي أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَعَاقِبَةُ الْمُكَلَّفِينَ إِمَّا حِسَابٌ وَإِمَّا عَذَابٌ، لِأَنَّ الصَّادِقَ مُحَاسَبٌ وَالْكَافِرَ مُعَذَّبٌ، وَهَذَا كَمَا قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الدُّنْيَا حَلَالُهَا حِسَابٌ وَحَرَامُهَا عَذَابٌ» وَهَذَا مِمَّا يُوجِبُ الخوف العام فيتأكد قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: 1] . ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 10] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)

تَحْقِيقًا لِمَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْرِ بِتَقْوَى اللَّهِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مَعَهُ خَوْفٌ مِنْ أَحَدٍ وذلك لأن في وَاقِعَةَ اجْتِمَاعِ الْأَحْزَابِ وَاشْتِدَادِ الْأَمْرِ عَلَى الْأَصْحَابِ حَيْثُ اجْتَمَعَ الْمُشْرِكُونَ بِأَسْرِهِمْ وَالْيَهُودُ بِأَجْمَعِهِمْ وَنَزَلُوا عَلَى الْمَدِينَةِ وَعَمِلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْخَنْدَقَ، كَانَ الْأَمْرُ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ وَالْخَوْفِ بَالِغًا إِلَى الْغَايَةِ وَاللَّهُ دَفَعَ الْقَوْمَ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ وَآمَنَهُمْ مِنَ الْخَوْفِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخَافَ الْعَبْدُ غَيْرَ رَبِّهِ فَإِنَّهُ كَافٍ أَمْرَهُ وَلَا يَأْمَنُ مَكْرَهُ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ مُمْكِنٍ فَكَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَقْهَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالْكُفَّارِ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا ضُعَفَاءَ كَمَا قَهَرَ الْكَافِرِينَ بِالْمُؤْمِنِينَ مَعَ قُوَّتِهِمْ وَشَوْكَتِهِمْ، وَقَوْلُهُ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها إِشَارَةٌ إِلَى مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ إِرْسَالِ رِيحٍ بَارِدَةٍ عَلَيْهِمْ فِي لَيْلَةٍ شَاتِيَةٍ وَإِرْسَالِ الْمَلَائِكَةِ وَقَذْفِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى كَانَ الْبَعْضُ يَلْتَزِقُ بِالْبَعْضِ مِنْ خَوْفِ الْخَيْلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَالْحِكَايَةُ مَشْهُورَةٌ، وَقَوْلُهُ: وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ علم التجاء كم إِلَيْهِ وَرَجَاءَكُمْ فَضْلَهُ فَنَصَرَكُمْ عَلَى الْأَعْدَاءِ عِنْدَ الِاسْتِعْدَاءِ، وَهَذَا تَقْرِيرٌ لِوُجُوبِ الْخَوْفِ وَعَدَمِ جَوَازِ الْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها أَيِ اللَّهُ يَقْضِي حَاجَتَكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَرَوْنَ، فَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ لَكُمْ وَجْهُ الْأَمْنِ فَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَى عَدَمِ ظُهُورِهِ لَكُمْ لِأَنَّكُمْ لَا تَرَوْنَ الْأَشْيَاءَ فَلَا تَخَافُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ فَلَا تَقُولُوا بِأَنَّا نَفْعَلُ شَيْئًا وهو لا يبصره فإنه بكل شيء بصير وقوله: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ بَيَانٌ لِشِدَّةِ الْأَمْرِ وَغَايَةِ الْخَوْفِ، وَقِيلَ: مِنْ فَوْقِكُمْ أَيْ مِنْ جَانِبِ الشَّرْقِ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ مِنْ جانب الغرب وهم أهل مكة وزاغت الْأَبْصَارُ أَيْ مَالَتْ عَنْ سُنَنِهَا فَلَمْ تَلْتَفِتْ إِلَى الْعَدُوِّ لِكَثْرَتِهِ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ كِنَايَةٌ عَنْ غَايَةِ الشِّدَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَلْبَ عِنْدَ الْغَضَبِ يَنْدَفِعُ وَعِنْدَ الْخَوْفِ يَجْتَمِعُ فَيَتَقَلَّصُ فَيَلْتَصِقُ بِالْحَنْجَرَةِ وَقَدْ يُفْضِي إِلَى أَنْ يَسُدَّ مَجْرَى النفس فلا يقدر المرء أن يَتَنَفَّسُ وَيَمُوتُ مِنَ الْخَوْفِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الْوَاقِعَةِ: 83] وَقَوْلُهُ: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا بِمَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ مُبَالَغَةً يَعْنِي تَظُنُّونَ كُلَّ ظَنٍّ لِأَنَّ عِنْدَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ كُلُّ أَحَدٍ يَظُنُّ شَيْئًا وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ظُنُونَهُمُ الْمَعْهُودَةَ، لِأَنَّ الْمَعْهُودَ مِنَ الْمُؤْمِنِ ظَنُّ الْخَيْرِ بِاللَّهِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ظُنُّوا بِاللَّهِ خَيْرًا» وَمِنَ الْكَافِرِ الظَّنُّ السَّوْءُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص: 27] وَقَوْلُهُ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [النجم: 23] فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ الْمَصْدَرُ لَا يُجْمَعُ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي جَمْعِ الظُّنُونِ؟ فَنَقُولُ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ وَلَكِنَّ الِاسْمَ قَدْ يُجْعَلُ مَصْدَرًا كَمَا يُقَالُ ضَرَبْتُهُ سِيَاطًا وَأَدَّبْتُهُ مِرَارًا فَكَأَنَّهُ قَالَ ظَنَنْتُمْ ظَنًّا بَعْدَ ظَنٍّ أَيْ مَا ثَبَتُّمْ عَلَى ظَنٍّ فَالْفَائِدَةُ هِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ قَالَ: تَظُنُّونَ ظَنًّا، جَازَ أَنْ يَكُونُوا مُصِيبِينَ فَإِذَا قَالَ: ظُنُونًا، تَبَيَّنَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ كَانَ ظَنُّهُ كَاذِبًا لِأَنَّ الظُّنُونَ قَدْ تُكَذَّبُ كُلُّهَا/ وَقَدْ يُكَذَّبُ بَعْضُهَا إِذَا كَانَتْ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ مِثَالُهُ إِذَا رَأَى جَمْعٌ مِنْ بَعِيدٍ جِسْمًا وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ زَيْدٌ وَآخَرُونَ أَنَّهُ عَمْرٌو وَقَالَ ثَالِثٌ إِنَّهُ بَكْرٌ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُمُ الْحَقُّ قَدْ يَكُونُ الْكُلُّ مُخْطِئِينَ وَالْمَرْئِيُّ شَجَرٌ أَوْ حَجَرٌ. وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمْ مُصِيبًا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مُصِيبِينَ فَقَوْلُهُ: الظُّنُونَا أَفَادَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ أَخْطَأَ الظَّنَّ، وَلَوْ قَالَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ ظَنًّا مَا كَانَ يُفِيدُ هذا. ثم قال تعالى:

[سورة الأحزاب (33) : آية 11]

[سورة الأحزاب (33) : آية 11] هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) أَيْ عِنْدَ ذَلِكَ امْتَحَنَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فَتَمَيَّزَ الصَّادِقُ عَنِ الْمُنَافِقِ، وَالِامْتِحَانُ مِنَ اللَّهِ لَيْسَ لِاسْتِبَانَةِ الْأَمْرِ لَهُ بَلْ لِحِكْمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ أَرَادَ إِظْهَارَ الْأَمْرِ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ، كَمَا أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا عَلِمَ مِنْ عَبْدِهِ الْمُخَالَفَةَ وَعَزَمَ عَلَى مُعَاقَبَتِهِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ وَعِنْدَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْعَبِيدِ وَغَيْرُهُمْ فَيَأْمُرُهُ بِأَمْرٍ عَالِمًا بِأَنَّهُ يُخَالِفُهُ فَيُبَيِّنُ الْأَمْرَ عِنْدَ الْغَيْرِ فَتَقَعُ الْمُعَاقَبَةُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ حَيْثُ لَا يَقَعُ لِأَحَدٍ أَنَّهَا بِظُلْمٍ أَوْ مِنْ قِلَّةِ حِلْمٍ وَقَوْلُهُ: وَزُلْزِلُوا أَيْ أُزْعِجُوا وَحُرِّكُوا فَمَنْ ثَبَتَ مِنْهُمْ كَانَ مِنَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَبِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ مَرَّةً أُخْرَى، وهم المؤمنون حقا. ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 12 الى 13] وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) فَسَّرَ الظُّنُونَ وَبَيَّنَهَا، فَظَنَّ الْمُنَافِقُونَ أَنَّ مَا قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَانَ زُورًا وَوَعْدُهُمَا كَانَ غُرُورًا حَيْثُ قَطَعُوا بِأَنَّ الْغَلَبَةَ وَاقِعَةٌ وَقَوْلُهُ: وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقامَ لَكُمْ أَيْ لَا وَجْهَ لِإِقَامَتِكُمْ مَعَ مُحَمَّدٍ كَمَا يُقَالُ لَا إِقَامَةَ عَلَى الذُّلِّ وَالْهَوَانِ أَيْ لَا وَجْهَ لَهَا وَيَثْرِبُ اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ الَّتِي هِيَ الْمَدِينَةُ فَارْجِعُوا أَيْ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَاتَّفِقُوا مَعَ الْأَحْزَابِ تَخْرُجُوا مِنَ الْأَحْزَانِ ثُمَّ السَّامِعُونَ عَزَمُوا عَلَى الرُّجُوعِ وَاسْتَأْذَنُوهُ وَتَعَلَّلُوا بِأَنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ أَيْ فِيهَا خَلَلٌ لَا يَأْمَنُ صَاحِبُهَا السَّارِقَ عَلَى مَتَاعِهِ وَالْعَدُوَّ عَلَى أَتْبَاعِهِ ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ كَذِبَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ وَبَيَّنَ قَصْدَهُمْ وَمَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَهُوَ الْفِرَارُ وزوال القرار بسبب الخوف/ ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 14] وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفِرَارَ وَالرُّجُوعَ لَيْسَ لِحِفْظِ الْبُيُوتِ لِأَنَّ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا لِغَرَضٍ، فَإِذَا فَاتَهُ الْغَرَضُ لَا يَفْعَلُهُ، كَمَنْ يَبْذُلُ الْمَالَ لِكَيْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُ بَيْتُهُ فَإِذَا أُخِذَ مِنْهُ الْبَيْتُ لَا يَبْذُلُهُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى هُمْ قَالُوا بِأَنَّ رُجُوعَنَا عَنْكَ لِحِفْظِ بُيُوتِنَا وَلَوْ دَخَلَهَا الْأَحْزَابُ وَأَخَذُوهَا مِنْهُمْ لَرَجَعُوا أَيْضًا، وَلَيْسَ رُجُوعُهُمْ عَنْكَ إِلَّا بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَحُبِّهِمُ الْفِتْنَةَ، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمَدِينَةَ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْبُيُوتَ، وَقَوْلُهُ: وَما تَلَبَّثُوا بِها يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْفِتْنَةَ إِلَّا يَسِيراً فَإِنَّهَا تَزُولُ وَتَكُونُ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمَدِينَةَ أَوِ الْبُيُوتَ أَيِ مَا تَلَبَّثُوا بِالْمَدِينَةِ إلا يسيرا فإن المؤمنين يخرجونهم. ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 15 الى 16] وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) بَيَانًا لِفَسَادِ سَرِيرَتِهِمْ وَقُبْحِ سِيرَتِهِمْ لِنَقْضِهِمُ الْعُهُودَ فَإِنَّهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ تَخَلَّفُوا وَأَظْهَرُوا عُذْرًا وندما، وذكروا أن القتال لا يزال لَهُمْ قَدَمًا ثُمَّ هَدَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا وَقَوْلُهُ: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأُمُورَ مُقَدَّرَةٌ لَا يُمْكِنُ الْفِرَارُ مِمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الْقَرَارُ، وَمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ كَائِنٌ فَمَنْ

[سورة الأحزاب (33) : آية 17]

أَمَرَ بِشَيْءٍ إِذَا خَالَفَهُ يَبْقَى فِي وَرْطَةِ الْعِقَابِ آجِلًا وَلَا يَنْتَفِعُ بِالْمُخَالَفَةِ عَاجِلًا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا كَأَنَّهُ يَقُولُ وَلَوْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ فِي يَوْمِكُمْ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ لَمَا دُمْتُمْ بَلْ لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا فَالْعَاقِلُ لَا يَرْغَبُ فِي شَيْءٍ قَلِيلٍ مَعَ أَنَّهُ يُفَوِّتُ عَلَيْهِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَلَا فِرَارَ لَكُمْ وَلَوْ كَانَ لَمَا مُتِّعْتُمْ بَعْدَ الْفِرَارِ إِلَّا قَلِيلًا. ثُمَّ قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 17] قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) بَيَانًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ وَقَوْلُهُ: وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ أَيْ لَيْسَ لَكُمْ وَلِيٌّ يَشْفَعُ لِمَحَبَّتِهِ إِيَّاكُمْ وَلَا نَصِيرٌ يَنْصُرُكُمْ وَيَدْفَعُ عنكم السوء إذا أتاكم. ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 18 الى 19] قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ. أَيِ الَّذِينَ يُثَبِّطُونَ الْمُسْلِمِينَ وَيَقُولُونَ تَعَالَوْا إِلَيْنَا وَلَا تُقَاتِلُوا مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ لِلْأَنْصَارِ لَا تُقَاتِلُوا وَأَسْلِمُوا مُحَمَّدًا إِلَى قُرَيْشٍ وَثَانِيهِمَا: الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ لأهل المدينة تعالوا إلينا وكونوا معنا وهلم بِمَعْنَى تَعَالَ أَوِ احْضُرْ وَلَا تُجْمَعُ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ وَتُجْمَعُ فِي غَيْرِهَا فَيُقَالُ لِلْجَمَاعَةِ هَلُمُّوا وَلِلنِّسَاءِ هَلُمُّنَّ، وَقَوْلُهُ: وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا يُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ بِمَعْنَى يَتَخَلَّفُونَ عَنْكُمْ وَلَا يَخْرُجُونَ مَعَكُمْ وَحِينَئِذٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أَيْ بُخَلَاءَ حَيْثُ لَا يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ شَيْئًا وَثَانِيهِمَا: لَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ بِمَعْنَى لَا يُقَاتِلُونَ مَعَكُمْ وَيَتَعَلَّلُونَ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْقِتَالِ وَقْتَ الْحُضُورِ مَعَكُمْ، وَقَوْلُهُ: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أَيْ بِأَنْفُسِهِمْ وأبدانهم. ثم قال تعالى: فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. إِشَارَةٌ إِلَى غَايَةِ جُبْنِهِمْ وَنِهَايَةِ رَوْعِهِمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْبُخْلَ شَبِيهُ الْجُبْنِ، فَلَمَّا ذَكَرَ الْبُخْلَ بَيَّنَ سَبَبَهُ وَهُوَ الْجُبْنُ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْجَبَانَ يَبْخَلُ بِمَالِهِ وَلَا يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّعُ الظَّفَرَ/ فَلَا يَرْجُو الْغَنِيمَةَ فَيَقُولُ هَذَا إِنْفَاقٌ لَا بَدَلَ لَهُ فَيَتَوَقَّفُ فِيهِ، وَأَمَّا الشُّجَاعُ فَيَتَيَقَّنُ الظَّفَرَ وَالِاغْتِنَامَ فَيَهُونُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ الْمَالِ فِي الْقِتَالِ طَمَعًا فِيمَا هُوَ أَضْعَافُ ذَلِكَ، وَأَمَّا بِالنَّفْسِ وَالْبَدَنِ فَكَذَلِكَ فَإِنَّ الْجَبَانَ يَخَافُ قَرْنَهُ وَيَتَصَوَّرُ الْفَشَلَ فَيَجْبُنُ وَيَتْرُكُ الْإِقْدَامَ، وَأَمَّا الشُّجَاعُ فَيَحْكُمُ بِالْغَلَبَةِ وَالنَّصْرِ فَيُقْدِمُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ أَيْ غَلَبُوكُمْ بِالْأَلْسِنَةِ وَآذَوْكُمْ بِكَلَامِهِمْ يَقُولُونَ نَحْنُ الَّذِينَ قَاتَلْنَا وَبِنَا انْتَصَرْتُمْ وَكَسَرْتُمُ الْعَدُوَّ وَقَهَرْتُمْ وَيُطَالِبُونَكُمْ بِالْقِسْمِ الْأَوْفَرِ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ رَاضِينَ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ، وَقَوْلُهُ: أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ قِيلَ الْخَيْرُ الْمَالُ

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 20 إلى 21]

وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ قَلِيلُو الْخَيْرِ في الحالتين كثير والشر فِي الْوَقْتَيْنِ فِي الْأَوَّلِ يَبْخَلُونَ، وَفِي الْآخِرِ كَذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً يَعْنِي لَمْ يُؤْمِنُوا حَقِيقَةً وَإِنْ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ لَفْظًا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمُ الَّتِي كَانُوا يَأْتُونَ بِهَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَقَوْلُهُ: وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَكُونُ فِي نَظَرِ النَّاظِرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: 27] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِحْبَاطَ إِعْدَامٌ وَإِهْدَارٌ، وَإِعْدَامُ الْأَجْسَامِ إِذَا نَظَرَ النَّاظِرُ يَقُولُ الْجِسْمُ بِتَفْرِيقِ أَجْزَائِهِ، فَإِنَّ مَنْ أَحْرَقَ شَيْئًا يَبْقَى مِنْهُ رَمَادٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّمَادَ إِنْ فَرَّقَتْهُ الرِّيحُ يَبْقَى مِنْهُ ذَرَّاتٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ بَعْضِ النَّاسِ وَالْحَقُّ هُوَ أَنَّ اللَّهَ يُعْدِمُ الْأَجْسَامَ وَيُعِيدُ مَا يَشَاءُ مِنْهَا، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَهُوَ فِي الْعَيْنِ مَعْدُومٌ وَإِنْ كَانَ يبقى يَبْقَى بِحُكْمِهِ وَآثَارِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ وَاعْتِبَارٌ فَهُوَ مَعْدُومٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَالْعَمَلُ إِذَا لَمْ يُعْتَبَرْ فَهُوَ مَعْدُومٌ فِي الْحَقِيقَةِ بخلاف الجسم. ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 20 الى 21] يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ مَا قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) أَيْ مِنْ غَايَةِ الْجُبْنِ عِنْدَ ذَهَابِهِمْ كَانُوا يَخَافُونَهُمْ وَعِنْدَ مَجِيئِهِمْ كَانُوا يَوَدُّونَ لَوْ كَانُوا فِي الْبَوَادِي وَلَا يَكُونُونَ بَيْنَ الْمُقَاتِلِينَ مَعَ أَنَّهُمْ عِنْدَ حُضُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ غَائِبُونَ حَيْثُ لَا يُقَاتِلُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: / وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ مَا قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا. ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 22] وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ مِنَ الِابْتِلَاءِ ثُمَّ قَالُوا: وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِمْ: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الْأَحْزَابِ: 12] وَقَوْلُهُمْ: وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَيْسَ إِشَارَةً إِلَى مَا وَقَعَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ صِدْقَ اللَّهِ قَبْلَ الْوُقُوعِ وَإِنَّمَا هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى بِشَارَةٍ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَقَدْ وَقَعَ وَصَدَقَ اللَّهُ فِي جَمِيعِ مَا وَعَدَ فَيَقَعُ الْكُلُّ مِثْلُ فَتْحِ مَكَّةَ وَفَتْحِ الروم وفارس وقوله: ما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً بِوُقُوعِهِ وَتَسْلِيمًا عِنْدَ وُجُودِهِ. ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 23 الى 25] مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) إِشَارَةً إِلَى وَفَائِهِمْ بِعَهْدِهِمُ الَّذِي عَاهَدُوا اللَّهَ أَنَّهُمْ لَا يُفَارِقُونَ نَبِيَّهُ إِلَّا بِالْمَوْتِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ أَيْ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَوَفَى بِنَذْرِهِ وَالنَّحْبُ النَّذْرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ بَعْدُ فِي الْقِتَالِ يَنْتَظِرُ الشَّهَادَةَ وَفَاءً بِالْعَهْدِ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا بِخِلَافِ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا لَا نُوَلِّي الْأَدْبَارَ فَبَدَّلُوا قَوْلَهُمْ وَوَلَّوْا أَدْبَارَهُمْ وَقَوْلُهُ: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ أَيْ بِصِدْقِ مَا وَعَدَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا صَدَقُوا مَوَاعِيدَهُمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا وَأَخْلَفُوا

[سورة الأحزاب (33) : آية 26]

وَقَوْلُهُ: إِنْ شاءَ ذَلِكَ فَيَمْنَعُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ/ أَوْ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ إِنْ أَرَادَ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَصَلَ يَأْسُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ إِيمَانِهِمْ وَآمَنَ بَعْدَ ذَلِكَ نَاسٌ مِنْهُمْ وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً حيث ستر ذنوبهم ورَحِيماً حَيْثُ رَحِمَهُمْ وَرَزَقَهُمُ الْإِيمَانَ فَيَكُونُ هَذَا فِيمَنْ آمَنَ بَعْدَهُ أَوْ نَقُولُ: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا لِكَثْرَةِ ذَنْبِهِمْ وَقُوَّةِ جُرْمِهِمْ وَلَوْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ لَغَفَرَ لَهُمْ ثُمَّ بَيَّنَ بَعْضَ مَا جَازَاهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى صِدْقِهِمْ فَقَالَ: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ أَيْ مَعَ غَيْظِهِمْ لَمْ يَشْفُوا صَدْرًا وَلَمْ يُحَقِّقُوا أَمْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ أَيْ لَمْ يُحْوِجْهُمْ إِلَى قِتَالٍ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى قِتَالِهِمْ عَزِيزًا قَادِرًا على استئصال الكفار وإذلالهم ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 26] وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) أَيْ عَاوَنُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ مِنْ صَيَاصِيهِمْ مِنْ قِلَاعِهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ حَتَّى سَلَّمُوا أَنْفُسَهُمْ للقتل وأولادهم ونسائهم لِلسَّبْيِ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَهُمُ الرِّجَالُ، وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَهُمُ الصِّبْيَانُ وَالنِّسْوَانُ، فَإِنْ قِيلَ هَلْ فِي تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ حَيْثُ قَالَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْخِيرِهِ حَيْثُ قَالَ: وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً فَائِدَةٌ؟ قُلْتُ قَدْ أَجَبْنَا أَنَّ مَا مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا وَلَهُ فَوَائِدُ مِنْهَا مَا يَظْهَرُ وَمِنْهَا مَا لَا يَظْهَرُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْقَائِلَ يَبْدَأُ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ وَالْأَعْرَفِ فَالْأَعْرَفِ وَالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، وَالرِّجَالُ كَانُوا مَشْهُورِينَ فَكَانَ الْقَتْلُ وَارِدًا عَلَيْهِمْ وَالْأَسْرَى كَانُوا هُمُ النِّسَاءَ وَالصِّغَارَ وَلَمْ يَكُونُوا مَشْهُورِينَ وَالسَّبْيُ وَالْأَسْرُ أَظْهَرُ مِنَ الْقَتْلِ لِأَنَّهُ يَبْقَى فَيَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُ أَسِيرٌ فَقَدَّمَ مِنَ الْمَحَلَّيْنِ مَا هُوَ أَشْهَرُ عَلَى الْفِعْلِ الْقَائِمِ بِهِ وَمَا هُوَ أَشْهَرُ مِنَ الْفِعْلَيْنِ قَدَّمَهُ عَلَى الْمَحَلِّ الْأَخْفَى، وَإِنْ شِئْنَا نَقُولُ بِعِبَارَةٍ تُوَافِقُ الْمَسَائِلَ النَّحْوِيَّةَ فَنَقُولُ قَوْلُهُ: فَرِيقاً تَقْتُلُونَ فِعْلٌ وَمَفْعُولٌ وَالْأَصْلُ فِي الْجُمَلِ الْفِعْلِيَّةِ تَقْدِيمُ الْفِعْلِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَالْفَاعِلِ، أَمَّا أَنَّهَا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ فَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتِ اسْمِيَّةً لَكَانَ الْوَاجِبُ فِي فَرِيقٍ الرَّفْعَ وَكَانَ يَقُولُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ تَقْتُلُونَهُمْ فَلَمَّا نَصَبَ كَانَ ذَلِكَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ تَقْدِيرُهُ تَقْتُلُونَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَالْحَامِلُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ شِدَّةُ الِاهْتِمَامِ بِبَيَانِ الْمَفْعُولِ، وَهَاهُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ وَأَنَّهُ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَلَوْ قَالَ تَقْتُلُونَ إِلَى أَنْ يَسْمَعَ السَّامِعُ مَفْعُولَ تَقْتُلُونَ يَكُونُ زَمَانٌ وَقَدْ يَمْنَعُهُ مَانِعٌ فَيُفَوِّتُهُ فَلَا يُعَلْمُ أَنَّهُمْ هُمُ الْمَقْتُولُونَ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ فَرِيقًا مَعَ سَبْقٍ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ إِلَى سَمْعِهِ يَسْتَمِعُ إِلَى تَمَامِ الْكَلَامِ وَإِذَا كَانَ الْأَوَّلُ فِعْلًا وَمَفْعُولًا قُدِّمَ الْمَفْعُولُ لِفَائِدَةِ عَطْفِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ عَلَيْهَا عَلَى/ الْأَصْلِ فَعَدَمُ تَقْدِيمِ الْفِعْلِ لِزَوَالِ مُوجِبِ التَّقْدِيمِ إِذَا عَرَفَ حَالَهُمْ وَمَا يَجِيءُ بَعْدَهُ يَكُونُ مَصْرُوفًا إِلَيْهِمْ، وَلَوْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَفَرِيقًا تَأْسِرُونَ فَمَنْ سَمِعَ فَرِيقًا رُبَّمَا يَظُنُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ يُطْلَقُونَ، أَوْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِمْ فَكَانَ تَقْدِيمُ الفعل هاهنا أَوْلَى، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ وَقَوْلِهِ: وَقَذَفَ فَإِنَّ قَذْفَ الرُّعْبِ قَبْلَ الْإِنْزَالِ لِأَنَّ الرُّعْبَ صَارَ سَبَبَ الْإِنْزَالِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْفَرَحُ فِي إِنْزَالِهِمْ أَكْثَرَ، قُدِّمَ الإنزال على قذف الرعب والله أعلم. ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 27] وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) فِيهِ تَرْتِيبٌ عَلَى مَا كَانَ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَوَّلًا تَمَلَّكُوا أَرْضَهُمْ بِالنُّزُولِ فِيهَا وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا ثُمَّ تملكوا ديارهم

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 إلى 29]

بِالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ وَأَخْذِ قِلَاعِهِمْ ثُمَّ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي كانت في بيوتهم وقوله: وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها قِيلَ الْمُرَادُ الْقِلَاعُ وَقِيلَ الْمُرَادُ الرُّومُ وَأَرْضُ فَارِسَ وَقِيلَ كُلُّ مَا يُؤْخَذُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً هَذَا يُؤَكِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّ الْمُرَادَ من قولهم: وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها هُوَ مَا سَيُؤْخَذُ بَعْدَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا مَلَّكَهُمْ تِلْكَ الْبِلَادَ وَوَعَدَهُمْ بِغَيْرِهَا دَفَعَ اسْتِبْعَادَ مَنْ لَا يَكُونُ قَوِيَّ الِاتِّكَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ أَلَيْسَ اللَّهُ مَلَّكَكُمْ هَذِهِ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُمَلِّكُكُمْ غَيْرَهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 29] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) وَجْهُ التَّعَلُّقِ هُوَ أَنَّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ مُنْحَصِرَةٌ فِي شَيْئَيْنِ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: «الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَرْشَدَ نَبِيَّهُ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِجَانِبِ التَّعْظِيمِ لِلَّهِ بِقَوْلِهِ: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: 1] ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِجَانِبِ الشَّفَقَةِ وَبَدَأَ بِالزَّوْجَاتِ فَإِنَّهُنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالشَّفَقَةِ، وَلِهَذَا قَدَّمَهُنَّ فِي النَّفَقَةِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ فِقْهِيَّةٌ مِنْهَا أَنَّ التَّخْيِيرَ/ هَلْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمْ لَا؟ فَنَقُولُ التَّخْيِيرُ قَوْلًا كَانَ وَاجِبًا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ لِأَنَّهُ إِبْلَاغُ الرِّسَالَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ لَهُ قُلْ لَهُمْ صَارَ مِنَ الرِّسَالَةِ، وَأَمَّا التَّخْيِيرُ مَعْنًى فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ أَمْ لَا؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ، وَمِنْهَا أَنَّ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ لَوِ اخْتَارَتِ الْفِرَاقَ هَلْ كَانَ يَصِيرُ اخْتِيَارُهَا فِرَاقًا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ فِرَاقًا وَإِنَّمَا تُبِينُ الْمُخْتَارَةُ نَفْسَهَا بِإِبَانَةٍ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا وَمِنْهَا أَنَّ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَقُلْنَا بِأَنَّهَا لَا تَبِينُ إِلَّا بِإِنَابَةٍ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهَلْ كَانَ يجب على النبي عليه السلام الطلاق أو لَا؟ الظَّاهِرُ نَظَرًا إِلَى مَنْصِبِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ، لِأَنَّ الْخُلْفَ فِي الْوَعْدِ مِنَ النَّبِيِّ غَيْرُ جَائِزٍ بِخِلَافٍ وَاحِدٍ مِنَّا، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَرْعًا الْوَفَاءُ بِمَا يَعِدُ وَمِنْهَا أَنَّ الْمُخْتَارَةَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ هَلْ كَانَتْ تَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ أَمْ لَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ، وَإِلَّا لَا يَكُونُ التَّخْيِيرُ مُمْكِنًا لَهَا مِنَ التَّمَتُّعِ بِزِينَةِ الدُّنْيَا، وَمِنْهَا أَنَّ مَنِ اخْتَارَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كَانَ يَحْرُمُ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَلَاقُهَا أَمْ لَا؟ الظَّاهِرُ الْحُرْمَةُ نَظَرًا إِلَى مَنْصِبِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَعْنَى أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُبَاشِرُهُ أَصْلًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِهِ لَعُوقِبَ أَوْ عُوتِبَ، وَفِيهَا لَطَائِفُ لَفْظِيَّةٌ مِنْهَا تَقْدِيمُ اخْتِيَارِ الدُّنْيَا، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَيْرُ مُلْتَفِتٍ إِلَى جَانِبِهِنَّ غَايَةَ الِالْتِفَاتِ وَكَيْفَ وَهُوَ مَشْغُولٌ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّ السَّرَاحَ الْجَمِيلَ مَعَ التَّأَذِّي الْقَوِيِّ لَا يَجْتَمِعُ فِي الْعَادَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا كَانَ يَتَأَثَّرُ مِنَ اخْتِيَارِهِنَّ فِرَاقَهُ بِدَلِيلِ أَنَّ التَّسْرِيحَ الْجَمِيلَ مِنْهُ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ إِعْلَامًا لَهُنَّ بِأَنَّ فِي اخْتِيَارِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ اخْتِيَارَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ الدِّينُ وَقَوْلُهُ: أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَيْ لِمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْكُنَّ، وَقَوْلُهُ: تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فِيهِ مَعْنَى الْإِيمَانِ، وَقَوْلُهُ: لِلْمُحْسِناتِ لِبَيَانِ الْإِحْسَانِ حَتَّى تَكُونَ الْآيَةُ فِي الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [لُقْمَانَ: 22] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [الكهف: 88] وقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْبَقَرَةِ: 82] وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ الْكَبِيرُ فِي الذَّاتِ الْحَسَنِ فِي الصِّفَاتِ الْبَاقِي فِي

[سورة الأحزاب (33) : آية 30]

الْأَوْقَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَظِيمَ فِي الْأَجْسَامِ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الزَّائِدِ فِي الطُّولِ وَفِي الْعَرْضِ وَفِي الْعُمْقِ، حَتَّى لَوْ كَانَ زَائِدًا فِي الطُّولِ يُقَالُ لَهُ طَوِيلٌ، وَلَوْ كَانَ زَائِدًا فِي الْعَرْضِ يُقَالُ لَهُ عَرِيضٌ، وَكَذَلِكَ الْعَمِيقُ، فَإِذَا وُجِدَتِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ قِيلَ عَظِيمٌ، فَيُقَالُ جَبَلٌ عَظِيمٌ إِذَا كَانَ عَالِيًا مُمْتَدًّا فِي الْجِهَاتِ، وَإِنْ كَانَ مُرْتَفِعًا فَحَسْبُ يُقَالُ جَبَلٌ عَالٍ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَأَجْرُ الدُّنْيَا فِي ذَاتِهِ قَلِيلٌ وَفِي صِفَاتِهِ غَيْرُ خَالٍ عَنْ جِهَةِ قُبْحٍ، لِمَا فِي مَأْكُولِهِ مِنَ الضَّرَرِ وَالثِّقَلِ، وَكَذَلِكَ فِي مَشْرُوبِهِ وَغَيْرِهِ مِنَ اللَّذَّاتِ وَغَيْرُ دَائِمٍ، وَأَجْرُ الْآخِرَةِ كَثِيرٌ خَالٍ عن جهات القبح دائم فهو عظيم/ ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 30] يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) اما خيرهن النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَاخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَدَّبَهُنَّ اللَّهُ وَهَدَّدَهُنَّ لِلتَّوَقِّي عَمَّا يَسُوءُ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَقْبُحُ بِهِنَّ مِنَ الْفَاحِشَةِ الَّتِي هِيَ أَصْعَبُ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ كُلِّ مَا تَأْتِي بِهِ زَوْجَتُهُ وَأَوْعَدَهُنَّ بِتَضْعِيفِ الْعَذَابِ وَفِيهِ حِكْمَتَانِ إِحْدَاهُمَا: أَنَّ زَوْجَةَ الْغَيْرِ تُعَذَّبُ عَلَى الزِّنَا بِسَبَبِ مَا فِي الزِّنَا مِنَ الْمَفَاسِدِ وَزَوْجَةُ النَّبِيِّ تُعَذَّبُ إن أتت به لذلك والإيذاء قَلْبِهِ وَالْإِزْرَاءِ بِمَنْصِبِهِ، وَعَلَى هَذَا بَنَاتُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَلِكَ وَلِأَنَّ امْرَأَةً لَوْ كَانَتْ تحت النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَأَتَتْ بِفَاحِشَةٍ تَكُونُ قَدِ اخْتَارَتْ غَيْرَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْغَيْرُ خَيْرًا عِنْدَهَا مِنَ النَّبِيِّ وَأَوْلَى، وَالنَّبِيُّ أَوْلَى مِنَ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ أَوْلَى مِنَ الْغَيْرِ، فَقَدْ نَزَّلَتْ مَنْصِبَ النَّبِيِّ مَرْتَبَتَيْنِ فَتُعَذَّبُ مِنَ الْعَذَابِ ضِعْفَيْنِ ثَانِيَتِهِمَا: أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى شَرَفِهِنَّ، لِأَنَّ الْحُرَّةَ عَذَابُهَا ضِعْفُ عَذَابِ الْأَمَةِ إِظْهَارًا لِشَرَفِهَا، وَنِسْبَةُ النَّبِيِّ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ نِسْبَةُ السَّادَاتِ إِلَى الْعَبِيدِ لِكَوْنِهِ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَكَذَلِكَ زَوْجَاتُهُ وَقَرَائُبُهُ اللَّاتِي هُنَّ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأُمُّ الشَّخْصِ امْرَأَةٌ حَاكِمَةٌ عَلَيْهِ وَاجِبَةُ الطَّاعَةِ، وَزَوْجَتُهُ مَأْمُورَةٌ مَحْكُومَةٌ لَهُ وَتَحْتَ طَاعَتِهِ، فَصَارَتْ زَوْجَةُ الْغَيْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَوْجَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَالْأَمَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحُرَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: 65] مِنْ حَيْثُ إِنَّ ذَلِكَ مُمْكِنُ الْوُقُوعِ فِي أَوَّلِ النَّظَرِ، وَلَا يَقَعُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ جَزْمًا وَفِي بَعْضٍ يَقَعُ جَزْمًا مَنْ مَاتَ فَقَدِ اسْتَرَاحَ، وَفِي الْبَعْضِ يَتَرَدَّدُ السَّامِعُ فِي الْأَمْرَيْنِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ عِنْدَنَا مِنَ الْقَبِيلِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَانَ اللَّهُ زَوْجَاتِهِمْ عَنِ الْفَاحِشَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أَيْ لَيْسَ كَوْنُكُنَّ تَحْتَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَوْنُكُنَّ شَرِيفَاتٍ جَلِيلَاتٍ مِمَّا يَدْفَعُ الْعَذَابَ عَنْكُنَّ، وَلَيْسَ أَمْرُ اللَّهِ كَأَمْرِ الْخَلْقِ حَيْثُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ تَعْذِيبُ الْأَعِزَّةِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ أَوْلِيَائِهِمْ وَأَعْوَانِهِمْ أَوْ شُفَعَائِهِمْ وإخوانهم. ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 31] وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً بَيَانًا لِزِيَادَةِ ثَوَابِهِنَّ، كَمَا بَيَّنَ/ زِيَادَةَ عِقَابِهِنَّ نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ مَعَ لَطِيفَةٍ وَهِيَ أَنَّ عِنْدَ إِيتَاءِ الْأَجْرِ ذَكَرَ الْمُؤْتِي وَهُوَ اللَّهُ، وَعِنْدَ الْعَذَابِ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْمُعَذِّبِ فَقَالَ: يُضاعَفْ إِشَارَةً إِلَى كَمَالِ الرَّحْمَةِ وَالْكَرَمِ، كَمَا أَنَّ الْكَرِيمَ الْحَيَّ عِنْدَ النَّفْعِ يُظْهِرُ نَفْسَهُ وَفِعْلَهُ، وَعِنْدَ الضُّرِّ لَا يَذْكَرُ نَفْسَهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً

[سورة الأحزاب (33) : آية 32]

كَرِيماً وُصِفَ رِزْقُ الْآخِرَةِ بِكَوْنِهِ كَرِيمًا، مَعَ أَنَّ الْكَرِيمَ لَا يَكُونُ إِلَّا وَصْفًا لِلرَّزَّاقِ إِشَارَةً إِلَى مَعْنًى لَطِيفٍ، وَهُوَ أَنَّ الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا مُقَدَّرٌ عَلَى أَيْدِي النَّاسِ، التَّاجِرُ يَسْتَرْزِقُ مِنَ السُّوقَةِ، وَالْمُعَامِلِينَ وَالصُّنَّاعُ مِنَ الْمُسْتَعْمِلِينَ، وَالْمُلُوكُ مِنَ الرَّعِيَّةِ وَالرَّعِيَّةُ مِنْهُمْ، فَالرِّزْقُ فِي الدُّنْيَا لَا يَأْتِي بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسَخَّرٌ لِلْغَيْرِ يُمْسِكُهُ وَيُرْسِلُهُ إِلَى الْأَغْيَارِ. وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ مُرْسِلٌ وَمُمْسِكٌ فِي الظَّاهِرِ فَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِنَفْسِهِ، فَلِأَجْلِ هَذَا لَا يُوصَفُ فِي الدُّنْيَا بِالْكَرِيمِ إِلَّا الرَّزَّاقُ، وفي الآخرة يوصف بالكريم نفس الرزق. [سورة الأحزاب (33) : آية 32] يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) ثُمَّ قال تعالى: يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ عَذَابَهُنَّ ضِعْفُ عَذَابِ غَيْرِهِنَّ وَأَجْرَهُنَّ مِثْلَا أَجْرِ غَيْرِهِنَّ صِرْنَ كَالْحَرَائِرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِمَاءِ، فَقَالَ: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ وَمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ لَيْسَ فُلَانٌ كَآحَادِ النَّاسِ، يَعْنِي لَيْسَ فِيهِ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ إِنْسَانًا، بَلْ وَصْفٌ أَخَصُّ مَوْجُودٌ فِيهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ عَالِمًا أَوْ عَامِلًا أَوْ نَسِيبًا أَوْ حَسِيبًا، فَإِنَّ الْوَصْفَ الْأَخَصَّ إِذَا وُجِدَ لَا يَبْقَى التَّعْرِيفُ بِالْأَعَمِّ، فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ رَجُلًا وَلَمْ يَعْرِفْ مِنْهُ غَيْرَ كَوْنِهِ رَجُلًا يَقُولُ رَأَيْتُ رَجُلًا فَإِنْ عَرَفَ عِلْمَهُ يَقُولُ رَأَيْتُ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ يَعْنِي فِيكُنَّ غَيْرُ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِكُنَّ وَهُوَ كَوْنُكُنَّ أُمَّهَاتِ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَزَوْجَاتِ خَيْرِ الْمُرْسَلِينَ، وَكَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ كَأَحَدٍ مِنَ الرِّجَالِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ» كَذَلِكَ قَرَائِبُهُ اللَّاتِي يَشْرُفْنَ بِهِ وَبَيْنَ الزَّوْجَيْنِ نَوْعٌ مِنَ الْكَفَاءَةِ. ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ عَلَى مَعْنَى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَإِنَّ الْأَكْرَمَ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ الْأَتْقَى وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَا بَعْدَهُ عَلَى مَعْنَى إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ وَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَنَعَهُنَّ مِنَ الْفَاحِشَةِ وَهِيَ الْفِعْلُ الْقَبِيحُ مَنَعَهُنَّ مِنْ مُقَدِّمَاتِهَا وَهِيَ الْمُحَادَثَةُ مَعَ الرِّجَالِ وَالِانْقِيَادُ فِي الْكَلَامِ لِلْفَاسِقِ. ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أَيْ فِسْقٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً أَيْ ذِكْرَ اللَّهِ، وَمَا تَحْتَجْنَ إِلَيْهِ/ مِنَ الْكَلَامِ وَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ذَكَرَ بَعْدَهُ وَقُلْنَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ أَمْرًا بِالْإِيذَاءِ وَالْمُنْكَرِ بَلِ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ وَعِنْدَ الْحَاجَةِ هو المأمور به لا غيره. ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 33] وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنَ الْقَرَارِ وَإِسْقَاطُ أَحَدِ حَرْفَيِ التَّضْعِيفِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [الْوَاقِعَةِ: 65] وَقِيلَ بِأَنَّهُ مِنَ الْوَقَارِ كما يقال وعد يعد عد وقول: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى قِيلَ مَعْنَاهُ لَا تَتَكَسَّرْنَ وَلَا تَتَغَنَّجْنَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا تُظْهِرْنَ زِينَتَكُنَّ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ كَانَ فِي زَمَنِ نُوحٍ وَالْجَاهِلِيَّةُ الْأُخْرَى مَنْ كَانَ بَعْدَهُ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ أُولَى تَقْتَضِي أُخْرَى بَلْ مَعْنَاهُ تَبَرُّجُ الْجَاهِلِيَّةِ الْقَدِيمَةِ كقول القائل: أين الأكاسرة الجبابرة الأولى.

[سورة الأحزاب (33) : آية 34]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَعْنِي لَيْسَ التَّكْلِيفُ فِي النَّهْيِ فَقَطْ حَتَّى يَحْصُلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَخْضَعْنَ، وَلَا تَبَرَّجْنَ بَلْ فِيهِ وَفِي الْأَوَامِرِ ف أَقِمْنَ الصَّلاةَ الَّتِي هِيَ تَرْكُ التَّشَبُّهِ بِالْجَبَّارِ الْمُتَكَبِّرِ وَآتِينَ الزَّكاةَ الَّتِي هِيَ تَشَبُّهٌ بِالْكَرِيمِ الرَّحِيمِ وَأَطِعْنَ اللَّهَ أَيْ لَيْسَ التَّكْلِيفُ مُنْحَصِرًا فِي الْمَذْكُورِ بَلْ كُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَأَتَيْنَ بِهِ وَكُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَانْتَهَيْنَ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. يَعْنِي لَيْسَ الْمُنْتَفِعُ بِتَكْلِيفِكُنَّ هُوَ اللَّهُ وَلَا تَنْفَعْنَ اللَّهَ فِيمَا تَأْتِينَ بِهِ. وَإِنَّمَا نَفْعُهُ لَكُنَّ وَأَمْرُهُ تَعَالَى إِيَّاكُنَّ لِمَصْلَحَتِكُنَّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ فِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ الرِّجْسَ قَدْ يَزُولُ عَيْنًا وَلَا يَطْهُرُ الْمَحَلُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَيْ يُزِيلُ عَنْكُمُ الذُّنُوبَ وَيُطَهِّرَكُمْ أَيْ يُلْبِسَكُمْ خِلَعَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَرَكَ خِطَابَ الْمُؤَنَّثَاتِ وَخَاطَبَ بِخِطَابِ الْمُذَكَّرِينَ بِقَوْلِهِ: لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ لِيَدْخُلَ فِيهِ نِسَاءُ أَهْلِ بَيْتِهِ وَرِجَالِهِمْ، وَاخْتَلَفَتِ الْأَقْوَالُ فِي أَهْلِ الْبَيْتِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ هُمْ أَوْلَادُهُ وَأَزْوَاجُهُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ مِنْهُمْ وَعَلِيٌّ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ بِسَبَبِ مُعَاشَرَتِهِ بِبِنْتِ النَّبِيِّ عليه السلام وملازمته للنبي. [سورة الأحزاب (33) : آية 34] وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ أَيِ الْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةِ أَيْ كَلِمَاتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِشَارَةً إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ التَّكَالِيفَ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى لِيَعْلَمْنَ الْوَاجِبَاتِ كُلَّهَا فَيَأْتِينَ بِهَا، وَالْمُحَرَّمَاتِ بِأَسْرِهَا فَيَنْتَهِينَ عَنْهَا. [وَقَوْلُهُ] : إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ خَبِيرٌ بِالْبَوَاطِنِ، لَطِيفٌ فَعِلْمُهُ يَصِلُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ وَمِنْهُ اللَّطِيفُ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْمَسَامِّ الضَّيِّقَةِ وَيَخْرُجُ مِنَ المسالك المسدودة. [سورة الأحزاب (33) : آية 35] إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ لَمَّا أَمَرَهُنَّ وَنَهَاهُنَّ وَبَيَّنَ مَا يَكُونُ لَهُنَّ وَذَكَرَ لَهُنَّ عَشْرَ مَرَاتِبَ الْأُولَى: الْإِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالثَّانِيَةُ: الْإِيمَانُ بِمَا يَرِدُ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ أَوَّلًا يَقُولُ كُلُّ مَا يَقُولُهُ أَقْبَلُهُ فَهَذَا إِسْلَامٌ، فَإِذَا قَالَ اللَّهُ شَيْئًا وَقَبِلَهُ صَدَّقَ مَقَالَتَهُ وَصَحَّحَ اعْتِقَادَهُ فَهُوَ إِيمَانٌ ثُمَّ اعْتِقَادُهُ يَدْعُوهُ إِلَى الْفِعْلِ الْحَسَنِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَيَقْنُتُ وَيَعْبُدُ وَهُوَ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَذْكُورَةُ بِقَوْلِهِ: وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ ثُمَّ إِذَا آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا كَمُلَ فَيُكَمِّلُ غَيْرَهُ وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْصَحُ أَخَاهُ فَيَصْدُقُ فِي كَلَامِهِ عِنْدَ النَّصِيحَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ ثُمَّ إِنَّ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ يُصِيبُهُ أَذًى فَيَصْبِرُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ ثُمَّ إِنَّهُ إِذَا كَمُلَ وكمل قد يفتخر بنفسه ويعجب بعبادته

[سورة الأحزاب (33) : آية 36]

فمنه مِنْهُ بِقَوْلِهِ: وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ أَوْ نَقُولُ لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْحَسَنَاتِ أَشَارَ إِلَى مَا يَمْنَعُ مِنْهَا وَهُوَ إِمَّا حُبُّ الْجَاهِ أَوْ حُبُّ الْمَالِ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ أَوِ الشَّهْوَةُ مِنَ الْأُمُورِ الدَّاخِلَةِ، وَالْغَضَبُ مِنْهُمَا يَكُونُ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِسَبَبِ نَقْصِ جَاهٍ أَوْ فَوْتِ مَالٍ أَوْ مَنْعٍ مِنْ أَمْرٍ مَشْتَهًى فَقَوْلُهُ: وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ أَيِ الْمُتَوَاضِعِينَ الَّذِينَ لَا يُمِيلُهُمُ الْجَاهُ عَنِ الْعِبَادَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ أَيِ الْبَاذِلِينَ الْأَمْوَالَ الَّذِينَ لَا يَكْنِزُونَهَا لِشِدَّةِ مَحَبَّتِهِمْ إِيَّاهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ إِشَارَةً إِلَى الَّذِينَ لَا تَمْنَعُهُمُ الشَّهْوَةُ الْبَطْنِيَّةُ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ أَيِ الَّذِينَ لَا تَمْنَعُهُمُ الشَّهْوَةُ الْفَرْجِيَّةُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ يَعْنِي هُمْ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ يَذْكُرُونَ اللَّهَ وَيَكُونُ إِسْلَامُهُمْ وَإِيمَانُهُمْ وَقُنُوتُهُمْ وَصِدْقُهُمْ وَصَبْرُهُمْ وَخُشُوعُهُمْ وَصَدَقَتُهُمْ وَصَوْمُهُمْ بِنِيَّةٍ صَادِقَةٍ لِلَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ حَيْثُ ذكر الذكر قرنه بالكثرة هاهنا، وفي قوله بعد هذا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الْأَحْزَابِ: 41] وَقَالَ مِنْ قَبْلُ: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب: 21] لِأَنَّ الْإِكْثَارَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْبَدَنِيَّةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ أَوْ عُسْرٌ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ وَتَحْصِيلُ مَأْكُولِهِ وَمَشْرُوبِهِ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَشْتَغِلَ دَائِمًا بِالصَّلَاةِ وَلَكِنْ لَا مَانِعَ لَهُ مِنْ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ آكِلٌ وَيَذْكُرَهُ وَهُوَ شَارِبٌ أَوْ مَاشٍ أَوْ بَائِعٌ أَوْ شَارٍ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 191] ولأن جميع الأعمال صحتها بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ النِّيَّةُ: ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً تَمْحُو ذُنُوبَهُمْ وَقَوْلُهُ: وَأَجْراً عَظِيماً ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 36] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) قِيلَ بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي زَيْنَبَ حَيْثُ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ تَزْوِيجَهَا مِنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فَكَرِهَتْ إِلَّا النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَذَلِكَ أَخُوهَا امْتَنَعَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فَرَضِيَا بِهِ، وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ نَبِيَّهُ بِأَنْ يَقُولَ لِزَوْجَاتِهِ إِنَّهُنَّ مُخَيَّرَاتٌ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ لَا يُرِيدُ ضَرَرَ الْغَيْرِ فَمَنْ كَانَ مَيْلُهُ إِلَى شَيْءٍ يُمَكِّنُهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَتْرُكُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَقَّ نَفْسِهِ لِحَظِّ غَيْرِهِ، فَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ هَوَى نفسه متبعه وأن زمان الِاخْتِيَارِ بِيَدِ الْإِنْسَانِ كَمَا فِي الزَّوْجَاتِ، بَلْ لَيْسَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ اخْتِيَارٌ عِنْدَ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَمَا أَمَرَ الله وهو الْمُتَّبَعُ وَمَا أَرَادَ النَّبِيُّ هُوَ الْحَقُّ وَمَنْ خَالَفَهُمَا فِي شَيْءٍ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا، لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَقْصِدُ وَالنَّبِيُّ هُوَ الْهَادِي الْمُوصِلُ، فَمَنْ تَرَكَ الْمَقْصِدَ وَلَمْ يَسْمَعْ قَوْلَ الهادي فهو ضال قطعا. ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 37] وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) وَهُوَ زَيْدٌ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بِالتَّحْرِيرِ وَالْإِعْتَاقِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ هَمَّ زَيْدٌ بِطَلَاقِ زَيْنَبَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ أَمْسِكْ أَيْ لَا تُطَلِّقْهَا وَاتَّقِ اللَّهَ قِيلَ فِي الطَّلَاقِ، وَقِيلَ فِي الشَّكْوَى مِنْ زَيْنَبَ، فَإِنَّ

[سورة الأحزاب (33) : آية 38]

زَيْدًا قَالَ فِيهَا إِنَّهَا تَتَكَبَّرُ عَلَيَّ بِسَبَبِ النَّسَبِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ مِنْ أَنَّكَ تُرِيدُ التَّزَوُّجَ بِزَيْنَبَ وَتَخْشَى النَّاسَ مِنْ أَنْ يَقُولُوا أَخَذَ زَوْجَةَ الْغَيْرِ أَوِ الِابْنِ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ لَيْسَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ خَشِيَ النَّاسَ وَلَمْ يَخْشَ اللَّهَ بَلِ الْمَعْنَى اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ وَحْدَهُ وَلَا تَخْشَ أَحَدًا مَعَهُ وَأَنْتَ تَخْشَاهُ وَتَخْشَى النَّاسَ أَيْضًا، فَاجْعَلِ الْخَشْيَةَ لَهُ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب: 39] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها أَيْ لَمَّا طَلَّقَهَا زَيْدٌ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الزَّوْجَةَ مَا دَامَتْ فِي نِكَاحِ الزَّوْجِ فَهِيَ تَدْفَعُ حَاجَتَهُ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا، فَلَمْ يَقْضِ مِنْهَا الْوَطَرَ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَمْ يَسْتَغْنِ وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي الْعِدَّةِ لَهُ بِهَا تَعَلُّقٌ لِإِمْكَانِ شَغْلِ الرَّحِمِ فَلَمْ يَقْضِ مِنْهَا بَعْدُ وَطَرَهُ، وَأَمَّا إِذَا طَلَّقَ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا اسْتَغْنَى عَنْهَا وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَعَهَا تَعَلُّقٌ فَيَقْضِي مِنْهَا الْوَطَرَ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا فِي الشَّرْعِ لِأَنَّ التَّزَوُّجَ بِزَوْجَةِ الْغَيْرِ أَوْ بِمُعْتَدَّتِهِ لَا يَجُوزُ فَلِهَذَا قَالَ: فَلَمَّا قَضى وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً أَيْ إِذَا طَلَّقُوهُنَّ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّزْوِيجَ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ لِقَضَاءِ شَهْوَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلْ لِبَيَانِ الشَّرِيعَةِ بِفِعْلِهِ فَإِنَّ الشَّرْعَ يُسْتَفَادُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ وَقَوْلُهُ: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أَيْ مَقْضِيًّا مَا قَضَاهُ كَائِنٌ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ تَزَوُّجَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَا مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُبَيِّنًا لِشَرْعٍ مُشْتَمِلٍ عَلَى فائدة كان خاليا من المفاسد فقال: [سورة الأحزاب (33) : آية 38] مَا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) يَعْنِي كَانَ شَرْعُ مَنْ تَقَدَّمَهُ كَذَلِكَ، كَانَ يَتَزَوَّجُ الْأَنْبِيَاءُ بِنِسْوَةٍ كَثِيرَةٍ أَبْكَارٍ وَمُطَلَّقَاتِ الْغَيْرِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً أَيِ كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ وَالْقَدَرُ التَّقْدِيرُ وَبَيْنَ الْمَفْعُولِ وَالْمَقْدُورِ فَرْقٌ مَقُولٌ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، فَالْقَضَاءُ مَا كَانَ مَقْصُودًا فِي الْأَصْلِ وَالْقَدَرُ مَا يَكُونُ تَابِعًا لَهُ، مِثَالُهُ مَنْ كَانَ يَقْصِدُ مَدِينَةً فَنَزَلَ بِطَرِيقِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ بِخَانٍ أَوْ قَرْيَةٍ يَصِحُّ مِنْهُ فِي الْعُرْفِ أَنْ يَقُولَ فِي جَوَابِ مَنْ يَقُولُ لِمَ جِئْتَ إِلَى هَذِهِ الْقَرْيَةِ؟ إِنِّي مَا جِئْتُ إِلَى هَذِهِ وَإِنَّمَا قَصَدْتُ الْمَدِينَةَ الْفُلَانِيَّةَ وَهَذِهِ وَقَعَتْ فِي طَرِيقِي وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَهَا وَدَخَلَهَا وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ بِقَضَاءٍ وَمَا فِي الْعَالَمِ مِنَ الضَّرَرِ بِقَدَرٍ، فَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْمُكَلَّفَ بِحَيْثُ يَشْتَهِي وَيَغْضَبُ، لِيَكُونَ اجْتِهَادُهُ فِي تَغْلِيبِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ عَلَيْهِمَا مُثَابًا عَلَيْهِ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ فَأَفْضَى ذَلِكَ فِي الْبَعْضِ إِلَى أَنْ زَنَى وَقَتَلَ فَاللَّهُ لَمْ يَخْلُقْهُمَا فِيهِ مَقْصُودًا مِنْهُ الْقَتْلُ وَالزِّنَا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِقَدَرِ اللَّهِ إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَوَّلًا وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا وَقَوْلِهِ ثَانِيًا وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ زَوَّجْناكَها قَالَ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أَيْ تَزْوِيجَنَا زَيْنَبَ إِيَّاكَ كَانَ مَقْصُودًا مَتْبُوعًا مَقْضِيًّا مُرَاعًى، وَلَمَّا قَالَ: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا إِشَارَةً إِلَى قِصَّةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ افْتَتَنَ بِامْرَأَةٍ أُورِيَا قَالَ: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً أَيْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا تَبَعِيًّا، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بِالتَّوْلِيدِ وَالْفَلَاسِفَةِ بِوُجُوبِ كَوْنِ الْأَشْيَاءِ عَلَى وُجُوهٍ مِثْلُ كَوْنِ النَّارِ تَحْرِقُ حَيْثُ قَالُوا اللَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ مَا يُنْضِجُ الْأَشْيَاءَ وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا مُحْرِقًا بِالطَّبْعِ فَخَلَقَ النَّارَ لِلنَّفْعِ فَوَقَعَ اتِّفَاقُ

[سورة الأحزاب (33) : آية 39]

أَسْبَابٍ أَوْجَبَتِ احْتِرَاقَ دَارِ زَيْدٍ أَوْ دَارِ عَمْرٍو، فَنَقُولُ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَقُولَ بِأَنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُخْتَارٍ فِي أَفْعَالِهِ أَوْ يَقَعُ شَيْءٌ لَا بِاخْتِيَارِهِ، وَلَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ أَجْرَى اللَّهُ عَادَتَهُ بِكَذَا أَيْ وَلَهُ أَنْ يَخْلُقَ النَّارَ بِحَيْثُ عِنْدَ حَاجَةِ إِنْضَاجِ اللَّحْمِ تَنْضَجُ وَعِنْدَ مِسَاسِ ثَوْبِ الْعَجُوزِ لَا تُحْرَقُ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَمْ تَحْرِقْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ قُوَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا لَكِنْ خَلَقَهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْوَجْهِ بِمَحْضِ إِرَادَتِهِ أَوْ لِحِكْمَةٍ خَفِيَّةٍ وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، فَنَقُولُ مَا كَانَ فِي مَجْرَى عَادَتِهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ تُدْرِكُهُ الْعُقُولُ الْبَشَرِيَّةُ نَقُولُ بِقَضَاءٍ، وَمَا يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ يَقَعُ لِعَقْلٍ قَاصِرٍ أَنْ يَقُولَ لِمَ كَانَ وَلِمَاذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى خِلَافِهِ نَقُولُ بِقَدَرٍ، ثُمَّ بَيَّنَ الَّذِينَ خَلَوْا بِقَوْلِهِ: [سورة الأحزاب (33) : آية 39] الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) يَعْنِي كَانُوا هُمْ أَيْضًا مِثْلَكَ رُسُلًا، ثُمَّ ذَكَّرَهُ بِحَالِهِمْ أَنَّهُمْ جَرَّدُوا الْخَشْيَةَ وَوَحَّدُوهَا بِقَوْلِهِ: وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ فَصَارَ كَقَوْلِهِ: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَامِ: 90] وَقَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أَيْ مُحَاسِبًا/ فَلَا تَخْشَ غَيْرَهُ أَوْ مَحْسُوبًا فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى غَيْرِهِ وَلَا تَجْعَلْهُ فِي حِسَابِكَ. ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 40] مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ مَا فِي تَزَوُّجِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِزَيْنَبَ مِنَ الْفَوَائِدِ بَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ خَالِيًا مِنْ وُجُوهِ الْمَفَاسِدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنَ الْمَفْسَدَةِ كَانَ مُنْحَصِرًا فِي التَّزَوُّجِ بِزَوْجَةِ الِابْنِ فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ زَيْدًا لَمْ يَكُنِ ابْنًا لَهُ لَا بَلْ أَحَدُ الرِّجَالِ لَمْ يَكُنِ ابْنَ مُحَمَّدٍ، فَإِنْ قَائِلٌ النَّبِيُّ كَانَ أَبَا أَحَدٍ مِنَ الرِّجَالِ لِأَنَّ الرَّجُلَ اسْمُ الذَّكَرِ مِنْ أَوْلَادِ آدَمِ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً [النِّسَاءِ: 176] وَالصَّبِيُّ دَاخِلٌ فِيهِ، فَنَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّجُلَ فِي الِاسْتِعْمَالِ يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِهِ الْكِبَرُ وَالْبُلُوغُ وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ابْنٌ كَبِيرٌ يُقَالُ إِنَّهُ رَجُلٌ وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مِنْ رِجالِكُمْ وَوَقْتَ الْخِطَابِ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَفَى كَوْنَهُ أَبًا عَقَّبَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْأُبُوَّةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَقَالَ: وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَالْأَبِ لِلْأُمَّةِ فِي الشَّفَقَةِ مِنْ جَانِبِهِ، وَفِي التَّعْظِيمِ مِنْ طَرَفِهِمْ بَلْ أَقْوَى فَإِنَّ النَّبِيَّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَالْأَبُ لَيْسَ كَذَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا يُفِيدُ زِيَادَةَ الشَّفَقَةِ مِنْ جَانِبِهِ وَالتَّعْظِيمِ مِنْ جِهَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَهُ نَبِيٌّ إِنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنَ النَّصِيحَةِ وَالْبَيَانِ يَسْتَدْرِكُهُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ، وَأَمَّا مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ يَكُونُ أَشْفَقَ عَلَى أُمَّتِهِ وَأَهْدَى لَهُمْ وَأَجْدَى، إِذْ هُوَ كَوَالِدٍ لِوَلَدِهِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَحَدٍ وَقَوْلُهُ: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً يَعْنِي عِلْمَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ دَخَلَ فِيهِ أَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ فَعُلِمَ أَنَّ مِنَ الْحِكْمَةِ إِكْمَالَ شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِتَزَوُّجِهِ بِزَوْجَةِ دَعِيِّهِ تَكْمِيلًا لِلشَّرْعِ وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ يُفِيدُ شَرْعًا لَكِنْ إِذَا امْتَنَعَ هُوَ عَنْهُ يَبْقَى فِي بَعْضِ النُّفُوسِ نُفْرَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ بِقَوْلِهِ مَا فُهِمَ مِنْهُ حِلُّ أَكْلِ الضَّبِّ ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَأْكُلْهُ بَقِيَ فِي النُّفُوسِ شَيْءٌ وَلَمَّا أَكَلَ لَحْمَ الْجَمَلِ طَابَ أَكْلُهُ مَعَ أَنَّهُ فِي بَعْضِ الْمِلَلِ لَا يُؤْكَلُ وَكَذَلِكَ الْأَرْنَبُ. ثُمَّ قَالَ تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 41] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ السُّورَةَ أَصْلُهَا وَمَبْنَاهَا عَلَى تَأْدِيبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِذِكْرِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ اللَّهِ وَهُوَ التَّقْوَى وَذَكَرَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ

[سورة الأحزاب (33) : آية 42]

عليه السلام مع أهله وأقاربه بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الْأَحْزَابِ: 28] وَاللَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُ/ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ الْمُرْسَلِينَ فَأَرْشَدَ عِبَادَهُ كَمَا أَدَّبَ نَبِيَّهُ وَبَدَأَ بِمَا يتعلق بجانبه من التعظيم فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً كما قال لنبيه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: 1] . ثم هاهنا لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يَنْسَى ذِكْرَ اللَّهِ فَأُمِرَ بِدَوَامِ الذِّكْرِ، أَمَّا النَّبِيُّ لِكَوْنِهِ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ لَا يَنْسَى وَلَكِنْ قَدْ يَغْتَرُّ الْمُقَرَّبُ مِنَ الْمَلِكِ بِقُرْبِهِ مِنْهُ فَيَقِلُّ خَوْفُهُ فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّ الْمُخْلِصَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ وَحَسَنَةُ الْأَوْلِيَاءِ سَيِّئَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَقَوْلُهُ: ذِكْراً كَثِيراً قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ لَمَّا ذَكَرَ الذِّكْرَ وَصَفَهُ بِالْكَثْرَةِ إِذْ لَا مَانِعَ مِنَ الذِّكْرِ عَلَى مَا بينا. وقوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 42] وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) أَيْ إِذَا ذَكَرْتُمُوهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذِكْرُكُمْ إِيَّاهُ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالتَّنْزِيهِ عَنْ كُلِّ سُوءٍ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْهُ الصَّلَاةُ وَقِيلَ لِلصَّلَاةِ تَسْبِيحُهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا إِشَارَةً إِلَى الْمُدَاوَمَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مُرِيدَ الْعُمُومِ قَدْ يَذْكُرُ الطَّرَفَيْنِ وَيَفْهَمُ مِنْهُمَا الْوَسَطَ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ» وَلَمْ يَذْكُرْ وَسَطَكُمْ فَفُهِمَ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ في العموم. ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 43] هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) يَعْنِي هُوَ يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَيَرْحَمُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَذْكُرُونَهُ فَذَكَرَ صَلَاتَهُ تَحْرِيضًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يَعْنِي يَهْدِيَكُمْ بِرَحْمَتِهِ وَالصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ رَحْمَةٌ وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ اسْتِغْفَارٌ فَقِيلَ بِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَعْنَيَيْهِ مَعًا وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ جَائِزٍ وَيُنْسَبُ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ فَإِنْ أُرِيدَ تَقْرِيبُهُ بِحَيْثُ يَصِيرُ فِي غَايَةِ الْقُرْبِ نَقُولُ الرَّحْمَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ يَشْتَرِكَانِ فِي الْعِنَايَةِ بِحَالِ الْمَرْحُومِ وَالْمُسْتَغْفَرِ لَهُ وَالْمُرَادُ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ فَتَكُونُ الدَّلَالَةُ تَضَمُّنِيَّةً لِكَوْنِ الْعِنَايَةِ جزأ مِنْهُمَا وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً بِشَارَةٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ يُصَلِّي عَلَيْكُمْ غَيْرُ مختص بالسامعين وقت الوحي. [سورة الأحزاب (33) : آية 44] تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ عِنَايَتَهُ فِي الْأُولَى بَيَّنَ عِنَايَتَهُ فِي الْآخِرَةِ وَذَكَرَ السَّلَامَ لِأَنَّهُ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى الْخَيْرَاتِ فَإِنَّ مَنْ لَقِيَ غَيْرَهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى الْمُصَافَاةِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ دَلَّ عَلَى الْمُنَافَاةِ وَقَوْلُهُ: يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي دُنْيَاهُ غَيْرُ مُقْبِلٍ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ وَكَيْفَ وَهُوَ حَالَةَ نَوْمِهِ غَافِلٌ عَنْهُ وَفِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهِ مَشْغُولٌ بِتَحْصِيلِ رِزْقِهِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَا شُغْلَ لِأَحَدٍ يُلْهِيهِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ حَقِيقَةُ اللِّقَاءِ. ثُمَّ قَالَ تعالى: وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً لو قائل قال الْإِعْدَادُ إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الشَّيْءِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَلَا حَاجَةَ وَلَا عَجْزَ فَحَيْثُ يَلْقَاهُ اللَّهُ يُؤْتِيهِ مَا يَرْضَى بِهِ وَزِيَادَةً فَمَا مَعْنَى الْإِعْدَادِ مِنْ قَبْلُ فَنَقُولُ الْإِعْدَادُ لِلْإِكْرَامِ لَا لِلْحَاجَةِ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا قِيلَ لَهُ فُلَانٌ وَاصِلٌ، فَإِذَا أَرَادَ إِكْرَامَهُ يُهَيِّئُ له بيتا

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 إلى 46]

وَأَنْوَاعًا مِنَ الْإِكْرَامِ وَلَا يَقُولُ بِأَنَّهُ إِذَا وَصَلَ نَفْتَحُ بَابَ الْخِزَانَةِ وَنُؤْتِيهِ مَا يُرْضِيهِ فَكَذَلِكَ اللَّهُ لِكَمَالِ الْإِكْرَامِ أَعَدَّ لِلذَّاكِرِ أَجْرًا كَرِيمًا وَالْكِرِيمُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الرِّزْقِ أَيْ أَعَدَّ لَهُ أَجْرًا يَأْتِيهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِهِ بِخِلَافِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَطْلُبُ الرِّزْقَ أَلْفَ مَرَّةٍ وَلَا يَأْتِيهِ إِلَّا بِقَدَرٍ. وَقَوْلُهُ: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ مُنَاسِبٌ لِحَالِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا ذَكَرُوا اللَّهَ فِي دُنْيَاهُمْ حَصَلَ لَهُمْ مَعْرِفَةٌ وَلَمَّا سَبَّحُوهُ تَأَكَّدَتِ الْمَعْرِفَةُ حَيْثُ عَرَفُوهُ كَمَا يَنْبَغِي بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَنُعُوتِ الْكَمَالِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ بِالرَّحْمَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَقَالَ: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: 43] وَالْمُتَعَارِفَانِ إِذَا الْتَقَيَا وَكَانَ أَحَدُهُمَا شَفِيقًا بِالْآخَرِ وَالْآخَرُ مُعَظِّمًا لَهُ غَايَةَ التَّعْظِيمِ لَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَهُمَا إِلَّا السَّلَامُ وَأَنْوَاعُ الْإِكْرَامِ. ثُمَّ قَالَ تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 الى 46] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ السُّورَةَ فِيهَا تَأْدِيبٌ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ رَبِّهِ فَقَوْلُهُ فِي ابْتِدَائِهَا: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَنْبَغِي أن يكون عليه مع ربه وقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَنْبَغِي أن يكون عليه مع أهله وقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مَعَ عَامَّةِ الْخَلْقِ وَقَوْلُهُ تعالى: شاهِداً يحتمل وجوها أحدهما: أَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى الْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [الْبَقَرَةِ: 143] وَعَلَى هَذَا فَالنَّبِيُّ بُعِثَ شَاهِدًا أَيْ مُتَحَمِّلًا لِلشَّهَادَةِ وَيَكُونُ فِي الْآخِرَةِ شَهِيدًا أَيْ مُؤَدِّيًا لِمَا تَحَمَّلَهُ ثَانِيهَا: أَنَّهُ شَاهِدٌ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَعَلَى هَذَا لَطِيفَةٌ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ النَّبِيَّ شَاهِدًا عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالشَّاهِدُ لَا يَكُونُ مُدَّعِيًا فَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلِ النَّبِيَّ فِي مَسْأَلَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ مُدَّعِيًا لَهَا لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مَنْ يَقُولُ شَيْئًا عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ وَالْوَحْدَانِيَّةُ أَظْهَرُ مِنَ الشَّمْسِ وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ ادَّعَى النُّبُوَّةَ فَجَعَلَ اللَّهُ نَفْسَهُ شَاهِدًا لَهُ فِي مُجَازَاةِ كَوْنِهِ شَاهِدًا لِلَّهِ فقال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ «1» [المنافقون: 1] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ شَاهِدٌ فِي الدُّنْيَا بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْمِيزَانِ وَالصِّرَاطِ وَشَاهِدٌ فِي الْآخِرَةِ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ وَقَوْلُهُ: وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً فِيهِ تَرْتِيبٌ حَسَنٌ وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُرْسِلَ شَاهِدًا بِقَوْلِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيُرَغِّبُ فِي ذَلِكَ بِالْبِشَارَةِ فَإِنْ لَمْ يَكْفِ/ ذلك يرهب بالإندار ثُمَّ لَا يَكْتَفِي بِقَوْلِهِمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بَلْ يَدْعُوهُمْ إِلَى سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ [النَّحْلِ: 125] وَقَوْلُهُ: وَسِراجاً مُنِيراً أَيْ مُبَرْهِنًا عَلَى مَا يَقُولُ مُظْهِرًا لَهُ بِأَوْضَحِ الْحُجَجِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النَّحْلِ: 125] . وَفِيهِ لَطَائِفُ إِحْدَاهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ وَشَاهِدًا بِإِذْنِهِ وَمُبَشِّرًا وَعِنْدَ الدُّعَاءِ قَالَ وَدَاعِيًا بِإِذْنِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ عَنْ مَلِكٍ إِنَّهُ مَلِكُ الدُّنْيَا لَا غَيْرُهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِذْنٍ مِنْهُ فَإِنَّهُ وَصَفَهُ بِمَا فِيهِ وَكَذَلِكَ إِذَا قال من يطيعه يسعد ومن يعصه يَشْقَى يَكُونُ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ مِنَ الْمَلِكِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا إِذَا قَالَ تَعَالَوْا إِلَى سِمَاطِهِ، وَاحْضُرُوا عَلَى خِوَانِهِ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِذْنِهِ فَقَالَ تَعَالَى: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ يَقُولُ إِنِّي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ وَالْوَلِيُّ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ، وَالْأَوَّلُ لَا إِذْنَ لَهُ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ، وَالثَّانِي مَأْذُونٌ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي

_ (1) في تفسير الرازي المطبوع (والله يشهد إنك لرسوله) وهو خطأ لذا اقتضى التصحيح. [.....]

[سورة الأحزاب (33) : آية 47]

[يُوسُفَ: 108] وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا» وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الْمَأْذُونُ مِنَ اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ. اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: قال في حق النبي عليه السلام سراجا وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ شَمْسٌ مَعَ أَنَّهُ أَشَدُّ إِضَاءَةً مِنَ السِّرَاجِ لِفَوَائِدَ مِنْهَا، أَنَّ الشَّمْسَ نُورُهَا لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ وَالسِّرَاجُ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنْوَارٌ كَثِيرَةٌ فَإِذَا انْطَفَأَ الْأَوَّلُ يَبْقَى الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ غَابَ وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ كَذَلِكَ إِذْ كَلُّ صَحَابِيٍّ أَخَذَ مِنْهُ نُورَ الْهِدَايَةِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» وَفِي الْخَبَرِ لَطِيفَةٌ وَإِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ مِنَ التَّفْسِيرِ وَلَكِنَّ الْكَلَامَ يَجُرُّ الْكَلَامَ وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام لم يجعل أصحابه كالسرج وو جعلهم كَالنُّجُومِ لِأَنَّ النَّجْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ نُورٌ بَلْ لَهُ فِي نَفْسِهِ نُورٌ إِذَا غَرَبَ هُوَ لَا يَبْقَى نُورٌ مُسْتَفَادٌ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابِيُّ إِذَا مَاتَ فَالتَّابِعِيُّ يَسْتَنِيرُ بِنُورِ النَّبِيِّ عليه السلام ولا يأخذ مِنْهُ إِلَّا قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِعْلُهُ، فَأَنْوَارُ الْمُجْتَهِدِينَ كُلِّهِمْ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ولم جَعَلَهُمْ كَالسُّرُجِ وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْضًا سِرَاجٌ كَانَ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَسْتَنِيرَ بِمَنْ أَرَادَ مِنْهُمْ وَيَأْخُذَ النُّورَ مِمَّنِ اخْتَارَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مَعَ نَصِّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَعْمَلُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ فَيُؤْخَذُ مِنَ النَّبِيِّ النُّورُ وَلَا يُؤْخَذُ مِنَ الصَّحَابِيِّ فَلَمْ يَجْعَلْهُ سِرَاجًا وَهَذَا يُوجِبُ ضَعْفًا فِي حَدِيثِ سِرَاجِ الْأُمَّةِ وَالْمُحَدِّثُونَ ذَكَرُوهُ وَفِي تَفْسِيرِ السِّرَاجِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقُرْآنُ وَتَقْدِيرُهُ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ، وَسِرَاجًا مُنِيرًا عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ الْكَافِ أَيْ وَأَرْسَلْنَا سِرَاجًا مُنِيرًا وَعَلَى قَوْلِنَا إِنَّهُ عُطِفَ عَلَى مُبَشِّراً وَنَذِيراً يَكُونُ مَعْنَاهُ وَذَا سِرَاجٍ لِأَنَّ الْحَالَ لَا يَكُونُ إِلَّا وَصْفًا لِلْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، وَالسِّرَاجُ لَيْسَ وَصْفًا لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ سِرَاجًا حَقِيقَةً أَوْ يَكُونُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ رَأَيْتُهُ أَسَدًا أَيْ شُجَاعًا فقوله سراجا أَيْ هَادِيًا مُبَيِّنًا كَالسِّرَاجِ يُرِي الطَّرِيقَ وَيُبَيِّنُ الأمر. [سورة الأحزاب (33) : آية 47] وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عَطْفٌ عَلَى مَفْهُومٍ تَقْدِيرُهُ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا فَاشْهَدْ وَبَشِّرْ وَلَمْ يَذْكُرْ فَاشْهَدْ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، وَأَمَّا الْبِشَارَةُ فَإِنَّهَا ذُكِرَتْ إِبَانَةً لِلْكَرَمِ وَلِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لَوْلَا الْأَمْرُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً هو مثل قوله: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب: 35] فَالْعَظِيمُ وَالْكَبِيرُ مُتَقَارِبَانِ وَكَوْنُهُ مِنَ اللَّهِ كَبِيرٌ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ كَبَارَةٌ أُخْرَى. وقوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 48] وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) إِشَارَةٌ إِلَى الإنذار يعني خالفهم وورد عَلَيْهِمْ. وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَعْ أَذاهُمْ أَيْ دَعْهُ إِلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ بِأَيْدِيكُمْ وَبِالنَّارِ، وَيُبَيِّنُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أَيْ اللَّهُ كَافٍ عَبْدَهُ، قَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ اللَّهِ بِالْوَكِيلِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَدْوَنُ مِنَ الْمُوَكَّلِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَشُبْهَتُهُ وَاهِيَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْوَكِيلَ قَدْ يُوَكَّلُ لِلتَّرَفُّعِ وَقَدْ يُوَكَّلُ لِلْعَجْزِ وَاللَّهُ وَكِيلُ عِبَادِهِ لِعَجْزِهِمْ عَنِ التَّصَرُّفِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا يَتَبَيَّنُ إِذَا نَظَرْتَ فِي الْأُمُورِ الَّتِي لِأَجْلِهَا لَا يَكْفِي الْوَكِيلُ الْوَاحِدُ مِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ قَوِيًّا قَادِرًا عَلَى الْعَمَلِ كَالْمَلِكِ الْكَثِيرِ الْأَشْغَالِ يَحْتَاجُ إِلَى وُكَلَاءَ لِعَجْزِ الْوَاحِدِ عَنِ الْقِيَامِ بِجَمِيعِ أَشْغَالِهِ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ عَالِمًا بِمَا فِيهِ التَّوْكِيلُ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ غَنِيًّا، وَاللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ قادر وغير محتاج فكيفي وكيلا. ثم قال تعالى:

[سورة الأحزاب (33) : آية 49]

[سورة الأحزاب (33) : آية 49] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) وَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ ذَكَرَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَأَدَّبَ نَبِيَّهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ نَبِيَّهُ الْمُرْسَلَ فَكُلَّمَا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ مَكْرُمَةً وَعَلَّمَهُ أَدَبًا ذَكَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا يُنَاسِبُهُ، فَكَمَا بَدَأَ اللَّهُ فِي تَأْدِيبِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذِكْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِجَانِبِ الله بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: 1] وَثَنَّى بِمَا يَتَعَلَّقُ بِجَانِبِ مَنْ تَحْتَ يَدِهِ من أزواجه بقوله بعد: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الأحزاب: 28] وثلث بما يتعلق بجانب العامة بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً [الأحزاب: 45] / كَذَلِكَ بَدَأَ فِي إِرْشَادِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَتَعَلَّقُ بجانب الله فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الْأَحْزَابِ: 41] ثُمَّ ثَنَّى بِمَا يَتَعَلَّقُ بِجَانِبِ من تحت أيديهم بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ كَمَا ثَلَّثَ فِي تَأْدِيبِ النَّبِيِّ بِجَانِبِ الْأُمَّةِ ثَلَّثَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَتَعَلَّقُ بجانب نبيهم، فقال بعد هذا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ [الْأَحْزَابِ: 53] وبقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ [الْأَحْزَابِ: 56] وَفِي الْآيَةِ مسائل: إحداها: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَنَّ هَذَا إِرْشَادٌ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِجَانِبِ مَنْ هُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْمَرْءِ فَلِمَ خَصَّ الْمُطَلَّقَاتِ اللَّاتِي طُلِّقْنَ قَبْلَ الْمَسِيسِ بِالذِّكْرِ؟ فَنَقُولُ هَذَا إِرْشَادٌ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْمَكْرُمَاتِ لِيُعْلَمَ مِنْهَا مَا دُونَهَا وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الْمَسِيسِ لَمْ يَحْصُلْ بَيْنَهُمَا تَأَكُّدُ الْعَهْدِ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمَمْسُوسَةِ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [النِّسَاءِ: 21] وَإِذَا أَمَرَ اللَّهُ بِالتَّمَتُّعِ وَالْإِحْسَانِ مَعَ مَنْ لَا مَوَدَّةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ حَصَلَتِ الْمَوَدَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا بِالْإِفْضَاءِ أَوْ حَصَلَ تَأَكُّدُهَا بِحُصُولِ الْوَلَدِ بَيْنَهُمَا وَالْقُرْآنُ فِي الْحَجْمِ صَغِيرٌ وَلَكِنْ لَوِ اسْتُنْبِطَتْ مَعَانِيهِ لَا تَفِي بِهَا الْأَقْلَامُ وَلَا تَكْفِي لَهَا الْأَوْرَاقُ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الْإِسْرَاءِ: 23] لَوْ قَالَ لَا تَضْرِبْهُمَا أَوْ لَا تَشْتُمْهُمَا ظُنَّ أَنَّهُ حَرَامٌ لِمَعْنًى مُخْتَصٍّ بِالضَّرْبِ أَوِ الشَّتْمِ، أَمَّا إِذَا قَالَ لَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ عُلِمَ مِنْهُ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ وَكَذَلِكَ هاهنا لَمَّا أُمِرَ بِالْإِحْسَانِ مَعَ مَنْ لَا مَوَدَّةَ مَعَهَا عُلِمَ مِنْهُ الْإِحْسَانُ مَعَ الْمَمْسُوسَةِ وَمَنْ لَمْ تُطَلَّقْ بَعْدُ وَمَنْ وَلَدَتْ عِنْدَهُ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ التَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْكِحَ الْمُؤْمِنَةَ فَإِنَّهَا أَشَدُّ تَحْصِينًا لِدِينِهِ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي أَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ، لَا يَصِحُّ لِأَنَّ التَّطْلِيقَ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ النِّكَاحِ وَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ ثُمَّ، وَهِيَ لِلتَّرَاخِي وَقَوْلُهُ: فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ بَيَّنَ. أَنَّ الْعِدَّةَ حَقُّ الزَّوْجِ فِيهَا غَالِبٌ وَإِنْ كَانَ لَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: تَعْتَدُّونَها أَيْ تَسْتَوْفُونَ أَنْتُمْ عَدَدَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ قِيلَ بِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمُفَوَّضَةِ الَّتِي لَمْ يُسَمَّ لَهَا إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَجَبَ لَهَا الْمُتْعَةُ، وَقِيلَ بِأَنَّهُ عَامٌّ وَعَلَى هَذَا فَهُوَ أَمْرُ وُجُوبٍ أَوْ أَمْرُ نَدْبٍ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لِلْوُجُوبِ فَيَجِبُ مَعَ نِصْفِ الْمَهْرِ الْمُتْعَةُ أَيْضًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لِلِاسْتِحْبَابِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُمَتِّعَهَا مَعَ الصَّدَاقِ بِشَيْءٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا الْجَمَالُ فِي التسريح أن لا يطالبها بما آتاها. ثم قال تعالى:

[سورة الأحزاب (33) : آية 50]

[سورة الأحزاب (33) : آية 50] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا هُوَ الْأَوْلَى فَإِنَّ الزَّوْجَةَ الَّتِي أُوتِيَتْ مَهْرَهَا أَطْيَبُ قَلْبًا مِنَ الَّتِي لَمْ تُؤْتَ، وَالْمَمْلُوكَةُ الَّتِي سَبَاهَا الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ أَطْهَرُ مِنَ الَّتِي اشْتَرَاهَا الرَّجُلُ لِأَنَّهَا لَا يُدْرَى كَيْفَ حَالُهَا، وَمَنْ هَاجَرَتْ مِنْ أَقَارِبِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَهُ أَشْرَفُ مِمَّنْ لَمْ تُهَاجِرْ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ بِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعْطَاءُ الْمَهْرِ أَوَّلًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا الِامْتِنَاعُ إِلَى أَنْ تَأْخُذَ مَهْرَهَا وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَسْتَوْفِي مَا لَا يَجِبُ لَهُ، وَالْوَطْءُ قَبْلَ إِيتَاءِ الصَّدَاقِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ وَإِنْ كَانَ كَانَ حَلَالًا لَنَا وَكَيْفَ وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا طَلَبَ شَيْئًا حَرُمَ الِامْتِنَاعُ عَنِ الْمَطْلُوبِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الطَّالِبَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، إِنَّمَا يَكُونُ هُوَ الرَّجُلُ لِحَيَاءِ الْمَرْأَةِ فَلَوْ طَلَبَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْمَرْأَةِ التَّمْكِينَ قَبْلَ الْمَهْرِ لَلَزِمَ أَنْ يَجِبَ وَأَنْ لَا يَجِبَ وَهَذَا مُحَالٌ وَلَا كَذَلِكَ أَحَدُنَا، وَقَالَ وَيُؤَكِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ يَعْنِي حِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لَهَا صَدَاقٌ فَتَصِيرُ كَالْمُسْتَوْفِيَةِ مَهْرَهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هِبَتَهَا نَفْسَهَا لَا بُدَّ مَعَهَا مِنْ قَبُولٍ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعْنَاهُ إِبَاحَةُ الْوَطْءِ بِالْهِبَةِ وَحُصُولُ التَّزَوُّجِ بِلَفْظِهَا مِنْ خَوَاصِّكَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تِلْكَ الْمَرْأَةُ صَارَتْ خَالِصَةً لَكَ زَوْجَةً وَمِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَحِلُّ لِغَيْرِكَ أَبَدًا، وَالتَّرْجِيحُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ عَلَى هَذَا فَالتَّخْصِيصُ بِالْوَاهِبَةِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَإِنَّ أَزْوَاجَهُ كُلَّهُنَّ خَالِصَاتٌ لَهُ وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا يَتَبَيَّنُ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ وَقَوْلُهُ: قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ مَعْنَاهُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا فَرْضَكَ وَحُكْمَكَ مَعَ نِسَائِكَ وَأَمَّا حُكْمُ أُمَّتِكَ فَعِنْدَنَا عِلْمُهُ وَنُبَيِّنُهُ لَهُمْ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِئَلَّا يَحْمِلَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَفْسَهُ عَلَى مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنَّ لَهُ فِي النِّكَاحِ خَصَائِصَ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ فِي السَّرَارِي. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ أَيْ تَكُونُ فِي فُسْحَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَلَا يَبْقَى لَكَ شُغْلُ قَلْبٍ فَيَنْزِلُ الرُّوحُ الْأَمِينُ بِالْآيَاتِ عَلَى قَلْبِكَ الْفَارِغِ وَتُبَلِّغُ رِسَالَاتِ رَبِّكَ بِجِدِّكَ وَاجْتِهَادِكَ، وَقَوْلُهُ/ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَيَرْحَمُ الْعَبِيدَ. [سورة الأحزاب (33) : آية 51] تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ. لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ أُحِلَّ لَهُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَزْوَاجِ بَيَّنَ أَنَّهُ أُحِلَّ لَهُ وُجُوهُ الْمُعَاشَرَةِ بِهِنَّ حَتَّى يَجْتَمِعَ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَسْمُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُمَّتِهِ نِسْبَةُ السَّيِّدِ الْمُطَاعِ وَالرَّجُلُ وَإِنْ لَمْ يك نَبِيًّا فَالزَّوْجَةُ فِي مِلْكِ نِكَاحِهِ وَالنِّكَاحُ عَلَيْهَا رِقٌّ، فَكَيْفَ زَوْجَاتُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَإِذَنْ هُنَّ

[سورة الأحزاب (33) : آية 52]

كَالْمَمْلُوكَاتِ لَهُ وَلَا يَجِبُ الْقَسْمُ بَيْنَ الْمَمْلُوكَاتِ، وَالْإِرْجَاءُ التَّأْخِيرُ وَالْإِيوَاءُ الضَّمُّ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ يَعْنِي إِذَا طَلَبْتَ مَنْ كُنْتَ تَرَكْتَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْقَسْمَ كَانَ وَاجِبًا مَعَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَفْهُومِ مِنَ الْآيَةِ قَالَ الْمُرَادُ: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ أَيْ تُؤَخِّرُهُنَّ إِذَا شِئْتَ إِذْ لَا يَجِبُ الْقَسْمُ فِي الْأَوَّلِ وَلِلزَّوْجِ أَنْ لَا يَنَامَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُنَّ، وَإِنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ فَابْدَأْ بِمَنْ شِئْتَ وَتَمِّمِ الدَّوْرَ وَالْأَوَّلُ أَقْوَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ. يَعْنِي إِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْكَ الْقَسْمُ وَأَنْتَ لَا تَتْرُكُ الْقَسْمَ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ لِتَسْوِيَتِكَ بَيْنَهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ بِخِلَافِ مَا لَوْ وَجَبَ عَلَيْكَ ذَلِكَ، فَلَيْلَةَ تَكُونُ عِنْدَ إِحْدَاهُنَّ تَقُولُ مَا جَاءَنِي لِهَوَى قَلْبِهِ إِنَّمَا جَاءَنِي لِأَمْرِ اللَّهِ وَإِيجَابِهِ عَلَيْهِ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ مِنَ الْإِرْجَاءِ وَالْإِيوَاءِ إِذْ لَيْسَ لَهُنَّ عَلَيْكَ شَيْءٌ حَتَّى لَا يَرْضَيْنَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً. أَيْ إِنْ أَضْمَرْنَ خِلَافَ مَا أَظْهَرْنَ فَاللَّهُ يَعْلَمُ ضَمَائِرَ الْقُلُوبِ فَإِنَّهُ عَلِيمٌ، فَإِنْ لَمْ يُعَاتِبْهُنَّ فِي الْحَالِ فَلَا يَغْتَرِرْنَ فَإِنَّهُ حليم لا يعجل. ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 52] لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) لَمَّا لَمْ يُوجِبِ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ الْقَسْمَ وَأَمَرَهُ بِتَخْيِيرِهِنَّ فَاخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ذَكَرَ لَهُنَّ مَا جَازَاهُنَّ بِهِ مِنْ تَحْرِيمِ غَيْرِهِنَّ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْعِهِ مِنْ طَلَاقِهِنَّ بِقَوْلِهِ: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ بَعْدِهِنَّ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدِ اخْتِيَارِهِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَرِضَاهُنَّ بِمَا يُؤْتِيهِنَّ مِنَ الْوَصْلِ وَالْهُجْرَانِ وَالنَّقْصِ وَالْحِرْمَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ يُفِيدُ حُرْمَةَ طَلَاقِهِنَّ إِذْ لَوْ كَانَ جَائِزًا لَجَازَ أَنْ يُطَلِّقَ الْكُلَّ، وَبَعْدَهُنَّ إِمَّا أن يتزوج بغيرهن أولا يَتَزَوَّجَ فَإِنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ يَدْخُلُ فِي زُمْرَةِ الْعُزَّابِ وَالنِّكَاحُ فَضِيلَةٌ لَا يَتْرُكُهَا النَّبِيُّ، وَكَيْفَ وَهُوَ يَقُولُ: «النِّكَاحُ سُنَّتِي» وَإِنْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِهِنَّ يَكُونُ قَدْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّبَدُّلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا تَحْرِيمُ غَيْرِهِنَّ وَلَا الْمَنْعُ مِنْ طَلَاقِهِنَّ بَلِ الْمَعْنَى أَنْ لَا يَحِلَّ لَكَ النِّسَاءُ غَيْرَ اللَّاتِي ذَكَرْنَا لَكَ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ مِنْ بَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ، وَأَمَّا غَيْرُهُنَّ مِنَ الْكِتَابِيَّاتِ فَلَا يَحِلُّ لَكَ التَّزَوُّجُ بِهِنَّ وَقَوْلُهُ: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مَنْعٌ مِنْ شُغْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُبَادِلُونَ زَوْجَةً بِزَوْجَةٍ فينزل أحدهم عن زوجته وبأخذ زَوْجَةَ صَدِيقِهِ وَيُعْطِيهِ زَوْجَتَهُ، وَعَلَى التَّفْسِيرَيْنِ وَقَعَ خِلَافٌ فِي مَسْأَلَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: حُرْمَةُ طَلَاقِ زَوْجَاتِهِ وَالثَّانِيَةُ: حُرْمَةُ تَزَوُّجِهِ بِالْكِتَابِيَّاتِ فَمَنْ فَسَّرَ عَلَى الْأَوَّلِ حَرَّمَ الطَّلَاقَ وَمَنْ فَسَّرَ عَلَى الثَّانِي حَرَّمَ التَّزَوُّجَ بِالْكِتَابِيَّاتِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ أَيْ حُسْنُ النِّسَاءِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلُهُ: وَلَوْ أَعْجَبَكَ

[سورة الأحزاب (33) : آية 53]

فِي مَعْنَى الْحَالِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذُو الْحَالِ قَوْلَهُ: مِنْ أَزْواجٍ لِغَايَةِ التَّنْكِيرِ فِيهِ وَلِكَوْنِ ذِي الْحَالِ لَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ نَكِرَةً فَإِذَنْ هُوَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَعْنِي لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَأَنْتَ مُعْجَبٌ بِحُسْنِهِنَّ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ظَاهِرُ هَذَا نَاسِخٌ لِمَا كَانَ قَدْ ثَبَتَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَنَّهُ إِذَا رَأَى وَاحِدَةً فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ مَوْقِعًا كَانَتْ تَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ طَلَاقُهَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ حُكْمِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ فِي أَوَّلِ النُّبُوَّةِ تَشْتَدُّ عَلَيْهِمْ بُرَحَاءُ الْوَحْيِ ثُمَّ يَسْتَأْنِسُونَ بِهِ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ مَعَ أَصْحَابِهِمْ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ، فَفِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَحَلَّ اللَّهُ مَنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ تَفْرِيغًا لِقَلْبِهِ وَتَوْسِيعًا لِصَدْرِهِ لِئَلَّا يَكُونَ مَشْغُولَ الْقَلْبِ بِغَيْرِ اللَّهِ، ثُمَّ لَمَّا اسْتَأْنَسَ بِالْوَحْيِ وَبِمَنْ عَلَى لِسَانِهِ الْوَحْيُ نُسِخَ ذَلِكَ، إِمَّا لِقُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَإِمَّا أَنَّهُ بِدَوَامِ الْإِنْزَالِ لَمْ يَبْقَ لَهُ مَأْلُوفٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ الْتِفَاتٌ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى إِحْلَالِ التَّزَوُّجِ بِمَنْ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهَا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ تَحْرِيمَ النِّسَاءِ عَلَيْهِ هَلْ نُسِخَ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ نُسِخَ وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ مَا مَاتَ النَّبِيُّ إِلَّا وَأُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ، وَعَلَى هَذَا فَالنَّاسِخُ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ [الأحزاب: 50] إِلَى أَنْ قَالَ: وَبَناتِ عَمِّكَ وَقَالَ: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إِذِ النَّاسِخُ غَيْرُ مُتَوَاتِرٍ إِنْ كَانَ خَبَرًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِ الْمَمْلُوكَاتِ لِأَنَّ الْإِيذَاءَ لَا يَحْصُلُ بِالْمَمْلُوكَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ ضَرَّتَيْنِ فِي بَيْتٍ لِحُصُولِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا وَإِمْكَانِ الْمُخَاصَمَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ الزَّوْجَةَ وَجَمْعًا مِنَ الْمَمْلُوكَاتِ لِعَدَمِ التَّسَاوِي بَيْنَهُنَّ وَلِهَذَا لَا قَسْمَ لَهُنَّ عَلَى أَحَدٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً أَيْ حَافِظًا عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ قَادِرًا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحِفْظَ لَا يحصل إلا بهما. [سورة الأحزاب (33) : آية 53] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) ثُمَّ قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ. لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي النِّدَاءِ الثالث يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً [الْأَحْزَابِ: 45] بَيَانًا لِحَالِهِ مَعَ أُمَّتِهِ الْعَامَّةِ قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا النِّدَاءِ لَا تَدْخُلُوا إِرْشَادًا لَهُمْ وَبَيَانًا لِحَالِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الِاحْتِرَامِ ثُمَّ إِنَّ حَالَ الْأُمَّةِ مَعَ النَّبِيِّ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: فِي حَالِ الْخَلْوَةِ وَالْوَاجِبُ هُنَاكَ عَدَمُ إِزْعَاجِهِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ وَثَانِيهِمَا: فِي الْمَلَأِ وَالْوَاجِبُ هُنَاكَ إِظْهَارُ التعظيم كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الْأَحْزَابِ: 56] وَقَوْلُهُ: إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ أَيْ لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَى طَعَامٍ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا [إلى آخر الآية] فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ/ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً. لَمَّا بَيَّنَ مِنْ حَالِ النَّبِيِّ أَنَّهُ دَاعٍ إِلَى الله بقوله: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ قال هاهنا لَا تَدْخُلُوا إِلَّا إِذَا دُعِيتُمْ يَعْنِي كَمَا أَنَّكُمْ مَا دَخَلْتُمُ الدِّينَ إِلَّا بِدُعَائِهِ فَكَذَلِكَ لَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ دُعَائِهِ وَقَوْلُهُ: غَيْرَ ناظِرِينَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ. وَالْعَامِلُ فِيهِ عَلَى مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَا تَدْخُلُوا قَالَ وتقديره لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا مَأْذُونِينَ غَيْرَ نَاظِرِينَ، وفي الآية مسائل: الْأُولَى: قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ وَلَا تَدْخُلُوا إِلَى طَعَامٍ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، فَلَا يَكُونُ مَنْعًا مِنَ الدُّخُولِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الطَّعَامِ بِغَيْرِ الْإِذْنِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ وَلَا تَدْخُلُوا إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَيَكُونُ الْإِذْنُ مَشْرُوطًا بِكَوْنِهِ إِلَى الطَّعَامِ فَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلَا يَجُوزُ الدُّخُولُ فَلَوْ أَذِنَ لِوَاحِدٍ فِي الدُّخُولِ لِاسْتِمَاعِ كَلَامٍ لَا لِأَكْلِ طَعَامٍ لَا يَجُوزُ، نَقُولُ الْمُرَادُ هُوَ الثَّانِي لِيَعُمَّ النَّهْيَ عَنِ الدُّخُولِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا بِالْإِذْنِ الَّذِي إِلَى طَعَامٍ، نَقُولُ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْخِطَابُ مَعَ قَوْمٍ كَانُوا يَجِيئُونَ حِينَ الطَّعَامِ وَيَدْخُلُونَ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ فَمُنِعُوا مِنَ الدُّخُولِ فِي وَقْتِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ هُوَ الثَّانِي لِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَقَوْلُهُ: إِلى طَعامٍ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ، لَا سِيَّمَا إِذَا عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ مِثْلُهُ فَإِنَّ مَنْ جَازَ دُخُولُ بَيْتِهِ بِإِذْنِهِ إِلَى طَعَامِهِ جَازَ دُخُولُهُ إِلَى غَيْرِ طَعَامِهِ بِإِذْنِهِ، فَإِنَّ غَيْرَ الطَّعَامِ مُمْكِنٌ وُجُودُهُ مَعَ الطَّعَامِ، فإن من الجائز أن يتكلم معه وقت ما يَدْعُوهُ إِلَى طَعَامٍ وَيَسْتَقْضِيهِ فِي حَوَائِجِهِ وَيُعَلِّمُهُ مِمَّا عِنْدَهُ مِنَ الْعُلُومِ مَعَ زِيَادَةِ الْإِطْعَامِ، فَإِذَا رَضِيَ بِالْكُلِّ فَرِضَاهُ بِالْبَعْضِ أَقْرَبُ إِلَى الْفِعْلِ فَيَصِيرُ مِنْ بَابِ فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الْإِسْرَاءِ: 23] وَقَوْلُهُ: غَيْرَ ناظِرِينَ يَعْنِي أَنْتُمْ لَا تَنْتَظِرُوا وَقْتَ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ رُبَّمَا لَا يَتَهَيَّأُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فيه لطيفة وهي أن في الْعَادَةَ إِذَا قِيلَ لِمَنْ كَانَ يَعْتَادُ دُخُولَ دَارٍ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ لَا تَدْخُلْهَا إِلَّا بِإِذْنٍ يَتَأَذَّى وَيَنْقَطِعُ بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُهَا أَصْلًا لا بالدعاء، فَقَالَ لَا تَفْعَلُوا مِثْلَ مَا يَفْعَلُهُ الْمُسْتَنْكِفُونَ بَلْ كُونُوا طَائِعِينَ سَامِعِينَ إِذَا قِيلَ لَكُمْ لَا تَدْخُلُوا لَا تَدْخُلُوا وَإِذَا قِيلَ لَكُمُ ادْخُلُوا فَادْخُلُوا، وَإِنَاهُ قِيلَ وَقْتُهُ وَقِيلَ اسْتِوَاؤُهُ وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ يُفِيدُ الْجَوَازَ وَقَوْلُهُ: وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا يُفِيدُ الْوُجُودَ فَقَوْلُهُ: وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ لَيْسَ تَأْكِيدًا بَلْ هُوَ يُفِيدُ فَائِدَةً جَدِيدَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِذْنِ التَّصْرِيحُ بِهِ، بَلْ إِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ بِالرِّضَا جَازَ الدُّخُولُ وَلِهَذَا قَالَ: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ فَاعِلٍ، فَالْآذِنُ إِنْ كَانَ اللَّهَ أَوِ النَّبِيَّ أَوِ الْعَقْلَ الْمُؤَيَّدَ بِالدَّلِيلِ/ جَازَ وَالنَّقْلُ دَالٌّ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: أَوْ صَدِيقِكُمْ وَحَدُّ الصَّدَاقَةِ لِمَا ذَكَرْنَا، فَلَوْ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِمَ أَنْ لَا مَانِعَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ مِنْ بُيُوتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ تَكَشُّفٍ أَوْ حُضُورِ غَيْرِ مَحْرَمٍ عِنْدَهَا أَوْ عَلِمَ خُلُوَّ الدَّارِ مِنَ الْأَهْلِ أَوْ هِيَ مُحْتَاجَةٌ إِلَى

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 54 إلى 55]

إِطْفَاءِ حَرِيقٍ فِيهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، جَازَ الدُّخُولُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَطَالَ الْمُكْثَ يَوْمَ وَلِيمَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي عُرْسِ زَيْنَبَ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَقُلْ لَهُ شَيْئًا، فَوَرَدَتِ الْآيَةُ جَامِعَةً لِآدَابٍ، مِنْهَا الْمَنْعُ مِنْ إِطَالَةِ الْمُكْثِ فِي بُيُوتِ النَّاسِ، وَفِي مَعْنَى الْبَيْتِ مَوْضِعٌ مُبَاحٌ اخْتَارَهُ شَخْصٌ لِعِبَادَتِهِ أَوِ اشْتِغَالِهِ بِشُغْلٍ فَيَأْتِيهِ أَحَدٌ وَيُطِيلُ الْمُكْثَ عِنْدَهُ، وَقَوْلُهُ: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُوَ عَطْفٌ عَلَى غَيْرَ ناظِرِينَ مَجْرُورٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَطْفًا عَلَى الْمَعْنَى، فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ لَا تَدْخُلُوهَا هَاجِمِينَ، فَعَطَفَ عَلَيْهِ وَلا مُسْتَأْنِسِينَ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ كَوْنَ ذَلِكَ أَدَبًا وَكَوْنَ النَّبِيِّ حَلِيمًا بِقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ وَأَدَبٌ، وَقَوْلُهُ كَانَ إِشَارَةٌ إِلَى تَحَمُّلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ أَدَبًا آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ لَمَّا مَنَعَ اللَّهُ النَّاسَ مِنْ دُخُولِ بُيُوتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ تَعَذُّرُ الْوُصُولِ إِلَى الْمَاعُونِ، بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ فَلْيَسْأَلْ وَلْيَطْلُبْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَقَوْلُهُ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ يَعْنِي الْعَيْنُ رَوْزَنَةُ الْقَلْبِ، فَإِذَا لَمْ تَرَ الْعَيْنُ لَا يَشْتَهِي الْقَلْبُ. أَمَّا إِنْ رَأَتِ الْعَيْنُ فَقَدْ يَشْتَهِي الْقَلْبُ وَقَدْ لَا يَشْتَهِي، فَالْقَلْبُ عِنْدَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ أَطْهَرُ، وَعَدَمُ الْفِتْنَةِ حِينَئِذٍ أَظْهَرُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَلَّمَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَدَبَ أَكَّدَهُ بِمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى مُحَافَظَتِهِ، فَقَالَ: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَكُلُّ مَا مُنِعْتُمْ عَنْهُ مُؤْذٍ فَامْتَنِعُوا عَنْهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً قِيلَ سَبَبُ نُزُولِهِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قِيلَ هُوَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّه، قَالَ لَئِنْ عِشْتُ بَعْدَ مُحَمَّدٍ لَأَنْكِحَنَّ عَائِشَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ لَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهُ سَبَبُ النُّزُولِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ إِيذَاءَ الرَّسُولِ حَرَامٌ، وَالتَّعَرُّضُ لِنِسَائِهِ فِي حَيَاتِهِ إِيذَاءٌ فَلَا يَجُوزُ، ثُمَّ قَالَ لَا بَلْ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ مُطْلَقًا، ثُمَّ أَكَّدَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً أي إيذاء الرسول. ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 54 الى 55] إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ الْحِجَابَ اسْتَثْنَى الْمَحَارِمَ بِقَوْلِهِ: لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وفي الآية مسائل: الْأُولَى: فِي الْحِجَابِ أَوْجَبَ السُّؤَالَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ عَلَى الرِّجَالِ، فَلِمَ لَمْ يَسْتَثْنِ الرِّجَالَ عَنِ الْجُنَاحِ، وَلَمْ يَقُلْ لَا جُنَاحَ عَلَى آبائهن؟ فنقول قوله تعالى: فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الأحزاب: 53] أَمْرٌ بِسَدْلِ السَّتْرِ عَلَيْهِنَّ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِكَوْنِهِنَّ مَسْتُورَاتٍ مَحْجُوبَاتٍ وَكَانَ الْحِجَابُ وَجَبَ عَلَيْهِنَّ، ثُمَّ أَمَرَ الرِّجَالَ بِتَرْكِهِنَّ كَذَلِكَ، وَنُهُوا عَنْ هَتْكِ أَسْتَارِهِنَّ فَاسْتُثْنِينَ عِنْدَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ عِنْدَ الْحِجَابِ أَمَرَ اللَّهُ الرَّجُلَ بِالسُّؤَالِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ كَوْنُ الْمَرْأَةِ مَحْجُوبَةً عَنِ الرَّجُلِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَعِنْدَ الِاسْتِثْنَاءِ قَالَ تَعَالَى: لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ عِنْدَ رَفْعِ الْحِجَابِ عَنْهُنَّ، فَالرِّجَالُ أَوْلَى بذلك.

[سورة الأحزاب (33) : آية 56]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدَّمَ الْآبَاءَ لِأَنَّ اطِّلَاعَهُمْ عَلَى بَنَاتِهِنَّ أَكْثَرُ، وَكَيْفَ وَهُمْ قَدْ رَأَوْا جَمِيعَ بَدَنِ الْبَنَاتِ فِي حَالِ صِغَرِهِنَّ، ثُمَّ الْأَبْنَاءَ ثُمَّ الْإِخْوَةَ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ. إِنَّمَا الْكَلَامُ فِي بَنِي الْإِخْوَةِ حَيْثُ قَدَّمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي الْأَخَوَاتِ، لِأَنَّ بَنِي الْأَخَوَاتِ آبَاؤُهُمْ لَيْسُوا بِمَحَارِمَ إِنَّمَا هُمْ أَزْوَاجُ خَالَاتِ أَبْنَائِهِمْ، وَبَنِي الْإِخْوَةِ آبَاؤُهُمْ مَحَارِمُ أَيْضًا، فَفِي بَنِي الْأَخَوَاتِ مَفْسَدَةٌ مَا وَهِيَ أَنَّ الِابْنَ رُبَّمَا يَحْكِي خَالَتَهُ عِنْدَ أَبِيهِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ وَلَا كَذَلِكَ بَنُو الْإِخْوَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ مِنَ الْمَحَارِمِ الْأَعْمَامَ وَالْأَخْوَالَ، فَلَمْ يَقُلْ وَلَا أَعْمَامِهِنَّ وَلَا أَخْوَالِهِنَّ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ عُلِمَ مِنْ بَنِيَ الْإِخْوَةِ وَبَنِي الْأَخَوَاتِ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ بَنِي الْأَخِ لِلْعَمَّاتِ مَحَارِمُ عَلِمَ أَنَّ بَنَاتِ الْأَخِ لِلْأَعْمَامِ مَحَارِمُ، وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي أَمْرِ الْخَالِ ثَانِيهِمَا: أَنَّ الْأَعْمَامَ رُبَّمَا يَذْكُرُونَ بَنَاتِ الْأَخِ عِنْدَ أَبْنَائِهِمْ وَهُمْ غَيْرُ مَحَارِمَ، وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي ابْنِ الْخَالِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَلا نِسائِهِنَّ مُضَافَةٌ إِلَى الْمُؤْمِنَاتِ حَتَّى لَا يَجُوزَ التَّكَشُّفُ لِلْكَافِرَاتِ فِي وَجْهٍ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ هَذَا بَعْدَ الْكُلِّ، فَإِنَّ الْمَفْسَدَةَ فِي التَّكَشُّفِ لَهُمْ ظَاهِرَةٌ، وَمِنَ الْأَئِمَّةِ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ من كان دون البلوغ. ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقِينَ اللَّهَ عِنْدَ الْمَمَالِيكِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّكَشُّفَ لَهُمْ مَشْرُوطٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَالْعِلْمِ بِعَدَمِ الْمَحْذُورِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا سَبَقَ إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ الْخَلْوَةِ بِهِمْ وَالتَّكَشُّفِ لَهُمْ، فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ شَاهِدٌ عِنْدَ اخْتِلَاءِ بَعْضِكُمْ بِبَعْضٍ، فَخَلْوَتُكُمْ مِثْلُ مَلَئِكُمْ بِشَهَادَةِ اللَّهِ تعالى فاتقوا. [سورة الأحزاب (33) : آية 56] إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالِاسْتِئْذَانِ وَعَدَمِ النَّظَرِ إِلَى وُجُوهِ نِسَائِهِ احْتِرَامًا كَمَّلَ بَيَانَ حُرْمَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَالَتَهُ مُنْحَصِرَةٌ فِي اثْنَتَيْنِ حَالَةَ خَلْوَتِهِ، وَذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى احْتِرَامِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِقَوْلِهِ لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ وَحَالَةَ يَكُونُ فِي مَلَأٍ. وَالْمَلَأُ إِمَّا الْمَلَأُ الْأَعْلَى، وَإِمَّا الْمَلَأُ الْأَدْنَى، أَمَّا فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى فَهُوَ مُحْتَرَمٌ، فَإِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا فِي الْمَلَأِ الْأَدْنَى فذلك واجب الاحترام بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً وفي الآية مسائل: الْأُولَى: الصَّلَاةُ الدُّعَاءُ يُقَالُ فِي اللُّغَةِ صَلَّى عَلَيْهِ، أَيْ دَعَا لَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَعْقُولٍ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يَدْعُو لَهُ، لِأَنَّ الدُّعَاءَ لِلْغَيْرِ طَلَبُ نَفْعِهِ مِنْ ثَالِثٍ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتُعْمِلَ اللَّفْظُ بِمَعَانٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الْأَحْزَابِ: 43] والذي نزيده هاهنا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ هُنَاكَ: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ جَعَلَ الصَّلَاةَ لِلَّهِ وعطف الملائكة على الله، وهاهنا جَمَعَ نَفْسَهُ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَسْنَدَ الصَّلَاةَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: يُصَلُّونَ وَفِيهِ تَعْظِيمُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهَذَا لِأَنَّ إِفْرَادَ الْوَاحِدِ بِالذِّكْرِ وَعَطْفَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ يُوجِبُ تَفْضِيلًا لِلْمَذْكُورِ عَلَى الْمَعْطُوفِ، كَمَا أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا قَالَ يَدْخُلُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ أَيْضًا يُفْهَمُ مِنْهُ تَقْدِيمٌ لَا يُفْهَمُ لَوْ قَالَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ يَدْخُلَانِ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا، فَقَالَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّهُمْ يُصَلُّونَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَالْأَصْلِ وَفِي الصَّلَاةِ عَلَى المؤمنين

[سورة الأحزاب (33) : آية 57]

اللَّهُ يَرْحَمُهُمْ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُوَافِقُونَهُ فَهُمْ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُصَلُّونَ بِالْإِضَافَةِ كَأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ أَوْ مَنْدُوبَةٌ سَوَاءٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُصَلِّ وَفِي الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ كَذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ فَتَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا تَجِبُ فِي غَيْرِ التَّشَهُّدِ فَتَجِبُ فِي التَّشَهُّدِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: سُئِلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ/ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا صَلَّى اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ عَلَيْهِ فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى صَلَاتِنَا؟ نَقُولُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ لَيْسَ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ إِلَى صَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ مَعَ صَلَاةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِإِظْهَارِ تَعْظِيمِهِ، كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْنَا ذِكْرَ نَفْسِهِ وَلَا حَاجَةَ لَهُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِإِظْهَارِ تَعْظِيمِهِ مِنَّا شَفَقَةً عَلَيْنَا لِيُثِيبَنَا عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا» . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَمْ يَتْرُكِ اللَّهُ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَحْتَ مِنَّةِ أُمِّتِهِ بِالصَّلَاةِ حَتَّى عَوَّضَهُمْ مِنْهُ بِأَمْرِهِ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْأُمَّةِ حَيْثُ قَالَ: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: 103] وَقَوْلُهُ: وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً أَمْرٌ فَيَجِبُ وَلَمْ يَجِبْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَيَجِبُ فِيهَا وَهُوَ قَوْلُنَا السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ فِي التَّشَهُّدِ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ بِعَدَمِ وُجُوبِهِ وَذَكَرَ الْمَصْدَرَ لِلتَّأْكِيدِ لِيُكْمِلَ السَّلَامَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُؤَكِّدِ الصَّلَاةَ بِهَذَا التَّأْكِيدِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُؤَكَّدَةً بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ. ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 57] إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) فَصَّلَ الْأَشْيَاءَ بِتَبْيِينِ بَعْضِ أَضْدَادِهَا، فَبَيَّنَ حَالَ مُؤْذِي النَّبِيِّ لِيُبَيِّنَ فَضِيلَةَ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ وَاللَّعْنُ أَشَدُّ الْمَحْذُورَاتِ لِأَنَّ الْبُعْدَ مِنَ اللَّهِ لَا يُرْجَى مَعَهُ خَيْرٌ بِخِلَافِ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ وَغَيْرِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا تَغَيَّرَ عَلَى مَمْلُوكٍ إِنْ كَانَ تَأَذِّيهِ غَيْرَ قَوِيٍّ يَزْجُرُهُ وَلَا يَطْرُدُهُ وَلَوْ خُيِّرَ الْمُجْرِمُ [بَيْنَ] أَنْ يضرب أو يطرد عند ما يَكُونُ الْمَلِكُ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ وَالْكَرَمِ يَخْتَارُ الضَّرْبَ عَلَى الطَّرْدِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا مَلِكٌ غَيْرَ سَيِّدِهِ، وَقَوْلُهُ: فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ إِشَارَةٌ إِلَى بُعْدٍ لَا رَجَاءَ لِلْقُرْبِ مَعَهُ، لِأَنَّ الْمُبْعَدَ فِي الدُّنْيَا يَرْجُو الْقُرْبَةَ فِي الْآخِرَةِ، فَإِذَا أُبْعِدَ فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا أَبْعَدَهُ وَطَرَدَهُ فَمَنِ الَّذِي يُقَرِّبُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَحْصُرْ جَزَاءَهُ فِي الْإِبْعَادِ بَلْ أَوْعَدَهُ بِالْعَذَابِ بِقَوْلِهِ: وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ إِيذَاءَ اللَّهِ وَإِيذَاءَ الرَّسُولِ وَذَكَرَ عَقِيبَهُ أَمْرَيْنِ اللَّعْنَ وَالتَّعْذِيبَ فَاللَّعْنُ جَزَاءُ اللَّهِ، لِأَنَّ مَنْ آذَى الْمَلِكَ يُبْعِدُهُ عَنْ بَابِهِ إِذَا كَانَ لَا يَأْمُرُ بِعَذَابِهِ، وَالتَّعْذِيبُ جَزَاءُ إِيذَاءِ الرَّسُولِ لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا آذَى بَعْضَ عَبِيدِهِ كَبِيرٌ يَسْتَوْفِي مِنْهُ قِصَاصَهُ، لَا يُقَالُ فَعَلَى هَذَا مَنْ يُؤْذِي اللَّهَ وَلَا يُؤْذِي الرَّسُولَ لَا يُعَذَّبُ، لِأَنَّا نَقُولُ انْفِكَاكُ أَحَدِهِمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَنِ الْآخَرِ مُحَالٌ لِأَنَّ مَنْ آذَى اللَّهَ فَقَدْ آذَى الرَّسُولَ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ وَهُوَ أَنَّ مَنْ يُؤْذِي النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا يُؤْذِي اللَّهَ كَمَنْ عَصَى مِنْ غَيْرِ إِشْرَاكٍ، كَمَنْ فَسَقَ أَوْ فَجَرَ مِنْ غَيْرِ ارْتِدَادٍ وَكُفْرٍ، فَقَدْ آذَى النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ/ تَعَالَى صَبُورٌ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَيَجْزِيهِ بِالْعَذَابِ وَلَا يَلْعَنُهُ بِكَوْنِهِ يُبْعِدُهُ عن الباب.

[سورة الأحزاب (33) : آية 58]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَكَّدَ الْعَذَابَ بِكَوْنِهِ مُهِينًا لِأَنَّ مَنْ تَأَذَّى مِنْ عَبْدِهِ وَأَمَرَ بِحَبْسِهِ وَضَرْبِهِ فَإِنْ أَمَرَ بِحَبْسِهِ فِي مَوْضِعٍ مُمَيَّزٍ، أَوْ أَمَرَ بِضَرْبِهِ رَجُلًا كَبِيرًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ هَيِّنٌ، وَإِنْ أَمَرَ بِضَرْبِهِ عَلَى مَلَأٍ وَحَبْسِهِ بَيْنَ الْمُفْسِدِينَ يُنْبِئُ عَنْ شِدَّةِ الْأَمْرِ، فَمَنْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنَ الْمُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ فَيُعَذَّبُ عَذَابًا مُهِينًا، وَقَوْلُهُ: أَعَدَّ لَهُمْ لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ السَّيِّدَ إِذَا عَذَّبَ عَبْدَهُ حَالَةَ الْغَضَبِ مِنْ غَيْرِ إِعْدَادٍ يَكُونُ دُونَ مَا إِذَا أَعَدَّ لَهُ قَيْدًا وَغُلًّا، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هَذَا أَثَرُ الْغَضَبِ فَإِذَا سكت الغضب يزول ولا كذلك الثاني. ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 58] وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) لَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُصَلِّيًا عَلَى نَبِيِّهِ لَمْ يَنْفَكَّ إيذاء الله عن إيذانه، فَإِنَّ مَنْ آذَى اللَّهَ فَقَدْ آذَى الرَّسُولَ فَبَيَّنَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّكُمْ إِنْ أَتَيْتُمْ بِمَا أَمَرْتُكُمْ وَصَلَّيْتُمْ عَلَى النَّبِيِّ كَمَا صَلَّيْتُ عَلَيْهِ، لَا يَنْفَكُّ إِيذَاؤُكُمْ عَنْ إِيذَاءِ الرَّسُولِ فَيَأْثَمُ مَنْ يُؤْذِيكُمْ لِكَوْنِ إِيذَائِكُمْ إِيذَاءَ الرَّسُولِ، كَمَا أَنَّ إِيذَائِي إِيذَاؤُهُ وَبِالْجُمْلَةِ لَمَّا حَصَلَتِ الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ صَارَ لَا يَكَادُ يَنْفَكُّ إِيذَاءُ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَنْ إِيذَاءِ الْآخَرِ كَمَا يَكُونُ حَالُ الْأَصْدِقَاءِ الصَّادِقِينَ فِي الصَّدَاقَةِ، وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا احْتِرَازٌ عَنِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ زَائِدٍ، فَإِنَّ مَنْ جُلِدَ مِائَةً عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ حُدَّ أَرْبَعِينَ عَلَى لَعِبِ النَّرْدِ آذَى بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبَ أَيْضًا، وَمَنْ جُلِدَ عَلَى الزِّنَا أَوْ حَدِّ الشُّرْبِ لَمْ يُؤْذَ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبَ، وَيُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ لَمْ يُؤْذَ أَصْلًا لِأَنَّ ذَلِكَ إِصْلَاحُ حَالِ الْمَضْرُوبِ، وَقَوْلُهُ: فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً الْبُهْتَانُ هُوَ الزُّورُ وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْقَوْلِ وَالْإِيذَاءُ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ الْقَوْلِ فَمَنْ آذَى مُؤْمِنًا بِالضَّرْبِ أَوْ أَخَذَ مَالَهُ لَا يَكُونُ قَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا، فَنَقُولُ: الْمُرَادُ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقَوْلِ. وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ إِظْهَارَ شَرَفِ الْمُؤْمِنِ، فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مَنْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهَ لُعِنَ، وَإِيذَاءُ اللَّهِ بِأَنْ يُنْكَرَ وُجُودُ اللَّهِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ دَلَائِلِ وَجُودِهِ أَوْ يُشْرَكَ بِهِ مَنْ لَا يُبْصِرُ وَلَا يَسْمَعُ أَوْ مَنْ لَا يَقْدِرُ وَلَا يَعْلَمُ أَوْ مَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ فِي وُجُودِهِ إِلَى مُوجِدٍ وَهُوَ قَوْلٌ ذَكَرَ إِيذَاءَ الْمُؤْمِنِ بِالْقَوْلِ، وَعَلَى هَذَا خُصَّ الْأَنْبِيَاءُ بِالْقَوْلِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ وَأَتَمُّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُؤْذِيَ اللَّهَ بِمَا يُؤْلِمُهُ مِنْ ضَرْبٍ أَوْ أَخْذِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَيُؤْذِيهِ بِالْقَوْلِ، وَلِأَنَّ الْفَقِيرَ الْغَائِبَ لَا يُمْكِنُ إِيذَاؤُهُ بِالْفِعْلِ، وَيُمْكِنُ إِيذَاؤُهُ بِالْقَوْلِ بِأَنْ يَقُولَ فِيهِ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ فَيَتَأَذَّى، وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي/ الْجَوَابِ هُوَ أَنْ نَقُولَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَإِثْماً مُبِيناً مُسْتَدْرَكٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ احْتَمَلَ بُهْتَانًا إِنْ كَانَ بِالْقَوْلِ وَإِثْمًا مُبِينًا كَيْفَمَا كَانَ الْإِيذَاءُ، وَكَيْفَمَا كَانَ فَإِنَّ اللَّهَ خَصَّ الْإِيذَاءَ الْقَوْلِيَّ بِالذِّكْرِ لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَعَمُّ وَلِأَنَّهُ أَتَمُّ لِأَنَّهُ يَصِلُ إِلَى الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ يَخْرُجُ مِنَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانُ دليله ويدخل في القلب والآذان سبيله. ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 59] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مَنْ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ يَحْتَمِلُ بُهْتَانًا وَكَانَ فِيهِ مَنْعُ الْمُكَلَّفِ عَنْ إِيذَاءِ الْمُؤْمِنِ، أَمَرَ الْمُؤْمِنَ بِاجْتِنَابِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا التُّهَمُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّأَذِّي لِئَلَّا يَحْصُلَ الْإِيذَاءُ الْمَمْنُوعُ مِنْهُ. وَلَمَّا كَانَ الْإِيذَاءُ الْقَوْلِيُّ مُخْتَصًّا بِالذِّكْرِ اخْتَصَّ بِالذِّكْرِ مَا هُوَ سَبَبُ الْإِيذَاءِ الْقَوْلِيِّ وَهُوَ النِّسَاءُ فَإِنَّ ذِكْرَهُنَّ بِالسُّوءِ يُؤْذِي الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ بِخِلَافِ ذِكْرِ الرِّجَالِ فَإِنَّ مَنْ ذَكَرَ امْرَأَةً بِالسُّوءِ تَأَذَّتْ وَتَأَذَّى أَقَارِبُهَا أَكْثَرَ مِنْ تَأَذِّيهَا، وَمَنْ ذَكَرَ رَجُلًا بِالسُّوءِ تَأَذَّى

[سورة الأحزاب (33) : آية 60]

وَلَا يَتَأَذَّى نِسَاؤُهُ، وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَخْرُجُ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ مَكْشُوفَاتٍ يَتْبَعُهُنَّ الزُّنَاةُ وَتَقَعُ التُّهَمُ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْحَرَائِرَ بِالتَّجَلْبُبِ. وَقَوْلُهُ: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ قِيلَ يُعْرَفْنَ أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ فَلَا يُتْبَعْنَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ يُعْرَفْنَ أَنَّهُنَّ لَا يَزْنِينَ لِأَنَّ مَنْ تَسْتُرُ وَجْهَهَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ لَا يُطْمَعُ فِيهَا أَنَّهَا تَكْشِفُ عَوْرَتَهَا فَيُعْرَفْنَ أَنَّهُنَّ مَسْتُورَاتٌ لَا يُمْكِنُ طَلَبُ الزِّنَا مِنْهُنَّ. وَقَوْلُهُ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يَغْفِرُ لَكُمْ مَا قَدْ سَلَفَ بِرَحْمَتِهِ وَيُثِيبُكُمْ عَلَى مَا تَأْتُونَ بِهِ راحما عليكم. [سورة الأحزاب (33) : آية 60] لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُشْرِكِ الَّذِي يُؤْذِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَالْمُجَاهِرِ الَّذِي يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ، ذَكَرَ حَالَ الْمُسِرِّ الَّذِي يُظْهِرُ الْحَقَّ وَيُضْمِرُ الْبَاطِلَ وَهُوَ الْمُنَافِقُ، وَلَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ مِنْ قَبْلُ أَقْوَامًا ثَلَاثَةً نَظَرًا إِلَى اعْتِبَارِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: وَهُمُ الْمُؤْذُونَ اللَّهَ، وَالْمُؤْذُونَ الرَّسُولَ، وَالْمُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ، ذَكَرَ مِنَ الْمُسِرِّينَ ثَلَاثَةً نَظَرًا إِلَى اعْتِبَارِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا: الْمُنَافِقُ الَّذِي يُؤْذِي اللَّهَ سِرًّا وَالثَّانِي: الَّذِي/ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ الَّذِي يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ بِاتِّبَاعِ نِسَائِهِ وَالثَّالِثُ: الْمُرْجِفُ الَّذِي يُؤْذِي النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْإِرْجَافِ بِقَوْلِهِ غُلِبَ مُحَمَّدٌ وَسَيَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَسَيُؤْخَذُ، وَهَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانُوا قَوْمًا وَاحِدًا إِلَّا أَنَّ لَهُمْ ثَلَاثَ اعْتِبَارَاتٍ وَهَذَا فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الْأَحْزَابِ: 35] حَيْثُ ذَكَرَ أَصْنَافًا عَشَرَةً وَكُلُّهُمْ يُوجَدُ فِي وَاحِدٍ فَهُمْ وَاحِدٌ بِالشَّخْصِ كَثِيرٌ بِالِاعْتِبَارِ وَقَوْلُهُ: لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ أَيْ لَنُسَلِّطَنَّكَ عَلَيْهِمْ ولنخرجنهم من المدينة، ثم لا يجاوزونك وَتَخْلُو الْمَدِينَةُ مِنْهُمْ بِالْمَوْتِ أَوِ الْإِخْرَاجِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ، فَإِذَا أَغْرَيْنَاكَ لَا يُجَاوِرُونَكَ، وَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِ الْقَائِلِ يَخْرُجُ فُلَانٌ وَيَقْرَأُ إِشَارَةً إِلَى أَمْرَيْنِ وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ يَخْرُجُ فُلَانٌ وَيَدْخُلُ السُّوقَ فَفِي الْأَوَّلِ يَقْرَأُ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ وَفِي الثَّانِي لَا يَدْخُلُ إِلَّا إِذَا خَرَجَ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ يُخْرِجُ أَعْدَاءَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَيَنْفِيهِمْ عَلَى يَدِهِ إِظْهَارًا لِشَوْكَتِهِ، وَلَوْ كَانَ النَّفْيُ بِإِرَادَةِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ النَّبِيِّ لَأَخْلَى الْمَدِينَةَ عَنْهُمْ فِي أَلْطَفِ آنٍ [بِقَوْلِهِ] كُنْ فَيَكُونُ، وَلَكِنْ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى يَدِ النَّبِيِّ لَا يَقَعُ ذَلِكَ إِلَّا بِزَمَانٍ وَإِنْ لَطُفَ فَقَالَ: ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا وهو أن يتهيئوا ويتأهبوا للخروج. ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 61] مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) أَيْ فِي ذَلِكَ الْقَلِيلِ الَّذِي يُجَاوِرُونَكَ فِيهِ يَكُونُونَ مَلْعُونِينَ مَطْرُودِينَ مِنْ بَابِ اللَّهِ وَبَابِكَ وَإِذَا خَرَجُوا لَا يَنْفَكُّونَ عَنِ الْمَذَلَّةِ، وَلَا يَجِدُونَ مَلْجَأً بَلْ أَيْنَمَا يَكُونُونَ يُطْلَبُونَ وَيُؤْخَذُونَ وَيُقْتَلُونَ. ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 62] سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) يَعْنِي هَذَا لَيْسَ بِدْعًا بِكُمْ بَلْ هُوَ سُنَّةٌ جَارِيَةٌ وَعَادَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ تُفْعَلُ بِالْمُكَذِّبِينَ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أَيْ لَيْسَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ مِثْلَ الْحُكْمِ الَّذِي يُبَدَّلُ وَيُنْسَخُ فَإِنَّ النَّسْخَ يَكُونُ فِي الْأَحْكَامِ، أَمَّا الْأَفْعَالُ وَالْأَخْبَارُ فَلَا تُنْسَخُ ثم قال [سورة الأحزاب (33) : آية 63] يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63)

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 64 إلى 65]

لَمَّا بَيَّنَ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ يُلْعَنُونَ وَيُهَانُونَ وَيُقْتَلُونَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ حَالَهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَذَكَّرَهُمْ بِالْقِيَامَةِ وَذَكَرَ مَا يَكُونُ لَهُمْ فيها فقال: يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ أَيْ عَنْ وَقْتِ الْقِيَامَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ لَا يَتَبَيَّنُ لَكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ أَخْفَاهَا لِحِكْمَةٍ هِيَ امْتِنَاعُ الْمُكَلَّفِ عَنِ الِاجْتِرَاءِ وَخَوَّفَهُمْ مِنْهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً إِشَارَةً إِلَى التَّخْوِيفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ اللَّهُ يَعْلَمُ مَتَى يَكُونُ الْأَمْرُ الْفُلَانِيُّ يُنْبِئُ عَنْ إِبْطَاءِ الْأَمْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ يُطَالِبُ مَدْيُونًا بِحَقِّهِ فَإِنِ اسْتَمْهَلَهُ شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ رُبَّمَا يَصْبِرُ ذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ لَهُ اصْبِرْ إِلَى أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ مِنْ سَفَرِهِ يَقُولُ اللَّهُ يَعْلَمُ مَتَى يَجِيءُ فُلَانٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَجِيءُ فُلَانٍ قبل انقضاء تلك المدة فقال هاهنا: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً يَعْنِي هِيَ فِي عِلْمِ اللَّهِ فَلَا تَسْتَبْطِئُوهَا فَرُبَّمَا تَقَعُ عَنْ قَرِيبٍ وَالْقَرِيبُ فَعِيلٌ يَسْتَوِي فِيهِ المذكر والمؤنث، قال تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الْأَعْرَافِ: 56] وَلِهَذَا لَمْ يقل لعل الساعة تكون قريبة. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 64 الى 65] إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خالِدِينَ فِيها أَبَداً يَعْنِي كَمَا أَنَّهُمْ مَلْعُونُونَ فِي الدُّنْيَا عِنْدَكُمْ فَكَذَلِكَ مَلْعُونُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً [الْأَحْزَابِ: 57] خالِدِينَ فِيها أَبَداً مُطِيلِينَ الْمُكْثَ فِيهَا مُسْتَمِرِّينَ لَا أَمَدَ لِخُرُوجِهِمْ. وَقَوْلُهُ: لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. لَمَّا ذَكَرَ خُلُودَهُمْ بَيَّنَ تَحْقِيقَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعَذَّبَ لَا يُخَلِّصُهُ مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا صَدِيقٌ يَشْفَعُ لَهُ أَوْ نَاصِرٌ يَدْفَعُ عَنْهُ، وَلَا ولي لهم يشفع ولا نصير يدفع. ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 66 الى 68] يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا شَفِيعَ لَهُمْ يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ بَيَّنَ أَنَّ بَعْضَ أَعْضَائِهِمْ أَيْضًا لَا يَدْفَعُ الْعَذَابَ عَنِ الْبَعْضِ بِخِلَافِ عَذَابِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَدْفَعُ عَنْ وَجْهِهِ الضَّرْبَةَ اتِّقَاءً بِيَدِهِ فَإِنَّ مَنْ يَقْصِدُ رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ تَجِدُهُ يَجْعَلُ يَدَهُ جُنَّةً أَوْ يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ كَيْ لَا يُصِيبَ وَجْهَهُ، وَفِي الْآخِرَةِ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ فَمَا ظَنُّكَ بِسَائِرِ أَعْضَائِهِمُ الَّتِي تُجْعَلُ جُنَّةً لِلْوَجْهِ وَوِقَايَةً لَهُ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا فَيَتَحَسَّرُونَ وَيَنْدَمُونَ حَيْثُ لَا تُغْنِيهِمُ النَّدَامَةُ وَالْحَسْرَةُ، لِحُصُولِ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْخَلَاصَ لَيْسَ إِلَّا لِلْمُطِيعِ. ثُمَّ يَقُولُونَ: إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا يَعْنِي بَدَلَ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَطَعْنَا السَّادَةَ وَبَدَلَ طَاعَةِ الرَّسُولِ أَطَعْنَا الْكُبَرَاءَ وَتَرَكْنَا طَاعَةَ سَيِّدِ السَّادَاتِ وَأَكْبَرِ الْأَكَابِرِ/ فَبَدَّلْنَا الْخَيْرَ بِالشَّرِّ، فَلَا جَرَمَ فَاتَنَا خَيْرُ الْجِنَانِ وَأُوتِينَا شَرَّ النِّيرَانِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَطْلُبُونَ بَعْضَ التَّشَفِّي بِتَعْذِيبِ الْمُضِلِّينَ وَيَقُولُونَ: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً أَيْ بِسَبَبِ ضَلَالِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ وَفِي قوله تعالى: ضِعْفَيْنِ (مِنَ الْعَذابِ) وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّ الدُّعَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ حُصُولِ الأمر

[سورة الأحزاب (33) : آية 69]

الْمَدْعُوِّ بِهِ وَالْعَذَابُ كَانَ حَاصِلًا لَهُمْ وَاللَّعْنُ كَذَلِكَ فَطَلَبُوا مَا لَيْسَ بِحَاصِلٍ وَهُوَ زِيَادَةُ الْعَذَابِ بِقَوْلِهِمْ: ضِعْفَيْنِ وَزِيَادَةُ اللَّعْنِ بِقَوْلِهِمْ: لَعْناً كَبِيراً. [سورة الأحزاب (33) : آية 69] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَنْ يُؤْذِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُلْعَنُ وَيُعَذَّبُ وَكَانَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى إِيذَاءٍ هُوَ كُفْرٌ، أَرْشَدَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ إِيذَاءٍ هُوَ دُونَهُ وَهُوَ لَا يُورِثُ كُفْرًا، وَذَلِكَ مِثْلُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقِسْمَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِحُكْمِهِ بِالْفَيْءِ لِبَعْضٍ وغير ذلك فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى وَحَدِيثُ إِيذَاءِ مُوسَى مُخْتَلَفٌ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ إِيذَاؤُهُمْ إِيَّاهُ بِنِسْبَتِهِ إِلَى عَيْبٍ فِي بَدَنِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: [إِنَّ] قَارُونَ قَرَّرَ مَعَ امْرَأَةٍ فَاحِشَةٍ حَتَّى تَقُولَ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّ مُوسَى زَنَى بِي فَلَمَّا جَمَعَ قَارُونُ الْقَوْمَ وَالْمَرْأَةُ حَاضِرَةٌ أَلْقَى اللَّهُ فِي قَلْبِهَا أَنَّهَا صَدَقَتْ وَلَمْ تَقُلْ مَا لُقِّنَتْ وَبِالْجُمْلَةِ الْإِيذَاءُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ كَافٍ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [الْمَائِدَةِ: 24] وَقَوْلُهُمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [الْبَقَرَةِ: 55] وَقَوْلُهُمْ: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [الْبَقَرَةِ: 61] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ لَا تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ إِذَا طَلَبَكُمُ الرَّسُولُ إِلَى الْقِتَالِ أَيْ لَا تَقُولُوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا وَلَا تَسْأَلُوا مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَكُمْ فِيهِ: «وَإِذَا أَمَرَكُمُ الرَّسُولُ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَقَوْلُهُ: فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا عَلَى الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ أَبْرَزَ جِسْمَهُ لِقَوْمِهِ فَرَأَوْهُ وَعَلِمُوا فَسَادَ اعْتِقَادِهِمْ وَنَطَقَتِ المرأة بالحق وأمر الملائكة حتى عبروا بهرون عَلَيْهِمْ فَرَأَوْهُ غَيْرَ مَجْرُوحٍ فَعَلِمُوا بَرَاءَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ قَتْلِهِ الَّذِي رَمَوْهُ بِهِ، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا أَيْ أَخْرَجَهُ عَنْ عُهْدَةِ مَا طَلَبُوا بِإِعْطَائِهِ الْبَعْضَ إِيَّاهُمْ وَإِظْهَارِهِ عَدَمَ جَوَازِ الْبَعْضِ وَبِالْجُمْلَةِ قَطَعَ اللَّهُ حُجَّتَهُمْ ثُمَّ ضَرَبَ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةَ وَالْمَسْكَنَةَ وَغَضِبَ عَلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ: وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً أَيْ ذَا وَجَاهَةٍ وَمَعْرِفَةٍ، وَالْوَجِيهُ هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي يَكُونُ لَهُ وَجْهٌ أَيْ يَكُونُ مَعْرُوفًا بِالْخَيْرِ، وَكُلُّ أَحَدٍ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ مَعْرُوفًا لَكِنَّ الْمَعْرِفَةَ الْمُجَرَّدَةَ لَا تَكْفِي فِي الْوَجَاهَةِ، فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ غَيْرَهُ لِكَوْنِهِ خَادِمًا لَهُ وَأَجِيرًا عِنْدَهُ لَا يُقَالُ هُوَ وَجِيهٌ عِنْدَ فُلَانٍ، وَإِنَّمَا الْوَجِيهُ مَنْ يَكُونُ لَهُ خِصَالٌ حَمِيدَةٌ تَجْعَلُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يعرف ولا ينكر وكان كذلك. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 70 الى 71] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) ثم قال تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُمْ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، أَمَّا الْأَفْعَالُ فَالْخَيْرُ، وَأَمَّا الْأَقْوَالُ فَالْحَقُّ لِأَنَّ مَنْ أَتَى بِالْخَيْرِ وَتَرَكَ الشَّرَّ فَقَدِ اتَّقَى اللَّهَ وَمَنْ قَالَ الصِّدْقَ قَالَ قَوْلًا سَدِيدًا، ثُمَّ وَعَدَهُمْ عَلَى الْأَمْرَيْنِ بِأَمْرَيْنِ: عَلَى الْخَيْرَاتِ بِإِصْلَاحِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ بِتَقْوَى اللَّهِ يَصْلُحُ الْعَمَلُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يُرْفَعُ وَيَبْقَى فَيَبْقَى فَاعِلُهُ خَالِدًا فِي الْجَنَّةِ، وَعَلَى الْقَوْلِ السَّدِيدِ بِمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً فَطَاعَةُ اللَّهِ هِيَ طَاعَةُ الرَّسُولِ، وَلَكِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا لِبَيَانِ شَرَفِ فِعْلِ الْمُطِيعِ فَإِنَّهُ يَفْعَلْهُ الْوَاحِدُ اتَّخَذَ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا وَعِنْدَ الرَّسُولِ يَدًا وَقَوْلُهُ: فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً جَعَلَهُ عَظِيمًا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ عَذَابٍ عَظِيمٍ وَالنَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ تَعْظُمُ بِعِظَمِ العذاب.

[سورة الأحزاب (33) : آية 72]

حَتَّى إِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَضْرِبَ غَيْرَهُ سَوْطًا ثُمَّ نَجَا مِنْهُ لَا يُقَالُ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا، لِأَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي نَجَا مِنْهُ لَوْ وَقَعَ مَا كَانَ يَتَفَاوَتُ الْأَمْرُ تَفَاوُتًا كَثِيرًا وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَصَلَ إِلَى ثَوَابٍ كَثِيرٍ وَهُوَ الثَّوَابُ الدَّائِمُ الْأَبَدِيُّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: [سورة الأحزاب (33) : آية 72] إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لَمَّا أَرْشَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَأَدَّبَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَحْسَنِ الْآدَابِ، بَيَّنَ أَنَّ التَّكْلِيفَ الَّذِي وَجَّهَهُ اللَّهُ إِلَى الْإِنْسَانِ أَمْرٌ عَظِيمٌ فَقَالَ: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ أَيِ التَّكْلِيفَ وَهُوَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا فِي الطَّبِيعَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النوع من التكليف ليس في السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ الْأَرْضَ وَالْجَبَلَ وَالسَّمَاءَ كُلُّهَا عَلَى مَا خُلِقَتْ عَلَيْهِ الْجَبَلُ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ السَّيْرُ وَالْأَرْضُ لَا يُطْلَبُ مِنْهَا الصُّعُودُ وَلَا مِنَ السَّمَاءِ الْهُبُوطُ وَلَا فِي الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَإِنْ كَانُوا مَأْمُورِينَ مَنْهِيِّينَ عَنْ أَشْيَاءَ لَكِنَّ ذَلِكَ لَهُمْ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَنَا فَيُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ كَمَا يَشْتَغِلُ الْإِنْسَانُ بِأَمْرٍ مُوَافِقٍ لِطَبْعِهِ، وَفِي الْآيَةِ مسائل: الأولى: في الأمانة وجوه كثيرة منهم مَنْ قَالَ هُوَ التَّكْلِيفُ وَسُمِّيَ أَمَانَةً لِأَنَّ مَنْ قَصَّرَ فِيهِ/ فَعَلَيْهِ الْغَرَامَةُ، وَمَنْ وَفَّرَ فَلَهُ الْكَرَامَةُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَهُوَ بَعِيدٌ فَإِنَّ السموات وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ بِأَلْسِنَتِهَا نَاطِقَةٌ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْأَعْضَاءُ فَالْعَيْنُ أَمَانَةٌ يَنْبَغِي أَنْ يَحْفَظَهَا وَالْأُذُنُ كَذَلِكَ وَالْيَدُ كَذَلِكَ، وَالرِّجْلُ وَالْفَرْجُ وَاللِّسَانُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ بِمَا فِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْعَرْضِ وُجُوهٌ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ الْعَرْضُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْحَشْرُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمُقَابَلَةُ أَيْ قَابَلْنَا الأمانة على السموات فرجحت الأمانة على أهل السموات والأرض. المسألة الثالثة: في السموات وَالْأَرْضِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ هِيَ بِأَعْيَانِهَا، وَالثَّانِي: الْمُرَادُ أَهْلُوهَا، فَفِيهِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ: إِنَّا عرضنا الأمانة على أهل السموات وَالْأَرْضِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها لَمْ يَكُنْ إِبَاؤُهُنَّ كَإِبَاءِ إِبْلِيسَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الْحِجْرِ: 31] مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هُنَاكَ السُّجُودَ كَانَ فرضا، وهاهنا الْأَمَانَةُ كَانَتْ عَرْضًا وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْإِبَاءَ كَانَ هناك استكبارا وهاهنا اسْتِصْغَارًا اسْتَصْغَرْنَ أَنْفُسَهُنَّ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَأَشْفَقْنَ مِنْها. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا سَبَبُ الْإِشْفَاقِ؟ نَقُولُ الْأَمَانَةُ لَا تُقْبَلُ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَزِيزًا صَعْبَ الْحِفْظِ كَالْأَوَانِي مِنَ الْجَوَاهِرِ الَّتِي تَكُونُ عَزِيزَةً سَرِيعَةَ الِانْكِسَارِ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَمْتَنِعُ عَنْ قَبُولِهَا وَلَوْ كَانَتْ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَقَبِلَهَا وَلَوْ كَانَتْ مِنَ الزُّجَاجِ لَقَبِلَهَا، فِي الْأَوَّلِ لِأَمَانِهِ مِنْ هَلَاكِهَا، وَفِي الثَّانِي لِكَوْنِهَا غَيْرَ عَزِيزَةِ الْوُجُودِ وَالتَّكْلِيفُ كَذَلِكَ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ زَمَانَ شُهُبٍ وَغَارَةٍ فَلَا يَقْبَلُ الْعَاقِلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْوَدَائِعَ، وَالْأَمْرُ كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ وَجُنُودَهُ كَانُوا فِي قَصْدِ الْمُكَلَّفِينَ إذ العرض كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ الثَّالِثُ: مُرَاعَاةُ الْأَمَانَةِ وَالْإِتْيَانُ بِمَا يَجِبُ كَإِيدَاعِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى الْعَلْفِ وَالسَّقْيِ وَمَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ يَكُونُ بِرَسْمِهَا، فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَمْتَنِعُ مِنْ قَبُولِهَا بِخِلَافِ مَتَاعٍ يُوضَعُ فِي صُنْدُوقٍ أَوْ فِي زَاوِيَةِ بَيْتٍ وَالتَّكْلِيفُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَرْبِيَةٍ وَتَنْمِيَةٍ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: كَيْفَ حَمَلَهَا الْإِنْسَانُ وَلَمْ تَحْمِلْهَا هَذِهِ الْأَشْيَاءُ؟ فِيهِ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا: بِسَبَبِ جَهْلِهِ بِمَا

فِيهَا وَعِلْمِهِنَّ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَشْيَاءَ نَظَرَتْ إِلَى أَنْفُسِهِنَّ فَرَأَيْنَ ضَعْفَهُنَّ فَامْتَنَعْنَ، وَالْإِنْسَانُ نَظَرَ إِلَى جَانِبِ الْمُكَلِّفِ، وَقَالَ الْمُودِعُ عَالِمٌ قَادِرٌ لَا يَعْرِضُ الْأَمَانَةَ إِلَّا عَلَى أَهْلِهَا وَإِذَا أَوْدَعَ لَا يَتْرُكُهَا بَلْ يَحْفَظُهَا بِعَيْنِهِ وَعَوْنِهِ فَقَبِلَهَا، وَقَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الْفَاتِحَةِ: 5] . الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ آدَمُ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِالْمُخَالَفَةِ وَلَمْ يَعْلَمْ مَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْجَنَّةِ ثَانِيهَا: الْمُرَادُ الْإِنْسَانُ يَظْلِمُ بِالْعِصْيَانِ وَيَجْهَلُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ ثَالِثُهَا: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، أَيْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ الظُّلْمُ وَالْجَهْلُ/ يُقَالُ فَرَسٌ شَمُوسٌ وَدَابَّةٌ جَمُوحٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ أَيْ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ مِنْ شَأْنِهِ الظُّلْمُ وَالْجَهْلُ فَلَمَّا أُودِعَ الْأَمَانَةَ بَقِيَ بَعْضُهُمْ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَبَعْضُهُمْ تَرَكَ الظُّلْمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الْأَنْعَامِ: 82] وَتَرَكَ الْجَهْلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَةِ: 31] وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آلِ عِمْرَانَ: 7] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: 28] رَابِعُهَا: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا فِي ظَنِّ الْمَلَائِكَةِ حَيْثُ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [الْبَقَرَةِ: 30] وَبَيَّنَ عِلْمَهُ عِنْدَهُمْ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ [الْبَقَرَةِ: 31] وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ إِنَّ الْمَخْلُوقَ عَلَى قِسْمَيْنِ مُدْرِكٌ وَغَيْرُ مُدْرِكٍ، وَالْمُدْرِكُ مِنْهُ مَنْ يُدْرِكُ الْكُلِّيَّ وَالْجُزْئِيَّ مِثْلُ الْآدَمِيِّ، وَمِنْهُ مَنْ يُدْرِكُ الْجُزْئِيَّ كَالْبَهَائِمِ ثُمَّ تُدْرِكُ الشَّعِيرَ الَّذِي تَأْكُلُهُ وَلَا تَتَفَكَّرُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَلَا تَنْظُرُ فِي الدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ، وَمِنْهُ مَنْ يُدْرِكُ الْكُلِّيَّ وَلَا يُدْرِكُ الْجُزْئِيَّ كَالْمَلَكِ يُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ وَلَا يُدْرِكُ لَذَّةَ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ، قَالُوا وَإِلَى هَذَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ [الْبَقَرَةِ: 31] فَاعْتَرَفُوا بِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِتِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ وَالتَّكْلِيفُ لَمْ يَكُنْ إِلَّا عَلَى مُدْرِكِ الْأَمْرَيْنِ إِذْ لَهُ لَذَّاتٌ بِأُمُورٍ جُزْئِيَّةٍ، فَمُنِعَ مِنْهَا لِتَحْصِيلِ لَذَّاتٍ حَقِيقِيَّةٍ هِيَ مِثْلُ لَذَّةِ الْمَلَائِكَةِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَإِنْ كَانَ مُكَلَّفًا يَكُونُ مُكَلَّفًا لَا بِمَعْنَى الْأَمْرِ بِمَا فِيهِ عَلَيْهِمْ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ بَلْ بِمَعْنَى الْخِطَابِ فَإِنَّ الْمُخَاطَبَ يُسَمَّى مُكَلَّفًا لِمَا أَنَّ الْمُكَلَّفَ مُخَاطَبٌ فَسُمِّيَ الْمُخَاطَبُ مُكَلَّفًا وَفِي الْآيَةِ لِطَائِفُ الْأُولَى: الْأَمَانَةُ كَانَ عَرْضُهَا عَلَى آدَمَ فَقَبِلَهَا فَكَانَ أَمِينًا عَلَيْهَا وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ فَهُوَ فَائِزٌ، بَقِيَ أَوْلَادُهُ أَخَذُوا الْأَمَانَةَ مِنْهُ وَالْآخِذُ مِنَ الْأَمِينِ لَيْسَ بِمُؤْتَمَنٍ، وَلِهَذَا وَارِثُ الْمُودَعِ لَا يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ تَجْدِيدِ عَهْدٍ وَائْتِمَانٍ، فَالْمُؤْمِنُ اتَّخَذَ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَصَارَ أَمِينًا مِنَ اللَّهِ فَصَارَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَانَ لَهُ مَا كَانَ لِآدَمَ مِنَ الْفَوْزِ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الْأَحْزَابِ: 73] أَيْ كَمَا تَابَ عَلَى آدَمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتابَ عَلَيْهِ [الْبَقَرَةِ: 37] وَالْكَافِرُ صَارَ آخِذًا لِلْأَمَانَةِ مِنَ الْمُؤْتَمَنِ فَبَقِيَ فِي ضَمَانِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَصَابَ الْأَمَانَةَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ وَالْأَمِينُ لَا يَضْمَنُ مَا فَاتَ بِغَيْرِ تَقْصِيرٍ، وَالْكَافِرُ إِذَا أَصَابَ الْأَمَانَةَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ ضَمِنَ وَإِنْ كَانَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، لِأَنَّهُ يَضْمَنُ مَا فَاتَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِتَقْصِيرٍ اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: خَصَّ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ الْأُمُورِ وَأَحْمَلُهَا لِلْأَثْقَالِ، وَأَمَّا السموات فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً [النَّبَأِ: 12] وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ لَا تَخْفَى شِدَّتُهَا وَصَلَابَتُهَا، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَمَّا كَانَتْ لَهَا شِدَّةٌ وَصَلَابَةٌ عَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمَانَةَ عَلَيْهَا وَاكْتُفِيَ بِشِدَّتِهِنَّ وَقُوَّتِهِنَّ فَامْتَنَعْنَ، لِأَنَّهُنَّ وَإِنْ كُنَّ أَقْوِيَاءَ إِلَّا أَنَّ أَمَانَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَوْقَ قُوَّتِهِنَّ، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ مَعَ ضَعْفِهِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النِّسَاءِ: 28] وَلَكِنْ وَعَدَهُ بِالْإِعَانَةِ عَلَى حِفْظِ الْأَمَانَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ

[سورة الأحزاب (33) : آية 73]

يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطَّلَاقِ: 3] فَإِنْ قِيلَ فَالَّذِي يُعِينُهُ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفَ يُعَذَّبُ فَلِمَ يُعَذِّبُ الْكَافِرَ؟ نَقُولُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَنَا أُعِينُ مَنْ يَسْتَعِينُ بِي وَيَتَوَكَّلُ عَلَيَّ» وَالْكَافِرُ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَتَرَكَهُ مَعَ نَفْسِهِ فَيَبْقَى فِي عُهْدَةِ الْأَمَانَةِ اللَّطِيفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ/ تَعَالَى: فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ فِيهِ مَشَقَّةً بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ فَأَبَيْنَ أَنْ يَقْبَلْنَهَا وَقَبِلَهَا الْإِنْسَانُ، وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ افْعَلْ هَذَا الْفِعْلَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْفِعْلِ تَعَبٌ يُقَابَلُ بِأُجْرَةٍ فَإِذَا فَعَلَهُ لَا يَسْتَحِقُّ أُجْرَةً فَقَالَ تَعَالَى: وَحَمَلَهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مُجَرَّدِ حَمْلِ الْأَمَانَةِ، وَإِمَّا عَلَى رِعَايَتِهَا حَقَّ الرِّعَايَةِ فَيَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ فَإِنْ قِيلَ فَالْكُلُّ حَمَلُوهَا، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْكَافِرَ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى الْحَمْلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ عَلَى الْحَمْلِ فَنَقُولُ الْفِعْلُ إِذَا كَانَ عَلَى وَفْقِ الْإِذْنِ مِنَ الْمَالِكِ الْآمِرِ يَسْتَحِقُّ الْفَاعِلُ الْأُجْرَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ احْمِلْ هَذَا إِلَى الضَّيْعَةِ الَّتِي عَلَى الشِّمَالِ فَحَمَلَ وَنَقَلَهَا إِلَى الضَّيْعَةِ الَّتِي عَلَى الْجَنُوبِ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ وَيَلْزَمُهُ رَدُّهَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ كَذَلِكَ الْكَافِرُ حَمَلَهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْإِذْنِ فَغَرِمَ وَزَالَتْ حَسَنَاتُهُ الَّتِي عملها بسببه. ثم قال تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 73] لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) أَيْ حَمَلَهَا الْإِنْسَانُ لِيَقَعَ تَعْذِيبُ الْمُنَافِقِ وَالْمُشْرِكِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لِمَ قَدَّمَ التَّعْذِيبَ عَلَى التَّوْبَةِ نَقُولُ لَمَّا سَمَّى التَّكْلِيفَ أَمَانَةً وَالْأَمَانَةُ مِنْ حُكْمِهَا اللَّازِمِ أَنَّ الْخَائِنَ يَضْمَنُ وَلَيْسَ مِنْ حُكْمِهَا اللَّازِمِ أَنَّ الْأَمِينَ الْبَاذِلَ جُهْدَهُ يَسْتَفِيدُ أُجْرَةً فَكَانَ التَّعْذِيبُ عَلَى الْخِيَانَةِ كَاللَّازِمِ وَالْأَجْرُ عَلَى الْحِفْظِ إِحْسَانٌ وَالْعَدْلُ قَبْلَ الْإِحْسَانِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِمَ عَطَفَ الْمُشْرِكَ عَلَى الْمُنَافِقِ، وَلَمْ يُعِدِ اسْمَهُ تَعَالَى فَلَمْ يَقُلْ وَيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ وَعِنْدَ التَّوْبَةِ أَعَادَ اسْمَهُ وَقَالَ وَيَتُوبَ اللَّهُ وَلَوْ قَالَ وَيَتُوبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَانَ الْمَعْنَى حَاصِلًا؟ نَقُولُ أَرَادَ تَفْضِيلَ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُنَافِقِ فَجَعَلَهُ كَالْكَلَامِ المستأنف ويجب هناك ذكر الْفَاعِلُ فَقَالَ: وَيَتُوبَ اللَّهُ وَيُحَقِّقُ هَذَا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ (وَيَتُوبُ اللَّهُ) بِالرَّفْعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْإِنْسَانِ وَصْفَيْنِ الظَّلُومُ وَالْجَهُولُ وَذَكَرَ مِنْ أَوْصَافِهِ وَصْفَيْنِ فَقَالَ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أَيْ كَانَ غَفُورًا لِلظَّلُومِ وَرَحِيمًا عَلَى الْجَهُولِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ عِبَادَهُ بِأَنَّهُ يَغْفِرُ الظُّلْمَ جَمِيعًا إِلَّا الظُّلْمَ الْعَظِيمَ الَّذِي هُوَ الشِّرْكُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] وَأَمَّا الْوَعْدُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] وَأَمَّا الرَّحْمَةُ عَلَى الْجَهْلِ فَلِأَنَّ الْجَهْلَ مَحَلُّ الرَّحْمَةِ وَلِذَلِكَ يَعْتَذِرُ الْمُسِيءُ بِقَوْلِهِ ما علمت. وهاهنا لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَ عَبْدَهُ بِأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَبَصَّرَهُ بِنَفْسِهِ فَرَآهُ ظَلُومًا جَهُولًا ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ الْأَمَانَةَ فَقَبِلَهَا مَعَ ظُلْمِهِ وَجَهْلِهِ لِعِلْمِهِ فِيمَا يَجْبُرُهَا مِنَ الْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَآلِهِ.

سورة سبا

سُورَةُ سَبَأٍ مَكِّيَّةٌ وَقِيلَ فِيهَا آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْآيَةَ وَهِيَ أَرْبَعٌ وَقِيلَ خَمْسٌ وَخَمْسُونَ آية بسم الله الرحمن الرحيم [سورة سبإ (34) : آيَةً 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) السُّوَرُ الْمُفْتَتَحَةُ بِالْحَمْدِ خَمْسُ سُوَرٍ سُورَتَانِ مِنْهَا فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ وَهُمَا الْأَنْعَامُ وَالْكَهْفُ وَسُورَتَانِ فِي الْأَخِيرِ وَهُمَا هَذِهِ السُّورَةُ وَسُورَةُ الْمَلَائِكَةِ وَالْخَامِسَةُ وَهِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ تُقْرَأُ مَعَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ وَمَعَ النِّصْفِ الْأَخِيرِ وَالْحِكْمَةُ فِيهَا أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ مَعَ كَثْرَتِهَا وَعَدَمِ قُدْرَتِنَا عَلَى إِحْصَائِهَا مُنْحَصِرَةٌ فِي قِسْمَيْنِ نِعْمَةُ الْإِيجَادِ وَنِعْمَةُ الْإِبْقَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَنَا أَوَّلًا بِرَحْمَتِهِ وَخَلَقَ لَنَا مَا نَقُومُ بِهِ وَهَذِهِ النِّعْمَةُ تُوجَدُ مَرَّةً أُخْرَى بِالْإِعَادَةِ فَإِنَّهُ يَخْلُقُنَا مَرَّةً أُخْرَى وَيَخْلُقُ لَنَا مَا يَدُومُ فَلَنَا حَالَتَانِ الِابْتِدَاءُ وَالْإِعَادَةُ وَفِي كُلِّ حَالَةٍ لَهُ تَعَالَى عَلَيْنَا نِعْمَتَانِ نِعْمَةُ الْإِيجَادِ وَنِعْمَةُ الْإِبْقَاءِ فَقَالَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: 1] إِشَارَةً إِلَى الشُّكْرِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الْأَنْعَامِ: 2] إِشَارَةً إِلَى الْإِيجَادِ الْأَوَّلِ وَقَالَ فِي السُّورَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ الْكَهْفُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً [الْكَهْفِ: 1، 2] إِشَارَةً إِلَى الشُّكْرِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِبْقَاءِ، فَإِنَّ الشَّرَائِعَ بِهَا البقاء ولولا شرع ينقاد له الخلق لا تبع كل واحد هواه ولو وقعت الْمُنَازَعَاتُ فِي الْمُشْتَبِهَاتِ وَأَدَّى إِلَى التَّقَاتُلِ وَالتَّفَانِي، ثُمَّ قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ إِشَارَةً إِلَى نِعْمَةِ الْإِبْقَاءِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَقَالَ فِي الْمَلَائِكَةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِشَارَةً إِلَى نِعْمَةِ الْإِبْقَاءِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1] وَالْمَلَائِكَةُ بِأَجْمَعِهِمْ لَا يَكُونُونَ رُسُلًا إِلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْسِلُهُمُ اللَّهُ مُسَلِّمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [الْأَنْبِيَاءِ: 103] وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزُّمَرِ: 73] وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ لَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَى ذِكْرِ النِّعْمَتَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَةِ: 2] إِشَارَةً إِلَى النعمة العاجلة وقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4] إِشَارَةً إِلَى النِّعْمَةِ/ الْآجِلَةِ قُرِئَتْ فِي الِافْتِتَاحِ وفي الاختتام، ثم في الآية مسائل:

[سورة سبإ (34) : آية 2]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْحَمْدُ شُكْرٌ وَالشُّكْرُ عَلَى النِّعْمَةِ والله تعالى جعل ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ لِنَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ لَنَا حَتَّى يَجِبَ الشُّكْرُ نَقُولُ جَوَابًا عَنْهُ الْحَمْدُ يُفَارِقُ الشُّكْرَ فِي مَعْنًى وَهُوَ أَنَّ الْحَمْدَ أَعَمُّ فَيُحْمَدُ مَنْ فِيهِ صِفَاتٌ حَمِيدَةٌ وَإِنْ لَمْ يُنْعِمْ عَلَى الْحَامِدِ أَصْلًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَحْسُنُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ فِي حَقِّ عَالِمٍ لَمْ يَجْتَمِعْ بِهِ أَصْلًا إِنَّهُ عَالِمٌ عَامِلٌ بَارِعٌ كَامِلٌ فَيُقَالُ لَهُ إِنَّهُ يَحْمَدُ فُلَانًا وَلَا يُقَالُ إِنَّهُ يَشْكُرُهُ إِلَّا إِذَا ذَكَرَ نِعَمَهُ أَوْ ذَكَرَهُ عَلَى نِعَمِهِ فالله تعالى محمود في الأزل لا تصافه بِأَوْصَافِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ وَمَشْكُورٌ وَلَا يَزَالُ عَلَى مَا أَبْدَى مِنَ الْكَرَمِ وَأَسْدَى مِنَ النِّعَمِ فَلَا يَلْزَمُ ذِكْرُ النِّعْمَةِ لِلْحَمْدِ بَلْ يَكْفِي ذِكْرُ الْعَظَمَةِ وَفِي كَوْنِهِ مَالِكَ مَا في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ عَظَمَةٌ كَامِلَةٌ فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى أَنَّا نَقُولُ قَوْلُهُ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يُوجِبُ شُكْرًا أَتَمَّ مِمَّا يُوجِبُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ [الْبَقَرَةِ: 29] وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا فِي السموات وَالْأَرْضِ إِذَا كَانَ لِلَّهِ وَنَحْنُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ لَا هُوَ، يُوجِبُ ذَلِكَ شُكْرًا لَا يُوجِبُهُ كَوْنُ ذَلِكَ لَنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ ذَكَرْتُمْ أن الحمد هاهنا إِشَارَةٌ إِلَى النِّعْمَةِ الَّتِي فِي الْآخِرَةِ، فَلِمَ ذكر الله السموات وَالْأَرْضَ؟ فَنَقُولُ نِعَمُ الْآخِرَةِ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ فَذَكَرَ الله النعم المرئية وهي ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ لِيُقَاسَ نِعَمُ الْآخِرَةِ بِنِعَمِ الدُّنْيَا وَيُعْلَمَ فَضْلُهَا بِدَوَامِهَا وَفَنَاءِ الْعَاجِلَةِ وَلِهَذَا قَالَ: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ خَلْقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالْحِكْمَةِ وَالْخَيْرِ، وَالْحِكْمَةُ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ لِلَّهِ لَا يُمْكِنُ زَوَالُهَا فَيُمْكِنُ مِنْهُ إِيجَادُ أَمْثَالِ هَذِهِ مَرَّةً أُخْرَى فِي الْآخِرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْحِكْمَةُ هِيَ الْعِلْمُ الَّذِي يَتَّصِلُ بِهِ الْفِعْلُ فَإِنَّ مَنْ يَعْلَمُ أَمْرًا وَلَمْ يَأْتِ بِمَا يُنَاسِبُ عِلْمَهُ لَا يُقَالُ لَهُ حَكِيمٌ، فَالْفَاعِلُ الَّذِي فِعْلُهُ عَلَى وَفْقِ الْعِلْمِ هُوَ الْحَكِيمُ، وَالْخَبِيرُ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ وَبَوَاطِنَهَا فَقَوْلُهُ: (حَكِيمٌ) أَيْ فِي الِابْتِدَاءِ يَخْلُقُ كَمَا يَنْبَغِي وَخَبِيرٌ أَيْ بِالِانْتِهَاءِ يَعْلَمُ مَاذَا يَصْدُرُ مِنَ الْمَخْلُوقِ وَمَا لَا يَصْدُرُ إِلَى مَاذَا يَكُونُ مَصِيرُ كُلِّ أَحَدٍ فَهُوَ حَكِيمٌ في الابتداء خبير في الانتهاء. ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا أَخْبَرَهُ بِقَوْلِهِ: [سورة سبإ (34) : آية 2] يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحَبَّةِ وَالْأَمْوَاتِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا مِنَ السَّنَابِلِ وَالْأَحْيَاءِ وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ/ مِنْ أَنْوَاعِ رَحْمَتِهِ مِنْهَا الْمَطَرُ وَمِنْهَا الْمَلَائِكَةُ وَمِنْهَا الْقُرْآنُ، وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا مِنْهَا الْكَلِمُ الطَّيِّبُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَمِنْهَا الْأَرْوَاحُ وَمِنْهَا الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ لِقَوْلِهِ: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فَاطِرٍ: 10] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدَّمَ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ عَلَى مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، لِأَنَّ الْحَبَّةَ تُبْذَرُ أَوَّلًا ثُمَّ تُسْقَى ثَانِيًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ وَما يَعْرُجُ فِيها وَلَمْ يَقُلْ يَعْرُجُ إِلَيْهَا إِشَارَةً إِلَى قَبُولِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَمَرْتَبَةِ النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ وَهَذَا لِأَنَّ كَلِمَةَ إِلَى لِلْغَايَةِ، فَلَوْ قَالَ وَمَا يعرج إليها لفهم الوقوف عند السموات فَقَالَ: وَما يَعْرُجُ فِيها لِيُفْهَمَ نُفُوذُهَا فِيهَا وَصُعُودُهَا مِنْهَا وَلِهَذَا قَالَ فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُنْتَهَى وَلَا مَرْتَبَةَ فَوْقَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا السَّمَاءُ فَهِيَ دُنْيَا وَفَوْقَهَا الْمُنْتَهَى.

[سورة سبإ (34) : الآيات 3 إلى 4]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ: وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ رَحِيمٌ بِالْإِنْزَالِ حَيْثُ يُنْزِلُ الرِّزْقَ مِنَ السَّمَاءِ، غَفُورٌ عند ما تَعْرُجُ إِلَيْهِ الْأَرْوَاحُ وَالْأَعْمَالُ فَرَحِمَ أَوَّلًا بِالْإِنْزَالِ وغفر ثانيا عند العروج. [سورة سبإ (34) : الآيات 3 الى 4] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ الَّتِي يَسْتَحِقُّ اللَّهُ بِهَا الْحَمْدَ وَهِيَ نِعْمَةُ الْآخِرَةِ أَنْكَرَهَا قَوْمٌ فَقَالَ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ثم رد عليهم وقال: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. أَخْبَرَ بِإِتْيَانِهَا وَأَكَّدَهُ بِالْيَمِينِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ يَصِحُّ التَّأْكِيدُ بِالْيَمِينِ مَعَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا رَبَّ وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ بِهِ، لَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ الْأُصُولِيَّةَ لَا تَثْبُتُ بِالْيَمِينِ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْيَمِينِ بَلْ ذَكَرَ الدَّلِيلَ وَهُوَ قَوْلُهُ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَبَيَانُ كَوْنِهِ دَلِيلًا هُوَ أَنَّ الْمُسِيءَ قَدْ يَبْقَى فِي الدُّنْيَا مُدَّةً مَدِيدَةً فِي اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ وَيَمُوتُ عَلَيْهَا وَالْمُحْسِنُ قَدْ يَدُومُ فِي دَارِ الدُّنْيَا فِي الْآلَامِ الشَّدِيدَةِ مُدَّةً وَيَمُوتُ فِيهَا، فَلَوْلَا دَارٌ تَكُونُ الْأَجْزِيَةُ فِيهَا لَكَانَ/ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ الْحِكْمَةِ، وَالَّذِي أَقُولُهُ أَنَا هُوَ أَنَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ: عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ أَظْهَرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ يَعْلَمُ أَجْزَاءَ الْأَحْيَاءِ وَيَقْدِرُ عَلَى جَمْعِهَا فَالسَّاعَةُ مُمْكِنَةُ الْقِيَامِ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهَا الصَّادِقُ فَتَكُونُ وَاقِعَةً، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ فِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ جِسْمٌ وَرُوحٌ وَالْأَجْسَامُ أَجْزَاؤُهَا فِي الْأَرْضِ وَالْأَرْوَاحُ فِي السَّمَاءِ فَقَوْلُهُ: لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِهِ بِالْأَرْوَاحِ وَقَوْلُهُ: وَلا فِي الْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِهِ بِالْأَجْسَامِ، وَإِذَا عَلِمَ الْأَرْوَاحَ وَالْأَشْبَاحَ وَقَدَرَ عَلَى جَمْعِهَا لَا يَبْقَى اسْتِبْعَادٌ فِي الْمَعَادِ. وَقَوْلُهُ: وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذِكْرَ مِثْقَالِ الذَّرَّةِ لَيْسَ لِلتَّحْدِيدِ بَلِ الْأَصْغَرُ مِنْهُ لَا يَعْزُبُ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى ذِكْرِ الْأَكْبَرِ، فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ الْأَصْغَرَ مِنَ الذَّرَّةِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْلَمَ الْأَكْبَرَ؟ فَنَقُولُ لَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بَيَانَ إِثْبَاتِ الْأُمُورِ فِي الْكِتَابِ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَصْغَرِ لَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُ يُثْبِتُ الصَّغَائِرَ، لِكَوْنِهَا مَحَلَّ النِّسْيَانِ، أَمَّا الْأَكْبَرُ فَلَا يُنْسَى فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِثْبَاتِهِ، فَقَالَ الْإِثْبَاتُ فِي الْكِتَابِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْأَكْبَرَ أَيْضًا مَكْتُوبٌ فِيهِ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ عِلْمَهُ بِالصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ ذَكَرَ أَنَّ جَمْعَ ذَلِكَ وَإِثْبَاتَهُ لِلْجَزَاءِ فَقَالَ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ذَكَرَ فِيهِمْ أَمْرَيْنِ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَذَكَرَ لَهُمْ أَمْرَيْنِ الْمَغْفِرَةَ وَالرِّزْقَ الْكَرِيمَ، فَالْمَغْفِرَةُ جَزَاءُ الْإِيمَانِ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مَغْفُورٌ لَهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا أَخْبَرَنَا به تاج الدين عيسى بن أحمد بن الحاكم البندهي قال: أخبرني والذي عَنْ جَدِّي عَنْ مُحْيِي السُّنَّةِ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمَلِيجِيِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّه النُّعَيْمِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْفِرَبْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ «يُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ» وَالرِّزْقُ الْكَرِيمُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ

[سورة سبإ (34) : آية 5]

وَهُوَ مُنَاسِبٌ فَإِنَّ مَنْ عَمِلَ لِسَيِّدٍ كَرِيمٍ عَمَلًا، فَعِنْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْعَمَلِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُنْعِمَ عَلَيْهِ إِنْعَامًا وَيُطْعِمَهُ طَعَامًا، وَوَصْفُ الرِّزْقِ بِالْكَرِيمِ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ بِمَعْنَى ذِي كَرَمٍ أَوْ مُكْرِمٍ، أَوْ لِأَنَّهُ يَأْتِي مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ بِخِلَافِ رِزْقِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَطْلُبْ وَيَتَسَبَّبْ فِيهِ لَا يَأْتِي، وَفِي التَّفْسِيرِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُمْ ذَلِكَ جَزَاءً فَيُوصِلُهُ إِلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَهُمْ وَاللَّهُ يَجْزِيهِمْ بِشَيْءٍ آخَرَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أُولئِكَ لَهُمْ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ اسْمِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْبِشَارَةِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ. لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا رِزْقًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اللَّامُ فِي لِيَجْزِيَ لِلتَّعْلِيلِ، مَعْنَاهُ الْآخِرَةُ لِلْجَزَاءِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ؟ فَنَقُولُ: اللَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ ثَوَابُهُ فَجَعَلَ لِلْمُكَلَّفِ دَارًا بَاقِيَةً لِيَكُونَ ثَوَابُهُ وَاصِلًا إِلَيْهِ دَائِمًا أَبَدًا، وَجَعَلَ قَبْلَهَا دَارًا فِيهَا الْآلَامُ وَالْأَسْقَامُ وَفِيهَا الْمَوْتُ لِيَعْلَمَ الْمُكَلَّفُ مِقْدَارَ مَا يَكُونُ/ فِيهِ فِي الْآخِرَةِ إِذَا نَسَبَهُ إِلَى مَا قَبْلَهَا وَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ فِي نَفْسِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَيَّزَ الرِّزْقَ بِالْوَصْفِ بِقَوْلِهِ كَرِيمٌ وَلَمْ يَصِفِ الْمَغْفِرَةَ وَاحِدَةً هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالرِّزْقُ مِنْهُ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ وَالْحَمِيمُ، وَمِنْهُ الْفَوَاكِهُ وَالشَّرَابُ الطَّهُورُ، فَمَيَّزَ الرِّزْقَ لِحُصُولِ الِانْقِسَامِ فِيهِ، وَلَمْ يميز المغفرة لعدم الانقسام فيها. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 5] وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيَّنَ حَالَ الْكَافِرِينَ، وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا أَيْ بِالْإِبْطَالِ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا فِي مُقَابَلَةِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: آمَنُوا مَعْنَاهُ صَدَّقُوا وَهَذَا مَعْنَاهُ كَذَّبُوا فَإِنْ قِيلَ مِنْ أَيْنَ عُلِمَ كَوْنُ سَعْيِهِمْ فِي الْإِبْطَالِ مَعَ أَنَّ الْمَذْكُورَ مُطْلَقُ السَّعْيِ؟ فَنَقُولُ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مُعاجِزِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَالٌ مَعْنَاهُ سَعَوْا فِيهَا وَهُمْ يُرِيدُونَ التَّعْجِيزَ وَبِالسَّعْيِ فِي التَّقْرِيرِ وَالتَّبْلِيغِ لَا يَكُونُ السَّاعِي مُعَاجِزًا لِأَنَّ الْقُرْآنَ وَآيَاتِ اللَّهِ مُعْجِزَةٌ فِي نَفْسِهَا لَا حَاجَةَ لَهَا إِلَى أَحَدٍ، وَأَمَّا الْمُكَذِّبُ فَهُوَ آتٍ بِإِخْفَاءِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَيَحْتَاجُ إِلَى السَّعْيِ الْعَظِيمِ وَالْجَدِّ الْبَلِيغِ لِيُرَوِّجَ كَذِبَهُ لَعَلَّهُ يُعْجِزُ الْمُتَمَسِّكَ بِهِ، وَقِيلَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: مُعاجِزِينَ أَيْ ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يُفَوِّتُونَ اللَّهَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَوْنُ السَّاعِي سَاعِيًا بِالْبَاطِلِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَلَهُمْ عَذَابٌ فِي مُقَابَلَةِ لَهُمْ رِزْقٌ، وَفِي الْآيَةِ لَطَائِفُ الْأُولَى: قال هاهنا: لَهُمْ عَذابٌ وَلَمْ يَقُلْ يَجْزِيهِمُ اللَّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ مِنَّا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يَجْزِيهِمْ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ إِخْبَارٌ عَنْ مُسْتَحَقِّهِمُ الْمُعَدِّ لَهُمْ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَاحْتِمَالُ الزِّيَادَةِ هُنَاكَ قَائِمٌ نَظَرًا إِلَى قَوْلِهِ: لِيَجْزِيَ وهاهنا لَمْ يَقُلْ لِيُجَازِيَهُمْ فَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الثَّانِيَةُ: قَالَ هُنَاكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ثُمَّ زَادَهُمْ فَقَالَ: وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهاهنا لَمْ يَقُلْ إِلَّا لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ، وَالْجَوَابُ تَقَدَّمَ فِي مِثْلِهِ الثَّالِثَةُ: قَالَ هُنَاكَ: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَلَمْ يُقَلِّلْهُ بِمِنَ التَّبْعِيضِيَّةِ فَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ رزق ولا رزق ن جنس كريم، وقال هاهنا: لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ بِلَفْظَةٍ صَالِحَةٍ لِلتَّبْعِيضِ وَكُلُّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى سَعَةِ الرَّحْمَةِ وَقِلَّةِ الْغَضَبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا وَالرِّجْزُ قِيلَ أَسْوَأُ الْعَذَابِ، وَعَلَى هَذَا (مِنْ) لِبَيَانِ الْجِنْسِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ خَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَفِي الْأَلِيمِ قِرَاءَتَانِ الْجَرُّ وَالرَّفْعُ فَالرَّفْعُ

[سورة سبإ (34) : آية 6]

عَلَى أَنَّ الْأَلِيمَ وَصْفُ الْعَذَابِ كَأَنَّهُ قَالَ عَذَابٌ أَلِيمٌ مِنْ أَسْوَأِ الْعَذَابِ وَالْجَرُّ عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِلرِّجْزِ وَالرَّفْعُ أَقْرَبُ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى، وَالْجَرُّ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ تَنْحَصِرُ الْأَقْسَامُ فِي الْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ عَمَلُهُ وَالْمُكَذِّبِ السَّاعِي الْمُعَجِّزِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ مُؤْمِنًا لَيْسَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أَوْ كَافِرٌ مُتَوَقِّفٌ، فَنَقُولُ إِذَا عُلِمَ حَالُ الْفَرِيقَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ يُعْلَمُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ قَرِيبُ الدَّرَجَةِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ أَمْرُهُ وَالْكَافِرُ قَرِيبُ الدَّرَجَةِ مِمَّنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ وَلِلْمُؤْمِنِ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكَرَامَةِ مِثْلَ رِزْقِ الَّذِي عَمِلَ صَالِحًا/ وَلِلْكَافِرِ غَيْرِ الْمُعَانِدِ عَذَابٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ من أسوأ الأنواع التي للمكذبين المعاندين. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 6] وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) لَمَّا بَيَّنَ حَالَ مَنْ يَسْعَى فِي التَّكْذِيبِ فِي الْآخِرَةِ بَيَّنَ حَالَهُ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ أَنَّ سَعْيَهُ بَاطِلٌ فَإِنَّ مَنْ أُوتِيَ عِلْمًا لَا يَغْتَرُّ بِتَكْذِيبِهِ وَيَعْلَمُ أَنَّ مَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَقَوْلُهُ: هُوَ الْحَقَّ يُفِيدُ الْحَصْرَ أَيْ لَيْسَ الْحَقُّ إِلَّا ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُ الْمُكَذِّبِ فَبَاطِلٌ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَنَازَعَ خَصْمَانِ، وَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ فَيَكُونُ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ حَقًّا فِي الْمَعْنَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِكَوْنِهِ هُوَ الْحَقَّ فَإِنَّهُ هَادٍ إِلَى هَذَا الصِّرَاطِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِفَائِدَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ حَقًّا هَادِيًا وَالْحَقُّ وَاجِبُ الْقَبُولِ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ فِيهِ فَائِدَةٌ فِي الِاسْتِقْبَالِ وَهِيَ الْوُصُولُ إِلَى اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ يُفِيدُ رَغْبَةً وَرَهْبَةً، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ عَزِيزًا يَكُونُ ذَا انْتِقَامٍ يَنْتَقِمُ مِنَ الَّذِي يَسْعَى فِي التَّكْذِيبِ، وَإِذَا كَانَ حَمِيدًا يَشْكُرُ سَعْيَ مَنْ يُصَدِّقُ وَيَعْمَلُ صَالِحًا، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَدَّمَ الصِّفَةَ الَّتِي لِلْهَيْبَةِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي لِلرَّحْمَةِ مَعَ أَنَّكَ أَبَدًا تَسْعَى فِي بَيَانِ تَقْدِيمِ جَانِبِ الرَّحْمَةِ؟ نَقُولُ كَوْنُهُ عَزِيزًا تَامَّ الْهَيْبَةِ شَدِيدَ الِانْتِقَامِ يُقَوِّي جَانِبَ الرَّغْبَةِ لِأَنَّ رِضَا الْجَبَّارِ الْعَزِيزِ أَعَزُّ وَأَكْرَمُ مِنْ رِضَا مَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَالْعِزَّةُ كَمَا تُخَوِّفُ تُرْجَى أَيْضًا، وَكَمَا تُرَغِّبُ عَنِ التَّكْذِيبِ تُرَغِّبُ فِي التَّصْدِيقِ لِيَحْصُلَ الْقُرْبُ مِنَ العزيز. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 7] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) وَجْهُ التَّرْتِيبِ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا السَّاعَةَ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سَبَأٍ: 3] وَبَيَّنَ مَا يَكُونُ بَعْدَ إِتْيَانِهَا مِنْ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِ عَلَى عَمَلِهِ الصَّالِحِ وَجَزَاءِ السَّاعِي فِي تَكْذِيبِ الْآيَاتِ بِالتَّعْذِيبِ عَلَى السَّيِّئَاتِ، بَيَّنَ حَالَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ بَعْدَ قَوْلِهِ: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ فَقَالَ الْمُؤْمِنُ: هُوَ الَّذِي يَقُولُ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْحَقُّ وَهُوَ يَهْدِي، وَقَالَ الْكَافِرُ هُوَ الَّذِي يَقُولُ هُوَ بَاطِلٌ، وَمِنْ غَايَةِ اعْتِقَادِهِمْ وَعِنَادِهِمْ فِي إِبْطَالِ ذَلِكَ قَالُوا عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وَهَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ فِي الِاسْتِبْعَادِ، جَاءَ رَجُلٌ يَقُولُ: إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنَ الْمَغْرِبِ إلى غير ذلك من المحالات. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 8] أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8)

[سورة سبإ (34) : آية 9]

هَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَمَامَ قَوْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوَّلًا أَعْنِي هُوَ مِنْ كَلَامِ مَنْ قَالَ: هَلْ نَدُلُّكُمْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ السَّامِعِ الْمُجِيبِ لِمَنْ قَالَ: هَلْ نَدُلُّكُمْ كَأَنَّ السَّامِعَ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ الْقَائِلِ: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ قَالَ لَهُ: أَهُوَ يَفْتَرِي عَلَى اللَّهِ كَذِبًا؟ إِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ خِلَافَهُ، أَمْ بِهِ جَنَّةٌ [أَيْ] جُنُونٌ؟ إِنْ كَانَ لَا يَعْتَقِدُ خِلَافَهُ (وَفِي هَذَا لَطِيفَةٌ) : وَهِيَ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرْضَى بِأَنْ يَظْهَرَ كَذِبُهُ، وَلِهَذَا قَسَمَ وَلَمْ يَجْزِمْ بِأَنَّهُ مُفْتَرٍ، بَلْ قَالَ مُفْتَرٍ أَوْ مَجْنُونٌ، احْتِرَازًا مِنْ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ كَيْفَ يَقُولُ بِأَنَّهُ مُفْتَرٍ، مَعَ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الْحَقَّ ذَلِكَ فَظَنُّ الصِّدْقِ يَمْنَعُ تَسْمِيَةَ الْقَائِلِ مُفْتَرِيًا وَكَاذِبًا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ يَقُولُ جَاءَ زَيْدٌ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أنه لم يجيء وَقِيلَ لَهُ كَذَبْتَ، يَقُولُ مَا كَذَبْتُ، وَإِنَّمَا سَمِعْتُ مِنْ فُلَانٍ أَنَّهُ جَاءَ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَيَدْفَعُ الْكَذِبَ عَنْ نَفْسِهِ بِالظَّنِّ، فَهُمُ احْتَرَزُوا عَنْ تَبَيُّنِ كَذِبِهِمْ، فَكُلُّ عَاقِلٍ يَنْبَغِي أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْ ظُهُورِ كَذِبِهِ عِنْدَ النَّاسِ، وَلَا يَكُونُ الْعَاقِلُ أَدْنَى دَرَجَةً مِنَ الْكَافِرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَجَابَهُمْ مَرَّةً أُخْرَى وَقَالَ: بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ في مقابلة قولهم: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَقَوْلُهُ: وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِمْ: بِهِ جِنَّةٌ وَكِلَاهُمَا مُنَاسِبٌ. أَمَّا الْعَذَابُ فَلِأَنَّ نِسْبَةَ الْكَذِبِ إِلَى الصَّادِقِ مُؤْذِيَةٌ، لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ فَجُعِلَ الْعَذَابُ عَلَيْهِمْ حَيْثُ نَسَبُوهُ إِلَى الْكَذِبِ. وَأَمَّا الْجُنُونُ فَلِأَنَّ نِسْبَةَ الْجُنُونِ إِلَى الْعَاقِلِ دُونَهُ فِي الْإِيذَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يُعَذَّبُ، وَلَكِنْ يَنْسُبُهُ إِلَى عَدَمِ الْهِدَايَةِ فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ هُمُ الضَّالُّونَ، ثُمَّ وَصَفَ ضَلَالَهُمْ بِالْبُعْدِ، لِأَنَّ مَنْ يُسَمِّي الْمُهْتَدِي ضَالًّا يَكُونُ هُوَ الضَّالَّ، فَمَنْ يُسَمِّي الْهَادِيَ ضَالًّا يَكُونُ أَضَلَّ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ هَادِيَ كُلِّ مهتد. [سورة سبإ (34) : آية 9] أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) ثم قال تعالى: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ لَمَّا ذَكَرَ الدَّلِيلَ بِكَوْنِهِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَكَوْنِهِ جَازِيًا عَلَى السَّيِّئَاتِ وَالْحَسَنَاتِ ذَكَرَ دَلِيلًا آخَرَ وَذَكَرَ فِيهِ تَهْدِيدًا. أَمَّا الدَّلِيلُ فَقَوْلُهُ: مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ فَإِنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: 25] وَيَدُلَّانِ عَلَى الْحَشْرِ لِأَنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَمِنْهَا الْإِعَادَةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا، وَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: 81] / وَأَمَّا التَّهْدِيدُ فَبِقَوْلِهِ: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ يَعْنِي نَجْعَلُ عَيْنَ نَافِعِهِمْ ضَارَّهُمْ بِالْخَسْفِ وَالْكِسَفِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أَيْ لِكُلِّ مَنْ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ وَيَتْرُكُ التَّعَصُّبَ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَنْ يُنِيبُ مِنْ عِبَادِهِ، ذَكَرَ مِنْهُمْ مَنْ أَنَابَ وَأَصَابَ وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ دَاوُدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ [ص: 24] وَبَيَّنَ مَا آتَاهُ الله على إنابته فقال: [سورة سبإ (34) : آية 10] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَّا إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ فَضِيلَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَقْرِيرُهُ هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَقَدْ

[سورة سبإ (34) : آية 11]

آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا مُسْتَقِلٌّ بِالْمَفْهُومِ وَتَامٌّ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: آتَى الْمَلِكُ زَيْدًا خِلْعَةً، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ آتَاهُ مِنْهُ خِلْعَةً يُفِيدُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ خَاصِّ مَا يَكُونُ لَهُ، فَكَذَلِكَ إِيتَاءُ اللَّهِ الْفَضْلَ عَامٌّ لَكِنَّ النُّبُوَّةَ مِنْ عِنْدِهِ خَاصٌّ بِالْبَعْضِ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ [التَّوْبَةِ: 21] فَإِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاسِعَةٌ تَصِلُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي الدُّنْيَا لَكِنَّ رَحْمَتَهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ رَحْمَةٌ مِنْ عِنْدِهِ لِخَوَاصِّهِ فَقَالَ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قوله: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَا جِبالُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَضْلًا مَعْنَاهُ آتَيْنَاهُ فَضْلًا قَوْلُنَا يَا جِبَالُ، أَوْ مَنْ آتَيْنَا وَمَعْنَاهُ قُلْنَا يَا جِبَالُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ (أَوِّبِي) بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ مِنَ التَّأْوِيبِ وَبِسُكُونِهَا وَضَمِّ الْهَمْزَةِ أُوبِي مِنَ الْأَوْبِ وَهُوَ الرُّجُوعُ وَالتَّأْوِيبُ التَّرْجِيعُ، وَقِيلَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ سِيرِي مَعَهُ، وَفِي قَوْلِهِ: يُسَبِّحْنَ قَالُوا: هُوَ مِنَ السِّبَاحَةِ وَهِيَ الْحَرَكَةُ الْمَخْصُوصَةُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُرِئَ وَالطَّيْرَ بِالنَّصْبِ حَمْلًا عَلَى مَحَلِّ الْمُنَادَى وَالطَّيْرُ بِالرَّفْعِ حَمْلًا عَلَى لَفْظِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَمْ يَكُنِ الْمُوَافِقُ لَهُ فِي التَّأْوِيبِ مُنْحَصِرًا فِي الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ وَلَكِنْ ذَكَرَ الْجِبَالَ، لِأَنَّ الصُّخُورَ لِلْجُمُودِ وَالطَّيْرَ لِلنُّفُورِ «1» تُسْتَبْعَدُ منها الْمُوَافَقَةُ، فَإِذَا وَافَقَهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فَغَيْرُهَا أَوْلَى، ثُمَّ إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يُوَافِقْهُ وَهُمُ الْقَاسِيَةُ قُلُوبُهُمُ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ عَطْفٌ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قلنا المقدر في قوله يا جبال تقديره قلنا: يا جبال أَوِّبِي وَأَلَنَّا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى آتَيْنَا تَقْدِيرُهُ آتَيْنَاهُ فَضْلًا وَأَلَنَّا لَهُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: أَلَانَ اللَّهُ لَهُ الْحَدِيدَ حَتَّى كَانَ فِي يَدِهِ كَالشَّمْعِ وَهُوَ فِي قُدْرَةِ اللَّهُ يَسِيرٌ، فَإِنَّهُ يَلِينُ بِالنَّارِ وَيَنْحَلُّ حَتَّى يَصِيرَ كَالْمِدَادِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ، فَأَيُّ عَاقِلٍ يَسْتَبْعِدُ ذَلِكَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ، قِيلَ/ إِنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُغْنِيَهُ عَنْ أَكْلِ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَأَلَانَ لَهُ الْحَدِيدَ وَعَلَّمَهُ صَنْعَةَ اللَّبُوسِ وَهِيَ الدُّرُوعُ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ وِقَايَةٌ لِلرُّوحِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَمْرِهِ وَسَعْيٌ فِي حِفْظِ الْآدَمِيِّ الْمُكَرَّمِ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقَتْلِ، فَالزَّرَّادُ خَيْرٌ مِنَ الْقَوَّاسِ والسياف وغيرهما. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 11] أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) قِيلَ إِنَّ (أن) هاهنا لِلتَّفْسِيرِ فَهِيَ مُفَسِّرَةٌ، بِمَعْنَى أَيِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وهو تفسير أَلَنَّا وَتَحْقِيقُهُ لِأَنْ يَعْمَلَ، يَعْنِي أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ لِيَعْمَلَ سَابِغَاتٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَلْهَمْنَاهُ أَنِ اعْمَلْ وَأَنْ مَعَ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ لِلْمَصْدَرِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ وَأَلْهَمْنَاهُ عَمَلَ سَابِغَاتٍ وَهِيَ الدُّرُوعُ الْوَاسِعَةُ ذَكَرَ الصِّفَةَ وَيُعْلَمُ مِنْهَا الْمَوْصُوفُ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَيْ لَا تُغَلِّظِ الْمَسَامِيرَ فَيَتَّسِعَ الثُّقْبُ وَلَا تُوَسِّعِ الثُّقْبَ فَتُقَلْقَلَ الْمَسَامِيرُ فِيهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ السَّرْدُ هُوَ عَمَلُ الزَّرَدِ، وَقَوْلُهُ: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أَيِ الزَّرَدِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ أَمْرَ إِيجَابٍ إِنَّمَا هُوَ اكْتِسَابٌ وَالْكَسْبُ يَكُونُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَبَاقِي الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي لِلْعِبَادَةِ فَقَدِّرْ فِي ذَلِكَ الْعَمَلَ وَلَا تَشْغَلْ جَمِيعَ أَوْقَاتِكَ بِالْكَسْبِ بَلْ حَصِّلْ بِهِ الْقُوتَ فَحَسْبُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْمَلُوا صالِحاً أي لستم مخلوقين إلا للعمل

_ (1) في الأصل: للنقور بالقاف المثناة والصواب للنفور بالفاء الفوقية الموحدة، والنفور ضد الجمود.

[سورة سبإ (34) : آية 12]

الصَّالِحِ فَاعْمَلُوا ذَلِكَ وَأَكْثِرُوا مِنْهُ، وَالْكَسْبُ قَدِّرُوا فِيهِ، ثُمَّ أَكَّدَ طَلَبَ الْفِعْلِ الصَّالِحِ بِقَوْلِهِ: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ مَنْ يَعْمَلُ لِمَلِكٍ شُغْلًا وَيَعْلَمُ أَنَّهُ بِمَرْأًى مِنَ الْمَلِكِ يُحْسِنُ الْعَمَلَ وَيُتْقِنُهُ وَيَجْتَهِدُ فِيهِ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ الْمُنِيبَ الْوَاحِدَ ذَكَرَ مُنِيبًا آخَرَ وَهُوَ سُلَيْمَانُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ [ص: 34] . وذكر ما استفاد هو بالإنابة فقال: [سورة سبإ (34) : آية 12] وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحُ بِالرَّفْعِ وَبِالنَّصْبِ وَجْهُ الرَّفْعِ: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحُ مُسَخَّرَةً أَوْ سُخِّرَتْ لِسُلَيْمَانَ الرِّيحُ وَوَجْهُ النَّصْبِ وَلِسُلَيْمَانَ سَخَّرْنَا الرِّيحَ وَلِلرَّفْعِ وَجْهٌ آخَرُ/ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ كَمَا يُقَالُ لِزَيْدٍ الدَّارُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ لَهُ كَالْمَمْلُوكِ الْمُخْتَصِّ بِهِ يَأْمُرُهَا بِمَا يُرِيدُ حَيْثُ يُرِيدُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَاوُ لِلْعَطْفِ فَعَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ يَصِيرُ عَطْفًا لِجُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ وَهُوَ لا يجوز أولا يَحْسُنُ فَكَيْفَ هَذَا فَنَقُولُ لَمَّا بَيَّنَ حَالَ دَاوُدَ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مَا ذَكَرْنَا لِدَاوَدَ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحُ، وَأَمَّا عَلَى النَّصْبِ فَعَلَى قَوْلِنَا: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَلَنَّا لِدَاوُدَ الْحَدِيدَ وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُسَخَّرُ لِسُلَيْمَانَ كَانَتْ رِيحًا مَخْصُوصَةً لَا هَذِهِ الرِّيَاحُ، فَإِنَّهَا الْمَنَافِعُ عَامَّةً فِي أَوْقَاتِ الْحَاجَاتِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يُقْرَأْ إِلَّا عَلَى التَّوْحِيدِ فَمَا قَرَأَ أَحَدٌ الرِّيَاحَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْمُرَادُ مِنْ تَسْخِيرِ الْجِبَالِ وَتَسْبِيحِهَا مَعَ دَاوُدَ أَنَّهَا كَانَتْ تُسَبِّحُ كَمَا يُسَبِّحُ كُلُّ شَيْءٍ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 44] ، وَكَانَ هُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَفْقَهُ تَسْبِيحَهَا فَيُسَبِّحُ، وَمِنْ تَسْخِيرِ الرِّيحِ أَنَّهُ رَاضَ الْخَيْلَ وَهِيَ كَالرِّيحِ وَقَوْلُهُ: غُدُوُّها شَهْرٌ ثَلَاثُونَ فَرْسَخًا لِأَنَّ مَنْ يَخْرُجُ لِلتَّفَرُّجِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ لَا يَسِيرُ أَكْثَرَ مِنْ فَرْسَخٍ وَيَرْجِعُ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ فِي حَقِّ دَاوُدَ: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ وَقَوْلُهُ فِي حَقِّ سُلَيْمَانَ: وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أَنَّهُمُ اسْتَخْرَجُوا تَذْوِيبَ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ بِالنَّارِ وَاسْتِعْمَالَ الْآلَاتِ مِنْهُمَا وَالشَّيَاطِينَ أَيْ أُنَاسًا أَقْوِيَاءَ وَهَذَا كُلُّهُ فَاسِدٌ حَمَلَهُ عَلَى هَذَا ضَعْفُ اعْتِقَادِهِ [وَ] عَدَمُ اعْتِمَادِهِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ مُمْكِنٍ وَهَذِهِ أَشْيَاءُ مُمْكِنَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ [الْأَنْبِيَاءِ: 79] وَقَوْلُهُ: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً [الأنبياء: 81] لَوْ قَالَ قَائِلٌ مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي الْأَنْبِيَاءِ: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ وفي هذه السورة قال: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ: 10] وقال في الريح هناك وهاهنا: وَلِسُلَيْمانَ تقول الْجِبَالُ لَمَّا سَبَّحَتْ شَرُفَتْ بِذِكْرِ اللَّهِ فَلَمْ يُضِفْهَا إِلَى دَاوُدَ بِلَامِ الْمِلْكِ بَلْ جَعَلَهَا مَعَهُ كَالْمُصَاحِبِ، وَالرِّيحُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا أَنَّهَا سَبَّحَتْ فَجَعَلَهَا كَالْمَمْلُوكَةِ لَهُ وَهَذَا حَسَنٌ وَفِيهِ أَمْرٌ آخَرُ مَعْقُولٌ يَظْهَرُ لِي وَهُوَ أَنَّ عَلَى قَوْلِنَا: أَوِّبِي مَعَهُ سِيرِي فَالْجَبَلُ فِي السَّيْرِ لَيْسَ أَصْلًا بَلْ هُوَ يَتَحَرَّكُ مَعَهُ تَبَعًا، وَالرِّيحُ لَا تَتَحَرَّكُ مَعَ سُلَيْمَانَ بَلْ تُحَرِّكُ سُلَيْمَانَ مَعَ نَفْسِهَا،

[سورة سبإ (34) : آية 13]

فَلَمْ يَقُلِ الرِّيحُ مَعَ سُلَيْمَانَ، بَلْ سُلَيْمَانُ كَانَ مَعَ الرِّيحِ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أَيِ النُّحَاسِ وَمِنَ الْجِنِّ أَيْ سَخَّرَنَا لَهُ مِنَ الْجِنِّ، وَهَذَا يُنْبِئُ عَنْ أَنَّ جَمِيعَهُمْ مَا كَانُوا تَحْتَ أَمْرِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ فِي حَقِّ دَاوُدَ وَثَلَاثَةً فِي حَقِّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَالْجِبَالُ الْمُسَخَّرَةُ لِدَاوُدَ مِنْ جِنْسِ تَسْخِيرِ الرِّيحِ لِسُلَيْمَانَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّقِيلَ مَعَ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ إِذَا تَحَرَّكَا يَسْبِقُ الْخَفِيفُ الثَّقِيلَ وَيَبْقَى الثَّقِيلُ مَكَانَهُ، لَكِنَّ الْجِبَالَ كَانَتْ أَثْقَلَ مِنَ الْآدَمِيِّ وَالْآدَمِيُّ أَثْقَلُ مِنَ الرِّيحِ فَقَدَّرَ اللَّهُ أَنْ سَارَ الثَّقِيلُ مَعَ الْخَفِيفِ أَيِ الْجِبَالُ مَعَ دَاوُدَ عَلَى مَا قُلْنَا: أَوِّبِي أَيْ سِيرِي وَسُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ مَعَ الرِّيحِ الثَّقِيلُ مَعَ الْخَفِيفِ أَيْضًا، وَالطَّيْرُ مِنْ جِنْسِ تَسْخِيرِ الْجِنِّ لِأَنَّهُمَا/ لَا يَجْتَمِعَانِ مَعَ الْإِنْسَانِ، الطَّيْرُ لِنُفُورِهِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْإِنْسُ لِنُفُورِهِ مِنَ الْجِنِّ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَتَّقِي مَوَاضِعَ الْجِنِّ، وَالْجِنُّ يَطْلُبُ أَبَدًا اصْطِيَادَ الْإِنْسَانِ وَالْإِنْسَانُ يَطْلُبُ اصْطِيَادَ الطَّيْرِ فَقَدَّرَ اللَّهُ أَنْ صَارَ الطَّيْرُ لَا يَنْفِرُ مِنْ دَاوُدَ بَلْ يَسْتَأْنِسُ بِهِ وَيَطْلُبُهُ، وَسُلَيْمَانُ لَا يَنْفِرُ مِنَ الْجِنِّ بَلْ يُسَخِّرُهُ وَيَسْتَخْدِمُهُ وَأَمَّا الْقِطْرُ وَالْحَدِيدُ فَتَجَاذُبُهُمَا غَيْرُ خفي وهاهنا لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ الْآدَمِيَّ يَنْبَغِي أَنْ يَتَّقِيَ الْجِنَّ وَيَجْتَنِبَهُ وَالِاجْتِمَاعُ بِهِ يُفْضِي إِلَى الْمَفْسَدَةِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 97، 98] فَكَيْفَ طَلَبَ سُلَيْمَانُ الِاجْتِمَاعَ بِهِمْ فَنَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحُضُورَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ وَلَطِيفَةٌ أُخْرَى: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تعالى قال هاهنا: بِإِذْنِ رَبِّهِ بِلَفْظِ الرَّبِّ وَقَالَ: وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا وَلَمْ يَقُلْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّبَّ لَفْظٌ يُنْبِئُ عَنِ الرحمة، فعند ما كَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى حِفْظِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قال: رَبِّهِ وعند ما كَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى تَعْذِيبِهِمْ قَالَ: عَنْ أَمْرِنا بِلَفْظِ التَّعْظِيمِ الْمُوجِبِ لِزِيَادَةِ الْخَوْفِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا مُوَكَّلِينَ بِهِمْ وَبِأَيْدِيهِمْ مَقَارِعُ مِنْ نَارٍ فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ السَّعِيرَ هُوَ مَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ فَأَوْعَدَهُمْ بِمَا في الآخرة من العذاب. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 13] يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) الْمَحَارِيبُ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَبْنِيَةِ الرَّفِيعَةِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ [ص: 21] وَالتَّمَاثِيلُ مَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ النُّقُوشِ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ الْبِنَاءَ الَّذِي هُوَ الْمَسْكَنُ بَيَّنَ مَا يَكُونُ فِي الْمَسْكَنِ مِنْ مَاعُونِ الْأَكْلِ فَقَالَ: وَجِفانٍ كَالْجَوابِ جَمْعُ جَابِيَةٍ وَهِيَ الْحَوْضُ الْكَبِيرُ الَّذِي يَجْبِي الْمَاءَ أَيْ يَجْمَعُهُ وَقِيلَ كَانَ يَجْتَمِعُ عَلَى جَفْنَةٍ وَاحِدَةٍ أَلْفُ نَفْسٍ وَقُدُورٍ راسِياتٍ ثَابِتَاتٍ لَا تُنْقَلُ لِكِبَرِهَا، وَإِنَّمَا يُغْرَفُ مِنْهَا فِي تِلْكَ الْجِفَانِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدَّمَ الْمَحَارِيبَ عَلَى التَّمَاثِيلِ لِأَنَّ النُّقُوشَ تَكُونُ فِي الْأَبْنِيَةِ وَقَدَّمَ الْجِفَانَ فِي الذِّكْرِ عَلَى الْقُدُورِ مَعَ أَنَّ الْقُدُورَ آلَةُ الطَّبْخِ وَالْجِفَانَ آلَةُ الْأَكْلِ وَالطَّبْخُ قَبْلَ الْأَكْلِ، فَنَقُولُ: لَمَّا بَيَّنَ الْأَبْنِيَةَ الْمَلَكِيَّةَ أَرَادَ بَيَانَ عَظَمَةِ السِّمَاطِ الَّذِي يُمَدُّ فِي تِلْكَ الدُّورِ، وَأَشَارَ إِلَى الْجِفَانِ لِأَنَّهَا تَكُونُ فِيهِ، وَأَمَّا الْقُدُورُ فَلَا تَكُونُ فِيهِ، وَلَا تُحْضَرُ هُنَاكَ، وَلِهَذَا قَالَ: راسِياتٍ أَيْ غَيْرِ مَنْقُولَاتٍ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْجِفَانِ الْعَظِيمَةِ، كَانَ يَقَعُ فِي النَّفْسِ أَنَّ الطَّعَامَ الَّذِي يَكُونُ فِيهَا فِي أَيِّ شَيْءٍ يُطْبَخُ، فَأَشَارَ إِلَى الْقُدُورِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْجِفَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ فِي حَقِّ دَاوُدَ اشْتِغَالَهُ بِآلَةِ الْحَرْبِ، وَفِي حَقِّ سُلَيْمَانَ بِحَالَةِ السِّلْمِ وَهِيَ الْمَسَاكِنُ

[سورة سبإ (34) : آية 14]

وَالْمَآكِلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ وَلَدَ دَاوُدَ، وَدَاوُدُ قَتَلَ جَالُوتَ وَالْمُلُوكَ الْجَبَابِرَةَ، وَاسْتَوَى دَاوُدُ عَلَى الْمُلْكِ، فَكَانَ سُلَيْمَانُ كَوَلَدِ مَلِكٍ يَكُونُ أَبُوهُ قَدْ سَوَّى عَلَى ابْنِهِ الْمُلْكَ وَجَمَعَ لَهُ الْمَالَ فَهُوَ يُفَرِّقُهُ عَلَى جُنُودِهِ، وَلِأَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَيْهِ فِي ظَنِّهِ فَتَرَكُوا الْحَرْبَ مَعَهُ وَإِنْ حَارَبَهُ أَحَدٌ كَانَ زَمَانُ الْحَرْبِ يَسِيرًا لِإِدْرَاكِهِ إِيَّاهُ بِالرِّيحِ فَكَانَ في زمان الْعَظَمَةُ بِالْإِطْعَامِ وَالْإِنْعَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمَّا قَالَ عَقِيبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ اعْمَلُوا صالِحاً [سبأ: 11] ، قَالَ عَقِيبَ مَا يَعْمَلُهُ الْجِنُّ: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً إِشَارَةً إِلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ حَالِيَّةٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ مُسْتَغْرِقَةً فِيهَا وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ مِنْهُ هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي يَكُونُ شُكْرًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَقِلَّةِ الِاشْتِغَالِ بِهَا كما في قوله: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ: 11] أَيِ اجْعَلْهُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: انْتِصَابُ شُكْراً يحتمل أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ جِئْتُكَ طَمَعًا وَعَبَدْتُ اللَّهَ رَجَاءَ غُفْرَانِهِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَقَوْلِ الْقَائِلِ شَكَرْتُ الله وَيَكُونُ الْمَصْدَرُ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الْفِعْلِ كَقَوْلِ القائل جلست قعودا، وكذلك لِأَنَّ الْعَمَلَ شُكْرٌ فَقَوْلُهُ: اعْمَلُوا يَقُومُ مَقَامَ قَوْلِهِ: (اشْكُرُوا) وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ كَقَوْلِكَ اضْرِبْ زَيْدًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاعْمَلُوا صالِحاً [سبأ: 11] لِأَنَّ الشُّكْرَ صَالِحٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ خَفَّفَ الْأَمْرَ عَلَى عِبَادِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الشُّكْرَ وَاجِبٌ لَكِنَّ شُكْرَ نِعَمِهِ كَمَا يَنْبَغِي لَا يُمْكِنُ، لِأَنَّ الشُّكْرَ بِالتَّوْفِيقِ وَهُوَ نِعْمَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى شُكْرٍ آخَرَ وَهُوَ بِتَوْفِيقٍ آخَرَ، فَدَائِمًا تَكُونُ نِعْمَةُ اللَّهِ بَعْدَ الشُّكْرِ خَالِيَةً عَنِ الشُّكْرِ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى الشُّكْرِ التَّامِّ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ حَرَجٌ، فَإِنَّ عِبَادِي قَلِيلٌ مِنْهُمُ الشَّكُورُ وَيُقَوِّي قَوْلَنَا أَنَّهُ تَعَالَى أَدْخَلَ الْكُلَّ فِي قَوْلِهِ: عِبادِيَ مَعَ الْإِضَافَةِ إِلَى نَفْسِهِ، وَعِبَادِي بِلَفْظِ الْإِضَافَةِ إِلَى نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ لَمْ تَرِدْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي حَقِّ النَّاجِينَ، كقوله تعالى: يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزُّمَرِ: 53] وَقَوْلِهِ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الْإِسْرَاءِ: 65] فَإِنْ قِيلَ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ شُكْرُ اللَّهِ بتمامه لا يمكن وقوله: قَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي عِبَادِهِ مَنْ هُوَ شَاكِرٌ لِأَنْعُمِهِ، نَقُولُ الشُّكْرُ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ هُوَ الْوَاقِعُ وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ، وَأَمَّا الشُّكْرُ الَّذِي يُنَاسِبُ نِعَمَ اللَّهِ فَلَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ، وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، أَوْ نَقُولُ الشَّاكِرُ التَّامُّ لَيْسَ إِلَّا مَنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدِي مَا أَتَيْتَ بِهِ مِنَ الشُّكْرِ الْقَلِيلِ قَبِلْتُهُ مِنْكَ وَكَتَبْتُ لَكَ أَنَّكَ شَاكِرٌ لِأَنْعُمِي بِأَسْرِهَا، وَهَذَا الْقَبُولُ نعمة عظيمة لا أكلفك شكرها. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 14] فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14) لَمَّا بَيَّنَ عَظَمَةَ سُلَيْمَانَ وَتَسْخِيرَ الرِّيحِ وَالرُّوحِ لَهُ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَنْجُ مِنَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ قَضَى عَلَيْهِ الْمَوْتَ، تَنْبِيهًا لِلْخَلْقِ عَلَى أَنَّ الْمَوْتَ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَوْ نَجَا مِنْهُ أَحَدٌ لَكَانَ سُلَيْمَانُ أَوْلَى بِالنَّجَاةِ مِنْهُ، وَفِيهِ مسائل:

[سورة سبإ (34) : آية 15]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقِفُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ لَيْلَةً كَامِلَةً وَيَوْمًا «1» تَامًّا وَفِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ يَزِيدُ عَلَيْهِ، وَكَانَ لَهُ عَصًا يَتَّكِئُ عَلَيْهَا وَاقِفًا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، ثُمَّ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَانَ وَاقِفًا عَلَى عَادَتِهِ فِي عِبَادَتِهِ إِذْ تُوُفِّيَ، فَظَنَّ جُنُودُهُ أَنَّهُ فِي الْعِبَادَةِ وَبَقِيَ كَذَلِكَ أَيَّامًا وَتَمَادَى شُهُورًا، ثُمَّ أَرَادَ اللَّهُ إِظْهَارَ الْأَمْرِ لَهُمْ، فَقَدَّرَ أَنْ أَكَلَتْ دَابَّةُ الْأَرْضِ عَصَاهُ فَوَقَعَ وَعُلِمَ حَالُهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ كَانَتِ الْجِنُّ تَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ عِلْمُ الْغَيْبِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْإِنْسَانُ لَمْ يُؤْتَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فَهُوَ أَكْثَرُ الْأَشْيَاءِ الْحَاضِرَةِ لَا يَعْلَمُهُ، وَالْجِنُّ لَمْ تَعْلَمْ إِلَّا الْأَشْيَاءَ الظَّاهِرَةَ وَإِنْ كَانَتْ خَفِيَّةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَتَبَيَّنَ لَهُمُ الْأَمْرُ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ إِذْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَهُ لَمَا بَقُوا فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ ظَانِّينَ أَنَّ سُلَيْمَانَ حَيٌّ. وَقَوْلُهُ: مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْجِنِّ لَمْ يَكُونُوا فِي التَّسْخِيرِ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَكُونُ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 15] لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ حَالَ الشَّاكِرِينَ لِنِعَمِهِ بِذِكْرِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ بَيَّنَ حَالَ الْكَافِرِينَ بِأَنْعُمِهِ، بِحِكَايَةِ أَهْلِ سَبَأٍ، وَفِي سَبَأٍ قِرَاءَتَانِ بِالْفَتْحِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ بُقْعَةٍ وَبِالْجَرِّ مَعَ التَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ قَبِيلَةٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْآيَةَ لِسَبَأٍ وَالْفَاهِمُ هُوَ الْعَاقِلُ لَا الْمَكَانُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ الْأَهْلِ وَقَوْلُهُ: آيَةٌ أَيْ مِنْ فَضْلِ رَبِّهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَهَا بِذِكْرِ بَدَلِهِ بِقَوْلِهِ: جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيَّةُ آيَةٍ فِي جَنَّتَيْنِ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ بِلَادِ الْعِرَاقِ فِيهَا آلَافٌ مِنَ الْجِنَانِ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ لِكُلِّ وَاحِدٍ جَنَّتَانِ أَوْ عَنْ يَمِينِ بَلَدِهِمْ وَشِمَالِهَا جَمَاعَتَانِ مِنَ الْجَنَّاتِ، وَلِاتِّصَالِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ جَعَلَهَا جَنَّةً وَاحِدَةً، قَوْلُهُ: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى تَكْمِيلِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ/ حَيْثُ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ أَكْلِ ثِمَارِهَا خَوْفٌ وَلَا مَرَضٌ، وَقَوْلُهُ: وَاشْكُرُوا لَهُ بَيَانٌ أَيْضًا لِكَمَالِ النِّعْمَةِ، فَإِنَّ الشُّكْرَ لَا يُطْلَبُ إِلَّا عَلَى النِّعْمَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ حَالَهُمْ فِي مَسَاكِنِهِمْ وَبَسَاتِينِهِمْ وَأَكْلِهِمْ أَتَمَّ بَيَانَ النِّعْمَةِ بِأَنْ بَيَّنَ أَنْ لَا غَائِلَةَ عَلَيْهِ وَلَا تَبِعَةَ فِي الْمَآلِ فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ أَيْ طَاهِرَةٌ عَنِ الْمُؤْذِيَاتِ لَا حَيَّةَ فِيهَا وَلَا عَقْرَبَ وَلَا وَبَاءَ وَلَا وَخَمَ، وَقَالَ: وَرَبٌّ غَفُورٌ أَيْ لَا عِقَابَ عَلَيْهِ وَلَا عَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، فَعِنْدَ هَذَا بَانَ كَمَالُ النِّعْمَةِ حَيْثُ كَانَتْ لَذَّةً حالية خالية عن المفاسد المالية. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مَا كَانَ مِنْ جَانِبِهِ ذَكَرَ مَا كَانَ مِنْ جَانِبِهِمْ فقال: [سورة سبإ (34) : الآيات 16 الى 17] فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17)

_ (1) قوله: «ويوما» الواو فيه بمعنى أو، وبذلك تتصور الزيادة على اليوم أو الليلة إذ ليس للإنسان بعد اليوم التام والليلة الكاملة وقت آخر ويزيده.

[سورة سبإ (34) : الآيات 18 إلى 19]

فَبَيَّنَ كَمَالَ ظُلْمِهِمْ بِالْإِعْرَاضِ بَعْدَ إِبَانَةِ الْآيَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها [الكهف: 57] ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [السَّجْدَةِ: 22] وَكَيْفِيَّتُهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ سَيْلًا غَرَّقَ أَمْوَالَهُمْ وَخَرَّبَ دُورَهُمْ، وَفِي الْعَرِمِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْجُرَذُ الَّذِي سَبَّبَ خَرَابَ السِّكْرِ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ بِلْقِيسَ كَانَتْ قَدْ عَمَدَتْ إِلَى جِبَالٍ بَيْنَهَا شُعَبٌ فَسَدَّتِ الشُّعَبَ حَتَّى كَانَتْ مِيَاهُ الْأَمْطَارِ وَالْعُيُونِ تَجْتَمِعُ فِيهَا وَتَصِيرُ كَالْبَحْرِ وَجَعَلَتْ لَهَا أَبْوَابًا ثَلَاثَةً مُرَتَّبَةً بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَكَانَتِ الْأَبْوَابُ يُفْتَحُ بَعْضُهَا بَعْدَ بَعْضٍ، فَنَقَبَ الْجُرَذُ السِّكْرَ، وَخَرِبَ السِّكْرُ بِسَبَبِهِ وَانْقَلَبَ الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعَرِمَ اسْمُ السِّكْرِ وَهُوَ جَمْعُ الْعَرِمَةِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ ثَالِثُهَا: اسْمٌ لِلْوَادِي الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ الْمَاءُ وَقَوْلُهُ: وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ بَيَّنَ بِهِ دَوَامَ الْخَرَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَسَاتِينَ الَّتِي فِيهَا النَّاسُ يَكُونُ فِيهَا الْفَوَاكِهُ الطَّيِّبَةُ بِسَبَبِ الْعِمَارَةِ فَإِذَا تُرِكَتْ سِنِينَ تَصِيرُ كَالْغَيْضَةِ وَالْأَجَمَةِ تَلْتَفُّ الْأَشْجَارُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَتَنْبُتُ الْمُفْسِدَاتُ فِيهَا فَتَقِلُّ الثِّمَارُ وَتَكْثُرُ الْأَشْجَارُ، وَالْخَمْطُ كُلُّ شَجَرَةٍ لَهَا شَوْكٌ أَوْ كُلُّ شَجَرَةٍ ثَمَرَتُهَا مُرَّةٌ، أَوْ كُلُّ شَجَرَةٍ ثَمَرَتُهَا لَا تُؤْكَلُ، وَالْأَثْلُ نَوْعٌ مِنَ الطَّرْفَاءِ وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ ثَمَرَةٌ إِلَّا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، يَكُونُ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَالْعَفْصِ أَوْ أَصْغَرُ مِنْهُ فِي طَعْمِهِ وَطَبْعِهِ، وَالسِّدْرُ مَعْرُوفٌ وَقَالَ فِيهِ قَلِيلٌ لِأَنَّهُ كَانَ أَحْسَنَ أَشْجَارِهِمْ فَقَلَّلَهُ اللَّهُ، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُجَازَاةً لَهُمْ عَلَى كُفْرَانِهِمْ فَقَالَ: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي أَيْ لَا نُجَازِي بِذَلِكَ الْجَزَاءِ إِلَّا الْكَفُورَ قَالَ بَعْضُهُمُ الْمُجَازَاةُ تُقَالُ فِي النِّقْمَةِ وَالْجَزَاءُ/ فِي النِّعْمَةِ لَكِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ يُسْتَعْمَلُ فِي النِّقْمَةِ، وَلَعَلَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ أَخَذَهُ مِنْ أَنَّ الْمُجَازَاةَ مُفَاعَلَةٌ وَهِيَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ تَكُونُ بين اثنين، يؤخذ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ جَزَاءً فِي حَقِّ الْآخَرِ. وَفِي النِّعْمَةِ لَا تَكُونُ مُجَازَاةً لِأَنَّ اللَّهَ تعالى مبتدئ بالنعم. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : الآيات 18 الى 19] وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) أَيْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّامِ فَإِنَّهَا هِيَ البقعة المباركة. وقرى (ظَاهِرَةً) أَيْ يَظْهَرُ بَعْضُهَا لِبَعْضِهَا يُرَى سَوَادُ الْقَرْيَةِ مِنَ الْقَرْيَةِ الْأُخْرَى، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا مِنَ النِّعَمِ وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ شَرَعَ فِي بَيَانِ تَبْدِيلِ نِعَمِهِمْ قَوْلُهُ: وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ فَكَيْفَ عَادَ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى بَيَانِ النِّعْمَةِ بَعْدَ النِّقْمَةِ؟ فَنَقُولُ ذَكَرَ حَالَ نَفْسِ بَلَدِهِمْ وَبَيَّنَ تَبْدِيلَ ذَلِكَ بِالْخَمْطِ وَالْأَثْلِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ خَارِجِ بَلَدِهِمْ وَذَكَرَ عِمَارَتَهَا بِكَثْرَةِ الْقُرَى، ثُمَّ ذَكَرَ تَبْدِيلَهُ ذَلِكَ بِالْمَفَاوِزِ وَالْبَيَادِي وَالْبَرَارِي بِقَوْلِهِ: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ (رَبُّنَا بَعَّدَ) عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، وَقَوْلُهُ: وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ الْأَمَاكِنُ الْمَعْمُورَةُ تَكُونُ مَنَازِلُهَا مَعْلُومَةً مُقَدَّرَةً لَا تَتَجَاوَزُ، فَلَمَّا كَانَ بَيْنَ كُلِّ قَرْيَةٍ مَسِيرَةُ نِصْفِ نَهَارٍ، وَكَانُوا يَغْدُونَ إِلَى قَرْيَةٍ وَيَرُوحُونَ إِلَى أُخْرَى مَا أَمْكَنَ فِي الْعُرْفِ تَجَاوُزُهَا، فَهُوَ الْمُرَادُ

[سورة سبإ (34) : آية 20]

بِالتَّقْدِيرِ وَالْمَفَاوِزُ لَا يَتَقَدَّرُ السَّيْرُ فِيهَا بَلْ يَسِيرُ السَّائِرُ فِيهَا بِقَدْرِ الطَّاقَةِ جَادًّا حَتَّى يَقْطَعَهَا، وَقَوْلُهُ: سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً أَيْ كَانَ بَيْنَهُمْ لَيَالٍ وَأَيَّامٌ مَعْلُومَةٌ، وَقَوْلُهُ: آمِنِينَ إِشَارَةٌ إِلَى كَثْرَةِ الْعِمَارَةِ، فَإِنَّ خَوْفَ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالِانْقِطَاعِ عَنِ الرَّقِيقِ لَا يَكُونُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ، وَقِيلَ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَيالِيَ وَأَيَّاماً تَسِيرُونَ فِيهِ إِنْ شِئْتُمْ لَيَالِيَ وَإِنْ شِئْتُمْ أَيَّامًا لِعَدَمِ الْخَوْفِ بِخِلَافِ الْمَوَاضِعِ الْمَخُوفَةِ فَإِنَّ بَعْضَهَا يُسْلَكُ لَيْلًا، لِئَلَّا يَعْلَمَ الْعَدُوُّ بِسَيْرِهِمْ، وَبَعْضُهَا يُسْلَكُ نَهَارًا لِئَلَّا يَقْصِدَهُمُ الْعَدُوُّ، إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ غَيْرَ مُجَاهِرٍ بِالْقَصْدِ وَالْعَدَاوَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا قِيلَ بِأَنَّهُمْ طَلَبُوا ذَلِكَ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْأَلُوا بَطَرًا كَمَا طَلَبَتِ الْيَهُودُ الثُّومَ وَالْبَصَلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِفَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ وَشِدَّةِ اعْتِمَادِهِمْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يُقْدَرُ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ اضْرِبْنِي إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بِلِسَانِ الْحَالِ، أَيْ لَمَّا كَفَرُوا فَقَدْ طَلَبُوا أَنْ يُبَعِّدَ/ بَيْنَ أَسْفَارِهِمْ وَيُخَرِّبَ الْمَعْمُورَ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَقَوْلُهُ: وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ يَكُونُ بَيَانًا لِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أَيْ فَعَلْنَا بِهِمْ مَا جَعَلْنَاهُمْ بِهِ مَثَلًا، يُقَالُ: تَفَرَّقُوا أَيْدِيَ سَبَأٍ، وَقَوْلُهُ: وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ بَيَانٌ لِجَعْلِهِمْ أَحَادِيثَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَيْ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَالِ الشَّاكِرِينَ وَوَبَالِ الكافرين. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 20] وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) أَيْ ظَنُّهُ أَنَّهُ يُغْوِيهِمْ كَمَا قَالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ [ص: 82] وَقَوْلُهُ: فَاتَّبَعُوهُ بَيَانٌ لِذَلِكَ أَيْ أَغْوَاهُمْ، فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الْحِجْرِ: 42] وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: صَدَّقَ عَلَيْهِمْ ظَنَّهُ فِي أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف: 12] وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فَاتَّبَعُوهُ لِأَنَّ الْمَتْبُوعَ خَيْرٌ مِنَ التَّابِعِ وَإِلَّا لَا يَتْبَعُهُ الْعَاقِلُ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ خَيْرٌ مِنَ الْكَافِرِ، هُوَ أَنَّ إِبْلِيسَ امْتَنَعَ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِي امْتِنَاعِهِ ترك عبادة الله عنادا كفر، والمشكر يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ فَهُوَ كَفَرَ بِأَمْرٍ أَقْرَبَ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَهُمْ كَفَرُوا بِأَمْرٍ هُوَ الْإِشْرَاكُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الَّذِي اخْتَرْنَاهُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَظُنَّ أَنَّهُ يُغْوِي الْكُلَّ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ عَنْهُ: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 76] فَمَا ظَنَّ أَنَّهُ يُغْوِي الْمُؤْمِنِينَ فَمَا ظَنَّهُ صَدَّقَهُ وَلَا حَاجَةَ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ اعْتَقَدَ الْخَيْرِيَّةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ بِدَلِيلِ تَعْلِيلِهِ بِقَوْلِهِ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الْأَعْرَافِ: 12] وَقَدْ كَذَبَ فِي ظَنِّهِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَظُنَّ إِغْوَاءَ الْكُلِّ وَعَلِمَ أَنَّ الْبَعْضَ نَاجٍ، لَكِنْ ظَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ النَّاجِيَ، إِلَى أَنْ تَبَيَّنَ لَهُ فَظَنَّ أَنَّهُ يُغْوِيهِ فَكَذَبَ فِي ظَنِّهِ فِي حَقِّ الْبَعْضِ وَصَدَقَ في البعض. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 21] وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: 3] أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ مُحِيطٌ بِكُلِّ مَعْلُومٍ وَعِلْمُهُ لَا يَتَغَيَّرُ وَهُوَ فِي كَوْنِهِ عَالِمًا لَا يَتَغَيَّرُ وَلَكِنْ يَتَغَيَّرُ تَعَلُّقُ علمه،

[سورة سبإ (34) : الآيات 22 إلى 23]

فَإِنَّ الْعِلْمَ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ يَظْهَرُ بِهَا كُلُّ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَعَلِمَ اللَّهُ فِي الْأَزَلِ أَنَّ الْعَالَمَ سَيُوجَدُ، فَإِذَا وُجِدَ عَلِمَهُ مَوْجُودًا بِذَلِكَ الْعِلْمِ، وَإِذَا عُدِمَ يَعْلَمُهُ مَعْدُومًا بِذَلِكَ، مِثَالُهُ: أَنَّ الْمِرْآةَ الْمَصْقُولَةَ فِيهَا الصَّفَاءُ/ فَيَظْهَرُ فِيهَا صُورَةُ زَيْدٍ إِنْ قَابَلَهَا، ثُمَّ إِذَا قَابَلَهَا عَمْرٌو يَظْهَرُ فِيهَا صُورَتُهُ، وَالْمِرْآةُ لَمْ تَتَغَيَّرْ فِي ذَاتِهَا وَلَا تَبَدَّلَتْ فِي صفاتها، إنما التغير في الخارجات فكذلك هاهنا قَوْلُهُ: إِلَّا لِنَعْلَمَ أَيْ لِيَقَعَ فِي الْعِلْمِ صُدُورُ الْكُفْرِ مِنَ الْكَافِرِ وَالْإِيمَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَكَانَ قَبْلَهُ فِيهِ أَنَّهُ سَيَكْفُرُ زَيْدٌ وَيُؤْمِنُ عَمْرٌو. وَقَوْلُهُ: وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُلْجِئٍ وَإِنَّمَا هُوَ آيَةٌ، وَعَلَامَةٌ خَلَقَهَا اللَّهُ لِتَبْيِينِ مَا هُوَ فِي عِلْمِهِ السَّابِقِ، وَقَوْلُهُ: وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَيِ اللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى مَنْعِ إِبْلِيسَ عَنْهُمْ عَالِمٌ بِمَا سَيَقَعُ، فَالْحِفْظُ يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ، إِذِ الْجَاهِلُ بِالشَّيْءِ لَا يُمْكِنُهُ حِفْظُهُ ولا العاجز. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 23] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَ الشَّاكِرِينَ وَحَالَ الْكَافِرِينَ وَذَكَّرَهُمْ بِمَنْ مَضَى عَادَ إِلَى خِطَابِهِمْ وَقَالَ لرسوله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ قُلْ لِلْمُشْرِكِينَ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لِيَكْشِفُوا عَنْكُمُ الضُّرَّ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا بِقَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذَاهِبَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الشِّرْكِ أَرْبَعَةٌ أَحَدُهَا: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَاءَ وَالسَّمَاوِيَّاتِ وَجَعَلَ الْأَرْضَ وَالْأَرْضِيَّاتِ فِي حُكْمِهِمْ، وَنَحْنُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْضِيَّاتِ فَنَعْبُدُ الْكَوَاكِبَ وَالْمَلَائِكَةَ الَّتِي فِي السَّمَاءِ فَهُمْ آلِهَتُنَا وَاللَّهُ إِلَهُهُمْ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي إبطال قولهم: إنهم لا يملكون في السموات شَيْئًا كَمَا اعْتَرَفْتُمْ، قَالَ وَلَا فِي الْأَرْضِ عَلَى خِلَافِ مَا زَعَمْتُمْ وَثَانِيهَا: قَوْلُ مَنْ يقول السموات مِنَ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْدَادِ وَالْأَرْضِيَّاتُ مِنْهُ وَلَكِنْ بِوَاسِطَةِ الْكَوَاكِبِ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَنَاصِرَ وَالتَّرْكِيبَاتِ الَّتِي فِيهَا بِالِاتِّصَالَاتِ وَالْحَرَكَاتِ وَالطَّوَالِعِ فَجَعَلُوا لِغَيْرِ اللَّهِ مَعَهُ شِرْكًا فِي الْأَرْضِ وَالْأَوَّلُونَ جَعَلُوا الْأَرْضَ لِغَيْرِهِ وَالسَّمَاءَ لَهُ، فَقَالَ فِي إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ: وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ أَيِ الْأَرْضُ كَالسَّمَاءِ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَلَا لِغَيْرِهِ فِيهَا نَصِيبٌ وَثَالِثُهَا: قَوْلُ مَنْ قَالَ: التَّرْكِيبَاتُ وَالْحَوَادِثُ كُلُّهَا مِنَ/ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ فَوَّضَ ذَلِكَ إِلَى الْكَوَاكِبِ، وَفِعْلُ الْمَأْذُونِ يُنْسَبُ إِلَى الْآذِنِ وَيُسْلَبُ عَنِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، مِثَالُهُ إِذَا قَالَ مَلِكٌ لِمَمْلُوكِهِ اضْرِبْ فُلَانًا فَضَرَبَهُ يُقَالُ فِي الْعُرْفِ الْمَلِكُ ضَرَبَهُ وَيَصِحُّ عُرْفًا قَوْلُ الْقَائِلِ مَا ضَرَبَ فُلَانٌ فُلَانًا، وَإِنَّمَا الْمَلِكُ أَمَرَ بِضَرْبِهِ فَضُرِبَ، فَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا السَّمَاوِيَّاتِ مُعَيَّنَاتٍ لِلَّهِ فَقَالَ تَعَالَى فِي إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ: وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ مَا فَوَّضَ إِلَى شَيْءٍ شَيْئًا، بَلْ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ وَرَقِيبٌ وَرَابِعُهَا: قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّا نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ الَّتِي هِيَ صُوَرُ الْمَلَائِكَةِ لِيَشْفَعُوا لَنَا فَقَالَ تَعَالَى فِي إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ فَلَا فَائِدَةَ لِعِبَادَتِكُمْ غَيْرَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَأْذَنُ فِي الشَّفَاعَةِ لِمَنْ يَعْبُدُ غَيْرَهُ فَبِطَلَبِكُمُ الشَّفَاعَةَ تُفَوِّتُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمُ الشَّفَاعَةَ وَقَوْلُهُ: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أَيْ أُزِيلَ الْفَزَعُ عَنْهُمْ، يُقَالُ قُرِّدَ الْبَعِيرُ إِذَا أُخِذَ مِنْهُ الْقُرَادُ

وَيُقَالُ لِهَذَا تَشْدِيدُ السَّلْبِ، وَفِي قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْفَزَعُ الذي عند الوحي فإن الله عند ما يوحي يفزع من في السموات، ثُمَّ يُزِيلُ اللَّهُ عَنْهُمُ الْفَزَعَ فَيَقُولُونَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَاذَا قَالَ اللَّهُ؟ فَيَقُولُ قَالَ الْحَقَّ أَيِ الْوَحْيَ وَثَانِيهَا: الْفَزَعُ الَّذِي مِنَ السَّاعَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَوْحَى إلى محمد عليه السلام فزع من في السموات مِنَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ إِرْسَالَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، فَلَمَّا زَالَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْفَزَعُ قَالُوا مَاذَا قَالَ اللَّهُ قَالَ جِبْرِيلُ الْحَقَّ أَيِ الْوَحْيَ وَثَالِثُهَا: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُزِيلُ الْفَزَعَ وَقْتَ الْمَوْتِ عَنِ الْقُلُوبِ فَيَعْتَرِفُ كُلُّ أَحَدٍ بِأَنَّ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْحَقُّ فَيَنْفَعُ ذَلِكَ الْقَوْلُ مَنْ سَبَقَ ذَلِكَ مِنْهُ، ثُمَّ يَقْبِضُ رُوحَهُ عَلَى الْإِيمَانِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَضُرُّ ذَلِكَ الْقَوْلُ مَنْ سَبَقَ مِنْهُ خِلَافُهُ فَيَقْبِضُ رُوحَهُ عَلَى الْكُفْرِ الْمُتَّفَقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى: إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَنَقُولُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى غَايَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِأَنَّهُ بَيَّنَهُ بِالْوَحْيِ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ قُلْ لِفُلَانٍ لِلْإِنْذَارِ حَتَّى يَسْمَعَ الْمُخَاطَبُ مَا يَقُولُهُ، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ هَذَا الْكَلَامِ مَا يَجِبُ قَوْلُهُ فَلَمَّا قَالَ: قُلْ فزع من في السموات، ثُمَّ أُزِيلُ عَنْهُ الْفَزَعُ، وَعَلَى الثَّالِثِ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: زَعَمْتُمْ أَيْ زَعَمْتُمُ الْكُفْرَ إِلَى غَايَةِ التَّفْزِيعِ، ثُمَّ تَرَكْتُمْ مَا زَعَمْتُمْ وَقُلْتُمْ قَالَ الْحَقَّ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَاعِلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا مَاذَا هُوَ الْمَلَائِكَةُ السَّائِلُونَ مِنْ جِبْرِيلَ، وَعَلَى الثَّالِثِ الْكُفَّارُ السَّائِلُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْفَاعِلُ فِي قَوْلِهِ: الْحَقَّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَعَلَى الثَّالِثِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمَوْجُودُ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا كَانَ وُجُودُهُ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ عَدَمٌ كَانَ حَقًّا مُطْلَقًا لَا يَرْتَفِعُ بِالْبَاطِلِ الَّذِي هُوَ الْعَدَمُ وَالْكَلَامُ الَّذِي يَكُونُ صِدْقًا يُسَمَّى حَقًّا، لِأَنَّ الْكَلَامَ لَهُ مُتَعَلِّقٌ فِي الْخَارِجِ بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا فِي الذِّهْنِ، وَالَّذِي فِي الذِّهْنِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا فِي الْخَارِجِ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ جَاءَ زَيْدٌ يَكُونُ هَذَا اللَّفْظُ تَعَلُّقُهُ بِمَا فِي ذِهْنِ الْقَائِلِ وَذِهْنُ الْقَائِلِ تَعَلُّقُهُ بِمَا فِي الْخَارِجِ لَكِنْ لِلصِّدْقِ مُتَعَلِّقٌ يَكُونُ فِي الْخَارِجِ فَيَصِيرُ لَهُ وُجُودٌ مُسْتَمِرٌّ وَلِلْكَذِبِ مُتَعَلِّقٌ لَا يَكُونُ فِي الْخَارِجِ، وَحِينَئِذٍ إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مُتَعَلِّقٌ فِي الذِّهْنِ فَيَكُونُ كَالْمَعْدُومِ مِنَ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْأَلْفَاظُ الَّتِي تَكُونُ صَادِرَةً/ عَنْ مُعَانِدٍ كَاذِبٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مُتَعَلِّقٌ فِي الذِّهْنِ عَلَى خِلَافِ مَا فِي الْخَارِجِ فَيَكُونُ اعْتِقَادًا بَاطِلًا جَهْلًا أَوْ ظَنًّا لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِمُتَعَلِّقِهِ مُتَعَلِّقٌ يَزُولُ ذَلِكَ الْكَلَامُ وَيَبْطُلُ، وَكَلَامُ اللَّهِ لَا بُطْلَانَ لَهُ فِي أَوَّلِ الأمر كما يكون كلام الكاذب المعاند ولا يأتيه الباطل كَمَا يَكُونُ كَلَامُ الظَّانِّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ قَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [لقمان: 30] أَنَّ الْحَقَّ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَامِلٌ لَا نَقْصَ فِيهِ فَيَقْبَلُ نِسْبَةَ الْعَدَمِ، وَفَوْقَ الْكَامِلِينَ لِأَنَّ كُلَّ كَامِلٍ فَوْقَهُ كَامِلٌ فَقَوْلُهُ: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ فَوْقَ الْكَامِلِينَ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَهَذَا يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِكَوْنِهِ جِسْمًا وَفِي حَيِّزٍ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ فِي حَيِّزٍ فَإِنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ بِأَنَّهُ مُشَارٌ إِلَيْهِ وَهُوَ مَقْطَعُ الْإِشَارَةِ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ لَوْ لَمْ تَقَعْ إِلَيْهِ لَمَا كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هو، وإذا وقعت الإشارة إليه فقد تناهب الْإِشَارَةُ عِنْدَهُ، وَفِي كُلِّ مَوْقِعٍ تَقِفُ الْإِشَارَةُ بِقَدْرِ الْعَقْلِ عَلَى أَنْ يَفْرِضَ الْبُعْدَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ لَوْ كَانَ بَيْنَ مَأْخَذِ الْإِشَارَةِ وَالْمُشَارِ إِلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا الْبُعْدِ لَكَانَ هَذَا الْمُشَارُ إِلَيْهِ أَعْلَى فَيَصِيرُ عَلِيًّا بِالْإِضَافَةِ لَا مُطْلَقًا وَهُوَ عَلِيٌّ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ جِسْمًا لَكَانَ لَهُ مِقْدَارٌ، وَكُلُّ مِقْدَارٍ يُمْكِنُ أَنْ يُفْرَضَ أَكْبَرُ مِنْهُ فَيَكُونَ كَبِيرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ لَا مُطْلَقًا وَهُوَ كَبِيرٌ مطلقا.

[سورة سبإ (34) : آية 24]

[سورة سبإ (34) : آية 24] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ الْعَامَّةَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ لَا لِكَوْنِهِ إِلَهًا، وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَ بِهِ شَيْئًا، وَذَلِكَ إِمَّا دَفْعُ ضَرَرٍ أَوْ جَرُّ نَفْعٍ فَنَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَامَّةَ بِقَوْلِهِ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ [سبأ: 22] عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ الضُّرَّ أَحَدٌ إِلَّا هُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَقَالَ بَعْدَ إِتْمَامِ بَيَانِ ذَلِكَ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ جَرَّ النَّفْعِ لَيْسَ إِلَّا بِهِ وَمِنْهُ، فَإِذًا إِنْ كُنْتُمْ مِنَ الْخَوَاصِّ فَاعْبُدُوهُ لِعُلُوِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ سَوَاءٌ دَفَعَ عَنْكُمْ ضُرًّا أَوْ لَمْ يَدْفَعْ وَسَوَاءٌ نَفَعَكُمْ بِخَيْرٍ أَوْ لَمْ يَنْفَعْ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا كَذَلِكَ فَاعْبُدُوهُ لِدَفْعِ الضُّرِّ وَجَرِّ النَّفْعِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُ يَعْنِي إِنْ لَمْ يَقُولُوا هُمْ فَقُلْ أَنْتَ اللَّهُ يرزق وهاهنا لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ الضُّرِّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ اللَّهُ وَيَعْتَرِفُونَ بِالْحَقِّ حَيْثُ قَالَ: قالُوا الْحَقَّ وَعِنْدَ النَّفْعِ لَمْ يَقُلْ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّ لَهُمْ حَالَةً يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ كَاشِفَ الضُّرِّ هُوَ اللَّهُ حَيْثُ يَقَعُونَ فِي الضُّرِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ [الرُّومِ: 33] وَأَمَّا عِنْدَ الرَّاحَةِ فَلَا تَنَبُّهَ لَهُمْ لِذَلِكَ فَلِذَلِكَ قَالَ: قُلِ اللَّهُ أَيْ هُمْ فِي حَالَةِ الرَّاحَةِ غَافِلُونَ عَنِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا إِرْشَادٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ إِلَى الْمُنَاظَرَاتِ الْجَارِيَةِ فِي الْعُلُومِ وَغَيْرِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَنَاظِرَيْنِ إِذَا قَالَ لِلْآخَرِ هَذَا الَّذِي تَقُولُهُ خَطَأٌ وَأَنْتَ فِيهِ مُخْطِئٌ يُغْضِبُهُ وَعِنْدَ الْغَضَبِ لَا يَبْقَى سَدَادُ الْفِكْرِ وَعِنْدَ اخْتِلَالِهِ لَا مَطْمَعَ فِي الْفَهْمِ فَيَفُوتُ الْغَرَضُ، وَأَمَّا إِذَا قَالَ لَهُ بِأَنَّ أَحَدَنَا لَا يَشُكُّ فِي أَنَّهُ مُخْطِئٌ وَالتَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ قَبِيحٌ وَالرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ أَحْسَنُ الْأَخْلَاقِ فَنَجْتَهِدُ وَنُبْصِرُ أَيُّنَا عَلَى الْخَطَأِ لِيَحْتَرِزَ فَإِنَّهُ يَجْتَهِدُ ذَلِكَ الْخَصْمُ فِي النَّظَرِ وَيَتْرُكُ التَّعَصُّبَ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ نَقْصًا فِي الْمَنْزِلَةِ لِأَنَّهُ أَوْهَمَ بِأَنَّهُ فِي قَوْلِهِ شَاكٌّ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ مَعَ أَنَّهُ لَا يَشُكُّ فِي أَنَّهُ هُوَ الْهَادِي وَهُوَ الْمُهْتَدِي وَهُمُ الضَّالُّونَ وَالْمُضِلُّونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ذَكَرَ فِي الْهُدَى كَلِمَةَ عَلَى وَفِي الضَّلَالِ كَلِمَةَ فِي لِأَنَّ الْمُهْتَدِيَ كَأَنَّهُ مُرْتَفِعٌ مُتَطَلِّعٌ فَذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ التَّعَلِّي، وَالضَّالُّ مُنْغَمِسٌ فِي الظُّلْمَةِ غَرِيقٌ فِيهَا فَذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ فِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَصَفَ الضَّلَالَ بِالْمُبِينِ وَلَمْ يَصِفِ الْهُدَى لِأَنَّ الْهُدَى هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الْمُوصِلُ إِلَى الْحَقِّ وَالضَّلَالُ خِلَافُهُ لَكِنَّ الْمُسْتَقِيمَ وَاحِدٌ وَمَا هُوَ غَيْرُهُ كُلُّهُ ضَلَالٌ وَبَعْضُهُ بَيِّنٌ مِنْ بَعْضٍ، فَمَيَّزَ الْبَعْضَ عَنِ الْبَعْضِ بِالْوَصْفِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَدَّمَ الْهُدَى عَلَى الضَّلَالِ لِأَنَّهُ كَانَ وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورِينَ بِقَوْلِهِ: إِنَّا وَهُوَ مُقَدَّمٌ فِي الذكر. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 25] قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)

[سورة سبإ (34) : آية 26]

أَضَافَ الْإِجْرَامَ إِلَى النَّفْسِ وَقَالَ فِي حَقِّهِمْ: وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ذَكَرَ بِلَفْظِ الْعَمَلِ لِئَلَّا يَحْصُلَ الإغضاب المانع من الفهم وقوله: لا تُسْئَلُونَ ولا نُسْئَلُ زِيَادَةُ حَثٍّ عَلَى النَّظَرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ إِذَا كَانَ مُؤَاخَذًا بِجُرْمِهِ فَإِذَا احْتَرَزَ نَجَا، وَلَوْ كَانَ الْبَرِيءُ يُؤَاخَذُ بِالْجُرْمِ لَمَا كفى النظر. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 26] قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) أَكَّدَ مَا يُوجِبُ النَّظَرَ وَالتَّفَكُّرَ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْخَطَأِ وَالضَّلَالِ وَاجِبُ الِاجْتِنَابِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ يَوْمَ عَرْضٍ وَحِسَابٍ وَثَوَابٍ وَعَذَابٍ وَقَوْلُهُ: يَفْتَحُ قِيلَ مَعْنَاهُ يَحْكُمُ، ويمكن أن يقال بأن الفتح هاهنا مَجَازٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَابَ الْمُغْلَقَ وَالْمَنْفَذَ الْمَسْدُودَ يُقَالُ فِيهِ فَتَحَهُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ. ثُمَّ إِنَّ الْأَمْرَ إِذَا كَانَ فِيهِ انْغِلَاقٌ وَعَدَمُ وُصُولٍ إِلَيْهِ فَإِذَا بَيَّنَهُ أَحَدٌ يَكُونُ قَدْ فَتَحَهُ وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حُكْمَهُ يَكُونُ مَعَ الْعِلْمِ لَا مِثْلَ حُكْمِ مَنْ يَحْكُمُ بِمَا يَتَّفِقُ لَهُ بِمُجَرَّدِ هواه. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 27] قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَعْبُودَ قَدْ يَعْبُدُهُ قَوْمٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَجَمْعٌ لِتَوَقُّعِ الْمَنْفَعَةِ وَقَلِيلٌ مِنَ الْأَشْرَافِ الْأَعِزَّةِ يَعْبُدُونَهُ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ لِذَاتِهِ فَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُعْبَدُ غَيْرُ اللَّهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ إِذْ لَا دَافِعَ لِلضَّرَرِ غَيْرُهُ بِقَوْلِهِ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُعْبَدُ غَيْرُ اللَّهِ لِتَوَقُّعِ الْمَنْفَعَةِ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بين هاهنا أَنَّهُ لَا يُعْبَدُ أَحَدٌ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْعِبَادَةَ غَيْرَ اللَّهِ فَقَالَ: قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيْ هُوَ الْمَعْبُودُ لِذَاتِهِ وَاتِّصَافُهُ بِالْعِزَّةِ وَهِيَ الْقُدْرَةُ الْكَامِلَةُ وَالْحِكْمَةُ وَهِيَ الْعِلْمُ التَّامُّ الَّذِي عمله موافق له. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 28] وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) لَمَّا بَيَّنَ مَسْأَلَةَ التَّوْحِيدِ شَرَعَ فِي الرِّسَالَةِ فَقَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهَا: كَافَّةً أَيْ إِرْسَالُهُ كَافَّةً أَيْ عَامَّةً لِجَمِيعِ النَّاسِ تَمْنَعُهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ عَنِ الِانْقِيَادِ لَهَا وَالثَّانِي: كَافَّةً أَيْ أَرْسَلْنَاكَ كَافَّةً تَكُفُّ النَّاسَ أَنْتَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَشِيراً أَيْ تَحُثُّهُمْ بِالْوَعْدِ وَنَذِيراً تَزْجُرُهُمْ بِالْوَعِيدِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لا لخفائه ولكن لغفلتهم. [سورة سبإ (34) : الآيات 29 الى 30] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ لَمَّا ذَكَرَ الرِّسَالَةَ بَيَّنَ الْحَشْرَ. وَقَالَ: قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ قَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَسْتَأْخِرُونَ يُوجِبُ الْإِنْذَارَ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ عَدَمُ الْمُهْلَةِ عَنِ الْأَجَلِ وَلَكِنَّ الِاسْتِقْدَامَ مَا وَجْهُهُ؟ وَذَكَرْنَا هُنَاكَ

[سورة سبإ (34) : آية 31]

وجهه ونذكر هاهنا أَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا الِاسْتِعْجَالَ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا اسْتِعْجَالَ فِيهِ كَمَا لَا إِمْهَالَ، وَهَذَا يُفِيدُ عِظَمَ الْأَمْرِ وَخَطَرَ الْخَطْبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْحَقِيرَ إِذَا طَالَبَهُ طَالِبٌ مِنْ غَيْرِهِ لَا يُؤَخِّرُهُ وَلَا يُوقِفُهُ عَلَى وَقْتٍ بِخِلَافِ الْأَمْرِ الْخَطِيرِ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ قِرَاءَاتٌ أَحَدُهَا: رَفْعُهُمَا مَعَ التَّنْوِينِ وَعَلَى هَذَا يَوْمٌ بَدَلٌ وَثَانِيهَا: نَصْبُ يَوْمٍ مَعَ رَفْعِ مِيعَادٍ وَالتَّنْوِينُ فِيهِمَا مِيعَادٌ يَوْمًا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قَالَ مِيعَادٌ أَعْنِي يَوْمًا وَذَلِكَ يُفِيدُ التَّعْظِيمَ وَالتَّهْوِيلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ تَقْدِيرُهُ لَكُمْ مِيعَادٌ يَوْمًا/ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: أَنَا جَائِيكَ يَوْمًا وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ الْعِلْمَ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَكُمْ مِيعَادٌ تَعْلَمُونَهُ يَوْمًا وَقَوْلُهُ مَعْلُومٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ إِنَّهُ مَقْتُولٌ يَوْمًا الثَّالِثَةُ: الْإِضَافَةُ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ سَحْقُ ثَوْبٍ لِلتَّبْيِينِ وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ بَدَلًا عَنْ قَوْلِهِ: لَا يُؤَخَّرُ عَنْكُمْ زِيَادَةُ تأكيد لوقوع اليوم. [سورة سبإ (34) : آية 31] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ لَمَّا بَيَّنَ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْحَشْرِ وَكَانُوا بِالْكُلِّ كَافِرِينَ بَيَّنَ كُفْرَهُمُ الْعَامَّ بِقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْكُلِّ وَقَوْلُهُ: وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَعَلَى هَذَا فَالَّذِينَ كَفَرُوا الْمُرَادُ مِنْهُمُ الْمُشْرِكُونَ الْمُنْكِرُونَ لِلنُّبُوَّاتِ وَالْحَشْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْمَعْنَى هُوَ أَنَّا لَا نُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ وَلَا بِمَا فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارَاتِ وَالْمَسَائِلِ وَالْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ، وَعَلَى هَذَا فَالَّذِينَ كَفَرُوا الْمُرَادُ مِنْهُمُ الْعُمُومُ، لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ وَلَا بِالَّذِي فِيهِ مِنَ الرِّسَالَةِ وتفاصيل الحشر، فإن قيل: أليس هم مؤمنون بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْحَشْرِ، فَنَقُولُ إِذَا لَمْ يُصَدِّقْ وَاحِدٌ مَا فِي الْكِتَابِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَإِنْ آمَنَ بِبَعْضِ مَا فِيهِ لِكَوْنِهِ فِي غَيْرِهِ فَيَكُونُ إِيمَانُهُ لَا بِمَا فِيهِ. مِثَالُهُ: أَنَّ مَنْ يُكَذِّبُ رَجُلًا فِيمَا يَقُولُهُ فَإِذَا أَخْبَرَهُ بِأَنَّ النَّارَ حَارَّةٌ لَا يُكَذِّبُهُ فِيهِ وَلَكِنْ لَا يُقَالُ إِنَّهُ صَدَّقَهُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا صَدَّقَ نَفْسَهُ، فَإِنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَيِ الَّذِي هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ وَارِدٌ فِيهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ. لَمَّا وَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ إِيمَانِهِمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ بِقَوْلِهِمْ لَنْ نُؤْمِنَ فَإِنَّهُ لِتَأْيِيدِ النَّفْيِ وَعَدَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّهُ يَرَاهُمْ عَلَى أَذَلِّ حَالٍ مَوْقُوفِينَ لِلسُّؤَالِ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ كَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ حَالُ جَمَاعَةٍ أَخْطَئُوا فِي أَمْرٍ يَقُولُ بَعْضُهُمْ كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِكَ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ الْآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ لَرَأَيْتَ عَجَبًا، ثُمَّ بَدَأَ بِالْأَتْبَاعِ لِأَنَّ الْمُضِلَّ أَوْلَى بِالتَّوْبِيخِ فَقَالَ: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ/ كُفْرَهُمْ كَانَ لِمَانِعٍ لَا لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي لِأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا

[سورة سبإ (34) : آية 32]

مَا جَاءَنَا رَسُولٌ، وَلَا أَنْ يَقُولُوا قَصَّرَ الرَّسُولُ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى إِتْيَانِ الرَّسُولِ بِمَا عَلَيْهِ لِأَنَّ الرَّسُولَ لَوْ أَهْمَلَ شَيْئًا لَمَا كانوا يؤمنون ولولا المستكبرون لآمنوا. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 32] قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) رَدًّا لِمَا قَالُوا إِنَّ كُفْرَنَا كَانَ لِمَانِعٍ أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ يَعْنِي الْمَانِعُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رَاجِحًا عَلَى الْمُقْتَضِي حَتَّى يَعْمَلَ عَمَلَهُ، وَالَّذِي جَاءَ بِهِ هُوَ الْهُدَى، وَالَّذِي صَدَرَ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ مِنْ قَبُولِ مَا جَاءَ بِهِ فَلَمْ يَصِحَّ تَعْلِيلُكُمْ بِالْمَانِعِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ كُفْرَهُمْ كَانَ إِجْرَامًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَعْذُورَ لَا يَكُونُ مَعْذُورًا إِلَّا لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي أَوْ لِقِيَامِ المانع ولم يوجد شيء منهما. [سورة سبإ (34) : آية 33] وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً. لَمَّا ذَكَرَ الْمُسْتَكْبِرُونَ أَنَّا مَا صَدَدْنَاكُمْ وَمَا صَدَرَ مِنَّا مَا يَصْلُحُ مَانِعًا وَصَارِفًا اعْتَرَفَ الْمُسْتَضْعَفُونَ بِهِ وَقَالُوا: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ مَنَعَنَا ثُمَّ قَالُوا لَهُمْ إِنَّكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَا أَتَيْتُمْ بِالصَّارِفِ الْقَطْعِيِّ وَالْمَانِعِ الْقَوِيِّ وَلَكِنِ انْضَمَّ أَمْرُكُمْ إِيَّانَا بِالْكُفْرِ إِلَى طُولِ الْأَمَدِ وَالِامْتِدَادِ فِي الْمَدَدِ فَكَفَرْنَا فَكَانَ قَوْلُكُمْ جُزْءَ السَّبَبِ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَلْ مَكْرُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَحُذِفَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ أَيْ نُنْكِرَهُ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُشْرِكَ بِاللَّهِ مَعَ أَنَّهُ فِي الصُّورَةِ مُثْبِتٌ لَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْكِرٌ لِوُجُودِ اللَّهِ لِأَنَّ مَنْ يُسَاوِيهِ الْمَخْلُوقُ الْمَنْحُوتُ لَا يَكُونُ إِلَهًا، وَقَوْلُهُ فِي الْأَوَّلِ: يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَوْلُهُ فِي الْآيَتَيْنِ الْمُتَأَخِّرَتَيْنِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا، وقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا بِصِيغَةِ الْمَاضِي مَعَ أَنَّ السُّؤَالَ وَالتَّرَاجُعَ فِي الْقَوْلِ لَمْ يَقَعْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقَعَ، فَإِنَّ الْأَمْرَ الْوَاجِبَ الْوُقُوعِ يُوجَدُ كَأَنَّهُ وَقَعَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ. مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَتَرَاجَعُونَ الْقَوْلَ فِي الْأَوَّلِ، ثُمَّ إِذَا جَاءَهُمُ الْعَذَابُ الشَّاغِلُ يُسِرُّونَ ذَلِكَ التَّرَاجُعَ الدَّالَّ عَلَى النَّدَامَةِ، وَقِيلَ مَعْنَى الْإِسْرَارِ الْإِظْهَارُ أَيْ أَظْهَرُوا النَّدَامَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّهُمْ لَمَّا تَرَاجَعُوا فِي الْقَوْلِ رَجَعُوا إِلَى اللَّهِ بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً [السَّجْدَةِ: 12] ثُمَّ أُجِيبُوا وَأُخْبِرُوا بِأَنْ لَا مَرَدَّ

[سورة سبإ (34) : الآيات 34 إلى 35]

لَكُمْ فَأَسَرُّوا ذَلِكَ الْقَوْلَ، وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِشَارَةٌ إِلَى كَيْفِيَّةِ الْعَذَابِ وَإِلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ لَيْسَ كَافِيًا بَلْ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ قَطَعُوا بِأَنَّهُمْ وَاقِعُونَ فِيهِ فَتَرَكُوا النَّدَمَ وَوَقَعُوا فِيهِ فَجَعَلَ الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَقَوْلُهُ: يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ حَقُّهُمْ عَدْلًا. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 35] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) تَسْلِيَةً لِقَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَبَيَانًا لِأَنَّ إِيذَاءَ الْكُفَّارِ الْأَنْبِيَاءَ الْأَخْيَارَ لَيْسَ بِدْعًا، بَلْ ذَلِكَ عَادَةٌ جَرَتْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّمَا نَسَبَ الْقَوْلَ إِلَى الْمُتْرَفِينَ مَعَ أَنَّ غَيْرَهُمْ أَيْضًا قَالُوا: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ لِأَنَّ الْأَغْنِيَاءَ الْمُتْرَفِينَ هُمُ الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ قَالَ عَنِ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا إِنَّهُمْ قَالُوا لِلْمُسْتَكْبِرِينَ لَوْلَا أَنْتُمْ لَكَانُوا مُؤْمِنِينَ، ثُمَّ اسْتَدَلُّوا عَلَى كَوْنِهِمْ مُصِيبِينَ فِي ذَلِكَ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ فَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً أَيْ بِسَبَبِ لَزُومِنَا لِدِينِنَا، وَقَوْلُهُ: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أَيْ فِي الْآخِرَةِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا حَالُنَا عَاجِلًا خَيْرٌ مِنْ حَالِكُمْ، وَأَمَّا آجِلًا فَلَا نُعَذَّبُ إِمَّا إِنْكَارًا مِنْهُمْ لِلْعَذَابِ رَأْسًا أَوِ اعْتِقَادًا لِحُسْنِ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا قِيَاسًا [عَلَى حُسْنِ حالهم في الدنيا] . ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ خَطَأَهُمْ بِقَوْلِهِ: [سورة سبإ (34) : آية 36] قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) يَعْنِي أَنَّ الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا لَا تَدُلُّ سِعَتُهُ وَضِيقُهُ عَلَى حَالِ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ فَكَمْ مِنْ مُوسِرٍ شَقِيٍّ وَمُعْسِرٍ تَقِيٍّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ أَنَّ قِلَّةَ الرِّزْقِ وَضَنْكَ الْعَيْشِ وَكَثْرَةَ الْمَالِ وَخِصْبَ الْعَيْشِ بِالْمَشِيئَةِ مِنْ غير اختصاص بالفاسق والصالح. ثم بين فساد استدلالهم بقولهم: [سورة سبإ (34) : آية 37] وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) يَعْنِي قَوْلَكُمْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا فَنَحْنُ أَحْسَنُ عِنْدَ اللَّهِ حَالًا لَيْسَ اسْتِدْلَالًا صَحِيحًا، فَإِنَّ الْمَالَ لَا يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِالتَّعَزُّزِ بِهِ، وَإِنَّمَا الْمُفِيدُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْمَالَ وَالْوَلَدَ يَشْغَلُ عَنِ اللَّهِ فَيُبْعِدُ عَنْهُ فَكَيْفَ يُقَرِّبُ مِنْهُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ إِقْبَالٌ عَلَى اللَّهِ وَاشْتِغَالٌ بِاللَّهِ وَمَنْ تَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ وَصَلَ وَمَنْ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا حَصَلَ، وَقَوْلُهُ: فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ أَيِ الْحَسَنَةُ فَإِنَّ الضَّعْفَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْحَسَنَةِ وَفِي السَّيِّئَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا الْمِثْلُ. ثُمَّ زَادَ وَقَالَ: وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ إِشَارَةً إِلَى دَوَامِ النَّعِيمِ وَتَأْبِيدِهِ، فَإِنَّ مَنْ تنقطع عنه النعمة لا يكون آمنا.

[سورة سبإ (34) : آية 38]

ثم بين حال المسيء بقوله: [سورة سبإ (34) : آية 38] وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَهُ، وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ إِشَارَةٌ إِلَى الدَّوَامِ أَيْضًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [السَّجْدَةِ: 20] وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ [الِانْفِطَارِ: 16] . ثُمَّ قَالَ تعالى مرة أخرى: [سورة سبإ (34) : آية 39] قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) إِشَارَةً إِلَى أَنَّ نَعِيمَ الْآخِرَةِ لَا يُنَافِي نِعْمَةَ الدُّنْيَا، بَلِ الصَّالِحُونَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا النِّعَمُ مَعَ الْقَطْعِ بِحُصُولِ النَّعِيمِ لَهُمْ فِي الْعُقْبَى بِنَاءً عَلَى الْوَعْدِ، قَطْعًا لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِذَا كَانَتِ الْعَاجِلَةُ لَنَا وَالْآجِلَةُ لَهُمْ فَالنَّقْدُ أَوْلَى، فَقَالَ هَذَا النَّقْدُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِكُمْ/ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَشْقِيَاءِ مُدْقَعُونَ، وكثير من الأتقياء ممتعون وفيه مسائل: الْأُولَى: ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً لِبَيَانِ أَنَّ كَثْرَةَ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ غَيْرُ دَالَّةٍ عَلَى حُسْنِ أَحْوَالِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ، وَمَرَّةً لِبَيَانِ أَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِمْ كَأَنَّهُ قَالَ وُجُودُ التَّرَفِ لَا يَدُلُّ عَلَى الشَّرَفِ، ثُمَّ إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ كَذَلِكَ لَكِنَّ الْمُؤْمِنِينَ سَيَحْصُلُ لَهُمْ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُمَلِّكُهُمْ دِيَارَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ أَوَّلًا لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، بَلْ قَالَ لِمَنْ يَشَاءُ، وَثَانِيًا قَالَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعِبَادُ الْمُضَافَةُ يُرَادُ بِهَا الْمُؤْمِنُ، ثُمَّ وَعَدَ الْمُؤْمِنَ بِخِلَافِ مَا لِلْكَافِرِ، فَإِنَّ الْكَافِرَ دَابِرُهُ مَقْطُوعٌ، وَمَالُهُ إِلَى الزَّوَالِ، وَمَآلُهُ إِلَى الْوَبَالِ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَمَا يُنْفِقُهُ يُخْلِفُهُ اللَّهُ، وَمُخْلَفُ اللَّهِ خَيْرٌ، فَإِنَّ مَا فِي يَدِ الْإِنْسَانِ فِي مَعْرِضِ الْبَوَارِ وَالتَّلَفِ وَهُمَا لَا يَتَطَرَّقَانِ إِلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْخَلَفِ، ثُمَّ أكد ذلك بقوله: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة: 11] وَخَيْرِيَّةُ الرَّازِقِ فِي أُمُورٍ أَحَدُهَا: أَنْ لَا يُؤَخِّرَ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَنْقُصَ عَنْ قَدَرِ الْحَاجَةِ وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يُنَكِّدَهُ بِالْحِسَابِ وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يُكَدِّرَهُ بِطَلَبِ الثَّوَابِ وَاللَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ عَالِمٌ وَقَادِرٌ وَالثَّانِي: فَلِأَنَّهُ غَنِيٌّ وَاسِعٌ وَالثَّالِثُ: فَلِأَنَّهُ كَرِيمٌ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [البقرة: 212] وَمَا ذَكَرْنَا هُوَ الْمُرَادُ، أَيْ يَرْزُقُهُ حَلَالًا لَا يُحَاسِبُهُ عَلَيْهِ وَالرَّابِعُ: فَلِأَنَّهُ عَلِيٌّ كَبِيرٌ وَالثَّوَابُ يَطْلُبُهُ الْأَدْنَى مِنَ الْأَعْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّ هِبَةَ الْأَعْلَى مِنَ الْأَدْنَى لَا تَقْتَضِي ثَوَابًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ يُحَقِّقُ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا وَمَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، يَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَلِكٌ عَلِيٌّ وَهُوَ غَنِيٌّ مَلِيٌّ، فَإِذَا قَالَ أَنْفِقْ وَعَلَيَّ بَدَلُهُ فَبِحُكْمِ الْوَعْدِ يَلْزَمُهُ، كَمَا إِذَا قَالَ قَائِلٌ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ، فَمَنْ أَنْفَقَ فَقَدْ أَتَى بِمَا هُوَ شَرْطُ حُصُولِ الْبَدَلِ فَيَحْصُلُ الْبَدَلُ، وَمَنْ لَمْ يُنْفِقْ فَالزَّوَالُ لَازِمٌ لِلْمَالِ وَلَمْ يَأْتِ بِمَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ مِنَ الْبَدَلِ فَيَفُوتُ مِنْ غَيْرِ خَلَفٍ وَهُوَ التَّلَفُ، ثُمَّ إِنَّ

[سورة سبإ (34) : الآيات 40 إلى 41]

مِنَ الْعَجَبِ أَنَّ التَّاجِرَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ مَالًا مِنْ أَمْوَالِهِ فِي مَعْرِضِ الْهَلَاكِ يَبِيعُهُ نَسِيئَةً، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَيَقُولُ بِأَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى مِنَ الْإِمْهَالِ «1» إِلَى الْهَلَاكِ، فَإِنْ لَمْ يَبِعْ حَتَّى يَهْلَكَ يُنْسَبْ إِلَى الْخَطَأِ، ثُمَّ إِنْ حَصَلَ بِهِ كَفِيلٌ مَلِيءٌ وَلَا يَبِيعُ يُنْسَبُ إِلَى قِلَّةِ الْعَقْلِ، فَإِنْ حَصَلَ بِهِ رَهْنٌ وَكَتَبَ بِهِ وَثِيقَةً وَلَا يَبِيعُهُ يُنْسَبْ إِلَى الْجُنُونِ، ثُمَّ إِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَفْعَلُ هَذَا وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ قَرِيبٌ مِنَ الْجُنُونِ، فَإِنَّ أَمْوَالَنَا كُلَّهَا فِي مَعْرِضِ الزَّوَالِ الْمُحَقَّقِ، وَالْإِنْفَاقُ عَلَى الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ إِقْرَاضٌ، وَقَدْ حَصَلَ الضَّامِنُ الْمَلِيءُ وَهُوَ اللَّهُ الْعَلِيُّ وَقَالَ تَعَالَى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ثُمَّ رَهَنَ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ إِمَّا أَرْضًا أَوْ بُسْتَانًا أَوْ طَاحُونَةً أَوْ حَمَّامًا أَوْ مَنْفَعَةً، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَنْعَةٌ أَوْ جِهَةٌ يَحْصُلُ لَهُ مِنْهَا مَالٌ وَكُلُّ ذَلِكَ مِلْكُ اللَّهِ وَفِي يَدِ الْإِنْسَانِ بِحُكْمِ الْعَارِيَّةِ فَكَأَنَّهُ مَرْهُونٌ بِمَا تَكَفَّلَ اللَّهُ مِنْ رِزْقِهِ لِيَحْصُلَ لَهُ الْوُثُوقُ التَّامُّ، وَمَعَ هَذَا لَا يُنْفِقُ وَيَتْرُكُ مَالَهُ لِيَتْلَفَ لَا مَأْجُورًا وَلَا مَشْكُورًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: خَيْرُ الرَّازِقِينَ يُنْبِئُ عَنْ كَثْرَةٍ فِي الرَّازِقِينَ وَلَا رَازِقَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَا الْجَوَابُ عَنْهُ؟ فَنَقُولُ عَنْهُ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ الَّذِينَ تَظُنُّونَهُمْ رَازِقِينَ وكذلك في قوله تعالى: أَحْسَنَ الْخالِقِينَ [الصافات: 125] وَثَانِيهِمَا: هُوَ أَنَّ الصِّفَاتِ مِنْهَا مَا حَصَلَ لِلَّهِ وَلِلْعَبْدِ حَقِيقَةً، وَمِنْهَا مَا يُقَالُ لِلَّهِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَلِلْعَبْدِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَمِنْهَا مَا يُقَالُ لِلَّهِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَلَا يُقَالُ لِلْعَبْدِ لَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَلَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لِعَدَمِ حُصُولِهِ لِلْعَبْدِ لَا حَقِيقَةً وَلَا صُورَةً، مِثَالُ الْأَوَّلِ الْعِلْمُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّهُ وَاحِدٌ وَالْعَبْدُ يَعْلَمُ أَنَّهُ وَاحِدٌ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِكَوْنِ النَّارِ حَارَّةً، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ عِلْمَهُ قَدِيمٌ وَعِلْمُنَا حَادِثٌ، مِثَالُ الثَّانِي الرَّازِقُ وَالْخَالِقُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَعْطَى غَيْرَهُ شَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُعْطِي، وَلَكِنْ لِأَجْلِ صُورَةِ الْعَطَاءِ مِنْهُ سُمِّيَ مُعْطِيًا، كَمَا يُقَالُ لِلصُّورَةِ الْمَنْقُوشَةِ عَلَى الْحَائِطِ فَرَسٌ وَإِنْسَانٌ، مِثَالُ الثَّالِثِ الْأَزَلِيُّ وَاللَّهُ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ يُقَالُ فِي أَشْيَاءَ فِي الْإِطْلَاقِ عَلَى الْعَبْدِ حَقِيقَةً وَعَلَى اللَّهِ مَجَازًا كَالِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَالْمَعِيَّةِ وَيَدِ الله وجنب الله. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 41] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ حَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ كَحَالِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَحَالَ قَوْمِهِ كَحَالِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْكُفَّارِ، وَبَيَّنَ بُطْلَانَ اسْتِدْلَالِهِمْ بِكَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، بَيَّنَ مَا يَكُونُ مِنْ عَاقِبَةِ حَالِهِمْ فَقَالَ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَعْنِي الْمُكَذِّبِينَ بِكَ وَبِمَنْ تَقَدَّمَكَ، ثُمَّ نَقُولُ لِمَنْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُمْ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، فَإِنَّ غَايَةَ مَا تَرْتَقِي إِلَيْهِ مَنْزِلَتُهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ نَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَالْكَوَاكِبَ، فَيَسْأَلُ الْمَلَائِكَةَ أَهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَكُمْ! إِهَانَةً لَهُمْ، فَيَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمْ سُبْحَانَكَ نُنَزِّهُكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ غَيْرُكَ مَعْبُودًا وَأَنْتَ مَعْبُودُنَا وَمَعْبُودُ كُلِّ خَلْقٍ، وَقَوْلُهُمْ: أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنًى لَطِيفٍ وَهُوَ أَنَّ مَذَاهِبَ النَّاسِ مُخْتَلِفَةٌ، بَعْضُهُمْ لَا يَسْكُنُ الْمَوَاضِعَ الْمَعْمُورَةَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، لِأَنَّهُ لَا يَتَرَأَّسُ هُنَاكَ فَيَرْضَى الضِّيَاعَ وَالْبِلَادَ الصَّغِيرَةَ، وَبَعْضُهُمْ لَا يُرِيدُ الْبِلَادَ الصَّغِيرَةَ لِعَدَمِ اجْتِمَاعِهِ فِيهَا بِالنَّاسِ وَقِلَّةِ وُصُولِهِ فِيهَا إِلَى الْأَكْيَاسِ، ثُمَّ إِنَّ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِمْ خِدْمَةُ السُّلْطَانِ وَاسْتِخْدَامُ الْأَرْذَالِ الَّذِينَ لَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِمْ أَصْلًا يَخْتَارُ الْعَاقِلُ خِدْمَةَ السُّلْطَانِ عَلَى اسْتِخْدَامِ مَنْ لَا يُؤْبَهُ به، ولو أن

_ (1) في النسخة الأميرية إلى «الإهمال» ولكن ما كتبناه أولى وأنسب لسياق الكلام.

[سورة سبإ (34) : آية 42]

رَجُلًا سَكَنَ جَبَلًا وَوَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْقَاذُورَاتِ وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ الذُّبَابُ وَالدِّيدَانُ، وَهُوَ/ يَقُولُ هَؤُلَاءِ أَتْبَاعِي وَأَشْيَاعِي، وَلَا أَدْخُلُ الْمَدِينَةَ مَخَافَةَ أَنْ أَحْتَاجَ إِلَى خِدْمَةِ السُّلْطَانِ الْعَظِيمِ وَالتَّرَدُّدُ إِلَيْهِ يُنْسَبُ إِلَى الْجُنُونِ، فَكَذَلِكَ مَنْ رَضِيَ بِأَنْ يَتْرُكَ خِدْمَةَ اللَّهِ وَعِبَادَتَهُ، وَرَضِيَ بِاسْتِتْبَاعِ الْهَمَجِ الَّذِينَ هُمْ أَضَلُّ مِنَ الْبَهَائِمِ وَأَقَلُّ مِنَ الْهَوَامِّ يَكُونُ مَجْنُونًا، فَقَالُوا: أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ يعني كونك ولينا بالمبعودية أَوْلَى، وَأَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَنَا بِالْعِبَادَةِ لَنَا وَقَالُوا: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَيْ كَانُوا يَنْقَادُونَ لِأَمْرِ الْجِنِّ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، وَنَحْنُ كُنَّا كَالْقِبْلَةِ لَهُمْ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ الطَّاعَةُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ لَوْ قَالَ قَائِلٌ جَمِيعُهُمْ كَانُوا تَابِعِينَ لِلشَّيَاطِينِ، فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ: أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ فَإِنَّهُ يُنْبِئُ أَنَّ بَعْضَهُمْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِمْ وَلَمْ يُطِعْ لَهُمْ؟ نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ احْتَرَزُوا عَنْ دَعْوَى الْإِحَاطَةِ بِهِمْ فَقَالُوا أَكْثَرُهُمْ لِأَنَّ الَّذِينَ رَأَوْهُمْ وَاطَّلَعُوا عَلَى أَحْوَالِهِمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ وَيُؤْمِنُونَ بِهِمْ وَلَعَلَّ فِي الْوُجُودِ مَنْ لَمْ يُطْلِعِ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفَّارِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْعِبَادَةَ عَمَلٌ ظَاهِرٌ وَالْإِيمَانَ عَمَلٌ بَاطِنٌ فَقَالُوا: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ لِاطِّلَاعِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَقَالُوا: أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ عِنْدَ عَمَلِ الْقَلْبِ لِئَلَّا يَكُونُوا مُدَّعِينَ اطِّلَاعَهُمْ عَلَى مَا فِي الْقُلُوبِ فَإِنَّ الْقَلْبَ لَا اطِّلَاعَ عله إلا الله، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الأنفال: 43] . ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُ لَا ينفعهم فقال: [سورة سبإ (34) : آية 42] فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: بَعْضُكُمْ مَعَ مَنْ؟ نَقُولُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَلَائِكَةَ لِسَبْقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ: 40] وَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ تَنْكِيلًا لِلْكَافِرِينَ حَيْثُ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مَعْبُودَهُمْ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَيُصَحِّحُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً [مَرْيَمَ: 87] وَقَوْلُهُ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاءِ: 28] وَلِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا فَأَفْرَدَهُمْ وَلَوْ كَانَ الْمُخَاطَبُ هُمُ الْكُفَّارَ لَقَالَ فَذُوقُوا. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكُفَّارُ دَاخِلِينَ فِي الْخِطَابِ حَتَّى يَصِحَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ أَيِ الْمَلَائِكَةُ لِلْكُفَّارِ، وَالْحَاضِرُ الْوَاحِدُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي أَمْرٍ مُخَاطَبًا بِسَبَبِهِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِوَاحِدٍ حَاضِرٍ لَهُ شَرِيكٌ فِي كَلَامٍ أَنْتُمْ قُلْتُمْ، عَلَى مَعْنَى أَنْتَ قُلْتَ، وَهُمْ قَالُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمُ الْجِنُّ أَيْ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ أَيُّهَا الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ، وَإِذَا لَمْ تَمْلِكُوهَا لِأَنْفُسِكُمْ فَلَا تَمْلِكُوهَا لِغَيْرِكُمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ هُمُ الْكُفَّارَ لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ يَدُلُّ عَلَى حُضُورِهِمْ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّمَا ذَكَرَهُ تَأْكِيدًا لِبَيَانِ حَالِهِمْ فِي الظُّلْمِ، وَسَبَبِ نَكَالِهِمْ مِنَ الْإِثْمِ وَلَوْ قَالَ: (فَذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ) لَكَانَ كَافِيًا لَكِنَّهُ، لَا يَحْصُلُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَائِدَةِ، فَإِنَّهُمْ كُلَّمَا كَانُوا يَسْمَعُونَ مَا كَانُوا/ عَلَيْهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْعِنَادِ وَالْإِثْمِ وَالْفَسَادِ يَتَحَسَّرُونَ وَيَنْدَمُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: نَفْعاً مُفِيدٌ لِلْحَسْرَةِ، وَأَمَّا الضُّرُّ فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ مَعَ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا يَمْلِكُونَ الضُّرَّ

[سورة سبإ (34) : آية 43]

لَمَا نَفَعَ الْكَافِرِينَ ذَلِكَ؟ فَنَقُولُ لَمَّا كَانَتِ الْعِبَادَةُ تَقَعُ لِدَفْعِ ضُرِّ الْمَعْبُودِ كَمَا يُعْبَدُ الْجَبَّارُ وَيُخْدَمُ مَخَافَةَ شَرِّهِ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَيْسَ فِيهِمْ ذَلِكَ الْوَجْهُ الَّذِي يَحْسُنُ لِأَجْلِهِ عِبَادَتُهُمْ. المسألة الثالثة: قال: هاهنا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ وَقَالَ فِي السَّجْدَةِ: عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ جعل المكذب هنالك العذاب وجعل المكذب هاهنا النَّارَ وَهُمْ كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِالْكُلِّ، وَالْفَائِدَةُ فِيهَا أَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَكُنْ أَوَّلُ مَا رَأَوُا النَّارَ بَلْ كَانُوا هُمْ فِيهَا مِنْ زَمَانٍ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها، وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السَّجْدَةِ: 20] أَيِ الْعَذَابَ الْمُؤَبَّدَ الَّذِي أَنْكَرْتُمُوهُ بِقَوْلِكُمْ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَةِ: 80] أَيْ قُلْتُمْ إِنَّ الْعَذَابَ إِنْ وَقَعَ فَلَا يَدُومُ فَذُوقُوا الدائم، وهاهنا أَوَّلُ مَا رَأَوُا النَّارُ لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ عَقِيبَ الْحَشْرِ وَالسُّؤَالِ فَقِيلَ لَهُمْ: هَذِهِ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 43] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) إِظْهَارًا لِفَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ وَاشْتِدَادِ عِنَادِهِمْ حَيْثُ تَبَيَّنَ أَنَّ أَعْلَى مَنْ يَعْبُدُونَهُ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ لَا يَتَأَهَّلُ لِلْعِبَادَةِ لِذَوَاتِهِمْ كَمَا قَالُوا: سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا [سَبَأٍ: 41] أَيْ لَا أَهْلِيَّةَ لَنَا إِلَّا لِعِبَادَتِكَ مِنْ دُونِهِمْ أَيْ لَا أَهْلِيَّةَ لَنَا لِأَنْ نَكُونَ مَعْبُودِينَ لَهُمْ وَلَا لِنَفْعٍ أَوْ ضُرٍّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا [سبأ: 42] ثُمَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ إِذَا قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَلَامًا مِنَ التَّوْحِيدِ وَتَلَا عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ آيَاتٍ دَالَّةً عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ أَنْكَرُوهَا وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ يَعْنِي يُعَارِضُونَ الْبُرْهَانَ بِالتَّقْلِيدِ وَقالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَيَدُلُّ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْمُوَحِّدَ كَانَ يَقُولُ فِي حَقِّ الْمُشْرِكِ إِنَّهُ يَأْفِكُ كَمَا قَالَ تعالى في حقهم: أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [الصَّافَّاتِ: 86] وَكَمَا قَالُوا هُمْ لِلرَّسُولِ: أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا [الْأَحْقَافِ: 22] وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ أَيِ الْقُرْآنُ إِفْكٌ وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ قَوْلُهُ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا/ إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ إِشَارَةً إِلَى الْقُرْآنِ وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ إِشَارَةً إِلَى مَا أَتَى بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَدَلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ وَقَالُوا لِلْحَقِّ هُوَ أَنَّ إِنْكَارَ التَّوْحِيدِ كَانَ مُخْتَصًّا بِالْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا إِنْكَارُ الْقُرْآنِ وَالْمُعْجِزَاتِ [فَقَدْ] كَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ [فَقَالَ] تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ على وجه العموم. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : الآيات 44 الى 45] وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ تَأْكِيدٌ لِبَيَانِ تَقْلِيدِهِمْ يَعْنِي يقولون عند ما تُتْلَى عَلَيْهِمُ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ هَذَا رَجُلٌ كَاذِبٌ وَقَوْلُهُمْ: إِفْكٌ مُفْتَرىً مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ وَلَا كِتَابٍ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ وَلَا رَسُولٍ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، فَالْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ لَا تُعَارَضَ إِلَّا بِالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ، وَلَمْ يَأْتُوا بِهَا أَوْ بِالتَّقَلُّبَاتِ وَمَا عِنْدَهُمْ كِتَابٌ وَلَا رَسُولٌ غَيْرَكَ، وَالنَّقْلُ الْمُعْتَبَرُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ خَبَرُ رَسُولِ اللَّهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ كَالَّذِينِ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ، وَقَوْلُهُ

[سورة سبإ (34) : آية 46]

تَعَالَى: وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مَعْنَاهُ: وَمَا بَلَغَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِعْشَارَ مَا آتَيْنَا الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْقُوَّةِ وَالنِّعْمَةِ وَطُولِ الْعُمُرِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَخَذَهُمْ وَمَا نَفَعَتْهُمْ قُوَّتُهُمْ، فَكَيْفَ حَالُ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ، وَعِنْدِي [أَنَّهُ] يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ أَيِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَا قَوْمَ مُحَمَّدٍ مِنَ الْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كِتَابَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكْمَلُ مِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ وَأَوْضَحُ، وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الرُّسُلِ وأفصح، وبرهانه أو في، وَبَيَانُهُ أَشَفَى، ثُمَّ إِنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ لَمَّا كَذَّبُوا بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْكُتُبِ وَبِمَنْ أَتَاهُمْ مِنَ الرُّسُلِ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَكَيْفَ لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ كَذَّبُوا بِأَفْصَحِ الرُّسُلِ، وَأَوْضَحِ السُّبُلِ، يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها يَعْنِي غَيْرَ الْقُرْآنِ مَا آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ، فَلَمَّا كَانَ الْمُؤْتَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى هُوَ الْكِتَابَ، فَحَمْلُ الْإِيتَاءِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى إِيتَاءِ الْكِتَابِ أَوْلَى. ثُمَّ قَالَ تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 46] قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) ذَكَرَ الْأُصُولَ الثَّلَاثَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ مَا سَبَقَ مِنْهُ تَقْرِيرُهَا بِالدَّلَائِلِ فَقَوْلُهُ: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّوْحِيدِ وَقَوْلُهُ: مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الرِّسَالَةِ وَقَوْلُهُ: بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ إِشَارَةٌ إِلَى اليوم الآخرة وفي الآية مسائل: الْأُولَى: قَوْلُهُ: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ، وَالْإِيمَانُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالِاعْتِرَافِ بِالرِّسَالَةِ وَالْحَشْرِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْحَصْرُ الْمَذْكُورُ بِقَوْلِهِ: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ فَنَقُولُ التَّوْحِيدُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ حَقَّ التَّوْحِيدِ يَشْرَحُ اللَّهُ صَدْرَهُ وَيَرْفَعُ فِي الْآخِرَةِ قَدْرَهُ فالنبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِمَا يَفْتَحُ عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الْعِبَادَاتِ ويهيء لَهُمْ أَسْبَابَ السَّعَادَاتِ، وَجَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مَا قَالَ إِنِّي لَا آمُرُكُمْ فِي جَمِيعِ عُمُرِي إِلَّا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا قَالَ أَعِظُكُمْ أَوَّلًا بِالتَّوْحِيدِ وَلَا آمُرُكُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ سَابِقٌ عَلَى الْكُلِّ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا فَإِنَّ التَّفَكُّرَ أَيْضًا صَارَ مَأْمُورًا بِهِ وَمَوْعُوظًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: بِواحِدَةٍ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّثَهَا عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ خَصْلَةٍ أَيْ أَعِظُكُمْ بِخَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ حَسَنَةٌ وَإِحْسَانٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النَّحْلِ: 29] أَنَّ الْعَدْلَ نَفْيُ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ وَالْإِحْسَانَ إِثْبَاتُ الْإِلَهِيَّةِ لَهُ، وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرَّحْمَنِ: 60] أَنَّ الْمُرَادَ هَلْ جَزَاءُ الْإِيمَانِ إِلَّا الْجِنَانُ، وَكَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ [فُصِّلَتْ: 33] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: مَثْنى وَفُرادى إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ غَيْرِهِ أَوْ يَكُونَ وَحْدَهُ، فَإِذَا كَانَ مَعَ غَيْرِهِ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ: مَثْنى وَإِذَا كَانَ وَحْدَهُ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ: فُرادى فَكَأَنَّهُ يَقُولُ تَقُومُوا لِلَّهِ مُجْتَمِعِينَ وَمُنْفَرِدِينَ لَا تَمْنَعُكُمُ الْجَمْعِيَّةُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَلَا يُحْوِجُكُمُ الِانْفِرَادُ إِلَى مُعِينٍ يُعِينُكُمْ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ.

[سورة سبإ (34) : آية 47]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا يَعْنِي اعْتَرِفُوا بِمَا هُوَ الْأَصْلُ وَالتَّوْحِيدُ وَلَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى تَفَكُّرٍ وَنَظَرٍ بَعْدَ مَا بَانَ وَظَهَرَ، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا فِيمَا أَقُولُ بَعْدَهُ مِنَ الرِّسَالَةِ وَالْحَشْرِ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَفَكُّرٍ، وَكَلِمَةُ ثُمَّ تُفِيدُ مَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهُ قَالَ: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ ... ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ثُمَّ بَيَّنَ مَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهِ وَهُوَ أَمْرُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ يُفِيدُ كَوْنَهُ رَسُولًا وَإِنْ كَانَ لَا يَلْزَمُ فِي كُلِّ مَنْ لَا يَكُونُ بِهِ جِنَّةٌ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَظْهَرُ مِنْهُ أَشْيَاءُ لَا تَكُونُ مَقْدُورَةً لِلْبَشَرِ وَغَيْرُ الْبَشَرِ مِمَّنْ تَظْهَرُ مِنْهُ الْعَجَائِبُ إِمَّا الْجِنُّ أَوِ الْمَلَكُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الصَّادِرُ مِنَ النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِوَاسِطَةِ الْجِنِّ يَكُونُ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ أَوْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الطُّرُقِ، وَهُوَ أَنْ يُثْبِتَ الصِّفَةَ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الصِّفَاتِ فِي الْبَشَرِ بِنَفْيِ أَخَسِّ الصِّفَاتِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ أَوَّلًا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ النِّزَاعُ، فَإِذَا قَالَ مَا هُوَ مَجْنُونٌ لَمْ/ يَسَعْهُمْ إِنْكَارُ ذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِعُلُوِّ شَأْنِهِ وَحَالِهِ فِي قُوَّةِ لِسَانِهِ وَبَيَانِهِ «1» فَإِذَا سَاعَدُوا عَلَى ذَلِكَ لَزِمَتْهُمُ الْمَسْأَلَةُ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ يَعْنِي إِمَّا هُوَ بِهِ جِنَّةٌ أَوْ هُوَ رَسُولٌ لَكِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ جَنَّةٌ فَهُوَ نَذِيرٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ إِشَارَةٌ إِلَى قُرْبِ الْعَذَابِ كَأَنَّهُ قَالَ يُنْذِرُكُمْ بِعَذَابٍ حَاضِرٍ يَمَسُّكُمْ عَنْ قَرِيبٍ بَيْنَ يَدَيِ الْعَذَابِ أَيْ سَوْفَ يَأْتِي الْعَذَابُ بَعْدَهُ. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 47] قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ مَا بِهِ جِنَّةٌ لِيَلْزَمَ مِنْهُ كَوْنُهُ نَبِيًّا ذَكَرَ وَجْهًا آخَرَ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ نَبِيٌّ إِذَا لم يكن مجنونا لأن من يرتكب العناء الشديد لا لغرض عاجل إذا لم يكن ذلك فيه ثواب أخروي يكون مَجْنُونًا، فَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَعْوَاهُ النُّبُوَّةَ يَجْعَلُ نَفْسَهُ عُرْضَةً لِلْهَلَاكِ عَاجِلًا، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَقْصِدُهُ وَيُعَادِيهِ وَلَا يَطْلُبُ أَجْرًا فِي الدُّنْيَا فَهُوَ يَفْعَلُهُ لِلْآخِرَةِ، وَالْكَاذِبُ فِي الْآخِرَةِ مُعَذَّبٌ لَا مُثَابٌ، فَلَوْ كَانَ كَاذِبًا لَكَانَ مَجْنُونًا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ فَلَيْسَ بِكَاذِبٍ، فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ وَقَوْلُهُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ تَقْرِيرٌ آخَرُ لِلرِّسَالَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِالدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ، بِأَنْ يَدَّعِيَ شَخْصٌ النُّبُوَّةَ وَيُظْهِرَ اللَّهُ لَهُ الْمُعْجِزَةَ فَهِيَ بَيِّنَةٌ شَاهِدَةٌ وَالتَّصْدِيقُ بِالْفِعْلِ يَقُومُ مَقَامَ التَّصْدِيقِ بِالْقَوْلِ فِي إِفَادَةِ الْعِلْمِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ قَالَ لِقَوْمٍ إِنِّي مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْمَلِكِ إِلَيْكُمْ أُلْزِمُكُمْ قَبُولَ قَوْلِي وَالْمَلِكُ حَاضِرٌ نَاظِرٌ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَلِكِ أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنْ كُنْتُ أَنَا رَسُولَكَ إِلَيْهِمْ فَقُلْ لَهُمْ إِنِّي رَسُولُكَ فَإِذَا قَالَ إِنَّهُ رَسُولِي إِلَيْكُمْ لَا يَبْقَى فِيهِ شَكٌّ كَذَلِكَ إِذَا قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنْ كُنْتُ أَنَا رَسُولَكَ إِلَيْهِمْ فَأَلْبِسْنِي قَبَاءَكَ فَلَوْ أَلْبَسَهُ قَبَاءَهُ فِي عَقِبِ كَلَامِهِ يَجْزِمُ النَّاسُ بِأَنَّهُ رَسُولُهُ، كَذَلِكَ حَالُ الرَّسُولِ إِذَا قَالَ الْأَنْبِيَاءُ لِقَوْمِهِمْ نَحْنُ رُسُلُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالُوا يَا إِلَهَنَا إِنْ كُنَّا رُسُلَكَ فَأَنْطِقْ هَذِهِ الْحِجَارَةَ أَوْ أَنْشِرْ هَذَا الْمَيِّتَ فَفَعَلَهُ حصل الجزم بأنه صدقه. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 48] قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48)

_ (1) في النسخة طبعة بولاق: في قوة لسانه وباله ولما كان غير واضحة المعنى فقد أثبتناها هكذا لأن اللازم لقوة اللسان قوة البيان.

[سورة سبإ (34) : آية 49]

وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: يَقْذِفُ بِالْحَقِّ فِي قُلُوبِ الْمُحِقِّينَ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِلْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا تَعَلُّقٌ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ رِسَالَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الْمُشْرِكِينَ اسْتِبْعَادُ تَخْصِيصِ وَاحِدٍ مِنْ بَيْنِهِمْ بِإِنْزَالِ الذِّكْرِ عَلَيْهِ، كما قال تعالى عنهم: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص: 8] ذَكَرَ مَا يَصْلُحُ جَوَابًا لَهُمْ فَقَالَ: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أَيْ فِي الْقُلُوبِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِيَدِهِ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ وَيُعْطِي مَا يَشَاءُ لِمَنْ يَشَاءُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: عَلَّامُ الْغُيُوبِ إِشَارَةً إِلَى جَوَابِ سُؤَالٍ فَاسِدٍ يُذْكَرُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ مَنْ يَفْعَلُ شَيْئًا/ كَمَا يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصِ مَحَلِّ الْفِعْلِ بِشَيْءٍ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ لَا يَكُونُ عَالِمًا وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا، كَمَا إِذَا أَصَابَ السَّهْمُ مَوْضِعًا دُونَ غَيْرِهِ مَعَ تَسْوِيَةِ الْمَوَاضِعِ فِي الْمُحَاذَاةِ فَقَالَ: يَقْذِفُ بِالْحَقِّ كَيْفَ يَشَاءُ وَهُوَ عَالِمٌ بِمَا يَفْعَلُهُ وَعَالِمٌ بِعَوَاقِبِ مَا يَفْعَلُهُ فَهُوَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ لَا كَمَا يَفْعَلُهُ الْهَاجِمُ الْغَافِلُ عَنِ الْعَوَاقِبِ إِذْ هُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هُوَ أَنَّهُ يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ [الْأَنْبِيَاءِ: 18] وَعَلَى هَذَا تَعَلُّقُ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَيْضًا ظَاهِرٌ وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ بَرَاهِينَ التَّوْحِيدِ لَمَّا ظَهَرَتْ وَدَحَضَتْ شُبَهَهُمْ قَالَ: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أَيْ عَلَى بَاطِلِكُمْ، وَقَوْلُهُ: عَلَّامُ الْغُيُوبِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَهُ مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّ الْبُرْهَانَ الْبَاهِرَ الْمَعْقُولَ الظَّاهِرَ لَمْ يَقُمْ إِلَّا عَلَى التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَمَّا الْحَشْرُ فَعَلَى وُقُوعِهِ لَا بُرْهَانَ غَيْرُ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ، وَعَنْ أَحْوَالِهِ وَأَهْوَالِهِ، وَلَوْلَا بَيَانُ اللَّهِ بِالْقَوْلِ لَمَا بَانَ لِأَحَدٍ بِخِلَافِ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ، فَلَمَّا قَالَ: يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أَيْ عَلَى الْبَاطِلِ، إِشَارَةً إِلَى ظُهُورِ الْبَرَاهِينِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ قَالَ: عَلَّامُ الْغُيُوبِ أَيْ مَا يُخْبِرُهُ عَنِ الْغَيْبِ وَهُوَ قِيَامُ السَّاعَةِ وَأَحْوَالُهَا فَهُوَ لَا خُلْفَ فِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُ تَفْسِيرًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أَيْ مَا يَقْذِفُهُ يَقْذِفُهُ بِالْحَقِّ لَا بِالْبَاطِلِ وَالْبَاءُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَفْعُولِ بِهِ أَيِ الْحَقُّ مَقْذُوفٌ وَعَلَى هَذَا الْبَاءُ فِيهِ كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [الزُّمَرِ: 69] وَفِي قَوْلِهِ: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص: 26] وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَذَفَ مَا قَذَفَ فِي قَلْبِ الرُّسُلِ وَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يَعْلَمُ مَا في قلوبهم وما في قلوبكم. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 49] قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يَقْذِفُ بِالْحَقِّ وَكَانَ ذَلِكَ بِصِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ، ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْحَقَّ قَدْ جَاءَ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْقُرْآنُ الثَّانِي: أَنَّهُ بَيَانُ التَّوْحِيدِ وَالْحَشْرِ وَكُلُّ مَا ظَهَرَ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ الثَّالِثُ: الْمُعْجِزَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ جاءَ الْحَقُّ ظَهَرَ الْحَقُّ لِأَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ فَقَدْ ظَهَرَ وَالْبَاطِلُ خِلَافُ الْحَقِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمَوْجُودُ، وَلَمَّا كَانَ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَمْ يُمْكِنِ انْتِفَاؤُهُ كَالتَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْحَشْرِ، كَانَ حَقًّا لَا يَنْتَفِي، وَلَمَّا كَانَ مَا يَأْتُونَ بِهِ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَالتَّكْذِيبِ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ كَانَ بَاطِلًا لَا يَثْبُتُ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ أَيِ الْبَاطِلُ لَا يُفِيدُ شَيْئًا فِي الْأُولَى وَلَا فِي الْآخِرَةِ فَلَا إِمْكَانَ لِوُجُودِهِ أَصْلًا، وَالْحَقُّ الْمَأْتِيُّ بِهِ لَا عَدَمَ لَهُ أَصْلًا، وَقِيلَ الْمُرَادُ لَا يُبْدِئُ الشَّيْطَانُ وَلَا يُعِيدُ، وَفِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ لَمَّا كَانَ فِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ

[سورة سبإ (34) : آية 50]

فَيَدْمَغُهُ كَانَ يَقَعُ لِمُتَوَهِّمٍ أَنَّ الْبَاطِلَ كَانَ فورد عليه الحق/ فأبطله ودمغه، فقال هاهنا لَيْسَ لِلْبَاطِلِ تَحَقُّقٌ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَيَدْمَغُهُ أَيْ فَيَظْهَرُ بُطْلَانُهُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الْإِسْرَاءِ: 81] يَعْنِي لَيْسَ أَمْرًا مُتَجَدِّدًا زُهُوقُ الْبَاطِلِ، فَقَوْلُهُ: وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ أَيْ لَا يُثْبِتُ فِي الْأَوَّلِ شَيْئًا خِلَافَ الْحَقِّ وَما يُعِيدُ أَيْ لَا يُعِيدُ فِي الْآخِرَةِ شيئا خلاف الحق. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 50] قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) هَذَا فِيهِ تَقْرِيرُ الرِّسَالَةِ أَيْضًا وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ: فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ [الزُّمَرِ: 41] وَقَالَ فِي حق النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي يَعْنِي ضَلَالِي عَلَى نَفْسِي كَضَلَالِكُمْ، وَأَمَّا اهْتِدَائِي فَلَيْسَ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ كَاهْتِدَائِكُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْوَحْيِ الْمُبِينِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ سَمِيعٌ أَيْ يَسْمَعُ إِذَا نَادَيْتُهُ وَاسْتَعْدَيْتُ بِهِ عَلَيْكُمْ قَرِيبٌ يَأْتِيكُمْ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ، لَيْسَ يَسْمَعُ عَنْ بُعْدٍ وَلَا يلحق الداعي. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 51] وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) لَمَّا قَالَ: سَمِيعٌ قَالَ هُوَ قَرِيبٌ فَإِنْ لَمْ يُعَذِّبْ عَاجِلًا وَلَا يُعِينُ صَاحِبَ الْحَقِّ فِي الْحَالِ فَيَوْمُ الْفَزَعِ آتٍ لَا فَوْتَ، وَإِنَّمَا يَسْتَعْجِلُ مَنْ يَخَافُ الْفَوْتَ. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ تَرى جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ تَرَى عَجَبًا وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ لَا يَهْرُبُونَ وَإِنَّمَا الْأَخْذُ قَبْلَ تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الْهَرَبِ. ثم قال تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 52] وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) أَيْ بَعْدَ ظُهُورِ الْأَمْرِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ إِيمَانٌ، قَالُوا آمَنَّا وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ أَيْ كَيْفَ يَقْدِرُونَ عَلَى الظَّفَرِ بِالْمَطْلُوبِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الدُّنْيَا وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ بَعِيدَةٌ، فَإِنْ قيل فكيف قال كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ إِنَّ الْآخِرَةَ مِنَ الدُّنْيَا قَرِيبَةٌ، وَلِهَذَا سَمَّاهَا اللَّهُ السَّاعَةَ وَقَالَ: لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشُّورَى: 17] نَقُولُ الْمَاضِي كَالْأَمْسِ الدَّابِرِ بعد ما يَكُونُ إِذْ لَا وُصُولَ إِلَيْهِ، وَالْمُسْتَقْبَلُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَاضِرِ سِنِينَ فَإِنَّهُ آتٍ، فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ الدُّنْيَا بَعِيدَةٌ لِمُضِيِّهَا وَفِي الدُّنْيَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَرِيبٌ لِإِتْيَانِهِ وَالتَّنَاوُشُ هُوَ التَّنَاوُلُ عَنْ قُرْبٍ. وَقِيلَ عَنْ بُعْدٍ، وَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْفِعْلَ مَأْخُوذًا كَالْجِسْمِ جَعَلَ ظَرْفَ الْفِعْلِ وَهُوَ الزَّمَانُ كَظَرْفِ الْجِسْمِ وَهُوَ الْمَكَانُ فَقَالَ: مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وَالْمُرَادُ مَا مَضَى مِنَ الدنيا. [سورة سبإ (34) : آية 53] وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ لَا نَفْعَ فِيهِ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: / آمَنَّا بِهِ وَقَوْلِهِ: وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، إِمَّا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِمَّا الْقُرْآنُ وَإِمَّا الْحَقُّ الَّذِي أَتَى بِهِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ أَقْرَبُ وَأَوْلَى، وَقَوْلُهُ: وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ ضِدُّ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ لِأَنَّ الْغَيْبَ يَنْزِلُ مِنَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ، فَيَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ وَيَقْبَلُهُ الْمُؤْمِنُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ يَقْذِفُ بِالْغَيْبِ، أَيْ يَقُولُ مَا لَا يَعْلَمُهُ، وَقَوْلُهُ: مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ مَأْخَذَهُمْ بَعِيدٌ أَخَذُوا الشَّرِيكَ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَعْمَالٍ كَثِيرَةٍ إِلَّا إِذَا كَانُوا أَشْخَاصًا كَثِيرَةً، فَكَذَلِكَ الْمَخْلُوقَاتُ الْكَثِيرَةُ وَأَخَذُوا بَعْدَ الْإِعَادَةِ مِنْ

[سورة سبإ (34) : آية 54]

حَالِهِمْ وَعَجْزِهِمْ عَنِ الْإِحْيَاءِ، فَإِنَّ الْمَرِيضَ يُدَاوَى فَإِذَا مَاتَ لَا يُمْكِنُهُمْ إِعَادَةُ الرُّوحِ إِلَيْهِ، وَقِيَاسُ اللَّهِ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ بَعِيدُ الْمَأْخَذِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِأَنَّ السَّاعَةَ إِذَا كَانَتْ قَائِمَةً فَالثَّوَابُ وَالنَّعِيمُ لَنَا، كَقَوْلِ قَائِلِهِمْ: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فصلت: 50] فَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ فَمَا كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقُولُوا عَنْ إِحْسَاسٍ فَإِنَّ مَا لَا يَجِبُ عَقْلًا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالْإِحْسَاسِ أَوْ بِقَوْلِ الصَّادِقِ، فَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ عَنِ الْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ ذَكَرْتَ أَنَّ الْآخِرَةَ قَرِيبٌ فَكَيْفَ قَالَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ؟ نَقُولُ الْجَوَابَ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ قَرِيبٌ عِنْدَ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وسلم من لَمْ يُؤْمِنْ لَا يُمْكِنُهُ التَّصْدِيقُ بِهِ فَيَكُونُ بَعِيدًا عِنْدَهُ الثَّانِي: أَنَّ الْحِكَايَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ كَانُوا يَقْذِفُونَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ وَهُوَ الدُّنْيَا، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ يَقُولُونَ: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً [السَّجْدَةِ: 12] وَهُوَ قَذْفٌ بِالْغَيْبِ مِنْ مكان بعيد وهو الدنيا. [سورة سبإ (34) : آية 54] وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى الدُّنْيَا أَوْ بَيْنَ لَذَّاتِ الدُّنْيَا، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُكَ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ الْعَوْدِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ وَمَا حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَوْدِ؟ قُلْنَا لِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ مَا حِيلَ بَيْنَهُمْ، بَلْ كُلُّ مَنْ جَاءَهُ الْمَلِكُ طَلَبَ التَّأْخِيرَ وَلَمْ يُعْطَ وَأَرَادُوا أَنْ يُؤْمِنُوا عِنْدَ ظُهُورِ الْيَأْسِ وَلَمْ يُقْبَلْ، وَقَوْلُهُ: مُرِيبٍ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: ذِي رَيْبٍ وَالثَّانِي: موقف فِي الرَّيْبِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَاتُهُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ وصحبه وأزواجه أجمعين. تم الجزء الخامس والعشرون، ويليه السادس والعشرون وأوله سورة فاطر وقد راجعه على النسخة الأميرية الأستاذ محمد إسماعيل الصاوي بالإدارة العامة للثقافة بوزارة المعارف.

الجزء السادس والعشرون

الجزء السادس والعشرون سُورَةُ فَاطِرٍ أَرْبَعُونَ وَخَمْسُ آيَاتٍ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة فاطر (35) : آيَةً 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَمْدَ يَكُونُ عَلَى النِّعْمَةِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ، وَنِعَمُ اللَّهِ قِسْمَانِ: عَاجِلَةٌ وَآجِلَةٌ، وَالْعَاجِلَةُ وُجُودٌ وَبَقَاءٌ، وَالْآجِلَةُ كَذَلِكَ إِيجَادٌ مَرَّةً وَإِبْقَاءٌ أُخْرَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: 1] إِشَارَةٌ إِلَى النِّعْمَةِ الْعَاجِلَةِ الَّتِي هِيَ الْإِيجَادُ، وَاسْتَدْلَلْنَا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا [الْأَنْعَامِ: 2] وَقَوْلِهِ فِي الْكَهْفِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الْكَهْفِ: 1] إِشَارَةً إِلَى النِّعْمَةِ الْعَاجِلَةِ الَّتِي هِيَ الْإِبْقَاءُ، فَإِنَّ الْبَقَاءَ وَالصَّلَاحَ بِالشَّرْعِ وَالْكِتَابِ، وَلَوْلَاهُ لَوَقَعَتِ الْمُنَازَعَةُ وَالْمُخَاصَمَةُ بَيْنَ النَّاسِ وَلَا يُفْصَلُ بَيْنَهُمْ، فَكَانَ يُفْضِي ذَلِكَ إِلَى التَّقَاتُلِ وَالتَّفَانِي، فَإِنْزَالُ الْكِتَابِ نِعْمَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْبَقَاءُ الْعَاجِلُ، وَفِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ سَبَأٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ [سَبَأٍ: 1] إِشَارَةٌ إِلَى نِعْمَةِ الْإِيجَادِ الثَّانِي بِالْحَشْرِ، وَاسْتَدْلَلْنَا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْأَجْسَامِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ مِنَ الْأَرْوَاحِ وَما يَعْرُجُ فِيها [سَبَأٍ: 2] وَقَوْلِهِ عَنِ الْكَافِرِينَ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ، قُلْ بَلى وَرَبِّي [سبأ: 3] وهاهنا الْحَمْدُ إِشَارَةٌ إِلَى نِعْمَةِ الْبَقَاءِ فِي الْآخِرَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أَيْ يَجْعَلُهُمْ رُسُلًا يَتَلَقَّوْنَ عِبَادَ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [الْأَنْبِيَاءِ: 103] وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى فاطِرِ السَّماواتِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ مُبْدِعُهَا كَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالثَّانِي: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ شَاقِّهِمَا لِنُزُولِ الْأَرْوَاحِ مِنَ السَّمَاءِ وَخُرُوجِ الْأَجْسَادِ مِنَ الْأَرْضِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا فَإِنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَكُونُ الْمَلَائِكَةُ رُسُلًا، وَعَلَى هَذَا فَأَوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ مُتَّصِلٌ بِآخِرِ مَا مَضَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ بَيَانٌ لِانْقِطَاعِ رَجَاءِ مَنْ كَانَ فِي شَكٍّ مُرِيبٍ وَتَيَقُّنِهِ بِأَنْ لَا قَبُولَ لِتَوْبَتِهِ وَلَا فَائِدَةَ لِقَوْلِهِ آمَنْتُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ [سَبَأٍ: 52] فَلَمَّا ذَكَرَ حَالَهُمْ بَيَّنَ حَالَ الْمُوقِنِ وَبَشَّرَهُ بِإِرْسَالِهِ الْمَلَائِكَةَ إِلَيْهِمْ/ مُبَشِّرِينَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَفْتَحُ لهم أبواب الرحمة. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أَقَلُّ مَا يَكُونُ لِذِي الْجَنَاحِ أَنْ يَكُونَ لَهُ جَنَاحَانِ وَمَا

[سورة فاطر (35) : آية 2]

بَعْدَهُمَا زِيَادَةٌ، وَقَالَ قَوْمٌ فِيهِ إِنَّ الْجَنَاحَ إِشَارَةٌ إِلَى الْجِهَةِ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَهُوَ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَنِعْمَتِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ لَهُمْ وَجْهٌ إِلَى اللَّهِ يَأْخُذُونَ مِنْهُ نِعَمَهُ وَيُعْطُونَ مَنْ دُونَهُمْ مما يأخذوه بِإِذْنِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: 193، 194] وَقَوْلِهِ: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النَّجْمِ: 5] وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [النَّازِعَاتِ: 5] فَهُمَا جَنَاحَانِ، وَفِيهِمْ مَنْ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ مِنَ الْخَيْرِ بِوَاسِطَةٍ، وَفِيهِمْ مَنْ يَفْعَلُهُ لَا بِوَاسِطَةٍ، فَالْفَاعِلُ بِوَاسِطَةٍ فِيهِ ثَلَاثُ جِهَاتٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ أَرْبَعُ جِهَاتٍ وَأَكْثَرُ، وَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ إِطْبَاقُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ خَصَّصَهُ وَقَالَ الْمُرَادُ الْوَجْهُ الْحَسَنُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الصَّوْتُ الْحَسَنُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ كُلُّ وَصْفٍ مَحْمُودٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُعَمَّمَ، وَيُقَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ كَامِلٌ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فَيَزِيدُ مَا يَشَاءُ وَيَنْقُصُ مَا يَشَاءُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُقَرِّرُ قَوْلَهُ: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ [سورة فاطر (35) : آية 2] مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ. لَمَّا بَيَّنَ كَمَالَ الْقُدْرَةِ ذَكَرَ بَيَانَ نُفُوذِ الْمَشِيئَةِ وَنَفَاذِ الْأَمْرِ، وَقَالَ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ يَعْنِي إِنْ رَحِمَ فَلَا مَانِعَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَرْحَمْ فَلَا بَاعِثَ لَهُ عَلَيْهَا، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى سَبْقِ رَحْمَتِهِ غَضَبَهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا التَّقْدِيمُ حَيْثُ قَدَّمَ بَيَانَ فَتْحِ أَبْوَابِ الرَّحْمَةِ فِي الذِّكْرِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَكِنَّهُ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الْفَضْلِ وَثَانِيهَا: هُوَ أن أَنَّثَ الْكِنَايَةَ فِي الْأَوَّلِ فَقَالَ: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَجَازَ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ أَنْ يُقَالَ لَهُ وَيَكُونُ عَائِدًا إِلَى مَا، وَلَكِنْ قَالَ تَعَالَى: لَها لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمَفْتُوحَ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ وَلَا مُمْسِكَ لِرَحْمَتِهِ فَهِيَ وَصْلَةٌ إِلَى مَنْ رَحِمَتْهُ، وَقَالَ عِنْدَ الْإِمْسَاكِ وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ بالتذكير ولم يقل لها فَمَا صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا مُرْسِلَ لِلرَّحْمَةِ، بَلْ ذَكَرَهُ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي لَا يُرْسِلُ هُوَ غَيْرُ الرَّحْمَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما يُمْسِكْ عَامٌّ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ وَتَخْصِيصٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَإِنَّهُ مُخَصَّصٌ مُبَيَّنٌ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِهِ أَيْ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ، فَاسْتَثْنَى هاهنا وَقَالَ لَا مُرْسِلَ لَهُ إِلَّا اللَّهُ فَنَزَلَ له مرسلا. وعند الإمساك/ الْإِمْسَاكِ قَالَ لَا مُمْسِكَ لَهَا، وَلَمْ يَقُلْ غَيْرُ اللَّهِ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ إِذَا جَاءَتْ لَا تَرْتَفِعُ فَإِنَّ مَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَا يُعَذِّبُهُ بَعْدَهَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ، وَمَنْ يُعَذِّبُهُ اللَّهُ فَقَدْ يَرْحَمُهُ اللَّهُ بَعْدَ الْعَذَابِ كالفساق من أهل الإيمان. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الْعَزِيزُ أَيْ كَامِلُ القدرة الْحَكِيمُ أي كامل العلم. [سورة فاطر (35) : آية 3] يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ وَبَيَّنَ بَعْضَ وُجُوهِ النِّعْمَةِ الَّتِي تَسْتَوْجِبُ الْحَمْدَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ بَيَّنَ نِعَمَهُ عَلَى سَبِيلِ الإجمال فقال: اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ وَهِيَ مَعَ كَثْرَتِهَا مُنْحَصِرَةٌ فِي قِسْمَيْنِ نِعْمَةِ الْإِيجَادِ، وَنِعْمَةِ الْإِبْقَاءِ.

[سورة فاطر (35) : آية 4]

فَقَالَ تَعَالَى: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ إِشَارَةً إِلَى نِعْمَةِ الْإِيجَادِ فِي الِابْتِدَاءِ. وَقَالَ تَعَالَى: يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِشَارَةً إِلَى نِعْمَةِ الْإِبْقَاءِ بِالرِّزْقِ إِلَى الِانْتِهَاءِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ نَظَرًا إِلَى عَظَمَتِهِ حَيْثُ هُوَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ نَافِذُ الْإِرَادَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا مِثْلَ لِهَذَا وَلَا مَعْبُودَ لِذَاتِهِ غَيْرُ هَذَا وَنَظَرًا إِلَى نِعْمَتِهِ حَيْثُ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ وَلَا رَازِقَ إِلَّا هُوَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أَيْ كَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ، فَكَيْفَ تُشْرِكُونَ الْمَنْحُوتَ بِمَنْ له الملكوت. [سورة فاطر (35) : آية 4] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ: وَهُوَ التَّوْحِيدُ ذَكَرَ الْأَصْلَ الثَّانِيَ: وَهُوَ الرِّسَالَةُ فَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ. ثُمَّ بَيَّنَ مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَالُ أَنَّ الْمُكَذِّبَ فِي الْعَذَابِ وَالْمُكَذَّبَ لَهُ الثَّوَابُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ثُمَّ بَيَّنَ الْأَصْلَ الثالث: وهو الحشر. فقال تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 5] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) أَيِ الشَّيْطَانُ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِيهِ مِنَ الْمَعْنَى اللَّطِيفِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ لُقْمَانَ ونعيده هاهنا فَنَقُولُ الْمُكَلَّفُ قَدْ يَكُونُ ضَعِيفَ الذِّهْنِ قَلِيلَ الْعَقْلِ سَخِيفَ الرَّأْيِ فَيَغْتَرُّ بِأَدْنَى شَيْءٍ، وَقَدْ يَكُونُ فَوْقَ ذَلِكَ فَلَا يَغْتَرُّ بِهِ وَلَكِنْ إِذَا جَاءَهُ غَارٌّ وَزَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ وهون عليه مفاسده، وبين له منافع، يَغْتَرُّ لِمَا فِيهَا مِنَ اللَّذَّةِ مَعَ مَا يَنْضَمُّ إِلَيْهِ مِنْ دُعَاءِ ذَلِكَ الْغَارِّ إِلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ قَوِيَّ الْجَأْشِ غَزِيرَ الْعَقْلِ فَلَا يَغْتَرُّ وَلَا يُغَرُّ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا إِشَارَةً إِلَى الدَّرَجَةِ الْأُولَى، وَقَالَ: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِشَارَةً إِلَى الثَّانِيَةِ لِيَكُونَ وَاقِعًا فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ وَهِيَ العليا فلا يغر ولا يغتر. ثم قال تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 6] إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) لَمَّا قَالَ تَعَالَى: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر: 5] ذَكَرَ مَا يَمْنَعُ الْعَاقِلَ مِنَ الِاغْتِرَارِ، وَقَالَ: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا وَلَا تَسْمَعُوا قَوْلَهُ: وَقَوْلُهُ: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا أَيِ اعْمَلُوا مَا يَسُوءُهُ وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ. ثُمَّ قَالَ تعالى: إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ إِشَارَةً إِلَى مَعْنًى لَطِيفٍ وَهُوَ أَنَّ مَنْ يَكُونُ لَهُ عَدُوٌّ فَلَهُ فِي أَمْرِهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَادِيَهُ مُجَازَاةً لَهُ عَلَى مُعَادَاتِهِ وَالثَّانِي: أَنْ يُذْهِبَ عَدَاوَتَهُ بِإِرْضَائِهِ، فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ أَمَرَهُمْ بِالْعَدَاوَةِ وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الطَّرِيقَ لَيْسَ إِلَّا هَذَا، وَأَمَّا الطَّرِيقُ الْآخَرُ وَهُوَ الْإِرْضَاءُ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ لأنكم إذا رأيتموه وَاتَّبَعْتُمُوهُ فَهُوَ لَا يُؤَدِّيكُمْ إِلَّا إِلَى السَّعِيرِ. واعلم أن من علم أن له عدو لَا مَهْرَبَ لَهُ مِنْهُ وَجَزَمَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقِفُ عِنْدَهُ وَيَصْبِرُ عَلَى قِتَالِهِ وَالصَّبْرُ مَعَهُ الظَّفَرُ، فَكَذَلِكَ الشَّيْطَانُ لَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَهْرُبَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مَعَهُ، وَلَا يَزَالُ يَتْبَعُهُ إِلَّا أَنْ يَقِفَ لَهُ وَيَهْزِمَهُ، فَهَزِيمَةُ الشَّيْطَانِ بِعَزِيمَةِ الْإِنْسَانِ، فَالطَّرِيقُ الثَّبَاتُ عَلَى الْجَادَّةِ وَالِاتِّكَالُ على العبادة.

[سورة فاطر (35) : آية 7]

[سورة فاطر (35) : آية 7] الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَ حِزْبِهِ وَحَالَ حِزْبِ اللَّهِ. فَقَالَ: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ فَالْمُعَادِي لِلشَّيْطَانِ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ فِي عَذَابٍ ظَاهِرٍ وَلَيْسَ بِشَدِيدٍ، وَالْإِنْسَانُ إِذَا كَانَ عَاقِلًا يَخْتَارُ الْعَذَابَ الْمُنْقَطِعَ الْيَسِيرَ دَفْعًا لِلْعَذَابِ الشديد المؤبد ألا ترى أن الإنسان إذا عَرَضَ فِي طَرِيقِهِ شَوْكٌ وَنَارٌ وَلَا يَكُونُ لَهُ بُدٌّ مِنْ أَحَدِهِمَا يَتَخَطَّى الشَّوْكَ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ وَنِسْبَةُ النَّارِ الَّتِي فِي الدُّنْيَا إِلَى النَّارِ الَّتِي فِي الْآخِرَةِ دُونَ نِسْبَةِ الشَّوْكِ إِلَى النَّارِ الْعَاجِلَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ قَدْ ذُكِرَ تَفْسِيرُهُ مِرَارًا، / وَبُيِّنَ فِيهِ أَنَّ الإيمان في مقابلته المغفرة فلا يؤبده مُؤْمِنٌ فِي النَّارِ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ فِي مُقَابَلَتِهِ الأجر الكبير ثم قال تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 8] أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) يَعْنِي لَيْسَ مَنْ عَمِلَ سَيِّئًا كَالَّذِي عَمِلَ صَالِحًا، كَمَا قَالَ بَعْدَ هَذَا بِآيَاتٍ وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ [فاطر: 19] وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُسِيءِ الْكَافِرِ وَالْمُحْسِنِ الْمُؤْمِنِ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ يَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ يَعْمَلُ سَيِّئًا إِلَّا قَلِيلٌ، فَكَانَ الْكَافِرُ يَقُولُ الَّذِي لَهُ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ هُوَ الَّذِي يَتْبَعُ الشَّيْطَانَ وَهُوَ مُحَمَّدٌ وَقَوْمُهُ الَّذِينَ اسْتَهْوَتْهُمُ الْجِنُّ فَاتَّبَعُوهَا، وَالَّذِي لَهُ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ نَحْنُ الَّذِينَ دُمْنَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُنَا فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَسْتُمْ أَنْتُمْ بِذَلِكَ فَإِنَّ الْمُحْسِنَ غير، ومن زين له العمل السيء فَرَآهُ حَسَنًا غَيْرٌ، بَلِ الَّذِينَ زُيِّنَ لَهُمُ السيء دُونَ مَنْ أَسَاءَ وَعَلِمَ أَنَّهُ مُسِيءٌ فَإِنَّ الْجَاهِلَ الَّذِي يَعْلَمُ جَهْلَهُ وَالْمُسِيءَ الَّذِي يَعْلَمُ سُوءَ عَمَلِهِ يَرْجِعُ وَيَتُوبُ وَالَّذِي لَا يَعْلَمُ يُصِرُّ عَلَى الذُّنُوبِ وَالْمُسِيءُ الْعَالِمُ لَهُ صِفَةُ ذَمٍّ بِالْإِسَاءَةِ وَصِفَةُ مَدْحٍ بِالْعِلْمِ. وَالْمُسِيءُ الَّذِي يَرَى الْإِسَاءَةَ إِحْسَانًا لَهُ صِفَتَا ذَمٍّ الْإِسَاءَةُ وَالْجَهْلُ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْكُلَّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ أَشْخَاصُهُمْ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْإِسَاءَةُ وَالْإِحْسَانُ، وَالسَّيِّئَةُ وَالْحَسَنَةُ يَمْتَازُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ فَإِذَا عَرَفَهَا الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ بِاسْتِقْلَالٍ مِنْهُمْ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِنَادِ إِلَى إِرَادَةِ اللَّهِ. ثُمَّ سلى رسول الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ حَيْثُ حَزِنَ مِنْ إِصْرَارِهِمْ بَعْدَ إِتْيَانِهِ بِكُلِّ آيَةٍ ظَاهِرَةٍ وَحُجَّةٍ بَاهِرَةٍ فَقَالَ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ [الْكَهْفِ: 6] . ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ حُزْنَهُ إِنْ كَانَ لِمَا بِهِمْ مِنَ الضَّلَالِ فَاللَّهُ عَالِمٌ بِهِمْ وَبِمَا يَصْنَعُونَ لَوْ أَرَادَ إِيمَانَهُمْ وَإِحْسَانَهُمْ لَصَدَّهُمْ عَنِ الضَّلَالِ وَرَدَّهُمْ عَنِ الْإِضْلَالِ، وَإِنْ كَانَ لِمَا بِهِ منهم من الإيذاء فالله عالم بفعلهم يجازيهم على ما يصنعون. ثم عاد إلى البيان فقال تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 9] وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) هُبُوبُ الرِّيَاحِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْهَوَاءَ قَدْ يَسْكُنُ، وَقَدْ يَتَحَرَّكُ وَعِنْدَ حَرَكَتِهِ قَدْ

[سورة فاطر (35) : آية 10]

يَتَحَرَّكُ إِلَى الْيَمِينِ، وَقَدْ يَتَحَرَّكُ إِلَى الْيَسَارِ، وَفِي حَرَكَاتِهِ الْمُخْتَلِفَةِ قَدْ يُنْشِئُ السَّحَابَ، وَقَدْ لَا يُنْشِئُ، فَهَذِهِ الِاخْتِلَافَاتُ دَلِيلٌ عَلَى مُسَخِّرٍ مُدَبِّرٍ وَمُؤَثِّرٍ مُقَدِّرٍ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَقَالَ: فَتُثِيرُ سَحاباً بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَسْنَدَ فِعْلَ الْإِرْسَالِ إِلَى اللَّهِ وَمَا يَفْعَلُ اللَّهُ يَكُونُ بِقَوْلِهِ كُنْ فَلَا يَبْقَى فِي الْعَدَمِ لَا زَمَانًا وَلَا جُزْءًا مِنَ الزَّمَانِ، فَلَمْ يَقُلْ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ لِوُجُوبِ وُقُوعِهِ وَسُرْعَةِ كَوْنِهِ كَأَنَّهُ كَانَ وَكَأَنَّهُ فَرَغَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ قَدَّرَ الْإِرْسَالَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَعْلُومَةِ إِلَى الْمَوَاضِعِ الْمُعَيَّنَةِ وَالتَّقْدِيرُ كَالْإِرْسَالِ، وَلَمَّا أَسْنَدَ فِعْلَ الْإِثَارَةِ إِلَى الرِّيحِ وَهُوَ يؤلف في زمان فقال: فَتُثِيرُ أَيْ عَلَى هَيْئَتِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ: أَرْسَلَ إسنادا للفعل إلى الغائب وقال: فَسُقْناهُ بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَأَحْيَيْنا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ عَرَّفَ نَفْسَهُ بِفِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ وَهُوَ الْإِرْسَالُ، ثُمَّ لَمَّا عُرِفَ قَالَ: أَنَا الَّذِي عَرَفْتَنِي سُقْتُ السَّحَابَ وَأَحْيَيْتُ الْأَرْضَ فَنَفْيُ الْأَوَّلِ كَانَ تَعْرِيفًا بِالْفِعْلِ الْعَجِيبِ، وَفِي الثَّانِي كَانَ تَذْكِيرًا بِالنِّعْمَةِ فَإِنَّ كما [ل] «1» نعمة الرياح والسحب بالسوق والإحياء وقوله: فَسُقْناهُ ... فَأَحْيَيْنا بِصِيغَةِ الْمَاضِي يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ بين قوله: أَرْسَلَ وبين قوله: (فَتُثِيرُ) . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا وَجْهُ التَّشْبِيهِ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ النُّشُورُ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَرْضَ الْمَيِّتَةَ لَمَّا قَبِلَتِ الْحَيَاةَ اللَّائِقَةَ بِهَا كَذَلِكَ الْأَعْضَاءُ تَقْبَلُ الْحَيَاةَ وَثَانِيهَا: كَمَا أَنَّ الرِّيحَ يَجْمَعُ الْقِطَعَ السَّحَابِيَّةَ كَذَلِكَ يُجْمَعُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْأَعْضَاءِ وَأَبْعَاضِ الْأَشْيَاءِ وَثَالِثُهَا: كَمَا أَنَّا نَسُوقُ الرِّيحَ وَالسَّحَابَ إِلَى الْبَلَدِ الْمَيِّتِ نَسُوقُ الرُّوحَ وَالْحَيَاةَ إِلَى الْبَدَنِ الْمَيِّتِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ بَيْنِ الْآيَاتِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ، فَنَقُولُ لما ذكر الله أنه فاطر السموات وَالْأَرْضِ، وَذَكَرَ مِنَ الْأُمُورِ السَّمَاوِيَّةِ الْأَرْوَاحَ وَإِرْسَالَهَا بقوله: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1] ذَكَرَ مِنَ الْأُمُورِ الْأَرْضِيَّةِ الرِّيَاحَ وَإِرْسَالَهَا بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ. ثم قال تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 10] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) لَمَّا بَيَّنَ بُرْهَانَ الْإِيمَانِ إِشَارَةً إِلَى مَا كَانَ يَمْنَعُ الْكُفَّارَ مِنْهُ وَهُوَ الْعِزَّةُ الظَّاهِرَةُ الَّتِي كَانُوا يَتَوَهَّمُونَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ مَا كَانُوا فِي طَاعَةِ أَحَدٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَنْ يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ، فَكَانُوا يَنْحِتُونَ الْأَصْنَامَ وَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ هَذِهِ آلِهَتُنَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا يَنْقُلُونَهَا مَعَ أَنْفُسِهِمْ وَأَيَّةُ عِزَّةٍ فَوْقَ الْمَعِيَّةِ مَعَ الْمَعْبُودِ فَهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ الْعِزَّةَ وَهِيَ عَدَمُ التَّذَلُّلِ لِلرَّسُولِ وَتَرْكُ الِاتِّبَاعِ لَهُ، فَقَالَ إِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَ بِهَذَا الْكُفْرِ الْعِزَّةَ فِي الْحَقِيقَةِ، فَهِيَ كُلُّهَا لِلَّهِ وَمَنْ يَتَذَلَّلُ لَهُ فَهُوَ الْعَزِيزُ، وَمَنْ يَتَعَزَّزُ عَلَيْهِ فَهُوَ الذَّلِيلُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ

_ (1) في الأصل الأميري «فإن كما نعمة» ولا معنى لها وقد زدت اللام ليستقيم الكلام.

[الْمُنَافِقُونَ: 8] فَقَوْلُهُ: جَمِيعاً يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا عِزَّةَ لِغَيْرِهِ فَنَقُولُ قَوْلُهُ: فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ أَيْ فِي الْحَقِيقَةِ وَبِالذَّاتِ وَقَوْلُهُ: وَلِرَسُولِهِ أَيْ بِوَاسِطَةِ الْقُرْبِ مِنَ الْعَزِيزِ وَهُوَ اللَّهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِوَاسِطَةِ قُرْبِهِمْ مِنَ الْعَزِيزِ بِاللَّهِ وَهُوَ الرَّسُولُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِزَّةَ الْمُؤْمِنِينَ بِوَاسِطَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: 31] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ تَقْرِيرٌ لِبَيَانِ الْعِزَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ لَا نَعْبُدُ مَنْ لَا نَرَاهُ وَلَا نَحْضُرُ عِنْدَهُ، لِأَنَّ الْبُعْدَ مِنَ الْمَلِكِ ذِلَّةٌ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ لَا تَصِلُونَ إِلَيْهِ، فَهُوَ يَسْمَعُ كَلَامَكُمْ وَيَقْبَلُ الطَّيِّبَ فَمَنْ قَبِلَ كَلَامَهُ وَصَعِدَ إِلَيْهِ فَهُوَ عَزِيزٌ وَمَنْ رَدَّ كَلَامَهُ فِي وَجْهِهِ فَهُوَ ذَلِيلٌ، وَأَمَّا هَذِهِ الْأَصْنَامُ لَا يَتَبَيَّنُ عِنْدَهَا الذَّلِيلُ مِنَ الْعَزِيزِ إِذْ لَا عِلْمَ لَهَا فَكُلُّ أَحَدٍ يمسها وكذلك يرى عملكم فَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا رَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَمَنْ عَمِلَ سَيِّئًا رَدَّهُ عَلَيْهِ فَالْعَزِيزُ مَنِ الَّذِي عَمَلُهُ لِوَجْهِهِ وَالذَّلِيلُ مَنْ يُدْفَعُ الَّذِي عَمِلَهُ فِي وَجْهِهِ، وَأَمَّا هَذِهِ الْأَصْنَامُ فَلَا تَعْلَمُ شَيْئًا فَلَا عَزِيزَ يُرْفَعُ عِنْدَهَا وَلَا ذَلِيلَ، فَلَا عِزَّةَ بِهَا بَلْ عَلَيْهَا ذِلَّةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذِلَّةَ السَّيِّدِ ذِلَّةٌ لِلْعَبْدِ وَمَنْ كَانَ مَعْبُودُهُ وَرَبُّهُ وَإِلَهُهُ حِجَارَةً أَوْ خَشَبًا مَاذَا يَكُونُ هُوَ!. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: كَلِمَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ هِيَ الطَّيِّبَةُ وَثَانِيهَا: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ طَيِّبٌ ثَالِثُهَا: هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الْأَرْبَعُ وَخَامِسَةٌ وَهِيَ تَبَارَكَ اللَّهُ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ أَوْ هُوَ لِلَّهِ كَالنَّصِيحَةِ وَالْعِلْمِ، فَهُوَ إِلَيْهِ يَصْعَدُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَفِي الْهَاءِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: هِيَ عَائِدَةٌ إِلَى الْكَلِمِ الطَّيِّبِ أَيِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُهُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ قَوْلًا بِلَا عَمَلٍ» وَثَانِيهِمَا: هِيَ عَائِدَةٌ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَعَلَى هَذَا فِي الْفَاعِلِ الرَّافِعِ وَجْهَانِ: أحدهما: هو الكلم الطيب أي الْكَلِمُ الطَّيِّبُ يَرْفَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُهُ قوله تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النحل: 97] وَثَانِيهِمَا: الرَّافِعُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا وَجْهُ تَرْجِيحِ الذِّكْرِ عَلَى الْعَمَلِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي حَيْثُ يَصْعَدُ الْكَلِمُ/ بِنَفْسِهِ وَيُرْفَعُ الْعَمَلُ بِغَيْرِهِ، فَنَقُولُ الْكَلَامُ شَرِيفٌ، فَإِنَّ امْتِيَازَ الْإِنْسَانِ عَنْ كُلِّ حَيَوَانٍ بِالنُّطْقِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الْإِسْرَاءِ: 70] أَيْ بِالنَّفْسِ النَّاطِقَةِ وَالْعَمَلُ حَرَكَةٌ وَسُكُونٌ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْإِنْسَانُ وَغَيْرُهُ، وَالشَّرِيفُ إِذَا وَصَلَ إِلَى بَابِ الْمَلِكِ لَا يُمْنَعُ وَمَنْ دُونَهُ لَا يَجِدُ الطَّرِيقَ إِلَّا عِنْدَ الطَّلَبِ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ إِنْ كَانَ عَنْ صِدْقٍ أَمِنَ عَذَابَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا أَمِنَ فِي نَفْسِهِ وَدَمِهِ وَأَهْلِهِ وَحَرَمِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَا كَذَلِكَ الْعَمَلُ بِالْجَوَارِحِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [البقرة: 82] ، وَوَجْهٌ آخَرُ: الْقَلْبُ هُوَ الْأَصْلُ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» وَمَا فِي الْقَلْبِ لَا يَظْهَرُ إِلَّا بِاللِّسَانِ وَمَا فِي اللسان لا يتبين صدقه إلا بالفعل، فالقول أقرب إلى القلب من الفعل، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ إِلَّا عَنْ قَلْبٍ، وَأَمَّا الْفِعْلُ قَدْ يَكُونُ لَا عَنْ قَلْبٍ كَالْعَبَثِ بِاللِّحْيَةِ وَلِأَنَّ النَّائِمَ لَا يَخْلُو عَنْ فِعْلٍ مِنْ حَرَكَةٍ وَتَقَلُّبٍ وَهُوَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ لَا يَتَكَلَّمُ فِي نَوْمِهِ إِلَّا نَادِرًا، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَلَامَ بِالْقَلْبِ وَلَا كَذَلِكَ الْعَمَلُ، فَالْقَوْلُ أَشْرَفُ.

[سورة فاطر (35) : آية 11]

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْمَكْرُ لَا يَتَعَدَّى فَبِمَ انْتِصَابُ السَّيِّئَاتِ؟ وَقَالَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ الْمَكَرَاتِ السَّيِّئَاتِ فَهُوَ وَصْفُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ اسْتُعْمِلَ الْمَكْرُ اسْتِعْمَالَ الْعَمَلِ فعداه تعديته كما قال: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ [العنكبوت: 4] وفي قوله: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ يَحْتَمِلُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنْ يَكُونَ السَّيِّئَاتُ وَصْفًا لِمَصْدَرٍ تَقْدِيرُهُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الْعَمَلَاتِ السَّيِّئَاتِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ هَذَا فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ إِشَارَةً إِلَى بَقَائِهِ وَارْتِقَائِهِ وَمَكْرُ أُولئِكَ أي العمل السيء وهُوَ يَبُورُ إشارة إلى فنائه. ثم قال تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 11] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) قَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ الدَّلَائِلَ مَعَ كَثْرَتِهَا وَعَدَمِ دُخُولِهَا فِي عَدَدٍ مَحْصُورٍ مُنْحَصِرَةٌ فِي قِسْمَيْنِ دَلَائِلِ الْآفَاقِ وَدَلَائِلِ الْأَنْفُسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فُصِّلَتْ: 53] فلما ذكر دلائل الآفاق من السموات وَمَا يُرْسَلُ مِنْهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَرْضِ وَمَا يُرْسَلُ فِيهَا مِنَ الرِّيَاحِ شَرَعَ/ فِي دَلَائِلِ الْأَنْفُسِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَهُ مِرَارًا وَذَكَرْنَا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ تُرابٍ إِشَارَةٌ إِلَى خَلْقِ آدَمَ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ إِشَارَةٌ خَلْقِ أَوْلَادِهِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْكَلَامَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بَلْ خَلَقَكُمْ خِطَابٌ مَعَ النَّاسِ وَهُمْ أَوْلَادُ آدَمَ كُلُّهُمْ مِنْ تُرَابٍ وَمِنْ نُطْفَةٍ لِأَنَّ كُلَّهُمْ مِنْ نُطْفَةٍ وَالنُّطْفَةَ مِنْ غِذَاءٍ، وَالْغِذَاءَ بِالْآخِرَةِ يَنْتَهِي إِلَى الْمَاءِ وَالتُّرَابِ، فَهُوَ مِنْ تُرَابٍ صَارَ نُطْفَةً. وَقَوْلُهُ: وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِشَارَةٌ إلى كمال العلم، فَإِنَّ مَا فِي الْأَرْحَامِ قَبْلَ الِانْخِلَاقِ بَلْ بَعْدَهُ مَا دَامَ فِي الْبَطْنِ لَا يَعْلَمُ حَالَهُ أَحَدٌ، كَيْفَ وَالْأُمُّ الْحَامِلَةُ لَا تَعْلَمُ مِنْهُ شَيْئًا، فَلَمَّا ذَكَرَ بِقَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ كَمَالَ قُدْرَتِهِ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ كَمَالَ عِلْمِهِ ثُمَّ بَيَّنَ نُفُوذَ إِرَادَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ فَبَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ الْعَالِمُ الْمُرِيدُ وَالْأَصْنَامُ لَا قُدْرَةَ لَهَا وَلَا عِلْمَ وَلَا إِرَادَةَ، فَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ شَيْءٌ مِنْهَا الْعِبَادَةَ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أَيِ الْخَلْقَ مِنَ التُّرَابِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّعْمِيرُ وَالنُّقْصَانُ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْعِلْمَ بِمَا تَحْمِلُهُ الْأُنْثَى يَسِيرٌ وَالْكُلُّ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ فَإِنَّ الْيَسِيرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْفِعْلِ أَلْيَقُ. ثم قال تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 12] وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ ضَرْبُ الْمَثَلِ فِي حَقِّ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ أَوِ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ، فَالْإِيمَانُ لَا يَشْتَبِهُ بِالْكُفْرِ فِي الحسن والنفع كما لا يشبه الْبَحْرَانِ الْعَذْبُ الْفُرَاتُ وَالْمِلْحُ الْأُجَاجُ. ثُمَّ عَلَى هَذَا، فَقَوْلُهُ: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا لِبَيَانِ أَنَّ حَالَ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ أَوِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ دُونَ حَالِ الْبَحْرَيْنِ لِأَنَّ الْأُجَاجَ يُشَارِكُ الْفُرَاتَ فِي خَيْرٍ وَنَفْعٍ إِذِ اللَّحْمُ الطَّرِيُّ يُوجَدُ فِيهِمَا وَالْحِلْيَةُ تُوجَدُ مِنْهُمَا وَالْفُلْكُ تَجْرِي فِيهِمَا، وَلَا نَفْعَ فِي الْكُفْرِ وَالْكَافِرِ، وَهَذَا عَلَى نَسَقِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الْأَعْرَافِ: 179] وَقَوْلِهِ: كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً، وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ [الْبَقَرَةِ: 74] وَالْأَظْهَرُ أَنَّ

[سورة فاطر (35) : آية 13]

الْمُرَادَ مِنْهُ ذِكْرُ دَلِيلٍ آخَرَ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْبَحْرَيْنِ يَسْتَوِيَانِ فِي الصُّورَةِ وَيَخْتَلِفَانِ فِي الْمَاءِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَالْآخَرَ مِلْحٌ/ أُجَاجٌ، وَلَوْ كَانَ ذلك بإيجاب لما اختلف المتساويان، ثُمَّ إِنَّهُمَا بَعْدَ اخْتِلَافِهِمَا يُوجَدُ مِنْهُمَا أُمُورٌ متشابهة، فإن اللحم الطري يوجد فيهما، واللحية تُؤْخَذُ مِنْهُمَا، وَمَنْ يُوجِدُ فِي الْمُتَشَابِهَيْنِ اخْتِلَافًا ومن الْمُخْتَلِفَيْنِ اشْتِبَاهًا لَا يَكُونُ إِلَّا قَادِرًا مُخْتَارًا. وَقَوْلُهُ: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَدَمَ اسْتِوَائِهِمَا دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَنُفُوذِ إِرَادَتِهِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ لَا يُقَالُ فِي مَاءِ الْبَحْرِ إِذَا كَانَ فِيهِ مُلُوحَةٌ مَالِحٌ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ مِلْحٌ، وَقَدْ يُذْكَرُ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفِقْهِ يَصِيرُ بِهَا مَاءُ الْبَحْرِ مَالِحًا، وَيُؤَاخَذُ قَائِلُهُ بِهِ. وَهُوَ أَصَحُّ مِمَّا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَاءَ الْعَذْبَ إِذَا أُلْقِيَ فِيهِ مِلْحٌ حَتَّى مَلُحَ لَا يُقَالُ لَهُ إِلَّا مَالِحٌ، وَمَاءٌ مِلْحٌ يُقَالُ لِلْمَاءِ الَّذِي صَارَ مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَالِحَ شَيْءٌ فِيهِ مِلْحٌ ظَاهِرٌ فِي الذَّوْقِ، وَالْمَاءُ الْمِلْحُ لَيْسَ مَاءً وَمِلْحًا بِخِلَافِ الطَّعَامِ الْمَالِحِ فَالْمَاءُ الْعَذْبُ الْمُلْقَى فِيهِ الْمِلْحُ مَاءٌ فِيهِ مِلْحٌ ظَاهِرٌ فِي الذَّوْقِ، بِخِلَافِ مَا هُوَ مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهِ كَذَلِكَ، فَلَمَّا قَالَ الْفَقِيهُ الْمِلْحُ أَجْزَاءٌ أَرْضِيَّةٌ سَبِخَةٌ يَصِيرُ بِهَا مَاءُ الْبَحْرِ مَالِحًا رَاعَى فِيهِ الْأَصْلَ فَإِنَّهُ جَعَلَهُ مَاءً جَاوَرَهُ مِلْحٌ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ حَيْثُ قَالُوا فِي الْبَحْرِ مَاؤُهُ مِلْحٌ جَعَلُوهُ كَذَلِكَ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَالْأُجَاجِ الْمُرِّ، وَقَوْلُهُ: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا مِنَ الطَّيْرِ وَالسَّمَكِ وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها مِنَ اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ أَيْ مَاخِرَاتٍ تَمْخُرُ الْبَحْرَ بِالْجَرَيَانِ أَيْ تَشُقُّ، وَقَوْلُهُ: لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الِاسْتِدْلَالُ بِالْبَحْرَيْنِ وَمَا فِيهِمَا على وجود الله ووحدانيته وكمال قدرته. ثم قال تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 13] يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) اسْتِدْلَالٌ آخَرُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا، وَذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ جَوَابٌ لِسُؤَالٍ يَذْكُرُهُ الْمُشْرِكُونَ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْقِسِيِّ الْوَاقِعَةِ فَوْقَ الْأَرْضِ وَتَحْتَهَا، فَإِنَّ فِي الصَّيْفِ تمر الشمس على سمت الرؤوس فِي بَعْضِ الْبِلَادِ الْمَاثِلَةِ فِي الْآفَاقِ، وَحَرَكَةُ الشَّمْسِ هُنَاكَ حَمَائِلِيَّةٌ فَتَقَعُ تَحْتَ الْأَرْضِ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ دَائِرَةٍ زَمَانَ مُكْثِهَا تَحْتَ الْأَرْضِ فَيَقْصُرُ اللَّيْلُ وَفِي الشِّتَاءِ بِالضِّدِّ فَيَقْصُرُ النَّهَارُ فَقَالَ اللَّهُ/ تَعَالَى: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يَعْنِي سَبَبَ الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمْ، لَكِنَّ سَيْرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ فَهُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. أَيْ ذَلِكَ الذي فعل هذه الأشياء من فطر السموات وَالْأَرْضِ وَإِرْسَالِ الْأَرْوَاحِ وَإِرْسَالِ الرِّيَاحِ وَخَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ تُرَابٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَهُ الْمُلْكُ كُلُّهُ فَلَا مَعْبُودَ إِلَّا هُوَ لِذَاتِهِ الْكَامِلِ وَلِكَوْنِهِ مَلِكًا وَالْمَلِكُ مَخْدُومٌ بِقَدْرِ مُلْكِهِ، فَإِذَا كَانَ لَهُ الْمُلْكُ كُلُّهُ فَلَهُ الْعِبَادَةُ كُلُّهَا، ثُمَّ بَيَّنَ مَا يُنَافِي صِفَةَ الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ، وَهَهُنَا لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ لِنَفْسِهِ نَوْعَيْنِ مِنَ الْأَوْصَافِ أَحَدُهُمَا: إِنَّ الخلق بالقدرة الإرادة وَالثَّانِي: الْمُلْكُ وَاسْتُدِلَّ بِهِمَا عَلَى أَنَّهُ إِلَهٌ مَعْبُودٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ [النَّاسِ: 1- 3] ذَكَرَ الرَّبَّ وَالْمَلِكَ وَرَتَّبَ عَلَيْهِمَا كَوْنَهُ إِلَهًا أَيْ مَعْبُودًا، وَذَكَرَ فِيمَنْ أَشْرَكُوا

[سورة فاطر (35) : آية 14]

بِهِ سَلْبَ صِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ عَدَمُ الْمِلْكِ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ سَلْبَ الْوَصْفِ الْآخَرِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّهُمْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنْ لَا خَالِقَ لَهُمْ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّمَا كَانُوا يَقُولُونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوَّضَ أَمْرَ الْأَرْضِ وَالْأَرْضِيَّاتِ إِلَى الْكَوَاكِبِ الَّتِي الْأَصْنَامُ عَلَى صُورَتِهَا وَطَوَالِعِهَا فَقَالَ: لَا مِلْكَ لَهُمْ وَلَا مَلَّكَهُمُ اللَّهُ شَيْئًا وَلَا مَلَكُوا شَيْئًا وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْمِلْكِ عَدَمُ الْخَلْقِ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَقَ شَيْئًا لَمَلَكَهُ فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ قطميرا ما خلق قليلا ولا كثيرا. ثم قال تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 14] إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) إِبْطَالًا لِمَا كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ عِزَّةٌ مِنْ حَيْثُ الْقُرْبِ مِنْهَا وَالنَّظَرِ إِلَيْهَا وَعَرْضِ الْحَوَائِجِ عَلَيْهَا، وَاللَّهُ لَا يَرَى وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ أَحَدٌ فَقَالَ هَؤُلَاءِ لَا يَسْمَعُونَ دُعَاءَكُمْ وَاللَّهُ يصعد إليه الكلم الطيب، ليسمع وَيَقْبَلُ ثُمَّ نَزَلَ عَنْ تِلْكَ الدَّرَجَةِ، وَقَالَ هَبْ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ كَمَا يَظُنُّونَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِأَنَّ الْأَصْنَامَ تَسْمَعُ وَتَعْلَمُ وَلَكِنْ مَا كَانَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِنَّهُمْ يُجِيبُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنْكَارٌ لِلْمُحَسِّ بِهِ وَعَدَمَ سَمَاعِهِمْ إِنْكَارٌ لِلْمَعْقُولِ وَالنِّزَاعُ وَإِنْ كَانَ يَقَعُ فِي الْمَعْقُولِ فَلَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ فِي الْمُحَسِّ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ لَمَّا بَيَّنَ عَدَمَ النَّفْعِ فِيهِمْ فِي الدُّنْيَا بَيَّنَ عَدَمَ النَّفْعِ مِنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ أَشَارَ إِلَى وُجُودِ الضَّرَرِ مِنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أَيْ بِإِشْرَاكِكُمْ بالله شيئا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] أَيِ/ الْإِشْرَاكُ وَقَوْلُهُ: وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خطابا مع النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ الْخَشَبَ وَالْحَجَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَنْطِقُ وَيُكَذِّبُ عَابِدَهُ وَذَلِكَ أَمْرٌ لَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ لَوْلَا إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ كَوْنِ الْخَبَرِ عَنْهُ أَمْرًا عَجِيبًا هُوَ كَمَا قَالَ، لِأَنَّ الْمُخْبِرَ عَنْهُ خَبِيرٌ وَثَانِيهِمَا: هُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا غَيْرَ مُخْتَصٍّ بِأَحَدٍ، أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَ هُوَ كَمَا قَالَ: وَلا يُنَبِّئُكَ أَيُّهَا السَّامِعُ كَائِنًا مَنْ كُنْتَ مِثْلُ خَبِيرٍ. ثم قال تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 15] يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) لَمَّا كَثُرَ الدُّعَاءُ من النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَالْإِصْرَارُ مِنَ الْكُفَّارِ وَقَالُوا إِنَّ اللَّهَ لَعَلَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى عِبَادَتِنَا حَتَّى يَأْمُرَنَا بِهَا أَمْرًا بَالِغًا وَيُهَدِّدَنَا عَلَى تَرْكِهَا مُبَالِغًا فَقَالَ تَعَالَى: أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ فَلَا يَأْمُرُكُمْ بِالْعِبَادَةِ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَيْكُمْ وَإِنَّمَا هُوَ لِإِشْفَاقِهِ عَلَيْكُمْ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّعْرِيفُ فِي الْخَبَرِ قَلِيلٌ وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ نَكِرَةً وَالْمُبْتَدَأُ مَعْرِفَةً وَهُوَ مَعْقُولٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ لَا يُخْبِرُ فِي الْأَكْثَرِ إِلَّا بِأَمْرٍ لَا يَكُونُ عِنْدَ الْمُخْبَرِ بِهِ عِلْمٌ أَوْ فِي ظَنِّ الْمُتَكَلِّمِ أَنَّ السَّامِعَ لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، ثُمَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا عِنْدَ السَّامِعِ حَتَّى يَقُولَ لَهُ أَيُّهَا السَّامِعُ الْأَمْرَ الَّذِي تَعْرِفُهُ أَنْتَ فِيهِ الْمَعْنَى الْفُلَانِيُّ كَقَوْلِ الْقَائِلِ زَيْدٌ قَائِمٌ أَوْ قَامَ أَيْ زَيْدٌ الَّذِي تَعْرِفُهُ ثَبَتَ لَهُ قِيَامٌ لَا عِلْمَ عِنْدَكَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ مَعْلُومًا عِنْدَ السَّامِعِ وَالْمُبْتَدَأُ كَذَلِكَ وَيَقَعُ الْخَبَرُ تَنْبِيهًا لَا تَفْهِيمًا يَحْسُنُ تَعْرِيفُ الْخَبَرِ غَايَةَ الْحُسْنِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: اللَّهُ رَبُّنَا وَمُحَمَّدٌ نَبِيُّنَا، حَيْثُ عُرِفَ كَوْنُ اللَّهِ رَبًّا، وَكَوْنُ مُحَمَّدٍ نبيا، وهاهنا لَمَّا كَانَ كَوْنُ النَّاسِ فُقَرَاءَ أَمْرًا ظَاهِرًا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ قَالَ: أَنْتُمُ الْفُقَراءُ.

[سورة فاطر (35) : آية 16]

المسألة الثانية: قوله: إِلَى اللَّهِ إِعْلَامٌ بِأَنَّهُ لَا افْتِقَارَ إِلَّا إِلَيْهِ وَلَا اتِّكَالَ إِلَّا عَلَيْهِ وَهَذَا يُوجِبُ عِبَادَتَهُ لِكَوْنِهِ مُفْتَقَرًا إِلَيْهِ وَعَدَمَ عِبَادَةِ غَيْرِهِ لِعَدَمِ الِافْتِقَارِ إِلَى غَيْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ أَيْ هُوَ مَعَ اسْتِغْنَائِهِ يَدْعُوكُمْ كُلَّ الدُّعَاءِ وَأَنْتُمْ مِنِ احْتِيَاجِكُمْ لَا تُجِيبُونَهُ وَلَا تَدْعُونَهُ فَيُجِيبُكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: الْحَمِيدُ لَمَّا زَادَ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْتُمُ الْفُقَراءُ زِيَادَةً وَهُوَ قَوْلُهُ: إِلَى اللَّهِ إِشَارَةً لِوُجُوبِ حَصْرِ الْعِبَادَةِ فِي عِبَادَتِهِ زَادَ فِي وَصْفِهِ بِالْغَنِيِّ زِيَادَةً وَهُوَ كَوْنُهُ حَمِيدًا إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِكُمْ فُقَرَاءَ وَفِي مُقَابَلَتِهِ اللَّهُ غَنِيٌّ وَفَقْرُكُمْ إِلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ لِكَوْنِهِ حَمِيدًا وَاجِبَ الشُّكْرِ، فَلَسْتُمْ أَنْتُمْ فُقَرَاءَ وَاللَّهُ مِثْلَكُمْ فِي الْفَقْرِ بَلْ هُوَ غَنِيٌّ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَسْتُمْ أَنْتُمْ لَمَّا افْتَقَرْتُمْ إِلَيْهِ تَرَكَكُمْ غَيْرَ مَقْضِيِّ الْحَاجَاتِ بَلْ قَضَى فِي الدُّنْيَا حَوَائِجَكُمْ، وَإِنْ آمَنْتُمْ يَقْضِي فِي الْآخِرَةِ حوائجكم فهو حميد. / ثم قال تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 16] إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) بَيَانًا لِغِنَاهُ وَفِيهِ بَلَاغَةٌ كَامِلَةٌ وَبَيَانُهَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيْ لَيْسَ إِذْهَابُكُمْ مَوْقُوفًا إِلَّا عَلَى مَشِيئَتِهِ بِخِلَافِ الشَّيْءِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُحْتَاجَ لَا يَقُولُ فِيهِ إِنْ يَشَأْ فُلَانٌ هَدَمَ دَارَهُ وَأَعْدَمَ عَقَارَهُ، وَإِنَّمَا يَقُولُ لَوْلَا حَاجَةُ السُّكْنَى إِلَى الدَّارِ لَبِعْتُهَا أَوْ لَوْلَا الِافْتِقَارُ إِلَى الْعَقَارِ لَتَرَكْتُهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى زَادَ بَيَانَ الِاسْتِغْنَاءِ بِقَوْلِهِ: وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ يَعْنِي إِنْ كَانَ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٍ أَنَّ هَذَا الْمَلِكَ لَهُ كَمَالٌ وَعَظَمَةٌ فَلَوْ أَذْهَبَهُ لَزَالَ مُلْكُهُ وَعَظَمَتُهُ فَهُوَ قَادِرٌ بِأَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا جَدِيدًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا وَأَجْمَلَ وأتم وأكمل. ثم قال تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 17] وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) أَيِ الْإِذْهَابُ والإتيان وهاهنا مَسْأَلَةٌ: وَهِيَ أَنَّ لَفْظَ الْعَزِيزِ اسْتَعْمَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَارَةً فِي الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ: وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [الْأَحْزَابِ: 25] وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فَاطِرٍ: 28] وَاسْتَعْمَلَهُ فِي الْقَائِمِ بِغَيْرِهِ حَيْثُ قَالَ: وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ وَقَالَ: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [التَّوْبَةِ: 128] فَهَلْ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَمْ بِمَعْنَيَيْنِ؟ فَنَقُولُ الْعَزِيزُ هو الغالب في اللغة يقال من عزيز أَيْ مَنْ غَلَبَ سَلَبَ، فَاللَّهُ عَزِيزٌ أَيْ غَالِبٌ وَالْفِعْلُ إِذَا كَانَ لَا يُطِيقُهُ شَخْصٌ يُقَالُ هُوَ مَغْلُوبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ فَقَوْلُهُ: وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أَيْ لَا يَغْلِبُ اللَّهَ ذَلِكَ الْفِعْلُ بَلْ هُوَ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ وَقَوْلُهُ: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ أي يحزنه ويؤذيه كالشغل الغالب. [سورة فاطر (35) : آية 18] وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْحَقَّ بِالدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْبَاهِرَةِ ذَكَرَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَى النَّظَرِ فِيهِ فَقَالَ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أَيْ لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ ذَنْبَ نَفْسٍ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ كَاذِبًا فِي دُعَائِهِ لَكَانَ مُذْنِبًا وَهُوَ مُعْتَقِدٌ بِأَنَّ ذَنْبَهُ لَا تَحْمِلُونَهُ أَنْتُمْ فَهُوَ يَتَوَقَّى وَيَحْتَرِزُ، وَاللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ فَقِيرٍ إِلَى عِبَادَتِكُمْ فَتَفَكَّرُوا

[سورة فاطر (35) : الآيات 19 إلى 22]

وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِنْ ضَلَلْتُمْ فَلَا يَحْمِلُ أَحَدٌ عَنْكُمْ وِزْرَكُمْ وَلَيْسَ كَمَا يَقُولُ: أَكَابِرُكُمُ اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [الْعَنْكَبُوتِ: 12] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وازِرَةٌ أَيْ نَفْسٌ وَازِرَةٌ وَلَمْ يَقُلْ وَلَا تَزِرُ نَفْسٌ وِزْرَ أُخْرَى وَلَا جَمَعَ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ فَلَمْ يَقُلْ وَلَا تَزِرُ نَفْسٌ وَازِرَةٌ وِزْرَةَ أُخْرَى لِفَائِدَةٍ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ وَلَا تَزِرُ نَفْسٌ وِزْرَ أُخْرَى، لَمَّا عَلِمَ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ وَازِرَةٍ مَهْمُومَةٍ بِهَمِّ وِزْرِهَا مُتَحَيِّرَةٍ فِي أَمْرِهَا وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ وَلَا تَزِرُ نَفْسٌ وِزْرَ أُخْرَى، قَدْ يَجْتَمِعُ مَعَهَا أَنْ/ لَا تَزِرَ وِزْرًا أَصْلًا كَالْمَعْصُومِ لَا يَزِرُ وِزْرَ غَيْرِهِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَزِرُ وِزْرًا رَأْسًا فَقَوْلُهُ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ بَيَّنَ أَنَّهَا تَزِرُ وِزْرَهَا وَلَا تَزِرُ وِزْرَ الْغَيْرِ وَأَمَّا تَرْكُ ذِكْرِ الْمَوْصُوفِ فَلِظُهُورِ الصِّفَةِ وَلُزُومِهَا لِلْمَوْصُوفِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَحْمِلُ عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا مُبْتَدِئًا وَلَا بَعْدَ السُّؤَالِ، فَإِنَّ الْمُحْتَاجَ قَدْ يَصْبِرُ وَتُقْضَى حَاجَتُهُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالِهِ، فَإِذَا انْتَهَى الِافْتِقَارُ إِلَى حَدِّ الْكَمَالِ يُحْوِجُهُ إِلَى السُّؤَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: مُثْقَلَةٌ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَالَ أَوَّلًا: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فَيَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا لَا يَحْمِلُ عَنْ أَحَدٍ لِكَوْنِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ قَادِرًا عَلَى حَمْلِهِ، كَمَا أَنَّ الْقَوِيَّ إِذَا أَخَذَ بِيَدِهِ رُمَّانَةً أَوْ سَفَرْجَلَةً لَا تُحْمَلُ عَنْهُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْحِمْلُ ثَقِيلًا قَدْ يُرْحَمُ الْحَامِلُ فَيُحْمَلُ عَنْهُ فَقَالَ: مُثْقَلَةٌ يَعْنِي لَيْسَ عَدَمُ الْوِزْرِ لِعَدَمِ كَوْنِهِ مَحَلًّا لِلرَّحْمَةِ بِالثِّقَلِ بَلْ لِكَوْنِ النَّفْسِ مُثْقَلَةً وَلَا يُحْمَلُ مِنْهَا شَيْءٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: زَادَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى أَيِ الْمَدْعُوُّ لَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى لَا يَحْمِلُهُ وَفِي الْأَوَّلِ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَا يَحْمِلُهُ لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِهِ كَالْعَدُوِّ الَّذِي يَرَى عَدُوَّهُ تَحْتَ ثِقَلٍ، أَوِ الْأَجْنَبِيِّ الَّذِي يَرَى أَجْنَبِيًّا تَحْتَ حِمْلٍ لَا يَحْمِلُ عَنْهُ فَقَالَ: وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى أَيْ يَحْصُلُ جَمِيعُ الْمَعَانِي الدَّاعِيَةِ إِلَى الْحَمْلِ مِنْ كَوْنِ النَّفْسِ وَازِرَةً قَوِيَّةً تَحْتَمِلُ وَكَوْنِ الْأُخْرَى مُثْقَلَةً لَا يُقَالُ كَوْنُهَا قَوِيَّةً قادرة ليس عليها حمل وكونه سَائِلَةً دَاعِيَةً فَإِنَّ السُّؤَالَ مَظِنَّةُ الرَّحْمَةِ، لَوْ كان المسؤول قَرِيبًا فَإِذَنْ لَا يَكُونُ التَّخَلُّفُ إِلَّا لِمَانِعٍ وَهُوَ كَوْنُ كُلِّ نَفْسٍ تَحْتَ حِمْلٍ ثَقِيلٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِشَارَةً إِلَى أَنْ لَا إِرْشَادَ فَوْقَ مَا أَتَيْتُ بِهِ، وَلَمْ يُفِدْهُمْ، فَلَا تُنْذِرُ إِنْذَارًا مُفِيدًا إِلَّا الَّذِينَ تَمْتَلِئُ قُلُوبُهُمْ خَشْيَةً وَتَتَحَلَّى ظَوَاهِرُهُمْ بِالْعِبَادَةِ كَقَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا إشارة إلى عمل القلب وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِشَارَةً إِلَى عَمَلِ الظَّوَاهِرِ فَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى، ثم لما بين أن لا تزر وازرة وزر أخرى بَيَّنَ أَنَّ الْحَسَنَةَ تَنْفَعُ الْمُحْسِنِينَ. فَقَالَ: وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ أَيْ فَتَزْكِيَتُهُ لِنَفْسِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أَيِ الْمُتَزَكِّي إِنْ لَمْ تَظْهَرْ فَائِدَتُهُ عَاجِلًا فَالْمَصِيرُ إِلَى اللَّهِ يَظْهَرُ عِنْدَهُ فِي يَوْمِ اللِّقَاءِ فِي دَارِ الْبَقَاءِ، وَالْوَازِرُ إِنْ لَمْ تَظْهَرْ تَبِعَةُ وِزْرِهِ فِي الدُّنْيَا فَهِيَ تَظْهَرُ فِي الآخرة إذ المصير إلى الله. [سورة فاطر (35) : الآيات 19 الى 22] وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ. لَمَّا بَيَّنَ الْهُدَى وَالضَّلَالَةَ وَلَمْ يَهْتَدِ الْكَافِرُ، وَهَدَى اللَّهُ الْمُؤْمِنَ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا بِالْبَصِيرِ وَالْأَعْمَى، فَالْمُؤْمِنُ بَصِيرٌ حَيْثُ أَبْصَرَ الطَّرِيقَ الْوَاضِحَ وَالْكَافِرُ أَعْمَى، وَفِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ما الفائدة في تكثير الأمثلة هاهنا حَيْثُ ذَكَرَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرَ، وَالظُّلْمَةَ وَالنُّورَ، وَالظِّلَّ وَالْحَرُورَ، وَالْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتَ؟ فَنَقُولُ الْأَوَّلُ مِثْلُ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فَالْمُؤْمِنُ بَصِيرٌ وَالْكَافِرُ أَعْمَى، ثُمَّ إِنَّ الْبَصِيرَ وَإِنْ كَانَ حَدِيدَ الْبَصَرِ وَلَكِنْ لَا يُبْصِرُ شَيْئًا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ضَوْءٍ فَذَكَرَ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ مَثَلًا، وَقَالَ الْإِيمَانُ نُورٌ وَالْمُؤْمِنُ بَصِيرٌ وَالْبَصِيرُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ النُّورُ، وَالْكُفْرُ ظُلْمَةٌ وَالْكَافِرُ أَعْمَى فَلَهُ صَادٌّ فَوْقَ صَادٍّ، ثُمَّ ذَكَرَ لِمَآلِهِمَا وَمَرْجِعِهِمَا مَثَلًا وَهُوَ الظِّلُّ وَالْحَرُورُ، فَالْمُؤْمِنُ بِإِيمَانِهِ فِي ظِلٍّ وَرَاحَةٍ وَالْكَافِرُ بِكُفْرِهِ فِي حَرٍّ وَتَعَبٍ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ مَثَلًا آخَرَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ كَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى حَالُ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فَوْقَ حَالِ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ، فَإِنَّ الْأَعْمَى يُشَارِكُ الْبَصِيرَ فِي إِدْرَاكٍ مَا. وَالْكَافِرَ غَيْرُ مُدْرِكٍ إِدْرَاكًا نَافِعًا فَهُوَ كَالْمَيِّتِ وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى أَعَادَ الْفِعْلَ حَيْثُ قَالَ أَوَّلًا: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَعَطَفَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ وَالظِّلَّ وَالْحَرُورَ، ثُمَّ أَعَادَ الْفِعْلَ، وَقَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ كَأَنَّهُ جَعَلَ هَذَا مُقَابِلًا لِذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَرَّرَ كَلِمَةَ النَّفْيِ بَيْنَ الظُّلُمَاتِ والنور والظل والحرور والأحياء الأموات، وَلَمْ يُكَرِّرْ بَيْنَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّكْرِيرَ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُنَافَاةَ بَيْنَ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ وَالظِّلِّ وَالْحَرُورِ مُضَادَّةٌ، فَالظُّلْمَةُ تُنَافِي النُّورَ وَتُضَادُّهُ وَالْعَمَى وَالْبَصَرُ كَذَلِكَ، أَمَّا الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ قَدْ يَكُونُ بَصِيرًا وَهُوَ بِعَيْنِهِ يَصِيرُ أَعْمَى، فَالْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا إِلَّا مِنْ حَيْثُ الْوَصْفِ، وَالظِّلُّ وَالْحَرُورُ والمنافاة بَيْنَهُمَا ذَاتِيَّةٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الظِّلِّ عَدَمُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ فَلَمَّا كَانَتِ الْمُنَافَاةُ هُنَاكَ أَتَمَّ، أَكَّدَ بِالتَّكْرَارِ، وَأَمَّا الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ، وَإِنْ كَانُوا كَالْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْجِسْمَ الْوَاحِدَ يَكُونُ حَيًّا مَحَلًّا لِلْحَيَاةِ فَيَصِيرُ مَيِّتًا مَحَلًّا لِلْمَوْتِ وَلَكِنَّ الْمُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ أَتَمُّ مِنَ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ، كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرَ يَشْتَرِكَانِ فِي إِدْرَاكِ أَشْيَاءَ، وَلَا كَذَلِكَ الْحَيُّ وَالْمَيِّتُ، كَيْفَ وَالْمَيِّتُ يُخَالِفُ الْحَيَّ فِي الْحَقِيقَةِ لَا فِي الْوَصْفِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَدَّمَ الْأَشْرَفَ فِي مَثَلَيْنِ وَهُوَ الظِّلُّ وَالْحَرُورُ، وَأَخَّرَهُ فِي مَثَلَيْنِ وَهُوَ الْبَصَرُ وَالنُّورُ، وَفِي مِثْلِ هَذَا يَقُولُ الْمُفَسِّرُونَ إِنَّهُ لِتَوَاخِي أَوَاخِرِ الْآيِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ تَوَاخِيَ الْأَوَاخِرِ رَاجِعٌ إِلَى السَّجْعِ، وَمُعْجِزَةُ الْقُرْآنِ فِي الْمَعْنَى لَا فِي مُجَرَّدِ اللَّفْظِ، فَالشَّاعِرُ يُقَدِّمُ وَيُؤَخِّرُ لِلسَّجْعِ فَيَكُونُ اللَّفْظُ حَامِلًا لَهُ عَلَى تَغْيِيرِ الْمَعْنَى، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَالْمَعْنَى فِيهِ صَحِيحٌ واللفظ فصحيح فَلَا يُقَدِّمُ وَلَا يُؤَخِّرُ اللَّفْظَ بِلَا مَعْنًى، فَنَقُولُ الْكُفَّارُ قَبْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَانُوا فِي ضَلَالَةٍ فَكَانُوا كَالْعُمْيِ وَطَرِيقُهُمْ كالظلة ثُمَّ لَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَبَيَّنَ الْحَقَّ، وَاهْتَدَى بِهِ

[سورة فاطر (35) : آية 23]

مِنْهُمْ قَوْمٌ فَصَارُوا بَصِيرِينَ وَطَرِيقَتُهُمْ كَالنُّورِ فَقَالَ وَمَا يَسْتَوِي مَنْ كَانَ قَبْلَ الْبَعْثِ عَلَى الْكُفْرِ وَمَنِ اهْتَدَى بَعْدَهُ إِلَى الْإِيمَانِ، فَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ قَبْلَ الْإِيمَانِ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، وَالْكَافِرُ قَبْلَ الْمُؤْمِنِ قَدَّمَ الْمُقَدَّمَ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ الْمَآلَ وَالْمَرْجِعَ قَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّحْمَةِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَضَبِ لِقَوْلِهِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي، ثُمَّ إِنَّ الْكَافِرَ الْمُصِرَّ بَعْدَ الْبَعْثَةِ صَارَ أَضَلَّ مِنَ الْأَعْمَى وَشَابَهَ الْأَمْوَاتَ فِي عَدَمِ إِدْرَاكِ الْحَقِّ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَقَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَالْأَمْوَاتُ الَّذِينَ تُلِيَتْ عَلَيْهِمُ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ، وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا وَهَؤُلَاءِ كَانُوا بَعْدَ إِيمَانِ مَنْ آمَنَ فَأَخَّرَهُمْ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ لِوُجُودِ حَيَاةِ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ مَمَاتِ الْكَافِرِينَ الْمُعَانِدِينَ، وَقَدَّمَ الْأَعْمَى عَلَى الْبَصِيرِ لِوُجُودِ الْكُفَّارِ الضَّالِّينَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُهْتَدِينَ بَعْدَهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَإِنْ قُلْتَ قَابَلَ الْأَعْمَى بِالْبَصِيرِ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ وَكَذَلِكَ الظِّلُّ بِالْحَرُورِ وَقَابَلَ الْأَحْيَاءَ بِالْأَمْوَاتِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَقَابَلَ الظُّلُمَاتِ بِالنُّورِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فِي أَحَدِهِمَا وَالْوَاحِدِ فِي الْآخَرِ، فَهَلْ تَعْرِفُ فِيهِ حِكْمَةً؟ قُلْتُ: نَعَمْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَهِدَايَتِهِ، أَمَّا فِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ وَالظِّلِّ وَالْحَرُورِ، فَلِأَنَّهُ قَابَلَ الْجِنْسَ بِالْجِنْسِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَفْرَادَ لِأَنَّ فِي الْعُمْيَانِ (وَأُولِي الْأَبْصَارِ قَدْ يُوجَدُ فَرْدٌ مِنْ أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ يُسَاوِي فَرْدًا مِنَ الْجِنْسِ الْآخَرِ كَالْبَصِيرِ الْغَرِيبِ فِي مَوْضِعٍ وَالْأَعْمَى الَّذِي هُوَ تَرْبِيَةُ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَقَدْ يَقْدِرُ الْأَعْمَى عَلَى الْوُصُولِ إِلَى مَقْصِدٍ وَلَا يَقْدِرُ الْبَصِيرُ عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونُ الْأَعْمَى عِنْدَهُ مِنَ الذَّكَاءِ مَا يُسَاوِي بِهِ الْبَلِيدَ الْبَصِيرَ، فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي الْجِنْسَيْنِ مَقْطُوعٌ بِهِ فَإِنَّ جِنْسَ الْبَصِيرِ خَيْرٌ مِنْ جِنْسِ الْأَعْمَى، وَأَمَّا الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ، إِذْ مَا مِنْ مَيِّتٍ يُسَاوِي فِي الْإِدْرَاكِ حَيًّا مِنَ الْأَحْيَاءِ، فَذَكَرَ أَنَّ الْأَحْيَاءَ لَا يُسَاوُونَ الْأَمْوَاتَ سَوَاءٌ قَابَلْتَ الْجِنْسَ بِالْجِنْسِ أَوْ قَابَلْتَ الْفَرْدَ بِالْفَرْدِ، وَأَمَّا الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ فَالْحَقُّ وَاحِدٌ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْبَاطِلُ كَثِيرٌ وَهُوَ طَرْقُ الْإِشْرَاكِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَبَعْضَهُمُ النَّارَ وَبَعْضَهُمُ الْأَصْنَامَ الَّتِي هِيَ عَلَى صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَإِلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَفْرَادِ وَبَيْنَ هَذَا الْوَاحِدِ بَيِّنٌ، فَقَالَ الظُّلُمَاتُ كُلُّهَا إِذَا اعْتَبَرْتَهَا لَا تَجِدُ فِيهَا مَا يُسَاوِي النُّورَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: 1] السَّبَبَ فِي تَوْحِيدِ النُّورِ وَجَمْعِ الظُّلُمَاتِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّ النُّورَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوُجُودِ مُنَوِّرٍ وَمَحَلٍّ قَابِلٍ لِلِاسْتِنَارَةِ وَعَدَمِ الْحَائِلِ بَيْنَ النُّورِ وَالْمُسْتَنِيرِ. مِثَالُهُ الشَّمْسُ/ إِذَا طَلَعَتْ وَكَانَ هُنَاكَ مَوْضِعٌ قَابِلٌ لِلِاسْتِنَارَةِ وَهُوَ الَّذِي يُمْسِكُ الشُّعَاعَ، فَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ كُوَّةٌ يَدْخُلُ مِنْهَا الشُّعَاعُ إِذَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ الْكُوَّةِ مَنْفَذٌ يَخْرُجُ مِنْهُ الشُّعَاعُ وَيَدْخُلُ بَيْتًا آخَرَ وَيَبْسُطُ الشُّعَاعَ عَلَى أَرْضِهِ يُرَى الْبَيْتُ الثَّانِي مُضِيئًا وَالْأَوَّلُ مُظْلِمًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَائِلٌ كَالْبَيْتِ الَّذِي لَا كُوَّةَ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يُضِيءُ، فَإِذَا حَصَلَتِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ يَسْتَنِيرُ الْبَيْتُ وَإِلَّا فَلَا تَتَحَقَّقُ الظُّلْمَةُ بِفَقْدِ أَيِّ أَمْرٍ كَانَ مِنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَفِيهِ احْتِمَالُ مَعْنَيَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَيَانَ كَوْنِ الْكُفَّارِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَمَاعِهِمْ كَلَامَ النَّبِيِّ وَالْوَحْيِ النَّازِلِ عَلَيْهِ دُونَ حَالِ الْمَوْتَى فَإِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ الْمَوْتَى وَالنَّبِيَّ لَا يُسْمِعُ مَنْ مَاتَ وَقُبِرَ، فَالْمَوْتَى سَامِعُونَ مِنَ اللَّهِ وَالْكُفَّارُ كَالْمَوْتَى لَا يَسْمَعُونَ مِنَ النَّبِيِّ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَسْلِيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يُسْمِعُهُمْ قَالَ لَهُ هَؤُلَاءِ لَا يُسْمِعُهُمْ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنَّهُ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَلَوْ كَانَ صَخْرَةً صَمَّاءَ، وَأَمَّا أَنْتَ فَلَا تُسْمِعُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، فَمَا عَلَيْكَ مِنْ حسابهم من شيء. ثم قال تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 23] إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23)

[سورة فاطر (35) : آية 24]

بيانا للتسلية. [سورة فاطر (35) : آية 24] إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً لَمَّا قَالَ: إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ نَذِيرًا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِنَّمَا هُوَ نَذِيرٌ بِإِذْنِ اللَّهِ وَإِرْسَالِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ تَقْرِيرًا لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: لِتَسْلِيَةِ قَلْبِهِ حَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّ غَيْرَهُ كَانَ مِثْلَهُ مُحْتَمِلًا لِتَأَذِّي الْقَوْمِ وَثَانِيهِمَا: إِلْزَامُ الْقَوْمِ قَبُولَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَإِنَّمَا هُوَ مِثْلُ غَيْرِهِ يَدَّعِي مَا ادَّعَاهُ الرُّسُلُ وَيُقَرِّرُهُ. وَقَوْلُهُ تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 25] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) يَعْنِي أَنْتَ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَةِ وَالْكِتَابِ فَكَذَّبُوكَ وَآذَوْكَ وَغَيْرُكَ أَيْضًا أَتَاهُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَفَعَلُوا بِهِمْ مَا فَعَلُوا بِكَ وَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا فَكَذَلِكَ نُلْزِمُهُمْ بِأَنَّ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الرُّسُلِ لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُمْ رُسُلًا إِلَّا بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَقَدْ آتيناها محمدا صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ/ وَالْكُلُّ آتَيْنَاهَا مُحَمَّدًا، فَهُوَ رَسُولٌ مِثْلُ الرُّسُلِ يَلْزَمُهُمْ قَبُولُهُ كَمَا لَزِمَ قَبُولُ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَجْمَعِينَ، وَهَذَا يَكُونُ تَقْرِيرًا مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أُمُورًا ثَلَاثَةً أَوَّلُهَا الْبَيِّنَاتُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ رَسُولٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُعْجِزَةٍ وَهِيَ أَدْنَى الدَّرَجَاتِ، ثُمَّ قَدْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ كِتَابٌ يَكُونُ فِيهِ مَوَاعِظُ وَتَنْبِيهَاتٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَسْخٌ وَأَحْكَامٌ مَشْرُوعَةٌ شَرْعًا نَاسِخًا، وَمَنْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ أَعْلَى مَرْتَبَةً مِمَّنْ لَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَقَدْ تَنْسَخُ شَرِيعَتُهُ الشَّرَائِعَ وَيَنْزِلُ عَلَيْهِ كِتَابٌ فِيهِ أَحْكَامٌ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ فَقَالَ الرُّسُلُ تُبَيِّنُ رِسَالَتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَإِنْ كَانُوا أَعْلَى مَرْتَبَةً فَبِالزُّبُرِ، وَإِنْ كَانُوا أَعْلَى فَبِالْكِتَابِ وَالنَّبِيُّ آتَيْنَاهُ الْكُلَّ فَهُوَ رَسُولٌ أَشْرَفُ مِنَ الْكُلِّ لِكَوْنِ كِتَابِهِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ مِنْ كُلِّ كِتَابٍ. ثُمَّ قال تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 26] ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26) أَيْ مَنْ كَذَّبَ بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ مِنْ قَبْلُ وبالرسول المرسل أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَكَذَلِكَ مَنْ يُكَذِّبُ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَوْلُهُ: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ سُؤَالٌ لِلتَّقْرِيرِ فَإِنَّهُمْ عَلِمُوا شِدَّةَ إِنْكَارِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وإتيانه بالأمر المنكر من الاستئصال. [سورة فاطر (35) : الآيات 27 الى 28] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها.

وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِدَلِيلٍ آخَرَ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَفِي تَفْسِيرِهَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ هَذَا الدَّلِيلَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِخْبَارِ، وَقَالَ: أَلَمْ تَرَ وَذَكَرَ الدَّلِيلَ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِخْبَارِ وقال: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ [فاطر: 9] وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ إِنْزَالَ الْمَاءِ أَقْرَبُ إِلَى النَّفْعِ وَالْمَنْفَعَةُ فِيهِ أَظْهَرُ فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ فِي الرُّؤْيَةِ أَنَّ الْمَاءَ مِنْهُ حَيَاةُ الْأَرْضِ فَعَظَّمَ دَلَالَتَهُ بِالِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الَّذِي لِلتَّقْرِيرِ لَا يُقَالُ إِلَّا فِي الشَّيْءِ الظَّاهِرِ جِدًّا كَمَا أَنَّ مَنْ أَبْصَرَ الْهِلَالَ وَهُوَ خَفِيٌ جِدًّا، فَقَالَ لَهُ غَيْرُهُ أَيْنَ هُوَ، فَإِنَّهُ يَقُولُ لَهُ فِي الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَرَهُ، يَقُولُ لَهُ الْحَقُّ مَعَكَ إِنَّهُ خَفِيٌّ وَأَنْتَ مَعْذُورٌ، وَإِذَا كَانَ بَارِزًا يَقُولُ لَهُ أَمَا تَرَاهُ هَذَا هُوَ ظاهر والثاني: وهو أنه ذكره بعد ما قَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَظَهَرَ بِمَا تَقَدَّمَ لِلْمَدْعُوِّ بِصَارَةٌ بِوُجُوهِ الدَّلَالَاتِ، فَقَالَ لَهُ أَنْتَ صِرْتَ بَصِيرًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ وَلَمْ يَبْقَ لَكَ عُذْرٌ، أَلَا تَرَى هَذِهِ الْآيَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُخَاطَبُ مَنْ هُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَفِيهِ حِكْمَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ وَلَمْ تَنْفَعْهُمْ قَطَعَ الْكَلَامَ مَعَهُمْ وَالْتَفَتَ إِلَى غَيْرِهِمْ، كَمَا أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا نَصَحَ بَعْضَ الْعَبِيدِ وَمَنَعَهُمْ مِنَ الْفَسَادِ وَلَا يَنْفَعُهُمُ الْإِرْشَادُ، يَقُولُ لِغَيْرِهِ اسْمَعْ وَلَا تَكُنْ مِثْلَ هَذَا/ وَيُكَرِّرُ مَعَهُ مَا ذَكَرَهُ مَعَ الْأَوَّلِ وَيَكُونُ فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْأَوَّلَ فِيهِ نَقِيصَةٌ لَا يَسْتَأْهِلُ لِلْخِطَابِ فَيَتَنَبَّهُ لَهُ وَيَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ تِلْكَ النَّقِيصَةَ وَالْآخَرُ: أَنْ لَا يَخْرُجَ إِلَى كَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ عَنِ الْأَوَّلِ، بَلْ يَأْتِي بِمَا يُقَارِبُهُ لِئَلَّا يُسْمِعَ الْأَوَّلَ كَلَامًا آخَرَ فَيَتْرُكَ التَّفَكُّرَ فِيمَا كَانَ فِيهِ مِنَ النَّصِيحَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَاخْتِيَارِهِ حَيْثُ أَخْرَجَ مِنَ الْمَاءِ الْوَاحِدِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفَةً وَفِيهِ لِطَائِفُ الْأُولَى: قَالَ أَنْزَلَ وَقَالَ أَخْرَجْنَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا فَائِدَتَهُ وَنُعِيدُهَا فَنَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا يَقُولُ نُزُولُ الْمَاءِ بِالطَّبْعِ لِثِقَلِهِ فَيُقَالُ لَهُ، فَالْإِخْرَاجُ لَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَقُولَ فِيهِ إِنَّهُ بِالطَّبْعِ فَهُوَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ أَظْهَرَ أَسْنَدَهُ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ وَوَجْهٌ آخَرُ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عُلِمَ اللَّهُ بِدَلِيلٍ، وَقَرُبَ الْمُتَفَكَّرُ فِيهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَصَارَ مِنَ الْحَاضِرِينَ، فَقَالَ لَهُ أَخْرَجْنَا لِقُرْبِهِ وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: الْإِخْرَاجُ أَتَمُّ نِعْمَةً مِنَ الْإِنْزَالِ، لِأَنَّ الْإِنْزَالَ لِفَائِدَةِ الْإِخْرَاجِ فَأَسْنَدَ الْأَتَمَّ إِلَى نَفْسِهِ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَا دُونَهُ بِصِيغَةِ الغائب. اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ. كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ اخْتِلَافُ الثَّمَرَاتِ لِاخْتِلَافِ الْبِقَاعِ. أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَ النَّبَاتَاتِ لَا تَنْبُتُ بِبَعْضِ الْبِلَادِ كَالزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِهِ، فَقَالَ تَعَالَى اخْتِلَافُ الْبِقَاعِ لَيْسَ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَإِلَّا فَلِمَ صَارَ بَعْضُ الْجِبَالِ فِيهِ مَوَاضِعُ حُمْرٌ وَمَوَاضِعُ بِيضٌ، وَالْجُدَدُ جَمْعُ جُدَّةٍ وَهِيَ الْخُطَّةُ أَوِ الطَّرِيقَةُ، فَإِنْ قِيلَ الْوَاوُ فِي: وَمِنَ الْجِبالِ مَا تَقْدِيرُهَا؟ نَقُولُ هِيَ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ لِلِاسْتِئْنَافِ كَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى وَأَخْرَجْنَا بِالْمَاءِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفَةَ الْأَلْوَانِ، وَفِي الْأَشْيَاءِ الْكَائِنَاتِ مِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ دَالَّةٌ عَلَى الْقُدْرَةِ، رَادَّةٌ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ الْإِرَادَةَ فِي اخْتِلَافِ أَلْوَانِ الثِّمَارِ ثَانِيهِمَا: أَنْ تَكُونَ لِلْعَطْفِ تَقْدِيرُهَا وَخَلَقَ مِنَ الْجِبَالِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرَادَ ذُو جُدَدٍ وَاللَّطِيفَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الْجِبَالَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَرْضَ كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ [الرَّعْدِ: 4] مَعَ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْأَوَّلِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ كَانَ نَفْسُ إِخْرَاجِ الثِّمَارِ دَلِيلًا عَلَى الْقُدْرَةِ ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ بَيَانًا، وَقَالَ مُخْتَلِفًا كَذَلِكَ فِي الْجِبَالِ فِي نَفْسِهَا دَلِيلٌ لِلْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، لِأَنَّ كون الجبال

[سورة فاطر (35) : آية 29]

فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْأَرْضِ دُونَ بَعْضِهَا وَالِاخْتِلَافُ الَّذِي فِي هَيْئَةِ الْجَبَلِ فَإِنَّ بَعْضَهَا يَكُونُ أَخْفَضَ وَبَعْضَهَا أَرْفَعَ دَلِيلُ الْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ، ثُمَّ زَادَهُ بَيَانًا وَقَالَ جُدَدٌ بِيضٌ، أَيْ مَعَ دَلَالَتِهَا بِنَفْسِهَا هِيَ دَالَّةٌ بِاخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا، كَمَا أَنَّ إِخْرَاجَ الثَّمَرَاتِ فِي نَفْسِهَا دَلَائِلُ وَاخْتِلَافَ/ أَلْوَانِهَا دَلَائِلُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها، الظَّاهِرُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ رَاجِعٌ إِلَى كُلِّ لَوْنٍ أَيْ بِيضٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا، لِأَنَّ الْأَبْيَضَ قَدْ يَكُونُ عَلَى لَوْنِ الْجِصِّ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى لَوْنِ التُّرَابِ الْأَبْيَضِ دُونَ بَيَاضِ الْجِصِّ، وَكَذَلِكَ الْأَحْمَرُ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ الْبِيضَ وَالْحُمْرَ مُخْتَلِفُ الْأَلْوَانِ لَكَانَ مُجَرَّدَ تَأْكِيدٍ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَعَلَى هَذَا فَنَقُولُ لَمْ يَذْكُرْ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا بَعْدَ الْبِيضِ وَالْحُمْرِ وَالسُّودِ، بَلْ ذَكَرَهُ بَعْدَ الْبِيضِ وَالْحُمْرِ وَأَخَّرَ السُّودَ الْغَرَابِيبَ، لِأَنَّ الْأَسْوَدَ لَمَّا ذَكَرَهُ مَعَ الْمُؤَكَّدِ وَهُوَ الْغَرَابِيبُ يَكُونُ بَالِغًا غَايَةَ السَّوَادِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ اخْتِلَافٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قِيلَ بِأَنَّ الْغِرْبِيبَ مُؤَكِّدٌ لِلْأَسْوَدِ، يُقَالُ أَسْوَدُ غِرْبِيبٌ وَالْمُؤَكِّدُ لَا يَجِيءُ إِلَّا مُتَأَخِّرًا فَكَيْفَ جَاءَ غَرَابِيبُ سُودٌ؟ نَقُولُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: غَرَابِيبُ مُؤَكِّدٌ لِذِي لَوْنٍ مُقَدَّرٍ فِي الْكَلَامِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ سَوَادُ غَرَابِيبَ، ثُمَّ أَعَادَ السُّودَ مَرَّةً أُخْرَى وَفِيهِ فَائِدَةٌ وَهِيَ زِيَادَةُ التَّأْكِيدِ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ مُضْمَرًا وَمُظْهَرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ اسْتِدْلَالًا آخَرَ عَلَى قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَّمَ دَلَائِلَ الْخَلْقِ فِي الْعَالَمِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ وَهُوَ عَالَمُ الْمُرَكَّبَاتِ قِسْمَيْنِ: حَيَوَانٌ وَغَيْرُ حَيَوَانٍ، وَغَيْرُ الْحَيَوَانِ إِمَّا نَبَاتٌ وَإِمَّا مَعْدِنٌ، وَالنَّبَاتُ أَشْرَفُ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ ثُمَّ ذَكَرَ الْمَعْدِنَ بِقَوْلِهِ: وَمِنَ الْجِبالِ ثُمَّ ذَكَرَ الْحَيَوَانَ وَبَدَأَ بِالْأَشْرَفِ مِنْهَا وَهُوَ الْإِنْسَانُ فَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّوَابَّ، لِأَنَّ مَنَافِعَهَا فِي حَيَاتِهَا وَالْأَنْعَامَ مَنْفَعَتُهَا فِي الْأَكْلِ مِنْهَا، أَوْ لِأَنَّ الدَّابَّةَ فِي الْعُرْفِ تُطْلَقُ عَلَى الْفَرَسِ وَهُوَ بَعْدَ الْإِنْسَانِ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ: مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ القول فيه كما أنها في أنفسها دلائل، كذلك في اختلافها دلائل. وأما قوله مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فَذُكِرَ لِكَوْنِ الْإِنْسَانِ مِنْ جُمْلَةِ المذكورين، وكون التذكير أعلى وأولى. ثم قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ. الْخَشْيَةُ بِقَدْرِ مَعْرِفَةِ الْمَخْشِيِّ، وَالْعَالِمُ يَعْرِفُ اللَّهَ فَيَخَافُهُ وَيَرْجُوهُ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ أَعْلَى دَرَجَةً مِنَ الْعَابِدِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 13] فَبَيَّنَ أَنَّ الْكَرَامَةَ بِقَدْرِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى بِقَدْرِ الْعِلْمِ. فَالْكَرَامَةُ بِقَدْرِ الْعِلْمِ لَا بِقَدْرِ الْعَمَلِ، نَعَمِ الْعَالِمُ إِذَا تَرَكَ الْعَمَلَ قَدَحَ ذَلِكَ فِي عِلْمِهِ، فَإِنَّ مَنْ يَرَاهُ يَقُولُ: لَوْ عَلِمَ لَعَمِلَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ذَكَرَ مَا يُوجِبُ الْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ، فَكَوْنُهُ عَزِيزًا ذَا انْتِقَامٍ يُوجِبُ الْخَوْفَ التَّامَّ، وَكَوْنُهُ غَفُورًا لِمَا دُونَ ذَلِكَ يُوجِبُ الرَّجَاءَ الْبَالِغَ. وَقِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِنَصْبِ الْعُلَمَاءِ وَرَفْعِ اللَّهِ، مَعْنَاهَا إِنَّمَا يعظم ويبجل. [سورة فاطر (35) : آية 29] إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ. لَمَّا بَيَّنَ الْعُلَمَاءَ بِاللَّهِ وَخَشْيَتَهُمْ وَكَرَامَتَهُمْ بسبب خشيتهم ذكر العالمين بكتاب الله العالمين بِمَا فِيهِ. وَقَوْلُهُ: يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ إِشَارَةٌ إلى الذكر.

[سورة فاطر (35) : آية 30]

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَمَلِ الْبَدَنِيِّ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَمَلِ الْمَالِيِّ، وَفِي الْآيَتَيْنِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، فَقَوْلُهُ: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ إِشَارَةٌ إِلَى عَمَلِ الْقَلْبِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ إِشَارَةٌ إِلَى عَمَلِ اللِّسَانِ. وَقَوْلُهُ: وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى عَمَلِ الْجَوَارِحِ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِجَانِبِ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِهِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ يُعَظِّمُ مَلِكًا إِذَا رَأَى عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ فِي حَاجَةٍ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ حَاجَتِهِ وَإِنْ تَهَاوَنَ فِيهِ يُخِلُّ بِالتَّعْظِيمِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: عَبْدِي مَرِضْتُ فَمَا عُدْتَنِي، فَيَقُولُ الْعَبْدُ: كَيْفَ تَمْرَضُ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَيَقُولُ اللَّهُ مَرِضَ عَبْدِي فُلَانٌ وَمَا زُرْتَهُ وَلَوْ زُرْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ، يَعْنِي التَّعْظِيمُ مُتَعَلِّقٌ بِالشَّفَقَةِ فَحَيْثُ لَا شَفَقَةَ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ لَا تَعْظِيمَ لِجَانِبِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: سِرًّا وَعَلانِيَةً حَثٌّ عَلَى الْإِنْفَاقِ كَيْفَمَا يَتَهَيَّأُ، فَإِنْ تَهَيَّأَ سِرًّا فَذَاكَ وَنِعْمَ وَإِلَّا فَعَلَانِيَةً وَلَا يَمْنَعُهُ ظَنُّهُ أَنْ يَكُونَ رِيَاءً، فَإِنَّ تَرْكَ الْخَيْرِ مَخَافَةَ أَنْ يُقَالَ فِيهِ إِنَّهُ مُرَاءٍ عَيْنُ الرِّيَاءِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: سِرًّا أَيْ صَدَقَةً وَعَلانِيَةً أَيْ زَكَاةً، فَإِنَّ الْإِعْلَانَ بِالزَّكَاةِ كَالْإِعْلَانِ بِالْفَرْضِ وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِخْلَاصِ، أَيْ يُنْفِقُونَ لَا لِيُقَالَ إِنَّهُ كَرِيمٌ وَلَا لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ غَيْرَ وَجْهِ اللَّهِ، فَإِنَّ غَيْرَ اللَّهِ بَائِرٌ والتاجر فيه تجارته بائرة. [سورة فاطر (35) : آية 30] لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ أَيْ مَا يَتَوَقَّعُونَهُ وَلَوْ كَانَ أَمْرًا بَالِغَ الْغَايَةِ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ يُعْطِيهِمْ مَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ عِنْدَ الْعَمَلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَزِيدُهُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ كَمَا جَاءَ فِي تَفْسِيرِ الزِّيَادَةِ إِنَّهُ غَفُورٌ عِنْدَ إِعْطَاءِ الْأُجُورِ شَكُورٌ عِنْدَ إِعْطَاءِ الزيادة. [سورة فاطر (35) : آية 31] وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ. لَمَّا بَيَّنَ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ وَهُوَ وُجُودُ اللَّهِ الْوَاحِدِ بِأَنْوَاعِ الدَّلَائِلِ مِنْ قوله: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ [فاطر: 9] / وقوله: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ [فاطر: 11] وقوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ [فاطر: 27] ذَكَرَ الْأَصْلَ الثَّانِيَ وَهُوَ الرِّسَالَةُ، فَقَالَ: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ وَأَيْضًا كَأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ فَقَالَ: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ تَقْرِيرًا لِمَا بَيَّنَ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ فِي تِلَاوَةِ كِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ فَتَالِيهِ مُحِقٌّ وَمُحَقِّقٌ وَفِي تَفْسِيرِهَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: مِنَ الْكِتابِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ كَمَا يُقَالُ أُرْسِلَ إِلَيَّ كِتَابٌ مِنَ الْأَمِيرِ أَوِ الْوَالِي وَعَلَى هَذَا فَالْكِتَابُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ يَعْنِي الَّذِي أَوْحَيْنَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَيْكَ حَقٌّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْقُرْآنُ يَعْنِي الْإِرْشَادَ وَالتَّبْيِينَ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْبَيَانِ كَمَا يُقَالُ أُرْسِلَ إِلَى فُلَانٍ مِنَ الثِّيَابِ وَالْقُمَاشِ جُمْلَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: هُوَ الْحَقُّ آكَدُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ حَقٌّ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا إِنَّ

[سورة فاطر (35) : آية 32]

تَعْرِيفَ الْخَبَرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ لِأَنَّ الْخَبَرَ فِي الْأَكْثَرِ يَكُونُ نَكِرَةً، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ إِعْلَامًا بِثُبُوتِ أَمْرٍ لَا مَعْرِفَةَ لِلسَّامِعِ بِهِ لِأَمْرٍ يَعْرِفُهُ السَّامِعُ كَقَوْلِنَا زَيْدٌ قَامَ فَإِنَّ السَّامِعَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِزَيْدٍ وَلَا يَعْلَمُ قِيَامَهُ فَيُخْبِرُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ الْخَبَرُ أَيْضًا مَعْلُومًا فَيَكُونُ الْإِخْبَارُ لِلتَّنْبِيهِ فَيُعَرَّفَانِ بِاللَّامِ كَقَوْلِنَا زَيْدٌ الْعَالِمُ فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ إِذَا كَانَ علمه مشهورا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِكَوْنِهِ حَقًّا لِأَنَّ الْحَقَّ إِذَا كَانَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كُتُبِ اللَّهِ يَكُونُ خَالِيًا عَنِ احْتِمَالِ الْبُطْلَانِ وَفِي قَوْلِهِ: مُصَدِّقاً تَقْرِيرٌ لِكَوْنِهِ وَحْيًا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ قَارِئًا كَاتِبًا وَأَتَى بِبَيَانِ مَا فِي كُتُبِ اللَّهِ لَا يَكُونُ ذلك إلا من الله تعالى وجواب عَنْ سُؤَالِ الْكُفَّارِ وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِأَنَّ التَّوْرَاةَ وَرَدَ فِيهَا كَذَا وَالْإِنْجِيلَ ذُكِرَ فِيهِ كَذَا وَكَانُوا يَفْتَرُونَ مِنَ التَّثْلِيثِ وَغَيْرِهِ وَكَانُوا يَقُولُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ فِيهِ خِلَافُ ذَلِكَ فَقَالَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ لَمْ يَبْقَ بِهِمَا وُثُوقٌ بِسَبَبِ تَغْيِيرِكُمْ فَهَذَا الْقُرْآنُ مَا وَرَدَ فِيهِ إِنْ كَانَ فِي التَّوْرَاةِ فَهُوَ حَقٌّ وَبَاقٍ عَلَى مَا نَزَلَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَيَكُونُ فِيهِ خِلَافٌ فَهُوَ لَيْسَ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَالْقُرْآنُ مُصَدِّقٌ لِلتَّوْرَاةِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا الْوَحْيَ مُصَدِّقٌ لِمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ الْوَحْيَ لَوْ لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ لَكَذَبَ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَإِذَا وُجِدَ الْوَحْيُ وَنَزَلَ عَلَى محمد صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ عُلِمَ جَوَازُهُ وَصُدِّقَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ لَطِيفَةٌ. وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْقُرْآنَ مُصَدِّقًا لِمَا مَضَى مَعَ أَنَّ مَا مَضَى أَيْضًا مُصَدِّقٌ لَهُ لِأَنَّ الْوَحْيَ إِذَا نَزَلَ عَلَى وَاحِدٍ جَازَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَلَمْ يَجْعَلْ مَا تَقَدَّمَ مُصَدِّقًا لِلْقُرْآنِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَوْنُهُ مُعْجِزَةً يَكْفِي فِي تَصْدِيقِهِ بِأَنَّهُ وَحْيٌ، وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ فَلَا بُدَّ معه من معجزة تصدقه. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ تَقْرِيرٌ لِكَوْنِهِ هُوَ الْحَقَّ لِأَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ خَبِيرٌ عَالِمٌ بِالْبَوَاطِنِ بَصِيرٌ عَالِمٌ بِالظَّوَاهِرِ، فَلَا يَكُونُ بَاطِلًا فِي وَحْيِهِ لَا فِي الْبَاطِنِ وَلَا فِي الظَّاهِرِ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لما كانوا يقولونه إنه لم لَمْ يَنْزِلْ عَلَى رَجُلٍ عَظِيمٍ؟ فَيُقَالُ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ يَعْلَمُ بَوَاطِنَهُمْ وَبَصِيرٌ يَرَى ظَوَاهِرَهُمْ فَاخْتَارَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَخْتَرْ غيره فهو أصلح من الكل. [سورة فاطر (35) : آية 32] ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ اتَّفَقَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكِتَابِ الْقُرْآنُ وَعَلَى هَذَا فَالَّذِينَ اصْطَفَيْنَاهُمُ الَّذِينَ أَخَذُوا بِالْكِتَابِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَالظَّالِمُ وَالْمُقْتَصِدُ وَالسَّابِقُ كُلُّهُمْ مِنْهُمْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها [الرَّعْدِ: 23] أَخْبَرَ بِدُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ وَكَلِمَةُ ثُمَّ أَوْرَثْنَا أَيْضًا تَدُلُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْإِيرَاثَ إِذَا كَانَ بَعْدَ الْإِيحَاءِ وَلَا كِتَابَ بَعْدَ الْقُرْآنِ فَهُوَ الْمَوْرُوثُ وَالْإِيرَاثُ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِعْطَاءُ بَعْدَ ذَهَابِ مَنْ كَانَ بِيَدِهِ الْمُعْطَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ جِنْسُ الْكِتَابِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ [فَاطِرٍ: 25] وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: إِنَّا أَعْطَيْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ لَفْظَ الْمُصْطَفَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ إطلاقه كثير ولا كذلك على غيرهم لأن قَوْلَهُ: مِنْ عِبادِنا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ أكابر

مُكْرَمُونَ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُصْطَفَيْنَ مِنْهُمْ أَشْرَفُ مِنْهُمْ وَلَا يَلِيقُ بِمَنْ يَكُونُ أَشْرَفَ مِنَ الشُّرَفَاءِ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا مَعَ أَنَّ لَفْظَ الظَّالِمِ أَطْلَقَهُ اللَّهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ عَلَى الْكَافِرِ وَسُمِّيَ الشِّرْكُ ظُلْمًا، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الظَّاهِرِ بَيَّنَ مَعْنَاهُ آتَيْنَا الْقُرْآنَ لِمَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ وَأَخَذُوهُ مِنْهُ وَافْتَرَقُوا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ وَهُوَ الْمُسِيءُ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَهُوَ الَّذِي خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ وَهُوَ الَّذِي أَخْلَصَ الْعَمَلَ لِلَّهِ وَجَرَّدَهُ عَنِ السَّيِّئَاتِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ قَالَ فِي حَقِّ مَنْ ذَكَرَ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ مِنْ عِبَادِهِ وَأَنَّهُ مُصْطَفًى إِنَّهُ ظَالِمٌ؟ مَعَ أن الظالم يطلق عَلَى الْكَافِرِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ، فَنَقُولُ الْمُؤْمِنُ عِنْدَ الْمَعْصِيَةِ يَضَعُ نَفْسَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ حَالَ الْمَعْصِيَةِ وَإِلَيْهِ الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» وَيُصَحِّحُ هَذَا قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ: «ظَالِمُنَا مَغْفُورٌ لَهُ» وَقَالَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ كَوْنِهِ مُصْطَفًى: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: 23] وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَضَعُ قَلْبَهُ الَّذِي بِهِ اعْتِبَارُ الْجَسَدِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَهُوَ ظَالِمٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَأَمَّا قَلْبُ الْمُؤْمِنِ فَمُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَا يَضَعُهُ فِي غَيْرِ التَّفَكُّرِ فِي آلَاءِ اللَّهِ وَلَا يَضَعُ فِيهِ غَيْرَ مَحَبَّةِ اللَّهِ، وَفِي الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ: أَحَدُهَا: الظَّالِمُ هُوَ الرَّاجِحُ السَّيِّئَاتِ وَالْمُقْتَصِدُ هُوَ الَّذِي/ تَسَاوَتْ سَيِّئَاتُهُ وَحَسَنَاتُهُ وَالسَّابِقُ هُوَ الَّذِي تَرَجَّحَتْ حَسَنَاتُهُ ثَانِيهَا: الظَّالِمُ هُوَ الَّذِي ظَاهِرُهُ خَيْرٌ مِنْ بَاطِنِهِ، وَالْمُقْتَصِدُ مَنْ تَسَاوَى ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ، وَالسَّابِقُ مِنْ بَاطِنِهِ خَيْرٌ ثَالِثُهَا: الظَّالِمُ هُوَ الْمُوَحِّدُ بِلِسَانِهِ الَّذِي تُخَالِفُهُ جَوَارِحُهُ، وَالْمُقْتَصِدُ هُوَ الْمُوَحِّدُ الَّذِي يَمْنَعُ جَوَارِحَهُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ بِالتَّكْلِيفِ، وَالسَّابِقُ هُوَ الْمُوَحِّدُ الَّذِي يُنْسِيهِ التَّوْحِيدُ عَنِ التَّوْحِيدِ وَرَابِعُهَا: الظَّالِمُ صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ، وَالْمُقْتَصِدُ صَاحِبُ الصَّغِيرَةِ، وَالسَّابِقُ الْمَعْصُومُ خَامِسُهَا: الظَّالِمُ التَّالِي لِلْقُرْآنِ غَيْرُ الْعَالِمِ بِهِ وَالْعَامِلُ بِمُوجَبِهِ، وَالْمُقْتَصِدُ التَّالِي الْعَالِمُ، وَالسَّابِقُ التَّالِي الْعَالِمُ الْعَامِلُ سَادِسُهَا: الظَّالِمُ الْجَاهِلُ وَالْمُقْتَصِدُ الْمُتَعَلِّمُ وَالسَّابِقُ الْعَالِمُ سَابِعُهَا: الظَّالِمُ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، وَالْمُقْتَصِدُ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَالسَّابِقُ السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ ثَامِنُهَا: الظَّالِمُ الَّذِي يُحَاسَبُ فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يُحَاسَبُ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَالسَّابِقُ الَّذِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ تَاسِعُهَا: الظَّالِمُ الْمُصِرُّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَالْمُقْتَصِدُ هُوَ النَّادِمُ وَالتَّائِبُ، وَالسَّابِقُ هو المقبول التوبة عاشرها: الظالم الذين أَخَذَ الْقُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي عَمِلَ بِهِ، وَالسَّابِقُ الَّذِي أَخَذَهُ وَعَمِلَ بِهِ وَبَيَّنَ لِلنَّاسِ الْعَمَلَ بِهِ فَعَمِلُوا بِهِ بِقَوْلِهِ فَهُوَ كَامِلٌ وَمُكَمِّلٌ، وَالْمُقْتَصِدُ كَامِلٌ وَالظَّالِمُ نَاقِصٌ، وَالْمُخْتَارُ هُوَ أَنَّ الظَّالِمَ مَنْ خَالَفَ فَتَرَكَ أَوَامِرَ اللَّهِ وَارْتَكَبَ مَنَاهِيَهُ فَإِنَّهُ وَاضِعٌ لِلشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَالْمُقْتَصِدُ هُوَ الْمُجْتَهِدُ فِي ترك المخالفة وإن لم يوفق لذلك وندر مِنْهُ ذَنْبٌ وَصَدَرَ عَنْهُ إِثْمٌ فَإِنَّهُ اقْتَصَدَ وَاجْتَهَدَ وَقَصَدَ الْحَقَّ وَالسَّابِقُ هُوَ الَّذِي لَمْ يُخَالِفْ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِإِذْنِ اللَّهِ أَيِ اجْتَهَدَ وَوُفِّقَ لِمَا اجْتَهَدَ فِيهِ وَفِيمَا اجْتَهَدَ فَهُوَ سَابِقٌ بِالْخَيْرِ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ فَيَسْبِقُ إِلَيْهِ قَبْلَ تَسْوِيلِ النَّفْسِ وَالْمُقْتَصِدُ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ فَتُرَدِّدُهُ النَّفْسُ، وَالظَّالِمُ تَغْلِبُهُ النَّفْسُ، وَنَقُولُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى مَنْ غَلَبَتْهُ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ وَأَمَرَتْهُ فَأَطَاعَهَا ظَالِمٌ وَمَنْ جَاهَدَ نفسه فغلب تارة وغلب أخرى فهو المقصد وَمَنْ قَهَرَ نَفْسَهُ فَهُوَ السَّابِقُ وَقَوْلُهُ: ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: التَّوْفِيقُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ثَانِيهَا: السَّبْقُ بِالْخَيْرَاتِ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ثَالِثُهَا: الْإِيرَاثُ فَضْلٌ كَبِيرٌ هَذَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ مِنَ التَّفْسِيرِ، أَمَّا الْوَجْهُ الْآخَرُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ أَيْ جِنْسَ الْكِتَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ [فَاطِرٍ: 25] يَرُدُّ عَلَيْهِ أسئلة أحدهما: ثُمَّ لِلتَّرَاخِي وَإِيتَاءِ الْكِتَابِ بَعْدَ الْإِيحَاءِ إِلَى محمد صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ فَمَا الْمُرَادُ بِكَلِمَةِ ثُمَّ؟ نَقُولُ مَعْنَاهُ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بَصِيرٌ خَبَّرَهُمْ وأبصرهم ثم أورثهم الكتاب كأنه تعالى قال إِنَّا عَلِمْنَا الْبَوَاطِنَ وَأَبْصَرْنَا الظَّوَاهِرَ

[سورة فاطر (35) : آية 33]

فَاصْطَفَيْنَا عِبَادًا ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ، ثَانِيهَا: كَيْفَ يَكُونُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ؟ نَقُولُ مِنْهُمْ غَيْرُ رَاجِعٍ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُصْطَفَيْنَ، بَلِ الْمَعْنَى إِنَّ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنْتَ الْمُصْطَفَى كَمَا اصْطَفَيْنَا رُسُلًا وَآتَيْنَاهُمْ كُتُبًا، وَمِنْهُمْ أَيْ مِنْ قَوْمِكَ/ ظَالِمٌ كَفَرَ بِكَ وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمُقْتَصِدٌ آمَنَ بِكَ وَلَمْ يَأْتِ بِجَمِيعِ مَا أَمَرْتُهُ بِهِ وَسَابِقٌ آمَنَ وَعَمِلَ صالحا وثالثها: قوله: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها [الرعد: 23] الدَّاخِلُونَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ وَعَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَا يَكُونُ الظَّالِمُ دَاخِلًا، نَقُولُ الدَّاخِلُونَ هُمُ السَّابِقُونَ، وَأَمَّا الْمُقْتَصِدُ فَأَمْرُهُ مَوْقُوفٌ أَوْ هُوَ يَدْخُلُ النار أولا ثُمَّ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَالْبَيَانُ لِأَوَّلِ الْأَمْرِ لَا لِمَا بَعْدَهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الْكَهْفِ: 31] وقوله: أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر: 34] . ثم قال: [سورة فاطر (35) : آية 33] جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَفِي الدَّاخِلِينَ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ وَهِيَ عَلَى قَوْلِنَا إِنَّ الظَّالِمَ وَالْمُقْتَصِدَ وَالسَّابِقَ أَقْسَامُ الْمُؤْمِنِينَ وَالثَّانِي: الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَالثَّالِثُ: هُمُ السَّابِقُونَ وَهُوَ أَقْوَى لِقُرْبِ ذِكْرِهِمْ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ إِكْرَامَهُمْ بِقَوْلِهِ: يُحَلَّوْنَ فَالْمُكَرَّمُ هُوَ السَّابِقُ وَعَلَى هَذَا فِيهِ أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ: تَقْدِيمُ الْفَاعِلِ عَلَى الْفِعْلِ وَتَأْخِيرُ الْمَفْعُولِ عَنْهُ مُوَافِقٌ لِتَرْتِيبِ الْمَعْنَى إِذَا كَانَ الْمَفْعُولُ حَقِيقِيًّا كَقَوْلِنَا: اللَّهَ خَلَقَ السموات وَقَوْلِ الْقَائِلِ: زَيْدٌ بَنَى الْجِدَارَ فَإِنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ لَهُ فِعْلٌ هُوَ الْخَلْقُ، ثُمَّ حَصَلَ بِهِ الْمَفْعُولُ وَهُوَ السموات، وَكَذَلِكَ زَيْدٌ قَبْلَ الْبِنَاءِ ثُمَّ الْجِدَارُ مِنْ بِنَائِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَفْعُولُ حَقِيقِيًّا كَقَوْلِنَا زَيْدٌ دَخَلَ الدَّارَ وَضَرَبَ عَمْرًا فَإِنَّ الدَّارَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ مَفْعُولًا لِلدَّاخِلِ وَإِنَّمَا فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِ تَحَقَّقَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدَّارِ وَكَذَلِكَ عَمْرٌو فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ زَيْدٍ تَعَلَّقَ بِهِ فَسُمِّيَ مَفْعُولًا لَا يَحْصُلُ هَذَا التَّرْتِيبُ، وَلَكِنَّ الْأَصْلَ تَقْدِيمُ الْفَاعِلِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَلِهَذَا يُعَادُ الْمَفْعُولُ الْمُقَدَّمُ بِالضَّمِيرِ تَقُولُ عَمْرًا ضَرَبَهُ زَيْدٌ فَتُوقِعُهُ بَعْدَ الْفِعْلِ بِالْهَاءِ الْعَائِدَةِ إِلَيْهِ وَحِينَئِذٍ يَطُولُ الْكَلَامُ فَلَا يَخْتَارُهُ الْحَكِيمُ إِلَّا لِفَائِدَةٍ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَقْدِيمِ الْجَنَّاتِ عَلَى الْفِعْلِ الذي هو الدخول وإعادة ذكر بِالْهَاءِ فِي يَدْخُلُونَهَا، وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ يَدْخُلُونَ جَنَّاتِ عَدْنٍ؟ نَقُولُ السَّامِعُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ لَهُ مَدْخَلًا مِنَ الْمَدَاخِلِ وَلَهُ دُخُولٌ وَلَمْ يَعْلَمْ عَيْنَ الْمَدْخَلِ فَإِذَا قِيلَ لَهُ أَنْتَ تَدْخُلُ فَإِلَى أَنْ يَسْمَعَ الدَّارَ أَوِ السُّوقَ يَبْقَى مُتَعَلِّقَ الْقَلْبِ بِأَنَّهُ فِي أَيِّ الْمَدَاخِلِ يَكُونُ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ دَارَ زَيْدٍ تَدْخُلُهَا فَبِذِكْرِ الدَّارِ، يَعْلَمُ مَدْخَلَهُ وَبِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ السَّابِقِ بِأَنَّ لَهُ دُخُولًا يَعْلَمُ الدُّخُولَ فَلَا يَبْقَى لَهُ تَوَقُّفٌ وَلَا سِيَّمَا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَإِنَّ بَيْنَ الْمَدْخَلَيْنِ بَوْنًا بَعِيدًا الثَّانِي: قَوْلُهُ: يُحَلَّوْنَ فِيها إِشَارَةٌ إِلَى سُرْعَةِ الدُّخُولِ فَإِنَّ التَّحْلِيَةَ لَوْ وَقَعَتْ خَارِجًا لَكَانَ فِيهِ تَأْخِيرُ الدُّخُولِ فَقَالَ: يَدْخُلُونَها وَفِيهَا تَقَعُ تَحْلِيَتُهُمْ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: مِنْ أَساوِرَ بِجَمْعِ الْجَمْعِ فَإِنَّهُ جَمَعَ أَسْوِرَةً وَهِيَ جَمْعُ سِوَارٍ، وَقَوْلُهُ: وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِكْثَارَ مِنَ اللِّبَاسِ/ يَدُلُّ عَلَى حَاجَةٍ مِنْ دَفْعِ بَرْدٍ أَوْ غَيْرِهِ وَالْإِكْثَارُ مِنَ الزِّينَةِ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى الْغِنَى الرَّابِعُ: ذَكَرَ الْأَسَاوِرَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحُلِيِّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ [الْإِنْسَانِ: 21] وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّحَلِّيَ بِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: إِظْهَارُ كَوْنِ الْمُتَحَلِّي غَيْرَ مُبْتَذَلٍ فِي الْأَشْغَالِ لِأَنَّ التَّحَلِّيَ لَا يَكُونُ حَالَةَ الطَّبْخِ وَالْغَسْلِ وَثَانِيهِمَا: إِظْهَارُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْأَشْيَاءِ وَإِظْهَارُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَشْيَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّحَلِّيَ إِمَّا بِاللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ وَإِمَّا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ والتحلي بالجواهر واللئالئ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَحَلِّيَ لَا يَعْجِزُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْكَبِيرَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ حَيْثُ يَعْجِزُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْقَلِيلَةِ الْوُجُودِ لا لحاجة، والتحلي بالذهب والفضلة يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ حَاجَةً أَصْلِيَّةً

[سورة فاطر (35) : آية 34]

وَإِلَّا لَصَرَفَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ إِلَى دَفْعِ الْحَاجَةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الْأَسَاوِرُ مَحَلُّهَا الْأَيْدِي وَأَكْثَرُ الْأَعْمَالِ بِالْيَدِ فَإِنَّهَا لِلْبَطْشِ، فَإِذَا حُلِّيَتْ بِالْأَسَاوِرِ عُلِمَ الْفَرَاغُ وَالذَّهَبُ وَاللُّؤْلُؤُ إِشَارَةٌ إِلَى النوعين اللذين منهما الحلي. ثم قال تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 34] وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) فِي الْحَزَنِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ إِذْهَابُ كُلِّ حَزَنٍ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ وَاسْتِغْرَاقِهِ وَإِذْهَابِ الْحَزَنِ بِحُصُولِ كُلِّ مَا يَنْبَغِي وَبَقَائِهِ دَائِمًا فَإِنَّ شَيْئًا مِنْهُ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ لَكَانَ الْحَزَنُ مَوْجُودًا بِسَبَبِهِ وَإِنْ حَصَلَ وَلَمْ يَدُمْ لَكَانَ الْحَزَنُ غَيْرَ ذَاهِبٍ بَعْدُ بِسَبَبِ زَوَالِهِ وَخَوْفِ فَوَاتِهِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أُمُورًا كُلُّهَا تُفِيدُ الْكَرَامَةَ مِنَ اللَّهِ الْأَوَّلُ: الْحَمْدُ فَإِنَّ الْحَامِدَ مُثَابٌ الثَّانِي: قَوْلُهُمْ (رَبَّنَا) فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ إِلَّا وَاسْتَجَابَ لَهُمْ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُنَادِي قَدْ ضَيَّعَ الْوَقْتَ الْوَاجِبَ أَوْ طَلَبَ مَا لَا يَجُوزُ كَالرَّدِّ إِلَى الدُّنْيَا من الآخرة الثالث: قولهم: (غفور) ، الرَّابِعُ: قَوْلُهُمْ: شَكُورٌ وَالْغَفُورُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا غَفَرَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِمَا وَجَدَ لَهُمْ مِنَ الْحَمْدِ فِي الدُّنْيَا، وَالشَّكُورُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يُعْطِيهِمْ وَيَزِيدُ لَهُمْ بِسَبَبِ مَا وَجَدَ لهم في الآخرة من الحمد. [سورة فاطر (35) : آية 35] الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ دَارَ الْإِقَامَةِ، لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُرُورَهُمْ وَكَرَامَتَهُمْ بِتَحْلِيَتِهِمْ وَإِدْخَالِهِمُ الْجَنَّاتِ بَيَّنَ سُرُورَهُمْ بِبَقَائِهِمْ فِيهَا وَأَعْلَمَهُمْ بِدَوَامِهَا حَيْثُ قَالُوا: الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ أَيِ الْإِقَامَةِ وَالْمَفْعُولُ رُبَّمَا يَجِيءُ لِلْمَصْدَرِ مِنْ كُلِّ بَابٍ يُقَالُ مَا لَهُ مَعْقُولٌ أَيْ عَقْلٌ، وَقَالَ تَعَالَى: مُدْخَلَ صِدْقٍ [الْإِسْرَاءِ: 80] وَقَالَ تَعَالَى: وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سَبَأٍ: 19] وَكَذَلِكَ مُسْتَخْرَجٌ لِلِاسْتِخْرَاجِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ هُوَ الْمَفْعُولُ فِي الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي فُعِلَ فَجَازَ إِقَامَةُ الْمَفْعُولِ مَقَامَهُ وَفِي قَوْلِهِ: دارَ الْمُقامَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الدُّنْيَا مَنْزِلَةٌ يَنْزِلُهَا الْمُكَلَّفُ وَيَرْتَحِلُ عَنْهَا إِلَى مَنْزِلَةِ الْقُبُورِ وَمِنْهَا إِلَى مَنْزِلَةِ/ الْعَرْصَةِ الَّتِي فِيهَا الْجَمْعُ وَمِنْهَا التَّفْرِيقُ. وَقَدْ تَكُونُ النَّارُ لِبَعْضِهِمْ مَنْزِلَةً أُخْرَى وَالْجَنَّةُ دَارَ الْمُقَامَةِ، وَكَذَلِكَ النَّارُ لِأَهْلِهَا وَقَوْلُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ بِحُكْمِ وَعْدِهِ لا بإيجاب من عنده. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ اللُّغُوبُ الْإِعْيَاءُ وَالنَّصَبُ هُوَ السَّبَبُ لِلْإِعْيَاءِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إِذَا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ عُلِمَ أَنَّهُ لا يمسهم فيها لغوب وَلَا يَنْفِي الْمُتَكَلِّمُ الْحَكِيمُ السَّبَبَ، ثُمَّ يَنْفِي مُسَبِّبَهُ بِحَرْفِ الْعَطْفِ فَلَا يَقُولُ الْقَائِلُ لَا أَكَلْتُ وَلَا شَبِعْتُ أَوْ لَا قُمْتُ وَلَا مَشَيْتُ وَالْعَكْسُ كَثِيرٌ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَا شَبِعْتُ وَلَا أَكَلْتُ لِمَا أَنَّ نَفْيَ الشِّبَعِ لَا يَلْزَمُهُ انْتِفَاءُ الْأَكْلِ وَسِيَاقُ مَا تَقَرَّرَ أَنْ يُقَالَ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا إِعْيَاءٌ وَلَا مَشَقَّةٌ، فنقول ما قال اللَّهُ فِي غَايَةِ الْجَلَالَةِ وَكَلَامُ اللَّهِ أَجَلُّ وَبَيَانُهُ أَجْمَلُ، وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ مُخَالَفَةَ الْجَنَّةِ لِدَارِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الدُّنْيَا أَمَاكِنُهَا عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَوْضِعٌ نَمَسُّ فِيهِ الْمَشَاقَّ وَالْمَتَاعِبَ كَالْبَرَارِيِّ وَالصَّحَارِي وَالطُّرُقَاتِ وَالْأَرَاضِي وَالْآخَرُ: مَوْضِعٌ يَظْهَرُ فِيهِ الْإِعْيَاءُ كَالْبُيُوتِ وَالْمَنَازِلِ الَّتِي فِي الْأَسْفَارِ مِنَ الْخَانَاتِ فَإِنَّ مَنْ يَكُونُ فِي مُبَاشَرَةِ شُغْلٍ لَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ الْإِعْيَاءُ إِلَّا بعد ما يَسْتَرِيحُ فَقَالَ تَعَالَى: لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ أَيْ لَيْسَتِ الْجَنَّةُ كَالْمَوَاضِعِ الَّتِي فِي الدُّنْيَا مَظَانَّ الْمَتَاعِبِ بَلْ هِيَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي هِيَ مَوَاضِعُ مَرْجِعِ الْعَيِّ، فَقَالَ: وَلا

[سورة فاطر (35) : آية 36]

يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ أَيْ، لَا نَخْرُجُ مِنْهَا إِلَى مَوَاضِعَ نَتْعَبُ وَنَرْجِعُ إِلَيْهَا فَيَمَسُّنَا فِيهَا الْإِعْيَاءُ وَقُرِئَ لَغُوبٌ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالتَّرْتِيبُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ظَاهِرٌ كَأَنَّهُ قَالَ لَا نَتْعَبُ وَلَا يَمَسُّنَا مَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَوِيَّ السَّوِيَّ إِذَا قَالَ مَا تَعِبْتُ الْيَوْمَ لَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ مَا عَمِلَ شَيْئًا لِجَوَازِ أَنَّهُ عَمِلَ عَمَلًا لَمْ يَكُنْ بالنسبة إليه متعبا لوقته، فَإِذَا قَالَ مَا مَسَّنِي مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُتْعِبًا يُفْهَمُ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا لِأَنَّ نَفْسَ الْعَمَلِ قَدْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُتْعِبًا لِضَعِيفٍ أَوْ مُتْعِبًا بِسَبَبِ كَثْرَتِهِ، وَاللُّغُوبُ هُوَ مَا يَغْلِبُ مِنْهُ وَقِيلَ النَّصَبُ التَّعَبُ الْمُمْرِضُ، وَعَلَى هَذَا فَحُسْنُ التَّرْتِيبِ ظَاهِرٌ كَأَنَّهُ قَالَ لَا يَمَسُّنَا مَرَضٌ وَلَا دُونَ ذَلِكَ وهو الذي يعيا منه مباشرة. [سورة فاطر (35) : آية 36] وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ [فاطر: 29] وَمَا بَيْنَهُمَا كَلَامٌ يَتَعَلَّقُ بِالَّذِينِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَقَوْلُهُ: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها [فاطر: 33] قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ رَاجِعٌ إِلَى الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا أَيْ لَا يَسْتَرِيحُونَ بِالْمَوْتِ بَلِ الْعَذَابُ دَائِمٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ أَيِ النَّارِ وَفِيهِ لَطَائِفُ: / الْأُولَى: أَنَّ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا إِنْ دَامَ كَثِيرًا يَقْتُلُ فَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ يَعْتَادُهُ الْبَدَنُ وَيَصِيرُ مِزَاجًا فَاسِدًا مُتَمَكِّنًا لَا يُحِسُّ بِهِ الْمُعَذَّبُ، فَقَالَ عَذَابُ نَارِ الْآخِرَةِ لَيْسَ كَعَذَابِ الدُّنْيَا، إِمَّا أَنْ يُفْنِيَ وَإِمَّا أَنْ يَأْلَفَهُ الْبَدَنُ بَلْ هُوَ فِي كُلِّ زَمَانٍ شَدِيدٌ وَالْمُعَذَّبُ فِيهِ دَائِمٌ الثَّانِيَةُ: رَاعَى التَّرْتِيبَ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ الْعَذَابُ، وَلَا يَفْتُرَ فَقَالَ لَا يَنْقَطِعُ وَلَا بِأَقْوَى الْأَسْبَابِ وَهُوَ الْمَوْتُ حَتَّى يَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ ولا يجابون كما قال تعالى: وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الزُّخْرُفِ: 77] أَيْ بِالْمَوْتِ الثَّالِثَةُ: فِي الْمُعَذَّبِينَ اكْتَفَى بِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ عَذَابَهُمْ، وَلَمْ يَقُلْ نَزِيدُهُمْ عَذَابًا. وَفِي الْمُثَابِينَ ذَكَرَ الزِّيَادَةَ بِقَوْلِهِ: وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاءِ: 173] ثُمَّ لما بين أن عذابهم لا يخفف. [سورة فاطر (35) : آية 37] وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) قال تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها أَيْ لَا يُخَفَّفُ وَإِنِ اصْطَرَخُوا وَاضْطَرَبُوا لَا يُخَفِّفُ اللَّهُ مِنْ عِنْدِهِ إِنْعَامًا إِلَى أَنْ يَطْلُبُوهُ بَلْ يَطْلُبُونَ وَلَا يَجِدُونَ وَالِاصْطِرَاخُ مِنَ الصُّرَاخِ وَالصُّرَاخُ صَوْتُ الْمُعَذَّبِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا أَخْرِجْنا أَيْ صُرَاخُهُمْ بِهَذَا أَيْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا لِأَنَّ صُرَاخَهُمْ كَلَامٌ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِيلَامَهُمْ تَعْذِيبٌ لَا تَأْدِيبٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤَدَّبَ إِذَا قَالَ لِمُؤَدِّبِهِ: لَا أَرْجِعُ إِلَى مَا فَعَلْتُ وَبِئْسَمَا فَعَلْتُ يَتْرُكُهُ، وَأَمَّا الْمُعَذَّبُ فَلَا وَتَرْتِيبُهُ حَسَنٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُخَفِّفُ عَنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا يَعْفُو عَنْهُمْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ وَعْدًا وَهَذَا لِأَنَّ الْمَحْبُوسَ يَصْبِرُ لَعَلَّهُ يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ فَإِذَا طَالَ لُبْثُهُ تَطَلَّبَ الْإِخْرَاجَ مِنْ غَيْرِ قَطِيعَةٍ عَلَى نفسه فإن لم يقده يَقْطَعُ عَلَى نَفْسِهِ قَطِيعَةً وَيَقُولُ أَخْرِجْنِي أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا ضَالًّا فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ ضَالٌّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ كانَ

[سورة فاطر (35) : آية 38]

فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى [الْإِسْرَاءِ: 72] ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْعَوْدَ إِلَى الدُّنْيَا بَعِيدٌ مُحَالٌ بِحُكْمِ الْإِخْبَارِ. وَعَلَى هَذَا قَالُوا: نَعْمَلْ صالِحاً جَازِمِينَ مِنْ غَيْرِ اسْتِعَانَةٍ بِاللَّهِ وَلَا مَثْنَوِيَّةٍ فِيهِ، وَلَمْ يَقُولُوا إِنَّ الْأَمْرَ بِيَدِ اللَّهِ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ إِذَا كَانَ اعْتِمَادُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَقَدْ عَمَّرْنَاكُمْ مِقْدَارًا يُمْكِنُ التَّذَكُّرُ فِيهِ وَالْإِتْيَانُ بِالْإِيمَانِ وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْأَعْمَالِ. وَقَوْلُهُمْ: غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ إِشَارَةٌ إِلَى ظُهُورِ فَسَادِ عَمَلِهِمْ لَهُمْ وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا لَمْ يَهْدِهِمْ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَهْدِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، فَمَا قَالُوا رَبُّنَا زِدْتَ لِلْمُحْسِنِينَ حَسَنَاتٍ بِفَضْلِكَ لَا بِعَمَلِهِمْ وَنَحْنُ أَحْوَجُ إِلَى تَخْفِيفِ الْعَذَابِ مِنْهُمْ إِلَى تَضْعِيفِ الثَّوَابِ فَافْعَلْ بِنَا مَا أَنْتَ أَهْلُهُ نَظَرًا إِلَى فَضْلِكَ وَلَا تَفْعَلْ بِنَا مَا نَحْنُ أَهْلُهُ نَظَرًا إِلَى عَدْلِكَ وَانْظُرْ إِلَى مَغْفِرَتِكَ الْهَاطِلَةِ وَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَعْذِرَتِنَا الْبَاطِلَةِ، وَكَمَا هَدَى اللَّهُ الْمُؤْمِنَ فِي الدُّنْيَا هَدَاهُ فِي الْعُقْبَى حَتَّى دَعَاهُ بِأَقْرَبِ دُعَاءٍ إِلَى الْإِجَابَةِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِأَطْيَبِ ثَنَاءٍ عِنْدَ الْإِنَابَةِ فَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ وَقَالُوا رَبُّنَا غَفُورٌ اعْتِرَافًا بِتَقْصِيرِهِمْ شَكُورٌ إِقْرَارًا بِوُصُولِ مَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ إِلَيْهِمْ وَقَالُوا: أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ [فاطر: 35] أَيْ لَا عَمَلَ لَنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى نِعَمِ اللَّهِ وَهُمْ قَالُوا: أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً/ إِغْمَاضًا فِي حَقِّ تَعْظِيمِهِ وَإِعْرَاضًا عَنِ الِاعْتِرَافِ بِعَجْزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمَا يُنَاسِبُ عَظَمَتَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ آتَاهُمْ مَا يَتَعَلَّقُ بِقَبُولِ الْمَحَلِّ مِنَ الْعُمْرِ الطَّوِيلِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَاعِلِ فِي الْمَحَلِّ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَفَاعِلِ الْخَيْرِ فِيهِمْ وَمُظْهِرِ السَّعَادَاتِ. فَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ. فَإِنَّ الْمَانِعَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ حَيْثُ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ النَّظَرِ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مُرْشِدِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَتْلُ عَلَيْهِمْ مَا يُرْشِدُهُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ وَقَوْلُهُ: فَذُوقُوا إِشَارَةٌ إِلَى الدَّوَامِ وَهُوَ أَمَرُّ إِهَانَةً، فَمَا لِلظَّالِمِينَ الَّذِينَ وَضَعُوا أَعْمَالَهُمْ وَأَقْوَالَهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا وَأَتَوْا بِالْمَعْذِرَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا مِنْ نَصِيرٍ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ يَنْصُرُهُمْ، قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ قَوْلُهُ: فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ وَقَوْلُهُ: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [الْبَقَرَةِ: 270] يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الظَّالِمِ الْجَاهِلَ جَهْلًا مُرَكَّبًا، وَهُوَ الَّذِي يَعْتَقِدُ الْبَاطِلَ حَقًّا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ مِنْ نَصِيرٍ أَيْ مِنْ عِلْمٍ يَنْفَعُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْبُرْهَانَ سُلْطَانًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأْتُونا بِسُلْطانٍ [إِبْرَاهِيمَ: 10] وَالسُّلْطَانُ أَقْوَى نَاصِرٍ إِذْ هُوَ الْقُوَّةُ أَوِ الْوِلَايَةُ وَكِلَاهُمَا يَنْصُرُ وَالْحَقُّ التَّعْمِيمُ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَنْصُرُهُ وَلَيْسَ غَيْرُهُ نَصِيرًا فَمَا لَهُمْ مِنْ نَصِيرٍ أَصْلًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي آلِ عِمْرَانَ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [آل عمران: 192] وَقَالَ: فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ [الروم: 29] وقال هاهنا: فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أَيْ هَذَا وَقْتُ كَوْنِهِمْ وَاقِعِينَ فِي النَّارِ، فَقَدْ أَيِسَ كُلٌّ مِنْهُمْ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ كَانُوا يَتَوَقَّعُونَ مِنْهُمُ النُّصْرَةَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا تَوَقُّعُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَقَالَ: مَا لَكُمْ مِنْ نَصِيرٍ أَصْلًا، وَهُنَاكَ كَانَ الْأَمْرُ مَحْكِيًّا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي أَوَائِلِ الْحَشْرِ، فَنَفَى مَا كَانُوا يَتَوَقَّعُونَ مِنْهُمُ النصرة وهم آلهتهم. ثم قال تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 38] إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) تَقْرِيرًا لِدَوَامِهِمْ فِي الْعَذَابِ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى:

[سورة فاطر (35) : آية 39]

40] وَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: الْكَافِرُ مَا كَفَرَ بِاللَّهِ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعَذَّبَ إِلَى مِثْلِ تِلْكَ الْأَيَّامِ، فَقَالَ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عليه غيب السموات فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا فِي الصُّدُورِ، وَكَانَ يَعْلَمُ مِنَ الْكَافِرِ أَنَّ فِي قَلْبِهِ تَمَكُّنُ الْكُفْرِ بِحَيْثُ لَوْ دَامَ إِلَى الْأَبَدِ لَمَا أَطَاعَ اللَّهَ وَلَا عَبَدَهُ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِذاتِ الصُّدُورِ مَسْأَلَةٌ قَدْ ذَكَرْنَاهَا مَرَّةً وَنُعِيدُهَا أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الصُّدُورُ هِيَ ذَاتُ اعْتِقَادَاتٍ وَظُنُونٍ، فَكَيْفَ سَمَّى اللَّهُ الِاعْتِقَادَاتِ بِذَاتِ الصُّدُورِ؟ / وَيُقَرِّرُ السُّؤَالَ قَوْلُهُمْ أَرْضٌ ذَاتُ أَشْجَارٍ وَذَاتُ جَنًى إِذَا كَانَ فِيهَا ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الصَّدْرُ فِيهِ اعْتِقَادٌ فَهُوَ ذُو اعْتِقَادٍ، فَيُقَالُ لَهُ لَمَّا كَانَ اعْتِبَارُ الصَّدْرِ بِمَا فِيهِ صَارَ مَا فِيهِ كَالسَّاكِنِ الْمَالِكِ حَيْثُ لَا يُقَالُ الدَّارُ ذَاتُ زَيْدٍ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ زَيْدٌ ذُو دَارٍ وَمَالٍ وَإِنْ كان هو فيها. [سورة فاطر (35) : آية 39] هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ. تَقْرِيرًا لِقَطْعِ حُجَّتِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَمَّا قالوا: رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً [فاطر: 37] وقال تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ [فاطر: 37] إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّمْكِينَ وَالْإِمْهَالَ مُدَّةٌ يُمْكِنُ فِيهَا الْمَعْرِفَةُ قَدْ حَصَلَ وَمَا آمَنْتُمْ وَزَادَ عليه بقوله: وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر: 37] أَيْ آتَيْنَاكُمْ عُقُولًا، وَأَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ مَنْ يُؤَيِّدُ الْمَعْقُولَ بِالدَّلِيلِ الْمَنْقُولِ زَادَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ أَيْ نَبَّهَكُمْ بِمَنْ مَضَى وَحَالِ مَنِ انْقَضَى فَإِنَّكُمْ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ لَكُمْ عِلْمٌ بِأَنَّ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ أُهْلِكَ لَكَانَ عِنَادُكُمْ أَخْفَى وَفَسَادُكُمْ أَخَفَّ، لَكِنْ أُمْهِلْتُمْ وَعُمِّرْتُمْ وَأُمِرْتُمْ عَلَى لِسَانِ الرُّسُلِ بِمَا أُمِرْتُمْ وَجُعِلْتُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ خَلِيفَةً بَعْدَ خَلِيفَةٍ تَعْلَمُونَ حَالَ الْمَاضِينَ وَتُصْبِحُونَ بِحَالِهِمْ رَاضِينَ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً لِأَنَّ الْكَافِرَ السَّابِقَ كَانَ مَمْقُوتًا كَالْعَبْدِ الَّذِي لَا يَخْدِمُ سَيِّدَهُ وَاللَّاحِقُ الَّذِي أَنْذَرَهُ الرَّسُولُ وَلَمْ يَنْتَبِهْ أَمْقَتُ كَالْعَبْدِ الَّذِي يَنْصَحُهُ النَّاصِحُ وَيَأْمُرُهُ بِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ وَيَعِدُهُ وَيُوعِدُهُ وَلَا يَنْفَعُهُ النُّصْحُ وَلَا يُسْعِدُهُ وَالتَّالِي لَهُمُ الَّذِي رَأَى عَذَابَ مَنْ تَقَدَّمَ وَلَمْ يَخْشَ عَذَابُهُ أَمْقَتُ الْكُلِّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً أَيِ الْكُفْرُ لَا يَنْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ حَيْثُ لَا يَزِيدُ إِلَّا الْمَقْتَ، وَلَا يَنْفَعُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَيْثُ لَا يُفِيدُهُمْ إِلَّا الْخَسَارَةَ، فَإِنَّ الْعُمْرَ كَرَأْسِ مَالٍ مَنِ اشْتَرَى بِهِ رِضَا اللَّهِ رَبِحَ، وَمَنِ اشْتَرَى بِهِ سُخْطَهُ خسر. ثم قال تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 40] قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) تَقْرِيرًا لِلتَّوْحِيدِ وَإِبْطَالًا لِلْإِشْرَاكِ، وَقَوْلُهُ: أَرَأَيْتُمْ الْمُرَادُ مِنْهُ أَخْبِرُونِي، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يَسْتَدْعِي جَوَابًا، يَقُولُ الْقَائِلُ أَرَأَيْتَ مَاذَا فَعَلَ زَيْدٌ؟ فَيَقُولُ السَّامِعُ بَاعَ أَوِ اشْتَرَى، وَلَوْلَا تَضَمُّنُهُ مَعْنَى أَخْبِرْنِي وَإِلَّا لَمَا كَانَ الْجَوَابُ إِلَّا قَوْلَهُ لَا أَوْ نَعَمْ، وَقَوْلُهُ: شُرَكاءَكُمُ إِنَّمَا أَضَافَ الشُّرَكَاءَ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْأَصْنَامَ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ

[سورة فاطر (35) : آية 41]

تَكُنْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ، وَإِنَّمَا هُمْ جَعَلُوهَا شُرَكَاءَ، فَقَالَ شُرَكَاءَكُمْ، أَيِ الشُّرَكَاءَ بِجَعْلِكُمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ شُرَكَاءَكُمْ، أَيْ شُرَكَاءَكُمْ فِي النَّارِ لِقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاءِ: 98] وَهُوَ قَرِيبٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ بَعِيدٌ لِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى الْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ: أَرُونِي بَدَلٌ عَنْ أَرَأَيْتُمْ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا يُفِيدُ مَعْنَى أَخْبِرُونِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: أَرَأَيْتُمْ استفهام حقيقي وأَرُونِي أَمْرُ تَعْجِيزٍ لِلتَّبْيِينِ، فَلَمَّا قَالَ: أَرَأَيْتُمْ يَعْنِي أَعَلِمْتُمْ هَذِهِ الَّتِي تَدْعُونَهَا كَمَا هِيَ وَعَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَجْزِ أَوْ تَتَوَهَّمُونَ فِيهَا قُدْرَةً، فَإِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَهَا عَاجِزَةً فَكَيْفَ تَعْبُدُونَهَا؟ وَإِنْ كَانَ وَقَعَ لَكُمْ أَنَّ لَهَا قُدْرَةً فَأَرُونِي قُدْرَتَهَا فِي أَيِّ شَيْءٍ هِيَ، أَهِيَ فِي الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اللَّهَ إِلَهُ السَّمَاءِ وَهَؤُلَاءِ آلِهَةُ الْأَرْضِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا أُمُورُ الْأَرْضِ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ صورها؟ أم هي في السموات، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ السَّمَاءَ خُلِقَتْ بِاسْتِعَانَةِ الملائكة والملائكة شركاء في خلق السموات، وَهَذِهِ الْأَصْنَامَ صُوَرُهَا؟ أَمْ قُدْرَتُهَا فِي الشَّفَاعَةِ لَكُمْ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ مَا خَلَقُوا شَيْئًا وَلَكِنَّهُمْ مُقَرَّبُونَ عِنْدَ اللَّهِ فَنَعْبُدُهَا لِيَشْفَعُوا لَنَا، فَهَلْ مَعَهُمْ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ فِيهِ إِذْنُهُ لَهُمْ بِالشَّفَاعَةِ؟ وَقَوْلُهُ: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فِي الْعَائِدِ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الشُّرَكَاءِ، أَيْ هَلْ آتَيْنَا الشُّرَكَاءَ كِتَابًا وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، أَيْ هَلْ آتَيْنَا الْمُشْرِكِينَ كِتَابًا وَعَلَى الْأَوَّلِ فَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَا، أَيْ هَلْ مَعَ مَا جُعِلَ شَرِيكًا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ فِيهِ أَنَّ لَهُ شَفَاعَةً عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَعَلَى الثَّانِي مَعْنَاهُ أَنَّ عِبَادَةَ هَؤُلَاءِ إِمَّا بِالْعَقْلِ وَلَا عَقْلَ لِمَنْ يَعْبُدُ مَنْ لَمْ يَخْلُقْ مِنَ الْأَرْضِ جُزْءًا مِنَ الْأَجْزَاءِ وَلَا فِي السَّمَاءِ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَإِمَّا بِالنَّقْلِ وَنَحْنُ مَا آتَيْنَا الْمُشْرِكِينَ كِتَابًا فِيهِ أَمْرُنَا بِالسُّجُودِ لِهَؤُلَاءِ وَلَوْ أَمَرْنَا لَجَازَ كَمَا أَمَرْنَا بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَإِلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ، فَهَذِهِ الْعِبَادَةُ لَا عَقْلِيَّةٌ وَلَا نَقْلِيَّةٌ فَوَعْدُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا لَيْسَ إِلَّا غُرُورًا غرهم الشيطان وزين لهم عبادة الأصنام. [سورة فاطر (35) : آية 41] إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ لَمَّا بَيَّنَ شِرْكَهُمْ قَالَ مُقْتَضَى شِرْكِهِمْ زوال السموات وَالْأَرْضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا/ لِلرَّحْمنِ وَلَداً [مَرْيَمَ: 90، 91] وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً كَانَ حَلِيمًا مَا تَرَكَ تَعْذِيبَهُمْ إِلَّا حِلْمًا مِنْهُ وَإِلَّا كَانُوا يَسْتَحِقُّونَ إِسْقَاطَ السَّمَاءِ وَانْطِبَاقَ الْأَرْضِ عَلَيْهِمْ وَإِنَّمَا أَخَّرَ إِزَالَةَ السموات إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ حِلْمًا، وَتَحْتَمِلُ الْآيَةُ وَجْهًا ثَالِثًا: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ وَإِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ أَيْضًا كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ شُرَكَاؤُكُمْ مَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا فِي السَّمَاءِ جُزْءًا وَلَا قَدَرُوا عَلَى الشَّفَاعَةِ، فَلَا عِبَادَةَ لَهُمْ. وَهَبْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ فَهَلْ يَقْدِرُونَ على إمساك السموات وَالْأَرْضِ؟ وَلَا يُمْكِنُهُمُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَقُولُونَ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: 25] وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنْ لَا مَعْبُودَ إِلَّا اللَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَخْلُقْ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَإِنْ قَالَ الْكَافِرُ بِأَنَّ غَيْرَهُ خَلَقَ فَمَا خَلَقَ مِثْلَ مَا خَلَقَ فَلَا شَرِيكَ لَهُ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا، حَلِيمًا حَيْثُ لَمْ يُعَجِّلْ فِي إِهْلَاكِهِمْ بَعْدَ إِصْرَارِهِمْ عَلَى إِشْرَاكِهِمْ وَغَفُورًا يَغْفِرُ لِمَنْ تَابَ وَيَرْحَمُهُ وَإِنِ استحق العقاب. ثم قال تعالى:

[سورة فاطر (35) : الآيات 42 إلى 43]

[سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 43] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ إلى قوله تعالى إِلَّا نُفُوراً] لَمَّا بَيَّنَ إِنْكَارَهُمْ لِلتَّوْحِيدِ ذَكَرَ تَكْذِيبَهُمْ لِلرَّسُولِ وَمُبَالَغَتَهُمْ فِيهِ حَيْثُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُقْسِمُونَ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَ الرُّسُلَ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُمْ كَوْنُهُمْ رُسُلًا وَقَالُوا: إِنَّمَا نُكَذِّبُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ لِكَوْنِهِ كَاذِبًا، وَلَوْ تَبَيَّنَ لَنَا كَوْنُهُ رَسُولًا لَآمَنَّا كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها [الْأَنْعَامِ: 109] وَهَذَا مُبَالَغَةٌ مِنْهُمْ فِي التَّكْذِيبِ، كَمَا أَنَّ مَنْ يُنْكِرُ دِينَ إِنْسَانٍ قَدْ يَقُولُ وَاللَّهِ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ لَهُ شَيْئًا عَلَيَّ لَقَضَيْتُهُ وَزِدْتُ لَهُ، إِظْهَارًا لِكَوْنِهِ مُطَالِبًا بالباطل، فكذلك هاهنا عَانَدُوا وَقَالُوا وَاللَّهِ لَوْ جَاءَنَا رَسُولٌ لَكُنَّا أَهْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ أَيْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم جاءهم أي صح مجيؤه لَهُمْ بِالْبَيِّنَةِ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا، فَإِنَّهُمْ قَبْلَ الرِّسَالَةِ كَانُوا كَافِرِينَ بِاللَّهِ وَبَعْدَهَا صَارُوا كَافِرِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِأَنَّهُمْ قَبْلَ الرِّسَالَةِ مَا كَانُوا مُعَذَّبِينَ كَمَا صَارُوا بَعْدَ الرِّسَالَةِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا يَلْعَنُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَى أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِرُسُلِهِمْ لَمَّا جَاءُوهُمْ وَقَالُوا لَوْ جَاءَنَا رَسُولٌ لَأَطَعْنَاهُ/ وَاتَّبَعْنَاهُ، وَهَذَا فِيهِ إِشْكَالٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلرِّسَالَةِ وَالْحَشْرِ مُطْلَقًا، فَكَيْفَ كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِالرُّسُلِ، فَمِنْ أَيْنَ عَرَفُوا أَنَّ الْيَهُودَ كَذَّبُوا وَمَا جَاءَهُمْ كِتَابٌ وَلَوْلَا كِتَابُ اللَّهِ وَبَيَانُ رَسُولِهِ مِنْ أَيْنَ كَانَ يَعْلَمُ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُمْ صَدَّقُوا شَيْئًا وَكَذَّبُوا فِي شَيْءٍ؟ بَلِ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ لَوْ جَاءَنَا رَسُولٌ لَا نُنْكِرُهُ وَإِنَّمَا نُنْكِرُ كَوْنَ مُحَمَّدٍ رَسُولًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَاذِبٌ وَلَوْ صَحَّ كَوْنُهُ رَسُولًا لَآمَنَّا وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا جاءَهُمْ أي فلما صح لهم مجيؤه بِالْمُعْجِزَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: أَهْدى وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَهْدَى مِمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ وَعَلَى هذا فقوله: مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ للنبيين كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ زَيْدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً أَيْ صَارُوا أَضَلَّ مِمَّا كَانُوا وَكَانُوا يَقُولُونَ نَكُونُ أَهْدَى وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ نَكُونَ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ زَيْدٌ أَوْلَى مِنْ عَمْرٍو، وَفِي الْأُمَمِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْعُمُومَ أَيْ أَهْدَى مِنْ أَيِّ إِحْدَى الْأُمَمِ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ أَيْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمَنْ كَانَ فِي زَمَانِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَنَصْبُهُ يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ حَالًا أَيْ مُسْتَكْبِرِينَ فِي الْأَرْضِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ أَيْ لِلِاسْتِكْبَارِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنِ النفور وقوله: الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِضَافَةُ الْجِنْسِ إِلَى نَوْعِهِ كَمَا يُقَالُ عِلْمُ الْفِقْهِ وَحِرْفَةُ الْحِدَادَةِ وَتَحْقِيقُهُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ وَمَكَرُوا مَكْرًا سَيِّئًا ثُمَّ عُرِّفَ لِظُهُورِ مَكْرِهِمْ، ثُمَّ تُرِكَ التَّعْرِيفُ بِاللَّامِ وَأُضِيفَ إِلَى السيء لكون السوء فيه أَبْيَنَ الْأُمُورِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الْمَكْرَ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْعَمَلِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ [فَاطِرٍ: 10] أَيْ يَعْمَلُونَ السيئات، ومكرهم السيء، وَهُوَ جَمِيعُ مَا كَانَ يَصْدُرُ مِنْهُمْ مَنِ الْقَصْدِ إِلَى الْإِيذَاءِ وَمَنْعِ النَّاسِ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْإِيمَانِ وَإِظْهَارِ الْإِنْكَارِ، ثُمَّ قَالَ: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ أَيْ لَا يُحِيطُ إِلَّا بِفَاعِلِهِ وَفِي قَوْلِهِ: وَلا يَحِيقُ وَقَوْلُهُ: إِلَّا بِأَهْلِهِ فَوَائِدُ، أَمَّا فِي قَوْلِهِ: يَحِيقُ فَهِيَ أَنَّهَا تُنْبِئُ عَنِ الْإِحَاطَةِ الَّتِي هِيَ فَوْقَ اللُّحُوقِ

وَفِيهِ مِنَ التَّحْذِيرِ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِهِ وَلَا يَلْحَقُ أَوْ وَلَا يَصِلُ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: بِأَهْلِهِ فَفِيهِ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِ القائل ولا يحيق المكر السيء إِلَّا بِالْمَاكِرِ، كَيْ لَا يَأْمَنَ الْمُسِيءُ فَإِنَّ من أساء ومكره سيء آخَرُ قَدْ يَلْحَقُهُ جَزَاءً عَلَى سَيِّئَةٍ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ سَيِّئًا فَلَا يَكُونُ أَهْلًا فيأمن المكر السيء، وَأَمَّا فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَفَائِدَتُهُ الْحَصْرُ بِخِلَافِ ما يقول القائل المكر السيء يَحِيقُ بِأَهْلِهِ، فَلَا يُنْبِئُ عَنْ عَدَمِ الْحَيْقِ بِغَيْرِ أَهْلِهِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَثِيرًا مَا نَرَى أَنَّ الْمَاكِرَ يَمْكُرُ وَيُفِيدُهُ الْمَكْرُ وَيَغْلِبُ الْخَصْمَ بِالْمَكْرِ وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ ذَلِكَ، فَنَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: إِنَّ الْمَكْرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْمَكْرُ الَّذِي مكروه مع النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مِنَ الْعَزْمِ عَلَى الْقَتْلِ وَالْإِخْرَاجِ وَلَمْ يَحِقْ إِلَّا بِهِمْ، حَيْثُ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ وغيره وثانيها: هو أن نقول المكر السيء عَامٌّ وَهُوَ الْأَصَحُّ فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَى عَنِ الْمَكْرِ وَأَخْبَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَمْكُرُوا وَلَا تُعِينُوا مَاكِرًا فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السيء/ إِلَّا بِأَهْلِهِ» وَعَلَى هَذَا فَذَلِكَ الرَّجُلُ الْمَمْكُورُ بِهِ [لَا] يَكُونُ أَهْلًا فَلَا يُرِدْ نَقْضًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأُمُورَ بِعَوَاقِبِهَا، وَمَنْ مَكَرَ بِهِ غَيْرُهُ وَنَفَذَ فِيهِ الْمَكْرُ عَاجِلًا فِي الظَّاهِرِ فَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْفَائِزُ وَالْمَاكِرُ هُوَ الْهَالِكُ وَذَلِكَ مِثْلُ رَاحَةِ الْكَافِرِ وَمَشَقَّةِ الْمُسْلِمِ فِي الدُّنْيَا، وَيُبَيِّنُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ يَعْنِي إِذَا كَانَ لِمَكْرِهِمْ فِي الْحَالِ رَوَاجٌ فَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى وَالْأُمُورُ بِخَوَاتِيمِهَا، فَيَهْلِكُونَ كَمَا هلك الأولون. وقوله تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ بَعْدَ هَذَا إِلَّا انْتِظَارُ الْإِهْلَاكِ وَهُوَ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْإِهْلَاكُ لَيْسَ سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ إِنَّمَا هُوَ سُنَّةُ اللَّهِ بِالْأَوَّلِينَ، فَنَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَصْدَرَ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ الْمُطْلَقُ يُضَافُ إِلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ لِتَعَلُّقِهِ بِهِمَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيُقَالُ فِيمَا إِذَا ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبِ عمرو كيف ضرب مع ماله مِنَ الْعَزْمِ وَالْقُوَّةِ وَعَجِبْتُ مِنْ ضَرْبِ زَيْدٍ كيف ضرب مع ماله مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فَكَذَلِكَ سُنَّةُ اللَّهِ بِهِمْ أَضَافَهَا إِلَيْهِمْ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ سُنَّتْ بِهِمْ وَأَضَافَهَا إلى نفسه بعدها بقوله: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا لِأَنَّهَا سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللَّهِ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَنَقُولُ أَضَافَهَا فِي الْأَوَّلِ إليهم حيث قال: سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ لِأَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ الْإِهْلَاكُ بِالْإِشْرَاكِ وَالْإِكْرَامُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ أَيَّهُمَا فَإِذَا قَالَ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ تَمَيَّزَتْ وَفِي الثَّانِي أَضَافَهَا إِلَى اللَّهِ، لِأَنَّهَا لَمَّا عُلِمَتْ فَالْإِضَافَةُ إلى الله تعظمها وَتَبَيَّنَ أَنَّهَا أَمْرٌ وَاقِعٌ لَيْسَ لَهَا مِنْ دَافِعٍ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ اسْتِمْرَارُهُمْ عَلَى الْإِنْكَارِ وَاسْتِكْبَارُهُمْ عَنِ الْإِقْرَارِ، وَسُنَّةُ اللَّهِ اسْتِئْصَالُهُمْ بِإِصْرَارِهِمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتُمْ تُرِيدُونَ الْإِتْيَانَ بِسُنَّةِ الْأَوَّلِينَ وَاللَّهُ يَأْتِي بِسُنَّةٍ لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ عَنْ مُسْتَحِقِّهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: التَّبْدِيلُ تَحْوِيلٌ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي التَّكْرَارِ؟ نقول بقوله: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا حَصَلَ الْعِلْمُ بِأَنَّ الْعَذَابَ لَا تبديل له بغيره، وبقوله: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا حَصَلَ الْعِلْمُ بِأَنَّ الْعَذَابَ مَعَ أَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لَهُ بِالثَّوَابِ لَا يَتَحَوَّلُ عَنْ مُسْتَحِقِّهِ إِلَى غَيْرِهِ فَيَتِمُّ تَهْدِيدُ الْمُسِيءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: فَلَنْ تَجِدَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَامًّا كَأَنَّهُ قَالَ فَلَنْ تَجِدَ أَيُّهَا السَّامِعُ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعَ محمد صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَعَلَى هَذَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: سُنَّةُ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُهْلِكُ مَا بَقِيَ فِي الْقَوْمِ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ إِيمَانَهُ، فَإِذَا/ آمَنَ مَنْ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يُؤْمِنُ يُهْلِكُ الْبَاقِينَ كَمَا قَالَ نُوحٌ:

[سورة فاطر (35) : آية 44]

إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ [نُوحٍ: 27] أَيْ تُمْهِلُ الْأَمْرَ وجاء وقت سنتك. [سورة فاطر (35) : آية 44] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً. لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ لِلْأَوَّلِينَ سُنَّةً وَهِيَ الْإِهْلَاكُ نَبَّهَهُمْ بِتَذْكِيرِ حَالِ الْأَوَّلِينَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مَارِّينَ عَلَى دِيَارِهِمْ رَائِينَ لِآثَارِهِمْ وَأَمَلُهُمْ كَانَ فَوْقَ أَمَلِهِمْ وَعَمَلُهُمْ كَانَ دُونَ عَمَلِهِمْ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِطُولِ أَعْمَارِهِمْ وَشِدَّةِ اقْتِدَارِهِمْ، وَأَمَّا عَمَلُهُمْ فَلِأَنَّهُمْ لَمْ يُكَذِّبُوا مِثْلَ مُحَمَّدٍ وَلَا مُحَمَّدًا وَأَنْتُمْ يَا أَهْلَ مَكَّةَ كَذَّبْتُمْ مُحَمَّدًا وَمَنْ تَقَدَّمَهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الرُّومِ، بَقِيَ فِيهِ أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ: قال هناك: كانُوا أَشَدَّ [الروم: 9] من غير واو، وقال هاهنا بِالْوَاوِ فَمَا الْفَرْقُ؟ نَقُولُ قَوْلُ الْقَائِلِ: أَمَا رَأَيْتَ زَيْدًا كَيْفَ أَكْرَمَنِي وَأَعْظَمُ مِنْكَ، يُفِيدُ أَنَّ الْقَائِلَ يُخْبِرُهُ بِأَنَّ زَيْدًا أَعْظَمُ، وَإِذَا قَالَ: أَمَا رَأَيْتَهُ كَيْفَ أَكْرَمَنِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْكَ يُفِيدُ أَنَّهُ تَقَرَّرَ أَنَّ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ حَاصِلٌ عِنْدَ السَّامِعِ كَأَنَّهُ رَآهُ أَكْرَمَهُ وَرَآهُ أَكْبَرَ مِنْهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ الْأَخِيرَةَ تُفِيدُ كَوْنَ الْأَمْرِ الثَّانِي فِي الظُّهُورِ مِثْلَ الْأَوَّلِ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِعْلَامٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ وَلَا إِخْبَارٍ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فنقول المذكور هاهنا كَوْنُهُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً لَا غَيْرَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ ظَاهِرًا عِنْدَهُمْ فَقَالَ بِالْوَاوِ أَيْ نَظَرُكُمْ كَمَا يَقَعُ عَلَى عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ يَقَعُ عَلَى قُوَّتِهِمْ، وَأَمَّا هُنَاكَ فَالْمَذْكُورُ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ فَإِنَّهُ قَالَ: كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها [الرُّومِ: 9] وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ [غَافِرٍ: 82] وَلَعَلَّ عِلْمَهُمْ لَمْ يَحْصُلْ بِإِثَارَتِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ بِكَثْرَتِهِمْ وَلَكِنْ نَفْسُ الْقُوَّةِ وَرُجْحَانُهُمْ فِيمَا عَلَيْهِمْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ فَإِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تَعْتَقِدُ فِيمَنْ تَقَدَّمَهُمْ أَنَّهُمْ أَقْوَى مِنْهُمْ وَلَا نِزَاعَ فِيهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لَهُمْ أَيْ أَنَّ الْأَوَّلِينَ مَعَ شِدَّةِ قُوَّتِهِمْ مَا أَعْجَزُوا اللَّهَ وَمَا فَاتُوهُ فَهُمْ أَوْلَى بِأَنْ لَا يُعْجِزُوهُ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَطْعًا لِأَطْمَاعِ الْجُهَّالِ فَإِنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ: هَبْ أَنَّ الْأَوَّلِينَ كَانُوا أَشَدَّ قُوَّةً وَأَطْوَلَ أَعْمَارًا لَكِنَّا نَسْتَخْرِجُ بِذَكَائِنَا مَا يَزِيدُ عَلَى قُوَاهُمْ وَنَسْتَعِينُ/ بِأُمُورٍ أَرْضِيَّةٍ لَهَا خَوَاصُّ أَوْ كَوَاكِبَ سَمَاوِيَّةٍ لَهَا آثَارٌ فَقَالَ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً بأفعالهم وأقوالهم قَدِيراً على إهلاكهم واستئصالهم. ثم قال تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 45] وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45) لَمَّا خَوَّفَ اللَّهُ الْمُكَذِّبِينَ بِمَنْ مَضَى وَكَانُوا مِنْ شِدَّةِ عِنَادِهِمْ وَفَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ يَسْتَعْجِلُونَ بِالْعَذَابِ وَيَقُولُونَ عَجِّلْ لَنَا عَذَابَنَا فَقَالَ اللَّهُ: لِلْعَذَابِ أَجَلٌ وَاللَّهُ لَا يؤاخذ الله النَّاسَ بِنَفْسِ الظُّلْمِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ ظَلُومٌ جَهُولٌ، وإنما

يُؤَاخِذُ بِالْإِصْرَارِ وَحُصُولِ يَأْسِ النَّاسِ عَنْ إِيمَانِهِمْ وَوُجُودِ الْإِيمَانِ مِمَّنْ كَتَبَ اللَّهُ إِيمَانَهُ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ فِيهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ يُهْلِكُ الْمُكَذِّبِينَ ولو آخذهم بنفس الظلم لكان كل يَوْمٍ إِهْلَاكٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِذَا كَانَ اللَّهُ يُؤَاخِذُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا فَمَا بَالُ الدَّوَابِّ يَهْلِكُونَ؟ نَقُولُ الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: إِنَّ خَلْقَ الدَّوَابِّ نِعْمَةٌ فَإِذَا كَفَرَ النَّاسُ يُزِيلُ اللَّهُ النِّعَمَ وَالدَّوَابُّ أَقْرَبُ النِّعَمِ لِأَنَّ الْمُفْرَدَ أَوَّلًا ثُمَّ الْمُرَكَّبَ وَالْمُرَكَّبُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْدِنِيًّا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَامِيًا وَالنَّامِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَبَاتًا، وَالْحَيَوَانُ إِمَّا إِنْسَانٌ وَإِمَّا غَيْرُ إِنْسَانٍ فَالدَّوَابُّ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي عَالَمِ الْعَنَاصِرِ لِلْإِنْسَانِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ ذَلِكَ بَيَانٌ لِشِدَّةِ الْعَذَابِ وَعُمُومِهِ فَإِنَّ بَقَاءَ الْأَشْيَاءِ بِالْإِنْسَانِ كَمَا أَنَّ بَقَاءَ الْإِنْسَانِ بِالْأَشْيَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُدَبِّرُ الْأَشْيَاءَ وَيُصْلِحُهَا فَتَبْقَى الْأَشْيَاءُ ثُمَّ ينتفع بها الإنسان فيبقى الْإِنْسَانُ فَإِذَا كَانَ الْهَلَاكُ عَامًّا لَا يَبْقَى مِنَ الْإِنْسَانِ مَنْ يُعَمِّرُ فَلَا تَبْقَى الْأَبْنِيَةُ والزروع فلا تَبْقَى الْحَيَوَانَاتُ الْأَهْلِيَّةُ لِأَنَّ بَقَاءَهَا بِحِفْظِ الْإِنْسَانِ إِيَّاهَا عَنِ التَّلَفِ وَالْهَلَاكِ بِالسَّقْيِ وَالْعَلْفِ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ إِنْزَالَ الْمَطَرِ هُوَ إِنْعَامٌ مِنَ اللَّهِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ فَإِذَا لَمْ يَسْتَحِقُّوا الْإِنْعَامَ قُطِعَتِ الْأَمْطَارُ عَنْهُمْ فَيَظْهَرُ الْجَفَافُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَتَمُوتُ جَمِيعُ الْحَيَوَانَاتِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: لِأَنَّ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ الْأَمْطَارِ تَمُوتُ حَيَوَانَاتُ الْبَرِّ، أَمَّا حَيَوَانَاتُ الْبَحْرِ فَتَعِيشُ بِمَاءِ الْبِحَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى ظَهْرِها كِنَايَةٌ عَنِ الْأَرْضِ وَهِيَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فَكَيْفَ عُلِمَ؟ نَقُولُ مِمَّا تَقَدَّمَ وَمِمَّا تَأَخَّرَ، أَمَّا مَا تَقَدَّمَ فَقَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [فاطر: 44] فَهُوَ أَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ الصَّالِحَةِ لِعَوْدِ الْهَاءِ إِلَيْهَا، وَأَمَّا مَا تَأَخَّرَ فَقَوْلُهُ: مِنْ دَابَّةٍ لِأَنَّ الدَّوَابَّ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُقَالُ لِمَا عَلَيْهِ الْخَلْقُ مِنَ الْأَرْضِ وَجْهُ الْأَرْضِ/ وَظَهْرُ الْأَرْضِ، مَعَ أَنَّ الْوَجْهَ مُقَابِلُ الظَّهْرِ كَالْمُضَادِّ؟ نَقُولُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْأَرْضَ كَالدَّابَّةِ الْحَامِلَةِ لِلْأَثْقَالِ وَالْحَمْلُ يَكُونُ عَلَى الظَّهْرِ يُقَالُ لَهُ ظَهْرُ الْأَرْضِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُقَابِلُ لِلْخَلْقِ الْمُوَاجِهُ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ وَجْهُهَا، عَلَى أَنَّ الظَّهْرَ فِي مُقَابَلَةِ الْبَطْنِ وَالظَّهْرُ وَالظَّاهِرُ مِنْ بَابٍ وَالْبَطْنُ وَالْبَاطِنُ مِنْ بَابٍ، فَوَجْهُ الْأَرْضِ ظَهْرٌ لِأَنَّهُ هُوَ الظَّاهِرُ وَغَيْرُهُ مِنْهَا بَاطِنٌ وَبَطْنٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وُجُوهٌ أَحَدُهَا: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ مُسَمًّى مَذْكُورٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ ثَانِيهَا: يَوْمَ لَا يُوجَدُ فِي الْخَلْقِ مَنْ يُؤْمِنُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ثَالِثُهَا: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ وَأَجَلُ قَوْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَيَّامُ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ كَيَوْمِ بَدْرٍ وَغَيْرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَقَالَ: لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَالِ: 25] قَالَ: فَإِذَا جَاءَ الْهَلَاكُ فَاللَّهُ بِالْعِبَادِ بَصِيرٌ، إِمَّا أَنْ يُنَجِّيهِمْ أَوْ يَكُونَ تَوَفِّيهِمْ تَقْرِيبًا مِنَ اللَّهِ لَا تَعْذِيبًا، لَا يُقَالُ قَدْ ذَكَرْتَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ بِمُجَرَّدِ الظُّلْمِ، وَإِنَّمَا يُؤَاخِذُ حِينَ يَجْتَمِعُ النَّاسُ عَلَى الضَّلَالِ وَنَقُولُ بِأَنَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْإِهْلَاكِ يُهْلِكُ الْمُؤْمِنَ فَكَيْفَ هَذَا، نَقُولُ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِمَاتَةَ وَالْإِفْنَاءَ إِنْ كَانَ لِلتَّعْذِيبِ فَهُوَ مُؤَاخَذَةٌ بِالذَّنْبِ وَإِهْلَاكٌ، وَإِنْ كَانَ لِإِيصَالِ الثَّوَابِ فَلَيْسَ بِإِهْلَاكٍ وَلَا بِمُؤَاخَذَةٍ، وَاللَّهُ لَا يُؤَاخِذُ النَّاسَ إِلَّا عِنْدَ عُمُومِ الكفر، وقوله: بَصِيراً اللَّفْظُ أَتَمُّ فِي التَّسْلِيَةِ مِنَ الْعَلِيمِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ الْبَصِيرَ بِالشَّيْءِ النَّاظِرَ إِلَيْهِ أَوْلَى بِالْإِنْجَاءِ مِنَ الْعَالِمِ بِحَالَةٍ دُونَ أَنْ يَرَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

سورة يس

سُورَةُ يس ثَمَانُونَ وَثَلَاثُ آيَاتٍ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة يس (36) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) قَدْ ذَكَرْنَا كَلَامًا كُلِّيًّا فِي حُرُوفِ التَّهَجِّي فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ وَذَكَرْنَا أَنَّ فِي كُلِّ سُورَةٍ بَدَأَ اللَّهُ فِيهَا بِحُرُوفِ التَّهَجِّي كَانَ في أَوَائِلُهَا الذِّكْرَ أَوِ الْكِتَابَ أَوِ الْقُرْآنَ وَلْنَذْكُرْ هاهنا أَبْحَاثًا: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ أُمُورًا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ خَالِيَةٍ عَنِ الْحِكْمَةِ وَلَكِنَّ عِلْمَ الْإِنْسَانِ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا بِعَيْنِهَا فَنَقُولُ مَا هُوَ الْكُلِّيُّ مِنَ الْحِكْمَةِ فِيهَا، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْحِكْمَةِ فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ مِنَ الْحُرُوفِ نِصْفَهَا وَهِيَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا وَهِيَ نِصْفُ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ حَرْفًا، وَهِيَ جَمِيعُ الْحُرُوفِ الَّتِي فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى قَوْلِنَا الْهَمْزَةُ أَلِفٌ مُتَحَرِّكَةٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَسَّمَ الْحُرُوفَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ تِسْعَةُ أَحْرُفٍ مِنَ الْأَلِفِ إِلَى الذَّالِ وَتِسْعَةُ أَحْرُفٍ أُخَرَ فِي آخِرِ الْحُرُوفِ مِنَ الْفَاءِ إِلَى الْيَاءِ وَعَشَرَةٌ مِنَ الْوَسَطِ مِنَ الرَّاءِ إِلَى الْغَيْنِ، وَذَكَرَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ حَرْفَيْنِ هُمَا الْأَلِفُ وَالْحَاءُ وَتَرَكَ سَبْعَةً وَتَرَكَ مِنَ الْقِسْمِ الْآخَرِ حَرْفَيْنِ هُمَا الْفَاءُ وَالْوَاوُ وَذَكَرَ سَبْعَةً، وَلَمْ يَتْرُكْ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ حُرُوفِ الْحَلْقِ وَالصَّدْرِ إِلَّا وَاحِدًا لَمْ يَذْكُرْهُ وَهُوَ الْخَاءُ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنَ الْقِسْمِ الْآخَرِ مِنْ حُرُوفِ الشَّفَةِ إِلَّا وَاحِدًا لَمْ يَتْرُكْهُ وَهُوَ الْمِيمُ، وَالْعَشْرُ الْأَوَاسِطُ ذَكَرَ مِنْهَا حَرْفًا وَتَرَكَ حَرْفًا فَذَكَرَ الرَّاءَ وَتَرَكَ الزَّايَ وَذَكَرَ السِّينَ وَتَرَكَ الشِّينَ وَذَكَرَ الصَّادَ وَتَرَكَ الضَّادَ وَذَكَرَ الطَّاءَ وَتَرَكَ الظَّاءَ وَذَكَرَ الْعَيْنَ وَتَرَكَ الْغَيْنَ، وَلَيْسَ هَذَا أَمْرًا يَقَعُ اتِّفَاقًا بَلْ هُوَ تَرْتِيبٌ مَقْصُودٌ فَهُوَ لِحِكْمَةٍ، وَأَمَّا أَنَّ عَيْنَهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ فَظَاهِرٌ وَهَبْ أَنَّ وَاحِدًا يَدَّعِي فِيهَا شَيْئًا فَمَاذَا يَقُولُ فِي كَوْنِ بَعْضِ السُّوَرِ مُفْتَتَحَةً بِحَرْفٍ كَسُورَةِ ن وَق وَص وَبَعْضِهَا بِحَرْفَيْنِ كَسُورَةِ حم وَيس وَطس وَطه وَبَعْضِهَا بِثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ كَسُورَةِ الم وَطسم وَالر وَبَعْضِهَا بِأَرْبَعَةٍ كَسُورَتَيْ المر والمص وَبَعْضِهَا بِخَمْسَةِ أَحْرُفٍ كَسُورَتَيْ حم عسق وَكهيعص وَهَبْ أَنَّ قَائِلًا يَقُولُ إِنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ، إِمَّا حَرْفٌ، وَإِمَّا فِعْلٌ، وَإِمَّا اسْمٌ، وَالْحَرْفُ كَثِيرًا مَا جَاءَ عَلَى حَرْفٍ كَوَاوِ الْعَطْفِ وَفَاءِ التَّعْقِيبِ وَهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَكَافِ التَّشْبِيهِ وَبَاءِ الْإِلْصَاقِ/ وَغَيْرِهَا وَجَاءَ عَلَى حَرْفَيْنِ كَمَنْ لِلتَّبْعِيضِ وَأَوْ لِلتَّخْيِيرِ وَأَمْ لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُتَوَسِّطِ وَأَنْ لِلشَّرْطِ وَغَيْرِهَا وَالِاسْمُ وَالْفِعْلُ وَالْحَرْفُ جَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ كَإِلَى وَعَلَى فِي الْحَرْفِ وَإِلَى وَعَلَى فِي الِاسْمِ وَأَلَا يَأْلُو وَعَلَا يَعْلُو فِي الْفِعْلِ، وَالِاسْمُ وَالْفِعْلُ جَاءَ عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَالِاسْمُ خَاصَّةً جَاءَ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَخَمْسَةٍ كَفُجْلٍ وَسُجْلٍ وَجِرْدَحْلٍ فَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَرْكِيبَ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَمَاذَا يَقُولُ هَذَا الْقَائِلُ فِي تَخْصِيصِ بَعْضِ السُّوَرِ

[سورة يس (36) : آية 3]

بِالْحَرْفِ الْوَاحِدِ وَالْبَعْضِ بِأَكْثَرَ فَلَا يَعْلَمُ تَمَامَ السِّرِّ إِلَّا اللَّهُ وَمَنْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَنَقُولُ اعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَةَ مِنْهَا قَلْبِيَّةٌ، وَمِنْهَا لِسَانِيَّةٌ، وَمِنْهَا جَارِحِيَّةٌ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا قِسْمَانِ قِسْمٌ عُقِلَ مَعْنَاهُ وَحَقِيقَتُهُ وَقِسْمٌ لَمْ يُعْلَمْ، أَمَّا الْقَلْبِيَّةُ مَعَ أَنَّهَا أَبْعَدُ عَنِ الشَّكِّ وَالْجَهْلِ فَفِيهَا مَا لَمْ يُعْلَمْ دَلِيلُهُ عَقْلًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وَالِاعْتِقَادُ سَمْعًا كَالصِّرَاطِ الَّذِي [هُوَ] أَرَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ وَيَمُرُّ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ وَالْمُوقِنُ كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ وَالْمِيزَانِ الَّذِي تُوزَنُ بِهِ الْأَعْمَالُ الَّتِي لَا ثِقَلَ لَهَا فِي نَظَرِ النَّاظِرِ وَكَيْفِيَّاتِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وُجُودُهَا لَمْ يُعْلَمْ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ، وَإِنَّمَا الْمَعْلُومُ بِالْعَقْلِ إِمْكَانُهَا وَوُقُوعُهَا مَعْلُومٌ مَقْطُوعٌ بِهِ بِالسَّمْعِ وَمِنْهَا مَا عُلِمَ كَالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَقُدْرَةِ اللَّهِ وَصِدْقِ الرَّسُولِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ الْجَارِحِيَّةِ مَا عُلِمَ مَعْنَاهُ وَمَا لَمْ يُعْلَمْ كَمَقَادِيرِ النُّصُبِ وَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْحِكْمَةَ فِيهِ وَهِيَ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ مَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا آتِيًا بِمَحْضِ الْعِبَادَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ عَلِمَ الْفَائِدَةَ فَرُبَّمَا يَأْتِي بِهِ لِلْفَائِدَةِ وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ كَمَا لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ انْقُلْ هَذِهِ الْحِجَارَةَ مِنْ هاهنا ولم يعلم بِمَا فِي النَّقْلِ فَنَقَلَهَا وَلَوْ قَالَ انْقُلْهَا فَإِنَّ تَحْتَهَا كَنْزًا هُوَ لَكَ يَنْقُلُهَا وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ، إِذَا عَلِمَ هَذَا فَكَذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ اللِّسَانِيَّةِ الذِّكْرِيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا مَا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ حَتَّى إِذَا تَكَلَّمَ بِهِ الْعَبْدُ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ غَيْرَ الِانْقِيَادِ لِأَمْرِ الْمَعْبُودِ الْآمِرِ النَّاهِي فَإِذَا قَالَ: حم، يس، الم، طس عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لِمَعْنًى يَفْهَمُهُ أَوْ يُفَهَّمُهُ فَهُوَ يَتَلَفَّظُ بِهِ إِقَامَةً لِمَا أُمِرَ بِهِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قِيلَ فِي خُصُوصِ يس إِنَّهُ كَلَامٌ هُوَ نِدَاءٌ مَعْنَاهُ يَا إِنْسَانُ، وَتَقْرِيرُهُ هُوَ أَنَّ تَصْغِيرَ إِنْسَانٍ أُنَيْسِينٌ فَكَأَنَّهُ حَذَفَ الصَّدْرَ مِنْهُ وَأَخَذَ الْعَجُزَ وَقَالَ: يس أَيْ أُنَيْسِينُ، وَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس: 3] . الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قُرِئَ يس إِمَّا بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ قَوْلُهُ هَذِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ يس، وَإِمَّا بِالضَّمِّ عَلَى نِدَاءِ الْمُفْرَدِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ كَحَيْثُ، وَقُرِئَ يس إِمَّا بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى اتْلُ يس وَإِمَّا بِالْفَتْحِ كَأَيْنَ وَكَيْفَ، وَقُرِئَ يس بِالْكَسْرِ كَجِيرٍ لِإِسْكَانِ الْيَاءِ وَكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِالْجَرِّ لِأَنَّ إِضْمَارَ الْجَارِّ غَيْرُ جَائِزٍ وَلَيْسَ فِيهِ حَرْفُ قَسَمٍ ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أَيْ ذِي الْحِكْمَةِ كَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ أَيْ ذَاتِ رِضًا أَوْ عَلَى أَنَّهُ نَاطِقٌ بِالْحِكْمَةِ فَهُوَ كَالْحَيِّ الْمُتَكَلِّمِ. وقوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 3] إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) مُقْسَمٌ عَلَيْهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكُفَّارُ أَنْكَرُوا كَوْنَ مُحَمَّدٍ مُرْسَلًا وَالْمَطَالِبُ تَثْبُتُ بِالدَّلِيلِ لَا بِالْقَسَمِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي الْإِقْسَامِ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَتَوَقَّوْنَ الْأَيْمَانَ الْفَاجِرَةَ وَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ الْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ تُوجِبُ خَرَابَ الْعَالَمِ وصحح النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ» ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يُصِيبُهُ مِنْ آلِهَتِهِمْ عَذَابٌ وَهِيَ الْكَوَاكِبُ فكان النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ يَحْلِفُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَإِنْزَالِ كَلَامِهِ عَلَيْهِ وَبِأَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ، وَمَا كَانَ يُصِيبُهُ عَذَابٌ بَلْ كَانَ كُلَّ يَوْمٍ أَرْفَعَ شَأْنًا وَأَمْنَعَ مَكَانًا فَكَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ اعْتِقَادَ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَاذِبٍ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْمُتَنَاظِرَيْنِ إِذَا وَقَعَ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ وَغَلَبَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِتَمْشِيَةِ دَلِيلِهِ وَأَسْكَتَهُ يَقُولُ الْمَطْلُوبُ إِنَّكَ قَرَّرْتَ هَذَا بِقُوَّةِ جِدَالِكَ وَأَنْتَ خَبِيرٌ فِي نَفْسِكَ بِضَعْفِ مَقَالِكَ وَتَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَمَا تَقُولُ وَإِنْ أَقَمْتَ عليه

[سورة يس (36) : آية 4]

صُورَةَ دَلِيلٍ وَعَجَزْتُ أَنَا عَنِ الْقَدْحِ فِيهِ، وَهَذَا كَثِيرُ الْوُقُوعِ بَيْنَ الْمُتَنَاظِرَيْنِ فَعِنْدَ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ هُوَ بِدَلِيلٍ آخَرَ، لِأَنَّ السَّاكِتَ الْمُنْقَطِعَ يَقُولُ فِي الدَّلِيلِ الْآخَرِ مَا قَالَهُ فِي الْأَوَّلِ فَلَا يَجِدُ أَمْرًا إِلَّا الْيَمِينَ، فَيَقُولُ وَاللَّهِ إِنِّي لَسْتُ مُكَابِرًا وَإِنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا ذَكَرْتُ وَلَوْ عَلِمْتُ خِلَافَهُ لَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَهَهُنَا يَتَعَيَّنُ الْيَمِينُ، فَكَذَلِكَ النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ لَمَّا أَقَامَ الْبَرَاهِينَ وَقَالَتِ الْكَفَرَةُ: مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ ... وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [سَبَأٍ: 43] تَعَيَّنَ التَّمَسُّكُ بِالْأَيْمَانِ لِعَدَمِ فَائِدَةِ الدَّلِيلِ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مُجَرَّدَ الْحَلِفِ، وَإِنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ خَرَجَ فِي صُورَةِ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزَةٌ وَدَلِيلُ كَوْنِهِ مُرْسَلًا هُوَ الْمُعْجِزَةُ وَالْقُرْآنُ كَذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ لَمْ يُذْكَرْ فِي صُورَةِ الدَّلِيلِ؟ وَمَا الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ الدَّلِيلِ فِي صُورَةِ الْيَمِينِ؟ قُلْنَا الدَّلِيلُ أَنَّ ذِكْرَهُ «1» فِي صُورَةِ الْيَمِينِ قَدْ لَا يُقْبِلُ عَلَيْهِ سَامِعٌ فَلَا يَقْبَلُهُ فُؤَادُهُ فَإِذَا ابْتُدِئَ بِهِ عَلَى صُورَةِ الْيَمِينِ وَالْيَمِينُ لَا يَقَعُ لَا سِيَّمَا مِنَ الْعَظِيمِ الْأَعْلَى أَمْرٌ عَظِيمٌ وَالْأَمْرُ الْعَظِيمُ تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ فَلِصُورَةِ الْيَمِينِ تَشْرَئِبُّ إِلَيْهِ الْأَجْسَامُ، وَلِكَوْنِهِ دَلِيلًا شَافِيًا يَتَشَرَّبُهُ الْفُؤَادُ فَيَقَعُ فِي السَّمْعِ وَيَنْفَعُ فِي الْقَلْبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُ الْقُرْآنِ حَكِيمًا عِنْدَهُمْ لِكَوْنِ مُحَمَّدٍ رَسُولًا، فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَسَمٍ، نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةً بَيِّنٌ إِنْ أَنْكَرُوهُ قِيلَ لَهُمْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَثِقُ بِيَمِينِ غَيْرِهِ إِلَّا إِذَا حَلَفَ بِمَا يُعْتَقَدُ عَظَمَتُهُ، فَالْكَافِرُ إِنْ حَلَفَ بِمُحَمَّدٍ لَا نُصَدِّقُهُ كَمَا نُصَدِّقُهُ لَوْ حَلَفَ بِالصَّلِيبِ وَالصَّنَمِ، وَلَوْ حَلَفَ بِدِينِنَا الْحَقِّ لَا يُوثَقُ بِمِثْلِ مَا يُوثَقُ بِهِ لَوْ حَلَفَ بِدِينِهِ الْبَاطِلِ وَكَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أن النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ يُعَظِّمُونَ الْقُرْآنَ فَحَلِفُهُ بِهِ هُوَ الذي يوجب ثقتهم به. وقوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 4] عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَيْ أَنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَالْمُسْتَقِيمُ/ أَقْرَبُ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَقْصِدِ وَالدِّينِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ تَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَوَلَّى عَنْ غَيْرِهِ وَالْمَقْصِدُ هُوَ اللَّهُ وَالْمُتَوَجِّهُ إِلَى الْمَقْصِدِ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُوَلِّي عَنْهُ وَالْمُتَحَرِّفِ مِنْهُ وَلَا يَذْهَبُ فهم أحد إلى أن قوله إنك منهم عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ مُمَيِّزٌ لَهُ عَنْ غَيْرِهِ كَمَا يُقَالُ إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَ النَّاسِ مُجْتَبًى لِأَنَّ جَمِيعَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بَيَانُ كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ الْمُرْسَلُونَ وَقَوْلُهُ: عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ يُعْلَمُ مِنْهُ فَسَادُ قَوْلِ الْمُبَاحِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ الْمُكَلَّفُ يَصِيرُ وَاصِلًا إِلَى الْحَقِّ فَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ تَكْلِيفٌ وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرْسَلِينَ مَا دَامُوا فِي الدُّنْيَا فَهُمْ سَالِكُونَ سَائِحُونَ مُهْتَدُونَ مُنْتَهِجُونَ إِلَى السبيل المستقيم فكيف ذلك الجاهل العاجز. وقوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 5] تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) قُرِئَ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ تنزيل العزيز الرحيم إنك لمن المرسلين لتنذر وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِعْلُهُ مَنْوِيٌّ كَأَنَّهُ قَالَ نُزِّلَ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ وَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ نَزَلَ الْقُرْآنُ أَوِ الْكِتَابُ الْحَكِيمُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَفْعُولُ فِعْلٍ مَنْوِيٍّ كأنه قال والقرآن الحكيم أعني

_ (1) في الأصل «أن ذكر لا» ولما كان لا معنى لها فمما لا شك فيه أنها مصحفة عما ذكرناه، لأن كتابة الهاء المربوطة في الخط قريبة من «لا» في الصورة فهي مصحفة عنها.

[سورة يس (36) : آية 6]

تنزيل العزيز الرحيم إنك لمن المرسلين لتنذر، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَنْوِيٍّ كَأَنَّهُ قَالَ هَذَا تَنْزِيلُ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ لِتُنْذِرَ كَأَنَّهُ قَالَ تَنْزِيلُ الْعَزِيزِ لِلْإِنْذَارِ وَقَوْلُهُ: الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا أَرْسَلَ رَسُولًا فَالْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ إِمَّا أَنْ يُخَالِفُوا الْمُرْسِلَ وَيُهِينُوا الْمُرْسَلَ وَحِينَئِذٍ لَا يَقْدِرُ الْمَلِكُ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ إِلَّا إِذَا كَانَ عَزِيزًا أَوْ يَخَافُوا الْمُرْسِلَ وَيُكْرِمُوا الْمُرْسَلَ وَحِينَئِذٍ يَرْحَمُهُمُ الْمَلِكُ، أَوْ نَقُولُ الْمُرْسَلُ يَكُونُ مَعَهُ فِي رِسَالَتِهِ مَنْعٌ عَنْ أَشْيَاءَ وَإِطْلَاقٌ لِأَشْيَاءَ فَالْمَنْعُ يُؤَكِّدُ الْعِزَّةَ وَالْإِطْلَاقُ يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ. وقوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 6] لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [الْقَصَصِ: 46] وَقِيلَ الْمُرَادُ الْإِثْبَاتُ وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ، فَتَكُونُ مَا مَصْدَرِيَّةً الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً مَعْنَاهُ: لِتُنْذِرَ قَوْمًا الَّذِينَ أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ، فَعَلَى قَوْلِنَا مَا نَافِيَةٌ تَفْسِيرُهُ ظَاهِرٌ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يُنْذَرْ آبَاؤُهُ وَبَعُدَ الْإِنْذَارُ عَنْهُ فَهُوَ يَكُونُ غَافِلًا، وَعَلَى قَوْلِنَا هِيَ لِلْإِثْبَاتِ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ لِتُنْذِرَهُمْ إِنْذَارَ آبَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ غَافِلُونَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَيْفَ يُفْهَمُ التَّفْسِيرَانِ وَأَحَدُهُمَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ آبَاؤُهُمْ مُنْذَرِينَ وَالْآخَرُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا مُنْذَرِينَ وَبَيْنَهُمَا تَضَادٌّ؟ نَقُولُ عَلَى قَوْلِنَا مَا نَافِيَةٌ مَعْنَاهُ مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ وَإِنْذَارُ آبَائِهِمُ الْأَوَّلِينَ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ آبَائِهِمْ مُنْذَرِينَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْهُمْ غَيْرَ مُنْذَرِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ يَقْتَضِي أَنْ لَا يكون النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مَأْمُورًا بِإِنْذَارِ الْيَهُودِ لِأَنَّ آبَاءَهُمْ أُنْذِرُوا، نَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا مَا لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا هِيَ نَافِيَةٌ فَكَذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [السَّجْدَةِ: 3] وَقُلْنَا إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ آبَاءَهُمْ قَدْ أُنْذِرُوا بَعْدَ ضَلَالِهِمْ وَبَعْدَ إِرْسَالِ مَنْ تَقَدَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرْسَلَ رَسُولًا فَمَا دَامَ فِي الْقَوْمِ مَنْ يُبَيِّنُ دِينَ ذَلِكَ النَّبِيِّ وَيَأْمُرُ بِهِ لَا يُرْسَلُ الرَّسُولُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ فِيهِمْ مَنْ يُبَيِّنُ وَيَضِلُّ الْكُلُّ وَيَتَبَاعَدُ الْعَهْدُ وَيَفْشُو الْكُفْرُ يَبْعَثُ رَسُولًا آخَرَ مُقَرِّرًا لِدِينِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ أَوْ وَاضِعًا لِشَرْعٍ آخَرَ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ أَيْ ما أنذروا بعد ما ضَلُّوا عَنْ طَرِيقِ الرَّسُولِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى دَخَلُوا فِيهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ تُنْذَرْ آبَاؤُهُمُ الْأَدْنَوْنَ بعد ما ضَلُّوا، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مَبْعُوثًا بِالْحَقِّ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَهُمْ غافِلُونَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَعْثَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا عِنْدَ الْغَفْلَةِ، أَمَّا إِنْ حَصَلَ لَهُمُ الْعِلْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِأَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنْ يُبَلِّغُهُمْ شَرِيعَةً وَيُخَالِفُونَهُ فَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْهَلَاكُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَعْذِيبًا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ رَسُولًا، وَكَذَلِكَ مَنْ خَالَفَ الْأُمُورَ الَّتِي لَا تَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانِ الرُّسُلِ يَسْتَحِقُّ الْإِهْلَاكَ مِنْ غَيْرِ بَعْثَةٍ، وَلَيْسَ هَذَا قَوْلًا بِمَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنَ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ خَلَقَ فِي قَوْمٍ عِلْمًا بِوُجُوبِ الْأَشْيَاءِ وَتَرَكُوهُ لَا يَكُونُونَ غَافِلِينَ فَلَا يَتَوَقَّفُ تَعْذِيبُهُمْ على بعثة الرسل. ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 7] لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)

[سورة يس (36) : آية 8]

لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْإِرْسَالَ أَوِ الْإِنْزَالَ لِلْإِنْذَارِ، أَشَارَ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَيْسَ عَلَيْهِ الْهِدَايَةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِلِاهْتِدَاءِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْإِنْذَارُ وَقَدْ لَا يُؤْمِنُ مِنَ الْمُنْذَرِينَ كَثِيرٌ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ القول هو قوله تعالى: حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي ... لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ [ص: 85] ، الثَّانِي: هُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ لَقَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّ هَذَا يُؤْمِنُ وَأَنَّ هَذَا لَا يُؤْمِنُ فَقَالَ فِي حَقِّ الْبَعْضِ إِنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، وقال في حق غيره أنه يؤمن فحق الْقَوْلُ أَيْ وُجِدَ وَثَبَتَ بِحَيْثُ لَا يُبَدَّلُ بِغَيْرِهِ الثَّالِثُ: هُوَ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْهُ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ الرُّسُلِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَغَيْرِهِ وَبَانَ بُرْهَانُهُ فَأَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَتَوَقَّفُ لِاسْتِمَاعِ الدَّلِيلِ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ يُرْجَى مِنْهُ الْإِيمَانُ إِذَا بَانَ لَهُ الْبُرْهَانُ، فَإِذَا تحقق وأكد بالإيمان ولم يؤمن أكثرهم فأكثرهم تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ لِمُضِيِّ وَقْتِ رَجَاءِ الإيمان ولأنهم لما لم يؤمنوا عند ما حَقِّ الْقَوْلِ وَاسْتَمَرُّوا فَإِنْ كَانُوا يُرِيدُونَ شَيْئًا أَوْضَحَ مِنَ الْبُرْهَانِ فَهُوَ الْعِيَانُ/ وَعِنْدَ الْعِيَانِ لَا يُفِيدُ الْإِيمَانُ، وَقَوْلُهُ: عَلى أَكْثَرِهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ وَالْبُرْهَانُ قَلِيلُونَ فَحَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِيمَانُ وَعَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ظَاهِرٌ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْكُفَّارِ مَاتُوا عَلَى الكفر ولم يؤمنوا وفيه وجه رابع وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَقَدْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَهُوَ قريب من الأول. ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 8] إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّا جَعَلْنا وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّا جَعَلْنَاهُمْ مُمْسِكِينَ لَا يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ [الْإِسْرَاءِ: 29] وَالثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَصَاحِبَيْهِ الْمَخْزُومِيَّيْنِ حَيْثُ حَلَفَ أَبُو جَهْلٍ أَنَّهُ يَرْضَخُ رَأْسَ مُحَمَّدٍ، فَرَآهُ سَاجِدًا فَأَخَذَ صَخْرَةً وَرَفَعَهَا لِيُرْسِلَهَا عَلَى رَأْسِهِ فَالْتَزَقَتْ بِيَدِهِ وَيَدُهُ بِعُنُقِهِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَقْوَى وَأَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ مَنْعِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَنِ الِاهْتِدَاءِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَلْ لِلْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مُنَاسَبَةٌ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ؟ نَقُولُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: لَهُ مُنَاسَبَةٌ وَهِيَ أَنَّ قوله تعالى: فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس: 7] يَدْخُلُ فِيهِ أَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 143] أَيْ صَلَاتَكُمْ عِنْدَ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَالزَّكَاةُ مُنَاسِبَةٌ لِلصَّلَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا يُصَلُّونَ وَلَا يُزَكُّونَ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: فَمُنَاسَبَةٌ خَفِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ [يس: 7] وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبُرْهَانُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بَلْ عَايَنُوا وَأَبْصَرُوا مَا يَقْرُبُ مِنَ الضَّرُورَةِ حَيْثُ الْتَزَقَتْ يَدُهُ بِعُنُقِهِ وَمُنِعَ مِنْ إِرْسَالِ الْحَجَرِ وَهُوَ يُضْطَرُّ إِلَى الْإِيمَانِ وَلَمْ يُؤْمِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَصْلًا وَالتَّفْسِيرُ هُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى مَاذَا؟ نَقُولُ فِيهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْأَيْدِي وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مذكورة ولكنها معلومة لأن المغلول تكون أيديه مجموعة فِي الْغُلِّ إِلَى عُنُقِهِ وَثَانِيهِمَا: وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ إِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْأَغْلَالِ، مَعْنَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا ثِقَالًا غِلَاظًا بِحَيْثُ تَبْلُغُ إِلَى الْأَذْقَانِ فَلَمْ يَتَمَكَّنِ الْمَغْلُولُ مَعَهَا مِنْ أَنْ يُطَأْطِئَ رَأْسَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَيْفَ يُفْهَمُ مِنَ الْغُلِّ فِي الْعُنُقِ الْمَنْعُ مِنَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُجْعَلَ كِنَايَةً فَنَقُولُ الْمَغْلُولُ الذي بلغ

[سورة يس (36) : آية 9]

الْغُلُّ إِلَى ذَقَنِهِ وَبَقِيَ مُقْمَحًا رَافِعَ الرَّأْسِ لَا يُبْصِرُ الطَّرِيقَ الَّذِي عِنْدَ قَدَمِهِ وَذَكَرَ بَعْدَهُ أَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِ سَدًّا فَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى انْتِهَاجِ السَّبِيلِ وَرُؤْيَتِهِ وَقَدْ ذُكِرَ مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْمُرْسَلَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَهَذَا الَّذِي يَهْدِيهِ النَّبِيُّ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْعَقْلِيِّ جُعِلَ مَمْنُوعًا كَالْمَغْلُولِ الَّذِي يُجْعَلُ مَمْنُوعًا مِنْ إِبْصَارِ الطَّرِيقِ الْحِسِّيِّ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْأَغْلَالُ فِي الْأَعْنَاقِ/ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الِانْقِيَادِ فَإِنَّ الْمُنْقَادَ يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُ وَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى الْخَطِّ وَخَضَعَ عُنُقُهُ وَالَّذِي فِي رَقَبَتِهِ الْغُلُّ الثَّخِينُ إِلَى الذَّقَنِ لَا يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ وَلَا يُحَرِّكُهُ تَحْرِيكَ الْمُصَدِّقِ، وَيُصَدِّقُ هَذَا قَوْلُهُ: مُقْمَحُونَ فَإِنَّ الْمُقْمَحَ هُوَ الرَّافِعُ رَأْسَهُ كَالْمُتَأَبِّي يُقَالُ بَعِيرٌ قَامِحٌ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ فَلَمْ يَشْرَبِ الْمَاءَ وَلَمْ يُطَأْطِئْهُ لِلشُّرْبِ وَالْإِيمَانُ كَالْمَاءِ الزُّلَالِ الَّذِي بِهِ الْحَيَاةُ وَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ إِنَّا جعلنا في أعناقهم أغلالا فَهُمْ مُقْمَحُونَ لَا يُخْضِعُونَ الرِّقَابَ لِأَمْرِ اللَّهِ. وعلى هذا فقوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 9] وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) يَكُونُ مُتَمِّمًا لِمَعْنَى جَعْلِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مَغْلُولِينَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَنْتَهِجُونَ سَبِيلَ الرَّشَادِ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا يُبْصِرُونَ الْحَقَّ فَيَنْقَادُونَ لَهُ لِمَكَانِ السَّدِّ وَلَا يَنْقَادُونَ لَكَ فَيُبْصِرُونَ الْحَقَّ فَيَنْقَادُونَ لَهُ لِمَكَانِ الْغُلِّ وَالْإِيمَانِ الْمُوَرِّثِ لِلْإِيقَانِ. إِمَّا بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ أَوَّلًا فَتَلُوحُ لَهُ الْحَقَائِقُ ثَانِيًا وَإِمَّا بِظُهُورِ الْأُمُورِ أَوَّلًا وَاتِّبَاعِ الرَّسُولِ ثَانِيًا، وَلَا يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ أَوَّلًا لِأَنَّهُمْ مَغْلُولُونَ فَلَا يَظْهَرُ لَهُمُ الْحَقُّ مِنَ الرَّسُولِ ثَانِيًا، وَلَا يَظْهَرُ لَهُمُ الْحَقُّ أَوَّلًا لِأَنَّهُمْ وَاقِعُونَ فِي السَّدِّ فَلَا يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ ثَانِيًا وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْمَانِعُ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي النَّفْسِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْهَا، وَلَهُمُ الْمَانِعَانِ جَمِيعًا مِنَ الْإِيمَانِ، أَمَّا فِي النَّفْسِ فَالْغُلُّ، وَأَمَّا مِنَ الْخَارِجِ فَالسَّدُّ، وَلَا يَقَعُ نَظَرُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَرَوْنَ الْآيَاتِ الَّتِي فِي أَنْفُسِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فُصِّلَتْ: 53] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُقْمَحَ لَا يَرَى نَفْسَهُ وَلَا يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى يَدَيْهِ، وَلَا يَقَعُ نَظَرُهُمْ عَلَى الْآفَاقِ لِأَنَّ مَنْ بَيْنَ السَّدَّيْنِ لَا يُبْصِرُونَ الْآفَاقَ فَلَا تَبِينُ لَهُمُ الْآيَاتُ الَّتِي فِي الْآفَاقِ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ [يس: 8] وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ هِدَايَتِهِمْ لِآيَاتِ اللَّهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: السَّدُّ مِنْ بَيْنِ الْأَيْدِي ذِكْرُهُ ظَاهِرُ الْفَائِدَةِ فَإِنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا سالكون وينبغي أن يسلكوا الطريقة المستقيمة ومن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى السُّلُوكِ، وَأَمَّا السَّدُّ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟ فَنَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ هِدَايَةٌ فِطْرِيَّةٌ وَالْكَافِرُ قَدْ يَتْرُكُهَا وَهِدَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ وَالْكَافِرُ مَا أَدْرَكَهَا فَكَأَنَّهُ تعالى يقول: جعلنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا فَلَا يَسْلُكُونَ طَرِيقَةَ الِاهْتِدَاءِ الَّتِي هِيَ نَظَرِيَّةٌ وَجَعَلْنَا مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَلَا يَرْجِعُونَ إِلَى الْهِدَايَةِ الْجِبِلِّيَّةِ الَّتِي هي الفطرية الثاني: هو أن الإنسان مبدأه مِنَ اللَّهِ وَمَصِيرُهُ إِلَيْهِ فَعَمَى الْكَافِرِ لَا يُبْصِرُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ/ الْمَصِيرِ إِلَى اللَّهِ وَلَا مَا خَلْفَهُ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْوُجُودِ بِخَلْقِ اللَّهِ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ السَّالِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ سُلُوكِ طَرِيقٍ فَإِنِ انْسَدَّ الطَّرِيقُ الَّذِي قُدَّامَهُ يَفُوتُهُ الْمَقْصِدُ وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ وَإِذَا انْسَدَّ الطَّرِيقُ مِنْ خَلْفِهِ وَمِنْ قُدَّامِهِ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي هُوَ فِيهِ لَا يَكُونُ مَوْضِعَ إِقَامَةٍ لِأَنَّهُ مُهْلِكٌ فَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى إِهْلَاكِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَغْشَيْناهُمْ بِحَرْفِ الْفَاءِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلْإِغْشَاءِ بِالسَّدِّ تَعَلُّقٌ وَيَكُونُ

[سورة يس (36) : آية 10]

الْإِغْشَاءُ مُرَتَّبًا عَلَى جَعْلِ السَّدِّ فَكَيْفَ ذَلِكَ؟ فَنَقُولُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَيَانًا لِأُمُورٍ مُتَرَتِّبَةٍ يَكُونُ بَعْضُهَا سَبَبًا لِلْبَعْضِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَلَا يُبْصِرُونَ أَنْفُسَهُمْ لِإِقْمَاحِهِمْ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَلَا يُبْصِرُونَ مَا فِي الْآفَاقِ وَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ أَنْ يَرَوُا السَّمَاءَ وَمَا عَلَى يَمِينِهِمْ وَشِمَالِهِمْ فقال بعد هذا كله: وجعلنا على أبصارهم غشاوة فَلَا يُبْصِرُونَ شَيْئًا أَصْلًا وَثَانِيهِمَا: هُوَ أَنَّ ذَلِكَ بَيَانٌ لِكَوْنِ السَّدِّ قَرِيبًا مِنْهُمْ بِحَيْثُ يَصِيرُ ذَلِكَ كَالْغِشَاوَةِ عَلَى أَبْصَارِهِمْ فَإِنَّ مَنْ جُعِلَ مِنْ خَلْفِهِ وَمِنْ قُدَّامِهِ سَدَّيْنِ مُلْتَزِقَيْنِ بِهِ بِحَيْثُ يَبْقَى بَيْنَهُمَا مُلْتَزِقًا بِهِمَا تَبْقَى عَيْنُهُ عَلَى سَطْحِ السَّدِّ فَلَا يُبْصِرُ شَيْئًا، أَمَّا غَيْرُ السَّدِّ فَلِلْحِجَابِ، وَأَمَّا عَيْنُ السَّدِّ فَلِكَوْنِ شَرْطِ الْمَرْئِيِّ أَنْ لَا يَكُونَ قَرِيبًا مِنَ الْعَيْنِ جِدًّا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ السَّدَّيْنِ مِنْ بَيْنِ الْأَيْدِي وَمِنْ خَلْفٍ وَلَمْ يَذْكُرْ مِنَ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ مَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ فَنَقُولُ، أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا إِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْهِدَايَةِ الْفِطْرِيَّةِ وَالنَّظَرِيَّةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَنَقُولُ بِمَا ذَكَرَ حَصَلَ الْعُمُومُ وَالْمَنْعُ مِنِ انْتِهَاجِ الْمَنَاهِجِ الْمُسْتَقِيمَةِ، لِأَنَّهُمْ إِنْ قَصَدُوا السُّلُوكَ إِلَى جَانِبِ الْيَمِينِ أَوْ جَانِبِ الشِّمَالِ صَارُوا مُتَوَجِّهِينَ إِلَى شَيْءٍ وَمُوَلِّينَ عَنْ شَيْءٍ فَصَارَ مَا إِلَيْهِ تَوَجُّهُهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَيَجْعَلُ اللَّهُ السَّدَّ هُنَاكَ فَيَمْنَعُهُ مِنَ السُّلُوكِ، فَكَيْفَمَا يَتَوَجَّهِ الْكَافِرُ يَجْعَلِ اللَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ سَدًّا وَوَجْهٌ آخَرُ: أَحْسَنُ مِمَّا ذَكَرْنَا وَهُوَ أَنَّا لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ جَعْلَ السَّدِّ صَارَ سَبَبًا لِلْإِغْشَاءِ كَانَ السَّدُّ مُلْتَزِقًا بِهِ وَهُوَ مُلْتَزِقٌ بِالسَّدَّيْنِ فَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْحَرَكَةِ يُمْنَةً وَلَا يُسْرَةً فَلَا حَاجَةَ إِلَى السَّدِّ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ يَحْتَمِلُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ لَا يُبْصِرُونَ شَيْئًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ أَنَّ الْكَافِرَ مَصْدُودٌ وَسَبِيلُ الْحَقِّ عَلَيْهِ مَسْدُودٌ وَهُوَ لَا يُبْصِرُ السَّدَّ وَلَا يَعْلَمُ الصَّدَّ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَغَيْرُ ضَالٍّ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْإِنْذَارَ لَا يَنْفَعُهُمْ مَعَ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ مِنَ الغل والسد والإغشاء والإعماء بقوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 10] وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) أَيِ الْإِنْذَارُ وَعَدَمُهُ سِيَّانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِيمَانِ مِنْهُمْ إِذْ لَا وُجُودَ لَهُ مِنْهُمْ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ إِذَا كَانَ الْإِنْذَارُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً فَلِمَاذَا الْإِنْذَارُ؟ نَقُولُ قَدْ أَجَبْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ وَمَا قَالَ سَوَاءٌ/ عَلَيْكَ فَالْإِنْذَارُ بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس كَعَدَمِ الْإِنْذَارِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مُخْرِجٌ لَهُ عَنِ الْعُهْدَةِ وَسَبَبٌ فِي زِيَادَةِ سِيَادَتِهِ عَاجِلًا وَسَعَادَتِهِ آجِلًا، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ عَلَى السَّوَاءِ فَإِنْذَارُ النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ لِيَخْرُجَ عَمَّا عَلَيْهِ وَيَنَالَ ثَوَابَ الْإِنْذَارِ وَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ لِمَا كُتِبَ عَلَيْهِمْ من البوار في دار القرار. ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 11] إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) وَالتَّرْتِيبُ ظَاهِرٌ وَفِي التَّفْسِيرِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ مِنْ قبل لِتُنْذِرَ [يس: 6] وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْإِنْذَارَ الْعَامَّ عَلَى مَا بَيَّنَا وقال: إِنَّما تُنْذِرُ وَهُوَ يَقْضِي التَّخْصِيصَ فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ نَقُولُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ قوله: لِتُنْذِرَ أَيْ كَيْفَمَا كَانَ سَوَاءٌ كَانَ مُفِيدًا أَوْ لَمْ يَكُنْ وَقَوْلُهُ: إِنَّما تُنْذِرُ أَيِ الْإِنْذَارُ الْمُفِيدُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَتَّبِعُ الذِّكْرَ وَيَخْشَى الثَّانِي: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ إِنَّ الْإِرْسَالَ وَالْإِنْزَالَ، وَذَكَرَ أَنَّ الْإِنْذَارَ وَعَدَمَهُ سِيَّانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الْعِنَادِ قَالَ لِنَبِيِّهِ: لَيْسَ إِنْذَارُكَ غَيْرَ مُفِيدٍ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَأَنْذِرْ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ وَإِنَّمَا تُنْذِرُ بِذَلِكَ الْإِنْذَارِ الْعَامِّ

[سورة يس (36) : آية 12]

مَنْ يَتَّبِعُ الذِّكْرَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ بِإِنْذَارِكَ تَهْدِي وَلَا تَدْرِي مَنْ تَهْدِي فَأَنْذِرِ الْأَسْوَدَ وَالْأَحْمَرَ وَمَقْصُودُكَ مَنْ يَتَّبِعُ إِنْذَارَكَ وَيَنْتَفِعُ بِذِكْرَاكَ الثَّالِثُ: هُوَ أَنْ نَقُولَ قَوْلُهُ: لِتُنْذِرَ أَيْ أَوَّلًا فَإِذَا أَنْذَرْتَ وَبَالَغْتَ وَبَلَّغْتَ وَاسْتَهْزَأَ الْبَعْضُ وَتَوَلَّى وَاسْتَكْبَرَ وَوَلَّى، فَأَعْرِضْ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الثَّالِثِ إِنَّكَ تُنْذِرُ الْكُلَّ بِالْأُصُولِ، وَإِنَّمَا تُنْذِرُ بِالْفُرُوعِ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَآمَنَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ مَنِ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ الثَّانِي: مَنِ اتَّبَعَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْآيَاتِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: 1] فَمَا جَعَلَ الْقُرْآنَ نَفْسَ الذِّكْرِ الثَّالِثُ: مَنِ اتَّبَعَ الْبُرْهَانَ فَإِنَّهُ ذِكْرٌ يُكْمِلُ الْفِطْرَةَ وَعَلَى كُلِّ وَجْهٍ فَمَعْنَاهُ: إِنَّمَا تُنْذِرُ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: 28] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [البقرة: 82] فَقَوْلُهُ: اتَّبَعَ الذِّكْرَ أَيْ آمَنَ، وَقَوْلُهُ: وَخَشِيَ الرَّحْمنَ أَيْ عَمِلَ صَالِحًا وَهَذَا الْوَجْهُ يَتَأَيَّدُ بِقَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ لِأَنَّا ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ الْغُفْرَانَ جَزَاءُ الْإِيمَانِ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مَغْفُورٌ وَالْأَجْرُ الْكَرِيمُ جَزَاءُ الْعَمَلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [سَبَأٍ: 4] وَتَفْسِيرُ الذِّكْرِ بِالْقُرْآنِ يَتَأَيَّدُ بِتَعْرِيفِ الذِّكْرِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: 2] وَقَوْلُهُ: وَخَشِيَ الرَّحْمنَ فِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ الرَّحْمَةَ تُورِثُ الِاتِّكَالَ وَالرَّجَاءَ فَقَالَ مَعَ أَنَّهُ رَحْمَنٌ وَرَحِيمٌ فَالْعَاقِلُ/ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ الْخَشْيَةَ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَتْ نِعْمَتُهُ بِسَبَبِ رَحْمَتِهِ أَكْثَرَ فَالْخَوْفُ مِنْهُ أَتَمُّ مَخَافَةَ أَنْ يقطع عنه النعم المتواترة وتكملة اللطيفة: هي أَنَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ اسْمَيْنِ يَخْتَصَّانِ بِهِ هُمَا اللَّهُ وَالرَّحْمَنُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الْإِسْرَاءِ: 110] حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: هُمَا عَلَمَانِ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاللَّهُ اسْمٌ يُنْبِئُ عَنِ الْهَيْبَةِ وَالرَّحْمَنُ ينبئ عن العاطفية فقال في موضع يَرْجُوا اللَّهَ [الأحزاب: 21] وقال هاهنا: وَخَشِيَ الرَّحْمنَ يَعْنِي مَعَ كَوْنِهِ ذَا هَيْبَةٍ لَا تَقْطَعُوا عَنْهُ رَجَاءَكُمْ وَمَعَ كَوْنِهِ ذَا رَحْمَةٍ لَا تَأْمَنُوهُ، وَقَوْلُهُ: بِالْغَيْبِ يَعْنِي بِالدَّلِيلِ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى دَرَجَةِ الْمَرْئِيِّ الْمُشَاهَدِ فَإِنَّ عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَةِ لَا يَبْقَى لِلْخَشْيَةِ فَائِدَةٌ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَيْبِ مَا غَابَ عَنَّا وَهُوَ أَحْوَالُ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ إِنَّ الْوَحْدَانِيَّةَ تَدْخُلُ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: فَبَشِّرْهُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَمْرِ الثَّانِي مِنْ أَمْرَيِ الرِّسَالَةِ فإن النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ أُرْسِلَ لِيُنْذِرَ وَذَكَرَ أَنَّ الْإِنْذَارَ النَّافِعَ عِنْدَ اتِّبَاعِ الذِّكْرِ، فَقَالَ بَشِّرْ: كَمَا أَنْذَرْتَ وَنَفَعْتَ، وَقَوْلُهُ: بِمَغْفِرَةٍ عَلَى التَّنْكِيرِ أَيْ بِمَغْفِرَةٍ وَاسِعَةٍ تَسْتُرُ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ حَتَّى لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ النَّفْسِ وَيَظْهَرُ عَلَيْهِ أَنْوَارُ الرُّوحِ الزَّكِيَّةِ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ أَيْ ذِي كَرَمٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِي الْكَرِيمِ فِي قَوْلِهِ: وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 4] وفي قوله: رِزْقاً كَرِيماً [الأحزاب: 31] . ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 12] إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) فِي التَّرْتِيبِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الرِّسَالَةَ وَهُوَ أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا الْمُكَلَّفُ مُؤْمِنًا مُسْلِمًا ذَكَرَ أَصْلًا آخَرَ وَهُوَ الْحَشْرُ وَثَانِيهَا: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْإِنْذَارَ وَالْبِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ [يس: 11] وَلَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ بِكَمَالِهِ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ: إِنْ لَمْ يُرَ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيَجْزِي الْمُنْذِرِينَ وَيَجْزِي الْمُبَشِّرِينَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ خَشْيَةَ الرَّحْمَنِ بِالْغَيْبِ ذَكَرَ مَا يُؤَكِّدُهُ وَهُوَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى وَفِي التَّفْسِيرِ مسائل:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّا نَحْنُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ عِنْدَ الشُّهْرَةِ الْعَظِيمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ لَا يُعْرَفُ يُقَالُ لَهُ مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا ابْنُ فُلَانٍ فَيُعْرَفُ وَمَنْ يَكُونُ مَشْهُورًا إِذَا قِيلَ لَهُ مَنْ أَنْتَ يَقُولُ أَنَا أَيْ لَا مُعَرِّفَ لِي أَظْهَرُ مِنْ نَفْسِي فَقَالَ: إِنَّا نَحْنُ مَعْرُوفُونَ بِأَوْصَافِ الْكَمَالِ، وَإِذَا عُرِّفْنَا بِأَنْفُسِنَا فَلَا تُنْكِرُ قُدْرَتَنَا عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وثانيهما: أن يكون الخبر نُحْيِ كأنه قال إنا نحيي الموتى، ونَحْنُ يَكُونُ تَأْكِيدًا وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّا نَحْنُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّوْحِيدِ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ يُوجِبُ التَّمْيِيزَ بِغَيْرِ النَّفْسِ فَإِنَّ زَيْدًا إِذَا شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِي الِاسْمِ، فَلَوْ قَالَ أَنَا زَيْدٌ لَمْ يَحْصُلِ التَّعْرِيفُ التَّامُّ، لِأَنَّ لِلسَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: أَيُّمَا زَيْدٍ؟ فَيَقُولُ ابْنُ عَمْرٍو وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ زَيْدٌ آخَرُ أَبُوهُ عَمْرٌو لَا يَكْفِي قَوْلُهُ ابْنُ عَمْرٍو، فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ: إِنَّا نَحْنُ أَيْ لَيْسَ غَيْرُنَا أَحَدٌ يشاركنا حتى تقول إِنَّا كَذَا فَنَمْتَازُ، وَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ مَذْكُورَةً، الرِّسَالَةُ وَالتَّوْحِيدُ وَالْحَشْرُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ مَا قَدَّمُوا وَأَخَّرُوا فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْلِ: 81] وَالْمُرَادُ وَالْبَرْدَ أَيْضًا وَثَانِيهَا: الْمَعْنَى مَا أَسْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ صَالِحَةً كَانَتْ أَوْ فَاسِدَةً وَهُوَ كما قال تعالى: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة: 95] أَيْ بِمَا قَدَّمَتْ فِي الْوُجُودِ عَلَى غَيْرِهِ وَأَوْجَدَتْهُ وَثَالِثُهَا: نَكْتُبُ نِيَّاتِهِمْ فَإِنَّهَا قَبْلَ الْأَعْمَالِ وآثارهم أَيْ أَعْمَالَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَآثَارُهُمْ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: آثَارُهُمْ أَقْدَامُهُمْ فَإِنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ بَعُدَتْ دُورُهُمْ عَنِ الْمَسَاجِدِ فأرادوا النقلة فقال صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَكْتُبُ خُطُوَاتِكُمْ وَيُثِيبُكُمْ عَلَيْهِ فَالْزَمُوا بُيُوتَكُمْ» وَالثَّانِي: هِيَ السُّنَنُ الْحَسَنَةُ، كَالْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ وَالْقَنَاطِرِ الْمَبْنِيَّةِ، وَالْحَبَائِسِ الدَّارَّةِ، وَالسُّنَنُ السَّيِّئَةُ كالظلمات الْمُسْتَمِرَّةِ الَّتِي وَضَعَهَا ظَالِمٌ وَالْكُتُبِ الْمُضِلَّةِ، وَآلَاتِ الْمَلَاهِي وَأَدَوَاتِ الْمَنَاهِي الْمَعْمُولَةِ الْبَاقِيَةِ، وَهُوَ فِي معنى قوله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا» فَمَا قَدَّمُوا هُوَ أَفْعَالُهُمْ وَآثَارُهُمْ أَفْعَالُ الشَّاكِرِينَ فَبَشِّرْهُمْ حَيْثُ يُؤَاخَذُونَ بِهَا وَيُؤْجَرُونَ عَلَيْهَا وَالثَّالِثُ: مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْآثَارَ الْأَعْمَالُ وَمَا قَدَّمُوا النِّيَّاتِ فَإِنَّ النِّيَّةَ قَبْلَ الْعَمَلِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْكِتَابَةُ قَبْلَ الْإِحْيَاءِ فَكَيْفَ أَخَّرَ فِي الذِّكْرِ حَيْثُ قَالَ: نُحْيِي وَنَكْتُبُ وَلَمْ يَقُلْ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَنُحْيِيهِمْ نَقُولُ الْكِتَابَةُ مُعَظِّمَةٌ لِأَمْرِ الْإِحْيَاءِ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحِسَابِ لَا يُعَظَّمُ وَالْكِتَابَةُ فِي نَفْسِهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ إِحْيَاءً وَإِعَادَةً لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ أَصْلًا فَالْإِحْيَاءُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ وَالْكِتَابَةُ مُؤَكِّدَةٌ مُعَظِّمَةٌ لِأَمْرِهِ، فَلِهَذَا قُدِّمَ الْإِحْيَاءُ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: إِنَّا نَحْنُ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْعَظَمَةَ وَالْجَبَرُوتَ، وَالْإِحْيَاءُ عَظِيمٌ يَخْتَصُّ بِاللَّهِ وَالْكِتَابَةُ دُونَهُ فَقَرَنَ بِالتَّعْرِيفِ الْأَمْرَ الْعَظِيمَ وَذَكَرَ مَا يُعَظِّمُ ذَلِكَ الْعَظِيمَ وَقَوْلُهُ: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَيَانًا لِكَوْنِ مَا قَدَّمُوا وَآثَارُهُمْ أَمْرًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِمْ لَا يُبَدَّلُ، فَإِنَّ الْقَلَمَ جَفَّ بما هو كائن فلما قال: نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا بَيَّنَ أَنَّ قَبْلَ ذَلِكَ كِتَابَةً أُخْرَى فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ سَيَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ إِذَا فَعَلُوهُ كُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُؤَكِّدًا لِمَعْنَى قَوْلِهِ: وَنَكْتُبُ لِأَنَّ مَنْ يَكْتُبُ شَيْئًا فِي أَوْرَاقٍ وَيَرْمِيهَا قَدْ لَا يَجِدُهَا فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ فَقَالَ: نَكْتُبُ وَنَحْفَظُ ذَلِكَ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عِلْمُها عِنْدَ

[سورة يس (36) : آية 13]

رَبِّي فِي كِتابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى [طه: 52] وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَعْمِيمًا بَعْدَ/ التَّخْصِيصِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَلَيْسَتِ الْكِتَابَةُ مُقْتَصِرَةً عَلَيْهِ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ مُحْصًى فِي إِمَامٍ مُبِينٍ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ وَلَا يَفُوتُهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [الْقَمَرِ: 52، 53] يَعْنِي لَيْسَ مَا فِي الزُّبُرِ مُنْحَصِرًا فِيمَا فَعَلُوهُ بَلْ كُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ مَكْتُوبٌ، وَقَوْلُهُ: أَحْصَيْناهُ أَبْلَغُ مِنْ كَتَبْنَاهُ لِأَنَّ مَنْ كَتَبَ شَيْئًا مُفَرَّقًا يَحْتَاجُ إِلَى جَمْعِ عَدَدِهِ فَقَالَ: هُوَ مُحْصًى فِيهِ وَسُمِّيَ الْكِتَابُ إِمَامًا لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَتَّبِعُونَهُ فَمَا كُتِبَ فِيهِ مِنْ أَجَلٍ وَرِزْقٍ وَإِحْيَاءٍ وَإِمَاتَةٍ اتَّبَعُوهُ وَقِيلَ هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَإِمَامٌ جَاءَ جَمْعًا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الْإِسْرَاءِ: 71] أَيْ بِأَئِمَّتِهِمْ وَحِينَئِذٍ فَإِمَامٌ إِذَا كَانَ فَرْدًا فَهُوَ كَكِتَابٍ وَحِجَابٍ وَإِذَا كَانَ جَمْعًا فَهُوَ كَجِبَالٍ وَحِبَالٍ وَالْمُبِينُ هُوَ الْمُظْهِرُ لِلْأُمُورِ لِكَوْنِهِ مُظْهِرًا لِلْمَلَائِكَةِ مَا يَفْعَلُونَ وَلِلنَّاسِ مَا يُفْعَلُ بِهِمْ وَهُوَ الْفَارِقُ يَفْرِقُ بَيْنَ أَحْوَالِ الْخَلْقِ فَيَجْعَلُ فَرِيقًا فِي الْجَنَّةِ وفريقا في السعير. ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 13] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) وَفِيهِ وَجْهَانِ، وَالتَّرْتِيبُ ظَاهِرٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَاضْرِبْ لِأَجْلِهِمْ مَثَلًا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَاضْرِبْ لِأَجْلِ نَفْسِكَ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ لَهُمْ مَثَلًا أَيْ مَثِّلْهُمْ عِنْدَ نَفْسِكَ بِأَصْحَابِ الْقَرْيَةِ وَعَلَى الْأَوَّلِ نَقُولُ لَمَّا قَالَ اللَّهُ: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس: 3] وقال: لِتُنْذِرَ [يس: 6] قَالَ قُلْ لَهُمْ: مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَافِ: 9] بَلْ قَبْلِي بِقَلِيلٍ جَاءَ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ مُرْسَلُونَ وَأَنْذَرُوهُمْ بِمَا أَنْذَرْتُكُمْ وَذَكَرُوا التَّوْحِيدَ وَخَوَّفُوا بِالْقِيَامَةِ وَبَشَّرُوا بِنَعِيمِ دَارِ الْإِقَامَةِ، وَعَلَى الثَّانِي نَقُولُ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الْإِنْذَارَ لَا يَنْفَعُ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَكَتَبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ قَالَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَا تَأَسَ وَاضْرِبْ لِنَفْسِكَ وَلِقَوْمِكَ مَثَلًا، أَيْ مَثِّلْ لَهُمْ عِنْدَ نَفْسِكَ مَثَلًا حَيْثُ جَاءَهُمْ ثَلَاثَةُ رُسُلٍ وَلَمْ يُؤْمِنُوا وَصَبَرَ الرُّسُلُ عَلَى الْقَتْلِ وَالْإِيذَاءِ، وَأَنْتَ جِئْتَهُمْ وَاحِدًا وَقَوْمُكَ أَكْثَرُ مِنْ قَوْمِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُمْ جَاءُوا قَرْيَةً وَأَنْتَ بُعِثَتْ إِلَى الْعَالَمِ، وَفِي التَّفْسِيرِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ ضَرَبَ مَثَلًا؟ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاضْرِبْ مَعَ أَنَّ الضَّرْبَ فِي اللُّغَةِ، إِمَّا إِمْسَاسُ جِسْمٍ جِسْمًا بِعُنْفٍ، وَإِمَّا السَّيْرُ إِذَا قُرِنَ بِهِ حَرْفُ في كقوله تعالى: إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ [النِّسَاءِ: 101] نَقُولُ قَوْلُهُ ضَرَبَ مَثَلًا مَعْنَاهُ مَثَّلَ مَثَلًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الضَّرْبَ اسْمٌ لِلنَّوْعِ يُقَالُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ ضَرْبٍ وَاحِدٍ أَيِ اجْعَلْ هَذَا وَذَاكَ مِنْ ضَرْبٍ وَاحِدٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَصْحابَ الْقَرْيَةِ مَعْنَاهُ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا مِثْلَ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ فَتَرَكَ الْمَثَلَ وأقيم الأصحاب مقامه في الإعراب كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] هَذَا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي «الْكَشَّافِ» ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ لَا حَاجَةَ إِلَى الْإِضْمَارِ بَلِ الْمَعْنَى اجْعَلْ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ لَهُمْ مَثَلًا أَوْ مَثِّلْ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ بِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (إِذْ) مَنْصُوبَةٌ لِأَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ (أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ) كَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: / وَاضْرِبْ لَهُمْ وَقْتَ مَجِيءِ الْمُرْسَلِينَ وَمَثِّلْ ذَلِكَ الْوَقْتَ بِوَقْتِ مَجِيئِكَ، وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَعَلَى قَوْلِنَا إِنَّ هَذَا الْمَثَلَ مَضْرُوبٌ لِنَفْسِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ تَسْلِيَةً فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِذْ ظَرْفٌ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: اضْرِبْ أَيِ

[سورة يس (36) : آية 14]

اجْعَلِ الضَّرْبَ، كَأَنَّهُ حِينُ مَجِيئِهِمْ وَوَاقِعٌ فِيهِ، وَالْقَرْيَةُ أَنْطَاكِيَّةُ وَالْمُرْسَلُونَ مِنْ قَوْمِ عِيسَى وَهُمْ أَقْرَبُ مُرْسَلٍ أُرْسِلَ إِلَى قَوْمٍ إِلَى زَمَانِ محمد صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ كَمَا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى وقوله: إِذْ أَرْسَلْنا [يس: 14] يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا بدلا من إذ جاءها كأنه قال الضرب لَهُمْ مَثَلًا، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَى أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ اثْنَيْنِ وَثَانِيهِمَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ وَالْأَوْضَحُ أَنْ يَكُونَ إِذْ ظَرْفًا وَالْفِعْلُ الْوَاقِعُ فِيهِ جَاءَهَا أَيْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ حِينَ أَرْسَلْنَاهُمْ إِلَيْهِمْ أَيْ لَمْ يَكُنْ مَجِيئُهُمْ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ وَإِنَّمَا جَاءُوهُمْ حَيْثُ أُمِرُوا، وَهَذَا فِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ فِي الْحِكَايَةِ أَنَّ الرُّسُلَ كَانُوا مَبْعُوثِينَ مِنْ جِهَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرْسَلَهُمْ إِلَى أَنْطَاكِيَّةَ فَقَالَ تَعَالَى: إِرْسَالُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ إِرْسَالُنَا وَرَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ بِإِذْنِ اللَّهِ رَسُولُ اللَّهِ فَلَا يَقَعُ لَكَ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ أولئك كانوا رسل الرَّسُولِ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ فَإِنَّ تَكْذِيبَهُمْ كَتَكْذِيبِكَ فَتَتِمُّ التَّسْلِيَةُ بِقَوْلِهِ: إِذْ أَرْسَلْنا وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَسْأَلَةً فِقْهِيَّةً وَهِيَ أَنَّ وَكِيلَ الْوَكِيلِ بِإِذْنِ الْمُوَكِّلِ وَكِيلُ الْمُوَكِّلِ لَا وَكِيلُ الْوَكِيلِ حَتَّى لَا يَنْعَزِلَ بِعَزْلِ الْوَكِيلِ إِيَّاهُ وَيَنْعَزِلَ إِذَا عَزَلَهُ الْمُوَكِّلُ الْأَوَّلُ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِنَا: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا ضَرْبُ الْمَثَلِ لِأَجْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وآله وسلم ظاهر. وقوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 14] إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) فِي بَعْثَةِ الِاثْنَيْنِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَهِيَ أَنَّهُمَا كَانَا مَبْعُوثَيْنِ مِنْ جِهَةِ عِيسَى بِإِذْنِ اللَّهِ فَكَانَ عَلَيْهِمَا إِنْهَاءُ الْأَمْرِ إِلَى عِيسَى وَالْإِتْيَانُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ، وَاللَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَاهِدٍ يَشْهَدُ عِنْدَهُ، وَأَمَّا عِيسَى فَهُوَ بَشَرٌ فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِإِرْسَالِ اثْنَيْنِ لِيَكُونَ قَوْلُهُمَا عَلَى قَوْمِهِمَا عِنْدَ عِيسَى حُجَّةً تَامَّةً. وَقَوْلُهُ: فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ أَيْ قَوَّيْنَا وَقُرِئَ فَعَزَزْنَا بِثَالِثٍ مُخَفَّفًا، مِنْ عَزَّ إِذَا غَلَبَ فَكَأَنَّهُ قَالَ فَغَلَبْنَا نَحْنُ وَقَهَرْنَا بِثَالِثٍ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ وَتُرِكَ الْمَفْعُولُ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ فَعَزَّزْنَاهُمَا لِمَعْنًى لَطِيفٍ وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ بَعْثِهِمَا نُصْرَةُ الْحَقِّ لَا نُصْرَتُهُمَا وَالْكُلُّ مُقَوُّونَ لِلدِّينِ الْمَتِينِ بِالْبُرْهَانِ الْمُبِينِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الأولى: النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بَعَثَ رُسُلَهُ إِلَى الْأَطْرَافِ وَاكْتَفَى بِوَاحِدٍ وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعَثَ اثْنَيْنِ، نَقُولُ النَّبِيُّ بعث لتقرير الفروع وهو دون الأصول فَاكْتَفَى بِوَاحِدٍ فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي الْفُرُوعِ مَقْبُولٌ، وَأَمَّا هُمَا فَبُعِثَا بِالْأُصُولِ وَجَعَلَ لَهُمَا مُعْجِزَةً تُفِيدُ الْيَقِينَ وَإِلَّا لَمَا كَفَى إِرْسَالُ اثْنَيْنِ أَيْضًا وَلَا ثَلَاثَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ [القصص: 35] فذكر المفعول هناك ولم يذكره هاهنا مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ أَيْضًا نُصْرَةُ الْحَقِّ، نَقُولُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ هَارُونَ/ وَهَارُونُ بُعِثَ مَعَهُ بِطَلَبِهِ حَيْثُ قَالَ: فَأَرْسِلْهُ مَعِي [الْقَصَصِ: 34] فَكَانَ هَارُونُ مَبْعُوثًا لِيُصَدِّقَ مُوسَى فِيمَا يَقُولُ وَيَقُومُ بِمَا يَأْمُرُهُ، وَأَمَّا هُمَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مُسْتَقِلٌّ نَاطِقٌ بِالْحَقِّ فَكَانَ هُنَاكَ الْمَقْصُودُ تَقْوِيَةَ مُوسَى وَإِرْسَالَ مَنْ يُؤْنِسُ معه وهو هارون، وأما هاهنا فالمقصود تقوية الحق فظهر الفرق. [سورة يس (36) : آية 15] قالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ مَا جَرَى مِنْهُمْ وَعَلَيْهِمْ مِثْلُ مَا جَرَى مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وسلم وعليه فقالوا: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ [يس: 14] كما قال: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس: 3] وَبَيَّنَ مَا قَالَ الْقَوْمُ بِقَوْلِهِ: قالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ جَعَلُوا كَوْنَهُمْ بَشَرًا مِثْلَهُمْ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْإِرْسَالِ، وَهَذَا عَامٌّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قالوا في حق محمد: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [ص: 8] وَإِنَّمَا ظَنُّوهُ دَلِيلًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا فِي اللَّهِ الِاخْتِيَارَ، وإنما

[سورة يس (36) : آية 16]

قَالُوا فِيهِ إِنَّهُ مُوجِبٌ بِالذَّاتِ وَقَدِ اسْتَوَيْنَا فِي الْبَشَرِيَّةِ فَلَا يُمْكِنُ الرُّجْحَانُ، وَاللَّهُ تَعَالَى رَدَّ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَامِ: 124] وَبِقَوْلِهِ: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ [الشُّورَى: 13] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَمِّمًا لِمَا ذَكَرُوهُ فَيَكُونُ الْكُلُّ شُبْهَةً وَاحِدَةً، وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا أَنْتُمْ بَشَرٌ فَمَا نَزَلْتُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ أَحَدًا، فَكَيْفَ صِرْتُمْ رُسُلًا لِلَّهِ؟ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا شُبْهَةً أُخْرَى مُسْتَقِلَّةً وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا أَنْتُمْ بَشَرٌ مِثْلُنَا فَلَا يَجُوزُ رُجْحَانُكُمْ عَلَيْنَا ذَكَرُوا الشُّبْهَةَ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ إِلَى الْمُرْسَلِينَ، ثُمَّ قَالُوا شُبْهَةٌ أُخْرَى مِنْ جِهَةِ الْمُرْسِلِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِمُنَزِّلٍ شَيْئًا فِي هَذَا الْعَالَمِ، فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَلِلْعُلْوِيَّاتِ التَّصَرُّفُ فِي السُّفْلِيَّاتِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ، فَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُنَزِّلْ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ فِي الدُّنْيَا فَكَيْفَ أَنْزَلَ إِلَيْكُمْ، وَقَوْلُهُ: الرَّحْمنُ إِشَارَةٌ إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا كَانَ رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَالْإِرْسَالُ رَحْمَةٌ، فَكَيْفَ لَا يُنْزِلُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ رَحْمَنٌ، فَقَالَ إِنَّهُمْ قَالُوا: مَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ شَيْئًا، وَكَيْفَ لَا يُنْزِلُ الرَّحْمَنُ مع كونه رحمن شَيْئًا، هُوَ الرَّحْمَةُ الْكَامِلَةُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ أَيْ مَا أَنْتُمْ إلا كاذبين. [سورة يس (36) : آية 16] قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) إِشَارَةٌ إلى أنهم بِمُجَرَّدِ التَّكْذِيبِ لَمْ يَسْأَمُوا وَلَمْ يَتْرُكُوا، بَلْ أَعَادُوا ذَلِكَ لَهُمْ وَكَرَّرُوا الْقَوْلَ عَلَيْهِمْ وَأَكَّدُوهُ باليمين وقالوا ربنا يعلم إنا إليكم المرسلون وَأَكَّدُوهُ بِاللَّامِ، لِأَنَّ يَعْلَمُ اللَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْقَسَمِ، لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ يَعْلَمُ اللَّهُ فِيمَا لَا يَكُونُ فَقَدْ نَسَبَ اللَّهَ إِلَى الْجَهْلِ وَهُوَ سَبَبُ الْعِقَابِ، كَمَا أَنَّ الْحِنْثَ سَبَبُهُ، وَفِي قَوْلِهِ: رَبُّنا يَعْلَمُ إِشَارَةٌ إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ حَيْثُ قَالُوا أَنْتُمْ بَشَرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمُرْسَلُونَ، يَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: / اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَامِ: 124] يَعْنِي هُوَ عَالِمٌ بِالْأُمُورِ وَقَادِرٌ، فَاخْتَارَنَا بعلمه لرسالته. ثم قال: [سورة يس (36) : آية 17] وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) تَسْلِيَةٌ لِأَنْفُسِهِمْ، أَيْ نَحْنُ خَرَجْنَا عَنْ عُهْدَةِ مَا عَلَيْنَا وَحَثًّا لَهُمْ عَلَى النَّظَرِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: ما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ كَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ تَفَكُّرَهُمْ فِي أَمْرِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَطْلُبُوا مِنْهُمْ أَجْرًا ولا قصدوا رئاسة، وَإِنَّمَا كَانَ شُغْلُهُمُ التَّبْلِيغَ وَالذِّكْرَ، وَذَلِكَ مِمَّا يحمل العاقل على النظر والْمُبِينُ يَحْتَمِلُ أُمُورًا أَحَدُهَا: الْبَلَاغُ الْمُبِينُ لِلْحَقِّ عَنِ الْبَاطِلِ، أَيِ الْفَارِقُ بِالْمُعْجِزَةِ وَالْبُرْهَانِ وَثَانِيهَا: الْبَلَاغُ الْمُظْهِرُ لِمَا أَرْسَلْنَا لِلْكُلِّ، أَيْ لَا يَكْفِي أَنْ نُبَلِّغَ الرِّسَالَةَ إِلَى شَخْصٍ أَوْ شَخْصَيْنِ وَثَالِثُهَا: الْبَلَاغُ الْمُظْهِرُ لِلْحَقِّ بِكُلِّ مَا يُمْكِنُ، فَإِذَا تَمَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَقْبَلُوا يَحِقُّ هُنَالِكَ الهلاك. [سورة يس (36) : آية 18] قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) ثُمَّ كَانَ جَوَابُهُمْ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ مِنَ الرُّسُلِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْبَلَاغِ ظَهَرَ مِنْهُمُ الْغُلُوُّ فِي التَّكْذِيبِ، فَلَمَّا قَالَ الْمُرْسَلُونَ: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ [يس: 14] قالوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ [يس: 15] وَلَمَّا أَكَّدَ الرُّسُلُ قَوْلَهُمْ بِالْيَمِينِ حَيْثُ قَالُوا: رَبُّنا يَعْلَمُ [يس: 16] أَكَّدُوا قَوْلَهُمْ بِالتَّطَيُّرِ بِهِمْ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْأَوَّلِ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ، وَفِي الثَّانِي صِرْتُمْ مُصِرِّينَ عَلَى الْكَذِبِ، حَالِفِينَ مُقْسِمِينَ عَلَيْهِ، وَ «الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ» فَتَشَاءَمْنَا بِكُمْ ثَانِيًا، وَفِي الْأَوَّلِ كَمَا تَرَكْتُمْ فَفِي الثَّانِي لَا نَتْرُكُكُمْ لِكَوْنِ الشُّؤْمِ مُدْرِكَنَا

[سورة يس (36) : آية 19]

بِسَبَبِكُمْ فَقَالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ وَقَوْلُهُ لَنَرْجُمَنَّكُمْ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: لَنَشْتِمَنَّكُمْ مِنَ الرَّجْمِ بِالْقَوْلِ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: وَلَيَمَسَّنَّكُمْ تَرَقٍّ كَأَنَّهُمْ قَالُوا وَلَا يَكْتَفِي بِالشَّتْمِ، بَلْ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى الضَّرْبِ وَالْإِيلَامِ الْحِسِّيِّ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الرَّجْمَ بِالْحِجَارَةِ، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُهُ: وَلَيَمَسَّنَّكُمْ بَيَانٌ لِلرَّجْمِ، يَعْنِي وَلَا يَكُونُ الرَّجْمُ رَجْمًا قَلِيلًا نَرْجُمُكُمْ بِحَجَرٍ وَحَجَرَيْنِ، بَلْ نُدِيمُ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ إِلَى الْمَوْتِ وَهُوَ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ بِسَبَبِ الرَّجْمِ عَذَابٌ مِنَّا أَلِيمٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْأَلِيمِ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُؤْلِمِ، وَالْفَعِيلُ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ قَلِيلٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: 21] أَيْ ذَاتِ رِضًا، فَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ هُوَ ذُو أَلَمٍ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فعيلا بمعنى فاعل وهو كثير. [سورة يس (36) : آية 19] قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) ثُمَّ أَجَابَهُمُ الْمُرْسَلُونَ بِقَوْلِهِمْ: قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَيْ شُؤْمُكُمْ مَعَكُمْ وَهُوَ الْكُفْرُ. ثُمَّ قَالُوا: أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ: لَنَرْجُمَنَّكُمْ يَعْنِي أَتَفْعَلُونَ بِنَا ذَلِكَ، وَإِنْ ذُكِّرْتُمْ أَيْ بَيَّنَ لَكُمُ الْأَمْرَ بِالْمُعْجِزِ وَالْبُرْهَانِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ حَيْثُ تَجْعَلُونَ مَنْ يُتَبَرَّكُ بِهِ كَمَنْ/ يُتَشَاءَمُ بِهِ وَتَقْصِدُونَ إِيلَامَ مَنْ يَجِبُ فِي حَقِّهِ الْإِكْرَامُ أَوْ مُسْرِفُونَ حَيْثُ تَكْفُرُونَ، ثُمَّ تُصِرُّونَ بَعْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ بِالْمُعْجِزِ وَالْبُرْهَانِ، فَإِنَّ الْكَافِرَ مُسِيءٌ فَإِذَا تَمَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَأُوضِحَ لَهُ السَّبِيلُ وَيُصِرُّ يَكُونُ مُسْرِفًا، وَالْمُسْرِفُ هُوَ الْمُجَاوِزُ الْحَدَّ بِحَيْثُ يَبْلُغُ الضِّدَّ وَهُمْ كَانُوا كَذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، أَمَّا فِي التَّبَرُّكِ وَالتَّشَاؤُمِ فَقَدْ عُلِمَ وَكَذَلِكَ فِي الْإِيلَامِ وَالْإِكْرَامِ، وَأَمَّا فِي الْكُفْرِ فَلِأَنَّ الْوَاجِبَ اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ بِهِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ لَا يُجْزَمَ بِنَقِيضِهِ وَهُمْ جَزَمُوا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْبُرْهَانِ عَلَى الْإِيمَانِ، فَإِنْ قِيلَ بَلْ لِلْإِضْرَابِ فَمَا الْأَمْرُ الْمُضْرَبُ عَنْهُ؟ نَقُولُ يُحْتَمَلُ أن يقال قوله: أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ وَارِدٌ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَنِسْبَتِهِمُ الرُّسُلَ إِلَى الكذب بقولهم: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ [يس: 15] فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: أَنَحْنُ كَاذِبُونَ وَإِنْ جِئْنَا بِالْبُرْهَانِ، لَا بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ أَنَحْنُ مَشْؤُومُونَ، وَإِنْ جِئْنَا بِبَيَانِ صِحَّةِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، لَا بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ أَنَحْنُ مُسْتَحِقُّونَ لِلرَّجْمِ وَالْإِيلَامِ، وَإِنْ بَيَّنَّا صِحَّةَ مَا أَتَيْنَا بِهِ، لَا بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَأَمَّا الْحِكَايَةُ فَمَشْهُورَةٌ، وَهِيَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعَثَ رَجُلَيْنِ إِلَى أَنْطَاكِيَّةَ فَدَعَيَا إِلَى التَّوْحِيدِ وَأَظْهَرَا الْمُعْجِزَةَ مِنْ إِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى فَحَبَسَهُمَا الْمَلِكُ، فَأَرْسَلَ بَعْدَهُمَا شَمْعُونَ فَأَتَى الْمَلِكَ وَلَمْ يَدَعِ الرِّسَالَةَ، وَقَرَّبَ نَفْسَهُ إِلَى الْمَلِكِ بِحُسْنِ التَّدْبِيرِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنِّي أَسْمَعُ أَنَّ فِي الْحَبْسِ رَجُلَيْنِ يَدَّعِيَانِ أَمْرًا بَدِيعًا، أَفَلَا يَحْضُرَانِ حَتَّى نَسْمَعَ كَلَامَهُمَا؟ قَالَ الْمَلِكُ: بَلَى، فَأُحْضِرَا وَذَكَرَا مَقَالَتَهُمَا الْحَقَّةَ، فَقَالَ لَهُمَا شمعون: فهل لكما بينة؟ قالا: نعم، فأبرءا الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأَحْيَيَا الْمَوْتَى، فَقَالَ شَمْعُونُ: أَيُّهَا الملك، إن شئت أن تغلبهم، فقال لِلْآلِهَةِ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا تَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، قَالَ الْمَلِكُ: أَنْتَ لَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّهَا لَا تُبْصِرُ وَلَا تَسْمَعُ وَلَا تَقْدِرُ وَلَا تَعْلَمُ، فَقَالَ شَمْعُونُ: فَإِذَنْ ظَهَرَ الْحَقُّ مِنْ جَانِبِهِمْ، فَآمَنَ الْمَلِكُ وَقَوْمٌ وَكَفَرَ آخَرُونَ، وَكَانَتِ الغلبة للمكذبين. ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 20] وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) وَفِي فَائِدَتِهِ وَتَعَلُّقِهِ بِمَا قَبْلَهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَيَانٌ لِكَوْنِهِمْ أَتَوْا بِالْبَلَاغِ الْمُبِينِ حَيْثُ آمَنَ بِهِمُ الرَّجُلُ السَّاعِي، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ فِيهِ بَلَاغَةٌ بَاهِرَةٌ، وذلك لأنه لما جاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ

[سورة يس (36) : آية 21]

وَهُوَ قَدْ آمَنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ إِنْذَارَهُمْ وَإِظْهَارَهُمْ بَلَغَ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ لَمَّا كَانَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ تَسْلِيَةً لِقَلْبِهِ ذَكَرَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ ذِكْرِ الرُّسُلِ سَعْيَ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَصْدِيقِ رُسُلِهِمْ وَصَبْرِهِمْ عَلَى مَا أُوذُوا، وَوُصُولُ الْجَزَاءِ الْأَوْفَى إِلَيْهِمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَسْلِيَةً لِقَلْبِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، كَمَا أَنَّ ذِكْرَ الْمُرْسَلِينَ تَسْلِيَةٌ لِقَلْبِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، وَفِي التَّفْسِيرِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ فِي تَنْكِيرِ الرَّجُلِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا مَعْلُومًا عِنْدَ اللَّهِ فَائِدَتَانِ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ أَيْ رَجُلٌ كَامِلٌ فِي الرُّجُولِيَّةِ/ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا لِظُهُورِ الْحَقِّ مِنْ جَانِبِ الْمُرْسَلِينَ حَيْثُ آمَنَ رَجُلٌ مِنَ الرِّجَالِ لَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِهِ فَلَا يقال إنهم تواطؤا، وَالرَّجُلُ هُوَ حَبِيبٌ النَّجَّارُ كَانَ يَنْحِتُ الْأَصْنَامَ وقد آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ قَبْلَ وُجُودِهِ حَيْثُ صَارَ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَأَى فِيهِ نَعْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَبَعْثَتَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: يَسْعى تَبْصِرَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهِدَايَةٌ لَهُمْ، لِيَكُونُوا فِي النُّصْحِ بَاذِلِينَ جُهْدَهُمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فَائِدَةَ قَوْلِهِ: مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَهِيَ تَبْلِيغُهُمُ الرِّسَالَةَ بِحَيْثُ انْتَهَى إِلَى مَنْ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالْمَدِينَةُ هِيَ أَنْطَاكِيَّةُ، وَهِيَ كَانَتْ كَبِيرَةً شَاسِعَةً وَهِيَ الْآنَ دُونَ ذَلِكَ وَمَعَ هَذَا فَهِيَ كَبِيرَةٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ فِيهِ مَعَانٍ لَطِيفَةٌ الْأَوَّلُ: فِي قوله: يا قَوْمِ فَإِنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ إِشْفَاقٍ عَلَيْهِمْ وَشَفَقَةٍ فَإِنَّ إضافتهم إلى نفسه بقوله: يا قَوْمِ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِهِمْ إِلَّا خَيْرًا، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ [غافر: 38] فَإِنْ قِيلَ قَالَ هَذَا الرَّجُلُ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ وقال ذلك اتَّبِعُونِ فَمَا الْفَرْقُ؟ نَقُولُ هَذَا الرَّجُلُ جَاءَهُمْ وَفِي أَوَّلِ مَجِيئِهِ نَصَحَهُمْ وَمَا رَأَوْا سِيرَتَهُ، فَقَالَ: اتَّبِعُوا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَظْهَرُوا لَكُمُ الدَّلِيلَ وَأَوْضَحُوا لَكُمُ السَّبِيلَ، وَأَمَّا مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ فَكَانَ فِيهِمْ وَاتَّبَعَ مُوسَى وَنَصَحَهُمْ مِرَارًا فَقَالَ اتَّبِعُونِي فِي الْإِيمَانِ بِمُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ خَيْرًا لَمَا اخْتَرْتُهُ لِنَفْسِي وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اخْتَرْتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلرَّجُلِ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ أَنْ يَقُولَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ اتِّبَاعِي لَهُمْ الثَّانِي: جَمَعَ بَيْنَ إِظْهَارِ النَّصِيحَةِ وَإِظْهَارِ إِيمَانِهِ فَقَوْلُهُ: اتَّبِعُوا نَصِيحَةٌ وَقَوْلُهُ: الْمُرْسَلِينَ إِظْهَارُ أَنَّهُ آمَنَ الثَّالِثُ: قَدَّمَ إِظْهَارَ النَّصِيحَةِ عَلَى إِظْهَارِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ كَانَ سَاعِيًا فِي النُّصْحِ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ فَكَانَ قَدْ آمَنَ مِنْ قَبْلُ وَقَوْلُهُ: رَجُلٌ يَسْعى يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُرِيدًا لِلنُّصْحِ وَمَا ذَكَرَ فِي حِكَايَتِهِ أَنَّهُ كَانَ يُقْتَلُ وَهُوَ يَقُولُ: «اللهم اهد قومي» . ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 21] اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَهَذَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمَّا قَالَ: اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ كَأَنَّهُمْ مَنَعُوا كَوْنَهُمْ مُرْسَلِينَ فَنَزَلَ دَرَجَةً وَقَالَ لَا شَكَّ أَنَّ الْخَلْقَ فِي الدُّنْيَا سَالِكُونَ طَرِيقَةً وَطَالِبُونَ لِلِاسْتِقَامَةِ، وَالطَّرِيقُ إِذَا حَصَلَ فِيهِ دَلِيلٌ يَدُلُّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَالِامْتِنَاعُ مِنَ الِاتِّبَاعِ لَا يَحْسُنُ إِلَّا عِنْدَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا مُغَالَاةِ الدَّلِيلِ فِي طَلَبِ الْأُجْرَةِ، وَإِمَّا عِنْدَ عَدَمِ الِاعْتِمَادِ عَلَى اهْتِدَائِهِ وَمَعْرِفَتِهِ الطَّرِيقَ، لَكِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَطْلُبُونَ أُجْرَةً وَهُمْ مُهْتَدُونَ عَالِمُونَ بِالطَّرِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ الْمُوصِلَةِ إِلَى الْحَقِّ، فَهَبْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُرْسَلِينَ هَادِينَ، أَلَيْسُوا بِمُهْتَدِينَ، فَاتَّبِعُوهُمْ. [سورة يس (36) : آية 22] وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي لما قال: وَهُمْ مُهْتَدُونَ [يس: 21] بين ظهور

اهْتِدَائِهِمْ بِأَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ مِنْ عِبَادَةِ الْجَمَادِ إِلَى عِبَادَةِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ، وَمِنْ عِبَادَةِ مَا لَا يَنْفَعُ إِلَى عِبَادَةِ مَنْ مِنْهُ كُلُّ نَفْعٍ وَفِيهِ لَطَائِفُ: الْأُولَى قَوْلُهُ: مَا لِيَ أَيْ مَا لِي مَانِعٌ مِنْ جَانِبِي. إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْبُودِ ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ فِيهِ، فَمَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ عِبَادَتِهِ يَكُونُ مِنْ جَانِبِهِ مَانِعٌ وَلَا مَانِعَ مِنْ جَانِبِي فَلَا جَرَمَ/ عَبَدْتُهُ، وَفِي الْعُدُولِ عَنْ مُخَاطَبَةِ الْقَوْمِ إِلَى حَالِ نَفْسِهِ حِكْمَةٌ أُخْرَى وَلَطِيفَةٌ ثانية: وهي أنه لو قال مالكم لَا تَعْبُدُونَ الَّذِي فَطَرَكُمْ، لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيَانِ مِثْلَ قَوْلِهِ: وَما لِيَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَما لِيَ وَأَحَدٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُ نَفْسِهِ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ الْعِلَّةَ وَبَيَانَهَا مِنْ أَحَدٍ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِ نَفْسِهِ فَهُوَ يُبَيِّنُ عَدَمَ الْمَانِعِ، وَأَمَّا لَوْ قَالَ: (مَا لَكُمْ) جَازَ أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ أَنَّهُ يَطْلُبُ بَيَانَ الْعِلَّةِ لِكَوْنِ غَيْرِهِ أَعْلَمَ بِحَالِ نَفْسِهِ، فَإِنْ قِيلَ قَالَ اللَّهُ: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [نُوحٍ: 13] نَقُولُ الْقَائِلُ هُنَاكَ غَيْرُ مَدْعُوٍّ، وَإِنَّمَا هُوَ داع وهاهنا الرَّجُلُ مَدْعُوٌّ إِلَى الْإِيمَانِ فَقَالَ: وَمَا لِيَ لا أعبد وقد طلب مني ذلك الثانية: قَوْلُهُ: الَّذِي فَطَرَنِي إِشَارَةٌ إِلَى وُجُودِ الْمُقْتَضَى، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَما لِيَ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ الْمَانِعِ وَعِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ لَا يُوجَدُ الْفِعْلُ مَا لَمْ يُوجَدِ الْمُقْتَضَى، فَقَوْلُهُ: الَّذِي فَطَرَنِي يُنْبِئُ عَنِ الِاقْتِضَاءِ، فَإِنَّ الْخَالِقَ ابْتِدَاءً مَالِكٌ وَالْمَالِكُ يَجِبُ عَلَى الْمَمْلُوكِ إِكْرَامُهُ وَتَعْظِيمُهُ، وَمُنْعِمٌ بِالْإِيجَادِ وَالْمُنْعِمُ يَجِبُ عَلَى الْمُنْعَمِ شُكْرُ نِعْمَتِهِ الثالثة: قَدَّمَ بَيَانَ عَدَمِ الْمَانِعِ عَلَى بَيَانِ وُجُودِ الْمُقْتَضَى مَعَ أَنَّ الْمُسْتَحْسَنَ تَقْدِيمُ الْمُقْتَضَى حَيْثُ وُجِدَ الْمُقْتَضِي وَلَا مَانِعَ فَيُوجَدُ لِأَنَّ الْمُقْتَضَى لِظُهُورِهِ كَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنِ الْبَيَانِ رَأْسًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ تَقْدِيمِ مَا هُوَ أَوْلَى بِالْبَيَانِ لوجود الحاجة إليه الرابعة: اخْتَارَ مِنَ الْآيَاتِ فِطْرَةَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ بِإِسْنَادِ الْعِبَادَةِ إِلَى نَفْسِهِ اخْتَارَ مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى إِيجَابِ الْعِبَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ هُوَ أَنَّ خَالِقَ عَمْرٍو يَجِبُ عَلَى زَيْدٍ عِبَادَتُهُ لِأَنَّ مَنْ خَلَقَ عَمْرًا لَا يَكُونُ إِلَّا كَامِلَ الْقُدْرَةِ شَامِلَ الْعِلْمِ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِبَادَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ لَكِنَّ الْعِبَادَةَ عَلَى زَيْدٍ بِخَلْقِ زَيْدٍ أَظْهَرُ إِيجَابًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي قَوْلِهِ: فَطَرَنِي خَلَقَنِي اخْتِرَاعًا وَابْتِدَاعًا، وَالْغَرِيبُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: فَطَرَنِي أَيْ جَعَلَنِي عَلَى الْفِطْرَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الرُّومِ: 30] وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ أَيْ لَمْ يُوجَدْ فِي مَانِعٌ فَأَنَا بَاقٍ عَلَى فِطْرَةِ رَبِّي الْفِطْرَةُ كَافِيَةٌ فِي الشَّهَادَةِ وَالْعِبَادَةِ فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَخْتَلِفُ مَعْنَى الْفَطْرِ فِي قَوْلِهِ: فاطِرِ السَّماواتِ [الْأَنْعَامِ: 14] فَنَقُولُ قَدْ قيل بأن فاطر السموات مِنَ الْفَطْرِ الَّذِي هُوَ الشَّقُّ فَالْمَحْذُورُ لَازِمٌ أَوْ نَقُولُ الْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ كَأَنَّهُ قَالَ فطر المكلف على فطرته وفطر السموات عَلَى فِطْرَتِهَا وَالْأَوَّلُ مِنَ التَّفْسِيرِ أَظْهَرُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إِشَارَةٌ إِلَى الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ كما قال: ادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً [الأعراف: 56] وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ إِلَيْهِ الْمَرْجِعُ يُخَافُ مِنْهُ وَيُرْجَى وَفِيهِ أَيْضًا مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّ الْعَابِدَ عَلَى أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ ذَكَرْنَاهَا مِرَارًا فَالْأَوَّلُ: عَابِدٌ يَعْبُدُ اللَّهَ، لِكَوْنِهِ إِلَهًا مَالِكًا سَوَاءٌ أَنْعَمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُنْعِمْ، كَالْعَبْدِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ خِدْمَةُ سَيِّدِهِ سَوَاءٌ أَحْسَنَ إِلَيْهِ أَوْ أَسَاءَ وَالثَّانِي: عَابِدٌ يَعْبُدُ/ اللَّهَ لِلنِّعْمَةِ الْوَاصِلَةِ إِلَيْهِ وَالثَّالِثُ: عَابِدٌ يَعْبُدُ اللَّهَ خَوْفًا مِثَالُ الْأَوَّلِ مَنْ يَخْدِمُ الْجَوَادَ، وَمِثَالُ الثَّانِي مَنْ يَخْدِمُ الْغَاشِمَ فَجَعَلَ الْقَائِلُ نَفْسَهُ مِنَ الْقِسْمِ الْأَعْلَى وَقَالَ: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي أي هُوَ مَالِكِي أَعْبُدُهُ لِأَنْظُرَ إِلَى مَا سَيُعْطِينِي وَلِأَنْظُرَ إِلَى أَنْ لَا يُعَذِّبَنِي وَجَعَلَهُمْ دُونَ ذَلِكَ فَقَالَ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَيْ خَوْفُكُمْ مِنْهُ وَرَجَاؤُكُمْ فِيهِ فَكَيْفَ لَا تَعْبُدُونَهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ كَمَا قَالَ فَطَرَنِي لِأَنَّهُ صَارَ عَابِدًا مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَرُجُوعُهُ إِلَى الله لا يكن إِلَّا لِلْإِكْرَامِ وَلَيْسَ سَبَبُ عِبَادَتِهِ ذَلِكَ بَلْ غيره.

[سورة يس (36) : آية 23]

[سورة يس (36) : آية 23] أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لِيُتِمَّ التَّوْحِيدَ، فَإِنَّ التَّوْحِيدَ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالْإِشْرَاكِ، فَقَالَ: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ إِشَارَةً إِلَى وُجُودِ الْإِلَهِ وَقَالَ: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ إِشَارَةً إِلَى نَفْيِ غَيْرِهِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي الْآيَةِ أَيْضًا لِطَائِفُ الْأُولَى: ذِكْرُهُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ فِيهِ مَعْنَى وُضُوحِ الْأَمْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ مَثَلًا لَا أَتَّخِذُ يَصِحُّ مِنَ السَّامِعِ أَنْ يَقُولَ لَهُ لِمَ لَا تَتَّخِذُ فَيَسْأَلُهُ عَنِ السَّبَبِ، فَإِذَا قَالَ: أَأَتَّخِذُ يَكُونُ كَلَامُهُ أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ بَيَانِ السَّبَبِ الَّذِي يُطَالِبُ بِهِ عِنْدَ الْإِخْبَارِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ اسْتَشَرْتُكَ فَدُلَّنِي وَالْمُسْتَشَارُ يَتَفَكَّرُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ تَفَكَّرْ فِي الْأَمْرِ تفهم من غير إخبار مني الثانية: قَوْلُهُ مِنْ دُونِهِ وَهِيَ لَطِيفَةٌ عَجِيبَةٌ: وَبَيَانُهَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ بقوله: الَّذِي فَطَرَنِي [يس: 22] بَيَّنَ أَنَّ مَنْ دُونَهُ لَا تَجُوزُ عِبَادَتُهُ فإن عبد غَيَّرَ اللَّهَ وَجَبَ عِبَادَةُ كُلِّ شَيْءٍ مُشَارِكٍ لِلْمَعْبُودِ الَّذِي اتُّخِذَ غَيْرَ اللَّهِ، لِأَنَّ الْكُلَّ مُحْتَاجٌ مُفْتَقِرٌ حَادِثٌ، فَلَوْ قَالَ لَا أَتَّخِذُ آلِهَةً لَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ إِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرَ الَّذِي فَطَرَكَ، وَيَلْزَمُكَ عَقْلًا أَنْ تَتَّخِذَ آلِهَةً لَا حَصْرَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ إِلَهُكَ رَبَّكَ وَخَالِقَكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَّخِذَ آلِهَةً الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: أَأَتَّخِذُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ بِإِلَهٍ لِأَنَّ الْمُتَّخَذَ لَا يَكُونُ إِلَهً، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً [الْجِنِّ: 3] وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً [الْإِسْرَاءِ: 111] لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ حَقِيقَةً وَلَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا النَّصَارَى قَالُوا: تَبَنَّى اللَّهُ عِيسَى وَسَمَّاهُ وَلَدًا فَقَالَ: وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً [الْفُرْقَانِ: 2] وَلَا يُقَالُ قال الله تعالى: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ قَالَ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 9] نَقُولُ ذَلِكَ أَمْرٌ مُتَجَدِّدٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يَكُونُ قَلِيلَ الصَّبْرِ ضَعِيفَ الْقُوَّةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ أَسْبَابَ الدُّنْيَا وَيَقُولَ إِنِّي أَتَوَكَّلُ فَلَا يَحْسُنُ مِنَ الْوَاحِدِ مِنَّا أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِأَمْرٍ أَصْلًا وَيَتْرُكَ أَطْفَالَهُ فِي وَرْطَةِ الْحَاجَةِ وَلَا يُوصِلَ إِلَى أَهْلِهِ نَفَقَتَهُمْ وَيَجْلِسَ فِي مَسْجِدٍ وَقَلْبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِعَطَاءِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، فَإِذَا قَوِيَ بِالْعِبَادَةِ قَلْبُهُ وَنَسِيَ نَفْسَهُ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ وَأَقْبَلَ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ بِجَمِيعِ قَلْبِهِ وَتَرَكَ الدُّنْيَا وَأَسْبَابَهَا وَفَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ حِينَئِذٍ يَكُونُ مِنَ الْأَبْرَارِ الْأَخْيَارِ، فَقَالَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ: أَنْتَ عَلِمْتَ أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِيَدِ اللَّهِ وَعَرَفْتَ اللَّهَ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ وَتَيَقَّنْتَ أَنَّ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ، وَمَا فِيهِمَا وَمَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا بِأَمْرِ اللَّهِ، وَلَا إِلَهَ يُطْلَبُ لِقَضَاءِ/ الْحَوَائِجِ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا، وَفَوِّضْ جَمِيعَ أُمُورِكَ إِلَيْهِ فَقَدِ ارْتَقَيْتَ عَنْ دَرَجَةِ مَنْ يُؤْمَرُ بِالْكَسْبِ الْحَلَالِ وَكُنْتَ مِنْ قَبْلُ تَتَّجِرُ فِي الْحَلَالِ ومعنى قوله: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا أَيْ فِي جَمِيعِ أُمُورِكَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تُغْنِ عَنِّي يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كَالْوَصْفِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَأَتَّخِذُ آلِهَةً غَيْرَ مُغْنِيَةٍ عِنْدَ إِرَادَةِ الرَّحْمَنِ بِي ضُرًّا وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا كَأَنَّهُ قَالَ لَا أَتَّخِذُ من دونه آلهة. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ: إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ ولم يقل إن يرد الرحمن بي ضرا، وكذلك قال تعالى: إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ [الزُّمَرِ: 38] وَلَمْ يَقُلْ إِنْ أَرَادَ اللَّهُ بِي ضُرًّا، نَقُولُ الْفِعْلُ إِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ بِحَرْفٍ كَاللَّازِمِ يَتَعَدَّى بِحَرْفٍ فِي قَوْلِهِمْ ذَهَبَ بِهِ وَخَرَجَ بِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُتَكَلِّمَ الْبَلِيغَ يَجْعَلُ الْمَفْعُولَ بِغَيْرِ حَرْفٍ مَا هُوَ أَوْلَى بِوُقُوعِ الْفِعْلِ عليه ويجعل الآخر مفعولا بِحَرْفٍ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ مَثَلًا؟ كَيْفَ حَالُ فُلَانٍ: يَقُولُ اخْتَصَّهُ الْمَلِكُ بِالْكَرَامَةِ وَالنِّعْمَةِ فَإِذَا قَالَ كَيْفَ كَرَامَةُ الْمَلِكِ؟ يَقُولُ: اخْتَصَّهَا

بِزَيْدٍ فَيَجْعَلُ الْمَسْؤُولَ مَفْعُولًا بِغَيْرِ حَرْفٍ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَالْمَقْصُودُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بَيَانُ كَوْنِ الْعَبْدِ تَحْتَ تَصَرُّفِ اللَّهِ يُقَلِّبُهُ كَيْفَ يَشَاءُ فِي الْبُؤْسِ وَالرَّخَاءِ، وَلَيْسَ الضُّرُّ بِمَقْصُودٍ بَيَانُهُ، كَيْفَ وَالْقَائِلُ مُؤْمِنٌ يَرْجُو الرَّحْمَةَ وَالنِّعْمَةَ بِنَاءً عَلَى إِيمَانِهِ بِحُكْمِ وَعْدِ اللَّهِ وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ مِنْ قَبْلُ الَّذِي فَطَرَنِي [يس: 22] حَيْثُ جَعَلَ نَفْسَهُ مَفْعُولَ الْفِطْرَةِ فَكَذَلِكَ جَعَلَهَا مَفْعُولَ الْإِرَادَةِ وَذِكْرُ الضُّرِّ وَقَعَ تَبَعًا وَكَذَا الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ [الزُّمَرِ: 38] الْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّهُ يَكُونُ كَمَا يُرِيدُ اللَّهُ وَلَيْسَ الضُّرُّ بِخُصُوصِهِ مَقْصُودًا بِالذِّكْرِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا تَقَدَّمَ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ [الزُّمَرِ: 36] يَعْنِي هُوَ تَحْتَ إِرَادَتِهِ وَيَتَأَيَّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ بِالنَّظَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً [الْأَحْزَابِ: 17] حَيْثُ خَالَفَ هَذَا النَّظْمَ وَجَعَلَ الْمَفْعُولَ مِنْ غَيْرِ حَرْفِ السُّوءِ وَهُوَ كَالضُّرِّ وَالْمَفْعُولُ بِحَرْفٍ هُوَ الْمُكَلَّفُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ الضُّرِّ لِلتَّخْوِيفِ وَكَوْنُهُمْ مَحَلًّا لَهُ، وَكَيْفَ لَا وَهُمْ كَفَرَةٌ اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ بِكُفْرِهِمْ فَجَعَلَ الضُّرَّ مَقْصُودًا بِالذِّكْرِ لِزَجْرِهِمْ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً [الأحزاب: 17] نقول المقصود ذلك، ويدل عليه قوله تعالى من بعده وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً [الْأَحْزَابِ: 17] وَإِنَّمَا ذَكَرَ الرَّحْمَةَ تَتِمَّةً لِلْأَمْرِ بِالتَّقْسِيمِ الْحَاصِرِ، وَكَذَلِكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً [الْفَتْحِ: 11] فَإِنَّ الْكَلَامَ أَيْضًا مَعَ الْكُفَّارِ وَذِكْرُ النَّفْعِ وَقَعَ تَبَعًا لِحَصْرِ الْأَمْرِ بِالتَّقْسِيمِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [الْفَتْحِ: 11] فَإِنَّهُ لِلتَّخْوِيفِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سَبَأٍ: 24] ، وَالْمَقْصُودُ إِنِّي عَلَى هُدًى وَأَنْتُمْ فِي ضَلَالٍ، وَلَوْ قَالَ هَكَذَا لمنع مانع فقال بالتقسيم كذلك هاهنا/ الْمَقْصُودُ الضُّرُّ وَاقِعٌ بِكُمْ وَلِأَجْلِ دَفْعِ الْمَانِعِ قال الضر والنفع. المسألة الثانية: قال هاهنا: إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ وَقَالَ فِي الزُّمَرِ: إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ [الزُّمَرِ: 38] فَمَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِ صيغة الماضي هنالك واختيار صيغة المضارع هاهنا وَذِكْرِ الْمُرِيدِ بِاسْمِ الرَّحْمَنِ هُنَا وَذِكْرِ الْمُرِيدِ بِاسْمِ اللَّهِ هُنَاكَ؟ نَقُولُ أَمَّا الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلُ فَإِنَّ إِنْ فِي الشَّرْطِ تُصَيِّرُ الْمَاضِيَ مُسْتَقْبَلًا وذلك لأن المذكور هاهنا مِنْ قَبْلُ بِصِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ فِي قَوْلِهِ: أَأَتَّخِذُ وقوله: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ [يس: 22] وَالْمَذْكُورُ هُنَاكَ مِنْ قَبْلُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فِي قوله: أَفَرَأَيْتُمْ [الزمر: 38] وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ [الأنعام: 17] لِكَوْنِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ مَذْكُورًا بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ [الْأَنْعَامِ: 16] وَقَوْلُهُ: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ [الْأَنْعَامِ: 15] وَالْحِكْمَةُ فِيهِ هُوَ أن الكفار كانوا يخرفون النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِضُرٍّ يُصِيبُهُ مِنْ آلِهَتِهِمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ صَدَرَ مِنْكُمُ التَّخْوِيفُ، وَهَذَا مَا سَبَقَ مِنْكُمْ، وهاهنا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ صَدَرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ لِلتَّقْرِيرِ، وَالْجَوَابُ مَا كَانَ يُمْكِنُ صُدُورُهُ مِنْهُمْ فَافْتَرَقَ الْأَمْرَانِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ هُنَاكَ: إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ [الزُّمَرِ: 38] فَنَقُولُ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْمَيْنِ الْمُخْتَصَّيْنِ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ اللَّهُ وَالرَّحْمَنُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الْإِسْرَاءِ: 110] وَاللَّهُ لِلْهَيْبَةِ وَالْعَظَمَةِ وَالرَّحْمَنُ لِلرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَهُنَاكَ وُصِفَ اللَّهُ بِالْعِزَّةِ وَالِانْتِقَامِ فِي قَوْلِهِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ [الزُّمَرِ: 37] وَذَكَرَ مَا يَدُلُّ على العظمة مَا يَدُلُّ عَلَى الْعَظَمَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [العنكبوت: 61] فذكر الاسم الدال على العظمة وقال هاهنا مَا يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ بِقَوْلِهِ: الَّذِي فَطَرَنِي [يس: 22] فَإِنَّهُ نِعْمَةٌ هِيَ شَرْطُ سَائِرِ النِّعَمِ فَقَالَ: إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ ثُمَّ قَالَ

[سورة يس (36) : آية 24]

تَعَالَى: لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ عَلَى تَرْتِيبِ مَا يَقَعُ مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يُرِيدُ دَفْعَ الضُّرِّ عَنْ شَخْصٍ أَضَرَّ بِهِ شَخْصٌ يَدْفَعُ بِالْوَجْهِ الْأَحْسَنِ فَيَشْفَعُ أَوَّلًا فَإِنْ قَبِلَهُ وَإِلَّا يَدْفَعُ فَقَالَ: لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِنْقَاذِي بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ حَصَلَ بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَعْبُودٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إِنْ كَانَ نَظَرًا إِلَى جَانِبِهِ فَهُوَ فَاطِرٌ وَرَبٌّ مَالِكٌ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سَوَاءٌ أَحْسَنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُحْسِنْ وَإِنْ كَانَ نَظَرًا إِلَى إِحْسَانِهِ فَهُوَ رَحْمَنٌ، وَإِنْ كَانَ نَظَرًا إِلَى الْخَوْفِ فَهُوَ يَدْفَعُ ضَرَّهُ، وَحَصَلَ بَيَانُ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُعْبَدَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَإِنَّ أَدْنَى مَرَاتِبِهِ أَنْ يُعِدَّ ذَلِكَ لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وَغَيْرُ اللَّهِ لَا يَدْفَعُ شَيْئًا إِلَّا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ وإن يرد فلا حاجة إلى دافع. ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 24] إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) يَعْنِي إِنْ فَعَلْتُ فَأَنَا ضَالٌّ ضَلَالًا بَيِّنًا، وَالْمُبِينُ مُفْعِلٌ بِمَعْنَى فَعِيلٍ كَمَا جَاءَ عَكْسُهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ فِي قَوْلِهِ أَلِيمٌ أَيْ مُؤْلِمٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ ضَلَالٌ مُبِينٌ أَيْ مَظْهُورُ الْأَمْرِ لِلنَّاظِرِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: [سورة يس (36) : آية 25] إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) فِي الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ: بِرَبِّكُمْ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: / هُمُ الْمُرْسَلُونَ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ فَأَقْبَلَ هُوَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَقَالَ: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُوا قَوْلِي وَاشْهَدُوا لِي وَثَانِيهَا: هُمُ الْكُفَّارُ كَأَنَّهُ لَمَّا نَصَحَهُمْ وَمَا نَفَعَهُمْ قَالَ: فَأَنَا آمَنْتُ فاسمعون وثالثها: بِرَبِّكُمْ أَيُّهَا السَّامِعُونَ فَاسْمَعُونِ عَلَى الْعُمُومِ، كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِ الْوَاعِظِ حَيْثُ يَقُولُ: يَا مسكين ما أكثر أملك وما أنزل عَمَلَكَ يُرِيدُ بِهِ كُلَّ سَامِعٍ يَسْمَعُهُ وَفِي قوله: فَاسْمَعُونِ فوائد أحدها: أَنَّهُ كَلَامُ مُتَرَوٍّ مُتَفَكِّرٍ حَيْثُ قَالَ: فَاسْمَعُونِ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ لِكَلَامِهِ جماعة سامعين يتفكر وثانيها: أنه ينبه القوم ويقول إني أخبرتكم بما فعلت حتى لا تقولوا لم أخفيت عنا أمرك ولو أظهرت لآمنا معك وثالثها: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ السَّمَاعَ الَّذِي بِمَعْنَى الْقَبُولِ، يَقُولُ الْقَائِلُ نَصَحْتُهُ فَسَمِعَ قَوْلِي أَيْ قَبِلَهُ، فَإِنْ قُلْتَ لِمَ قَالَ مِنْ قَبْلُ: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي [يس: 22] وقال هاهنا: آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ وَلَمْ يَقُلْ آمَنْتُ بِرَبِّي؟ نَقُولُ قَوْلُنَا الْخِطَابُ مَعَ الرُّسُلِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ ظَهَرَ عِنْدَ الرُّسُلِ أَنَّهُ قَبِلَ قَوْلَهُمْ وَآمَنَ بِالرَّبِّ الَّذِي دَعَوْهُ إِلَيْهِ وَلَوْ قَالَ بِرَبِّي لَعَلَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ كُلُّ كَافِرٍ يَقُولُ لِي رَبٌّ وَأَنَا مُؤْمِنٌ بِرَبِّي، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا الْخِطَابُ مَعَ الْكُفَّارِ فَفِيهِ بَيَانٌ لِلتَّوْحِيدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي [يس: 22] ثُمَّ قَالَ: آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فُهِمَ أَنَّهُ يَقُولُ رَبِّي وَرَبُّكُمْ وَاحِدٌ وَهُوَ الَّذِي فَطَرَنِي وَهُوَ بِعَيْنِهِ رَبُّكُمْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ آمَنْتُ بِرَبِّي فَيَقُولُ الْكَافِرُ وَأَنَا أَيْضًا آمَنْتُ بِرَبِّي وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ. [الشورى: 15] . [سورة يس (36) : آية 26] قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قُتِلَ ثُمَّ قِيلَ لَهُ ادْخُلِ الْجَنَّةَ بَعْدَ الْقَتْلِ وَثَانِيهِمَا: قِيلَ ادْخُلِ الجنة عقيب قوله آمَنْتُ [يس: 25] وعلى الأول. فقوله تعالى: قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَاللَّهُ أَخْبَرَ بِقَوْلِهِ وَعَلَى الثَّانِي قَالَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ وَكَأَنَّهُ سَمِعَ الرُّسُلَ أَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِينَ الْجَنَّةَ وَصَدَّقَهُمْ وَقَطَعَ بِهِ وَعَلِمَهُ، فَقَالَ: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ كَمَا عَلِمْتُ فَيُؤْمِنُونَ كَمَا آمَنْتُ وَفِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قِيلَ وَجْهَانِ كَمَا أن في وقت ذلك وجهان أَحَدُهُمَا: قِيلَ مِنَ الْقَوْلِ وَالثَّانِي: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، وهذا كما

[سورة يس (36) : آية 27]

فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ [يس: 82] لَيْسَ الْمُرَادُ الْقَوْلَ فِي وَجْهٍ بَلْ هُوَ الْفِعْلُ أَيْ يَفْعَلُهُ فِي حِينِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ وتراخ وكذلك في قوله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي [هود: 44] في وجه جعل الأرض بالعة ماءها. [سورة يس (36) : آية 27] بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ كَأَنَّهُ قَالَ: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي حَتَّى يَشْتَغِلُوا بِهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِلَّا لَكَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ مَا مَحْذُوفَةَ الْأَلِفِ يُقَالُ بِمَ وَفِيمَ وَعَمَّ وَلِمَ وَثَانِيهَا: خَبَرِيَّةٌ كَأَنَّهُ قَالَ: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِالَّذِي غَفَرَ لِي رَبِّي وَثَالِثُهَا: مَصْدَرِيَّةٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَغْفِرَةِ رَبِّي لِي، وَالْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ هُمَا الْمُخْتَارَانِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ يُوجِبَانِ أَمْرَيْنِ هُمَا الْغُفْرَانُ وَالْإِكْرَامُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [سَبَأٍ: 4] وَالرَّجُلُ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصُّلَحَاءِ، وَالْمُكْرَمُ عَلَى ضِدِّ الْمُهَانِ وَالْإِهَانَةُ بِالْحَاجَةِ وَالْإِكْرَامُ بِالِاسْتِغْنَاءِ فَيُغْنِي اللَّهُ الصَّالِحَ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ وَيَدْفَعُ جَمِيعَ حَاجَاتِهِ بِنَفْسِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَهُ بَيَّنَ حَالَ الْمُتَخَلِّفِينَ الْمُخَالِفِينَ لَهُ مِنْ قومه بقوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 28] وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِشَارَةً إِلَى هَلَاكِهِمْ بَعْدَهُ سَرِيعًا عَلَى أَسْهَلِ وَجْهٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِرْسَالِ جُنْدٍ يُهْلِكُهُمْ، وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال هاهنا: وَما أَنْزَلْنا بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى النَّفْسِ، وَقَالَ فِي بَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ [يس: 26] بِإِسْنَادِ الْقَوْلِ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَذَابَ مِنْ بَابِ الْهَيْبَةِ فَقَالَ بِلَفْظِ التَّعْظِيمِ، وَأَمَّا فِي: ادْخُلِ الْجَنَّةَ فَقَالَ (قِيلَ) لِيَكُونَ هُوَ كَالْمُهَنَّأِ بِقَوْلِ الْمَلَائِكَةِ حَيْثُ يَقُولُ لَهُ كُلُّ مَلَكٍ وَكُلُّ صَالِحٍ يَرَاهُ ادْخُلِ الْجَنَّةَ خَالِدًا فِيهَا، وَكَثِيرًا مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ قوله تعالى: قِيلَ ادْخُلُوا «1» إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الدُّخُولَ يَكُونُ دُخُولًا بِإِكْرَامٍ كما يدخل العريس البيت المزين على رءوس الْأَشْهَادِ يُهَنِّئُهُ كُلُّ أَحَدٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِمَ أضاف القوم إليه مع أن الرسول أَوْلَى بِكَوْنِ الْجَمْعِ قَوْمًا لَهُمْ فَإِنَّ الْوَاحِدَ يَكُونُ لَهُ قَوْمٌ هُمْ آلُهُ وَأَصْحَابُهُ وَالرَّسُولُ لِكَوْنِهِ مُرْسَلًا يَكُونُ جَمِيعُ الْخَلْقِ وَجَمِيعُ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ قَوْمًا لَهُ؟ نَقُولُ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: لِيُبَيِّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ هُمَا مِنْ قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ أُكْرِمَ أَحَدُهُمَا غَايَةَ الْإِكْرَامِ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ وَأُهِينَ الْآخَرُ غَايَةَ الْإِهَانَةِ بِسَبَبِ الْكُفْرِ، وَهَذَا مِنْ قَوْمِ أُولَئِكَ فِي النَّسَبِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْعَذَابَ كَانَ مُخْتَصًّا بِأَقَارِبِ ذَلِكَ، لِأَنَّ غَيْرَهُمْ مِنْ قَوْمِ الرُّسُلِ آمَنُوا بِهِمْ فَلَمْ يُصِبْهُمُ العذاب. المسألة الثانية: خَصَّصَ عَدَمَ الْإِنْزَالِ بِمَا بَعْدَهُ وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُنْزِلْ عَلَيْهِمْ جُنْدًا قَبْلَهُ أَيْضًا فَمَا فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ؟ نَقُولُ اسْتِحْقَاقُهُمُ الْعَذَابَ كَانَ بَعْدَهُ حَيْثُ أَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا فَبَيَّنَ حَالَ الْهَلَاكِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِجُنْدٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ: مِنَ السَّماءِ وَهُوَ تَعَالَى لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِمْ وَلَا أرسل إليهم جندا من الأرض فما

_ (1) وردت مرة بصيغة المفرد [يس: 26] وثلاث مرات بصيغة الجمع [الأعراف: 49] ، [النحل: 32] ، [الزخرف: 70] وهذا ليس بكثير.

[سورة يس (36) : آية 29]

فَائِدَةُ التَّقْيِيدِ؟ نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ جُنْدًا بِأَمْرٍ مِنَ السَّمَاءِ فَيَكُونُ لِلْعُمُومِ وَثَانِيهِمَا: إِنَّ الْعَذَابَ نَزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ فَبَيَّنَ أَنَّ النَّازِلَ لَمْ يَكُنْ جُنْدًا لَهُمْ عَظَمَةٌ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِصَيْحَةٍ أَخْمَدَتْ نَارَهُمْ وَخَرَّبَتْ دِيَارَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ أَيَّةُ فَائِدَةٍ فِيهِ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما أَنْزَلْنا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنَ الْمُنْزِلِينَ؟ نَقُولُ قَوْلُهُ: وَما كُنَّا أَيْ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُنْزِلَ لِأَنَّ الْأَمْرَ كَانَ يَتِمُّ بِدُونِ ذَلِكَ فَمَا أَنْزَلْنَا وَمَا كُنَّا مُحْتَاجِينَ إِلَى إِنْزَالٍ، أَوْ نَقُولُ: وَما أَنْزَلْنا ... وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ جُنْدًا فِي غَيْرِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ أَنْزَلَ اللَّهُ جُنُودًا فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها [التَّوْبَةِ: 26] ؟ نَقُولُ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَإِلَّا كَانَ تَحْرِيكُ رِيشَةٍ مِنْ جَنَاحِ مَلَكٍ كَافِيًا فِي اسْتِئْصَالِهِمْ وَمَا كَانَ رُسُلُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دَرَجَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وآله وسلم. [سورة يس (36) : آية 29] إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مَا كَانَ بِقَوْلِهِ: إِنْ كانَتْ الْوَاقِعَةُ إِلَّا صَيْحَةً وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَصْلُهُ إِنْ كَانَ شَيْءٌ إِلَّا صَيْحَةً فَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُذْكَرَ، لَكِنَّهُ تَعَالَى أَنَّثَ لِمَا بَعْدَهُ مِنَ الْمُفَسِّرِ وَهُوَ الصَّيْحَةُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: واحِدَةً تَأْكِيدٌ لِكَوْنِ الْأَمْرِ هَيِّنًا عِنْدَ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا هُمْ خامِدُونَ فِيهِ إِشَارَةٌ إلى سرعة الهلاك فإن خمودهم كان مع الصَّيْحَةِ وَفِي وَقْتِهَا لَمْ يَتَأَخَّرْ، وَوَصْفُهُمْ بِالْخُمُودِ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَيَّ فِيهِ الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ وَكُلَّمَا كَانَتِ الْحَرَارَةُ أَوْفَرَ كَانَتِ القوة الغصبية وَالشَّهْوَانِيَّةُ أَتَمَّ وَهُمْ كَانُوا كَذَلِكَ، أَمَّا الْغَضَبُ فَإِنَّهُمْ قَتَلُوا مُؤْمِنًا كَانَ يَنْصَحُهُمْ، وَأَمَّا الشَّهْوَةُ فَلِأَنَّهُمُ احْتَمَلُوا الْعَذَابَ الدَّائِمَ بِسَبَبِ اسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ الْحَالِيَّةِ فَإِذَنْ كَانُوا كَالنَّارِ الْمُوقَدَةِ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا جَبَّارِينَ مُسْتَكْبِرِينَ كَالنَّارِ وَمَنْ خُلِقَ مِنْهَا فَقَالَ: فَإِذا هُمْ خامِدُونَ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْعَنَاصِرَ الْأَرْبَعَةَ يَخْرُجُ بَعْضُهَا عَنْ طَبِيعَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا وَيَصِيرُ الْعُنْصُرُ الْآخَرُ بِإِرَادَةِ اللَّهِ فَالْأَحْجَارُ تَصِيرُ مِيَاهًا، وَالْمِيَاهُ تَصِيرُ أَحْجَارًا وَكَذَلِكَ الْمَاءُ يَصِيرُ هَوَاءً عِنْدَ الْغَلَيَانِ وَالسُّخُونَةِ وَالْهَوَاءُ يَصِيرُ مَاءً لِلْبَرْدِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ بِزَمَانٍ، وَأَمَّا الْهَوَاءُ فَيَصِيرُ نَارًا والنار تصير هواء بالاشتغال وَالْخُمُودِ فِي أَسْرَعِ زَمَانٍ، فَقَالَ خَامِدِينَ بِسَبَبِهَا فَخُمُودُ النَّارِ فِي السُّرْعَةِ كَإِطْفَاءِ سِرَاجٍ أَوْ شعلة. [سورة يس (36) : آية 30] يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) ثم قال تعالى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ أَيْ هَذَا وَقْتُ الْحَسْرَةِ فَاحْضُرِي يَا حَسْرَةُ وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّكْثِيرِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْعِبَادِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: لِلْمَعْهُودِ وَهُمُ الَّذِينَ أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ فَيَا حَسْرَةً عَلَى أُولَئِكَ وَثَانِيهِمَا: لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ جِنْسِ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَنِ الْمُتَحَسِّرُ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: لَا مُتَحَسِّرَ أَصْلًا فِي الْحَقِيقَةِ إِذِ الْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ وَقْتَ طَلَبِ الْحَسْرَةِ حَيْثُ تَحَقَّقَتِ النَّدَامَةُ عِنْدَ تَحَقُّقِ العذاب. وهاهنا بَحْثٌ لُغَوِيٌّ: وَهُوَ أَنَّ الْمَفْعُولَ قَدْ يُرْفَضُ رَأْسًا إِذَا كَانَ الْغَرَضُ غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِهِ يُقَالُ إِنَّ فُلَانًا يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَلَا يَكُونُ هُنَاكَ شَيْءٌ مُعْطًى إِذِ الْمَقْصُودُ أَنَّ لَهُ الْمَنْعَ وَالْإِعْطَاءَ، وَرَفْضُ الْمَفْعُولِ كَثِيرٌ وَمَا نَحْنُ فيه رفض

[سورة يس (36) : آية 31]

الْفَاعِلِ وَهُوَ قَلِيلٌ، وَالْوَجْهُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا، إِنَّ ذِكْرَ الْمُتَحَسِّرِ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّ الْحَسْرَةَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الثَّانِي: أَنَّ قَائِلَ يَا حَسْرَةً هُوَ اللَّهُ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ تَعْظِيمًا لِلْأَمْرِ وَتَهْوِيلًا لَهُ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ كَالْأَلْفَاظِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي حَقِّ اللَّهِ كَالضَّحِكِ وَالنِّسْيَانِ وَالسُّخْرِ وَالتَّعَجُّبِ وَالتَّمَنِّي، أَوْ نَقُولُ لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِنَا يَا حَسْرَةً وَيَا نَدَامَةً، أَنَّ الْقَائِلَ مُتَحَسِّرٌ أَوْ نَادِمٌ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُ مُخْبِرٌ عَنْ وُقُوعِ النَّدَامَةِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تجوز في بيان كونه تعالى قال: يا حَسْرَةً بَلْ يُخْبِرُ بِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ إِلَّا فِي النداء، فَإِنَّ النِّدَاءَ مَجَازٌ وَالْمُرَادَ الْإِخْبَارُ الثَّالِثُ: الْمُتَلَهِّفُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمَلَائِكَةِ أَلَا تَرَى إِلَى مَا حُكِيَ عَنْ حَبِيبٍ أَنَّهُ حِينَ الْقَتْلِ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي وَبَعْدَ مَا قَتَلُوهُ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ قَالَ: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَحَسَّرَ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ وَيَتَنَدَّمَ لَهُ وَعَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ يَا حَسْرَةً بِالتَّنْوِينِ، وَ (يَا حَسْرَةَ الْعِبَادِ) بِالْإِضَافَةِ مِنْ غَيْرِ كَلِمَةِ عَلَى، وَقُرِئَ يَا حَسْرَةً عَلَى بِالْهَاءِ إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَنِ الْمُرَادُ بِالْعِبَادِ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الرُّسُلُ الثَّلَاثَةُ كَأَنَّ الْكَافِرِينَ يَقُولُونَ عِنْدَ ظُهُورِ الْبَأْسِ يَا حَسْرَةً عَلَيْهِمْ يَا لَيْتَهُمْ كَانُوا حَاضِرِينَ شَأْنَنَا لِنُؤْمِنَ بِهِمْ وَثَانِيهَا: هُمْ قَوْمُ حَبِيبٍ وَثَالِثُهَا: كُلُّ مَنْ كَفَرَ وَأَصَرَّ وَاسْتَكْبَرَ وَعَلَى الْأَوَّلِ فَإِطْلَاقُ الْعِبَادِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الْحِجْرِ: 42] وقوله: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا [الزُّمَرِ: 53] وَعَلَى الثَّانِي فَإِطْلَاقُ الْعِبَادِ عَلَى الْكُفَّارِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْعَبْدِ مُطْلَقًا وَبَيْنَ الْمُضَافِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْإِضَافَةَ إِلَى الشَّرِيفِ تَكْسُو الْمُضَافَ شَرَفًا تَقُولُ بَيْتُ اللَّهِ فَيَكُونُ فِيهِ مِنَ الشَّرَفِ مَا لَا يَكُونُ فِي قَوْلِكَ الْبَيْتُ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ [الْفُرْقَانِ: 63] مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ: إِنَّ عِبادِي [الحجر: 42] وكذلك عِبادَ اللَّهِ [الصافات: 74] . ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى سَبَبَ الْحَسْرَةِ بِقَوْلِهِ تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وَهَذَا سَبَبُ النَّدَامَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ جَاءَهُ مَلِكٌ مِنْ بَادِيَةٍ، وَأَعْرَفَهُ نَفْسَهُ، وَطَلَبَ مِنْهُ أمرا هينا فكذبه ولم يجبه إلا مَا دَعَاهُ، ثُمَّ وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ فَعَرَّفَهُ أَنَّهُ ذَلِكَ، يَكُونُ عِنْدَهُ مِنَ النَّدَامَةِ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ هُمْ مُلُوكٌ وَأَعْظَمُ مِنْهُمْ بِإِعْزَازِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَجَعَلَهُمْ نُوَّابَهُ كَمَا قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: 31] وَجَاءُوا وَعَرَّفُوا أَنْفُسَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَظَمَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي الْحِسِّ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ عِنْدَ ظُهُورِ الْبَأْسِ ظَهَرَتْ عَظَمَتُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ لَهُمْ، وَكَانَ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ أَمْرًا هَيِّنًا نَفْعُهُ عَائِدٌ إِلَيْهِمْ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا يَسْأَلُونَ عَلَيْهِ أَجْرًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ تكون الندامة الشديدة، وكيف لا وهم لم يقتنعوا بِالْإِعْرَاضِ حَتَّى آذَوْا وَاسْتَهْزَءُوا وَاسْتَخَفُّوا وَاسْتَهَانُوا/ وَقَوْلُهُ: مَا يَأْتِيهِمْ الضَّمِيرُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى قَوْمِ حَبِيبٍ، أَيْ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ مِنَ الرُّسُلِ الثَّلَاثَةِ إِلَّا كَانُوا بِهِ يستهزءون عَلَى قَوْلِنَا الْحَسْرَةُ عَلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عائدا إلى الكفار المصرين. [سورة يس (36) : آية 31] أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْأَوَّلِينَ قَالَ لِلْحَاضِرِينَ: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَيِ الْبَاقُونَ لَا يَرَوْنَ مَا جَرَى عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يقال: إن الذين قيل في حقهم: يا حَسْرَةً [يس: 30] هُمُ الَّذِينَ قَالَ فِي حَقِّهِمْ: أَلَمْ يَرَوْا وَمَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَهْلِكٍ تَقَدَّمَهُ قَوْمٌ كَذَّبُوا وَأُهْلِكُوا إِلَى قَوْمِ نُوحٍ وَقَبْلَهُ.

[سورة يس (36) : آية 32]

وَقَوْلُهُ: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ بَدَلٌ فِي الْمَعْنَى عَنْ قَوْلِهِ: كَمْ أَهْلَكْنا وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى: كَمْ أَهْلَكْنا أَلَمْ يَرَوْا كَثْرَةَ إِهْلَاكِنَا، وفيه مَعْنَى، أَلَمْ يَرَوُا الْمُهْلَكِينَ الْكَثِيرِينَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ كَبَدَلِ الِاشْتِمَالِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ الْمُهْلَكِينَ، أَيْ أُهْلِكُوا بِحَيْثُ لَا رُجُوعَ لَهُمْ إِلَيْهِمْ فَيَصِيرُ كَقَوْلِكَ: أَلَا تَرَى زَيْدًا أَدَبَهُ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أُهْلِكُوا إِهْلَاكًا لَا رُجُوعَ لَهُمْ إِلَى مَنْ فِي الدُّنْيَا وَثَانِيهِمَا: هُوَ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ، أَيِ الْبَاقُونَ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى الْمُهْلَكِينَ بِنَسَبٍ وَلَا وِلَادَةٍ، يَعْنِي أَهْلَكْنَاهُمْ وَقَطَعْنَا نَسْلَهُمْ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْإِهْلَاكَ الَّذِي يَكُونُ مَعَ قَطْعِ النَّسْلِ أَتَمُّ وَأَعَمُّ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَشْهَرُ نَقْلًا، وَالثَّانِي أظهر عقلا، ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 32] وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) لَمَّا بَيَّنَ الْإِهْلَاكَ بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مَنْ أَهْلَكَهُ اللَّهُ تَرَكَهُ، بَلْ بَعْدَهُ جَمْعٌ وَحِسَابٌ وَحَبْسٌ وَعِقَابٌ، وَلَوْ أَنَّ مَنْ أُهْلِكَ تُرِكَ لَكَانَ الْمَوْتُ رَاحَةً، وَنِعْمَ مَا قَالَ الْقَائِلُ: وَلَوْ أَنَّا إِذَا مِتْنَا تُرِكْنَا ... لَكَانَ الْمَوْتُ رَاحَةَ كُلِّ حَيْ وَلَكِنَّا إِذَا مِتْنَا بُعِثْنَا ... وَنُسْأَلُ بعده عن كل شيء وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا فِي إِنْ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاللَّامُ فِي لَمَّا فَارِقَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ، وَمَا زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَالْقِرَاءَةُ حِينَئِذٍ بِالتَّخْفِيفِ فِي لَمَّا وَثَانِيهِمَا: أَنَّهَا نَافِيَةٌ وَلَمَّا بِمَعْنَى إِلَّا، قَالَ سِيبَوَيْهِ: يُقَالُ نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ لَمَّا فَعَلْتَ، بِمَعْنَى إِلَّا فَعَلْتَ، وَالْقِرَاءَةُ حِينَئِذٍ بِالتَّشْدِيدِ فِي لَمَّا، يُؤَيِّدُ هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّ أُبَيًّا قَرَأَ وَمَا كَلٌّ إِلَّا جَمِيعٌ وَفِي قَوْلِ سِيبَوَيْهِ: لَمَّا بِمَعْنَى إِلَّا وَارِدُ مَعْنًى مُنَاسِبٍ وَهُوَ أَنَّ لَمَّا كَأَنَّهَا حَرْفَا نَفْيٍ جُمِعَا وَهُمَا لَمْ وَمَا فَتَأَكَّدَ النَّفْيُ، وَلِهَذَا يُقَالُ فِي/ جَوَابِ مَنْ قَالَ قَدْ فَعَلَ لَمَّا يَفْعَلُ، وَفِي جَوَابِ مَنْ قَالَ فَعَلَ لَمْ يَفْعَلْ، وَإِلَّا كَأَنَّهَا حَرْفَا نَفْيٍ إِنْ وَلَا فَاسْتُعْمِلَ أَحَدُهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ كُلٌّ وَجَمِيعٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَكَيْفَ جُعِلَ جَمِيعًا خَبَرًا لِكُلٍّ حَيْثُ دَخَلَتِ اللَّامُ عَلَيْهِ، إِذِ التَّقْدِيرُ وَإِنْ كُلٌّ لَجَمِيعٌ، نَقُولُ مَعْنَى جَمِيعٍ مَجْمُوعٌ، وَمَعْنَى كُلٍّ كُلُّ فَرْدٍ بحيث لَا يَخْرُجُ عَنِ الْحُكْمِ أَحَدٌ، فَصَارَ الْمَعْنَى كُلُّ فَرْدٍ مَجْمُوعٌ مَعَ الْآخَرِ مَضْمُومٌ إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مُحْضَرُونَ، يَعْنِي عَمَّا ذَكَرَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَإِنْ جَمِيعٌ لَجَمِيعٌ مُحْضَرُونَ، لَكَانَ كَلَامًا صَحِيحًا وَلَمْ يُوجَدْ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْجَوَابِ، بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّ مُحْضَرُونَ كَالصِّفَةِ لِلْجَمِيعِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ جَمِيعٌ جَمِيعٌ مُحْضَرُونَ، كَمَا يُقَالُ الرَّجُلُ رَجُلٌ عَالِمٌ، وَالنَّبِيُّ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَالْوَاوُ فِي وَإِنْ كُلٌّ لِعَطْفِ الْحِكَايَةِ عَلَى الْحِكَايَةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ بَيَّنْتُ لَكَ مَا ذَكَرْتُ، وَأُبَيِّنُ أَنَّ كُلًّا لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ، وَكَذَلِكَ الواو في قوله تعالى: [سورة يس (36) : الآيات 33 الى 35] وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَأَقُولُ أَيْضًا آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا وَجْهُ تَعَلُّقِ هَذَا بِمَا قَبْلَهُ؟ نَقُولُ مُنَاسِبٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ:

وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ [يس: 32] كَانَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى الْحَشْرِ، فَذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى إِمْكَانِهِ قَطْعًا لِإِنْكَارِهِمْ وَاسْتِبْعَادِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، فَقَالَ: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا كَذَلِكَ نُحْيِي الْمَوْتَى وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُرْسَلِينَ وَإِهْلَاكَ الْمُكَذِّبِينَ وَكَانَ شَغْلُهُمُ التَّوْحِيدَ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَبَدَأَ بِالْأَرْضِ لِكَوْنِهَا مَكَانَهُمْ لَا مُفَارَقَةَ لَهُمْ مِنْهَا عِنْدَ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَرْضُ آيَةٌ مُطْلَقًا فَلِمَ خَصَّصَهَا بِهِمْ حَيْثُ قَالَ: وَآيَةٌ لَهُمُ نَقُولُ: الْآيَةُ تُعَدَّدُ وَتُسْرَدُ لِمَنْ لَمْ يَعْرِفِ الشَّيْءَ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ، وَأَمَّا مَنْ عَرَفَ الشَّيْءَ بِطَرِيقِ الرُّؤْيَةِ لَا يُذْكَرُ لَهُ دَلِيلٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ وَعِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ عَرَفُوا اللَّهَ قَبْلَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، فَلَيْسَتِ الْأَرْضُ مُعَرَّفَةً لَهُمْ، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فُصِّلَتْ: 53] وَقَالَ: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فُصِّلَتْ: 53] يَعْنِي أَنْتَ كَفَاكَ رَبُّكَ مُعَرِّفًا، بِهِ عَرَفْتَ كُلَّ شَيْءٍ فَهُوَ شَهِيدٌ لَكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ تَبَيَّنَ لهم الحق بالآفاق والأنفس، وكذلك هاهنا آيَةٌ لَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْآيَةَ مَذْكُورَةٌ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى جَوَازِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى فَيَكْفِي قَوْلُهُ: أَحْيَيْناها وَلَا حَاجَةَ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ وَوَحْدَتِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي قَوْلِهِ: الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها لِأَنَّ نَفْسَ الْأَرْضِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ وَبُرْهَانٌ بَاهِرٌ، ثُمَّ هَبْ أَنَّهَا غَيْرُ كَافِيَةٍ فَقَوْلُهُ: الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها كَافٍ فِي التَّوْحِيدِ فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا نقول مذكورة للاستدلال عليها ولكل ما ذكره الله تعالى فائدة. أما قَوْلِهِ: وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَلَهُ فَائِدَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَيَانِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَحْيَا الْأَرْضَ وَأَخْرَجَ مِنْهَا حَبًّا كَانَ ذَلِكَ إِحْيَاءً تَامًّا لِأَنَّ الْأَرْضَ الْمُخْضَرَّةَ الَّتِي لَا تُنْبِتُ الزَّرْعَ وَلَا تُخْرِجُ الْحَبَّ دُونَ مَا تُنْبِتُهُ فِي الْحَيَاةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى الَّذِي أَحْيَا الْأَرْضَ إِحْيَاءً كَامِلًا مُنْبِتًا لِلزَّرْعِ يُحْيِي الْمَوْتَى إِحْيَاءً كَامِلًا بِحَيْثُ تُدْرِكُ الْأُمُورَ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ فَلِأَنَّ فِيهِ تَعْدِيدَ النِّعَمِ كَأَنَّهُ يَقُولُ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ فَإِنَّهَا مَكَانُهُمْ وَمَهْدُهُمُ الَّذِي فِيهِ تَحْرِيكُهُمْ وَإِسْكَانُهُمْ وَالْأَمْرُ الضَّرُورِيُّ الَّذِي عِنْدَهُ وُجُودُهُمْ وَإِمْكَانُهُمْ وَسَوَاءٌ كَانَتْ مَيْتَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ فَهِيَ مَكَانٌ لَهُمْ لَا بد لهم منها فهي نِعْمَةٌ ثُمَّ إِحْيَاؤُهَا بِحَيْثُ تَخْضَرُّ نِعْمَةٌ ثَانِيَةٌ فَإِنَّهَا تَصِيرُ أَحْسَنَ وَأَنْزَهَ، ثُمَّ إِخْرَاجُ الْحَبِّ مِنْهَا نِعْمَةٌ ثَالِثَةٌ فَإِنَّ قُوتَهُمْ يَصِيرُ فِي مَكَانِهِمْ، وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رِزْقَهُمْ فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْهَوَاءِ فَلَا يَحْصُلُ لَهُمُ الْوُثُوقُ، ثُمَّ جَعَلَ الْجَنَّاتِ فِيهَا نِعْمَةً رَابِعَةً لِأَنَّ الْأَرْضَ تُنْبِتُ الْحَبَّ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَأَمَّا الْأَشْجَارُ بِحَيْثُ تُؤْخَذُ مِنْهَا الثِّمَارُ فَتَكُونُ بَعْدَ الْحَبِّ وُجُودًا، ثُمَّ فَجَّرْنَا فِيهَا الْعُيُونَ لِيَحْصُلَ لَهُمُ الِاعْتِمَادُ بِالْحُصُولِ وَلَوْ كَانَ مَاؤُهَا مِنَ السَّمَاءِ لَحَصَلَ وَلَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا أَيْنَ تُغْرَسُ وَأَيْنَ يَقَعُ الْمَطَرُ وَيَنْزِلُ القطر وبالنسبة إِلَى بَيَانِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى كُلُّ ذَلِكَ مُفِيدٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا كَالْإِشَارَةِ إِلَى الْأَمْرِ الضَّرُورِيِّ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ كَالْأَمْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ الَّذِي إِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يُغْنِي الْإِنْسَانَ لَكِنَّهُ يَبْقَى مُخْتَلَّ الْحَالِ وَقَوْلُهُ: وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ إِشَارَةٌ إِلَى الزِّينَةِ الَّتِي إِنْ لم تكن لا تغني الْإِنْسَانَ وَلَا يَبْقَى فِي وَرْطَةِ الْحَاجَةِ، لَكِنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَى أَحْسَنِ مَا يَنْبَغِي، وَكَأَنَّ حَالَ الْإِنْسَانِ بِالْحَبِّ كَحَالِ الْفَقِيرِ الَّذِي لَهُ مَا يَسُدُّ خَلَّتَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَلَا يَدْفَعُ حَاجَتَهُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ وَبِالثِّمَارِ وَيُعْتَبَرُ حَالُهُ كَحَالِ الْمُكْتَفِي بِالْعُيُونِ الْجَارِيَةِ الَّتِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ وَيُقَوِّي بِهَا قَلْبَهُ كَالْمُسْتَغْنِي الْغَنِيِّ الْمُدَّخِرِ لِقُوتِ سِنِينَ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا فَعَلْنَا فِي مَوَاتِ الْأَرْضِ كَذَلِكَ نَفْعَلُ فِي الْأَمْوَاتِ فِي الْأَرْضِ فَنُحْيِيهِمْ وَنُعْطِيهِمْ مَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ فِي

بَقَائِهِمْ وَتَكْوِينِهِمْ مِنَ الْأَعْضَاءِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا وَقُوَاهَا كَالْعَيْنِ وَالْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ وَالْأُذُنِ وَالْقُوَّةِ السَّامِعَةِ وَغَيْرِهِمَا وَنَزِيدُ لَهُ مَا هُوَ زِينَةٌ كَالْعَقْلِ الْكَامِلِ وَالْإِدْرَاكِ الشَّامِلِ فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ نُحْيِي الْمَوْتَى إِحْيَاءً تَامًّا كَمَا أَحْيَيْنَا الْأَرْضَ إِحْيَاءً تَامًّا. المسألة الرابعة: قال عند ذِكْرِ الْحَبِّ فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَفِي الْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ قَالَ: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَبَّ قُوتٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فَقَالَ: فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ أَيْ هُمْ آكِلُوهُ، وَأَمَّا الثِّمَارُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ إِنْ كُنَّا مَا أَخْرَجْنَاهَا كَانُوا يَبْقَوْنَ مِنْ غَيْرِ أَكْلٍ فَأَخْرَجْنَاهَا لِيَأْكُلُوهَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: خَصَّصَ النَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ بِالذِّكْرِ مِنْ سَائِرِ الْفَوَاكِهِ لِأَنَّ أَلَذَّ الْمَطْعُومِ الْحَلَاوَةُ، وَهِيَ فِيهَا أَتَمُّ وَلِأَنَّ التَّمْرَ وَالْعِنَبَ قُوتٌ وَفَاكِهَةٌ، وَلَا كَذَلِكَ غَيْرُهُمَا وَلِأَنَّهُمَا أَعَمُّ نَفْعًا فَإِنَّهَا تُحْمَلُ مِنَ الْبِلَادِ إِلَى الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ الرُّمَّانَ وَالزَّيْتُونَ فِي الْأَنْعَامِ وَالْقَضْبَ وَالزَّيْتُونَ وَالتِّينَ فِي مَوَاضِعَ، نَقُولُ فِي الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا الْمَقْصُودُ ذِكْرُ الْفَوَاكِهِ وَالثِّمَارِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ [الأنعام: 99] وَإِلَى قَوْلِهِ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ [عَبَسَ: 24] فاستوفى الأنواع بالذكر وهاهنا الْمَقْصُودُ ذِكْرُ صِفَاتِ الْأَرْضِ فَاخْتَارَ مِنْهَا الْأَلَذَّ الْأَنْفَعَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ الْفَوَائِدُ وَيُعْلَمُ مِنْهُ فَائِدَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرَّحْمَنِ: 68] . الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ الْفَوَاكِهَ لَمْ يَذْكُرِ التَّمْرَ بِلَفْظِ شَجَرَتِهِ وَهِيَ النَّخْلَةُ وَلَمْ يَذْكُرِ الْعِنَبَ بِلَفْظِ شَجَرَتِهِ بَلْ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْعِنَبِ وَالْأَعْنَابِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْكَرْمَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِنَبَ شَجَرَتُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثَمَرَتِهِ حَقِيرَةٌ قَلِيلَةُ الْفَائِدَةِ وَالنَّخْلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثَمَرَتِهِ عَظِيمَةٌ جَلِيلَةُ الْقَدْرِ كَثِيرَةُ الْجَدْوَى، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الظُّرُوفِ مِنْهَا يُتَّخَذُ وَبِلِحَائِهَا يُنْتَفَعُ وَلَهَا شَبَهٌ بِالْحَيَوَانِ فَاخْتَارَ مِنْهَا مَا هُوَ الْأَعْجَبُ مِنْهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَنَّ الْأَرْضَ أَجْزَاؤُهَا بِحُكْمِ الْعَادَةِ لَا تَصْعَدُ وَنَحْنُ نَرَى مَنَابِعَ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُرْتَفِعَةِ وَذَلِكَ دَلِيلُ الْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ وَالْقَائِلُونَ بِالطَّبَائِعِ قَالُوا إِنَّ الْجِبَالَ كَالْقِبَابِ الْمَبْنِيَّةِ وَالْأَبْخِرَةُ تَرْتَفِعُ إِلَيْهَا كَمَا تَرْتَفِعُ إِلَى سُقُوفِ الْحَمَّامَاتِ وَتَتَكَوَّنُ هُنَاكَ قَطَرَاتٌ مِنَ الْمَاءِ ثُمَّ تَجْتَمِعُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَوِيَّةً تَحْصُلُ الْمِيَاهُ الرَّاكِدَةُ كَالْآبَارِ وَتَجْرِي فِي الْقَنَوَاتِ، إِنْ كَانَتْ قَوِيَّةً تَشُقُّ الْأَرْضَ وَتَخْرُجُ أَنْهَارًا جَارِيَةً وَتَجْتَمِعُ فَتَحْصُلُ الْأَنْهَارُ الْعَظِيمَةُ وَتَمُدُّهَا مِيَاهُ الْأَمْطَارِ وَالثُّلُوجِ، فَنَقُولُ اخْتِصَاصُ بَعْضِ الْجِبَالِ بِالْعُيُونِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى الِاخْتِيَارِ وَمَا ذَكَرُوهُ تَعَسُّفٌ، فَالْحَقُّ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمَاءَ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُرْتَفِعَةِ وَسَاقَهَا فِي الْأَنْهَارِ وَالسَّوَاقِي أَوْ صَعَدَ الْمَاءُ مِنَ المواضع المستفلة إِلَى الْأَمَاكِنِ الْمُرْتَفِعَةِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَجَرَى فِي الْأَوْدِيَةِ إِلَى الْبِقَاعِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى أهلها. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ وَالتَّرْتِيبُ ظَاهِرٌ وَيَظْهَرُ أَيْضًا فِي التَّفْسِيرِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِمَ أَخَّرَ التَّنْبِيهَ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِقَوْلِهِ: لِيَأْكُلُوا عَنْ ذِكْرِ الثِّمَارِ حَتَّى قَالَ: وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ وَقَالَ فِي الْحَبِّ: فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ عَقِيبَ ذِكْرِ الْحَبِّ، وَلَمْ يَقُلْ عَقِيبَ ذِكْرِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ لِيَأْكُلُوا؟ نَقُولُ الْحَبُّ قُوتٌ وَهُوَ يَتِمُّ وُجُودُهُ بِمِيَاهِ الْأَمْطَارِ وَلِهَذَا يُرَى أَكْثَرُ الْبِلَادِ لَا يَكُونُ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَشْجَارِ وَالزَّرْعِ وَالْحِرَاثَةُ لَا تَبْطُلُ هُنَاكَ اعْتِمَادًا عَلَى مَاءِ السَّمَاءِ وَهَذَا لُطْفٌ مِنَ اللَّهِ حَيْثُ جَعَلَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ أَعَمَّ

[سورة يس (36) : آية 36]

وُجُودًا، وَأَمَّا الثِّمَارُ فَلَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْأَنْهَارِ وَلَا تَصِيرُ الْأَشْجَارُ حَامِلَةً لِلثِّمَارِ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْأَنْهَارِ فَلِهَذَا أَخَّرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ ثَمَرِهِ عَائِدٌ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ؟ نَقُولُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ أَيْ/ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِ اللَّهِ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ الثِّمَارَ بَعْدَ وُجُودِ الْأَشْجَارِ وَجَرَيَانِ الْأَنْهَارِ لَمْ تُوجَدْ إِلَّا بِاللَّهِ تَعَالَى وَلَوْلَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ لَمْ تُوجَدْ فَالثَّمَرُ بَعْدَ جَمِيعِ مَا يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُ سَبَبُ وُجُودِهِ لَيْسَ إِلَّا بِاللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ فَهِيَ ثَمَرُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى النَّخِيلِ وَتَرَكَ الْأَعْنَابَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا فِي حُكْمِ النَّخِيلِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَذْكُورِ أَيْ مِنْ ثَمَرِ مَا ذَكَرْنَا، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ نَقَلَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ أَغْرَبَ وَأَقْرَبَ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنَ الثَّمَرِ الْفَوَائِدُ يُقَالُ ثَمَرَةُ التِّجَارَةِ الرِّبْحُ وَيُقَالُ ثَمَرَةُ الْعِبَادَةِ الثَّوَابُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى التَّفْجِيرِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ تَفْجِيرًا لِيَأْكُلُوا مِنْ فَوَائِدِ ذَلِكَ التَّفْجِيرِ وَفَوَائِدُهُ أَكْثَرُ مِنَ الثِّمَارِ بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا [عَبَسَ: 25] إِلَى أَنْ قَالَ: فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا [عَبَسَ: 27- 31] وَالتَّفْجِيرُ أَقْرَبُ فِي الذِّكْرِ مِنَ النَّخِيلِ، وَلَوْ كَانَ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ لَقَالَ مِنْ ثَمَرِنَا كَمَا قَالَ (وَجَعَلْنَا) (وَفَجَّرْنَا) . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا فِي قَوْلِهِ: وَما عَمِلَتْهُ مِنْ أَيِ الْمَاءَاتِ هِيَ؟ نَقُولُ فِيهَا وُجُوهٌ أَحَدُهَا: نَافِيَةٌ كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا عَمِلَتِ التَّفْجِيرُ أَيْدِيهِمْ بَلِ اللَّهُ فَجَّرَ وَثَانِيهَا: مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي كَأَنَّهُ قَالَ وَالَّذِي عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْغِرَاسِ بَعْدَ التَّفْجِيرِ يَأْكُلُونَ مِنْهُ أَيْضًا وَيَأْكُلُونَ مِنْ ثَمَرِ اللَّهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْ غَيْرِ سَعْيٍ مِنَ النَّاسِ، فَعَطَفَ الَّذِي عَمِلَتْهُ الْأَيْدِي عَلَى مَا خلقه الله من غير مدخل للإنسان فيه وَثَالِثُهَا: هِيَ مَصْدَرِيَّةٌ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ (وَمَا عَمِلَتْ) مِنْ غَيْرِ ضَمِيرٍ عَائِدٍ مَعْنَاهُ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَعَمَلِ أَيْدِيهِمْ يَعْنِي يَغْرِسُونَ وَاللَّهُ يُنْبِتُهَا وَيَخْلُقُ ثَمَرَهَا فَيَأْكُلُونَ مَجْمُوعَ عَمَلِ أَيْدِيهِمْ وَخَلْقِ اللَّهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يُمْكِنُ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ مَعَ الضَّمِيرِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: عَلَى قَوْلِنَا مَا مَوْصُولَةٌ، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْ بِالتِّجَارَةِ كَأَنَّهُ ذَكَرَ نَوْعَيْ مَا يَأْكُلُ الْإِنْسَانُ بِهِمَا، وَهُمَا الزِّرَاعَةُ وَالتِّجَارَةُ، وَمِنَ النَّبَاتِ مَا يُؤْكَلُ مِنْ غَيْرِ عَمَلِ الْأَيْدِي كَالْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَغَيْرِهِمَا وَمِنْهُ مَا يَعْمَلُ فِيهِ عَمَلَ صَنْعَةٍ فَيُؤْكَلُ كَالْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تُؤْكَلُ إِلَّا مَطْبُوخَةً أَوْ كَالزَّيْتُونِ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ إِلَّا بَعْدَ إِصْلَاحٍ، ثُمَّ لَمَّا عَدَّدَ النِّعَمَ أَشَارَ إِلَى الشُّكْرِ بِقَوْلِهِ: أَفَلا يَشْكُرُونَ وَذُكِرَ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِمَا بَيَّنَّا من فوائد الاستفهام فيما تقدم. ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 36] سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لَفْظَةَ سُبْحَانَ عَلَمٌ دَالٌّ عَلَى التَّسْبِيحِ وَتَقْدِيرُهُ سَبِّحْ تَسْبِيحَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا، وَمَعْنَى سَبِّحْ نَزِّهْ، وَوَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس: 35] وَشُكْرُ/ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ وَهُمْ تَرَكُوهَا وَلَمْ يَقْتَنِعُوا بِالتَّرْكِ بَلْ عَبَدُوا غَيْرَهُ وَأَتَوْا بِالشِّرْكِ فَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ وَغَيْرُهُ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا فَقَالَ أَوْ نَقُولُ، لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْآيَاتِ وَلَمْ يَشْكُرُوا بَيَّنَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْعَاقِلُ فَقَالَ: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أَوْ نَقُولُ لَمَّا بَيَّنَ الْآيَاتِ قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ مَا ذَكَرَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ أَوْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: كُلَّها يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ لِأَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الصِّنْفُ وأفعال العباد

[سورة يس (36) : آية 37]

أصناف ولها أشباه هي وَاقِعَةٌ تَحْتَ أَجْنَاسِ الْأَعْرَاضِ فَتَكُونُ مِنَ الْكُلُّ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا إِنَّهُ خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا، لَا يُقَالُ مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ، يُخْرِجُ الْكَلَامَ عَنِ الْعُمُومِ لِأَنَّ مَنْ قَالَ أَعْطَيْتُ زَيْدًا كُلَّ مَا كَانَ لِي يَكُونُ لِلْعُمُومِ إِنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَهُ مِنَ الثِّيَابِ لَا يَبْقَى الْكَلَامُ عَلَى عُمُومِهِ لِأَنَّا نَقُولُ ذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مِنْ لِبَيَانِ التَّخْصِيصِ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ لِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ فَلَا، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ قَالَ أَعْطَيْتُهُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ وَالْعَبِيدِ وَالْجَوَارِي يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يُعَدِّدُ الْأَصْنَافَ لِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تعالى في حم: الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ [الزُّخْرُفِ: 12] مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أُمُورًا ثَلَاثَةً يَنْحَصِرُ فِيهَا الْمَخْلُوقَاتُ فَقَوْلُهُ: مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ يَدْخُلُ فِيهَا مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ كَالنَّبَاتِ وَالثِّمَارِ وَقَوْلُهُ: وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ يَدْخُلُ فِيهَا الدَّلَائِلُ النَّفْسِيَّةُ وَقَوْلُهُ: وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ يدخل ما في أقطار السموات وَتُخُومِ الْأَرَضِينَ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لِلتَّخْصِيصِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَنْعَامَ مِمَّا خَلَقَهَا اللَّهُ وَالْمَعَادِنَ لَمْ يَذْكُرْهَا وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْأَشْيَاءَ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْعُمُومِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمِثَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ فِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ كَوْنَ الْكُلِّ مَخْلُوقًا لِيُنَزِّهَ اللَّهَ عَنِ الشَّرِيكِ فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَصْلُحُ شَرِيكًا لِلْخَلْقِ، لَكِنَّ التَّوْحِيدَ الْحَقِيقِيَّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالِاعْتِرَافِ بِأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ تَعَالَى اعْلَمُوا أَنَّ الْمَانِعَ مِنَ التَّشْرِيكِ فِيمَا تَعْلَمُونَ وَمَا لَا تَعْلَمُونَ لِأَنَّ الْخَلْقَ عَامٌّ وَالْمَانِعَ مِنَ الشَّرِكَةِ الْخَلْقُ فَلَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا مِمَّا تَعْلَمُونَ فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَمِمَّا لَا تَعْلَمُونَ فَإِنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ كُلُّهُ مَخْلُوقٌ لكون كله ممكنا. ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 37] وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) لَمَّا اسْتَدَلَّ اللَّهُ بِأَحْوَالِ الْأَرْضِ وَهِيَ الْمَكَانُ الْكُلِّيُّ اسْتَدَلَّ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ الزَّمَانُ الْكُلِّيُّ فَإِنَّ دَلَالَةَ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ مُنَاسِبَةٌ لِأَنَّ الْمَكَانَ لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ الْجَوَاهِرُ وَالزَّمَانُ لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ الْأَعْرَاضُ، لِأَنَّ كُلَّ عَرَضٍ فَهُوَ فِي زَمَانٍ وَمَثَلُهُ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ/ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [فُصِّلَتْ: 37] ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [فُصِّلَتْ: 39] حَيْثُ اسْتَدَلَّ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ هُنَاكَ أَيْضًا، لَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَوَّلًا هُنَاكَ إِثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ [فُصِّلَتْ: 37] ثُمَّ الْحَشْرُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى [فصلت: 39] وهاهنا الْمَقْصُودُ أَوَّلًا إِثْبَاتُ الْحَشْرِ لِأَنَّ السُّورَةَ فِيهَا ذِكْرُ الْحَشْرِ أَكْثَرُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي السُّورَةِ، وَهُنَاكَ ذِكْرُ التَّوْحِيدِ أَكْثَرُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تعالى فيه: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فُصِّلَتْ: 9] إِلَى غَيْرِهِ وَآخِرُ السُّورَتَيْنِ يُبَيِّنُ الْأَمْرَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَكَانُ يَدْفَعُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ شُبَهَ الْفَلَاسِفَةِ، وَالزَّمَانُ يَدْفَعُ عَنْهُمْ شُبَهَ الْمُشَبِّهَةِ. أَمَّا بَيَانُ الْأَوَّلِ: فَذَلِكَ لِأَنَّ الْفَلْسَفِيَّ يَقُولُ لَوْ كَانَ عَدَمُ الْعَالَمِ قَبْلَ وُجُودِهِ لَكَانَ عِنْدَ فَرْضِ عَدَمِ الْعَالَمِ قَبْلُ، وَقَبْلُ وَبَعْدُ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالزَّمَانِ، فَقَبْلَ الْعَالَمِ زَمَانٌ وَالزَّمَانُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَالَمِ فَيَلْزَمُ وُجُودُ الشيء عند عدمه وهو محال، فنقول لهم قد وافقتمونا على أن الأمكنة متناهية، لأن الأبعاد متناهية بالاتفاق، فإذن فوق السطح الأعلى

[سورة يس (36) : آية 38]

من العالم يكون عدما وهو موصوف بالفوقية، وفوق وتحت لا يتحقق إلا بالمكان ففوق العالم مكان والمكان من الْعَالَمِ فَيَلْزَمُ وُجُودُ الشَّيْءِ عِنْدَ عَدَمِهِ، فَإِنْ أَجَابُوا بِأَنَّ فَوْقَ السَّطْحِ الْأَعْلَى لَا خَلًّا وَلَا مَلًّا، نَقُولُ قَبْلَ وُجُودِ الْعَالَمِ لَا آن ولا زمان موجود. وأما بَيَانُ الثَّانِي: فَلِأَنَّ الْمُشَبِّهِيَّ يَقُولُ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ مَوْجُودٍ إِلَّا فِي مَكَانٍ، فَاللَّهُ فِي مَكَانٍ فَنَقُولُ فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ تَقُولُوا اللَّهُ فِي زَمَانٍ لِأَنَّ الْوَهْمَ كَمَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ هُوَ مَوْجُودٌ وَلَا مَكَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ هُوَ كَانَ مَوْجُودًا وَلَا زَمَانَ وكل زمان فهو حَادِثٌ وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِيمٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِدْلَالَ بِالزَّمَانِ فَلِمَ اخْتَارَ اللَّيْلَ حَيْثُ قَالَ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ؟ نَقُولُ لَمَّا اسْتَدَلَّ بِالْمَكَانِ الَّذِي هُوَ الْمُظْلِمُ وَهُوَ الْأَرْضُ وَقَالَ: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ [يس: 33] اسْتَدَلَّ بِالزَّمَانِ الَّذِي فِيهِ الظُّلْمَةُ وَهُوَ اللَّيْلُ وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ اللَّيْلَ فِيهِ سُكُونُ النَّاسِ وَهُدُوءُ الْأَصْوَاتِ وَفِيهِ النَّوْمُ وَهُوَ كَالْمَوْتِ وَيَكُونُ بَعْدَهُ طُلُوعُ الشَّمْسِ كَالنَّفْخِ فِي الصُّورِ فَيَتَحَرَّكُ النَّاسُ فَذَكَرَ الْمَوْتَ كَمَا قَالَ فِي الْأَرْضِ: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ [يس: 33] فذكر من الزَّمَانَيْنِ أَشْبَهَهُمَا بِالْمَوْتِ كَمَا ذَكَرَ مِنَ الْمَكَانَيْنِ أَشْبَهَهُمَا بِالْمَوْتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا مَعْنَى سَلْخُ النَّهَارِ مِنَ اللَّيْلِ؟ نَقُولُ مَعْنَاهُ تَمْيِيزُهُ مِنْهُ يُقَالُ انْسَلَخَ النَّهَارُ مِنَ اللَّيْلِ إِذَا أَتَى آخِرُ النَّهَارِ وَدَخَلَ أَوَّلُ اللَّيْلِ وَسَلَخَهُ اللَّهُ مِنْهُ فَانْسَلَخَ هُوَ مِنْهُ، وَأَمَّا إِذَا اسْتُعْمِلَ بِغَيْرِ كَلِمَةِ مِنْ فَقِيلَ سَلَخَتِ النَّهَارَ أَوِ الشَّمْسَ فَمَعْنَاهُ دَخَلَتْ فِي آخِرِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَاللَّيْلُ فِي نَفْسِهِ آيَةٌ فَأَيَّةُ حَاجَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ؟ نَقُولُ الشَّيْءُ تَتَبَيَّنُ بِضِدِّهِ مَنَافِعُهُ وَمَحَاسِنُهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ اللَّيْلَ وَحْدَهُ آيَةً فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ إِلَّا وَذَكَرَ آيَةَ النَّهَارِ مَعَهَا، وَقَوْلُهُ: فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ أَيْ دَاخِلُونَ فِي الظَّلَامِ، وَإِذَا للمفاجأة أي ليس بيدهم بعد ذلك أَمْرٍ وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ/ وقوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 38] وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى اللَّيْلِ تَقْدِيرُهُ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ وَالشَّمْسُ تَجْرِي وَالْقَمَرُ قَدَّرْنَاهُ، فَهِيَ كُلُّهَا آيَةٌ، وَقَوْلُهُ: وَالشَّمْسُ تَجْرِي إِشَارَةٌ إِلَى سَبَبِ سَلْخِ النَّهَارِ فَإِنَّهَا تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا وَهُوَ وَقْتُ الْغُرُوبِ فَيَنْسَلِخُ النَّهَارُ، وَفَائِدَةُ ذِكْرِ السَّبَبِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا قَالَ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ وَكَانَ غَيْرُ بَعِيدٍ مِنَ الْجُهَّالِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مِنْهُمْ سَلْخُ النَّهَارِ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ إِنَّمَا يُسْلَخُ النَّهَارُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فَقَالَ تَعَالَى: وَالشَّمْسُ تجري لمستقر لها بأمر الله فمغرب الشمس سالخ للنهار فبذكر السبب يتبين صحة الدعوى ويحتمل أن يقال بأن قوله: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها إِشَارَةً إِلَى نِعْمَةِ النَّهَارِ بَعْدَ اللَّيْلِ كَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37] ذَكَرَ أَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فَتَطْلُعُ عِنْدَ انْقِضَاءِ اللَّيْلِ فَيَعُودُ النَّهَارُ بِمَنَافِعِهِ، وَقَوْلُهُ: لِمُسْتَقَرٍّ اللَّامُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْوَقْتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاءِ: 78] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطَّلَاقِ: 1] وَوَجْهُ اسْتِعْمَالِ اللَّامِ لِلْوَقْتِ هُوَ أَنَّ اللَّامَ الْمَكْسُورَةَ فِي الْأَسْمَاءِ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْإِضَافَةِ لَكِنَّ إِضَافَةَ الْفِعْلِ إِلَى سَبَبِهِ أَحْسَنُ الْإِضَافَاتِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لِتَعْرِيفِ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: دَارُ زَيْدٍ لَكِنَّ الْفِعْلَ يُعْرَفُ بِسَبَبِهِ فَيُقَالُ اتْجُرْ لِلرِّبْحِ وَاشْتَرِ لِلْأَكْلِ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ اللَّامَ تُسْتَعْمَلُ لِلتَّعْلِيلِ فَنَقُولُ وَقْتُ الشَّيْءِ يُشْبِهُ سَبَبَ الشَّيْءِ لِأَنَّ الْوَقْتَ يَأْتِي بِالْأَمْرِ الْكَائِنِ فِيهِ، وَالْأُمُورُ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَوْقَاتِهَا فيقال خرج لعشر من كذا

[سورة يس (36) : آية 39]

وأَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء: 78] لِأَنَّ الْوَقْتَ مُعَرِّفٌ كَالسَّبَبِ وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَاهُ تَجْرِي الشَّمْسُ وَقْتَ اسْتِقْرَارِهَا أَيْ كُلَّمَا اسْتَقَرَّتْ زَمَانًا أُمِرَتْ بِالْجَرْيِ فَجَرَتْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بمعنى إلى أي إلى مُسْتَقَرٍّ لَهَا وَتَقْرِيرُهُ هُوَ أَنَّ اللَّامَ تُذْكَرُ لِلْوَقْتِ وَلِلْوَقْتِ طَرَفَانِ ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ يُقَالُ سِرْتُ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إِلَى يَوْمِ الْخَمِيسِ فَجَازَ اسْتِعْمَالُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الِاتِّصَالِ وَيُؤَيِّدُ هَذَا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي إِلَى مُسْتَقَرٍّ لَهَا وَعَلَى هَذَا فَفِي ذَلِكَ الْمُسْتَقَرِّ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَعِنْدَهُ تَسْتَقِرُّ وَلَا يَبْقَى لَهَا حَرَكَةٌ الثَّانِي: السُّنَّةُ الثَّالِثُ: اللَّيْلُ أَيْ تَجْرِي إِلَى اللَّيْلِ الرَّابِعُ: أَنَّ ذَلِكَ الْمُسْتَقَرَّ لَيْسَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّمَانِ بَلْ هُوَ لِلْمَكَانِ وَحِينَئِذٍ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: هُوَ غَايَةُ ارْتِفَاعِهَا فِي الصَّيْفِ وَغَايَةُ انْخِفَاضِهَا فِي الشِّتَاءِ أَيْ تَجْرِي إِلَى أَنْ تَبْلُغَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فَتَرْجِعُ الثَّانِي: هُوَ غَايَةُ مَشَارِقِهَا فَإِنَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ لَهَا مَشْرِقٌ إِلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ تَعُودُ إِلَى تِلْكَ الْمُقَنْطَرَاتِ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الِارْتِفَاعِ فَإِنَّ اخْتِلَافَ الْمَشَارِقِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الِارْتِفَاعِ الثَّالِثُ: هُوَ وُصُولُهَا إِلَى بَيْتِهَا فِي الِابْتِدَاءِ الرَّابِعُ: هُوَ الدَّائِرَةُ الَّتِي عَلَيْهَا حَرَكَتُهَا حَيْثُ لَا تَمِيلُ عَنْ مِنْطَقَةِ الْبُرُوجِ عَلَى مُرُورِ الشَّمْسِ وَسَنَذْكُرُهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ لِمُسْتَقَرٍّ لَها أَيْ تَجْرِي مَجْرَى مُسْتَقَرِّهَا. فَإِنَّ أَصْحَابَ الْهَيْئَةِ قَالُوا الشَّمْسُ فِي فَلَكٍ وَالْفَلَكُ يَدُورُ فَيُدِيرُ الشَّمْسَ/ فَالشَّمْسُ تَجْرِي مَجْرَى مُسْتَقَرِّهَا، وَقَالَتِ الْفَلَاسِفَةُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرِّهَا أَيْ لِأَمْرٍ لَوْ وَجَدَهَا لَاسْتَقَرَّ وَهُوَ اسْتِخْرَاجُ الْأَوْضَاعِ الْمُمْكِنَةِ وَهُوَ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ، وَأَجَابَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي ليس لإرادتها وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَتَسْخِيرِهِ إِيَّاهَا، فَإِنْ قِيلَ عَدَّدْتَ الْوُجُوهَ الْكَثِيرَةَ وَمَا ذَكَرْتَ الْمُخْتَارَ، فَمَا الْوَجْهُ الْمُخْتَارُ عِنْدَكَ؟ نَقُولُ الْمُخْتَارُ هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمُسْتَقَرِّ الْمَكَانُ أَيْ تَجْرِي لِبُلُوغِ مُسْتَقَرِّهَا وَهُوَ غَايَةُ الِارْتِفَاعِ وَالِانْخِفَاضِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَشْمَلُ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ وَالْمَجْرَى الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ وَالزَّمَانَ وَهُوَ السَّنَّةُ وَاللَّيْلَ فَهُوَ أَتَمُّ فَائِدَةً، وَقَوْلُهُ: ذلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى جَرْيِ الشَّمْسِ أَيْ ذَلِكَ الْجَرْيُ تَقْدِيرُ اللَّهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إلى المستقر أي لمستقر لها وذلك الْمُسْتَقَرُّ تَقْدِيرُ اللَّهِ وَالْعَزِيزُ الْغَالِبُ وَهُوَ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ يَغْلِبُ، وَالْعَلِيمُ كَامِلُ الْعِلْمِ أَيِ الَّذِي قَدَرَ عَلَى إِجْرَائِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَنْفَعِ وَعَلِمَ الْأَنْفَعَ فَأَجْرَاهَا عَلَى ذَلِكَ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ الشَّمْسَ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ كُلَّ يَوْمٍ تَمُرُّ عَلَى مُسَامَتَةِ شَيْءٍ لَمْ تَمُرَّ مِنْ أَمْسِهَا عَلَى تِلْكَ الْمُسَامَتَةِ، وَلَوْ قَدَّرَ اللَّهُ مُرُورَهَا عَلَى مُسَامَتَةٍ وَاحِدَةٍ لَاحْتَرَقَتِ الْأَرْضُ الَّتِي هِيَ مُسَامِتَةٌ لِمَمَرِّهَا وَبَقِيَ الْمَجْمُوعُ مُسْتَوْلِيًا عَلَى الْأَمَاكِنِ الْأُخَرِ فَقَدَّرَ اللَّهُ لَهَا بُعْدًا لِتَجَمُّعِ الرُّطُوبَاتِ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ وَالْأَشْجَارِ فِي زَمَانِ الشِّتَاءِ ثُمَّ قَدَّرَ قُرْبَهَا بِتَدْرِيجٍ لتخريج النَّبَاتُ وَالثِّمَارُ مِنَ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ وَتَنْضُجُ وَتُجَفَّفُ، ثُمَّ تَبْعُدُ لِئَلَّا يَحْتَرِقَ وَجْهُ الْأَرْضِ وَأَغْصَانُ الْأَشْجَارِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لَهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ طُلُوعًا وَفِي كُلِّ لَيْلَةٍ غُرُوبًا لِئَلَّا تَكِلَّ الْقُوَى وَالْأَبْصَارُ بِالسَّهَرِ وَالتَّعَبِ وَلَا يَخْرُبُ الْعَالَمُ بِتَرْكِ الْعِمَارَةِ بِسَبَبِ الظُّلْمَةِ الدَّائِمَةِ، الثَّالِثُ: جَعَلَ سَيْرَهَا أَبْطَأَ مِنْ سَيْرِ الْقَمَرِ وَأَسْرَعَ مِنْ سَيْرِ زُحَلَ لِأَنَّهَا كَامِلَةُ النُّورِ فَلَوْ كَانَتْ بَطِيئَةَ السَّيْرِ لَدَامَتْ زَمَانًا كَثِيرًا فِي مُسَامَتَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَتَحْرِقُهُ، وَلَوْ كانت سريعة السير لما حصل لَهَا لُبْثٌ بِقَدْرِ مَا يُنْضِجُ الثِّمَارَ فِي بقعة واحدة. ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 39] وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ لَفْظٍ يَتِمُّ بِهِ مَعْنَى الْكَلَامِ لِأَنَّ الْقَمَرَ لَمْ يَجْعَلْ نَفْسَهُ مَنَازِلَ فَالْمَعْنَى أَنَّا قَدَّرْنَا سَيْرَهُ مَنَازِلَ وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْهُ، وَالْقَمَرُ قَدَّرْنَاهُ ذَا مَنَازِلَ لِأَنَّ ذَا الشَّيْءِ قَرِيبٌ مِنَ الشَّيْءِ وَلِهَذَا جَازَ قَوْلُ الْقَائِلِ عِيشَةٌ رَاضِيَةٌ لِأَنَّ ذَا الشَّيْءِ كَالْقَائِمِ بِهِ الشَّيْءُ فَأَتَوْا بِلَفْظِ الْوَصْفِ.

[سورة يس (36) : آية 40]

وَقَوْلُهُ: حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ أَيْ رَجَعَ فِي الدِّقَّةِ إِلَى حَالَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا مِنْ قَبْلُ. وَالْعُرْجُونُ مِنَ الِانْعِرَاجِ يُقَالُ لِعُودِ الْعَذْقِ عُرْجُونٌ، وَالْقَدِيمُ الْمُتَقَادِمُ الزَّمَانِ، قِيلَ إِنَّ مَا غَبَرَ عَلَيْهِ سَنَةٌ فَهُوَ قَدِيمٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ بِعَيْنِهَا لَا تُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ إِطْلَاقِ الْقَدِيمِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْعَادَةُ، حَتَّى لَا يُقَالَ لِمَدِينَةٍ بُنِيَتْ مِنْ سَنَةٍ وَسَنَتَيْنِ إِنَّهَا بِنَاءٌ قَدِيمٌ أَوْ هِيَ قَدِيمَةٌ/ وَيُقَالُ لِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ إِنَّهُ قَدِيمٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَنَةٌ، وَلِهَذَا جَازَ أَنْ يُقَالَ بَيْتٌ قَدِيمٌ وَبِنَاءٌ قَدِيمٌ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ فِي الْعَالَمِ إِنَّهُ قَدِيمٌ، لِأَنَّ الْقِدَمَ فِي الْبَيْتِ وَالْبِنَاءِ يَثْبُتُ بِحُكْمِ تَقَادُمِ الْعَهْدِ وَمُرُورِ السِّنِينَ عَلَيْهِ، وَإِطْلَاقُ الْقَدِيمِ عَلَى الْعَالَمِ لَا يُعْتَادُ إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا أول له ولا سابق عليه. ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 40] لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) إِشَارَةً إِلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ خُلِقَ «1» عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ، فَالشَّمْسُ لَمْ تَكُنْ تَصْلُحُ لَهَا سُرْعَةُ الْحَرَكَةِ بِحَيْثُ تُدْرِكُ الْقَمَرَ وَإِلَّا لَكَانَ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ صَيْفٌ وَشِتَاءٌ فَلَا تُدْرَكُ الثِّمَارُ وَقَوْلُهُ: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ إِنَّ سُلْطَانَ اللَّيْلِ وَهُوَ الْقَمَرُ لَيْسَ يَسْبِقُ الشَّمْسَ وَهِيَ سُلْطَانُ النَّهَارِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارَ أَيِ اللَّيْلُ لَا يَدْخُلُ وَقْتَ النَّهَارِ وَالثَّانِي بَعِيدٌ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ إِيضَاحًا لِلْوَاضِحِ وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ إِنْ أُرِيدَ بِهِ مَا بَيَّنْتُهُ وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ أَنَّ الْقَمَرَ إِذَا كَانَ عَلَى أُفُقِ الْمَشْرِقِ أَيَّامَ الِاسْتِقْبَالِ تَكُونُ الشَّمْسُ فِي مُقَابَلَتِهِ عَلَى أُفُقِ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ إِنَّ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ يَطْلُعُ الْقَمَرُ وَعِنْدَ طُلُوعِهَا يَغْرُبُ الْقَمَرُ، كَأَنَّ لَهَا حَرَكَةً وَاحِدَةً مَعَ أَنَّ الشَّمْسَ تَتَأَخَّرُ عَنِ الْقَمَرِ فِي لَيْلَةٍ مِقْدَارًا ظَاهِرًا فِي الْحِسِّ، فَلَوْ كَانَ لِلْقَمَرِ حَرَكَةٌ وَاحِدَةٌ بِهَا يَسْبِقُ الشَّمْسَ وَلَا تُدْرِكُهُ الشَّمْسُ وَلِلشَّمْسِ حَرَكَةٌ وَاحِدَةٌ بِهَا تَتَأَخَّرُ عَنِ الْقَمَرِ وَلَا تُدْرِكُ الْقَمَرَ لَبَقِيَ الْقَمَرُ وَالشَّمْسُ مُدَّةً مَدِيدَةً فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ حَرَكَةَ الشَّمْسِ كُلَّ يَوْمٍ دَرَجَةٌ فَخَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَمِيعِ الْكَوَاكِبِ حَرَكَةً أُخْرَى غَيْرَ حَرَكَةِ الشَّهْرِ وَالسَّنَةِ، وَهِيَ الدَّوْرَةُ الْيَوْمِيَّةُ وَبِهَذِهِ الدَّوْرَةِ لَا يَسْبِقُ كَوْكَبٌ كَوْكَبًا أَصْلًا، لِأَنَّ كُلَّ كَوْكَبٍ مِنَ الْكَوَاكِبِ إِذَا طَلَعَ غَرُبَ مُقَابِلُهُ وَكُلَّمَا تَقَدَّمَ كَوْكَبٌ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ الْكَوْكَبُ الْآخَرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ الْكَوْكَبُ، فبهذه الحركة لا يسبق القمر الشَّمْسَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ سُلْطَانَ اللَّيْلِ لَا يَسْبِقُ سُلْطَانَ النَّهَارِ فَالْمُرَادُ مِنَ اللَّيْلِ الْقَمَرُ وَمِنَ النَّهَارِ الشَّمْسُ، فَقَوْلُهُ: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ إِشَارَةٌ إِلَى حَرَكَتِهَا الْبَطِيئَةِ الَّتِي تُتِمُّ الدَّوْرَةَ فِي سَنَةٍ وَقَوْلُهُ: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ إِشَارَةٌ إِلَى حَرَكَتِهَا الْيَوْمِيَّةِ الَّتِي بِهَا تَعُودُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَشْرِقِ مَرَّةً أُخْرَى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْحِكْمَةُ فِي إِطْلَاقِ اللَّيْلِ وَإِرَادَةِ سُلْطَانِهِ وَهُوَ الْقَمَرُ، وَمَاذَا يَكُونُ لَوْ قَالَ وَلَا الْقَمَرُ سَابِقُ الشَّمْسِ؟ نَقُولُ لَوْ قَالَ وَلَا الْقَمَرُ سَابِقُ الشَّمْسِ مَا كَانَ يُفْهَمُ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْحَرَكَةِ الْيَوْمِيَّةِ فَكَانَ يُتَوَهَّمُ التَّنَاقُضُ، فَإِنَّ الشَّمْسَ إِذَا كانت لا تدرك القمر والقمر أَسْرَعَ ظَاهِرًا، وَإِذَا قَالَ/ وَلَا الْقَمَرُ سَابِقٌ يُظَنُّ أَنَّ الْقَمَرَ لَا يَسْبِقُ فَلَيْسَ بِأَسْرَعَ، فَقَالَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْحَرَكَةِ الَّتِي بِهَا تَتِمُّ الدَّوْرَةُ فِي مُدَّةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَيَكُونُ لِجَمِيعِ الْكَوَاكِبِ أَوْ عَلَيْهَا طُلُوعٌ وَغُرُوبٌ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ وَقَوْلِهِ:

_ (1) في الطبعة الأميرية «خلقها» وهو تحريف واضح.

وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَلَمْ يَقُلْ وَلَا اللَّيْلُ يَسْبِقُ وَلَا قَالَ مُدْرِكَةُ الْقَمَرِ؟ نَقُولُ الْحَرَكَةُ الْأَوَّلِيَّةُ الَّتِي لِلشَّمْسِ، وَلَا يُدْرَكُ بِهَا الْقَمَرُ مُخْتَصَّةٌ بِالشَّمْسِ، فَجَعَلَهَا كَالصَّادِرَةِ مِنْهَا، وَذُكِرَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ لِأَنَّ صِيغَةَ الْفِعْلِ لَا تُطْلَقُ عَلَى مَنْ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ الْفِعْلُ فَلَا يُقَالُ هُوَ يَخِيطُ وَلَا يَكُونُ يَصْدُرُ مِنْهُ الْخِيَاطَةُ. وَالْحَرَكَةُ الثَّانِيَةُ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِكَوْكَبٍ مِنَ الْكَوَاكِبِ بَلِ الْكُلُّ فِيهَا مشتركة بسبب حركة فلك ليس ذَلِكَ فَلَكًا لِكَوْكَبٍ مِنَ الْكَوَاكِبِ، فَالْحَرَكَةُ لَيْسَتْ كَالصَّادِرَةِ مِنْهُ فَأَطْلَقَ اسْمَ الْفَاعِلِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ صُدُورَ الْفِعْلِ يُقَالُ فُلَانٌ خَيَّاطٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَيَّاطًا، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً [الْأَعْرَافِ: 54] يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرْتُمْ، لِأَنَّ النَّهَارَ إِذَا كَانَ يَطْلُبُ اللَّيْلَ فَاللَّيْلُ سَابِقُهُ، وَقُلْتُمْ إِنَّ قَوْلَهُ: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْتُمْ فَيَكُونُ اللَّيْلُ سَابِقًا وَلَا يَكُونُ سَابِقًا، نقول قد ذكرنا أن المراد بالليل هاهنا سُلْطَانُ اللَّيْلِ وَهُوَ الْقَمَرُ، وَهُوَ لَا يَسْبِقُ الشَّمْسَ بِالْحَرَكَةِ الْيَوْمِيَّةِ السَّرِيعَةِ، وَالْمُرَادُ مِنَ اللَّيْلِ هُنَاكَ نَفْسُ اللَّيْلِ وَكُلُّ وَاحِدٍ لَمَّا كَانَ فِي عَقِيبِ الْآخَرِ فَكَأَنَّهُ طَالِبُهُ، فَإِنْ قِيلَ فلم ذكر هاهنا سابِقُ النَّهارِ وَقَدْ ذَكَرَ هُنَاكَ يَطْلُبُهُ، وَلَمْ يَقُلْ طَالِبُهُ؟ نَقُولُ ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ اللَّيْلِ كواكب اللَّيْلِ، وَهِيَ فِي هَذِهِ الْحَرَكَةِ كَأَنَّهَا لَا حَرَكَةَ لَهَا وَلَا تَسْبِقُ، وَلَا مِنْ شَأْنِهَا أَنَّهَا سَابِقَةٌ، وَالْمُرَادُ هُنَاكَ نَفْسُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمَا زَمَانَانِ وَالزَّمَانُ لَا قَرَارَ لَهُ فَهُوَ يُطْلَبُ حَثِيثًا لِصُدُورِ التَّقَصِّي مِنْهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يُحَقِّقُ مَا ذَكَرْنَا أَيْ لِلْكُلِّ طُلُوعٌ وَغُرُوبٌ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَا يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْحَرَكَةِ وَكُلُّ حَرَكَةٍ فِي فَلَكٍ تَخُصُّهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّنْوِينُ فِي قَوْلِهِ (وَكَلٌّ) عِوَضٌ عَنِ الْإِضَافَةِ مَعْنَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ وَإِسْقَاطُ التَّنْوِينِ لِلْإِضَافَةِ حَتَّى لَا يَجْتَمِعَ التَّعْرِيفُ وَالتَّنْكِيرُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فَلَمَّا سَقَطَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ لَفْظًا رُدَّ التَّنْوِينُ عَلَيْهِ لَفْظًا، وَفِي الْمَعْنَى مُعَرَّفٌ بِالْإِضَافَةِ، فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ يَخْتَلِفُ الْأَمْرُ عِنْدَ الْإِضَافَةِ لَفْظًا وَتَرْكِهَا؟ فَنَقُولُ نَعَمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ كَذَا لَا يَذْهَبُ الْفَهْمُ إِلَى غَيْرِهِمْ فَيُفِيدُ اقْتِصَارَ الْفَهْمِ عَلَيْهِ، فَإِذَا قَالَ كُلُّ كَذَا يَدْخُلُ فِي الْفَهْمِ عُمُومٌ أَكْثَرُ مِنَ الْعُمُومِ عِنْدَ الْإِضَافَةِ «1» ، وَهَذَا كَمَا فِي قَبْلُ وَبَعْدُ إِذَا قُلْتَ افْعَلْ قَبْلَ كَذَا فَإِذَا حَذَفْتَ الْمُضَافَ وَقُلْتَ افْعَلْ قَبْلُ أَفَادَ فَهْمُ الْفِعْلِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ بَيْنَ قَوْلِنَا كُلٌّ مِنْهُمْ وَبَيْنَ قَوْلِنَا كُلُّهُمْ وَبَيْنَ كُلٌّ فَرْقٌ؟ نَقُولُ نَعَمْ عِنْدَ قَوْلِكَ كُلُّهُمْ تُثْبِتُ الْأَمْرَ لِلِاقْتِصَارِ عَلَيْهِمْ، وَعِنْدَ قَوْلِكَ كُلٌّ مِنْهُمْ تُثْبِتُ الْأَمْرَ أَوَّلًا لِلْعُمُومِ، ثُمَّ اسْتَدْرَكْتَ بالتخصيص فقلت منهم، وعند قولك كل تثبت الْأَمْرَ عَلَى الْعُمُومِ وَتَتْرُكُهُ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ كُلٌّ بِمَعْنَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَالْمَذْكُورُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فَكَيْفَ قَالَ: يَسْبَحُونَ؟ نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: مَا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ كُلٌّ لِلْعُمُومِ فَكَأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ كُلِّ كَوْكَبٍ فِي السَّمَاءِ سَيَّارٍ ثَانِيهَا: إِنَّ لَفْظَ كُلٍّ يَجُوزُ أَنْ يُوَحَّدَ نَظَرًا إِلَى كَوْنِهِ لَفْظًا مُوَحَّدًا غَيْرَ مُثَنًّى وَلَا مَجْمُوعٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ لِكَوْنِ مَعْنَاهُ جَمْعًا، وَأَمَّا التَّثْنِيَةُ فَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا اللَّفْظُ وَلَا الْمَعْنَى فَعَلَى هَذَا يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ زَيْدٌ وَعَمْرٌو كُلٌّ جَاءَ أَوْ كُلٌّ جَاءُوا وَلَا يَقُولُ كُلٌّ جَاءَا بِالتَّثْنِيَةِ وَثَالِثُهَا: لَمَّا قَالَ: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَالْمُرَادُ مَا فِي اللَّيْلِ مِنَ الْكَوَاكِبِ قَالَ: يَسْبَحُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْفَلَكُ مَاذَا؟ نَقُولُ الْجِسْمُ الْمُسْتَدِيرُ أَوِ السَّطْحُ الْمُسْتَدِيرُ أَوِ الدَّائِرَةُ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ فَلَكَةَ الْمِغْزَلِ سُمِّيَتْ فَلَكَةً لِاسْتِدَارَتِهَا وَفَلَكَةُ الْخَيْمَةِ هِيَ الْخَشَبَةُ الْمُسَطَّحَةُ الْمُسْتَدِيرَةُ الَّتِي تُوضَعُ عَلَى رَأْسِ الْعَمُودِ لِئَلَّا يُمَزِّقَ الْعَمُودُ الْخَيْمَةَ وَهِيَ صَفْحَةٌ مُسْتَدِيرَةٌ، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هذا تكون السماء مستديرة. وقد

_ (1) في طبعة بولاق هذا «للافاضافة» وهو خطأ واضح.

اتَّفَقَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ السَّمَاءَ مَبْسُوطَةٌ لَيْسَ لَهَا أَطْرَافٌ عَلَى جِبَالٍ وَهِيَ كَالسَّقْفِ الْمُسْتَوِي. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ [الطُّورِ: 5] نَقُولُ لَيْسَ فِي النُّصُوصِ مَا يَدُلُّ دَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى كَوْنِ السَّمَاءِ مَبْسُوطَةً غَيْرَ مُسْتَدِيرَةٍ، وَدَلَّ الدَّلِيلُ الْحِسِّيُّ عَلَى كَوْنِهَا مُسْتَدِيرَةً فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ السقف المقبب لا يخرج عن كَوْنِهِ سَقْفًا، وَكَذَلِكَ كَوْنُهَا عَلَى جِبَالٍ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ الْحِسِّيُّ فَوُجُوهٌ أَحَدُهَا: إِنَّ مَنْ أَمْعَنَ فِي السَّيْرِ فِي جَانِبِ الْجَنُوبِ يَظْهَرُ لَهُ كَوَاكِبُ مِثْلُ سُهَيْلٍ وَغَيْرُهُ ظُهُورًا أَبَدِيًّا حَتَّى أَنَّ مَنْ يَرْصُدُ يَرَاهُ دَائِمًا وَيَخْفَى عَلَيْهِ بَنَاتُ نَعْشٍ وَغَيْرُهَا خَفَاءً أَبَدِيًّا، وَلَوْ كَانَ السَّمَاءُ مُسَطَّحًا مُسْتَوِيًا لَبَانَ الْكُلُّ لِلْكُلِّ بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ مُسْتَدِيرًا فَإِنَّ بَعْضَهُ حِينَئِذٍ يَسْتَتِرُ بِأَطْرَافِ الْأَرْضِ فَلَا يُرَى الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا كَانَتْ مُقَارِنَةً لِلْحَمَلِ «1» مَثَلًا فَإِذَا غَرَبَتْ ظَهَرَ لَنَا كَوْكَبٌ فِي مِنْطَقَةِ الْبُرُوجِ مِنَ الْحَمَلِ إِلَى الْمِيزَانِ ثُمَّ فِي قَلِيلٍ يَسْتَتِرُ الْكَوْكَبُ الَّذِي كَانَ غُرُوبُهُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَيَظْهَرُ الْكَوْكَبُ الَّذِي كَانَ طُلُوعُهُ بعد طلوع الشمس وبالعكس وهو دَلِيلٌ ظَاهِرٌ وَإِنْ بُحِثَ فِيهِ يَصِيرُ قَطْعِيًّا الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الشَّمْسَ قَبْلَ طُلُوعِهَا وَبَعْدَ غروبها يظهر ضوءها وَيَسْتَنِيرُ الْجَوُّ بَعْضَ الِاسْتِنَارَةِ ثُمَّ يَطْلُعُ وَلَوْلَا أَنَّ بَعْضَ السَّمَاءِ مُسْتَتِرٌ بِالْأَرْضِ وَهُوَ مَحَلُّ الشَّمْسِ فَلَا يُرَى جِرْمُهَا وَيَنْتَشِرُ نُورُهَا لَمَّا كَانَ كَذَا بَلْ كَانَ عِنْدَ إِعَادَتِهَا إِلَى السَّمَاءِ يَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ جِرْمُهَا وَنُورُهَا مَعًا لِكَوْنِ السَّمَاءِ مُسْتَوِيَةً حِينَئِذٍ مَكْشُوفَةً كُلُّهَا لِكُلِّ أَحَدٍ الرَّابِعُ: الْقَمَرُ إِذَا انْكَسَفَ فِي سَاعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ فِي جَانِبِ الشَّرْقِ، ثُمَّ سُئِلَ أَهْلُ الْغَرْبِ عَنْ وَقْتِ الْكُسُوفِ أَخْبَرُوا عَنِ الْخُسُوفِ فِي سَاعَةٍ أُخْرَى قَبْلَ تِلْكَ السَّاعَةِ الَّتِي رَأَى أَهْلُ الْمَشْرِقِ فِيهَا الْخُسُوفَ لَكِنَّ الْخُسُوفَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ نَوَاحِي الْعَالَمِ وَاللَّيْلُ مُخْتَلِفٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّيْلَ فِي جَانِبِ الْمَشْرِقِ قَبْلَ اللَّيْلِ فِي جَانِبِ الْمَغْرِبِ فَالشَّمْسُ غَرَبَتْ مِنْ عِنْدِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَهِيَ بَعْدُ فِي السَّمَاءِ ظَاهِرَةٌ لِأَهْلِ الْمَغْرِبِ فَعُلِمَ اسْتِتَارُهَا بِالْأَرْضِ وَلَوْ كَانَتْ مُسْتَوِيَةً/ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ الْخَامِسُ: لَوْ كَانَتِ السَّمَاءُ مَبْسُوطَةً لكان القمر عند ما يكون فوق رءوسنا على المسامتة أقرب إلينا وعند ما يَكُونُ عَلَى الْأُفُقِ أَبْعَدَ مِنَّا لِأَنَّ الْعُمُومَ أَصْغَرُ مِنَ الْقُطْرِ وَالْوَتَدِ، وَكَذَلِكَ فِي الشَّمْسِ وَالْكَوَاكِبِ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُرَى أَكْبَرَ لِأَنَّ الْقَرِيبَ يُرَى أَكْبَرَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَهُوَ عَلَى الْأُفُقِ عَلَى سطح السماء وعند ما يَكُونُ عَلَى مُسَامَتَةِ رُؤُوسِنَا فِي بَحْرِ السَّمَاءِ غَائِرًا فِيهَا لِأَنَّ الْخَرْقَ جَائِزٌ عَلَى السَّمَاءِ، نَقُولُ لَا تَنَازُعَ فِي جَوَازِ الْخَرْقِ لَكِنَّ الْقَمَرَ حِينَئِذٍ تَكُونُ حَرَكَتُهُ فِي دَائِرَةٍ لَا عَلَى خَطٍّ مُسْتَقِيمٍ وَهُوَ غَرَضُنَا وَلِأَنَّا نَقُولُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْقَمَرُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَهُوَ فِي مُنْتَصَفِ نَهَارِهِمْ أَكْبَرَ مِقْدَارًا لِكَوْنِهِ قَرِيبًا مِنْ رُؤُوسِهِمْ ضَرُورَةَ فَرْضِهِ عَلَى سَطْحِ السَّمَاءِ الْأَدْنَى وَعِنْدَنَا فِي بَحْرِ السَّمَاءِ، وَبِالْجُمْلَةِ الدَّلَائِلُ كَثِيرَةٌ. وَالْإِكْثَارُ مِنْهَا يَلِيقُ بِكُتُبِ الْهَيْئَةِ الَّتِي الْغَرَضُ مِنْهَا بَيَانُ ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَلَيْسَ الْغَرَضُ فِي التَّفْسِيرِ بَيَانَ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ يَكْفِي فِي بَيَانِ كَوْنِهِ فَلَكًا مُسْتَدِيرًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ كَوْكَبٍ فَلَكًا، فَمَا قَوْلُكُ فيه؟ نقول: أما السبعة السيارة» «2» فلكل

_ (1) الحمل من بروج الشمس الاثني عشر وقد نظمت في قول الشاعر: حمل الثور جوزة السرطان ... ورعى الليث سنبل الميزان ورمى عقرب بقوس لجدي ... نزح الدلو بركة الحيتان. (2) نظم بعضهم السبعة السيارة في بيت وهو: زحل شرى مريخه من شمسه ... فتزاهرت لعطارد الأقمار والمراد من قوله شرى كوكب المشترى: ولم يكن معروفا غير هذه السبعة عند القدماء، وقد اكتشف المحدثون كواكب أخرى جديدة منها نبتون وأورانوس.

فَلَكٍ، وَأَمَّا الْكَوَاكِبُ الْأُخَرُ فَقِيلَ لِلْكُلٍّ فَلَكٌ وَاحِدٌ، وَلْنَذْكُرْ كَلَامًا مُخْتَصَرًا فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الْهَيْئَةِ حَيْثُ وَجَبَ الشُّرُوعُ بِسَبَبِ تَفْسِيرِ الْفَلَكِ فَنَقُولُ: قِيلَ إِنَّ لِلْقَمَرِ فَلَكًا لِأَنَّ حَرَكَتَهُ أَسْرَعُ مِنْ حَرَكَةِ السِّتَّةِ الْبَاقِيَةِ، وَكَذَلِكَ لِكُلِّ كَوْكَبٍ فَلَكٌ لِاخْتِلَافِ سَيْرِهَا بِالسُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ وَالْمَمَرِّ، فَإِنَّ بَعْضَهَا يَمُرُّ فِي دَائِرَةٍ وَبَعْضُهَا فِي دَائِرَةٍ أُخْرَى حَتَّى فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ يَمُرُّ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَلَا يَكْسِفُهُ وَفِي بَعْضِ الأوقات يكسفه فلكل كوكب فلك، ثم إن أَهْلُ الْهَيْئَةِ قَالُوا فَكُلُّ فَلَكٍ هُوَ جِسْمُ كُرَةٍ وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ بَلِ اللَّازِمُ أَنْ نَقُولَ لِكُلِّ فَلَكٍ هُوَ كُرَةٌ أَوْ صَفْحَةٌ أَوْ دَائِرَةٌ يَفْعَلُهَا الْكَوْكَبُ بِحَرَكَتِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ الْكَوْكَبَ فِي كُرَةٍ يَكُونُ وُجُودُهُ فِيهَا كَوُجُودِ مِسْمَارٍ مُغْرَقٍ فِي ثِخْنِ كُرَةٍ مُجَوَّفَةٍ وَيُدِيرُ الْكُرَةَ فَيَدُورُ الْكَوْكَبُ بِدَوَرَانِ الْكُرَةِ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَرْبَابِ الْهَيْئَةِ حَرَكَةُ الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَكَذَلِكَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ حَلْقَةً يُحِيطُ بِهَا أَرْبَعُ سُطُوحٍ مُتَوَازِيَةٍ بِهَا فَإِنَّهَا أَرْبَعُ دَوَائِرَ مُتَوَازِيَةٍ كَحَجَرِ الرَّحَى إِذَا قَوَّرْنَاهُ وَأَخْرَجْنَا مِنْ وَسَطِهِ طاحونة وطواحين الْيَدِ وَيَبْقَى مِنْهُ حَلْقَةٌ يُحِيطُ بِهَا سُطُوحٌ وَدَوَائِرُ كَمَا ذَكَرْنَا وَتَكُونُ الْكَوَاكِبُ فِيهِ وَهُوَ فَلَكٌ فَتَدُورُ تِلْكَ الْحَلْقَةُ وَتُدِيرُ الْكَوْكَبَ، وَالْحَرَكَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ كَانَتْ مَقْدُورَةً لَكِنْ لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِمَّنْ يُعْتَبَرُ وَكَذَلِكَ هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الْكَوَاكِبَ بِحَيْثُ تَشُقُّ السَّمَاءَ فَتَجْعَلُ دَائِرَةً مُتَوَهَّمَةً كَمَا لَوْ فرضت سمكة في الماء على وجهه تَنْزِلُ مِنْ جَانِبٍ وَتَصْعَدُ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ عَلَى اسْتِدَارَةٍ وَهَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ حَرَكَةَ الْكَوَاكِبِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَأَرْبَابُ الْهَيْئَةِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَقَالُوا لَا تَجُوزُ الْحَرَكَةُ/ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّ الْكَوْكَبَ لَهُ جِرْمٌ فَإِذَا شَقَّ السَّمَاءَ وَتَحَرَّكَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ دَوَرَانِهِ يَنْشَقُّ وَيَلْتَئِمُ كَالْمَاءِ تُحَرِّكُهُ السَّمَكَةُ أَوْ لَا يَنْشَقُّ وَلَا يَلْتَئِمُ، بَلْ هُنَاكَ خَلَاءٌ يَدُورُ الْكَوْكَبُ فِيهِ، لَكِنَّ الْخَلَاءَ مُحَالٌ وَالسَّمَاءُ لَا تَقْبَلُ الشَّقَّ وَالِالْتِئَامَ، هَذَا مَا اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ، وَنَحْنُ نَقُولُ كِلَاهُمَا جَائِزٌ. أما الخلاء فلا يحتاج إليه هاهنا، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَسْبَحُونَ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ بِشَقٍّ وَالْتِئَامٍ، وَأَمَّا امْتِنَاعُ الشَّقِّ وَالِالْتِئَامِ فَلَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَيْهِ وَشُبْهَتُهُمْ فِي الْمُحَدِّدِ لِلْجِهَاتِ وَهِيَ هُنَاكَ ضَعِيفَةٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَالُوا عَلَى مَا بَيَّنَّا تَخْرُجُ الْحَرَكَاتُ وَبِهِ عَلِمْنَا الْكُسُوفَاتِ، وَلَوْ كَانَ لَهَا حَرَكَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ لَمَا وَجَبَ الْكُسُوفُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُحْكَمُ فِيهِ بِالْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ لِلشَّمْسِ فَلَكَانِ أَحَدُهُمَا: مَرْكَزُهُ مَرْكَزُ الْعَالَمِ ثَانِيهِمَا: مَرْكَزُهُ فَوْقَ مَرْكَزِ الْعَالَمِ وَهُوَ مِثْلُ بَيَاضِ الْبَيْضِ بَيْنَ صُفْرَتِهِ وَبَيْنَ الْقَيْضِ وَالشَّمْسُ كُرَةٌ فِي الْفَلَكِ الْخَارِجِ الْمَرْكَزِ تَدُورُ بِدَوَرَانِهِ فِي السَّنَةِ دَوْرَةً، فَإِذَا جُعِلَتْ فِي الْجَانِبِ الْأَعْلَى تَكُونُ بَعِيدَةً عَنِ الْأَرْضِ فَيُقَالُ إِنَّهَا فِي الْأَوْجِ، وَإِذَا حَصَلَتْ فِي الْجَانِبِ الْأَسْفَلِ تَكُونُ قَرِيبَةً مِنَ الْأَرْضِ فَتَكُونُ فِي الْحَضِيضِ، وَأَمَّا الْقَمَرُ فَلَهُ فَلَكٌ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَأَفْلَاكِهِ وَفَلَكٌ آخَرُ هُوَ بَعْضٌ مِنَ الْفَلَكِ الْأَوَّلِ مُحِيطٌ بِهِ كَالْقِشْرَةِ الْفَوْقَانِيَّةِ مِنَ الْبَصَلَةِ وَفَلَكٌ ثَالِثٌ فِي الْفَلَكِ التَّحْتَانِيِّ كَمَا كَانَ فِي الْفَلَكِ الْخَارِجِ الْمَرْكَزِ فِي فَلَكِ الشَّمْسِ وَفِي الْفَلَكِ الْخَارِجِ الْمَرْكَزِ كُرَةٌ مِثْلُ جِرْمِ الشَّمْسِ وَفِي الْكُرَةِ الْقَمَرُ مَرْكُوزٌ كَمِسْمَارٍ فِي كُرَةٍ مُغْرَقٍ فِيهَا وَيُسَمَّى الْفَلَكُ الْفَوْقَانِيُّ الْجَوْزَهْرَ وَالْخَارِجُ الْمَرْكَزِ الْفَلَكَ الْحَامِلَ وَالْفَلَكُ التَّحْتَانِيُّ الَّذِي فِيهِ الْفَلَكُ الْحَامِلُ الْفَلَكَ الْمَائِلَ وَالْكُرَةُ الَّتِي فِي الْحَامِلِ تُسَمَّى فَلَكَ التَّدْوِيرِ، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْكَوَاكِبِ الْخَمْسَةِ الْبَاقِيَةِ مِنَ السَّيَّارَاتِ غَيْرَ أَنَّ الْفَوْقَانِيَّ الَّذِي سَمَّوْهُ فلك الْجَوْزَهْرَ لَمْ يُثْبِتُوهُ لَهَا فَأَثْبَتُوا أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ فَلَكًا، الْفَلَكَ الْأَعْلَى وَفَلَكَ الْبُرُوجِ، وَلِزُحَلَ ثَلَاثَةُ أَفْلَاكٍ الْمُمَثِّلُ وَالْحَامِلُ وَفَلَكُ التَّدْوِيرِ، وَلِلْمُشْتَرِي ثَلَاثَةٌ كَمَا لِزُحَلَ، وَلِلْمِرِّيخِ كَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ، وَلِلشَّمْسِ فَلَكَانِ الممثل والخارج المركز، وَلِلزُّهْرَةِ ثَلَاثَةُ أَفْلَاكٍ كَمَا لِلْعُلْوِيَّاتِ، وَلِعُطَارِدٍ أَرْبَعَةُ أَفْلَاكٍ الثَّلَاثَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْعُلْوِيَّاتِ، وَفَلَكٌ آخَرُ يُسَمُّونَهُ الْمُدِيرَ، وَلِلْقَمَرِ أَرْبَعَةُ أَفْلَاكٍ وَالرَّابِعُ يُسَمُّونَهُ فَلَكَ الْجَوْزَهْرَ وَالْمُدِيرُ لَيْسَ كَالْجَوْزَهْرِ لِأَنَّ الْمُدِيرَ غَيْرُ مُحِيطٍ بِأَفْلَاكِ عُطَارِدٍ

[سورة يس (36) : آية 41]

وَفَلَكَ الْجَوْزَهْرِ مُحِيطٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ فِي الْخَمْسَةِ فِي كُلِّ فَلَكٍ فَلَكَيْنِ آخَرَيْنِ وَجَعَلَ تَدْوِيرَاتِهَا مُرَكَّبَةً مِنْ ثَلَاثَةِ أَفْلَاكٍ، وَقَالُوا إِنَّ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَجْرَامِ تَخْتَلِفُ حَرَكَاتُ الْكَوَاكِبِ وَيَكُونُ لها عروض ورجوع واستقامة وبطء وسرعة. هذا كَلَامُهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِاقْتِنَاصِ وَالِاقْتِصَارِ وَنَحْنُ نَقُولُ لَا يَبْعُدُ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ خَلْقُ مِثْلِ ذَلِكَ، وَأَمَّا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ فَلَا نُسَلِّمُ وَرُجُوعُهَا وَاسْتِقَامَتُهَا بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ عَرْضُهَا وَطُولُهَا وَبُطْؤُهَا وَسُرْعَتُهَا وَقُرْبُهَا وَبُعْدُهَا هَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْمُنَجِّمُونَ الْكَوَاكِبُ أَحْيَاءٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَسْبَحُونَ وَذَلِكَ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْعَاقِلِ، نَقُولُ إِنْ أَرَدْتُمُ الْقَدْرَ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ التَّسْبِيحُ فَنَقُولُ بِهِ لِأَنَّهُ مَا مِنْ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِلَّا وَهُوَ يُسَبِّحُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَإِنْ أَرَدْتُمْ شَيْئًا آخَرَ فَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ وَالِاسْتِعْمَالُ لَا يَدُلُّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْأَصْنَامِ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ [الصافات: 92] وقوله: [ألا تنطقون] «1» . / ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 41] وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَلَهَا مُنَاسَبَةٌ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَنَّ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ وَهِيَ مَكَانُ الْحَيَوَانَاتِ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ بَلْ جَعَلَ لِلْإِنْسَانِ طَرِيقًا يُتَّخَذُ مِنَ الْبَحْرِ خَيْرًا وَيَتَوَسَّطُهُ أَوْ يَسِيرُ فِيهِ كَمَا يَسِيرُ فِي الْبَرِّ وَهَذَا حِينَئِذٍ كَقَوْلِهِ: وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الْإِسْرَاءِ: 70] وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [يس: 42] إِذَا فَسَّرْنَاهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْإِبِلُ فَإِنَّهَا كَسُفُنِ الْبَرَارِيِّ وَثَانِيهِمَا: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ سِبَاحَةَ الْكَوَاكِبِ فِي الْأَفْلَاكِ وَذَكَرَ مَا هُوَ مِثْلُهُ وَهُوَ سِبَاحَةُ الْفُلْكِ فِي الْبِحَارِ، وَلَهَا وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهِيَ أَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ مِنْهَا ضَرُورِيَّةٌ وَمِنْهَا نَافِعَةٌ وَالْأَوَّلُ لِلْحَاجَةِ وَالثَّانِي لِلزِّينَةِ فَخَلْقُ الْأَرْضِ وَإِحْيَاؤُهَا مِنَ الْقَبِيلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهَا الْمَكَانُ الَّذِي لَوْلَاهُ لَمَا وُجِدَ الْإِنْسَانُ وَلَوْلَا إِحْيَاؤُهَا لَمَا عَاشَ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ فِي قَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ [يس: 37] أَيْضًا مِنَ الْقَبِيلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ الزَّمَانُ الَّذِي لَوْلَاهُ لَمَا حَدَثَ الْإِنْسَانُ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَحَرَكَتُهُمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لَمَا عَاشَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مِنَ الْقَبِيلِ الْأَوَّلِ آيَتَيْنِ ذَكَرَ مِنَ الْقَبِيلِ الثَّانِي وَهُوَ الزِّينَةُ آيَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: الْفُلْكُ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ فَيُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ [فَاطِرٍ: 12] وَثَانِيَتُهُمَا: الدَّوَابُّ الَّتِي هِيَ فِي الْبَرِّ كَالْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ فِي قَوْلِهِ: وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [يس: 42] فَإِنَّ الدَّوَابَّ زِينَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [النَّحْلِ: 8] وَقَالَ: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْلِ: 6] فَيَكُونُ اسْتِدْلَالًا عَلَيْهِمْ بِالضَّرُورِيِّ وَالنَّافِعِ لَا يُقَالُ بِأَنَّ النَّافِعَ ذَكَرَهُ في قوله: جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ [يس: 34] فَإِنَّهَا لِلزِّينَةِ لِأَنَّا نَقُولُ ذَلِكَ حَصَلَ تَبَعًا لِلضَّرُورِيِّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ مُنْبِتَةً لِدَفْعِ الضَّرُورَةِ وَأَنْزَلَ الْمَاءَ عَلَيْهَا كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ النَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْفُلْكُ فَمَقْصُودٌ لَا تَبَعٌ، ثُمَّ إِذَا عُلِمَتِ الْمُنَاسَبَةُ فَفِي الْآيَاتِ أَبْحَاثٌ لغوية ومعنوية: أما اللغوية: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ الذُّرِّيَّةُ هُمُ الْآبَاءُ أَيْ حَمَلْنَا آبَاءَكُمْ فِي الْفُلْكِ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلتَّعْرِيفِ أَيْ فُلْكِ نُوحٍ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ [هُودٍ: 37] وَمَعْلُومٌ عِنْدَ الْعَرَبِ فَقَالَ الْفُلْكَ، هذا قول بعضهم،

_ (1) لم نعثر عليها في المعجم وربما يقصد الآية 63 و 65 من سورة الأنبياء.

وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَعَلَى أَنَّ الذُّرِّيَّةَ لَا تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْوَلَدِ وَعَلَى هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْمَعْنَى، فَنَقُولُ الْفُلْكُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْفُلْكَ الْمُعَيَّنَ الَّذِي كَانَ لِنُوحٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْجِنْسَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ [الزُّخْرُفِ: 12] وَقَالَ تَعَالَى: وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ [فَاطِرٍ: 12] وَقَالَ تَعَالَى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ [الْعَنْكَبُوتِ: 65] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنِ اسْتِعْمَالِ لَامِ التَّعْرِيفِ فِي الْفُلْكِ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ سَفِينَةَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّا حَمَلْنَا أَوْلَادَكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي ذَلِكَ الْفُلْكِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا بَقِيَ لِلْآدَمِيِّ نَسْلٌ وَلَا عَقِبٌ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: / حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ بَدَلُ قَوْلِهِ: حَمَلْنَاهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ النِّعْمَةِ أَيْ لَمْ تَكُنِ النِّعْمَةُ مُقْتَصِرَةً عَلَيْكُمْ بَلْ مُتَعَدِّيَةً إِلَى أَعْقَابِكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، هَذَا مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنَّ يُقَالَ عَلَى هَذَا إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَصَّ الذُّرِّيَّةَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ الْمَوْجُودِينَ كَانُوا كُفَّارًا لَا فَائِدَةَ فِي وُجُودِهِمْ فَقَالَ: حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ أَيْ لَمْ يَكُنِ الْحَمْلُ حَمْلًا لَهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ حَمْلًا لِمَا فِي أَصْلَابِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا أَنَّ مَنْ حَمَلَ صُنْدُوقًا لَا قِيمَةَ لَهُ وَفِيهِ جَوَاهِرُ إِذَا قِيلَ لَهُ لِمَ تَحْمِلُ هَذَا الصُّنْدُوقَ وَتَتْعَبُ فِي حَمْلِهِ وَهُوَ لَا يُشْتَرَى بِشَيْءٍ؟ يَقُولُ: لَا أَحْمِلُ الصُّنْدُوقَ وَإِنَّمَا أَحْمِلُ مَا فِيهِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذُّرِّيَّةِ الْجِنْسُ مَعْنَاهُ حَمَلْنَا أَجْنَاسَهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ وَلَدَ الْحَيَوَانِ مِنْ جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ وَالذُّرِّيَّةُ تُطْلَقُ عَلَى الْجِنْسِ وَلِهَذَا يُطْلَقُ عَلَى النِّسَاءِ نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الذَّرَارِيِّ، أَيِ النِّسَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَإِنْ كَانَتْ صِنْفًا غَيْرَ صِنْفِ الرَّجُلِ لَكِنَّهَا مِنْ جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ يُقَالُ ذَرَارِينَا أَيْ أَمْثَالُنَا فَقَوْلُهُ: أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ أَيْ أَمْثَالَهُمْ وَآبَاؤُهُمْ حِينَئِذٍ تَدْخُلُ فِيهِمْ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمْ عَائِدٌ إلى العباد حيث قال: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ [يس: 30] وقال بعد ذلك: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ [يس: 33] وقال: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ [يس: 37] وَقَالَ: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ إِذَا عُلِمَ هَذَا فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَآيَةٌ لِلْعِبَادِ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّاتِ الْعِبَادِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالضَّمِيرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَشْخَاصًا مُعَيَّنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاءِ: 29] ويريد بعضكم بَعْضًا، وَكَذَلِكَ إِذَا تَقَاتَلَ قَوْمٌ وَمَاتَ الْكُلُّ فِي الْقِتَالِ، يُقَالُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ هُمْ قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ، فَهُمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَكُونُ عَائِدًا إِلَى الْقَوْمِ وَلَا يَكُونُ الْمُرَادُ أَشْخَاصًا مُعَيَّنِينَ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَتَلَ بَعْضًا، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَيْ آيَةٌ لِكُلِّ بَعْضٍ منهم أنا حملنا ذرية كل بَعْضٍ مِنْهُمْ، أَوْ ذُرِّيَّةَ بَعْضٍ مِنْهُمْ. وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ الْفُلْكِ فَهُوَ أَظْهَرُ، لِأَنَّ سَفِينَةَ نُوحٍ لَمْ تَكُنْ بِحَضْرَتِهِمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا مَنْ حُمِلَ فِيهَا، فَأَمَّا جِنْسُ الْفُلْكِ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سَفِينَةِ نُوحٍ: وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: 15] أَيْ بِوُجُودِ جِنْسِهَا وَمِثْلِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لُقْمَانَ: 31] فَنَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ أَيْ ذُرِّيَّاتِ الْعِبَادِ وَلَمْ يَقُلْ حَمَلْنَاهُمْ، لِأَنَّ سُكُونَ الْأَرْضِ عَامٌّ لِكُلِّ أَحَدٍ يَسْكُنُهَا فَقَالَ: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ إلى أن قال: فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس: 33] لِأَنَّ الْأَكْلَ عَامٌّ، وَأَمَّا الْحَمْلُ فِي السَّفِينَةِ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَرْكَبُهَا فِي عُمْرِهِ وَلَا يُحْمَلُ فِيهَا، وَلَكِنْ ذُرِّيَّةُ الْعِبَادِ لَا بدلهم مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا فَيُحْمَلُ فِيهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: جُعِلَ الْفُلْكُ تَارَةً جَمْعًا حَيْثُ قَالَ: وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ [فاطر: 12] جمع ماخرة وَأُخْرَى فَرْدًا حَيْثُ قَالَ: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ نَقُولُ فِيهِ تَدْقِيقٌ مَلِيحٌ مِنْ عِلْمِ اللُّغَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْكَلِمَةَ قَدْ تَكُونُ حَرَكَتُهَا مِثْلَ حركة تلك الكلمة في الصورة، والحركتان متخلفتان فِي الْمَعْنَى مِثَالُهَا قَوْلُكَ: سَجَدَ يَسْجُدُ سُجُودًا

لِلْمَصْدَرِ وَهُمْ قَوْمٌ سُجُودٌ فِي جَمْعِ سَاجِدٍ، تَظُنُّ أَنَّهُمَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ لِمَعْنَيَيْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ السُّجُودُ عِنْدَ كَوْنِهِ مَصْدَرًا حَرَكَتُهُ أَصْلِيَّةٌ إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْفِعْلَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَصْدَرِ/ وَحَرَكَةُ السُّجُودِ عِنْدَ كَوْنِهِ لِلْجَمْعِ حَرَكَةٌ مُتَغَيِّرَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْجَمْعَ يُشْتَقُّ مِنَ الْوَاحِدِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ الْمُشْتَقَّ تَغْيِيرٌ فِي حَرَكَةٍ أَوْ حَرْفٍ أَوْ فِي مَجْمُوعِهِمَا، فَسَاجِدٌ لَمَّا أَرَدْنَا أَنْ يُشْتَقَّ مِنْهُ لَفْظُ جَمْعٍ غَيَّرْنَاهُ، وَجِئْنَا بِلَفْظِ السُّجُودِ، فَإِذًا السُّجُودُ لِلْمَصْدَرِ وَالْجَمْعُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي وُضِعَتْ بِحَرَكَةٍ وَاحِدَةٍ لِمَعْنَيَيْنِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الْفُلْكُ عِنْدَ كَوْنِهِ وَاحِدًا مِثْلُ قُفْلٍ وَبُرْدٍ، وَعِنْدَ كَوْنِهَا جَمْعًا مِثْلُ خُشُبٍ وَمُرُدٍ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنْ قُلْتَ فَإِذَا جَعَلْتَهُ جَمْعًا مَاذَا يَكُونُ وَاحِدًا مِثْلُ قُفْلٍ وَبُرْدٍ، وَعِنْدَ كَوْنِهَا جَمْعًا مِثْلُ خُشُبٍ وَمُرُدٍ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنْ قُلْتَ فَإِذَا جَعَلْتَهُ جَمْعًا مَاذَا يَكُونُ وَاحِدُهَا؟ نَقُولُ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَاحِدُهَا فُلْكَةً أَوْ غَيْرَهَا مِمَّا لَمْ يُسْتَعْمَلْ كَوَاحِدِ النِّسَاءِ حَيْثُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ، وكذا القول في: إِمامٍ مُبِينٍ [يس: 12] وَفِي قَوْلِهِ: نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ «1» بِإِمامِهِمْ [الْإِسْرَاءِ: 71] أَيْ بِأَئِمَّتِهِمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِمامٍ مُبِينٍ إمام كَزِمَامٍ وَكِتَابٍ وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّ أُناسٍ «2» بِإِمامِهِمْ إِمَامٌ كَسِهَامٍ وَكِرَامٍ وَجِعَابٍ وَهَذَا مِنْ دَقِيقِ التَّصْرِيفِ وَأَمَّا الْمَعْنَوِيَّةُ: فَنَذْكُرُهَا فِي مَسَائِلَ: المسألة الأولى: قال هاهنا: حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِحَمْلِ ذُرِّيَّتِهِمْ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الْحَاقَّةِ: 11] مَنَّ هُنَاكَ عَلَيْهِمْ بِحَمْلِ أَنْفُسِهِمْ، نَقُولُ لِأَنَّ مَنْ يَنْفَعُ الْمُتَعَلِّقَ بِالْغَيْرِ يَكُونُ قَدْ نَفَعَ ذَلِكَ الْغَيْرَ، وَمَنْ يَدْفَعُ الضَّرَرَ عن الْمُتَعَلِّقِ بِالْغَيْرِ لَا يَكُونُ قَدْ دَفَعَ الضَّرَرَ عَنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ، بَلْ يَكُونُ قَدْ نَفَعَهُ مِثَالُهُ مَنْ أَحْسَنَ إِلَى وَلَدِ إِنْسَانٍ وَفَرَّحَهُ فَرِحَ بِفَرَحِهِ أَبُوهُ، وَإِذَا دَفَعَ وَاحِدٌ الْأَلَمَ عَنْ وَلَدِ إِنْسَانٍ يَكُونُ قَدْ فَرَّحَ أَبَاهُ وَلَا يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ قَدْ أَزَالَ الْأَلَمَ عن أبيه، فعند طُغْيَانِ الْمَاءِ كَانَ الضَّرَرُ يَلْحَقُهُمْ فَقَالَ دَفَعْتُ عَنْكُمُ الضَّرَرَ، وَلَوْ قَالَ دَفَعْتُ عَنْ أَوْلَادِكُمُ الضَّرَرَ لَمَا حَصَلَ بَيَانُ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ، وهاهنا أَرَادَ بَيَانَ الْمَنَافِعِ فَقَالَ: حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ لِأَنَّ النَّفْعَ حَاصِلٌ بِنَفْعِ الذُّرِّيَّةِ وَيَدُلُّكَ عَلَى هَذَا أن هاهنا قَالَ: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَإِنَّ امْتِلَاءَ الْفُلْكِ مِنَ الْأَمْوَالِ يَحْصُلُ بِذِكْرِهِ بَيَانُ الْمَنْفَعَةِ، وَأَمَّا دَفْعُ الْمَضَرَّةِ فَلَا، لِأَنَّ الْفُلْكَ كُلَّمَا كَانَ أَثْقَلَ كَانَ الْخَلَاصُ بِهِ أَبْطَأَ وَهُنَالِكَ السَّلَامَةُ، فَاخْتَارَ هُنَالِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْخَلَاصِ مِنَ الضرر وهو الجري، وهاهنا مَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ الشَّحْنُ، فَإِنْ قِيلَ قَالَ تَعَالَى: وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الْإِسْرَاءِ: 70] وَلَمْ يَقُلْ: وَحَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بَيَانُ النِّعْمَةِ، لَا دَفْعُ النِّقْمَةِ، نَقُولُ لَمَّا قَالَ: فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ عَمَّ الْخَلْقَ، لِأَنَّ مَا مِنْ أَحَدٍ إلا وحمل فِي الْبَرِّ أَوِ الْبَحْرِ، وَأَمَّا الْحَمْلُ فِي الْبَحْرِ فَلَمْ يَعُمَّ، فَقَالَ إِنْ كُنَّا مَا حَمَلْنَاكُمْ بِأَنْفُسِكُمْ فَقَدْ حَمَلْنَا مَنْ يُهِمُّكُمْ أَمْرُهُ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالْأَقَارِبِ وَالْإِخْوَانِ وَالْأَصْدِقَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: الْمَشْحُونِ يُفِيدُ فَائِدَةً أُخْرَى غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا وَهِيَ أَنَّ الْآدَمِيَّ يَرْسُبُ فِي الْمَاءِ وَيَغْرَقُ، فَحَمْلُهُ فِي الْفُلْكِ وَاقِعٌ بِقُدْرَتِهِ، لَكِنَّ مِنَ الطَّبِيعِيِّينَ مَنْ يَقُولُ الْخَفِيفُ لَا يَرْسُبُ فِي الْمَاءِ، لِأَنَّ الْخَفِيفَ يَطْلُبُ جِهَةَ فَوْقُ فَقَالَ: الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أَثْقَلُ مِنَ الثِّقَالِ الَّتِي تَرْسُبُ، وَمَعَ هَذَا حَمَلَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ فِيهِ مَعَ ثِقَلِهِ، فَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ لِامْتِنَاعِ الْخَلَاءِ نَقُولُ قَدْ ذَكَرْنَا الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى جَوَازِ الْخَلَاءِ فِي الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ، فَإِذَنْ لَيْسَ حِفْظُ الثَّقِيلِ فَوْقَ الْمَاءِ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثالثة: قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ [يس: 33] وقال: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ [يس: 37] ولم يقل

_ (1) من عجب أن نسخة المطبعة الأميرية رسم فيها «أناث» هكذا بالثاء في الموضعين وهو تحريف ظاهر وخطأ في القرآن. (2) نفس المصدر. [.....]

[سورة يس (36) : آية 42]

وَآيَةٌ لَهُمُ الْفُلْكُ جَعَلْنَاهَا بِحَيْثُ تَحْمِلُهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَمْلَهُمْ فِي الْفُلْكِ هُوَ الْعَجَبُ. أَمَّا نَفْسُ الْفُلْكِ فَلَيْسَ بِعَجَبٍ لِأَنَّهُ كَبَيْتٍ مَبْنِيٍّ مِنْ خَشَبٍ. وَأَمَّا نَفْسُ الْأَرْضِ فَعَجَبٌ وَنَفْسُ اللَّيْلِ عَجَبٌ لَا قُدْرَةَ عَلَيْهِمَا لِأَحَدٍ إِلَّا الله. ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 42] وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ وَالْمَعْنَى. أَمَّا اللُّغَةُ فَقَوْلُهُ لَهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الذُّرِّيَّةِ، أَيْ حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ وَخَلَقْنَا لِلْمَحْمُولِينَ مَا يَرْكَبُونَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْعِبَادِ الَّذِينَ عَادَ إِلَيْهِمْ قَوْلُهُ: وَآيَةٌ لَهُمْ [يس: 41] وَهُوَ الْحَقُّ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَوْدُ الضَّمَائِرِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: (مِنْ) يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ صِلَةً تَقْدِيرُهُ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِثْلَهُ، وَهَذَا عَلَى رَأْيِ الْأَخْفَشِ، وَسِيبَوَيْهِ يَقُولُ: مَنْ لَا يَكُونُ صِلَةً إِلَّا عِنْدَ النَّفْيِ، تَقُولُ مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ كَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ [ق: 38] ، وَثَانِيهِمَا: هِيَ مُبَيِّنَةٌ كَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [الْأَحْقَافِ: 31] كأنه لما قال: خَلَقْنا لَهُمْ وَالْمَخْلُوقُ كَانَ أَشْيَاءَ قَالَ مِنْ مِثْلِ الْفُلْكِ لِلْبَيَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الضَّمِيرُ فِي مِثْلِهِ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ عَائِدٌ إِلَى الْفُلْكِ فَيَكُونُ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ [ص: 58] وَعَلَى هَذَا فَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْفُلْكَ الْآخَرَ الْمَوْجُودَ فِي زَمَانِهِمْ وَيُؤَيِّدُ هَذَا هُوَ أنه تعالى قال: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ [يس: 43] وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْإِبِلَ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لَكَانَ قَوْلُهُ: وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ فَاصِلًا بَيْنَ مُتَّصِلَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ تَقْدِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ [يس: 36] وَهَذَا كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ [يس: 35] إِنَّ الْهَاءَ عَائِدٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا، أَيْ مِنْ ثَمَرِ مَا ذَكَرْنَا، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: خَلَقْنا لَهُمْ فِيهِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ رَكُوبٌ مَرْكُوبٌ مِنَ الدَّوَابِّ وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَرْكَبُ الْفُلْكَ فَقَالَ فِي الْفُلْكِ حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ وَإِنْ كُنَّا مَا حَمَلْنَاهُمْ، وَأَمَّا الْخَلْقُ فَلَهُمْ عَامٌّ وَمَا يَرْكَبُونَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: هُوَ الْفُلْكُ الَّذِي مِثْلُ فُلْكِ نُوحٍ ثَانِيهِمَا: هُوَ الْإِبِلُ الَّتِي هِيَ سُفُنُ الْبَرِّ، فَإِنْ قِيلَ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ سَفِينَةَ نُوحٍ فَمَا وَجْهُ مُنَاسَبَةِ الْكَلَامِ؟ نَقُولُ ذَكَّرَهُمْ بِحَالِ قَوْمِ نُوحٍ وَأَنَّ الْمُكَذِّبِينَ هَلَكُوا وَالْمُؤْمِنِينَ فَازُوا فَكَذَلِكَ هُمْ إِنْ آمَنُوا يَفُوزُوا وإن كذبوا يهلكوا. [سورة يس (36) : آية 43] وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ إِشَارَةً إِلَى فَائِدَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: إِنَّ فِي حَالِ النِّعْمَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْمَنُوا عَذَابَ اللَّهِ وَثَانِيَتُهُمَا: هُوَ أَنَّ ذَلِكَ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنَّ الطَّبِيعِيَّ يَقُولُ السَّفِينَةُ تَحْمِلُ بِمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ وَالْمُجَوَّفُ لَا يَرْسُبُ فَقَالَ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَغْرَقَهُمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى الطَّبْعِ وَلَوْ صَحَّ كَلَامُهُ الْفَاسِدُ لَكَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَلَسْتَ تُوَافِقُ أَنَّ مِنَ السُّفُنِ مَا يَنْقَلِبُ/ وَيَنْكَسِرُ وَمِنْهَا مَا يَثْقُبُهُ ثَاقِبٌ فَيَرْسُبُ وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ إِغْرَاقَهُمْ أَغْرَقَهُمْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ كَمَا تُسَلِّمُ أنت.

[سورة يس (36) : آية 44]

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا صَرِيخَ لَهُمْ أَيْ لَا مُغِيثَ لَهُمْ يَمْنَعُ عَنْهُمُ الْغَرَقَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ إِذَا أَدْرَكَهُمُ الْغَرَقُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَلَاصَ مِنَ الْعَذَابِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِدَفْعِ الْعَذَابِ مِنْ أَصْلِهِ أَوْ بِرَفْعِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَقَالَ: لَا صَرِيخَ لَهُمْ يَدْفَعُ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ بَعْدَ الْوُقُوعِ فِيهِ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ فَقَوْلُهُ: فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ فِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى غَيْرُ الْحَصْرِ وهي أنه تعالى قال لا صريخ لهم وَلَمْ يَقُلْ وَلَا مُنْقِذَ لَهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ لَا يَكُونُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَنْصُرَ لا يشرع في النصرة مَخَافَةَ أَنْ يُغْلَبَ وَيَذْهَبَ مَاءُ وَجْهِهِ، وَإِنَّمَا يَنْصُرُ وَيُغِيثُ مَنْ يَكُونُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُغِيثَ فَقَالَ لَا صَرِيخَ لَهُمْ، وَأَمَّا مَنْ لَا يَكُونُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُنْقِذَ إِذَا رَأَى مَنْ يَعِزُّ عَلَيْهِ فِي ضُرٍّ يَشْرَعُ فِي الْإِنْقَاذِ، وَإِنْ لَمْ يَثِقْ بِنَفْسِهِ فِي الْإِنْقَاذِ وَلَا يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ. وَإِنَّمَا يَبْذُلُ الْمَجْهُودَ فَقَالَ: وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ وَلَمْ يَقُلْ ولا منقذ لهم. ثم استثنى فقال: [سورة يس (36) : آية 44] إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44) وَهُوَ يُفِيدُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: انْقِسَامُ الْإِنْقَاذِ إِلَى قِسْمَيْنِ الرَّحْمَةِ وَالْمَتَاعِ، أَيْ فِيمَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ يُؤْمِنُ فَيُنْقِذُهُ اللَّهُ رَحْمَةً، وَفِيمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ فَلِيَتَمَتَّعَ زَمَانًا وَيَزْدَادَ إِثْمًا وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ بَيَانٌ لِكَوْنِ الْإِنْقَاذِ غَيْرَ مُفِيدٍ لِلدَّوَامِ بَلِ الزَّوَالُ فِي الدُّنْيَا لَا بُدَّ مِنْهُ فَيُنْقِذُهُ اللَّهُ رَحْمَةً وَيُمَتِّعُهُ إِلَى حِينٍ، ثم يميته فالزوال لازم أن يقع. ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 45] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَدَّدَ الْآيَاتِ بِقَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ ... وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ ... وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ [يس: 33، 37، 41] وَكَانَتِ الْآيَاتُ تُفِيدُ الْيَقِينَ وَتُوجِبُ الْقَطْعَ بِمَا قَالَ تَعَالَى وَلَمْ تُفِدْهُمُ الْيَقِينَ، قَالَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَحْتَرِزُوا عَنِ الْعَذَابِ فَإِنَّ مَنْ أُخْبِرَ بِوُقُوعِ عَذَابٍ يَتَّقِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ بِصِدْقِ قَوْلِ الْمُخْبِرِ احْتِيَاطًا فَقَالَ تَعَالَى إذا ذكر لهم الدليل القاطع لا يعترفون بِهِ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا لَا يَتَّقُونَ فَهُمْ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَنِهَايَةِ الْغَفْلَةِ، لَا مِثْلَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْبُرْهَانَ، وَلَا مِثْلَ الْعَامَّةِ الَّذِينَ يَبْنُونَ الْأَمْرَ عَلَى الْأَحْوَطِ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بِحَرْفِ التَّمَنِّي أَيْ فِي ظَنِّكُمْ فَإِنَّ مَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ وَجْهُ الْبُرْهَانِ لَا يَتْرُكُ طَرِيقَةَ الاحتراز والاحتياط، وجواب قوله: إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَحْذُوفٌ مَعْنَاهُ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ لَا يَتَّقُونَ أَوْ يُعْرِضُونَ، وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ [الْأَنْعَامِ: 4] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ/ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ الْآخِرَةُ فَإِنَّهُمْ مُسْتَقْبِلُونَ لَهَا وَما خَلْفَكُمْ الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ تَارِكُونَ لَهَا وَثَانِيهَا: مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ مِثْلِ الْغَرَقِ وَالْحَرَقِ، وَغَيْرِهِمَا الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ [يس: 43] وَمَا خَلْفَكُمْ مِنَ الْمَوْتِ الطَّالِبِ لَكُمْ إِنْ نَجَوْتُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَا نَجَاةَ لَكُمْ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَتاعاً إِلى حِينٍ [يس: 44] وَثَالِثُهَا: مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ حَاضِرٌ عِنْدَكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ مِنْ أَمْرِ الْحَشْرِ فَإِنَّكُمْ إِذَا اتَّقَيْتُمْ تَكْذِيبَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَالتَّكْذِيبَ بِالْحَشْرِ رَحِمَكُمُ اللَّهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ مَعَ أَنَّ الرَّحْمَةَ وَاجِبَةٌ، فِيهِ وجوه ذكرناها مرارا ونزيد هاهنا وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: اتَّقُوا بِمَعْنَى أَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَقْطَعُوا بِنَاءً عَلَى الْبَرَاهِينِ فَاتَّقُوا احْتِيَاطًا قَالَ: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يَعْنِي أَرْبَابَ الْيَقِينِ يُرْحَمُونَ

[سورة يس (36) : آية 46]

جَزْمًا وَأَرْبَابَ الِاحْتِيَاطِ يُرْجَى أَنْ يُرْحَمُوا، وَالْحَقُّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: اتَّقُوا رَاجِينَ الرَّحْمَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَثَانِيهِمَا: هُوَ أَنَّ الِاتِّقَاءَ نَظَرًا إِلَيْهِ أَمْرٌ يُفِيدُ الظَّنَّ بِالرَّحْمَةِ فَإِنْ كَانَ يَقْطَعُ بِهِ أَحَدٌ لِأَمْرٍ مِنْ خَارِجٍ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الرَّجَاءَ فَإِنَّ الْمَلِكَ إِذَا كَانَ فِي قَلْبِهِ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ يَخْدِمُهُ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَتِهِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً لَكِنَّ الْخِدْمَةَ لَا تَقْتَضِي ذَلِكَ، يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ افْعَلْ كَذَا وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ أُجْرَتُكَ أَكْثَرَ مِمَّا تستحق. ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 46] وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَهَذَا مُتَعَلِّقٌ بِمَا تقدم من قوله تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [يس: 30] ، وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ يَعْنِي إِذَا جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ كَذَّبُوهُمْ فَإِذَا أُتُوا بِالْآيَاتِ أَعْرَضُوا عَنْهَا وَمَا الْتَفَتُوا إِلَيْهَا وَقَوْلُهُ: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [يس: 31- 45] كَلَامٌ بَيْنَ كَلَامَيْنِ مُتَّصِلَيْنِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْآيَةِ وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا [يس: 45] وَكَانَ فِيهِ تَقْدِيرُ أَعْرَضُوا قَالَ لَيْسَ إِعْرَاضُهُمْ مُقْتَصِرًا عَلَى ذَلِكَ بَلْ هُمْ عَنْ كُلِّ آيَةٍ مُعْرِضُونَ أَوْ يُقَالُ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا اقْتَرَحُوا آيَاتٍ مِثْلَ إِنْزَالِ الْمَلَكِ وَغَيْرِهِ فَقَالَ: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ وَعَلَى هَذَا كَانُوا فِي الْمَعْنَى يَكُونُ زَائِدًا مَعْنَاهُ إِلَّا يُعْرِضُونَ عَنْهَا أَيْ لَا تَنْفَعُهُمُ الْآيَاتُ وَمَنْ كذب بالبعض هان عليه التكذيب بالكل. وقوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 47] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ يَبْخَلُونَ بِجَمِيعِ مَا عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ عَلَيْهِ التَّعْظِيمُ لِجَانِبِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ وَهُمْ تَرَكُوا التَّعْظِيمَ حَيْثُ قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا فَلَمْ يَتَّقُوا وَتَرَكُوا الشَّفَقَةَ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ حَيْثُ قِيلَ لَهُمْ: أَنْفِقُوا فَلَمْ يُنْفِقُوا وَفِيهِ لَطَائِفُ الْأُولَى خُوطِبُوا بِأَدْنَى الدَّرَجَاتِ فِي التَّعْظِيمِ وَالشَّفَقَةِ فَلَمْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ وَعِبَادُ اللَّهِ الْمُخْلَصُونَ خُوطِبُوا بِالْأَدْنَى فَأَتَوْا بِالْأَعْلَى إِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ فِي التَّقْوَى أُمِرُوا بِأَنْ يَتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْعَذَابِ أَوِ الْآخِرَةِ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْعَذَابِ وَهُوَ أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنَ الِاتِّقَاءِ، وَأَمَّا الْخَاصُّ فَيَتَّقِي تَغْيِيرَ قَلْبِ الْمَلِكِ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُعَاقِبْهُ وَمُتَّقِي الْعَذَابِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْبَعِيدِ، فَهُمْ لَمْ يَتَّقُوا مَعْصِيَةَ اللَّهِ وَلَمْ يَتَّقُوا عَذَابَ اللَّهِ، وَالْمُخْلَصُونَ اتَّقَوُا اللَّهَ وَاجْتَنَبُوا مُخَالَفَتَهُ سَوَاءٌ كَانَ يُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ أَوْ لَا يُعَاقِبُهُمْ، وَأَمَّا فِي الشَّفَقَةِ فَقِيلَ لَهُمْ: أَنْفِقُوا مِمَّا أي بعض ما هو لله ما فِي أَيْدِيكُمْ فَلَمْ يُنْفِقُوا، وَالْمُخْلَصُونَ آثَرُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَبَذَلُوا كُلَّ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، بَلْ أَنْفُسَهُمْ صَرَفُوهَا إِلَى نَفْعِ عِبَادِ اللَّهِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ الثَّانِيَةُ: كَمَا أَنَّ فِي جَانِبِ التَّعْظِيمِ مَا كَانَ فَائِدَةُ التَّعْظِيمِ رَاجِعَةً إِلَّا إِلَيْهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَغْنٍ عَنْ تَعْظِيمِهِمْ كَذَلِكَ فِي جَانِبِ الشَّفَقَةِ مَا كَانَ فَائِدَةُ الشَّفَقَةِ رَاجِعَةً إِلَّا إِلَيْهِمْ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَرْزُقُهُ الْمُتَمَوِّلُ لَا يَمُوتُ إِلَّا بِأَجَلِهِ وَلَا بُدَّ مِنْ وُصُولِ رِزْقِهِ إِلَيْهِ، لَكِنَّ السَّعِيدَ مَنْ قَدَّرَ اللَّهُ إِيصَالَ الرِّزْقِ عَلَى يَدِهِ إِلَى غَيْرِهِ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: مِمَّا رَزَقَكُمُ إِشَارَةٌ إِلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبُخْلَ بِهِ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ فَإِنَّ أَبْخَلَ الْبُخَلَاءِ مَنْ يَبْخَلُ بِمَالِ الْغَيْرِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَكُمْ مِنْ ذَلِكَ مَخَافَةُ الْفَقْرِ فَإِنَّ اللَّهَ رَزَقَكُمْ فَإِذَا أَنْفَقْتُمْ فَهُوَ يَخْلُفُهُ لَكُمْ ثَانِيًا كَمَا رَزَقَكُمْ أَوَّلًا وَفِيهِ مَسَائِلُ أَيْضًا: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا حذف الجواب، وهاهنا أَجَابَ وَأَتَى بِأَكْثَرَ مِنَ

الْجَوَابِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ قَالَ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا قَالُوا: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ لَكَانَ كَافِيًا، فَمَا الْفَائِدَةُ في قوله تعالى: قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا؟ نَقُولُ الْكُفَّارُ كَانُوا يَقُولُونَ بِأَنَّ الْإِطْعَامَ مِنَ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ وَكَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِذَلِكَ الْقَوْلِ رَدًّا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَقَالُوا نَحْنُ نُطْعِمُ الضُّيُوفَ مُعْتَقِدِينَ بِأَنَّ أَفْعَالَنَا ثَنَاءٌ، وَلَوْلَا إِطْعَامُنَا لَمَا انْدَفَعَ حَاجَةُ الضَّيْفِ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِلَهَكُمْ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ، فَلِمَ تَقُولُونَ لَنَا أَنْفِقُوا؟ فَلَمَّا كَانَ غَرَضُهُمُ الرَّدَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لَا الِامْتِنَاعَ مِنَ الْإِطْعَامِ. قَالَ تَعَالَى عنهم: قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا إِشَارَةً إِلَى الرَّدِّ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِمْ: اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ [يس: 45] فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ رَدٌّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَأَعْرَضُوا وَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْ ذِكْرِ إِعْرَاضِهِمْ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَغْيِيرِ اللَّفْظِ فِي جَوَابِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَقُولُوا أَنُنْفِقُ عَلَى مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ رَزَقَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْإِنْفَاقِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا فَكَانَ جَوَابُهُمْ بِأَنْ/ يَقُولُوا أَنُنْفِقُ فَلِمَ قَالُوا: أَنُطْعِمُ؟ نَقُولُ فِيهِ بَيَانُ غَايَةِ مُخَالَفَتِهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِذَا أُمِرُوا بِالْإِنْفَاقِ وَالْإِنْفَاقُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِطْعَامُ وَغَيْرُهُ لَمْ يَأْتُوا بِالْإِنْفَاقِ وَلَا بِأَقَلَّ مِنْهُ وَهُوَ الْإِطْعَامُ وَقَالُوا لَا نُطْعِمُ، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ أَعْطِ زَيْدًا دِينَارًا يَقُولُ لَا أُعْطِيهِ دِرْهَمًا مَعَ أَنَّ الْمُطَابِقَ هُوَ أَنْ يَقُولَ لَا أُعْطِيهِ دِينَارًا وَلَكِنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَتَمُّ فكذلك هاهنا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَانَ كَلَامُهُمْ حَقًّا فَإِنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ أَطْعَمَهُ فَلِمَاذَا ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ؟ نَقُولُ لِأَنَّ مُرَادَهُمْ كَانَ الْإِنْكَارَ لِقُدْرَةِ اللَّهِ أَوْ لِعَدَمِ جَوَازِ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ مَعَ قُدْرَةِ اللَّهِ وَكِلَاهُمَا فَاسِدٌ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا رَزَقَكُمُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِهِ وَيُصَحِّحُ أَمْرَهُ بِالْإِعْطَاءِ لِأَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ فِي يَدِ الْغَيْرِ مَالٌ وَلَهُ فِي خَزَائِنِهِ مَالٌ فَهُوَ مُخَيَّرٌ إِنْ أَرَادَ أَعْطَى مِمَّا فِي خَزَائِنِهِ وَإِنْ أَرَادَ أَمَرَ مَنْ عِنْدَهُ الْمَالُ بِالْإِعْطَاءِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ مَنْ بِيَدِهِ مَالُهُ فِي خَزَائِنِكَ أَكْثَرُ مِمَّا فِي يَدِي أَعْطِهِ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِشَارَةٌ إِلَى اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ قَطَعُوا الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا الْكَلَامِ وَأَنَّ أَمْرَهُمْ بِالْإِنْفَاقِ مَعَ قَوْلِهِمْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ ظَاهِرُ الْفَسَادِ وَاعْتِقَادُهُمْ هُوَ الْفَاسِدُ وَفِيهِ مَبَاحِثُ لُغَوِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ. أَمَّا اللُّغَوِيَّةُ: فَنَقُولُ: (إِنْ) وَرَدَتْ لِلنَّفْيِ بِمَعْنَى ما، وكان الأرض فِي إِنْ أَنْ تَكُونَ لِلشَّرْطِ وَالْأَصْلُ فِي مَا أَنْ تَكُونَ لِلنَّفْيِ لَكِنَّهُمَا اشْتَرَكَا مِنْ بعض الوجوه فتقارضا وَاسْتَعْمَلَ مَا فِي الشَّرْطِ وَاسْتَعْمَلَ إِنْ فِي النَّفْيِ، أَمَّا الْوَجْهُ الْمُشْتَرَكُ فَهُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَرْفٌ مُرَكَّبٌ مِنْ حَرْفَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ فَإِنَّ الْهَمْزَةَ تَقْرُبُ مِنَ الْأَلِفِ وَالْمِيمَ مِنَ النُّونِ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الَّذِي يَدْخُلُ عَلَيْهِ مَا وَإِنْ لَا يَكُونُ ثَابِتًا، أَمَّا فِي مَا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي إِنْ فَلِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ إِنْ جَاءَنِي زَيْدٌ أُكْرِمْهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ فِي الْحَالِ مَجِيءٌ فَاسْتَعْمَلَ إِنْ مَكَانَ مَا، وَقِيلَ إِنْ زَيْدٌ قَائِمٌ أَيْ مَا زَيْدٌ بِقَائِمٍ وَاسْتَعْمَلَ مَا فِي الشَّرْطِ تَقُولُ مَا تَصْنَعْ أَصْنَعْ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا النَّافِيَةَ تُسْتَعْمَلُ حَيْثُ لَا تُسْتَعْمَلُ إِنْ وَذَلِكَ لِأَنَّكَ تَقُولُ مَا إِنْ جَلَسَ زَيْدٌ فَتَجْعَلُ إِنْ صِلَةً وَلَا تَقُولُ إِنْ جَلَسَ زَيْدٌ بِمَعْنَى النَّفْيِ وَبِمَعْنَى الشَّرْطِ تَقُولُ إِمَّا تَرَيِنَّ فَتَجْعَلُ إِنْ أَصْلًا وَمَا صِلَةً، فَدَلَّنَا هَذَا عَلَى أَنَّ إِنْ فِي الشَّرْطِ أَصْلٌ وَمَا دَخِيلٌ وَمَا فِي النَّفْيِ بِالْعَكْسِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا يُفِيدُ مَا لَا يُفِيدُ قَوْلُهُ: أَنْتُمْ فِي ضَلَالٍ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْحَصْرَ وَأَنَّهُ لَيْسُوا فِي غَيْرِ الضَّلَالِ.

[سورة يس (36) : آية 48]

الْبَحْثُ الثَّالِثُ: وَصْفُ الضَّلَالِ بِالْمُبِينِ قَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لِظُهُورِهِ يُبَيِّنُ نَفْسَهُ أَنَّهُ ضَلَالٌ أَيْ فِي ضَلَالٍ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ ضَلَالٌ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: فِي ضَلالٍ يُفِيدُ كَوْنَهُمْ مَغْمُورِينَ فِيهِ غائصين، وقوله في مواضع عَلى بَيِّنَةٍ [الأنعام: 57] وعَلى هُدىً [الْبَقَرَةِ: 5] إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِمْ رَاكِبِينَ مَتْنَ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ قَادِرِينَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَعْنَوِيَّةُ: فَهِيَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا وَصَفُوا الَّذِينَ آمَنُوا بِكَوْنِهِمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ لِكَوْنِهِمْ ظَانِّينَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ كَلَامَهُ مُتَنَاقِضٌ وَمَنْ تَنَاقَضَ كَلَامُهُ يَكُونُ فِي غَايَةِ الضَّلَالِ، إِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: أَنُطْعِمُ مَنْ/ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ اللَّهَ إِنْ شَاءَ أَنْ يُطْعِمَهُمْ كَانَ يُطْعِمُهُمْ فَلَا تَقْدِرُ عَلَى إِطْعَامِهِمْ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ، وَإِنْ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ إِطْعَامَهُمْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِطْعَامِهِمْ لِامْتِنَاعِ وُقُوعِ مَا لَمْ يَشَأِ اللَّهُ فَلَا قُدْرَةَ لَنَا عَلَى الْإِطْعَامِ، فَكَيْفَ تَأْمُرُونَا بِالْإِطْعَامِ وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا أَرَادَ اللَّهُ تَجْوِيعَهُمْ فَلَوْ أطعمناهم يَكُونُ ذَلِكَ سَعْيًا فِي إِبْطَالِ فِعْلِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ أَطْعِمُوهُمْ فَهُوَ ضَلَالٌ وَلَمْ يَكُنْ فِي الضَّلَالِ إِلَّا هُمْ حَيْثُ نَظَرُوا إِلَى الْمُرَادِ وَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى الطَّلَبِ وَالْأَمْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَمَرَهُ السَّيِّدُ بِأَمْرٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكْشِفَ سَبَبَ الْأَمْرِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْمَقْصُودِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ لِأَجْلِهِ. مِثَالُهُ: الْمَلِكُ إِذَا أَرَادَ الرُّكُوبَ لِلْهُجُومِ عَلَى عَدُوِّهِ بِحَيْثُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَقَالَ لِعَبْدِهِ أَحْضِرِ الْمَرْكُوبَ، فَلَوْ تَطَلَّعَ وَاسْتَكْشَفَ الْمَقْصُودَ الَّذِي لِأَجْلِهِ الرُّكُوبُ لَنُسِبَ إِلَى أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُطْلِعَ عَدُوَّهُ عَلَى الْحَذَرِ مِنْهُ وَكَشْفِ سِرِّهِ، فَالْأَدَبُ فِي الطَّاعَةِ وَهُوَ اتِّبَاعُ الْأَمْرِ لَا تَتَبُّعُ الْمُرَادِ، فَاللَّهُ تَعَالَى إِذَا قَالَ: أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولُوا: لِمَ لَمْ يُطْعِمْهُمُ اللَّهُ مِمَّا فِي خزائنه. ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 48] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا اعْتَقَدُوهُ وَهُوَ أَنَّ التَّقْوَى الْمَأْمُورَ بِهَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا [يس: 45] وَالْإِنْفَاقَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا [يس: 47] لَا فَائِدَةَ فِيهِ لِأَنَّ الْوَعْدَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَقَوْلُهُ: مَتى هذَا الْوَعْدُ أَيْ مَتَى يَقَعُ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وهي أن إِنْ لِلشَّرْطِ وَهِيَ تَسْتَدْعِي جَزَاءً وَمَتَى اسْتِفْهَامٌ لَا يَصْلُحُ جَزَاءً فَمَا الْجَوَابُ؟ نَقُولُ هِيَ فِي الصُّورَةِ اسْتِفْهَامٌ، وَفِي الْمَعْنَى إِنْكَارٌ كَأَنَّهُمْ قَالُوا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي وُقُوعِ الْحَشْرِ فَقُولُوا مَتَى يَكُونُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْخِطَابُ مَعَ مَنْ فِي قَوْلِهِمْ: إِنْ كُنْتُمْ؟ نَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا الرِّسَالَةَ قَالُوا إِنْ كُنْتُمْ يَا أَيُّهَا الْمُدَّعُونَ لِلرِّسَالَةِ صَادِقِينَ فَأَخْبِرُونَا مَتَى يَكُونُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَيْسَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَعْدٌ فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: هذَا الْوَعْدُ إِلَى أَيِّ وَعْدٍ؟ نَقُولُ هُوَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ [يس: 45] مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ، أَوْ نَقُولُ هُوَ مَعْلُومٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا لِكَوْنِ الْأَنْبِيَاءِ مُقِيمِينَ على تذكيرهم بالساعة والحساب والثواب والعقاب. [سورة يس (36) : الآيات 49 الى 50] مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أَيْ لَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا الصَّيْحَةَ الْمَعْلُومَةَ وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّكْثِيرِ، فَإِنْ

[سورة يس (36) : آية 51]

قِيلَ هُمْ مَا كَانُوا يَنْتَظِرُونَ بَلْ كَانُوا يَجْزِمُونَ بِعَدَمِهَا، فَنَقُولُ الِانْتِظَارُ فِعْلِيٌّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ فَاعِلُهُ الْبَوَارَ وَتَعْجِيلَ الْعَذَابِ وَتَقْرِيبَ السَّاعَةِ لَوْلَا حُكْمُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ وَعِلْمُهُ فَإِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ أَوْ نَقُولُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ مَتَى اسْتِفْهَامًا حَقِيقِيًّا قَالَ يَنْتَظِرُونَ انْتِظَارًا غَيْرَ حَقِيقِيٍّ، لِأَنَّ الْقَائِلَ مَتَى يفهم منه الانتظار نظرا إلى قوله. وقد ذكروا هاهنا فِي الصَّيْحَةِ أُمُورًا تَدُلُّ عَلَى/ هَوْلِهَا وَعِظَمِهَا أحدها: التنكير يقال لفلان مال أي كَثِيرٌ وَلَهُ قَلْبٌ أَيْ جَرِيءٌ وَثَانِيهَا: وَاحِدَةٌ أَيْ لَا يَحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى ثَانِيَةٍ وَثَالِثُهَا: تَأْخُذُهُمْ أَيْ تَعُمُّهُمْ بِالْأَخْذِ وَتَصِلُ إِلَى مَنْ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِثْلَهَا لَا يَكُونُ إِلَّا عَظِيمًا. وَقَوْلُهُ: تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ، مِمَّا يَعْظُمُ بِهِ الْأَمْرُ لِأَنَّ الصَّيْحَةَ الْمُعْتَادَةَ إِذَا وَرَدَتْ عَلَى غَافِلٍ يَرْجُفُ فَإِنَّ الْمُقْبِلَ عَلَى مُهِمٍّ إِذَا صَاحَ بِهِ صَائِحٌ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ بِخِلَافِ الْمُنْتَظِرِ لِلصَّيْحَةِ، فَإِذَا كَانَ حَالُ الصَّيْحَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ وَتَرِدُ عَلَى الْغَافِلِ الَّذِي هُوَ مَعَ خصمه مشغول يكون الارتجاف أتم والإيحاف أَعْظَمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يَخِصِّمُونَ فِي الْبَعْثِ وَيَقُولُونَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَصْلًا فَيَكُونُونَ غَافِلِينَ عَنْهُ بِخِلَافِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَكُونُ فَيَتَهَيَّأُ له وَيَنْتَظِرُ وُقُوعَهُ فَإِنَّهُ لَا يَرْتَجِفُ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ [الزُّمَرِ: 68] مِمَّنِ اعْتَقَدَ وُقُوعَهَا فَاسْتَعَدَّ لَهَا، وَقَدْ مَثَّلْنَا ذَلِكَ فِيمَنْ شَامَ بَرْقًا وَعَلِمَ أَنْ سَيَكُونَ رعد وَمَنْ لَمْ يَشِمْهُ وَلَمْ يَعْلَمْ ثُمَّ رَعَدَ الرَّعْدُ تَرَى الشَّائِمَ الْعَالِمَ ثَابِتًا وَالْغَافِلَ الذَّاهِلَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، ثُمَّ بَيَّنَ شِدَّةَ الْأَخْذِ وَهِيَ بِحَيْثُ لَا تُمْهِلُهُمْ إِلَى أَنْ يُوصُوا. وَفِيهِ أُمُورٌ مُبَيِّنَةٌ لِلشِّدَّةِ أَحَدُهَا: عَدَمُ الِاسْتِطَاعَةِ فَإِنَّ قول القائل فلأن في هذه الْحَالِ لَا يُوصِي دُونَ قَوْلِهِ لَا يَسْتَطِيعُ التَّوْصِيَةَ لِأَنَّ مَنْ لَا يُوصِي قَدْ يَسْتَطِيعُهَا الثَّانِي: التَّوْصِيَةُ وَهِيَ بِالْقَوْلِ وَالْقَوْلُ يُوجَدُ أَسْرَعَ مما يوجد الفعل فقال: لا يَسْتَطِيعُونَ كَلِمَةً فَكَيْفَ فِعْلًا يَحْتَاجُ إِلَى زَمَانٍ طَوِيلٍ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَرَدِّ الْمَظَالِمِ الثَّالِثُ: اخْتِيَارُ التَّوْصِيَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْكَلِمَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى أَهَمِّ الْكَلِمَاتِ فَإِنَّ وَقْتَ الْمَوْتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّوْصِيَةِ أَمَسُّ الرَّابِعُ: التَّنْكِيرُ فِي التَّوْصِيَةِ لِلتَّعْمِيمِ أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَوْصِيَةٍ مَا وَلَوْ كَانَتْ بِكَلِمَةٍ يَسِيرَةٍ، وَلِأَنَّ التَّوْصِيَةَ قَدْ تَحْصُلُ بِالْإِشَارَةِ فَالْعَاجِزُ عَنْهَا عَاجِزٌ عَنْ غَيْرِهَا الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ بَيَانٌ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى التَّوْصِيَةِ لِأَنَّ مَنْ يَرْجُو الْوُصُولَ إِلَى أَهْلِهِ قَدْ يُمْسِكُ عَنِ الْوَصِيَّةِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَأَمَّا مَنْ يَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا وُصُولَ لَهُ إِلَى أَهْلِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ التَّوْصِيَةِ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ مَعَ الْحَاجَةِ دَلَّ عَلَى غَايَةِ الشِّدَّةِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ يَقْطَعُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يُمْهَلُونَ إِلَى أَنْ يَجْتَمِعُوا بِأَهَالِيهِمْ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحَاجَةَ إِلَى التَّوْصِيَةِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُمْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَا يَرْجِعُونَ، يَعْنِي يَمُوتُونَ وَلَا رُجُوعَ لَهُمْ إِلَى الدُّنْيَا، وَمَنْ يُسَافِرُ سَفَرًا وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا رُجُوعَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ السَّفَرِ وَلَا اجْتِمَاعَ لَهُ بِأَهْلِهِ مَرَّةً أُخْرَى يَأْتِي بِالْوَصِيَّةِ. ثُمَّ بَيَّنَ مَا بَعْدَ بالصيحة الأول فقال: [سورة يس (36) : آية 51] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)

[سورة يس (36) : آية 52]

أَيْ نُفِخَ فِيهِ [مَرَّةً] أُخْرَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزُّمَرِ: 68] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ وَقَالَ هاهنا: فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ وَالْقِيَامُ غَيْرُ النَّسَلَانِ وَقَوْلُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: فَإِذا هُمْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَا مَعًا نَقُولُ الْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِيَامَ لَا يُنَافِي الْمَشْيَ السَّرِيعَ لِأَنَّ الْمَاشِيَ قَائِمٌ وَلَا يُنَافِي النَّظَرَ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ السُّرْعَةَ مَجِيءُ الْأُمُورِ كَأَنَّ الْكُلَّ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعًا ... [كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَيْفَ صَارَتِ النَّفْخَتَانِ مُؤَثِّرَتَيْنِ فِي أَمْرَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ؟ نَقُولُ لَا مُؤَثِّرَ غَيْرُ اللَّهِ وَالنَّفْخُ عَلَامَةٌ، ثُمَّ إِنَّ الصَّوْتَ الْهَائِلَ يُزَلْزِلُ الْأَجْسَامَ فَعِنْدَ الْحَيَاةِ كَانَتْ أَجْزَاءُ الْحَيِّ مُجْتَمِعَةً فَزَلْزَلَهَا فَحَصَلَ فِيهَا تَفْرِيقٌ، وَحَالَةَ الْمَوْتِ كَانَتِ الْأَجْزَاءُ مُتَفَرِّقَةً فَزَلْزَلَهَا فَحَصَلَ فِيهَا اجْتِمَاعٌ فَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّفْخَتَيْنِ يُؤَثِّرَانِ تَزَلْزُلًا وَانْتِقَالًا لِلْأَجْرَامِ فَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ تَتَفَرَّقُ وَعِنْدَ الِافْتِرَاقِ تَجْتَمِعُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا التَّحْقِيقُ فِي إِذَا الَّتِي لِلْمُفَاجَأَةِ؟ نَقُولُ هِيَ إِذَا الَّتِي لِلظَّرْفِ مَعْنَاهُ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا نُفِخَ فِيهِ هُمْ يَنْسِلُونَ لَكِنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ ظَرْفًا لِلشَّيْءِ مَعْلُومًا كَوْنُهُ ظَرْفًا، فعند الكلام يعلم كونه ظرفا وعند الْمُشَاهَدَةِ لَا يَتَجَدَّدُ عِلْمٌ كَقَوْلِ الْقَائِلِ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ أَضَاءَ الْجَوُّ وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَإِذَا رَأَى إِضَاءَةَ الْجَوِّ عِنْدَ الطُّلُوعِ لَمْ يَتَجَدَّدْ عِلْمٌ زَائِدٌ، وَأَمَّا إِذَا قُلْتَ خَرَجْتُ فَإِذَا أَسَدٌ بِالْبَابِ كَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ ظَرْفَ كَوْنِ الْأَسَدِ بِالْبَابِ. لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا فَإِذَا رَآهُ عَلِمَهُ فَحَصَلَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ ظَرْفًا لَهُ مُفَاجَأَةٌ عِنْدَ الْإِحْسَاسِ فَقِيلَ إِذَا لِلْمُفَاجَأَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَيْنَ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَجْدَاثٌ وَقَدْ زَلْزَلَتِ الصَّيْحَةُ الْجِبَالَ؟ نَقُولُ يَجْمَعُ اللَّهُ أَجْزَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي قُبِرَ فِيهِ فَيَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَهُوَ جَدَثُهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمَوْضِعُ مَوْضِعُ ذِكْرِ الْهَيْبَةِ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكَافِرِ وَلَفْظُ الرَّبِّ يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ فَلَوْ قَالَ بَدَلَ الرَّبِّ الْمُضَافِ إِلَيْهِمْ لَفْظًا دَالًّا عَلَى الْهَيْبَةِ هَلْ يَكُونُ أَلْيَقَ أَمْ لَا؟ قُلْنَا: هَذَا اللَّفْظُ أَحْسَنُ مَا يَكُونُ، لِأَنَّ مَنْ أَسَاءَ وَاضْطَرَّ إِلَى التَّوَجُّهِ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ يَكُونُ ذَلِكَ أَشَدَّ أَلَمًا وَأَكْثَرَ نَدَمًا مِنْ غَيْرِهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْمُسِيءُ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى الْمُحْسِنِ يُقَدِّمُ رِجْلًا وَيُؤَخِّرُ أُخْرَى، وَالنَّسَلَانُ هُوَ سُرْعَةُ الْمَشْيِ فَكَيْفَ يُوجَدُ مِنْهُمْ ذَلِكَ؟ نَقُولُ: يَنْسِلُونَ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ [الصافات: 19] أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَنُفُوذَ إِرَادَتِهِ حَيْثُ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَيَكُونُ فِي وَقْتِهِ جَمْعٌ وَتَرْكِيبٌ وَإِحْيَاءٌ وَقِيَامٌ وَعَدْوٌ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، فَقَوْلُهُ: فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ يَعْنِي فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ يَنْتَهُونَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَهِيَ النَّسَلَانُ الَّذِي لا يكون إلا بعد مراتب. / ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 52] قالُوا يَا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) يَعْنِي لَمَّا بُعِثُوا قَالُوا ذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [يس: 51] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ بُعِثُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ

[سورة يس (36) : آية 53]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَوْ قَالَ قَائِلٌ: لَوْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ يَقُولُونَ: يَا وَيْلَنَا كَانَ أَلْيَقَ، نَقُولُ مَعَاذَ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: 51] عَلَى مَا ذَكَرْنَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى فِي أَسْرَعِ زَمَانٍ يَجْمَعُ أَجَزَاءَهُمْ وَيُؤَلِّفُهَا وَيُحْيِيهَا وَيُحَرِّكُهَا، بِحَيْثُ يَقَعُ نَسَلَانُهُمْ فِي وَقْتِ النَّفْخِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْجَمْعِ وَالتَّأْلِيفِ، فَلَوْ قَالَ يَقُولُونَ، لَكَانَ ذَلِكَ مِثْلَ الْحَالِ لِيَنْسِلُونَ، أَيْ يَنْسِلُونَ قَائِلِينَ يَا وَيْلَنَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ يَا وَيْلَنَا قَبْلَ أَنْ يَنْسِلُوا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ النَّسَلَانَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَوَائِدِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ عَرَفْنَا مَعْنَى النِّدَاءِ فِي مِثْلِ يَا حَسْرَةً وَيَا حَسْرَتَا وَيَا وَيْلَنَا، وَلَكِنْ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِمْ وَقَوْلِ اللَّهِ حَيْثُ قال: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ [يس: 30] مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ، وَقَالُوا: يَا حَسْرَتَا وَيَا حَسْرَتَنَا وَيَا وَيْلَنَا؟ نَقُولُ حَيْثُ كَانَ الْقَائِلُ هُوَ الْمُكَلَّفَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ عِلْمٌ إِلَّا بِحَالَةٍ أَوْ بِحَالٍ مِنْ قُرْبٍ مِنْهُ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مَشْغُولًا بِنَفْسِهِ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَقُولُ: يَا حَسْرَتَنَا وَيَا ويلنا، فقوله: قالُوا يا وَيْلَنا أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ قَالَ يَا وَيْلِي، وَأَمَّا حَيْثُ قَالَ اللَّهُ قَالَ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ لِشُمُولِ عِلْمِهِ بِحَالِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا وَجْهُ تعلق: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا بقولهم: يا وَيْلَنا نَقُولُ لَمَّا بُعِثُوا تَذَكَّرُوا مَا كَانُوا يَسْمَعُونَ من الرسل، فقالوا: يا ويلنا مَنْ بَعَثَنَا أَبَعَثَنَا اللَّهُ الْبَعْثَ الْمَوْعُودَ بِهِ أَمْ كُنَّا نِيَامًا فَنَبَّهَنَا؟ وَهَذَا كَمَا إِذَا كَانَ إِنْسَانٌ مَوْعُودًا بِأَنْ يَأْتِيَهُ عَدُوٌّ لَا يُطِيقُهُ، ثُمَّ يَرَى رَجُلًا هَائِلًا يُقْبِلُ عَلَيْهِ فَيَرْتَجِفُ فِي نَفْسِهِ وَيَقُولُ: هَذَا ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُمْ: مِنْ مَرْقَدِنا حَيْثُ جَعَلُوا الْقُبُورَ مَوْضِعَ الرُّقَادِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَنَّهُمْ كَانُوا نِيَامًا فَنُبِّهُوا أَوْ كَانُوا مَوْتَى وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى ظَنِّهِمْ هُوَ الْبَعْثَ فَجَمَعُوا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَقَالُوا: مَنْ بَعَثَنا إِشَارَةً إِلَى ظَنِّهِمْ أَنَّهُ بَعْثُهُمُ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَقَالُوا: مِنْ مَرْقَدِنا إِشَارَةً إِلَى تَوَهُّمِهِمُ احْتِمَالَ الِانْتِبَاهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَاذَا؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَرْقَدِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا فَيَكُونُ صِفَةً لِلْمَرْقَدِ يُقَالُ كَلَامِي هَذَا صِدْقٌ وَثَانِيهِمَا: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْبَعْثِ، أَيْ هَذَا الْبَعْثُ مَا وَعَدَ بِهِ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ فِيهِ الْمُرْسَلُونَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا كَانَ هَذَا صِفَةً لِلْمَرْقَدِ فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ؟ نَقُولُ يَكُونُ مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ، مُبْتَدَأً خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ حَقٌّ، وَالْمُرْسَلُونَ صَدَقُوا، أَوْ يُقَالُ مَا وَعَدَ بِهِ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ فِيهِ الْمُرْسَلُونَ حَقٌّ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقِلَّةِ/ الْإِضْمَارِ، أَوْ يُقَالُ مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُوَ مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ مِنَ الْبَعْثِ لَيْسَ تَنْبِيهًا مِنَ النَّوْمِ، وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ فِيمَا أَخْبَرُوكُمْ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إِنْ قُلْنَا: هَذَا إِشَارَةً إِلَى الْمَرْقَدِ أَوْ إِلَى الْبَعْثِ، فَجَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ بِقَوْلِهِمْ مَنْ بَعَثَنا أَيْنَ يَكُونُ؟ نَقُولُ: لَمَّا كَانَ غَرَضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَنْ بَعَثَنا حُصُولَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ بَعْثٌ أَوْ تَنْبِيهٌ حَصَلَ الْجَوَابُ بِقَوْلِهِ هَذَا بَعْثٌ وَعَدَ الرَّحْمَنُ بِهِ لَيْسَ تَنْبِيهًا، كَمَا أَنَّ الْخَائِفَ إِذَا قَالَ لِغَيْرِهِ مَاذَا تَقُولُ أَيَقْتُلُنِي فُلَانٌ؟ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ لَا تَخَفْ وَيَسْكُتُ، لِعِلْمِهِ أَنَّ غَرَضَهُ إِزَالَةُ الرُّعْبِ عَنْهُ وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَوَابُ. ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 53] إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53)

[سورة يس (36) : آية 54]

أَيْ مَا كَانَتِ النَّفْخَةُ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً، يَدُلُّ عَلَى النَّفْخَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [يس: 51] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنْ كَانَتِ الْوَاقِعَةُ، وَقُرِئَتِ الصَّيْحَةُ مَرْفُوعَةً عَلَى أَنَّ كَانَ هِيَ التَّامَّةُ، بِمَعْنَى مَا وَقَعَتْ إِلَّا صَيْحَةٌ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ مَا وَقَعَ شَيْءٌ إِلَّا صَيْحَةٌ، لَكِنَّ التَّأْنِيثَ جَائِزٌ إِحَالَةً عَلَى الظَّاهِرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ الَّذِي قَرَأَ بِالرَّفْعِ أَنَّ قَوْلَهُ: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الْوَاقِعَةِ: 1] تَأْنِيثُ تَهْوِيلٍ وَمُبَالَغَةٍ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الواقعة: 2] فإنها للمبالغة فكذلك هاهنا قَالَ: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً مُؤَنَّثَةٌ تَأْنِيثَ تَهْوِيلٍ، وَلِهَذَا جَاءَتْ أَسْمَاءُ يَوْمِ الْحَشْرِ كُلُّهَا مُؤَنَّثَةً كَالْقِيَامَةِ وَالْقَارِعَةِ وَالْحَاقَّةِ وَالطَّامَّةِ وَالصَّاخَّةِ إِلَى غَيْرِهَا، وَالزَّمَخْشَرِيُّ يَقُولُ كَاذِبَةٌ بِمَعْنَى لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا نَفْسٌ كَاذِبَةٌ، وَتَأْنِيثُ أَسْمَاءِ الْحَشْرِ لِكَوْنِ الْحَشْرِ مسمى بالقيامة، وقوله: مُحْضَرُونَ دل على أن كونهم يَنْسِلُونَ [يس: 51] إِجْبَارِيٌّ لَا اخْتِيَارِيٌّ. ثُمَّ بَيَّنَ مَا يَكُونُ في ذلك اليوم بقوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 54] فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) فَقَوْلُهُ: لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ لِيَأْمَنَ الْمُؤْمِنُ وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لِيَيْأَسَ الْمُجْرِمُ الْكَافِرُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْفَائِدَةُ فِي الْخِطَابِ عِنْدَ الْإِشَارَةِ إِلَى يَأْسِ الْمُجْرِمِ بِقَوْلِهِ: وَلا تُجْزَوْنَ وَتَرْكِ الْخِطَابِ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى أَمَانِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْعَذَابِ بِقَوْلِهِ: لَا تُظْلَمُ وَلَمْ يَقُلْ وَلَا تُظْلَمُونَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ؟ نَقُولُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً يُفِيدُ الْعُمُومَ وَهُوَ كَذَلِكَ فَإِنَّهَا لَا تُظْلَمُ أَبَدًا وَلا تُجْزَوْنَ مُخْتَصٌّ بِالْكَافِرِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُؤْمِنَ وَإِنْ لم يفعل فإن الله فَضْلًا مُخْتَصًّا بِالْمُؤْمِنِ وَعَدْلًا عَامًّا، وَفِيهِ بِشَارَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْمُقْتَضِي لِذِكْرِ فَاءِ التَّعْقِيبِ؟ نقول لما قال: مُحْضَرُونَ [يس: 53] مَجْمُوعُونَ وَالْجَمْعُ لِلْفَصْلِ وَالْحِسَابِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ إِذَا جُمِعُوا لَمْ يُجْمَعُوا إِلَّا لِلْفَصْلِ بِالْعَدْلِ، فَلَا ظُلْمَ عِنْدَ الْجَمْعِ لِلْعَدْلِ، فَصَارَ عَدَمُ الظُّلْمِ مُتَرَتِّبًا عَلَى الْإِحْضَارِ لِلْعَدْلِ، وَلِهَذَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِلْوَالِيِّ أَوْ لِلْقَاضِي: جَلَسْتَ لِلْعَدْلِ فَلَا تَظْلِمْ، أَيْ ذَلِكَ يَقْتَضِي هَذَا وَيَسْتَعْقِبُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَا يُجْزَوْنَ عَيْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، بَلْ يُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا أَوْ عَلَى مَا كَانُوا وَقَوْلُهُ: وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ بِعَيْنِ الْعَمَلِ، لَا يُقَالُ جَزَى يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِالْبَاءِ، يُقَالُ جَزَيْتُهُ خَيْرًا وَجَزَيْتُهُ بِخَيْرٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ هَذَا لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ جَزَيْتُهُ بِخَيْرٍ لَا يَكُونُ الْخَيْرُ مَفْعُولَكَ، بَلْ تَكُونُ الْبَاءُ لِلْمُقَابَلَةِ وَالسَّبَبِيَّةِ كَأَنَّكَ تَقُولُ جَزَيْتُهُ جَزَاءً بِسَبَبِ مَا فَعَلَ، فَنَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ يَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةً عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ إِلَى عَدَمِ الزِّيَادَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَزِيدُ عَلَى عَيْنِهِ، فَنَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: تجزون بما كانوا يعملون فِي الْمُسَاوَاةِ كَأَنَّهُ عَيْنُ مَا عَمِلُوا يُقَالُ فُلَانٌ يُجَاوِبُنِي حَرْفًا بِحَرْفٍ أَيْ لَا يَتْرُكُ شَيْئًا، وَهَذَا يُوجِبُ الْيَأْسَ الْعَظِيمَ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ مَا غَيْرُ رَاجِعٍ إِلَى الْخُصُوصِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلْجِنْسِ تَقْدِيرُهُ وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا جِنْسَ الْعَمَلِ أَيْ إِنْ كَانَ حَسَنَةً فَحَسَنَةً، وَإِنْ كَانَتْ سَيِّئَةً فَسَيِّئَةً فَتُجْزَوْنَ مَا تَعْمَلُونَ مِنَ السَّيِّئَةِ وَالْحَسَنَةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] .

[سورة يس (36) : الآيات 55 إلى 57]

ثم بين حال المحسن وقال: [سورة يس (36) : الآيات 55 الى 57] إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) وَقَوْلُهُ: فِي شُغُلٍ يحتمل وجوها: أحدهما: فِي شُغُلٍ عَنْ هَوْلِ الْيَوْمِ بِأَخْذِ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ، فَمَا عِنْدَهُمْ خَبَرٌ مِنْ عَذَابٍ وَلَا حِسَابٍ، وَقَوْلُهُ: فاكِهُونَ يَكُونُ مُتَمِّمًا لِبَيَانِ سَلَامَتِهِمْ فَاللَّهُ لَوْ قَالَ: فِي شُغُلٍ جَازَ أَنْ يُقَالَ هُمْ فِي شُغُلٍ عظم مِنَ التَّفَكُّرِ فِي الْيَوْمِ وَأَهْوَالِهِ، فَإِنَّ مَنْ يُصِيبُهُ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ ثُمَّ يُعْرَضُ عَلَيْهِ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِهِ وَيُخْبَرُ بِخُسْرَانٍ وَقَعَ فِي مَالِهِ، يَقُولُ أَنَا مَشْغُولٌ عَنْ هَذَا بِأَهَمَّ مِنْهُ، فَقَالَ: فاكِهُونَ أَيْ شُغِلُوا عَنْهُ بِاللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ لَا بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَيَانًا لِحَالِهِمْ وَلَا يُرِيدُ أَنَّهُمْ شُغِلُوا عَنْ شَيْءٍ بَلْ يَكُونُ مَعْنَاهُ هُمْ فِي عَمَلٍ، ثُمَّ بَيَّنَ عَمَلَهُمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَاقٍّ، بَلْ هُوَ مُلِذٌّ مَحْبُوبٌ وَثَالِثُهَا: فِي شُغُلٍ عَمَّا تَوَقَّعُوهُ فَإِنَّهُمْ تَصَوَّرُوا فِي الدُّنْيَا أُمُورًا وَقَالُوا نَحْنُ إِذَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ لَا نَطْلُبُ إِلَّا كَذَا وَكَذَا، فَرَأَوْا مَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ فَاشْتَغَلُوا بِهِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: غَيْرُ هَذِهِ ضَعِيفَةٌ أَحَدُهَا: قِيلَ افْتِضَاضُ الْأَبْكَارِ وَهَذَا مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ أَنَّ الْإِنْسَانَ/ قَدْ يَتَرَجَّحُ فِي نَظَرِهِ الْآنَ مُدَاعَبَةُ الْكَوَاعِبِ فَيَقُولُ فِي الْجَنَّةِ أَلْتَذُّ بِهَا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ رُبَّمَا يُؤْتِيهِ مَا يَشْغَلُهُ عَنْهَا وَثَانِيهَا قِيلَ فِي ضَرْبِ الْأَوْتَارِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ تَوَهُّمٌ وَثَالِثُهَا فِي التَّزَاوُرِ وَرَابِعُهَا: فِي ضِيَافَةِ اللَّهِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قُلْنَا لِأَنَّ ضِيَافَةَ اللَّهِ تَكُونُ بِأَلَذِّ مَا يُمْكِنُ وَحِينَئِذٍ تَشْغَلُهُ تِلْكَ عَمَّا تَوَهَّمَهُ فِي دُنْيَاهُ وَقَوْلُهُ: فاكِهُونَ خبر إن، وفِي شُغُلٍ بَيَانُ مَا فَكَاهَتُهُمْ فِيهِ يُقَالُ زَيْدٌ عَلَى عَمَلِهِ مُقْبِلٌ، وَفِي بَيْتِهِ جَالِسٌ فَلَا يَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرًا وَلَوْ نَصَبْتَ جَالِسًا لكان الجار والمحرور خَبَرًا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ فِي شُغُلٍ فَاكِهِينَ لَكَانَ مَعْنَاهُ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ مَشْغُولُونَ فَاكِهِينَ عَلَى الْحَالِ وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ وَالْفَاكِهُ «1» الْمُلْتَذُّ الْمُتَنَعِّمُ بِهِ وَمِنْهُ الْفَاكِهَةُ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ فِي السَّعَةِ إِلَّا لِلَذَّةٍ فَلَا تُؤْكَلُ لِدَفْعِ أَلَمِ الْجُوعِ، وَفِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ. وَهُوَ أَنَّهُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: فِي شُغُلٍ عَنْ عُدْمِهِمُ الْأَلَمَ فَلَا أَلَمَ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ بُقُولِهِ: فاكِهُونَ عَنْ وِجْدَانِهِمُ اللَّذَّةَ وَعَادِمُ الْأَلَمِ قَدْ لَا يَكُونُ وَاجِدًا لِلَذَّةٍ. فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ عَلَى أَتَمِّ حَالٍ ثُمَّ بَيَّنَ الْكَمَالَ بِقَوْلِهِ: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ فِي لَذَّةٍ قَدْ تَتَنَغَّصُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ تَفَكُّرِهِ فِي حَالِ مَنْ يُهِمُّهُ أَمْرُهُ فَقَالَ: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ أَيْضًا فَلَا يَبْقَى لَهُمْ تَعَلُّقُ قَلْبٍ، وَأَمَّا مَنْ فِي النَّارِ مِنْ أَقَارِبِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ فَيَكُونُونَ هُمْ عَنْهُمْ فِي شُغُلٍ، وَلَا يَكُونُ مِنْهُمْ عِنْدَهُمْ أَلَمٌ وَلَا يَشْتَهُونَ حُضُورَهُمْ وَالْأَزْوَاجُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَشْكَالُهُمْ فِي الْإِحْسَانِ وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ [ص: 58] ، وَثَانِيهِمَا: الْأَزْوَاجُ هُمُ الْمَفْهُومُونَ مِنْ زَوْجِ الْمَرْأَةِ وَزَوْجَةِ الرَّجُلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [الْمَعَارِجِ: 30] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَذَرُونَ أَزْواجاً [الْبَقَرَةِ: 234] فَإِنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ هُوَ الْأَشْكَالَ، وَقَوْلُهُ: فِي ظِلالٍ جَمْعُ ظِلٍّ وَظُلَلٌ جَمْعُ ظُلَّةٍ وَالْمُرَادُ بِهِ الْوِقَايَةُ عَنْ مَكَانِ الْأَلَمِ، فَإِنَّ الْجَالِسَ تَحْتَ كِنٍّ لَا يَخْشَى الْمَطَرَ ولا حر الشمس فيكون به مُسْتَعِدًّا لِدَفْعِ الْأَلَمِ، فَكَذَلِكَ لَهُمْ مِنْ ظِلِّ اللَّهِ مَا يَقِيهِمُ الْأَسْوَاءَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ [فَاطِرٍ: 35] وَقَالَ: لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً

_ (1) في طبعة بولاق «والفاكهة» وهو خطأ واضح، والفاكه اسم فاعل من فكه والتفكه التمتع والتعجب، والفاكهة المزاح.

[الْإِنْسَانِ: 13] إِشَارَةً إِلَى عَدَمِ الْآلَامِ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ أَيْضًا وَهِيَ أَنَّ حَالَ الْمُكَلَّفِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ اخْتِلَالُهَا بِسَبَبِ مَا فِيهِ مِنَ الشُّغُلِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَكَانٍ عَالٍ كَالْقَاعِدِ فِي حَرِّ الشَّمْسِ فِي الْبُسْتَانِ الْمُتَنَزَّهِ أَوْ يَكُونَ بِسَبَبِ الْمَكَانِ، وَإِنْ كَانَ الشُّغُلُ مَطْلُوبًا كَمُلَاعَبَةِ الْكَوَاعِبِ فِي الْمَكَانِ الْمَكْشُوفِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ الْمَأْكَلِ كَالْمُتَفَرِّجِ فِي الْبُسْتَانِ إِذَا أَعْوَزَهُ الطَّعَامُ، وَإِمَّا بِسَبَبِ فَقْدِ الْحَبِيبِ، وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ أَهْلُ الْقَلْبِ فِي شَرَائِطِ السَّمَاعِ بِقَوْلِهِمُ: الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ وَالْإِخْوَانُ فَقَالَ تَعَالَى: فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا فِي تَعَبٍ وَقَالَ: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ إِشَارَةً إِلَى عَدَمِ الْوَحْدَةِ الموحشة وقال: فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ إِشَارَةً إِلَى الْمَكَانِ وَقَالَ: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ إِشَارَةً إِلَى دَفْعِ جَمِيعِ حوائجهم وقوله: مُتَّكِؤُنَ إِشَارَةٌ إِلَى أَدَلِّ وَضْعٍ عَلَى الْقُوَّةِ وَالْفَرَاغَةِ فإن القائم قد يقوم لشغل والقائد قَدْ يَقْعُدُ لَهُمْ. وَأَمَّا الْمُتَّكِئُ فَلَا يَتَّكِئُ إِلَّا عِنْدَ الْفَرَاغِ وَالْقُدْرَةِ لِأَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاتِّكَاءِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُضْطَجِعًا أَوْ مُسْتَلْقِيًا وَالْأَرَائِكُ جَمْعُ أَرِيكَةٍ. وَهِيَ السَّرِيرُ الَّذِي عَلَيْهِ الْفَرْشُ وَهُوَ تَحْتَ الْحَجَلَاتِ فَيَكُونُ مَرْئِيًّا هُوَ/ وَمَا فَوْقَهُ وَقَوْلُهُ: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنْ لَا جُوعَ هُنَاكَ، وَلَيْسَ الْأَكْلُ لِدَفْعِ أَلَمِ الْجُوعِ، وَإِنَّمَا مَأْكُولُهُمْ فَاكِهَةٌ، وَلَوْ كَانَ لَحْمًا طَرِيًّا، لَا يُقَالُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الْوَاقِعَةِ: 21] يَدُلُّ عَلَى التَّغَايُرِ وَصِدْقِ الشَّهْوَةِ وَهُوَ الْجُوعُ لِأَنَّا نقول قوله: مِمَّا يَشْتَهُونَ يُؤَكِّدُ مَعْنَى عَدَمِ الْأَلَمِ لِأَنَّ أَكْلَ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ لِلتَّدَاوِي مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ فَقَالَ مِمَّا يَشْتَهُونَ لِأَنَّ لَحْمَ الطَّيْرِ فِي الدُّنْيَا يُؤْكَلُ فِي حَالَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: حَالَةُ التَّنَعُّمِ وَالثَّانِيَةُ: حَالَةُ ضَعْفِ الْمَعِدَةِ وَحِينَئِذٍ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ طَيْرٍ يَشْتَهِيهِ، وَإِنَّمَا يَأْكُلُ مَا يُوَافِقُهُ وَيَأْمُرُهُ بِهِ الطَّبِيبُ، وَأَمَّا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّغَايُرِ، فنقول مسلم ذَلِكَ لِأَنَّ الْخَاصَّ يُخَالِفُ الْعَامَّ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي غَرَضِنَا، لِأَنَّا نَقُولُ إِنَّمَا اخْتَارَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَأْكُولِ الْفَاكِهَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهَا أَدَلُّ عَلَى التَّنَعُّمِ وَالتَّلَذُّذِ وَعَدَمِ الْجُوعِ وَالتَّنْكِيرُ لِبَيَانِ الْكَمَالِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا وَقَوْلُهُ: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَمْ يَقُلْ يَأْكُلُونَ، إِشَارَةً إِلَى كَوْنِ زِمَامِ الِاخْتِيَارِ بِيَدِهِمْ وَكَوْنِهِمْ مَالِكِينَ وَقَادِرِينَ وَقَوْلُهُ: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ فيه وجوه: أحدها: لهم فيها مَا يَدَّعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ أَيْ دُعَاؤُهُمْ مُسْتَجَابٌ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا افْتِعَالًا بِمَعْنَى الْفِعْلِ كَالِاحْتِمَالِ بِمَعْنَى الْحَمْلِ وَالِارْتِحَالِ بِمَعْنَى الرَّحِيلِ، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ دُعَاءً فَيُسْتَجَابُ دُعَاؤُهُمْ بَعْدَ الطَّلَبِ بَلْ مَعْنَاهُ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ أَيْ ذَلِكَ لَهُمْ فَلَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَى الدُّعَاءِ وَالطَّلَبِ، كَمَا أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا طَلَبَ مِنْهُ مَمْلُوكُهُ شَيْئًا يَقُولُ لَكَ ذَلِكَ فَيُفْهَمُ مِنْهُ تَارَةً أَنَّ طَلَبَكَ مُجَابٌ وَأَنَّ هَذَا أَمْرٌ هَيِّنٌ بِأَنْ تُعْطَى مَا طَلَبْتَ، وَيُفْهَمُ تَارَةً مِنْهُ الرَّدُّ وَبَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ لَكَ حَاصِلٌ فَلِمَ تَطْلُبُهُ فَقَالَ تَعَالَى: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ وَيَطْلُبُونَ فَلَا طَلَبَ لَهُمْ وَتَقْرِيرُهُ هُوَ أَنْ يَكُونَ مَا يَدَّعُونَ بِمَعْنَى مَا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَبَ وَيُدَّعَى يَعْنِي كُلَّ مَا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَبَ فَهُوَ حَاصِلٌ لَهُمْ قَبْلَ الطَّلَبِ، أَوْ نَقُولُ الْمُرَادُ الطَّلَبُ وَالْإِجَابَةُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَبَ مِنَ اللَّهِ أَيْضًا فِيهِ لَذَّةٌ فَلَوْ قَطَعَ اللَّهُ الْأَسْبَابَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ لَمَا كَانَ يَطِيبُ لَهُمْ فَأَبْقَى أَشْيَاءَ يُعْطِيهِمْ إِيَّاهَا عِنْدَ الطَّلَبِ لِيَكُونَ لَهُمْ عِنْدَ الطَّلَبِ لَذَّةٌ وَعِنْدَ الْعَطَاءِ، فَإِنَّ كَوْنَ الْمَمْلُوكِ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُخَاطِبَ الْمَلِكَ فِي حَوَائِجِهِ مَنْصِبٌ عَظِيمٌ، وَالْمَلِكُ الْجَبَّارُ قَدْ يَدْفَعُ حَوَائِجَ الْمَمَالِيكِ بِأَسْرِهَا قَصْدًا مِنْهُ لِئَلَّا يُخَاطَبَ الثَّانِي: مَا يَدَّعُونَ مَا يَتَدَاعُونَ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ افْتِعَالًا بِمَعْنَى التَّفَاعُلِ كَالِاقْتِتَالِ بِمَعْنَى التَّقَاتُلِ، وَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا يَصِحُّ أَنْ يَدْعُوَ أَحَدٌ صَاحِبَهُ إِلَيْهِ أَوْ يَطْلُبَهُ أَحَدٌ مِنْ صَاحِبِهِ فَهُوَ حَاصِلٌ لَهُمْ الثَّالِثُ: مَا يَتَمَنَّوْنَهُ الرَّابِعُ: بِمَعْنَى الدَّعْوَى وَمَعْنَاهُ حِينَئِذٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ فِي الدُّنْيَا أَنَّ لَهُمُ اللَّهَ وَهُوَ مَوْلَاهُمْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ. فَقَالَ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مَا يَدَّعُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَتَكُونُ الْحِكَايَةُ مَحْكِيَّةً فِي الدُّنْيَا، كَأَنَّهُ يَقُولُ فِي يَوْمِنَا هَذَا لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ غَدًا مَا تَدَّعُونَ الْيَوْمَ، لَا يُقَالُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ

[سورة يس (36) : آية 58]

الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لِأَنَّا نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: هُمْ مُبْتَدَأٌ وَأَزْواجُهُمْ عَطْفٌ عَلَيْهِمْ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ فِي يَوْمِنَا هَذَا يُخْبِرُنَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ وَأَزْوَاجَهُ فِي ظِلَالٍ غدا وله ما يدعيه والجواب الثَّانِي: / وَهُوَ أَوْلَى هُوَ أَنْ نَقُولَ: مَعْنَاهُ لَهُمْ مَا يَدَّعُونَ أَيْ مَا كَانُوا يَدَّعُونَ. لَا يُقَالُ بِأَنَّهُ إِضْمَارٌ حَيْثُ لَا ضَرُورَةَ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّا نَقُولُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا يَبْقَى الِادِّعَاءُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ الْمَشْهُورِ لِأَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْإِتْيَانُ بِالدَّعْوَى وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ هَذَا أَوْلَى لِأَنَّ قَوْلِهِ: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] هُوَ فِي دَارِ الْآخِرَةِ وَهُوَ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: مَا يَدَّعُونَ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا يَدَّعُونَ مَذْكُورٌ بَيْنَ جُمَلٍ كُلُّهَا فِي الْآخِرَةِ فَمَا يَدَّعُونَ أَيْضًا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ وَفِي الْآخِرَةِ لَا يَبْقَى دَعْوَى وَبَيِّنَةٌ لِظُهُورِ الْأُمُورِ والفصل بين أهل الثبور والحبور. وقوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 58] سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) هُوَ أَكْمَلُ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ آخِرُهَا الَّذِي لَا شَيْءَ فَوْقَهُ وَلْنُبَيِّنْهُ فِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الرَّافِعُ لِقَوْلِهِ سَلامٌ؟ نَقُولُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وُجُوهًا أَحَدُهَا: هُوَ بَدَلٌ مِمَّا يَدَّعُونَ كَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قال: لَهُمْ ما يَدَّعُونَ [يس: 57] بَيَّنَهُ بِبَدَلِهِ فَقَالَ لَهُمْ سَلَامٌ فَيَكُونُ فِي الْمَعْنَى كَالْمُبْتَدَأِ الَّذِي خَبَرُهُ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ، كَمَا يُقَالُ فِي الدَّارِ رَجُلٌ وَلِزَيْدٍ مَالٌ، وَإِنْ كَانَ فِي النَّحْوِ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ بَدَلٌ وَبَدَلُ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ جَائِزٌ فَتَكُونُ مَا بِمَعْنَى الَّذِي مَعْرِفَةً وَسَلَامٌ نَكِرَةً، وَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَدَّعُونَ لَا مَوْصُوفَةٌ وَلَا مَوْصُولَةٌ بَلْ هِيَ نَكِرَةٌ تَقْدِيرُهُ لَهُمْ شَيْءٌ يَدَّعُونَ ثُمَّ بَيَّنَ بِذِكْرِ الْبَدَلِ فَقَالَ: سَلامٌ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ وَثَانِيهَا: سَلَامٌ خَبَرُ مَا وَلَهُمْ لِبَيَانِ الْجِهَةِ تَقْدِيرُهُ مَا يَدَّعُونَ سَالِمٌ لَهُمْ أَيْ خَالِصٌ وَالسَّلَامُ بِمَعْنَى السَّالِمِ الْخَالِصِ أَوِ السليم يقال عبد السلام أَيْ سَلِيمٌ مِنَ الْعُيُوبِ كَمَا يُقَالُ لِزَيْدٍ الشَّرَفُ مُتَوَفِّرٌ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ يَكُونُ لِبَيَانِ مَنْ لَهُ ذَلِكَ وَالشَّرَفُ هُوَ الْمُبْتَدَأُ وَمُتَوَفِّرٌ خَبَرُهُ وَثَالِثُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: سَلامٌ مُنْقَطِعٌ عَمَّا تَقَدَّمَ وَسَلَامٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ سَلَامُ عَلَيْهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي يَوْمِنَا هَذَا كَأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى لَنَا وَقَالَ: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ [يس: 55] ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ كَمَالَ حَالِهِمْ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَلامٌ عَلى نُوحٍ [الصافات: 79] سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصَّافَّاتِ: 181] فَيَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى أَحْسَنَ إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا أَحْسَنَ إِلَى عِبَادِهِ الْمُرْسَلِينَ وَهَذَا وَجْهٌ مُبْتَكَرٌ جَيِّدٌ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَنْقُولٌ، أَوْ نَقُولُ تَقْدِيرُهُ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَيَكُونُ هَذَا نَوْعًا مِنَ الِالْتِفَاتِ حَيْثُ قَالَ لَهُمْ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلًا مَنْصُوبٌ بِمَاذَا؟ نَقُولُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ تَقْدِيرُهُ عَلَى قَوْلِنَا الْمُرَادُ لَهُمْ سَلَامٌ هُوَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ سَلَامٌ يَقُولُهُ اللَّهُ قَوْلًا أَوْ تَقُولُهُ الْمَلَائِكَةُ قَوْلًا وَعَلَى قَوْلِنَا مَا يَدَّعُونَ سَالِمٌ لَهُمْ تَقْدِيرُهُ قَالَ اللَّهُ ذَلِكَ قَوْلًا وَوَعَدَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَالِمٌ وَعْدًا وَعَلَى قَوْلِنَا سَلَامٌ عَلَيْهِمْ تَقْدِيرُهُ أَقُولُهُ قَوْلًا وَقَوْلُهُ: مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ يَكُونُ لِبَيَانِ أَنَّ السَّلَامَ مِنْهُ أَيْ سَلَامٌ عَلَيْهِمْ مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ أَقُولُهُ قَوْلًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا إِنَّهُ تَمْيِيزٌ لِأَنَّ السَّلَامَ قَدْ يَكُونُ قَوْلًا وَقَدْ/ يَكُونُ فِعْلًا فَإِنَّ مَنْ يَدْخُلُ عَلَى الْمَلِكِ فَيُطَأْطِئُ رَأْسَهُ يَقُولُ سَلَّمْتُ عَلَى الْمَلِكِ، وَهُوَ حِينَئِذٍ كَقَوْلِ الْقَائِلِ الْبَيْعُ مَوْجُودٌ حُكْمًا لَا حِسًّا وَهَذَا مَمْنُوعٌ عَنْهُ قَطْعًا لَا ظَنًّا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ فِي السَّلَامِ مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ وَقَالَ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِكْرَامِ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ

[سورة يس (36) : آية 59]

[فُصِّلَتْ: 32] فَهَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ؟ نَقُولُ نَعَمْ، أَمَّا هُنَاكَ فَلِأَنَّ النُّزُلَ مَا يُرْزَقُ النَّزِيلُ أَوَّلًا، وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ فَإِنَّ النَّزِيلَ إِذَا أُكْرِمَ أَوَّلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُكْرَمٌ وَإِذَا أُخِلَّ بِإِكْرَامِهِ فِي الْأَوَّلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُهَانٌ دَائِمًا غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَلِكُ وَاسِعَ الرِّزْقِ فَيَرْزُقُ نَزِيلَهُ أَوَّلًا وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَيُنَاقِشُهُ فِي غَيْرِهِ فَقَالَ غَفُورٌ لِمَا صَدَرَ مِنَ الْعَبِيدِ لِيَأْمَنَ الْعَبْدُ وَلَا يَقُولَ بِأَنَّ الْإِطْعَامَ قَدْ يُوجَدُ مِمَّنْ يُعَاقَبُ بَعْدَهُ وَالسَّلَامُ يُظْهِرُ مَزِيَّةَ تَعْظِيمِهِ للمسلم عليه لا بمغفرة فقال: رَبٌّ غَفُورٌ لِأَنَّ رَبَّ الشَّيْءِ مَالِكُهُ الَّذِي إِذَا نَظَرَ إِلَى عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ لَا يُرْجَى مِنْهُ الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ بِالتَّعْظِيمِ، فَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ يَعْجَبُ مِنْهُ وقيل انظر هو سيده ويسلم عليه. ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 59] وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) وَفِيهِ وُجُوهٌ مِنْهَا تَبْيِينُ وَجْهِ التَّرْتِيبِ أَيْضًا الْأَوَّلُ: امْتَازُوا فِي أَنْفُسِكُمْ وَتَفَرَّقُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [الْمُلْكِ: 8] أَيْ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ غَيْرَ أَنَّ تَمَيِّزَهُمْ مِنَ الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ وَوَجْهُ التَّرْتِيبِ حِينَئِذٍ أَنَّ الْمُجْرِمَ يَرَى مَنْزِلَةَ الْمُؤْمِنِ وَرِفْعَتَهُ وَنُزُولَ دَرَكِتِهِ وَضَعَتَهُ فَيَتَحَسَّرُ فَيُقَالُ لَهُمْ امتازوا الْيَوْمَ إِذْ لَا دَوَاءَ لِأَلَمِكُمْ وَلَا شِفَاءَ لِسَقَمِكُمْ الثَّانِي: امْتَازُوا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ مُشَاهِدِينَ لِمَا يَصِلُ إِلَى الْمُؤْمِنِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْإِكْرَامِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ تَفَرَّقُوا وَادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ مِنَ النَّارِ فَلَمْ يَبْقَ لَكُمُ اجْتِمَاعٌ بِهِمْ أَبَدًا الثَّالِثُ: امْتَازُوا بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ عَلَى خِلَافِ مَا لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الِاجْتِمَاعِ بِالْإِخْوَانِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ [يس: 56] فَأَهْلُ النَّارِ يَكُونُ لَهُمُ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ وَعَذَابُ الْفُرْقَةِ أَيْضًا وَلَا عَذَابَ فَوْقَ الْفُرْقَةِ، بَلِ الْعُقَلَاءُ قَالُوا بِأَنَّ كُلَّ عَذَابٍ فَهُوَ بِسَبَبِ تَفَرُّقِ اتِّصَالٍ، فَإِنَّ مَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ أَوْ أُحْرِقَ جِسْمُهُ فَإِنَّمَا يَتَأَلَّمُ بِسَبَبِ تَفَرُّقِ الْمُتَّصِلَاتِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، لَكِنَّ التَّفَرُّقَ الْجِسْمِيَّ دُونَ التَّفَرُّقِ الْعَقْلِيِّ الرَّابِعُ: امْتَازُوا عَنْ شُفَعَائِكُمْ وَقُرَنَائِكُمْ فَمَا لَكُمُ الْيَوْمَ حَمِيمٌ وَلَا شَفِيعٌ الْخَامِسُ: امْتَازُوا عَمَّا تَرْجُونَ وَاعْتِزَلُوا عَنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَالْمُجْرِمُ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالْجَرِيمَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ امْتَازُوا فَيُظْهِرُ عَلَيْهِمْ سِيمًا يُعْرَفُونَ بِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ [الرَّحْمَنِ: 41] وحينئذ يكون قوله تعالى امتازوا أَمْرَ تَكْوِينٍ، كَمَا أَنَّهُ يَقُولُ: كُنْ فَيَكُونُ كَذَلِكَ يَقُولُ امْتَازُوا فَيَتَمَيَّزُونَ بِسِيمَاهُمْ وَيَظْهَرُ عَلَى جباههم أو في وجوههم سواء. / ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 60] أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) [في قوله تعالى أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ] لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجْرِمِينَ كَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، وَالْجَهْلُ مِنَ الْأَعْذَارِ، فَقَالَ اللَّهُ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الْإِنْذَارِ، وَقَدْ سَبَقَ إِيضَاحُ السُّبُلِ بِإِيضَاحِ الرُّسُلِ، وَعَهِدْنَا إِلَيْكُمْ وَتَلَوْنَا عَلَيْكُمْ مَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلُوهُ وَمَا لَا يَنْبَغِي، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي اللُّغَاتِ الَّتِي فِي أَعْهَدْ وَهِيَ كَثِيرَةٌ الْأُولَى: كَسْرُ هَمْزَةِ إِعْهَدْ وَحُرُوفُ الِاسْتِقْبَالِ كُلُّهَا تُكْسَرُ إِلَّا الْيَاءَ فَلَا يُقَالُ يَعْلَمُ وَيِعْلَمُ الثَّانِيَةُ: كَسْرُ الْهَاءِ مِنْ بَابِ ضَرَبَ يَضْرِبُ الثَّالِثَةُ: قَلْبُ الْعَيْنِ جِيمًا أَلَمْ أَجْهَدْ «1» وَذَلِكَ فِي كُلِّ عَيْنٍ بَعْدَهَا هَاءٌ الرَّابِعَةُ: إِدْغَامُ الْهَاءِ فِي الْحَاءِ بَعْدَ الْقَلْبِ فَيُقَالُ أَلَمْ أَحَّدْ، وَقَدْ سُمِعَ قَوْمٌ يَقُولُونَ دَحَّا مَحَّا، أَيْ دَعْهَا معها.

_ (1) هكذا في مطبعة بولاق (أجهد) بالجيم ويظهر أن الصواب هكذا «قلب العين حاء ألم أجهد» بدليل ما سيذكره في اللغة الرابعة.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَعْنَى أَعْهَدْ وُجُوهٌ أَقْرَبُهَا وأقربها أَلَمْ أُوصِ إِلَيْكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي هَذَا الْعَهْدِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي كَانَ مَعَ أَبِينَا آدَمَ بِقَوْلِهِ عَهِدْنا إِلى آدَمَ [طه: 115] ، الثَّانِي: أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ مَعَ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَافِ: 172] فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا نَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَقْوَى، أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَعَ كُلِّ قَوْمٍ عَلَى لِسَانِ رَسُولٍ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْمُرُ بِالشَّرِّ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي حَقِيقَتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ مَعْنَاهُ لَا تُطِيعُوهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَيْسَ هُوَ السُّجُودَ لَهُ فَحَسْبُ، بَلِ الِانْقِيَادُ لِأَمْرِهِ وَالطَّاعَةُ لَهُ فَالطَّاعَةُ عِبَادَةٌ، لَا يُقَالُ فَنَكُونُ نَحْنُ مَأْمُورِينَ بِعِبَادَةِ الْأُمَرَاءِ حَيْثُ أُمِرْنَا بِطَاعَتِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النِّسَاءِ: 59] لِأَنَّا نَقُولُ طَاعَتُهُمْ إِذَا كَانَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ، لَا تَكُونُ إِلَّا عِبَادَةً لِلَّهِ وَطَاعَةً لَهُ، وَكَيْفَ لَا وَنَفْسُ السُّجُودِ وَالرُّكُوعِ لِلْغَيْرِ إِذَا كَانَ بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَكُونُ إِلَّا عِبَادَةً لِلَّهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ سَجَدُوا لِآدَمَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلَّا عِبَادَةً لِلَّهِ، وَإِنَّمَا عِبَادَةُ الْأُمَرَاءِ هُوَ طَاعَتُهُمْ فِيمَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ بِمَاذَا تَعْلَمُ طَاعَةَ الشَّيْطَانِ مِنْ طَاعَةِ الرَّحْمَنِ، مَعَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ مِنَ الشَّيْطَانِ خَبَرًا وَلَا نَرَى مِنْهُ أَثَرًا؟ نَقُولُ عِبَادَةُ الشَّيْطَانِ فِي مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ أَوِ الْإِتْيَانِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ لَا لِأَنَّهُ أَمَرَ بِهِ، فَفِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ يَكُونُ الشَّيْطَانُ يَأْمُرُكَ وَهُوَ فِي غَيْرِكَ، وَفِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ يَأْمُرُكَ وَهُوَ فِيكَ، فَإِذَا جَاءَكَ شَخْصٌ يَأْمُرُكَ بِشَيْءٍ، فَانْظُرْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِأَمْرِ اللَّهِ أَوْ لَيْسَ مُوَافِقًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا فذلك الشخص معه الشَّيْطَانِ يَأْمُرُكَ بِمَا يَأْمُرُكَ بِهِ، فَإِنْ أَطَعْتَهُ فَقَدْ عَبَدْتَ الشَّيْطَانَ، وَإِنْ دَعَتْكَ نَفْسُكَ إِلَى فِعْلٍ فَانْظُرْ أَهُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ أَوْ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ فَنَفْسُكَ هِيَ الشَّيْطَانُ، أَوْ مَعَهَا الشَّيْطَانُ يَدْعُوكَ، فَإِنِ اتَّبَعْتَهُ فَقَدْ عَبَدْتَهُ، ثُمَّ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْمُرُ أَوَّلًا بِمُخَالَفَةِ/ اللَّهِ ظَاهِرًا، فَمَنْ أَطَاعَهُ فَقَدْ عَبَدَهُ وَمَنْ لَمْ يُطِعْهُ فَلَا يَرْجِعُ عَنْهُ، بَلْ يَقُولُ لَهُ اعْبُدِ اللَّهَ كَيْ لَا تُهَانَ، وَلِيَرْتَفِعَ عِنْدَ النَّاسِ شَأْنُكَ، وَيَنْتَفِعَ بِكَ إِخْوَانُكَ وَأَعْوَانُكَ، فَإِنْ أَجَابَ إِلَيْهِ فَقَدْ عَبَدَهُ لَكِنَّ عِبَادَةَ الشَّيْطَانِ عَلَى تَفَاوُتٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْهَا مَا يَقَعُ وَالْعَامِلُ مُوَافِقٌ فِيهِ جَنَانَهُ وَلِسَانَهُ وَأَرْكَانَهُ، وَمِنْهَا مَا يَقَعُ وَالْجَنَانُ وَاللِّسَانُ مُخَالِفٌ لِلْجَوَارِحِ أَوْ لِلْأَرْكَانِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَرْتَكِبُ جَرِيمَةً كَارِهًا بِقَلْبِهِ لِمَا يَقْتَرِفُ مِنْ ذَنْبِهِ، مُسْتَغْفِرًا لِرَبِّهِ، يَعْتَرِفُ بِسُوءِ مَا يَقْتَرِفُ فَهُوَ عِبَادَةُ الشَّيْطَانِ بِالْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْتَكِبُهَا وَقَلْبُهُ طَيِّبٌ وَلِسَانُهُ رَطْبٌ، كَمَا أَنَّكَ تَجِدُ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَفْرَحُ بِكَوْنِهِ مُتَرَدِّدًا إِلَى أَبْوَابِ الظَّلَمَةِ لِلسِّعَايَةِ، وَيَعُدُّ مِنَ الْمَحَاسِنِ كَوْنَهُ سَارِيًا مَعَ الْمُلُوكِ وَيَفْتَخِرُ بِهِ بِلِسَانِهِ، وَتَجِدُهُمْ يَفْرَحُونَ بِكَوْنِهِمْ آمِرِينَ الْمَلِكَ بِالظُّلْمِ وَالْمَلِكُ يَنْقَادُ لَهُمْ، أَوْ يَفْرَحُونَ بِكَوْنِهِ يَأْمُرُهُمْ بِالظُّلْمِ فَيَظْلِمُونَ، فَرِحِينَ بِمَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَمْرِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فالطاعة التي بِالْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ، وَالْبَوَاطِنُ طَاهِرَةٌ مُكَفَّرَةٌ بِالْأَسْقَامِ وَالْآلَامِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ «الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» وَقَوْلُهُ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: «السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ» ، أَيْ لِمِثْلِ هَذِهِ الذُّنُوبِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ فِي الْحُدُودِ «إِنَّهَا كَفَّارَاتٌ» وَمَا يَكُونُ بِالْقُلُوبِ فَلَا خَلَاصَ عَنْهُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ وَإِقْبَالِ الْقَلْبِ عَلَى الرَّبِّ، وَمَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا يَكُونُ بِالْقَلْبِ فِي الظَّاهِرِ، وَالْمِثَالُ يُوَضِّحُ الْحَالَ فَنَقُولُ إِذَا كَانَ عِنْدَ السُّلْطَانِ أَمِيرٌ وَلَهُ غِلْمَانٌ هُمْ مِنْ خواص الأمير وأتباع بعداءهم مِنْ عَوَامِّ النَّاسِ، فَإِذَا صَدَرَ مِنَ الْأَمِيرِ مُخَالَّةٌ وَمُسَارَّةٌ مَعَ عَدُوِّ السُّلْطَانِ وَمُصَادَقَةٌ بَيْنَهُمَا، لَا يَعْفُو الْمَلِكُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي غَايَةِ الصَّفْحِ، أَوْ يَكُونُ لِلْأَمِيرِ عِنْدَهُ يَدٌ سَابِقَةٌ أَوْ تَوْبَةٌ لَاحِقَةٌ، فَإِنْ صَدَرَ مِنْ خَوَاصِّ الْأَمِيرِ مُخَالَفَةٌ وَهُوَ بِهِ عَالِمٌ وَلَمْ يَزْجُرْهُ، عُدَّتِ الْمُخَالَفَةُ مَوْجُودَةً مِنْهُ، وإن كان

كَارِهًا وَأَظْهَرَ الْإِنْكَارَ حَسُنَتْ مُعَاتَبَتُهُ دُونَ مُعَاقَبَتِهِ، لِأَنَّ إِقْدَامَ خَوَاصِّهِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ دَلِيلٌ عَلَى سُوءِ التَّرْبِيَةِ، فَإِنْ كَانَ الصَّادِرُ مِنَ الْحَوَاشِي الْأَبَاعِدِ وَبَلَغَ الْأَمِيرَ وَلَمْ يَزْجُرْهُ عُوتِبَ الْأَمِيرُ، وَإِنْ زَجَرَهُمُ اسْتَحَقَّ الْأَمِيرُ بِذَلِكَ الزَّجْرِ الْإِكْرَامَ، وَحَسُنَ مِنَ الْمَلِكِ أَنْ يُسْدِيَ إِلَى الْمَزْجُورِ الْإِحْسَانَ وَالْإِنْعَامَ إِنْ عَلِمَ حُصُولَ انْزِجَارِهِ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَالْقَلْبُ أَمِيرٌ وَاللِّسَانُ خَاصَّتُهُ وَالْأَعْضَاءُ خَدَمُهُ، فَمَا يَصْدُرُ مِنَ الْقَلْبِ فَهُوَ الْعَظِيمُ مِنَ الذَّنْبِ، فَإِنْ أَقْبَلَ عَلَى مَحَبَّةِ غَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ الْوَيْلُ الْعَظِيمُ وَالضَّلَالُ الْمُبِينُ الْمُسْتَعْقِبُ لِلْعِقَابِ الْأَلِيمِ وَالْعَذَابِ الْمُهِينِ، وَمَا يَصْدُرُ مِنَ اللِّسَانِ فَهُوَ مَحْسُوبٌ عَلَى الْقَلْبِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إِنْ لَمْ يُنْكِرْ فِعْلَهُ وَمَا يَصْدُرُ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْقَلْبُ قَدْ أَظْهَرَ عَلَيْهِ الْإِنْكَارَ وَحَصَلَ لَهُ الِانْزِجَارُ فَهُوَ الذَّنْبُ الَّذِي حَكَى النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ أَنَّهُ قَالَ «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَخَلَقْتُ أَقْوَامًا يُذْنِبُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ فَأَغْفِرُ لَهُمْ» ، وهاهنا لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَرْجِعُ عَنْ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ فَرِحًا فَيَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ مِنَ الْإِغْوَاءِ حَيْثُ يَرَى ذَلِكَ الْعَبْدَ ارْتَكَبَ الذَّنْبَ ظَاهِرًا وَيَكُونُ ذَلِكَ رَافِعًا لِدَرَجَةِ الْعَبْدِ، فَإِنَّ بِالذَّنَبِ يَنْكَسِرُ قَلْبُ الْعَبْدِ فَيَتَخَلَّصُ مِنَ الْإِعْجَابِ بِنَفْسِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَيَصِيرُ أَقْرَبَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، لِأَنَّ مَنْ يُذْنِبُ مُقَرَّبٌ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الْأَنْفَالِ: 4] وَالْمُذْنِبُ التَّائِبُ النَّادِمُ مُنْكَسِرُ الْقَلْبِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ حَاكِيًا عَنْ رَبِّهِ «أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ» وَفَرْقٌ/ بَيْنَ مَنْ يَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ، وَبَيْنَ مَنْ يَكُونُ عِنْدَهُ اللَّهُ، وَلَعَلَّ مَا يُحْكَى مِنَ الذُّنُوبِ الصَّادِرَةِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ هذا القبيل لتحصيل لَهُمُ الْفَضِيلَةُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ حَيْثُ تَبَجَّحُوا بِأَنْفُسِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [الْبَقَرَةِ: 30] وَقَدْ يَرْجِعُ الشَّيْطَانُ عَنْ آخَرَ يَكُونُ قَدْ أَمَرَهُ بِشَيْءٍ فَلَمْ يَفْعَلْهُ وَالشَّخْصُ يَظُنُّ أَنَّهُ غَلَبَ الشَّيْطَانَ وَرَدَّهُ خَائِبًا فَيَتَبَجَّحُ فِي نَفْسِهِ وهو لا يعلم أن الشيطان رجح عَنْهُ مُحَصِّلَ الْمَقْصُودِ مَقْبُولًا غَيْرَ مَرْدُودٍ. وَمِنْ هَذَا يَتَبَيَّنُ أَمْرٌ أُصُولِيٌّ وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُذْنِبَ هَلْ يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ أَمْ لَا؟ وَسَبَبُ النِّزَاعِ وُقُوعُ نَظَرِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى أَمْرَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ فَالذَّنْبُ الَّذِي بِالْجَسَدِ لَا بِالْقَلْبِ لَا يَخْرُجُ بَلْ قَدْ يَزِيدُ فِي الْإِيمَانِ وَالَّذِي بِالْقَلْبِ يُخَافُ مِنْهُ الْخُرُوجُ عَنْ رِبْقَةِ الْإِيمَانِ وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْجَسَدِيَّ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ وَالْقُرْآنَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَالْقَلْبِيَّ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عِبَادَهُ عَنْ عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ ذَكَرَ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى قَبُولِ مَا أُمِرُوا بِهِ وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نُهُوا عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مِنْ أَيْنَ حَصَلَتِ الْعَدَاوَةُ بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَالْإِنْسَانِ؟ فَنَقُولُ ابْتِدَاؤُهَا مِنَ الشَّيْطَانِ وَسَبَبُهُ تَكْرِيمُ اللَّهِ بَنِي آدَمَ، لَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ رَبَّهُ كَرَّمَ آدَمَ وَبَنِيهِ عَادَاهُمْ فَعَادَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَالْأُولَى مِنْهُ لُؤْمٌ وَالثَّانِي مِنَ اللَّهِ كَرَمٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا أَكْرَمَ شَخْصًا وَلَمْ يُنْقِصْ مِنَ الْآخَرِ شَيْئًا إِذْ لَا ضِيقَ فِي الْخِزَانَةِ، فَعَدَاوَةُ مَنْ يُعَادِي ذَلِكَ الْمُكْرَمَ لَا تَكُونُ إِلَّا لُؤْمًا، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ إِكْرَامَهُ لَيْسَ إِلَّا مِنْهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الضَّعِيفَ مَا كَانَ يَقْدِرُ أَنْ يَصِلَ إِلَى بَعْضِ تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ لَوْلَا إِكْرَامُ الْمَلِكِ، يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ يُبْغِضُهُ يُنْكِرُ فِعْلَ الْمَلِكِ أَوْ يَنْسُبُ إِلَى خِزَانَتِهِ ضِيقًا، وَكِلَاهُمَا يَحْسُنُ التَّعْذِيبُ عَلَيْهِ فَيُعَادِيهِ إِتْمَامًا لِلْإِكْرَامِ وَإِكْمَالًا لِلْإِفْضَالِ، ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَلَى مَذْهَبِ إِبْلِيسَ إِذَا رَأَوْا وَاحِدًا عِنْدَ مَلِكٍ مُحْتَرَمًا بَغَضُوهُ وَسَعَوْا فِيهِ إِقَامَةً لِسُنَّةِ إِبْلِيسَ، فَالْمَلِكُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَخَلِّقًا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ لَا يُبْعِدُ السَّاعِيَ وَيَسْمَعُ كَلَامَهُ وَيَتْرُكُ إِكْرَامَ ذَلِكَ الشَّخْصِ وَاحْتِرَامَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ أَيْنَ إِبَانَةُ عَدَاوَةِ إِبْلِيسَ؟ نَقُولُ لَمَّا أَكْرَمَ اللَّهُ آدَمَ عَادَاهُ إِبْلِيسُ وَظَنَّ أَنَّهُ يَبْقَى فِي مَنْزِلَتِهِ وَآدَمُ فِي مَنْزِلَتِهِ مِثْلَ مُتَبَاغِضَيْنِ عِنْدَ الْمَلِكِ وَاللَّهُ كَانَ عَالِمًا بِالضَّمَائِرِ فَأَبْعَدَهُ وَأَظْهَرَ أَمْرَهُ فَأَظْهَرَ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ مَا كَانَ

[سورة يس (36) : آية 61]

يُخْفِيهِ لِزَوَالِ مَا كَانَ يَحْمِلُهُ عَلَى الْإِخْفَاءِ فَقَالَ: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الْأَعْرَافِ: 16] وَقَالَ: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ [الْإِسْرَاءِ: 62] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا كَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا فَمَا بَالُ الْإِنْسَانِ يَمِيلُ إِلَى مَرَاضِيهِ مِنَ الشُّرْبِ وَالزِّنَا، وَيَكْرَهُ مَسَاخِطَهُ مِنَ الْمُجَاهَدَةِ وَالْعِبَادَةِ؟ نَقُولُ سَبَبُ ذَلِكَ اسْتِعَانَةُ الشَّيْطَانِ بِأَعْوَانٍ مِنْ عِنْدِ الْإِنْسَانِ وَتَرْكُ اسْتِعَانَةِ الْإِنْسَانِ بِاللَّهِ، فَيَسْتَعِينُ بِشَهْوَتِهِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ لِمَصَالِحِ بَقَائِهِ وَبَقَاءِ نَوْعِهِ وَيَجْعَلُهَا سَبَبًا لِفَسَادِ حَالِهِ وَيَدْعُوهُ بِهَا إِلَى مَسَالِكِ الْمَهَالِكِ، وَكَذَلِكَ يَسْتَعِينُ بِغَضَبِهِ الَّذِي خَلَقَهُ الله فيه لِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ عَنْهُ وَيَجْعَلُهُ سَبَبًا لِوَبَالِهِ وَفَسَادِ أَحْوَالِهِ، وَمِيلُ الْإِنْسَانِ إِلَى الْمَعَاصِي كَمَيْلِ الْمَرِيضِ إِلَى الْمَضَارِّ وَذَلِكَ حَيْثُ يَنْحَرِفُ الْمِزَاجُ عَنِ الِاعْتِدَالِ، فَتَرَى الْمَحْمُومَ يُرِيدُ الْمَاءَ الْبَارِدَ/ وَهُوَ يريد فِي مَرَضِهِ. وَمَنْ بِهِ فَسَادُ الْمَعِدَةِ فَلَا يَهْضِمُ الْقَلِيلَ مِنَ الْغِذَاءِ يَمِيلُ إِلَى الْأَكْلِ الْكَثِيرِ وَلَا يَشْبَعُ بِشَيْءٍ وَهُوَ يَزِيدُ فِي مَعِدَتِهِ فَسَادًا، وَصَحِيحُ الْمِزَاجِ لَا يَشْتَهِي إِلَّا مَا يَنْفَعُهُ فَالدُّنْيَا كَالْهَوَاءِ الْوَبِيءِ لَا يَسْتَغْنِي الْإِنْسَانُ فِيهِ عَنِ اسْتِنْشَاقِ الْهَوَاءِ وَهُوَ الْمُفْسِدُ لِمِزَاجِهِ وَلَا طَرِيقَ لَهُ غَيْرُ إِصْلَاحِ الْهَوَاءِ بِالرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ وَالْأَشْيَاءِ الزَّكِيَّةِ وَالرَّشِّ بِالْخَلِّ وَالْمَاوَرْدِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُصْلِحَاتِ، فَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا لَا يَسْتَغْنِي عَنْ أُمُورِهَا وَهِيَ الْمُعِينَاتُ لِلشَّيْطَانِ وَطَرِيقُهُ تَرْكُ الْهَوَى وَتَقْلِيلُ التَّأْمِيلِ وَتَحْرِيفُ الْهَوَى بِالذِّكْرِ الطَّيِّبِ وَالزُّهْدِ، فَإِذَا صَحَّ مِزَاجُ عَقْلِهِ لَا يَمِيلُ إِلَّا إِلَى الْحَقِّ وَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ فِي التَّكَالِيفِ كُلْفَةٌ وَيَحْصُلُ لَهُ مَعَ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ أُلْفَةٌ، وَهُنَالِكَ يَعْتَرِفُ الشَّيْطَانُ بِأَنَّهُ ليس له عليه سلطان. ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 61] وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) لَمَّا مَنَعَ عِبَادَةَ الشَّيْطَانِ حَمَلَ عَلَى عِبَادَةِ الرَّحْمَنِ وَالشَّارِعُ طَبِيبُ الْأَرْوَاحِ كَمَا أَنَّ الطَّبِيبَ طَبِيبُ الْأَشْبَاحِ، وَكَمَا أَنَّ الطَّبِيبَ يَقُولُ لِلْمَرِيضِ لَا تَفْعَلْ كَذَا وَلَا تَأْكُلْ مِنْ ذَا وَهِيَ الْحِمْيَةُ الَّتِي هِيَ رَأْسُ الدَّوَاءِ لِئَلَّا يَزِيدَ مَرَضُهُ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ تَنَاوُلِ الدَّوَاءَ الْفُلَانِيَّ تَقْوِيَةً لقوته المقاومة للمرض، كذلك الشارع منع من الْمُفْسِدَ وَهُوَ اتِّبَاعُ الشَّيْطَانِ وَحَمَلَ عَلَى الْمُصْلِحِ وَهُوَ عِبَادَةُ الرَّحْمَنِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: عِنْدَ الْمَنْعِ مِنْ عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ قَالَ: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يس: 60] لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ أَبْلَغُ الْمَوَانِعِ مِنَ الِاتِّبَاعِ، وَعِنْدَ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ الرَّحْمَنِ لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ لَكُمْ حَبِيبٌ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تُوجِبُ مُتَابَعَةَ الْمَحْبُوبِ بَلْ رُبَّمَا يُورِثُ ذَلِكَ الِاتِّكَالَ عَلَى الْمَحَبَّةِ. فَيَقُولُ إِنَّهُ يُحِبُّنِي فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ فِي تَحْصِيلِ مَرَاضِيهِ، بَلْ ذَكَرَ مَا هُوَ أَبْلَغُ الْأَشْيَاءِ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَذَلِكَ كَوْنُهُ طَرِيقًا مُسْتَقِيمًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي دَارِ الدُّنْيَا فِي مَنْزِلٍ قَفْرٍ مُخَوِّفٍ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى دَارِ إِقَامَةٍ فِيهَا إِخْوَانُهُ، وَالنَّازِلُ فِي بَادِيَةٍ خَالِيَةٍ يَخَافُ عَلَى رُوحِهِ وَمَالِهِ وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ شَيْءٌ أَحَبَّ مِنْ طَرِيقٍ قَرِيبٍ آمِنٍ، فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا حَاثًّا عَلَى السُّلُوكِ، وَفِي ضِمْنِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا صِراطٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مُجْتَازٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي دَارِ إِقَامَةٍ فَقَوْلُهُ: هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لَا يَكُونُ لَهُ مَعْنًى لِأَنَّ الْمُقِيمَ يَقُولُ وَمَاذَا أَفْعَلُ بِالطَّرِيقِ وَأَنَا مِنَ الْمُقِيمِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَاذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ طَرِيقًا مُسْتَقِيمًا؟ نَقُولُ الْإِنْسَانُ مُسَافِرٌ إِمَّا مُسَافَرَةَ رَاجِعٍ إِلَى وَطَنِهِ، وَإِمَّا مُسَافَرَةَ تَاجِرٍ لَهُ مَتَاعٌ يَتَّجِرُ فِيهِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَاللَّهُ هُوَ المقصد، وأما الوطن فلأنه لا يوطن إلا فِي مَأْمَنٍ وَلَا أَمْنَ إِلَّا بِمَلِكٍ لَا يَزُولُ مُلْكُهُ لِأَنَّ عِنْدَ زَوَالِ مُلْكِ الْمُلُوكِ لَا يَبْقَى الْأَمْنُ وَالرَّاحَةُ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي مُلْكُهُ دَائِمٌ

[سورة يس (36) : آية 62]

وَكُلُّ مَا عَدَاهُ فَهُوَ فَانٍ، وَأَمَّا التِّجَارَةُ فَلِأَنَّ التَّاجِرَ لَا يَقْصِدُ إِلَّا إِلَى مَوْضِعٍ يَسْمَعُ أَوْ يَعْلَمُ أَنَّ لِمَتَاعِهِ هُنَاكَ رَوَاجًا وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ/ عِنْدَهُ مُثَابٌ عَلَيْهِ مُقَابَلٌ بِأَضْعَافِ مَا يَسْتَحِقُّ، وَاللَّهُ هُوَ الْمَقْصِدُ، وَعِبَادَتُهُ تَوَجُّهٌ إِلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَاصِدَ لِجِهَةٍ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَيْهَا يَكُونُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْعِبَادَةُ تُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى التَّذَلُّلِ، فَلَمَّا قَالَ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ لَزِمَ أَنْ يَتَكَبَّرَ الْإِنْسَانُ عَلَى مَا سِوَى اللَّهِ وَلَمَّا قَالَ: وَأَنِ اعْبُدُونِي يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ لَكِنَّ التَّكَبُّرَ عَلَى مَا سِوَى اللَّهِ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَرَى نَفْسَهُ خَيْرًا مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ نَفْسَهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا سِوَى اللَّهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَيْهَا وَلَوْ كَانَتْ مُتَجَمِّلَةً بِعِبَادَةِ اللَّهِ، بَلْ مَعْنَى التَّكَبُّرِ عَلَى مَا سِوَى اللَّهِ أَنْ لَا يَنْقَادَ لِشَيْءٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَفِي هَذَا التَّكَبُّرِ غَايَةُ التَّوَاضُعِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَنْقَادُ إِلَى نَفْسِهِ وَحَظُّ نَفْسِهِ فِي التَّفَوُّقِ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَتَفَوَّقُ فَيَحْصُلُ التَّوَاضُعُ التَّامُّ وَلَا يَنْقَادُ لِأَمْرِ الْمُلُوكِ إِذَا خَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ فَيَحْصُلُ التَّكَبُّرُ التَّامُّ فَيَرَى نَفْسَهُ بِهَذَا التَّكَبُّرِ دُونَ الْفَقِيرِ وَفَوْقَ الْأَمِيرِ. [سورة يس (36) : آية 62] وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْجِبِلِّ سِتُّ لُغَاتٍ كَسْرُ الْجِيمِ وَالْبَاءِ مَعَ تَشْدِيدِ اللَّامِ وَضَمُّهُمَا مَعَ التَّشْدِيدِ وَكَسْرُهُمَا مَعَ التَّخْفِيفِ وَضَمُّهُمَا مَعَهُ وَتَسْكِينُ الْبَاءِ وَتَخْفِيفُ اللَّامِ مَعَ ضَمِّ الْجِيمِ وَمَعَ كَسْرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَعْنَى الْجِبِلِّ الْجِيمُ وَالْبَاءُ وَاللَّامُ لَا تَخْلُو عَنْ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ وَالْجِبِلُّ فِيهِ اجْتِمَاعُ الْأَجْسَامِ الْكَثِيرَةِ، وَجِبِلُّ الطِّينِ فِيهِ اجْتِمَاعُ أَجْزَاءِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ، وَشَاةٌ لَجْبَاءُ إِذَا كَانَتْ مُجْتَمِعَةَ اللَّبَنِ الْكَثِيرِ، لَا يُقَالُ الْبُلْجَةُ نَقْضٌ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ فَإِنَّهَا تُنْبِئُ عَنِ التَّفَرُّقِ فَإِنَّ الْأَبْلَجَ خِلَافُ الْمَقْرُونِ لِأَنَّا نَقُولُ هِيَ لِاجْتِمَاعِ الْأَمَاكِنِ الْخَالِيَةِ الَّتِي تَسَعُ الْمُتَمَكِّنَاتِ، فَإِنَّ الْبُلْجَةَ وَالْبُلْدَةَ بِمَعْنًى وَالْبَلَدُ سُمِّيَ بَلَدًا لِلِاجْتِمَاعِ لَا لِلتَّفَرُّقِ، فَالْجِبِلُّ الْجَمْعُ الْعَظِيمُ حَتَّى قِيلَ إِنَّ دُونَ الْعَشَرَةِ آلَافٍ لَا يَكُونُ جِبِلًّا وَإِنْ لم يكن صحيحا. المسألة الثَّالِثَةُ: كَيْفَ الْإِضْلَالُ؟ نَقُولُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِضْلَالَ تَوْلِيَةٌ عَنِ الْمَقْصِدِ وَصَدٌّ عَنْهُ فَالشَّيْطَانُ يَأْمُرُ الْبَعْضَ بِتَرْكِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَبِعِبَادَةِ غَيْرِهِ فَهُوَ تَوْلِيَةٌ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ يَأْمُرُهُ بعبادة الله لأمر غير الله من رئاسة وَجَاهٍ وَغَيْرِهِمَا فَهُوَ صَدٌّ، وَهُوَ يُفْضِي إِلَى التَّوْلِيَةِ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ لَوْ حَصَلَ لَتَرَكَ اللَّهَ وَأَقْبَلَ عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ فَتَحْصُلُ التَّوْلِيَةُ. ثُمَّ بين مآل أهل الضلال بقوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 63] هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) وَحَالُ الضَّالِّ كَحَالِ شَخْصٍ خَرَجَ مِنْ وَطَنِهِ مَخَافَةَ عَدُوِّهِ فَوَقَعَ فِي مَشَقَّةٍ وَلَوْ أَقَامَ فِي وَطَنِهِ لَعَلَّ/ ذَلِكَ الْعَدُوَّ كَانَ لَا يَظْفَرُ بِهِ أَوْ يَرْحَمُهُ، كَذَلِكَ حَالُ مَنْ لَمْ يَتَحَرَّكْ لِطَاعَةٍ وَلَا عِصْيَانٍ كَالْمَجَانِينِ وَحَالُ مَنِ اسْتَعْمَلَ عَقْلَهُ فَأَخْطَأَ الطَّرِيقَ، فَإِنَّ الْمَجْنُونَ مِنْ أَهْلِ النَّجَاةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَاتِ، وَقَدْ قِيلَ بِأَنَّ الْبَلَاهَةَ أَدْنَى إِلَى الْخَلَاصِ مِنْ فَطَانَةٍ بَتْرَاءَ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الْمَحْسُوسِ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الطَّرِيقَ إِذَا أَقَامَ بِمَكَانِهِ لَا يَبْعُدُ عَنِ الطَّرِيقِ كَثِيرًا وَمَنْ سَارَ إِلَى خِلَافِ الْمَقْصِدِ يَبْعُدُ عَنْهُ كَثِيرًا. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ وَاصِلُونَ إِلَيْهَا حَاصِلُونَ فِيهَا بقوله تعالى:

[سورة يس (36) : آية 64]

[سورة يس (36) : آية 64] اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مَا يُوجِبُ شِدَّةَ نَدَامَتِهِمْ وَحَسْرَتِهِمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: اصْلَوْهَا فَإِنَّهُ أَمْرُ تَنْكِيلٍ وَإِهَانَةٍ كَقَوْلِهِ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدُّخَانِ: 49] ، وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: الْيَوْمَ يَعْنِي الْعَذَابُ حَاضِرٌ وَلَذَّاتُكَ قَدْ مَضَتْ وَأَيَّامُهَا قَدِ انْقَضَتْ وَبَقِيَ الْيَوْمَ الْعَذَابُ الثَّالِثُ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فَإِنَّ الْكُفْرَ وَالْكُفْرَانَ يُنْبِئُ عَنْ نِعْمَةٍ كَانَتْ يُكْفَرُ بِهَا وَحَيَاءُ الْكَفُورِ مِنَ الْمُنْعِمِ مِنْ أَشَدِّ الْآلَامِ. وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا يَقُولُ الْعَبْدُ الْمُجْرِمُ افْعَلُوا بِي مَا يَأْمُرُ بِهِ السَّيِّدُ وَلَا تُحْضِرُونِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ الْقَائِلُ: أَلَيْسَ بِكَافٍ لذي نعمة ... حياء المسيء من المحسن ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 65] الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) فِي التَّرْتِيبِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ حِينَ يَسْمَعُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [يس: 64] يُرِيدُونَ [أَنْ] يُنْكِرُوا كُفْرَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ مَا أَشْرَكْنَا وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ فَيَخْتِمُ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْإِنْكَارِ وَيُنْطِقُ اللَّهُ غَيْرَ لِسَانِهِمْ مِنَ الْجَوَارِحِ فَيَعْتَرِفُونَ بِذُنُوبِهِمْ الثَّانِي: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ [يس: 60] لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ فَسَكَتُوا وَخَرِسُوا وَتَكَلَّمَتْ أَعْضَاؤُهُمْ غَيْرَ اللِّسَانِ، وَفِي الْخَتْمِ عَلَى الْأَفْوَاهِ وُجُوهٌ: أَقْوَاهَا، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُسْكِتُ أَلْسِنَتَهُمْ فَلَا يَنْطِقُونَ بِهَا وَيُنْطِقُ جَوَارِحَهُمْ فَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّهُ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ يَسِيرٌ، أَمَّا الْإِسْكَاتُ فَلَا خَفَاءَ فِيهِ، وَأَمَّا الْإِنْطَاقُ فَلِأَنَّ اللِّسَانَ عُضْوٌ مُتَحَرِّكٌ بِحَرَكَةٍ مَخْصُوصَةٍ فَكَمَا جَازَ تَحَرُّكُهُ بِهَا جَازَ تَحَرُّكُ غَيْرِهِ بِمِثْلِهَا وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْمُمْكِنَاتِ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُمْ لَا يَتَكَلَّمُونَ بِشَيْءٍ لِانْقِطَاعِ أَعْذَارِهِمْ وَانْتِهَاكِ أَسْتَارِهِمْ فَيَقِفُونَ نَاكِسِي الرءوس وقوف القنوط اليؤوس لَا يَجِدُ عُذْرًا فَيَعْتَذِرُ وَلَا مَجَالَ تَوْبَةٍ فَيَسْتَغْفِرُ، وَتَكَلُّمُ الْأَيْدِي ظُهُورُ الْأُمُورِ بِحَيْثُ لَا يَسَعُ مَعَهُ الْإِنْكَارُ حَتَّى تَنْطِقَ بِهِ الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارُ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: الْحِيطَانُ تَبْكِي عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ، إِشَارَةً إِلَى ظُهُورِ الْحُزْنِ، وَالْأَوَّلُ الصَّحِيحُ وَفِيهِ لَطَائِفُ لَفْظِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ. أَمَّا اللَّفْظِيَّةُ فَالْأُولَى مِنْهَا: هِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَسْنَدَ فِعْلَ الْخَتْمِ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: نَخْتِمُ وَأَسْنَدَ/ الْكَلَامَ وَالشَّهَادَةَ إِلَى الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ تَعَالَى: نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ يَكُونُ فِيهِ احْتِمَالُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَانَ جَبْرًا وَقَهْرًا وَالْإِقْرَارُ بِالْإِجْبَارِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فَقَالَ تَعَالَى: وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ أَيْ بِاخْتِيَارِهَا بعد ما يُقْدِرُهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْكَلَامِ لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى صُدُورِ الذَّنْبِ مِنْهُمْ الثَّانِيَةُ: مِنْهَا هِيَ أن الله تعالى قال: تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ جَعَلَ الشَّهَادَةَ لِلْأَرْجُلِ وَالْكَلَامَ لِلْأَيْدِي لِأَنَّ الْأَفْعَالَ تُسْنَدُ إِلَى الْأَيْدِي قَالَ تَعَالَى: وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ [يس: 35] أَيْ مَا عَمِلُوهُ وَقَالَ: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ [الْبَقَرَةِ: 195] أَيْ وَلَا تُلْقُوا بِأَنْفُسِكُمْ فَإِذًا الْأَيْدِي كَالْعَامِلَةِ، وَالشَّاهِدُ عَلَى الْعَامِلِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ فَجَعَلَ الْأَرْجُلَ وَالْجُلُودَ مِنْ جُمْلَةِ الشُّهُودِ لِبُعْدِ إِضَافَةِ الْأَفْعَالِ إِلَيْهَا، وَأَمَّا الْمَعْنَوِيَّةُ فَالْأُولَى: مِنْهَا أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَالصِّدِّيقِينَ كُلُّهُمْ أَعْدَاءٌ لِلْمُجْرِمِينَ وَشَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى الْعَدُوِّ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الشُّهُودِ الْعُدُولِ وَغَيْرِ الصِّدِّيقِينَ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ غَيْرَ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ فَجَعَلَ اللَّهُ الشَّاهِدَ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ، لَا يُقَالُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ أَيْضًا صَدَرَتِ الذُّنُوبُ مِنْهَا فَهِيَ فَسَقَةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهَا، لِأَنَّا نَقُولُ فِي رَدِّ شَهَادَتِهَا قَبُولُ شهادتها، لأنها

[سورة يس (36) : الآيات 66 إلى 67]

إِنْ كَذَبَتْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَدْ صَدَرَ الذَّنْبُ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَالْمُذْنِبُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَعَ ظُهُورِ الْأُمُورِ، لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُذْنِبًا فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ صَدَقَتْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَدْ صَدَرَ مِنْهَا الذَّنْبُ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا كَمَنْ قَالَ لِفَاسِقٍ: إِنْ كَذَبْتَ فِي نَهَارِ هَذَا الْيَوْمِ فَعَبْدِي حُرٌّ، فَقَالَ الْفَاسِقُ: كَذَبْتُ فِي نَهَارِ هَذَا الْيَوْمِ عَتَقَ الْعَبْدُ، لِأَنَّهُ إِنْ صَدَقَ فِي قَوْلِهِ كَذَبْتُ فِي نَهَارِ هَذَا الْيَوْمِ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَوَجَبَ الْجَزَاءُ، وَإِنْ كَذَبَ فِي قَوْلِهِ كَذَبْتُ فَقَدْ كَذَبَ فِي نَهَارِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَوُجِدَ الشَّرْطُ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كَذَبْتُ فِي نَهَارِ الْيَوْمِ الَّذِي عَلَّقْتَ عِتْقَ عَبْدِكَ عَلَى كَذِبِي فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْخَتْمُ لَازِمٌ الْكُفَّارَ فِي الدُّنْيَا عَلَى قُلُوبِهِمْ وَفِي الْآخِرَةِ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، فَفِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ الْخَتْمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ كَانَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ [التَّوْبَةِ: 30] فَلَمَّا خُتِمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ أَيْضًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ بِأَعْضَائِهِمْ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمْلِكُ غَيْرَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْأَعْضَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ الْقَلْبُ وَالْفَمُ تَعَيَّنَ الجوارح والأركان. ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : الآيات 66 الى 67] وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) قَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ بَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ وَهُوَ الطَّرِيقَةُ الْوُسْطَى، وَاللَّهُ تَعَالَى فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ مَا يَتَمَسَّكُ بِهِ الْمُجَبِّرَةُ ذَكَرَ عَقِيبَهُ مَا يَتَمَسَّكُ بِهِ الْقَدَرِيَّةُ وَبِالْعَكْسِ، وهاهنا/ كَذَلِكَ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [يس: 65] وقال: اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [يس: 64] وَكَانَ ذَلِكَ مُتَمَسَّكَ الْقَدَرِيَّةِ حَيْثُ أَسْنَدَ اللَّهُ الْكُفْرَ وَالْكَسْبَ إِلَيْهِمْ وَأَحَالَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ عَلَيْهِمْ، ذَكَرَ عَقِيبَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ وَكَسْبَهُمْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفْرَ يُعْمِي الْبَصِيرَةَ وَيُضْعِفُ الْقُوَّةَ الْعَقْلِيَّةَ، وَعَمَى الْبَصِيرَةِ بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ، إِذَا شَاءَ أَعْمَى الْبَصَائِرَ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَطَمَسَ عَلَى أَعْيُنِهِمُ الْمُبْصِرَةِ، وَسَلَبَ الْقُوَّةَ الْعَقْلِيَّةَ بِاخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ، كَمَا أَنَّ سَلْبَ الْقُوَّةِ الْجِسْمِيَّةِ بِمَشِيئَتِهِ، حَتَّى لَوْ شَاءَ لَمَسَخَ الْمُكَلَّفَ عَلَى مَكَانَتِهِ وَأَقَامَهُ بِحَيْثُ لَا يَتَحَرَّكُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُضِيِّ وَالرُّجُوعِ، فَإِعْمَاءُ الْبَصَائِرِ عِنْدَهُ كَإِعْمَاءِ الْأَبْصَارِ، وَسَلْبُ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ كَسَلْبِ الْقُوَّةِ الْجِسْمِيَّةِ، فَقَالَ: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَوْ شَاءَ وَأَرَادَ إِعْمَاءَ بَصَائِرِهِمْ فَضَلُّوا، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ طَمْسَ أَعْيُنِهِمْ لَمَا اهْتَدَوْا إِلَى طَرِيقَتِهِمُ الظَّاهِرَةِ، وَشَاءَ وَاخْتَارَ سَلْبَ قُوَّةِ عُقُولِهِمْ فَزَلُّوا، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ سَلْبَ قُوَّةِ أَجْسَامِهِمْ وَمَسَخَهُمْ لَمَا قَدَرُوا عَلَى تَقَدُّمٍ وَلَا تَأَخُّرٍ. وَفِي الْآيَتَيْنِ أَبْحَاثٌ لَفْظِيَّةٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَكُونُ فِيهِ حَذْفُ حَرْفِ إِلَى وَاتِّصَالُ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ حَرْفٍ وَأَصْلُهُ فَاسْتَبَقُوا إِلَى الصِّرَاطِ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِبَاقِ الِابْتِدَارَ فَأَعْمَلَهُ إِعْمَالَ الِابْتِدَارِ الثَّالِثُ: أَنْ يَجْعَلَ الصِّرَاطَ مُسْتَبِقًا لَا مُسْتَبَقًا إِلَيْهِ، يُقَالُ اسْتَبَقْنَا فَسَبَقْتُهُمْ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُبَالَغَةً فِي الِاهْتِدَاءِ إِلَى الطَّرِيقِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ الصِّرَاطُ الَّذِي هُوَ مَعَهُمْ لَيْسُوا طَالِبِينَ لَهُ قَاصِدِينَ إِيَّاهُ، وَإِنَّمَا هُمْ عَلَيْهِ إِذَا طَمَسَ اللَّهُ عَلَى أَعْيُنِهِمْ لَا يُبْصِرُونَهُ، فَكَيْفَ إِنْ لَمْ يَكُونُوا على الصراط. البحث الثاني: قدم الطمس والإعماء عَلَى الْمَسْخِ وَالْإِعْجَازِ لِيَكُونَ الْكَلَامُ مُدَرَّجًا، كَأَنَّهُ قَالَ إِنْ أَعْمَاهُمْ لَمْ يَرَوُا الطَّرِيقَ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ وَحِينَئِذٍ لَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْأَعْمَى قَدْ يَهْتَدِي إِلَى الطَّرِيقِ بأمارات عقلية

[سورة يس (36) : آية 68]

أَوْ حِسِّيَّةٍ غَيْرِ حِسِّ الْبَصَرِ كَالْأَصْوَاتِ وَالْمَشْيِ بِحِسِّ اللَّمْسِ، فَارْتَقَى وَقَالَ: فَلَوْ مَسَخَهُمْ وَسَلَبَ قُوَّتَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى الصِّرَاطِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَدَّمَ الْمُضِيَّ عَلَى الرُّجُوعِ، لِأَنَّ الرُّجُوعَ أَهْوَنُ مِنَ الْمُضِيِّ، لِأَنَّ الْمُضِيَّ لَا يُنْبِئُ عَنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ مِنْ قَبْلُ، وَأَمَّا الرُّجُوعُ فَيُنْبِئُ عَنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ سُلُوكَ طَرِيقٍ قَدْ رُؤِيَ مَرَّةً أَهْوَنُ من سلوك طريق لم ير فقال: لا يستطيعون مضيا وَلَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الرُّجُوعُ الَّذِي هو أهون من المضي. ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 68] وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ [يس: 60] قَطْعٌ لِلْأَعْذَارِ بِسَبْقِ الْإِنْذَارِ، ثُمَّ لَمَّا قَرَّرَ ذَلِكَ/ وَأَتَمَّهُ شَرَعَ فِي قَطْعِ عُذْرٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْكَافِرَ يَقُولُ لَمْ يَكُنْ لُبْثُنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا يَسِيرًا، وَلَوْ عَمَّرْتَنَا لَمَا وَجَدْتَ مِنَّا تَقْصِيرًا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَفَلَا تعقلون إِنَّكُمْ كُلَّمَا دَخَلْتُمْ فِي السِّنِّ ضَعُفْتُمْ وَقَدْ عَمَّرْنَاكُمْ مِقْدَارَ مَا تَتَمَكَّنُونَ مِنَ الْبَحْثِ وَالْإِدْرَاكِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فَاطِرٍ: 37] ثُمَّ إِنَّكُمْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الزَّمَانَ كُلَّمَا يَعْبُرُ عَلَيْكُمْ يَزْدَادُ ضَعْفُكُمْ فَضَيَّعْتُمْ زَمَانَ الْإِمْكَانِ، فَلَوْ عَمَّرْنَاكُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ بَعْدَهُ زَمَانُ الْإِزْمَانِ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِالْوَاجِبِ زَمَانَ الْإِمْكَانِ مَا كَانَ يَأْتِي به زمان الإزمان. ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 69] وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) فِي التَّرْتِيبِ وَجْهَانِ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ أَصْلَيْنِ مِنَ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ الْوَحْدَانِيَّةُ وَالرِّسَالَةُ وَالْحَشْرُ، ذَكَرَ الْأَصْلَ الثَّالِثَ مِنْهَا، وهاهنا ذَكَرَ الْأَصْلَيْنِ الْوَحْدَانِيَّةَ وَالْحَشْرَ، أَمَّا الْوَحْدَانِيَّةُ فَفِي قوله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ [يس: 60] وَفِي قَوْلِهِ: وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس: 61] وَأَمَّا الْحَشْرُ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اصْلَوْهَا الْيَوْمَ [يس: 64] وفي قوله: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ [يس: 65] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَمَّا ذَكَرَهُمَا وَبَيَّنَهُمَا ذَكَرَ الْأَصْلَ الثَّالِثَ وَهُوَ الرِّسَالَةُ فَقَالَ: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ وَقَوْلُهُ: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مُعَلَّمٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَعَلَّمَهُ مَا أَرَادَ وَلَمْ يُعَلِّمْهُ مَا لَمْ يُرِدْ، وَفِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: خُصَّ الشِّعْرُ بِنَفْيِ التَّعْلِيمِ، مَعَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَنْسُبُونَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَشْيَاءَ مِنْ جُمْلَتِهَا السِّحْرُ، وَلَمْ يَقُلْ وَمَا عَلَّمْنَاهُ السِّحْرَ وَكَذَلِكَ كَانُوا يَنْسُبُونَهُ إِلَى الْكِهَانَةِ، وَلَمْ يَقُلْ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الْكِهَانَةَ، فَنَقُولُ أَمَّا الْكِهَانَةُ فَكَانُوا يَنْسُبُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وسلم إليها عند ما كَانَ يُخْبِرُ عَنِ الْغُيُوبِ وَيَكُونُ كَمَا يَقُولُ. وأما السحر فكانوا ينسبونه إليه عند ما كَانَ يَفْعَلُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْغَيْرُ كَشَقِّ الْقَمَرِ وَتَكَلُّمِ الْحَصَى وَالْجِذْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وأما الشعر فكانوا ينسبونه إليه عند ما كَانَ يَتْلُو الْقُرْآنَ عَلَيْهِمْ لَكِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَتَحَدَّى إِلَّا بِالْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَةِ: 23] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقُلْ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ رِسَالَتِي فَأَنْطِقُوا الْجُذُوعَ أَوْ أَشْبِعُوا الْخَلْقَ الْعَظِيمَ أَوْ أَخْبِرُوا بِالْغُيُوبِ، فلما كان تحديه صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِالْكَلَامِ وَكَانُوا يَنْسُبُونَهُ إِلَى الشِّعْرِ عِنْدَ الْكَلَامِ خُصَّ الشِّعْرُ بِنَفْيِ التَّعْلِيمِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَما يَنْبَغِي لَهُ؟ قُلْنَا قَالَ قَوْمٌ مَا كَانَ يَتَأَتَّى لَهُ، وَآخَرُونَ مَا يَتَسَهَّلُ لَهُ حَتَّى

[سورة يس (36) : آية 70]

أَنَّهُ إِنْ تَمَثَّلَ بَيْتَ شِعْرٍ سُمِعَ مِنْهُ مُزَاحَفًا يُرْوَى أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ: «وَيَأْتِيكَ مَنْ لَمْ تُزَوَّدْ بِالْأَخْبَارِ «1» » . وَفِيهِ وَجْهٌ أَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ مَا يَنْبَغِي لَهُ عَلَى مَفْهُومِهِ الظَّاهِرِ وَهُوَ أَنَّ الشِّعْرَ مَا كَانَ يَلِيقُ بِهِ وَلَا يَصْلُحُ لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشِّعْرَ يَدْعُو إِلَى تَغْيِيرِ/ الْمَعْنَى لِمُرَاعَاةِ اللَّفْظِ وَالْوَزْنِ، فَالشَّارِعُ يَكُونُ اللَّفْظُ مِنْهُ تَبَعًا لِلْمَعْنَى، وَالشَّاعِرُ يَكُونُ الْمَعْنَى منه تبعا للفظ، لأنه يَقْصِدُ لَفْظًا بِهِ يَصِحُّ وَزْنُ الشِّعْرِ أَوْ قَافِيَتُهُ فَيُحْتَاجُ إِلَى التَّحَيُّلِ لِمَعْنًى يَأْتِي بِهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ اللَّفْظِ، وَعَلَى هَذَا نَقُولُ: الشِّعْرُ هُوَ الْكَلَامُ الْمَوْزُونُ الَّذِي قُصِدَ إِلَى وَزْنِهِ قَصْدًا أَوَّلِيًّا، وَأَمَّا مَنْ يَقْصِدُ الْمَعْنَى فَيَصْدُرُ مَوْزُونًا مُقَفًّى فَلَا يَكُونُ شَاعِرًا، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آلِ عِمْرَانَ: 92] لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَالشَّاعِرُ إِذَا صَدَرَ مِنْهُ كَلَامٌ فِيهِ مُتَحَرِّكَاتٌ وَسَاكِنَاتٌ بِعَدَدِ مَا فِي الْآيَةِ تَقْطِيعُهُ بِفَاعِلَاتُنْ فَاعِلَاتُنْ يَكُونُ شِعْرًا لِأَنَّهُ قَصَدَ الْإِتْيَانَ بِأَلْفَاظٍ حُرُوفُهَا مُتَحَرِّكَةٌ وَسَاكِنَةٌ كَذَلِكَ وَالْمَعْنَى تَبِعَهُ، وَالْحَكِيمُ قَصَدَ الْمَعْنَى فَجَاءَ عَلَى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ، وَعَلَى هَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إن النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ ذَكَرَ بَيْتَ شِعْرٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ أَوْ بَيْتَيْنِ لِأَنَّا نَقُولُ ذَلِكَ لَيْسَ بِشِعْرٍ لِعَدَمِ قَصْدِهِ إِلَى الْوَزْنِ وَالْقَافِيَةِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ صَدَرَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَلَامٌ كَثِيرٌ مَوْزُونٌ مُقَفًّى لَا يَكُونُ شِعْرًا، لِعَدَمِ قَصْدِهِ اللَّفْظَ قَصْدًا أَوَّلِيًّا، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّكَ إِذَا تَتَبَّعْتَ كَلَامَ النَّاسِ فِي الْأَسْوَاقِ تَجِدُ فِيهِ مَا يَكُونُ مَوْزُونًا وَاقِعًا فِي بَحْرٍ مِنْ بُحُورِ الشِّعْرِ وَلَا يُسَمَّى الْمُتَكَلِّمُ بِهِ شَاعِرًا وَلَا الْكَلَامُ شِعْرًا لِفَقْدِ الْقَصْدِ إِلَى اللَّفْظِ أَوَّلًا، ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ يُحَقِّقُ ذَلِكَ الْمَعْنَى أَيْ هُوَ ذِكْرٌ وَمَوْعِظَةٌ لِلْقَصْدِ إِلَى الْمَعْنَى، وَالشِّعْرُ لَفْظٌ مُزَخْرَفٌ بِالْقَافِيَةِ والوزن وهاهنا لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً» يَعْنِي قَدْ يَقْصِدُ الشَّاعِرُ اللَّفْظَ فَيُوَافِقُهُ مَعْنًى حِكَمِيٌّ كَمَا أَنَّ الْحَكِيمَ قَدْ يَقْصِدُ مَعْنًى فَيُوَافِقُهُ وَزْنٌ شِعْرِيٌّ، لَكِنَّ الْحَكِيمَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْوَزْنِ لَا يَصِيرُ شَاعِرًا وَالشَّاعِرَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الذِّكْرِ يَصِيرُ حَكِيمًا حَيْثُ سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ شِعْرَهَ حِكْمَةً، وَنَفَى اللَّهُ كَوْنَ النَّبِيِّ شَاعِرًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ قَالَبُ الْمَعْنَى وَالْمَعْنَى قَلْبُ اللَّفْظِ وَرُوحُهُ فَإِذَا وُجِدَ الْقَلْبُ لَا نَظَرَ إِلَى الْقَالَبِ، فَيَكُونُ الْحَكِيمُ الْمَوْزُونُ كَلَامُهُ حَكِيمًا، وَلَا يُخْرِجُهُ عَنِ الْحِكْمَةِ وَزْنُ كَلَامِهِ، والشاعر الموعظ كلامه حكيما. ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 70] لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) قرئ بالتاء والياء، بالتاء خطابا مع النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَبِالْيَاءِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ المنذر هو النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ حَيْثُ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَما عَلَّمْناهُ [يس: 69] وقوله: وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: 69] . وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْقُرْآنَ يُنْذِرُ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى الْمَعْنَى وَالثَّانِي: أَقْرَبُ إِلَى اللَّفْظِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُنْذِرَ صِفَةً لِلرُّسُلِ أَكْثَرُ وُرُودًا مِنَ الْمُنْذِرِ صِفَةً لِلْكُتُبِ وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ الْقُرْآنَ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ إِلَى قَوْلِهِ: لِيُنْذِرَ وَقَوْلُهُ: مَنْ كانَ حَيًّا أَيْ مَنْ/ كَانَ حَيَّ الْقَلْبِ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ كَانَ حَيًّا فِي عِلْمِ اللَّهِ فَيُنْذِرُهُ بِهِ فَيُؤْمِنُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لِيُنْذِرَ بِهِ مَنْ كَانَ حَيًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، أَيْ مَنْ آمَنَ فَيَنْذُرُهُ بِمَا عَلَى الْمَعَاصِي مِنَ الْعِقَابِ وَبِمَا عَلَى الطَّاعَةِ مِنَ الثَّوَابِ وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ أَمَّا قول العذاب وكلمته كما قال تعالى:

_ (1) وأصل البيت: ويأتيك بالأخبار من لم تزود. فقد أخرجه التغيير عن الوزن الشعري.

[سورة يس (36) : الآيات 71 إلى 72]

وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السَّجْدَةِ: 13] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ [الزُّمَرِ: 71] وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: 15] فَإِذَا جَاءَ حَقَّ التَّعْذِيبُ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ التَّكْذِيبُ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الْمَقُولُ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْحَشْرِ وَسَائِرِ الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ الدِّينِيَّةِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ فِيهِ ذِكْرُ الدَّلَائِلِ الَّتِي بِهَا تثبت المطالب. [سورة يس (36) : الآيات 71 الى 72] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَعَادَ الْوَحْدَانِيَّةَ وَدَلَائِلَ دَالَّةً عَلَيْهَا فَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً أَيْ مِنْ جُمْلَةِ مَا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَيْ مَا عَمِلْنَاهُ مِنْ غَيْرِ مُعِينٍ وَلَا ظَهِيرٍ بَلْ عَمِلْنَاهُ بِقُدْرَتِنَا وَإِرَادَتِنَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَهُمْ لَها مالِكُونَ إِشَارَةٌ إِلَى إِتْمَامِ الْإِنْعَامِ فِي خَلْقِ الْأَنْعَامِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَوْ خَلَقَهَا وَلَمْ يُمَلِّكْهَا الْإِنْسَانَ مَا كَانَ يَنْتَفِعُ بِهَا. وَقَوْلُهُ: وَذَلَّلْناها لَهُمْ زِيَادَةُ إِنْعَامٍ فَإِنَّ الْمَمْلُوكَ إِذَا كَانَ آبِيًا مُتَمَرِّدًا لَا يَنْفَعُ، فَلَوْ كَانَ الْإِنْسَانُ يَمْلِكُ الْأَنْعَامَ وَهِيَ نَادَّةٌ صَادَّةٌ لَمَا تَمَّ الْإِنْعَامُ الَّذِي فِي الرُّكُوبِ وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ الْأَكْلُ كَمَا فِي الْحَيَوَانَاتِ الْوَحْشِيَّةِ، بَلْ مَا كَانَ يَكْمُلُ نِعْمَةُ الْأَكْلِ أَيْضًا إِلَّا بِالتَّعَبِ الَّذِي فِي الِاصْطِيَادِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لَا يَتَهَيَّأُ [إِلَّا] «1» لِلْبَعْضِ وَفِي الْبَعْضِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ بَيَانٌ لِمَنْفَعَةِ التَّذْلِيلِ إِذْ لَوْلَا التَّذْلِيلُ لَمَا وُجِدَتْ إِحْدَى الْمَنْفَعَتَيْنِ وَكَانَتِ الْأُخْرَى قليلة الوجود. [سورة يس (36) : آية 73] وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى غَيْرَ الرُّكُوبِ وَالْأَكْلِ مِنَ الْفَوَائِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ مَا لَا يُرْكَبُ كَالْغَنَمِ فَقَالَ مَنَافِعُ لِتَعُمَّهَا وَالْمَشَارِبُ كَذَلِكَ عَامَّةٌ، إِنْ قُلْنَا بِأَنَّ الْمُرَادَ جَمْعُ مِشْرَبٍ وَهُوَ الْآنِيَةُ فَإِنَّ مِنَ الْجُلُودِ مَا يُتَّخَذُ أَوَانِيَ لِلشُّرْبِ وَالْأَدَوَاتِ مِنَ الْقِرَبِ [وَغَيْرِهَا] ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْمُرَادَ الْمَشْرُوبُ وَهُوَ الْأَلْبَانُ وَالْأَسْمَانُ فَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالْإِنَاثِ وَلَكِنْ بِسَبَبِ الذُّكُورِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْحَمْلِ وَهُوَ بِالذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَفَلا يَشْكُرُونَ هَذِهِ النِّعَمُ الَّتِي تُوجِبُ الْعِبَادَةَ شُكْرًا، وَلَوْ شَكَرْتُمْ لَزَادَكُمْ/ مِنْ فَضْلِهِ، وَلَوْ كَفَرْتُمْ لَسَلَبَهَا مِنْكُمْ، فَمَا قَوْلُكُمْ، أَفَلَا تشكرون استدامة لها واستزادة فيها؟. ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 74] وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) إِشَارَةً إِلَى بَيَانِ زِيَادَةِ ضَلَالِهِمْ وَنِهَايَتِهَا، فَإِنَّهُمْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ عِبَادَةَ اللَّهِ شُكْرًا لِأَنْعُمِهِ، فَتَرَكُوهَا وَأَقْبَلُوا عَلَى عِبَادَةِ مَنْ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَتَوَقَّعُوا مِنْهُ النُّصْرَةَ مَعَ أَنَّهُمْ هُمُ النَّاصِرُونَ لَهُمْ كَمَا قَالَ عَنْهُمْ: حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: 68] وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا هِيَ ناصرة ولا منصورة. وقوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 75] لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)

_ (1) ما بين المربعين زيادة اقتضاها السياق.

[سورة يس (36) : الآيات 76 إلى 79]

إِشَارَةٌ إِلَى الْحَشْرِ بَعْدَ تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 98] وَقَوْلِهِ: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 22، 23] وقوله: فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ [سَبَأٍ: 38] وَهُوَ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْعَابِدُونَ جُنْدًا لِمَا اتَّخَذُوهُ آلِهَةً كَمَا ذَكَرْنَا الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْأَصْنَامُ جُنْدًا لِلْعَابِدِينَ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ أَكَّدَهَا بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ حَالَ مَا يَكُونُونَ جُنْدًا لهم ومحضرون لِنُصْرَتِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَإِنَّ مَنْ حَضَرَ وَاجْتَمَعَ ثُمَّ عَجَزَ عَنِ النُّصْرَةِ يَكُونُ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ بِخِلَافِ مَنْ لم يكن متأهبا ولم يجمع أنصاره. [سورة يس (36) : الآيات 76 الى 79] فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الرِّسَالَةِ لِأَنَّ الْخِطَابَ مَعَهُ بِمَا يُوجِبُ تَسْلِيَةَ قَلْبِهِ دَلِيلُ اجْتِبَائِهِ وَاخْتِيَارِهِ إِيَّاهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أحدها: أن يَكُونَ ذَلِكَ تَهْدِيدًا لِلْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فَقَوْلُهُ: مَا يُسِرُّونَ مِنَ النِّفَاقِ وَما يُعْلِنُونَ مِنَ الشِّرْكِ وَالثَّانِي: مَا يُسِرُّونَ مِنَ الْعِلْمِ بِكَ وَمَا يُعْلِنُونَ مِنَ الْكُفْرِ بِكَ الثَّالِثُ: مَا يُسِرُّونَ مِنَ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ وَمَا يُعْلِنُونَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ دَلِيلًا مِنَ الْآفَاقِ عَلَى وُجُوبِ عِبَادَتِهِ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: 71] ذَكَرَ دَلِيلًا مِنَ الْأَنْفُسِ. فَقَالَ: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ قِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْسَانِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ فَإِنَّ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِيهِ حَيْثُ أَخَذَ عَظْمًا باليا وأتى النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنَّكَ تَقُولُ إِنَّ إِلَهَكَ يُحْيِي هَذِهِ الْعِظَامَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ نَعَمْ وَيُدْخِلُكَ جَهَنَّمَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ/ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها [الْمُجَادِلَةِ: 1] نَزَلَتْ فِي وَاحِدَةٍ وَأَرَادَ الْكُلَّ فِي الْحُكْمِ فَكَذَلِكَ كُلُّ إِنْسَانٍ يُنْكِرُ اللَّهَ أَوِ الْحَشْرَ فَهَذِهِ الْآيَةُ رَدٌّ عَلَيْهِ إِذَا عَلِمْتَ عُمُومَهَا فَنَقُولُ فِيهَا لَطَائِفُ: اللَّطِيفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا [يس: 71] مَعْنَاهُ الْكَافِرُونَ الْمُنْكِرُونَ التَّارِكُونَ عِبَادَةَ اللَّهِ الْمُتَّخِذُونَ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، أَوْ لَمْ يَرَوْا خَلْقَ الْأَنْعَامِ لَهُمْ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ كَلَامٌ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا لِأَنَّهُ مَعَ جِنْسِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ مَعَ جَمْعٍ مِنْهُمْ فَنَقُولُ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ دَلِيلَ الْأَنْفُسِ أَشْمَلُ وَأَكْمَلُ وَأَتَمُّ وَأَلْزَمُ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَغْفُلُ عَنِ الْأَنْعَامِ وَخَلْقِهَا عِنْدَ غَيْبَتِهَا وَلَكِنْ [لَا يَغْفُلُ] هُوَ مَعَ نَفْسِهِ مَتَى مَا يَكُونُ وَأَيْنَمَا يَكُونُ. فَقَالَ: إِنْ غَابَ عَنِ الْحَيَوَانِ وَخَلْقِهِ فَهُوَ لا يعيب عن نفسه، فما باله أو لم يَرَ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ وَهُوَ أَتَمُّ نِعْمَةٍ، فَإِنَّ سَائِرَ النِّعَمِ بَعْدَ وُجُودِهِ وَقَوْلُهُ: مِنْ نُطْفَةٍ إِشَارَةٌ إِلَى وَجْهِ الدَّلَالَةِ،

وَذَلِكَ لِأَنَّ خَلْقَهُ لَوْ كَانَ مِنْ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةِ الصُّوَرِ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْعَظْمُ خُلِقَ مِنْ جِنْسٍ صُلْبٍ وَاللَّحْمُ مِنْ جِنْسٍ رَخْوٍ، وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي كُلِّ عُضْوٍ، وَلَمَّا كَانَ خَلْقُهُ عَنْ نُطْفَةٍ مُتَشَابِهَةِ الْأَجْزَاءِ وَهُوَ مختلف الصور دل على الاختيار والقدرة وإلى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ [الرعد: 4] . وَقَوْلُهُ: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ فِيهِ لَطِيفَةٌ غَرِيبَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ اخْتِلَافُ صُوَرِ أَعْضَائِهِ مَعَ تَشَابُهِ أَجْزَاءِ مَا خُلِقَ مِنْهُ آيَةٌ ظَاهِرَةٌ وَمَعَ هَذَا فَهُنَالِكَ مَا هُوَ أَظْهَرُ وَهُوَ نُطْقُهُ وَفَهْمُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّطْفَةَ جِسْمٌ، فَهَبْ أَنَّ جَاهِلًا يَقُولُ إِنَّهُ اسْتَحَالَ وَتَكُونُ جِسْمًا آخَرَ، لَكِنَّ الْقُوَّةَ النَّاطِقَةَ وَالْقُوَّةَ الْفَاهِمَةَ مِنْ أَيْنَ تَقْتَضِيهِمَا النُّطْفَةُ؟ فَإِبْدَاعُ النُّطْقِ وَالْفَهْمِ أَعْجَبُ وَأَغْرَبُ مِنْ إِبْدَاعِ الْخَلْقِ وَالْجِسْمِ وَهُوَ إِلَى إِدْرَاكِ الْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ مِنْهُ أَقْرَبُ فَقَوْلُهُ: خَصِيمٌ أَيْ نَاطِقٌ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْخَصِيمَ مكان الناطق لِأَنَّهُ أَعْلَى أَحْوَالِ النَّاطِقِ، فَإِنَّ النَّاطِقَ مَعَ نَفْسِهِ لَا يُبَيِّنُ كَلَامَهُ مِثْلَ مَا يُبَيِّنُهُ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ مَعَ غَيْرِهِ، وَالْمُتَكَلِّمُ مَعَ غَيْرِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ خَصْمًا لَا يُبَيِّنُ وَلَا يَجْتَهِدُ مِثْلَ مَا يَجْتَهِدُ إِذَا كَانَ كَلَامُهُ مَعَ خَصْمِهِ وَقَوْلُهُ: مُبِينٌ إِشَارَةٌ إِلَى قُوَّةِ عَقْلِهِ، وَاخْتَارَ الْإِبَانَةَ لِأَنَّ الْعَاقِلَ عِنْدَ الْإِفْهَامِ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْهُ عِنْدَ عَدَمِهِ، لِأَنَّ الْمُبِينَ بَانَ عِنْدَهُ الشَّيْءُ ثُمَّ أَبَانَهُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ نُطْفَةٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَدْنَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ: خَصِيمٌ مُبِينٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَعْلَى مَا حَصَلَ عَلَيْهِ وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً إِلَى أَنْ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [الْمُؤْمِنُونَ: 14] فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ خَلْقِ النُّطْفَةِ عَلَقَةً وَخَلْقِ الْعَلَقَةِ مُضْغَةً وَخَلْقِ الْمُضْغَةِ عِظَامًا إِشَارَةٌ إِلَى التَّغَيُّرَاتِ فِي الْجِسْمِ وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ أَيْ نَاطِقٌ عَاقِلٌ. ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ الْحَشْرِ وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَى/ آخِرِ السُّورَةِ غَرَائِبُ وَعَجَائِبُ نَذْكُرُهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَنَقُولُ الْمُنْكِرُونَ لِلْحَشْرِ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ دَلِيلًا وَلَا شُبْهَةً وَاكْتَفَى بِالِاسْتِبْعَادِ وَادَّعَى الضَّرُورَةَ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ بِلَفْظِ الِاسْتِبْعَادِ كَمَا قال: وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السجدة: 10] أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الصافات: 16] أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ [الصافات: 52] أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات: 53] إلى غير ذلك فكذلك هاهنا قال: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِبْعَادِ فَبَدَأَ أَوَّلًا بِإِبْطَالِ اسْتِبْعَادِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَنَسِيَ خَلْقَهُ أَيْ نَسِيَ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ تُرَابٍ وَمِنْ نُطْفَةٍ مُتَشَابِهَةِ الْأَجْزَاءِ، ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُمْ مِنَ النَّوَاصِي إِلَى الْأَقْدَامِ أَعْضَاءً مُخْتَلِفَةَ الصُّوَرِ وَالْقَوَامِ وَمَا اكْتَفَيْنَا بِذَلِكَ حَتَّى أَوْدَعْنَاهُمْ مَا لَيْسَ مِنْ قبيل هذه الأجرام وهو النطق والعقل الذي [ن] بِهِمَا اسْتَحَقُّوا الْإِكْرَامَ فَإِنْ كَانُوا يَقْنَعُونَ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِبْعَادِ فَهَلَّا يَسْتَبْعِدُونَ خَلْقَ النَّاطِقِ الْعَاقِلِ مِنْ نُطْفَةٍ قَذِرَةٍ لَمْ تَكُنْ مَحَلَّ الْحَيَاةِ أَصْلًا، ويستعبدون إِعَادَةَ النُّطْقِ وَالْعَقْلِ إِلَى مَحَلٍّ كَانَا فِيهِ، ثُمَّ إِنَّ اسْتِبْعَادَهُمْ كَانَ مِنْ جِهَةِ مَا فِي الْمَعَادِ مِنَ التَّفَتُّتِ وَالتَّفَرُّقِ حَيْثُ قَالُوا: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ اخْتَارُوا الْعَظْمَ لِلذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الْحَيَاةِ لِعَدَمِ الْإِحْسَاسِ فِيهِ وَوَصَفُوهُ بِمَا يُقَوِّي جَانِبَ الِاسْتِبْعَادِ مِنَ الْبِلَى وَالتَّفَتُّتِ وَاللَّهُ تَعَالَى دَفَعَ اسْتِبْعَادَهُمْ مِنْ جِهَةِ مَا فِي الْمُعِيدِ مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ فَقَالَ: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا أَيْ جَعَلَ قُدْرَتَنَا كَقُدْرَتِهِمْ وَنَسِيَ خَلْقَهُ الْعَجِيبَ وَبَدْأَهُ الْغَرِيبَ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ شُبْهَةً وَإِنْ كَانَتْ فِي آخِرِهَا تَعُودُ إِلَى مُجَرَّدِ الِاسْتِبْعَادِ وَهِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَعْدَ الْعَدَمِ لَمْ يَبْقَ

[سورة يس (36) : آية 80]

شَيْئًا فَكَيْفَ يَصِحُّ عَلَى الْعَدَمِ الْحُكْمُ بِالْوُجُودِ، وَأَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ. بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ يَعْنِي كَمَا خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا كَذَلِكَ يُعِيدُهُ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ شَيْئًا مَذْكُورًا وَثَانِيهَا: أَنَّ مَنْ تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ فِي مَشَارِقِ الْعَالَمِ وَمَغَارِبِهِ وَصَارَ بَعْضُهُ فِي أَبْدَانِ السِّبَاعِ وَبَعْضُهُ فِي جُدْرَانِ الرِّبَاعِ كَيْفَ يُجْمَعُ؟ وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا هُوَ أَنَّ إِنْسَانًا إِذَا أَكَلَ إِنْسَانًا وَصَارَ أَجْزَاءُ الْمَأْكُولِ فِي أَجْزَاءِ الْآكِلِ فَإِنْ أُعِيدَ فَأَجْزَاءُ الْمَأْكُولِ، إِمَّا أَنْ تُعَادَ إِلَى بَدَنِ الْآكِلِ فَلَا يَبْقَى لِلْمَأْكُولِ أَجْزَاءٌ تُخْلَقُ مِنْهَا أَعْضَاؤُهُ، وَإِمَّا أَنْ تُعَادَ إِلَى بَدَنِ الْمَأْكُولِ مِنْهُ فَلَا يَبْقَى لِلْآكِلِ أَجْزَاءٌ. فَقَالَ تَعَالَى فِي إِبْطَالِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ: وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّ فِي الْآكِلِ أجزاء أصلية وأجزاء فضلية، وفي المأكول هي ما كان له قبل الأكل. وَهُوَ بِكُلِّ/ خَلْقٍ عَلِيمٌ يَعْلَمُ الْأَصْلِيَّ مِنَ الْفَضْلِيِّ فيجمع الأجزاء الأصلية للآكل وينفخ فيها روحه ويجمع الْأَجْزَاءَ الْأَصْلِيَّةَ لِلْمَأْكُولِ وَيَنْفُخُ فِيهَا رُوحَهُ، وَكَذَلِكَ يَجْمَعُ الْأَجْزَاءَ الْمُتَفَرِّقَةَ فِي الْبِقَاعِ، الْمُبَدَّدَةِ فِي الْأَصْقَاعِ بِحِكْمَتِهِ الشَّامِلَةِ وَقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَادَ إِلَى تَقْرِيرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ دفع استبعادهم وإبطال إنكارهم وعنادهم. فقال تعالى: [سورة يس (36) : آية 80] الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُشْتَمِلٌ عَلَى جِسْمٍ يُحِسُّ بِهِ وَحَيَاةٍ سَارِيَةٍ فِيهِ، وَهِيَ كَحَرَارَةٍ جَارِيَةٍ فِيهِ فَإِنِ اسْتَبْعَدْتُمْ وُجُودَ حَرَارَةٍ وَحَيَاةٍ فِيهِ فَلَا تَسْتَبْعِدُوهُ، فَإِنَّ النَّارَ فِي الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ الَّذِي يَقْطُرُ مِنْهُ الْمَاءُ أَعْجَبُ وَأَغْرَبُ وَأَنْتُمْ تَحْضُرُونَ حَيْثُ مِنْهُ تُوقِدُونَ، وَإِنِ اسْتَبْعَدْتُمْ خَلْقَ جِسْمِهِ فَخَلْقُ السموات وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ أَنْفُسِكُمْ فَلَا تَسْتَبْعِدُوهُ فإن الله خلق السموات وَالْأَرْضَ فَبَانَ لُطْفُ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ. [سورة يس (36) : آية 81] أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ قُدِّمَ ذِكْرُ النَّارِ فِي الشَّجَرِ عَلَى ذِكْرِ الْخَلْقِ الْأَكْبَرِ، لِأَنَّ اسْتِبْعَادَهُمْ كَانَ بِالصَّرِيحِ وَاقِعًا عَلَى الْإِحْيَاءِ حيث قالوا: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ [يس: 78] وَلَمْ يَقُولُوا مَنْ يَجْمَعُهَا وَيُؤَلِّفُهَا وَالنَّارُ فِي الشَّجَرِ تُنَاسِبُ الْحَيَاةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ فِي الْقُدْرَةِ كَامِلٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الْعَلِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عِلْمَهُ شامل. ثم أكد بيانه بقوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 82] إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) وَهَذَا إِظْهَارُ فَسَادِ تَمْثِيلِهِمْ وَتَشْبِيهِهِمْ وَضَرْبِ مَثَلِهِمْ حَيْثُ ضَرَبُوا لِلَّهِ مَثَلًا وَقَالُوا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى مِثْلِ هَذَا قِيَاسًا لِلْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ فَقَالَ فِي الشَّاهِدِ الْخَلْقُ يَكُونُ بِالْآلَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالِانْتِقَالَاتِ الْمَكَانِيَّةِ وَلَا يَقَعُ إِلَّا فِي

الْأَزْمِنَةِ الْمُمْتَدَّةِ وَاللَّهُ يَخْلُقُ بِكُنْ فَيَكُونُ، فَكَيْفَ تَضْرِبُونَ الْمَثَلَ الْأَدْنَى وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى مِنْ أَنْ يُدْرَكَ. وَفِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ لِأَنَّهُ يَقُولُ لِمَا أَرَادَهُ: كُنْ فَيَكُونُ فَهُوَ قَبْلَ الْقَوْلِ لَهُ كُنْ لَا يَكُونُ وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ شَيْءٌ حَيْثُ قَالَ: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا بَيَانٌ لِعَدَمِ تَخَلُّفِ الشَّيْءِ عَنْ تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِ بِهِ، فَقَوْلُهُ: (إِذَا) مَفْهُومُ/ الْحِينِ وَالْوَقْتِ وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ شَيْءٌ حِينَ تُعَلَّقُ الْإِرَادَةُ بِهِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى أَنَّهُ شَيْءٌ قَبْلَ مَا إِذَا أَرَادَ وَحِينَئِذٍ لَا يَرِدُ مَا ذَكَرُوهُ لِأَنَّ الشَّيْءَ حِينَ تُعَلَّقُ الْإِرَادَةُ بِهِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ لَا يُرِيدُهُ فِي زَمَانٍ وَيَكُونُ فِي زَمَانٍ آخَرَ بَلْ يَكُونُ فِي زَمَانِ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ، فَإِذَا الشَّيْءُ هُوَ الْمَوْجُودُ لَا الْمَعْدُومُ لَا يُقَالُ كَيْفَ يُرِيدُ الْمَوْجُودَ وَهُوَ مَوْجُودٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ إِيجَادًا لِمَوْجُودٍ؟ نَقُولُ هَذَا الْإِشْكَالُ مِنْ بَابِ الْمَعْقُولَاتِ وَنُجِيبُ عَنْهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِنَّمَا غَرَضُنَا إِبْطَالُ تَمَسُّكِهِمْ بِاللَّفْظِ، وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ يُرِيدُ مَا هُوَ شَيْءٌ إِذَا أَرَادَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ مَا كَانَ شَيْئًا قَبْلَ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَتِ الْكَرَّامِيَّةُ لِلَّهِ إِرَادَةٌ مُحْدَثَةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا أَرادَ وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ مِنْ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جَعَلَ لِلْإِرَادَةِ زَمَانًا، فَإِنَّ إِذَا ظَرْفُ زَمَانٍ وَكُلُّ مَا هُوَ زَمَانِيٌّ فَهُوَ حَادِثٌ وَثَانِيهِمَا: هو أنه تعالى جعل إرادته متصلة بأمره وأمره متصل بِقَوْلِهِ: كُنْ وَقَوْلُهُ: كُنْ مُتَّصِلٌ بِكَوْنِ الشَّيْءِ وَوُقُوعِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَيَكُونُ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ لَكِنَّ الْكَوْنَ حَادِثٌ، وَمَا قَبْلَ الْحَادِثِ مُتَّصِلٌ بِهِ حَادِثٌ، وَالْفَلَاسِفَةُ وَافَقُوهُمْ فِي هَذَا الْإِشْكَالِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالُوا إِرَادَتُهُ مُتَّصِلَةٌ بِأَمْرِهِ وَأَمْرُهُ مُتَّصِلٌ بِالْكَوْنِ وَلَكِنَّ إِرَادَتَهُ قَدِيمَةٌ فَالْكَوْنُ قَدِيمٌ فَمُكَوِّنَاتُ اللَّهِ قَدِيمَةٌ، وَجَوَابُ الضَّالِّينَ مِنَ التَّمَسُّكِ بِاللَّفْظِ هُوَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا أَرادَ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ إِذَا تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِالشَّيْءِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَرادَ فِعْلٌ مَاضٍ، وَإِذَا دَخَلَتْ كَلِمَةُ إِذَا عَلَى الْمَاضِي تَجْعَلُهُ في معنى المستقبل، ونحن نقول بأن مَفْهُومَ قَوْلِنَا أَرَادَ وَيُرِيدُ وَعَلِمَ وَيَعْلَمُ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَهُ الْحُدُوثُ، وَإِنَّمَا نَقُولُ لِلَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ قَدِيمَةٌ هِيَ الْإِرَادَةُ وَتِلْكَ الصِّفَةُ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِشَيْءٍ نَقُولُ أَرَادَ وَيُرِيدُ، وَقَبْلَ التَّعَلُّقِ لَا نَقُولُ أَرَادَ وَإِنَّمَا نَقُولُ لَهُ إِرَادَةٌ وَهُوَ بِهَا مُرِيدٌ، وَلْنَضْرِبْ مِثَالًا لِلْأَفْهَامِ الضَّعِيفَةِ لِيَزُولَ مَا يَقَعُ فِي الْأَوْهَامِ السَّخِيفَةِ، فَنَقُولُ قَوْلُنَا فُلَانٌ خَيَّاطٌ يُرَادُ بِهِ أَنَّ لَهُ صَنْعَةَ الْخِيَاطَةِ فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ مِنَّا أَنْ نَقُولَ إِنَّهُ خَاطَ ثَوْبَ زَيْدٍ أَوْ يَخِيطُ ثَوْبَ زَيْدٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ صِحَّةِ قَوْلِنَا إِنَّهُ خَيَّاطٌ بِمَعْنَى أَنَّ لَهُ صَنْعَةً بها يُطْلَقُ عَلَيْهِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِ تِلْكَ الصَّنْعَةَ فِي ثَوْبِ زَيْدٍ فِي زَمَانٍ مَاضٍ خَاطَ ثَوْبَهُ، وَبِهَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِ تِلْكَ الصَّنْعَةَ فِي ثَوْبِ زَيْدٍ فِي زَمَانٍ مُسْتَقْبَلٍ يَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فَافْهَمْ أَنَّ الْإِرَادَةَ أَمْرٌ ثَابِتٌ إِنْ تَعَلَّقَتْ بِوُجُودِ شَيْءٍ نَقُولُ أَرَادَ وُجُودَهُ أَيْ يُرِيدُ وُجُودَهُ، وَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَهُوَ فِي الْمَعْنَى مِنْ كَلَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ تَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ حَادِثٌ وَخَرَجَ بِمَا ذَكَرْنَا جَوَابُ الْفَرِيقَيْنِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْكَرَّامِيَّةُ كَلَامُ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ وَحَادِثٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: كُنْ كَلَامٌ وكُنْ مِنْ حَرْفَيْنِ، وَالْحَرْفُ مِنَ الصَّوْتِ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ كَلَامَهُ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، وَأَمَّا أَنَّهُ حَادِثٌ فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ زَمَانِيٌّ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْكَوْنِ وَالْكَوْنُ حَادِثٌ، وَالْجَوَابُ يُعْلَمُ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ صِفَةٌ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِشَيْءٍ تَقُولُ قَالَ وَيَقُولُ فَتَعَلُّقُ الْخِطَابِ حَادِثٌ وَالْكَلَامُ قَدِيمٌ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فِيهِ تَعَلُّقٌ وَإِضَافَةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَقُولَ لَهُ بِاللَّامِ لِلْإِضَافَةِ صَرِيحٌ فِي التَّعَلُّقِ/ وَنَحْنُ نَقُولُ إِنَّ قَوْلَهُ لِلشَّيْءِ الْحَادِثِ حَادِثٌ لِأَنَّهُ مَعَ التَّعَلُّقِ، وَإِنَّمَا الْقَدِيمُ قَوْلُهُ وَكَلَامُهُ لَا مَعَ التَّعَلُّقِ وَكُلُّ قَدِيمٍ

[سورة يس (36) : آية 83]

وَحَادِثٍ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى مَجْمُوعِهِمَا لَا تَجِدُهُمَا فِي الْأَزَلِ وَإِنَّمَا تَجِدُهُمَا جَمِيعًا فِيمَا لَا يَزَالُ فَلَهُ مَعْنَى الْحُدُوثِ وَلَكِنَّ الْإِطْلَاقَ مُوهِمٌ، فَتَفَكَّرْ جِدًّا وَلَا تَقُلِ الْمَجْمُوعُ حَادِثٌ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ مُرَادِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْجَمِيعَ حَادِثٌ، بَلْ حَقِّقِ الْإِشَارَةَ وجود العبارة وَقُلْ أَحَدُ طَرَفَيِ الْمَجْمُوعِ قَدِيمٌ وَالْآخَرُ حَادِثٌ وَلَمْ يَكُنِ الْآخَرُ مَعَهُ فِي الْأَزَلِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: كُنْ مِنَ الْحُرُوفِ، نَقُولُ الْكَلَامُ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ وَالثَّانِي: مَا عِنْدَ السَّامِعِ، ثُمَّ إِنَّ أَحَدَهُمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ هُوَ الْآخَرُ وَمِنْ هَذَا يَظْهَرُ فَوَائِدُ. أَمَّا بَيَانُ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ لِغَيْرِهِ عِنْدِي كَلَامٌ أُرِيدُ أَنْ أَقُولَهُ لَكَ غَدًا، ثُمَّ إِنَّ السَّامِعَ أَتَاهُ غَدًا وَسَأَلَهُ عَنِ الْكَلَامِ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ أَمْسِ، فَيَقُولُ لَهُ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَحْضُرَ عِنْدِي الْيَوْمَ، فَهَذَا الْكَلَامُ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَكَ أَمْسِ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ السَّامِعِ، ثُمَّ حَصَلَ عِنْدَ السَّامِعِ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ وَيُطْلِقُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الَّذِي سَمِعْتَ هُوَ الَّذِي كَانَ عِنْدِي، وَيَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّ الصَّوْتَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ أَمْسِ وَلَا الْحَرْفَ، لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي عِنْدَهُ جَازَ أَنْ يذكره بالعربي فَيَكُونُ لَهُ حُرُوفٌ، وَجَازَ أَنْ يَذْكُرَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ فَيَكُونُ لَهُ حُرُوفٌ أُخَرُ، وَالْكَلَامُ الَّذِي عِنْدَهُ وَوَعَدَ بِهِ وَاحِدٌ وَالْحُرُوفُ مُخْتَلِفَةٌ كَثِيرَةٌ، فَإِذَا مَعْنَى قَوْلِهِ هَذَا مَا كَانَ عِنْدِي، هُوَ أَنَّ هَذَا يُؤَدِّي إِلَيْكَ مَا كَانَ عِنْدِي، وَهَذَا أَيْضًا مَجَازٌ، لِأَنَّ الَّذِي عِنْدَهُ مَا انْتَقَلَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا عَلِمَ ذَلِكَ وَحَصَلَ عِنْدَهُ بِهِ عِلْمٌ مُسْتَفَادٌ مِنَ السَّمْعِ أَوِ الْبَصَرِ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ أَوِ الْإِشَارَةِ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَالْكَلَامُ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ وَصِفَةٌ لَهُ لَيْسَ بِحَرْفٍ عَلَى مَا بَانَ، وَالَّذِي يَحْصُلُ عِنْدَ السَّامِعِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ وَأَحَدُهُمَا الْآخَرُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى وَتَوَسُّعِ الْإِطْلَاقِ، فَإِذَا قَالَ تَعَالَى: (يَقُولَ لَهُ) حَصَلَ قَائِلٌ وَسَامِعٌ. فَاعْتَبَرَهَا مِنْ جَانِبِ السَّامِعِ لِكَوْنِ وُجُودِ الْفِعْلِ مِنَ السَّامِعِ لِذَلِكَ الْقَوْلِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْكَافِ وَالنُّونِ الَّذِي يَحْدُثُ عِنْدَ السَّامِعِ وَيَحْدُثُ بِهِ الْمَطْلُوبُ. ثم قال تعالى: [سورة يس (36) : آية 83] فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) لَمَّا تَقَرَّرَتِ الْوَحْدَانِيَّةُ وَالْإِعَادَةُ وَأَنْكَرُوهَا وَقَالُوا بِأَنَّ غَيْرَ اللَّهِ آلِهَةٌ، قَالَ تَعَالَى وَتَنَزَّهَ عَنِ الشَّرِيكِ: الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَكُلُّ شَيْءٍ مِلْكُهُ فَكَيْفَ يَكُونُ الْمَمْلُوكُ لِلْمَالِكِ شَرِيكًا، وَقَالُوا بِأَنَّ الْإِعَادَةَ لَا تَكُونُ، فَقَالَ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ رَدًّا عَلَيْهِمْ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّحْوِ فِي قَوْلِهِ: سُبْحَانَ، أَيْ سَبِّحُوا تَسْبِيحَ الَّذِي أَوْ سَبِّحْ مَنْ في السموات وَالْأَرْضِ تَسْبِيحَ الَّذِي فَسُبْحانَ عَلَمٌ لِلتَّسْبِيحِ، وَالتَّسْبِيحُ هُوَ التَّنْزِيهُ، وَالْمَلَكُوتُ مُبَالَغَةٌ فِي الْمُلْكِ كَالرَّحَمُوتِ وَالرَّهَبُوتِ، وَهُوَ فَعَلُولٌ أَوْ فَعَلُوتٌ فِيهِ كَلَامٌ، وَمَنْ قَالَ هُوَ فَعَلُولٌ جَعَلُوهُ مُلْحَقًا بِهِ. ثم إن النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس» وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِيهِ: إِنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ صِحَّتُهُ بِالِاعْتِرَافِ بِالْحَشْرِ، وَالْحَشْرُ مُقَرَّرٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ، فَجَعَلَهُ قَلْبَ الْقُرْآنِ لِذَلِكَ، وَاسْتَحْسَنَهُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى «1» سَمِعْتُهُ يَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ هَذَا الْكَلَامِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا تَقْرِيرُ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ بِأَقْوَى الْبَرَاهِينِ فَابْتِدَاؤُهَا بَيَانُ الرِّسَالَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس: 3] وَدَلِيلُهَا مَا قَدَّمَهُ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: 2] وما أخره

_ (1) قوله: «واستحسنه فخر الدين الرازي إلخ» يفيد أن المتكلم غير المؤلف، فلعل هذا الكلام زيادة علق بها تلميذ المؤلف رحمهما الله.

عنها بقوله: لِتُنْذِرَ قَوْماً [يس: 6] وَانْتِهَاؤُهَا بَيَانُ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْحَشْرِ بِقَوْلِهِ: فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ إِشَارَةٌ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَقَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَشْرِ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِلَّا هَذِهِ الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ وَدَلَائِلُهُ وَثَوَابُهُ، وَمَنْ حَصَّلَ مِنَ الْقُرْآنِ هَذَا الْقَدْرَ فَقَدْ حَصَّلَ نَصِيبَ قَلْبِهِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ الَّذِي بِالْجَنَانِ. وَأَمَّا وَظِيفَةُ اللِّسَانِ الَّتِي هِيَ القول، فكما في قوله تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً [الْأَحْزَابِ: 70] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا [فُصِّلَتْ: 33] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [إِبْرَاهِيمَ: 27] وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [الفتح: 26] وإِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فَاطِرٍ: 10] إِلَى غَيْرِ هَذِهِ مِمَّا فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَوَظِيفَةُ الْأَرْكَانِ وهو العمل، كما في قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [البقرة: 110] وقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ... وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ [الإسراء: 32، 33] وَقَوْلِهِ: وَاعْمَلُوا صالِحاً [الْمُؤْمِنُونَ: 51] وَأَيْضًا مِمَّا فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا أَعْمَالُ الْقَلْبِ لَا غَيْرُ سَمَّاهَا قَلْبًا، وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ نَدَبَ إِلَى تَلْقِينِ يس لِمَنْ دَنَا مِنْهُ الْمَوْتُ، وَقِرَاءَتِهَا عِنْدَ رَأْسِهِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَكُونُ اللِّسَانُ ضَعِيفَ الْقُوَّةِ، وَالْأَعْضَاءُ الظَّاهِرَةُ سَاقِطَةَ الْبِنْيَةِ، لَكِنَّ الْقَلْبَ يَكُونُ قَدْ أَقْبَلَ عَلَى اللَّهِ وَرَجَعَ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَيُقْرَأُ عِنْدَ رَأْسِهِ مَا يُزَادُ بِهِ قُوَّةُ قَلْبِهِ، وَيُشْتَدُّ تَصْدِيقُهُ بِالْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ شفاء له وأشرار كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ ظَنٌّ لَا نَقْطَعُ بِهِ، وَنَرْجُو اللَّهَ أَنْ يَرْحَمَنَا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. تَمَّ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ الطَّاهِرِينَ.

سورة الصافات

سورة الصافات مائة واثنتان وَثَمَانُونَ آيَةً مَكِّيَّةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِيمَا يَلِيهِ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً وَالْبَاقُونَ بِالْإِظْهَارِ، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِدْغَامُ التَّاءِ فِي الصَّادِ حَسَنٌ لِمُقَارَبَةِ الْحَرْفَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ وَأُصُولِ الثَّنَايَا يُسْمَعَانِ فِي الْهَمْسِ، وَالْمُدْغَمُ فِيهِ يَزِيدُ عَلَى الْمُدْغَمِ بِالْإِطْبَاقِ وَالصَّفِيرِ، وَإِدْغَامُ الْأَنْقَصِ فِي الْأَزْيَدِ حَسَنٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدْغَمَ الْأَزْيَدُ صَوْتًا فِي الْأَنْقَصِ، وَأَيْضًا إِدْغَامُ التَّاءِ فِي الزَّايِ فِي قَوْلِهِ: فَالزَّاجِراتِ زَجْراً حَسَنٌ لِأَنَّ التَّاءَ مَهْمُوسَةٌ وَالزَّايَ مَجْهُورَةٌ وَفِيهَا زِيَادَةُ صَفِيرٍ كَمَا كَانَ فِي الصَّادِ، وَأَيْضًا حَسُنَ إِدْغَامُ التَّاءِ فِي الذَّالِ فِي قَوْلِهِ: فَالتَّالِياتِ ذِكْراً لِاتِّفَاقِهِمَا فِي أَنَّهُمَا مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ وَأُصُولِ الثَّنَايَا، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْإِظْهَارِ وَتَرَكَ الْإِدْغَامَ فَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمَخَارِجِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ الْمُقْسَمِ بِهَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ صِفَاتٍ ثَلَاثَةً لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَشْيَاءَ ثَلَاثَةً مُتَبَايِنَةً، أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا صِفَاتُ الْمَلَائِكَةِ، وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَقِفُونَ صُفُوفًا. إِمَّا في السموات لِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ [الصَّافَّاتِ: 165] وَقِيلَ إِنَّهُمْ يَصِفُّونَ أَجْنِحَتَهُمْ فِي الْهَوَاءِ يَقِفُونَ مُنْتَظِرِينَ وُصُولَ أَمْرِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ مَعْنَى كَوْنِهِمْ صُفُوفًا أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَرْتَبَةً مُعَيَّنَةً وَدَرَجَةً مُعَيَّنَةً فِي الشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ أَوْ فِي الذَّاتِ وَالْعَلِيَّةِ وَتِلْكَ الدَّرَجَةُ الْمُرَتَّبَةُ بَاقِيَةٌ غَيْرُ مُتَغَيِّرَةٍ وَذَلِكَ يُشْبِهُ الصُّفُوفَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَقَالَ اللَّيْثُ يُقَالُ زَجَرْتُ الْبَعِيرَ فَأَنَا أَزْجُرُهُ زَجْرًا إِذَا حَثَثْتَهُ لِيَمْضِيَ، وَزَجَرْتُ فُلَانًا عَنْ سُوءٍ فَانْزَجَرَ أَيْ نَهَيْتُهُ فَانْتَهَى، فَعَلَى هَذَا الزَّجْرِ لِلْبَعِيرِ كَالْحَثِّ وَلِلْإِنْسَانِ/ كَالنَّهْيِ، إِذَا عَرَفْتَ

هَذَا فَنَقُولُ فِي وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ بِالزَّجْرِ وُجُوهٌ الأول: قال ابن عباس يريد الملائكة الذي وُكِّلُوا بِالسَّحَابِ يَزْجُرُونَهَا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِهَا مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَهُمْ تَأْثِيرَاتٌ فِي قُلُوبِ بَنِي آدَمَ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْهَامَاتِ فَهُمْ يَزْجُرُونَهُمْ عَنِ الْمَعَاصِي زَجْرًا الثَّالِثُ: لَعَلَّ الْمَلَائِكَةَ أَيْضًا يَزْجُرُونَ الشَّيَاطِينَ عَنِ التَّعَرُّضِ لِبَنِي آدَمَ بِالشَّرِّ وَالْإِيذَاءِ، وَأَقُولُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مُؤَثِّرٌ لَا يَقْبَلُ الْأَثَرَ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ أَشْرَفُ الْمَوْجُودَاتِ وَمُتَأَثِّرٌ لَا يُؤَثِّرُ وَهُمْ عَالَمُ الْأَجْسَامِ وَهُوَ أَخَسُّ الْمَوْجُودَاتِ وَمَوْجُودٌ يُؤَثِّرُ فِي شَيْءٍ وَيَتَأَثَّرُ عَنْ شَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ عَالَمُ الْأَرْوَاحِ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَقْبَلُ الْأَثَرَ عَنْ عَالَمِ كِبْرِيَاءِ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي عَالَمِ الْأَجْسَامِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْجِهَةَ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا تَقْبَلُ الْأَثَرَ مِنْ عَالَمِ كِبْرِيَاءِ اللَّهِ غَيْرُ الْجِهَةِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا تَسْتَوْلِي عَلَى عَالَمِ الْأَجْسَامِ وَتَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهَا وَقَوْلُهُ: فَالتَّالِياتِ ذِكْراً إِشَارَةٌ إِلَى الْأَشْرَفِ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا تَقْوَى عَلَى التَّأْثِيرِ فِي عَالَمِ الْأَجْسَامِ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فقوله: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا إرشاد إِلَى وُقُوفِهَا صَفًّا صَفًّا فِي مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ وَالطَّاعَةِ بِالْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ وَهِيَ الْجِهَةُ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا تَقْبَلُ تِلْكَ الْجَوَاهِرُ الْقُدْسِيَّةُ أَصْنَافَ الْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْكَمَالَاتِ الصَّمَدِيَّةِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَالزَّاجِراتِ زَجْراً إِشَارَةٌ إِلَى تَأْثِيرِ الْجَوَاهِرِ الْمَلَكِيَّةِ فِي تَنْوِيرِ الْأَرْوَاحِ الْقُدْسِيَّةِ الْبَشَرِيَّةِ وَإِخْرَاجِهَا مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ، وَذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْوَاحَ النُّطْقِيَّةَ الْبَشَرِيَّةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ كَالْقَطْرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَحْرِ وَكَالشُّعْلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّمْسِ، وَأَنَّ هذه الأرواح البشرية إنما تنتقل من القوة إِلَى الْفِعْلِ فِي الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْكَمَالَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ بِتَأْثِيرَاتِ جَوَاهِرِ الْمَلَائِكَةِ وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [النَّحْلِ: 2] وَقَوْلُهُ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: 192، 193] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً [الْمُرْسَلَاتِ: 5] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْكَمَالَ الْمُطْلَقَ لِلشَّيْءِ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا كَانَ تَامًّا وَفَوْقَ التَّامِّ وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ تَامًّا أَنْ تَحْصُلَ جَمِيعُ الْكَمَالَاتِ اللَّائِقَةِ بِهِ حُصُولًا بِالْفِعْلِ وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ فَوْقَ التَّامِّ أَنْ تَفِيضَ مِنْهُ أَصْنَافُ الْكَمَالَاتِ وَالسَّعَادَاتِ عَلَى غَيْرِهِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كَوْنَهُ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِكْمَالِ جَوَاهِرِ الْمَلَائِكَةِ فِي ذَوَاتِهَا وَقْتَ وُقُوفِهَا فِي مَوَاقِفِ الْعُبُودِيَّةِ وَصُفُوفِ الْخِدْمَةِ وَالطَّاعَةِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَالزَّاجِراتِ زَجْراً إِشَارَةٌ إِلَى كَيْفِيَّةِ تَأْثِيرَاتِهَا فِي إِزَالَةِ مَا لَا يَنْبَغِي عَنْ جَوَاهِرِ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَالتَّالِياتِ ذِكْراً إِشَارَةٌ إِلَى كَيْفِيَّةِ تَأْثِيرَاتِهَا فِي إِفَاضَةِ الْجَلَايَا الْقُدْسِيَّةِ وَالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى الْأَرْوَاحِ النَّاطِقَةِ الْبَشَرِيَّةِ، فَهَذِهِ مُنَاسَبَاتٌ عَقْلِيَّةٌ وَاعْتِبَارَاتٌ حَقِيقِيَّةٌ تَنْطَبِقُ عَلَيْهَا هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ لَا يَجُوزُ حَمْلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهَا مُشْعِرَةٌ بِالتَّأْنِيثِ وَالْمَلَائِكَةُ مُبَرَّءُونَ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ، وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الصَّافَّاتِ جَمْعُ الْجَمْعِ فَإِنَّهُ يُقَالُ جَمَاعَةٌ صَافَّةٌ ثُمَّ يُجْمَعُ عَلَى صَافَّاتٍ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ مُبَرَّءُونَ عَنِ التَّأْنِيثِ الْمَعْنَوِيِّ، أَمَّا التَّأْنِيثُ فِي/ اللَّفْظِ فَلَا، وَكَيْفَ وَهُمْ يُسَمَّوْنَ بِالْمَلَائِكَةِ مَعَ أَنَّ عَلَامَةَ التَّأْنِيثِ حَاصِلَةٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ الثاني: أن تحمل هذه الصفات عَلَى النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ الطَّاهِرَةِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُقْبِلَةِ عَلَى عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ هُمْ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ وبيانه من وجهين الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا الْمُرَادُ الصُّفُوفُ الْحَاصِلَةُ عِنْدَ أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ بِالْجَمَاعَةِ وَقَوْلُهُ: فَالزَّاجِراتِ زَجْراً إِشَارَةٌ إِلَى قِرَاءَةِ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ كَأَنَّهُمْ بِسَبَبِ قِرَاءَةِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ يَزْجُرُونَ الشَّيَاطِينَ عَنْ إِلْقَاءِ الْوَسَاوِسِ فِي قُلُوبِهِمْ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَقَوْلُهُ: فَالتَّالِياتِ ذِكْراً إِشَارَةٌ إِلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَقِيلَ: فَالزَّاجِراتِ زَجْراً إِشَارَةٌ إِلَى رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ كَأَنَّهُ يَزْجُرُ الشَّيْطَانَ بِوَاسِطَةِ رَفْعِ الصَّوْتِ،

روي أنه صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ طَافَ عَلَى بُيُوتِ أَصْحَابِهِ فِي اللَّيَالِي فَسَمِعَ أَبَا بَكْرٍ يَقْرَأُ بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ وَسَمِعَ عُمَرَ يَقْرَأُ بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَسَأَلَ أَبَا بَكْرٍ لِمَ تَقْرَأُ هَكَذَا؟ فَقَالَ الْمَعْبُودُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَسَأَلَ عُمَرَ لِمَ تَقْرَأُ هَكَذَا فَقَالَ أُوقِظُ الْوَسْنَانَ وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا الصُّفُوفُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُحِقِّينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَالزَّاجِراتِ زَجْراً اشْتِغَالُهُمْ بِالزَّجْرِ عَنِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالتَّالِياتِ ذِكْراً اشْتِغَالُهُمْ بِالدَّعْوَةِ إِلَى دِينِ اللَّه وَالتَّرْغِيبِ فِي الْعَمَلِ بِشَرَائِعِ اللَّهِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ أَنْ نَحْمِلَهَا عَلَى أَحْوَالِ الْغُزَاةِ وَالْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَوْلُهُ: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا الْمُرَادُ مِنْهُ صُفُوفُ الْقِتَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا [الصَّفِّ: 4] وَأَمَّا (الزَّاجِرَاتِ زَجْرًا) فَالزَّجْرَةُ وَالصَّيْحَةُ سَوَاءٌ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ رفع الصوت بزجر الخيل، وأما فَالتَّالِياتِ ذِكْراً فَالْمُرَادُ اشْتِغَالُ الْغُزَاةِ وَقْتَ شُرُوعِهِمْ فِي مُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّقْدِيسِ الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ أَنْ نَجْعَلَهَا صِفَاتٍ لِآيَاتِ الْقُرْآنِ فَقَوْلُهُ: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا الْمُرَادُ آيَاتُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ بَعْضُهَا فِي دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَبَعْضُهَا فِي دَلَائِلِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَبَعْضُهَا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَبَعْضُهَا فِي دَلَائِلِ الْمَعَادِ وَبَعْضُهَا فِي بَيَانِ التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ وَبَعْضُهَا فِي تَعْلِيمِ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ مُرَتَّبَةٌ تَرْتِيبًا لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَتَبَدَّلُ فَهَذِهِ الْآيَاتُ تُشْبِهُ أَشْخَاصًا وَاقِفِينَ فِي صُفُوفٍ مُعَيَّنَةٍ وَقَوْلُهُ: فَالزَّاجِراتِ زَجْراً الْمُرَادُ مِنْهُ الْآيَاتُ الزَّاجِرَةُ عَنِ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ وَقَوْلُهُ: فَالتَّالِياتِ ذِكْراً الْمُرَادُ مِنْهُ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْإِقْدَامِ عَلَى أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ وَصَفَ الْآيَاتِ بِكَوْنِهَا تَالِيَةً عَلَى قَانُونِ مَا يُقَالُ شِعْرُ شَاعِرٍ وَكَلَامُ قَائِلٍ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الْإِسْرَاءِ: 9] وَقَالَ: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: 1، 2] قِيلَ الْحَكِيمُ بِمَعْنَى الْحَاكِمِ فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْوُجُوهِ الْمُحْتَمَلَةِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تُجْعَلَ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ صِفَاتٍ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَشْيَاءَ مُتَغَايِرَةً فَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا الطَّيْرُ مِنْ قوله تعالى: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ [النور: 41] وفَالزَّاجِراتِ كل ما زجر عن معاصي الله وفَالتَّالِياتِ كُلُّ مَا يُتْلَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَأَقُولُ فِيهِ/ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ إِمَّا جُسْمَانِيَّةٌ وَإِمَّا رُوحَانِيَّةٌ، أَمَّا الْجُسْمَانِيَّةُ فَإِنَّهَا مُرَتَّبَةٌ عَلَى طَبَقَاتٍ وَدَرَجَاتٍ لَا تَتَغَيَّرُ الْبَتَّةَ، فَالْأَرْضُ وَسَطُ الْعَالَمِ وَهِيَ مَحْفُوفَةٌ بِكُرَةِ الْمَاءِ وَالْمَاءُ مَحْفُوفٌ بِالْهَوَاءِ، وَالْهَوَاءُ مَحْفُوفٌ بِالنَّارِ، ثُمَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ مَحْفُوفَةٌ بِكُرَاتِ الْأَفْلَاكِ إِلَى آخِرِ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ فَهَذِهِ الْأَجْسَامُ كَأَنَّهَا صُفُوفٌ وَاقِفَةٌ عَلَى عَتَبَةِ جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الْجَوَاهِرُ الرُّوحَانِيَّةُ فَهِيَ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهَا وَتَبَايُنِ صِفَاتِهَا مشتركة في صفتين أحدهما التَّأْثِيرُ فِي عَالَمِ الْأَجْسَامِ بِالتَّحْرِيكِ وَالتَّصْرِيفِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الزَّجْرِ السَّوْقُ وَالتَّحْرِيكُ، والثاني الإدراك والمعرفة وَالِاسْتِغْرَاقُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالتَّالِياتِ ذِكْراً وَلَمَّا كَانَ الْجِسْمُ أَدْنَى مَنْزِلَةً مِنَ الْأَرْوَاحِ الْمُسْتَقِلَّةِ فَالتَّصَرُّفُ فِي الْجُسْمَانِيَّاتِ أَدْوَنُ مَنْزِلَةً مِنَ الْأَرْوَاحِ الْمُسْتَغْرِقَةِ فِي مَعْرِفَةِ جَلَالِ اللَّهِ الْمُقْبِلَةِ عَلَى تَسْبِيحِ اللَّهِ كَمَا قَالَ: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الْأَنْبِيَاءِ: 19] لَا جَرَمَ بَدَأَ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى بِذِكْرِ الْأَجْسَامِ فَقَالَ: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ الْأَرْوَاحَ الْمُدَبِّرَةَ لِأَجْسَامِ هَذَا الْعَالَمِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ وَهِيَ الْأَرْوَاحُ الْمُقَدَّسَةُ الْمُتَوَجِّهَةُ بِكُلِّيَّتِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ جَلَالِ اللَّهِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، فَهَذِهِ احْتِمَالَاتٌ خَطَرَتْ بِالْبَالِ، وَالْعَالِمُ بِأَسْرَارِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ إلا الله.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ الْمُقْسَمُ بِهِ هاهنا خَالِقُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا أَعْيَانُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّهِ أَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَلِفَ بِالشَّيْءِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ تَعْظِيمٌ عَظِيمٌ لِلْمَحْلُوفِ بِهِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْظِيمِ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِاللَّهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ تَأَكُّدٌ بِمَا أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِهِ فِي بَعْضِ السُّوَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها [الشَّمْسِ: 5- 7] ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْقَسَمَ وَاقِعٌ بِأَعْيَانِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَسَمَ وَقَعَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِحَسَبِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ فَالْعُدُولُ عَنْهُ خِلَافُ الدَّلِيلِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَالسَّماءِ وَما بَناها فَعَلَّقَ لَفْظَ الْقَسَمِ بِالسَّمَاءِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْقَسَمَ بِالْبَانِي لِلسَّمَاءِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْقَسَمِ بِالسَّمَاءِ الْقَسَمَ بِمَنْ بَنَى السَّمَاءَ لَزِمَ التَّكْرَارُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يبعد أن تكون الحكمة في قسم من اللَّهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ التَّنْبِيهَ عَلَى شَرَفِ ذَوَاتِهَا وَكَمَالِ حَقَائِقِهَا، لَا سِيَّمَا إِذَا حَمَلْنَا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّهُ تَكُونُ الْحِكْمَةُ فِي الْقَسَمِ بِهَا التَّنْبِيهَ عَلَى جَلَالَةِ دَرَجَاتِهَا وَكَمَالِ مَرَاتِبِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنْ قِيلَ ذِكْرُ الْحَلِفِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ غَيْرُ لَائِقٍ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْقَسَمِ إِمَّا إِثْبَاتُ هَذَا الْمَطْلُوبِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ أَوَ عِنْدَ الْكَافِرِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مُقِرٌّ بِهِ سَوَاءٌ حَصَلَ الْحَلِفُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ، فَهَذَا الْحَلِفُ عَدِيمُ الْفَائِدَةِ عَلَى كُلِّ التَّقْدِيرَاتِ/ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى حَلَفَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ، وَحَلَفَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ وَالذَّارِيَاتِ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَةَ حق فقال: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ [الذَّارِيَاتِ: 1- 6] وَإِثْبَاتُ هَذِهِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ مِنَ الدَّهْرِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ بِالْحَلِفِ وَالْيَمِينِ لَا يَلِيقُ بِالْعُقَلَاءِ، وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَرَّرَ التَّوْحِيدَ وَصِحَّةَ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ فِي سَائِرِ السُّوَرِ بِالدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ تِلْكَ الدَّلَائِلِ لَمْ يَبْعُدْ تَقْرِيرُهَا فَذَكَرَ الْقَسَمَ تَأْكِيدًا لِمَا تَقَدَّمَ لَا سِيَّمَا وَالْقُرْآنُ إِنَّمَا أُنْزِلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَإِثْبَاتُ الْمُطَالِبِ بِالْحَلِفِ وَالْيَمِينِ طَرِيقَةٌ مَأْلُوفَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقْسَمَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ ذَكَرَ عَقِيبَهُ مَا هُوَ كَالدَّلِيلِ الْيَقِينِيِّ فِي كَوْنِ الْإِلَهِ وَاحِدًا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي قَوْلُهُ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] أن انتظام أحوال السموات وَالْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ، فَهَهُنَا لَمَّا قَالَ: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ كَأَنَّهُ قِيلَ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النَّظَرَ فِي انتظام هذا العالم يدل على كونه الْإِلَهِ وَاحِدًا فَتَأَمَّلُوا فِي ذَلِكَ الدَّلِيلِ لِيَحْصُلَ لَكُمُ الْعِلْمُ بِالتَّوْحِيدِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ هَذَا الْكَلَامِ الرَّدُّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ فِي قَوْلِهِمْ بِأَنَّهَا آلِهَةٌ فَكَأَنَّهُ قِيلَ هَذَا الْمَذْهَبُ قَدْ بَلَغَ فِي السُّقُوطِ وَالرَّكَاكَةِ إِلَى حَيْثُ يَكْفِي فِي إِبْطَالِهِ مِثْلُ هَذِهِ الْحُجَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَمَّا دلالة أحوال السموات وَالْأَرْضِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْعَالِمِ الْحَكِيمِ، وَعَلَى كَوْنِهِ وَاحِدًا مُنَزَّهًا عَنِ الشَّرِيكِ فَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا وَأَطْوَارًا وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَبُّ الْمَشارِقِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَشَارِقَ الشَّمْسِ قَالَ السُّدِّيُّ الْمَشَارِقُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ مَشْرِقًا وَكَذَلِكَ الْمَغَارِبُ فَإِنَّهُ تَطْلُعُ الشَّمْسُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ مَشْرِقٍ وَتَغْرُبُ كُلَّ يَوْمٍ فِي مَغْرِبٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَشَارِقَ الْكَوَاكِبِ لِأَنَّ لِكُلِّ كَوْكَبٍ مَشْرِقًا وَمَغْرِبًا، فَإِنْ قِيلَ لِمَ اكْتَفَى بِذِكْرِ الْمَشَارِقِ؟ قُلْنَا لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اكْتَفَى بِذِكْرِ الْمَشَارِقِ كَقَوْلِهِ:

[سورة الصافات (37) : الآيات 6 إلى 10]

تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْلِ: 81] وَالثَّانِي أَنَّ الشَّرْقَ أَقْوَى حَالًا مِنَ الْغُرُوبِ وَأَكْثَرُ نَفْعًا مِنَ الْغُرُوبِ فَذُكِرَ الشَّرْقُ تَنْبِيهًا عَلَى كَثْرَةِ إِحْسَانِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ، وَلِهَذِهِ الدَّقِيقَةِ اسْتَدَلَّ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْمَشْرِقِ فَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ [الْبَقَرَةِ: 258] . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقًا لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ، قالوا لأن أعمال العباد موجود فيما بين السموات وَالْأَرْضِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا حصل بين السموات وَالْأَرْضِ فَاللَّهُ رَبُّهُ وَمَالِكُهُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّهِ، وَإِنْ قَالُوا الْأَعْرَاضُ لَا يَصِحُّ وَصْفُهَا بِأَنَّهَا حَصَلَتْ بين السموات وَالْأَرْضِ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ إِنَّمَا يَلِيقُ بِمَا يَكُونُ حَاصِلًا فِي حَيِّزٍ وَجِهَةٍ وَالْأَعْرَاضُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، قُلْنَا إِنَّهَا لَمَّا/ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي الأجسام الحاصلة بين السموات وَالْأَرْضِ فَهِيَ أَيْضًا حَاصِلَةٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. ثم قال تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 6 الى 10] إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) [فِي قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ زِينَةٍ مُنَوَّنَةً الْكَوَاكِبِ بِالْجَرِّ وَهُوَ قِرَاءَةُ مَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ، قَالَ الْفَرَّاءُ وَهُوَ رَدُّ مَعْرِفَةٍ عَلَى نَكِرَةٍ كَمَا قَالَ: بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ [الْعَلَقِ: 15، 16] فَرَدَّ نَكِرَةً عَلَى مَعْرِفَةٍ وَقَالَ الزَّجَّاجُ الْكَوَاكِبُ بَدَلٌ مِنَ الزِّينَةِ، لِأَنَّهَا هِيَ كَمَا تَقُولُ مَرَرْتُ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ زَيْدٍ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِالتَّنْوِينِ فِي الزِّينَةِ وَنَصْبِ الْكَوَاكِبِ قَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ زَيَّنَّا الْكَوَاكِبَ، وَقَالَ الزجاج: يجوز أن تكون الكواكب في النصب بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ بِزِينَةٍ، لِأَنَّ بِزِينَةٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ (بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ) بِالْجَرِّ عَلَى الْإِضَافَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ زَيَّنَ السَّمَاءَ الدُّنْيَا، وَبَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا زَيَّنَهَا لِمَنْفَعَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: تَحْصِيلُ الزِّينَةِ وَالثَّانِيَةُ: الْحِفْظُ مِنَ الشَّيْطَانِ الْمَارِدِ، فَوَجَبَ أَنْ نُحَقِّقَ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَطَالِبِ الثَّلَاثَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ تَزْيِينُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ، فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ أَنَّ هَذِهِ الثَّوَابِتَ مَرْكُوزَةٌ فِي الْكُرَةِ الثَّامِنَةِ، وَأَنَّ السَّيَّارَاتِ السِّتَّةَ مَرْكُوزَةٌ فِي الْكُرَاتِ السِّتِّ الْمُحِيطَةِ بِسَمَاءِ الدُّنْيَا فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَالْجَوَابُ أَنَّ النَّاسَ السَّاكِنِينَ عَلَى سَطْحِ كُرَةِ الْأَرْضِ إِذَا نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَإِنَّهُمْ يُشَاهِدُونَهَا مُزَيَّنَةً بِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ، وَعَلَى أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ لَمْ يَتِمَّ لَهُمْ دَلِيلٌ فِي بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ مَرْكُوزَةٌ فِي الْفَلَكِ الثَّامِنِ، وَلَعَلَّنَا شَرَحْنَا هَذَا الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الْمُلْكِ: 1] فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الْمُلْكِ: 5] ، وَأَمَّا الْمَطْلُوبُ الثَّانِي: وَهُوَ كَوْنُ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ زِينَةَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَفِيهِ بَحْثَانِ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الزِّينَةَ مَصْدَرٌ كَالنِّسْبَةِ وَاسْمٌ لِمَا يُزَّنُ بِهِ، كَاللِّيقَةِ اسْمٌ لِمَا تُلَاقُ بِهِ الدَّوَاةُ قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَقَوْلُهُ: بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ يَحْتَمِلُهُمَا فَإِنْ أَرَدْتَ الْمَصْدَرَ فَعَلَى إِضَافَتِهِ إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ بِأَنَّ زِينَتَهَا الْكَوَاكِبُ أَوْ عَلَى إِضَافَتِهِ إِلَى الْمَفْعُولِ أَيْ بِأَنَّ زَانَ اللَّهُ الْكَوَاكِبَ وَحَسَّنَهَا، لِأَنَّهَا/ إِنَّمَا زُيِّنَتِ السَّمَاءُ بِحُسْنِهَا فِي أَنْفُسِهَا، وَإِنْ أَرَدْتَ الِاسْمَ فَلِلْإِضَافَةِ وَجْهَانِ أَنْ تَقَعَ الْكَوَاكِبُ بَيَانًا لِلزِّينَةِ، لِأَنَّ الزِّينَةَ قَدْ تَحْصُلُ بِالْكَوَاكِبِ وَبِغَيْرِهَا، وَأَنْ يُرَادَ مَا زُيِّنَتْ بِهِ الْكَوَاكِبُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ كَوْنِ الْكَوَاكِبِ زِينَةً لِلسَّمَاءِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ النُّورَ وَالضَّوْءَ أَحْسَنُ الصِّفَاتِ وَأَكْمَلُهَا، فَإِنَّ تَحَصُلَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ الْمُشْرِقَةِ الْمُضِيئَةِ فِي سَطْحِ الْفَلَكِ لَا جَرَمَ بَقِيَ الضَّوْءُ وَالنُّورُ فِي جِرْمِ الْفَلَكِ بِسَبَبِ حُصُولِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ فِيهَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ أَيْ بِضَوْءِ الْكَوَاكِبِ الْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَشْكَالُهَا الْمُتَنَاسِبَةُ الْمُخْتَلِفَةُ كَشَكْلِ الْجَوْزَاءِ وَبَنَاتِ نَعْشٍ وَالثُّرَيَّا وَغَيْرِهَا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الزِّينَةِ كَيْفِيَّةَ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا نَظَرَ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ إِلَى سَطْحِ الْفَلَكِ وَرَأَى هَذِهِ الْجَوَاهِرَ الزَّوَاهِرَ مُشْرِقَةً لَامِعَةً مُتَلَأْلِئَةً عَلَى ذَلِكَ السَّطْحِ الْأَزْرَقِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهَا أَحْسَنُ الْأَشْيَاءِ وَأَكْمَلُهَا فِي التَّرْكِيبِ وَالْجَوْهَرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُفِيدُ كَوْنَ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ زِينَةً وَأَمَّا الْمَطْلُوبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ فَقَوْلُهُ: وَحِفْظاً أي وَحَفِظْنَاهَا، قَالَ الْمُبَرِّدُ: إِذَا ذَكَرْتَ فِعْلًا ثُمَّ عَطَفْتَ عَلَيْهِ مَصْدَرَ فِعْلٍ آخَرَ نَصَبْتَ الْمَصْدَرَ لِأَنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَى فِعْلِهِ، مِثْلَ قَوْلِكِ أَفْعَلُ وَكَرَامَةً لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ أَفْعَلُ عُلِمَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ لَا تُعْطَفُ عَلَى الْأَفْعَالِ، فَكَانَ الْمَعْنَى أَفْعَلُ ذَلِكَ وَأُكْرِمُكَ كَرَامَةً، قَالَ ابْنُ عباس يريد حفظ السماء بالكواكب ومِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ يُرِيدُ الَّذِي تَمَرَّدَ عَلَى اللَّهِ قِيلَ إِنَّهُ الَّذِي لَا يُتَمَكَّنُ مِنْهُ، وأصله من الملاسة ومنه قوله: رْحٌ مُمَرَّدٌ [النَّمْلِ: 44] وَمِنْهُ الْأَمْرَدُ وَذَكَرْنَا تَفْسِيرَ الْمَارِدِ عِنْدَ قَوْلِهِ: مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ [التَّوْبَةِ: 101] . الْبَحْثُ الثَّانِي: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَبَاحِثِ الْعَقْلِيَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَنَقُولُ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الْمُلْكِ: 5] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ الشَّيَاطِينُ كَانُوا يَصْعَدُونَ إِلَى قُرْبِ السَّمَاءِ فَرُبَّمَا سَمِعُوا كَلَامَ الْمَلَائِكَةِ وَعَرَفُوا بِهِ مَا سَيَكُونُ مِنَ الْغُيُوبِ، وَكَانُوا يُخْبِرُونَهُمْ بِهِ وَيُوهِمُونَهُمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ فَمَنَعَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الصُّعُودِ إِلَى قُرْبِ السَّمَاءِ بِهَذِهِ الشُّهُبِ فَإِنَّهُ تَعَالَى يَرْمِيهِمْ بِهَا فيحرقهم بها، وبقي هاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هَذِهِ الشُّهُبُ هَلْ هِيَ مِنَ الْكَوَاكِبِ الَّتِي زَيَّنَ اللَّهُ السَّمَاءَ بِهَا أَمْ لَا؟ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذِهِ الشُّهُبَ تَبْطُلُ وَتَضْمَحِلُّ فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الشُّهُبُ تِلْكَ الْكَوَاكِبَ الْحَقِيقِيَّةَ لَوَجَبَ أَنْ يَظْهَرَ نُقْصَانُ كَثِيرٍ مِنْ أَعْدَادِ كَوَاكِبِ السَّمَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدِ الْبَتَّةَ فَإِنَّ أَعْدَادَ كَوَاكِبِ السماء باقية على حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ الْبَتَّةَ، وَأَيْضًا فَجَعْلُهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ مِمَّا يُوجِبُ وُقُوعَ النُّقْصَانِ فِي زِينَةِ السَّمَاءِ فَكَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَقْصُودَيْنِ كَالْمُتَنَاقِضِ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذِهِ الشُّهُبَ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ الْكَوَاكِبِ الْمَرْكُوزَةِ فِي الْفَلَكِ فَهَذَا أَيْضًا مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الْمُلْكِ: 1] ، وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا/ بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الْمُلْكِ: 5] فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْناها عَائِدٌ إِلَى

الْمَصَابِيحِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَصَابِيحُ هِيَ الرجوم بِأَعْيَانِهَا مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ، وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ الشُّهُبَ غَيْرُ تِلْكَ الثَّوَاقِبِ الْبَاقِيَةِ، وَأَمَّا قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك: 5] فَنَقُولُ كُلُّ نَيِّرٍ يَحْصُلُ فِي الْجَوِّ الْعَالِي فَهُوَ مَصَابِيحُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْمَصَابِيحَ مِنْهَا بَاقِيَةٌ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ آمِنَةٌ مِنَ التَّغَيُّرِ وَالْفَسَادِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَهِيَ هَذِهِ الشُّهُبُ الَّتِي يُحْدِثُهَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَجْعَلُهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ فَقَدْ زَالَ الْإِشْكَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَذْهَبَ الشَّيَاطِينُ إِلَى حَيْثُ يَعْلَمُونَ بِالتَّجْوِيزِ، أَنَّ الشُّهُبَ تُحْرِقُهُمْ وَلَا يَصِلُونَ إِلَى مَقْصُودِهِمُ الْبَتَّةَ، وَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَصْدُرَ مِثْلُ هَذَا الْفِعْلِ عَنْ عَاقِلٍ، فَكَيْفَ مِنَ الشَّيَاطِينِ الذين لهم مزبة فِي مَعْرِفَةِ الْحِيَلِ الدَّقِيقَةِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَ لَهُ مَوْضِعٌ مُعَيَّنٌ وَإِلَّا لَمْ يَذْهَبُوا إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُونَ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى مَوَاضِعِ الْمَلَائِكَةِ وَمَوَاضِعُهَا مُخْتَلِفَةٌ، فَرُبَّمَا صَارُوا إِلَى مَوْضِعٍ تُصِيبُهُمْ فِيهِ الشُّهُبُ، وَرُبَّمَا صَارُوا إِلَى غَيْرِهِ وَلَا يُصَادِفُونَ الْمَلَائِكَةَ فَلَا تُصِيبُهُمُ الشُّهُبُ، فَلَمَّا هَلَكُوا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَسَلَّمُوا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، جَازَ أَنْ يَصِيرُوا إِلَى مَوَاضِعَ يَغْلِبُ عَلَى ظُنُونِهِمْ أَنَّهُ لَا تُصِيبُهُمُ الشُّهُبُ فِيهَا، كَمَا يَجُوزُ فِيمَنْ يَسْلُكُ الْبَحْرَ أَنْ يَسْلُكَهُ فِي مَوْضِعٍ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ حُصُولُ النَّجَاةِ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ مِنَ الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُمْ إِذَا صَعِدُوا فَإِمَّا أَنْ يَصِلُوا إِلَى مَوَاضِعِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ إِلَى غَيْرِ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ، فَإِنْ وَصَلُوا إِلَى مَوَاضِعِ الْمَلَائِكَةِ احْتَرَقُوا، وَإِنْ وَصَلُوا إِلَى غَيْرِ مَوَاضِعِ الْمَلَائِكَةِ لَمْ يَفُوزُوا بِمَقْصُودِهِمْ أَصْلًا، فَعَلَى كلا التقديرين المقصود غير حاصل، وإذا حَصَلَتْ هَذِهِ التَّجْرِبَةُ وَثَبَتَ بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ الْفَوْزَ بِالْمَقْصُودِ مُحَالٌ وَجَبَ أَنْ يَمْتَنِعُوا عَنْ هَذَا الْعَمَلِ وَأَنْ لَا يُقْدِمُوا عَلَيْهِ أَصْلًا بِخِلَافِ حَالِ الْمُسَافِرِينَ فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِمُ السلامة والفوز بالمقصود، أما هاهنا فَالشَّيْطَانُ الَّذِي يَسْلَمُ مِنَ الِاحْتِرَاقِ إِنَّمَا يَسْلَمُ إِذَا لَمْ يَصِلْ إِلَى مَوَاضِعِ الْمَلَائِكَةِ، وَإِذَا لَمْ يَصِلْ إِلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ لَمْ يَفُزْ بِالْمَقْصُودِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى هَذَا الْعَمَلِ الْبَتَّةَ، وَالْأَقْرَبُ فِي الْجَوَابِ أَنْ نَقُولَ هذه الواقعة إِنَّمَا تَتَّفِقُ فِي النُّدْرَةِ، فَلَعَلَّهَا لَا تَشْتَهِرُ بِسَبَبِ كَوْنِهَا نَادِرَةً بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَالُوا دَلَّتِ التَّوَارِيخُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَلَى أَنَّ حُدُوثَ الشُّهُبِ كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ مَجِيءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ الْحُكَمَاءَ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ قَبْلَ مَجِيءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ ذَكَرُوا ذَلِكَ وتكلموا في سبب حدوثه، وإذا ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ مَجِيءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْتَنَعَ حَمْلُهُ عَلَى مَجِيءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَجَابَ الْقَاضِي بِأَنَّ الْأَقْرَبَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّهَا كَثُرَتْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَتْ بِسَبَبِ الْكَثْرَةِ مُعْجِزَةً. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: الشَّيْطَانُ مَخْلُوقٌ مِنَ النَّارِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْلِيسَ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ [الْأَعْرَافِ: 12] وَقَالَ: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ [الْحِجْرِ: 27] وَلِهَذَا السَّبَبِ يَقْدِرُ عَلَى الصُّعُودِ إلى السموات، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُعْقَلُ إِحْرَاقُ النَّارِ بِالنَّارِ؟ وَالْجَوَابُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ وَإِنْ كَانُوا من النيران إلا أنها نيران ضعيفة، فإذا وَصَلَتْ نِيرَانُ الشُّهُبِ إِلَيْهِمْ، وَتِلْكَ النِّيرَانُ أَقْوَى حَالًا مِنْهُمْ لَا جَرَمَ صَارَ الْأَقْوَى مُبْطِلًا لِلْأَضْعَفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ السِّرَاجَ الضَّعِيفَ إِذَا رَجَعَ فِي النَّارِ الْقَوِيَّةِ فَإِنَّهُ يَنْطَفِئُ فَكَذَلِكَ هاهنا. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: أَنَّ مَقَرَّ الْمَلَائِكَةِ هُوَ السَّطْحُ الْأَعْلَى مِنَ الْفَلَكِ، وَالشَّيَاطِينُ لَا يُمْكِنُهُمُ الْوُصُولُ إلا إلى

الْأَقْرَبِ مِنَ السَّطْحِ الْأَسْفَلِ مِنَ الْفَلَكِ، فَيَبْقَى جِرْمُ الْفَلَكِ مَانِعًا مِنْ وُصُولِ الشَّيَاطِينِ إِلَى الْقُرْبِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَلَعَلَّ الْفَلَكَ عَظِيمُ الْمِقْدَارِ دفع حصول هذا الْمَانِعِ الْعَظِيمِ، كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ تَسْمَعَ الشَّيَاطِينُ كَلَامَ الْمَلَائِكَةِ، فَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقَوِّي سَمْعَ الشَّيْطَانِ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ الْمَلَائِكَةِ، فَنَقُولُ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يُقَوِّي سَمْعَ الشَّيْطَانِ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ الْمَلَائِكَةِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَنْفِيَ سَمْعَ الشَّيْطَانِ، وإن كان لا يريد منع الشيطان من العمل فَمَا الْفَائِدَةُ فِي رَمْيِهِ بِالرُّجُومِ؟ فَالْجَوَابُ: مَذْهَبُنَا أَنَّ أَفْعَالَ اللَّه تَعَالَى غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ، فَيَفْعَلُ اللَّه مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَبَاحِثِ هَذَا الْبَابِ، وَإِذَا أضيف ما كتبناه هاهنا إِلَى مَا كَتَبْنَاهُ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ، وَفِي سَائِرِ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَلَغَ تَمَامَ الْكِفَايَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ لَا يَسَّمَّعُونَ بِتَشْدِيدِ السِّينِ وَالْمِيمِ وَأَصْلُهُ يَتَسَمَّعُونَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي السِّينِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْهَمْسِ، وَالتَّسَمُّعُ تَطَلُّبُ السَّمَاعِ يُقَالُ تَسَمَّعَ سَمِعَ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ، وَالْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِ السِّينِ، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ التَّشْدِيدَ فِي يَسَّمَّعُونَ، قَالَ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ تَسَمَّعْتُ إِلَى فُلَانٍ وَيَقُولُونَ سَمِعْتُ فُلَانًا، وَلَا يَكَادُونَ يَقُولُونَ سَمِعْتُ إِلَى فُلَانٍ، وَقِيلَ فِي تَقْوِيَةِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِذَا نُفِيَ التَّسَمُّعُ، فَقَدْ نُفِيَ سَمْعُهُ، وَحُجَّةُ الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشُّعَرَاءِ: 212] وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى، ثُمَّ يُمْنَعُونَ فَلَا يَسْمَعُونَ، وَلِلْأَوَّلِينَ أَنْ يُجِيبُوا فَيَقُولُونَ التَّنْصِيصُ عَلَى كَوْنِهِمْ مَعْزُولِينَ عَنِ السَّمْعِ لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِمْ مَعْزُولِينَ أَيْضًا عَنِ التَّسَمُّعِ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ هُوَ أَقْوَى فِي رَدْعِ الشَّيَاطِينِ وَمَنْعِهِمْ مِنِ اسْتِمَاعِ أَخْبَارِ السَّمَاءِ، فَإِنَّ الَّذِي مُنِعَ مِنَ الِاسْتِمَاعِ فَبِأَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنَ السَّمْعِ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِكَ سَمِعْتُ حَدِيثَ فُلَانٍ، وَبَيْنَ قَوْلِكَ سَمِعْتُ إِلَى حَدِيثِهِ، بِأَنَّ قَوْلَكَ سَمِعْتُ حَدِيثَهُ يُفِيدُ الْإِدْرَاكَ، وَسَمِعْتُ إِلَى حَدِيثِهِ يُفِيدُ الْإِصْغَاءَ مَعَ الْإِدْرَاكِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ لِئَلَّا يَسْمَعُوا، فَلَمَّا حُذِفَ النَّاصِبُ عَادَ الْفِعْلُ إِلَى الرَّفْعِ كَمَا قَالَ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النِّسَاءِ: 176] وكما قال: رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [لقمان: 10] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : حَذْفُ أَنْ وَاللَّامِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَائِزٌ بِانْفِرَادِهِ. أَمَّا اجْتِمَاعُهُمَا فَمِنَ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي يَجِبُ صَوْنُ الْقُرْآنِ عَنْهَا وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وَهُوَ حِكَايَةُ حَالِ الْمُسْتَرِقَةِ لِلسَّمْعِ وَأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَسْمَعُوا إِلَى كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ وَيَتَسَمَّعُوا وَهُمْ مَقْذُوفُونَ بِالشُّهُبِ، مَدْحُورُونَ عَنْ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الملأ الأعلى الملائكة لأنهم يسكنون السموات. وَأَمَّا الْإِنْسُ وَالْجِنُّ فَهُمُ الْمَلَأُ الْأَسْفَلُ لِأَنَّهُمْ سُكَّانُ الْأَرْضِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ أُولَئِكَ الشياطين بصفات ثلاثة الْأُولَى: أَنَّهُمْ لَا يَسَّمَّعُونَ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:

[سورة الصافات (37) : آية 11]

الْأَوَّلُ: قَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى الدُّحُورِ فِي سُورَةِ الأعراف عند قوله: اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً [الْأَعْرَافِ: 18] قَالَ الْمُبَرِّدُ الدُّحُورُ أَشَدُّ الصِّغَارِ وَالذُّلِّ وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ دَحَرْتُهُ دَحْرًا وَدُحُورًا أَيْ دَفَعْتُهُ وَطَرَدْتُهُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ: دُحُوراً وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ انْتُصِبَ بِالْمَصْدَرِ عَلَى مَعْنَى يُدْحَرُونَ دُحُورًا، وَدَلَّ عَلَى الْفِعْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُقْذَفُونَ الثَّانِي: التَّقْدِيرُ وَيُقْذَفُونَ لِلدُّحُورِ ثُمَّ حَذَفَ اللَّامَ الثَّالِثُ: قَالَ مُجَاهِدٌ دُحُورًا مَطْرُودِينَ، فَعَلَى هَذَا هُوَ حَالٌ سُمِّيَتْ بِالْمَصْدَرِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْحُضُورِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَرَأَ أَبُو عبد الرحمن السلمي دَحُورًا بِفَتْحِ الدَّالِ قَالَ الْفَرَّاءُ كَأَنَّهُ قَالَ يُقْذَفُونَ يُدْحَرُونَ بِمَا يُدْحَرُ، ثُمَّ قَالَ وَلَسْتُ أَشْتَهِي الْفَتْحَ، لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةٍ لَكَانَ فِيهَا الْبَاءُ كَمَا تَقُولُ يُقْذَفُونَ بِالْحِجَارَةِ وَلَا تَقُولُ يُقْذَفُونَ الْحِجَارَةَ إِلَّا أَنَّهُ جائز في الجملة كما قال الشاعر: تعال اللحم للأضياف نيئا أي تعالى بِاللَّحْمِ الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مَرْجُومُونَ بِالشُّهُبِ وَهَذَا الْعَذَابُ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ، وَذَكَرْنَا تَفْسِيرَ الْوَاصِبِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً [النَّحْلِ: 52] قَالُوا كُلُّهُمْ إِنَّهُ الدَّائِمُ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَمَنْ فَسَّرَ الْوَاصِبَ بِالشَّدِيدِ وَالْمُوجِعِ فَهُوَ مَعْنًى وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ ذَكَرْنَا مَعْنَى الْخَطْفِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ قَالَ الزَّجَّاجُ وَهُوَ أَخْذُ الشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ، وَأَصْلُ خَطِفَ اخْتَطَفَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مَنْ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ فِي لَا يَسَّمَّعُونَ أَيْ لَا يَسَّمَّعُ الشَّيَاطِينُ إِلَّا الشَّيْطَانُ الَّذِي خَطِفَ الْخَطْفَةَ أَيِ اخْتَلَسَ الْكَلِمَةَ عَلَى/ وَجْهِ الْمُسَارَقَةِ فَأَتْبَعَهُ يَعْنِي لَحِقَهُ وَأَصَابَهُ يُقَالُ تَبِعَهُ وَأَتْبَعَهُ إِذَا مَضَى فِي أَثَرِهِ وَأَتْبَعَهُ إِذَا لَحِقَهُ وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ [الْأَعْرَافِ: 175] وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: شِهابٌ ثاقِبٌ قَالَ الْحَسَنُ ثَاقِبٌ أَيْ مُضِيءٌ وَأَقُولُ سُمِّي ثَاقِبًا لأنه يثقب بِنُورِهِ الْهَوَاءَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: النَّجْمُ الثَّاقِبُ [الطَّارِقِ: 3] قَالَ إِنَّهُ رَجُلٌ «1» سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَثْقُبُ بِنُورِهِ سَمْكَ سَبْعِ سموات والله أعلم. [سورة الصافات (37) : آية 11] فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي بَيَانِ النَّظْمِ اعْلَمْ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَقْصَى مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ إِثْبَاتُ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ الْإِلَهِيَّاتُ وَالْمَعَادُ وَالنُّبُوَّةُ وَإِثْبَاتُ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ. فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى افْتَتَحَ هَذِهِ السُّورَةَ بِإِثْبَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَيَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وهو خلق السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَخَلْقُ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، فَلَمَّا أَحْكَمَ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ فَرَّعَ عَلَيْهَا إِثْبَاتَ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْقِيَامَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَتَعَلَّقُ بِطَرَفَيْنِ أَوَّلُهُمَا إِثْبَاتُ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ وَثَانِيهِمَا إِثْبَاتُ الْوُقُوعِ أَمَّا الْكَلَامُ فِي الْمَطْلُوبِ الْأَوَّلِ فَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى الشَّيْءِ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يقال إنه قدر على ما

_ (1) كذا في الأصل ولعل الصواب إنه نجم، إذ لا معنى لمكونه رجلا.

هُوَ أَصْعَبُ وَأَشَدُّ وَأَشَقُّ مِنْهُ فَوَجَبَ أَيْضًا أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ قَدَرَ عَلَيْهِ فِي إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ وَالْفَاعِلُ وَالْقَابِلُ بَاقِيَيْنِ كَمَا كَانَا، فَوَجَبَ أَنْ تَبْقَى الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ فِي بَيَانِ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ أَمْرٌ جَائِزٌ مُمْكِنٌ. أَمَّا الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً وَالتَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ اسْتَفْتِ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا مِنْ خَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَخَلْقِ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ وَخَلْقِ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يَصْعَدُونَ الْفَلَكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ خَلْقَ هَذَا الْقِسْمِ أَشَقُّ وَأَشَدُّ فِي الْعُرْفِ مِنْ خَلْقِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، فَلَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ كَوْنُهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى هَذَا الْقِسْمِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ وَأَصْعَبُ، فَبِأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِعَادَةِ الْحَيَاةِ فِي هَذِهِ الْأَجْسَادِ كَانَ أَوْلَى، وَنَظِيرُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ يس أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: 81] وقوله تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غَافِرٍ: 57] وأما الطَّرِيقُ الثَّانِي: فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْأَجْسَامَ قَابِلَةٌ لِلْحَيَاةِ إِذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ قَابِلَةً لِلْحَيَاةِ لَمَا صَارَتْ حَيَّةً فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَالْإِلَهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ هَذِهِ الْحَيَاةِ فِي هَذِهِ الْأَجْسَامِ، وَلَوْلَا كَوْنُهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَمَا حَصَلَتِ الْحَيَاةُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَابِلِيَّةَ تِلْكَ الْأَجْسَامِ بَاقِيَةٌ وَأَنَّ قَادِرِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى بَاقِيَةٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْقَابِلِيَّةَ وَهَذِهِ الْقَادِرِيَّةَ مِنَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ فَامْتَنَعَ زَوَالُهَا فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ أَمْرٌ/ مُمْكِنٌ، وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى إِمْكَانَ هَذَا الْمَعْنَى بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ بَيَّنَ وُقُوعَهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ [الصَّافَّاتِ: 18] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ صِدْقُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَيْهِ وَالصَّادِقُ إِذَا أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ مُمْكِنِ الْوُقُوعِ وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِوُقُوعِهِ فَهَذَا تَقْرِيرُ نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآيَةِ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَاسْتَفْتِهِمْ يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ القاطعة كونه تعالى خالقا للسموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاسْتَفْتِ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ وَقُلْ لَهُمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي بَيَّنَّا كَوْنَهُ تَعَالَى خَالِقًا لَهَا وَلَمْ يَحْكِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا أَنَّ خَلْقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَصْعَبُ لِأَجْلِ أَنَّ ظُهُورَ ذَلِكَ كَالْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ فَلَا حَاجَةَ أَنْ يُحْكَى عَنْهُمْ صِحَّةُ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ يَعْنِي أَنَّا لَمَّا قَدَرْنَا عَلَى خَلْقِ الْحَيَاةِ فِي ذَوَاتِهِمْ أَوَّلًا وَجَبَ أَنْ نَبْقَى قَادِرِينَ عَلَى خَلْقِ الْحَيَاةِ فِيهِمْ ثَانِيًا، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَالَ الْقَابِلِ وحال الفاعل ممتنع التغيير. وَفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا كَيْفَ يُعْقَلُ تَوَلُّدُ الْإِنْسَانِ لَا مِنَ النُّطْفَةِ وَلَا مِنَ الْأَبَوَيْنِ؟ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ إِنَّكُمْ لما أقررتم بحدوث العالم واعترفتم بأن السموات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنَّمَا حَصَلَ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكْوِينِهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَعْتَرِفُوا بِأَنَّ الْإِنْسَانَ الْأَوَّلَ إِنَّمَا حَدَثَ لَا مِنَ الْأَبَوَيْنِ؟ فَإِذَا عَقَلْتُمْ ذَلِكَ وَاعْتَرَفْتُمْ بِهِ فَقَدْ سَقَطَ قَوْلُكُمُ الْإِنْسَانُ كَيْفَ يَحْدُثُ مِنْ غَيْرِ النُّطْفَةِ وَمِنْ غَيْرِ الْأَبَوَيْنِ، وَأَيْضًا قَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ آدَمَ مَخْلُوقٌ مِنَ الطِّينِ اللَّازِبِ وَمَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الْحَيَاةِ فِي الطِّينِ اللَّازِبِ فَكَيْفَ يَعْجِزُ عَنْ إِعَادَةِ الْحَيَاةِ إِلَى هَذِهِ الذَّوَاتِ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنَ الطِّينِ اللَّازِبِ فَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ أَنَمَا يَحْسُنُ إِذَا قُلْنَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ هُوَ أَنَّا خَلَقْنَا أَبَاهُمْ آدَمَ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ، وَفِيهِ وُجُوهٌ أُخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّا خَلَقْنَا كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْحَيَوَانَ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْمَنِيِّ وَدَمِ الطَّمْثِ وَالْمَنِيَّ يَتَوَلَّدُ مِنَ الدَّمِ فَالْحَيَوَانُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الدَّمِ وَالدَّمُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْغِذَاءِ، وَالْغِذَاءُ إِمَّا حَيَوَانِيٌّ وَإِمَّا نَبَاتِيٌّ أَمَّا تَوَلُّدُ الْحَيَوَانِ

[سورة الصافات (37) : آية 12]

الَّذِي صَارَ غِذَاءً فَالْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَلُّدِهِ كَالْكَلَامِ فِي تَوَلُّدِ الْإِنْسَانِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَغْذِيَةِ هُوَ النَّبَاتُ، وَالنَّبَاتُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنِ امْتِزَاجِ الْأَرْضِ بِالْمَاءِ وَهُوَ الطِّينُ اللَّازِبُ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ كُلَّ الْخَلْقِ مُتَوَلِّدُونَ مِنَ الطِّينِ اللَّازِبِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ الَّتِي مِنْهَا تَرَكَّبَ هَذَا الطِّينُ اللَّازِبُ قَابِلَةٌ لِلْحَيَاةِ وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ الْقَابِلِيَّةُ وَالْقَادِرِيَّةُ وَاجِبَةُ الْبَقَاءِ فَوَجَبَ بَقَاءُ هَذِهِ الصِّحَّةِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ وَهَذِهِ بَيَانَاتٌ ظَاهِرَةٌ وَاضِحَةٌ، وَأَمَّا اللَّازِبُ فَقِيلَ اللَّاصِقُ، وَقِيلَ اللَّزِجُ وَقِيلَ الْحَتِدُ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الْبَاءَ فِي لَازِبٍ بَدَلٌ مِنَ الْمِيمِ يُقَالُ لَازِبٌ وَلَازِمٌ. ثم قال تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 12] بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَقْرِيرُ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ أَقَرُّوا بِأَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى تَكْوِينِ أَشْيَاءَ أَصْعَبَ مِنْ إِعَادَةِ الْحَيَاةِ إِلَى هَذِهِ الْأَجْسَادِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي صَرَائِحِ الْعُقُولِ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْأَشَقِّ الْأَشَدِّ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْأَسْهَلِ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ مَعَ قِيَامِ هَذِهِ الْحُجَّةِ الْبَدِيهِيَّةِ بَقِيَ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ مُصِرِّينَ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَهَذَا فِي مَوْضِعِ التَّعَجُّبِ الشَّدِيدِ فَإِنَّ مَعَ ظُهُورِ هَذِهِ الْحُجَّةِ الْجَلِيَّةِ الظَّاهِرَةِ كَيْفَ يُعْقَلُ بَقَاءُ الْقَوْمِ عَلَى الْإِصْرَارِ فِيهِ. فَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ تَتَعَجَّبُ مِنْ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْإِنْكَارِ وَهُمْ فِي طَرَفِ الْإِنْكَارِ وَصَلُوا إِلَى حَيْثُ يَسْخَرُونَ مِنْكَ فِي قَوْلِكَ بِإِثْبَاتِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ عَجِبْتَ بِضَمِّ التَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَالضَّمُّ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وإبراهيم ويحيى بن وثاب وَالْأَعْمَشِ وَقِرَاءَةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَاخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدَةَ، أَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا بِالْفَتْحِ فَقَدِ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالضَّمِّ تَدُلُّ عَلَى إِسْنَادِ الْعَجَبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّ التَّعَجُّبَ حَالَةٌ تَحْصُلُ عِنْدَ الْجَهْلِ بِصِفَةِ الشَّيْءِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَهْلَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ التَّعَجُّبَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آيَةٍ أُخْرَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً [الرَّعْدِ: 5] ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ والظاهر أنهم إنما سَخِرُوا لِأَجْلِ ذَلِكَ التَّعَجُّبِ فَلَمَّا سَخِرُوا مِنْهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّعَجُّبُ صَادِرًا مِنْهُ، وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا بِضَمِّ التَّاءِ، فَقَدْ أَجَابُوا عَنِ الْحُجَّةِ الْأُولَى مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالضَّمِّ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى إسناد التعجب إلى الله تعالى، وبيانه أن يَكُونُ التَّقْدِيرُ قُلْ يَا مُحَمَّدُ (بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ) وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ [مَرْيَمَ: 38] مَعْنَاهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ مَا تَقُولُونَ فِيهِ أَنْتُمْ هَذَا النَّحْوَ مِنَ الْكَلَامِ، وَكَذَلِكَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [الْبَقَرَةِ: 175] الثَّانِي: سَلَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي إِضَافَةَ التَّعَجُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ؟ وَيُرْوَى أَنَّ شُرَيْحًا كَانَ يَخْتَارُ الْقِرَاءَةَ بِالنَّصْبِ وَيَقُولُ الْعَجَبُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ لَا يَعْلَمُ، قَالَ الْأَعْمَشُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ إِنَّ شُرَيْحًا يَعْجَبُ بِعِلْمِهِ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ أَعْلَمَ، وَكَانَ يَقْرَأُ بِالضَّمِّ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنْ نَقُولَ: دَلَّ الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ عَلَى جَوَازِ إِضَافَةِ الْعَجَبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ [الرَّعْدِ: 5] وَالْمَعْنَى وَإِنْ تَعْجَبْ يَا مُحَمَّدُ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَهُوَ أَيْضًا عَجَبٌ عِنْدِي، وَأُجِيبَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ عِنْدَكُمْ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ إِلِّكُمْ وَقُنُوطِكُمْ، وَعَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ شَابٍّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ» وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ الْعَجَبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى خِلَافُ الْعَجَبِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ كَمَا قَالَ: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ

[سورة الصافات (37) : الآيات 13 إلى 18]

اللَّهُ [الْأَنْفَالِ: 30] وَقَالَ: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [التَّوْبَةِ: 79] وَقَالَ تَعَالَى: وَهُوَ خادِعُهُمْ [النِّسَاءِ: 142] وَالْمَكْرُ وَالْخِدَاعُ وَالسُّخْرِيَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ مِنَ الْعِبَادِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَانُونَ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مَحْمُولَةٌ عَلَى نِهَايَاتِ الْأَعْرَاضِ لَا عَلَى بِدَايَاتِ الْأَعْرَاضِ. وَكَذَلِكَ هاهنا مَنْ تَعَجَّبَ مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّهُ يَسْتَعْظِمُهُ فَالتَّعَجُّبُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَسْتَعْظِمُ تِلْكَ الْحَالَةَ إِنْ كَانَتْ قَبِيحَةً فَيَتَرَتَّبُ الْعِقَابُ الْعَظِيمُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ حَسَنَةً فَيَتَرَتَّبُ الثَّوَابُ الْعَظِيمُ عَلَيْهِ، فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ الْقِرَاءَةُ بالضم إن ثبتت بِالتَّوَاتُرِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا وَيَكُونُ التَّأْوِيلُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ بِالتَّوَاتُرِ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ بِفَتْحِ التَّاءِ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثم قال تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 13 الى 18] وَإِذا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ فِي إِثْبَاتِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ حَكَى عَنِ المنكرين أشياء أولها: أن النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَجَّبُ مِنْ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْإِنْكَارِ وَهُمْ يَسْخَرُونَ مِنْهُ فِي إِصْرَارِهِ عَلَى الْإِثْبَاتِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ كَانُوا فِي غَايَةِ التَّبَاعُدِ وَفِي طَرَفَيِ النَّقِيضِ وَثَانِيهَا قَوْلُهُ: وَإِذا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ، وَثَالِثُهَا قَوْلُهُ: وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الثَّانِي وَالثَّالِثِ غَيْرَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ التَّغَايُرَ وَلِأَنَّ التَّكْرِيرَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَالَّذِي عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يُقَالَ الْقَوْمُ كَانُوا يَسْتَبْعِدُونَ الْحَشْرَ وَالْقِيَامَةَ وَيَقُولُونَ مَنْ مَاتَ وَصَارَ تُرَابًا وَتَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ فِي الْعَالَمِ كَيْفَ يُعْقَلُ عَوْدُهُ بِعَيْنِهِ؟ وَبَلَغُوا في هَذَا الِاسْتِبْعَادِ عَنْهُمْ إِلَّا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَذْكُرَ لَهُمُ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى صِحَّةِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: هَلْ تعلمون أن خلق السموات وَالْأَرْضِ أَشَدُّ وَأَصْعَبُ مِنْ إِعَادَةِ إِنْسَانٍ بَعْدَ مَوْتِهِ؟ وَهَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْأَصْعَبِ الْأَشَقِّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْأَسْهَلِ الْأَيْسَرِ؟ فَهَذَا الدَّلِيلُ وَإِنْ كَانَ جَلِيًّا قَوِيًّا إِلَّا أَنَّ أُولَئِكَ الْمُنْكِرِينَ إِذَا عُرِضَ عَلَى عُقُولِهِمْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ لَا يَفْهَمُونَهَا وَلَا يَقِفُونَ عَلَيْهَا، وَإِذَا ذُكِّرُوا لَمْ يَذْكُرُوهَا لِشِدَّةِ/ بَلَادَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَيَانِ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يُثْبِتَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِهَةَ رِسَالَتِهِ بِالْمُعْجِزَاتِ ثُمَّ يَقُولُ لَمَّا ثَبَتَ بِالْمُعْجِزِ كَوْنِي رَسُولًا صَادِقًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَأَنَا أُخْبِرُكُمْ بِأَنَّ الْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ حَقٌّ، ثُمَّ إِنَّ أُولَئِكَ الْمُنْكِرِينَ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا مُعْجِزَةً قَاهِرَةً وَآيَةً بَاهِرَةً حَمَلُوهَا عَلَى كونها سحرا وسخروا بها واستهزؤا مِنْهَا وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ فَظَهَرَ بِالْبَيَانِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الثَّلَاثَةَ مُنَبِّهَةٌ عَلَى هَذِهِ الفوائد الجليلة.

[سورة الصافات (37) : الآيات 19 إلى 21]

وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَمْ يَقِفُوا عَلَى هَذِهِ الدَّقَائِقِ، فَقَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ [الصافات: 12] . ثم قال: وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَسْتَسْخِرُونَ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَسْخَرُونَ فَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَسْخَرُونَ إِقْدَامُهُمْ عَلَى السُّخْرِيَةِ وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَسْتَسْخِرُونَ طَلَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ صَاحَبِهِ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى السُّخْرِيَةِ وَهَذَا التَّكْلِيفُ إِنَّمَا لَزِمَهُمْ لِعَدَمِ وُقُوفِهِمْ عَلَى الْفَوَائِدِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَالرَّابِعُ: مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ يَعْنِي أَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا آيَةً وَمُعْجِزَةً سَخِرُوا مِنْهَا، وَالسَّبَبُ فِي تِلْكَ السُّخْرِيَةِ اعْتِقَادُهُمْ أَنَّهَا مِنْ بَابِ السِّحْرِ وَقَوْلُهُ: مُبِينٌ مَعْنَاهُ أَنَّ كَوْنَهُ سِحْرًا أَمْرٌ بَيِّنٌ لَا شُبْهَةَ لِأَحَدٍ فِيهِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِالْقَوْلِ بِالْبَعْثِ وَعَلَى عَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ وَعَلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِجَمِيعِ الْمُعْجِزَاتِ هُوَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الَّذِي مَاتَ وَتَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ فِي جُمْلَةِ الْعَالَمِ فَمَا فِيهِ مِنَ الْأَرْضِيَّةِ اخْتَلَطَ بِتُرَابِ الْأَرْضِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَائِيَّةِ وَالْهَوَائِيَّةِ اخْتَلَطَ بِبُخَارَاتِ الْعَالَمِ فَهَذَا الْإِنْسَانُ كَيْفَ يُعْقَلُ عَوْدُهُ بِعَيْنِهِ حَيًّا فَاهِمًا؟ فَهَذَا الْكَلَامُ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى تِلْكَ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ هَذِهِ الشُّبْهَةَ قَالَ قُلْ يَا مُحَمَّدُ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ وَإِنَّمَا اكْتَفَى تَعَالَى بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْجَوَابِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِالْبُرْهَانِ الْيَقِينِيِّ الْقَطْعِيِّ أَنَّهُ أَمْرٌ مُمْكِنٌ وَإِذَا ثَبَتَ الْجَوَازُ الْقَطْعِيُّ فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْقَطْعِ بِالْوُقُوعِ إِلَّا بِإِخْبَارِ الْمُخْبِرِ الصَّادِقِ، فَلَمَّا قَامَتِ الْمُعْجِزَاتُ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ وَاجِبَ الصِّدْقِ فَكَانَ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ: قُلْ نَعَمْ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى الْوُقُوعِ. وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلِمَ أَنَّهَا وَرَدَتْ عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِ التَّرْتِيبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بَيَّنَ الْإِمْكَانَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ وَبَيَّنَ وُقُوعَ ذَلِكَ الْمُمْكِنِ بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى هَذَا الْبَيَانِ كَالْأَمْرِ الْمُمْتَنِعِ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَوَآباؤُنَا فَالْمَعْنَى أَوَ تُبْعَثُ آبَاؤُنَا وَهَذِهِ أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ وقرأ نافع وابن عامر هاهنا، وَفِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ سَاكِنَةَ الْوَاوِ وَذَكَرْنَا الْكَلَامَ في هذا في سورة الأعراف عند قَوْلِهِ: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى [الْأَعْرَافِ: 98] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ نَعَمْ فَنَقُولُ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحْدَهُ (نَعِمْ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ داخِرُونَ أَيْ صَاغِرُونَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الدُّخُورُ أَشَدُّ الصَّغَارِ، وَذَكَرْنَا تَفْسِيرَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ عِنْدَ قوله: سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ [النحل: 48] . [سورة الصافات (37) : الآيات 19 الى 21] فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقالُوا يَا وَيْلَنا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْقِيَامَةِ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَعْضَ تَفَاصِيلِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْوَاعًا مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ فَالْحَالَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ وفيه أبحاث:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: فَإِنَّما جَوَابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ وَالتَّقْدِيرُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا هِيَ إِلَّا زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ. الْبَحْثُ الثَّانِي: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّما هِيَ ضَمِيرٌ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ فَإِنَّمَا الْبَعْثُ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الزَّجْرَةُ فِي اللُّغَةِ الصَّيْحَةُ الَّتِي يُزْجَرُ بِهَا كَالزَّجْرَةِ بالنعم والإبل عند الحث ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا حَتَّى صَارَتْ بِمَعْنَى الصَّيْحَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَعْنَى الزَّجْرِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَقُولُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ تِلْكَ الصَّيْحَةَ إِنَّمَا سُمِّيَتْ زَجْرَةً لِأَنَّهَا تَزْجُرُ الْمَوْتَى عَنِ الرُّقُودِ فِي الْقُبُورِ وَتَحُثُّهُمْ عَلَى الْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ وَالْحُضُورِ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الزَّجْرَةِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزُّمَرِ: 68] فَبِالنَّفْخَةِ الْأُولَى يَمُوتُونَ وبالنفخة الثانية يحيون ويقومون، وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي هَذِهِ الصَّيْحَةِ فَإِنَّ الْقَوْمَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ أَمْوَاتٌ لِأَنَّ النَّفْخَةَ جَارِيَةٌ مَجْرَى السَّبَبِ لِحَيَاتِهِمْ فَتَكُونُ مُقَدِّمَةً عَلَى حُصُولِ حَيَاتِهِمْ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الصَّيْحَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ حَالَ كَوْنِ الْخَلْقِ أَمْوَاتًا، فَتَكُونُ تِلْكَ الصَّيْحَةُ عَدِيمَةَ الْفَائِدَةِ فَهِيَ عَبَثٌ وَالْعَبَثُ لَا يَجُوزُ فِي فِعْلِ اللَّهِ وَالْجَوَابُ: أَمَّا أَصْحَابُنَا فَيَقُولُونَ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ، وأما المعتزلة فقال القاضي فيه ووجهان الْأَوَّلُ: أَنْ تَعْتَبِرَ بِهَا الْمَلَائِكَةُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْفَائِدَةُ التَّخْوِيفَ وَالْإِرْهَابَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ لِتِلْكَ الصَّيْحَةِ تَأْثِيرٌ فِي إِعَادَةِ الْحَيَاةِ؟ الْجَوَابُ: لَا، بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّيْحَةَ الْأُولَى اسْتَعْقَبَتِ الْمَوْتَ وَالثَّانِيَةَ الْحَيَاةَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّيْحَةَ لَا أَثَرَ لَهَا فِي الْمَوْتِ وَلَا فِي الْحَيَاةِ، بَلْ خَالِقُ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: 2] . السُّؤَالُ الثَّالِثُ: تِلْكَ الصَّيْحَةُ صَوْتُ الْمَلَائِكَةِ أَوِ اللَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُهَا ابْتِدَاءً؟ الْجَوَابُ: الْكُلُّ/ جَائِزٌ إِلَّا أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُ إِسْرَافِيلَ حَتَّى يُنَادِيَ: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ النَّخِرَةُ وَالْجُلُودُ الْبَالِيَةُ وَالْأَجْزَاءُ الْمُتَفَرِّقَةُ اجْتَمِعُوا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى: اللَّفْظُ الرَّابِعُ: مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يَنْظُرُونَ مَا يَحْدُثُ بِهِمْ وَيُحْتَمَلُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يَنْظُرُونَ إِلَى الْبَعْثِ الَّذِي كَذَّبُوا بِهِ الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ وَقَائِعِ الْقِيَامَةِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنَ القبور قالوا: يا وَيْلَنا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ قَالَ الزَّجَّاجُ الْوَيْلُ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْقَائِلُ وَقْتَ الْهَلَكَةِ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَمَّا شَاهَدُوا الْقِيَامَةَ قَالُوا: هَذَا يَوْمُ الدِّينِ أَيْ يَوْمُ الْجَزَاءِ هَذَا، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، أَنَّا نَرَى فِي الدُّنْيَا مُحْسِنًا وَمُسِيئًا وَعَاصِيًا وَصِدِّيقًا وَزِنْدِيقًا، وَرَأَيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا مَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنَ الْجَزَاءِ فَوَجَبَ القول بإثبات القيامة: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النَّجْمِ: 31] وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْكُفَّارُ وَإِنْ سَمِعُوا هَذَا الدَّلِيلَ الْقَوِيَّ لَكِنَّهُمْ أَنْكَرُوا وَتَمَرَّدُوا ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَحْيَاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِذَا شَاهَدُوا الْقِيَامَةَ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَيَقُولُونَ: هَذَا يَوْمُ الدِّينِ أَيْ يَوْمُ الْجَزَاءِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ الدَّلَائِلَ الْكَثِيرَةَ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ فَكَفَرْنَا بِهَا، ونظيره أن من خوف بشيء ولم يتلفت إِلَيْهِ، ثُمَّ عَايَنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ يَقُولُ هذا يوم الواقعة الفلانية فكذا هاهنا، وَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَةِ: 4] فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا مَالِكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَّا اللَّهُ فَقَوْلُهُمْ هَذَا يَوْمُ الدِّينِ، إِشَارَةٌ إلى أن

[سورة الصافات (37) : الآيات 22 إلى 26]

هَذَا هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي لَا حُكْمَ فِيهِ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلَّهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوهُ لِمَا حَصَلَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا هَلْ هُوَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ الْكُفَّارِ أَوْ يُقَالُ تَمَّ كَلَامُهُمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ الدِّينِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ فَهُوَ كَلَامُ غَيْرِهِمْ، فَبَعْضُهُمْ قَالَ بِالْأَوَّلِ وَزَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الْآيَةَ مِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَاحْتَجُّوا بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ مِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ خِطَابٌ مَعَ جَمِيعِ الْكُفَّارِ فَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْكُفَّارِ الثَّانِي: أَنَّ قوله: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: 22] منسوق عَلَى قَوْلِهِ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا كَلَامَ غَيْرِ الْكُفَّارِ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ غَيْرِ الْكُفَّارِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ: هَذَا يَوْمُ الدِّينِ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ، وَقَوْلُهُ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ جَوَابًا لَهُمْ، وَالْوَجْهُ فِي كَوْنِهِ جَوَابًا لَهُمْ أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ، إِنَّمَا اعْتَقَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ كَوْنَهُمْ مُحِقِّينَ فِي إِنْكَارِ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَكَوْنَهُمْ مُحِقِّينَ فِي تِلْكَ الْأَدْيَانِ الْفَاسِدَةِ فَقَالُوا: هَذَا يَوْمُ الدِّينِ أَيْ هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي يَصِلُ فِيهِ إِلَيْنَا جَزَاءُ طَاعَتِنَا وَخَيْرَاتِنَا، فَالْمَلَائِكَةُ يَقُولُونَ لَهُمْ إِنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَإِنَّ هَذَا الْيَوْمَ/ يُفْصَلُ فِيهِ الْجَزَاءُ الْحَقِيقِيُّ عَنِ الْجَزَاءِ الظَّاهِرِيِّ وَتُمَيَّزُ فِيهِ الطَّاعَاتُ الْحَقِيقِيَّةُ عَنِ الطَّاعَاتِ الْمَقْرُونَةِ بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ صَارَ هَذَا الْكَلَامُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جَوَابًا لِمَا ذَكَرَهُ الْكُفَّارُ. ثم قال تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 22 الى 26] احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَفِي الْآيَةِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى: احْشُرُوا مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ حُشِرُوا مِنْ قَبْلُ وَحَضَرُوا فِي محفل القيامة وقالوا: هذا يَوْمُ الدِّينِ [الصافات: 20] وَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ بَلْ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ [الصافات: 21] أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ، فَقَالَ الْمُرَادُ احْشُرُوهُمْ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ وَهِيَ النَّارُ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أَيْ خُذُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ الطَّرِيقِ وَدُلُّوهُمْ عَلَيْهِ ثُمَّ سَأَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ: كَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ بَعْدَهُ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَشْرَهُمْ إِلَى الْجَحِيمِ، إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمَسْأَلَةِ، وَأَجَابَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَطْفِ بِحَرْفِ الْوَاوِ تَرْتِيبٌ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ احْشُرُوهُمْ وَقِفُوهُمْ، مَعَ أَنَّا بِعُقُولِنَا نَعْلَمُ أَنَّ الْوُقُوفَ كَانَ قَبْلَ الْحَشْرِ إِلَى النَّارِ، هَذَا مَا قَالَهُ الْقَاضِي، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ إِذَا قَامُوا مِنْ قُبُورِهِمْ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَقِفُوا هُنَاكَ بِحَيْرَةٍ تَلْحَقُهُمْ بِسَبَبِ مُعَايَنَةِ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ، أَيْ سُوقُوهُمْ إِلَى طَرِيقِ جَهَنَّمَ وَقِفُوهُمْ

هُنَاكَ وَتَحْصُلُ الْمَسْأَلَةُ هُنَاكَ ثُمَّ مِنْ هُنَاكَ يُسَاقُونَ إِلَى النَّارِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَظَاهِرُ النَّظْمِ مُوَافِقٌ لِمَا عَلَيْهِ الْوَجْهُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: الآمر في قوله تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا هُوَ اللَّهُ فَهُوَ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يَحْشُرُوا الْكُفَّارَ إِلَى مَوْقِفِ السُّؤَالِ وَالْمُرَادُ مِنَ الْحَشْرِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَسُوقُونَهُمْ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْقِفِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِحَشْرِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الظَّالِمِينَ، وَأَزْوَاجِهِمْ، وَالْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا. وَفِيهِ فَوَائِدُ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ صِفَاتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا كَوْنَهُمْ عَابِدِينَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الظَّالِمَ الْمُطْلَقَ هُوَ الْكَافِرُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَعِيدٍ وَرَدَ فِي حَقِّ الظَّالِمِ فَهُوَ مَصْرُوفٌ إِلَى الْكُفَّارِ وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الْبَقَرَةِ: 254] . الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِأَزْوَاجِهِمْ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِأَزْوَاجِهِمْ أَشْبَاهُهُمْ أَيْ أَحْزَابُهُمْ وَنُظَرَاؤُهُمْ مِنَ الْكُفْرِ فَالْيَهُودِيُّ مَعَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيُّ مَعَ النَّصْرَانِيِّ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَزْوَاجِ الْأَشْبَاهُ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ/ أَزْواجاً ثَلاثَةً [الْوَاقِعَةِ: 7] أَيْ أَشْكَالًا وَأَشْبَاهًا الثَّانِي: أَنَّكَ تَقُولُ عِنْدِي مِنْ هَذَا أَزْوَاجٌ أَيْ أَمْثَالٌ وَتَقُولُ زَوْجَانِ مِنَ الْخُفِّ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَظِيرَ الْآخَرِ وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ سُمِّيَا زَوْجَيْنِ لِكَوْنِهِمَا مُتَشَابِهَيْنِ فِي أَكْثَرِ أَحْكَامِ النِّكَاحِ وَكَذَلِكَ الْعَدَدُ الزَّوْجُ سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ سَمِيِّهِ مِثَالًا لِلْقِسْمِ الثَّانِي فِي الْعَدَدِ الصَّحِيحِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالَّذِينِ ظَلَمُوا الرُّؤَسَاءَ لِأَنَّكَ لَوْ جَعَلْتَ الَّذِينَ ظَلَمُوا عَامًّا فِي كُلِّ مَنْ أَشْرَكَ لَمْ يَكُنْ لِلْأَزْوَاجِ مَعْنًى الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْأَزْوَاجِ أَنَّ الْمُرَادَ قُرَنَاؤُهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [الْأَعْرَافِ: 202] ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ نِسَاؤُهُمُ اللَّوَاتِي عَلَى دِينِهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالطَّوَاغِيتِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [الْبَقَرَةِ: 24] قِيلَ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ عُبَّادُ الْأَوْثَانِ وَالْمُرَادُ بِالْحِجَارَةِ الْأَصْنَامُ الَّتِي هِيَ أَحْجَارٌ مَنْحُوتَةٌ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ تِلْكَ الْأَحْجَارَ جَمَادَاتٌ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي حشرها إلى جهنم؟ أجاب القاضي بأنه وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّهَا تُعَادُ وَتَحْيَا لِتَحْصُلَ الْمُبَالَغَةُ فِي تَوْبِيخِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَبْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِي تِلْكَ الْأَصْنَامَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهَا ذَنْبٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَعْذِيبُهَا؟ وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُحْيِي تِلْكَ الْأَصْنَامَ بَلْ يَتْرُكُهَا عَلَى الْجَمَادِيَّةِ. ثُمَّ يُلْقِيهَا فِي جَهَنَّمَ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُ فِي تَخْجِيلِ الْكُفَّارِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ إِلَى عِبَادَةِ مَا عَبَدُوا فَلَمَّا قَبِلُوا مِنْهُمْ ذَلِكَ الدِّينَ صَارُوا كَالْعَابِدِينَ لِأُولَئِكَ الشَّيَاطِينِ وَتَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ [يس: 60] وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ عُقَلَاءُ وَكَلِمَةُ مَا لَا تَلِيقُ بِالْعُقَلَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: دُلُّوُهُمْ يُقَالُ هَدَيْتُ الرَّجُلَ إِذَا دَلَلْتَهُ وَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَتِ الْهِدَايَةُ هاهنا، لِأَنَّهُ جُعِلَ بَدَلَ الْهِدَايَةِ إِلَى الْجَنَّةِ، كَمَا قَالَ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آلِ عِمْرَانَ: 21] فَوَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بِالْعَذَابِ لِهَؤُلَاءِ بَدَلَ الْبِشَارَةِ بِالنَّعِيمِ لِأُولَئِكَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَاهْدُوهُمْ سُوقُوهُمْ وَقَالَ الْأَصَمُّ: قَدِّمُوهُمْ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا وَهْمٌ. لِأَنَّهُ يُقَالُ هَدَى إِذَا تَقَدَّمَ وَمِنْهُ الْهِدَايَةُ وَالْهَوَادِي وَالْهَادِيَاتُ

[سورة الصافات (37) : آية 27]

الْوَحْشُ، قَالَ وَلَا يُقَالُ هَدَى بِمَعْنَى قَدَّمَ، ثُمَّ قَالَ وَقِفُوهُمْ يُقَالُ وَقَفْتُ الدَّابَّةَ أَقِفُهَا وَقْفًا فَوَقَفَتْ هِيَ وُقُوفًا، وَالْمَعْنَى احْبِسُوهُمْ وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالْمَعْنَى قِفُوهُمْ وَاهْدُوهُمْ، وَالْأَصْوَبُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، بَلْ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَى الصِّرَاطِ قِيلَ وَقِفُوهُمْ فَإِنَّ السؤال يقع هناك وقوله: إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ قِيلَ عَنْ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَأَقْوَالِهِمْ، وَقِيلَ الْمُرَادُ سَأَلَتْهُمُ الْخَزَنَةُ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ... قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ [الزُّمَرِ: 71] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا السُّؤَالُ مَا ذُكِرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ أَيْ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ تَوْبِيخًا لَهُمْ، فَيُقَالُ: مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ/ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَا يَنْصُرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَمَا كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ فَقِيلَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مالكم غَيْرَ مُتَنَاصِرِينَ، وَقِيلَ يُقَالُ لِلْكُفَّارِ مَا لِشُرَكَائِكُمْ لَا يَمْنَعُونَكُمْ مِنَ الْعَذَابِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ يُقَالُ اسْتَسْلَمَ لِلشَّيْءِ إِذَا انْقَادَ لَهُ وَخَضَعَ، وَمَعْنَاهُ فِي الْأَصْلِ طَلَبُ السَّلَامَةِ بِتَرْكِ الْمُنَازَعَةِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ صَارُوا منقادين لا حيلة لهم ف دَفْعِ تِلْكَ الْمَضَارِّ لَا الْعَابِدُ وَلَا الْمَعْبُودُ. [سورة الصافات (37) : آية 27] وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ قِيلَ هُمْ وَالشَّيَاطِينُ، وَقِيلَ الرُّؤَسَاءُ وَالْأَتْبَاعُ. يَتَساءَلُونَ أَيْ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهَذَا التَّسَاؤُلُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّخَاصُمِ وَهُوَ سُؤَالُ التَّبْكِيتِ يَقُولُونَ غَرَرْتُمُونَا، وَيَقُولُ أُولَئِكَ لِمَ قَبِلْتُمْ مِنَّا، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ ذَلِكَ تَسَاؤُلَ الْمُسْتَفْهِمِينَ، بَلْ هُوَ تَسَاؤُلُ التَّوْبِيخِ وَاللَّوْمِ، وَاللَّهُ أعلم. [سورة الصافات (37) : الآيات 28 الى 40] قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)

وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ شَرَحَ كيفية ذلك التساؤل فقال: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ وَهَذَا قَوْلُ الْأَتْبَاعِ لِمَنْ دَعَاهُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ، وَفِي تَفْسِيرِ اليمين وجوه الأول: أن لفظ اليمين هاهنا اسْتِعَارَةٌ عَنِ الْخَيْرَاتِ وَالسَّعَادَاتِ، وَبَيَانُ كَيْفِيَّةِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ، أَنَّ الْجَانِبَ الْأَيْمَنَ أَفْضَلُ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: اتِّفَاقُ الْكُلِّ عَلَى أَنَّ أَشْرَفَ الْجَانِبَيْنِ هُوَ الْيَمِينُ وَالثَّانِي: لَا يُبَاشِرُونَ الْأَعْمَالَ الشَّرِيفَةَ إِلَّا بِالْيَمِينِ مِثْلَ مُصَافَحَةِ الْأَخْيَارِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَمَا عَلَى الْعَكْسِ مِنْهُ يُبَاشِرُونَهُ بِالْيَدِ الْيُسْرَى الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَفَاءَلُونَ وَكَانُوا يَتَيَمَّنُونَ بِالْجَانِبِ الْأَيْمَنِ وَيُسَمُّونَهُ بِالْبَارِحِ الرَّابِعُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ الْخَامِسُ: أَنَّ الشَّرِيعَةَ حَكَمَتْ بِأَنَّ الْجَانِبَ الْأَيْمَنَ لِكَاتِبِ الْحَسَنَاتِ وَالْأَيْسَرَ لِكَاتِبِ السَّيِّئَاتِ السَّادِسُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ الْمُحْسِنَ أَنْ يُؤْتَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وَالْمُسِيءَ أَنْ يُؤْتَى كِتَابَهُ بِيَسَارِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْجَانِبَ الْأَيْمَنَ أَفْضَلُ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ، اسْتُعِيرَ لَفْظُ الْيَمِينِ لِلْخَيْرَاتِ وَالْحَسَنَاتِ وَالطَّاعَاتِ، فَقَوْلُهُ: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ يَعْنِي أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْدَعُونَنَا وَتُوهِمُونَ لَنَا أَنَّ مَقْصُودَكُمْ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى تِلْكَ الْأَدْيَانِ نُصْرَةُ الْحَقِّ وَتَقْوِيَةُ الصِّدْقِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ أَنَّهُ يُقَالُ فُلَانٌ يَمِينُ فُلَانٍ، إِذَا كَانَ عِنْدَهُ بِالْمَنْزِلَةِ الْحَسَنَةِ، فَقَالَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ لِأَئِمَّتِهِمُ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ وَزَيَّنُوا لَهُمُ الْكُفْرَ: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْدَعُونَنَا وَتُوهِمُونَ لَنَا، أَنَّنَا عِنْدَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ، أَيْ بِالْمَنْزِلَةِ الْحَسَنَةِ، فَوَثِقْنَا بِكُمْ وَقَبِلْنَا عَنْكُمْ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ أَئِمَّةَ الْكُفَّارِ كَانُوا قَدْ حَلَفُوا لِهَؤُلَاءِ الْمُسْتَضْعَفِينَ أَنَّ مَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ، فَوَثِقُوا بِأَيْمَانِهِمْ وَتَمَسَّكُوا بِعُهُودِهِمُ الَّتِي عَهِدُوهَا لَهُمْ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أَيْ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَوَاثِيقِ وَالْأَيْمَانِ الَّتِي قَدَّمْتُمُوهَا لَنَا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ لَفْظَ الْيَمِينِ مُسْتَعَارٌ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْقَهْرِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ مَوْصُوفَةٌ بِالْقَهْرِ وَبِهَا يَقَعُ الْبَطْشُ، وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْقُوَّةِ وَالْقَهْرِ، وَتَقْصِدُونَنَا عَنِ السُّلْطَانِ وَالْغَلَبَةِ حَتَّى تَحْمِلُونَا عَلَى الضَّلَالِ وَتُعَيِّرُونَا عَلَيْهِ، ثُمَّ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الرُّؤَسَاءِ أَنَّهُمْ أَجَابُوا الْأَتْبَاعَ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُمْ بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ يَعْنِي أَنَّكُمْ مَا كُنْتُمْ مَوْصُوفِينَ بِالْإِيمَانِ حَتَّى يُقَالَ إِنَّا أَزَلْنَاكُمْ عَنْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُمْ: وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ يَعْنِي لَا قُدْرَةَ لَنَا عَلَيْكُمْ حَتَّى نَقْهَرَكُمْ وَنُجْبِرَكُمْ الثَّالِثُ: بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ أَيْ ضَالِّينَ غَالِّينَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ الرَّابِعُ: قَوْلُهُمْ: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ/ وُقُوعِنَا فِي الْعَذَابِ، فَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ وُقُوعُنَا فِي الْعَذَابِ لَمَا كَانَ خَبَرُ اللَّهِ حَقًّا، بَلْ كَانَ بَاطِلًا، وَلَمَّا كَانَ خَبَرُ اللَّهِ أَمْرًا وَاجِبًا لَا جَرَمَ، كَانَ الْوُقُوعُ فِي الْعَذَابِ الْأَلِيمِ لَازِمًا، قَالَ مُقَاتِلٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ لِإِبْلِيسَ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 85] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا لَذائِقُونَ يَعْنِي لَمَّا وَجَبَ أَنْ يَحِقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا وَجَبَ أَنْ نَكُونَ ذَائِقِينَ لِهَذَا الْعَذَابِ الْخَامِسُ: قَوْلُهُمْ: فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّا إِنَّمَا أَقْدَمْنَا عَلَى إِغْوَائِكُمْ لِأَنَّا كُنَّا مَوْصُوفِينَ فِي أَنْفُسِنَا بِالْغَوَايَةِ، وَفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنِ اعْتَقَدْتُمْ أَنَّ غَوَايَتَكُمْ بِسَبَبِ إِغْوَائِنَا فَغَوَايَتُنَا إِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ إِغْوَاءِ غَاوٍ آخَرَ وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ حُصُولَ الْغَوَايَةِ وَالرَّشَادِ لَيْسَ مِنْ قِبَلِنَا، بَلْ مِنْ قِبَلِ غَيْرِنَا، وَذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِيمَا قَبْلُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا وَلَمَّا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى كَلَامَ الْأَتْبَاعِ لِلرُّؤَسَاءِ وَكَلَامَ الرُّؤَسَاءِ لِلْأَتْبَاعِ قَالَ بَعْدَهُ: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ يَعْنِي فَالْمَتْبُوعُ وَالتَّابِعُ وَالْمَخْدُومُ وَالْخَادِمُ مُشْتَرِكُونَ فِي الْوُقُوعِ فِي الْعَذَابِ كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا

[سورة الصافات (37) : الآيات 41 إلى 50]

مُشْتَرِكِينَ فِي الْغَوَايَةِ، ثُمَّ قَالَ أَيْضًا: إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وعنى بالمجرمين هاهنا الْكُفَّارَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ: إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ السَّابِقِ وَهُوَ قَوْلُهُ: بِالْمُجْرِمِينَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْمُجْرِمِ الْمُطْلَقَ مُخْتَصٌّ فِي الْقُرْآنِ بِالْكَافِرِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا وَقَعُوا فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِالتَّوْحِيدِ وَبِالنُّبُوَّةِ، أَمَّا التَّكْذِيبُ بِالتَّوْحِيدِ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ يَعْنِي يُنْكِرُونَ وَيَتَعَصَّبُونَ لِإِثْبَاتِ الشِّرْكِ وَيَسْتَنْكِفُونَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ. وَأَمَّا التَّكْذِيبُ بِالنُّبُوَّةِ فَهُوَ قَوْلُهُمْ: أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ وَيَعْنُونَ مُحَمَّدًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَذَّبَهُمْ فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ فَقَالَ: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ جَاءَ بِالدِّينِ الْحَقِّ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الضِّدِّ وَالنِّدِّ وَالشَّرِيكِ فَلَمَّا جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَعَانِي كَانَ مَجِيئُهُ بِالدِّينِ الْحَقِّ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ أَيْنَا لَتَارِكُوا آلِهَتَنَا بِهَمْزَةٍ وَيَاءٍ بَعْدَهَا خَفِيفَةٍ سَاكِنَةٍ بِلَا مَدٍّ، وَقَرَأَ نافع في رواية قالون وأبو عَمْرٍو عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَمُدَّانِ وَالْبَاقُونَ بِهَمْزَتَيْنِ بلا مد وقوله تعالى: وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ «1» يَعْنِي صَدَّقَهُمْ فِي مَجِيئِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الشَّرِيكِ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّوْحِيدِ دِينٌ لِكُلِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَمَّا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ تَكْذِيبَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ نَقَلَ الْكَلَامَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الحضور فقال: إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ كَأَنَّهُ قِيلَ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّحِيمِ الْكَرِيمِ الْمُتَعَالِي عَنِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ أَنْ يُعَذِّبَ عِبَادَهُ فَأَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحُكْمَ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِالْحَسَنِ وَالطَّاعَةِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْقَبِيحِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَا يَكْمُلُ الْمَقْصُودُ مِنْهُمَا/ إِلَّا بِالتَّرْغِيبِ فِي الثَّوَابِ وَالتَّرْهِيبِ بِالْعِقَابِ وَإِذَا وَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ وَجَبَ تَحْقِيقُهُ صَوْنًا لِلْكَلَامِ عَنِ الْكَذِبِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعُوا فِي الْعَذَابِ ثُمَّ قَالَ: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يَعْنِي وَلَكِنَّ عِبَادَ اللَّهِ [الْمُخْلَصِينَ نَاجُونَ وَهُوَ] مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ المنقطع. [سورة الصافات (37) : الآيات 41 الى 50] أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50)

_ (1) وصدق المرسلون في المصحف مرفوعة بالواو والنون. ولكن المفسر جرى في تفسيره على أنها منصوبة بالياء والنون ومعنى قراءة الرفع أن المرسلين صدقوا في كل ما أخبروا به وإنما شدد الدال من صدق للمبالغة في وصفهم بالصدق. وقراءة الرفع عامة تشمل جميع الأنبياء ومنهم محمد، وأما قراءة النصب فلا تشمل نبينا عليه السلام إذ يكون الخطاب عنه.

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ أَحْوَالَ الْمُتَكَبِّرِينَ عَنْ قَبُولِ التَّوْحِيدِ الْمُصِرِّينَ عَلَى إِنْكَارِ النُّبُوَّةِ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ حَالِ الْمُخْلَصِينَ فِي كَيْفِيَّةِ الثَّوَابِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرْنَا فِي فَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا مِنَ الْمُخْلَصِينَ قِرَاءَتَيْنِ فَالْفَتْحُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْلَصَهُمْ بِلُطْفِهِ وَاصْطَفَاهُمْ بِفَضْلِهِ وَالْكَسْرُ هُوَ أَنَّهُمْ أَخْلَصُوا الطَّاعَةَ لِلَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ رِزْقَهُمْ بِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ أَيَّ الصِّفَاتِ مِنْهُ هُوَ الْمَعْلُومُ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتِ الْأَقْوَالُ، فَقِيلَ مَعْنَاهُ إِنَّ ذَلِكَ الرِّزْقَ مَعْلُومُ الْوَقْتِ وَهُوَ مِقْدَارُ غُدْوَةٍ وَعَشِيَّةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ لَا بُكْرَةٌ وَلَا عَشِيَّةٌ، قَالَ تَعَالَى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مَرْيَمَ: 62] ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ الرِّزْقَ مَعْلُومُ الصِّفَةِ لِكَوْنِهِ مَخْصُوصًا بِخَصَائِصِ خَلَقَهَا اللَّهُ فِيهِ مِنْ طِيبِ طَعْمٍ وَرَائِحَةٍ وَلَذَّةٍ وَحُسْنِ مَنْظَرٍ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَتَيَقَّنُونَ دَوَامَهُ لَا كَرِزْقِ الدُّنْيَا الَّذِي لَا يُعْلَمُ مَتَى يَحْصُلُ وَلَا مَتَى يَنْقَطِعُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: الْقَدْرُ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ بِأَعْمَالِهِمْ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُعْطِيهِمْ غَيْرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ لَهُمْ رِزْقًا بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الرِّزْقَ مَا هُوَ فَقَالَ: فَواكِهُ وَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفَاكِهَةَ عِبَارَةٌ عَمَّا يُؤْكَلُ لِأَجْلِ التَّلَذُّذِ لَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، وَأَرْزَاقُ أَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّهَا فَوَاكِهُ لِأَنَّهُمْ مُسْتَغْنُونَ عَنْ حِفْظِ الصِّحَّةِ بِالْأَقْوَاتِ/ فَإِنَّهُمْ أَجْسَامٌ مُحْكَمَةٌ مَخْلُوقَةٌ لِلْأَبَدِ، فَكُلُّ مَا يَأْكُلُونَهُ فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّلَذُّذِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ الْفَاكِهَةِ التَّنْبِيهُ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، يَعْنِي لَمَّا كَانَتِ الْفَاكِهَةُ حَاضِرَةً أَبَدًا كَانَ الْأَدَامُ أَوْلَى بِالْحُضُورِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى التَّحْقِيقِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْأَكْلَ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَكْلَ حَاصِلٌ مَعَ الْإِكْرَامِ وَالتَّعْظِيمِ فَقَالَ: وَهُمْ مُكْرَمُونَ لِأَنَّ الْأَكْلَ الْخَالِيَ عَنِ التَّعْظِيمِ يَلِيقُ بِالْبَهَائِمِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَأْكُولَهُمْ وَصَفَ تَعَالَى مَسَاكِنَهُمْ فَقَالَ: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا كُلْفَةَ عَلَيْهِمْ فِي التَّلَاقِي لِلْأُنْسِ وَالتَّخَاطُبِ، وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا الْقُرْبَ سَارَ السَّرِيرُ تَحْتَهُمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا مُتَقَابِلِينَ إِلَّا مَعَ حُصُولِ الْخَوَاطِرِ وَالسَّرَائِرِ وَلَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ إِلَّا مَعَ الْفُسْحَةِ وَالسَّعَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ بَعْضُهُمْ خِطَابَ بَعْضٍ وَيَرَاهُ عَلَى بُعْدٍ إِلَّا بِأَنْ يُقَوِّيَ اللَّهُ أَبْصَارَهُمْ وَأَسْمَاعَهُمْ وَأَصْوَاتَهُمْ، وَلَمَّا شَرَحَ اللَّهُ صِفَةَ الْمَأْكَلِ وَالْمَسْكَنِ ذَكَرَ بَعْدَهُ صِفَةَ الشراب فَقَالَ: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ يُقَالُ لِلزُّجَاجَةِ الَّتِي فِيهَا الْخَمْرُ كَأْسٌ وَتُسَمَّى الْخَمْرَةُ نَفْسُهَا كَأْسًا قَالَ: وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ ... [وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا] وَعَنِ الْأَخْفَشِ: كُلُّ كَأْسٍ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ الْخَمْرُ، وَقَوْلُهُ: مِنْ مَعِينٍ أَيْ مِنْ شَرَابٍ مَعِينٍ، أَوْ مِنْ نَهَرٍ مَعِينٍ، الْمَعِينُ مَأْخُوذٌ مِنْ عَيْنِ الْمَاءِ أَيْ يَخْرُجُ مِنَ الْعُيُونِ كَمَا يَخْرُجُ الْمَاءُ وَسُمِّيَ مَعِينًا لِظُهُورِهِ يُقَالُ عَانَ الْمَاءُ إِذَا ظَهَرَ جَارِيًا، قَالَهُ ثَعْلَبٌ فَهُوَ مَفْعُولٌ مِنَ الْعَيْنِ نَحْوَ مَبِيعٍ وَمَكِيلٍ، وَقِيلَ سُمِّيَ مَعِينًا لِأَنَّهُ يَجْرِي ظَاهِرَ الْعَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا مِنَ الْمَعِينِ وَهُوَ الْمَاءُ الشَّدِيدُ الْجَرْيِ وَمِنْهُ أَمْعَنَ فِي الْمَسِيرِ إِذَا اشْتَدَّ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: بَيْضاءَ صِفَةٌ لِلْخَمْرِ، قَالَ الْأَخْفَشُ، خَمْرُ الْجَنَّةِ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَقَوْلُهُ: لَذَّةٍ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهَا وُصِفَتْ بِاللَّذَّةِ كَأَنَّهَا نَفْسُ اللَّذَّةِ وَعَيْنُهَا كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ جُودٌ وَكَرَمٌ إِذَا أَرَادُوا الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِهِ بِهَاتَيْنِ الصفتين

[سورة الصافات (37) : الآيات 51 إلى 61]

وَثَانِيهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ أَيْ ذَاتُ لَذَّةٍ فَعَلَى هَذَا حُذِفَ الْمُضَافُ وَثَالِثُهَا: قَالَ اللَّيْثُ: اللَّذُّ وَاللَّذِيذُ يَجْرِيَانِ مَجْرًى وَاحِدًا فِي النَّعْتِ وَيُقَالُ شَرَابٌ لَذٌّ وَلَذِيذٌ قَالَ تَعَالَى: بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وقال تعالى: مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [مُحَمَّدٍ: 15] وَلِذَلِكَ سُمِّيَ النَّوْمُ لَذًّا لِاسْتِلْذَاذِهِ، وَعَلَى هَذَا لَذَّةٍ بِمَعْنَى لَذِيذَةٍ، وَالْأَقْرَبُ مِنْ هَذِهِ الوجوه الأول. ثم قال تعالى: لَا فِيها غَوْلٌ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ الْعَرَبُ تَقُولُ لَيْسَ فِيهَا غِيلَةٌ وَغَائِلَةٌ وَغَوْلٌ سَوَاءً، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْغَوْلُ أَنْ يُغْتَالَ عُقُولُهُمْ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ مُطِيعِ بْنِ إِيَاسٍ: وَمَا زَالَتِ الْكَأْسَ تَغْتَالُهُمْ ... وَتَذْهَبُ بِالْأَوَّلِ الْأَوَّلِ وَقَالَ اللَّيْثُ: الْغَوْلُ الصُّدَاعُ وَالْمَعْنَى لَيْسَ فِيهَا صُدَاعٌ كَمَا فِي خَمْرِ الدُّنْيَا، قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَحَقِيقَتُهُ الْإِهْلَاكُ، يُقَالُ غَالَهُ غَوْلًا أَيْ أَهْلَكَهُ، وَالْغُولُ وَالْغَائِلُ الْمُهْلِكُ، ثُمَّ سُمِّيَ الصُّدَاعُ غَوْلًا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاكِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ وَقُرِئَ بِكَسْرِ الزَّايِ قَالَ الْفَرَّاءُ مَنْ كَسَرَ الزَّايَ فَلَهُ مَعْنَيَانِ يُقَالُ أَنْزَفَ الرَّجُلُ إِذَا نَفِدَتْ خَمْرَتُهُ، وَأَنْزَفَ إِذَا ذَهَبَ عَقْلُهُ مِنَ السُّكْرِ وَمَنْ فَتَحَ الزَّايَ فَمَعْنَاهُ/ لَا يَذْهَبُ عُقُولُهُمْ أَيْ لَا يَسْكَرُونَ يُقَالُ نَزَفَ الرَّجُلُ فَهُوَ مَنْزُوفٌ وَنَزِيفٌ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ فِيهَا قَطُّ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ الَّتِي تَكُونُ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ مِنْ صُدَاعٍ أَوْ خُمَارٍ أَوْ عَرْبَدَةٍ وَلَا هُمْ يَسْكَرُونَ أَيْضًا، وَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَفَاسِدِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى صِفَةَ مَشْرُوبِهِمْ ذَكَرَ عَقِيبَهُ صِفَةَ مَنْكُوحِهِمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ وَمَعْنَى الْقَصْرِ فِي اللُّغَةِ الْحَبْسُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ [الرَّحْمَنِ: 72] وَالْمَعْنَى أَنَّهُنَّ يَحْبِسْنَ نَظَرَهُنَّ وَلَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: عِينٌ قَالَ الزَّجَّاجُ: كِبَارُ الْأَعْيُنِ حِسَانُهَا وَاحِدُهَا عَيْنَاءُ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ الْمَكْنُونُ فِي اللُّغَةِ الْمَسْتُورُ يُقَالُ كَنَنْتُ الشَّيْءَ وَأَكْنَنْتُهُ، وَمَعْنَى هَذَا التَّشْبِيهِ أَنَّ ظَاهِرَ الْبَيْضِ بَيَاضٌ يَشُوبُهُ قَلِيلٌ مِنَ الصُّفْرَةِ، فَإِذَا كَانَ مَكْنُونًا كَانَ مَصُونًا عَنِ الْغَبَرَةِ وَالْقَتَرَةِ، فَكَانَ هَذَا اللَّوْنُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالْعَرَبُ كَانُوا يُسَمُّونَ النِّسَاءَ بَيْضَاتُ الْخُدُورِ. وَلَمَّا تَمَّمَ اللَّهُ صِفَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ فَإِنْ قِيلَ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ عُطِفَ قَوْلُهُ: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ؟ قُلْنَا عَلَى قَوْلِهِ: يُطافُ عَلَيْهِمْ وَالْمَعْنَى يَشْرَبُونَ وَيَتَحَادَثُونَ عَلَى الشَّرَابِ قَالَ الشَّاعِرُ: وَمَا بَقِيَتْ مِنَ اللَّذَّاتِ إِلَّا ... مُحَادَثَةُ الْكِرَامِ عَلَى الْمُدَامِ وَالْمَعْنَى فَيُقْبِلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ عَمَّا جَرَى لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا. [سورة الصافات (37) : الآيات 51 الى 61] قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)

فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا ذَكَرَ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنَّهُمْ يَتَسَاءَلُونَ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ عَلَى/ شُرْبِ خَمْرِ الْجَنَّةِ فَإِنَّ مُحَادَثَةَ الْعُقَلَاءِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ عَلَى الشُّرْبِ مِنَ الْأُمُورِ اللَّذِيذَةِ، وَتَذَكُّرَ الْخَلَاصِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ مِنَ الْأُمُورِ اللَّذِيذَةِ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى الشُّرْبِ وَأَخَذُوا فِي الْمُكَالَمَةِ وَالْمُسَاءَلَةِ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ أَنَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أَنَّهُمْ كَانَ قَدْ حَصَلَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مَا يُوجِبُ لَهُمُ الْوُقُوعَ فِي عَذَابِ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ تَخَلَّصُوا عَنْهُ وَفَازُوا بِالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَكَامَلُ سُرُورُهُمْ وَبَهْجَتُهُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ أَيْ قَالَ قَائِلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنِّي كان لي قرين في الدنيا يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَيْ كَانَ يُوَبِّخُنِي عَلَى التَّصْدِيقِ بالبعث والقيامة ويقول تعجبا: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ أَيْ لَمُحَاسَبُونَ وَمُجَازُونَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَرِينَ كَانَ يَقُولُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِنْكَارِ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَقُولُ لِجُلَسَائِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى كَمَالِ السُّرُورِ بِالِاطِّلَاعِ إِلَى النَّارِ لِمُشَاهَدَةِ ذَلِكَ الْقَرِينِ وَمُخَاطَبَتِهِ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ تَكَلَّفَ أَمْرًا اطَّلَعَ مَعَهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُطَّلِعًا بِلَا تَكَلُّفٍ لَمْ يَكُنْ إِلَى اطِّلَاعِهِ حَاجَةٌ فَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَعْضِ أَطْرَافِ الْجَنَّةِ فَاطَّلَعَ عِنْدَهَا إِلَى النَّارِ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ أَيْ فِي وَسَطِ الْجَحِيمِ قَالَ لَهُ مُوَبِّخًا: تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ أَيْ لَتُهْلِكُنِي بِدُعَائِكَ إِيَّايَ إِلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي بِالْإِرْشَادِ إِلَى الْحَقِّ وَالْعِصْمَةِ عَنِ الْبَاطِلِ لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ فِي النَّارِ مِثْلَكَ، وَلَمَّا تَمَّمَ ذَلِكَ الْكَلَامَ مَعَ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا قَرِينًا لَهُ وَهُوَ الْآنُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عَادَ إِلَى مُخَاطَبَةِ جُلَسَائِهِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَالَ: أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ وَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَعْلَمُونَ فِي أَوَّلِ دُخُولِهِمْ فِي الْجَنَّةِ أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ، فَإِذَا جِيءَ بِالْمَوْتِ عَلَى صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ وَذُبِحَ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فَلَعَلَّ هَذَا الْكَلَامَ حَصَلَ قَبْلَ ذَبْحِ الْمَوْتِ وَالثَّانِي: أَنَّ الَّذِي يَتَكَامَلُ خَيْرُهُ وَسَعَادَتُهُ فَإِذَا عَظُمَ تَعَجُّبُهُ بِهَا قَدْ يَقُولُ أَيَدُومُ هَذَا لِي؟ أَفَيَبْقَى هَذَا لِي؟ وَإِنْ كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ دَوَامِهِ، ثُمَّ عِنْدَ

[سورة الصافات (37) : الآيات 62 إلى 74]

فَرَاغِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْمُبَاحَثَاتِ يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ فَقِيلَ إِنَّهُ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِهِمْ، وَقِيلَ أَنَّهُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ لِطَلَبِ مِثْلِ هَذِهِ السَّعَادَاتِ يَجِبُ أَنْ يَعْمَلَ الْعَامِلُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمُ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ وَمِنْ قَرِينِهِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [32] فِي قَوْلِهِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ كَانَا شَرِيكَيْنِ فَحَصَلَ لَهُمَا ثَمَانِيَةُ آلَافِ دِينَارٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ أُقَاسِمُكَ فَقَاسَمَهُ وَاشْتَرَى دَارًا بِأَلْفِ دِينَارٍ فَأَرَاهَا صَاحِبَهُ وَقَالَ: كَيْفَ تَرَى حُسْنَهَا فَقَالَ: مَا أَحْسَنَهَا فَخَرَجَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ صَاحِبِي هَذَا قَدِ ابْتَاعَ هَذِهِ الدَّارَ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَإِنِّي أَسْأَلُكَ دَارًا مِنْ دُورِ الْجَنَّةِ، فَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ إِنَّ صَاحَبَهُ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَتَصَدَّقَ هَذَا بِأَلْفِ دينار لأجل أن يزوجه الله من الحور العين، ثُمَّ إِنَّ صَاحَبَهُ اشْتَرَى بَسَاتِينَ بِأَلْفَيْ دِينَارٍ فَتَصَدَّقَ هَذَا بِأَلْفَيْ دِينَارٍ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ فِي الْجَنَّةِ مَا طَلَبَ/ فَعِنْدَ هَذَا قَالَ: إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ إِلَى قَوْلِهِ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات: 55] . المسألة الثالثة: قوله: أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي هَذِهِ الِاسْتِفْهَامَاتِ الثَّلَاثَةِ قَرَأَ نَافِعٌ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ بِالِاسْتِفْهَامِ بِهَمْزَةٍ غَيْرِ مَمْدُودَةٍ وَالثَّالِثَةَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ، وَوَافَقَهُ الْكِسَائِيُّ إِلَّا أَنَّهُ يَسْتَفْهِمُ الثَّالِثَةَ بِهَمْزَتَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ الْأُولَى وَالثَّالِثَةَ بِالِاسْتِفْهَامِ بِهَمْزَتَيْنِ وَالثَّانِيَةَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالِاسْتِفْهَامِ فِي جَمِيعِهَا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَابْنُ كَثِيرٍ يَسْتَفْهِمُ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرِ مُطَوَّلَةٍ وَبَعْدِهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ خَفِيفَةٌ، وَأَبُو عَمْرٍو مُطَوَّلَةً، وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِهَمْزَتَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ قَرَأَ نَافِعٌ بِرِوَايَةِ وَرْشٍ لَتُرْدِينِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الْهُدَى وَالضَّلَالَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ وَقَالُوا: مَذْهَبُ الْخَصْمِ أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ وُجُوهِ الْإِنْعَامِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ فَقَدْ فَعَلَهُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْإِنْعَامُ مُشْتَرَكًا فِيهِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِحُصُولِ الْهِدَايَةِ لِلْمُؤْمِنِ. وَأَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِخَلَاصِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالرَّدَى فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ النِّعْمَةُ الْمَخْصُوصَةُ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى تِلْكَ الْإِنْعَامَاتِ الَّتِي حَصَلَ الِاشْتِرَاكُ فِيهَا، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا بِقُوَّةِ الدَّاعِي إِلَى الْإِيمَانِ وَتَكْمِيلِ الصَّارِفِ عَنِ الْكُفْرِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ نُفَاةُ عَذَابِ الْقَبْرِ بِقَوْلِ الرَّجُلِ الَّذِي مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمُوتُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَوْ حَصَلَتِ الْحَيَاةُ فِي الْقَبْرِ لَكَانَ الْمَوْتُ حَاصِلًا مَرَّتَيْنِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى الْمُرَادُ مِنْهُ كُلُّ مَا وَقَعَ فِي الدُّنْيَا وَاللَّهُ أعلم. [سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 74] أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَوَصْفِهَا لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ [الصافات: 61] أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُورِدَ ذَلِكَ عَلَى كُفَّارِ قَوْمِهِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ زَاجِرًا لَهُمْ عَنِ الْكُفْرِ، وَكَمَا وَصَفَ مِنْ قَبْلُ مَآكِلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَشَارِبَهُمْ وَصَفَ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَآكِلَ أَهْلِ النَّارِ وَمَشَارِبَهُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ فَالْمَعْنَى أَنَّ الرِّزْقَ الْمَعْلُومَ المذكور لأهل الجنة خَيْرٌ نُزُلًا أَيْ خَيْرٌ حَاصِلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ وَأَصْلُ النُّزُلِ الْفَضْلُ الْوَاسِعُ فِي الطَّعَامِ يُقَالُ طَعَامٌ كَثِيرُ النُّزُلِ، فَاسْتُعِيرَ لِلْحَاصِلِ مِنَ الشَّيْءِ، وَيُقَالُ أَرْسَلَ الْأَمِيرُ إِلَى فُلَانٍ نُزُلًا وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَصْلُحُ حَالُ مَنْ يَنْزِلُ بِسَبَبِهِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ حَاصِلُ الرِّزْقِ الْمَعْلُومِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ اللَّذَّةُ وَالسُّرُورُ، وَحَاصِلُ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ الْأَلَمُ وَالْغَمُّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا نِسْبَةَ لِأَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ فِي الْخَيْرِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ هَذَا الْكَلَامُ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ بِهِمْ أَوْ لِأَجْلِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا اخْتَارُوا مَا أَوْصَلَهُمْ إِلَى الرِّزْقِ الْكَرِيمِ، وَالْكَافِرِينَ اخْتَارُوا مَا أَوْصَلَهُمْ إِلَى الْعَذَابِ الْأَلِيمِ فَقِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ تَوْبِيخًا لَهُمْ عَلَى سُوءِ اخْتِيَارِهِمْ، وَأَمَّا الزَّقُّومِ فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْمُفَسِّرُونَ. لِلزَّقُّومِ تَفْسِيرًا إِلَّا الْكَلْبِيَّ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى أَكْثَرَ اللَّهُ فِي بُيُوتِكُمُ الزَّقُّومَ، فَإِنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ يُسَمُّونَ التَّمْرَ وَالزُّبْدَ بِالزَّقُّومِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لِجَارِيَتِهِ زَقِّمِينَا فَأَتَتْهُ بِزُبْدٍ وَتَمْرٍ، وَقَالَ تَزَقَّمُوا. ثُمَّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الله تعالى لم يرد بالزقوم هاهنا الزُّبْدَ وَالتَّمْرَ، قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ لَمْ يَكُنْ لِلزَّقُّومِ اشْتِقَاقٌ مِنَ التَّزَقُّمِ وَهُوَ الْإِفْرَاطُ مِنْ أَكْلِ الشَّيْءِ حَتَّى يُكْرَهَ ذَلِكَ يُقَالُ بَاتَ فُلَانٌ يَتَزَقَّمُ. وَظَاهِرُ لَفْظِ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أنها شجرة كريهة الطعم مُنْتِنَةُ الرَّائِحَةِ شَدِيدَةُ الْخُشُونَةِ مَوْصُوفَةٌ بِصِفَاتٍ كُلُّ مَنْ تَنَاوَلَهَا عَظُمَ مِنْ تَنَاوُلِهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُكْرِهُ أَهْلَ النَّارِ عَلَى تَنَاوُلِ بَعْضِ أَجْزَائِهَا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ فَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا إِنَّمَا صَارَتْ فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا سَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ، قَالُوا كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ تَنْبُتَ الشَّجَرَةُ فِي جَهَنَّمَ/ مَعَ أَنَّ النَّارَ تُحْرِقُ الشَّجَرَةَ؟ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ خَالِقَ النَّارِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَمْنَعَ النَّارَ مِنْ إِحْرَاقِ الشَّجَرِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي النار زبانية

وَاللَّهُ تَعَالَى يَمْنَعُ النَّارَ عَنْ إِحْرَاقِهِمْ فَلِمَ لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ؟ إِذَا عرفت هذا السؤال والجواب فمعنى كَوْنِ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ هُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ وَقَعَتْ تِلْكَ الشُّبْهَةُ فِي قُلُوبِهِمْ وَصَارَتْ تِلْكَ الشُّبْهَةُ سَبَبًا لِتَمَادِيهِمْ فِي الْكُفْرِ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهَا فِتْنَةً لَهُمْ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّفْسِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ صَيْرُورَةَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فِي النَّارِ لِأَنَّهُمْ إِذَا كُلِّفُوا تَنَاوُلَهَا وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ ذَلِكَ فِتْنَةً فِي حَقِّهِمْ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْفِتْنَةِ الِامْتِحَانَ وَالِاخْتِبَارَ، فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ بَعِيدٌ عَنِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ مُخَالِفٌ لِلْمَأْلُوفِ وَالْمَعْرُوفِ، فَإِذَا وَرَدَ عَلَى سَمْعِ الْمُؤْمِنِ فَوَّضَ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ وَإِذَا وَرَدَ عَلَى الزِّنْدِيقِ تَوَسَّلَ بِهِ إِلَى الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ وَالنُّبُوَّةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ وَصَفَهَا بِصِفَاتٍ الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ قِيلَ مَنْبَتُهَا فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ وَأَغْصَانُهَا تَرْتَفِعُ إِلَى دَرَكَاتِهَا الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الطَّلْعُ لِلنَّخْلَةِ فَاسْتُعِيرَ لِمَا طَلَعَ مِنْ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ مِنْ حَمْلِهَا، إِمَّا اسْتِعَارَةً لَفْظِيَّةً أَوْ مَعْنَوِيَّةً، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ سُمِّيَ (طَلْعًا) لِطُلُوعِهِ كُلَّ سَنَةٍ، وَلِذَلِكَ قِيلَ طَلْعُ النَّخْلِ لِأَوَّلِ مَا يَخْرُجُ مِنْ ثَمَرِهِ، وَأَمَّا تَشْبِيهُ هَذَا الطَّلْعِ بِرُءُوسِ الشَّيَاطِينِ فَفِيهِ سُؤَالٌ، لِأَنَّهُ قِيلَ إِنَّا مَا رَأَيْنَا رؤوس الشَّيَاطِينِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَشْبِيهُ شَيْءٍ بِهَا؟ وَأَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ النَّاسَ لَمَّا اعْتَقَدُوا فِي الْمَلَائِكَةِ كَمَالَ الْفَضْلِ في الصورة والسيرة واعتقدوا فِي الشَّيَاطِينِ نِهَايَةَ الْقُبْحِ وَالتَّشْوِيهِ فِي الصُّورَةِ وَالسِّيرَةِ، فَكَمَا حَسُنَ التَّشْبِيهُ بِالْمَلَكِ عِنْدَ إِرَادَةِ تَقْرِيرِ الْكَمَالِ وَالْفَضِيلَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يُوسُفَ: 31] فَكَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَحْسُنَ التَّشْبِيهُ بِرُءُوسِ الشَّيَاطِينِ فِي الْقُبْحِ وَتَشْوِيهِ الْخِلْقَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ لَا بِالْمَحْسُوسِ بَلْ بِالْمُتَخَيَّلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ إِنَّ أقبح الأشياء في الوهم والخيال هو رؤوس الشَّيَاطِينِ فَهَذِهِ الشَّجَرَةُ تُشْبِهُهَا فِي قُبْحِ النَّظَرِ وَتَشْوِيهِ الصُّورَةِ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّ الْعُقَلَاءَ إِذَا رَأَوْا شَيْئًا شَدِيدَ الِاضْطِرَابِ مُنْكَرَ الصُّورَةِ قَبِيحَ الْخِلْقَةِ، قَالُوا إِنَّهُ شَيْطَانٌ، وَإِذَا رَأَوْا شَيْئًا حَسَنَ الصُّورَةِ وَالسِّيرَةِ، قَالُوا إِنَّهُ مَلَكٌ، وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: أَتَقْتُلُنِي وَالْمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي ... وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّيَاطِينَ حيات لها رؤوس وَأَعْرَافٌ، وَهِيَ مِنْ أَقْبَحِ الْحَيَّاتِ، وَبِهَا يُضْرَبُ الْمَثَلُ فِي الْقُبْحِ، وَالْعَرَبُ إِذَا رَأَتْ مَنْظَرًا قَبِيحًا قَالَتْ كَأَنَّهُ شَيْطَانُ الْحَمَاطَةِ، وَالْحَمَاطَةُ شَجَرَةٌ معينة والقول الثالث: أن رؤوس الشَّيَاطِينِ، نَبْتٌ مَعْرُوفٌ قَبِيحُ الرَّأْسِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ هُوَ الْجَوَابُ الْحَقُّ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ وَذَكَرَ صِفَتَهَا بَيَّنَ أَنَّ الكفار لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ وَاعْلَمْ أَنَّ إِقْدَامَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْأَكْلِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ أَكَلُوا مِنْهَا لِشِدَّةِ الْجُوعِ، فَإِنْ قِيلَ وَكَيْفَ يَأْكُلُونَهَا مَعَ نِهَايَةِ خُشُونَتِهَا وَنَتْنِهَا وَمَرَارَةِ/ طَعْمِهَا؟ قُلْنَا إِنَّ الواقع فِي الضَّرَرِ الْعَظِيمِ رُبَّمَا اسْتُرْوِحَ مِنْهُ إِلَى مَا يُقَارِبُهُ فِي الضَّرَرِ، فَإِذَا جَوَّعَهُمُ اللَّهُ الْجُوعَ الشَّدِيدَ فَزِعُوا فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ الْجُوعِ إِلَى تَنَاوُلِ هَذَا الشَّيْءِ وَإِنْ كَانَ بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ الزَّبَانِيَةُ يُكْرِهُونَهُمْ عَلَى الْأَكْلِ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ تَكْمِيلًا لعذابهم. وعلم أَنَّهُمْ إِذَا شَبِعُوا فَحِينَئِذٍ يَشْتَدُّ عَطَشُهُمْ وَيَحْتَاجُونَ إِلَى الشَّرَابِ، فَعِنْدَ هَذَا وَصَفَ اللَّهُ شَرَابَهُمْ، فَقَالَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ [الصافات: 67] قَالَ الزَّجَّاجُ: الشَّوْبُ اسْمٌ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا خُلِطَ بِغَيْرِهِ،

[سورة الصافات (37) : الآيات 75 إلى 82]

وَالْحَمِيمُ الْمَاءُ الْحَارُّ الْمُتَنَاهِي فِي الْحَرَارَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا غَلَبَهُمْ ذَلِكَ الْعَطَشُ الشَّدِيدُ سُقُوا مِنْ ذَلِكَ الْحَمِيمِ، فَحِينَئِذٍ يَشُوبُ الزَّقُّومُ بِالْحَمِيمِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُمَا. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ شَرَابَهُمْ فِي الْقُرْآنِ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا كَوْنُهُ غَسَّاقًا، وَمِنْهَا قَوْلِهِ: وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [مُحَمَّدٍ: 15] وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَائِدَةُ فِي كَلِمَةِ (ثُمَّ) فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ؟ قُلْنَا فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ يملؤون بُطُونَهُمْ مِنْ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ وَهُوَ حَارٌّ يَحْرُقُ بُطُونَهُمْ فَيَعْظُمُ عَطَشُهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَا يُسْقَوْنَ إِلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ مَدِيدَةٍ وَالْغَرَضُ تَكْمِيلُ التَّعْذِيبِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الطَّعَامَ بِتِلْكَ الْبَشَاعَةِ وَالْكَرَاهَةِ، ثُمَّ وَصَفَ الشَّرَابَ بِمَا هُوَ أَبْشَعُ مِنْهُ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ كَلِمَةِ ثُمَّ بَيَانَ أَنَّ حَالَ الْمَشْرُوبِ فِي الْبَشَاعَةِ أَعْظَمُ مِنْ حَالِ الْمَأْكُولِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ قَالَ مُقَاتِلٌ: أَيْ بَعْدِ أَكْلِ الزَّقُّومِ وَشُرْبِ الْحَمِيمِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ عِنْدَ شُرْبِ الْحَمِيمِ لَمْ يَكُونُوا فِي الْجَحِيمِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْحَمِيمُ مِنْ مَوْضِعٍ خَارِجٍ عَنِ الْجَحِيمِ، فَهُمْ يُورَدُونَ الْحَمِيمَ لِأَجْلِ الشُّرْبِ كَمَا تُورَدُ الْإِبِلُ إِلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يُورَدُونَ إِلَى الْجَحِيمِ، فَهَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ، وَاحْتَجَّ عَلَى صِحَّتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرَّحْمَنِ: 43، 44] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ عَذَابَهُمْ فِي أَكْلِهِمْ وَشُرْبِهِمْ قَالَ: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْإِهْرَاعُ الْإِسْرَاعُ يُقَالُ هَرَعَ وَأَهْرَعَ إِذَا اسْتُحِثَّ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ آبَاءَهُمُ اتِّبَاعًا فِي سُرْعَةٍ كَأَنَّهُمْ يُزْعَجُونَ إِلَى اتِّبَاعِ آبَائِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّلَ اسْتِحْقَاقَهُمْ لِلْوُقُوعِ فِي تِلْكَ الشَّدَائِدِ كُلِّهَا بِتَقْلِيدِ الْآبَاءِ فِي الدِّينِ وَتَرْكِ اتِّبَاعِ الدَّلِيلِ، وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ غَيْرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي ذَمِّ التَّقْلِيدِ لَكَفَى. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ لِرَسُولِهِ مَا يُوجِبُ التَّسْلِيَةَ لَهُ فِي كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ، فَقَالَ: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ إِرْسَالَهُ لِلرُّسُلِ قَدْ تَقَدَّمَ وَالتَّكْذِيبَ لَهُمْ قَدْ سَلَفَ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ بِهِمْ حَتَّى يَصْبِرَ كَمَا صَبَرُوا، وَيَسْتَمِرَّ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ وَإِنْ تَمَرَّدُوا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الْبَلَاغُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ خِطَابًا مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ خِطَابُ الْكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا بِالْأَخْبَارِ جَمِيعَ مَا جَرَى مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ وَعَلَى عَادٍ وَثَمُودَ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ ظَنٍّ وَخَوْفٍ يَصْلُحُ أَنْ/ يَكُونَ زَاجِرًا لَهُمْ عَنْ كُفْرِهِمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قوله: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ [يونس: 73] فَإِنَّهَا كَانَتْ أَقْبَحَ الْعَوَاقِبِ وَأَفْظَعَهَا إِلَّا عَاقِبَةَ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ مَقْرُونَةً بِالْخَيْرِ والراحة. [سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 82] وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) الْقِصَّةُ الأولى- قصة نوح عليه السلام

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ مِنْ قَبْلُ: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [الصافات: 71] وقال: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ [الصافات: 73] أَتْبَعَهُ بِشَرْحِ وَقَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَالْقِصَّةُ الْأُولَى: حِكَايَةُ حَالِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ فِيهِ مَبَاحِثُ: (الْأَوَّلُ) : أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٌ وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ، أَيْ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ نَحْنُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ نُوحًا نَادَى وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ ذَلِكَ النِّدَاءَ فِي أَيِّ الْوَقَائِعِ كَانَ؟ لَا جَرَمَ حَصَلَ فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ نَادَى الرَّبَّ تَعَالَى فِي أَنْ يُنْجِيَهُ مِنْ مِحْنَةِ الْغَرَقِ وَكَرْبِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا اشْتَغَلَ بِدَعْوَةِ قَوْمِهِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ بَالَغُوا فِي إِيذَائِهِ وَقَصَدُوا قَتْلَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَادَى رَبَّهُ وَاسْتَنْصَرَهُ عَلَى كُفَّارِ قَوْمِهِ، فَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنَعَهُمْ مِنْ قَتْلِهِ وَإِيذَائِهِ وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِلُ عَلَى ضَعْفِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا دَعَا عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَهْلَهُ، وَأَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فِيهِ فَكَانَ حُصُولُ تِلْكَ النَّجَاةِ كَالْمَعْلُومِ الْمُتَيَقَّنِ فِي دُعَائِهِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يُقَالَ الْمَطْلُوبُ مِنْ هَذَا النِّدَاءِ حُصُولُ هَذِهِ النَّجَاةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ نُوحٍ أَنَّهُ نَادَاهُ قَالَ بَعْدَهُ: فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ/ تِلْكَ الْإِجَابَةَ كَانَتْ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ عَنْ ذَاتِهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فَقَالَ: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ وَالْقَادِرُ الْعَظِيمُ لَا يَلِيقُ بِهِ إِلَّا الْإِحْسَانُ الْعَظِيمُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَعَادَ صِيغَةَ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَذَلِكَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ تِلْكَ النِّعْمَةِ. لَا سِيَّمَا وَقَدْ وَصَفَ تِلْكَ الْإِجَابَةَ بِأَنَّهَا نِعْمَتِ الْإِجَابَةُ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الْإِجَابَةِ مُرَتَّبٌ عَلَى ذَلِكَ النِّدَاءِ، وَالْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُعَلَّلًا بِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّدَاءَ بِالْإِخْلَاصِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْإِجَابَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ نِعْمَ الْمُجِيبُ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، بَيَّنَ أَنَّ الْإِنْعَامَ حَصَلَ فِي تِلْكَ الْإِجَابَةِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَهُوَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْكَرْبُ الْحَاصِلُ بِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ الْغَرَقِ، وَعَلَى الثَّانِي الْكَرْبُ الْحَاصِلُ مِنْ أَذَى قَوْمِهِ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ سِوَاهُ وَسِوَى ذُرِّيَّتِهِ فَقَدْ فَنُوا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذُرِّيَّتُهُ بَنُوهُ الثَّلَاثَةُ: سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ، فَسَامٌ أَبُو الْعَرَبِ وَفَارِسَ وَالرُّومِ، وَحَامٌ أَبُو السُّودَانِ، وَيَافِثُ أَبُو التُّرْكِ. النِّعْمَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ يَعْنِي يَذْكُرُونَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فِي الْعالَمِينَ قُلْنَا مَعْنَاهُ الدُّعَاءُ بِثُبُوتِ هَذِهِ التَّحِيَّةِ فِيهِمْ جَمِيعًا أَيْ لَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ أَثْبَتَ اللَّهُ التَّسْلِيمَ عَلَى نُوحٍ وَأَدَامَهُ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالثَّقَلَيْنِ فَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ بِكُلِّيَّتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ

[سورة الصافات (37) : الآيات 83 إلى 94]

تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ تَفَاصِيلَ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِ قَالَ: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّا إِنَّمَا خَصَصْنَا نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتِلْكَ التَّشْرِيفَاتِ الرَّفِيعَةِ مِنْ جَعْلِ الدُّنْيَا مَمْلُوءَةً مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَمِنْ تَبْقِيَةِ ذِكْرِهِ الْحَسَنِ فِي أَلْسِنَةِ جَمِيعِ الْعَالَمِينَ لِأَجْلِ أَنَّهُ كَانَ مُحْسِنًا، ثُمَّ عَلَّلَ كَوْنَهُ مُحْسِنًا بِأَنَّهُ كَانَ عَبْدًا لِلَّهِ مُؤْمِنًا، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ أَعْظَمَ الدَّرَجَاتِ وَأَشْرَفَ الْمَقَامَاتِ الإيمان بالله والانقياد لطاعته. [سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 94] وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) القصة الثانية- قصة إبراهيم عليه السلام فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ مِنْ شِيعَتِهِ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْ مِنْ شِيعَةِ نُوحٍ أَيْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَعَلَى دِينِهِ وَمِنْهَاجِهِ لَإِبْرَاهِيمَ، قَالُوا وَمَا كَانَ بَيْنَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ إِلَّا نَبِيَّانِ هُودٌ وَصَالِحٌ، وَرَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِنَّهُ كَانَ بَيْنَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ أَلْفَانِ وَسِتُّمِائَةٍ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً الثَّانِي: قَالَ الْكَلْبِيُّ الْمُرَادُ مِنْ شِيعَةِ مُحَمَّدٍ لَإِبْرَاهِيمَ بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِهِ وَمِنْهَاجِهِ فَهُوَ مِنْ شِيعَتِهِ وَإِنْ كَانَ سَابِقًا لَهُ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى نُوحٍ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعَامِلُ فِي إِذْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ مِنْ مَعْنَى الْمُشَايَعَةِ يَعْنِي وَإِنَّ مِمَّنْ شَايَعَهُ عَلَى دِينِهِ وَتَقْوَاهُ حِينَ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ لَإِبْرَاهِيمَ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: بِقَلْبٍ سَلِيمٍ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ يَعْنِي خَالِصٌ مِنَ الشَّرَكِ،

وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَلِمَ مِنَ الشِّرْكِ فَلَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ وَالثَّانِي: قَالَ الْأُصُولِيُّونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ عَاشَ وَمَاتَ عَلَى طَهَارَةِ الْقَلْبِ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ مِنَ الْمَعَاصِي، فَيَدْخُلُ فِيهِ كَوْنُهُ سَلِيمًا عَنِ الشِّرْكِ وَعَنِ الشَّكِّ وَعَنِ الْغِلِّ وَالْغِشِّ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ لِلنَّاسِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَسَلِمَ جَمِيعُ النَّاسِ مِنْ غِشِّهِ وَظُلْمِهِ وَأَسْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَمْ يَعْدِلْ بِهِ أَحَدًا، وَاحْتَجَّ الذَّاهِبُونَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ إِنْكَارَهُ عَلَى قَوْمِهِ الشِّرْكَ بِاللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ وَاحْتَجَّ الذَّاهِبُونَ إِلَى الْقَوْلِ الثَّانِي بِأَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ فَلَا يُقَيَّدُ بِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 51] مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَامِ: 124] وَقَالَ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الْأَنْعَامِ: 75] فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى الْمَجِيءِ بِقَلْبِهِ رَبَّهُ؟ قُلْنَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَخْلَصَ لِلَّهِ قَلْبَهُ، فَكَأَنَّهُ أَتْحَفَ حَضْرَةَ اللَّهِ بِذَلِكَ الْقَلْبِ، وَرَأَيْتُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمُوسَى أَجِبْ إِلَهَكَ بِكُلِّ قَلْبِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ذَكَرَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ آثَارِ تِلْكَ السَّلَامَةِ أَنْ دَعَا أَبَاهُ وَقَوْمَهُ إِلَى التَّوْحِيدِ فَقَالَ: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تهجين تلك الطريقة وتقبيحها. ثم قال: أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أإفكا مَفْعُولٌ لَهُ تَقْدِيرُهُ أَتُرِيدُونَ آلِهَةً مِنْ دُونِهِ إِفْكًا، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْمَفْعُولَ عَلَى الْفِعْلِ لِلْعِنَايَةِ وَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ لَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ الْأَهَمُّ عِنْدَهُ أَنْ يُقَرِّرَ عِنْدَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى إِفْكٍ وَبَاطِلٍ فِي شِرْكِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِفْكًا مَفْعُولًا بِهِ يَعْنِي أَتُرِيدُونَ إِفْكًا، ثُمَّ فَسَّرَ الْإِفْكَ بِقَوْلِهِ: آلِهَةً دُونَ اللَّهِ عَلَى أَنَّهَا إِفْكٌ فِي أَنْفُسِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا بِمَعْنَى تُرِيدُونَ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ آفِكِينَ. ثُمَّ قَالَ: فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَتَظُنُّونَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ أَنَّهُ يَجُوزُ جَعْلُ هَذِهِ الْجَمَادَاتِ مُشَارِكَةً لَهُ فِي الْمَعْبُودِيَّةِ وَثَانِيهَا: أَتَظُنُّونَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ حَتَّى جَعَلْتُمُوهَا مُسَاوِيَةً لَهُ فِي الْمَعْبُودِيَّةِ فَنَبَّهَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. ثُمَّ قَالَ: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَاطَوْنَ عِلْمَ النُّجُومِ فَعَامَلَهُمْ عَلَى مُقْتَضَى عَادَتِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُكَايِدَهُمْ فِي أَصْنَامِهِمْ لِيُلْزِمَهُمُ الْحُجَّةَ فِي أَنَّهَا غَيْرُ مَعْبُودَةٍ وَكَانَ لَهُمْ مِنَ الْغَدِ يَوْمُ عِيدٍ يَخْرُجُونَ إِلَيْهِ فَأَرَادَ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُمْ لِيَبْقَى خَالِيًا فِي بَيْتِ الْأَصْنَامِ فَيَقْدِرُ عَلَى كسرها وهاهنا سُؤَالَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّظَرَ فِي عِلْمِ النُّجُومِ غَيْرُ جَائِزٍ فَكَيْفَ أَقْدَمَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ سَقِيمًا فَلَمَّا قَالَ إِنِّي سَقِيمٌ كَانَ ذَلِكَ كَذِبًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا فِي الْجَوَابِ عَنْهُمَا وُجُوهًا كَثِيرَةً الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فِي أَوْقَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَكَانَتْ تَأْتِيهِ سَقَامَةٌ كَالْحُمَّى فِي بَعْضِ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَنَظَرَ لِيَعْرِفَ هَلْ هِيَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ فَجَعَلَهُ عُذْرًا فِي تَخَلُّفِهِ عَنِ الْعِيدِ الَّذِي لَهُمْ وَكَانَ صَادِقًا فِيمَا قَالَ، لِأَنَّ السُّقْمَ كَانَ يَأْتِيهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا تَخَلَّفَ لِأَجْلِ تَكْسِيرِ أَصْنَامِهِمْ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانُوا أَصْحَابَ النُّجُومِ يُعَظِّمُونَهَا وَيَقْضُونَ بِهَا عَلَى غَائِبِ الْأُمُورِ، فَلِذَلِكَ نَظَرَ إِبْرَاهِيمُ فِي النُّجُومِ أَيْ فِي عُلُومِ النُّجُومِ وَفِي مَعَانِيهِ لَا أَنَّهُ نَظَرَ بِعَيْنِهِ إِلَيْهَا، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ نَظَرَ فِي الْفِقْهِ وَفِي النَّحْوِ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُوهِمَهُمْ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا يَعْلَمُونَ وَيَتَعَرَّفُ مِنْ حَيْثُ يَتَعَرَّفُونَ حَتَّى إِذَا قَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ سَكَنُوا إِلَى قَوْلِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنِّي سَقِيمٌ فَمَعْنَاهُ سَأُسْقَمُ كَقَوْلِهِ: إِنَّكَ مَيِّتٌ [الزُّمَرِ: 30] أَيْ سَتَمُوتُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ

قَوْلَهُ: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً [الْأَنْعَامِ: 76] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ وَكَانَ ذَلِكَ النَّظَرُ لِأَجْلِ أَنْ يَتَعَرَّفَ أَحْوَالَ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ هَلْ هِيَ قَدِيمَةٌ أَوْ مُحْدَثَةٌ، وَقَوْلُهُ: إِنِّي سَقِيمٌ يَعْنِي سَقِيمَ الْقَلْبِ غَيْرَ عَارِفٍ بِرَبِّي وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْبُلُوغِ الْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ زيد كان له نجم مخصوص، وكلما طلح عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ مَرِضَ إِبْرَاهِيمُ وَلِأَجْلِ هَذَا الِاسْتِقْرَاءِ لَمَّا رَآهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ طَالِعًا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ الْمَخْصُوصَةِ قَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ أَيْ هَذَا السَّقَمُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنِّي سَقِيمٌ أَيْ مَرِيضُ الْقَلْبِ بِسَبَبِ إِطْبَاقِ ذَلِكَ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ عَلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، قَالَ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ [الشُّعَرَاءِ: 3] الْوَجْهُ السَّادِسُ: فِي الْجَوَابِ أَنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّظَرَ فِي/ عِلْمِ النُّجُومِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِمُقَايَسَتِهَا حَرَامٌ، لِأَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ بِقُوَّةٍ وَبِخَاصِّيَّةٍ لِأَجْلِهَا يَظْهَرُ مِنْهُ أَثَرٌ مَخْصُوصٌ، فَهَذَا الْعِلْمُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بِبَاطِلٍ. وَأَمَّا الْكَذِبُ فَغَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّهُ ذَكَرَ قَوْلَهُ: إِنِّي سَقِيمٌ عَلَى سَبِيلِ التَّعْرِيضِ بِمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْفَكُّ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ عَنْ حُصُولِ حَالَةٍ مَكْرُوهَةٍ، إِمَّا فِي بَدَنِهِ وَإِمَّا فِي قَلْبِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ سَقَمٌ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: قَالَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ الْقَوْلُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كِذْبَةٌ وَرَوَوْا فِيهِ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا كَذَبَ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ» قُلْتُ لِبَعْضِهِمْ هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ لِأَنَّ نِسْبَةَ الْكَذِبِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ لَا تَجُوزُ فَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِكَذِبِ الرُّوَاةِ الْعُدُولِ؟ فَقُلْتُ لَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ نِسْبَةِ الْكَذِبِ إِلَى الرَّاوِي وَبَيْنَ نِسْبَتِهِ إِلَى الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ نِسْبَتَهُ إِلَى الرَّاوِي أَوْلَى، ثُمَّ نَقُولُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ كَذِبًا خَبَرًا شَبِيهًا بِالْكَذِبِ؟ وَالْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ أَيْ نَظَرَ فِي نُجُومِ كَلَامِهِمْ وَمُتَفَرِّقَاتِ أَقْوَالِهِمْ، فَإِنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تَحْدُثُ قِطْعَةً قِطْعَةً يُقَالُ إِنَّهَا مُنَجَّمَةٌ أَيْ مُتَفَرِّقَةٌ وَمِنْهُ نُجُومُ الْكِتَابَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ كَلِمَاتِهِمُ الْمُتَفَرِّقَةَ نَظَرَ فِيهَا كَيْ يَسْتَخْرِجَ مِنْهَا حِيلَةً يَقْدِرُ بِهَا عَلَى إِقَامَةِ عُذْرٍ لِنَفْسِهِ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهُمْ فَلَمْ يَجِدْ عُذْرًا أَحْسَنَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنِّي سَقِيمٌ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ أَصِيرَ سَقِيمًا كَمَا تَقُولُ لِمَنْ رَأَيْتَهُ عَلَى أَوْقَاتِ السَّفَرِ إِنَّكَ مُسَافِرٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ تَوَلَّوْا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَتَرَكُوهُ وَعَذَرُوهُ فِي أَنْ لَا يَخْرُجَ الْيَوْمَ فَكَانَ ذَلِكَ مُرَادَهُ فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ يُقَالُ رَاغَ إِلَيْهِ إِذَا مَالَ إِلَيْهِ فِي السِّرِّ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ، وَمِنْهُ رَوَغَانُ الثَّعْلَبِ. وَقَوْلُهُ: أَلا تَأْكُلُونَ يَعْنِي الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً بِهَا، وَكَذَا قَوْلُهُ: مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ مُسْتَخْفِيًا كَأَنَّهُ قَالَ فَضَرَبَهُمْ ضَرْبًا لِأَنَّ رَاغَ عَلَيْهِمْ فِي مَعْنَى ضَرَبَهُمْ أَوْ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِمَعْنَى ضَارِبًا. وَفِي قَوْلِهِ: بِالْيَمِينِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ بِالْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ لِأَنَّ الْيَمِينَ أَقْوَى الْجَارِحَتَيْنِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَتَى بِذَلِكَ الْفِعْلِ بسبب الحلف، وهو قوله تعالى عنه وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: 57] ثُمَّ قَالَ: فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَرَأَ حَمْزَةُ يَزِفُّونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ مَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ فَهُوَ مِنْ زَفَّ يَزِفُّ، وَمَنْ قَرَأَ بِالضَّمِّ فَهُوَ مِنْ أَزَفَّ يُزِفُّ، قَالَ الزَّجَّاجُ: يَزِفُّونَ يُسْرِعُونَ وَأَصْلُهُ مِنْ زَفِيفِ النَّعَامَةِ وَهُوَ ابْتِدَاءُ عَدْوِهَا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ يُزِفُّونَ أَيْ يَحْمِلُونَ غَيْرَهُمْ عَلَى الزَّفِيفِ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ يُقَالُ أَزْفَفْتُ الْإِبِلَ إِذَا حَمَلْتَهَا عَلَى أَنْ تَزِفَّ، قَالَ وَهُوَ سُرْعَةُ الْخُطْوَةِ وَمُقَارَبَةُ الْمَشْيِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ عَلَى قِرَاءَتِهِ كَأَنَّهُمْ حَمَلُوا دَوَابَّهُمْ عَلَى الْإِسْرَاعِ فِي الْمَشْيِ، فَإِنْ قِيلَ مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَسَرَهَا عَدَوْا إِلَيْهِ وَأَخَذُوهُ، وَقَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى فِي عَيْنِ هَذِهِ الْقِصَّةِ قالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [الْأَنْبِيَاءِ: 59، 60] وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَا عَرَفُوهُ فَبَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ

[سورة الصافات (37) : الآيات 95 إلى 101]

تَنَاقُضٌ؟ قُلْنَا لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ جَمَاعَةً/ عَرَفُوهُ فَعَمَدُوا إِلَيْهِ مُسْرِعِينَ. وَالْأَكْثَرُونَ مَا عَرَفُوهُ فَتَعَرَّفُوا أَنَّ ذَلِكَ الْكَاسِرَ مَنْ هُوَ، والله أعلم. [سورة الصافات (37) : الآيات 95 الى 101] قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا عَاتَبُوا إِبْرَاهِيمَ عَلَى كَسْرِ الْأَصْنَامِ فَهُوَ أَيْضًا ذَكَرَ لَهُمُ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى فَسَادِ الْمَصِيرِ إِلَى عِبَادَتِهَا فَقَالَ: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ ظَاهِرٌ وَهُوَ أَنَّ الْخَشَبَ وَالْحَجَرَ قَبْلَ النَّحْتِ وَالْإِصْلَاحِ مَا كَانَ مَعْبُودًا لِلْإِنْسَانِ الْبَتَّةَ، فَإِذَا نَحَتَهُ وَشَكَّلَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ لَمْ يَحْدُثْ فِيهِ إِلَّا آثَارُ تَصَرُّفِهِ، فَلَوْ صَارَ مَعْبُودًا عِنْدَ ذَلِكَ لَكَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي مَا كَانَ مَعْبُودًا لَمَّا حَصَلَتْ آثَارُ تَصَرُّفَاتِهِ فِيهِ صَارَ مَعْبُودًا عِنْدَ ذَلِكَ، وَفَسَادُ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَالَ النَّحْوِيُّونَ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَفْظَ مَا مَعَ مَا بَعْدَهُ فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ فَقَوْلُهُ: وَما تَعْمَلُونَ مَعْنَاهُ وَعَمَلَكُمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ صَارَ مَعْنَى الْآيَةِ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ عَمَلَكُمْ، فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ أَضَافَ الْعِبَادَةَ وَالنَّحْتَ إِلَيْهِمْ إِضَافَةَ الْفِعْلِ إِلَى الْفَاعِلِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا بِتَخْلِيقِ اللَّهِ لَاسْتَحَالَ كَوْنُهُ فِعْلًا لِلْعَبْدِ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ تَوْبِيخًا لَهُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ خَالِقُهُمْ وَخَالِقٌ لِتِلْكَ الْأَصْنَامِ وَالْخَالِقُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ الْمَخْلُوقِ، فَلَمَّا تَرَكُوا عِبَادَتَهُ سُبْحَانَهُ وَهُوَ خَالِقُهُمْ وَعَبَدُوا الْأَصْنَامَ لَا جَرَمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَبَّخَهُمْ عَلَى هَذَا الْخَطَأِ الْعَظِيمِ فَقَالَ: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا فَاعِلِينَ لِأَفْعَالِهِمْ لَمَا جَازَ تَوْبِيخُهُمْ عَلَيْهَا سَلَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ حُجَّةً عَلَيْكُمْ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا حُجَّةٌ لَكُمْ، قَوْلُهُ لَفْظَةُ مَا مَعَ مَا بَعْدَهَا فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ، قُلْنَا هَذَا مَمْنُوعٌ وَبَيَانُهُ أَنَّ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشَ اخْتَلَفَا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَعْجَبَنِي/ مَا قُمْتَ أَيْ قِيَامُكَ فَجَوَّزَهُ سِيبَوَيْهِ وَمَنَعَهُ الْأَخْفَشُ وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا مَعَ مَا بَعْدَهَا فِي تَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ عِنْدَ الْأَخْفَشِ، سَلَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، لَكِنَّهُ أَيْضًا قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَا تَنْحِتُونَ الْمَنْحُوتُ لَا النَّحْتُ لِأَنَّهُمْ مَا عَبَدُوا النَّحْتَ وَإِنَّمَا عَبَدُوا الْمَنْحُوتَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَا تَعْمَلُونَ الْمَعْمُولَ لَا

الْعَمَلَ حَتَّى يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى وَفْقِ الْآخَرِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [الْأَعْرَافِ: 117] وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهَا تَلْقَفُ نَفْسَ الْإِفْكِ بَلْ أَرَادَ الْعِصِيَّ وَالْحِبَالَ الَّتِي هِيَ مُتَعَلِّقَاتُ ذَلِكَ الإفك فكذا هاهنا الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي مَحَلَّ الْعَمَلِ عَمَلًا يُقَالُ فِي الْبَابِ وَالْخَاتَمُ هَذَا عَمَلُ فُلَانٍ وَالْمُرَادُ مَحَلُّ عَمَلِهِ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ لَفْظَةَ مَا مَعَ بَعْدِهَا كَمَا تَجِيءُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ فَقَدْ تَجِيءُ أَيْضًا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ فكان حمله هاهنا عَلَى الْمَفْعُولِ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَزْيِيفُ مَذْهَبِهِمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ لَا بَيَانُ أَنَّهُمْ لَا يُوجِدُونَ أَفْعَالَ أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ الَّذِي جَرَى ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ مَسْأَلَةُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ لَا خَلْقُ الْأَعْمَالِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السُّؤَالَاتِ قَوِيَّةٌ وفي دلائلنا كثيرة، فَالْأَوْلَى تَرْكُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَوْرَدَ عَلَيْهِمُ هَذِهِ الْحُجَّةَ الْقَوِيَّةَ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْجَوَابِ عَدَلُوا إِلَى طَرِيقِ الْإِيذَاءِ فَقَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا وَاعْلَمْ أَنَّ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الْبِنَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا لَفْظُ الْقُرْآنِ، قَالَ ابْنُ عباس: بنو حَائِطًا مِنْ حَجَرٍ طُولُهُ فِي السَّمَاءِ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ عِشْرُونَ ذِرَاعًا وَمَلَئُوهُ نَارًا فَطَرَحُوهُ فِيهَا، وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ وَهِيَ النَّارُ الْعَظِيمَةُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ نَارٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ فَهِيَ جَحِيمُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْجَحِيمِ يَدُلُّ عَلَى النِّهَايَةِ وَالْمَعْنَى فِي جَحِيمِهِ، أَيْ فِي جَحِيمِ ذَلِكَ الْبُنْيَانِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّ فِي وَقْتِ الْمُحَاجَّةِ حَصَلَتِ الغلبة له، وعند ما أَلْقَوْهُ فِي النَّارِ صَرَفَ اللَّهُ عَنْهُ ضَرَرَ النَّارِ، فَصَارَ هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا انْقَضَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي [الْعَنْكَبُوتِ: 26] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي تَكْثُرُ فِيهِ الْأَعْدَاءُ تَجِبُ مُهَاجِرَتُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَصَّهُ بِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ النُّصْرَةِ، لَمَّا أَحَسَّ مِنْهُمْ بِالْعَدَاوَةِ الشَّدِيدَةِ هَاجَرَ مِنْ تِلْكَ الدِّيَارِ، فَلَأَنْ يَجِبَ ذَلِكَ عَلَى الْغَيْرِ كان أولى. المسألة الثانية: في قوله: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ مُفَارَقَةُ تِلْكَ الدِّيَارِ، وَالْمَعْنَى إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى مَوَاضِعِ دِينِ رَبِّي وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ الْكَلْبِيُّ: ذَاهِبٌ بِعِبَادَتِي إِلَى رَبِّي، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْمُرَادُ بِالذَّهَابِ إِلَى الرَّبِّ هُوَ الْهِجْرَةُ مِنَ الدِّيَارِ، وَبِهِ اقْتَدَى مُوسَى حَيْثُ قَالَ: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشُّعَرَاءِ: 62] وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي الْمُرَادُ رِعَايَةُ أَحْوَالِ الْقُلُوبِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَأْتِيَ/ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَامِ: 79] قِيلَ إِنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ مُهَاجِرَتِهِ إِلَى أَرْضِ الشَّأْمِ، وَأَيْضًا يَبْعُدُ حَمْلُهُ عَلَى الْهِدَايَةِ فِي الدِّينِ، لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى الدِّينِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَيْهِ، أَوْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى الِاهْتِدَاءِ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ وَالْمَرَاتِبِ الرَّفِيعَةِ فِي أَمْرِ الدِّينِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: سَيَهْدِينِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا يَقُولُ أَصْحَابُنَا وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْهِدَايَةِ عَلَى وَضْعِ الْأَدِلَّةِ وَإِزَاحَةِ الْأَعْذَارِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ قَدْ حَصَلَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَقَوْلُهُ: سَيَهْدِينِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ تِلْكَ الْهِدَايَةِ بِالْمُسْتَقْبَلِ، فَوَجَبَ حَمْلُ الْهِدَايَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ قِيلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَزَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ تَعَالَى سَيَهْدِيهِ، وَأَنَّ مُوسَى

[سورة الصافات (37) : الآيات 102 إلى 113]

عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَجْزِمْ بِهِ، بَلْ قَالَ: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ [الْقَصَصِ: 22] فَمَا الْفَرْقُ؟ قُلْنَا الْعَبْدُ إِذَا تَجَلَّى لَهُ مَقَامَاتُ رَحْمَةِ اللَّهِ فَقَدْ يَجْزِمُ بِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَإِذَا تَجَلَّى لَهُ مَقَامَاتُ كَوْنِهِ غَنِيًّا عَنِ الْعَالَمِينَ، فَحِينَئِذٍ يَسْتَحْقِرُ نَفْسَهُ فَلَا يَجْزِمُ، بَلْ لَا يُظْهِرُ إِلَّا الرَّجَاءَ وَالطَّمَعَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ تَمَسُّكِ الْمُشَبِّهَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فَاطِرٍ: 10] لِأَنَّ كَلِمَةَ إِلَى مَوْجُودَةٌ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ موجودا في ذلك المكان، فكذلك هاهنا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ أَرَادَ الْوَلَدَ فَقَالَ: هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ أَيْ هَبْ لِي بَعْضَ الصَّالِحِينَ، يُرِيدُ الْوَلَدَ، لِأَنَّ لَفْظَ الْهِبَةِ غَلَبَ فِي الْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ فِي الْأَخِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [مَرْيَمَ: 53] وَقَالَ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ [الأنبياء: 72] وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى [الْأَنْبِيَاءِ: 90] وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حِينَ هَنَّأَهُ بِوَلَدِهِ: عَلَى أَبِي الْأَمْلَاكِ شَكَرْتَ الْوَاهِبَ، وَبُورِكَ لَكَ فِي الْمَوْهُوبِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَتِ التَّسْمِيَةُ بِهِبَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِهِبَةِ الْوَهَّابِ وَبِمَوْهُوبٍ وَوَهْبٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ اشْتَمَلَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ غُلَامٌ ذَكَرٌ، وَأَنَّهُ يَبْلُغُ الْحُلُمَ، وَأَنَّهُ يَكُونُ حَلِيمًا، وَأَيُّ حِلْمٍ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ وَلَدٍ حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِ أَبُوهُ الذَّبْحَ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصَّافَّاتِ: 102] ثُمَّ اسْتَسْلَمَ لِذَلِكَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَوْصُوفًا بِالْحِلْمِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التَّوْبَةِ: 114] إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هُودٍ: 75] فَبَيِّنَ أَنَّ وَلَدَهُ مَوْصُوفٌ بِالْحِلْمِ، وَأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِي صِفَاتِ الشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاحَ أَفْضَلُ الصِّفَاتِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ الصَّلَاحَ لِنَفْسِهِ، فَقَالَ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشُّعَرَاءِ: 83] وَطَلَبَهُ لِلْوَلَدِ فَقَالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ وَطَلَبَهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ كَمَالِ دَرَجَتِهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَقَالَ: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النَّمْلِ: 19] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاحَ أشرف مقامات العباد. [سورة الصافات (37) : الآيات 102 الى 113] فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرى قالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)

اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا قَالَ: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات: 101] أَتْبَعُهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ مَا بُشِّرَ بِهِ وَبُلُوغِهِ، فَقَالَ: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ وَمَعْنَاهُ فَلَمَّا أَدْرَكَ وَبَلَغَ الْحَدَّ الَّذِي يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى السَّعْيِ، وَقَوْلُهُ: مَعَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالتَّقْدِيرُ كَائِنًا مَعَهُ، وَالْفَائِدَةُ فِي اعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ الْأَبَ أَرْفَقُ النَّاسِ بِالْوَلَدِ، وَغَيْرُهُ رُبَّمَا عَنَّفَ بِهِ فِي الِاسْتِسْعَاءِ فَلَا يَحْتَمِلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ تَسْتَحْكِمْ قُوَّتُهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ابْنَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِكَوْنِ ذَلِكِ الْغُلَامِ حَلِيمًا، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ حِلْمِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ بِهِ مِنْ كَمَالِ الْحِلْمِ وَفُسْحَةِ الصَّدْرِ مَا قَوَّاهُ عَلَى احْتِمَالِ تِلْكَ الْبَلِيَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَالْإِتْيَانِ بِذَلِكَ الْجَوَابِ الْحَسَنِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ حِينَ بُشِّرَ بِإِسْحَاقَ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ لَهُ قَالَ: هُوَ إِذَنْ لِلَّهِ ذَبِيحٌ فَقِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ قَدْ نَذَرْتَ نذرا فف بنذرك فلما أصبح قالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ. وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ أَنَّهُ رَأَى لَيْلَةَ التَّرْوِيَةِ فِي مَنَامِهِ، كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ بِذَبْحِ ابْنِكَ هَذَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ تَرَوَّى فِي ذَلِكَ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى الرَّوَاحِ، أَمِنَ اللَّهِ هَذَا الْحُلْمُ أَمْ مِنَ الشَّيْطَانِ؟ فَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَلَمَّا أَمْسَى رَأَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَعَرَفَ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ فَسُمِّيَ يَوْمَ عَرَفَةَ، ثُمَّ رَأَى مِثْلَهُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَهَمَّ بِنَحْرِهِ فَسُمِّيَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ مَا يُوجِبُ أَنْ يَذْبَحَ ابْنَهُ فِي الْيَقَظَةِ، وَعَلَى هَذَا فَتَقْدِيرُ اللَّفْظِ: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ مَا يُوجِبُ أَنْ أَذْبَحَكَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ يَذْبَحُهُ وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنْ بَابِ الْوَحْيِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمَرْئِيُّ فِي الْمَنَامِ لَيْسَ إِلَّا أَنَّهُ يَذْبَحُ، فَإِنْ قِيلَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَنَّ كُلَّ مَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ فَهُوَ حَقٌّ حُجَّةٌ أَوْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ عِنْدَهُمْ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلِمَ رَاجَعَ الْوَلَدَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، بَلْ كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِتَحْصِيلِ ذَلِكَ الْمَأْمُورِ، وَأَنْ لَا يُرَاجِعَ الْوَلَدَ فِيهِ، وَأَنْ لَا يَقُولَ لَهُ: فَانْظُرْ مَاذَا تَرى وَأَنْ لَا يُوقِفَ الْعَمَلَ عَلَى أَنْ يَقُولَ لَهُ الْوَلَدُ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ؟، وَأَيْضًا فَقَدْ قُلْتُمْ إِنَّهُ بَقِيَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مُتَفَكِّرًا، وَلَوْ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِالدَّلِيلِ أَنَّ كُلَّ مَا رَآهُ فِي النَّوْمِ فَهُوَ حَقٌّ لَمْ يَكُنْ إِلَى هَذَا التَّرَوِّي وَالتَّفَكُّرِ حَاجَةٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِالدَّلِيلِ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَا يَرَوْنَهُ فِي الْمَنَامِ حَقٌّ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى ذَبْحِ ذَلِكَ الطِّفْلِ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَا لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهَا حُجَّةً؟ وَالْجَوَابُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ عِنْدَ الرُّؤْيَا مُتَرَدِّدًا فِيهِ ثُمَّ تَأَكَّدَتِ الرُّؤْيَا بِالْوَحْيِ الصَّرِيحِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الذَّبِيحَ مَنْ هُوَ؟ فَقِيلَ إِنَّهُ إِسْحَاقُ وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ وَقَتَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمَسْرُوقٍ وَعِكْرِمَةَ وَالزُّهْرِيِّ والسدي ومقاتل

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقِيلَ إِنَّهُ إِسْمَاعِيلُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَالْكَلْبِيِّ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ» وَقَالَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ: «يَا ابْنَ الذَّبِيحَيْنِ فَتَبَسَّمَ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ لَمَّا حَفَرَ بِئْرَ زَمْزَمَ نَذَرَ لِلَّهِ لَئِنْ سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهَا لَيَذْبَحَنَّ أَحَدَ وَلَدِهِ، فَخَرَجَ السَّهْمُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَمَنَعَهُ أَخْوَالُهُ وَقَالُوا لَهُ افْدِ ابْنَكَ بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ، فَفَدَاهُ بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَالذَّبِيحُ الثَّانِي إِسْمَاعِيلُ» . الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: نُقِلَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ عَنِ الذَّبِيحِ، فَقَالَ: يَا أَصْمَعِيُّ أَيْنَ عَقْلُكَ، وَمَتَى كَانَ إِسْحَاقُ بِمَكَّةَ وَإِنَّمَا كَانَ إِسْمَاعِيلُ بِمَكَّةَ وَهُوَ الَّذِي بَنَى الْبَيْتَ مَعَ أَبِيهِ وَالْمَنْحَرَ بِمَكَّةَ؟ الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ إِسْمَاعِيلَ بِالصَّبْرِ دُونَ إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ: وَإِسْماعِيلَ/ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 85] وَهُوَ صَبْرُهُ عَلَى الذَّبْحِ، وَوَصَفَهُ أَيْضًا بِصِدْقِ الْوَعْدِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مَرْيَمَ: 54] لِأَنَّهُ وَعَدَ أَبَاهُ مِنْ نَفْسِهِ الصَّبْرَ عَلَى الذَّبْحِ فَوَفَّى بِهِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هُودٍ: 71] فَنَقُولُ لَوْ كَانَ الذَّبِيحُ إِسْحَاقَ لَكَانَ الْأَمْرُ بِذَبْحِهِ إِمَّا أَنْ يَقَعَ قَبْلَ ظُهُورِ يَعْقُوبَ، مِنْهُ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ فَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَشَّرَهَا بِإِسْحَاقَ، وَبَشَّرَهَا مَعَهُ بِأَنَّهُ يَحْصُلُ مِنْهُ يَعْقُوبُ فَقَبْلَ ظُهُورِ يَعْقُوبَ مِنْهُ لَمْ يَجُزِ الْأَمْرُ بِذَبْحِهِ، وَإِلَّا حَصَلَ الخلف في قوله: وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ وَالثَّانِي: بَاطِلٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِابْنَ لَمَّا قَدَرَ عَلَى السَّعْيِ وَوَصَلَ إِلَى حَدِّ الْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِهِ، وَذَلِكَ يُنَافِي وُقُوعَ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي زَمَانٍ آخَرَ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الذَّبِيحُ هُوَ إِسْحَاقَ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: 99] ثُمَّ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَدًا يَسْتَأْنِسُ بِهِ فِي غُرْبَتِهِ فَقَالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 100] وَهَذَا السُّؤَالُ إِنَّمَا يَحْسُنُ قَبْلَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الْوَلَدُ، لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ لَهُ وَلَدٌ وَاحِدٌ لَمَا طَلَبَ الْوَلَدَ الْوَاحِدَ، لَأَنَّ طَلَبَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ وَقَوْلُهُ: هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ لَا يُفِيدُ إِلَّا طَلَبَ الْوَلَدِ الْوَاحِدِ، وَكَلِمَةُ مَنْ لِلتَّبْعِيضِ وَأَقَلُّ دَرَجَاتِ الْبَعْضِيَّةِ الْوَاحِدُ فَكَأَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ الصَّالِحِينَ لَا يُفِيدُ إِلَّا طَلَبَ الْوَلَدِ الْوَاحِدِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ لَا يَحْسُنُ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ كُلِّ الْأَوْلَادِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ وَقَعَ حَالَ طَلَبِ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ، وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ إِسْمَاعِيلَ مُتَقَدِّمٌ فِي الْوُجُودِ عَلَى إِسْحَاقَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بهذا الدعاء وهو إِسْمَاعِيلُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ عَقِيبَهُ قِصَّةَ الذَّبِيحِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الذَّبِيحُ هُوَ إِسْمَاعِيلُ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: الْأَخْبَارُ الْكَثِيرَةُ فِي تَعْلِيقِ قَرْنِ الْكَبْشِ بِالْكَعْبَةِ، فَكَانَ الذَّبِيحُ بِمَكَّةَ. وَلَوْ كان الذبيح إسحاق لكان الذَّبْحُ بِالشَّامِ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ إِنَّ ذَلِكَ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْحَاقُ بِوَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ وَآخِرَهَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، أَمَّا أَوَّلُهَا فَإِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مُهَاجَرَتُهُ إِلَى الشَّامِ ثُمَّ قَالَ: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات: 101] فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْغُلَامُ لَيْسَ إِلَّا إِسْحَاقَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ هُوَ ذَلِكَ الْغُلَامُ الَّذِي حَصَلَ فِي الشَّامِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُقَدِّمَةَ هَذِهِ

الْآيَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْحَاقُ، وَأَمَّا آخِرُ الْآيَةِ فَهُوَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَمَّمَ قِصَّةَ الذَّبِيحِ قَالَ بَعْدَهُ: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ بَشَّرَهُ بِكَوْنِهِ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَذَكَرَ هَذِهِ الْبِشَارَةَ عَقِيبَ حِكَايَةِ تِلْكَ الْقِصَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا بَشَّرَهُ بِهَذِهِ النُّبُوَّةِ لِأَجْلِ أَنَّهُ تَحَمَّلَ هَذِهِ الشَّدَائِدَ فِي قِصَّةِ الذَّبِيحِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ وَآخِرَهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إسحاق عليه السلام. الحجة السابعة: عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ مَا اشْتَهَرَ مِنْ كِتَابِ يَعْقُوبَ إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ يَعْقُوبَ إِسْرَائِيلَ نَبِيِّ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ ذَبِيحِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَكَانَ الزَّجَّاجُ يَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّهُمَا الذَّبِيحُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا اخْتِلَافُهُمْ فِي مَوْضِعِ الذَّبْحِ فَالَّذِينَ قَالُوا الذَّبِيحُ هُوَ إِسْمَاعِيلُ قَالُوا كَانَ الذَّبْحُ بِمِنًى، وَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ إِسْحَاقُ قَالُوا هُوَ بِالشَّامِ وَقِيلَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَأْمُورًا بِهَذَا بِمَا رَأَى، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مُفَرَّعٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهِيَ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ نَسْخُ الْحُكْمِ قَبْلَ حُضُورِ مُدَّةِ الِامْتِثَالِ فَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ يَجُوزُ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَكَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَهُ بِالذَّبْحِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَسَخَ هَذَا التَّكْلِيفَ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَمَرَهُ بِالذَّبْحِ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِمُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ شَرِيفَةٌ مِنْ مَسَائِلِ بَابِ النَّسْخِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ الْأَمْرِ قَبْلَ مَجِيءِ مُدَّةِ الِامْتِثَالِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَسَخَهُ عَنْهُ قَبْلَ إِقْدَامِهِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِوَلَدِهِ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَقَالَ الْوَلَدُ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَأْمُورًا بِمُقِدِّمَاتِ الذَّبْحِ لَا بِنَفْسِ الذَّبْحِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى بِمُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ وَأَدْخَلَهَا فِي الْوُجُودِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَدْ أُمِرَ بِشَيْءٍ وَقَدْ أَتَى بِهِ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْفِدَاءِ، لَكِنَّهُ احْتَاجَ إِلَى الْفِدَاءِ بِدَلِيلِ قوله تعالى: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَتَى بِكُلِّ مُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَدْ أَمَرَهُ بِنَفْسِ الذَّبْحِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى نَسَخَ ذَلِكَ الْحُكْمَ قَبْلَ إِثْبَاتِهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ بَلْ نَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِمُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَا أَتَى بِالذَّبْحِ وَإِنَّمَا أَتَى بِمُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ به بدليل قوله تعالى: وَنادَيْناهُ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَهُ فِي الْمَنَامِ بِمُقُدِّمَاتِ الذَّبْحِ لَا بِنَفْسِ الذَّبْحِ وَتِلْكَ الْمُقَدِّمَاتُ عِبَارَةٌ عَنْ إِضْجَاعِهِ وَوَضْعِ السِّكِّينِ عَلَى حَلْقِهِ، وَالْعَزْمِ الصَّحِيحِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ إِنْ وَرَدَ الْأَمْرُ الثَّانِي: الذَّبْحُ عِبَارَةٌ عَنْ قَطْعِ الْحُلْقُومِ فَلَعَلَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَطَعَ الْحُلْقُومَ إِلَّا أَنَّهُ كُلَّمَا قَطَعَ جُزْءًا أَعَادَ اللَّهُ التَّأْلِيفَ إِلَيْهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمْ يَحْصُلِ الْمَوْتُ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ تَعْوِيلُ الْقَوْمِ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَمَرَ شَخْصًا مُعَيَّنًا بِإِيقَاعِ فِعْلٍ مُعَيَّنٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيقَاعَ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَسَنٌ، فَإِذَا أَنْهَاهُ عَنْهُ فَذَلِكَ النَّهْيُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيقَاعَ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَبِيحٌ، فَلَوْ حَصَلَ هَذَا النَّهْيُ عَقِيبَ ذَلِكَ الْأَمْرِ لَزِمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنْ كَانَ عَالِمًا بِحَالِ ذَلِكَ الْفِعْلِ لَزِمَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ أَمْرٌ بِالْقَبِيحِ أَوْ نَهْيٌ عَنِ الْحَسَنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ لَزِمَ جَهْلُ اللَّهِ تَعَالَى الْحَسَنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ لَزِمَ

جَهْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّهُ مُحَالٌ، فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَهُ بِالذَّبْحِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِكَوْنِ تلك الرؤيا واجب الْعَمَلُ بِهَا وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَتَى بِكُلِّ مَا رَآهُ فِي ذَلِكَ الْمَنَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ ثَانِيًا كُلَّمَا قَطَعَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جُزْءًا أَعَادَ اللَّهُ تَعَالَى التَّأْلِيفَ إِلَيْهِ، فَنَقُولُ هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوْ أَتَى بِكُلِّ مَا أُمِرَ بِهِ لَمَا احْتَاجَ إِلَى الْفِدَاءِ وَحَيْثُ احْتَاجَ إِلَيْهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ ثَالِثًا إِنَّهُ يَلْزَمُ، إِمَّا الْأَمْرُ بِالْقَبِيحِ وَإِمَّا الْجَهْلُ، فَنَقُولُ هَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا يَكُونُ حَسَنًا فِي ذَاتِهِ وَلَا يَنْهَى إِلَّا عَمَّا يَكُونُ قَبِيحًا فِي ذَاتِهِ، وَذَلِكَ بِنَاءٌ عَلَى تَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّا نُسَلِّمُ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ تَارَةً يَحْسُنُ لِكَوْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ حَسَنًا وَتَارَةً لِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ يُفِيدُ صِحَّةَ مَصْلَحَةٍ مِنَ الْمَصَالِحِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَأْمُورُ بِهِ حَسَنًا أَلَا تَرَى أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُرَوِّضَ عَبْدَهُ، فَإِنَّهُ يَقُولُ لَهُ إِذَا جَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَافْعَلِ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنَ الْأَفْعَالِ الشَّاقَّةِ، وَيَكُونُ مَقْصُودُ السَّيِّدِ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ لَيْسَ أَنْ يَأْتِيَ ذَلِكَ الْعَبْدُ بِذَلِكَ الْفِعْلِ، بَلْ أَنْ يُوَطِّنَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ عَلَى الِانْقِيَادِ وَالطَّاعَةِ، ثُمَّ إِنَّ السَّيِّدَ إِذَا عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى الطَّاعَةِ فَقَدْ يُزِيلُ الْأَلَمَ عَنْهُ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ، فكذا هاهنا، فَمَا لَمْ تُقِيمُوا الدَّلَالَةَ عَلَى فَسَادِ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَمْ يَتِمَّ كَلَامُكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُ وُقُوعَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَمَرَ بِالذَّبْحِ وَمَا أَرَادَ وُقُوعَهُ، أَمَّا أَنَّهُ أَمَرَ بِالذَّبْحِ فَلَمَّا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. وَأَمَّا أَنَّهُ مَا أَرَادَ وُقُوعَهُ فَلِأَنَّ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ وُقُوعَهُ فَإِنَّهُ يَقَعُ، وَحَيْثُ لَمْ يَقَعْ هَذَا الذَّبْحُ عَلِمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَرَادَ وُقُوعَهُ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى عَنْ ذَلِكَ الذَّبْحِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّاهِيَ لَا يُرِيدُ وُقُوعَهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالذَّبْحِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَرَادَهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ يُوجَدُ بِدُونِ الْإِرَادَةِ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالذَّبْحِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي بَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي وُرُودِ هَذَا التَّكْلِيفِ فِي النَّوْمِ لَا فِي الْيَقَظَةِ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ كَانَ فِي نِهَايَةِ الْمَشَقَّةِ عَلَى الذَّابِحِ وَالْمَذْبُوحِ، فَوَرَدَ أَوَّلًا فِي النَّوْمِ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ كَالْمُنَبِّهِ لِوُرُودِ هَذَا التَّكْلِيفِ الشَّاقِّ، ثُمَّ يَتَأَكَّدُ حَالُ النَّوْمِ بِأَحْوَالِ الْيَقَظَةِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَهْجُمُ هَذَا التَّكْلِيفُ دُفْعَةً وَاحِدَةً بَلْ شَيْئًا فَشَيْئًا الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ حَقًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ [الْفَتْحِ: 27] وَقَالَ عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يُوسُفَ: 4] وَقَالَ فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصَّافَّاتِ: 102] وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ تَقْوِيَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِمْ صَادِقِينَ، لِأَنَّ الْحَالَ إِمَّا حَالُ يَقَظَةٍ وَإِمَّا حَالُ مَنَامٍ، فَإِذَا تَظَاهَرَتِ الْحَالَتَانِ عَلَى الصِّدْقِ، كَانَ ذَلِكَ هُوَ النِّهَايَةَ فِي بَيَانِ كَوْنِهِمْ مُحِقِّينَ صَادِقِينَ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ نَقُولُ مَقَامَاتُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مِنْهَا مَا يَقَعُ عَلَى وَفْقِ الرُّؤْيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ رَسُولِنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ثُمَّ وَقَعَ ذَلِكَ الشَّيْءُ بِعَيْنِهِ، وَمِنْهَا مَا يَقَعُ عَلَى الضِّدِّ كَمَا فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ رَأَى الذَّبْحَ وَكَانَ الْحَاصِلُ هُوَ الْفِدَاءَ وَالنَّجَاةَ، وَمِنْهَا مَا يَقَعُ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ

وَالْمُنَاسَبَةِ كَمَا فِي رُؤْيَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَطْبَقَ أَهْلُ التَّعْبِيرِ عَلَى أَنَّ الْمَنَامَاتِ وَاقِعَةٌ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: تُرِي بِضَمِّ التَّاءِ وكسر الراء، أن مَا تُرِي مِنْ نَفْسِكَ مِنَ الصَّبْرِ وَالتَّسْلِيمِ؟ وَقِيلَ مَا تُشِيرُ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَمِيلُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَمِيلُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الْحِكْمَةُ فِي مُشَاوَرَةِ الِابْنِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يُطْلِعَ ابْنَهُ عَلَى هَذِهِ الْوَاقِعَةِ لِيَظْهَرَ لَهُ صَبْرُهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَتَكُونَ فِيهِ قُرَّةُ عَيْنٍ لِإِبْرَاهِيمَ حَيْثُ يَرَاهُ قَدْ بَلَغَ فِي الْحِلْمِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ الْعَظِيمِ، وَفِي الصَّبْرِ عَلَى أَشَدِّ الْمَكَارِهِ إِلَى هذه الدرجة العالمية وَيَحْصُلَ لِلِابْنِ الثَّوَابُ الْعَظِيمُ فِي الْآخِرَةِ وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عن وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ وَمَعْنَاهُ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ بِهِ، فَحُذِفَ الْجَارُّ كَمَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِهِ: أَمَرْتُكَ الخبر فافعل ما أمرت [به] ثم قال تعالى: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ وَإِنَّمَا عَلَّقَ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ وَالتَّيَمُّنِ، وَأَنَّهُ لَا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا أَسْلَما يُقَالُ سَلَّمَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَأَسْلَمَ وَاسْتَسْلَمَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِنَّ جميعا إذ انْقَادَ لَهُ وَخَضَعَ، وَأَصْلُهَا مِنْ قَوْلِكَ سَلِمَ هَذَا لِفُلَانٍ إِذَا خَلَصَ لَهُ، وَمَعْنَاهُ سَلِمَ مِنْ أَنْ يُنَازَعَ فِيهِ، وَقَوْلُهُمْ سَلَّمَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَأَسْلَمَ لَهُ مَنْقُولَانِ عَنْهُ بِالْهَمْزَةِ، وَحَقِيقَةُ مَعْنَاهَا أَخْلَصَ نَفْسَهُ لِلَّهِ وَجَعَلَهَا سَالِمَةً لَهُ خَالِصَةً، وَكَذَلِكَ مَعْنَى اسْتَسْلَمَ اسْتَخْلَصَ نَفْسَهُ لِلَّهِ وَعَنْ قَتَادَةَ فِي أَسْلَمَا أَسْلَمَ هَذَا ابْنَهُ وَهَذَا نَفْسَهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أَيْ صَرَعَهُ عَلَى شِقِّهِ فَوَقَعَ أَحَدُ جَبِينَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ وَلِلْوَجْهِ جَبِينَانِ، وَالْجَبْهَةُ بَيْنَهُمَا، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ التَّلِيلُ وَالْمَتْلُولُ الْمَصْرُوعُ وَالْمِتَلُّ الَّذِي يُتَلُّ بِهِ أَيْ يُصْرَعُ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ صَرَعَهُ عَلَى جَبِينِهِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ كَبَّهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْجَبِينَ غَيْرُ الْجَبْهَةِ. ثُمَّ قال تعالى: وَنادَيْناهُ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا وَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا جَوَابُ فَلَمَّا عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَالْفَرَّاءِ وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَالْجَوَابُ مُقَدَّرٌ وَالتَّقْدِيرُ: فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ وَنَادَاهُ اللَّهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا، سَعِدَ سَعَادَةً عَظِيمَةً وَآتَاهُ اللَّهُ نُبُوَّةَ وَلَدِهِ وَأَجْزَلَ لَهُ الثَّوَابَ، قَالُوا وَحَذْفُ الْجَوَابِ لَيْسَ بِغَرِيبٍ فِي الْقُرْآنِ وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَحْذُوفًا كَانَ أَعْظَمَ وَأَفْخَمَ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ لَمَّا أضجعه للذبح نودي من الجبل: يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: السَّبَبُ فِي هَذَا التَّكْلِيفِ كَمَالُ طَاعَةِ إِبْرَاهِيمَ لِتَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمَّا كَلَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا التَّكْلِيفِ الشَّاقِّ الشَّدِيدِ وَظَهَرَ مِنْهُ كَمَالُ الطَّاعَةِ وَظَهَرَ مِنْ وَلَدِهِ كَمَالُ الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ، لَا جَرَمَ قَالَ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا، يَعْنِي حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ تِلْكَ الرُّؤْيَا. وَقَوْلُهُ: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ابْتِدَاءُ إِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ يَتَّصِلُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَوَلَدَهُ كَانَا مُحْسِنَيْنِ فِي هَذِهِ الطَّاعَةِ، فَكَمَا جَزَيْنَا هَذَيْنِ الْمُحْسِنَيْنِ فَكَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ الْمُحْسِنِينَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ أَيِ الِاخْتِبَارُ الْبَيِّنُ الَّذِي يَتَمَيَّزُ فِيهِ الْمُخْلِصُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ أَوِ الْمِحْنَةُ الْبَيِّنَةُ الصُّعُوبَةِ الَّتِي لَا مِحْنَةَ أَصْعَبُ مِنْهَا وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ الذَّبْحُ مَصْدَرُ ذَبَحْتُ وَالذِّبْحُ أَيْضًا مَا يُذْبَحُ وَهُوَ الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وهاهنا مَبَاحِثُ تَتَعَلَّقُ بِالْحِكَايَاتِ فَالْأَوَّلُ: حُكِيَ فِي قِصَّةِ الذَّبِيحِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ

[سورة الصافات (37) : الآيات 114 إلى 122]

السَّلَامُ لَمَّا أَرَادَ ذَبْحَهُ قَالَ: يَا بُنَيَّ خُذِ الْحَبْلَ وَالْمُدْيَةَ وَانْطَلِقْ بِنَا إِلَى الشِّعْبِ نَحْتَطِبُ، فَلَمَّا تَوَسَّطَا شِعْبَ ثَبِيرٍ أَخْبَرَهُ بِمَا أُمِرَ بِهِ، فَقَالَ: يَا أَبَتِ اشْدُدْ رِبَاطِي فِيَّ كَيْلَا أَضْطَرِبَ، وَاكْفُفْ عَنِّي ثِيَابَكَ لَا يَنْتَضِحَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ دَمِي فَتَرَاهُ أُمِّي فَتَحْزَنَ، وَاسْتَحِدَّ شَفْرَتَكَ وَأَسْرِعْ إِمْرَارَهَا عَلَى حَلْقِي لِيَكُونَ أَهْوَنَ فَإِنَّ الْمَوْتَ شَدِيدٌ، وَاقْرَأْ عَلَى أُمِّي سَلَامِي وَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَرُدَّ قَمِيصِي عَلَى أُمِّي فَافْعَلْ فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ أَسْهَلَ لَهَا، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: نِعْمَ الْعَوْنُ أَنْتَ يَا بُنَيَّ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ يُقَبِّلُهُ وَقَدْ رَبَطَهُ وَهُمَا يَبْكِيَانِ ثُمَّ وَضَعَ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ فَقَالَ: كُبَّنِي عَلَى وَجْهِي فَإِنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ وَجْهِيَ رَحِمْتَنِي وَأَدْرَكَتْكَ رِقَّةٌ وَقَدْ تَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَفَعَلَ ثُمَّ وَضَعَ السِّكِّينَ عَلَى قَفَاهُ فَانْقَلَبَتِ السِّكِّينُ وَنُودِيَ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا. الْبَحْثُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْكَبْشِ فَقِيلَ إِنَّهُ الْكَبْشُ الَّذِي تَقَرَّبَ بِهِ هَابِيلُ بْنُ آدَمَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَبِلَهُ، وَكَانَ فِي الْجَنَّةِ يَرْعَى حَتَّى فدعى اللَّهُ تَعَالَى بِهِ إِسْمَاعِيلَ، وَقَالَ آخَرُونَ أَرْسَلَ اللَّهُ كَبْشًا مِنَ الْجَنَّةِ قَدْ رَعَى أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: نُودِيَ إِبْرَاهِيمُ فَالْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِكَبْشٍ أَمْلَحَ انْحَطَّ مِنَ الْجَبَلِ، فَقَامَ عَنْهُ إِبْرَاهِيمُ فَأَخَذَهُ فَذَبَحَهُ، وَخَلَّى عَنِ ابْنِهِ، ثُمَّ اعْتَنَقَ ابْنَهُ وَقَالَ: يَا بُنَيَّ الْيَوْمَ وُهِبْتَ لِي، وَأَمَّا قَوْلُهُ: عَظِيمٍ فَقِيلَ سُمِّيَ عَظِيمًا لِعِظَمِهِ وَسِمَنِهِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ حَقَّ لَهُ أَنْ يَكُونَ عَظِيمًا وَقَدْ رَعَى فِي الْجَنَّةِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، وَقِيلَ سُمِّيَ عَظِيمًا لِعِظَمِ قَدْرِهِ حَيْثُ قَبِلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِدَاءً عَنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ فَقَوْلُهُ: نَبِيًّا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ أَيْ بَشَّرْنَاهُ بِوُجُودِ إِسْحَاقَ مُقَدَّرَةٌ نُبُوَّتُهُ، وَلِمَنْ يَقُولُ إِنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: نَبِيًّا حَالٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ حَالَ كَوْنِ إِسْحَاقَ نَبِيًّا لِأَنَّ الْبِشَارَةَ بِهِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى صَيْرُورَتِهِ نَبِيًّا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ حَالَ مَا قَدَّرْنَاهُ نَبِيًّا، وَحَالَ مَا حَكَمْنَا عَلَيْهِ فَصَبَرَ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ كَانَتْ هَذِهِ الْبِشَارَةُ بِشَارَةً بِوُجُودِ إِسْحَاقَ حَاصِلَةً بَعْدَ قِصَّةِ الذَّبِيحِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الذَّبِيحُ غَيْرَ إِسْحَاقَ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً فِي التِّلَاوَةِ عَنْ قِصَّةِ الذَّبِيحِ إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَيْهَا فِي الْوُقُوعِ وَالْوُجُودِ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ الْأَصْلُ رِعَايَةُ التَّرْتِيبِ وَعَدَمُ التَّغْيِيرِ فِي النَّظْمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْبَرَكَةِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ جَمِيعَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ صُلْبِ إِسْحَاقَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَبْقَى الثَّنَاءَ الْحَسَنَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ الْبَرَكَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَثْرَةِ فَضَائِلِ الْأَبِ فَضِيلَةُ الِابْنِ، لِئَلَّا تَصِيرَ هَذِهِ الشُّبْهَةُ سَبَبًا لِمُفَاخَرَةِ الْيَهُودِ، وَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: مُحْسِنٌ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَتَحْتَ قَوْلِهِ: ظالِمٌ الْكَافِرُ والفاسق والله أعلم. [سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 122] وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) قصة موسى وهارون عليهما السلام

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ وُجُوهَ الْإِنْعَامِ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً إِلَّا أَنَّهَا مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ إِيصَالُ الْمَنَافِعِ إِلَيْهِ وَدَفْعُ المضار عنه والله تعالى ذكر القسمين هاهنا، فَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ إِشَارَةٌ إِلَى إِيصَالِ الْمَنَافِعِ إِلَيْهِمَا، وَقَوْلُهُ: وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ إِشَارَةٌ إِلَى دَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُمَا. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ إِيصَالُ الْمَنَافِعِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَنَافِعَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَنَافِعُ الدُّنْيَا وَمَنَافِعُ الدِّينِ، أَمَّا مَنَافِعُ الدُّنْيَا فَالْوُجُودُ وَالْحَيَاةُ وَالْعَقْلُ وَالتَّرْبِيَةُ وَالصِّحَّةُ وَتَحْصِيلُ صِفَاتِ الْكَمَالِ فِي ذَاتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَمَّا مَنَافِعُ الدِّينِ فَالْعِلْمُ وَالطَّاعَةُ، وَأَعْلَى هَذِهِ الدَّرَجَاتِ النُّبُوَّةُ الرَّفِيعَةُ الْمَقْرُونَةُ بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ الْقَاهِرَةِ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ التَّفَاصِيلَ فِي سَائِرِ السُّوَرِ، لا جرم اكتفى هاهنا بِهَذَا الرَّمْزِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ دَفْعُ الضَّرَرِ فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: قِيلَ إِنَّهُ الْغَرَقُ، أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، وَنَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى نَجَّاهُمْ من إيذاء فرعون حيث كان يذبح أبنائهم وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ منَّ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ، فَصَّلَ أَقْسَامَ تِلْكَ الْمِنَّةِ. وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: وَنَصَرْناهُمْ أَيْ نَصَرْنَا مُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمَهُمَا: فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ بِظُهُورِ الْحُجَّةِ وَفِي آخِرِ الْأَمْرِ بِالدَّوْلَةِ وَالرِّفْعَةِ وَثَانِيهِمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّوْرَاةُ، وَهُوَ الْكِتَابُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ الْعُلُومِ الَّتِي يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، كَمَا قَالَ: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَةِ: 44] ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أَيْ دَلَلْنَاهُمَا عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ عَقَلًا وَسَمْعًا، وَأَمْدَدْنَاهُمَا بِالتَّوْفِيقِ والعصمة، وَتَشْبِيهُ الدَّلَائِلِ الْحَقَّةِ بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ وَاضِحٌ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ وَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ وَهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُمْ: سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ وَهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ وَالذِّكْرُ الْجَمِيلُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْأَقْسَامَ الْأَرْبَعَةَ مِنْ أَبْوَابِ التَّعْظِيمِ وَالتَّفْضِيلِ قَالَ: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ، عَلَى أَنَّ الْفَضِيلَةَ الْحَاصِلَةَ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ أَشْرَفُ وَأَعْلَى وَأَكْمَلُ مِنْ كُلِّ الْفَضَائِلِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا حَسُنَ خَتْمُ فَضَائِلِ مُوسَى وهارون بكونهما من المؤمنين، والله أعلم.

[سورة الصافات (37) : الآيات 123 إلى 132]

[سورة الصافات (37) : الآيات 123 الى 132] وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) قصة إلياس عليه السلام اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ الرَّابِعَةَ مِنَ الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: وَإِنَّ إِلْياسَ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ عَلَى وَصْلِ الْأَلِفِ وَالْبَاقُونَ بِالْهَمْزَةِ وَقَطْعِ الْأَلِفِ، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ مِهْرَانَ: مَنْ ذَكَرَ عِنْدَ الْوَصْلِ الْأَلِفَ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ يُنْكِرُونَهُ وَلَا يَعْرِفُونَهُ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَلَهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَذَفَ الْهَمْزَةَ مِنْ إِلْيَاسَ حَذْفًا، كَمَا حَذَفَهَا ابْنُ كَثِيرٍ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ [الْمُدَّثِّرِ: 35] وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَيْلُمِّهَا فِي هَوَاءِ الْجَوِّ طَالِبَةً وَالْآخَرُ أَنَّهُ جَعَلَ الْهَمْزَةَ الَّتِي تَصْحَبُ اللَّامَ لِلتَّعْرِيفِ كَقَوْلِهِ: وَالْيَسَعَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي إِلْيَاسَ قَوْلَانِ: يُرْوَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ وَإِنَّ إِدْرِيسَ، وَقَالَ إِنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ، وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَأَمَّا أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ فَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ إِلْيَاسُ بْنُ يَاسِينَ مِنْ وَلَدِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ وَالتَّقْدِيرُ اذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ: إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أَيْ أَلَا تَخَافُونَ اللَّهَ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ أَلَا تَخَافُونَ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا خَوَّفَهُمْ أَوَّلًا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ ذَكَرَ مَا هُوَ السَّبَبُ لِذَلِكَ الْخَوْفِ فَقَالَ: أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ وَفِيهِ أَبْحَاثُ:

الْأَوَّلُ: فِي (بَعْلٍ) قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ لِصَنَمٍ كَانَ لَهُمْ كَمَنَاةَ وَهُبَلَ، وَقِيلَ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ، وَكَانَ طُولُهُ عِشْرِينَ ذِرَاعًا وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، وَفُتِنُوا بِهِ وَعَظَّمُوهُ، حَتَّى عَيَّنُوا لَهُ أَرْبَعَمِائَةِ سَادِنٍ وَجَعَلُوهُمْ أَنْبِيَاءَ، وَكَانَ الشَّيْطَانُ يَدْخُلُ فِي جَوْفِ بَعْلٍ وَيَتَكَلَّمُ بِشَرِيعَةِ الضَّلَالَةِ، وَالسَّدَنَةُ يَحْفَظُونَهَا وَيُعَلِّمُونَهَا النَّاسَ وَهُمْ أَهْلُ بَعْلَبَكَّ مِنْ بِلَادِ الشَّأْمِ، وَبِهِ سُمِّيَتْ مَدِينَتُهُمْ بَعْلَبَكَّ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُمْ بَعْلٌ اسْمٌ لِصَنَمٍ مِنْ أَصْنَامِهِمْ لَا بَأْسَ بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ يَدْخُلُ فِي جَوْفِ بَعْلَبَكَّ وَيَتَكَلَّمُ بِشَرِيعَةِ الضَّلَالَةِ، فَهَذَا مُشْكِلٌ لِأَنَّا إِنْ جَوَّزْنَا هَذَا كَانَ ذَلِكَ قَادِحًا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، لِأَنَّهُ نُقِلَ فِي مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامُ الذِّئْبِ مَعَهُ وَكَلَامُ الْجَمَلِ مَعَهُ وَحَنِينُ الْجِذْعِ، وَلَوْ جَوَّزْنَا أَنْ يَدْخُلَ الشَّيْطَانُ فِي جَوْفِ جِسْمٍ وَيَتَكَلَّمُ. فَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا الِاحْتِمَالُ قَائِمًا فِي الذِّئْبِ وَالْجَمَلِ وَالْجِذْعِ، وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُعْجِزَاتٍ الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْبَعْلَ هُوَ الرَّبُّ بِلُغَةِ الْيَمَنِ، يُقَالُ مَنْ بَعْلُ هَذِهِ الدَّارِ، أَيْ مَنْ رَبُّهَا، وَسُمِّيَ الزَّوْجُ بَعْلًا لِهَذَا الْمَعْنَى، قَالَ تَعَالَى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [الْبَقَرَةِ: 228] وَقَالَ تَعَالَى: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [هُودٍ: 72] فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْمَعْنَى، أَتَعْبُدُونَ بَعْضَ الْبُعُولِ وَتَتْرُكُونَ عِبَادَةَ اللَّهِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: الْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِ الْعَبْدِ خَالِقًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ، فَقَالُوا: لَوْ لَمْ يَكُنْ غَيْرُ اللَّهِ خَالِقًا لَمَا جَازَ وَصْفُ اللَّهِ بِأَنَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، وَالْكَلَامُ فِيهِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 14] . الْبَحْثُ الثَّالِثُ: كَانَ الْمُلَقَّبُ بِالرَّشِيدِ الْكَاتِبِ يَقُولُ لَوْ قِيلَ: أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَدَعُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ. أَوْهَمَ أَنَّهُ أَحْسَنُ، لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ تَحْصُلُ فِيهِ رِعَايَةُ مَعْنَى التَّحْسِينِ وَجَوَابُهُ: أَنَّ فَصَاحَةَ/ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ لِأَجْلِ رِعَايَةِ هَذِهِ التَّكَالِيفِ، بَلْ لِأَجْلِ قُوَّةِ الْمَعَانِي وَجَزَالَةِ الْأَلْفَاظِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا عَابَهُمْ عَلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ صَرَّحَ بِالتَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الشُّرَكَاءِ، فَقَالَ: اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ وَفِيهِ مَبَاحِثُ. الْأَوَّلُ: أَنَّا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ حُدُوثَ الْأَشْخَاصِ الْبَشَرِيَّةِ كَيْفَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ، وَكَيْفَ يَدُلُّ عَلَى وَحْدَتِهِ وَبَرَاءَتِهِ عَنِ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ كُلُّهَا بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: أَحْسَنَ الْخالِقِينَ وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَنَقَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّ حَمْزَةَ إِذَا وَصَلَ نَصَبَ، وَإِذَا وَقَفَ رَفَعَ، وَلَمَّا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَّرَ مَعَ قَوْمِهِ التَّوْحِيدَ قَالَ: فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أَيْ لَمُحْضَرُونَ النَّارَ غَدًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصَّافَّاتِ: 57] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْمَهُ مَا كَذَّبُوهُ بِكُلِّيَّتِهِمْ، بَلْ كَانَ فِيهِمْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ التَّوْحِيدِ فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يَعْنِي الَّذِينَ أَتَوْا بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ فَإِنَّهُمْ لَا يَحْضُرُونَ ثُمَّ قَالَ: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ (آلِ يَاسِينَ) عَلَى إِضَافَةِ لَفْظِ آلٍ إِلَى لَفْظِ يَاسِينَ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ وَجَزْمِ اللَّامِ مَوْصُولَةً بِيَاسِينَ، أَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى فَفِيهَا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِلْيَاسُ بْنُ يَاسِينَ فَكَانَ إِلْيَاسُ آلَ يَاسِينَ الثَّانِي: (آلُ يَاسِينَ) آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّالِثُ: أَنَّ يَاسِينَ اسْمُ الْقُرْآنِ، كَأَنَّهُ قِيلَ سَلَامُ اللَّهِ عَلَى مَنْ آمَنَ بِكِتَابِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ يَاسِينُ، وَالْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ فَفِيهَا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ يقال ميكال وميكائيل

[سورة الصافات (37) : الآيات 133 إلى 138]

وميكالين، فكذا هاهنا إِلْيَاسُ وَإِلْيَاسِينُ وَالثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ هُوَ جَمْعٌ وَأَرَادَ بِهِ إِلْيَاسَ وَأَتْبَاعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَقَوْلِهِمُ الْمُهَلَّبُونَ وَالسَّعْدُونَ قَالَ: أَنَا ابْنُ سَعْدٍ أَكْرَمُ السَّعْدِينَا ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ سَبَقَ تفسيره والله أعلم. [سورة الصافات (37) : الآيات 133 الى 138] وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) قصة لوط عليه السلام هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ الْخَامِسَةُ، وَإِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ لِيَعْتَبِرَ بِهَا مُشْرِكُو الْعَرَبِ، فَإِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ هَلَكُوا وَالَّذِينَ آمَنُوا نَجَوْا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَقَدْ نَبَّهَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يُسَافِرُونَ إِلَى الشَّامِ وَالْمُسَافِرُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ إِنَّمَا يَمْشِي فِي اللَّيْلِ وَفِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ عَيَّنَ تَعَالَى هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَفَلا تَعْقِلُونَ يَعْنِي أَلَيْسَ فِيكُمْ عُقُولٌ تعتبرون بها، والله أعلم. [سورة الصافات (37) : الآيات 139 الى 148] وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148) قِصَّةُ يُونُسَ عليه السلام

اعلم أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ السَّادِسَةُ وَهُوَ آخِرُ الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَإِنَّمَا صَارَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ خَاتِمَةً لِلْقِصَصِ، لِأَجْلِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصْبِرْ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ وَأَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ وَقَعَ فِي تِلْكَ الشَّدَائِدِ فَيَصِيرُ هَذَا سَبَبًا لِتَصَبُّرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ يُونُسَ بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ لِيُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ أَنْ صَارَ رَسُولًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ حِينَمَا أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ جَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ مَلِكُ زَمَانِهِ إِلَى أُولَئِكَ الْقَوْمِ لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ أَبَقَ وَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُرْسَلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ هَذَا الْوَصْفَ فِي مَعْرِضِ تَعْظِيمِهِ، وَلَنْ يُفِيدَ هَذِهِ الْفَائِدَةَ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ/ قَوْلِهِ: لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ أَنَّهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَبَقَ مِنْ إِبَاقِ الْعَبْدِ وَهُوَ هَرَبُهُ مِنْ سَيِّدِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ أَبَقَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُقَالُ إِلَّا فِيمَنْ يَتَعَمَّدُ مُخَالَفَةَ رَبِّهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لِأَجْلِهِ صَارَ مُخْطِئًا، فَقِيلَ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِالْخُرُوجِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ التَّكْلِيفَ وَخَرَجَ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ، وَهَذَا بَعِيدٌ سَوَاءٌ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ بِوَحْيٍ أَوْ بِلِسَانِ نَبِيٍّ آخَرَ، وَقِيلَ إِنَّ ذَنْبَهُ أَنَّهُ تَرَكَ دُعَاءَ قَوْمِهِ، وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا أَيْضًا بَعِيدٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِهَذَا الْعَمَلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَهُ، وَالْأَقْرَبُ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَنْبَهُ كَانَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُ إِنْزَالَ الْإِهْلَاكِ بِقَوْمِهِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ فَظَنَّ أَنَّهُ نَازِلٌ لَا مَحَالَةَ، فَلِأَجْلِ هَذَا الظَّنِّ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى دُعَائِهِمْ، فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى الدُّعَاءِ لِجَوَازِ أَنْ لَا يُهْلِكَهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ وَإِنْ أَنْزَلَهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ لِأَنَّهُ إِقْدَامٌ عَلَى أَمْرٍ ظَهَرَتْ أَمَارَاتُهُ فَلَا يَكُونُ تَعَمُّدًا لِلْمَعْصِيَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ أَنْ لَا يُعْمَلَ فِيهِ بِالظَّنِّ ثُمَّ انْكَشَفَ لِيُونُسَ مِنْ بَعْدُ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي ذَلِكَ الظَّنِّ، لِأَجْلِ أَنَّهُ ظَهَرَ الْإِيمَانُ مِنْهُمْ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ مَا ذَكَرْنَاهُ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ يُونُسَ كَانَ وَعَدَ قَوْمَهُ بِالْعَذَابِ فَلَمَّا تَأَخَّرَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ خَرَجَ كَالْمَسْتُورِ عَنْهُمْ فَقَصَدَ الْبَحْرَ وَرَكِبَ السَّفِينَةَ، فَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ: إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي مُشْكِلَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الْأَنْبِيَاءِ: 87] وَقَوْلُهُ: إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ مُفَسَّرٌ فِي سُورَةِ يُونُسَ وَالسَّفِينَةُ إِذَا كَانَ فِيهَا الْحِمْلُ الْكَثِيرُ وَالنَّاسُ يُقَالُ إِنَّهَا مَشْحُونَةٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَساهَمَ الْمُسَاهَمَةُ هِيَ الْمُقَارَعَةُ، يُقَالُ أَسْهَمَ الْقَوْمُ إِذَا اقْتَرَعُوا، قَالَ الْمُبَرَّدُ: وَإِنَّمَا أُخِذَ مِنَ السِّهَامِ الَّتِي تُجَالُ لِلْقُرْعَةِ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ أَيِ الْمَغْلُوبِينَ يُقَالُ أَدْحَضَ اللَّهُ حُجَّتَهُ فَدُحِضَتْ أَيْ أَزَالَهَا فَزَالَتْ وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الدَّحْضِ الَّذِي هُوَ الزَّلَقُ، يُقَالُ دَحَضَتْ رِجْلُ الْبَعِيرِ إِذَا زَلَقَتْ، وَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ يُونُسَ

عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَسْكُنُ مَعَ قَوْمِهِ فِلَسْطِينَ فَغَزَاهُمْ مَلِكٌ وَسَبَى مِنْهُمْ تِسْعَةَ أَسْبَاطٍ وَنِصْفًا وَبَقِيَ سِبْطَانِ وَنِصْفٌ، وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا أَسَرَكُمْ عَدُوُّكُمْ أَوْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ فَادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، فَلَمَّا نَسُوا ذَلِكَ وَأُسِرُوا أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ حِينٍ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ أَنِ اذْهَبْ إِلَى مَلِكِ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ وَقُلْ لَهُ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيًّا، فَاخْتَارَ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقُوَّتِهِ وَأَمَانَتِهِ، قَالَ يُونُسُ: آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ لَا وَلَكِنْ أُمِرْتُ أَنْ أَبْعَثَ قَوِيًّا أَمِينًا وَأَنْتَ كَذَلِكَ، فَقَالَ يُونُسُ: وَفِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي فَلِمَ لَا تَبْعَثُهُ، فَأَلَحَّ الْمَلِكُ عَلَيْهِ فَغَضِبَ يُونُسُ مِنْهُ وَخَرَجَ حَتَّى أَتَى بَحْرَ الرُّومِ وَوَجَدَ سَفِينَةً مَشْحُونَةً فَحَمَلُوهُ فِيهَا، فَلَمَّا دَخَلَتْ لُجَّةَ الْبَحْرِ أَشْرَفَتْ عَلَى الْغَرَقِ، فَقَالَ الْمَلَّاحُونَ: إِنَّ فِيكُمْ عَاصِيًا وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ فِي السفينة ما نراه من غير ربح وَلَا سَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَقَالَ التُّجَّارُ: قَدْ جَرَّبْنَا مِثْلَ هَذَا فَإِذَا رَأَيْنَاهُ نَقْتَرِعُ، فَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ نُغْرِقُهُ، فَلَأَنْ يَغْرَقَ وَاحِدٌ خَيْرٌ مِنْ غَرَقِ الْكُلِّ فَخَرَجَ سَهْمُ يُونُسَ، فَقَالَ التُّجَّارُ نَحْنُ أَوْلَى بِالْمَعْصِيَةِ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ، ثُمَّ عَادُوا ثَانِيًا وَثَالِثًا يَقْتَرِعُونَ فَيَخْرُجُ سَهْمُ/ يُونُسَ، فَقَالَ يَا هَؤُلَاءِ أَنَا الْعَاصِي وَتَلَفَّفَ فِي كِسَاءٍ وَرَمَى بِنَفْسِهِ فَابْتَلَعَتْهُ السَّمَكَةُ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْحُوتِ: «لَا تَكْسِرْ مِنْهُ عَظْمًا وَلَا تَقْطَعْ لَهُ وَصْلًا» ثُمَّ إِنَّ السَّمَكَةَ أَخْرَجَتْهُ إِلَى نِيلِ مِصْرَ ثُمَّ إِلَى بَحْرِ فَارِسَ ثُمَّ إِلَى بَحْرِ الْبَطَائِحِ ثُمَّ دِجْلَةَ فَصَعِدَتْ بِهِ وَرَمَتْهُ بِأَرْضِ نَصِيبِينَ بِالْعَرَاءِ، وَهُوَ كَالْفَرْخِ الْمَنْتُوفِ لَا شَعَرَ وَلَا لَحْمَ، فَأَنْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، فَكَانَ يَسْتَظِلُّ بِهَا وَيَأْكُلُ مِنْ ثَمَرِهَا حَتَّى تَشَدَّدَ، ثُمَّ إِنَّ الْأَرْضَ أَكَلَتْهَا فَخَرَّتْ مِنْ أَصْلِهَا فَحَزِنَ يُونُسُ لِذَلِكَ حُزْنًا شَدِيدًا، فَقَالَ: يَا رَبِّ كُنْتُ أَسْتَظِلُّ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ مِنَ الشَّمْسِ وَالرِّيحِ وَأَمُصُّ مِنْ ثَمَرِهَا وَقَدْ سَقَطَتْ، فَقِيلَ لَهُ يَا يُونُسُ تَحْزَنُ عَلَى شَجَرَةٍ أُنْبِتَتْ فِي سَاعَةٍ وَاقْتُلِعَتْ فِي سَاعَةٍ وَلَا تَحْزَنُ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ تَرَكْتَهُمْ! انْطَلِقْ إِلَيْهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْوَاقِعَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ يُقَالُ الْتَقَمَهُ وَالْتَهَمَهُ وَالْكُلُّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ مُلِيمٌ يُقَالُ أَلَامَ إِذَا أَتَى بِمَا يُلَامُ عَلَيْهِ، فَالْمُلِيمُ الْمُسْتَحِقُّ لِلَّوْمِ الْآتِي بِمَا يُلَامُ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وَفِي تَفْسِيرِ كَوْنِهِ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي تِلْكَ الظُّلُمَاتِ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 87] الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ أَنِ الْتَقَمَهُ الْحُوتُ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ يَعْنِي الْمُصَلِّينَ وَكَانَ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ مُوَاظِبًا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ لَلَبِثَ فِي بَطْنِ ذَلِكَ الْحُوتِ، وَكَانَ بَطْنُهُ قَبْرًا لَهُ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، قَالَ بَعْضُهُمُ: اذْكُرُوا اللَّهَ فِي الرَّخَاءِ يَذْكُرُكُمْ فِي الشِّدَّةِ، فَإِنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا ذَاكِرًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا وَقَعَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ قَالَ اللَّه تَعَالَى فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَبْدًا طَاغِيًا نَاسِيًا، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ [يُونُسَ: 90] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ [يُونُسَ: 91] وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ كَمْ لَبِثَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَلَفْظُ الْقُرْآنِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. قَالَ الْحَسَنُ لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا قَلِيلًا وَأُخْرِجَ مِنْ بَطْنِهِ بَعْدَ الْوَقْتِ الَّذِي الْتَقَمَهُ، وَعَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَعَنْ عَطَاءٍ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَعَنِ الضَّحَّاكِ عِشْرِينَ يَوْمًا وَقِيلَ شَهْرًا وَلَا أَدْرِي بِأَيِّ دَلِيلٍ عَيَّنُوا هَذِهِ الْمَقَادِيرَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «سَبَّحَ يُونُسُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ فَسَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ تَسْبِيحَهُ فَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا نَسْمَعُ صَوْتًا ضَعِيفًا بِأَرْضٍ غَرِيبَةٍ، فَقَالَ ذَاكَ عَبْدِي يُونُسُ عَصَانِي فَحَبَسْتُهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ، فَقَالُوا الْعَبْدُ الصَّالِحُ الَّذِي كَانَ يَصْعَدُ إِلَيْكَ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَمَلٌ صَالِحٌ؟ قَالَ نعم،

[سورة الصافات (37) : الآيات 149 إلى 160]

فَشَفَعُوا لَهُ فَأَمَرَ الْحُوتَ فَقَذَفَهُ فِي السَّاحِلِ» فَذَاكَ هُوَ قَوْلُهُ: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: الْعَرَاءُ الْمَكَانُ الْخَالِي قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِنَّمَا قِيلَ لَهُ الْعَرَاءُ لِأَنَّهُ لَا شَجَرَ فِيهِ وَلَا شَيْءَ يُغَطِّيهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ فَأَضَافَ ذَلِكَ النَّبْذَ إِلَى نفسه، والنبذ إِلَى نَفْسِهِ، وَالنَّبْذُ إِنَّمَا حَصَلَ بِفِعْلِ الْحُوتِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ سَقِيمٌ قِيلَ الْمُرَادُ أَنَّهُ بَلِيَ لَحْمُهُ وَصَارَ ضَعِيفًا كَالطِّفْلِ الْمَوْلُودِ كَالْفَرْخِ الْمُمَعَّطِ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ رِيشٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ سَقِيمٌ أَيْ سَلِيبٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُوتَ لَمَّا نَبَذَهُ فِي الْعَرَاءِ فَاللَّهُ تَعَالَى أَنْبَتَ عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وَذَلِكَ الْمُعْجِزُ لَهُ، قَالَ الْمُبَرَّدُ وَالزَّجَّاجُ كُلُّ شَجَرٍ لَا يَقُومُ عَلَى سَاقٍ وَإِنَّمَا يَمْتَدُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَهُوَ يَقْطِينٌ، نَحْوُ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْظَلِ وَالْبِطِّيخِ، قَالَ الزَّجَّاجُ أَحْسَبُ اشْتِقَاقَهَا مِنْ قَطَنَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ وَهَذَا الشَّجَرُ وَرَقُهُ كُلُّهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فلذلك قيل له اليقطين، روى الْفَرَّاءُ أَنَّهُ قِيلَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ وَرَقُ الْقَرْعِ، فَقَالَ وَمَنْ جَعَلَ الْقَرْعَ مِنْ بَيْنِ الشَّجَرِ يَقْطِينًا كُلُّ وَرَقَةٍ اتَّسَعَتْ وَسَتَرَتْ فَهِيَ يَقْطِينٌ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْآيَةُ تَقْتَضِي شَيْئَيْنِ لَمْ يَذْكُرْهُمَا الْمُفَسِّرُونَ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الْيَقْطِينَ لَمْ يَكُنْ قَبْلُ فَأَنْبَتَهُ اللَّهُ لِأَجْلِهِ وَالْآخَرُ: أَنَّ الْيَقْطِينَ كَانَ مَعْرُوشًا لِيَحْصُلَ لَهُ ظِلٌّ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُنْبَسِطًا عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَأَرْسَلْنَاهُ قَبْلَ أَنْ يَلْتَقِمَهُ الْحُوتُ وَعَلَى هَذَا الْإِرْسَالِ وَإِنْ ذُكِرَ بَعْدَ الِالْتِقَامِ، فَالْمُرَادُ بِهِ التَّقْدِيمُ وَالْوَاوُ مَعْنَاهَا الْجَمْعُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِرْسَالَ بَعْدَ الِالْتِقَامِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ كَانَتْ رِسَالَةُ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ مَا نَبَذَهُ الْحُوتُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُرْسِلَ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ سِوَى الْقَوْمِ الْأُوَلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُرْسِلَ إِلَى الْأَوَّلِينَ ثَانِيًا بِشَرِيعَةٍ فَآمَنُوا بِهَا. الْبَحْثُ الثَّانِي: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَوْ يَزِيدُونَ يُوجِبُ الشَّكَّ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عُذْراً أَوْ نُذْراً [الْمُرْسَلَاتِ: 6] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً [طه: 113] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النَّحْلِ: 77] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى [النَّجْمِ: 9] وَأَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَالْأَصَحُّ مِنْهَا وَجْهٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَوْ يَزِيدُونَ فِي تَقْدِيرِكُمْ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ إِذَا رَآهُمُ الرَّائِي قَالَ هَؤُلَاءِ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ عَلَى الْمِائَةِ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ كُلِّ مَا يُشْبِهُ هَذَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ لَمَّا آمَنُوا أَزَالَ اللَّهُ الْخَوْفَ عَنْهُمْ وَآمَنَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَمَتَّعَهُمُ اللَّهُ إِلَى حِينٍ، أَيْ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي جعله الله أجلا لكل واحد منهم. [سورة الصافات (37) : الآيات 149 الى 160] فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)

وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَقَاصِيصَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَادَ إِلَى شَرْحِ مَذَاهِبِ الْمُشْرِكِينَ وَبَيَانِ قُبْحِهَا وَسَخَافَتِهَا، وَمِنْ جُمْلَةِ أَقْوَالِهِمُ الْبَاطِلَةِ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْأَوْلَادَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْإِنَاثِ لَا مِنْ جِنْسِ الذُّكُورِ فَقَالَ: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ وَهَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا [الصَّافَّاتِ: 11] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْتِفْتَاءِ قُرَيْشٍ عَنْ وَجْهِ إِنْكَارِ الْبَعْثِ أولا ثم ساق الكلام موصوفا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ إِلَى أَنْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَسْتَفْتِيَهُمْ فِي أَنَّهُمْ لِمَ أَثْبَتُوا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ الْبَنَاتِ وَلِأَنْفُسِهِمُ الْبَنِينَ، وَنَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ قُرَيْشًا وَأَجْنَاسَ الْعَرَبِ جُهَيْنَةَ وَبَنِي سَلَمَةَ وَخُزَاعَةَ وَبَنِي مَلِيحٍ قَالُوا الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُ الْبَنَاتِ لِلَّهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَسْتَنْكِفُونَ مِنَ الْبِنْتِ، وَالشَّيْءُ الَّذِي يَسْتَنْكِفُ الْمَخْلُوقُ مِنْهُ كَيْفَ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ لِلْخَالِقِ وَالثَّانِي: إِثْبَاتُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ، وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ طَرِيقَ الْعِلْمِ إِمَّا الْحِسُّ وَإِمَّا الْخَبَرُ وَإِمَّا النَّظَرُ، أَمَّا الْحِسُّ فَمَفْقُودٌ هاهنا لِأَنَّهُمْ مَا شَهِدُوا كَيْفِيَّةَ تَخْلِيقِ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ وأما الخبر فنقود/////////؟ أَيْضًا لِأَنَّ الْخَبَرَ إِنَّمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ إِذَا عُلِمَ كَوْنُهُ صِدْقًا قَطْعًا وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُخْبِرُونَ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ كَذَّابُونَ أَفَّاكُونَ، لَمْ يَدُلَّ عَلَى صِدْقِهِمْ لَا دَلَالَةٌ وَلَا أَمَارَةٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وَأَمَّا النَّظَرُ فَمَفْقُودٌ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ/ الْأَوَّلُ: أَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ يَقْتَضِي فَسَادَ هَذَا الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْمَلُ الْمَوْجُودَاتِ، وَالْأَكْمَلُ لَا يَلِيقُ بِهِ اصطفاء الأخس وهو المراد من قوله: أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ يَعْنِي إِسْنَادُ الْأَفْضَلِ إِلَى الْأَفْضَلِ أَقْرَبُ عِنْدَ الْعَقْلِ مِنْ إِسْنَادِ الْأَخَسِّ إِلَى الْأَفْضَلِ، فَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْعَقْلِ مُعْتَبَرًا فِي هَذَا الْبَابِ كَانَ قَوْلُكُمْ بَاطِلًا وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نَتْرُكَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِهِمْ، بَلْ نُطَالِبُهُمْ بِإِثْبَاتِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ فَإِذَا لَمْ يَجِدُوا ذَلِكَ الدَّلِيلَ فَضِدُّهُ يُظْهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي ذَهَبُوا إِلَيْهِ لَمْ يَدُلَّ عَلَى صِحَّتِهِ، لَا الْحِسُّ وَلَا الْخَبَرُ وَلَا النَّظَرُ، فَكَانَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ بَاطِلًا قَطْعًا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا طَالَبَهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ بَاطِلٌ، وَأَنَّ الدِّينَ لَا يَصِحُّ إلا بالدليل.

[سورة الصافات (37) : الآيات 161 إلى 170]

المسألة الثانية: قوله: أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وقطعها من أَصْطَفَى ثُمَّ بِحَذْفِ أَلِفِ الْوَصْلِ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ [الزُّخْرُفِ: 16] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الطُّورِ: 39] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى [النَّجْمِ: 21] وَكَمَا أَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ كُلَّهَا اسْتِفْهَامٌ فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى مَوْصُولَةً بِغَيْرِ اسْتِفْهَامٍ، وَإِذَا ابْتَدَأَ كَسَرَ الْهَمْزَةَ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ وَالتَّقْدِيرُ اصْطَفَى الْبَنَاتِ فِي زَعْمِهِمْ كَقَوْلِهِ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدُّخَانِ: 49] فِي زَعْمِهِ وَاعْتِقَادِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْجَنَّةِ عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: أَثْبَتُوا نَسَبًا بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ حِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فالجنة هم الملائكة سموا جنا لاجتنانهم عَنِ الْأَبْصَارِ أَوْ لِأَنَّهُمْ خُزَّانُ الْجَنَّةِ، وَأَقُولُ هَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي مُشْكِلٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَ قَوْلَهُمُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي كَوْنَ الْمَعْطُوفِ مُغَايِرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنَّ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ قَالَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَمَنْ أُمَّهَاتُهُمْ؟ قَالُوا: سَرَوَاتُ الْجِنِّ، وَهَذَا أَيْضًا عِنْدِي بَعِيدٌ لِأَنَّ الْمُصَاهَرَةَ لَا تُسَمَّى نَسَبًا وَالثَّالِثُ: رَوَيْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَامِ: 100] أَنَّ قَوْمًا مِنَ الزَّنَادِقَةِ يَقُولُونَ: اللَّهُ وَإِبْلِيسُ أَخَوَانِ فَاللَّهُ الْخَيِّرُ الْكَرِيمُ وَإِبْلِيسُ هُوَ الْأَخُ الشِّرِّيرُ الْخَسِيسُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً الْمُرَادُ مِنْهُ هَذَا الْمَذْهَبُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْرَبُ الْأَقَاوِيلِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَجُوسِ الْقَائِلِينَ بِيَزْدَانَ وَإِهْرَمَنَ «1» ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أَيْ قَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ مُحْضَرُونَ النَّارَ وَيُعَذَّبُونَ وَقِيلَ الْمُرَادُ وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ أَنَّهُمْ سَيَحْضُرُونَ فِي الْعَذَابِ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي عَائِدٌ إِلَى الْجِنَّةِ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى/ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَمَّا قَالُوا مِنَ الْكَذِبِ فَقَالَ: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَفِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وُجُوهٌ، قِيلَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُحْضَرِينَ، يَعْنِي أَنَّهُمْ نَاجُونَ، وَقِيلَ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَقِيلَ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنَ الْمُحْضَرِينَ، وَمَعْنَاهُ وَلَكِنَّ الْمُخْلِصِينَ بُرَآءُ مِنْ أَنْ يَصِفُوهُ بِذَلِكَ، وَالْمُخْلِصُ بِكَسْرِ اللَّامِ مَنْ أَخْلَصَ الْعِبَادَةَ وَالِاعْتِقَادَ لِلَّهِ وَبِفَتْحِهَا مَنْ أخلصه الله بلطفه والله أعلم. [سورة الصافات (37) : الآيات 161 الى 170] فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)

_ (1) يزدان وأهرمن أي الشر والخير أو النور والظلمة وهذا المذهب المعروف بمذهب المانوية نسبة إلى «ماني» أول من قال به. وهو مذهب باطل لما فيه من الإشراك بالله.

فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ الْكُفَّارِ أَتْبَعَهُ بِمَا نَبَّهَ بِهِ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى حَمْلِ أَحَدٍ عَلَى الضَّلَالِ إِلَّا إِذَا كَانَ قَدْ سَبَقَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ بِالْعَذَابِ وَالْوُقُوعِ فِي النَّارِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ قَوْلَيْنِ الْأَوَّلُ: الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَعْنَاهُ فإنكم ومعبوديكم ما أنتم وهو جَمِيعًا بِفَاتِنِينَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا أَصْحَابَ النَّارِ الَّذِينَ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَوْنُهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَفْتِنُونَهُمْ عَلَى اللَّهِ؟ قُلْنَا يَفْتِنُونَهُمْ عَلَيْهِ بِإِغْوَائِهِمْ مِنْ قَوْلِكَ فَتَنَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ امْرَأَتَهُ كَمَا تَقُولُ أَفْسَدَهَا عَلَيْهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَما تَعْبُدُونَ بِمَعْنَى مَعَ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ كُلُّ رَجُلٍ وَضَيْعَتَهُ، فَكَمَا جَازَ السُّكُوتُ عَلَى كُلُّ رَجُلٍ وَضَيْعَتُهُ، فَكَذَلِكَ جَازَ أَنْ يُسْكَتَ عَلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَما تَعْبُدُونَ سَادٌّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ فَإِنَّكُمْ مَعَ مَا تَعْبُدُونَ، وَالْمَعْنَى فَإِنَّكُمْ مَعَ آلِهَتِكُمْ أَيْ فَإِنَّكُمْ قُرَنَاؤُهُمْ وَأَصْحَابُهُمْ لَا تَتْرُكُونَ عِبَادَتَهَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مَا تَعْبُدُونَ بِفاتِنِينَ بِبَاعِثِينَ أَوْ حَامِلِينَ عَلَى طَرِيقِ الْفِتْنَةِ وَالْإِضْلَالِ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ مِثْلُكُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ صالِ الْجَحِيمِ بِضَمِّ اللَّامِ وَوَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا وَسُقُوطُ وَاوِهِ لِالْتِقَاءِ/ السَّاكِنَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ الْجَمْعُ مَعَ قَوْلِهِ: مَنْ هُوَ قُلْنَا (مَنْ) مُوَحَّدُ اللَّفْظِ مَجْمُوعُ الْمَعْنَى فَحُمِلَ هُوَ عَلَى لَفْظِهِ وَالصَّالُونَ عَلَى مَعْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِإِغْوَاءِ الشَّيْطَانِ وَوَسْوَسَتِهِ، وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ قَضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيرُهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِقَوْلِهِمْ وَلَا تَأْثِيرَ لِأَحْوَالِ مَعْبُودِيهِمْ فِي وُقُوعِ الْفِتْنَةِ وَالضَّلَالِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ يَعْنِي إِلَّا مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ، وَذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِوُقُوعِ هَذِهِ الْحَوَادِثِ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ، قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِينَ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ لَا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا إِلَّا مَنْ ثَبَتَ فِي مَعْلُومِ اللَّهِ أَنَّهُ سَيَكَفُرُ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ مَنْ ضَلَّ بِدُعَاءِ الشَّيْطَانِ لَمْ يَكُنْ لِيُؤْمِنَ بِاللَّهِ لَوْ مَنَعَ اللَّهُ الشَّيْطَانَ مِنْ دُعَائِهِ وَإِلَّا كَانَ يَمْنَعُ الشَّيْطَانَ، فَصَحَّ بِهَذَا أَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْصِي لَمْ يَكُنْ لِيَصْلُحَ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْجَوَابُ: حَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِإِغْوَاءِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ إِلَّا أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِكَلَامِهِمْ فِي وُقُوعِ الْفِتْنَةِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ وُقُوعِ الْفِتْنَةِ هُوَ كَوْنُهُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ صَالِ الْجَحِيمِ، وَذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ هُوَ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي حُصُولِ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَرَّرُوا هَذِهِ الْحُجَّةَ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ أَنَّهُ حَجَّ آدَمُ مُوسَى، قَالَ الْقَاضِي هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَقْبَلْهُ عُلَمَاءُ التَّوْحِيدِ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ لَا يُلَامَ أَحَدٌ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ آدَمُ لَا يُجَوِّزُ

لِمُوسَى أَنْ يَلُومَهُ عَلَى عَمَلٍ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ، فَكَذَلِكَ كَلُّ مُذْنِبٍ. فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلِمَاذَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْوَكْزَةِ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ؟ وَلِمَاذَا قَالَ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ؟ وَلِمَاذَا لَامَ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهَ عَلَى أَمْرٍ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ؟ وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ الْقَدَرِيَّةَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُوجِبُ أَنَّ آدَمَ كَانَ قَدَرِيًّا، فَلَزِمَهُمْ أَنْ يُكَفِّرُوهُ، وَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ قَوْلِ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الْأَعْرَافِ: 23] أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى مُوسَى بِأَنَّهُ لَا لَوْمَ عَلَيْهِ، وَقَدْ كُتِبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ، هَذَا جُمْلَةُ كَلَامِ الْقَاضِي فَيُقَالُ لَهُ هَبْ أَنَّكَ لَا تَقْبَلُ ذَلِكَ الْخَبَرَ، فَهَلْ تَرُدُّ هَذِهِ الْآيَةَ أَمْ لَا، فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ صَرِيحُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْوَسَاوِسِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّ الْكُلَّ يَحْصُلُ بِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَافِرَ إِنْ ضَلَّ بِسَبَبِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فَضَلَالُ الشَّيْطَانِ إِنْ كَانَ بِسَبَبِ شَيْطَانٍ آخَرَ لَزِمَ تَسَلْسُلُ الشَّيَاطِينِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنِ انْتَهَى إِلَى ضَلَالٍ لَمْ يَحْصُلْ بِسَبَبِ وَسْوَسَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُرِيدُ أَنْ يَحْصُلَ لِنَفْسِهِ الِاعْتِقَادُ الْحَقُّ وَالدِّينُ الصِّدْقُ، فَحُصُولُ ضِدِّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَفْعَالَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الدَّوَاعِي وَحُصُولُ الدَّوَاعِي بِخَلْقِ اللَّهِ، فَيَكُونُ الْكُلُّ/ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ شَيْئًا، وَعُلِمَ وُقُوعُهُ، فَلَوْ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ الشَّيْءُ لَزِمَ انْقِلَابُ ذَلِكَ الْحُكْمِ كَذِبًا وَانْقِلَابُ ذَلِكَ الْعِلْمِ جَهْلًا وَهُوَ مُحَالٌ، وَأَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْقَاضِي فَهِيَ مُعَارَضَةٌ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ وَالْقُرْآنُ كَالْبَحْرِ الْمَمْلُوءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ فَتَبْقَى الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا سَلِيمَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَصَفُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْعُبُودِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَصْطَفُّونَ لِلصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُمْ أَوْلَادُ اللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مُبَالَغَتَهُمْ فِي الْعُبُودِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى اعْتِرَافِهِمْ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ فَأَوَّلُهَا: قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَرْتَبَةً لَا يَتَجَاوَزُهَا وَدَرَجَةً لَا يَتَعَدَّى عَنْهَا، وَتِلْكَ الدَّرَجَاتُ إِشَارَةٌ إِلَى دَرَجَاتِهِمْ فِي التَّصَرُّفِ فِي أَجْسَامِ هَذَا الْعَالَمِ وَإِلَى دَرَجَاتِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَمَّا دَرَجَاتُهُمْ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ فَهِيَ قَوْلُهُ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَالْمُرَادُ كَوْنُهُمْ صَافِّينَ فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ وَمَنَازِلِ الْخِدْمَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَأَمَّا دَرَجَاتُهُمْ فِي الْمَعَارِفِ فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ وَالتَّسْبِيحُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ هُمُ الصَّافُّونَ فِي مَوَاقِفِ الْعُبُودِيَّةِ لَا غَيْرُهُمْ وَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُسَبِّحُونَ لَا غَيْرُهُمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَاعَاتِ الْبَشَرِ وَمَعَارِفَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى طَاعَاتِ الْمَلَائِكَةِ وَإِلَى مَعَارِفِهِمْ كَالْعَدَمِ، حَتَّى يَصِحَّ هَذَا الْحَصْرُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ تَدُلُّ عَلَى أَسْرَارٍ عَجِيبَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ فَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ هَذَا الْحَصْرِ أَنْ يُقَالَ الْبَشَرُ تَقْرُبُ دَرَجَتُهُ مِنَ الْمَلَكِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ هَلْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ أَمْ لَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَالْمَعْنَى أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَغَيْرَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً أَيْ كِتَابًا مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ نَزَلَ عَلَيْهِمُ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ لَأَخْلَصْنَا الْعِبَادَةَ لِلَّهِ، وَلَمَا كَذَّبْنَا كَمَا كَذَّبُوا. ثُمَّ جَاءَهُمُ الذِّكْرُ الَّذِي هُوَ سَيِّدُ الْأَذْكَارِ وَالْكِتَابُ الْمُهَيْمِنُ عَلَى كُلِّ الْكُتُبِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ فَكَفَرُوا بِهِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أَيْ فَسَوْفَ يعلمون عاقبة هذا الكفر والتكذيب.

[سورة الصافات (37) : الآيات 171 إلى 182]

[سورة الصافات (37) : الآيات 171 الى 182] وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا هَدَّدَ الْكُفَّارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أَيْ عَاقِبَةَ كُفْرِهِمْ أَرْدَفَهُ بِمَا يُقَوِّي قلب الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ فَبَيَّنَ أَنَّ وَعْدَهُ بِنُصْرَتِهِ قَدْ تَقَدَّمَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [الْمُجَادَلَةِ: 21] وَأَيْضًا أَنَّ الْخَيْرَ مَقْضِيٌّ بِالذَّاتِ وَالشَّرَّ مَقْضِيٌّ بِالْعَرَضِ، وَمَا بِالذَّاتِ أَقْوَى مِمَّا بِالْعَرَضِ، وَأَمَّا النُّصْرَةُ وَالْغَلَبَةُ فَقَدْ تَكُونُ بِقُوَّةِ الْحُجَّةِ، وَقَدْ تَكُونُ بِالدُّولَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ، وَقَدْ تَكُونُ بِالدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ فَالْمُؤْمِنُ وَإِنْ صَارَ مَغْلُوبًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بِسَبَبِ ضَعْفِ أَحْوَالِ الدُّنْيَا فَهُوَ الْغَالِبُ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُقَالَ: فَقَدْ قُتِلَ بَعْضُ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ هُزِمَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ وَقَدْ أَخْبَرَهُ بِمَا تَقَدَّمَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَالْمُرَادُ تَرْكُ مُقَاتَلَتِهِمْ وَالثِّقَةُ بِمَا وَعَدْنَاهُمْ إِلَى حِينِ يَتَمَتَّعُونَ، ثُمَّ تَحُلُّ بِهِمُ الْحَسْرَةُ وَالنَّدَامَةُ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَقِيلَ الْمُرَادُ إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ، وَقِيلَ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ، وَقِيلَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثم قال: وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ وَالْمَعْنَى فَأَبْصِرْهُمْ وَمَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، فَسَوْفَ يُبْصِرُونَكَ مَعَ مَا قُدِّرَ لَكَ مِنَ النُّصْرَةِ وَالتَّأْيِيدِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ الْعَظِيمِ، فِي الْآخِرَةِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ الْمُشَاهَدِ بِأَبْصَارِهِمْ عَلَى الْحَالِ الْمُنْتَظَرَةِ الْمَوْعُودَةِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهَا كَائِنَةٌ وَاقِعَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّ كَيْنُونَتَهَا قَرِيبَةٌ كَأَنَّهَا قُدَّامُ نَاظِرَيْكَ، وَقَوْلُهُ: فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ لِلتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، ثُمَّ قَالَ: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُهَدِّدُهُمْ بِالْعَذَابِ، وَمَا رَأَوْا شَيْئًا فَكَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ نُزُولَ ذَلِكَ الْعَذَابِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِعْجَالَ جَهْلٌ، لِأَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَقْتًا مُعَيَّنًا لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ، فَكَانَ طَلَبُ حُدُوثِهِ قَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ جَهْلًا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْعَذَابِ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَهُ فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ أَيْ هَذَا الْعَذَابُ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ وَإِنَّمَا وَقَعَ/ هَذَا التَّعْبِيرُ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي كَأَنَّهُمْ كَانُوا يُقْدِمُونَ عَلَى الْعَادَةِ فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ، فَجُعِلَ ذِكْرُ ذَلِكَ الْوَقْتِ كِنَايَةً

عَنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ، ثُمَّ أَعَادَ تَعَالَى قَوْلَهُ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ فَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ أَحْوَالُ الدُّنْيَا، وَفِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَحْوَالُ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالتَّكْرِيرُ زَائِلٌ، وَقِيلَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّكْرِيرِ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّهْدِيدِ وَالتَّهْوِيلِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ السُّورَةَ بِخَاتِمَةٍ شَرِيفَةٍ جَامِعَةٍ لِكُلِّ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهَمَّ الْمُهِمَّاتِ لِلْعَاقِلِ مَعْرِفَةُ أَحْوَالٍ ثَلَاثَةٍ فَأَوَّلُهَا مَعْرِفَةُ إِلَهِ الْعَالَمِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَأَقْصَى مَا يُمْكِنُ عِرْفَانُهُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ثَلَاثَةُ أنواع أحدها: تنزيهه وتقديسه عن كل ما لا يليق بِصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ لَفْظَةُ سُبْحَانَ وَثَانِيهَا: وَصْفُهُ بِكُلِّ مَا يَلِيقُ بِصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: رَبِّ الْعِزَّةِ فَإِنَّ الرُّبُوبِيَّةَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّرْبِيَةِ وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ الْحِكْمَةِ، وَالرَّحْمَةُ وَالْعِزَّةُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَثَالِثُهَا: كَوْنُهُ مُنَزَّهًا فِي الْإِلَهِيَّةِ عَنِ الشَّرِيكِ وَالنَّظِيرِ، وَقَوْلُهُ: رَبِّ الْعِزَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى جَمِيعِ الْحَوَادِثِ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ: الْعِزَّةِ تُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ، وَإِذَا كَانَ الْكُلُّ مُلْكًا لَهُ وَمِلْكًا لَهُ لَمْ يَبْقَ لِغَيْرِهِ شَيْءٌ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ كَلِمَةٌ مُحْتَوِيَةٌ عَلَى أَقْصَى الدَّرَجَاتِ وَأَكْمَلِ النِّهَايَاتِ فِي مَعْرِفَةِ إِلَهِ الْعَالَمِ وَالْمُهِمُّ الثَّانِي: مِنْ مُهِمَّاتِ الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ كَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ يُعَامِلَ نَفْسَهُ وَيُعَامِلَ الْخَلْقَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْخَلْقِ نَاقِصُونِ وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مُكَمِّلٍ يُكَمِّلُهُمْ، ومرشد يرشدهم، وهاد يهديهم، وما ذاك إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَبَدِيهَةُ الْفِطْرَةِ شَاهِدَةٌ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى النَّاقِصِ الِاقْتِدَاءُ بِالْكَامِلِ، فَنَبَّهَ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ بِقَوْلِهِ: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فِي الْكَمَالِ اللَّائِقِ بِالْبَشَرِ فَاقُوا غَيْرَهُمْ، وَلَا جَرَمَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ سِوَاهُمُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ وَالْمُهِمُّ الثَّالِثُ: مِنْ مُهِمَّاتِ الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْرِفَةَ هَذِهِ الْحَالَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ صَعْبَةٌ، فَالِاعْتِمَادُ فِيهَا عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إِلَهُ الْعَالَمِ غَنِيٌّ رَحِيمٌ، وَالْغَنِيُّ الرَّحِيمُ لَا يُعَذِّبُ، فَنَبَّهَ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ بِقَوْلِهِ: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَمْدِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْإِنْعَامِ الْعَظِيمِ، فَبَيَّنَ بِهَذَا كَوْنَهُ مُنْعِمًا، وَظَاهِرُ كَوْنِهِ غَنِيًّا عَنِ الْعَالَمِينَ، وَمِنْ هَذَا وَصْفُهُ كَانَ الْغَالِبُ مِنْهُ هُوَ الرَّحْمَةُ وَالْفَضْلُ وَالْكَرَمُ، فَكَانَ هَذَا الْحَرْفُ مُنَبِّهًا عَلَى سَلَامَةِ الْحَالِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْخَاتِمَةَ كَالصَّدَفَةِ الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى دُرَرٍ أَشْرَفَ مِنْ دَرَارِي الْكَوَاكِبِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حُسْنَ الْخَاتِمَةِ وَالْعَافِيَةَ فِي الدنيا والآخرة. تم تفسير هذه السورة ضحوة يوم الجمعة السابع عشر من ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ محمد وآله وصحبه وأزواجه وذرياته أجمعين.

سورة ص

سُورَةُ ص ثَمَانُونَ وَثَمَانِ آيَاتٍ مَكِّيَّةٍ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة ص (38) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكَلَامُ الْمُسْتَقْصَى فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْفَوَاتِحِ مَذْكُورٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَلَا بَأْسَ بِإِعَادَةِ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَالْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِفْتَاحُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي أَوَّلُهَا صَادٌ، كَقَوْلِنَا صَادِقُ الْوَعْدِ، صَانِعُ الْمَصْنُوعَاتِ، صَمَدٌ وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ صَدَقَ مُحَمَّدٌ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ اللَّهِ الثَّالِثُ: مَعْنَاهُ صَدَّ الْكُفَّارُ عَنْ قَبُولِ هَذَا الدِّينِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [النحل: 88] الرَّابِعُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْقُرْآنَ مُرَكَّبٌ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَأَنْتُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا وَلَسْتُمْ قَادِرِينَ عَلَى مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ صَادِ بِكَسْرِ الدَّالِ مِنَ الْمُصَادَّةِ وَهِيَ الْمُعَارَضَةُ وَمِنْهَا الصَّدَى وَهُوَ مَا يُعَارِضُ صَوْتَكَ فِي الْأَمَاكِنِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْأَجْسَامِ الصُّلْبَةِ، وَمَعْنَاهُ عَارِضِ الْقُرْآنَ بِعَمَلِكَ فَاعْمَلْ بِأَوَامِرِهِ وَانْتَهِ عَنْ نَوَاهِيهِ السَّادِسُ: أَنَّهُ اسْمُ السورة والتقدير هذه صاد، فإن قيل هاهنا إِشْكَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ قَسَمٌ وَأَيْنَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ؟ وَالثَّانِي: أَنَّ كَلِمَةَ (بَلْ) تَقْتَضِي رَفْعَ حُكْمٍ ثَبَتَ قَبْلَهَا، وَإِثْبَاتَ حُكْمٍ بَعْدَهَا يُنَاقِضُ الْحُكْمَ السَّابِقَ، فَأَيْنَ هَذَا المعنى هاهنا؟ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى صَادٍ، بِمَعْنَى صَدَقَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ صَادٌ هُوَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ هُوَ الْقَسَمَ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ مَحْذُوفًا، وَالتَّقْدِيرُ سُورَةُ (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) إِنَّهُ لَكَلَامٌ مُعْجِزٌ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ ص تَنْبِيهٌ عَلَى التَّحَدِّي وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ صَادٌ اسْمًا لِلسُّورَةِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ هَذِهِ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَشْهُورُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدَّعِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ كَوْنَهَا مُعْجِزَةً، كَانَ قَوْلُهُ هَذِهِ ص جَارِيًا مَجْرَى قَوْلِهِ: هذه هي السورة المعجزة، ونظيره قولك هَذَا حَاتِمٌ وَاللَّهِ، أَيْ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ/ بِالسَّخَاءِ وَالْجَوَابُ: عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي أَنَّ الْحُكْمَ المذكور قبل كلمة بَلِ «1» أما

_ (1) الحكم الذي قبل كلمة (بل) هو وصف القرآن بأنه تذكير لهم بوجوب التوحيد والإيمان بالله ورسله واليوم الآخر وكل ما تفيده كلمة ذي الذكر وهذا هو الحكم المتبادر من ظاهر الآية، وبهذا يكون للإضراب ببل معنى ويجري الكلام على الأساليب العرابية. فهو قبيل الاستنتاج والاعتماد على ما جاء بعد (بل) من الآيات والإضراب لا يكون عن حكم لم يذكر.

مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُ كَوْنَ مُحَمَّدٍ صَادِقًا فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَوْ كَوْنَ الْقُرْآنِ أَوْ هَذِهِ السُّورَةِ مُعْجِزَةً وَالْحُكْمُ الْمَذْكُورُ بَعْدَ كَلِمَةِ (بَلِ) هاهنا هُوَ الْمُنَازَعَةُ وَالْمُشَاقَّةُ فِي كَوْنِهِ كَذَلِكَ فَحَصَلَ الْمَطْلُوبُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ صَادِ بِكَسْرِ الدَّالِ لِأَجْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِنَصْبِ صَادٍ وَنُونٍ وَبِحَذْفِ حَرْفِ الْقَسَمِ وَإِيصَالِ فِعْلِهِ كَقَوْلِهِمُ اللَّهِ لِأَفْعَلَنَّ، وَأَكْثَرُ الْقُرَّاءِ عَلَى الْجَزْمِ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ الْعَارِيَةَ عَنِ الْعَوَامِلِ تُذْكَرُ مَوْقُوفَةَ الْأَوَاخِرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ ذِي الذِّكْرِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ ذِي الشَّرَفِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزُّخْرُفِ: 44] وَقَالَ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: 10] وَمَجَازُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ لِفُلَانٍ ذِكْرٌ فِي النَّاسِ، كَمَا يَقُولُونَ لَهُ صِيتٌ الثَّانِي: ذِي الْبَيَانَيْنِ أَيْ فِيهِ قِصَصُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَفِيهِ بَيَانُ الْعُلُومِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْفَرْعِيَّةِ وَمَجَازُهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [الْقَمَرِ: 22] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قالت المعتزلة القرآن ذِي الذِّكْرِ وَالذِّكْرُ مُحْدَثٌ بَيَانُ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزُّخْرُفِ: 44] وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ [الْأَنْبِيَاءِ: 50] وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: 1] إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس: 69] وَبَيَانُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [الأنبياء: 2] وقوله: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ وَالْجَوَابُ: أَنَّا نَصْرِفُ دَلِيلَكُمْ إِلَى الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَهِيَ مُحْدَثَةٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْكُفَّارُ مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ يجوز على مثلهم الإجماع على الحسد والتكبر عن الانقياد إلى الحق، والعزة هاهنا التَّعْظِيمُ وَمَا يَعْتَقِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَمْنَعُهُ مِنْ مُتَابَعَةِ الْغَيْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [الْبَقَرَةِ: 206] وَالشِّقَاقُ هُوَ إِظْهَارُ الْمُخَالَفَةِ عَلَى جِهَةِ الْمُسَاوَاةِ لِلْمُخَالَفِ أَوْ عَلَى جِهَةِ الْفَضِيلَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الشِّقِّ كَأَنَّهُ يَرْتَفِعُ عَنْ أَنْ يَلْزَمَهُ الِانْقِيَادُ لَهُ بَلْ يَجْعَلُ نَفْسَهُ فِي شِقٍّ وَخَصْمَهُ فِي شِقٍّ، فَيُرِيدُ أَنْ يَكُونَ فِي شِقَّةِ نَفْسِهِ وَلَا يُجْرَى عَلَيْهِ حُكْمُ خَصْمِهِ، وَمِثْلُهُ الْمُعَادَاةُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا فِي عُدْوَةٍ وَالْآخَرُ فِي عُدْوَةٍ، وَهِيَ جَانِبُ الْوَادِي، وَكَذَلِكَ الْمُحَادَّةُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي حَدٍّ غَيْرِ حَدِّ الْآخَرِ، وَيُقَالُ انْحَرَفَ فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ وَجَانَبَ فُلَانٌ فُلَانًا أَيْ صَارَ مِنْهُ عَلَى حَرْفٍ وَفِي جَانِبٍ غَيْرِ جَانِبِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَهُمْ بِالْعِزَّةِ وَالشِّقَاقِ خَوَّفَهُمْ فَقَالَ: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ نَادَوْا عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَذْكُرْ بِأَيِّ شَيْءٍ نَادَوْا، وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ نَادَوْا بِالِاسْتِغَاثَةِ لِأَنَّ نِدَاءَ مَنْ نَزَلَ بِهِ الْعَذَابُ لَيْسَ إِلَّا بِالِاسْتِغَاثَةِ الثَّانِي: نَادَوْا بِالْإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ الثَّالِثُ: نَادَوْا أَيْ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ، يُقَالُ فُلَانٌ أَنْدَى صَوْتًا مِنْ فُلَانٍ أَيْ أَرْفَعُ صَوْتًا، ثُمَّ قَالَ: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ يَعْنِي/ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْوَقْتُ وَقْتَ فِرَارٍ مِنَ الْعَذَابِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا [غَافِرٍ: 84] وَقَالَ: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 64] وَالْجُؤَارُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّضَرُّعِ وَالِاسْتِغَاثَةِ وَكَقَوْلِهِ: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ [يُونُسَ: 91] وَقَوْلِهِ: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر: 85] بقي هاهنا أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي تَحْقِيقِ الْكَلَامِ فِي لفظ (لات) زَعَمَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ أَنَّ لَاتَ هِيَ لَا الْمُشَبَّهَةُ بِلَيْسَ زِيدَتْ عَلَيْهَا تَاءُ التَّأْنِيثِ كَمَا زِيدَتْ عَلَى رُبَّ وَثَمَّ لِلتَّأْكِيدِ، وَبِسَبَبِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ حَدَثَتْ لَهَا أَحْكَامٌ جَدِيدَةٌ، مِنْهَا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى الْأَحْيَانِ، وَمِنْهَا أَنْ لا يبرز إلا أحد جزءيها، إِمَّا الِاسْمُ وَإِمَّا الْخَبَرُ وَيَمْتَنِعُ بُرُوزُهُمَا جَمِيعًا،

[سورة ص (38) : الآيات 4 إلى 7]

وَقَالَ الْأَخْفَشُ إِنَّهَا لَا النَّافِيَةُ لِلْجِنْسِ زِيدَتْ عليها التاء وخصت بنفي الأحيان وحِينَ مَناصٍ مَنْصُوبٌ بِهَا كَأَنَّكَ قُلْتَ وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ لَهُمْ وَيَرْتَفِعُ بِالِابْتِدَاءِ أَيْ وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ كَائِنٌ لَهُمْ. الْبَحْثُ الثَّانِي: الْجُمْهُورُ يَقِفُونَ عَلَى التَّاءِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلاتَ وَالْكِسَائِيُّ يَقِفُ عَلَيْهَا بِالْهَاءِ كَمَا يَقِفُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْمُؤَنَّثَةِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ التَّاءُ دَاخِلَةٌ عَلَى الْحِينِ فَلَا وَجْهَ لَهُ، وَاسْتِشْهَادُهُ بِأَنَّ التَّاءَ مُلْتَزِقَةٌ بِحِينَ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ فَضَعِيفٌ فَكَمْ وَقَعَتْ فِي الْمُصْحَفِ أَشْيَاءُ خَارِجَةٌ عَنْ قِيَاسِ الْخَطِّ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الْمَنَاصُ الْمَنْجَا وَالْغَوْثُ، يُقَالُ نَاصَهُ يَنُوصُهُ إِذَا أَغَاثَهُ، واستناص طلب المناص، والله أعلم. [سورة ص (38) : الآيات 4 الى 7] وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) مَا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ كَوْنَهُمْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ أَرْدَفَهُ بِشَرْحِ كَلِمَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ فَقَالَ وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمْ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ مُحَمَّدًا مساو لنا في الخلفة الظَّاهِرَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْبَاطِنَةِ وَالنَّسَبِ وَالشَّكْلِ وَالصُّورَةِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُخْتَصَّ مِنْ بَيْنِنَا بِهَذَا الْمَنْصِبِ العالي والدرجات الرفيعة وَالثَّانِي: أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى كَمَالِ/ جَهَالَتِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جَاءَهُمْ رَجُلٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَتَعْظِيمِ الْمَلَائِكَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الْآخِرَةِ، وَالتَّنْفِيرِ عَنِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِنْ أَقَارِبِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَانَ بَعِيدًا مِنَ الْكَذِبِ وَالتُّهْمَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ الِاعْتِرَافَ بِتَصْدِيقِهِ، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامَ لِحَمَاقَتِهِمْ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ قَوْلِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 69] فَقَالَ: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَمَعْنَاهُ أَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ مِنْ رَهْطِهِمْ وَعَشِيرَتِهِمْ وَكَانَ مُسَاوِيًا لَهُمْ فِي الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَاسْتَنْكَفُوا مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ طَاعَتِهِ وَمِنَ الِانْقِيَادِ لِتَكَالِيفِهِ، وَعَجِبُوا أَنْ يُخْتَصَّ هُوَ مِنْ بَيْنِهِمْ بِرِسَالَةِ اللَّهِ وَأَنْ يَتَمَيَّزَ عَنْهُمْ بِهَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ الشَّرِيفَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا كَانَ لِهَذَا التَّعَجُّبِ سَبَبٌ إِلَّا الْحَسَدَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ وَقَالُوا بَلْ قَالَ: وَقالَ الْكافِرُونَ إِظْهَارًا لِلتَّعَجُّبِ وَدَلَالَةً عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنِ الْكُفْرِ التَّامِّ، فَإِنَّ السَّاحِرَ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَيَدْعُو إِلَى طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَهُوَ عِنْدَكُمْ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ وَالْكَذَّابُ هُوَ الَّذِي يُخْبِرُ عَنِ الشَّيْءِ لَا عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُخْبِرُ عَنْ وُجُودِ الصَّانِعِ الْقَدِيمِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ وَعَنِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَثْبُتُ بِدَلَائِلِ الْعُقُولِ صِحَّتُهَا فَكَيْفَ يَكُونُ كَذَّابًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى جَمِيعَ مَا عَوَّلُوا عَلَيْهِ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِهِ كَاذِبًا وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِلَهِيَّاتِ وَثَانِيهَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالنُّبُوَّاتِ وَثَالِثُهَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعَادِ، أَمَّا الشُّبْهَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْإِلَهِيَّاتِ فَهِيَ قَوْلُهُمْ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ فَرِحَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ فَرَحَا شَدِيدًا وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى قُرَيْشٍ فَاجْتَمَعَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ نَفْسًا مِنْ صَنَادِيدِهِمْ وَمَشَوْا إِلَى أَبِي طَالِبٍ وَقَالُوا أَنْتَ شَيْخُنَا وَكَبِيرُنَا وَقَدْ عَلِمْتَ مَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءُ يَعْنُونَ الْمُسْلِمِينَ فَجِئْنَاكَ لِتَقْضِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ أَخِيكَ فَاسْتَحْضَرَ أَبُو طَالِبٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي هَؤُلَاءِ قَوْمُكَ يَسْأَلُونَكَ السُّؤَالَ فَلَا تَمِلْ كُلَّ الْمَيْلِ عَلَى قومك،

فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاذَا يَسْأَلُونَنِي، قَالُوا ارْفُضْنَا وَارْفُضْ ذِكْرَ آلِهَتِنَا وَنَدَعُكَ وَإِلَهَكَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَعْطَيْتُكُمْ مَا سَأَلْتُمْ أَتُعْطُونِي أَنْتُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً تَمْلِكُونَ بِهَا الْعَرَبَ وَتَدِينُ لَكُمُ الْعَجَمُ؟ قَالُوا نَعَمْ، قَالَ تَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَامُوا وَقَالُوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ أَيْ بَلِيغٌ فِي التَّعَجُّبِ وَأَقُولُ مَنْشَأُ التَّعَجُّبِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ الْقَوْمَ مَا كَانُوا مِنْ أَصْحَابِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بَلْ كَانَتْ أَوْهَامُهُمْ تَابِعَةً لِلْمَحْسُوسَاتِ فَلَمَّا وَجَدُوا فِي الشَّاهِدِ أَنَّ الْفَاعِلَ الْوَاحِدَ لَا تفي قدرته وعمله بِحِفْظِ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ قَاسُوا الْغَائِبَ عَلَى الشَّاهِدِ، فَقَالُوا لَا بُدَّ فِي حِفْظِ هَذَا الْعَالَمِ الْكَثِيرِ مِنْ آلِهَةٍ كَثِيرَةٍ يَتَكَفَّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحِفْظِ نَوْعٍ آخَرَ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ أَسْلَافَهُمْ لِكَثْرَتِهِمْ وَقُوَّةِ عُقُولِهِمْ كَانُوا مُطْبِقِينَ عَلَى الشِّرْكِ، فَقَالُوا مِنَ الْعَجَبِ الْعَجِيبِ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامُ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَقُوَّةِ عُقُولِهِمْ كَانُوا جَاهِلِينَ مُبْطِلِينَ، وَهَذَا الْإِنْسَانُ الْوَاحِدُ يَكُونُ مُحِقًّا صَادِقًا، وَأَقُولُ لَعَمْرِي لَوْ سَلَّمْنَا إِجْرَاءَ حُكْمِ الشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَحُجَّةٍ، لَكَانَتِ الشُّبْهَةُ الْأُولَى لَازِمَةً، وَلَمَّا تَوَافَقْنَا عَلَى فَسَادِهَا عَلِمْنَا أَنَّ إِجْرَاءَ حُكْمِ الشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ فَاسِدٌ قَطْعًا، وَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَقَدْ بَطَلَ أَصْلُ كَلَامِ الْمُشَبِّهَةِ فِي الذَّاتِ وَكَلَامُ الْمُشَبِّهَةِ فِي الْأَفْعَالِ، أَمَّا الْمُشَبِّهَةُ/ فِي الذَّاتِ فَهُوَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَمَّا كَانَ كُلُّ مَوْجُودٍ فِي الشَّاهِدِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَمُخْتَصًّا بِحَيِّزٍ وَجَبَ فِي الْغَائِبِ أَنْ يَكُونَ كذلك، وأما الْمُشَبِّهَةُ فِي الْأَفْعَالِ فَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ الْأَمْرَ الْفُلَانِيَّ قَبِيحٌ مِنَّا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا مِنَ اللَّهِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِنْ صَحَّ كَلَامُ هَؤُلَاءِ الْمُشَبِّهَةِ فِي الذَّاتِ وَفِي الْأَفْعَالِ لَزِمَ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ شُبْهَةِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَحَيْثُ تَوَافَقْنَا عَلَى فَسَادِهَا عَلِمْنَا أن عمدة كلام الْمُجَسِّمَةِ وَكَلَامَ الْمُعْتَزِلَةِ بَاطِلٌ فَاسِدٌ. وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ فَلَعَمْرِي لَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ حَقًّا لَكَانَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ لَازِمَةً وَحَيْثُ كَانَتْ فَاسِدَةً عَلِمْنَا أن التقليد باطل بقي هاهنا أبحاث: البحث الأولى: أَنَّ الْعُجَابَ هُوَ الْعَجِيبُ إِلَّا أَنَّهُ أَبْلَغُ مِنَ الْعَجِيبِ كَقَوْلِهِمْ طَوِيلٌ وَطُوَالٌ وَعَرِيضٌ وَعُرَاضٌ وَكَبِيرٌ وَكُبَارٌ وَقَدْ يُشَدَّدُ لِلْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً [نوح: 22] . الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ عُجَابٌ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ فَقَالَ وَالتَّشْدِيدُ أَبْلَغُ مِنَ التَّخْفِيفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَكْراً كُبَّاراً. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَلَأَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ إِذَا حَضَرُوا فِي الْمَجْلِسِ فَإِنَّهُ تَمْتَلِئُ الْقُلُوبُ وَالْعُيُونُ مِنْ مَهَابَتِهِمْ وَعَظَمَتِهِمْ، وَقَوْلُهُ مِنْهُمْ أَيْ مِنْ قُرَيْشٍ انْطَلَقُوا عَنْ مَجْلِسِ أَبِي طالب، بعد ما بَكَتَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَوَابِ الْعَتِيدِ قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ (أَنِ امْشُوا) وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ امْشُوا بِحَذْفِ أَنْ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» (أَنْ) بِمَعْنَى أَيْ لِأَنَّ الْمُنْطَلِقِينَ عَنْ مَجْلِسِ التَّقَاوُلِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمُوا وَيَتَفَاوَضُوا فِيمَا يَجْرِي فِي الْمَجْلِسِ الْمُتَقَدِّمِ، فَكَانَ انْطِلَاقُهُمْ مُضَمَّنًا مَعْنَى الْقَوْلِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ يَمْشُونَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: مَعْنَى أَنِ امْشُوا أَنَّهُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ امْشُوا وَاصْبِرُوا، فَلَا حِيلَةَ لَكُمْ فِي دَفْعِ أَمْرِ مُحَمَّدٍ، إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: ظُهُورُ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ يُثْبِتُ أَنَّ تَزَايُدَ ظُهُورِهِ لَيْسَ إِلَّا لِأَنَّ اللَّهَ يُرِيدُهُ، وَمَا أَرَادَ اللَّهُ كَوْنَهُ فَلَا دَافِعَ لَهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَمْرَ كَشَيْءٍ مِنْ نَوَائِبِ الدَّهْرِ فَلَا انْفِكَاكَ لَنَا مِنْهُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ دِينَكُمْ لَشَيْءٌ يُرَادُ أَيْ يُطْلَبُ لِيُؤْخَذَ مِنْكُمْ، قَالَ الْقَفَّالُ هَذِهِ كَلِمَةٌ تُذْكَرُ لِلتَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ وكأن

[سورة ص (38) : الآيات 8 إلى 11]

مَعْنَاهَا أَنَّهُ لَيْسَ غَرَضُ مُحَمَّدٍ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ تَقْرِيرَ الدِّينِ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْنَا فَيَحْكُمَ فِي أَمْوَالِنَا وَأَوْلَادِنَا بِمَا يُرِيدُ. ثُمَّ قَالَ: مَا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ وَالْمِلَّةُ الْآخِرَةُ هِيَ مِلَّةُ النَّصَارَى فَقَالُوا إِنَّ هَذَا التَّوْحِيدَ الَّذِي أَتَى بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَمِعْنَاهُ فِي دِينِ النَّصَارَى، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمِلَّةِ الْآخِرَةِ ملة قريش التي أدركوا آباءهم عليها، ثُمَّ قَالُوا: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ افْتِعَالٌ وَكَذِبٌ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُمْ قَالُوا نَحْنُ مَا سَمِعْنَا عَنْ أَسْلَافِنَا الْقَوْلَ بِالتَّوْحِيدِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا، وَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ بِالتَّقْلِيدِ حَقًّا لَكَانَ كَلَامُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ حَقًّا، وَحَيْثُ كَانَ بَاطِلًا عَلِمْنَا أَنَّ الْقَوْلَ بالتقليد باطل. [سورة ص (38) : الآيات 8 الى 11] أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ لِأُولَئِكَ الْكُفَّارِ وَهِيَ الشُّبْهَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنُّبُوَّاتِ وَهِيَ قَوْلُهُمْ إِنَّ مُحَمَّدًا لَمَّا كَانَ مُسَاوِيًا لِغَيْرِهِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْخِلْقَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْبَاطِنَةِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُخْتَصَّ هُوَ بِهَذِهِ الدَّرَجَةِ الْعَالِيَةِ وَالْمَنْزِلَةِ الشَّرِيفَةِ؟ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قولهم: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا فَإِنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ أَنَّهُمْ قَالُوا مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ فَقَالُوا: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ [الْقَمَرِ: 25] وَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزُّخْرُفِ: 31] وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ: أَنَّهُمْ قَالُوا النُّبُوَّةُ أَشْرَفُ الْمَرَاتِبِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَحْصُلَ إِلَّا لِأَشْرَفِ النَّاسِ وَمُحَمَّدٌ لَيْسَ أَشْرَفَ النَّاسِ، فَوَجَبَ أن لا تحصل له والنبوة، والمقدمتان الأوليان حقيتان لَكِنَّ الثَّالِثَةَ كَاذِبَةٌ وَسَبَبُ رَوَاجِ هَذَا التَّغْلِيطِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الشَّرَفَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْمَالِ وَالْأَعْوَانِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ مَرَاتِبَ السعادة ثلاثة أَعْلَاهَا هِيَ النَّفْسَانِيَّةُ وَأَوْسَطُهَا هِيَ الْبَدَنِيَّةُ وَأَدْوَنُهَا هِيَ الْخَارِجِيَّةُ وَهِيَ الْمَالُ وَالْجَاهُ، فَالْقَوْمُ عَكَسُوا القضية وظنوا بأخس المراتب أشرافها فَلَمَّا وَجَدُوا الْمَالَ وَالْجَاهَ عِنْدَ غَيْرِهِ أَكْثَرَ ظَنُّوا أَنَّ غَيْرَهُ أَشْرَفُ مِنْهُ، فَحِينَئِذٍ انْعَقَدَ هَذَا الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ فِي أَفْكَارِهِمْ، ثُمَّ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي أَيْ مِنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي لَوْ نَظَرُوا فِيهَا لَزَالَ هَذَا الشَّكُّ عَنْهُمْ وَذَلِكَ لَأَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الشُّبُهَاتِ فَهِيَ كَلِمَاتٌ ضَعِيفَةٌ وَأَمَّا الدَّلَائِلُ الَّتِي تَدُلُّ بِنَفْسِهَا عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، فَهِيَ دَلَائِلُ قَاطِعَةٌ فَلَوْ تَأَمَّلُوا حَقَّ التَّأَمُّلِ فِي الْكَلَامِ لَوَقَفُوا عَلَى ضَعْفِ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي إِبْطَالِ النُّبُوَّةِ، وَلَعَرَفُوا صِحَّةَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، فَحَيْثُ لَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ تَرَكُوا النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ لَمَّا/ يَذُوقُوا عَذابِ فَمَوْقِعُهُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا تَرَكُوا النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ لِأَنِّي لَمْ أُذِقْهُمْ عَذَابِي، وَلَوْ ذَاقُوهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِقْبَالُ عَلَى أَدَاءِ الْمَأْمُورَاتِ وَالِانْتِهَاءُ عَنِ الْمَنْهِيَّاتِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مان يُخَوِّفُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ لَوْ أَصَرُّوا

[سورة ص (38) : الآيات 12 إلى 20]

عَلَى الْكُفْرِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ، وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ، فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِشَكِّهِمْ فِي صِدْقِهِ، وَقَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الْأَنْفَالِ: 32] فَقَالَ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ مَعْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّكَّ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ عَدَمِ نُزُولِ الْعَذَابِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَوَابِ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ مَنْصِبٌ عَظِيمٌ وَدَرَجَةٌ عَالِيَةٌ وَالْقَادِرُ عَلَى هِبَتِهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَزِيزًا أَيْ كَامِلَ الْقُدْرَةِ وَوَهَّابًا أَيْ عَظِيمَ الْجُودِ وَذَلِكَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِذَا كَانَ هُوَ تَعَالَى كَامِلَ الْقُدْرَةِ وَكَامِلَ الْجُودِ، لَمْ يَتَوَقَّفْ كَوْنُهُ وَاهِبًا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ عَلَى كَوْنِ الْمَوْهُوبِ مِنْهُ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، وَلَمْ يَخْتَلِفْ ذَلِكَ أَيْضًا بِسَبَبِ أَنَّ أَعْدَاءَهُ يُحِبُّونَهُ أَوْ يَكْرَهُونَهُ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مُغَايِرًا لِلْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ وَالْفَرْقُ أَنَّ خَزَائِنَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ كَمَا قَالَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ ومن جملة تلك الخزائن هو هذه السموات وَالْأَرْضُ، فَلَمَّا ذَكَّرَنَا الْخَزَائِنَ أَوَّلًا عَلَى عُمُومِهَا أَرْدَفَهَا بِذِكْرِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَحَدُ أَنْوَاعِ خَزَائِنِ اللَّهِ، فَإِذَا كُنْتُمْ عَاجِزِينَ عَنْ هَذَا الْقِسْمِ، فَبِأَنْ تَكُونُوا عَاجِزِينَ عَنْ كُلِّ خَزَائِنِ اللَّهِ كَانَ أَوْلَى، فَهَذَا مَا أَمْكَنَنِي ذِكْرُهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِنِ ادَّعَوْا أَنَّ لهم ملك السموات وَالْأَرْضِ فَعِنْدَ هَذَا يُقَالُ لَهُمُ ارْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ وَاصْعَدُوا فِي الْمَعَارِجِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْعَرْشِ حَتَّى يَرْتَقُوا عَلَيْهِ وَيُدَبِّرُوا أَمْرَ الْعَالَمِ وَمَلَكُوتَ اللَّهِ وَيُنْزِلُوا الْوَحْيَ عَلَى مَنْ يَخْتَارُونَ، وَاعْلَمْ أَنَّ حُكَمَاءَ الْإِسْلَامِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ: فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ عَلَى أَنَّ الْأَجْرَامَ الْفَلَكِيَّةَ وَمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْقُوَى وَالْخَوَاصِّ أَسْبَابٌ لِحَوَادِثِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْفَلَكِيَّاتِ أَسْبَابًا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ فَفِيهِ مَقَامَانِ مِنَ الْبَحْثِ أَحَدُهُمَا: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَالثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِهَا بِمَا قَبْلَهَا أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَقَوْلُهُ: جُنْدٌ مُبْتَدَأٌ وَمَا لِلْإِيهَامِ كَقَوْلِهِ جِئْتُ لِأَمْرٍ مَا، وَعِنْدِي طَعَامٌ مَا، ومِنَ الْأَحْزابِ صفة لجند ومَهْزُومٌ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: هُنالِكَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِجُنْدٍ أَيْ جُنْدٌ ثَابِتٌ هُنَالِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَهْزُومٍ مَعْنَاهُ أَنَّ الْجُنْدَ مِنَ الْأَحْزَابِ مَهْزُومٌ هُنَالِكَ، أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانُوا يَذْكُرُونَ/ فِيهِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الطَّاعِنَةَ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّهُ تعالى لما قال إن كانوا يملكون السموات وَالْأَرْضَ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ، ذَكَرَ عَقِيبَهُ أَنَّهُمْ جند من الأحزاب منهزمون ضعيفون، فكيف يكونون مالكي السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، قَالَ قَتَادَةُ هُنَالِكَ إِشَارَةٌ إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَكَّةَ أَنَّهُ سَيُهْزَمُ جُنْدُ الْمُشْرِكِينَ فَجَاءَ تَأْوِيلُهَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَقِيلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَالْأَصْوَبُ عِنْدِي حَمْلُهُ عَلَى يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ جُنْدٌ سَيَصِيرُونَ مُنْهَزِمِينَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي ذَكَرُوا فِيهِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَذَلِكَ الْمَوْضِعُ هُوَ مَكَّةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ سَيَصِيرُونَ مُنْهَزِمِينَ فِي مَكَّةَ وَمَا ذَاكَ إِلَّا يَوْمَ الفتح. والله أعلم. [سورة ص (38) : الآيات 12 الى 20] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَا لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20)

قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ، وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ، إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ، وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً مَا لَها مِنْ فَواقٍ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْجَوَابِ عَنْ شُبْهَةِ الْقَوْمِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا تَوَانَوْا وَتَكَاسَلُوا فِي النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، لِأَجْلِ أَنَّهُمْ لَمْ يَنْزِلْ بِهِمُ الْعَذَابُ، بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَقْوَامَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ هَكَذَا كَانُوا ثُمَّ بِالْآخِرَةِ نَزَلَ ذَلِكَ الْعِقَابُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَخْوِيفُ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يُكَذِّبُونَ الرَّسُولَ فِي إِخْبَارِهِ عَنْ نُزُولِ الْعِقَابِ عَلَيْهِمْ، فَذَكَرَ اللَّهُ سِتَّةَ أَصْنَافٍ مِنْهُمْ أَوَّلُهُمْ قَوْمُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمَّا كَذَّبُوا نُوحًا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِالْغَرَقِ وَالطُّوفَانُ والثاني: عاد قَوْمُ هُودٍ لَمَّا كَذَّبُوهُ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِالرِّيحِ وَالثَّالِثُ: فِرْعَوْنُ لَمَّا كَذَّبَ مُوسَى أَهْلَكَهُ اللَّهُ مَعَ قَوْمِهِ بِالْغَرَقِ وَالرَّابِعُ: ثَمُودُ قَوْمُ صَالِحٍ لَمَّا كَذَّبُوهُ فَأُهْلِكُوا بِالصَّيْحَةِ وَالْخَامِسُ: قَوْمُ لُوطٍ كذبوه فأهلكوا بِالْخَسْفِ وَالسَّادِسُ: أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَهُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ كَذَّبُوهُ فَأُهْلِكُوا بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ، قَالُوا وَإِنَّمَا وَصَفَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ بِكَوْنِهِ ذَا الْأَوْتَادِ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ ثَبَاتِ الْبَيْتِ الْمُطْنَبِ بِأَوْتَادِهِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِإِثْبَاتِ الْعِزِّ وَالْمُلْكِ قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَقَدْ غَنُوا فِيهَا بِأَنْعَمِ عِيشَةٍ ... فِي ظِلِّ مُلْكٍ ثَابِتِ الْأَوْتَادِ قَالَ الْقَاضِي حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى لأنه لما وَصْفٌ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، فَيَجِبُ فِيمَا وُصِفَ بِهِ أَنْ يَكُونَ تَفْخِيمًا لِأَمْرِ مُلْكِهِ لِيَكُونَ الزَّجْرُ بِمَا وَرَدَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ الْهَلَاكِ/ مَعَ قُوَّةِ أَمْرِهِ أَبْلَغَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَنْصِبُ الْخَشَبَ فِي الْهَوَاءِ وَكَانَ يَمُدُّ يَدَيِ الْمُعَذَّبِ وَرِجْلَيْهِ إِلَى تِلْكَ الْخَشَبِ الْأَرْبَعِ، وَيَضْرِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ وَتِدًا، وَيَتْرُكُهُ مُعَلَّقًا فِي الْهَوَاءِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ يَمُدُّ الْمُعَذَّبَ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَوْتَادٍ فِي الْأَرْضِ وَيُرْسِلُ عَلَيْهِ الْعَقَارِبَ وَالْحَيَّاتِ وَالرَّابِعُ: قَالَ قَتَادَةُ كَانَتْ أَوْتَادًا وَأَرْسَانًا وَمَلَاعِبَ يُلْعَبُ بِهَا عِنْدَهُ وَالْخَامِسُ: أَنَّ عَسَاكِرَهُ كَانُوا كَثِيرِينَ، وَكَانُوا كَثِيرِي الْأُهْبَةِ عَظِيمِي النِّعَمِ، وَكَانُوا يُكْثِرُونَ مِنَ الْأَوْتَادِ لِأَجْلِ الْخِيَامِ فَعُرِفَ بِهَا وَالسَّادِسُ: ذُو الْأَوْتَادِ وَالْجُمُوعِ الْكَثِيرَةِ، وَسُمِّيَتِ الْجُمُوعُ أَوْتَادًا لِأَنَّهُمْ يُقِرُّونَ أَمْرَهُ وَيَشُدُّونَ مَمْلَكَتَهُ كَمَا يُقَوِّي الْوَتِدُ الْبِنَاءَ «1» . وَأَمَّا الْأَيْكَةُ فهي الغيضة الملتفة.

_ (1) الأولى أن تفسر الأوتاد هنا بالأهرام، فإنها خاصة بالفراعين في مصر، وإنما جاز أن نسميها أوتادا تشبيها لها بالجبال في الرسوخ في الأرض والعظم والسموق والعلو والارتفاع، والله تعالى سمى الجبال أوتادا في القرآن بقوله وَالْجِبالَ أَوْتاداً. [النبأ: 7] .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الْأَحْزابُ وَفِيهِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ مِنَ الْأُمَمِ هم الذين تحزبوا على أنيائهم فَأَهْلَكْنَاهُمْ، فَكَذَلِكَ نَفْعَلُ بِقَوْمِكَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ [ص: 11] أَنَّ قَوْمَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُنْدٌ مِنَ الْأَحْزَابِ، أَيْ مِنْ جِنْسِ الْأَحْزَابِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ عَامَلَ الْأَحْزَابَ الْمُتَقَدِّمِينَ بِالْإِهْلَاكِ كَانَ ذَلِكَ تَخْوِيفًا شَدِيدًا لِقَوْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ الْأَحْزابُ مُبَالَغَةٌ لِوَصْفِهِمْ بِالْقُوَّةِ وَالْكَثْرَةِ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ هُوَ الرَّجُلُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ حَالَ أُولَئِكَ الْأَحْزَابِ مَعَ كَمَالِ قُوَّتِهِمْ لَمَّا كَانَ هُوَ الْهَلَاكَ وَالْبَوَارَ، فَكَيْفَ حَالُ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ الْمَسَاكِينِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامَ إِنْ صَدَّقُوا بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ فَهُوَ تَحْذِيرٌ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِهَا فَهُوَ تَحْذِيرٌ أَيْضًا، لِأَنَّ آثَارَ هَذِهِ الْوَقَائِعِ بَاقِيَةٌ وَهُوَ يُفِيدُ الظَّنَّ الْقَوِيَّ فيحذرون، ولأن ذكر ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرِيرِ يُوجِبُ الْحَذَرَ أَيْضًا، ثُمَّ قَالَ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ أَيْ كُلُّ هَذِهِ الطَّوَائِفِ لَمَّا كَذَّبُوا أَنْبِيَاءَهُمْ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، لَا جَرَمَ نَزَلَ الْعِقَابُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ حِينٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ زَجْرُ السَّامِعِينَ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ وَإِنْ تَأَخَّرَ هَلَاكُهُمْ فَكَأَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ فَقَالَ: وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً مَا لَها مِنْ فَواقٍ وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الصَّيْحَةِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يكون المراد عذابا يفجؤهم وَيَجِيئُهُمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، كَمَا يُقَالُ صَاحَ الزَّمَانُ بِهِمْ إِذَا هَلَكُوا قَالَ الشَّاعِرُ: صَاحَ الزَّمَانُ بِآلِ بَرْمَكٍ صَيْحَةً ... خَرُّوا لِشِدَّتِهَا عَلَى الْأَذْقَانِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ ذَلِكَ مِنَ الْغَارَةِ إِذَا عَافَصَتِ الْقَوْمَ فَوَقَعَتِ الصَّيْحَةُ فِيهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ [يُونُسَ: 102] الْآيَةَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الصَّيْحَةَ هِيَ صَيْحَةُ النَّفْخَةِ الْأُولَى فِي الصُّورِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ يس: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ [يس: 49] وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَذُوقُوا عَذَابِي فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مُعَدٌّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَكَأَنَّهُمْ بِذَلِكَ الْعَذَابِ وَقَدْ جَاءَهُمْ فَجَعَلَهُمْ مُنْتَظِرِينَ لَهَا عَلَى مَعْنَى قُرْبِهَا مِنْهُمْ، كَالرَّجُلِ الَّذِي يَنْتَظِرُ الشَّيْءَ فَهُوَ مَادُّ الطَّرْفِ إِلَيْهِ يَطْمَعُ كُلَّ سَاعَةٍ فِي حُضُورِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَ هَذِهِ الصَّيْحَةَ فَقَالَ: مَا لَها مِنْ فَواقٍ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فَواقٍ بِضَمِّ الْفَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ/ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: هُمَا لُغَتَانِ مِنْ فَوَاقِ النَّاقَةِ. وَهُوَ مَا بَيْنَ حَلْبَتَيِ النَّاقَةِ وَأَصْلُهُ مِنَ الرُّجُوعِ، يُقَالُ أَفَاقَ مِنْ مَرَضِهِ، أَيْ رَجَعَ إِلَى الصِّحَّةِ، فَالزَّمَانُ الْحَاصِلُ بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ لِعَوْدِ اللَّبَنِ إِلَى الضَّرْعِ يُسَمَّى فَوَاقًا بِالْفَتْحِ وَبِالضَّمِّ، كَقَوْلِكَ قَصَاصُ الشَّعَرِ وَقُصَاصُهُ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْفُوَاقُ وَالْفَوَاقُ اسْمَانِ مِنَ الْإِفَاقَةِ، وَالْإِفَاقَةُ مَعْنَاهَا الرُّجُوعُ وَالسُّكُونُ كَإِفَاقَةِ الْمَرِيضِ، إِلَّا أَنَّ الْفَوَاقَ بِالْفَتْحِ يَجُوزُ أَنْ يُقَامَ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، وَالْفُوَاقُ بِالضَّمِّ اسْمٌ لِذَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي يَعُودُ فِيهِ اللَّبَنُ إِلَى الضَّرْعِ، وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الآية: «يأمر الله إِسْرَافِيلُ فَيَنْفُخُ نَفْخَةَ الْفَزَعِ، قَالَ فَيُمِدُّهَا وَيُطَوِّلُهَا» وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ: مَا لَها مِنْ فَواقٍ ثُمَّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا لَهَا سُكُونٌ وَالثَّانِي: مَا لَهَا رُجُوعٌ، وَالْمَعْنَى مَا تَسْكُنُ تِلْكَ الصَّيْحَةُ وَلَا تَرْجِعُ إِلَى السُّكُونِ، وَيُقَالُ لِكُلِّ مَنْ بَقِيَ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، إِنَّهُ لَا يُفِيقُ مِنْهُ وَلَا يستفيق، والله أعلم. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ.

فالقصة الأولى: قصة داود،

اعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ [ص: 4] أن القوم إنما تعجبوا لشبهات ثلاثة أَوَّلُهَا: تَتَعَلَّقُ بِالْإِلَهِيَّاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً وَالثَّانِيَةُ: تَتَعَلَّقُ بِالنُّبُوَّاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص: 8] وَالثَّالِثَةُ: تَتَعَلَّقُ بِالْمَعَادَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا فِي نِهَايَةِ الْإِنْكَارِ لِلْقَوْلِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، فَكَانُوا يَسْتَدِلُّونَ بِفَسَادِ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ عَلَى فَسَادِ نُبُوَّتِهِ، وَالْقِطُّ الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ لِأَنَّهُ قُطِعَ مِنْهُ مِنْ قِطِّهِ إِذَا قَطَعَهُ وَيُقَالُ لِصَحِيفَةِ الْجَائِزَةِ قِطُّ، وَلَمَّا ذَكَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ، قَالُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ: عَجِّلْ لَنَا نَصِيبَنَا مِنَ الْجَنَّةِ، أَوْ عَجِّلْ لَنَا صَحِيفَةَ أَعْمَالِنَا حَتَّى نَنْظُرَ فِيهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا بَالَغُوا فِي السَّفَاهَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قالوا: إنه سَاحِرٌ كَذَّابٌ وَقَالُوا لَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ عَجِّلْ لَنا قِطَّنا أَمَرَهُ اللَّهُ بِالصَّبْرِ عَلَى سَفَاهَتِهِمْ، فَقَالَ: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ فَإِنْ قِيلَ. أَيُّ تَعَلُّقٍ بَيْنَ قَوْلِهِ: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ؟ قُلْنَا بَيَانُ هَذَا التَّعَلُّقِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: كَأَنَّهُ قِيلَ إِنْ كُنْتَ قَدْ شَاهَدْتَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ جَرَاءَتَهُمْ عَلَى اللَّهِ وَإِنْكَارَهُمُ الْحَشْرَ وَالنَّشْرَ، فَاذْكُرْ قِصَّةَ دَاوُدَ حَتَّى تَعْرِفَ شِدَّةَ خَوْفِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ/ يَوْمِ الْحَشْرِ، فَإِنَّ بِقَدْرِ مَا يَزْدَادُ أَحَدُ الضِّدَّيْنِ شَرَفًا يَزْدَادُ الضِّدُّ الْآخَرُ نُقْصَانًا وَالثَّانِي: كَأَنَّهُ قِيلَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَضِيقُ صَدْرُكَ بِسَبَبِ إِنْكَارِهِمْ لِقَوْلِكَ وَدِينِكَ، فَإِنَّهُمْ إِذَا خَالَفُوكَ فَالْأَكَابِرُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَافَقُوكَ وَالثَّالِثُ: أَنَّ لِلنَّاسِ فِي قِصَّةِ دَاوُدَ قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَنْبِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ كَانَ وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِيهِ كَأَنَّهُ قِيلَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ حُزْنَكَ لَيْسَ إِلَّا، لِأَنَّ الْكُفَّارَ يُكَذِّبُونَكَ، وَأَمَّا حُزْنُ دَاوُدَ فَكَانَ بِسَبَبِ وُقُوعِهِ فِي ذَلِكَ الذَّنْبِ وَلَا شَكَّ أَنَّ حُزْنَهُ أَشَدُّ، فَتَأَمَّلْ فِي قِصَّةِ دَاوُدَ وَمَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْحُزْنِ الْعَظِيمِ حَتَّى يَخِفَّ عَلَيْكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ الْحُزْنِ وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي قَالَ الْخَصْمَانِ اللَّذَانِ دَخَلَا عَلَى دَاوُدَ كَانَا مِنَ الْبَشَرِ، وَإِنَّمَا دَخَلَا عَلَيْهِ لِقَصْدِ قَتْلِهِ فَخَافَ مِنْهُمَا دَاوُدُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِإِيذَائِهِمَا وَلَا دَعَا عَلَيْهِمَا بِسُوءٍ بَلِ اسْتَغْفَرَ لَهُمَا عَلَى مَا سَيَجِيءُ تَقْرِيرُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَلَا جَرَمَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ وَالْخَامِسُ: أَنَّ قُرَيْشًا إِنَّمَا كَذَّبُوا مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْتَخَفُّوا بِهِ لِقَوْلِهِمْ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ إِنَّهُ يَتِيمٌ فَقِيرٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَصَّ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَالَ مَمْلَكَةِ دَاوُدَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مَا سَلِمَ مِنَ الْأَحْزَانِ وَالْغُمُومِ، لِيَعْلَمَ أَنَّ الْخَلَاصَ عَنِ الْحُزْنِ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالسَّادِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ غَيْرُ مُقْتَصِرٍ عَلَى دَاوُدَ فَقَطْ بَلْ ذَكَرَ عَقِيبَ قِصَّةِ دَاوُدَ قِصَصَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاعْتَبِرْ بِحَالِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ لِيُعَلِّمَهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ مَشْغُولًا بِهَمٍّ خَاصٍّ وَحُزْنٍ خَاصٍّ، فَحِينَئِذٍ يَعْلَمُ أَنَّ الدُّنْيَا لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، وَأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ وَالْمَتَاعِبِ فِي الدُّنْيَا، وهذه وجوه ذكرناها في هذا المقام وهاهنا وَجْهٌ آخَرُ أَقْوَى وَأَحْسَنُ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، وَسَيَجِيءُ ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ [ص: 29] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ حَالَ تِسْعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَذَكَرَ حَالَ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ عَلَى التَّفْصِيلِ وَحَالَ سِتَّةٍ آخَرِينَ عَلَى الْإِجْمَالِ. فَالْقِصَّةُ الْأُولَى: قِصَّةُ دَاوُدَ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَجَامِعَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْكَلَامِ فَالْأَوَّلُ: تَفْصِيلُ مَا آتَى اللَّهُ دَاوُدَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي تُوجِبُ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا وَالثَّانِي: شَرْحُ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ الَّتِي

وَقَعَتْ لَهُ مِنْ أَمْرِ الْخَصْمَيْنِ وَالثَّالِثُ: اسْتِخْلَافُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بَعْدَ وُقُوعِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ شَرْحُ الصِّفَاتِ الَّتِي آتَاهَا اللَّهُ دَاوُدَ مِنَ الصِّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِكَمَالِ السعادة فهي عشرة الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ فَأَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَلَالَةِ قَدْرِهِ بِأَنْ يَقْتَدِيَ فِي الصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ بِدَاوُدَ وَذَلِكَ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ وَإِكْرَامٌ لِدَاوُدَ حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ أَفْضَلَ الْخَلْقِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ فِي حَقِّهِ: عَبْدَنا داوُدَ فَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ عَبْدًا لَهُ وَعَبَّرَ عَنْ نَفْسِهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الدَّالَّةِ عَلَى نِهَايَةِ التَّعْظِيمِ، وَذَلِكَ غَايَةُ التَّشْرِيفِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُشَرِّفَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ قَالَ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 1] / فَهَهُنَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التَّشْرِيفِ لِدَاوُدَ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى عُلُوِّ دَرَجَتِهِ أَيْضًا، فَإِنَّ وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى الْأَنْبِيَاءَ بِعُبُودِيَّتِهِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ قَدْ حَقَّقُوا مَعْنَى الْعُبُودِيَّةِ بِسَبَبِ الِاجْتِهَادِ فِي الطَّاعَةِ وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ: ذَا الْأَيْدِ أَيْ ذَا الْقُوَّةِ عَلَى أَدَاءِ الطَّاعَةِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَدَحَهُ بِالْقُوَّةِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْقُوَّةُ مُوجِبَةً لِلْمَدْحِ، وَالْقُوَّةُ الَّتِي تُوجِبُ الْمَدْحَ الْعَظِيمَ لَيْسَتْ إِلَّا الْقُوَّةَ عَلَى فِعْلِ مَا أمر به وترك ما نهى عنه والْأَيْدِ المذكور هاهنا كالقوة المذكورة في قوله: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ [مَرْيَمَ: 12] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ [الْأَعْرَافِ: 145] أَيْ بِاجْتِهَادٍ فِي أَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَتَشَدُّدٍ فِي الْقِيَامِ بالدعوة وترك إظهار الوهن والضعف والأيد وَالْقُوَّةُ سَوَاءٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ [الْأَنْفَالِ: 62] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [الْبَقَرَةِ: 87] وَقَالَ: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذَّارِيَاتِ: 47] وَعَنْ قَتَادَةَ أُعْطِيَ قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ وَفِقْهًا فِي الدِّينِ، وَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ نِصْفَ الدَّهْرِ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: إِنَّهُ أَوَّابٌ أَيْ أَنَّ دَاوُدَ كَانَ رَجَّاعًا فِي أُمُورِهِ كُلِّهَا إِلَى طَاعَتِي وَالْأَوَّابُ فَعَّالٌ مِنْ آبَ إِذَا رَجَعَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ [الْغَاشِيَةِ: 25] وَفَعَّالٌ بِنَاءُ الْمُبَالَغَةِ كَمَا يُقَالُ قَتَّالٌ وَضَرَّابٌ فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ قَاتِلٍ وَضَارِبٍ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ «1» ونظير هذه الآية قوله تعالى: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سَبَأٍ: 10] وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ فِي جِسْمِ الْجَبَلِ حَيَاةً وَعَقْلًا وَقُدْرَةً وَمَنْطِقًا وَحِينَئِذٍ صَارَ الْجَبَلُ مُسَبِّحًا لِلَّهِ تَعَالَى وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ [الْأَعْرَافِ: 143] فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِي الْجَبَلِ عَقْلًا وَفَهْمًا، ثُمَّ خَلَقَ فِيهِ رُؤْيَةَ الله تعالى فكذا هاهنا الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ مَا رَوَاهُ الْقَفَّالُ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أُوتِيَ مِنْ شِدَّةِ الصَّوْتِ وَحُسْنِهِ مَا كَانَ لَهُ فِي الْجِبَالِ دَوِيٌّ حَسَنٌ، وَمَا يُصْغِي الطَّيْرُ إِلَيْهِ لِحُسْنِهِ فَيَكُونُ دَوِيُّ الْجِبَالِ وَتَصْوِيتُ الطَّيْرِ مَعَهُ وَإِصْغَاؤُهُ إِلَيْهِ تَسْبِيحًا، وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ مِثْلَ صَوْتِ دَاوُدَ حَتَّى إِنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ الزَّبُورَ دَنَتْ مِنْهُ الْوُحُوشُ حَتَّى يَأْخُذَ بِأَعْنَاقِهَا الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ سَخَّرَ الْجِبَالَ حَتَّى إِنَّهَا كَانَتْ تَسِيرُ إِلَى حَيْثُ يُرِيدُهُ دَاوُدُ وَجُعِلَ ذَلِكَ السَّيْرُ تَسْبِيحًا لِأَنَّهُ كَانَ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» يُسَبِّحْنَ فِي مَعْنَى مُسَبِّحَاتٍ، فَإِنْ قَالُوا هَلْ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَ يُسَبِّحْنَ وَمُسَبِّحَاتٍ قُلْنَا نَعَمْ، فَإِنَّ صِيغَةَ الْفِعْلِ تَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ وَالتَّجَدُّدِ، وَصِيغَةُ الِاسْمِ عَلَى الدوام على ما بينه

_ (1) هنا موضع ذكر قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ الآية وقد أدمج المؤلف تفسيرها هنا مع التي قبلها فاضطر إلى الخروج عن طريقته التي سار عليها من ذكر الآية مجملة ثم ذكرها مع تفسيرها مفصلة.

عَبْدُ الْقَاهِرِ النَّحْوِيُّ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ: يُسَبِّحْنَ يَدُلُّ عَلَى/ حُدُوثِ التَّسْبِيحِ مِنَ الْجِبَالِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَحَالًا بَعْدَ حَالٍ وَكَانَ السَّامِعُ حَاضِرُ تِلْكَ الْجِبَالِ يَسْمَعُهَا تُسَبِّحُ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ يُقَالُ شَرَقَتِ الشَّمْسُ إِذَا طَلَعَتْ وَأَشْرَقَتْ إِذَا أَضَاءَتْ وَقِيلَ هُمَا بِمَعْنًى، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ تَقُولُ الْعَرَبُ شَرَقَتِ الشَّمْسُ وَالْمَاءُ يُشْرِقُ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: احْتَجُّوا عَلَى شَرْعِيَّةِ صَلَاةِ الضُّحَى بِهَذِهِ الْآيَةِ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى صَلَاةَ الضُّحَى، وَقَالَ: يَا أُمَّ هَانِئٍ هَذِهِ صَلَاةُ الْإِشْرَاقِ» وَعَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «هَلْ تَجِدُونَ ذِكْرَ صَلَاةِ الضُّحَى فِي الْقُرْآنِ؟ قَالُوا لَا، فَقَرَأَ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ» وَقَالَ كَانَ يُصَلِّيهَا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ لَمْ يَزَلْ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنْ صَلَاةِ الضُّحَى حَتَّى وَجَدْتُهَا فِي قَوْلِهِ: يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ. الصِّفَةُ السَّادِسَةُ: مِنْ صِفَاتِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ «1» وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَالطَّيْرَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجِبَالِ وَالتَّقْدِيرُ وَسَخَّرْنَا الطَّيْرَ مَحْشُورَةً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ دَاوُدُ إِذَا سَبَّحَ جَاوَبَتْهُ الْجِبَالُ وَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ الطَّيْرُ فَسَبَّحَتْ مَعَهُ، وَاجْتِمَاعُهَا إِلَيْهِ هُوَ حَشْرُهَا فَيَكُونُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ حَاشِرُهَا هُوَ اللَّهُ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصْدُرُ تَسْبِيحُ اللَّهِ عَنِ الطَّيْرِ مَعَ أَنَّهُ لَا عَقْلَ لَهَا، قُلْنَا لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَخْلُقُ لَهَا عَقْلًا حَتَّى تَعْرِفَ اللَّهَ فَتُسَبِّحَهُ حِينَئِذٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ مُعْجِزَةً لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَوْلُهُ: مَحْشُورَةً فِي مُقَابَلَةِ يُسَبِّحْنَ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَشْرِ مِثْلُ مَا كَانَ فِي التَّسْبِيحِ مِنْ إِرَادَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُدُوثِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَلَا جَرَمَ جِيءَ بِهِ اسما لا فعلا، وذلك أنه لَوْ قِيلَ وَسَخَّرْنَا الطَّيْرَ مَحْشُورَةً يُسَبِّحْنَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْحَشْرَ وُجِدَ مِنْ حَاشِرِهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً دَلَّ عَلَى الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قُرِئَ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً بِالرَّفْعِ. الصِّفَةُ السَّابِعَةُ: مِنْ صِفَاتِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ وَمَعْنَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ أَوَّابٌ أَيْ رَجَّاعٌ، أَيْ كُلَّمَا رَجَعَ دَاوُدُ إِلَى التَّسْبِيحِ جَاوَبَتْهُ، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَيْضًا كَانَتْ تَرْجِعُ إِلَى تَسْبِيحَاتِهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الصِّفَةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا أَنَّ فِيمَا سَبَقَ عَلِمْنَا أَنَّ الْجِبَالَ وَالطَّيْرَ سَبَّحَتْ مَعَ تَسْبِيحِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبِهَذَا اللَّفْظِ فَهِمْنَا دَوَامَ تِلْكَ الْمُوَافَقَةِ وَقِيلَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَيْ كُلٌّ مِنْ دَاوُدَ وَالْجِبَالِ وَالطَّيْرِ لِلَّهِ أَوَّابٌ أَيْ مُسَبِّحٌ مُرَجِّعٌ لِلتَّسْبِيحِ. الصِّفَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أَيْ قَوَّيْنَاهُ وَقَالَ تَعَالَى: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ/ بِأَخِيكَ [الْقَصَصِ: 35] وَقِيلَ شَدَدْنَا عَلَى الْمُبَالَغَةِ، وَأَمَّا الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لِحُصُولِ هَذَا الشَّدِّ فكثيرة، وهي إما الأسباب

_ (1) كذلك فعل المؤلف هنا وفي الموضعين ما فعله في الآية التي أشرنا إليها بالهامش في ص 374 وقد اضطر إلى ذلك اضطرارا كما هو ظاهر وليس في هذا الصنيع أي إخلال بالتفسير وإنما هو مغايرة للتنظيم والتنسيق فحسب.

الدُّنْيَوِيَّةُ أَوِ الدِّينِيَّةُ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَذَكَرُوا فِيهِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: رَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَحْرُسُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ رَجُلٍ، فَإِذَا أَصْبَحَ قِيلَ ارْجِعُوا فَقَدْ رَضِيَ عَنْكُمْ نَبِيُّ اللَّهِ، وَزَادَ آخَرُونَ فَذَكَرُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا. قَالُوا وَكَانَ أَشَدَّ مُلُوكِ الْأَرْضِ سُلْطَانًا، وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عِنْدَ دَاوُدَ عَلَى رَجُلٍ أَخَذَ مِنْهُ بَقَرَةً فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَقَالَ دَاوُدُ لِلْمُدَّعِي أَقِمِ الْبَيِّنَةَ فَلَمْ يُقِمْهَا، فَرَأَى دَاوُدُ فِي مَنَامِهِ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَقْتُلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَثَبَتَ دَاوُدُ وَقَالَ هُوَ مَنَامٌ فَأَتَاهُ الْوَحْيُ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنْ تَقْتُلَهُ فَأَحْضَرَهُ وَأَعْلَمَهُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ صَدَقَ اللَّهُ إِنِّي كُنْتُ قَتَلْتُ أَبَا هَذَا الرَّجُلِ غِيلَةً فَقَتَلَهُ دَاوُدُ. فَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ شَدَّدَتْ مُلْكَهُ، وَأَمَّا الْأَسْبَابُ الدِّينِيَّةُ الْمُوجِبَةُ لِهَذَا الشَّدِّ فَهِيَ الصَّبْرُ وَالتَّأَمُّلُ التَّامُّ وَالِاحْتِيَاطُ الْكَامِلُ. الصِّفَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَةِ: 269] وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَضَائِلَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ النَّفْسَانِيَّةُ وَالْبَدَنِيَّةُ وَالْخَارِجِيَّةُ، وَالْفَضَائِلُ النَّفْسَانِيَّةُ مَحْصُورَةٌ فِي قِسْمَيْنِ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ، أَمَّا الْعِلْمُ فَهُوَ أَنْ تَصِيرَ النَّفْسُ بِالتَّصَوُّرَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالتَّصْدِيقَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ بِمُقْتَضَى الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ آتَيًا بِالْعَمَلِ الْأَصْلَحِ الْأَصْوَبِ بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَهَذَا هُوَ الْحِكْمَةُ وَإِنَّمَا سمي هذا بالحكمة لأن اشتقاق الحكمة من إحكام الأمور وتقويتها وتبعيدها عن أسباب الرخاوة والضعف، والاعتقادات الصائبة الصَّحِيحَةِ لَا تَقْبَلُ النَّسْخَ وَالنَّقْضَ فَكَانَتْ فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ، وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْمُطَابِقَةُ لِمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّهَا وَاجِبَةُ الرِّعَايَةِ وَلَا تَقْبَلُ النَّقْضَ وَالنَّسْخَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ سَمَّيْنَا تِلْكَ الْمَعَارِفَ وَهَذِهِ الْأَعْمَالَ بِالْحِكْمَةِ. الصِّفَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ: وَفَصْلَ الْخِطابِ وَاعْلَمْ أَنَّ أَجْسَامَ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: مَا تَكُونُ خَالِيَةً عَنِ الْإِدْرَاكِ وَالشُّعُورِ وَهِيَ الْجَمَادَاتُ وَالنَّبَاتَاتُ وَثَانِيهَا: الَّتِي يَحْصُلُ لَهَا إِدْرَاكٌ وَشُعُورٌ وَلَكِنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى تَعْرِيفِ غَيْرِهَا الْأَحْوَالَ الَّتِي عَرَفُوهَا فِي الْأَكْثَرِ وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ جُمْلَةُ الْحَيَوَانَاتِ سِوَى الْإِنْسَانِ وَثَالِثُهَا: الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ إِدْرَاكٌ وَشُعُورٌ وَيَحْصُلُ عِنْدَهُ قُدْرَةٌ عَلَى تَعْرِيفِ غَيْرِهِ الْأَحْوَالَ الْمَعْلُومَةَ لَهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِنْسَانُ وَقُدْرَتُهُ عَلَى تَعْرِيفِ الغير الْأَحْوَالَ الْمَعْلُومَةَ عِنْدَهُ بِالنُّطْقِ وَالْخِطَابِ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ مُخْتَلِفُونَ فِي مَرَاتِبِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّعْبِيرِ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إِيرَادُ الْكَلَامِ الْمُرَتَّبِ الْمُنْتَظِمِ بَلْ يَكُونُ مُخْتَلِطَ الْكَلَامِ مُضْطَرِبَ الْقَوْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ التَّرْتِيبُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى ضَبْطِ الْمَعْنَى وَالتَّعْبِيرِ عَنْهُ إِلَى/ أَقْصَى الْغَايَاتِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ الْقُدْرَةُ فِي حَقِّهِ أَكْمَلَ كَانَتِ الْآثَارُ الصَّادِرَةُ عَنِ النَّفْسِ النُّطْقِيَّةِ فِي حَقِّهِ أَكْمَلَ، وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ تِلْكَ الْقُدْرَةُ فِي حَقِّهِ أَقَلَّ كَانَتْ تِلْكَ الْآثَارُ أَضْعَفَ، وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَالَ حَالِ جَوْهَرِ النَّفْسِ النُّطْقِيَّةِ الَّتِي لِدَاوُدَ بِقَوْلِهِ: وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ أَرْدَفَهُ بِبَيَانِ كَمَالِ حَالِهِ فِي النُّطْقِ وَاللَّفْظِ وَالْعِبَارَةِ فَقَالَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ وَهَذَا التَّرْتِيبُ فِي غَايَةِ الْجَلَالَةِ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّ دَاوُدَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ فِي كَلَامِهِ أَمَّا بَعْدُ، وَأَقُولُ حَقًّا إِنَّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ أَمْثَالَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فَقَدْ حُرِمُوا الْوُقُوفَ عَلَى مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى حِرْمَانًا عَظِيمًا «1» وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ مَعْرِفَةُ الْأُمُورِ الَّتِي بِهَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْخُصُومِ وَهُوَ طَلَبُ الْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينِ فَبَعِيدٌ أَيْضًا، لِأَنَّ فَصْلَ الْخِطَابِ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْ كُلِّ مَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ ويحضر في الخيال،

_ (1) يقصد المؤلف بعبارته هذه الذين فسروا إيتاء داود الحكمة بأنه أول من قال أما بعد، لبعدهم عن الفهم وعن الصواب، وقد روي أن أول من قال أما بعد هو قس بن ساعدة الإيادي الخطيب المشهور.

[سورة ص (38) : الآيات 21 إلى 25]

بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِطُ شَيْءٌ بِشَيْءٍ، وَبِحَيْثُ يَنْفَصِلُ كُلُّ مَقَامٍ عَنْ مَقَامٍ، وَهَذَا مَعْنَى عَامٌّ يتناول جميع الأقسام والله أعلم، وهاهنا آخر الكلام في الصفات العشرة الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي مَدْحِ دَاوُدَ عليه السلام. [سورة ص (38) : الآيات 21 الى 25] وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لَا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا مَدَحَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ مِنَ الْوُجُوهِ الْعَشَرَةِ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ قِصَّةٍ لِيُبَيِّنَ بِهَا أَنَّ الْأَحْوَالَ الْوَاقِعَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ لَا يُبَيِّنُ شَيْءٌ مِنْهَا كَوْنَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُسْتَحِقًّا لِلثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ الْعَظِيمِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى [طه: 9] وَفَائِدَةُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ التَّنْبِيهُ عَلَى جَلَالَةِ الْقِصَّةِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهَا، لِيَكُونَ دَاعِيًا إِلَى الْإِصْغَاءِ لَهَا وَالِاعْتِبَارِ بِهَا، وَأَقُولُ لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَلَى وَجْهٍ يَدُلُّ عَلَى صُدُورِ الْكَبِيرَةِ عَنْهُ وَثَانِيهَا: دَلَالَتُهَا عَلَى الصَّغِيرَةِ وَثَالِثُهَا: بِحَيْثُ لَا تَدُلُّ عَلَى الْكَبِيرَةِ وَلَا عَلَى الصَّغِيرَةِ. فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فَحَاصِلُ كَلَامِهِمْ فِيهَا: أَنَّ دَاوُدَ عَشِقَ امْرَأَةَ أُورِيَا، فَاحْتَالَ بِالْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ حَتَّى قَتَلَ زَوْجَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ بِهَا فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ فِي صُورَةِ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فِي وَاقِعَةٍ شَبِيهَةٍ بِوَاقِعَتِهِ، وَعَرَضَا تِلْكَ الْوَاقِعَةَ عَلَيْهِ. فَحَكَمَ دَاوُدُ بِحُكْمٍ لَزِمَ مِنْهُ اعْتِرَافُهُ بِكَوْنِهِ مُذْنِبًا، ثُمَّ تَنَبَّهَ لِذَلِكَ فَاشْتَغَلَ بِالتَّوْبَةِ. وَالَّذِي أَدِينُ بِهِ وَأَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ لَوْ نُسِبَتْ إِلَى أَفْسَقِ النَّاسِ وَأَشَدِّهِمْ فُجُورًا لاستنكف منها والرجل الحشوي الْخَبِيثُ الَّذِي يُقَرِّرُ تِلْكَ الْقِصَّةَ لَوْ نُسِبَ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ لَبَالَغَ فِي تَنْزِيهِ نَفْسِهِ وَرُبَّمَا لَعَنَ مَنْ يَنْسُبُهُ إِلَيْهَا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ نِسْبَةُ الْمَعْصُومِ إِلَيْهِ الثَّانِي: أَنَّ حَاصِلَ الْقِصَّةِ يَرْجِعُ إِلَى أَمْرَيْنِ إِلَى السَّعْيِ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ وَإِلَى الطَّمَعِ فِي زَوْجَتِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَأَمْرٌ مُنْكَرٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَعَى فِي دَمِ مُسْلِمٍ وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» وَأَمَّا الثَّانِي: فَمُنْكَرٌ عَظِيمٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» وَإِنَّ أُورِيَا لَمْ يَسْلَمْ مِنْ دَاوُدَ لَا فِي رُوحِهِ وَلَا فِي مَنْكُوحِهِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قبل ذكر هذه القصة بالصفات العشرة الْمَذْكُورَةِ، وَوَصَفَهُ أَيْضًا بِصِفَاتٍ كَثِيرَةٍ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَكُلُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ تُنَافِي كَوْنَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَوْصُوفًا بِهَذَا الْفِعْلِ الْمُنْكَرِ وَالْعَمَلِ الْقَبِيحِ، وَلَا بَأْسَ بِإِعَادَةِ هَذِهِ الصِّفَاتِ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْبَيَانِ. فَنَقُولُ أَمَّا الصِّفَاتُ الْأُولَى: فَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقْتَدِيَ بِدَاوُدَ فِي الْمُصَابَرَةِ مَعَ الْمُكَابَدَةِ، وَلَوْ

قُلْنَا إِنَّ دَاوُدَ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى مُخَالَفَةِ النَّفْسِ بَلْ سَعَى فِي إِرَاقَةِ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لِغَرَضِ شَهْوَتِهِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ أَنْ يَأْمُرَ مُحَمَّدًا أَفْضَلَ الرُّسُلِ بِأَنْ يَقْتَدِيَ بِدَاوُدَ فِي الصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ. وَأَمَّا الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: فَهِيَ أَنَّهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ عَبْدًا لَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ بَيَانُ كَوْنِ ذَلِكَ الْمَوْصُوفِ كَامِلًا فِي مَوْقِفِ الْعُبُودِيَّةِ تَامًّا فِي الْقِيَامِ بِأَدَاءِ الطَّاعَاتِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ، وَلَوْ قُلْنَا إِنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اشْتَغَلَ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ الْبَاطِلَةِ، فَحِينَئِذٍ مَا كَانَ دَاوُدُ كَامِلًا/ فِي عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ كَانَ كَامِلًا فِي طَاعَةِ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: هُوَ قَوْلُهُ: ذَا الْأَيْدِ [ص: 17] أَيْ ذَا الْقُوَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقُوَّةُ فِي الدِّينِ، لِأَنَّ الْقُوَّةَ فِي غَيْرِ الدِّينِ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي مُلُوكِ الْكُفَّارِ، وَلَا مَعْنَى لِلْقُوَّةِ فِي الدِّينِ إِلَّا الْقُوَّةَ الْكَامِلَةَ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ، وَالِاجْتِنَابِ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ، وَأَيُّ قُوَّةٍ لِمَنْ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ عَنِ الْقَتْلِ وَالرَّغْبَةِ فِي زَوْجَةِ الْمُسْلِمِ؟. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: كَوْنُهُ أَوَّابًا كَثِيرَ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكَيْفَ يَلِيقُ هَذَا بِمَنْ يَكُونُ قَلْبُهُ مَشْغُوفًا بِالْقَتْلِ وَالْفُجُورِ؟. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ [ص: 18] أَفَتَرَى أَنَّهُ سُخِّرَتْ لَهُ الْجِبَالُ لِيَتَّخِذَهُ وَسِيلَةً إِلَى الْقَتْلِ وَالْفُجُورِ؟. الصِّفَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً [ص: 19] ، وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ صَيْدُ شَيْءٍ مِنَ الطَّيْرِ وَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ الطَّيْرُ آمِنًا مِنْهُ وَلَا يَنْجُو مِنْهُ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ على روحه ومنكوحه؟. الصفة السابعة: قوله تعالى: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى شَدَدَ مُلْكَهُ بِأَسْبَابِ الدُّنْيَا، بَلِ الْمُرَادُ أنه تعالى شد مُلْكَهُ بِمَا يُقَوِّي الدِّينَ وَأَسْبَابِ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ، وَالْمُرَادُ تَشْدِيدُ مُلْكِهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَمَنْ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ عَنِ الْقَتْلِ وَالْفُجُورِ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ؟. الصِّفَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ [ص: 20] وَالْحِكْمَةُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يَنْبَغِي عِلْمًا وَعَمَلًا، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ تَعَالَى: إنا آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ مَعَ إِصْرَارِهِ عَلَى مَا يَسْتَنْكِفُ عَنْهُ الْخَبِيثُ الشَّيْطَانُ مِنْ مُزَاحَمَةِ أَخْلَصِ أَصْحَابِهِ فِي الرُّوحِ وَالْمَنْكُوحِ، فَهَذِهِ الصِّفَاتُ الْمَذْكُورَةُ قَبْلَ شَرْحِ تِلْكَ الْقِصَّةِ دَالَّةٌ عَلَى بَرَاءَةِ سَاحَتِهِ عَنْ تِلْكَ الْأَكَاذِيبِ. وَأَمَّا الصِّفَاتُ الْمَذْكُورَةُ بعد ذكر القصة فهي عشرة الأول: قَوْلُهُ: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ وَذِكْرُ هَذَا الْكَلَامِ إِنَّمَا يُنَاسِبُ لَوْ دَلَّتِ القصة المتقدمة على قوته فِي طَاعَةِ اللَّهِ، أَمَّا لَوْ كَانَتِ الْقِصَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ دَالَّةً عَلَى سَعْيِهِ فِي الْقَتْلِ وَالْفُجُورِ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى لائقا به الثاني: قوله تعالى: يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِ تِلْكَ الْقِصَّةِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَلِكَ الْكَبِيرَ إِذَا حَكَى عَنْ بَعْضِ عَبِيدِهِ أَنَّهُ قَصَدَ دِمَاءَ النَّاسِ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ فَبَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ شَرْحِ الْقِصَّةِ عَلَى مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ يَقْبُحُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ عَقِيبَهُ أَيُّهَا الْعَبْدُ إِنِّي فَوَّضْتُ إِلَيْكَ خِلَافَتِي وَنِيَابَتِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذِكْرَ تِلْكَ الْقَبَائِحِ وَالْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ يُنَاسِبُ الزَّجْرَ وَالْحَجْرَ، فَأَمَّا جَعْلُهُ نَائِبًا وَخَلِيفَةً لِنَفْسِهِ فَذَلِكَ الْبَتَّةَ مِمَّا لَا يَلِيقُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ ذِكْرَ

الْحُكْمِ عَقِيبَ الْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ، فَلَمَّا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ الْقَبِيحَةَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ أَشْعَرَ هَذَا بِأَنَّ الْمُوجِبَ لِتَفْوِيضِ هَذِهِ الْخِلَافَةِ هُوَ إِتْيَانُهُ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا فَاسِدٌ، أَمَّا لَوْ/ ذَكَرَ تِلْكَ الْقِصَّةَ عَلَى وُجُوهٍ تَدُلُّ عَلَى بَرَاءَةِ سَاحَتِهِ عَنِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ وَعَلَى شِدَّةِ مُصَابَرَتِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يُنَاسِبُ أَنْ يَذْكُرَ عَقِيبَهُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ [ص: 26] فَثَبَتَ أَنَّ هذا الذي نختاره أولى والثالث: وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ مُقَدِّمَةُ الْآيَةِ دَالَّةً عَلَى مَدْحِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَعْظِيمِهِ وَمُؤَخِّرَتُهَا أَيْضًا دَالَّةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَتِ الْوَاسِطَةُ دَالَّةً عَلَى الْقَبَائِحِ وَالْمَعَائِبِ لَجَرَى مَجْرَى أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ عَظِيمُ الدَّرَجَةِ عَالِي الْمَرْتَبَةِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ يَقْتُلُ وَيَزْنِي وَيَسْرِقُ وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ خَلِيفَةً فِي أَرْضِهِ وَصَوْبَ أَحْكَامِهِ، وَكَمَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ فكذا هاهنا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ ذِكْرَ الْعِشْقِ وَالسَّعْيِ فِي القتل من أعظم أبواب العيوب والرابع: وَهُوَ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَمَنَّى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ فِي الدِّينِ كَمَا حَصَلَ لِلْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْمَنَازِلِ الْعَالِيَةِ مِثْلُ مَا حَصَلَ لِلْخَلِيلِ مِنَ الْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ وَحَصَلَ لِلذَّبِيحِ مِنَ الذَّبْحِ وَحَصَلَ لِيَعْقُوبَ مِنَ الشَّدَائِدِ الْمُوجِبَةِ لِكَثْرَةِ الثَّوَابِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا وَجَدُوا تِلْكَ الدَّرَجَاتِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا ابْتُلُوا صَبَرُوا فَعِنْدَ ذَلِكَ سَأَلَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الابتلاء، فأوحى الله إليه أنك ستبلى في يوم كذا فبالغ في الاحتزاز ثُمَّ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، فَنَقُولُ أَوَّلُ حِكَايَتِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَبْتَلِيهِ بِالْبَلَاءِ الَّذِي يَزِيدُ فِي مَنْقَبَتِهِ وَيُكْمِلُ مَرَاتِبَ إِخْلَاصِهِ فَالسَّعْيُ فِي قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَالْإِفْرَاطُ فِي الْعِشْقِ كَيْفَ يَلِيقُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ، وَيَثْبُتُ أَنَّ الحكاية التي ذكروها يناقض أولها آخرها (الخامس) : أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَثْنَى الَّذِينَ آمَنُوا عَنِ الْبَغْيِ، فَلَوْ قُلْنَا إِنَّهُ كَانَ مَوْصُوفًا بِالْبَغْيِ لَزِمَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ حَكَمَ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ عَلَى نفسه وذلك باطل السادس: حَضَرْتُ فِي بَعْضِ الْمَجَالِسِ وَحَضَرَ فِيهِ بَعْضُ أَكَابِرِ الْمُلُوكِ وَكَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَعَصَّبَ لِتَقْرِيرِ ذلك القول الفاسد والقصة الخبيئة لِسَبَبٍ اقْتَضَى ذَلِكَ، فَقُلْتُ لَهُ لَا شَكَّ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَلَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَامِ: 124] وَمَنْ مَدَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمِثْلِ هَذَا الْمَدْحِ الْعَظِيمِ لَمْ يجز لنا أن نبالغ في الطَّعْنَ فِيهِ، وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنَّهُ مَا كَانَ نَبِيًّا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا، وَلَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَذْكُرُوا مَوْتَاكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ» ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّا لَا نَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ إِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا حَقِيقِيَّةً صَحِيحَةً فَإِنَّ رِوَايَتَهَا وَذِكْرَهَا لَا يُوجِبُ شَيْئًا مِنَ الثَّوَابِ، لِأَنَّ إِشَاعَةَ الْفَاحِشَةِ إِنْ لَمْ تُوجِبِ الْعِقَابَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ لَا تُوجِبَ الثَّوَابَ، وَأَمَّا بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ هذه القصة باطلة فَاسِدَةً، فَإِنَّ ذَاكِرَهَا يَسْتَحِقُّ أَعْظَمَ الْعِقَابِ وَالْوَاقِعَةُ الَّتِي هَذَا شَأْنُهَا وَصِفَتُهَا، فَإِنَّ صَرِيحَ الْعَقْلِ يُوجِبُ السُّكُوتَ عَنْهَا فَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، وَأَنَّ شَرْحَ تِلْكَ الْقِصَّةِ مُحَرَّمٌ مَحْظُورٌ فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْمَلِكُ هَذَا الْكَلَامَ سكت. ولم يذكر شيئا السابع: أَنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَذِكْرَ قِصَّةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقْتَضِي إِشَاعَةَ الْفَاحِشَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا [النُّورِ: 19] الثامن: لَوْ سَعَى دَاوُدُ فِي قَتْلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ لَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: «مَنْ سَعَى/ فِي دَمِ مُسْلِمٍ وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» وَأَيْضًا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ ظَالِمًا فَكَانَ يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ التاسع: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَنْ حَدَّثَكُمْ بِحَدِيثِ دَاوُدَ عَلَى مَا يَرْوِيهِ الْقَصَّاصُ جَلَدْتُهُ مِائَةً وَسِتِّينَ» وَهُوَ حَدُّ الْفِرْيَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا إِنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ زَنَى وَشَهِدَ

ثَلَاثَةٌ مِنْ عُدُولِ الصَّحَابَةِ بِذَلِكَ، وَأَمَّا الرَّابِعُ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِأَنِّي رَأَيْتُ ذَلِكَ الْعَمَلَ. يَعْنِي فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَذَّبَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةَ وَجَلَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً لِأَجْلِ أَنَّهُمْ قَذَفُوا، وَإِذَا كَانَ الْحَالُ فِي وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الصَّحَابَةِ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ الْحَالُ مَعَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الْعَاشِرُ: رُوِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَلَى مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْوَاقِعَةُ عَلَى مَا ذُكِرَتْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْهَا لِأَجْلِ أَنْ يَسْتُرَ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ عَلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَا يَجُوزُ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَسْعَى فِي هَتْكِ ذَلِكَ السِّتْرِ بَعْدَ أَلْفِ سَنَةٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَقَالَ عُمَرُ «1» : «سَمَاعِي هَذَا الْكَلَامَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَنَّ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرُوهَا فَاسِدَةٌ بَاطِلَةٌ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَكَابِرِ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا هَذِهِ الْقِصَّةَ، فَكَيْفَ الْحَالُ فِيهَا؟ فَالْجَوَابُ الْحَقِيقِيُّ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ وَبَيْنَ خَبَرٍ وَاحِدٍ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ كَانَ الرُّجُوعُ إِلَى الدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ أَوْلَى، وَأَيْضًا فَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَأَيْضًا فَلَمَّا تَعَارَضَ دَلِيلُ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ كَانَ جَانِبُ التَّحْرِيمِ أَوْلَى، وَأَيْضًا طَرِيقَةُ الِاحْتِيَاطِ تُوجِبُ تَرْجِيحَ قَوْلِنَا، وَأَيْضًا فَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ بِتَقْدِيرِ وُقُوعِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ لَا يَقُولُ اللَّهُ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَ لَمْ تَسْعَوْا فِي تَشْهِيرِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ؟ وَأَمَّا بِتَقْدِيرِ كَوْنِهَا بَاطِلَةً فَإِنَّ عَلَيْنَا فِي ذِكْرِهَا أَعْظَمَ الْعِقَابِ، وَأَيْضًا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ» وهاهنا لَمْ يَحْصُلِ الْعِلْمُ وَلَا الظَّنُّ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ، بَلِ الدَّلَائِلُ الْقَاهِرَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا قَائِمَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجُوزَ الشَّهَادَةُ بِهَا، وَأَيْضًا كُلُّ الْمُفَسِّرِينَ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بَلِ الْأَكْثَرُونَ الْمُحِقُّونَ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ يَرُدُّونَهُ وَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْكَذِبِ وَالْفَسَادِ، وَأَيْضًا إِذَا تَعَارَضَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُحَدِّثِينَ فِيهِ تَسَاقَطَتْ وَبَقِيَ الرُّجُوعُ إِلَى الدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ. أَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الْقِصَّةُ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ حُصُولَ الصَّغِيرَةِ وَلَا يُوجِبُ حُصُولَ الْكَبِيرَةِ، فَنَقُولُ فِي كَيْفِيَّةِ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ خَطَبَهَا أُورِيَا فَأَجَابُوهُ ثُمَّ خَطَبَهَا دَاوُدُ فَآثَرَهُ أَهْلُهَا، فَكَانَ ذَنْبُهُ أَنْ خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَعَ كَثْرَةِ نِسَائِهِ الثَّانِي: قَالُوا إِنَّهُ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهَا فَمَالَ قَلْبُهُ إِلَيْهَا وَلَيْسَ لَهُ في هذا ذنب ألبتة، أما وقوع بَصَرِهِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَذَلِكَ لَيْسَ بِذَنْبٍ، وَأَمَّا حُصُولُ الْمَيْلِ عَقِيبَ النَّظَرِ فَلَيْسَ أَيْضًا ذَنْبًا لِأَنَّ هَذَا الْمَيْلَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ، فَلَا يَكُونُ مُكَلَّفًا بِهِ بَلْ لَمَّا اتَّفَقَ أَنْ قُتِلَ زَوْجُهَا لَمْ يَتَأَذَّ تَأَذِّيًا عَظِيمًا بِسَبَبِ/ قَتْلِهِ لِأَجْلِ أَنَّهُ طَمِعَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ فَحَصَلَتِ الزَّلَّةُ بِسَبَبِ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ قَتْلُ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ أَهْلُ زَمَانِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ حَتَّى يَتَزَوَّجَهَا وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ فِي هذا المعنى مألوفة معروفة أوى أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يُسَاوُونَ الْمُهَاجِرِينَ بِهَذَا الْمَعْنَى فَاتَّفَقَ أَنَّ عَيْنَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَعَتْ عَلَى تِلْكَ الْمَرْأَةِ فَأَحَبَّهَا فَسَأَلَهُ النُّزُولَ عَنْهَا فَاسْتَحْيَا أَنَّ يَرُدَّهُ فَفَعَلَ وَهِيَ أُمُّ سُلَيْمَانَ فَقِيلَ لَهُ هَذَا وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي ظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِكَ، فَإِنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ لَوْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْقِصَّةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا لَمْ يَلْزَمْ فِي حَقِّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السلام إلا ترك الأفضل والأولى.

_ (1) لم ينص فيما سبق على عمر هذا ولم يشر إليه، والخبر يفيد أن ذلك البعض الذي حكى القول العاشر حكى القصة أمام شخص اسمه عمر فقال هذه الكلمة ولا ندري أهو عمر بن الخطاب أم ابن عبد العزيز أم شخص غيرهما ولعله سقط بيان ذلك من الناسخ أو المطبعة الأميرية. [.....]

وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْزَمُ إِلْحَاقُ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ بِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَلْ يُوجِبُ إِلْحَاقَ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ بِهِ وَهُوَ أَنْ نَقُولَ رُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْأَعْدَاءِ طَمِعُوا فِي أَنْ يَقْتُلُوا نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ لَهُ يَوْمٌ يَخْلُو فِيهِ بِنَفْسِهِ وَيَشْتَغِلُ بِطَاعَةِ رَبِّهِ، فَانْتَهَزُوا الْفُرْصَةَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَتَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ وَجَدُوا عِنْدَهُ أَقْوَامًا يَمْنَعُونَهُ مِنْهُمْ فَخَافُوا فَوَضَعُوا كَذِبًا، فَقَالُوا خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِ الْقُرْآنِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ فِي إِلْحَاقِ الذَّنْبِ بِدَاوُدَ إِلَّا أَلْفَاظٌ أَرْبَعَةٌ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَأَنابَ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ ثُمَّ نَقُولُ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ لَا يَدُلُّ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى مَا ذَكَرُوهُ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ لَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ لِطَلَبِ قَتْلِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَعَلِمَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ دَعَاهُ الْغَضَبُ إِلَى أَنْ يَشْتَغِلَ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ مَالَ إِلَى الصَّفْحِ وَالتَّجَاوُزِ عَنْهُمْ طَلَبًا لِمَرْضَاةِ اللَّهِ، قَالَ وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ هِيَ الْفِتْنَةُ لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ، ثُمَّ إِنَّهُ اسْتَغْفَرَ رَبَّهُ مِمَّا هُمْ بِهِ مِنَ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ وَتَابَ عَنْ ذَلِكَ الْهَمِّ وَأَنَابَ، فَغَفَرَ لَهُ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْهَمِّ وَالْعَزْمِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ، إِلَّا أَنَّهُ نَدِمَ عَلَى ذَلِكَ الظَّنِّ، وَقَالَ لَمَّا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ وَلَا أَمَارَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، فَبِئْسَمَا عَلِمْتَ بِهِمْ حَيْثُ ظَنَنْتَ بِهِمْ هَذَا الظَّنَّ الرَّدِيءَ، فَكَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ مِنْهُ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ الثَّالِثُ: أَنَّ دُخُولَهُمْ عَلَيْهِ كَانَ فِتْنَةً لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَغْفَرَ لِذَلِكَ الدَّاخِلِ الْعَازِمِ عَلَى قَتْلِهِ، كَمَا قَالَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [مُحَمَّدٍ: 19] فَدَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَأَنَابَ، أَيْ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي طَلَبِ مَغْفِرَةِ ذَلِكَ الدَّاخِلِ الْقَاصِدِ لِلْقَتْلِ، وَقَوْلُهُ: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أَيْ غَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ الذَّنْبَ لِأَجْلِ احْتِرَامِ دَاوُدَ وَلِتَعْظِيمِهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ [الْفَتْحِ: 2] أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لَكَ وَلِأَجْلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِ أُمَّتِكَ الرَّابِعُ: هَبْ أَنَّهُ تَابَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ زَلَّةٍ صَدَرَتْ مِنْهُ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تِلْكَ الزَّلَّةَ وَقَعَتْ بِسَبَبِ الْمَرْأَةِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ تِلْكَ الزَّلَّةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ، لِأَنَّهُ قَضَى لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ الْخَصْمِ الثَّانِي، فَإِنَّهُ/ لَمَّا قَالَ: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ فَحَكَمَ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ ظَالِمًا بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْخَصْمِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، لِكَوْنِ هَذَا الْحُكْمِ مُخَالِفًا لِلصَّوَابِ، فَعِنْدَ هَذَا اشْتَغَلَ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى «1» فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْبَيَانَاتِ أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ إِسْنَادُ شَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَلْ ذَلِكَ يُوجِبُ إِسْنَادَ أَعْظَمِ الطَّاعَاتِ إِلَيْهِ، ثُمَّ نَقُولُ وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ أَوْلَى لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي حَالِ الْمُسْلِمِ الْبُعْدُ عَنِ الْمَنَاهِي، لَا سِيَّمَا وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَحْوَطُ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ [ص: 17] فإن

_ (1) أقول: لم لا تكون هذه القصة راجعة إلى قصة الغنم التي نفشت في الزرع وجاء ذكرها في سورة الأنبياء، وقد ذكرت هناك بلفظ الغنم وهنا بلفظ النعاج وفتنة داود كانت بالاجتهاد في الحكم والخطأ فيه وقد نص الله على أنه فهمها سليمان عليه السلام، والقاعدة أن من اجتهد في حكم وأخطأ فله أجر، ومن أصاب فله أجران وكأنه عليه السلام لم يدرك هذه القاعدة أو لم يكن العمل عليها في عهده ولهذا استغفر ربه والدلائل على ذلك كثيرة منها ظاهر الآية ولا داعي إلى التأويل بالمرأة أو غيرها، ومنها قوله وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ والتعقيب بقوله تعالى: يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى.

قَوْمَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَظْهَرُوا السَّفَاهَةَ حيث قالوا: هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ [ص: 4] وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ حَيْثُ قَالُوا: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص: 16] فَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: اصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى سَفَاهَتِهِمْ وَتَحَمَّلْ وَتَحَلَّمْ وَلَا تُظْهِرِ الْغَضَبَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ، فَهَذَا الذِّكْرُ إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ صَبَرَ عَلَى إِيذَائِهِمْ وَتَحَمَّلَ سَفَاهَتَهُمْ وَحَلِمَ وَلَمْ يُظْهِرِ الطَّيْشَ وَالْغَضَبَ، وَهَذَا الْمَعْنَى إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهَا عَلَى مَا ذَكَرُوهُ صَارَ الْكَلَامُ مُتَنَاقِضًا فَاسِدًا وَالرَّابِعُ: أَنَّ تِلْكَ الرِّوَايَةَ إِنَّمَا تَتَمَشَّى إِذَا قُلْنَا الْخَصْمَانِ كَانَا مَلَكَيْنِ، وَلَمَّا كَانَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مُخَاصَمَةٌ وَمَا بَغَى أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ كَانَ قَوْلُهُمَا خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ كَذِبًا، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: إِسْنَادُ الْكَذِبِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ وَالثَّانِي: أَنْ يُتَوَسَّلَ بِإِسْنَادِ الْكَذِبِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ إِلَى إِسْنَادِ أَفْحَشِ الْقَبَائِحِ إِلَى رَجُلٍ كَبِيرٍ مِنْ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا اسْتَغْنَيْنَا عَنْ إِسْنَادِ الْكَذِبِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، وَعَنْ إِسْنَادِ الْقَبِيحِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، فَكَانَ قَوْلُنَا أَوْلَى، فَهَذَا مَا عِنْدَنَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَسْرَارِ كَلَامِهِ، وَنَرْجِعُ الْآنَ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَاتِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْخَصْمُ مَصْدَرُ خَصَمْتُهُ أَخْصِمُهُ خَصْمًا، ثُمَّ يُسَمَّى بِهِ الِاثْنَانِ وَالْجَمْعُ وَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ، يُقَالُ هُمَا خَصْمٌ وَهُمْ خَصْمٌ، كَمَا يُقَالُ هُمَا عَدْلٌ وَهُمْ عَدْلٌ، وَالْمَعْنَى ذَوَا خصم وذوو خصم، وأريد بالخصم هاهنا الشَّخْصَانِ اللَّذَانِ دَخَلَا عَلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ يُقَالُ تَسَوَّرَتُ السُّورَ تَسَوُّرًا إِذَا عَلَوْتَهُ، وَمَعْنَى: تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ أَيْ أَتَوْهُ مِنْ سُورِهِ وَهُوَ أَعْلَاهُ، يُقَالُ تَسَوَّرَ فُلَانٌ الدَّارَ إِذَا أَتَاهَا مِنْ قِبَلِ سُورِهَا. وَأَمَّا الْمِحْرَابُ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْبَيْتُ الَّذِي كَانَ دَاوُدُ يَدْخُلُ فِيهِ وَيَشْتَغِلُ بِطَاعَةِ رَبِّهِ، وسمي ذلك البيت بالمحراب لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمِحْرَابِ، كَمَا يُسَمَّى الشَّيْءُ بِأَشْرَفِ أجزائه، وهاهنا مَسْأَلَةٌ مِنْ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهِيَ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ، وَهَؤُلَاءِ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ صِيغَةَ الْجَمْعِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فِي/ أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ أحدها: قوله تعالى: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ [ص: 21] ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: إِذْ دَخَلُوا، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: مِنْهُمْ، وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: قالُوا لَا تَخَفْ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الْأَرْبَعَةُ كُلُّهَا صِيَغُ الْجَمْعِ، وَهُمْ كَانُوا اثْنَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ قَالُوا خَصْمَانِ، قَالُوا فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ وَالْجَوَابُ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ جَمْعًا كَثِيرِينَ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْخَصْمَ إِذَا جُعِلَ اسْمًا فَإِنَّهُ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُمْ رُبَّمَا تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ وَمَا دَخَلُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَالَ: إِذْ دَخَلُوا عليه دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ بَعْدَ التَّسَوُّرِ دَخَلُوا عَلَيْهِ، قال الفراء: وقد يجاء بإذ مَرَّتَيْنِ وَيَكُونُ مَعْنَاهُمَا كَالْوَاحِدِ، كَقَوْلِكَ ضَرَبْتُكَ إِذْ دَخَلْتَ عَلَيَّ إِذِ اجْتَرَأْتَ، مَعَ أَنَّهُ يَكُونُ وَقْتُ الدُّخُولِ وَوَقْتُ الِاجْتِرَاءِ وَاحِدًا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَفَزِعَ مِنْهُمْ وَالسَّبَبُ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَآهُمَا قَدْ دَخَلُوا عَلَيْهِ لَا مِنَ الطَّرِيقِ الْمُعْتَادِ، عَلِمَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا دَخَلُوا عَلَيْهِ لِلشَّرِّ، فَلَا جَرَمَ فَزَعَ مِنْهُمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالُوا لَا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: خَصْمَانِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ نَحْنُ خَصْمَانِ. المسألة الثانية: هاهنا قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمَا كَانَا مَلَكَيْنِ نَزَلَا مِنَ السَّمَاءِ وَأَرَادَ تَنْبِيهَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى قُبْحِ الْعَمَلِ الَّذِي أَقْدَمَ عَلَيْهِ وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا كَانَا إِنْسَانَيْنِ دَخَلَا عَلَيْهِ لِلشَّرِّ وَالْقَتْلِ، فَظَنَّا أَنَّهُمَا يَجِدَانِهِ خَالِيًا، فَلَمَّا رَأَيَا عِنْدَهُ جَمَاعَةً مِنَ الْخَدَمِ اخْتَلَقَا ذَلِكَ الْكَذِبِ لِدَفْعِ الشَّرِّ، وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لِكَوْنِهِمَا مَلَكَيْنِ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بأنهما

لَوْ كَانَا مَلَكَيْنِ لَكَانَا كَاذِبَيْنِ فِي قَوْلِهِمَا: خَصْمانِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ خُصُومَةٌ، وَلَكَانَا كَاذِبَيْنِ فِي قَوْلِهِمَا: بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ وَلَكَانَا كَاذِبَيْنِ فِي قَوْلِهِمَا: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً فَثَبَتَ أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا مَلَكَيْنِ كَاذِبَيْنِ وَالْكَذِبُ عَلَى الْمَلَكِ غَيْرُ جَائِزٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ [الْأَنْبِيَاءِ: 27] ولقوله: وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [النحل: 50] أَجَابَ الذَّاهِبُونَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ بِأَنْ قَالُوا إِنَّ الْمَلَكَيْنِ إِنَّمَا ذَكَرَا هَذَا الْكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ ضَرْبِ الْمَثَلِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّحْقِيقِ فَلَمْ يَلْزَمِ الْكَذِبُ، وَأُجِيبُ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ بِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ يَقْتَضِي الْعُدُولَ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَا الْكَلَامَ عَلَى أَنَّ الْخَصْمَيْنِ كَانَا رَجُلَيْنِ دَخَلَا عَلَيْهِ لِغَرَضِ الشَّرِّ ثُمَّ وَضَعَا هَذَا الْحَدِيثَ الْبَاطِلَ، فَحِينَئِذٍ لَزِمَ إِسْنَادُ الْكَذِبِ إِلَى شَخْصَيْنِ فَاسِقَيْنِ فَكَانَ هَذَا أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وأما القائلون بكونهما ملكين فقد احتجوا بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: اتِّفَاقُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ عَلَيْهِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرْفَعُ مَنْزِلَةً مِنْ أَنْ يَتَسَوَّرَ عَلَيْهِ آحَادُ الرَّعِيَّةِ فِي حَالِ تَعَبُّدِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: قالُوا لَا تَخَفْ كَالدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِمَا مَلَكَيْنِ لِأَنَّ مَنْ هُوَ مِنْ رَعِيَّتِهِ لَا يَكَادُ يَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ مَعَ رِفْعَةِ مَنْزِلَتِهِ الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُمَا: وَلا تُشْطِطْ كَالدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِمَا مَلَكَيْنِ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ رَعِيَّتِهِ لَا يَتَجَاسَرُ أَنْ يَقُولَ لَهُ لَا تَظْلِمْ وَلَا تَتَجَاوَزْ عَنِ الْحَقِّ، وَاعْلَمْ أَنَّ ضَعْفَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ ظَاهِرٌ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْجَوَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ أَيْ تَعَدَّى وَخَرَجَ عَنِ الْحَدِّ يُقَالُ بَغَى الْجُرْحُ/ إِذَا أَفْرَطَ وَجَعُهُ وَانْتَهَى إِلَى الْغَايَةِ، وَيُقَالُ بَغَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا زَنَتْ، لِأَنَّ الزِّنَا كَبِيرَةٌ مُنْكَرَةٌ، قَالَ تَعَالَى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ [النُّورِ: 33] ثُمَّ قَالَ: فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ مَعْنَى الْحُكْمِ إِحْكَامُ الْأَمْرِ فِي إِمْضَاءِ تَكْلِيفِ اللَّهِ عَلَيْهِمَا فِي الْوَاقِعَةِ، وَمِنْهُ حِكْمَةُ الدَّابَّةِ لِأَنَّهَا تُمْنَعُ مِنَ الْجِمَاحِ، وَمِنْهُ بِنَاءٌ مُحْكَمٌ إِذَا كَانَ قَوِيًّا، وَقَوْلُهُ: بِالْحَقِّ أَيْ بِالْحُكْمِ الْحَقِّ وَهُوَ الَّذِي حَكَمَ اللَّهُ بِهِ وَلا تُشْطِطْ يُقَالُ شَطَّ الرَّجُلُ إِذَا بَعُدَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: شَطَّتِ الدَّارُ إِذَا بَعُدَتْ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً [الْكَهْفِ: 14] أَيْ قَوْلًا بَعِيدًا عَنِ الْحَقِّ، فَقَوْلُهُ: وَلا تُشْطِطْ أَيْ لَا تَبْعُدُ فِي هَذَا الْحُكْمِ عَنِ الْحَقِّ، ثُمَّ قَالَ: وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ وَسَوَاءُ الصِّرَاطِ هُوَ وَسَطَهُ، قَالَ تَعَالَى: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصَّافَّاتِ: 55] وَوَسَطُ الشَّيْءِ أَفْضَلُهُ وَأَعْدَلُهُ، قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَةِ: 143] وَأَقُولُ إِنَّهُمْ عَبَّرُوا عَنِ الْمَقْصُودِ الْوَاحِدِ بِثَلَاثِ عِبَارَاتٍ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُمْ فَاحْكُمْ بِالْحَقِّ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُمْ: وَلا تُشْطِطْ وَهِيَ نَهْيٌ عَنِ الْبَاطِلِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُمْ: وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ يَعْنِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ سَعْيُكَ فِي إِيجَادِ هَذَا الْحَقِّ. وَفِي الِاحْتِرَازِ عَنْ هَذَا الْبَاطِلِ أَنْ تَرُدَّنَا مِنَ الطَّرِيقِ الْبَاطِلِ إِلَى الطَّرِيقِ الْحَقِّ، وَهَذَا مُبَالَغَةٌ تَامَّةٌ فِي تَقْرِيرِ الْمَطْلُوبِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا أَخْبَرُوا عَنْ وُقُوعِ الْخُصُومَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ أَرْدَفُوهُ بِبَيَانِ سَبَبِ تِلْكَ الْخُصُومَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَخِي يدل مِنْ هَذَا أَوْ خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: إِنَّ وَالْمُرَادُ أُخُوَّةُ الدِّينِ أَوْ أُخُوَّةُ الصَّدَاقَةِ وَالْأُلْفَةِ أَوْ أُخُوَّةُ الشَّرِكَةِ وَالْخُلْطَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخَوَاتِ تُوجِبُ الِامْتِنَاعَ مِنَ الظُّلْمِ وَالِاعْتِدَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ بِفَتْحِ التاء ونعجة بِكَسْرِ النُّونِ، وَهَذَا مِنَ اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ نَحْوُ نَطْعٍ وَنِطْعٍ، وَلَقْوَةٍ وَلِقْوَةٍ وَهِيَ الْأُنْثَى مِنَ العقبان.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ اللَّيْثُ: النَّعْجَةُ الْأُنْثَى مِنَ الضَّأْنِ وَالْبَقَرَةِ الْوَحْشِيَّةِ وَالشَّاةِ الْجَبَلِيَّةِ، وَالْجَمْعُ النَّعَجَاتُ، وَالْعَرَبُ جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِجَعْلِ النَّعْجَةِ وَالظَّبْيَةِ كِنَايَةً عَنِ الْمَرْأَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى وَهَذَا يَكُونُ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [النَّحْلِ: 51] ، ثُمَّ قَالَ: أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَكْفِلْنِيها حَقِيقَتُهُ اجْعَلْنِي أَكْفُلُهَا كَمَا أَكْفُلُ مَا تَحْتَ يَدِي وَعَزَّنِي غَلَبَنِي، يُقَالُ عَزَّهُ يَعِزُّهُ، وَالْمَعْنَى جَاءَنِي بِحِجَاجٍ لَمْ أَقْدِرْ أَنْ أُورِدَ عَلَيْهِ مَا أَوْرَدَهُ بِهِ، وَقُرِئَ وَعَازَنِي مِنَ الْمُعَازَةِ، وَهِيَ الْمُغَالَبَةُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ هَذَيْنِ الْخَصْمَيْنِ كَانَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ زَعَمُوا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ النِّعَاجِ التَّمْثِيلُ، لِأَنَّ دَاوُدَ كَانَ تَحْتَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً وَلَمْ يَكُنْ لَأُورِيَا إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، فَذَكَرَتِ الْمَلَائِكَةُ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ عَلَى سَبِيلِ الرَّمْزِ وَالتَّمْثِيلِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ أَيْ سُؤَالِ إِضَافَةِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ إِنْ رُمْتَ ذَلِكَ ضَرَبْنَا مِنْكَ هَذَا وَهَذَا، وَأَشَارَ إِلَى الْأَنْفِ وَالْجَبْهَةِ/ فَقَالَ: يَا دَاوُدُ أَنْتَ أَحَقُّ أَنْ نَضْرِبَ مِنْكَ هَذَا وَهَذَا، وَأَنْتَ فَعَلَتْ كَيْتَ وَكَيْتَ، ثُمَّ نَظَرَ دَاوُدُ فَلَمْ يَرَ أَحَدًا فَعَرَفَ الْحَالَ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ جَازَ لِدَاوُدَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ خَصْمِهِ؟ قُلْنَا ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا فَرَغَ الْخَصْمُ الْأَوَّلُ مِنْ كَلَامِهِ نَظَرَ دَاوُدُ إِلَى الْخَصْمِ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ وَقَالَ لَئِنْ صَدَقَ لَقَدْ ظَلَمْتَهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ كَانَ مَشْرُوطًا بِشَرْطِ كَوْنِهِ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ وَالثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لَمَّا ادَّعَى أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ اعْتَرَفَ الثَّانِي فَحَكَمَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الِاعْتِرَافَ لِدَلَالَةِ ظَاهِرِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ أَمَرْتُكَ بِالتِّجَارَةِ فَكَسَبْتَ تُرِيدُ اتَّجَرْتَ فَكَسَبْتَ، وَقَالَ تَعَالَى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشُّعَرَاءِ: 63] أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ، وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَنَّ الْخَصْمَ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ يَكُونُ قَدْ ظَلَمَكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ قَالَ اللَّيْثُ خَلِيطُ الرَّجُلِ مُخَالِطُهُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْخُلَطَاءُ الشُّرَكَاءُ، فَإِنْ قِيلَ لم خص داود الخلطاء يبغي بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَعَ أَنَّ غَيْرَ الْخُلَطَاءِ قَدْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَالْجَوَابُ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُخَالَطَةَ تُوجِبُ كَثْرَةَ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُخَاصَمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا إِذَا اخْتَلَطَا اطَّلَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى أَحْوَالِ الْآخَرِ فَكُلُّ مَا يَمْلِكُهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ إِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ عَظُمَتْ رَغْبَتُهُ فِيهِ، فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى زِيَادَةِ الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُنَازَعَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَصَّ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْخُلَطَاءَ بِزِيَادَةِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى عَنْ هَذَا الْحُكْمِ الذين آمنوا وعملوا الصَّالِحَاتِ لِأَنَّ مُخَالَطَةَ هَؤُلَاءِ لَا تَكُونُ إِلَّا لِأَجْلِ الدِّينِ وَطَلَبِ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ، فَلَا جَرَمَ مُخَالَطَتُهُمْ لَا تُوجِبُ الْمُنَازَعَةَ، وَأَمَّا الَّذِينَ تَكُونُ مُخَالَطَتُهُمْ لِأَجْلِ حُبِّ الدُّنْيَا لَا بُدَّ وأن تصير مخالطتهم سَبَبًا لِمَزِيدِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا يَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَلَوْ كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ بَغَى وَتَعَدَّى عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ لَزِمَ بِحُكْمِ فَتْوَى دَاوُدَ أن لا يكون هو مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ المراد من واقعة النعجة قصة داود قول بَاطِلٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ بِقِلَّةِ أَهْلِ الْخَيْرِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سَبَأٍ: 13] وَقَالَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَحَكَى تَعَالَى عن إبليس

أَنَّهُ قَالَ: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الْأَعْرَافِ: 17] وَسَبَبُ الْقِلَّةِ أَنَّ الدَّوَاعِيَ إِلَى الدُّنْيَا كَثِيرَةٌ، وهي الحواس الباطنة والظاهرة وهي عشرة والشهوة وَالْغَضَبُ وَالْقُوَى الطَّبِيعِيَّةُ السَّبْعَةُ فَالْمَجْمُوعُ تِسْعَةَ عَشَرَ وَاقِفُونَ عَلَى بَابِ جَهَنَّمَ الْبَدِنِ، وَكُلُّهَا تَدْعُو إِلَى الْخَلْقِ وَالدُّنْيَا وَاللَّذَّةِ الْحِسِّيَّةِ، وَأَمَّا الدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ وَالدِّينِ فَلَيْسَ إِلَّا الْعَقْلَ وَاسْتِيلَاءُ الْقُوَّةِ الْحِسِّيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ عَلَى الْخَلْقِ أَكْثَرُ مِنَ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ فِيهِمْ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَتِ الْقِلَّةُ فِي جَانِبِ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالْكَثْرَةُ فِي جَانِبِ أَهْلِ الشَّرِّ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَمَا فِي قَوْلِهِ: وَقَلِيلٌ مَا هُمْ لِلْإِبْهَامِ وَفِيهِ تَعَجُّبٌ مِنْ قِلَّتِهِمْ، قَالَ وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَتَحَقَّقَ فَائِدَتَهَا وَمَوْقِعَهَا فَاطْرَحْهَا مِنْ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَحَدِيثٌ مَا عَلَى قِصَرِهِ- وَانْظُرْ هَلْ بَقِيَ لَهُ مَعْنًى قَطُّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ قَالُوا مَعْنَاهُ وَعَلِمَ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ أَيِ امْتَحَنَّاهُ، قَالُوا/ وَالسَّبَبُ الَّذِي أوجب حمل لفظ الظن على العلم هاهنا أَنَّ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَضَى بَيْنَهُمَا نَظَرَ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ قِبَلَ وَجْهِهِ، فَعَلِمَ دَاوُدُ أَنَّ اللَّهَ ابْتَلَاهُ بِذَلِكَ فَثَبَتَ أَنَّ دَاوُدُ عَلِمَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا جَازَ حَمْلُ لَفْظِ الظَّنِّ عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّ الْعِلْمَ الِاسْتِدْلَالِيَّ يُشْبِهُ الظَّنَّ مُشَابَهَةً عَظِيمَةً، وَالْمُشَابَهَةُ عِلَّةٌ لِجَوَازِ الْمَجَازِ، وَأَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَلْزَمُ إِذَا قُلْنَا الْخَصْمَانِ كَانَا مَلَكَيْنِ أَمَّا إِذَا لَمْ نَقُلْ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُنَا حَمْلُ الظَّنِّ عَلَى الْعِلْمِ، بَلْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ لَمَّا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ حُصُولُ الِابْتِلَاءِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى اشْتَغَلَ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالْإِنَابَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ أَيْ سَأَلَ الغفران من ربه، ثم هاهنا وَجْهَانِ إِنْ قُلْنَا بِأَنَّهُ قَدْ صَدَرَتْ زَلَّةٌ مِنْهُ، حَمَلْنَا هَذَا الِاسْتِغْفَارَ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ نَقُلْ بِهِ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَاصِدِينَ قَتْلَهُ، وَإِنَّهُ كَانَ سُلْطَانًا شَدِيدَ الْقَهْرِ عَظِيمَ الْقُوَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ إِنَّهُ مَعَ الْقُدْرَةِ الشَّدِيدَةِ عَلَى الِانْتِقَامِ وَمَعَ حُصُولِ الْفَزَعِ فِي قَلْبِهِ عَفَا عَنْهُمْ وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ شَيْئًا قُرْبَ الْأَمْرِ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الْعُجْبِ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ وَأَنَابَ إِلَى اللَّهِ، وَاعْتَرَفَ بِأَنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى ذَلِكَ الْخَيْرِ مَا كَانَ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَتَجَاوَزَ عَنْهُ بِسَبَبِ طَرَيَانِ ذَلِكَ الْخَاطِرِ الثَّانِي: لَعَلَّهُ هَمَّ بِإِيذَاءِ الْقَوْمِ، ثُمَّ قَالَ إِنَّهُ لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ قَصَدُوا الشَّرَّ فَعَفَا عَنْهُمْ ثُمَّ اسْتَغْفَرْ عَنْ ذَلِكَ الْهَمِّ الثَّالِثُ: لَعَلَّ الْقَوْمَ تَابُوا إِلَى اللَّهِ وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ لَهُمْ لِأَجْلِ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَتَهُمْ فَاسْتَغْفَرَ وَتَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ، فَغَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَهُمْ بِسَبَبِ شَفَاعَتِهِ وَدُعَائِهِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ مُحْتَمَلَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ وَلَا ظَنِّيٌّ عَلَى الْتِزَامِ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا، فَمَا الَّذِي يَحْمِلُنَا عَلَى الْتِزَامِهَا وَالْقَوْلِ بِهَا، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ أَنَّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَقْرَبُ وَأَقْوَى أَنْ يُقَالَ خَتَمَ اللَّهُ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ ومثل هذه الخاتمة إنما تحسن في حَقِّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ فِي الْخِدْمَةِ وَالطَّاعَةِ، وَتَحَمَّلَ أَنْوَاعًا مِنَ الشَّدَائِدِ فِي الْمُوَافَقَةِ وَالِانْقِيَادِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَذْكُورُ السَّابِقُ هُوَ الْإِقْدَامَ عَلَى الْجُرْمِ وَالذَّنْبِ فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْخَاتِمَةِ لَا تَلِيقُ بِهِ، قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُتِيَ بِمِنْبَرٍ رَفِيعٍ وَيُوضَعُ فِي الْجَنَّةِ، وَيُقَالُ يَا دَاوُدُ مَجِّدْنِي بِذَلِكَ الصَّوْتِ الْحَسَنِ الرَّخِيمِ الَّذِي كُنْتَ تُمَجِّدُنِي بِهِ فِي الدُّنْيَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، بقي هاهنا مباحث فالأول: قُرِئَ فَتَنَاهُ وَفَتَنَّاهُ عَلَى أَنَّ الْأَلِفَ ضَمِيرُ الْمَلَكَيْنِ الثَّانِي: الْمَشْهُورُ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ قِصَّةِ النَّعْجَةِ وَالنِّعَاجِ، وَقِيلَ أَيْضًا إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ أَنَّهُ حَكَمَ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قَبْلَ أَنْ سَمِعَ كَلَامَ الثَّانِي وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ الثالث: قوله: خَرَّ راكِعاً وَأَنابَ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الرُّكُوعِ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَقَدْ ثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ وَكَذَلِكَ الْبُكَاءُ الشَّدِيدُ فِي مُدَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ الرَّابِعُ: أن

[سورة ص (38) : الآيات 26 إلى 29]

مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ هَذَا الموضع ليس فيه سجدة التلاوة قال لأن تَوْبَةُ نَبِيٍّ فَلَا تُوجِبُ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ الْخَامِسُ: اسْتَشْهَدَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ عَلَى أَنَّ الرُّكُوعَ يقوم مقام السجود. [سورة ص (38) : الآيات 26 الى 29] يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَمَّمَ الْكَلَامَ فِي شَرْحِ الْقِصَّةِ أَرْدَفَهَا بِبَيَانِ أَنَّهُ تَعَالَى فَوَّضَ إِلَى دَاوُدَ خِلَافَةَ الْأَرْضِ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ، لِأَنَّ مِنَ الْبَعِيدِ جِدًّا أَنْ يُوصَفَ الرَّجُلُ بِكَوْنِهِ سَاعِيًا فِي سَفْكِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، رَاغِبًا فِي انْتِزَاعِ أَزْوَاجِهِمْ مِنْهُمْ ثُمَّ يَذْكُرُ عَقِيبَهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوَّضَ خِلَافَةَ الْأَرْضِ إِلَيْهِ، ثُمَّ نَقُولُ فِي تَفْسِيرِ كَوْنِهِ خَلِيفَةً وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: جَعَلْنَاكَ تَخْلُفُ مَنْ تَقَدَّمَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي سِيَاسَةِ النَّاسِ لِأَنَّ خَلِيفَةَ الرَّجُلِ مَنْ يَخْلُفُهُ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يُعْقَلُ فِي حَقِّ مَنْ يَصِحُّ عَلَيْهِ الْغَيْبَةُ، وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ الثَّانِي: إِنَّا جَعَلْنَاكَ مَالِكًا لِلنَّاسِ وَنَافِذَ الْحُكْمِ فِيهِمْ فَبِهَذَا التَّأْوِيلِ يُسَمَّى خَلِيفَةً، وَمِنْهُ يُقَالُ خُلَفَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ خَلِيفَةَ الرَّجُلِ يَكُونُ نَافِذَ الْحُكْمِ فِي رَعِيَّتِهِ وَحَقِيقَةُ الْخِلَافَةِ مُمْتَنِعَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ، فَلَمَّا امْتَنَعَتِ الْحَقِيقَةُ جُعِلَتِ اللَّفْظَةُ مُفِيدَةً اللُّزُومَ فِي تِلْكَ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ نَفَاذُ الْحُكْمِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مَدَنِيًّا بِالطَّبْعِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ الْوَاحِدَ لَا يَنْتَظِمُ مَصَالِحُهُ إِلَّا عِنْدَ وُجُودِ مَدِينَةٍ تَامَّةٍ حَتَّى أَنَّ هَذَا يَحْرُثُ، وَذَلِكَ يَطْحَنُ، وَذَلِكَ يَخْبِزُ، وَذَلِكَ يَنْسِجُ، وَهَذَا يَخِيطُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَيَكُونُ كل واحدة مِنْهُمْ مَشْغُولًا بِمُهِمٍّ، وَيَنْتَظِمُ مِنْ/ أَعْمَالِ الْجَمِيعِ مَصَالِحُ الْجَمِيعِ. فَثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ وَعِنْدَ اجْتِمَاعِهِمْ فِي الْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ يَحْصُلُ بَيْنَهُمْ مُنَازَعَاتٌ وَمُخَاصَمَاتٌ وَلَا بُدَّ مِنْ إِنْسَانٍ قَادِرٍ قَاهِرٍ يَقْطَعُ تِلْكَ الْخُصُومَاتِ وَذَلِكَ هُوَ السُّلْطَانُ الَّذِي يَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَى الْكُلِّ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَنْتَظِمُ مَصَالِحُ الْخَلْقِ إِلَّا بِسُلْطَانٍ قَاهِرٍ سَائِسٍ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ السُّلْطَانَ الْقَاهِرَ السَّائِسَ إِنْ كَانَ حُكْمُهُ عَلَى وَفْقِ هَوَاهُ وَلِطَلَبِ مَصَالِحِ دُنْيَاهُ عَظُمَ ضَرَرُهُ عَلَى الْخَلْقِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الرَّعِيَّةَ فِدَاءً لِنَفْسِهِ وَيَتَوَسَّلُ بِهِمْ إِلَى تَحْصِيلِ مَقَاصِدِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى تَخْرِيبِ الْعَالَمِ وَوُقُوعِ الْهَرْجِ وَالْمَرْجِ فِي الْخَلْقِ، وَذَلِكَ يُفْضِي بِالْآخِرَةِ إِلَى هَلَاكِ ذَلِكَ الْمَلِكِ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ أَحْكَامُ ذَلِكَ الْمَلِكِ مُطَابِقَةً لِلشَّرِيعَةِ الْحَقَّةِ الْإِلَهِيَّةِ انْتَظَمَتْ مَصَالِحُ الْعَالَمِ، وَاتَّسَعَتْ أَبْوَابُ الْخَيْرَاتِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ. فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ يَعْنِي لَا بُدَّ مِنْ حَاكِمٍ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ فَكُنْ أَنْتَ. ذَلِكَ الْحَاكِمَ ثُمَّ قَالَ: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ، وَتَفْسِيرُهُ أَنَّ مُتَابَعَةَ الْهَوَى تُوجِبُ الضَّلَالَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَالضَّلَالُ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يُوجِبُ سُوءَ الْعَذَابِ، فَيَنْتُجُ أَنَّ مُتَابَعَةَ الْهَوَى تُوجِبُ سُوءَ الْعَذَابِ. أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ مُتَابَعَةَ الْهَوَى تُوجِبُ الضَّلَالَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْهَوَى يَدْعُو إِلَى

الِاسْتِغْرَاقِ فِي اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَالِاسْتِغْرَاقُ فِيهَا يَمْنَعُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِطَلَبِ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، لِأَنَّهُمَا حَالَتَانِ مُتَضَادَّتَانِ فَبِقَدْرِ مَا يَزْدَادُ أَحَدُهُمَا يَنْقُصُ الْآخَرُ. أَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الضَّلَالَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يُوجِبُ سُوءَ الْعَذَابِ، فَالْأَمْرُ فِيهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَظُمَ إِلْفُهُ بِهَذِهِ الْجُسْمَانِيَّاتِ وَنَسِيَ بِالْكُلِّيَّةِ أَحْوَالَهُ الرُّوحَانِيَّاتِ، فَإِذَا مَاتَ فَقَدْ فَارَقَ الْمَحْبُوبَ وَالْمَعْشُوقَ، وَدَخَلَ دِيَارًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلِ تِلْكَ الديار إلف وليس لعيته قُوَّةُ مُطَالَعَةِ أَنْوَارِ تِلْكَ الدِّيَارِ، فَكَأَنَّهُ فَارَقَ الْمَحْبُوبَ وَوَصَلَ إِلَى الْمَكْرُوهِ، فَكَانَ لَا مَحَالَةَ فِي أَعْظَمِ الْعَنَاءِ وَالْبَلَاءِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُتَابَعَةَ الْهَوَى تُوجِبُ الضَّلَالَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَثَبَتَ أَنَّ الضَّلَالَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يُوجِبُ الْعَذَابَ، وَهَذَا بَيَانٌ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ يَعْنِي أَنَّ السَّبَبَ الْأَوَّلَ لِحُصُولِ ذَلِكَ الضَّلَالِ هُوَ نِسْيَانُ يَوْمِ الْحِسَابِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَذَكِّرًا لِيَوْمِ الْحِسَابِ لَمَا أَعْرَضَ عَنْ إِعْدَادِ الزَّادِ لِيَوْمِ الْمَعَادِ، وَلَمَا صَارَ مُسْتَغْرِقًا فِي هَذِهِ اللَّذَّاتِ الْفَاسِدَةِ. رُوِيَ عَنْ بَعْضِ خُلَفَاءِ بَنِي مَرْوَانَ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ هَلْ سَمِعْتَ مَا بَلَغَنَا أَنَّ الْخَلِيفَةَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ الْقَلَمُ وَلَا يَكْتُبُ عَلَيْهِ مَعْصِيَةً؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْخُلَفَاءُ أَفْضَلُ. أَمِ الْأَنْبِيَاءُ!؟ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [آلِ عِمْرَانَ: 191] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الرُّومِ: 8] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ قَالَ لِأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ وَكُلُّهَا أَبَاطِيلُ. فَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أنه ما خلق السموات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ أَعْمَالَ الْعِبَادِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الحجر: 85] وَعِنْدَ الْمُجَبِّرَةِ أَنَّهُ خَلَقَ الْكَافِرَ لِأَجْلِ أَنْ يَكْفُرَ وَالْكُفْرُ بَاطِلٌ، وَقَدْ خَلَقَ الْبَاطِلَ، ثُمَّ أَكَّدَ تَعَالَى ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ كُلُّ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ كَافِرٌ، فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مَذْهَبَ الْمُجَبِّرَةِ عَيْنُ الْكُفْرِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقًا لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ فَقَالُوا هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقًا لِكُلِّ مَا بَيْنَ السموات وَالْأَرْضِ، وَأَعْمَالُ الْعِبَادِ حَاصِلَةٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى خَالِقًا لَهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ فِي هَذَا الْعَالَمِ، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ خَلَقَهُمْ لِلْإِضْرَارِ أَوْ لِلْإِنْفَاعِ أَوْ لَا لِلْإِنْفَاعِ وَلَا لِلْإِضْرَارِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالرَّحِيمِ الْكَرِيمِ، وَالثَّالِثُ أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ حَاصِلَةٌ حِينَ كَانُوا مَعْدُومِينَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ خَلَقَهُمْ لِلْإِنْفَاعِ، فَنَقُولُ وَذَلِكَ الْإِنْفَاعُ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَيَاةِ الدُّنْيَا أَوْ فِي حَيَاةِ الْآخِرَةِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ مَنَافِعَ الدُّنْيَا قَلِيلَةٌ وَمَضَارَّهَا كَثِيرَةٌ، وَتَحَمُّلُ الْمَضَارِّ الْكَثِيرَةِ لِلْمَنْفَعَةِ الْقَلِيلَةِ لَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ ثَبَتَ الْقَوْلُ بِوُجُودِ حَيَاةٍ أُخْرَى بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْقَوْلُ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْقِيَامَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ يُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ لَخَّصْنَاهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ بِالِاسْتِقْصَاءِ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى التَّكْرِيرِ

فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى مَا خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ خَلْقُهُمَا بَاطِلًا كَانَ الْقَوْلُ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ لَازِمًا، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ أَنْكَرَ الْقَوْلَ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ كَانَ شَاكًّا فِي حِكْمَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ أَنَّ إِنْكَارَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَيَّنَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، فَقَالَ: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّا نَرَى فِي الدُّنْيَا مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَاحْتَرَزَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ فِي الْفَقْرِ وَالزَّمَانَةِ وَأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ، وَنَرَى الْكَفَرَةَ وَالْفُسَّاقَ فِي الرَّاحَةِ وَالْغِبْطَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَشْرٌ وَنَشْرٌ وَمَعَادٌ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ حَالُ الْمُطِيعِ أَدْوَنَ مِنْ حَالِ الْعَاصِي، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ قَادِحًا فِي الْحِكْمَةِ، ثَبَتَ أَنَّ إِنْكَارَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ يُوجِبُ إِنْكَارَ حِكْمَةِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ لِأَجْلِ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ وَالْهِدَايَةِ، وَهَذَا يُفِيدُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ مُعَلَّلَةٌ بِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ الْإِيمَانَ وَالْخَيْرَ وَالطَّاعَةَ مِنَ الْكُلِّ بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ أَرَادَ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَقْرِيرِ نَظْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ فَنَقُولُ، لِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ فَيَقُولَ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ عَنِ الْمُسْتَهْزِئِينَ مِنَ الْكُفَّارِ، أَنَّهُمْ بَالَغُوا فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَقَالُوا: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص: 16] وَلَمَّا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ذَلِكَ لَمْ يَذْكُرِ الْجَوَابَ، بَلْ قَالَ: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ [ص: 17] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِذِكْرِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْقِيَامَةِ حَقٌّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَطْنَبَ فِي شَرْحِ قِصَّةِ دَاوُدَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِمَسْأَلَةِ إِثْبَاتِ حِكْمَةِ اللَّهِ بِقِصَّةِ دَاوُدَ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ إِثْبَاتَ حِكْمَةِ اللَّهِ وَفَرَّعَ عَلَيْهِ إِثْبَاتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ حَقٌّ، ذَكَرَ بَعْدَهُ أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ شَرِيفٌ فَاضِلٌ كَثِيرُ النَّفْعِ وَالْخَيْرِ، وَلَا تَعَلُّقَ لِهَذَا الْفَصْلِ بِالْكَلِمَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْفُصُولُ فُصُولًا مُتَبَايِنَةً لَا تَعَلُّقَ لِلْبَعْضِ مِنْهَا بِالْبَعْضِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ وَصْفُ الْقُرْآنِ بِكَوْنِهِ كِتَابًا شَرِيفًا فَاضِلًا؟ هَذَا تَمَامُ السُّؤَالِ وَالْجَوَابُ: أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْعُقَلَاءَ قالوا من ابلى بِخَصْمٍ جَاهِلٍ مُصِرٍّ مُتَعَصِّبٍ، وَرَآهُ قَدْ خَاضَ فِي ذَلِكَ التَّعَصُّبِ وَالْإِصْرَارِ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ الْكَلَامَ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ خَوْضُهُ فِي تَقْرِيرِهِ أَكْثَرَ كَانَتْ نَفْرَتُهُ عَنِ الْقَبُولِ أَشَدَّ، فَالطَّرِيقُ حِينَئِذٍ أَنْ يَقْطَعَ الْكَلَامَ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، وَأَنْ يَخُوضَ فِي كَلَامٍ آخَرَ أَجْنَبِيٍّ عَنِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِالْكُلِّيَّةِ وَيُطْنِبَ فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ الْأَجْنَبِيِّ، بِحَيْثُ يَنْسَى ذَلِكَ الْمُتَعَصِّبُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى، فَإِذَا اشْتَغَلَ خَاطِرُهُ بِهَذَا الْكَلَامِ الْأَجْنَبِيِّ وَنَسِيَ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى، فَحِينَئِذٍ يُدْرِجُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْفَصْلِ الْأَجْنَبِيِّ مُقَدِّمَةً مُنَاسِبَةً لِذَلِكَ الْمَطْلُوبِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمُتَعَصِّبَ يُسَلِّمُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ، فَإِذَا سَلَّمَهَا، فَحِينَئِذٍ يَتَمَسَّكُ بِهَا فِي إِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ الْأَوَّلِ، وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ ذَلِكَ الْخَصْمُ الْمُتَعَصِّبُ مُنْقَطِعًا مُفْحَمًا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّ الْكُفَّارَ بَلَغُوا فِي إِنْكَارِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْقِيَامَةِ إِلَى حَيْثُ قَالُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص: 16] فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ اقْطَعِ الْكَلَامَ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَاشَرَعْ فِي كَلَامٍ آخَرَ أَجْنَبِيٍّ بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهِيَ قِصَّةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ بِمَسْأَلَةِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَطْنَبَ فِي شَرْحِ تِلْكَ الْقِصَّةِ، ثم قال في آخر القصة: يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ

[سورة ص (38) : الآيات 30 إلى 33]

خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ [ص: 26] وَكُلُّ مَنْ سَمِعَ هَذَا قَالَ نِعْمَ مَا فَعَلَ حَيْثُ أَمَرَهُ بِالْحُكْمِ بِالْحَقِّ، ثُمَّ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَأَنَا لَا آمُرُكَ بِالْحَقِّ فَقَطْ، بَلْ أَنَا مَعَ أَنِّي رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا أفعل إلا بالحق ولا أفضي بِالْبَاطِلِ، فَهَهُنَا الْخَصْمُ يَقُولُ نِعْمَ مَا فَعَلَ حَيْثُ لَمْ يَقْضِ إِلَّا بِالْحَقِّ، فَعِنْدَ هَذَا يُقَالُ لَمَّا سَلَّمْتَ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِالْحَقِّ لَا بِالْبَاطِلِ، لَزِمَكَ أَنْ تُسَلِّمَ صِحَّةَ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ رَاجِحًا عَلَى الْمُسْلِمِ فِي إِيصَالِ الْخَيْرَاتِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ ضِدُّ الْحِكْمَةِ وَعَيْنُ الْبَاطِلِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ اللَّطِيفِ أَوْرَدَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِلْزَامَ الْقَاطِعَ عَلَى مُنْكِرِي الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ إِيرَادًا لَا يُمْكِنُهُمُ الْخَلَاصُ عَنْهُ، فَصَارَ ذَلِكَ الْخَصْمُ الَّذِي بَلَغَ فِي إِنْكَارِ الْمَعَادِ إِلَى حَدِّ الِاسْتِهْزَاءِ مُفْحَمًا مُلْزَمًا بِهَذَا/ الطَّرِيقِ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الطَّرِيقَةَ الدَّقِيقَةَ فِي الْإِلْزَامِ فِي الْقُرْآنِ، لَا جَرَمَ وَصْفَ الْقُرْآنَ بِالْكَمَالِ وَالْفَضْلِ، فَقَالَ: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَتَدَبَّرْ وَلَمْ يَتَأَمَّلْ وَلَمْ يُسَاعِدْهُ التَّوْفِيقُ الْإِلَهِيُّ لَمْ يَقِفْ عَلَى هَذِهِ الْأَسْرَارِ الْعَجِيبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، حَيْثُ يَرَاهُ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ مَقْرُونًا بِسُوءِ التَّرْتِيبِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَكْمَلِ جِهَاتِ التَّرْتِيبِ، فَهَذَا مَا حَضَرَنَا فِي تفسير هذه الآيات، وبالله التوفيق. [سورة ص (38) : الآيات 30 الى 33] وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) [القصة الثانية] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ وَقَوْلُهُ: نِعْمَ الْعَبْدُ فِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: نَقُولُ الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ فِي نِعْمَ الْعَبْدُ مَحْذُوفٌ، فَقِيلَ هُوَ سُلَيْمَانُ، وَقِيلَ دَاوُدُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورَيْنِ، وَلِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ إِنَّهُ أَوَّابٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ دَاوُدَ، لِأَنَّ وَصْفَهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ حَيْثُ قَالَ: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 17] فلو قلنا لفظ الأواب هاهنا أَيْضًا صِفَةُ دَاوُدَ لَزِمَ التَّكْرَارُ، وَلَوْ قُلْنَا إِنَّهُ صِفَةٌ لِسُلَيْمَانَ لَزِمَ كَوْنُ الِابْنِ شَبِيهًا لِأَبِيهِ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ فِي الْفَضِيلَةِ، فَكَانَ هذا أولى. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا نِعْمَ الْعَبْدُ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ إِنَّهُ أَوَّابٌ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ لِلتَّعْلِيلِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّابًا، فَيَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ كَثِيرَ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ وَفِي أَكْثَرِ الْمُهِمَّاتِ كَانَ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ نِعْمَ الْعَبْدُ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ، لِأَنَّ كَمَالُ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ وَالْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَرَأْسُ الْمَعَارِفِ وَرَئِيسُهَا مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَأْسُ الطَّاعَاتِ وَرَئِيسُهَا الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرَاتِ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كَثِيرَ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ أَوَّابًا، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَوَّابًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ نِعْمَ الْعَبْدُ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ نِعْمَ الْعَبْدُ هُوَ إِذْ كَانَ مِنْ أَعْمَالِهِ أَنَّهُ فَعَلَ كَذَا الثَّانِي: أَنَّهُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ. وَالتَّقْدِيرُ اذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ كَذَا وَكَذَا، وَالْعَشِيُّ/ هُوَ مِنْ حِينِ الْعَصْرِ إِلَى آخَرِ النَّهَارِ عُرِضَ الْخَيْلُ عَلَيْهِ لِيَنْظُرَ إِلَيْهَا وَيَقِفَ عَلَى كَيْفِيَّةِ أَحْوَالِهَا، وَالصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ الْخَيْلُ وُصِفَتْ بِوَصْفَيْنِ

أولهما: الصَّافِنَاتُ، قَالَ صَاحِبُ «الصِّحَاحِ» : الصَّافِنُ الَّذِي يَصْفِنُ قَدَمَيْهِ، وَفِي الْحَدِيثِ «كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَهُ فَرَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قُمْنَا صُفُونًا» أَيْ قُمْنَا صَافِنِينَ أَقْدَامَنَا، وَأَقُولُ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَالصُّفُونُ صِفَةٌ دَالَّةٌ عَلَى فَضِيلَةِ الْفَرَسِ وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: لِلْخَيْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْجِيَادُ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَالْجِيَادُ جَمْعُ جَوَادُ وَهُوَ الشَّدِيدُ الْجَرْيِ، كَمَا أَنَّ الْجَوَادُ مِنَ النَّاسِ هُوَ السَّرِيعُ الْبَذْلِ، فَالْمَقْصُودُ وَصَفُهَا بِالْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ حَالَتَيْ وُقُوفِهَا وَحَرَكَتِهَا. أَمَّا حَالُ وُقُوفِهَا فَوَصَفَهَا بِالصُّفُونِ، وَأَمَّا حَالُ حَرَكَتِهَا فَوَصَفَهَا بِالْجَوْدَةِ، يَعْنِي أَنَّهَا إِذَا وَقَفَتْ كَانَتْ سَاكِنَةً مُطَمْئِنَةً فِي مَوَاقِفِهَا عَلَى أَحْسَنِ الْأَشْكَالِ، فَإِذَا جَرَتْ كَانَتْ سِرَاعًا فِي جَرْيِهَا، فَإِذَا طَلَبَتْ لَحِقَتْ، وَإِذَا طُلِبَتْ لَمْ تُلْحَقْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنْ يُضَمَّنَ أَحْبَبْتُ معنى فعل يتعدى بعن، كأنه قيل أنبت حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي وَالثَّانِي: أَنَّ أَحْبَبْتُ بِمَعْنَى أَلْزَمْتُ، وَالْمَعْنَى أَنِّي أَلْزَمْتُ حُبَّ الْخَيْلِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي، أَيْ عَنْ كِتَابِ رَبِّي وَهُوَ التَّوْرَاةُ، لِأَنَّ ارْتِبَاطَ الْخَيْلِ كَمَا أَنَّهُ فِي الْقُرْآنِ مَمْدُوحٌ فَكَذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ مَمْدُوحٌ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُحِبُّ شَيْئًا لَكِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ لَا يُحِبَّهُ كَالْمَرِيضِ الَّذِي يَشْتَهِي مَا يَزِيدُ فِي مَرَضِهِ، وَالْأَبُ الَّذِي يُحِبُّ وَلَدَهُ الرَّدِيءَ، وَأَمَّا مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا، وَأَحَبَّ أَنْ يُحِبَّهُ كَانَ ذَلِكَ غَايَةَ الْمَحَبَّةِ فَقَوْلُهُ أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ بِمَعْنَى أَحْبَبْتُ حُبِّي لِهَذِهِ الْخَيْلِ. ثُمَّ قَالَ: عَنْ ذِكْرِ رَبِّي بِمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ الشَّدِيدَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ لَا عَنِ الشَّهْوَةِ وَالْهَوَى، وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ الْوُجُوهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: حَتَّى تَوارَتْ أَقُولُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَوارَتْ، وَفِي قَوْلِهِ: رُدُّوها يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَائِدًا إِلَى الشَّمْسِ، لأنه جرى ذكر ماله تُعَلُّقٌ بِهَا وَهُوَ الْعَشِيُّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَائِدًا إِلَى الصَّافِنَاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مُتَعَلِّقًا بِالشَّمْسِ وَالثَّانِي بِالصَّافِنَاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، فَهَذِهِ احْتِمَالَاتٌ أَرْبَعَةٌ لَا مَزِيدَ عَلَيْهَا فَالْأَوَّلُ: أَنْ يعود الضميران معاني إِلَى الصَّافِنَاتِ، كَأَنَّهُ قَالَ حَتَّى تَوَارَتِ الصَّافِنَاتُ بِالْحِجَابِ رُدُّوا الصَّافِنَاتِ عَلَيَّ، وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرَانِ مَعًا عَائِدِينَ إِلَى الشَّمْسِ كَأَنَّهُ قَالَ حَتَّى تَوَارَتِ الشَّمْسُ بِالْحِجَابِ رَدُّوا الشَّمْسَ، وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اشْتَغَلَ بِالْخَيْلِ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّ الشَّمْسَ فَقَوْلُهُ: رُدُّوها عَلَيَّ إِشَارَةٌ إِلَى طَلَبِ رَدِّ الشَّمْسِ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ عِنْدِي بِعِيدٌ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الصَّافِنَاتِ مَذْكُورَةٌ تَصْرِيحًا، وَالشَّمْسُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ وَعَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَذْكُورِ أَوْلَى مِنْ عَوْدِهِ إِلَى الْمُقَدَّرِ الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ وَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقُولُ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي. وَكَانَ يُعِيدُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ إِلَى أَنْ/ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ، فَلَوْ قُلْنَا الْمُرَادُ حَتَّى تَوَارَتِ الصَّافِنَاتُ بِالْحِجَابِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ حِينَ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهَا حَالَ جَرْيِهَا كَانَ يَقُولُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ إِلَى أَنْ غَابَتْ عَنْ عَيْنِهِ وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ، وَلَوْ قُلْنَا الْمُرَادُ حَتَّى تَوَارَتِ الشَّمْسُ بِالْحِجَابِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يُعِيدُ عَيْنَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ إِلَى وَقْتِ الْمَغْرِبِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ الثَّالِثُ: أَنَّا لَوْ حَكَمْنَا بِعَوْدِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ حَتَّى تَوَارَتْ إِلَى الشَّمْسِ وَحَمَلْنَا اللفظ على أنه ترك الصلاة الْعَصْرِ كَانَ هَذَا مُنَافِيًا لِقَوْلِهِ: أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي فَإِنَّ تِلْكَ الْمَحَبَّةَ لَوْ كَانَتْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ لَمَا نَسِيَ الصَّلَاةَ وَلَمَا تَرَكَ ذِكْرَ اللَّهِ الرَّابِعُ: أَنَّهُ بِتَقْدِيرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَقِيَ مَشْغُولًا بِتِلْكَ الْخَيْلِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَفَاتَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ؟، فَكَانَ ذَلِكَ ذَنْبًا عَظِيمًا وَجُرْمًا قَوِيًّا، فَالْأَلْيَقُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ التَّضَرُّعُ وَالْبُكَاءُ

وَالْمُبَالَغَةُ فِي إِظْهَارِ التَّوْبَةِ، فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَوُّرِ وَالْعَظَمَةِ لِإِلَهِ الْعَالَمِ وَرَبِّ الْعَالَمِينَ، رُدُّوهَا عَلَيَّ بِمِثْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْعَارِيَةِ عَنْ كُلِّ جِهَاتِ الْأَدَبِ عَقِيبَ ذَلِكَ الْجُرْمِ الْعَظِيمِ، فَهَذَا لَا يَصْدُرُ عَنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنِ الْخَيْرِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ إِسْنَادُهُ إِلَى الرَّسُولِ المطهر المكر! الْخَامِسُ: أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى تَحْرِيكِ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ رُدَّهَا عَلَيَّ وَلَا يَقُولَ رُدُّوهَا عَلَيَّ، فَإِنْ قَالُوا إِنَّمَا ذَكَرَ صِيغَةَ الْجَمْعِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَعْظِيمِ الْمُخَاطَبِ فَنَقُولُ قَوْلُهُ: رُدُّوها لَفْظٌ مُشْعِرٌ بِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْإِهَانَةِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهَذَا اللَّفْظِ رِعَايَةُ التَّعْظِيمِ السَّادِسُ: أَنَّ الشَّمْسَ لَوْ رَجَعَتْ بَعْدَ الْغُرُوبِ لَكَانَ ذَلِكَ مُشَاهَدًا لِكُلِّ أَهْلِ الدُّنْيَا وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَإِظْهَارِهِ، وَحَيْثُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ ذَلِكَ عَلِمْنَا فَسَادَهُ السَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ ثُمَّ قَالَ: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ وَعَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَيْنَ أَوْلَى، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورَيْنَ هُوَ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ، وَأَمَّا الْعَشِيُّ فَأَبْعَدُهُمَا فَكَانَ عَوْدُ ذَلِكَ الضَّمِيرِ إِلَى الصَّافِنَاتِ أَوْلَى، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَمْلَ قَوْلِهِ: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ عَلَى تُوَارِي الشَّمْسِ وَأَنَّ حَمْلَ قَوْلِهِ: رُدُّوها عَلَيَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ طَلَبُ أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ الشَّمْسَ بَعْدَ غُرُوبِهَا كَلَامٌ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ النَّظْمِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أَيْ فَجَعَلَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَمْسَحُ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا، قَالَ الْأَكْثَرُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَسَحَ السَّيْفَ بِسُوقِهَا وَأَعْنَاقِهَا أَيْ قَطَعَهَا، قَالُوا إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ بِسَبَبِ اشْتِغَالِهِ بِالنَّظَرِ إِلَى تِلْكَ الْخَيْلِ اسْتَرَدَّهَا وَعَقَرَ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا تَقْرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا أَيْضًا بَعِيدٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَى مَسْحِ السُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ قَطْعَهَا لَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ [الْمَائِدَةِ: 6] قَطْعَهَا، وَهَذَا مِمَّا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ بَلْ لَوْ قِيلَ مَسَحَ رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ فَرُبَّمَا فُهِمَ مِنْهُ ضَرْبُ الْعُنُقِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُذْكُرْ لَفْظَ السَّيْفِ لَمْ يُفْهَمِ الْبَتَّةَ مِنَ الْمَسْحِ الْعَقْرُ وَالذَّبْحُ الثَّانِي: الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ جَمَعُوا عَلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْوَاعًا مِنَ الْأَفْعَالِ الْمَذْمُومَةِ فَأَوَّلُهَا: تَرْكُ الصَّلَاةِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الِاشْتِغَالُ بِحُبِّ الدُّنْيَا إِلَى حَيْثُ نَسِيَ الصَّلَاةَ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ» وَثَالِثُهَا: / أَنَّهُ بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِهَذَا الذَّنْبِ الْعَظِيمِ لَمْ يَشْتَغِلْ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ الْبَتَّةَ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ خَاطَبَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِقَوْلِهِ: رُدُّوها عَلَيَّ وَهَذِهِ كَلِمَةٌ لَا يَذْكُرُهَا الرَّجُلُ الْحَصِيفُ إِلَّا مَعَ الْخَادِمِ الْخَسِيسِ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ أَتْبَعَ هَذِهِ الْمَعَاصِي بِعَقْرِ الْخَيْلِ فِي سُوقِهَا وَأَعْنَاقِهَا، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ إِلَّا لِمَأْكَلِهِ» ، فَهَذِهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْكَبَائِرِ نَسَبُوهَا إِلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ لَمْ يَدُلَّ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا: وَسَادِسُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْقِصَصَ إِنَّمَا ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَقِيبَ قَوْلِهِ: وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص: 17] وَأَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا بَلَغُوا فِي السَّفَاهَةِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى سَفَاهَتِهِمْ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ: وَذَكَرَ قِصَّةَ دَاوُدَ، ثم ذكر عقبيها قِصَّةَ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ اصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا سُلَيْمَانَ، وَهَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَكُونُ لَائِقًا لَوْ قُلْنَا إِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِالْأَعْمَالِ الْفَاضِلَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، وَصَبَرَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَأَعْرَضَ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ، فَأَمَّا لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ قِصَّةِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى الْكَبَائِرِ الْعَظِيمَةِ وَالذُّنُوبِ الْجَسِيمَةِ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ لَائِقًا بِهَذَا الْمَوْضِعِ، فَثَبَتَ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى يُنَادِي عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْفَاسِدَةِ بِالرَّدِّ وَالْإِفْسَادِ وَالْإِبْطَالِ بَلِ التَّفْسِيرُ الْمُطَابِقُ لِلْحَقِّ لِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَالصَّوَابُ أَنْ نَقُولَ إِنَّ رِبَاطَ الْخَيْلِ كَانَ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ فِي دِينِهِمْ

[سورة ص (38) : الآيات 34 إلى 40]

كَمَا أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ احْتَاجَ إِلَى الْغَزْوِ فَجَلَسَ وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ الْخَيْلِ وَأَمَرَ بِإِجْرَائِهَا وَذَكَرَ أَنِّي لَا أُحِبُّهَا لِأَجْلِ الدُّنْيَا وَنَصِيبِ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا أُحِبُّهَا لِأَمْرِ اللَّهِ وَطَلَبِ تَقْوِيَةِ دِينِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ بِإِعْدَائِهَا وَتَسْيِيرِهَا حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ أَيْ غَابَتْ عَنْ بَصَرِهِ، ثُمَّ أَمَرَ الرَّائِضِينَ بِأَنْ يَرُدُّوا تِلْكَ الْخَيْلَ إِلَيْهِ فَلَمَّا عَادَتْ إِلَيْهِ طَفِقَ يَمْسَحُ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا، وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ الْمَسْحِ أُمُورٌ الْأَوَّلُ: تَشْرِيفًا لَهَا وَإِبَانَةً لِعِزَّتِهَا لِكَوْنِهَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْوَانِ فِي دَفْعِ الْعَدُوِّ الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ أَنَّهُ فِي ضَبْطِ السِّيَاسَةِ وَالْمُلْكِ يَتَّضِعُ إِلَى حَيْثُ يُبَاشِرُ أَكْثَرَ الْأُمُورِ بِنَفْسِهِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ بِأَحْوَالِ الْخَيْلِ وَأَمْرَاضِهَا وَعُيُوبِهَا، فَكَانَ يَمْتَحِنُهَا وَيَمْسَحُ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا حَتَّى يَعْلَمَ هَلْ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَرَضِ، فَهَذَا التَّفْسِيرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْقُرْآنِ انْطِبَاقًا مُطَابِقًا مُوَافِقًا، وَلَا يَلْزَمُنَا نِسْبَةُ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَالَمَحْذُورَاتِ، وَأَقُولُ أَنَا شَدِيدُ التَّعَجُّبِ مِنَ النَّاسِ كَيْفَ قَبِلُوا هَذِهِ الْوُجُوهَ السَّخِيفَةَ مَعَ أَنَّ الْعَقْلَ وَالنَّقْلَ يَرُدُّهَا، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي إِثْبَاتِهَا شُبْهَةٌ فَضْلًا عَنْ حُجَّةٍ، فَإِنْ قِيلَ فَالْجُمْهُورُ فَسَّرُوا الْآيَةَ بِذَلِكَ الْوَجْهِ، فَمَا قَوْلُكَ فيه؟ فنقول لنا هاهنا مَقَامَانِ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنْ نَدَّعِيَ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ الَّتِي يُذْكُرُونَهَا، وَقَدْ ظَهَرَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَظُهُورُهُ لَا يَرْتَابُ الْعَاقِلُ فِيهِ. الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ هَبْ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِلَا أَنَّهُ كَلَامٌ ذَكَرَهُ النَّاسُ، فَمَا قَوْلُكَ/ فِيهِ وَجَوَابُنَا أَنَّ الدَّلَالَةَ الْكَثِيرَةَ قَامَتْ عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ وَرِوَايَةُ الْآحَادِ لَا تَصْلُحُ مُعَارِضَةً لِلدَّلَائِلِ الْقَوِيَّةِ، فَكَيْفَ الْحِكَايَاتُ عَنْ أَقْوَامٍ لَا يُبَالَى بِهِمْ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى أَقْوَالِهِمْ، والله أعلم. [سورة ص (38) : الآيات 34 الى 40] وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هَذَا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَرْحُ وَاقِعَةٍ ثَانِيَةٍ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَلِأَهْلِ الْحَشْوِ وَالرِّوَايَةِ فِيهِ قَوْلٌ، وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالتَّحْقِيقِ قَوْلٌ آخَرُ، أَمَّا قَوْلُ أَهْلِ الحشو فذكروا فيه حكايات: الْأُولَى: قَالُوا إِنْ سُلَيْمَانَ بَلَغَهُ خَبَرُ مَدِينَةٍ فِي الْبَحْرِ فَخَرَجَ إِلَيْهَا بِجُنُودِهِ تَحْمِلُهُ الرِّيحُ فَأَخَذَهَا وَقَتَلَ مَلِكَهَا، وَأَخَذَ بِنْتًا لَهُ اسْمُهَا جَرَادَةُ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا فَاصْطَفَاهَا لِنَفَسِهِ وَأَسْلَمَتْ فَأَحَبَّهَا وَكَانَتْ تَبْكِي أَبَدًا عَلَى أَبِيهَا فَأَمَرَ سُلَيْمَانَ الشَّيْطَانَ فَمَثَّلَ لَهَا صُورَةَ أَبِيهَا فَكَسَتْهَا مِثْلَ كُسْوَتِهِ وَكَانَتْ تَذْهَبُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا مَعَ

جَوَارِيهَا يَسْجُدْنَ لَهَا، فَأَخْبَرَ آصَفُ سُلَيْمَانَ بِذَلِكَ فَكَسَرَ الصُّورَةَ وَعَاقَبَ الْمَرْأَةَ، ثُمَّ خَرَجَ وَحْدَهُ إِلَى فَلَاةٍ وَفَرَشَ الرَّمَادَ فَجَلَسَ عَلَيْهِ تَائِبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ يُقَالُ لَهَا أَمِينَةُ إِذَا دَخَلَ لِلطَّهَارَةِ أَوْ لِإِصَابَةِ امْرَأَةٍ وَضَعَ خَاتَمَهُ عِنْدَهَا وَكَانَ مُلْكُهُ فِي خَاتَمِهِ فَوَضَعَهُ عِنْدَهَا يَوْمًا، فَأَتَاهَا الشَّيْطَانُ صَاحِبُ الْبَحْرِ عَلَى صُورَةِ سُلَيْمَانَ. وَقَالَ يَا أَمِينَةُ خَاتَمِي فَتَخَتَّمَ بِهِ وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ فَأَتَى عَلَيْهِ الطَّيْرُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ، وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَةُ سُلَيْمَانَ فَأَتَى أَمِينَةَ لِطَلَبِ الْخَاتَمِ فَأَنْكَرَتْهُ وَطَرَدَتْهُ. فَعَرَفَ أَنَّ الْخَطِيئَةَ قَدْ أَدْرَكَتْهُ فَكَانَ يَدُورُ عَلَى الْبُيُوتِ يَتَكَفَّفُ وَإِذَا قَالَ/ أَنَا سُلَيْمَانُ حَثُوا عَلَيْهِ التُّرَابَ وَسَبُّوهُ، ثُمَّ أَخَذَ يَخْدِمُ السَّمَّاكِينَ يَنْقُلُ لَهُمُ السَّمَكَ فَيُعْطُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ سَمَكَتَيْنِ فَمَكَثَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَدَدَ مَا عُبِدَ الْوَثَنُ فِي بَيْتِهِ، فَأَنْكَرَ آصِفُ وَعُظَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ حُكْمَ الشَّيْطَانِ وَسَأَلَ آصِفُ نِسَاءَ سُلَيْمَانَ، فَقُلْنَ مَا يَدَعُ امْرَأَةً مِنَّا فِي دَمِهَا وَلَا يَغْتَسِلُ مِنْ جَنَابَةٍ، وَقِيلَ بَلْ نَفَذَ حُكْمُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا فِيهِنَّ، ثُمَّ طَارَ الشَّيْطَانُ وَقَذَفَ الْخَاتَمَ فِي الْبَحْرِ فَابْتَلَعَتْهُ سَمَكَةٌ وَوَقَعَتِ السَّمَكَةُ فِي يَدِ سُلَيْمَانَ فَبَقَرَ بَطْنَهَا فَإِذَا هُوَ بِالْخَاتَمِ فَتَخَتَّمَ بِهِ وَوَقَعَ سَاجِدًا لِلَّهِ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ مُلْكُهُ وَأَخَذَ ذَلِكَ الشَّيْطَانَ وَأَدْخَلَهُ فِي صَخْرَةٍ وَأَلْقَاهَا فِي الْبَحْرِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لِلْحَشَوِيَّةِ أَنَّ تِلْكَ الْمَرْأَةَ لَمَّا أَقْدَمَتْ عَلَى عِبَادَةِ تِلْكَ الصُّورَةِ افْتَتَنَ سُلَيْمَانُ وَكَانَ يَسْقُطُ الْخَاتَمُ مِنْ يَدِهِ وَلَا يَتَمَاسَكُ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ آسف إِنَّكَ لَمَفْتُونٌ بِذَنْبِكَ فَتُبْ إِلَى اللَّهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: لَهُمْ قَالُوا إِنَّ سُلَيْمَانَ قَالَ لِبَعْضِ الشَّيَاطِينِ كَيْفَ تَفْتِنُونَ النَّاسَ؟ فَقَالَ أَرِنِي خَاتَمَكَ أُخْبِرْكَ فَلَمَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ نَبَذَهُ فِي الْبَحْرِ فَذَهَبَ مُلْكُهُ وَقَعَدَ هَذَا الشَّيْطَانُ عَلَى كُرْسِيِّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحِكَايَةَ إِلَى آخِرِهَا. إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فَهَؤُلَاءِ قَالُوا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَلَاهُ وَقَوْلِهِ: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً هُوَ جُلُوسُ ذَلِكَ الشَّيْطَانِ عَلَى كُرْسِيِّهِ. وَالرِّوَايَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ كَانَ سَبَبُ فِتْنَتِهِ احْتِجَابَهُ عَنِ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَسُلِبَ مُلْكُهُ وَأُلْقِيَ عَلَى سَرِيرِهِ شَيْطَانٌ عُقُوبَةً لَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ التَّحْقِيقِ اسْتَبْعَدُوا هَذَا الْكَلَامَ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَوْ قَدَرَ عَلَى أَنْ يَتَشَبَّهَ بِالصُّورَةِ وَالْخِلْقَةِ بِالْأَنْبِيَاءِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى اعْتِمَادٌ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الشَّرَائِعِ. فَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ رَآهُمُ النَّاسُ فِي صُورَةِ مُحَمَّدٍ وَعِيسَى وَمُوسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَا كَانُوا أُولَئِكَ بَلْ كَانُوا شَيَاطِينَ تَشَبَّهُوا بِهِمْ فِي الصُّورَةِ لِأَجْلِ الْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ الدِّينَ بِالْكُلِّيَّةِ الثَّانِي: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَوْ قَدَرَ عَلَى أَنْ يُعَامِلَ نَبِيَّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ لَوَجَبَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى مَثَلِهَا مَعَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ، وَحِينَئِذٍ وَجَبَ أَنْ يَقْتُلَهُمْ وَأَنْ يُمَزِّقَ تَصَانِيفَهُمْ وَأَنْ يُخَرِّبَ دِيَارَهُمْ، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ فِي حَقِّ آحَادِ الْعُلَمَاءِ فَلِأَنْ يَبْطُلَ مِثْلُهُ فِي حَقِّ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَى وَالثَّالِثُ: كَيْفَ يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ أَنْ يُسَلِّطَ الشَّيْطَانَ عَلَى أَزْوَاجِ سُلَيْمَانَ؟ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَبِيحٌ الرَّابِعُ: لَوْ قُلْنَا إِنْ سُلَيْمَانَ أَذِنَ لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ فِي عِبَادَةِ تِلْكَ الصُّورَةِ فَهَذَا كُفْرٌ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ الْبَتَّةَ فَالذَّنْبُ عَلَى تِلْكَ الْمَرْأَةِ، فَكَيْفَ يُؤَاخِذُ اللَّهُ سُلَيْمَانَ بِفِعْلٍ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ؟ فَأَمَّا الْوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرَهَا أَهْلُ التَّحْقِيقِ فِي هَذَا الْبَابِ فَأَشْيَاءُ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِتْنَةَ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ وُلِدَ لَهُ ابْنٌ فَقَالَتِ الشَّيَاطِينُ إِنْ عَاشَ صَارَ مُسَلَّطًا عَلَيْنَا مِثْلَ أَبِيهِ فَسَبِيلُنَا أَنْ نَقْتُلَهُ فَعَلِمَ سُلَيْمَانُ ذَلِكَ فَكَانَ يُرَبِّيهِ فِي السَّحَابِ فَبَيْنَمَا هُوَ مُشْتَغِلٌ بِمُهِمَّاتِهِ إِذْ أُلْقِيَ ذَلِكَ الْوَلَدُ مَيِّتًا عَلَى كُرْسِيِّهِ فَتَنَبَّهَ عَلَى خَطِيئَتِهِ فِي أَنَّهُ لَمْ يَتَوَكَّلْ فِيهِ عَلَى اللَّهِ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَأَنَابَ الثَّانِي: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ سُلَيْمَانُ لِأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي/ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَطَافَ عَلَيْهِنَّ فَلَمْ تَحْمَلْ

إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ فَجِيءَ بِهِ عَلَى كُرْسِيِّهِ فَوُضِعَ فِي حِجْرِهِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا كُلُّهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ» فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ بِسَبَبِ مَرَضٍ شَدِيدٍ أَلْقَاهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ مِنْهُ جَسَداً وَذَلِكَ لِشِدَّةِ الْمَرَضِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي الضَّعِيفِ إِنَّهُ لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍ وَجِسْمٌ بِلَا رُوحٍ ثُمَّ أَنابَ أَيْ رَجَعَ إِلَى حَالِ الصِّحَّةِ، فَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِهَذِهِ الْوُجُوهِ وَلَا حَاجَةَ الْبَتَّةَ إِلَى حَمْلِهِ عَلَى تِلْكَ الْوُجُوهِ الرَّكِيكَةِ الرَّابِعُ: أَقُولُ لَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ ابْتَلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَسْلِيطِ خَوْفٍ أَوْ تَوَقُّعِ بَلَاءٍ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ عَلَيْهِ، وَصَارَ بِسَبَبِ قُوَّةِ ذَلِكَ الْخَوْفِ كَالْجَسَدِ الضَّعِيفِ الْمُلْقَى عَلَى ذَلِكَ الْكُرْسِيِّ، ثُمَّ إِنَّهُ أَزَالَ اللَّهُ عَنْهُ ذلك الخوف، وأعاده إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَطِيبِ الْقَلْبِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ حَمَلُوا الْكَلَامَ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى صُدُورِ الزَّلَّةِ مِنْهُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا تَقَدُّمِ الذَّنْبِ لَمَا طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْفِكُ الْبَتَّةَ عَنْ تَرْكِ الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى، وَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ إِلَى طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِأَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، وَلِأَنَّهُمْ أَبَدًا فِي مَقَامِ هَضْمِ النَّفْسِ، وَإِظْهَارِ الذِّلَّةِ وَالْخُضُوعِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً» وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ هَذَا الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ مُهِمِّ الدِّينِ عَلَى مُهِمِّ الدُّنْيَا، لِأَنَّ سُلَيْمَانَ طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ أَوَّلًا ثُمَّ بَعْدَهُ طَلَبَ الْمَمْلَكَةَ. وَأَيْضًا الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى سَبَبٌ لِانْفِتَاحِ أَبْوَابِ الْخَيْرَاتِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ سُلَيْمَانَ طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ أَوَّلًا ثُمَّ تَوَسَّلَ بِهِ إِلَى طَلَبِ الْمَمْلَكَةِ، وَنُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَكَذَا فَعَلَ أَيْضًا لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ [نُوحٍ: 10- 12] وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي مُشْعِرٌ بِالْحَسَدِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ اسْتَوْلَى عَلَى مَمْلَكَتِهِ قَالُوا مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، هُوَ أَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ مُلْكًا لَا تَقْدِرُ الشَّيَاطِينُ أَنْ يَقُومُوا مَقَامَهُ الْبَتَّةَ، فَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لِذَلِكَ فَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُلْكَ هُوَ الْقُدْرَةُ فَكَانَ الْمُرَادُ أَقْدِرْنِي عَلَى أَشْيَاءَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرِي الْبَتَّةَ، لِيَصِيرَ اقْتِدَارِي عَلَيْهَا مُعْجِزَةً تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِي وَرِسَالَتِي. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ عَقِيبَهُ فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ فَكَوْنُ الرِّيحِ جَارِيًا بِأَمْرِهِ قُدْرَةٌ عَجِيبَةٌ وَمُلْكٌ عَجِيبٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ فَكَانَ قَوْلُهُ: هَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي هُوَ هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ شَرْطَ الْمُعْجِزَةِ أَنْ لَا يَقْدِرَ غَيْرُهُ عَلَى مُعَارَضَتِهَا، فَقَوْلُهُ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي يَعْنِي لَا يَقْدِرُ/ أَحَدٌ عَلَى مُعَارَضَتِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا مَرِضَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الصِّحَّةِ عَرَفَ أَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا صَائِرَةٌ إِلَى الْغَيْرِ بِإِرْثٍ أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ، فَسَأَلَ رَبَّهُ مُلْكًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ الَّذِي سَأَلَهُ بِقَوْلِهِ: مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أَيْ مُلْكًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنِّي إِلَى غَيْرِي الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ أَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا أَشَقُّ مِنَ الِاحْتِرَازِ عَنْهَا حَالَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا إِلَهِي أَعْطِنِي مَمْلَكَةً فَائِقَةً عَلَى مَمَالِكِ الْبَشَرِ بِالْكُلِّيَّةِ، حَتَّى أَحْتَرِزَ عَنْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا لِيَصِيرَ ثَوَابِي أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا عَسِرٌ صَعْبٌ، لِأَنَّ هَذِهِ اللَّذَّاتِ حَاضِرَةٌ وَسِعَادَاتِ الآخرة نسيئة،

وَالنَّقْدُ يَصْعُبُ بَيْعُهُ بِالنَّسِيئَةِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ أَعْطِنِي يَا رَبِّ مَمْلَكَةً تَكُونُ أَعْظَمَ الْمَمَالِكِ الْمُمْكِنَةِ لِلْبَشَرِ، حَتَّى أَنِّي أَبْقَى مَعَ تِلْكَ الْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ فِي غَايَةِ الِاحْتِرَازِ عَنْهَا لِيَظْهَرَ لِلْخَلْقِ أَنَّ حُصُولَ الدُّنْيَا لَا يَمْنَعُ مِنْ خِدْمَةِ الْمَوْلَى الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الدُّنْيَا يَبْقَى مُلْتَفِتَ الْقَلْبِ إِلَيْهَا فَيَظُنُّ أَنَّ فِيهَا سِعَادَاتٍ عَظِيمَةً وَخَيْرَاتٍ نَافِعَةً، فَقَالَ سُلَيْمَانُ يَا رَبِّ الْعِزَّةِ أَعْطِنِي أَعْظَمَ الْمَمَالِكِ حَتَّى يَقِفَ النَّاسُ عَلَى كَمَالِ حَالِهَا، فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ لِلْعَقْلِ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا فَائِدَةٌ وَحِينَئِذٍ يُعْرِضُ الْقَلْبُ عَنْهَا وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، وَأَشْتَغِلُ بِالْعُبُودِيَّةِ سَاكِنَ النَّفْسِ غَيْرَ مَشْغُولِ الْقَلْبِ بِعَلَائِقِ الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ رُخَاءً أَيْ رَخْوَةً لَيِّنَةً وَهِيَ مِنَ الرَّخَاوَةِ وَالرِّيحُ إِذَا كَانَتْ لَيِّنَةً لَا تُزَعْزِعُ وَلَا تَمْتَنِعُ عَلَيْهِ كَانَتْ طَيِّبَةً، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ قُلْنَا الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ تِلْكَ الرِّيحَ كَانَتْ فِي قُوَّةِ الرِّيَاحِ الْعَاصِفَةِ إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا جَرَتْ بِأَمْرِهِ كَانَتْ لَذِيذَةً طَيِّبَةً فَكَانَتْ رخاء والوجه الثاني: من الْجَوَابِ أَنَّ تِلْكَ الرِّيحَ كَانَتْ لَيِّنَةً مَرَّةً وَعَاصِفَةً أُخْرَى وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: حَيْثُ أَصابَ أَيْ قَصَدَ وَأَرَادَ، وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ أَصَابَ الصَّوَابَ فَأَخْطَأَ الْجَوَابَ. وَعَنْ رُؤْبَةَ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ قَصَدَاهُ لِيَسْأَلَاهُ عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا، فَقَالَ أَيْنَ تُصِيبَانِ؟ فَقَالَا هَذَا مَطْلُوبُنَا. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الرِّيحَ مُسَخَّرَةً لَهُ حَتَّى صَارَتْ تَجْرِي بِأَمْرِهِ عَلَى وَفْقِ إِرَادَتِهِ، ثُمَّ قَالَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الشَّيَاطِينُ عَطْفٌ عَلَى الرِّيحِ وَكُلُّ بَنَّاءٍ بَدَلٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَآخِرِينَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: كُلَّ بَنَّاءٍ وَهُوَ بَدَلُ الْكُلِّ مِنَ الْكُلِّ كَانُوا يَبْنُونَ لَهُ مَا شَاءَ مِنَ الْأَبْنِيَةِ وَيَغُوصُونَ لَهُ فَيَسْتَخْرِجُونَ اللُّؤْلُؤَ، وَقَوْلُهُ: مُقَرَّنِينَ يُقَالُ قَرْنَهُمْ فِي الْحِبَالِ وَالتَّشْدِيدُ لِلْكَثْرَةِ والْأَصْفادِ الْأَغْلَالُ وَاحِدُهَا صَفَدٌ وَالصَّفَدُ الْعَطِيَّةُ أَيْضًا، قَالَ النَّابِغَةُ: وَلَمْ أُعَرِّضْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ بِالصَّفَدِ فَعَلَى هَذَا الصَّفَدِ الْقَيْدُ فَكُلُّ مَنْ شَدَدْتَهُ شَدًّا وَثِيقًا فَقَدْ صَفَّدْتَهُ، وَكُلُّ مَنْ أعطيته عطاء جزيلا فقد أصفدته، وهاهنا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الشَّيَاطِينَ لَهَا قُوَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَبِسَبَبِ تِلْكَ الْقُوَّةِ قَدَرُوا عَلَى بِنَاءِ الْأَبْنِيَةِ الْقَوِيَّةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا الْبَشَرُ، وَقَدَرُوا/ عَلَى الْغَوْصِ فِي الْبِحَارِ، وَاحْتَاجَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى قَيْدِهِمْ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنْ هَذِهِ الشَّيَاطِينَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَجْسَادُهُمْ كَثِيفَةً أَوْ لَطِيفَةً، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وَجَبَ أَنْ يَرَاهُمْ مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْحَاسَّةِ، إِذْ لَوْ جَازَ أَنْ لَا نَرَاهُمْ مَعَ كَثَافَةِ أَجْسَادِهِمْ، فَلْيَجُزْ أَنْ تَكُونَ بِحَضْرَتِنَا جِبَالٌ عَالِيَةٌ وَأَصْوَاتٌ هَائِلَةٌ وَلَا نَرَاهَا وَلَا نَسْمَعُهَا، وَذَلِكَ دُخُولٌ فِي السَّفْسَطَةِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ أَجْسَادَهُمْ لَيْسَتْ كَثِيفَةً، بَلْ لَطِيفَةً رَقِيقَةً، فَمِثْلُ هَذَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالْقُوَّةِ الشَّدِيدَةِ، وَأَيْضًا لَزِمَ أَنْ تَتَفَرَّقَ أَجْسَادُهُمْ وَأَنْ تَتَمَزَّقَ بِسَبَبِ الرِّيَاحِ الْقَوِيَّةِ وَأَنْ يَمُوتُوا فِي الْحَالِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ وَصْفِهِمْ بِبِنَاءِ الْأَبْنِيَةِ الْقَوِيَّةِ، وَأَيْضًا الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ إِنْ كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، فَلِمَ لَا يَقْتُلُونَ الْعُلَمَاءَ وَالزُّهَّادَ فِي زَمَانِنَا؟ وَلِمَ لَا يُخَرِّبُونَ دِيَارَ النَّاسِ؟ مَعَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُبَالِغُونَ فِي إِظْهَارِ لَعْنِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ. وَحَيْثُ لَمْ يُحَسَّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، عَلِمْنَا أَنَّ الْقَوْلَ بِإِثْبَاتِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ ضَعِيفٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا يُجَوِّزُونَ أَنْ تَكُونَ أَجْسَامُهُمْ كَثِيفَةً مَعَ أَنَّا لَا نَرَاهَا، وَأَيْضًا لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ أَجْسَامُهُمْ لَطِيفَةٌ بِمَعْنَى عَدَمِ اللَّوْنِ، وَلَكِنَّهَا صُلْبَةٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا لَا تَقْبَلُ التَّفَرُّقَ وَالتَّمَزُّقَ. وَأَمَّا الْجُبَّائِيُّ فَقَدْ سَلَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ

[سورة ص (38) : الآيات 41 إلى 44]

كَثِيفَةَ الْأَجْسَامِ، وَزَعَمَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُشَاهِدُونَهُمْ فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَمَاتَ اللَّهُ أُولَئِكَ الْجِنَّ وَالشَّيَاطِينَ، وَخَلَقَ نَوْعًا آخَرَ مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ تَكُونُ أَجْسَامُهُمْ فِي غَايَةِ الرِّقَّةِ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْقُوَّةِ، وَالْمَوْجُودُ فِي زَمَانِنَا مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ لَيْسَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هَذَا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَعْطِ مَنْ شِئْتَ وَامْنَعْ مَنْ شِئْتَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، أَيْ لَيْسَ عَلَيْكَ حَرَجٌ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَفِيمَا أَمْسَكْتَ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا فِي أَمْرِ الشَّيَاطِينِ خَاصَّةً، وَالْمَعْنَى هَؤُلَاءِ الشَّيَاطِينُ الْمُسَخَّرُونَ عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ عَلَى مَنْ شِئْتَ مِنَ الشَّيَاطِينِ فَحُلَّ عَنْهُ، وَاحْبِسْ مَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ فِي الْعَمَلِ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى سُلَيْمَانَ فِي الدُّنْيَا، أَرْدَفَهُ بِإِنْعَامِهِ عليه في الآخرة، فقال: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ وَقَدْ سبق تفسيره. [سورة ص (38) : الآيات 41 الى 44] وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) [القصة الثالثة] [في قوله تعالى وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إلى قوله بِنُصْبٍ وَعَذابٍ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ كَانَا مِمَّنْ أَفَاضَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَصْنَافَ الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ، وَأَيُّوبَ كَانَ مِمَّنْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْقِصَصِ الِاعْتِبَارُ. كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ اصْبِرْ عَلَى سَفَاهَةِ قَوْمِكَ فَإِنَّهُ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا أَكْثَرُ نِعْمَةً وَمَالًا وَجَاهًا مِنْ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ بَلَاءً وَمِحْنَةً مِنْ أَيُّوبَ، فَتَأَمَّلْ فِي أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ لِتَعْرِفَ أَنَّ أَحْوَالَ الدُّنْيَا لَا تَنْتَظِمُ لِأَحَدٍ، وَأَنَّ الْعَاقِلَ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَيُّوبَ عَطْفُ بَيَانٍ، وَإِذْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْهُ أَنِّي مَسَّنِيَ أَيْ بِأَنِّي مَسَّنِي حِكَايَةً لِكَلَامِهِ الَّذِي نَادَاهُ بِسَبَبِهِ، وَلَوْ لَمْ يَحْكِ لَقَالَ بِأَنَّهُ مَسَّهُ لأنه غائب، وقرء: بِنُصْبٍ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِهَا مَعَ سُكُونِ الصَّادِ وَفَتْحِهَا وَضَمِّهَا، فَالنُّصْبِ وَالنَّصَبِ، كَالرُّشْدِ وَالرَّشَدِ، وَالْعُدْمِ وَالْعَدَمِ، وَالسُّقْمِ وَالسَّقَمِ، وَالنُّصْبُ، عَلَى أَصْلِ الْمَصْدَرِ، وَالنَّصَبُ تَثْقِيلُ نُصْبٍ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَهُوَ التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ وَالْعَذَابُ وَالْأَلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ قَدْ حَصَلَ عِنْدَهُ نَوْعَانِ مِنَ الْمَكْرُوهِ: الْغَمُّ الشَّدِيدُ بِسَبَبِ زَوَالِ الْخَيْرَاتِ وَحُصُولِ الْمَكْرُوهَاتِ، وَالْأَلَمُ الشَّدِيدُ فِي الْجِسْمِ وَلَمَّا حَصَلَ هَذَانِ النَّوْعَانِ لَا جَرَمَ، ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَفْظَيْنِ وَهُمَا النُّصْبُ وَالْعَذَابُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآلَامَ وَالْأَسْقَامَ الْحَاصِلَةَ فِي جِسْمِهِ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِفِعْلِ الشَّيْطَانِ الثَّانِي: أَنَّهَا إِنَّمَا حَصَلَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ، وَالْعَذَابُ الْمُضَافُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الشَّيْطَانِ هُوَ عَذَابُ الْوَسْوَسَةِ، وَإِلْقَاءُ الْخَوَاطِرِ الْفَاسِدَةِ.

وَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فَتَقْرِيرُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ إِبْلِيسَ سَأَلَ رَبَّهُ، فَقَالَ هَلْ فِي عَبِيدِكَ مَنْ لَوْ سَلَّطْتَنِي عَلَيْهِ يَمْتَنِعُ مِنِّي؟ فَقَالَ اللَّهُ: نَعَمْ عَبْدِي أَيُّوبُ، فَجَعَلَ يَأْتِيهِ بِوَسَاوِسِهِ وَهُوَ يَرَى إِبْلِيسَ عِيَانًا وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّهُ قَدِ امْتَنَعَ عَلَيَّ فَسَلِّطْنِي عَلَى مَالِهِ، وَكَانَ يَجِيئُهُ وَيَقُولُ لَهُ: هَلَكَ مِنْ مَالِكِ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ اللَّهُ أَعْطَى وَاللَّهُ أَخَذَ، ثُمَّ يَحْمَدُ اللَّهَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ أَيُّوبَ لَا يُبَالِي بِمَالِهِ فَسَلِّطْنِي عَلَى وَلَدِهِ، فَجَاءَ وَزَلْزَلَ الدَّارَ فَهَلَكَ أَوْلَادُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَجَاءَهُ وَأَخْبَرَهُ بِهِ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَقَالَ يَا رَبِّ لَا يُبَالِي بِمَالِهِ وَوَلَدِهِ فَسَلِّطْنِي عَلَى جَسَدِهِ، فَأَذِنَ فِيهِ، فَنَفَخَ فِي جَلْدِ أَيُّوبَ، وَحَدَثَتْ أَسْقَامٌ عَظِيمَةٌ وَآلَامٌ شَدِيدَةٌ فِيهِ، فَمَكَثَ فِي ذَلِكَ الْبَلَاءِ سِنِينَ، حَتَّى صَارَ بِحَيْثُ اسْتَقْذَرَهُ أَهْلُ بَلَدِهِ، فَخَرَجَ إِلَى الصَّحْرَاءِ وَمَا كَانَ يَقْرُبُ مِنْهُ أَحَدٌ، فَجَاءَ الشَّيْطَانُ إِلَى امْرَأَتِهِ، وَقَالَ لَوْ أَنَّ زَوْجَكِ اسْتَعَانَ بِي لَخَلَّصْتُهُ مِنْ هَذَا الْبَلَاءِ، فَذَكَرَتِ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ لِزَوْجِهَا، فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَئِنْ عَافَاهُ اللَّهُ لَيَجْلِدَنَّهَا مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَعِنْدَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ قَالَ: / أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ فَأَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ أَنِ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فَأَظْهَرَ اللَّهُ مِنْ تَحْتِ رِجْلِهِ عَيْنًا بَارِدَةً طَيِّبَةً فَاغْتَسَلَ مِنْهَا، فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ دَاءٍ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا قُدْرَةَ لَهُ الْبَتَّةَ عَلَى إِيقَاعِ النَّاسِ فِي الْأَمْرَاضِ وَالْآلَامِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا حُصُولَ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلَعَلَّ الْوَاحِدَ مِنَّا إِنَّمَا وَجَدَ الْحَيَاةَ بِفِعْلِ الشَّيْطَانِ، وَلَعَلَّ كُلَّ مَا حَصَلَ عِنْدَنَا مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالسِّعَادَاتِ، فَقَدْ حَصَلَ بِفِعْلِ الشَّيْطَانِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لَنَا سَبِيلٌ إِلَى أَنْ نَعْرِفَ أَنَّ مُعْطِيَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَالصِّحَّةِ وَالسُّقْمِ، هُوَ اللَّهُ تَعَالَى الثَّانِي: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَوْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَسْعَى فِي قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَلِمَ لَا يُخَرِّبُ دُورَهُمْ، وَلِمَ لَا يَقْتُلُ أَوْلَادَهُمْ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الشَّيْطَانِ أَنَّهُ قَالَ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إِبْرَاهِيمَ: 22] فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ فِي حَقِّ الْبَشَرِ إِلَّا عَلَى إِلْقَاءِ الْوَسَاوِسِ وَالْخَوَاطِرِ الْفَاسِدَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الَّذِي أَلْقَاهُ فِي تِلْكَ الْأَمْرَاضِ وَالْآفَاتِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْفَاعِلَ لِهَذِهِ الْأَحْوَالِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَكِنْ عَلَى وَفْقِ الْتِمَاسِ الشَّيْطَانِ؟ قُلْنَا فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ خَالِقَ تِلْكَ الْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي جَعْلِ الشَّيْطَانِ وَاسِطَةً فِي ذَلِكَ؟ بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ أَنَّهُ بِسَبَبِ إِلْقَاءِ الْوَسَاوِسِ الْفَاسِدَةِ وَالْخَوَاطِرِ الْبَاطِنَةِ كَانَ يُلْقِيهِ فِي أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَالْعَنَاءِ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ تِلْكَ الْوَسَاوِسَ كَيْفَ كَانَتْ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّ عِلَّتَهُ كَانَتْ شَدِيدَةَ الْأَلَمِ، ثُمَّ طَالَتْ مُدَّةُ تِلْكَ الْعِلَّةِ وَاسْتَقْذَرَهُ النَّاسُ وَنَفَرُوا عَنْ مُجَاوَرَتِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَمْوَالِ الْبَتَّةَ. وَامْرَأَتُهُ كَانَتْ تَخْدِمُ النَّاسَ وَتُحَصِّلُ لَهُ قَدْرَ الْقُوتِ، ثُمَّ بَلَغَتْ نَفْرَةُ النَّاسِ عَنْهُ إِلَى أَنْ مَنَعُوا امْرَأَتَهُ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ وَمِنَ الِاشْتِغَالِ بِخِدْمَتِهِمْ، وَالشَّيْطَانُ كَانَ يُذَكِّرُهُ النِّعَمَ الَّتِي كَانَتْ وَالْآفَاتِ الَّتِي حَصَلَتْ، وَكَانَ يَحْتَالُ فِي دَفْعِ تِلْكَ الْوَسَاوِسِ، فَلَمَّا قَوِيَتْ تِلْكَ الْوَسَاوِسُ فِي قَلْبِهِ خَافَ وَتَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ، وَقَالَ: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتْ تِلْكَ الْخَوَاطِرُ أَكْثَرَ كَانَ أَلَمُ قَلْبِهِ مِنْهَا أَشَدَّ. الثَّانِي: أَنَّهَا لَمَّا طَالَتْ مُدَّةُ الْمَرَضِ جَاءَهُ الشَّيْطَانُ وَكَانَ يُقَنِّطُهُ مِنْ رَبِّهِ وَيُزَيِّنُ لَهُ أَنْ يَجْزَعَ فَخَافَ مِنْ تَأَكُّدِ خَاطِرِ الْقُنُوطِ فِي قَلْبِهِ فَتَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ، الثَّالِثُ: قِيلَ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَمَّا قَالَ لِامْرَأَتِهِ لَوْ أَطَاعَنِي زَوْجُكِ أَزَلْتُ عَنْهُ هَذِهِ الْآفَاتِ فَذَكَرَتِ الْمَرْأَةُ لَهُ ذَلِكَ، فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الشَّيْطَانَ طَمِعَ فِي دَيْنِهِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَتَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ

تَعَالَى وَقَالَ: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ، الرَّابِعُ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ بَقِيَ أَيُّوبُ فِي الْبَلَاءِ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى رَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ إِلَّا رَجُلَيْنِ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَتَى بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَلَوْلَاهُ مَا وَقَعَ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَلَاءِ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ/ لِأَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا تَقُولَانِ غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرَّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فَيَذْكُرَانِ اللَّهَ تَعَالَى فَأَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي فَأَنْفِرُ عَنْهُمَا كَرَاهِيَةَ أَنْ يُذْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا فِي الْحَقِّ» الْخَامِسُ: قِيلَ إِنَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ تَخْدِمُ النَّاسَ فَتَأْخُذُ مِنْهُمْ قَدْرَ الْقُوتِ وَتَجِيءُ بِهِ إِلَى أَيُّوبَ، فَاتَّفَقَ أَنَّهُمْ مَا اسْتَخْدَمُوهَا الْبَتَّةَ وَطَلَبَ بَعْضُ النِّسَاءِ مِنْهَا قَطْعَ إِحْدَى ذُؤَابَتَيْهَا عَلَى أَنْ تُعْطِيَهَا قَدْرَ الْقُوتِ فَفَعَلَتْ، ثم في اليوم الثاني ففعلت مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمْ يَبْقَ لَهَا ذُؤَابَةٌ. وَكَانَ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَحَرَّكَ عَلَى فِرَاشِهِ تَعَلَّقَ بِتِلْكَ الذُّؤَابَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَجِدِ الذُّؤَابَةَ وَقَعَتِ الْخَوَاطِرُ الْمُؤْذِيَةُ فِي قَلْبِهِ وَاشْتَدَّ غَمُّهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ، السَّادِسُ: قَالَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ: يَا رَبُّ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا اجْتَمَعَ عَلَيَّ أَمْرَانِ إِلَّا آثَرْتُ طَاعَتَكَ، وَلَمَّا أَعْطَيْتَنِي الْمَالَ كُنْتُ لِلْأَرَامِلِ قَيِّمًا، وَلِابْنِ السَّبِيلِ مُعِينًا، وَلِلْيَتَامَى أَبًا! فَنُودِيَ مِنْ غَمَامَةٍ يَا أَيُّوبُ مِمَّنْ كَانَ ذَلِكَ التَّوْفِيقُ؟ فَأَخَذَ أَيُّوبُ التُّرَابَ وَوَضْعَهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ مِنْكَ يَا رَبِّ ثُمَّ خَافَ مِنَ الْخَاطِرِ الْأَوَّلِ فَقَالَ: مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ وَقَدْ ذَكَرُوا أَقْوَالًا أُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ، وَسَمِعْتُ بَعْضَ الْيَهُودِ يَقُولُ: إِنَّ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كِتَابًا مُفْرَدًا فِي وَاقِعَةِ أَيُّوبَ، وَحَاصِلُ ذَلِكَ الْكِتَابِ أَنَّ أَيُّوبَ كَانَ رَجُلًا كَثِيرَ الطَّاعَةِ لِلَّهِ تَعَالَى مُوَاظِبًا عَلَى الْعِبَادَةِ، مُبَالِغًا فِي التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّهُ وَقَعَ فِي الْبَلَاءِ الشَّدِيدِ وَالْعَنَاءِ الْعَظِيمِ، فَهَلْ كَانَ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ مَا أَتَى بِجُرْمٍ فِي الزَّمَانِ السَّابِقِ حَتَّى يَجْعَلَ ذَلِكَ الْعَذَابَ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ الْجُرْمِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الثَّوَابِ فَالْإِلَهُ الْحَكِيمُ الرَّحِيمُ قَادِرٌ عَلَى إِيصَالِ كُلِّ خَيْرٍ وَمَنْفَعَةٍ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ تِلْكَ الْآلَامِ الطَّوِيلَةِ وَالْأَسْقَامِ الْكَرِيهَةِ. وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى فِي تِلْكَ الْأَمْرَاضِ وَالْآفَاتِ فَائِدَةٌ، وَهَذِهِ كَلِمَاتٌ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ ذِي الْجَلَالِ مُنَزَّهَةٌ عَنِ التَّعْلِيلِ بِالْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَالْحَقُّ الصريح أنه لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 23] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَفْظُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ النُّصْبَ وَالْعَذَابَ إِنَّمَا حَصَلَ مِنَ الشَّيْطَانِ ثُمَّ ذَلِكَ الْعَذَابُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عِبَارَةٌ عَمَّا حَصَلَ فِي بَدَنِهِ مِنَ الْأَمْرَاضِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي عِبَارَةٌ عَنِ الْأَحْزَانِ الْحَاصِلَةِ فِي قَلْبِهِ بِسَبَبِ إِلْقَاءِ الْوَسَاوِسِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَلْزَمُ إِثْبَاتُ الْفِعْلِ لِلشَّيْطَانِ، وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّا لَا نُنْكِرُ إِثْبَاتَ الْفِعْلِ لِلشَّيْطَانِ لَكِنَّا نَقُولُ فِعْلُ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَعْلُومِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فالمعنى أنه لما شكا مِنَ الشَّيْطَانِ، فَكَأَنَّهُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُزِيلَ عَنْهُ تِلْكَ الْبَلِيَّةَ فَأَجَابَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ بِأَنْ قَالَ لَهُ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ وَالرَّكْضُ هُوَ الدَّفْعُ الْقَوِيُّ بِالرِّجْلِ، وَمِنْهُ رَكْضُكَ الْفَرَسَ، وَالتَّقْدِيرُ قُلْنَا لَهُ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ، قِيلَ إِنَّهُ ضَرَبَ بِرِجْلِهِ تِلْكَ الْأَرْضَ فَنَبَعَتْ عَيْنٌ فَقِيلَ: هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ أَيْ هَذَا مَاءٌ تَغْتَسِلُ بِهِ فَيَبْرَأُ بَاطِنُكَ، وَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ نَبَعَتْ لَهُ عَيْنٌ وَاحِدَةٌ مِنَ الْمَاءِ اغْتَسَلَ فِيهِ وَشَرِبَ مِنْهُ. وَالْمُفَسِّرُونَ قَالُوا نَبَعَتْ لَهُ/ عَيْنَانِ فَاغْتَسَلَ مِنْ إِحْدَاهُمَا وَشَرِبَ مِنَ الْأُخْرَى، فَذَهَبَ الدَّاءُ مِنْ ظَاهِرِهِ وَمِنْ بَاطِنِهِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَقِيلَ ضَرَبَ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى فَنَبَعَتْ عَيْنٌ حَارَّةٌ فَاغْتَسَلَ مِنْهَا ثُمَّ بِالْيُسْرَى فَنَبَعَتْ عَيْنٌ بَارِدَةٌ فَشَرِبَ مِنْهَا.

[سورة ص (38) : الآيات 45 إلى 48]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ فَقَدْ قِيلَ هُمْ عَيْنُ أَهْلِهِ وَزِيَادَةُ مَثَلِهِمْ، وَقِيلَ غَيْرُهُمْ مِثْلُهُمْ، وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى لِأَنَّهُ هُوَ الظَّاهِرُ فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ أَزَلْنَا عَنْهُمُ السَّقَمَ فَعَادُوا أَصِحَّاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ حَضَرُوا عِنْدَهُ بَعْدَ أَنْ غَابُوا عَنْهُ وَاجْتَمَعُوا بَعْدَ أَنْ تَفَرَّقُوا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ تَمَكَّنَ مِنْهُمْ وَتَمَكَّنُوا مِنْهُ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْعِشْرَةِ وَبِالْخِدْمَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ تَعَالَى مَتَّعَهُ بِصِحَّتِهِ وَبِمَالِهِ وَقَوَّاهُ حَتَّى كَثُرَ نَسْلُهُ وَصَارَ أَهْلُهُ ضِعْفَ مَا كَانَ وَأَضْعَافَ ذَلِكَ، وَقَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُرَادُ بِهِبَةِ الْأَهْلِ أَنَّهُ تَعَالَى أَحْيَاهُمْ بَعْدَ أَنْ هَلَكُوا. ثُمَّ قَالَ: رَحْمَةً مِنَّا أَيْ إِنَّمَا فَعَلْنَا كُلَّ هَذِهِ الْأَفْعَالِ عَلَى سَبِيلِ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، لَا عَلَى سَبِيلِ اللُّزُومِ. ثُمَّ قَالَ: وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ يَعْنِي سَلَّطْنَا الْبَلَاءَ عَلَيْهِ أَوَّلًا فَصَبَرَ ثُمَّ أَزَلْنَا عَنْهُ الْبَلَاءَ وَأَوْصَلْنَاهُ إِلَى الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ، تَنْبِيهًا لِأُولِي الْأَلْبَابِ عَلَى أَنَّ مَنْ صَبَرَ ظَفَرَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا وَقَعَ ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ لِمُحَمَّدٍ: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ يَعْنِي إِنَّمَا فَعَلْنَاهَا لِهَذِهِ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ وَأَحْكَامَهُ مُعَلَّلَةٌ بِالْأَغْرَاضِ وَالْمَصَالِحِ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ قَدْ مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى ارْكُضْ وَالضِّغْثُ الْحُزْمَةُ الصَّغِيرَةُ مِنْ حَشِيشٍ أَوْ رَيْحَانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ يَمِينٍ مِنْهُ، وَفِي الْخَبَرِ أَنَّهُ حَلَفَ عَلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ حَلَفَ عَلَيْهَا، وَيَبْعُدُ مَا قِيلَ إِنَّهَا رَغَّبَتْهُ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، وَيَبْعُدُ أَيْضًا مَا رُوِيَ أَنَّهَا قَطَعَتِ الذَّوَائِبَ عَنْ رَأْسِهَا لِأَنَّ الْمُضْطَرَّ إِلَى الطَّعَامِ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ بَلِ الْأَقْرَبُ أَنَّهَا خَالَفَتْهُ فِي بَعْضِ الْمُهِمَّاتِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا ذَهَبَتْ فِي بَعْضِ الْمُهِمَّاتِ فَأَبْطَأَتْ فَحَلَفَ فِي مَرَضِهِ لِيَضْرِبَنَّهَا مِائَةً إِذَا برىء، وَلَمَّا كَانَتِ حَسَنَةَ الْخِدْمَةِ لَهُ لَا جَرَمَ حَلَّلَ اللَّهُ يَمِينَهُ بِأَهْوَنِ شَيْءٍ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا، وَهَذِهِ الرُّخْصَةُ بَاقِيَةٌ، وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَتَى بِمُجَذَّمٍ خَبَثَ بِأَمَةٍ فَقَالَ: «خُذُوا عِثْكَالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَاضْرِبُوهُ بِهِ ضَرْبَةً» . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ وَجَدَهُ صَابِرًا وَقَدْ شكا إليه، والجواب من وجوه الأول: أنه شكا من الشيطان إليه وما شكا مِنْهُ إِلَى أَحَدٍ الثَّانِي: أَنَّ الْأَلَمَ حِينَ كَانَ عَلَى الْجَسَدِ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا فَلَمَّا عَظُمَتِ الْوَسَاوِسُ خَافَ عَلَى الْقَلْبِ وَالدِّينِ فَتَضَرَّعَ الثَّالِثُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ عَدُوٌّ، وَالشِّكَايَةُ مِنَ الْعَدُوِّ إِلَى الْحَبِيبِ لَا تَقْدَحُ فِي الصَّبْرِ، ثُمَّ قَالَ: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَشْرِيفَ نِعْمَ الْعَبْدُ، إِنَّمَا حَصَلَ لِكَوْنِهِ أَوَّابًا، وَسَمِعْتُ بَعْضَهُمْ قَالَ: لَمَا نَزَلَ قوله تعالى: نِعْمَ الْعَبْدُ في حق سليمان عَلَيْهِ السَّلَامُ تَارَةً، وَفِي حَقِّ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُخْرَى عَظُمَ الْغَمُّ فِي قُلُوبِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا إِنَّ قوله تعالى: نِعْمَ الْعَبْدُ في حق سليمان تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ، فَإِنِ احْتَجْنَا إِلَى اتِّفَاقِ مَمْلَكَةٍ مثل مملكة سليمان حتى بحد هَذَا التَّشْرِيفَ لَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَإِنِ احْتَجْنَا إِلَى تَحَمُّلِ بَلَاءٍ مِثْلِ أَيُّوبَ لَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى تَحْصِيلِهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ: نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الْأَنْفَالِ: 40] وَالْمُرَادُ أَنَّكَ إِنْ لَمْ تَكُنْ نِعْمَ الْعَبْدُ فأنا نعم المولى وَإِنْ كَانَ مِنْكَ الْفُضُولُ، فَمِنِّي الْفَضْلُ، وَإِنْ كان منك التقصير، فمني الرحمة والتيسير. [سورة ص (38) : الآيات 45 الى 48] وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: عَبْدَنَا عَلَى الْوَاحِدِ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَقُولُ إِنَّ قَوْلَهُ: عَبْدَنَا تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّشْرِيفُ مَخْصُوصًا بِأَعْظَمِ النَّاسِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: عِبادَنا قَالُوا لِأَنَّ غَيْرَ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ هَذَا الْوَصْفُ فَجَاءَ فِي عِيسَى: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ [الزُّخْرُفِ: 59] وَفِي أَيُّوبَ: نِعْمَ الْعَبْدُ [ص: 44] وَفِي نُوحٍ: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً [الْإِسْرَاءِ: 3] فَمَنْ قَرَأَ (عَبْدَنَا) جَعَلَ إِبْرَاهِيمَ وَحْدَهُ عَطْفَ بَيَانٍ لَهُ، ثُمَّ عَطَفَ ذُرِّيَّتَهُ عَلَى عَبْدِنَا وَهِيَ إِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ، وَمَنْ قَرَأَ (عِبَادَنَا) جَعَلَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ عَطْفَ بَيَانٍ لِعِبَادِنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَاصْبِرْ على ما يقولون واذكر عبادنا دَاوُدَ إِلَى أَنْ قَالَ: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ أَيْ وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ صَبْرَ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَصَبْرَ إِسْحَاقَ لِلذَّبْحِ، وَصَبْرَ يَعْقُوبَ حِينَ فَقَدَ وَلَدَهُ وَذَهَبَ بَصَرُهُ. ثُمَّ قَالَ: أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَدَ آلَةٌ لِأَكْثَرِ الْأَعْمَالِ وَالْبَصَرُ آلَةٌ لِأَقْوَى الْإِدْرَاكَاتِ، فَحَسُنَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْعَمَلِ بِالْيَدِ وَعَنِ الْإِدْرَاكِ بِالْبَصَرِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ لَهَا قُوَّتَانِ عَامِلَةٌ وَعَالِمَةٌ، أَمَّا الْقُوَّةُ الْعَامِلَةُ فَأَشْرَفُ مَا يَصْدُرُ عَنْهَا طَاعَةُ اللَّهِ، وَأَمَّا الْقُوَّةُ الْعَالِمَةُ فَأَشْرَفُ مَا يَصْدُرُ عَنْهَا مَعْرِفَةُ/ اللَّهِ، وَمَا سِوَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْمَعَارِفِ فَكَالْعَبَثِ وَالْبَاطِلِ، فَقَوْلُهُ: أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ إِشَارَةٌ إِلَى هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: بِخالِصَةٍ قُرِئَ بِالتَّنْوِينِ وَالْإِضَافَةِ فَمَنْ نُوَّنَ كَانَ التَّقْدِيرُ أَخْلَصْنَاهُمْ أَيْ جَعَلْنَاهُمْ خَالِصِينِ لَنَا بِسَبَبِ خَصْلَةٍ خَالِصَةٍ لَا شَوْبَ فِيهَا وَهِيَ ذِكْرَى الدَّارِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْإِضَافَةِ فَالْمَعْنَى بِمَا خَلَصَ مِنْ ذِكْرَى الدَّارِ، يَعْنِي أَنَّ ذِكْرَى الدَّارِ قَدْ تَكُونُ لِلَّهِ وَقَدْ تَكُونُ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَالْمَعْنَى إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِسَبَبِ مَا خَلَصَ مِنْ هَذَا الذِّكْرِ. الْمَسْأَلَةُ الثانية: في ذكرى الدار وجوه الأولى: الْمُرَادُ أَنَّهُمُ اسْتَغْرَقُوا فِي ذِكْرَى الدَّارِ الْآخِرَةِ وَبَلَغُوا فِي هَذَا الذِّكْرِ إِلَى حَيْثُ نَسُوا الدُّنْيَا الثَّانِي: الْمُرَادُ حُصُولُ الذِّكْرِ الْجَلِيلِ الرَّفِيعِ لَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى أَبْقَى لَهُمُ الذِّكْرَ الْجَمِيلَ فِي الدُّنْيَا وَقَبِلَ دُعَاءَهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشُّعَرَاءِ: 84] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ أَيِ الْمُخْتَارِينَ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ وَالْأَخْيَارُ جَمْعُ خَيِّرٍ أَوْ خَيْرٌ عَلَى التَّخْفِيفِ كَأَمْوَاتٍ فِي جَمْعِ مَيِّتٍ أَوْ مَيْتٍ، وَاحْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ قَالُوا لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِكَوْنِهِمْ أَخْيَارًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا يَعُمُّ حُصُولُ الْخَيْرِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ وَالصِّفَاتِ بِدَلِيلِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَبِدَلِيلِ دَفْعِ الْإِجْمَالِ.

[سورة ص (38) : الآيات 49 إلى 54]

ثُمَّ قَالَ: وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ وَهُمْ قَوْمٌ آخَرُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ تَحَمَّلُوا الشَّدَائِدَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَفِي صِفَاتِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي سورة الأنعام، فلا فائدة في الإعادة، وهاهنا آخِرُ الْكَلَامِ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ فِي هَذِهِ السورة. [سورة ص (38) : الآيات 49 الى 54] هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنا مَا لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: ذِكْرٌ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا شَرَحَ ذِكْرَ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِأَجْلِ أَنْ يَصْبِرَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى تَحَمُّلِ سَفَاهَةِ قَوْمِهِ فَلَمَّا تَمَّمَ بَيَانَ هَذَا الطَّرِيقِ وَأَرَادَ أَنْ يَذَكُرَ عَقِيبَهُ طَرِيقًا آخَرَ يُوجِبُ الصَّبْرَ عَلَى سَفَاهَةِ الْجُهَّالِ، وَأَرَادَ أَنْ يُمَيِّزَ أَحَدَ الْبَابَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، لَا جَرَمَ قَالَ: هَذَا ذِكْرٌ، ثُمَّ شَرَعَ فِي تَقْرِيرِ الْبَابِ الثَّانِي فَقَالَ: وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ كَمَا أَنَّ الْمُصَنِّفَ إِذَا تَمَّمَ كَلَامًا قَالَ هَذَا بَابٌ، ثُمَّ شَرَعَ فِي بَابٍ آخَرَ، وَإِذَا فَرَغَ الْكَاتِبُ مِنْ فَصْلٍ مِنْ كِتَابِهِ وَأَرَادَ الشُّرُوعَ فِي آخَرَ قَالَ هَذَا وَقَدْ كان كيت وكيت، والدليل عليه أنما لَمَّا أَتَمَّ ذِكْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَرَادَ أَنْ يُرْدِفَهُ بِذِكْرِ أَهْلِ النَّارِ قَالَ: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ [ص: 55] الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ، أَنَّ الْمُرَادَ هَذَا شَرَفٌ وَذِكْرٌ جَمِيلٌ لِهَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يُذْكَرُونَ بِهِ أَبَدًا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ. فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ كَفَّارِ قُرَيْشٍ سَفَاهَتَهُمْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ وَصَفُوهُ بِأَنَّهُ سَاحِرٌ كَذَّابٌ، وَقَالُوا لَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص: 16] فَعِنْدَ هَذَا أَمَرَ مُحَمَّدًا بِالصَّبْرِ عَلَى تِلْكَ السَّفَاهَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الصَّبْرَ لَازِمٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ صَبَرُوا عَلَى الْمَكَارِهِ وَالشَّدَائِدَ، فَيَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَقْتَدِيَ بِهِمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ كَانَ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ خَالَفَهُ كَانَ لَهُ مِنَ الْعِقَابِ كَذَا وَكَذَا، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ الصَّبْرَ عَلَى تَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا نَظْمٌ حَسَنٌ وَتَرْتِيبٌ لَطِيفٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ الْمَآبُ الْمَرْجِعُ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْأَرْوَاحِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِكُلِّ آيَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى لَفْظِ الرُّجُوعِ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ، أَنَّ لَفْظَ الرُّجُوعِ إِنَّمَا يَصْدُقُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَرْوَاحُ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْأَجْسَادِ، وَكَانَتْ فِي حَضْرَةِ جَلَالِ اللَّهِ ثُمَّ تَعَلَّقَتْ بِالْأَبْدَانِ، فَعِنْدَ انْفِصَالِهَا عَنِ الْأَبْدَانِ يُسَمَّى ذَلِكَ رُجُوعًا وَجَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا إِنْ دَلَّ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْأَبْدَانِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى قدم الأرواح.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: جَنَّاتِ عَدْنٍ وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لَحُسْنَ مَآبٍ ثُمَّ قَالَ: مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تَأْوِيلِ هَذَا اللَّفْظِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ مُفَتَّحَةً لَهُمْ أَبْوَابُهَا، وَالْعَرَبُ تَجْعَلُ الْأَلِفَ وَاللَّامَ خَلَفًا مِنَ الْإِضَافَةِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسَنِ الْوَجْهِ، فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْوَجْهِ بَدَلٌ مِنَ الْإِضَافَةِ وَالثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى: مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ مِنْهَا الثَّالِثُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْأَبْوابُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ، وَتَقْدِيرُهُ مُفَتَّحَةً/ هِيَ الْأَبْوَابُ، كَقَوْلِكَ ضَرَبَ زَيْدٌ الْيَدَ وَالرِّجْلَ، وَهُوَ مِنْ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرٍ أن يكون قوله: جنات عدن مبتدأ ومفتحة خَبَرُهُ، وَكَّلَاهُمَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَشْيَاءَ الْأَوَّلُ: أَحْوَالُ مَسَاكِنِهِمْ، فَقَوْلُهُ: جَنَّاتِ عَدْنٍ يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: كَوْنُهَا جَنَّاتٍ وَبَسَاتِينَ وَالثَّانِي: كَوْنُهَا دَائِمَةً آمِنَةً مِنَ الِانْقِضَاءِ. وَفِي قَوْلِهِ: مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِالْجِنَانِ إِذَا رَأَوْا صَاحِبَ الْجَنَّةِ فَتَحُوا لَهُ أَبْوَابَهَا وَحَيَّوْهُ بِالسَّلَامِ، فَيَدْخُلُ كَذَلِكَ مَحْفُوفًا بِالْمَلَائِكَةِ عَلَى أَعَزِّ حَالٍ وَأَجْمَلِ هَيْئَةٍ، قَالَ تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزُّمَرِ: 73] . الثَّانِي: أَنَّ تِلْكَ الْأَبْوَابَ كُلَّمَا أَرَادُوا انْفِتَاحَهَا انْفَتَحَتْ لَهُمْ، وَكُلَّمَا أَرَادُوا انْغِلَاقَهَا انْغَلَقَتْ لَهُمْ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْفَتْحِ، وَصْفُ تِلْكَ الْمَسَاكِنِ بِالسِّعَةِ، وَمُسَافَرَةُ الْعُيُونِ فِيهَا، وَمُشَاهِدَةُ الْأَحْوَالِ اللَّذِيذَةِ الطَّيِّبَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيهَا، وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَوْنَهُمْ مُتَّكِئِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَذَكَرَ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الِاتِّكَاءِ، فَقَالَ في آية: عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ [يس: 56] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ [الرَّحْمَنِ: 76] . الْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: مُتَّكِئِينَ فِيها حَالٌ قُدِّمَتْ عَلَى الْعَامِلِ فِيهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: يَدْعُونَ فِيها وَالْمَعْنَى يَدْعُونَ فِي الْجَنَّاتِ مُتَّكِئِينَ فِيهَا ثُمَّ قَالَ: بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ وَالْمَعْنَى بِأَلْوَانِ الْفَاكِهَةِ وَأَلْوَانِ الشَّرَابِ، وَالتَّقْدِيرُ بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ كَثِيرٍ، وَالسَّبَبُ فِي ذِكْرِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ دِيَارَ الْعَرَبِ حَارَةٌ قَلِيلَةُ الْفَوَاكِهِ وَالْأَشْرِبَةِ، فَرَغَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ. وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَمْرَ الْمَسْكَنِ وَأَمْرَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ ذَكَرَ عَقِيبَهُ أَمْرَ الْمَنْكُوحِ، فَقَالَ: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ وقد سبق تفسيره في سورة والصافات، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَعْنَى كَوْنُهُنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عَنْ غَيْرِهِمْ مَقْصُورَاتُ الْقَلْبِ عَلَى مَحَبَّتِهِمْ، وَقَوْلُهُ: أَتْرابٌ أَيْ عَلَى سِنٍّ وَاحِدٍ، وَيُحْتَمَلُ كَوْنُ الْجَوَارِي أَتْرَابًا، وَيُحْتَمَلُ كَوْنُهُنَّ أَتْرَابًا لِلْأَزْوَاجِ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَالسَّبَبُ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الصِّفَةِ، أَنَّهُنَّ لَمَّا تَشَابَهْنَ فِي الصِّفَةِ وَالسِّنِّ وَالْحِلْيَةِ كَانَ الْمَيْلُ إِلَيْهِنَّ عَلَى السَّوِيَّةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَمَ الْغَيْرَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ الْمُتَّقِينَ بِالثَّوَابِ الموصوف بهذه

[سورة ص (38) : الآيات 55 إلى 64]

الصِّفَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ دَوَامِ هذا الثَّوَابِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنا مَا لَهُ مِنْ نَفادٍ. [سورة ص (38) : الآيات 55 الى 64] هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هَذَا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا مَا لَنا لَا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ ثَوَابَ الْمُتَّقِينَ، وَصَفَ بَعْدَهُ عِقَابَ الطَّاغِينَ، لِيَكُونَ الْوَعِيدُ مَذْكُورًا عَقِيبَ الْوَعْدِ، وَالتَّرْهِيبُ عَقِيبَ التَّرْغِيبِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ أحوال أهل النَّارِ أَنْوَاعًا فَالْأَوَّلُ: مَرْجِعُهُمْ وَمَآبُهُمْ، فَقَالَ: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص: 55] وَهَذَا فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ [ص: 49] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ حَالَ الطَّاغِينَ مُضَادٌّ لِحَالِ الْمُتَّقِينَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالطَّاغِينَ، فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلُوهُ عَلَى الْكُفَّارِ، وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ سَوَاءٌ كَانُوا كَفَّارًا أَوْ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ، وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: لَشَرَّ مَآبٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَآبُهُمْ شَرًّا مِنْ مَآبِ غَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْكُفَّارِ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عنهم أنهم قالوا: أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْكُفَّارِ، لِأَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَتَّخِذُ الْمُؤْمِنَ سِخْرِيًّا الثَّالِثُ: أَنَّهُ اسْمُ ذَمٍّ، وَالِاسْمُ الْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَامِلِ، وَالْكَامِلُ فِي الطُّغْيَانِ هُوَ الْكَافِرُ، وَاحْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: / إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [الْعَلَقِ: 6، 7] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ بِالطُّغْيَانِ قَدْ يَحْصُلُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ تَجَاوَزَ عَنْ تَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعَدَّاهَا فَقَدْ طَغَى، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، الْمَعْنَى أَنَّ الَّذِينَ طَغَوْا وَكَذَّبُوا رُسُلِي لَهُمْ شَرُّ مَآبٍ، أَيْ شَرُّ مَرْجِعٍ وَمَصِيرٍ، ثُمَّ قَالَ: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ بِأَنَّ الطَّاغِينَ لَهُمْ شَرُّ مَآبٍ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها ثُمَّ قَالَ: فَبِئْسَ الْمِهادُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الْأَعْرَافِ: 41] شَبَّهَ اللَّهُ مَا تَحْتَهُمْ مِنَ النَّارِ بِالْمِهَادِ الَّذِي يَفْتَرِشُهُ النَّائِمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ هَذَا حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ فَلْيَذُوقُوهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ فَيَقُولُ: حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْغَسَاقُ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الَّذِي يُغْسَقُ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ، يُقَالُ: غَسَقَتِ الْعَيْنُ إِذَا سَالَ دَمْعُهَا. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ هُوَ الْقَيْحُ الَّذِي يَسِيلُ مِنْهُمْ يَجْتَمِعُ فَيُسْقَوْنَهُ الثَّانِي: قِيلَ الْحَمِيمُ يَحْرِقُ بِحَرِّهِ، وَالْغَسَّاقُ يَحْرِقُ بِبَرْدِهِ، وَذَكَرَ الْأَزْهَرِيُّ: أَنَّ الْغَاسِقَ الْبَارِدُ، وَلِهَذَا قِيلَ لِلَّيْلِ غَاسِقٌ لِأَنَّهُ أَبْرَدُ مِنَ النَّهَارِ الثَّالِثُ: أَنَّ الْغَسَّاقَ الْمُنْتِنُ حَكَى الزَّجَّاجُ لَوْ قُطِرَتْ مِنْهُ قَطْرَةٌ فِي الْمَشْرِقِ لَأَنْتَنَتْ أَهْلَ الْمَغْرِبِ، وَلَوْ قُطِرَتْ مِنْهُ قَطْرَةٌ فِي الْمَغْرِبِ لَأَنْتَنَتْ أَهْلَ الْمَشْرِقِ الرَّابِعُ: قَالَ كَعْبٌ: الْغَسَّاقُ عَيْنٌ فِي جَهَنَّمَ يَسِيلُ إِلَيْهَا سُمُّ كُلِّ ذَاتِ حُمَةٍ مِنْ عَقْرَبٍ وَحَيَّةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفَصٌ عَنْ عَاصِمٍ غَسَّاقٌ بِتَشْدِيدِ السِّينِ حَيْثُ كَانَ وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ الِاخْتِيَارُ التَّخْفِيفُ لِأَنَّهُ إِذَا شَدَّدَ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ اسْمًا أَوْ صِفَةً، فَإِنْ كَانَ اسما فالأسماء لم تجيء عَلَى هَذَا الْوَزْنِ إِلَّا قَلِيلًا، وَإِنْ كَانَ صِفَةً فَقَدْ أُقِيمَ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَجُوزَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عُمَرَ وَأُخَرُ بِضَمِّ الْأَلْفِ عَلَى جَمْعِ أُخْرَى أَيْ أَصْنَافٌ أُخَرُ مِنَ الْعَذَابِ، وَهُوَ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ وَالْبَاقُونَ آخَرُ عَلَى الْوَاحِدِ أَيْ عَذَابٌ آخَرُ، أَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى فَقَوْلُهُ وَأُخَرُ أَيْ وَمَذُوقَاتٍ أُخَرُ مِنْ شَكْلِ هَذَا الْمَذُوقِ، أَيْ مِنْ مِثْلِهِ فِي الشِّدَّةِ وَالْفَظَاعَةِ، أَزْوَاجٌ أَيْ أَجْنَاسٌ، وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ فَالتَّقْدِيرُ وَعَذَابٌ أَوْ مَذُوقٌ آخَرُ، وَأَزْوَاجٌ صِفَةٌ لِآخَرَ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضُرُوبًا أَوْ صِفَةً لِلثَّلَاثَةِ وَهُمْ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقُرِئَ مِنْ شِكْلِهِ بِالْكَسْرِ وَهِيَ لُغَةٌ، وَأَمَّا الْغَنْجُ «1» فَبِالْكَسْرِ لَا غَيْرُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ مَسْكَنَ الطَّاغِينَ وَمَأْكُولَهُمْ حَكَى أَحْوَالَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا أَحِبَّاءً لَهُمْ/ فِي الدُّنْيَا أَوَّلًا، ثُمَّ مَعَ الَّذِينَ كَانُوا أَعْدَاءً لَهُمْ فِي الدُّنْيَا ثَانِيًا أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ قَوْلُهُ: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا حِكَايَةُ كَلَامِ رُؤَسَاءِ أَهْلِ النَّارِ يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِدَلِيلِ أَنَّ مَا حُكِيَ بَعْدَ هَذَا مِنْ أَقْوَالِ الْأَتْبَاعِ وَهُوَ قَوْلُهُ: قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا، وَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ كَلَامُ الْخَزَنَةِ لِرُؤَسَاءِ الْكَفَرَةِ فِي أَتْبَاعِهِمْ، وَقَوْلَهُ: لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ كَلَامُ الرُّؤَسَاءِ، وَقَوْلُهُ: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ أَيْ هَذَا جَمْعٌ كَثِيفٌ قَدِ اقْتَحَمَ مَعَكُمُ النَّارَ كَمَا كَانُوا قَدِ اقْتَحَمُوا مَعَكُمْ فِي الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، وَمَعْنَى اقْتَحَمَ مَعَكُمُ النَّارَ أَيْ دَخَلَ النَّارَ فِي صُحْبَتِكُمْ، وَالِاقْتِحَامُ رُكُوبُ الشِّدَّةِ وَالدُّخُولُ فِيهَا، وَالْقَحْمَةُ الشِّدَّةُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا مَرْحَباً بِهِمْ دُعَاءٌ مِنْهُمْ عَلَى أَتْبَاعِهِمْ، يَقُولُ الرَّجُلُ لِمَنْ يَدْعُو لَهُ مَرْحَبًا أَيْ أَتَيْتَ رَحْبًا فِي الْبِلَادِ لَا ضيقا أَوْ رَحُبَتْ بِلَادُكَ رُحْبًا، ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْهِ كَلِمَةُ لَا فِي دُعَاءِ السُّوءِ، وَقَوْلُهُ: بِهِمْ بيان للمدعو عليهم أنهم صالوا النَّارِ تَعْلِيلٌ لِاسْتِيجَابِهِمُ الدُّعَاءَ عَلَيْهِمْ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الْأَعْرَافِ: 38] قَالُوا أَيِ الْأَتْبَاعُ بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ يُرِيدُونَ أَنَّ الدُّعَاءَ الَّذِي دَعَوْتُمْ بِهِ عَلَيْنَا أَيُّهَا الرُّؤَسَاءُ أَنْتُمْ أَحَقُّ بِهِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا وَالضَّمِيرُ لِلْعَذَابِ أَوْ لِصِلِيِّهِمْ، فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى تَقْدِيمِهِمُ الْعَذَابَ لَهُمْ؟ قُلْنَا الَّذِي أَوْجَبَ التقديم هو عمل السوء قال تعالى: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [آل عمران: 181، 182] إِلَّا أَنَّ الرُّؤَسَاءَ لَمَّا كَانُوا هُمُ السَّبَبُ فيه بإغوائهم وكان العذاب

_ (1) هكذا في الأصل ولعلها مقارنة لغوية ذكرها المفسر بين الشكل والغنج ولا مناسبة بينهما ظاهرة؟.

جَزَاءُهُمْ عَلَيْهِ قِيلَ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَجَعَلَ الرُّؤَسَاءَ هُمُ الْمُقَدَّمِينَ وَجَعَلَ الْجَزَاءَ هُوَ الْمُقَدَّمُ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: قَدَّمْتُمُوهُ كِنَايَةٌ عَنِ الطُّغْيَانِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ وَقَوْلُهُ: فَبِئْسَ الْقَرارُ أَيْ بِئْسَ الْمُسْتَقَرُّ وَالْمَسْكَنُ جَهَنَّمُ، ثُمَّ قَالَتِ الْأَتْبَاعُ رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هَذَا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً أَيْ مُضَاعَفًا وَمَعْنَاهُ ذَا ضَعْفٍ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً [الْأَعْرَافِ: 38] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ [الْأَحْزَابِ: 67، 68] فَإِنْ قِيلَ كُلُّ مِقْدَارٍ يُفْرَضُ مِنَ الْعَذَابِ فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ الِاسْتِحْقَاقِ لَمْ يَكُنْ مُضَاعَفًا، وَإِنْ كان زائدا عليه كان ظلما وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. قُلْنَا الْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَكُونُ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ عَذَابَ الضلال، والثاني عذاب الإضلال والله أعلم. وهاهنا آخِرُ شَرْحِ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ مَعَ الَّذِينَ كَانُوا أَحْبَابًا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا شَرْحُ أَحْوَالِهِمْ مَعَ الَّذِينَ كَانُوا أَعْدَاءً لَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ قَوْلُهُ: وَقالُوا مَا لَنا لَا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ يَعْنِي أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا نَظَرُوا إِلَى جَوَانِبِ جَهَنَّمَ فَحِينَئِذٍ يَقُولُونَ: مَا لَنا لَا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ يَعْنُونَ فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَا يَؤُبَهُ بِهِمْ وَسَمَّوْهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ، إِمَّا بِمَعْنَى الْأَرَاذِلِ الَّذِينَ لَا خَيْرَ فِيهِمْ وَلَا جَدْوَى، أَوْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى خِلَافِ دِينِهِمْ فكانوا عندهم أشرارا ثم قالوا: أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مِنَ الْأَشْرارِ أَتَّخَذْناهُمْ بِوَصْلِ أَلْفِ أَتَّخَذْناهُمْ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَبِالْوَصْلِ يُقْرَأُ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مُتَقَدِّمٌ فِي قَوْلِهِ: مَا لَنا لَا نَرى رِجالًا، وَلِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَشُكُّونَ فِي اتِّخَاذِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا سِخْرِيًّا، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي [الْمُؤْمِنُونَ: 110] فَكَيْفَ يَحْسُنُ أَنْ يَسْتَفْهِمُوا عَنْ شَيْءٍ عَلِمُوهُ؟ أَجَابَ الْفَرَّاءُ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ هَذَا مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّعْجِيبُ وَالتَّوْبِيخُ، وَمِثْلُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ جَائِزٌ عَنِ الشَّيْءِ الْمَعْلُومِ، أَمَّا وَجْهُ قَوْلِ مَنْ أَلْحَقَ الْهَمْزَةَ لِلِاسْتِفْهَامِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَيْهِ ليعادل قوله: أَتَّخَذْناهُمْ بِأَمْ فِي قَوْلِهِ: أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْجُمْلَةُ الْمُعَادِلَةُ لِقَوْلِهِ: أَمْ زاغَتْ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى؟ قُلْنَا إِنَّهَا مَحْذُوفَةٌ وَالْمَعْنَى الْمَقْصُودُونَ هُمْ أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ سِخْرِيًّا بِضَمِّ السِّينِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، وَقِيلَ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَقِيلَ بِالْكَسْرِ هُوَ الْهُزْءُ وَبِالضَّمِّ هُوَ التَّذْلِيلُ وَالتَّسْخِيرُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي نَظْمِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ أَمَّا الْقِرَاءَةُ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ فَالتَّقْدِيرُ مَا لَنَا لَا نَرَاهُمْ حَاضِرِينَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ لِحَقَارَتِهِمْ تَرَكُوا، أَوْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ. وَوَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْ حقارتهم بقولهم أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ، فَالتَّقْدِيرُ لِأَجْلِ أَنَّا قَدِ اتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا وَمَا كَانُوا كَذَلِكَ فَلَمْ يَدْخُلُوا النَّارَ، أَمْ لِأَجْلِ أَنَّهُ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ قَالَ إِنَّ ذَلِكَ الَّذِي حَكَيْنَا عَنْهُمْ لَحَقٌّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْهُمْ مَا هُوَ، فَقَالَ: تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى تِلْكَ الْكَلِمَاتِ تُخَاصُمًا لِأَنَّ قَوْلَ الرُّؤَسَاءِ لَا مَرْحَباً بِهِمْ وَقَوْلَ الْأَتْبَاعِ بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ مِنْ باب الخصومة.

[سورة ص (38) : الآيات 65 إلى 70]

[سورة ص (38) : الآيات 65 الى 70] قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَعَا النَّاسَ إِلَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا الله وَاحِدٌ، وَإِلَى أَنَّهُ رَسُولٌ مُبِينٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالْقِيَامَةِ حَقٌّ، فَأُولَئِكَ الْكُفَّارُ أَظْهَرُوا السَّفَاهَةَ وَقَالُوا إِنَّهُ سَاحِرٌ كَذَّابٌ واستهزؤا بِقَوْلِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قِصَصَ الْأَنْبِيَاءِ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: لِيَصِيرَ ذَلِكَ حَامِلًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّأَسِّي بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي الصَّبْرِ عَلَى سَفَاهَةِ الْقَوْمِ وَالثَّانِي: لِيَصِيرَ ذَلِكَ رَادِعًا لِلْكُفَّارِ عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَالسَّفَاهَةِ وَدَاعِيًا إِلَى قَبُولِ الْإِيمَانِ، وَلَمَّا تَمَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الطَّرِيقَ أَرْدَفَهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ شَرْحُ نَعِيمِ أَهْلِ الثَّوَابِ وَشَرْحُ عِقَابِ أَهْلِ الْعِقَابِ. فَلَمَّا تَمَّمَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْبَيَانَاتِ عَادَ إِلَى تَقْرِيرِ الْمَطَالِبِ الْمَذْكُورَةِ في أول السورة وهي تقرير التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ، فَقَالَ قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَلَا بُدَّ مِنَ الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ مَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ القهار، فإن الترتيب الصحيح أن تذكر شُبَهَاتِ الْخُصُومِ أَوَّلًا وَيُجَابُ عَنْهَا ثُمَّ نَذْكُرُ عَقِيبَهَا الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى صِحَّةِ الْمَطْلُوبِ، فَكَذَا هاهنا أَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ شُبْهَتِهِمْ وَنَبَّهَ عَلَى فَسَادِ كَلِمَاتِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ، لِأَنَّ إِزَالَةَ مَا لَا يَنْبَغِي مُقَدَّمَةٌ عَلَى إِثْبَاتِ مَا يَنْبَغِي، وَغَسْلُ اللَّوْحِ مِنَ النُّقُوشِ الْفَاسِدَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى كَتْبِ النُّقُوشِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ، وَمَنْ نَظَرَ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ اعْتَرَفَ بِأَنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى آخِرِهَا قَدْ جَاءَ عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِ التَّرْتِيبِ وَالنَّظْمِ. أَمَّا قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ يَعْنِي أُبَّلِغُ أَحْوَالَ عِقَابِ مَنْ أَنْكَرَ التَّوْحِيدَ وَالنُّبُوَّةَ وَالْمَعَادَ، وَأَحْوَالَ ثَوَابِ مَنْ أقربها، وَكَمَا بَدَأَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِأَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ حَيْثُ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: 5] فكذلك بدأ هاهنا بِتَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ فَقَالَ: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ وَفِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الشَّرِيكِ وَالنَّظِيرِ، وَبَيَانُهُ أَنِ الَّذِي يُجْعَلُ شَرِيكًا لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا قَادِرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْعَالَمِ أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، بَلْ يَكُونُ جَمَادًا عَاجِزًا وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرِيكُهُ قَادِرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ لَمْ يَكُنْ هُوَ قَادِرًا قَاهِرًا، لَأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يُرِيدَ هُوَ شَيْئًا وَيُرِيدَ شَرِيكُهُ ضِدَّ ذَلِكَ الشَّيْءِ لَمْ يَكُنْ حُصُولُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، فَيُفْضِي إِلَى انْدِفَاعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ قَادِرًا قَاهِرًا بَلْ كَانَ عَاجِزًا ضَعِيفًا، وَالْعَاجِزُ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ، فَقَوْلُهُ: إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كَوْنَهُ قَهَّارًا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ وَاحِدًا وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الَّذِي جُعِلَ شَرِيكًا لَهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ الْبَتَّةَ مِثْلَ هَذِهِ الْأَوْثَانِ، فَهَذَا أَيْضًا فَاسِدٌ لِأَنَّ صَرِيحَ الْعَقْلِ يَحْكُمُ بِأَنَّ عِبَادَةَ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْقَاهِرِ أَوْلَى مِنْ عِبَادَةِ الْجَمَادِ الَّذِي لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا فَقَوْلُهُ: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الدَّلَائِلِ، وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَهُ سُبْحَانَهُ قَهَّارًا مُشْعِرٌ بِالتَّرْهِيبِ وَالتَّخْوِيفِ، فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الرَّجَاءِ وَالتَّرْغِيبِ

فَقَالَ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ فَكَوْنُهُ رَبًّا مُشْعِرٌ بِالتَّرْبِيَةِ وَالْإِحْسَانِ وَالْكَرَمِ وَالْجُودِ، وَكَوْنُهُ غَفَّارًا مُشْعِرٌ بِالتَّرْغِيبِ، وَهَذَا الْمَوْجُودُ هُوَ الَّذِي تَجِبُ عِبَادَتُهُ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُخْشَى عِقَابُهُ وَيُرْجَى فَضْلُهُ وَثَوَابُهُ. / وَنَذْكُرُ طَرِيقَةً أُخْرَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ صِفَاتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ خمسة الْوَاحِدَ وَالْقَهَّارَ وَالرَّبَّ وَالْعَزِيزَ وَالْغَفَّارَ، أَمَّا كَوْنُهُ وَاحِدًا فَهُوَ الَّذِي وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَدَلَّ تَعَالَى عَلَى كَوْنِهِ وَاحِدًا بِكَوْنِهِ قَهَّارًا وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ هَذِهِ الدَّلَالَةِ إِلَّا أَنَّ كَوْنَهُ قَهَّارًا وَإِنْ دَلَّ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ يُوجِبُ الخوف الشديد فأردفه تعالى بذكر صفات ثلاثة دَالَّةٍ عَلَى الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالْكَرَمِ أَوَّلُهَا: كَوْنُهُ ربا للسموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَهَذَا إِنَّمَا تَتِمُّ مَعْرِفَتُهُ بِالنَّظَرِ فِي آثَارِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خلق السموات وَالْأَرْضِ وَالْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ وَالْمَوَالِيدِ الثَّلَاثَةِ، وَذَلِكَ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ فَإِذَا تَأَمَّلْتَ فِي آثَارِ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ فِي خَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَرَفْتَ حِينَئِذٍ تَرْبِيَتَهُ لِلْكُلِّ وَذَلِكَ يُفِيدُ الرَّجَاءَ الْعَظِيمَ وَثَانِيهَا: كَوْنُهُ عَزِيزًا وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهِ أَنَّ لقائل أن يقول هب أنه رب ومربي وَكَرِيمٌ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ، فَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ عَزِيزٌ أَيْ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ فَهُوَ يَغْلِبُ الْكُلَّ وَلَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ وَثَالِثُهَا: كَوْنُهُ غَفَّارًا وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهِ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَبْ أَنَّهُ رَبٌّ وَمُحْسِنٌ وَلَكِنَّهُ يَكُونُ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُطِيعِينَ الْمُخْلِصِينَ فِي الْعِبَادَةِ، فَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ مَنْ بَقِيَ عَلَى الْكُفْرِ سَبْعِينَ سَنَةً ثُمَّ تَابَ فَإِنِّي أُزِيلُ اسْمَهُ عَنْ دِيوَانِ الْمُذْنِبِينَ وَأَسْتُرُ عَلَيْهِ بِفَضْلِي وَرَحْمَتِي جَمِيعَ ذُنُوبِهِ وَأُوصِلُهُ إِلَى دَرَجَاتِ الْأَبْرَارِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ ذَلِكَ قَالَ: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ وَهَذَا النَّبَأُ الْعَظِيمُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ نَبَأٌ عَظِيمٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالنُّبُوَّةِ نَبَأٌ عَظِيمٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ أَنَّ الْقَوْلَ بِإِثْبَاتِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْقِيَامَةِ نَبَأٌ عَظِيمٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَطَالِبَ الثَّلَاثَةَ كَانَتْ مَذْكُورَةً فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَلِأَجْلِهَا انْجَرَّ الْكَلَامُ إِلَى كُلِّ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا لِأَنَّ هَذَا أَيْضًا قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ [ص: 29] وَهَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ أَعْرَضُوا عَنْهُ عَلَى مَا قَالَ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ تَرْغِيبٌ فِي النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَمَنْعٌ مِنَ التَّقْلِيدِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمَطَالِبَ مَطَالِبٌ شَرِيفَةٌ عَالِيَةٌ، فَإِنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ فِيهَا عَلَى الْحَقِّ يَفُوزُ بِأَعْظَمِ أَبْوَابِ السَّعَادَةِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ فِيهَا عَلَى الْبَاطِلِ وَقَعَ فِي أَعْظَمِ أَبْوَابِ الشَّقَاوَةِ فَكَانَتْ هَذِهِ الْمَبَاحِثُ أَنْبَاءً عَظِيمَةً وَمَطَالِبَ عَالِيَةً بَهِيَّةً، وَصَرِيحُ الْعَقْلِ يُوجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَأْتِيَ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ التَّامِّ وَأَنْ لَا يَكْتَفِيَ بِالْمُسَاهَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى رَغَّبَ الْمُكَلَّفِينَ فِي الِاحْتِيَاطِ فِي هَذِهِ المسائل الأربعة، وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ التَّرْغِيبِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا نَبَأٌ عَظِيمٌ، وَالنَّبَأُ الْعَظِيمُ يَجِبُ الِاحْتِيَاطُ فِيهِ الثَّانِي: أَنَّ الْمَلَأَ الْأَعْلَى اخْتَصَمُوا وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: 30] وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَالُوا أَيُّ فَائِدَةٍ فِي خَلْقِ/ الْبَشَرِ مَعَ أَنَّهُمْ يَشْتَغِلُونَ بِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَبِإِمْضَاءِ الْغَضَبِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْمَخْلُوقَاتِ بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أَقْسَامٍ أَرْبَعَةٍ: أَحَدُهَا: الَّذِينَ حَصَلَ لَهُمُ الْعَقْلُ وَالْحِكْمَةُ، وَلَمْ تَحْصُلْ

[سورة ص (38) : الآيات 71 إلى 85]

لَهُمُ النَّفْسُ وَالشَّهْوَةُ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ فَقَطْ ثَانِيهَا: الَّذِينَ حَصَلَ لَهُمُ النَّفْسُ وَالشَّهْوَةُ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمُ الْعِلْمُ وَالْحِكْمَةُ وَهِيَ الْبَهَائِمُ وَثَالِثُهَا: الْأَشْيَاءُ الْخَالِيَةُ عَنِ الْقِسْمَيْنِ، وَهِيَ الْجَمَادَاتُ وَبَقِيَ فِي التَّقْسِيمِ قِسْمٌ رَابِعٌ: وَهُوَ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ الْأَمْرَانِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَخْلِيقِ الْإِنْسَانِ لَيْسَ هُوَ الْجَهْلَ وَالتَّقْلِيدَ وَالتَّكَبُّرَ وَالتَّمَرُّدَ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ صِفَاتُ الْبَهَائِمِ وَالسِّبَاعِ بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْ تَخْلِيقِهِ ظُهُورُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالطَّاعَةِ، فَقَوْلُهُ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ يَعْنِي أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَإِنْ حَصَلَتْ فِيهِ الشَّهْوَةُ الدَّاعِيَةُ إِلَى الْفَسَادِ وَالْغَضَبِ الْحَامِلِ لَهُ عَلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ، لَكِنْ حَصَلَ فِيهِ الْعَقْلُ الَّذِي يَدْعُوهُ إِلَى الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالطَّاعَةِ وَالْخِدْمَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَجَابَ الْمَلَائِكَةَ بِهَذَا الْجَوَابِ وَجَبَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْعَى فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي اكْتِسَابِهَا، وَأَنْ يَحْتَرِزَ عَنْ طَرِيقَةِ الْجَهْلِ وَالتَّقْلِيدِ وَالْإِصْرَارِ وَالتَّكَبُّرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَنْ وَقَفَ عَلَى كَيْفِيَّةِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ صَارَ وُقُوفُهُ عَلَيْهَا دَاعِيًا لَهُ إِلَى الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ فِي اكْتِسَابِ الْمَعَارِفِ الْحَقَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ زَاجِرًا لَهُ عَنْ أَضْدَادِهَا وَمُقَابَلَاتِهَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَقَامِ. فَإِنْ قِيلَ الْمَلَائِكَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمُ اخْتَصَمُوا بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [الْبَقَرَةِ: 30] فَإِنَّ الْمُخَاصَمَةَ مَعَ اللَّهِ كُفْرٌ، قُلْنَا لَا شَكَّ أَنَّهُ جَرَى هُنَاكَ سُؤَالٌ وَجَوَابٌ، وَذَلِكَ يُشَابِهُ الْمُخَاصَمَةَ وَالْمُنَاظَرَةَ وَالْمُشَابَهَةُ عِلَّةٌ لِجَوَازِ الْمَجَازِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ حَسُنَ إِطْلَاقُ لَفْظُ الْمُخَاصَمَةِ عَلَيْهِ، وَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَذْكُرَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ الرَّمْزِ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ يَعْنِي أَنَا مَا عَرَفْتُ هَذِهِ الْمُخَاصَمَةَ إِلَّا بِالْوَحْيِ، وَإِنَّمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ لِأُنْذِرَكُمْ بِهَا وَلِتَصِيرَ هَذِهِ الْقِصَّةُ حَامِلَةً لَكُمْ عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي الطَّاعَةِ والاحتراز عن الجهل والتقليد. [سورة ص (38) : الآيات 71 الى 85] إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)

اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْمَنْعُ مِنَ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِبْلِيسَ، إِنَّمَا وَقَعَ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ بِسَبَبِ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ، وَالْكَفَّارُ إِنَّمَا نَازَعُوا مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِسَبَبِ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ، فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ القصة هاهنا لِيَصِيرَ سَمَاعُهَا زَاجِرًا لَهُمْ عَنْ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ الْمَذْمُومَتَيْنِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَالَى رَغَّبَ الْمُكَلَّفِينَ فِي النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَمَنَعَهُمْ عَنِ الْإِصْرَارِ وَالتَّقْلِيدِ وَذَكَرَ فِي تَقْرِيرِهِ أُمُورًا أَرْبَعَةً أَوَّلُهَا: أَنَّهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ فَيَجِبُ الِاحْتِيَاطُ فِيهِ وَالثَّانِي: أَنَّ قِصَّةَ سُؤَالِ الْمَلَائِكَةِ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي تَخْلِيقِ الْبَشَرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ الْأَصْلِيَّةَ فِي تَخْلِيقِ آدَمَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ وَالطَّاعَةُ لَا الْجَهْلُ وَالتَّكَبُّرُ الثَّالِثُ: أَنَّ إِبْلِيسَ إِنَّمَا خَاصَمَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَجْلِ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ فَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْهُمَا، فَهَذَا هُوَ وَجْهُ النَّظْمِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ إِلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَفِيهَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ سُؤَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا النَّظْمَ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ أَمْكَنَ خَلْقُ الْبَشَرِ لَا مِنَ الطِّينِ، كَمَا إِذَا قِيلَ أَنَا مُتَّخِذٌ سُوَارًا مِنْ ذَهَبٍ، فَهَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ لَوْ أَمْكَنَ اتِّخَاذُهُ مِنَ الْفِضَّةِ. الثاني: ذكر هاهنا أَنَّهُ خَلَقَ الْبَشَرَ مِنْ طِينٍ، وَفِي سَائِرِ الْآيَاتِ ذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آدَمَ إِنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ وَكَقَوْلِهِ: مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الْحِجْرِ: 26] وَكَقَوْلِهِ: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الْأَنْبِيَاءِ: 37] . الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ الْمَلَائِكَةَ بِأَنَّهُ خَلَقَ بَشَرًا مِنْ طِينٍ. لَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ الَّتِي قَالَ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30] بَيَّنَ أَنَّهُمْ أَوْرَدُوا السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ فَبَيْنَهُمَا تَنَاقُضٌ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّقْدِيرَ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَ لَهُمْ أَوَّلًا أَنَّ الْبَشَرَ شَخْصٌ جَامِعٌ لِلْقُوَّةِ الْبَهِيمِيَّةِ وَالسَّبْعِيَّةِ وَالشَّيْطَانِيَّةِ وَالْمَلَكِيَّةِ، فَلَمَّا قَالَ: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ الشَّخْصُ الْمُسْتَجْمِعُ لِتِلْكَ الصِّفَاتِ، إِنَّمَا أَخْلُقُهُ مِنَ الطِّينِ، وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي أَنَّ الْمَادَّةَ الْبَعِيدَةَ هُوَ التُّرَابُ، وَأَقْرَبُ مِنْهُ الطِّينُ، وَأَقْرَبُ مِنْهُ الْحَمَأُ الْمَسْنُونُ، وَأَقْرَبُ مِنْهُ الصَّلْصَالُ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْكُلِّ، وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ أَنَّهُ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ يَخْلُقُ فِي الْأَرْضِ خليفة، وبالآية المذكورة هاهنا بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ بَشَرٌ مَخْلُوقٌ مِنَ الطِّينِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَخْلِيقَ الْبَشَرِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِأَمْرَيْنِ التَّسْوِيَةُ أَوَّلًا، ثُمَّ نَفْخُ الرُّوحِ ثَانِيًا، وَهَذَا حَقٌّ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ جَسَدٍ وَنَفْسٍ. أَمَّا الْجَسَدُ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْمَنِيِّ، وَالْمَنِيُّ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ دَمِ الطَّمْثِ وَهُوَ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ، وَهِيَ إِنَّمَا تَتَوَلَّدُ مِنَ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا بُدَّ فِي حُصُولِ هَذِهِ التَّسْوِيَةِ مِنْ رِعَايَةِ مِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَمِنْ رِعَايَةِ كَيْفِيَّةِ امْتِزَاجَاتِهَا وَتَرْكِيبَاتِهَا، وَمِنْ رِعَايَةِ الْمُدَّةِ الَّتِي فِي مِثْلِهَا حَصَلَ ذَلِكَ الْمِزَاجُ الَّذِي لِأَجْلِهِ يَحْصُلُ الِاسْتِعْدَادُ لِقَبُولِ النفس الناطقة.

وَأَمَّا النَّفْسُ فَإِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي وَلَمَّا أَضَافَ الرُّوحَ إِلَى نَفْسِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ جَوْهَرٌ شَرِيفٌ عُلْوِيٌّ قُدْسِيٌّ، وَذَهَبَتِ الْحُلُولِيَّةُ إِلَى أَنَّ كَلِمَةَ (مِنْ) تَدُلُّ عَلَى التَّبْعِيضِ، وَهَذَا يُوهِمُ أَنَّ الرُّوحَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا غَايَةُ الْفَسَادِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا لَهُ جُزْءٌ وَكُلٌّ، فَهُوَ مُرَكَّبٌ وَمُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَمُحْدَثٌ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ نَفْخِ الرُّوحِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَقْرَبَ أَنَّ جَوْهَرَ النَّفْسِ عِبَارَةٌ عَنْ أَجْسَامٍ شَفَّافَةٍ نُورَانِيَّةٍ، عُلْوِيَّةِ الْعُنْصُرِ، قُدْسِيَّةِ الْجَوْهَرِ، وَهِيَ تَسْرِي فِي الْبَدَنِ سَرَيَانَ الضَّوْءِ فِي الْهَوَاءِ، وَسَرَيَانَ النَّارِ فِي الْفَحْمِ، فَهَذَا الْقَدْرُ مَعْلُومٌ. أَمَّا كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ النَّفْخِ فَمِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَمَا تَمَّ نَفْخُ الرَّوْحِ فِي الْجَسَدِ تَوَّجَهُ أَمْرُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالسُّجُودِ، وَأَمَّا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِذَلِكَ السُّجُودِ مَلَائِكَةُ الأرض، أو دخل فيه ملائكة السموات مِثْلُ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَالرُّوحِ الْأَعْظَمِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا [النَّبَأِ: 38] فَفِيهِ مَبَاحِثٌ عَمِيقَةٌ. وَقَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، هُمُ الْقُوَى النَّبَاتِيَّةُ وَالْحَيَوَانِيَّةُ الْحِسِّيَّةُ وَالْحَرَكِيَّةُ، فَإِنَّهَا فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ خَوَادِمُ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ، / وَإِبْلِيسُ الَّذِي لَمْ يَسْجُدْ هُوَ الْقُوَّةُ الْوَهْمِيَّةُ الَّتِي هِيَ الْمُنَازِعَةُ لِجَوْهَرِ الْعَقْلِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ طَوِيلٌ. وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْمَسَائِلِ وَهِيَ: كَيْفِيَّةُ سُجُودِ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ، وَأَنَّ ذَلِكَ هَلْ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْ لَا، وَأَنَّ إِبْلِيسَ هَلْ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْ لَا، وَأَنَّهُ هَلْ كَانَ كَافِرًا، أَصْلِيًّا أَمْ لَا، فَكُلُّ ذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ مَنْ أَثْبَتَ الْأَعْضَاءَ وَالْجَوَارِحَ لِلَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ فِي إِثْبَاتِ يَدَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى، بِأَنْ قَالُوا ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَالْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ وَارِدَةٌ عَلَى وَفْقِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى نَفْيِ كَوْنِهِ تَعَالَى جِسْمًا مُرَكَّبًا مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَعْضَاءِ، قَدْ سَبَقَتْ إِلَّا أَنَّا نَذْكُرُ هاهنا نُكَتًا جَارِيَةً مَجْرَى الْإِلْزَامَاتِ الظَّاهِرَةِ فَالْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَجْزَاءِ، فَإِمَّا أَنْ يُثْبِتَ الْأَعْضَاءَ الَّتِي وَرَدَ ذِكْرُهَا فِي الْقُرْآنِ وَلَا يَزِيدَ عَلَيْهَا، وَإِمَّا أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَزِمَهُ إِثْبَاتُ صُورَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهَا فِي الْقُبْحِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِثْبَاتُ وَجْهٍ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ مِنْهُ إِلَّا مُجَرَّدُ رُقْعَةِ الْوَجْهِ لِقَوْلِهِ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88] وَيَلْزَمُهُ أَنْ يُثْبِتَ فِي تِلْكَ الرُّقْعَةِ عُيُونًا كَثِيرَةً لِقَوْلِهِ: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا [الْقَمَرِ: 14] وَأَنْ يُثْبِتَ جَنْبًا واحدا لقوله تعالى: يا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزُّمَرِ: 56] وَأَنْ يُثْبِتَ عَلَى ذَلِكَ الْجَنْبِ أَيْدِيَ كَثِيرَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا [يس: 71] وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ يَدَانِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كِلَاهُمَا عَلَى جَانِبٍ وَاحِدٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» وَأَنْ يُثْبِتَ لَهُ سَاقًا وَاحِدًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [الْقَلَمِ: 42] فَيَكُونُ الْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الصُّورَةِ، مُجَرَّدَ رُقْعَةِ الْوَجْهِ وَيَكُونُ عَلَيْهَا عُيُونٌ كَثِيرَةٌ، وَجَنْبٌ وَاحِدٌ وَيَكُونُ عَلَيْهِ أَيْدٍ كَثِيرَةٌ وَسَاقٌ وَاحِدٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ أَقْبَحُ الصُّوَرِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا عَبْدًا لَمْ يَرْغَبْ أَحَدٌ فِي شِرَائِهِ، فَكَيْفَ يَقُولُ الْعَاقِلُ إِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصُّورَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى الْأَعْضَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ، بَلْ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ عَلَى وَفْقِ

التَّأْوِيلَاتِ، فَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ مَذْهَبُهُ فِي الْحَمْلِ عَلَى مُجَرَّدِ الظَّوَاهِرِ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَبُولِ دَلَائِلِ الْعَقْلِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: فِي إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ إِنَّهُمْ إِذَا أَثْبَتُوا الْأَعْضَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ أَثْبَتُوا لَهُ عُضْوَ الرَّجُلِ فَهُوَ رَجُلٌ، وَإِنْ أَثْبَتُوا لَهُ عُضْوَ النِّسَاءِ فَهُوَ أُنْثَى، وَإِنْ نَفَوْهُمَا فَهُوَ خَصِيٌّ أَوْ عِنِّينٌ، وَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ فِي ذَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إِمَّا أَنْ يَكُونَ جِسْمًا صُلْبًا لَا يَنْغَمِزُ الْبَتَّةَ، فَيَكُونُ حَجَرًا صُلْبًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلِانْغِمَازِ، فَيَكُونُ لَيِّنًا قَابِلًا لِلتَّفَرُّقِ وَالتَّمَزُّقِ. وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَرَّكَ عَنْ مَكَانِهِ، كَانَ كَالزَّمِنِ الْمُقْعَدِ الْعَاجِزِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَرَّكَ عَنْ مَكَانِهِ، كَانَ مَحَلًّا لِلتَّغَيُّرَاتِ، فَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الْأَنْعَامِ: 76] . الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: إِنْ كَانَ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَلَا يَنَامُ وَلَا يَتَحَرَّكُ كَانَ كَالْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، كَانَ إِنْسَانًا كَثِيرَ التُّهْمَةِ مُحْتَاجًا إِلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْوِقَاعِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَنَقُولُ لَهُمْ حِينَ نُزُولِهِ: هَلْ يَبْقَى مُدَبِّرًا لِلْعَرْشِ وَيَبْقَى مُدَبِّرًا لِلسَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ كَانَ عَلَى الْعَرْشِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى فِي النُّزُولِ فَائِدَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مُدَبِّرًا لِلْعَرْشِ فَعِنْدَ نُزُولِهِ يَصِيرُ مَعْزُولًا عَنْ إِلَهِيَّةِ العرش والسموات. الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ تَعَالَى أَعْظَمُ مِنَ الْعَرْشِ، وَإِنَّ الْعَرْشَ لَا نِسْبَةَ لِعَظَمَتِهِ إِلَى عَظَمَةِ الْكُرْسِيِّ، وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ السَّمَاءُ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَظَمَةِ اللَّهِ كَالذَّرَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَحْرِ، فَإِذَا نَزَلَ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْإِلَهَ يَصِيرُ صَغِيرًا بِحَيْثُ تَسَعُهُ السَّمَاءُ الدُّنْيَا، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ السَّمَاءَ الدُّنْيَا تَصِيرُ أَعْظَمَ مِنَ الْعَرْشِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ. الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: ثَبَتَ أَنَّ الْعَالَمَ كُرَةٌ، فَإِنْ كَانَ فَوْقَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْمٍ كَانَ تَحْتَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ فَوْقَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُلِّ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ جِسْمًا مُحِيطًا بِهَذَا الْعَالَمِ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ، فَيَكُونُ إِلَهُ الْعَالَمِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَكًا مِنَ الْأَفْلَاكِ. الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: لَمَّا كانت الأرض كرة، وكانت السموات كُرَاتٍ، فَكُلُّ سَاعَةٍ تُفْرَضُ السَّاعَاتُ فَإِنَّهَا تَكُونُ ثُلْثَ اللَّيْلِ فِي حَقِّ أَقْوَامٍ مُعَيَّنِينَ مِنْ سُكَّانِ كُرَةِ الْعَوَارِضِ، فَلَوْ نَزَلَ مِنَ الْعَرْشِ فِي ثُلْثِ اللَّيْلِ وَجَبَ أَنْ يَبْقَى أَبَدًا نَازِلًا عَنِ الْعَرْشِ، وَأَنْ لَا يَرْجِعَ إِلَى الْعَرْشِ الْبَتَّةَ. الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: أَنَّا إِنَّمَا زَيَّفْنَا إِلَهِيَّةَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعُيُوبِ أَوَّلُهَا: كَوْنُهُ مُؤَلَّفًا مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ وَثَانِيهَا: كَوْنُهُ مَحْدُودًا مُتَنَاهِيًا وَثَالِثُهَا: كَوْنُهُ مَوْصُوفًا بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ، فَإِذَا كَانَ إِلَهُ الْمُشَبِّهَةِ مُؤَلَّفًا مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَجْزَاءِ كَانَ مُرَكَّبًا، فَإِذَا كَانَ عَلَى الْعَرْشِ كَانَ مَحْدُودًا مُتَنَاهِيًا، وَإِنْ كَانَ يَنْزِلُ مِنَ الْعَرْشِ وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ كَانَ مَوْصُوفًا بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، فَهَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثَةُ إِنْ كَانَتْ مُنَافِيَةً لِلْإِلَهِيَّةِ وَجَبَ تَنْزِيهُ الْإِلَهِ عَنْهَا بِأَسْرِهَا، وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ الْمُشَبِّهَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُنَافِيَةً لِلْإِلَهِيَّةِ فَحِينَئِذٍ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الطَّعْنِ فِي إِلَهِيَّةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. الْحُجَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاصِ: 1] وَلَفْظُ الْأَحَدِ مُبَالَغَةٌ فِي الْوَحْدَةِ، وَذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَهُ مُرَكَّبًا مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ.

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ [مُحَمَّدٍ: 38] وَلَوْ كَانَ مُرَكَّبًا مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ لَكَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ غَنِيًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْقَوْلَ بِإِثْبَاتِ الْأَعْضَاءِ وَالْأَجْزَاءِ لِلَّهِ مُحَالٌ، وَلَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ وُجُوبُ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، فَنَقُولُ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي لَفْظِ الْيَدِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّ الْيَدَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ تَقُولُ الْعَرَبُ مَا لِي بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ يَدٍ، أَيْ مِنْ قوة وطاقة، قال تعالى: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ [الْبَقَرَةِ: 237] ، / الثَّانِي: الْيَدُ عِبَارَةٌ عَنِ النِّعْمَةِ يُقَالُ أَيَادِي فُلَانٍ فِي حَقِّ فُلَانٍ ظَاهِرَةٌ وَالْمُرَادُ النِّعَمُ وَالْمُرَادُ بِالْيَدَيْنِ النِّعَمُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ أَوْ نِعَمُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا الثَّالِثُ: أَنَّ لَفْظَ الْيَدِ قَدْ يُزَادُ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِمَنْ جَنَى بِاللِّسَانِ هَذَا مَا كَسَبَتْ يَدَاكَ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الْأَعْرَافِ: 57] . وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ حَمْلُ الْيَدِ على القدرة هاهنا غَيْرُ جَائِزٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْيَدَيْنِ، فَلَوْ كَانَتِ الْيَدُ عِبَارَةً عَنِ الْقُدْرَةِ لَزِمَ إِثْبَاتُ قُدْرَتَيْنِ لِلَّهِ وَهُوَ بَاطِلٌ وَالثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنَّ كَوْنَ آدَمَ مَخْلُوقًا بِالْيَدَيْنِ يُوجِبُ فَضِيلَتَهُ وَكَوْنَهُ مَسْجُودًا لِلْمَلَائِكَةِ، فَلَوْ كَانَتِ الْيَدُ عِبَارَةً عَنِ الْقُدْرَةِ لَكَانَ آدَمُ مَخْلُوقًا بِالْقُدْرَةِ، لَكِنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ مَخْلُوقَةٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَمَا أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَخْلُوقٌ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَذَلِكَ إِبْلِيسُ مَخْلُوقٌ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى، وعلى تقدير أن تكون اليد عِبَارَةً عَنِ الْقُدْرَةِ، لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْعِلَّةُ عِلَّةً لِكَوْنِ آدَمَ مَسْجُودًا لِإِبْلِيسَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ إِبْلِيسُ مَسْجُودًا لِآدَمَ، وَحِينَئِذٍ يَخْتَلُّ نَظْمُ الْآيَةِ وَيَبْطُلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كِلْتَا يَدَيْهِ يُمْنَى» وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَا يَلِيقُ بِالْقُدْرَةِ. وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الثَّانِي: وَهُوَ حَمْلُ الْيَدَيْنِ عَلَى النِّعْمَتَيْنِ فَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى كَثِيرَةٌ كَمَا قَالَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: 34] وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَدَ لَا تَزِيدُ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ الثَّانِي: لَوْ كَانَتِ الْيَدُ عِبَارَةً عَنِ النِّعْمَةِ فَنَقُولُ النِّعْمَةُ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ آدَمُ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ يَكُونُ مَخْلُوقًا لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِمَزِيدِ النُّقْصَانِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِمَزِيدِ الْكَمَالِ الثَّالِثُ: لَوْ كَانَتِ الْيَدُ عِبَارَةً عَنِ النِّعْمَةِ لَكَانَ قَوْلُهُ: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الْمُلْكِ: 1] مَعْنَاهُ تَبَارَكَ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ الْمُلْكُ وَلَكَانَ قَوْلُهُ: «بِيَدِكَ الْخَيْرُ» مَعْنَاهُ بِنِعْمَتِكَ الْخَيْرُ وَلَكَانَ قَوْلُهُ: يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [الْمَائِدَةِ: 64] مَعْنَاهُ نِعْمَتَاهُ مَبْسُوطَتَانِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ فَاسِدٌ. وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ إِنَّ لَفْظَ الْيَدِ قَدْ يُذْكَرُ زِيَادَةً لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ فَنَقُولُ لَفْظُ الْيَدِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي حَقِّ مَنْ يَكُونُ هَذَا الْعُضْوُ حَاصِلًا لَهُ وَفِي حَقِّ مَنْ لَا يَكُونُ هَذَا الْعُضْوُ حَاصِلًا فِي حَقِّهِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَكَقَوْلِهِمْ فِي حَقِّ مَنْ جَنَى بِلِسَانِهِ هَذَا مَا كَسَبَتْ يَدَاكَ وَالسَّبَبُ فِي هَذَا أَنَّ مَحَلَّ الْقُدْرَةِ هُوَ الْيَدُ فَأَطْلَقَ اسْمَ الْيَدِ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَصِيرُ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ الْيَدِ الْقُدْرَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِبْطَالُ هَذَا الْوَجْهِ وَأَمَّا الثَّانِي: فَكَقَوْلِهِ: بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سَبَأٍ: 46] وَقَوْلِهِ: (بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ) «1» إِلَّا أَنَّا نَقُولُ هَذَا الْمَجَازُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَذْكُورٌ وَالْمَجَازُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ مُطَّرِدًا، فَلَا جَرَمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا الْمَعْنَى إِنَّمَا حَصَلَ بِيَدِ الْعَذَابِ وَبِيَدِ السَّاعَةِ، وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الْحُجُرَاتِ: 1] قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّأْكِيدُ وَالصِّلَةُ، أَمَّا الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ هَذَا اللَّفْظُ بَلْ قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ في المجازات باطلا

_ (1) لم نعثر على أي مطابقة لها في المعجم.

فَقَدْ سَقَطَ كَلَامُكُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، فَهَذَا مُنْتَهَى الْبَحْثِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَالَّذِي تَلَخَّصَ عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ السُّلْطَانَ الْعَظِيمَ لَا يَقْدِرُ عَلَى عَمَلِ شَيْءٍ بِيَدِهِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ/ غَايَةُ عِنَايَتِهِ مَصْرُوفَةً إِلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، فَإِذَا كَانَتِ الْعِنَايَةُ الشَّدِيدَةُ مِنْ لَوَازِمِ الْعَمَلِ بِالْيَدِ أَمْكَنَ جَعْلُهُ مَجَازًا عَنْهُ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ. فَهَذَا مَا لَخَّصْنَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ فَالْمَعْنَى: أَسْتَكْبَرْتَ الْآنَ أَمْ كُنْتَ أَبَدًا مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ الْعَالِينَ، فَأَجَابَ إِبْلِيسُ بِقَوْلِهِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ فَالْمَعْنَى أَنِّي لَوْ كُنْتُ مُسَاوِيًا لَهُ فِي الشَّرَفِ لَكَانَ يَقْبُحُ أَمْرِي بِسُجُودِي لَهُ فَكَيْفَ وَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ثُمَّ بَيَّنَ كَوْنَهُ خَيْرًا مِنْهُ بِأَنَّ أَصْلَهُ مِنَ النَّارِ وَالنَّارُ أَشْرَفُ مِنَ الطِّينِ، فَصَحَّ أَنَّ أَصْلَهُ خَيْرٌ مِنْ أَصْلِ آدَمَ وَمَنْ كَانَ أَصْلُهُ خَيْرًا مِنْ أَصْلِهِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْهُ فهذه مقدمات ثلاثة: الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: أَنَّ إِبْلِيسَ مَخْلُوقٌ مِنَ النَّارِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ [الْحِجْرِ: 27] . الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ النَّارَ أَفْضَلُ مِنَ الطِّينِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَجْرَامَ الْفَلَكِيَّةَ أَشْرَفُ مِنَ الْأَجْرَامِ الْعُنْصُرِيَّةِ وَالنَّارُ أَقْرَبُ الْعَنَاصِرِ مِنَ الْفَلَكِ وَالْأَرْضُ أَبْعَدُهَا عَنْهُ فَوَجَبَ كَوْنُ النَّارِ أَفْضَلَ مِنَ الْأَرْضِ الثَّانِي: أَنَّ النَّارَ خَلِيفَةُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي إِضَاءَةِ هَذَا الْعَالَمِ عِنْدَ غَيْبَتِهِمَا وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ أَشْرَفُ مِنَ الْأَرْضِ، فَخَلِيفَتُهُمَا فِي الْإِضَاءَةِ أَفْضَلُ مِنَ الْأَرْضِ الثَّالِثُ: أَنَّ الْكَيْفِيَّةَ الْفَاعِلَةَ الْأَصْلِيَّةَ، إِمَّا الْحَرَارَةُ أَوِ الْبُرُودَةُ وَالْحَرَارَةُ أَفْضَلُ مِنَ الْبُرُودَةِ لِأَنَّ الْحَرَارَةَ تُنَاسِبُ الْحَيَاةَ وَالْبُرُودَةُ تُنَاسِبُ الْمَوْتَ الرَّابِعُ: الْأَرْضُ كَثِيفَةٌ وَالنَّارُ لَطِيفَةٌ وَاللَّطَافَةُ أَشْرَفُ مِنَ الْكَثَافَةِ الْخَامِسُ: النَّارُ مُشْرِقَةٌ وَالْأَرْضُ مُظْلِمَةٌ وَالنُّورُ خَيْرٌ مِنَ الظُّلْمَةِ السَّادِسُ: النَّارُ خَفِيفَةٌ تُشْبِهُ الرُّوحَ وَالْأَرْضُ ثَقِيلَةٌ تُشْبِهُ الْجَسَدَ وَالرُّوحُ أَفْضَلُ مِنَ الْجَسَدِ فَالنَّارُ أَفْضَلُ مِنَ الْأَرْضِ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْأَطِبَّاءَ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ الْعُنْصُرَيْنِ الثَّقِيلَيْنِ أَعْوَنُ عَلَى تَرْكِيبِ الْأَجْسَادِ وَأَنَّ الْعُنْصُرَيْنِ الْخَفِيفَيْنِ أَعَوْنُ عَلَى تَوَلُّدِ الْأَرْوَاحِ السَّابِعُ: النَّارُ صَاعِدَةٌ وَالْأَرْضُ هَابِطَةٌ وَالصَّاعِدُ أَفْضَلُ مِنَ الْهَابِطِ الثَّامِنُ: أَنَّ أَوَّلَ بُرُوجِ الْفَلَكِ هُوَ الْحَمَلُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَبْدَأُ مِنْ نُقْطَةِ الِاسْتِوَاءِ الشَّمَالِيِّ، ثُمَّ إِنَّ الْحَمَلَ عَلَى طَبِيعَةِ النَّارِ وَأَشْرَفُ أعضاء الحيوان والقلب وَالرُّوحُ وَهُمَا عَلَى طَبِيعَةِ النَّارِ وَأَخَسُّ أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ هُوَ الْعَظْمُ وَهُوَ بَارِدٌ يَابِسٌ أَرْضِيٌّ التَّاسِعُ: أَنَّ الْأَجْسَامَ الْأَرْضِيَّةَ كُلَّمَا كَانَتْ أَشَدَّ نُورَانِيَّةً وَمُشَابَهَةً بِالنَّارِ كَانَتْ أَشْرَفَ وَكُلَّمَا كَانَتْ أَكْثَرَ غُبْرَةً وَكَثَافَةً وَكُدُورَةً وَمُشَابَهَةً بِالْأَرْضِ كَانَتْ أَخَسَّ، مِثَالُهُ الْأَجْسَامُ الشَّبِيهَةُ بِالنَّارِ الذَّهَبُ وَالْيَاقُوتُ وَالْأَحْجَارُ الصَّافِيَةُ النُّورَانِيَّةُ وَمِثَالُهُ أَيْضًا مِنَ الثِّيَابِ الْإِبْرَيْسَمُ وَمَا يُتَّخَذُ مِنْهُ، وَأَمَّا أَنَّ كَلَّ مَا كَانَ أَكْثَرَ أَرْضِيَّةً وَغُبْرَةً فَهُوَ أَخَسُّ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ الْعَاشِرُ: أَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ قُوَّةٌ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ وَالْجَلَالَةِ وَلَا يَتِمُّ عَمَلُهَا إِلَّا بِالشُّعَاعِ وَهُوَ جِسْمٌ شَبِيهٌ بِالنَّارِ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ أَشْرَفَ أَجْسَامِ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ هُوَ الشَّمْسُ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ شَبِيهٌ بِالنَّارِ فِي صُورَتِهِ وَطَبِيعَتِهِ وَأَثَرِهِ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ النُّضْجَ وَالْهَضْمَ وَالْحَيَاةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْحَرَارَةِ وَلَوْلَا قُوَّةُ الْحَرَارَةِ لَمَا تَمَّ الْمِزَاجُ وَتَوَلَّدَتِ الْمُرَكَّبَاتُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ أَقْوَى الْعَنَاصِرِ/ الْأَرْبَعَةِ فِي قُوَّةِ الْفِعْلِ هُوَ النَّارُ وَأَكْمَلُهَا فِي قُوَّةِ الانفعال هو الأرض والفعل فضل مِنَ الِانْفِعَالِ فَالنَّارُ أَفْضَلُ مِنَ الْأَرْضِ. أَمَّا الْقَائِلُونَ بِتَفْضِيلِ الْأَرْضِ عَلَى النَّارِ فَذَكَرُوا أَيْضًا وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَرْضَ أَمِينٌ مُصْلِحٌ فَإِذَا أَوْدَعْتَهَا حَبَّةً رَدَّتْهَا

إِلَيْكَ شَجَرَةً مُثْمِرَةً وَالنَّارُ خَائِنَةٌ تُفْسِدُ كُلَّ مَا أَسْلَمْتَهُ إِلَيْهَا الثَّانِي: أَنَّ الْحِسَّ الْبَصَرِيَّ أَثْنَى عَلَى النَّارِ «1» فَلْيَسْتَمِعْ مَا يَقُولُهُ الْحِسُّ اللَّمْسِيُّ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَرْضَ مُسْتَوْلِيَةٌ عَلَى النَّارِ فَإِنَّهَا تُطْفِئُ النَّارَ، وَأَمَّا النَّارُ فَإِنَّهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي الْأَرْضِ الْخَالِصَةِ. وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ: فَهِيَ أَنَّ مَنْ كَانَ أَصْلُهُ خَيْرًا مِنْ أَصْلِهِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ كَاذِبَةٌ جِدًّا وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَ الرَّمَادِ النَّارُ وَأَصْلَ الْبَسَاتِينِ النَّزِهَةِ وَالْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ هُوَ الطِّينُ وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْأَشْجَارَ الْمُثْمِرَةَ خَيْرٌ مِنَ الرَّمَادِ، وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّ اعْتِبَارَ هَذِهِ الْجِهَةِ يُوجِبُ الْفَضِيلَةَ إِلَّا أَنَّ هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِيرَ مُعَارَضًا بِجِهَةٍ أُخْرَى تُوجِبُ الرُّجْحَانَ مِثْلَ إِنْسَانٍ نَسِيبٍ عَارٍ عَنْ كُلِّ الْفَضَائِلِ فَإِنَّ نَسَبَهُ يُوجِبُ رُجْحَانَهُ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي لا يكون نسبيا قَدْ يَكُونُ كَثِيرَ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ فَيَكُونُ هُوَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ النَّسِيبِ بِدَرَجَاتٍ لَا حَدَّ لَهَا، فَالْمُقَدِّمَةُ الْكَاذِبَةُ فِي الْقِيَاسِ الَّذِي ذَكَرَهُ إِبْلِيسُ هُوَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هَبْ أَنَّ إِبْلِيسَ أَخْطَأَ فِي هَذَا الْقِيَاسِ لَكِنْ كَيْفَ لَزِمَهُ الْكُفْرُ مِنْ تِلْكَ الْمُخَالَفَةِ؟ وَبَيَانُ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: اسْجُدُوا أَمْرٌ وَالْأَمْرُ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ بَلِ النَّدْبَ وَمُخَالَفَةُ النَّدْبِ لَا تُوجِبُ الْعِصْيَانَ فَضْلًا عَنِ الْكُفْرِ، وَأَيْضًا فَالَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ فَهُمْ لَا يُنْكِرُونَ كَوْنَهُ مُحْتَمِلًا لندب احْتِمَالًا ظَاهِرًا وَمَعَ قِيَامِ هَذَا الِاحْتِمَالِ الظَّاهِرِ كَيْفَ يَلْزَمُ الْعِصْيَانُ فَضْلًا عَنِ الْكُفْرِ الثَّانِي: هَبْ أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ إِلَّا أَنَّ إِبْلِيسَ مَا كان من الملائكة فأمر الملائكة بسجود آدم لَا يَدْخُلُ فِيهِ إِبْلِيسُ الثَّالِثُ: هَبْ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ إِلَّا أَنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ بِالْقِيَاسِ جَائِزٌ فَخَصَّصَ نَفْسَهُ عَنْ عُمُومِ ذَلِكَ الْأَمْرِ بِالْقِيَاسِ الرَّابِعُ: هَبْ أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ يُوجِبُ الْعِصْيَانَ وَلَا يُوجِبُ الْكُفْرَ فَكَيْفَ لزمه الكفر والجواب: هَبْ أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لَا تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيْهَا مِنَ القرائن ما يدل على الوجوب، وهاهنا حصلت تلك القرائن وهي قَوْلُهُ تَعَالَى: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ فَلَمَّا أَتَى إِبْلِيسُ بِقِيَاسِهِ الْفَاسِدِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْقِيَاسَ لِيَتَوَسَّلَ بِهِ إِلَى الْقَدْحِ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَتَكْلِيفِهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْكُفْرَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ قَالَ تَعَالَى: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ ذِكْرَ الْحُكْمِ عَقِيبَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الوصف وهاهنا الْحُكْمُ بِكَوْنِهِ رَجِيمًا وَرَدَ عَقِيبَ مَا حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ خَصَّصَ النَّصَّ بِالْقِيَاسِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ يُوجِبُ هَذَا الْحُكْمَ، وَقَوْلُهُ: مِنْها أَيْ مِنَ الْجَنَّةِ أَوْ من السموات وَالرَّجِيمُ الْمَرْجُومُ وَفِيهِ قَوْلَانِ: / الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَجَازٌ عَنِ الطَّرْدِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَنْ طُرِدَ فَقَدْ يُرْمَى بِالْحِجَارَةِ وَهُوَ الرَّجْمُ فَلَمَّا كَانَ الرَّجْمُ مِنْ لَوَازِمِ الطَّرْدِ جُعِلَ الرَّجْمُ كِنَايَةً عَنِ الطَّرْدِ فَإِنْ قَالُوا الطَّرْدُ هُوَ اللَّعْنُ فَلَوْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ: رَجِيمٌ عَلَى الطَّرْدِ لَكَانَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي تَكْرَارًا وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّا نَحْمِلُ الرَّجْمَ على الطرد من الجنة أو من السموات وَنَحْمِلُ اللَّعْنَ عَلَى الطَّرْدِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَالثَّانِي: أَنَّا نَحْمِلُ الرَّجْمَ عَلَى الطَّرْدِ وَنَحْمِلُ قوله:

_ (1) العبارة مصحفة لأن الحس البصري فيما نعلم لم يثن على النار وإنما يتأذى به كما أن الحس اللمسي يحترق بالنار. ولعله نظر إلى المعنى من ناحية أخرى هي أن فضل النار لم يظهره إلا البصر واللمس وهما من طبيعة الأرض. فبسببهما بان فضل الأرض على النار.

وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الطَّرْدَ يَمْتَدُّ إِلَى آخِرِ الْقِيَامَةِ فَيَكُونُ هَذَا فَائِدَةً زَائِدَةً وَلَا يَكُونُ تَكْرِيرًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الرَّجِيمِ أَنْ نَحْمِلَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَهُوَ كَوْنُ الشَّيَاطِينِ مَرْجُومِينَ بِالشُّهُبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ كَلِمَةُ إِلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ فَقَوْلُهُ: إِلى يَوْمِ الدِّينِ يَقْتَضِي انْقِطَاعَ تِلْكَ اللَّعْنَةِ عِنْدَ مَجِيءِ يَوْمِ الدِّينِ، أَجَابَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِأَنَّ اللَّعْنَةَ بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَإِذَا جَاءَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جُعِلَ مَعَ اللَّعْنَةِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْعَذَابِ تَصِيرُ اللَّعْنَةُ مَعَ حُضُورِهَا مَنْسِيَّةً. وَاعْلَمْ أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا صَارَ مَلْعُونًا قَالَ: فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قِيلَ إِنَّمَا طَلَبَ الْإِنْظَارَ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ لِأَجْلِ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ إِذَا نُظِرَ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ لَمْ يَمُتْ قَبْلَ يَوْمِ الْبَعْثِ وَعِنْدَ مَجِيءِ يَوْمِ الْبَعْثِ لَا يَمُوتُ أَيْضًا فَحِينَئِذٍ يَتَخَلَّصُ مِنَ الْمَوْتِ فَقَالَ تَعَالَى: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وَمَعْنَاهُ إِنَّكَ مِنَ الْمَنْظَرِينَ إِلَى يَوْمٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَلَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ سِوَاهُ، فَقَالَ إِبْلِيسُ: فَبِعِزَّتِكَ وَهُوَ قَسَمٌ بِعَزَّةِ اللَّهِ وَسُلْطَانِهِ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ فَهَهُنَا أَضَافَ الْإِغْوَاءَ إِلَى نَفْسِهِ وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْقَدَرِ وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي فَأَضَافَ الْإِغْوَاءَ إِلَى اللَّهِ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ الْجَبْرِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُتَحَيِّرٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَأما قَوْلُهُ: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فَفِيهِ فَوَائِدُ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: قِيلَ غَرَضُ إِبْلِيسَ مِنْ ذِكْرِهِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ أَنْ لَا يَقَعَ فِي كَلَامِهِ الْكَذِبُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ وَادَّعَى أَنَّهُ يُغْوِي الْكُلَّ لَكَانَ يَظْهَرُ كَذِبُهُ حِينَ يَعْجَزُ عَنْ إِغْوَاءِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَكَأَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ: إِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ لِئَلَّا يقع الكذب في هذا الكلام، وعند هَذَا يُقَالُ إِنَّ الْكَذِبَ شَيْءٌ يَسْتَنْكِفُ مِنْهُ إِبْلِيسُ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْمُسْلِمِ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ؟ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلُهُ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ؟ [الْحَجِّ: 52] قُلْنَا إِنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَقُلْ إِنِّي لَمْ أَقْصِدْ إِغْوَاءَ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ بَلْ قَالَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَقْصِدُ الْإِغْوَاءَ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُغْوِيهِمْ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ لَا يُغْوِي عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، وَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ يُوسُفَ: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يُوسُفَ: 24] فَنَصِلُ مِنْ مَجْمُوعِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ إِبْلِيسَ مَا أَغْوَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَذِبِ الْحَشْوِيَّةِ فِيمَا يَنْسُبُونَ إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْقَبَائِحِ. وَاعْلَمْ أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ فَالْحَقُّ بِالرَّفْعِ وَالْحَقَّ بِالنَّصْبِ، وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا. أَمَّا الرَّفْعُ فَتَقْدِيرُهُ فَالْحَقُّ قَسَمِي. وَأَمَّا النَّصْبُ فَعَلَى الْقَسَمِ، أَيْ فَبِالْحَقِّ، كَقَوْلِكَ وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالْحَقَّ أَقُولُ انْتُصِبَ قَوْلُهُ: وَالْحَقَّ بِقَوْلِهِ: أَقُولُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مِنْكَ أَيْ مِنْ جِنْسِكَ، وَهُمُ الشَّيَاطِينُ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: أَجْمَعِينَ تَأْكِيدٌ لِمَاذَا؟ قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يُؤَكَّدَ بِهِ الضَّمِيرُ فِي مِنْهُمْ، أَوِ الْكَافُ فِي مِنْكَ مَعَ مَنْ

[سورة ص (38) : الآيات 86 إلى 88]

تَبِعَكَ، وَمَعْنَاهُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ وَالتَّابِعِينَ لَا أَتْرُكُ مِنْهُمْ أَحَدًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةِ أَنَّ الْكُلَّ بِقَضَاءِ اللَّهِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ إِبْلِيسَ: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ فَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا يؤمن، فلو آمن لا نقلب خَبَرُ اللَّهِ الصِّدْقُ كَذِبًا وَهُوَ مُحَالٌ، فَكَانَ صُدُورُ الْإِيمَانِ مِنْهُ مُحَالًا مَعَ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ فَاللَّهُ تَعَالَى عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ يُغْوِيهِمْ، وَسَمِعَ مِنْهُ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى مَنْعِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَالْقَادِرُ عَلَى الْمَنْعِ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ كَانَ رَاضِيًا بِهِ، فَإِنْ قَالُوا لَعَلَّ ذَلِكَ الْمَنْعَ مُفْسِدٌ، قُلْنَا هَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَنْعَ يُخَلِّصُ إِبْلِيسَ عَنِ الْإِضْلَالِ، وَيُخَلِّصُ بَنِي آدَمَ عَنِ الضَّلَالِ، وَهَذَا عَيْنُ الْمَصْلَحَةِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ يَمْلَأُ جَهَنَّمَ مِنَ الْكَفَرَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكْفُرُوا لَزِمَ الْكَذِبُ وَالْجَهْلُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ لَا يَكْفُرَ الْكَافِرُ لَوَجَبَ أَنْ يُبْقِيَ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ، وَأَنْ يُمِيتَ إِبْلِيسَ وَالشَّيَاطِينَ، وَحَيْثُ قَلَبَ الْأَمْرَ عَلِمْنَا أَنَّهُ فَاسِدٌ الْخَامِسُ: أَنَّ تَكْلِيفَ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ بِالْإِيمَانِ، يَقْتَضِي تَكْلِيفَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَلْبَتَّةَ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَصِيرُوا مُكَلَّفِينَ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الْبَتَّةَ، وَذَلِكَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يطاق، والله أعلم. [سورة ص (38) : الآيات 86 الى 88] قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَتَمَ هَذِهِ السُّورَةَ بِهَذِهِ الْخَاتِمَةِ الشَّرِيفَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ طُرُقًا كَثِيرَةً دَالَّةً عَلَى وُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ فِي طَلَبِ الدِّينِ، ثُمَّ قَالَ عِنْدَ الْخَتْمِ: هَذَا الَّذِي أَدْعُو النَّاسَ إِلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يُنْظَرَ فِي حَالِ الدَّاعِي، وَفِي حَالِ الدَّعْوَةِ لِيَظْهَرَ أَنَّهُ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ. أَمَّا الدَّاعِي وَهُوَ أَنَا. فَأَنَا لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ أَجْرًا وَمَالًا، وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ الْكَذَّابَ لَا يَنْقَطِعُ طَمَعُهُ عَنْ طَلَبِ الْمَالِ أَلْبَتَّةَ، وَكَانَ مِنَ الظَّاهِرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَعِيدًا عَنِ الدُّنْيَا عَدِيمَ الرَّغْبَةِ فِيهَا، وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الدَّعْوَةِ/ فَقَالَ: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ، وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا، وَالَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذَا الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ دِينٌ لَيْسَ يَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَةِ صِحَّتِهِ إِلَى التَّكَلُّفَاتِ الْكَثِيرَةِ، بَلْ هُوَ دِينٌ يَشْهَدُ صَرِيحُ الْعَقْلِ بِصِحَّتِهِ، فَإِنِّي أَدْعُوكُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ بِوُجُودِ اللَّهِ أَوَّلًا: ثُمَّ أَدْعُوكُمْ ثَانِيًا: إِلَى تَنْزِيهِهِ وَتَقْدِيسِهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، يُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُهُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَأَمْثَالُهُ، ثُمَّ أَدْعُوكُمْ ثَالِثًا: إِلَى الْإِقْرَارِ بِكَوْنِهِ مَوْصُوفًا بِكَمَالِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ، ثُمَّ أَدْعُوكُمْ رَابِعًا: إِلَى الْإِقْرَارِ بِكَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الشُّرَكَاءِ، وَالْأَضْدَادِ، ثُمَّ أَدْعُوكُمْ خَامِسًا: إِلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَوْثَانِ، الَّتِي هِيَ جَمَادَاتٌ خَسِيسَةٌ وَلَا مَنْفَعَةَ فِي عِبَادَتِهَا وَلَا مَضَرَّةَ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهَا، ثُمَّ أَدْعُوكُمْ سَادِسًا: إِلَى تَعْظِيمِ الْأَرْوَاحِ الطَّاهِرَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ أَدْعُوكُمْ سَابِعًا: إِلَى الْإِقْرَارِ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النَّجْمِ: 31] ثُمَّ أَدْعُوكُمْ ثَامِنًا: إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْآخِرَةِ، فَهَذِهِ الْأُصُولُ الثَّمَانِيَةُ، هِيَ الْأُصُولُ الْقَوِيَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، ودين محمد صلى الله عليه وسلّم وبدائه الْعُقُولِ، وَأَوَائِلُ الْأَفْكَارِ شَاهِدَةٌ بِصِحَّةِ هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّمَانِيَةِ، فَثَبَتَ أَنِّي لَسْتُ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ فِي الشَّرِيعَةِ الَّتِي أَدْعُو الْخَلْقَ إِلَيْهَا،

بَلْ كُلُّ عَقْلٍ سَلِيمٍ وَطَبْعٍ مُسْتَقِيمٍ، فَإِنَّهُ يَشْهَدُ بِصِحَّتِهَا وَجَلَالَتِهَا، وَبُعْدِهَا عَنِ الْبَاطِلِ وَالْفَسَادِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وَلَمَّا بَيَّنَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ قَالَ: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ إِنْ أَصْرَرْتُمْ عَلَى الْجَهْلِ وَالتَّقْلِيدِ، وَأَبَيْتُمْ قَبُولَ هَذِهِ الْبَيَانَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، فَسَتَعْلَمُونَ بَعْدَ حِينٍ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ مُصِيبِينَ فِي هَذَا الْإِعْرَاضِ أَوْ مُخْطِئِينَ، وَذِكْرُ مِثْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ بَعْدَ تِلْكَ الْبَيَانَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِمَّا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ فِي التَّخْوِيفِ وَالتَّرْهِيبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ فِي آخِرِ الثُّلَاثَاءِ الثَّانِي مِنْ شَهْرِ ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى آلائه ونعمائه. وَالصَّلَاةُ عَلَى الْمُطَهَّرِينَ مِنْ عِبَادِهِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ، وَالْمَدْحُ وَالثَّنَاءُ كَمَا يَلِيقُ بِصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَالتَّعْظِيمُ التَّامُّ لِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

سورة الزمر

سُورَةُ الزُّمَرِ سَبْعُونَ وَخَمْسُ آيَاتٍ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) [في قوله تعالى تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: فِي رَفْعِ تَنْزِيلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: تَنْزِيلُ مُبْتَدَأً وَقَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ خَبَرٌ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ هَذَا تَنْزِيلُ الْكِتَابِ، فَيُضْمَرُ الْمُبْتَدَأُ كَقَوْلِهِ: سُورَةٌ أَنْزَلْناها [النُّورِ: 1] أَيْ هَذِهِ سُورَةٌ، قال بعضهم: الوجه الْأَوَّلِ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِضْمَارَ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ هاهنا الثَّانِي: أَنَّا إِذَا قُلْنَا: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ أَفَادَ فَائِدَةً شَرِيفَةً، وَهِيَ أَنَّ تَنْزِيلَ/ الْكِتَابِ يَكُونُ مِنَ اللَّهِ، لَا مِنْ غَيْرِهِ وَهَذَا الْحَصْرُ مَعْنًى مُعْتَبَرٌ، أَمَّا إِذَا أَضْمَرْنَا الْمُبْتَدَأَ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ الثَّالِثُ: أَنَّا إِذَا أَضْمَرْنَا الْمُبْتَدَأَ صَارَ التَّقْدِيرُ هَذَا تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُنَا مَجَازٌ آخَرُ، لِأَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى السُّورَةِ، وَالسُّورَةُ لَيْسَتْ نَفْسَ التَّنْزِيلِ، بَلِ السُّورَةُ مُنَزَّلَةٌ، فَحِينَئِذٍ يُحْتَاجُ إِلَى أَنْ نَقُولَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَصْدَرِ الْمَفْعُولُ وَهُوَ مُجَازٌ تَحَمَّلْنَاهُ لَا لِضَرُورَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَائِلُونَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ احْتَجُّوا بِأَنْ قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ تَنْزِيلًا وَمُنَزَّلًا، وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْمُحْدَثِ الْمَخْلُوقِ وَالْجَوَابُ: أَنَّا نَحْمِلُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ عَلَى الصِّيَغِ وَالْحُرُوفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ تَدُلُّ عَلَى وَصْفِ الْقُرْآنِ بِكَوْنِهِ تَنْزِيلًا وَآيَاتٌ أُخَرُ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّلًا. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: 192] ، وَقَالَ: تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فُصِّلَتْ: 42] وَقَالَ: حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [فصلت: 1، 2] .

وَأَمَّا الثَّانِي: فَقَوْلُهُ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الْحِجْرِ: 9] وَقَالَ: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [الْإِسْرَاءِ: 105] وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ كَوْنَهُ مُنَزَّلًا أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ كَوْنِهِ تَنْزِيلًا، فَكَوْنُهُ مُنَزَّلًا مَجَازٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْقُرْآنِ الصِّفَةَ الْقَائِمَةَ بِذَاتِ اللَّهِ فَهُوَ لَا يَقْبَلُ الِانْفِصَالَ وَالنُّزُولَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ فَهِيَ أَعْرَاضٌ لَا تَقْبَلُ الِانْتِقَالَ وَالنُّزُولَ، بَلِ الْمُرَادُ مِنَ النُّزُولِ نُزُولُ الْمَلَكِ الَّذِي بَلَّغَهَا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْعَزِيزُ هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يُغْلَبُ فَهَذَا اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَالْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ لِدَاعِيَةِ الْحِكْمَةِ لَا لِدَاعِيَةِ الشَّهْوَةِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ جَمِيعِ الْحَاجَاتِ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ كَوْنُهُ تَعَالَى: عَزِيزًا حَكِيمًا يَدُلُّ عَلَى هذه الصفات الثلاثة، الْعِلْمِ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ كُلِّ الْحَاجَاتِ، فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَفْعَلَ الْقَبِيحَ وَأَنْ يَحْكُمَ بِالْقَبِيحِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ يَكُونُ حِكْمَةً وَصَوَابًا. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ الِانْتِفَاعُ بِالْقُرْآنِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالْمُعْجِزِ كَوْنُ الرَّسُولِ صَادِقًا، وَثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ فَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَالْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بِهَذِهِ الألفاظ المعاني التي هي موضوعة لها، أم بِحَسَبِ اللُّغَةِ أَوْ بِحَسَبِ الْقَرِينَةِ الْعُرْفِيَّةِ أَوِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُرِدْ بِهَا ذَلِكَ لَكَانَ تَلْبِيسًا، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْقُرْآنِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ تَسْلِيمِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ إِلَّا بِإِثْبَاتِ كَوْنِهِ تَعَالَى حَكِيمًا، وَثَبَتَ أَنْ لَا سَبِيلَ/ إِلَى إِثْبَاتِ كَوْنِهِ حَكِيمًا إِلَّا بِالْبِنَاءِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَزِيزًا، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَفْظُ التَّنْزِيلِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ نَجْمًا نَجْمًا عَلَى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ وَلَفْظُ الْإِنْزَالِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَالْجَوَابُ: إِنْ صَحَّ الْفَرْقُ بَيْنَ التَّنْزِيلِ وَبَيْنَ الْإِنْزَالِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ فَطَرِيقُ الْجَمْعِ أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى إِنَّا حَكَمْنَا حُكْمًا كُلِّيًّا جَزْمًا بِأَنْ يُوصَلَ إِلَيْكَ هَذَا الْكِتَابُ، وَهَذَا هو الإنزال، ثم أوصلناه نجما نَجْمًا إِلَيْكَ عَلَى وَفْقِ الْمَصَالِحِ وَهَذَا هُوَ التَّنْزِيلُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ؟ وَالْجَوَابُ: فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنْزَلْنَا الْكِتَابَ إِلَيْكَ مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ وَالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ عَلَى مَعْنَى كُلُّ مَا أَوْدَعْنَاهُ فِيهِ مِنْ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، وَأَنْوَاعِ التَّكَالِيفِ فَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنَّا أَنْزَلَنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِنَاءً عَلَى دَلِيلٍ حَقٍّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ نَازِلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَذَلِكَ الدَّلِيلُ هُوَ أَنَّ الْفُصَحَاءَ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُعْجِزًا لَمَا عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ. ثُمَّ قَالَ: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحَقِّ وَالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ أَرْدَفَ هُنَا بَعْضَ مَا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ وَالصِّدْقِ وَهُوَ أَنْ يَشْتَغِلَ الْإِنْسَانُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ وَيَتَبَرَّأَ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْكُلِّيَّةِ، فَأَمَّا اشْتِغَالُهُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ فَهُوَ

الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً، وَأَمَّا بَرَاءَتُهُ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَلا لِلَّهِ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَمَعْنَى الْحَصْرِ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ فِي الْمَذْكُورِ وَيَنْتَفِيَ عَنْ غَيْرِ الْمَذْكُورِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَةَ مَعَ الْإِخْلَاصِ لَا تُعْرَفُ حَقِيقَةً إِلَّا إِذَا عَرَفْنَا أَنَّ الْعِبَادَةَ مَا هِيَ وَأَنَّ الْإِخْلَاصَ مَا هُوَ وَأَنَّ الْوُجُوهَ الْمُنَافِيَةَ لِلْإِخْلَاصِ مَا هِيَ فَهَذِهِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ لَا بُدَّ مِنَ الْبَحْثِ عَنْهَا: أَمَّا الْعِبَادَةُ: فَهِيَ فِعْلٌ أَوْ قَوْلٌ أَوْ تَرْكُ فِعْلٍ أَوْ تَرْكُ قَوْلٍ وَيُؤْتَى بِهِ لِمُجَرَّدِ اعْتِقَادِ أَنَّ الْأَمْرَ بِهِ عَظِيمٌ يَجِبُ قَبُولُهُ. وَأَمَّا الْإِخْلَاصُ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي لَهُ إِلَى الْإِتْيَانِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ مُجَرَّدَ هَذَا الِانْقِيَادِ وَالِامْتِثَالِ، فَإِنْ حَصَلَ مِنْهُ دَاعٍ آخَرُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَانِبُ الدَّاعِي إِلَى الطَّاعَةِ رَاجِحًا عَلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ أَوْ مُعَادِلًا لَهُ أَوْ مَرْجُوحًا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُعَادِلَ وَالْمَرْجُوحَ سَاقِطٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الدَّاعِي إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ رَاجِحًا عَلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُفِيدُ أَمْ لَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِرَارًا وَلَفْظُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْخُلُوصِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً/ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِالْعِبَادَةِ عَلَى سَبِيلِ الْخُلُوصِ وَتَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الْبَيِّنَةِ: 5] وَأَمَّا بَيَانُ الْوُجُوهِ الْمُنَافِيَةِ لِلْإِخْلَاصِ فَهِيَ الْوُجُوهُ الدَّاعِيَةُ لِلشَّرِيكِ وَهِيَ أَقْسَامٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فِيهِ مَدْخَلٌ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِالطَّاعَةِ الْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ وَالْخَلَاصَ مِنَ النَّارِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَأْتِيَ بِهَا وَيَعْتَقِدَ أَنَّ لَهَا تَأْثِيرًا فِي إِيجَابِ الثَّوَابِ أَوْ دَفْعِ الْعِقَابِ وَرَابِعُهَا: وَهُوَ أَنْ يخلص تلك الطَّاعَاتِ عَنِ الْكَبَائِرِ حَتَّى تَصِيرَ مَقْبُولَةً، وَهَذَا الْقَوْلُ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ الْمُرَادُ مِنْهُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حِصْنِي وَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِي» وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: لَا تَضُرُّ الْمَعْصِيَةُ مَعَ الْإِيمَانِ كَمَا لَا تَنْفَعُ الطَّاعَةُ مَعَ الْكُفْرِ، وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَقَالُوا الْآيَةُ مُتَنَاوِلَةٌ لِكُلِّ مَا كَلَّفَ اللَّهُ به من الأوامر والنواهي، وهذا هو الْأَوْلَى لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَاعْبُدِ اللَّهَ عَامٌّ، وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةَ الْفَرَزْدَقِ لَمَّا قَرُبَ وَفَاتُهَا أَوْصَتْ أَنْ يُصَلِّيَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَلَيْهَا، فَلَمَّا صَلَّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ، قَالَ لِلْفَرَزْدَقِ: يَا أَبَا فِرَاسٍ مَا الَّذِي أَعْدَدْتَ لِهَذَا الْأَمْرِ؟ قَالَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا الْعَمُودُ فَأَيْنَ الطُّنُبُ؟ فَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ عَمُودَ الْخَيْمَةِ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إِلَّا مَعَ الطُّنُبِ حَتَّى يُمْكِنَ الِانْتِفَاعُ بِالْخَيْمَةِ، قَالَ الْقَاضِي فَأَمَّا مَا يُرْوَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ: «وَإِنْ زِنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي الدَّرْدَاءِ» فَإِنْ صَحَّ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ قَبُولُ هَذَا الْخَبَرِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ، وَلِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ الْإِنْسَانُ مَزْجُورًا عَنِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مُتَعَدِّيًا بِفِعْلِهِمَا لِأَنَّهُ مَعَ شِدَّةِ شَهْوَتِهِ لِلْقَبِيحِ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ مَعَ تَمَسُّكِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَكَأَنَّ ذلك إغراء بالقبيح والكل ينافي حكمة الله تعالى ولا يلزم أن يقال ذلك فالقول بأنه يزول ضرره بالتوبة يوجب أيضا الإغراء بِالْقَبِيحِ، لِأَنَّا نَقُولُ إِنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ ضَرَرَهُ يَزُولُ بِالتَّوْبَةِ فَقَدِ اعْتَقَدَ أَنَّ فِعْلَ الْقَبِيحِ مَضَرَّةٌ إِلَّا أَنَّهُ يُزِيلُ ذَلِكَ الضَّرَرَ بِفِعْلِ التَّوْبَةِ بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ فِعْلَ الْقَبِيحِ لَا يَضُرُّ مَعَ التَّمَسُّكِ بِالشَّهَادَتَيْنِ. هَذَا تَمَامُ كَلَامِ الْقَاضِي، فَيُقَالُ لَهُ: أَمَّا قَوْلُكَ إِنَّ الْقَوْلَ بِالْمَغْفِرَةِ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] وَقَالَ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ [الرَّعْدِ: 6] أَيْ حَالَ ظُلْمِهِمْ كَمَا يُقَالُ رَأَيْتُ الْأَمِيرَ عَلَى أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ أَيْ حَالَ كونه

آكلا وشاربا، وقال: يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزُّمَرِ: 53] ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْإِغْرَاءَ بِالْقَبِيحِ، فَيُقَالُ لَهُ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَقْبُحَ غُفْرَانُهُ عَقْلًا، وَهَذَا مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَنْتَ لَا تَقُولُ بِهِ، لِأَنَّ مَذْهَبَ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ عَذَابَ الْمُذْنِبِ جَائِزٌ عَقْلًا، وَأَيْضًا فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْغُفْرَانُ بِالتَّوْبَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا أَذْنَبَ ثُمَّ تَابَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ لَمْ يَنْزَجِرْ وَأَمَّا/ الْفَرْقُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فَبَعِيدٌ، لِأَنَّهُ إِذَا عَزَمَ عَلَى أَنْ يَتُوبَ عَنْهُ فِي الْحَالِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ الذَّنْبُ أَلْبَتَّةَ. ثُمَّ نَقُولُ مَذْهَبُنَا أَنَّا نَقْطَعُ بِحُصُولِ الْعَفْوِ عَنِ الْكَبَائِرِ فِي الْجُمْلَةِ، فَأَمَّا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ فَذَلِكَ مَشْكُوكٌ فِيهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فَقَطَعَ بِحُصُولِ الْمَغْفِرَةِ فِي الْجُمْلَةِ، إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَقْطَعْ بِحُصُولِ هَذَا الْغُفْرَانِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ بَلْ فِي حَقِّ مَنْ شَاءَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْخَوْفُ حَاصِلًا فَلَا يَكُونُ الْإِغْرَاءُ حَاصِلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ الدِّينُ بِالرَّفْعِ، ثُمَّ قَالَ وَحَقُّ مَنْ رَفَعَهُ أَنْ يَقْرَأَ مُخْلَصًا بِفَتْحِ اللَّامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ [النِّسَاءِ: 146] حَتَّى يُطَابِقَ قَوْلَهُ: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالْخَالِصُ وَالْمُخْلَصُ وَاحِدٌ إِلَّا أَنَّهُ وَصَفَ الدِّينَ بِصِفَةِ صَاحِبِهِ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ كَقَوْلِهِمْ شِعْرُ شَاعِرٍ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ رَأْسَ الْعِبَادَاتِ وَرَئِيسَهَا الْإِخْلَاصُ فِي التَّوْحِيدِ أَرْدَفَهُ بِذَمِّ طَرِيقَةِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ يَقُولُونَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَخَبَرُ الَّذِينَ مَحْذُوفٌ وَهُوَ قَوْلُهُ يَقُولُونَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى عَائِدٌ عَلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهِيَ قِسْمَانِ الْعُقَلَاءُ وَغَيْرُ الْعُقَلَاءِ، أَمَّا الْعُقَلَاءُ فهو أن قوما عبدوا المسيح وعزيرا وَالْمَلَائِكَةَ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ وَيَعْتَقِدُونَ فِيهَا أَنَّهَا أَحْيَاءٌ عَاقِلَةٌ نَاطِقَةٌ، وَأَمَّا الْأَشْيَاءُ الَّتِي عُبِدَتْ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَوْصُوفَةً بِالْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ فَهِيَ الْأَصْنَامُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الْكَلَامُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْكُفَّارُ لَائِقٌ بِالْعُقَلَاءِ، أَمَّا بِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ فَلَا يَلِيقُ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: مَا نَعْبُدُهُمْ ضَمِيرٌ لِلْعُقَلَاءِ فَلَا يَلِيقُ بِالْأَصْنَامِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَعْتَقِدَ أُولَئِكَ الكفار في المسيح والعزيز والملائكة أن يشفعوا لهم عند الله، أما يبعد من العاقل أن يعتقد في الأصنام والجمادات أَنَّهَا تُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَمُرَادُهُمْ أَنَّ عِبَادَتَهُمْ لَهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ، ويمكن أن يقال إن العاقل لا يبعد الصَّنَمَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ خَشَبٌ أَوْ حَجَرٌ، وَإِنَّمَا يَعْبُدُونَهُ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهَا تَمَاثِيلُ الْكَوَاكِبِ أَوْ تَمَاثِيلُ الْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ، أَوْ تَمَاثِيلُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ الَّذِينَ مَضَوْا، وَيَكُونُ مَقْصُودُهُمْ مِنْ عِبَادَتِهَا تَوْجِيهُ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ إِلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي جَعَلُوا هَذِهِ التَّمَاثِيلَ صُوَرًا لَهَا. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ لِعُبَّادِ الْأَصْنَامِ أَنْ قَالُوا إِنَّ الْإِلَهَ الْأَعْظَمَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَعْبُدَهُ الْبَشَرُ لَكِنَّ اللَّائِقَ بِالْبَشَرِ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِعِبَادَةِ الْأَكَابِرِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مِثْلَ الْكَوَاكِبِ وَمِثْلَ الْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَشْتَغِلُ بِعِبَادَةِ الْإِلَهِ الْأَكْبَرِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَكَى مَذَاهِبَهُمْ أَجَابَ عَنْهَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اقْتَصَرَ فِي الْجَوَابِ عَلَى مُجَرَّدِ التَّهْدِيدِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّجُلَ الْمُبْطِلَ إِذَا ذَكَرَ مَذْهَبًا بَاطِلًا وَكَانَ مُصِرًّا عَلَيْهِ، فَالطَّرِيقُ فِي عِلَاجِهِ أَنْ يُحْتَالَ بِحِيلَةٍ تُوجِبُ زَوَالَ ذَلِكَ الْإِصْرَارِ عَنْ/ قَلْبِهِ، فَإِذَا زَالَ الإصرار عن

[سورة الزمر (39) : الآيات 5 إلى 7]

قَلْبِهِ فَبَعْدَ ذَلِكَ يُسْمِعُهُ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى بُطْلَانِهِ، فَيَكُونُ هَذَا الطَّرِيقُ أَفْضَى إِلَى الْمَقْصُودِ. وَالْأَطِبَّاءُ يَقُولُونَ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُنْضِجِ عَلَى سَقْيِ الْمُسَهِّلِ فَإِنَّ بِتَنَاوُلِ الْمُنْضِجِ تَصِيرُ الْمَوَادُّ الْفَاسِدَةُ رَخْوَةً قَابِلَةً لِلزَّوَالِ، فَإِذَا سَقَيْتَهُ الْمُسَهِّلَ بَعْدَ ذَلِكَ حَصَلَ النَّقَاءُ التَّامُّ، فَكَذَلِكَ هاهنا سَمَاعُ التَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ أَوَّلًا يَجْرِي مَجْرَى سَقْيِ الْمُنْضِجِ أَوَّلًا، وَإِسْمَاعُ الدَّلِيلِ ثَانِيًا يَجْرِي مَجْرَى سَقْيِ الْمُسَهِّلِ ثَانِيًا. فَهَذَا هُوَ الْفَائِدَةُ فِي تَقْدِيمِ هَذَا التَّهْدِيدِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ وَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ أَصَرَّ عَلَى الْكَذِبِ وَالْكُفْرِ بَقِيَ مَحْرُومًا عَنِ الْهِدَايَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْكَذِبِ وصفهم لهذه الْأَصْنَامِ بِأَنَّهَا آلِهَةٌ مُسْتَحِقَّةٌ لِلْعِبَادَةِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهَا جَمَادَاتٌ خَسِيسَةٌ وَهُمْ نَحَتُوهَا وَتَصَرَّفُوا فِيهَا، وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلٌ بِأَنَّ وَصْفَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالْإِلَهِيَّةِ كَذِبٌ مَحْضٌ، وَأَمَّا الْكُفْرُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْكُفْرَ الرَّاجِعَ إِلَى الِاعْتِقَادِ، والأمر هاهنا كَذَلِكَ فَإِنَّ وَصْفَهُمْ لَهَا بِالْإِلَهِيَّةِ كَذِبٌ، وَاعْتِقَادَهُمْ فِيهَا بِالْإِلَهِيَّةِ جَهْلٌ وَكُفْرٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْعِبَادَةَ نِهَايَةُ التَّعْظِيمِ وَنِهَايَةُ التَّعْظِيمِ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ يَصْدُرُ عَنْهُ غَايَةُ الْإِنْعَامِ، وَذَلِكَ الْمُنْعِمُ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهَذِهِ الْأَوْثَانُ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي ذَلِكَ الْإِنْعَامِ فَالِاشْتِغَالُ بِعِبَادَةِ هَذِهِ الْأَوْثَانِ يُوجِبُ كُفْرَانَ نِعْمَةِ الْمُنْعِمِ الْحَقِّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِقَامَةُ الدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ عَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الْوَلَدِ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوِ اتَّخَذَ وَلَدًا لَمَا رَضِيَ إِلَّا بِأَكْمَلِ الْأَوْلَادِ وَهُوَ الِابْنُ فَكَيْفَ نَسَبْتُمْ إِلَيْهِ الْبِنْتَ الثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ حَقِيقِيٌّ وَالْوَاحِدُ الْحَقِيقِيُّ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، أَمَّا أَنَّهُ وَاحِدٌ حَقِيقِيٌّ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَكَّبًا لَاحْتَاجَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ وَجُزْؤُهُ غَيْرُهُ، فَكَانَ يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ وَالْمُحْتَاجُ إِلَى الْغَيْرِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يَكُونُ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَأَمَّا أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ فَلِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَلَدَ عِبَارَةٌ عَنْ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ يَنْفَصِلُ عَنْهُ، ثُمَّ يَحْصُلُ لَهُ صُورَةٌ مُسَاوِيَةٌ لِصُورَةِ الْوَالِدِ. وَهَذَا إِنَّمَا يُعْقَلُ فِي الشَّيْءِ الَّذِي يَنْفَصِلُ مِنْهُ جُزْءٌ وَالْفَرْدُ الْمُطْلَقُ لَا يُقَالُ ذَلِكَ فِيهِ الثَّانِي: شَرْطُ الْوَلَدِ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ لِلْوَالِدِ فَتَكُونُ حَقِيقَةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ حَقِيقَةً نَوْعِيَّةً مَحْمُولَةً عَلَى شَخْصَيْنِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ تَعْيِينَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنْ كَانَ مِنْ لَوَازِمِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ لَزِمَ أَنْ لَا يَحْصُلَ مِنْ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ إِلَّا الشَّخْصُ الْوَاحِدُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّعْيِينُ مِنْ لَوَازِمِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ كَانَ ذَلِكَ التَّعْيِينُ مَعْلُومًا بِسَبَبٍ مُنْفَصِلٍ، فَلَا يَكُونُ إِلَهًا وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ. فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ إِلَهًا وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ يُوجِبُ كَوْنَهُ وَاحِدًا فِي حَقِيقَتِهِ، وَكَوْنُهُ وَاحِدًا فِي حَقِيقَتِهِ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْوَلَدِ لَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ وَاحِدًا يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْوَلَدِ الثَّالِثُ: أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالزَّوْجَانِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ لَمَا كَانَ وَاحِدًا بَلْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَأَمَّا أَنَّ كَوْنَهُ قَهَّارًا يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْوَلَدِ لَهُ، فَلِأَنَّ الْمُحْتَاجَ إِلَى الْوَلَدِ هُوَ الَّذِي يَمُوتُ فَيَحْتَاجُ/ إِلَى وَلَدٍ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَالْمُحْتَاجُ إِلَى الْوَلَدِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مَقْهُورًا بِالْمَوْتِ، أَمَّا الَّذِي يَكُونُ قَاهِرًا وَلَا يَقْهَرُهُ غَيْرُهُ كَانَ الْوَلَدُ فِي حَقِّهِ مُحَالًا، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ أَلْفَاظٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى دَلَائِلَ قَاطِعَةٍ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. [سورة الزمر (39) : الآيات 5 الى 7] خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)

[في قوله تعالى خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ إلى قوله أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ] اعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كَوْنَهُ مُنَزَّهًا عَنِ الْوَلَدِ بِكَوْنِهِ إِلَهًا وَاحِدًا وَقَهَّارًا غَالِبًا أَيْ كَامِلَ الْقُدْرَةِ، فَلَمَّا بَنَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ ذَكَرَ عَقِيبَهَا مَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَعَلَى كَمَالِ الِاسْتِغْنَاءِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ تَعَالَى طَعَنَ فِي إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ فَذَكَرَ عَقِيبَهَا الصِّفَاتِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا تَحْصُلُ الْإِلَهِيَّةُ، وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ الدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي/ إِثْبَاتِ إِلَهِيَّتِهِ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ فَلَكِيَّةً أَوْ عُنْصُرِيَّةً، أَمَّا الْفَلَكِيَّةُ فأقسام أحدها: خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ شَرَحْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَامِ: 1] وَالثَّانِي: اخْتِلَافُ أَحْوَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وهو المراد هاهنا مِنْ قَوْلِهِ: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ عَسْكَرَانِ مَهِيبَانِ عَظِيمَانِ، وَفِي كُلِّ يَوْمٍ يَغْلِبُ هَذَا ذَاكَ تَارَةً، وَذَاكَ هَذَا أُخْرَى. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَغْلُوبٌ مَقْهُورٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ غَالِبٍ قَاهِرٍ لَهُمَا يَكُونَانِ. تَحْتَ تَدْبِيرِهِ وَقَهْرِهِ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّكْوِيرِ أَنَّهُ يَزِيدُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ مَا يَنْقُصُ عَنِ الْآخَرِ، وَالْمُرَادُ مِنْ تَكْوِيرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ» أَيْ مِنَ الْإِدْبَارِ بَعْدَ الْإِقْبَالِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَبِقَوْلِهِ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الْأَعْرَافِ: 54] وَبِقَوْلِهِ: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ [فاطر: 13] وَبِقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ [الْفُرْقَانِ: 62] وَالثَّالِثُ: اعْتِبَارُ أَحْوَالِ الْكَوَاكِبِ لَا سِيَّمَا الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَإِنَّ الشَّمْسَ سُلْطَانُ النَّهَارِ وَالْقَمَرَ سُلْطَانُ اللَّيْلِ، وَأَكْثَرُ مَصَالِحِ هَذَا الْعَالَمِ مَرْبُوطَةٌ بِهِمَا وَقَوْلُهُ: كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى الْأَجَلُ الْمُسَمَّى يَوْمُ الْقِيَامَةِ، لَا يَزَالَانِ يَجْرِيَانِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ذَهَبَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [الْقِيَامَةِ: 9] وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّسْخِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْأَفْلَاكَ تَدُورُ كَدَوَرَانِ الْمَنْجَنُونِ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَعِنْدَهُ تُطْوَى السَّمَاءُ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ. وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ مِنَ الدَّلَائِلِ الْفَلَكِيَّةِ قَالَ: أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ وَالْمَعْنَى أَنَّ خَلْقَ هَذِهِ الْأَجْرَامِ الْعَظِيمَةِ وَإِنْ دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ عَزِيزًا أَيْ كَامِلُ الْقُدْرَةِ إِلَّا أَنَّهُ غَفَّارٌ عَظِيمُ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِهِ عَظِيمَ الْقُدْرَةِ يُوجِبُ الْخَوْفَ وَالرَّهْبَةَ فَكَوْنُهُ غَفَّارًا يُوجِبُ كَثْرَةَ الرَّحْمَةِ، وَكَثْرَةُ الرَّحْمَةِ تُوجِبُ الرَّجَاءَ وَالرَّغْبَةَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَتْبَعَ ذِكْرَ الدَّلَائِلِ الْفَلَكِيَّةِ بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ، فَبَدَأَ بِذِكْرِ الْإِنْسَانِ فَقَالَ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَدَلَالَةُ تَكَوُّنِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْإِلَهِ الْمُخْتَارِ قَدْ سَبَقَ بَيَانُهَا مِرَارًا كَثِيرَةً، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ جَازَ أَنْ يَقُولَ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَالزَّوْجُ مَخْلُوقٌ قَبْلَ خَلْقِهِمْ؟ أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ كَمَا تَجِيءُ لِبَيَانِ كَوْنِ إِحْدَى

الْوَاقِعَتَيْنِ مُتَأَخِّرَةً عَنِ الثَّانِيَةِ، فَكَذَلِكَ تَجِيءُ لِبَيَانِ تَأَخُّرِ أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ بَلَغَنِي مَا صَنَعْتَ الْيَوْمَ، ثُمَّ مَا صَنَعْتَ أَمْسِ كَانَ أَعْجَبَ، وَيَقُولُ أَيْضًا قَدْ أَعْطَيْتُكَ الْيَوْمَ شَيْئًا، ثُمَّ الَّذِي أَعْطَيْتُكَ أَمْسِ أَكْثَرُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ خُلِقَتْ وَحْدَهَا ثُمَّ جُعِلَ مِنْهَا زَوْجُهَا الثَّالِثُ: أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ كَالذَّرِّ ثُمَّ خَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ حَوَّاءَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الِاسْتِدْلَالَ بِخَلْقِهِ الْإِنْسَانَ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ ذَكَرَ عَقِيبَهُ الِاسْتِدْلَالَ/ بِوُجُودِ الْحَيَوَانِ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالضَّأْنُ وَالْمَعْزُ وَقَدْ بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ دَلَالَةِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ فِي قَوْلِهِ: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ [النَّحْلِ: 5] وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَضَاءَ اللَّهِ وَتَقْدِيرَهُ وَحُكْمَهُ مَوْصُوفٌ بِالنُّزُولِ مِنَ السَّمَاءِ لِأَجْلِ أَنَّهُ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كُلَّ كَائِنٍ يَكُونُ الثَّانِي: أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْحَيَوَانِ لَا يَعِيشُ إِلَّا بِالنَّبَاتِ وَالنَّبَاتُ لَا يَقُومُ إِلَّا بِالْمَاءِ وَالتُّرَابِ، وَالْمَاءُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ فَصَارَ التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ أَنْزَلَهَا الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا فِي الْجَنَّةِ ثُمَّ أَنْزَلَهَا إِلَى الْأَرْضِ وَقَوْلُهُ: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أَيْ ذَكَرٌ وَأُنْثَى مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ، وَالزَّوْجُ اسْمٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَعَهُ آخَرُ، فَإِذَا انْفَرَدَ فَهُوَ فَرْدٌ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [الْقِيَامَةِ: 39] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ: قَرَأَ حَمْزَةُ بِكَسْرِ الْأَلِفِ وَالْمِيمِ، وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، وَالْبَاقُونَ أُمَّهَاتِكُمْ بِضَمِّ الْأَلْفِ وَفَتْحِ الْمِيمِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ تَخْلِيقَ النَّاسِ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَهُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرْدَفَهُ بِتَخْلِيقِ الْأَنْعَامِ، وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ الْحَيَوَانَاتِ بَعْدَ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَ ذِكْرِهِمَا حَالَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ الْأَنْعَامِ وَهِيَ كَوْنُهَا مَخْلُوقَةً فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ وَقَوْلُهُ: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 12- 14] وَقَوْلُهُ: فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ قِيلَ الظُّلُمَاتُ الثَّلَاثُ الْبَطْنُ وَالرَّحِمُ وَالْمَشِيمَةُ وَقِيلَ الصُّلْبُ وَالرَّحِمُ وَالْبَطْنُ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْحَالَاتِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ هَذِهِ الدَّلَائِلَ وَوَصَفَهَا قَالَ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أَيْ ذَلِكُمُ الشَّيْءُ الَّذِي عَرَفْتُمْ عَجَائِبَ أَفْعَالِهِ هُوَ اللَّهُ رَبُّكُمْ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الْأَجْزَاءِ وَالْأَعْضَاءِ وَعَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْمَكَانِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تعالى عند ما أَرَادَ أَنْ يُعَرِّفَ عِبَادَهُ ذَاتَهُ الْمَخْصُوصَةَ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا كَوْنَهُ فَاعِلًا لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَلَوْ كَانَ جِسْمًا مُرَكَّبًا مِنَ الْأَعْضَاءِ لَكَانَ تَعْرِيفُهُ بِتِلْكَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَعْضَاءِ تَعْرِيفًا لِلشَّيْءِ بِأَجْزَاءِ حَقِيقَتِهِ، وَأَمَّا تَعْرِيفُهُ بِأَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَآثَارِهِ فَذَلِكَ تَعْرِيفٌ لَهُ بِأُمُورٍ خَارِجَةٍ عَنْ ذَاتِهِ. وَالتَّعْرِيفُ الْأَوَّلُ أَكْمَلُ مِنَ الثَّانِي، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْقِسْمُ مُمْكِنًا لَكَانَ الِاكْتِفَاءُ بِهَذَا الْقِسْمِ الثَّانِي تَقْصِيرًا وَنَقْصًا وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِهَذَا الْقِسْمِ إِنَّمَا حَسُنَ لِأَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ مُحَالٌ مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَعَالِيًا عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَجْزَاءِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَهُ الْمُلْكُ وَهَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ أَيْ لَهُ الْمُلْكُ لَا لِغَيْرِهِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا مُلْكَ/ إِلَّا لَهُ وَجَبَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ إِلَهٌ آخَرُ، فَذَلِكَ الْإِلَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ الْمُلْكُ أَوْ لَا يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ الْمُلْكُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالِكًا قَادِرًا وَيَجْرِي بَيْنَهُمَا التَّمَانُعُ كَمَا ثَبَتَ فِي قَوْلُهُ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلثَّانِي شَيْءٌ مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْمُلْكِ فَيَكُونُ نَاقِصًا وَلَا يَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمَّا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أنه لا ملك إلا الله، وَجَبَ أَنْ يُقَالَ لَا إِلَهَ لِلْعَالَمِينَ وَلَا مَعْبُودَ لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ إِلَّا اللَّهُ الْأَحَدُ الْحَقُّ الصَّمَدُ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ كَمَالَ قُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَحِكْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ، رَتَّبَ عَلَيْهِ تَزْيِيفَ طَرِيقَةِ الْمُشْرِكِينَ وَالضَّالِّينَ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ يَحْتَجُّ بِهِ أَصْحَابُنَا وَيَحْتَجُّ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ. أَمَّا أَصْحَابُنَا فَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ لَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُمْ لَمْ يَنْصَرِفُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ هَذِهِ الْبَيَانَاتِ بَلْ صَرَفَهَا عَنْهُمْ غَيْرُهُمْ، وَمَا ذَاكَ الْغَيْرُ إِلَّا اللَّهُ، وَأَيْضًا فَدَلِيلُ الْعَقْلِ يُقَوِّي ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُرِيدُ لِنَفْسِهِ تَحْصِيلَ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، فَلَمَّا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا حَصَلَ الْجَهْلُ وَالضَّلَالُ عَلِمْنَا أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِ لَا مِنْهُ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ لَهُمْ: أَنَّ قَوْلَهُ: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ تَعَجُّبٌ مِنْ هَذَا الِانْصِرَافِ، وَلَوْ كَانَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ الصَّرْفِ هُوَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَبْقَ لِهَذَا التَّعَجُّبِ مَعْنًى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا كَلَّفَ الْمُكَلَّفِينَ لِيَجُرَّ إِلَى نَفْسِهِ مَنْفَعَةً أَوْ لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَضَرَّةً، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَيَمْتَنِعُ فِي حَقِّهِ جَرُّ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعُ الْمَضَرَّةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ غَنِيٌّ لوجوه: الأول: وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَوَاجِبُ الْوُجُودِ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ غَنِيًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُحْتَاجًا لَكَانَتْ تِلْكَ الْحَاجَةُ إِمَّا قَدِيمَةً وَإِمَّا حَادِثَةً. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَخْلُقَ فِي الْأَزَلِ مَا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّ الْخَلْقَ وَالْأَزَلَ مُتَنَاقِضٌ. وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّ الْحَاجَةَ نُقْصَانٌ وَالْحَكِيمُ لَا يَدْعُوهُ الدَّاعِي إِلَى تَحْصِيلِ النُّقْصَانِ لِنَفْسِهِ الثَّالِثُ: هَبْ أَنَّهُ يَبْقَى الشَّكُّ فِي أَنَّهُ هَلْ تَصِحُّ الشَّهْوَةُ وَالنَّفْرَةُ وَالْحَاجَةُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ أَمَّا مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أن الإله القادر على خلق السموات وَالْأَرْضِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْمَوَالِيدِ الثَّلَاثَةِ يُمْتَنَعُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِصَلَاةِ زَيْدٍ وَصِيَامِ عَمْرٍو، وَأَنْ يُضَرَّ بِعَدَمِ صَلَاةٍ هَذَا وَعَدَمِ صِيَامِ ذَاكَ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ جَمِيعَ الْعَالَمِينَ لَوْ كَفَرُوا وَأَصَرُّوا عَلَى الْجَهْلِ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ يَعْنِي أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَنْفَعُهُ إِيمَانٌ وَلَا يَضُرُّهُ كُفْرَانٌ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِالْكُفْرِ، وَاحْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُجْبِرَةَ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ كُفْرَ الْعِبَادِ وَإِنَّهُ مِنْ جِهَةِ مَا خَلَقَهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ، قَالَ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ قَدْ رَضِيَ الْكُفْرَ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي خَلَقَهُ، وَذَلِكَ ضِدُّ الْآيَةِ الثَّانِي: لَوْ كَانَ الْكُفْرُ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَوَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَرْضَى بِهِ لَأَنَّ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ، وَحَيْثُ اجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَلَيْسَ أَيْضًا بِرِضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَجَابَ/ الْأَصْحَابُ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ عَادَةَ الْقُرْآنِ جَارِيَةٌ بِتَخْصِيصِ لَفْظِ الْعِبَادِ بِالْمُؤْمِنِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الْفُرْقَانِ: 63] وَقَالَ: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الْإِنْسَانِ: 6] وَقَالَ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الْحِجْرِ: 42] فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قَوْلُهُ: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَلَا يَرْضَى لِلْمُؤْمِنِينَ الْكُفْرَ، وَذَلِكَ لَا يَضُرُّنَا الثَّانِي: أَنَّا نَقُولُ الْكُفْرُ

بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا نَقُولُ إِنَّهُ بِرِضَا اللَّهِ لِأَنَّ الرِّضَا عِبَارَةٌ عَنِ الْمَدْحِ عَلَيْهِ وَالثَّنَاءِ بِفِعْلِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ [الْفَتْحِ: 18] أَيْ يَمْدَحُهُمْ وَيُثْنِي عَلَيْهِمْ الثَّالِثُ: كَانَ الشَّيْخُ الْوَالِدُ ضِيَاءُ الدِّينِ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: الرِّضَا عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ اللَّوْمِ وَالِاعْتِرَاضِ، وَلَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الْإِرَادَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ ابْنِ دُرَيْدٍ: رَضِيتُ قَسْرًا وَعَلَى الْقَسْرِ رِضَا ... مَنْ كَانَ ذَا سُخْطٍ عَلَى صَرْفِ الْقَضَا أَثْبَتَ الرِّضَا مَعَ الْقَسْرِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ وَالرَّابِعُ: هَبْ أَنَّ الرِّضَا هُوَ الْإِرَادَةُ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ عَامٌّ، فَتَخْصِيصُهُ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْكُفْرَ مِنَ الكافر كقوله تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْإِنْسَانِ: 30] وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَرْضَى الْكُفْرَ بَيَّنَ أَنَّهُ يَرْضَى الشُّكْرَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي هَاءِ يَرْضَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِضَمِّ الْهَاءِ مُخْتَلَسَةً غَيْرَ مُتْبَعَةٍ وَثَانِيهَا: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ يَرْضَهْ سَاكِنَةَ الْهَاءِ لِلتَّخْفِيفِ وَثَالِثُهَا: قَرَأَ نَافِعٌ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ مَضْمُومَةَ الْهَاءِ مُشْبَعَةً، قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنَ الْقُرَّاءِ مَنْ أَشْبَعَ الْهَاءَ حَتَّى أَلْحَقَ بِهَا وَاوًا، لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْهَاءِ مُتَحَرِّكٌ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ ضَرَبَهُ وَلَهُ، فَكَمَا أَنَّ هَذَا مُشْبَعٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ كَذَلِكَ يَرْضَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَرَّكَ الْهَاءَ وَلَمْ يُلْحِقِ الْوَاوَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ يَرْضَاهُ وَالْأَلِفُ الْمَحْذُوفَةُ لِلْجَزْمِ لَيْسَ يَلْزَمُ حَذْفُهَا فَكَانَتْ كَالْبَاقِيَةِ، وَمَعَ بَقَاءِ الْأَلْفِ لَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ الْوَاوِ فكذا هاهنا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الشُّكْرُ حَالَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ قَوْلٍ وَاعْتِقَادٍ وَعَمَلٍ أَمَّا الْقَوْلُ فَهُوَ الْإِقْرَارُ بِحُصُولِ النِّعْمَةِ وَأَمَّا الِاعْتِقَادُ فَهُوَ اعْتِقَادُ صُدُورِ النِّعْمَةِ مِنْ ذَلِكَ الْمُنْعِمِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى قَالَ الْجُبَّائِيُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ، فَلَوْ فَعَلَ اللَّهُ كُفْرَهُمْ لَمَا جَازَ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَذَّبَ الْأَوْلَادُ بِذُنُوبِ الْآبَاءِ، بِخِلَافِ مَا يَقُولُ الْقَوْمُ. وَاحْتَجَّ أَيْضًا مَنْ أَنْكَرَ وُجُوبَ ضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ وَاعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا كَثِيرًا أَنَّ أَهَمَّ الْمُطَالِبِ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْرِفَ خَالِقَهُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَأَنْ يَعْرِفَ مَا يَضُرُّهُ وَمَا يَنْفَعُهُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَنْ يَعْرِفَ أَحْوَالَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَ الدَّلَائِلَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْعَالَمِ الْأَعْلَى وَالْعَالَمِ الْأَسْفَلِ عَلَى كَمَالِ/ قُدْرَةِ الصَّانِعِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِأَنْ أَمَرَهُ بِالشُّكْرِ وَنَهَاهُ عَنِ الْكُفْرِ ثُمَّ بَيَّنَ أَحْوَالَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُشَبِّهَةُ تَمَسَّكُوا بِلَفْظِ إِلَى عَلَى أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ فِي جِهَةٍ وَقَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ مِرَارًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: زَعَمَ الْقَوْمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْوَاحَ كَانَتْ قَبْلَ الْأَجْسَادِ وَتَمَسَّكُوا بِلَفْظِ الرُّجُوعِ الْمَوْجُودِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي سَائِرِ الْآيَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ. ثُمَّ قَالَ: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهَذَا تَهْدِيدٌ لِلْعَاصِي وَبِشَارَةٌ لِلْمُطِيعِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ كَالْعِلَّةِ لِمَا سَبَقَ، يَعْنِي أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُنَبِّئَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فيعلم ما

[سورة الزمر (39) : الآيات 8 إلى 9]

فِي قُلُوبِكُمْ مِنَ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إِلَى أَقْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلى قلوبكم وأعمالكم» . [سورة الزمر (39) : الآيات 8 الى 9] وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فَسَادَ الْقَوْلِ بِالشِّرْكِ وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْبَدَ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ طَرِيقَةَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ مُتَنَاقِضَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِذَا مَسَّهُمْ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الضُّرِّ لَمْ يَرْجِعُوا فِي طَلَبِ دَفْعِهِ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، وَإِذَا زَالَ ذَلِكَ الضُّرُّ عَنْهُمْ رَجَعُوا إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ إِنَّمَا رَجَعُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ حُصُولِ الضُّرِّ، لِأَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِيصَالِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الضُّرِّ، وَإِذَا عَرَفُوا أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْتَرِفُوا/ بِهِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ فَثَبَتَ أَنَّ طَرِيقَتَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ مُتَنَاقِضَةٌ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ فَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ أَقْوَامٌ مُعَيَّنُونَ مِثْلُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْكَافِرُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ يُخَرَّجُ عَلَى مَعْهُودٍ، تقدم. وأما قَوْلُهُ ضُرٌّ فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْمَكَارِهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي جِسْمِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ فَلَا مَعْنَى للتقييد ودَعا رَبَّهُ أَيِ اسْتَجَارَ بِرَبِّهِ وَنَادَاهُ وَلَمْ يُؤَمِّلْ فِي كَشْفِ الضُّرِّ سِوَاهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ: مُنِيباً إِلَيْهِ أَيْ رَاجِعًا إِلَيْهِ وَحْدَهُ فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ الضُّرِّ لِأَنَّ الْإِنَابَةَ هِيَ الرُّجُوعُ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ أَيْ أَعْطَاهُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَفِي حَقِيقَتِهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: جَعَلَهُ خَائِلَ مَالٍ مِنْ قَوْلِهِمْ هُوَ خَائِلُ مَالٍ وَخَالَ مَالٍ، إِذَا كَانَ مُتَعَهِّدًا لَهُ حَسَنَ الْقِيَامِ بِهِ وَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ كَانَ يَتَخَوَّلُ أَصْحَابَهُ بِالْمَوْعِظَةِ» وَالثَّانِي: جَعَلَهُ يَخُولُ مِنْ خَالَ يَخُولُ إِذَا اخْتَالَ وَافْتَخَرَ، وَفِي الْمَعْنَى قَالَتِ الْعَرَبُ: إِنَّ الْغَنِيَّ طَوِيلُ الذَّيْلِ مَيَّاسُ ثم قال تعالى: نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ أَيْ نَسِيَ رَبَّهُ الَّذِي كان يتضرع إليه ويبتهل إليه، وما بِمَعْنَى مَنْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [اللَّيْلِ: 3] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الْكَافِرُونَ: 3] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ: 3] وَقِيلَ نَسِيَ الضُّرَّ الَّذِي كَانَ يَدْعُو اللَّهَ إِلَى كَشْفِهِ والمراد من قوله نسي أن تَرَكَ دُعَاءَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَفْزَعْ إِلَى رَبِّهِ، وَلَوْ أَرَادَ بِهِ النِّسْيَانَ الْحَقِيقِيَّ لَمَا ذَمَّهُ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ نَسِيَ أَنْ لَا يَفْزَعَ، وَأَنْ لَا إِلَهَ سِوَاهُ فَعَادَ إِلَى اتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ مَعَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو لِيَضِلَّ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْبَاقُونَ لِيُضِلَّ بِضَمِّ الْيَاءِ عَلَى مَعْنَى لِيُضِلَّ غَيْرَهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى يُعَجِّبُ الْعُقَلَاءَ مِنْ مُنَاقَضَتِهِمْ عِنْدَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، فَعِنْدَ الضُّرِّ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَا مَفْزَعَ إِلَى مَا سِوَاهُ وَعِنْدَ النِّعْمَةِ يَعُودُونَ إِلَى اتِّخَاذِ آلِهَةٍ مَعَهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا كَانَ إِنَّمَا يُفْزَعُ إِلَيْهِ فِي حَالِ الضُّرِّ لِأَجْلِ أَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهَذَا الْمَعْنَى بَاقٍ فِي حَالِ الرَّاحَةِ وَالْفَرَاغِ كَانَ فِي تَقْرِيرِ حالهم في هذين الوقتين ما يُوجِبُ الْمُنَاقَضَةَ وَقِلَّةَ الْعَقْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنْ يُضِلَّ نَفْسَهُ بَلْ يَدْعُو غَيْرَهُ إِمَّا بِفِعْلِهِ أَوْ قَوْلِهِ إِلَى أَنْ يُشَارِكَهُ فِي ذَلِكَ، فَيَزْدَادُ إِثْمًا عَلَى إِثْمِهِ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِيُضِلَّ لَامُ الْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَصِ: 8] وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ هَذَا الْفِعْلَ الْمُتَنَاقِضَ هَدَّدَهُمْ فَقَالَ: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْأَمْرَ بَلِ/ الزَّجْرُ، وَأَنْ يُعَرِّفَهُ قِلَّةَ تَمَتُّعِهِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يَكُونُ مَصِيرُهُ إِلَى النَّارِ. وَلَمَّا شَرَحَ اللَّهُ تَعَالَى صِفَاتِ الْمُشْرِكِينَ وَالضَّالِّينَ، ثُمَّ تَمَسُّكَهُمْ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَرْدَفَهُ بِشَرْحِ أَحْوَالِ الْمُحِقِّينَ الَّذِينَ لَا رُجُوعَ لَهُمْ إِلَّا إِلَى اللَّهِ وَلَا اعْتِمَادَ لَهُمْ إِلَّا عَلَى فَضْلِ اللَّهِ، فقال: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ أَمَنْ مُخَفَّفَةَ الْمِيمِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، أَمَّا التَّخْفِيفُ فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَلِفَ أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ دَاخِلَةٌ عَلَى مَنْ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ عَلَى تَقْدِيرِ كَمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَقِيلَ كَالَّذِي جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا فَاكْتَفَى بِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَلِفَ نِدَاءٍ كَأَنَّهُ قِيلَ يَا مَنْ هُوَ قَانِتٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا التَّشْدِيدُ فَقَالَ الْفَرَّاءُ الْأَصْلُ أَمْ مَنْ فَأُدْغِمَتِ الْمِيمُ فِي الْمِيمِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ هِيَ أَمِ الَّتِي فِي قَوْلِكَ أَزَيْدٌ أَفْضَلُ أَمْ عَمْرٌو. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَانِتُ الْقَائِمُ بِمَا يَجِبُ عليه من الطاعة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلّم «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْقُنُوتِ» وَهُوَ الْقِيَامُ فِيهَا. وَمِنْهُ الْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ لِأَنَّهُ يَدْعُو قَائِمًا. عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَا أَعْلَمُ الْقُنُوتَ إِلَّا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وطول القيام وتلا أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْقُنُوتُ طَاعَةُ اللَّهِ، لِقَوْلِهِ: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ [الْبَقَرَةِ: 116] أَيْ مُطِيعُونَ، وَعَنْ قَتَادَةَ آناءَ اللَّيْلِ سَاعَاتُ اللَّيْلِ أَوَّلُهُ وَوَسَطُهُ وَآخِرُهُ، وَفِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى فَضْلِ قِيَامِ اللَّيْلِ وَأَنَّهُ أَرْجَحُ مِنْ قِيَامِ النَّهَارِ، وَيُؤَكِّدُهُ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ عِبَادَةَ اللَّيْلِ أَسْتَرُ عَنِ الْعُيُونِ فَتَكُونُ أَبْعَدَ عَنِ الرِّيَاءِ الثَّانِي: أَنَّ الظُّلْمَةَ تَمْنَعُ مِنَ الْإِبْصَارِ وَنَوْمُ الْخَلْقِ يَمْنَعُ مِنَ السَّمَاعِ، فَإِذَا صَارَ الْقَلْبُ فَارِغًا عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْأَحْوَالِ الْخَارِجِيَّةِ عَادَ إِلَى الْمَطْلُوبِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَخِدْمَتُهُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّيْلَ وَقْتُ النَّوْمِ فَتَرْكُهُ يَكُونُ أَشَقَّ فَيَكُونُ الثَّوَابُ أَكْثَرَ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 6] وَقَوْلُهُ: ساجِداً حَالٌ، وَقُرِئَ سَاجِدٌ وَقَائِمٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ وَالْوَاوُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَسْرَارٍ عَجِيبَةٍ، فَأَوَّلُهَا: أَنَّهُ بَدَأَ فيها بذكر العمل وَخَتَمَ فِيهَا بِذِكْرِ الْعِلْمِ، أَمَّا الْعَمَلُ فَكَوْنُهُ قَانِتًا سَاجِدًا قَائِمًا، وَأَمَّا الْعِلْمُ فَقَوْلُهُ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَمَالِ الْإِنْسَانِ مَحْصُورٌ فِي هَذَيْنِ الْمَقْصُودَيْنِ، فَالْعَمَلُ هُوَ الْبِدَايَةُ وَالْعِلْمُ وَالْمُكَاشَفَةُ هو النهاية. الفائدة الثاني: أَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْعَمَلِ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُوَاظِبًا عَلَيْهِ، فإن القنوت

[سورة الزمر (39) : الآيات 10 إلى 16]

عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الرَّجُلِ قَائِمًا بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ العمل إِنَّمَا يُفِيدُ إِذَا وَاظَبَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ، وَقَوْلُهُ: ساجِداً وَقائِماً إِشَارَةٌ إِلَى أَصْنَافِ الْأَعْمَالِ وَقَوْلُهُ: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَ الْمُوَاظَبَةِ يَنْكَشِفُ لَهُ فِي الْأَوَّلِ مَقَامُ الْقَهْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ ثُمَّ بَعْدَهُ مَقَامُ الرحمة وهو قوله: وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ ثُمَّ يَحْصُلُ أَنْوَاعُ الْمُكَاشَفَاتِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ قَالَ فِي مَقَامِ الْخَوْفِ يَحْذَرُ الْآخِرَةَ فَمَا أَضَافَ الْحَذَرَ إِلَى نَفْسِهِ، وَفِي مَقَامِ الرَّجَاءِ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الرَّجَاءِ أَكْمَلُ وَأَلْيَقُ بِحَضْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قيل المراد من قوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ عُثْمَانُ لِأَنَّهُ كَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كُلُّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَيَدْخُلُ فِيهِ عُثْمَانُ وَغَيْرُهُ لِأَنَّ الْآيَةَ غَيْرُ مُقْتَصِرَةٍ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا، وَالتَّقْدِيرُ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ كَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا حَسُنَ هَذَا الْحَذْفُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَافِرَ وَذَكَرَ بَعْدَهَا: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَهُمُ الَّذِينَ صِفَتُهُمْ أَنَّهُمْ يَقْنُتُونَ آنَاءَ اللَّيْلِ سُجَّدًا وَقِيَامًا، وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ وَهُمُ الَّذِينَ وَصْفُهُمْ عِنْدَ الْبَلَاءِ وَالْخَوْفِ يُوَحِّدُونَ وَعِنْدَ الرَّاحَةِ وَالْفَرَاغَةِ يُشْرِكُونَ، فَإِذَا قَدَّرْنَا هَذَا التَّقْدِيرَ ظَهَرَ الْمُرَادُ وَإِنَّمَا وَصَفَ اللَّهُ الْكُفَّارَ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، لِأَنَّهُمْ وَإِنْ آتَاهُمُ اللَّهُ آلَةَ الْعِلْمِ إِلَّا أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ جَعَلَهُمْ كَأَنَّهُمْ لَيْسُوا أُولِي الْأَلْبَابِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِعُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ فَهُوَ تَنْبِيهٌ عَظِيمٌ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ، وَقَدْ بَالَغْنَا فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَةِ: 31] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَرَادَ بِالَّذِينِ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ وَهُمُ الْقَانِتُونَ، وَبِالَّذِينِ لَا يَعْلَمُونَ الَّذِينَ لَا يَأْتُونَ بِهَذَا الْعَمَلِ كَأَنَّهُ جَعَلَ الْقَانِتِينَ هُمُ الْعُلَمَاءَ، وَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَنْ يَعْمَلُ فَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ، ثُمَّ قَالَ وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون، ويفتنون فِيهَا ثُمَّ يُفْتَنُونَ بِالدُّنْيَا فَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ جهلة. ثم قال تعالى: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ يَعْنِي هَذَا التَّفَاوُتُ الْعَظِيمُ الْحَاصِلُ بَيْنَ العلماء والجهال لا يعرفه أيضا إلا أولوا الْأَلْبَابِ، قِيلَ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ الْعِلْمُ أَفْضَلُ مِنَ الْمَالِ ثُمَّ نَرَى الْعُلَمَاءَ يَجْتَمِعُونَ عِنْدَ أَبْوَابِ الْمُلُوكِ، وَلَا نَرَى الْمُلُوكَ مُجْتَمِعِينَ عِنْدَ أَبْوَابِ الْعُلَمَاءِ، فَأَجَابَ الْعَالِمُ بِأَنَّ هَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ عَلِمُوا مَا فِي الْمَالِ مِنَ الْمَنَافِعِ فَطَلَبُوهُ، وَالْجُهَّالُ لَمْ يَعْرِفُوا مَا فِي الْعِلْمِ مِنَ المنافع فلا جرم تركوه. [سورة الزمر (39) : الآيات 10 الى 16] قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ مَنْ يَعْلَمُ وَبَيْنَ مَنْ لَا يَعْلَمُ، أَتْبَعَهُ بِأَنْ أَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يُخَاطِبَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْكَلَامِ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَضُمُّوا إِلَى الْإِيمَانِ التَّقْوَى، وَهَذَا مِنْ أَوَّلِ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَبْقَى مَعَ الْمَعْصِيَةِ، قَالَ الْقَاضِي: أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى لِكَيْلَا يُحْبِطُوا إِيمَانَهُمْ، لِأَنَّ عِنْدَ الِاتِّقَاءِ مِنَ الْكَبَائِرِ يَسْلَمُ لَهُمُ الثَّوَابُ وَبِالْإِقْدَامِ عَلَيْهَا يُحْبَطُ، فَيُقَالُ لَهُ هَذَا بِأَنْ يَدُلَّ عَلَى ضِدِّ قَوْلِكَ أَوْلَى، لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّقْوَى دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَبْقَى مُؤْمِنًا مَعَ عَدَمِ التَّقْوَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِسْقَ لَا يُزِيلُ الْإِيمَانَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالِاتِّقَاءِ بَيَّنَ لَهُمْ مَا فِي هَذَا الِاتِّقَاءِ مِنَ الْفَوَائِدِ، فَقَالَ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ فَقَوْلُهُ: فِي هذِهِ الدُّنْيا يُحْتَمَلُ أَنْ يكون صلة لقوله: أَحْسَنُوا أو لحسنة، فَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ مَعْنَاهُ لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا كُلُّهُمْ حَسَنَةٌ فِي الْآخِرَةِ، وَهِيَ دُخُولُ الْجَنَّةِ، وَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: حَسَنَةٌ لِلتَّعْظِيمِ يَعْنِي حَسَنَةٌ لَا يَصِلُ الْعَقْلُ إِلَى كُنْهِ كَمَالِهَا. وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي: فَمَعْنَاهُ الَّذِينَ أَحْسَنُوا فَلَهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ قَالُوا هَذِهِ الْحَسَنَةُ هِيَ الصِّحَّةُ وَالْعَافِيَةُ، وَأَقُولُ الْأَوْلَى أَنْ تُحْمَلَ عَلَى الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهَا نِهَايَةٌ: الْأَمْنُ وَالصِّحَّةُ وَالْكِفَايَةُ» وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّنْكِيرَ فِي قَوْلِهِ: حَسَنَةٌ يَدُلُّ عَلَى النِّهَايَةِ وَالْجَلَالَةِ وَالرِّفْعَةِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ/ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا خَسِيسَةٌ وَمُنْقَطِعَةٌ، وَإِنَّمَا يَلِيقُ بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهَا شَرِيفَةٌ وَآمِنَةٌ مِنَ الِانْقِضَاءِ وَالِانْقِرَاضِ وَالثَّانِي: أَنَّ ثَوَابَ الْمُحْسِنِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَأَيْضًا فَنِعْمَةُ الدُّنْيَا مِنَ الصِّحَّةِ وَالْأَمْنِ وَالْكِفَايَةِ حَاصِلَةٌ لِلْكُفَّارِ، وَأَيْضًا فَحُصُولُهَا لِلْكَافِرِ أَكْثَرُ وَأَتَمُّ مِنْ حُصُولِهَا لِلْمُؤْمِنِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» وَقَالَ تَعَالَى: لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ [الزُّخْرُفِ: 33] ، الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ يُفِيدُ الْحَصْرَ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ حَسَنَةَ هَذِهِ الدُّنْيَا لَا تَحْصُلُ إِلَّا لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا، وَهَذَا بَاطِلٌ. أَمَّا لَوْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْحَسَنَةَ عَلَى حَسَنَةِ الْآخِرَةِ صَحَّ هَذَا الْحَصْرُ، فَكَأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى حَسَنَةِ الْآخِرَةِ أَوْلَى، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ وَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا عُذْرَ أَلْبَتَّةَ لِلْمُقَصِّرِينَ فِي الْإِحْسَانِ، حَتَّى إِنَّهُمْ إِنِ اعْتَلُّوا بِأَوْطَانِهِمْ وَبِلَادِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَتَمَكَّنُونَ فِيهَا مِنَ التَّوْفِرَةِ عَلَى الْإِحْسَانِ وَصَرْفِ الْهِمَمِ إِلَيْهِ، قُلْ لَهُمْ فَإِنَّ أَرْضَ اللَّهِ وَاسِعَةٌ وَبِلَادَهُ كَثِيرَةٌ، فَتَحَوَّلُوا مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ إِلَى بِلَادٍ تَقْدِرُونَ فِيهَا عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، وَاقْتَدُوا بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي مُهَاجَرَتِهِمْ إِلَى غَيْرِ بِلَادِهِمْ،

لِيَزْدَادُوا إِحْسَانًا إِلَى إِحْسَانِهِمْ، وَطَاعَةً إِلَى طَاعَتِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّرْغِيبُ فِي الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها [النِّسَاءِ: 97] وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَرْضِ أَرْضَ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّقْوَى وَهِيَ خَشْيَةُ اللَّهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَنِ اتَّقَى فَلَهُ فِي الْآخِرَةِ الْحَسَنَةُ، وَهِيَ الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ أَرْضَ اللَّهِ، أَيْ جَنَّتَهُ وَاسِعَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزُّمَرِ: 74] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 133] وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ عِنْدِي أَوْلَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْأَوَّلِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمَّا تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي مَاهِيَّةِ الصَّبْرِ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سورة البقرة، والمراد هاهنا بِالصَّابِرِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى مُفَارَقَةِ أَوْطَانِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ، وَعَلَى تَجَرُّعِ الْغُصَصِ وَاحْتِمَالِ الْبَلَايَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَسْمِيَةُ الْمَنَافِعِ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ بِهَا عَلَى الصَّبْرِ بِالْأَجْرِ تُوهِمُ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى الثَّوَابِ، لِأَنَّ الْأَجْرَ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ، إِلَّا أَنَّهُ قَامَتِ الدَّلَائِلُ الْقَاهِرَةُ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ لَيْسَ عَلَيْهِ الثَّوَابُ، فَوَجَبَ حَمْلُ لَفْظِ الْأَجْرِ عَلَى كَوْنِهِ أَجْرًا بِحَسَبِ الْوَعْدِ، لَا بِحَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ ذَلِكَ الْأَجْرَ بِأَنَّهُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مَا يَسْتَحِقُّونَ وَيَزْدَادُونَ تَفَضُّلًا فَهُوَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَلَوْ لَمْ يُعْطَوْا إِلَّا الْمُسْتَحَقَّ لَكَانَ ذَلِكَ حِسَابًا، قَالَ الْقَاضِي هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْأَجْرَ/ بِأَنَّهُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَلَوْ لَمْ يُعْطَوْا إِلَّا الْأَجْرَ الْمُسْتَحَقَّ، وَالْأَجْرُ غَيْرُ التَّفَضُّلِ الثَّانِي: أَنَّ الثَّوَابَ لَهُ صِفَاتٌ ثلاثة أحدها: أَنَّهَا تَكُونُ دَائِمَةَ الْأَجْرِ لَهُمْ، وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ حِسابٍ مَعْنَاهُ بِغَيْرِ نِهَايَةٍ، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ دَخَلَ تَحْتَ الْحِسَابِ فَهُوَ مُتَنَاهٍ، فَمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ كَانَ خَارِجًا عَنِ الْحِسَابِ وَثَانِيهَا: أَنَّهَا تَكُونُ مَنَافِعَ كَامِلَةً فِي أَنْفُسِهَا، وَعَقْلُ الْمُطِيعِ مَا كَانَ يَصِلُ إِلَى كُنْهِ ذَلِكَ الثَّوَابِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» وَكُلُّ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الثَّوَابِ وَجَدُوهُ أَزْيَدَ مِمَّا تَصَوَّرُوهُ وَتَوَقَّعُوهُ، وَمَا لَا يَتَوَقَّعُهُ الْإِنْسَانُ، فَقَدْ يُقَالُ إِنَّهُ لَيْسَ فِي حِسَابِهِ، فَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ حِسابٍ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي التَّأْوِيلِ أَنَّ ثَوَابَ أَهْلِ الْبَلَاءِ لَا يُقَدَّرُ بِالْمِيزَانِ وَالْمِكْيَالِ، رَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَنْصِبُ اللَّهُ الْمَوَازِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فيؤتى بأهل الصَّلَاةِ فَيُوَفَّوْنَ أُجُورَهُمْ بِالْمَوَازِينِ، وَيُؤْتَى بِأَهْلِ الصَّدَقَةِ فَيُوَفَّوْنَ أُجُورَهُمْ بِالْمَوَازِينِ، وَيُؤْتَى بِأَهْلِ الْبَلَاءِ فَلَا يُنْصَبُ لَهُمْ مِيزَانٌ وَلَا يُنْشَرُ لَهُمْ دِيوَانٌ، وَيُصَبُّ عَلَيْهِمُ الْأَجْرُ صَبًّا» قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ حَتَّى يَتَمَنَّى أَهْلُ الْعَافِيَةِ فِي الدُّنْيَا أَنَّ أَجْسَادَهُمْ تُقْرَضُ بِالْمَقَارِيضِ لِمَا بِهِ أَهْلُ الْبَلَاءِ مِنَ الفضل. النوع الثاني: من البيانات أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَذْكُرَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا الدِّينِ الَّذِي أَتَيْتَنَا بِهِ؟ أَلَا تَنْظُرُ إِلَى مِلَّةِ أَبِيكَ وَجَدِّكَ وَسَادَاتِ قَوْمِكَ يَعْبُدُونَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى! فَأَنْزَلَ اللَّهُ، قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، وَأَقُولُ إِنَّ التَّكْلِيفَ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا: الْأَمْرُ بِالِاحْتِرَازِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي وَالثَّانِي: الْأَمْرُ بِتَحْصِيلِ مَا يَنْبَغِي، وَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بِحَسَبِ الرُّتْبَةِ الْوَاجِبَةِ اللَّازِمَةِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ الأمر

بإزالة ما لا يَنْبَغِي فَقَالَ: اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِأَنَّ التَّقْوَى هِيَ الِاحْتِرَازُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ الْأَمْرَ بِتَحْصِيلِ مَا يَنْبَغِي فَقَالَ: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَهَذَا يَشْتَمِلُ عَلَى قَيْدَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ الثَّانِي: كَوْنُ تِلْكَ الْعِبَادَةِ خَالِصَةً عَنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ وَشَوَائِبِ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ، وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الرَّسُولَ بِهَذَا الْأَمْرِ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ بِذَلِكَ أَحَقُّ فَهُوَ كَالتَّرْغِيبِ لِلْغَيْرِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ أَنِّي أَوَّلُ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْعِبَادَاتِ الَّتِي أُرْسِلْتُ بِهَا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَتَانِ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: كَأَنَّهُ يَقُولُ إِنِّي لَسْتُ مِنَ الْمُلُوكِ الْجَبَابِرَةِ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِأَشْيَاءَ وَهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، بَلْ كُلُّ مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأَنَا أَوَّلُ النَّاسِ شُرُوعًا فِيهِ وَأَكْثَرُهُمْ مُدَاوَمَةً عَلَيْهِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَالْعِبَادَةُ لَهَا رُكْنَانِ عَمَلُ الْقَلْبِ وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ أَشْرَفُ مِنْ عَمَلِ الْجَوَارِحِ، فَقَدَّمَ ذِكْرَ الْجُزْءَ الْأَشْرَفَ وَهُوَ قَوْلُهُ: مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ الْأَدْوَنَ وَهُوَ عَمَلُ الْجَوَارِحِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ فَسَّرَ الْإِسْلَامَ فِي خَبَرِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ مَا الْفَائِدَةُ فِي تَكْرِيرِ لِفْظِ أُمِرْتُ لِأَنَّا نَقُولُ ذَكَرَ لَفْظَ أُمِرْتُ أَوَّلًا فِي عَمَلِ الْقَلْبِ وَثَانِيًا فِي عَمَلِ الْجَوَارِحِ وَلَا يَكُونُ هَذَا تَكْرِيرًا. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ التَّنْبِيهُ عَلَى كَوْنِهِ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاجِبَ الطَّاعَةِ، لِأَنَّ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ فِي شَرَائِعِ اللَّهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ، لِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ يَعْرِفُ تِلْكَ الشَّرَائِعَ وَالتَّكَالِيفَ هُوَ الرَّسُولُ الْمُبَلِّغُ، وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَهُ بِالْإِخْلَاصِ بِالْقَلْبِ وَبِالْأَعْمَالِ الْمَخْصُوصَةِ، وَكَانَ الْأَمْرُ يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَيَحْتَمِلُ النَّدْبَ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ فَقَالَ: قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وَفِيهِ فَوَائِدُ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ اللَّهِ أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجْرِيَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي زَجْرِ الْغَيْرِ عَنِ الْمَعَاصِي، لِأَنَّهُ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ وَشَرَفِ نُبُوَّتِهِ إِذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَائِفًا حَذِرًا عَنِ الْمَعَاصِي فَغَيْرُهُ بِذَلِكَ أَوْلَى. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَتَّبَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَيْسَ حُصُولَ الْعِقَابِ بَلِ الْخَوْفَ مِنَ الْعِقَابِ، وَهَذَا يُطَابِقُ قَوْلَنَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَعْفُو عَنِ الْمُذْنِبِ وَالْكَبِيرَةِ، فَيَكُونُ اللَّازِمُ عِنْدَ حُصُولِ الْمَعْصِيَةِ هُوَ الْخَوْفُ مِنَ الْعِقَابِ لَا نَفْسَ حُصُولِ الْعِقَابِ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَيَكُونُ مَعْنَى هَذَا الْعِصْيَانِ تَرْكَ الْأَمْرِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَذَلِكَ، يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ تَارِكُ الْأَمْرِ عَاصِيًا، وَالْعَاصِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْخَوْفُ مِنَ الْعِقَابِ، وَلَا مَعْنَى لِلْوُجُوبِ إِلَّا ذَلِكَ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَذْكُرَهَا قَوْلُهُ: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى التَّكْرِيرِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي؟، قُلْنَا هَذَا لَيْسَ بِتَكْرِيرٍ لِأَنَّ الْأَوَّلَ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ بِالْإِتْيَانِ بِالْعِبَادَةِ، وَالثَّانِي إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ أُمِرَ

بأن لا يعبد أحدا غير الله، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ لَا يُفِيدُ الْحَصْرَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ يُفِيدُ الْحَصْرَ يَعْنِي اللَّهَ أَعْبُدُ وَلَا أَعْبُدُ أَحَدًا سِوَاهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ بَعْدُ: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ قَالَ بَعْدَهُ: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ لَيْسَ أَمْرًا بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ الزَّجْرُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ لَمَّا بَلَغَ الْبَيَانُ فِي وُجُوبِ رِعَايَةِ التَّوْحِيدِ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى فَبَعْدَ ذَلِكَ أَنْتُمْ أَعْرَفُ بِأَنْفُسِكُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى كَمَالَ الزَّجْرِ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لِوُقُوعِهَا فِي هَلَاكٍ لَا يُعْقَلُ هَلَاكٌ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَخَسِرُوا أَهْلِيهِمْ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَدْ خَسِرُوهُمْ كَمَا خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَقَدْ ذَهَبُوا عَنْهُمْ ذَهَابًا لَا رُجُوعَ بَعْدَهُ أَلْبَتَّةَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ/ مَنْزِلًا وَأَهْلًا وَخَدَمًا فِي الْجَنَّةِ، فَإِنْ أَطَاعَ أُعْطِيَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ حُرِمَ ذَلِكَ فَخَسِرَ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَمَنْزِلَهُ وَوَرِثَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْخَاسِرُ الْمَغْبُونُ، وَلَمَّا شَرَحَ اللَّهُ خُسْرَانَهُمْ وَصَفَ ذَلِكَ الْخُسْرَانَ بِغَايَةِ الْفَظَاعَةِ فَقَالَ: أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ كَانَ التَّكْرِيرُ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ حَرْفَ أَلَا وَهُوَ لِلتَّنْبِيهِ، وَذِكْرُ التَّنْبِيهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ كَأَنَّهُ قِيلَ إِنَّهُ بَلَغَ فِي الْعَظَمَةِ إِلَى حَيْثُ لَا تَصِلُ عُقُولُكُمْ إِلَيْهَا فَتَنَبَّهُوا لَهَا الثَّالِثُ: أَنَّ كَلِمَةَ (هُوَ) : فِي قَوْلِهِ: هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ تُفِيدُ الْحَصْرَ كَأَنَّهُ قِيلَ كُلُّ خُسْرَانٍ فَإِنَّهُ يَصِيرُ فِي مُقَابَلَتِهِ كَلَا خُسْرَانٍ الرَّابِعُ: وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ (مُبِينًا) : يَدُلُّ عَلَى التَّهْوِيلِ، وَأَقُولُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ خُسْرَانًا مُبِينًا فَلْنُبَيِّنْ بِحَسَبِ الْمَبَاحِثِ الْعَقْلِيَّةِ كَوْنَهُ خُسْرَانًا مُبِينًا، وَأَقُولُ نَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانِ أَمْرَيْنِ إِلَى أَنْ يَكُونَ خُسْرَانًا ثُمَّ كَوْنِهِ مُبِينًا أَمَّا الْأَوَّلُ: فَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى هَذِهِ الْحَيَاةَ وَأَعْطَى الْعَقْلَ، وَأَعْطَى الْمُكْنَةَ وَكُلُّ ذَلِكَ رَأْسُ الْمَالِ، أَمَّا هَذِهِ الْحَيَاةُ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنْ يَكْتَسِبَ فِيهَا الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ فِي الْآخِرَةِ. وَأَمَّا الْعَقْلُ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ وَهَذِهِ الْعُلُومُ هِيَ رَأْسُ الْمَالِ وَالنَّظَرُ، وَالْفِكْرُ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا تَرْتِيبُ عُلُومٍ لِيُتَوَصَّلَ بِذَلِكَ التَّرْتِيبِ إِلَى تَحْصِيلِ عُلُومٍ كَسْبِيَّةٍ، فَتِلْكَ الْعُلُومُ الْبَدِيهِيَّةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْعَقْلِ رَأْسُ الْمَالِ وَتَرْكِيبُهَا عَلَى الْوُجُوهِ الْمَخْصُوصَةِ يُشْبِهُ تَصَرُّفَ التَّاجِرِ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَتَرْكِيبُهَا عَلَى الْوُجُوهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَحُصُولُ الْعِلْمِ بِالنَّتِيجَةِ يُشْبِهُ حُصُولَ الرِّبْحِ، وَأَيْضًا حُصُولُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ يُشْبِهُ رَأْسَ الْمَالِ، وَاسْتِعْمَالُ تِلْكَ الْقُوَّةِ فِي تَحْصِيلِ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ يُشْبِهُ تَصَرُّفَ التَّاجِرِ فِي رَأْسِ الْمَالِ، وَحُصُولُ أَعْمَالِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ يُشْبِهُ الرِّبْحَ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ وَالتَّمَكُّنَ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَسْتَفِدْ مِنْهَا لَا مَعْرِفَةَ الْحَقِّ وَلَا عَمَلَ الْخَيْرِ أَلْبَتَّةَ كَانَ مَحْرُومًا عَنِ الرِّبْحِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِذَا مَاتَ فَقَدْ ضَاعَ رَأْسُ الْمَالِ بِالْكُلِّيَّةِ فَكَانَ ذَلِكَ خُسْرَانًا، فَهَذَا بَيَانُ كَوْنِهِ خُسْرَانًا وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ بَيَانُ كَوْنِ ذَلِكَ الْخُسْرَانِ مُبِينًا فَهُوَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَرْبَحِ الزِّيَادَةَ وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ سَلِمَ مِنَ الْآفَاتِ وَالْمَضَارِّ، فَهَذَا كَمَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَزِيدُ نَفْعٍ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ أَيْضًا مَزِيدُ ضَرَرٍ، أَمَّا هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ فَقَدِ اسْتَعْمَلُوا عُقُولَهُمُ الَّتِي هِيَ رَأْسُ مَالِهِمْ فِي اسْتِخْرَاجِ وُجُوهِ الشُّبُهَاتِ وَتَقْوِيَةِ الْجَهَالَاتِ وَالضَّلَالَاتِ، وَاسْتَعْمَلُوا قُوَاهُمْ وَقُدُرَهُمْ فِي أَفْعَالِ الشَّرِّ وَالْبَاطِلِ وَالْفَسَادِ، فَهُمْ قَدْ جَمَعُوا بَيْنَ أُمُورٍ فِي غَايَةِ الرَّدَاءَةِ أَوَّلُهَا: أَنَّهُمْ أَتْعَبُوا أَبْدَانَهُمْ وَعُقُولَهُمْ طَلَبًا فِي تِلْكَ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ يَضِيعُ عَنْهُمْ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّ تِلْكَ الْمَتَاعِبَ الشَّدِيدَةَ الَّتِي كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الدُّنْيَا فِي نُصْرَةِ تِلْكَ الضَّلَالَاتِ تَصِيرُ أَسْبَابًا لِلْعُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ وَالْبَلَاءِ الْعَظِيمِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَعِنْدَ الْوُقُوفِ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ خُسْرَانٌ أَقْوَى مِنْ خُسْرَانِهِمْ، وَلَا حِرْمَانٌ أَعْظَمُ مِنْ حِرْمَانِهِمْ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُ.

[سورة الزمر (39) : الآيات 17 إلى 20]

وَلَمَّا شَرَحَ اللَّهُ تَعَالَى أَحْوَالَ حِرْمَانِهِمْ عَنِ الرِّبْحِ وَبَيَّنَ كَيْفِيَّةَ خُسْرَانِهِمْ، بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى الْحِرْمَانِ وَالْخُسْرَانِ، بَلْ ضَمُّوا إِلَيْهِ اسْتِحْقَاقَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ وَالْعِقَابِ الشَّدِيدِ، فَقَالَ: لَهُمْ مِنْ/ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ وَالْمُرَادُ إِحَاطَةُ النَّارِ بِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ، وَنَظِيرُهُ فِي الْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ إِحَاطَةُ الْجَهْلِ وَالْحِرْمَانِ وَالْحِرْصِ وَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ بِالْإِنْسَانِ، فَإِنْ قِيلَ الظُّلَلُ مَا عَلَى الْإِنْسَانِ فَكَيْفَ سُمِّيَ مَا تَحْتَهُ بِالظُّلَلِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ كَقَوْلِهِ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] ، الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي يَكُونُ تَحْتَهُ يَكُونُ ظُلَّةً لِإِنْسَانٍ آخَرَ تَحْتَهُ لِأَنَّ النَّارَ دَرَكَاتٌ كَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ دَرَجَاتٌ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الظُّلَّةَ التَّحْتَانِيَّةَ إِذَا كَانَتْ مُشَابِهَةً لِلظُّلَّةِ الْفَوْقَانِيَّةِ فِي الْحَرَارَةِ وَالْإِحْرَاقِ وَالْإِيذَاءِ، أُطْلِقَ اسْمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ لِأَجْلِ الْمُمَاثَلَةِ وَالْمُشَابَهَةِ. قَالَ الْحَسَنُ هُمْ بَيْنَ طَبَقَتَيْنِ مِنَ النَّارِ لَا يَدْرُونَ مَا فَوْقَهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا تَحْتَهُمْ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: 55] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الْأَعْرَافِ: 41] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ أَيْ ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ وَصْفِ الْعَذَابِ فَقَوْلُهُ: ذلِكَ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ خَبَرٌ، وَفِي قَوْلِهِ: يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ ذَلِكَ الْعَذَابُ الْمُعَدُّ لِلْكَفَّارِ هُوَ الَّذِي يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ أَيِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ الْعِبَادِ فِي الْقُرْآنِ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا كَانَ تَخْوِيفًا لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا أَنَّ حَالَ الْكُفَّارِ مَا تَقَدَّمَ خَافُوا فَأَخْلَصُوا فِي التَّوْحِيدِ وَالطَّاعَةِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي تَقْدِيرِ جَوَابٍ عَنْ سُؤَالٍ، لِأَنَّهُ يُقَالُ إِنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ مُنَزَّهٌ عَنِ الشَّهْوَةِ وَالِانْتِقَامِ وَدَاعِيَةِ الْإِيذَاءِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُعَذِّبَ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ الْعَظِيمِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَخْوِيفُ الْكُفَّارِ وَالضُّلَّالِ عَنِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، فَإِذَا كَانَ التَّكْلِيفُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالتَّخْوِيفِ وَالتَّخْوِيفُ لَا يَكْمُلُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إِلَّا بِإِدْخَالِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي الْوُجُودِ وَجَبَ إِدْخَالُ ذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْوُجُودِ تَحْصِيلًا لِذَلِكَ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ التَّكْلِيفُ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ عِنْدِي أقرب، والدليل عليه أنه قال بعده: يا عِبادِ فَاتَّقُونِ وقوله: يا عِبادِ الْأَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْحِ عَذَابِ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ تَخْوِيفُ الْمُؤْمِنِينَ فَيَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بَالِغُوا فِي الخوف والحذر والتقوى. [سورة الزمر (39) : الآيات 17 الى 20] وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ ذَكَرَ وَعْدَ مَنِ اجْتَنَبَ عِبَادَتَهَا وَاحْتَرَزَ عَنِ الشِّرْكِ، لِيَكُونَ الْوَعْدُ مَقْرُونًا بِالْوَعِيدِ أَبَدًا فَيَحْصُلَ كَمَالُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الطَّاغُوتُ فَعْلُوتٌ مِنَ الطُّغْيَانِ كَالْمَلَكُوتِ وَالرَّحَمُوتِ إِلَّا أَنَّ فِيهَا

قَلْبًا بِتَقْدِيمِ اللَّامِ عَلَى الْعَيْنِ، وَفِي هَذَا اللَّفْظِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمُبَالَغَةِ أَحَدُهَا: التَّسْمِيَةُ بِالْمَصْدَرِ كَأَنَّ عَيْنَ ذَلِكَ الشَّيْءِ الطُّغْيَانُ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْبِنَاءَ بِنَاءُ الْمُبَالَغَةِ فَإِنَّ الرَّحَمُوتَ الرَّحْمَةُ الْوَاسِعَةُ وَالْمَلَكُوتَ الْمُلْكُ الْمَبْسُوطُ وَثَالِثُهَا: مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْدِيمِ اللَّامِ عَلَى الْعَيْنِ وَمِثْلُ هَذَا إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْمُبَالَغَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في أن المراد من الطاغوت هاهنا الشَّيْطَانُ أَمِ الْأَوْثَانُ، فَقِيلَ إِنَّهُ الشَّيْطَانُ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُمْ مَا عَبَدُوا الشَّيْطَانَ وَإِنَّمَا عَبَدُوا الصَّنَمَ، قُلْنَا الدَّاعِي إِلَى عِبَادَةِ الصَّنَمِ لَمَّا كَانَ هُوَ الشَّيْطَانَ كَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى عِبَادَةِ الصَّنَمِ عِبَادَةً لِلشَّيْطَانِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالطَّاغُوتِ الصَّنَمُ وَسُمِّيَتْ طَوَاغِيتَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِأَنَّهُ لَا فِعْلَ لَهَا، وَالطُّغَاةُ هُمُ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهَا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ الطُّغْيَانُ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهَا وَالْقُرْبِ مِنْهَا، وُصِفَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، وَقِيلَ كُلُّ مَا يُعْبَدُ وَيُطَاعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَهُوَ طَاغُوتٌ، وَيُقَالُ فِي التَّوَارِيخِ إِنَّ الْأَصْلَ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُشَبِّهَةً اعْتَقَدُوا فِي الْإِلَهِ أَنَّهُ نُورٌ عَظِيمٌ، وَفِي الْمَلَائِكَةِ أَنَّهَا أَنْوَارٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، فَوَضَعُوا تَمَاثِيلَ وَصُوَرًا عَلَى وَفْقِ تِلْكَ الْخَيَالَاتِ فَكَانُوا يَعْبُدُونَ تِلْكَ التَّمَاثِيلَ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَالْمَلَائِكَةَ، وَأَقُولُ حَاصِلُ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَيْ أَعْرَضُوا عَنْ عُبُودِيَّةِ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ أَيْ رَجَعُوا بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى اللَّهِ. وَرَأَيْتُ فِي السِّفْرِ الْخَامِسِ مِنَ التَّوْرَاةِ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى: يَا مُوسَى أَجِبْ إِلَهَكَ بِكُلِّ قَلْبِكِ. وَأَقُولُ مَا دَامَ يَبْقَى فِي الْقَلْبِ الْتِفَاتٌ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ مَا أَجَابَ إِلَهَهُ بِكُلِّ قَلْبِهِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الْإِجَابَةُ بِكُلِّ الْقَلْبِ إِذَا أَعْرَضَ الْقَلْبُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ بَابِ الطَّاعَاتِ فَكَيْفَ يُعْرِضُ عَنْهَا مَعَ/ أَنَّهُ بِالْحِسِّ يُشَاهِدُ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، قُلْنَا لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ إِعْرَاضِ الْقَلْبِ عَنْهَا أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهَا بِالْعَدَمِ فَإِنَّ ذَلِكَ دُخُولٌ فِي السَّفْسَطَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ، بَلِ الْمُرَادُ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ، وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَإِنَّهُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَكُلُّ مَا كَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِتَكْوِينِ الْوَاجِبِ وَإِيجَادِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ تَكْوِينَهُ لِلْأَشْيَاءِ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا ما يكون بغير واسطة وهي عالم السموات وَالرُّوحَانِيَّاتِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِوَاسِطَةٍ وَهُوَ عَالَمُ الْعَنَاصِرِ وَالْعَالَمُ الْأَسْفَلُ، فَإِذَا عَرَفْتَ الْأَشْيَاءَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَرَفْتَ أَنَّ الْكُلَّ لِلَّهِ وَمِنَ اللَّهِ وَبِاللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا مُدَبِّرَ إِلَّا هُوَ وَلَا مُؤَثِّرَ غَيْرُهُ، وَحِينَئِذٍ يَنْقَطِعُ نَظَرُهُ عَنْ هَذِهِ الْمُمْكِنَاتِ وَيَبْقَى مَشْغُولَ الْقَلْبِ بِالْمُؤَثِّرِ الْأَوَّلِ وَالْمُوجِدِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ وَضَعَ الأسباب الروحانية والجسمانية بحيث يتأذى إِلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ، فَهَذَا الشَّيْءُ يَحْصُلُ وَإِنْ كَانَ قَدْ وُضِعَ بِحَيْثُ لَا يُفْضِي إِلَى حُصُولِ هَذَا الشَّيْءِ لَمْ يَحْصُلْ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَنْقَطِعُ نَظَرُهُ عَنِ الْكُلِّ وَلَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ الْتِفَاتٌ إِلَى شَيْءٍ إِلَّا إِلَى الْمَوْجُودِ الْأَوَّلِ، وَقَدِ اتَّفَقَ أَنِّي كُنْتُ أَنْصَحُ بَعْضَ الصِّبْيَانِ فِي حِفْظِ الْعِرْضِ وَالْمَالِ فَعَارَضَنِي وَقَالَ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْجِدِّ وَالْجُهْدِ بَلْ يَجِبُ الِاعْتِمَادُ عَلَى قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، فَقُلْتُ هَذِهِ كَلِمَةُ حَقٍّ سَمِعْتَهَا وَلَكِنَّكَ مَا عَرَفْتَ مَعْنَاهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ دَبَّرَ الْأَشْيَاءَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا مَا جَعَلَ حُدُوثَهُ وَحُصُولَهُ مُعَلَّقًا بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ وَمِنْهَا مَا يُحْدِثُهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ حَوَادِثُ هَذَا الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَهُوَ حَوَادِثُ هَذَا الْعَالَمِ الْأَعْلَى، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ مَنْ طَلَبَ حَوَادِثَ هَذَا الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ لَا مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي عَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَانَ هَذَا الشَّخْصُ مُنَازِعًا لِلَّهِ فِي حِكْمَتِهِ مُخَالِفًا فِي تَدْبِيرِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِحُدُوثِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِنَاءً عَلَى تِلْكَ الْأَسْبَابِ الْمُعَيَّنَةِ الْمَعْلُومَةِ وَأَنْتَ تُرِيدُ تَحْصِيلَهَا لَا مِنْ تِلْكَ

الْأَسْبَابِ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي تَحْقِيقِ الْإِعْرَاضِ عن غير الله والإقبال بالكلية على الله تَعَالَى فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِقْبَالِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ هَؤُلَاءِ بِأَشْيَاءَ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمُ الْبُشْرى وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَتَعَلَّقُ بِجِهَاتٍ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْبِشَارَةَ مَتَى تَحْصُلُ؟ فَنَقُولُ إِنَّهَا تَحْصُلُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ وَعِنْدَ الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ وَعِنْدَ الْوُقُوفِ فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ وعند ما يَصِيرُ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ وعند ما يَدْخُلُ الْمُؤْمِنُونَ الْجَنَّةَ، فَفِي كُلِّ مَوْقِفٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِفِ تَحْصُلُ الْبِشَارَةُ بِنَوْعٍ مِنَ الْخَيْرِ وَالرُّوحِ وَالرَّاحَةِ وَالرَّيْحَانِ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ الْبِشَارَةُ فَبِمَاذَا تَحْصُلُ؟ فَنَقُولُ إِنَّ هَذِهِ الْبِشَارَةَ تَحْصُلُ بِزَوَالِ الْمَكْرُوهَاتِ وَبِحُصُولِ الْمُرَادَاتِ، أَمَّا زَوَالُ الْمَكْرُوهَاتِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فُصِّلَتْ: 30] وَالْخَوْفُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ وَالْحُزْنُ إِنَّمَا يَكُونُ بِسَبَبِ الْأَحْوَالِ الْمَاضِيَةِ فَقَوْلُهُ: أَلَّا تَخافُوا يَعْنِي لَا تَخَافُوا فِيمَا تَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ وَلَا تَحْزَنُوا بِسَبَبِ مَا فَاتَكُمْ مِنْ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا، وَلَمَّا أَزَالَ اللَّهُ عَنْهُمْ هَذِهِ الْمَكْرُوهَاتِ بَشَّرَهُمْ بِحُصُولِ الْخَيْرَاتِ وَالسَّعَادَاتِ فَقَالَ: وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ [فُصِّلَتْ: 30] وَقَالَ أَيْضًا فِي آيَةٍ أُخْرَى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الْحَدِيدِ: 12] وَقَالَ أَيْضًا: وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [الزُّخْرُفِ: 71] وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُبَشِّرَ مَنْ هُوَ؟ فَنَقُولُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُمُ الْمَلَائِكَةَ، إِمَّا عِنْدَ الْمَوْتِ فَقَوْلُهُ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [النَّحْلِ: 32] وَإِمَّا بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ فَقَوْلُهُ: الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْدِ: 23، 24] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الْأَحْزَابِ: 44] . وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: لَهُمُ الْبُشْرى فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ التَّأْكِيدَاتِ أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ فَقَوْلُهُ: لَهُمُ الْبُشْرى أَيْ لَهُمْ لَا لِغَيْرِهِمْ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَا بِشَارَةَ لِأَحَدٍ إِلَّا إِذَا اجْتَنَبَ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَقْبَلَ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي لَفْظِ الْبُشْرَى مُفِيدٌ لِلْمَاهِيَّةِ فَيُفِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْمَاهِيَّةَ بِتَمَامِهَا لِهَؤُلَاءِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا نَصِيبٌ لِغَيْرِهِمْ وَثَالِثُهَا: أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِخْبَارِ وَبَيْنَ الْبِشَارَةِ فَالْبِشَارَةُ هُوَ الْخَبَرُ الْأَوَّلُ بِحُصُولِ الْخَيْرَاتِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ كُلُّ مَا سَمِعُوهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَنْوَاعِ الثَّوَابِ وَالْخَيْرِ إِذَا سَمِعُوهُ عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ فِي الْقَبْرِ فَذَاكَ لَا يَكُونُ إِلَّا إِخْبَارًا، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْبِشَارَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا حَصَلَ الْإِخْبَارُ بِحُصُولِ أَنْوَاعٍ أُخَرَ مِنَ السَّعَادَاتِ فَوْقَ مَا عَرَفُوهَا وَسَمِعُوهَا فِي الدُّنْيَا نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْفَوْزَ بِهَا، قَالَ تَعَالَى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السَّجْدَةِ: 17] وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمُخْبِرَ بِقَوْلِهِ: لَهُمُ الْبُشْرى هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَعْظَمُ الْعُظَمَاءِ وَأَكْمَلُ الْمَوْجُودَاتِ وَالشَّرْطُ الْمُعْتَبَرُ فِي حُصُولِ هَذِهِ الْبِشَارَةِ شَرْطٌ عَظِيمٌ وَهُوَ الِاجْتِنَابُ عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِقْبَالُ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى اللَّهِ وَالسُّلْطَانُ الْعَظِيمُ إِذَا ذَكَرَ شَرْطًا عَظِيمًا. ثُمَّ قَالَ لِمَنْ أَتَى بِذَلِكَ الشَّرْطِ الْعَظِيمِ أَبْشِرْ فَهَذِهِ الْبِشَارَةُ الصَّادِرَةُ مِنَ السُّلْطَانِ الْعَظِيمِ الْمُرَتَّبَةُ عَلَى حُصُولِ ذَلِكَ الشَّرْطِ الْعَظِيمِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي وَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بِهِ قَدْ بَلَغَ فِي الْكَمَالِ وَالرِّفْعَةِ إِلَى حَيْثُ لَا يَصِلُ إِلَى شَرْحِهَا الْعُقُولُ وَالْأَفْكَارُ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَهُمُ الْبُشْرى يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الْكَمَالِ وَالسَّعَادَةِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى: لَمَّا قَالَ: لَهُمُ الْبُشْرى وكان هذا كالمجمل أَرْدَفَهُ بِكَلَامٍ يَجْرِي مَجْرَى التَّفْسِيرِ

وَالشَّرْحِ لَهُ فَقَالَ تَعَالَى: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وَأَرَادَ بِعِبَادِهِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، الَّذِينَ اجْتَنَبُوا وَأَنَابُوا لَا غَيْرَهُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَأْسَ السَّعَادَاتِ وَمَرْكَزَ الْخَيْرَاتِ وَمَعْدِنَ الْكَرَامَاتِ هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْإِقْبَالَ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ وَأَنَابُوا، هُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، فَوُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ تَنْبِيهًا/ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا وَأَنَابُوا لَهُمُ الْبُشْرَى وَكَانَ ذَلِكَ دَرَجَةً عَالِيَةً لَا يَصِلُ إِلَيْهَا إِلَّا الْأَوَّلُونَ، وَقَصْرُ السَّعَادَةِ عَلَيْهِمْ يَقْتَضِي الْحِرْمَانَ لِلْأَكْثَرِينَ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالرَّحْمَةِ التَّامَّةِ، لَا جَرَمَ جَعَلَ الْحُكْمَ أَعَمَّ فَقَالَ كُلُّ مَنِ اخْتَارَ الْأَحْسَنَ فِي كُلِّ بَابٍ كَانَ فِي زُمْرَةِ السُّعَدَاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى فَوَائِدَ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: وُجُوبُ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْهِدَايَةَ وَالْفَلَاحَ مُرْتَبِطَانِ بِمَا إِذَا سَمِعَ الْإِنْسَانُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، فَإِنَّهُ يَخْتَارُ مِنْهَا مَا هُوَ الْأَحْسَنُ الْأَصْوَبُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ تَمْيِيزَ الْأَحْسَنِ الْأَصْوَبِ عَمَّا سِوَاهُ لَا يَحْصُلُ بِالسَّمَاعِ، لِأَنَّ السَّمَاعَ صَارَ قَدْرًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْكُلِّ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّمَاعَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فِيهِ، فَثَبَتَ أَنَّ تَمْيِيزَ الْأَحْسَنِ عَمَّا سِوَاهُ لَا يَتَأَتَّى بِالسَّمَاعِ وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى بِحُجَّةِ الْعَقْلِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ مُتَابَعَةُ حُجَّةِ الْعَقْلِ وَبِنَاءُ الْأَمْرِ عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى تَصْحِيحِ الْمَذَاهِبِ وَالْأَدْيَانِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: إِقَامَةُ الْحُجَّةِ وَالْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّتِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّحْصِيلِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ إِلَّا بِالْخَوْضِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَسَائِلِ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالثَّانِي: أَنَّا قَبْلَ الْبَحْثِ عَنِ الدَّلَائِلِ وَتَقْرِيرِهَا وَالشُّبُهَاتِ وَتَزْيِيفِهَا نَعْرِضُ تِلْكَ الْمَذَاهِبَ وَأَضْدَادَهَا عَلَى عُقُولِنَا، فَكُلُّ مَا حَكَمَ أَوَّلُ الْعَقْلِ بأنه أفضل وأكمل كائن أَوْلَى بِالْقَبُولِ. مِثَالُهُ أَنَّ صَرِيحَ الْعَقْلِ شَاهِدٌ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِأَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ حَيٌّ عَالِمٌ قَادِرٌ حَلِيمٌ حَكِيمٌ رَحِيمٌ، أَوْلَى مِنْ إِنْكَارِ ذَلِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ الْمَذْهَبُ أَوْلَى، وَالْإِقْرَارُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُجْرِي فِي مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ إِلَّا مَا كَانَ عَلَى وَفْقِ مَشِيئَتِهِ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَجْرِي فِي سُلْطَانِ اللَّهِ عَلَى خِلَافِ إِرَادَتِهِ، وَأَيْضًا الْإِقْرَارُ بِأَنَّ اللَّهَ فَرْدٌ أَحَدٌ صَمَدٌ مُنَزَّهٌ عَنِ التَّرْكِيبِ وَالْأَعْضَاءِ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِكَوْنِهِ مُتَبَعِّضًا مُؤَلَّفًا، وَأَيْضًا الْقَوْلُ بِاسْتِغْنَائِهِ عَنِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِاحْتِيَاجِهِ إِلَيْهِمَا، وَأَيْضًا الْقَوْلُ بِأَنَّ اللَّهَ رَحِيمٌ كَرِيمٌ قَدْ يَعْفُو عَنِ الْعِقَابِ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَعْفُو عَنْهُ أَلْبَتَّةَ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَبْوَابِ تَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِ الْأَحْسَنِ فِي أَبْوَابِ الِاعْتِقَادَاتِ. وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَبْوَابِ التَّكَالِيفِ فَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهَا مَا يَكُونُ مِنْ أَبْوَابِ الْعِبَادَاتِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مِنْ أَبْوَابِ الْمُعَامَلَاتِ، فَأَمَّا الْعِبَادَاتُ فَمِثْلُ قَوْلِنَا الصَّلَاةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِي تَحْرِيمِهَا اللَّهُ أَكْبَرُ وَتَكُونُ النِّيَّةُ فِيهَا مُقَارِنَةً لِلتَّكْبِيرِ، وَيُقْرَأُ فِيهَا سُورَةُ الْفَاتِحَةِ، وَيُؤْتَى فِيهَا بِالطُّمَأْنِينَةِ فِي الْمَوَاقِفِ الْخَمْسَةِ، وَيُقْرَأُ فِيهَا التَّشَهُّدُ، وَيُخْرَجُ مِنْهَا بِقَوْلِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَلَا شَكَّ أَنَّهَا أَحْسَنُ مِنَ الصَّلَاةِ الَّتِي لَا يُرَاعَى فِيهَا شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَتُوجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَخْتَارَ هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَأَنْ يَتْرُكَ مَا سِوَاهَا، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الْعِبَادَاتِ. وَأَمَّا الْمُعَامَلَاتُ فَكَذَلِكَ مِثْلَ أَنَّهُ تَعَالَى شَرَعَ الْقِصَاصَ وَالدِّيَةَ وَالْعَفْوَ، وَلَكِنَّهُ نَدَبَ إِلَى العفو فقال: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ/ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الرَّجُلُ يَجْلِسُ مَعَ الْقَوْمِ وَيَسْمَعُ الْحَدِيثَ فِيهِ مَحَاسِنُ وَمَسَاوِئُ، فَيُحَدِّثُ بِأَحْسَنِ مَا سَمِعَ وَيَتْرُكُ مَا سواه.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ بِأَنْ قَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ وَفِي ذَلِكَ دَقِيقَةٌ عَجِيبَةٌ، وَهِيَ أَنَّ حُصُولَ الْهِدَايَةِ فِي الْعَقْلِ وَالرُّوحِ أَمْرٌ حَادِثٌ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ وَقَابَلٍ. أَمَّا الْفَاعِلُ فَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأَمَّا الْقَابِلُ فإليه الإشارة بقوله: وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا كَامِلَ الْفَهْمِ امْتَنَعَ حُصُولُ هَذِهِ الْمَعَارِفِ الْحَقِّيَّةِ فِي قَلْبِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْفَاعِلَ لِهَذِهِ الْهِدَايَةِ هُوَ اللَّهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَوْهَرَ النَّفْسِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ نُورِ الْعَقْلِ قَابِلٌ لِلِاعْتِقَادِ الْحَقِّ وَالِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ، وَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ قَابِلًا لِلضِّدَّيْنِ كَانَتْ نِسْبَةُ ذَلِكَ الْقَابِلِ إِلَيْهِمَا عَلَى السَّوِيَّةِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ كَوْنُ ذَلِكَ الْقَابِلِ سَبَبًا لِرُجْحَانِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجِسْمَ لَمَّا كَانَ قَابِلًا لِلْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ عَلَى السَّوِيَّةِ، امْتَنَعَ أَنْ تَصِيرَ ذَاتُ الْجِسْمِ سَبَبًا لِرُجْحَانِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ قَالُوا لَا نَقُولُ إِنَّ ذَاتَ النفس والعقل يوجب هَذَا الرُّجْحَانَ، بَلْ نَقُولُ إِنَّهُ يُرِيدُ تَحْصِيلَ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، فَتَصِيرُ تِلْكَ الْإِرَادَةُ سَبَبًا لِذَلِكَ الرُّجْحَانِ، فَنَقُولُ هَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ ذَاتَ النَّفْسِ كَمَا أَنَّهَا قَابِلَةٌ لِهَذِهِ الْإِرَادَةِ، فَكَذَلِكَ ذَاتُ الْعَقْلِ قَابِلَةٌ لِإِرَادَةٍ مُضَادَّةٍ لِتِلْكَ الْإِرَادَةِ، فَيَمْتَنِعُ كَوْنُ جَوْهَرِ النَّفْسِ سَبَبًا لِتِلْكَ الْإِرَادَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ حُصُولَ الْهِدَايَةِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ فَاعِلٍ وَمِنْ قَابِلٍ أَمَّا الْفَاعِلُ: فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّفْسَ، بَلِ الْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا الْقَابِلُ: فَهُوَ جَوْهَرُ النَّفْسِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ثُمَّ قَالَ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ/ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي لَفْظِ الْآيَةِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ يُقَالُ إِنَّهُ قَالَ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ وَلَا يَصِحُّ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ أَنْ يَدْخُلَ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى الِاسْمِ وَعَلَى الْخَبَرِ مَعًا، فَلَا يُقَالُ أَزَيْدٌ أَتَقْتُلُهُ، بل هاهنا شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ كَمَا دَخَلَ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى الشَّرْطِ وَعَلَى الْجَزَاءِ، فَكَذَلِكَ دَخَلَ حَرْفُ الْفَاءِ عَلَيْهِمَا مَعًا وَهُوَ قَوْلُهُ: أَفَمَنْ حَقَّ، أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ وَلِأَجْلِ هَذَا السُّؤَالِ اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ: الآية جملتنا وَالتَّقْدِيرُ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، أَفَأَنْتَ تَحْمِيهِ، أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَصْلُ الْكَلَامِ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُهُ، وَهِيَ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ دَخَلَ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الْإِنْكَارِ وَالْفَاءُ فَاءُ الْجَزَاءِ، ثُمَّ دَخَلَتِ الْفَاءُ الَّتِي فِي أَوَّلِهَا لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ وَالتَّقْدِيرُ أَأَنْتَ مَالِكُ أَمْرِهِمْ، فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُهُ، وَالْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْأُولَى كُرِّرَتْ لِتَوْكِيدِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ، وَوُضِعَ مَنْ فِي النَّارِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ، وَالْآيَةُ عَلَى هَذَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ الثَّالِثُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إن حرف الاستفهام إنما ورد هاهنا لِإِفَادَةِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَلَمَّا كَانَ اسْتِنْكَارُهُ هَذَا/ الْمَعْنَى كَامِلًا تَامًّا. لَا جَرَمَ ذَكَرَ هَذَا الْحَرْفَ فِي الشَّرْطِ وَأَعَادَهُ فِي الْجَزَاءِ تَنْبِيهًا عَلَى الْمُبَالَغَةِ التَّامَّةِ فِي ذَلِكَ الْإِنْكَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ فَإِذَا حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَيْهِ امْتَنَعَ مِنْهُ فِعْلُ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ انْقِلَابُ خَبَرِ اللَّهِ الصِّدْقِ كَذِبًا، وَانْقِلَابُ عِلْمِهِ جَهْلًا وَهُوَ مُحَالٌ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّ حَقِّيَّةَ كَلِمَةِ الْعَذَابِ تُوجِبُ الِاسْتِنْكَارَ التَّامَّ مِنْ صُدُورِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا وَلَمْ تَكُنْ حَقِيقَةُ كَلِمَةِ الْعَذَابِ مَانِعَةً مِنْهُ لَمْ يَبْقَ لِهَذَا الِاسْتِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ مَعْنًى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْقَاضِي بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَشْفَعُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ، قَالَ لِأَنَّهُ حَقَّ عَلَيْهِمُ

[سورة الزمر (39) : آية 21]

الْعَذَابُ فَتِلْكَ الشَّفَاعَةُ تَكُونُ جَارِيَةً مَجْرَى إِنْقَاذِهِمْ مِنَ النَّارِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ، فَيُقَالُ لَهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ قَدْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ وَكَيْفَ يَحِقُّ الْعَذَابُ عَلَيْهِمْ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] وَمَعَ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزُّمَرِ: 53] وَاللَّهُ أَعْلَمُ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي وَعَدَهَا اللَّهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا وَأَنَابُوا قَوْلُهُ تَعَالَى: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ وَهَذَا كَالْمُقَابِلِ لِمَا ذُكِرَ فِي وَصْفِ الْكُفَّارِ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر: 16] فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى قَوْلِهِ مَبْنِيَّةٌ؟ قُلْنَا لِأَنَّ الْمَنْزِلَ إِذَا بُنِيَ عَلَى مَنْزِلٍ آخَرَ تَحْتَهُ كَانَ الْفَوْقَانِيُّ أَضْعَفَ بِنَاءً مِنَ التَّحْتَانِيِّ فَقَوْلُهُ: مَبْنِيَّةٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فَوْقَ غَيْرِهِ لَكِنَّهُ فِي الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ مُسَاوٍ لِلْمَنْزِلِ الْأَسْفَلِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَنْزِلَ الْفَوْقَانِيَّ وَالتَّحْتَانِيَّ حَصَلَ فِي كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَضِيلَةٌ وَمَنْقَصَةٌ، أَمَّا الْفَوْقَانِيُّ فَفَضِيلَتُهُ الْعُلُوُّ وَالِارْتِفَاعُ وَنُقْصَانُهُ الرَّخَاوَةُ وَالسَّخَافَةُ، وَأَمَّا التَّحْتَانِيُّ فَبِالضِّدِّ مِنْهُ، أَمَّا مَنَازِلُ الْجَنَّةِ فَإِنَّهَا تَكُونُ مُسْتَجْمِعَةً لِكُلِّ الْفَضَائِلِ وَهِيَ عَالِيَةٌ مُرْتَفِعَةٌ وَتَكُونُ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، وَقَالَ حُكَمَاءُ الْإِسْلَامِ هَذِهِ الْغُرَفُ الْمَبْنِيَّةُ بَعْضُهَا فَوْقَ الْبَعْضِ، مِثَالُهُ مِنَ الْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ الْعُلُومُ الْكَسْبِيَّةُ فَإِنَّ بَعْضَهَا يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى الْبَعْضِ وَالنَّتَائِجُ الْآخِرَةُ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ تَكُونُ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ بَلْ تَكُونُ فِي الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ كَالْعُلُومِ الْأَصْلِيَّةِ الْبَدِيهِيَّةِ. ثُمَّ قَالَ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ، ثُمَّ خَتَمَ الْكَلَامَ فَقَالَ: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ فَقَوْلُهُ: وَعْدَ اللَّهِ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَهُمْ غُرَفٌ فِي مَعْنَى وَعَدَهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ وَفِي الْآيَةِ دَقِيقَةٌ شَرِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْوَعْدِ صَرَّحَ بِأَنَّ هَذَا وَعْدُ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي آيَاتِ الْوَعِيدِ أَلْبَتَّةَ مِثْلَ هَذَا التَّأْكِيدِ وَالتَّقْوِيَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الْوَعْدِ أَرْجَحُ مِنْ جَانِبِ الْوَعِيدِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، فَإِنْ قَالُوا أَلَيْسَ أَنَّهُ قَالَ فِي جَانِبِ الْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق: 29] قُلْنَا قَوْلُهُ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ لَيْسَ تَصْرِيحًا بِجَانِبِ الْوَعِيدِ بَلْ هُوَ كَلَامٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْقِسْمَيْنِ أَعْنِي الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، فَثَبَتَ أَنَّ التَّرْجِيحَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ حَقٌّ والله أعلم. [سورة الزمر (39) : آية 21] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْآخِرَةَ بِصِفَاتٍ تُوجِبُ الرَّغْبَةَ الْعَظِيمَةَ لِأُولِي الْأَلْبَابِ فِيهَا وَصَفَ الدُّنْيَا بِصِفَةٍ تُوجِبُ اشْتِدَادَ النَّفْرَةِ عَنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً وَهُوَ الْمَطَرُ وَقِيلَ كُلُّ مَا كَانَ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ مِنَ السَّمَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُنْزِلُهُ إِلَى بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ثُمَّ يُقَسِّمُهُ فَيَسْلُكُهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ فَيُدْخِلُهُ وَيُنَظِّمُهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ عُيُونًا، وَمَسَالِكَ وَمَجَارِيَ كَالْعُرُوقِ فِي الْأَجْسَامِ، يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ مِنْ خُضْرَةٍ وَحُمْرَةٍ وَصُفْرَةٍ وَبَيَاضٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ مُخْتَلِفًا أَصْنَافُهُ مِنْ بُرٍّ وَشَعِيرٍ وَسِمْسِمٍ ثُمَّ يَهِيجُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا تَمَّ جَفَافُهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْ مَنَابِتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَتَفَرَّقْ أَجْزَاؤُهُ، فَتِلْكَ الْأَجْزَاءُ كَأَنَّهَا هَاجَتْ لِأَنْ تَتَفَرَّقَ ثُمَّ يَصِيرُ حُطَامًا يَابِسًا إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى يَعْنِي أَنَّ مَنْ شَاهَدَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ فِي النَّبَاتِ عَلِمَ أَنَّ أَحْوَالَ الْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ كَذَلِكَ وَأَنَّهُ

[سورة الزمر (39) : الآيات 22 إلى 28]

وَإِنْ طَالَ عُمُرُهُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ مُصْفَرَّ اللَّوْنِ مُنْحَطِمَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَجْزَاءِ، ثُمَّ تَكُونُ عَاقِبَتُهُ الْمَوْتَ. فَإِذَا كَانَتْ مُشَاهَدَةُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي النَّبَاتِ تُذَكِّرُهُ حُصُولَ مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي نَفْسِهِ وَفِي حَيَاتِهِ، فَحِينَئِذٍ تَعْظُمُ نَفْرَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ ذَكَرَ مَا يُقَوِّي الرَّغْبَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُقَوِّي النَّفْرَةَ عَنِ الدُّنْيَا، فَشَرْحُ صِفَاتِ الْقِيَامَةِ يُقَوِّي الرَّغْبَةَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَشَرْحُ صِفَاتِ الدُّنْيَا يُقَوِّي النَّفْرَةَ عَنِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا قَدَّمَ التَّرْغِيبَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى التَّنْفِيرِ عَنِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ التَّرْغِيبَ فِي الْآخِرَةِ مَقْصُودٌ بِالذَّاتِ، وَالتَّنْفِيرَ عَنِ الدُّنْيَا مَقْصُودٌ بِالْعَرَضِ، وَالْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَقْصُودِ بِالْعَرَضِ، فَهَذَا تمام الكلام في تفسير الآية، بقي هاهنا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَحْثِ عَنِ الْأَلْفَاظِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْيَنَابِيعُ جَمْعُ يَنْبُوعٍ وَهُوَ يَفْعُولٌ مِنْ نَبَعَ يَنْبُعُ يُقَالُ نَبَعَ الْمَاءُ يَنْبَعُ وَيَنْبِعُ وَيَنْبُعُ ثَلَاثُ لُغَاتٍ ذَكَرَهَا الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ، وَقَوْلُهُ يَنابِيعَ نُصِبَ بِحَذْفِ الْخَافِضِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فَسَلَكَهُ فِي يَنَابِيعَ ثُمَّ يَهِيجُ أَيْ يَخْضَرُّ، وَالْحُطَامُ مَا يجف ويتفتت ويكسر من النبت. [سورة الزمر (39) : الآيات 22 الى 28] أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) [في قَوْلَهُ تَعَالَى أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي تَقْرِيرِ الْبَيَانَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْإِقْبَالِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَوُجُوبِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَذِهِ الْبَيَانَاتِ لَا يَكْمُلُ إِلَّا إِذَا شَرَحَ اللَّهُ الصُّدُورَ وَنَوَّرَ الْقُلُوبَ فَقَالَ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّا بَالَغْنَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الْأَنْعَامِ: 125] / فِي تَفْسِيرِ شَرْحِ الصَّدْرِ وَفِي تَفْسِيرِ الْهِدَايَةِ، وَلَا بأس بإعادة كلام قليل هاهنا، فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ جَوَاهِرَ النُّفُوسِ مُخْتَلِفَةً بِالْمَاهِيَّةِ فَبَعْضُهَا خَيِّرَةٌ نُورَانِيَّةٌ شَرِيفَةٌ مَائِلَةٌ إِلَى الْإِلَهِيَّاتِ عَظِيمَةُ الرَّغْبَةِ فِي الِاتِّصَالِ بِالرُّوحَانِيَّاتِ، وَبَعْضُهَا نَذْلَةٌ كَدِرَةٌ خَسِيسَةٌ مَائِلَةٌ إِلَى الْجُسْمَانِيَّاتِ وَفِي هَذَا التَّفَاوُتِ أَمْرٌ حَاصِلٌ فِي جَوَاهِرِ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَالِاسْتِقْرَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الْمُرَادُ بِشَرْحِ الصَّدْرِ هُوَ ذَلِكَ الِاسْتِعْدَادُ الشَّدِيدُ الْمَوْجُودُ فِي فِطْرَةِ النَّفْسِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الِاسْتِعْدَادُ الشَّدِيدُ حَاصِلًا كَفَى خُرُوجُ تِلْكَ الْحَالَةِ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى

الْفِعْلِ بِأَدْنَى سَبَبٍ، مِثْلَ الْكِبْرِيتِ الَّذِي يَشْتَعِلُ بِأَدْنَى نَارٍ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ النَّفْسُ بَعِيدَةً عَنْ قَبُولِ هَذِهِ الْجَلَايَا الْقُدْسِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الرُّوحَانِيَّةِ، بَلْ كَانَتْ مُسْتَغْرِقَةً فِي طَلَبِ الْجُسْمَانِيَّاتِ قَلِيلَةَ التَّأَثُّرِ عَنِ الْأَحْوَالِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْإِلَهِيَّاتِ فَكَانَتْ قَاسِيَةً كَدِرَةً ظَلْمَانِيَّةً، وَكُلَّمَا كَانَ إِيرَادُ الدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ وَالْبَرَاهِينِ الْبَاهِرَةِ عَلَيْهَا أَكْثَرَ كَانَتْ قَسْوَتُهَا وَظُلْمَتُهَا أَقَلَّ. إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ فَنَقُولُ. أَمَّا شَرْحُ الصَّدْرِ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا النُّورُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْهِدَايَةِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَمَا لَمْ يَحْصُلْ شَرْحُ الصَّدْرِ أَوَّلًا لَمْ يَحْصُلِ النُّورُ ثَانِيًا، وَإِذَا كَانَ الْحَاصِلُ هُوَ الْقُوَّةَ النَّفْسَانِيَّةَ لَمْ يَحْصُلِ الِانْتِفَاعُ الْبَتَّةَ بِسَمَاعِ الدَّلَائِلِ، وَرُبَّمَا صَارَ سَمَاعُ الدَّلَائِلِ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْقَسْوَةِ وَلِشِدَّةِ النَّفْرَةِ فَهَذِهِ أُصُولٌ يَقِينِيَّةٌ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً عِنْدَ الْإِنْسَانِ حَتَّى يُمْكِنَهُ الْوُقُوفُ عَلَى مَعَانِي هَذِهِ الْآيَاتِ، أَمَّا اسْتِدْلَالُ أَصْحَابِنَا فِي مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ وَكَلَامُ الْخُصُومِ عَلَيْهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ محذوف الخبر كما في قوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ [الزمر: 9] وَالتَّقْدِيرُ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَاهْتَدَى كَمَنْ طُبِعَ عَلَى قَلْبِهِ فَلَمْ يَهْتَدِ لِقَسْوَتِهِ، وَالْجَوَابُ مَتْرُوكٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ دَلَّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ سَبَبٌ لِحُصُولِ النُّورِ وَالْهِدَايَةِ وَزِيَادَةِ الِاطْمِئْنَانِ كَمَا قَالَ: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْدِ: 28] فَكَيْفَ جَعَلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سَبَبًا لِحُصُولِ قَسْوَةِ الْقَلْبِ، وَالْجَوَابُ أَنْ نَقُولَ إِنَّ النَّفْسَ إِذَا كَانَتْ خَبِيثَةَ الْجَوْهَرِ كَدِرَةَ الْعُنْصُرِ بَعِيدَةً عَنْ مُنَاسَبَةِ الرُّوحَانِيَّاتِ شَدِيدَةَ الْمَيْلِ إِلَى الطَّبَائِعِ الْبَهِيمِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، فَإِنَّ سَمَاعَهَا لِذِكْرِ اللَّهِ يَزِيدُهَا قَسْوَةً وَكُدُورَةً، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ بِالْأَمْثِلَةِ فَإِنَّ الْفَاعِلَ الْوَاحِدَ تَخْتَلِفُ أَفْعَالُهُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْقَوَابِلِ كَنُورِ الشَّمْسِ يُسَوِّدُ وجه القصار ويبيض ثوبه، وحرارة الشمس وَتُعَقِّدُ الْمِلْحَ، وَقَدْ نَرَى إِنْسَانًا وَاحِدًا يَذْكُرُ كَلَامًا وَاحِدًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَيَسْتَطِيبُهُ وَاحِدٌ وَيَسْتَكْرِهُهُ غَيْرُهُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنِ اخْتِلَافِ جَوَاهِرِ النُّفُوسِ، وَمِنِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ تِلْكَ النُّفُوسِ، وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ وَكَانَ قَدْ حَضَرَ هُنَاكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وإنسان آخر فلما انتهى رسول الله عليه السّلام إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ قَالَ كُلٌّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 12- 14] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ «اكْتُبْ فَهَكَذَا أُنْزِلَتْ» فَازْدَادَ عُمَرُ إِيمَانًا عَلَى إِيمَانٍ وَازْدَادَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ كُفْرًا عَلَى كُفْرٍ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا لَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ اللَّهِ يُوجِبُ النُّورَ وَالْهِدَايَةَ وَالِاطْمِئْنَانَ فِي النُّفُوسِ الطَّاهِرَةِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَيُوجِبُ الْقَسْوَةَ وَالْبُعْدَ عَنِ الْحَقِّ فِي النُّفُوسِ الْخَبِيثَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّ رَأَسَ الْأَدْوِيَةِ الَّتِي تُفِيدُ الصِّحَّةَ الرُّوحَانِيَّةَ وَرَئِيسُهَا هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا اتَّفَقَ لِبَعْضِ النُّفُوسِ أَنْ صَارَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى سَبَبًا لِازْدِيَادِ مَرَضِهَا كَانَ مَرَضُ تِلْكَ النَّفْسِ مَرَضًا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ وَلَا يُتَوَقَّعُ عِلَاجُهُ وَكَانَتْ فِي نِهَايَةِ الشَّرِّ وَالرَّدَاءَةِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَهَذَا كَلَامٌ كَامِلٌ مُحَقَّقٌ، وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ سَبَبٌ لِحُصُولِ النُّورِ وَالشِّفَاءِ وَالْهِدَايَةِ وَزِيَادَةِ الِاطْمِئْنَانِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ صَارَ سَبَبًا لِمَزِيدِ الْقَسْوَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ جَوْهَرَ تِلْكَ النَّفْسِ قَدْ بَلَغَ فِي الرَّدَاءَةِ وَالْخَسَاسَةِ إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ، فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْقُرْآنَ بِأَنْوَاعٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ. الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وَفِيهِ مسائل:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَائِلُونَ بِحُدُوثِ الْقُرْآنِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ حَدِيثًا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطُّورِ: 34] وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ [الْوَاقِعَةِ: 81] وَالْحَدِيثُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ حَادِثًا، قَالُوا بَلِ الْحَدِيثُ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُدُوثِ مِنَ الْحَادِثِ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هَذَا حَدِيثٌ وَلَيْسَ بِعَتِيقٍ، وَهَذَا عَتِيقٌ وَلَيْسَ بِحَادِثٍ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحَدِيثَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْحَدِيثِ، وَسُمِّيَ الْحَدِيثُ حَدِيثًا لِأَنَّهُ مُؤَلَّفٌ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْكَلِمَاتِ، وَتِلْكَ الْحُرُوفُ وَالْكَلِمَاتُ تَحْدُثُ حَالًا فَحَالًا وَسَاعَةً فَسَاعَةً، فَهَذَا تَمَامُ تَقْرِيرِ هَذَا الْوَجْهِ. أَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ اسْتِدْلَالِ الْقَوْمِ أَنْ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأَنَّهُ نَزَّلَهُ وَالْمُنَزَّلُ يَكُونُ فِي مَحَلِّ تَصَرُّفِ الْغَيْرِ. وَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ وَحَادِثٌ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي بَيَانِ اسْتِدْلَالِ الْقَوْمِ أَنْ قَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هُوَ مِنْ جِنْسِ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ زَيْدٌ أَفْضَلُ الْإِخْوَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ مُشَارِكًا لِأُولَئِكَ الْأَقْوَامِ فِي صِفَةِ الْأُخُوَّةِ وَيَكُونَ مِنْ جِنْسِهِمْ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ جِنْسِ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ، وَلَمَّا كَانَ سَائِرُ الْأَحَادِيثِ حَادِثَةً وَجَبَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ حَادِثًا. أَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي الِاسْتِدْلَالِ أَنْ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ كِتَابًا وَالْكِتَابُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْكُتْبَةِ وَهِيَ الِاجْتِمَاعُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَجْمُوعٌ جَامِعٌ وَمَحَلُ تَصَرُّفِ مُتَصَرِّفٍ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُحْدَثًا وَالْجَوَابُ: أَنْ نَقُولَ نَحْمِلُ هَذَا الدَّلِيلَ عَلَى الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَالْأَلْفَاظِ وَالْعِبَارَاتِ، وَذَلِكَ الْكَلَامُ عِنْدَنَا مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُ الْقُرْآنِ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ بِحَسَبِ لَفْظِهِ أَوْ بِحَسَبِ مَعْنَاهُ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ بِحَسَبِ لَفْظِهِ وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحُسْنُ لِأَجْلِ الْفَصَاحَةِ وَالْجَزَالَةِ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِحَسَبِ النَّظْمِ فِي الْأُسْلُوبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الشِّعْرِ، وَلَا مِنْ جِنْسِ الْخُطَبِ. وَلَا مِنْ جِنْسِ الرَّسَائِلِ، بَلْ هُوَ نَوْعٌ يُخَالِفُ الْكُلَّ، مَعَ أَنَّ كُلَّ ذِي طَبْعٍ سَلِيمٍ يَسْتَطِيبُهُ وَيَسْتَلِذُّهُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ لِأَجْلِ الْمَعْنَى، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كِتَابٌ مُنَزَّهٌ عَنِ التَّنَاقُضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاءِ: 82] وَمِثْلُ هَذَا الْكِتَابِ إِذَا خَلَا عَنِ التَّنَاقُضِ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْوَجْهُ الثَّانِي: اشْتِمَالُهُ عَلَى الْغُيُوبِ الْكَثِيرَةِ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعُلُومَ الْمَوْجُودَةَ فِيهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَضَبْطُ هَذِهِ الْعُلُومِ أَنْ نَقُولَ: الْعُلُومُ النَّافِعَةُ هِيَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الْبَقَرَةِ: 285] فَهَذَا أَحْسَنُ ضَبْطٍ يُمْكِنُ ذِكْرُهُ لِلْعُلُومِ النَّافِعَةِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: مَعْرِفَةُ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ

وَالْأَحْكَامِ وَالْأَسْمَاءِ. أَمَّا مَعْرِفَةُ الذَّاتِ فَهِيَ أَنْ يَعْلَمَ وُجُودَ اللَّهِ وَقِدَمَهُ وَبَقَاءَهُ. وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الصِّفَاتِ فَهِيَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْهُ، وَهُوَ كَوْنُهُ جَوْهَرًا وَمُرَكَّبًا مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَجْزَاءِ وَكَوْنُهُ مُخْتَصًّا بِحَيِّزٍ وَجِهَةٍ، وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الدَّالَّةَ عَلَى التَّنْزِيهِ أَرْبَعَةٌ: لَيْسَ وَلَمْ وَمَا وَلَا، وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ، مَذْكُورَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِبَيَانِ التَّنْزِيهِ. أَمَّا كَلِمَةُ لَيْسَ فَقَوْلُهُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: 11] وَأَمَّا كَلِمَةُ لَمْ، فَقَوْلُهُ: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الْإِخْلَاصِ: 3، 4] وَأَمَّا كَلِمَةُ مَا فَقَوْلُهُ: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مَرْيَمَ: 64] ، مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مَرْيَمَ: 35] وَأَمَّا كَلِمَةُ لَا، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [الْبَقَرَةِ: 255] ، وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الْأَنْعَامِ: 14] ، وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ [الْمُؤْمِنُونَ: 88] ، وَقَوْلُهُ فِي سَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ مَوْضِعًا مِنَ الْقُرْآنِ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: 19] . وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: وَهِيَ الصِّفَاتُ الَّتِي يَجِبُ كونه موصوفا بها من القرآن فأولها الْعِلْمُ بِاللَّهِ، وَالْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مُحْدِثًا خَالِقًا، قَالَ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَامِ: 1] وثانيها: الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا، قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْقِيَامَةِ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [الْقِيَامَةِ: 4] وَقَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [القيامة: 40] وثالثها: الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا، قَالَ تَعَالَى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [الحشر: 22] ورابعها: الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، قَالَ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَامِ: 59] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى [الرعد: 8] وخامسها: الْعِلْمُ/ بِكَوْنِهِ حَيًّا، قَالَ تَعَالَى: هُوَ الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غافر: 65] وسادسها: الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مُرِيدًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام: 125] وسابعها: كَوْنُهُ سَمِيعًا بَصِيرًا، قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشُّورَى: 11] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: 46] وثامنها: كونه متكلما، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [لقمان: 27] وتاسعها: كَوْنُهُ آمِرًا، قَالَ تَعَالَى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الرُّومِ: 4] وعاشرها: كَوْنُهُ رَحْمَانًا رَحِيمًا مَالِكًا، قَالَ تَعَالَى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَةِ: 3، 4] فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَةِ الصِّفَاتِ الَّتِي يَجِبُ اتِّصَافُهُ بِهَا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَفْعَالُ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَفْعَالَ إِمَّا أَرْوَاحٌ وَإِمَّا أَجْسَامٌ. أَمَّا الْأَرْوَاحُ فَلَا سَبِيلَ لِلْوُقُوفِ عَلَيْهَا إِلَّا لِلْقَلِيلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [الْمُدَّثِّرِ: 31] وَأَمَّا الْأَجْسَامُ، فَهِيَ إِمَّا الْعَالَمُ الْأَعْلَى وَإِمَّا الْعَالَمُ الْأَسْفَلُ. أَمَّا الْعَالَمُ الْأَعْلَى فَالْبَحْثُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: الْبَحْثُ عَنْ أحوال السموات، وَثَانِيهَا: الْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ [الْأَعْرَافِ: 54] وَثَالِثُهَا: الْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ الْأَضْوَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّورِ: 35] وَقَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يُونُسَ: 5] وَرَابِعُهَا: الْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ الظِّلَالِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً [الْفُرْقَانِ: 45] وَخَامِسُهَا: اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ [الزمر: 5]

وَسَادِسُهَا: مَنَافِعُ الْكَوَاكِبِ، قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الْأَنْعَامِ: 97] وَسَابِعُهَا: صِفَاتُ الْجَنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الْحَدِيدِ: 21] وَثَامِنُهَا: صِفَاتُ النَّارِ، قَالَ تَعَالَى: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الْحِجْرِ: 44] وَتَاسِعُهَا: صِفَةُ الْعَرْشِ، قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ [غَافِرٍ: 7] وَعَاشِرُهَا: صِفَةُ الْكُرْسِيِّ، قَالَ تَعَالَى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْبَقَرَةِ: 255] وَحَادِيَ عَشَرَهَا: صِفَةُ اللَّوْحِ وَالْقَلَمِ. أَمَّا اللَّوْحُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [الْبُرُوجِ: 21، 22] وَأَمَّا الْقَلَمُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ [الْقَلَمِ: 1] . وَأَمَّا شَرْحُ أَحْوَالِ الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ فَأَوَّلُهَا: الْأَرْضُ، وَقَدْ وَصَفَهَا بِصِفَاتٍ كَثِيرَةٍ إِحْدَاهَا: كَوْنُهُ مَهْدًا، قَالَ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً [طه: 53] وثانيها: كَوْنُهُ مِهَادًا، قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: 6] وثالثها: كَوْنُهُ كِفَاتًا، قَالَ تَعَالَى: كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً [المرسلات: 24، 25] ورابعها: الذَّلُولُ، قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا [الْمُلْكِ: 15] وخامسها: كَوْنُهُ بِسَاطًا، قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً [نُوحٍ: 19، 20] وَالْكَلَامُ فِيهِ طَوِيلٌ وَثَانِيهَا: الْبَحْرُ، قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا [النَّحْلِ: 14] وَثَالِثُهَا: الْهَوَاءُ وَالرِّيَاحُ. قَالَ تَعَالَى: / وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الْأَعْرَافِ: 57] وَقَالَ تَعَالَى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الْحِجْرِ: 22] وَرَابِعُهَا: الْآثَارُ الْعُلْوِيَّةُ كَالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ، قَالَ تَعَالَى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الرَّعْدِ: 13] وَقَالَ تَعَالَى: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [النور: 43] وَمِنْ هَذَا الْبَابِ ذِكْرُ الصَّوَاعِقِ وَالْأَمْطَارِ وَتَرَاكُمِ السَّحَابِ وَخَامِسُهَا: أَحْوَالُ الْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَأَنْوَاعِهَا وَأَصْنَافِهَا، وَسَادِسُهَا: أَحْوَالُ الْحَيَوَانَاتِ، قَالَ تَعَالَى: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ [الْبَقَرَةِ: 164] وَقَالَ: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ [النَّحْلِ: 5] وَسَابِعُهَا: عَجَائِبُ تَكْوِينِ الْإِنْسَانِ فِي أَوَّلِ الْخِلْقَةِ، قَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 12] وَثَامِنُهَا: الْعَجَائِبُ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَلِسَانِهِ وَعَقْلِهِ وَفَهْمِهِ وَتَاسِعُهَا: تَوَارِيخُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُلُوكِ وَأَحْوَالُ النَّاسِ مِنْ أَوَّلِ خَلْقِ الْعَالَمِ إِلَى آخِرِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَعَاشِرُهَا ذِكْرُ أَحْوَالِ النَّاسِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ، وَكَيْفِيَّةُ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَشَرْحُ أَحْوَالِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ، فَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى عَشَرَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعُلُومِ فِي عالم السموات، وَإِلَى عَشَرَةٍ أُخْرَى فِي عَالَمِ الْعَنَاصِرِ، وَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى شَرْحِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْعُلُومِ الْعَالِيَةِ الرَّفِيعَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ شَرْحُ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكَالِيفِهِ، فَنَقُولُ هَذِهِ التَّكَالِيفُ إِمَّا أَنْ تَحْصُلَ فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ أَوْ فِي أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ الْمُسَمَّى بِعِلْمِ الْأَخْلَاقِ وَبَيَانِ تَمْيِيزِ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ وَالْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى كُلِّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النَّحْلِ: 90] ، وَقَالَ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الْأَعْرَافِ: 199] .

وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ التَّكَالِيفُ الْحَاصِلَةُ فِي أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِعِلْمِ الْفِقْهِ وَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى جُمْلَةِ أُصُولِ هَذَا الْعِلْمِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ: وَهُوَ مَعْرِفَةُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مَذْكُورٌ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الْأَعْرَافِ: 180] فَهَذَا كُلُّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: مِنَ الْأُصُولِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْإِيمَانِ الْإِقْرَارُ بِالْمَلَائِكَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ [الْبَقَرَةِ: 285] وَالْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ صِفَاتِهِمْ تَارَةً عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَأُخْرَى عَلَى طَرِيقِ التَّفْصِيلِ، أَمَّا بِالْإِجْمَالِ فَقَوْلُهُ: وَمَلائِكَتِهِ وَأَمَّا بِالتَّفْصِيلِ فَمِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ رُسُلُ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فَاطِرٍ: 1] وَمِنْهَا أَنَّهَا مُدَبِّرَاتٌ لِهَذَا الْعَالَمِ، قَالَ تَعَالَى: فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً [الذاريات: 4] فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [النَّازِعَاتِ: 5] وَقَالَ تَعَالَى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا [الصَّافَّاتِ: 1] وَمِنْهَا حَمَلَةُ الْعَرْشِ قَالَ: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الْحَاقَّةِ: 17] وَمِنْهَا الْحَافُّونَ حَوْلَ الْعَرْشِ قَالَ: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزُّمَرِ: 75] وَمِنْهَا خَزَنَةُ النَّارِ قَالَ تَعَالَى: عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ [التَّحْرِيمِ: 6] وَمِنْهَا الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ قَالَ: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ [الِانْفِطَارِ: 10، 11] وَمِنْهَا الْمُعَقِّبَاتُ قَالَ تَعَالَى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [الرَّعْدِ: 11] وَقَدْ يَتَّصِلُ بِأَحْوَالِ الْمَلَائِكَةِ أَحْوَالُ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مِنَ الْأُصُولِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْإِيمَانِ مَعْرِفَةُ الْكُتُبِ وَالْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ أَحْوَالِ كِتَابِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [الْبَقَرَةِ: 37] وَمِنْهَا أَحْوَالُ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [الْبَقَرَةِ: 124] وَمِنْهَا أَحْوَالُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مِنَ الْأُصُولِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْإِيمَانِ مَعْرِفَةُ الرُّسُلِ وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ شَرَحَ أَحْوَالَ الْبَعْضِ وَأَبْهَمَ أَحْوَالَ الْبَاقِينَ قَالَ: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غَافِرٍ: 78] . الْقِسْمُ الْخَامِسُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَهِيَ عَلَى نَوْعَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنْ يُقِرُّوا بِوُجُوبِ هَذِهِ التَّكَالِيفِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا، الثَّانِي: أَنْ يَعْتَرِفُوا بِصُدُورِ التَّقْصِيرِ عَنْهُمْ فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ ثُمَّ طَلَبُوا الْمَغْفِرَةَ وَهُوَ الْمُرَادُ من قوله: غُفْرانَكَ رَبَّنا ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ مَقَادِيرُ رُؤْيَةِ التَّقْصِيرِ فِي مَوَاقِفِ الْعُبُودِيَّةِ بِحَسَبِ الْمُكَاشَفَاتِ فِي مُطَالَعَةِ عِزَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ أَكْثَرَ، كَانَتِ الْمُكَاشَفَاتُ فِي تَقْصِيرِ الْعُبُودِيَّةِ أَكْثَرَ وَكَانَ قَوْلُهُ: غُفْرانَكَ رَبَّنا أَكْثَرَ. الْقِسْمُ السَّادِسُ: مَعْرِفَةُ الْمَعَادِ وَالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الْبَقَرَةِ: 285] وَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَطَالِبِ الْمُهِمَّةِ فِي طَلَبِ الدِّينِ، وَالْقُرْآنُ بَحْرٌ لَا نِهَايَةَ لَهُ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ وَتَعْرِيفِهَا وَشَرْحِهَا وَلَا تَرَى فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا كِتَابًا يَشْتَمِلُ عَلَى جُمْلَةِ هَذِهِ الْعُلُومِ كَمَا يَشْتَمِلُ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا. وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ عَلِمَ أَنَّا لَمْ نَذْكُرْ مِنْ بِحَارِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ إِلَّا قَطْرَةً، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ، لَا جَرَمَ مَدَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْقُرْآنَ فَقَالَ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أعلم.

الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى كِتاباً مُتَشابِهاً أَمَّا الْكِتَابُ فَقَدْ فَسَّرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَةِ: 2] وَأَمَّا كَوْنُهُ مُتَشَابِهًا فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُتَشَابِهٌ. وَقَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آلِ عِمْرَانَ: 7] يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْبَعْضِ مُتَشَابِهًا دُونَ الْبَعْضِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ كُلِّهِ مُتَشَابِهًا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَأَقُولُ هَذَا التَّشَابُهُ يَحْصُلُ فِي أُمُورٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْكَاتِبَ الْبَلِيغَ إِذَا كَتَبَ كِتَابًا طَوِيلًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ بَعْضُ كَلِمَاتِهِ فَصِيحًا، وَيَكُونُ الْبَعْضُ غَيْرَ فَصِيحٍ، وَالْقُرْآنُ يُخَالِفُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ فَصِيحٌ كَامِلُ الْفَصَاحَةِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْفَصِيحَ إِذَا كَتَبَ كِتَابًا فِي وَاقِعَةٍ بِأَلْفَاظٍ فَصَيْحَةٍ فَلَوْ كَتَبَ كِتَابًا آخَرَ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ كَانَ الْغَالِبُ أَنَّ كَلَامَهُ فِي الْكِتَابِ الثَّانِي غَيْرُ كَلَامِهِ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَاللَّهُ تَعَالَى حَكَى قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَكُلُّهَا مُتَسَاوِيَةٌ مُتَشَابِهَةٌ فِي الْفَصَاحَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ كُلَّ مَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَيَانَاتِ فَإِنَّهُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُؤَكِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي عَدَدْنَاهَا مُتَشَابِهَةً مُتَشَارِكَةٌ فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا بِأَسْرِهَا الدَّعْوَةُ إِلَى/ الدِّينِ وَتَقْرِيرُ عَظَمَةِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّكَ لَا تَرَى قِصَّةً مِنَ الْقِصَصِ إِلَّا وَيَكُونُ مُحَصِّلُهَا الْمَقْصُودَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ مُتَشَابِهًا، وَاللَّهُ الْهَادِي. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ كَوْنُهُ مَثَانِيَ وَقَدْ بَالَغْنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ عِنْدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الْحِجْرِ: 87] وَبِالْجُمْلَةِ فَأَكْثَرُ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ وَقَعَتْ زَوْجَيْنِ زَوْجَيْنِ مِثْلَ: الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ، والمجمل والمفصل، وأحوال السموات وَالْأَرْضِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالظُّلْمَةِ وَالضَّوْءِ، وَاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ، وَالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ، وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى الْحَقِّ زَوْجٌ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مُبْتَلًى بِضِدِّهِ وَنَقِيضِهِ وَأَنَّ الْفَرْدَ الْأَحَدَ الْحَقَّ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وفيه مسائل: المسألة الأولى: معنى تقشعر جلودهم تَأْخُذُهُمْ قُشَعْرِيرَةٌ وَهِيَ تَغَيُّرٌ يَحْدُثُ فِي جِلْدِ الْإِنْسَانِ عِنْدَ الْوَجَلِ وَالْخَوْفِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ آيَاتِ الرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ يَحْصُلُ لَهُمُ الْفَرَحُ فَتَلِينُ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَأَقُولُ إِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْعَارِفِينَ قَالُوا: السَّائِرُونَ في مبدأ إجلال اللَّهِ إِنْ نَظَرُوا إِلَى عَالَمِ الْجَلَالِ طَاشُوا، وَإِنْ لَاحَ لَهُمْ أَثَرٌ مِنْ عَالَمِ الْجَمَالِ عَاشُوا، وَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَذْكُرَ فِي هَذَا الْبَابِ مَزِيدَ شَرْحٍ وَتَقْرِيرٍ، فَنَقُولَ الْإِنْسَانُ إِذَا تَأَمَّلَ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنِ التَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ. فَهُنَا يَقْشَعِرُّ جِلْدُهُ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ مَوْجُودٍ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ ولا خارج وَلَا مُتَّصِلٌ بِالْعَالَمِ وَلَا مُنْفَصِلٌ عَنِ الْعَالَمِ، مِمَّا يَصْعُبُ تَصَوُّرُهُ فَهَهُنَا تَقْشَعِرُّ الْجُلُودُ، أَمَّا إِذَا تَأَمَّلَ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فَرْدًا أَحَدًا، وَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مُتَحَيِّزٍ فَهُوَ مُنْقَسِمٌ فَهَهُنَا يَلِينُ جِلْدُهُ وَقَلْبُهُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ. وَأَيْضًا إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحِيطَ عَقْلُهُ بِمَعْنَى الْأَزَلِ فَيَتَقَدَّمَ فِي ذِهْنِهِ بِمِقْدَارِ أَلْفِ أَلْفِ سَنَةٍ ثُمَّ يَتَقَدَّمَ أَيْضًا بِحَسَبِ كُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ لَحَظَاتِ تِلْكَ الْمُدَّةِ أَلْفِ أَلْفِ سَنَةٍ، وَلَا يَزَالُ يَحْتَالُ وَيَتَقَدَّمُ وَيَتَخَيَّلُ فِي الذِّهْنِ، فَإِذَا بَالَغَ وَتَوَغَّلَ وَظَنَّ أَنَّهُ اسْتَحْضَرَ مَعْنَى الْأَزَلِ قَالَ الْعَقْلُ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ كُلَّ مَا اسْتَحْضَرْتُهُ فِيَّ فَهُوَ مُتَنَاهٍ وَالْأَزَلُ هُوَ الْوُجُودُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ الْمُتَنَاهِيَةِ، فَهَهُنَا يَتَحَيَّرُ الْعَقْلُ وَيَقْشَعِرُّ الْجِلْدُ، وَأَمَّا إِذَا تَرَكَ

هذا الاعتبار وقال هاهنا مَوْجُودٌ وَالْمَوْجُودُ إِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ دَائِمًا مُنَزَّهٌ عَنِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْوَاجِبِ فَيَكُونُ أَزَلِيًّا أَبَدِيًّا، فَإِذَا اعْتَبَرَ الْعَقْلُ فَهِمَ مَعْنَى الْأَزَلِيَّةِ فَهَهُنَا يَلِينُ جِلْدُهُ وَقَلْبُهُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقَامَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْآيَةِ لَا يَجِبُ قَصْرُهُمَا عَلَى سَمَاعِ آية العذاب وآية الرحمة، بل ذاك أول تِلْكَ الْمَرَاتِبِ وَبَعْدَهُ مَرَاتِبُ لَا حَدَّ لَهَا وَلَا حَصْرَ فِي حُصُولِ تِلْكَ الْحَالَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَ/ اللَّهِ مَوْصُوفُونَ بِأَنَّهُمْ عِنْدَ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ، تَارَةً تَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ وَأُخْرَى تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ. وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ عُقُولَهُمْ تَزُولُ وَأَنَّ أَعْضَاءَهُمْ تَضْطَرِبُ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَحْوَالَ لَوْ حَصَلَتْ لَكَانَتْ مِنَ الشيطان، وأقول هاهنا بَحْثٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ الْغَزَالِيَّ أَوْرَدَ مَسْأَلَةً فِي كِتَابِ «إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ» ، وَهِيَ أَنَّا نَرَى كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَظْهَرُ عَلَيْهِ الْوَجْدُ الشَّدِيدُ التَّامُّ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَبْيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى شَرْحِ الْوَصْلِ وَالْهَجْرِ، وَعِنْدَ سَمَاعِ الْآيَاتِ لَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ سَلَّمَ هَذَا الْمَعْنَى وَذَكَرَ الْعُذْرَ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَأَنَا أَقُولُ: إِنِّي خُلِقْتُ مَحْرُومًا عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنِّي كُلَّمَا تَأَمَّلْتُ فِي أَسْرَارِ الْقُرْآنِ اقْشَعَرَّ جلدي وقف على شَعْرِي وَحَصَلَتْ فِي قَلْبِي دَهْشَةٌ وَرَوْعَةٌ، وَكُلَّمَا سَمِعْتُ تِلْكَ الْأَشْعَارِ غَلَبَ الْهَزْلُ عَلَيَّ وَمَا وَجَدْتُ أَلْبَتَّةَ فِي نَفْسِي مِنْهَا أَثَرًا، وَأَظُنُّ أَنَّ الْمَنْهَجَ الْقَوِيمَ وَالصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ هَذَا، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ تِلْكَ الْأَشْعَارَ كَلِمَاتٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى وَصْلٍ وَهَجْرٍ وَبُغْضٍ وَحُبٍّ تَلِيقُ بِالْخَلْقِ، وَإِثْبَاتُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كُفْرٌ، وَأَمَّا الِانْتِقَالُ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ إِلَى مَعَانٍ لَائِقَةٍ بِجَلَالِ اللَّهِ فَلَا يَصِلُ إِلَيْهَا إِلَّا الْعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وَأَمَّا الْمَعَانِي الَّتِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ فَهِيَ أَحْوَالٌ لَائِقَةٌ بِجَلَالِ اللَّهِ، فَمَنْ وَقَفَ عَلَيْهَا عَظُمَ الْوَلَهُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ نُورُ الْإِيمَانِ وَجَبَ أَنْ يَعْظُمَ اضْطِرَابُهُ عِنْدَ سَمَاعِ قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَامِ: 59] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنِّي سَمِعْتُ بَعْضَ الْمَشَايِخِ قَالَ كَمَا أَنَّ الْكَلَامَ لَهُ أَثَرٌ فَكَذَلِكَ صُدُورُ ذَلِكَ الْكَلَامِ مِنَ الْقَائِلِ الْمُعَيَّنِ لَهُ أَثَرٌ، لِأَنَّ قُوَّةَ نَفْسِ الْقَائِلِ تُعِينُ عَلَى نَفَاذِ الْكَلَامِ فِي الرُّوحِ، وَالْقَائِلُ فِي الْقُرْآنِ هُنَا هُوَ اللَّهُ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ بِتَبْلِيغِ الرَّسُولِ الْمَعْصُومِ، وَالْقَائِلُ هُنَاكَ شَاعِرٌ كَذَّابٌ مَمْلُوءٌ مِنَ الشَّهْوَةِ وَدَاعِيَةِ الْفُجُورِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَدَارَ الْقُرْآنِ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الشُّورَى: 52، 53] وَأَمَّا الشِّعْرُ فَمَدَارُهُ عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ تَعَالَى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ [الشُّعَرَاءِ: 224، 226] فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ فُرُوقٌ ظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوُجْدَانِ مِنَ النَّفْسِ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ إِنَّمَا يُخْبِرُ عَمَّا يَجِدُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَالَّذِي وَجَدْتُهُ مِنَ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ مَا ذَكَرْتُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي بَيَانِ مَا بَقِيَ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَذْكُرُهَا فِي مَعْرِضِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ تَرْكِيبُ لَفْظِ الْقُشَعْرِيرَةِ الْجَوَابُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» تَرْكِيبُهُ مِنْ حُرُوفِ التَّقَشُّعِ وَهُوَ الْأَدِيمُ الْيَابِسُ مَضْمُومًا إِلَيْهَا حَرْفٌ رَابِعٌ وَهُوَ الرَّاءُ لِيَكُونَ رُبَاعِيًّا وَدَالًّا عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ يُقَالُ: اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ من الخوف وقف شَعْرُهُ، وَذَلِكَ مَثَلٌ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ قَالَ: تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَمَا الْوَجْهُ فِي تَعَدِّيهِ/ بِحَرْفِ إِلَى؟ وَالْجَوَابُ: التَّقْدِيرُ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ حَالَ وُصُولِهَا إِلَى حَضْرَةِ اللَّهِ وَهُوَ لَا يُحَسُّ بالإدراك.

السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ إِلَى ذِكْرِ رَحْمَةِ اللَّهِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ لِأَجْلِ رَحْمَتِهِ فَهُوَ مَا أَحَبَّ اللَّهَ، وَإِنَّمَا أَحَبَّ شَيْئًا غَيْرَهُ، وَأَمَّا مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ لَا لِشَيْءٍ سِوَاهُ فَهَذَا هُوَ الْمُحِبُّ الْمُحِقُّ وَهُوَ الدَّرَجَةُ الْعَالِيَةُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمْ يَقُلْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ رَحْمَةِ اللَّهِ بَلْ قَالَ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الْأَنْعَامِ: 125] وَفِي قَوْلِهِ: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] وأيضا قال لأمة موسى: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 40] وَقَالَ أَيْضًا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 152] . السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لِمَ قَالَ فِي جَانِبِ الْخَوْفِ قُشَعْرِيرَةُ الْجُلُودِ فَقَطْ، وَفِي جَانِبِ الرَّجَاءِ لِينُ الْجُلُودِ وَالْقُلُوبِ مَعًا؟ وَالْجَوَابُ: لِأَنَّ الْمُكَاشَفَةَ فِي مَقَامِ الرَّجَاءِ أَكْمَلُ مِنْهَا فِي مَقَامِ الْخَوْفِ، لِأَنَّ الْخَيْرَ مَطْلُوبٌ بِالذَّاتِ وَالشَّرَّ مَطْلُوبٌ بِالْعَرَضِ وَمَحَلُّ الْمُكَاشَفَاتِ هُوَ الْقُلُوبُ وَالْأَرْوَاحُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْقُرْآنَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ قَالَ: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ فَقَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْكِتَابِ وَهُوَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الَّذِي شَرَحَ صَدْرَهُ أَوَّلًا لِقَبُولِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أَيْ مَنْ جَعَلَ قَلْبَهُ قَاسِيًا مُظْلِمًا بَلِيدَ الْفَهْمِ مُنَافِيًا لِقَبُولِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَاسْتِدْلَالُ أَصْحَابِنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَسُؤَالَاتُ الْمُعْتَزِلَةِ وَجَوَّابَاتُ أَصْحَابِنَا عَيْنُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ بِحُكْمٍ فِي الدُّنْيَا وَبِحُكْمٍ فِي الْآخِرَةِ، أَمَّا حُكْمُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ الضَّلَالُ التَّامُّ كَمَا قَالَ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الرعد: 33] وَأَمَّا حُكْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ أَشْرَفَ الْأَعْضَاءِ هُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْحُسْنِ وَالصَّبَاحَةِ، وَهُوَ أَيْضًا صَوْمَعَةُ الْحَوَاسِّ، وَإِنَّمَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ بَعْضٍ بِسَبَبِ الْوَجْهِ، وَأَثَرُ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ لَا يَظْهَرُ إِلَّا فِي الْوَجْهِ قَالَ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عَبَسَ: 38- 42] وَيُقَالُ لِمُقَدَّمِ الْقَوْمِ يَا وَجْهَ الْعَرَبِ، وَيُقَالُ لِلطَّرِيقِ الدَّالِّ عَلَى كُنْهِ حَالِ الشَّيْءِ وَجْهُ كَذَا هُوَ كَذَا، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَشْرَفَ الْأَعْضَاءِ هُوَ الْوَجْهُ، فَإِذَا وَقَعَ الْإِنْسَانُ فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ يَدَهُ وِقَايَةً لِوَجْهِهِ وَفِدَاءً لَهُ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا كَانَ الْقَادِرُ عَلَى الِاتِّقَاءِ يَجْعَلُ كُلَّ مَا سِوَى الْوَجْهِ فِدَاءً لِلْوَجْهِ لَا جَرَمَ حَسُنَ جَعْلُ الِاتِّقَاءِ بِالْوَجْهِ كِنَايَةً عَنِ الْعَجْزِ عَنِ الِاتِّقَاءِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ النَّابِغَةُ: / وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ أَيْ لَا عَيْبَ فِيهِمْ إِلَّا هَذَا وَهُوَ لَيْسَ بِعَيْبٍ فَلَا عَيْبَ فِيهِمْ إِذَنْ بِوَجْهٍ من الوجوه، فكذا هاهنا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِاتِّقَاءِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ إِلَّا بِالْوَجْهِ وَهَذَا لَيْسَ بِاتِّقَاءٍ، فَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الِاتِّقَاءِ أَلْبَتَّةَ، وَيُقَالُ أَيْضًا إِنَّ الَّذِي يُلْقَى فِي النَّارِ يُلْقَى مَغْلُولَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ وَلَا يَتَهَيَّأُ لَهُ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ إِلَّا بِوَجْهِهِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَنْ هُوَ آمِنٌ مِنَ الْعَذَابِ فَحُذِفَ الْخَبَرُ كَمَا حُذِفَ فِي نَظَائِرِهِ، وَسُوءُ الْعَذَابِ شِدَّتُهُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ عَذَابِ الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَيَّنَ أَيْضًا كَيْفِيَّةَ وُقُوعِهِمْ فِي الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى حَالِ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَأَتاهُمُ الْعَذابُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا أَتَاهُمُ الْعَذَابُ بِسَبَبِ التكذيب، فإذا كان التكذيب حاصلا هاهنا لَزِمَ حُصُولُ الْعَذَابِ اسْتِدْلَالًا بِالْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ، وَقَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَيْ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي لَا يَحْسَبُونَ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ أَنَّ الشَّرَّ يَأْتِيهِمْ مِنْهَا، بَيْنَمَا هُمْ آمِنُونَ إِذْ أَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي تَوَقَّعُوا الْأَمْنَ مِنْهَا، وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ أَتَاهُمُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا بَيَّنَ أَيْضًا أَنَّهُ أَتَاهُمُ الْخِزْيُ وَهُوَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْهَوَانُ، وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا الْقَيْدِ أَنَّ الْعَذَابَ التَّامَّ هُوَ أَنْ يَحْصُلَ فِيهِ الْأَلَمُ مَقْرُونًا بِالْهَوَانِ وَالذُّلِّ. ثُمَّ قَالَ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يَعْنِي أَنَّ أُولَئِكَ وَإِنْ نَزَلَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ وَالْخِزْيُ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَالْعَذَابُ الْمُدَّخَرُ لَهُمْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الَّذِي وَقَعَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ التَّخْوِيفُ وَالتَّرْهِيبُ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْفَوَائِدَ الْمُتَكَاثِرَةَ وَالنَّفَائِسَ الْمُتَوَافِرَةَ فِي هَذِهِ الْمَطَالِبِ، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ بَلَغَتْ هَذِهِ الْبَيَانَاتُ إِلَى حَدِّ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ فَقَالَ: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَالْمَقْصُودُ ظَاهِرٌ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ وَأَحْكَامَهُ مُعَلَّلَةٌ، وَدَلَّتْ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ الْإِيمَانَ وَالْمَعْرِفَةَ مِنَ الْكُلِّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ مُشْعِرٌ بِالتَّعْلِيلِ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ مُشْعِرٌ بِالتَّعْلِيلِ أَيْضًا، وَمُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ضَرْبِ هَذِهِ الْأَمْثَالِ إِرَادَةُ حُصُولِ التَّذَكُّرِ وَالْعِلْمِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْبَيَانَاتُ النَّافِعَةُ وَالْبَيِّنَاتُ الْبَاهِرَةُ مَوْجُودَةً فِي الْقُرْآنِ، لَا جَرَمَ وُصِفَ الْقُرْآنُ بِالْمَدْحِ والثناء، فقال: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِحُدُوثِ الْقُرْآنِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَمْثَالَ لِيَحْصُلَ لَهُمُ التَّذَكُّرُ، وَالشَّيْءُ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ لِغَرَضٍ آخَرَ يَكُونُ مُحْدَثًا، فَإِنَّ الْقَدِيمَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مَوْجُودًا فِي الْأَزَلِ، وَهَذَا يُمْتَنَعُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِهِ لِغَرَضِ كَذَا وَكَذَا، / وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا وَإِنَّمَا كَانَ عَرَبِيًّا لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إِنَّمَا صَارَتْ دَالَّةً عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي بِوَضْعِ الْعَرَبِ وَبِاصْطِلَاحِهِمْ، وَمَا كَانَ حُصُولُهُ بِسَبَبِ أَوْضَاعِ الْعَرَبِ وَاصْطِلَاحَاتِهِمْ كَانَ مَخْلُوقًا مُحْدَثًا الثَّالِثُ: أَنَّهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ قُرْآنًا وَالْقُرْآنُ عِبَارَةٌ عَنِ الْقِرَاءَةِ وَالْقِرَاءَةُ مَصْدَرٌ وَالْمَصْدَرُ هُوَ الْمَفْعُولُ الْمُطْلَقُ فَكَانَ فِعْلًا وَمَفْعُولًا وَالْجَوَابُ: أَنَّا نَحْمِلُ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَهِيَ حَادِثَةٌ وَمُحْدَثَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ قَوْلُهُ: عَرَبِيًّا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَالْمَعْنَى ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ فِي حَالِ عَرَبِيَّتِهِ وَبَيَانِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يُنْتَصَبَ عَلَى المدح. المسألة الثالثة: أنه تعالى وصفه بصفات ثلاثة أَوَّلُهَا: كَوْنُهُ قُرْآنًا، وَالْمُرَادُ كَوْنُهُ مَتْلُوًّا فِي الْمَحَارِيبِ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحِجْرِ: 9] ، وَثَانِيهَا: كَوْنُهُ عَرَبِيًّا وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَعْجَزَ الْفُصَحَاءَ وَالْبُلَغَاءَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ كَمَا قَالَ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الْإِسْرَاءِ: 88] وَثَالِثُهَا: كَوْنُهُ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ وَالْمُرَادُ بَرَاءَتُهُ عَنِ

[سورة الزمر (39) : الآيات 29 إلى 32]

التَّنَاقُضِ، كَمَا قَالَ: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاءِ: 82] وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَالْمُعْتَزِلَةُ يَتَمَسَّكُونَ بِهِ فِي تَعْلِيلِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِيهِ بَحْثٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ التَّذَكُّرَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الِاتِّقَاءِ، لِأَنَّهُ إِذَا تَذَكَّرَهُ وَعَرَفَهُ وَوَقَفَ عَلَى فَحْوَاهُ وَأَحَاطَ بِمَعْنَاهُ، حَصَلَ الِاتِّقَاءُ وَالِاحْتِرَازُ والله أعلم. [سورة الزمر (39) : الآيات 29 الى 32] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي شَرْحِ وَعِيدِ الْكُفَّارِ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ مَثَلِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِهِمْ وَقُبْحِ طَرِيقَتِهِمْ فَقَالَ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُتَشَاكِسُونَ الْمُخْتَلِفُونَ الْعَسِرُونَ يُقَالُ شَكِسَ يَشْكَسُ شُكُوسًا وَشَكَسًا إِذَا عَسُرَ، وَهُوَ رَجُلٌ شَكِسٌ، أَيْ عَسِرٌ وَتَشَاكَسَ إِذَا تَعَاسَرَ، قَالَ اللَّيْثُ: التَّشَاكُسُ التَّنَازُعُ وَالِاخْتِلَافُ، وَيُقَالُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مُتَشَاكِسَانِ، أَيْ أَنَّهُمَا مُتَضَادَّانِ إِذَا جَاءَ أَحَدُهُمَا ذَهَبَ الْآخَرُ، وَقَوْلُهُ فِيهِ صِلَةُ شُرَكَاءَ كَمَا تَقُولُ اشْتَرَكُوا فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو سَالِمًا بِالْأَلِفِ وَكَسْرِ اللَّامِ يُقَالُ سَلِمَ فَهُوَ سَالِمٌ وَالْبَاقُونَ سَلَمًا بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ بِغَيْرِ الْأَلِفِ، وَيُقَالُ أَيْضًا بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا مَعَ سُكُونِ الْعَيْنِ أَمَّا مَنْ قَرَأَ سَالِمًا فَهُوَ اسْمُ الْفَاعِلِ تَقْدِيرُ مُسَلَّمٍ فَهُوَ سَالِمٌ، وَأَمَّا سَائِرُ الْقِرَاءَاتِ فَهِيَ مَصَادِرُ سَلِمَ وَالْمَعْنَى ذَا سَلَامَةٍ، وَقَوْلُهُ: لِرَجُلٍ أَيْ ذَا خُلُوصٍ لَهُ مِنَ الشَّرِكَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: سَلِمَتْ لَهُ الضَّيْعَةُ، وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَيْ وَهُنَاكَ رَجُلٌ سَالِمٌ لِرَجُلٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: اضْرِبْ لِقَوْمِكَ مَثَلًا وَقُلْ لَهُمْ مَا يَقُولُونَ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمَمَالِيكِ قَدِ اشْتَرَكَ فِيهِ شُرَكَاءُ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ وَتَنَازُعٌ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ عَبْدُهُ فَهُمْ يَتَجَاذَبُونَهُ فِي حَوَائِجِهِمْ وَهُوَ مُتَحَيِّرٌ فِي أَمْرِهِ، فَكُلَّمَا أَرْضَى أَحَدَهُمْ غَضِبَ الْبَاقُونَ، وَإِذَا احْتَاجَ فِي مُهِمٍّ إِلَيْهِمْ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَرُدُّهُ إِلَى الْآخَرِ، فَهُوَ يَبْقَى مُتَحَيِّرًا لَا يَعْرِفُ أَيُّهُمْ أَوْلَى بِأَنْ يَطْلُبَ رِضَاهُ، وَأَيَّهُمْ يُعِينُهُ فِي حَاجَاتِهِ، فَهُوَ بِهَذَا السَّبَبِ فِي عَذَابٍ دَائِمٍ وَتَعَبٍ مُقِيمٍ، وَرَجُلٍ آخَرَ لَهُ مَخْدُومٌ وَاحِدٌ يَخْدِمُهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ، وَذَلِكَ الْمَخْدُومُ يُعِينُهُ عَلَى مُهِمَّاتِهِ، فَأَيُّ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ أَحْسَنُ حَالًا وَأَحْمَدُ شَأْنًا، وَالْمُرَادُ تَمْثِيلُ حَالِ مَنْ يُثْبِتُ آلِهَةً شَتَّى، فَإِنَّ أُولَئِكَ الْآلِهَةَ تَكُونُ مُتَنَازِعَةً مُتَغَالِبَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] وَقَالَ: وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 91] فَيَبْقَى ذَلِكَ الْمُشْرِكُ مُتَحَيِّرًا ضَالًّا، لَا يَدْرِي أَيَّ هَؤُلَاءِ الْآلِهَةِ يَعْبُدُ وَعَلَى رُبُوبِيَّةِ أَيِّهِمْ يَعْتَمِدُ، وَمِمَّنْ يَطْلُبُ رِزْقَهُ، وَمِمَّنْ يَلْتَمِسُ رِفْقَهُ، فَهَمُّهُ شِفَاعٌ، وَقَلْبُهُ أَوْزَاعٌ. أَمَّا مَنْ لَمْ يُثْبِتْ إِلَّا إِلَهًا واحدا

[سورة الزمر (39) : الآيات 33 إلى 37]

فَهُوَ قَائِمٌ بِمَا كَلَّفَهُ عَارِفٌ بِمَا أَرْضَاهُ وَمَا أَسْخَطَهُ، فَكَانَ حَالُ هَذَا أَقْرَبَ إِلَى الصَّلَاحِ مِنْ حَالِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا مَثَلٌ ضُرِبَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فِي تَقْبِيحِ الشِّرْكِ وَتَحْسِينِ التَّوْحِيدِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْمِثَالُ لَا يَنْطَبِقُ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ لِأَنَّهَا جَمَادَاتٌ، فَلَيْسَ بَيْنَهَا مُنَازَعَةٌ وَلَا مُشَاكَسَةٌ، قُلْنَا إِنَّ عَبَدَةَ الْأَصْنَامِ مُخْتَلِفُونَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الْأَصْنَامُ تَمَاثِيلُ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ، ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ يُثْبِتُونَ بَيْنَ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ مُنَازَعَةً وَمُشَاكَسَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ زُحَلُ هُوَ النَّحْسُ الْأَعْظَمُ، وَالْمُشْتَرِي هُوَ السَّعْدُ الْأَعْظَمُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الْأَصْنَامُ تَمَاثِيلُ الْأَرْوَاحِ الْفَلَكِيَّةِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ زَعَمُوا أَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ حَوَادِثِ هَذَا الْعَالَمِ يَتَعَلَّقُ بِرُوحٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ بَيْنَ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ مُنَازَعَةٌ وَمُشَاكَسَةٌ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَثَلُ مُطَابِقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الْأَصْنَامُ تَمَاثِيلُ الْأَشْخَاصِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ الَّذِينَ مَضَوْا، فَهُمْ يَعْبُدُونَ هَذِهِ التَّمَاثِيلَ لِتَصِيرَ أُولَئِكَ الْأَشْخَاصُ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْقَائِلُونَ/ بِهَذَا الْقَوْلِ تَزْعُمُ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ أَنَّ الْمُحِقَّ هُوَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي هُوَ عَلَى دِينِهِ، وَأَنَّ مَنْ سِوَاهُ مُبْطِلٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا يَنْطَبِقُ الْمِثَالُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْمِثَالَ مُطَابِقٌ لِلْمَقْصُودِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا فَالتَّقْدِيرُ هَلْ يَسْتَوِيَانِ صِفَةً، فَقَوْلُهُ: مَثَلًا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَالْمَعْنَى هَلْ تَسْتَوِي صِفَتَاهُمَا وَحَالَتَاهُمَا، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ فِي التَّمْيِيزِ عَلَى الْوَاحِدِ لِبَيَانِ الْجِنْسِ وَقُرِئَ (مَثَلَيْنِ) ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ الْقَوْلُ بِإِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْحَقُّ، ثَبَتَ أَنَّ الْحَمْدَ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْحَمْدَ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، وَأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْعِبَادَةِ هُوَ اللَّهُ لَا غَيْرُهُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمَّا سَبَقَتْ هَذِهِ الدَّلَائِلُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَيِّنَاتُ الْبَاهِرَةُ، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى حُصُولِ هَذِهِ الْبَيَانَاتِ وَظُهُورِ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الْخَلْقِ لَمْ يَعْرِفُوهَا وَلَمْ يَقِفُوا عَلَيْهَا، وَلَمَّا تَمَّمَ اللَّهُ هَذِهِ الْبَيَانَاتِ قَالَ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ وَالْمُرَادُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامَ وَإِنْ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى هَذِهِ الدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ بِسَبَبِ اسْتِيلَاءِ الْحِرْصِ وَالْحَسَدِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَلَا تُبَالِ يَا مُحَمَّدُ بِهَذَا فَإِنَّكَ سَتَمُوتُ وَهُمْ أَيْضًا سَيَمُوتُونَ، ثُمَّ تُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَخْتَصِمُونَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْعَادِلُ الْحَقُّ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فَيُوصِلُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَا هُوَ حَقُّهُ، وَحِينَئِذٍ يَتَمَيَّزُ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ، وَالصِّدِّيقُ مِنَ الزِّنْدِيقِ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ أَيْ إِنَّكَ وَإِيَّاهُمْ، وَإِنْ كُنْتُمْ أَحْيَاءً فَإِنَّكَ وَإِيَّاهُمْ فِي أَعْدَادِ الْمَوْتَى، لِأَنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى نَوْعًا آخَرَ مِنْ قَبَائِحِ أَفْعَالِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ وَيَضُمُّونَ إِلَيْهِ أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ الْقَائِلَ الْمُحِقَّ. أَمَّا أَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ، فَهُوَ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا لِلَّهِ وَلَدًا وَشُرَكَاءَ. وَأَمَّا أَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى تَكْذِيبِ الصَّادِقِينَ، فَلِأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى كَوْنِهِ صَادِقًا فِي ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِالْوَعِيدِ فَقَالَ: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي تَكْفِيرِ الْمُخَالِفِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ فِي الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ كُلِّهَا يَكُونُ كَاذِبًا فِي قَوْلِهِ، وَيَكُونُ مُكَذِّبًا لِلْمَذْهَبِ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ، فَوَجَبَ دخوله تحت هذا الوعيد. [سورة الزمر (39) : الآيات 33 الى 37] وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الْكَاذِبِينَ وَالْمُكَذِّبِينَ لِلصَّادِقِينَ ذَكَرَ عَقِيبَهُ وَعْدَ الصَّادِقِينَ وَوَعْدَ الْمُصَدِّقِينَ، لِيَكُونَ الْوَعْدُ مَقْرُونًا بِالْوَعِيدِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ تَقْدِيرُهُ: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ شَخْصٌ وَاحِدٌ فَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ مُحَمَّدٌ، وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كُلُّ مَنْ جَاءَ بِالصِّدْقِ، فَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ الْأَنْبِيَاءُ، وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ الْأَتْبَاعُ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ جَمَاعَةٌ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الرِّسَالَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِأَرْكَانٍ أَرْبَعَةٍ: الْمُرْسِلِ وَالْمُرْسَلُ وَالرِّسَالَةِ وَالْمُرْسَلِ إِلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِرْسَالِ إِقْدَامُ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ عَلَى الْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ، فَأَوَّلُ شَخْصٍ أَتَى بِالتَّصْدِيقِ هُوَ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْإِرْسَالُ، وَسَمِعْتُ بَعْضَ الْقَاصِّينَ مِنَ الَّذِي يَرْوِي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «دَعُوا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهُ مِنْ تَتِمَّةِ النُّبُوَّةِ» . وَاعْلَمْ أَنَّا سَوَاءٌ قُلْنَا الْمُرَادُ بِالَّذِي صَدَّقَ بِهِ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ، أَوْ قُلْنَا الْمُرَادُ مِنْهُ كُلُّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ دَاخِلٌ فِيهِ. أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ: فَدُخُولُ أَبِي بَكْرٍ فِيهِ ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ أَسْبَقَ النَّاسِ إِلَى التَّصْدِيقِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَسْبَقَ الْأَفْضَلَ إِمَّا أَبُو بَكْرٍ وَإِمَّا عَلِيٌّ، وَحَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَوْلَى، لِأَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ وَقْتَ الْبَعْثَةِ صَغِيرًا، فَكَانَ كَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْبَيْتِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى التَّصْدِيقِ لَا يُفِيدُ مَزِيدَ قُوَّةٍ وَشَوْكَةٍ. أَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلًا كَبِيرًا فِي السِّنِّ كَبِيرًا فِي الْمَنْصِبِ، فَإِقْدَامُهُ عَلَى التَّصْدِيقِ يُفِيدُ مَزِيدَ قُوَّةٍ وَشَوْكَةٍ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانَ حَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَوْلَى. وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كُلَّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ أَبُو بَكْرٍ دَاخِلًا فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ وَصَدَقَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ صَدَقَ بِهِ النَّاسَ، وَلَمْ/ يَكْذِبْهُمْ يَعْنِي أَدَّاهُ إِلَيْهِمْ كَمَا نَزَلَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ، وَقِيلَ صَارَ صَادِقًا بِهِ أَيْ بِسَبَبِهِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزَةٌ، وَالْمُعْجِزَةُ تَصْدِيقٌ مِنَ الْحَكِيمِ الَّذِي لَا يَفْعَلُ الْقَبِيحَ فَيَصِيرُ الْمُدَّعِي لِلرِّسَالَةِ صَادِقًا بِسَبَبِ تِلْكَ الْمُعْجِزَةِ وَقُرِئَ وَصَدَّقَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ لِلَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً. فَالْحُكْمُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ التَّوْحِيدَ وَالشِّرْكَ ضِدَّانِ، وَكُلَّمَا كَانَ أَحَدُ الضِّدَّيْنِ أَشْرَفَ وَأَكْمَلَ كَانَ الضِّدُّ الثَّانِي أَخَسَّ وَأَرْذَلَ، وَلَمَّا كَانَ التَّوْحِيدُ أَشْرَفَ الْأَسْمَاءِ كَانَ الشِّرْكُ أَخَسَّ الْأَشْيَاءِ، وَالْآتِي بِأَحَدِ الضِّدَّيْنِ يَكُونُ تَارِكًا لِلضِّدِّ الثَّانِي، فَالْآتِي بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْأَشْيَاءِ يَكُونُ تَارِكًا

لِلشِّرْكِ الَّذِي هُوَ أَخَسُّ الْأَشْيَاءِ وَأَرْذَلُهَا، فَلِهَذَا الْمَعْنَى وَصَفَ الْمُصَدِّقِينَ بِكَوْنِهِمْ مُتَّقِينَ. الْحُكْمُ الثَّانِي: للمصدقين قوله تعالى: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ، وَهَذَا الْوَعْدُ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا يَرْغَبُ الْمُكَلَّفُ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ لَا شَكَّ أَنَّ الْكَمَالَ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ مَرْغُوبٌ فِيهِ لِذَاتِهِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ عُقَلَاءُ فَإِذَا شَاهَدُوا الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةَ الَّتِي هِيَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَأَكَابِرِ الْأَوْلِيَاءِ عَرَفُوا أَنَّهَا خَيْرَاتٌ عَالِيَةٌ وَدَرَجَاتٌ كَامِلَةٌ، وَالْعِلْمُ بِالشَّيْءِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَمَالٌ، وَخَيْرٌ يُوجِبُ الْمَيْلَ إِلَيْهِ وَالرَّغْبَةَ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُمْ يَشَاءُونَ حُصُولَ تِلْكَ الدَّرَجَاتِ لِأَنْفُسِهِمْ فَوَجَبَ حُصُولُهَا لَهُمْ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَيْضًا فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ ذَلِكَ الْمُرَادُ كَانُوا فِي الْغُصَّةِ وَوَحْشَةِ الْقَلْبِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُزِيلُ الْحِقْدَ وَالْحَسَدَ عَنْ قُلُوبِ أَهْلِ الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ أَحْوَالَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِخِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالُوا إِنَّ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى لَا شَكَّ أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَصَدَّقَ بِهِ لِأَنَّهُمْ صَدَّقُوا الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ يُرِيدُ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ له ذلك لقوله تعالى: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ فَإِنْ قَالُوا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَشَاءُونَ ذَلِكَ، قُلْنَا هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ أَعْظَمُ وُجُوهِ التَّجَلِّي وَزَوَالِ الْحِجَابِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا حَالَةٌ مَطْلُوبَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ نَظَرًا إِلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ، بَلْ لَوْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ كَوْنُ هَذَا الْمَطْلُوبِ مُمْتَنِعَ الْوُجُودِ لِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يُتْرَكُ طَلَبُهُ، لَا لِأَجْلِ عَدَمِ الْمُقْتَضِي لِلطَّلَبِ، بَلْ لِقِيَامِ الْمَانِعِ وَهُوَ كَوْنُهُ مُمْتَنِعًا فِي نَفْسِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ قَائِمَةٌ وَالنَّصُّ يَقْتَضِي حُصُولَ كُلِّ مَا أَرَادُوهُ وَشَاءُوهُ فَوَجَبَ حُصُولُهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ لَا يُفِيدُ الْعِنْدِيَّةَ بِمَعْنَى الْجِهَةِ وَالْمَكَانِ بَلْ بِمَعْنَى الصَّمَدِيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَرِ: 55] وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ: وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَجْرَ مُسْتَحَقٌّ لَهُمْ عَلَى إِحْسَانِهِمْ فِي الْعِبَادَةِ. الْحُكْمُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ فقوله: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الثَّوَابِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ/ وَقَوْلُهُ: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْعِقَابِ عَنْهُمْ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، فَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ إِذَا صَدَّقُوا الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ فِيمَا أُوتُوا فَإِنَّ اللَّهَ يُكَفِّرُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ أَعْمَالِهِمْ وَهُوَ الْكُفْرُ السَّابِقُ عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ، وَيُوَصِّلُ إِلَيْهِمْ أَحْسَنَ أَنْوَاعِ الثَّوَابِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ يَجْزِيهِمْ بِالْمَحَاسِنِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَلَا يَجْزِيهِمْ بِالْمَسَاوِئِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مُقَاتِلًا كَانَ شَيْخَ الْمُرْجِئَةِ وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا يَضُرُّ شَيْءٌ مِنَ الْمَعَاصِي مَعَ الْإِيمَانِ، كَمَا لَا يَنْفَعُ شَيْءٌ مِنَ الطَّاعَاتِ مَعَ الْكُفْرِ، وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ صَدَّقَ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ فَإِنَّهُ تَعَالَى يُكَفِّرُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عملوا، ولا جوز حَمْلُ هَذَا الْأَسْوَأِ عَلَى الْكُفْرِ السَّابِقِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّكْفِيرَ إِنَّمَا حَصَلَ فِي حَالِ مَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِالتَّقْوَى وَهُوَ التَّقْوَى مِنَ الشِّرْكِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْكَبَائِرَ الَّتِي يَأْتِي بِهَا بَعْدَ الْإِيمَانِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُكَفِّرُ عَنْهُمْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ أَسْوَأَ مَا يَأْتُونَ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْكَبَائِرُ. الْحُكْمُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنَّ الْمُبْطِلِينَ يُخَوِّفُونَ الْمُحِقِّينَ بِالتَّخْوِيفَاتِ الْكَثِيرَةِ، فَحَسَمَ اللَّهُ مَادَّةَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ وَالْمُرَادُ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ الْحَاجَاتِ فَهُوَ تعالى عالم

[سورة الزمر (39) : الآيات 38 إلى 40]

حَاجَاتِ الْعِبَادِ وَقَادِرٌ عَلَى دَفْعِهَا وَإِبْدَالِهَا بِالْخَيْرَاتِ وَالرَّاحَاتِ، وَهُوَ لَيْسَ بَخِيلًا وَلَا مُحْتَاجًا حَتَّى يَمْنَعَهُ بُخْلُهُ وَحَاجَتُهُ عَنْ إِعْطَاءِ ذَلِكَ الْمُرَادِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَدْفَعُ الْآفَاتِ وَيُزِيلُ الْبَلِيَّاتِ وَيُوَصِّلُ إِلَيْهِ كُلَّ الْمُرَادَاتِ، فَلِهَذَا قَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ الْمُقَدِّمَةَ رَتَّبَ عَلَيْهَا النَّتِيجَةَ الْمَطْلُوبَةَ فَقَالَ: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يَعْنِي لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ كَافٍ عَبْدَهُ كَانَ التَّخْوِيفُ بِغَيْرِ اللَّهِ عَبَثًا وَبَاطِلًا، قَرَأَ أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ (عَبْدَهُ) بِلَفْظِ الْوَاحِدِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدَةَ لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ: وَيُخَوِّفُونَكَ رُوِيَ أَنَّ قُرَيْشًا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا نَخَافُ أَنْ تُخْبِلَكَ آلِهَتُنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَرَأَ جَمَاعَةٌ: عِبَادَهُ بِلَفْظِ الْجَمِيعِ قِيلَ الْمُرَادُ بِالْعِبَادِ الْأَنْبِيَاءُ فَإِنَّ نُوحًا كَفَاهُ الْغَرَقَ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّارَ، وَيُونُسَ بِالْإِنْجَاءِ مِمَّا وَقَعَ لَهُ، فَهُوَ تَعَالَى كَافِيكَ يَا مُحَمَّدُ كَمَا كَفَى هَؤُلَاءِ الرُّسُلَ قَبْلَكَ، وَقِيلَ أُمَمُ الْأَنْبِيَاءِ قَصَدُوهُمْ بِالسُّوءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ [غَافِرٍ: 5] وَكَفَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ مَنْ عَادَاهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَطْنَبَ فِي شَرْحِ الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ وَالتَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ خَتَمَ الْكَلَامَ بِخَاتِمَةٍ هِيَ الْفَصْلُ الْحَقُّ فَقَالَ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ يَعْنِي هَذَا الْفَضْلُ لَا يَنْفَعُ وَالْبَيِّنَاتُ إِلَّا إِذَا خَصَّ اللَّهُ الْعَبْدَ بِالْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَقَوْلُهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ تَهْدِيدٌ لِلْكُفَّارِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا يَتَمَسَّكُونَ فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَعْمَالِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ وَالْمَبَاحِثُ فِيهِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مَعْلُومَةٌ وَالْمُعْتَزِلَةُ يَتَمَسَّكُونَ/ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِقَوْلِهِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ وَلَوْ كَانَ الْخَالِقُ لِلْكُفْرِ فِيهِمْ هُوَ اللَّهَ لكان الانتقام والتهديد غير لائق به. [سورة الزمر (39) : الآيات 38 الى 40] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَطْنَبَ فِي وَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ وَفِي وَعْدِ الْمُوَحِّدِينَ، عَادَ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى تَزْيِيفِ طَرِيقَةِ عَبْدَةِ الْأَصْنَامِ، وَبَنَى هَذَا التَّزْيِيفَ عَلَى أَصْلَيْنِ: الْأَصْلُ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مُقِرُّونَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْعَالِمِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْعِلْمَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ جُمْهُورِ الْخَلَائِقِ لَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ فِيهِ، وَفِطْرَةُ الْعَقْلِ شَاهِدَةٌ بِصِحَّةِ هَذَا الْعِلْمِ فَإِنَّ مَنْ تأمل في عجائب أحوال السموات وَالْأَرْضِ وَفِي عَجَائِبِ أَحْوَالِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ خَاصَّةً وَفِي عَجَائِبِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَمَا فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحِكَمِ الْغَرِيبَةِ وَالْمَصَالِحِ الْعَجِيبَةِ، عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالْإِلَهِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ الرحيم.

[سورة الزمر (39) : الآيات 41 إلى 44]

وَالْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِقْرَارِ بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ، وَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَتْ عِبَادَةُ اللَّهِ كَافِيَةً، وَكَانَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ كَافِيًا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ لَمْ يَلْتَفِتِ الْعَاقِلُ/ إِلَى تَخْوِيفِ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ التَّنْبِيهَ عَلَى الْجَوَابِ عَمَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قوله تعالى: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [الزمر: 36] وقرئ: كاشِفاتُ ضُرِّهِ ومُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ بِالتَّنْوِينِ عَلَى الْأَصْلِ وَبِالْإِضَافَةِ لِلتَّخْفِيفِ، فَإِنْ قيل كيف قوله: كاشِفاتُ ومُمْسِكاتُ عَلَى التَّأْنِيثِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ؟ قُلْنَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى كَمَالِ ضَعْفِهَا فَإِنَّ الْأُنُوثَةَ مَظِنَّةُ الضَّعْفِ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَصِفُونَهَا بِالتَّأْنِيثِ وَيَقُولُونَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ، وَلَمَّا أَوْرَدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْحُجَّةَ الَّتِي لَا دَفْعَ لَهَا قَالَ بَعْدَهُ عَلَى وَجْهِ التَّهْدِيدِ: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أَيْ أَنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ فِي نِهَايَةِ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ فَاجْتَهِدُوا فِي أَنْوَاعِ مَكْرِكُمْ وَكَيْدِكُمْ، فَإِنِّي عَامِلٌ أَيْضًا فِي تَقْرِيرِ دِينِي فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْعَذَابَ وَالْخِزْيَ يُصِيبُنِي أَوْ يُصِيبُكُمْ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّخْوِيفُ. [سورة الزمر (39) : الآيات 41 الى 44] إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْظُمُ عَلَيْهِ إِصْرَارُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ كَمَا قَالَ: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا [الْكَهْفِ: 6] وَقَالَ: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاءِ: 3] وَقَالَ تَعَالَى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فَاطِرٍ: 8] فَلَمَّا أَطْنَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي فَسَادِ مَذَاهِبِ الْمُشْرِكِينَ تَارَةً بِالدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتٍ وَتَارَةً بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ وَتَارَةً بِذِكْرِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ أَرْدَفَهُ بِكَلَامٍ يُزِيلُ/ ذَلِكَ الْخَوْفَ الْعَظِيمَ عَنْ قَلْبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ الْكَامِلَ الشَّرِيفَ لِنَفْعِ النَّاسِ وَلِاهْتِدَائِهِمْ بِهِ وَجَعَلْنَا إِنْزَالَهُ مَقْرُونًا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْمُعْجِزُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَنِ اهْتَدَى فَنَفْعُهُ يعود إليه، ومن ضل فضمير ضَلَالِهِ يَعُودُ إِلَيْهِ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ وَالْمَعْنَى أَنَّكَ لَسْتَ مَأْمُورًا بِأَنْ تَحْمِلَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ بَلِ الْقَبُولُ وَعَدَمُهُ مُفَوَّضٌ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لِتَسْلِيَةِ الرَّسُولِ فِي إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْهِدَايَةَ وَالضَّلَالَ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا مِنَ الله تعالى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْهِدَايَةَ تُشْبِهُ الْحَيَاةَ وَالْيَقَظَةَ وَالضَّلَالَ يُشْبِهُ الْمَوْتَ وَالنَّوْمَ،

وَكَمَا أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْيَقَظَةَ وَكَذَلِكَ الْمَوْتَ وَالنَّوْمَ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا بِتَخْلِيقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِيجَادِهِ فَكَذَلِكَ الْهِدَايَةَ وَالضَّلَالَ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ عَرَفَ هَذِهِ الدَّقِيقَةَ فَقَدْ عَرَفَ سِرَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقَدَرِ، وَمَنْ عَرَفَ سِرَّ اللَّهِ فِي الْقَدَرِ هَانَتْ عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ، فَيَصِيرُ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ سَبَبًا لِزَوَالِ ذَلِكَ الْحُزْنِ عَنْ قَلْبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا وَجْهُ النَّظْمِ فِي الْآيَةِ، وَقِيلَ نَظْمُ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُجَّةً أُخْرَى فِي إِثْبَاتِ أَنَّهُ الْإِلَهُ الْعَالِمُ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ بِالْعِبَادَةِ أَحَقُّ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَعِنْدَ النَّوْمِ إِلَّا أَنَّهُ يُمْسِكُ الْأَنْفُسَ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى وَهِيَ النَّائِمَةُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَيْ إِلَى وَقْتٍ ضَرَبَهُ لِمَوْتِهَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ الَّتِي يَتَوَفَّاهَا عِنْدَ الْمَوْتِ يُمْسِكُهَا وَلَا يَرُدُّهَا إِلَى الْبَدَنِ وَقَوْلُهُ: وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يَعْنِي أَنَّ النَّفْسَ الَّتِي يَتَوَفَّاهَا عِنْدَ النَّوْمِ يَرُدُّهَا إِلَى الْبَدَنِ عِنْدَ الْيَقَظَةِ وَتَبْقَى هَذِهِ الْحَالَةُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَذَلِكَ الْأَجَلُ هُوَ وَقْتُ الْمَوْتِ فَهَذَا تَفْسِيرُ لَفْظِ الْآيَةِ وَهِيَ مُطَابِقَةٌ لِلْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مَزِيدِ بَيَانٍ، فَنَقُولُ النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ جَوْهَرٍ مُشْرِقٍ رُوحَانِيٍّ إِذَا تَعَلَّقَ بِالْبَدَنِ حَصَلَ ضَوْؤُهُ فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَهُوَ الْحَيَاةُ، فَنَقُولُ إِنَّهُ فِي وَقْتِ الْمَوْتِ يَنْقَطِعُ تَعَلُّقُهُ عَنْ ظَاهِرِ هَذَا الْبَدَنِ وَعَنْ بَاطِنِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَوْتُ، وَأَمَّا فِي وَقْتِ النَّوْمِ فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ ضَوْؤُهُ عَنْ ظَاهِرِ الْبَدَنِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَلَا يَنْقَطِعُ ضَوْؤُهُ عَنْ بَاطِنِ الْبَدَنِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَوْتَ وَالنَّوْمَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ إِلَّا أَنَّ الْمَوْتَ انْقِطَاعٌ تَامٌّ كَامِلٌ وَالنَّوْمُ انْقِطَاعٌ نَاقِصٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ الْقَادِرَ الْعَالِمَ الْحَكِيمَ دَبَّرَ تَعَلُّقَ جَوْهَرِ النَّفْسِ بِالْبَدَنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَقَعَ ضَوْءُ النَّفْسِ عَلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ وَذَلِكَ الْيَقَظَةُ وَثَانِيهَا: أَنْ يَرْتَفِعَ ضَوْءُ النَّفْسِ عَنْ ظَاهِرِ الْبَدَنِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ دُونَ بَاطِنِهِ وَذَلِكَ هُوَ النَّوْمُ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَرْتَفِعَ ضَوْءُ النَّفْسِ عَنِ الْبَدَنِ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُوَ الْمَوْتُ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَوْتَ وَالنَّوْمَ يَشْتَرِكَانِ فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَوَفِّيًا لِلنَّفْسِ، ثُمَّ يَمْتَازُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ بِخَوَاصَّ مُعَيَّنَةٍ فِي صِفَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، وَمِثْلُ هَذَا التَّدْبِيرِ الْعَجِيبِ لَا يُمْكِنُ صُدُورُهُ إِلَّا عَنِ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا أَنَّ الدَّلِيلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْبُدَ إِلَهًا مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الْقُدْرَةِ وَبِهَذِهِ الْحِكْمَةِ/ وَأَنْ لَا يَعْبُدَ الْأَوْثَانَ الَّتِي هِيَ جَمَادَاتٌ لَا شُعُورَ لَهَا وَلَا إِدْرَاكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ أَوْرَدُوا عَلَى هَذَا الْكَلَامِ سُؤَالًا، فَقَالُوا نَحْنُ لَا نَعْبُدُ هَذِهِ الْأَصْنَامَ لِاعْتِقَادِ أَنَّهَا آلِهَةٌ تَضُرُّ وَتَنْفَعُ وَإِنَّمَا نَعْبُدُهَا لِأَجْلِ أَنَّهَا تَمَاثِيلُ لِأَشْخَاصٍ كَانُوا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، فَنَحْنُ نَعْبُدُهَا لِأَجْلِ أَنْ يَصِيرَ أُولَئِكَ الْأَكَابِرُ شُفَعَاءَ لَنَا عِنْدَ اللَّهِ فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ قَالَ: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ، قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ إِمَّا أَنْ يَطْمَعُوا بِتِلْكَ الشَّفَاعَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَامِ أَوْ مِنْ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ الَّذِينَ جُعِلَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ تَمَاثِيلَ لَهَا وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْجَمَادَاتِ وَهِيَ الْأَصْنَامُ لَا تَمْلِكُ شَيْئًا وَلَا تَعْقِلُ شيئا فكيف يعقل صدور الشفاعة عنها وَالثَّانِي: بَاطِلٌ لِأَنَّ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ شَيْئًا وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، فَيَكُونُ الشَّفِيعُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهَ الَّذِي يَأْذَنُ فِي تِلْكَ الشَّفَاعَةِ، فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَتِهِ أَوْلَى مِنَ الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا مُلْكَ لِأَحَدٍ غَيْرُ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ تَمَسَّكَ فِي نَفْيِ الشَّفَاعَةِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً وَهَذَا ضعيف لأنا

[سورة الزمر (39) : الآيات 45 إلى 48]

نُسَلِّمُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَا لَمْ يَأْذَنْ فِي الشَّفَاعَةِ لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها فِيهِ سُؤَالٌ لِأَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَوَفِّيَ هُوَ اللَّهُ فَقَطْ، وَتَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: 2] وَبِقَوْلِهِ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [الْبَقَرَةِ: 258] وَبِقَوْلِهِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [الْبَقَرَةِ: 28] ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السَّجْدَةِ: 11] وَقَالَ فِي آيَةٍ ثَالِثَةٍ: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا [الْأَنْعَامِ: 61] وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُتَوَفِّيَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى فَوَّضَ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَعْمَالِ إِلَى مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَفَوَّضَ قَبْضَ الْأَرْوَاحِ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ وَهُوَ رَئِيسٌ وَتَحْتَهُ أَتْبَاعٌ وَخَدَمٌ فَأُضِيفَ التَّوَفِّي فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِضَافَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ هُوَ الرَّئِيسُ فِي هَذَا الْعَمَلِ وَإِلَى سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الأتباع لملك الموت والله أعلم. [سورة الزمر (39) : الآيات 45 الى 48] وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي مَا كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ أَنَّكَ إِذَا ذَكَرْتَ اللَّهَ وَحْدَهُ تَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ظَهَرَتْ آثَارُ النَّفْرَةِ مِنْ وُجُوهِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ، وَإِذَا ذُكِرَتِ الْأَصْنَامُ وَالْأَوْثَانُ ظَهَرَتْ آثَارُ الْفَرَحِ وَالْبِشَارَةِ فِي قُلُوبِهِمْ وَصُدُورِهِمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْجَهْلِ وَالْحَمَاقَةِ، لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ رَأْسُ السَّعَادَاتِ وَعُنْوَانُ الْخَيْرَاتِ، وَأَمَّا ذِكْرُ الْأَصْنَامِ الَّتِي هِيَ الْجَمَادَاتُ الْخَسِيسَةُ، فَهُوَ رَأْسُ الْجَهَالَاتِ وَالْحَمَاقَاتِ، فَنَفْرَتُهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَاسْتِبْشَارُهُمْ بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى الْجَهْلِ الْغَلِيظِ وَالْحُمْقِ الشَّدِيدِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَقَدْ يُقَابَلُ الِاسْتِبْشَارُ وَالِاشْمِئْزَازُ إِذْ كَلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَايَةٌ فِي بَابِهِ لِأَنَّ الِاسْتِبْشَارَ أَنْ يَمْتَلِئَ قَلْبُهُ سُرُورًا حَتَّى يَظْهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ السُّرُورِ فِي بَشَرَةِ وَجْهِهِ وَيَتَهَلَّلُ، وَالِاشْمِئْزَازُ أَنْ يَعْظُمَ غَمُّهُ وَغَيْظُهُ فَيَنْقَبِضَ الرُّوحُ إِلَى دَاخِلِ الْقَلْبِ فَيَبْقَى فِي أَدِيمِ الْوَجْهِ أَثَرُ الْغَبَرَةِ وَالظُّلْمَةِ الْأَرْضِيَّةِ، وَلَمَّا حَكَى عَنْهُمْ هَذَا الْأَمْرَ الْعَجِيبَ الَّذِي تَشْهَدُ فِطْرَةُ الْعَقْلِ بِفَسَادِهِ أَرْدَفَهُ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ذَكَرَ الدُّعَاءَ الْعَظِيمَ، فَوَصَفَهُ أَوَّلًا بِالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَثَانِيًا بِالْعِلْمِ الْكَامِلِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذِكْرِ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ عَالِمًا، وَلَمَّا ذَكَرَ هَذَا الدُّعَاءَ قَالَ: أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي مَا كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يَعْنِي أَنَّ نَفَّرَتَهُمْ عَنِ التَّوْحِيدِ وَفَرَحَهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ الشِّرْكِ أَمْرٌ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ، وَمَعَ ذَلِكَ، الْقَوْمُ قَدْ أَصَرُّوا عَلَيْهِ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِزَالَتِهِمْ عَنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ وَالْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ إِلَّا أَنْتَ. عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ بِمَ كَانَ يَفْتَتِحُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاته بالليل؟

[سورة الزمر (39) : الآيات 49 إلى 52]

قَالَتْ «كَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وإسرافيل فاطر السموات وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» . وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ ذَلِكَ الْمَذْهَبَ الْبَاطِلَ ذَكَرَ فِي وَعِيدِهِمْ أَشْيَاءَ أَوَّلُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ/ الْكُفَّارَ لَوْ مَلَكُوا كُلَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَمَلَكُوا مِثْلَهُ مَعَهُ لَجَعَلُوا الْكُلَّ فِدْيَةً لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ أَيْ ظَهَرَتْ لَهُمْ أَنْوَاعٌ مِنَ الْعِقَابِ لَمْ تَكُنْ فِي حِسَابِهِمْ، وَكَمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي صِفَةِ الثَّوَابِ فِي الْجَنَّةِ «فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ولا خطر عَلَى قَلْبِ بِشْرٍ» فَكَذَلِكَ فِي الْعِقَابِ حَصَلَ مِثْلُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَمَعْنَاهُ ظَهَرَتْ لَهُمْ آثَارُ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا أَيْ ظَهَرَتْ لَهُمْ أَنْوَاعٌ مِنَ الْعِقَابِ آثَارُ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا. ثُمَّ قَالَ: وَحاقَ بِهِمْ من كل الجوانب جزاء ما كانوا يستهزئون بِهِ، فَنَبَّهَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى عِظَمِ عقابهم. [سورة الزمر (39) : الآيات 49 الى 52] فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) [في قَوْلُهُ تَعَالَى فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا حِكَايَةُ طَرِيقَةٍ أُخْرَى مِنْ طَرَائِقِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عِنْدَ الْوُقُوعِ فِي الضُّرِّ الَّذِي هُوَ الْفَقْرُ وَالْمَرَضُ يَفْزَعُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَرَوْنَ أَنَّ دَفْعَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى إِذَا خَوَّلَهُمُ النِّعْمَةَ، وَهِيَ إِمَّا السَّعَةُ فِي الْمَالِ أَوِ الْعَافِيَةُ فِي النَّفْسِ، زَعَمَ أَنَّهُ إِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ بِكَسْبِهِ وَبِسَبَبِ جُهْدِهِ وَجِدِّهِ، فَإِنْ كَانَ مَالًا قَالَ إِنَّمَا حَصَلَ بِكَسْبِي، وَإِنْ كَانَ صِحَّةً قَالَ إِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْعِلَاجِ الْفُلَانِيِّ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ عَظِيمٌ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي حَالِ الْعَجْزِ وَالْحَاجَةِ أَضَافَ الْكُلَّ/ إِلَى اللَّهِ وَفِي حَالِ السَّلَامَةِ وَالصِّحَّةِ قَطَعَهُ عَنِ اللَّهِ، وَأَسْنَدَهُ إِلَى كَسْبِ نَفْسِهِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ قَبِيحٌ، فَبَيَّنَ تَعَالَى قُبْحَ طَرِيقَتِهِمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ بِلَفْظَةٍ وَجِيزَةٍ فَصِيحَةٍ، فَقَالَ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ يَعْنِي النِّعْمَةَ الَّتِي خَوَّلَهَا هَذَا الْكَافِرَ فِتْنَةً، لِأَنَّ عِنْدَ حُصُولِهَا يَجِبُ الشُّكْرُ، وَعِنْدَ فَوَاتِهَا يَجِبُ الصَّبْرُ، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ يُوصَفُ بِأَنَّهُ فِتْنَةٌ مِنْ حَيْثُ يُخْتَبَرُ عِنْدَهُ حَالُ مَنْ أُوتِيَ النِّعْمَةَ، كَمَا يُقَالُ فَتَنْتُ الذَّهَبَ بِالنَّارِ، إِذَا عَرَضْتَهُ عَلَى النَّارِ لِتَعْرِفَ خُلَاصَتَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَالْمَعْنَى مَا قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا التَّخْوِيلَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الِاخْتِبَارِ. وَبَقِيَ فِي الْآيَةِ أَبْحَاثٌ نَذْكُرُهَا فِي مَعْرِضِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا السَّبَبُ فِي عَطْفِ هذه الآية بالفاء هاهنا، وَعَطْفِ مِثْلِهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِالْوَاوِ؟

وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ يَشْمَئِزُّونَ مِنْ سَمَاعِ التَّوْحِيدِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِسَمَاعِ ذِكْرِ الشُّرَكَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ أنهم إذا وقعوا في الضر والبلاء والتجأوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، كَانَ الْفِعْلُ الْأَوَّلُ مناقضا للفعل الثاني، فذكر فاء التعقيب ليدل على أنهم واقعون في المناقضة الصريحة في الحال، وأنه ليس بين الأول والثاني فاصل مع أن كل واحد منهما مناقض للثاني، فَهَذَا هُوَ الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ فَاءِ التَّعْقِيبِ هاهنا. فَأَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا بَيَانَ وُقُوعِهِمْ فِي التَّنَاقُضِ فِي الْحَالِ، فَلَا جَرَمَ ذُكِرَ اللَّهُ بِحَرْفِ الْوَاوِ لَا بِحَرْفِ الْفَاءِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى التَّخْوِيلِ؟ الْجَوَابُ: التَّخْوِيلُ هُوَ التَّفَضُّلُ، يَعْنِي نَحْنُ نَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ إِنَّمَا وَجَدَهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ؟ الْجَوَابُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ، إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ بِكَوْنِي مُسْتَحِقًّا لِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ، إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمِي بِكَوْنِي مُسْتَحِقًّا لَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ، إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْعِلْمِ قَدِرْتُ عَلَى اكْتِسَابِهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا فَيُعَالِجَ نَفْسَهُ، فَيَقُولُ إِنَّمَا وَجَدْتُ الصِّحَّةَ لِعِلْمِي بِكَيْفِيَّةِ الْعِلَاجِ، وَإِنَّمَا وَجَدْتُ الْمَالَ لِعِلْمِي بِكَيْفِيَّةِ الْكَسْبِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: النِّعْمَةُ مُؤَنَّثَةٌ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: أُوتِيتُهُ عَائِدٌ عَلَى النِّعْمَةِ، فَضَمِيرُ التَّذْكِيرِ كَيْفَ عَادَ إِلَى الْمُؤَنَّثِ، بَلْ قَالَ بَعْدَهُ: بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ فَجُعِلَ الضَّمِيرُ مُؤَنَّثًا فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّقْدِيرَ حَتَّى إِذَا خَوَّلْنَاهُ شَيْئًا مِنَ النِّعْمَةِ، فَلَفْظُ النِّعْمَةِ مُؤَنَّثٌ وَمَعْنَاهُ مُذَكَّرٌ، فَلَا جَرَمَ جَازَ الْأَمْرَانِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ الضَّمِيرُ فِي قالَهَا رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ «1» لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ أَوْ جُمْلَةٌ مِنَ الْمَقُولِ. والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هُمْ قَارُونُ وَقَوْمُهُ حَيْثُ قَالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص: 78] وَقَوْمُهُ رَاضُونَ بِهِ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوهَا وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ فِي الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ قَائِلُونَ مِثْلَهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ أَيْ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ الْبَاطِلُ وَالْقَوْلُ الْفَاسِدُ الَّذِي اكْتَسَبُوهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْئًا بَلْ أَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كسبوا، ولما بين في أولئك المتقدمين فإنهم أَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا أَيْ عَذَابُ عَقَائِدِهِمُ الْبَاطِلَةِ وَأَقْوَالِهِمُ الْفَاسِدَةِ قَالَ: وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَيْ لَا يُعْجِزُونَنِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ يعني: أو لم يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ تَارَةً، وَيَقْبِضُ تَارَةً أُخْرَى، وَقَوْلُهُ: وَيَقْدِرُ أَيْ وَيُقَتِّرُ وَيُضَيِّقُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّا نَرَى النَّاسَ مُخْتَلِفِينَ فِي سَعَةِ الرِّزْقِ وضيقه، ولا بد مِنْ سَبَبٍ، وَذَلِكَ السَّبَبُ لَيْسَ هُوَ عَقْلَ الرَّجُلِ وَجَهْلَهُ، لِأَنَّا نَرَى الْعَاقِلَ الْقَادِرَ فِي أَشَدِّ الضِّيقِ، وَنَرَى الْجَاهِلَ الْمَرِيضَ الضَّعِيفَ فِي أَعْظَمِ السَّعَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ أَيْضًا لِأَجْلِ الطَّبَائِعِ وَالْأَنْجُمِ وَالْأَفْلَاكِ لِأَنَّ فِي السَّاعَةِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا ذَلِكَ الْمُلْكُ الْكَبِيرُ وَالسُّلْطَانُ الْقَاهِرُ، قَدْ وُلِدَ فِيهِ أَيْضًا عَالَمٌ مِنَ النَّاسِ وَعَالَمٌ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ غَيْرَ الْإِنْسَانِ، وَيُولَدُ أَيْضًا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ عَالَمٌ مِنَ النَّبَاتِ، فَلَمَّا شَاهَدْنَا

_ (1) في تفسير الرازي المطبوع زيادة (عندي) وأحسبه خطأ لمطابقتها للآية 78 من سورة القصص وهو خلاف ما يقصده الرازي ولعلها سبق قلم منه.

حُدُوثَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْكَثِيرَةِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ مَعَ كَوْنِهَا مُخْتَلِفَةً فِي السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُؤَثِّرُ فِي السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ هُوَ الطَّالِعَ، وَلَمَّا بَطُلَتْ هَذِهِ الْأَقْسَامُ، عَلِمْنَا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِيهِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَصَحَّ بِهَذَا الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ الْقَاطِعُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَا السَّعْدُ يَقْضِي بِهِ الْمُشْتَرِي ... وَلَا النَّحْسُ يَقْضِي عَلَيْنَا زحل ولكنه حكم رب السماء ... وقاضي القضاة تعالى وجل تم بعونه تعالى الجزء السادس والعشرون من التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي رحمه الله تعالى بتصحيح ومراجعة الأستاذ محمد إسماعيل الصاوي الشهير بعبد الله ويتلوه الجزء السابع والعشرون وأوله تفسير قوله تعالى: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أعان الله على إكماله، بحق محمد وآله

الجزء السابع والعشرون

الجزء السابع والعشرون [تتمة سورة الزمر] بسم الله الرحمن الرحيم [سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 59] قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) [في قوله تعالى قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا إلى قوله هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَطْنَبَ فِي الْوَعِيدِ أَرْدَفَهُ بِشَرْحِ كَمَالِ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ فِي حَقِّ الْعَبِيدِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْفُو عَنِ الْكَبَائِرِ، فَقَالُوا: إِنَّا بَيَّنَّا فِي هَذَا الكتاب أن عرف القرآن جار بتخصيص اسم الْعِبَادِ بِالْمُؤْمِنِينَ «1» قَالَ تَعَالَى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ/ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان: 63]

_ (1) الصواب أن يقال: «بتخصيص اسم العباد بالمؤمنين إذا أضيف إلى الله تعالى، كما في الآية والآيتين اللتين استشهد بها، وإلا فإن هذا يعارضه قول الله تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [يس: 30] فالذين يستهزئون برسل الله ليسوا بمؤمنين والذين يتحسر عليهم لم يذكروا في معرض التعظيم وإنما ذكروا في الذم والإهانة كما هو صريح الآية ولو صح ذلك لم يحتج إلى نعت العباد ووصفهم بصفات تقتضي المدح أو القدح، فلفظ العباد يشمل المؤمن والكافر، ولذا خصصه بالصفة.

وَقَالَ: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الْإِنْسَانِ: 6] وَلِأَنَّ لَفْظَ الْعِبَادِ مَذْكُورٌ فِي مَعْرِضِ التَّعْظِيمِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ إِلَّا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إذا ثبت هذا ظهر أن قوله يا عِبادِيَ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنَ هُوَ الَّذِي يَعْتَرِفُ بكونه عبد الله، أما المشركون فإنهم يسمعون أَنْفُسَهُمْ بِعَبْدِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَعَبْدِ الْمَسِيحِ «1» ، فَثَبَتَ أن قوله يا عِبادِيَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْمُؤْمِنِينَ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَهَذَا عَامٌّ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُسْرِفِينَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ غَافِرًا لِجَمِيعِ الذُّنُوبِ الصَّادِرَةِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْآيَةُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَإِلَّا لَزِمَ الْقَطْعُ بِكَوْنِ الذُّنُوبِ مَغْفُورَةً قَطْعًا، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ، فَمَا هُوَ مَدْلُولُ هَذِهِ الْآيَةِ لَا تَقُولُونَ بِهِ، وَالَّذِي تَقُولُونَ بِهِ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ، وَأَيْضًا إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ إِلَى قَوْلِهِ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى غَفَرَ جَمِيعَ الذُّنُوبِ قَطْعًا لَمَا أَمَرَ عَقِيبَهُ بِالتَّوْبَةِ، وَلَمَا خَوَّفَهُمْ بِنُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَأَيْضًا قَالَ: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَلَوْ كَانَتِ الذُّنُوبُ كُلُّهَا مَغْفُورَةً، فَأَيُّ حَاجَةٍ بِهِ إلى أن يقول: يا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ؟ وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ لَفْظِ الْآيَةِ لَكَانَ ذَلِكَ إِغْرَاءً بِالْمَعَاصِي وَإِطْلَاقًا فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ الْعَاصِي أَنَّهُ لَا مَخْلَصَ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ الْبَتَّةَ، فَإِنَّ مَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فَهُوَ قَانِطٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِذْ لَا أَحَدَ مِنَ الْعُصَاةِ الْمُذْنِبِينَ إِلَّا وَمَتَى تَابَ زَالَ عِقَابُهُ وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً أَيْ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ وَالْجَوَابُ قَوْلُهُ الْآيَةُ تَقْتَضِي كَوْنَ كُلِّ الذُّنُوبِ مَغْفُورَةً قَطْعًا وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ، قُلْنَا بَلْ نَحْنُ نَقُولُ بِهِ وَنَذْهَبُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ صِيغَةَ يَغْفِرُ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ، وَهِيَ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَعِنْدَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ مَغْفُورٌ لَهُ قَطْعًا، إِمَّا قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَإِمَّا بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا، فَثَبَتَ أَنَّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ فَهُوَ عَيْنُ مَذْهَبِنَا. أَمَّا قَوْلُهُ لَوْ صَارَتِ الذُّنُوبُ بِأَسْرِهَا مَغْفُورَةً لَمَا أَمَرَ بِالتَّوْبَةِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ عِنْدَنَا التَّوْبَةَ وَاجِبَةٌ وَخَوْفَ الْعِقَابِ قَائِمٌ، فَإِنَّا لَا نَقْطَعُ بِإِزَالَةِ الْعِقَابِ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ نَقُولُ لَعَلَّهُ يَعْفُو مُطْلَقًا، وَلَعَلَّهُ يُعَذِّبُ بِالنَّارِ مُدَّةً ثُمَّ يَعْفُو بَعْدَ ذَلِكَ، وَبِهَذَا الْحَرْفِ يُخَرَّجُ الْجَوَابُ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَسْئِلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سَمَّى/ الْمُذْنِبَ بِالْعَبْدِ وَالْعُبُودِيَّةُ مُفَسَّرَةٌ بِالْحَاجَةِ وَالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ، وَاللَّائِقُ بِالرَّحِيمِ الْكَرِيمِ إِفَاضَةُ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى الْمِسْكِينِ الْمُحْتَاجِ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَهُمْ إِلَى نَفْسِهِ بِيَاءِ الإضافة فقال: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا وَشَرَفُ الْإِضَافَةِ إِلَيْهِ يُفِيدُ الْأَمْنَ مِنَ الْعَذَابِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَمَعْنَاهُ أَنَّ ضَرَرَ تِلْكَ الذُّنُوبِ مَا عَادَ إِلَيْهِ بَلْ هُوَ عَائِدٌ إِلَيْهِمْ، فَيَكْفِيهِمْ مِنْ تِلْكَ الذُّنُوبِ عَوْدُ مَضَارِّهَا إِلَيْهِمْ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِلْحَاقِ ضَرَرٍ آخَرَ بِهِمْ الرابع:

_ (1) وهذا أيضا هو الغالب، وإلا فقد سموا عبد الله كثيرا قبل الإسلام وبعده، لأن الكافرين لا ينكرون وجود الله بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر: 38] .

أَنَّهُ قَالَ: لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ نَهَاهُمْ عَنِ الْقُنُوطِ فَيَكُونُ هَذَا أَمْرًا بِالرَّجَاءِ وَالْكَرِيمُ إِذَا أَمَرَ بِالرَّجَاءِ فَلَا يَلِيقُ بِهِ إِلَّا الْكَرَمُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَوَّلًا: يا عِبادِيَ وَكَانَ الْأَلْيَقُ أَنْ يَقُولَ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَتِي لَكِنَّهُ تَرَكَ هَذَا اللَّفْظَ وَقَالَ: لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لِأَنَّ قَوْلَنَا اللَّهِ أَعْظَمُ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَأَجْلُّهَا، فَالرَّحْمَةُ الْمُضَافَةُ إِلَيْهِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ السَّادِسُ: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، بَلْ أَعَادَ اسْمَ اللَّهِ وَقَرَنَ بِهِ لَفْظَةَ إِنَّ الْمُفِيدَةَ لِأَعْظَمِ وُجُوهِ التَّأْكِيدِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يدل على المبالغة في الوعد بالرحمن السَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ: يَغْفِرُ الذُّنُوبَ لَكَانَ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا لَكِنَّهُ أَرْدَفَهُ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى التَّأْكِيدِ فَقَالَ جَمِيعًا وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ الثَّامِنُ: أَنَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ غَفُورًا، وَلَفْظُ الْغَفُورِ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ التَّاسِعُ: أَنَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ رَحِيمًا وَالرَّحْمَةُ تُفِيدُ فَائِدَةً عَلَى الْمَغْفِرَةِ فكان قوله إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ إِشَارَةً إِلَى إِزَالَةِ مُوجِبَاتِ الْعِقَابِ، وَقَوْلُهُ الرَّحِيمُ إِشَارَةً إِلَى تَحْصِيلِ مُوجِبَاتِ الرَّحْمَةِ وَالثَّوَابِ الْعَاشِرُ: أَنَّ قَوْلَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا غَفُورَ وَلَا رَحِيمَ إِلَّا هُوَ، وَذَلِكَ يُفِيدُ الْكَمَالَ فِي وَصْفِهِ سُبْحَانَهُ بِالْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْعَشَرَةُ مَجْمُوعَةٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ بِأَسْرِهَا دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ الرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْفَوْزَ بِهَا وَالنَّجَاةَ مِنَ الْعِقَابِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهًا، قِيلَ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّ مَنْ عَبَدَ الْأَوْثَانَ وَقَتَلَ النَّفْسَ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ، وَقَدْ عَبَدْنَا وَقَتَلْنَا فَكَيْفَ نُسْلِمُ؟ وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي وَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُسْلِمَ وَخَافَ أَنْ لَا تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ أَسْلَمَ، فَقِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ لَهُ خَاصَّةً أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ فَقَالَ بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ أَصَابُوا ذُنُوبًا عِظَامًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الإسلام أشفقوا لَا يَقْبَلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَنَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَسْلَمُوا ثُمَّ فُتِنُوا فَافْتُتِنُوا وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ فِيهِمْ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُمْ تَوْبَتَهُمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فَكَتَبَهَا عُمَرُ، وَبَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ فَأَسْلَمُوا وَهَاجَرُوا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ فَنُزُولُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي هَذِهِ الْوَقَائِعِ لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كثير وابن عامر وعاصم يا عِبادِيَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْبَاقُونَ/ وَعَاصِمٌ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِغَيْرِ فَتْحٍ وَكُلُّهُمْ يَقِفُونَ عَلَيْهِ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي الْمُصْحَفِ، إِلَّا فِي بَعْضِ رواية أبي بكر عن عاصم أنه يَقِفُ بِغَيْرِ يَاءٍ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ تَقْنِطُوا بِكَسْرِ النُّونِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا لِمَنْ يَشَاءُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَيْ وَتُوبُوا إِلَيْهِ وَأَسْلِمُوا لَهُ أَيْ وَأَخْلِصُوا لَهُ الْعَمَلَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْإِنَابَةَ عَلَى أَثَرِ الْمَغْفِرَةِ لِئَلَّا يَطْمَعَ طَامِعٌ فِي حُصُولِهَا بِغَيْرِ تَوْبَةٍ وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا شَرْطٌ فِيهَا لَازِمٌ لَا تَحْصُلُ بِدُونِهِ، وَأَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ ضَعِيفٌ جِدًّا لِأَنَّ عِنْدَنَا التَّوْبَةَ عَنِ الْمَعَاصِي وَاجِبَةٌ فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ وُرُودِ الْأَمْرِ بِهَا طَعْنٌ فِي الْوَعْدِ بِالْمَغْفِرَةِ، فَإِنْ قَالُوا لَوْ كَانَ الْوَعْدُ بِالْمَغْفِرَةِ حَاصِلًا قَطْعًا لَمَا احْتِيجَ إِلَى التَّوْبَةِ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ إِنَّمَا تُرَادُ لِإِسْقَاطِ الْعِقَابِ، فَإِذَا سَقَطَ الْعِقَابُ بِعَفْوِ اللَّهِ عَنْهُ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّوْبَةِ، فَنَقُولُ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ قَطْعًا وَيَعْفُو عَنْهَا قَطْعًا إِلَّا أَنَّ هَذَا الْعَفْوَ وَالْغُفْرَانَ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ تارة

يَقَعُ ابْتِدَاءً وَتَارَةً يُعَذِّبُ مُدَّةً فِي النَّارِ ثُمَّ يُخْرِجُهُ مِنَ النَّارِ وَيَعْفُو عَنْهُ، فَفَائِدَةُ التَّوْبَةِ إِزَالَةُ هَذَا الْعِقَابِ، فَثَبَتَ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ضَعِيفٌ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ. ثُمَّ قَالَ: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ بِالْمَغْفِرَةِ أَمَرَ بَعْدَ هَذَا الْوَعْدِ بِأَشْيَاءَ فَالْأَوَّلُ: أَمَرَ بِالْإِنَابَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَالثَّانِي: أَمَرَ بِمُتَابَعَةِ الْأَحْسَنِ، وَفِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْأَحْسَنِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْقُرْآنُ وَمَعْنَاهُ وَاتَّبِعُوا الْقُرْآنَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً [الزُّمَرِ: 23] الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ مَعْنَاهُ، وَالْتَزِمُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَاجْتَنِبُوا مَعْصِيَةَ اللَّهِ، فَإِنَّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، ذِكْرُ الْقَبِيحِ لِيُجْتَنَبَ عَنْهُ، وَالْأَدْوَنِ لِئَلَّا يُرْغَبَ فِيهِ، وَالْأَحْسَنِ لِيُتَقَوَّى بِهِ وَيُتَّبَعَ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ بِالْأَحْسَنِ النَّاسِخُ دُونَ الْمَنْسُوخِ لِأَنَّ النَّاسِخَ أَحْسَنُ مِنَ الْمَنْسُوخِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [الْبَقَرَةِ: 106] وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَسَخَ حُكْمًا وَأَثْبَتَ حُكْمًا آخَرَ كَانَ اعْتِمَادُنَا عَلَى الْمَنْسُوخِ. ثُمَّ قَالَ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَفْجَأُ الْعَذَابُ وَأَنْتُمْ غَافِلُونَ عَنْهُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَوَّفَهُمْ بِالْعَذَابِ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ بِتَقْدِيرِ نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ مَاذَا يَقُولُونَ فَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْكَلِمَاتِ فَالْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ أَنْ تَقُولَ مَفْعُولٌ لَهُ أَيْ كَرَاهَةَ أن تقول: يا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَأَمَّا تَنْكِيرُ لَفْظِ النَّفْسِ فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: يَجُوزُ أَنْ تُرَادَ نَفْسٌ مُمْتَازَةٌ عَنْ سَائِرِ النُّفُوسِ لِأَجْلِ اخْتِصَاصِهَا بِمَزِيدِ إِضْرَارٍ بِمَا لَا يَنْفِي رَغْبَتَهَا فِي الْمَعَاصِي وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ/ يُرَادَ بِهِ الْكَثْرَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ عَقِيبَ وَصْفٍ يُنَاسِبُهُ يُفِيدُ الظَّنَّ بِأَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مُعَلَّلٌ بذلك الوصف، فقوله يا حَسْرَتى يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الْأَسَفِ وَنِهَايَةِ الْحُزْنِ وَأَنَّهُ مَذْكُورٌ عَقِيبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَالتَّفْرِيطُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى يُنَاسِبُ شِدَّةَ الْحَسْرَةِ وَهَذَا يَقْتَضِي حُصُولَ تِلْكَ الْحَسْرَةِ عِنْدَ حُصُولِ هَذَا التَّفْرِيطِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ الْعُمُومَ بِهَذَا الطَّرِيقِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَائِلُونَ بِإِثْبَاتِ الْأَعْضَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى اسْتَدَلُّوا عَلَى إِثْبَاتِ الْجَنْبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ دَلَائِلَنَا عَلَى نَفْيِ الْأَعْضَاءِ قَدْ كَثُرَتْ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ، وَنَقُولُ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْجَنْبِ عُضْوًا مَخْصُوصًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ وُقُوعُ التَّفْرِيطِ فِيهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى التَّأْوِيلِ وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ عِبَارَاتٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ ضَيَّعْتُ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ ضَيَّعْتُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي حَقِّ اللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِكْثَارَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ لَا يُفِيدُ شَرْحَ الصُّدُورِ وَشِفَاءَ الْغَلِيلِ، فَنَقُولُ: الْجَنْبُ سُمِّيَ جَنْبًا لِأَنَّهُ جَانِبٌ مِنْ جَوَانِبِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَالشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ مِنْ لَوَازِمِ الشَّيْءِ وَتَوَابِعِهِ يَكُونُ كَأَنَّهُ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِهِ وَجَانِبٌ مِنْ جَوَانِبِهِ فَلَمَّا حَصَلَتْ هَذِهِ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الْجَنْبِ الَّذِي هُوَ الْعُضْوُ وَبَيْنَ مَا يَكُونُ لَازِمًا لِلشَّيْءِ وَتَابِعًا لَهُ، لَا جَرَمَ حَسُنَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْجَنْبِ عَلَى الْحَقِّ وَالْأَمْرِ وَالطَّاعَةِ قَالَ الشَّاعِرُ: أَمَا تتقين الله جنب وامق ... له كبد حرا عليك تقطع

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ يَا حَسْرَتى على الأصل ويا حَسْرَتَايَ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ عَنْهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَيْ أَنَّهُ مَا كَانَ مُكْتَفِيًا بِذَلِكَ التَّقْصِيرِ بَلْ كَانَ مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالدِّينِ، قَالَ قَتَادَةُ لَمْ يَكْفِهِ أَنْ ضَيَّعَ طَاعَةَ اللَّهِ حَتَّى سَخِرَ مِنْ أَهْلِهَا، وَمَحَلُّ وَإِنْ كُنْتُ نَصْبٌ على الحال كَأَنَّهُ قَالَ: فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَأَنَا سَاخِرٌ أَيْ فَرَّطْتُ فِي حَالِ سُخْرِيَتِي. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْعَذَابِ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَهُ بَعْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ قَوْلِهِ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا الْمُقَصِّرَ أَتَى بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَوَّلُهَا: الْحَسْرَةُ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي الطَّاعَةِ وَثَانِيهَا: التَّعَلُّلُ بِفَقْدِ الْهِدَايَةِ وَثَالِثُهَا: بِتَمَنِّي الرَّجْعَةِ، ثُمَّ أَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ كَلَامِهِمْ بِأَنْ قَالَ التَّعَلُّلُ بِفَقْدِ الْهِدَايَةِ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْهِدَايَةَ كَانَتْ حَاضِرَةً وَالْأَعْذَارَ زَائِلَةٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ بَلَى جَوَابُ النَّفْيِ وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ لَفْظُ النَّفْيِ إِلَّا أَنَّهُ حَصَلَ/ فِيهِ مَعْنَى النَّفْيِ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي أَنَّهُ مَا هَدَانِي، فَلَا جَرَمَ حَسُنَ ذِكْرُ لَفْظَةِ بَلى بَعْدَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ وَاقِعَةٌ عَلَى التَّذْكِيرِ فِي قَوْلِهِ بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ لِأَنَّ النَّفْسَ تَقَعُ عَلَى الذكر والأنثى فخوطب المذكر، وَرَوَى الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ عَلَى التَّأْنِيثِ، قَالَ أَبُو عَبِيدٍ لَوْ صَحَّ هَذَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ حُجَّةً لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَرْكُهَا وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُسْنَدٍ، لِأَنَّ الرَّبِيعَ لَمْ يُدْرِكْ أُمَّ سَلَمَةَ، وَأَمَّا وَجْهُ التَّأْنِيثِ فَهُوَ أَنَّهُ ذَكَرَ النَّفْسَ وَلَفْظُ النَّفْسِ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ فِي أَكْثَرَ الْأَمْرِ عَلَى التَّأْنِيثِ بِقَوْلِهِ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي [طه: 96] وإِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: 53] ويا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الْفَجْرِ: 27] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي هَذِهِ الْآيَاتُ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْقَدَرِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يُقَالُ: فُلَانٌ أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ إِلَّا لِمَا يَكُونُ مِنْ قِبَلِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ تَحْصُلُ مِنْ قِبَلِهِمْ لَا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَثَانِيهَا: أَنَّ طَلَبَ الْغُفْرَانِ وَالرَّجَاءِ فِي ذَلِكَ أَوِ الْيَأْسِ لَا يَحْسُنُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْفِعْلُ فِعْلَ الْعَبْدِ، وَثَالِثُهَا: إِضَافَةُ الْإِنَابَةِ وَالْإِسْلَامِ إِلَيْهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ الْعَذَابُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مع تمكنه من محاولتهما قبل نُزُولِ الْعَذَابِ، وَمَذْهَبُهُمْ أَنَّ الْكَافِرَ لَمْ يَتَمَكَّنْ قَطُّ مِنْ ذَلِكَ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِمَا هُوَ الْمُخْتَارُ لِلِاتِّبَاعِ وَخَامِسُهَا: ذَمُّهُ لَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِمَا يُوجِبُ الْعَذَابَ وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مع التمكن من الفعل، وسادسها: قولهم يا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَلَا يَتَحَسَّرُ الْمَرْءُ عَلَى أَمْرٍ سَبَقَ مِنْهُ إِلَّا وَكَانَ يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِيمَانِ كَمَا يَقُولُ الْقَوْمُ وَلَا يَكُونُ الْإِيمَانُ مِنْ فِعْلِهِ لَا يَكُونُ مُفَرِّطًا، وَثَامِنُهَا: ذَمُّهُ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ مِنَ السَّاخِرِينَ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا أَنْ تَكُونَ السُّخْرِيَةُ فِعْلَهُمْ وَكَانَ يَصِحُّ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَفْعَلُوهُ، وَتَاسِعُهَا: قَوْلُهُ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي أَيْ مَكَّنَنِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُمْ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّقْوَى فَكَيْفَ يصح ذلك

[سورة الزمر (39) : الآيات 60 إلى 61]

مِنْهُ، وَعَاشِرُهَا: قَوْلِهِ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وَعَلَى قَوْلِهِمْ لَوْ رَدَّهُ اللَّهُ أَبَدًا كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا قُدْرَةُ الْكُفْرِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مُحْسِنًا، وَالْحَادِي عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى مُوَبِّخًا لَهُمْ بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ لِلَّهِ لَا أَنَّ الْحُجَّةَ لَهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَلَوْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالُوا لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: قَدْ جَاءَتْنَا الْآيَاتُ وَلَكِنَّكَ خَلَقْتَ فِينَا التَّكْذِيبَ بِهَا وَلَمْ تُقْدِرْنَا عَلَى التَّصْدِيقِ بِهَا. وَالثَّانِي عَشَرَ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِالتَّكْذِيبِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَالْكُفْرِ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَفْعَالًا لَهُمْ لَمَا صَحَّ الْكَلَامُ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ مُعَارَضَةٌ، بِمَا أَنَّ الْقُرْآنَ مَمْلُوءٌ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُضِلُّ وَيَمْنَعُ وَيَصْدُرُ مِنْهُ اللِّينُ/ وَالْقَسْوَةُ وَالِاسْتِدْرَاجُ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا التَّفْسِيرُ مَمْلُوءًا منه لم يكن إلى الإعادة حاجة. [سورة الزمر (39) : الآيات 60 الى 61] وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٍ آخَرَ مِنْ تَقْرِيرِ الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ، أَمَّا الْوَعِيدُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ وَفِيهِ بَحْثَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا التَّكْذِيبَ كَيْفَ هُوَ؟ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا السَّوَادَ كَيْفَ هُوَ؟ الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: عَنْ حَقِيقَةِ هَذَا التَّكْذِيبِ، فَنَقُولُ: الْمَشْهُورُ أَنَّ الْكَذِبَ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَدْرُ لَا يَكُونُ كَذِبًا بَلِ الشَّرْطُ فِي كَوْنِهِ كَذِبًا أَنْ يَقْصِدَ الْإِتْيَانَ بِخَبَرٍ يُخَالِفُ الْمُخْبَرَ عَنْهُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فَنَذْكُرُ أَقْوَالَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: قَالَ الْكَعْبِيُّ: ويرد الخبر بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ عَقِيبَ قَوْلِهِ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي [الزمر: 58] يَعْنِي أَنَّهُ مَا هَدَانِي بَلْ أَضَلَّنِي، فَلَمَّا حَكَى اللَّهُ عَنِ الْكُفَّارِ ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَائِدًا إِلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ، ثُمَّ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يُصَلُّونَ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ الذُّنُوبَ عَلَى الْعِبَادِ، وَهُمْ كَذَبَةٌ عَلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ مُسَوِّدٌ وُجُوهَهُمْ» وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا آخِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا التَّأْوِيلِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَارَتْ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةً أَقْوَامٌ مُتَكَبِّرُونَ، وَالتَّكَبُّرُ لَا يَلِيقُ بِمَنْ يَقُولُ أَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى الْخَلْقِ وَالْإِعَادَةِ وَالْإِيجَادِ، وَإِنَّمَا الْقَادِرُ عَلَيْهِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَمَّا الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ شَيْئًا وَأَنَا أُرِيدُ بِضِدِّهِ، فَيَحْصُلُ مُرَادِي وَلَا يَحْصُلُ مُرَادُ اللَّهِ، فَالتَّكَبُّرُ بِهَذَا الْقَائِلِ أَلْيَقُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرُوهُ فَاسِدٌ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُخْتَصٌّ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمُشْرِكِي الْعَرَبِ، قَالَ الْقَاضِي يَجِبُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْكُلِّ مِنَ الْمُشَبِّهَةِ وَالْمُجْبِرَةِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَأَضَافَ إِلَيْهِ مَا يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْهُ أَوْ نَزَّهَهُ عَمَّا يَجِبُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ، فَالْكُلُّ مِنْهُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ هذه الآية، لأنهم كلهم كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ، فَتَخْصِيصُ الْآيَةِ بِالْمُجْبِرَةِ وَالْمُشَبِّهَةِ أَوِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَا يَجُوزُ، وَاعْلَمْ أَنَّا لَوْ أَجْرَيْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى عُمُومِهَا كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي/ لَزِمَهُ تَكْفِيرُ الْأُمَّةِ، لِأَنَّكَ لَا تَرَى فِرْقَةً مِنْ فِرَقِ الْأُمَّةِ إِلَّا وَقَدْ حَصَلَ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ شَدِيدٌ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ حَصَلَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَبِي هَاشِمٍ وَأَهْلِ السُّنَّةِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَلْزَمُ عَلَى قَانُونِ قَوْلِ الْقَاضِي تَكْفِيرُ أَحَدِهِمَا، فَثَبَتَ أَنَّهُ

يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ الْكَذِبُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ عَلَى مَا إِذَا قَصَدَ الْإِخْبَارَ عَنِ الشَّيْءِ مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا يَقُولُ، وَمِثَالُ هَذَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَصِفُونَ تِلْكَ الْأَصْنَامَ بِالْإِلَهِيَّةِ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهَا جَمَادَاتٌ، وَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ وَالْوَصِيلَةَ وَالْحَامَ، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ كَذَا وَأَبَاحَ كَذَا، وَكَانَ قَائِلُهُ عَالِمًا بِأَنَّهُ كَذِبٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِلْحَاقُ مِثْلَ هَذَا الْوَعِيدِ بِهَذَا الْجَاهِلِ الْكَذَّابِ الضَّالِّ الْمُضِلِّ [يَكُونُ] مُنَاسِبًا، أَمَّا مَنْ لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا الْحَقَّ وَالصِّدْقَ لَكِنَّهُ أَخْطَأَ يَبْعُدُ إِلْحَاقُ هَذَا الْوَعِيدِ بِهِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: الْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ السَّوَادِ الْحَاصِلِ فِي وُجُوهِهِمْ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ سَوَادٌ مُخَالِفٌ لِسَائِرِ أَنْوَاعِ السَّوَادِ، وَهُوَ سَوَادٌ يَدُلُّ عَلَى الْجَهْلِ بِاللَّهِ وَالْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ، وَأَقُولُ إِنَّ الْجَهْلَ ظُلْمَةٌ، وَالظُّلْمَةُ تُتَخَيَّلُ كَأَنَّهَا سَوَادٌ فَسَوَادُ قُلُوبِهِمْ أَوْجَبَ سَوَادَ وُجُوهِهِمْ، وَتَحْتَ هَذَا الْكَلَامِ أَسْرَارٌ عَمِيقَةٌ مِنْ مَبَاحِثِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ هَذَا الْوَعِيدَ أَرْدَفَهُ بِالْوَعْدِ فَقَالَ: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ الْآيَةَ، قَالَ الْقَاضِي الْمُرَادُ بِهِ مَنِ اتَّقَى كُلَّ الْكَبَائِرِ إِذْ لَا يُوصَفُ بِالِاتِّقَاءِ الْمُطْلَقِ إِلَّا مَنْ كَانَ هَذَا حَالَهُ، فَيُقَالُ لَهُ: أَمْرُكَ عَجِيبٌ جِدًّا فَإِنَّكَ قُلْتَ لَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر: 57] وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ عَلَى الَّذِينَ قَالُوا لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي فَعَلَى هَذَا الْقَانُونِ لَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُمُ الَّذِينَ اتَّقَوْا ذَلِكَ الْكَذِبَ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِذَلِكَ الْكَذِبِ أَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ ذَلِكَ الْوَعْدِ الْمَذْكُورِ بِقَوْلِهِ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُكَ الَّذِينَ اتَّقَوْا الْمُرَادُ مِنْهُ مَنِ اتَّقَى كُلَّ الْكَبَائِرِ فَاسِدًا، فَثَبَتَ أَنَّ التَّعَصُّبَ يَحْمِلُ الرَّجُلَ الْعَاقِلَ عَلَى الْكَلِمَاتِ الْمُتَنَاقِضَةِ، بَلِ الْحَقُّ أَنْ تَقُولَ الْمُتَّقِي هُوَ الْآتِي بِالِاتِّقَاءِ وَالْآتِي بِالِاتِّقَاءِ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ آتٍ بِمُسَمَّى الِاتِّقَاءِ، وَبِهَذَا الْحَرْفِ قُلْنَا الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يُفِيدُ التَّكْرَارَ، ثُمَّ ذَلِكَ الِاتِّقَاءُ غَيْرُ مَذْكُورٍ بِعَيْنِهِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الِاتِّقَاءِ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرَهُ وَهَذَا هُوَ الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ مَنِ اتَّقَى عَنْ تِلْكَ الصِّفَةِ وَجَبَ دُخُولُهُ تَحْتَ هَذَا الْوَعْدِ الْكَرِيمِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بِمَفازَتِهِمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِمَفَازَاتِهِمْ عَلَى الْجَمْعِ، وَالْبَاقُونَ بِمَفَازَتِهِمْ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ قَالَ: كِلَاهُمَا صَوَابٌ، إِذْ يُقَالُ فِي الْكَلَامِ/ قَدْ تَبَيَّنَ أَمْرُ الْقَوْمِ وَأُمُورُ الْقَوْمِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْإِفْرَادُ لِلْمَصْدَرِ وَوَجْهُ الْجَمْعِ أَنَّ الْمَصَادِرَ قَدْ تُجْمَعُ إِذَا اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الْأَحْزَابِ: 10] وَلَا شَكَّ أَنَّ لِكُلِّ مُتَّقٍ نَوْعًا آخر عن الْمَفَازَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَفَازَةُ مَفْعَلَةٌ مِنَ الْفَوْزِ وَهُوَ السَّعَادَةُ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ النَّجَاةَ فِي الْقِيَامَةِ حَصَلَتْ بِسَبَبِ فَوْزِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِالطَّاعَاتِ وَالْخَيْرَاتِ، فَعَبَّرَ عَنِ الْفَوْزِ بِأَوْقَاتِهَا وَمَوَاضِعِهَا. ثُمَّ قَالَ: لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَالتَّفْسِيرِ لِتِلْكَ النَّجَاةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ كَيْفَ يُنَجِّيهِمْ؟ فَقِيلَ: لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَمَسُّهُ السُّوءُ كَانَ فَارِغَ البال

[سورة الزمر (39) : الآيات 62 إلى 66]

بِحَسْبِ الْحَالِ عَمَّا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ بِسَبَبِ فَوَاتِ الْمَاضِي، فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّهُ سَلِمَ عَنْ كُلِّ الْآفَاتِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْفَوْزَ بِهَذِهِ الدَّرَجَاتِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَنَالُهُمُ الْخَوْفُ وَالرُّعْبُ فِي الْقِيَامَةِ، وَتَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 103] . [سورة الزمر (39) : الآيات 62 الى 66] اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) [في قوله تعالى اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا أَطَالَ الْكَلَامَ فِي شَرْحِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ عَادَ إِلَى دَلَائِلَ الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّوْحِيدِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ أَنَّ أَصْحَابَنَا تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تعالى: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 102] عَلَى أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَطْنَبْنَا هُنَاكَ فِي الْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ، فَلَا فَائِدَةَ هَاهُنَا/ فِي الْإِعَادَةِ، إِلَّا أَنَّ الْكَعْبِيَّ ذَكَرَ هَاهُنَا كَلِمَاتٍ فَنَذْكُرُهَا وَنُجِيبُ عَنْهَا، فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَلَيْسَ مِنَ الْمَدْحِ أَنْ يَخْلُقَ الْكُفْرَ وَالْقَبَائِحَ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِهِ، وَأَيْضًا فَلَمْ يَكُنْ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ خِلَافٌ فِي أَعْمَالِ الْعِبَادِ، بَلْ كَانَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَجُوسِ وَالزَّنَادِقَةِ فِي خَلْقِ الْأَمْرَاضِ وَالسِّبَاعِ وَالْهَوَامِّ، فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يبين أنها جمع مِنْ خَلْقِهِ، وَأَيْضًا لَفْظَةُ (كُلِّ) قَدْ لَا تُوجِبُ الْعُمُومَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْلِ: 23] تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ [الْأَحْقَافِ: 25] وَأَيْضًا لَوْ كَانَتْ أَعْمَالُ الْعِبَادِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لَمَا ضَافَهَا إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 109] وَلَمَا صَحَّ قَوْلِهِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 78] وَلَمَا صَحَّ قَوْلُهُ وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [ص: 27] فَهَذَا جُمْلَةُ مَا ذَكَرَهُ الْكَعْبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ سِوَى أَفْعَالِ خَلْقِهِ الَّتِي صَحَّ فِيهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَاسْتَحَقُّوا بِهَا الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، وَلَوْ كَانَتْ أَفْعَالُهُمْ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى مَا جَازَ ذَلِكَ فِيهِ كَمَا لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي أَلْوَانِهِمْ وَصُوَرِهِمْ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْخَلْقُ هُوَ التَّقْدِيرُ لَا الْإِيجَادُ، فَإِذَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ عِبَادِهِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ فَقَدْ قَدَّرَ ذَلِكَ الْفِعْلَ، فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوجِدًا لَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فَمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَيْهِ فليطالع هذا الموضع مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ فَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا مَوْكُولَةٌ إِلَيْهِ فَهُوَ الْقَائِمُ بِحِفْظِهَا وَتَدْبِيرِهَا مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ وَلَا مُشَارِكٍ، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَوْ وَقَعَ بِتَخْلِيقِ الْعَبْدِ لَكَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ غَيْرَ مَوْكُولٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ تَعَالَى وَكِيلًا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يُنَافِي عُمُومَ الْآيَةِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَالِكُ أَمْرِهَا وَحَافِظُهَا وَهُوَ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ، لِأَنَّ حَافِظَ الْخَزَائِنِ وَمُدَبِّرَ أَمْرِهَا هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ مَقَالِيدُهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ أَلْقَيْتُ مَقَالِيدَ الْمُلْكِ إِلَيْهِ وَهِيَ الْمَفَاتِيحُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَلَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، وَقِيلَ مِقْلِيدٌ وَمَقَالِيدُ، وَقِيلَ مِقْلَادٌ وَمَقَالِيدُ مِثْلَ مِفْتَاحٍ وَمَفَاتِيحٍ، وَقِيلَ إِقْلِيدٌ وَأَقَالِيدٌ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَالْكَلِمَةُ أَصْلُهَا فَارِسِيَّةٌ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا عَرَّبُوهَا صَارَتْ عَرَبِيَّةً. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَرِيبٌ مِنَ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الْأَنْعَامِ: 59] وَقَدْ سَبَقَ الِاسْتِقْصَاءُ هُنَاكَ، قِيلَ سَأَلَ عُثْمَانُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَقَالَ: «يَا عُثْمَانُ مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ قَبْلَكَ، تَفْسِيرُهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» هَكَذَا نَقَلَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: صَرِيحُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا خَاسِرَ إِلَّا كَافِرٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ لَهُ حَظٌّ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَوْرَدَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» سُؤَالًا، وَهُوَ أَنَّهُ بِمَ اتَّصَلَ قَوْلُهُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا؟ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ اتَّصَلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا [الزُّمَرِ: 61] أَيْ يُنَجِّي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ بِمَفَازَتِهِمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَاعْتَرَضَ مَا بَيْنَهُمَا أَنَّهُ خَالِقٌ لِلْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَأَنَّ لَهُ مقاليد السموات وَالْأَرْضِ. وَأَقُولُ هَذَا عِنْدِي ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ وُقُوعَ الْفَاصِلِ الْكَبِيرِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِعِيدٌ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ، وَعَطْفُ الْجُمْلَةِ الْاسْمِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ لَا يَجُوزُ، بَلِ الْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَمَّا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ بِالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْجَلَالَيَّةِ، وَهُوَ كَوْنُهُ خَالِقًا لِلْأَشْيَاءِ كلها، وكونه مالكا لمقاليد السموات وَالْأَرْضِ بِأَسْرِهَا، قَالَ بَعْدَهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ الظَّاهِرَةِ الْبَاهِرَةِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ تَأْمُرُونَنِي بِنُونَيْنِ سَاكِنَةَ الْيَاءِ وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مَصَاحِفِ الشَّامِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ تَأْمُرُونِّي بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ عَلَى إِسْكَانِ الْأُولَى وَإِدْغَامِهَا فِي الثَّانِيَةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ تَأْمُرُونِي بِنُونٍ وَاحِدَةٍ خَفِيفَةٍ، عَلَى حَذْفِ إِحْدَى النُّونَيْنِ وَالْبَاقُونَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مَكْسُورَةٍ مُشَدَّدَةٍ. المسألة الثانية: أَفَغَيْرَ اللَّهِ منصوب بأعبد وتأمروني اعْتِرَاضٌ، وَمَعْنَاهُ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَعْبُدُ بِأَمْرِكُمْ؟ وَذَلِكَ حِينَ قَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ أَسْلِمْ بِبَعْضِ آلِهَتِنَا وَنُؤْمِنُ بِإِلَهِكَ، وَأَقُولُ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْعَامِ: 14] وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تِلْكَ الْآيَةِ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي تَقْدِيمِ الْفِعْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِالْجَهْلِ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ وَصْفُ الْإِلَهِ بِكَوْنِهِ خَالِقًا لِلْأَشْيَاءِ وَبِكَوْنِهِ مَالِكًا لِمَقَالِيدَ السموات وَالْأَرْضِ، وَظَاهِرُ كَوْنِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ جَمَادَاتٍ أَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ عبادة الإله

[سورة الزمر (39) : الآيات 67 إلى 70]

الْمَوْصُوفِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الشَّرِيفَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَاشْتَغَلَ بِعِبَادَةِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ الْخَسِيسَةِ، فَقَدْ بَلَغَ فِي الْجَهْلِ مَبْلَغًا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: أَيُّهَا الْجاهِلُونَ وَلَا شَكَّ أَنَّ وَصْفَهُمْ بِهَذَا الْأَمْرِ لَائِقٌ بِهَذَا الْمَوْضِعِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ التَّامَّ مَعَ الدَّلَائِلِ الْقَوِيَّةِ، وَالْجَوَابِ عَنِ الشُّبَهَاتِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِحْبَاطِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَلَا نُعِيدُهُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ عَلَى/ الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَقُرِئَ بِالْيَاءِ وَالنُّونِ أَيْ: لَيُحْبِطْنَّ اللَّهُ أَوِ الشِّرْكُ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ حَالَ شِرْكِهِ عَلَى التَّعْيِينِ؟ وَالْجَوَابُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أُوحِيَ إِلَيْكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ مِثْلُهُ أَوْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَئِنْ أَشْرَكْتَ، كَمَا تَقُولُ كَسَانَا حُلَّةً أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّامَيْنِ؟ الْجَوَابُ الْأُولَى: مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ وَالثَّانِيَةُ: لَامُ الْجَوَابِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ صَحَّ هَذَا الْكَلَامُ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ رُسُلَهُ لَا يُشْرِكُونَ وَلَا تُحْبَطُ أَعْمَالُهُمْ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ وَالْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ لَا يَلْزَمُ مِنْ صِدْقِهَا صِدْقُ جُزْأَيْهَا أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَكَ لَوْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ زَوْجًا لَكَانَتْ مُنْقَسِمَةً بِمُتَسَاوِيَيْنِ قَضِيَّةٌ صَادِقَةٌ مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ جُزْأَيْهَا غَيْرُ صَادِقٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ هَذَا صِدْقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ فِيهِمَا آلِهَةً وَبِأَنَّهُمَا قَدْ فَسَدَتَا. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ؟ وَالْجَوَابُ كَمَا أَنَّ طَاعَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ أَفْضَلُ مِنْ طَاعَاتِ غَيْرِهِمْ، فَكَذَلِكَ الْقَبَائِحُ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْهُمْ فَإِنَّهَا بِتَقْدِيرِ الصُّدُورِ تَكُونُ أَقْبَحَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ [الْإِسْرَاءِ: 75] فَكَانَ الْمَعْنَى ضِعْفَ الشِّرْكِ الْحَاصِلِ مِنْهُ، وَبِتَقْدِيرِ حُصُولِهِ مِنْهُ يَكُونُ تَأْثِيرُهُ فِي جَانِبِ غَضَبِ اللَّهِ أَقْوَى وَأَعْظَمَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَّمَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ ذَكَرَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَقَالَ: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ مَا أَمَرُوهُ بِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ بِبَعْضِ آلِهَتِهِمْ، كَأَنَّهُ قَالَ إِنَّكُمْ تَأْمُرُونَنِي بِأَنْ لَا أَعْبُدَ إِلَّا غَيْرَ اللَّهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ يُفِيدُ أَنَّهُمْ عَيَّنُوا عَلَيْهِ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ، فَقَالَ اللَّهُ إِنَّهُمْ بِئْسَمَا قَالُوا وَلَكِنْ أَنْتَ عَلَى الضِّدِّ مِمَّا قَالُوا، فَلَا تَعْبُدْ إِلَّا اللَّهَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ يُفِيدُ الْحَصْرَ. ثُمَّ قَالَ: وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ عَلَى مَا هَدَاكَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلا عبادة الإله القادر عن الْإِطْلَاقِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ، وَعَلَى مَا أَرْشَدَكَ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْإِعْرَاضُ عَنْ عِبَادَةِ كُلِّ مَا سوى الله. [سورة الزمر (39) : الآيات 67 الى 70] وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70)

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ أَمَرُوا الرَّسُولَ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَقَامَ الدَّلَائِلَ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ وَأَمَرَ الرَّسُولَ بِأَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا يَعْبُدَ شَيْئًا آخَرَ سِوَاهُ، بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَوْ عَرَفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ لَمَا جَعَلُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْخَسِيسَةَ مُشَارِكَةً لَهُ الْمَعْبُودِيَّةَ، فَقَالَ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ لَا يَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ اللَّهِ، قَالُوا لِأَنَّ قَوْلَهُ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى إِلَّا أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا صِفَةُ حَالِ الْكُفَّارِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ وَصْفِ الْكُفَّارِ بِأَنَّهُمْ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَصْفُ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، فَسَقَطَ هَذَا الْكَلَامُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أَيْ مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَذْكُورَةٌ فِي سُوَرٍ ثَلَاثٍ، فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ مَا عَظَّمُوهُ تَعْظِيمًا لَائِقًا بِهِ أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ عَظَمَتِهِ وَنِهَايَةِ جَلَالَتِهِ، فَقَالَ: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ قَالَ الْقَفَّالُ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ وَمَا قَدَرْتَنِي حَقَّ قَدْرِي وَأَنَا الَّذِي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، أَيْ لَمَّا عَرَفْتَ أَنَّ حَالِي وَصِفَتِي هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَحُطَّنِي عَنْ قَدْرِي وَمَنْزِلَتِي، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [الْبَقَرَةِ: 28] أَيْ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِمَنْ هَذَا وَصْفُهُ وَحَالُ مُلْكِهِ فَكَذَا هَاهُنَا، وَالْمَعْنَى وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ لَهُ شُرَكَاءَ وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى مَعَ أَنَّ الأرض والسموات فِي قَبْضَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِذَا أَخَذْتَهُ كَمَا هُوَ بِجُمْلَتِهِ وَمَجْمُوعِهِ تَصْوِيرُ عَظَمَتِهِ/ وَالتَّوْقِيفُ عَلَى كُنْهِ جَلَالِهِ مِنْ غَيْرِ ذَهَابٍ بِالْقَبْضَةِ وَلَا بِالْيَمِينِ إِلَى جِهَةِ حَقِيقَةٍ أَوْ مَجَازٍ، وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ يَهُودِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَبَا القاسم إن الله يمسك السموات يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْأَرْضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ فَيَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَجُّبًا مِمَّا قَالَ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَإِنَّمَا ضَحِكَ أَفْصَحُ الْعَرَبِ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مِنْهُ إِلَّا مَا يَفْهَمُهُ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ مِنْ غَيْرِ تَصَوُّرِ إِمْسَاكٍ وَلَا إِصْبَعٍ وَلَا هَزٍّ وَلَا شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ فَهْمَهُ وَقَعَ أَوَّلَ كُلِّ شَيْءٍ وَآخِرَهُ عَلَى الزُّبْدَةِ وَالْخُلَاصَةِ، الَّتِي هِيَ الدِّلَالَةُ عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَأَنَّ الْأَفْعَالَ الْعِظَامَ الَّتِي تَتَحَيَّرُ فِيهَا الْأَوْهَامُ وَلَا تَكْتَنِهُهَا الْأَذْهَانُ هَيِّنَةٌ عَلَيْهِ، قَالَ وَلَا نَرَى بَابًا فِي عِلْمِ الْبَيَانِ أَدَقُّ وَلَا أَلْطَفُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَيُقَالُ لَهُ هَلْ تُسَلِّمُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُعْدَلُ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ عِنْدَ قِيَامِ الدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ مُمْتَنِعٌ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ، فَإِنْ أَنْكَرَ هَذَا الْأَصْلَ فَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ الْقُرْآنُ بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً، فَإِنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ الْفُلَانِيَّةِ كَذَا وَكَذَا فَأَنَا أَحْمِلُ الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ الْمَقْصُودِ، وَلَا أَلْتَفِتُ إِلَى الظَّوَاهِرِ، مِثَالُهُ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي ثَوَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَعِقَابِ أَهْلِ النَّارِ، قَالَ الْمَقْصُودُ بَيَانُ سَعَادَاتِ الْمُطِيعِينَ وَشَقَاوَةِ الْمُذْنِبِينَ، وَأَنَا أَحْمِلُ هَذِهِ الْآيَاتِ

عَلَى هَذَا الْمَقْصُودِ وَلَا أُثْبِتُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَلَا سَائِرَ الْأَحْوَالِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَمَنْ تَمَسَّكَ بِالْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي إِثْبَاتِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ فَقَالَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِيجَابُ تَنْوِيرِ الْقَلْبِ بِذِكْرِ اللَّهِ، فَأَنَا أَكْتَفِي بِهَذَا الْقَدْرِ وَلَا أُوجِبُ هَذِهِ الْأَعْمَالَ الْمَخْصُوصَةَ، وَإِذَا عَرَفْتَ الْكَلَامَ فِي هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ فَقِسْ عَلَيْهِ سَائِرَ الْمَسَائِلَ الْأُصُولِيَّةِ وَالْفُرُوعَيَّةِ، وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ الْقُرْآنُ عَنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً فِي الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ وَالْفُرُوعَيَّةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَأَمَّا إِنْ سَلَّمَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ مُنْفَصِلٌ عَلَى أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ صَرْفُهُ إِلَى مَجَازِهِ، فَإِنْ حَصَلَتْ هُنَاكَ مَجَازَاتٌ لَمْ يَتَعَيَّنْ صَرْفُهُ إِلَى مَجَازٍ مُعَيَّنٍ إِلَّا إِذَا كَانَ الدَّلِيلُ يُوجِبُ ذَلِكَ التَّعْيِينَ، فَنَقُولُ هَاهُنَا لَفْظُ الْقَبْضَةِ وَلَفْظُ الْيَمِينِ حَقِيقَةٌ فِي الْجَارِحَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَلَا يُمْكِنُكَ أَنَّ تَصْرِفَ ظَاهِرَ الْكَلَامِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى إِلَّا إِذَا أَقَمْتَ الدِّلَالَةَ عَلَى أَنَّ حَمْلَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَى ظَوَاهِرِهَا مُمْتَنِعٌ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى الْمَجَازَاتِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْمَعْنَى الْفُلَانِيَّ يَصِحُّ جَعْلُهُ مَجَازًا عَنْ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ هَذَا الْمَجَازَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ وَتَرْتِيبُهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ تَعْوِيلُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ فَأَنْتَ مَا أَتَيْتَ فِي هَذَا الْبَابِ بِطَرِيقَةٍ جَدِيدَةٍ وَكَلَامٍ غَرِيبٍ، بَلْ هُوَ عَيْنُ مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّحْقِيقِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْفَرَحَ الَّذِي أَظْهَرَهُ مِنْ أَنَّهُ اهْتَدَى إِلَى الطَّرِيقِ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْهُ غَيْرُهُ طَرِيقٌ فَاسِدٌ، دَالٌّ عَلَى قِلَّةِ وُقُوفِهِ عَلَى الْمَعَانِي، وَلْنَرْجِعْ إِلَى الطَّرِيقِ الْحَقِيقِيِّ فَنَقُولُ لَا شَكَّ أَنَّ لَفْظَ الْقَبْضَةِ وَالْيَمِينِ مُشْعِرٌ بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ، إِلَّا أَنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ قَامَتْ عَلَى امْتِنَاعِ ثُبُوتِ الْأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ/ لِلَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ حَمْلُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ عَلَى وُجُوهِ الْمَجَازِ، فَنَقُولُ إِنَّهُ يُقَالُ فُلَانٌ فِي قَبْضَةِ فُلَانٍ إِذَا كَانَ تَحْتَ تَدْبِيرِهِ وَتَسْخِيرِهِ. قَالَ تَعَالَى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [الْمَعَارِجِ: 30] وَالْمُرَادُ مِنْهُ كَوْنُهُ مَمْلُوكًا لَهُ، وَيُقَالُ هَذِهِ الدَّارُ فِي يَدِ فُلَانٍ، وَفُلَانٌ صَاحِبُ الْيَدِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْكُلِّ الْقُدْرَةُ، وَالْفُقَهَاءِ يَقُولُونَ فِي الشُّرُوطِ وَقَبَضَ فُلَانٌ كَذَا وَصَارَ فِي قَبْضَتِهِ، وَلَا يُرِيدُونَ إِلَّا خُلُوصَ مُلْكِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ تَعَذُّرُ حَمْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَى حَقَائِقِهَا وَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى مَجَازَاتِهَا صَوْنًا لِهَذِهِ النُّصُوصِ عَنِ التَّعْطِيلِ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْحَقِيقِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَنَا كِتَابٌ مُفْرَدٌ فِي إِثْبَاتِ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْمَكَانِ، سَمَّيْنَاهُ بِتَأْسِيسِ التَّقْدِيسِ، مَنْ أَرَادَ الْإِطْنَابَ فِي هَذَا الْبَابِ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَفْسِيرِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ قَوْلُهُ وَالْأَرْضُ الْمُرَادُ مِنْهُ الْأَرْضُونَ السَّبْعُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ جَمِيعاً فَإِنَّ هَذَا التَّأْكِيدَ لَا يَحْسُنُ إِدْخَالُهُ إِلَّا عَلَى الْجَمْعِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ كُلُّ الطَّعامِ [آلِ عِمْرَانَ: 93] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ [النُّورِ: 31] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ [ق: 10] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْعَصْرِ: 2، 3] فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الْمُلِحَّةَ بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجَمْعُ فَكَذَا هَاهُنَا وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَرْضِ الْأَرْضُونَ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ تَعْظِيمٍ وَتَفْخِيمٍ فَهَذَا مُقْتَضَى الْمُبَالَغَةِ، وَأَمَّا الْقَبْضَةُ فَهِيَ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْقَبْضِ، قَالَ تَعَالَى: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ [طه: 96] وَالْقَبْضَةُ بِالضَّمِّ الْمِقْدَارُ الْمَقْبُوضُ بِالْكَفِّ، وَيُقَالُ أَيْضًا أَعْطِنِي قَبْضَةً مِنْ كَذَا، يُرِيدُ مَعْنَى الْقَبْضَةِ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، وَالْمَعْنَى وَالْأَرَضُونَ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ أَيْ ذَوَاتُ قَبْضَتِهِ يَقْبِضُهُنَّ قَبْضَةً وَاحِدَةً مِنْ قَبَضَاتِهِ، يَعْنِي أَنَّ الْأَرَضِينَ مَعَ مَا لَهَا مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْبَسْطَةِ لَا يَبْلُغْنَ إِلَّا قَبْضَةً وَاحِدَةً مِنْ قَبَضَاتِهِ، أَمَّا إِذَا أُرِيدَ مَعْنَى القبضة،

فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْأَرْضِينَ بِجُمْلَتِهَا مِقْدَارُ مَا يَقْبِضُهُ بِكَفٍّ وَاحِدَةٍ فَإِنْ قِيلَ مَا وَجْهُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ قَبْضَتَهُ بِالنَّصْبِ، قُلْنَا جَعَلَ الْقَبْضَةَ ظَرْفًا «1» وَقَوْلُهُ مَطْوِيَّاتٌ مِنَ الطَّيِّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّشْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ [الْأَنْبِيَاءِ: 104] وَعَادَةُ طَاوِي السِّجِلِّ أَنْ يَطْوِيَهُ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: وَقِيلَ قَبْضَتُهُ مُلْكُهُ وَيَمِينُهُ قُدْرَتُهُ، وَقِيلَ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ أَيْ مَفْنِيَّاتٍ بِقَسَمِهِ لِأَنَّهُ أَقْسَمَ أَنْ يَقْبِضَهَا، وَلَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْوُجُوهَ عَادَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهَا وُجُوهٌ رَكِيكَةٌ، وَأَنَّ حَمْلَ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى مَحْضِ التَّمْثِيلِ أَوْلَى، وَبَالَغَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْكَلَامِ فَأَطْنَبَ، وَأَقُولُ إِنَّ حَالَ هَذَا الرَّجُلِ فِي إِقْدَامِهِ عَلَى تَحْسِينِ طَرِيقَتِهِ، وَتَقْبِيحِ طَرِيقَةِ الْقُدَمَاءِ عَجِيبٌ جِدًّا، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ ترك الظاهر اللَّفْظِ، وَالْمَصِيرُ إِلَى الْمَجَازِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَهَذَا طَعْنٌ فِي الْقُرْآنِ وَإِخْرَاجٌ لَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً فِي شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ، وَأَنَّهُ لا يجوز العدول عنه إلا لدليل منفل، فهذا هو الطَّرِيقَةُ الَّتِي أَطْبَقَ عَلَيْهَا جُمْهُورُ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَأَيْنَ الْكَلَامُ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ عَلِمَهُ؟ وَأَيْنَ الْعِلْمُ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْهُ غَيْرُهُ؟ مَعَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي التَّأْوِيلَاتِ/ الْعُسْرِ وَالْكَلِمَاتِ الرَّكِيكَةِ، فَإِنْ قَالُوا الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمَّا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ الْقَبْضَةِ وَالْيَمِينِ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ، وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَكْتَفِيَ بِهَذَا الْقَدْرِ وَلَا نَشْتَغِلَ بِتَعْيِينِ الْمُرَادِ، بَلْ نُفَوِّضُ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَنَقُولُ هَذَا هُوَ طَرِيقُ الْمُوَحِّدِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّا نَعْلَمُ لَيْسَ مُرَادُ اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ، فَأَمَّا تَعْيِينُ الْمُرَادِ، فَإِنَّا نُفَوِّضُ ذَلِكَ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ طَرِيقَةُ السَّلَفِ الْمُعْرِضِينَ عَنِ التَّأْوِيلَاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي أَتَى بِهَا هَذَا الرَّجُلُ لَيْسَ تَحْتَهَا شَيْءٌ مِنَ الْفَائِدَةِ أَصْلًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ عَظَمَتَهُ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ قَالَ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْقَادِرَ الْقَاهِرَ الْعَظِيمَ الَّذِي حَارَتِ الْعُقُولُ وَالْأَلْبَابُ فِي وَصْفِ عَظَمَتِهِ تَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ عَنْ أَنْ تُجْعَلَ الْأَصْنَامُ شُرَكَاءً لَهُ فِي الْمَعْبُودِيَّةِ، فَإِنْ قِيلَ السُّؤَالُ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ العرش أعظم من السموات السَّبْعِ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعِ، ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ فِي صِفَةِ الْعَرْشِ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الْحَاقَّةِ: 17] وَإِذَا وَصَفَ الْمَلَائِكَةَ بِكَوْنِهِمْ حَامِلِينَ الْعَرْشَ الْعَظِيمَ، فَكَيْفَ يَجُوزُ تَقْدِيرُ عَظَمَةِ اللَّهِ بكونه حاملا للسموات وَالْأَرْضِ؟ السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ شَرَحَ حَالَةً لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْقَوْمُ مَا شَاهَدُوا ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْخِطَابُ مَعَ الْمُصَدِّقِينَ، لِلْأَنْبِيَاءِ فَهُمْ يَكُونُونَ مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِجَعْلِ الْأَصْنَامِ شُرَكَاءَ لله تَعَالَى، فَلَا فَائِدَةَ فِي إِيرَادِ هَذِهِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْخِطَابُ مَعَ الْمُكَذِّبِينَ بِالنُّبُوَّةِ وَهُمْ يُنْكِرُونَ قَوْلَهُ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى إِبْطَالِ الْقَوْلِ بِالشِّرْكِ؟. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: حَاصِلُ الْقَوْلِ فِي الْقَبْضَةِ وَالْيَمِينِ هُوَ الْقُدْرَةُ الْكَامِلَةُ الْوَافِيَةُ بِحِفْظِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ الْعَظِيمَةِ، وَكَمَا أَنَّ حِفْظَهَا وَإِمْسَاكَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ إِلَّا بِقُدْرَةِ اللَّهِ فَكَذَلِكَ الْآنَ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَخْصِيصِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ؟. الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ مَرَاتِبَ التَّعْظِيمِ كَثِيرَةٌ فَأَوَّلُهَا تَقْرِيرُ عَظَمَةِ اللَّهِ بِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى حِفْظِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ الْعَظِيمَةِ، ثُمَّ بَعْدَ تَقْرِيرِ عَظَمَتِهِ بِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى إمساك أولئك الملائكة الذين يحملون العرش.

_ (1) يريد انه منصوب نزع على الخافض والتقدير «في قبضته» .

الْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ الْحَقَّ سبحانه هو المتولي لإبقاء السموات وَالْأَرْضِينَ عَلَى وُجُوهِ الْعِمَارَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وهو المتولي لتخريبها وَإِفْنَائِهَا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ قُدْرَةٍ تَامَّةٍ عَلَى الْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ، وَتَنْبِيهٌ أَيْضًا عَلَى كَوْنِهِ غَنِيًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا حَاوَلَ تَخْرِيبَ الْأَرْضِ فَكَأَنَّهُ يَقْبِضُ قَبْضَةً صَغِيرَةً وَيُرِيدُ إِفْنَاءَهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الِاسْتِغْنَاءِ. الْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ إِنَّمَا خَصَّصَ تِلْكَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ كَمَا ظَهَرَ كَمَالُ قُدْرَتِهِ فِي الْإِيجَادِ عِنْدَ عِمَارَةِ الدُّنْيَا، فَكَذَلِكَ ظَهَرَ كَمَالُ قُدْرَتِهِ عِنْدَ خَرَابِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَّرَ كَمَالَ عَظَمَتِهِ بِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ طَرِيقَةٍ أُخْرَى تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَذَلِكَ شَرْحُ مُقَدِّمَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ نَفْخَ الصُّورِ يَكُونُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَقَالَ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّعْقَةِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهَا غَيْرُ الْمَوْتِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً [الْأَعْرَافِ: 143] مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ، فَهَذَا هُوَ النَّفْخُ الَّذِي يُورِثُ الْفَزَعَ الشَّدِيدَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمُرَادُ مِنْ نَفْخِ الصَّعْقَةِ وَمِنْ نَفْخِ الْفَزَعِ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ فِي قَوْلِهِ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [النمل: 87] وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَنَفْخُ الصُّوَرِ لَيْسَ إِلَّا مَرَّتَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّعْقَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَوْتِ وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ قَالُوا إِنَّهُمْ يَمُوتُونَ مِنَ الْفَزَعِ وَشِدَّةِ الصَّوْتِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالنَّفْخَةُ تَحْصُلُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَوَّلُهَا: نَفْخَةُ الْفَزَعِ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ وَالثَّانِيَةُ: نَفْخَةُ الصَّعْقِ وَالثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ الْقِيَامِ وَهُمَا مَذْكُورَتَانِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: عِنْدَ نَفْخَةِ الصَّعْقِ يَمُوتُ من في السموات وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَمَلَكَ الْمَوْتِ ثُمَّ يُمِيتُ اللَّهُ مِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَيَبْقَى جِبْرِيلُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ ثُمَّ يُمِيتُ جِبْرِيلَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ هُمُ الشُّهَدَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 169] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «هُمُ الشُّهَدَاءُ مُتَقَلِّدُونَ أَسْيَافَهُمْ حَوْلَ الْعَرْشِ» . الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ جَابِرٌ هَذَا الْمُسْتَثْنَى هُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ صَعِقَ مَرَّةً فَلَا يُصْعَقُ ثَانِيًا. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُمُ الْحُورُ الْعِينُ وَسُكَّانُ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ. وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: قَالَ قَتَادَةُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَنَّهُمْ مَنْ هُمْ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَنْ هُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ: لَفْظُ الْقُرْآنِ دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ النَّفْخَةَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنِ النَّفْخَةِ الْأُولَى، لِأَنَّ لَفْظَ (ثُمَّ) يُفِيدُ التَّرَاخِيَ، قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ النَّفْخَةَ الْأُولَى، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ بَيْنَهُمَا أَرْبَعِينَ» وَلَا أَدْرِي أَرْبَعُونَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ أَرْبَعُونَ سَنَةً أَوْ أَرْبَعُونَ أَلْفَ سَنَةٍ. الثَّانِي: قَوْلُهُ أُخْرى تَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةً وَاحِدَةً ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ نَفْخَةٌ أُخْرَى، وَإِنَّمَا حَسُنَ

الْحَذْفُ لِدِلَالَةِ أُخْرَى عَلَيْهَا وَلِكَوْنِهَا مَعْلُومَةً. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَعْنِي قِيَامَهُمْ مِنَ الْقُبُورِ يَحْصُلُ عَقِيبَ هَذِهِ النَّفْخَةِ الْأَخِيرَةِ/ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ فَإِذا هُمْ تَدُلُّ عَلَى التَّعْقِيبِ. الرَّابِعُ: قَوْلُهُ يَنْظُرُونَ وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: يَنْظُرُونَ يُقَلِّبُونَ أَبْصَارَهُمْ فِي الْجِهَاتِ نَظَرَ الْمَبْهُوتِ إِذَا فَاجَأَهُ خَطْبٌ عَظِيمٌ وَالثَّانِي: يَنْظُرُونَ مَاذَا يُفْعَلُ بِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ بِمَعْنَى الْوُقُوفِ وَالْخُمُودِ فِي مَكَانٍ لِأَجْلِ اسْتِيلَاءِ الْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ عَلَيْهِمْ. وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى هَاتَيْنِ النَّفْخَتَيْنِ قَالَ: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْأَرْضُ الْمَذْكُورَةُ لَيْسَتْ هِيَ هَذِهِ الْأَرْضَ الَّتِي يُقْعَدُ عَلَيْهَا الْآنَ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إِبْرَاهِيمَ: 48] وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [الْحَاقَّةِ: 14] بَلْ هِيَ أَرْضٌ أُخْرَى يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَحْفَلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُجَسِّمَةُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نُورٌ مَحْضٌ، فَإِذَا حَضَرَ اللَّهُ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ أَشْرَقَتْ تِلْكَ الْأَرْضُ بِنُورِ اللَّهِ، وَأَكَّدُوا هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّورِ: 35] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نُورًا بِمَعْنَى كَوْنِهِ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْأَنْوَارِ الْمُشَاهَدَةِ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَجَبَ حَمْلُ لَفْظِ النُّورِ هَاهُنَا عَلَى الْعَدْلِ، فَنَحْتَاجُ هَاهُنَا إِلَى بَيَانِ أَنَّ لَفْظَ النُّورِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ إِلَى بَيَانِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ لَفْظِ النُّورِ هَاهُنَا لَيْسَ إِلَّا هَذَا الْمَعْنَى، أَمَّا بَيَانُ الِاسْتِعْمَالِ فَهُوَ أَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ لِلْمَلِكِ الْعَادِلِ أَشْرَقَتِ الْآفَاقُ بِعَدْلِكَ، وَأَضَاءَتِ الدُّنْيَا بِقِسْطِكَ، كَمَا يَقُولُونَ أَظْلَمَتِ الْبِلَادُ بِجُورِكَ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النُّورِ هَاهُنَا الْعَدْلُ فَقَطْ أَنَّهُ قَالَ: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَجِيءَ بِالشُّهَدَاءِ لَيْسَ إِلَّا لِإِظْهَارِ الْعَدْلِ، وَأَيْضًا قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ إِزَالَةُ ذَلِكَ الظُّلْمِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى فَتَحَ هَذِهِ الْآيَةَ بِإِثْبَاتِ الْعَدْلِ وَخَتَمَهَا بِنَفْيِ الظُّلْمِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ عَنِ الشُّبْهَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْصُلُ هُنَاكَ نُورٌ مُضَافٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَلْزَمُ كَوْنُ ذَلِكَ صِفَةَ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ يَكْفِي فِي صِدْقِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ النُّورُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَشَرَّفَهُ بِأَنْ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ كَانَ ذَلِكَ النُّورُ نُورَ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: بَيْتُ اللَّهِ، وَنَاقَةُ اللَّهِ وَهَذَا الْجَوَابُ أَقْوَى مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ فِي هَذَا الْجَوَابِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَرْكِ الْحَقِيقَةِ وَالذَّهَابِ إِلَى الْمَجَازِ. وَالْوَجْهُ الثالث: أنه قد يقال فُلَانٌ رَبُّ هَذِهِ الْأَرْضِ وَرَبُّ هَذِهِ الدَّارِ وَرَبُّ هَذِهِ الْجَارِيَةِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ رَبُّ هَذِهِ الْأَرْضِ مَلِكًا مِنَ الْمُلُوكِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ نُورًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ أَحْوَالِ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ وَوُضِعَ الْكِتابُ/ وَفِي الْمُرَادِ بِالْكِتَابِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ شَرْحُ أَحْوَالِ عَالَمِ الدُّنْيَا إِلَى وَقْتِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ الثَّانِي: الْمُرَادُ كُتُبُ الْأَعْمَالَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ سُبْحَانَ وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً

[سورة الزمر (39) : الآيات 71 إلى 72]

[الْإِسْرَاءِ: 13] وَقَالَ أَيْضًا فِي آيَةٍ أُخْرَى مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الْكَهْفِ: 49] وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالْمُرَادُ أَنْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، قَالَ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاءِ: 41] وَقَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [الْمَائِدَةِ: 109] وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ وَالشُّهَداءِ وَالْمُرَادُ ما قوله فِي وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [الْبَقَرَةِ: 143] أَوْ أَرَادَ بِالشُّهَدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْحَفَظَةَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: 21] وَقِيلَ أَرَادَ بِالشُّهَدَاءِ الْمُسْتَشْهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَحْضُرُ فِي مَحْفِلِ الْقِيَامَةِ جَمِيعُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي فَصْلِ الْحُكُومَاتِ وَقَطْعِ الْخُصُومَاتِ، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يُوصِلُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ حَقَّهُ، وَعَبَّرَ تَعَالَى عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِأَرْبَعِ عِبَارَاتٍ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ أَيْ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ جَزَاءَ مَا عَمِلَتْ، وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِكَيْفِيَّاتِ أَحْوَالِهِمْ فَلَعَلَّهُ لَا يَقْضِي بِالْحَقِّ لِأَجْلِ عَدَمِ الْعِلْمِ، أَمَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِمَقَادِيرَ أَفْعَالِهِمْ وَبِكَيْفِيَّاتِهَا امْتَنَعَ دُخُولُ الْخَطَأِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَقْصُودِ بِهَذِهِ الْعِبَارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالْمَقْصُودُ الْمُبَالَغَةُ فِي تَقْرِيرِ أَنَّ كُلَّ مُكَلَّفٍ فَإِنَّهُ يصل إلى حقه. [سورة الزمر (39) : الآيات 71 الى 72] وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ أَهْلِ الْقِيَامَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فَقَالَ: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ [الزمر: 70] بَيَّنَ بَعْدَهُ كَيْفِيَّةَ أَحْوَالِ أَهْلِ الْعِقَابِ، ثُمَّ كَيْفِيَّةَ أَحْوَالِ أَهْلِ الثَّوَابِ وَخَتَمَ السُّورَةَ. أَمَّا شَرْحُ أَحْوَالِ أَهْلِ الْعِقَابِ فَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً قَالَ ابْنُ زَيْدَانٍ: سَوْقُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يَكُونُ بِالْعُنْفِ وَالدَّفْعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطُّورِ: 13] أَيْ يُدْفَعُونَ دَفْعًا، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الْمَاعُونِ: 2] أَيْ يَدْفَعُهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً [مَرْيَمَ: 86] . وَأَمَّا الزُّمَرُ، فَهِيَ الْأَفْوَاجُ الْمُتَفَرِّقَةُ بَعْضٌ، فِي إِثْرِ بَعْضٍ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يُسَاقُونَ إِلَى جَهَنَّمَ فَإِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ إِنَّمَا تُفْتَحُ عِنْدَ وُصُولِ أُولَئِكَ إِلَيْهَا، فَإِذَا دَخَلُوا جَهَنَّمَ قَالَ لَهُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ أَيْ مِنْ جِنْسِكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ أُضِيفَ الْيَوْمُ إِلَيْهِمْ؟ قُلْنَا أَرَادَ لِقَاءَ وَقْتِكُمْ هَذَا وَهُوَ وَقْتُ دُخُولِهِمُ النَّارَ، لَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْيَوْمِ وَالْأَيَّامِ فِي أَوْقَاتِ الشِّدَّةِ مُسْتَفِيضٌ، فَعِنْدَ هَذَا تَقُولُ الْكُفَّارُ: بَلَى قَدْ أَتَوْنَا وَتَلَوْا عَلَيْنَا وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ أَنَّهُ حَقَّتْ عَلَيْنَا كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَمَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ فكيف يمكنه

[سورة الزمر (39) : الآيات 73 إلى 75]

الْخَلَاصُ مِنَ الْعَذَابِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ السَّعِيدَ لَا يَنْقَلِبُ شَقِيًّا، وَالشَّقِيَّ لَا يَنْقَلِبُ سَعِيدًا، وَكَلِمَاتُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي دَفْعِ هَذَا الْكَلَامِ مَعْلُومَةٌ، وَأَجْوِبَتُنَا عَنْهَا أَيْضًا مَعْلُومَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا وُجُوبَ قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرْعِ، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَيَّنُوا أَنَّهُ مَا بَقِيَ لَهُمْ عِلَّةٌ وَلَا عُذْرٌ بَعْدَ مَجِيءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَجِيءُ الْأَنْبِيَاءِ شَرْطًا فِي اسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ لَمَا بَقِيَ فِي هَذَا الْكَلَامِ فَائِدَةٌ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا سَمِعُوا مِنْهُمْ هَذَا الْكَلَامَ قَالُوا لَهُمْ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَوْ كَانَ دُخُولُهُمُ النَّارَ لِأَجْلِ أَنَّهُ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِ الْمَلَائِكَةِ فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ فَائِدَةٌ، بَلْ هَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَبْقَى مُفِيدًا إِذَا قُلْنَا إِنَّهُمْ إِنَّمَا دَخَلُوا النَّارَ لِأَنَّهُمْ تَكَبَّرُوا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَلَمْ يَقْبَلُوا قَوْلَهُمْ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى دَلَائِلِهِمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا، والله أعلم بالصواب. [سورة الزمر (39) : الآيات 73 الى 75] وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ أَهْلِ الْعِقَابِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، شَرَحَ أَحْوَالَ أَهْلِ الثَّوَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً فَإِنْ قِيلَ السَّوْقُ فِي أَهْلِ النَّارِ لِلْعَذَابِ مَعْقُولٌ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِالذَّهَابِ إِلَى مَوْضِعِ الْعَذَابِ وَالشَّقَاوَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يُسَاقُوا إِلَيْهِ، وَأَمَّا أَهْلُ الثَّوَابِ فَإِذَا أُمِرُوا بِالذَّهَابِ إِلَى مَوْضِعِ الْكَرَامَةِ وَالرَّاحَةِ وَالسَّعَادَةِ، فَأَيُّ حَاجَةٍ فِيهِ إِلَى السَّوْقِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالصَّدَاقَةَ بَاقِيَةٌ بَيْنَ الْمُتَّقِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزُّخْرُفِ: 67] فَإِذَا قِيلَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ اذْهَبْ إِلَى الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: لَا أَدْخُلُهَا حَتَّى يَدْخُلَهَا أَحِبَّائِي وَأَصْدِقَائِي فَيَتَأَخَّرُونَ لِهَذَا السَّبَبِ، فَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُونَ إِلَى أَنْ يُسَاقُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالثَّانِي: أَنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ قَدْ عَبَدُوا اللَّهَ تَعَالَى لَا لِلْجَنَّةِ وَلَا لِلنَّارِ، فَتَصِيرُ شِدَّةُ اسْتِغْرَاقِهِمْ فِي مُشَاهَدَةِ مَوَاقِفَ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ مَانِعَةً لَهُمْ عَنِ الرَّغْبَةِ فِي الْجَنَّةِ، فَلَا جَرَمَ يَحْتَاجُونَ إِلَى أَنْ يُسَاقُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ وَعِلِّيُّونَ لِلْأَبْرَارِ» فَلِهَذَا السَّبَبِ يُسَاقُونَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالرَّابِعُ: أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ يُسَاقُونَ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِسَوْقِ أَهْلِ النَّارِ طَرْدُهُمْ إِلَيْهَا بِالْهَوَانِ وَالْعُنْفِ كما يفعل بالأسير إذ سِيقَ إِلَى الْحَبْسِ وَالْقَيْدِ، وَالْمُرَادُ بِسَوْقِ أَهْلِ الْجَنَّةِ سَوْقُ مَرَاكِبِهِمْ لِأَنَّهُ لَا يُذْهَبُ بِهِمْ إِلَّا رَاكِبِينَ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ السَّوْقِ إِسْرَاعُهُمْ إِلَى دَارِ الْكَرَامَةِ وَالرِّضْوَانِ كَمَا يُفْعَلُ بِمَنْ يُشَرَّفُ وَيُكَرَّمُ مِنَ الْوَافِدِينَ عَلَى الْمُلُوكِ، فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ السَّوْقَيْنِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها الْآيَةَ، وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْلَةَ هَذَا الْكَلَامِ

شَرْطٌ وَاحِدٌ مُرَكَّبٌ مِنْ قُيُودٍ: الْقَيْدُ الْأَوَّلُ: هُوَ مَجِيئُهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْقَيْدُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها فَإِنْ قِيلَ قَالَ أَهْلَ النَّارِ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا بِغَيْرِ الْوَاوِ، وَقَالَ هَاهُنَا بِالْوَاوِ فَمَا الْفَرْقُ؟ قُلْنَا الْفَرْقُ أَنَّ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ لَا تُفْتَحُ إِلَّا عِنْدَ دُخُولِ أَهْلِهَا فِيهَا، فَأَمَّا أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَفَتْحُهَا يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَى وُصُولِهِمْ إِلَيْهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [ص: 50] فَلِذَلِكَ جِيءَ بِالْوَاوِ كَأَنَّهُ قِيلَ: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَقَدْ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا. الْقَيْدُ الثَّالِثُ: قَوْلِهِ وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ خَزَنَةَ الْجَنَّةِ يَذْكُرُونَ لِأَهْلِ الثَّوَابِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يُبَشِّرُونَهُمْ بِالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ الْآفَاتِ/ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُمْ طِبْتُمْ وَالْمَعْنَى طِبْتُمْ مِنْ دَنَسِ الْمَعَاصِي وَطَهُرْتُمْ مِنْ خُبْثِ الْخَطَايَا وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَادْخُلُوها يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الدُّخُولُ مُعَلَّلًا بِالطِّيبِ وَالطَّهَارَةِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا إِذَا كَانَ طَاهِرًا عَنْ كُلِّ الْمَعَاصِي، قُلْنَا هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى يُبَدِّلُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ، وَحِينَئِذٍ يَصِيرُونَ طَيِّبِينَ طَاهِرِينَ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ هُوَ الشَّرْطُ فَأَيْنَ الْجَوَابُ؟ قُلْنَا فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْحَذْفِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ بَلَغَ فِي الْكَمَالِ إِلَى حَيْثُ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ الثَّانِي: أَنَّ الْجَوَابَ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ وَالْوَاوُ مَحْذُوفٌ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا خَاطَبُوا الْمُتَّقِينَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ، قَالَ الْمُتَّقُونَ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فُصِّلَتْ: 30] وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ أَرْضُ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِرْثِ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْجَنَّةَ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما [الْبَقَرَةِ: 35] فَلَمَّا عَادَتِ الْجَنَّةُ إِلَى أَوْلَادِ آدَمَ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَسْمِيَتِهَا بِالْإِرْثِ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا اللفظ مأخوذ من قول القائل: هذا أَوْرَثَ كَذَا وَهَذَا الْعَمَلُ أَوْرَثَ كَذَا فَلَمَّا كَانَتْ طَاعَتُهُمْ قَدْ أَفَادَتْهُمُ الْجَنَّةَ، لَا جَرَمَ قَالُوا وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْرَثَنَا الْجَنَّةَ بِأَنْ وَفَّقَنَا لِلْإِتْيَانِ بِأَعْمَالٍ أَوْرَثَتِ الْجَنَّةَ الثَّالِثُ: أَنَّ الْوَارِثَ يَتَصَرَّفُ فِيمَا يَرِثُهُ كَمَا يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ وَلَا مُدَافِعٍ فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ يَتَصَرَّفُونَ فِي الْجَنَّةِ كَيْفَ شَاءُوا وَأَرَادُوا، وَالْمُشَابَهَةُ عِلَّةُ حُسْنِ الْمَجَازِ فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى قَوْلِهِ حَيْثُ نَشاءُ وَهَلْ يَتَبَوَّأُ أَحَدُهُمْ مَكَانَ غَيْرِهِ؟ قُلْنَا يَكُونُ لِكُلِّ أَحَدٍ جَنَّةٌ لَا يَحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى جَنَّةِ غَيْرِهِ، قَالَ حُكَمَاءُ الْإِسْلَامِ: الْجَنَّاتُ نَوْعَانِ، الْجَنَّاتُ الْجُسْمَانِيَّةُ وَالْجَنَّاتُ الرُّوحَانِيَّةُ فَالْجَنَّاتُ الْجُسْمَانِيَّةُ لَا تَحْتَمِلُ الْمُشَارَكَةَ فِيهَا، أَمَّا الرُّوحَانِيَّاتُ فَحُصُولُهَا لِوَاحِدٍ لَا يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِهَا لِلْآخَرِينَ، وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى صِفَةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ: فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ قَالَ مُقَاتِلٌ لَيْسَ هَذَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، بَلْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَمَّا حَكَى مَا جَرَى بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَ الْمُتَّقِينَ مِنْ صِفَةِ ثَوَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ بَعْدَهُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ذَكَرَ عَقِيبَهُ ثَوَابَ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ كَمَا أَنَّ دَارَ ثَوَابِ الْمُتَّقِينَ الْمُؤْمِنِينَ هِيَ الْجَنَّةُ، فَكَذَلِكَ دَارُ ثَوَابِ الْمَلَائِكَةِ جَوَانِبُ الْعَرْشِ وَأَطْرَافُهُ، فَلِهَذَا قَالَ: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ أي محفين بِالْعَرْشِ. قَالَ اللَّيْثَ: يُقَالُ حَفَّ الْقَوْمُ بِسَيِّدِهِمْ يَحُفُّونَ حَفًّا إِذَا طَافُوا بِهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَنَقُولُ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ دَارَ ثَوَابِهِمْ هُوَ جَوَانِبُ الْعَرْشِ وَأَطْرَافُهُ ثُمَّ قَالَ: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ ثَوَابَهُمْ هُوَ عَيْنُ ذَلِكَ التَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ، وَحِينَئِذٍ رَجَعَ حَاصِلُ الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ أَعْظَمَ

دَرَجَاتِ الثَّوَابِ اسْتِغْرَاقُ قُلُوبِ الْعِبَادِ فِي دَرَجَاتِ التَّنْزِيهِ وَمَنَازِلِ التَّقْدِيسِ ثُمَّ قَالَ: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ عَلَى دَرَجَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَمَرَاتِبَ مُتَفَاوِتَةٍ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ/ مِنْهُمْ فِي دَرَجَاتِ الْمَعْرِفَةِ وَالطَّاعَةِ حَدٌّ مَحْدُودٌ لَا يَتَجَاوَزُهُ وَلَا يَتَعَدَّاهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أَيِ الْمَلَائِكَةُ لَمَّا قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ قَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى قَضَائِهِ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ، وَهَاهُنَا دَقِيقَةٌ أَعْلَى مِمَّا سَبَقَ وَهِيَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَضَى بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، فَهُمْ مَا حَمِدُوهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْقَضَاءِ، بَلْ حَمِدُوهُ بِصِفَتِهِ الْوَاجِبَةِ وَهِيَ كَوْنُهُ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ، فَإِنَّ مَنْ حَمِدَ الْمُنْعِمَ لِأَجْلِ أَنَّ إِنْعَامَهُ وَصَلَ إِلَيْهِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَا حَمِدَ الْمُنْعِمَ وَإِنَّمَا حَمِدَ الْإِنْعَامَ، وَأَمَّا مَنْ حَمِدَ الْمُنْعِمَ لَا لِأَنَّهُ وصل إليه النعمة فههنا قَدْ وَصَلَ إِلَى لُجَّةِ بَحْرِ التَّوْحِيدِ، هَذَا إِذَا قُلْنَا إِنَّ قَوْلُهُ وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ شَرْحُ أَحْوَالِ الْمَلَائِكَةِ فِي الثَّوَابِ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ مِنْ بَقِيَّةِ شَرْحِ ثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ لَمَّا قَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ اشْتَغَلُوا بِحَمْدِ اللَّهِ وَبِذِكْرِهِ بِالْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ كَمَا أَنَّ حِرْفَةَ الْمُتَّقِينَ فِي الْجَنَّةِ الِاشْتِغَالُ بِهَذَا التَّحْمِيدِ وَالتَّمْجِيدِ، فَكَذَلِكَ حِرْفَةُ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ حَافُّونَ حَوْلَ الْعَرْشِ الِاشْتِغَالُ بِالتَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ، ثُمَّ إِنَّ جَوَانِبَ الْعَرْشِ مُلَاصِقَةٌ لِجَوَانِبِ الْجَنَّةِ، وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ يَصِيرُونَ مُتَوَافِقِينَ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي تَحْمِيدِ اللَّهِ وَتَسْبِيحِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَزِيدِ الْتِذَاذِهِمْ بِذَلِكَ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ. ثُمَّ قَالَ: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أَيْ بَيْنَ الْبَشَرِ، ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ التَّسْبِيحَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فَالْمُرَادُ وَصْفُهُ بِصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، فَالتَّسْبِيحُ عِبَارَةٌ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِتَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ وَهُوَ صِفَاتُ الْجَلَالِ، وَقَوْلُهُ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِقْرَارِ بِكَوْنِهِ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ صِفَاتُ الْإِكْرَامِ، وَمَجْمُوعُهُمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرَّحْمَنِ: 78] وَهُوَ الَّذِي كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ يَذْكُرُونَهُ قَبْلَ خَلْقِ الْعَالَمِ وَهُوَ قولهم وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة: 30] وَفِي قَوْلِهِ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ مَنْ هُوَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْإِبْهَامِ التَّنْبِيهُ، عَلَى أَنَّ خَاتِمَةَ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ فِي الثَّنَاءِ عَلَى حَضْرَةِ الْجَلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ لَيْسَ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَتَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُسَ: 10] . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ آخَرِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ، يَقُولُ مُصَنَّفُ هَذَا الْكِتَابُ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ عَجَزُوا عَنْ إِحْصَاءِ ثَنَائِكَ، فَمَنْ أَنَا، وَالْأَنْبِيَاءُ الْمُرْسَلُونَ اعْتَرَفُوا بِالْعَجْزِ وَالْقُصُورِ، فَمَنْ أَنَا، وَلَيْسَ مَعِي إِلَّا أَنْ أَقُولَ أَنْتَ أَنْتَ وَأَنَا أَنَا، فَمِنْكَ الرَّحْمَةُ وَالْفَضْلُ وَالْجُودُ وَالْإِحْسَانُ، وَمِنِّي الْعَجْزُ وَالذِّلَّةُ وَالْخَيْبَةُ وَالْخُسْرَانُ، يَا رَحْمَنُ يَا دَيَّانُ يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ أَفِضْ عَلَيَّ سِجَالَ الرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كثيرا.

سورة المؤمن

سورة المؤمن ثَمَانُونَ وَخَمْسُ آيَاتٍ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) [في قوله تعالى حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ حم بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَنَافِعٌ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَابْنُ عَامِرٍ بَيْنَ الْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَهُوَ أَنْ لَا يَفْتَحَهَا فَتْحًا شَدِيدًا، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَسْكِينِهَا، وَوَجْهُ الْفَتْحِ التَّحْرِيكُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَإِيثَارِ أَخَفِّ الْحَرَكَاتِ نَحْوَ: أَيْنَ وَكَيْفَ، أَوِ النَّصْبِ بِإِضْمَارِ اقْرَأْ، وَمَنْعُ الصَّرْفِ إِمَّا/ لِلتَّأْنِيثِ وَالتَّعْرِيفِ، مِنْ حَيْثُ أَنَّهَا اسْمٌ لِلسُّورَةِ وَلِلتَّعْرِيفِ، وَأَنَّهَا عَلَى زِنَةِ أَعْجَمِيٍّ نَحْوَ قَابِيلَ وَهَابِيلَ، وَأَمَّا السكون فلأنا بينا أن الأسماء المجردة تُذْكَرُ مَوْقُوفَةَ الْأَوَاخِرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْكَلَامُ الْمُسْتَقْصَى فِي هَذِهِ الْفَوَاتِحِ مَذْكُورٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْأَقْرَبُ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ حم اسْمٌ لِلسُّورَةِ، فَقَوْلُهُ حم مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ خَبَرٌ وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ الْمُسَمَّاةَ بِحم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ، فَقَوْلُهُ تَنْزِيلُ مَصْدَرٌ، لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُنَزَّلُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ مِنَ اللَّهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ وَجَبَ بَيَانُ أَنَّ الْمُنَزِّلَ مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ: مِنَ اللَّهِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَسِمَاتِ الْعَظَمَةِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ حَامِلًا عَلَى التَّشْمِيرِ عَنْ سَاقِ الْجَدِّ عِنْدَ الِاسْتِمَاعِ وَزَجْرِهِ عَنِ التَّهَاوُنِ وَالتَّوَانِي فِيهِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُنَزِّلَ هُوَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْعِلْمَ بِاللَّهِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ جَمْعٌ عَظِيمٌ، إِنَّهُ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا وبعده العالم بِكَوْنِهِ عَالِمًا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الْعَزِيزِ لَهُ تَفْسِيرَانِ أَحَدُهُمَا: الْغَالِبُ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يُسَاوِيهِ أَحَدٌ فِي الْقُدْرَةِ وَالثَّانِي: الَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعَزِيزِ هُنَا الْقَادِرَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا، فَوَجَبَ حَمْلُ الْعَزِيزِ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي لَا يُوجَدُ لَهُ مِثْلٌ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ جِسْمًا، وَالَّذِي لَا يَكُونُ جِسْمًا يَكُونُ مُنَزَّهًا عَنِ الشَّهْوَةِ وَالنَّفْرَةِ، وَالَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ يَكُونُ مُنَزَّهًا عَنِ الْحَاجَةِ. وَأَمَّا الْعَلِيمِ فَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الْعِلْمِ، وَالْمُبَالَغَةُ التَّامَّةُ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ عِنْدَ كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، فَقَوْلُهُ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ تَنْزِيلٌ مِنَ الْقَادِرِ الْمُطْلَقِ، الْغَنِيِّ الْمُطْلَقِ، الْعَالِمِ الْمُطْلَقِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ عَالِمًا بِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَكَانَ عَالِمًا بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْ جَرِّ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ رَحِيمًا جَوَادًا، وَكَانَتْ أَفْعَالُهُ حِكْمَةً وَصَوَابًا مُنَزَّهَةً عَنِ الْقَبِيحِ وَالْبَاطِلِ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا ذَكَرَ عَقِيبَ قَوْلِهِ تَنْزِيلُ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الثَّلَاثَةَ لِكَوْنِهَا دَالَّةً عَلَى أَنَّ أَفْعَالَهُ سُبْحَانَهُ حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّنْزِيلُ حَقًّا وَصَوَابًا، وَقِيلَ الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى هَذَا الْحَدِّ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الْمَصَالِحَ وَالْإِعْجَازَ، وَلَوْلَا كَوْنُهُ عَزِيزًا عَلِيمًا لَمَا صَحَّ ذَلِكَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَكَفَّلَ بِحِفْظِهِ وَبِعُمُومِ التَّكْلِيفِ فِيهِ وَظُهُورِهِ إِلَى حِينِ انْقِطَاعِ التَّكْلِيفِ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِكَوْنِهِ عَزِيزًا لَا يُغْلَبُ وَبِكَوْنِهِ عَلِيمًا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، ثُمَّ وَصَفَ نَفْسَهُ بِمَا يَجْمَعُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَالتَّرْهِيبَ وَالتَّرْغِيبَ، فَقَالَ: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ فَهَذِهِ سِتَّةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الصِّفَاتِ: الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ غافِرِ الذَّنْبِ قَالَ الْجُبَّائِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ غَافِرُ الذَّنْبِ إِذَا اسْتَحَقَّ غُفْرَانَهُ إِمَّا بِتَوْبَةٍ أَوْ طَاعَةٍ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَمُرَادُهُ مِنْهُ أَنَّ فَاعِلَ الْمَعْصِيَةِ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ قَدْ أَتَى قَبْلَ ذَلِكَ بِطَاعَةٍ/ كَانَ ثَوَابُهَا أَعْظَمَ مِنْ عِقَابِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ أَوْ مَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَتْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ صَغِيرَةً فَيُحْبَطُ عِقَابُهَا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَانَتْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ كَبِيرَةً فَلَا يَزُولُ عِقَابُهَا إِلَّا بِالتَّوْبَةِ، وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَعْفُو عَنِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ غُفْرَانَ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَغُفْرَانَ الصَّغِيرَةِ مِنَ الْأُمُورِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْعَبْدِ، وَجَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ أَوْسَاطِ النَّاسِ مُشْتَرِكُونَ فِي فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ، فَلَوْ حَمَلْنَا كَوْنَهُ تَعَالَى غَافِرَ الذَّنْبِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَقَلِّ النَّاسِ مِنْ زُمْرَةِ الْمُطِيعِينَ فَرْقٌ فِي الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِهَذَا الْمَدْحِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ كَوْنَهُ غَافِرَ الْكَبَائِرِ قَبْلَ التَّوْبَةِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الثَّانِي: أَنَّ الْغُفْرَانَ عِبَارَةٌ عَنِ السِّتْرِ وَمَعْنَى السِّتْرِ إِنَّمَا يُعْقَلُ فِي الشَّيْءِ الَّذِي يَكُونُ بَاقِيًا مَوْجُودًا فَيُسْتَرُ، وَالصَّغِيرَةُ تُحْبَطُ بِسَبَبِ كَثْرَةِ ثَوَابِ فَاعِلِهَا، فَمَعْنَى الْغَفْرِ فِيهَا غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ قَوْلِهِ غافِرِ الذَّنْبِ

عَلَى الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ قَابِلًا لِلتَّوْبِ لَيْسَ إِلَّا ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ غَافِرَ الذَّنْبِ هَذَا الْمَعْنَى لَزِمَ التَّكْرَارُ وَإِنَّهُ بَاطِلٌ فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ غَافِرَ الذَّنْبِ يُفِيدُ كَوْنَهُ غَافِرًا لِلذُّنُوبِ الْكَبَائِرِ قَبْلَ التَّوْبَةِ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ غافِرِ الذَّنْبِ مَذْكُورٌ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ الْعَظِيمِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَا يُفِيدُ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْمَدْحِ، وَذَلِكَ هُوَ كَوْنُهُ غَافِرًا لِلْكَبَائِرِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قابِلِ التَّوْبِ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: فِي لَفْظِ التَّوْبِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَصْدَرٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَمَاعَةُ التَّوْبَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ، قَالَ الْمُبَرِّدُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا يُقَالُ تَابَ يَتُوبُ تَوْبًا وَتَوْبَةً مِثْلُ قَالَ يَقُولُ قَوْلًا وَقَوْلَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا لِتَوْبَةٍ فَيَكُونُ توبة وتوب مثل ثمرة وثمر إِلَّا أَنَّ الْمَصْدَرَ أَقْرَبُ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ يَقْبَلُ هَذَا الْفِعْلَ. الثَّانِي: مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنَ الْمُذْنِبِ يَقَعُ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى اللَّهِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ كَوْنَهُ قَابِلًا لِلتَّوْبِ عَلَى سَبِيلِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ لَمْ يَبْقَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْمَدْحِ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَحْصُلُ لِجَمِيعِ الصَّالِحِينَ عِنْدَ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ شَدِيدِ الْعِقابِ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ شَدِيدِ الْعِقابِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِلنَّكِرَةِ وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِلْمَعْرِفَةِ تَقُولُ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ شَدِيدِ الْبَطْشِ، وَلَا تَقُولُ مَرَرْتُ بِعَبْدِ اللَّهِ شَدِيدِ الْبَطْشِ، وَقَوْلُهُ اللَّهُ اسْمُ عَلَمٍ فَيَكُونُ مَعْرِفَةً فَكَيْفَ يَجُوزُ وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ شَدِيدَ الْعِقَابِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ وَصْفًا لِلنَّكِرَةِ؟ قَالُوا وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِنَا غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُمَا حُدُوثُ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ وَأَنَّهُ يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَقْبَلُ التَّوْبَةَ الْآنَ أَوْ غَدًا، وَإِنَّمَا أُرِيدَ/ ثُبُوتُ ذَلِكَ وَدَوَامُهُ، فَكَانَ حُكْمُهُمَا حُكْمَ إِلَهِ الْخَلْقِ وَرَبِّ الْعَرْشِ، وَأَمَّا شَدِيدِ الْعِقابِ فَمُشْكِلٌ لِأَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ شَدِيدٌ عِقَابُهُ فَيَكُونُ نَكِرَةً فَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ صِفَةً لِلْمَعْرِفَةِ، وَهَذَا تَقْرِيرُ السُّؤَالِ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ وَإِنْ كَانَتْ نَكِرَةً إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا ذُكِرَتْ مَعَ سَائِرِ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ مَعَارِفُ حَسُنَ ذِكْرُهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [الْبُرُوجِ: 14- 16] وَالثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ إِنَّ خَفْضَ شَدِيدِ الْعِقابِ عَلَى الْبَدَلِ، لِأَنَّ جَعْلَ النَّكِرَةِ بَدَلًا مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَبِالْعَكْسِ أَمْرٌ جَائِزٌ، وَاعْتَرَضُوا عَلَيْهِ بِأَنَّ جَعْلَهُ وَحْدَهُ بَدَلًا مِنَ الصِّفَاتِ فِيهِ نَبْوَةٌ ظَاهِرَةٌ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ قَوْلَهُ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ يَحْسُنُ جَعْلُهُمَا صِفَةً، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا مُفِيدَانِ مَعْنَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ شَدِيدِ الْعِقابِ يُفِيدُ مَعْنَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ، لِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مُنَزَّهَةٌ عَنِ الْحُدُوثِ وَالتَّجَدُّدِ، فَكَوْنُهُ شَدِيدِ الْعِقابِ مَعْنَاهُ كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَشْتَدُّ عِقَابُهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ أَبَدًا، وَغَيْرُ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ حَصَلَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَهَذَا مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: هَذِهِ الْآيَةُ مُشْعِرَةٌ بِتَرْجِيحِ جَانِبِ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ

شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَكَرَ قَبْلَهُ أَمْرَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْتَضِي زَوَالَ الْعِقَابِ، وَهُوَ كَوْنُهُ غَافِرَ الذَّنْبِ وَقَابِلَ التَّوْبِ وَذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الرَّحْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ ذِي الطَّوْلِ، فَكَوْنُهُ شَدِيدَ الْعِقَابِ لَمَّا كَانَ مَسْبُوقًا بِتَيْنَكَ الصِّفَتَيْنِ وَمَلْحُوقًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ وَالْكَرَمِ أَرْجَحُ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ ذَكَرَ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي قَوْلِهِ شَدِيدِ الْعِقابِ فَمَا الْفَرْقُ؟ قُلْنَا إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرِ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَقَعَ فِي خَاطِرِ إِنْسَانٍ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَوْنِهِ غَافِرَ الذَّنْبِ إِلَّا كَوْنُهُ قَابِلَ التَّوْبِ، أَمَّا لَمَّا ذَكَرَ الْوَاوَ زَالَ هَذَا الِاحْتِمَالُ، لِأَنَّ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ مُحَالٌ، أَمَّا كَوْنُهُ شَدِيدَ الْعِقَابِ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مُغَايِرٌ لِكَوْنِهِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ فَاسْتَغْنَى بِهِ عَنْ ذِكْرِ الواو. الصفة الرابعة: قوله ذِي الطَّوْلِ أَيِ ذِي التَّفَضُّلِ يُقَالُ طَالَ عَلَيْنَا طَوْلًا أَيْ تَفَضَّلَ عَلَيْنَا تَفَضُّلًا، وَمِنْ كَلَامِهِمْ طُلْ عَلَيَّ بِفَضْلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ [الزمر: 86] وَمَضَى تَفْسِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا [النساء: 25] واعلم أنه لم وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ شَدِيدِ الْعِقابِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى آتِيًا بِالْعِقَابِ الشَّدِيدِ الَّذِي لَا يَقْبُحُ مِنْهُ إِتْيَانُهُ بِهِ، بَلْ لَا يَجُوزُ وَصْفُهُ تَعَالَى بِكَوْنِهِ آتِيًا لِفِعْلِ الْقَبِيحِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ذَكَرَ بَعْدَهُ كَوْنَهُ ذَا الطَّوْلِ وَهُوَ كَوْنُهُ ذَا الْفَضْلِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ كَوْنَهُ ذَا الْفَضْلِ بِسَبَبِ أَنْ يَتْرُكَ الْعِقَابَ الَّذِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ كَوْنَهُ ذَا الطَّوْلِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ ذُو الطَّوْلِ فِي مَاذَا فَوَجَبَ صَرْفُهُ إِلَى كَوْنِهِ ذَا الطَّوْلِ فِي الْأَمْرِ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ فِعْلُ الْعِقَابِ الْحَسَنِ دَفْعًا لِلْإِجْمَالِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تعالى قد يترك العقاب الذي/ يحسن مِنْهُ تَعَالَى فِعْلُهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ جَائِزٌ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: التَّوْحِيدُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ قَوْلُهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِصِفَاتِ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرُ يُشَارِكُهُ وَيُسَاوِيهِ فِي صِفَةِ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ لَمَا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى عُبُودِيَّتِهِ شَدِيدَةً، أَمَّا إِذَا كَانَ وَاحِدًا وَلَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ وَلَا شَبِيهٌ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْإِقْرَارِ بِعُبُودِيَّتِهِ شَدِيدَةً، فَكَانَ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ الْكَامِلَانِ يَحْصُلَانِ بِسَبَبِ هَذَا التَّوْحِيدِ. الصِّفَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وَهَذِهِ الصِّفَةُ أَيْضًا مِمَّا يُقَوِّي الرَّغْبَةَ فِي الْإِقْرَارِ بِعُبُودِيَّتِهِ، لِأَنَّهُ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ وَكَانَ وَاحِدًا لَا شَرِيكَ لَهُ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ إِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ يَكُنِ الْخَوْفُ الشَّدِيدُ حَاصِلًا مِنْ عِصْيَانِهِ، أَمَّا لَمَّا كَانَ الْقَوْلُ بِالْحَشْرِ وَالْقِيَامَةِ حَاصِلًا كَانَ الْخَوْفُ أَشَدَّ وَالْحَذَرُ أَكْمَلَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ التَّشْبِيهِ بِلَفْظَةِ إِلَى، وَقَالُوا إِنَّهَا تُفِيدُ انْتِهَاءَ الْغَايَةِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ أَنْزَلَهُ لِيُهْتَدَى بِهِ فِي الدِّينِ ذَكَرَ أَحْوَالَ مَنْ يُجَادِلُ لِغَرَضِ إِبْطَالِهِ وَإِخْفَاءِ أَمْرِهِ فَقَالَ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْجِدَالَ نَوْعَانِ جِدَالٌ فِي تَقْرِيرِ الْحَقِّ وَجِدَالٌ فِي تَقْرِيرِ الْبَاطِلِ، أَمَّا الْجِدَالُ فِي تَقْرِيرِ الْحَقِّ فَهُوَ حِرْفَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَالَ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النمل: 125] وقال

حِكَايَةً عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا لِنُوحٍ عَلَيْهِ السلام يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا [هُودٍ: 32] وَأَمَّا الْجِدَالُ فِي تَقْرِيرِ الْبَاطِلِ فَهُوَ مَذْمُومٌ وَهُوَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ حَيْثُ قَالَ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالَ: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزُّخْرُفِ: 58] وَقَالَ: وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ جِدَالًا فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ» فَقَوْلُهُ إِنَّ جِدَالًا عَلَى لَفْظِ التَّنْكِيرِ يَدُلُّ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ جِدَالٍ وَجِدَالٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْجِدَالِ فِي الشَّيْءِ مُشْعِرٌ بِالْجِدَالِ الْبَاطِلِ وَلَفَظَ الْجِدَالِ عَنِ الشَّيْءِ مُشْعِرٌ بِالْجِدَالِ لِأَجْلِ تَقْرِيرِهِ وَالذَّبِّ عَنْهُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ جِدَالًا فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ» وَقَالَ: «لَا تُمَارُوا فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّ الْمِرَاءَ فِيهِ كُفْرٌ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْجِدَالُ فِي آيَاتِ اللَّهِ هُوَ أَنْ يُقَالَ مَرَّةً إِنَّهُ سِحْرٌ وَمَرَّةً إِنَّهُ شِعْرٌ وَمَرَّةً إِنَّهُ قَوْلُ الْكَهَنَةِ وَمَرَّةً أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَمُرَّةً إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، وَأَشْبَاهُ هَذَا مِمَّا كَانُوا يقولونه مِنَ الشُّبُهَاتِ الْبَاطِلَةِ فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ هَذَا إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَأَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ أَيْ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَغْتَرَّ بِأَنِّي أُمْهِلُهُمْ وَأَتْرُكُهُمْ سَالِمِينَ فِي أَبْدَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَتَقَلَّبُونَ فِي الْبِلَادِ أَيْ يَتَصَرَّفُونَ لِلتِّجَارَاتِ وَطَلَبِ الْمَعَاشِ، فَإِنِّي وَإِنْ أَمْهَلْتُهُمْ فَإِنِّي سَآخُذُهُمْ وَأَنْتَقِمُ مِنْهُمْ كَمَا فَعَلْتُ بِأَشْكَالِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ كَذَلِكَ/ يَتَقَلَّبُونَ فِي بِلَادِ الشَّامِ وَالْيَمَنِ وَلَهُمُ الْأَمْوَالُ الْكَثِيرَةُ يَتَّجِرُونَ فِيهَا وَيَرْبَحُونَ، ثُمَّ كَشَفَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَذَكَرَ مِنْ أُولَئِكَ الْمُكَذِّبِينَ قَوْمَ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ أَيِ الْأُمَمَ الْمُسْتَمِرَّةِ عَلَى الْكُفْرِ كَقَوْمِ عَادٍ وَثَمُودَ وَغَيْرِهِمْ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ ص [12، 13] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ وَقَوْلُهُ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ أَيْ وَعَزَمَتْ كُلُّ أُمَّةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَحْزَابِ أَنْ يَأْخُذُوا رَسُولَهُمْ لِيَقْتُلُوهُ وَيُعَذِّبُوهُ وَيَحْبِسُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ أَيْ هَؤُلَاءِ جَادَلُوا رُسُلَهُمْ بِالْبَاطِلِ أَيْ بِإِيرَادِ الشُّبُهَاتِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ أَيْ أَنْ يُزِيلُوا بِسَبَبِ إِيرَادِ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ الْحَقَّ وَالصِّدْقَ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أَيْ فَأَنْزَلْتُ بِهِمْ مِنَ الْهَلَاكِ مَا هَمُّوا بِإِنْزَالِهِ بِالرُّسُلِ، وَأَرَادُوا أَنْ يَأْخُذُوهُمْ فَأَخَذْتُهُمْ أَنَا، فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِي إِيَّاهُمْ، أَلَيْسَ كَانَ مُهْلِكًا مُسْتَأْصِلًا مَهِيبًا فِي الذِّكْرِ وَالسَّمَاعِ، فَأَنَا أَفْعَلُ بِقَوْمِكَ كَمَا فَعَلْتُ بِهَؤُلَاءِ إِنْ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ وَالْجِدَالِ فِي آيَاتِ اللَّهِ، ثُمَّ كَشَفَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ أَيْ وَمِثْلُ الَّذِي حَقَّ عَلَى أُولَئِكَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ مِنَ الْعِقَابِ حَقَّتْ كَلِمَتِي أَيْضًا عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِكَ فَهُمْ عَلَى شَرَفِ نُزُولِ الْعِقَابِ بِهِمْ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ كَلِمَةُ رَبِّكَ أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْوُجُوبِ وَجَبَ عَلَى الْكَفَرَةِ كَوْنُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، وَمَعْنَاهُ كَمَا وَجَبَ إِهْلَاكُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْعَذَابِ الْمُسْتَأْصِلِ، كَذَلِكَ وَجَبَ إِهْلَاكُهُمْ بِعَذَابِ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِحَذْفِ لَامِ التَّعْلِيلِ وَإِيصَالِ الْفِعْلِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ قَضَاءَ اللَّهِ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ لَازِمٌ لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهُ، فَقَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ تَمَكَّنُوا مِنْهُ لَتَمَكَّنُوا مِنْ إِبْطَالِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْحَقَّةِ، وَلَتَمَكَّنُوا مِنْ إِبْطَالِ عِلْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، ضَرُورَةَ أَنَّ الْمُتَمَكِّنَ مِنَ الشَّيْءِ يَجِبُ كَوْنُهُ مُتَمَكِّنًا مِنْ كُلِّ مَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ، وَلِأَنَّهُمْ لَوْ آمَنُوا لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهَذِهِ

[سورة غافر (40) : الآيات 7 إلى 9]

الْآيَةِ فَحِينَئِذٍ كَانُوا قَدْ آمَنُوا بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَبَدًا، وَذَلِكَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ حَقَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ على الجمع والباقون على الواحد. [سورة غافر (40) : الآيات 7 الى 9] الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) [في قَوْلُهُ تَعَالَى الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْكُفَّارَ يُبَالِغُونَ فِي إِظْهَارِ الْعَدَاوَةِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، بَيَّنَ أَنَّ أَشْرَفَ طَبَقَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ هُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَالْحَافُّونَ حَوْلَ الْعَرْشِ يُبَالِغُونَ فِي إِظْهَارِ الْمَحَبَّةِ وَالنُّصْرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْأَرَاذِلُ يُبَالِغُونَ فِي الْعَدَاوَةِ فَلَا تُبَالِ بِهِمْ وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ وَلَا تُقِمْ لَهُمْ وَزْنًا، فَإِنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ مَعَكَ وَالْحَافُّونَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ مَعَكَ يَنْصُرُونَكَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ نَوْعَيْنِ مِنْ فِرَقِ الْمَلَائِكَةِ هَذِهِ الْحِكَايَةَ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَقَدْ حَكَى تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَمَانِيَةٌ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ فِي هَذَا الْوَقْتِ هُمْ أُولَئِكَ الثَّمَانِيَةُ الَّذِينَ يَحْمِلُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ أَشْرَافُ الْمَلَائِكَةِ وَأَكَابِرُهُمْ، رَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ أَرْجُلُهُمْ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى ورؤسهم قَدْ خَرَقَتِ الْعَرْشَ وَهُمْ خُشُوعٌ لَا يَرْفَعُونَ طَرْفَهُمْ، وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَتَفَكَّرُوا فِي عِظَمِ رَبِّكُمْ وَلَكِنْ تَفَكَّرُوا فِيمَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّ خَلْقًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُ إِسْرَافِيلُ زَاوِيَةُ من زوايا الْعَرْشِ عَلَى كَاهِلِهِ، وَقَدَمَاهُ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، وقد مرق رأسه من سبع سموات وَإِنَّهُ لَيَتَضَاءَلُ مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ الْوَضْعُ» قِيلَ إِنَّهُ طَائِرٌ صَغِيرٌ، وَرُوِيَ أن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدو وَيَرُوحُوا بِالسَّلَامِ عَلَى حَمَلَةِ الْعَرْشِ تَفْضِيلًا لَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ خَلَقَ اللَّهُ الْعَرْشَ مِنْ جَوْهَرَةٍ خَضْرَاءَ، وَبَيْنَ الْقَائِمَتَيْنِ مِنْ قَوَائِمِهِ خَفَقَانُ الطَّيْرِ الْمُسْرِعِ ثَمَانِينَ أَلْفَ عَامٍ، وَقِيلَ حَوْلَ الْعَرْشِ سَبْعُونَ أَلْفَ صَفٍّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَطُوفُونَ بِهِ مُهَلِّلِينَ مُكَبِّرِينَ وَمِنْ وَرَائِهِمْ سَبْعُونَ أَلْفَ صَفٍّ قِيَامٍ قَدْ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ رَافِعِينَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَمِنْ وَرَائِهِمْ مائة ألف صف قد وَضَعُوا الْأَيْمَانَ عَلَى الشَّمَائِلِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَيُسَبِّحُ بِمَا لَا يُسَبِّحُ بِهِ الْآخَرُ، هَذِهِ الْآثَارُ نَقَلْتُهَا مِنَ «الْكَشَّافِ» . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ حَوْلَهُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمْ مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلُهُ وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الزمر: 75] وَأَقُولُ الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ، وَالْحَافِّينَ حَوْلَ الْعَرْشِ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ الملائكة،

وَذَلِكَ لِأَنَّ نِسْبَةَ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَرْوَاحِ كَنِسْبَةِ الْأَجْسَادِ إِلَى الْأَجْسَادِ، فَلَمَّا كَانَ الْعَرْشُ أَشْرَفَ الْمَوْجُودَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ كَانَتِ الْأَرْوَاحُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِتَدْبِيرِ الْعَرْشِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْمُدَبِّرَةِ لِلْأَجْسَادِ، وَأَيْضًا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَرْوَاحٌ حَامِلَةٌ لِجِسْمِ الْعَرْشِ ثُمَّ يَتَوَلَّدُ عَنْ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ الْقَاهِرَةِ الْمُسْتَعْلِيَةِ لِجِسْمِ الْعَرْشِ أَرْوَاحٌ أُخَرُ مِنْ جِنْسِهَا، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَطْرَافِ الْعَرْشِ وَإِلَيْهِمُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزُّمَرِ: 75] وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ ظَهَرَ بِالْبَرَاهِينِ الْيَقِينِيَّةِ، وَبِالْمُكَاشَفَاتِ الصَّادِقَةِ أَنَّهُ لَا نِسْبَةَ لِعَالَمِ الْأَجْسَادِ، إِلَى عَالَمِ الْأَرْوَاحِ فَكُلُّ مَا شَاهَدْتَهُ بِعَيْنِ الْبَصَرِ فِي اخْتِلَافِ مَرَاتِبِ عَالَمِ الْأَجْسَادِ، فَيَجِبُ أَنْ تُشَاهِدَهُ بِعَيْنِ بَصِيرَتِكَ فِي اخْتِلَافِ مَرَاتِبِ عَالَمِ الْأَرْوَاحِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَرْشِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ. [الْحَاقَّةِ: 17] وَلَا شَكَّ أَنَّ حَامِلَ الْعَرْشِ يَكُونُ حَامِلًا لِكُلِّ مَنْ فِي الْعَرْشِ، فَلَوْ كَانَ إِلَهُ الْعَالَمِ فِي الْعَرْشِ لَكَانَ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةُ حَامِلِينَ لِإِلَهِ الْعَالَمِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُونَ حَافِظِينَ لِإِلَهِ الْعَالَمِ وَالْحَافِظُ الْقَادِرُ أَوْلَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْمَحْمُولُ الْمَحْفُوظُ أَوْلَى بِالْعُبُودِيَّةِ، فَحِينَئِذٍ يَنْقَلِبُ الْإِلَهُ عَبْدًا وَالْعَبْدُ إِلَهًا، وَذَلِكَ فَاسِدٌ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ إِلَهَ الْعَرْشِ وَالْأَجْسَامِ مُتَعَالٍ عَنِ الْعَرْشِ وَالْأَجْسَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، وَعَنِ الْحَافِّينَ بِالْعَرْشِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ حِكَايَةً عَنِ الْمَلَائِكَةِ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ [الْبَقَرَةِ: 30] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الزمر: 75] فَالتَّسْبِيحُ عِبَارَةٌ عَنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا لَا يَنْبَغِي، وَالتَّحْمِيدُ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَالتَّسْبِيحُ إِشَارَةٌ إِلَى الْجَلَالِ وَالتَّحْمِيدُ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِكْرَامِ، فَقَوْلُهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرَّحْمَنِ: 78] . النَّوْعُ الثَّانِي: مِمَّا حَكَى اللَّهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُؤْمِنُونَ بِهِ فَإِنْ قِيلَ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي قَوْلِهِ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ فَإِنَّ الِاشْتِغَالَ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا وَقَدْ سَبَقَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ قُلْنَا الْفَائِدَةُ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، وَقَدْ أَحْسَنَ فِيهِ جِدًّا فَقَالَ إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ كَانَ حَاضِرًا بِالْعَرْشِ لَكَانَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَالْحَافُّونَ حَوْلَ الْعَرْشِ يُشَاهِدُونَهُ وَيُعَايِنُونَهُ، وَلَمَّا كَانَ إِيمَانُهُمْ بِوُجُودِ اللَّهِ مُوجِبًا لِلْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِوُجُودِ شَيْءٍ حَاضِرٍ مُشَاهَدٍ مُعَايَنٍ لَا يُوجِبُ الْمَدْحَ وَالثَّنَاءَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِقْرَارَ بِوُجُودِ الشَّمْسِ وَكَوْنِهَا مُضِيئَةً لَا يُوجِبُ/ الْمَدْحَ وَالثَّنَاءَ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى إِيمَانَهُمْ بِاللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ، عُلِمَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ مَا شَاهَدُوهُ حَاضِرًا جَالِسًا هُنَاكَ، وَرَحِمَ اللَّهُ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» فَلَوْ لَمْ يُحَصِّلْ فِي كِتَابِهِ إِلَّا هَذِهِ النُّكْتَةَ لَكَفَاهُ فَخْرًا وَشَرَفًا. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِمَّا حَكَى اللَّهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا اعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ كَمَالَ السَّعَادَةِ مَرْبُوطٌ بِأَمْرَيْنِ: التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ مُقَدَّمًا عَلَى الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ فَقَوْلُهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ مُشْعِرٌ بِالتَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ

وَقَوْلُهُ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا مُشْعِرٌ بِالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ. ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ، قَالُوا لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا فَرَغُوا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِالثَّنَاءِ وَالتَّقْدِيسِ اشْتَغَلُوا بِالِاسْتِغْفَارِ لِغَيْرِهِمْ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مُسْتَغْنُونَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِأَنْفُسِهِمْ إِذْ لَوْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ لَقَدَّمُوا الِاسْتِغْفَارَ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لِغَيْرِهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ» وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [مُحَمَّدٍ: 19] فَأَمَرَ مُحَمَّدًا أَنْ يَذْكُرَ أَوَّلًا الِاسْتِغْفَارَ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ بَعْدَهُ يَذْكُرُ الِاسْتِغْفَارَ لِغَيْرِهِ، وَحَكَى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [نُوحٍ: 28] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الِاسْتِغْفَارِ فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ الِاسْتِغْفَارَ لِنَفْسِهِ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لِغَيْرِهِ، فَالْمَلَائِكَةُ لَوْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ لَكَانَ اشْتِغَالُهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ لِأَنْفُسِهِمْ مُقَدَّمًا عَلَى اشْتِغَالِهِمْ بِالِاسْتِغْفَارِ لِغَيْرِهِمْ، وَلَمَّا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمُ اسْتِغْفَارَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ، وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَقَدْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إلى استغفار بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْكَعْبِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ تَأْثِيرَ الشَّفَاعَةِ فِي حُصُولِ زِيَادَةِ الثَّوَابِ لِلْمُؤْمِنِينَ لَا فِي إِسْقَاطِ الْعِقَابِ عَنِ الْمُذْنِبِينَ، قَالَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ قَالَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا مِنَ الْكُفْرِ سَوَاءٌ كَانَ مُصِرًّا عَلَى الْفِسْقِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْ هَذَا حَالُهُ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُتَّبِعًا سَبِيلَ رَبِّهِ وَلَا يُطْلَقُ ذَلِكَ فِيهِ، وَأَيْضًا إِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَقُولُونَ وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِالْفَاسِقِينَ، لِأَنَّ خُصُومَنَا لَا يَقْطَعُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُمُ الْجَنَّةَ وَإِنَّمَا يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ شَفَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ لا يتناول إِلَّا أَهْلَ الطَّاعَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ شَفَاعَةُ الْأَنْبِيَاءِ كَذَلِكَ، ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ وَالْجَوَابُ أَنْ نَقُولَ هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى حصول الشفاعة من الملائكة المذنبين، فَنُبَيِّنُ هَذَا ثُمَّ نُجِيبُ عَمَّا ذَكَرَهُ الْكَعْبِيُّ، أَمَّا بَيَانُ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ فَمِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ/ آمَنُوا وَالِاسْتِغْفَارُ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ، وَالْمَغْفِرَةُ لَا تُذْكَرُ إِلَّا فِي إِسْقَاطِ الْعِقَابِ. أَمَّا طَلَبُ النَّفْعِ الزَّائِدِ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى اسْتِغْفَارًا الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِكُلِّ أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَإِذَا دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ وَجَبَ دُخُولُهُ تَحْتَ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ لِلَّذِينِ تَابُوا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِسْقَاطَ عُقُوبَةِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ عِنْدَ الْخَصْمِ، وَمَا كَانَ فِعْلُهُ وَاجِبًا كَانَ طَلَبُهُ بِالدُّعَاءِ قَبِيحًا، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِسْقَاطَ عُقُوبَةِ الصَّغَائِرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا وَاجِبٌ فَلَا يَحْسُنُ طَلَبُهُ بِالدُّعَاءِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ طَلَبَ زِيَادَةِ مَنْفَعَةٍ عَلَى الثَّوَابِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى مَغْفِرَةً، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ قَوْلِهِ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا إِلَّا عَلَى إِسْقَاطِ عِقَابِ الْكَبِيرَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ، أَمَّا الَّذِي يَتَمَسَّكُ بِهِ الْكَعْبِيُّ وَهُوَ أَنَّهُمْ طَلَبُوا الْمَغْفِرَةَ لِلَّذِينِ تَابُوا، فَنَقُولُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الَّذِينَ تَابُوا عَنِ الْكُفْرِ وَاتَّبَعُوا سَبِيلَ

الْإِيمَانِ، وَقَوْلُهُ إِنَّ التَّائِبَ عَنِ الْكُفْرِ الْمُصِرِّ عَلَى الْفِسْقِ لَا يُسَمَّى تَائِبًا وَلَا مُتَّبِعًا سَبِيلَ اللَّهِ، قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ قَوْلَهُ، بَلْ يُقَالُ إِنَّهُ تَائِبٌ عَنِ الْكُفْرِ وَتَابِعٌ سَبِيلَ اللَّهِ فِي الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَائِبٌ عَنِ الْكُفْرِ ثَبَتَ أَنَّهُ تَائِبٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَكْفِي فِي صِدْقِ وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ ضَارِبًا وَضَاحِكًا صُدُورُ الضَّرْبِ وَالضَّحِكِ عَنْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى صُدُورِ كُلِّ أَنْوَاعِ الضَّرْبِ وَالضَّحِكِ عَنْهُ «1» فَكَذَا هَاهُنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: إِنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ الصَّادِرَةَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ فِي حَقِّ الْبَشَرِ تَجْرِي مجرى اعتذار عن ذلة سَبَقَتْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِي أَوَّلِ تَخْلِيقِ الْبَشَرِ أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [الْبَقَرَةِ: 30] فَلَمَّا سَبَقَ مِنْهُمْ هَذَا الْكَلَامُ تَدَارَكُوا فِي آخِرِ الْأَمْرِ بِأَنْ قَالُوا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ وَهَذَا كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَنْ آذَى غَيْرَهُ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَجْبُرَ ذَلِكَ الْإِيذَاءَ بِإِيصَالِ نَفْعٍ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينِ تَابُوا، بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الِاسْتِغْفَارِ، فَحَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الأولى: أن الدعاء في أكثر الأمر مَذْكُورٌ بِلَفْظِ رَبَّنا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ عِنْدَ الدُّعَاءِ قَالُوا رَبَّنا بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: 23] وَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ [هُودٍ: 47] وَقَالَ أَيْضًا: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً [نُوحٍ: 5] وَقَالَ أَيْضًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ [نُوحٍ: 28] وَقَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [الْبَقَرَةِ: 260] وَقَالَ: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ [إِبْرَاهِيمَ: 41] وَقَالَ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [الْبَقَرَةِ: 128] وَقَالَ عَنْ يُوسُفَ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ [يُوسُفَ: 101] وَقَالَ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الْأَعْرَافِ: 143] وَقَالَ فِي قِصَّةِ الْوَكْزِ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي/ فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ [الْقَصَصِ: 16، 17] وَحَكَى تَعَالَى عَنْ دَاوُدَ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ [ص: 24] وَعَنْ سُلَيْمَانَ إِنَّهُ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً [ص: 35] وعن ذكريا أَنَّهُ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مَرْيَمَ: 3] وَعَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ [الْمَائِدَةِ: 114] وَعَنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قَالَ لَهُ: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ [الْمُؤْمِنُونَ: 97] وَحَكَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا [آلِ عِمْرَانَ: 191] وَأَعَادُوا هَذِهِ اللَّفْظَةَ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَحَكَى أَيْضًا عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الْبَقَرَةِ: 285] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ أَرْضَى الدُّعَاءِ أَنْ يُنَادِي الْعَبْدُ رَبَّهُ بِقَوْلِهِ يَا رَبِّ وَتَمَامُ الْإِشْكَالِ فِيهِ أَنْ يُقَالَ لَفْظُ اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ لَفْظِ الرَّبُّ، فَلِمَ صَارَ لَفْظُ الرَّبِّ مُخْتَصًّا بِوَقْتِ الدُّعَاءِ؟، وَالْجَوَابُ كَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: كُنْتُ في كتم

_ (1) لعل الأنسب أن يقال: ولا يتوقف على تكرار الضرب والضحك منه في جميع الأوقات لأن الضرب والضحك ليست لها أنواع.

العدم المحض وَالنَّفْيِ الصِّرْفِ، فَأَخْرَجْتَنِي إِلَى الْوُجُودِ، وَرَبَّيْتَنِي فَاجْعَلْ تَرْبِيَتِكَ لِي شَفِيعًا إِلَيْكَ فِي أَنْ لَا تُخَلِّيَنِي طَرْفَةَ عَيْنٍ عَنْ تَرْبِيَتِكَ وَإِحْسَانِكَ وَفَضْلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: السُّنَّةُ فِي الدُّعَاءِ، يَبْدَأُ فِيهِ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ يَذْكُرُ الدُّعَاءَ عَقِيبَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا عَزَمُوا عَلَى الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ لِلْمُؤْمِنِينَ بَدَءُوا بِالثَّنَاءِ فَقَالُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً وَأَيْضًا أَنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ الدُّعَاءَ ذَكَرَ الثَّنَاءَ أَوَّلًا فَقَالَ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشُّعَرَاءِ: 78- 82] فَكُلُّ هَذَا ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ بَعْدَهُ ذَكَرَ الدُّعَاءِ فَقَالَ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشُّعَرَاءِ: 83] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ أَيْضًا على رعاية هذا الترتيب، وذلك ذِكْرَ اللَّهِ بِالثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَوْهَرِ الرُّوحِ كَالْإِكْسِيرِ الْأَعْظَمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النُّحَاسِ، فَكَمَا أَنَّ ذَرَّةً مِنَ الْإِكْسِيرِ إِذَا وَقَعَتْ عَلَى عَالَمٍ مِنَ النُّحَاسِ انْقَلَبَ الْكُلُّ ذَهَبًا إِبْرِيزًا «1» فَكَذَلِكَ إِذَا وَقَعَتْ ذَرَّةٌ مِنْ إِكْسِيرِ مَعْرِفَةِ جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى جَوْهَرِ الرُّوحِ النُّطْقِيَّةِ، انْقَلَبَ مِنْ نُحُوسَةِ النُّحَاسَةِ إِلَى صَفَاءِ الْقُدْسِ وَبَقَاءِ عَالَمِ الطَّهَارَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ عِنْدَ إِشْرَاقِ نُورِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَوَاهِرِ الرُّوحِ، يَصِيرُ الرُّوحُ أَقْوَى صَفَاءً وَأَكْمَلَ إِشْرَاقًا، وَمَتَى صَارَ كَذَلِكَ كَانَتْ قُوَّتُهُ أَقْوَى وَتَأْثِيرُهُ أَكْمَلَ، فَكَانَ حُصُولُ الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ بِالدُّعَاءِ أَقْرَبَ وَأَكْمَلَ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي تَقْدِيمِ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ عَلَى الدُّعَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَصَفُوا اللَّهَ تَعَالَى بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الصِّفَاتِ: الرُّبُوبِيَّةُ وَالرَّحْمَةُ وَالْعِلْمُ، أَمَّا الرُّبُوبِيَّةُ فَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِيجَادِ وَالْإِبْدَاعِ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ قَوْلَهُمْ/ رَبَّنا إِشَارَةٌ إِلَى التَّرْبِيَةِ، وَالتَّرْبِيَةُ عِبَارَةٌ عَنْ إِبْقَاءِ الشَّيْءِ عَلَى أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ وَأَحْسَنِ صِفَاتِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُمْكِنَاتِ، كَمَا أَنَّهَا مُحْتَاجَةٌ حَالَ حُدُوثِهَا إِلَى إِحْدَاثِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَإِيجَادِهِ، فَكَذَلِكَ إِنَّهَا مُحْتَاجَةٌ حَالَ بَقَائِهَا إِلَى إِبْقَاءِ اللَّهِ، وَأَمَّا الرَّحْمَةُ فَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ جَانِبَ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ رَاجِحٌ عَلَى جَانِبِ الضُّرِّ، وَأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِلرَّحْمَةِ وَالْخَيْرِ، لَا لِلْإِضْرَارِ وَالشَّرِّ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فِيهِ سُؤَالٌ، لِأَنَّ الْعِلْمَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ، أَمَّا الرَّحْمَةُ فَمَا وَصَلَتْ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ، لِأَنَّ الْمَضْرُورَ حَالَ وُقُوعِهِ فِي الضُّرِّ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الضَّرَرُ رَحْمَةً، وَهَذَا السُّؤَالُ أَيْضًا مَذْكُورٌ فِي قوله وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156] قُلْنَا كُلُّ وُجُودٍ فَقَدْ نَالَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى نَصِيبًا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ، أَمَّا الْوَاجِبُ فَلَيْسَ إِلَّا الله سبحانه وتعالى،

_ (1) رحم الله الفخر فيظهر من كلامه هذا أنه كان مشغولا بصنعة الكيمياء التي فتنت عقول أكثر الناس ووقع بسببها مصائب كثيرة للمسلمين فشغلوا بها عن المطالب الحقيقة وعن العليات، مع أن التجارب والأحداث دلت على أنها خدعة ووهم باطل وأنها لا حقيقة لها، وأحسن ما رد به على من يقول بالصنعة ما رأيته للصفدي في شرح اللامية: إن الذهب من عمل الطبيعة وما كان من عمل الطبيعة لا يمكن للإنسان عمله كما أن ما يعمله الإنسان من المصنوعات لا يمكن للطبيعة أن تعمله اهـ-. فسبحان من تفرد بالعزة والخلق والإيجاد، أكتب هذا عسى أن يهدي الله مسلما شغل نفسه بهذا الفن الزائف والوهم الباطل، وأقول إن الكيمياء الحقيقية هي الاشتغال بالعلم والتجارة والصناعة فهي سبب نماء المال الذي هو أفضل كيمياء.

وَأَمَّا الْمُمْكِنُ فَوُجُودُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبِإِيجَادِهِ، وَذَلِكَ رَحْمَةٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا مَوْجُودَ غَيْرُ اللَّهِ إِلَّا وَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ نَصِيبٌ وَنِصَابٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَلِهَذَا قَالَ: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً وَفِي الْآيَةِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدَّمُوا ذِكْرَ الرَّحْمَةِ عَلَى ذِكْرِ الْعِلْمِ فَقَالُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً وَذَلِكَ لِأَنَّ مَطْلُوبَهُمْ إِيصَالُ الرحمة وأن يتجاوز عما عليه مِنْهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الذُّنُوبِ، فَالْمَطْلُوبُ بِالذَّاتِ هُوَ الرَّحْمَةُ، وَالْمَطْلُوبُ بِالْعَرَضِ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَمَّا عَلِمَهُ مِنْهُمْ، وَالْمَطْلُوبُ بِالذَّاتِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِالْعَرْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ إِبْقَاءُ الصِّحَّةِ مَطْلُوبًا بِالذَّاتِ وَإِزَالَةُ الْمَرَضِ مَطْلُوبًا بِالْعَرَضِ لَا جَرَمَ لَمَّا ذَكَرُوا حَدَّ الطِّبِّ قَدَّمُوا فِيهِ حِفْظَ الصِّحَّةِ عَلَى إِزَالَةِ الْمَرَضِ، فَقَالُوا الطِّبُّ عِلْمٌ يُتَعَرَّفُ مِنْهُ أَحْوَالُ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مِنْ جِهَةِ مَا يَصْلُحُ وَيَزُولُ عَنِ الصِّحَّةِ لِتُحْفَظَ الصِّحَّةُ حَاصِلَةً وَتُسْتَرَدَّ زَائِلَةً، فَكَذَا هَاهُنَا الْمَطْلُوبُ بِالذَّاتِ هُوَ الرَّحْمَةُ، وَأَمَّا التَّجَاوُزُ عَمَّا عَلِمَهُ مِنْهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الذُّنُوبِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ بِالْعَرَضِ، لِأَجْلِ أَنَّ حُصُولَ الرَّحْمَةِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالتَّجَاوُزِ عَنِ الذُّنُوبِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ سَابِقًا عَلَى ذِكْرِ الْعِلْمِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِصَّةِ الْأُولَى فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ إِنَّمَا هُوَ الرَّحْمَةُ وَالْفَضْلُ وَالْجُودُ وَالْكَرَمُ، وَدَلَّتِ الدَّلَائِلُ الْيَقِينِيَّةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ مِنَ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ فَبِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ، فَعِنْدَ هَذَا قَالَتِ الْحُكَمَاءُ: الْخَيْرُ مُرَادٌ مَرْضِيُّ، وَالشَّرُّ مُرَادٌ مَكْرُوهٌ، وَالْخَيْرُ مَقْضِيٌّ بِهِ بِالذَّاتِ، وَالشَّرُّ مَقْضِيٌّ بِهِ بِالْعَرَضِ، وَفِيهِ غَوْرٌ عَظِيمٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا مِنَ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ، وَأَيْضًا فَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ فَائِدَةٌ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ عِلْمِهِ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَعْرِفُ هَذَا الدَّاعِي أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُهُ وَيَعْلَمُ دُعَاءَهُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَبْقَى فِي الدُّعَاءِ فَائِدَةٌ الْبَتَّةَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ كَيْفِيَّةَ ثَنَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ كَيْفِيَّةَ دُعَائِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ طَلَبُوا بِالدُّعَاءِ/ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَالْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ الْغُفْرَانُ وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ فَإِنْ قِيلَ لَا مَعْنَى لِلْغُفْرَانِ إِلَّا إِسْقَاطُ الْعَذَابِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: فَاغْفِرْ لَهُمْ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ قُلْنَا دَلَالَةُ لَفْظِ الْمَغْفِرَةِ عَلَى إِسْقَاطِ عَذَابِ الْجَحِيمِ دَلَالَةٌ حَاصِلَةٌ عَلَى الرَّمْزِ وَالْإِشَارَةِ، فَلَمَّا ذَكَرُوا هَذَا الدُّعَاءَ عَلَى سَبِيلِ الرَّمْزِ وَالْإِشَارَةِ أَرْدَفُوهُ بِذِكْرِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّصْرِيحِ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ إِزَالَةَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ أَرْدَفُوهُ بِأَنْ طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ إِيصَالَ الثَّوَابِ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ فَإِنْ قِيلَ أَنْتُمْ زَعَمْتُمْ أَنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ لِلْمُذْنِبِينَ وَهَذِهِ الْآيَةُ تُبْطِلُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَا وَعَدَ الْمُذْنِبِينَ بِأَنْ يُدْخِلَهُمْ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَا وَعَدَهُمْ بِذَلِكَ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّلَائِلَ الْكَثِيرَةَ فِي الْقُرْآنِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُخَلِّدُ أَهْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فِي النَّارِ، وَإِذَا أَخْرَجَهُمْ مِنَ النَّارِ وَجَبَ أَنَّ يُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ فَكَانَ هَذَا وَعْدًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ بِأَنْ يُدْخِلَهُمْ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، إِمَّا مِنْ غَيْرِ دُخُولِ النَّارِ وَإِمَّا بَعْدَ أَنْ يُدْخِلَهُمُ النَّارَ. قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ يَعْنِي وَأَدْخِلْ مَعَهُمْ فِي

[سورة غافر (40) : الآيات 10 إلى 12]

الْجَنَّةِ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفَ الثَّلَاثَ، وَهُمُ الصَّالِحُونَ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأَزْوَاجِ وَالذُّرِّيَّاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا حضر معه في موضع عَيْشِهِ وَسُرُورِهِ أَهْلُهُ وَعَشِيرَتُهُ كَانَ ابْتِهَاجُهُ أَكْمَلَ، قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ مَنْ صَلَحَ نُصِبَ مِنْ مَكَانَيْنِ فَإِنْ شِئْتَ رَدَدْتَهُ عَلَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ وَأَدْخِلْهُمْ وَإِنْ شِئْتَ فِي وَعَدْتَهُمْ وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَمَنْ صَلَحَ أَهْلُ الْإِيمَانِ، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَإِنَّمَا ذَكَرُوا فِي دُعَائِهِمْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَزِيزًا بَلْ كَانَ بِحَيْثُ يُغْلَبُ وَيُمْنَعُ لَمَا صَحَّ وُقُوعُ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَكِيمًا لَمَا حَصَلَ هَذَا الْمَطْلُوبُ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، ثُمَّ قَالُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ قَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ وَقِهِمْ عَذَابَ السَّيِّئَاتِ، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا فرق بين قوله وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وبينما تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ التَّكْرَارُ الْخَالِي عَنِ الْفَائِدَةِ وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، قُلْنَا بَلِ التَّفَاوُتُ حَاصِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ دعاء مذكور لِلْأُصُولِ وَقَوْلُهُ وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ دُعَاءً مَذْكُورًا لِلْفُرُوعِ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ مَقْصُورًا عَلَى إِزَالَةِ الْجَحِيمِ وَقَوْلُهُ وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ يَتَنَاوَلُ عَذَابَ الْجَحِيمِ وَعَذَابَ مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ وَعَذَابَ الْحِسَابِ وَالسُّؤَالِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ هُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ طَلَبُوا إِزَالَةَ عَذَابِ النَّارِ بِقَوْلِهِمْ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ وَطَلَبُوا إِيصَالَ ثَوَابِ الْجَنَّةِ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِمْ وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ثُمَّ طَلَبُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَصُونَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا عَنِ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ، وَالْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ ثُمَّ قَالُوا وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ يعني ومن يتق السَّيِّئَاتِ فِي الدُّنْيَا فَقَدْ رَحِمْتَهُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَالُوا وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ حَيْثُ وَجَدُوا بِأَعْمَالٍ مُنْقَطِعَةٍ نَعِيمًا لَا يَنْقَطِعُ، وَبِأَعْمَالٍ حَقِيرَةٍ مُلْكًا لَا تَصِلُ الْعُقُولَ إِلَى كنه جلالته. [سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 12] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَادَ إِلَى شَرْحِ أَحْوَالِ الْكَافِرِينَ الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غَافِرٍ: 4] بَيَّنَ أَنَّهُمْ فِي الْقِيَامَةِ يَعْتَرِفُونَ بِذُنُوبِهِمْ وَاسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَذَابَ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِمْ وَيَسْأَلُونَ الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا لِيَتَلَافَوْا مَا فَرَطَ مِنْهُمْ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ حَذْفٌ وَفِيهَا أَيْضًا تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَمَّا الْحَذْفُ فَتَقْدِيرُهُ لَمَقْتُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ، وَأَمَّا التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فَهُوَ أَنَّ التَّقْدِيرَ أَنْ يُقَالَ لَمَقْتُ اللَّهِ لَكُمْ حَالَ مَا تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ

أَنْفُسَكُمْ وَفِي تَفْسِيرِ مَقْتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ إِذَا شَاهَدُوا الْقِيَامَةَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَقَتُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى إِصْرَارِهِمْ عَلَى التَّكْذِيبِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الدُّنْيَا الثَّانِي: أَنَّ الْأَتْبَاعَ يَشْتَدُّ مَقْتُهُمْ لِلرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ إِلَى الْكُفْرِ فِي الدُّنْيَا، وَالرُّؤَسَاءَ أَيْضًا يَشْتَدُّ مَقْتُهُمْ لِلْأَتْبَاعِ فَعَبَّرَ عَنْ مَقْتِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِأَنَّهُمْ مَقَتُوا أَنْفُسَهُمْ، كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 54] وَالْمُرَادُ قَتْلُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا الثَّالِثُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ إِذَا خَطَبَهُمْ إِبْلِيسُ وَهُمْ فِي النَّارِ بِقَوْلِهِ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَى قَوْلِهِ وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إِبْرَاهِيمَ: 22] فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَقَتُوا أَنْفُسَهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ مَقْتَهُمْ أَنْفُسَهُمْ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَمَّا مَقْتُ اللَّهِ لَهُمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حَاصِلٌ فِي الْآخِرَةِ، وَالْمَعْنَى لَمَقْتُ اللَّهِ لَكُمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ «1» أَشَدُّ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَالثَّانِي: وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ التَّقْدِيرَ لَمَقْتُ اللَّهِ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ، أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمُ الْآنَ فَفِي تَفْسِيرِ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ أَوْجُهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَهُمْ وَيَذْكُرُونَ لَهُمْ هَذَا الْكَلَامَ هُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ الثَّانِي: الْمَقْتُ أَشَدُّ الْبُغْضِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، فَالْمُرَادُ مِنْهُ أَبْلَغُ الْإِنْكَارِ وَالزَّجْرِ الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُنَادَوْنَ إِنَّ مَقْتَ اللَّهِ/ أكبر يقال ناديت إن زيدا قائم وإن زيدا لقائم الرابع: قوله إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فيه حذف والتقدير لمقت اللَّهِ لَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَأْتُونَ بِالْكُفْرِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمُ الْآنَ أَنْفُسَكُمْ. ثُمَّ إنه تعالى بيّن أن الكفار إذا خاطبوا بِهَذَا الْخِطَابِ قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا أَنَّ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا كَانَ فَاسِدًا بَاطِلًا تَمَنَّوُا الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا لِكَيْ يَشْتَغِلُوا عِنْدَ الرُّجُوعِ إِلَيْهَا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَتَقْرِيرُ الدَّلِيلِ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَوْتَتَيْنِ حَيْثُ قَالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ فَأَحَدُ الْمَوْتَتَيْنِ مُشَاهَدٌ فِي الدُّنْيَا فَلَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ حَيَاةٍ أُخْرَى فِي الْقَبْرِ حَتَّى يَصِيرَ الْمَوْتُ الَّذِي يَحْصُلُ عَقِيبَهَا مَوْتًا ثَانِيًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ حَيَاةٍ فِي الْقَبْرِ، فَإِنْ قِيلَ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمَوْتَةُ الْأُولَى إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَ كَوْنِ الْإِنْسَانِ نُطْفَةً وَعَلَقَةً وَالْمَوْتَةُ الثَّانِيَةُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا حَصَلَ فِي الدُّنْيَا، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ [الْبَقَرَةِ: 28] وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً الْحَالَةُ الْحَاصِلَةُ عِنْدَ كَوْنِهِ نُطْفَةً وَعَلَقَةً وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّ الْإِمَاتَةَ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: إِيجَادُ الشَّيْءِ مَيِّتًا وَالثَّانِي: تَصْيِيرُ الشَّيْءِ مَيِّتًا بَعْدَ أَنْ كَانَ حَيًّا كَقَوْلِكَ وَسَّعَ الْخَيَّاطُ ربي، يُحْتَمَلُ أَنَّهُ خَاطَهُ وَاسِعًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ صَيَّرَهُ وَاسِعًا بَعْدَ أَنْ كَانَ ضَيِّقًا، فَلِمَ لَا يَجُوزُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِمَاتَةِ خَلَقَهَا مَيِّتَةً، وَلَا يَكُونُ الْمُرَادُ تَصْيِيرَهَا مَيِّتَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ حَيَّةً. السُّؤَالُ الثَّانِي: أن هذا كلام الكفار فلا يكون حجة. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ حُصُولِ الْحَيَاةِ فِي الْقَبْرِ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ قَدْ حَصَلَتِ الْحَيَاةُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَوَّلُهَا: فِي الدُّنْيَا، وَثَانِيهَا: فِي الْقَبْرِ، وَثَالِثُهَا: فِي الْقِيَامَةِ، وَالْمَذْكُورُ في

_ (1) المناسب أن يقول هنا «لمقت الله لكم في ذلك الوقت» إشارة إلى بعده إذ المشار إليه يوم القيامة.

الْآيَةِ لَيْسَ إِلَّا حَيَاتَيْنِ فَقَطْ، فَتَكُونُ إِحْدَاهُمَا الْحَيَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالْحَيَاةُ الثَّانِيَةِ فِي الْقِيَامَةِ وَالْمَوْتُ الْحَاصِلُ بَيْنَهُمَا هُوَ الْمَوْتُ الْمُشَاهَدُ فِي الدُّنْيَا. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ إِنْ دَلَّتْ هَذِهِ الآية على حصول الحياة في القبر فههنا مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ وَذَلِكَ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْمَنْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزُّمَرِ: 9] فَلَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا الْحَذَرُ عَنِ الْآخِرَةِ، وَلَوْ حَصَلَتِ الْحَيَاةُ فِي الْقَبْرِ لَكَانَ الْحَذَرُ عَنْهَا حَاصِلًا، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَذَكَرَهُ، وَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ حَاصِلٍ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُحِقِّينَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِي الْجَنَّةِ أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى [الصَّافَّاتِ: 58، 59] وَلَا شَكَّ أَنَّ كَلَامَ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَلَوْ حَصَلَتْ لَهُمْ حَيَاةٌ فِي الْقَبْرِ لَكَانُوا قَدْ مَاتُوا مَوْتَتَيْنِ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ/ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى قَالُوا وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَى مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا، لِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي تَمَسَّكْنَا بِهَا حِكَايَةُ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ دَخَلُوا الْجَنَّةَ وَالْآيَةَ الَّتِي تَمَسَّكْتُمْ بِهَا حِكَايَةُ قَوْلِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ دَخَلُوا النَّارَ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ الذي افترسته السِّبَاعُ وَأَكَلَتْهُ لَوْ أُعِيدُ حَيًّا لَكَانَ إِمَّا أَنْ يُعَادَ حَيًّا بِمَجْمُوعِهِ أَوْ بِآحَادِ أَجْزَائِهِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْحِسَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَجْمُوعٌ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَمَّا أَكَلَتْهُ السِّبَاعُ، فَلَوْ جُعِلَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ أَحْيَاءً لَحَصَلَتْ أَحْيَاءً فِي مَعِدَةِ السِّبَاعِ وَفِي أَمْعَائِهَا، وَذَلِكَ فِي غَايَةِ الِاسْتِبْعَادِ الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي مَاتَ لَوْ تَرَكْنَاهُ ظَاهِرًا بِحَيْثُ يَرَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَاقِيًا عَلَى مَوْتِهِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا مَعَ هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّهُ يُقَالُ إِنَّهُ صَارَ حَيًّا لَكَانَ هَذَا تَشْكِيكًا فِي الْمَحْسُوسَاتِ، وَإِنَّهُ دُخُولٌ فِي السَّفْسَطَةِ (وَالْجَوَابُ) قَوْلُهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَوْتَةُ الْأُولَى هِيَ الْمَوْتَةَ الَّتِي كَانَتْ حَاصِلَةً حَالَ مَا كَانَ نُطْفَةً وَعَلَقَةً؟ فَنَقُولُ هَذَا لَا يَجُوزُ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ أَمَاتَهُمْ وَلَفْظُ الْإِمَاتَةِ مَشْرُوطٌ بِسَبْقِ حُصُولِ الْحَيَاةِ إِذْ لَوْ كَانَ الْمَوْتُ حَاصِلًا قَبْلَ هَذِهِ الْحَالَةِ امْتَنَعَ كَوْنُ هَذَا إِمَاتَةً، وَإِلَّا لَزِمَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا أَمْوَاتًا وَلَيْسَ فِيهَا أَنِ اللَّهُ أَمَاتَهُمْ بِخِلَافِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَاتَهُمْ مَرَّتَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ الْإِمَاتَةِ لَا يَصْدُقُ إِلَّا عِنْدَ سَبْقِ الْحَيَاةِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. أَمَّا قَوْلُهُ أن هذا كلام الكفار فلا يكون حجة، قُلْنَا لَمَّا ذَكَرُوا ذَلِكَ لَمْ يُكَذِّبْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِذْ لَوْ كَانُوا كَاذِبِينَ لَأَظْهَرَ اللَّهُ تَكْذِيبَهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا كَذَبُوا فِي قولهم وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ كَذَّبَهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا [الْأَنْعَامِ: 23، 24] وَأَمَّا قَوْلُهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَمْنَعُ من إثبات حياة في القبرة إِذْ لَوْ حَصَلَتْ هَذِهِ الْحَيَاةُ لَكَانَ عَدَدُ الْحَيَاةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَا مَرَّتَيْنِ، فَنَقُولُ (الْجَوَابُ) عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ تعديل أَوْقَاتِ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةَ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ الْمَوْتَةُ الْأُولَى، وَالْحَيَاةُ فِي الْقَبْرِ، وَالْمَوْتَةُ الثَّانِيَةُ، وَالْحَيَاةُ فِي الْقِيَامَةِ، فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ أَوْقَاتُ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ، فَأَمَّا الْحَيَاةُ فِي الدُّنْيَا، فَلَيْسَتْ مِنْ أَقْسَامِ أَوْقَاتِ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمْ يَذْكُرُوهَا الثَّانِي: لَعَلَّهُمْ ذَكَرُوا الْحَيَاتَيْنِ، وَهِيَ الْحَيَاةُ فِي الدُّنْيَا، وَالْحَيَاةُ فِي الْقِيَامَةِ، أَمَّا الْحَيَاةُ فِي الْقَبْرِ فَأَهْمَلُوا ذِكْرَهَا لِقِلَّةِ وَجُودِهَا وَقِصَرِ مُدَّتِهَا الثَّالِثُ: لَعَلَّهُمْ لَمَّا صَارُوا أَحْيَاءً فِي الْقُبُورِ لَمْ يَمُوتُوا بَلْ بَقَوْا أَحْيَاءً، إِمَّا فِي السَّعَادَةِ، وَإِمَّا فِي الشَّقَاوَةِ، وَاتَّصَلَ بِهَا حَيَاةُ الْقِيَامَةِ فَكَانُوا مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَرَادَهُمُ اللَّهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ فَصَعِقَ

[سورة غافر (40) : الآيات 13 إلى 14]

مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزُّمَرِ: 68] الرَّابِعُ: لَوْ لَمْ تثبت الْحَيَاةَ فِي الْقَبْرِ لَزِمَ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْمَوْتُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَكَانَ إِثْبَاتُ الْمَوْتِ مَرَّتَيْنِ كَذِبًا وَهُوَ عَلَى خِلَافِ لَفْظِ الْقُرْآنِ، أَمَّا لَوْ أَثْبَتْنَا الْحَيَاةَ فِي الْقَبْرِ لَزِمَنَا إِثْبَاتُ الْحَيَاةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَالْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ مَرَّتَيْنِ، أَمَّا الْمَرَّةُ الثَّالِثَةُ فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهَا أَوْ عَدَمِهَا، فَثَبَتَ أَنَّ نَفْيَ حَيَاةِ الْقَبْرِ يَقْتَضِي تَرْكَ مَا دَلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إِثْبَاتُ حَيَاةِ الْقَبْرِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ شَيْءٍ زَائِدٍ/ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ لَا إِشْعَارَ فِيهِ بِثُبُوتِهِ وَلَا بِعَدَمِهِ فَكَانَ هَذَا أَوْلَى، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ فِي الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى فنقول قوله يَحْذَرُ الْآخِرَةَ [الزمر: 9] تَدْخُلُ فِيهِ الْحَيَاةُ الْآخِرَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْقَبْرِ أَوْ فِي الْقِيَامَةِ، وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ الثَّانِيَةُ فَجَوَابُهَا أَنَّا نُرَجِّحُ قَوْلَنَا بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ. وَأَمَّا الْوَجْهَانِ الْعَقْلِيَّانِ فَمَدْفُوعَانِ، لِأَنَّا إِذَا قُلْنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ هَذَا الْهَيْكَلِ بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ جِسْمٍ نُورَانِيٍّ سَارٍ فِي هَذَا الْبَدَنِ كَانَتِ الْإِشْكَالَاتُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا غَيْرَ وَارِدَةٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّا لَمَّا أَثْبَتْنَا حَيَاةَ الْقَبْرِ فَيَكُونُ الْحَاصِلُ فِي حَقِّ بَعْضِهِمْ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْحَيَاةِ وَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْمَوْتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ [الْبَقَرَةِ: 243] فهؤلاء أربعة مَرَاتِبٍ فِي الْحَيَاةِ، حَيَاتَانِ فِي الدُّنْيَا، وَحَيَاةٌ فِي الْقَبْرِ، وَحَيَاةٌ رَابِعَةٌ فِي الْقِيَامَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ اثْنَتَيْنِ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ إِمَاتَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، ثُمَّ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَإِنْ قِيلَ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَاعْتَرَفْنا تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْإِمَاتَةُ مَرَّتَيْنِ وَالْإِحْيَاءُ مَرَّتَيْنِ سَبَبًا لِهَذَا الِاعْتِرَافِ فَبَيَّنُوا هَذِهِ السَّبَبِيَّةَ، قُلْنَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ فَلَمَّا شَاهَدُوا الْإِحْيَاءَ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ مَرَّتَيْنِ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي الْإِقْرَارِ بِالْبَعْثِ، فَلَا جَرَمَ وَقَعَ هَذَا الْإِقْرَارُ كَالْمُسَبَّبِ عَنْ ذَلِكَ الْإِحْيَاءِ وَتِلْكَ الْإِمَاتَةِ، ثُمَّ قَالَ: فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ أَيْ هَلْ إِلَى نَوْعٍ مِنَ الْخُرُوجِ سَرِيعٍ أَوْ بَطِيءٍ مِنْ سَبِيلٍ، أَمِ الْيَأْسُ وَقَعَ فَلَا خُرُوجَ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ؟ وَهَذَا كَلَامُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْيَأْسُ وَالْقُنُوطُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ الصَّرِيحَ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ لَا أَوْ نَعَمْ وَهُوَ تَعَالَى لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بَلْ ذَكَرَ كَلَامًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ فَقَالَ: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا أَيْ ذَلِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ لَا سَبِيلَ لَكُمْ إِلَى خروج قَطُّ، إِنَّمَا وَقَعَ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِيمَانِكُمْ بِالْإِشْرَاكِ بِهِ فَالْحُكْمُ لِلَّهِ حَيْثُ حَكَمَ عَلَيْكُمْ بِالْعَذَابِ السَّرْمَدِيِّ، وَقَوْلُهُ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ دَلَالَةٌ عَلَى الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، وَعَلَى أَنَّ عِقَابَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ، وَالْمُشَبِّهَةُ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الْعَلِيِّ عَلَى الْعُلُوِّ الْأَعْلَى فِي الْجِهَةِ، وَبِقَوْلِهِ الْكَبِيرِ عَلَى كِبَرِ الْجُثَّةِ وَالذَّاتِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، لِأَنَّا دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ الْجِسْمِيَّةَ وَالْمَكَانَ مُحَالَانِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ الْعُلُوَّ والكبرياء بحسب القدرة والإلهية. [سورة غافر (40) : الآيات 13 الى 14] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا يُوجِبُ التَّهْدِيدَ الشَّدِيدَ فِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، لِيَصِيرَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ جَعْلُ هَذِهِ الْأَحْجَارِ الْمَنْحُوتَةِ وَالْخَشَبِ الْمُصَوَّرَةِ شُرَكَاءَ لله تعالى

[سورة غافر (40) : الآيات 15 إلى 17]

فِي الْمَعْبُودِيَّةِ، فَقَالَ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ أَهَمَّ الْمُهِمَّاتِ رِعَايَةُ مَصَالِحِ الْأَدْيَانِ، وَمَصَالِحِ الْأَبْدَانِ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى رَاعَى مَصَالِحَ أَدْيَانِ الْعِبَادِ بِإِظْهَارِ الْبَيِّنَاتِ وَالْآيَاتِ، وَرَاعَى مَصَالِحَ أَبْدَانِهِمْ بِإِنْزَالِ الرِّزْقِ مِنَ السَّمَاءِ، فَمَوْقِعُ الْآيَاتِ مِنَ الْأَدْيَانِ كَمَوْقِعِ الْأَرْزَاقِ مِنَ الْأَبْدَانِ، فَالْآيَاتُ لِحَيَاةِ الْأَدْيَانِ، وَالْأَرْزَاقُ لِحَيَاةِ الْأَبْدَانِ، وَعِنْدَ حُصُولِهِمَا يَحْصُلُ الْإِنْعَامُ عَلَى أَقْوَى الِاعْتِبَارَاتِ وَأَكْمَلِ الْجِهَاتِ. ثُمَّ قَالَ: وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى دَلَائِلِ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْأَمْرِ الْمَرْكُوزِ فِي الْعَقْلِ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ بِالشِّرْكِ وَالِاشْتِغَالَ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ يَصِيرُ كَالْمَانِعِ مِنْ تَجَلِّي تِلْكَ الْأَنْوَارِ، فَإِذَا أَعْرَضَ الْعَبْدُ عَنْهَا وَأَنَابَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى زَالَ الْغِطَاءُ وَالْوِطَاءُ فَظَهَرَ الْفَوْزُ التَّامُّ، وَلَمَّا قَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى صَرَّحَ بِالْمَطْلُوبِ وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ غير الله والإقبال بالكلية على الله تعالى فَقَالَ: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ مِنَ الشِّرْكِ، وَمِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ يُنْزِلُ خَفِيفَةً والباقون بالتشديد. [سورة غافر (40) : الآيات 15 الى 17] رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مِنْ صِفَاتِ كِبْرِيَائِهِ وَإِكْرَامِهِ كَوْنَهُ مُظْهِرًا لِلْآيَاتِ مُنْزِلًا لِلْأَرْزَاقِ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةً أُخْرَى مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ/ يُلْقِي الرُّوحَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ثَلَاثَةُ أَخْبَارٍ لِقَوْلِهِ هُوَ مُرَتَّبَةٌ على قوله الَّذِي يُرِيكُمْ [غافر: 13] أَوْ أَخْبَارُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ تَعْرِيفًا وَتَنْكِيرًا، قُرِئَ رَفِيعُ الدَّرَجاتِ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ، وَأَقُولُ لَا بُدَّ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ: فَالصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ رَفِيعُ الدَّرَجاتِ وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّفِيعَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الرَّافِعَ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُرْتَفِعَ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى يَرْفَعُ دَرَجَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَالثَّانِي: رَافِعُ دَرَجَاتِ الْخَلْقِ فِي الْعُلُومِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ عَيَّنَ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ دَرَجَةً مُعَيَّنَةً، كَمَا قَالَ: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصَّافَّاتِ: 164] وَعَيَّنَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ دَرَجَةً مُعَيَّنَةً فَقَالَ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [الْمُجَادَلَةِ: 11] وَعَيَّنَ لِكُلِّ جِسْمٍ دَرَجَةً مُعَيَّنَةً، فَجَعَلَ بَعْضَهَا سُفْلِيَّةً عُنْصُرِيَّةً، وَبَعْضَهَا فَلَكِيَّةً كَوْكَبِيَّةً، وَبَعْضَهَا مِنْ جَوَاهِرِ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ، فَجَعَلَ لِبَعْضِهَا دَرَجَةً أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ الثَّانِي، وَأَيْضًا جَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَرْتَبَةً مُعَيَّنَةً فِي الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْأَجَلِ، فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [الْأَنْعَامِ: 165] وَجَعَلَ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ فِي الدُّنْيَا دَرَجَةً مُعَيَّنَةً مِنْ مُوجِبَاتِ السَّعَادَةِ وَمُوجِبَاتِ الشَّقَاوَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ آثَارٌ لِظُهُورِ تِلْكَ السعادة والشقاء، فإذا حملنا الرفيع على الرفع كَانَ مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمُرْتَفِعِ فَهُوَ سُبْحَانُهُ أَرْفَعُ الْمَوْجُودَاتِ فِي جميع صفات الكمال والجلال، أما في الأصل الْوُجُودِ فَهُوَ أَرْفَعُ الْمَوْجُودَاتِ، لِأَنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَمَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ وَمُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَأَمَّا فِي دَوَامِ الْوُجُودِ فَهُوَ أَرْفَعُ الْمَوْجُودَاتِ، لِأَنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَهُوَ الْأَزَلِيُّ وَالْأَبَدِيُّ وَالسَّرْمَدِيُّ، الَّذِي هُوَ أَوَّلٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَوَّلٌ وَآخِرٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ، وَلَيْسَ لَهُ آخِرٌ، أَمَّا فِي الْعِلْمِ: فَلِأَنَّهُ هُوَ الْعَالِمُ بِجَمِيعِ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ، كَمَا قَالَ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ

الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَامِ: 59] وَأَمَّا فِي الْقُدْرَةِ: فَهُوَ أَعْلَى الْقَادِرِينَ وَأَرْفَعُهُمْ، لِأَنَّهُ فِي وُجُودِهِ وَجَمِيعِ كَمَالَاتِ وَجُودِهِ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ فِي وُجُودِهِ وَفِي جَمِيعِ كَمَالَاتِ وَجُودِهِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا فِي الْوَحْدَانِيَّةِ: فَهُوَ الْوَاحِدُ الَّذِي يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ ضِدٌّ وَنِدٌّ وَشَرِيكٌ وَنَظِيرٌ، وَأَقُولُ: الْحَقُّ سُبْحَانَهُ لَهُ صِفَتَانِ أَحَدُهُمَا: اسْتِغْنَاؤُهُ فِي وُجُودِهِ وَفِي جَمِيعِ صِفَاتِ وَجُودِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ الثَّانِي: افْتِقَارُ كُلِّ مَا سِوَاهُ إِلَيْهِ فِي وُجُودِهِ وَفِي صِفَاتِ وَجُودِهِ، فَالرَّفِيعُ إِنْ فَسَّرْنَاهُ بِالْمُرْتَفِعِ، كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَرْفَعُ الْمَوْجُودَاتِ وَأَعْلَاهَا فِي جَمِيعِ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهُ بِالرَّافِعِ، كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ دَرَجَةٍ وَفَضِيلَةٍ وَرَحْمَةٍ وَمَنْقَبَةٍ حَصَلَتْ لِشَيْءٍ سِوَاهُ، فَإِنَّمَا حَصَلَتْ بِإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ ذُو الْعَرْشِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَالِكُ الْعَرْشِ وَمُدَبِّرُهُ وَخَالِقُهُ، وَاحْتَجَّ بَعْضُ الأغمار من المشابهة بِقَوْلِهِ رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ وَحَمَلُوهُ عَلَى أن المراد بالدرجات، السموات، وَبِقَوْلِهِ ذُو الْعَرْشِ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْعَرْشِ فوق سبع سموات، وَقَدْ أَعْظَمُوا الْفِرْيَةَ/ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّا بَيَّنَّا بِالدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى جِسْمًا وَفِي جِهَةِ مُحَالٌ، وَأَيْضًا فَظَاهِرُ اللَّفْظِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا قَالُوهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ ذُو الْعَرْشِ لَا يُفِيدُ إِلَّا إِضَافَتَهُ إِلَى العرش ويكفي فيه إضافته إليه بكونه مَالِكًا لَهُ وَمُخْرِجًا لَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، فَأَيُّ ضَرُورَةٍ تَدْعُونَا إِلَى الذَّهَابِ إِلَى الْقَوْلِ الْبَاطِلِ وَالْمَذْهَبِ الْفَاسِدِ، وَالْفَائِدَةُ فِي تَخْصِيصِ الْعَرْشِ بِالذِّكْرِ هُوَ أَنَّهُ أَعْظَمُ الْأَجْسَامِ، وَالْمَقْصُودُ بيان كمال إلهيته ونفاذ قدرته، فكل ما كَانَ مَحَلُّ التَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ أَعْظَمَ، كَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ أَقْوَى. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الرُّوحِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْوَحْيُ، وَقَدْ أَطْنَبْنَا فِي بَيَانِ أَنَّهُ لِمَ سُمِّيَ الْوَحْيُ بِالرُّوحِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [النَّحْلِ: 2] وَقَالَ أَيْضًا: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الْأَنْعَامِ: 122] وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّ حَيَاةَ الْأَرْوَاحِ بِالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْجَلَايَا الْقُدُسِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ الْوَحْيُ سَبَبًا لِحُصُولِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ سُمِّيَ بِالرُّوحِ، فَإِنَّ الرُّوحَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْحَيَاةِ، وَالْوَحْيَ سَبَبٌ لِحُصُولِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الرُّوحَانِيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَسْرَارٍ عَجِيبَةٍ مِنْ عُلُومِ الْمُكَاشَفَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَمَالَ كِبْرِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْعُقُولُ وَالْأَفْهَامُ، فَالطَّرِيقُ الْكَامِلُ فِي تَعْرِيفِهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ أَنْ يُذْكَرَ ذَلِكَ الْكَلَامُ عَلَى الْوَجْهِ الْكُلِّيِّ الْعَقْلِيِّ، ثُمَّ يُذْكَرَ عَقِيبَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ الْمُؤَكِّدَةِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى الْعَقْلِيِّ لِيَصِيرَ الْحَصْرُ بِهَذَا الطَّرِيقِ معاضدا للعقل، فههنا أَيْضًا كَذَلِكَ، فَقَوْلُهُ رَفِيعُ الدَّرَجاتِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى كَوْنِهِ رَافِعًا لِلدَّرَجَاتِ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَأْثِيرِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِيجَادِ الْمُمْكِنَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهَا وَتَبَايُنِ مَنَازِلِهَا وَصِفَاتِهَا، أَوْ إِلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُرْتَفِعًا فِي صِفَاتِ الْجَلَالِ وَنُعُوتِ الْعِزَّةِ عَنْ كُلِّ الْمَوْجُودَاتِ، فَهَذَا الْكَلَامُ عَقْلِيٌّ بُرْهَانِيٌّ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ هَذَا الْكَلَامَ الْكُلِّيِّ بِمَزِيدِ تَقْرِيرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا جُسْمَانِيَّاتٌ وَإِمَّا رُوحَانِيَّاتٌ، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كِلَّا الْقِسْمَيْنِ مُسَخَّرٌ تَحْتَ تَسْخِيرِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَمَّا الْجُسْمَانِيَّاتُ فَأَعْظَمُهَا الْعَرْشُ، فَقَوْلُهُ ذُو الْعَرْشِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِيلَائِهِ عَلَى كُلِّيَّةِ عَالَمِ الْأَجْسَامِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَرْشُ مِنْ جِنْسِ الْمَحْسُوسَاتِ كَانَ هَذَا الْمَحْسُوسُ مُؤَكِّدًا لِذَلِكَ الْمَعْقُولِ، أَعْنِي قَوْلَهُ رَفِيعُ الدَّرَجاتِ وَأَمَّا الرُّوحَانِيَّاتُ

فَكُلُّهَا مُسَخَّرَةٌ لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَشْرَفَ الْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ فِي رُوحَانِيَّاتِ هَذَا الْعَالَمِ ظُهُورُ آثَارِ الْوَحْيِ، وَالْوَحْيُ إِنَّمَا يَتِمُّ بِأَرْكَانٍ أَرْبَعَةٍ فَأَوَّلُهَا: الْمُرْسِلُ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَلِهَذَا أَضَافَ إِلْقَاءَ الْوَحْيِ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: يُلْقِي الرُّوحَ وَالرُّكْنُ الثَّانِي: الْإِرْسَالُ وَالْوَحْيُ وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ بِالرُّوحِ وَالرُّكْنُ الثَّالِثُ: أَنَّ وُصُولَ الْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْأَنْبِيَاءِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ مِنْ أَمْرِهِ فَالرُّكْنُ الرُّوحَانِيُّ يُسَمَّى أَمْرًا، قَالَ تَعَالَى: / وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها [فُصِّلَتْ: 12] وَقَالَ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الْأَعْرَافُ: 54] وَالرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ يُلْقِي اللَّهُ الْوَحْيَ إِلَيْهِمْ وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالرُّكْنُ الْخَامِسُ: تَعْيِينُ الْغَرَضِ وَالْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ مِنْ إِلْقَاءِ هَذَا الْوَحْيِ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَصْرِفُونَ الْخَلْقَ مِنْ عَالَمِ الدُّنْيَا إِلَى عَالَمِ الْآخِرَةِ، وَيَحْمِلُونَهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ هَذِهِ الْجُسْمَانِيَّاتِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى الرُّوحَانِيَّاتِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ فَهَذَا تَرْتِيبٌ عَجِيبٌ يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْإِشَارَاتِ الْعَالِيَةِ مِنْ عُلُومِ الْمُكَاشَفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ. وَبَقِيَ هَاهُنَا أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّهُ مَا السَّبَبُ فِي تَسْمِيَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِيَوْمِ التَّلَاقِ؟ وَكَمِ الصِّفَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِيَوْمِ التَّلَاقِ؟ أَمَّا السَّبَبُ فِي تَسْمِيَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِيَوْمِ التَّلَاقِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَرْوَاحَ كَانَتْ مُتَبَايِنَةً عَنِ الْأَجْسَادِ فَإِذَا جَاءَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صَارَتِ الْأَرْوَاحُ مُلَاقِيَةً لِلْأَجْسَادِ فَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ التَّلَاقِ الثَّانِي: أَنَّ الْخَلَائِقَ يَتَلَاقَوْنَ فِيهِ فَيَقِفُ بَعْضُهُمْ عَلَى حَالِ الْبَعْضِ الثَّالِثُ: أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ يَنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَيَلْتَقِي فِيهِ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الْفُرْقَانِ: 25] الرَّابِعُ: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَصِلُ إِلَى جَزَاءِ عَمَلِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فكان ذلك من باب التلاق وهو مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ لَقِيَ عَمَلَهُ الْخَامِسُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنْ قَوْلِهِ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ [الْكَهْفِ: 110] وَمِنْ قَوْلِهِ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الْأَحْزَابِ: 44] السَّادِسُ: يَوْمٌ يَلْتَقِي فِيهِ الْعَابِدُونَ وَالْمَعْبُودُونَ السَّابِعُ: يَوْمٌ يَلْتَقِي فِيهِ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَآخِرُ وَلَدِهِ الثَّامِنُ: قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ يَوْمٌ يَلْتَقِي فِيهِ الظَّالِمُ وَالْمَظْلُومُ فَرُبَّمَا ظَلَمَ الرَّجُلُ رَجُلًا وَانْفَصَلَ عَنْهُ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَجِدَهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ فَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ يحضران ويلقى بعضهم بعضا، قرأ ابن كثير عنه التَّلَاقِي وَالتَّنَادِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ، وهادي وَوَاقِي بِالْيَاءِ فِي الْوَقْفِ وَبِالتَّنْوِينِ فِي الْوَصْلِ. وأما بين أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمْ عَدَّدَ مِنَ الصِّفَاتِ وَوَصَفَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَنَقُولُ: الصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُ يَوْمَ التَّلَاقِ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَهُ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ وَفِي تَفْسِيرِ هَذَا الْبُرُوزِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ بَرَزُوا عَنْ بَوَاطِنِ الْقُبُورِ الثَّانِي: بَارِزُونَ أَيْ ظَاهِرُونَ لَا يَسْتُرُهُمْ شَيْءٌ مِنْ جَبَلٍ أَوْ أَكَمَةٍ أَوْ بِنَاءٍ، لِأَنَّ الْأَرْضَ بَارِزَةٌ قَاعٌ صَفْصَفٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا ثِيَابٌ إِنَّمَا هُمْ عُرَاةٌ مَكْشُوفُونَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «يُحْشَرُونَ عُرَاةً حُفَاةً غُرْلًا» الثَّالِثُ: أَنْ يُجْعَلَ كَوْنُهُمْ بَارِزِينَ كِنَايَةً عَنْ ظُهُورِ أَعْمَالِهِمْ وَانْكِشَافِ أَسْرَارِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطَّارِقِ: 9]

الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ النُّفُوسَ النَّاطِقَةَ الْبَشَرِيَّةَ كَأَنَّهَا فِي الدُّنْيَا انْغَمَسَتْ فِي ظُلُمَاتِ أَعْمَالِ الْأَبْدَانِ فَإِذَا جَاءَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَعْرَضَتْ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِتَدْبِيرِ الْجُسْمَانِيَّاتِ وَتَوَجَّهَتْ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى عَالَمِ الْقِيَامَةِ وَمَجْمَعِ الرُّوحَانِيَّاتِ، فَكَأَنَّهَا بَرَزَتْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ كَامِنَةً فِي الْجُسْمَانِيَّاتِ مُسْتَتِرَةً بِهَا. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ وَالْمُرَادُ يَوْمٌ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْوَعِيدُ فَإِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ إِذَا بَرَزُوا مِنْ قُبُورِهِمْ وَاجْتَمَعُوا وَتَلَاقَوْا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا فَعَلَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَيُجَازِي كُلًّا بِحَسْبِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، فَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا تَفْصِيلَ مَا فَعَلُوهُ، فَاللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِذَلِكَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ [الْحَاقَّةِ: 18] وَقَالَ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطَّارِقِ: 9] وَقَالَ: إِذا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [الْعَادِيَاتِ: 9، 10] وَقَالَ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها [الزَّلْزَلَةِ: 4] فَإِنْ قِيلَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ، فَمَا مَعْنَى تَقْيِيدُ هَذَا الْمَعْنَى بِذَلِكَ الْيَوْمِ؟ قُلْنَا إِنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَهَّمُونَ فِي الدُّنْيَا إِذَا اسْتَتَرُوا بِالْحِيطَانِ وَالْحُجُبِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَرَاهُمْ وَتَخْفَى عَلَيْهِ أَعْمَالُهُمْ، فَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ صَائِرُونَ مِنَ الْبُرُوزِ وَالِانْكِشَافِ إِلَى حَالٍ لَا يَتَوَهَّمُونَ فِيهَا مِثْلَ مَا يَتَوَهَّمُونَهُ فِي الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ [فُصِّلَتْ: 22] وَقَالَ: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ [النِّسَاءِ: 108] وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم: 48] . الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ وَالتَّقْدِيرُ يَوْمٌ يُنَادَى فِيهِ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ وَهَذَا النِّدَاءُ فِي أَيِّ الْأَوْقَاتِ يَحْصُلُ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ إذا هلك كل من السموات وَمَنْ فِي الْأَرْضِ فَيَقُولُ الرَّبُّ تَعَالَى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَا يُجِيبُهُ أَحَدٌ فَهُوَ تَعَالَى يُجِيبُ نَفْسَهُ فَيَقُولُ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ قَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ هَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذَا النِّدَاءَ إِنَّمَا يَحْصُلُ يَوْمَ التَّلَاقِ وَيَوْمَ الْبُرُوزِ وَيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، وَالنَّاسُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَحْيَاءٌ، فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا يُنَادِي بِهَذَا النِّدَاءِ حِينَ هَلَكَ كُلُّ مَنْ فِي السموات وَالْأَرْضِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ فَائِدَةٍ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِمَّا أَنْ يُذْكَرَ حَالَ حُضُورِ الْغَيْرِ، أَوْ حَالَ مَا لَا يَحْضُرُ الْغَيْرُ، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ هَاهُنَا لِأَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَذْكُرُ هَذَا الْكَلَامَ عِنْدَ فَنَاءِ الْكُلِّ، وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِنَّمَا يَحْسُنُ تَكَلُّمُهُ حَالَ كَوْنِهِ وَحْدَهُ إِمَّا لِأَنَّهُ يَحْفَظُ بِهِ شَيْئًا كَالَّذِي يُكَرَّرُ عَلَى الدَّرْسِ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، أَوْ لِأَجْلِ أَنَّهُ يَحْصُلُ سُرُورٌ بِمَا يَقُولُهُ وَذَلِكَ أَيْضًا عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، أَوْ لِأَجْلِ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ بِذَلِكَ الذِّكْرِ وَذَلِكَ أَيْضًا عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إن الله تعالى يذكر هذا النداء جال هَلَاكِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ فِي يَوْمِ التَّلَاقِ إِذَا حَضَرَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ وَبَرَزُوا لِلَّهِ نَادَى مُنَادٍ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ فَيَقُولُ كُلُّ الْحَاضِرِينَ فِي محفل القيامة لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ فالمؤمنون يقولونه تَلَذُّذًا بِهَذَا الْكَلَامِ، حَيْثُ نَالُوا بِهَذَا الذِّكْرِ الْمَنْزِلَةَ الرَّفِيعَةَ، وَالْكُفَّارُ يَقُولُونَهُ عَلَى الصَّغَارِ وَالذِّلَّةِ عَلَى وَجْهِ التَّحَسُّرِ وَالنَّدَامَةِ عَلَى أَنْ فَاتَهُمْ هَذَا الذِّكْرُ فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ إِنْ صَحَّ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا النِّدَاءَ يُذْكَرُ بَعْدَ فَنَاءِ الْبَشَرِ إِلَّا أَنَّهُ حَضَرَ هُنَاكَ مَلَائِكَةٌ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ النِّدَاءَ، وَأَقُولُ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ/ وَالْمُجِيبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ جَمْعًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْمُجِيبُ

جَمْعًا آخَرِينَ، الْكُلُّ مُمْكِنٌ وَلَيْسَ عَلَى التَّعْيِينِ دَلِيلٌ، فَإِنْ قِيلَ وَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَخْصِيصِ هَذَا الْيَوْمِ بِهَذَا النِّدَاءِ؟. فَنَقُولُ النَّاسُ كَانُوا مَغْرُورِينَ فِي الدُّنْيَا بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْوَالِدُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَوْلَا الْأَسْبَابُ لَمَا ارْتَابَ مُرْتَابٌ، وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ زَالَتِ الْأَسْبَابُ، وَانْعَزَلَتِ الْأَرْبَابُ، وَلَمْ يَبْقَ الْبَتَّةَ غَيْرُ حُكْمِ مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ، فَلِهَذَا اخْتُصَّ النِّدَاءُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ ذَلِكَ النِّدَاءِ بِذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ يُفِيدُ أَنَّ هَذَا النِّدَاءَ حَاصِلٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَبَدًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَنَا: اللَّهُ اسْمٌ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَوَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِإِيجَادِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، وَمَعْنَى الْإِيجَادِ هُوَ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْوُجُودِ عَلَى جَانِبِ الْعَدَمِ، وَذَلِكَ التَّرْجِيحُ هُوَ قَهْرٌ لِلْجَانِبِ الْمَرْجُوحِ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِلَهَ الْقَهَّارَ وَاحِدٌ أَبَدًا، وَنِدَاءُ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ إِنَّمَا ظَهَرَ مِنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا قَهَّارًا، فَإِذَا كَانَ كَوْنُهُ قَهَّارًا بَاقِيًا مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ لَا جَرَمَ كَانَ نِدَاءُ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ بَاقِيًا فِي جَانِبِ الْمَعْنَى مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: مِنْ صِفَاتِ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَوْلُهُ الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا شَرَحَ صِفَاتِ الْقَهْرِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَرْدَفَهُ بِبَيَانِ صِفَاتِ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَالَ: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا الْكَلَامُ اشْتَمَلَ عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهَا: إِثْبَاتُ الْكَسْبِ لِلْإِنْسَانِ وَالثَّانِي: أَنَّ كَسْبَهُ يُوجِبُ الْجَزَاءَ وَالثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يُسْتَوْفَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَى اخْتِصَارِهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَهِيَ أُصُولٌ عَظِيمَةُ الْمُوقِعِ فِي الدِّينِ، وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْأُصُولِ مِرَارًا، وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ بَعْضِ النُّكَتِ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْأُصُولِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ إِثْبَاتُ الْكَسْبِ لِلْإِنْسَانِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ أَعْضَائِهِ سَلِيمَةً صَالِحَةً لِلْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فَمَا دَامَ يَبْقَى عَلَى هَذَا الِاسْتِوَاءِ امْتَنَعَ صُدُورُ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ عَنْهُ، فَإِذَا انْضَافَ إِلَيْهِ الدَّاعِي إِلَى الْفِعْلِ أَوِ الدَّاعِي إِلَى التَّرْكِ وَجَبَ صُدُورُ ذَلِكَ الْفِعْلُ أَوِ التَّرْكُ عَنْهُ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ بَيَانُ تَرَتُّبِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَفْعَالَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا مَا يَكُونُ الدَّاعِي إِلَيْهِ طَلَبُ الْخَيْرَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ الْحَاصِلَةِ فِي عَالَمِ الدُّنْيَا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ الدَّاعِي إِلَيْهِ طَلَبُ الْخَيْرَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ الَّتِي لَا يَظْهَرُ كَمَالُهَا إِلَّا فِي عَالَمِ الْآخِرَةِ وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّجْرِبَةِ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَفْعَالِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْمَلَكَاتِ الرَّاسِخَةِ، فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ استحكمت رحمته رَغْبَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْجُسْمَانِيَّاتِ، فَعِنْدَ الْمَوْتِ يَحْصُلُ الْفِرَاقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَطْلُوبِهِ عَلَى أَعْظَمِ الْوُجُوهِ وَيَعْظُمُ عَلَيْهِ الْبَلَاءُ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْقِسْمُ الثَّانِي فَعِنْدَ الْمَوْتِ يُفَارِقُ الْمَبْغُوضَ وَيَتَّصِلُ بِالْمَحْبُوبِ فَتَعْظُمُ الْآلَاءُ وَالنَّعْمَاءُ، فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْكَسْبِ، وَمَعْنَى كَوْنِ ذَلِكَ الْكَسْبِ مُوجِبًا لِلْجَزَاءِ، فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ كَمَالَ الْجَزَاءِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهَذَا قَانُونٌ كُلِّيٌّ عَقْلِيٌّ، وَالشَّرِيعَةُ/ الْحَقَّةُ أَتَتْ بِمَا يُقَوِّي هَذَا الْقَانُونَ الْكُلِّيَّ فِي تَفَاصِيلِ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ لَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرَرُ مَشْرُوعًا لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا لِكَوْنِهِ جَزَاءً عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْجِنَايَاتِ أَوْ لَا لِكَوْنِهِ جَزَاءً وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ، فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ مَشْرُوعًا، أَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا لِيَكُونَ جَزَاءً عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ فَلِأَنَّ هَذَا النَّصَّ يَقْتَضِي تَأْخِيرَ الْأَجْزِيَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِثْبَاتُهُ فِي الدُّنْيَا يَكُونُ عَلَى خِلَافِ هَذَا النَّصِّ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ لَا

[سورة غافر (40) : الآيات 18 إلى 22]

يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا لِلْجَزَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: 185] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَجِّ: 78] وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» عَدَلْنَا عَنْ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمَضَارُّ أَجْزِيَةً، وَفِيمَا وَرَدَ نَصٌّ فِي الْإِذْنِ فِيهِ كَذَبْحِ الْحَيَوَانَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ فِيمَا عَدَاهُ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَضَارِّ وَالْآلَامِ التَّحْرِيمُ، فَإِنْ وَجَدْنَا نَصًّا خَاصًّا يَدُلُّ عَلَى الشَّرْعِيَّةِ قَضَيْنَا بِهِ تَقْدِيمًا لِلْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَإِلَّا فَهُوَ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ، وَهَذَا أَصْلٌ كُلِّيٌّ مُنْتَفَعٌ بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الصِّفَةُ السَّادِسَةُ: مِنْ صِفَاتِ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَوْلُهُ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ في ذلك اليوم نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، قَالَ الْمُحَقِّقُونَ وُقُوعُ الظُّلْمِ فِي الْجَزَاءِ يَقَعُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَحِقَّ الرَّجُلُ ثَوَابًا فَيُمْنَعُ مِنْهُ وَثَانِيهَا: أَنْ يُعْطِيَ بَعْضٌ بَعْضَ حَقِّهِ وَلَكِنَّهُ لَا يُوَصِّلُ إِلَيْهِ حَقَّهُ بِالتَّمَامِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يُعَذِّبَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُسْتَحِقًّا لِلْعَذَابِ فَيُعَذَّبَ وَيُزَادَ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ يُفِيدُ نَفْيَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، قَالَ الْقَاضِي هَذِهِ الْآيَةُ قَوِيَّةٌ فِي إِبْطَالِ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ لِأَنَّ عَلَى قَوْلِهِمْ لَا ظُلْمَ غَالِبًا وَشَاهِدًا إِلَّا مِنَ اللَّهِ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا خَلَقَ فِيهِ الْكُفْرَ ثُمَّ عَذَّبَهُ عَلَيْهِ فَهَذَا هُوَ عَيْنُ الظُّلْمِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مَعْلُومٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ وَذِكْرُ هَذَا الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَائِقٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا ظُلْمَ بَيَّنَ أَنَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَصِلُ إِلَيْهِمْ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي الْحَالِ وَاللَّهُ أعلم. [سورة غافر (40) : الآيات 18 الى 22] وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَصْفُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِأَنْوَاعٍ أُخْرَى مِنَ الصِّفَاتِ الْهَائِلَةِ الْمَهِيبَةِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ يَوْمِ الْآزِفَةِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّ يَوْمَ الْآزِفَةِ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْآزِفَةُ فَاعِلَةٌ مَنْ أَزِفَ الْأَمْرُ إِذَا دَنَا وَحَضَرَ لِقَوْلِهِ فِي صِفَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ [النَّجْمِ: 57، 58] وَقَالَ شَاعِرٌ: أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنَا ... لَمَّا تَزَلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَرِيبٌ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [الْقَمَرِ: 1] قَالَ الزَّجَّاجُ إِنَّمَا قِيلَ لَهَا آزِفَةٌ لِأَنَّهَا قَرِيبَةٌ وَإِنِ اسْتَبْعَدَ النَّاسُ مَدَاهَا، وَمَا هُوَ كَائِنٌ فهو قريب.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْآزِفَةَ نَعْتٌ لِمَحْذُوفٍ مُؤَنَّثٍ عَلَى تَقْدِيرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْآزِفَةَ أَوْ يَوْمَ الْمُجَازَاةَ الْآزِفَةَ قَالَ الْقَفَّالُ: وَأَسْمَاءُ الْقِيَامَةِ تَجْرِي عَلَى التَّأْنِيثِ كَالطَّامَّةِ وَالْحَاقَّةِ وَنَحْوِهَا كَأَنَّهَا يَرْجِعُ مَعْنَاهَا إِلَى الدَّاهِيَةِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِيَوْمِ الْآزِفَةِ وَقْتُ الْآزِفَةِ وَهِيَ مُسَارَعَتُهُمْ إِلَى دُخُولِ النَّارِ، فَإِنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَرْتَفِعُ قُلُوبُهُمْ عَنْ مَقَارِّهَا مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ يَوْمُ الْآزِفَةِ يَوْمُ الْمَنِيَّةِ وَحُضُورِ الْأَجَلِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ يوم القيامة بأنه يوم التلاق، ويَوْمَ هُمْ بارِزُونَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْيَوْمُ غَيْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَيْضًا هَذِهِ الصِّفَةُ مَخْصُوصَةٌ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ بِيَوْمِ الْمَوْتِ قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا إِذا/ بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ [الْوَاقِعَةِ: 83، 84] وَقَالَ: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ [الْقِيَامَةِ: 26] وَأَيْضًا فَوَصْفُ يَوْمِ الْمَوْتِ بِالْقُرْبِ أَوْلَى مِنْ وَصْفِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِالْقُرْبِ، وَأَيْضًا الصِّفَاتُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَ قَوْلِهِ الْآزِفَةِ لَائِقَةٌ بِيَوْمِ حُضُورِ الْمَوْتِ لِأَنَّ الرَّجُلَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ يَعْظُمُ خَوْفُهُ، فَكَأَنَّ قُلُوبَهُمْ تَبْلُغُ حَنَاجِرَهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَيَبْقَوْا كَاظِمِينَ سَاكِتِينَ عَنْ ذِكْرِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ حَمِيمٌ وَلَا شَفِيعٌ يَدْفَعُ مَا بِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَوْفِ وَالْقَلَقِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، قِيلَ الْمُرَادُ وَصْفُ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِشِدَّةِ الْخَوْفَ وَالْفَزَعِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تعالى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الْأَحْزَابِ: 10] وَقَالَ: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ [الواقعة: 83، 84] وَقِيلَ بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، قَالَ الْحَسَنُ: الْقُلُوبُ انْتُزِعَتْ مِنَ الصُّدُورِ بِسَبَبِ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ فَلَا تَخْرُجُ فَيَمُوتُوا وَلَا تَرْجِعُ إِلَى مَوَاضِعِهَا فَيَتَنَفَّسُوا وَيَتَرَوَّحُوا وَلَكِنَّهَا مَقْبُوضَةٌ كَالسِّجَالِ كَمَا قَالَ: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْمُلْكِ: 27] وَقَوْلُهُ كاظِمِينَ أَيْ مَكْرُوبِينَ وَالْكَاظِمُ السَّاكِتُ حَالَ امْتِلَائِهِ غَمًّا وَغَيْظًا فَإِنْ قِيلَ بِمَ انْتَصَبَ كاظِمِينَ قُلْنَا هُوَ حَالُ أَصْحَابِ الْقُلُوبِ عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمُرَادَ إِذْ قُلُوبُهُمْ لَدَى الْحَنَاجِرِ حَالَ كَاظِمِينَ كونهم ويجوز أيضا أن يكون حال عَنِ الْقُلُوبِ، وَأَنَّ الْقُلُوبَ كَاظِمَةٌ عَلَى غَمٍّ وَكَرْبٍ فِيهَا مَعَ بُلُوغِهَا الْحَنَاجِرَ، وَإِنَّمَا جَمَعَ الْكَاظِمَةِ جَمْعَ السَّلَامَةِ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالْكَظْمِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ كَمَا قَالَ: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يُوسُفَ: 4] وَقَالَ: فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشُّعَرَاءِ: 4] وَيُعَضِّدُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ كَاظِمُونَ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ تَقْرِيرُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْخَوْفُ الشَّدِيدُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ، وَالثَّانِي: الْعَجْزُ عَنِ الْكَلَامِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ كاظِمِينَ فَإِنَّ الْمَلْهُوفَ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْكَلَامِ حَصَلَتْ لَهُ خَفْقَةٌ وَسُكُونٌ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَلَامِ وَبَثِّ الشَّكْوَى عَظُمَ قَلَقُهُ وَقَوِيَ خَوْفُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي نَفْيِ الشَّفَاعَةِ عَنِ الْمُذْنِبِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ قَالُوا نَفَى حُصُولَ شفيع لهم يطاع فوجب أن لا تحصل لَهُمْ هَذَا الشَّفِيعُ أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى نَفَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ شَفِيعٌ يُطَاعُ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الشَّفِيعِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ مَا عِنْدِي كِتَابٌ يُبَاعُ فَهَذَا يَقْتَضِي نَفْيَ كِتَابٍ يُبَاعُ وَلَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْكِتَابِ وَقَالَتِ الْعَرَبُ: وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ وَلَفْظُ الطَّاعَةِ يَقْتَضِي حُصُولَ الْمَرْتَبَةِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعٌ يُطِيعُهُ اللَّهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي

الْوُجُودِ أَحَدٌ أَعْلَى حَالًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ يُطِيعُهُ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الظَّالِمِينَ، هَاهُنَا الْكُفَّارُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي زَجْرِ الْكُفَّارِ/ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ الله فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِهِمْ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ لَا شَفَاعَةَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ لَفْظَ الظَّالِمِينَ، إِمَّا أَنْ يُفِيدَ الِاسْتِغْرَاقَ، وَإِمَّا أَنْ لَا يُفِيدَ فَإِنْ أَفَادَ الِاسْتِغْرَاقَ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الظَّالِمِينَ مَجْمُوعَهُمْ وَجُمْلَتَهُمْ وَيَدْخُلُ فِي مَجْمُوعِ هَذَا الْكَلَامِ الْكُفَّارُ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ لِهَذَا الْمَجْمُوعِ شَفِيعٌ لِأَنَّ بَعْضَ هَذَا الْمَجْمُوعِ هُمُ الْكُفَّارُ، وَلَيْسَ لَهُمْ شَفِيعٌ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِهَذَا الْمَجْمُوعِ شَفِيعٌ، وَإِنْ لَمْ يُفِدِ الِاسْتِغْرَاقَ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الظَّالِمِينَ بَعْضَ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَعِنْدَنَا أَنَّ بَعْضَ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَيْسَ لَهُمْ شَفِيعٌ وَهُمُ الْكُفَّارُ، أَجَابَ الْمُسْتَدِلُّونَ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ، فَقَالُوا يَجِبُ حَمْلُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَحْمَلٍ مُفِيدٍ وَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ يُطِيعُهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْمُطِيعَ أَدْوَنُ حَالًا مِنَ الْمُطَاعِ، وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ أَعْلَى مَرْتَبَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ يُطِيعُهُ وَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ كَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ إِخْرَاجًا لَهَا عَنِ الْفَائِدَةِ فَوَجَبَ حَمْلُ الطَّاعَةِ عَلَى الْإِجَابَةِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى وُرُودِ لَفْظِ الطَّاعَةِ بِمَعْنَى الْإِجَابَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: رُبَّ مَنْ أَنْضَجْتُ غَيْظًا صَدْرَهُ ... قَدْ تَمَنَّى لِي مَوْتًا لَمْ يُطَعْ أَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ لَفْظَ الظَّالِمِينَ صِيغَةُ جَمْعٍ دَخَلَ عَلَيْهَا حَرْفُ التَّعْرِيفِ فَيُفِيدُ الْعُمُومَ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ لِذَمِّ الْكُفَّارِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. أَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: فَجَوَابُهُ أَنَّ قَوْلَهُ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ يُفِيدُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الظَّالِمِينَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَمِيمٌ وَلَا شَفِيعٌ يُطَاعُ، فَهَذَا تَمَامُ كَلَامِ الْقَوْمِ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالِ. أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ فَقَالُوا إِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي الْأَصْنَامِ إِنَّهَا شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ وَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّهَا تَشْفَعُ لَنَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فِيهِ إِلَى إِذْنِ اللَّهِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَةِ: 255] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ إِجَابَةَ الْأَصْنَامِ فِي تِلْكَ الشَّفَاعَةِ، وَهَذَا نَوْعُ طَاعَةٍ، فَاللَّهُ تَعَالَى نَفَى تِلْكَ الطَّاعَةَ بِقَوْلِهِ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ وَأَجَابُوا عَنِ الْكَلَامِ الثَّانِي بِأَنْ قَالُوا الْأَصْلُ فِي حَرْفِ التَّعْرِيفِ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ، فَإِذَا دَخَلَ حَرْفُ التَّعْرِيفِ عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ، وَكَانَ هُنَاكَ مَعْهُودٌ سَابِقٌ انْصَرَفَ إِلَيْهِ، وَقَدْ حَصَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعْهُودٌ سَابِقٌ وَهُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَيْهِ وَأَجَابُوا عَنِ الْكَلَامِ الثَّالِثِ بِأَنْ قَالُوا قَوْلَهُ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ يَحْتَمِلُ عُمُومَ السَّلْبِ، وَيَحْتَمِلُ سَلْبَ الْعُمُومِ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الظَّالِمِينَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَمِيمٌ وَلَا شَفِيعٌ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ مَجْمُوعَ الظَّالِمِينَ لَيْسَ لَهُمْ حَمِيمٌ وَلَا شَفِيعٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْحُكْمِ عَنِ الْمَجْمُوعِ نَفْيُهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ وَالَّذِي يُؤَكِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَةِ: 6] فَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا يُؤْمِنُونَ، إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى أَنَّ كُلَّ/ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ لَزِمَ وُقُوعُ الْخُلْفِ فِي كَلَامِ اللَّهِ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ كَفَرَ فَقَدْ آمَنَ بَعْدَ ذَلِكَ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى أَنَّ مَجْمُوعَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا يُؤْمِنُونَ سَوَاءٌ آمَنَ بَعْضُهُمْ أَوْ لَمْ يُؤْمِنْ صَدَقَ وَتُخُلِّصَ عَنِ الْخُلْفِ، فَلَا جَرَمَ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى سَلْبِ الْعُمُومِ وَلَمْ نَحْمِلْهَا عَلَى عُمُومِ السَّلْبِ فَكَذَا قَوْلَهُ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يجب

حَمْلُهُ عَلَى سَلْبِ الْعُمُومِ لَا عَلَى عُمُومِ السلب، وحينئذ اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَهَذَا غَايَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي بَيَانِ نَظْمِ الْآيَةِ، فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَمِيعَ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْخَوْفِ فَأَوَّلُهَا: أَنَّهُ سَمَّى ذَلِكَ الْيَوْمَ يَوْمَ الْآزِفَةِ، أَيْ يَوْمَ الْقُرْبِ مِنْ عَذَابِهِ لِمَنِ ابْتُلِيَ بِالذَّنْبِ الْعَظِيمِ، لِأَنَّهُ إِذَا قَرُبَ زَمَانُ عُقُوبَتِهِ كَانَ فِي أَقْصَى غَايَاتِ الْخَوْفِ، حَتَّى قِيلَ إِنَّ تِلْكَ الْغُمُومَ وَالْهُمُومَ أَعْظَمُ فِي الْإِيحَاشِ مِنْ عَيْنِ تِلْكَ الْعُقُوبَةِ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ بَلَغَ ذَلِكَ الْخَوْفُ إِلَى أَنِ انْقَلَعَ الْقَلْبُ مِنَ الصَّدْرِ وَارْتَفَعَ إِلَى الْحَنْجَرَةِ وَالْتَصَقَ بِهَا وَصَارَ مَانِعًا مِنْ دُخُولِ النَّفَسِ وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ كاظِمِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُمَكِنُهُمْ أَنْ يَنْطِقُوا وَأَنْ يَشْرَحُوا مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْحُزْنِ وَالْخَوْفِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ مَزِيدَ الْقَلَقِ وَالِاضْطِرَابِ وَالرَّابِعُ: قَوْلَهُ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ قَرِيبٌ يَنْفَعُهُمْ، وَلَا شَفِيعٌ يُطَاعُ فِيهِمْ فَتُقْبَلُ شَفَاعَتَهُ وَالْخَامِسُ: قَوْلُهُ يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ، وَالْحَاكِمُ إِذَا بَلَغَ فِي الْعِلْمِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ كَانَ خَوْفُ الْمُذْنِبِ مِنْهُ شَدِيدًا جِدًّا، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْخَائِنَةُ صِفَةُ النَّظْرَةِ أَوْ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْخَائِنَةِ، كَالْعَافِيَةِ الْمُعَافَاةِ، وَالْمُرَادُ اسْتِرَاقُ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الرِّيَبِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ مُضْمَرَاتُ الْقُلُوبِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَفْعَالَ قِسْمَانِ: أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ وَأَفْعَالُ الْقُلُوبِ، أَمَّا أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ، فَأَخْفَاهَا خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا، فَكَيْفَ الْحَالُ فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ. وَأَمَّا أَفْعَالُ الْقُلُوبِ، فَهِيَ مَعْلُومَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ فَدَلَّ هَذَا عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ أَفْعَالِهِمْ السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَهَذَا أَيْضًا يُوجِبُ عِظَمَ الْخَوْفِ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَثَبَتَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَقْضِي إِلَّا بِالْحَقِّ فِي كُلِّ مَا دَقَّ وَجَلَّ، كَانَ خَوْفُ الْمُذْنِبِ مِنْهُ فِي الْغَايَةِ الْقُصْوَى السَّابِعُ: أَنَّ الْكُفَّارَ إِنَّمَا عَوَّلُوا فِي دَفْعِ الْعِقَابِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ عَلَى شَفَاعَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهَا الْبَتَّةَ، فَقَالَ: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ الثَّامِنُ: قَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أَيْ يَسْمَعُ مِنَ الْكُفَّارِ ثَنَاءَهُمْ عَلَى الْأَصْنَامِ، وَلَا يَسْمَعُ مِنْهُمْ ثَنَاءَهُمْ عَلَى اللَّهِ وَيُبْصِرُ خُضُوعَهُمْ وَسُجُودَهُمْ لَهُمْ، وَلَا يُبْصِرُ خُضُوعَهُمْ وَتَوَاضُعَهُمْ لِلَّهِ، فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ الثَّمَانِيَةُ إِذَا اجْتَمَعَتْ فِي حَقِّ الْمُذْنِبِ الَّذِي عَظُمَ ذَنْبُهُ كَانَ بَالِغًا فِي التَّخْوِيفِ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي لَا تُعْقَلُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ أَرْدَفَهُ بِبَيَانِ تَخْوِيفِهِمْ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا فَقَالَ: أَوَلَمْ/ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعَاقِلَ مَنِ اعْتَبَرَ بِغَيْرِهِ، فَإِنَّ الَّذِينَ مَضَوْا مِنَ الْكُفَّارِ كَانُوا أَشَدَّ قُوَّةً مِنْ هَؤُلَاءِ الْحَاضِرِينَ مِنَ الْكُفَّارِ، وَأَقْوَى آثَارًا فِي الْأَرْضِ مِنْهُمْ، وَالْمُرَادُ حُصُونُهُمْ وَقُصُورُهُمْ وَعَسَاكِرُهُمْ، فَلَمَّا كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِضُرُوبِ الْهَلَاكِ مُعَجِّلًا حَتَّى إِنَّ هَؤُلَاءِ الْحَاضِرِينَ مِنَ الْكُفَّارِ يُشَاهِدُونَ تِلْكَ الْآثَارَ، فَحَذَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ الْعَذَابُ بِهِمْ عِنْدَ أَخْذِهِ تَعَالَى لَهُمْ لَمْ يَجِدُوا مَنْ يُعِينُهُمْ وَيُخَلِّصُهُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ بِهِمْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ، فَحَذَّرَ قَوْمَ الرَّسُولَ مِنْ مِثْلِهِ، وَخَتَمَ الْكَلَامَ ب إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ مُبَالَغَةً فِي التَّحْذِيرِ وَالتَّخْوِيفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحْدَهُ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْكُمْ بِالْكَافِ، وَالْبَاقُونَ بِالْهَاءِ أَمَّا وَجْهُ قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ فَهُوَ انْصِرَافٌ

[سورة غافر (40) : الآيات 23 إلى 27]

مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، كَقَوْلِهِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ بعد قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالْوَجْهُ فِي حُسْنِ هَذَا الْخِطَابِ أَنَّهُ فِي شَأْنِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَجَعَلَ الْخِطَابَ عَلَى لَفْظِ الْمُخَاطَبِ الْحَاضِرِ لِحُضُورِهِمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ [الْأَنْعَامِ: 6] وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ عَلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ فَلِأَجْلِ مُوَافَقَةِ مَا قَبْلَهُ مِنْ أَلْفَاظِ الغيبة. [سورة غافر (40) : الآيات 23 الى 27] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا سَلَّى رَسُولَهُ بِذِكْرِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُ وَبِمُشَاهَدَةِ آثَارِهِمْ، سَلَّاهُ أَيْضًا بِذِكْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ مَعَ قُوَّةِ مُعْجِزَاتِهِ بَعَثَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَكَذَّبُوهُ وَكَابَرُوهُ، وَقَالُوا هُوَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا جَاءَهُمْ بِتِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ وَبِالنُّبُوَّةِ وَهِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْجَهَالَاتِ فَالْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ وَصَفُوهُ بِكَوْنِهِ سَاحِرًا كَذَّابًا، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ فِي الْقُوَّةِ وَالظُّهُورِ إِلَى حَيْثُ يَشْهَدُ كُلُّ ذِي عَقْلٍ سَلِيمٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ السِّحْرِ الْبَتَّةَ الثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الْقَتْلَ غَيْرُ الْقَتْلِ الَّذِي وَقَعَ فِي وَقْتِ وِلَادَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَخْبَرَهُ الْمُنَجِّمُونَ بِوِلَادَةِ عَدُوٍّ لَهُ يَظْهَرُ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْأَوْلَادِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأَمَّا فِي هَذَا الْوَقْتِ فَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ جَاءَهُ وَأَظْهَرَ الْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةَ، فَعِنْدَ هَذَا أَمَرَ بِقَتْلِ أَبْنَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ لِئَلَّا يَنْشَئُوا عَلَى دِينِ مُوسَى فَيَقْوَى بِهِمْ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْبَنِينَ دُونَ الْبَنَاتِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَمَرَ بِقَتْلِ الْأَبْنَاءِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ وَمَعْنَاهُ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَسْعَوْنَ فِيهِ مِنْ مُكَايَدَةِ مُوسَى وَمُكَايَدَةِ مَنْ آمَنِ مَعَهُ يَبْطُلُ، لِأَنَّ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا ممسك لها النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ قَبَائِحَ أَفْعَالِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَهَذَا الْكَلَامُ كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَمْنَعُونَهُ مِنْ قَتْلِهِ، وَفِيهِ احْتِمَالَانِ. وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ مَنَعُوهُ مِنْ قَتْلِهِ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: لَعَلَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعْتَقِدُ بِقَلْبِهِ كَوْنَ مُوسَى صَادِقًا، فَيَأْتِي بِوُجُوهِ الْحِيَلِ فِي مَنْعِ فِرْعَوْنَ مِنْ قَتْلِهِ الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ أَصْحَابَهُ قَالُوا لَهُ لَا تَقْتُلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ سَاحِرٌ ضَعِيفٌ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَغْلِبَ سَحَرَتَكَ، وَإِنْ قَتَلْتَهُ أَدْخَلْتَ الشُّبْهَةَ عَلَى النَّاسِ وَقَالُوا إِنَّهُ كَانَ مُحِقًّا وعجزوا عن

جَوَابِهِ فَقَتَلُوهُ الثَّالِثُ: لَعَلَّهُمْ كَانُوا يَحْتَالُونَ فِي مَنْعِهِ مِنْ قَتْلِهِ، لِأَجْلِ أَنْ يَبْقَى فِرْعَوْنُ مَشْغُولَ الْقَلْبِ بِمُوسَى فَلَا يَتَفَرَّغُ لِتَأْدِيبِ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ الْأُمَرَاءِ أَنْ يَشْغَلُوا قَلْبَ مَلِكِهِمْ بِخَصْمٍ خَارِجِيٍّ حَتَّى يَصِيرُوا آمَنِينَ مِنْ شَرِّ ذَلِكَ الْمَلِكِ. وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنَّ أَحَدًا مَا مَنَعَ فِرْعَوْنَ مِنْ قَتْلِ مُوسَى وَأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَهُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ خَائِفًا مِنْ أَنَّهُ لَوْ حَاوَلَ قَتْلَهُ لظهرت معجزات قاهرة تمنعه عن قَتْلِهِ فَيَفْتَضِحُ إِلَّا أَنَّهُ لِوَقَاحَتِهِ قَالَ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَغَرَضُهُ مِنْهُ أَنَّهُ إِنَّمَا امْتَنَعَ عَنْ قَتْلِهِ رِعَايَةً لِقُلُوبِ أَصْحَابِهِ وَغَرَضُهُ مِنْهُ إِخْفَاءُ خَوْفِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ فَإِنَّمَا ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ يَعْنِي أَنِّي أَقْتُلُهُ فَلْيَقُلْ لِرَبِّهِ حَتَّى يُخَلِّصَهُ مِنِّي. وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَتَحَ ابْنُ كَثِيرٍ الْيَاءَ مِنْ قَوْلِهِ ذَرُونِي وَفَتَحَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو/ الْيَاءَ مِنْ إِنِّي أَخَافُ وَأَيْضًا قَرَأَ نَافِعٌ وابن عمرو وأن يظهر بِالْوَاوِ وَبِحَذْفِ أَوْ، يَعْنِي أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ تَبْدِيلِ الدِّينِ وَبَيْنَ إِظْهَارِ الْمَفَاسِدِ، وَالَّذِينَ قَرَءُوا بِصِيغَةِ أَوْ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَقُرِئَ يُظْهِرَ بِضَمِّ الْيَاءِ وكسر الهاء والفساد بِالنَّصْبِ عَلَى التَّعْدِيَةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِلَفْظِ أَوْ يَظْهَرَ بِفَتْحِ الياء والهاء والفساد بِالرَّفْعِ، أَمَّا وَجْهُ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى فَهُوَ أَنَّهُ أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى مُوسَى فِي قَوْلِهِ يُبَدِّلَ فَكَذَلِكَ فِي يُظْهِرَ لِيَكُونَ الْكَلَامُ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا وَجْهُ الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ فَهُوَ أَنَّهُ إِذَا بَدَّلَ الدِّينَ فَقَدْ ظَهَرَ الْفَسَادُ الْحَاصِلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ بَيَانُ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِقَتْلِهِ وَهُوَ أَنَّ وَجُودَهُ يُوجِبُ إِمَّا فَسَادَ الدِّينِ أَوْ فَسَادَ الدُّنْيَا، أَمَّا فَسَادُ الدِّينِ فَلِأَنَّ الْقَوْمَ اعْتَقَدُوا أَنَّ الدِّينَ الصَّحِيحَ هُوَ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ مُوسَى سَاعِيًا فِي إِفْسَادِهِ كَانَ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ سَاعٍ فِي إِفْسَادِ الدِّينِ الْحَقِّ وَأَمَّا فَسَادُ الدُّنْيَا فَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَجْتَمِعَ عَلَيْهِ قَوْمٌ وَيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوعِ الْخُصُومَاتِ وَإِثَارَةِ الْفِتَنِ، وَلَمَّا كَانَ حُبُّ النَّاسِ لِأَدْيَانِهِمْ فَوْقَ حُبِّهِمْ لِأَمْوَالِهِمْ لَا جَرَمَ بَدَأَ فِرْعَوْنُ بِذِكْرِ الدِّينِ فَقَالَ: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ فَسَادِ الدُّنْيَا فَقَالَ: أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ فِرْعَوْنَ هَذَا الْكَلَامَ حَكَى بَعْدَهُ مَا ذَكَرَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَحَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ عُذْتُ بِإِدْغَامِ الذَّالِ فِي التَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِالْإِظْهَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي دَفْعِ شَرِّهِ إِلَّا بِأَنِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ، وَاعْتَمَدَ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ لَا جَرَمَ صَانَهُ اللَّهُ عَنْ كُلِّ بَلِيَّةٍ وَأَوْصَلَهُ إِلَى كل أمنية، وعلم أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَوَائِدَ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ لفظة إِنِّي تدل على التأكيد فهذا يدل عَلَى أَنَّ الطَّرِيقَ الْمُؤَكَّدَ الْمُعْتَبَرَ فِي دَفْعِ الشُّرُورِ وَالْآفَاتِ عَنِ النَّفْسِ الِاعْتِمَادُ عَلَى اللَّهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَى عِصْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ فَكَمَا أَنَّ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ يَقُولُ الْمُسْلِمُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَاللَّهُ تَعَالَى يَصُونُ دِينَهُ وَإِخْلَاصَهُ عَنْ وَسَاوِسِ شَيَاطِينِ الْجِنِّ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ توجه الآفات

[سورة غافر (40) : آية 28]

وَالْمَخَافَاتِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ إِذَا قَالَ الْمُسْلِمُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ فَاللَّهُ يَصُونُهُ عَنْ كُلِّ الْآفَاتِ والمخافات. الفائدة الثالثة: قوله بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ وَالْمَعْنَى كَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي رَبَّانِي وَإِلَى دَرَجَاتِ الْخَيْرِ رَقَّانِي، وَمِنَ الْآفَاتِ وَقَانِي، وَأَعْطَانِي نِعَمًا لَا حَدَّ لَهَا وَلَا حَصْرَ، فَلَمَّا كَانَ الْمَوْلَى لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ وَجَبَ أَنْ لَا يَرْجِعَ الْعَاقِلُ فِي دَفْعِ كُلِّ الْآفَاتِ إِلَّا إِلَى حِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَرَبِّكُمْ فِيهِ بَعْثٌ لِقَوْمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَنْ يَقْتَدُوا بِهِ فِي الِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْأَرْوَاحَ الطَّاهِرَةَ الْقَوِيَّةَ إِذَا تَطَابَقَتْ عَلَى هِمَّةٍ وَاحِدَةٍ قَوِيَ ذَلِكَ التَّأْثِيرُ جِدًّا، وَذَلِكَ هُوَ السَّبَبُ الْأَصْلِيُّ فِي أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ فِي الْجَمَاعَاتِ. الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِرْعَوْنَ فِي هَذَا الدُّعَاءِ، لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ سَبَقَ لَهُ حَقُّ تَرْبِيَةٍ عَلَى مُوسَى مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، فَتَرَكَ التَّعْيِينَ رِعَايَةً لِذَلِكَ الْحَقِّ. الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ فِرْعَوْنَ وَإِنْ كَانَ أَظْهَرَ ذَلِكَ الْفِعْلَ إِلَّا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الدُّعَاءِ عَلَى فِرْعَوْنَ بِعَيْنِهِ، بَلِ الْأَوْلَى الِاسْتِعَاذَةُ بِاللَّهِ فِي دَفْعِ كُلِّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِتِلْكَ الصِّفَةِ، حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ كُلُّ مَنْ كَانَ عَدُوًّا سَوَاءٌ كَانَ مُظْهِرًا لِتِلْكَ الْعَدَاوَةِ أَوْ كَانَ مُخْفِيًا لَهَا. الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْإِقْدَامِ عَلَى إِيذَاءِ النَّاسِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: كَوْنُ الْإِنْسَانِ مُتَكَبِّرًا قَاسِيَ الْقَلْبِ وَالثَّانِي: كَوْنُهُ مُنْكِرًا لِلْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التكبر الْقَاسِيَ قَدْ يَحْمِلُهُ طَبْعُهُ عَلَى إِيذَاءِ النَّاسِ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُقِرًّا بِالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ صَارَ خَوْفُهُ مِنَ الْحِسَابِ مَانِعًا لَهُ مِنَ الْجَرْيِ عَلَى مُوجِبِ تَكَبُّرِهِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ عِنْدَهُ الْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ كَانَتِ الطَّبِيعَةُ دَاعِيَةً لَهُ إِلَى الْإِيذَاءِ وَالْمَانِعُ وَهُوَ الْخَوْفُ مِنَ السُّؤَالِ وَالْحِسَابِ زَائِلًا، وَإِذَا كَانَ الْخَوْفُ مِنَ السُّؤَالِ وَالْحِسَابِ زَائِلًا فَلَا جَرَمَ تَحْصُلُ الْقَسْوَةُ وَالْإِيذَاءُ. الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا قَالَ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى قَالَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ فَقَالَ مُوسَى إِنَّ الَّذِي ذَكَرْتَهُ يَا فِرْعَوْنَ بِطَرِيقِ الِاسْتِهْزَاءِ هُوَ الدِّينُ الْمُبِينُ وَالْحَقُّ الْمُنِيرُ، وَأَنَا أَدْعُو رَبِّي وَأَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَدْفَعَ شَرَّكَ عَنِّي، وَسَتَرَى أَنَّ رَبِّي كَيْفَ يَقْهَرُكَ، وَكَيْفَ يُسَلِّطُنِي عَلَيْكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَحَاطَ عَقْلَهُ بِهَذِهِ الْفَوَائِدِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ أَصْلَحَ وَلَا أَصْوَبَ فِي دَفْعِ كَيْدِ الْأَعْدَاءِ وَإِبْطَالِ مَكْرِهِمْ إِلَّا الِاسْتِعَاذَةَ بِاللَّهِ والرجوع إلى حفظ الله والله أعلم. [سورة غافر (40) : آية 28] وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ مَا زَادَ فِي دَفْعِ مَكْرِ فِرْعَوْنَ وَشَرِّهِ عَلَى الِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ، بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى قَيَّضَ إِنْسَانًا أَجْنَبِيًّا غَيْرَ مُوسَى حَتَّى ذَبَّ عَنْهُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَبَالَغَ فِي تَسْكِينِ تِلْكَ الْفِتْنَةِ وَاجْتَهَدَ فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ الشَّرِّ. يَقُولُ مُصَنَّفُ هَذَا الْكِتَابِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَقَدْ جَرَّبْتُ فِي أَحْوَالِ نَفْسِي أَنَّهُ كُلَّمَا قَصَدَنِي شِرِّيرٌ بشر ولم أتعرض

لَهُ وَأَكْتَفِي بِتَفْوِيضِ ذَلِكَ الْأَمْرِ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُقَيِّضُ أَقْوَامًا لَا أَعْرِفُهُمُ الْبَتَّةَ، يُبَالِغُونَ فِي دَفْعِ ذَلِكَ الشَّرِّ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، فَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمٍّ لَهُ، وَكَانَ جَارِيًا مَجْرَى وَلِيِّ الْعَهْدِ وَمَجْرَى صَاحِبِ الشُّرَطَةِ، وَقِيلَ كَانَ قِبْطِيًّا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَمَا كَانَ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّ لَفْظَ الْآلِ يَقَعُ عَلَى الْقَرَابَةِ وَالْعَشِيرَةِ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ [القمر: 34] وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الصِّدِّيقُونَ ثَلَاثَةٌ: حَبِيبٌ النَّجَّارُ مُؤْمِنُ آلِ يَاسِينَ، وَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَالثَّالِثُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ أَفْضَلُهُمْ» وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ خَيْرًا مِنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُ كَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ جِهَارًا أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ فَكَانَ ذَلِكَ سِرًّا وَهَذَا كَانَ جِهَارًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَفْظُ مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ مُؤْمِنٌ أَيْ كَانَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنُ شَخْصًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ يَكْتُمُ إِيمانَهُ وَالتَّقْدِيرُ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَقِيلَ إِنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ غَيْرُ جَائِزٍ لأنه يُقَالُ كَتَمْتُ مِنْ فُلَانٍ كَذَا، إِنَّمَا يُقَالُ كَتَمْتُهُ كَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النِّسَاءِ: 42] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ الْأَكْثَرُونَ قرءوا بِضَمِّ الْجِيمِ وَقُرِئَ رَجِلٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ كَمَا يُقَالُ عَضِدٌ فِي عَضُدٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي هذا الكلام ما يدل على حسن ذلك الِاسْتِنْكَارِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَا زَادَ عَلَى أَنْ قَالَ: رَبِّيَ اللَّهُ وَجَاءَ بِالْبَيِّنَاتِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْقَتْلَ الْبَتَّةَ وَقَوْلُهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ رَبِّيَ اللَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَقَوْلَهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ إِشَارَةٌ إِلَى الدَّلَائِلَ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ طه [50] رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [24] رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنُ حُجَّةً ثَانِيَةً فِي أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى قَتْلِهِ غَيْرُ جَائِزٍ وَهِيَ حُجَّةٌ مَذْكُورَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ التَّقْسِيمِ، فَقَالَ إِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ كَاذِبًا كَانَ وَبَالُ كَذِبِهِ عَائِدًا عَلَيْهِ فَاتْرُكُوهُ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ، فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ كَانَ الْأَوْلَى إِبْقَاؤُهُ حَيًّا. فَإِنْ قِيلَ السُّؤَالُ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ مَعْنَاهُ أَنَّ ضَرَرَ كَذِبِهِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ وَلَا يَتَعَدَّاهُ، وَهَذَا الْكَلَامُ فَاسِدٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ كَاذِبًا كَانَ ضَرَرُ كَذِبِهِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ الدِّينِ الْبَاطِلِ، فَيَغْتَرُّ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، وَيَقَعُونَ فِي الْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ وَالِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ، ثُمَّ يَقَعُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمُ الْخُصُومَاتُ الْكَثِيرَةُ فَثَبَتَ أَنَّ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ كاذبا لم يمكن ضَرَرُ كَذِبِهِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، بَلْ كَانَ مُتَعَدِّيًا إِلَى الْكُلِّ، وَلِهَذَا السَّبَبِ الْعُلَمَاءُ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الزِّنْدِيقَ الَّذِي يَدْعُو النَّاسَ إِلَى زَنْدَقَتِهِ يَجِبُ قَتْلُهُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْكَلَامُ حُجَّةً لَهُ، فَلَا كَذَّابَ إِلَّا وَيُمْكِنُهُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، فَوَجَبَ تَمَكُّنُ جَمِيعِ الزَّنَادِقَةِ وَالْمُبْطِلِينَ مِنْ تَقْرِيرِ أَدْيَانِهِمُ الْبَاطِلَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا نُبُوَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُنْكِرُ كَاذِبًا فِي ذَلِكَ الْإِنْكَارِ فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، وَإِنْ يَكُ

[سورة غافر (40) : الآيات 29 إلى 33]

صَادِقًا انْتَفَعْتُمْ بِصِدْقِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ يُوجِبُ تَصْوِيبَ ضِدِّهُ، وَمَا أَفْضَى ثُبُوتُهُ إِلَى عَدَمِهِ كَانَ بَاطِلًا. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ يُقَالَ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ كُلُّ الَّذِي يَعِدُكُمْ لِأَنَّ الَّذِي يُصِيبُ فِي بَعْضِ مَا يَعِدُ دُونَ الْبَعْضِ هُمْ أَصْحَابُ الْكَهَانَةِ وَالنُّجُومِ، أَمَّا الرَّسُولُ الصَّادِقُ الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِالْوَحْيِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي كُلِّ مَا يَقُولُ فَكَانَ قَوْلُهُ يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ غَيْرَ لَائِقٍ بِهَذَا الْمَقَامِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَسْئِلَةِ الثَّلَاثَةِ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَا حَاجَةَ بِكُمْ فِي دَفْعِ شَرِّهِ إِلَى قَتْلِهِ بَلْ يَكْفِيكُمْ أَنْ تَمْنَعُوهُ عَنْ إِظْهَارِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ ثُمَّ تَتْرُكُوا قَتْلَهُ فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَحِينَئِذٍ لَا يَعُودُ ضَرَرُهُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَإِنْ يَكُ صَادِقًا انْتَفَعْتُمْ بِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ ذَلِكَ التَّقْسِيمِ بَيَانُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى قَتْلِهِ بَلْ يَكْفِيكُمْ أَنْ تُعْرِضُوا عَنْهُ وَأَنْ تَمْنَعُوهُ عَنْ إِظْهَارِ دِينِهِ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ [تَكُونُ] الْأَسْئِلَةُ الثَّلَاثَةُ مَدْفُوعَةً. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ يُصِبْكُمْ كُلُّ الَّذِي يَعِدُكُمْ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَدَارَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِظْهَارِ الْإِنْصَافِ وَتَرْكِ اللِّجَاجِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ إِنْ كَانَ كَاذِبًا كَانَ ضَرَرُ كَذِبِهِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَصِلَ إِلَيْكُمْ بَعْضُ مَا يَعِدُكُمْ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مَا ذُكِرَ صَحَّ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سَبَأٍ: 24] ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَتَوَعَّدُهُمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَبِعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا عَذَابُ الدُّنْيَا فَقَدْ أَصَابَهُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُهُمْ بِهِ، الْوَجْهُ الثَّالِثُ: حُكِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ قَالَ وُرُودُ لَفْظِ الْبَعْضِ بِمَعْنَى الْكُلِّ جَائِزٌ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ لَبِيدٍ: تَرَاكَ أَمْكِنَةٌ إِذَا لَمْ أَرْضَهَا ... أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضُ النُّفُوسِ حِمَامَهَا وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ خَطَأٌ، قَالُوا وَأَرَادَ لَبِيدٌ بِبَعْضِ النُّفُوسِ نَفْسَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا الْمُؤْمِنِ حِكَايَةً ثَالِثَةً فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِيذَاءُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فقال: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ وَتَقْرِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هَدَى مُوسَى إِلَى الْإِتْيَانِ بِهَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْمُعْجِزَاتِ لَا يَكُونُ مُسْرِفًا كَذَّابًا فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، فَكَانَ قَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ إِشَارَةً إِلَى عُلُوِّ شَأْنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى طَرِيقِ الرَّمْزِ وَالتَّعْرِيضِ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ فِرْعَوْنَ مُسْرِفٌ فِي عَزْمِهِ عَلَى قَتْلِ مُوسَى، كَذَّابٌ فِي إِقْدَامِهِ عَلَى ادِّعَاءِ الْإِلَهِيَّةِ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي مَنْ هَذَا شَأْنُهُ وَصِفَتُهُ، بَلْ يُبْطِلُهُ ويهدم أمره. [سورة غافر (40) : الآيات 29 الى 33] يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)

اعْلَمْ أَنَّ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ لَمَّا أَقَامَ أَنْوَاعَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِ مُوسَى، خَوَّفَهُمْ فِي ذَلِكَ بِعَذَابِ الله فقال: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ يَعْنِي قَدْ عَلَوْتُمُ النَّاسَ وَقَهَرْتُمُوهُمْ، فَلَا تُفْسِدُوا أَمْرَكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلَا تَتَعَرَّضُوا لِبَأْسِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ، فَإِنَّهُ لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، وإنما قال: يَنْصُرُنا وجاءَنا لِأَنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مِنْهُمْ وَأَنَّ الَّذِي يَنْصَحُهُمْ بِهِ هُوَ مُشَارِكٌ لَهُمْ فِيهِ، وَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنُ هَذَا الْكَلَامَ قالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى أَيْ لَا أُشِيرُ إِلَيْكُمْ/ بِرَأْيٍ سِوَى مَا ذَكَرْتُهُ أَنَّهُ يَجِبُ قَتْلُهُ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفِتْنَةِ وَما أَهْدِيكُمْ بِهَذَا الرَّأْيِ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ وَالصَّلَاحِ، ثُمَّ حَكَى تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ الْمُؤْمِنَ رَدَّ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى فِرْعَوْنَ فَقَالَ: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِ أَنَّهُ كَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، وَالَّذِي يَكْتُمُ كَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنَّ يَذْكُرَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مَعَ فِرْعَوْنَ، وَلِهَذَا السَّبَبِ حَصَلَ هَاهُنَا قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا قال: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى [غافر: 26] لَمْ يُصَرِّحْ ذَلِكَ الْمُؤْمِنُ بِأَنَّهُ عَلَى دِينِ مُوسَى، بَلْ أَوْهَمَ أَنَّهُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَعَلَى دِينِهِ، إِلَّا أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِي تَرْكَ قَتْلِ مُوسَى، لِأَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ إِلَّا الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ وَالْإِتْيَانُ بِالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْقَتْلَ، وَالْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِهِ يُوجِبُ الْوُقُوعَ فِي أَلْسِنَةِ النَّاسِ بِأَقْبَحِ الْكَلِمَاتِ، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يُؤَخَّرَ قَتْلُهُ وَأَنْ يُمْنَعَ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِنْ كَانَ كَاذِبًا كَانَ وَبَالُ كَذِبِهِ عَائِدًا إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا حَصَلَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غافر: 28] يَعْنِي أَنَّهُ إِنْ صَدَقَ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ إِثْبَاتِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ فَهُوَ لَا يَهْدِي الْمُسْرِفَ الْكَذَّابَ، فَأَوْهَمَ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ أَنَّهُ يُرِيدُ مُوسَى وَهُوَ إِنَّمَا كَانَ يَقْصِدُ بِهِ فِرْعَوْنَ، لِأَنَّ الْمُسْرِفَ الْكَذَّابَ هُوَ فِرْعَوْنُ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ كَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَوَّلًا، فَلَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى أَزَالَ الْكِتْمَانَ وَأَظْهَرَ كَوْنَهُ عَلَى دِينِ مُوسَى، وَشَافَهَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ هَذَا الْمُؤْمِنِ أَنْوَاعًا من الكلمات ذكرها لفرعون فالأول: قوله يَا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ وَالتَّقْدِيرُ مِثْلُ أَيَّامِ الْأَحْزَابِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ الْيَوْمَ إِلَى الْأَحْزَابِ وَفَسَّرَهُمْ بِقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، فَحِينَئِذٍ ظَهَرَ أَنَّ كُلَّ حِزْبٍ كَانَ لَهُ يَوْمٌ مُعَيَّنٌ فِي الْبَلَاءِ، فَاقْتَصَرَ مِنَ الْجَمْعِ عَلَى ذِكْرِ الْوَاحِدِ لِعَدَمِ الِالْتِبَاسِ، ثُمَّ فَسَّرَ قَوْلَهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ بِقَوْلِهِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَدَأْبُ هَؤُلَاءِ دُونَهُمْ فِي عملهم من الكفار وَالتَّكْذِيبِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَائِبًا وَدَائِمًا لَا يَفْتَرُونَ عَنْهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مُضَافٍ يُرِيدُ مِثْلَ جَزَاءِ دَأْبِهِمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ خَوَّفَهُمْ بِهَلَاكٍ مُعَجَّلٍ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ خَوَّفَهُمْ أَيْضًا بِهَلَاكِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ كَلِمَاتِ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ يَعْنِي أَنَّ تَدْمِيرَ أُولَئِكَ الْأَحْزَابِ كَانَ عَدْلًا، لِأَنَّهُمُ اسْتَوْجَبُوهُ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ لِلْأَنْبِيَاءِ، فَتِلْكَ الْجُمْلَةُ قَائِمَةٌ هَاهُنَا، فَوَجَبَ حُصُولُ الْحُكْمِ هَاهُنَا، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنْ يَظْلِمَ بَعْضُ الْعِبَادِ بَعْضًا، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ ظُلْمَ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ، فَلَوْ خَلَقَ الْكُفْرَ فِيهِمْ ثُمَّ عَذَّبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ لَكَانَ ظَالِمًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الظُّلْمَ الْبَتَّةَ ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ خَالِقٍ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ، لِأَنَّهُ لَوْ خَلَقَهَا لَأَرَادَهَا، وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الظُّلْمِ، إِذْ لو

[سورة غافر (40) : الآيات 34 إلى 35]

لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ لَمَا حَصَلَ الْمَدْحُ بِتَرْكِ/ الظُّلْمِ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا فِي هَذَا الْكِتَابِ مَعَ الْجَوَابِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ كَلِمَاتِ هَذَا الْمُؤْمِنِ قَوْلُهُ وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّنَادِي تَفَاعُلٌ مِنَ النِّدَاءِ، يُقَالُ تَنَادَى الْقَوْمُ، أَيْ نَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْأَصْلُ الْيَاءُ وَحَذْفُ الْيَاءِ حَسَنٌ فِي الْفَوَاصِلِ، وَذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي يَوْمَ التَّلاقِ [غافر: 15] وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَفِي سَبَبِ تَسْمِيَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِذَلِكَ الِاسْمِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يُنَادُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ، وَأَهْلَ الْجَنَّةِ يُنَادُونَ أَهْلَ النَّارِ، كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَافِ: 50] ، وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ [الأعراف: 44] الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الْإِسْرَاءِ: 71] ، الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُنَادِي بَعْضُ الظالمين بعضا بالويل والثبور فيقولون يا وَيْلَنا، [الْأَنْبِيَاءِ: 14] ، الرَّابِعُ: يُنَادَوْنَ إِلَى الْمَحْشَرِ، أَيْ يُدْعَوْنَ الخامس: ينادي المؤمن هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة: 19] والكافر يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ [الْحَاقَّةِ: 25] ، السَّادِسُ: يُنَادَى بِاللَّعْنَةِ عَلَى الظَّالِمِينَ السَّابِعُ: يُجَاءُ بِالْمَوْتِ عَلَى صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، ثُمَّ يُذْبَحُ وَيُنَادَى يَا أَهْلَ الْقِيَامَةِ لَا مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا عَلَى فَرَحِهِمْ، وَأَهْلُ النَّارِ حُزْنًا عَلَى حُزْنِهِمْ الثَّامِنُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: التَّنَادِي مُشْتَقٌّ مِنَ التَّنَادِّ، مِنْ قَوْلِهِمْ نَدَّ فُلَانٌ إِذَا هَرَبَ، وَهُوَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفَسَّرَهَا، فَقَالَ يَنِدُّونَ كَمَا تَنِدُّ الْإِبِلُ، وَيَدُلُ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [عَبَسَ: 34] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ لِأَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا زَفِيرَ النَّارِ يَنِدُّونَ هَارِبِينَ، فَلَا يَأْتُونَ قُطْرًا مِنَ الْأَقْطَارِ إِلَّا وَجَدُوا مَلَائِكَةً صُفُوفًا، فَيَرْجِعُونَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: انْتَصَبَ قَوْلُهُ يَوْمَ التَّنادِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: الظَّرْفُ لِلْخَوْفِ، كَأَنَّهُ خَافَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ- عَذَابَ- يَوْمِ التَّنَادِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ انْتِصَابُ يَوْمٍ انْتِصَابَ الْمَفْعُولِ بِهِ، لَا انْتِصَابَ الظَّرْفِ، لِأَنَّ إِعْرَابَهُ إِعْرَابُ الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ، ثُمَّ قَالَ: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ يَوْمَ التَّنادِ عَنْ قَتَادَةَ: مُنْصَرِفِينَ عَنْ مَوْقِفِ يَوْمِ الْحِسَابِ إِلَى النَّارِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: فَارِّينَ عَنِ النَّارِ غَيْرَ مُعْجِزِينَ، ثُمَّ أَكَّدَ التَّهْدِيدَ فَقَالَ: مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى قُوَّةِ ضَلَالَتِهِمْ وَشِدَّةِ جَهَالَتِهِمْ فَقَالَ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ. [سورة غافر (40) : الآيات 34 الى 35] وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَاعْلَمْ أَنَّ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ لَمَّا قَالَ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [غافر: 33] ذَكَرَ لِهَذَا مَثَلًا، وَهُوَ أَنَّ يُوسُفَ لَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ الْبَاهِرَةِ فَأَصَرُّوا عَلَى الشَّكِّ وَالشُّبْهَةِ، وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِتِلْكَ الدَّلَائِلَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قِيلَ إِنَّ يُوسُفَ هَذَا هُوَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَنَقَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ يُوسُفُ بْنُ أَفْرَايِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ أَقَامَ فِيهِمْ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ إِنَّ فِرْعَوْنَ مُوسَى هُوَ فِرْعَوْنُ يُوسُفَ بَقِيَ حَيًّا إِلَى زَمَانِهِ وَقِيلَ فِرْعَوْنُ آخَرُ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكُلِّ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ يُوسُفَ جَاءَ قَوْمَهُ بِالْبَيِّنَاتِ، وَفِي الْمُرَادِ بِهَا قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيِّنَاتِ قَوْلُهُ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يُوسُفَ: 39] ، وَالثَّانِي: الْمُرَادُ بِهَا الْمُعْجِزَاتُ، وَهَذَا أَوْلَى، ثُمَّ إِنَّهُمْ بَقُوا فِي نُبُوَّتِهِ شَاكِّينَ مُرْتَابِينَ، وَلَمْ يَنْتَفِعُوا الْبَتَّةَ بِتِلْكَ الْبَيِّنَاتِ، فَلَمَّا مَاتَ قَالُوا إِنَّهُ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا وَإِنَّمَا حَكَمُوا بِهَذَا الْحُكْمِ عَلَى سَبِيلِ التَّشَهِّي وَالتَّمَنِّي مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ، بَلْ إِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَسَاسًا لَهُمْ فِي تَكْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يَأْتُونَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا لِأَجْلِ تَصْدِيقِ رِسَالَةِ يُوسُفَ وَكَيْفَ وَقَدْ شَكُّوا فِيهَا وَكَفَرُوا بِهَا وَإِنَّمَا هُوَ تَكْذِيبٌ لِرِسَالَةِ مَنْ هُوَ بَعْدَهُ مَضْمُومًا إِلَى تَكْذِيبِ رِسَالَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ أَيْ مِثْلُ هَذَا الضَّلَالِ يُضِلُّ اللَّهُ كُلَّ مُسْرِفٍ فِي عِصْيَانِهِ مُرْتَابٍ فِي دِينِهِ، قَالَ الْكَعْبِيُّ هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ لِأَهْلِ الْقَدَرِ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كُفْرَهُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَضَلَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ مُسْرِفِينَ مُرْتَابِينَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ مَا لَمْ يَضِلَّ عَنِ الدِّينِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُضِلُّهُ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا لِأَجْلِهِ بَقُوا فِي ذَلِكَ الشَّكِّ وَالْإِسْرَافِ فَقَالَ: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَيْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، بَلْ إِمَّا بِنَاءً عَلَى التَّقْلِيدِ الْمُجَرَّدِ، وَإِمَّا بِنَاءً عَلَى شُبُهَاتٍ خَسِيسَةٍ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَالْمَقْتُ هُوَ أَنْ يَبْلُغَ الْمَرْءُ فِي الْقَوْمِ مَبْلَغًا عَظِيمًا فَيَمْقُتَهُ اللَّهُ وَيَبْغَضَهُ وَيُظْهِرَ خِزْيَهُ وَتَعْسَهُ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي ذَمِّهِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ يُجَادِلُونَ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْجِدَالَ بِالْحُجَّةِ حَسَنٌ وَحَقٌّ وَفِيهِ إِبْطَالٌ لِلتَّقْلِيدِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي مَقْتُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُمْ لَيْسَ بِخَلْقِ اللَّهِ لِأَنَّ كَوْنَهُ فَاعِلًا لِلْفِعْلِ وَمَاقِتًا لَهُ مُحَالٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَدْ يَمْقُتُ بَعْضَ عِبَادِهِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ صِفَةٌ وَاجِبَةُ التَّأْوِيلِ فِي حَقِّ اللَّهِ كَالْغَضَبِ وَالْحَيَاءِ وَالتَّعَجُّبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْمَقْتَ كَمَا حَصَلَ عِنْدَ اللَّهِ فَكَذَلِكَ قَدْ حَصَلَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا. ثُمَّ قَالَ: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَقُتَيْبَةُ عَنِ الْكِسَائِيِّ قَلْبٍ مُنَوَّنًا مُتَكَبِّرٍ صِفَةً لِلْقَلْبِ وَالْبَاقُونَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ عَلَى إِضَافَةِ الْقَلْبِ إِلَى الْمُتَكَبِّرِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الِاخْتِيَارُ الْإِضَافَةُ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَرَأَ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ وَهُوَ شَاهِدٌ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ الثَّانِي: أَنَّ وَصْفَ الْإِنْسَانِ بِالتَّكَبُّرِ وَالْجَبَرُوتِ أَوْلَى مِنْ وَصْفِ الْقَلْبِ بِهِمَا، وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا بِالتَّنْوِينِ فَقَالُوا إِنَّ الْكِبْرَ قَدْ أُضِيفَ إِلَى الْقَلْبِ فِي قَوْلِهِ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ [غَافِرٍ: 56] وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [الْبَقَرَةٍ: 283] وَأَيْضًا فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ عَلَى كُلِّ ذِي قَلْبٍ مُتَكَبِّرٍ، وَأَيْضًا قَالَ قَوْمٌ الْإِنْسَانُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ الْقَلْبُ وَهَذَا الْبَحْثُ طَوِيلٌ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ

[سورة غافر (40) : الآيات 36 إلى 37]

قَوْلِهِ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: 193، 194] قَالُوا وَمَنْ أَضَافَ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَقْدِيرِ حَذْفٍ، وَالتَّقْدِيرُ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قَلْبِ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْكَلَامُ فِي الطَّبْعِ وَالرَّيْنِ وَالْقَسْوَةِ وَالْغِشَاوَةِ قَدْ سَبَقَ فِي هَذَا الْكِتَابِ بِالِاسْتِقْصَاءِ، وَأَصْحَابُنَا يَقُولُونَ قَوْلُهُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ وَالْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ إِنَّ قَوْلَهُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الطَّبْعَ إِنَّمَا حَصَلَ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي نَفْسِهِ مُتَكَبِّرًا جَبَّارًا وَعِنْدَ هَذَا تَصِيرُ الْآيَةُ حُجَّةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ وَجْهٍ، وَعَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَالْقَوْلُ الَّذِي يُخَرَّجُ عَلَيْهِ الْوَجْهَانِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ دَوَاعِيَ الْكِبْرِ وَالرِّيَاسَةِ فِي الْقَلْبِ، فَتَصِيرُ تِلْكَ الدَّوَاعِي مَانِعَةً مِنْ حُصُولِ مَا يَدْعُونَ إِلَى الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ بِالْقَضَاءِ والقدر حيا وَيَكُونُ تَعْلِيلُ الصَّدِّ عَنِ الدِّينِ بِكَوْنِهِ مُتَجَبِّرًا مُتَكَبِّرًا بَاقِيًا، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فِي الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ هُوَ الَّذِي يَنْطَبِقُ لَفْظُ الْقُرْآنِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُتَكَبِّرِ وَالْجَبَّارِ، قَالَ مُقَاتِلٌ مُتَكَبِّرٍ عَنْ قَبُولِ التَّوْحِيدِ جَبَّارٍ فِي غَيْرِ حَقٍّ، وَأَقُولُ كَمَالُ السَّعَادَةِ فِي أَمْرَيْنِ التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ فَعَلَى قَوْلِ مُقَاتِلٍ التَّكَبُّرُ كَالْمُضَادِّ لِلتَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالْجَبَرُوتُ كَالْمُضَادِّ للشفقة على خلق الله والله أعلم. [سورة غافر (40) : الآيات 36 الى 37] وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37) [في قوله تعالى وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ فِرْعَوْنَ بِكَوْنِهِ مُتَكَبِّرًا جَبَّارًا بَيَّنَ أَنَّهُ أَبْلَغَ فِي الْبَلَادَةِ والحماقة إلى أن قصد الصعود إلى السموات، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ مِنَ الْمُشَبِّهَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أن الله في السموات وَقَرَّرُوا ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ مِنَ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ اللَّهِ، وَكُلُّ مَا يَذْكُرُهُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَذَلِكَ إِنَّمَا يَذْكُرُهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَّ مُوسَى يَصِفُ اللَّهَ بِذَلِكَ، فَهُوَ أَيْضًا يَذْكُرُهُ كَمَا سَمِعَهُ، فَلَوْلَا أَنَّهُ سَمِعَ مُوسَى يَصِفُ اللَّهَ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَّا لَمَا طَلَبَهُ فِي السَّمَاءِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي مَاذَا، وَالْمَذْكُورُ السَّابِقُ مُتَعَيِّنٌ لِصَرْفِ الْكَلَامِ إِلَيْهِ فَكَأَنَّ التَّقْدِيرَ فَأَطَّلِعَ إِلَى الْإِلَهِ الَّذِي يَزْعُمُ مُوسَى أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً أَيْ وَإِنِّي لَأَظُنُّ مُوسَى كَاذِبًا فِي ادِّعَائِهِ أَنَّ الْإِلَهَ مَوْجُودٌ فِي السَّمَاءِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دِينَ مُوسَى هُوَ أَنَّ الْإِلَهَ مَوْجُودٌ فِي السَّمَاءِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: الْعِلْمُ بِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ إِلَهٌ لَكَانَ مَوْجُودًا فِي السَّمَاءِ عِلْمٌ بَدِيهِيٌّ مُتَقَرِّرٌ فِي كُلِّ الْعُقُولِ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الصِّبْيَانَ إِذَا تَضَرَّعُوا إِلَى اللَّهِ رَفَعُوا وُجُوهَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ، وَإِنَّ فِرْعَوْنَ مَعَ نِهَايَةِ كُفْرِهِ لَمَّا طَلَبَ الْإِلَهَ فَقَدْ طَلَبَهُ فِي السَّمَاءِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْإِلَهَ مَوْجُودٌ فِي السَّمَاءِ عِلْمٌ مُتَقَرِّرٌ فِي عَقْلِ الصِّدِّيقِ وَالزِّنْدِيقِ وَالْمُلْحِدِ والموحد وَالْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ. فَهَذَا جُمْلَةُ اسْتِدْلَالَاتِ الْمُشَبِّهَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالَ يَكْفِيهِمْ فِي كَمَالِ الْخِزْيِ وَالضَّلَالِ أَنْ جَعَلُوا قَوْلَ فِرْعَوْنَ اللَّعِينَ حُجَّةً لَهُمْ عَلَى صِحَّةِ دِينِهِمْ، وَأَمَّا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ لَمْ يَزِدْ فِي

تَعْرِيفِ إِلَهِ الْعَالَمِ عَلَى ذِكْرِ صِفَةِ الْخَلَّاقِيَّةِ فَقَالَ فِي سُورَةِ طه رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] وَقَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ... رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما [الشُّعَرَاءِ: 26، 28] فَظَهَرَ أَنَّ تَعْرِيفَ ذَاتِ اللَّهِ بِكَوْنِهِ فِي السَّمَاءِ دِينُ فِرْعَوْنَ وَتَعْرِيفَهُ بِالْخَلَّاقِيَّةِ وَالْمَوْجُودِيَّةِ دِينُ مُوسَى، فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ كَانَ عَلَى دِينِ فِرْعَوْنَ، وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي كَانَ عَلَى دِينِ مُوسَى، ثُمَّ نَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَقُولُهُ فِرْعَوْنُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَذَلِكَ قَدْ سَمِعَهُ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَلْ لَعَلَّهُ كَانَ عَلَى دِينِ الْمُشَبِّهَةِ فَكَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِلَهَ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَكَانَ حَاصِلًا فِي السَّمَاءِ، فَهُوَ إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الِاعْتِقَادَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ لَا لِأَجْلِ أَنَّهُ قَدْ سَمِعَهُ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً فَنَقُولُ لَعَلَّهُ لَمَّا سَمِعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ظن أنه عنى به أنه رب السموات، كَمَا يُقَالُ لِلْوَاحِدِ مِنَّا إِنَّهُ رَبُّ الدَّارِ بِمَعْنَى كَوْنِهِ سَاكِنًا فِيهِ، فَلَمَّا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ حَكَى عَنْهُ، وَهَذَا لَيْسَ بِمُسْتَبْعَدٍ، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ بَلَغَ فِي الْجَهْلِ وَالْحَمَاقَةِ إِلَى حَيْثُ لَا يَبْعُدُ نِسْبَةُ هَذَا الْخَيَالِ إِلَيْهِ، فَإِنِ اسْتَبْعَدَ الْخَصْمُ نِسْبَةَ هَذَا الْخَيَالِ إِلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ لَائِقًا بِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا عَلَى دِينِ فِرْعَوْنَ وَجَبَ عَلَيْهِمْ تَعْظِيمُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ فِطْرَةَ فِرْعَوْنَ شَهِدَتْ بِأَنَّ الْإِلَهَ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَكَانَ فِي السَّمَاءِ، قُلْنَا نَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ فِطْرَةَ أَكْثَرِ النَّاسِ تُخَيِّلُ إِلَيْهِمْ صِحَّةَ ذَلِكَ لَا سِيَّمَا مَنْ بَلَغَ فِي الْحَمَاقَةِ إِلَى دَرَجَةِ فِرْعَوْنَ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ سَاقِطٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ فِرْعَوْنَ هَلْ قَصَدَ بِنَاءَ الصَّرْحِ لِيَصْعَدَ مِنْهُ إِلَى السَّمَاءِ أَمْ لَا؟ أَمَّا الظَّاهِرِيُّونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَقَدْ قَطَعُوا بِذَلِكَ، وَذَكَرُوا حِكَايَةً طَوِيلَةً فِي كَيْفِيَّةِ بِنَاءِ ذَلِكَ الصَّرْحِ، وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ بَعِيدٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ فِرْعَوْنُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمَجَانِينِ أَوْ كَانَ مِنَ الْعُقَلَاءِ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمَجَانِينِ لَمْ يَجُزْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِرْسَالُ الرَّسُولِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطٌ فِي التَّكْلِيفِ، وَلَمْ يَجُزْ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَذْكُرَ حِكَايَةَ كَلَامِ مَجْنُونٍ فِي الْقُرْآنِ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْعُقَلَاءِ فَنَقُولُ إِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ بِبَدِيهَةِ عَقْلِهِ أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ وَضْعُ بِنَاءٍ يَكُونُ أَرْفَعَ مِنَ الْجَبَلِ الْعَالِي، وَيَعْلَمُ أَيْضًا بِبَدِيهَةِ عَقْلِهِ أَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ فِي الْبَصَرِ حَالُ السَّمَاءِ بَيْنَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ مِنْ أَسْفَلِ الْجِبَالِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ مِنْ أَعْلَى الْجِبَالِ، وَإِذَا كَانَ هَذَانِ الْعِلْمَانِ بَدِيهِيَّيْنِ امْتَنَعَ أَنْ يَقْصِدَ الْعَاقِلُ وَضْعَ بِنَاءٍ يَصْعَدُ مِنْهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَإِذَا كَانَ فَسَادُ هَذَا مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ امْتَنَعَ إِسْنَادُهُ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَالَّذِي عِنْدِي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ مِنَ الدَّهْرِيَّةِ وَغَرَضُهُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ إِيرَادُ شُبْهَةٍ فِي نَفْيِ الصَّانِعِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّا لَا نَرَى شَيْئًا نَحْكُمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إِلَهُ الْعَالَمِ فَلَمْ يَجُزْ إِثْبَاتُ هَذَا الْإِلَهِ، أَمَّا إِنَّهُ لَا نَرَاهُ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَكَانَ فِي السَّمَاءِ وَنَحْنُ لَا سَبِيلَ لنا إلى صعود السموات فَكَيْفَ يُمْكِنُنَا أَنْ نَرَاهُ، ثُمَّ إِنَّهُ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ صُعُودُ السموات قال يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمَّا عَرَفَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ مُمْتَنِعٌ كَانَ الْوُصُولُ إِلَى مَعْرِفَةِ وُجُودِ اللَّهِ بِطَرِيقِ الْحِسِّ مُمْتَنِعًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ [الْأَنْعَامِ: 35] وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَبَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ وَضَعَ سُلَّمًا إِلَى السَّمَاءِ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا عُرِفَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُمْتَنِعٌ فَقَدْ عُرِفَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَكَ إِلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ، فَكَذَا هَاهُنَا غَرَضُ فِرْعَوْنَ من قوله يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً يَعْنِي أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى إِلَهِ مُوسَى لَمَّا كَانَ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَكَانَ هَذَا الطَّرِيقُ مُمْتَنِعًا،

فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْإِلَهِ الَّذِي يُثْبِتُهُ مُوسَى فَنَقُولُ هَذَا مَا حَصَّلْتُهُ فِي هَذَا الْبَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ طُرُقَ الْعِلْمِ ثَلَاثَةٌ الْحِسُّ وَالْخَبَرُ وَالنَّظَرُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ انْتِفَاءِ طَرِيقٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْحِسُّ انْتِفَاءَ الْمَطْلُوبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ بَيَّنَ لِفِرْعَوْنَ/ أَنَّ الطَّرِيقَ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ الْحُجَّةُ وَالدَّلِيلُ كَمَا قَالَ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ... رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الشُّعَرَاءِ: 26، 28] إِلَّا أَنَّ فِرْعَوْنَ لِخُبْثِهِ وَمَكْرِهِ تَغَافَلَ عَنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَأَلْقَى إِلَى الْجُهَّالِ أَنَّهُ لَمَّا كان لا طريق إلى الْإِحْسَاسُ بِهَذَا الْإِلَهِ وَجَبَ نَفْيُهُ، فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ جَوَاهِرَ الْأَفْلَاكِ وَحَرَكَاتِهَا بِحَيْثُ تَكُونُ هِيَ الْأَسْبَابُ لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَيْسَتْ أَسْبَابًا إِلَّا لِحَوَادِثِ هَذَا الْعَالَمِ قَالُوا وَيُؤَكِّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ ص فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ [ص: 10] أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ أَنَّ المراد بأسباب السموات طُرُقُهَا وَأَبْوَابُهَا وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهَا، وَكُلُّ مَا أَدَّاكَ إِلَى شَيْءٍ فَهُوَ سَبَبٌ كَالرَّشَادِ وَنَحْوِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْيَهُودُ أَطْبَقَ الْبَاحِثُونَ عَنْ تَوَارِيخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَفِرْعَوْنَ أَنَّ هَامَانَ مَا كَانَ مَوْجُودًا الْبَتَّةَ فِي زَمَانِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ وَإِنَّمَا جَاءَ بَعْدَهُمَا بِزَمَانٍ مَدِيدٍ وَدَهْرٍ دَاهِرٍ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّ هَامَانَ كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَانِ فِرْعَوْنَ خَطَأٌ فِي التَّارِيخِ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ وُجُودَ شَخْصٍ يُسَمَّى بِهَامَانَ بَعْدَ زَمَانِ فِرْعَوْنَ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُودِ شَخْصٍ آخَرَ يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ فِي زَمَانِهِ، قَالُوا لِأَنَّ هَذَا الشَّخْصَ الْمُسَمَّى بِهَامَانَ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَانِ فِرْعَوْنَ مَا كَانَ شَخْصًا خَسِيسًا فِي حَضْرَةِ فِرْعَوْنَ بَلْ كَانَ كَالْوَزِيرِ لَهُ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّخْصِ لَا يَكُونُ مَجْهُولَ الْوَصْفِ وَالْحِلْيَةِ فَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَعُرِفَ حَالُهُ، وَحَيْثُ أَطْبَقَ الْبَاحِثُونَ عَنْ أَحْوَالِ فِرْعَوْنَ وَمُوسَى أَنَّ الشَّخْصَ الْمُسَمَّى بِهَامَانَ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَانِ فِرْعَوْنَ وَإِنَّمَا جَاءَ بَعْدَهُ بِأَدْوَارٍ علم أن غَلَطٌ وَقَعَ فِي التَّوَارِيخِ، قَالُوا وَنَظِيرُ هَذَا أَنَّا نَعْرِفُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إِنَّمَا جَاءَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ أَنَّ قَائِلًا ادَّعَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَزَعَمَ أَنَّهُ شَخْصٌ آخَرُ سِوَى الْأَوَّلِ وَهُوَ أَيْضًا يُسَمَّى بِأَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ أَصْحَابَ التَّوَارِيخِ يَقْطَعُونَ بِخَطَئِهِ فَكَذَا هَاهُنَا وَالْجَوَابُ: أَنَّ تَوَارِيخَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ قَدْ طَالَ الْعَهْدُ بِهَا وَاضْطَرَبَتِ الْأَحْوَالُ وَالْأَدْوَارُ فَلَمْ يَبْقَ عَلَى كَلَامِ أَهْلِ التَّوَارِيخِ اعْتِمَادٌ فِي هَذَا الْبَابِ، فكان الأخذ بقول الله أَوْلَى بِخِلَافِ حَالِ رَسُولِنَا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ هَذِهِ التَّوَارِيخَ قَرِيبَةٌ غَيْرُ مُضْطَرِبَةٍ بَلْ هِيَ مَضْبُوطَةٌ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَبَاحِثِ الْمَعْنَوِيَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَقِيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَبَاحِثِ اللَّفْظِيَّةِ. قِيلَ الصرح البناء الظاهر الذي لَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ وَإِنْ بَعُدَ، اشْتَقُّوهُ من صرح الشيء إذا ظهر وأَسْبابَ السَّماواتِ طُرُقُهَا، فَإِنْ قِيلَ مَا فَائِدَةُ هَذَا التكرير. ولو قيل: لعلي أبلغ الأسباب السموات، كَانَ كَافِيًا؟ أَجَابَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنْهُ فَقَالَ: إِذَا أُبْهِمَ الشَّيْءُ ثُمَّ أُوضِحَ كَانَ تَفْخِيمًا لشأنه، فلما أراد تفخيم أسباب السموات أَبْهَمَهَا ثُمَّ أَوْضَحَهَا، وَقَوْلُهُ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى قَرَأَ حَفْصٌ/ عَنْ عَاصِمٍ فَأَطَّلِعَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: مَنْ رَفَعَ فَقَدْ عَطَفَهُ عَلَى قَوْلِهِ أَبْلُغُ وَالتَّقْدِيرُ لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ثُمَّ أَطَّلِعُ إِلَّا أَنَّ حَرْفَ ثُمَّ أَشَدُّ تَرَاخِيًا مِنَ الْفَاءِ، وَمَنْ نَصَبَ جَعَلَهُ جَوَابًا، وَالْمَعْنَى لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ فَمَتَى بَلَغْتُهَا أَطَّلِعُ وَالْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ: لَعَلِّي أطلع والثاني: لعلي أبلغ وأنا ضامر أَنِّي مَتَى بَلَغْتُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ أَطَّلِعَ.

[سورة غافر (40) : الآيات 38 إلى 44]

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْقِصَّةَ قَالَ بَعْدَهَا وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَصُدَّ بِضَمِّ الصَّادِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَبِهِ يُقْرَأُ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ فِعْلٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ بِهِ فَجَعَلَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِثْلُهُ، وَالْبَاقُونَ وَصَدَّ بِفَتْحِ الصَّادِ عَلَى أَنَّهُ مَنَعَ النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ، قَالُوا وَمِنْ صَدِّهِ قَوْلُهُ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ [الْأَعْرَافِ: 124] وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ قَوْلُهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [النساء: 167] وَقَوْلُهُ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْفَتْحِ: 25] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: زُيِّنَ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْمُزَيِّنِ، فَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّهُ الشَّيْطَانُ، فَقِيلَ لَهُمْ إِنْ كَانَ الْمُزَيِّنُ لِفِرْعَوْنَ هُوَ الشَّيْطَانُ، فَالْمُزَيِّنُ لِلشَّيْطَانِ إِنْ كَانَ شَيْطَانًا آخَرَ لَزِمَ إِثْبَاتُ التَّسَلْسُلِ فِي الشَّيَاطِينِ أَوِ الدَّوْرِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ وَجَبَ انْتِهَاءُ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ فِي دَرَجَاتِ الْحَاجَاتِ إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ زُيِّنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي اعْتِقَادِ الْفَاعِلِ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ خَيْرٌ وَزِينَةٌ وَحُسْنٌ فَإِنَّهُ لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ إِنْ كَانَ صَوَابًا فَهُوَ الْعِلْمُ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَهُوَ الْجَهْلُ، فَفَاعِلُ ذَلِكَ الْجَهْلِ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَقْصِدُ تَحْصِيلَ الْجَهْلِ لِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقْصِدُ تَحْصِيلَ الْجَهْلِ لِنَفْسِهِ إِذَا عَرَفَ كَوْنَهُ جَهْلًا، وَمَتَى عَرَفَ كَوْنَهُ جَهْلًا امْتَنَعَ بَقَاؤُهُ جَاهِلًا، فَثَبَتَ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ الْجَهْلِ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ هُوَ الشَّيْطَانُ، لِأَنَّ الْبَحْثَ الْأَوَّلَ بِعَيْنِهِ عَائِدٌ فِيهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُقَوِّي مَا قُلْنَاهُ أَنَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» نَقَلَ أَنَّهُ قُرِئَ وَزَيَّنَ لَهُ سُوءَ عَمَلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَالْفِعْلُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ إِلى إِلهِ مُوسى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ وَالتَّبَابُ الْهَلَاكُ وَالْخُسْرَانُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هُودٍ: 101] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: 1] والله أعلم. [سورة غافر (40) : الآيات 38 الى 44] وَقالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) وَيا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44)

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ الَّذِي آمَنَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَقَدْ كَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِمُوسَى وَالتَّمَسُّكِ بِطَرِيقَتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ نَادَى فِي قَوْمِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى دَعَاهُمْ إِلَى قَبُولِ ذَلِكَ الدِّينِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، وَفِي الْمَرَّتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التفصيل. أما الإجمال فهو قوله يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ اتَّبِعُونِ طَرِيقَةَ التَّقْلِيدِ، لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ وَالْهَدْيُ هُوَ الدِّلَالَةُ، وَمِنْ بَيَّنَ الْأَدِلَّةَ لِلْغَيْرِ يُوصَفُ بِأَنَّهُ هَدَاهُ، وَسَبِيلُ الرَّشَادِ هُوَ سَبِيلُ الثَّوَابِ وَالْخَيْرِ وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ، لِأَنَّ الرَّشَادَ نَقِيضُ الْغَيِّ، وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مَا عَلَيْهِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ هُوَ سَبِيلُ الْغَيِّ. وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَهُوَ أَنَّهُ بَيَّنَ حَقَارَةَ حَالِ الدُّنْيَا وَكَمَالَ حَالِ الْآخِرَةِ، أَمَّا حَقَارَةُ الدُّنْيَا فهي قوله يَا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَمْتِعُ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ، ثُمَّ تَنْقَطِعُ وَتَزُولُ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَهِيَ دَارُ الْقَرَارِ وَالْبَقَاءِ وَالدَّوَامِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْآخِرَةَ بَاقِيَةٌ دَائِمَةٌ وَالدُّنْيَا مُنْقَضِيَةٌ مُنْقَرِضَةٌ، وَالدَّائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمُنْقَضِي، وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا/ ذَهَبًا فَانِيًا، وَالْآخِرَةُ خَزَفًا بَاقِيًا، لَكَانَتِ الْآخِرَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا، فَكَيْفَ وَالدُّنْيَا خَزَفٌ فَانٍ، وَالْآخِرَةُ ذَهَبٌ بَاقٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْآخِرَةَ كَمَا أَنَّ النَّعِيمَ فِيهَا دَائِمٌ فَكَذَلِكَ الْعَذَابُ فِيهَا دَائِمٌ، وَأَنَّ التَّرْغِيبَ فِي النَّعِيمِ الدَّائِمِ وَالتَّرْهِيبَ عَنِ الْعَذَابِ الدَّائِمِ مِنْ أَقْوَى وُجُوهِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفَ تَحْصُلُ الْمُجَازَاةُ فِي الْآخِرَةِ، وَأَشَارَ فِيهِ إِلَى أَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ غَالِبٌ عَلَى جَانِبِ الْعِقَابِ فَقَالَ: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَالْمُرَادُ بِالْمِثْلِ مَا يُقَابِلُهَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْكَلَامُ، مَعَ أَنَّ كُفْرَ سَاعَةٍ يُوجِبُ عِقَابَ الْأَبَدِ؟ قُلْنَا إِنَّ الْكَافِرَ يَعْتَقِدُ فِي كُفْرِهِ كَوْنَهُ طَاعَةً وَإِيمَانًا فَلِهَذَا السَّبَبِ يَكُونُ الْكَافِرُ عَلَى عَزْمٍ أَنْ يَبْقَى مُصِرًّا عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ أَبَدًا، فَلَا جَرَمَ كَانَ عِقَابُهُ مُؤَبَّدًا بِخِلَافِ الْفَاسِقِ فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ فِيهِ كَوْنَهُ خِيَانَةً وَمَعْصِيَةً فَيَكُونُ عَلَى عَزْمٍ أَنْ لَا يَبْقَى مُصِرًّا عَلَيْهِ، فَلَا جَرَمَ قُلْنَا أَنَّ عِقَابَ الْفَاسِقِ مُنْقَطِعٌ. أَمَّا الَّذِي يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ أَنَّ عِقَابَهُ مُؤَبَّدٌ فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ مُدَّةَ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ مُنْقَطِعَةٌ وَالْعَزْمُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا أَيْضًا لَيْسَ دَائِمًا بَلْ مُنْقَطِعًا فَمُقَابَلَتُهُ بِعِقَابٍ دَائِمٍ يَكُونُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي عُلُومِ الشَّرِيعَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْجِنَايَاتِ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ مَشْرُوعًا، وَأَنْ يَكُونَ الزَّائِدُ عَلَى الْمِثْلِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ، ثُمَّ نَقُولُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ تِلْكَ الْمُمَاثَلَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي أَيِّ الْأُمُورِ فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى رِعَايَةِ الْمُمَاثَلَةِ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعَيَّنَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ صَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى رِعَايَةِ الْمُمَاثَلَةِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ صَارَتِ الْآيَةُ عَامًّا مَخْصُوصًا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ التَّعَارُضَ إِذَا وَقَعَ بَيْنَ الْإِجْمَالِ وَبَيْنَ التَّخْصِيصِ كَانَ دَفْعُ الْإِجْمَالِ أَوْلَى فَوَجَبَ أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رِعَايَةِ الْمُمَاثَلَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ إِلَّا فِي مَوَاضِعِ التَّخْصِيصِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْأَحْكَامُ الْكَثِيرَةُ فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ عَلَى النُّفُوسِ، وَعَلَى الْأَعْضَاءِ، وَعَلَى الْأَمْوَالِ يُمْكِنُ تَفْرِيعُهَا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ. ثُمَّ نَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ جَزَاءَ السَّيِّئَةِ مَقْصُورٌ عَلَى الْمِثْلِ بَيَّنَ أَنَّ جَزَاءَ الْحَسَنَةِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الْمِثْلِ بَلْ هُوَ خَارِجٌ عَنِ الْحِسَابِ فَقَالَ: وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا قَوْلُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً نَكِرَةٌ فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ فَجَرَى مَجْرَى أَنْ يُقَالَ مَنْ ذَكَرَ كَلِمَةً أَوْ مَنْ خَطَا خَطْوَةً فَلَهُ كَذَا فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ أَتَى بِتِلْكَ

الْكَلِمَةِ أَوْ بِتِلْكَ الْخَطْوَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَجَبَ أَنْ يُقَالَ كُلُّ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا وَاحِدًا مِنَ الصَّالِحَاتِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَيُرْزَقُ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَالْآتِي بِالْإِيمَانِ وَالْمُوَاظِبُ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّقْدِيسِ مُدَّةَ ثَمَانِينَ سَنَةً قَدْ أَتَى بِأَعْظَمِ الصَّالِحَاتِ وَبِأَحْسَنِ الطَّاعَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَالْخَصْمُ يَقُولُ إِنَّهُ يَبْقَى مُخَلَّدًا في النار أبدا الْآبَادِ «1» فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ هَذَا النَّصِّ الصَّرِيحِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ فِيهِ كَوْنَهُ مُؤْمِنًا وَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ عِنْدَنَا/ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْوَعْدِ وَالْجَوَابُ: أَنَّا بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَةِ: 3] أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ فَسَقَطَ هَذَا الْكَلَامُ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَمَّا كَانَ لَا نِهَايَةَ لِذَلِكَ الثَّوَابِ قِيلَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَقَالَ الْآخَرُونَ لِأَنَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِمْ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ وَيَضُمُّ إِلَى ذَلِكَ الثَّوَابِ مِنْ أَقْسَامِ التَّفَضُّلِ مَا يَخْرُجُ عَنِ الْحِسَابِ وَقَوْلُهُ بِغَيْرِ حِسابٍ وَاقِعٌ فِي مُقَابَلَةِ إِلَّا مِثْلَها يَعْنِي أَنَّ جَزَاءَ السَّيِّئَةِ لَهُ حِسَابٌ وَتَقْدِيرٌ، لِئَلَّا يَزِيدَ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ، فَأَمَّا جَزَاءُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَبِغَيْرِ تَقْدِيرٍ وَحِسَابٍ بَلْ مَا شِئْتَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْحَقِّ وَالْكَثْرَةِ وَالسِّعَةِ، وَأَقُولُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ رَاجِحٌ عَلَى جَانِبِ الْقَهْرِ وَالْعِقَابِ، فَإِذَا عَارَضْنَا عُمُومَاتِ الْوَعْدِ بِعُمُومَاتِ الْوَعِيدِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّرْجِيحُ بِجَانِبِ عُمُومَاتِ الْوَعْدِ وَذَلِكَ يَهْدِمُ قَوَاعِدَ الْمُعْتَزِلَةِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنُ وَنَادَى فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ وَقَالَ: يَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ يَعْنِي أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ الَّذِي يُوجِبُ النَّجَاةَ وَتَدْعُونَنِي إِلَى الْكُفْرِ الَّذِي يُوجِبُ النَّارَ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ كَرَّرَ نِدَاءَ قَوْمِهِ، وَلِمَ جَاءَ بِالْوَاوِ فِي النِّدَاءِ الثَّالِثِ دُونَ الثَّانِي؟ قُلْنَا أَمَّا تَكْرِيرُ النِّدَاءِ فَفِيهِ زِيَادَةُ تَنْبِيهٍ لَهُمْ وَإِيقَاظٌ مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ، وَإِظْهَارُ أَنَّ لَهُ بِهَذَا الْمُهِمِّ مَزِيدَ اهْتِمَامٍ، وَعَلَى أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ فَرْطَ شَفَقَةٍ، وَأَمَّا الْمَجِيءُ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ فَلِأَنَّ الثَّانِيَ يَقْرُبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَيْنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الثَّانِيَ بَيَانٌ لِلْأَوَّلِ وَالْبَيَانُ عَيْنُ الْمُبَيَّنِ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّهُ كَلَامٌ مُبَايِنٌ لِلْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَحَسُنَ إِيرَادُ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ فِيهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْمُؤْمِنُ أَنَّهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَهُمْ يَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ، فَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ يَدْعُونَهُ إِلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَإِلَى الشِّرْكِ بِهِ، أَمَّا الْكُفْرُ بِاللَّهِ فَلِأَنَّ الْأَكْثَرِينَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ كَانُوا يُنْكِرُونَ وُجُودَ الْإِلَهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُقِرُّ بِوُجُودِ اللَّهِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُثْبِتُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ الْمُرَادُ بِنَفْيِ الْعِلْمِ نَفْيُ الْمَعْلُومِ، كَأَنَّهُ قَالَ وَأُشْرِكُ بِهِ مَا لَيْسَ بِإِلَهٍ وَمَا لَيْسَ بِإِلَهٍ كَيْفَ يُعْقَلُ جَعْلُهُ شَرِيكًا لِلْإِلَهِ؟ وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَهُ إِلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ بَيَّنَ أَنَّهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِالْعَزِيزِ الْغَفَّارِ فَقَوْلُهُ الْعَزِيزِ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ كَامِلَ الْقُدْرَةِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ كَامِلَ الْقُدْرَةِ، وَأَمَّا فِرْعَوْنُ فَهُوَ فِي غَايَةِ الْعَجْزِ فَكَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا، وَأَمَّا الْأَصْنَامُ فَإِنَّهَا أَحْجَارٌ مَنْحُوتَةٌ فَكَيْفَ يُعْقَلُ الْقَوْلُ بِكَوْنِهَا آلِهَةً وَقَوْلُهُ الْغَفَّارِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا آيِسِينَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِسَبَبِ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ مُدَّةً مَدِيدَةً، فَإِنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ وَإِنْ كَانَ عَزِيزًا لَا يُغْلَبُ قَادِرًا لَا يُغَالَبُ، لَكِنَّهُ غَفَّارٌ يَغْفِرُ كُفْرَ سَبْعِينَ سَنَةً بِإِيمَانِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنُ لَا جَرَمَ وَالْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ لَا جَرَمَ مَرَّ فِي سُورَةِ هُودٍ فِي قَوْلُهُ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ [هُودٍ: 22] وَقَدْ أَعَادَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» هَاهُنَا فَقَالَ لَا جَرَمَ مَسَاقُهُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ يُجْعَلَ (لَا) رَدًّا لِمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ قَوْمُهُ وجَرَمَ فعل بمعنى حق وأَنَّما مَعَ مَا فِي حَيِّزِهِ فَاعِلُهُ أَيْ حَقٌّ وَوَجَبَ بُطْلَانُ دَعْوَتِهِ أَوْ بِمَعْنَى كَسْبٍ مِنْ

_ (1) هذا بناء على أن المؤمن العاصي بارتكاب الكبائر من المحرمات مخلد في النار، وهو ظاهر الحديث «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، أي أنه يسلب منه الإيمان، وبناء على القول بأن الحدود زواجر لا جوابر وهو خلاف رأي أهل السنة.

قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا [الْمَائِدَةِ: 2] أَيْ كَسْبُ ذَلِكَ الدُّعَاءِ إِلَيْهِ بُطْلَانُ دَعْوَتِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَا حَصَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا ظُهُورُ بُطْلَانِ دَعْوَتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ لَا جَرَمَ نَظِيرُهُ لَا بُدَّ فِعْلٌ/ مِنَ الْجَرْمِ وَهُوَ الْقَطْعُ كَمَا أَنَّ بُدَّ فِعْلٌ مِنَ التَّبْدِيدِ وَهُوَ التَّفْرِيقُ، وَكَمَا أَنَّ مَعْنَى لَا بُدَّ أَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا أَنَّهُ لَا بُدَّ لَكَ مِنْ فِعْلِهِ، فَكَذَلِكَ لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ [النحل: 62] أَيْ لَا قَطْعَ لِذَلِكَ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ أَبَدًا يَسْتَحِقُّونَ النَّارَ لَا انْقِطَاعَ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ، وَلَا قَطْعَ لِبُطْلَانِ دَعْوَةِ الْأَصْنَامِ، أَيْ لَا تَزَالُ بَاطِلَةً لا ينقطع ذلك فينقلب حَقًّا، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ لَا جَرَمَ أَنَّهُ يُفْعَلُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بِزِنَةِ بُدٍّ «1» وَفِعْلُ إِخْوَانٍ كَرُشْدٍ وَرَشَدٍ وَكَعُدْمٍ وَعَدَمٍ هَذَا كُلُّهُ أَلْفَاظُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» . ثُمَّ قَالَ: أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَالْمُرَادُ أَنَّ الْأَوْثَانَ الَّتِي تَدْعُونَنِي إِلَى عِبَادَتِهَا لَيْسَ لَهَا دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ احْتِمَالَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى مَا تَدْعُونَنِي إِلَى عِبَادَتِهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهَا جَمَادَاتٌ وَالْجَمَادَاتُ لَا تَدْعُو أَحَدًا إِلَى عِبَادَةِ نَفْسِهَا وَقَوْلُهُ فِي الْآخِرَةِ يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا قَلَبَهَا حَيَوَانًا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهَا تَتَبَرَّأُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعَابِدِينَ. وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهُ اسْتِجَابَةُ دَعْوَةٍ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، فَسُمِّيَتِ اسْتِجَابَةُ الدَّعْوَةِ بِالدَّعْوَةِ إِطْلَاقًا لِاسْمِ أَحَدِ الْمُتَضَايِفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، كَقَوْلِهِ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] ثُمَّ قَالَ: وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ فَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ لَا فَائِدَةَ فِيهَا الْبَتَّةَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ الْعَالِمِ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ الْغَنِيِّ عَنْ كُلِّ الْحَاجَاتِ الَّذِي لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيْهِ وَمَا هُوَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، فَأَيُّ عَاقِلٍ يُجَوِّزُ لَهُ عَقْلُهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِعِبَادَةِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْبَاطِلَةِ وَأَنْ يُعْرِضَ عَنْ عِبَادَةِ هَذَا الْإِلَهِ الَّذِي لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَرَدُّهُ إِلَيْهِ؟ وَقَوْلُهُ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ قَالَ قَتَادَةُ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ السَّفَّاكِينَ لِلدِّمَاءِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ أَسْرَفُوا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ بالكمية والكيفية، أما الكمية فالدوام وَأَمَّا الْكَيْفِيَّةُ فَبِالْعَوْدِ وَالْإِصْرَارِ، وَلَمَّا بَالَغَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ فِي هَذِهِ الْبَيَانَاتِ خَتَمَ كَلَامَهُ بِخَاتِمَةٍ لَطِيفَةٍ فَقَالَ: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَهَذَا كَلَامٌ مُبْهَمٌ يُوجِبُ التَّخْوِيفَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا الذِّكْرَ يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ وَقْتُ الْمَوْتِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي الْقِيَامَةِ وَقْتَ مُشَاهَدَةِ الْأَهْوَالِ وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ، ثُمَّ قَالَ: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ وَهَذَا كَلَامُ مَنْ هُدِّدَ بِأَمْرٍ يَخَافُهُ فَكَأَنَّهُمْ خَوَّفُوهُ بِالْقَتْلِ وَهُوَ أَيْضًا خَوَّفَهُمْ بِقَوْلِهِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ثُمَّ عَوَّلَ فِي دَفْعِ تَخْوِيفِهِمْ وَكَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ وَهُوَ إِنَّمَا تَعَلَّمَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا خَوَّفَهُ بِالْقَتْلِ رَجَعَ مُوسَى فِي دَفْعِ ذَلِكَ الشَّرِّ إِلَى اللَّهِ حَيْثُ قَالَ: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ [غافر: 27] فَتَحَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو الْيَاءَ مِنْ أَمْرِي وَالْبَاقُونَ بِالْإِسْكَانِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أَيْ عَالِمٌ بِأَحْوَالِهِمْ وَبِمَقَادِيرِ حَاجَاتِهِمْ، وَتَمَسَّكَ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ، وَقَالُوا إِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الْخَيْرَ/ وَالشَّرَّ يَحْصُلُ بِقُدْرَتِهِمْ قَدْ فَوَّضُوا أَمْرَ أَنْفُسِهِمْ إِلَيْهِمْ وَمَا فَوَّضُوهَا إِلَى اللَّهِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فقالوا إن قوله أُفَوِّضُ

_ (1) الوزن على هذا الضبط مثل عذر، والمعنى لا بد ففي الكلام سقط.

[سورة غافر (40) : الآيات 45 إلى 50]

اعْتِرَافٌ بِكَوْنِهِ فَاعِلًا مُسْتَقِلًّا بِالْفِعْلِ، وَالْمَبَاحِثُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ أَعُوذُ بِاللَّهِ عَائِدَةٌ بِتَمَامِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَهَاهُنَا آخِرُ كَلَامِ مُؤْمِنِ آلِ فرعون والله الهادي. [سورة غافر (40) : الآيات 45 الى 50] فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ لَمْ يُقَصِّرْ فِي تَقْرِيرِ الدِّينِ الْحَقِّ، وَفِي الذَّبِّ عَنْهُ فَاللَّهُ تَعَالَى رَدَّ عَنْهُ كَيْدَ الْكَافِرِينَ وَقَصْدَ الْقَاصِدِينَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا صَرَّحَ بِتَقْرِيرِ الْحَقِّ فَقَدْ قَصَدُوهُ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ السُّوءِ، قَالَ مُقَاتِلٌ لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ قَصَدُوا قَتْلَهُ فَهَرَبَ مِنْهُمْ إِلَى الْجَبَلِ فَطَلَبُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا أَنَّهُمْ قَصَدُوا إِدْخَالَهُ فِي الْكُفْرِ وَصَرْفَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَوَقَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِأَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَحاقَ/ بِآلِ فِرْعَوْنَ أَيْ أَحَاطَ بِهِمْ سُوءُ الْعَذابِ أَيْ غَرِقُوا فِي الْبَحْرِ، وَقِيلَ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّارُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها قَالَ الزَّجَّاجُ النَّارُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ سُوءُ الْعَذابِ قَالَ: وَجَائِزٌ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ مُرْتَفِعَةً عَلَى إِضْمَارِ تَفْسِيرِ سُوءُ الْعَذابِ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: مَا سُوءُ الْعَذَابِ؟ فَقِيلَ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها. قَرَأَ حمزة حاق بِكَسْرِ الْحَاءِ وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ أَمَّا قَوْلُهُ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا [إِلَى آخِرِ الْآيَةِ] فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِثْبَاتِ عَذَابِ الْقَبْرِ قَالُوا الْآيَةُ تَقْتَضِي عَرْضَ النَّارِ عَلَيْهِمْ غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ قَالَ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَيْضًا الدُّنْيَا لِأَنَّ عَرْضَ النَّارِ عَلَيْهِمْ غُدُوًّا وَعَشِيًّا مَا كَانَ حَاصِلًا فِي الدُّنْيَا، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْعَرْضَ إِنَّمَا حَصَلَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ عَذَابِ الْقَبْرِ فِي حَقِّ هؤلاء، وإذ ثَبَتَ فِي حَقِّهِمْ ثَبَتَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ عَرْضِ النَّارِ عَلَيْهِمْ غُدُوًّا وَعَشِيًّا عَرْضَ النَّصَائِحِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا؟ لِأَنَّ أَهْلَ الدِّينِ إِذَا ذَكَرُوا لَهُمُ التَّرْغِيبَ وَالتَّرْهِيبَ وَخَوَّفُوهُمْ بِعَذَابِ اللَّهِ فَقَدْ عَرَضُوا عَلَيْهِمُ النَّارَ، ثُمَّ نَقُولُ فِي الْآيَةِ مَا يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ دَائِمًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ، وَقَوْلُهُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا يَقْتَضِي أَنْ لَا يحصل ذلك

الْعَذَابُ إِلَّا فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ الثَّانِي: أَنَّ الْغُدْوَةَ وَالْعَشِيَّةَ إِنَّمَا يَحْصُلَانِ فِي الدُّنْيَا، أَمَّا فِي الْقَبْرِ فَلَا وُجُودَ لَهُمَا، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ وَالْجَوَابُ: عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ أَنَّ فِي الدُّنْيَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتٍ تُذَكِّرُهُمْ أَمْرَ النَّارِ، لَا أَنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْهِمْ نَفْسَ النَّارِ، فَعَلَى قَوْلِهِمْ يَصِيرُ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَلِمَاتُ الْمُذَكِّرَةُ لِأَمْرِ النَّارِ كَانَتْ تُعْرَضُ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى تَرْكِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَالْعُدُولِ إِلَى الْمَجَازِ، أَمَّا قَوْلُهُ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى حُصُولِ هَذَا الْعَذَابِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، قُلْنَا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُكْتَفَى فِي الْقَبْرِ بِإِيصَالِ الْعَذَابِ إِلَيْهِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، ثُمَّ عِنْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ يُلْقَى فِي النَّارِ فَيَدُومُ عَذَابُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَيْضًا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْغُدْوَةِ وَالْعَشِيَّةِ كِنَايَةً عَنِ الدَّوَامِ كَقَوْلِهِ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مَرْيَمَ: 62] أَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُ لَيْسَ فِي الْقَبْرِ وَالْقِيَامَةِ غُدْوَةٌ وَعَشِيَّةٌ، قُلْنَا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ عِنْدَ حُصُولِ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا يُعْرَضُ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَيْ يُقَالُ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ: أَدْخِلُوهُمْ فِي أَشَدِّ الْعَذَابِ، وَالْبَاقُونَ ادْخُلُوا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يُقَالُ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ: ادْخُلُوا أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يُعْرَضُونَ فَهَذَا يُفْعَلُ بِهِمْ فَكَذَلِكَ أَدْخِلُوا وَأَمَّا وَجْهُ الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ فقوله فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ، وهاهنا آخِرُ الْكَلَامِ فِي قِصَّةِ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ لَمَّا انْجَرَّ إِلَى شَرْحِ أَحْوَالِ النَّارِ، لَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّهُ عَقِيبَهَا قِصَّةَ الْمُنَاظَرَاتِ الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْأَتْبَاعِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَالَ: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ وَالْمَعْنَى اذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ إِذْ يَتَحَاجُّونَ أَيْ يُحَاجِجُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ شَرَحَ خُصُومَتَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ الضُّعَفَاءَ يَقُولُونَ لِلرُّؤَسَاءِ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فِي الدُّنْيَا، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» تَبَعًا كَخَدَمٍ فِي جَمْعِ خَادِمٍ أَوْ ذَوِي تَبَعٍ أَيْ أَتْبَاعٍ أَوْ وَصْفًا بِالْمَصْدَرِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ أَيْ فَهَلْ تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تَدْفَعُوا أَيُّهَا الرُّؤَسَاءُ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ الْعَذَابِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أُولَئِكَ الْأَتْبَاعَ يَعْلَمُونَ أَنَّ أُولَئِكَ الرُّؤَسَاءَ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ التَّخْفِيفِ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُمْ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَخْجِيلِ أُولَئِكَ الرُّؤَسَاءِ وَإِيلَامِ قُلُوبِهِمْ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ سَعَوْا فِي إِيقَاعِ هَؤُلَاءِ الْأَتْبَاعِ فِي أَنْوَاعِ الضَّلَالَاتِ فَعِنْدَ هَذَا يَقُولُ الرُّؤَسَاءُ إِنَّا كُلٌّ فِيها يَعْنِي أَنَّ كُلَّنَا وَاقِعُونَ فِي هَذَا الْعَذَابِ، فَلَوْ قَدَرْتُ عَلَى إِزَالَةِ الْعَذَابِ عَنْكَ لَدَفَعْتُهُ عَنْ نَفْسِي، ثُمَّ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ يَعْنِي يُوَصِّلُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ مِقْدَارَ حَقِّهِ مِنَ النَّعِيمِ أَوْ مِنَ الْعَذَابِ، ثُمَّ عِنْدَ هَذَا يَحْصُلُ الْيَأْسُ لِلْأَتْبَاعِ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ فَيَرْجِعُونَ إِلَى خَزَنَةِ جَهَنَّمَ وَيَقُولُونَ لَهُمْ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَمْ يَقُلْ: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَتِهَا بَلْ قَالَ: وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ؟ قُلْنَا فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ جَهَنَّمَ التَّهْوِيلَ وَالتَّفْظِيعَ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَهَنَّمُ اسْمًا لِمَوْضِعٍ هُوَ أَبْعَدُ النَّارِ قَعْرًا، مِنْ قَوْلِهِمْ بِئْرٌ جَهَنَّامٌ أَيْ بَعِيدَةُ الْقَعْرِ، وَفِيهَا أَعْظَمُ أَقْسَامِ الْكُفَّارِ عُقُوبَةً وَخَزَنَةُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ تَكُونُ أَعْظَمَ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ عِنْدَ اللَّهِ دَرَجَةً، فَإِذَا عَرَفَ الْكُفَّارُ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِهِمْ، فَأُولَئِكَ الْمَلَائِكَةُ يَقُولُونَ لَهُمْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَبْلَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ كَانَ لِلْقَوْمِ أَنْ يَقُولُوا إِنَّهُ مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ [الْمَائِدَةِ: 19] أَمَّا بَعْدَ مَجِيءِ الرُّسُلِ فَلَمْ يَبْقَ عُذْرٌ وَلَا عِلَّةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: 15] وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بَعْدَ مَجِيءِ الشَّرْعِ، ثُمَّ إِنَّ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةَ يَقُولُونَ لِلْكُفَّارِ ادْعُوا أَنْتُمْ فَإِنَّا لَا نَجْتَرِئُ عَلَى

[سورة غافر (40) : الآيات 51 إلى 55]

ذَلِكَ وَلَا نُشَفَّعُ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ أَحَدَهُمَا: كَوْنُ المشفوع له مؤمناو الثاني: حُصُولُ الْإِذْنِ فِي الشَّفَاعَةِ وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فَإِقْدَامُنَا عَلَى هَذِهِ الشَّفَاعَةِ مُمْتَنِعٌ لَكِنِ ادْعُوا أَنْتُمْ، وَلَيْسَ قَوْلُهُمْ فَادْعُوا لِرَجَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَلَكِنْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْخَيْبَةِ، فَإِنَّ الْمَلَكَ الْمُقَرَّبَ إِذَا لَمْ يُسْمَعْ دُعَاؤُهُ فَكَيْفَ يُسْمَعُ دُعَاءُ الْكُفَّارِ، ثُمَّ يُصَرِّحُونَ لَهُمْ بِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِدُعَائِهِمْ فَيَقُولُونَ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَاجَةَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَأَذَّى مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُجْرِمِينَ بِسَبَبِ جُرْمِهِمْ، وَإِذَا كَانَ التَّأَذِّي مُحَالًا عَلَيْهِ كَانَتْ شَهْوَةُ الِانْتِقَامِ مُمْتَنِعَةً فِي حَقِّهِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إِيصَالُ هَذِهِ الْمَضَارِّ الْعَظِيمَةِ إِلَى أُولَئِكَ الْكُفَّارِ إِضْرَارٌ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَا لِأَحَدٍ مِنَ الْعَبِيدِ، فَهُوَ إِضْرَارٌ خَالٍ عَنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ الْمُنْتَفِعَةِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّحِيمِ الْكَرِيمِ أَنْ يُبْقِيَ عَلَى ذَلِكَ الْإِيلَامِ أَبَدَ الْآبَادِ وَدَهْرَ الدَّاهِرِينَ، / مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْحَمَ حَاجَتَهُمْ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْمَعَ دُعَاءَهُمْ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى تضرعهم وانكسارهم، ولو أن أقصى النَّاسِ قَلْبًا فَعَلَ مِثْلَ هَذَا التَّعْذِيبِ بِبَعْضِ عَبِيدِهِ لَدَعَاهُ كَرَمُهُ وَرَحْمَتُهُ إِلَى الْعَفْوِ عَنْهُ مَعَ أَنَّ هَذَا السَّيِّدَ فِي مَحَلِّ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ وَالْحَاجَةِ، فَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ هَذَا الْإِضْرَارُ؟ قُلْنَا أَفْعَالُ اللَّهِ لَا تُعَلَّلُ ولا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 23] فَلَمَّا جَاءَ الْحُكْمُ الْحَقُّ بِهِ فِي الْكِتَابِ الْحَقِّ وَجَبَ الْإِقْرَارُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. [سورة غافر (40) : الآيات 51 الى 55] إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) اعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لِمَا ذَكَرَ وِقَايَةَ اللَّهِ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ الْمُؤْمِنَ مِنْ مَكْرِ فِرْعَوْنَ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَنْصُرُ رُسُلَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَالثَّانِي: لَمَّا بَيَّنَ مِنْ قَبْلُ مَا يَقَعُ بَيْنَ أَهْلِ النَّارِ مِنَ التَّخَاصُمِ وَأَنَّهُمْ عِنْدَ الْفَزَعِ إِلَى خَزَنَةِ جَهَنَّمَ يَقُولُونَ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ [غَافِرٍ: 50] أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الرُّسُلِ وَأَنَّهُ يَنْصُرُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْ قَوْلِهِ مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [غَافِرٍ: 4] وَامْتَدَّ الْكَلَامُ فِي الرَّدِّ عَلَى أُولَئِكَ الْمُجَادِلِينَ وَعَلَى أَنَّ الْمُحِقِّينَ أَبَدًا كَانُوا مَشْغُولِينَ بِدَفْعِ كَيْدِ الْمُبْطِلِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَسْلِيَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَصْبِيرًا لَهُ عَلَى تَحَمُّلِ أَذَى قَوْمِهِ. وَلَمَّا بَلَغَ الْكَلَامُ فِي تَقْرِيرِ الْمَطْلُوبِ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى وَعَدَ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَنْصُرَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ فَقَالَ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ/ فَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ بِأَنَّهُ يَنْصُرُ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ، وَيَنْصُرُ الَّذِينَ يَنْصُرُونَهُمْ نُصْرَةً يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ نُصْرَةَ اللَّهِ الْمُحِقِّينَ تَحْصُلُ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: النُّصْرَةُ بِالْحُجَّةِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْحُجَّةَ سُلْطَانًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَهَذِهِ النُّصْرَةُ عَامَّةٌ لِلْمُحِقِّينَ أَجْمَعَ، وَنِعْمَ مَا سَمَّى اللَّهُ هَذِهِ النُّصْرَةَ سُلْطَانًا لِأَنَّ السَّلْطَنَةَ فِي الدُّنْيَا قَدْ

تَبْطُلُ، وَقَدْ تَتَبَدَّلُ بِالْفَقْرِ وَالذِّلَّةِ وَالْحَاجَةِ وَالْفُتُورِ، أَمَّا السَّلْطَنَةُ الْحَاصِلَةُ بِالْحُجَّةِ فَإِنَّهَا تَبْقَى أَبَدَ الْآبَادِ وَيَمْتَنِعُ تَطَرُّقُ الْخَلَلِ وَالْفُتُورِ إِلَيْهَا وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ بِالْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ، فَإِنَّ الظَّلَمَةَ وَإِنْ قَهَرُوا شَخْصًا مِنَ الْمُحِقِّينَ إِلَّا أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِسْقَاطِ مَدْحِهِ عَنْ أَلْسِنَةِ النَّاسِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ بِسَبَبِ أَنَّ بَوَاطِنَهُمْ مَمْلُوءَةٌ مِنْ أَنْوَارِ الْحُجَّةِ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَى الظَّلَمَةِ وَالْجُهَّالِ كَمَا تَنْظُرُ مَلَائِكَةُ السموات إِلَى أَخَسِّ الْأَشْيَاءِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمُبْطِلِينَ وَإِنْ كَانَ يَتَّفِقُ لَهُمْ أَنْ يَحْصُلَ لَهُمُ اسْتِيلَاءٌ عَلَى الْمُحِقِّينَ، فَفِي الْغَالِبِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُومُ بَلْ يُكْشَفُ لِلنَّاسِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَمْرًا وَقَعَ عَلَى خِلَافِ الْوَاجِبِ وَنَقِيضِ الْحَقِّ وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمُحِقَّ إِنِ اتَّفَقَ لَهُ أَنْ وَقَعَ فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَحْذُورِ فَذَلِكَ يَكُونُ سَبَبًا لِمَزِيدِ ثَوَابِهِ وَتَعْظِيمِ دَرَجَاتِهِ وَسَادِسُهَا: أَنَّ الظَّلَمَةَ وَالْمُبْطِلِينَ كَمَا يَمُوتُونَ تَمُوتُ آثَارُهُمْ وَلَا يَبْقَى لَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَثَرٌ وَلَا خَبَرٌ. وَأَمَّا الْمُحِقُّونَ فَإِنَّ آثَارَهُمْ بَاقِيَةٌ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ وَالنَّاسُ بِهِمْ يَقْتَدُونَ فِي أَعْمَالِ البر والخير ولمحنهم يَتْرُكُونَ فَهَذَا كُلُّهُ أَنْوَاعُ نُصْرَةِ اللَّهِ لِلْمُحِقِّينَ فِي الدُّنْيَا وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَنْتَقِمُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، كَمَا نَصَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فَإِنَّهُ لَمَّا قُتِلَ قُتِلَ بِهِ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَأَمَّا نُصْرَتُهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَذَلِكَ بِإِعْلَاءِ دَرَجَاتِهِمْ فِي مَرَاتِبِ الثَّوَابِ وَكَوْنِهِمْ مُصَاحِبِينَ لِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النِّسَاءِ: 69] . وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا إِلَى قَوْلِهِ وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ دَقِيقَةً مُعْتَبَرَةً وَهِيَ أَنَّ السُّلْطَانَ الْعَظِيمَ إِذَا خَصَّ بَعْضَ خَوَاصِّهِ بِالْإِكْرَامِ الْعَظِيمِ وَالتَّشْرِيفِ الْكَامِلِ عِنْدَ حُضُورِ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ كَانَ ذَلِكَ أَلَذَّ وَأَبْهَجَ فَقَوْلُهُ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا- إِلَى- وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ هَذِهِ الدَّقِيقَةُ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْأَشْهَادِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ كُلُّ مَنْ يَشْهَدُ بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ مَلَكٍ وَنَبِيٍّ وَمُؤْمِنٍ، أَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَهُمُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ يَشْهَدُونَ بِمَا شَاهَدُوا، وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ فَقَالَ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاءِ: 41] وَقَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [الْبَقَرَةِ: 143] قَالَ الْمُبَرِّدُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدُ الْأَشْهَادِ شَاهِدًا كَأَطْيَارٍ وَطَائِرٍ وَأَصْحَابٍ وَصَاحِبٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدُ الْأَشْهَادِ شَهِيدًا كَأَشْرَافٍ وَشَرِيفٍ وَأَيْتَامٍ وَيَتِيمٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ لَا تَنْفَعُ بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ الْمَعْذِرَةِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ كَأَنَّهُ أُرِيدَ الِاعْتِذَارُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَيْضًا مِنْ هَذَا شَرْحُ تَعْظِيمِ ثَوَابِ أَهْلِ الثَّوَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ يَنْصُرُهُمْ فِي يَوْمٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، فَحَالُهُمْ فِي عُلُوِّ الدَّرَجَاتِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَأَمَّا حَالُ أَعْدَائِهِمْ فَهُوَ أَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُمْ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْمَعَاذِيرِ الْبَتَّةَ وَثَانِيهَا: أَنَّ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَهَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ يَعْنِي اللعنة مَقْصُورَةً عَلَيْهِمْ وَهِيَ الْإِهَانَةُ وَالْإِذْلَالُ وَثَالِثُهَا: سُوءُ الدار وَهُوَ الْعِقَابُ الشَّدِيدُ فَهَذَا الْيَوْمُ إِذَا كَانَ الْأَعْدَاءُ وَاقِعِينَ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْوَحْشَةِ وَالْبَلِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ خَصَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ بِأَنْوَاعِ التَّشْرِيفَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْجَمْعِ الْأَعْظَمِ فَهَهُنَا يَظْهَرُ أَنَّ سُرُورَ الْمُؤْمِنِ كَمْ يَكُونُ، وَأَنَّ غُمُومَ الْكَافِرِينَ إِلَى أَيْنَ تَبْلُغُ. فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ الْأَعْذَارَ إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْأَعْذَارَ لَا تَنْفَعُهُمْ فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [الْمُرْسَلَاتِ: 36] قُلْنَا قَوْلُهُ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ

[سورة غافر (40) : الآيات 56 إلى 59]

مَعْذِرَتُهُمْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ ذَكَرُوا الْأَعْذَارَ، بَلْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عُذْرٌ مَقْبُولٌ نَافِعٌ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ ذَكَرُوهُ أَمْ لَا. وَأَيْضًا فَيُقَالُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ طَوِيلٌ فَيَعْتَذِرُونَ فِي وَقْتٍ وَلَا يَعْتَذِرُونَ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَنْصُرُ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ذَكَرَ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ تِلْكَ النُّصْرَةِ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْهُدَى مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ النَّافِعَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تِلْكَ الدَّلَائِلَ الْقَاهِرَةَ الَّتِي أَوْرَدَهَا عَلَى فِرْعَوْنَ وَأَتْبَاعِهِ وَكَادَهُمْ بِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ النُّبُوَّةَ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الْمَنَاصِبِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنْزَالَ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى بَقِيَ ذَلِكَ الْعِلْمُ فِيهِمْ وَتَوَارَثُوهُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ سَائِرَ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَهِيَ كُتُبُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلِ التَّوْرَاةُ وَالزَّبُورُ وَالْإِنْجِيلُ، والفرق بين الهدى والذكرى أن الْهُدَى مَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الشَّيْءِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا آخَرَ كَانَ مَعْلُومًا ثُمَّ صَارَ مَنْسِيًّا، وَأَمَّا الذِّكْرَى فَهِيَ الذي يكون كَذَلِكَ فَكُتُبُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ بَعْضُهَا دَلَائِلُ فِي أَنْفُسِهَا، وَبَعْضُهَا مُذَكِّرَاتٌ لِمَا وَرَدَ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْصُرُ رُسُلَهُ وَيَنْصُرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَضَرَبَ الْمِثَالَ فِي ذَلِكَ بِحَالِ مُوسَى وَخَاطَبَ بَعْدَ ذَلِكَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلّم فقال: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَاللَّهُ نَاصِرُكَ كَمَا نَصَرَهُمْ وَمُنْجِزٌ وَعْدَهُ فِي حَقِّكَ كَمَا كَانَ كَذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ يُقْبِلَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ النَّافِعَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّ مَنْ كَانَ لِلَّهِ كَانَ اللَّهُ لَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَجَامِعَ الطَّاعَاتِ مَحْصُورَةٌ فِي قِسْمَيْنِ التَّوْبَةِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي، وَالِاشْتِغَالِ بِمَا يَنْبَغِي، وَالْأَوَّلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الثَّانِي بِحَسَبِ الرُّتْبَةِ الذَّاتِيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ، أَمَّا التَّوْبَةُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي فَهُوَ قَوْلُهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَالطَّاعِنُونَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَتَمَسَّكُونَ بِهِ/ وَنَحْنُ نَحْمِلُهُ عَلَى التَّوْبَةِ عَنْ تَرْكِ الْأَوْلَى وَالْأَفْضَلِ، أَوْ عَلَى مَا كَانَ قَدْ صَدَرَ عَنْهُمْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَقِيلَ أَيْضًا الْمَقْصُودُ مِنْهُ مَحْضُ التَّعَبُّدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [آلِ عِمْرَانَ: 194] فَإِنَّ إِيتَاءَ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَاجِبٌ ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَنَا بِطَلَبِهِ، وَكَقَوْلِهِ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ [الْأَنْبِيَاءِ: 112] مِنْ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَقِيلَ إِضَافَةُ الْمَصْدَرِ إِلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ فَقَوْلُهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ أَيْ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِ أُمَّتِكَ فِي حَقِّكَ، وَأَمَّا الِاشْتِغَالُ بِمَا يَنْبَغِي فَهُوَ قَوْلُهُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ وَالتَّسْبِيحُ عِبَارَةٌ عَنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَالْعَشِيُّ وَالْإِبْكَارُ، قِيلَ صَلَاةُ الْعَصْرِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَقِيلَ الْإِبْكَارُ، عِبَارَةٌ عَنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى النِّصْفِ، وَالْعَشِيُّ عِبَارَةٌ عَنِ النِّصْفِ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ الْأَوْقَاتِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ طَرَفَا النَّهَارِ، كَمَا قَالَ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هُودٍ: 114] وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْأَمْرُ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَأَنْ لَا يَفْتُرَ اللِّسَانُ عَنْهُ، وَأَنْ لَا يَغْفُلَ الْقَلْبُ عَنْهُ، حَتَّى يَصِيرَ الْإِنْسَانُ بِهَذَا السَّبَبِ دَاخِلًا فِي زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا قَالَ فِي وَصْفِهِمْ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 20] والله أعلم. [سورة غافر (40) : الآيات 56 الى 59] إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)

اعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِنَّمَا ابْتُدِئَ رَدًّا عَلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَاتَّصَلَ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ وَامْتَدَّ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي لَخَّصْنَاهُ، وَالنَّسَقِ الَّذِي كَشَفْنَا عَنْهُ إِلَى هَذَا/ الْمَوْضِعِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الدَّاعِيَةِ الَّتِي تَحْمِلُ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ عَلَى تِلْكَ الْمُجَادَلَةِ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ إِنَّمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى هَذَا الْجِدَالِ الْبَاطِلِ كِبْرٌ فِي صَدْرِهِمْ فَذَلِكَ الْكِبْرُ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى هَذَا الْجِدَالِ الْبَاطِلِ، وَذَلِكَ الْكِبْرُ هُوَ أَنَّهُمْ لَوْ سَلَّمُوا نَبُوَّتَكَ لَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونُوا تَحْتَ يَدِكَ وَأَمْرِكَ وَنَهْيِكَ، لِأَنَّ النبوّة تحتها كل ملك ورئاسة وَفِي صُدُورِهِمْ كِبْرٌ لَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونُوا فِي خِدْمَتِكَ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمُجَادَلَاتِ الْبَاطِلَةِ وَالْمُخَاصِمَاتِ الْفَاسِدَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا هُمْ بِبالِغِيهِ يَعْنِي أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أن لا يَكُونُوا تَحْتَ يَدِكَ وَلَا يَصِلُونَ إِلَى هَذَا الْمُرَادِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِيرُوا تَحْتَ أَمْرِكَ وَنَهْيِكَ، ثُمَّ قَالَ: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أَيْ فَالْتَجِئْ إِلَيْهِ مِنْ كَيْدِ مَنْ يُجَادِلُكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ بِمَا يَقُولُونَ، أَوْ تَقُولُ الْبَصِيرُ بِمَا تَعْمَلُ وَيَعْمَلُونَ، فَهُوَ يَجْعَلُكَ نَافِذَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ وَيَصُونُكَ عَنْ مَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ جِدَالَهُمْ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِأَنَّهُ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ وَلَا حُجَّةٍ ذَكَرَ لِهَذَا مِثَالًا، فَقَالَ لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَالْقَادِرُ عَلَى الْأَكْبَرِ قَادِرٌ عَلَى الْأَصْغَرِ لَا مَحَالَةَ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ لَمَّا قَدَرَ عَلَى الْأَضْعَفِ وَجَبَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْأَقْوَى وَهَذَا فَاسِدٌ وَثَانِيهَا: أَنْ يُقَالَ لَمَّا قَدَرَ عَلَى الشَّيْءِ قدر على مثله، فهذا الاستدلال حَقٌّ لِمَا ثَبَتَ فِي الْعُقُولِ أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يُقَالَ لَمَّا قَدَرَ عَلَى الْأَقْوَى الْأَكْمَلِ فَبِأَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْأَقَلِّ الْأَرْذَلِ كَانَ أَوْلَى، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ وَلَا يَرْتَابُ فِيهِ عَاقِلٌ الْبَتَّةَ، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يُسَلِّمُونَ أَنَّ خالق السموات وَالْأَرْضِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَيَعْلَمُونَ بِالضَّرُورَةِ أن خلق السموات وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَكَانَ مِنْ حَقِّهِمْ أَنْ يُقِرُّوا بِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى خَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى إِعَادَةِ الْإِنْسَانِ الَّذِي خَلَقَهُ أَوَّلًا، فَهَذَا بُرْهَانٌ جَلِيٌّ فِي إِفَادَةِ هَذَا الْمَطْلُوبِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْبُرْهَانَ عَلَى قُوَّتِهِ صَارَ بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْحَشْرَ وَالنَّشْرَ، فَظَهَرَ بِهَذَا الْمِثَالِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ وَلَا حُجَّةٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ الْحَسَدِ وَالْجَهْلِ وَالْكِبْرِ وَالتَّعَصُّبِ، وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْجِدَالَ الْمَقْرُونَ بِالْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالْجَهْلِ كَيْفَ يَكُونُ، وَأَنَّ الْجِدَالَ الْمَقْرُونَ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ كَيْفَ يَكُونُ، نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ بِذِكْرِ الْمِثَالِ فَقَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ يَعْنِي وَمَا يَسْتَوِي الْمُسْتَدِلُّ وَالْجَاهِلُ الْمُقَلِّدُ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ فَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ، وَالْمُرَادُ بِالثَّانِي التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْآتِي بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَبَيْنَ الْآتِي بِالْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ الْبَاطِلَةِ، ثُمَّ قَالَ: قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ يَعْنِي أَنَّهُمْ وَإِنْ

[سورة غافر (40) : الآيات 60 إلى 63]

كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْعِلْمَ خَيْرٌ مِنَ الْجَهْلِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ الْفَاسِدِ، إِلَّا أَنَّهُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ فِي النَّوْعِ الْمُعَيَّنِ مِنَ الِاعْتِقَادِ أَنَّهُ عِلْمٌ أَوْ جَهْلٌ، وَالنَّوْعُ الْمُعَيَّنُ مِنَ الْعَمَلِ أَنَّهُ عَمَلٌ/ صَالِحٌ أَوْ فَاسِدٌ، فَإِنَّ الْحَسَدَ يُعْمِي قُلُوبَهُمْ، فَيَعْتَقِدُونَ فِي الْجَهْلِ وَالتَّقْلِيدِ أَنَّهُ مَحْضُ الْمَعْرِفَةِ، وَفِي الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ وَالْكِبْرِ أَنَّهُ مَحْضُ الطَّاعَةِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ تَتَذَكَّرُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، أَيْ قُلْ لَهُمْ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَلَمَّا قَرَّرَ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى إِمْكَانِ وُجُودِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَرْدَفَهُ بِأَنْ أَخْبَرَ عَنْ وُقُوعِهَا وَدُخُولِهَا فِي الْوُجُودِ فَقَالَ: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ وَالْمُرَادُ بِأَكْثَرِ الناس الكفار الذين ينكرون البعث والقيامة. [سورة غافر (40) : الآيات 60 الى 63] وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْقِيَامَةِ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَكَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْتَفِعُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا جَرَمَ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِالطَّاعَةِ مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ، وَلَمَّا كَانَ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ الدُّعَاءَ وَالتَّضَرُّعَ، لَا جَرَمَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ ادْعُونِي فَقِيلَ إِنَّهُ الْأَمْرُ بِالدُّعَاءِ، وَقِيلَ إِنَّهُ الأمر بالعبادة، بدليل أنه قال بعده إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي وَلَوْلَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالدُّعَاءِ أَمْرٌ بِمُطْلَقِ الْعِبَادَةِ لَمَا بَقِيَ لِقَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي مَعْنًى، وَأَيْضًا الدُّعَاءُ بِمَعْنَى الْعِبَادَةِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً [النِّسَاءِ: 117] وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ اعْتِرَافٌ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ إِنَّ تَارِكَ الدُّعَاءِ إِنَّمَا تَرَكَهُ لِأَجْلِ أَنْ يَسْتَكْبِرَ عَنْ إِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ وَأُجِيبَ عَنْ قَوْلِهِ إِنَّ الدُّعَاءَ بِمَعْنَى الْعِبَادَةِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، بِأَنَّ تَرْكَ الظَّاهِرِ لَا يُصَارُ/ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وَقَدْ يُدْعَى كَثِيرًا فَلَا يُسْتَجَابُ أَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: الدُّعَاءُ إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى شَرْطٍ، وَمَنْ دَعَا كَذَلِكَ اسْتُجِيبَ لَهُ، وَذَلِكَ الشَّرْطُ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ بِالدُّعَاءِ مَصْلَحَةً وَحِكْمَةً، ثُمَّ سَأَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ: فَمَا هُوَ أَصْلَحُ يَفْعَلُهُ بِلَا دُعَاءٍ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي الدُّعَاءِ! وَأَجَابَ: عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ فِيهِ الْفَزَعَ وَالِانْقِطَاعَ إِلَى اللَّهِ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا أَيْضًا وَارِدٌ عَلَى الْكُلِّ، لِأَنَّهُ إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَفْعَلَهُ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الدُّعَاءِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ فَإِنَّهُ الْبَتَّةَ لَا يَفْعَلُهُ، فَلَا فَائِدَةَ في الدعاء، وكل ما يقولونه هاهنا فَهُوَ جَوَابُنَا، هَذَا تَمَامُ مَا ذَكَرَهُ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ فَكُلُّ مَنْ دَعَا اللَّهَ وَفِي قَلْبِهِ ذَرَّةٌ مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَى مَالِهِ وَجَاهِهِ وَأَقَارِبِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَجِدِّهِ وَاجْتِهَادِهِ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَا دَعَا اللَّهَ إِلَّا بِاللِّسَانِ، أَمَّا بِالْقَلْبِ فَإِنَّهُ مُعَوِّلٌ فِي تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ عَلَى غير

اللَّهِ، فَهَذَا الْإِنْسَانُ مَا دَعَا رَبَّهُ فِي وَقْتٍ، أَمَّا إِذَا دَعَا فِي وَقْتٍ لَا يَبْقَى فِي الْقَلْبِ الْتِفَاتٌ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَحْصُلُ الِاسْتِجَابَةُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَفِيهِ بِشَارَةٌ كَامِلَةٌ، وَهِيَ أَنَّ انْقِطَاعَ الْقَلْبِ بِالْكُلِّيَّةِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَاطِعٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ سِوَى فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَلَى الْقَانُونِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ، وَنَرْجُو مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِلدُّعَاءِ الْمَقْرُونِ بِالْإِخْلَاصِ وَالتَّضَرُّعِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ الْمُسْتَقْصَى فِي الدُّعَاءِ قَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ أَيْ صَاغِرِينَ وَهَذَا إِحْسَانٌ عَظِيمٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ ذَكَرَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ عَلَى تَرْكِ الدُّعَاءِ، فَإِنْ قِيلَ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ حِكَايَةً عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» فَهَذَا الْخَبَرُ يَقْتَضِي أَنَّ تَرْكَ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الدُّعَاءِ يُوجِبُ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ، فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْنَا لَا شَكَّ أَنَّ الْعَقْلَ إِذَا كَانَ مُسْتَغْرِقًا في الثناء كان ذلك أفضل من الدعاء، لأن الدعاء طلب للحظ والاستغراق في معرفة جلال الله أفضل من طلب الحظ، أما إذا لم يحصل ذلك الاستغراق كان الاشتغال بالدعاء أولى، لِأَنَّ الدُّعَاءَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْرِفَةِ عِزَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَذِلَّةِ الْعُبُودِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَاعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَهُ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنِّي أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ قَبْلَ طَلَبِكَ لِهَذِهِ النِّعَمِ الْجَلِيلَةِ الْعَظِيمَةِ، وَمَنْ أَنْعَمَ قَبْلَ السُّؤَالِ بِهَذِهِ النِّعَمِ الْعَالِيَةِ فَكَيْفَ لَا يُنْعِمُ بِالْأَشْيَاءِ الْقَلِيلَةِ بَعْدَ السُّؤَالِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالدُّعَاءِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ الِاشْتِغَالُ بِالدُّعَاءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِحُصُولِ الْمَعْرِفَةِ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الدَّلَائِلَ الْعَشْرَةَ عَلَى وُجُودِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ دَلَائِلَ وُجُودِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، إِمَّا فَلَكِيَّةٌ، وَإِمَّا عُنْصُرِيَّةٌ، أَمَّا الْفَلَكِيَّاتُ فَأَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ أَحَدُهَا: تَعَاقُبُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَ [لَمَّا] كَانَ أَكْثَرُ مَصَالِحِ الْعَالَمِ مَرْبُوطًا بِهِمَا فَذَكَرَهُمَا اللَّهُ/ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي خَلْقِ اللَّيْلِ حُصُولُ الرَّاحَةِ بِسَبَبِ النَّوْمِ وَالسُّكُونِ، وَالْحِكْمَةَ فِي خَلْقِ النَّهَارِ، إِبْصَارُ الْأَشْيَاءِ لِيَحْصُلَ مُكْنَةُ التَّصَرُّفِ فِيهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَنْفَعِ، أَمَّا أَنَّ السُّكُونَ فِي وَقْتِ النَّوْمِ سَبَبٌ لِلرَّاحَةِ فَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَرَكَاتِ تُوجِبُ الْإِعْيَاءَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْحَرَكَةَ تُوجِبُ السُّخُونَةَ وَالْجَفَافَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّأَلُّمَ وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِحْسَاسَ بِالْأَشْيَاءِ إِنَّمَا يُمْكُنُ بِإِيصَالِ الْأَرْوَاحِ الْجُسْمَانِيَّةِ إِلَى ظَاهِرِ الْحِسِّ، ثُمَّ إِنْ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ تَتَحَلَّلُ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْحَرَكَاتِ فَتَضْعُفُ الْحَوَاسُّ وَالْإِحْسَاسَاتُ، وَإِذَا نَامَ الْإِنْسَانُ عَادَتِ الْأَرْوَاحُ الْحَسَّاسَةُ فِي بَاطِنِ الْبَدَنِ وَرُكِّزَتْ وَقَوِيَتْ وَتَخَلَّصَتْ عَنِ الْإِعْيَاءِ، وَأَيْضًا اللَّيْلُ بَارِدٌ رَطْبٌ فَبُرُودَتُهُ وَرُطُوبَتُهُ يَتَدَارَكَانِ مَا حَصَلَ فِي النَّهَارِ مِنَ الْحَرِّ وَالْجَفَافِ بِسَبَبِ مَا حَدَثَ مِنْ كَثْرَةِ الْحَرَكَاتِ، فَهَذِهِ هِيَ الْمَنَافِعُ الْمَعْلُومَةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَالنَّهارَ مُبْصِراً فَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَا لَمْ يَحْصُلْ مَدِينَةٌ تَامَّةٌ لَمْ تَنْتَظِمْ مُهِمَّاتُ الْإِنْسَانِ فِي مَأْكُولِهِ وَمَشْرُوبِهِ وَمَلْبَسِهِ وَمَنْكَحِهِ، وَتِلْكَ الْمُهِمَّاتُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِأَعْمَالٍ كَثِيرَةٍ، وَتِلْكَ الْأَعْمَالُ تَصَرُّفَاتٌ فِي أُمُورٍ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ لَا تَكْمُلُ إِلَّا بِالضَّوْءِ وَالنُّورِ حَتَّى يُمَيِّزَ الْإِنْسَانُ بِسَبَبِ ذَلِكَ النُّورِ بَيْنَ مَا يُوَافِقُهُ وَبَيْنَ مَا لَا يُوَافِقُهُ، فَهَذَا هُوَ الْحِكْمَةُ فِي قَوْلِهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً فَإِنْ قِيلَ كَانَ الْوَاجِبُ بِحَسَبِ رِعَايَةِ النَّظْمِ أَنْ يُقَالَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ لِتُبْصِرُوا فِيهِ، أَوْ فَجَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ سَاكِنًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ كَذَلِكَ بَلْ قَالَ فِي اللَّيْلِ لِتَسْكُنُوا

[سورة غافر (40) : الآيات 64 إلى 67]

فِيهِ، وَقَالَ فِي النَّهَارِ مُبْصِرًا فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟ وَأَيْضًا فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيمِ ذِكْرِ اللَّيْلِ عَلَى ذِكْرِ النَّهَارِ مَعَ أَنَّ النَّهَارَ أَشْرَفُ مِنَ اللَّيْلِ؟ قُلْنَا: أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: فَهُوَ أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّوْمَ فِي الْحَقِيقَةِ طَبِيعَةٌ عَدَمِيَّةٌ فَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالذَّاتِ، أَمَّا الْيَقَظَةُ فَأُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ، وَهِيَ مَقْصُودَةٌ بِالذَّاتِ، وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ النَّحْوِيُّ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» أَنَّ دَلَالَةَ صِيغَةِ الِاسْمِ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ صِيغَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِمَا، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي هَذَا الْفَرْقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّ الظُّلْمَةَ طَبِيعَةٌ عَدَمِيَّةٌ وَالنُّورَ طَبِيعَةٌ وُجُودِيَّةٌ وَالْعَدَمُ فِي الْمُحْدَثَاتِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوُجُودِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: 1] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْحِكَمِ الْبَالِغَةِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ وَالْمُرَادُ أن فضل الله على الخلق كثيرا جِدًّا وَلَكِنَّهُمْ لَا يَشْكُرُونَهُ، وَأَعْلَمُ أَنَّ تَرْكَ الشُّكْرِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ الرَّجُلُ أَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ لَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ هَذِهِ الْأَفْلَاكَ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا وَوَاجِبَةُ الدَّوَرَانِ لِذَوَاتِهَا، فَحِينَئِذٍ هَذَا الرَّجُلُ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ مِنَ اللَّهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الرَّجُلَ وَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ كُلَّ هذا الْعَالَمِ حَصَلَ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ وَتَكْوِينِهِ إِلَّا أَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ الْعَظِيمَةَ، أَعْنِي نِعْمَةَ تَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَمَّا دَامَتْ وَاسْتَمَرَّتْ نَسِيَهَا الْإِنْسَانُ، فَإِذَا ابْتُلِيَ الْإِنْسَانُ بِفُقْدَانِ شَيْءٍ مِنْهَا عَرَفَ قَدْرَهَا مِثْلَ أَنْ يَتَّفِقَ لِبَعْضِ النَّاسِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ أَنْ يَحْبِسَهُ بَعْضُ الظَّلَمَةِ فِي آبَارٍ عَمِيقَةٍ مُظْلِمَةٍ مُدَّةً مَدِيدَةً، فَحِينَئِذٍ يَعْرِفُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ قَدْرَ نِعْمَةِ/ الْهَوَاءِ الصَّافِي وَقَدْرَ نِعْمَةِ الضَّوْءِ، وَرَأَيْتُ بَعْضَ الْمُلُوكِ كَانَ يُعَذِّبُ بَعْضَ خَدَمِهِ بأن أمر أقواما حتى يمنعونه عَنِ الِاسْتِنَادِ إِلَى الْجِدَارِ وَعَنِ النَّوْمِ فَعَظُمَ وَقْعُ هَذَا التَّعْذِيبِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الرَّجُلَ وَإِنْ كَانَ عَارِفًا بِمَوَاقِعِ هَذِهِ النِّعَمِ إِلَّا أَنَّهُ يَكُونُ حَرِيصًا عَلَى الدُّنْيَا مُحِبًّا لِلْمَالِ وَالْجَاهِ، فَإِذَا فَاتَهُ الْمَالُ الْكَثِيرُ وَالْجَاهُ الْعَرِيضُ وَقَعَ فِي كُفْرَانِ هَذِهِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ، وَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُ الْخَلْقِ هَالِكِينَ فِي أَحَدِ هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، لَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سَبَأٍ: 13] وَقَوْلُ إِبْلِيسَ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الْأَعْرَافِ: 17] وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بِتِلْكَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ وُجُودَ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الرَّحِيمِ الْحَكِيمِ قَالَ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ذَلِكُمُ الْمَعْلُومُ الْمُمَيَّزُ بِالْأَفْعَالِ الْخَاصَّةِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ هو اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَخْبَارٌ مُتَرَادِفَةٌ أَيْ هُوَ الْجَامِعُ لِهَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَخَلْقِ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ لَا ثَانِيَ لَهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وَالْمُرَادُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ وَلِمَ تَعْدِلُونَ عَنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ وَتُكَذِّبُونَ بِهَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ يَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَنْ جَحَدَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَلَمْ يَتَأَمَّلْهَا وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ هِمَّةٌ لِطَلَبِ الحق وخوف العاقبة أفك كما أفكوا. [سورة غافر (40) : الآيات 64 الى 67] اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)

اعْلَمْ أَنَا بَيَّنَّا أَنَّ دَلَائِلَ وُجُودِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ دَلَائِلِ الْآفَاقِ أَوْ مِنْ بَابِ دَلَائِلِ الْأَنْفُسِ، أَمَّا دَلَائِلُ الْآفَاقِ فَالْمُرَادُ كُلُّ مَا هُوَ غَيْرُ الْإِنْسَانِ مِنْ كُلِّ هَذَا الْعَالَمِ وَهِيَ أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ، وَالْمَذْكُورُ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَقْسَامٌ مِنْهَا أَحْوَالُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ وَثَانِيهَا: الْأَرْضُ وَالسَّمَاءُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ قَراراً أَيْ مَنْزِلًا فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ وَالسَّماءَ بِناءً كَالْقُبَّةِ الْمَضْرُوبَةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَقِيلَ مَسَكَ الْأَرْضَ بِلَا عَمَدٍ حَتَّى أَمْكَنَ التَّصَرُّفَ عَلَيْهَا وَالسَّماءَ بِناءً أَيْ قَائِمًا ثَابِتًا وَإِلَّا لَوَقَعَتْ عَلَيْنَا، وَأَمَّا دَلَائِلُ الْأَنْفُسِ فَالْمُرَادُ مِنْهَا دَلَالَةُ أَحْوَالِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَدَلَالَةُ أَحْوَالِ نَفْسِهِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ، وَالْمَذْكُورُ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ قِسْمَانِ أَحَدُهَا: مَا هُوَ حَاصِلٌ مُشَاهَدٌ حَالَ كَمَالِ حَالِهِ وَالثَّانِي: مَا كَانَ حَاصِلًا فِي ابْتِدَاءِ خِلْقَتِهِ وَتَكْوِينِهِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَأَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ وَالْمَذْكُورُ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ أَوَّلُهَا: حُدُوثُ صُورَتِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَصَوَّرَكُمْ وَثَانِيهَا: حُسْنُ صُورَتِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ رَزَقَهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَقَدْ أَطْنَبْنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا لَا سِيَّمَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الْإِسْرَاءِ: 70] وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الدَّلَائِلَ الْخَمْسَةَ اثْنَيْنِ مِنْ دَلَائِلِ الْآفَاقِ وَثَلَاثَةً مِنْ دَلَائِلِ الْأَنْفُسِ قَالَ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وَتَفْسِيرُ تَبَارَكَ إِمَّا الدَّوَامُ وَالثَّبَاتُ وَإِمَّا كَثْرَةُ الْخَيْرَاتِ، ثُمَّ قَالَ: هُوَ الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَهَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ وَأَنْ لَا حَيَّ إِلَّا هُوَ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي يَمْتَنِعُ أَنْ يَمُوتَ امْتِنَاعًا ذَاتِيًّا وَحِينَئِذٍ لَا حَيَّ إِلَّا هُوَ فَكَأَنَّهُ أَجْرَى الشَّيْءَ الَّذِي يَجُوزُ زَوَالُهُ مَجْرَى الْمَعْدُومِ. وَاعْلَمْ أن الحي عبارة عن الدراك الفعال والدراك إِشَارَةٌ إِلَى الْعِلْمِ التَّامِّ، وَالْفَعَّالُ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ، وَلَمَّا نَبَّهَ عَلَى هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ نَبَّهَ عَلَى الصِّفَةِ الثَّالِثَةِ وَهِيَ: الْوَحْدَانِيَّةُ بِقَوْلِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَمَّا وَصَفَهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ أَمَرَ الْعِبَادَ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهَا: بِالدُّعَاءِ وَالثَّانِي: بِالْإِخْلَاصِ فِيهِ، فَقَالَ: فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَوْلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْعِزَّةِ اسْتَحَقَّ لِذَاتِهِ أَنْ يُقَالَ لَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَمَّا بَيَّنَ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ قَالَ: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَأَوْرَدَ ذَلِكَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَلْيَنِ/ قَوْلٍ لِيَصْرِفَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَبَيَّنَ أَنَّ وَجْهَ النَّهْيِ فِي ذَلِكَ مَا جَاءَهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ، وَتِلْكَ الْبَيِّنَاتُ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ قَدْ ثَبَتَ كَوْنُهُ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَصَرِيحُ الْعَقْلِ يَشْهَدُ بِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِهِ، وَأَنَّ جَعْلَ الْأَحْجَارِ الْمَنْحُوتَةِ وَالْخُشُبِ الْمُصَوَّرَةِ شُرَكَاءَ لَهُ فِي الْمَعْبُودِيَّةِ مُسْتَنْكَرٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ. وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ أَمَرَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِيهِ أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْعَقْلِ وَكَمَالِ الْجَوْهَرِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ

[سورة غافر (40) : آية 68]

لِنَفْسِهِ إِلَّا الْأَفْضَلَ الْأَكْمَلَ، فَإِذَا ذَكَرَ أَنَّ مَصْلَحَتَهُ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْإِعْرَاضِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ وَالْإِقْبَالِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ ظَهَرَ بِهِ أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ أَكْمَلُ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، ثُمَّ قَالَ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ. وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الدَّلَائِلَ عَلَى قِسْمَيْنِ دَلَائِلُ الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ، أَمَّا دَلَائِلُ الْآفَاقِ فَكَثِيرَةٌ وَالْمَذْكُورُ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَرْبَعَةٌ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالْأَرْضُ وَالسَّمَاءُ، وَأَمَّا دَلَائِلُ الْأَنْفُسِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا عَلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهَا: الْأَحْوَالُ الْحَاضِرَةُ حَالَ كَمَالِ الصِّحَّةِ وَهِيَ أقسام كثيرة، والمذكور هاهنا مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: الصُّورَةُ وَحُسْنُ الصُّورَةِ وَرِزْقُ الطَّيِّبَاتِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ كَيْفِيَّةُ تَكَوُّنِ هَذَا الْبَدَنِ مِنِ ابْتِدَاءِ كَوْنِهِ نُطْفَةً وَجَنِينًا إِلَى آخِرِ الشَّيْخُوخَةِ وَالْمَوْتِ فَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ فَقِيلَ الْمُرَادُ آدَمُ، وَعِنْدِي لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ لِأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ مِنَ الْمَنِيِّ وَمِنْ دَمِ الطَّمْثِ، وَالْمَنِيُّ مَخْلُوقٌ مِنَ الدَّمِ فَالْإِنْسَانُ مَخْلُوقٌ مِنَ الدَّمِ وَالدَّمُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَغْذِيَةُ إِمَّا حَيَوَانِيَّةً وَإِمَّا نَبَاتِيَّةً، وَالْحَالُ فِي تَكَوُّنِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ كَالْحَالِ فِي تَكَوُّنِ الْإِنْسَانِ، فَالْأَغْذِيَةُ بأسرها منتهية إلى النباتية والنبات إنما يكون من التراب والماء، فثبت أن كل إنسان فهو متكون من التراب، ثم إن ذلك التُّرَابِ يَصِيرُ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً بَعْدَ كَوْنِهِ عَلَقَةً مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ إِلَى أَنْ يَنْفَصِلَ مِنْ بطن الأم، فالله تعالى ترك ذكرها هاهنا لِأَجْلِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهَا فِي سَائِرِ الْآيَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ عُمْرَ الْإِنْسَانِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ أَوَّلُهَا: كَوْنُهُ طِفْلًا، وَثَانِيهَا: أَنْ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، وَثَالِثُهَا: الشَّيْخُوخَةُ وَهَذَا تَرْتِيبٌ صَحِيحٌ مُطَابِقٌ لِلْعَقْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي أَوَّلِ عُمْرِهِ يَكُونُ فِي التَّزَايُدِ وَالنُّشُوءِ وَالنَّمَاءِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالطُّفُولِيَّةِ وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبْلُغَ إِلَى كَمَالِ النُّشُوءِ وَإِلَى أَشُدِّ السِّنِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ أنواع الضعف، وهذه المرتبة هي المراد من قوله لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ والمرتبة الثالثة: أن يتراجع ويظهر فيه أثر من آثار الضَّعْفِ وَالنَّقْصِ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا التَّقْسِيمَ عَرَفْتَ أَنَّ مَرَاتِبَ الْعُمْرِ بِحَسَبِ هَذَا التَّقْسِيمِ لَا تَزِيدُ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ ثُمَّ يُبْقِيكُمْ لِتَبْلُغُوا. ثُمَّ قَالَ: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ الشَّيْخُوخَةِ أَوْ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ إِذَا خَرَجَ سَقْطًا. ثُمَّ قَالَ: وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَمَعْنَاهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَهُوَ وَقْتُ الْمَوْتِ وَقِيلَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ مَا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ العجيبة من أنواع العبر وأقسام الدلائل. [سورة غافر (40) : آية 68] هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ انْتِقَالَ الْإِنْسَانِ مِنْ كَوْنِهِ تُرَابًا إِلَى كَوْنِهِ نُطْفَةً ثُمَّ إِلَى كَوْنِهِ عَلَقَةً ثُمَّ إِلَى كَوْنِهِ طِفْلًا ثُمَّ إِلَى بُلُوغِ الْأَشُدِّ ثُمَّ إِلَى الشَّيْخُوخَةِ وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ التَّغَيُّرَاتِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ قَالَ بَعْدَهُ: هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ يَعْنِي كَمَا أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ أُخْرَى مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا يَدُلُّ عَلَى الْإِلَهِ الْقَادِرِ، فَكَذَلِكَ الِانْتِقَالُ مِنَ الْحَيَاةِ إِلَى الْمَوْتِ وَبِالْعَكْسِ يَدُلُّ عَلَى الْإِلَهِ الْقَادِرِ وَقَوْلُهُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمَّا نَقَلَ هَذِهِ الْأَجْسَامَ مِنْ بَعْضِ هَذِهِ الصِّفَاتِ إِلَى صِفَةٍ أُخْرَى لَمْ يَتْعَبْ فِي

[سورة غافر (40) : الآيات 69 إلى 76]

ذَلِكَ التَّصَرُّفِ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى آلَةٍ وَأَدَاةٍ، فَعَبَّرَ عَنْ نَفَاذِ قُدْرَتِهِ فِي الْكَائِنَاتِ وَالْمُحْدَثَاتِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ وَلَا مُدَافِعٍ بِمَا إِذَا قَالَ: كُنْ فَيَكُونُ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَبَّرَ عَنِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ بِقَوْلِ كُنْ فَيَكُونُ فَكَأَنَّهُ قِيلَ الِانْتِقَالُ مِنْ كَوْنِهِ تُرَابًا إِلَى كَوْنِهِ نُطْفَةً، ثُمَّ إِلَى كَوْنِهِ عَلَقَةً انْتِقَالَاتٌ تَحْصُلُ على التدريج قَلِيلًا قَلِيلًا، وَأَمَّا صَيْرُورَةُ الْحَيَاةِ فَهِيَ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِتَعْلِيقِ جَوْهَرِ الرُّوحِ النُّطْقِيَّةِ بِهِ، وَذَلِكَ يَحْدُثُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ كُنْ فَيَكُونُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ تَكَوُّنَ الْإِنْسَانِ إِنَّمَا يَنْعَقِدُ مِنَ الْمَنِيِّ وَالدَّمِ فِي الرَّحِمِ فِي مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ وَبِحَسَبِ انْتِقَالَاتِهِ مِنْ حَالَاتٍ إِلَى حَالَاتٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ إِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ إِنْسَانٍ عَنْ إِنْسَانٍ آخَرَ، لِأَنَّ التَّسَلْسُلَ مُحَالٌ، وَوُقُوعُ الْحَادِثِ فِي الْأَزَلِ مُحَالٌ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِإِنْسَانٍ هُوَ أَوَّلُ النَّاسِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ حُدُوثُ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ لَا بِوَاسِطَةِ الْمَنِيِّ وَالدَّمِ، بَلْ بِإِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً، فَعَبَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بقوله كُنْ فَيَكُونُ. [سورة غافر (40) : الآيات 69 الى 76] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى عَادَ إِلَى ذَمِّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ وَهَذَا ذَمٌّ لَهُمْ عَلَى أَنْ جَادَلُوا فِي آيَاتِ اللَّهِ وَدَفْعِهَا وَالتَّكْذِيبِ بِهَا، فَعَجَّبَ تَعَالَى مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِمَنْ لَا يُبَيِّنُ: أَنَّى يُذْهَبُ بِكَ تَعَجُّبًا مِنْ غَفْلَتِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ أَيْ بِالْقُرْآنِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا مِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ، فَإِنْ قِيلَ سَوْفَ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَإِذْ لِلْمَاضِي فَقَوْلُهُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ مِثْلُ قَوْلِكَ: سَوْفَ أَصُومُ أَمْسِ، قُلْنَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ إِذِ هُوَ إِذَا، لأن الأمور المستقبلة لما كانت فِي إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَيَقِّنَةً مَقْطُوعًا بِهَا عَبَّرَ عَنْهَا بِلَفْظِ مَا كَانَ وَوُجِدَ، وَالْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِقْبَالِ، هَذَا لَفْظُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» : ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ كَيْفِيَّةَ عِقَابِهِمْ فَقَالَ: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ، فِي الْحَمِيمِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَكُونُ فِي أَعْنَاقِهِمُ الْأَغْلَالُ وَالسَّلَاسِلُ، ثُمَّ يُسْحَبُونَ بِتِلْكَ السَّلَاسِلِ فِي الْحَمِيمِ، أَيْ فِي الْمَاءِ الْمُسَخَّنِ بِنَارِ جَهَنَّمَ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ وَالسَّجْرُ فِي اللُّغَةِ الْإِيقَادُ فِي التَّنُّورِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ فَهِيَ مُحِيطَةٌ بِهِمْ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [الْهُمَزَةِ: 6، 7] ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُونَ ضَلُّوا عَنَّا أَيْ غَابُوا عَنْ عُيُونِنَا فَلَا نَرَاهُمْ وَلَا نَسْتَشْفِعُ بِهِمْ، ثم

[سورة غافر (40) : الآيات 77 إلى 78]

قالوا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أي تبيّن لهم أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا شَيْئًا، وَمَا كُنَّا نَعْبُدُ بِعِبَادَتِهِمْ شَيْئًا، كَمَا تَقُولُ حَسِبْتُ أَنَّ فُلَانًا شَيْءٌ، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ بِشَيْءٍ إِذَا جَرَّبْتَهُ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ خَيْرًا، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ كَذَّبُوا وَأَنْكَرُوا أَنَّهُمْ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ/ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ أَنَّهُمْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: 23] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُضِلُّهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يُضِلُّهُمْ عَنِ الْحُجَّةِ إِذْ قَدْ هَدَاهُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَيْهَا، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ مِثْلَ ضَلَالِ آلِهَتِهِمْ عَنْهُمْ يُضِلُّهُمْ عَنْ آلِهَتِهِمْ، حَتَّى أَنَّهُمْ لَوْ طَلَبُوا الْآلِهَةَ أَوْ طلبتهم الْآلِهَةَ لَمْ يَجِدْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، ثُمَّ قَالَ: ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ أَيْ ذَلِكُمُ الْإِضْلَالُ بِسَبَبِ مَا كَانَ لَكُمْ مِنَ الْفَرَحِ وَالْمَرَحِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَهُوَ الشِّرْكُ وَعِبَادَةُ الْأَصْنَامِ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ السَّبْعَةَ الْمَقْسُومَةَ لَكُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ، لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الْحِجْرِ: 44] ، خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي صِفَةِ هَؤُلَاءِ الْمُجَادِلِينَ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ [غافر: 56] . [سورة غافر (40) : الآيات 77 الى 78] فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَكَلَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فِي تَزْيِيفِ طَرِيقَةِ الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَسُولَهُ بِأَنْ يَصْبِرَ عَلَى إِيذَائِهِمْ وَإِيحَاشِهِمْ بِتِلْكَ الْمُجَادَلَاتِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَعَنَى بِهِ مَا وَعَدَ بِهِ الرَّسُولَ مِنْ نُصْرَتِهِ، وَمِنْ إِنْزَالِ الْعَذَابِ عَلَى أَعْدَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ يَعْنِي أُولَئِكَ الْكُفَّارَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، مِثْلَ الْقَتْلِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قَبْلَ إِنْزَالِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَنَنْتَقِمُ مِنْهُمْ أَشَدَّ الِانْتِقَامِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [الزُّخْرُفِ: 41، 42] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ كَالرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حَالَ بَعْضِهِمْ لَكَ وَلَمْ نَذْكُرْ حَالَ الْبَاقِينَ، وَلَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ آيَاتٍ وَمُعْجِزَاتٍ إِلَّا وَقَدْ جَادَلَهُ قَوْمُهُ فِيهَا وَكَذَّبُوهُ فِيهَا وَجَرَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْهَمِّ مَا يُقَارِبُ مَا جَرَى عَلَيْكَ فَصَبَرُوا، وَكَانُوا أَبَدًا يَقْتَرِحُونَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ إِظْهَارَ الْمُعْجِزَاتِ الزَّائِدَةِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ عَلَى سَبِيلِ الْعِنَادِ وَالتَّعَنُّتِ، ثُمَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ أَنَّ الصَّلَاحَ/ فِي إِظْهَارِ مَا أَظْهَرَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُظْهِرْهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَادِحًا فِي نُبُوَّتِهِمْ، فَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي اقْتِرَاحِ قَوْمِكَ عَلَيْكَ الْمُعْجِزَاتِ الزَّائِدَةَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ إِظْهَارُهَا صَلَاحًا، لَا جَرَمَ مَا أَظْهَرْنَاهَا، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ: فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَهَذَا وَعِيدٌ وَرَدَ عَقِيبَ اقْتِرَاحِ الْآيَاتِ وأَمْرُ اللَّهِ الْقِيَامَةُ والْمُبْطِلُونَ هُمُ الْمُعَانِدُونَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَيَقْتَرِحُونَ المعجزات الزائدة على قدر الحاجة على سبيل التعنت. [سورة غافر (40) : الآيات 79 الى 81] اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)

[سورة غافر (40) : الآيات 82 إلى 85]

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَطْنَبَ فِي تَقْرِيرِ الْوَعِيدِ عَادَ إِلَى ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ، وَإِلَى ذِكْرِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُعَدَّ إِنْعَامًا عَلَى الْعِبَادِ، قَالَ الزَّجَّاجُ الْأَنْعَامُ الْإِبِلُ خَاصَّةً، وَقَالَ الْقَاضِي هِيَ الْأَزْوَاجُ الثَّمَانِيَةُ، وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أنه لم أدخل لام الغرض على قوله لِتَرْكَبُوا وعلى قوله لِتَبْلُغُوا وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى الْبَوَاقِي فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟ الْجَوَابُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الرُّكُوبُ فِي الْحَجِّ وَالْغَزْوِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا، فَهَذَانِ الْقِسْمَانِ أَغْرَاضٌ دِينِيَّةٌ فَلَا جَرَمَ أَدْخَلَ عَلَيْهِمَا حَرْفَ التَّعْلِيلِ، وَأَمَّا الْأَكْلُ وَإِصَابَةُ الْمَنَافِعِ فَمِنْ جِنْسِ الْمُبَاحَاتِ، فَلَا جَرَمَ مَا أدخل عليها حَرْفَ التَّعْلِيلِ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [النَّحْلِ: 8] فَأَدْخَلَ التَّعْلِيلَ عَلَى الرُّكُوبِ وَلَمْ يُدْخِلْهُ عَلَى الزِّينَةِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ مَعْنَاهُ تُحْمَلُونَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ وَفِي الْفُلْكِ كَمَا قَالَ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هُودٍ: 40] وَالْجَوَابُ: أَنَّ كَلِمَةَ عَلَى لِلِاسْتِعْلَاءِ فَالشَّيْءُ الَّذِي يُوضَعُ فِي الْفُلْكِ كَمَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ وُضِعَ فِيهِ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ وُضِعَ عَلَيْهِ، وَلَمَّا صَحَّ الْوَجْهَانِ كَانَتْ لَفْظُهُ على أَوْلَى حَتَّى يَتِمَّ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الدلائل الكثيرة قال: يُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي عَدَدْنَاهَا كُلَّهَا ظَاهِرَةٌ بَاهِرَةٌ، فقوله أَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ، قال صاحب «الكشاف» قوله أَيَّ آياتِ اللَّهِ / جَاءَ عَلَى اللُّغَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ، وَقَوْلُكُ: فَأَيَّةُ آيَاتِ اللَّهِ قَلِيلٌ لِأَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ فِي الْأَسْمَاءِ غَيْرُ الصِّفَاتِ نَحْوَ حِمَارٌ وَحِمَارَةٌ غَرِيبٌ، وَهِيَ فِي أَيِّ أَغْرَبُ لإبهامه والله أعلم. [سورة غافر (40) : الآيات 82 الى 85] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى رَاعَى تَرْتِيبًا لَطِيفًا فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ فَصْلًا فِي دَلَائِلِ الْإِلَهِيَّةِ وَكَمَالِ الْقُدْرَةِ والرحمة والحكمة، ثم أردفه بفصل في التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ وَهَذَا الْفَصْلُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ خَتْمُ هَذِهِ السُّورَةِ هُوَ الْفَصْلُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْوَعِيدِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَحَصَلَ الْكِبْرُ الْعَظِيمُ فِي صُدُورِهِمْ بِهَذَا، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ طَلَبُ الرِّيَاسَةِ وَالتَّقَدُّمِ عَلَى الْغَيْرِ فِي الْمَالِ وَالْجَاهِ، فَمَنْ تَرَكَ الِانْقِيَادَ لِلْحَقِّ

لِأَجْلِ طَلَبِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَقَدْ بَاعَ الْآخِرَةَ بِالدُّنْيَا، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فَاسِدَةٌ، لِأَنَّ الدُّنْيَا فَانِيَةٌ ذَاهِبَةٌ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يَعْنِي لَوْ سَارُوا فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِ لَعَرَفُوا أَنَّ عَاقِبَةَ الْمُتَكَبِّرِينَ الْمُتَمَرِّدِينَ، لَيْسَتْ إِلَّا الْهَلَاكَ وَالْبَوَارَ، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ عَدَدًا وَمَالًا وَجَاهًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَفِيدُوا مِنْ تِلْكَ الْمُكْنَةِ الْعَظِيمَةِ وَالدَّوْلَةِ الْقَاهِرَةِ إِلَّا الْخَيْبَةَ وَالْخَسَارَ، وَالْحَسْرَةَ وَالْبَوَارَ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ الْمَسَاكِينِ، أَمَّا بَيَانُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ/ هَؤُلَاءِ عَدَدًا فَإِنَّمَا يُعْرَفُ فِي الْأَخْبَارِ، وَأَمَّا أَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ، فَلِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَتْ آثَارُهُمْ بِحُصُونٍ عَظِيمَةٍ بَعْدَهُمْ، مِثْلُ الْأَهْرَامِ الْمَوْجُودَةِ بِمِصْرَ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْبِلَادِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي بَنَاهَا الْمُلُوكُ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَمِثْلُ مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ مَا فِي قَوْلِهِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ نَافِيَةٌ أَوْ مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ وَمَحَلُّهَا النَّصْبُ، وَمَا فِي قَوْلِهِ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ وَمَحَلُّهَا الرَّفْعُ يَعْنِي أَيَّ شَيْءٍ أَغْنَى عَنْهُمْ مَكْسُوبُهُمْ أَوْ كَسْبُهُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ لَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ فَرِحُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْكُفَّارِ، وَأَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الرُّسُلِ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْكُفَّارِ، فَذَلِكَ الْعِلْمُ الَّذِي فَرِحُوا بِهِ أَيُّ عِلْمٍ كَانَ؟ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَشْيَاءَ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهَا بِالْعِلْمِ، وَهِيَ الشُّبُهَاتُ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِمْ وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الْجَاثِيَةِ: 24] وَقَوْلِهِمْ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا [الْأَنْعَامِ: 148] وقولهم مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 78] ، وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً [الْكَهْفِ: 36] وَكَانُوا يَفْرَحُونَ بِذَلِكَ وَيَدْفَعُونَ بِهِ عُلُومَ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا قال: كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون: 53] ، الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عُلُومَ الْفَلَاسِفَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا بِوَحْيِ اللَّهِ دَفَعُوهُ وَصَغَّرُوا عِلْمَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى عُلُومِهِمْ، وَعَنْ سُقْرَاطَ أَنَّهُ سَمِعَ بِمَجِيءِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ فَقِيلَ لَهُ لو هاجرت إليه فَقَالَ نَحْنُ قَوْمٌ مَهْدِيُّونَ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى مَنْ يَهْدِينَا الثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عِلْمَهُمْ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَمَعْرِفَتَهُمْ بِتَدْبِيرِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الرُّومِ: 7] ، ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [النَّجْمِ: 30] فَلَمَّا جَاءَهُمُ الرُّسُلُ بِعُلُومِ الدِّيَانَاتِ وَهِيَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَةُ المعاد وَتَطْهِيرُ النَّفْسِ عَنِ الرَّذَائِلِ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا واستهزؤا بِهَا، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا عِلْمَ أَنْفَعُ وَأَجْلَبُ لِلْفَوَائِدِ مِنْ عِلْمِهِمْ، فَفَرِحُوا بِهِ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يُجْعَلَ الْفَرَحُ لِلرُّسُلِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الرُّسُلَ لَمَّا رَأَوْا مِنْ قَوْمِهِمْ جَهْلًا كَامِلًا، وَإِعْرَاضًا عَنِ الْحَقِّ وَعَلِمُوا سُوءَ عَاقِبَتِهِمْ وَمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ عَلَى جَهْلِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ، فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ وَشَكَرُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، وَحَاقَ بِالْكَافِرِينَ جَزَاءُ جَهْلِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَ الرُّسُلِ مِنَ الْعِلْمِ فَرَحَ ضَحِكٍ مِنْهُ وَاسْتِهْزَاءٍ بِهِ، كَأَنَّهُ قال استهزؤا بِالْبَيِّنَاتِ، وَبِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ عِلْمِ الْوَحْيِ فَرِحِينَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ الْبَأْسُ شِدَّةُ الْعَذَابِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِعَذابٍ بَئِيسٍ [الْأَعْرَافِ: 165] فَإِنْ قِيلَ أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ قَوْلِهِ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ وَبَيْنَ ما

لَوْ قِيلَ فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ إِيمَانُهُمْ؟ قُلْنَا هُوَ مِثْلُ كَانَ فِي نَحْوِ قَوْلُهُ مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مَرْيَمَ: 35] وَالْمَعْنَى فَلَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَنْ يَنْفَعَهُمْ إِيمَانُهُمْ، فَإِنْ قِيلَ اذْكُرُوا ضَابِطًا فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ الْإِتْيَانُ/ بِالْإِيمَانِ فِيهِ، قُلْنَا إِنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يُعَايِنُ فِيهِ نُزُولَ مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَصِيرُ الْمَرْءُ مُلْجَأً إِلَى الْإِيمَانِ فَذَلِكَ الْإِيمَانُ لَا يَنْفَعُ إِنَّمَا يَنْفَعُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى خِلَافِهِ، حَتَّى يَكُونَ الْمَرْءُ مُخْتَارًا، أَمَّا إِذَا عَايَنُوا عَلَامَاتِ الآخرة فلا. ثم قال تعالى: سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّ عَدَمَ قَبُولِ الْإِيمَانِ حَالَ الْيَأْسِ سُنَّةُ اللَّهِ مُطَّرِدَةٌ فِي كُلِّ الْأُمَمِ. ثُمَّ قَالَ: وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ فَقَوْلُهُ هُنالِكَ مُسْتَعَارٌ لِلزَّمَانِ أَيْ وَخَسِرُوا وَقْتَ رُؤْيَةِ الْبَأْسِ، وَاللَّهُ الْهَادِي لِلصَّوَابِ. تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ يَوْمَ السَّبْتِ الثَّانِي مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ فِي بَلْدَةِ هَرَاةَ. يَا مَنْ لَا يَبْلُغُ أَدْنَى مَا اسْتَأْثَرْتَ بِهِ مِنْ جَلَالِكَ وَعِزَّتِكَ أَقْصَى نُعُوتِ النَّاعِتِينَ، يَا مَنْ تَقَاصَرَتْ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِمَبَادِئِ أَسْرَارِ كِبْرِيَائِهِ أَفْهَامُ الْمُتَفَكِّرِينَ، وَأَنْظَارُ الْمُتَأَمِّلِينَ لَا تَجْعَلْنَا بِفَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ فِي زُمْرَةِ الْخَاسِرِينَ الْمُبْطِلِينَ وَلَا تَجْعَلْنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمَحْرُومِينَ، فَإِنَّكَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، وأرحم الراحمين. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

سورة فصلت السجدة

سورة فصلت السجدة خَمْسُونَ وَأَرْبَعُ آيَاتٍ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرّحيم [سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) اعْلَمْ أَنَّ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ احْتِمَالَاتٌ أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَقْوَى أَنْ يُقَالَ حم اسْمٌ لِلسُّورَةِ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْمُبْتَدَأِ وَتَنْزِيلٌ خَبَرُهُ، وَثَانِيهَا: قَالَ الْأَخْفَشُ: تَنْزِيلٌ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَكِتَابٌ خَبَرُهُ، وَثَالِثُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: تَنْزِيلٌ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَنْزِيلٌ/ تَخَصَّصَ بِالصِّفَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فَجَازَ وُقُوعُهُ مُبْتَدَأً. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى السُّورَةِ الْمُسَمَّاةِ بحم بِأَشْيَاءَ أَوَّلُهَا: كَوْنُهُ تَنْزِيلًا وَالْمُرَادُ الْمُنْزَلُ وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ، يُقَالُ هَذَا بِنَاءُ الْأَمِيرِ أَيْ مَبْنِيُّهُ، وَهَذَا الدِّرْهَمُ ضَرْبُ السُّلْطَانِ أَيْ مَضْرُوبُهُ، وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهَا مَنْزِلًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَهَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَأَمَرَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يَحْفَظَ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ ثُمَّ يَنْزِلَ بِهَا عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُبَلِّغَهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا حَصَلَ تَفْهِيمُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ بِوَاسِطَةِ نُزُولِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السلام سمي لذلك تنزيلا وثانيها: كون ذلك التَّنْزِيلِ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كون ذلك التَّنْزِيلِ نِعْمَةً عَظِيمَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَقْرُونَ بِالصِّفَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا لِتِلْكَ الصِّفَةِ، فَكَوْنُهُ تَعَالَى رَحْمَانًا رَحِيمًا صفتان

دَالَّتَانِ عَلَى كَمَالِ الرَّحْمَةِ، فَالتَّنْزِيلُ الْمُضَافُ إِلَى هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى أَعْظَمِ وُجُوهِ النِّعْمَةِ، وَالْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْخَلْقَ فِي هَذَا الْعَالَمِ كَالْمَرْضَى وَالزَّمْنَى وَالْمُحْتَاجِينَ، وَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَرْضَى مِنَ الْأَدْوِيَةِ وَعَلَى كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأَصِحَّاءُ مِنَ الْأَغْذِيَةِ، فَكَانَ أَعْظَمُ النِّعَمِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ هَذَا الْعَالَمِ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ وَثَالِثُهَا: كَوْنُهُ كِتَابًا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الِاسْمَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَمْعِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ كِتَابًا لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهِ عُلُومَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ فُصِّلَتْ آياتُهُ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ فُرِّقَتْ آيَاتُهُ وَجُعِلَتْ تَفَاصِيلَ فِي مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فَبَعْضُهَا فِي وَصْفِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَرْحِ صِفَاتِ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ وَشَرْحِ كَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَجَائِبِ أَحْوَالِ خلقه السموات وَالْأَرْضَ وَالْكَوَاكِبَ وَتَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَعَجَائِبِ أَحْوَالِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ، وَبَعْضُهَا فِي أَحْوَالِ التَّكَالِيفِ الْمُتَوَجِّهَةِ نَحْوَ الْقُلُوبِ وَنَحْوَ الْجَوَارِحِ، وَبَعْضُهَا فِي الوعد والوعيد والثواب والعقاب درجات أَهْلِ الْجَنَّةِ وَدَرَجَاتِ أَهْلِ النَّارِ، وَبَعْضُهَا فِي الْمَوَاعِظِ وَالنَّصَائِحِ وَبَعْضُهَا فِي تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَرِيَاضَةِ النَّفْسِ، وَبَعْضُهَا فِي قَصَصِ الْأَوَّلِينَ وَتَوَارِيخِ الْمَاضِينَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنْ أَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ الْخَلْقِ كِتَابٌ اجْتَمَعَ فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْمَبَاحِثِ الْمُتَبَايِنَةِ مِثْلُ مَا فِي الْقُرْآنِ وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ قُرْآناً وَالْوَجْهُ فِي تَسْمِيَتِهِ قُرْآنًا قَدْ سَبَقَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُرْآناً نُصِبَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَالْمَدْحِ أَيْ أُرِيدُ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمُفَصَّلِ قُرْآنًا مِنْ صِفَتِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَقِيلَ هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ عَرَبِيًّا وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ إِنَّمَا نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَتَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إِبْرَاهِيمَ: 4] وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَالْمَعْنَى إِنَّا جَعَلْنَاهُ عَرَبِيًّا لِأَجْلِ أَنَّا أَنْزَلْنَاهُ عَلَى قَوْمٍ عَرَبٍ فَجَعَلْنَاهُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ لِيَفْهَمُوا مِنْهُ الْمُرَادَ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ مُتَعَلِّقٌ بِمَاذَا؟ قُلْنَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ تَنْزِيلٌ أَوْ بِقَوْلِهِ فُصِّلَتْ أَيْ تَنْزِيلٌ مِنَ اللَّهِ لِأَجْلِهِمْ أَوْ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ لِأَجْلِهِمْ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً مِثْلَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ، أَيْ قُرْآنًا عَرَبِيًّا كَائِنًا لِقَوْمٍ عَرَبٍ، لِئَلَّا يُفَرَّقَ بَيْنَ الصِّلَاتِ وَالصِّفَاتِ وَثَامِنُهَا وَتَاسِعُهَا: قَوْلُهُ بَشِيراً وَنَذِيراً يَعْنِي بَشِيرًا لِلْمُطِيعِينَ بِالثَّوَابِ وَنَذِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ/ بِالْعِقَابِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْقُرْآنَ بِشَارَةٌ وَنِذَارَةٌ إِلَّا أَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ الْفَاعِلِ عَلَيْهِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى كَوْنِهِ كَامِلًا فِي هَذِهِ الصِّفَةِ، كَمَا يُقَالُ شِعْرٌ شَاعِرٌ وَكَلَامٌ قَائِلٌ. الصِّفَةُ الْعَاشِرَةُ: كَوْنُهُمْ مُعْرِضِينَ عَنْهُ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ، فَهَذِهِ هِيَ الصِّفَاتُ الْعَشْرَةُ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ الْقُرْآنَ بِهَا، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَائِلُونَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ وَصَفَ الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ تَنْزِيلًا وَمُنْزَلًا وَالْمُنْزَلُ وَالتَّنْزِيلُ مُشْعِرٌ بِالتَّصْيِيرِ مِنْ حَالٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا الثَّانِي: أَنَّ التَّنْزِيلَ مَصْدَرٌ وَالْمَصْدَرُ هُوَ الْمَفْعُولُ الْمُطْلَقُ بِاتِّفَاقِ النَّحْوِيِّينَ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ إِمَّا الْكِتَابَ وَهُوَ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ الْمُطْلَقُ أَوِ الْمَكْتُوبُ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ فُصِّلَتْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُتَصَرِّفًا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالتَّفْصِيلِ وَالتَّمْيِيزِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْقَدِيمِ الْخَامِسُ: أَنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ قُرْآنًا لِأَنَّهُ قُرِنَ بَعْضُ أَجْزَائِهِ بِالْبَعْضِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَفْعُولَ فَاعِلٍ وَمَجْعُولَ جَاعِلٍ السَّادِسُ: وصفه بكونه عَرَبِيًّا، وَإِنَّمَا صَحَّتْ هَذِهِ النِّسْبَةُ لِأَجْلِ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إِنَّمَا دَخَلَتْ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي بِحَسَبِ وَضْعِ الْعَرَبِ وَاصْطِلَاحَاتِهِمْ، وَمَا جُعِلَ بِجَعْلِ جَاعِلٍ وَفِعْلِ فَاعِلٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا وَمَخْلُوقًا الْجَوَابُ: أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا عَائِدَةٌ إِلَى اللُّغَاتِ وَإِلَى الْحُرُوفِ وَالْكَلِمَاتِ، وَهِيَ عِنْدَنَا مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ، إِنَّمَا الَّذِي نَدَّعِي قِدَمَهُ شَيْءٌ آخَرُ سِوَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ والله أعلم.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ تَنْزِيلُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ مَوْضُوعَةٌ لَهَا بِحَسَبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَأَمَّا حَمْلُهَا عَلَى مَعَانٍ أُخَرَ لَا بِهَذَا الطَّرِيقِ فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا، وَذَلِكَ مِثْلُ الْوُجُوهِ الَّتِي يَذْكُرُهَا أَهْلُ الْبَاطِنِ، مِثْلَ أَنَّهُمْ تَارَةً يَحْمِلُونَ الْحُرُوفَ عَلَى حِسَابِ الْجُمَّلِ وَتَارَةً يَحْمِلُونَ كُلَّ حَرْفٍ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَلِلصُّوفِيَّةِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ فِي الْبَابِ وَيُسَمُّونَهَا عِلْمَ الْمُكَاشَفَةِ والذي يدل عَلَى فَسَادِ تِلْكَ الْوُجُوهِ بِأَسْرِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُرْآناً عَرَبِيًّا وَإِنَّمَا سَمَّاهُ عَرَبِيًّا لِكَوْنِهِ دَالًّا عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الْمَخْصُوصَةِ بِوَضْعِ الْعَرَبِ وَبِاصْطِلَاحَاتِهِمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَمْ تَحْصُلْ إِلَّا عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي الْمَخْصُوصَةِ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ بَاطِلٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ حَصَلَ فِي الْقُرْآنِ من سائر اللغات كقوله إِسْتَبْرَقٍ [الكهف: 31] وسِجِّيلٍ [هود: 82] فإنهما فارسيان، وقوله كَمِشْكاةٍ [النور: 35] فإنها من لغة الحبشة وقوله بِالْقِسْطاسِ [الْإِسْرَاءِ: 35] فَإِنَّهُ مِنْ لُغَةِ الرُّومِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْمَذْهَبِ قَوْلُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا، وَقَوْلُهُ وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إِبْرَاهِيمَ: 4] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ لَفْظُ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ أَلْفَاظٌ شَرْعِيَّةٌ لَا لُغَوِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الشَّرْعَ نَقَلَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ عَنْ مُسَمَّيَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ إِلَى مُسَمَّيَاتٍ أُخْرَى، وَعِنْدَنَا أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ، وَلَيْسَ لِلشَّرْعِ تَصَرُّفٌ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَنْ مُسَمَّيَاتِهَا إِلَّا/ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ خَصَّصَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ بِنَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ أَنْوَاعِ مُسَمَّيَاتِهَا مَثَلًا، الْإِيمَانُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ فَخَصَّصَهُ الشَّرْعُ بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنَ التَّصْدِيقِ، وَالصَّلَاةُ عِبَارَةٌ عَنِ الدُّعَاءِ فَخَصَّصَهُ الشَّرْعُ بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الدُّعَاءِ، كَذَا الْقَوْلُ فِي الْبَوَاقِي وَدَلِيلُنَا عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُرْآناً عَرَبِيًّا، وَقَوْلُهُ وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِنَّمَا وَصَفَ اللَّهُ الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ وَهَذَا الْمَطْلُوبُ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ أَنَّ لُغَةَ الْعَرَبِ أَفْضَلُ اللُّغَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَقْصُودَ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا ضَبَطْنَا أَقْسَامَ فَضَائِلِ اللُّغَاتِ بِضَابِطٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ بَيَّنَّا أَنَّ تِلْكَ الْأَقْسَامَ حَاصِلَةٌ فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ، فَنَقُولُ لَا شَكَ أَنَّ الْكَلَامَ مُرَكَّبٌ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُفْرَدَةِ، وَهِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْحُرُوفِ، فَالْكَلِمَةُ لَهَا مَادَّةٌ وَهِيَ الْحُرُوفُ، وَلَهَا صُورَةٌ وَهِيَ تِلْكَ الْهَيْئَةُ الْمُعَيَّنَةُ الْحَاصِلَةُ عِنْدَ التَّرْكِيبِ. فَهَذِهِ الْفَضِيلَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ إِمَّا بِحَسَبِ مَادَّتِهَا أَوْ بِحَسَبِ صُورَتِهَا، أَمَّا الَّتِي بِحَسَبِ مَادَّتِهَا فَهِيَ آحَادُ الْحُرُوفِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُرُوفَ عَلَى قِسْمَيْنِ بَعْضُهَا بَيِّنَةُ الْمَخَارِجِ ظَاهِرَةُ الْمَقَاطِعِ وَبَعْضُهَا خَفِيَّةُ الْمَخَارِجِ مُشْتَبِهَةُ الْمَقَاطِعِ، وَحُرُوفُ الْعَرَبِ بِأَسْرِهَا ظَاهِرَةُ الْمَخَارِجِ بَيِّنَةُ الْمَقَاطِعِ، وَلَا يَشْتَبِهُ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْآخَرِ. وَأَمَّا الْحُرُوفُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي سَائِرِ اللُّغَاتِ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ قَدْ يَحْصُلُ فِيهَا حَرْفٌ يَشْتَبِهُ بَعْضُهَا بِالْبَعْضِ، وَذَلِكَ يُخِلُّ بِكَمَالِ الْفَصَاحَةِ، وَأَيْضًا الْحَرَكَاتُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي سَائِرِ لُغَةِ الْعَرَبِ حَرَكَاتٌ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ وَهِيَ النَّصْبُ وَالرَّفْعُ وَالْجَرُّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُ يَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهِ امْتِيَازًا ظَاهِرًا جَلِيًّا، وَأَمَّا الْإِشْمَامُ وَالرَّوْمُ فَيَقِلُّ حُصُولُهُمَا فِي لُغَاتِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَيْضًا مَنْ جِنْسِ مَا يُوجِبُ الْفَصَاحَةَ، وَأَمَّا الْكَلِمَاتُ الْحَاصِلَةُ بِحَسَبِ التَّرْكِيبِ فَهِيَ أَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحُرُوفَ عَلَى قِسْمَيْنِ مُتَقَارِبَةُ الْمَخْرَجِ وَمُتَبَاعِدَةُ الْمَخْرَجِ، وَأَيْضًا الْحُرُوفُ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا

صُلْبَةٌ وَمِنْهَا رَخْوَةٌ، فَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا التَّقْسِيمِ أَقْسَامٌ أَرْبَعَةٌ الصُّلْبَةُ الْمُتَقَارِبَةُ، وَالرِّخْوَةُ الْمُتَقَارِبَةُ، وَالصُّلْبَةُ الْمُتَبَاعِدَةُ، وَالرِّخْوَةُ الْمُتَبَاعِدَةُ، فَإِذَا تَوَالَى فِي الْكَلِمَةِ حَرْفَانِ صُلْبَانِ مُتَقَارِبَانِ صَعُبَ اللَّفْظُ بِهَا، لِأَنَّ بِسَبَبِ تَقَارُبِ الْمَخْرَجِ يَصِيرُ التَّلَفُّظُ بِهَا جَارِيًا مَجْرَى مَا إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُقَيَّدًا ثُمَّ يَمْشِي، وَبِسَبَبِ صَلَابَةِ تِلْكَ الْحُرُوفِ تَتَوَارَدُ الْأَعْمَالُ الشَّاقَّةُ الْقَوِيَّةُ عَلَى الْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمَخْرَجِ، وَتَوَالِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ يُوجِبُ الضَّعْفَ وَالْإِعْيَاءَ، وَمِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ قَلِيلٌ وَثَانِيهَا: أَنَّ جِنْسَ بَعْضِ الْحُرُوفِ أَلَذُّ وَأَطْيَبُ فِي السَّمْعِ، وَكُلُّ كَلِمَةٍ يَحْصُلُ فِيهَا حَرْفٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ كَانَ سَمَاعُهَا أَطْيَبَ وَثَالِثُهَا: الْوَزْنُ فَنَقُولُ: الْكَلِمَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ ثُنَائِيَّةً أَوْ ثُلَاثِيَّةً أَوْ رُبَاعِيَّةً، وَأَعْدَلُهَا هُوَ الثُّلَاثِيُّ لِأَنَّ الصَّوْتَ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ بِسَبَبِ الْحَرَكَةِ، وَالْحَرَكَةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَبْدَأٍ وَوَسَطٍ وَمُنْتَهًى، فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ، فَالْكَلِمَةُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ فِيهَا هَذِهِ الْمَرَاتِبُ الثَّلَاثَةُ حَتَّى تَكُونَ تَامَّةً، أَمَّا الثُّنَائِيَّةُ فَهِيَ نَاقِصَةٌ وَأَمَّا الرُّبَاعِيَّةُ فَهِيَ زَائِدَةٌ، وَالْغَائِبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الثُّلَاثِيَّاتُ، فَثَبَتَ بما ذكرنا ضبط فضائل اللُّغَاتِ، وَالِاسْتِقْرَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لُغَةَ الْعَرَبِ مَوْصُوفَةٌ بِهَا، وَأَمَّا سَائِرُ اللُّغَاتِ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يَعْنِي إِنَّمَا جَعَلْنَاهُ عَرَبِيًّا لِأَجْلِ أَنْ يَعْلَمُوا الْمُرَادَ مِنْهُ، وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ مُعَلَّلَةٌ بِالْمَصَالِحِ وَالْحِكَمِ، تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَهُ عَرَبِيًّا لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَعْلِيلَ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ جَائِزٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ قَوْمٌ الْقُرْآنُ كُلُّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ بَلْ فِيهِ مَا يُعْلَمُ، وَفِيهِ مَا لَا يُعْلَمُ، وَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ فِيهِ شَيْءٌ غير معلوم، والدليل عليه قوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يَعْنِي إِنَّمَا جَعَلْنَاهُ عَرَبِيًّا لِيَصِيرَ مَعْلُومًا، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ يَقْدَحُ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَادِيَ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ وَأَنَّ الضَّالَّ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الصِّفَاتِ التِّسْعَةَ الْمَذْكُورَةَ لِلْقُرْآنِ تُوجِبُ قُوَّةَ الِاهْتِمَامِ بِمَعْرِفَتِهِ وَبِالْوُقُوفِ عَلَى مَعَانِيهِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ كَوْنَهُ نَازِلًا مِنْ عِنْدِ الْإِلَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَدُلُّ عَلَى اشْتِمَالِهِ عَلَى أَفْضَلِ الْمَنَافِعِ وَأَجَلِّ الْمَطَالِبِ، وَكَوْنُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا مُفَصَّلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْكَشْفِ وَالْبَيَانِ، وَكَوْنُهُ بَشِيراً وَنَذِيراً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاحْتِيَاجَ إِلَى فَهْمٍ مَا فِيهِ مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ، لِأَنَّ سَعْيَ الْإِنْسَانِ فِي مَعْرِفَةِ مَا يُوَصِّلُهُ إِلَى الثَّوَابِ أَوْ إِلَى الْعِقَابِ مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ، وَقَدْ حَصَلَتْ هَذِهِ الْمُوجِبَاتُ الثَّلَاثَةُ فِي تَأْكِيدِ الرَّغْبَةِ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ وَفِي شِدَّةِ الْمَيْلِ إِلَى الْإِحَاطَةِ بِهِ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ وَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَهْدِيَّ إِلَّا مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ، وَلَا ضَالَّ إِلَّا مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَلَا يَسْمَعُونَهُ، بَيَّنَ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِهَذِهِ النَّفْرَةِ وَالْمُبَاعَدَةِ وَذَكَرُوا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ قَالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَأَكِنَّةٌ جَمْعُ كِنَانٍ كَأَغْطِيَةٍ جَمْعِ غِطَاءٍ، وَالْكِنَانُ هُوَ الَّذِي يُجْعَلُ فِيهِ السِّهَامُ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُمْ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ أَيْ صمم وثقل يمنع مِنِ اسْتِمَاعِ قَوْلِكَ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُمْ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ وَالْحِجَابُ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَالْفَائِدَةُ فِي كَلِمَةِ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ وَمِنْ بَيْنِنا أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ حِجَابٌ، لَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّ حِجَابًا حَصَلَ وَسَطَ الْجِهَتَيْنِ، وَأَمَّا بِزِيَادَةِ لَفْظِ (مِنْ) كَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْحِجَابَ ابْتَدَأَ مِنَّا وَابْتَدَأَ مِنْكَ، فَالْمَسَافَةُ الْحَاصِلَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مُسْتَوْعَبَةٌ

بِالْحِجَابِ، وَمَا بَقِيَ جُزْءٌ مِنْهَا فَارِغًا عَنْ هَذَا الْحِجَابِ فَكَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ دَالَّةً عَلَى قُوَّةِ هَذَا الْحِجَابِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَلْبَ مَحَلُّ الْمَعْرِفَةِ وَسُلْطَانُ الْبَدَنِ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ هُمَا الْآلَتَانِ الْمُعَيَّنَتَانِ لِتَحْصِيلِ الْمَعَارِفِ، فَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مَحْجُوبَةٌ كَانَ ذَلِكَ أَقْصَى مَا يُمْكِنُ فِي هَذَا الْبَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا تَأَكَّدَتِ النَّفْرَةُ عَنِ الشَّيْءِ صَارَتْ تِلْكَ النَّفْرَةُ فِي الْقَلْبِ فَإِذَا سَمِعَ مِنْهُ كَلَامًا لَمْ يُفْهَمْ مَعْنَاهُ كَمَا يَنْبَغِي، وَإِذَا رَآهُ لَمْ تَصِرْ تِلْكَ الرُّؤْيَةُ سَبَبًا لِلْوُقُوفِ على دقائق أحوالك ذَلِكَ/ الْمَرْئِيِّ، وَذَلِكَ الْمُدْرِكُ وَالشَّاعِرُ هُوَ النَّفْسُ، وَشَدَّةُ نَفْرَةِ النَّفْسِ عَنِ الشَّيْءِ تَمْنَعُهَا مِنَ التَّدَبُّرِ وَالْوُقُوفِ عَلَى دَقَائِقِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ اسْتِعَارَاتٍ كَامِلَةً فِي إِفَادَةِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى هَذَا الْمَعْنَى عَنِ الْكُفَّارِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، وَذَكَرَ أَيْضًا مَا يُقَرِّبُ مِنْهُ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ فَقَالَ: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 88] . ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ بِعَيْنِهَا فِي مَعْرِضِ التَّقْرِيرِ وَالْإِثْبَاتِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فَقَالَ: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الْأَنْعَامِ: 25] فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْنَا إِنَّهُ لم يقل هاهنا إِنَّهُمْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ إِنَّمَا الَّذِي ذَمَّهُمْ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا إِذَا كُنَّا كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ تَكْلِيفُنَا وَتَوْجِيهُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَيْنَا، وَهَذَا الثَّانِي بَاطِلٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِيهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا وَصَفُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ قَالُوا فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ وَالْمُرَادُ فَاعْمَلْ عَلَى دِينِكَ إِنَّنَا عَامِلُونَ عَلَى دِينِنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَاعْمَلْ فِي إِبْطَالِ أَمْرِنَا إِنَّنَا عَامِلُونَ فِي إِبْطَالِ أَمْرِكَ، وَالْحَاصِلُ عِنْدَنَا أَنَّ الْقَوْمَ مَا كَذَبُوا فِي قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ بَلْ إِنَّمَا أَتَوْا بِالْكُفْرِ وَالْكَلَامِ الْبَاطِلِ فِي قَوْلِهِمْ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ. وَلَمَّا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ هَذِهِ الشُّبْهَةَ أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ وَبَيَانُ هَذَا الْجَوَابِ كَأَنَّهُ يَقُولُ إِنِّي لَا أَقْدِرُ أَنْ أَحْمِلَكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ جَبْرًا وَقَهْرًا فَإِنِّي بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَا امْتِيَازَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِلَّا بِمُجَرَّدِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَى إِلَيَّ وَمَا أَوْحَى إِلَيْكُمْ فَأَنَا أُبَلِّغُ هَذَا الْوَحْيَ إِلَيْكُمْ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ شَرَّفَكُمُ اللَّهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّوْفِيقِ قَبِلْتُمُوهُ، وَإِنْ خَذَلَكُمْ بِالْحِرْمَانِ رَدَدْتُمُوهُ، وَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِنَبُّوتِي وَرِسَالَتِي، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ خُلَاصَةَ ذَلِكَ الْوَحْيِ تَرْجِعُ إِلَى أَمْرَيْنِ: الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ، أَمَّا الْعِلْمُ فَالرَّأْسُ وَالرَّئِيسُ فِيهِ مَعْرِفَةُ التَّوْحِيدِ، ذَلِكَ لِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وَإِذَا كَانَ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَرِفَ بِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَةِ: 6] وَقَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فُصِّلَتْ: 30] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الْأَنْعَامِ: 153] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: فَاسْتَقِيمُوا مُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهِ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ مَعْنَاهُ فَاسْتَقِيمُوا لَهُ لِأَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يُقَامُ بَعْضُهَا مُقَامَ البعض.

وَاعْلَمْ أَنَّ التَّكْلِيفَ لَهُ رُكْنَانِ أَحَدُهُمَا: الِاعْتِقَادُ وَالرَّأْسُ وَالرَّئِيسُ فِيهِ اعْتِقَادُ التَّوْحِيدِ، فَلَمَّا أَمَرَ بِذَلِكَ انْتَقَلَ إِلَى وَظِيفَةِ الْعَمَلِ وَالرَّأْسُ وَالرَّئِيسُ فِيهِ الِاسْتِغْفَارُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: وَاسْتَغْفِرُوهُ/ فَإِنْ قِيلَ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ إِزَالَةُ مَا لَا يَنْبَغِي وَذَلِكَ مُقَدَّمٌ عَلَى فِعْلِ مَا ينبغي، فلم عكس هذا الترتيب هاهنا وقدم ما ينبغي على إزالة ما لا يَنْبَغِي؟ قُلْنَا لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الِاسْتِغْفَارِ الِاسْتِغْفَارَ عَنِ الْكُفْرِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَعْمَلَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرَ بَعْدَهُ لِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنْ وُقُوعِ التَّقْصِيرِ فِي الْعَمَلِ الَّذِي أَتَى بِهِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً» وَلَمَّا رَغَّبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ أَمَرَ بِالتَّحْذِيرِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي، فَقَالَ: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَجْهُ النَّظْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعُقُولَ وَالشَّرَائِعَ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ خُلَاصَةَ السَّعَادَاتِ مَرْبُوطَةٌ بأمرين التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْجُودَاتِ، إِمَّا الْخَالِقُ وَإِمَّا الْخَلْقُ، فَأَمَّا الْخَالِقُ فَكَمَالُ السَّعَادَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَهُ أَنْ يُقِرَّ بِكَوْنِهِ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ، ثُمَّ يَأْتِي بِأَفْعَالٍ دَالَّةٍ عَلَى كَوْنِهِ فِي نِهَايَةِ الْعَظَمَةِ فِي اعْتِقَادِنَا وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْخَلْقُ فَكَمَالُ السَّعَادَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَهُمْ أَنْ يَسْعَى فِي دَفْعِ الشَّرِّ عَنْهُمْ وَفِي إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، فَثَبَتَ أَنْ أَعْظَمَ الطَّاعَاتِ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَأَفْضَلُ أَبْوَابِ التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ الْإِقْرَارُ بِكَوْنِهِ وَاحِدًا وَإِذَا كَانَ التَّوْحِيدُ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ وَأَشْرَفَهَا كَانَ ضِدُّهُ وَهُوَ الشِّرْكُ أَخَسَّ الْمَرَاتِبِ وَأَرْذَلَهَا، وَلَمَّا كَانَ أَفْضَلُ أَنْوَاعِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَلْقِ هُوَ إِظْهَارُ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ كَانَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الزَّكَاةِ أَخَسَّ الْأَعْمَالِ، لِأَنَّهُ ضِدُّ الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ الْوَيْلَ لِمَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِصِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ أَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ مُشْرِكًا وَهُوَ ضِدُّ التَّوْحِيدِ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَثَانِيهَا: كَوْنُهُ مُمْتَنِعًا مِنَ الزَّكَاةِ وَهُوَ ضِدُّ الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَثَالِثُهَا: كَوْنُهُ مُنْكِرًا لِلْقِيَامَةِ مُسْتَغْرِقًا فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي أَنَّهُ لَا زِيَادَةَ عَلَى هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ: الْأَمْسُ وَالْيَوْمُ وَالْغَدُ. أَمَّا مَعْرِفَةُ أَنَّهُ كَيْفَ كَانَتْ أَحْوَالُ الْأَمْسِ فِي الْأَزَلِ فَهُوَ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْأَزَلِيِّ الْخَالِقِ لِهَذَا الْعَالَمِ. وَأَمَّا مَعْرِفَةُ أَنَّهُ كَيْفَ يَنْبَغِي وُقُوعُ الْأَحْوَالِ فِي الْيَوْمِ الْحَاضِرِ فَهُوَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى أَهْلِ الْعَالَمِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْأَحْوَالِ فِي الْيَوْمِ الْمُسْتَقْبَلِ فَهُوَ الْإِقْرَارُ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ عَلَى ضِدِّ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ كَانَ فِي نِهَايَةِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، فَلِهَذَا حَكَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْوَيْلِ، فَقَالَ: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَهَذَا تَرْتِيبٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ أَيْ لَا يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ لَوَثِ الشِّرْكِ بِقَوْلِهِمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها [الشَّمْسِ: 7] الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ قُرَيْشًا كَانْتَ تُطْعِمُ الْحَاجَّ، فَحَرَّمُوا ذَلِكَ عَلَى مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى أَلْحَقَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِنَاءً عَلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ مُشْرِكًا وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُؤْتِي الزَّكَاةَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ تَأْثِيرٌ فِي حُصُولِ ذَلِكَ الْوَعِيدِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِعَدَمِ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ مِنَ الْمُشْرِكَ تَأْثِيرًا عَظِيمًا فِي زِيَادَةِ الْوَعِيدِ، وَذَلِكَ هو المطلوب.

[سورة فصلت (41) : الآيات 9 إلى 12]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ يُوجِبُ الْكُفْرَ، فَقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الصِّفَةَ ذَكَرَ قَبْلَهَا مَا يُوجِبُ الْكُفْرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَذَكَرَ أَيْضًا بَعْدَهَا مَا يُوجِبُ الْكُفْرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَدَمُ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ كُفْرًا لَكَانَ ذِكْرُهُ فِيمَا بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ الْمُوجِبَتَيْنِ لِلْكُفْرِ قَبِيحًا، لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَكُونُ فَصِيحًا إِذَا كَانَتِ الْمُنَاسَبَةُ مَرْعِيَّةً بَيْنَ أَجْزَائِهِ، ثُمَّ أَكَّدُوا ذَلِكَ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَكَمَ بِكُفْرِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْجَوَابُ: لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ وَهُمَا حَاصِلَانِ عِنْدَ عَدَمِ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَلَمْ يَلْزَمْ حُصُولُ الْكُفْرِ بِسَبَبِ عَدَمِ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الْكُفَّارِ أَرْدَفَهُ بِوَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أَيْ غَيْرُ مَقْطُوعٍ، مِنْ قَوْلِكَ مَنَنْتُ الْحَبْلَ، أَيْ قَطَعْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ قَدْ مَنَّهُ السَّفَرُ، أَيْ قَطَعَهُ، وَقِيلَ لَا يَمُنُّ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا سَمَّاهُ أَجْرًا، فَإِذًا الْأَجْرُ لَا يُوجِبُ الْمِنَّةَ، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي الْمَرْضَى وَالزَّمْنَى إِذَا عَجَزُوا عَنِ الطَّاعَةِ كُتِبَ لهم الأجر كأحسن ما كانوا يعملون. [سورة فصلت (41) : الآيات 9 الى 12] قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) [في قوله تعالى قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنْ يَقُولَ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الكهف: 110] فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ [فصلت: 6] أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُ تَعَالَى وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَعْبُودِيَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ بَيَّنَ كَمَالَ قدرته وحكمته في خلق السموات وَالْأَرْضِ فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ، فَمَنْ هَذَا صِفَتُهُ كَيْفَ يَجُوزُ جَعْلُ الْأَصْنَامِ الْخَسِيسَةِ شُرَكَاءَ لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَعْبُودِيَّةِ؟ فَهَذَا تَقْرِيرُ النَّظْمِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَيِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِهَمْزَةٍ وَيَاءٍ بَعْدَهَا خَفِيفَةٍ سَاكِنَةٍ بِلَا مَدٍّ، وَأَمَّا نَافِعٌ فِي رِوَايَةِ قَالُونَ وأبوا عَمْرٍو فَعَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، إِلَّا أَنَّهُمَا يَمُدَّانِ، وَالْبَاقُونَ هَمْزَتَيْنِ بِلَا مَدٍّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تعالى: أَإِنَّكُمْ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَقَدْ ذَكَرَ عَنْهُمْ شَيْئَيْنِ مُنْكَرَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْكُفْرُ بِاللَّهِ. وَهُوَ قَوْلُهُ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَثَانِيهِمَا: إِثْبَاتُ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ لَهُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكُفْرُ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا مُغَايِرًا لِإِثْبَاتِ الْأَنْدَادِ لَهُ، ضَرُورَةَ أن عطف أحدهما على لآخر يُوجِبُ التَّغَايُرَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كُفْرِهِمْ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْدِرُ عَلَى حَشْرِ الْمَوْتَى، فَلَمَّا نَازَعُوا فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ فَقَدْ كَفَرُوا بِاللَّهِ الثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يُنَازِعُونَ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ، وَفِي بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْحٌ فِي الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ كُفْرٌ بِاللَّهِ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُضِيفُونَ إِلَيْهِ الْأَوْلَادَ، وَذَلِكَ أَيْضًا قدح

فِي الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ يُوجِبُ الْكُفْرَ بِاللَّهِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ لِأَجْلِ قَوْلِهِمْ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَأَثْبَتُوا الْأَنْدَادَ أَيْضًا لِلَّهِ لِأَجْلِ قَوْلِهِمْ بِإِلَهِيَّةِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ، وَاحْتَجَّ تَعَالَى عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ بِالتَّأْثِيرِ فَقَالَ كَيْفَ يَجُوزُ الْكُفْرُ بِاللَّهِ، وَكَيْفَ يَجُوزُ جَعْلُ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الْخَسِيسَةِ أَنْدَادًا لِلَّهِ تَعَالَى، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَمَّمَ بَقِيَّةَ مَصَالِحِهَا فِي يومين آخرين وخلق السموات بِأَسْرِهَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ؟ فَمَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْعَظِيمَةِ، كَيْفَ يُعْقَلُ الْكُفْرُ بِهِ وَإِنْكَارُ قُدْرَتِهِ عَلَى الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَكَيْفَ يُعْقَلُ إِنْكَارُ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّكْلِيفِ وَعَلَى بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَيْفَ يُعْقَلُ جَعْلُ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الْخَسِيسَةِ أَنْدَادًا لَهُ فِي الْمَعْبُودِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ، فَإِنْ قِيلَ مَنِ اسْتَدَلَّ بِشَيْءٍ عَلَى إِثْبَاتِ شَيْءٍ، فَذَلِكَ الشَّيْءُ الْمُسْتَدَلُّ بِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَلَّمًا عِنْدَ الْخَصْمِ حَتَّى يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، وَكَوْنُهُ تَعَالَى خَالِقًا لِلْأَرْضِ فِي يَوْمَيْنِ أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ بِالْعَقْلِ الْمَحْضِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ بِالسَّمْعِ وَوَحْيِ/ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْكُفَّارُ كَانُوا مُنَازِعِينَ فِي الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ، فَلَا يُعْقَلُ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا امْتَنَعَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ عَلَيْهِمُ امْتَنَعَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى فَسَادِ مَذَاهِبِهِمْ، قُلْنَا إثبات كون السموات وَالْأَرْضِ مَخْلُوقَةً بِطَرِيقِ الْعَمَلِ مُمْكِنٌ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ أَمْكَنَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْقَاهِرِ الْعَظِيمِ، وَحِينَئِذٍ يُقَالُ لِلْكَافِرِينَ فَكَيْفَ يُعْقَلُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْإِلَهِ الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الْقُدْرَةِ الْقَاهِرَةِ وَبَيْنَ الصَّنَمِ الَّذِي هُوَ جَمَادٌ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ فِي الْمَعْبُودِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ؟ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى فِي الِاسْتِدْلَالِ بِكَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقًا لِلْأَرْضِ فِي يَوْمَيْنِ أَثَرٌ، فَنَقُولُ هَذَا أَيْضًا لَهُ أَثَرٌ فِي هَذَا الْبَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَوَّلَ التَّوْرَاةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَكَانَ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الشُّهْرَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَكُفَّارُ مَكَّةَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْعُلُومِ وَالْحَقَائِقِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ سَمِعُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ هَذِهِ الْمَعَانِيَ وَاعْتَقَدُوا فِي كَوْنِهَا حَقَّةً، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ إِنَّ الْإِلَهَ الْمَوْصُوفَ بِالْقُدْرَةِ عَلَى خلق هذه الْأَشْيَاءِ الْعَظِيمَةِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الصَّغِيرَةِ كَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَقْلِ جَعْلُ الْخَشَبِ الْمَنْجُورِ وَالْحَجَرِ الْمَنْحُوتِ شَرِيكًا لَهُ فِي الْمَعْبُودِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ؟ فَظَهَرَ بِمَا قَرَّرْنَا أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ قَوِيٌّ حَسَنٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ أَيْ ذَلِكَ الْمَوْجُودُ الَّذِي عَلِمْتَ مِنْ صِفَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَنَّهُ خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَخَالِقُهُمْ وَمُبْدِعُهُمْ، فَكَيْفَ أَثْبَتُّمْ لَهُ أَنْدَادًا مِنَ الْخَشَبِ وَالْحَجَرِ؟ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ كَوْنِهِ خَالِقًا لِلْأَرْضِ فِي يَوْمَيْنِ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَتَى بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الصُّنْعِ الْعَجِيبِ وَالْفِعْلِ الْبَدِيعِ بَعْدَ ذَلِكَ فَالْأَوَّلُ: قَوْلُهُ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَالْمُرَادُ مِنْهَا الْجِبَالُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ كَوْنِهَا رَواسِيَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [15] ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ مِنْ فَوْقِها وَلِمَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى قَوْلِهِ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ [الْمُرْسَلَاتِ: 27] وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ [الرَّعْدِ: 3] قُلْنَا لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ تَحْتِهَا لَأَوْهَمَ ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْأَسَاطِينَ التَّحْتَانِيَّةَ هِيَ الَّتِي أَمْسَكَتْ هَذِهِ الْأَرْضَ الثَّقِيلَةَ عَنِ النُّزُولِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى قَالَ خَلَقْتُ هَذِهِ الْجِبَالَ الثِّقَالَ فَوْقَ الْأَرْضِ، لِيَرَى الْإِنْسَانُ بِعَيْنِهِ أَنَّ الْأَرْضَ وَالْجِبَالَ أَثْقَالٌ عَلَى أَثْقَالٍ، وَكُلُّهَا مُفْتَقِرَةٌ إِلَى مُمْسِكٍ وَحَافِظٍ، وَمَا ذَاكَ الْحَافِظُ الْمُدَبِّرُ إِلَّا اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ وَبارَكَ فِيها وَالْبَرَكَةُ كَثْرَةُ الْخَيْرِ وَالْخَيْرَاتُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِمَّا يُحِيطُ بِهِ الشَّرْحُ وَالْبَيَانُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ شَقَّ الْأَنْهَارِ وَخَلْقَ الْجِبَالِ وَخَلْقَ الْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَخَلْقَ أَصْنَافِ الْحَيَوَانَاتِ وَكُلِّ مَا يحتاج

إِلَيْهِ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها وَفِيهِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَ أَهْلِهَا وَمَعَايِشَهُمْ وَمَا يُصْلِحُهُمْ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: قَدَّرَ أَقْوَاتَ الْأَبْدَانِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْأَبْدَانَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا مِنَ الْمَطَرِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْأَقْوَاتُ لِلْأَرْضِ لَا لِلسُّكَّانِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ لِكُلِّ أَرْضٍ حَظَّهَا مِنَ الْمَطَرِ وَالْقَوْلُ/ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ إِضَافَةِ الْأَقْوَاتِ إِلَى الْأَرْضِ كَوْنُهَا مُتَوَلِّدَةً مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ، وَحَادِثَةً فِيهَا لِأَنَّ النَّحْوِيِّينَ قَالُوا يَكْفِي فِي حُسْنِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ فَالشَّيْءُ قَدْ يُضَافُ إِلَى فَاعِلِهِ تَارَةً وَإِلَى مَحَلِّهِ أُخْرَى، فَقَوْلُهُ وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أَيْ قَدَّرَ الْأَقْوَاتَ الَّتِي يَخْتَصُّ حُدُوثُهَا بِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ كُلَّ بَلْدَةٍ مَعْدِنًا لِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَطْلُوبَةِ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْبَلْدَةِ يَحْتَاجُونَ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْمُتَوَلِّدَةِ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ وَبِالْعَكْسِ، فَصَارَ هَذَا الْمَعْنَى سَبَبًا لِرَغْبَةِ النَّاسِ فِي التِّجَارَاتِ مِنِ اكْتِسَابِ الْأَمْوَالِ، وَرَأَيْتُ مَنْ كَانَ يَقُولُ صَنْعَةُ الزِّرَاعَةِ وَالْحِرَاثَةِ أَكْثَرُ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ بَرَكَةً، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ الْأَرْزَاقَ وَالْأَقْوَاتَ فِي الْأَرْضِ قَالَ: وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها وَإِذَا كَانَتِ الْأَقْوَاتُ مَوْضُوعَةً فِي الْأَرْضِ كَانَ طَلَبُهَا مِنَ الْأَرْضِ مُتَعَيِّنًا، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ مِنَ التَّدْبِيرِ قَالَ بَعْدَهُ: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ أَصْلَحَ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أُخَرَ، وذكر أنه خلق السموات فِي يَوْمَيْنِ، فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، لَكِنَّهُ ذكر في سائر الآيات أنه خلق السموات وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فَلَزِمَ التَّنَاقُضُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجَابُوا عَنْهُ بِأَنْ قَالُوا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ مَعَ الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلِينَ، وَهَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ سِرْتُ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى بَغْدَادَ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَسِرْتُ إِلَى الْكُوفَةِ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا يُرِيدُ كِلَا الْمَسَافَتَيْنِ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ أَعْطَيْتُكَ أَلْفًا فِي شَهْرٍ وَأُلُوفًا فِي شَهْرَيْنِ فَيَدْخُلُ الْأَلْفُ فِي الْأُلُوفِ وَالشَّهْرُ فِي الشَّهْرَيْنِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، فَلَوْ ذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ الْبَاقِيَةَ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ كَانَ أَبْعَدَ عَنِ الشُّبْهَةِ وَأَبْعَدَ عَنِ الْغَلَطِ، فَلِمَ تَرَكَ هَذَا التَّصْرِيحَ، وَذَكَرَ ذَلِكَ الْكَلَامَ الْمُجْمَلَ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ فِيهِ فَائِدَةٌ عَلَى مَا إِذَا قَالَ خَلَقْتُ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ فِي يَوْمَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ خَلَقْتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فِي يومين لم يفد هذا الكلام كون هذين اليومين مستغرقين بتلك الأعمال لأنه قد يقال عملت هذا العمل فِي يَوْمَيْنِ مَعَ أَنَّ الْيَوْمَيْنِ مَا كَانَا مُسْتَغْرَقَيْنِ بِذَلِكَ الْعَمَلِ، أَمَّا لَمَّا ذَكَرَ خَلْقَ الْأَرْضِ وَخَلْقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ الْأَرْبَعَةَ صَارَتْ مُسْتَغْرَقَةً فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ الْقِرَاءَاتُ فِي قَوْلِهِ سَواءً؟ وَالْجَوَابُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ سَواءً بالحركات الثلاثة الْجَرِّ عَلَى الْوَصْفِ وَالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ اسْتَوَتْ سواء أي استواء وَالرَّفْعِ عَلَى هِيَ سَوَاءٌ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ تِلْكَ الْأَيَّامِ الْأَرْبَعَةِ سَوَاءً؟ فَنَقُولُ إِنَّ الْأَيَّامَ قَدْ تَكُونُ مُتَسَاوِيَةَ الْمَقَادِيرِ كَالْأَيَّامِ الْمَوْجُودَةِ فِي أَمَاكِنِ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ وَقَدْ تَكُونُ مُخْتَلِفَةً كَالْأَيَّامِ/ الْمَوْجُودَةِ فِي سَائِرِ الْأَمَاكِنِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ الْأَرْبَعَةَ كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً غَيْرَ مُخْتَلِفَةٍ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: بِمَ يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ لِلسَّائِلِينَ؟ الْجَوَابُ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الزَّجَّاجَ قَالَ قَوْلُهُ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَيْ فِي تَتِمَّةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالتَّقْدِيرُ وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي تَتِمَّةِ أَرْبَعَةِ أيام لأجل.

السَّائِلِينَ أَيِ الطَّالِبِينَ لِلْأَقْوَاتِ الْمُحْتَاجِينَ إِلَيْهَا وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قِيلَ هَذَا الْحَصْرُ وَالْبَيَانُ لِأَجْلِ مَنْ سَأَلَ كَمْ خُلِقَتِ الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا، وَلَمَّا شَرَحَ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ تَخْلِيقِ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا أَتْبَعَهُ بِكَيْفِيَّةِ تخليق السموات فَقَالَ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ مِنْ قَوْلِهِمُ اسْتَوَى إِلَى مَكَانِ كَذَا إِذَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ تَوَجُّهًا لَا يَلْتَفِتُ مَعَهُ إِلَى عَمَلٍ آخَرَ، وَهُوَ مِنَ الِاسْتِوَاءِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الِاعْوِجَاجِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمُ اسْتَقَامَ إِلَيْهِ وَامْتَدَّ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ [فُصِّلَتْ: 6] وَالْمَعْنَى ثُمَّ دَعَاهُ دَاعِي الْحِكْمَةِ إِلَى خَلْقِ السَّمَاءِ بَعْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا، مِنْ غَيْرِ صَرْفٍ يَصْرِفُهُ ذَلِكَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: ذَكَرَ صَاحِبُ «الْأَثَرِ» أَنَّهُ كَانَ عرش الله على الماء قبل خلق السموات وَالْأَرْضِ فَأَحْدَثَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ سُخُونَةً فَارْتَفَعَ زَبَدٌ وَدُخَانٌ، أَمَّا الزَّبَدُ فَيَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فَخَلَقَ اللَّهُ مِنْهُ الْيُبُوسَةَ وَأَحْدَثَ مِنْهُ الْأَرْضَ، وَأَمَّا الدُّخَانُ فَارْتَفَعَ وَعَلَا فَخَلَقَ الله منه السموات. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الْقُرْآنِ، فَإِنْ دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ صَحِيحٌ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَذْكُورَةٌ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ الَّذِي يَزْعُمُ الْيَهُودُ أَنَّهُ التَّوْرَاةُ، وَفِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَاءَ مِنْ أَجْزَاءٍ مُظْلِمَةٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ لِأَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا فِي الْمَعْقُولَاتِ عَلَى أَنَّ الظُّلْمَةَ لَيْسَتْ كَيْفِيَّةً وُجُودِيَّةً، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ جَلَسَ إِنْسَانٌ فِي ضَوْءِ السِّرَاجِ وَإِنْسَانٌ آخَرُ فِي الظُّلْمَةِ، فَإِنَّ الَّذِي جَلَسَ فِي الضَّوْءِ لَا يَرَى مَكَانَ الْجَالِسِ فِي الظُّلْمَةِ وَيَرَى ذَلِكَ الْهَوَاءَ مُظْلِمًا، وَأَمَّا الَّذِي جَلَسَ فِي الظُّلْمَةِ فَإِنَّهُ يَرَى ذَلِكَ الَّذِي كَانَ جَالِسًا فِي الضَّوْءِ وَيَرَى ذَلِكَ الْهَوَاءَ مُضِيئًا، وَلَوْ كَانَتِ الظُّلْمَةُ صِفَةً قَائِمَةً بِالْهَوَاءِ لَمَا اخْتَلَفَتِ الْأَحْوَالُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاظِرِينَ، فَثَبَتَ أَنَّ الظُّلْمَةَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ النور، فالله سبحانه وتعالى لما خلق الأجزاء التي لا تتجزأ، فقبل أن خلق فيها كيفية الضوء كانت مظلمة عديمة النور، ثم لما ركبها وجعلها سموات وَكَوَاكِبَ وَشَمْسًا وَقَمَرًا، وَأَحْدَثَ صِفَةَ الضَّوْءِ فِيهَا فَحِينَئِذٍ صَارَتْ مُسْتَنِيرَةً، فَثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ حِينَ قَصَدَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَخْلُقَ مِنْهَا السموات وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كَانَتْ مُظْلِمَةً، فَصَحَّ تَسْمِيَتُهَا بِالدُّخَانِ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلدُّخَانِ إِلَّا أَجْزَاءً مُتَفَرِّقَةً غَيْرَ مُتَوَاصِلَةٍ عَدِيمَةَ النُّورِ، فَهَذَا مَا خَطَرَ بِالْبَالِ فِي تَفْسِيرِ الدُّخَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ مُشْعِرٌ بِأَنَّ تَخْلِيقَ السَّمَاءِ حَصَلَ بَعْدَ تَخْلِيقِ الْأَرْضِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النَّازِعَاتِ: 30] مُشْعِرٌ بِأَنَّ تَخْلِيقَ الْأَرْضِ حَصَلَ بَعْدَ تَخْلِيقِ السَّمَاءِ وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّنَاقُضَ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَالْجَوَابُ الْمَشْهُورُ: أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى/ خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ خَلَقَ بَعْدَهَا السَّمَاءَ، ثُمَّ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ دَحَا الْأَرْضَ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَزُولُ التَّنَاقُضُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ: مُشْكِلٌ عِنْدِي مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، ثُمَّ إِنَّهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ لَا يُمْكِنُ إِدْخَالُهَا فِي الْوُجُودِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ صَارَتِ الْأَرْضُ مَدْحُوَّةً لِأَنَّ خَلْقَ الْجِبَالِ فِيهَا لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ صَارَتِ الْأَرْضُ مَدْحُوَّةً مُنْبَسِطَةً، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَبارَكَ فِيها مُفَسَّرٌ بِخَلْقِ الْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ فِيهَا، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا مُنْبَسِطَةً، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَاءَ بَعْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَبَعْدَ أَنْ جَعَلَهَا مَدْحُوَّةً، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ السُّؤَالُ الْمَذْكُورُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ دَلَّتِ الدَّلَائِلُ الْهَنْدَسِيَّةُ عَلَى أن

الْأَرْضَ كُرَةٌ، فَهِيَ فِي أَوَّلِ حُدُوثِهَا إِنْ قُلْنَا إِنَّهَا كَانَتْ كُرَةً وَالْآنَ بَقِيَتْ كُرَةً أَيْضًا فَهِيَ مُنْذُ خُلِقَتْ كَانَتْ مَدْحُوَّةً، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا غَيْرُ كُرَةٍ ثُمَّ جُعِلَتْ كُرَةً فَيَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا كَانَتْ مَدْحُوَّةً قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ أُزِيلَ عَنْهَا هَذِهِ الصِّفَةُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَرْضَ جِسْمٌ فِي غَايَةِ الْعِظَمِ، وَالْجِسْمُ الَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ أَوَّلِ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ يَكُونُ مَدْحُوًّا، فَيَكُونُ الْقَوْلُ بِأَنَّهَا مَا كَانَتْ مَدْحُوَّةً، ثُمَّ صَارَتْ مدحوة قول باطل، وَالَّذِي جَاءَ فِي كُتُبِ التَّوَارِيخِ أَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ فِي مَوْضِعِ الصَّخْرَةِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَهُوَ كلام مشكل لأنه إن كانت الْمُرَادُ أَنَّهَا عَلَى عِظَمِهَا خُلِقَتْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَهَذَا قَوْلٌ بِتَدَاخُلِ الْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ خَلَقَ أَوَّلًا أَجْزَاءً صَغِيرَةً فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ثُمَّ خَلَقَ بَقِيَّةَ أَجْزَائِهَا، وَأُضِيفَتْ إِلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي خُلِقَتْ أَوَّلًا، فَهَذَا يَكُونُ اعْتِرَافًا بِأَنَّ تَخْلِيقَ الْأَرْضِ وَقَعَ مُتَأَخِّرًا عَنْ تَخْلِيقِ السَّمَاءِ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ تَخْلِيقُ ذَاتِ الْأَرْضِ فِي يَوْمَيْنِ وَتَخْلِيقُ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي الأرض في يومين آخرين وتخليق السموات فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ كَانَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ سِتَّةَ أَيَّامٍ، فَإِذَا حَصَلَ دَحْوُ الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ هَذَا الدَّحْوُ فِي زَمَانٍ آخَرَ بَعْدَ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ، فَحِينَئِذٍ يَقَعُ تَخْلِيقُ السموات وَالْأَرْضِ فِي أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَيَّامٍ وَذَلِكَ بَاطِلٌ الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ (وَهِيَ دُخانٌ) فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً كِنَايَةٌ عَنْ إِيجَادِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَلَوْ تَقَدَّمَ إِيجَادُ السَّمَاءِ عَلَى إِيجَادِ الْأَرْضِ لَكَانَ قَوْلُهُ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً يَقْتَضِي إِيجَادَ الْمَوْجُودِ وَأَنَّهُ مُحَالٌ بَاطِلٌ. فَهَذَا تَمَامُ الْبَحْثِ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ الْمَشْهُورِ، وَنَقَلَ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» عَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّهُ قَالَ: خلق الله السموات قَبْلَ الْأَرْضِ وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ ثُمَّ كَانَ قَدِ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ، وَقَالَ لَهَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْأَرْضَ فَأَضْمَرَ فِيهِ كَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يُوسُفَ: 77] مَعْنَاهُ إِنْ يَكُنْ سَرَقَ، وَقَالَ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا [الْأَعْرَافِ: 4] وَالْمَعْنَى فَكَانَ قَدْ جَاءَهَا، هَذَا مَا نَقَلَهُ الْوَاحِدِيُّ وَهُوَ عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ ثُمَّ كَانَ قَدِ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ، وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ لِأَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ تَقْتَضِي التَّأْخِيرَ، وَكَلِمَةَ كَانَ/ تَقْتَضِي التَّقْدِيمَ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يُفِيدُ التَّنَاقُضَ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ «1» وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً إِنَّمَا حَصَلَ قَبْلَ وُجُودِهِمَا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ حَمْلُ قَوْلِهِ ائْتِيا عَلَى الْأَمْرِ وَالتَّكْلِيفِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، بَقِيَ عَلَى لَفْظِ الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً؟ الْجَوَابُ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ إظهار كمال القدرة والتقدير: ائتيا شِئْتُمَا ذَلِكَ أَوْ أَبَيْتُمَا، كَمَا يَقُولُ الْجَبَّارُ لِمَنْ تَحْتَ يَدِهِ لَتَفْعَلَنَّ هَذَا شِئْتَ أَوْ لَمْ تَشَأْ، وَلَتَفْعَلَنَّهُ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، وَانْتِصَابُهُمَا عَلَى الْحَالِ بِمَعْنَى طَائِعِينَ أَوْ مُكْرَهِينَ قالَتا أَتَيْنا عَلَى الطَّوْعِ لَا عَلَى الْكَرْهِ، وَقِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ ثُمَّ ذَكَرَ الطوع والكره، فوجب أن يتصرف الطَّوْعُ إِلَى السَّمَاءِ وَالْكَرْهُ إِلَى الْأَرْضِ بِتَخْصِيصِ السَّمَاءِ بِالطَّوْعِ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ السَّمَاءَ فِي دَوَامِ حَرَكَتِهَا عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُ، تُشْبِهُ حَيَوَانًا مُطِيعًا لِلَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ الْأَرْضِ فَإِنَّهَا مُخْتَلِفَةُ الْأَحْوَالِ، تَارَةً تَكُونُ فِي السُّكُونِ وَأُخْرَى فِي الْحَرَكَاتِ الْمُضْطَرِبَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَوْجُودَ فِي السَّمَاءِ لَيْسَ لَهَا إِلَّا الطَّاعَةُ، قَالَ تعالى:

_ (1) لهذا الدليل تتمة سيوردها المصنف في نهاية الصفحة التالية وهو عندي كالمكرر وإن كان الذي سيجيء هناك أتم مما هنا. [.....]

يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النَّحْلِ: 50] وَأَمَّا أَهْلُ الْأَرْضِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِمْ كَذَلِكَ وَثَالِثُهَا: السَّمَاءُ مَوْصُوفَةٌ بِكَمَالِ الْحَالِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، قَالُوا إِنَّهَا أَفْضَلُ الْأَلْوَانِ وَهِيَ الْمُسْتَنِيرَةُ، وَأَشْكَالُهَا أَفْضَلُ الْأَشْكَالِ وَهِيَ الْمُسْتَدِيرَةُ، وَمَكَانُهَا أَفْضَلُ الْأَمْكِنَةِ وَهُوَ الْجَوُّ الْعَالِي، وَأَجْرَامُهَا أَفْضَلُ الْأَجْرَامِ وَهِيَ الْكَوَاكِبُ الْمُتَلَأْلِئَةُ بِخِلَافِ الْأَرْضِ فَإِنَّهَا مَكَانُ الظُّلْمَةِ وَالْكَثَافَةِ وَاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَتَغَيُّرِ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ، فَلَا جَرَمَ وَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْ تَكَوُّنِ السَّمَاءِ بِالطَّوْعِ وَعَنْ تَكَوُّنِ الْأَرْضِ بِالْكُرْهِ، وَإِذَا كَانَ مَدَارُ خَلْقِ الْأَرْضِ عَلَى الْكُرْهِ كَانَ أَهْلُهَا مَوْصُوفِينَ أَبَدًا بِمَا يُوجِبُ الْكُرْهَ وَالْكَرْبَ وَالْقَهْرَ وَالْقَسْرَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ ائْتِيا وَمِنْ قَوْلِهِ أَتَيْنا؟، الْجَوَابُ: الْمُرَادُ ائْتِيَا إِلَى الْوُجُودِ وَالْحُصُولِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: 117] وَقِيلَ الْمَعْنَى ائْتِيَا عَلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ تَأْتِيَا عَلَيْهِ مِنَ الشَّكْلِ وَالْوَصْفِ، أَيْ بِأَرْضٍ مدحوة قرارا ومهادا وأي بسماء مقببة سَقْفًا لَهُمْ، وَمَعْنَى الْإِتْيَانِ الْحُصُولُ وَالْوُقُوعُ عَلَى وَفْقِ الْمُرَادِ، كَمَا تَقُولُ أَتَى عَمَلُهُ مَرْضِيًّا وَجَاءَ مَقْبُولًا، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لتأتي كل واحدة منكما صَاحِبَتَهَا الْإِتْيَانَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ وَالتَّدْبِيرُ مِنْ كَوْنِ الْأَرْضِ قَرَارًا لِلسَّمَاءِ وَكَوْنِ السَّمَاءِ سَقْفًا لِلْأَرْضِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَلَّا قِيلَ طَائِعِينَ عَلَى اللفظ أو طائعات على المعنى، لأنهما سموات وأرضون؟ الجواب: لما جعلن مخاطبات ومجيبات ووصفن بِالطَّوْعِ وَالْكَرْهِ قِيلَ طَائِعِينَ فِي مَوْضِعِ طَائِعَاتٍ نحو قوله ساجِدِينَ [الأعراف: 120] ومنهم من استدل به على كون السموات أحياء وقال الأرض في جوف السموات أَقَلُّ مِنَ الذَّرَّةِ الصَّغِيرَةِ فِي جَوْفِ الْجَبَلِ الْكَبِيرِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ صَارَتِ اللَّفْظَةُ الدَّالَّةُ الْعَقْلَ وَالْحَيَاةُ غَالِبَةً، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَاطِلٌ، لِإِجْمَاعِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى فَسَادِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَقَضَاءُ الشَّيْءِ إِنَّمَا هُوَ إِتْمَامُهُ وَالْفَرَاغُ مِنْهُ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فَقَضاهُنَّ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى السَّمَاءِ عَلَى الْمَعْنَى كَمَا قَالَ: طائِعِينَ وَنَحْوُهُ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: 7] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا مبهما مفسرا بسبع سموات وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّصْبَيْنِ أَنَّ أَحَدَهُمَا عَلَى الْحَالِ وَالثَّانِيَ عَلَى التَّمْيِيزِ. ذَكَرَ أَهْلُ الْأَثَرِ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ وخلق سائر ما في الأرض في يوم الثلاثاء والأربعاء، وخلق السموات وَمَا فِيهَا فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ وَفَرَغَ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَخَلَقَ فِيهَا آدَمَ وَهِيَ السَّاعَةُ الَّتِي تَقُومُ فِيهَا الْقِيَامَةُ، فَإِنْ قِيلَ الْيَوْمُ عِبَارَةٌ عَنِ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ طُلُوعِ الشَّمْسِ وغروبها، وقبل حدوث السموات وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ كَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُ الْيَوْمِ؟ قُلْنَا مَعْنَاهُ إِنَّهُ مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ مَا لَوْ حَصَلَ هُنَاكَ فَلَكٌ وَشَمْسٌ لَكَانَ الْمِقْدَارُ مُقَدَّرًا بِيَوْمٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها قَالَ مُقَاتِلٌ أَمَرَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ بِمَا أَرَادَ، وَقَالَ قَتَادَةُ خَلَقَ فِيهَا شَمْسَهَا وَقَمَرَهَا وَنُجُومَهَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ خَلَقَ فِي كُلِّ سَمَاءِ خَلَقَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْبِحَارِ وَجِبَالِ الْبَرَدِ، قَالَ وَلِلَّهِ فِي كُلِّ سَمَاءٍ بَيْتٌ يَحُجُّ إِلَيْهِ وَيَطُوفُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُقَابِلَ الْكَعْبَةِ وَلَوْ وَقَعَتْ مِنْهُ حَصَاةٌ مَا وَقَعَتْ إِلَّا عَلَى الْكَعْبَةِ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ قَدْ ثَبَتَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّهُ يَكْفِي فِي حُسْنِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، وَلِلَّهِ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ كُلِّ سَمَاءٍ تَكْلِيفٌ خَاصٌّ، فَمِنَ الْمَلَائِكَةِ مَنْ هُوَ في القيام من أَوَّلِ خَلْقِ الْعَالَمِ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَمِنْهُمْ رُكُوعٌ لَا يَنْتَصِبُونَ وَمِنْهُمْ سُجُودٌ لَا يَرْفَعُونَ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ مُخْتَصًّا بِأَهْلِ ذَلِكَ السَّمَاءِ كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ

مُخْتَصًّا بِتِلْكَ السَّمَاءِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها أَيْ وَكَانَ قَدْ خَصَّ كُلَّ سَمَاءٍ بِالْأَمْرِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا كَقَوْلِهِ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا [الْأَعْرَافِ: 4] وَالْمَعْنَى فَكَانَ قَدْ جَاءَهَا، هَذَا مَا نَقَلَهُ الْوَاحِدِيُّ وَهُوَ عِنْدِي ضَعِيفٌ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ ثُمَّ كَانَ قَدِ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَكَانَ قَدْ أَوْحَى، وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ لِأَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ تَقْتَضِي التَّأْخِيرَ وَكَلِمَةَ كَانَ تَقْتَضِي التَّقْدِيمَ فالجمع بينهما تفيد التَّنَاقُضَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ ضَرَبْتُ الْيَوْمَ زَيْدًا ثُمَّ ضَرَبْتُ عَمْرًا بِالْأَمْسِ، فَكَمَا أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ فَكَذَا مَا ذَكَرْتُمُوهُ وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَأْوِيلُ كَلَامِ اللَّهِ بِمَا لَا يُؤَدِّي إِلَى وُقُوعِ التَّنَاقُضِ وَالرَّكَاكَةِ فِيهِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ خلق السموات مُقَدَّمٌ عَلَى خَلْقِ الْأَرْضِ، بَقِيَ أَنْ يُقَالَ كَيْفَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ؟ فَنَقُولُ: الْخَلْقُ لَيْسَ عبارة عن التكوين والإيجاد، والدليل عليه قَوْلِهِ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] فلو كان الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين لكان تقدير الآية أوجده مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وهذا محال، لأنه يلزم أنه تعالى قد قال للشيء الذي وجد كن ثم إنه يكون وهذا محال، فثبت أن الْخَلْقُ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ التَّكْوِينِ وَالْإِيجَادِ، بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ حُكْمُهُ بِأَنَّهُ سَيُوجِدُهُ وَقَضَاؤُهُ بِذَلِكَ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَضَى بِحُدُوثِهِ فِي يَوْمَيْنِ، وَقَضَاءُ اللَّهِ بِأَنَّهُ سَيُحْدِثُ كَذَا فِي مُدَّةِ كَذَا، لَا يَقْتَضِي حُدُوثَ ذَلِكَ/ الشَّيْءِ فِي الْحَالِ، فَقَضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى بِحُدُوثِ الْأَرْضِ فِي يَوْمَيْنِ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَى إِحْدَاثِ السَّمَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَقَدُّمُ إِحْدَاثِ الْأَرْضِ عَلَى إِحْدَاثِ السَّمَاءِ، وَحِينَئِذٍ يَزُولُ السُّؤَالُ، فَهَذَا مَا وصلت إليه في هذا الْمَوْضِعِ الْمُشْكِلِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ بِالْإِتْيَانِ فَأَطَاعَا وَامْتَثَلَا وَعِنْدَ هَذَا حَصَلَ فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَجْرِيَ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُمَا بِالْإِتْيَانِ فَأَطَاعَاهُ قَالَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْجِبَالَ أَنْ تَنْطِقَ مَعَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فقال: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سَبَأٍ: 10] وَاللَّهُ تَعَالَى تَجَلَّى لِلْجَبَلِ قَالَ: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ [الْأَعْرَافِ: 143] وَاللَّهُ تَعَالَى أَنْطَقَ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ فَقَالَ: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النور: 24] وإذا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِي ذَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَيَاةً وَعَقْلًا وَفَهْمًا، ثُمَّ يُوَجِّهُ الْأَمْرَ وَالتَّكْلِيفَ عَلَيْهِمَا، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَصْلَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ إِلَّا إِذَا مَنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ، وهاهنا لَا مَانِعَ، فَوَجَبَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمَا، فَقَالَ: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ وَهَذَا الْجَمْعُ جَمْعُ مَا يَعْقِلُ وَيَعْلَمُ الثَّالِثُ: قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها [الْأَحْزَابِ: 72] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا عَارِفَةً بِاللَّهِ، مَخْصُوصَةً بِتَوْجِيهِ تَكَالِيفِ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَالْإِشْكَالُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً الْإِتْيَانُ إِلَى الْوُجُودِ وَالْحُدُوثُ وَالْحُصُولُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَحَالَ تَوَجَّهَ هَذَا الْأَمْرُ كَانَتِ السموات وَالْأَرْضُ مَعْدُومَةً، إِذْ لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً لَصَارَ حَاصِلُ هَذَا الْأَمْرِ أَنْ يُقَالَ: يَا مَوْجُودُ كُنْ مَوْجُودًا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَثَبَتَ أَنَّهَا حَالَ تَوَجَّهَ هَذَا الْأَمْرُ عَلَيْهَا كَانَتْ مَعْدُومَةً، وَإِذَا كَانَتْ مَعْدُومَةً لَمْ تَكُنْ فَاهِمَةً وَلَا عَارِفَةً لِلْخِطَابِ، فَلَمْ يَجُزْ تَوْجِيهُ الْأَمْرِ عَلَيْهَا، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: رَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عباس أنه قال:

[سورة فصلت (41) : الآيات 13 إلى 18]

قال الله سبحانه للسموات أَطْلِعِي شَمْسَكِ وَقَمَرَكِ وَنُجُومَكِ، وَقَالَ لِلْأَرْضِ شَقِّقِي أَنْهَارَكِ وَأَخْرِجِي ثِمَارَكِ، وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِيهِمَا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ ثُمَّ أَمَرَهُمَا بِإِبْرَازِهَا وَإِظْهَارِهَا، فَنَقُولُ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَتَيْنا طائِعِينَ حُدُوثَهُمَا فِي ذَاتِهِمَا، بَلْ يَصِيرُ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ أَنْ يُظْهِرَا مَا كَانَ مُودَعًا فِيهِمَا، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، وَذَلِكَ يدل على أن حدوث السموات إِنَّمَا حَصَلَ بَعْدَ قَوْلِهِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْبَحْثِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَوْجِيهَ الْأَمْرِ وَالتَّكْلِيفِ عَلَى السموات وَالْأَرْضِ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ أَرَادَ تَكْوِينَهُمَا فَلَمْ يَمْتَنِعَا عَلَيْهِ وَوُجِدَتَا كَمَا أَرَادَهُمَا، وَكَانَتَا في ذلك كالمأمور الْمُطِيعِ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْأَمِيرِ الْمُطَاعِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: / قَالَ الْجِدَارُ لِلْوَتِدِ لِمَ تَشُقُّنِي؟ قَالَ الْوَتِدُ: اسْأَلْ مَنْ يَدُقُّنِي، فَإِنَّ الْحَجَرَ الَّذِي وَرَائِي مَا خَلَّانِي وَرَائِي. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ، وَإِنَّمَا جَازَ الْعُدُولُ عَنِ الظَّاهِرِ إِذَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً إِنَّمَا حَصَلَ قَبْلَ وُجُودِهِمَا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ حَمْلُ قَوْلِهِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً عَلَى الْأَمْرِ وَالتَّكْلِيفِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَاعْلَمْ أَنَّ إِثْبَاتَ الْأَمْرِ وَالتَّكْلِيفِ فِيهِمَا مَشْرُوطٌ بِحُصُولِ الْمَأْمُورِ فِيهِمَا، وَهَذَا يَدُلُّ على أنه تعالى أسكن هذه السموات الْمَلَائِكَةَ، أَوْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِأَشْيَاءَ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَشْيَاءَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ على أنه إنما خلق الملائكة مع السموات، أو أنه تعالى خلقهم قبل السموات، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَسْكَنَهُمْ فِيهَا، وَأَيْضًا لَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ الشَّرَائِعِ الَّتِي أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِهَا، وَهَذِهِ الْأَسْرَارُ لَا تَلِيقُ بِعُقُولِ الْبَشَرِ، بَلْ هِيَ أَعْلَى مِنْ مَصَاعِدِ أَفْهَامِهِمْ وَمَرَامِي أَوْهَامِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وهي النيرات التي خلقها في السموات، وَخَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ بِضَوْءٍ مُعَيَّنٍ، وَسِرٍّ مُعَيَّنٍ، وَطَبِيعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: وَحِفْظاً يَعْنِي وَحَفِظْنَاهَا حِفْظًا، يَعْنِي مِنَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ، فَأَعَدَّ لِكُلِّ شَيْطَانٍ نَجْمًا يَرْمِيهِ بِهِ وَلَا يُخْطِئُهُ، فَمِنْهَا مَا يَحْرِقُ، وَمِنْهَا مَا يَقْتُلُ وَمِنْهَا مَا يَجْعَلُهُ مُخَبَّلًا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ خَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ فَقَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَرْضَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالشَّجَرَ فِي يَوْمَيْنِ وَخَلَقَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّمَاءَ، وَخَلَقَ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ النُّجُومَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْمَلَائِكَةَ، ثُمَّ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ- ثُمَّ قَالَتِ الْيَهُودُ ثُمَّ مَاذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ- ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ- قَالُوا: ثُمَّ اسْتَرَاحَ- فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ [ق: 38] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ التَّفَاصِيلَ، قَالَ: ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْعَزِيزُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَالْعَلِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْعِلْمِ، وَمَا أَحْسَنَ هَذِهِ الْخَاتِمَةَ، لِأَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ لَا تُمْكِنُ إِلَّا بِقُدْرَةٍ كاملة وعلم محيط. [سورة فصلت (41) : الآيات 13 الى 18] فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18)

اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا ابْتُدِئَ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [فُصِّلَتْ: 6] وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بقوله قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فُصِّلَتْ: 9] وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْإِلَهَ الْمَوْصُوفَ بِهَذِهِ الْقُدْرَةِ الْقَاهِرَةِ كَيْفَ يَجُوزُ الْكُفْرُ بِهِ، وَكَيْفَ يَجُوزُ جَعْلُ هَذِهِ الْأَجْسَامِ الْخَسِيسَةِ شُرَكَاءَ لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ؟ وَلَمَّا تَمَّمَ تِلْكَ الْحُجَّةَ قَالَ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ وَبَيَانُ ذَلِكَ لِأَنَّ وَظِيفَةَ الْحُجَّةِ قَدْ تَمَّتْ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، فَإِنْ بَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى الْجَهْلِ لَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ عِلَاجٌ فِي حَقِّهِمْ إِلَّا إِنْزَالَ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ بِمَعْنَى إِنْ أَعْرَضُوا عَنْ قَبُولِ هَذِهِ الْحُجَّةِ الْقَاهِرَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَأَصَرُّوا عَلَى الْجَهْلِ وَالتَّقْلِيدِ فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ وَالْإِنْذَارُ هُوَ: التَّخْوِيفُ، قَالَ الْمُبَرِّدُ وَالصَّاعِقَةُ الثَّائِرَةُ الْمُهْلِكَةُ لِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ، وَقُرِئَ صَعْقَةً مِثْلَ صَعْقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهِيَ الْمَرَّةُ مِنَ الصَّعْقِ. ثُمَّ قَالَ: إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى أَنَّ الرُّسُلَ الْمَبْعُوثِينَ إِلَيْهِمْ أَتَوْهُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَاجْتَهَدُوا بِهِمْ وَأَتَوْا بِجَمِيعِ وُجُوهِ الْحِيَلِ فَلَمْ يَرَوْا مِنْهُمْ إِلَّا الْعُتُوَّ وَالْإِعْرَاضَ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الشَّيْطَانِ قَوْلَهُ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [الْأَعْرَافِ: 17] يَعْنِي لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَلَأَعْمَلَنَّ فِيهِمْ كُلَّ حِيلَةٍ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ: اسْتَدَرْتُ بِفُلَانٍ مِنْ كُلِّ/ جَانِبٍ فَلَمْ تُؤَثِّرْ حِيلَتِي فِيهِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: الْمَعْنَى: أَنَّ الرُّسُلَ جَاءَتْهُمْ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمِنْ بَعْدِهِمْ، فَإِنْ قِيلَ: الرُّسُلُ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ قَبْلِهِمْ وَمِنْ بَعْدِهِمْ، كَيْفَ يمكن وصفهم بأنهم جاءوهم؟ قلنا: قد جَاءَهُمْ هُودٌ وَصَالِحٌ دَاعِيَيْنِ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِمَا وَبِجَمِيعِ الرُّسُلِ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ فَكَأَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ قَدْ جَاءُوهُمْ. ثُمَّ قَالَ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ يَعْنِي أَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ جَاءُوهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَمَرُوهُمْ بِالتَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الشِّرْكِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّ فِي قَوْلِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ بِمَعْنَى أَيْ أَوْ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ أَصْلُهُ بِأَنَّهُ لَا تَعْبُدُوا أَيْ بِأَنَّ الشَّأْنَ وَالْحَدِيثَ قَوْلُنَا لَكُمْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ. ثُمَّ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً يَعْنِي أَنَّهُمْ كَذَّبُوا أُولَئِكَ الرسل، وقالوا الدليل على كونكم كَاذِبِينَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ إِرْسَالَ الرِّسَالَةِ إِلَى الْبَشَرِ لَجَعَلَ رُسُلَهُ مِنْ زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ إِرْسَالَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الْخَلْقِ أَفْضَى إِلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْبَعْثَةِ وَالرِّسَالَةِ، وَلَمَّا ذَكَرُوا هَذِهِ الشبهة قالوا

فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ مَعْنَاهُ: فَإِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ وَلَسْتُمْ بِمَلَائِكَةٍ، فَأَنْتُمْ لَسْتُمْ بِرُسُلٍ، وَإِذَا لَمْ تَكُونُوا مِنَ الرُّسُلِ لَمْ يَلْزَمْنَا قَبُولُ قَوْلِكُمْ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّا بَالَغْنَا فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَقَوْلُهُ أُرْسِلْتُمْ بِهِ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ مِنْهُمْ بِكَوْنِ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ رُسُلًا، وَإِنَّمَا ذَكَرُوهُ حِكَايَةً لِكَلَامِ الرُّسُلِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، كَمَا قَالَ فِرْعَوْنَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشُّعَرَاءِ: 27] . رُوِيَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ فِي مَلَأٍ مِنْ قُرَيْشٍ: الْتَبَسَ عَلَيْنَا أَمْرُ مُحَمَّدٍ، فَلَوِ الْتَمَسْتُمْ لَنَا رَجُلًا عَالِمًا بِالشِّعْرِ وَالسِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ فَكَلَّمَهُ، ثُمَّ أَتَانَا بِبَيَانٍ عَنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ الشِّعْرَ وَالسِّحْرَ وَالْكِهَانَةَ وَعَلِمْتُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا وَمَا يَخْفَى عَلَيَّ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ هَاشِمٌ؟ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ؟ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ اللَّهِ؟ لِمَ تَشْتُمُ آلِهَتَنَا وَتُضَلِّلُنَا؟ فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الرِّيَاسَةَ عَقَدْنَا لَكَ اللِّوَاءَ فَكُنْتَ رَئِيسَنَا، وَإِنْ تَكُنْ بِكَ الْبَاءَةُ زَوَّجْنَاكَ عَشْرَ نِسْوَةٍ تَخْتَارُهُنَّ، أَيَّ بَنَاتِ مَنْ شِئْتَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ مُرَادَكَ جَمَعْنَا لَكَ مَا تَسْتَغْنِي بِهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاكِتٌ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِلَى قَوْلِهِ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فِيهِ وَنَاشَدَهُ بِالرَّحِمِ، وَرَجَعَ إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فلم احْتَبَسَ عَنْهُمْ قَالُوا، لَا نَرَى عُتْبَةَ إِلَّا قَدْ صَبَأَ، فَانْطَلَقُوا إِلَيْهِ وَقَالُوا يَا عُتْبَةُ مَا حَبَسَكَ عَنَّا إِلَّا أَنَّكَ قَدْ صَبَأْتَ: فَغَضِبَ وَأَقْسَمَ لَا يُكَلِّمُ مُحَمَّدًا أَبَدًا، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فَأَجَابَنِي بِشَيْءٍ مَا هُوَ بِشِعْرٍ وَلَا سِحْرٍ وَلَا كِهَانَةٍ، وَلَمَّا بَلَغَ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ أَمْسَكْتُ بِفِيهِ وَنَاشَدْتُهُ بِالرَّحِمِ، وَلَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ مُحَمَّدًا إِذَا قَالَ شَيْئًا لَمْ يَكْذِبْ فَخِفْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمُ الْعَذَابُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كُفْرَ قَوْمِ عَادٍ وَثَمُودَ عَلَى الْإِجْمَالِ بَيَّنَ خَاصِّيَّةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ فَقَالَ: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَهَذَا الِاسْتِكْبَارُ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: إِظْهَارُ النَّخْوَةِ وَالْكِبْرِ، وَعَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْغَيْرِ وَالثَّانِي: الِاسْتِعْلَاءُ عَلَى الْغَيْرِ/ وَاسْتِخْدَامُهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى سَبَبَ ذَلِكَ الِاسْتِكْبَارِ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً وَكَانُوا مَخْصُوصِينَ بِكِبَرِ الْأَجْسَامِ وَشِدَّةِ الْقُوَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَغْتَرُّوا بِشِدَّةِ قُوَّتِهِمْ، فَقَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً يَعْنِي أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِمْ، فَاللَّهُ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْقُوَّةِ تُوجِبُ كَوْنَ النَّاقِصِ فِي طَاعَةِ الْكَامِلِ، فَهَذِهِ الْمُعَامَلَةُ تُوجِبُ عَلَيْهِمْ كَوْنَهُمْ مُنْقَادِينَ لِلَّهِ تَعَالَى، خَاضِعِينَ لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الْقُدْرَةِ لِلَّهِ، فَقَالُوا الْقُوَّةُ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْقُوَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذَّارِيَاتِ: 58] فَإِنْ قِيلَ صِيغَةُ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ إِنَّمَا تَجْرِي بَيْنَ شَيْئَيْنِ لِأَحَدِهِمَا مَعَ الْآخَرِ نِسْبَةٌ، لَكِنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ مُتَنَاهِيَةٌ وَقُدْرَةَ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَالْمُتَنَاهِي لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى غَيْرِ الْمُتَنَاهِي، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً؟ قُلْنَا هَذَا وَرَدَ عَلَى قَانُونِ قَوْلِنَا اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قَالَ: وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّهَا حَقٌّ وَلَكِنَّهُمْ جَحَدُوا كَمَا يَجْحَدُ الْمُوِدَعُ الْوَدِيعَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ نَظْمَ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: أَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ، وَقَوْلُهُ

وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً اعْتِرَاضٌ وَقَعَ فِي الْبَيْنِ لِتَقْرِيرِ السَّبَبِ الدَّاعِي لَهُمْ إِلَى الِاسْتِكْبَارِ. وَاعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ مَجَامِعَ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ وَالتَّعْظِيمُ لِلْخَالِقِ، فَقَوْلُهُ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ مُضَادٌّ لِلْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ وَقَوْلُهُ وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ مُضَادٌّ لِلتَّعْظِيمِ لِلْخَالِقِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَهُمْ قَدْ بَلَغُوا فِي الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْهَلَاكِ وَالْإِبْطَالِ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى، فَلِهَذَا الْمَعْنَى سَلَّطَ اللَّهُ الْعَذَابَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً وَفِي الصَّرْصَرِ قَوْلَانِ أحدهما: أنها العاصفة التي تصرصر أن تُصَوِّتُ فِي هُبُوبِهَا، وَفِي عِلَّةِ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ وُجُوهٌ قِيلَ إِنَّ الرِّيَاحَ عِنْدَ اشْتِدَادِ هُبُوبِهَا يُسْمَعُ مِنْهَا صَوْتٌ يُشْبِهُ صَوْتَ الصَّرْصَرِ فَسُمِّيَتْ هَذِهِ الرِّيَاحُ بِهَذَا الِاسْمِ وَقِيلَ هُوَ مِنْ صَرِيرِ الْبَابِ، وَقِيلَ مِنَ الصَّرَّةِ وَالصَّيْحَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ [الذَّارِيَاتِ: 29] وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا الْبَارِدَةُ الَّتِي تُحْرِقُ بِبَرْدِهَا كَمَا تُحْرِقُ النَّارُ بِحَرِّهَا، وَأَصْلُهَا مِنَ الصَّرِّ وهو البرد قال تعالى: مَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ [آلِ عِمْرَانَ: 117] وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الرِّيَاحُ ثَمَانٍ أَرْبَعٌ مِنْهَا عَذَابٌ الْعَاصِفُ وَالصَّرْصَرُ وَالْعَقِيمُ وَالسَّمُومُ، وَأَرْبَعٌ مِنْهَا رَحْمَةٌ النَّاشِرَاتُ وَالْمُبَشِّرَاتُ وَالْمُرْسَلَاتُ وَالذَّارِيَاتُ» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَرْسَلَ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا قَدْرَ خَاتَمِي، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ مَعَ قِلَّتِهِ أَهْلَكَ الْكُلَّ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو نَحِساتٍ بِسُكُونِ الْحَاءِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ/ الْحَاءِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» يُقَالُ نَحِسَ نَحْسًا نَقِيضَ سَعِدَ سَعْدًا فَهُوَ نَحِسٌ، وَأَمَّا نَحْسٌ فَهُوَ إِمَّا مُخَفَّفُ نَحِسٍ أَوْ صِفَةٌ عَلَى فَعْلٍ أَوْ وَصْفٌ بِمَصْدَرٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّ الْأَحْكَامِيُّونَ مِنَ الْمُنَجِّمِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَيَّامِ قَدْ يَكُونُ نَحْسًا وَبَعْضَهَا قَدْ يَكُونُ سَعْدًا، وَقَالُوا هَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، أَجَابَ الْمُتَكَلِّمُونَ بِأَنْ قَالُوا أَيَّامٍ نَحِساتٍ أَيْ ذَوَاتِ غُبَارٍ وَتُرَابٍ ثَائِرٍ لَا يَكَادُ يُبْصَرُ فِيهِ وَيُتَصَرَّفُ، وَأَيْضًا قَالُوا مَعْنَى كَوْنِ هَذِهِ الْأَيَّامِ نَحِسَاتٍ أَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَهُمْ فِيهَا، أَجَابَ الْمُسْتَدِلُّ الْأَوَّلُ بِأَنَّ النَّحِسَاتِ فِي وَضْعِ اللُّغَةِ هِيَ الْمَشْئُومَاتُ لِأَنَّ السَّعْدَ يُقَابِلُهُ السَّعْدُ، وَالْكَدِرَ يُقَابِلُهُ الصَّافِي، وَأَجَابَ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ إِيقَاعِ ذَلِكَ الْعَذَابِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ النَّحِسَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَوْنُ تِلْكَ الْأَيَّامِ نَحِسَةً مُغَايِرًا لِذَلِكَ الْعَذَابِ الَّذِي وَقَعَ فِيهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ عَذَابَ الْهَوَانِ وَالذُّلِّ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُمُ اسْتَكْبَرُوا، فَقَابَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الِاسْتِكْبَارَ بِإِيصَالِ الْخِزْيِ وَالْهَوَانِ وَالذُّلِّ إِلَيْهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى أَيْ أَشَدُّ إِهَانَةً وَخِزْيًا وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ أَيْ أَنَّهُمْ يَقَعُونَ فِي الْخِزْيِ الشَّدِيدِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ نَاصِرٌ يَدْفَعُ ذَلِكَ الْخِزْيَ عَنْهُمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّةَ عَادٍ أَتْبَعَهُ بِقِصَّةِ ثَمُودَ فَقَالَ: وَأَمَّا ثَمُودُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ ثَمُودُ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ مُنَوَّنًا وَغَيْرَ مُنَوَّنٍ وَالرَّفْعُ أَفْصَحُ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ حَرْفِ الِابْتِدَاءِ وَقُرِئَ بِضَمِّ الثَّاءِ وَقَوْلُهُ فَهَدَيْناهُمْ أي

[سورة فصلت (41) : الآيات 19 إلى 24]

دَلَلْنَاهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى أَيِ اخْتَارُوا الدُّخُولَ فِي الضَّلَالَةِ عَلَى الدُّخُولِ فِي الرُّشْدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» ذَكَرَ فِي تَفْسِيرَ الْهُدَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: 2] أَنَّ الْهُدَى عِبَارَةٌ عَنِ الدَّلَالَةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْبُغْيَةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تُبْطِلُ قَوْلَهُ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهُدَى قَدْ حَصَلَ مَعَ أَنَّ الْإِفْضَاءَ إِلَى الْبُغْيَةِ لَمْ يَحْصُلْ، فَثَبَتَ أَنَّ قَيْدَ كَوْنِهِ مُفْضِيًا إِلَى الْبُغْيَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي اسْمِ الْهُدَى. وَقَدْ ثَبَتَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالٌ يُشْعِرُ بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ جَوَابًا شَافِيًا فَتَرَكْنَاهُ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَنْصِبُ الدَّلَائِلَ وَيُزِيحُ الْأَعْذَارَ وَالْعِلَلَ، إِلَّا أَنَّ الْإِيمَانَ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنَ الْعَبْدِ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ نَصَبَ لَهُمُ الدَّلَائِلَ وَقَوْلَهُ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ أَتَوْا بِذَلِكَ الْعَمَى فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ يَحْصُلَانِ مِنَ الْعَبْدِ، وَأَقُولُ بَلْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ، عَلَى أَنَّهُمَا إِنَّمَا يَحْصُلَانِ مِنَ اللَّهِ لَا مِنَ الْعَبْدِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ إِنَّمَا صَدَرَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْعَمَى، لِأَنَّهُمْ أَحَبُّوا تَحْصِيلَهُ، فَلَمَّا وَقَعَ فِي قَلْبِهِمْ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ دُونَ مَحَبَّةِ ضِدِّهِ، فَإِنْ حَصَلَ ذَلِكَ التَّرْجِيحُ لَا لِمُرَجَّحٍ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَجِّحُ هُوَ الْعَبْدَ عَادَ الطَّلَبُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَجِّحُ هُوَ اللَّهَ فَقَدْ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَاسْتَحَبُّوا/ الْعَمى عَلَى الْهُدى وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ أَحَدًا لَا يُحِبُّ الْعَمَى وَالْجَهْلَ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ عَمًى وَجَهْلًا، بَلْ مَا لَمْ يَظُنَّ فِي ذَلِكَ الْعَمَى وَالْجَهْلِ كَوْنَهُ تَبْصِرَةً وَعِلْمًا لَا يَرْغَبُ فِيهِ، فَإِقْدَامُهُ عَلَى اخْتِيَارِ ذَلِكَ الْجَهْلِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِجَهْلٍ آخَرَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْجَهْلُ الثَّانِي بِاخْتِيَارِهِ أَيْضًا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، فَلَا بُدَّ مِنَ انْتِهَاءِ تِلْكَ الْجَهَالَاتِ إِلَى جَهْلٍ يَحْصُلُ فِيهِ لَا بِاخْتِيَارِهِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَلَمَّا وَصَفَ اللَّهُ كفرهم قال: فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ وصاعِقَةُ الْعَذابِ أي داهية العذاب والْهُونِ الْهَوَانُ، وُصِفَ بِهِ الْعَذَابُ مُبَالَغَةً أَوْ أُبْدِلَ مِنْهُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يُرِيدُ مِنْ شِرْكِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ صَالِحًا وَعَقْرِهِمُ النَّاقَةَ، وَشَرَعَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» هاهنا فِي سَفَاهَةٍ عَظِيمَةٍ. وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ سَعَى سَعْيًا حَسَنًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَلْفَاظِ، إِلَّا أَنَّ الْمِسْكِينَ كَانَ بَعِيدًا مِنَ الْمَعَانِي. وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ الْوَعِيدَ أَرْدَفَهُ بِالْوَعْدِ فَقَالَ: وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ يَعْنِي وَكَانُوا يَتَّقُونَ الْأَعْمَالَ الَّتِي كَانَ يَأْتِي بِهَا قَوْمُ عَادٍ وَثَمُودَ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْذِرَ قَوْمَهَ مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَالِ: 33] وَجَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفَعَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ مِنَ الْآفَاتِ قُلْنَا إِنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا كَوْنَهُمْ مُشَارِكِينَ لِعَادٍ وَثَمُودَ فِي اسْتِحْقَاقِ مِثْلِ تِلْكَ الصَّاعِقَةِ جَوَّزُوا حُدُوثَ مَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ دَرَجَةً مِنْهُمْ وَهَذَا الْقَدْرُ يكفي في التخويف. [سورة فصلت (41) : الآيات 19 الى 24] وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ عُقُوبَةِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا أَرْدَفَهُ بِكَيْفِيَّةِ عُقُوبَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، لِيَحْصُلَ مِنْهُ تَمَامُ الِاعْتِبَارِ فِي الزَّجْرِ وَالتَّحْذِيرِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ نَحْشُرُ بِالنُّونِ أَعْدَاءَ بِالنَّصْبِ أَضَافَ الْحَشْرَ إِلَى نَفْسِهِ، وَالتَّقْدِيرُ يَحْشُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْدَاءَهُ الْكُفَّارَ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَحُجَّتُهُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَنَجَّيْنَا [فُصِّلَتْ: 18] فَيَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَفْقِهِ فِي اللفظ، ويقويه قوله يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ [مريم: 85] وَحَشَرْناهُمْ [الكهف: 47] وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَقَرَءُوا عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لِأَنَّ قِصَّةَ ثَمُودَ قَدْ تَمَّتْ وَقَوْلُهُ وَيَوْمَ يُحْشَرُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ آخَرَ، وَأَيْضًا الْحَاشِرُونَ لَهُمْ هُمُ الْمَأْمُورُونَ بِقَوْلِهِ احْشُرُوا [الصَّافَّاتِ: 22] وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَأَيْضًا إِنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ مُوَافِقَةٌ لقوله فَهُمْ يُوزَعُونَ [فصلت: 19] وَأَيْضًا فَتَقْدِيرُ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْدَاءَ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَكَانَ الْأَوْلَى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْدَاءَنَا إِلَى النَّارِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ أَعْدَاءَ اللَّهِ يُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ قَالَ: فَهُمْ يُوزَعُونَ أَيْ يُحْبَسُ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ، أَيْ يُوقَفُ سَوَابِقُهُمْ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِمْ تَوَالِيهِمْ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا سَأَلُوا عَنْ أَعْمَالِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الأولى: التقدير حتى إذا جاؤها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَكَلِمَةُ مَا صِلَةٌ، وَقِيلَ فِيهَا فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ وَهِيَ تَأْكِيدُ أَنَّ عِنْدَ مَجِيئِهِمْ لَا بُدَّ وَأَنْ تَحْصُلَ هَذِهِ الشَّهَادَةُ كَقَوْلِهِ أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ [يُونُسَ: 51] أَيْ لَا بُدَّ لِوَقْتِ وُقُوعِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَقْتَ إِيمَانِهِمْ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا رَبَّ الْعِزَّةِ أَلَسْتَ قَدْ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تَظْلِمَنِي، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ لَكَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ الْعَبْدُ إِنِّي لَا أَقْبَلُ عَلَى نَفْسِي شَاهِدًا إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَيَخْتِمُ اللَّهُ عَلَى فِيهِ وَيُنْطِقُ أَعْضَاءَهُ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي صَدَرَتْ مِنْهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كَيْفِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْفَهْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالنُّطْقَ فِيهَا فَتَشْهَدُ كَمَا يَشْهَدُ الرَّجُلُ عَلَى مَا يَعْرِفُهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ فِي تِلْكَ الْأَعْضَاءِ الْأَصْوَاتَ وَالْحُرُوفَ الدَّالَّةَ عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي كَمَا خَلَقَ الْكَلَامَ فِي الشَّجَرَةِ وَالثَّالِثُ: أَنْ يُظْهِرَ تِلْكَ الْأَعْضَاءُ أَحْوَالًا تَدُلُّ عَلَى صُدُورِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنْ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ، وَتِلْكَ الْأَمَارَاتُ تُسَمَّى/ شَهَادَاتٍ، كَمَا يُقَالُ يَشْهَدُ هَذَا الْعَالَمُ بِتَغَيُّرَاتِ أَحْوَالِهِ عَلَى حُدُوثِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ صَعْبَةٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ صَعْبٌ عَلَى مَذْهَبِهِمْ لِأَنَّ الْبِنْيَةَ عِنْدَهُمْ شَرْطٌ لِحُصُولِ الْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ فَاللِّسَانُ مَعَ كَوْنِهِ لِسَانًا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْعِلْمِ وَالْعَقْلِ، فَإِنْ غَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى تِلْكَ الْبِنْيَةَ وَالصُّورَةَ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ لِسَانًا وَجِلْدًا، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى إِضَافَةِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ إِلَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْجُلُودِ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا غَيَّرَ بِنْيَةَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ فَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ عَلَيْهَا كونها عاقلة نَاطِقَةً فَاهِمَةً، وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى

خَلَقَ هَذِهِ الْأَصْوَاتَ وَالْحُرُوفَ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ عَلَى أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ الْكَلَامَ، لَا مَا كَانَ مَوْصُوفًا بِالْكَلَامِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْكَلَامَ فِي الشَّجَرَةِ وَكَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ الْكَلَامِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا الشَّجَرَةُ، فَهَهُنَا لَوْ قُلْنَا إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَصْوَاتَ وَالْحُرُوفَ فِي تِلْكَ الْأَعْضَاءِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا تِلْكَ، وَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ الْكَلَامِ هُوَ اللَّهُ لَا تِلْكَ الْأَعْضَاءُ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الشَّهَادَةَ شَهَادَةٌ صَدَرَتْ مِنْ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ لَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ وَأَيْضًا أَنَّهُمْ قَالُوا لِتِلْكَ الْأَعْضَاءِ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا فَقَالَتِ الْأَعْضَاءُ أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ هِيَ تِلْكَ الْأَعْضَاءُ، وَأَنَّ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ لَيْسَتْ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى، فَهَذَا تَوْجِيهُ الْإِشْكَالِ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ بِظُهُورِ أَمَارَاتٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ دَالَّةٍ عَلَى صُدُورِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنْهُمْ، فَهَذَا عُدُولٌ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، فَهَذَا مُنْتَهَى الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَحْثِ، أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا فَهَذَا الْإِشْكَالُ غَيْرُ لَازِمٍ، لِأَنَّ عِنْدَنَا الْبِنْيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْحَيَاةِ وَلَا لِلْعِلْمِ وَلَا لِلْقُدْرَةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ وَالنُّطْقِ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْإِشْكَالُ زَائِلٌ وَهَذِهِ الْآيَةِ يَحْسُنُ التَّمَسُّكُ بِهَا فِي بَيَانِ أَنَّ الْبِنْيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْحَيَاةِ وَلَا لِشَيْءٍ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْحَيَاةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا رَأَيْتُ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَخْصِيصِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ بِالذِّكْرِ سَبَبًا وَفَائِدَةً، وَأَقُولُ لَا شَكَّ أَنَّ الْحَوَاسَّ خَمْسَةٌ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَاللَّمْسُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ آلَةَ اللمس هي الجلد، فالله تعالى ذكر هاهنا مِنَ الْحَوَاسِّ وَهِيَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَاللَّمْسُ، وَأَهْمَلَ ذِكْرَ نَوْعَيْنِ وَهُمَا الذَّوْقُ وَالشَّمُّ، لِأَنَّ الذَّوْقَ دَاخِلٌ فِي اللَّمْسِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ إِدْرَاكَ الذَّوْقِ إِنَّمَا يَتَأَتَّى بِأَنْ تَصِيرَ جِلْدَةُ اللِّسَانِ وَالْحَنَكِ مُمَاسَّةً لِجِرْمِ الطَّعَامِ، فَكَانَ هَذَا دَاخِلًا فِيهِ فَبَقِيَ حِسُّ الشَّمِّ وَهُوَ حِسٌّ ضَعِيفٌ فِي الْإِنْسَانِ، وَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ تَكْلِيفٌ وَلَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ الْمُرَادُ مِنْ شَهَادَةِ الْجُلُودِ شَهَادَةُ الْفُرُوجِ قَالَ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْكِنَايَاتِ كَمَا قَالَ: وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا [الْبَقَرَةِ: 235] وَأَرَادَ النِّكَاحَ وَقَالَ: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ [النِّسَاءِ: 43] وَالْمُرَادُ قَضَاءُ الْحَاجَةِ وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَوَّلُ مَا يَتَكَلَّمُ مِنَ الْآدَمِيِّ فَخِذُهُ وَكَفُّهُ» وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَتَكُونُ هَذِهِ/ الْآيَةُ وَعِيدًا شَدِيدًا فِي الْإِتْيَانِ بِالزِّنَا، لِأَنَّ مُقَدِّمَةَ الزِّنَا إِنَّمَا تَحْصُلُ بِالْكَفِّ، وَنِهَايَةُ الْأَمْرِ فِيهَا إِنَّمَا تَحْصُلُ بِالْفَخِذِ. ثُمَّ حكى الله تعالى عنهم أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِتِلْكَ الْأَعْضَاءِ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى خَلْقِكُمْ وَإِنْطَاقِكُمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى حَالَمَا كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ عَلَى خَلْقِكُمْ وَإِنْطَاقِكُمْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ حَالُ القيامة والبعث كيف يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ إِنْطَاقُ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ؟ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَالْمَعْنَى إِثْبَاتُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَتِرُونَ عِنْدَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ، إِلَّا أَنَّ اسْتِتَارَهُمْ مَا كَانَ لِأَجْلِ خَوْفِهِمْ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ الِاسْتِتَارَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ الْأَعْمَالَ الَّتِي يُقْدِمُونَ عَلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَالِاسْتِتَارِ. عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنْتُ مُسْتَتِرًا

[سورة فصلت (41) : الآيات 25 إلى 29]

بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَدَخَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ عَلَيَّ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا تَقُولُونَ؟ فَقَالَ الرَّجُلَانِ إِذَا سَمِعْنَا أَصْوَاتَنَا سَمِعَ وَإِلَّا لَمْ يَسْمَعْ. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَ وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَنْ ظَنَّ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ عَنْ عِلْمِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنَ الْهَالِكِينَ الْخَاسِرِينَ، قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ الظَّنُّ قِسْمَانِ ظَنٌّ حَسَنٌ بِاللَّهِ تَعَالَى وَظَنٌّ فَاسِدٌ، أَمَّا الظَّنُّ الْحَسَنُ فَهُوَ أَنْ يَظُنَّ بِهِ الرَّحْمَةَ وَالْفَضْلَ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ» ، وَالظَّنُّ الْقَبِيحُ فاسد وهو أن يظن بالله تعالى أَنَّهُ يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ بَعْضُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الظَّنُّ نَوْعَانِ ظَنٌّ مُنْجٍ وَظَنٌّ مرد، فالمنج قَوْلُهُ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [الْحَاقَّةِ: 20] وقوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَةِ: 46] ، وَأَمَّا الظَّنُّ الْمُرْدِي فَهُوَ قَوْلُهُ وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَذلِكُمْ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وظَنُّكُمُ وأَرْداكُمْ خَبَرَانِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَنُّكُمْ بَدَلًا مِنْ ذلكم وَأَرْدَاكُمُ الْخَبَرَ. ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ يَعْنِي إِنْ أَمْسَكُوا عَنِ الِاسْتِغَاثَةِ لِفَرَجٍ يَنْتَظِرُونَهُ لَمْ يَجِدُوا ذَلِكَ وَتَكُونُ النَّارُ مَثْوًى لَهُمْ أَيْ مَقَامًا لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أَيْ لَمْ يُعْطَوُا الْعُتْبَى وَلَمْ يُجَابُوا إِلَيْهَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ [إِبْرَاهِيمَ: 21] وَقُرِئَ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أَيْ إِنْ يَسْأَلُوا أَنْ يُرْضُوا رَبَّهُمْ فَمَا هُمْ فَاعِلُونَ أَيْ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إلى ذلك. [سورة فصلت (41) : الآيات 25 الى 29] وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى كُفْرِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ وَقَعُوا فِي ذَلِكَ الْكُفْرِ فَقَالَ: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الصِّحَاحِ» : يُقَالُ قَايَضْتُ الرَّجُلَ مُقَايَضَةً أَيْ عَاوَضْتُهُ بِمَتَاعٍ، وَهُمَا قَيِّضَانِ، كما يقال بيعان، وقيض الله فلانا لفلان أَيْ جَاءَهُ بِهِ وَأَتَى بِهِ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ، فَقَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّهُ قَيَّضَ لَهُمْ أُولَئِكَ الْقُرَنَاءَ، وَكَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ مَتَى قَيَّضَ لَهُمْ أُولَئِكَ الْقُرَنَاءَ فَإِنْ يُزَيِّنُوا الْبَاطِلَ لَهُمْ، وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا وَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ يُفْضِي إِلَى أَثَرٍ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِذَلِكَ الْأَثَرِ فثبت

أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَيَّضَ لَهُمْ قُرَنَاءَ فَقَدْ أَرَادَ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْكُفْرَ، أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ لَوْ أَرَادَ الْمَعَاصِيَ لَكَانُوا بِفِعْلِهَا مُطِيعِينَ إِذِ الْفَاعِلُ لِمَا أَرَادَهُ مِنْهُ غَيْرُهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُطِيعًا لَهُ، وَبِأَنَّ قَوْلِهِ وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مِنْهُمْ إِلَّا الْعِبَادَةَ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ مِنْهُمُ الْمَعَاصِيَ، وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ لِيُزَيِّنُوا لَهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: فَزَيَّنُوا لَهُمْ فَهُوَ تَعَالَى قَيَّضَ الْقُرَنَاءَ لَهُمْ بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى/ أَخْرَجَ كُلَّ أَحَدٍ إِلَى آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ، فَقَيَّضَ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ وَالْغَنِيَّ لِلْفَقِيرِ وَالْفَقِيرَ لِلْغَنِيِّ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يُزَيِّنُ الْمَعَاصِيَ لِلْبَعْضِ. وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ اسْتِدْلَالِ أَصْحَابِنَا مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا وَعَلِمَ قَطْعًا أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ يُفْضِي إِلَى أَثَرٍ، فَاعِلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ يَكُونُ مُرِيدًا لِذَلِكَ الْأَثَرِ، فَهَهُنَا اللَّهُ تَعَالَى قَيَّضَ أُولَئِكَ الْقُرَنَاءَ لَهُمْ وَعَلِمَ أَنَّهُ مَتَى قَيَّضَ أُولَئِكَ الْقُرَنَاءَ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ يَقَعُونَ فِي ذَلِكَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُمُ الْمَعَاصِيَ لَكَانُوا بِفِعْلِهَا مُطِيعِينَ لِلَّهِ، قُلْنَا لَوْ كَانَ مَنْ فَعَلَ مَا أَرَادَهُ غَيْرُهُ مُطِيعًا لَهُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُطِيعًا لِعِبَادِهِ إِذَا فَعَلَ مَا أَرَادُوهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَأَيْضًا فَهَذَا إِلْزَامٌ لَفْظِيٌّ لِأَنَّهُ يُقَالُ إِنْ أَرَدْتَ بِالطَّاعَةِ أَنَّهُ فَعَلَ مَا أَرَادَ فَهَذَا إِلْزَامٌ لِلشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ أَرَدْتَ غَيْرَهُ فَلَا بُدَّ، مِنْ بَيَانِهِ حَتَّى يَنْظُرَ فِيهِ أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ أَمْ لا. المسألة الثالثة: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِيهِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: زَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ أَنَّهُ لَا بَعْثَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، فَزَيَّنُوا أَنَّ الدُّنْيَا قَدِيمَةٌ، وَأَنَّهُ لَا فَاعِلَ وَلَا صَانِعَ إِلَّا الطَّبَائِعُ وَالْأَفْلَاكُ الثَّانِي: زَيَّنُوا لَهُمْ أَعْمَالَهُمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا وَيُشَاهِدُونَهَا وَمَا خلفهم وما يزعمون أنهم يعملونه، وَعَبَّرَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْهُ، فَقَالَ زَيَّنُوا لَهُمْ مَا مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ وَمَا بَقِيَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْخَسِيسَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ فَقَوْلُهُ فِي أُمَمٍ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَلَيْهِمْ، وَالتَّقْدِيرُ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ حَالَ كَوْنِهِمْ كَائِنِينَ فِي جُمْلَةِ أُمَمٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا أَيْضًا بِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا لا نقلب هَذَا الْقَوْلُ الْحَقُّ بَاطِلًا وَهَذَا الْعِلْمُ جَهْلًا، وَهَذَا الْخَبَرُ الصِّدْقُ كَذِبًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ ومستلزم المحال، فَثَبَتَ أَنَّ صُدُورَ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ، وَعَدَمَ صُدُورِ الْكُفْرِ عَنْهُمْ مُحَالٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ ابْتُدِئَ مِنْ قَوْلِهِ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ إِلَى قَوْلِهِ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ [فُصِّلَتْ: 5] فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ بِوُجُوهٍ مِنَ الْأَجْوِبَةِ، وَاتَّصَلَ الْكَلَامُ بَعْضُهُ بِالْبَعْضِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، ثُمَّ إِنَّهُ حَكَى عَنْهُمْ شُبْهَةً أُخْرَى فَقَالَ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ وَالْغَوْا فِيهِ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَضَمِّهَا يُقَالُ لَغَى يَلْغَى وَيَلْغُو وَاللَّغْوُ السَّاقِطُ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ عَلِمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ كَامِلٌ فِي الْمَعْنَى، وَفِي اللَّفْظِ وَأَنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَهُ وَقَفَ عَلَى جَزَالَةِ أَلْفَاظِهِ، وَأَحَاطَ عَقْلُهُ بِمَعَانِيهِ، وَقَضَى عَقْلُهُ بِأَنَّهُ كَلَامٌ حَقٌّ وَاجِبُ الْقَبُولِ، فَدَبَّرُوا تَدْبِيرًا فِي مَنْعِ النَّاسِ عَنِ اسْتِمَاعِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ إِذَا قُرِئَ وَتَشَاغَلُوا عِنْدَ قِرَاءَتِهِ بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ بِالْخُرَافَاتِ وَالْأَشْعَارِ الْفَاسِدَةِ وَالْكَلِمَاتِ الْبَاطِلَةِ، حَتَّى تُخَلِّطُوا عَلَى الْقَارِئِ/ وَتُشَوِّشُوا عَلَيْهِ وَتَغْلِبُوا عَلَى

[سورة فصلت (41) : الآيات 30 إلى 32]

قِرَاءَتِهِ، كَانَتْ قُرَيْشٌ يُوصِي بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْمُرَادُ افْعَلُوا عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ مَا يَكُونُ لَغْوًا وَبَاطِلًا، لِتُخْرِجُوا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عَنْ أَنْ تَصِيرَ مَفْهُومَةً لِلنَّاسِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَغْلِبُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ فِي الْحَالِ أَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ مُشْتَغِلُونَ بِاللَّغْوِ وَالْبَاطِلِ مِنَ الْعَمَلِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَنْصُرُ مُحَمَّدًا بِفَضْلِهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ هَدَّدَهُمْ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ فَقَالَ: فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً لِأَنَّ لَفْظَ الذَّوْقِ إِنَّمَا يُذْكَرُ فِي الْقَدْرِ الْقَلِيلِ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ لِأَجْلِ التَّجْرِبَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ الذَّوْقَ عذاب الشديد، فَإِذَا كَانَ الْقَلِيلُ مِنْهُ عَذَابًا شَدِيدًا فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ الْكَثِيرِ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ الْمُرَادُ جَزَاءُ سُوءِ أَعْمَالِهِمْ، وَقَالَ الْحَسَنُ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُجَازِيهِمْ عَلَى مَحَاسِنِ أَعْمَالِهِمْ، لِأَنَّهُمْ أَحْبَطُوهَا بِالْكُفْرِ فَضَاعَتْ تِلْكَ الْأَعْمَالُ الْحَسَنَةُ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ إِلَّا الْأَعْمَالُ الْقَبِيحَةُ الْبَاطِلَةُ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَتَحَصَّلُوا إِلَّا عَلَى جَزَاءِ السَّيِّئَاتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَسْوَأَ الَّذِي جُعِلَ جَزَاءَ أَعْدَاءِ اللَّهِ هُوَ النَّارُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ أَيْ لَهُمْ فِي جُمْلَةِ النَّارِ دَارُ السَّيِّئَاتِ مُعَيَّنَةً وَهِيَ دَارُ الْعَذَابِ الْمُخَلَّدِ لَهُمْ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أَيْ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَلْغُونَ فِي الْقِرَاءَةِ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ جُحُودًا لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ بَالِغٌ إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ خَافُوا مِنْ أَنَّهُ لَوْ سَمِعَهُ النَّاسُ لَآمَنُوا بِهِ فَاسْتَخْرَجُوا تِلْكَ الطَّرِيقَةَ الْفَاسِدَةَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ عَلِمُوا كَوْنَهُ مُعْجِزًا إِلَّا أَنَّهُمْ جَحَدُوا لِلْحَسَدِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ الْمُوجِبِ لِلْعِقَابِ الشَّدِيدِ مُجَالَسَةُ قُرَنَاءِ السُّوءِ بَيَّنَ أَنَّ الْكُفَّارَ عِنْدَ الْوُقُوعِ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ يَقُولُونَ رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالسَّبَبُ فِي ذِكْرِ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ أَنَّ الشَّيْطَانَ عَلَى ضَرْبَيْنِ جِنِّيٍّ وَإِنْسِيٍّ، قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الْأَنْعَامِ: 112] وَقَالَ: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [النَّاسِ: 5] وَقِيلَ هُمَا إِبْلِيسُ وَقَابِيلُ لِأَنَّ الْكُفْرَ سُنَّةُ إِبْلِيسَ، وَالْقَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ سُنَّةُ قَابِيلَ. وَقُرِئَ أَرْنَا بِسُكُونِ الرَّاءِ لِثِقَلِ الْكَسْرَةِ كَمَا قَالُوا فِي فَخِذٍ فَخْذٌ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَعْطِنَا الذين أَضَلَّانَا وَحَكَوْا عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّكَ إِذَا قُلْتُ أَرِنِي ثَوْبَكَ بِالْكَسْرِ، فَالْمَعْنَى بَصِّرْنِيهِ وَإِذَا قُلْتَهُ بِالسُّكُونِ فَهُوَ اسْتِعْطَاءٌ مَعْنَاهُ أَعْطِنِي ثَوْبَكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا قَالَ مُقَاتِلٌ يَكُونَانِ أَسْفَلَ مِنَّا فِي النَّارِ لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ قَالَ الزَّجَّاجُ: لِيَكُونَا فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَكَانَ بَعْضُ تَلَامِذَتِي مِمَّنْ يَمِيلُ إِلَى الْحِكْمَةِ يَقُولُ الْمُرَادُ بِاللَّذَيْنِ يُضِلَّانِ الشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ، وَإِلَيْهِمَا الْإِشَارَةُ فِي قِصَّةِ الْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِ أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [الْبَقَرَةِ: 30] ثُمَّ قَالَ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا يَعْنِي يَا رَبَّنَا أَعِنَّا حَتَّى نَجْعَلَ الشَّهْوَةَ وَالْغَضَبَ تَحْتَ أَقْدَامِ جَوْهَرِ النَّفْسِ الْقُدْسِيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِمَا تَحْتَ أَقْدَامِهِ كَوْنُهُمَا مُسَخَّرَيْنِ لِلنَّفْسِ القدسية مطيعين لها، وأن لا يكونا مسؤولين عليها قاهرين لها. [سورة فصلت (41) : الآيات 30 الى 32] إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَطْنَبَ فِي الْوَعِيدِ أَرْدَفَهُ بِهَذَا الْوَعْدِ الشَّرِيفِ، وَهَذَا تَرْتِيبٌ لَطِيفٌ مَدَارُ كُلِّ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ الْكَمَالَاتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ النَّفْسَانِيَّةُ وَالْبَدَنِيَّةُ وَالْخَارِجِيَّةُ وَأَشْرَفُ الْمَرَاتِبِ النَّفْسَانِيَّةُ وَأَوْسَطُهَا الْبَدَنِيَّةُ وَأَدْوَنُهَا الْخَارِجِيَّةُ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْكَمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةَ مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ الْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، فَإِنَّ أَهْلَ التَّحْقِيقِ قَالُوا كَمَالُ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ وَالْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ وَرَأْسُ الْمَعَارِفِ الْيَقِينِيَّةُ وَرَئِيسُهَا مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَرَأْسُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَرَئِيسُهَا أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُسْتَقِيمًا فِي الْوَسَطِ غَيْرَ مَائِلٍ إِلَى طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، كَمَا قَالَ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَةِ: 143] وَقَالَ أَيْضًا: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ ثُمَّ اسْتَقامُوا وَسَمِعْتُ أَنَّ الْقَارِئَ قَرَأَ فِي مَجْلِسِ الْعَبَّادِيِّ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ الْعَبَّادِيُّ: وَالْقِيَامَةُ فِي الْقِيَامَةِ، بِقَدْرِ الِاسْتِقَامَةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقَوْلَ بِاللِّسَانِ فَقَطْ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ الِاسْتِقَامَةَ، فَلَمَّا ذَكَرَ عَقِيبَ ذَلِكَ الْقَوْلِ الِاسْتِقَامَةَ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ كَانَ مَقْرُونًا بِالْيَقِينِ التَّامِّ وَالْمَعْرِفَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي الِاسْتِقَامَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الِاسْتِقَامَةُ فِي الدِّينِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الِاسْتِقَامَةُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ عِبَارَاتٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ثُمَّ اسْتَقَامُوا أَيْ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِلَهٍ غَيْرِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَعَ فِي أَنْوَاعٍ شَدِيدَةٍ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ وَلَمْ يَتَغَيَّرِ الْبَتَّةَ عَنْ دِينِهِ، فَكَانَ هُوَ الَّذِي قَالَ: رَبُّنَا اللَّهُ وَبَقِيَ مُسْتَقِيمًا عَلَيْهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَأَقُولُ يُمْكِنُ فِيهِ وُجُوهٌ أُخْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ إِلَهًا بَقِيَتْ لَهُ مَقَامَاتٌ أُخْرَى فَأَوَّلُهَا: / أَنْ لا يتوغل في جانب النفي إلى حيث ينتهي إلى التعطيل، ولا يَتَوَغَّلَ فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي إِلَى التَّشْبِيهِ، بَلْ يَبْقَى عَلَى الْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ الْفَاصِلِ بَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، وَأَيْضًا يَجِبُ أَنْ يَبْقَى عَلَى الْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَكَذَا فِي الرَّجَاءِ وَالْقُنُوطِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ نَحْمِلَ الِاسْتِقَامَةَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، قَالُوا وَهَذَا أَوْلَى حَتَّى يَكُونَ قَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ مُتَنَاوِلًا لِلْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ وَيَكُونَ قَوْلُهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا مُتَنَاوِلًا لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. ثُمَّ قَالَ: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ قِيلَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَقِيلَ فِي مَوَاقِفَ ثَلَاثَةٍ عِنْدَ الْمَوْتِ وَفِي الْقَبْرِ وَعِنْدَ الْبَعْثِ إِلَى الْقِيَامَةِ أَلَّا تَخافُوا أَنْ بِمَعْنَى أَيْ أَوْ بِمُخَفَّفَةٍ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَأَصْلُهُ بِأَنَّهُ لَا تَخَافُوا وَالْهَاءُ ضَمِيرٌ الشَّأْنِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَايَةَ الْقُصْوَى فِي رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ دَفْعُ الْمَضَارِّ وَجَلْبُ الْمَنَافِعِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ دَفْعَ الْمَضَرَّةِ أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ مِنْ جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ، وَالْمَضَرَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَاصِلَةً فِي الْمُسْتَقْبَلِ أو في الحال أو في الماضي، وهاهنا دقيقة عقلية

وَهِيَ أَنَّ الْمُسْتَقْبَلَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْحَاضِرِ وَالْحَاضِرَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَاضِي، فَإِنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ وَيُتَوَقَّعُ حُدُوثُهُ يَكُونُ مُسْتَقْبَلًا، فَإِذَا وُجِدَ يَصِيرُ حَاضِرًا، فَإِذَا عُدِمَ وَفَنِيَ بَعْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ مَاضِيًا، وَأَيْضًا الْمُسْتَقْبَلُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ يَصِيرُ أَقْرَبَ حُصُولًا وَالْمَاضِي فِي كُلِّ حَالَةٍ أَبْعَدُ حُصُولًا، وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَا زَالَ مَا تَهْوَاهُ أَقْرَبُ مِنْ غَدِ ... وَلَا زَالَ مَا تَخْشَاهُ أَبْعَدُ مِنْ أَمْسِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْمَضَارُّ الَّتِي يُتَوَقَّعُ حُصُولُهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْلَى بِالدَّفْعِ مِنَ الْمَضَارِّ الْمَاضِيَةِ، وَأَيْضًا الْخَوْفُ عِبَارَةٌ عَنْ تَأَلُّمِ الْقَلْبِ بِسَبَبِ تَوَقُّعِ حُصُولِ مَضَرَّةٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْغَمُّ عِبَارَةٌ عَنْ تَأَلُّمِ الْقَلْبِ بِسَبَبِ قُوَّةِ نَفْعٍ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْمَاضِي، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَدَفْعُ الْخَوْفِ أَوْلَى مِنْ دَفْعِ الْحُزْنِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ الْغَمِّ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يُخْبِرُونَ بِأَنَّهُ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ بِسَبَبِ مَا تَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يُخْبِرُونَ بِأَنَّهُ لَا حُزْنٌ عَلَيْكُمْ بِسَبَبِ مَا فَاتَكُمْ مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَعِنْدَ حُصُولِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَقَدْ زَالَتِ الْمَضَارُّ وَالْمَتَاعِبُ بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ يُبَشَّرُونَ بِحُصُولِ الْمَنَافِعِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فَإِنْ قِيلَ الْبِشَارَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ بِحُصُولِ الْمَنَافِعِ، فَأَمَّا إِذَا أَخْبَرَ الرَّجُلُ بِحُصُولِ مَنْفَعَةٍ ثُمَّ أَخْبَرَ ثَانِيًا بِحُصُولِهَا كَانَ الْإِخْبَارُ الثَّانِي إِخْبَارًا وَلَا يَكُونُ بِشَارَةً، وَالْمُؤْمِنُ قَدْ يَسْمَعُ بِشَارَاتِ الْخَيْرِ فَإِذَا سَمِعَ الْمُؤْمِنُ هَذَا الْخَبَرَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِخْبَارًا وَلَا يَكُونَ بِشَارَةً، فَمَا السَّبَبُ فِي تَسْمِيَةِ هَذَا الْخَبَرِ بِالْبِشَارَةِ، قُلْنَا الْمُؤْمِنُ يَسْمَعُ أَنَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا كَانَ لَهُ الْجَنَّةُ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَسْمَعِ الْبَتَّةَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَإِذَا سَمِعَ هَذَا الْكَلَامَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَانَ هَذَا إِخْبَارًا بِنَفْعٍ عَظِيمٍ مَعَ أَنَّهُ هُوَ الْخَبَرُ الْأَوَّلُ بِذَلِكَ فَكَانَ ذَلِكَ بِشَارَةً. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَفِي الْقَبْرِ وَعِنْدَ الْبَعْثِ لَا يَكُونُ فَازِعًا مِنَ الْأَهْوَالِ وَمِنَ الْفَزَعِ الشَّدِيدِ، بَلْ يَكُونُ آمِنَ الْقَلْبِ سَاكِنَ الصَّدْرِ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا يُفِيدُ نَفْيَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَهَذَا فِي مُقَابَلَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي وَعِيدِ الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالَ: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ [فُصِّلَتْ: 25] وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّ لِلْمَلَائِكَةِ تَأْثِيرَاتٍ فِي الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ، بِالْإِلْهَامَاتِ وَالْمُكَاشَفَاتِ الْيَقِينِيَّةِ، وَالْمَقَامَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ، كَمَا أَنَّ لِلشَّيَاطِينِ تَأْثِيرَاتٍ فِي الْأَرْوَاحِ بِإِلْقَاءِ الْوَسَاوِسِ فِيهَا وَتَخْيِيلِ الْأَبَاطِيلِ إِلَيْهَا. وَبِالْجُمْلَةِ فَكَوْنُ الْمَلَائِكَةِ أَوْلِيَاءَ لِلْأَرْوَاحِ الطَّيِّبَةِ الطَّاهِرَةِ حَاصِلٌ مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ مَعْلُومَةٍ لِأَرْبَابِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ، فَهُمْ يَقُولُونَ: كَمَا أَنَّ تِلْكَ الْوِلَايَةَ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي الدنيا فَهِيَ تَكُونُ بَاقِيَةً فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ تِلْكَ الْعَلَائِقَ ذَاتِيَّةٌ لَازِمَةٌ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلزَّوَالِ، بَلْ كَأَنَّهَا تَصِيرُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَقْوَى وَأَبْقَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَوْهَرَ النَّفْسِ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ، وَهِيَ كالشعلة بالنسبة إلى الشمس، وَالْقَطْرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَحْرِ، وَالتَّعَلُّقَاتُ الْجُسْمَانِيَّةُ هِيَ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَحُومُونَ عَلَى قُلُوبِ بَنِي آدَمَ لَنَظَرُوا إِلَى ملكوت السموات» فَإِذَا زَالَتِ الْعَلَائِقُ الْجُسْمَانِيَّةُ وَالتَّدْبِيرَاتُ الْبَدَنِيَّةُ، فَقَدْ زَالَ الْغِطَاءُ وَالْوِطَاءُ، فَيَتَّصِلُ الْأَثَرُ بِالْمُؤَثِّرِ، وَالْقَطْرَةُ بِالْبَحْرِ، وَالشُّعْلَةُ بِالشَّمْسِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ثُمَّ قَالَ: وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ أَيْ مَا تَتَمَنَّوْنَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا

[سورة فصلت (41) : الآيات 33 إلى 36]

يَدَّعُونَ [يس: 57] فَإِنَّ قِيلَ فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لَا يَبْقَى فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ قُلْنَا: الْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْجَنَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَقَوْلَهُ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ إِشَارَةٌ إِلَى الْجَنَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُسَ: 10] . ثُمَّ قَالَ: نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ وَالنُّزُلُ: رِزْقُ النَّزِيلِ وَهُوَ الضَّيْفُ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ، قَالَ الْعَارِفُونَ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ جَارِيَةٌ مَجْرَى النزل، والكريم إذا أَعْطَى النُّزُلَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَبْعَثَ الْخِلَعَ النَّفِيسَةَ بَعْدَهَا، وَتِلْكَ الْخِلَعُ النَّفِيسَةُ لَيْسَتْ إِلَّا السَّعَادَاتِ الْحَاصِلَةَ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ وَالتَّجَلِّي وَالْكَشْفِ التَّامِّ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا لَهَا أَهْلًا بفضله وكرمه، إنه قريب مجيب. [سورة فصلت (41) : الآيات 33 الى 36] وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِنَّمَا ابْتُدِئَ حَيْثُ قَالُوا لِلرَّسُولِ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فُصِّلَتْ: 5] وَمُرَادُهُمْ أَلَّا نَقْبَلَ قَوْلَكَ وَلَا نَلْتَفِتَ إِلَى دَلِيلِكَ، ثُمَّ ذَكَرُوا طَرِيقَةً أُخْرَى فِي السَّفَاهَةِ، فَقَالُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فُصِّلَتْ: 26] وإنه سبحانه ذكر الأجوبة الشافية، والبيانات الْكَافِيَةَ فِي دَفْعِ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ وَإِزَالَةِ هَذِهِ الضَّلَالَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْقَوْمَ وَإِنْ أَتَوْا بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْفَاسِدَةِ، إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْكَ تَتَابُعُ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى التَّبْلِيغِ وَالدَّعْوَةِ، فَإِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ أَكْمَلُ الطَّاعَاتِ وَرَأْسُ الْعِبَادَاتِ، وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَهَذَا وَجْهٌ شَرِيفٌ حَسَنٌ فِي نَظْمِ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مَرَاتِبَ السَّعَادَاتِ اثْنَانِ: التَّامُّ، وَفَوْقَ التَّامِّ، أَمَّا التَّامُّ: فَهُوَ أَنْ يَكْتَسِبَ مِنَ الصِّفَاتِ الْفَاضِلَةِ مَا لِأَجْلِهَا يَصِيرُ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ هَذِهِ الدَّرَجَةِ اشْتَغَلَ بَعْدَهَا بِتَكْمِيلِ النَّاقِصِينَ وَهُوَ فَوْقَ التَّامِّ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّ قَوْلَهُ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فُصِّلَتْ: 30] إِشَارَةٌ إِلَى الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى، وَهِيَ اكْتِسَابُ الْأَحْوَالِ الَّتِي تُفِيدُ كَمَالَ النَّفْسِ فِي جَوْهَرِهَا، فَإِذَا حَصَلَ الْفَرَاغُ مِنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَجَبَ الِانْتِقَالُ إِلَى الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ الِاشْتِغَالُ بِتَكْمِيلِ النَّاقِصِينَ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلَهُ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ فَهَذَا أَيْضًا وَجْهٌ حَسَنٌ فِي نَظْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ آتَاهُ اللَّهُ قَرِيحَةً قَوِيَّةً وَنِصَابًا وَافِيًا مِنَ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ الْكَشْفِيَّةِ، عَرَفَ أَنَّهُ لَا تَرْتِيبَ أَحْسَنُ وَلَا أَكْمَلُ مِنْ تَرْتِيبِ آيَاتِ الْقُرْآنِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلَهُ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ/ هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُمُ الْمُؤَذِّنُونَ، وَلَكِنَّ الْحَقَّ الْمَقْطُوعَ بِهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِيهِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ مَرَاتِبُ: فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: دَعْوَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ رَاجِحَةٌ عَلَى دَعْوَةِ غَيْرِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الدَّعْوَةِ بِالْحُجَّةِ أَوَّلًا، ثُمَّ الدَّعْوَةِ بِالسَّيْفِ ثَانِيًا، وَقَلَّمَا اتَّفَقَ لِغَيْرِهِمُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ هُمُ الْمُبْتَدِئُونَ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ، وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ فَإِنَّهُمْ يَبْنُونَ دَعْوَتَهُمْ عَلَى دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالشَّارِعُ فِي إِحْدَاثِ الْأَمْرِ الشَّرِيفِ عَلَى طَرِيقِ الِابْتِدَاءِ أَفْضَلُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ نُفُوسَهُمْ أَقْوَى قُوَّةً، وَأَرْوَاحَهُمْ أَصْفَى جَوْهَرًا، فَكَانَتْ تَأْثِيرَاتُهَا فِي إِحْيَاءِ الْقُلُوبِ الْمَيِّتَةِ وَإِشْرَاقِ الْأَرْوَاحِ الْكَدِرَةِ أَكْمَلَ، فَكَانَتْ دَعْوَتُهُمْ أَفْضَلَ وَرَابِعُهَا: أَنَّ النُّفُوسَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: نَاقِصَةٌ وَكَامِلَةٌ لَا تَقْوَى عَلَى تَكْمِيلِ النَّاقِصِينَ وَكَامِلَةٌ تَقْوَى عَلَى تَكْمِيلِ النَّاقِصِينَ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْعَوَامُّ وَالْقِسْمُ الثَّانِي: هُمُ الْأَوْلِيَاءُ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عُلَمَاءُ أُمَّتِي كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إسرائيل» وإذا عرفت هذا فنقول: إن نفوس الأنبياء حصلت لها مزيتان: الْكَمَالُ فِي الذَّاتِ، وَالتَّكْمِيلُ لِلْغَيْرِ، فَكَانَتْ قُوَّتُهُمْ عَلَى الدَّعْوَةِ أَقْوَى، وَكَانَتْ دَرَجَاتُهُمْ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَهُمْ صِفَتَانِ: الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ، أَمَّا الْعُلَمَاءُ، فَهُمْ نُوَّابُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْعِلْمِ، وَأَمَّا الْمُلُوكُ، فَهُمْ نُوَّابُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْقُدْرَةِ، وَالْعِلْمُ يُوجِبُ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى الْأَرْوَاحِ، وَالْقُدْرَةُ تُوجِبُ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى الْأَجْسَادِ، فَالْعُلَمَاءُ خُلَفَاءُ الْأَنْبِيَاءِ فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ، وَالْمُلُوكُ خُلَفَاءُ الْأَنْبِيَاءِ فِي عَالَمِ الْأَجْسَادِ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ أَكْمَلَ الدَّرَجَاتِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ دَرَجَةً الْعُلَمَاءُ، ثُمَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ، وَالْعُلَمَاءُ بِصِفَاتِ اللَّهِ، وَالْعُلَمَاءُ بِأَحْكَامِ اللَّهِ. أَمَّا الْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ، فَهُمُ الْحُكَمَاءُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَةِ: 229] وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُمْ أَصْحَابُ الْأُصُولِ، وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ بِأَحْكَامِ اللَّهِ فَهُمُ الْفُقَهَاءُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ دَرَجَاتٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَأَمَّا الْمُلُوكُ فَهُمْ أَيْضًا يَدْعُونَ إِلَى دِينِ اللَّهِ بِالسَّيْفِ، وَذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ إِمَّا بِتَحْصِيلِهِ عِنْدَ عَدَمِهِ مثل المحاربة مع الكفار، وإما بإبقائه عِنْدَ وُجُودِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِنَا الْمُرْتَدُّ يُقْتَلُ، وَأَمَّا الْمُؤَذِّنُونَ فَهُمْ يَدْخُلُونَ فِي هَذَا الْبَابِ دُخُولًا ضَعِيفًا، أَمَّا دُخُولُهُمْ فِيهِ فَلِأَنَّ ذِكْرَ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ دَعْوَةٌ إِلَى الصَّلَاةِ، فَكَانَ ذَلِكَ دَاخِلًا تَحْتَ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ، وَأَمَّا كَوْنُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ ضَعِيفَةً فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمُؤَذِّنِ أَنَّهُ لَا يُحِيطُ بِمَعَانِي تِلْكَ الْكَلِمَاتِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِهَا إِلَّا أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِذِكْرِهَا تِلْكَ الْمَعَانِيَ الشَّرِيفَةَ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ، فِي مَرَاتِبِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلَهُ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ أَحْسَنُ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهَا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: كُلُّ مَا كَانَ أَحْسَنَ الْأَعْمَالِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا، لِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَكُونُ وَاجِبًا فَالْوَاجِبُ أَحْسَنُ منه، فثبت أن كل ما كان أحسن الأعمال فهو/ واجب، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ أَحْسَنُ الْأَعْمَالِ بِمُقَتْضَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَكُلُّ مَا كَانَ أَحْسَنَ الْأَعْمَالِ فَهُوَ وَاجِبٌ، ثُمَّ يَنْتُجُ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ وَاجِبَةٌ، ثُمَّ نَقُولُ الْأَذَانُ دَعْوَةٌ إِلَى اللَّهِ وَالدَّعْوَةُ إِلَيْهِ وَاجِبَةٌ فَيَنْتُجُ الْأَذَانُ وَاجِبٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ زَعَمُوا أَنَّ الْأَذَانَ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْأَذَانَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَيْهِ أَنَّ الدَّعْوَةَ الْمُرَادَةَ بِهَذِهِ الآية

يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَحْسَنَ الْأَقْوَالِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْأَذَانَ لَيْسَ أَحْسَنَ الْأَقْوَالِ، لِأَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى دِينِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ أَحْسَنُ مِنَ الْأَذَانِ، يَنْتُجُ مِنَ الشَّكْلِ الثَّانِي أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ هُوَ الْأَذَانَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ الْأَوْلَى أن يقول الرجل أنا المسلم أَوِ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ أَنَا مُسْلِمٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَالْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ احْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ قَالَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَحَكَمَ بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ، وَلَوْ كَانَ قَوْلُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ مُعْتَبَرًا فِي كَوْنِهِ أَحْسَنَ الْأَقْوَالِ لَبَطَلَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحْسَنَ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ خِصَالٍ ثَلَاثَةٍ أَوَّلُهَا: الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ وَثَانِيهَا: الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَمَّا الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ شَرَحْنَاهَا وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ بِإِقَامَةِ الدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَعَمِلَ صالِحاً فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَمَلَ الْقُلُوبِ وَهُوَ الْمَعْرِفَةُ، أَوْ عَمَلَ الْجَوَارِحِ وَهُوَ سَائِرُ الطَّاعَاتِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى عَمَلِ الْقَلْبِ وَعَمَلِ الْجَوَارِحِ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، فَيَكُونُ هَذَا الرَّجُلُ مَوْصُوفًا بِخِصَالٍ أَرْبَعَةٍ أَحَدُهَا: الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَالثَّانِي: الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ بِالْجَوَارِحِ وَالثَّالِثُ: الِاعْتِقَادُ الْحَقُّ بِالْقَلْبِ وَالرَّابِعُ: الِاشْتِغَالُ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى دِينِ اللَّهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهَذِهِ الْخِصَالِ الْأَرْبَعَةِ أَشْرَفُ النَّاسِ وَأَفْضَلُهُمْ، وَكَمَالُ الدَّرَجَةِ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعَةِ لَيْسَ إِلَّا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ ابْتُدِئْ مِنْ أَنَّ اللَّهَ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فُصِّلَتْ: 5] فَأَظْهَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمِ الْإِصْرَارَ الشَّدِيدَ عَلَى أَدْيَانِهِمُ الْقَدِيمَةِ وَعَدَمَ التَّأَثُّرِ بِدَلَائِلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَطْنَبَ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ وَذَكَرَ الْوُجُوهَ الْكَثِيرَةَ وَأَرْدَفَهَا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ شُبْهَةً أُخْرَى وَهِيَ قولهم لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فُصِّلَتْ: 26] وَأَجَابَ عَنْهَا أَيْضًا بِالْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ، ثُمَّ إنه تعالى يعد الْإِطْنَابِ فِي الْجَوَابِ عَنْ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ رَغَّبَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ لَا يَتْرُكَ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ فَابْتَدَأَ أَوَّلًا بِأَنْ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلَهُمُ الثَّوَابُ الْعَظِيمُ ثُمَّ تَرَقَّى مِنْ تِلْكَ الدَّرَجَةِ إِلَى دَرَجَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَعْظَمِ الدَّرَجَاتِ، فَصَارَ الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى/ هَذَا الْمَوْضِعِ وَاقِعًا عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِ التَّرْتِيبِ، ثُمَّ كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ فَقَالَ إِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ وَإِنْ كَانَتْ طَاعَةً عَظِيمَةً، إِلَّا أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى سَفَاهَةِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ شَدِيدٌ لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، فَعِنْدَ هَذَا ذَكَرَ اللَّهُ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ دَافِعًا لِهَذَا الْإِشْكَالِ فَقَالَ: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ دَعْوَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَالصَّبْرِ عَلَى جَهَالَةِ الْكُفَّارِ، وَتَرْكِ الِانْتِقَامِ، وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالسَّيِّئَةِ مَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الْجَلَافَةِ فِي قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَمَا ذَكَرُوهُ فِي قَوْلِهِمْ لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ يَا مُحَمَّدُ فِعْلُكَ حَسَنَةٌ وَفِعْلُهُمْ سَيِّئَةٌ، وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، بِمَعْنَى أَنَّكَ إِذَا أَتَيْتَ بِهَذِهِ الْحَسَنَةِ تَكُونُ مُسْتَوْجِبًا لِلتَّعْظِيمِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَهُمْ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِقْدَامُهُمْ عَلَى تِلْكَ السَّيِّئَةِ مَانِعًا لَكَ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِهَذِهِ الْحَسَنَةِ.

[سورة فصلت (41) : الآيات 37 إلى 39]

ثُمَّ قَالَ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يَعْنِي ادْفَعْ سَفَاهَتَهُمْ وَجَهَالَتَهُمْ بِالطَّرِيقِ الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ الطُّرُقِ، فَإِنَّكَ إِذَا صَبَرْتَ عَلَى سُوءِ أَخْلَاقِهِمْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَلَمْ تُقَابِلْ سَفَاهَتَهُمْ بِالْغَضَبِ وَلَا إِضْرَارَهُمْ بِالْإِيذَاءِ وَالْإِيحَاشِ اسْتَحْيَوْا مِنْ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ وَتَرَكُوا تِلْكَ الْأَفْعَالَ الْقَبِيحَةَ. ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ يَعْنِي إِذَا قَابَلْتَ إِسَاءَتَهُمْ بِالْإِحْسَانِ، وَأَفْعَالَهُمُ الْقَبِيحَةَ بِالْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ تَرَكُوا أَفْعَالَهُمُ الْقَبِيحَةَ وَانْقَلَبُوا مِنَ الْعَدَاوَةِ إِلَى الْمَحَبَّةِ وَمِنَ الْبِغْضَةِ إِلَى الْمَوَدَّةِ، وَلَمَّا أَرْشَدَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى هَذَا الطَّرِيقِ النَّافِعِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَظَّمَهُ فَقَالَ: وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ وَمَا يُلَقَّى هَذِهِ الْفِعْلَةَ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى تَحَمُّلِ الْمَكَارِهِ وَتَجَرُّعِ الشَّدَائِدِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ وَتَرْكِ الِانْتِقَامِ. ثُمَّ قَالَ: وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ مِنَ الْفَضَائِلِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالدَّرَجَةِ الْعَالِيَةِ فِي الْقُوَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ، فَإِنَّ الِاشْتِغَالَ بِالِانْتِقَامِ وَالدَّفْعِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ تَأَثُّرِ النَّفْسِ، وَتَأَثُّرُ النَّفْسِ مِنَ الْوَارِدَاتِ الْخَارِجِيَّةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ ضَعْفِ النَّفْسِ فَأَمَّا إِذَا كَانَتِ النَّفْسُ قَوِيَّةَ الْجَوْهَرِ لَمْ تَتَأَثَّرْ مِنَ الْوَارِدَاتِ الْخَارِجِيَّةِ، وَإِذَا لَمْ تَتَأَثَّرْ مِنْهَا لَمْ تَضْعُفْ وَلَمْ تَتَأَذَّ وَلَمْ تَشْتَغِلْ بِالِانْتِقَامِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ السِّيرَةَ الَّتِي شَرَحْنَاهَا لَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ مِنْ قُوَّةِ النَّفْسِ وَصَفَاءِ الْجَوْهَرِ وَطَهَارَةِ الذَّاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا مَدْحٌ بِفِعْلِ الصَّبْرِ، وَقَوْلُهُ وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَعْدٌ بِأَعْظَمِ الْحَظِّ مِنَ الثَّوَابِ. وَلَمَّا ذَكَرَ هَذَا الطَّرِيقَ الْكَامِلَ فِي دَفْعِ الْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ، وَفِي تَرْكِ الْخُصُومَةِ ذَكَرَ عَقِيبَهُ طَرِيقًا آخَرَ عَظِيمَ النَّفْعِ أَيْضًا فِي هَذَا الْبَابِ، فَقَالَ: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَهَذِهِ الْآيَةُ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ الْجَلِيلَةِ مُفَسَّرَةٌ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» النَّزْغُ وَالنَّسْغُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ شِبْهُ النَّخْسِ/ وَالشَّيْطَانُ يَنْزِغُ الْإِنْسَانَ، كَأَنَّهُ يَنْخُسُهُ بِبَعْثِهِ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي وَجُعِلَ النَّزْغُ نَازِغًا، كَمَا قِيلَ: جَدَّ جِدُّهُ أَوْ أُرِيدَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ نَازِغٌ وَصْفًا لِلشَّيْطَانِ بِالْمَصْدَرِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ وَإِنْ صَرَفَكَ الشَّيْطَانُ عَمَّا شَرَّعْتُ مِنَ الدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهِ، وَامْضِ عَلَى شَأْنِكَ ولا تطعه، والله أعلم. [سورة فصلت (41) : الآيات 37 الى 39] وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ أَحْسَنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ هُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنْ تَقْرِيرِ الدلائل الدالة

عَلَى ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، فَهَذِهِ تَنْبِيهَاتٌ شَرِيفَةٌ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ تَنَاسُقِ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَكَانَ الْعِلْمُ بِهَذِهِ اللَّطَائِفِ أَحْسَنَ عُلُومِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى هَذِهِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ هِيَ الْعَالَمُ بِجَمِيعِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَجْزَاءِ والأبعاض، فبدأ هاهنا بِذِكْرِ الْفَلَكِيَّاتِ وَهِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَإِنَّمَا قُدِّمَ ذِكْرُ اللَّيْلِ عَلَى ذِكْرِ النَّهَارِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الظُّلْمَةَ عَدَمٌ، وَالنُّورَ وُجُودٌ، وَالْعَدَمُ سَابِقٌ عَلَى الْوُجُودِ، فَهَذَا كَالتَّنْبِيهِ عَلَى حُدُوثِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَأَمَّا دَلَالَةُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْأَفْلَاكِ وَسَائِرِ الْكَوَاكِبِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، فَقَدْ شَرَحْنَاهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا، لَا سِيَّمَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَةِ: 2] وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَامِ: 1] . وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مُحْدَثَانِ، وَهُمَا دَلِيلَانِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ قَالَ: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ يَعْنِي أَنَّهُمَا عَبْدَانِ دَلِيلَانِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ، وَالسَّجْدَةُ عِبَارَةٌ عَنْ نِهَايَةِ التَّعْظِيمِ/ فَهِيَ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ كَانَ أَشْرَفَ الْمَوْجُودَاتِ، فَقَالَ: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ لِأَنَّهُمَا عَبْدَانِ مَخْلُوقَانِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الْخَالِقِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ خَلَقَهُنَّ لِلَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْقَمَرِ، لِأَنَّ حُكْمَ جَمَاعَةِ مَا لَا يَعْقِلُ حُكْمُ الْأُنْثَى أَوِ الْإِنَاثِ، يُقَالُ لِلْأَقْلَامِ بَرَيْتُهَا وَبَرَيْتُهُنَّ، وَلَمَّا قَالَ: وَمِنْ آياتِهِ كُنَّ فِي مَعْنَى الْإِنَاثِ فَقَالَ: خَلَقَهُنَّ وَإِنَّمَا قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ لِأَنَّ نَاسًا كَانُوا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ كَالصَّابِئِينَ فِي عِبَادَتِهِمُ الْكَوَاكِبَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِالسُّجُودِ لَهُمَا السُّجُودَ لِلَّهِ فَنُهُوا عَنْ هَذِهِ الْوَاسِطَةِ وَأُمِرُوا أَنْ لَا يَسْجُدُوا إِلَّا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْأَشْيَاءَ، فَإِنْ قِيلَ إِذَا كَانَ لَا بُدَّ فِي الصَّلَاةِ مِنْ قِبْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَلَوْ جَعَلْنَا الشَّمْسَ قِبْلَةً مُعَيَّنَةً عِنْدَ السُّجُودِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، قُلْنَا الشَّمْسُ جَوْهَرٌ مُشْرِقٌ عَظِيمُ الرِّفْعَةِ عَالِي الدَّرَجَةِ، فَلَوْ أَذِنَ الشَّرْعُ فِي جَعْلِهَا قِبْلَةً فِي الصَّلَوَاتِ، فَعِنْدَ اعْتِيَادِ السُّجُودِ إِلَى جَانِبِ الشَّمْسِ رُبَّمَا غَلَبَ عَلَى الْأَوْهَامِ أَنَّ ذَلِكَ السُّجُودَ لِلشَّمْسِ لَا لِلَّهِ، فَلِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنْ هَذَا الْمَحْذُورِ نَهَى الشَّارِعُ الْحَكِيمُ عَنْ جَعْلِ الشَّمْسِ قِبْلَةً لِلسُّجُودِ، بِخِلَافِ الْحَجَرِ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُوهِمُ الْإِلَهِيَّةَ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْقِبْلَةِ حَاصِلًا وَالْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ زَائِلًا فَكَانَ هَذَا أَوْلَى، وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ مَوْضِعَ السُّجُودِ هُوَ قَوْلُهُ تَعْبُدُونَ لِأَجْلِ أَنَّ قَوْلَهُ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ مُتَّصِلٌ بِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ قَوْلُهُ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَتِمُّ عِنْدَهُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالسُّجُودِ قَالَ بَعْدَهُ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يَقُولُونَ نَحْنُ أَقَلُّ وَأَذَلُّ مِنْ أَنْ يَحْصُلَ لَنَا أَهْلِيَّةُ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّا عَبِيدٌ لِلشَّمْسِ وَهُمَا عَبْدَانِ لِلَّهِ، وَإِذَا كَانَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ هَكَذَا، فَكَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمُ اسْتَكْبَرُوا عَنِ السُّجُودِ لِلَّهِ؟ وَالْجَوَابُ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ الِاسْتِكْبَارِ مَا ذَكَرْتُمْ، بَلِ الْمُرَادُ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا عَنْ قَبُولِ قَوْلِكَ يَا مُحَمَّدُ فِي النَّهْيِ عَنِ السُّجُودِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُشَبِّهَةَ تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ فِي إِثْبَاتِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ يُقَالُ عِنْدَ الْمَلِكِ مِنَ الْجُنْدِ كَذَا وَكَذَا، وَلَا يُرَادُ بِهِ قرب المكان. فكذا هاهنا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ لِأَجْلِي فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» وَيُقَالُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ الْمُسْلِمَ لَا يقتل بالذمي.

[سورة فصلت (41) : الآيات 40 إلى 42]

السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُسْتَدَلُّ بِحَالِ الْأَعْلَى عَلَى حَالِ الْأَدْوَنِ، فَيُقَالُ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ إِنِ اسْتَكْبَرُوا عَنْ طَاعَةِ فُلَانٍ فَالْأَكَابِرُ يَخْدِمُونَهُ وَيَعْتَرِفُونَ بِتَقَدُّمِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ إِنَّمَا يَحْسُنُ بِحَالِ الْأَعْلَى عَلَى حَالِ الْأَدْوَنِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: قال هاهنا في صفة الملائكة يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى/ أَنَّهُمْ مُوَاظِبُونَ عَلَى التَّسْبِيحِ، لَا يَنْفَكُّونَ عَنْهُ لَحْظَةً وَاحِدَةً، وَاشْتِغَالُهُمْ بِهَذَا الْعَمَلِ عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِسَائِرِ الْأَعْمَالِ كَكَوْنِهِمْ يَنْزِلُونَ إِلَى الْأَرْضِ كَمَا قَالَ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: 193، 194] وَقَالَ: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الْحِجْرِ: 51] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ [التَّحْرِيمِ: 6] الْجَوَابُ: إِنَّ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى هاهنا بِكَوْنِهِمْ مُوَاظِبِينَ عَلَى التَّسْبِيحِ أَقْوَامٌ مُعَيَّنُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُمُ الْأَشْرَافُ الْأَكَابِرُ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ عِنْدَهُ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْعِنْدِيَّةِ كَمَالُ الشَّرَفِ وَالْمَنْقَبَةِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَ طَائِفَةٍ أُخْرَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُشْتَغِلِينَ بِسَائِرِ الْأَعْمَالِ، فَإِنْ قَالُوا هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَنَفَّسُوا، فَاشْتِغَالُهُمْ بِذَلِكَ التَّنَفُّسِ يَصُدُّهُمْ عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ مِنَ التَّسْبِيحِ قُلْنَا كَمَا أَنَّ التَّنَفُّسَ سَبَبٌ لِصَلَاحِ حَالِ الْحَيَاةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَشَرِ فَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى سَبَبٌ لِصَلَاحِ حَالِهِمْ فِي حَيَاتِهِمْ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الْمُنْصِفِ أَنْ يَقِيسَ أَحْوَالَ الْمَلَائِكَةِ فِي صَفَاءِ جَوْهَرِهَا وَإِشْرَاقِ ذَوَاتِهَا وَاسْتِغْرَاقِهَا فِي مَعَارِجِ مَعَارِفِ اللَّهِ بِأَحْوَالِ الْبَشَرِ، فَإِنَّ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْآيَاتِ الْأَرْبَعَ الْفَلَكِيَّةَ وَهِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، أَتْبَعَهَا بِذِكْرِ آيَةٍ أَرْضِيَّةٍ فَقَالَ: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً وَالْخُشُوعُ التَّذَلُّلُ وَالتَّصَاغُرُ، وَاسْتُعِيرَ هَذَا اللَّفْظُ لِحَالِ الْأَرْضِ حَالَ خُلُوِّهَا عَنِ الْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ أَيْ تَحَرَّكَتْ بِالنَّبَاتِ، وَرَبَتْ: انْتَفَخَتْ لِأَنَّ النَّبْتَ إِذَا قَرُبَ أَنْ يَظْهَرَ ارْتَفَعَتْ لَهُ الْأَرْضُ وَانْتَفَخَتْ، ثُمَّ تَصَدَّعَتْ عَنِ النَّبَاتِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى يَعْنِي أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا هُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِحْيَاءِ هَذِهِ الْأَجْسَادِ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَقْرِيرَ هَذَا الدَّلِيلِ مِرَارًا لَا حَصْرَ لَهَا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وهذا هو الدَّلِيلُ الْأَصْلِيُّ وَتَقْرِيرُهُ إِنَّ عَوْدَةَ التَّأْلِيفِ وَالتَّرْكِيبِ إلى تلك الأجزاء المتفرقة ممكن لذاته، وعود الْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ إِلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهَا أَيْضًا أَمْرٌ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى الْمُمْكِنَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِعَادَةِ التَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعَقْلِ وَالْفَهْمِ إِلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ، وَهَذَا يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ حَشْرَ الْأَجْسَادِ مُمْكِنٌ لَا امتناع فيه ألبتة، والله أعلم. [سورة فصلت (41) : الآيات 40 الى 42] إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)

[سورة فصلت (41) : الآيات 43 إلى 46]

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى دِينِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ الْمَنَاصِبِ وَأَشْرَفُ الْمَرَاتِبِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، إِنَّمَا تَحْصُلُ بِذِكْرِ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَصِحَّةِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، عَادَ إِلَى تَهْدِيدِ مَنْ يُنَازِعُ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ، وَيُحَاوِلُ إِلْقَاءَ الشُّبُهَاتِ فِيهَا، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا يُقَالُ أَلْحَدَ الْحَافِرُ وَلَحَدَ إِذَا مَالَ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ فَحَفَرَ فِي شِقٍّ، فَالْمُلْحِدُ هُوَ الْمُنْحَرِفُ، ثُمَّ بِحُكْمِ الْعُرْفِ اخْتَصَّ بِالْمُنْحَرِفُ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَقَوْلُهُ لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا تَهْدِيدٌ كَمَا إِذَا قَالَ الْمَلِكُ الْمَهِيبُ: إِنَّ الَّذِينَ يُنَازِعُونَنِي فِي مُلْكِي أَعْرِفُهُمْ، فَإِنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ تَهْدِيدًا، ثُمَّ قَالَ: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ، وَالْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا يُلْقَوْنَ فِي النَّارِ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا يَأْتُونَ آمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ قَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَهَذَا أَيْضًا تَهْدِيدٌ ثَالِثٌ، وَنَظِيرُهُ مَا يَقُولُهُ الْمَلِكُ الْمَهِيبُ عِنْدَ الْغَضَبِ الشَّدِيدِ إِذَا أَخَذَ يُعَاتِبُ بَعْضَ عَبِيدِهِ ثُمَّ يَقُولُ لَهُمُ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَهَذَا أَيْضًا تَهْدِيدٌ، وَفِي جَوَابِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْذُوفٌ كَسَائِرِ الْأَجْوِبَةِ الْمَحْذُوفَةِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى تَقْدِيرِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ يُجَازَوْنَ بِكُفْرِهِمْ أَوْ مَا أَشْبَهَ وَالثَّانِي: أَنَّ جَوَابَهُ قَوْلُهُ أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ، وَلَمَّا بَالَغَ فِي تَهْدِيدِ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ وَالْعَزِيزُ لَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا: الْغَالِبُ الْقَاهِرُ وَالثَّانِي: الَّذِي لَا يُوجَدُ نَظِيرُهُ، أَمَّا كَوْنُ الْقُرْآنِ عَزِيزًا بِمَعْنَى كَوْنِهِ غَالِبًا، فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِقُوَّةِ حُجَّتِهِ غَلَبَ عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَأَمَّا كَوْنُهُ عَزِيزًا بِمَعْنَى عَدِيمِ النَّظِيرِ، فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَا تُكَذِّبُهُ الْكُتُبُ الْمُتَقَدِّمَةُ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، وَلَا يَجِيءُ كِتَابٌ مِنْ بَعْدِهِ يُكَذِّبُهُ الثَّانِي: مَا حَكَمَ الْقُرْآنُ بِكَوْنِهِ حَقًّا لَا يَصِيرُ بَاطِلًا، وَمَا حَكَمَ بِكَوْنِهِ بَاطِلًا لَا يَصِيرُ حَقًّا الثَّالِثُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَحْفُوظٌ مِنْ أَنْ يُنْقَصَ مِنْهُ فَيَأْتِيَهُ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، أَوْ يُزَادَ فِيهِ فَيَأْتِيَهُ الْبَاطِلُ مِنْ خَلْفِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحِجْرِ: 9] فِعْلُ هَذَا الْبَاطِلِ هُوَ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ الرَّابِعُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كتاب يمكن جَعْلُهُ مُعَارِضًا لَهُ وَلَمْ يُوجَدْ فِيمَا تَقَدَّمَ/ كِتَابٌ يَصْلُحُ جَعْلُهُ مُعَارِضًا لَهُ الْخَامِسُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» هَذَا تَمْثِيلٌ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْبَاطِلَ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ، وَلَا يَجِدُ إِلَيْهِ سَبِيلًا مِنْ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ حَتَّى يَتَّصِلَ إِلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِأَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ النَّسْخُ فِيهِ لِأَنَّ النَّسْخَ إِبْطَالٌ فَلَوْ دَخَلَ النَّسْخُ فِيهِ لَكَانَ قَدْ أَتَاهُ الْبَاطِلُ مِنْ خَلْفِهِ وَإِنَّهُ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْآيَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ أَيْ حَكِيمٍ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، حَمِيدٌ إِلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ نِعَمِهِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ جَعَلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2] فَاتِحَةَ كَلَامِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ خَاتِمَةَ كَلَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الزمر: 75] . [سورة فصلت (41) : الآيات 43 الى 46] مَا يُقالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا هَدَّدَ الْمُلْحِدِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، ثُمَّ بَيَّنَ شَرَفَ آيَاتِ اللَّهِ، وَعُلُوَّ دَرَجَةِ كِتَابِ اللَّهِ رَجَعَ إِلَى أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يَصْبِرَ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ وَأَنْ لَا يَضِيقَ قَلْبُهُ بِسَبَبِ مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ أَنَّهُمْ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ إِلَى قَوْلِهِ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ [فُصِّلَتْ: 5] / فَقَالَ: مَا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا تَقُولُ لَكَ كُفَّارُ قَوْمِكَ إِلَّا مِثْلَ مَا قَدْ قَالَ لِلرُّسُلِ كُفَّارُ قَوْمِهِمْ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُؤْذِيَةِ وَالْمَطَاعِنِ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلْمُحِقِّينَ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ لِلْمُبْطِلِينَ فَفَوِّضْ هَذَا الْأَمْرَ إِلَى اللَّهِ وَاشْتَغِلْ بِمَا أُمِرْتَ بِهِ وَهُوَ التَّبْلِيغُ وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا قَالَ اللَّهُ لَكَ إِلَّا مِثْلَ مَا قَالَ لِسَائِرِ الرُّسُلِ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَكَ وَأَمَرَ كُلَّ الْأَنْبِيَاءِ بِالصَّبْرِ عَلَى سَفَاهَةِ الْأَقْوَامِ فَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَرْجُوَهُ أَهْلُ طَاعَتِهِ وَيَخَافَهُ أَهْلُ مَعْصِيَتِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ كَلَامِنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، هُوَ ذِكْرُ الْأَجْوِبَةِ عَنْ قَوْلِهِمْ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ فَتَارَةً يُنَبِّهُ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَتَارَةً يَذْكُرُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ لِمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَذَا القرآن ولم يُعْرِضُ عَنْهُ، وَامْتَدَّ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْحَسَنِ وَالنَّظْمِ الْكَامِلِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ جَوَابًا آخَرَ عَنْ قَوْلِهِمْ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ فَقَالَ: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: أَأَعْجَمِيٌّ بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَالْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ وَمَدَّةٍ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي أَمْثَالِهِ، كَقَوْلِهِ أَأَنْذَرْتَهُمْ [الْبَقَرَةِ: 6] وَنَحْوِهَا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِهَمْزَتَيْنِ: فَالْهَمْزَةُ الْأُولَى هَمْزَةُ إِنْكَارٍ، وَالْمُرَادُ أَنْكَرُوا وَقَالُوا قُرْآنٌ أَعْجَمِيٌّ وَرَسُولٌ عَرَبِيٌّ، أَوْ مُرْسَلٌ إِلَيْهِ عَرَبِيٌّ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِغَيْرِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَالْمُرَادُ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أَعْجَمِيٌّ وَالْمُرْسَلَ إِلَيْهِ عَرَبِيٌّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَقَلُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ لِأَجْلِ التَّعَنُّتِ، قَالُوا لَوْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَعِنْدِي أَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِيهَا حَيْفٌ عَظِيمٌ عَلَى الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي وُرُودَ آيَاتٍ لَا تَعَلُّقَ لِلْبَعْضِ فِيهَا بِالْبَعْضِ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ: الطَّعْنِ فَكَيْفَ يَتِمُّ مَعَ الْتِزَامِ مِثْلِ هَذَا الطَّعْنِ ادِّعَاءُ كَوْنِهِ كِتَابًا مُنْتَظِمًا، فَضْلًا عَنِ ادِّعَاءِ كَوْنِهِ مُعْجِزًا؟ بَلِ الْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا كَلَامٌ وَاحِدٌ، عَلَى مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَهَذَا الْكَلَامُ أَيْضًا مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَجَوَابٌ لَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّا لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ بِلُغَةِ الْعَجَمِ لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: كَيْفَ أَرْسَلْتَ الْكَلَامَ الْعَجَمِيَّ إِلَى الْقَوْمِ الْعَرَبِ، وَيَصِحُّ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ أَيْ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ

[سورة فصلت (41) : الآيات 47 إلى 54]

مِنْهُ لِأَنَّا لَا نَفْهَمُهُ وَلَا نُحِيطُ بِمَعْنَاهُ، أَمَّا لَمَّا أَنْزَلْنَا هَذَا الْكِتَابَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَبِأَلْفَاظِهِمْ وَأَنْتُمْ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُكُمُ ادِّعَاءُ أَنَّ قُلُوبَكُمْ فِي أَكِنَّةٍ مِنْهَا، وَفِي آذَانِكُمْ وَقْرٌ مِنْهَا، فَظَهَرَ أَنَّا إِذَا جَعَلْنَا هَذَا الْكَلَامَ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ، بَقِيَتِ السُّورَةُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِ النَّظْمِ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَذْكُرُهُ النَّاسُ فَهُوَ عَجِيبٌ جِدًّا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِمْ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ بِلُغَتِكُمْ لَا بِلُغَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ عَنْكُمْ، فَلَا يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَقُولُوا إِنَّ قُلُوبَنَا فِي أَكِنَّةٍ مِنْهُ بِسَبَبِ جَهْلِنَا بِهَذِهِ اللُّغَةِ، فَبَقِيَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ كُلَّ مَنْ آتَاهُ اللَّهُ طَبْعًا مَائِلًا إِلَى الْحَقِّ، وَقَلْبًا مَائِلًا إِلَى الصِّدْقِ، وَهِمَّةً تَدْعُوهُ إِلَى بَذْلِ الْجُهْدِ فِي طَلَبِ الدِّينِ، فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَكُونُ فِي حَقِّهِ هُدًى وَشِفَاءً. أَمَّا كَوْنُهُ هُدًى فَلِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْخَيْرَاتِ وَيُرْشِدُ إِلَى كُلِّ السَّعَادَاتِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ شِفَاءً فَإِنَّهُ إِذَا أَمْكَنَهُ الِاهْتِدَاءُ فَقَدْ حَصَلَ الْهُدَى، فَذَلِكَ الْهُدَى شِفَاءٌ لَهُ مِنْ مَرَضِ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ غَارِقًا فِي بَحْرِ الْخِذْلَانِ، وَتَائِهًا فِي مَفَاوِزِ الْحِرْمَانِ، وَمَشْغُوفًا بِمُتَابَعَةِ الشَّيْطَانِ، كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ فِي آذَانِهِ وَقْرًا، كَمَا قَالَ: وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فُصِّلَتْ: 5] وَكَانَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ عَمًى كَمَا قَالَ: وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فُصِّلَتْ: 5] ، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْحِجَابِ الَّذِي حَالَ بَيْنَ الِانْتِفَاعِ بِبَيَانِ الْقُرْآنِ، وَكُلُّ مَنْ أَنْصَفَ وَلَمْ يَتَعَسَّفْ عَلِمَ أَنَّا إِذَا فَسَّرْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ صَارَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا كَلَامًا وَاحِدًا مُنْتَظِمًا مَسُوقًا نَحْوَ غَرَضٍ وَاحِدٍ، فَيَكُونُ هَذَا التَّفْسِيرُ أَوْلَى مِمَّا ذَكَرُوهُ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى عَلَى الْمَصْدَرِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَمٍ عَلَى النَّعْتِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ، كَقَوْلِهِ هُدىً وَشِفاءٌ وكذلك عَمًى هو مَصْدَرٌ مِثْلُهَا، وَلَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ أَنَّهُ هَادٍ وَشَافٍ لَكَانَ الْكَسْرُ فِي عَمًى أَجْوَدَ فَيَكُونُ نَعْتًا مِثْلَهُمَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مِثْلَ الْبَهِيمَةِ الَّتِي لَا تَفْهَمُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً، وَقِيلَ مَنْ دُعِيَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ لَمْ يَسْمَعْ، وَإِنْ سَمِعَ لَمْ يَفْهَمْ، فَكَذَا حَالُ هَؤُلَاءِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَأَقُولُ أَيْضًا إِنَّ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ إِنَّا لَمَّا آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَبِلَهُ بَعْضُهُمْ وَرَدَّهُ الْآخَرُونَ، فَكَذَلِكَ آتَيْنَاكَ هَذَا الْكِتَابَ فَقَبِلَهُ بَعْضُهُمْ وَهُمْ أَصْحَابُكَ، وَرَدَّهُ الْآخَرُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يَعْنِي فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ [الْقَمَرِ: 46] لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ يَعْنِي الْمُصَدِّقَ وَالْمُكَذِّبَ بِالْعَذَابِ الْوَاقِعِ بِمَنْ كَذَّبَ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْ صِدْقِكَ وَكِتَابِكَ مُرِيبٍ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَسْتَعْظِمَ اسْتِيحَاشَكَ مِنْ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها يَعْنِي خَفِّفْ عَلَى نَفْسِكَ إِعْرَاضَهُمْ، فَإِنَّهُمْ إِنْ آمَنُوا فَنَفْعُ إِيمَانِهِمْ يَعُودُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَفَرُوا فَضَرَرُ كُفْرِهِمْ يَعُودُ إِلَيْهِمْ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يُوصِلُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ مَا يَلِيقُ بِعَمَلِهِ مِنَ الجزاء وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. [سورة فصلت (41) : الآيات 47 الى 54] إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا هَدَّدَ الْكُفَّارَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصلت: 46] وَمَعْنَاهُ أَنَّ جَزَاءَ كُلِّ أَحَدٍ يَصِلُ إِلَيْهِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكَأَنَّ سَائِلًا قَالَ وَمَتَى يَكُونُ ذَلِكَ الْيَوْمُ؟ فَقَالَ تَعَالَى إِنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْخَلْقِ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تُفِيدُ الْحَصْرَ أَيْ لَا يَعْلَمُ وَقْتَ السَّاعَةِ بِعَيْنِهِ إِلَّا اللَّهُ، وَكَمَا أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ لَيْسَ إِلَّا عِنْدَ اللَّهِ فَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فِي أَوْقَاتِهَا الْمُعَيَّنَةِ لَيْسَ إِلَّا عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْبَابِ مِثَالَيْنِ أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَالثَّانِي: قَوْلُهُ وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أكمامها أَوْعِيَتُهَا وَهِيَ مَا كَانَتْ فِيهِ الثَّمَرَةُ وَاحِدُهَا كُمٌّ وَكُمَّةٌ، قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ مِنْ ثَمَرَاتٍ بِالْأَلِفِ عَلَى الْجَمْعِ وَالْبَاقُونَ مِنْ ثَمَرَةٍ بِغَيْرِ أَلِفٍ عَلَى الْوَاحِدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ نَظِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [لقمان: 34] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ الْمُنَجِّمِينَ قَدْ يَتَعَرَّفُونَ مِنْ طَالِعِ سَنَةِ الْعَالَمِ أَحْوَالًا كَثِيرَةً مِنْ أَحْوَالِ الْعَالَمِ، وَكَذَلِكَ قَدْ يَتَعَرَّفُونَ مِنْ طَوَالِعِ النَّاسِ أَشْيَاءَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وهاهنا شَيْءٌ آخَرُ يُسَمَّى عِلْمَ الرَّمْلِ وَهُوَ كَثِيرُ الْإِصَابَةِ وَأَيْضًا عِلْمُ التَّعْبِيرِ بِالِاتِّفَاقِ قَدْ يَدُلُّ عَلَى أَحْوَالِ الْمُغَيَّبَاتِ، فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْعُلُومِ الْمُشَاهَدَةِ وَبَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ؟ قُلْنَا إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الْعُلُومِ لَا يُمْكِنُهُمُ الْقَطْعُ وَالْجَزْمُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَطَالِبِ الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا الْغَايَةُ الْقُصْوَى ادِّعَاءُ ظَنٍّ ضَعِيفٍ وَالْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ عِلْمَهَا لَيْسَ إِلَّا عِنْدَ اللَّهِ وَالْعِلْمُ هُوَ الْجَزْمُ وَالْيَقِينُ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ زَالَتِ المنافاة والمعاندة وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْقِيَامَةَ أَرْدَفَهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وهذا الذي ذكره هاهنا شَدِيدُ التَّعَلُّقِ أَيْضًا بِمَا وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شِدَّةَ نُفُورِهِمْ عَنِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ إِنَّمَا حَصَلَتْ مِنْ أَجْلِ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَإِلَى الْبَرَاءَةِ عَنِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [فُصِّلَتْ: 6] فَذَكَرَ فِي خَاتِمَةِ السُّورَةِ وَعِيدَ الْقَائِلِينَ بِالشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ فَقَالَ: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي أَيْ بِحَسَبِ زَعْمِكُمْ وَاعْتِقَادِكُمْ قالُوا آذَنَّاكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَسْمَعْنَاكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ [الِانْشِقَاقِ: 2] بِمَعْنَى سَمِعَتْ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ أَعْلَمْنَاكَ وَهَذَا بِعِيدٌ، لِأَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ يَعْلَمُونَ اللَّهَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عِلْمًا وَاجِبًا، فَالْإِعْلَامُ فِي حَقِّهِ مُحَالٌ. ثُمَّ قَالَ: مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يَشْهَدُ بِأَنَّ لَكَ شَرِيكًا، فَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَتَبَرَّءُونَ مِنْ إِثْبَاتِ الشَّرِيكِ لِلَّهِ تَعَالَى الثَّانِي: مَا مَنَّا مِنْ أَحَدٍ يُشَاهِدُهُمْ لِأَنَّهُمْ/ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَضَلَّتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ لَا يُبْصِرُونَهَا فِي سَاعَةِ التَّوْبِيخِ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ كَلَامُ الْأَصْنَامِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِيهَا، ثُمَّ إِنَّهَا تَقُولُ مَا مَنَّا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ مَا أَضَافُوا إِلَيْنَا مِنَ الشَّرِكَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَمَعْنَى أَنَّهَا لَا تَنْفَعُهُمْ فَكَأَنَّهُمْ ضَلُّوا عَنْهُمْ. ثُمَّ قَالَ: وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ وَهَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَقُولُ إِنَّ الْكُفَّارَ ظَنُّوا أَوَّلًا ثُمَّ أَيْقَنُوا أَنَّهُ لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنِ النَّارِ وَالْعَذَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُمْ ظَنُّوا أَوَّلًا أَنَّهُ لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنِ النَّارِ ثُمَّ أَيْقَنُوا ذَلِكَ بَعْدَهُ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَعْلَمُونَ أَنَّ عِقَابَهُمْ دَائِمٌ، وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا تَبَرَّءُوا عَنْ تِلْكَ الشُّرَكَاءِ فِي الْآخِرَةِ بَيَّنَ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ مُتَبَدِّلُ الْأَحْوَالِ مُتَغَيِّرُ الْمَنْهَجِ، فَإِنْ أَحَسَّ بِخَيْرٍ وَقُدْرَةٍ انْتَفَخَ وَتَعَظَّمَ وَإِنْ أَحَسَّ بِبَلَاءٍ وَمِحْنَةٍ ذَبُلَ، كَمَا قِيلَ فِي الْمَثَلِ: إِنَّ هَذَا كَالْقِرِلَّى، إِنْ رَأَى خَيْرًا تَدَلَّى، وَإِنْ رَأَى شَرًّا تَوَلَّى، فَقَالَ: لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ يعني أنه في حال الإقبال ومجيء المرادات لا ينتهي قط إلى درجة إلا ويطلب الزيادة عليها ويطمع بالفوز بها، وفي حال الإدبار والحرمان يصير آيسا قانطا، فالانتقال من ذلك الرجاء الذي لا آخر له إلى هذا اليأس الكلي يدل على كونه متبدل الصفة متغير الحال وفي قوله فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ مُبَالَغَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مِنْ طَرِيقِ بِنَاءِ فَعُولٍ وَالثَّانِي: مِنْ طَرِيقِ التَّكْرِيرِ وَالْيَأْسِ مِنْ صِفَةِ الْقَلْبِ، وَالْقُنُوطُ أَنْ يَظْهَرَ آثَارٌ اليأس فِي الْوَجْهِ وَالْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الَّذِي صَارَ آيِسًا قَانِطًا لَوْ عَاوَدَتْهُ النِّعْمَةُ وَالدَّوْلَةُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ فَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَأْتِي بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْأَقَاوِيلِ الْفَاسِدَةِ وَالْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْكُفْرِ وَالْبُعْدِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَوَّلَهَا أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقُولَ هَذَا لِي وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا حَقِّي وَصَلَ إِلَيَّ، لِأَنِّي اسْتَوْجَبْتُهُ بِمَا حَصَلَ عِنْدِي مِنْ أَنْوَاعِ الْفَضَائِلِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْقُرْبَةِ مِنَ اللَّهِ وَلَا يَعْلَمُ الْمِسْكِينُ أَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّخْصُ عَارِيًا عَنِ الْفَضَائِلِ، فَهَذَا الْكَلَامُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ وَإِنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِشَيْءٍ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ، فَهِيَ بِأَسْرِهَا إِنَّمَا حَصَلَتْ لَهُ بفضل الله وإحسانه، وإذا تَفَضَّلَ اللَّهُ بِشَيْءٍ عَلَى بَعْضِ عَبِيدِهِ، امْتَنَعَ أَنْ يَصِيرَ تَفَضُّلُهُ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْعَطِيَّةِ سَبَبًا لِأَنْ يَسْتَحِقَّ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا آخَرَ، فَثَبَتَ بِهَذَا فَسَادُ قَوْلِهِ إِنَّمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْخَيْرَاتُ بِسَبَبِ اسْتِحْقَاقِي وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا لِي أَيْ لَا يَزُولُ عَنِّي وَيَبْقَى عَلَيَّ وَعَلَى أَوْلَادِي وَذُرِّيَّتِي. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ كَلِمَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ أَنْ يَقُولَ وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً يَعْنِي أَنَّهُ يَكُونُ شَدِيدَ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا عَظِيمَ النُّفْرَةِ عَنِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا يَقُولُ إِنَّهَا لِي وَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْآخِرَةِ يَقُولُ وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً. وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ كَلِمَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ أَنْ يَقُولَ وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى / يَعْنِي أَنَّ

الْغَالِبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ بَاطِلٌ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ حَقًّا فَإِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تَدُلُّ عَلَى جَزْمِهِمْ بِوُصُولِهِمْ إِلَى الثَّوَابِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ إِنَّ تُفِيدُ التَّأْكِيدَ الثَّانِي: أَنَّ تَقْدِيمَ كَلِمَةِ لِي تَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْكِيدِ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ عِنْدَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْخَيْرَاتِ حَاضِرَةٌ مُهَيَّئَةٌ عِنْدَهُ كَمَا تَقُولُ لِي عِنْدَ فُلَانٍ كَذَا مِنَ الدَّنَانِيرِ، فَإِنَّ هَذَا يُفِيدُ كَوْنَهَا حَاضِرَةً عِنْدَهُ، فَلَوْ قُلْتَ إِنَّ لِي عِنْدَ فُلَانٍ كَذَا مِنَ الدَّنَانِيرِ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ وَالرَّابِعُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَلْحُسْنى تُفِيدُ التَّأْكِيدَ الْخَامِسُ: لَلْحُسْنَى يُفِيدُ الْكَمَالَ فِي الْحُسْنَى. وَلَمَّا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ الْفَاسِدَةَ قَالَ: فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا أَيْ نُظْهِرُ لَهُمْ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى ضِدِّ مَا اعْتَقَدُوهُ وَعَلَى عَكْسِ مَا تَصَوَّرُوهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الْفُرْقَانِ: 23] وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِمْ إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى. وَلَمَّا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى أَقْوَالَ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ فِي الْآفَاتِ حَكَى أَفْعَالَهُ أَيْضًا فَقَالَ: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ عَنِ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ وَنَأى بِجانِبِهِ أَيْ ذَهَبَ بِنَفْسِهِ وَتَكَبَّرَ وَتَعَظَّمَ، ثُمَّ إِنْ مَسَّهُ الضُّرُّ وَالْفَقْرُ أَقْبَلَ عَلَى دَوَامِ الدُّعَاءِ وَأَخَذَ فِي الِابْتِهَالِ وَالتَّضَرُّعِ، وَقَدِ اسْتُعِيرَ الْعَرْضُ لِكَثْرَةِ الدِّمَاءِ وَدَوَامِهِ وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْرَامِ وَيُسْتَعَارُ له الطُّولُ أَيْضًا كَمَا اسْتُعِيرَ الْغِلَظُ لِشِدَّةِ الْعَذَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ الْعَظِيمَ على الشرك وَبَيَّنَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَرْجِعُونَ عَنِ الْقَوْلِ بِالشِّرْكِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيُظْهِرُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمُ الذِّلَّةَ وَالْخُضُوعَ بِسَبَبِ اسْتِيلَاءِ الْخَوْفِ عَلَيْهِمْ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْإِنْسَانَ جُبِلَ عَلَى التَّبَدُّلِ، فَإِنْ وَجَدَ لِنَفْسِهِ قُوَّةً بَالَغَ فِي التَّكَبُّرِ وَالتَّعَظُّمِ، وَإِنْ أَحَسَّ بِالْفُتُورِ وَالضَّعْفِ بَالَغَ فِي إِظْهَارِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ ذَكَرَ عَقِيبَهُ كَلَامًا آخَرَ يُوجِبُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ أَنْ لَا يُبَالِغُوا فِي إِظْهَارِ النُّفْرَةِ مِنْ قَبُولِ التَّوْحِيدِ، وَأَنْ لَا يُفْرِطُوا فِي إِظْهَارِ الْعَدَاوَةِ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّكُمْ كُلَّمَا سَمِعْتُمْ هَذَا الْقُرْآنَ أَعْرَضْتُمْ عَنْهُ وَمَا تَأَمَّلْتُمْ فِيهِ وَبَالَغْتُمْ فِي النُّفْرَةِ عَنْهُ حَتَّى قُلْتُمْ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: 5] ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ بَاطِلًا عِلْمًا بَدِيهِيًّا، وَلَيْسَ الْعِلْمُ بِفَسَادِ الْقَوْلِ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ عِلْمًا بَدِيهِيًّا، فَقَبْلَ الدَّلِيلِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا وَأَنْ يَكُونَ فَاسِدًا بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا كَانَ إِصْرَارُكُمْ عَلَى دَفْعِهِ مِنْ أَعْظَمِ مُوجِبَاتِ الْعِقَابِ، فَهَذَا الطَّرِيقُ يُوجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَتْرُكُوا هَذِهِ الثَّغْرَةَ، وَأَنْ تَرْجِعُوا إِلَى النَّظْرَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ قَبِلْتُمُوهُ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى فَسَادِهِ تَرَكْتُمُوهُ، فَأَمَّا قَبْلَ الدَّلِيلِ فَالْإِصْرَارُ عَلَى الدَّفْعِ وَالْإِعْرَاضِ بَعِيدٌ عَنِ الْعَقْلِ، وَقَوْلُهُ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ مِنْكُمْ بيانا لحالهم وَصِفَاتِهِمْ، وَلَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْوُجُوهَ الْكَثِيرَةَ فِي تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، وَأَجَابَ عَنْ شُبَهَاتِ/ الْمُشْرِكِينَ وَتَمْوِيهَاتِ الضَّالِّينَ قَالَ: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَاحِدُ الْآفَاقِ أُفُقٌ وَهُوَ النَّاحِيَةُ من نواحي الأرض، وكذلك آفاق السماء نواحيها وَأَطْرَافُهَا، وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِآيَاتِ الْآفَاقِ الْآيَاتُ الْفَلَكِيَّةُ وَالْكَوْكَبِيَّةُ وَآيَاتُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَآيَاتُ الْأَضْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ وَالظُّلُمَاتِ وَآيَاتُ عَالَمِ الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ وَآيَاتُ الْمَوَالِيدِ الثَّلَاثَةِ، وَقَدْ أَكْثَرَ اللَّهُ مِنْهَا فِي الْقُرْآنِ، وَقَوْلُهُ وَفِي أَنْفُسِهِمْ الْمُرَادُ مِنْهَا الدَّلَائِلُ الْمَأْخُوذَةُ مِنْ كَيْفِيَّةِ تَكَوُّنِ الْأَجِنَّةِ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ وَحُدُوثِ الْأَعْضَاءِ الْعَجِيبَةِ وَالتَّرْكِيبَاتِ الْغَرِيبَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذَّارِيَاتِ: 21] يَعْنِي نُرِيهِمْ مِنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِلَى أَنْ تَزُولَ

الشُّبُهَاتُ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَيَحْصُلَ فِيهَا الْجَزْمُ وَالْقَطْعُ بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ الْمُنَزَّهِ عَنِ الْمِثْلِ وَالضِّدِّ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَطْلَعَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْآيَاتِ إِلَى الْآنِ وَسَيُطْلِعُهُمْ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْآيَاتُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْعَالَمِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ قَدْ كَانَ اللَّهُ أَطْلَعَهُمْ عَلَيْهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَذَّرَ حَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، قُلْنَا إِنَّ الْقَوْمَ وَإِنْ كَانُوا قَدْ رَأَوْا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِلَّا أَنَّ الْعَجَائِبَ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِمَّا لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَهُوَ تَعَالَى يُطْلِعُهُمْ عَلَى تِلْكَ الْعَجَائِبِ زَمَانًا فَزَمَانًا، وَمِثَالُهُ كُلُّ أَحَدٍ رَأَى بِعَيْنِهِ بِنْيَةَ الْإِنْسَانِ وَشَاهَدَهَا، إِلَّا أَنَّ الْعَجَائِبَ الَّتِي أَبْدَعَهَا اللَّهُ فِي تَرْكِيبِ هَذَا الْبَدَنِ كَثِيرَةٌ وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْرِفُونَهَا، وَالَّذِي وَقَفَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا فَكُلَّمَا ازْدَادَ وُقُوفًا عَلَى تِلْكَ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ فَصَحَّ بِهَذَا الطَّرِيقِ قَوْلُهُ سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِآيَاتِ الْآفَاقِ فَتْحُ الْبِلَادِ الْمُحِيطَةِ بِمَكَّةَ وَبِآيَاتِ أَنْفُسِهِمْ فَتْحُ مَكَّةَ وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ رَجَّحُوهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَجْلِ أَنْ قَوْلَهُ سَنُرِيهِمْ يَلِيقُ بِهَذَا الْوَجْهِ وَلَا يَلِيقُ بِالْأَوَّلِ إِلَّا أَنَّا أَجَبْنَا عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ سَنُرِيهِمْ لَائِقٌ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ، فَإِنْ قِيلَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَعِيدٌ لِأَنَّ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَوْلَى عَلَى بَعْضِ الْبِلَادِ الْمُحِيطَةِ بِمَكَّةَ، ثُمَّ اسْتَوْلَى عَلَى مَكَّةَ، إِلَّا أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى بَعْضِ الْبِلَادِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمُسْتَوْلِي مُحِقًّا، فَإِنَّا نَرَى أَنَّ الْكُفَّارَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُمُ اسْتِيلَاءٌ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَعَلَى مُلُوكِهِمْ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ مُحِقِّينَ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قُلْنَا إِنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَوْلَى، ثُمَّ نَقُولُ إِنْ أَرَدْنَا تَصْحِيحَ هَذَا الْوَجْهِ، قُلْنَا إِنَّا لَا نَسْتَدِلُّ بِمُجَرَّدِ اسْتِيلَاءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ عَلَى كَوْنِهِ مُحِقًّا فِي ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ، بَلْ نَسْتَدِلُّ بِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ عَنْ مَكَّةَ أَنَّهُ يَسْتَوْلِي عَلَيْهَا وَيَقْهَرُ أَهْلَهَا وَيَصِيرُ أَصْحَابُهُ قَاهِرِينَ لِلْأَعْدَاءِ، فَهَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ وَقَدْ وَقَعَ مُخْبَرُهُ مُطَابِقًا لِخَبَرِهِ، فَيَكُونُ هَذَا إِخْبَارًا صِدْقًا عَنِ الْغَيْبِ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْغَيْبِ مُعْجِزَةٌ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يُسْتَدَلُّ بِحُصُولِ هَذَا الِاسْتِيلَاءِ عَلَى كَوْنِ هَذَا الدِّينِ حَقًّا. ثُمَّ قَالَ: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وَقَوْلُهُ بِرَبِّكَ فِي مَوْضِعِ الرفع على أنه/ فاعل يَكْفِ وأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ بَدَلٌ مِنْهُ، وَتَقْدِيرُهُ: أو لم يَكْفِهِمْ أَنَّ رَبَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ تَعَالَى شَهِيدًا عَلَى الْأَشْيَاءِ أَنَّهُ خَلَقَ الدَّلَائِلَ عَلَيْهَا، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ [الْأَنْعَامِ: 19] وَالْمَعْنَى أَلَمْ تَكْفِهِمْ هَذِهِ الدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي أُوْضَحَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَرَّرَهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي كُلِّ سُوَرِ الْقُرْآنِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوَّةِ. ثُمَّ خَتَمَ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَيْ إِنَّ الْقَوْمَ فِي شَكٍّ عَظِيمِ وَشُبْهَةٍ شَدِيدَةٍ مِنَ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَقُرِئَ فِي مُرْيَةٍ بِالضَّمِّ. ثُمَّ قَالَ: أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ أَيْ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا فَيَعْلَمُ بَوَاطِنَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ وَظَوَاهِرَهُمْ، وَيُجَازِي كُلَّ أَحَدٍ عَلَى فِعْلِهِ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ عُلُومُهُ مُتَنَاهِيَةً، قُلْنَا قَوْلُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ مُحِيطًا بِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُتَنَاهِيًا، لَا كَوْنَ مَجْمُوعِهَا مُتَنَاهِيًا، والله أعلم بالصواب. تمّ تفسير هذه السورة وقت ظهر الرابع مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَاتُهُ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ محمد وآله وصحبه وسلّم.

سورة الشورى

سُورَةُ الشُّورَى خَمْسُونَ وَثَلَاثُ آيَاتٍ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْفَوَاتِحِ مَعْلُومٌ إِلَّا أَنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ سُؤَالَانِ زَائِدَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذِهِ السُّوَرَ السَّبْعَةَ مُصَدَّرَةٌ بِقَوْلِهِ حم فَمَا السَّبَبُ فِي اخْتِصَاصِ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَزِيدِ عسق؟ الثَّانِي: أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْصَلُ بَيْنَ كهيعص [مريم: 1] وهاهنا يُفْصَلُ بَيْنَ حم وَبَيْنَ عسق فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْفَوَاتِحِ يَضِيقُ، وَفَتْحُ بَابِ الْمُجَازَفَاتِ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُفَوَّضَ عِلْمُهَا إِلَى اللَّهِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ حم عسق. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ فَالْكَافُ مَعْنَاهُ الْمِثْلُ وَذَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى شَيْءٍ سَبَقَ ذِكْرُهُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: مِثْلُ حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ وَعِنْدَ هَذَا حَصَلَ قَوْلَانِ: / الْأَوَّلُ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا نَبِيَّ صَاحِبَ كِتَابٍ إِلَّا وَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ حم عسق» وَهَذَا عِنْدِي بِعِيدٌ. الثَّانِي: أن يكون المعنى: مثل الكتاب المسمى بحم عسق يُوحِي اللَّهُ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ، وَهَذِهِ الْمُمَاثَلَةُ الْمُرَادُ مِنْهَا الْمُمَاثَلَةُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَتَقْبِيحِ أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَالتَّرْغِيبِ فِي التَّوَجُّهِ إِلَى الْآخِرَةِ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّا بَيَّنَّا فِي سُورَةِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: 1] أَنَّ أَوَّلَهَا فِي تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ، وَأَوْسَطَهَا فِي تَقْرِيرِ النُّبُوَّةِ، وَآخِرَهَا فِي تَقْرِيرِ الْمَعَادِ، وَلَمَّا تَمَّمَ الْكَلَامَ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ

الثَّلَاثَةِ قَالَ: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الْأَعْلَى: 18، 19] يَعْنِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِنْزَالِ جَمِيعِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ لَيْسَ إِلَّا هذه المطالب الثلاثة، فكذلك هاهنا يعني مثل الكتاب المسمى بحم عسق يُوحِي اللَّهُ إِلَيْكَ وَإِلَى كُلِّ مَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْمُمَاثَلَةِ الدَّعْوَةُ إِلَى هَذِهِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ وَالْمَبَاحِثِ الْمُقَدَّسَةِ الْإِلَهِيَّةِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَلَمْ يَقُلْ أَوْحَى إِلَيْكَ، وَلَكِنْ قَالَ: يُوحِي إِلَيْكَ عَلَى لَفْظِ الْمُضَارِعِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ إِيحَاءَ مِثْلِهِ عَادَتُهُ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ كَذلِكَ يُوحِي بِفَتْحِ الْحَاءِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَعَنْ بَعْضِهِمْ نُوحِي بِالنُّونِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ بِكَسْرِ الْحَاءِ، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى مَا رَافِعُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى؟ قُلْنَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ بِوَحْيٍ، كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ من الوحي؟ فَقِيلَ اللَّهُ وَنَظِيرُهُ قِرَاءَةُ السُّلَمِيِّ وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الْأَنْعَامِ: 137] عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَرَفْعِ شُرَكَاؤُهُمْ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا رَافِعُهُ فِيمَنْ قَرَأَ نُوحِي بِالنُّونِ؟ قُلْنَا يُرْفَعُ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْعَزِيزُ وَمَا بَعْدَهُ أَخْبَارٌ، أَوِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صِفَتَانِ وَالظَّرْفُ خَبَرُهُ، وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ حَصَلَ بِالْوَحْيِ بَيَّنَ أَنَّ الْمُوحِيَ مَنْ هُوَ فَقَالَ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ سُورَةِ حم الْمُؤْمِنِ أَنَّ كَوْنَهُ عَزِيزًا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَكَوْنَهُ حَكِيمًا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ غَنِيًّا عَنْ جَمِيعِ الْحَاجَاتِ فَيَحْصُلُ لَنَا مِنْ كَوْنِهِ عَزِيزًا حَكِيمًا كَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ غَنِيًّا عَنْ جَمِيعِ الْحَاجَاتِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ أَفْعَالُهُ وَأَقْوَالُهُ حِكْمَةً وَصَوَابًا، وَكَانَتْ مُبَرَّأَةً عَنِ الْعَيْبِ وَالْعَبَثِ، قَالَ مُصَنِّفُ الْكِتَابِ قُلْتُ فِي قَصِيدَةً: الْحَمْدُ لِلَّهِ ذِي الْآلَاءِ وَالنِّعَمِ ... وَالْفَضْلِ وَالْجُودِ وَالْإِحْسَانِ وَالْكَرَمِ مُنَزَّهِ الْفِعْلِ عَنْ عَيْبٍ وَعَنْ عَبَثِ ... مُقَدَّسِ الْمُلْكِ عَنْ عَزْلٍ وَعَنْ عَدَمِ وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَطْلُوبَيْنِ فِي غَايَةِ الْجَلَالِ أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ مَوْصُوفًا بِقُدْرَةٍ كَامِلَةٍ نافذة في جميع أجزاء السموات والأرض على عظمتهما وسعتهما بِالْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ وَالتَّكْوِينِ وَالْإِبْطَالِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ بِقَوْلِهِ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أن كل ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ فَهُوَ مُلْكُهُ وَمِلْكُهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنْ كَوْنِهِ حَاصِلًا فِي السموات وَفِي الْأَرْضِ، وَإِلَّا لَزِمَ كَوْنُهُ مِلْكًا لِنَفْسِهِ، وَإِذَا/ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ السموات امْتَنَعَ كَوْنُهُ أَيْضًا فِي الْعَرْشِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا سَمَاكَ فَهُوَ سَمَاءٌ فَإِذَا كَانَ الْعَرْشُ موجودا فوق السموات كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ سَمَاءً، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا كَانَ حَاصِلًا فِي الْعَرْشِ مُلْكًا لِلَّهِ وَمِلْكًا لَهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنْ كَوْنِهِ حَاصِلًا فِي الْعَرْشِ، وَإِنْ قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وكلمة ما لا تَتَنَاوَلُ مَنْ يَعْقِلُ قُلْنَا هَذَا مَدْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَةَ مَا وَارِدَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى: وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها [الشَّمْسِ: 5، 6] وَقَالَ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، [الْكَافِرُونَ: 2، 3] وَالثَّانِي: أَنَّ صِيغَةَ مَنْ وَرَدَتْ فِي مِثْلِ هَذِهِ السُّورَةِ قَالَ تَعَالَى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مَرْيَمَ: 93] وَكَلِمَةُ مَنْ لَا شَكَّ أَنَّهَا وَارِدَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ فِي السموات والأرض فهو عبد لله فلو كان الله موجودا في السموات وَالْأَرْضِ وَفِي الْعَرْشِ لَكَانَ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ من في السموات فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَبْدَ اللَّهِ، وَلَمَّا ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مَوْجُودًا في السموات وَالْعَرْشِ فَهُوَ عَبْدٌ لِلَّهِ وَجَبَ فِيمَنْ تَقَدَّسَتْ كِبْرِيَاؤُهُ عَنْ تُهْمَةِ الْعُبُودِيَّةِ أَنْ

يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنِ الْكَوْنِ فِي الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ. وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ عَلِيًّا الْعُلُوَّ فِي الْجِهَةِ وَالْمَكَانِ لِمَا ثَبَتَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَظِيمِ الْعَظَمَةَ بِالْجُثَّةِ وَكِبَرِ الْجِسْمِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُؤَلَّفًا مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ، وَذَلِكَ ضِدُّ قَوْلِهِ اللَّهِ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَلِيِّ الْمُتَعَالِي عَنْ مُشَابَهَةِ الْمُمْكِنَاتِ وَمُنَاسَبَةِ الْمُحْدَثَاتِ، وَمِنَ الْعَظِيمِ الْعَظَمَةُ بِالْقُدْرَةِ وَالْقَهْرُ بِالِاسْتِعْلَاءِ وَكَمَالُ الْإِلَهِيَّةِ. ثُمَّ قَالَ: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ في رواية أبي بكر تَكادُ بالتاء يَتَفَطَّرْنَ بِالْيَاءِ وَالنُّونِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةُ تَكادُ بِالتَّاءِ يَتَفَطَّرْنَ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ: يَكَادُ بِالْيَاءِ تتفطرن أَيْضًا بِالتَّاءِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَرَوَى يُونُسُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو قِرَاءَةً غَرِيبَةً تَتَفَطَّرْنَ بِالتَّاءَيْنِ مَعَ النُّونِ، وَنَظِيرُهَا حَرْفٌ نَادِرٌ، رُوِيَ فِي نَوَادِرِ ابْنِ الْإِعْرَابِيِّ: الْإِبِلُ تَتَشَمَّسْنَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: في فائدة قوله مِنْ فَوْقِهِنَّ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ قَالَ وَالْمَعْنَى أَنَّهَا تَكَادُ تَتَفَطَّرُ مِنْ ثِقَلِ اللَّهِ عَلَيْهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ سَخِيفٌ، وَيَجِبُ الْقَطْعُ بِبَرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ فَوْقِهِنَّ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ مِمَّنْ فَوْقَهُنَّ وَثَانِيهَا: هَبْ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ مِنْ ثِقَلِ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ مِنْ ثِقَلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهَا، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ» وَثَالِثُهَا: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد/ تكاد السموات تَنْشَقُّ وَتَنْفَطِرُ مِنْ هَيْبَةِ مَنْ هُوَ فَوْقَهَا فَوْقِيَّةً بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْقَهْرِ وَالْقُدْرَةِ؟، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَالرَّكَاكَةِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَهُوَ أَنَّ كَلِمَةَ الْكُفْرِ إنما جاءت من الذين تحت السموات، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ: يَتَفَطَّرْنَ مِنْ تَحْتِهِنَّ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي جَاءَتْ مِنْهَا الْكَلِمَةُ، وَلَكِنَّهُ بُولِغَ فِي ذَلِكَ فَقُلِبَ فَجُعِلَتْ مُؤَثِّرَةً فِي جِهَةِ الْفَوْقِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَكَدْنَ يَتَفَطَّرْنَ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي فَوْقَهُنَّ، وَدَعِ الْجِهَةَ الَّتِي تَحْتَهُنَّ، وَنَظِيرُهُ فِي الْمُبَالَغَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الْحَجِّ: 19، 20] فَجُعِلَ مُؤَثِّرًا فِي أَجْزَائِهِ الْبَاطِنَةِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنْ يُقَالَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أَيْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِينَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ثُمَّ قَالَ: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أَيْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِينَ وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي التَّأْوِيلِ أَنْ يُقَالَ مَعْنَى مِنْ فَوْقِهِنَّ أَيْ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي حصلت هذه السموات فِيهَا، وَتِلْكَ الْجِهَةُ هِيَ فَوْقَ، فَقَوْلُهُ مِنْ فَوْقِهِنَّ أَيْ مِنَ الْجِهَةِ الْفَوْقَانِيَّةِ الَّتِي هُنَّ فِيهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ الْهَيْئَةَ لِمَ حَصَلَتْ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْمُوحِيَ لِهَذَا الْكِتَابِ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، بَيَّنَ وَصْفَ جَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، فَقَالَ: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أَيْ مِنْ هَيْبَتِهِ وَجَلَالَتِهِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ السبب فيه إِثْبَاتِهِمُ الْوَلَدَ لِلَّهِ لِقَوْلِهِ تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ

[مريم: 90] ، وهاهنا السَّبَبُ فِيهِ إِثْبَاتُهُمُ الشُّرَكَاءَ لِلَّهِ، لِقَوْلِهِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، ثُمَّ قَالَ: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى نَوْعَانِ: عَالَمُ الْجُسْمَانِيَّاتِ وأعظمها السموات، وَعَالَمُ الرُّوحَانِيَّاتِ وَأَعْظَمُهَا الْمَلَائِكَةُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُقَرِّرُ كَمَالَ عَظَمَتِهِ لِأَجْلِ نَفَاذِ قُدْرَتِهِ وَهَيْبَتِهِ فِي الْجُسْمَانِيَّاتِ، ثُمَّ يُرْدِفُهُ بِنَفَاذِ قُدْرَتِهِ وَاسْتِيلَاءِ هَيْبَتِهِ عَلَى الرُّوحَانِيَّاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ [النَّبَأِ: 1] لَمَّا أَرَادَ تَقْرِيرَ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ بَدَأَ بِذِكْرِ الْجُسْمَانِيَّاتِ، فَقَالَ: رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً [النَّبَأِ: 37] ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى ذِكْرِ عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ، فَقَالَ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النَّبَأِ: 38] فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَّنَ كَمَالَ عَظَمَتِهِ بِاسْتِيلَاءِ هَيْبَتِهِ عَلَى الْجُسْمَانِيَّاتِ، فَقَالَ: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى ذِكْرِ الرُّوحَانِيَّاتِ، فَقَالَ: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ فَهَذَا تَرْتِيبٌ شَرِيفٌ وَبَيَانٌ بَاهِرٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مُؤَثِّرٌ لَا يَقْبَلُ الْأَثَرَ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ أَشْرَفُ الْأَقْسَامِ، وَمُتَأَثِّرٌ لَا يُؤَثِّرُ، وَهُوَ الْقَابِلُ وَهُوَ الْجِسْمُ وَهُوَ أَخَسُّ الْأَقْسَامِ، وَمَوْجُودٌ يَقْبَلُ الْأَثَرَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَيُؤَثِّرُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ الْجَوَاهِرُ الرُّوحَانِيَّاتُ الْمُقَدَّسَةُ، وَهُوَ الْمَرْتَبَةُ/ الْمُتَوَسِّطَةُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الْجَوَاهِرُ الرُّوحَانِيَّةُ لَهَا تَعَلُّقَانِ: تَعَلُّقٌ بِعَالَمِ الْجَلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ، وَهُوَ تَعَلُّقُ الْقَبُولِ، فَإِنَّ الْجَلَايَا الْقُدْسِيَّةَ وَالْأَضْوَاءَ الصَّمَدِيَّةَ إِذَا أَشْرَقَتْ عَلَى الجواهر الروحانية استضاءت جواهرها وأشرقت ماهيتها، ثُمَّ إِنَّ الْجَوَاهِرَ الرُّوحَانِيَّةَ إِذَا اسْتَفَادَتْ تِلْكَ الْقُوَى الرُّوحَانِيَّةَ، قَوِيَتْ بِهَا عَلَى الِاسْتِيلَاءِ عَلَى عَوَالِمِ الْجُسْمَانِيَّاتِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهَا وَجْهَانِ: وَجْهٌ إِلَى جَانِبِ الْكِبْرِيَاءِ وَحَضْرَةِ الْجَلَالِ، وَوَجْهٌ إِلَى عَالَمِ الْأَجْسَامِ وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَشْرَفُ مِنَ الثَّانِي. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَهُمْ إِلَى عَالَمِ الْجَلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ، وَقَوْلُهُ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَهُمْ إِلَى عَالَمِ الْأَجْسَامِ، فَمَا أَحْسَنَ هَذِهِ اللَّطَائِفَ وَمَا أَشْرَفَهَا وَمَا أَشَدَّ تَأْثِيرَهَا فِي جَذْبِ الْأَرْوَاحِ مِنْ حَضِيضِ الْخَلْقِ إِلَى أَوْجِ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا الْجِهَةُ الْأُولَى وَهِيَ الْجِهَةُ الْعُلْوِيَّةُ الْمُقَدَّسَةُ، فَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: التَّسْبِيحُ، وَثَانِيهِمَا: التَّحْمِيدُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ يُفِيدُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَالتَّسْبِيحُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّحْمِيدِ، لِأَنَّ التَّسْبِيحَ عِبَارَةٌ عَنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا لَا يَنْبَغِي، وَالتَّحْمِيدَ عِبَارَةٌ عَنْ وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ مُفِيضًا لِكُلِّ الْخَيْرَاتِ وَكَوْنُهُ مُنَزَّهًا فِي ذَاتِهِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي، مُقَدَّمٌ بِالرُّتْبَةِ عَلَى كَوْنِهِ فَيَّاضًا لِلْخَيْرَاتِ وَالسَّعَادَاتِ، لِأَنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ مُقَدَّمٌ عَلَى إِيجَادِ غَيْرِهِ، وَحُصُولُهُ فِي نَفْسِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى تَأْثِيرِهِ فِي حُصُولِ غَيْرِهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ التَّسْبِيحُ مُقَدَّمًا عَلَى التَّحْمِيدِ، وَلِهَذَا قَالَ: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ. وَأَمَّا الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ الْجِهَةُ الَّتِي لِتِلْكَ الْأَرْوَاحِ إِلَى عَالَمِ الْجُسْمَانِيَّاتِ، فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَأْثِيرَاتُهَا فِي نَظْمِ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ وَحُصُولِ الطَّرِيقِ الْأَصْوَبِ الْأَصْلَحِ فِيهَا، فَهَذِهِ مَلَامِحُ مِنَ الْمَبَاحِثِ الْعَالِيَةِ الْإِلَهِيَّةِ مُدْرَجَةٌ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُقَدَّسَةِ، وَلْنَرْجِعْ إِلَى مَا يَلِيقُ بِعِلْمِ التَّفْسِيرِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِمَنْ فِي الْأَرْضِ وَفِيهِمُ الْكُفَّارُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ

[سورة الشورى (42) : الآيات 7 إلى 12]

لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ فَكَيْفَ يَكُونُونَ لَاعِنِينَ وَمُسْتَغْفِرِينَ لَهُمْ؟، قُلْنَا الْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمُ اسْتَغْفَرُوا لِكُلِّ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَأَنْ يُقَالَ إِنَّهُمُ اسْتَغْفَرُوا لِبَعْضِ مَنْ فِي الْأَرْضِ دُونَ الْبَعْضِ، وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ صَرِيحًا فِي الْعُمُومِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ التَّقْسِيمُ الثَّانِي: هَبْ أَنَّ هَذَا النَّصَّ يُفِيدُ الْعُمُومَ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْمَلَائِكَةِ فِي سُورَةِ حم الْمُؤْمِنِ فَقَالَ: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [غَافِرٍ: 7] الثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ لَا يُعَاجِلَهُمْ بِالْعِقَابِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا إِلَى أَنْ قَالَ: إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً [فَاطِرٍ: 41] الرَّابِعُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِكُلِّ مَنْ فِي الْأَرْضِ، أَمَّا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ فَبِوَاسِطَةِ طَلَبِ الْإِيمَانِ لَهُمْ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ فَبِالتَّجَاوُزِ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ، فَإِنَّا/ نَقُولُ اللَّهُمَّ اهْدِ الْكَافِرِينَ وَزَيِّنْ قُلُوبَهُمْ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَأَزِلْ عَنْ خَوَاطِرِهِمْ وَحْشَةَ الْكُفْرِ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ اسْتِغْفَارٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَسْتَغْفِرُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَكَانَ اسْتِغْفَارُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ قَبْلَ اسْتِغْفَارِهِمْ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَحَيْثُ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ عَنْهُمُ اسْتِغْفَارَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ مُبَرَّءُونَ عَنْ كُلِّ الذُّنُوبِ وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَهُمْ ذُنُوبٌ وَالَّذِي لَا ذَنْبَ لَهُ الْبَتَّةَ أَفْضَلُ مِمَّنْ لَهُ ذَنْبٌ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ فِي جُمْلَةِ مَنْ فِي الْأَرْضِ، وَإِذَا كَانُوا مُسْتَغْفِرِينَ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْهُمْ. وَلَمَّا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمَلَائِكَةِ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ وَالِاسْتِغْفَارَ قَالَ: أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَإِنْ كَانُوا يَسْتَغْفِرُونَ لِلْبَشَرِ إِلَّا أَنَّ الْمَغْفِرَةَ الْمُطْلَقَةَ وَالرَّحْمَةَ الْمُطْلَقَةَ لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ إِقْدَامَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِلْبَشَرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي قُلُوبِهِمْ دَاعِيَةً لِطَلَبِ تِلْكَ الْمَغْفِرَةِ، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي قُلُوبِهِمْ تِلْكَ الدَّوَاعِيَ وَإِلَّا لَمَا أَقْدَمُوا عَلَى ذَلِكَ الطَّلَبِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْغَفُورُ الْمُطْلَقُ وَالرَّحِيمُ الْمُطْلَقُ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الثَّانِي: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [الْبَقَرَةِ: 30] ثُمَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ صَارُوا يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَأَمَّا رَحْمَةُ الْحَقِّ وَإِحْسَانُهُ فَقَدْ كان موجودا في الأولى والآخر فَثَبَتَ أَنَّ الْغَفُورَ الْمُطْلَقَ وَالرَّحِيمَ الْمُطْلَقَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يَحْكِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ الرَّحْمَةَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ فَقَالَ: أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ يَعْنِي أَنَّهُ يُعْطِي الْمَغْفِرَةَ الَّتِي طَلَبُوهَا وَيَضُمُّ إِلَيْهَا الرَّحْمَةَ الْكَامِلَةَ التَّامَّةَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أَيْ جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ وَأَنْدَادًا اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ أَيْ رَقِيبٌ عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، لَا يَفُوتُهُ مِنْهَا شَيْءٌ وَهُوَ مُحَاسِبُهُمْ عَلَيْهَا لَا رَقِيبَ عَلَيْهِمْ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ وَمَا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ بِمُفَوَّضٍ إِلَيْكَ أَمْرُهُمْ وَلَا قَسْرُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، إنما أنت منذر فحسب. [سورة الشورى (42) : الآيات 7 الى 12] وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)

وَاعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ (ذَلِكَ) لِلْإِشَارَةِ إِلَى شَيْءٍ سَبَقَ ذِكْرُهُ فَقَوْلُهُ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا يَقْتَضِي تَشْبِيهَ وَحْيِ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ بِشَيْءٍ هاهنا قد سبق ذكره، وليس هاهنا شَيْءٌ سَبَقَ ذِكْرُهُ يُمْكِنُ تَشْبِيهُ وَحْيِ الْقُرْآنِ بِهِ إِلَّا قَوْلُهُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الشُّورَى: 6] يَعْنِي كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنَّكَ لَسْتَ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ وَلَسْتَ وَكِيلًا عَلَيْهِمْ، فَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتَكُونَ نَذِيرًا لَهُمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى أَيْ لِتُنْذِرَ أَهْلَ أُمِّ الْقُرَى لِأَنَّ الْبَلَدَ لَا تَعْقِلُ وهو كقوله وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] وَأُمُّ الْقُرَى أَصْلُ الْقُرَى وَهِيَ مَكَّةُ وَسُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ إِجْلَالًا لَهَا لِأَنَّ فِيهَا الْبَيْتَ وَمَقَامَ إِبْرَاهِيمَ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي أَصْلَ كُلِّ شَيْءِ أُمَّهُ حَتَّى يُقَالَ هَذِهِ الْقَصِيدَةُ مِنْ أُمَّهَاتِ قَصَائِدِ فُلَانٍ، وَمَنْ حَوْلَهَا مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ وَأَهْلِ الْمَدَرِ، وَالْإِنْذَارُ التَّخْوِيفُ، فَإِنْ قِيلَ فَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَوْحَى إِلَيْهِ لِيُنْذِرَ أَهْلَ مَكَّةَ وَأَهْلَ الْقُرَى الْمُحِيطَةِ بِمَكَّةَ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ رَسُولًا إِلَيْهِمْ فَقَطْ وَأَنْ لَا يَكُونَ رسولا إلى كل العالمين الجواب: أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا سِوَاهُ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ رَسُولًا إِلَى هَؤُلَاءِ/ خَاصَّةً وَقَوْلُهُ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سَبَأٍ: 28] يَدُلُّ عَلَى كونه رسولا إلى كل العالمين، وأيضا لَمَّا ثَبَتَ كَوْنُهُ رَسُولًا إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَجَبَ كَوْنُهُ صَادِقًا، ثُمَّ إِنَّهُ نُقِلَ إِلَيْنَا بالتواتر كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ رَسُولٌ إِلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّادِقُ إِذَا أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ وَجَبَ تَصْدِيقُهُ فيه، فثبت أنه رسول إلى كل العاملين. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ الْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ أَنْذَرْتُ فُلَانًا بِكَذَا فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى بِيَوْمِ الْجَمْعِ وَأَيْضًا فِيهِ إِضْمَارٌ وَالتَّقْدِيرُ لِتُنْذِرَ أَهْلَ أُمِّ الْقُرَى بِعَذَابِ يَوْمِ الْجَمْعِ وَفِي تَسْمِيَتِهِ بِيَوْمِ الْجَمْعِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخَلَائِقَ يُجْمَعُونَ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التَّغَابُنِ: 9] فيجتمع فيه أهل السموات من أَهْلِ الْأَرْضِ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَادِ الثَّالِثُ: يَجْمَعُ بَيْنَ كُلِّ عَامِلٍ وَعَمَلِهِ الرَّابِعُ: يَجْمَعُ بَيْنَ الظَّالِمِ وَالْمَظْلُومِ وَقَوْلُهُ لَا رَيْبَ فِيهِ صِفَةٌ لِيَوْمِ الْجَمْعِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ، وَقَوْلُهُ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ تَقْدِيرُهُ لِيَوْمِ الْجَمْعِ الَّذِي مِنْ صِفَتِهِ يَكُونُ الْقَوْمُ فِيهِ فَرِيقَيْنِ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ يَوْمَ الْجَمْعِ يَقْتَضِي كَوْنَ الْقَوْمِ مُجْتَمِعِينَ وَقَوْلُهُ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ مُتَفَرِّقِينَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ مُحَالٌ، قُلْنَا إِنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ أَوَّلًا ثُمَّ يَصِيرُونَ فَرِيقَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَالْمُرَادُ تَقْرِيرُ قَوْلِهِ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الشُّورَى: 6] أَيْ لَا يَكُنْ فِي قُدْرَتِكَ أَنْ تَحْمِلَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، فَلَوْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ لَفَعَلَهُ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ مِنْكَ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الْبَعْضَ مُؤْمِنًا وَالْبَعْضَ كَافِرًا، فَقَوْلُهُ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ يَدُلُّ عَلَى

أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَقَوْلُهُ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلِينَ إِنَّمَا دَخَلُوا فِي رَحْمَتِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ لَهُمْ وَلِيٌّ وَنَصِيرٌ أَدْخَلَهُمْ فِي تِلْكَ الرَّحْمَةِ، وَهَؤُلَاءِ مَا كَانَ لَهُمْ وَلِيٌّ وَلَا نَصِيرٌ يُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَتِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَوَّلًا أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَسْتَ عَلَيْهِمْ رَقِيبًا وَلَا حَافِظًا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَحْمِلَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ شَاءُوا أَمْ أَبَوْا، فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَفَعَلَهُ اللَّهُ، لِأَنَّهُ أَقْدَرُ مِنْكَ، ثُمَّ إنه تعالى أَعَادَ بَعْدَهُ ذَلِكَ الْكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِنْكَارِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ جَوَابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ أَرَادُوا أَوْلِيَاءَ بِحَقٍّ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ بِالْحَقِّ لَا وَلِيَّ سِوَاهُ، لِأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَهُوَ الْحَقِيقُ بِأَنْ يَتَّخِذَ وَلِيًّا دُونَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ. ثُمَّ قَالَ: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَجْهُ النَّظْمِ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا مَنَعَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْمِلَ الْكُفَّارَ عَلَى الْإِيمَانِ قَهْرًا، فَكَذَلِكَ مَنَعَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَشْرَعُوا مَعَهُمْ فِي الْخُصُومَاتِ وَالْمُنَازَعَاتِ فَقَالَ: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ إِثَابَةُ الْمُحِقِّينَ فِيهِ وَمُعَاقَبَةُ الْمُبْطِلِينَ، وَقِيلَ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ وتنازعتهم فَتَحَاكَمُوا فِيهِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا تُؤَثِّرُ حُكُومَةُ غَيْرِهِ عَلَى حُكُومَتِهِ، وَقِيلَ وَمَا وَقَعَ بَيْنَكُمْ فِيهِ خِلَافٌ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَصِلُ بِتَكْلِيفِكُمْ، وَلَا طَرِيقَ لكم إلى علمه كَحَقِيقَةِ الرُّوحِ، فَقُولُوا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، قَالَ تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاءِ: 85] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَحُكْمُهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ نَصِّ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَوِ الْمُرَادُ فَحُكْمُهُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْقِيَاسِ عَلَى مَا نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي كَوْنَ كُلِّ الْأَحْكَامِ مُثْبَتَةً بِالْقِيَاسِ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ فَيُعْتَبَرُ الْأَوَّلُ، فَوَجَبَ كَوْنُ كُلِّ الْأَحْكَامِ مُثْبَتَةً بِالنَّصِّ وَذَلِكَ يَنْفِي الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَحُكْمُهُ يُعْرَفُ مِنْ بَيَانِ اللَّهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْبَيَانُ بِالنَّصِّ أَوْ بِالْقِيَاسِ؟ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّحَاكُمِ إِلَى اللَّهِ قَطْعُ الِاخْتِلَافِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الْقِيَاسِ يُقَوِّي حُكْمَ الِاخْتِلَافِ وَلَا يُوَضِّحُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ هُوَ الرُّجُوعَ إِلَى نُصُوصِ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي أَيْ ذَلِكُمُ الْحَاكِمُ بَيْنَكُمْ هُوَ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فِي دَفْعِ كَيْدِ الْأَعْدَاءِ وَفِي طَلَبِ كُلِّ خَيْرٍ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أَيْ وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ فِي كُلِّ الْمُهِمَّاتِ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ لَا أَتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَزْيِيفِ طَرِيقَةِ مَنِ اتَّخَذَ غَيْرَ اللَّهِ وَلِيًّا. ثُمَّ قَالَ: فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُرِئَ بِالرَّفْعِ وَالْجَرِّ، فَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ ذَلِكُمْ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ

مَحْذُوفٍ، وَالْجَرُّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ هَكَذَا وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى الله فاطر السموات وَالْأَرْضِ وَقَوْلُهُ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي اعْتِرَاضٌ وَقَعَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ مِنْ جِنْسِكُمْ مِنَ النَّاسِ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أَيْ خَلَقَ مِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا، وَمَعْنَاهُ وَخَلَقَ أَيْضًا لِلْأَنْعَامِ مِنْ أَنْفُسِهَا أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ أَيْ يُكَثِّرُكُمْ، يُقَالُ: ذَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ، أَيْ كَثَّرَهُمْ، وَقَوْلُهُ فِيهِ أَيْ فِي هَذَا التَّدْبِيرِ، وَهُوَ التَّزْوِيجُ وَهُوَ أَنْ جَعَلَ النَّاسَ وَالْأَنْعَامَ أَزْوَاجًا حَتَّى كَانَ بَيْنَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمُ التَّوَالُدُ وَالتَّنَاسُلُ، وَالضَّمِيرُ فِي يَذْرَؤُكُمْ يَرْجِعُ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ، إلى أَنَّهُ غَلَّبَ فِيهِ جَانِبَ النَّاسِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ غَلَّبَ فِيهِ جَانِبَ الْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِ الْعُقَلَاءِ الثَّانِي: أَنَّهُ غَلَّبَ فِيهِ جَانِبَ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى الْغَائِبِينَ، فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى يَذْرَؤُكُمْ فِي هَذَا التَّدْبِيرِ، وَلِمَ لَمْ يَقُلْ يَذْرَؤُكُمْ بِهِ؟ قُلْنَا جُعِلَ هَذَا التَّدْبِيرُ كَالْمَنْبَعِ وَالْمَعْدِنِ لِهَذَا التَّكْثِيرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ لِلْحَيَوَانِ فِي خَلْقِ الْأَزْوَاجِ تَكْثِيرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [الْبَقَرَةِ: 179] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ عُلَمَاءُ التَّوْحِيدِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي نَفْيِ كَوْنِهِ تَعَالَى جِسْمًا مُرَكَّبًا مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَجْزَاءِ وَحَاصِلًا فِي الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ، وَقَالُوا لَوْ كَانَ جِسْمًا لَكَانَ مِثْلًا لِسَائِرِ الْأَجْسَامِ، فَيَلْزَمُ حُصُولُ الْأَمْثَالِ وَالْأَشْبَاهِ لَهُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَيُمْكِنُ إِيرَادُ هَذِهِ الْحُجَّةِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، فَيُقَالُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي مَاهِيَّاتِ الذَّاتِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ فِي الصِّفَاتِ شَيْءٌ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْعِبَادَ يُوصَفُونَ بِكَوْنِهِمْ عَالِمِينَ قَادِرِينَ، كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوصَفُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ يُوصَفُونَ بِكَوْنِهِمْ مَعْلُومِينَ مَذْكُورِينَ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوصَفُ بِذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُمَاثَلَةِ الْمُسَاوَاةُ فِي حَقِيقَةِ الذَّاتِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ شَيْئًا مِنَ الذَّوَاتِ لَا يُسَاوِي اللَّهَ تَعَالَى فِي الذَّاتِيَّةِ، فَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى جِسْمًا، لَكَانَ كَوْنُهُ جِسْمًا ذَاتًا لَا صِفَةً، فَإِذَا كَانَ سَائِرُ الْأَجْسَامِ مُسَاوِيَةً لَهُ فِي الْجِسْمِيَّةِ، أَعْنِي فِي كَوْنِهَا مُتَحَيِّزَةً طَوِيلَةً عَرِيضَةً عَمِيقَةً، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ سَائِرُ الْأَجْسَامِ مُمَاثِلَةً لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كَوْنِهِ ذَاتًا، وَالنَّصُّ يَنْفِي ذَلِكَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ جِسْمًا. وَاعْلَمْ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ أَوْرَدَ اسْتِدْلَالَ أَصْحَابِنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي سَمَّاهُ «بِالتَّوْحِيدِ» ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ كِتَابُ الشِّرْكِ، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهَا، وَأَنَا أَذْكُرُ حَاصِلَ كَلَامِهِ بَعْدَ حَذْفِ التَّطْوِيلَاتِ، لِأَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مُضْطَرِبَ الْكَلَامِ، قَلِيلَ الْفَهْمِ، نَاقِصَ الْعَقْلِ، فَقَالَ: «نَحْنُ نُثْبِتُ لِلَّهِ وَجْهًا وَنَقُولُ: إِنَّ لِوَجْهِ رَبِّنَا مِنَ النُّورِ وَالضِّيَاءِ وَالْبَهَاءِ، مَا لَوْ كُشِفَ حِجَابُهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ، وَوَجْهُ رَبِّنَا مَنْفِيٌّ عَنْهُ الْهَلَاكُ وَالْفَنَاءُ، وَنَقُولُ إِنَّ لِبَنِي آدَمَ وُجُوهًا كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْهَلَاكَ وَالْفَنَاءَ، وَنَفَى عَنْهَا الْجَلَالَ وَالْإِكْرَامَ، غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ بِالنُّورِ وَالضِّيَاءِ وَالْبَهَاءِ، وَلَوْ كَانَ مُجَرَّدُ إِثْبَاتِ الْوَجْهِ لِلَّهِ يَقْتَضِي التَّشْبِيهَ لَكَانَ مَنْ قَالَ إِنَّ لِبَنِي آدَمَ وُجُوهًا وَلِلْخَنَازِيرِ وَالْقِرَدَةِ وَالْكِلَابِ وُجُوهًا، لَكَانَ قَدْ شَبَّهَ وُجُوهَ بَنِي آدَمَ بِوُجُوهِ الْخَنَازِيرِ وَالْقِرَدَةِ وَالْكِلَابِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَا شَكَّ أَنَّهُ اعْتِقَادُ الْجَهْمِيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُ: وَجْهُكَ يُشْبِهُ وَجْهَ الْخَنَازِيرِ وَالْقِرَدَةِ لَغَضِبَ وَلَشَافَهَهُ بِالسُّوءِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ لِلَّهِ إِثْبَاتُ التَّشْبِيهِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ» . وَذَكَرَ فِي فَصْلٍ آخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ «أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى وُقُوعِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي صِفَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهَا أَنْ يكون القائل مشبها فكذا هاهنا» . وَنَحْنُ نَعُدُّ الصُّوَرَ الَّتِي ذَكَرَهَا عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ

فَالْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وَقَالَ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الْإِنْسَانِ: 2] ، الثَّانِي: قَالَ: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [التَّوْبَةِ: 105] وَقَالَ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ [النَّحْلِ: 79] الثَّالِثُ: قَالَ: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا [هُودٍ: 37] وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطُّورِ: 48] وَقَالَ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ [الْمَائِدَةِ: 83] الرَّابِعُ: قَالَ لِإِبْلِيسَ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] وَقَالَ: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [الْمَائِدَةِ: 64] وَقَالَ: / فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [آل عمران: 182] ، ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ، [الْحَجِّ: 10] إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، [الْفَتْحِ: 10] الْخَامِسُ: قَالَ تَعَالَى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] وَقَالَ فِي الَّذِينَ يَرْكَبُونَ الدَّوَابَّ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ [الزُّخْرُفِ: 13] وَقَالَ فِي سَفِينَةِ نُوحٍ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هُودٍ: 44] ، السَّادِسُ: سَمَّى نَفْسَهُ عَزِيزًا فَقَالَ: الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ [الْحَشْرِ: 23] ، ثُمَّ ذَكَرَ هَذَا الِاسْمَ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ بقوله يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً [يُوسُفَ: 78] ، يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ [يُوسُفَ: 88] ، السَّابِعُ: سَمَّى نَفْسَهُ بِالْمَلِكِ وَسَمَّى بَعْضَ عَبِيدِهِ أَيْضًا بِالْمَلِكِ فَقَالَ: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ [يُوسُفَ: 50] وَسَمَّى نَفْسَهُ بِالْعَظِيمِ ثُمَّ أَوْقَعَ هَذَا الِاسْمَ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَقَالَ: رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التَّوْبَةِ: 129] وَسَمَّى نَفْسَهُ بِالْجَبَّارِ الْمُتَكَبِّرِ وَأَوْقَعَ هَذَا الِاسْمَ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَقَالَ: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غَافِرٍ: 35] ثُمَّ طَوَّلَ فِي ضَرْبِ الْأَمْثِلَةِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَقَالَ وَمَنْ وَقَفَ عَلَى الْأَمْثِلَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَمْكَنَهُ الْإِكْثَارُ مِنْهَا، فَهَذَا مَا أَوْرَدَهُ هَذَا الرَّجُلُ فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَأَقُولُ هَذَا الْمِسْكِينُ الْجَاهِلُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ الْمِثْلَيْنِ وَعُلَمَاءُ التَّوْحِيدِ حَقَّقُوا الْكَلَامَ فِي الْمِثْلَيْنِ ثُمَّ فَرَّعُوا عَلَيْهِ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَنَقُولُ الْمِثْلَانِ هُمَا اللَّذَانِ يَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَاهِيَّتِهِ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ مَسْبُوقٌ بِمُقَدِّمَةٍ أُخْرَى فَنَقُولُ: الْمُعْتَبَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، إِمَّا تَمَامُ مَاهِيَّتِهِ وَإِمَّا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ مَاهِيَّتِهِ وَإِمَّا أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ مَاهِيَّتِهِ، وَلَكِنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ، وَإِمَّا أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ مَاهِيَّتِهِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ وَهَذَا التَّقْسِيمُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ ذَاتِ الشَّيْءِ وَبَيْنَ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِهِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْبَدِيهَةِ، فَإِنَّا نَرَى الْحَبَّةَ مِنَ الْحُصْرُمِ كَانَتْ فِي غَايَةِ الْخُضْرَةِ وَالْحُمُوضَةِ ثُمَّ صَارَتْ فِي غَايَةِ السَّوَادِ وَالْحَلَاوَةِ، فَالذَّاتُ بَاقِيَةٌ وَالصِّفَاتُ مُخْتَلِفَةٌ وَالذَّاتُ الْبَاقِيَةُ مُغَايِرَةٌ لِلصِّفَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَأَيْضًا نَرَى الشَّعْرَ قَدْ كَانَ فِي غَايَةِ السَّوَادِ ثُمَّ صَارَ فِي غَايَةِ الْبَيَاضِ، فَالذَّاتُ بَاقِيَةٌ وَالصِّفَاتُ مُتَبَدِّلَةٌ وَالْبَاقِي غَيْرُ الْمُتَبَدِّلِ، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الذَّوَاتَ مُغَايِرَةٌ لِلصِّفَاتِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اخْتِلَافُ الصِّفَاتِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الذَّوَاتِ الْبَتَّةَ، لِأَنَّا نَرَى الْجِسْمَ الْوَاحِدَ كَانَ سَاكِنًا ثُمَّ يَصِيرُ مُتَحَرِّكًا، ثُمَّ يَسْكُنُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَالذَّوَاتُ بَاقِيَةٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ وَنَسَقٍ وَاحِدٍ، وَالصِّفَاتُ مُتَعَاقِبَةٌ مُتَزَايِلَةٌ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ اخْتِلَافَ الصِّفَاتِ وَالْأَعْرَاضِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الذَّوَاتِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْأَجْسَامُ مِنْهَا تَأَلَّفَ وَجْهُ الْكَلْبِ وَالْقِرْدِ مُسَاوِيَةٌ لِلْأَجْسَامِ الَّتِي تَأَلَّفَ مِنْهَا وَجْهُ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ وَإِنَّمَا حَصَلَ الِاخْتِلَافُ بِسَبَبِ الْأَعْرَاضِ الْقَائِمَةِ وَهِيَ الْأَلْوَانُ وَالْأَشْكَالُ وَالْخُشُونَةُ وَالْمَلَاسَةُ وَحُصُولُ الشُّعُورِ فِيهِ وَعَدَمُ حُصُولِهَا، فَالِاخْتِلَافُ إِنَّمَا وَقَعَ بِسَبَبِ الِاخْتِلَافِ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَعْرَاضِ، فَأَمَّا ذَوَاتُ الْأَجْسَامِ فَهِيَ مُتَمَاثِلَةٌ إِلَّا أَنَّ الْعَوَامَّ لَا يَعْرِفُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ الذَّوَاتِ وَبَيْنَ الصِّفَاتِ، فَلَا جَرَمَ يَقُولُونَ إِنَّ

وَجْهَ الْإِنْسَانِ مُخَالِفٌ لِوَجْهِ الْحِمَارِ، وَلَقَدْ صَدَقُوا فَإِنَّهُ حَصَلَتْ تِلْكَ بِسَبَبِ الشَّكْلِ وَاللَّوْنِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ، فَأَمَّا الْأَجْسَامُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا أَجْسَامٌ فَهِيَ مُتَمَاثِلَةٌ مُتَسَاوِيَةٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْكَلَامَ/ الَّذِي أَوْرَدَهُ إِنَّمَا ذَكَرَهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْعَوَامِّ وَمَا كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي التَّمَاثُلِ وَالِاخْتِلَافِ حَقَائِقُ الْأَشْيَاءِ وَمَاهِيَّاتُهَا لَا الْأَعْرَاضُ والصفات القائمة بها، بقي هاهنا أَنْ يُقَالَ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ كلها متماثلة؟ فنقول لنا ها هنا مَقَامَانِ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُسَلَّمَةً أَوْ لَا تَكُونُ مُسَلَّمَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُسَلَّمَةً فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ كَانَتْ مَمْنُوعَةً، فَنَقُولُ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِلَهُ الْعَالَمِ هُوَ الشَّمْسُ أَوِ الْقَمَرُ أَوِ الْفَلَكُ أَوِ الْعَرْشُ أَوِ الْكُرْسِيُّ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْجِسْمُ مُخَالِفًا لِمَاهِيَّةِ سَائِرِ الْأَجْسَامِ فَكَانَ هُوَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا وَاجِبَ الْوُجُودِ وَسَائِرُ الْأَجْسَامِ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ، وَلَوْ أَنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يُسْقِطُوا هَذَا الْإِلْزَامَ عَنِ الْمُجَسِّمَةِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ؟ فَإِنْ قَالُوا هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْأَفْلَاكَ كُلَّهَا مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ فَيُقَالُ هَذَا مِنْ بَابِ الْحَمَاقَةِ الْمُفْرِطَةِ لِأَنَّ صِحَّةَ الْقُرْآنِ وَصِحَّةَ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ مُفَرَّعَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْإِلَهِ، فَإِثْبَاتُ مَعْرِفَةِ الْإِلَهِ بِالْقُرْآنِ وَقَوْلِ النَّبِيِّ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ يَفْهَمُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ. وَالْمَقَامُ الثَّانِي: أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُصُولِ أَقَامُوا الْبُرْهَانَ الْقَاطِعَ عَلَى تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ فِي الذَّوَاتِ وَالْحَقِيقَةِ، وَإِذَا ثبت هذ ظَهَرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ إِلَهُ الْعَالَمِ جِسْمًا لَكَانَتْ ذَاتُهُ مُسَاوِيَةً لِذَوَاتِ الْأَجْسَامِ إِلَّا أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، أَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ ذَاتَهُ إِذَا كَانَتْ مُسَاوِيَةً لِذَوَاتِ سَائِرِ الْأَجْسَامِ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ عَلَيْهِ مَا يَصِحُّ عَلَى سَائِرِ الْأَجْسَامِ، فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ مُحْدَثًا مَخْلُوقًا قَابِلًا لِلْعَدَمِ وَالْفَنَاءِ قَابِلًا لِلتَّفَرُّقِ وَالتَّمَزُّقِ. وَأَمَّا النَّقْلُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّا لَا نَقُولُ بِأَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الِاسْتِوَاءُ فِي الصِّفَةِ لَزِمَ حُصُولُ الِاسْتِوَاءِ فِي تَمَامِ الْحَقِيقَةِ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، فَلَوْ كانت ذاته جسما لكن ذَلِكَ الْجِسْمُ مُسَاوِيًا لِسَائِرِ الْأَجْسَامِ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ جِسْمٍ مِثْلًا لَهُ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حُصُولِ الْمُمَاثَلَةِ اعْتِبَارُ الْحَقَائِقِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، لَا اعْتِبَارُ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِهَا فَظَهَرَ بِالتَّقْرِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ حُجَّةَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي أوردها هذا الإنسان إنما أوردها لأنه تعالى بَعِيدًا عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ، فَجَرَى عَلَى مَنْهَجِ كَلِمَاتِ الْعَوَامِّ فَاغْتَرَّ بِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى حُسْنَ الْخَاتِمَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِشْكَالٌ، فَإِنَّهُ يُقَالُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا نَفْيُ الْمِثْلِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَظَاهِرُهَا يُوجِبُ إِثْبَاتَ الْمِثْلِ لِلَّهِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي نَفْيَ الْمِثْلِ عَنْ مِثْلِهِ لَا عَنْهُ، وَذَلِكَ يُوجِبُ إِثْبَاتَ الْمِثْلِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْهُ بِأَنْ قَالُوا إِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ مِثْلُكَ لَا يَبْخَلُ أَيْ أَنْتَ لَا تَبْخَلُ فَنَفَوُا الْبُخْلَ عَنْ مِثْلِهِ، وَهُمْ يُرِيدُونَ نَفْيَهُ عَنْهُ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ: هَذَا الْكَلَامُ لَا يُقَالُ لِمِثْلِي أَيْ لَا يُقَالُ لِي قَالَ الشَّاعِرُ: «وَمِثْلِي كَمِثْلِ جُذُوعِ النَّخِيلِ» وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فَإِنَّهُ إذا كان ذلك الحكم منتفيا عَمَّنْ كَانَ مُشَابِهًا بِسَبَبِ كَوْنِهِ مُشَابِهًا لَهُ، فَلِأَنْ يَكُونَ مُنْتَفِيًا عَنْهُ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: سَلَامٌ عَلَى الْمَجْلِسِ الْعَالِي، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ سَلَامَ اللَّهِ إِذَا كَانَ وَاقِعًا عَلَى مَجْلِسِهِ وَمَوْضِعِهِ فَلِأَنْ يَكُونَ وَاقِعًا عَلَيْهِ كَانَ ذلك أولى، فكذا هاهنا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَالْمَعْنَى لَيْسَ كَهُوَ شَيْءٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا اللَّفْظُ سَاقِطًا

عَدِيمَ الْأَثَرِ، بَلْ كَانَ مُفِيدًا لِلْمُبَالَغَةِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَزَعَمَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ مُسَمًّى بِاسْمِ الشَّيْءِ قَالَ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِثْلًا لِمِثْلِ نَفْسِهِ فقول لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ مَعْنَاهُ لَيْسَ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ هُوَ مُسَمًّى بِاسْمِ الشَّيْءِ، وَعِنْدِي فِيهِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ الْجَمْعِ بَيْنَ حَرْفَيِ التَّشْبِيهِ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الْمِثْلِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ لَوْ كَانَ له مثل لكن هُوَ مِثْلَ نَفْسِهِ، وَهَذَا مُحَالٌ فَإِثْبَاتُ الْمِثْلِ لَهُ مُحَالٌ، أَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَكَانَ هُوَ مِثْلَ نَفْسِهِ فَالْأَمْرُ فِيهِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ هَذَا مُحَالٌ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِثْلَ مِثْلِ نَفْسِهِ لَكَانَ مُسَاوِيًا لِمِثْلِهِ فِي تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ وَمُبَايِنًا لَهُ فِي نَفْسِهِ، وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُبَايَنَةُ. فَتَكُونُ ذَاتُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَكَّبًا وَكُلُّ مُرَكَّبٍ مُمْكِنٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ مِثْلٌ لَمَا كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فقوله ليس مثله مِثْلِهِ شَيْءٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَوْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِثْلُ مِثْلِ نَفْسِهِ لَمَا كَانَ هُوَ شَيْئًا بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ مِثْلٌ لَمَا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ، فَهَذَا مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى نَفْيِ الْمِثْلِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى [الرُّومِ: 27] يَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْمَثَلِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، فَنَقُولُ الْمِثْلُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُسَاوِيًا لِلشَّيْءِ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ وَالْمَثَلُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُسَاوِيًا لَهُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمَاهِيَّةِ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى سَامِعًا لِلْمَسْمُوعَاتِ مُبْصِرًا لِلْمَرْئِيَّاتِ، فَإِنْ قِيلَ يَمْتَنِعُ إِجْرَاءُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا حَصَلَ قَرْعٌ أَوْ قَلْعٌ انْقَلَبَ الْهَوَاءُ مِنْ بَيْنَ ذَيْنِكَ الْجِسْمَيْنِ انقلابا يعنف فَيَتَمَوَّجُ الْهَوَاءُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَيَتَأَدَّى ذَلِكَ التَّمَوُّجُ إِلَى سَطْحِ الصِّمَاخِ فَهَذَا هُوَ السَّمَاعُ، وَأَمَّا الْإِبْصَارُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَأَثُّرِ الْحَدَقَةِ بِصُورَةِ الْمَرْئِيِّ، فَثَبَتَ أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ عِبَارَةٌ عَنْ تَأَثُّرِ الْحَاسَّةِ، وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ إِطْلَاقَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ عَلَى عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ غَيْرُ جَائِزٍ وَالْجَوَابُ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ السَّمَاعَ مُغَايِرٌ لِتَأَثُّرِ الْحَاسَّةِ أَنَّا إِذَا سَمِعْنَا الصَّوْتَ عَلِمْنَا أَنَّهُ مِنْ أَيِّ الْجَوَانِبِ جَاءَ فَعَلِمْنَا أَنَّا أَدْرَكْنَا الصَّوْتَ حَيْثُ وُجِدَ ذَلِكَ الصَّوْتُ فِي نَفْسِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِدْرَاكَ الصَّوْتِ حَالَةٌ مُغَايِرَةٌ لِتَأْثِيرِ الصِّمَاخِ عَنْ تَمَوُّجِ ذَلِكَ الْهَوَاءِ. وَأَمَّا الرُّؤْيَةُ فَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا حَالَةٌ مُغَايِرَةٌ لِتَأَثُّرِ الْحَدَقَةِ، فَذَلِكَ لِأَنَّ نُقْطَةَ النَّاظِرِ جِسْمٌ صَغِيرٌ فَيَسْتَحِيلُ انْطِبَاعُ الصُّورَةِ الْعَظِيمَةِ فِيهِ، فَنَقُولُ الصُّورَةُ الْمُنْطَبِعَةُ صَغِيرَةٌ وَالصُّورَةُ الْمَرْئِيَّةُ فِي نَفْسِ الْعَالَمِ عَظِيمَةٌ، وَهَذَا يدل على أن الرؤية حالة مُغَايِرَةٌ لِنَفْسِ ذَلِكَ الِانْطِبَاعِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ/ لَا يَلْزَمُ مِنِ امْتِنَاعِ التَّأَثُّرِ فِي حَقِّ اللَّهِ امْتِنَاعُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فِي حَقِّهِ، فَإِنْ قَالُوا هَبْ أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ حَالَتَانِ مُغَايِرَتَانِ لِتَأَثُّرِ الْحَاسَّةِ إِلَّا أَنَّ حُصُولَهُمَا مَشْرُوطٌ بِحُصُولِ ذَلِكَ التَّأَثُّرِ، فَلَمَّا كَانَ حُصُولُ ذَلِكَ التَّأَثُّرِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُمْتَنِعًا كَانَ حُصُولُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فِي حَقِّ اللَّهِ مُمْتَنِعًا، فَنَقُولُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ سَمِيعًا بَصِيرًا فَلَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَعْدِلَ عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ إِلَّا إِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَاسَّةَ الْمُسَمَّاةَ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ مَشْرُوطَةٌ بِحُصُولِ التَّأَثُّرِ، وَالتَّأَثُّرُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُمْتَنِعٌ، فَكَانَ حُصُولُ الْحَاسَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ مُمْتَنِعًا، وَأَنْتُمُ الْمُدَّعُونَ لِهَذَا الِاشْتِرَاطِ فَعَلَيْكُمُ الدَّلَالَةُ عَلَى حُصُولِهِ، وَإِنَّمَا نَحْنُ مُتَمَسِّكُونَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ إِلَى أَنْ تَذْكُرُوا مَا يُوجِبُ الْعُدُولَ عَنْهُ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَوْلُهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ يُفِيدُ الْحَصْرَ، فَمَا مَعْنَى هَذَا الْحَصْرِ، مَعَ أَنَّ الْعِبَادَ أَيْضًا مَوْصُوفُونَ بِكَوْنِهِمْ سَمِيعِينَ بَصِيرِينَ؟ فَنَقُولُ السَّمِيعُ وَالْبَصِيرُ لَفْظَانِ مُشْعِرَانِ بِحُصُولِ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ

[سورة الشورى (42) : الآيات 13 إلى 19]

الْكَمَالِ، وَالْكَمَالُ فِي كُلِّ الصِّفَاتِ لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْحَصْرِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى: فاطر السموات وَالْأَرْضِ وَالْأَصْنَامُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَأَيْضًا فَهُوَ خَالِقُ أَنْفُسِنَا وَأَزْوَاجِنَا وَخَالِقُ أَوْلَادِنَا مِنَّا وَمِنْ أَزْوَاجِنَا، والأصنام ليست كذلك، وأيضا فله مقاليد السموات وَالْأَرْضِ وَالْأَصْنَامُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكُلِّ بَيَانُ الْقَادِرِ الْمُنْعِمِ الْكَرِيمِ الرَّحِيمِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ جَعْلُ الْأَصْنَامِ الَّتِي هِيَ جَمَادَاتٌ مُسَاوِيَةً لَهُ فِي الْمَعْبُودِيَّةِ؟ فَقَوْلُهُ لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يريد مفاتيح الرزق من السموات والأرض، فمقاليد السموات الْأَمْطَارُ، وَمَقَالِيدُ الْأَرْضِ النَّبَاتُ، وَذَكَرْنَا تَفْسِيرَ الْمَقَالِيدِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ عِنْدَ قَوْلِهِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الزمر: 52] لِأَنَّ مَفَاتِيحَ الْأَرْزَاقِ بِيَدِهِ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من البسط والتقدير عَلِيمٌ. [سورة الشورى (42) : الآيات 13 الى 19] شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَظَّمَ وَحْيَهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الشُّورَى: 3] ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فَقَالَ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً والمعنى شرع الله لَكُمْ يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَمُحَمَّدًا وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ الْخَمْسَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ أَكَابِرُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَصْحَابُ الشَّرَائِعِ الْعَظِيمَةِ وَالْأَتْبَاعِ الْكَثِيرَةِ، إِلَّا أَنَّهُ بَقِيَ فِي لَفْظِ الْآيَةِ إِشْكَالَاتٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَفِي آخِرِهَا وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَفِي الْوَسَطِ وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّفَاوُتِ؟ (وَثَانِيهَا) : أَنَّهُ ذَكَرَ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى سَبِيلِ الْغَيْبَةِ فَقَالَ: مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالْقِسْمَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّكَلُّمِ فَقَالَ: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ يَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: شَرَعَ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ فَقَوْلُهُ شَرَعَ لَكُمْ خِطَابُ الْغَيْبَةِ وَقَوْلُهُ وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ خِطَابُ الْحُضُورِ، فَهَذَا يَقْتَضِي الْجَمْعَ بَيْنَ خِطَابِ الْغَيْبَةِ وَخِطَابِ الْحُضُورِ فِي الْكَلَامِ الْوَاحِدِ بِالِاعْتِبَارِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ، فَهَذِهِ الْمَضَايِقُ يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْهَا وَالْقَوْمُ مَا دَارُوا حَوْلَهَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ يُقَالُ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ دِينًا تَطَابَقَتِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى صِحَّتِهِ، وَأَقُولُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الدِّينِ شَيْئًا مُغَايِرًا لِلتَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ قَالَ تَعَالَى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [الْمَائِدَةِ: 48] فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْأُمُورَ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ، وَهِيَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْإِيمَانُ يُوجِبُ الْإِعْرَاضَ عَنِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالَ عَلَى الْآخِرَةِ وَالسَّعْيَ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالِاحْتِرَازَ عَنْ رَذَائِلِ الْأَحْوَالِ، وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَلا تَتَفَرَّقُوا أَيْ لَا تَتَفَرَّقُوا بِالْآلِهَةِ الْكَثِيرَةِ، كَمَا قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يُوسُفَ: 39] وَقَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الْأَنْبِيَاءِ: 25] وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَانَ مَبْعُوثًا بِشَرِيعَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْأَخْذُ بِالشَّرِيعَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَ الْكُلِّ، وَمَحَلُّ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ إِمَّا نَصْبُ بَدَلٍ مِنْ مَفْعُولِ شَرَعَ وَالْمَعْطُوفَيْنِ عَلَيْهِ، وَإِمَّا رَفْعٌ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ كَأَنَّهُ قِيلَ مَا ذَاكَ الْمَشْرُوعُ؟ فَقِيلَ هُوَ إِقَامَةُ الدِّينِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ عَظُمَ عَلَيْهِمْ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ إِقَامَةِ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الِاتِّفَاقِ وَالْإِجْمَاعِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ أَكَابِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ إِقَامَةُ الدِّينِ بِحَيْثُ لَا يُفْضِي إِلَى الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ، وَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي مَعْرِضِ الْمِنَّةِ عَلَى عِبَادِهِ أَنَّهُ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الدِّينِ الْخَالِي عَنِ التَّفَرُّقِ وَالْمُخَالَفَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ فَتْحَ بَابِ الْقِيَاسِ يُفْضِي إِلَى أَعْظَمِ أَنْوَاعِ التَّفَرُّقِ وَالْمُنَازَعَةِ، فَإِنَّ الْحِسَّ شَاهِدٌ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَنَوْا دِينَهُمْ عَلَى/ الْأَخْذِ بِالْقِيَاسِ تَفَرَّقُوا تَفَرُّقًا لَا رَجَاءَ فِي حُصُولِ الِاتِّفَاقِ بَيْنَهُمْ إِلَى آخِرِ الْقِيَامَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا مَمْنُوعًا عَنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الشرائع قسمين مِنْهَا مَا يَمْتَنِعُ دُخُولُ النَّسْخِ وَالتَّغْيِيرِ فِيهِ، بل

يَكُونُ وَاجِبَ الْبَقَاءِ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ، كَالْقَوْلِ بِحُسْنِ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْقَوْلِ بِقُبْحِ الْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَالْإِيذَاءِ، وَمِنْهَا مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ سَعْيَ الشَّرْعِ فِي تَقْرِيرِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ أَقْوَى مِنْ سَعْيِهِ فِي تَقْرِيرِ النَّوْعِ الثَّانِي، لِأَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مُهِمَّةٌ فِي اكْتِسَابِ الْأَحْوَالِ الْمُفِيدَةِ لِحُصُولِ السَّعَادَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ حُصُولَ الْمُوَافَقَةِ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ، وَبَيَانُ مَنْفَعَتِهِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ لِلنُّفُوسِ تَأْثِيرَاتٍ، وَإِذَا تَطَابَقَتِ النُّفُوسُ وَتَوَافَقَتْ عَلَى وَاحِدٍ قَوِيَ التَّأْثِيرُ الثَّانِي: أَنَّهَا إِذَا تَوَافَقَتْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُعِينًا لِلْآخَرِ فِي ذَلِكَ الْمَقْصُودِ الْمُعَيَّنِ، وَكَثْرَةُ الْأَعْوَانِ تُوجِبُ حُصُولَ الْمَقْصُودِ، أَمَّا إِذَا تَخَالَفَتْ تَنَازَعَتْ وَتَجَادَلَتْ فَضَعُفَتْ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ الثَّالِثُ: أَنَّ حُصُولَ التَّنَازُعِ ضِدُّ مَصْلَحَةِ الْعَالَمِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الْهَرْجِ وَالْمَرَجِ وَالْقَتْلِ وَالنَّهْبِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِإِقَامَةِ الدِّينِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُفْضِي إِلَى التَّفَرُّقِ وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا [الْأَنْفَالِ: 46] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرْشَدَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى التَّمَسُّكِ بِالدِّينِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَرْشَدَهُمْ إِلَى هَذَا الْخَيْرِ، لِأَنَّهُ اجْتَبَاهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ وَخَصَّهُمْ بِمَزِيدِ الرَّحْمَةِ وَالْكَرَامَةِ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا كَبُرَ عَلَيْهِمْ هَذَا الدُّعَاءُ مِنَ الرُّسُلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِانْقِيَادِ لَهُمْ تَكَبُّرًا وَأَنَفَةً فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يَخُصُّ مَنْ يَشَاءُ بِالرِّسَالَةِ وَيَلْزَمُ الِانْقِيَادُ لَهُمْ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْحَسَبُ وَالنَّسَبُ وَالْغِنَى، بَلِ الْكُلُّ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُمُ اتِّبَاعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ اجْتَبَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَاشْتِقَاقُ لَفْظِ الِاجْتِبَاءِ يَدُلُّ عَلَى الضَّمِّ وَالْجَمْعِ، فَمِنْهُ جَبَى الْخَرَاجَ وَاجْتَبَاهُ وَجَبَى الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ فَقَوْلُهُ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ أَيْ يَضُمُّهُ إِلَيْهِ وَيُقَرِّبُهُ مِنْهُ تَقْرِيبَ الْإِكْرَامِ وَالرَّحْمَةِ، وَقَوْلُهُ مَنْ يَشاءُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ [الْعَنْكَبُوتِ: 21] . ثُمَّ قَالَ: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ وَهُوَ كَمَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ «مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» أي من أقبل إلي بِطَاعَتِهِ أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ بِهِدَايَتِي وَإِرْشَادِي بِأَنْ أَشْرَحَ لَهُ صَدْرَهُ وَأُسَهِّلَ أَمْرَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ أَمَرَ كُلَّ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ بِالْأَخْذِ بِالدِّينِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، كَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: فَلِمَاذَا نَجِدُهُمْ مُتَفَرِّقِينَ؟ فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ يَعْنِي أَنَّهُمْ مَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ عَلِمُوا أَنَّ الْفُرْقَةَ ضَلَالَةٌ، وَلَكِنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ لِلْبَغْيِ/ وطلب الرياسة فحملتهم الحمية النفسانية والأنفة الطبعية، عَلَى أَنْ ذَهَبَ كُلُّ طَائِفَةٍ إِلَى مَذْهَبٍ وَدَعَا النَّاسُ إِلَيْهِ وَقَبَّحَ مَا سِوَاهُ طَلَبًا لِلذِّكْرِ وَالرِّيَاسَةِ، فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ بِسَبَبِ هَذَا الْفِعْلِ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَخَّرَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابَ، لِأَنَّ لِكُلِّ عَذَابٍ عِنْدَهُ أَجَلًا مُسَمًّى، أَيْ وَقْتًا مَعْلُومًا، إِمَّا لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ كَمَا هُوَ قَوْلُنَا، أَوْ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الصَّلَاحَ تَحْقِيقُهُ بِهِ كَمَا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى قَدْ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ يَكُونُ فِي الْقِيَامَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الَّذِينَ أُرِيدُوا

بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آلِ عِمْرَانَ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 19] وَقَالَ فِي سُورَةِ لَمْ يَكُنْ وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةِ: 4] وَلِأَنَّ قَوْلُهُ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ لَائِقٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُمْ هُمُ الْعَرَبُ، وَهَذَا بَاطِلٌ لِلْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَلِيقُ بِالْعَرَبِ، لِأَنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ، هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مِنْ كِتَابِهِمْ مُرِيبٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَقَّ الْإِيمَانِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ يَعْنِي فَلِأَجْلِ ذَلِكَ التَّفَرُّقِ وَلِأَجْلِ مَا حَدَثَ مِنَ الِاخْتِلَافَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي الدِّينِ، فَادْعُ إِلَى الِاتِّفَاقِ عَلَى الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ وَاسْتَقِمْ عَلَيْهَا وَعَلَى الدَّعْوَةِ إِلَيْهَا، كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ، وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمُ الْمُخْتَلِفَةَ الْبَاطِلَةَ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أَيْ بِأَيِّ كِتَابٍ صَحَّ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ، يَعْنِي الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، لِأَنَّ الْمُتَفَرِّقِينَ آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ إِلَى قَوْلِهِ أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [النِّسَاءِ: 151] ثُمَّ قَالَ: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ أَيْ فِي الْحُكْمِ إِذَا تَخَاصَمْتُمْ فَتَحَاكَمْتُمْ إِلَيَّ، قَالَ الْقَفَّالُ: مَعْنَاهُ أَنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ لَا أُفَرِّقَ بَيْنَ نَفْسِي وَأَنْفُسِكُمْ بِأَنْ آمُرَكُمْ بِمَا لَا أَعْمَلُهُ، أَوْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، لَكِنِّي أُسَوِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ نَفْسِي، وَكَذَلِكَ أُسَوِّي بَيْنَ أَكَابِرِكُمْ وَأَصَاغِرِكُمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ وَالْمَعْنَى أَنَّ إِلَهَ الْكُلِّ وَاحِدٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مَخْصُوصٌ بِعَمَلِ نَفْسِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَشْتَغِلَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي الدُّنْيَا بِنَفْسِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْكُلِّ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيُجَازِيهِ عَلَى عَمَلِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُتَارَكَةُ وَاشْتِغَالُ كُلِّ أَحَدٍ بِمُهِمِّ نَفْسِهِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَلِيقُ بِهَذِهِ الْمُتَارَكَةِ مَا فُعِلَ بِهِمْ مِنَ الْقَتْلِ وَتَخْرِيبِ الْبُيُوتِ وَقَطْعِ النَّخِيلِ وَالْإِجْلَاءِ؟ قُلْنَا هَذِهِ الْمُتَارَكَةُ كَانَتْ مَشْرُوطَةً بِشَرْطِ أَنْ يَقْبَلُوا الدِّينَ الْمُتَّفَقَ عَلَى صِحَّتِهِ بَيْنَ كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَدَخَلَ فِيهِ التَّوْحِيدُ، وَتَرْكُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَالْإِقْرَارُ بِنُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَبِصِحَّةِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَقْبَلُوا هَذَا الدِّينَ، فَحِينَئِذٍ فَاتَ الشَّرْطُ، فَلَا جَرَمَ فَاتَ الْمَشْرُوطُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ تَحْرِيمَ مَا يَجْرِي مَجْرَى مُحَاجَّتِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَذْكُورٌ فِي مَعْرِضِ الْمُحَاجَّةِ، فَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَحْرِيمُ الْمُحَاجَّةِ، لَزِمَ كَوْنُهَا مُحَرَّمَةً لِنَفْسِهَا وَهُوَ مُتَنَاقِضٌ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْلَا الْأَدِلَّةُ لَمَا تَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ الثَّالِثُ: أَنَّ الدَّلِيلَ يُفِيدُ الْعِلْمَ وذلك لا يمكن تحريمه، بل المرد أَنَّ الْقَوْمَ عَرَفُوا بِالْحُجَّةِ صِدْقَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا تَرَكُوا تَصْدِيقَهُ بَغْيًا وَعِنَادًا، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ مُحَاجَّتِهِمْ لِأَنَّهُمْ عَرَفُوا بِالْحُجَّةِ صِدْقَهُ فَلَا حَاجَةَ مَعَهُمْ إِلَى الْمُحَاجَّةِ الْبَتَّةَ، وَمِمَّا يُقَوِّي قَوْلَنَا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَحْرِيمُ الْمُحَاجَّةِ، قَوْلُهُ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] وقوله تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ [النَّحْلِ: 125] وَقَوْلُهُ وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: 46] وقوله يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا [هُودٍ: 32] وَقَوْلُهُ وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ [الْأَنْعَامِ: 83] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ أَيْ يُخَاصِمُونَ فِي دِينِهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا

[سورة الشورى (42) : الآيات 20 إلى 26]

اسْتَجَابَ النَّاسُ لِذَلِكَ الدِّينِ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ أَيْ بَاطِلَةٌ وَتِلْكَ الْمُخَاصَمَةُ هِيَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا أَلَسْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ الْأَخْذَ بِالْمُتَّفَقِ أَوْلَى مِنَ الْأَخْذِ بِالْمُخْتَلَفِ؟ فَنُبُوَّةُ مُوسَى وَحَقِّيَّةُ التَّوْرَاةِ مَعْلُومَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَنُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ لَيْسَتْ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا، فَإِذَا بَنَيْتُمْ كَلَامَكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ بِالْمُتَّفَقِ أَوْلَى، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَخْذُ بِالْيَهُودِيَّةِ أَوْلَى، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ دَاحِضَةٌ، أَيْ بَاطِلَةٌ فَاسِدَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَجْلِ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى وَفْقِ قوله، وهاهنا ظَهَرَتِ الْمُعْجِزَاتُ عَلَى وَفْقِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْيَهُودُ شَاهَدُوا تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ، فَإِنْ كَانَ ظُهُورُ الْمُعْجِزَةِ يَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ، فَهَهُنَا يَجِبُ الِاعْتِرَافُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ وَجَبَ فِي حَقِّ مُوسَى أَنْ لَا يُقِرُّوا بِنُبُوَّتِهِ. وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِنُبُوَّةِ مُوسَى وَالْإِصْرَارُ عَلَى إِنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي ظُهُورِ الْمُعْجِزَةِ يَكُونُ مُتَنَاقِضًا، وَلَمَّا قَرَّرَ اللَّهُ هَذِهِ الدَّلَائِلَ خَوَّفَ الْمُنْكِرِينَ بِعَذَابِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الْكِتَابَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى أَنْوَاعِ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَأَنْزَلَ الْمِيزَانَ وَهُوَ الْفَصْلُ الَّذِي هُوَ الْقِسْطَاسُ الْمُسْتَقِيمُ، وَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْقِيَامَةَ مَتَى تُفَاجِئُهُمْ وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَجِدَّ وَيَجْتَهِدَ فِي النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَيَتْرُكَ طَرِيقَةَ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالتَّقْلِيدِ، وَلَمَّا كَانَ الرَّسُولُ يُهَدِّدُهُمْ بِنُزُولِ الْقِيَامَةِ وَأَكْثَرَ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ مَا رَأَوْا مِنْهُ أَثَرًا قَالُوا عَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ: فَمَتَى تَقُومُ الْقِيَامَةُ، وَلَيْتَهَا قَامَتْ حَتَّى يَظْهَرَ لَنَا أَنَّ الْحَقَّ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ أَوِ الَّذِي عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ، فَلِدَفْعِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ قَالَ تَعَالَى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها والمعنى ظهر، وَإِنَّمَا يُشْفِقُونَ وَيَخَافُونَ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ عِنْدَهَا تَمْتَنِعُ التَّوْبَةُ، وَأَمَّا مُنْكِرُ الْبَعْثِ فَلِأَنْ لَا يَحْصُلَ لَهُ هَذَا الْخَوْفُ. ثُمَّ قَالَ: أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ والممارة الْمُلَاجَّةُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِينَ/ تَدْخُلُهُمُ الْمِرْيَةُ وَالشَّكُّ فِي وُقُوعِ السَّاعَةِ، فَيُمَارُونَ فِيهَا وَيَجْحَدُونَ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ حَقِّ الْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ وَاجِبٌ فِي الْعَدْلِ، فَلَوْ لَمْ تَحْصُلِ الْقِيَامَةُ لَزِمَ إِسْنَادُ الظُّلْمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا مِنْ أَمْحَلِ الْمُحَالَاتِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ إِنْكَارُ الْقِيَامَةِ ضَلَالًا بَعِيدًا. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ أَيْ كَثِيرُ الْإِحْسَانِ بِهِمْ، وَإِنَّمَا حسن ذكر هذا الكلام هاهنا لِأَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى هَذِهِ الدَّلَائِلِ اللَّطِيفَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ، وَأَيْضًا الْمُتَفَرِّقُونَ اسْتَوْجَبُوا الْعَذَابَ الشَّدِيدَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخَّرَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابَ فَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا سَبَقَ ذِكْرُ إِيصَالِ أَعْظَمِ الْمَنَافِعِ إِلَيْهِمْ وَدَفْعِ أَعْظَمِ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ، لَا جَرَمَ حَسُنَ ذِكْرُهُ هاهنا، ثُمَّ قَالَ: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ يَعْنِي أَنَّ أَصْلَ الْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ الْعِبَادِ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِحْسَانُ بِالْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ وَالْفَهْمِ، وَإِعْطَاءِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ الرِّزْقِ، وَدَفْعِ أَكْثَرِ الْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ عَنْهُمْ، فَأَمَّا مَرَاتِبُ الْعَطِيَّةِ وَالْبَهْجَةِ فَمُتَفَاوِتَةٌ مُخْتَلِفَةٌ. ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ الْقَوِيُّ أَيِ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ مَا يَشَاءُ الْعَزِيزُ الذي لا يغالب ولا يدافع. [سورة الشورى (42) : الآيات 20 الى 26] مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَوْنَهُ لَطِيفًا بِعِبَادِهِ كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَسْعَوْا فِي طَلَبِ الْخَيْرَاتِ وَفِي الِاحْتِرَازِ عَنِ الْقَبَائِحِ فَقَالَ: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِنَّهُ تَعَالَى سَمَّى مَا يَعْمَلُهُ الْعَامِلُ مِمَّا يَطْلُبُ بِهِ الْفَائِدَةَ حَرْثًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَظْهَرَ الْفَرْقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ مَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَبَيْنَ مَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَدَّمَ مُرِيدَ حَرْثِ الْآخِرَةِ فِي الذِّكْرِ عَلَى مُرِيدِ حَرْثِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى التَّفْضِيلِ، لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ آخِرَةً ثُمَّ قَدَّمَهُ فِي الذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى قَوْلِهِ «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ» الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ فِي مُرِيدِ حَرْثِ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَقَالَ فِي مُرِيدِ حَرْثِ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْها وَكَلِمَةُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُعْطِيهِ بَعْضَ مَا يَطْلُبُهُ وَلَا يُؤْتِيهِ كُلَّهُ، وَقَالَ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الْإِسْرَاءِ: 18] وَأَقُولُ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ مُسَاعِدٌ عَلَى الْبَابَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ عَمِلَ لِلْآخِرَةِ وَوَاظَبَ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، فَكَثْرَةُ الْأَعْمَالِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْمَلَكَاتِ، فَكُلُّ مَنْ كَانَتْ مُوَاظَبَتُهُ عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ أَكْثَرَ كَانَ مَيْلُ قَلْبِهِ إِلَى طَلَبِ الْآخِرَةِ أَكْثَرَ، وَكُلَّمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ الِابْتِهَاجُ أَعْظَمَ وَالسَّعَادَاتُ أَكْثَرَ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَأَمَّا طَالِبُ الدُّنْيَا فَكُلَّمَا كَانَتْ مُوَاظَبَتُهُ عَلَى أَعْمَالِ ذَلِكَ الطَّلَبِ أَكْثَرَ كَانَتْ رَغْبَتُهُ فِي الْفَوْزِ بِالدُّنْيَا أَكْثَرَ وَمَيْلُهُ إِلَيْهَا/ أَشَدَّ، وَإِذَا كَانَ الْمَيْلُ أَبَدًا فِي التَّزَايُدِ، وَكَانَ حُصُولُ الْمَطْلُوبِ بَاقِيًا عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ الْحِرْمَانُ لَازِمًا لَا مَحَالَةَ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي طَالِبِ حَرْثِ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِ الدُّنْيَا أَمْ لَا، بَلْ بَقِيَ الْكَلَامُ سَاكِتًا عَنْهُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَأَمَّا طَالِبُ حَرْثِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُعْطِيهِ شَيْئًا مِنْ نَصِيبِ الْآخِرَةِ عَلَى التَّنْصِيصِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ كَأَنَّهُ يَقُولُ الْآخِرَةُ أَصْلٌ وَالدُّنْيَا تَبَعٌ، فَوَاجِدُ الْأَصْلِ يَكُونُ وَاجِدًا لِلتَّبَعِ بِقَدَرِ الْحَاجَةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الدُّنْيَا أَخَسُّ مِنْ أَنْ يَقْرِنَ ذِكْرَهَا بِذِكْرِ الْآخِرَةِ وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ طَالِبَ الْآخِرَةِ يُزَادُ فِي مَطْلُوبِهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ طَالِبَ الدُّنْيَا يُعْطَى بَعْضَ مَطْلُوبِهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ نُصِيبٌ الْبَتَّةَ، فَبَيَّنَ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ أَنَّ طَالِبَ الْآخِرَةِ يَكُونُ حَالُهُ أَبَدًا فِي التَّرَقِّي وَالتَّزَايُدِ وَبَيَّنَ بِالْكَلَامِ الثَّانِي أَنَّ طَالِبَ الدُّنْيَا يَكُونُ حَالُهُ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ فِي النُّقْصَانِ وَفِي الْمَقَامِ الثَّانِي فِي الْبُطْلَانِ التَّامِّ الْخَامِسُ: أَنَّ الْآخِرَةَ

نَسِيئَةٌ وَالدُّنْيَا نَقْدٌ وَالنَّسِيئَةُ مَرْجُوحَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّقْدِ، لِأَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ النَّقْدُ خَيْرٌ مِنَ النَّسِيئَةِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ انْعَكَسَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، فَالْآخِرَةُ وَإِنْ كانت نقدا إِلَّا أَنَّهَا مُتَوَجِّهَةٌ لِلزِّيَادَةِ وَالدَّوَامِ فَكَانَتْ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ، وَالدُّنْيَا وَإِنْ كَانَتْ نَقْدًا إِلَّا أَنَّهَا مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى النُّقْصَانِ ثُمَّ إِلَى الْبُطْلَانِ فَكَانَتْ أَخَسَّ وَأَرْذَلَ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَالَ الْآخِرَةِ لَا يُنَاسِبُ حَالَ الدُّنْيَا الْبَتَّةَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ إِلَّا مُجَرَّدُ الِاسْمِ كَمَا هُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّادِسُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَنَافِعَ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا لَيْسَتْ حَاضِرَةً بَلْ لَا بُدَّ فِي الْبَابَيْنِ مِنَ الْحَرْثِ، وَالْحَرْثُ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ فِي الْبَذْرِ ثُمَّ التَّسْقِيَةِ وَالتَّنْمِيَةِ وَالْحَصْدِ ثُمَّ التَّنْقِيَةِ، فَلَمَّا سَمَّى اللَّهُ كِلَا الْقِسْمَيْنِ حَرْثًا عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَحَمُّلِ الْمَتَاعِبِ وَالْمَشَاقِّ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مَصِيرَ الْآخِرَةِ إِلَى الزِّيَادَةِ وَالْكَمَالِ وَأَنَّ مَصِيرَ الدُّنْيَا إِلَى النُّقْصَانِ ثُمَّ الْفَنَاءِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ إِذَا كَانَ لَا بُدَّ فِي الْقِسْمَيْنِ جَمِيعًا مِنْ تَحَمُّلِ مَتَاعِبِ الحراثة والتسمية وَالتَّنْمِيَةِ وَالْحَصْدِ وَالتَّنْقِيَةِ، فَلِأَنْ تُصْرَفَ هَذِهِ الْمَتَاعِبُ إِلَى مَا يَكُونُ فِي التَّزَايُدِ وَالْبَقَاءِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهَا إِلَى مَا يَكُونُ فِي النُّقْصَانِ وَالِانْقِضَاءِ وَالْفَنَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى أَنَّا نَزِيدُ فِي تَوْفِيقِهِ وَإِعَانَتِهِ وَتَسْهِيلِ سُبُلِ الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ عَلَيْهِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ بِتَضْعِيفِ الثَّوَابِ، قَالَ تَعَالَى: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [فَاطِرٍ: 30] وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَصْبَحَ وَهَمُّهُ الدُّنْيَا شَتَّتَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ هَمَّهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ أَصْبَحَ هَمُّهُ الْآخِرَةَ جَمَعَ اللَّهُ هَمَّهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ عن أنفها» أو لفظا يَقْرُبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى لِأَجْلِ طَلَبِ الثَّوَابِ أَوْ لِأَجْلِ دَفْعِ الْعِقَابِ فَإِنَّهُ تَصِحُّ صَلَاتُهُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا لَا تَصِحُّ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ/ الْآخِرَةِ وَالْحَرْثُ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِإِلْقَاءِ الْبَذْرِ الصَّحِيحِ فِي الْأَرْضِ، وَالْبَذْرُ الصَّحِيحُ لِجَمِيعِ الْخَيْرَاتِ وَالسَّعَادَاتِ لَيْسَ إِلَّا عُبُودِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا إِذَا تَوَضَّأَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَمْ يَصِحَّ، قَالُوا لِأَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ مَا أَرَادَ حَرْثَ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إِذَا كَانَ غَافِلًا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الْآخِرَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ لَهُ نُصِيبٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ وَالْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَةِ الصَّلَاةِ مِنْ بَابِ مَنَافِعِ الْآخِرَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ فِي الْوُضُوءِ الْعَارِي عَنِ النِّيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْقَانُونَ الْأَعْظَمَ وَالْقِسْطَاسَ الْأَقْوَمَ فِي أَعْمَالِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا أَرْدَفَهُ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي بَابِ الضَّلَالَةِ وَالشَّقَاوَةِ فَقَالَ: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَمَعْنَى الْهَمْزَةِ فِي أَمْ التقرير والتقريع وشركاؤهم شَيَاطِينُهُمُ الَّذِينَ زَيَّنُوا الشِّرْكَ وَإِنْكَارَ الْبَعْثِ وَالْعَمَلَ للدنيا لأنهم يَعْلَمُونَ غَيْرَهَا، وَقِيلَ شُرَكَاؤُهُمْ أَوْثَانُهُمْ، وَإِنَّمَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ، وَلَمَّا كَانَ سَبَبًا لِضَلَالَتِهِمْ جُعِلَتْ شَارِعَةً لِدِينِ الضلالة كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إِبْرَاهِيمَ: 36] وَقَوْلُهُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ يَعْنِي أَنَّ تِلْكَ الشَّرَائِعَ بِأَسْرِهَا عَلَى ضِدَّيْنِ لِلَّهِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أَيِ الْقَضَاءُ السَّابِقُ بِتَأْخِيرِ الْجَزَاءِ، أَوْ يُقَالُ وَلَوْلَا الْوَعْدُ بِأَنَّ الْفَصْلَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أَيْ بَيْنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَوْ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَشُرَكَائِهِمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ، وَأَنَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي إِنَّ عَطْفًا لَهُ عَلَى كَلِمَةُ الْفَصْلِ يَعْنِي وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ وَأَنَّ

تَقْرِيرَهُ تَعْذِيبَ الظَّالِمِينَ فِي الْآخِرَةِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَحْوَالَ أهل العقاب وأحوال أهل الثواب، الأول: فَهُوَ قَوْلُهُ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ خَائِفِينَ خَوْفًا شَدِيدًا مِمَّا كَسَبُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ يُرِيدُ أَنَّ وَبَالَهُ وَاقِعٌ بِهِمْ سَوَاءٌ أَشْفَقُوا أَوْ لَمْ يُشْفِقُوا، وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ أَحْوَالُ أَهْلِ الثَّوَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لِأَنَّ رَوْضَةَ الْجَنَّةِ أَطْيَبُ بُقْعَةٍ فِيهَا، وَفِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْفُسَّاقَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ خَصَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِرَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ، وَهِيَ الْبِقَاعُ الشَّرِيفَةُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَالْبِقَاعُ الَّتِي دُونَ تِلْكَ الرَّوْضَاتِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَخْصُوصَةً بِمَنْ كَانَ دُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، ثم قال: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ الْأَشْيَاءِ حَاضِرَةٌ عِنْدَهُ مُهَيَّأَةٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي تَعْظِيمِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ وَأَصْحَابُنَا اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بطريق الفضل من الله تعالى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ وَوِجْدَانَ كُلِّ مَا يُرِيدُونَهُ إِنَّمَا كَانَ جَزَاءً عَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْجَزَاءَ الْمُرَتَّبَ عَلَى الْعَمَلِ إِنَّمَا حَصَلَ بِطَرِيقِ الْفَضْلِ لَا بِطَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ. ثُمَّ قَالَ: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ يُبَشِّرُ من بشره ويبشر من أبشره ويبشر مِنْ بَشَرَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى تَعْظِيمِ حَالِ الثَّوَابِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَتَّبَ عَلَى الْإِيمَانِ وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ، وَالسُّلْطَانُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْمَوْجُودَاتِ وَأَكْرَمُهُمْ إِذَا رَتَّبَ عَلَى أَعْمَالٍ شَاقَّةٍ جَزَاءً، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ قَدْ بَلَغَ إِلَى حَيْثُ لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ وقوله لَهُمْ ما يَشاؤُنَ يَدْخُلُ فِي بَابِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِي لِأَنَّهُ لَا دَرَجَةَ إِلَّا وَالْإِنْسَانُ يُرِيدُ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ وَالَّذِي يَحْكُمُ بِكِبَرِهِ مَنْ لَهُ الْكِبْرِيَاءُ وَالْعَظَمَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَانَ فِي غَايَةِ الْكِبَرِ الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَعَادَ الْبِشَارَةَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ فَقَالَ: الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ وَذَلِكَ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى غَايَةِ الْعَظَمَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْفَوْزَ بِهَا وَالْوُصُولَ إِلَيْهَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْحَى إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْكِتَابَ الشَّرِيفَ الْعَالِيَ وَأَوْدَعَ فيه الثلاثة أقسام الدَّلَائِلَ وَأَصْنَافَ التَّكَالِيفِ، وَرَتَّبَ عَلَى الطَّاعَةِ الثَّوَابَ، وَعَلَى الْمَعْصِيَةِ الْعِقَابَ، بَيَّنَ أَنِّي لَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ بِسَبَبِ هَذَا التَّبْلِيغِ نَفْعًا عَاجِلًا وَمَطْلُوبًا حَاضِرًا، لِئَلَّا يَتَخَيَّلَ جَاهِلٌ أَنَّ مَقْصُودَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا التَّبْلِيغِ المال والجاه فقال: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ الشَّعْبِيُّ أَكْثَرَ النَّاسُ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَتَبْنَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ نَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَكَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ وَاسِطَ النَّسَبِ مِنْ قُرَيْشٍ لَيْسَ بَطْنٌ مِنْ بُطُونِهِمْ إِلَّا وَقَدْ وَلَدَهُ فَقَالَ الله قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَى مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ أَجْراً إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي لِقَرَابَتِي مِنْكُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ قَوْمِي وَأَحَقُّ مَنْ أَجَابَنِي وَأَطَاعَنِي، فَإِذَا

قَدْ أَبَيْتُمْ ذَلِكَ فَاحْفَظُوا حَقَّ الْقُرْبَى وَلَا تُؤْذُونِي وَلَا تُهَيِّجُوا عَلَيَّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ كَانَتْ تَعْرُوهُ نَوَائِبُ وَحُقُوقٌ وَلَيْسَ فِي يَدِهِ سَعَةٌ، فَقَالَ الْأَنْصَارُ إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ هَدَاكُمُ اللَّهُ عَلَى يَدِهِ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِكُمْ وَجَارُكُمْ فِي بَلَدِكُمْ، فَاجْمَعُوا لَهُ طَائِفَةً مِنْ أَمْوَالِكُمْ فَفَعَلُوا ثُمَّ أَتَوْهُ بِهِ فَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً أَيْ عَلَى الْإِيمَانِ إِلَّا أَنْ تَوَدُّوا أَقَارِبِي فَحَثَّهُمْ عَلَى مَوَدَّةِ أَقَارِبِهِ «1» . الْقَوْلُ الثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ فَقَالَ: إِلَّا أَنْ تَوَدُّوا إِلَى اللَّهِ فِيمَا يُقَرِّبُكُمْ إِلَيْهِ مِنَ التَّوَدُّدِ إِلَيْهِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَالْقُرْبَى عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْقَرَابَةُ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى الرَّحِمِ وَعَلَى الثَّانِي الْقَرَابَةُ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى الْأَقَارِبِ، وَعَلَى الثَّالِثِ هِيَ فُعْلَى مِنَ الْقُرْبِ وَالتَّقْرِيبِ، فَإِنْ قِيلَ الْآيَةُ مُشْكِلَةٌ، ذَلِكَ لِأَنَّ طَلَبَ الْأَجْرِ عَلَى تَبْلِيغِ الْوَحْيِ لَا يَجُوزُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ أَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِنَفْيِ طَلَبِ الْأُجْرَةِ، فَذَكَرَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: 109] وَكَذَا فِي قِصَّةِ هُودٍ وَصَالِحٍ، وَفِي قِصَّةِ لُوطٍ وَشُعَيْبٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَرَسُولُنَا أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَكَانَ بِأَنْ لَا يَطْلُبَ الْأَجْرَ عَلَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ أَوْلَى الثَّانِي: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَّحَ بِنَفْيِ طَلَبِ الْأَجْرِ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ فَقَالَ: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ: 47] وقال: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86] الثَّالِثُ: الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّبْلِيغَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [الْمَائِدَةِ: 67] وَطَلَبُ الْأَجْرِ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ لَا يَلِيقُ بِأَقَلِّ النَّاسِ فَضْلًا عَنْ أَعْلَمِ الْعُلَمَاءِ الرَّابِعُ: أَنَّ النُّبُوَّةَ أَفْضَلُ مِنَ الْحِكْمَةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْحِكْمَةِ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَةِ: 269] وَقَالَ فِي صِفَةِ الدُّنْيَا قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ [النِّسَاءِ: 77] فَكَيْفَ يَحْسُنُ فِي الْعَقْلِ مُقَابَلَةُ أَشْرَفِ الْأَشْيَاءِ بِأَخَسِّ الْأَشْيَاءِ الْخَامِسُ: أَنَّ طَلَبَ الْأَجْرِ كَانَ يُوجِبُ التُّهْمَةَ، وَذَلِكَ يُنَافِي الْقَطْعَ بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ يَطْلُبَ أَجْرًا الْبَتَّةَ عَلَى التَّبْلِيغِ وَالرِّسَالَةِ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ طَلَبَ أَجْرًا عَلَى التَّبْلِيغِ وَالرِّسَالَةِ، وَهُوَ الْمَوَدَّةُ فِي الْقُرْبَى هَذَا تَقْرِيرُ السُّؤَالِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ طَلَبُ الْأَجْرِ عَلَى التَّبْلِيغِ وَالرِّسَالَةِ، بَقِيَ قَوْلُهُ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: وَلَا عَيْبَ فِيْهِمْ غَيْرَ أن سيوفهم ... بها من قراع الدار عين فُلُولُ الْمَعْنَى أَنَا لَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ إِلَّا هَذَا وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ أَجْرًا لِأَنَّ حُصُولَ الْمَوَدَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَمْرٌ وَاجِبٌ قَالَ تَعَالَى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التَّوْبَةِ: 71] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُونَ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» وَالْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ وَإِذَا كَانَ حُصُولُ الْمَوَدَّةِ بَيْنَ جمهور المسلمين واجبا

_ (1) للآية معنى بعيد عن كل هذه الإشكالات هو أن إنذار الرسول لهم ودعوته إلى أن يؤمنوا بالله ويتركوا عبادة الأوثان ليس إلا صلة قرابتهم منه، ولأنهم عشيرته، وإنما كان هذا في صدر الدعوة حين أمر بإنذار عشيرته الأقربين لأن القرابة تقتضي البر والعون فكأن الرسالة أجر القربى التي هي أهم من أن يكون قربى نسب أو جوار أو غيرهما وهو الأولى حض على مودة أولي القربى.

فَحُصُولُهَا فِي حَقِّ أَشْرَفِ الْمُسْلِمِينَ وَأَكَابِرِهِمْ أَوْلَى، وقوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى تَقْدِيرُهُ وَالْمَوَدَّةُ فِي الْقُرْبَى لَيْسَتْ أَجْرًا، فَرَجَعَ الْحَاصِلُ إِلَى أَنَّهُ لَا أَجْرَ الْبَتَّةَ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَتَمَّ الكلام عند قوله قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً. ثُمَّ قَالَ: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى أَيْ لَكِنْ أُذَكِّرُكُمْ قَرَابَتِي مِنْكُمْ وَكَأَنَّهُ فِي اللَّفْظِ أَجْرٌ وَلَيْسَ بِأَجْرٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: نَقَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَاتَ عَلَى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ/ مَاتَ شَهِيدًا أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ مَاتَ مَغْفُورًا لَهُ، أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ مَاتَ تَائِبًا، أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ مَاتَ مُؤْمِنًا مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ، أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ بَشَّرَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ بِالْجَنَّةِ ثُمَّ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ، أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ يُزَفُّ إِلَى الْجَنَّةِ كَمَا تُزَفُّ الْعَرُوسُ إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا، أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ فُتِحَ لَهُ فِي قَبْرِهِ بَابَانِ إِلَى الْجَنَّةِ، أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ جَعَلَ اللَّهُ قَبْرَهُ مَزَارَ مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ، أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ مَاتَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى بُغْضِ آلِ مُحَمَّدٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى بُغْضِ آلِ مُحَمَّدٍ مَاتَ كَافِرًا، أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى بُغْضِ آلِ مُحَمَّدٍ لَمْ يَشُمَّ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» هَذَا هُوَ الَّذِي رَوَاهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، وَأَنَا أَقُولُ: آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمُ الَّذِينَ يَؤُولُ أَمْرُهُمْ إِلَيْهِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَمْرُهُمْ إِلَيْهِ أَشَدَّ وَأَكْمَلَ كَانُوا هُمُ الْآلَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فَاطِمَةَ وَعَلِيًّا وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ كَانَ التَّعَلُّقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ التَّعَلُّقَاتِ وَهَذَا كَالْمَعْلُومِ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْآلَ، وَأَيْضًا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْآلِ فَقِيلَ هُمُ الْأَقَارِبُ وَقِيلَ هُمْ أُمَّتُهُ، فَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْقَرَابَةِ فَهُمُ الْآلُ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْأُمَّةِ الَّذِينَ قَبِلُوا دَعْوَتَهُ فَهُمْ أَيْضًا آلٌ فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ هُمُ الْآلُ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَهَلْ يَدْخُلُونَ تَحْتَ لَفْظِ الْآلِ؟ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَرَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ قَرَابَتُكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَجَبَتْ عَلَيْنَا مَوَدَّتُهُمْ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَابْنَاهُمَا، فَثَبَتَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ أَقَارِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا مَخْصُوصِينَ بِمَزِيدِ التَّعْظِيمِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مَا سَبَقَ الثَّانِي: لَا شَكَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يُؤْذِينِي مَا يُؤْذِيهَا» وَثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ عَلِيًّا وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى كُلِّ الْأُمَّةِ مِثْلُهُ لِقَوْلِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الْأَعْرَافِ: 158] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النُّورِ: 63] وَلِقَوْلِهِ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: 31] وَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الْأَحْزَابِ: 21] الثَّالِثُ: أَنَّ الدُّعَاءَ لِلْآلِ مَنْصِبٌ عَظِيمٌ وَلِذَلِكَ جُعِلَ هَذَا الدُّعَاءُ خَاتِمَةَ التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ قَوْلُهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآلَ مُحَمَّدٍ، وَهَذَا التَّعْظِيمُ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ غَيْرِ الْآلِ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُبَّ آلِ مُحَمَّدٍ وَاجِبٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَاكِبًا قِفْ بِالْمُحَصَّبِ مِنْ مِنًى ... وَاهْتِفْ بِسَاكِنِ خَيْفِهَا وَالنَّاهِضِ سَحَرًا إِذَا فَاضَ الْحَجِيجُ إِلَى مِنًى ... فَيْضًا كَمَا نَظْمِ الْفُرَاتِ الْفَائِضِ إِنْ كَانَ رَفْضًا حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ ... فليشهد الثقلان أنى رافضي المسألة الثالثة: قَوْلُهُ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فِيهِ مَنْصِبٌ عَظِيمٌ لِلصَّحَابَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَالسَّابِقُونَ

السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الْوَاقِعَةِ: 10] فَكُلُّ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ كَانَ مُقَرَّبًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَدَخَلَ/ تَحْتَ قَوْلِهِ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ حُبِّ آلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُبِّ أَصْحَابِهِ، وَهَذَا الْمَنْصِبُ لَا يَسْلَمُ إِلَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ حُبِّ الْعِتْرَةِ وَالصَّحَابَةِ، وَسَمِعْتُ بَعْضَ المذكرين قَالَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ أَهْلِ بَيْتِي كَمَثَلِ سَفِينَةِ نُوحٍ مَنْ رَكِبَ فِيهَا نَجَا» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» وَنَحْنُ الْآنَ فِي بَحْرِ التَّكْلِيفِ وَتَضْرِبُنَا أَمْوَاجُ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ وَرَاكِبُ الْبَحْرِ يَحْتَاجُ إِلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: السَّفِينَةُ الْخَالِيَةُ عَنِ الْعُيُوبِ وَالثَّقْبِ وَالثَّانِي: الْكَوَاكِبُ الظَّاهِرَةُ الطَّالِعَةُ النَّيِّرَةُ، فَإِذَا رَكِبَ تِلْكَ السَّفِينَةَ وَوَقَعَ نَظَرُهُ عَلَى تِلْكَ الْكَوَاكِبِ الظَّاهِرَةِ كَانَ رَجَاءُ السَّلَامَةِ غَالِبًا، فَكَذَلِكَ رَكِبَ أَصْحَابُنَا أَهْلُ السُّنَّةِ سَفِينَةَ حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ وَوَضَعُوا أَبْصَارَهُمْ عَلَى نُجُومِ الصَّحَابَةِ فَرَجَوْا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَفُوزُوا بِالسَّلَامَةِ وَالسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ: أَوْرَدَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : عَلَى نَفْسِهِ سُؤَالًا فَقَالَ: هَلَّا قِيلَ إِلَّا مَوَدَّةَ الْقُرْبَى، أَوْ إِلَّا مَوَدَّةً لِلْقُرْبَى، وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى؟ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ جَعَلُوا مَكَانًا لِلْمَوَدَّةِ وَمَقَرًّا لَهَا كَقَوْلِهِ لِي فِي آلِ فُلَانٍ مَوَدَّةٌ وَلِي فِيهِمْ هَوًى وَحُبٌّ شَدِيدٌ، تُرِيدُ أُحِبُّهُمْ وَهُمْ مَكَانُ حُبِّي وَمَحِلُّهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً قِيلَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ فِي أَيِّ حَسَنَةٍ كَانَتْ، إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا ذُكِرَتْ عَقِيبَ ذِكْرِ الْمَوَدَّةِ فِي الْقُرْبَى دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّأْكِيدُ فِي تِلْكَ الْمَوَدَّةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ وَالشَّكُورُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَجَازٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يُحْسِنُ إِلَى الْمُطِيعِينَ فِي إِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَيْهِمْ وَفِي أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ التَّفْضِيلِ. وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ إِنَّمَا ابْتُدِئَ فِي تَقْرِيرِ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ إِنَّمَا حَصَلَ بِوَحْيِ اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الشُّورَى: 3] وَاتَّصَلَ الْكَلَامُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى وَتَعَلَّقَ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ حتى وصل إلى هاهنا، ثم حكى هاهنا شُبْهَةَ الْقَوْمِ وَهِيَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ وَحْيًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَمْ مُنْقَطِعَةٌ، وَمَعْنَى الْهَمْزَةِ نَفْسُ التَّوْبِيخِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ وَيَجْرِي فِي أَلْسِنَتِهِمْ أَنْ يَنْسُبُوا مِثْلَهُ إِلَى الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ الَّذِي هُوَ أَقْبَحُ أَنْوَاعِ الْفِرْيَةِ وَأَفْحَشُهَا، ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ مُجَاهِدٌ يَرْبِطْ عَلَى قَلْبِكَ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ حَتَّى لَا يَشُقَّ عَلَيْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّهُ مُفْتَرٍ كَذَّابٌ وَالثَّانِي: يَعْنِي بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ إِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَجْعَلْكَ مِنَ الْمَخْتُومِ عَلَى قُلُوبِهِمْ حَتَّى يَفْتَرِيَ عَلَيْهِ الْكَذِبَ فَإِنَّهُ لَا يَجْتَرِئُ عَلَى افْتِرَاءِ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ إِلَّا مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَقْرِيرِ الِاسْتِبْعَادِ، وَمِثَالُهُ أَنْ يَنْسُبَ رَجُلٌ بَعْضَ الْأُمَنَاءِ إِلَى الْخِيَانَةِ فَيَقُولُ/ الْأَمِينُ، لَعَلَّ اللَّهَ خَذَلَنِي لَعَلَّ اللَّهَ أَعْمَى قَلْبِي، وَهُوَ لَا يُرِيدُ إِثْبَاتَ الْخِذْلَانِ وَعَمَى الْقَلْبِ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ اسْتِبْعَادَ صُدُورِ الْخِيَانَةِ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ أَيْ وَمِنْ عَادَةِ اللَّهِ إِبْطَالُ الْبَاطِلِ وَتَقْرِيرُ الْحَقِّ فَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ مُبْطِلًا كَذَّابًا لَفَضَحَهُ اللَّهُ وَلَكَشَفَ عَنْ بَاطِلِهِ وَلَمَا أَيَّدَهُ بِالْقُوَّةِ وَالنُّصْرَةِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ

لَيْسَ مِنَ الْكَاذِبِينَ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا وَعْدًا مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ بِأَنَّهُ يَمْحُو الْبَاطِلَ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَهْتِ وَالْفِرْيَةِ وَالتَّكْذِيبِ وَيُثْبِتُ الْحَقَّ الَّذِي كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَيْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا فِي صَدْرِكَ وَصُدُورِهِمْ فَيَجْرِي الْأَمْرُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ، وَعَنْ قَتَادَةَ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ يُنْسِيكَ الْقُرْآنَ وَيَقْطَعُ عَنْكَ الْوَحْيَ، بِمَعْنَى لَوِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَفَعَلَ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ثُمَّ بَرَّأَ رَسُولَهُ مِمَّا أَضَافُوهُ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا وَكَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَحَقُّوا بِهَذِهِ الْفِرْيَةِ عِقَابًا عَظِيمًا، لَا جَرَمَ نَدَبَهُمُ الله إلى التَّوْبَةِ وَعَرَّفَهُمْ أَنَّهُ يَقْبَلُهَا مِنْ كُلِّ مُسِيءٍ وَإِنْ عَظُمَتْ إِسَاءَتُهُ، فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يُقَالُ قَبِلْتُ مِنْهُ الشَّيْءَ وَقَبِلْتُهُ عَنْهُ، فَمَعْنَى قَبِلْتُهُ مِنْهُ أَخَذْتُهُ مِنْهُ وَجَعَلْتُهُ مَبْدَأَ قَبُولٍ وَمَنْشَأَهُ، وَمَعْنَى قَبِلْتُهُ عَنْهُ أَخَذْتُهُ وَأَثْبَتُّهُ عَنْهُ وَقَدْ سَبَقَ الْبَحْثُ الْمُسْتَقْصَى عَنْ حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَأَقَلُّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ النَّدَمُ عَلَى الْمَاضِي وَالتَّرْكُ فِي الْحَالِ وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَرَوَى جَابِرٌ أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ وَكَبَّرَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ لَهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَا هَذَا إِنَّ سُرْعَةَ اللِّسَانِ بِالِاسْتِغْفَارِ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ فَتَوْبَتُكَ تَحْتَاجُ إِلَى تَوْبَةٍ، فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا التَّوْبَةُ؟ فَقَالَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى سِتَّةِ أَشْيَاءَ عَلَى الْمَاضِي مِنَ الذُّنُوبِ النَّدَامَةُ وَلِتَضْيِيعِ الْفَرَائِضِ الْإِعَادَةُ وَرَدُّ الْمَظَالِمِ وَإِذَابَةُ النَّفْسِ فِي الطَّاعَةِ كَمَا رَبَّيْتَهَا فِي الْمَعْصِيَةِ وَإِذَاقَةُ النَّفْسِ مَرَارَةَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهَا حَلَاوَةَ الْمَعْصِيَةِ وَالْبُكَاءُ بَدَلُ كُلِّ ضَحِكٍ ضَحِكْتَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَقْلًا قَبُولُ التَّوْبَةِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ وَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ فَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ بِالْكَرَمِ وَالْفَضْلِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى تَمَدَّحَ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْقَبُولُ وَاجِبًا لَمَا حَصَلَ التَّمَدُّحُ الْعَظِيمُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ مَدَحَ نَفْسَهُ بِأَنْ لَا يَضْرِبَ النَّاسَ ظُلْمًا وَلَا يَقْتُلَهُمْ غَضَبًا، كَانَ ذَلِكَ مَدْحًا قَلِيلًا، أَمَّا إِذَا قَالَ إِنِّي أُحْسِنُ إِلَيْهِمْ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيَّ كَانَ ذَلِكَ مَدْحًا وَثَنَاءً. المسألة الثالثة: قوله تعالى: وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَعْفُوَ/ عَنِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِالتَّوْبَةِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ يَعْفُو عَنِ الصَّغَائِرِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ يَعْفُو عَنِ الْكَبَائِرِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ وَإِلَّا لَصَارَ قَوْلُهُ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ عَيْنَ قَوْلِهِ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ وَالتَّكْرَارُ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ وَأَدَاءُ الْوَاجِبِ لَا يُتَمَدَّحُ بِهِ فَبَقِيَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَارَةً يَعْفُو بِوَاسِطَةِ قَبُولِ التَّوْبَةِ وَتَارَةً يَعْفُو ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ. ثُمَّ قَالَ: وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالتَّاءِ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْمُغَايَبَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُهُ فَيُثِيبُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ وَيُعَاقِبُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: الَّذِينَ

[سورة الشورى (42) : الآيات 27 إلى 31]

آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ رُفِعَ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ تَقْدِيرُهُ وَيُجِيبُ الْمُؤْمِنُونَ اللَّهَ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: مَحَلُّهُ نَصْبٌ وَالْفَاعِلُ مُضْمَرٌ وَهُوَ اللَّهُ وَتَقْدِيرُهُ، وَيَسْتَجِيبُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ اللَّامُ كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ وَإِذا كالُوهُمْ [الْمُطَفِّفِينَ: 3] وَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّ الْخَبَرَ فِيمَا قَبْلُ وَبَعْدُ عَنِ اللَّهِ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَمَا بَعْدَهَا قَوْلُهُ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ فيزيد عُطِفَ عَلَى وَيَسْتَجِيبُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ وَيُجِيبُ الْعَبْدَ وَيَزِيدُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. أَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّ الْفِعْلَ لِلَّذِينِ آمَنُوا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَيُجِيبُ الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَالثَّانِي: يُطِيعُونَهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَالِاسْتِجَابَةُ الطَّاعَةُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّ الْفِعْلَ لِلَّهِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ يُجِيبُ اللَّهُ دُعَاءَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَزِيدُهُمْ مَا طَلَبُوهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنْ قَالُوا تَخْصِيصُ الْمُؤْمِنِينَ بِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ هَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُجِيبُ دُعَاءَ الْكُفَّارِ؟ قُلْنَا قَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ إِجَابَةَ الدُّعَاءِ تَعْظِيمٌ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْكُفَّارِ، وَقِيلَ يَجُوزُ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَفَائِدَةُ التَّخْصِيصِ أَنَّ إِجَابَةَ دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ تَكُونُ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ، وَإِجَابَةُ دُعَاءِ الْكَافِرِينَ تَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْرَاجِ، ثُمَّ قَالَ: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ يَزِيدُهُمْ عَلَى مَا طَلَبُوهُ بِالدُّعَاءِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالْمَقْصُودُ التَّهْدِيدُ. [سورة الشورى (42) : الآيات 27 الى 31] وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: إِنَّهُ يُجِيبُ دُعَاءَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَدَ عَلَيْهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يَكُونُ فِي شِدَّةٍ وَبَلِيَّةٍ وَفَقْرٍ ثُمَّ يَدْعُو فَلَا يُشَاهِدُ أَثَرَ الْإِجَابَةِ فَكَيْفَ الْحَالُ فِيهِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا؟ فَأَجَابَ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ أَيْ وَلَأَقْدَمُوا عَلَى الْمَعَاصِي، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَحْذُورًا وَجَبَ أَنْ لَا يُعْطِيَهُمْ مَا طَلَبُوهُ، قَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أن حاصل الكلام أنه تعالى: لو بسط الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَالْبَغْيُ فِي الْأَرْضِ غَيْرُ مُرَادٍ فَإِرَادَةُ بَسْطِ الرِّزْقِ غَيْرُ حَاصِلَةٍ، فَهَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْبَغْيَ فِي الْأَرْضِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ فَسَادَ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يُرِدْ بَسْطَ الرِّزْقِ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْمَفْسَدَةِ فَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ مَا يُفْضِي إِلَى الْمَفْسَدَةِ فَبِأَنْ لَا يَكُونَ مُرِيدًا لِلْمَفْسَدَةِ كَانَ أَوْلَى، أَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْمَيْلَ الشَّدِيدَ إِلَى الْبَغْيِ وَالْقَسْوَةِ وَالْقَهْرِ صِفَةٌ حَدَثَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ فَاعِلٍ، وَفَاعِلُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ إِمَّا الْعَبْدُ أَوِ اللَّهُ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَوْ مَالَ طَبْعُهُ إِلَيْهَا فَيَعُودُ السُّؤَالُ فِي أَنَّهُ مَنِ الْمُحْدِثِ لِذَلِكَ الْمِيلِ الثَّانِي؟ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَأَيْضًا فَالْمَيْلُ الشَّدِيدُ إِلَى الظُّلْمِ وَالْقَسْوَةِ عُيُوبٌ وَنُقْصَانَاتٌ، وَالْعَاقِلُ لَا يَرْضَى بِتَحْصِيلِ مُوجِبَاتِ النُّقْصَانِ لِنَفْسِهِ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّ مُحْدِثَ هَذَا الْمَيْلِ وَالرَّغْبَةِ هُوَ اللَّهُ

تَعَالَى، ثُمَّ أَوْرَدَ الْجُبَّائِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَلَى نَفْسِهِ سُؤَالًا قَالَ: فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ قَدْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِبَعْضِ عِبَادِهِ مَعَ أَنَّهُ بَغَى؟ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الَّذِي عِنْدَهُ الرِّزْقُ وَبَغَى كَانَ الْمَعْلُومُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَبْغِي عَلَى كُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ أُعْطِي ذَلِكَ الرِّزْقَ أَوْ لَمْ يُعْطَ، وَأَقُولُ هَذَا الْجَوَابُ فَاسِدٌ وَيَدُلْ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْعَقْلُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [الْعَلَقِ: 6، 7] حَكَمَ مُطْلَقًا بِأَنَّ حُصُولَ الْغِنَى سَبَبٌ لِحُصُولِ الطُّغْيَانِ. وَأَمَّا الْعَقْلُ فَهُوَ أَنَّ النَّفْسَ إِذَا كَانَتْ مَائِلَةً إِلَى الشَّرِّ لَكِنَّهَا كَانَتْ فَاقِدَةً لِلْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ كَانَ الشَّرُّ أَقَلَّ، وَإِذَا كَانَتْ وَاجِدَةً لَهَا كَانَ الشَّرُّ أَكْثَرَ، فَثَبَتَ أَنَّ وِجْدَانَ الْمَالِ يُوجِبُ الطُّغْيَانَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي بَيَانِ الْوَجْهِ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ التَّوَسُّعُ مُوجِبًا لِلطُّغْيَانِ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ سَوَّى فِي الرِّزْقِ بَيْنَ الْكُلِّ لَامْتَنَعَ كَوْنُ الْبَعْضِ خَادِمًا لِلْبَعْضِ وَلَوْ صَارَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَخَرِبَ الْعَالَمُ وَتَعَطَّلَتِ الْمَصَالِحُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْعَرَبِ فَإِنَّهُ كُلَّمَا اتَّسَعَ رِزْقُهُمْ وَوَجَدُوا مِنَ الْمَطَرِ مَا يَرْوِيهِمْ وَمِنَ الْكَلَأِ وَالْعُشْبِ مَا يُشْبِعُهُمْ أَقْدَمُوا عَلَى النَّهْبِ وَالْغَارَةِ الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ مُتَكَبِّرٌ بِالطَّبْعِ فَإِذَا وَجَدَ الْغِنَى وَالْقُدْرَةَ عَادَ إِلَى مُقْتَضَى خِلْقَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَهُوَ التَّكَبُّرُ، وَإِذَا وَقَعَ فِي شِدَّةٍ وَبَلِيَّةٍ وَمَكْرُوهٍ انْكَسَرَ فَعَادَ إِلَى الطَّاعَةِ وَالتَّوَاضُعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَذَلِكَ أَنَّا نَظَرْنَا إِلَى أَمْوَالِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ فَتَمَنَّيْنَاهَا، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ تَمَنَّوْا سَعَةَ الرِّزْقِ وَالْغِنَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو يُنَزِّلُ خَفِيفَةً وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، ثُمَّ نَقُولُ بِقَدَرٍ بِتَقْدِيرٍ يُقَالُ قَدَرَهُ قَدْرًا وَقَدَرًا إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ يَعْنِي أَنَّهُ عَالِمٌ بِأَحْوَالِ النَّاسِ وَبِطِبَاعِهِمْ وَبِعَوَاقِبِ أُمُورِهِمْ فَيُقَدِّرُ أَرْزَاقَهُمْ عَلَى وَفْقِ مَصَالِحِهِمْ، وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُعْطِيهِمْ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِمْ لِأَجْلِ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ تَضُرُّهُمْ فِي دِينِهِمْ بَيَّنَ أَنَّهُمْ إِذَا احْتَاجُوا إِلَى الرِّزْقِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْهُ فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ يُنَزِّلُ مُشَدَّدَةً وَالْبَاقُونَ مُخَفَّفَةً، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ قَنَطُوا بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا، وَإِنْزَالُ الْغَيْثِ بَعْدَ الْقُنُوطِ أَدْعَى إِلَى الشُّكْرِ لِأَنَّ الْفَرَحَ بِحُصُولِ النِّعْمَةِ بَعْدَ الْبَلِيَّةِ أَتَمُّ، فَكَانَ إِقْدَامُ صَاحِبِهِ عَلَى الشُّكْرِ أَكْثَرَ وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ أَيْ بَرَكَاتِ الْغَيْثِ وَمَنَافِعَهُ وَمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الْخِصْبِ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ «اشْتَدَّ الْقَحْطُ وَقَنِطَ النَّاسُ فَقَالَ: إِذَنْ مُطِرُوا» أَرَادَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ رَحْمَتَهُ الْوَاسِعَةَ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَأَنَّهُ قِيلَ يُنَزِّلُ الرَّحْمَةَ الَّتِي هِيَ الْغَيْثُ وَيَنْشُرُ سَائِرَ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ الْوَلِيُّ الَّذِي يتولى عباده بإحسانه والحميد الْمَحْمُودُ عَلَى مَا يُوَصِّلُ لِلْخَلْقِ مِنْ أَقْسَامِ الرَّحْمَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ آيَةً أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى إِلَهِيَّتِهِ فَقَالَ: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ فَنَقُولُ: أَمَّا دلالة خلق السموات وَالْأَرْضِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْحَكِيمِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا وَكَذَلِكَ دَلَالَةُ وُجُودِ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْحَكِيمِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ إِطْلَاقُ لَفْظِ الدَّابَّةِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَدْ يُضَافُ الْفِعْلُ إِلَى جَمَاعَةٍ وَإِنْ كَانَ فَاعِلُهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ يُقَالُ بَنُو فُلَانٍ فَعَلُوا كَذَا، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرَّحْمَنِ: 22] الثَّانِي: أَنَّ الدَّبِيبَ هُوَ الْحَرَكَةُ، وَالْمَلَائِكَةُ لَهُمْ حَرَكَةٌ الثَّالِثُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تعالى خلق في السموات أَنْوَاعًا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ يَمْشُونَ مَشْيَ الْأَنَاسِيِّ عَلَى الْأَرْضِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِذَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ كَمَا

تَدْخُلُ عَلَى الْمَاضِي، قَالَ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [اللَّيْلِ: 1] وَمِنْهُ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا مُتَفَرِّقَةً، لَا لِعَجْزٍ وَلَكِنْ لِمَصْلَحَةٍ، فَلِهَذَا قَالَ: وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ يَعْنِي الْجَمْعَ/ لِلْحَشْرِ وَالْمُحَاسَبَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: عَلى جَمْعِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ عَلَى جَمْعِهَا، لِأَجْلِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْجَمْعِ الْمُحَاسَبَةُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَهُوَ عَلَى جَمْعِ الْعُقَلَاءِ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ، وَاحْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِقَوْلِهِ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ عَلَى أَنَّ مَشِيئَتَهُ تَعَالَى مُحْدَثَةٌ بِأَنْ قَالَ: إِنَّ كَلِمَةَ إِذا تُفِيدُ ظَرْفَ الزَّمَانِ، وَكَلِمَةُ يَشاءُ صِيغَةُ الْمُسْتَقْبَلِ، فَلَوْ كَانَتْ مَشِيئَتُهُ تَعَالَى قَدِيمَةً لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهَا بِذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ فَائِدَةٌ، وَلَمَّا دَلَّ قَوْلُهُ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ عَلِمْنَا أَنَّ مَشِيئَتَهُ تَعَالَى مُحْدَثَةٌ وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ كَمَا دَخَلَتَا عَلَى الْمَشِيئَةِ، أَيْ مَشِيئَةِ اللَّهِ، فَقَدْ دَخَلَتَا أَيْضًا عَلَى لَفْظِ الْقَدِيرِ فَلَزِمَ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُ قَادِرًا صِفَةً مُحْدَثَةً، وَلَمَّا كَانَ هَذَا بَاطِلًا، فَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا ذَكَرَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِمَا كَسَبَتْ بِغَيْرِ فَاءٍ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مَصَاحِفِ الشَّامِ وَالْمَدِينَةِ، وَالْبَاقُونَ بِالْفَاءِ وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مَصَاحِفِهِمْ، وَتَقْدِيرُ الأول أن ما مبتدأ بمعنى الذي، وبما كَسَبَتْ خَبَرُهُ، وَالْمَعْنَى وَالَّذِي أَصَابَكُمْ وَقَعَ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَتَقْدِيرُ الثَّانِي تَضْمِينُ كَلِمَةِ: مَا مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْمَصَائِبِ الْأَحْوَالُ الْمَكْرُوهَةُ نَحْوَ الْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ وَالْقَحْطِ وَالْغَرَقِ وَالصَّوَاعِقِ وَأَشْبَاهِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي نَحْوِ الْآلَامِ أَنَّهَا هَلْ هِيَ عُقُوبَاتٌ عَلَى ذُنُوبٍ سَلَفَتْ أَمْ لَا؟ مِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [غَافِرٍ: 17] بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَةِ: 4] أَيْ يَوْمِ الْجَزَاءِ، وَأَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ مَصَائِبَ الدُّنْيَا يَشْتَرِكُ فِيهَا الزِّنْدِيقُ وَالصِّدِّيقُ، وَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ جَعْلُهُ مِنْ بَابِ الْعُقُوبَةِ عَلَى الذُّنُوبِ، بَلِ الِاسْتِقْرَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الْمَصَائِبِ لِلصَّالِحِينَ وَالْمُتَّقِينَ أَكْثَرُ مِنْهُ لِلْمُذْنِبِينَ، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُصَّ الْبَلَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ الْأَوْلِيَاءِ، ثُمَّ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ» الثَّالِثُ: أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ التَّكْلِيفِ، فَلَوْ جُعِلَ الْجَزَاءُ فِيهَا لَكَانَتِ الدُّنْيَا دَارَ التَّكْلِيفِ وَدَارَ الْجَزَاءِ مَعًا، وَهُوَ مُحَالٌ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَصَائِبَ قَدْ تَكُونُ أَجْزِيَةً عَلَى الذُّنُوبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَقَدْ تمسكوا أيضا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن قَالَ: «لَا يُصِيبُ ابْنُ آدَمَ خَدْشُ عُودٍ وَلَا غَيْرُهُ إِلَّا بِذَنْبٍ أَوْ لَفْظٌ» هَذَا مَعْنَاهُ وَتَمَسَّكُوا أَيْضًا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَتَمَسَّكُوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ [النِّسَاءِ: 160] وَتَمَسَّكُوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا [الشُّورَى: 34] وَذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ ذَلِكَ الْإِهْلَاكَ كَانَ بِسَبَبِ كَسْبِهِمْ، وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنِ التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالُوا إِنَّ حُصُولَ هَذِهِ الْمَصَائِبِ يَكُونُ مِنْ بَابِ الِامْتِحَانِ فِي التَّكْلِيفِ، لَا مِنْ بَابِ الْعُقُوبَةِ كَمَا فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ/ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَحَ عِنْدَ إِتْيَانِكُمْ بِذَلِكَ الْكَسْبِ إِنْزَالُ هَذِهِ الْمَصَائِبِ عَلَيْكُمْ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ بَقِيَّةِ الدَّلَائِلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَهْلُ التَّنَاسُخِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ الْأَطْفَالَ وَالْبَهَائِمَ لَا تَتَأَلَّمُ، فَقَالُوا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْمَصَائِبِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِسَابِقَةِ الْجُرْمِ، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ التَّنَاسُخِ قَالُوا: لَكِنَّ هَذِهِ الْمَصَائِبَ حَاصِلَةٌ لِلْأَطْفَالِ وَالْبَهَائِمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ لَهَا ذُنُوبٌ فِي الزَّمَانِ السَّابِقِ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَطْفَالَ

[سورة الشورى (42) : الآيات 32 إلى 39]

وَالْبَهَائِمَ لَيْسَ لَهَا أَلَمٌ قَالُوا قَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْأَطْفَالَ وَالْبَهَائِمَ مَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي بَدَنٍ آخَرَ لِفَسَادِ الْقَوْلِ بِالتَّنَاسُخِ فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهَا لَا تَتَأَلَّمُ إِذِ الْأَلَمُ مُصِيبَةٌ وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ خِطَابٌ مَعَ مَنْ يَفْهَمُ وَيَعْقِلُ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْبَهَائِمُ وَالْأَطْفَالُ، وَلَمْ يَقُلْ تَعَالَى: إِنَّ جَمِيعَ مَا يُصِيبُ الْحَيَوَانَ مِنَ الْمَكَارِهِ فَإِنَّهُ بِسَبَبِ ذَنْبٍ سَابِقٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ يَقْتَضِي إِضَافَةَ الْكَسْبِ إِلَى الْيَدِ، قَالَ وَالْكَسْبُ لَا يَكُونُ بِالْيَدِ، بَلْ بِالْقُدْرَةِ الْقَائِمَةِ بِالْيَدِ، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ الْيَدِ هاهنا الْقُدْرَةَ، وَكَانَ هَذَا الْمَجَازُ مَشْهُورًا مُسْتَعْمَلًا، كَانَ لَفْظُ الْيَدِ الْوَارِدُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْقُدْرَةِ تَنْزِيهًا لِلَّهِ تَعَالَى عَنِ الْأَعْضَاءِ وَالْأَجْزَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تعالى: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَتْرُكُ الْكَثِيرَ مِنْ هَذِهِ التَّشْدِيدَاتِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي الْوَجَعِ الشَّدِيدِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّا لَنَغْتَمُّ لَكَ مِنْ بَعْضِ مَا نَرَى، فَقَالَ لَا تفعلوا فو الله إِنَّ أَحَبَّهُ إِلَى اللَّهِ أَحَبُّهُ إِلَيَّ، وَقَرَأَ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فَهَذَا بِمَا كَسَبَتْ يَدَايَ، وَسَيَأْتِينِي عَفْوُ رَبِّي، وَقَدْ رَوَى أَبُو سَخْلَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وقال: «ما عفى اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ أَعَزُّ وَأَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَمَا عَاقَبَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُعِيدَ الْعَذَابَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ» رَوَاهُ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» ، وَقَالَ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ ذُنُوبَ الْمُؤْمِنِينَ صِنْفَيْنِ: صِنْفٌ كَفَّرَهُ عَنْهُمْ بِالْمَصَائِبِ فِي الدُّنْيَا، وَصِنْفٌ عَفَا عَنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ كَرِيمٌ لَا يَرْجِعُ فِي عَفْوِهِ، وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فلأنه لا يجعل عَلَيْهِ عُقُوبَةَ ذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ يَقُولُ مَا أَنْتُمْ مَعْشَرَ الْمُشْرِكِينَ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ لَا تُعْجِزُونَنِي حَيْثُمَا كُنْتُمْ، فَلَا تَسْبِقُونَنِي بِسَبَبِ هَرَبِكُمْ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ والمراد بهم مَنْ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، بَيَّنَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهَا الْبَتَّةَ، وَالنَّصِيرُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا جرم هو الذي تحسن عبادته. [سورة الشورى (42) : الآيات 32 الى 39] وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)

[في قوله تعالى وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو الْجَوَارِي بِيَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ، فَإِثْبَاتُ الْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ وَحَذْفُهَا لِلتَّخْفِيفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْجَوَارِي، يَعْنِي السُّفُنَ الْجَوَارِيَ، فَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ لِعَدَمِ الِالْتِبَاسِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ آيَاتِهِ أَيْضًا هَذِهِ السُّفُنَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي تَجْرِي عَلَى وَجْهِ الْبَحْرِ عِنْدَ هُبُوبِ الرِّيَاحِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِهِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى وُجُودِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ وَالثَّانِي: أَنْ يُعَرِّفَ مَا فِيهِ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَعْلَامِ الْجِبَالُ، قَالَتِ الْخَنْسَاءُ فِي مَرْثِيَّةِ أَخِيهَا: وَإِنَّ صخرا لتأتم لهداة بِهِ ... كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارُ وَنُقِلَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنْشَدَ قَصِيدَتَهَا هَذِهِ فَلَمَّا وَصَلَ الرَّاوِي إِلَى هَذَا الْبَيْتِ، قَالَ: «قَاتَلَهَا اللَّهُ مَا رَضِيَتْ بِتَشْبِيهِهَا لَهُ بِالْجَبَلِ حَتَّى جَعَلَتْ عَلَى رَأْسِهِ نَارًا!» إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذِهِ السُّفُنُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي تَكُونُ كَالْجِبَالِ تَجْرِي عَلَى وَجْهِ الْبَحْرِ عِنْدَ هُبُوبِ الرِّيَاحِ عَلَى أَسْرَعِ الْوُجُوهِ، وَعِنْدَ سُكُونِ هَذِهِ الرِّيَاحِ تَقِفُ، وَقَدْ بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، أَنَّ مُحَرِّكَ الرِّيَاحِ وَمُسْكِنَهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، إِذْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى تَحْرِيكِهَا مِنَ الْبَشَرِ وَلَا عَلَى تَسْكِينِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ، وَأَيْضًا أَنَّ السَّفِينَةَ تَكُونُ فِي غَايَةِ الثِّقَلِ، ثُمَّ إِنَّهَا مَعَ ثِقَلِهَا بَقِيَتْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَهُوَ أَيْضًا دَلَالَةٌ أُخْرَى وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَعْرِفَةُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ، فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ كُلَّ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ الْأَرْضِ بِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْأَمْتِعَةِ، وَإِذَا نُقِلَ مَتَاعُ هَذَا الْجَانِبِ إِلَى ذَلِكَ الْجَانِبِ فِي السُّفُنِ وَبِالْعَكْسِ حَصَلَتِ الْمَنَافِعُ الْعَظِيمَةُ فِي التِّجَارَةِ، فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَ هَذِهِ السَّفِينَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْجُمْهُورُ: بِهَمْزَةٍ إِنْ يَشَأْ لِأَنَّ سُكُونَ الْهَمْزَةِ عَلَامَةٌ لِلْجَزْمِ، وَعَنْ وِرَشٍ عَنْ نَافِعٍ بِلَا هَمْزَةٍ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ يُسْكِنِ الرِّيَاحَ عَلَى الْجَمْعِ، وَالْبَاقُونَ الرِّيحَ عَلَى الْوَاحِدِ، قَالَ صاحب «الكشاف» : قرئ فَيَظْلَلْنَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا مِنْ ظَلَّ يَظَلُّ وَيَظِلُّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: رَواكِدَ أَيْ رَوَاتِبَ، أَيْ لَا تَجْرِي عَلَى ظَهْرِهِ، أَيْ عَلَى ظَهْرِ الْبَحْرِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ عَلَى بَلَاءِ اللَّهِ شَكُورٍ لِنَعْمَائِهِ، وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ، عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ غَافِلًا عَنْ دَلَائِلِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ الْبَتَّةَ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ إِمَّا فِي الْبَلَاءِ، وَإِمَّا فِي الْآلَاءِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَاءِ كَانَ من الصابرين، وإن كان من النَّعْمَاءِ كَانَ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ الْبَتَّةَ مِنَ الْغَافِلِينَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا يَعْنِي أَوْ يُهْلِكْهُنَّ، يُقَالُ أَوْبَقَهُ، أَيْ أَهْلَكَهُ، وَيُقَالُ لِلْمُجْرِمِ أَوْبَقَتْهُ ذُنُوبُهُ، أَيْ أَهْلَكَتْهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنْ شَاءَ ابْتَلَى الْمُسَافِرِينَ فِي الْبَحْرِ بِإِحْدَى بَلِيَّتَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُسْكِنَ الرِّيحَ فَتَرْكُدَ الْجَوَارِي عَلَى مَتْنِ الْبَحْرِ وَتَقِفُ، وَإِمَّا أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ عَاصِفَةً فِيهَا فَيَهْلِكْنَ بِسَبَبِ الْإِغْرَاقِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ أَوْ يُوبِقْهُنَّ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ يُسْكِنِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَرْكُدْنَ، أَوْ يَعْصِفْهَا فَيَغْرَقْنَ بِعَصْفِهَا، وقوله ويعفوا عَنْ كَثِيرٍ مَعْنَاهُ إِنْ يَشَأْ يُهْلِكْ نَاسًا وَيُنْجِ نَاسًا عَنْ طَرِيقِ الْعَفْوِ عَنْهُمْ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى إِدْخَالِ الْعَفْوِ فِي حُكْمِ الْإِيبَاقِ حَيْثُ جُعِلَ مَجْزُومًا مِثْلَهُ، قُلْنَا مَعْنَاهُ إِنْ يَشَأْ يُهْلِكْ نَاسًا وَيُنْجِ نَاسًا عَلَى

طريق العفو عنهم، وأما من قرأ ويعفوا فَقَدِ اسْتَأْنَفَ الْكَلَامَ. ثُمَّ قَالَ: وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: يَعْلَمُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ، فَالْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَأَمَّا بِالنَّصْبِ فَلِلْعَطْفِ عَلَى/ تَعْلِيلِ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ لِيَنْتَقِمَ مِنْهُمْ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا وَالْعَطْفُ عَلَى التَّعْلِيلِ الْمَحْذُوفِ غَيْرُ عَزِيزٍ فِي الْقُرْآنِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [مريم: 21] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الْجَاثِيَةِ: 22] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَمَنْ قَرَأَ عَلَى جَزْمِ وَيَعْلَمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَوْ إِنْ يَشَأْ، يَجْمَعُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: هَلَاكِ قَوْمٍ، وَنَجَاةِ قَوْمٍ، وَتَحْذِيرِ آخَرِينَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ مَعْنَى الْآيَةِ وليعلم الَّذِينَ يُجَادِلُونَ أَيْ يُنَازِعُونَ عَلَى وَجْهِ التَّكْذِيبِ، أَنْ لَا مَخْلَصَ لَهُمْ إِذَا وَقَفَتِ السُّفُنُ، وَإِذَا عَصَفَتِ الرِّيَاحُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِاعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّ الْإِلَهَ النَّافِعَ الضَّارَّ لَيْسَ إِلَّا اللَّهَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ أَرْدَفَهَا بِالتَّفْسِيرِ عَنِ الدُّنْيَا وَتَحْقِيرِ شَأْنِهَا، لِأَنَّ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الدَّلِيلِ إِنَّمَا هُوَ الرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ الرِّيَاسَةِ وَطَلَبِ الْجَاهِ، فَإِذَا صَغُرَتِ الدُّنْيَا فِي عَيْنِ الرَّجُلِ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، فَحِينَئِذٍ يَنْتَفِعُ بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ، فَقَالَ: فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَسَمَّاهُ مَتَاعًا تَنْبِيهًا عَلَى قِلَّتِهِ وَحَقَارَتِهِ، وَلِأَنَّ الْحِسَّ شَاهِدٌ بِأَنَّ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَكُونُ سَرِيعَ الِانْقِرَاضِ وَالِانْقِضَاءِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى وَالْمَعْنَى أَنَّ مَطَالِبَ الدُّنْيَا خَسِيسَةٌ مُنْقَرِضَةٌ، وَنَبَّهَ عَلَى خَسَاسَتِهَا بِتَسْمِيَتِهَا بِالْمَتَاعِ، وَنَبَّهَ عَلَى انْقِرَاضِهَا بِأَنْ جَعَلَهَا مِنَ الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَإِنَّهَا خَيْرٌ وَأَبْقَى، وَصَرِيحُ الْعَقْلِ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الْخَيْرِ الْبَاقِي عَلَى الْخَسِيسِ الْفَانِي، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِمَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِصِفَاتٍ: الصِّفَةُ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ آمَنُوا. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الطَّاعَةَ تُوجِبُ الثَّوَابَ، فَهُوَ مُتَّكِلٌ عَلَى عَمَلِ نَفْسِهِ لَا عَلَى اللَّهِ، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْآيَةِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونُوا مُجْتَنِبِينَ لِكَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَبِيرُ الْإِثْمِ، هُوَ الشِّرْكُ، نَقَلَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَهُوَ عِنْدِي بَعِيدٌ، لِأَنَّ شَرْطَ الْإِيمَانِ مَذْكُورٌ أَوَّلًا وَهُوَ يُغْنِي عَنْ عَدَمِ الشِّرْكِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِكَبَائِرِ الْإِثْمِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبِدَعِ وَاسْتِخْرَاجِ الشُّبُهَاتِ، وَبِالْفَوَاحِشِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ، وَبِقَوْلِهِ وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْغَضَبَ بِلَفْظِ الْغُفْرَانِ، لِأَنَّ الْغَضَبَ عَلَى طَبْعِ النَّارِ، وَاسْتِيلَاؤُهُ شَدِيدٌ وَمُقَاوَمَتُهُ صَعْبَةٌ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَصَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَمَامُ الِانْقِيَادِ، فَإِنْ قَالُوا أَلَيْسَ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْإِيمَانَ شَرْطًا فِيهِ فَقَدْ دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ إِجَابَةُ اللَّهِ؟ قُلْنَا الْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى الرِّضَاءِ بِقَضَاءِ اللَّهِ مِنْ صَمِيمِ الْقَلْبِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ فِي قَلْبِهِ مُنَازَعَةٌ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ. وَلَمَّا ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ قَالَ: وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ إِقَامَةُ الصَّلَوَاتِ الْوَاجِبَةِ، لِأَنَّ هَذَا هُوَ/ الشَّرْطُ فِي حُصُولِ الثَّوَابِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ فَقِيلَ كَانَ إِذَا وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ وَاقِعَةٌ اجْتَمَعُوا وَتَشَاوَرُوا فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ، أَيْ لَا يَنْفَرِدُونَ بِرَأْيٍ بَلْ مَا لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَيْهِ لَا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: مَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ إِلَّا هدوا

[سورة الشورى (42) : الآيات 40 إلى 46]

لِأَرْشَدِ أَمْرِهِمْ، وَالشُّورَى مَصْدَرٌ كَالْفُتْيَا بِمَعْنَى التَّشَاوُرِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ أَيْ ذُو شُورَى. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَالْمَعْنَى أَنْ يَقْتَصِرُوا فِي الِانْتِصَارِ عَلَى مَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ لَهُمْ وَلَا يَتَعَدَّوْنَهُ، وَعَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَهَا قَالَ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُذِلُّوا أَنْفُسَهُمْ فَيَجْتَرِئَ عَلَيْهِمُ السُّفَهَاءُ، فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْآيَةُ مُشْكِلَةٌ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ قَبْلَهُ وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ فَكَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يُذْكَرَ مَعَهُ مَا يَجْرِي مَجْرَى الضِّدِّ لَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ؟ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ جَمِيعَ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعَفْوَ أَحْسَنُ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْبَقَرَةِ: 237] وَقَالَ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفُرْقَانِ: 72] وَقَالَ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الْأَعْرَافِ: 199] وَقَالَ وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النَّحْلِ: 126] فَهَذِهِ الْآيَاتُ تُنَاقِضُ مَدْلُولَ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعَفْوَ عَلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْعَفْوُ سَبَبًا لِتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ وَجِنَايَةِ الْجَانِي وَرُجُوعِهِ عَنْ جِنَايَتِهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَصِيرَ الْعَفْوُ سَبَبًا لمزيد جراءة الجاني ولقوة غيظه وغضبه، والآيات فِي الْعَفْوِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْقِسْمِ الثَّانِي، وَحِينَئِذٍ يَزُولُ التَّنَاقُضُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْمُصِرِّ يَكُونُ كَالْإِغْرَاءِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ عَبْدَهَ فَجَرَ بِجَارِيَتِهِ وَهُوَ مُصِرٌّ فَلَوْ عَفَا عَنْهُ كَانَ مَذْمُومًا، وَرُوِيَ أَنَّ زَيْنَبَ أَقْبَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ فَشَتَمَتْهَا فَنَهَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فَلَمْ تَنْتَهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دُونَكِ فَانْتَصِرِي» وَأَيْضًا إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرَغِّبْ فِي الِانْتِصَارِ بَلْ بَيَّنَ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ فَقَطْ، ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَهُ أَنَّ شَرْعَهُ مَشْرُوطٌ بِرِعَايَةِ الْمُمَاثَلَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْعَفْوَ أَوْلَى بِقَوْلِهِ فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فَزَالَ السؤال والله أعلم. [سورة الشورى (42) : الآيات 40 الى 46] وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشُّورَى: 39] أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِانْتِصَارَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِالْمِثْلِ فَإِنَّ النُّقْصَانَ حَيْفٌ وَالزِّيَادَةَ ظُلْمٌ وَالتَّسَاوِيَ هُوَ العدل وبه قامت السموات وَالْأَرْضُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ جَزَاءُ السَّيِّئَةِ مَشْرُوعٌ مَأْذُونٌ فِيهِ، فَكَيْفَ سُمِّيَ بِالسَّيِّئَةِ؟ أَجَابَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : عَنْهُ كِلْتَا الْفِعْلَتَيْنِ الْأُولَى وَجَزَاؤُهَا سَيِّئَةٌ لِأَنَّهَا تَسُوءُ مَنْ تَنْزِلُ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ

يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ [النِّسَاءِ: 78] يُرِيدُ مَا يَسُوءُهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالْبَلَايَا، وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ أَحَدَهُمَا فِي مُقَابَلَةِ الْآخَرِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ أُطْلِقَ اسْمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، والحق ما ذكره صاحب «الكشاف» . المسألة الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ فَإِنَّ مُقْتَضَاهَا أَنْ تُقَابَلَ كُلُّ جِنَايَةٍ بِمِثْلِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِهْدَارَ يُوجِبُ فَتْحَ بَابِ الشَّرِّ وَالْعُدْوَانِ، لِأَنَّ فِي طَبْعِ كُلِّ أَحَدٍ الظُّلْمَ وَالْبَغْيَ وَالْعُدْوَانَ، فَإِذَا لَمْ يُزْجَرْ عَنْهُ أَقْدَمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتْرُكْهُ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ فَهُوَ ظُلْمٌ وَالشَّرْعُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَابَلَ بِالْمِثْلِ، ثُمَّ تَأَكَّدَ هَذَا النَّصُّ بِنُصُوصٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النَّحْلِ: 126] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [غَافِرٍ: 40] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ/ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [الْبَقَرَةِ: 178] وَالْقِصَاصُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُسَاوَاةِ وَالْمُمَاثَلَةِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [الْمَائِدَةِ: 45] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [الْبَقَرَةِ: 179] فَهَذِهِ النُّصُوصُ بِأَسْرِهَا تَقْتَضِي مُقَابَلَةَ الشيء بمثله. ثم هاهنا دَقِيقَةٌ: وَهِيَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ إِلَّا بِاسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ فَهَهُنَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ إِلْحَاقِ زِيَادَةِ الضَّرَرِ بِالْجَانِي وَبَيْنَ مَنْعِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، فَأَيُّهُمَا أَوْلَى؟ فَهَهُنَا مَحَلُّ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الصُّوَرِ، وَتَفَرَّعَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ بَعْضُ الْمَسَائِلِ تَنْبِيهًا عَلَى الْبَاقِي. الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ وَأَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ، بِأَنْ قَالَ الْمُمَاثَلَةُ شَرْطٌ لِجَرَيَانِ الْقِصَاصِ وَهِيَ مَفْقُودَةٌ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجْرِيَ الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ شَرْطٌ لِجَرَيَانِ الْقِصَاصِ فَهِيَ النُّصُوصُ الْمَذْكُورَةُ، وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا أَنْ نَقُولَ إِمَّا أَنْ نَحْمِلَ الْمُمَاثَلَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ النُّصُوصِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ أَوْ نَحْمِلَهَا عَلَى الْمُمَاثَلَةِ فِي أَمْرٍ مُعَيَّنٍ، وَالثَّانِي مَرْجُوحٌ لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ الْمُعَيَّنَ غَيْرُ مذكور الْآيَةِ، فَلَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَيْهَا لَزِمَ الْإِجْمَالُ، وَلَوْ حَمَلْنَا النَّصَّ عَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَزِمَ تَحَمُّلُ التَّخْصِيصِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ دَفْعَ الْإِجْمَالِ أَوْلَى مِنْ دَفْعِ التَّخْصِيصِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي رِعَايَةَ الْمُمَاثَلَةِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ إِلَّا مَا خَصَّهُ دَلِيلُ الْعَقْلِ وَدَلِيلٌ نَقْلِيٌّ مُنْفَصِلٌ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ رِعَايَةُ الْمُمَاثَلَةِ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، وَفِي قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ لَا تُمْكِنُ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ فِي إِيجَابِ الْقَتْلِ، لِتَحْصِيلِهِ عِنْدَ عَدَمِهِ كَمَا فِي حَقِّ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، وَلِإِبْقَائِهِ عِنْدَ وُجُودِهِ كَمَا فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ وَأَيْضًا الْحُرِّيَّةُ صِفَةٌ اعْتَبَرَهَا الشَّرْعُ فِي حَقِّ الْقَضَاءِ وَالْإِمَامَةِ وَالشَّهَادَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ المماثلة شرط لجريان القصاص وهي مفقودة هاهنا فَوَجَبَ الْمَنْعُ مِنَ الْقِصَاصِ. الْمِثَالُ الثَّانِي: احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَنَّ الْأَيْدِيَ تُقْطَعُ بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ، فَقَالَ لَا شَكَّ أَنَّهُ إِذَا صَدَرَ كُلُّ الْقَطْعِ أَوْ بَعْضُهُ عَنْ كُلِّ أُولَئِكَ الْقَاطِعِينَ أَوْ عَنْ بَعْضِهِمْ فَوَجَبَ أَنْ يُشْرَعَ فِي حَقِّ أُولَئِكَ الْقَاطِعِينَ مِثْلَهُ لِهَذِهِ النُّصُوصِ وَكُلُّ مَنْ قَالَ يُشْرَعُ الْقَطْعُ إِمَّا كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ فِي حَقِّ كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ قَالَ بِإِيجَابِهِ عَلَى الْكُلِّ، بَقِيَ أَنْ يُقَالَ فَيَلْزَمُ مِنْهُ اسْتِيفَاءُ الزِّيَادَةِ مِنَ الْجَانِي وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ لَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ جَانِبِ الْجَانِي وَبَيْنَ جَانِبِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَانَ جَانِبُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِالرِّعَايَةِ أَوْلَى. الْمِثَالُ الثَّالِثُ: شَرِيكُ الْأَبِ شُرِعَ فِي حَقِّهِ الْقِصَاصُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَدَرَ عَنْهُ الْجَرْحُ فَوَجَبَ أَنْ يُقَابَلَ بِمِثْلِهِ لِقَوْلِهِ تعالى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [المائدة: 45] وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ثَبَتَ تَمَامُ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. الْمِثَالُ الرَّابِعُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هَذِهِ النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى مُقَابَلَةِ كُلِّ شَيْءٍ بِمُمَاثِلِهِ.

الْمِثَالُ الْخَامِسُ: شُهُودُ الْقِصَاصِ إِذَا رَجَعُوا وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا الْكَذِبَ يَلْزَمُهُمُ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُمْ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ أَهْدَرُوا دَمَهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِيرَ دَمُهُمْ مُهْدَرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها. الْمِثَالُ السَّادِسُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُكْرَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ لِأَنَّهُ صَدَرَ عَنْهُ الْقَتْلُ ظُلْمًا فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ مِثْلُهُ، أَمَّا أَنَّهُ صَدَرَ عَنْهُ الْقَتْلُ فَالْحِسُّ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَأَمَّا أَنَّهُ قُتِلَ ظُلْمًا فَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مُكَلَّفٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ لَا يَقْتُلَ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْإِثْمَ الْعَظِيمَ وَالْعِقَابَ الشَّدِيدَ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَوَجَبَ أَنْ يُقَابَلَ بِمِثْلِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها. الْمِثَالُ السَّابِعُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْقَتْلُ بِالْمُثَقَّلِ يُوجِبُ الْقَوَدَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْجَانِيَ أَبْطَلَ حَيَاتَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَمَكَّنَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ مِنْ إِبْطَالِ حَيَاةِ الْقَاتِلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها. الْمِثَالُ الثَّامِنُ: الْحُرُّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ قِصَاصًا وَنَحْنُ وَإِنْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي المثال الأول إلا أنا نذكر هاهنا وَجْهًا آخَرَ مِنَ الْبَيَانِ، فَنَقُولُ إِنَّ الْقَاتِلَ أَتْلَفَ عَلَى مَالِكِ الْعَبْدِ شَيْئًا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ مَثَلًا فَوَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها وَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ وَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. الْمِثَالُ التَّاسِعُ: مَنَافِعُ الْغَصْبِ مَضْمُونَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْغَاصِبَ فَوَّتَ عَلَى الْمَالِكِ مَنَافِعَ تُقَابَلُ فِي الْعُرْفِ بِدِينَارٍ فَوَجَبَ أَنْ يُفَوِّتَ عَلَى الْغَاصِبِ مِثْلَهُ مِنَ الْمَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها وَكُلُّ مَنْ أَوْجَبَ تَفْوِيتَ هَذَا الْقَدْرِ عَلَى الْغَاصِبِ قَالَ بِأَنَّهُ يَجِبُ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ. الْمِثَالُ الْعَاشِرُ: الْحُرُّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ قِصَاصًا لِأَنَّهُ لَوْ قُتِلَ بِالْعَبْدِ لَكَانَ هُوَ مُسَاوِيًا لِلْعَبْدِ فِي الْمَعَانِي الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ لِقَوْلِهِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [غَافِرٍ: 40] وَلِسَائِرِ النُّصُوصِ الَّتِي تَلَوْنَاهَا ثُمَّ إِنَّ عَبْدَهُ يُقْتَلُ قِصَاصًا بِعَبْدِ نَفْسِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُ غَيْرِهِ مُسَاوِيًا لَعَبْدِ نَفْسِهِ فِي الْمَعَانِي الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ لِعَيْنِ هَذِهِ النُّصُوصِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ عَبْدُ نَفْسِهِ مُسَاوِيًا لَعَبْدِ غَيْرِهِ فِي الْمَعَانِي الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ، فَكَانَ عَبْدُ نَفْسِهِ مِثْلًا لِمِثْلِ نَفْسِهِ، وَمِثْلُ الْمِثْلِ مِثْلٌ فَوَجَبَ كَوْنُ عَبْدِ نَفْسِهِ مِثْلًا لِنَفْسِهِ فِي الْمَعَانِي الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ، وَلَوْ قُتِلَ الْحُرُّ بِعَبْدِ غيره لقتل بعبد نَفْسَهُ بِالْبَيَانِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَلَا يُقْتَلُ بِعَبْدِ نَفْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْتَلَ بِعَبْدِ غَيْرِهِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْأَمْثِلَةَ الْعَشَرَةَ فِي التَّفْرِيعِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَنْ أَخَذَتِ الْفَطَانَةُ بِيَدِهِ سَهُلَ عَلَيْهِ تَفْرِيعُ كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ على هذا الأصل والله أعلم، ثم هاهنا بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي قَطْعِ الْأَيْدِي لَا شَكَّ أَنَّهُ صَدَرَ كُلُّ الْقَطْعِ أَوْ بَعْضُهُ عَنْ كُلِّهِمْ أَوْ عَنْ بَعْضِهِمْ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ ذَلِكَ الْحَقِّ إِلَّا بِاسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ لِأَنَّ تَفْوِيتَ عَشَرَةٍ مِنَ الْأَيْدِي أَزْيَدُ مِنْ تَفْوِيتِ يَدٍ وَاحِدَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ كَانَ تَفْوِيتُ عَشَرَةٍ مِنَ الْأَيْدِي فِي مُقَابَلَةِ يَدٍ وَاحِدَةٍ حَرَامًا لَكَانَ تَفْوِيتُ عَشَرَةٍ مِنَ النُّفُوسِ فِي مُقَابَلَةِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ حَرَامًا، لِأَنَّ تَفْوِيتَ النَّفْسِ يَشْتَمِلُ عَلَى تَفْوِيتِ الْيَدِ فَتَفْوِيتُ عَشَرَةٍ مِنَ النُّفُوسِ فِي مُقَابَلَةِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ يُوجِبُ تَفْوِيتَ عَشَرَةٍ مِنَ الْأَيْدِي فِي مُقَابَلَةِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ/ فَلَوْ كَانَ تَفْوِيتُ عَشَرَةٍ مِنَ الْأَيْدِي فِي مُقَابَلَةِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ حَرَامًا لَكَانَ تَفْوِيتُ عَشَرَةٍ مِنَ النُّفُوسِ لِأَجْلِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ مُشْتَمِلًا عَلَى الْحَرَامِ وَكُلُّ مَا اشْتَمَلَ عَلَى الْحَرَامِ فَهُوَ حَرَامٌ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَحْرُمَ قَتْلُ النُّفُوسِ الْعَشَرَةِ فِي مُقَابَلَةِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ، وَحَيْثُ أَجْمَعْنَا

عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلِمْنَا أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ مِنِ اسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ شَرْعًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها يَقْتَضِي وُجُوبَ رِعَايَةِ الْمُمَاثَلَةِ مُطْلَقًا فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِيمَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَالْفُقَهَاءُ أَدْخَلُوا التَّخْصِيصَ فِيهِ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ فَتَارَةً بِنَاءً عَلَى نَصٍّ آخَرَ أَخَسَّ مِنْهُ وَأُخْرَى بِنَاءً عَلَى الْقِيَاسِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنِ ادَّعَى التَّخْصِيصَ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ وَالْمُكَلَّفُ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهَذَا النَّصِّ فِي جَمِيعِ الْمَطَالِبِ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ إِذَا قَالَ لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ، فَلْيَقُلْ لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ، أَمَّا إِذَا قَذَفَهُ قَذْفًا يُوجِبُ الْحَدَّ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَلِ الْحَدُّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ بِالْعَفْوِ وَالْإِغْضَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فُصِّلَتْ: 34] ، فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ وَعْدٌ مُبْهَمٌ لَا يُقَاسُ أَمْرُهُ فِي التَّعْظِيمِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِيفَاءُ الزِّيَادَةِ مِنَ الظَّالِمِ لِأَنَّ الظَّالِمَ فِيمَا وَرَاءَ ظُلْمِهِ مَعْصُومٌ وَالِانْتِصَارُ لَا يَكَادُ يَؤْمَنُ فِيهِ تَجَاوُزُ التَّسْوِيَةِ وَالتَّعَدِّي خُصُوصًا فِي حَالِ الْحَرْبِ وَالْتِهَابِ الْحَمِيَّةِ، فَرُبَّمَا صَارَ الْمَظْلُومُ عِنْدَ الْإِقْدَامِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ ظَالِمًا، وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ أَجْرٌ فَلْيَقُمْ، قَالَ فَيَقُومُ خُلُقٌ فَيُقَالُ لَهُمْ مَا أَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ؟ فَيَقُولُونَ نَحْنُ الَّذِينَ عَفَوْنَا عَمَّنْ ظَلَمَنَا، فَيُقَالُ لَهُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى» الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَثَّ عَلَى الْعَفْوِ عَنِ الظَّالِمِ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يُحِبُّهُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يُحِبُّهُ ومع ذلك فإنه يندب إلى عَفْوِهِ، فَالْمُؤْمِنُ الَّذِي هُوَ حَبِيبُ اللَّهِ بِسَبَبِ إِيمَانِهِ أَوْلَى أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ تعالى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ أي ظالم الظَّالِمِ إِيَّاهُ، وَهَذَا مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ فَأُولئِكَ يَعْنِي الْمُنْتَصِرِينَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ كَعُقُوبَةٍ وَمُؤَاخَذَةٍ لِأَنَّهُمْ أَتَوْا بِمَا أُبِيحَ لَهُمْ مِنَ الِانْتِصَارِ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ سِرَايَةَ الْقَوَدِ مُهْدَرَةٌ، فَقَالَ الشَّرْعُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي الْقَطْعِ مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَحْصُلَ مِنْهُ السَّرَيَانُ، وَهَذَا الثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقَطْعِ الْحُرْمَةُ، فَإِذَا كَانَ تَجْوِيزُهُ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ عَدَمِ السَّرَيَانِ، وَكَانَ هَذَا الشَّرْطُ مَجْهُولًا وَجَبَ أَنْ يَبْقَى ذَلِكَ الْقَطْعُ عَلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا هُوَ الْحُرْمَةُ، وَالْحِلُّ إِنَّمَا يَحْصُلُ مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ مَجْهُولٍ فَوَجَبَ أَنْ يبقى ذلك أَصْلِ الْحُرْمَةِ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الشَّرْعَ أَذِنَ لَهُ فِي الْقَطْعِ كَيْفَ كَانَ سَوَاءٌ سَرَى أَوْ لَمْ يَسْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ السَّرَيَانُ مَضْمُونًا لِأَنَّهُ قَدِ انْتَصَرَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ سَبِيلٌ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ أَيْ يَبْدَءُونَ بِالظُّلْمِ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وَالْمَعْنَى وَلَمَنْ صَبَرَ بِأَنْ لَا يَقْتَصَّ وَغَفَرَ وَتَجَاوَزَ فَإِنَّ ذلِكَ الصبر والتجاوز لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ يَعْنِي أَنَّ عَزْمَهُ عَلَى تَرْكِ الِانْتِصَارِ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ الْجَيِّدَةِ وَحُذِفَ الرَّاجِعُ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ كَمَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِهِمُ السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ وَيُحْكَى أَنَّ رَجُلًا سَبَّ رَجُلًا فِي مَجْلِسِ الْحَسَنِ فَكَانَ الْمَسْبُوبُ يَكْظِمُ وَيَعْرَقُ فَيَمْسَحُ الْعَرَقَ ثُمَّ قَامَ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ الْحَسَنُ عَقَلَهَا وَاللَّهِ وَفَهِمَهَا لَمَّا ضَيَّعَهَا الجاهلون.

[سورة الشورى (42) : الآيات 47 إلى 50]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ أَيْ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ نَاصَرٍ يَتَوَلَّاهُ مِنْ بَعْدِ خِذْلَانِهِ أَيْ مِنْ بَعْدِ إِضْلَالِ اللَّهِ إِيَّاهُ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي جَوَازِ الْإِضْلَالِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي أَنَّ الْهِدَايَةَ لَيْسَتْ فِي مَقْدُورِ أَحَدٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ الْقَاضِي الْمُرَادُ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عَنِ الْجَنَّةِ فَمَا لَهُ مَنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ يَنْصُرُهُ وَالْجَوَابُ: أَنَّ تَقْيِيدَ الْإِضْلَالِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ خِلَافُ الدَّلِيلِ، وَأَيْضًا فَاللَّهُ تَعَالَى مَا أَضَلَّهُ عَنِ الْجَنَّةِ عَلَى قَوْلِكُمْ بَلْ هُوَ أَضَلَّ نَفْسَهُ عَنِ الْجَنَّةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا لِعِظَمِ مَا يُشَاهِدُونَ مِنَ الْعَذَابِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَهُمْ عِنْدَ عَرْضِ النَّارِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ أَيْ حَالَ كَوْنِهِمْ خَاشِعِينَ حَقِيرِينَ مُهَانِينَ بِسَبَبِ مَا لَحِقَهُمْ مِنَ الذُّلِّ، ثُمَّ قَالَ: يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ أَيْ يَبْتَدِئُ نَظَرُهُمْ مِنْ تَحْرِيكٍ لِأَجْفَانِهِمْ ضَعِيفٍ خَفِيٍّ بِمُسَارَقَةٍ كَمَا تَرَى الَّذِي يَتَيَقَّنُ أَنْ يُقْتَلَ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى السَّيْفِ كَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَفْتَحَ أَجْفَانَهُ عَلَيْهِ وَيَمْلَأَ عَيْنَيْهِ مِنْهُ كَمَا يَفْعَلُ فِي نَظَرِهِ إِلَى الْمَحْبُوبَاتِ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ إِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ عُمْيًا فَكَيْفَ قال هاهنا إِنَّهُمْ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ؟ قُلْنَا لَعَلَّهُمْ يَكُونُونَ فِي الِابْتِدَاءِ هَكَذَا، ثُمَّ يُجْعَلُونَ عُمْيًا أَوْ لَعَلَّ هَذَا فِي قَوْمٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْمٍ آخَرِينَ، وَلَمَّا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَ الْكُفَّارِ حَكَى مَا يَقُولُهُ الْمُؤْمِنُونَ فِيهِمْ فَقَالَ: وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يَوْمَ الْقِيامَةِ إما أن يتعلق بخسروا أَوْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ وَاقِعًا فِي الدُّنْيَا، وإما أن يتعلق بقال أَيْ يَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا رَأَوْهُمْ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ. ثُمَّ قَالَ: أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ أَيْ دَائِمٍ قَالَ الْقَاضِي، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ وَالْفَاسِقَ يَدُومُ عَذَابُهُمَا وَالْجَوَابُ: أَنَّ لَفْظَ الظَّالِمِ الْمُطْلَقِ فِي الْقُرْآنِ مَخْصُوصٌ بِالْكَافِرِ قَالَ تَعَالَى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254] وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَصْنَامَ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا لِأَجْلِ أَنْ تَشْفَعَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَا أَتَوْا بِتِلْكَ الشَّفَاعَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْكُفَّارِ ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُضِلَّ وَالْهَادِيَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَا هُوَ قولنا ومذهبنا والله أعلم. [سورة الشورى (42) : الآيات 47 الى 50] اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَطْنَبَ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَقَالَ: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ وَقَوْلُهُ مِنَ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِلَةً لِقَوْلِهِ لَا مَرَدَّ لَهُ يَعْنِي لا يرده الله بعد ما

حَكَمَ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِلَةً لِقَوْلِهِ يَأْتِيَ أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ مِنَ اللَّهِ يَوْمٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى رَدِّهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ الْيَوْمِ فَقِيلَ يَوْمُ وُرُودِ الْمَوْتِ، وَقِيلَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ وَصَفَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِأَنَّهُ لَا مَرَدَّ لَهُ وَهَذَا الْوَصْفُ مَوْجُودٌ فِي كِلَا الْيَوْمَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ لَا مَرَدَّ لَهُ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ أَوْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنْ لَا مَرَدَّ فِيهِ إِلَى حَالِ التَّكْلِيفِ حَتَّى يَحْصُلَ فِيهِ التَّلَافِي. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَنْفَعُ فِي التَّخَلُّصِ مِنَ الْعَذَابِ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ مِمَّنْ يُنْكِرُ. ذَلِكَ حَتَّى يَتَغَيَّرَ حَالُكُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ النَّكِيرِ الْإِنْكَارَ أَيْ لَا تَقْدِرُونَ أَنْ تُنْكِرُوا شَيْئًا مِمَّا اقْتَرَفْتُمُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ فَإِنْ أَعْرَضُوا أَيْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَرْتُهُمْ بِالِاسْتِجَابَةِ أَيْ لَمْ يَقْبَلُوا هَذَا الْأَمْرَ فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً بِأَنْ تَحْفَظَ أَعْمَالَهُمْ وَتُحْصِيَهَا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ وَذَلِكَ تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ السَّبَبَ فِي/ إِصْرَارِهِمْ عَلَى مَذَاهِبِهِمُ الْبَاطِلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي الدُّنْيَا سَعَادَةً وَكَرَامَةً وَالْفَوْزُ بِمُطَالَبِ الدُّنْيَا يُفِيدُ الْغُرُورَ وَالْفُجُورَ وَالتَّكَبُّرَ وَعَدَمَ الِانْقِيَادِ لِلْحَقِّ فَقَالَ: وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَنِعَمُ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَتْ عَظِيمَةً إِلَّا أَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّعَادَاتِ الْمُعَدَّةِ فِي الْآخِرَةِ كَالْقَطْرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَحْرِ فَلِذَلِكَ سَمَّاهَا ذَوْقًا فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا فَازَ بِهَذَا الْقَدْرِ الْحَقِيرِ الَّذِي حَصَلَ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَفْرَحُ بِهَا وَيَعْظُمُ غُرُورُهُ بِسَبَبِهَا وَيَقَعُ فِي الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ فَازَ بِكُلِّ الْمُنَى وَوَصَلَ إِلَى أَقَاصِي السَّعَادَاتِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ مَنْ يَضْعُفُ اعْتِقَادُهُ فِي سَعَادَاتِ الْآخِرَةِ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ مُخَالِفَةٌ لِطَرِيقَةِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَعُدُّ نِعَمَ الدُّنْيَا إِلَّا كَالْوُصْلَةِ إِلَى نِعَمِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ مَتَى أَصَابَتْهُمْ سَيِّئَةٌ أَيْ شَيْءٌ يَسُوءُهُمْ فِي الْحَالِ كَالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ يَظْهَرُ مِنْهُ الْكُفْرُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ وَالْكَفُورُ الَّذِي يَكُونُ مُبَالِغًا فِي الْكُفْرَانِ وَلَمْ يَقُلْ فَإِنَّهُ كَفُورٌ، لِيُبَيِّنَ أَنَّ طَبِيعَةَ الْإِنْسَانِ تَقْتَضِي هَذِهِ الْحَالَةَ إِلَّا إِذَا أَدَّبَهَا الرَّجُلُ بِالْآدَابِ الَّتِي أَرْشَدَ اللَّهُ إِلَيْهَا، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ إِذَاقَةَ الْإِنْسَانِ الرَّحْمَةَ وَإِصَابَتَهُ بِضِدِّهَا أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ لَا يَغْتَرَّ الْإِنْسَانُ بِمَا مَلَكَهُ مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ بَلْ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْكُلَّ مِلْكُ اللَّهِ وَمُلْكُهُ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا حَصَّلَ ذَلِكَ الْقَدْرَ تَحْتَ يَدِهِ لِأَنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهِ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ ذَلِكَ حَامِلًا لَهُ عَلَى مَزِيدِ الطَّاعَةِ وَالْخِدْمَةِ، وَأَمَّا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ تِلْكَ النِّعَمَ، إِنَّمَا تَحْصُلُ بِسَبَبِ عَقْلِهِ وَجِدِّهِ وَاجْتِهَادِهِ بَقِيَ مَغْرُورًا بِنَفْسِهِ مُعْرِضًا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ أَقْسَامِ تَصَرُّفِ اللَّهِ فِي الْعَالَمِ أَنَّهُ يَخُصُّ الْبَعْضَ بالأولاد الإناث وَالْبَعْضَ بِالذُّكُورِ وَالْبَعْضَ بِهِمَا وَالْبَعْضَ بِأَنْ يَجْعَلَهُ مَحْرُومًا مِنَ الْكُلِّ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً. وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الطَّبَائِعِ يَقُولُونَ السَّبَبُ فِي حُدُوثِ الْوَلَدِ صَلَاحُ حَالِ النُّطْفَةِ وَالرَّحِمِ وَسَبَبُ الذُّكُورَةِ اسْتِيلَاءُ الْحَرَارَةِ، وَسَبَبُ الْأُنُوثَةِ اسْتِيلَاءُ الْبُرُودَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْفَصْلَ بِالِاسْتِقْصَاءِ التَّامِّ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، وَأَبْطَلْنَاهُ بِالدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ، وَظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا أَنَّهُ مِنَ الطَّبَائِعِ وَالْأَنْجُمِ وَالْأَفْلَاكِ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَدَّمَ الْإِنَاثَ فِي الذِّكْرِ عَلَى الذُّكُورِ فَقَالَ: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ ثُمَّ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ قَدَّمَ الذُّكُورَ عَلَى الْإِنَاثِ فَقَالَ: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً فَمَا السَّبَبُ فِي هَذَا التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ؟ السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِنَاثَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ فَقَالَ: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَذَكَرَ الذُّكُورَ بِلَفْظِ التَّعْرِيفِ فَقَالَ: وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ فَمَا السَّبَبُ فِي هَذَا الْفَرْقِ؟.

السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ فِي إِعْطَاءِ الْإِنَاثِ وَحْدَهُنَّ، وَفِي إِعْطَاءِ الذُّكُورِ وَحْدَهُمْ بِلَفْظِ الْهِبَةِ فَقَالَ: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ وَقَالَ فِي إِعْطَاءِ الصِّنْفَيْنِ مَعًا أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً. السؤال الرَّابِعُ: لَمَّا كَانَ حُصُولُ الْوَلَدِ هِبَةً مِنَ اللَّهِ فَيَكْفِي فِي عَدَمِ حُصُولِهِ أَنْ لَا يَهَبَ فَأَيُّ حَاجَةٍ فِي عَدَمِ حُصُولِهِ إِلَى أَنْ يَقُولَ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً؟. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: هَلِ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ جَمْعٌ مُعَيَّنُونَ أَوِ الْمُرَادُ الْحُكْمُ عَلَى الْإِنْسَانِ الْمُطْلَقِ؟. وَالْجَوَابُ: عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَرِيمَ يَسْعَى فِي أَنْ يَقَعَ الْخَتْمُ عَلَى الْخَيْرِ وَالرَّاحَةِ وَالسُّرُورِ وَالْبَهْجَةِ فَإِذَا وُهِبَ الْوَلَدَ الْأُنْثَى أَوَّلًا ثُمَّ أَعْطَاهُ الذَّكَرَ بَعْدَهُ فَكَأَنَّهُ نَقَلَهُ مِنَ الْغَمِّ إِلَى الْفَرَحِ وَهَذَا غَايَةُ الْكَرَمِ، أَمَّا إِذَا أَعْطَى الْوَلَدَ أَوَّلًا ثُمَّ أَعْطَى الْأُنْثَى ثَانِيًا فَكَأَنَّهُ نَقَلَهُ مِنَ الْفَرَحِ إِلَى الْغَمِّ فَذَكَرَ تَعَالَى هِبَةَ الْوَلَدِ الْأُنْثَى أَوَّلًا وَثَانِيًا هِبَةَ الْوَلَدِ الذَّكَرِ حَتَّى يَكُونَ قَدْ نَقَلَهُ مِنَ الْغَمِّ إِلَى الْفَرَحِ فَيَكُونَ ذَلِكَ أَلْيَقَ بِالْكَرَمِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا أُعْطِيَ الْوَلَدَ الْأُنْثَى أَوَّلًا عَلِمَ أَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ لَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَرْضَى بِذَلِكَ فَإِذَا أَعْطَاهُ الْوَلَدَ الذَّكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِحْسَانٌ إِلَيْهِ فَيَزْدَادُ شُكْرُهُ وَطَاعَتُهُ، وَيَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا حَصَلَ بِمَحْضِ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُ الْمُذَكِّرِينَ الْأُنْثَى ضَعِيفَةٌ نَاقِصَةٌ عَاجِزَةٌ فَقَدَّمَ ذِكْرَهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الْعَجْزُ وَالْحَاجَةُ أَتَمَّ كَانَتْ عِنَايَةُ اللَّهِ بِهِ أَكْثَرَ الْوَجْهُ الرَّابِعُ: كَأَنَّهُ يُقَالُ أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ الضَّعِيفَةُ الْعَاجِزَةُ إِنَّ أَبَاكِ وَأُمَّكِ يَكْرَهَانِ وُجُودَكِ فَإِنْ كَانَا قَدْ كَرِهَا وُجُودَكِ فَأَنَا قَدَّمْتُكِ فِي الذِّكْرِ لِتَعْلَمِي أَنَّ الْمُحْسِنَ الْمُكْرِمَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِذَا عَلِمَتِ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ زَادَتْ فِي الطَّاعَةِ وَالْخِدْمَةِ وَالْبُعْدِ عَنْ مُوجِبَاتِ الطَّعْنِ وَالذَّمِّ، فَهَذِهِ الْمَعَانِي هِيَ الَّتِي لِأَجْلِهَا وَقَعَ ذِكْرُ الْإِنَاثِ مُقَدَّمًا عَلَى ذِكْرِ الذُّكُورِ وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ الذُّكُورِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى ذِكْرِ الْإِنَاثِ لِأَنَّ الذَّكَرَ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ مِنَ الْأُنْثَى وَالْأَفْضَلُ الْأَكْمَلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَخَسِّ الْأَرْذَلِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّظَرَ إِلَى كَوْنِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى يَقْتَضِي تَقْدِيمَ ذِكْرِ الذَّكَرِ عَلَى ذِكْرِ الْأُنْثَى، أَمَّا الْعَوَارِضُ الْخَارِجِيَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَقَدْ أَوْجَبَتْ تَقْدِيمَ ذِكْرِ الْأُنْثَى عَلَى ذِكْرِ الذَّكَرِ، فَلَمَّا حَصَلَ الْمُقْتَضِي لِلتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الْبَابَيْنِ لَا جَرَمَ قَدَّمَ هَذَا مَرَّةً وَقَدَّمَ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ لِمَ عَبَّرَ عَنِ الْإِنَاثِ بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ، وَعَنِ الذُّكُورِ بِلَفْظِ التَّعْرِيفِ؟ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى كَوْنِ الذَّكَرِ أَفْضَلَ مِنَ الْأُنْثَى. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ لِمَ قَالَ تَعَالَى فِي إِعْطَاءِ الصِّنْفَيْنِ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً؟ فَجَوَابُهُ أَنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ يُقْرَنُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فَهُمَا زَوْجَانِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقَالُ لَهُ زَوْجٌ وَالْكِنَايَةُ فِي يُزَوِّجُهُمْ عَائِدَةٌ عَلَى الْإِنَاثِ وَالذُّكُورِ الَّتِي فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَالْمَعْنَى يَقْرِنُ الْإِنَاثَ وَالذُّكُورَ فَيَجْعَلُهُمْ أَزْوَاجًا. وَأَمَّا السُّؤَالُ الرَّابِعُ: فَجَوَابُهُ أَنَّ الْعَقِيمَ هُوَ الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ، يُقَالُ رَجُلٌ عَقِيمٌ لَا يَلِدُ، وَامْرَأَةٌ عَقِيمٌ لَا تَلِدُ وَأَصْلُ الْعُقْمِ الْقَطْعُ، وَمِنْهُ قِيلُ الْمُلْكُ عَقِيمٌ لِأَنَّهُ يُقْطَعُ فِيهِ الْأَرْحَامُ بِالْقَتْلِ وَالْعُقُوقِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الْخَامِسُ: فَجَوَابُهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً يُرِيدُ لُوطًا وَشُعَيْبًا عَلَيْهِمَا السلام لم يكن لهما إلا النبات وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ يُرِيدُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ لَهُ/ إِلَّا الذُّكُورُ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً يُرِيدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ مِنَ الْبَنِينَ أَرْبَعَةٌ الْقَاسِمُ وَالطَّاهِرُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَإِبْرَاهِيمُ، وَمِنَ الْبَنَاتِ أَرْبَعَةٌ زَيْنَبُ وَرُقَيَّةُ وَأُمُّ كُلْثُومٍ وَفَاطِمَةُ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً يُرِيدُ عِيسَى وَيَحْيَى، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ

[سورة الشورى (42) : الآيات 51 إلى 53]

هَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ النَّاسِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ نَفَاذِ قُدْرَةِ اللَّهِ فِي تَكْوِينِ الْأَشْيَاءِ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ فَلَمْ يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ مَعْنًى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلِيمٌ بِمَا خَلَقَ قَدِيرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ أن يخلقه والله أعلم. [سورة الشورى (42) : الآيات 51 الى 53] وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ أَنَّهُ كَيْفَ يَخُصُّ أَنْبِيَاءَهُ بِوَحْيِهِ وَكَلَامِهِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَما كانَ لِبَشَرٍ وَمَا صَحَّ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا عَلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، إِمَّا عَلَى الْوَحْيِ وَهُوَ الْإِلْهَامُ وَالْقَذْفُ فِي الْقَلْبِ أَوِ الْمَنَامُ كَمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَى أُمِّ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَبْحِ وَلَدِهِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى الزَّبُورَ إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صَدْرِهِ، وَإِمَّا عَلَى أَنْ يُسْمِعَهُ كَلَامَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ مُبَلِّغٍ، وَهَذَا أَيْضًا وَحْيٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى أَسْمَعَ مُوسَى كَلَامَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ مَعَ أَنَّهُ سَمَّاهُ وَحْيًا، قَوْلُهُ تعالى: فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى [طه: 13] وَإِمَّا عَلَى أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ رَسُولًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَيُبَلِّغَ ذَلِكَ الْمَلَكُ ذَلِكَ الْوَحْيَ إِلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ فَطَرِيقُ الْحَصْرِ أَنْ يُقَالَ وُصُولُ الْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْبَشَرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ مُبَلِّغٍ أَوْ يَكُونَ بِوَاسِطَةِ مُبَلِّغٍ، وَإِذَا كَانَ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ وَحْيُ اللَّهِ لَا بِوَاسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ فَهَهُنَا إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ/ لَمْ يَسْمَعْ عَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ يَسْمَعُهُ، أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِ الْوَحْيُ لَا بِوَاسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ وَمَا سَمِعَ عَيْنَ كَلَامِ الله فهو المراد بقوله إِلَّا وَحْياً وأم الثَّانِي وَهُوَ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِ الْوَحْيُ لَا بِوَاسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ وَلَكِنَّهُ سَمِعَ عَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِ الْوَحْيُ بِوَاسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ وَحْيٌ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّصَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ بِاسْمِ الْوَحْيِ، لِأَنَّ مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْهَامِ فَهُوَ يَقَعُ دُفْعَةً فَكَانَ تَخْصِيصُ لَفْظِ الْوَحْيِ بِهِ أَوْلَى فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي تَمْيِيزِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ اللَّهَ فِي مَكَانٍ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا عَلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مُخْتَصًّا بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ وَجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَالْجَوَابُ: أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ وَإِنْ أَوْهَمَ مَا ذَكَرْتُمْ إِلَّا أَنَّهُ دَلَّتِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ وَالنَّقْلِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَمْتَنِعُ حُصُولُهُ فِي الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ، فَوَجَبَ حَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى التَّأْوِيلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا سَمِعَ كَلَامًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَرَى ذَلِكَ الْمُتَكَلِّمَ كَانَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِمَا إِذَا تَكَلَّمَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَالْمُشَابَهَةُ سَبَبٌ لجواز المجاز.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَصَرَ أَقْسَامَ وَحْيِهِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَلَوْ صَحَّتْ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى لَصَحَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَعَ الْعَبْدِ حَالَ مَا يَرَاهُ الْعَبْدُ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذَلِكَ قِسْمًا رَابِعًا زَائِدًا عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى نَفَى الْقِسْمَ الرَّابِعَ بِقَوْلِهِ وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ وَالْجَوَابُ نَزِيدُ فِي اللَّفْظِ قَيْدًا فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ، وَزِيَادَةُ هَذَا الْقَيْدِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ لَكِنَّهُ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَبَيْنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى حُصُولِ الرُّؤْيَةِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ، وَمَنْ سِوَى الْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ هَذِهِ الْحُرُوفُ الْمَسْمُوعَةُ وَالْأَصْوَاتُ الْمُؤَلَّفَةُ، وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ وَأَتْبَاعُهُ فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ قَدِيمَةٌ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِهَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ. أَمَّا الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ: وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ هَذِهِ الْحُرُوفُ وَالْكَلِمَاتُ فَهُمْ فَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا: الْحَنَابِلَةُ الَّذِينَ قَالُوا بِقِدَمِ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَهَؤُلَاءِ أَخَسُّ مِنْ أَنْ يُذْكَرُوا فِي زُمْرَةِ الْعُقَلَاءِ، وَاتَّفَقَ أَنِّي قُلْتُ يَوْمًا لِبَعْضِهِمْ لَوْ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ إِمَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ وَالتَّوَالِي وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ بِجُمْلَةِ هَذِهِ الْحُرُوفِ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَا يُفِيدُ هَذَا النَّظْمَ الْمُرَكَّبَ عَلَى هَذَا التَّعَاقُبِ وَالتَّوَالِي، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا النَّظْمُ الْمُرَكَّبُ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ/ الْمُتَوَالِيَةِ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالثَّانِي: بَاطِلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ تَكَلَّمَ بِهَا عَلَى التَّوَالِي وَالتَّعَاقُبِ كَانَتْ مُحْدَثَةً، وَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ هَذَا الْكَلَامَ قَالَ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُقِرَّ وَنَمُرَّ، يَعْنِي نُقِرُّ بِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَنَمُرُّ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ عَلَى وَفْقِ مَا سَمِعْنَاهُ فَتَعَجَّبْتُ مِنْ سَلَامَةِ قَلْبِ ذَلِكَ الْقَائِلِ، وَأَمَّا الْعُقَلَاءُ مِنَ النَّاسِ فَقَدْ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ كَائِنَةٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ حَاصِلَةٌ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً، ثُمَّ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي أَنَّهَا هَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ، أَوْ لَا يُقَالُ ذَلِكَ، بَلْ يُقَالُ إِنَّهَا حَادِثَةٌ أَوْ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ هَلْ هِيَ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ يَخْلُقُهَا فِي جِسْمٍ آخَرَ، فَالْأَوَّلُ: هُوَ قَوْلُ الْكَرَّامِيَّةِ وَالثَّانِي: قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا الْأَشْعَرِيَّةُ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهَا هَذِهِ الْأَلْفَاظُ وَالْعِبَارَاتُ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ هُوَ أَنَّ الْمَلَكَ وَالرَّسُولَ يَسْمَعُ ذَلِكَ الْكَلَامَ الْمُنَزَّهَ عَنِ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، قَالُوا وَكَمَا لَا يَبْعُدُ أَنْ تَرَى ذَاتَ اللَّهِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا فِي حَيِّزٍ فَأَيُّ بُعْدٍ فِي أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَرْفًا وَلَا صَوْتًا؟ وَزَعَمَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ أَنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ الْقَائِمَةَ يَمْتَنِعُ كَوْنُهَا مَسْمُوعَةً، وَإِنَّمَا الْمَسْمُوعُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الشَّجَرَةِ وَهَذَا الْقَوْلُ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْقَاضِي هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ كَلِمَةَ أَنْ مَعَ الْمُضَارِعِ تُفِيدُ الِاسْتِقْبَالَ الثَّانِي: أَنَّهُ وَصَفَ الْكَلَامَ بِأَنَّهُ وَحْيٌ لِأَنَّ لَفْظَ الْوَحْيِ يُفِيدُ أَنَّهُ وَقَعَ عَلَى أَسْرَعِ الْوُجُوهِ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الَّذِي يُبَلِّغُهُ الْمَلَكُ إِلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِ مِثْلَ الْكَلَامِ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ وَالَّذِي يُبَلِّغُهُ إِلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ حَادِثٌ، فَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ مُمَاثِلًا لِهَذَا الَّذِي بَلَّغَهُ إِلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ، وَهَذَا

الَّذِي بَلَّغَهُ إِلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ حَادِثٌ وَمِثْلُ الْحَادِثِ حَادِثٌ، وَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْكَلَامَ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ حَادِثٌ الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ يَقْتَضِي كَوْنَ الْوَحْيِ حَاصِلًا بَعْدَ الْإِرْسَالِ، وَمَا كَانَ حُصُولُهُ مُتَأَخِّرًا عَنْ حُصُولِ غَيْرِهِ كَانَ حَادِثًا وَالْجَوَابُ: أَنَّا نَصْرِفُ جُمْلَةَ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا إِلَى الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَنَعْتَرِفُ بِأَنَّهَا حَادِثَةٌ كَائِنَةٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ وَبَدِيهَةُ الْعَقْلِ شَاهِدَةٌ بِأَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ الَّذِي عَلِمْتَ صِحَّتَهُ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ وَبِظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ثَبَتَ أَنَّ الْوَحْيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ بِوَاسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَحْيٍ حَاصِلًا بِوَاسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ، وَإِلَّا لَزِمَ إِمَّا التَّسَلْسُلُ وَإِمَّا الدَّوْرُ، وَهُمَا مُحَالَانِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِحُصُولِ وَحْيٍ يحصل لا بواسطة شخص آخر، ثم هاهنا أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الشَّخْصَ الْأَوَّلَ الَّذِي سَمِعَ وَحْيَ اللَّهِ لَا بِوَاسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ كَيْفَ/ يَعْرِفُ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي سَمِعَهُ كَلَامُ اللَّهِ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ سَمِعَ تِلْكَ الصِّفَةَ الْقَدِيمَةَ الْمُنَزَّهَةَ عَنْ كَوْنِهَا حَرْفًا وَصَوْتًا، لَمْ يَبْعُدْ أَنَّهُ إِذَا سَمِعَهَا عَلِمَ بِالضَّرُورَةِ كَوْنَهَا كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ يَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى دَلِيلٍ زَائِدٍ، أَمَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْمَسْمُوعَ هُوَ الْحَرْفُ وَالصَّوْتُ امْتَنَعَ أَنْ يُقْطَعَ بِكَوْنِهِ كَلَامًا لِلَّهِ تَعَالَى، إِلَّا إِذَا ظَهَرَتْ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَسْمُوعَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ الرَّسُولَ إِذَا سَمِعَهُ مِنَ الْمَلَكِ كَيْفَ يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ الْمُبَلِّغَ مَلَكٌ مَعْصُومٌ لَا شَيْطَانٌ مُضِلٌّ؟ وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْقَطْعُ بِذَلِكَ إِلَّا بِنَاءً عَلَى مُعْجِزَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمُبَلِّغَ مَلَكٌ مَعْصُومٌ لَا شَيْطَانٌ خَبِيثٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، فَالْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتِمُّ إِلَّا بِثَلَاثِ مَرَاتِبَ فِي ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْمَلَكَ إِذَا سَمِعَ ذَلِكَ الْكَلَامَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُعْجِزَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ ذَلِكَ الْمَلَكَ إِذَا وَصَلَ إِلَى الرَّسُولِ، لَا بُدَّ لَهُ أَيْضًا مِنْ مُعْجِزَةٍ. الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ ذَلِكَ الرَّسُولَ إِذَا أَوْصَلَهُ إِلَى الْأُمَّةِ، فَلَا بُدَّ لَهُ أَيْضًا مِنْ مُعْجِزَةٍ، فَثَبَتَ أَنَّ التَّكْلِيفَ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى الْخَلْقِ إِلَّا بَعْدَ وُقُوعِ ثَلَاثِ مَرَاتِبَ فِي الْمُعْجِزَاتِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَدْ سَمِعَ الْوَحْيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً، فَذَلِكَ الْمَلَكُ هُوَ جِبْرِيلُ، وَيُقَالُ لَعَلَّ جِبْرِيلَ سَمِعَهُ مِنْ مَلَكٍ آخَرَ، فالكل محتمل ولو بألف واسطة، ولو يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَطْعِ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: هَلْ فِي الْبَشَرِ مَنْ سَمِعَ وَحْيَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ؟ الْمَشْهُورُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تعالى: فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى [طه: 13] وَقِيلَ إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَهُ أَيْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى [النَّجْمِ: 10] . الْبَحْثُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُظْهِرُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى أَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَرَاهُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَجَبَ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى الْمُعْجِزَةِ، لِيَعْرِفَ أَنَّ هَذَا الَّذِي رَآهُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ عَيْنُ مَا رَآهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَإِنْ كَانَ لَا يَرَى شَخْصَهُ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْمُعْجِزَةِ أَقْوَى، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ حَصَلَ الِاشْتِبَاهُ فِي

الصَّوْتِ، إِلَّا أَنَّ الْإِشْكَالَ فِي أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى إِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: دَلَّتِ الْمُنَاظَرَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ إِبْلِيسَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ يَتَكَلَّمُ مَعَ إِبْلِيسَ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، فَذَلِكَ هَلْ يُسَمَّى وحيا من الله تعالى إلى إبليس أم لَا، الْأَظْهَرُ مَنْعُهُ، وَلَا بُدَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ بَحْثٍ غَامِضٍ كَامِلٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا بِرَفْعِ اللَّامِ، فَيُوحِي بِسُكُونِ الْيَاءِ وَمَحَلُّهُ رَفْعٌ عَلَى تَقْدِيرِ، وَهُوَ يُرْسِلُ فَيُوحِي، وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ مَا كَانَ لِبَشَرٍ/ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ إِسْمَاعًا لِكَلَامِهِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ، لَكِنْ فِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَحْيًا أَوْ إِسْمَاعًا اسْمٌ وَقَوْلُهُ أَوْ يُرْسِلَ فِعْلٌ، وَعَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ قَبِيحٌ، فَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ إِلَّا أَنْ يُوحِيَ إِلَيْهِ وَحْيًا أَوْ يُسْمِعَ إِسْمَاعًا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: الصَّحِيحُ عند أهل الحق أن عند ما يُبَلِّغُ الْمَلَكُ الْوَحْيَ إِلَى الرَّسُولِ، لَا يَقْدِرُ الشَّيْطَانُ عَلَى إِلْقَاءِ الْبَاطِلِ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ الْوَحْيِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الْحَجِّ: 52] وَقَالُوا الشَّيْطَانُ أَلْقَى فِي أَثْنَاءِ سُورَةِ النَّجْمِ، تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى مِنْهَا الشَّفَاعَةُ تُرْتَجَى، وَكَانَ صَدِيقُنَا الْمَلِكُ سَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ أَفْضَلَ مَنْ لَقِيتُهُ مِنْ أَرْبَابِ السَّلْطَنَةِ يَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ بَعْدَ الدَّلَائِلِ الْقَوِيَّةِ الْقَاهِرَةِ، بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِصُورَتِي» فَإِذَا لَمْ يَقْدِرِ الشَّيْطَانُ عَلَى أَنْ يَتَمَثَّلَ فِي الْمَنَامِ بِصُورَةِ الرَّسُولِ، فَكَيْفَ قَدَرَ عَلَى التَّشَبُّهِ بِجِبْرِيلَ حَالَ اشْتِغَالِ تَبْلِيغِ وَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى؟ وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا سَلَكَ عُمَرُ فَجًّا إِلَّا وَسَلَكَ الشَّيْطَانُ فَجًّا آخَرَ» فَإِذَا لَمْ يَقْدِرِ الشَّيْطَانُ أَنْ يَحْضُرَ مَعَ عُمَرَ فِي فَجٍّ وَاحِدٍ، فَكَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَحْضُرَ مَعَ جِبْرِيلَ فِي مَوْقِفِ تَبْلِيغِ وَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى؟. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ يَعْنِي فَيُوحِي ذَلِكَ الْمَلَكُ بِإِذْنِ اللَّهِ مَا يَشَاءُ اللَّهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْحُسْنَ لَا يَحْسُنُ لِوَجْهٍ عَائِدٍ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْقَبِيحَ لَا يَقْبُحُ لِوَجْهٍ عَائِدٍ إِلَيْهِ، بَلْ لِلَّهِ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، وَأَنْ يَنْهَى عَمَّا يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمَا صَحَّ قَوْلُهُ مَا يَشاءُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ يَعْنِي أَنَّهُ عَلِيٌّ عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ حَكِيمٌ يُجْرِي أَفْعَالَهُ عَلَى مُوجَبِ الْحِكْمَةِ، فَيَتَكَلَّمُ تَارَةً بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْهَامِ، وَأُخْرَى بِإِسْمَاعِ الْكَلَامِ، وَثَالِثًا بِتَوْسِيطِ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ، وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ أَقْسَامِ الْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، قَالَ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا وَالْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ وَسَمَّاهُ رُوحًا، لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْحَيَاةَ مِنْ مَوْتِ الْجَهْلِ أَوِ الْكُفْرِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الرُّسُلُ كَانُوا قَبْلَ الْوَحْيِ عَلَى الْكُفْرِ، وَذَكَرُوا فِي الْجَوَابِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ أَيِ الْقُرْآنُ وَلَا الْإِيمانُ أَيِ الصَّلَاةُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 143] أَيْ صَلَاتَكُمْ الثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَمَنْ أَهْلُ الْإِيمَانِ، يعني

مَنِ الَّذِي يُؤْمِنُ، وَمَنِ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ الثَّالِثُ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ حِينَ كُنْتَ طِفْلًا فِي الْمَهْدِ الرَّابِعُ: / الْإِيمَانُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِقْرَارِ بِجَمِيعِ مَا كَلَّفَ الله تعالى به، وإنه قَبْلَ النُّبُوَّةِ مَا كَانَ عَارِفًا بِجَمِيعِ تَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ إِنَّهُ كَانَ عَارِفًا بِاللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَاهُ الْخَامِسُ: صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهَا مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِمَحْضِ دَلَائِلِ الْعَقْلِ، وَمِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ إِلَّا بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ. فَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي لَمْ تَكُنْ مَعْرِفَتُهُ حَاصِلَةً قَبْلَ النُّبُوَّةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَاخْتَلَفُوا فِي الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ وَلكِنْ جَعَلْناهُ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ دُونَ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الْأَحْكَامُ، فَلَا جَرَمَ شُبِّهَ بِالنُّورِ الَّذِي يُهْتَدَى بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَيْهِمَا مَعًا، وَحَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الْجُمُعَةِ: 11] . ثُمَّ قَالَ: نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ جَعَلَ الْقُرْآنَ نَفْسَهُ فِي نَفْسِهِ هدى كما قال: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] فَإِنَّهُ قَدْ يَهْدِي بِهِ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ لَيْسَتْ إِلَّا عِبَارَةً عَنِ الدَّعْوَةِ وَإِيضَاحِ الْأَدِلَّةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَهُوَ يُفِيدُ الْعُمُومَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُلِّ وَقَوْلُهُ نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا يُفِيدُ الْخُصُوصَ فَثَبَتَ أَنَّ الْهِدَايَةَ بِمَعْنَى الدَّعْوَةِ عَامَّةٌ وَالْهِدَايَةَ فِي قَوْلِهِ نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا خَاصَّةٌ وَالْهِدَايَةُ الْخَاصَّةُ غَيْرُ الْهِدَايَةِ الْعَامَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا أَمْرًا مُغَايِرًا لِإِظْهَارِ الدَّلَائِلِ وَلِإِزَالَةِ الْأَعْذَارِ، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنِ الْهِدَايَةِ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا أَيْ جَعَلْنَا الْقُرْآنَ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ، وَهَذَا لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْهِدَايَةِ الَّتِي تَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا، وَأَيْضًا فَالْهِدَايَةُ إِلَى الْجَنَّةِ عِنْدَكُمْ فِي حَقِّ الْبَعْضِ وَاجِبٌ، وَفِي حَقِّ الْآخَرِينَ مَحْظُورٌ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا فَائِدَةٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِيهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ يَهْدِي فَكَذَلِكَ الرَّسُولُ يَهْدِي، وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الصِّرَاطَ هُوَ صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِي تَجُوزُ عِبَادَتُهُ هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ السموات وَالْأَرْضَ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ إِبْطَالُ قَوْلِ مَنْ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ وَذَلِكَ كَالْوَعِيدِ وَالزَّجْرِ، فَبَيَّنَ أَنَّ أَمْرَ مَنْ لَا يَقْبَلُ هَذِهِ التَّكَالِيفَ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ إِلَى حَيْثُ لَا حَاكِمَ سِوَاهُ فَيُجَازِي كُلًّا مِنْهُمْ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ. قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ آخِرَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّامِنِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ، يَا مُدَبِّرَ الْأُمُورِ، وَيَا مُدَهِّرَ الدُّهُورِ وَيَا مُعْطِيَ كُلِّ خَيْرٍ وَسُرُورٍ، وَيَا دَافِعَ الْبَلَايَا وَالشُّرُورِ، أَوْصِلْنَا إِلَى مَنَازِلِ النُّورِ، فِي ظُلُمَاتِ الْقُبُورِ، بِفَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الراحمين.

سورة الزخرف

سُورَةُ الزُّخْرُفِ وَهِيَ تِسْعٌ وَثَمَانُونَ آيَةً مَكِّيَّةً بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ حم، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ هَذِهِ حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ فَيَكُونُ الْقَسَمُ وَاقِعًا عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ هِيَ سُورَةُ حم وَيَكُونُ قَوْلُهُ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ابْتِدَاءً لِكَلَامٍ آخَرَ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ هَذِهِ حم. ثُمَّ قَالَ: وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا فَيَكُونَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ هُوَ قَوْلُهُ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَفِي الْمُرَادِ بِالْكِتَابِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَدْ أَقْسَمَ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ جَعَلَهُ عَرَبِيًّا الثَّانِي: أن المراد بالكتاب الكتابة والخط أقسم بِالْكِتَابَةِ لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ، فَإِنَّ الْعُلُومَ إِنَّمَا تَكَامَلَتْ بِسَبَبِ الْخَطِّ فَإِنَّ الْمُتَقَدِّمَ إِذَا اسْتَنْبَطَ عِلْمًا وَأَثْبَتَهُ فِي كِتَابٍ، وَجَاءَ الْمُتَأَخِّرُ وَوَقَفَ عَلَيْهِ أَمْكَنَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي اسْتِنْبَاطِ الْفَوَائِدِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَكَاثَرَتِ الْفَوَائِدُ وَانْتَهَتْ إِلَى الْغَايَاتِ الْعَظِيمَةِ، وَفِي وَصْفِ الْكِتَابِ بِكَوْنِهِ مُبِينًا مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْمُبِينُ/ لِلَّذِينِ أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ بِلُغَتِهِمْ وَلِسَانِهِمْ وَالثَّانِي: الْمُبِينُ هُوَ الَّذِي أَبَانَ طَرِيقَ الْهُدَى مِنْ طَرِيقِ الضَّلَالَةِ وَأَبَانَ كُلَّ بَابٍ عَمَّا سِوَاهُ وَجَعَلَهَا مُفَصَّلَةً مُلَخَّصَةً. وَاعْلَمْ أَنَّ وَصْفَهُ بِكَوْنِهِ مُبِينًا مَجَازٌ لِأَنَّ الْمُبِينَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَسَمِّي الْقُرْآنَ بِذَلِكَ تَوَسُّعًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ حَصَلَ البيان عنده.

أَمَّا قَوْلُهُ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَائِلُونَ بِحُدُوثِ الْقُرْآنِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَجْعُولٌ، والمجعول، وَالْمَجْعُولُ هُوَ الْمَصْنُوعُ الْمَخْلُوقُ، فَإِنْ قَالُوا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ سَمَّاهُ عَرَبِيًّا؟ قُلْنَا هَذَا مَدْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْجَعْلِ هَذَا لَوَجَبَ أَنَّ مَنْ سَمَّاهُ عَجَمِيًّا أَنْ يَصِيرَ عَجَمِيًّا وَإِنْ كَانَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ بَاطِلٌ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ صَرَفَ الْجَعْلَ إِلَى التَّسْمِيَةِ لَزِمَ كَوْنُ التَّسْمِيَةِ مَجْعُولَةً، وَالتَّسْمِيَةُ أَيْضًا كَلَامُ اللَّهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّهُ فَعَلَ بَعْضَ كَلَامِهِ، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فِي الْبَعْضِ صَحَّ فِي الْكُلِّ الثَّانِي: أَنَّهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ قُرْآنًا، وَهُوَ إِنَّمَا سُمِّيَ قُرْآنًا لِأَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَهُ مَقْرُونًا بِالْبَعْضِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَصْنُوعًا مَعْمُولًا الثَّالِثُ: أَنَّهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا، وَهُوَ إِنَّمَا كَانَ عَرَبِيًّا لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إِنَّمَا اخْتُصَّتْ بِمُسَمَّيَاتِهِمْ بِوَضْعِ الْعَرَبِ وَاصْطِلَاحَاتِهِمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَعْمُولًا وَمَجْعُولًا وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْقَسَمَ بِغَيْرِ اللَّهِ لَا يَجُوزُ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فَكَانَ التَّقْدِيرُ حم وَرَبِّ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، وَتَأَكَّدَ هَذَا أَيْضًا بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقُولُ يَا رَبِّ طه وَيس وَيَا رَبِّ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ حَقٌّ، وَذَلِكَ لِأَنَّكُمْ إِنَّمَا اسْتَدْلَلْتُمْ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُتَوَالِيَةِ وَالْكَلِمَاتِ الْمُتَعَاقِبَةِ مُحْدَثَةً مَخْلُوقَةً، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ وَمَنِ الَّذِي يُنَازِعُكُمْ فِيهِ، بَلْ كَانَ كَلَامُكُمْ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى مَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ بِالضَّرُورَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَلِمَةُ لَعَلَّ لِلتَّمَنِّي وَالتَّرَجِّي وَهُوَ لَا يَلِيقُ بِمَنْ كَانَ عَالِمًا بعواقب الأمور، فكان المراد منها هاهنا: كَيْ أَيْ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِكَيْ تَعْقِلُوا مَعْنَاهُ، وَتُحِيطُوا بِفَحْوَاهُ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فَصَارَ حَاصِلُ الْكَلَامِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِأَجْلِ أَنْ تُحِيطُوا بِمَعْنَاهُ، وَهَذَا يُفِيدُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى مُعَلَّلَةٌ بِالْأَغْرَاضِ وَالدَّوَاعِي وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لِيَهْتَدِيَ بِهِ النَّاسُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنَ الْكُلِّ الْهِدَايَةَ وَالْمَعْرِفَةَ، خِلَافَ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْ الْبَعْضِ الْكُفْرَ وَالْإِعْرَاضَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنِ اسْتِدْلَالَاتِ الْمُعْتَزِلَةِ مَشْهُورٌ، وَأَجْوِبَتُنَا عَنْهُ مَشْهُورَةٌ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَعْلُومٌ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُبْهَمٌ مَجْهُولٌ خِلَافًا لِمَنْ يَقُولُ بَعْضُهُ مَعْلُومٌ وَبَعْضُهُ مَجْهُولٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ إِمِّ الْكِتَابِ بِكَسْرِ الْأَلِفِ وَالْبَاقُونَ بِالضَّمِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْكِتَابِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِأُمِّ الْكِتَابِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ لِقَوْلِهِ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [الْبُرُوجِ: 22] . وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فالصفات المذكورة هاهنا كُلُّهَا صِفَاتُ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. الصِّفَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ أُمِّ الْكِتَابِ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ أَصْلَ كُلِّ شَيْءٍ أُمُّهُ وَالْقُرْآنُ مُثْبَتٌ عِنْدَ اللَّهِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ أُنْزِلَ حَالًا بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا

خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ مَا يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَ» «1» فَالْكِتَابُ عِنْدَهُ فَإِنْ قِيلَ وَمَا الْحِكْمَةُ فِي خَلْقِ هَذَا اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّامُ الْغُيُوبِ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ السَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ؟ قُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَثْبَتَ فِي ذَلِكَ أَحْكَامَ حَوَادِثِ الْمَخْلُوقَاتِ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُشَاهِدُونَ أَنَّ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ إِنَّمَا تَحْدُثُ عَلَى مُوَافَقَةِ ذَلِكَ الْمَكْتُوبِ، اسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى كَمَالِ حِكْمَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ صِفَاتِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ قَوْلُهُ لَدَيْنا هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِنَّمَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا التَّشْرِيفِ لِكَوْنِهِ كِتَابًا جَامِعًا لِأَحْوَالِ جَمِيعِ الْمُحْدَثَاتِ، فَكَأَنَّهُ الْكِتَابُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ مَا يَقَعُ فِي مُلْكِ اللَّهِ وَمَلَكُوتِهِ، فَلَا جَرَمَ حَصَلَ لَهُ هَذَا التَّشْرِيفُ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا صِفَةَ الْقُرْآنِ وَالتَّقْدِيرُ إِنَّهُ لَدَيْنَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: كَوْنُهُ عَلِيًّا وَالْمَعْنَى كَوْنُهُ عَالِيًا عَنْ وُجُوهِ الْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ وَقِيلَ الْمُرَادُ كَوْنُهُ عَالِيًا عَلَى جَمِيعِ الْكُتُبِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ مُعْجِزًا بَاقِيًا عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: كَوْنُهُ حَكِيمًا أَيْ مُحْكَمًا فِي أَبْوَابِ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ، وَقِيلَ حَكِيمٌ أَيْ ذُو حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وَقِيلَ إِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ كُلَّهَا صِفَاتُ الْقُرْآنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ أُمِّ الْكِتَابِ أَنَّهُ الْآيَاتُ الْمُحْكَمَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ [آلِ عِمْرَانَ: 7] وَمَعْنَاهُ أَنَّ سُورَةَ حم وَاقِعَةٌ فِي الْآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ وَالْأُمُّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ إِنْ كُنْتُمْ بِكَسْرِ الْأَلِفِ تَقْدِيرُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُسْرِفِينَ لَا نَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا، وَقِيلَ (إِنَّ) بِمَعْنَى إِذْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْبَقَرَةِ: 278] وَبِالْجُمْلَةِ فَالْجَزَاءُ مُقَدَّمٌ عَلَى الشَّرْطِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْأَلِفِ عَلَى التَّعْلِيلِ أَيْ لِأَنْ كُنْتُمْ مُسْرِفِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ يَقُولُ ضَرَبْتُ عَنْهُ وَأَضْرَبْتُ عَنْهُ أَيْ تَرَكْتُهُ وَأَمْسَكْتُ عَنْهُ وَقَوْلُهُ صَفْحاً أَيْ إِعْرَاضًا وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّكَ تَوَلَّيْتَ بِصَفْحَةِ عُنُقِكَ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً تَقْدِيرُهُ: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمْ إِضْرَابَنَا أَوْ تَقْدِيرُهُ أَفَنَصْفَحُ عَنْكُمْ صَفْحًا، وَاخْتَلَفُوا/ فِي مَعْنَى الذِّكْرِ فَقِيلَ مَعْنَاهُ أَفَنَرُدُّ عَنْكُمْ ذِكْرَ عَذَابِ اللَّهِ، وَقِيلَ أَفَنَرُدُّ عَنْكُمُ النَّصَائِحَ وَالْمَوَاعِظَ، وَقِيلَ أَفَنَرُدُّ عَنْكُمُ الْقُرْآنَ، وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، يعني إنا لا نترك هذا الإعذار والإنذار بِسَبَبِ كَوْنِكُمْ مُسْرِفِينَ، قَالَ قَتَادَةُ: لَوْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ رُفِعَ حِينَ رَدَّهُ أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَهَلَكُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ بِرَحْمَتِهِ كَرَّرَهُ عَلَيْهِمْ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ عِشْرِينَ سَنَةً إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: الرَّحْمَةُ يعني أنا لَا نَتْرُكَكُمْ مَعَ سُوءِ اخْتِيَارِكُمْ بَلْ نُذَكِّرُكُمْ وَنَعِظُكُمْ إِلَى أَنْ تَرْجِعُوا إِلَى الطَّرِيقِ الْحَقِّ الثَّانِي: الْمُبَالَغَةُ فِي التَّغْلِيظِ يَعْنِي أَتَظُنُّونَ أَنْ تُتْرَكُوا مَعَ مَا تُرِيدُونَ، كَلَّا بَلْ نُلْزِمُكُمُ الْعَمَلَ وَنَدْعُوكُمْ إِلَى الدِّينِ وَنُؤَاخِذُكُمْ مَتَى أَخْلَلْتُمْ بِالْوَاجِبِ وَأَقْدَمْتُمْ عَلَى الْقَبِيحِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ أَفَنَضْرِبُ لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَنُهْمِلُكُمْ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ.

_ (1) هكذا في الأصل والعبارة ويظهر أن به سقطا.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 9 إلى 14]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وَالْمَعْنَى أَنَّ عَادَةَ الْأُمَمِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ هُوَ التَّكْذِيبُ وَالِاسْتِهْزَاءُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَتَأَذَّى مِنْ قَوْمِكَ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ لِأَنَّ الْمُصِيبَةَ إِذَا عَمَّتْ خَفَّتْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً يَعْنِي أَنَّ أُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ كَانُوا أَشَدَّ بَطْشًا مِنْ قُرَيْشٍ يَعْنِي أَكْثَرَ عَدَدًا وَجَلَدًا، ثُمَّ قَالَ: وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ سَلَكُوا فِي الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ مَسْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ فَلْيَحْذَرُوا أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مِنَ الْخِزْيِ مِثْلَ مَا نَزَلَ بِهِمْ فَقَدْ ضَرَبْنَا لَهُمْ مَثَلَهُمْ كَمَا قَالَ: وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ [الْفُرْقَانِ: 39] وَكَقَوْلِهِ وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إلى قوله وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ [إبراهيم: 45] والله أعلم. [سورة الزخرف (43) : الآيات 9 الى 14] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمُسْرِفِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَتَقَدَّمَ أَيْضًا ذِكْرُ الْأَنْبِيَاءِ فَقَوْلُهُ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَيُحْتَمَلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفَّارِ إِلَّا أَنَّ الْأَقْرَبَ رُجُوعُهُ إِلَى الْكُفَّارِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّ خَالِقَ السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ مَعَ كَوْنِهِمْ مُقِرِّينَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ وَيُنْكِرُونَ قُدْرَتَهُ عَلَى الْبَعْثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ابْتَدَأَ دَالًّا عَلَى نَفْسِهِ بِذِكْرِ مَصْنُوعَاتِهِ فَقَالَ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَلَوْ كَانَ هذا من جملة كلام الكفار ولوجب أَنْ يَقُولُوا: الَّذِي جَعَلَ لَنَا الْأَرْضَ مَهْدًا، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً لَا يَتَعَلَّقُ إِلَّا بِكَلَامِ اللَّهِ وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ أَنْ يَسْمَعَ الرَّجُلُ رَجُلًا يَقُولُ الَّذِي بَنَى هَذَا الْمَسْجِدَ فُلَانٌ الْعَالِمُ فَيَقُولُ السَّامِعُ لِهَذَا الْكَلَامِ الزَّاهِدُ الْكَرِيمُ كَأَنَّ ذَلِكَ السَّامِعَ يَقُولُ أَنَا أَعْرِفُهُ بِصِفَاتٍ حَمِيدَةٍ فَوْقَ مَا تَعْرِفُهُ فَأَزِيدُ فِي وَصْفِهِ فَيَكُونُ النَّعْتَانِ جَمِيعًا مِنْ رَجُلَيْنِ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ. إِذَا عَرَفْتَ كَيْفِيَّةَ النَّظْمِ فِي الْآيَةِ فَنَقُولُ إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تعالى. الصفة الأولى: كونه خالقا للسموات وَالْأَرْضِ وَالْمُتَكَلِّمُونَ بَيَّنُوا أَنَّ أَوَّلَ الْعِلْمِ بِاللَّهِ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مُحْدِثًا لِلْعَالَمِ فَاعِلًا لَهُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ كَوْنِهِ خَالِقًا، وَهَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا فَسَّرْنَا الْخَلْقَ بِالْإِحْدَاثِ وَالْإِبْدَاعِ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: الْعَزِيزُ وَهُوَ الْغَالِبُ وَمَا لِأَجْلِهِ يُحَصِّلُ الْمَكِنَةَ مِنَ الْغَلَبَةِ هُوَ الْقُدْرَةُ وَكَأَنَّ الْعَزِيزَ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: الْعَلِيمُ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْعِلْمِ، وَاعْلَمْ أَنَّ كَمَالَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ إِذَا حَصَلَ كَانَ الموصوف

بِهِ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى أَثْبَتَ تَعَالَى كَوْنَهُ مَوْصُوفًا بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ ثُمَّ فَرَّعَ عَلَيْهِ سَائِرَ التَّفَاصِيلِ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ كَوْنَ الْأَرْضِ مَهْدًا إِنَّمَا حَصَلَ لِأَجْلِ كَوْنِهَا وَاقِفَةً سَاكِنَةً وَلِأَجْلِ كَوْنِهَا مَوْصُوفَةً بِصِفَاتٍ مَخْصُوصَةٍ بِاعْتِبَارِهَا يُمْكِنُ الانتفاع بها في الزراعة وبناء الأبنية في كَوْنِهَا سَاتِرَةً لِعُيُوبِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَهْدُ مَوْضِعَ الرَّاحَةِ لِلصَّبِيِّ جَعَلَ الْأَرْضَ مَهْدًا لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الرَّاحَاتِ. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَالْمَقْصُودُ أَنَّ انْتِفَاعَ النَّاسِ إِنَّمَا يَكْمُلُ/ إِذَا قَدَرَ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ يَذْهَبَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَمِنْ إِقْلِيمٍ إِلَى إِقْلِيمٍ، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هَيَّأَ تِلْكَ السُّبُلَ وَوَضَعَ عَلَيْهَا عَلَامَاتٍ مَخْصُوصَةً وَإِلَّا لَمَا حَصَلَ هَذَا الِانْتِفَاعُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ يَعْنِي الْمَقْصُودَ مِنْ وَضْعِ السُّبُلِ أَنْ يَحْصُلَ لَكُمُ الْمَكِنَةُ مِنَ الِاهْتِدَاءِ، وَالثَّانِي الْمَعْنَى لِتَهْتَدُوا إِلَى الْحَقِّ فِي الدِّينِ. الصِّفَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وهاهنا مَبَاحِثُ أَحَدُهَا: أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَاءَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، فَهَلِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ أَوْ يُقَالُ إِنَّهُ يَنْزِلُ مِنَ السَّحَابِ وَسُمِّيَ نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ لِأَنَّ كُلَّ مَا سَمَاكَ فَهُوَ سَمَاءٌ؟ وَهَذَا الْبَحْثُ قَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ بِالِاسْتِقْصَاءِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ بِقَدَرٍ أَيْ إِنَّمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَهْلُ تِلْكَ الْبُقْعَةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ لَا كَمَا أَنْزَلَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ بغير قدر حتى أغرقهم بل يقدر حَتَّى يَكُونَ مَعَاشًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً أَيْ خَالِيَةً مِنَ النَّبَاتِ فَأَحْيَيْنَاهَا وَهُوَ الْإِنْشَارُ. ثُمَّ قَالَ: كَذلِكَ تُخْرَجُونَ يَعْنِي أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ كَمَا يَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ فَكَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّهُ يَجْعَلُهُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ الْإِمَاتَةِ كَهَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي أُنْشِرَتْ بَعْدَ مَا كَانَتْ مَيْتَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ وَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنْ يُعِيدَهُمْ وَيُخْرِجَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ بِمَاءٍ كَالْمَنِيِّ كَمَا تَنْبُتُ الْأَرْضُ بِمَاءِ الْمَطَرِ، وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ إِلَّا إِثْبَاتُ الْإِعَادَةِ فَقَطْ دُونَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ. الصِّفَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْأَزْوَاجُ الضُّرُوبُ وَالْأَنْوَاعُ كَالْحُلْوِ وَالْحَامِضِ وَالْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ فَهُوَ زَوْجٌ كَالْفَوْقِ وَالتَّحْتِ وَالْيَمِينِ وَالْيَسَارِ وَالْقُدَّامِ وَالْخَلْفِ وَالْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ وَالذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ وَالصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ وَالرَّبِيعِ وَالْخَرِيفِ، وَكَوْنُهَا أَزْوَاجًا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا مُمْكِنَةَ الْوُجُودِ فِي ذَوَاتِهَا مُحْدَثَةً مَسْبُوقَةً بعدم، فَأَمَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ فَهُوَ الْفَرْدُ الْمُنَزَّهُ عَنِ الضِّدِّ وَالنِّدِّ وَالْمُقَابِلِ وَالْمُعَاضِدِ فَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أَيْ كُلُّ مَا هو زوج فهو مخلوق، فدل هذا عَلَى أَنَّ خَالِقَهَا فَرْدٌ مُطْلَقٌ مُنَزَّهٌ عَنِ الزَّوْجِيَّةِ، وَأَقُولُ أَيْضًا الْعُلَمَاءُ بِعِلْمِ الْحِسَابِ بَيَّنُوا أَنَّ الْفَرْدَ أَفْضَلُ مِنَ الزَّوْجِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَقَلَّ الْأَزْوَاجِ هُوَ الِاثْنَانِ وَهُوَ لَا يُوجَدُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ وَحْدَتَيْنِ فَالزَّوْجُ يَحْتَاجُ إِلَى الْفَرْدِ وَالْفَرْدُ وَهُوَ الْوَحْدَةُ غَنِيَّةٌ عَنِ الزَّوْجِ وَالْغَنِيُّ أَفْضَلُ مِنَ الْمُحْتَاجِ الثَّانِي: أَنَّ الزَّوْجَ يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ بِقِسْمَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ وَالْفَرْدُ هُوَ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ وَقَبُولُ الْقِسْمَةِ انْفِعَالٌ وَتَأَثُّرٌ وَعَدَمُ قَبُولِهَا قُوَّةٌ وَشِدَّةٌ

وَمُقَاوَمَةٌ فَكَانَ الْفَرْدُ أَفْضَلَ مِنَ الزَّوْجِ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَدَدَ الْفَرْدَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَحَدُ قِسْمَيْهِ زَوْجًا وَالثَّانِي فَرْدًا فَالْعَدَدُ الْفَرْدُ حَصَلَ فِيهِ الزَّوْجُ وَالْفَرْدُ مَعًا، وَأَمَّا الْعَدَدُ الزَّوْجُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ قِسْمَيْهِ زَوْجًا وَالْمُشْتَمِلُ عَلَى الْقِسْمَيْنِ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي/ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ الرَّابِعُ: أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ قِسْمَيْهِ مُعَادِلًا لِلْقِسْمِ الْآخَرِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْمِقْدَارِ، وَإِذَا كَانَ كُلُّ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْكَمَالِ فَمِثْلُهُ حَاصِلٌ لِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ هُوَ كَامِلًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَمَّا الْفَرْدُ فَالْفَرْدِيَّةُ كَائِنَةٌ لَهُ خَاصَّةً لَا لِغَيْرِهِ وَلَا لِمِثْلِهِ فكماله حاصلا لَهُ لَا لِغَيْرِهِ فَكَانَ أَفْضَلَ الْخَامِسُ: أَنَّ الزَّوْجَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ قِسْمَيْهِ مُشَارِكًا لِلْقِسْمِ الْآخَرِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ وَمُغَايِرًا لَهُ فِي أُمُورٍ أُخْرَى وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُخَالَفَةُ فَكُلُّ زَوْجَيْنِ فَهُمَا مُمْكِنَا الْوُجُودِ لِذَاتَيْهِمَا وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَهُوَ مُحْتَاجٌ فَثَبَتَ أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ مَنْشَأُ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ، وَأَمَّا الْفَرْدَانِيَّةُ فَهِيَ مَنْشَأُ الِاسْتِغْنَاءِ وَالِاسْتِقْلَالِ لِأَنَّ الْعَدَدَ مُحْتَاجٌ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْوَحَدَاتِ، وَأَمَّا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْوَحَدَاتِ فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَزْوَاجَ مُمْكِنَاتٌ وَمُحْدَثَاتٌ وَمَخْلُوقَاتٌ وَأَنَّ الْفَرْدَ هو القائم بذاته المستقبل بِنَفَسِهِ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها. الصِّفَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّفَرَ إِمَّا سَفَرُ الْبَحْرِ أَوِ الْبَرِّ، أَمَّا سَفَرُ الْبَحْرِ فَالْحَامِلُ هُوَ السَّفِينَةُ، وَأَمَّا سَفَرُ الْبَرِّ فَالْحَامِلُ هُوَ الأنعام وهاهنا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ عَلَى ظُهُورِهَا؟ أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ التَّذْكِيرُ لِقَوْلِهِ مَا وَالتَّقْدِيرُ مَا تَرْكَبُونَ الثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ أَضَافَ الظُّهُورَ إِلَى وَاحِدٍ فِيهِ مَعْنَى الْجَمْعِ بِمَنْزِلِ الْجَيْشِ وَالْجُنْدِ، وَلِذَلِكَ ذَكَّرَ وَجَمَعَ الظُّهُورَ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا التَّأْنِيثَ لَيْسَ تَأْنِيثًا حَقِيقِيًّا فَجَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ اللَّفْظُ فِيهِ كَمَا يُقَالُ عِنْدِي مِنْ النِّسَاءِ مَنْ يُوَافِقُكَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: يُقَالُ رَكِبُوا الْأَنْعَامَ وَرَكِبُوا فِي الْفُلْكِ وَقَدْ ذَكَرَ الْجِنْسَيْنِ فَكَيْفَ قَالَ تَرْكَبُونَ؟ وَالْجَوَابُ: غَلَّبَ الْمُتَعَدِّيَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ لِقُوَّتِهِ عَلَى الْمُتَعَدِّي بِوَاسِطَةٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَمَعْنَى ذِكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ، أَنْ يَذْكُرُوهَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَذَلِكَ الذِّكْرُ هُوَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ وَجْهَ الْبَحْرِ، وَخَلَقَ الرِّيَاحَ، وَخَلَقَ جِرْمَ السَّفِينَةِ عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ الْإِنْسَانُ مِنْ تَصْرِيفِ هَذِهِ السَّفِينَةِ إِلَى أَيِّ جَانِبٍ شَاءَ وَأَرَادَ، فَإِذَا تَذَكَّرُوا أَنَّ خَلْقَ الْبَحْرِ، وَخَلْقَ الرِّيَاحِ، وَخَلْقَ السَّفِينَةِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الْقَابِلَةِ لِتَصْرِيفَاتِ الْإِنْسَانِ وَلِتَحْرِيكَاتِهِ لَيْسَ مِنْ تَدْبِيرِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَدْبِيرِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ، عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الِانْقِيَادِ وَالطَّاعَةِ لَهُ تَعَالَى، وَعَلَى الِاشْتِغَالِ بِالشُّكْرِ لِنِعَمِهِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى عَيَّنَ ذِكْرًا مُعَيَّنًا لِرُكُوبِ السَّفِينَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هُودٍ: 41] وَذِكْرًا آخَرَ لِرُكُوبِ الْأَنْعَامِ، وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَذَكَرَ عِنْدَ دُخُولِ الْمَنَازِلِ/ ذِكْرًا آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 29] وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ الدَّابَّةَ الَّتِي يَرْكَبُهَا الْإِنْسَانُ، لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ قُوَّةً مِنَ الْإِنْسَانِ بِكَثِيرٍ، وَلَيْسَ لَهَا عَقْلٌ يَهْدِيهَا إِلَى طَاعَةِ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنَّهُ سبحانه

[سورة الزخرف (43) : الآيات 15 إلى 19]

خَلَقَ تِلْكَ الْبَهِيمَةَ عَلَى وُجُوهٍ مَخْصُوصَةٍ فِي خَلْقِهَا الظَّاهِرِ، وَفِي خَلْقِهَا الْبَاطِنِ يَحْصُلُ مِنْهَا هَذَا الِانْتِفَاعُ، أَمَّا خَلْقُهَا الظَّاهِرُ: فَلِأَنَّهَا تَمْشِي عَلَى أَرْبَعِ قَوَائِمَ، فَكَانَ ظَاهِرُهَا كَالْمَوْضِعِ الَّذِي يَحْسُنُ اسْتِقْرَارُ الْإِنْسَانِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا خَلْقُهَا الْبَاطِنُ، فَلِأَنَّهَا مَعَ قُوَّتِهَا الشَّدِيدَةِ قَدْ خَلَقَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِحَيْثُ تَصِيرُ مُنْقَادَةً لِلْإِنْسَانِ وَمُسَخَّرَةً لَهُ، فَإِذَا تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ فِي هَذِهِ الْعَجَائِبِ وَغَاصَ بِعَقْلِهِ فِي بِحَارِ هَذِهِ الْأَسْرَارِ، عَظُمَ تَعَجُّبُهُ مِنْ تِلْكَ الْقُدْرَةِ الْقَاهِرَةِ وَالْحِكْمَةِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَقُولَ سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فُلَانٌ مُقْرِنٌ لِفُلَانٍ، أَيْ ضَابِطٌ لَهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَكَأَنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنْ قَوْلِكَ ضرب له قرنا، ومعن أَنَا قِرْنٌ لِفُلَانٍ، أَيْ مِثَالُهُ فِي الشِّدَّةِ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا مِنَ الْقُوَّةِ وَالطَّاقَةِ أَنْ نَقْرِنَ هَذِهِ الدَّابَّةَ وَالْفُلْكَ وَأَنْ نَضْبُطَهَا، فَسُبْحَانَ مَنْ سَخَّرَهَا لَنَا بِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، رَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا وَضَعَ رِجْلَيْهِ فِي الرِّكَابِ قَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ، فَإِذَا اسْتَوَى عَلَى الدَّابَّةِ، قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا، إِلَى قَوْلِهِ لَمُنْقَلِبُونَ» وَرَوَى الْقَاضِي فِي «تَفْسِيرِهِ» : عَنْ أَبِي مَخْلَدٍ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: رَأَى رَجُلًا رَكِبَ دَابَّةً، فَقَالَ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا، فَقَالَ لَهُ مَا بِهَذَا أُمِرْتَ، أُمِرْتَ أَنْ تَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، ثُمَّ تَقُولَ: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَافَرَ وَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ، كَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ يَقُولُ: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِي سَفَرِي هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا السَّفَرَ وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَ الْأَرْضِ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ عَلَى الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا فِي سَفَرِنَا، وَاخْلُفْنَا فِي أَهْلِنَا» وَكَانَ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ يَقُولُ «آئبون تَائِبُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ فَذَكَرَهُ بِلَامِ كَيْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنَّا هَذَا الْفِعْلَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ الْكُفْرَ مِنْهُ، وَأَرَادَ الْإِصْرَارَ عَلَى الْإِنْكَارِ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ لِتَسْتَوُوا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ مُعَلَّلٌ بِالْأَغْرَاضِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ خَلْقَ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى هَذِهِ الطَّبَائِعِ إِنَّمَا كَانَ لِغَرَضِ أَنْ يَصْدُرَ الشُّكْرُ عَلَى الْعَبْدِ، فَلَوْ كَانَ فِعْلُ الْعَبْدِ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى، لَكَانَ مَعْنَى الْآيَةِ إِنِّي خَلَقْتُ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ لِأَجْلِ أَنْ أَخْلُقَ سُبْحَانَ اللَّهِ فِي لِسَانِ الْعَبْدِ: وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ هَذَا اللفظ في لسانه بدون هذه الوسائط. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ مَعْلُومٌ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ اتِّصَالِ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ أَنَّ رُكُوبَ الْفُلْكِ فِي خَطَرِ الْهَلَاكِ، فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا تَنْكَسِرُ السَّفِينَةُ وَيَهْلِكُ الْإِنْسَانُ وَرَاكِبُ الدَّابَّةِ أَيْضًا كَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّابَّةَ قَدْ يَتَّفِقُ لَهَا اتِّفَاقَاتٌ تُوجِبُ هَلَاكَ الرَّاكِبِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَرُكُوبُ الْفُلْكِ وَالدَّابَّةِ يُوجِبُ تَعْرِيضَ النَّفْسِ لِلْهَلَاكِ، فَوَجَبَ عَلَى الرَّاكِبِ أَنْ يَتَذَكَّرَ أَمْرَ الْمَوْتِ، وَأَنْ يَقْطَعَ أَنَّهُ هَالِكٌ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّهُ مُنْقَلِبٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرُ مُنْقَلِبٍ مِنْ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، حَتَّى لَوِ اتَّفَقَ لَهُ ذَلِكَ الْمَحْذُورُ كان قد وطن نفسه على الموت. [سورة الزخرف (43) : الآيات 15 الى 19] وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ «1» [الزخرف: 9] بَيَّنَ أَنَّهُمْ مَعَ إِقْرَارِهِمْ بِذَلِكَ، جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى قِلَّةِ عُقُولِهِمْ وَسَخَافَةِ عُقُولِهِمْ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: جُزْءٌ بِضَمِّ الزَّايِ وَالْهَمْزَةِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ وَهُمَا لُغَتَانِ، وَأَمَّا حَمْزَةُ فَإِذَا وَقَفَ عَلَيْهِ قَالَ جُزًا بِفَتْحِ الزَّايِ بِلَا هَمْزَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا لَهُ وَلَدًا، وَتَقْرِيرُ الْكَلَامِ أَنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ جُزْءٌ مِنْهُ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي» وَلِأَنَّ الْمَعْقُولَ مِنَ الْوَالِدِ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، ثُمَّ يَتَرَبَّى ذَلِكَ الْجُزْءُ وَيَتَوَلَّدُ مِنْهُ شَخْصٌ مِثْلُ ذَلِكَ الْأَصْلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَوَلَدُ الرَّجُلِ جُزْءٌ مِنْهُ وَبَعْضٌ مِنْهُ، / فَقَوْلُهُ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً مَعْنَى جَعَلُوا حَكَمُوا وَأَثْبَتُوا وَقَالُوا بِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا لَهُ جُزْءًا، وَذَلِكَ الْجُزْءُ هُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ قَالَ وَجَعَلُوا لِعِبَادِهِ مِنْهُ جُزْءًا، أَفَادَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا أَنَّهُ حَصَلَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ فِي بَعْضِ عِبَادِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْوَلَدُ، فَكَذَا قَوْلُهُ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً مَعْنَاهُ وَأَثْبَتُوا لَهُ جُزْءًا، وَذَلِكَ الْجُزْءُ هُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا لِلَّهِ وَلَدًا، وَذَكَرُوا فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهًا أُخَرَ، فَقَالُوا الْجُزْءُ هُوَ الْأُنْثَى فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَاحْتَجُّوا فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ اللُّغَةِ بِبَيْتَيْنِ فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ: إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْمًا فَلَا عَجَبَ ... قَدْ تُجْزِئُ الحرة المذكاة أحيانا وقوله: زوجتها من نبات الْأَوْسِ مُجْزِئَةً ... لِلْعَوْسَجِ اللَّدْنِ فِي أَبْيَاتِهَا غَزَلُ وَزَعَمَ الزَّجَّاجُ وَالْأَزْهَرِيُّ وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَنَّ هَذِهِ اللُّغَةَ فَاسِدَةٌ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ مَصْنُوعَةٌ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِثْبَاتُ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَثْبَتُوا الشُّرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ كُلَّ الْعِبَادِ لَيْسَ لِلَّهِ، بَلْ بَعْضُهَا لِلَّهِ، وَبَعْضُهَا لِغَيْرِ اللَّهِ، فَهُمْ مَا جَعَلُوا لِلَّهِ مِنْ عِبَادِهِ كُلِّهِمْ، بَلْ جَعَلُوا لَهُ مِنْهُمْ بَعْضًا وَجُزْءًا مِنْهُمْ، قَالُوا وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى مِنْ الْأَوَّلِ، أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى إِنْكَارِ الشَّرِيكِ لِلَّهِ، وَحَمَلْنَا الآية التي بعدها على إِنْكَارِ الْوَلَدِ لِلَّهِ، كَانَتِ الْآيَةُ جَامِعَةً لِلرَّدِّ عَلَى جَمِيعِ الْمُبْطِلِينَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ إِثْبَاتَ الولد لله محال،

_ (1) في تفسير الرازي المطبوع لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وهي تتطابق مع سورة الزمر، الآية 38، والرازي يقول: «اعلم أنه تعالى لما قال» فمقصده أن تكون الآية من سورة الزخرف فليتنبه.

وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَثْبُتَ الْوَلَدُ فَجَعْلُهُ بِنْتًا أَيْضًا مُحَالٌ، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ إِثْبَاتَ الْوَلَدِ لِلَّهِ مُحَالٌ، فَلِأَنَّ الْوَلَدَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنَ الْوَالِدِ، وَمَا كَانَ لَهُ جُزْءٌ كَانَ مُرَكَّبًا، وَكُلُّ مُرَكَّبٍ مُمْكِنٌ، وَأَيْضًا مَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ الِاتِّصَالَ وَالِانْفِصَالَ وَالِاجْتِمَاعَ وَالِافْتِرَاقَ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ عَبْدٌ مُحْدَثٌ، فَلَا يَكُونُ إِلَهًا قَدِيمًا أَزَلِيًّا. وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ بِنْتًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِابْنَ أَفْضَلُ مِنَ الْبِنْتِ، فَلَوْ قُلْنَا إِنَّهُ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ الْبَنَاتَ وَأَعْطَى الْبَنِينَ لِعِبَادِهِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْعَبْدِ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ مِنْ حَالِ اللَّهِ، وَذَلِكَ مَدْفُوعٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ، يُقَالُ أَصْفَيْتُ فُلَانًا بِكَذَا، أَيْ آثَرْتُهُ بِهِ إِيثَارًا حَصَلَ لَهُ عَلَى سَبِيلِ الصَّفَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ مُشَارِكٌ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ [الإسراء: 40] ثُمَّ بَيَّنَ نُقْصَانَ الْبَنَاتِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي بَلَغَ حَالُهُ فِي النَّقْصِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ كَيْفَ يَجُوزُ لِلْعَاقِلِ إِثْبَاتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى! وَعَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّ امْرَأَتَهُ وَضَعَتْ أُنْثَى، فَهَجَرَ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الْمَرْأَةُ، فَقَالَتْ: مَا لِأَبِي حَمْزَةَ لَا يَأْتِينَا ... يَظَلُّ فِي البيت الذي يلينا غضبان أَنْ لَا نَلِدَ الْبَنِينَا ... لَيْسَ لَنَا مِنْ أمرنا ماشينا وَإِنَّمَا نَأْخُذُ مَا أُعْطِينَا «1» وَقَوْلُهُ ظَلَّ أَيْ صَارَ، كَمَا يُسْتَعْمَلُ أَكْثَرُ الْأَفْعَالِ النَّاقِصَةِ، قَالَ صاحب «الكشاف» : قرئ مسود ومسواد، وَالتَّقْدِيرُ وَهُوَ مُسْوَدٌّ، فَتَقَعُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَوْقِعَ الخبر والثاني: قوله أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وحفص عن عاصم ينشؤ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَيْ يُرَبَّى، وَالْبَاقُونَ يُنْشَأُ، بِضَمِّ الْيَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الشِّينِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقُرِئَ يُنَاشَأُ، قَالَ وَنَظِيرُ الْمُنَاشَأَةِ بِمَعْنَى الْإِنْشَاءِ، الْمُغَالَاةُ بِمَعْنَى الْإِغْلَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثانية: المراد من قوله أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى نُقْصَانِهَا، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يُرَبَّى فِي الْحِلْيَةِ يَكُونُ نَاقِصَ الذَّاتِ، لِأَنَّهُ لَوْلَا نُقْصَانٌ فِي ذَاتِهَا لَمَا احْتَاجَتْ إِلَى تَزْيِينِ نَفْسِهَا بِالْحِلْيَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ نُقْصَانَ حَالِهَا بِطَرِيقٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ يَعْنِي أَنَّهَا إِذَا احْتَاجَتِ الْمُخَاصَمَةَ وَالْمُنَازَعَةَ عَجَزَتْ وَكَانَتْ غَيْرَ مُبِينٍ، وَذَلِكَ لِضَعْفِ لِسَانِهَا وَقِلَّةِ عَقْلِهَا وَبَلَادَةِ طَبْعِهَا، وَيُقَالُ قَلَّمَا تَكَلَّمَتِ امْرَأَةٌ فَأَرَادَتْ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِحُجَّتِهَا إِلَّا تَكَلَّمَتْ بِمَا كَانَ حُجَّةً عَلَيْهَا، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ نَقْصِهَا، فَكَيْفَ يَجُوزُ إِضَافَتُهَنَّ بِالْوَلَدِيَّةِ إِلَيْهِ! الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ التَّحَلِّيَ مُبَاحٌ لِلنِّسَاءِ، وَأَنَّهُ حَرَامٌ لِلرِّجَالِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَايِبِ وَمُوجِبَاتِ النُّقْصَانِ، وَإِقْدَامُ الرَّجُلِ عَلَيْهِ يَكُونُ إِلْقَاءً لِنَفْسِهِ فِي الذُّلِّ وَذَلِكَ حَرَامٌ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» وَإِنَّمَا زِينَةُ الرَّجُلِ الصَّبْرُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَالتَّزَيُّنُ بِزِينَةِ التَّقْوَى، قَالَ الشَّافِعِيُّ: تَدَرَّعْتُ يَوْمًا لِلْقُنُوعِ حَصِينَةً ... أَصُونُ بِهَا عِرْضِي وَأَجْعَلُهَا ذُخْرَا وَلَمْ أَحْذَرِ الدَّهْرَ الْخَئُونَ وَإِنَّمَا ... قُصَارَاهُ أَنْ يَرْمِي بِيَ الْمَوْتَ وَالْفَقْرَا فَأَعْدَدْتُ لِلْمَوْتِ الْإِلَهَ وَعَفْوَهُ ... وأعددت للفقر التجلد والصبرا

_ (1) لهذا الرجز تتمة أو هي رواية أخرى رواها الجاحظ في «البيان والتبيين» : كأنما ذلك في أيدينا ... ونحن كالأرض لزارعينا نخرج ما قد بذروه فينا

[سورة الزخرف (43) : الآيات 20 إلى 25]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: جَعَلُوا، أَيْ حَكَمُوا بِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا خَلْقَهُمْ، وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَأَمَّا الدَّلَائِلُ النَّقْلِيَّةُ فَكُلُّهَا مُفَرَّعَةٌ عَلَى إِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ، وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ مُنْكِرُونَ لِلنُّبُوَّةِ، فَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ بِالدَّلَائِلِ النَّقْلِيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا هَذِهِ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ أَنْ عَرَفُوهُ لَا بِضَرُورَةٍ وَلَا بِدَلِيلٍ، ثُمَّ إنه تعالى هددهم فقال: سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ مُنْكَرٌ، وَأَنَّ التَّقْلِيدَ يُوجِبُ الذَّمَّ الْعَظِيمَ وَالْعِقَابَ الشَّدِيدَ. قَالَ أَهْلُ/ التَّحْقِيقِ: هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ كَفَرُوا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَوَّلُهَا: إِثْبَاتُ الْوَلَدِ لِلَّهِ تَعَالَى وَثَانِيهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ بِنْتٌ وَثَالِثُهَا: الْحُكْمُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِالْأُنُوثَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ: (عِنْدَ الرَّحْمَنِ) بِالنُّونِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَاتِمٍ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُوَافِقُ قَوْلَهُ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [الْأَعْرَافِ: 206] وَقَوْلَهُ وَمَنْ عِنْدَهُ [الْأَنْبِيَاءِ: 19] وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ الْخَلْقِ عِبَادُهُ فَلَا مَدْحَ لَهُمْ فِيهِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَكُونُونَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ، لَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، فَكَيْفَ عَرَفُوا كَوْنَهُمْ إِنَاثًا؟ وأما الباقون فقرأوا عِبَادُ جَمْعَ عَبْدٍ وَقِيلَ جَمْعُ عَابِدٍ، كَقَائِمٍ وَقِيَامٍ، وَصَائِمٍ وَصِيَامٍ، وَنَائِمٍ وَنِيَامٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ لِأَنَّهُ تَعَالَى رَدَّ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ: إِنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ قَوْلُهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِياءِ: 26] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ نافع وحده: ءاأشهدوا بِهَمْزَةٍ وَمَدَّةٍ بَعْدَهَا خَفِيفَةٍ لَيِّنَةٍ وَضَمَّةٍ، أَيْ [أَ] أُحْضِرُوا خَلْقَهُمْ، وَعَنْ نَافِعٍ غَيْرُ مَمْدُودٍ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالْبَاقُونَ: أَشَهِدُوا، بِفَتْحِ الْأَلِفِ، مِنْ [أَ] شَهِدُوا، أَيْ أَحَضَرُوا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِتَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ أَمَّا قِرَاءَةُ (عِنْدَ) بِالنُّونِ، فَهَذِهِ الْعِنْدِيَّةُ لَا شَكَّ أَنَّهَا عِنْدِيَّةُ الْفَضْلِ وَالْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ الطَّاعَةِ، وَلَفْظَةُ (هُمْ) تُوجِبُ الْحَصْرَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ هُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِهَذِهِ الْعِنْدِيَّةِ لَا غَيْرُهُمْ، فَوَجَبَ كَوْنُهُمْ أَفْضَلَ مَنْ غَيْرِهِمْ رِعَايَةً لِلَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْحَصْرِ، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ (عِبَادُ) جَمْعَ الْعَبْدِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لَفْظَ الْعِبَادِ مَخْصُوصٌ فِي الْقُرْآنِ بِالْمُؤْمِنِينَ فَقَوْلُهُ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ يُفِيدُ حَصْرَ الْعُبُودِيَّةِ فِيهِمْ، فَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ دَالًّا عَلَى الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ، كَانَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى حَصْرِ الْعُبُودِيَّةِ دَالًّا عَلَى حَصْرِ الْفَضْلِ وَالْمَنْقَبَةِ وَالشَّرَفِ فِيهِمْ وَذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَهُمْ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة الزخرف (43) : الآيات 20 الى 25] وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى نَوْعًا آخَرَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَشُبُهَاتِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ فِي أَنَّ كُفْرَ الْكَافِرِ يَقَعُ بِإِرَادَةِ اللَّهِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ وَهَذَا صَرِيحُ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَهُ بِقَوْلِهِ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ فَثَبَتَ أَنَّهُ حَكَى مَذْهَبَ الْمُجْبِرَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِالْإِبْطَالِ وَالْإِفْسَادِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ بَاطِلٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا إِلَى قَوْلِهِ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ، [الْأَنْعَامِ: 148] وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْوَاعَ كُفْرِهِمْ فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً [الزخرف: 15] ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: 19] ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ فَلَمَّا حَكَى هَذِهِ الْأَقَاوِيلَ الثَّلَاثَةَ بَعْضَهَا عَلَى إِثْرِ بَعْضٍ، وَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ كُفْرٌ مَحْضٌ فَكَذَلِكَ هَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاحِدِيَّ أَجَابَ فِي «الْبَسِيطِ» عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِمُ الْمَلَائِكَةُ إِنَاثٌ وَإِلَى قَوْلِهِمُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ أَنَّهُ أَمَرَنَا بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ رَضِيَ بِذَلِكَ، وَأَقَرَّنَا عَلَيْهِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي الْجَوَابِ، وَعِنْدِي هَذَانِ الْوَجْهَانِ ضَعِيفَانِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْقَوْمِ قَوْلَيْنِ بَاطِلَيْنِ، وَبَيَّنَ وَجْهَ بُطْلَانِهِمَا، ثُمَّ حَكَى بَعْدَهُ مَذْهَبًا ثَالِثًا فِي مَسْأَلَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ عَنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، ثُمَّ حَكَمَ بِالْبُطْلَانِ وَالْوَعِيدِ فَصَرَفَ هَذَا الْإِبْطَالَ عَنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَقِيبَهُ إِلَى كَلَامٍ مُتَقَدِّمٍ أَجْنَبِيٍّ عَنْهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ مُتَعَلِّقٌ بِتِلْكَ الْمَشِيئَةِ، وَالْإِجْمَالُ خِلَافُ الدَّلِيلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَلَّا نَعْبُدَهُمْ مَا عَبَدْنَاهُمْ، وَكَلِمَةُ لَوْ تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ مَشِيئَةُ اللَّهِ لِعَدَمِ عِبَادَتِهِمْ، وَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِ الْمُجْبِرَةِ، فَالْإِبْطَالُ وَالْإِفْسَادُ يَرْجِعُ إِلَى هَذَا/ الْمَعْنَى، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَجَابَ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِأَنْ قَالَ إِنَّهُمْ إِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ الْكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ اسْتَوْجَبُوا الطَّعْنَ وَالذَّمَّ، وَأَجَابَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا مُسْتَهْزِئِينَ، وَادِّعَاءُ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَاطِلٌ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَهِيَ: أَنَّهُمْ جعلوا له من عباده جزءا وَأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا، وَأَنَّهُمْ قَالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ الذَّمُّ عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوهُ عَلَى طَرِيقِ الْجِدِّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي حِكَايَةِ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ كَذَلِكَ، فَلَزِمَ أَنَّهُمْ لَوْ نَطَقُوا بِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْجِدِّ أَنْ يَكُونُوا مُحِقِّينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كُفْرٌ، وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الطَّعْنَ فِي الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ إِنَّمَا تَوَجَّهَ عَلَى نَفْسِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَفِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ لَا عَلَى نَفْسِهِ بَلْ عَلَى إِيرَادِهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، فَهَذَا يُوجِبُ تَشْوِيشَ النَّظْمِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي كَلَامِ اللَّهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ الْحَقَّ عِنْدِي عَنْ هَذَا الْكَلَامِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا ذَكَرُوا هَذَا الْكَلَامَ لِأَنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْكُفْرِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وُرُودُ الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ فَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْأَمْرَ وَالْإِرَادَةَ يَجِبُ كَوْنُهُمَا مُتَطَابِقَيْنِ، وَعِنْدَنَا أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ فَالْقَوْمُ لَمْ يَسْتَحِقُّوا الذَّمَّ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ بَلْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ قَالُوا لَمَّا أَرَادَ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ وَجَبَ أَنْ يَقْبُحَ مِنْهُ أَمْرُ الْكَافِرِ بِالْإِيمَانِ، وَإِذَا صَرَفْنَا الذَّمَّ وَالطَّعْنَ إِلَى هَذَا الْمَقَامِ سَقَطَ اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَتَمَامُ التَّقْرِيرِ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ ذَلِكَ الْمَذْهَبَ الْبَاطِلَ قَالَ: مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ وَتَقْرِيرُهُ كَأَنَّهُ قِيلَ إِنَّ الْقَوْمَ يَقُولُونَ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ وَخَلَقَ فِيهِ مَا أَوْجَبَ ذَلِكَ الْكُفْرَ وَجَبَ أَنْ يَقْبُحَ مِنْهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْإِيمَانِ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّكْلِيفِ قَبِيحٌ فِي الشَّاهِدِ فَيَكُونُ قَبِيحًا فِي الْغَائِبِ فَقَالَ تَعَالَى: مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أَيْ مَا لَهُمْ بِصِحَّةِ هَذَا الْقِيَاسِ مِنْ عِلْمٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْوَاحِدِ مِنَّا وَأَحْكَامَهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ لِأَجْلِ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِحُصُولِ الْمَصَالِحِ وَيَسْتَضِرُّ بِحُصُولِ الْمَفَاسِدِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ صَرِيحَ طَبْعِهِ وَعَقْلِهِ يَحْمِلُهُ عَلَى بِنَاءِ أَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ عَلَى رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ، أَمَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ وَلَا يَضُرُّهُ شَيْءٌ فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَبْنِي أَحْكَامَهُ وَأَفْعَالَهُ عَلَى رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ مَعَ ظُهُورِ هَذَا الْفَارِقِ الْعَظِيمِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أَيْ مَا لَهُمْ بِصِحَّةِ قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ فِي هَذَا الْبَابِ عِلْمٌ. ثُمَّ قَالَ: إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أَيْ كَمَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ صِحَّةُ ذَلِكَ الْقِيَاسِ فَقَدْ ثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ كَوْنُهُمْ كَذَّابِينَ خَرَّاصِينَ فِي ذَلِكَ الْقِيَاسِ لِأَنَّ قِيَاسَ الْمُنَزَّهِ عَنِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ عَلَى الْمُحْتَاجِ الْمُنْتَفِعِ الْمُتَضَرِّرِ قِيَاسٌ بَاطِلٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ. ثُمَّ قَالَ: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ يَعْنِي أَنَّ الْقَوْلَ الْبَاطِلَ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ عَرَفُوا صِحَّتَهُ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالنَّقْلِ، أَمَّا إِثْبَاتُهُ بِالْعَقْلِ فَهُوَ بَاطِلٌ لِقَوْلِهِ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ وَأَمَّا إِثْبَاتُهُ بِالنَّقْلِ فَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ لِقَوْلِهِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ مِنْ قَبْلِهِ لِلْقُرْآنِ أَوْ لِلرَّسُولِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ [هَلْ] وَجَدُوا ذَلِكَ الْبَاطِلَ فِي كِتَابٍ مُنَزَّلٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ حَتَّى جَازَ لَهُمْ أَنْ يُعَوِّلُوا عَلَيْهِ، وَأَنْ يَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ ذِكْرُهُ فِي مَعْرِضِ الْإِنْكَارِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ لَا دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ وَلَا دَلِيلٌ نَقْلِيٌّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِهِ بَاطِلًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ الْبَتَّةَ بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ حَامِلٌ يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ إِلَّا التَّقْلِيدُ الْمَحْضُ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ تَمَسُّكَ الْجُهَّالِ بِطَرِيقَةِ التَّقْلِيدِ أَمْرٌ كَانَ حَاصِلًا مِنْ قَدِيمِ الدَّهْرِ فَقَالَ: وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ عَلَى إِمَّةٍ بِالْكَسْرِ وَكِلْتَاهُمَا مِنَ الْأَمِّ وَهُوَ الْقَصْدُ، فَالْأُمَّةُ الطَّرِيقَةُ الَّتِي تُؤَمُّ أَيْ تُقْصَدُ كَالرِّحْلَةِ لِلْمَرْحُولِ إِلَيْهِ، وَالْإِمَّةُ الْحَالَةُ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الْآمُّ وَهُوَ الْقَاصِدُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا هَذِهِ الْآيَاتُ لَكَفَتْ فِي إِبْطَالِ الْقَوْلِ بِالتَّقْلِيدِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى

[سورة الزخرف (43) : الآيات 26 إلى 30]

بَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ لَمْ يَتَمَسَّكُوا فِي إِثْبَاتِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ لَا بِطَرِيقٍ عَقْلِيٍّ وَلَا بِدَلِيلٍ نَقْلِيٍّ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِمُجَرَّدِ تَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَالْأَسْلَافِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْمَعَانِيَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ وَالتَّهْجِينِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّقْلِيدِ بَاطِلٌ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ الْعَقْلِ أَنَّ التَّقْلِيدَ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ المبطل وبين المحق وذلك لأنه كم حَصَلَ لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ قَوْمٌ مِنَ الْمُقَلِّدَةِ فَكَذَلِكَ حَصَلَ لِأَضْدَادِهِمْ أَقْوَامٌ مِنَ الْمُقَلِّدَةِ فَلَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ طَرِيقًا إِلَى الْحَقِّ لَوَجَبَ كَوْنُ الشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ حَقًّا وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى الْقَوْلِ بِالتَّقْلِيدِ وَالْحَامِلَ عَلَيْهِ، إِنَّمَا هُوَ حُبُّ التنعم فِي طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا وَحُبُّ الْكَسَلِ وَالْبِطَالَةِ وَبُغْضُ تَحَمُّلِ مَشَاقِّ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِقَوْلِهِ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَالْمُتْرَفُونَ هُمُ الَّذِينَ أَتْرَفَتْهُمُ النِّعْمَةُ أَيْ أَبْطَرَتْهُمْ فَلَا يُحِبُّونَ إِلَّا الشَّهَوَاتِ وَالْمَلَاهِيَ وَيُبْغَضُونَ تَحَمُّلَ الْمَشَاقِّ فِي طَلَبِ الْحَقِّ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا عَلِمْتَ أَنَّ رَأْسَ جَمِيعِ الْآفَاتِ حُبُّ الدُّنْيَا وَاللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَرَأْسَ جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ هُوَ حُبُّ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، فَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ» . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ: قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ أَيْ بِدِينٍ أَهْدَى مِنْ دِينِ آبَائِكُمْ فَعِنْدَ هَذَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّا ثَابِتُونَ عَلَى دِينِ آبَائِنَا لَا نَنْفَكُّ عَنْهُ وَإِنْ جِئْتَنَا بِمَا/ هُوَ أَهْدَى فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ وَإِنْ كَانَ أَهْدَى مِمَّا كُنَّا عَلَيْهِ، فَعِنْدَ هَذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ عُذْرٌ وَلَا عِلَّةٌ، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَهْدِيدُ الْكُفَّارِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 30] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لِأُولَئِكَ الْكُفَّارِ دَاعٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى تِلْكَ الْأَقَاوِيلِ الْبَاطِلَةِ إِلَّا تَقْلِيدُ الْآبَاءِ وَالْأَسْلَافِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ طَرِيقٌ بَاطِلٌ وَمَنْهَجٌ فَاسِدٌ، وَأَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الدَّلِيلِ أَوْلَى مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَى التَّقْلِيدِ، أَرْدَفَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا ذِكْرُ وَجْهٍ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ بِالتَّقْلِيدِ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ تَبَرَّأَ عَنْ دِينِ آبَائِهِ بِنَاءً عَلَى الدَّلِيلِ فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَقْلِيدُ الْآبَاءِ فِي الْأَدْيَانِ مُحَرَّمًا أَوْ جَائِزًا، فَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا فَقَدْ بَطَلَ الْقَوْلُ بِالتَّقْلِيدِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَمَعْلُومٌ أَنَّ أَشْرَفَ آبَاءِ الْعَرَبِ هُوَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ فَخْرٌ وَلَا شَرَفٌ إِلَّا بِأَنَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَقْلِيدُ هَذَا الْأَبِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْآبَاءِ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ سَائِرِ الْآبَاءِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَقْلِيدَهُ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ فَنَقُولُ إِنَّهُ تَرَكَ دِينَ الْآبَاءِ، وَحَكَمَ بِأَنَّ اتِّبَاعَ الدَّلِيلِ أَوْلَى مِنْ مُتَابَعَةِ الْآبَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ تَقْلِيدُهُ فِي تَرْكِ تَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَوَجَبَ تَقْلِيدُهُ فِي تَرْجِيحِ الدَّلِيلِ عَلَى التَّقْلِيدِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ التَّقْلِيدِ يُوجِبُ الْمَنْعَ مِنَ التَّقْلِيدِ، وَمَا أَفْضَى ثُبُوتُهُ إِلَى نَفْيِهِ كَانَ بَاطِلًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِالتَّقْلِيدِ بَاطِلًا، فَهَذَا طَرِيقٌ رَقِيقٌ فِي إِبْطَالِ التَّقْلِيدِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الآية.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 31 إلى 32]

الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ تَرْكَ التَّقْلِيدِ وَالرُّجُوعَ إِلَى مُتَابَعَةِ الدَّلِيلِ أَوْلَى فِي الدُّنْيَا وَفِي الدِّينِ، أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا عَدَلَ عَنْ طَرِيقَةِ أَبِيهِ إِلَى مُتَابَعَةِ الدَّلِيلِ لَا جَرَمَ جَعَلَ اللَّهُ دِينَهُ وَمَذْهَبَهُ بَاقِيًا فِي عَقِبِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَمَّا أَدْيَانُ آبَائِهِ فَقَدِ انْدَرَسَتْ وَبَطَلَتْ، فَثَبَتَ أَنَّ الرُّجُوعَ/ إِلَى مُتَابَعَةِ الدَّلِيلِ يَبْقَى مَحْمُودَ الْأَثَرِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَأَنَّ التَّقْلِيدَ وَالْإِصْرَارَ يَنْقَطِعُ أَثَرُهُ وَلَا يَبْقَى مِنْهُ فِي الدنيا خير وَلَا أَثَرٌ، فَثَبَتَ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ مُتَابَعَةَ الدَّلِيلِ وَتَرْكَ التَّقْلِيدِ أَوْلَى، فَهَذَا بَيَانُ الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ فَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ بَراءٌ مَصْدَرٌ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ مِثْلَ عَدْلٍ وَرِضَا وَتَقُولُ الْعَرَبُ أَنَا الْبَرَاءُ مِنْكَ وَالْخَلَاءُ مِنْكَ وَنَحْنُ الْبَرَاءُ مِنْكَ وَالْخَلَاءُ وَلَا يقولون البراآن ولا البراؤن لِأَنَّ الْمَعْنَى ذَوَا الْبَرَاءِ وَذَوُو الْبَرَاءِ فَإِنْ قُلْتَ بَرِيءٌ وَخَلِيُّ ثَنَّيْتَ وَجَمَعْتَ. ثُمَّ اسْتَثْنَى خَالِقَهُ مِنَ الْبَرَاءَةِ فَقَالَ: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي وَالْمَعْنَى أَنَا أَتَبَرَّأُ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا بِمَعْنَى لَكِنْ فَيَكُونُ الْمَعْنَى لَكِنَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ أَيْ سَيُرْشِدُنِي لِدِينِهِ وَيُوَفِّقُنِي لِطَاعَتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشُّعَرَاءِ: 78] وحكى عنه هاهنا أَنَّهُ قَالَ: سَيَهْدِينِ فَأَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَقُدِّرَ كَأَنَّهُ قَالَ: فَهُوَ يَهْدِينِ وَسَيَهْدِينِ، فَيَدُلَّانِ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْهِدَايَةِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَجَعَلَها أَيْ وَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ جَارِيًا مَجْرَى لَا إِلَهَ وَقَوْلُهُ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي جَارِيًا مَجْرَى قَوْلِهِ إِلَّا اللَّهُ فَكَانَ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي جَارِيًا مَجْرَى قَوْلِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ جَعَلَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ أَيْ فِي ذُرِّيَّتِهِ فَلَا يَزَالُ فِيهِمْ مَنْ يُوَحِّدُ اللَّهَ وَيَدْعُو إِلَى تَوْحِيدِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أَيْ لَعَلَّ مَنْ أَشْرَكَ مِنْهُمْ يَرْجِعُ بِدُعَاءِ مَنْ وَحَّدَ مِنْهُمْ، وَقِيلَ وَجَعَلَهَا اللَّهُ، وَقُرِئَ كَلِمَةً عَلَى التَّخْفِيفِ وَفِي عَقِيبِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ وَهُمْ عَقِبُ إِبْرَاهِيمَ بِالْمَدِّ فِي الْعُمُرِ وَالنِّعْمَةِ فَاغْتَرُّوا بِالْمُهْلَةِ وَاشْتَغَلُوا بِالتَّنَعُّمِ وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ وَطَاعَةِ الشَّيْطَانِ عَنْ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَرَسُولٌ مُبِينٌ بَيَّنَ الرِّسَالَةَ وَأَوْضَحَهَا بِمَا مَعَهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ فَكَذَّبُوا بِهِ وَسَمَّوْهُ سَاحِرًا وَمَا جَاءَ بِهِ سِحْرًا وَكَفَرُوا بِهِ، وَوَجْهُ النَّظْمِ أَنَّهُمْ لَمَّا عَوَّلُوا عَلَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي الْحُجَّةِ اغْتَرُّوا بِطُولِ الْإِمْهَالِ وَإِمْتَاعِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِنَعِيمِ الدُّنْيَا فَأَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنْ قِيلَ مَا وَجْهُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ مَتَّعْتَ بِفَتْحِ التَّاءِ؟ قُلْنَا كَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اعْتَرَضَ عَلَى ذَاتِهِ فِي قَوْلِهِ وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَقَالَ بَلْ مَتَّعْتُهُمْ بِمَا مَتَّعْتُهُمْ بِهِ مِنْ طُولِ الْعُمُرِ وَالسَّعَةِ فِي الرِّزْقِ حَتَّى شَغَلَهُمْ ذَلِكَ عَنْ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ فِي تَعْيِيرِهِمْ لِأَنَّهُ إِذَا مَتَّعَهُمْ بِزِيَادَةِ النِّعَمِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ سَبَبًا فِي زِيَادَةِ الشُّكْرِ وَالثَّبَاتِ عَلَى التَّوْحِيدِ لَا أَنْ يُشْرِكُوا بِهِ وَيَجْعَلُوا لَهُ أَنْدَادًا، فَمِثَالُهُ أَنْ يَشْكُوَ الرَّجُلُ إِسَاءَةَ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ أَنْتَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ بِمَعْرُوفِكَ وَإِحْسَانِكَ إِلَيْهِ، وَغَرَضُهُ بِهَذَا الْكَلَامِ تَوْبِيخُ الْمُسِيءِ لَا تَقْبِيحُ فِعْلِ نفسه. [سورة الزخرف (43) : الآيات 31 الى 32] وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)

[سورة الزخرف (43) : الآيات 33 إلى 39]

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ: مِنَ كُفْرِيَّاتِهِمُ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَهَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينُ قَالُوا مَنْصِبُ رِسَالَةِ اللَّهِ مَنْصِبٌ شَرِيفٌ فَلَا يَلِيقُ إِلَّا بِرَجُلٍ شَرِيفٍ، وَقَدْ صَدَقُوا فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ ضَمُّوا إِلَيْهِ مُقَدِّمَةً فَاسِدَةً وَهِيَ أَنَّ الرَّجُلَ الشَّرِيفَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ كَثِيرَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَمُحَمَّدٌ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا تَلِيقُ رِسَالَةُ اللَّهِ بِهِ، وَإِنَّمَا يَلِيقُ هَذَا الْمَنْصِبُ بِرَجُلٍ عَظِيمِ الْجَاهِ كَثِيرِ الْمَالِ فِي إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ وَهِيَ مَكَّةُ وَالطَّائِفُ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَالَّذِي بِمَكَّةَ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَالَّذِي بِالطَّائِفِ هُوَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، ثُمَّ أَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الشُّبْهَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّا أَوْقَعْنَا التَّفَاوُتَ فِي مَنَاصِبِ الدُّنْيَا وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى تَغْيِيرِهِ فَالتَّفَاوُتُ الَّذِي أَوْقَعْنَاهُ فِي مَنَاصِبِ الدِّينِ وَالنُّبُوَّةِ بِأَنْ لا يقدروا على التصريف فِيهِ كَانَ أَوْلَى وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ الْغَنِيِّ بِذَلِكَ الْمَالِ الْكَثِيرِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ حُكْمِنَا وَفَضْلِنَا وَإِحْسَانِنَا إِلَيْهِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَقْلِ أَنْ نَجْعَلَ إِحْسَانَنَا إِلَيْهِ بِكَثْرَةِ الْمَالِ حُجَّةً عَلَيْنَا فِي أَنْ نُحْسِنَ إِلَيْهِ أَيْضًا بِالنُّبُوَّةِ؟ وَثَالِثُهَا: إِنَّا لَمَّا أَوْقَعْنَا التَّفَاوُتَ فِي الْإِحْسَانِ بِمَنَاصِبِ الدُّنْيَا لَا لِسَبَبٍ سَابِقٍ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ نُوقِعَ التَّفَاوُتَ فِي الْإِحْسَانِ بِمَنَاصِبِ الدِّينِ وَالنُّبُوَّةِ لَا لِسَبَبٍ سَابِقٍ؟ فَهَذَا تَقْرِيرُ الْجَوَابِ، وَنَرْجِعُ إِلَى تَفْسِيرِ الْأَلْفَاظِ فَنَقُولُ الْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ لِلْإِنْكَارِ الدَّالِّ عَلَى التَّجْهِيلِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ وَتَحَكُّمِهِمْ وَأَنْ يَكُونُوا هُمُ الْمُدَبِّرِينَ لِأَمْرِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ ضَرَبَ لِهَذَا مِثَالًا فَقَالَ: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّا أَوْقَعْنَا هَذَا التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْعِبَادِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالْحَذَاقَةِ وَالْبَلَاهَةِ وَالشُّهْرَةِ وَالْخُمُولِ، وَإِنَّمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّا لَوْ سَوَّيْنَا بَيْنَهُمْ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَمْ يَخْدُمْ أَحَدٌ/ أَحَدًا وَلَمْ يَصِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُسَخَّرًا لِغَيْرِهِ وَحِينَئِذٍ يُفْضِي ذَلِكَ إِلَى خَرَابِ الْعَالَمِ وَفَسَادِ نِظَامِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَغْيِيرِ حُكْمِنَا وَلَا عَلَى الْخُرُوجِ عَنْ قَضَائِنَا، فَإِنْ عَجَزُوا عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْ حُكْمِنَا فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا مَعَ قِلَّتِهَا وَدَنَاءَتِهَا، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُمُ الِاعْتِرَاضُ عَلَى حُكْمِنَا وَقَضَائِنَا فِي تَخْصِيصِ الْعِبَادِ بِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ؟. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ كُلُّ أَقْسَامِ مَعَايِشِهِمْ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِحُكْمِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الرِّزْقُ الْحَرَامُ وَالْحَلَالُ كُلُّهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قوله وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ؟، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا خَصَّ بَعْضَ عَبِيدِهِ بِنَوْعِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ فِي الدِّينِ فَهَذِهِ الرَّحْمَةُ خَيْرٌ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَجْمَعُهَا لِأَنَّ الدُّنْيَا عَلَى شَرَفِ الِانْقِضَاءِ وَالِانْقِرَاضِ وَفَضْلُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ تَبْقَى أَبَدَ الآباد. [سورة الزخرف (43) : الآيات 33 الى 39] وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39)

[في قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً إلى قوله عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنِ الشُّبْهَةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا بِنَاءً عَلَى تَفْضِيلِ الْغَنِيِّ عَلَى الْفَقِيرِ بِوَجْهٍ ثَالِثٍ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ مَنَافِعَ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا حَقِيرَةٌ خَسِيسَةٌ عِنْدَ اللَّهِ وَبَيَّنَ حَقَارَتَهَا بِقَوْلِهِ وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً وَالْمَعْنَى لَوْلَا أَنْ يَرْغَبَ النَّاسُ فِي الْكُفْرِ إِذَا رَأَوُا الْكَافِرَ فِي سَعَةٍ مِنَ الْخَيْرِ وَالرِّزْقِ لَأَعْطَيْتُهُمْ أَكْثَرَ الْأَسْبَابِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّنَعُّمِ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ سَقْفُهُمْ مِنْ فِضَّةٍ وَثَانِيهَا: مَعَارِجُ أَيْضًا مِنْ فِضَّةٍ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَثَالِثُهَا: أَنْ نَجْعَلَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا مِنْ فِضَّةٍ وَسُرُرًا أَيْضًا مِنْ فِضَّةٍ عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ. ثُمَّ قَالَ: وَزُخْرُفاً وله تفسيران أحدها: أَنَّهُ الذَّهَبُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ الزِّينَةُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ [يُونُسَ: 24] فَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى وَنَجْعَلُ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ ذَهَبًا كَثِيرًا، وَعَلَى الثَّانِي أَنَّا نُعْطِيهِمْ زِينَةً عَظِيمَةً فِي كُلِّ بَابٍ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ مَتَاعًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَسْتَمْتِعُ بِهِ قَلِيلًا ثُمَّ يَنْقَضِي فِي الْحَالِ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَهِيَ بَاقِيَةٌ دَائِمَةٌ، وَهِيَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي حُكْمِهِ لِلْمُتَّقِينَ عَنْ حُبِّ الدُّنْيَا الْمُقْبِلِينَ عَلَى حُبِّ الْمَوْلَى، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ أُولَئِكَ الْجُهَّالَ ظَنُّوا أَنَّ الرَّجُلَ الْغَنِيَّ أَوْلَى بِمَنْصِبِ الرِّسَالَةِ مِنْ مُحَمَّدٍ بِسَبَبِ فَقْرِهِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمَالَ وَالْجَاهَ حَقِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّهُمَا عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَحُصُولُهُمَا لَا يُفِيدُ حُصُولَ الشَّرَفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو سَقْفًا بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْقَافِ عَلَى لَفْظِ الْوَاحِدِ لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [النَّحْلِ: 26] وَالْبَاقُونَ سُقُفًا عَلَى الْجَمْعِ وَاخْتَلَفُوا فَقِيلَ هُوَ جَمْعُ سَقْفٍ، كَرَهْنٍ وَرُهُنٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا، وَقِيلَ السُّقُفُ جَمْعُ سُقُوفٍ، كَرُهُنٍ وَرُهُونٍ وَزُبُرٍ وَزُبُورٍ، فَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ فَقَوْلُهُ لِبُيُوتِهِمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ قَوْلِهِ لِمَنْ يَكْفُرُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ مَعَارِجَ وَمَعَارِيجَ، وَالْمَعَارِجُ جَمْعُ مَعْرَجٍ، أَوِ اسْمُ جَمْعٍ لِمِعْرَاجٍ، وَهِيَ الْمَصَاعِدُ إِلَى الْمَسَاكِنِ الْعَالِيَةِ كَالدَّرَجِ وَالسَّلَالِمِ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ، أَيْ عَلَى تِلْكَ الْمَعَارِجِ يَظْهَرُونَ، وَفِي نَصْبِ قَوْلِهِ وَزُخْرُفاً قَوْلَانِ: قِيلَ لَجَعَلْنَا لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ، وَلَجَعَلْنَا لَهُمْ زُخْرُفًا وَقِيلَ مِنْ فِضَّةٍ وَزُخْرُفٍ، فَلَمَّا حَذَفَ الْخَافِضَ انْتَصَبَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ لَمَّا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ بِالتَّشْدِيدِ فَإِنَّهُ جَعَلَ لَمَّا فِي مَعْنَى إِلَّا، وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ لَمَّا فَعَلْتَ، بِمَعْنَى إِلَّا فَعَلْتَ، وَيُقَوِّي هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَنَّ فِي حِرَفِ أُبَيٍّ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَمَّا بِمَعْنَى إِلَّا، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالتَّخْفِيفِ، فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ لَفْظَةُ مَا لَغْوٌ، وَالتَّقْدِيرُ لَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: الْوَجْهُ التَّخْفِيفُ، لِأَنَّ لَمَّا بِمَعْنَى إِلَّا لَا تُعْرَفُ، وَحُكِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَعْرِفُ وَجْهَ التثقيل.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا لَمْ يُعْطِ النَّاسَ نِعَمَ الدُّنْيَا، لِأَجْلِ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ لَدَعَاهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْكُفْرِ، فَهُوَ تَعَالَى لَمْ يَفْعَلْ بِهِمْ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ لَا يَدْعُوهُمْ إِلَى الْكُفْرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَحْكَامٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَفْعَلْ بِهِمْ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَى الْكُفْرِ فَلَأَنْ لَا يَخْلُقَ فِيهِمُ الْكُفْرَ أَوْلَى وَثَانِيهَا: أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ فِعْلَ اللُّطْفِ قَائِمٌ مَقَامَ إِزَاحَةِ الْعُذْرِ وَالْعِلَّةِ، فَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ إِزَاحَةً لِلْعُذْرِ وَالْعِلَّةِ عَنْهُمْ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ كُلَّ مَا كَانَ لُطْفًا دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِعْلُ اللُّطْفِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ وَيَتْرُكُ مَا يَتْرُكُهُ لِأَجْلِ حِكْمَةٍ وَمَصْلَحَةٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَعْلِيلِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ بِالْمَصَالِحِ وَالْعِلَلِ، فَإِنْ قِيلَ لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ فَتَحَ عَلَى الْكَافِرِ أَبْوَابَ النِّعَمِ، لَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَى الْكُفْرِ، فَلِمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَى الْإِسْلَامِ؟ قُلْنَا لِأَنَّ النَّاسَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ لِطَلَبِ الدُّنْيَا، وَهَذَا الْإِيمَانُ إِيمَانُ الْمُنَافِقِينَ، فَكَانَ الْأَصْوَبُ أَنْ يُضَيَّقَ الْأَمْرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى أَنَّ كُلَّ مَنْ دَخَلَ الْإِسْلَامَ، فَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ لِمُتَابَعَةِ الدَّلِيلِ وَلِطَلَبِ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى، فَحِينَئِذٍ يَعْظُمُ ثَوَابُهُ لِهَذَا السَّبَبِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى آفات الدنيا، وذلك أن من فار بِالْمَالِ وَالْجَاهِ صَارَ كَالْأَعْشَى عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَمَنْ صَارَ كَذَلِكَ صَارَ مِنْ جُلَسَاءِ الشَّيَاطِينِ الضَّالِّينَ الْمُضِلِّينَ، فَهَذَا وَجْهُ تَعَلُّقِ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ وَمَنْ يَعْشُ بِضَمِّ الشِّينِ وَفَتْحِهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إِذَا حَصَلَتِ الْآفَةُ فِي بَصَرِهِ قِيلَ عَشِيَ، وَإِذَا نَظَرَ نَظَرَ الْعَشِيِّ وَلَا آفَةَ بِهِ، قِيلَ عَشَى وَنَظِيرُهُ عَرِجَ لِمَنْ بِهِ الْآفَةُ، وَعَرَجَ لِمَنْ مَشَى مِشْيَةَ الْعِرْجَانِ مِنْ غَيْرِ عَرَجٍ، قَالَ الْحُطَيْئَةُ: مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ أَيْ تَنْظُرْ إِلَيْهَا نَظَرَ الْعَشِيِّ، لِمَا يُضْعِفُ بَصَرَكَ مِنْ عِظَمِ الْوَقُودِ وَاتِّسَاعِ الضَّوْءِ، وَقُرِئَ يَعْشُو عَلَى أَنَّ مَنْ مَوْصُولَةٌ غَيْرُ مُضَمَّنَةٍ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَحَقُّ هَذَا الْقَارِئِ أَنْ يَرْفَعَ نُقَيِّضْ وَمَعْنَى الْقِرَاءَةِ بِالْفَتْحِ، وَمَنْ يَعْمَ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، لِقَوْلِهِ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة: 18] وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالضَّمِّ فَمَعْنَاهَا وَمَنْ يَتَعَامَّ عَنْ ذِكْرِهِ، أَيْ يَعْرِفُ أَنَّهُ الْحَقُّ وَهُوَ يَتَجَاهَلُ وَيَتَعَامَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: 14] ، ونُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً قَالَ مُقَاتِلٌ: نَضُمُّ إِلَيْهِ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ يَعْنِي وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ سَبِيلِ الْهُدَى وَالْحَقِّ وَذَكَرَ الْكِنَايَةَ عَنِ الْإِنْسَانِ وَالشَّيَاطِينِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً يُفِيدُ الْجَمْعَ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ عَلَى الْوَاحِدِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ يَعْنِي الشَّيَاطِينَ يَصُدُّونَ الْكُفَّارَ عَنِ السَّبِيلِ، وَالْكُفَّارُ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى لَفْظِ الْوَاحِدِ، فَقَالَ: حَتَّى إِذا/ جاءَنا يَعْنِي الْكَافِرَ، وَقُرِئَ (جَاءَانَا) ، يَعْنِي الْكَافِرَ وَشَيْطَانَهُ، رُوِيَ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قَبْرِهِ أَخَذَ شَيْطَانُهُ بِيَدِهِ، فَلَمْ يُفَارِقْهُ حَتَّى يُصَيِّرَهُمَا اللَّهُ إِلَى النَّارِ، فَذَلِكَ حَيْثُ يقول يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمُرَادُ يَا لَيْتَ حَصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدٌ عَلَى أَعْظَمِ الْوُجُوهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ

الْأَكْثَرُونَ: الْمُرَادُ بُعْدُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَمِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ تَسْمِيَةُ الشَّيْئَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ بِاسْمِ أَحَدِهِمَا، قَالَ الْفَرَزْدَقُ: لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُ يُرِيدُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَيَقُولُونَ لِلْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ: الْبَصْرَتَانِ، وَلِلْغَدَاةِ وَالْعَصْرِ: الْعَصْرَانِ، وَلِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: الْعُمَرَانُ، وَلِلْمَاءِ وَالتَّمْرِ: الْأَسْوَدَانِ الثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ النُّجُومِ يَقُولُونَ: الْحَرَكَةُ الَّتِي تَكُونُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، هِيَ حَرَكَةُ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ، وَالْحَرَكَةُ الَّتِي مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ، هِيَ حَرَكَةُ الْكَوَاكِبِ الثَّابِتَةِ، وَحَرَكَةُ الْأَفْلَاكِ الْمُمَثَّلَةِ الَّتِي لِلسَّيَّارَاتِ سِوَى الْقَمَرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَشْرِقٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، فَثَبَتَ أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْمَشْرِقِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجِهَتَيْنِ حَقِيقَةٌ الثَّالِثُ: قَالُوا يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى مَشْرِقِ الصَّيْفِ وَمَشْرِقِ الشِّتَاءِ وَبَيْنَهُمَا بُعْدٌ عَظِيمٌ، وَهَذَا بَعِيدٌ عِنْدِي، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ الْمُبَالَغَةُ فِي حُصُولِ الْبُعْدِ، وَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ عَنْ ذِكْرِ بُعْدٍ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ بُعْدٍ آخَرَ أَزْيَدَ مِنْهُ، وَالْبُعْدُ بَيْنَ مَشْرِقِ الصَّيْفِ وَمَشْرِقِ الشِّتَاءِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَيَبْعُدُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ الْحِسَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَرَكَةَ الْيَوْمِيَّةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا الْقَمَرُ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ فِي جَانِبِ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَتَقَدَّمُ إِلَى جَانِبِ الْمَشْرِقِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَشْرِقَ حَرَكَةِ الْقَمَرِ هُوَ الْمَغْرِبُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْجَانِبُ الْمُسَمَّى بِالْمَشْرِقِ هُوَ مَشْرِقُ الشَّمْسِ، وَلَكِنَّهُ مَغْرِبُ الْقَمَرِ، وَأَمَّا الْجَانِبُ الْمُسَمَّى بِالْمَغْرِبِ، فَإِنَّهُ مَشْرِقُ الْقَمَرِ وَلَكِنَّهُ مَغْرِبُ الشَّمْسِ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ يَصِحُّ تَسْمِيَةُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ بِالْمَشْرِقَيْنِ، وَلَعَلَّ هَذَا الْوَجْهَ أَقْرَبُ إِلَى مُطَابَقَةِ اللَّفْظِ وَرِعَايَةِ الْمَقْصُودِ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَبِئْسَ الْقَرِينُ أَيِ الكافر يقول لذلك الشيطان يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ أَنْتَ، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِتَفْسِيرِ الْأَلْفَاظِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَحْقِيرُ الدُّنْيَا وَبَيَانُ مَا فِي الْمَالِ وَالْجَاهِ مِنَ الْمَضَارِّ الْعَظِيمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ وَالْجَاهَ تَجْعَلُ الْإِنْسَانَ كَالْأَعْشَى عَنْ مُطَالَعَةِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ صَارَ كَذَلِكَ صَارَ جَلِيسًا لِلشَّيْطَانِ وَمَنْ صَارَ كَذَلِكَ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِ الْهُدَى وَالْحَقِّ وَبَقِيَ جَلِيسَ الشَّيْطَانِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْقِيَامَةِ، وَمُجَالَسَةُ الشَّيْطَانِ حَالَةٌ تُوجِبُ الضَّرَرَ الشَّدِيدَ فِي الْقِيَامَةِ بحيث يقول الكافر يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ أَنْتَ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ وَالْجَاهَ تُوجِبُ كَمَالَ النُّقْصَانِ وَالْحِرْمَانِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ، قَالُوا كَلَامًا/ فَاسِدًا وَشُبْهَةً بَاطِلَةً. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ فَقَوْلُهُ أَنَّكُمْ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ يَعْنِي وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ كَوْنُكُمْ مُشْتَرِكِينَ فِي الْعَذَابِ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ الْمُصِيبَةُ إِذَا عَمَّتْ طَابَتْ، وَقَالَتِ الْخَنْسَاءُ فِي هَذَا الْمَعْنَى: وَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي ... عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي وَلَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ ... أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّي فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ حُصُولَ الشَّرِكَةِ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ لَا يُفِيدُ التَّخْفِيفَ كَمَا كَانَ يُفِيدُهُ فِي الدُّنْيَا وَالسَّبَبُ فِيهِ

[سورة الزخرف (43) : الآيات 40 إلى 45]

وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ شَدِيدٌ فَاشْتِغَالُ كُلِّ وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ يُذْهِلُهُ عَنْ حَالِ الْآخَرِ، فَلَا جَرَمَ الشَّرِكَةُ لَا تُفِيدُ الْخِفَّةَ الثَّانِي: أَنَّ قَوْمًا إِذَا اشْتَرَكُوا فِي الْعَذَابِ أَعَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ فَيَحْصُلُ بِسَبَبِهِ بَعْضُ التَّخْفِيفِ وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَعَذِّرٌ فِي الْقِيَامَةِ الثَّالِثُ: أَنَّ جُلُوسَ الْإِنْسَانِ مَعَ قَرِينِهِ يُفِيدُهُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ السَّلْوَةِ. فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الشَّيْطَانَ وَإِنْ كَانَ قَرِينًا إِلَّا أَنَّ مُجَالَسَتَهُ فِي الْقِيَامَةِ لَا تُوجِبُ السَّلْوَةَ وَخِفَّةَ الْعُقُوبَةِ وَفِي كِتَابِ ابْنِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابن عامر قرأ إذا ظَلَمْتُمْ إِنَّكُمْ بِكَسْرِ الْأَلِفِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ أَنَّكُمْ بفتح الألف والله أعلم. [سورة الزخرف (43) : الآيات 40 الى 45] أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِالْعَشَى وَصَفَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالصَّمَمِ وَالْعَمَى/ وَمَا أَحْسَنَ هَذَا التَّرْتِيبَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي أَوَّلِ اشْتِغَالِهِ بِطَلَبِ الدُّنْيَا يَكُونُ كَمَنْ حَصَلَ بِعَيْنِهِ رَمَدٌ ضَعِيفٌ، ثُمَّ كُلَّمَا كَانَ اشْتِغَالُهُ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ أَكْثَرَ كَانَ مَيْلُهُ إِلَى الْجُسْمَانِيَّاتِ أَشَدَّ وَإِعْرَاضُهُ عَنِ الرُّوحَانِيَّاتِ أَكْمَلَ، لِمَا ثَبَتَ فِي عُلُومِ الْعَقْلِ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَفْعَالِ تُوجِبُ حُصُولَ الْمَلَكَاتِ الرَّاسِخَةِ فَيَنْتَقِلُ الْإِنْسَانُ مِنَ الرَّمَدِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ أَعْشَى فَإِذَا وَاظَبَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ أَيَّامًا أُخْرَى انْتَقَلَ مِنْ كَوْنِهِ أَعْشَى إِلَى كَوْنِهِ أَعْمَى، فَهَذَا تَرْتِيبٌ حَسَنٌ مُوَافِقٌ لِمَا ثَبَتَ بِالْبَرَاهِينِ الْيَقِينِيَّةِ، رُوِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْتَهِدُ فِي دُعَاءِ قَوْمِهِ وَهُمْ لَا يَزِيدُونَ إِلَّا تَصْمِيمًا عَلَى الْكُفْرِ وَتَمَادِيًا فِي الْغَيِّ، فَقَالَ تَعَالَى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ يَعْنِي أَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي النَّفْرَةِ عَنْكَ وَعَنْ دِينِكَ إِلَى حَيْثُ إِذَا أَسْمَعْتَهُمُ الْقُرْآنَ كَانُوا كَالْأَصَمِّ، وَإِذَا أَرَيْتَهُمُ الْمُعْجِزَاتِ كَانُوا كَالْأَعْمَى، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ صَمَمَهُمْ وَعَمَاهُمْ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ دَعْوَتَهُ لَا تُؤَثِّرُ فِي قُلُوبِهِمْ قَالَ: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ يُرِيدُ حُصُولَ الْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ النِّقْمَةِ بِهِمْ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ بَعْدَكَ أَوْ نُرِيَنَّكَ فِي حَيَاتِكَ مَا وَعَدْنَاهُمْ مِنَ الذُّلِّ وَالْقَتْلِ فَإِنَّا مُقْتَدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُفِيدُ كَمَالَ التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِمْ دَعْوَتُهُ وَالْيَأْسُ إِحْدَى الرَّاحَتَيْنِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْتَقِمَ لِأَجْلِهِ متهم إِمَّا حَالَ حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَذَلِكَ أَيْضًا يُوجِبُ التَّسْلِيَةَ، فَبَعْدَ هَذَا أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ بِمَا أَمَرَهُ تَعَالَى، فَقَالَ: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ بِأَنْ تَعْتَقِدَ أَنَّهُ حَقٌّ وَبِأَنْ تَعْمَلَ بِمُوجِبِهِ فَإِنَّهُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا يَمِيلُ عَنْهُ إِلَّا ضَالٌّ فِي الدِّينِ. وَلَمَّا بَيَّنَ تَأْثِيرَ التَّمَسُّكِ بِهَذَا الدِّينِ فِي مَنَافِعِ الدِّينِ بَيَّنَ أَيْضًا تَأْثِيرَهُ فِي مَنَافِعِ الدُّنْيَا فَقَالَ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ أَيْ إِنَّهُ يُوجِبُ الشَّرَفَ الْعَظِيمَ لَكَ وَلِقَوْمِكَ حَيْثُ يُقَالُ إِنَّ هَذَا الْكِتَابَ الْعَظِيمَ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ قَوْمِ هَؤُلَاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَظِيمَ الرَّغْبَةِ فِي الثَّنَاءِ الْحَسَنِ والذكر

[سورة الزخرف (43) : الآيات 46 إلى 56]

الْجَمِيلِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الذِّكْرُ الْجَمِيلُ أَمْرًا مَرْغُوبًا فِيهِ لَمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَلَمَا طَلَبَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشُّعَرَاءِ: 84] وَلِأَنَّ الذِّكْرَ الْجَمِيلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيَاةِ الشَّرِيفَةِ، بَلِ الذِّكْرُ أَفْضَلُ مِنَ الْحَيَاةِ لِأَنَّ أَثَرَ الْحَيَاةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي مَسْكَنِ ذَلِكَ الْحَيِّ، أَمَّا أَثَرُ الذِّكْرِ الْجَمِيلِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَفِي كُلِّ زَمَانٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ تُسْأَلُونَ هَلْ أَدَّيْتُمْ شُكْرَ إِنْعَامِنَا عَلَيْكُمْ بِهَذَا الذِّكْرِ الْجَمِيلِ الثَّانِي: قَالَ مُقَاتِلٌ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ كَذَّبَ بِهِ يُسْأَلُ لِمَ كَذَّبَهُ، فَيُسْأَلُ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ الثَّالِثُ: تُسْأَلُونَ هَلْ عَمِلْتُمْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنَ التَّكَالِيفِ، وَاعْلَمْ أَنَّ السَّبَبَ الْأَقْوَى فِي إِنْكَارِ الْكُفَّارِ لِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِبُغْضِهِمْ لَهُ أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ إِنْكَارَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ لَيْسَ مِنْ خَوَاصِّ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ كُلُّ الْأَنْبِيَاءِ/ وَالرُّسُلِ كَانُوا مطبقين على إنكاره فقال: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ وَفِيهِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ وَاسْأَلْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَإِنَّهُمْ سَيُخْبِرُونَكَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي دِينِ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْأَمْرُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَجَبَ أَنْ لَا يَجْعَلُوهُ سَبَبًا لِبُغْضِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بَعَثَ اللَّهُ لَهُ آدَمَ وَجَمِيعَ الْمُرْسَلِينَ مِنْ وَلَدِهِ، فَأَذَّنَ جِبْرِيلُ ثُمَّ أَقَامَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ تَقَدَّمْ فَصَلِّ بِهِمْ فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْأَلْ يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا الْآيَةَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَسْأَلُ لِأَنِّي لَسْتُ شَاكًّا فِيهِ» . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ ذِكْرَ السُّؤَالِ فِي مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُ السُّؤَالُ فِيهِ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ، كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: سَلِ الْأَرْضَ مَنْ شَقَّ أَنْهَارَكِ، وَغَرَسَ أَشْجَارَكِ، وَجَنَى ثِمَارَكِ، فَإِنَّهَا إِنْ لَمْ تُجِبْكَ جَوَابًا أَجَابَتْكَ اعْتِبَارًا، فَهَهُنَا سُؤَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ مُمْتَنِعٌ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ انْظُرْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِعَقْلِكَ وَتَدَبَّرْ فِيهَا بِفَهْمِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 56] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)

فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِعَادَةِ قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِرْعَوْنَ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَقْرِيرُ الْكَلَامِ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ طَعَنُوا فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ كَوْنِهِ فَقِيرًا عَدِيمَ الْمَالِ وَالْجَاهِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةَ الْبَاهِرَةَ الَّتِي لَا يَشُكُّ فِي صِحَّتِهَا عَاقِلٌ أَوْرَدَ فِرْعَوْنُ عَلَيْهِ هَذِهِ الشُّبْهَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ فَقَالَ: إِنِّي غَنِيٌّ كَثِيرُ الْمَالِ وَالْجَاهِ، أَلَا تَرَوْنَ أَنَّهُ حَصَلَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي، وَأَمَّا مُوسَى فَإِنَّهُ فَقِيرٌ مَهِينٌ وَلَيْسَ لَهُ بَيَانٌ وَلِسَانٌ، وَالرَّجُلُ الْفَقِيرُ كَيْفَ يَكُونُ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَى الْمَلِكِ الْكَبِيرِ الْغَنِيِّ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا كُفَّارُ مَكَّةَ وَهِيَ قَوْلُهُمْ لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزُّخْرُفِ: 31] وَقَدْ أَوْرَدَهَا بِعَيْنِهَا فِرْعَوْنُ عَلَى مُوسَى، ثُمَّ إِنَّا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِيرَادِ هَذِهِ الْقِصَّةِ تَقْرِيرُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكُفَّارَ وَالْجُهَّالَ أَبَدًا يَحْتَجُّونَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ الرَّكِيكَةِ فَلَا يُبَالَى بِهَا وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا وَالثَّانِي: أَنَّ فِرْعَوْنَ عَلَى غَايَةِ كَمَالِ حَالِهِ فِي الدُّنْيَا صَارَ مَقْهُورًا بَاطِلًا، فَيَكُونُ الْأَمْرُ فِي حَقِّ أَعْدَائِكَ هَكَذَا، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِعَادَةِ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَيْنَ هَذِهِ الْقِصَّةِ، بَلِ الْمَقْصُودُ تَقْرِيرُ الْجَوَابِ عَنِ الشُّبْهَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُونُ هَذَا تَقْرِيرًا لِلْقِصَّةِ الْبَتَّةَ وَهَذَا مِنْ نَفَائِسِ الْأَبْحَاثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْأَلْفَاظِ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَرْسَلَ مُوسَى بِآيَاتِهِ وَهِيَ الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي كَانَتْ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إلى فرعون وملائه أَيْ قَوْمِهِ، فَقَالَ مُوسَى إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِتِلْكَ الْآيَاتِ إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ، قِيلَ إِنَّهُ لَمَّا أَلْقَى عَصَاهُ صار ثعبانا، ثم أخذ فعاد عصا كما كان ضحكوا، ولم عَرَضَ عَلَيْهِمُ الْيَدَ الْبَيْضَاءَ ثُمَّ عَادَتْ كَمَا كَانَتْ ضَحِكُوا، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ جَازَ أَنْ يجاب عن لما بإذا الَّذِي يُفِيدُ الْمُفَاجَأَةَ؟ قُلْنَا لِأَنَّ فِعْلَ الْمُفَاجَأَةِ مَعَهَا مُقَدَّرٌ كَأَنَّهُ قِيلَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا فاجأوا وَقْتَ ضَحِكِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها فَإِنْ قِيلَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَفْضَلَ مِنَ التَّالِي وَذَلِكَ مُحَالٌ، قُلْنَا إذا أريد المبالغة في كون كل واحد مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ بَالِغًا إِلَى أَقْصَى الدَّرَجَاتِ فِي الْفَضِيلَةِ، فَقَدْ يُذْكَرُ هَذَا الْكَلَامُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ فِي أُنَاسٍ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا أَنْ يَقُولَ هَذَا إِنَّ هَذَا أَفْضَلُ مِنَ الثَّانِي، وَأَنْ يَقُولَ الثَّانِي لَا بَلِ الثَّانِي أَفْضَلُ، وَأَنْ يَقُولَ الثَّالِثُ لَا بَلِ الثَّالِثُ أَفْضَلُ، وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ مَقُولًا فِيهِ إِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أَيْ عَنِ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْإِيمَانَ مِنَ الْكُلِّ وَأَنَّهُ إِنَّمَا أَظْهَرَ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةَ لِإِرَادَةِ أَنْ يَرْجِعُوا مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ أَيْ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي سَلَّطَهَا عَلَيْهَا كَالطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ وَالْقُمَّلِ وَالضَّفَادِعِ وَالدَّمِ وَالطَّمْسِ.

ثم قال تعالى: وَقالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ سَمَّوْهُ بِالسَّاحِرِ مَعَ قَوْلِهِمْ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِلْعَالِمِ الْمَاهِرِ سَاحِرٌ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْظِمُونَ السِّحْرَ، وَكَمَا يُقَالُ فِي زَمَانِنَا فِي الْعَامِلِ الْعَجِيبِ الكامل إنه أتى بالسحر الثاني: يا أَيُّهَا السَّاحِرُ فِي زَعْمِ النَّاسِ وَمُتَعَارَفِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ كقوله يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحِجْرِ: 6] أَيْ نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ فِي اعْتِقَادِهِ وَزَعْمِهِ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُمْ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ وَقَدْ كَانُوا عَازِمِينَ عَلَى خِلَافِهِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ فَتَسْمِيَتُهُمْ إِيَّاهُ بِالسِّحْرِ لَا يُنَافِي قَوْلَهُمْ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمَّا كَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ نَكَثُوا ذَلِكَ الْعَهْدَ. وَلَمَّا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى مُعَامَلَةَ فِرْعَوْنَ مَعَ مُوسَى، حَكَى أَيْضًا مُعَامَلَةَ فِرْعَوْنَ مَعَهُ فَقَالَ: وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَظْهَرَ هَذَا الْقَوْلَ فقال: قالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي يَعْنِي الْأَنْهَارَ الَّتِي فَصَلُوهَا مِنَ النِّيلِ وَمُعْظَمُهَا أَرْبَعَةٌ نَهْرُ الْمَلِكِ وَنَهْرُ طُولُونَ وَنَهْرُ دِمْيَاطَ وَنَهْرُ تِنِّيسَ، قِيلَ كَانَتْ تَجْرِي تَحْتَ قَصْرِهِ، وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّهُ احْتَجَّ بِكَثْرَةِ أَمْوَالِهِ وَقُوَّةِ جَاهِهِ عَلَى فَضِيلَةِ نَفْسِهِ. ثُمَّ قَالَ: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ وَعَنَى بِكَوْنِهِ مَهِينًا كَوْنَهُ فَقِيرًا ضَعِيفَ الْحَالِ، وَبِقَوْلِهِ وَلا يَكادُ يُبِينُ حَبْسَةً كَانَتْ في لسانه، واختلفوا في معنى أم هاهنا فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَجَازُهَا بَلْ أَنَا خَيْرٌ، وَعَلَى هَذَا فَقَدَ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: أَمْ أَنَا خَيْرٌ بِمَعْنَى بَلْ أَنَا خَيْرٌ، وَقَالَ الْبَاقُونَ أَمْ هَذِهِ مُتَّصِلَةٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ تُبْصِرُونَ إِلَّا أَنَّهُ وَضَعَ قَوْلَهُ أَنَا خَيْرٌ مَوْضِعَ تُبْصِرُونَ، لِأَنَّهُمْ إِذَا قَالُوا لَهُ أَنْتَ خَيْرٌ فَهُمْ عِنْدَهُ بُصَرَاءُ، وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّ تَمَامَ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ أَمْ وَقَوْلُهُ أَنَا خَيْرٌ ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ وَالتَّقْدِيرُ أَفَلَا/ تُبْصِرُونَ أَمْ تُبْصِرُونَ لَكِنَّهُ اكْتَفَى فِيهِ بِذِكْرِ أَمْ كَمَا تَقُولُ لِغَيْرِكَ: أَتَأْكُلُ أَمْ أَيْ أَتَأْكُلُ أَمْ لَا تَأْكُلُ، تَقْتَصِرُ عَلَى ذِكْرِ كَلِمَةِ أم إيثارا للاختصار فكذا هاهنا، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُزِيلَ الرَّتَّةَ عَنْ لِسَانِهِ بِقَوْلِهِ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه: 27] فَأَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [طه: 36] فَكَيْفَ عَابَهُ فِرْعَوْنُ بِتِلْكَ الرَّتَّةِ؟ وَالْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِرْعَوْنَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَلا يَكادُ يُبِينُ حُجَّتَهُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا يَدَّعِي وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْكَلَامِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَابَهُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلًا، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى كَانَ عِنْدَ فِرْعَوْنَ زَمَانًا طَوِيلًا وَفِي لِسَانِهِ حَبْسَةٌ، فَنَسَبَهُ فِرْعَوْنُ إِلَى مَا عَهِدَهُ عَلَيْهِ مِنَ الرَّتَّةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَزَالَ ذَلِكَ الْعَيْبَ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَالْمُرَادُ أَنَّ عَادَةَ الْقَوْمِ جَرَتْ بِأَنَّهُمْ إِذَا جَعَلُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ رَئِيسًا لَهُمْ سَوَّرُوهُ بِسِوَارٍ مَنْ ذَهَبٍ وَطَوَّقُوهُ بِطَوْقٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَطَلَبَ فِرْعَوْنُ مِنْ مُوسَى مِثْلَ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي أَسْوِرَةٌ فَبَعْضُهُمْ قَرَأَ أَسْوِرَةٌ وَآخَرُونَ أَسَاوِرَةٌ فَأَسْوِرَةٌ جَمْعُ سِوَارٍ لِأَدْنَى الْعَدَدِ، كَقَوْلِكَ حِمَارٌ وَأَحْمِرَةٌ وَغُرَابٌ وَأَغْرِبَةٌ، وَمَنْ قَرَأَ أَسَاوِرَةٌ فَذَاكَ لِأَنَّ أَسَاوِيرَ جَمْعُ أَسْوَارٍ وَهُوَ السُّوَارُ فَأَسَاوِرَةٌ تَكُونُ الْهَاءُ عِوَضًا عَنِ الْيَاءِ، نَحْوَ بِطْرِيقٍ وَبَطَارِقَةٍ وَزِنْدِيقٍ وَزَنَادِقَةٍ وَفِرْزِينٍ وَفَرَازِنَةٍ فَتَكُونُ أَسَاوِرَةٌ جَمْعَ أَسْوَارٍ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ يَرْجِعُ إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَقُولُ أَنَا أَكْثَرُ مَالًا وَجَاهًا، فَوَجَبَ أَنْ أَكُونَ أَفْضَلَ مِنْهُ فَيَمْتَنِعُ كَوْنُهُ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ يَقْتَضِي الْمَخْدُومِيَّةَ، وَالْأَخَسُّ لَا يَكُونُ مَخْدُومًا لِلْأَشْرَفِ، ثُمَّ الْمُقَدِّمَةُ الْفَاسِدَةُ هِيَ قَوْلُهُ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ مَالًا وَجَاهًا فَهُوَ أَفْضَلُ وَهِيَ عَيْنُ الْمُقَدِّمَةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ فِي قَوْلِهِمْ لَوْلا نُزِّلَ هذَا

[سورة الزخرف (43) : الآيات 57 إلى 62]

الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزُّخْرُفِ: 31] ثُمَّ قَالَ: أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُقْرِنِينَ بِهِ، مِنْ قَوْلِكَ قَرَنْتُهُ بِهِ فَاقْتَرَنَ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِمُ اقْتَرَنُوا بِمَعْنَى تَقَارَنُوا، قَالَ الزَّجَّاجُ مَعْنَاهُ يَمْشُونَ مَعَهُ فَيَدُلُّونَ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ أَيْ طَلَبَ مِنْهُمُ الْخِفَّةَ فِي الْإِتْيَانِ بِمَا كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِهِ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ حَيْثُ أَطَاعُوا ذَلِكَ الْجَاهِلَ الْفَاسِقَ فَلَمَّا آسَفُونا أَغْضَبُونَا، حُكِيَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ غَضِبَ فِي شَيْءٍ فَقِيلَ لَهُ أَتَغْضَبُ يَا أَبَا خَالِدٍ؟ فَقَالَ قَدْ غَضِبَ الَّذِي خَلَقَ الْأَحْلَامَ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فَلَمَّا آسَفُونا أَيْ أَغْضَبُونَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: انْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَ لَفْظِ الْأَسَفِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ وَذِكْرُ لَفْظِ الِانْتِقَامِ وَكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يُصَارَ فِيهَا إِلَى التَّأْوِيلِ، وَمَعْنَى الْغَضَبِ فِي حَقِّ اللَّهِ إِرَادَةُ الْعِقَابِ، وَمَعْنَى الِانْتِقَامِ إِرَادَةُ الْعِقَابِ لِجُرْمٍ سَابِقٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا السَّلَفُ كُلُّ شَيْءٍ قَدَّمْتَهُ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ أَوْ قَرْضٍ فَهُوَ سَلَفٌ وَالسَّلَفُ أَيْضًا مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ آبَائِكَ وَأَقَارِبِكَ وَاحِدُهُمْ سَالِفٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ طُفَيْلٍ يَرْثِي قَوْمَهُ: مَضَوْا سَلَفًا قَصْدَ السَّبِيلِ عَلَيْهِمُ ... وَصَرْفُ الْمَنَايَا بِالرِّجَالِ تُقَلَّبُ فَعَلَى هَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ يَقُولُ: جَعَلْنَاهُمْ مُتَقَدِّمِينَ لِيَتَّعِظَ بِهِمُ الْآخَرُونَ، أَيْ جَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا لِكُفَّارِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَكْثَرُ الْقُرَّاءِ قَرَءُوا بِالْفَتْحِ وَهُوَ جَمْعُ سَالِفٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ سَلَفاً بِالضَّمِّ وَهُوَ جَمْعُ سَلَفٍ، قَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ سَلُفَ بِضَمِّ اللَّامِ يَسْلُفُ سُلُوفًا فَهُوَ سُلُفٌ أَيْ مُتَقَدِّمٌ، وَقَوْلُهُ وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ يُرِيدُ عِظَةً لِمَنْ بَقِيَ بَعْدَهُمْ وَآيَةً وَعِبْرَةً، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ الْمَثَلُ وَاحِدٌ يُرَادُ بِهِ الْجَمْعَ، وَمِنْ ثَمَّ عُطِفَ عَلَى سَلَفٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُقُوعِهِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ [النَّحْلِ: 75] فَأَدْخَلَ تحت المثل شيئين والله أعلم. [سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 62] وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مَنْ كُفْرِيَّاتِهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَأَجَابَ عَنْهَا بِالْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً [الزخرف: 15] وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: 19] وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ

[الزُّخْرُفِ: 20] وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزُّخْرُفِ: 31] وَخَامِسُهَا: هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ الْآنَ فِي تَفْسِيرِهَا، وَلَفْظُ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّهُ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا أَخَذَ الْقَوْمُ يَضِجُّونَ وَيَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ، فَأَمَّا أَنَّ ذَلِكَ الْمَثَلَ كَيْفَ كَانَ، وَفِي أَيِّ شَيْءٍ كَانَ فَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا كُلُّهَا مُحْتَمَلَةٌ فَالْأَوَّلُ: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا سَمِعُوا أَنَّ النَّصَارَى يَعْبُدُونَ/ عِيسَى قَالُوا إِذَا عَبَدُوا عِيسَى فَآلِهَتُنَا خَيْرٌ مِنْ عِيسَى، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ الثَّانِي: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاءِ: 98] قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى هَذَا خَاصَّةٌ لَنَا وَلِآلِهَتِنَا أَمْ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ» فَقَالَ خَصَمْتُكَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ نَبِيٌّ وَتُثْنِي عَلَيْهِ خَيْرًا وَعَلَى أُمِّهِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ النَّصَارَى يَعْبُدُونَهُمَا وَالْيَهُودَ يَعْبُدُونَ عُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةُ يُعْبَدُونَ، فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ فَقَدْ رَضِينَا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ وَآلِهَتُنَا مَعَهُمْ «1» فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَرِحَ الْقَوْمُ وَضَحِكُوا وَضَجُّوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 101] وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا وَالْمَعْنَى، وَلَمَّا ضَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا وَجَادَلَ رَسُولَ اللَّهِ بِعِبَادَةِ النَّصَارَى إِيَّاهُ إِذَا قَوْمُكَ قُرَيْشٌ مِنْهَ أَيْ مِنْ هَذَا الْمَثَلِ يَصِدُّونَ أَيْ يَرْتَفِعُ لَهُمْ ضَجِيجٌ وَجَلَبَةٌ فَرَحًا وَجَدَلًا وَضَحِكًا بِسَبَبِ مَا رَأَوْا مِنْ إِسْكَاتِ رَسُولِ اللَّهِ فَإِنَّهُ قَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إِذَا انْقَطَعَ أَظْهَرَ الْخَصْمُ الثَّانِي الْفَرَحَ وَالضَّجِيجَ، وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ يَعْنُونَ أن آلهتنا عندك ليس خَيْرًا مِنْ عِيسَى فَإِذَا كَانَ عِيسَى مِنْ حَصَبِ جَهَنَّمَ كَانَ أَمْرُ آلِهَتِنَا أَهْوَنَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي التَّأْوِيلِ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَكَى أَنَّ النَّصَارَى عَبَدُوا الْمَسِيحَ وَجَعَلُوهُ إِلَهًا لِأَنْفُسِهِمْ، قَالَ كُفَّارُ مَكَّةَ إِنَّ مُحَمَّدًا يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا إِلَهًا كَمَا جَعَلَ النَّصَارَى الْمَسِيحَ إِلَهًا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ عِنْدَ هَذَا قَالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ يَعْنِي أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ مُحَمَّدٌ، وَذَكَرُوا ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَدْعُونَا إِلَى عِبَادَةِ نَفْسِهِ، وَآبَاؤُنَا زَعَمُوا أَنَّهُ يَجِبُ عِبَادَةُ هَذِهِ الْأَصْنَامِ، وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَعِبَادَةُ هَذِهِ الْأَصْنَامِ أَوْلَى، لِأَنَّ آبَاءَنَا وَأَسْلَافَنَا كَانُوا مُتَطَابِقِينَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَإِنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي أَمْرِنَا بِعِبَادَتِهِ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ أَوْلَى، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّا لَمْ نَقُلْ إِنَّ الِاشْتِغَالَ بِعِبَادَةِ الْمَسِيحِ طَرِيقٌ حَسَنٌ بَلْ هُوَ كَلَامٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ عِيسَى لَيْسَ إِلَّا عَبْدًا أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ زَالَتْ شُبْهَتُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ مُحَمَّدًا يُرِيدُ أَنْ يَأْمُرَنَا بِعِبَادَةِ نَفْسِهِ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ مِمَّا يَحْتَمِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا لَفْظَ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ يَصُدُّونَ بِضَمِّ الصَّادِ وَهُوَ قِرَاءَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ الصَّادِ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتَلَفُوا فَقَالَ الْكِسَائِيُّ هُمَا بِمَعْنًى نَحْوَ يَعْرِشُونَ ويعرشون وَيَعْكُفُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ، أَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالضَّمِّ فَمِنَ الصُّدُودِ، أَيْ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْمَثَلِ يَصُدُّونَ عَنِ الْحَقِّ وَيُعْرِضُونَ عَنْهُ، وَأَمَّا بِالْكَسْرِ فَمَعْنَاهُ يَضِجُّونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ أَآلِهَتُنَا اسْتِفْهَامًا بِهَمْزَتَيْنِ الثَّانِيَةُ مُطَوَّلَةٌ وَالْبَاقُونَ استفهاما بهمزة ومدة.

_ (1) الرواية المشهورة: أن الرسول صلى الله عليه وسلّم رد عليه عند ذلك بقوله لابن الزبعرى «ما أجهلك بلغة قومك ما لما لا يعقل» ، وحينئذ فلا تقع على الذين اتخذهم الكفار آلهة من الأنبياء والملائكة والصالحين وإنما عنى من الأصنام التي عبدوها.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 63 إلى 66]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا أَيْ مَا ضَرَبُوا لَكَ هَذَا الْمَثَلَ إِلَّا لِأَجْلِ الْجَدَلِ وَالْغَلَبَةِ/ فِي الْقَوْلِ لَا لِطَلَبِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ مُبَالِغُونَ فِي الْخُصُومَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَلَائِكَةَ وَعِيسَى، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ مَا لَا تَتَنَاوَلُ الْعُقَلَاءَ الْبَتَّةَ وَالثَّانِي: أَنَّ كَلِمَةَ مَا لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي الِاسْتِغْرَاقِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ إِدْخَالُ لَفْظَتَيِ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ إِنَّكُمْ وَكُلَّ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَوْ إِنَّكُمْ وَبَعْضَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ إِنَّكُمْ وَكُلَّ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْ وَبَعْضَ مَا تَعْبُدُونَ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ فَلَعَلَّهُ مَا كَانَ فِيهِمْ أَحَدٌ يَعْبُدُ الْمَسِيحَ وَالْمَلَائِكَةَ الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَبْ أَنَّهُ عَامٌّ إِلَّا أَنَّ النُّصُوصَ الدَّالَّةَ عَلَى تَعْظِيمِ الْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى أَخَصُّ مِنْهُ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْقَائِلُونَ بِذَمِّ الْجَدَلِ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غافر: 4] أَنَّ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْجَدَلَ مُوجِبٌ لِلْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، وَطَرِيقُ التَّوْفِيقِ أَنْ تُصْرَفَ تِلْكَ الْآيَاتُ إِلَى الْجَدَلِ الَّذِي يُفِيدُ تَقْرِيرَ الْحَقِّ، وَأَنْ تُصْرَفَ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى الْجَدَلِ الَّذِي يُوجِبُ تَقْرِيرَ الْبَاطِلِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ يَعْنِي مَا عِيسَى إِلَّا عَبْدٌ كَسَائِرِ الْعَبِيدِ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ حَيْثُ جَعَلْنَاهُ آيَةً بِأَنْ خَلَقْنَاهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ كَمَا خَلَقْنَا آدَمَ وَشَرَّفْنَاهُ بِالنُّبُوَّةِ وَصَيَّرْنَاهُ عِبْرَةً عَجِيبَةً كَالْمَثَلِ السَّائِرِ وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ لَوَلَّدْنَا مِنْكُمْ يَا رِجَالُ مَلائِكَةً يخلفونكم في الأرض كَمَا يَخْلُفُكُمْ أَوْلَادُكُمْ كَمَا وَلَّدْنَا عِيسَى مِنْ أُنْثَى مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ لِتَعْرِفُوا تَمَيُّزَنَا بِالْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ وَلِتَعْرِفُوا أَنَّ دُخُولَ التَّوْلِيدِ وَالتَّوَلُّدِ فِي الْمَلَائِكَةِ أَمْرٌ مُمْكِنٌ وَذَاتُ اللَّهِ مُتَعَالِيَةٌ عَنْ ذَلِكَ وَإِنَّهُ أَيْ عِيسَى لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ شَرْطٌ مِنْ أَشْرَاطِهَا تُعْلَمُ بِهِ فَسُمِّيَ الشَّرْطُ الدَّالُّ عَلَى الشَّيْءِ عِلْمًا لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَعَلَمٌ وَهُوَ الْعَلَامَةُ وَقُرِئَ لَلْعِلْمُ وَقَرَأَ أُبَيٌّ: لَذِكْرٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ عِيسَى يَنْزِلُ عَلَى ثَنِيَّةٍ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ يُقَالُ لَهَا أَفِيقُ وَبِيَدِهِ حَرْبَةٌ وَبِهَا يَقْتُلُ الدَّجَّالَ فَيَأْتِي بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْإِمَامُ يَؤُمُّ بِهِمْ فَيَتَأَخَّرُ الْإِمَامُ فَيُقَدِّمُهُ عِيسَى وَيُصَلِّي خَلْفَهُ عَلَى شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَقْتُلُ الْخَنَازِيرَ وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيُخَرِّبُ الْبِيَعَ وَالْكَنَائِسَ وَيَقْتُلُ النَّصَارَى إِلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ» فَلا تَمْتَرُنَّ بِها مِنَ الْمِرْيَةِ وَهُوَ الشَّكُّ وَاتَّبِعُونِ وَاتَّبِعُوا هُدَايَ وَشَرْعِي هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أَيْ هَذَا الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ قد بانت عداوته لَكُمْ لِأَجْلِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ أَبَاكُمْ من الجنّة ونزع عنه لباس النور. [سورة الزخرف (43) : الآيات 63 الى 66] وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)

[سورة الزخرف (43) : الآيات 67 إلى 73]

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْمُعْجِزَاتِ وَبِالشَّرَائِعِ الْبَيِّنَاتِ الْوَاضِحَاتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَهِيَ مَعْرِفَةُ ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ يَعْنِي أَنَّ قَوْمَ مُوسَى كَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَشْيَاءَ مِنْ أَحْكَامِ التَّكَالِيفِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَشْيَاءَ فَجَاءَ عِيسَى لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الْحَقَّ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحِكْمَةُ مَعْنَاهَا أُصُولُ الدِّينِ وَبَعْضُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مَعْنَاهُ فُرُوعُ الدِّينِ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ كُلَّ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ؟ قُلْنَا لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي أَشْيَاءَ لَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى مَعْرِفَتِهَا، فَلَا يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ بَيَانُهَا، وَلَمَّا بَيَّنَ الْأُصُولَ وَالْفُرُوعَ قَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي الْكُفْرِ بِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ دِينِهِ وَأَطِيعُونِ فِيمَا أُبَلِّغُهُ إِلَيْكُمْ مِنَ التَّكَالِيفِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ وَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ أَيِ الْفِرَقُ الْمُتَحَزِّبَةُ بَعْدَ عِيسَى وَهُمُ الْمَلَكَانِيَّةُ وَالْيَعْقُوبِيَّةُ وَالنُّسْطُورِيَّةُ، وَقِيلَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ وَهُوَ وَعِيدٌ بِيَوْمِ الْأَحْزَابِ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ مِنْ بَيْنِهِمْ الضَّمِيرُ فِيهِ إِلَى مَنْ يَرْجِعُ؟ قُلْنَا إِلَى الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ عِيسَى فِي قَوْلِهِ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَهُمْ قَوْمُهُ. ثُمَّ قَالَ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَوْلُهُ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَدَلٌ مِنَ السَّاعَةِ وَالْمَعْنَى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا إِتْيَانَ السَّاعَةِ. فَإِنْ قَالُوا قَوْلُهُ بَغْتَةً يُفِيدُ عَيْنَ مَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟ قُلْنَا يَجُوزُ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ يعرفونه بسبب أنهم يشاهدونه. [سورة الزخرف (43) : الآيات 67 الى 73] الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً [الزخرف: 66] ذَكَرَ عَقِيبَهُ بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْقِيَامَةِ فأولها: قَوْلُهُ تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ وَالْمَعْنَى الْأَخِلَّاءُ فِي الدُّنْيَا يَوْمَئِذٍ يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ يَعْنِي أَنَّ الْخُلَّةَ إِذَا كَانَتْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْكُفْرِ صَارَتْ عَدَاوَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا الْمُتَّقِينَ يَعْنِي الْمُوَحِّدِينَ الَّذِينَ يُخَالِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، فَإِنَّ خُلَّتَهُمْ لَا تَصِيرُ عَدَاوَةً، وَلِلْحُكَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ طَرِيقٌ حَسَنٌ، قَالُوا إِنَّ الْمَحَبَّةَ أَمْرٌ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ اعْتِقَادِ حُصُولِ خَيْرٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ، فَمَتَى حَصَلَ هَذَا الِاعْتِقَادُ حَصَلَتِ الْمَحَبَّةُ لَا مَحَالَةَ، وَمَتَى حَصَلَ اعْتِقَادُ أَنَّهُ يُوجِبُ ضَرَرًا حَصَلَ الْبُغْضُ وَالنَّفْرَةُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: تِلْكَ الْخَيْرَاتُ الَّتِي كَانَ اعْتِقَادُ حُصُولِهَا يُوجِبُ حُصُولَ الْمَحَبَّةِ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ قَابِلَةً لِلتَّغَيُّرِ وَالتَّبَدُّلِ، أَوْ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ هُوَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ، وَجَبَ أَنْ تُبَدَّلَ

تِلْكَ الْمَحَبَّةُ بِالنَّفْرَةِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْمَحَبَّةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ لِاعْتِقَادِ حُصُولِ الْخَيْرِ وَالرَّاحَةِ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ، وَحَصَلَ عَقِيبَهُ اعْتِقَادُ أَنَّ الْحَاصِلَ هُوَ الضَّرَرُ وَالْأَلَمُ، وَجَبَ أَنْ تَتَبَدَّلَ تِلْكَ الْمَحَبَّةُ بِالْبِغْضَةِ، لِأَنَّ تَبَدُّلَ الْعِلَّةِ يُوجِبُ تَبَدُّلَ الْمَعْلُولِ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْخَيْرَاتُ الْمُوجِبَةُ لِلْمَحَبَّةِ، خَيْرَاتٍ بَاقِيَةً أَبَدِيَّةً، غَيْرَ قَابِلَةٍ لِلتَّبَدُّلِ وَالتَّغَيُّرِ، كَانَتْ تِلْكَ الْمَحَبَّةُ أَيْضًا مَحَبَّةً بَاقِيَةً آمِنَةً مِنَ التَّغَيُّرِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فَنَقُولُ الَّذِينَ حَصَلَتْ بَيْنَهُمْ مَحَبَّةٌ وَمَوَدَّةٌ فِي الدُّنْيَا، إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَحَبَّةُ لِأَجْلِ طَلَبِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا وَلَذَّاتِهَا، فَهَذِهِ الْمَطَالِبُ لَا تَبْقَى فِي الْقِيَامَةِ، بَلْ يَصِيرُ طَلَبُ الدُّنْيَا سَبَبًا لِحُصُولِ الْآلَامِ وَالْآفَاتِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا جَرَمَ تَنْقَلِبُ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ الدُّنْيَوِيَّةُ بِغْضَةً وَنَفْرَةً فِي الْقِيَامَةِ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْمُوجِبُ لِحُصُولِ الْمَحَبَّةِ فِي الدُّنْيَا الِاشْتِرَاكَ فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ وَفِي خِدْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ، فَهَذَا السَّبَبُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّسْخِ وَالتَّغَيُّرِ، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ بَاقِيَةً فِي الْقِيَامَةِ، بَلْ كَأَنَّهَا تَصِيرُ أَقْوَى وَأَصْفَى وَأَكْمَلَ وَأَفْضَلَ مِمَّا كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، فَهَذَا هُوَ التَّفْسِيرُ الْمُطَابِقُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا/ الْمُتَّقِينَ، الْحُكْمُ الثَّانِي: من أحكم يوم القيامة، وقوله تعالى: يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ وَقَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ عَادَةَ الْقُرْآنِ جَارِيَةٌ بِتَخْصِيصِ لَفْظِ الْعِبَادِ، بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُطِيعِينَ المتقين، فقوله يا عِبادِ كَلَامُ اللَّهُ تَعَالَى، فَكَأَنَّ الْحَقَّ يُخَاطِبُهُمْ بِنَفْسِهِ ويقول لهم يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ وَفِيهِ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ مِمَّا يُوجِبُ الْفَرَحَ أَوَّلُهَا: أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَاطَبَهُمْ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَهَذَا تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُشَرِّفَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، قَالَ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 1] وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ فَأَزَالَ عَنْهُمُ الْخَوْفَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ فَنَفَى عَنْهُمُ الْحُزْنَ بِسَبَبِ فَوْتِ الدُّنْيَا الْمَاضِيَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ قِيلَ الَّذِينَ آمَنُوا مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ مُضْمَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ يُقَالُ لَهُمْ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَعْنِي الَّذِينَ آمَنُوا، قَالَ مُقَاتِلٌ: إِذَا وَقَعَ الْخَوْفُ يوم القيامة، نادى مناد يا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ فَإِذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ رفع الخلائق رؤوسهم، فَيُقَالُ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ فَتُنَكِّسُ أهل الأديان الباطلة رؤوسهم الْحُكْمُ الثَّالِثُ: مِنْ وَقَائِعِ الْقِيَامَةِ، أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَمَّنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ، وَجَبَ أَنْ يَمُرَّ حِسَابُهُمْ عَلَى أَسْهَلِ الْوُجُوهِ وَعَلَى أَحْسَنِهَا، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ وَالْحَبْرَةُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِكْرَامِ فِيمَا وُصِفَ بِالْجَمِيلِ، يَعْنِي يُكْرَمُونَ إِكْرَامًا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، وَهَذَا مِمَّا سَبَقَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الرُّومِ. ثُمَّ قَالَ: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْكُوبُ الْمُسْتَدِيرُ الرَّأْسِ الَّذِي لَا أُذُنَ لَهُ، فَقَوْلُهُ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَطْعُومِ، وَقَوْلُهُ وَأَكْوابٍ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَشْرُوبِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى تَرَكَ التَّفْصِيلَ وَذَكَرَ بَيَانًا كُلِّيًّا، فَقَالَ: وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ. ثُمَّ قَالَ: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي وِرَاثَةِ الْجَنَّةِ وَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ [الْمُؤْمِنُونَ: 10، 11] وَلَمَّا ذَكَرَ الطَّعَامَ والشراب فيما تقدم، ذكر هاهنا حَالَ الْفَاكِهَةِ، فَقَالَ: لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ (كَثِيرَةٌ) مِنْها تَأْكُلُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْعَرَبِ أَوَّلًا، ثُمَّ إِلَى الْعَالَمِينَ ثَانِيًا، وَالْعَرَبُ كَانُوا فِي ضيق شديد

[سورة الزخرف (43) : الآيات 74 إلى 80]

بِسَبَبِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْفَاكِهَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ تَفَضَّلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْمَعَانِي مَرَّةً بَعْدَ أخرى، تكميلا لرغبتهم وتقوية لدواعيهم. [سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 80] إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يَا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْوَعْدَ، أَرْدَفَهُ بِالْوَعِيدِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمُسْتَمِرِّ فِي الْقُرْآنِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ الْقَاضِي عَلَى القطع بوعيد الفسق بِقَوْلِهِ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَلَفْظُ الْمُجْرِمِ يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ وَالْفَاسِقَ، فَوَجَبَ كَوْنُ الْكُلِّ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَقَوْلُهُ خالِدُونَ يَدُلُّ عَلَى الْخُلُودِ، وَقَوْلُهُ أَيْضًا لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ يَدُلُّ عَلَى الْخُلُودِ وَالدَّوَامِ أَيْضًا وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا، يَدُلُّ عَلَى أن المراد من لفظ المجرمين هاهنا الْكُفَّارُ، أَمَّا مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ فَلِأَنَّهُ قال: يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ [الزُّخْرُفِ: 68، 69] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ آمَنَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا مُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ تحت قوله يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ وَالْفَاسِقُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ آمَنَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِآيَاتِهِ وَأَسْلَمَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ ذَلِكَ الْوَعْدِ، وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْ هَذَا الْوَعِيدِ، وَأَمَّا مَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ قَوْلُهُ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ وَالْمُرَادُ بالحق هاهنا إِمَّا الْإِسْلَامُ وَإِمَّا الْقُرْآنُ، وَالرَّجُلُ الْمُسْلِمُ لَا يَكْرَهُ الْإِسْلَامَ وَلَا الْقُرْآنَ، فَثَبَتَ أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمُجْرِمِينَ الْكُفَّارُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ عَذَابَ جَهَنَّمَ في حق المجرمين بصفات ثلاثة أحدهما: الْخُلُودُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ طُولِ الْمُكْثِ وَلَا يُفِيدُ الدَّوَامَ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ أَيْ لَا يُخَفَّفُ وَلَا يَنْقُصُ مِنْ قَوْلِهِمْ فَتَرَتْ عَنْهُ الْحُمَّى إِذَا سَكَنَتْ وَنَقَصَ حَرُّهَا وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَالْمُبْلِسُ الْيَائِسُ السَّاكِتُ سُكُوتَ يَائِسٍ مِنْ فَرَجٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ يُجْعَلُ الْمُجْرِمُ فِي تَابُوتٍ مِنْ نَارٍ، ثُمَّ يُقْفَلُ عَلَيْهِ فَيَبْقَى فِيهِ خَالِدًا لَا يُرَى، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقُرِئَ وَهُمْ فِيهَا أَيْ وَهُمْ فِي النَّارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْقَاضِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ فَقَالَ إِنْ كَانَ خَلَقَ فِيهِمُ الْكُفْرَ لِيُدْخِلَهُمُ النَّارَ فَمَا الَّذِي نَفَاهُ بِقَوْلِهِ وَما ظَلَمْناهُمْ وَمَا الَّذِي نَسَبَهُ إِلَيْهِمْ مِمَّا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ؟ أو ليس لَوْ أَثْبَتْنَاهُ ظُلْمًا لَهُمْ كَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْقَوْمُ، فَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ الْفِعْلُ لَمْ يَقَعْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فقط، بل

إِنَّمَا وَقَعَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ مَعَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ مَعًا، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ظُلْمًا مِنَ اللَّهِ. قُلْنَا: عِنْدَكُمْ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الظُّلْمِ مُوجِبَةٌ لِلظُّلْمِ، وَخَالِقُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا فَعَلَ مَعَ خَلْقِ الْكُفْرِ قُدْرَةً عَلَى الْكُفْرِ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا لَهُمْ، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ ظَالِمًا فِي فِعْلٍ، فَإِذَا فَعَلَ مَعَهُ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ الْفِعْلَ يَكُونُ بِذَلِكَ أَحَقُّ، فَيُقَالُ لِلْقَاضِي قُدْرَةُ الْعَبْدِ هَلْ هِيَ صَالِحَةٌ لِلطَّرَفَيْنِ أَوْ هِيَ مُتَعَيَّنَةٌ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ؟ فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِكِلَا الطَّرَفَيْنِ فَالتَّرْجِيحُ إِنْ وَقَعَ لَا لِمُرَجِّحٍ لَزِمَ نَفْيُ الصَّانِعِ، وَإِنِ افْتَقَرَ إِلَى مُرَجِّحٍ عَادَ التَّقْسِيمُ الْأَوَّلُ فِيهِ، وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى دَاعِيَةٍ مُرَجِّحَةٍ يَخْلُقُهَا اللَّهُ فِي الْعَبْدِ. وَإِنْ كَانَتْ مُتَعَيِّنَةً لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُكَ مَا أَوْرَدْتَهُ عَلَيْنَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الرَّجُلُ مَنْ يَرَى وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ فَيَذْكُرُهُ، إِنَّمَا الرَّجُلُ الَّذِي يَنْظُرُ فِيمَا قَبْلَ الْكَلَامِ وَفِيمَا بَعْدَهُ، فَإِنْ رَآهُ وَارِدًا عَلَى مَذْهَبِهِ بِعَيْنِهِ لَمْ يَذْكُرْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَا مَالِ بِحَذْفِ الْكَافِ لِلتَّرْخِيمِ فَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ وَنَادَوْا يَا مَالِ فَقَالَ: مَا أَشْغَلَ أَهْلَ النَّارِ عَنْ هَذَا التَّرْخِيمِ! وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا حَسُنَ هَذَا التَّرْخِيمُ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي الضَّعْفِ وَالنَّحَافَةِ إِلَى حَيْثُ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَذْكُرُوا مِنَ الْكَلِمَةِ إِلَّا بَعْضَهَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُمْ يَا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ طَلَبُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى التَّمَنِّي، وَقَالَ آخَرُونَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِغَاثَةِ، وَإِلَّا فَهُمْ عَالِمُونَ بِأَنَّهُ لَا خَلَاصَ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْعِقَابِ، وَقِيلَ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ لِشِدَّةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ نَسُوا تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ فَذَكَرُوهُ عَلَى وَجْهِ الطَّلَبِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ مَالِكًا يَقُولُ لَهُمْ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَتَى أَجَابَهُمْ، هَلْ أَجَابَهُمْ فِي الْحَالِ أَوْ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهَلْ حَصَلَ ذَلِكَ الْجَوَابُ بَعْدَ ذَلِكَ السُّؤَالِ بِمُدَّةٍ قَلِيلَةٍ أَوْ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تُؤَخَّرَ الْإِجَابَةُ اسْتِخْفَافًا بِهِمْ وَزِيَادَةً فِي غَمِّهِمْ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَعَنْ غَيْرِهِ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ أَلْفِ سَنَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مَالِكًا لَمَّا أَجَابَهُمْ بِقَوْلِهِ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا هُوَ كَالْعِلَّةِ لِذَلِكَ الْجَوَابِ فَقَالَ: لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ وَالْمُرَادُ نَفْرَتُهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ وَعَنِ الْقُرْآنِ وَشَدَّةُ بُغْضِهِمْ لِقَبُولِ الدِّينِ الحق، فإن قيل كيف قال: وَنادَوْا يا مالِكُ بَعْدَ مَا وَصَفَهُمْ بِالْإِبْلَاسِ؟ قُلْنَا تِلْكَ أَزْمِنَةٌ مُتَطَاوِلَةٌ وَأَحْقَابٌ مُمْتَدَّةٌ، فَتَخْتَلِفُ بِهِمُ الْأَحْوَالُ فَيَسْكُتُونَ أَوْقَاتًا لِغَلَبَةِ الْيَأْسِ عَلَيْهِمْ وَيَسْتَغِيثُونَ أَوْقَاتًا لِشِدَّةِ مَا بِهِمْ، رُوِيَ أَنَّهُ يُلْقَى عَلَى أَهْلِ النَّارِ الْجُوعُ حَتَّى يَعْدِلَ مَا هُمْ/ فِيهِ من العذاب، فيقولون ادعوا مالكا فيدعون يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ عَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ ذَكَرَ بَعْدَهُ كَيْفِيَّةَ مَكْرِهِمْ وَفَسَادَ بَاطِنِهِمْ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ وَالْمَعْنَى أَمْ أَبْرَمُوا أَيْ مُشْرِكُو مَكَّةَ أَمْرًا مِنْ كَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ بِرَسُولِ اللَّهِ، فَإِنَّا مُبْرِمُونَ كَيْدَنَا كَمَا أَبْرَمُوا كَيْدَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ [الطُّورِ: 42] قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي تَدْبِيرِهِمْ فِي الْمَكْرِ بِهِ فِي دَارِ النَّدْوَةِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْفَالِ: 30] وَقَدْ ذَكَرْنَا الْقِصَّةَ. ثُمَّ قَالَ: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ السِّرُّ مَا حَدَّثَ بِهِ الرَّجُلُ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ فِي مَكَانٍ خَالٍ، وَالنَّجْوَى مَا تَكَلَّمُوا بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ بَلى نَسْمَعُهَا وَنَطَّلِعُ عَلَيْهَا وَرُسُلُنا يُرِيدُ الْحَفَظَةَ يَكْتُبُونَ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْأَحْوَالَ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ مَنْ سَتَرَ مِنَ النَّاسِ ذُنُوبَهُ وَأَبْدَاهَا لِلَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي السموات فقد

[سورة الزخرف (43) : الآيات 81 إلى 89]

جَعَلَهُ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ وَهُوَ مِنْ عَلَامَاتِ النفاق. [سورة الزخرف (43) : الآيات 81 الى 89] قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) [في قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ] فيه مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وُلْدٌ بضم الواو وإسكان اللام والباقون بفتحهما فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ قَرَأَ نَافِعٌ فَأَنَا بِفَتْحَةٍ طَوِيلَةٍ عَلَى النُّونِ وَالْبَاقُونَ بِلَا تَطْوِيلٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ ظَنُّوا أَنَّ قَوْلَهُ قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ لَوْ أَجْرَيْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي وُقُوعَ الشَّكِّ فِي إِثْبَاتِ وَلَدٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ مُحَالٌ فَلَا جَرَمَ افْتَقَرُوا إِلَى تَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ مَا يُوجِبُ الْعُدُولَ عَنِ الظَّاهِرِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ قَوْلَهُ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ وَالْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ قَضِيَّتَيْنِ خَبَرِيَّتَيْنِ أَدْخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا حَرْفَ الشَّرْطِ وَعَلَى الْأُخْرَى حَرْفَ الْجَزَاءِ فَحَصَلَ بِمَجْمُوعِهِمَا قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَمِثَالُهُ هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّ قَوْلَهُ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ قَضِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ قَضِيَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: قَوْلُهُ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ، وَالثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ ثُمَّ أَدْخَلَ حَرْفَ الشَّرْطِ وَهُوَ لَفْظَةُ إِنَّ عَلَى الْقَضِيَّةِ الْأُولَى وَحَرْفَ الْجَزَاءِ وَهُوَ الْفَاءُ عَلَى الْقَضِيَّةِ الثَّانِيَةِ فَحَصَلَ من مجموعهما قضية الأولى واحدة، وهو الْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ لَا تُفِيدُ إِلَّا كَوْنَ الشَّرْطِ مُسْتَلْزِمًا للجزاء، وليس فيه إِشْعَارٌ بِكَوْنِ الشَّرْطِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا أَوْ بِكَوْنِ الْجَزَاءِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا، بَلْ نَقُولُ الْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ الْحَقَّةُ قَدْ تَكُونُ مُرَكَّبَةً مِنْ قضيتين حقيتين أَوْ مِنْ قَضِيَّتَيْنِ بَاطِلَتَيْنِ أَوْ مِنْ شَرْطٍ بَاطِلٍ وَجَزَاءٍ حَقٍّ أَوْ مِنْ شَرْطٍ حَقٍّ وَجَزَاءٍ بَاطِلٍ، فَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ الْحَقَّةُ مُرَكَّبَةً مِنْ شَرْطٍ حَقٍّ وَجَزَاءٍ بَاطِلٍ فَهَذَا مُحَالٌ. وَلْنُبَيِّنْ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، فَإِذَا قُلْنَا إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ حَيَوَانًا فَالْإِنْسَانُ جِسْمٌ فَهَذِهِ شَرْطِيَّةٌ حَقَّةٌ وهي مركبة من قضيتين حقيتين، إِحْدَاهُمَا قَوْلُنَا الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ، وَالثَّانِيَةُ قَوْلُنَا الْإِنْسَانُ جِسْمٌ، وَإِذَا قُلْنَا إِنْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ زَوْجًا كَانَتْ مُنْقَسِمَةً بِمُتَسَاوِيَيْنِ فَهَذِهِ شَرْطِيَّةٌ حَقَّةٌ لَكِنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ قَوْلِنَا الْخَمْسَةُ زَوْجٌ، وَمِنْ قَوْلِنَا الْخَمْسَةُ مُنْقَسِمَةٌ بِمُتَسَاوِيَيْنِ وَهُمَا بَاطِلَانِ، وَكَوْنُهُمَا بَاطِلَيْنِ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ اسْتِلْزَامُ أَحَدِهِمَا للآخر حقا،

وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَضِيَّةَ الشَّرْطِيَّةَ لَا تُفِيدُ إِلَّا مُجَرَّدَ الِاسْتِلْزَامِ وَإِذَا قُلْنَا إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ حَجَرًا فَهُوَ جِسْمٌ، فَهَذَا جِسْمٌ، فَهَذَا أَيْضًا حَقٌّ لَكِنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ شَرْطٍ بَاطِلٍ وَهُوَ قَوْلُنَا الْإِنْسَانُ حَجَرٌ، وَمِنْ جُزْءٍ حَقٍّ وَهُوَ قَوْلُنَا الْإِنْسَانُ جِسْمٌ، وَإِنَّمَا جَازَ هَذَا لِأَنَّ الْبَاطِلَ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ فرض وقوعه وقوع حق، فإنا فَرَضْنَا كَوْنَ الْإِنْسَانِ حَجَرًا وَجَبَ كَوْنُهُ جِسْمًا فهذا شرط باطل يستلزم جزءا حَقًّا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ تَرْكِيبُ قَضِيَّةٍ شَرْطِيَّةٍ حَقَّةٍ مِنْ شَرْطٍ حَقٍّ وَجَزَاءٍ بَاطِلٍ، فَهَذَا/ مُحَالٌ، لِأَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُ الْحَقِّ مُسْتَلْزِمًا لِلْبَاطِلِ وَذَلِكَ مُحَالٌ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُ الْبَاطِلِ مُسْتَلْزِمًا لِلْحَقِّ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُحَالٍ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فَلْنَرْجِعْ إِلَى الْآيَةِ فَنَقُولُ قَوْلُهُ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ حَقَّةٌ مِنْ شَرْطٍ بَاطِلٍ وَمِنْ جَزَاءٍ بَاطِلٍ لِأَنَّ قَوْلَنَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ بَاطِلٌ، وَقَوْلَنَا أَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لِذَلِكَ الْوَلَدِ بَاطِلٌ أَيْضًا إِلَّا أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَاطِلًا لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ اسْتِلْزَامُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ حَقًّا كَمَا ضَرَبْنَا مِنَ الْمِثَالِ فِي قَوْلُنَا إِنْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ زَوْجًا كَانَتْ مُنْقَسِمَةً بِمُتَسَاوِيَيْنِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا امْتِنَاعَ فِي إِجْرَائِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لِذَلِكَ الْوَلَدِ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ إِذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَكَمَا يَجِبُ عَلَى عَبْدِهِ أَنْ يَخْدِمَهُ فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْدِمَ وَلَدَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِإِثْبَاتِ وَلَدٍ أَمْ لَا. وَمِمَّا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] فَهَذَا الْكَلَامُ قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ وَالشَّرْطُ هُوَ قَوْلُنَا فِيهِما آلِهَةٌ وَالْجَزَاءُ هُوَ قولنا لَفَسَدَتا فَالشَّرْطُ فِي نَفْسِهِ بَاطِلٌ وَالْجَزَاءُ أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا آلِهَةٌ، وَكَلِمَةُ لَوْ تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ بِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ لِأَنَّهُمَا مَا فَسَدَتَا ثُمَّ مَعَ كَوْنِ الشَّرْطِ بَاطِلًا وَكَوْنِ الْجَزَاءِ بَاطِلًا كَانَ اسْتِلْزَامُ ذَلِكَ الشَّرْطِ لهذا الجزاء حقا فكذا هاهنا، فإن قالوا الفرق أن هاهنا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الشَّرْطِيَّةَ بِصِيغَةِ لَوْ فَقَالَ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ وَكَلِمَةُ لَوْ تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ، وَأَمَّا فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا إِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى كَلِمَةَ إِنْ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ لَا تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ، بَلْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ تُفِيدُ الشَّكَّ فِي أَنَّهُ هَلْ حَصَلَ الشَّرْطُ أَمْ لَا، وَحُصُولُ هَذَا الشَّكِّ لِلرَّسُولِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، قُلْنَا الْفَرْقُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ صَحِيحٌ إِلَّا أَنَّ مَقْصُودَنَا بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ من كون الشرطية صادقة كون جزءيها صَادِقَتَيْنِ أَوْ كَاذِبَتَيْنِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ أَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ لَفْظَةَ إِنْ تُفِيدُ حُصُولَ الشَّرْطِ هَلْ حَصَلَ أَمْ لَا، قُلْنَا هَذَا مَمْنُوعٌ فَإِنَّ حَرْفَ إِنْ حَرْفُ الشَّرْطِ وَحَرْفُ الشَّرْطِ لَا يُفِيدُ إِلَّا كَوْنَ الشَّرْطِ مُسْتَلْزِمًا لِلْجَزَاءِ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ مَعْلُومُ الْوُقُوعِ أَوْ مَشْكُوكُ الْوُقُوعِ، فَاللَّفْظُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَيْهِ الْبَتَّةَ، فَظَهَرَ مِنَ الْمَبَاحِثِ الَّتِي لَخَّصْنَاهَا أن الكلام هاهنا مُمْكِنُ الْإِجْرَاءِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِيهِ الْبَتَّةَ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ لِذَلِكَ الْوَلَدِ وَأَنَا أَوَّلُ الْخَادِمِينَ لَهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ بَيَانُ أَنِّي لَا أُنْكِرُ وَلَدَهُ لِأَجْلِ الْعِنَادِ وَالْمُنَازَعَةِ فَإِنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الْوَلَدِ كُنْتُ مُقِرًّا بِهِ مُعْتَرِفًا بِوُجُوبِ خِدْمَتِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْوَلَدُ وَلَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِهِ الْبَتَّةَ، فَكَيْفَ أَقُولُ بِهِ؟ بَلِ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ قَائِمٌ عَلَى عَدَمِهِ فَكَيْفَ أَقُولُ بِهِ وَكَيْفَ أَعْتَرِفُ بِوُجُودِهِ؟ وَهَذَا الْكَلَامُ ظَاهِرٌ كَامِلٌ لَا حَاجَةَ بِهِ الْبَتَّةَ إِلَى التَّأْوِيلِ وَالْعُدُولِ عَنِ الظَّاهِرِ، فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَنُقِلَ عَنِ السُّدِّيِّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا مُمْكِنٌ وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَالتَّقْرِيرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي/ قَالَهُ هُوَ الْحَقُّ، أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ من التأويل

فَقَدْ ذَكَرُوا وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ كَثُرَتِ الْوُجُوهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْأَقْوَى أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فِي زَعْمِكُمْ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أَيِ الْمُوَحِّدِينَ لِلَّهِ الْمُكَذِّبِينَ لِقَوْلِكُمْ بِإِضَافَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إِنْ يَثْبُتْ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَأَنَا أَوَّلُ الْمُنْكِرِينَ لَهُ أَوْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ إِنْ يثبت لكم ادعاء أن لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا فَأَنَا أَوَّلُ الْمُنْكِرِينَ لَهُ، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الرَّسُولِ مُنْكِرًا لَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ إِنْ كَانَ الشَّيْءُ ثَابِتًا فِي نَفْسِهِ فَأَنَا أَوَّلُ الْمُنْكِرِينَ يَقْتَضِي إِصْرَارَهُ عَلَى الْكَذِبِ وَالْجَهْلِ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالرَّسُولِ، وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّهُمْ سَوَاءٌ أَثْبَتُوا لِلَّهِ وَلَدًا أَوْ لَمْ يُثْبِتُوهُ لَهُ فَالرَّسُولُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ الْوَلَدِ، فَلَمْ يَكُنْ لِزَعْمِهِمْ تَأْثِيرٌ فِي كَوْنِ الرَّسُولِ مُنْكِرًا لِذَلِكَ الْوَلَدِ فَلَمْ يَصْلُحْ جَعْلُ زَعْمِهِمْ إِثْبَاتَ الْوَلَدِ مُؤَثِّرًا فِي كَوْنِ الرَّسُولِ مُنْكِرًا لِلْوَلَدِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالُوا مَعْنَاهُ: إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ الْآنِفِينَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ عَبِدَ يَعْبَدُ إِذَا اشْتَدَّتْ أَنَفَتُهُ فَهُوَ عَبِدٌ وَعَابِدٌ، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ (عبدين) . واعلم أن السؤال المذكور قائم هاهنا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ: إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَأَنَا أَوَّلُ الْآنِفِينَ مِنَ الْإِقْرَارِ بِهِ، فَهَذَا يَقْتَضِي الْإِصْرَارَ عَلَى الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فِي زَعْمِكُمْ وَاعْتِقَادِكُمْ فَأَنَا أَوَّلُ الْآنِفِينَ، فَهَذَا التَّعْلِيقُ فَاسِدٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَنَفَةَ حَاصِلَةٌ سَوَاءٌ حَصَلَ ذَلِكَ الزَّعْمُ وَالِاعْتِقَادُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا التَّعْلِيقُ جَائِزًا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ بعضهم إن كلمة إن هاهنا هِيَ النَّافِيَةُ وَالتَّقْدِيرُ مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ لَا وَلَدَ لَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْتِزَامَ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْبَعِيدَةِ إِنَّمَا يَكُونُ لِلضَّرُورَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ الْبَتَّةَ فَلَمْ يَجُزِ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كذلك فهو فرد مطلق لا يقبل التجزأ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَالْوَلَدُ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنِ الشَّيْءِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ فَيَتَوَلَّدُ عَنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ شَخْصٌ مِثْلُهُ، وَهَذَا إِنَّمَا يعقل فيما تكون ذاته قابلة للتجزي والتبعيض، وإذا كان ذلك مُحَالًا فِي حَقِّ إِلَهِ الْعَالَمِ امْتَنَعَ إِثْبَاتُ الْوَلَدِ لَهُ، وَلَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْبُرْهَانَ الْقَاطِعَ قَالَ: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّهْدِيدُ، يَعْنِي قَدْ ذَكَرْتُ الْحُجَّةَ الْقَاطِعَةَ عَلَى فَسَادِ مَا ذَكَرُوا وَهُمْ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا لِأَجْلِ كَوْنِهِمْ مُسْتَغْرِقِينَ فِي طَلَبِ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالرِّيَاسَةِ فَاتْرُكْهُمْ فِي ذَلِكَ الْبَاطِلِ وَاللَّعِبِ حَتَّى يَصِلُوا إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي وُعِدُوا فِيهِ بِمَا وُعِدُوا، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّهْدِيدُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ نَظَرْتُ فِيمَا يَرْتَفِعُ بِهِ إِلَهٌ فَوَجَدْتُ ارْتِفَاعَهُ يَصِحُّ بِأَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ هُوَ إِلَهٌ. وَالْبَحْثُ الثَّانِي: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ فِي السَّمَاءِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ

أَنَّ نِسْبَتَهُ إِلَى السَّمَاءِ بِالْإِلَهِيَّةِ كَنِسْبَتِهِ إِلَى الْأَرْضِ، فَلَمَّا كَانَ إِلَهًا لِلْأَرْضِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ فِيهَا فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا لِلسَّمَاءِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْتَقِرًّا فِيهَا، فَإِنْ قِيلَ وَأَيُّ تَعَلُّقِ لِهَذَا الْكَلَامِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى؟ قُلْنَا تَعَلُّقُهُ بِهِ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ عِيسَى بِمَحْضِ كُنْ فَيَكُونُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ النُّطْفَةِ وَالْأَبِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ إِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يُوجِبُ كَوْنَ عِيسَى وَلَدًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى حاصل في تخليق السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا مَعَ انْتِفَاءِ حُصُولِ الْوَلَدِيَّةِ هُنَاكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى حَكِيمًا عَلِيمًا يُنَافِي حُصُولَ الْوَلَدِ لَهُ. ثُمَّ قَالَ: وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَبَارَكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنَ الثَّبَاتِ وَالْبَقَاءِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ كَثْرَةِ الْخَيْرِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يُنَافِي كَوْنَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَدًا لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الثَّبَاتَ وَالْبَقَاءَ فَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبَ الْبَقَاءِ وَالدَّوَامِ، لِأَنَّهُ حَدَثَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، ثُمَّ عِنْدَ النَّصَارَى أَنَّهُ قُتِلَ وَمَاتَ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَاقِي الدَّائِمِ الْأَزَلِيِّ مُجَانَسَةٌ وَمُشَابَهَةٌ، فَامْتَنَعَ كَوْنُهُ وَلَدًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْبَرَكَةِ كَثْرَةَ الْخَيْرَاتِ مِثْلَ كونه خالقا للسموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَعِيسَى لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الطَّعَامِ وَعِنْدَ النَّصَارَى أَنَّهُ كَانَ خَائِفًا مِنَ الْيَهُودِ وَبِالْآخِرَةِ أَخَذُوهُ وَقَتَلُوهُ، فَالَّذِي هَذَا صِفَتُهُ كَيْفَ يَكُونُ وَلَدًا لمن كان خالقا للسموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا!. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمَّا شَرَحَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ فَكَذَلِكَ شَرَحَ كَمَالَ عِلْمِهِ، وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ كَامِلًا فِي الذَّاتِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي شَرَحْنَاهُ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهُ فِي الْعَجْزِ وَعَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى أَحْوَالِ الْعَالَمِ بِالْحَدِّ الَّذِي وَصَفَهُ النَّصَارَى. وَلَمَّا أَطْنَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَفْيِ الْوَلَدِ أَرْدَفَهُ بِبَيَانِ نَفْيِ الشُّرَكَاءِ فَقَالَ: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ من دونه الملائكة وعيسى وعزير، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَعِيسَى وَعُزَيْرًا لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، رُوِيَ أَنَّ النَّضْرَ بن الحرث وَنَفَرًا مَعَهُ قَالُوا إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا فَنَحْنُ نَتَوَلَّى الْمَلَائِكَةَ فَهُمْ أَحَقُّ بِالشَّفَاعَةِ مِنْ مُحَمَّدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يَقُولُ لَا يَقْدِرُ هَؤُلَاءِ أَنْ يَشْفَعُوا لِأَحَدٍ ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ هَؤُلَاءِ لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، فَأَضْمَرَ اللَّامَ أَوْ يُقَالُ التَّقْدِيرُ إِلَّا شَفَاعَةَ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَهَذَا عَلَى لُغَةِ مَنْ/ يُعَدِّي الشَّفَاعَةَ بِغَيْرِ لَامٍ، فَيَقُولُ شَفَعْتُ فُلَانًا بِمَعْنَى شَفَعْتُ لَهُ كَمَا تَقُولُ كَلَّمْتُهُ وَكَلَّمْتُ لَهُ وَنَصَحْتُهُ وَنَصَحْتُ لَهُ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ كُلَّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ الْمَلَائِكَةُ وَعِيسَى وَعُزَيْرٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي عَبَدَهَا الْكُفَّارُ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مِنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَعِيسَى وَعُزَيْرٌ فَإِنَّ لَهُمْ شَفَاعَةً عِنْدَ اللَّهِ وَمَنْزِلَةً، وَمَعْنَى مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ مَنْ شَهِدَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَهَذَا الْقَيْدُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ بِاللِّسَانِ فَقَطْ لَا تُفِيدُ الْبَتَّةَ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ إِيمَانَ الْمُقَلِّدِ لَا يَنْفَعُ الْبَتَّةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالُوا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَنْفَعُ إِلَّا إِذَا حَصَلَ مَعَهَا

الْعِلْمُ وَالْعِلْمُ عِبَارَةٌ عَنِ الْيَقِينِ الَّذِي لَوْ شُكِّكَ صَاحِبُهُ فِيهِ لَمْ يَتَشَكَّكْ، وَهَذَا لَمْ يَحْصُلْ إِلَّا عِنْدَ الدَّلِيلِ، فَثَبَتَ أَنَّ إِيمَانَ الْمُقَلِّدِ لَا يَنْفَعُ الْبَتَّةَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَمْثَالَهَا فِي الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ مُضْطَرُّونَ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِوُجُودِ الْإِلَهِ لِلْعَالَمِ، قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ قَالُوا لَا إِلَهَ لَهُمْ غَيْرُهُ، وَقَوْمَ إِبْرَاهِيمَ قَالُوا وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ [إِبْرَاهِيمَ: 9] فَيُقَالُ لَهُمْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِوُجُودِ الْإِلَهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى قَوْلِنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً [النَّمْلِ: 14] وَقَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ [الْإِسْرَاءِ: 102] فَالْقِرَاءَةُ بِفَتْحِ التَّاءِ فِي عَلِمْتَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَارِفًا بِاللَّهِ، وَأَمَّا قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ حَيْثُ قَالُوا وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ فَهُوَ مَصْرُوفٌ إِلَى إِثْبَاتِ الْقِيَامَةِ وَإِثْبَاتِ التَّكَالِيفِ وإثبات النبوة. المسألة الثانية: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي آخِرِهَا، وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ على أنهم لما اعْتَقَدُوا أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ وَخَالِقَ الْحَيَوَانَاتِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَكَيْفَ أَقْدَمُوا مَعَ هَذَا الِاعْتِقَادِ عَلَى عِبَادَةِ أَجْسَامٍ خَسِيسَةٍ وَأَصْنَامٍ خَبِيثَةٍ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، بَلْ هِيَ جَمَادَاتٌ مَحْضَةٌ. وأما قوله فأنى تؤفكون مَعْنَاهُ لِمَ تَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ فَتَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِهِ عَلَى أَنَّ إِفْكَهُمْ لَيْسَ مِنْهُمْ بل من غيرهم بقوله فأنى تؤفكون وَأَجَابَ الْقَاضِي بِأَنَّ مَنْ يَضِلُّ فِي فَهْمِ الْكَلَامِ أَوْ فِي الطَّرِيقِ يُقَالُ لَهُ أَيْنَ يَذْهَبُ بِكَ، وَالْمُرَادُ أَيْنَ تَذْهَبُ، وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ أَيْنَ يَذْهَبُ بِكَ ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَاهِبًا آخَرَ ذَهَبَ بِهِ، فَصَرْفُ الْكَلَامِ عَنْ حَقِيقَتِهِ خِلَافُ الْأَصْلِ الظَّاهِرِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ هُوَ الَّذِي خَلَقَ تِلْكَ الدَّاعِيَةَ فِي قَلْبِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ الْبَاهِرِ أَنَّ خَالِقَ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. ثم قال تعالى: وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: قَرَأَ الْأَكْثَرُونَ وَقِيلِهِ بِفَتْحِ اللَّامِ وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِكَسْرِ اللَّامِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَقَرَأَ أُنَاسٌ مِنْ غَيْرِ السَّبْعَةِ بِالرَّفْعِ، أَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا بِالنَّصْبِ فَذَكَرَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ فِيهِ قَوْلَيْنِ/ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ بِتَقْدِيرِ وَقَالَ قِيلَهُ وَشَكَا شَكْوَاهُ إِلَى رَبِّهِ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْتَصَبَ قِيلَهُ بِإِضْمَارِ قَالَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ... وَقِيلِهِ [الزخرف: 80] وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِيهِ وَجْهًا ثَالِثًا: فَقَالَ إِنَّهُ نُصِبَ عَلَى مَوْضِعِ السَّاعَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عَلِمَ السَّاعَةَ، وَالتَّقْدِيرُ عَلِمَ السَّاعَةَ، وَقِيلَهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبِ زَيْدٍ وَعَمْرًا، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْجَرِّ فَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى السَّاعَةِ، أَيْ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَعِلْمُ قِيلِهِ يَا رَبِّ، قَالَ الْمُبَرِّدُ الْعَطْفُ عَلَى الْمَنْصُوبِ حَسَنٌ وَإِنْ تَبَاعَدَ الْمَعْطُوفُ مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ الْمَنْصُوبِ وَعَامِلِهِ وَالْمَجْرُورُ يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهِ عَلَى قُبْحٍ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ فَفِيهَا وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ وَقِيلِهِ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى عِلْمِ السَّاعَةِ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ مَعْنَاهُ وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَعِلْمُ قِيلِهِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هَذِهِ الْوُجُوهُ لَيْسَتْ قَوِيَّةً فِي الْمَعْنَى لَا سِيَّمَا وُقُوعُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِمَا لَا يَحْسُنُ اعْتِرَاضًا، ثُمَّ ذَكَرَ وَجْهًا آخَرَ وَزَعَمَ

أَنَّهُ أَقْوَى مِمَّا سَبَقَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ النَّصْبُ وَالْجَرُّ عَلَى إِضْمَارِ حَرْفِ الْقَسَمِ وَحَذْفِهِ وَالرَّفْعُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَيْمُنُ اللَّهِ وَأَمَانَةُ اللَّهِ وَيَمِينُ اللَّهِ، يَكُونُ قَوْلُهُ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ جَوَابَ الْقَسَمِ كَأَنَّهُ قِيلَ وَأَقْسَمَ بِقِيلِهِ يَا رَبِّ أَوْ وَقِيلِهِ يَا رَبِّ قَسَمِي، وَأَقُولُ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : متكلف أيضا وهاهنا إِضْمَارٌ امْتَلَأَ الْقُرْآنُ مِنْهُ وَهُوَ إِضْمَارُ اذْكُرْ، وَالتَّقْدِيرُ وَاذْكُرْ قِيلَهُ يَا رَبِّ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْجَرِّ، فَالتَّقْدِيرُ وَاذْكُرْ وَقْتَ قِيلِهِ يَا رَبِّ، وَإِذَا وَجَبَ الْتِزَامُ الْإِضْمَارِ فَلَأَنْ يُضْمِرَ شَيْئًا جرت العادة في القرآن بالتزام إضمار أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَقِيلِهِ يا رَبِّ المراد وَقِيلَ يَا رَبِّ وَالْهَاءُ زِيَادَةٌ. الْبَحْثُ الثَّانِي: الْقِيلُ مَصْدَرٌ كَالْقَوْلِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَهَى عَنِ قِيلَ وَقَالَ» قال الليث تقول العرب كثر فِيهِ الْقِيلُ وَالْقَالُ، وَرَوَى شِمْرٌ عَنْ أَبِي زَيْدٍ يُقَالُ مَا أَحْسَنَ قَيْلَكَ وَقَوْلَكَ وَقَالَكَ وَمَقَالَتَكَ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الضَّمِيرُ فِي قِيلِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ضَجِرَ مِنْهُمْ وَعَرَفَ إِصْرَارَهُمْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا حَكَى اللَّهُ عَنْ نُوحٍ أَنَّهُ قَالَ: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً [نُوحٍ: 21] . ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَصْفَحَ عَنْهُمْ وَفِي ضِمْنِهِ مَنَعَهُ مِنْ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ، وَالصَّفْحُ هُوَ الْإِعْرَاضُ. ثُمَّ قَالَ: وَقُلْ سَلامٌ قَالَ سِيبَوَيْهِ إِنَّمَا مَعْنَاهُ الْمُتَارَكَةُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مَرْيَمَ: 47] وَكَقَوْلِهِ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص: 55] . قوله فسوف تعلمون وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّهْدِيدُ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ تَعْلَمُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ كِنَايَةً عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ السَّلَامُ عَلَى الْكَافِرِ، وَأَقُولُ إِنْ صَحَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ فَهَذَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ عَلَى مُجَرَّدِ قَوْلِهِ سَلَامٌ وَأَنْ يُقَالَ لِلْمُؤْمِنِ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى التَّحِيَّةِ الَّتِي تُذْكَرُ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَعِنْدِي أَنَّ الْتِزَامَ النَّسْخِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مُشْكِلٌ، لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يُفِيدُ الْفِعْلَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِذَا أَتَى بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدْ سَقَطَتْ دَلَالَةُ اللَّفْظِ، فَأَيُّ حَاجَةٍ فِيهِ إِلَى الْتِزَامِ النَّسْخِ، وَأَيْضًا فَمِثْلُهُ يَمِينُ الْفَوْرِ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ قَدْ يَتَقَيَّدُ بِحَسَبِ قَرِينَةِ الْعُرْفِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى الْتِزَامِ النَّسْخِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. قَالَ مَوْلَانَا الْمُؤَلِّفُ عَلَيْهِ سَحَائِبُ الرَّحْمَةِ وَالرُّضْوَانِ: تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ يَوْمَ الْأَحَدِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا وَبَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَالصَّلَاةُ عَلَى مَلَائِكَتِهِ الْمُقَرَّبِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ خُصُوصًا عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ أَبَدَ الْآبِدِينَ وَدَهْرَ الدَّاهِرِينَ.

سورة الدخان

سُورَةُ الدُّخَانِ خَمْسُونَ وَتِسْعُ آيَاتٍ مَكِّيَّةٍ إِلَّا قَوْلَهُ إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرّحيم [سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) [في قوله تعالى حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ وُجُوهٌ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ أَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: هَذِهِ حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ كَقَوْلِكَ هَذَا زَيْدٌ وَاللَّهِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ حم ثُمَّ يُقَالُ وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ، وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَحم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي التَّقْدِيرِ قَسَمَيْنِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا هَذَا يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ الْقُرْآنِ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ حم تَقْدِيرُهُ: هَذِهِ حم، يَعْنِي هَذَا شَيْءٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ، وَالْمُؤَلَّفُ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُتَعَاقِبَةِ مُحْدَثٌ الثَّانِي: أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْحَلِفَ لَا يَصِحُّ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَلْ بِإِلَهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ/ وَرَبِّ حم، وَرَبِّ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ مَرْبُوبًا فَهُوَ مُحْدَثٌ الثَّالِثُ: أَنَّهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ كِتَابًا وَالْكِتَابُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَمْعِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَجْمُوعٌ وَالْمَجْمُوعُ مَحَلُّ تَصَرُّفِ الْغَيْرِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ إِنَّا أَنْزَلْناهُ وَالْمُنْزَلُ مَحَلُّ تَصَرُّفِ الْغَيْرِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ

مُحْدَثٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ الْمُرَكَّبَ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُتَعَاقِبَةِ وَالْأَصْوَاتِ الْمُتَوَالِيَةِ مُحْدَثٌ، وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ ضَرُورِيٌّ بَدِيهِيٌّ لَا يُنَازِعُ فِيهِ إِلَّا مَنْ كَانَ عَدِيمَ الْعَقْلِ وَكَانَ غَيْرَ عَارِفٍ بِمَعْنَى الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُنَازِعُ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ، إِنَّمَا الَّذِي ثَبَتَ قِدَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ سِوَى مَا تَرَكَّبَ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يَجُوزُ أَنْ يكون المراد بالكتاب هاهنا الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ [الْحَدِيدِ: 25] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ، كَمَا قَالَ: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرَّعْدِ: 39] وَقَالَ: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا [الزُّخْرُفِ: 4] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنَ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ فَقَدْ أَقْسَمَ بِالْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ، فَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ تَعْظِيمَ رَجُلٍ لَهُ حَاجَةٌ إِلَيْهِ: أَسْتَشْفِعُ بِكَ إِلَيْكَ وَأُقْسِمُ بِحَقِّكَ عَلَيْكَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُبِينِ هُوَ الْمُشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ مَا بِالنَّاسِ حَاجَةً إِلَيْهِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ مُبِينًا، وَإِنْ كَانَتْ حَقِيقَةُ الْإِبَانَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَجْلِ أَنَّ الْإِبَانَةَ حَصَلَتْ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ [النَّمْلِ: 76] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يُوسُفَ: 3] وَقَالَ: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [الرُّومِ: 35] فَوَصَفَهُ بِالتَّكَلُّمِ إِذْ كَانَ غَايَةً فِي الْإِبَانَةِ، فَكَأَنَّهُ ذُو لِسَانٍ يَنْطِقُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَطَائِفَةٌ آخَرُونَ: إِنَّهَا لَيْلَةُ الْبَرَاءَةِ، وَهِيَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ أَمَّا الْأَوَّلُونَ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِوُجُوهٍ أَوَّلُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] وهاهنا قَالَ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ هِيَ تِلْكَ الْمُسَمَّاةُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّنَاقُضُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [الْبَقَرَةِ: 185] فَبَيَّنَ أَنَّ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ إنما وقع في شهر رمضان، وقال هاهنا إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ فَوَجَبَ أَنْ تكون هذه الليلة وَاقِعَةً فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ إِنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ وَاقِعَةٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، قَالَ إِنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، فَثَبَتَ أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ [القدر: 4، 5] وقال أيضا هاهنا فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وَهَذَا مُنَاسِبٌ لقوله تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها وهاهنا قَالَ: أَمْراً مِنْ عِنْدِنا وَقَالَ فِي تِلْكَ الآية بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ وقال هاهنا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَقَالَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ سَلامٌ هِيَ وَإِذَا تَقَارَبَتِ الْأَوْصَافُ/ وَجَبَ الْقَوْلُ بِأَنَّ إِحْدَى اللَّيْلَتَيْنِ هِيَ الْأُخْرَى وَرَابِعُهَا: نَقَلَ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ فِي «تَفْسِيرِهِ» : عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَالتَّوْرَاةُ لِسِتِّ لَيَالٍ مِنْهُ، وَالزَّبُورُ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْهُ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْهُ، وَالْقُرْآنُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَاللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَخَامِسُهَا: أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ، لِأَنَّ قَدْرَهَا وَشَرَفَهَا عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ قَدْرُهَا وَشَرَفُهَا لِسَبَبِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، لِأَنَّ الزَّمَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، فَيَمْتَنِعُ كَوْنُ بَعْضِهِ أَشْرَفَ مِنْ بَعْضٍ لِذَاتِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ شَرَفَهُ وَقَدْرَهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ حَصَلَ فِيهِ أُمُورٌ شَرِيفَةٌ عَالِيَةٌ لَهَا قَدْرٌ عَظِيمٌ وَمَرْتَبَةٌ رَفِيعَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ

مَنْصِبَ الدِّينِ أَعْلَى وَأَعْظَمُ مِنْ مَنْصِبِ الدُّنْيَا، وَأَعْلَى الْأَشْيَاءِ وَأَشْرَفُهَا مَنْصِبًا فِي الدِّينِ هُوَ الْقُرْآنُ، لِأَجْلِ أَنَّ بِهِ ثَبَتَتْ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِهِ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي سَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ، كَمَا قَالَ فِي صِفَتِهِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَةِ: 48] وَبِهِ ظَهَرَتْ دَرَجَاتُ أَرْبَابِ السَّعَادَاتِ، وَدَرَكَاتُ أَرْبَابِ الشَّقَاوَاتِ، فَعَلَى هَذَا لَا شَيْءَ إِلَّا وَالْقُرْآنُ أَعْظَمُ قَدْرًا وَأَعْلَى ذِكْرًا وَأَعْظَمُ مَنْصِبًا مِنْهُ فَلَوْ كَانَ نُزُولُهُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي لَيْلَةٍ أُخْرَى سِوَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ، لَكَانَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ هِيَ هَذِهِ الثَّانِيَةُ لَا الْأُولَى، وَحَيْثُ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي رَمَضَانَ، عَلِمْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا أُنْزِلَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هِيَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَمَا رَأَيْتُ لَهُمْ فِيهِ دَلِيلًا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَنِعُوا فِيهِ بِأَنْ نَقَلُوهُ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ، فَإِنْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ كَلَامٌ فَلَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَالْحَقُّ هُوَ الْأَوَّلُ، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ زَعَمُوا أَنَّ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لَهَا أَرْبَعَةُ أَسْمَاءَ: اللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ، وَلَيْلَةُ الْبَرَاءَةِ، وَلَيْلَةُ الصَّكِّ، وَلَيْلَةُ الرَّحْمَةِ، وَقِيلَ إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِلَيْلَةِ الْبَرَاءَةِ، وَلَيْلَةِ الصَّكِّ، لِأَنَّ الْبُنْدَارَ إِذَا اسْتَوْفَى الْخَرَاجَ مِنْ أَهْلِهِ كَتَبَ لَهُمُ الْبَرَاءَةَ، كَذَلِكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَكْتُبُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْبَرَاءَةَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَقِيلَ هَذِهِ اللَّيْلَةُ مُخْتَصَّةٌ بِخَمْسِ خِصَالٍ الْأُولَى: تَفْرِيقُ كُلِّ أَمْرٍ حَكِيمٍ فِيهَا، قَالَ تَعَالَى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وَالثَّانِيَةُ: فَضِيلَةُ الْعِبَادَةِ فِيهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ مِائَةَ رَكْعَةٍ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مِائَةَ مَلَكٍ ثَلَاثُونَ يُبَشِّرُونَهُ بِالْجَنَّةِ، وَثَلَاثُونَ يُؤَمِّنُونَهُ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَثَلَاثُونَ يَدْفَعُونَ عَنْهُ آفَاتِ الدُّنْيَا، وَعَشَرَةٌ يَدْفَعُونَ عَنْهُ مَكَايِدَ الشَّيْطَانِ» ، الْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ: نُزُولُ الرَّحْمَةِ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْحَمُ أُمَّتِي فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ بِعَدَدِ شَعْرِ أَغْنَامِ بَنِي كَلْبٍ» وَالْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ: حُصُولُ الْمَغْفِرَةِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، إِلَّا لِكَاهِنٍ، أَوْ مُشَاحِنٍ، أَوْ مُدْمِنِ خَمْرٍ، أَوْ عَاقٍّ لِلْوَالِدَيْنِ، أَوْ مُصِرٍّ عَلَى الزِّنَا» وَالْخَصْلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى رَسُولَهُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ تَمَامَ الشَّفَاعَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَأَلَ لَيْلَةَ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ فِي أُمَّتِهِ فَأُعْطِيَ الثُّلُثَ مِنْهَا، ثُمَّ سَأَلَ لَيْلَةَ الرَّابِعَ عَشَرَ، فَأُعْطِيَ الثُّلُثَيْنِ، ثُمَّ سَأَلَ لَيْلَةَ الْخَامِسَ عَشَرَ، فَأُعْطِيَ الْجَمِيعَ إِلَّا مَنْ شَرَدَ عَلَى اللَّهِ شِرَادَ الْبَعِيرِ، هَذَا الْفَصْلُ نَقَلْتُهُ مِنَ «الْكَشَّافِ» ، فَإِنْ قِيلَ لَا شَكَّ أَنَّ الزَّمَانَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُدَّةِ الْمُمْتَدَّةِ الَّتِي/ تَقْدِيرُهَا حَرَكَاتُ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ، وَأَنَّهُ فِي ذَاتِهِ أَمْرٌ مُتَشَابِهُ الْأَجْزَاءِ فَيَمْتَنِعُ كَوْنُ بَعْضِهَا أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ، وَالْمَكَانُ عِبَارَةٌ عَنِ الْفَضَاءِ الْمُمْتَدِّ وَالْخَلَاءِ الْخَالِي فَيَمْتَنِعُ كَوْنُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ أَشْرَفَ مِنَ الْبَعْضِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ تَخْصِيصُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ بِمَزِيدِ الشَّرَفِ دُونَ الْبَاقِي تَرْجِيحًا لِأَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ وَإِنَّهُ مُحَالٌ، قُلْنَا الْقَوْلُ بِإِثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ أَنَّ فَاعِلَهُ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْحَرْفِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ مِنَ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ تَخْصِيصُ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بِإِحْدَاثِ الْعَالَمِ فِيهِ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ، فَإِنْ بَطَلَ هَذَا الْأَصْلُ فَقَدْ بَطَلَ حُدُوثُ الْعَالَمِ وَبَطَلَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ الْخَوْضُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ فَائِدَةً، وَإِنْ صَحَّ هَذَا الْأَصْلُ فَقَدْ زَالَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ السُّؤَالِ، فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ، وَالنَّاسُ قَالُوا لَا يَبْعُدُ أَنْ يَخُصَّ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَ الْأَوْقَاتِ بِمَزِيدِ تَشْرِيفٍ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ دَاعِيًا لِلْمُكَلَّفِ إِلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الطَّاعَاتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى أخفاه في الأوقات وماعيته لأنه لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا جَوَّزَ الْمُكَلَّفُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ أَنْ يَكُونَ هُوَ ذَلِكَ الْوَقْتَ الشَّرِيفَ فَيَصِيرُ ذَلِكَ حَامِلًا لَهُ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الطَّاعَاتِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، وَإِذَا وَقَعْتَ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ ظَهَرَ عِنْدَكَ أَنَّ الزَّمَانَ وَالْمَكَانَ إِنَّمَا فَازَا بِالتَّشْرِيفَاتِ الزَّائِدَةِ تَبَعًا لِشَرَفِ الْإِنْسَانِ فَهُوَ الْأَصْلُ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ تَبَعٌ لَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: رُوِيَ أَنَّ عَطِيَّةَ الْحَرُورِيَّ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ قَوْلُهُ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: 1] وَقَوْلِهِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ كَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ فِي جَمِيعِ الشُّهُورِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَا ابْنَ الْأَسْوَدِ لَوْ هَلَكْتُ أَنَا وَوَقَعَ هَذَا فِي نَفْسِكَ وَلَمْ تَجِدْ جَوَابَهُ هَلَكْتَ، نَزَلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَهُوَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَنْوَاعِ الْوَقَائِعِ حَالًا فَحَالًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي بَيَانِ نَظْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ، اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَعْظِيمُ الْقُرْآنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: بَيَانُ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ بِحَسَبِ ذَاتِهِ الثَّانِي: بَيَانُ تَعْظِيمِهِ بِسَبَبِ شَرَفِ الْوَقْتِ الَّذِي نَزَلَ فيه الثالث: بَيَانُ تَعْظِيمِهِ بِحَسَبِ شَرَفِ مَنْزِلَتِهِ، أَمَّا بَيَانُ تَعْظِيمِهِ بِحَسَبِ ذَاتِهِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى شَرَفِهِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِهِ عَلَى كَوْنِهِ نَازِلًا فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَسَمَ بِالشَّيْءِ عَلَى حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ نَفْسِهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ مُبِينًا وَذَلِكَ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى شَرَفِهِ فِي ذَاتِهِ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: وَهُوَ بَيَانُ شَرَفِهِ لِأَجْلِ شَرَفِ الْوَقْتِ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ فَهُوَ قَوْلُهُ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ نُزُولَهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ يَقْتَضِي شَرَفَهُ وَجَلَالَتَهُ، ثُمَّ نَقُولُ إِنَّ قَوْلَهُ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ يقتضي أمرين: أحدها: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَهُ وَالثَّانِي: كَوْنُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ مُبَارَكَةً فَذَكَرَ تَعَالَى عَقِيبَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْبَيَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ تَعَالَى لِمَ أَنْزَلَهُ فَهُوَ قَوْلُهُ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ يَعْنِي الْحِكْمَةَ فِي إِنْزَالِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ إِنْذَارَ الْخَلْقِ لَا يَتِمُّ/ إِلَّا بِهِ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ لَيْلَةٌ مُبَارَكَةٌ فَهُوَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى يَفْرِقُ فِيهَا كُلَّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، وَالثَّانِي: أَنَّ ذلك الأمر الحكيم مخصوصا بِشَرَفِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَظْهَرُ مِنْ عِنْدِهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: فَهُوَ بَيَانُ شَرَفِ الْقُرْآنِ لِشَرَفِ مَنْزِلِهِ وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْذَارَ وَالْإِرْسَالَ إِنَّمَا حَصَلَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْإِرْسَالَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ تَكْمِيلِ الرَّحْمَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ رَحْمَةً مِنَّا إِلَّا أَنَّهُ وَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ إِيذَانًا بِأَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ تَقْتَضِي الرَّحْمَةَ عَلَى الْمَرْبُوبِينَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الرَّحْمَةَ وَقَعَتْ عَلَى وَفْقِ حَاجَاتِ الْمُحْتَاجِينَ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَسْمَعُ تَضَرُّعَاتِهِمْ، وَيَعْلَمُ أَنْوَاعَ حَاجَاتِهِمْ، فَلِهَذَا قَالَ: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَهَذَا مَا خَطَرَ بِالْبَالِ فِي كَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِ بَعْضِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِبَعْضٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي تَفْسِيرِ مُفْرَدَاتِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ إِنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ كُلِّيَّةَ الْقُرْآنِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، ثُمَّ أَنْزَلَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُكَلَّفُ، وَقِيلَ يَبْدَأُ فِي اسْتِنْسَاخِ ذَلِكَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فِي لَيْلَةِ الْبَرَاءَةِ وَيَقَعُ الْفَرَاغُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتُدْفَعُ نُسْخَةُ الْأَرْزَاقِ إِلَى مِيكَائِيلَ، وَنُسْخَةُ الْحُرُوبِ إِلَى جِبْرَائِيلَ وَكَذَلِكَ الزَّلَازِلِ وَالصَّوَاعِقِ وَالْخَسْفِ، وَنُسْخَةُ الْأَعْمَالِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ «1» صَاحِبِ سَمَاءِ الدُّنْيَا وَهُوَ مَلَكٌ عَظِيمٌ، وَنُسْخَةُ الْمَصَائِبِ إِلَى مَلَكِ الموت.

_ (1) هكذا في الأصل والمعروف المشهور المتواتر أن اسمه «إسرافيل» .

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيها يُفْرَقُ أَيْ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ يُفْرَقُ أَيْ يُفَصَّلُ وَيُبَيَّنُ من قوله فرقت الشيء أفرقه وَفُرْقَانًا، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقُرِئَ يُفَرِّقُ بِالتَّشْدِيدِ وَيَفْرُقُ عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْفَاعِلِ وَنَصْبِ كُلٍّ وَالْفَارِقُ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ نُفَرِّقُ بِالنُّونِ. أَمَّا قَوْلُهُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ فَالْحَكِيمُ مَعْنَاهُ ذُو الْحِكْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَخْصِيصَ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّ أَحَدٍ بِحَالَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْعُمُرِ وَالرِّزْقِ وَالْأَجْلِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ يَدُلُّ عَلَى حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْأَفْعَالُ وَالْأَقْضِيَةُ دَالَّةً عَلَى حِكْمَةِ فَاعِلِهَا وُصِفَتْ بِكَوْنِهَا حَكِيمَةً، وَهَذَا مِنَ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، لِأَنَّ الْحَكِيمَ صِفَةُ صَاحِبِ الْأَمْرِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَوَصْفُ الْأَمْرِ بِهِ مَجَازٌ، ثُمَّ قَالَ: أَمْراً مِنْ عِنْدِنا وَفِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ أَمْراً وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ شَرَفَ تِلْكَ الْأَقْضِيَةِ وَالْأَحْكَامِ بِسَبَبِ أَنْ وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا حَكِيمَةً، ثُمَّ زَادَ فِي بَيَانِ شَرَفِهَا بِأَنْ قَالَ أَعْنِي بِهَذَا الْأَمْرِ أَمْرًا حَاصِلًا مِنْ عِنْدِنَا كَائِنًا مِنْ لَدُنَّا، وَكَمَا اقْتَضَاهُ عِلْمُنَا وَتَدْبِيرُنَا وَالثَّانِي: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الأول: أن يكون حال مِنْ أَحَدِ الضَّمِيرَيْنِ فِي أَنْزَلْناهُ، إِمَّا مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ أَيْ: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ آمِرِينَ أَمْرًا أَوْ مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ أَيْ: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا بِمَا يَجِبُ أَنْ يَفْعَلَ وَالثَّالِثُ: مَا حَكَاهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ حَمَلَ قَوْلَهُ أَمْراً عَلَى الْحَالِ وَذُو الحال قوله كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وهو نكرا. ثُمَّ قَالَ: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ يَعْنِي إِنَّا إِنَّمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ الْإِنْذَارَ لِأَجَلِ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ. ثُمَّ قَالَ: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أَيْ لِلرَّحْمَةِ فَهِيَ نَصْبٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يَعْنِي أَنَّ تِلْكَ الرَّحْمَةَ كَانَتْ رَحْمَةً فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْمُحْتَاجِينَ، إِمَّا أَنْ يَذْكُرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ حَاجَاتِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَذْكُرُوهَا فَإِنْ ذَكَرُوهَا فَهُوَ تَعَالَى يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ فَيَعْرِفُ حَاجَاتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوهَا فَهُوَ تَعَالَى عَالِمٌ بِهَا فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ سَمِيعًا عَلِيمًا يَقْتَضِي أَنْ يُنْزِلَ رَحْمَتَهُ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قَالَ: رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْبَاءِ مِنْ رَبٍّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُنَزِّلَ إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الْجَلَالَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ كَانَ الْمُنْزَّلُ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَ الْيَقِينَ وَتُرِيدُونَهُ، فَاعْرِفُوا أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قُلْنَا، كَقَوْلِهِمْ فُلَانٌ مُنْجِدٌ مُتْهِمٌ أَيْ يُرِيدُ نَجْدًا وَتِهَامَةَ الثَّانِي: قَالَ صاحب «الكشاف» : كانوا يقرون بأن للسموات وَالْأَرْضِ رَبًّا وَخَالِقًا فَقِيلَ لَهُمْ إِنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ وَإِنْزَالَ الْكُتُبِ رَحْمَةٌ مِنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ قِيلَ إِنَّ هَذَا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ الَّذِي أَنْتُمْ مُقِرُّونَ بِهِ وَمُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ ربّ السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كَانَ إِقْرَارُكُمْ عَنْ عِلْمٍ وَيَقِينٍ، كَمَا تَقُولُ هَذَا إِنْعَامُ زَيْدٍ الَّذِي تَسَامَعَ النَّاسُ بِكَرَمِهِ إِنْ بَلَغَكَ حَدِيثُهُ وَسَمِعْتَ قِصَّتَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى رَدَّ أَنْ يَكُونُوا مُوقِنِينَ بِقَوْلِهِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ وَأَنَّ إِقْرَارَهُمْ غَيْرُ صَادِرٍ عَنْ عِلْمٍ وَيَقِينٍ وَلَا عَنْ جَدٍّ وَحَقِيقَةٍ بَلْ قَوْلٌ مخلوط بهزء ولعب والله أعلم.

[سورة الدخان (44) : الآيات 10 إلى 16]

[سورة الدخان (44) : الآيات 10 الى 16] فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فَارْتَقِبْ انْتَظِرْ وَيُقَالُ ذَلِكَ فِي الْمَكْرُوهِ، وَالْمَعْنَى انْتَظِرْ يَا مُحَمَّدُ عَذَابَهُمْ فَحُذِفَ مَفْعُولُ الِارْتِقَابِ لِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ مفعول الارتقاب وقوله بِدُخانٍ فيه قولان: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى قَوْمِهِ بِمَكَّةَ لَمَّا كَذَّبُوهُ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ سِنِيَّهِمْ كَسِنِيِّ يُوسُفَ» فَارْتَفَعَ الْمَطَرُ وَأَجْدَبَتِ الْأَرْضُ وَأَصَابَتْ قُرَيْشًا شِدَّةُ الْمَجَاعَةِ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ وَالْكِلَابَ وَالْجِيَفَ، فَكَانَ الرَّجُلُ لِمَا بِهِ مِنَ الْجُوعِ يَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَالدُّخَانِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَمُقَاتِلٍ وَمُجَاهِدٍ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ الدُّخَانُ إِلَّا هَذَا الَّذِي أَصَابَهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ كَالظُّلْمَةِ فِي أَبْصَارِهِمْ حَتَّى كَانُوا كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ دُخَانًا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الدُّخَانَ هُوَ الظُّلْمَةُ الَّتِي فِي أَبْصَارِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ، وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي تَفْسِيرِ الدُّخَانِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي سَنَةِ الْقَحْطِ يَعْظُمُ يُبْسُ الْأَرْضِ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ الْمَطَرِ وَيَرْتَفِعُ الْمَطَرُ وَيَرْتَفِعُ الْغُبَارُ الْكَثِيرُ وَيُظْلِمُ الْهَوَاءُ، وَذَلِكَ يُشْبِهُ الدُّخَانَ وَلِهَذَا يُقَالُ لِسَنَةِ الْمَجَاعَةِ الْغَبْرَاءُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ يُسَمُّونَ الشَّرَّ الْغَالِبَ بِالدُّخَانِ فَيَقُولُ كَانَ بَيْنَنَا أَمْرٌ ارْتَفَعَ لَهُ دُخَانٌ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اشْتَدَّ خَوْفُهُ أَوْ ضَعْفُهُ أَظْلَمَتْ عَيْنَاهُ فَيَرَى الدُّنْيَا كَالْمَمْلُوءَةِ مِنَ الدُّخَانِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الدُّخَانِ أَنَّهُ دُخَانٌ يَظْهَرُ فِي الْعَالَمِ وَهُوَ إِحْدَى عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ، قَالُوا فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ حَصَلَ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ مِنْهُ حَالَةٌ تُشْبِهُ الزُّكَامَ، وَحَصَلَ لِأَهْلِ الْكُفْرِ حَالَةٌ يَصِيرُ لِأَجْلِهَا رَأْسُهُ كَرَأْسِ الْحَنِيذِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلٌ مَشْهُورٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ يَقْتَضِي وُجُودَ دُخَانٍ تَأْتِي بِهِ السَّمَاءُ وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الظُّلْمَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْعَيْنِ بِسَبَبِ شِدَّةِ الْجُوعِ فَذَاكَ لَيْسَ بِدُخَانٍ أَتَتْ بِهِ السَّمَاءُ فَكَانَ حَمْلُ لَفْظِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عُدُولًا عَنِ الظَّاهِرِ لَا لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَصَفَ ذَلِكَ الدُّخَانَ بِكَوْنِهِ مُبِينًا، وَالْحَالَةُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا عَارِضَةٌ تَعْرِضُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي أدمغتهم، ومثل هذا لا يوصف بكونها دُخَانًا مُبِينًا وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ وَصَفَ ذَلِكَ الدُّخَانَ بِأَنَّهُ يَغْشَى النَّاسَ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصْدُقُ إِذَا وَصَلَ ذَلِكَ الدُّخَانُ إِلَيْهِمْ وَاتَّصَلَ بِهِمْ وَالْحَالُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا لَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا تَغْشَى النَّاسَ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعُدُولَ مِنَ الْحَقِيقَةِ

إِلَى الْمَجَازِ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ الرَّابِعُ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَوَّلُ الْآيَاتِ الدُّخَانُ وَنُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ تَسُوقُ النَّاسَ إِلَى الْمَحْشَرِ، قَالَ حُذَيْفَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الدُّخَانُ فَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ وَقَالَ دُخَانٌ يَمْلَأُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُصِيبُهُ كَهَيْئَةِ الزَّكْمَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ كَالسَّكْرَانِ يَخْرُجُ مِنْ مَنْخَرَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَدُبُرِهِ» رَوَاهُ/ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَرَوَى الْقَاضِي عَنِ الْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «بَاكِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا، وَذَكَرَ مِنْهَا طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَالدَّجَّالَ وَالدُّخَانَ وَالدَّابَّةَ» أَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى الْمَجَازِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا عِنْدَ قِيَامِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ مُمْتَنِعٌ وَالْقَوْمُ لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ الدَّلِيلَ فَكَانَ الْمَصِيرُ إِلَى مَا ذَكَرُوهُ مُشْكِلًا جِدًّا، فَإِنْ قَالُوا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْنَاهُ، أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ وَهَذَا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْقَحْطِ الَّذِي وَقَعَ بِمَكَّةَ اسْتَقَامَ فَإِنَّهُ نُقِلَ أَنَّ الْقَحْطَ لَمَّا اشْتَدَّ بِمَكَّةَ مَشَى إِلَيْهِ أَبُو سُفْيَانَ وَنَاشَدَهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ وَأَوْعَدَهُ «1» أَنَّهُ إِنْ دَعَا لَهُمْ وَأَزَالَ اللَّهُ عَنْهُمْ تِلْكَ الْبَلِيَّةَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ، فَلَمَّا أَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ذَلِكَ رَجَعُوا إِلَى شِرْكِهِمْ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ ظُهُورُ عَلَامَةٍ مِنْ عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ، لِأَنَّ عِنْدَ ظُهُورِ عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَصِحَّ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ لَهُمْ إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ وَالْجَوَابُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظُهُورُ هَذِهِ الْعَلَامَةِ جَارِيًا مَجْرَى ظُهُورِ سَائِرِ عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ فِي أَنَّهُ لَا يُوجِبُ انْقِطَاعَ التَّكْلِيفِ فَتَحْدُثُ هَذِهِ الْحَالَةُ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ يَخَافُونَ جِدًّا فَيَتَضَرَّعُونَ، فَإِذَا زَالَتْ تِلْكَ الْوَاقِعَةُ عَادُوا إِلَى الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مُحْتَمَلًا فَقَدْ سَقَطَ مَا قَالُوهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ فَنَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ أَيْ ظَاهِرِ الْحَالِ لَا يَشُكُّ أَحَدٌ فِي أَنَّهُ دُخَانٌ يَغْشَى النَّاسَ أَيْ يَشْمَلُهُمْ وَهُوَ فِي مَحَلِّ الْجَرِّ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ بِدُخانٍ وَفِي قَوْلِهِ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَنْصُوبُ الْمَحَلِّ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ وَهُوَ يَقُولُونَ وَيَقُولُونَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ قَائِلِينَ ذَلِكَ الثَّانِي: قَالَ الْجُرْجَانِيُّ صَاحِبُ «النَّظْمِ» : هَذَا إِشَارَةٌ إِلَيْهِ وَإِخْبَارٌ عَنْ دُنُوِّهِ وَاقْتِرَابِهِ كَمَا يُقَالُ هَذَا الْعَدُوُّ فَاسْتَقْبِلْهُ وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى الْقُرْبِ. ثُمَّ قَالَ: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ فَإِنْ قُلْنَا التَّقْدِيرُ: يَقُولُونَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ فَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ وَإِنْ لم يضمر القول هناك أضمرناه هاهنا وَالْعَذَابُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ هُوَ الْقَحْطُ الشَّدِيدُ، وعلى القول الثاني الدخان الْمُهْلِكُ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَيْ بِمُحَمَّدٍ وَبِالْقُرْآنِ، وَالْمُرَادُ منه الوعيد بِالْإِيمَانِ إِنْ كَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى يَعْنِي كَيْفَ يَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ يَتَّعِظُونَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ وَقَدْ جَاءَهُمْ مَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَدْخَلُ فِي وُجُوبِ الطَّاعَةِ وَهُوَ مَا ظَهَرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ وَالْبَيِّنَاتِ الْبَاهِرَةِ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ كَانَ لَهُمْ فِي ظُهُورِ الْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَوْلَانِ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقُولُ إِنَّ مُحَمَّدًا يَتَعَلَّمُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ لِقَوْلِهِ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ [النَّحْلِ: 103] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: / وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الْفُرْقَانِ: 4]

_ (1) هكذا الأصل، والصواب «ووعده» بدون الألف، لأن أوعده لا تكون إلا في الشر بخلاف وعده فهي في الخير دائما.

[سورة الدخان (44) : الآيات 17 إلى 29]

وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقُولُ إِنَّهُ مَجْنُونٌ وَالْجِنُّ يُلْقُونَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ حَالَ مَا يَعْرِضُ لَهُ الْغَشْيُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ أَيْ كَمَا يَكْشِفُ الْعَذَابَ عَنْكُمْ تَعُودُونَ فِي الْحَالِ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ وَأَنَّهُمْ فِي حَالِ الْعَجْزِ يَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا زَالَ الْخَوْفُ عَادُوا إِلَى الْكُفْرِ وَالتَّقْلِيدِ لِمَذَاهِبِ الْأَسْلَافِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقُرِئَ نَبْطُشُ بِضَمِّ الطَّاءِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ نُبْطِشُ بِضَمِّ النُّونِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُ الْمَلَائِكَةَ بِأَنْ يَبْطِشُوا بِهِمْ وَالْبَطْشُ الْأَخْذُ بِشِدَّةٍ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ بِوَقْعِ الضَّرْبِ الْمُتَتَابِعِ ثُمَّ صَارَ بِحَيْثُ يُسْتَعْمَلُ فِي إِيصَالِ الْآلَامِ الْمُتَتَابِعَةِ، وَفِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْيَوْمِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَوْمُ بَدْرٍ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، قَالُوا إِنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ لَمَا أَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمُ الْقَحْطَ وَالْجُوعَ عَادُوا إِلَى التَّكْذِيبِ فَانْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْبَطْشَةُ الْكُبْرَى يَوْمُ بَدْرٍ، وَأَنَا أَقُولُ هِيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ لِأَنَّ يَوْمَ بَدْرٍ لَا يَبْلُغُ هَذَا الْمَبْلَغَ الَّذِي يُوصَفُ بِهَذَا الْوَصْفِ الْعَظِيمِ، وَلِأَنَّ الِانْتِقَامَ التَّامَّ إِنَّمَا يَحْصُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [غَافِرٍ: 17] وَلِأَنَّ هَذِهِ الْبَطْشَةَ لَمَّا وُصِفَتْ بِكَوْنِهَا كُبْرَى عَلَى الْإِطْلَاقِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْبَطْشِ وَذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا فِي الْقِيَامَةِ وَلَفْظُ الِانْتِقَامِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ كَالْغَضَبِ وَالْحَيَاءِ وَالتَّعَجُّبِ، وَالْمَعْنَى مَعْلُومٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 29] وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ كَفَّارَ مَكَّةَ مُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ، بَيَّنَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ أَيْضًا كَانُوا كَذَلِكَ، فَبَيَّنَ حُصُولَ هَذِهِ الصِّفَةِ فِي أَكْثَرِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا بِالتَّشْدِيدِ لِلتَّأْكِيدِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ابْتَلَيْنَا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ بَلَوْنَا، وَالْمَعْنَى عَامَلْنَاهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبَرِ بِبَعْثِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ وَهُوَ مُوسَى وَاخْتَلَفُوا فِي معنى الكريم هاهنا فَقَالَ الْكَلْبِيُّ كَرِيمٌ عَلَى رَبِّهِ يَعْنِي أَنَّهُ اسْتَحَقَّ عَلَى رَبِّهِ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الْإِكْرَامِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ حَسَنُ الْخُلُقِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ يُقَالُ فُلَانٌ كَرِيمُ قَوْمِهِ لِأَنَّهُ قَلَّ مَا بُعِثَ رَسُولٌ إِلَّا مِنْ أَشْرَافِ قَوْمِهِ وَكِرَامِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ وَفِي أَنْ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا أَنِ الْمُفَسِّرَةُ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَجِيءَ الرَّسُولِ إِلَى مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ مُتَضَمِّنٌ لِمَعْنَى الْقَوْلِ لِأَنَّهُ لَا يَجِيئُهُمْ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ الثَّانِي: أَنَّهَا الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَمَعْنَاهُ وَجَاءَهُمْ بِأَنَّ الشَّأْنَ والحديث أدواء، وَعِبَادُ اللَّهِ مَفْعُولٌ بِهِ وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَقُولُ أَدُّوهُمْ إِلَيَّ وَأَرْسِلُوهُمْ مَعِيَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ [طَهَ: 47] وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ نِدَاءً لَهُمْ وَالتَّقْدِيرُ: أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، وَقَبُولِ دَعْوَتِي، وَاتِّبَاعِ سَبِيلِي، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ رَسُولٌ أَمِينٌ قَدِ ائْتَمَنَهُ اللَّهُ عَلَى وَحْيِهِ وَرِسَالَتِهِ وَأَنْ لَا تَعْلُوا أن هذه مثل الأول فِي وَجْهَيْهَا أَيْ لَا تَتَكَبَّرُوا عَلَى اللَّهِ بِإِهَانَةِ وَحْيِهِ وَرَسُولِهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بِحُجَّةٍ بَيِّنَةٍ يَعْتَرِفُ بِصِحَّتِهَا كُلُّ عَاقِلٍ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ قِيلَ الْمُرَادُ أَنْ تَقْتُلُونِ وَقِيلَ أَنْ تَرْجُمُونِ بِالْقَوْلِ فَتَقُولُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي أَيْ إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي وَلَمْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ لِأَجْلِ مَا أَتَيْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ، فَاللَّامُ فِي لِي لَامُ الْأَجَلِ فَاعْتَزِلُونِ أَيْ أَخْلُوا سَبِيلِي لَا لِي وَلَا عَلَيَّ. قَالَ مُصَنِّفُ الْكُتَّابِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يَتَصَلَّفُونَ وَيَقُولُونَ إِنَّ لَفْظَ الِاعْتِزَالِ أَيْنَمَا/ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الِاعْتِزَالَ عَنِ الْبَاطِلِ لَا عَنِ الْحَقِّ، فَاتَّفَقَ حُضُورِي فِي بَعْضِ الْمَحَافِلِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْكَلَامَ فَأَوْرَدْتُ عَلَيْهِ هَذِهِ الآية، وقلت المراد الاعتزال فِي هَذِهِ الْآيَةِ الِاعْتِزَالُ عَنْ دِينِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَطَرِيقَتِهِ وَذَلِكَ لَا شَكَّ أَنَّهُ اعْتِزَالٌ عَنِ الْحَقِّ فَانْقَطَعَ الرَّجُلُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَدَعا رَبَّهُ الْفَاءُ فِي فَدَعَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمَحْذُوفٍ قَبْلَهُ التَّأْوِيلُ أَنَّهُمْ كَفَرُوا وَلَمْ يُؤْمِنُوا فَدَعَا مُوسَى رَبَّهُ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ، فَإِنْ قَالُوا الْكُفْرُ أَعْظَمُ حال مِنَ الْجُرْمِ، فَمَا السَّبَبُ فِي أَنْ جَعَلَ صِفَةَ الْكُفَّارِ كَوْنَهُمْ مُجْرِمِينَ حَالَ مَا أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي ذَمِّهِمْ؟ قُلْتُ لِأَنَّ الْكَافِرُ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا فِي دِينِهِ وَقَدْ يَكُونُ مُجْرِمًا فِي دِينِهِ وَقَدْ يَكُونُ فَاسِقًا فِي دِينِهِ فيكون أَخَسَّ النَّاسِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ (إِنَّ هَؤُلَاءِ) بِالْكَسْرِ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ أَيْ فَدَعَا رَبَّهُ فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ. ثُمَّ قَالَ: فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ فَاسْرِ مَوْصُولَةَ الْأَلِفِ وَالْبَاقُونَ مَقْطُوعَةَ الْأَلِفِ سَرَى وَأَسْرَى لُغَتَانِ أَيْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ، أَيْ يَتْبَعُكُمْ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ ذَلِكَ سَبَبًا لِهَلَاكِهِمْ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً وَفِي الرَّهْوِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ السَّاكِنُ يُقَالُ عَيْشٌ رَاهٍ إِذَا كَانَ خَافِضًا وَادِعًا، وَافْعَلْ ذَلِكَ سَهْوًا رَهْوًا أَيْ سَاكِنًا بِغَيْرِ تَشَدُّدٍ، أَرَادَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا جَاوَزَ الْبَحْرَ أَنْ يَضْرِبَهُ بِعَصَاهُ فَيَنْطَبِقَ كَمَا كَانَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَتْرُكَهُ سَاكِنًا عَلَى هَيْئَتِهِ قَارًّا عَلَى حَالِهِ فِي انْفِلَاقِ الْمَاءِ وَبَقَاءِ الطَّرِيقِ يَبَسًا حَتَّى تَدْخُلَهُ الْقِبْطُ فَإِذَا حَصَلُوا فِيهِ أَطْبَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّهْوَ هُوَ الْفُرْجَةُ الْوَاسِعَةُ، وَالْمَعْنَى ذَا رَهْوٍ أَيْ ذَا فُرْجَةٍ يَعْنِي

[سورة الدخان (44) : الآيات 30 إلى 39]

الطَّرِيقَ الَّذِي أَظْهَرَهُ اللَّهُ فِيمَا بَيْنَ الْبَحْرِ أَنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ، يَعْنِي اتْرُكِ الطَّرِيقَ كَمَا كَانَ يَدْخُلُوا فَيَغْرَقُوا، وَإِنَّمَا أَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ حَتَّى يَبْقَى فَارِغَ الْقَلْبِ عَنْ شَرِّهِمْ وَإِيذَائِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَغْرَقَهُمْ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ غَرَقِهِمْ هَذَا الْكَلَامَ، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ تَرَكُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْخَمْسَةَ، وَهِيَ الْجَنَّاتُ وَالْعُيُونُ وَالزُّرُوعُ وَالْمَقَامُ الْكَرِيمُ وَالْمُرَادُ بِالْمَقَامِ الْكَرِيمِ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الْمَجَالِسِ وَالْمَنَازِلِ الْحَسَنَةِ، وَقِيلَ الْمَنَابِرُ الَّتِي كَانُوا يَمْدَحُونَ فِرْعَوْنَ عَلَيْهَا وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ قَالَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ نَعْمَةُ الْعَيْشِ، بِفَتْحِ النُّونِ حُسْنُهُ وَنَضَارَتُهُ، وَنِعْمَةُ اللَّهِ إِحْسَانُهُ وَعَطَاؤُهُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : النَّعْمَةُ بِالْفَتْحِ مِنَ التَّنَعُّمِ وَبِالْكَسْرِ مِنَ الْإِنْعَامِ، وَقُرِئَ فَاكِهِينَ وَفَكِهِينَ كَذَلِكَ الْكَافُ مَنْصُوبَةٌ عَلَى مَعْنَى مِثْلِ ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ أَخْرَجْنَاهُمْ مِنْهَا وَأَوْرَثْنَاهَا أَوْ فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْأَمْرَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ لَيْسُوا مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ قَرَابَةٍ وَلَا دِينٍ وَلَا وَلَاءٍ، وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ كَانُوا مُسْتَعْبَدِينَ فِي أَيْدِيهِمْ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَأَوْرَثَهُمْ مُلْكَهُمْ وَدِيَارَهُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» : رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَلَهُ فِي السَّمَاءِ بَابَانِ بَابٌ يَخْرُجُ مِنْهُ رِزْقُهُ وَبَابٌ يَدْخُلُ فِيهِ عَمَلُهُ، فَإِذَا مَاتَ فَقَدَاهُ وَبَكَيَا عَلَيْهِ» وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، قَالَ وَذَلِكَ/ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْمَلُونَ عَلَى الْأَرْضِ عَمَلًا صَالِحًا فَتَبْكِيَ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَصْعَدْ لَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ كَلَامٌ طَيِّبٌ وَلَا عَمَلٌ صَالِحٌ فَتَبْكِيَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: التَّقْدِيرُ: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَالْمَعْنَى مَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَلَا الْمُؤْمِنُونَ، بَلْ كَانُوا بِهَلَاكِهِمْ مَسْرُورِينَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ عَادَةَ النَّاسِ جَرَتْ بِأَنْ يَقُولُوا فِي هَلَاكِ الرَّجُلِ الْعَظِيمِ الشَّأْنِ: إِنَّهُ أَظْلَمَتْ لَهُ الدُّنْيَا، وَكَسَفَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لِأَجْلِهِ وَبَكَتِ الرِّيحُ وَالسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، وَيُرِيدُونَ الْمُبَالَغَةَ فِي تَعْظِيمِ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ لَا نَفْسَ هَذَا الْكَذِبِ. وَنَقَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ مَاتَ فِي غُرْبَةٍ غَابَتْ فِيهَا بَوَاكِيهِ إِلَّا بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ» . وَقَالَ جَرِيرٌ: الشَّمْسُ طَالِعَةٌ لَيْسَتْ بِكَاسِفَةٍ ... تُبْكِي عَلَيْكَ نُجُومَ اللَّيْلِ وَالْقَمَرَا وَفِيهِ مَا يُشْبِهُ السُّخْرِيَةَ بِهِمْ يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْظِمُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَوْ مَاتُوا لَبَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، فَمَا كَانُوا فِي هَذَا الْحَدِّ، بَلْ كَانُوا دُونَ ذَلِكَ، وَهَذَا إِنَّمَا يُذْكَرُ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ. ثُمَّ قَالَ: وَما كانُوا مُنْظَرِينَ أَيْ لَمَّا جَاءَ وَقْتُ هَلَاكِهِمْ لَمْ يُنْظَرُوا إِلَى وَقْتٍ آخَرَ لِتَوْبَةٍ وَتَدَارُكٍ وتقصير. [سورة الدخان (44) : الآيات 30 الى 39] وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ إِهْلَاكِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ إِحْسَانِهِ إِلَى مُوسَى وَقَوْمِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ مُقَدَّمٌ عَلَى إِيصَالِ النَّفْعِ فَبَدَأَ تَعَالَى بِبَيَانِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ فَقَالَ: وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ يَعْنِي قَتْلَ الْأَبْنَاءِ وَاسْتِخْدَامَ النِّسَاءِ وَالْإِتْعَابَ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ. ثُمَّ قَالَ: مِنْ فِرْعَوْنَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ الصَّادِرِ مِنْ فِرْعَوْنَ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِرْعَوْنُ بَدَلًا مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ كَأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ كَانَ عَذَابًا مُهِينًا لِإِفْرَاطِهِ فِي تَعْذِيبِهِمْ وَإِهَانَتِهِمْ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقُرِئَ مِنْ عَذَابِ الْمُهِينِ وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ (فَالْمُهِينُ) هُوَ فِرْعَوْنُ لِأَنَّهُ كَانَ عَظِيمَ السَّعْيِ فِي إِهَانَةِ الْمُحِقِّينَ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَهُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ وَقَوْلُهُ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ جَوَابُهُ كَأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنْ يُقَالَ هَلْ تَعْرِفُونَهُ مَنْ هُوَ فِي عُتُوِّهِ وَشَيْطَنَتِهِ؟ ثُمَّ عَرَّفَ حَالَهُ بِقَوْلِهِ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ أَيْ كَانَ عَالِيَ الدَّرَجَةِ فِي طَبَقَةِ الْمُسْرِفِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنَّهُ كانَ عالِياً لِقَوْلِهِ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ [الْقَصَصِ: 4] وَكَانَ أَيْضًا مُسْرِفًا وَمِنْ إِسْرَافِهِ أَنَّهُ عَلَى حَقَارَتِهِ وَخِسَّتِهِ ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ. وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَيْفَ دَفَعَ الضَّرَرَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَيَّنَ أَنَّهُ كَيْفَ أَوْصَلَ إِلَيْهِمُ الْخَيْرَاتِ فَقَالَ: وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ عَلى عِلْمٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَيْ عَالِمِينَ بِكَوْنِهِمْ مُسْتَحِقِّينَ لِأَنْ يُخْتَارُوا وَيُرَجَّحُوا عَلَى غَيْرِهِمْ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَعَ عِلْمِنَا بِأَنَّهُمْ قَدْ يَزِيغُونَ وَيَصْدُرُ عَنْهُمُ الْفُرُطَاتُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: ظَاهِرُ قَوْلِهِ وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ الْعَالَمِينَ فَقِيلَ الْمُرَادُ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ، وَقِيلَ هَذَا عَامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ كَقَوْلِهِ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آلِ عِمْرَانَ: 110] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ مِثْلَ فَلْقِ الْبَحْرِ، وَتَظْلِيلِ الْغَمَامِ، وَإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ الْقَاهِرَةِ الَّتِي مَا أَظْهَرَ اللَّهُ مثلها على أحد سواهم بَلؤُا مُبِينٌ أَيْ نِعْمَةٌ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ يَبْلُو بِالْمِحْنَةِ فَقَدْ يَبْلُو أَيْضًا بِالنِّعْمَةِ اختبارا ظاهرا ليتميز الصديق عن الزنديق، وهاهنا آخِرُ الْكَلَامِ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى ذِكْرِ كُفَّارِ مَكَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِمْ حَيْثُ قَالَ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ أَيْ بَلْ

هُمْ فِي شَكٍّ مِنَ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ/ إِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ كَانُوا فِي الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ كَيْفَ أَهْلَكَهُمْ وَكَيْفَ أَنْعَمَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ كَوْنُ كَفَّارِ مَكَّةَ مُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ، فَقَالَ: إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ، إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ فَإِنْ قِيلَ الْقَوْمُ كَانُوا يَنْكَرُونَ الْحَيَاةَ الثَّانِيَةَ فَكَانَ مِنْ حَقِّهِمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمَنْشَرِينَ؟ قُلْنَا إِنَّهُ قِيلَ لَهُمْ إِنَّكُمْ تَمُوتُونَ مَوْتَةً تَعْقُبُهَا حَيَاةٌ، كَمَا أَنَّكُمْ حَالَ كَوْنِكُمْ نُطَفًا كُنْتُمْ أَمْوَاتًا وَقَدْ تَعْقُبُهَا حَيَاةٌ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، فَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى يُرِيدُونَ مَا الْمَوْتَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَعْقُبُهَا حَيَاةٌ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى دُونَ الْمَوْتَةِ الثَّانِيَةِ، وَمَا هَذِهِ الصِّفَةُ الَّتِي تَصِفُونَ بِهَا الْمَوْتَةَ مِنْ تَعْقِيبِ الْحَيَاةِ لَهَا إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى خَاصَّةً، فَلَا فَرْقَ إِذًا بَيْنَ هَذَا الْكَلَامِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا هَذَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَيُمْكِنُ أَنْ يُذْكَرَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، فَيُقَالُ قَوْلُهُ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَأْتِينَا شَيْءٌ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا الْمَوْتَةُ الْأُولَى، وَهَذَا الْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا تَأْتِيهِمُ الْحَيَاةُ الثَّانِيَةُ الْبَتَّةَ، ثُمَّ صَرَّحُوا بِهَذَا الْمَرْمُوزِ فَقَالُوا وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّكَلُّفِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ يُقَالُ نَشَرَ اللَّهُ الْمَوْتَى وَأَنْشَرَهُمْ إِذَا بَعَثَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ الْكُفَّارَ احْتَجُّوا عَلَى نَفْيِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ بِأَنْ قَالُوا: إن كان البعث والنشور ممكنا معقولا فجعلوا لَنَا إِحْيَاءَ مَنْ مَاتَ مِنْ آبَائِنَا بِأَنْ تَسْأَلُوا رَبَّكُمْ ذَلِكَ، حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ دَلِيلًا عِنْدَنَا عَلَى صِدْقِ دَعْوَاكُمْ فِي النُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ فِي الْقِيَامَةِ، قِيلَ طَلَبُوا مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ حَتَّى يَنْشُرَ قُصَيَّ بْنَ كِلَابٍ لِيُشَاوِرُوهُ فِي صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي صِحَّةِ الْبَعْثِ، وَلَمَّا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ ذَلِكَ قَالَ: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ لَمْ يَذْكُرُوا فِي نَفْيِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ شُبْهَةً حَتَّى يُحْتَاجَ إِلَى الْجَوَابِ عَنْهَا، وَلَكِنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى الْجَهْلِ وَالتَّقْلِيدِ فِي ذَلِكَ الْإِنْكَارِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ اقْتَصَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْوَعِيدِ، فَقَالَ إِنَّ سَائِرَ الْكُفَّارِ كَانُوا أَقْوَى مِنْ هَؤُلَاءِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَهْلَكَهُمْ فَكَذَلِكَ يُهْلِكُ هَؤُلَاءِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مُلُوكُ الْيَمَنِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسَمَّى تُبَّعًا «1» لِأَنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا كَانُوا يَتْبَعُونَهُ، وَمَوْضِعُ تُبَّعٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضِعُ الْخَلِيفَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَهُمُ الْأَعَاظِمُ مِنْ مُلُوكِ الْعَرَبِ قَالَتْ عَائِشَةُ، كَانَ تُبَّعٌ رَجُلًا صَالِحًا، وَقَالَ كَعْبٌ: ذَمَّ اللَّهُ قَوْمَهُ وَلَمْ يَذُمَّهُ، قَالَ الْكَلْبِيُّ هُوَ أَبُو كَرْبٍ أَسْعَدُ، وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسُبُّوا تُبَّعًا فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ مَا أَدْرِي أَكَانَ تُبَّعٌ نَبِيًّا أَوْ غَيْرَ نَبِيٍّ» فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى قَوْلِهِ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ مَعَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي الْفَرِيقَيْنِ؟ قُلْنَا مَعْنَاهُ أَهُمْ خَيْرٌ فِي الْقُوَّةِ وَالشَّوْكَةِ، كَقَوْلِهِ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ [الْقَمَرِ: 43] بَعْدَ ذِكْرِ آلِ فِرْعَوْنَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، فَقَالَ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ/ وَلَوْ لَمْ يَحْصُلِ الْبَعْثُ لَكَانَ هَذَا الْخَلْقُ لَعِبًا وَعَبَثًا، وَقَدْ مَرَّ تَقْرِيرُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ، وَفِي آخِرِ سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حَيْثُ قال: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [المؤمنون: 115] وَفِي سُورَةِ ص حَيْثُ قَالَ: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [ص: 27] .

_ (1) القياس أن يقول لأنه كان يتبع الملوك قبله وآثارهم، ولذلك سمي الظل تبعا لأنه يتبع الشمس وفي «القاموس» : ولا يسمى به إلا إذا كانت حمير وحضرموت، ودار التبايعة بمكة ولد بِهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[سورة الدخان (44) : الآيات 40 إلى 50]

ثُمَّ قَالَ: مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَالْمُرَادُ أَهْلُ مَكَّةَ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْلُقُ الْكُفْرَ وَالْفِسْقَ وَلَا يُرِيدُهُمَا فَهُوَ مع جوابه معلوم، والله أعلم. [سورة الدخان (44) : الآيات 40 الى 50] إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الدخان: 38] إِثْبَاتُ الْقَوْلِ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ عَقِيبَهُ قَوْلَهُ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ وَفِي تَسْمِيَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِيَوْمِ الْفَصْلِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ: يَفْصِلُ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ الثَّانِي: يَفْصِلُ فِي الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْفَصْلِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كُلِّ مَا يَكْرَهُهُ، وَفِي حَقِّ الْكُفَّارِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كُلِّ مَا يُرِيدُهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَظْهَرُ حَالُ كُلِّ أَحَدٍ كَمَا هُوَ، فَلَا يَبْقَى فِي حَالِهِ رِيبَةٌ وَلَا شُبْهَةٌ، فَتَنْفَصِلَ الْخَيَالَاتُ وَالشُّبُهَاتُ، وَتَبْقَى الْحَقَائِقُ وَالْبَيِّنَاتُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْمَعْنَى أَنَّ يَوْمَ يَفْصِلُ الرَّحْمَنُ بَيْنَ عِبَادِهِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، ثُمَّ وَصَفَ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَقَالَ: يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً يُرِيدُ قَرِيبٌ/ عَنْ قَرِيبٍ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ نَاصِرٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي يُتَوَقَّعُ مِنْهُ النُّصْرَةُ إِمَّا الْقَرِيبُ فِي الدِّينِ أَوْ فِي النَّسَبِ أَوِ الْمُعْتَقُ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يُسَمَّوْنَ بِالْمَوْلَى، فَلَمَّا لَمْ تَحْصُلِ النُّصْرَةُ مِنْهُمْ فَبِأَنْ لَا تَحْصُلَ مِمَّنْ سِوَاهُمْ أَوْلَى، وَهَذِهِ الْآيَةُ شَبِيهَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً إلى قوله وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [البقرة: 123] قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مَوْلًى عَنْ مَوْلًى الْكُفَّارُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ الْمُؤْمِنَ فَقَالَ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ الْمُؤْمِنَ فَإِنَّهُ تَشْفَعُ لَهُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالْقِيَامَةِ حَقٌّ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِوَصْفِ ذَلِكَ الْيَوْمِ ذَكَرَ عَقِيبَهُ وَعِيدَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ بَعْدَهُ وَعْدَ الْأَبْرَارِ، أَمَّا وَعِيدُ الْكُفَّارِ فَهُوَ قَوْلُهُ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ بِكَسْرِ الشِّينِ، ثُمَّ قَالَ وَفِيهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ: شَجَرَةٌ بِفَتْحِ الشِّينِ وَكَسْرِهَا، وَشَيَرَةٌ بِالْيَاءِ، وَشَبَرَةٌ بِالْبَاءِ.

[سورة الدخان (44) : الآيات 51 إلى 59]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْبَحْثُ عَنِ اشْتِقَاقِ لَفْظِ الزَّقُّومِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ وَالصَّافَّاتِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى حُصُولِ هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ لِلْأَثِيمِ، وَالْأَثِيمُ هُوَ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ الْإِثْمُ، فَيَكُونُ هَذَا الْوَعِيدُ حَاصِلًا لِلْفُسَّاقِ وَالْجَوَابُ: أَنَّا بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُفْرَدَ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّعْرِيفِ الْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى الْمَذْكُورِ السَّابِقِ، وَلَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، وهاهنا الْمَذْكُورُ السَّابِقُ هُوَ الْكَافِرُ، فَيَنْصَرِفُ إِلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ بِالْمَعْنَى جَائِزٌ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ نَقَلَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُقْرِئُ رَجُلًا هَذِهِ الْآيَةَ فَكَانَ يَقُولُ: طَعَامُ اللَّئِيمِ، فَقَالَ قُلْ طَعَامُ الْفَاجِرِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. ثُمَّ قَالَ: كَالْمُهْلِ قُرِئَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا وَسَبَقَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَقَدْ شَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الطَّعَامَ بِالْمُهْلِ، وَهُوَ دُرْدِيُّ الزَّيْتِ وَعَكَرُ الْقَطِرَانِ وَمُذَابُ النُّحَاسِ وَسَائِرُ الْفِلِزَّاتِ، وَتَمَّ الْكَلَامُ هاهنا، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ غَلَيَانِهِ فِي بُطُونِ الْكُفَّارِ فَقَالَ: يَغْلِي فِي الْبُطُونِ وَقُرِئَ بِالتَّاءِ فَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَلِتَأْنِيثِ الشَّجَرَةِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ حَمَلَهُ عَلَى الطَّعَامِ فِي قَوْلِهِ طَعامُ الْأَثِيمِ لِأَنَّ الطَّعَامَ هُوَ [ثَمَرُ] الشَّجَرَةِ فِي الْمَعْنَى، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ الْيَاءَ لِأَنَّ الِاسْمَ الْمَذْكُورَ يعني المهل هو الذي بل الْفِعْلُ فَصَارَ التَّذْكِيرُ بِهِ أَوْلَى، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الْغَلْيُ عَلَى الْمُهْلِ لِأَنَّ الْمُهْلَ مُشَبَّهٌ بِهِ، وَإِنَّمَا يَغْلِي مَا يُشَبَّهُ بِالْمُهْلِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ وَالْمَاءُ إِذَا اشْتَدَّ غَلَيَانُهُ فَهُوَ حَمِيمٌ. ثُمَّ قَالَ: خُذُوهُ أَيْ خُذُوا الْأَثِيمَ فَاعْتِلُوهُ قُرِئَ بِكَسْرِ التَّاءِ، قَالَ الليث: العتل أن تأخذ بمنكث الرَّجُلِ فَتَعْتِلَهُ أَيْ تَجُرَّهُ إِلَيْكَ وَتَذْهَبُ بِهِ إِلَى حَبْسٍ أَوْ مِحْنَةٍ، وَأَخَذَ فُلَانٌ بِزِمَامِ النَّاقَةِ يَعْتِلُهَا/ وَذَلِكَ إِذَا قَبَضَ عَلَى أَصْلِ الزِّمَامِ عِنْدَ الرَّأْسِ وَقَادَهَا قَوْدًا عَنِيفًا، وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ عَتَلْتُهُ إِلَى السِّجْنِ وَأَعْتَلْتُهُ إِذَا دَفَعْتَهُ دَفْعًا عَنِيفًا، هَذَا قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي الْعَتْلِ، وَذَكَرُوا فِي اللُّغَتَيْنِ ضَمَّ التَّاءَ وَكَسْرِهَا وَهُمَا صَحِيحَانِ مِثْلُ يَعْكُفُونَ وَيَعْكِفُونَ، وَيَعْرُشُونَ وَيَعْرِشُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ أَيْ إِلَى وَسَطِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ: ثُمَّ صُبُّوا مِنْ فَوْقِ رَأْسِهِ الْحَمِيمَ أو يصب من فوق رؤوسهم الْحَمِيمُ إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ أَكْمَلُ فِي الْمُبَالَغَةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: صُبُّوا عَلَيْهِ عَذَابَ ذَلِكَ الْحَمِيمِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً [البقرة: 25] وذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: 49] وذكروا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُخَاطَبُ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، وَالْمُرَادُ إِنَّكَ أَنْتَ بِالضِّدِّ مِنْهُ وَالثَّانِي: أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا أعز ولا أكرم مني فو الله مَا تَسْتَطِيعُ أَنْتَ وَلَا رَبُّكَ أَنْ تَفْعَلَا بِي شَيْئًا وَالثَّالِثُ: أَنَّكَ كُنْتَ تَعْتَزُّ لَا بِاللَّهِ فَانْظُرْ مَا وَقَعْتَ فِيهِ، وَقُرِئَ أَنَّكَ بِمَعْنَى لِأَنَّكَ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ أَيْ إِنَّ هَذَا الْعَذَابَ مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ أَيْ تَشُكُّونَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ حَيْثُ قال: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ [الدخان: 9] . [سورة الدخان (44) : الآيات 51 الى 59] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ ذَكَرَ الْوَعْدَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فَقَالَ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ قَالَ أَصْحَابُنَا كُلُّ مَنِ اتَّقَى الشِّرْكَ فَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُتَّقِي فَوَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ الْفَاسِقُ فِي هَذَا الْوَعْدِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ أَسْبَابِ تَنَعُّمِهِمْ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ أَوَّلُهَا: مَسَاكِنُهُمْ فَقَالَ: فِي مَقامٍ أَمِينٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسْكَنَ إِنَّمَا يَطِيبُ بِشَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ آمِنًا عَنْ جَمِيعِ مَا يَخَافُ وَيَحْذَرُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي مَقامٍ أَمِينٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي مَقَامٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِضَمِّ الْمِيمِ، قال صاحب «الكشاف» : المقام بفتح الميم هو مَوْضِعُ الْقِيَامِ، وَالْمُرَادُ الْمَكَانُ وَهُوَ مِنَ الْخَاصِّ الَّذِي جُعِلَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَعْنَى الْعَامِّ وَبِالضَّمِّ هُوَ مَوْضِعُ الْإِقَامَةِ، وَالْأَمِينُ مِنْ قَوْلِكَ أَمُنَ الرَّجُلُ أَمَانَةً فَهُوَ أَمِينٌ وَهُوَ ضِدُّ الْخَائِنِ، فَوُصِفَ بِهِ الْمَكَانُ اسْتِعَارَةً لِأَنَّ الْمَكَانَ الْمُخِيفَ كَأَنَّهُ يَخُونُ صَاحِبَهُ وَالشَّرْطُ الثَّانِي: لِطِيبِ الْمَكَانِ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ فِيهِ أَسْبَابُ النُّزْهَةِ وَهِيَ الْجَنَّاتُ وَالْعُيُونُ، فَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فِي مَسَاكِنِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَدْ وَصَفَهَا بِمَا لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مِنْ تَنَعُّمَاتِهِمُ الْمَلْبُوسَاتُ فَقَالَ: يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ قِيلَ السُّنْدُسُ مَا رَقَّ مِنَ الدِّيبَاجِ، وَالْإِسْتَبْرَقُ مَا غَلُظَ مِنْهُ، وَهُوَ تَعْرِيبُ اسْتَبْرَكْ، فَإِنْ قَالُوا كَيْفَ جَازَ وُرُودُ الْأَعْجَمِيِّ فِي الْقُرْآنِ؟ قُلْنَا لَمَّا عُرِّبَ فَقَدْ صَارَ عَرَبِيًّا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَهُوَ جُلُوسُهُمْ عَلَى صِفَةِ التَّقَابُلِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ اسْتِئْنَاسُ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ، فَإِنْ قَالُوا الْجُلُوسُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُوحِشٌ لِأَنَّهُ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُطَّلِعًا عَلَى مَا يَفْعَلُهُ الْآخَرُ، وَأَيْضًا فَالَّذِي يَقِلُّ ثَوَابُهُ إِذَا اطَّلَعَ عَلَى حَالِ مَنْ يَكْثُرُ ثَوَابُهُ يَتَنَغَّصُ عَيْشُهُ، قُلْنَا أَحْوَالُ الْآخِرَةِ بِخِلَافِ أَحْوَالِ الدُّنْيَا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَزْوَاجُهُمْ فَقَالَ: كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ الْكَافُ فِيهِ وَجْهَانِ أَنْ تَكُونَ مَرْفُوعَةً وَالتَّقْدِيرُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ أَوْ مَنْصُوبَةً وَالتَّقْدِيرُ آتَيْنَاهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَعَلْنَاهُمْ أَزْوَاجًا كَمَا يُزَوَّجُ الْبَعْلُ بِالْبَعْلِ أَيْ جَعَلْنَاهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ هَلْ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ عَقْدِ التَّزْوِيجِ أَمْ لَا؟، قَالَ يُونُسُ قَوْلُهُ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أَيْ قَرَنَّاهُمْ بِهِنَّ فَلَيْسَ مِنْ عَقْدِ التَّزْوِيجِ، وَالْعَرَبُ لَا تَقُولُ تَزَوَّجْتُ بِهَا وَإِنَّمَا تَقُولُ تَزَوَّجْتُهَا، قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالتَّنْزِيلُ يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَ يُونُسُ وَذَلِكَ قَوْلُهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها [الْأَحْزَابِ: 37] وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ تَزَوَّجْتَ بِهَا زَوَّجْنَاكَ بِهَا وَأَيْضًا فَقَوْلُ الْقَائِلِ زَوَّجْتُهُ بِهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ

فَرْدًا فَزَوَّجْتُهُ بِآخَرَ كَمَا يُقَالُ شَفَعْتُهُ بِآخَرَ، وَأَمَّا الْحُورُ، فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ أَصْلُ الْحَوَرِ الْبَيَاضُ وَالتَّحْوِيرُ التَّبْيِيضُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْحَوَارِيِّينَ، وَعَيْنٌ حَوْرَاءُ إِذَا اشْتَدَّ بَيَاضُ بَيَاضِهَا وَاشْتَدَّ سَوَادُ سَوَادِهَا، وَلَا تُسَمَّى الْمَرْأَةُ حَوْرَاءَ حَتَّى يَكُونَ حَوَرُ عَيْنَيْهَا بَيَاضًا فِي لَوْنِ الْجَسَدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَوَرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْبِيضُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ بِعِيسٍ عِينٍ وَالْعِيسُ الْبِيضُ، وَأَمَّا الْعِينُ فَجَمْعُ عَيْنَاءَ وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ عَظِيمَةَ الْعَيْنَيْنِ مِنَ النِّسَاءِ، فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ رَجُلٌ أَعْيَنُ إِذَا كَانَ ضَخْمَ الْعَيْنِ وَاسِعَهَا وَالْأُنْثَى عَيْنَاءُ وَالْجَمْعُ عِينٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي هَؤُلَاءِ الْحُورِ الْعِينِ، فَقَالَ الْحَسَنُ هُنَّ عَجَائِزُكُمُ الدُّرْدُ يُنْشِئُهُنَّ اللَّهُ خَلْقًا آخَرَ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِنَّهُنَّ لَيْسُوا مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا. وَالنَّوْعُ الْخَامِسُ: مِنْ تَنَعُّمَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْمَأْكُولُ فَقَالَ: يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ/ قَالُوا إِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْفَاكِهَةِ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ آمِنُونَ مِنَ التُّخَمِ وَالْأَمْرَاضِ. وَلَمَّا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْوَاعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالرَّاحَاتِ، بَيَّنَ أَنَّ حَيَاتَهُمْ دَائِمَةٌ، فَقَالَ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ مَا ذَاقُوا الْمَوْتَةَ الْأُولَى فِي الْجَنَّةِ فَكَيْفَ حَسُنَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ؟ وَأُجِيبَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أُرِيدَ أَنْ يُقَالَ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ الْبَتَّةَ فَوُضِعَ قَوْلُهُ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى مَوْضِعَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْتَةَ الْمَاضِيَةَ مُحَالٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ بِالْمُحَالِ، كَأَنَّهُ قِيلَ إِنْ كَانَتِ الْمَوْتَةُ الْأُولَى يُمْكِنُ ذَوْقُهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّهُمْ يَذُوقُونَهَا الثَّانِي: أَنَّ إِلَّا بِمَعْنَى لَكِنَّ وَالتَّقْدِيرُ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ لَكِنَّ الْمَوْتَةَ الْأُولَى قَدْ ذَاقُوهَا وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْجَنَّةَ حَقِيقَتُهَا ابْتِهَاجُ النَّفْسِ وَفَرَحُهَا بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِطَاعَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي فَازَ بِهَذِهِ السَّعَادَةِ فَهُوَ فِي الدُّنْيَا فِي الْجَنَّةِ وَفِي الْآخِرَةِ أَيْضًا فِي الْجَنَّةِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ وَقَعْتِ الْمَوْتَةُ الْأُولَى حِينَ كَانَ الْإِنْسَانُ فِي الْجَنَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي هِيَ جَنَّةُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ وَالْمَحَبَّةِ، فَذِكْرُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ كَالتَّنْبِيهِ عَلَى قَوْلِنَا إِنَّ الْجَنَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ حُصُولُ هَذِهِ الْحَالَةِ لَا الدَّارُ الَّتِي هِيَ دَارُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَنْبِيَاءُ اللَّهِ لَا يَمُوتُونَ وَلَكِنْ يُنْقَلُونَ مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ» وَالرَّابِعُ: أَنَّ مَنْ جَرَّبَ شَيْئًا وَوَقَفَ عَلَيْهِ صَحَّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ ذَاقَهُ، وَإِذَا صَحَّ أَنْ يُسَمَّى الْعِلْمُ بِالذَّوْقِ صَحَّ أَنْ يُسَمَّى تَذَكُّرُهُ أَيْضًا بِالذَّوْقِ فَقَوْلُهُ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى يَعْنِي إِلَّا الذَّوْقَ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ تَذَكُّرِ الْمَوْتَةِ الْأُولَى. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَلَيْسَ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ أَيْضًا لَا يَمُوتُونَ فَلِمَ بَشَّرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِهَذَا مَعَ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يُشَارِكُونَهُمْ فِيهِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْبِشَارَةَ مَا وَقَعَتْ بِدَوَامِ الْحَيَاةِ بَلْ بِدَوَامِ الْحَيَاةِ مَعَ سَابِقَةِ حُصُولِ تِلْكَ الْخَيْرَاتِ وَالسَّعَادَاتِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ قُرِئَ وَوَقَّاهَمْ بِالتَّشْدِيدِ، فَإِنْ قَالُوا مُقْتَضَى الدَّلِيلِ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْوِقَايَةِ عَنْ عَذَابِ الْجَحِيمِ مُتَقَدِّمًا عَلَى ذِكْرِ الْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ لِأَنَّ الَّذِي وُقِيَ عَنْ عَذَابِ الْجَحِيمِ قَدْ يَفُوزُ وَقَدْ لَا يَفُوزُ، فَإِذَا ذُكِرَ بَعْدَهُ أَنَّهُ فَازَ بِالْجَنَّةِ حَصَلَتِ الْفَائِدَةُ، أَمَّا الَّذِي فَازَ بِخَيْرَاتِ الْجَنَّةِ فَقَدْ تَخَلَّصَ عَنْ عِقَابِ اللَّهِ لَا مَحَالَةَ فَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُ الْفَوْزِ عَنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ بَعْدَ الْفَوْزِ بِثَوَابِ الْجَنَّةِ مُفِيدًا، قُلْنَا التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَوَقَاهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَنْ عَذَابِ الْجَحِيمِ. ثُمَّ قَالَ: فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ يَعْنِي كُلَّ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ الْمُتَّقُونَ مِنَ الْخَلَاصِ عَنِ النَّارِ والفوز بالجنة فإنما

يحصل بتفضل اللَّهِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ يَحْصُلُ تَفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِطْرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَدَّدَ أَقْسَامَ ثَوَابِ الْمُتَّقِينَ بَيَّنَ أَنَّهَا بِأَسْرِهَا إِنَّمَا حَصَلَتْ عَلَى سَبِيلِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ الْقَاضِي أَكْثَرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَإِنْ كَانُوا قَدِ اسْتَحَقُّوهُ بِعَمَلِهِمْ فَهُوَ بِفَضْلِ اللَّهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى تَفَضَّلَ بِالتَّكْلِيفِ، وَغَرَضُهُ مِنْهُ أَنْ يُصَيِّرَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ فَهُوَ/ كَمَنْ أَعْطَى غَيْرَهُ مَالًا لِيَصِلَ بِهِ إِلَى مِلْكِ ضَيْعَةٍ، فَإِنَّهُ يُقَالُ فِي تِلْكَ الضَّيْعَةِ إِنَّهَا مِنْ فَضْلِهِ، قُلْنَا مَذْهَبُكَ أَنَّ هَذَا الثَّوَابَ حَقٌّ لَازِمٌ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَخَلَّ بِهِ لَصَارَ سَفِيهًا وَلَخَرَجَ بِهِ عَنِ الْإِلَهِيَّةِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ وَصْفُ مِثْلِ هَذَا الشَّيْءِ بِأَنَّهُ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؟. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ التَّفْضِيلَ أَعْلَى دَرَجَةً مِنَ الثَّوَابِ الْمُسْتَحَقِّ، فَإِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ ثُمَّ وَصَفَ الْفَضْلَ مِنَ اللَّهِ بِكَوْنِهِ فَوْزًا عَظِيمًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْمَلِكَ الْعَظِيمَ إِذَا أَعْطَى الْأَجِيرَ أُجْرَتَهُ ثُمَّ خَلَعَ عَلَى إِنْسَانٍ آخَرَ فَإِنَّ تِلْكَ الْخِلْعَةَ أَعْلَى حَالًا مِنْ إِعْطَاءِ تِلْكَ الْأُجْرَةِ، وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الدَّلَائِلَ وَشَرَحَ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ قَالَ: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْقُرْآنَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بكونه كتابا مبينا أي كَثِيرَ الْبَيَانِ وَالْفَائِدَةِ وَذَكَرَ فِي خَاتِمَتِهَا مَا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ الْمُبِينَ، الْكَثِيرَ الْفَائِدَةِ إِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ، أَيْ إِنَّمَا أَنْزَلْنَاهُ عَرَبِيًّا بِلُغَتِكَ، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنَ الْكُلِّ الْإِيمَانَ وَالْمَعْرِفَةَ وَأَنَّهُ مَا أَرَادَ مِنْ أَحَدٍ الْكُفْرَ وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ عَائِدٌ إِلَى أَقْوَامٍ مَخْصُوصِينَ فَنَحْنُ نَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ قَالَ: فَارْتَقِبْ أَيْ فَانْتَظِرْ مَا يَحِلُّ بِهِمْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ مَا يَحِلُّ بِكَ، مُتَرَبِّصُونَ بِكَ الدَّوَائِرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءَ فِي نِصْفِ اللَّيْلِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ، يَا دَائِمَ الْمَعْرُوفِ، يَا قَدِيمَ الْإِحْسَانِ، شَهِدَ لَكَ إِشْرَاقُ الْعَرْشِ، وَضَوْءُ الكرسي، ومعارج السموات، وَأَنْوَارُ الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ، عَلَى مَنَابِرِهَا، الْمُتَوَغِّلَةِ فِي الْعُلُوِّ الْأَعْلَى، وَمَعَارِجِهَا الْمُقَدَّسَةِ عَنْ غُبَارِ عَالَمِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ، بِأَنَّ الْأَوَّلَ الْحَقَّ الْأَزَلِيَّ، لَا يُنَاسِبُهُ شَيْءٌ مِنْ عَلَائِقِ الْعُقُولِ، وَشَوَائِبِ الْخَوَاطِرِ، وَمُنَاسَبَاتِ الْمُحْدَثَاتِ، فَالْقَمَرُ بِسَبَبِ مَحْوِهِ مُقِرٌّ بِالنُّقْصَانِ، وَالشَّمْسُ بِشَهَادَةِ الْمَعَارِجِ بِتَغَيُّرَاتِهَا، مُعْتَرِفَةٌ بِالْحَاجَةِ إِلَى تَدْبِيرِ الرَّحْمَنِ، وَالطَّبَائِعُ مَقْهُورَةٌ تَحْتَ الْقُدْرَةِ الْقَاهِرَةِ، فَاللَّهُ فِي غَيْبِيَّاتِ الْمَعَارِجِ الْعَالِيَةِ، وَالْمُتَغَيِّرَاتٌ شَاهِدَةٌ بِعَدَمِ تَغَيُّرِهِ، وَالْمُتَعَاقِبَاتُ نَاطِقَةٌ بِدَوَامِ سَرْمَدِيَّتِهِ، وَكُلُّ مَا نُوَجَّهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَضَى وَسَيَأْتِي فَهُوَ خالقه وأعلى منه، فبجوده الوجود وإيجاد، وَبِإِعْدَامِهِ الْفَنَاءُ وَالْفَسَادُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ تَائِهٌ فِي جَبَرُوتِهِ، نَائِرٌ عِنْدَ طُلُوعِ نُورِ مَلَكُوتِهِ، وَلَيْسَ عِنْدَ عُقُولِ الْخَلْقِ إِلَّا أَنَّهُ بِخِلَافِ كُلِّ الْخَلْقِ، لَهُ الْعِزُّ وَالْجَلَالُ، وَالْقُدْرَةُ وَالْكَمَالُ، وَالْجُودُ وَالْإِفْضَالُ، رَبَّنَا وَرَبَّ مَبَادِينَا إِيَّاكَ نَرُومُ، وَلَكَ نُصَلِّي وَنَصُومُ، وَعَلَيْكَ الْمُعَوَّلُ، وَأَنْتَ الْمَبْدَأُ الْأَوَّلُ، سُبْحَانَكَ سُبْحَانَكَ.

سورة الجاثية

سُورَةُ الْجَاثِيَةِ ثَلَاثُونَ وَسَبْعُ آيَاتٍ مَكِّيَّةٍ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم [سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) [في قوله تعالى حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ] فيه مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن قَوْلِهِ حم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنْ يكون حم مبتدأ وتَنْزِيلُ الْكِتابِ خَبَرَهُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفٍ مُضَافٍ، وَالتَّقْدِيرُ تَنْزِيلُ حم، تَنْزِيلُ الكتاب، ومِنَ اللَّهِ صِلَةٌ لِلتَّنْزِيلِ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ حم فِي تَقْدِيرِ: هَذِهِ حم ثُمَّ نَقُولُ تَنْزِيلُ الْكِتابِ وَاقِعٌ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ الثالث: أن يكون حم قسما وتَنْزِيلُ الْكِتابِ نَعْتًا لَهُ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالتَّقْدِيرُ: وَحم الَّذِي هُوَ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَا وَكَذَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ يجوز جعلها صِفَةً لِلْكِتَابِ، وَيَجُوزُ جَعْلُهُمَا صِفَةً لِلَّهِ تَعَالَى، إِلَّا أَنَّ هَذَا الثَّانِيَ أَوْلَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّا إِذَا جَعَلْنَاهُمَا صِفَةً لِلَّهِ تَعَالَى/ كَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةً، وَإِذَا جَعَلْنَاهُمَا صِفَةً لِلْكِتَابِ كَانَ ذَلِكَ مَجَازًا وَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى مِنَ الْمَجَازِ الثَّانِي: أَنَّ زِيَادَةَ الْقُرْبِ تُوجِبُ الرُّجْحَانَ الثَّالِثُ: أَنَّا إِذَا جَعَلْنَا الْعَزِيزَ الْحَكِيمَ صِفَةً لِلَّهِ كَانَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، لِأَنَّ كَوْنَهُ عَزِيزًا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ وَكَوْنَهُ حَكِيمًا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ غَنِيًّا عَنْ كُلِّ الْحَاجَاتِ، وَيَحْصُلُ لَنَا مِنْ مَجْمُوعِ كَوْنِهِ تَعَالَى: عَزِيزًا حَكِيمًا كَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، غَنِيًّا عَنْ كُلِّ الْحَاجَاتِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ مِنْهُ صُدُورُ الْعَبَثِ وَالْبَاطِلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ ظُهُورُ الْمُعْجِزِ

دَلِيلًا عَلَى الصِّدْقِ، فَثَبَتَ أَنَّا إِذَا جَعَلْنَا كَوْنَهُ عَزِيزًا حَكِيمًا صِفَتَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى يَحْصُلُ مِنْهُ هَذِهِ الْفَائِدَةُ، وَأَمَّا إِذَا جَعَلْنَاهُمَا صِفَتَيْنِ لِلْكِتَابِ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ هَذِهِ الْفَائِدَةُ، فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ يَجُوزُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، لأنه حصل في ذوات السموات وَالْأَرْضِ أَحْوَالٌ دَالَّةٌ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلَ مَقَادِيرُهَا وَكَيْفِيَّاتُهَا وَحَرَكَاتُهَا، وَأَيْضًا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ والنجوم والجبال والبحار موجودة في السموات وَالْأَرْضِ وَهِيَ آيَاتٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إن في خلق السموات وَالْأَرْضِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْبَقَرَةِ: 164] وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَامِ: 1] . الْبَحْثُ الثَّانِي: قَدْ ذَكَرْنَا الوجوه الكثيرة في دلالة السموات وَالْأَرْضِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَا بَأْسَ بِإِعَادَةِ بَعْضِهَا فَنَقُولُ إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا أَجْسَامٌ لَا تَخْلُو عَنِ الْحَوَادِثِ، وَمَا لَا يَخْلُو عَنِ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ فَهَذِهِ الْأَجْسَامُ حَادِثَةٌ وَكُلُّ حَادِثٍ فَلَهُ مُحْدِثٌ الثَّانِي: أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ وَتِلْكَ الْأَجْزَاءُ مُتَمَاثِلَةٌ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ، وَتِلْكَ الْأَجْزَاءُ وَقَعَ بَعْضُهَا فِي الْعُمْقِ دُونَ السَّطْحِ وَبَعْضُهَا فِي السَّطْحِ دُونَ الْعُمْقِ فَيَكُونُ وُقُوعُ كُلِّ جُزْءٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ مِنَ الْجَائِزَاتِ وَكُلُّ جَائِزٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ وَمُخَصِّصٍ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَفْلَاكَ وَالْعَنَاصِرَ مَعَ تَمَاثُلِهَا فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ الْجِسْمِيَّةِ اخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِصِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ كَالْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ وَاللَّطَافَةِ وَالْكَثَافَةِ الْفَلَكِيَّةِ وَالْعُنْصُرِيَّةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا جَائِزًا وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُرَجِّحٍ الرَّابِعُ: أَنَّ أَجْرَامَ الْكَوَاكِبِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْأَلْوَانِ مِثْلَ كُمُودَةُ زحل، وبياض المشتري، وحمزة الْمِرِّيخِ، وَالضَّوْءُ الْبَاهِرُ لِلشَّمْسِ، وَدُرِّيَّةُ الزَّهْرَةِ، وَصُفْرَةُ عُطَارِدَ، وَمَحْوُ الْقَمَرِ، وَأَيْضًا فَبَعْضُهَا سَعِيدَةٌ، وَبَعْضُهَا نَحِسَةٌ، وَبَعْضُهَا نَهَارِيٌّ ذَكَرٌ، وَبَعْضُهَا لِيَلِيٌّ أُنْثَى، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَجْسَامَ فِي ذَوَاتِهَا مُتَمَاثِلَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الصِّفَاتِ لِأَجْلِ أَنَّ الْإِلَهَ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ خَصَّصَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِصِفَتِهِ الْمُعَيَّنَةِ الْخَامِسُ: أَنَّ كُلَّ فَلَكٍ فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْحَرَكَةِ إِلَى جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَمُخْتَصٌّ بِمِقْدَارٍ وَاحِدٍ مِنَ السُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ، وَكُلُّ ذَلِكَ أَيْضًا مِنَ/ الْجَائِزَاتِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ السَّادِسُ: أَنَّ كُلَّ فَلَكٍ مُخْتَصٍّ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَكُلُّ ذَلِكَ أَيْضًا مِنَ الْجَائِزَاتِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَتَمَامُ الْوُجُوهِ مَذْكُورٌ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَاتِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ يَقْتَضِي كَوْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ مُخْتَصَّةً بِالْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِنَّهَا آيَاتٌ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا انْتَفَعَ بِهَا الْمُؤْمِنُ دُونَ الْكَافِرِ أُضِيفَ كَوْنُهَا آيَاتٍ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: 2] فَإِنَّهُ هُدًى لِكُلِّ النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُدىً لِلنَّاسِ [الْبَقَرَةِ: 185] إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا انْتَفَعَ بِهَا الْمُؤْمِنُ خَاصَّةً لا جرم قيل هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فكذا هاهنا، وَقَالَ الْأَصْحَابُ الدَّلِيلُ وَالْآيَةُ هُوَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ حُصُولُ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ الْعِلْمُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِإِيجَابِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ ذَلِكَ الْعِلْمَ لِلْمُؤْمِنِ لَا لِلْكَافِرِ فَكَانَ ذَلِكَ آيَةً دَلِيلًا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ لَا فِي حَقِّ الْكَافِرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وفيه مباحث:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ وَما يَبُثُّ عُطِفَ عَلَى الْخَلْقِ الْمُضَافِ لَا عَلَى الضَّمِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُضَافَ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ مَجْرُورٌ وَالْعَطْفُ عَلَيْهِ مُسْتَقْبَحٌ، فَلَا يُقَالُ مَرَرْتُ بِكَ وَزَيْدٍ، وَلِهَذَا طَعَنُوا فِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ تساءلون به والأرحام [النساء: 1] بِالْجَرِّ فِي قَوْلِهِ وَالْأَرْحَامَ وَكَذَلِكَ إِنَّ الَّذِينَ اسْتَقْبَحُوا هَذَا الْعَطْفَ، فَلَا يَقُولُونَ مَرَرْتُ بِكَ أَنْتَ وَزَيْدٍ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ آيَاتٍ بِكَسْرِ التَّاءِ وَكَذَلِكَ الَّذِي بَعْدَهُ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا، أَمَّا الرَّفْعُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ وَأَبُو عَلِيٍّ: أَحَدُهُمَا: الْعَطْفُ عَلَى مَوْضِعِ إِنَّ وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ، لِأَنَّ مَوْضِعَهُمَا رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ فَيُحْمَلُ الرَّفْعُ فِيهِ عَلَى الْمَوْضِعِ، كَمَا تَقُولُ إِنَّ زَيْدًا منطلق وعمر، وأَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التَّوْبَةِ: 3] لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَفِي خَلْقِكُمْ مُسْتَأْنَفًا، وَيَكُونُ الْكَلَامُ جُمْلَةً مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةٍ أُخْرَى كَمَا تَقُولُ إِنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ وَعَمْرٌو كَاتِبٌ، جَعَلْتَ قَوْلَكَ وَعَمْرٌو كَاتِبٌ كَلَامًا آخَرَ، كَمَا تَقُولُ زَيْدٌ فِي الدَّارِ وَأَخْرُجُ غَدًا إِلَى بَلَدِ كَذَا، فَإِنَّمَا حَدَّثْتَ بِحَدِيثَيْنِ وَوَصَلْتَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ بِالْوَاوِ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْحَسَنِ وَالْفَرَّاءِ، وَأَمَّا وَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِالنَّصْبِ فَهُوَ بِالْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ إِنَّ فِي السَّماواتِ عَلَى مَعْنَى وَإِنَّ فِي خَلْقِكُمْ لِآيَاتٍ وَيَقُولُونَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ إِنَّهَا فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ لَآيَاتٍ وَدُخُولُ اللَّامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ مَحْمُولٌ عَلَى إِنَّ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ وَفِي خَلْقِكُمْ مَعْنَاهُ خَلْقُ الْإِنْسَانِ، وَقَوْلُهُ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ إِشَارَةٌ إِلَى خَلْقِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَوَجْهُ دَلَالَتِهَا عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَسَاوِيَةٌ فَاخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ بكونه المعين وصفته المعينة وشكله السعين، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ/ بِتَخْصِيصِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ انْتِقَالُهُ مِنْ سَنٍّ إِلَى سَنٍّ آخَرَ وَمِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ آخَرَ، وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ قَدْ تَقَدَّمَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: تَبَدُّلُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ وَبِالضِّدِّ مِنْهُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَارَةً يَزْدَادُ طُولُ النَّهَارِ عَلَى طُولِ اللَّيْلِ وَتَارَةً بِالْعَكْسِ وَبِمِقْدَارِ مَا يَزْدَادُ فِي النَّهَارِ الصَّيْفِيِّ يَزْدَادُ فِي اللَّيْلِ الشِّتْوِيِّ وَثَالِثُهَا: اخْتِلَافُ مَطَالِعِ الشَّمْسِ فِي أَيَّامِ السَّنَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْقَوْلِ بِالْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: إِنْشَاءُ السَّحَابِ وَإِنْزَالُ الْمَطَرِ مِنْهُ وَثَانِيهَا: تَوَلُّدُ النَّبَاتِ مِنْ تِلْكَ الْحَبَّةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْأَرْضِ وَثَالِثُهَا: تَوَلُّدُ الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ وَهِيَ سَاقُ الشَّجَرَةِ وَأَغْصَانُهَا وَأَوْرَاقُهَا وَثِمَارُهَا ثُمَّ تِلْكَ الثَّمَرَةُ مِنْهَا مَا يَكُونُ الْقِشْرُ مُحِيطًا بِاللُّبِّ كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ اللُّبُّ مُحِيطًا بِالْقِشْرِ كَالْمِشْمِشِ وَالْخَوْخِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ خَالِيًا عَنِ الْقِشْرِ كَالتِّينِ، فَتَوَلُّدُ أَقْسَامِ النَّبَاتِ عَلَى كَثْرَةِ أَصْنَافِهَا وَتَبَايُنِ أَقْسَامِهَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ. ثُمَّ قَالَ: وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَهِيَ تَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ كَثِيرَةٍ بِحَسَبِ تَقْسِيمَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَمِنْهَا الْمَشْرِقِيَّةُ وَالْمَغْرِبِيَّةُ وَالشَّمَالِيَّةُ وَالْجَنُوبِيَّةُ، وَمِنْهَا الْحَارَّةُ وَالْبَارِدَةُ وَمِنْهَا الرِّيَاحُ النَّافِعَةُ وَالرِّيَاحُ الضَّارَّةُ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الدَّلَائِلِ قَالَ إِنَّهَا آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 7 إلى 11]

وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَمَعَ هَذِهِ الدَّلَائِلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَقَالَ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الْبَقَرَةِ: 164] فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّمَانِيَةَ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وقال هاهنا: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْخَلْقَ عَيْنُ الْمَخْلُوقِ، وَقَدْ ذَكَرَ لَفْظَ الْخَلْقِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ أن يقال السموات وبين أن يقال خلق السموات فَيَكُونُ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ عَيْنُ الْمَخْلُوقِ الثَّانِي: أَنَّهُ ذَكَرَ هُنَاكَ ثَمَانِيَةَ أَنْوَاعٍ من الدلائل وذكر هاهنا سِتَّةَ أَنْوَاعٍ وَأَهْمَلَ مِنْهَا الْفُلْكَ وَالسَّحَابَ، وَالسَّبَبُ أَنَّ مَدَارَ حَرَكَةِ الْفُلْكِ وَالسَّحَابِ عَلَى الرِّيَاحِ الْمُخْتَلِفَةِ فَذِكْرُ الرِّيَاحِ الَّذِي هُوَ كَالسَّبَبِ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِهِمَا وَالتَّفَاوُتُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ جَمَعَ الْكُلَّ وذكر لها مقطعا واحدا وهاهنا رَتَّبَهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَقَاطِعَ وَالْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِفْرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِنَظَرٍ تَامٍّ شَافٍ الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ثَلَاثَةَ مَقَاطِعَ أَوَّلُهَا: يُؤْمِنُونَ وَثَانِيهَا: يُوقِنُونَ وَثَالِثُهَا: يَعْقِلُونَ، وَأَظُنُّ أَنَّ سَبَبَ هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّهُ قِيلَ إِنْ كُنْتُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَافْهَمُوا هَذِهِ الدَّلَائِلَ، وَإِنْ كُنْتُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ أَنْتُمْ مِنْ طُلَّابِ الْحَقِّ وَالْيَقِينِ فَافْهَمُوا هَذِهِ الدَّلَائِلَ، وَإِنْ كُنْتُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ/ تَكُونُوا مِنْ زُمْرَةِ الْعَاقِلِينَ فَاجْتَهِدُوا فِي مَعْرِفَةِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ، وَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ الْعُلُومُ الَّتِي يَبْحَثُ عَنْهَا الْمُتَكَلِّمُونَ، بَلْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ وَالْفِقْهِ، وَذَلِكَ غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ سُورَةٌ طَوِيلَةٌ مُنْفَرِدَةٌ بِذِكْرِ الْأَحْكَامِ وَفِيهِ سُوَرٌ كَثِيرَةٌ خُصُوصًا الْمَكِّيَّاتُ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ عُلُومِ الْأُصُولِيِّينَ، وَمَنْ تَأْمَّلَ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ إِلَّا تَفْصِيلُ مَا اشْتَمَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ بِالْحَقِّ هُوَ أَنَّ صِحَّتَهَا مَعْلُومَةٌ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّهَا حَقَّةٌ صَحِيحَةٌ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَفَادًا مِنَ النَّقْلِ أَوِ الْعَقْلِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ صِحَّةَ الدَّلَائِلِ النَّقْلِيَّةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى سَبْقِ الْعِلْمِ بِإِثْبَاتِ الْإِلَهِ الْعَالِمِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ وَبِإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَكَيْفِيَّةِ دَلَالَةِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى صِحَّتِهَا، فَلَوْ أَثْبَتْنَا هَذِهِ الْأُصُولَ بِالدَّلَائِلِ النَّقْلِيَّةِ لَزِمَ الدَّوْرُ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِحَقِيقَةِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ إِلَّا بِمَحْضِ الْعَقْلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ومن أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ وَتَقْرِيرِ الْمَبَاحِثِ الْعَقْلِيَّةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ يَعْنِي أَنَّ مَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ فَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، وَأَبْطَلَ بِهَذَا قَوْلَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ التَّقْلِيدَ كَافٍ وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ التَّأَمُّلُ فِي دَلَائِلِ دِينِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ يُؤْمِنُونَ قُرِئَ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْيَاءَ لِأَنَّ قَبْلَهُ غَيْبَةً وهو قوله لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ولِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ خِطَابًا وَهُوَ قَوْلُهُ وَفِي خَلْقِكُمْ قُلْنَا الْغَيْبَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا أَقْرَبُ إِلَى الْحَرْفِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَالْأَقْرَبُ أَوْلَى، وَوَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَرَأَ عَلَى الْخِطَابِ أَنَّ قُلْ فِيهِ مُقَدَّرٌ أَيْ قُلْ لهم فبأي حديث بعد ذلك تؤمنون. [سورة الجاثية (45) : الآيات 7 الى 11] وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيْنَ الْآيَاتِ لِلْكَفَّارِ وبين أنهم بأي حديث يُؤْمِنُونَ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا مَعَ ظُهُورِهَا، أَتْبَعَهُ بِوَعِيدٍ عَظِيمٍ لَهُمْ فَقَالَ: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ الأفاك الكذب وَالْأَثِيمُ الْمُبَالِغُ فِي اقْتِرَافِ الْآثَامِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْأَثِيمَ لَهُ مَقَامَانِ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَبْقَى مُصِرًّا عَلَى الْإِنْكَارِ وَالِاسْتِكْبَارِ، فَقَالَ تَعَالَى: يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ أَيْ يُقِيمُ عَلَى كُفْرِهِ إِقَامَةً بِقُوَّةٍ وَشِدَّةٍ مُسْتَكْبِراً عَنِ الْإِيمَانِ بِالْآيَاتِ مُعْجَبًا بِمَا عِنْدَهُ، قيل نزلت في النضر بن الحرث وَمَا كَانَ يَشْتَرِي مِنْ أَحَادِيثِ الْأَعَاجِمِ وَيَشْغَلُ بِهَا النَّاسَ عَنِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنْ قَالُوا مَا مَعْنَى ثُمَّ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً؟، قُلْنَا نَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ إِلَى قَوْلِهِ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الْأَنْعَامِ: 1] ومعناه أنه تعالى لما كان خالقا للسموات وَالْأَرْضِ كَانَ مِنَ الْمُسْتَبْعَدِ جَعْلُ هَذِهِ الْأَصْنَامِ مساوية له في المعبودية، كذا هاهنا سَمَاعُ آيَاتِ اللَّهِ عَلَى قُوَّتِهَا وَظُهُورِهَا مِنَ الْمُسْتَبْعَدِ أَنْ يُقَابَلَ بِالْإِنْكَارِ وَالْإِعْرَاضِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها الْأَصْلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهَا وَالضَّمِيرُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَمَحَلُّ الْجُمْلَةِ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ أَيْ يَصِيرُ مِثْلَ غَيْرِ السَّامِعِ. الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَقَامِ الْإِصْرَارِ وَالِاسْتِكْبَارِ إِلَى مَقَامِ الِاسْتِهْزَاءِ فَقَالَ: وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ اتَّخَذَهُ هُزُوًا أَيِ اتَّخَذَ ذَلِكَ الشَّيْءَ هُزُوًا إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: اتَّخَذَها لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ إِذَا أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَاتِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاضَ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِجَمِيعِ الْآيَاتِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِذَلِكَ الْوَاحِدِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أُولَئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ لِشُمُولِهِ جَمِيعَ الْأَفَّاكِينَ، ثُمَّ وَصَفَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ فَقَالَ: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ أَيْ مِنْ قُدَّامِهِمْ جَهَنَّمُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْوَرَاءُ اسْمٌ لِلْجِهَةِ الَّتِي تَوَارَى بِهَا الشَّخْصُ مِنْ خَلْفٍ أَوْ قُدَّامٍ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَا مَلَكُوهُ فِي الدُّنْيَا لَا يَنْفَعُهُمْ فَقَالَ: وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ أَصْنَامَهُمْ لَا تَنْفَعُهُمْ فَقَالَ: وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ. ثُمَّ قَالَ: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فَإِنْ قَالُوا إِنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ قُلْنَا كَوْنُ الْعَذَابِ مُهِينًا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْإِهَانَةِ مَعَ الْعَذَابِ/ وَكَوْنُهُ عَظِيمًا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ بَالِغًا إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ فِي كَوْنِهِ ضَرَرًا. ثُمَّ قَالَ: هَذَا هُدىً أَيْ كَامِلٌ فِي كَوْنِهِ هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ

[سورة الجاثية (45) : الآيات 12 إلى 15]

وَالرِّجْزُ أَشَدُّ الْعَذَابِ بِدَلَالَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ [الْبَقَرَةِ: 59] وَقَوْلِهِ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ [الْأَعْرَافِ: 134] وَقُرِئَ أَلِيمٌ بِالْجَرِّ وَالرَّفْعِ، أَمَّا الْجَرُّ فَتَقْدِيرُهُ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا كَانَ عَذَابُهُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ كَانَ عَذَابُهُمْ أَلِيمًا، وَمَنْ رفع كان المعنى له عَذَابٌ أَلِيمٌ وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الرِّجْزِ الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ النَّجَاسَةُ وَمَعْنَى النَّجَاسَةِ فِيهِ قَوْلُهُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ [إِبْرَاهِيمَ: 16] وَكَانَ الْمَعْنَى لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ تَجَرُّعِ رِجْسٍ أَوْ شُرْبِ رجس فتكون من تبيينا للعذاب. [سورة الجاثية (45) : الآيات 12 الى 15] اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الِاسْتِدْلَالَ بِكَيْفِيَّةِ جَرَيَانِ الْفُلْكِ عَلَى وَجْهِ الْبَحْرِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِسَبَبِ تَسْخِيرِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا: الرِّيَاحُ الَّتِي تجري على وفق المراد وثانيها: خَلْقُ وَجْهِ الْمَاءِ عَلَى الْمَلَاسَةِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا الْفُلْكُ ثَالِثُهَا: خَلْقُ الْخَشَبَةِ عَلَى وَجْهٍ تَبْقَى طَافِيَةً عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ وَلَا تَغُوصُ فِيهِ. وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ الثَّلَاثَةُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا وَاحِدٌ مِنَ الْبَشَرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُوجِدٍ قَادِرٍ عَلَيْهَا وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَقَوْلُهُ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ مَعْنَاهُ إِمَّا بِسَبَبِ التِّجَارَةِ، أَوْ بِالْغَوْصِ عَلَى اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ، أَوْ لِأَجْلِ اسْتِخْرَاجِ اللَّحْمِ الطَّرِيِّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ وَالْمَعْنَى لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أوقف أجرام السموات وَالْأَرْضِ فِي مَقَارِّهَا وَأَحْيَازِهَا لَمَا حَصَلَ الِانْتِفَاعُ، لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ كَوْنِ/ الْأَرْضِ هَابِطَةً أَوْ صَاعِدَةً لَمْ يَحْصُلِ الِانْتِفَاعُ بِهَا، وَبِتَقْدِيرِ كَوْنِ الْأَرْضِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَوِ الْحَدِيدِ لَمْ يَحْصُلِ الِانْتِفَاعُ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ بَيَّنَّاهُ، فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى (مِنْهُ) فِي قَوْلِهِ جَمِيعاً مِنْهُ؟ قُلْنَا مَعْنَاهُ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْحَالِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَخَّرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَائِنَةً مِنْهُ وَحَاصِلَةً مِنْ عِنْدِهِ يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى مُكَوِّنُهَا وَمُوجِدُهَا بِقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ ثُمَّ مُسَخِّرُهَا لِخَلْقِهِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَرَأَ سَلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فَاعِلَ سَخَّرَ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ ذَلِكَ مِنْهُ أَوْ هُوَ مِنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلَّمَ عِبَادَهُ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِتَعْلِيمِ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالْأَفْعَالِ الْحَمِيدَةِ بِقَوْلِهِ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ وَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ الْكُفَّارُ، وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَعْنِي عُمَرَ يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ نَزَلُوا فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ عَلَى بِئْرٍ يُقَالُ لَهَا الْمُرَيْسِيعُ، فَأَرْسَلَ عَبْدُ اللَّهِ غُلَامَهُ لِيَسْتَقِيَ الْمَاءَ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ لَهُ مَا حَبَسَكَ؟ قَالَ غُلَامُ عُمَرَ قَعَدَ عَلَى طَرَفِ الْبِئْرِ فَمَا ترك أحد يَسْتَقِي حَتَّى مَلَأَ قِرَبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِرَبَ أَبِي بَكْرٍ وَمَلَأَ لِمَوْلَاهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ مَا مِثْلُنَا وَمِثْلُ هَؤُلَاءِ إِلَّا كَمَا قِيلَ سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، فَبَلَغَ قَوْلُهُ عُمَرَ فَاشْتَمَلَ بِسَيْفِهِ يُرِيدُ التَّوَجُّهَ إِلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ شَتَمَ رَجُلٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ عُمَرَ بِمَكَّةَ فَهَمَّ أَنْ يَبْطِشَ بِهِ فَأَمَرَ اللَّهُ بِالْعَفْوِ وَالتَّجَاوُزِ وَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 16 إلى 21]

وَرَوَى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ أَنَّ فِنْحَاصَ الْيَهُودِيَّ لما أنزل قَوْلِهِ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْبَقَرَةِ: 245] قَالَ احْتَاجَ رَبُّ مُحَمَّدٍ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ عُمَرُ فَاشْتَمَلَ عَلَى سَيْفِهِ وَخَرَجَ فِي طَلَبِهِ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِهِ حَتَّى رَدَّهُ، وَقَوْلُهُ لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَرْجُونَ ثَوَابَ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ عِقَابَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ مِثْلَ عِقَابِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، وَذَكَرْنَا تَفْسِيرَ أَيَّامِ اللَّهِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إبراهيم: 5] وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُونَ إِنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ الْغُفْرَانِ أَنْ لَا يَقْتُلُوا، فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْمُقَاتَلَةِ كَانَ نَسْخًا، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى ترك المنازعة في المحقرات على التَّجَاوُزِ عَمَّا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُؤْذِيَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمُوحِشَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أَيْ لِكَيْ يُجَازِيَ بِالْمَغْفِرَةِ قَوْمًا يَعْمَلُونَ الْخَيْرَ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي التَّنْكِيرِ فِي قَوْلِهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا؟ قُلْنَا التَّنْكِيرُ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ شَأْنِهِمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: لِيُجْزِيَ قَوْمًا وَأَيَّ قَوْمٍ مِنْ شَأْنِهِمُ الصَّفْحُ عَنِ السَّيِّئَاتِ وَالتَّجَاوُزُ عَنِ الْمُؤْذِيَاتِ وَتَحَمُّلُ الْوَحْشَةِ وَتَجَرُّعُ الْمَكْرُوهِ، وَقَالَ آخَرُونَ مَعْنَى الْآيَةِ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْكُفَّارِ، لِيَجْزِيَ اللَّهُ الْكُفَّارَ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مِنَ الْإِثْمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ لَا تُكَافِئُوهُمْ أَنْتُمْ حَتَّى نُكَافِئَهُمْ نَحْنُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحُكْمَ الْعَامَّ فَقَالَ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً/ فَلِنَفْسِهِ وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلَّذِينِ يَغْفِرُونَ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها مَثَلٌ ضَرَبَهُ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يُقْدِمُونَ عَلَى إِيذَاءِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى مَا لَا يَحِلُّ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ يَعُودُ بِالنَّفْعِ الْعَظِيمِ عَلَى فَاعِلِهِ، وَالْعَمَلَ الرَّدِيءَ يَعُودُ بِالضَّرَرِ عَلَى فَاعِلِهِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِهَذَا وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ لِحَظِّ الْعَبْدِ لَا لِنَفْعٍ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَهَذَا تَرْغِيبٌ مِنْهُ فِي العمل الصالح وزجر عن العمل الباطل. [سورة الجاثية (45) : الآيات 16 الى 21] وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَنْعَمَ بِنِعَمٍ كَثِيرَةٍ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، مَعَ أَنَّهُ حَصَلَ بَيْنَهُمُ الِاخْتِلَافُ عَلَى سَبِيلِ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ: وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ طَرِيقَةَ قَوْمِهِ كَطَرِيقَةِ مَنْ تَقَدَّمَ. وَاعْلَمْ أَنَّ النِّعَمَ عَلَى قِسْمَيْنِ: نِعَمُ الدِّينِ، وَنِعَمُ الدُّنْيَا، وَنِعَمُ الدِّينِ أَفْضَلُ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا، فَلِهَذَا/ بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِ نِعَمِ الدِّينِ، فَقَالَ وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَالْأَقْرَبُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِصَاحِبِهِ، أَمَّا الْكِتَابَ فَهُوَ التَّوْرَاةُ، وَأَمَّا الْحُكْمَ فَفِيهِ وُجُوهٌ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ

الْمُرَادُ الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْعِلْمَ بِفَصْلِ الْحُكُومَاتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَعْرِفَةَ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ عِلْمُ الْفِقْهِ، وَأَمَّا النُّبُوَّةُ فَمَعْلُومَةٌ، وَأَمَّا نِعَمُ الدُّنْيَا فَهِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَسَّعَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَأَوْرَثَهُمْ أَمْوَالَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَدِيَارَهُمْ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ مِنْ نِعَمِ الدِّينِ وَنِعَمِ الدُّنْيَا نَصِيبًا وَافِرًا، قَالَ: وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا أَكْبَرَ دَرَجَةً وَأَرْفَعَ مَنْقَبَةً مِمَّنْ سِوَاهُمْ فِي وَقْتِهِمْ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْمُفَسِّرُونَ الْمُرَادُ: وَفَضَّلْنَاهُمْ عَنْ عَالَمِي زَمَانِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ آتَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ، أَيْ أَدِلَّةً عَلَى أُمُورِ الدُّنْيَا الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بَيَّنَ لَهُمْ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُهَاجِرُ مِنْ تِهَامَةَ إِلَى يَثْرِبَ، وَيَكُونُ أَنْصَارُهُ أَهْلَ يَثْرِبَ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ أَيْ مُعْجِزَاتٍ قَاهِرَةً عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِمْ، وَالْمُرَادُ مُعْجِزَاتُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَهَذَا مفسر في سورة حم عسق [الشورى: 1، 2] وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ التَّعَجُّبُ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ، لِأَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ يُوجِبُ ارْتِفَاعَ الخلاف، وهاهنا صَارَ مَجِيءُ الْعِلْمِ سَبَبًا لِحُصُولِ الِاخْتِلَافِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ نَفْسَ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ طَلَبُ الرِّيَاسَةِ وَالتَّقَدُّمِ، ثم هاهنا احْتِمَالَاتٌ يُرِيدُ أَنَّهُمْ عَلِمُوا ثُمَّ عَانَدُوا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالْعِلْمِ الدَّلَالَةَ الَّتِي تُوَصِّلُ إِلَى الْعِلْمِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى وَضَعَ الدَّلَائِلَ وَالْبَيِّنَاتِ الَّتِي لَوْ تَأَمَّلُوا فِيهَا لَعَرَفُوا الْحَقَّ، لَكِنَّهُمْ عَلَى وَجْهِ الْحَسَدِ وَالْعِنَادِ اخْتَلَفُوا وَأَظْهَرُوا النِّزَاعَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْتَرَّ الْمُبْطِلُ بِنِعَمِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا وَإِنْ سَاوَتْ نِعَمَ الْمُحِقِّ أَوْ زَادَتْ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ سَيَرَى فِي الْآخِرَةِ مَا يَسُوؤُهُ، وَذَلِكَ كَالزَّجْرِ لَهُمْ، وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ لِأَجْلِ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ، أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَعْدِلَ عَنْ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ، وَأَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْحَقِّ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ غَرَضٌ سِوَى إِظْهَارِ الْحَقِّ وَتَقْرِيرِ الصِّدْقِ، فَقَالَ تَعَالَى: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ أَيْ عَلَى طَرِيقَةٍ وَمِنْهَاجٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، فَاتَّبِعْ شَرِيعَتَكَ الثَّابِتَةَ بِالدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَلَا تَتَّبِعْ مَا لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْوَاءِ الْجُهَّالِ وَأَدْيَانِهِمُ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْأَهْوَاءِ وَالْجَهْلِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ: ارْجِعْ إِلَى مِلَّةِ آبَائِكَ فَهُمْ كَانُوا أَفْضَلَ مِنْكَ وَأَسَنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أَيْ لَوْ مِلْتَ إِلَى أَدْيَانِهِمُ الْبَاطِلَةِ فَصِرْتَ مُسْتَحِقًّا لِلْعَذَابِ، فَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِ عَذَابِ اللَّهِ عَنْكَ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الظَّالِمِينَ يَتَوَلَّى بَعْضُهُمْ بعضا/ في الدنيا وفي الآخرة، لا وَلِيَّ لَهُمْ يَنْفَعُهُمْ فِي إِيصَالِ الثَّوَابِ وَإِزَالَةِ الْعِقَابِ، وَأَمَّا الْمُتَّقُونَ الْمُهْتَدُونَ، فَاللَّهُ وَلِيُّهُمْ وَنَاصِرُهُمْ وَهُمْ مُوَالُوهُ، وَمَا أَبْيَنَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْوَلَايَتَيْنِ، وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْبَيَانَاتِ الْبَاقِيَةَ النَّافِعَةَ، قَالَ: هَذَا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَقَدْ فَسَّرْنَاهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَالْمَعْنَى هَذَا الْقُرْآنُ بَصَائِرُ لِلنَّاسِ جَعَلَ ما فيه من البينات الشَّافِيَةِ، وَالْبَيِّنَاتِ الْكَافِيَةِ بِمَنْزِلَةِ الْبَصَائِرِ فِي الْقُلُوبِ، كَمَا جَعَلَ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ رُوحًا وَحَيَاةً، وَهُوَ هُدًى مِنَ الضَّلَالَةِ، وَرَحْمَةٌ مِنَ الْعَذَابِ لِمَنْ آمَنَ وَأَيْقَنَ، وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْفَرْقَ بَيْنَ الظَّالِمِينَ وَبَيْنَ الْمُتَّقِينَ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ، بَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهٍ آخر،

فَقَالَ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: (أَمْ) كَلِمَةٌ وُضِعَتْ لِلِاسْتِفْهَامِ عَنْ شَيْءٍ حَالَ كَوْنِهِ مَعْطُوفًا عَلَى شَيْءٍ آخَرَ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْمَعْطُوفُ مَذْكُورًا أَوْ مُضْمَرًا، والتقدير هاهنا: أَفَيَعْلَمُ الْمُشْرِكُونَ هَذَا، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا نَتَوَلَّاهُمْ كَمَا نَتَوَلَّى الْمُتَّقِينَ؟. الْبَحْثُ الثَّانِي: الِاجْتِرَاحُ: الِاكْتِسَابُ، وَمِنْهُ الْجَوَارِحُ، وَفُلَانٌ جَارِحَةُ أَهْلِهِ، أَيْ كَاسِبُهُمْ، قَالَ تَعَالَى: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الْأَنْعَامِ: 60] . الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَلِيٍّ وَحَمْزَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَفِي ثَلَاثَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ، قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: وَاللَّهِ مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَلَوْ كَانَ مَا تَقُولُونَ حَقًّا لَكَانَ حَالُنَا أَفْضَلَ مِنْ حَالِكُمْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّا أَفْضَلُ حَالًا مِنْكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَأَنْكَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْكَلَامَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْمُؤْمِنِ الْمُطِيعِ مُسَاوِيًا لِحَالِ الْكَافِرِ الْعَاصِي فِي دَرَجَاتِ الثَّوَابِ، وَمَنَازِلِ السَّعَادَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ حَسِبَ يَسْتَدْعِي مَفْعُولَيْنِ أَحَدُهُمَا: الضَّمِيرُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ وَالثَّانِي: الْكَافُ فِي قَوْلِهِ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَالْمَعْنَى أَحَسِبَ هَؤُلَاءِ الْمُجْتَرِحِينَ أَنْ نَجْعَلَهُمْ أَمْثَالَ الَّذِينَ آمَنُوا؟ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ [السَّجْدَةِ: 18] وَقَوْلُهُ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غَافِرٍ: 51، 52] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [الْقَلَمِ: 35، 36] وَقَوْلُهُ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ سَواءً بِالنَّصْبِ، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ، وَاخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ النَّصْبُ، أَمَّا وَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِالرَّفْعِ، فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ فِي حُكْمِ الْمُفْرَدِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِقَوْلِهِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ وَهُوَ الْكَافُ فِي قَوْلِهِ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ظَنَنْتُ زَيْدًا أَبُوهُ مُنْطَلِقٌ، وَأَمَّا وَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِالنَّصْبِ/ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَجْرَى سَوَاءً مُجْرَى مُسْتَوِيًا، فَارْتَفَعَ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ وَكَانَ مُفْرَدًا غَيْرَ جُمْلَةٍ، وَمَنْ قَرَأَ وَمَماتُهُمْ بِالنَّصْبِ جَعَلَ مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ظَرْفَيْنِ كَمَقْدَمِ الْحَاجِّ، وَخُفُوقِ النَّجْمِ، أَيْ سَوَاءً فِي مَحْيَاهُمْ وَفِي مَمَاتِهِمْ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ مَنْ نَصَبَ سَوَاءً جَعَلَ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي نَجْعَلَهُمْ فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ أَنْ نَجْعَلَ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ سَوَاءً، قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ نَجْعَلَهُ حَالًا وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي هُوَ الْكَافُ فِي قَوْلِهِ كَالَّذِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ قَالَ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْنِي أَحَسِبُوا أَنَّ حَيَاتَهُمْ وَمَمَاتَهُمْ كَحَيَاةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَوْتِهِمْ، كَلَّا فَإِنَّهُمْ يَعِيشُونَ كَافِرِينَ وَيَمُوتُونَ كَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنُونَ يَعِيشُونَ مُؤْمِنِينَ وَيَمُوتُونَ مُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مَا دَامَ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَكُونُ وَلِيُّهُ هُوَ اللَّهُ وَأَنْصَارُهُ الْمُؤْمِنُونَ وَحُجَّةُ اللَّهِ مَعَهُ، وَالْكَافِرُ بِالضِّدِّ مِنْهُ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَعِنْدَ الْقُرْبِ إِلَى

[سورة الجاثية (45) : الآيات 22 إلى 26]

الْمَوْتِ، فَإِنَّ حَالَ الْمُؤْمِنِ مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ [النمل: 32] وَحَالُ الْكَافِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النَّحْلِ: 28] وَأَمَّا فِي الْقِيَامَةِ فَقَالَ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عَبَسَ: 38- 41] فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى بَيَانِ وُقُوعِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِنْكَارُ أَنْ يَسْتَوُوا فِي الْمَمَاتِ كَمَا اسْتَوَوْا فِي الْحَيَاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ قَدْ يَسْتَوِي مَحْيَاهُمْ فِي الصِّحَّةِ وَالرِّزْقِ وَالْكِفَايَةِ بَلْ قَدْ يَكُونُ الْكَافِرُ أَرْجَحَ حَالًا مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَمَاتِ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي التَّأْوِيلِ أَنَّ قَوْلَهُ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ مُسْتَأْنَفٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَحْيَا الْمُسِيئِينَ وَمَمَاتَهُمْ سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ مَحْيَا الْمُحْسِنِينَ وَمَمَاتُهُمْ، أَيْ كُلٌّ يَمُوتُ عَلَى حَسَبِ مَا عَاشَ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِإِنْكَارِ تِلْكَ التَّسْوِيَةِ فَقَالَ: ساءَ مَا يَحْكُمُونَ وهو ظاهر. [سورة الجاثية (45) : الآيات 22 الى 26] وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) وَقالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ مَا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَفْتَى «1» بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُسَاوِي الْكَافِرَ فِي دَرَجَاتِ السَّعَادَاتِ، أَتْبَعَهُ بِالدَّلَالَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْفَتْوَى، فَقَالَ: وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلَوْ لَمْ يُوجَدِ الْبَحْثُ لَمَا كَانَ ذَلِكَ بِالْحَقِّ بَلْ كَانَ بِالْبَاطِلِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الظَّالِمَ وَسَلَّطَهُ عَلَى الْمَظْلُومِ الضَّعِيفِ، ثُمَّ لَا يَنْتَقِمُ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ كَانَ ظَالِمًا، وَلَوْ كان ظالما لبطل أنه خلق السموات وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَتَمَامُ تَقْرِيرِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ مَذْكُورٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ، قَالَ الْقَاضِي هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي مَقْدُورِ اللَّهِ مَا لَوْ حَصَلَ لَكَانَ ظُلْمًا، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمُجْبِرَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَوْ فَعَلَ كُلَّ شَيْءٍ أَرَادَهُ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الظُّلْمِ، وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ فِعْلُ مَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ لَكَانَ ظُلْمًا كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ فِعْلُ مَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ لَكَانَ ابْتِلَاءً وَاخْتِبَارًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِتُجْزى فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ بِالْحَقِّ فَيَكُونُ التقدير وخلق الله السموات وَالْأَرْضَ لِأَجْلِ إِظْهَارِ الْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ، الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ عَلَى مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وخلق الله السموات وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ لِيَدُلَّ بِهِمَا عَلَى قُدْرَتِهِ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ خَلْقِ هَذَا الْعِلْمِ إِظْهَارُ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا حَصَلَ الْبَعْثُ وَالْقِيَامَةُ وَحَصَلَ التَّفَاوُتُ فِي الدَّرَجَاتِ وَالدَّرَكَاتِ بَيْنَ الْمُحِقِّينَ وَبَيْنَ الْمُبْطِلِينَ، ثُمَّ عَادَ تَعَالَى إِلَى شَرْحِ أَحْوَالِ الكفار وقبائح طوائفهم، فَقَالَ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ يَعْنِي تَرَكُوا مُتَابَعَةَ الْهُدَى وَأَقْبَلُوا عَلَى مُتَابَعَةِ الْهَوَى فَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْهَوَى كَمَا يَعْبُدُ الرَّجُلُ إِلَهَهُ، وَقُرِئَ آلِهَتَهُ هَوَاهُ كُلَّمَا مَالَ طَبْعُهُ إِلَى شيء

_ (1) التعبير بلفظ «أفتى» غير مناسب في حق الله تعالى وحقه أن يعبر به «قضى» أو «قدر» رعاية لمزيد الأدب.

اتَّبَعَهُ وَذَهَبَ خَلْفَهُ، فَكَأَنَّهُ اتَّخَذَ هَوَاهُ آلِهَةً شَتَّى يَعْبُدُ كُلَّ وَقْتٍ وَاحِدًا مِنْهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ يَعْنِي عَلَى عِلْمٍ بِأَنَّ جَوْهَرَ رُوحِهِ لَا يَقْبَلُ الصَّلَاحَ، وَنَظِيرُهُ فِي جَانِبِ التَّعْظِيمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَامِ: 124] وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ جَوَاهِرَ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ مُخْتَلِفَةٌ فَمِنْهَا مُشْرِقَةٌ نُورَانِيَّةٌ عُلْوِيَّةٌ إِلَهِيَّةٌ، وَمِنْهَا كَدِرَةٌ ظَلْمَانِيَّةٌ سُفْلِيَّةٌ عَظِيمَةُ الْمَيْلِ إِلَى الشَّهَوَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَهُوَ تَعَالَى يُقَابِلُ كُلًّا مِنْهُمْ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِجَوْهَرِهِ وَمَاهِيَّتِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ فِي حَقِّ الْمَرْدُودِينَ وَبُقُولِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ فِي حَقِّ الْمَقْبُولِينَ. ثُمَّ قَالَ: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَقَوْلُهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى قَوْلِهِ لَا يُؤْمِنُونَ [البقرة: 6] وَقَوْلُهُ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [البقرة: 7] وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِالِاسْتِقْصَاءِ، وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَدَّمَ ذِكْرَ السَّمْعِ عَلَى الْقَلْبِ، وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَدَّمَ الْقَلْبَ عَلَى السَّمْعِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَسْمَعُ كَلَامًا فَيَقَعُ فِي قَلْبِهِ مِنْهُ أَثَرٌ، مِثْلَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْكُفَّارِ كَانُوا يُلْقُونَ إِلَى النَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاعِرٌ وَكَاهِنٌ وَأَنَّهُ يَطْلُبُ الْمُلْكَ وَالرِّيَاسَةَ، فَالسَّامِعُونَ إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ أَبْغَضُوهُ وَنَفَرَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْهُ، وَأَمَّا كُفَّارُ مَكَّةَ فَهُمْ كَانُوا يُبْغِضُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ بِسَبَبِ الْحَسَدِ الشَّدِيدِ فَكَانُوا يَسْتَمِعُونَ إِلَيْهِ، وَلَوْ سَمِعُوا كَلَامَهُ مَا فَهِمُوا مِنْهُ شَيْئًا نَافِعًا، فَفِي الصُّورَةِ الْأُولَى كَانَ الْأَثَرُ يَصْعَدُ مِنَ الْبَدَنِ إِلَى جَوْهَرِ النَّفْسِ، وَفِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ كَانَ الْأَثَرُ يَنْزِلُ مِنْ جَوْهَرِ النَّفْسِ إِلَى قَرَارِ الْبَدَنِ، فَلَمَّا اخْتَلَفَ الْقِسْمَانِ لَا جَرَمَ أَرْشَدَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى كِلَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ بِهَذَيْنَ التَّرْتِيبَيْنِ اللَّذَيْنِ نَبَّهْنَا عَلَيْهِمَا وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْكَلَامَ قَالَ: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَيْ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَيُّهَا النَّاسُ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَلَيْسَ يَبْقَى لِلْقَدَرِيَّةِ مَعَ هَذِهِ الْآيَةِ عُذْرٌ وَلَا حِيلَةٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَرَّحَ بِمَنْعِهِ إِيَّاهُمْ عَنِ الْهُدَى حِينَ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَتَمَ عَلَى سَمْعِ هَذَا الْكَافِرِ وَقَلْبِهِ وَبَصَرِهِ، وَأَقُولُ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ قَدْ سَبَقَتْ بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ شُبْهَتَهُمْ فِي إِنْكَارِ الْقِيَامَةِ وَفِي إِنْكَارِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ، أَمَّا شُبْهَتُهُمْ فِي إِنْكَارِ الْقِيَامَةِ فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا فَإِنْ قَالُوا الْحَيَاةُ مقدمة على الموت في الدنيا فمنكر والقيامة كَانَ يَجِبُ أَنْ يَقُولُوا نَحْيَا وَنَمُوتُ، فَمَا السَّبَبُ فِي تَقْدِيمِ ذِكْرِ الْمَوْتِ عَلَى الْحَيَاةِ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ نَمُوتُ حَالَ كَوْنِهِمْ نُطَفًا فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ وَأَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ، وَبِقَوْلِهِ نَحْيا مَا حَصَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا الثَّانِي: نَمُوتُ نَحْنُ وَنَحْيَا بِسَبَبِ بَقَاءِ أَوْلَادِنَا الثَّالِثُ: يَمُوتُ بَعْضٌ وَيَحْيَا بَعْضٌ الرَّابِعُ: وَهُوَ الَّذِي خَطَرَ بِالْبَالِ عِنْدَ كِتَابَةِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَ الْحَيَاةِ فقال: مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: نَمُوتُ وَنَحْيا يَعْنِي أَنَّ تِلْكَ الْحَيَاةَ مِنْهَا مَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا الْمَوْتُ وَذَلِكَ فِي حَقِّ الَّذِينَ مَاتُوا، وَمِنْهَا مَا لَمْ يَطْرَأِ الْمَوْتُ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْأَحْيَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَمُوتُوا بَعْدُ، وَأَمَّا شُبْهَتُهُمْ فِي إِنْكَارِ الْإِلَهِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، فَهُوَ قَوْلُهُمْ وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ يَعْنِي تَوَلُّدُ/ الْأَشْخَاصِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ الْمُوجِبَةِ لِامْتِزَاجَاتِ الطَّبَائِعِ، وَإِذَا وَقَعَتْ تِلْكَ الِامْتِزَاجَاتُ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ حَصَلَتِ الْحَيَاةُ، وَإِذَا وَقَعَتْ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ حَصَلَ الْمَوْتُ، فَالْمُوجِبُ لِلْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ تَأْثِيرَاتُ الطَّبَائِعِ وَحَرَكَاتُ الْأَفْلَاكِ، وَلَا حَاجَةَ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَى إِثْبَاتِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، فَهَذِهِ الطَّائِفَةُ جَمَعُوا بَيْنَ إِنْكَارِ الْإِلَهِ وَبَيْنَ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ قَبْلَ النَّظَرِ وَمَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ الِاحْتِمَالَاتُ بِأَسْرِهَا قَائِمَةٌ، فَالَّذِي قَالُوهُ يُحْتَمَلُ وَضِدُّهُ أَيْضًا يُحْتَمَلُ، وَذَلِكَ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ حَقًّا، وَأَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْحَكِيمِ حَقًّا، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا شُبْهَةً ضَعِيفَةً وَلَا قَوِيَّةً فِي أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ بَاطِلٌ، وَلَكِنَّهُ خَطَرَ بِبَالِهِمْ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ فَجَزَمُوا بِهِ وَأَصَرُّوا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا بَيِّنَةٍ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ عِلْمٌ وَلَا جَزْمٌ وَلَا يَقِينٌ فِي صِحَّةِ الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَارُوهُ بِسَبَبِ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ وَمَيْلِ الْقَلْبِ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَبَيِّنَةٍ قَوْلٌ بَاطِلٌ فَاسِدٌ، وَأَنَّ مُتَابَعَةَ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ مُنْكَرٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ مَا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قرئ حجتهم بالنصب وَالرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيمِ خَبَرِ كَانَ وَتَأْخِيرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: سَمَّى قَوْلَهُمْ حُجَّةً لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ فِي زَعْمِهِمْ حُجَّةٌ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ من كان حجتهم هذا فليس لهم الْبَتَّةَ حُجَّةٌ كَقَوْلِهِ: تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعٌ [أَيْ لَيْسَ بَيْنَهُمْ تَحِيَّةٌ لِمُنَافَاةِ الضَّرْبِ لِلتَّحِيَّةِ] الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ ذَكَرُوهَا فِي مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ حُجَّتَهُمْ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ أَنْ قَالُوا لَوْ صَحَّ ذَلِكَ فَائْتُوا بِآبَائِنَا الَّذِينَ مَاتُوا لِيَشْهَدُوا لَنَا بِصِحَّةِ الْبَعْثِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ ضَعِيفَةٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا لَا يَحْصُلُ فِي الْحَالِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعَ الْحُصُولِ، فَإِنَّ حُصُولَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا كَانَ مَعْدُومًا مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي حَصَلْنَا فِيهِ، وَلَوْ كَانَ عَدَمُ الْحُصُولِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الْحُصُولِ لَكَانَ عَدَمُ حُصُولِنَا كَذَلِكَ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا الْكَلَامُ مَذْكُورٌ لِأَجْلِ جَوَابِ مَنْ يَقُولُ مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ فَهَذَا الْقَائِلُ كَانَ مُنْكِرًا لِوُجُودِ الْإِلَهِ وَلِوُجُودِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ إِبْطَالُ كَلَامِهِ بِقَوْلِهِ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ وَهَلْ هَذَا إِلَّا إِثْبَاتٌ لِلشَّيْءِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ، قُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الِاسْتِدْلَالَ بِحُدُوثِ الْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ عَلَى وُجُودِ الْفَاعِلِ الْحَكِيمِ فِي الْقُرْآنِ مِرَارًا وَأَطْوَارًا. فقوله ها هنا قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى تِلْكَ الدَّلَائِلِ الَّتِي بَيَّنَهَا وَأَوْضَحَهَا مِرَارًا، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ/ إِثْبَاتَ الْإِلَهِ بِقَوْلِ الْإِلَهِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا هُوَ الدَّلِيلُ الْحَقُّ الْقَاطِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْإِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَثَبَتَ أَنَّ الْإِعَادَةَ مِثْلُ الْإِحْيَاءِ الْأَوَّلِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الشَّيْءِ قَادِرٌ عَلَى مِثْلِهِ، ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى الْإِعَادَةِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْإِعَادَةَ مُمْكِنَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَثَبَتَ أَنَّ الْقَادِرَ الْحَكِيمَ أَخْبَرَ عَنْ وَقْتِ وُقُوعِهَا فَوَجَبَ الْقَطْعُ بكونها حقة.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 27 إلى 31]

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهُوَ أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى، عَادِلًا خَالِقًا بِالْحَقِّ مُنَزَّهًا عَنِ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ، يَقْتَضِي صِحَّةَ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ دَلَالَةَ حُدُوثِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ، وَلَا يَعْلَمُونَ أَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْإِيجَادِ ابْتِدَاءً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْإِعَادَةِ ثَانِيًا. [سورة الجاثية (45) : الآيات 27 الى 31] وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا احْتَجَّ بِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْإِحْيَاءِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَعَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْإِحْيَاءِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، عَمَّمَ الدَّلِيلَ فَقَالَ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ/ لِلَّهِ الْقُدْرَةُ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ سَوَاءً كَانَتْ من السموات أَوْ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، وَثَبَتَ أَنَّ حُصُولَ الْحَيَاةِ فِي هَذِهِ الذَّاتِ مُمْكِنٌ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا لَمَا حَصَلَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَيَلْزَمُ مِنْ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ كَوْنُهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى الْإِحْيَاءِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ. وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى إِمْكَانَ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ بِهَذَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ، ذَكَرَ تَفَاصِيلَ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: عَامِلُ النَّصْبِ فِي يَوْمَ تَقُومُ يَخْسَرُ، وَيَوْمَئِذِ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ تَقُومُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَدْ ذَكَرْنَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ وَالصِّحَّةَ كَأَنَّهَا رَأْسُ الْمَالِ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهَا لِطَلَبِ سَعَادَةِ الآخرة يَجْرِي مَجْرَى تَصَرُّفِ التَّاجِرِ فِي رَأْسِ الْمَالِ لِطَلَبِ الرِّبْحِ، وَالْكُفَّارُ قَدْ أَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَمَا وَجَدُوا مِنْهَا إِلَّا الْحِرْمَانَ وَالْخِذْلَانَ فَكَانَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ نِهَايَةَ الْخُسْرَانِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً قَالَ اللَّيْثُ الْجُثُوُّ الْجُلُوسُ عَلَى الرُّكَبِ كَمَا يَجْثِي بَيْنَ يَدَيِ الْحَاكِمِ، قَالَ الزَّجَّاجُ وَمِثْلُهُ جَذَا يَجْذُو، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقُرِئَ جَاذِيَةً، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْجُذُوُّ أَشَدُّ اسْتِيفَازًا مِنَ الْجُثُوِّ، لِأَنَّ الْجَاذِيَ هُوَ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ جَاثِيَةٌ مُجْتَمِعَةٌ مُرْتَقِبَةٌ لِمَا يُعْمَلُ بِهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَكُلَّ أُمَّةٍ عَلَى الْإِبْدَالِ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، وَقَوْلُهُ إِلى كِتابِهَا أَيْ إِلَى صَحَائِفِ أَعْمَالِهَا، فَاكْتَفَى بِاسْمِ الْجِنْسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [الْكَهْفِ: 49] وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَإِنْ قِيلَ الْجُثُوُّ عَلَى الرُّكْبَةِ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْخَائِفِ وَالْمُؤْمِنُونَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قُلْنَا إِنَّ الْمُحِقَّ الْآمِنَ قَدْ يُشَارِكُ الْمُبْطِلَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ كَوْنُهُ مُحِقًّا.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 32 إلى 37]

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ وَالتَّقْدِيرُ يُقَالُ لَهُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ أُضِيفَ الْكِتَابُ إِلَيْهِمْ وَإِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ قُلْنَا لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لِأَنَّهُ كِتَابُهُمْ بِمَعْنَى أَنَّهُ الْكِتَابُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَكِتَابُ اللَّهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِكَتْبِهِ يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ أَيْ يَشْهَدُ عَلَيْكُمْ بِمَا عَمِلْتُمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانَ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ الْمَلَائِكَةُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ نَسْتَكْتِبُهُمْ أَعْمَالَكُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ أَحْوَالَ الْمُطِيعِينَ فَقَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ بَعْدَ وَصْفِهِمْ بِالْإِيمَانِ كَوْنَهُمْ عَامِلِينَ لِلصَّالِحَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَمَلُ الصَّالِحَاتِ مُغَايِرًا لِلْإِيمَانِ زَائِدًا عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَّقَ الدُّخُولَ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ عَلَى كَوْنِهِ آتِيًا بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ/ الصَّالِحَةِ، وَالْمُعَلَّقِ عَلَى مَجْمُوعِ أَمْرَيْنِ يَكُونُ عَدَمًا عِنْدَ عَدَمِ أَحَدِهِمَا، فَعِنْدَ عَدَمِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْفَوْزُ بِالْجَنَّةِ وَجَوَابُنَا: أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: سَمَّى الثَّوَابَ رَحْمَةً وَالرَّحْمَةُ إِنَّمَا تَصِحُّ تَسْمِيَتُهَا بِهَذَا الِاسْمِ إِذَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الثَّوَابُ وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَلَمْ يُذْكَرْ قِسْمًا ثَالِثًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ إِثْبَاتَ الْمَنْزِلَتَيْنِ بَاطِلٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّلَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعُقُوبَةِ بِأَنَّ آيَاتِهِ تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ فَاسْتَكْبَرُوا عَنْ قَبُولِهَا، وهذا يدل على اسْتِحْقَاقَ الْعُقُوبَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ مَجِيءِ الشَّرْعِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَاتِ لَا تَجِبُ إِلَّا بِالشَّرْعِ، خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ أَنَّ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ قَدْ يَجِبُ بِالْعَقْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: جَوَابُ (أَمَّا) مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيُقَالُ لَهُمْ: أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ فَإِنْ قَالُوا كَيْفَ يَحْسُنُ وَصْفُ الْكَافِرِ بِكَوْنِهِ مُجْرِمًا فِي مَعْرِضِ الطَّعْنِ فِيهِ وَالذَّمِّ لَهُ؟ قُلْنَا مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ مَعَ كَوْنِهِمْ كُفَّارًا مَا كَانُوا عُدُولًا فِي أَدْيَانِ أَنْفُسِهِمْ، بَلْ كَانُوا فُسَّاقًا فِي ذَلِكَ الدِّينِ وَاللَّهُ أعلم. [سورة الجاثية (45) : الآيات 32 الى 37] وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها إلى قوله وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ] فيه مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ وَالسَّاعَةُ رَفْعًا وَنَصْبًا قَالَ الزَّجَّاجُ مَنْ نَصَبَ عَطَفَ عَلَى الْوَعْدِ وَمَنْ رَفَعَ فَعَلَى مَعْنَى وَقِيلَ: السَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قَالَ الْأَخْفَشُ الرَّفْعُ أَجْوَدُ فِي الْمَعْنَى وَأَكْثَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، إِذَا جَاءَ بَعْدَ خَبَرِ إِنَّ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مَجِيءِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ بِتَمَامِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ إِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ حَقٌّ وَإِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا قَالُوا مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ. أَقُولُ الْأَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ قَاطِعًا بِنَفْيِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الجاثية: 24] وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ شَاكًّا مُتَحَيِّرًا فِيهِ، لِأَنَّهُمْ لِكَثْرَةِ مَا سَمِعُوهُ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِكَثْرَةِ مَا سَمِعُوهُ مِنْ دَلَائِلَ الْقَوْلِ بِصِحَّتِهِ صَارُوا شَاكِّينَ فِيهِ وَهُمُ الَّذِينَ أرادهم الله بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى مَذْهَبَ أُولَئِكَ الْقَاطِعِينَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِحِكَايَةِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ فَوَجَبَ كَوْنُ هَؤُلَاءِ مُغَايِرِينَ لِلْفَرِيقِ الْأَوَّلِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَبَدا لَهُمْ أَيْ فِي الْآخِرَةِ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَقَدْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ يَعُدُّونَهَا حَسَنَاتٍ فَصَارَ ذَلِكَ أَوَّلَ خسرانهم وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وَهَذَا كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْفِرْقَةَ لَمَّا قَالُوا إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا إِنَّمَا ذَكَرُوهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَهَذَا الْفَرِيقُ شَرٌّ مِنَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ كَانُوا مُنْكِرِينَ وَمَا كَانُوا مُسْتَهْزِئِينَ، وَهَذَا الْفَرِيقُ ضَمُّوا إِلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْإِنْكَارِ الِاسْتِهْزَاءَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَفِي تَفْسِيرِ هَذَا النِّسْيَانِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: نَتْرُكُكُمْ فِي الْعَذَابِ كَمَا تَرَكْتُمُ الطَّاعَةَ الَّتِي هِيَ الزَّادُ لِيَوْمِ الْمَعَادِ الثَّانِي: نَجْعَلُكُمْ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الْمَنْسِيِّ غَيْرِ الْمُبَالَى بِهِ، كَمَا لَمْ تُبَالُوا أَنْتُمْ بِلِقَاءِ يَوْمِكُمْ وَلَمْ تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ بَلْ جَعَلْتُمُوهُ كَالشَّيْءِ الَّذِي يُطْرَحُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، فَجَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مِنْ وُجُوهِ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ فَأَوَّلُهَا: قَطْعُ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَصِيرُ مَأْوَاهُمُ النَّارَ وَثَالِثُهَا: أَنْ لَا يَحْصُلَ لَهُمْ أَجْرٌ مِنَ الْأَعْوَانِ/ وَالْأَنْصَارِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ إِنَّكُمْ إِنَّمَا صِرْتُمْ مُسْتَحِقِّينَ لِهَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، لِأَجْلِ أَنَّكُمْ أَتَيْتُمْ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ فَأَوَّلُهَا: الْإِصْرَارُ عَلَى إِنْكَارِ الدِّينِ الْحَقِّ وَثَانِيهَا: الِاسْتِهْزَاءُ بِهِ وَالسُّخْرِيَةُ مِنْهُ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ دَاخِلَانِ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَثَالِثُهَا: الِاسْتِغْرَاقُ فِي حُبِّ الدُّنْيَا وَالْإِعْرَاضُ بِالْكُلِّيَّةِ عَنِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْها قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَخْرُجُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أَيْ وَلَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ أَنْ يَعْتِبُوا رَبَّهُمْ، أَيْ يُرْضُوهُ، وَلَمَّا تَمَّ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَبَاحِثِ الشَّرِيفَةِ الرُّوحَانِيَّةِ خَتَمَ السُّورَةَ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي فاحمدوا الله الذي هو خالق السموات وَالْأَرْضِ، بَلْ خَالِقُ كُلِّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْأَجْسَامِ والأرواح

وَالذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ، فَإِنَّ هَذِهِ الرُّبُوبِيَّةَ تُوجِبُ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ وَالْمَرْبُوبِينَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّكْبِيرَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بَعْدَ التَّحْمِيدِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْحَامِدِينَ إِذَا حَمِدُوهُ وَجَبَ أَنْ يَعْرِفُوا أَنَّهُ أَعْلَى وَأَكْبَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحَمْدُ الَّذِي ذَكَرُوهُ لَائِقًا بِإِنْعَامِهِ، بَلْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ حَمْدِ الْحَامِدِينَ، وَأَيَادِيهِ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ شُكْرِ الشَّاكِرِينَ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْكِبْرِيَاءَ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ لَيْسَ إِلَّا هُوَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَعْنِي أَنَّهُ لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ أَيِّ شَيْءٍ أَرَادَ، وَلِكَمَالِ حِكْمَتِهِ يَخُصُّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ بِآثَارِ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالْكَرَمِ، وَقَوْلُهُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يُفِيدُ الْحَصْرَ، فَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْكَامِلَ فِي الْقُدْرَةِ وَفِي الْحِكْمَةِ وَفِي الرَّحْمَةِ لَيْسَ إِلَّا هُوَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ لِلْخَلْقِ إِلَّا هُوَ، وَلَا مُحْسِنَ وَلَا مُتَفَضِّلَ إِلَّا هُوَ. قَالَ مَوْلَانَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثلاث وستمائة، والحمد لله حمدا دائما طَيِّبًا مُبَارَكًا مُخَلَّدًا مُؤَبَّدًا، كَمَا يَلِيقُ بِعُلُوِّ شَأْنِهِ وَبَاهِرِ بُرْهَانِهِ وَعَظِيمِ إِحْسَانِهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى الأرواح الطاهرة المقدسة من ساكني أعالي السموات، وَتُخُومِ الْأَرْضِينَ، مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْمُوَحِّدِينَ، خُصُوصًا عَلَى سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أجمعين. تمّ الجزء السابع والعشرون، ويليه الجزء الثامن والعشرون وأوله سورة الأحقاف.

الجزء الثامن والعشرون

الجزء الثامن والعشرون بسم الله الرّحمن الرّحيم سُورَةُ الْأَحْقَافِ وَهِيَ ثَلَاثُونَ وَخَمْسُ آيَاتٍ مَكِّيَّةٍ وقيل اربع وثلاثون آية [سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) اعْلَمْ أَنَّ نَظْمَ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ كَنَظْمِ أَوَّلِ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْإِلَهِ بِهَذَا الْعَالَمِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِلَهَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَادِلًا رَحِيمًا بِعِبَادِهِ، نَاظِرًا لَهُمْ مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَةَ حَقٌّ. أَمَّا الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ إِثْبَاتُ الْإِلَهِ بِهَذَا الْعَالَمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَلْقَ عِبَارَةٌ عَنِ التقدير، وآثار التقدير ظاهرة في السموات وَالْأَرْضِ مِنَ الْوُجُوهِ الْعَشَرَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تِلْكَ الْوُجُوهَ تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ. وَأَمَّا الْمَطْلُوبُ الثَّانِي: وَهُوَ إِثْبَاتُ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ عَادِلٌ رَحِيمٌ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا بِالْحَقِّ لِأَنَّ قَوْلَهُ إِلَّا بِالْحَقِّ مَعْنَاهُ إِلَّا لِأَجْلِ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَأَنَّ الْإِلَهَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فَضْلُهُ زَائِدًا وَأَنْ يَكُونَ إِحْسَانُهُ رَاجِحًا، وَأَنْ يَكُونَ وُصُولُ الْمَنَافِعِ مِنْهُ إِلَى الْمُحْتَاجِينَ أَكْثَرَ مِنْ وُصُولِ الْمَضَارِّ إِلَيْهِمْ، قَالَ الْجُبَّائِيُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا بَيْنَ السموات وَالْأَرْضِ مِنَ الْقَبَائِحِ فَهُوَ لَيْسَ مِنْ خَلْقِهِ بَلْ هُوَ مِنْ أَفْعَالِ عِبَادِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِكُلِّ بَاطِلٍ، وَذَلِكَ يُنَافِي قَوْلَهُ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدُّخَانِ: 39] أَجَابَ أَصْحَابُنَا وَقَالُوا: خَلْقُ الْبَاطِلِ غَيْرٌ، وَالْخَلْقُ بِالْبَاطِلِ غَيْرٌ، فَنَحْنُ نَقُولُ إِنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْبَاطِلَ إِلَّا أَنَّهُ خَلَقَ ذَلِكَ الْبَاطِلَ بِالْحَقِّ

لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي مُلْكِ نَفْسِهِ وَتَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي مُلْكِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِالْحَقِّ لَا بِالْبَاطِلِ، قَالُوا وَالَّذِي يُقَرِّرُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقًا لِكُلِّ أَعْمَالِ الْعِبَادِ، لِأَنَّ أَعْمَالَ العباد من جملة ما بين السموات وَالْأَرْضِ، فَوَجَبَ كَوْنُهَا مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَوُقُوعُ التَّعَارُضِ فِي الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ مُحَالٌ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَاهُ فَإِنْ قَالُوا أَفْعَالُ الْعِبَادِ أَعْرَاضٌ، وَالْأَعْرَاضُ لَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا حَاصِلَةٌ بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَنَقُولُ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ سَقَطَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْمَطْلُوبُ الثَّالِثُ: فَهُوَ دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تُوجَدِ الْقِيَامَةُ لَتَعَطَّلَ اسْتِيفَاءُ حُقُوقِ الْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَلَتَعَطَّلَ تَوْفِيَةُ الثَّوَابِ عَلَى الْمُطِيعِينَ وَتَوْفِيَةُ الْعِقَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَذَلِكَ يمنع من القول بأنه تعالى خلق السموات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَا «1» بِالْحَقِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَجَلٍ مُسَمًّى فَالْمُرَادُ أَنَّهُ مَا خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِلَّا لِأَجَلٍ مُسَمًّى وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ مَا خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ لِيَبْقَى مُخَلَّدًا سَرْمَدًا، بَلْ إِنَّمَا خَلَقَهُ لِيَكُونَ دَارًا لِلْعَمَلِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُفْنِيهِ ثُمَّ يُعِيدُهُ، فَيَقَعُ الْجَزَاءُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَعَلَى هَذَا الْأَجَلِ الْمُسَمَّى هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِإِفْنَاءِ الدُّنْيَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ وَالْمُرَادُ أَنَّ مَعَ نَصْبِ اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ الدَّلَائِلَ وَمَعَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَمَعَ مُوَاظَبَةِ الرُّسُلِ عَلَى التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ، بَقِيَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ مُعْرِضِينَ عَنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ إِلَيْهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَعَلَى أَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ الدليل مذموم في الدين والدنيا. [في قوله تعالى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إلى قوله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ هَذَا الْأَصْلَ الدَّالَّ عَلَى إِثْبَاتِ الْإِلَهِ، وَعَلَى إِثْبَاتِ كَوْنِهِ عَادِلًا رَحِيمًا، وَعَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ بَنَى عَلَيْهِ التَّفَارِيعَ. فَالْفَرْعُ الْأَوَّلُ: الرَّدُّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ فَقَالَ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهِيَ الْأَصْنَامُ أَرُونِي أَيْ أَخْبِرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ وَالْمُرَادُ أَنَّ/ هَذِهِ الْأَصْنَامَ، هَلْ يُعْقَلُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهَا خَلْقُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الْعَالَمِ؟ فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا أَعَانَتْ إِلَهَ الْعَالَمِ فِي خَلْقِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الْعَالَمِ، وَلَمَّا كَانَ صَرِيحُ الْعَقْلِ حَاكِمًا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِسْنَادُ خَلْقِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الْعَالَمِ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْجُزْءُ أَقَلَّ الْأَجْزَاءِ، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا إِسْنَادُ الْإِعَانَةِ إِلَيْهَا فِي أَقَلِّ الْأَفْعَالِ وَأَذَلِّهَا، فَحِينَئِذٍ صَحَّ أَنَّ الْخَالِقَ الْحَقِيقِيَّ لِهَذَا الْعَالَمِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّ الْمُنْعِمَ الْحَقِيقِيَّ بِجَمِيعِ أَقْسَامِ النِّعَمِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَالْعِبَادَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِأَكْمَلِ وُجُوهِ التَّعْظِيمِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ صَدَرَ عَنْهُ أَكْمَلُ وُجُوهِ الْإِنْعَامِ، فَلَمَّا كَانَ الْخَالِقُ الْحَقُّ وَالْمُنْعِمُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْإِتْيَانُ بِالْعِبَادَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ إِلَّا لَهُ وَلِأَجْلِهِ، بَقِيَ أَنْ يُقَالَ إِنَّا لَا نَعْبُدُهَا لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ، بَلْ إِنَّمَا نَعْبُدُهَا لِأَجْلِ أَنَّ الْإِلَهَ الْخَالِقَ الْمُنْعِمَ أَمَرَنَا بِعِبَادَتِهَا، فَعِنْدَ هَذَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَجْرِي مَجْرَى الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ وُرُودَ هَذَا الْأَمْرِ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا بِالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، فَنَقُولُ هَذَا الوحي الدال

_ (1) في الأصل «إلا بالحق» وهو خطأ والصواب حذف الألف وجعل إلا الاستثنائية، لا النافية، وهو الممنوع.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 5 إلى 8]

عَلَى الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ هَذِهِ الْأَوْثَانِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى مُحَمَّدٍ أَوْ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ لَكِنَّهُ مِنْ تَقَابُلِ الْعُلُومِ الْمَنْقُولَةِ عَنْهُمْ وَالْكُلُّ بَاطِلٌ، أَمَّا إِثْبَاتُ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ، وَأَمَّا إِثْبَاتُهُ بِسَبَبِ اشْتِمَالِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِ، فَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ الضَّرُورِيِّ إِطْبَاقُ جَمِيعِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا، وَأَمَّا إِثْبَاتُ ذَلِكَ بِالْعُلُومِ الْمَنْقُولَةِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ سِوَى مَا جَاءَ فِي الْكُتُبِ فَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ حَاصِلٌ بِأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا دَعَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ وَلَمَّا بَطَلَ الْكُلُّ ثَبَتَ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ عَمَلٌ بَاطِلٌ وَقَوْلٌ فَاسِدٌ وَبَقِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ نَوْعَانِ مِنَ الْبَحْثِ. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْبَحْثُ اللُّغَوِيُّ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أَيْ بَقِيَّةٍ وَقَالَ الْمُبَرِّدُ أَثارَةٍ مَا يُؤْثَرُ مِنْ عِلْمٍ أَيْ بَقِيَّةٍ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ أَثارَةٍ تُؤْثَرُ مِنْ عِلْمٍ كَقَوْلِكَ هَذَا الْحَدِيثُ يُؤْثَرُ عَنْ فُلَانٍ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى سُمِّيَتِ الْأَخْبَارُ بِالْآثَارِ يُقَالُ جَاءَ فِي الْأَثَرِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَكَلَامُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَرْفِ يَدُورُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْبَقِيَّةُ وَاشْتِقَاقُهَا مِنْ أَثَرْتُ الشَّيْءَ أُثِيرُهُ إِثَارَةً كَأَنَّهَا بَقِيَّةٌ تُسْتَخْرَجُ فَتُثَارُ الثاني: مِنَ الْأَثَرِ الَّذِي هُوَ الرِّوَايَةُ وَالثَّالِثُ: هُوَ الْأَثَرُ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَقُرِئَ أَثَرَةٍ أَيْ مِنْ شَيْءٍ أُوثِرْتُمْ بِهِ وَخُصِّصْتُمْ مِنْ عِلْمٍ لَا إِحَاطَةَ بِهِ لِغَيْرِكُمْ وَقُرِئَ أَثْرَةٍ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ مَعَ سُكُونِ الثَّاءِ فَالْإِثْرَةُ بِالْكَسْرِ بِمَعْنَى الْأَثَرِ، وَأَمَّا الْإِثْرُ فَالْمَرْأَةُ مِنْ مَصْدَرِ أَثَرَ الْحَدِيثَ إِذَا رَوَاهُ، وَأَمَّا الْأُثَرَةُ بِالضَّمِّ فَاسْمُ مَا يُؤْثَرُ كَالْخُطْبَةِ اسْمٌ لِمَا يخطب به، وهاهنا قَوْلٌ آخَرُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ/ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ هُوَ عِلْمُ الْخَطِّ الَّذِي يُخَطُّ فِي الرَّمْلِ وَالْعَرَبُ كَانُوا يَخُطُّونَهُ وَهُوَ عِلْمٌ مَشْهُورٌ، وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ فَمَنْ وَافَقَ خَطُّهُ خَطَّهُ عُلِّمَ عِلْمَهُ» وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَمَعْنَى الْآيَةِ ائْتُونِي بِعِلْمٍ مِنْ قِبَلِ هَذَا الْخَطِّ الَّذِي تَخُطُّونَهُ فِي الرَّمْلِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِكُمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَإِنْ صَحَّ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِهَذَا الْوَجْهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ وَبِأَقْوَالِهِمْ وَدَلَائِلِهِمْ وَاللَّهُ تعالى أعلم. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 5 الى 8] وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْقَوْلَ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ قَوْلٌ بَاطِلٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا لَا قُدْرَةَ لَهَا الْبَتَّةَ عَلَى الْخَلْقِ وَالْفِعْلِ وَالْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ، فَأَرْدَفَهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، وَهِيَ أَنَّهَا جمادات فلا تسمع دعاء الداعين، ولا تعم حَاجَاتِ الْمُحْتَاجِينَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالدَّلِيلُ الْأَوَّلُ كَانَ إِشَارَةً إِلَى نَفْيِ الْعِلْمِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَإِذَا انْتَفَى الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ لَمْ تَبْقَ عِبَادَةٌ مَعْلُومَةٌ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ فَقَوْلُهُ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا امْرَأَ أَبْعَدَ عَنِ الْحَقِّ، وأقرب إلى

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 9 إلى 12]

الجهل ممن يدعوا مِنْ دُونِ اللَّهِ الْأَصْنَامَ، فَيَتَّخِذُهَا آلِهَةً وَيَعْبُدُهَا وَهِيَ إِذَا دُعِيَتْ لَا تَسْمَعُ، وَلَا تَصِحُّ مِنْهَا الْإِجَابَةُ لَا فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ ذلك غاية لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدْ قِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى يُحْيِيهَا وَتَقَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْ/ يَعْبُدُهَا مُخَاطَبَةٌ فَلِذَلِكَ جَعَلَهُ تَعَالَى حَدًّا، وَإِذَا قَامَتِ الْقِيَامَةُ وَحُشِرَ النَّاسُ فَهَذِهِ الْأَصْنَامُ تُعَادِي هَؤُلَاءِ الْعَابِدِينَ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُحْيِي هَذِهِ الْأَصْنَامَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ تُظْهِرُ عَدَاوَةَ هَؤُلَاءِ الْعَابِدِينَ وَتَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلِ الْمُرَادُ عَبَدَةُ الْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى فَإِنَّهُمْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ يُظْهِرُونَ عَدَاوَةَ هَؤُلَاءِ الْعَابِدِينَ فَإِنْ قِيلَ مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ وَكَيْفَ يُعْقَلُ وَصْفُ الْأَصْنَامِ وَهِيَ جَمَادَاتٌ بِالْغَفْلَةِ؟ وَأَيْضًا كَيْفَ جَازَ وَصْفُ الْأَصْنَامِ بِمَا لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْعُقَلَاءِ؟ وَهِيَ لَفْظَةٌ مَنْ وقوله هم غَافِلُونَ قُلْنَا إِنَّهُمْ لَمَّا عَبَدُوهَا وَنَزَّلُوهَا مَنْزِلَةَ مَنْ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ صَحَّ أَنْ يُقَالَ فِيهَا إِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْغَافِلِ الَّذِي لَا يَسْمَعُ وَلَا يُجِيبُ. وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ أَيْضًا عَنْ قَوْلِهِ إِنَّ لَفْظَةَ مِنْ وَلَفْظَةَ هُمْ كَيْفَ يَلِيقُ بِهَا، وَأَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ كُلَّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى وَعُزَيْرٍ وَالْأَصْنَامِ إِلَّا أَنَّهُ غَلَّبَ غَيْرَ الْأَوْثَانِ عَلَى الْأَوْثَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَكَلَّمَ فِي تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ تَكَلَّمَ فِي النُّبُوَّةِ وَبَيَّنَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْمُعْجِزَاتِ زَعَمُوا أَنَّهُ سِحْرٌ فَقَالَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمُ الْآيَاتُ الْبَيِّنَةُ وَعُرِضَتْ عَلَيْهِمُ الْمُعْجِزَاتُ الظَّاهِرَةُ سَمَّوْهَا بِالسِّحْرِ، وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الْمُعْجِزَةَ بِالسِّحْرِ بَيَّنَ أَنَّهُمْ مَتَى سَمِعُوا الْقُرْآنَ قَالُوا إِنَّ مُحَمَّدًا افْتَرَاهُ وَاخْتَلَقَهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَمَعْنَى الْهَمْزَةِ فِي أَمْ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ كَأَنَّهُ قِيلَ دَعْ هَذَا وَاسْمَعِ الْقَوْلَ الْمُنْكَرَ الْعَجِيبَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بُطْلَانَ شُبْهَتِهِمْ فَقَالَ إِنِ افْتَرَيْتُهُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَاجِلُنِي بِعُقُوبَةِ بُطْلَانِ ذَلِكَ الِافْتِرَاءِ وَأَنْتُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِهِ عَنْ مُعَاجَلَتِي بِالْعُقُوبَةِ فَكَيْفَ أُقْدِمُ عَلَى هَذِهِ الْفِرْيَةِ، وَأُعَرِّضُ نَفْسِي لِعِقَابِهِ؟ يُقَالُ فُلَانٌ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ إِذَا غَضِبَ وَلَا يَمْلِكُ عِنَانَهُ إِذَا صَمَّمَ، وَمِثْلُهُ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [الْمَائِدَةِ: 17] ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً (الْمَائِدَةِ: 41) وَمِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ أَيْ تَنْدَفِعُونَ فِيهِ مِنَ الْقَدْحِ فِي وَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى وَالطَّعْنِ فِي آيَاتِهِ وَتَسْمِيَتِهِ سِحْرًا تَارَةً وَفِرْيَةً أُخْرَى كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ يَشْهَدُ لِي بِالصِّدْقِ وَيَشْهَدُ عَلَيْكُمْ بِالْكَذِبِ وَالْجُحُودِ، وَمَعْنَى ذِكْرِ الْعِلْمِ وَالشَّهَادَةِ وَعِيدٌ لَهُمْ عَلَى إِقَامَتِهِمْ فِي الطَّعْنِ وَالشَّتْمِ. ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ بِمَنْ رَجَعَ عَنِ الْكُفْرِ وَتَابَ وَاسْتَعَانَ بِحُكْمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مع عظم ما ارتكبوه. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 9 الى 12] قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ. مُعْجِزًا، بِأَنْ قَالُوا إِنَّهُ يَخْتَلِقُهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ ثُمَّ يَنْسُبُهُ إِلَى أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الْفِرْيَةِ، حَكَى عَنْهُمْ نَوْعًا آخَرَ مِنَ الشُّبُهَاتِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِحُونَ مِنْهُ مُعْجِزَاتٍ عَجِيبَةً قَاهِرَةً، وَيُطَالِبُونَهُ بِأَنْ يُخْبِرَهُمْ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ، فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَالْبِدْعُ وَالْبَدِيعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ الْمَبْدَأُ وَالْبِدْعَةُ مَا اخْتُرِعَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلَهُ بِحُكْمِ السُّنَّةِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ أَيْ مَا كُنْتُ أَوَّلَهُمْ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُنْكِرُوا إِخْبَارِي بِأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، وَلَا تُنْكِرُوا دُعَائِي لَكُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَنَهْيِي عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَإِنَّ كُلَّ الرُّسُلِ إِنَّمَا بُعِثُوا بِهَذَا الطَّرِيقِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ مُعْجِزَاتٍ عَظِيمَةً وَإِخْبَارًا عَنِ الْغُيُوبِ فَقَالَ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِتْيَانَ بِهَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ وَالْإِخْبَارَ عَنْ هَذِهِ الْغُيُوبِ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْبَشَرِ، وَأَنَا مِنْ جِنْسِ الرُّسُلِ وَأَحَدٌ مِنْهُمْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَا تُرِيدُونَهُ فَكَيْفَ أَقْدِرُ عَلَيْهِ؟ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَعِيبُونَهُ أَنَّهُ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ وَبِأَنَّ أَتْبَاعَهُ فُقَرَاءُ فَقَالَ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَكُلُّهُمْ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَبِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَهَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تَقْدَحُ فِي نُبُوَّتِي كَمَا لَا تَقْدَحُ فِي نُبُوَّتِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَالثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَحْوَالِ الْآخِرَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: لَا أَدْرِي مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ، وَمَنِ الْغَالِبُ مِنَّا وَالْمَغْلُوبُ وَالثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ: لَمَّا اشْتَدَّ الْبَلَاءُ بِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ يُهَاجِرُ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ وَشَجَرٍ وَمَاءٍ، فَقَصَّهَا عَلَى أَصْحَابِهِ فَاسْتَبْشَرُوا بِذَلِكَ وَرَأَوْا أَنَّ ذَلِكَ فَرَجٌ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَكَثُوا بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ لَا يَرَوْنَ أَثَرَ ذَلِكَ،، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْنَا الَّذِي قُلْتَ وَمَتَى نُهَاجِرُ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي رَأَيْتَهَا فِي الْمَنَامِ؟ فَسَكَتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ وَهُوَ شَيْءٌ رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ، وَأَنَا لَا أَتَّبِعُ إِلَّا مَا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ الثَّالِثُ: قَالَ الضَّحَّاكُ لَا أَدْرِي مَا تُؤْمَرُونَ بِهِ وَلَا أُؤْمَرُ بِهِ فِي بَابِ التَّكَالِيفِ وَالشَّرَائِعِ وَالْجِهَادِ وَلَا فِي الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ وَإِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِمَا أَعْلَمَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالرَّابِعُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يَقُولُ لَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي فِي الدُّنْيَا أَأُمُوتُ أَمْ أُقْتَلُ كَمَا قُتِلَ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلِي وَلَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِكُمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ، أَتُرْمَوْنَ بِالْحِجَارَةِ مِنَ السَّمَاءِ، أَمْ يُخْسَفُ بِكُمْ أَمْ يُفْعَلُ بِكُمْ مَا فُعِلَ بِسَائِرِ الْأُمَمِ، أَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى أَحْوَالِ الْآخِرَةِ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَرِحَ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُنَافِقُونَ وَالْيَهُودُ وَقَالُوا كَيْفَ نَتَّبِعُ نَبِيًّا لَا يَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِهِ وَبِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ إِلَى قَوْلِهِ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً [الْفَتْحِ: 1- 5] فَبَيَّنَ تَعَالَى مَا يُفْعَلُ بِهِ وَبِمَنِ اتَّبَعَهُ وَنُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ. وَأَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ اسْتَبْعَدُوا هَذَا الْقَوْلَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَعْلَمَ مِنْ نَفْسِهِ كَوْنَهُ نَبِيًّا وَمَتَّى عَلِمَ كَوْنَهُ نَبِيًّا عَلِمَ أَنَّهُ لَا تَصْدُرُ عَنْهُ الْكَبَائِرُ وَأَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ كَوْنُهُ شَاكًّا فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ مَغْفُورٌ لَهُ أَمْ لَا الثَّانِي: لَا شَكَّ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَرْفَعُ حَالًا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، فَلَمَّا قَالَ فِي هَذَا إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ

اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الْأَحْقَافِ: 13] فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَبْقَى الرَّسُولُ الَّذِي هُوَ رَئِيسُ الْأَتْقِيَاءِ وَقُدْوَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ شَاكًّا فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ مِنَ الْمَغْفُورِينَ أَوْ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ؟ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَامِ: 124] وَالْمُرَادُ مِنْهُ كَمَالُ حَالِهِ وَنِهَايَةُ قُرْبِهِ مِنْ حَضْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَبْقَى شَاكًّا فِي أَنَّهُ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ أَوْ مِنَ الْمَغْفُورِينَ؟ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ ما يفعل يفتح الْيَاءِ أَيْ يَفْعَلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ قَالُوا مَا يَفْعَلُ مُثْبَتٌ وَغَيْرُ مَنْفِيٍّ وَكَانَ وَجْهُ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: مَا يَفْعَلُ بِي وَبِكُمْ؟ قُلْنَا التَّقْدِيرُ مَا أَدْرِي مَا يَفْعَلُ بِي وَمَا أَدْرِي مَا يَفْعَلُ بِكُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ يَعْنِي إِنِّي لَا أَقُولُ قَوْلًا وَلَا أَعْمَلُ عَمَلًا إِلَّا بِمُقْتَضَى الْوَحْيِ وَاحْتَجَّ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ قَوْلًا وَلَا عَمِلَ عَمَلًا إِلَّا بِالنَّصِّ الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَالُنَا كَذَلِكَ بَيَانُ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ بَيَانُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوهُ [الْأَعْرَافِ: 158] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النُّورِ: 63] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ كَانُوا يُطَالِبُونَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ الْعَجِيبَةِ وَبِالْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ فَقَالَ قُلْ: وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ وَالْقَادِرُ عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ الْخَارِجَةِ عَنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ وَالْعَالِمُ بِتِلْكَ الْغُيُوبِ لَيْسَ إلا الله سبحانه. [قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ إلى قوله إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: جَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ أَنْ يُقَالَ إِنْ كَانَ هَذَا الْكِتَابُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ ثُمَّ اسْتَكْبَرْتُمْ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ثُمَّ حُذِفَ هَذَا الْجَوَابُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ إِنْ أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ وَأَسَأْتَ إِلَيَّ وَأَقْبَلْتُ عَلَيْكَ وَأَعْرَضْتَ عني فقد ظلمتني، فكذا هاهنا التَّقْدِيرُ أَخْبِرُونِي إِنْ ثَبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِسَبَبِ عَجْزِ الْخَلْقِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ وَحَصَلَ أَيْضًا شَهَادَةُ أَعْلَمِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِكَوْنِهِ مُعْجِزًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَوِ اسْتَكْبَرْتُمْ وَكَفَرْتُمْ أَلَسْتُمْ أَضَلَّ النَّاسِ وَأَظْلَمَهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ قَدْ يُحْذَفُ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ وَقَدْ يُذْكَرُ، أَمَّا الْحَذْفُ فَكَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى [الرَّعْدِ: 31] وَأَمَّا الْمَذْكُورُ، فَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ [فُصِّلَتْ: 52] وَقَوْلِهِ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ [الْقَصَصِ: 71] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلَى قَوْلَيْنِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي قَالَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ هَذَا الشَّاهِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، رَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ نَظَرَ إِلَى وَجْهِهِ فَعَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ وَتَأَمَّلَهُ وَتَحَقَّقَ أَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنْتَظَرُ، فَقَالَ لَهُ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ مَا يَعْلَمُهُنَّ إلا نبي ما أول أشراط الساعات، وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالْوَلَدُ يَنْزِعُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ

إِلَى أُمِّهِ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُهُمْ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ، وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ نَزَعَ لَهُ وَإِنْ سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ نَزَعَ لَهَا» فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهْتٌ وَإِنْ عَلِمُوا بِإِسْلَامِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ عَنِّي بَهَتُونِي عِنْدَكَ، فَجَاءَتِ الْيَهُودُ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ فِيكُمْ؟ فَقَالُوا خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا وَأَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا فَقَالَ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ؟ فَقَالُوا أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالُوا شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا وَانْتَقَصُوهُ فَقَالَ هَذَا مَا كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ سَعْدُ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَحَدٍ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ/ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَفِيهِ نَزَلَ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّعْبِيَّ وَمَسْرُوقًا وَجَمَاعَةً آخَرِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ قَالُوا لِأَنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَامَيْنِ وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فَكَيْفَ يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ الْمَكِّيَّةِ عَلَى وَاقِعَةٍ حَدَثَتْ فِي آخِرِ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، وَأَجَابَ الْكَلْبِيُّ بِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ فَإِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ وَكَانَتِ الْآيَةُ تَنْزِلُ فَيُؤْمَرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يضعها في سورة كذا فهذا الْآيَةُ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَضَعَهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْمُعَيَّنِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَيْتُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ مُشْكِلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ يُوهِمُ أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثَةِ، وَأَجَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلْكَ الْجَوَابَاتِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ لِأَجْلِ أَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ تِلْكَ الْجَوَابَاتِ وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ أَوَّلِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَعَنْ أَوَّلِ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِخْبَارٌ عَنْ وُقُوعِ شَيْءٍ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ كَوْنُ ذَلِكَ الْخَبَرِ صِدْقًا إِلَّا إِذَا عُرِفَ أَوَّلًا كَوْنُ الْمُخْبِرِ صَادِقًا فَلَوْ أَنَّا عَرَفْنَا صِدْقَ الْمُخْبِرِ يكون ذَلِكَ الْخَبَرِ صِدْقًا لَزِمَ الدَّوْرُ وَإِنَّهُ مُحَالٌ والثاني: أَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْجَوَابَاتِ الْمَذْكُورَةَ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَا يَبْلُغُ الْعِلْمُ بِهَا إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ الْبَتَّةَ، بَلْ نَقُولُ الْجَوَابَاتُ الْقَاهِرَةُ عَنِ الْمَسَائِلِ الصَّعْبَةِ لَمَّا لَمْ تَبْلُغْ إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ فَأَمْثَالُ هَذِهِ الْجَوَابَاتِ عَنْ هَذِهِ السُّؤَالَاتِ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا بَلَغَتْ إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ وَالْجَوَابُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ رَسُولَ آخِرِ الزَّمَانِ يُسْأَلُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَهُوَ يُجِيبُ عَنْهَا بِهَذِهِ الْجَوَابَاتِ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ عَالِمًا بِهَذَا الْمَعْنَى فَلَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجَابَ بِتِلْكَ الْأَجْوِبَةِ عَرَفَ بِهَذَا الطَّرِيقِ كَوْنَهُ رَسُولًا حَقًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى أَنْ نَقُولَ الْعِلْمُ بِهَذِهِ الْجَوَابَاتِ مُعْجِزٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ شَخْصًا مُعَيَّنًا بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ ذِكْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْجُودٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْبِشَارَةُ بِمَقْدِمِهِ حَاصِلَةٌ فِيهَا فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا مُنْصِفًا عَارِفًا بِالتَّوْرَاةِ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَاعْتَرَفَ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْكَرْتُمْ أَلَسْتُمْ كُنْتُمْ ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِكُمْ ضَالِّينَ عَنِ الْحَقِّ؟ فَهَذَا الْكَلَامُ مُقَرَّرٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الشَّاهِدِ شَخْصًا مُعَيَّنًا أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَثَبَتَ أَنَّ التَّوْرَاةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْبِشَارَةِ بِمَقْدَمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ كَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَقْلِ إِنْكَارُ نُبُوَّتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى مِثْلِهِ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا، وَالْأَقْرَبُ أَنْ نَقُولَ إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ

كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا أَقُولُ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِ مَا قُلْتُ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ أَلَسْتُمْ كُنْتُمْ ظَالِمِينَ أَنْفُسَكُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَهْدِيدٌ وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ وَالتَّقْدِيرُ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ فَإِنَّكُمْ لَا تَكُونُونَ مُهْتَدِينَ بَلْ تَكُونُونَ ضَالِّينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا مَنَعَهُمُ الْهِدَايَةَ بِنَاءً عَلَى الْفِعْلِ الْقَبِيحِ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُمْ أَوَّلًا، فَإِنَّ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَهْدِيهِمْ لِكَوْنِهِمْ ظَالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ فَوَجَبَ أَنْ يَعْتَقِدُوا فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْهِدَايَةِ أن يكون الحال فيها كما هاهنا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ شُبْهَةٌ أُخْرَى لِلْقَوْمِ فِي إِنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي سَبَبِ نُزُولِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا كَلَامُ كُفَّارِ مَكَّةَ قَالُوا إِنَّ عَامَّةَ مَنْ يَتَّبِعُ مُحَمَّدًا الْفُقَرَاءُ وَالْأَرَاذِلُ مِثْلُ عَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الدِّينُ خَيْرًا مَا سَبَقَنَا إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ الثَّانِي: قِيلَ لَمَّا أَسْلَمَتْ جُهَيْنَةُ وَمُزَيْنَةُ وَأَسْلَمُ وَغِفَارٌ، قَالَتْ بَنُو عَامِرٍ وَغَطَفَانُ وَأَسَدٌ وَأَشْجَعُ لَوْ كَانَ هَذَا خَيْرًا مَا سَبَقَنَا إِلَيْهِ رِعَاءُ الْبُهْمِ الثَّالِثُ: قِيلَ إِنَّ أَمَةً لِعُمَرَ أَسْلَمَتْ وَكَانَ عُمَرُ يَضْرِبُهَا حَتَّى يَفْتُرَ، وَيَقُولُ لَوْلَا أَنِّي فَتَرْتُ لَزِدْتُكِ ضَرْبًا، فَكَانَ كَفَّارُ قُرَيْشٍ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ مَا يَدْعُو مُحَمَّدٌ إِلَيْهِ حَقًّا مَا سَبَقَتْنَا إِلَيْهِ فُلَانَةُ. الرَّابِعُ: قِيلَ كَانَ الْيَهُودُ يَقُولُونَ هَذَا الْكَلَامَ عِنْدَ إِسْلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ آمَنُوا ذَكَرُوا فِيهِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينِ آمَنُوا، عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ كَمَا تَقُولُ قَالَ زَيْدٌ لِعَمْرٍو، ثُمَّ تَتْرُكُ الْخِطَابَ وَتَنْتَقِلُ إِلَى الْغَيْبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يُونُسَ: 22] الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لِلَّذِينَ آمَنُوا لِأَجْلِهِمْ يَعْنِي أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا لِأَجْلِ إِيمَانِ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ، وعندي فيه وجه الثالث: وَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا سَمِعُوا أَنَّ جَمَاعَةً آمَنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاطَبُوا جَمَاعَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْحَاضِرِينَ، وَقَالُوا لَهُمْ لَوْ كَانَ هَذَا الدِّينُ خَيْرًا لَمَا سَبَقَنَا إليه أولئك الغائبون الذين أسلموا. [في قوله تعالى وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ هَذَا الْكَلَامَ أَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَقِفُوا عَلَى وَجْهِ كَوْنِهِ مُعْجِزًا، فَلَا بُدَّ مِنْ عَامِلٍ فِي الظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ وَمِنْ مُتَعَلِّقٍ لِقَوْلِهِ فَسَيَقُولُونَ وَغَيْرُ مُسْتَقِيمٍ أَنْ يَكُونَ فَسَيَقُولُونَ هُوَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ لِتَدَافُعِ دَلَالَتَيِ الْمُضِيِّ وَالِاسْتِقْبَالِ، فَمَا وَجْهُ هَذَا الْكَلَامِ؟ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْعَامِلَ فِي إِذْ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ ظَهَرَ عِنَادُهُمْ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً كِتَابُ مُوسَى مُبْتَدَأٌ، وَمِنْ قَبْلِهِ ظَرْفٌ/ وَاقِعٌ خَبَرًا مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ إِماماً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ كَقَوْلِكَ فِي الدَّارِ زَيْدٌ قَائِمًا، وَقُرِئَ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى وَالتَّقْدِيرُ: وَآتَيْنَا الَّذِي قبله التوراة، ومعنى إِماماً أي قدوة وَرَحْمَةً يُؤْتَمُ بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ وَشَرَائِعِهِ، كَمَا يؤتم

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 13 إلى 16]

بِالْإِمَامِ وَرَحْمَةً لِمَنْ آمَنَ بِهِ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، وَوَجْهُ تَعَلُّقِ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ أَنَّ الْقَوْمَ طَعَنُوا فِي صِحَّةِ الْقُرْآنِ، وَقَالُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقَنَا إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ الصَّعَالِيكُ، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقُرْآنِ أَنَّكُمْ لَا تُنَازِعُونَ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَجَعَلَ هَذَا الْكِتَابَ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ، ثُمَّ إِنِ التَّوْرَاةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْبِشَارَةِ بِمَقْدَمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا سَلَّمْتُمْ كَوْنَ التَّوْرَاةِ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ، فَاقْبَلُوا حُكْمَهُ فِي كَوْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا مِنَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ مُصَدِّقٌ لِكِتَابِ مُوسَى فِي أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولٌ حَقًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِساناً عَرَبِيًّا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، ثُمَّ قَالَ: لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَفِي قَوْلِهِ لِتُنْذِرَ قِرَاءَتَانِ التَّاءُ لِكَثْرَةِ مَا وَرَدَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى بِالْمُخَاطَبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [الْأَعْرَافِ: 2] وَالْيَاءُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ الْكِتَابِ فَأُسْنِدَ الْإِنْذَارُ إِلَى الْكِتَابِ كَمَا أُسْنِدَ إِلَى الرَّسُولِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ إِلَى قَوْلِهِ لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ [الْكَهْفِ: 1، 2] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ قَالَ الزَّجَّاجُ الْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَبُشْرى فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَالْمَعْنَى وَهُوَ بُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ، قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى مَعْنَى لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِنْزَالِ هَذَا الْكِتَابِ إنذار المعرضين وبشارة المطيعين. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 13 الى 16] إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَذَكَرَ شُبُهَاتِ الْمُنْكِرِينَ وَأَجَابَ عَنْهَا، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ طَرِيقَةَ الْمُحِقِّينَ وَالْمُحَقِّقِينَ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ ذَكَرَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَنْزِلُونَ وَيَقُولُونَ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت: 30] وهاهنا رَفَعَ الْوَاسِطَةَ مِنَ الْبَيْنِ وَذَكَرَ أَنَّهُ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فَإِذَا جَمَعْنَا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُبَلِّغُونَ إِلَيْهِمْ هَذِهِ الْبِشَارَةَ، وَأَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ يُسْمِعُهُمْ هَذِهِ الْبِشَارَةَ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ من آمن بالله وعمل صالحا فَإِنَّهُمْ بَعْدَ الْحَشْرِ لَا يَنَالُهُمْ خَوْفٌ وَلَا حُزْنٌ، وَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ إِنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آمِنُونَ مِنَ الْأَهْوَالِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ خَوْفُ الْعِقَابِ زَائِلٌ عَنْهُمْ، أَمَّا خَوْفُ

الْجَلَالِ وَالْهَيْبَةِ فَلَا يَزُولُ الْبَتَّةَ عَنِ الْعَبْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ عُلُوِّ دَرَجَاتِهِمْ وَكَمَالِ عِصْمَتِهِمْ لَا يَزُولُ الْخَوْفُ عَنْهُمْ فَقَالَ تَعَالَى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النَّحْلِ: 50] وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ سَبَقَتْ بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الْأَنْبِيَاءِ: 103] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى مَسَائِلَ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ وَهَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ لَيْسُوا إِلَّا الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الثَّوَابُ فَضْلٌ لَا جَزَاءٌ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْعَمَلِ لِلْعَبْدِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ الْأَثَرُ فِي حَالِ الْمُؤَثِّرِ، أَوْ أَيِّ أَثَرٍ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ بِدَلِيلِ أَنَّ الْعَمَلَ الْمُتَقَدِّمَ أَوْجَبَ الثَّوَابَ الْمُتَأَخِّرَ وَخَامِسُهَا: كَوْنُ الْعَبْدِ/ مُسْتَحِقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَعْظَمُ أَنْوَاعِ هَذَا النَّوْعِ الْإِحْسَانُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، لَا جَرَمَ أَرْدَفَهُ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَقَالَ تَعَالَى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ، وَفِي سُورَةِ لُقْمَانَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً وَالْبَاقُونَ حُسْنًا. وَاعْلَمْ أن الإحسان خلاف الإساءة والحسن خلاف القبيح، فَمَنْ قَرَأَ إِحْساناً فَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْإِسْرَاءِ: 43] وَالْمَعْنَى أَمَرْنَاهُ بِأَنْ يُوَصِّلَ إِلَيْهِمَا إِحْسَانًا، وَحَجَّةُ الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْعَنْكَبُوتِ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً [العنكبوت: 8] وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ، وَالْمُرَادُ أَيْضًا أَنَّا أَمَرْنَاهُ بِأَنْ يُوَصِّلَ إِلَيْهِمَا فِعْلًا حَسَنًا، إِلَّا أَنَّهُ سَمَّى ذَلِكَ الْفِعْلَ الْحَسَنَ بِالْحُسْنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، كَمَا يُقَالُ: هَذَا الرَّجُلُ عِلْمٌ وَكَرَمٌ، وَانْتَصَبَ حُسْنًا عَلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ مَعْنَى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ أَمَرْنَاهُ أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِمَا إِحْسَانًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ كُرْهًا بِضَمِّ الْكَافِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، قِيلَ هُمَا لُغَتَانِ: مِثْلَ الضَّعْفُ وَالضُّعْفُ، وَالْفَقْرُ وَالْفُقْرُ، وَمِنْ غَيْرِ الْمَصَادِرِ: الدَّفُّ والدف، والشهد والشهد، قال الواحدي: الكره مَصْدَرٌ مِنْ كَرِهْتُ الشَّيْءَ أَكْرَهُهُ، وَالْكَرْهُ الِاسْمُ كَأَنَّهُ الشَّيْءُ الْمَكْرُوهُ قَالَ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 216] فَهَذَا بِالضَّمِّ، وَقَالَ: أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [النِّسَاءِ: 19] فَهَذَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَلَمْ يَقْرَأِ الثَّانِيَةَ بِغَيْرِ الْفَتْحِ، فَمَا كَانَ مَصْدَرًا أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَالْفَتْحُ فِيهِ أَحْسَنُ، وَمَا كَانَ اسْمًا نَحْوَ ذَهَبْتُ بِهِ عَلَى كُرْهٍ كَانَ الضَّمُّ فِيهِ أَحْسَنَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ. حَمَلَتْهُ أَمُّهُ عَلَى مَشَقَّةٍ وَوَضَعَتْهُ فِي مَشَقَّةٍ، وَلَيْسَ يُرِيدُ ابْتِدَاءَ الْحَمْلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مَشَقَّةً، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً [الْأَعْرَافِ: 189] يُرِيدُ ابْتِدَاءَ الْحَمْلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مَشَقَّةً، فَالْحَمْلُ نُطْفَةٌ وَعَلَقَةٌ ومضغة، فإذا أثقلت فحينئذ حملته كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً يُرِيدُ شِدَّةَ الطَّلْقِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْأُمِّ أَعْظَمُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَوَّلًا: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً فَذَكَرَهُمَا مَعًا، ثُمَّ خَصَّ الْأُمَّ بِالذِّكْرِ، فَقَالَ: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَقَّهَا أَعْظَمُ، وَأَنَّ وَصُولَ الْمَشَاقِّ إِلَيْهَا بِسَبَبِ الْوَلَدِ أَكْثَرُ، وَالْأَخْبَارُ مَذْكُورَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَالتَّقْدِيرُ وَمُدَّةُ حَمْلِهِ وَفِصَالِهِ ثَلَاثُونَ شَهْرًا وَالْفِصَالُ الْفِطَامُ وَهُوَ فَصْلُهُ عَنِ اللَّبَنِ، فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ بَيَانُ مُدَّةِ الرَّضَاعَةِ لَا الْفِطَامِ، فَكَيْفَ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْفِصَالِ؟ قُلْنَا: لَمَّا كَانَ الرِّضَاعُ يَلِيهِ الْفِصَالُ وَيُلَائِمُهُ، لِأَنَّهُ يَنْتَهِي وَيَتِمُّ بِهِ سُمِّيَ فِصَالًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، لِأَنَّهُ لما كان مجموع مدة الحمل والرضاع ثلاثون شَهْرًا، قَالَ: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ [الْبَقَرَةِ: 233] فَإِذَا أَسْقَطْتَ الْحَوْلَيْنِ الْكَامِلَيْنِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا مِنَ الثَّلَاثِينَ، بَقِيَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ. رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّ امْرَأَةً رُفِعَتْ إِلَيْهِ، وَكَانَتْ قَدْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَأَمَرَ بِرَجْمِهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا رَجْمَ عَلَيْهَا، وَذَكَرَ الطَّرِيقَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَعَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ هَمَّ بِذَلِكَ، فَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ وَالتَّجْرِبَةَ يَدُلَّانِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، قَالَ أَصْحَابُ التَّجَارِبِ: إِنَّ لِتَكْوِينِ الْجَنِينِ زَمَانًا مُقَدَّرًا، فَإِذَا تَضَاعَفَ ذَلِكَ الزَّمَانُ تَحَرَّكَ الْجَنِينُ، فَإِذَا انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ مِثْلَاهُ انْفَصَلَ الْجَنِينُ عَنِ الْأُمِّ، فَلْنَفْرِضْ أَنَّهُ يَتِمُّ خَلْقُهُ فِي ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَإِذَا تَضَاعَفَ ذَلِكَ الزَّمَانُ حَتَّى صَارَ سِتِّينَ تَحَرَّكَ الْجَنِينُ، فَإِذَا تَضَاعَفَ إِلَى هَذَا الْمَجْمُوعِ مِثْلَاهُ وَهُوَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ حَتَّى صَارَ الْمَجْمُوعُ مِائَةً وَثَمَانِينَ وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَحِينَئِذٍ يَنْفَصِلُ الْجَنِينُ، فَلْنَفْرِضْ أَنَّهُ يَتِمُّ خَلْقُهُ فِي خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا فَيَتَحَرَّكُ فِي سَبْعِينَ يَوْمًا، فَإِذَا انْضَافَ إِلَيْهِ مِثْلَاهُ وَهُوَ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا صَارَ الْمَجْمُوعُ مِائَةً وَثَمَانِينَ وَعَشْرَةَ أَيَّامٍ، وَهُوَ سَبْعَةُ أَشْهُرٍ انْفَصَلَ الْوَلَدُ، وَلْنَفْرِضْ أَنَّهُ يَتِمُّ خَلْقُهُ فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَيَتَحَرَّكُ فِي ثَمَانِينَ يَوْمًا، فَيَنْفَصِلُ عِنْدَ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَهُوَ ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ، وَلْنَفْرِضْ أَنَّهُ تَمَّتِ الْخِلْقَةُ فِي خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَيَتَحَرَّكُ فِي تِسْعِينَ يَوْمًا، فَيَنْفَصِلُ عِنْدَ مِائَتَيْنِ وَسَبْعِينَ يَوْمًا، وَهُوَ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، فَهَذَا هُوَ الضَّبْطُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُ التجارب. قال جالينوس: إن كَنْتُ شَدِيدَ التَّفَحُّصِ عَنْ مَقَادِيرِ أَزْمِنَةِ الْحَمْلِ، فَرَأَيْتُ امْرَأَةً وَلَدَتْ فِي الْمِائَةِ وَالْأَرْبَعِ وَالثَّمَانِينَ ليلة، وزعم أو عَلِيِّ بْنُ سِينَا أَنَّهُ شَاهَدَ ذَلِكَ، فَقَدْ صَارَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ بِحَسَبِ نَصِّ الْقُرْآنِ، وبحسب التجارب الطيبة شَيْئًا وَاحِدًا، وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَأَمَّا أَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَمْلِ، فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِينَا: فِي الْفَصْلِ السَّادِسِ مِنَ الْمَقَالَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ عُنْوَانِ الشِّفَاءِ، بَلَغَنِي مِنْ حَيْثُ وَثَقْتُ بِهِ كُلَّ الثقة، أن المرأة وَضَعَتْ بَعْدَ الرَّابِعِ مِنْ سِنِي الْحَمْلِ وَلَدًا قَدْ نَبَتَتْ أَسْنَانُهُ وَعَاشَ. وَحُكِيَ عَنْ أَرِسْطَاطَالِيسَ أَنَّهُ قَالَ: أَزْمِنَةُ الْوِلَادَةِ، وَحَبْلُ الْحَيَوَانِ مَضْبُوطَةٌ سِوَى الْإِنْسَانِ، فَرُبَّمَا وَضَعَتِ الْحُبْلَى لِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ، وَرُبَّمَا وَضَعَتْ فِي الثَّامِنِ، وَقَلَّمَا يَعِيشُ الْمَوْلُودُ فِي الثَّامِنِ إِلَّا فِي بِلَادٍ مُعَيَّنَةٍ مِثْلَ مِصْرَ، وَالْغَالِبُ هُوَ الْوِلَادَةُ بَعْدَ التَّاسِعِ. قَالَ أَهْلُ التَّجَارِبِ: وَالَّذِي قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ إِذَا تَضَاعَفَ زَمَانُ التَّكْوِينِ تَحَرَّكَ الْجَنِينُ، وَإِذَا انْضَمَّ إِلَى الْمَجْمُوعِ مِثْلَاهُ انْفَصَلَ الْجَنِينُ، إِنَّمَا قُلْنَاهُ بِحَسَبِ التَّقْرِيبِ لَا بِحَسَبِ التَّحْدِيدِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا زَادَ أَوْ نَقَصَ بِحَسَبِ الْأَيَّامِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ عَلَى هَذَا الضَّبْطِ بُرْهَانٌ، إِنَّمَا هُوَ تَقْرِيبٌ ذَكَرُوهُ بِحَسَبِ التَّجْرِبَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ قَالَ الْمُدَّةُ الَّتِي فِيهَا تَتِمُّ خِلْقَةُ الْجَنِينِ تَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ فَأَوَّلُهَا: أَنَّ الرَّحِمَ إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْمَنِيِّ وَلَمْ تَقْذِفْهُ إِلَى الْخَارِجِ اسْتَدَارَ الْمَنِيُّ عَلَى نَفْسِهِ مُنْحَصِرًا إِلَى ذَاتِهِ وَصَارَ كَالْكُرَةِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمَنِيِّ أَنْ يُفْسِدَهُ الْحَرَكَاتُ، لَا جَرَمَ يَثْخُنُ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَبِالْحَرِيِّ أَنَّ خَلْقَ الْمَنِيِّ مِنْ مَادَّةٍ تَجِفُّ/ بِالْحَرِّ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ تَكَوُّنَ الْحَيَوَانِ وَاسْتِحْصَافَ أَجْزَائِهِ وَيَصِيرُ الْمَنِيُّ زَبَدًا فِي الْيَوْمِ السَّادِسِ وَثَانِيهَا: ظُهُورُ النُّقَطِ الثَّلَاثَةِ الدَّمَوِيَّةِ فِيهِ إِحْدَاهَا: فِي الْوَسَطِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي إِذَا تَمَّتْ خِلْقَتُهُ كَانَ قَلْبًا وَالثَّانِي: فَوْقُ وَهُوَ الدِّمَاغُ وَالثَّالِثُ: عَلَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْكَبِدُ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ النُّقَطَ تَتَبَاعَدُ وَيَظْهَرُ فِيمَا بَيْنَهَا خُيُوطٌ حُمْرٌ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أُخْرَى فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ تِسْعَةَ أَيَّامٍ وَثَالِثُهَا: أَنْ تَنْفُذَ الدَّمَوِيَّةُ فِي الْجَمِيعِ فَيَصِيرُ عَلَقَةً وَذَلِكَ بَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أُخْرَى حَتَّى يَصِيرَ الْمَجْمُوعُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَرَابِعُهَا: أَنْ يَصِيرَ لَحْمًا وَقَدْ تَمَيَّزَتِ الْأَعْضَاءُ الثَّلَاثَةُ، وَامْتَدَّتْ رُطُوبَةُ النُّخَاعِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتِمُّ بِاثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَخَامِسُهَا: أَنْ يَنْفَصِلَ الرَّأْسُ عَنِ الْمَنْكِبَيْنِ وَالْأَطْرَافُ عن الضلوع والبطن يميز الحسن فِي بَعْضٍ وَيَخْفَى فِي بَعْضٍ وَذَلِكَ يَتِمُّ فِي تِسْعَةِ أَيَّامٍ أُخْرَى فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَسَادِسُهَا: أَنْ يَتِمَّ انْفِصَالُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَيَصِيرُ بِحَيْثُ يَظْهَرُ ذَلِكَ الْحِسُّ ظُهُورًا بَيِّنًا، وَذَلِكَ يَتِمُّ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أُخْرَى فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَقَدْ يَتَأَخَّرُ إِلَى خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا قَالَ وَالْأَقَلُّ هُوَ الثَّلَاثُونَ، فَصَارَتْ هَذِهِ التَّجَارِبُ الطِّبِّيَّةُ مُطَابِقَةً لِمَا أَخْبَرَ عَنْهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» قَالَ أَصْحَابُ التَّجَارِبِ إِنَّ السَّقْطَ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ إِذَا شُقَّ عَنْهُ السُّلَالَةُ وَوُضِعَ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ ظَهَرَ شَيْءٌ صَغِيرٌ مُتَمَيِّزُ الْأَطْرَافِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَقَلِّ الْحَمْلِ وَعَلَى أَكْثَرِ مُدَّةِ الرَّضَاعِ، أَمَّا إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَأَمَّا إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَكْثَرِ مُدَّةِ الرَّضَاعِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [الْبَقَرَةِ: 233] وَالْفُقَهَاءُ رَبَطُوا بِهَذَيْنِ الضَّابِطَيْنِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً فِي الْفِقْهِ، وَأَيْضًا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ هُوَ الْأَشْهُرُ السِّتَّةُ، فَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَأْتِيَ الْمَرْأَةُ بِالْوَلَدِ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ يَبْقَى جَانِبُهَا مَصُونًا عَنْ تُهْمَةِ الزِّنَا وَالْفَاحِشَةِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مُدَّةَ الرَّضَاعِ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِذَا حَصَلَ الرَّضَاعُ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَحْكَامُ الرَّضَاعِ فَتَبْقَى الْمَرْأَةُ مَسْتُورَةٌ عَنِ الْأَجَانِبِ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَقْدِيرِ أَقَلِّ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَتَقْدِيرُ أَكْثَرَ الرَّضَاعِ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ السَّعْيُ فِي دَفْعِ الْمَضَارِّ وَالْفَوَاحِشِ وَأَنْوَاعِ التُّهْمَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَهُ تَحْتَ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ أَسْرَارٌ عَجِيبَةٌ وَنَفَائِسُ لَطِيفَةٌ، تَعْجَزُ الْعُقُولُ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِكَمَالِهَا. وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ إِذَا حَمَلَتْ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ أَرْضَعَتْهُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ شَهْرًا، وَإِذَا حَمَلَتْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَرْضَعَتْهُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ شَهْرًا، وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْأَشُدِّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ يُرِيدُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً وَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَاحْتَجَّ الْفَرَّاءُ عَلَيْهِ/ بِأَنْ قَالَ إِنَّ الْأَرْبَعِينَ أَقْرَبُ فِي النَّسَقِ إِلَى ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ مِنْهَا إِلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ أَخَذْتُ عَامَّةَ الْمَالِ أَوْ كُلَّهُ، فَيَكُونُ أَحْسَنَ مِنْ قَوْلِكَ أَخَذْتُ أَقَلَّ الْمَالِ أَوْ كُلَّهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ

[الْمُزَّمِّلِ: 20] فَبَعْضُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ قَرِيبٌ مِنْ بَعْضٍ فكذا هاهنا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ الْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً لِأَنَّ هَذَا الْوَقْتَ الَّذِي يَكْمُلُ فِيهِ بَدَنُ الْإِنْسَانِ، وَأَقُولُ تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ مَرَاتِبَ سِنِّ الْحَيَوَانِ ثَلَاثَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَدَنَ الْحَيَوَانِ لَا يَتَكَوَّنُ إِلَّا بِرُطُوبَةٍ غَرِيزِيَّةٍ وَحَرَارَةٍ غَرِيزِيَّةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الرُّطُوبَةَ الْغَرِيزِيَّةَ غَالِبَةٌ فِي أَوَّلِ الْعُمْرِ وَنَاقِصَةٌ فِي آخِرِ الْعُمْرِ، وَالِانْتِقَالُ مِنَ الزِّيَادَةِ إِلَى النُّقْصَانِ لَا يُعْقَلُ حُصُولُهُ إِلَّا إِذَا حَصَلَ الِاسْتِوَاءُ فِي وَسَطِ هَاتَيْنِ الْمُدَّتَيْنِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُدَّةَ الْعُمْرِ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَوَّلُهَا: أَنْ تَكُونَ الرُّطُوبَةُ الْغَرِيزِيَّةُ زَائِدَةً عَلَى الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْأَعْضَاءُ قَابِلَةً لِلتَّمَدُّدِ في ذواتها وللزيادة بِحَسَبِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْعُمْقِ وَهَذَا هُوَ سِنُّ النُّشُوءِ وَالنَّمَاءِ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ أَنْ تَكُونَ الرُّطُوبَةُ الْغَرِيزِيَّةُ وَافِيَةً بِحِفْظِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانَ وَهَذَا هُوَ سِنُّ الْوُقُوفِ وَهُوَ سِنُّ الشَّبَابِ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الْأَخِيرَةُ أَنْ تَكُونَ الرُّطُوبَةُ الْغَرِيزِيَّةُ نَاقِصَةً عَنِ الْوَفَاءِ بِحِفْظِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ ثُمَّ هَذَا النُّقْصَانُ عَلَى قِسْمَيْنِ فَالْأَوَّلُ: هُوَ النُّقْصَانُ الْخَفِيُّ وَهُوَ سِنُّ الْكُهُولَةِ وَالثَّانِي: هُوَ النُّقْصَانُ الظَّاهِرُ وَهُوَ سِنُّ الشَّيْخُوخَةِ، فَهَذَا ضَبْطٌ معلوم. ثم هاهنا مُقَدِّمَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ دَوْرَ الْقَمَرِ إِنَّمَا يَكْمُلُ فِي مُدَّةِ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَشَيْءٍ، فَإِذَا قَسَّمْنَا هَذِهِ الْمُدَّةَ بِأَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ كَانَ كُلُّ قِسْمٍ مِنْهَا سَبْعَةً فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّرُوا الشَّهْرَ بِالْأَسَابِيعِ الْأَرْبَعَةِ، وَلِهَذِهِ الْأَسَابِيعِ تَأْثِيرَاتٌ عَظِيمَةٌ فِي اخْتِلَافِ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ التَّجَارِبِ قَسَّمُوا مُدَّةَ سِنِّ النَّمَاءِ وَالنُّشُوءِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَسَابِيعَ وَيَحْصُلُ لِلْآدَمِيِّ بِحَسَبَ انْتِهَاءِ كُلِّ سَابُوعٍ مِنْ هَذِهِ السَّوَابِيعِ الْأَرْبَعَةِ نَوْعٌ مِنَ التَّغَيُّرِ يؤدي إلى كماله أما عند تمام السوابيع الأول من العمر فتصلب أعضاءه بَعْضَ الصَّلَابَةِ، وَتَقْوَى أَفْعَالُهُ أَيْضًا بَعْضَ الْقُوَّةِ، وَتَتَبَدَّلُ أَسْنَانُهُ الضَّعِيفَةُ الْوَاهِيَةُ بِأَسْنَانٍ قَوِيَّةٍ وَتَكُونُ قُوَّةُ الشَّهْوَةِ فِي هَذَا السَّابُوعِ أَقْوَى فِي الْهَضْمِ مِمَّا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَمَّا فِي نِهَايَةٍ السَّابُوعِ الثَّانِي فَتَقْوَى الْحَرَارَةُ وَتَقِلُّ الرُّطُوبَاتِ وَتَتَّسِعُ الْمَجَارِي وَتَقْوَى قُوَّةُ الْهَضْمِ وَتَقْوَى الْأَعْضَاءُ وَتَصْلُبُ قُوَّةً وَصَلَابَةً كَافِيَةً وَيَتَوَلَّدُ فِيهِ مَادَّةُ الزَّرْعِ، وَعِنْدَ هَذَا يَحْكُمُ الشَّرْعُ عَلَيْهِ بِالْبُلُوغِ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ، لِأَنَّ هَذَا الْوَقْتَ لَمَّا قَوِيَتِ الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ قَلَّتِ الرُّطُوبَاتُ وَاعْتَدَلَ الدِّمَاغُ فَتَكْمُلُ الْقُوَى النَّفْسَانِيَّةُ الَّتِي هِيَ الْفِكْرُ وَالذِّكْرُ، فَلَا جَرَمَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِكَمَالِ الْعَقْلِ، فَلَا جَرَمَ حَكَمَتِ الشَّرِيعَةُ بِالْبُلُوغِ وَتَوَجُّهِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ فَمَا أَحْسَنَ قَوْلُ مَنْ ضَبَطَ الْبُلُوغَ الشَّرْعِيَّ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَى حُصُولِ هَذِهِ الْحَالَةِ أَحْوَالٌ فِي ظَاهِرِ الْبَدَنِ أَحَدُهَا: انْفِرَاقُ طَرَفِ الْأَرْنَبَةِ لِأَنَّ الرُّطُوبَةَ الْغَرِيزِيَّةَ الَّتِي هُنَاكَ تَنْتَقِصُ فَيَظْهَرُ الِانْفِرَاقُ وَثَانِيهَا: نُتُوءُ الْحَنْجَرَةِ وَغِلَظُ الصَّوْتِ لِأَنَّ الْحَرَارَةَ الَّتِي تَنْهَضُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تُوسِّعُ الحنجرة فتنتوء وَيَغْلُظُ الصَّوْتُ وَثَالِثُهَا: تَغَيُّرُ رِيحِ الْإِبِطِ وَهِيَ الفضلة العفينة الَّتِي يَدْفَعُهَا الْقَلْبُ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَلْبَ لَمَّا قَوِيَتْ حَرَارَتُهُ، لَا جَرَمَ قَوِيَتْ عَلَى إِنْضَاجِ الْمَادَّةِ، وَدَفْعِهَا إِلَى اللَّحْمِ الْغُدَدِيِّ الرِّخْوِ الَّذِي فِي الْإِبِطِ وَرَابِعُهَا: نَبَاتُ الشَّعْرِ وَحُصُولُ الِاحْتِلَامِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْحَرَارَةَ قَوِيَتْ فَقَدَرَتْ عَلَى تَوْلِيدِ الْأَبْخِرَةِ الْمُوَلِّدَةِ لِلشَّعْرِ وَعَلَى تَوْلِيدِ مَادَّةِ الزَّرْعِ، وَفِي هَذَا الْوَقْتِ تَتَحَرَّكُ الشَّهْوَةُ فِي الصَّبَايَا وَيَنْهَدُ ثَدْيُهُنَّ وَيَنْزِلُ حَيْضُهُنَّ وَكُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ الَّتِي فِيهِنَّ قَوِيَتْ فِي آخِرِ هَذَا السَّابُوعِ، وَأَمَّا فِي السَّابُوعِ الثَّالِثِ فَيَدْخُلُ فِي حَدِّ الْكَمَالِ وَيَنْبُتُ لِلذَّكَرِ اللِّحْيَةُ وَيَزْدَادُ حُسْنُهُ وَكَمَالُهُ، وَأَمَّا فِي السَّابُوعِ الرَّابِعِ فَلَا

تَزَالُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ فِيهِ مُتَكَامِلَةٌ مُتَزَايِدَةٌ، وَعِنْدَ انْتِهَاءِ السَّابُوعِ الرَّابِعِ نِهَايَةً أَنْ لَا يَظْهَرَ الِازْدِيَادُ، أَمَّا مُدَّةُ سِنِّ الشَّبَابِ وَهِيَ مُدَّةُ الوقوف السابوع وَاحِدٌ فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ إِمَّا قَدْ تَزْدَادُ، وَإِمَّا قَدْ تَنْقُصُ بِحَسَبِ الْأَمْزِجَةِ جَعَلَ الْغَايَةَ فِيهِ مُدَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَهَذَا هُوَ السِّنُّ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ الْكَمَالُ اللَّائِقُ بِالْإِنْسَانِ شَرْعًا وَطِبًّا، فَإِنَّ فِي هَذَا الْوَقْتِ تَسْكُنُ أَفْعَالُ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةِ بَعْضَ السُّكُونِ وَتَنْتَهِي لَهُ أَفْعَالُ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ غَايَتُهَا، وَتَبْتَدِئُ أَفْعَالُ الْقُوَّةِ النَّفْسَانِيَّةِ بِالْقُوَّةِ وَالْكَمَالِ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ ظَهَرَ لَكَ أَنَّ بُلُوغَ الْإِنْسَانِ وَقْتَ الْأَشُدِّ شَيْءٌ وَبُلُوغَهُ إِلَى الْأَرْبَعِينَ شَيْءٌ آخَرَ، فَإِنَّ بُلُوغَهُ إِلَى وَقْتِ الْأَشُدِّ عِبَارَةٌ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى آخِرِ سِنِّ النُّشُوءِ وَالنَّمَاءِ، وَأَنَّ بُلُوغَهُ إِلَى الْأَرْبَعِينَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى آخِرِ مُدَّةِ الشَّبَابِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ تَأْخُذُ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةُ وَالْحَيَوَانِيَّةُ فِي الِانْتِقَاصِ، وَتَأْخُذُ الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ وَالنُّطْقِيَّةُ فِي الِاسْتِكْمَالِ وَهَذَا أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ غَيْرُ الْبَدَنِ، فَإِنَّ الْبَدَنَ عِنْدَ الْأَرْبَعِينَ يَأْخُذُ فِي الِانْتِقَاصِ، وَالنَّفْسُ مِنْ وَقْتِ الْأَرْبَعِينَ تَأْخُذُ فِي الِاسْتِكْمَالِ، وَلَوْ كَانَتِ النَّفْسُ عَيْنَ الْبَدَنِ لَحَصَلَ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ الْكَمَالُ وَالنُّقْصَانُ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَلَخَّصْنَاهُ مَذْكُورٌ فِي صَرِيحِ لَفْظِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ الْأَرْبَعِينَ تَنْتَهِي الْكِمَالَاتُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ، وَأَمَّا الْكَمَالَاتُ الْحَاصِلَةُ بِحَسَبِ الْقُوَى النُّطْقِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فَإِنَّهَا تَبْتَدِئُ بِالِاسْتِكْمَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوَجُّهَ الْإِنْسَانِ إِلَى عَالِمِ الْعُبُودِيَّةِ وَالِاشْتِغَالِ بِطَاعَةِ اللَّهِ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْقُوَّةَ النَّفْسَانِيَّةَ الْعَقْلِيَّةَ النُّطْقِيَّةَ إِنَّمَا تَبْتَدِئُ بِالِاسْتِكْمَالِ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ فَسُبْحَانَ مَنْ أَوْدَعَ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ هَذِهِ الْأَسْرَارَ الشَّرِيفَةَ الْمُقَدَّسَةَ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ لَمْ يُبْعَثْ نَبِيٌّ قَطُّ إِلَّا بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَقُولُ هَذَا مُشْكِلٌ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ نَبِيًّا مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهِ إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ/ الْأَغْلَبُ أَنَّهُ مَا جَاءَهُ الْوَحْيُ إِلَّا بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ، وَهَكَذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي حَقِّ رَسُولِنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ إِلَى تَمَامِ الدُّعَاءِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يُؤْمَرُ الْحَافِظَانِ أَنِ ارْفِقَا بِعَبْدِي مِنْ حَدَاثَةِ سِنِّهِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْأَرْبَعِينَ قِيلَ احْفَظَا وَحَقِّقَا» فَكَانَ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثَ إِذَا ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ بَكَى حَتَّى تَبْتَلَّ لِحْيَتُهُ رَوَاهُ الْقَاضِي فِي «التَّفْسِيرِ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ كَالْمُحْتَاجِ إِلَى مُرَاعَاةِ الْوَالِدَيْنِ لَهُ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْلَ كَالنَّاقِصِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ رِعَايَةِ الْأَبَوَيْنِ عَلَى رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْآفَاتِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ نِعَمَ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ تَمْتَدُّ إِلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِعَمَ الْوَالِدَيْنِ كَأَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ وُسْعِ الْإِنْسَانِ مُكَافَأَتُهُمَا إِلَّا بِالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ الْجَمِيلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْمٍ كَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْمُفَسِّرِينَ وَمُتَقَدِّمِيهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالُوا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَقَّتَ الْحَمْلَ وَالْفِصَالَ هاهنا بِمِقْدَارٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ يَنْقُصُ وَقَدْ يَزِيدُ عَنْهُ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ شَخْصًا وَاحِدًا حَتَّى يُقَالَ إِنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ كَانَ حَمْلُهُ وَفِصَالُهُ هَذَا الْقَدْرَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ إِنْسَانٍ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ

هَذِهِ الْآيَةِ إِنْسَانًا مُعَيَّنًا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَقَدْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ فِي قَرِيبٍ مِنْ هَذَا السِّنِّ، لِأَنَّهُ كَانَ أَقَلَّ سِنًّا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَتَيْنِ وَشَيْءٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ عِنْدَ الْأَرْبَعِينَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ قَرِيبًا مِنَ الْأَرْبَعِينَ وَهُوَ قَدْ صَدَّقَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنَ بِهِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ صَالِحَةٌ لِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ، وَإِذَا ثَبَتَ الْقَوْلُ بِهَذِهِ الصَّلَاحِيَّةِ فَنَقُولُ: نَدَّعِي أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَفْضَلُ الْخَلْقِ لِأَنَّ الَّذِي يَتَقَبَّلُ اللَّهُ عَنْهُ أَحْسَنَ أَعْمَالِهِ وَيَتَجَاوَزُ عَنْ كُلِّ سَيِّئَاتِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَفَاضِلِ الْخَلْقِ وَأَكَابِرِهِمْ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ الْخَلْقِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا أَبُو بَكْرٍ وَإِمَّا عَلَيٌّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا تَلِيقُ بِمَنْ أَتَى بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ عِنْدَ بُلُوغِ الْأَشُدِّ وَعِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْأَرْبَعِينَ، وَعَلِيٌّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا آمَنَ فِي زَمَانِ الصِّبَا أَوْ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الصِّبَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْزِعْنِي قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ أَلْهِمْنِي، قَالَ صَاحِبُ «الصِّحَاحِ» أَوْزَعْتُهُ بِالشَّيْءِ أَغْرَيْتُهُ بِهِ فَأَوْزِعُ بِهِ فَهُوَ مُوزَعٌ بِهِ أَيْ مُغْرًى بِهِ، وَاسْتَوْزَعْتُ اللَّهَ شُكْرَهُ، فَأَوْزَعَنِي أَيِ اسْتَلْهَمْتُهُ فَأَلْهَمَنِي. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ هَذَا الدَّاعِي أَنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ يُوَفِّقَهُ اللَّهُ لِلشُّكْرِ عَلَى نِعَمِهِ وَالثَّانِي: أَنْ يُوَفِّقَهُ لِلْإِتْيَانِ بِالطَّاعَةِ الْمَرْضِيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ الثَّالِثُ: أَنْ يُصْلِحَ لَهُ فِي ذُرِّيَّتِهِ، وَفِي تَرْتِيبِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مَرَاتِبَ السَّعَادَاتِ ثَلَاثَةٌ أَكْمَلُهَا النَّفْسَانِيَّةُ وَأَوْسَطُهَا الْبَدَنِيَّةُ وَأَدْوَنُهَا الْخَارِجِيَّةُ وَالسَّعَادَاتُ النَّفْسَانِيَّةُ هِيَ اشْتِغَالُ الْقَلْبِ بِشُكْرِ آلَاءِ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ، وَالسَّعَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ هِيَ اشْتِغَالُ الْبَدَنِ بِالطَّاعَةِ وَالْخِدْمَةِ، وَالسَّعَادَاتُ الْخَارِجِيَّةُ هِيَ سَعَادَةُ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْمَرَاتِبُ مَحْصُورَةً فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَا جَرَمَ رَتَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَالسَّبَبُ الثَّانِي: لِرِعَايَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ الشُّكْرَ عَلَى الْعَمَلِ، لِأَنَّ الشُّكْرَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَالْعَمَلَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ أَشْرَفُ مِنْ عَمَلِ الْجَارِحَةِ، وَأَيْضًا الْمَقْصُودُ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ أَحْوَالُ الْقَلْبِ قَالَ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] بَيَّنَ أَنَّ الصَّلَاةَ مَطْلُوبَةٌ لِأَجْلِ أَنَّهَا تُفِيدُ الذِّكْرَ، فَثَبَتَ أَنَّ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ أَشْرَفُ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَالْأَشْرَفُ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ فِي الذِّكْرِ، وَأَيْضًا الِاشْتِغَالُ بِالشُّكْرِ اشْتِغَالٌ بِقَضَاءِ حُقُوقِ النِّعَمِ الْمَاضِيَةِ، وَالِاشْتِغَالُ بِالطَّاعَةِ الظَّاهِرَةِ اشْتِغَالٌ بِطَلَبِ النِّعَمِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَقَضَاءُ الْحُقُوقِ الْمَاضِيَةِ يَجْرِي مَجْرَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَطَلَبُ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَقْبَلَةِ طَلَبٌ لِلزَّوَائِدِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى سَائِرِ الْمُهِمَّاتِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قدم الشكر على سائر الطاعات، وأيضا أنه قَدَّمَ طَلَبَ التَّوْفِيقِ عَلَى الشُّكْرِ، وَطَلَبَ التَّوْفِيقِ عَلَى الطَّاعَةِ عَلَى طَلَبِ أَنْ يُصْلِحَ لَهُ ذُرِّيَّتَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ اشْتِغَالٌ بِالتَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالْمَطْلُوبُ الثَّالِثُ اشْتِغَالٌ بِالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّعْظِيمَ لِأَمْرِ اللَّهِ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا إِنَّ الْعَبْدَ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُلْهِمَهُ الشُّكْرَ عَلَى نِعَمِ اللَّهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتِمُّ شَيْءٌ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْأَعْمَالِ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُسْتَقِلًّا بِأَفْعَالِهِ لَكَانَ هَذَا الطَّلَبُ عَبَثًا، وَأَيْضًا الْمُفَسِّرُونَ قَالُوا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ هُوَ الْإِيمَانُ أَوِ الْإِيمَانُ

يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الْفَاتِحَةِ: 6، 7] وَالْمُرَادُ صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ الْعَبْدُ يَشْكُرُ اللَّهَ عَلَى نِعْمَةِ الْإِيمَانِ، فَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ مِنَ الْعَبْدِ لَا مِنَ اللَّهِ لَكَانَ ذَلِكَ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى فِعْلِهِ لَا عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ قَبِيحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا [آلِ عِمْرَانَ: 188] فَإِنْ قِيلَ: فَهَبْ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَشْكُرُهُ عَلَى النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ/ بِهَا عَلَى وَالِدَيْهِ؟ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَشْكُرَ رَبَّهُ عَلَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ، قُلْنَا كُلُّ نِعْمَةٍ وَصَلَتْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى وَالِدَيْهِ، فَقَدْ وَصَلَ مِنْهَا أَثَرٌ إِلَيْهِ فَلِذَلِكَ وَصَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنْ يَشْكُرَ رَبَّهُ عَلَى الأمرين. [في قوله تعالى وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ] وَأَمَّا الْمَطْلُوبُ الثَّانِي: مِنَ الْمَطَالِبِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الدُّعَاءِ، فَهُوَ قَوْلُهُ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يُعْتَقَدُ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِيهِ كَوْنُهُ صَالِحًا عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِي يَكُونُ صَالِحًا عِنْدَهُ وَيَكُونُ صَالِحًا أَيْضًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّانِي: الَّذِي يَظُنُّهُ صَالِحًا وَلَكِنَّهُ لَا يَكُونُ صَالِحًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا قَسَّمَ الصَّالِحَ فِي ظَنِّهِ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُوَفِّقَهُ لِأَنْ يَأْتِيَ بِعَمَلٍ صَالِحٍ يَكُونُ صَالِحًا عِنْدَ اللَّهِ ويكون مرضيا عند الله. [في قوله تعالى وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي] وَالْمَطْلُوبُ الثَّالِثُ: مِنَ الْمَطَالِبِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى الْوَالِدِ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إِبْرَاهِيمَ: 35] فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى (فِي) فِي قَوْلِهِ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي؟ قُلْنَا تَقْدِيرُ الْكَلَامِ هَبْ لِي الصَّلَاحَ فِي ذُرِّيَّتِي وَأَوْقِعْهُ فِيهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ ذَلِكَ الدَّاعِي، أَنَّهُ طَلَبَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُرَادُ أَنَّ الدُّعَاءَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مَعَ التَّوْبَةِ، وَإِلَّا مَعَ كَوْنِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَتَبَيَّنَ أَنِّي إِنَّمَا أَقْدَمْتُ عَلَى هَذَا الدُّعَاءِ بَعْدَ أَنْ تُبْتُ إِلَيْكَ مِنَ الْكُفْرِ وَمِنْ كُلِّ قَبِيحٍ، وَبَعْدَ أَنْ دَخَلْتُ فِي الْإِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِقَضَائِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ، قَالُوا إِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَسْلَمَ وَالِدَاهُ، وَلَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالْمُهَاجِرِينَ إِسْلَامُ الْأَبَوَيْنِ إِلَّا لَهُ، فَأَبَوْهُ أَبُو قُحَافَةَ عُثْمَانُ بْنُ عَمْرٍو وَأُمُّهُ أُمُّ الْخَيْرِ بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَوْلُهُ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَجَابَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ فَأَعْتَقَ تِسْعَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُعَذَّبُونَ فِي اللَّهِ مِنْهُمْ بِلَالٌ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَبْقَ لِأَبِي بَكْرٍ وَلَدٌ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ إِلَّا وَقَدْ آمَنُوا، وَلَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْ أَسْلَمَ أَبَوَاهُ وَجَمِيعُ أَوْلَادِهِ الذكور والإناث إلا لأبي بكر. [في قوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ أَيْ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ قُرِئَ بِضَمِّ الْيَاءِ عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ وَقُرِئَ بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ، وَكَذَلِكَ نَتَجَاوَزُ وَكِلَاهُمَا فِي الْمَعْنَى وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْفِعْلَ وَإِنْ كَانَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَهُوَ كَقَوْلِهِ يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الْأَنْفَالِ: 38] فَبَيَّنَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا أَنَّ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّنْ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ، وَيَسْلُكُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ الَّتِي تَقَدَّمَ

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 17 إلى 20]

ذِكْرُهَا نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ وَالتَّقَبُّلُ مِنَ اللَّهِ هُوَ إِيجَابُ الثَّوَابِ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ، / فَإِنْ قِيلَ وَلِمَ قَالَ تَعَالَى: أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَاللَّهُ يَتَقَبَّلُ الْأَحْسَنَ وَمَا دُونَهُ؟ قُلْنَا الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِالْأَحْسَنِ الْحَسَنُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزُّمَرِ: 55] كَقَوْلِهِمْ: النَّاقِصُ وَالْأَشَجُّ أَعْدَلَا بَنِي مَرْوَانَ، أَيْ عَادِلَا بَنِي مَرْوَانَ الثَّانِي: أَنَّ الْحَسَنَ مِنَ الْأَعْمَالِ هُوَ الْمُبَاحُ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ وَالْأَحْسَنُ مَا يُغَايِرُ ذلك، وهو وكل ما كان مندوبا وَاجِبًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَتَقَبَّلُ طَاعَاتِهِمْ وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ مِثْلُ قَوْلِكَ: أَكْرَمَنِي الْأَمِيرُ فِي مِائَتَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ، يُرِيدُ أَكْرَمَنِي فِي جُمْلَةِ مَنْ أَكْرَمَ مِنْهُمْ وَضَمَّنِي فِي عِدَادِهِمْ، وَمَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ عَلَى مَعْنَى كَائِنِينَ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَمَعْدُودِينَ مِنْهُمْ، وَقَوْلُهُ وَعْدَ الصِّدْقِ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ نَتَقَبَّلُ، نَتَجاوَزُ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ بِالتَّقَبُّلِ وَالتَّجَاوُزِ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّهُ تَعَالَى يُعَامِلُ مَنْ صِفَتُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ بِهَذَا الْجَزَاءِ، وَذَلِكَ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَبَيَّنَ أَنَّهُ صِدْقٌ وَلَا شك فيه. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 17 الى 20] وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْوَلَدَ الْبَارَّ بِوَالِدَيْهِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَصَفَ الْوَلَدَ الْعَاقَّ لِوَالِدَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالُوا كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام فيأبى، وهو أُفٍّ لَكُما وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ عَلَى صِحَّتِهِ، بِأَنَّهُ لَمَّا كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَرْوَانَ يُبَايِعُ النَّاسَ لِيَزِيدَ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: لَقَدْ جِئْتُمْ بِهَا هِرَقْلِيَّةَ، أَتُبَايَعُونَ لِأَبْنَائِكُمْ؟ فَقَالَ مَرْوَانُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ كُلُّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَهُوَ كُلُّ مَنْ دَعَاهُ أَبَوَاهُ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ فَأَبَاهُ وَأَنْكَرَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذَا الَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي بِقَوْلِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ وَلَا شَكَّ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ آمَنَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَبَطَلَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ قَالُوا: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا دَعَاهُ أَبَوَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبَرَاهُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، قَالَ: أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ مِنَ الْقَبْرِ، يَعْنِي أُبْعَثُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي يَعْنِي الْأُمَمُ الْخَالِيَةُ، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْهُمْ بُعِثَ فَأَيْنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ، وَأَيْنَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ؟ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ الْمُرَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ مَاتُوا قَبْلَهُ، وَهُمُ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، وَبِالْجُمْلَةِ

فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَى الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْكَلْبِيُّ فِي دَفْعِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَهُوَ حَسَنٌ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي إِبْطَالِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، مَا رُوِيَ أَنَّ مَرْوَانَ لَمَّا خَاطَبَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ بِذَلِكَ الْكَلَامِ سَمِعَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ فَغَضِبَتْ وَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ لَعَنَ أَبَاكَ وَأَنْتَ فِي صُلْبِهِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَقْوَى، أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْوَلَدَ الْبَارَّ بِأَبَوَيْهِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَوَصَفَ الْوَلَدَ الْعَاقَّ لِأَبَوَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَكَرَ مِنْ صِفَاتِ ذَلِكَ الْوَلَدِ أَنَّهُ بَلَغَ فِي الْعُقُوقِ إِلَى حَيْثُ لَمَّا دَعَاهُ أَبَوَاهُ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ أَصَرَّ عَلَى الْإِنْكَارِ وَأَبَى وَاسْتَكْبَرَ، وَعَوَّلَ فِي ذَلِكَ الْإِنْكَارِ عَلَى شُبُهَاتٍ خَسِيسَةٍ وَكَلِمَاتٍ وَاهِيَةٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْمُرَادُ كُلُّ وَلَدٍ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَلَا حَاجَةَ الْبَتَّةَ إِلَى تَخْصِيصِ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ أُفٍّ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَبِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ مَعَ التَّنْوِينِ، وَهُوَ صَوْتٌ إِذَا صَوَّتَ بِهِ الْإِنْسَانُ عُلِمَ أَنَّهُ مُتَضَجِّرٌ، كَمَا إِذَا قَالَ حَسِّ، عُلِمَ أَنَّهُ مُتَوَجِّعٌ، وَاللَّامُ لِلْبَيَانِ مَعْنَاهُ هَذَا/ التَّأْفِيفُ لَكُمَا خَاصَّةً، وَلِأَجْلِكُمَا دُونَ غَيْرِكُمَا، وَقُرِئَ أَتَعِدانِنِي بنونين، وأ تعداني بأحدهما وأ تعداني بِالْإِدْغَامِ، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: أَتَعِدَانَنِي بِفَتْحِ النُّونِ كَأَنَّهُ اسْتَثْقَلَ اجْتِمَاعُ النُّونَيْنِ وَالْكَسْرَيْنِ وَالْيَاءِ، فَفَتْحَ الْأُولَى تَحَرِّيًا لِلتَّخْفِيفِ كَمَا تَحَرَّاهُ مَنْ أَدْغَمَ وَمَنْ طَرَحَ أَحَدَهُمَا. ثُمَّ قَالَ: أَنْ أُخْرَجَ أَيْ أَنْ أُبْعَثَ وَأُخْرَجَ مِنَ الْأَرْضِ، وَقُرِئَ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي يَعْنِي وَلَمْ يُبْعَثْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. ثُمَّ قَالَ: وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ أَيْ الْوَالِدَانِ يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ، فَإِنْ قَالُوا: كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ يَسْتَغِيثَانِ بِاللَّهِ؟ قُلْنَا الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ مَنْ كُفْرِهِ وَإِنْكَارِهِ، فَلَمَّا حُذِفَ الْجَارُّ وُصِلَ الْفِعْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الباء حذف، لأنه أريد بالاستغاثة هاهنا الدُّعَاءُ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ يَدْعُوَانِ اللَّهَ فَلَمَّا أُرِيدَ بِالِاسْتِغَاثَةِ الدُّعَاءُ حُذِفَ الْجَارُّ، لِأَنَّ الدُّعَاءَ لَا يَقْتَضِيهِ، وَقَوْلُهُ وَيْلَكَ أَيْ يَقُولَانِ لَهُ وَيْلَكَ آمِنْ وَصَدِّقْ بِالْبَعْثِ وَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالثُّبُورِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَثُّ، وَالتَّحْرِيضُ عَلَى الْإِيمَانِ لَا حَقِيقَةَ الْهَلَاكِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بِالْبَعْثِ حَقٌّ فَيَقُولُ لَهُمَا مَا هَذَا الَّذِي تَقُولَانِ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ وَتَدْعُوَانِنِي إِلَيْهِ إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أَيْ حَقَّتْ عليهم كلمة العذاب، ثم هاهنا قَوْلَانِ: فَالَّذِينَ يَقُولُونَ الْمُرَادُ بِنُزُولِ الْآيَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، قَالُوا الْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ هُمُ الْقُرُونُ الَّذِينَ خَلَوْا مَنْ قَبْلِهِ، وَالَّذِينَ قَالُوا الْمُرَادُ بِهِ لَيْسَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، بَلْ كُلُّ وَلَدٍ كَانَ مَوْصُوفًا بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، قَالُوا هَذَا الْوَعِيدُ مُخْتَصٌّ بِهِمْ، وَقَوْلُهُ فِي أُمَمٍ نَظِيرٌ لِقَوْلِهِ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ نَظِيرٌ لِقَوْلِهِ: أَكْرَمَنِي الْأَمِيرُ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، يُرِيدُ أَكْرَمَنِي فِي جُمْلَةِ مَنْ أَكْرَمَ مِنْهُمْ. ثم قال: إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ وَقُرِئَ أَنَّ بِالْفَتْحِ عَلَى مَعْنَى آمَنَ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ. ثُمَّ قَالَ: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْوَلَدَ الْبَارَّ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ الْوَلَدِ الْعَاقِّ، فَقَوْلُهُ وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْبَارَّ بِوَالِدَيْهِ لَهُ دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ، وَمَرَاتِبُ مُخْتَلِفَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قوله لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا عَائِدٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ،

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 إلى 26]

وَالْمَعْنَى وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ دَرَجَاتٌ فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، فَإِنْ قَالُوا كَيْفَ يَجُوزُ ذِكْرُ لَفْظِ الدَّرَجَاتِ فِي أَهْلِ النَّارِ، وقد جاء في الأثر الجنة الدرجات، وَالنَّارُ دَرَكَاتٌ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّغْلِيبِ الثَّانِي: قَالَ ابْنُ زَيْدٌ: دَرَجُ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَذْهَبُ علوا، ودرج أهل النار ينزلوا هُبُوطًا. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّرَجَاتِ الْمَرَاتِبُ الْمُتَزَايِدَةُ، إِلَّا أَنَّ زِيَادَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ، وَزِيَادَاتِ أَهْلِ النَّارِ فِي الْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِيُوَفِّيَهُمْ وَقُرِئَ بِالنُّونِ وَهَذَا تَعْلِيلٌ مُعَلَّلُهُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَلَا يَظْلِمَهُمْ حُقُوقَهُمْ، قَدَّرَ جَزَاءَهُمْ عَلَى مَقَادِيرِ أَعْمَالِهِمْ فَجَعَلَ الثَّوَابَ دَرَجَاتٍ وَالْعِقَابَ دَرَكَاتٍ، وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُوَصِّلُ حَقَّ كُلِّ أَحَدٍ إِلَيْهِ بَيَّنَ أَحْوَالَ أَهْلِ الْعِقَابِ أَوَّلًا، فَقَالَ: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ قِيلَ يَدْخُلُونَ النَّارَ، وَقِيلَ تُعْرَضُ عَلَيْهِمُ النَّارَ لِيَرَوْا أَهْوَالَهَا أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ أَذْهَبْتُمْ اسْتِفْهَامٌ بِهَمْزَةٍ وَمَدَّةٍ، وَابْنُ عَامِرٍ اسْتِفْهَامٌ بِهَمْزَتَيْنِ بِلَا مَدَّةٍ وَالْبَاقُونَ أَذْهَبْتُمْ بِلَفْظِ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَا قُدِّرَ لَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَالرَّاحَاتِ فَقَدِ اسْتَوْفَيْتُمُوهُ فِي الدُّنْيَا وَأَخَذْتُمُوهُ، فَلَمْ يَبْقَ لَكُمْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ حَظِّكُمْ شَيْءٌ مِنْهَا، وَعَنْ عُمَرَ لَوْ شِئْتُ لَكُنْتُ أَطْيَبُكُمْ طَعَامًا وَأَحْسَنُكُمْ لِبَاسًا، وَلَكِنِّي أَسْتَبْقِي طَيِّبَاتِي، وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ وَهُمْ يُرَقِّعُونَ ثِيَابَهُمْ بِالْأَدَمِ مَا يَجِدُونَ لَهَا رِقَاعًا فَقَالَ: «أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ أَمْ يَوْمَ يَغْدُو أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ وَيَرُوحُ فِي أُخْرَى، وَيُغْدَى عَلَيْهِ بِجَفْنَةٍ وَيُرَاحُ عَلَيْهِ بِأُخْرَى وَيُسْتَرُ بَيْتُهُ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةُ، قَالُوا نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ قَالَ بَلْ أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ؟» ، رَوَاهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّ الصَّالِحِينَ يُؤْثِرُونَ التَّقَشُّفَ وَالزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ ثَوَابُهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَكْمَلَ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّنَعُّمِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، وَإِنَّمَا وَبَّخَ اللَّهُ الْكَافِرَ لِأَنَّهُ يَتَمَتَّعُ بِالدُّنْيَا وَلَمْ يُؤَدِّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ بِطَاعَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي بِإِيمَانِهِ شُكْرَ الْمُنْعِمِ فَلَا يُوَبَّخُ بِتَمَتُّعِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الْأَعْرَافِ: 32] نَعَمْ لَا يُنْكَرُ أَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنِ التَّنَعُّمِ أَوْلَى، لِأَنَّ النَّفْسَ إِذَا اعْتَادَتِ التَّنَعُّمَ صَعُبَ عَلَيْهَا الِاحْتِرَازُ وَالِانْقِبَاضُ، وَحِينَئِذٍ فَرُبَّمَا حَمَلَهُ الْمَيْلُ إِلَى تِلْكَ الطَّيِّبَاتِ عَلَى فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَذَلِكَ مِمَّا يَجُرُّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ وَيَقَعُ فِي الْبُعْدِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أَيِ الْهَوَانِ، وَقُرِئَ عَذَابَ الْهَوَانِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ فَعَلَّلَ تَعَالَى ذَلِكَ الْعَذَابَ بِأَمْرَيْنِ: (أَوَّلُهُمَا) : الِاسْتِكْبَارُ وَالتَّرَفُّعُ وَهُوَ ذَنْبُ الْقَلْبِ الثَّانِي: الْفِسْقُ وَهُوَ ذَنْبُ الْجَوَارِحِ، وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّ أَحْوَالَ الْقُلُوبِ أَعْظَمُ وَقْعًا مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الِاسْتِكْبَارِ أَنَّهُمْ يَتَكَبَّرُونَ عَنْ قَبُولِ الدِّينِ الْحَقِّ، وَيَسْتَنْكِفُونَ عَنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَمَّا الْفِسْقُ فَهُوَ الْمَعَاصِي وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ، قَالُوا لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّلَ عَذَابَهُمْ بِأَمْرَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: الْكُفْرُ وَثَانِيهِمَا: الْفِسْقُ، وَهَذَا الْفِسْقُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِذَلِكَ الْكُفْرِ، لِأَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ الْمُغَايَرَةَ، فَثَبَتَ أَنَّ فِسْقَ الْكُفَّارِ يُوجِبُ الْعِقَابَ فِي حَقِّهِمْ، وَلَا مَعْنَى لِلْفِسْقِ إِلَّا تَرْكُ المأمورات وفعل المنهيات، والله أعلم. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 الى 26] وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لَا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْرَدَ أَنْوَاعَ الدَّلَائِلِ فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ بِسَبَبِ/ اسْتِغْرَاقِهِمْ فِي لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَاشْتِغَالِهِمْ بِطَلَبِهَا أَعْرَضُوا عَنْهَا، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَيَّنَ أَنَّ قَوْمَ عَادٍ كَانُوا أَكْثَرَ أَمْوَالًا وَقُوَّةً وَجَاهًا مِنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَلَّطَ الْعَذَابَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ شُؤْمِ كُفْرِهِمْ فَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ هاهنا لِيَعْتَبِرَ بِهَا أَهْلُ مَكَّةَ، فَيَتْرُكُوا الِاغْتِرَارَ بِمَا وَجَدُوهُ مِنَ الدُّنْيَا وَيُقْبِلُوا عَلَى طَلَبِ الدِّينِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ تَقْبِيحَ طَرِيقَةٍ عِنْدَ قَوْمٍ كَانَ الطَّرِيقُ فِيهِ ضَرْبَ الْأَمْثَالِ، وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ مَنْ وَاظَبَ عَلَى تِلْكَ الطَّرِيقَةِ نَزَلَ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ كَذَا وَكَذَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ أَيْ وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ أَهْلَ مَكَّةَ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ أَيْ حَذَّرَهُمْ عَذَابَ اللَّهِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَقَوْلُهُ بِالْأَحْقافِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْحِقْفُ الرَّمْلُ الْمُعْوَجُّ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمُعْوَجِّ مَحْقُوفٌ وَقَالَ الْفَرَّاءُ الْأَحْقَافُ وَاحِدُهَا حِقْفٌ وَهُوَ الْكَثِيبُ الْمُكَسَّرُ غَيْرُ الْعَظِيمِ وَفِيهِ اعْوِجَاجٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الأحقاف واد بين عمان ومهرة والنذر جَمْعُ نَذِيرٍ بِمَعْنَى الْمُنْذِرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مِنْ قِبَلِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَنْذَرَهُمْ وَقَالَ لهم أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عليكم العذاب. وَاعْلَمْ أَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ بُعِثُوا قَبْلَهُ وَالَّذِينَ سَيُبْعَثُونَ بَعْدَهُ كُلُّهُمْ مُنْذِرُونَ نَحْوَ إِنْذَارِهِ. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا الْإِفْكُ الصَّرْفُ، يُقَالُ أَفَكَهُ عَنْ رَأْيِهِ أَيْ صَرَفَهُ، وَقِيلَ بَلِ الْمُرَادُ لَتُزِيلَنَا بِضَرْبٍ مِنَ الْكَذِبِ عَنْ آلِهَتِنا وَعَنْ عِبَادَتِهَا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا مُعَاجَلَةُ الْعَذَابِ عَلَى الشِّرْكِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِي وَعْدِكَ، فَعِنْدَ هَذَا قَالَ هُودٌ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا صَلَحَ هَذَا الْكَلَامُ جَوَابًا لِقَوْلِهِمْ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا لِأَنَّ قَوْلَهُمْ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا اسْتِعْجَالٌ مِنْهُمْ لِذَلِكَ الْعَذَابِ فَقَالَ لَهُمْ هُودٌ لَا عِلْمَ عِنْدِي بِالْوَقْتِ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ ذَلِكَ الْعَذَابُ، إِنَّمَا عِلْمُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَهُوَ التَّحْذِيرُ عَنِ الْعَذَابِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِوَقْتِهِ فَمَا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ وَهَذَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَنَّ الرُّسُلَ لَمْ يُبْعَثُوا سَائِلِينَ عَنْ غَيْرِ مَا أُذِنَ لَهُمْ فِيهِ وَإِنَّمَا بُعِثُوا مُبَلِّغِينَ الثَّانِي: أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ مِنْ حَيْثُ إِنَّكُمْ بَقِيتُمْ مُصِرِّينَ عَلَى كُفْرِكُمْ وَجَهْلِكُمْ فَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي أَنَّهُ قُرُبَ الْوَقْتُ الَّذِي

يَنْزِلُ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ بِسَبَبِ هَذَا الْجَهْلِ الْمُفْرِطِ والوقاحة التامة الثالث: لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ حَيْثُ تُصِرُّونَ عَلَى طَلَبِ الْعَذَابِ وَهَبْ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَكُمْ كَوْنِي صَادِقًا، وَلَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ أَيْضًا لَكُمْ كَوْنِي كَاذِبًا فَالْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَبِ الشَّدِيدِ لِهَذَا الْعَذَابِ جَهْلٌ عَظِيمٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ ذَكَرَ الْمُبَرِّدُ فِي الضَّمِيرِ فِي رَأَوْهُ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ وَبَيَّنَهُ قَوْلُهُ عارِضاً كَمَا قَالَ: مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فَاطِرٍ: 45] وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَرْضَ لكونها معلومة فكذا هاهنا الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى السَّحَابِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَمَّا رَأَوُا السَّحَابَ عَارِضًا وَهَذَا اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ/ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ لَا عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى مَا فِي قَوْلِهِ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا أَيْ فَلَمَّا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ بِهِ عَارِضًا، قَالَ أَبُو زَيْدٍ الْعَارِضُ السَّحَابَةُ الَّتِي تُرَى فِي نَاحِيَةِ السَّمَاءِ ثُمَّ تَطْبِقُ، وَقَوْلُهُ مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ كَانَتْ عَادٌ قَدْ حُبِسَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ أَيَّامًا فَسَاقَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ سَحَابَةً سَوْدَاءَ فَخَرَجَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ وَادٍ يُقَالُ لَهُ الْمُغِيثُ فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ استبشروا وقالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا وَالْمَعْنَى مُمْطِرُ إِيَّانَا، قِيلَ كَانَ هُودٌ قَاعِدًا فِي قَوْمِهِ فَجَاءَ سَحَابٌ مُكْثِرٌ فَقَالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا فَقَالَ: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ ثُمَّ بَيَّنَ مَاهِيَّتَهُ فَقَالَ: رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ. ثُمَّ وَصَفَ تِلْكَ الرِّيحَ فَقَالَ: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْ تُهْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ النَّاسِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ بِأَمْرِ رَبِّها وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ تَأْثِيرَاتِ الْكَوَاكِبِ وَالْقِرَانَاتِ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ حَدَثَ ابْتِدَاءً بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَجْلِ تَعْذِيبِكُمْ فَأَصْبَحُوا يَعْنِي عَادًا لَا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ أَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ تَحْمِلُ الْفُسْطَاطَ فَتَرْفَعُهَا فِي الْجَوِّ حَتَّى يُرَى كَأَنَّهَا جَرَادَةٌ، وَقِيلَ أَوَّلُ مَنْ أَبْصَرَ الْعَذَابَ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ قَالَتْ رَأَيْتُ رِيحًا فِيهَا كَشُهُبِ النَّارِ، وَرُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَا عَرَفُوا بِهِ أَنَّهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أَنَّهُمْ رَأَوْا مَا كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ مِنْ رِجَالِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ يَطِيرُ بِهِ الرِّيحُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَدَخَلُوا بُيُوتَهُمْ وَغَلَّقُوا أَبْوَابَهُمْ فَعَلَّقَتِ الرِّيحُ الْأَبْوَابَ وَصَرَعَتْهُمْ، وَأَحَالَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْأَحْقَافَ، فَكَانُوا تَحْتَهَا سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ لَهُمْ أَنِينٌ، ثُمَّ كَشَفَتِ الرِّيحُ عَنْهُمْ فَاحْتَمَلَتْهُمْ فَطَرَحَتْهُمْ فِي الْبَحْرِ، وَرُوِيَ أَنَّ هُودًا لَمَّا أَحَسَّ بِالرِّيحِ خَطَّ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ خَطًّا إِلَى جَنْبِ عَيْنٍ تَنْبُعُ فَكَانَتِ الرِّيحُ الَّتِي تُصِيبُهُمْ رِيحًا لَيِّنَةً هَادِئَةً طَيِّبَةً، وَالرِّيحُ الَّتِي تُصِيبُ قَوْمَ عَادٍ تَرْفَعُهُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَتُطَيِّرُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ وَتَضْرِبُهُمْ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَثَرُ الْمُعْجِزَةِ إِنَّمَا ظَهَرَ فِي تِلْكَ الرِّيحِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَمَرَ اللَّهُ خَازِنَ الرِّيَاحِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَى عَادٍ إِلَّا مِثْلَ مِقْدَارِ الْخَاتَمِ» ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ أَهْلَكَهُمْ بِكُلِّيَّتِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِظْهَارُ كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى الرِّيحَ فَزِعَ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَمِنْ شَرِّ مَا أرسلت به» . المسألة الثانية: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ لَا يُرى بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا مَساكِنُهُمْ بِضَمِّ النُّونِ، قَالَ الْكِسَائِيُّ مَعْنَاهُ لَا يُرَى شَيْءٌ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ لَا تَرى عَلَى الْخِطَابِ أَيْ لَا تَرَى أَنْتَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ عَاصِمٍ لَا تُرَى بِالتَّاءِ مَساكِنُهُمْ بِضَمِّ النُّونِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَالتَّأْوِيلُ لَا تُرَى مِنْ بَقَايَا عَادٍ أَشْيَاءُ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لَيْسَتْ بِالْقَوِيَّةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَخْوِيفُ كَفَّارِ مَكَّةَ، فَإِنْ قِيلَ/ لِمَا قَالَ اللَّهُ

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 27 إلى 28]

تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَالِ: 33] فَكَيْفَ يَبْقَى التَّخْوِيفُ حَاصِلًا؟ قُلْنَا: قَوْلُهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ إِنَّمَا أُنْزِلَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ فَكَانَ التَّخْوِيفُ حَاصِلًا قَبْلَ نُزُولِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَوَّفَ كُفَّارَ مَكَّةَ، وَذَكَرَ فَضْلَ عَادٍ بِالْقُوَّةِ وَالْجِسْمِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ قَالَ الْمُبَرِّدُ مَا فِي قَوْلِهِ فِيما بِمَنْزِلَةِ الَّذِي. وإِنْ بِمَنْزِلَةِ مَا وَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الَّذِي مَا مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ مِنْكُمْ أَمْوَالًا، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةُ كَلِمَةُ إِنْ زَائِدَةٌ. وَالتَّقْدِيرُ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ، وَهَذَا غَلَطٌ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُكْمَ بِأَنَّ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَبَثٌ لَا يَقُولُ بِهِ عَاقِلٌ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُمْ كَانُوا أَقْوَى مِنْكُمْ قُوَّةً، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ زِيَادَةِ الْقُوَّةِ مَا نَجَوْا مِنْ عِقَابِ اللَّهِ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُكُمْ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ دلّت الآية على أنهم كانوا أقوى قوة مِنْ قَوْمِ مَكَّةَ الثَّالِثُ: أَنَّ سَائِرَ الْآيَاتِ تُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى، قَالَ تَعَالَى: هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً [مَرْيَمَ: 74] وَقَالَ: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ [غَافِرٍ: 82] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً وَالْمَعْنَى أَنَّا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ النِّعَمِ وَأَعْطَيْنَاهُمْ سَمْعًا فَمَا اسْتَعْمَلُوهُ فِي سَمَاعِ الدَّلَائِلِ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ أَبْصَارًا فَمَا اسْتَعْمَلُوهَا فِي تَأَمُّلِ الْعِبَرِ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ أَفْئِدَةً فَمَا اسْتَعْمَلُوهَا فِي طَلَبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ صَرَفُوا كُلَّ هَذِهِ الْقُوَى إِلَى طَلَبِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، فَلَا جَرَمَ مَا أَغْنَى سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْئًا. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيلِ، وَلَفْظُ إِذْ قَدْ يُذْكَرُ لِإِفَادَةِ التَّعْلِيلِ تَقُولُ: ضَرَبْتُهُ إِذْ أَسَاءَ، وَالْمَعْنَى ضَرَبْتُهُ لِأَنَّهُ أَسَاءَ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَخْوِيفٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ فَإِنَّ قَوْمَ عَادٍ لَمَّا اغْتَرُّوا بِدُنْيَاهُمْ وَأَعْرَضُوا عَنْ قَبُولِ الدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ نَزَلَ بِهِمْ عَذَابُ اللَّهِ، وَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ قُوَّتُهُمْ وَلَا كَثْرَتُهُمْ، فَأَهْلُ مَكَّةَ مَعَ عَجْزِهِمْ وَضَعْفِهِمْ أَوْلَى بِأَنْ يَحْذَرُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَخَافُوا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ نُزُولَ الْعَذَابِ وَإِنَّمَا كَانُوا يَطْلُبُونَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 27 الى 28] وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28) اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ يَا كَفَّارَ مَكَّةَ مِنَ الْقُرَى، وَهِيَ قُرَى عَادٍ وَثَمُودَ بِالْيَمَنِ وَالشَّامِ وَصَرَّفْنَا الْآياتِ بَيَّنَّاهَا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ أَيْ لَعَلَّ أَهْلَ الْقُرَى يَرْجِعُونَ، فَالْمُرَادُ بِالتَّصْرِيفِ الْأَحْوَالُ الْهَائِلَةُ الَّتِي وُجِدَتْ قَبْلَ الْإِهْلَاكِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ: قَوْلُهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ مَعْنَاهُ لِكَيْ يَرْجِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ، دَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ رُجُوعَهُمْ وَلَمْ يَرِدْ إِصْرَارَهُمْ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ فَعَلَ مَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ لَكَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْإِرَادَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنَّمَا ذَهَبْنَا إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لِلدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُرِيدٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً الْقُرْبَانُ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تعالى،

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 إلى 32]

أَيِ اتَّخَذُوهُمْ شُفَعَاءَ مُتَقَرَّبًا بِهِمْ إِلَى اللَّهِ حَيْثُ قَالُوا هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُسَ: 18] وَقَالُوا مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزُّمَرِ: 3] وَفِي إِعْرَابِ الْآيَةِ وَجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَحَدُ مَفْعُولَيِّ اتَّخَذَ الرَّاجِعُ إِلَى الَّذِينَ هُوَ مَحْذُوفٌ وَالثَّانِي: آلِهَةً وَقُرْبَانًا حَالٌ، وَقِيلَ عَلَيْهِ إِنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِذِكْرِهِمَا لَفْظًا، وَالْحَالُ مُشْعِرٌ بِتَمَامِ الْكَلَامِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِتْيَانَ الْحَالِ بَيْنَ الْمَفْعُولَيْنِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ قُرْباناً مَفْعُولٌ ثَانٍ قُدِّمَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ وَهُوَ آلِهَةً، فَقِيلَ عَلَيْهِ إِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى خُلُوِّ الْكَلَامِ عَنِ الرَّاجِعِ إِلَى الَّذِينَ وَالثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: يُضْمَرُ أَحَدُ مَفْعُولَيِ اتَّخَذُوا وَهُوَ الرَّاجِعُ إِلَى الَّذِينَ، وَيُجْعَلُ قُرْبَانًا مَفْعُولًا ثَانِيًا، وَآلِهَةً عَطْفُ بَيَانٍ، إِذَا عَرَفْتَ الْكَلَامَ فِي الْإِعْرَابِ، فَنَقُولُ الْمَقْصُودُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ هَلَّا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ عَبَدُوهُمْ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ مُتَقَرِّبُونَ بِعِبَادَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ لِيَشْفَعُوا لَهُمْ بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أَيْ غَابُوا عَنْ نُصْرَتِهِمْ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كَوْنَ آلِهَتِهِمْ نَاصِرِينَ لَهُمْ أَمْرٌ مُمْتَنِعٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَذلِكَ إِفْكُهُمْ أَيْ وَذَلِكَ الِامْتِنَاعُ أَثَرُ إِفْكِهِمُ الَّذِي هُوَ اتِّخَاذُهُمْ إِيَّاهَا آلِهَةً، وَثَمَرَةُ شِرْكِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي إِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ لَهُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقُرِئَ إِفْكُهُمْ وَالْإِفْكُ وَالْأَفْكُ كَالْحِذْرِ وَالْحَذْرِ، وَقُرِئَ وَذَلِكَ أَفَكَهُمْ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْكَافِ، أَيْ ذَلِكَ الِاتِّخَاذُ الَّذِي هَذَا أَثَرُهُ وَثَمَرَتُهُ صَرَفَهُمْ عَنِ الْحَقِّ، وَقُرِئَ أَفَّكَهُمْ عَلَى التَّشْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ أَفَّكَهُمْ جَعَلَهُمْ آفِكِينَ وَآفَكُهُمْ، أَيْ قَوْلُهُمِ الْإِفْكَ، أَيْ ذُو الْإِفْكِ كَمَا تَقُولُ قَوْلٌ كَاذِبٌ. ثُمَّ قَالَ: وَما كانُوا يَفْتَرُونَ وَالتَّقْدِيرُ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَافْتِرَاؤُهُمْ فِي إِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ أعلم. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 32] وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنْ فِي الْإِنْسِ مَنْ آمَنَ وَفِيهِمْ مَنْ كَفَرَ، بَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ الْجِنَّ فِيهِمْ مَنْ آمَنَ وَفِيهِمْ مَنْ كَفَرَ، وَأَنَّ مُؤْمِنَهُمْ مُعَرَّضٌ لِلثَّوَابِ، وَكَافِرَهُمْ مُعَرَّضٌ لِلْعِقَابِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتِ الْجِنُّ تَسْتَمِعُ فَلَمَّا رُجِمُوا قَالُوا: هَذَا الَّذِي حَدَثَ فِي السَّمَاءِ إِنَّمَا حَدَثَ لِشَيْءٍ فِي الْأَرْضِ فَذَهَبُوا يَطْلُبُونَ السَّبَبَ، وَكَانَ قَدِ اتُّفِقَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَيِسَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يُجِيبُوهُ خَرَجَ إِلَى الطَّائِفِ لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ إِلَى مَكَّةَ، وَكَانَ بِبَطْنِ نَخْلٍ قَامَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرَ، فَمَرَّ بِهِ نَفَرٌ مِنْ أَشْرَافِ جِنِّ نَصِيبِينَ، لِأَنَّ إِبْلِيسَ بَعَثَهُمْ لِيَعْرِفُوا السَّبَبَ الَّذِي أَوْجَبَ حِرَاسَةَ السَّمَاءِ بِالرَّجْمِ، فَسَمِعُوا الْقُرْآنَ وَعَرَفُوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ السَّبَبُ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يُنْذِرَ الْجِنَّ وَيَدْعُوَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَقْرَأَ

عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَصَرَفَ اللَّهُ إِلَيْهِ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ لِيَسْتَمِعُوا مِنْهُ الْقُرْآنَ وَيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فُرُوعٌ الْأَوَّلُ: نُقِلَ عَنِ الْقَاضِي فِي تَفْسِيرِهِ الْجِنَّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَهُودًا، لِأَنَّ فِي الْجِنِّ مِلَلًا كَمَا فِي الْإِنْسِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، وَأَطْبَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ مُكَلَّفُونَ، سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ لِلْجِنِّ ثَوَابٌ؟ فَقَالَ نَعَمْ لَهُمْ ثَوَابٌ وَعَلَيْهِمْ عِقَابٌ، يَلْتَقُونَ فِي الْجَنَّةِ وَيَزْدَحِمُونَ عَلَى أَبْوَابِهَا الْفَرْعُ الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : النَّفَرُ دُونَ الْعَشْرَةِ وَيُجْمَعُ عَلَى أَنْفَارٍ، ثُمَّ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أُولَئِكَ الْجِنَّ كَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ، فَجَعَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُسُلًا إِلَى قومهم، وعن زر ابن حبيش كانوا تسعة أحدهم ذوبعة، وَعَنْ قَتَادَةَ ذَكَرَ لَنَا أَنَّهُمْ صُرِفُوا إِلَيْهِ مِنْ سَاوَةَ الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ وَالرِّوَايَاتُ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ وَمَشْهُورَةٌ الْفَرْعُ الرَّابِعُ: رَوَى الْقَاضِي فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِبَالِ مَكَّةَ إِذْ أَقْبَلُ شَيْخٌ مُتَوَكِّئٌ عَلَى عُكَّازَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِشْيَةُ جِنِّيٍّ وَنَغْمَتُهُ، فَقَالَ أَجَلْ، فَقَالَ مَنْ أَيِّ الْجِنِّ أَنْتَ؟ فَقَالَ أَنَا هَامَةُ بن هيم بن لا قيس بْنِ إِبْلِيسَ، فَقَالَ لَا أَرَى بَيْنَكَ وَبَيْنَ إِبْلِيسَ إِلَّا أَبَوَيْنِ فَكَمْ أَتَى عَلَيْكَ؟ فَقَالَ أَكَلْتُ عُمْرَ الدُّنْيَا إِلَّا أَقَلَّهَا، وَكُنْتُ وَقْتَ قَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ أَمْشِي بَيْنَ الْآكَامِ، وَذَكَرَ كَثِيرًا مِمَّا مَرَّ بِهِ، وَذَكَرَ فِي جُمْلَتِهِ أَنْ قَالَ: قَالَ لِي عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ إِنْ لَقِيتَ مُحَمَّدًا فَأَقْرِئُهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَقَدْ بَلَّغْتُ سَلَامَهُ وَآمَنْتُ بِكَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى عِيسَى السَّلَامُ، وَعَلَيْكَ يَا هَامَةُ مَا حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ إِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَّمَنِي التَّوْرَاةَ، وَعِيسَى عَلَّمَنِي الْإِنْجِيلَ، فَعَلِّمْنِي الْقُرْآنَ، فَعَلَّمَهُ عَشْرَ سُوَرٍ، وَقُبِضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم ينعه» قل عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَلَا أَرَاهُ إِلَّا حَيًّا وَاعْلَمْ أَنَّ تَمَامَ الْكَلَامِ فِي قِصَّةِ الْجِنِّ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الْجِنِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا لَمْ يَقْصِدُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ تَعَالَى أَلْقَى فِي قُلُوبِهِمْ مَيْلًا وَدَاعِيَةً إِلَى اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا حَضَرُوهُ الضَّمِيرُ لِلْقُرْآنِ أَوْ لِرَسُولِ اللَّهِ قالُوا أَيْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَنْصِتُوا أَيْ اسْكُتُوا مُسْتَمِعِينَ، يُقَالُ أَنْصَتَ لِكَذَا وَاسْتَنْصَتَ لَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ يُنْذِرُونَهُمْ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَدْعُونَ غَيْرَهُمْ إِلَى اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ إِلَّا وَقَدْ آمنوا، فعنده قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى وَوَصَفُوهُ بِوَصْفَيْنِ الْأَوَّلُ: كَوْنُهُ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ مُصَدِّقًا لِكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُتُبَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَالْأَمْرِ بِتَطْهِيرِ الْأَخْلَاقِ فَكَذَلِكَ هَذَا الْكِتَابُ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّانِي: قَوْلُهُ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَصْفَ الْأَوَّلَ يُفِيدُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ يُمَاثِلُ سَائِرَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى هَذِهِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ، وَالْوَصْفُ الثَّانِي يُفِيدُ أَنَّ هَذِهِ المطالب التي اشتمل القرآن عليها مطلب حَقَّةٍ صِدْقٍ فِي أَنْفُسِهَا، يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ بِصَرِيحِ عَقْلِهِ كَوْنَهَا كَذَلِكَ، سَوَاءٌ وَرَدَتِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ قَبْلَ ذَلِكَ بِهَا أَوْ لَمْ تَرِدْ، فَإِنْ قَالُوا كَيْفَ قَالُوا مِنْ بَعْدِ مُوسى؟ قُلْنَا قَدْ نَقَلْنَا عَنِ الْحَسَنِ أنَّهُ قَالَ إِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْجِنَّ مَا سَمِعَتْ أَمْرَ عِيسَى فَلِذَلِكَ قَالُوا مِنْ بَعْدِ مُوسَى، ثُمَّ إِنَّ الْجِنَّ لَمَّا وَصَفُوا الْقُرْآنَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْفَاضِلَةِ قَالُوا يا

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 33 إلى 34]

قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلِ الْمُرَادُ بِدَاعِي اللَّهِ الرَّسُولُ أَوِ الْوَاسِطَةُ الَّتِي تُبَلِّغُ عَنْهُ؟ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ هُوَ الرَّسُولُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذَا الْوَصْفَ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْجِنِّ كَمَا كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْإِنْسِ قَالَ مُقَاتِلٌ، وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ قَبْلَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ أَمْرٌ بِإِجَابَتِهِ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ إِلَّا أَنَّهُ أَعَادَ ذِكْرَ الْإِيمَانِ عَلَى التَّعْيِينِ، لِأَجْلِ أَنَّهُ أَهَمُّ الْأَقْسَامِ وَأَشْرَفُهَا، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ يَذْكُرُ اللَّفْظَ الْعَامَّ، ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَيْهِ أَشْرَفَ أَنْوَاعِهِ كَقَوْلِهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [الْبَقَرَةِ: 98] وَقَوْلِهِ وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الْأَحْزَابِ: 7] وَلَمَّا أَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِهِ ذَكَرَ فَائِدَةَ ذَلِكَ الْإِيمَانِ وَهِيَ قَوْلُهُ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قال بعضهم كلمة مِنْ هاهنا زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: يَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَقِيلَ بَلِ الفائدة فيه أن كلمة مِنْ هاهنا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَقَعُ ابْتِدَاءُ الْغُفْرَانِ بِالذُّنُوبِ، ثُمَّ يَنْتَهِي إِلَى غُفْرَانِ مَا صَدَرَ عَنْكُمْ مِنْ تَرْكِ الْأَوْلَى وَالْأَكْمَلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْجِنَّ هَلْ لَهُمْ ثَوَابٌ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ لَا ثَوَابَ لَهُمْ إِلَّا النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ كُونُوا تُرَابًا مِثْلَ الْبَهَائِمِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَذْهَبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف: 31] وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ فِي حُكْمِ بَنِي آدَمَ فَيَسْتَحِقُّونَ الثَّوَابَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِقَابَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٍ، وَجَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْبَابِ مُنَاظَرَةٌ، قَالَ الضَّحَّاكُ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هذا القول أن كل دليل عَلَى أَنَّ الْبَشَرَ يَسْتَحِقُّونَ الثَّوَابَ عَلَى الطَّاعَةِ فَهُوَ بِعَيْنِهِ قَائِمٌ فِي حَقِّ الْجِنِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ بَعِيدٌ جِدًّا. وَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الْجَنِّيَّ لَمَّا أَمَرَ قَوْمَهُ بِإِجَابَةِ الرَّسُولِ وَالْإِيمَانِ به حذرهم من تلك تِلْكَ الْإِجَابَةِ فَقَالَ: وَمَنْ لَا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ أَيْ لَا يُنْجِي مِنْهُ مَهْرَبٌ وَلَا يَسْبِقُ قَضَاءَهُ سَابِقٌ، وَنَظِيُرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً [الْجِنِّ: 12] وَلَا نَجِدُ لَهُ أَيْضًا وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا، وَلَا دَافِعًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ثُمَّ بيّن أنهم في ضلال مبين. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 33 الى 34] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ الْمُخْتَارِ، ثُمَّ

[سورة الأحقاف (46) : آية 35]

فَرَّعَ عَلَيْهِ فَرْعَيْنَ: الْأَوَّلُ: إِبْطَالُ قَوْلِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ وَالثَّانِي: إِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ وَذَكَرَ شُبُهَاتِهِمْ فِي الطَّعْنِ فِي النُّبُوَّةِ، وَأَجَابَ عَنْهَا، وَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُ إِعْرَاضِ كَفَّارِ مَكَّةَ عَنْ قَبُولِ الدَّلَائِلِ بِسَبَبِ اغْتِرَارِهِمْ بِالدُّنْيَا وَاسْتِغْرَاقِهِمْ فِي اسْتِيفَاءِ طَيِّبَاتِهِمْ وَشَهَوَاتِهَا، وَبِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ الِانْقِيَادُ لِمُحَمَّدٍ وَالِاعْتِرَافُ بِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِمْ ضَرَبَ لِذَلِكَ مَثَلًا وَهُمْ قَوْمُ عَادٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَكْمَلَ فِي مَنَافِعِ الدُّنْيَا مِنْ قَوْمِ مُحَمَّدٍ فَلَمَّا أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ أَبَادَهُمُ اللَّهُ وَأَهْلَكَهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ تَخْوِيفًا لِأَهْلِ مَكَّةَ بِإِصْرَارِهِمْ عَلَى إِنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ، ثُمَّ لَمَّا قَرَّرَ نُبُوَّتَهُ عَلَى الْإِنْسِ أَرْدَفَهُ بِإِثْبَاتِ نُبُوَّتِهِ فِي الجن، وإلى هاهنا قَدْ تَمَّ الْكَلَامُ فِي التَّوْحِيدِ وَفِي النُّبُوَّةِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُمَا تَقْرِيرَ مَسْأَلَةِ الْمَعَادِ وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي هَذَا الْبَيَانِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مَنْ كُلِّ الْقُرْآنِ تَقْرِيرُ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، وَأَمَّا الْقِصَصُ فَالْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِهَا مَا يَجْرِي مَجْرَى ضَرْبِ الْأَمْثَالِ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْأُصُولِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى الْبَعْثِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى أَقَامَ الدَّلَائِلَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَا شَكَّ أَنَّ خَلْقَهَا أَعْظَمُ وَأَفْخَمُ مِنْ إِعَادَةِ هَذَا الشَّخْصِ حَيًّا بَعْدَ أَنْ صَارَ مَيِّتًا، وَالْقَادِرُ على الأقوى الأكمل لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْأَقَلِّ وَالْأَضْعَفِ، ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ تَعَلُّقَ الرُّوحِ بِالْجَسَدِ أَمْرٌ مُمْكِنٌ إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ لَمَا وَقَعَ أَوَّلًا، وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى تِلْكَ الْإِعَادَةِ، وَهَذِهِ الدَّلَائِلُ يَقِينِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِقادِرٍ إِدْخَالُهُ الْبَاءَ عَلَى خَبَرِ إِنَّ، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِدُخُولِ حَرْفِ النَّفْيِ عَلَى أَنْ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِقَادِرٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ لَوْ قُلْتَ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ زَيْدًا بِقَائِمٍ جَازَ، وَلَا يَجُوزُ ظَنَنْتُ أَنَّ زَيْدًا بِقَائِمٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يُقَالُ عَيِيتُ بِالْأَمْرِ إِذَا لَمْ تَعْرِفْ وَجْهَهُ وَمِنْهُ أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ [ق: 15] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ ذَكَرَ بَعْضَ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ فَقَالَ: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فَقَوْلُهُ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ التَّقْدِيرُ يُقَالُ لَهُمْ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ وَالْمَقْصُودُ التَّهَكُّمُ بِهِمْ وَالتَّوْبِيخُ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ بِوَعْدِ الله ووعيده، وقولهم وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الصافات: 59] . [سورة الأحقاف (46) : آية 35] فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ الْمَطَالِبَ الثَّلَاثَةَ وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَالنُّبُوَّةُ وَالْمَعَادُ، وَأَجَابَ عَنِ الشُّبُهَاتِ أَرْدَفَهُ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى الْوَعْظِ وَالنَّصِيحَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُؤْذُونَهُ وَيُوجِسُونَ صَدْرَهُ، فَقَالَ تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أَيْ أُولُو الْجِدِّ وَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ. الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ وَيُرَادُ بِأُولُو الْعَزْمِ بَعْضُ الْأَنْبِيَاءِ قِيلَ هُمْ نُوحٌ صَبَرَ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ وَكَانُوا يَضْرِبُونَهُ حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ، وَإِبْرَاهِيمُ عَلَى النَّارِ وَذَبْحِ الْوَلَدِ، وَإِسْحَاقُ عَلَى الذَّبْحِ، وَيَعْقُوبُ عَلَى فِقْدَانِ الْوَلَدِ وَذَهَابِ الْبَصَرِ، وَيُوسُفُ عَلَى الْجُبِّ وَالسِّجْنِ، وَأَيُّوبُ عَلَى الضُّرِّ وَمُوسَى قال له قومه إِنَّا لَمُدْرَكُونَ

قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشُّعَرَاءِ: 61، 62] وَدَاوُدُ بَكَى عَلَى زَلَّتِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَعِيسَى لَمْ يَضَعْ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ وَقَالَ: إِنَّهَا مَعْبَرَةٌ فَاعْبُرُوهَا وَلَا تَعْمرُوهَا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آدَمَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طَهَ: 115] وَفِي يُونُسَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ [الْقَلَمِ: 48] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ الرُّسُلِ أُولُو عَزْمٍ وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ رَسُولًا إِلَّا كَانَ ذَا عَزْمٍ وَحَزْمٍ، وَرَأْيٍ وَكَمَالٍ وَعَقْلٍ، وَلَفْظَةُ مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنَ الرُّسُلِ تَبْيِينٌ لَا تَبْعِيضٌ كَمَا يُقَالُ كَسَيْتُهُ مِنَ الْخَزِّ وَكَأَنَّهُ قِيلَ اصْبِرْ كَمَا صَبَرَ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِكَ عَلَى أَذَى قَوْمِهِمْ، وَوَصَفَهُمْ بِالْعَزْمِ لِصَبْرِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ وَمَفْعُولُ الِاسْتِعْجَالِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ لَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ بِالْعَذَابِ، قِيلَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَجِرَ مِنْ قَوْمِهِ بَعْضَ الضَّجَرِ، وَأَحَبَّ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ الْعَذَابَ بِمَنْ أَبَى مِنْ قَوْمِهِ فَأُمِرَ بِالصَّبْرِ وَتَرْكِ الِاسْتِعْجَالِ، ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ مِنْهُمْ قَرِيبٌ، وَأَنَّهُ نَازِلٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ تَأَخَّرَ، وَعِنْدَ نُزُولِ ذَلِكَ الْعَذَابِ بِهِمْ يَسْتَقْصِرُونَ مُدَّةَ لَبْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَحْسِبُونَهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِذَا عَايَنُوا الْعَذَابَ صَارَ طُولُ لَبْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْبَرْزَخِ، كَأَنَّهُ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ، أَوْ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ لِهَوْلِ مَا عَايَنُوا، أَوْ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا مَضَى صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ كَانَ طَوِيلًا قَالَ الشَّاعِرُ: كَأَنَّ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ إِذَا مَضَى ... كَأَنَّ شَيْئًا لَمْ يَزَلْ إذا أنى واعلم أنه تم الكلام هاهنا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلاغٌ أَيْ هَذَا بَلَاغٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ [إِبْرَاهِيمَ: 52] أَيْ هَذَا الَّذِي وُعِظْتُمْ بِهِ فِيهِ كِفَايَةٌ فِي الْمَوْعِظَةِ أَوْ هَذَا تَبْلِيغٌ مِنَ الرُّسُلِ، فَهَلْ يَهْلَكُ إِلَّا الْخَارِجُونَ عَنْ الِاتِّعَاظِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

سورة محمد صلى الله عليه وسلم

سورة محمد صلى الله عليه وسلم ثَلَاثُونَ وَتِسْعُ آيَاتٍ مَكِّيَّةٍ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة محمد (47) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) أَوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ مُنَاسِبٌ لِآخِرِ السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّ آخِرَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ [الْأَحْقَافِ: 35] فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ يُهْلَكُ الْفَاسِقُ وَلَهُ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ كَإِطْعَامِ الطَّعَامِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؟ مِمَّا لَا يَخْلُو عَنْهُ الْإِنْسَانُ فِي طُولِ عُمْرِهِ فَيَكُونُ فِي إِهْلَاكِهِ إِهْدَارُ عَمَلِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7] وَقَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أَيْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ عَمَلٌ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يَمْتَنِعِ الْإِهْلَاكُ، وَسَنُبَيِّنُ كَيْفَ إِبْطَالُ الْأَعْمَالِ مَعَ تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِيهِ، وَتَعَالَى اللَّهُ عَنِ الظُّلْمِ، وَفِي التَّفْسِيرِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَنِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا؟ قُلْنَا فِيهِ وَجُوهٌ الْأَوَّلُ: هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُطْعِمُونَ الْجَيْشَ يَوْمَ بدر منهم أبو جهل والحرث ابْنَا هِشَامٍ وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَغَيْرُهُمْ الثَّانِي: كُفَّارُ قُرَيْشٍ الثَّالِثُ: أَهْلُ الْكِتَابِ الرَّابِعُ: هُوَ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ كَافِرٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الصَّدِّ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: صَدُّوا أَنْفُسَهُمْ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ صَدُّوا أَنْفُسَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَنَعُوا عُقُولَهُمْ مِنَ اتِّبَاعِ الدَّلِيلِ وَثَانِيهِمَا: صَدُّوا غَيْرَهُمْ وَمَنَعُوهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ الْمُسْتَضْعَفِينَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سَبَأٍ: 31] وَعَلَى هَذَا بَحْثٌ: وَهُوَ أَنَّ إِضْلَالَ الْأَعْمَالِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْكُفْرِ وَالصَّدِّ، وَالْمُسْتَضْعَفُونَ لَمْ يَصُدُّوا فَلَا يُضِلُّ أَعْمَالَهُمْ، فَنَقُولُ التَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمَذْكُورُ أَوْلَى بِالذِّكْرِ من غيره/ وهاهنا الْكَافِرُ الصَّادِّ أُدْخِلَ فِي الْفَسَادِ فَصَارَ هُوَ أَوْلَى بِالذِّكْرِ أَوْ نَقُولُ كُلُّ مَنْ كَفَرَ صَارَ صَادًّا لِغَيْرِهِ، أَمَّا الْمُسْتَكْبِرُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمُسْتَضْعَفُ فَلِأَنَّهُ بِمُتَابَعَتِهِ أَثْبَتَ لِلْمُسْتَكْبِرِ مَا يَمْنَعُهُ من اتباع الرسول فإنه بعد ما يكون متبوعا يشق عَلَيْهِ بِأَنْ يَصِيرَ تَابِعًا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَفَرَ صَارَ صَادًّا لِمَنْ بَعْدَهُ لِأَنَّ عَادَةَ الكفار اتباع المتقدم كما قال عنهم إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزُّخْرُفِ: 22] أَوْ مُقْتَدُونَ، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا كُلُّ كَافِرٍ صَادٌّ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الصَّدِّ بَعْدَ الْكُفْرِ نَقُولُ هُوَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ السَّبَبِ وَعَطْفِ الْمُسَبَّبِ عَلَيْهِ تَقُولُ أَكَلْتُ كَثِيرًا وَشَبِعْتُ، وَالْكُفْرُ عَلَى هَذَا سَبَبُ الصَّدِّ، ثُمَّ إِذَا قُلْنَا بِأَنَّ

الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُمْ صَدُّوا أَنْفُسَهُمْ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا فِي الْأَنْفُسِ مِنَ الْفِطْرَةِ كَانَ دَاعِيًا إِلَى الْإِيمَانِ، وَالِامْتِنَاعِ لِمَانِعٍ وَهُوَ الصَّدُّ لِنَفْسِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْمَصْدُودِ عَنْهُ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: عَنِ الْإِنْفَاقِ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَصْحَابِهِ الثَّانِي: عَنِ الْجِهَادِ الثَّالِثُ: عَنِ الْإِيمَانِ الرَّابِعُ: عَنْ كُلِّ مَا فِيهِ طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ اتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ هَادٍ إِلَيْهِ، وَهُوَ صِرَاطُ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ [الشُّورَى: 52، 53] فَمَنْ مَنَعَ مِنَ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ صَدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْإِضْلَالِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِبْطَالُ، وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أَضَلَّهُ بِحَيْثُ لَا يَجِدُهُ، فَالطَّالِبُ إِنَّمَا يَطْلُبُهُ فِي الْوُجُودِ، وَمَا لَا يُوجَدُ فِي الْوُجُودِ فَهُوَ مَعْدُومٌ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُبْطِلُ اللَّهُ حَسَنَةً أَوْجَدَهَا؟ نَقُولُ إِنَّ الْإِبْطَالَ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: يُوَازِنُ بِسَيِّئَاتِهِمُ الْحَسَنَاتِ الَّتِي صَدَرَتْ مِنْهُمْ وَيُسْقِطُهَا بِالْمُوَازَنَةِ وَيُبْقِي لَهُمْ سَيِّئَاتٍ مَحْضَةً، لِأَنَّ الْكُفْرَ يَزِيدُ عَلَى غَيْرِ الْإِيمَانِ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالْإِيمَانَ يَتَرَجَّحُ عَلَى غَيْرِ الْكُفْرِ مِنَ السَّيِّئَاتِ وَثَانِيهَا: أَبْطَلَهَا لِفَقْدِ شَرْطِ ثُبُوتِهَا وَإِثْبَاتِهَا وَهُوَ الْإِيمَانُ لِأَنَّهُ شَرْطُ قَبُولِ الْعَمَلِ قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [غافر: 40] وَإِذَا لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ الْعَمَلَ لَا يَكُونُ لَهُ وُجُودٌ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا بَقَاءَ لَهُ فِي نَفْسِهِ بَلْ هُوَ يُعْدَمُ عَقِيبَ مَا يُوجَدُ فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَكْتُبُ عِنْدَهُ بِفَضْلِهِ أَنَّ فُلَانًا عَمِلَ صَالِحًا وَعِنْدِي جَزَاؤُهُ فَيَبْقَى حُكْمًا، وَهَذَا الْبَقَاءُ حُكْمًا خَيْرٌ مِنَ الْبَقَاءِ الَّذِي لِلْأَجْسَامِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْأَعْمَالِ حَقِيقَةً، فَإِنَّ الْأَجْسَامَ وَإِنْ بَقِيَتْ غَيْرَ أَنَّ مَآلَهَا إِلَى الْفَنَاءِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ مِنَ الْبَاقِيَاتِ عِنْدَ اللَّهِ أَبَدًا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ بِالْقَبُولِ مُتَفَضِّلٌ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنِّي لَا أَقْبَلُ إِلَّا مِنْ مُؤْمِنٍ فَمَنْ عَمِلَ وَتَعِبَ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ الْإِيمَانِ فَهُوَ الْمُضَيِّعُ تَعَبَهُ لَا اللَّهُ تَعَالَى وَثَالِثُهَا: لَمْ يَعْمَلِ الْكَافِرُ عَمَلَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَأْتِ بِخَيْرٍ فَلَا يَرُدُّ عَلَيْنَا قَوْلِهِ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7] وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَتَمَيَّزُ إِلَّا بِمَنْ لَهُ الْعَمَلُ لَا بِالْعَامِلِ وَلَا بِنَفْسِ الْعَمَلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ قَامَ لِيَقْتُلَ شَخْصًا ولم يتفق قتله، ثم قال لِيُكْرِمَهُ وَلَمْ يَتَّفِقِ الْإِكْرَامُ وَلَا الْقَتْلُ، وَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الْفُلَانِيِّ لِقَتْلِهِ وَفِي الْيَوْمِ الْآخَرِ لِإِكْرَامِهِ يَتَمَيَّزُ الْقِيَامَانِ لَا بِالنَّظَرِ إِلَى الْقِيَامِ فَإِنَّهُ وَاحِدٌ وَلَا بِالنَّظَرِ إِلَى الْقَائِمِ/ فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّمَا يَتَمَيَّزُ بِمَا كَانَ لِأَجْلِهِ الْقِيَامُ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَامَ وَقَصَدَ بِقِيَامِهِ إِكْرَامَ الْمَلِكِ وَقَامَ وَقَصَدَ بِقِيَامِهِ إِكْرَامَ بَعْضِ الْعَوَامِّ يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ الْعَمَلِ لَكِنَّ نِسْبَةَ اللَّهِ الْكَرِيمِ إِلَى الْأَصْنَامِ فَوْقَ نِسْبَةِ الْمُلُوكِ إِلَى الْعَوَامِّ فَالْعَمَلُ لِلْأَصْنَامِ لَيْسَ بِخَيْرٍ ثُمَّ إِنِ اتَّفَقَ أَنْ يَقْصِدَ وَاحِدٌ بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَ ذَلِكَ يَعْبُدُ الْأَوْثَانَ لَا يَكُونُ عَمَلُهُ خَيْرًا، لِأَنَّ مِثْلَ مَا أَتَى بِهِ لِوَجْهِ اللَّهِ أَتَى بِهِ لِلصَّنَمِ الْمَنْحُوتِ فَلَا تَعْظِيمَ الْوَجْهُ الثَّانِي: الْإِضْلَالُ هُوَ جَعْلُهُ مُسْتَهْلِكًا وَحَقِيقَتُهُ هُوَ أَنَّهُ إِذَا كَفَرَ وَأَتَى لِلْأَحْجَارِ وَالْأَخْشَابِ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَلَمْ يُبْقِ لِنَفْسِهِ حُرْمَةً وَفِعْلُهُ لَا يَبْقَى مُعْتَبَرًا بِسَبَبِ كُفْرِهِ، وَهَذَا كَمَنْ يخدم عند الحارس والسائس إِذَا قَامَ فَالسُّلْطَانُ لَا يُعْمِلُ قِيَامَهُ تَعْظِيمًا لِخِسَّتِهِ كَذَلِكَ الْكَافِرُ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَبِقَدْرِ مَا يَتَكَبَّرُ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ يَظْهَرُ تَعْظِيمُهُ لِلَّهِ، كَالْمَلِكِ الَّذِي لَا يَنْقَادُ لِأَحَدٍ إِذَا انْقَادَ فِي وَقْتٍ لِمَلِكٍ مِنَ الْمُلُوكِ يَتَبَيَّنُ بِهِ عَظَمَتُهُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَضَلَّهُ أَيْ أَهْمَلَهُ وَتَرَكَهُ، كَمَا يُقَالُ أَضَلَّ بَعِيرَهُ إِذَا تَرَكَهُ مُسَيَّبًا فَضَاعَ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الكفار بيّن حال المؤمنين فقال:

[سورة محمد (47) : آية 2]

[سورة محمد (47) : آية 2] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كُلَّمَا ذَكَرَ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ، رَتَّبَ عَلَيْهِمَا الْمَغْفِرَةَ وَالْأَجْرَ كَمَا قَالَ: فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الْحَجِّ: 50] وَقَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ [الْعَنْكَبُوتِ: 7] وَقُلْنَا بِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ ثَوَابُ الْإِيمَانِ وَالْأَجْرَ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَاسْتَوْفَيْنَا الْبَحْثَ فِيهِ في سورة العنكبوت فنقول هاهنا جزاء ذلك قوله كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يُثِيبُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَقَوْلُهُ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يُثِيبُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَمَنْ آمَنَ وَلَمْ يَفْعَلِ الصَّالِحَاتِ يَبْقَى فِي الْعَذَابِ خَالِدًا، فَنَقُولُ لَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرْتُمْ لَكَانَ الإضلال مرتبا على الكفر والضد، فَمَنْ يَكْفُرُ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُضَلَّ أَعْمَالُهُ، أَوْ نَقُولُ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ رَتَّبَ أَمْرَيْنِ عَلَى أَمْرَيْنِ فَمَنْ آمَنَ كَفَّرَ سَيِّئَاتِهِ وَمَنْ عَمِلَ صَالَحًا أَصْلَحَ بَالَهُ أَوْ نَقُولُ أَيُّ مُؤْمِنٍ يَتَصَوَّرُ أَنَّهُ غَيْرُ آتٍ بِالصَّالِحَاتِ بِحَيْثُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ صَلَاةٌ وَلَا صِيَامٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَا إِطْعَامٌ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ وَعَمِلُوا عَطْفُ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ، كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ أَكَلْتُ كَثِيرًا وَشَبِعْتُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَفَادَ هَذَا الْمَعْنَى فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ وَكَيْفَ وَجْهُهُ؟ فَنَقُولُ: أَمَّا وَجْهُهُ فَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَيْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَقَوْلُهُ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ أَيْ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الْوَارِدَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ تَعْمِيمٌ بَعْدَ أُمُورٍ خَاصَّةٍ وَهُوَ حَسَنٌ، تَقُولُ خَلَقَ الله السموات وَالْأَرْضَ وَكُلَّ شَيْءٍ إِمَّا عَلَى مَعْنَى وَكُلَّ شَيْءٍ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا وَإِمَّا عَلَى الْعُمُومِ بَعْدَ ذِكْرِ الْخُصُوصِ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى آمَنُوا وَآمَنُوا مِنْ قَبْلُ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ الْمُعْجِزُ الْفَارِقُ بَيْنَ الْكَاذِبِ وَالصَّادِقِ يَعْنِي آمَنُوا أَوَّلًا بِالْمُعْجِزِ وَأَيْقَنُوا بِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَأْتِي بِهِ غَيْرُ اللَّهِ، فَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَالْوَاوُ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَأَخِّرُ ذِكْرًا مُتَقَدِّمًا وُقُوعًا، وَهَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ آمَنَ بِهِ، وَكَانَ الْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبًا، أَوْ يَكُونُ بَيَانًا لِإِيمَانِهِمْ كَأَنَّهُمْ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ أَيْ آمَنُوا وَآمَنُوا بِالْحَقِّ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ خَرَجْتُ وَخَرَجْتُ مُصِيبًا أَيْ وَكَانَ خُرُوجِي جَيِّدًا حَيْثُ نَجَوْتُ مِنْ كَذَا وَرَبِحْتُ كَذَا فَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ آمَنُوا بَيَّنَ أَنَّ إِيمَانَهُمْ كَانَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ لَا بِمَا كَانَ بَاطِلًا مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ الثَّالِثُ: مَا قَالَهُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ الْعَمَلُ وَالْعَمَلَ الْعِلْمُ، فَالْعِلْمُ يَحْصُلُ لِيُعْمَلَ بِهِ لِمَا جَاءَ: إِذَا عَمِلَ الْعَالِمُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ عَلِمَ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، فَيَعْلَمُ الْإِنْسَانُ مَثَلًا قُدْرَةَ اللَّهِ بِالدَّلِيلِ وَعِلْمَهُ وَأَمْرَهُ فَيَحْمِلُهُ الْأَمْرُ عَلَى الْفِعْلِ وَيَحُثُّهُ عَلَيْهِ عِلْمُهُ فَعِلْمُهُ بِحَالِهِ وَقُدْرَتُهُ عَلَى ثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، فَإِذَا أَتَى بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلِمَ مِنْ أَنْوَاعِ مَقْدُورَاتِ اللَّهِ وَمَعْلُومَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَمْ يَعْلَمْهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِطْلَاعِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَبِكَشْفِهِ ذَلِكَ لَهُ فَيُؤْمِنُ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنِيُّ فِي قَوْلِهِ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الْفَتْحِ: 4] فَإِذَا آمَنَ الْمُكَلَّفُ بِمُحَمَّدٍ بِالْبُرْهَانِ وَبِالْمُعْجِزَةِ وَعَمِلَ صَالِحًا حَمَلَهُ عِلْمُهُ عَلَى أَنْ يُؤْمِنَ بِكُلِّ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ وَلَمْ يَجِدْ فِي نَفْسِهِ شَكًّا، وَلِلْمُؤْمِنِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى أَحْوَالٌ وَفِي الْمَرْتَبَةِ الْأَخِيرَةِ أَحْوَالٌ، أَمَّا فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ فَفِي الْأَوَّلِ يَجْعَلُ اللَّهَ مَعْبُودًا، وَقَدْ يَقْصِدُ غَيْرَهُ فِي حَوَائِجِهِ فَيَطْلُبُ الرِّزْقَ مِنْ

زيد وعمر وَيَجْعَلُ أَمْرًا سَبَبًا لِأَمْرٍ، وَفِي الْأَخِيرَةِ يَجْعَلُ اللَّهَ مَقْصُودًا وَلَا يَقْصِدُ غَيْرَهُ، وَلَا يَرَى إِلَّا مِنْهُ سِرَّهُ وَجَهْرَهُ، فَلَا يُنِيبُ إِلَى شَيْءٍ فِي شَيْءٍ فَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الْآخِرُ بالله وذلك الإيمان الأول. وأما ما فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ أولا هو صادق فيما ينطق، ويقول آخر لَا نُطْقَ لَهُ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا كَلَامَ يُسْمَعُ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ مِنَ اللَّهِ، فَهُوَ فِي الْأَوَّلِ يَقُولُ بِالصِّدْقِ وَوُقُوعِهِ مِنْهُ، وَفِي الثَّانِي يَقُولُ بِعَدَمِ إِمْكَانِ الْكَذِبِ مِنْهُ لِأَنَّ حَاكِيَ كَلَامِ الْغَيْرِ لَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْكَذِبُ وَلَا يُمْكِنُ إِلَّا فِي نَفْسِ الْحِكَايَةِ، وَقَدْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ حَاكٍ عَنْهُ كَمَا قَالَهُ، وَأَمَّا فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى فَيَجْعَلُ الْحَشْرَ مُسْتَقْبَلًا وَالْحَيَاةَ الْعَاجِلَةَ حَالًا وَفِي الْمَرْتَبَةِ الْأَخِيرَةِ يَجْعَلُ الْحَشْرَ حَالًا وَالْحَيَاةَ الدُّنْيَا مَاضِيًا، فَيُقَسِّمُ حَيَاةَ نَفْسِهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، وَيَجْعَلُ الدُّنْيَا كُلَّهَا عَدَمًا لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا وَلَا يُقْبِلُ عَلَيْهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ هُوَ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ فِي حَقِّ الكافر وَصَدُّوا [محمد: 1] لِأَنَّا بَيَّنَّا فِي وَجْهٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ صَدُّوا عَنِ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا حَثٌّ عَلَى اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ/ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمْ صَدُّوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ حَثُّوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ سَبِيلِهِ، لَا جَرَمَ حَصَلَ لِهَؤُلَاءِ ضِدُّ مَا حَصَلَ لِأُولَئِكَ، فَأَضَلَّ اللَّهُ حَسَنَاتِ أُولَئِكَ وَسَتَرَ عَلَى سَيِّئَاتِ هَؤُلَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَبِّهِمْ وَصْفًا فَارِقًا، كَمَا يُقَالُ رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ بَغْدَادَ، فَيَصِيرُ وَصْفًا لِلرَّجُلِ فَارِقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَكُونُ مِنَ الْمَوْصِلِ وَغَيْرِهِ؟ نَقُولُ لَا، لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنَ اللَّهِ فَهُوَ الْحَقُّ، فَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، بَلْ قَوْلُهُ مِنْ رَبِّهِمْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، كَأَنَّهُ قَالَ وَهُوَ الْحَقُّ وَهُوَ مِنْ رَبِّهِمْ، أَوْ إِنْ كَانَ وَصْفًا فَارِقًا فَهُوَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ الْحَقُّ النَّازِلُ مِنْ رَبِّهِمْ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَكُونُ مُشَاهَدًا، فَإِنَّ كَوْنَ الشَّمْسِ مُضِيئَةً حَقٌّ وَهُوَ لَيْسَ نَازِلٌ مِنَ الرَّبِّ، بَلْ هُوَ عِلْمٌ حَاصِلٌ بِطَرِيقٍ يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ أَيْ سَتَرَهَا وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بِشَارَةٍ مَا كَانَتْ تَحْصُلُ بِقَوْلِهِ أَعْدَمَهَا وَمَحَاهَا، لِأَنَّ مَحْوَ الشَّيْءِ لَا يُنْبِئُ عَنْ إِثْبَاتِ أَمْرٍ آخَرَ مَكَانَهُ، وَأَمَّا السَّتْرُ فَيُنْبِئُ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يُرِيدُ سَتْرَ ثَوْبٍ بَالٍ أَوْ وَسِخٍ لَا يَسْتُرُهُ بِمِثْلِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ نَفِيسٍ نَظِيفٍ، وَلَا سِيَّمَا الْمَلِكُ الْجَوَّادُ إِذَا سَتَرَ عَلَى عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ ثَوْبَهُ الْبَالِيَ أَمَرَ بِإِحْضَارِ ثَوْبٍ مِنَ الْجِنْسِ الْعَالِي لَا يَحْصُلُ إِلَّا بالثمن الغالي، فيلبس هَذَا هُوَ السَّتْرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَحْبُوبِينَ، وَكَذَلِكَ الْمَغْفِرَةُ، فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ وَالتَّكْفِيرَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ فِي الْمَعْنَى، وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الْفُرْقَانِ: 70] وَقَوْلُهُ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ يُبْدِلُهَا حَسَنَةً، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تُبَدَّلُ السَّيِّئَةُ حَسَنَةً؟ نَقُولُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَجْزِيهِ بَعْدَ سَيِّئَاتِهِ مَا يَجْزِي الْمُحْسِنَ عَلَى إِحْسَانِهِ، فَإِنْ قَالَ الْإِشْكَالُ بَاقٍ وَبَادٍ، وَمَا زَالَ بَلْ زَادَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ أَثَابَ عَلَى السَّيِّئَةِ كَمَا يُثِيبُ عَنِ الْحَسَنَةِ، لَكَانَ ذَلِكَ حَثًّا عَلَى السَّيِّئَةِ، نَقُولُ مَا قُلْنَا إِنَّهُ يُثِيبُ عَلَى السَّيِّئَةِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ يُثِيبُ بَعْدَ السَّيِّئَةِ بِمَا يُثِيبُ عَلَى الْحَسَنَةِ، وَذَلِكَ حَيْثُ يَأْتِي الْمُؤْمِنُ بِسَيِّئَةٍ، ثُمَّ يَتَنَبَّهُ وَيَنْدَمُ وَيَقِفُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ مُعْتَرِفًا بِذَنْبِهِ مُسْتَحْقِرًا لِنَفْسِهِ، فَيَصِيرُ أَقْرَبَ إِلَى الرَّحْمَةِ مِنَ الَّذِي لَمْ يُذْنِبْ، وَدَخَلَ عَلَى رَبِّهِ مُفْتَخِرًا فِي نَفْسِهِ، فَصَارَ الذَّنْبُ شَرْطًا لِلنَّدَمِ، وَالثَّوَابُ لَيْسَ عَلَى السَّيِّئَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى النَّدَمِ، وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ عَبْدِي أَذْنَبَ وَرَجَعَ إِلَيَّ، فَفِعْلُهُ شَيْءٌ لَكِنَّ ظَنَّهُ بِي حَسَنٌ حَيْثُ لَمْ يَجِدْ مَلْجَأً غَيْرِي فَاتَّكَلَ عَلَى فَضْلِي، وَالظَّنُّ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَالْفِعْلُ عَمَلُ الْبَدَنِ، وَاعْتِبَارُ عَمَلِ الْقَلْبِ أَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّائِمَ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا يُلْتَفَتُ إِلَى عَمَلِ بَدَنِهِ، وَالْمَفْلُوجُ الَّذِي لَا حَرَكَةَ لَهُ يُعْتَبَرُ قَصْدُ قَلْبِهِ، وَمِثَالُ الرُّوحِ وَالْبَدَنِ رَاكِبُ دَابَّةٍ يَرْكُضُ فَرَسُهُ بَيْنَ يَدَيْ مَلِكٍ يَدْفَعُ عَنْهُ الْعَدُوَّ بِسَيْفِهِ وَسِنَانِهِ، وَالْفَرَسُ

[سورة محمد (47) : آية 3]

يُلَطِّخُ ثَوْبَ الْمَلِكِ بِرَكْضِهِ فِي اسْتِنَانِهِ، فَهَلْ يُلْتَفَتُ إِلَى فِعْلِ الدَّابَّةِ مَعَ فِعْلِ الْفَارِسِ، بَلْ لَوْ كَانَ الرَّاكِبُ فَارِغًا/ الْفَرَسُ يُؤْذِي بِالتَّلْوِيثِ يُخَاطِبُ الْفَارِسَ بِهِ، فَكَذَلِكَ الرُّوحُ رَاكِبٌ وَالْبَدَنُ مَرْكُوبٌ، فَإِنْ كَانَتِ الرُّوحُ مَشْغُولَةً بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ، وَيَصْدُرُ مِنَ الْبَدَنِ شَيْءٌ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، بَلْ يُسْتَحْسَنُ مِنْهُ ذَلِكَ وَيُزَادُ فِي تَرْبِيَةِ الْفَرَسِ الرَّاكِضِ وَيُهْجَرُ الْفَرَسُ الْوَاقِفُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَشْغُولٍ فَهُوَ مُؤَاخَذٌ بِأَفْعَالِ البدن ثم قال تعالى: [سورة محمد (47) : آية 3] ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْبَاطِلِ وَجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَا لَا يَجُوزُ وُجُودُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا إِلَهًا غَيْرَ اللَّهِ، وَإِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ مُحَالُ الْوُجُودِ، وَهُوَ الْبَاطِلُ وَغَايَةُ الْبَاطِلِ، لِأَنَّ الْبَاطِلَ هُوَ الْمَعْدُومُ، يُقَالُ بَطَلَ كَذَا، أَيْ عَدُمَ، وَالْمَعْدُومُ الَّذِي لَا يَجُوزُ وُجُودُهُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ حَقًّا مَوْجُودًا، فَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ، فَعَلَى هَذَا فَالْحَقُّ هُوَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ عَدَمُهُ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمَوْجُودُ، يُقَالُ تَحَقَّقَ الْأَمْرُ، أَيْ وُجِدَ وَثَبَتَ، وَالْمَوْجُودُ الَّذِي لَا يَجُوزُ عَدَمُهُ هُوَ فِي غَايَةِ الثُّبُوتِ الثَّانِي: الْبَاطِلُ الشَّيْطَانُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 85] فَبَيَّنَ أَنَّ الشَّيْطَانَ مَتْبُوعٌ وَأَتْبَاعُهُ هُمِ الْكُفَّارُ وَالْفُجَّارُ، وَعَلَى هَذَا فَالْحَقُّ هُوَ اللَّهُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ فِي مُقَابَلَةِ حِزْبِ الشَّيْطَانِ حِزْبَ اللَّهِ الثَّالِثُ: الْبَاطِلُ، هُوَ قَوْلُ كُبَرَائِهِمْ وَدِينُ آبَائِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزُّخْرُفِ: 22] وَمُقْتَدُونَ فَعَلَى هَذَا الْحَقُّ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ اللَّهِ الرَّابِعُ: الْبَاطِلُ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، لأن الباطل والهالك بمعنى واحد. وكُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88] وَعَلَى هَذَا فَالْحَقُّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ مِنْ رَبِّهِمْ لَا يُلَائِمُ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، وَهُوَ قَوْلُنَا الْمُرَادُ مِنَ الْحَقِّ هُوَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَمَا قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ اللَّهِ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا الْحَقُّ هُوَ اللَّهُ فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ نَقُولُ عَلَى هَذَا مِنْ رَبِّهِمْ لَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِالْحَقِّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ تَعَلُّقُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اتَّبَعُوا أَيْ اتَّبَعُوا أَمْرَ رَبِّهِمْ، أَيْ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَوْ هِدَايَةِ رَبِّهِمُ اتَّبَعُوا الْحَقَّ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا كَانَ الْبَاطِلُ هُوَ الْمَعْدُومُ الَّذِي لَا يَجُوزُ وُجُودُهُ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ اتِّبَاعُهُ؟ نَقُولُ لَمَّا كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّمَا يَفْعَلُونَ لِلْأَصْنَامِ وَهِيَ آلِهَةٌ وَهِيَ تُؤْجِرُهُمْ بِذَلِكَ كَانُوا مُتَّبَعِينَ فِي زَعْمِهِمْ، وَلَا مُتَّبِعَ هُنَاكَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ وَقَالَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ اتَّبَعُوا الْباطِلَ مِنْ آلِهَتِهِمْ أَوِ الشَّيْطَانِ، نَقُولُ أَمَّا آلِهَتُهُمْ فَلِأَنَّهُمْ لَا كَلَامَ لَهُمْ وَلَا عَقْلَ، وَحَيْثُ يُنْطِقُهُمُ اللَّهُ يُنْكِرُونَ فِعْلَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فَاطِرٍ: 14] وَقَالَ تَعَالَى: وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الْأَحْقَافِ: 6] وَاللَّهُ تَعَالَى رَضِيَ بِفِعْلِهِمْ وَثَبَّتَهُمْ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ مِنْ رَبِّهِمْ عَائِدٌ إِلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، أَيْ مِنْ رَبِّهِمُ اتَّبَعَ هَؤُلَاءِ الْبَاطِلَ، وَهَؤُلَاءِ الْحَقَّ، أَيْ مِنْ حُكْمِ رَبِّهِمْ، وَمِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ وَفِيهِ أَيْضًا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَيُّ مَثَلٍ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى يَقُولَ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: إِضْلَالُ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ وَتَكْفِيرُ سَيِّئَاتِ الْأَبْرَارِ الثَّانِي: كَوْنُ الْكَافِرِ مُتَّبِعًا لِلْبَاطِلِ، وَكَوْنُ الْمُؤْمِنِ مُتَّبِعًا

[سورة محمد (47) : آية 4]

لِلْحَقِّ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ أَحَدُهُمَا: عَلَى قَوْلِنَا مِنْ رَبِّهِمْ أَيْ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمُ اتَّبَعَ هَؤُلَاءِ الْبَاطِلَ وَهَؤُلَاءِ الْحَقَّ، نَقُولُ هَذَا مَثَلٌ يُضْرَبُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَمْثَالِ، فَإِنَّ الْكُلَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْإِضْلَالُ وَغَيْرُهُ وَالِاتِّبَاعُ وَغَيْرُهُ وَثَانِيهِمَا: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْكَافِرَ يُضِلُّ اللَّهُ عَمَلَهُ وَالْمُؤْمِنَ يُكَفِّرُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ، وَكَانَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ مُبَايَنَةٌ ظَاهِرَةٌ فَإِنَّهُمَا ضِدَّانِ، نَبَّهَ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ كَذَا أَيْ لَيْسَ الْإِضْلَالُ وَالتَّكْفِيرُ بِسَبَبِ الْمُضَادَّةِ وَالِاخْتِلَافِ بَلْ بِسَبَبِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَإِذَا عُلِمَ السَّبَبُ فَالْفِعْلَانِ قَدْ يَتَّحِدَانِ صُورَةً وَحَقِيقَةً وَأَحَدُهُمَا يُورِثُ إِبْطَالَ الْأَعْمَالِ وَالْآخَرُ يُورِثُ تَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ بِسَبَبِ أَنَّ أَحَدَهُمَا يَكُونُ فِيهِ اتِّبَاعُ الْحَقِّ وَالْآخَرَ اتِّبَاعُ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ مَنْ يُؤْمِنُ ظَاهِرًا وَقَلْبُهُ مَمْلُوءٌ مِنَ الْكُفْرِ، وَمَنْ يُؤْمِنُ بِقَلْبِهِ وَقَلْبُهُ مَمْلُوءٌ مِنَ الْإِيمَانِ اتَّحَدَ فِعْلَاهُمَا فِي الظَّاهِرِ، وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ بِسَبَبِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِ الْبَاطِلِ، لَا بِدَعَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ يُؤْمِنْ ظَاهِرًا وَهُوَ يُسِرُّ الْكُفْرَ، وَمَنْ يَكْفُرْ ظَاهِرًا بِالْإِكْرَاهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ اخْتَلَفَ الْفِعْلَانِ فِي الظَّاهِرِ، وَإِبْطَالُ الْأَعْمَالِ لِمَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ بِسَبَبِ أَنَّ اتِّبَاعَ الْبَاطِلِ مِنْ جَانِبِهِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ مِثْلَانِ يَثْبُتُ فِيهِمَا حُكْمَانِ وَعُلِمَ سَبَبُهُ، وَهُوَ اتِّبَاعُ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَكَذَلِكَ اعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ اتُّبِعَ فِيهِ الْحَقُّ كَانَ مَقْبُولًا مُثَابًا عَلَيْهِ، وَكُلُّ أَمْرٍ اتُّبِعَ فِيهِ الْبَاطِلُ كَانَ مَرْدُودًا مُعَاقَبًا عَلَيْهِ فَصَارَ هَذَا عَامًّا فِي الْأَمْثَالِ، عَلَى أَنَّا نَقُولُ قَوْلُهُ كَذلِكَ لَا يَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَثَلٌ مَضْرُوبٌ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْكَافِرِ وَإِضْلَالَ أَعْمَالِهِ وَحَالَ الْمُؤْمِنِ وَتَكْفِيرَ سَيِّئَاتِهِ وَبَيَّنَ السَّبَبَ فِيهِمَا، كَانَ ذَلِكَ غَايَةَ الْإِيضَاحِ فَقَالَ: كَذلِكَ أَيْ مِثْلُ هَذَا الْبَيَانِ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ وَيُبَيِّنُ لَهُمْ أَحْوَالَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ أَمْثالَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَنْ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِلَى النَّاسِ/ كَافَّةً قَالَ تَعَالَى: يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَثَانِيهِمَا: إِلَى الْفَرِيقَيْنِ فِي الذِّكْرِ مَعْنَاهُ: يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَ الفريقين السابقين. [سورة محمد (47) : آية 4] فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَإِذا لَقِيتُمُ يَسْتَدْعِي مُتَعَلِّقًا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، فَمَا وَجْهُ التَّعَلُّقِ بِمَا قَبْلَهُ؟ نَقُولُ هُوَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَضَلَّ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَاعْتِبَارُ الْإِنْسَانِ بِالْعَمَلِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَمَلٌ فَهُوَ هَمَجٌ فَإِنْ صَارَ مَعَ ذَلِكَ يُؤْذِي حَسُنَ إِعْدَامُهُ فَإِذا لَقِيتُمُ بَعْدَ ظُهُورِ أَنَّ لَا حُرْمَةَ لَهُمْ وَبَعْدَ إِبْطَالِ أَعْمَالِهِمْ، فَاضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ الثَّانِي: إِذَا تَبَيَّنَ تَبَايُنُ الْفَرِيقَيْنِ وَتَبَاعُدُ الطَّرِيقَيْنِ، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا يَتْبَعُ الْبَاطِلَ وَهُوَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ، وَالْآخَرَ يَتْبَعُ الْحَقَّ وَهُوَ حِزْبُ الرَّحْمَنِ حَقَّ الْقِتَالُ عِنْدَ التَّحَزُّبِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ الثَّالِثُ: أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لِضَعْفِ قَلْبِهِ وَقُصُورِ نَظَرِهِ إِيلَامُ الْحَيَوَانِ مِنَ الظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ، وَلَا سِيَّمَا الْقَتْلُ الَّذِي هُوَ تَخْرِيبُ بُنْيَانٍ، فَيُقَالُ رَدًّا عَلَيْهِمْ: لَمَّا كَانَ اعْتِبَارُ الْأَعْمَالِ بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِتَعْظِيمِ أَمْرِ اللَّهِ لَهُمْ مِنَ الْأَجْرِ مَا لِلْمُصَلِّي وَالصَّائِمِ، فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كفروا فاقتلوهم ولا تأخذكم بهما رَأْفَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ اتِّبَاعٌ لِلْحَقِّ وَالِاعْتِبَارُ بِهِ لَا بِصُورَةِ الْفِعْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَضَرْبَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ فَاضْرِبُوا ضَرْبَ الرِّقَابِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِ ضَرْبِ الرَّقَبَةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ نَقُولُ فِيهِ: لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَيْسَ يُدَافِعُ إِنَّمَا هُوَ دَافِعٌ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ يَدْفَعُ الصَّائِلَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ أَوَّلًا مَقْتَلَهُ بَلْ يَتَدَرَّجُ وَيَضْرِبُ عَلَى غَيْرِ الْمَقْتَلِ، فَإِنِ انْدَفَعَ فَذَاكَ وَلَا يَتَرَقَّى إِلَى دَرَجَةِ الْإِهْلَاكِ، فَقَالَ تَعَالَى لَيْسَ الْمَقْصُودُ إِلَّا دَفْعُهُمْ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَتَطْهِيرُ الْأَرْضِ مِنْهُمْ، وَكَيْفَ لَا وَالْأَرْضُ لَكُمْ مَسْجِدٌ، وَالْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، وَالْمَسْجِدُ يُطَهَّرُ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَإِذًا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَصْدُكُمْ أَوَّلًا إِلَى قَتْلِهِمْ بِخِلَافِ دَفْعِ الصَّائِلِ، وَالرَّقَبَةُ أَظْهَرُ الْمَقَاتِلِ لِأَنَّ قَطْعَ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَوْتِ لَكِنْ فِي الْحَرْبِ لَا يَتَهَيَّأُ ذَلِكَ، وَالرَّقَبَةُ ظَاهِرَةٌ فِي الْحَرْبِ فَفِي ضَرْبِهَا حَزُّ الْعُنُقِ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَوْتِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْحَرْبِ، وَفِي قَوْلِهِ لَقِيتُمُ مَا يُنْبِئُ عَنْ مُخَالَفَتِهِمُ الصَّائِلَ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَقِيتُمُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ مِنْ جَانِبِهِمْ بِخِلَافِ قَوْلِنَا لَقِيَكُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [الْبَقَرَةِ: 191] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قال هاهنا فَضَرْبَ الرِّقابِ بِإِظْهَارِ الْمَصْدَرِ وَتَرْكِ الْفِعْلِ، وَقَالَ فِي الْأَنْفَالِ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الْأَنْفَالِ: 12] بِإِظْهَارِ الْفِعْلِ، وَتَرْكِ الْمَصْدَرِ، فَهَلْ فِيهِ فَائِدَةٌ؟ نَقُولُ نَعَمْ وَلِنُبَيِّنَهَا بِتَقْدِيمِ مُقَدِّمَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَوَّلًا فِي بَعْضِ السُّوَرِ قَدْ يَكُونُ صُدُورُ الْفِعْلِ مِنْ فَاعِلٍ وَيَتْبَعُهُ الْمَصْدَرُ/ ضِمْنًا، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَ فَاعِلٌ إِلَّا وَيَقَعُ مِنْهُ الْمَصْدَرُ فِي الْوُجُودِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ أَوَّلًا الْمَصْدَرَ وَلَكِنَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا مِنْ فَاعِلٍ فَيُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ يَفْعَلَ، مِثَالُهُ مَنْ قَالَ: إِنِّي حَلَفْتُ أَنْ أَخْرُجَ مِنَ الْمَدِينَةِ. فَيُقَالُ لَهُ: فَاخْرُجْ، صَارَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ صُدُورُ الْفِعْلِ مِنْهُ وَالْخُرُوجُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مَقْصُودِ الِانْتِفَاءِ، وَلَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ غَيْرِ تَحَقُّقِ الْخُرُوجِ مِنْهُ لَمَا كَانَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ لَكِنْ مِنْ ضَرُورَاتِ الْخُرُوجِ أَنْ يَخْرُجَ، فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ ضَاقَ بِي الْمَكَانُ بِسَبَبِ الْأَعْدَاءِ فَيُقَالُ لَهُ مَثَلًا الْخُرُوجُ يَعْنِي الْخُرُوجَ فَاخْرُجْ فَإِنَّ الْخُرُوجَ هُوَ الْمَطْلُوبُ حَتَّى لَوْ أَمْكَنَ الْخُرُوجُ مِنْ غَيْرِ فَاعِلٍ لَحَصَلَ الْغَرَضُ لَكِنَّهُ مُحَالٌ فَيَتْبَعُهُ الْفِعْلُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي الْأَنْفَالِ الْحِكَايَةُ عَنِ الْحَرْبِ الْكَائِنَةِ وَهُمْ كَانُوا فِيهَا وَالْمَلَائِكَةُ أُنْزِلُوا لِنُصْرَةِ مَنْ حَضَرَ فِي صَفِّ الْقِتَالِ فَصُدُورُ الْفِعْلِ منه مطلوب، وهاهنا الْأَمْرُ وَارِدٌ وَلَيْسَ فِي وَقْتِ الْقِتَالِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا لَقِيتُمُ وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ كَوْنِ الْمَصْدَرِ مَطْلُوبًا لِتَقَدُّمِ الْمَأْمُورِ عَلَى الْفِعْلِ قَالَ: فَضَرْبَ الرِّقابِ وَفِيمَا ذَكَرْنَا تَبْيِينُ فَائِدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ هُنَاكَ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الْأَنْفَالِ: 12] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَقْتَ وَقْتُ الْقِتَالِ فَأَرْشَدَهُمْ إِلَى الْمَقْتَلِ وَغَيْرِهِ إِنْ لم يصيبوا المقتل، وهاهنا لَيْسَ وَقْتُ الْقِتَالِ فَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْقَتْلُ وَغَرَضُ الْمُسْلِمِ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: حَتَّى لِبَيَانِ غَايَةِ الْأَمْرِ لَا لِبَيَانِ غَايَةِ الْقَتْلِ أَيْ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ لَا يَبْقَى الْأَمْرُ بِالْقَتْلِ، وَيَبْقَى الْجَوَازُ وَلَوْ كَانَ لِبَيَانِ الْقَتْلِ لَمَا جَازَ الْقَتْلُ، وَالْقَتْلُ جَائِزٌ إِذَا الْتَحَقَ الْمُثْخِنُ بِالشَّيْخِ الْهَرِمِ، وَالْمُرَادُ كَمَا إِذَا قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ فَنَهَى عَنْ قَتْلِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَشُدُّوا الْوَثاقَ أَمْرُ إِرْشَادٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: (إِمَّا) وَإِنَّمَا لِلْحَصْرِ وَحَالُهُمْ بَعْدَ الْأَسْرِ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي الْأَمْرَيْنِ، بَلْ يَجُوزُ الْقَتْلُ وَالِاسْتِرْقَاقُ وَالْمَنُّ وَالْفِدَاءُ، نَقُولُ هَذَا إِرْشَادٌ فَذَكَرَ الْأَمْرَ الْعَامَّ الْجَائِزَ فِي سَائِرِ الْأَجْنَاسِ، وَالِاسْتِرْقَاقُ غَيْرُ جَائِزٍ

فِي أَسْرِ الْعَرَبِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعَهُمْ فَلَمْ يَذْكُرِ الِاسْتِرْقَاقَ، وَأَمَّا الْقَتْلُ فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ فِي الْمُثْخِنِ الْإِزْمَانُ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ فَضَرْبَ الرِّقابِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْأَمْرَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَنًّا وَفِدَاءً مَنْصُوبَانِ لِكَوْنِهِمَا مَصْدَرَيْنِ تَقْدِيرُهُ: فَإِمَّا تَمُنُّونَ مَنًّا وَإِمَّا تُفْدُونَ فِدَاءً وَتَقْدِيمُ الْمَنِّ عَلَى الْفِدَاءِ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْجِيحِ حُرْمَةِ النَّفْسِ عَلَى طَلَبِ المال، والفداء يجوز أن يكون مالا يكون وأن يكون غيره من الأسرى أو يُشْرَطُ عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَيْهِ وَحْدَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا قَدَّرْنَا الْفِعْلَ وَهُوَ تَمُنُّونَ أَوْ تُفْدُونَ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ، حَتَّى نَقُولَ إِمَّا تَمُنُّونَ عَلَيْهِمْ مَنًّا أَوْ تُفْدُونَهُمْ فِدَاءً، نَقُولُ لَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَنُّ وَالْفِدَاءُ لَا عَلَيْهِمْ وَبِهِمْ كَمَا يَقُولُ/ الْقَائِلُ: فُلَانٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَلَا يقال يعطي زيدا ويمنع عمرا لِأَنَّ غَرَضَهُ ذِكْرُ كَوْنِهِ فَاعِلًا لَا بَيَانُ المفعول، وكذلك هاهنا الْمَقْصُودُ إِرْشَادُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْفَضْلِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها. وَفِي تَعَلُّقِ حَتَّى وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: تَعَلُّقُهَا بِالْقَتْلِ أَيِ اقْتُلُوهُمْ حَتَّى تَضَعَ وَثَانِيهِمَا: بِالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يقال متعلقة بشدوا الْوَثَاقَ وَتَعَلُّقُهَا بِالْقَتْلِ أَظْهَرُ وَإِنْ كَانَ ذِكْرُهُ أبعد، وفي الأوزار وجهان أحدهما: السلاح وَالثَّانِي: الْآثَامُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْإِثْمَ، فَكَيْفَ تَضَعُ الْحَرْبُ الْإِثْمَ وَالْإِثْمُ عَلَى الْمُحَارِبِ؟ وَكَذَلِكَ السُّؤَالُ فِي السِّلَاحِ لَكِنَّهُ عَلَى الْأَوَّلِ أَشَدُّ تَوَجُّهًا، فَيَقُولُ تَضَعُ الْحَرْبُ الْأَوْزَارَ لَا مِنْ نَفْسِهَا، بَلْ تَضَعُ الْأَوْزَارَ الَّتِي عَلَى الْمُحَارِبِينَ وَالسِّلَاحَ الَّذِي عَلَيْهِمْ. المسألة الثانية: هل هذا كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] حَتَّى يَكُونَ كَأَنَّهُ قَالَ حَتَّى تَضَعَ أُمَّةُ الْحَرْبِ أَوْ فِرْقَةُ الْحَرْبِ أَوْزَارَهَا؟ نَقُولُ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ فِي النَّظَرِ الْأَوَّلِ، لَكِنْ إِذَا أَمْعَنْتَ فِي الْمَعْنَى تَجِدُ بَيْنَهُمَا فَرْقًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها الْحَرْبُ بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِي الدُّنْيَا حِزْبٌ مِنْ أَحْزَابِ الْكُفْرِ يُحَارِبُ حِزْبًا مِنْ أَحْزَابِ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ قُلْنَا حَتَّى تَضَعَ أُمَّةُ الْحَرْبِ جَازَ أَنْ يَضَعُوا الْأَسْلِحَةَ وَيَتْرُكُوا الْحَرْبَ وَهِيَ بَاقِيَةٌ بِمَادَّتِهَا كَمَا تَقُولُ خُصُومَتِي مَا انْفَصَلَتْ وَلَكِنِّي تَرَكْتُهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَإِذَا أَسْنَدْنَا الْوَضْعَ إِلَى الْحَرْبِ يَكُونُ مَعْنَاهُ إِنَّ الْحَرْبَ لَمْ يَبْقَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لو قال حتى لا يبقى حزب أَوْ يَنْفِرَ مِنَ الْحَرْبِ هَلْ يَحْصُلُ مَعْنَى قَوْلِهِ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها نَقُولُ لَا وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ النَّظْمِ، بَلِ النَّظَرُ إِلَى نَفْسِ الْمَعْنَى كَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ قَوْلِكَ انْقَرَضَتْ دَوْلَةُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَقَوْلِكَ لَمْ يَبْقَ مِنْ دَوْلَتِهِمْ أَثَرٌ، وَلَا شَكَّ أن الثاني أبلغ، فكذلك هاهنا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْزارَها مَعْنَاهُ آثَارَهَا فَإِنَّ مِنْ أَوْزَارِ الْحَرْبِ آثَارَهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَقْتُ وَضْعِ أَوْزَارِ الْحَرْبِ مَتَى هُوَ؟ نَقُولُ فِيهِ أَقْوَالٌ حَاصِلُهَا رَاجِعٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي لَا يَبْقَى فِيهِ حِزْبٌ مِنْ أَحْزَابِ الْإِسْلَامِ وَحِزْبٌ مِنْ أَحْزَابِ الْكُفْرِ وَقِيلَ ذَلِكَ عِنْدَ قِتَالِ الدَّجَّالِ وَنُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ.

فِي مَعْنَى ذَلِكَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الْأَمْرُ ذَلِكَ وَالْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ وَاجِبٌ أَوْ مُقَدَّمٌ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ إِنْ فَعَلْتَ فَذَاكَ أَيْ فَذَاكَ مَقْصُودٌ وَمَطْلُوبٌ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ قِتَالَهُمْ لَيْسَ طَرِيقًا مُتَعَيِّنًا بَلِ اللَّهُ لَوْ أَرَادَ أَهْلَكَهُمْ مِنْ غَيْرِ جُنْدٍ. قَوْلُهُ تعالى: وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ. أَيْ وَلَكِنْ لِيُكَلِّفَكُمْ فَيَحْصُلُ لَكُمْ شَرَفٌ بِاخْتِيَارِهِ إِيَّاكُمْ لِهَذَا الْأَمْرِ. فَإِنْ قِيلَ مَا التَّحْقِيقُ فِي قَوْلِنَا التَّكْلِيفُ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَمَاذَا يُفْهَمُ مِنْ قوله وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِعْلَ الْمُبْتَلِينَ أَيْ كَمَا يَفْعَلُ الْمُبْتَلَى الْمُخْتَبَرُ، وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَبْلُو لِيَظْهَرَ الْأَمْرُ لِغَيْرِهِ إِمَّا لِلْمَلَائِكَةِ وَإِمَّا لِلنَّاسِ، وَالتَّحْقِيقُ هُوَ أَنَّ الِابْتِلَاءَ وَالِامْتِحَانَ وَالِاخْتِبَارَ فِعْلٌ يَظْهَرُ بِسَبَبِهِ أَمْرٌ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ قَصْدًا إِلَى ظُهُورِهِ، وَقَوْلُنَا فِعْلٌ يَظْهَرُ بِسَبَبِهِ أَمْرٌ ظَاهِرُ الدُّخُولِ فِي مَفْهُومِ الِابْتِدَاءِ، لِأَنَّ مَا لَا يَظْهَرُ بِسَبَبِهِ شَيْءٌ أَصْلًا لَا يُسَمَّى ابْتِلَاءً، أَمَّا قَوْلُنَا أَمْرٌ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَضْرِبُ بِسَيْفِهِ عَلَى الْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ يَمْتَحِنُ، لِأَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْهُ مُتَعَيِّنٌ وَهُوَ الْقَطْعُ وَالْقَدُّ بِقِسْمَيْنِ، فَإِذَا ضَرَبَ بِسَيْفِهِ سَبُعًا يُقَالُ يُمْتَحَنُ بِسَيْفِهِ لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَقَدْ يَقُدُّهُ وَقَدْ لَا يَقُدُّهُ، وَأَمَّا قَوْلُنَا لِيَظْهَرَ مِنْهُ ذَلِكَ فَلِأَنَّ مَنْ يَضْرِبُ سَبُعًا بِسَيْفِهِ لِيَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ مُمْتَحَنٌ لِأَنَّ ضَرْبَهُ لَيْسَ لِظُهُورِ أَمْرٍ مُتَعَيِّنٍ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا أَمَرَنَا بِفِعْلٍ يَظْهَرُ بِسَبَبِهِ أَمْرٌ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ، وَهُوَ إِمَّا الطَّاعَةُ أَوِ الْمَعْصِيَةُ فِي الْعُقُولِ لِيُظْهِرَ ذَلِكَ يَكُونُ مُمْتَحِنًا، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهِ لَكَوْنِ عَدَمِ الْعِلْمِ مُقَارَنًا فِينَا لِابْتِلَائِنَا فَإِذَا ابْتُلِينَا وَعَدَمُ الْعِلْمِ فِينَا مُسْتَمِرٌّ أُمِرْنَا وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ الِابْتِلَاءِ، فَإِنْ قِيلَ الِابْتِلَاءُ فَائِدَتُهُ حُصُولُ الْعِلْمِ عِنْدَ الْمُبْتَلِي، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى عَالِمًا فَأَيَّةُ فَائِدَةٍ فِيهِ؟ نَقُولُ لَيْسَ هَذَا سُؤَالٌ يَخْتَصُّ بِالِابْتِلَاءِ، فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: لِمَ ابْتَلَى كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِمَ عَاقَبَ الْكَافِرَ وَهُوَ مُسْتَغْنٍ، وَلِمَ خَلَقَ النَّارَ مُحْرِقَةً وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَهَا بِحَيْثُ تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ؟ وَجَوَابُهُ: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَنَقُولُ حِينَئِذٍ مَا قَالَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ إِنَّهُ لِظُهُورِ الْأَمْرِ الْمُتَعَيِّنِ لَإِلَهٌ، وَبَعْدَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُبْتَلِي لَا حَاجَةَ لَهُ إِلَى الْأَمْرِ الَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الِابْتِلَاءِ، فَإِنَّ الْمُمْتَحِنَ لِلسَّيْفِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنَ الصُّورَةِ لَا حَاجَةَ لَهُ إِلَى قَطْعِ مَا يُجَرِّبُ السَّيْفَ فِيهِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُحْتَاجًا، كَمَا ضَرَبْنَا مِنْ مِثَالِ دَفْعِ السَّبُعِ بِالسَّيْفِ لَا يُقَالُ إنه يمتحن وقوله لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ الْحَاجَةِ تَقْرِيرًا لِقَوْلِهِ ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ. قُرِئَ قَتَلُوا وَقَاتَلُوا وَالْكُلُّ مُنَاسِبٌ لِمَا تَقَدَّمَ، أَمَّا مَنْ قَرَأَ قَتَلُوا فَلِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: فَضَرْبَ الرِّقابِ وَمَعْنَاهُ فَاقْتُلُوهُمْ بَيَّنَ مَا لِلْقَاتِلِ بِقَوْلِهِ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقَتْلَ فَسَادٌ مُحَرَّمٌ إِذْ هُوَ إِفْنَاءُ مَنْ هُوَ مُكَرَّمٌ، فَقَالَ عَمَلُهُمْ لَيْسَ كَحَسَنَةِ الْكَافِرِ يَبْطُلُ بَلْ هُوَ فَوْقَ حَسَنَاتِ الْكَافِرِ أَضَلَّ اللَّهُ أَعْمَالَ الْكُفَّارِ، وَلَنْ يُضِلَّ الْقَاتِلِينَ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْقَتْلُ سَيِّئَةً، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ قَاتَلُوا فَهُوَ أَكْثَرُ فَائِدَةً وَأَعَمُّ تَنَاوُلًا، لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ سَعَى فِي الْقَتْلِ سَوَاءٌ قُتِلَ أَوْ لَمْ يُقْتَلْ، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ وَالَّذِينَ قُتِلُوا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ فَنَقُولُ هِيَ مُنَاسِبَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى/ لَمَّا قَالَ: فَضَرْبَ الرِّقابِ أَيِ اقْتُلُوا وَالْقَتْلُ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِالْإِقْدَامِ وَخَوْفُ أَنْ يُقْتَلَ الْمُقْدِمُ يَمْنَعُهُ مِنَ الْإِقْدَامِ، فَقَالَ لَا تَخَافُوا الْقَتْلَ فَإِنَّ مَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ مَا لَا يَمْنَعُ الْمُقَاتِلَ مِنَ الْقِتَالِ بَلْ يَحُثُّهُ عَلَيْهِ وَثَانِيهَا: هُوَ أَنَّهُ تعالى لما قال: لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ

[سورة محمد (47) : آية 5]

والمبتلى بالشيء له عَلَى كُلِّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْأَثَرِ الظَّاهِرِ بِالِابْتِلَاءِ حَالٌ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَإِنَّ السَّيْفَ الْمُمْتَحَنَ تَزِيدُ قِيمُتُهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَقْطَعَ وَتَنْقُصُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَقْطَعَ فَحَالُ الْمُبْتَلِينَ مَاذَا فَقَالَ إِنْ قُتِلَ فَلَهُ أَنْ لَا يُضِلَّ عَمَلَهُ وَيُهْدَى وَيُكْرَمَ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، وَأَمَّا إن قتل فلا يخفى (أمره) «1» عَاجِلًا وَآجِلًا، وَتَرَكَ بَيَانَهُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ قَاتِلًا لِظُهُورِهِ وَبَيَّنَ حَالَهُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مقتولا وثالثها: هو أن تعالى لما قال: ليبلوكم وَلَا يُبْتَلَى الشَّيْءُ النَّفِيسُ بِمَا يُخَافُ مِنْهُ هَلَاكُهُ، فَإِنَّ السَّيْفَ الْمُهَنَّدَ الْعَضْبَ الْكَبِيرَ الْقِيمَةِ لَا يُجَرَّبُ بِالشَّيْءِ الصُّلْبِ الَّذِي يُخَافُ عَلَيْهِ منه الِانْكِسَارِ، وَلَكِنَّ الْآدَمِيَّ مُكَرَّمٌ كَرَّمَهُ اللَّهُ وَشَرَّفَهُ وَعَظَّمَهُ، فَلِمَاذَا ابْتَلَاهُ بِالْقِتَالِ وَهُوَ يُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ وَالْهَلَاكِ إِفْضَاءً غَيْرَ نَادِرٍ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ هَذَا الِابْتِلَاءُ؟ فَنَقُولُ الْقَتْلُ لَيْسَ بِإِهْلَاكٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يُورِثُ الْحَيَاةَ الْأَبَدِيَّةَ فَإِذَا ابْتَلَاهُ بِالْقِتَالِ فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُقْتَلَ مُكْرَمٌ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يُقْتَلَ مُكْرَمٌ هَذَا إِنْ قَاتَلَ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ، فَالْمَوْتُ لَا بُدَّ مِنْهُ وَقَدْ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ الْأَجْرَ الْكَبِيرَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ قَدْ عُلِمَ مَعْنَى الْإِضْلَالِ، بَقِيَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ وَالضَّالِّ قَالَ أَضَلَّ [محمد: 1] وقال في حق المؤمن الداعي فَلَنْ يُضِلَّ، لِأَنَّ الْمُقَاتِلَ دَاعٍ إِلَى الْإِيمَانِ لِأَنَّ قَوْلَهُ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها قَدْ ذُكِرَ أَنَّ مَعْنَاهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِثْمٌ بِسَبَبِ حَرْبٍ، وَذَلِكَ حَيْثُ يُسْلِمُ الْكَافِرُ فَالْمُقَاتِلُ يَقُولُ إِمَّا أَنْ تُسْلِمَ وَإِمَّا أَنْ تُقْتَلَ، فَهُوَ دَاعٍ وَالْكَافِرُ صَادٌّ وَبَيْنَهُمَا تَبَايُنٌ وَتَضَادٌّ فَقَالَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ أَضَلَّ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَلَمْ يَقُلْ يُضِلُّ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَمَلَهُ حَيْثُ وُجِدَ عُدِمَ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ أَصْلِهِ، وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ فَلَنْ يُضِلَّ، وَلَمْ يَقُلْ مَا أَضَلَّ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَمَلَهُ كُلَّمَا ثَبَتَ عَلَيْهِ أُثْبِتَ لَهُ، فَلَنْ يُضِلَّ لِلتَّأْبِيدِ وَبَيْنَهُمَا غَايَةُ الْخِلَافِ، كَمَا أَنَّ بَيْنَ الدَّاعِي وَالصَّادِّ غَايَةَ التَّبَايُنِ وَالتَّضَادِّ، فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ فَلَنْ يُضِلَّ؟ جَوَابُهُ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا معنى الشرط. [سورة محمد (47) : آية 5] سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَهْدِيهِمْ. إِنْ قُرِئَ قُتِلُوا أَوْ قَاتَلُوا فَالْهِدَايَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْآجِلَةِ وَالْعَاجِلَةِ، وَإِنْ قُرِئَ قُتِلُوا فَهُوَ الْآخِرَةُ سَيَهْدِيهِمْ طَرِيقَ الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ وَقْفَةٍ مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى مَوْضِعِ حُبُورِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَيُصْلِحُ بالَهُمْ. قد تقدم تفسيره في قوله تعالى: أَصْلَحَ بالَهُمْ [محمد: 2] وَالْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلُ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّ هُنَاكَ وَعَدَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَذَلِكَ كَانَ وَاقِعًا مِنْهُمْ فَأَخْبَرَ عَنِ الْجَزَاءِ بِصِيغَةٍ تدل على/ الوقوع، وهاهنا وَعَدَهُمْ بِسَبَبِ الْقِتَالِ وَالْقَتْلِ، فَكَانَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِذا لَقِيتُمُ [محمد: 4] يدل على الاستقبال فقال: وَيُصْلِحُ بالَهُمْ ثم قال تعالى: [سورة محمد (47) : آية 6] وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ حَشْرِهِمْ يَهْدِيهِمْ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ وَيُلْبِسُهُمْ فِي الطَّرِيقِ خُلَعَ الْكَرَامَةِ، وَهُوَ إِصْلَاحُ الْبَالِ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ فَهُوَ عَلَى تَرْتِيبِ الْوُقُوعِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَرَّفَها لَهُمْ. فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: هُوَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْرِفُ منزلته ومأواه، حتى أن أهل الجنة

_ (1) في النسخة التي بين أيدينا من تفسير الرازي هنا كلمة غير واضحة ولعل ما أثبته هو الصواب.

[سورة محمد (47) : آية 7]

يَكُونُونَ أَعْرَفَ بِمَنَازِلِهِمْ فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْجُمُعَةِ يَنْتَشِرُونَ فِي الْأَرْضِ كُلُّ أَحَدٍ يَأْوِي إِلَى مَنْزِلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِأَعْمَالِهِ يَهْدِيهِ الْوَجْهُ الثَّانِي: عَرَّفَها لَهُمْ أَيْ طَيَّبَهَا يُقَالُ طَعَامٌ مُعَرَّفٌ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ عَرَّفَهَا لَهُمْ حَدَّدَهَا مِنْ عرف الدار وأرفها أي حددها، وتحديها فِي قَوْلِهِ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [آلِ عِمْرَانَ: 133] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها [الزُّخْرُفِ: 72] مُشِيرًا إِلَيْهَا مُعَرِّفًا لَهُمْ بِأَنَّهَا هِيَ تِلْكَ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ عَرَّفَها لَهُمْ قَبْلَ الْقَتْلِ فَإِنَّ الشَّهِيدَ قَبْلَ وَفَاتِهِ تُعْرَضُ عَلَيْهِ مَنْزِلَتُهُ فِي الْجَنَّةِ فَيَشْتَاقُ إِلَيْهَا وَوَجْهٌ ثَانٍ: مَعْنَاهُ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ وَلَا حَاجَةَ إِلَى وَصْفِهَا فَإِنَّهُ تَعَالَى: عَرَّفَها لَهُمْ مِرَارًا وَوَصَفَهَا وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ مِنْ بَابِ تَعْرِيفِ الضَّالَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التَّوْبَةِ: 111] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مَنْ يَأْخُذُ الْجَنَّةَ وَيَطْلُبُهَا بِمَالِهِ أَوْ بِنَفْسِهِ فَالَّذِي قُتِلَ سَمِعَ التَّعْرِيفَ وَبَذَلَ مَا طُلِبَ مِنْهُ عَلَيْهَا فَأُدْخِلَهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مَا عَلَى الْقِتَالِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ وَعَدَهُمْ بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا زِيَادَةً فِي الْحَثِّ لِيَزْدَادَ منهم الإقدام فقال: [سورة محمد (47) : آية 7] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَفِي نَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: إِنْ تَنْصُرُوا دِينَ اللَّهِ وَطَرِيقَهُ وَالثَّانِي: إِنْ تَنْصُرُوا حِزْبَ اللَّهِ وَفَرِيقَهُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ نُصْرَةُ اللَّهِ حَقِيقَةً، فَنَقُولُ النُّصْرَةُ تَحْقِيقُ مَطْلُوبِ أَحَدِ الْمُتَعَادِيَيْنِ عِنْدَ الِاجْتِهَادِ وَالْأَخْذُ فِي تَحْقِيقِ عَلَامَتِهِ، فَالشَّيْطَانُ عَدُوُّ اللَّهِ يَجْتَهِدُ فِي تَحْقِيقِ الْكُفْرِ وَغَلَبَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَاللَّهُ يُطْلَبُ قَمْعَ الْكُفْرِ وَإِهْلَاكَ أَهْلِهِ وَإِفْنَاءَ مَنِ اخْتَارَ الْإِشْرَاكَ بِجَهْلِهِ، فَمَنْ حَقَّقَ نُصْرَةَ اللَّهِ حَيْثُ حَقَّقَ مَطْلُوبَهُ لَا تَقُولُ حَقَّقَ مُرَادَهُ فَإِنَّ مُرَادَ اللَّهِ لَا يُحَقِّقُهُ غَيْرُهُ، وَمَطْلُوبُهُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ غَيْرُ مُرَادِهِ فَإِنَّهُ طَلَبَ الْإِيمَانَ مِنَ الْكَافِرِ وَلَمْ يُرِدْهُ وَإِلَّا لَوَقَعَ. ثُمَّ قَالَ: يَنْصُرْكُمْ فَإِنْ قِيلَ فَعَلَامَ قُلْتَ إِذَا نَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَدْ حَقَّقَ مَا طَلَبَهُ، فَكَيْفَ/ يُحَقِّقُ مَا طَلَبَهُ الْعَبْدُ وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَنَقُولُ الْمُؤْمِنُ يَنْصُرُ اللَّهَ بِخُرُوجِهِ إِلَى الْقِتَالِ وَإِقْدَامِهِ، وَاللَّهُ يَنْصُرُهُ بِتَقْوِيَتِهِ وَتَثْبِيتِ أَقْدَامِهِ، وَإِرْسَالِ الْمَلَائِكَةِ الْحَافِظِينَ لَهُ مِنْ خَلْفِهِ وقدامه ثم قال تعالى: [سورة محمد (47) : آية 8] وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) هَذَا زِيَادَةٌ فِي تَقْوِيَةِ قُلُوبِهِمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لما قال: وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد: 7] جَازَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْكَافِرَ أَيْضًا يَصِيرُ وَيَثْبُتَ لِلْقِتَالِ فَيَدُومُ الْقِتَالُ وَالْحِرَابُ وَالطِّعَانُ وَالضِّرَابُ، وَفِيهِ الْمَشَقَّةُ الْعَظِيمَةُ فَقَالَ تَعَالَى: لَكُمُ الثَّبَاتُ وَلَهُمُ الزَّوَالُ وَالتَّغَيُّرُ وَالْهَلَاكُ فَلَا يَكُونُ الثَّبَاتُ، وَسَبَبُهُ ظَاهِرٌ لِأَنَّ آلِهَتَهُمْ جَمَادَاتٌ لَا قُدْرَةَ لَهَا وَلَا ثَبَاتَ عِنْدَ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ، فَهِيَ غَيْرُ صَالِحَةٍ لِدَفْعِ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مِنَ الدَّمَارِ، وَعِنْدَ هَذَا لَا بُدَّ عَنْ زَوَالِ الْقَدَمِ وَالْعِثَارِ، وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ وَيُثَبِّتْ بِصِيغَةِ الْوَعْدِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَقَالَ فِي حَقِّهِمْ بِصِيغَةِ الدُّعَاءِ، وَهِيَ أَبْلَغُ مِنْ صِيغَةِ الْإِخْبَارِ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّ عَثَارَهُمْ وَاجِبٌ لِأَنَّ عَدَمَ النُّصْرَةِ مِنْ آلِهَتِهِمْ وَاجِبُ الْوُقُوعِ إِذْ لَا قُدْرَةَ لَهَا وَالتَّثْبِيتُ مِنَ اللَّهِ لَيْسَ بِوَاجِبِ الْوُقُوعِ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ مُخْتَارٌ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَقَوْلُهُ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ مُخَالَفَةِ مَوْتَاهُمْ لِقَتْلَى الْمُسْلِمِينَ، حَيْثُ قَالَ فِي حق قتلاهم

[سورة محمد (47) : آية 9]

فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ [محمد: 4] وَقَالَ فِي مَوْتَى الْكَافِرِينَ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى سَبَبَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فقال: [سورة محمد (47) : آية 9] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ الْقُرْآنُ، وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّ كَيْفِيَّةَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لَا تُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَإِنَّمَا تُدْرَكُ بِالشَّرْعِ وَالشَّرْعُ بِالْقُرْآنِ فَلَمَّا أَعْرَضُوا لَمْ يَعْرِفُوا الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَكَيْفِيَّةَ الْإِتْيَانِ بِهِ، فَأَتَوْا بِالْبَاطِلِ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ الثَّانِي: كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ بَيَانِ التَّوْحِيدِ كَمَا قال الله تعالى عنهم أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا [الصَّافَّاتِ: 36] وَقَالَ تَعَالَى: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِلَى أَنْ قَالَ: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص: 5- 7] وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الزُّمَرِ: 45] وَوَجْهُهُ أَنَّ الشِّرْكَ مُحْبِطٌ لِلْعَمَلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: 65] وَكَيْفَ لَا وَالْعَمَلُ مِنَ الْمُشْرِكِ لَا يَقَعُ لِوَجْهِ اللَّهِ فَلَا بَقَاءَ لَهُ فِي نَفْسِهِ وَلَا بَقَاءَ لَهُ بِبَقَاءِ مَنْ لَهُ الْعَمَلُ، لِأَنَّ مَا سِوَى وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى هَالِكٌ مُحْبَطٌ الثَّالِثُ: كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ بَيَانِ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَلَمْ يَعْمَلُوا لَهَا، وَالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَمَآلُهَا بَاطِلٌ، فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ. وَقَوْلُهُ: [سورة محمد (47) : آية 10] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) فِيهِ مُنَاسَبَةٌ لِلْوَجْهِ الثَّالِثِ يَعْنِي فَيَنْظُرُوا إِلَى حَالِهِمْ وَيَعْلَمُوا أَنَّ الدُّنْيَا فَانِيَةٌ. وَقَوْلُهُ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَيْ أَهْلَكَ عَلَيْهِمْ مَتَاعَ الدُّنْيَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَزْوَاجِ وَالْأَجْسَادِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَهُمْ أَمْثَالُهَا فِي الدُّنْيَا، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْكَافِرِينَ هُمُ الْكَافِرُونَ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَهُمْ أَمْثَالُهَا فِي الْآخِرَةِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مَنْ تَقَدَّمَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَمْثَالُهَا، وَفِي الْعَائِدِ إِلَيْهِ ضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ فِي قَوْلِهِ أَمْثالُها وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: هُوَ الْمَذْكُورُ وَهُوَ الْعَاقِبَةُ وَثَانِيهِمَا: هُوَ الْمَفْهُومُ وَهُوَ الْعُقُوبَةُ، لِأَنَّ التَّدْمِيرَ كَانَ عُقُوبَةً لَهُمْ، فَإِنْ قِيلَ عَلَى قَوْلِنَا الْمُرَادُ لِلْكَافِرِينَ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمْثَالُ مَا كَانَ لِمَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنَ الْعَاقِبَةِ يَرِدُ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْأَوَّلِينَ أُهْلِكُوا بِوَقَائِعَ شَدِيدَةٍ كَالزَّلَازِلِ وَالنِّيرَانِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الرِّيَاحِ وَالطُّوفَانِ، وَلَا كَذَلِكَ قَوْمُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَقُولُ جَازَ أَنْ يَكُونَ عَذَابُهُمْ أَشَدَّ مِنْ عَذَابِ الْأَوَّلِينَ لِكَوْنِ دِينِ مُحَمَّدٍ أَظْهَرَ بِسَبَبِ تَقَدُّمِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَيْهِ وَإِخْبَارِهِمْ عَنْهُ وَإِنْذَارِهِمْ بِهِ عَلَى أَنَّهُمْ قَتَلُوا وَأَسَرُوا بِأَيْدِيهِمْ مَنْ كَانُوا يَسْتَخِفُّونَهُمْ وَيَسْتَضْعِفُونَهُمْ وَالْقَتْلُ بِيَدِ الْمِثْلِ آلَمُ مِنَ الْهَلَاكِ بِسَبَبٍ عَامٍّ وَسُؤَالٌ آخَرُ: إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْعَاقِبَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهَا أَمْثَالٌ؟ قُلْنَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ الْعَذَابُ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ الْعَاقِبَةِ أَوِ الْأَلَمُ الَّذِي كَانَتِ الْعَاقِبَةُ عليه ثم قال تعالى: [سورة محمد (47) : آية 11] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ (11) ذلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى النَّصْرِ وَهُوَ اخْتِيَارُ جَمَاعَةٍ ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ أَغْرَبَ مِنْ حيث النقل، وأقرب من حديث الْعَقْلِ، وَهُوَ أَنَّا لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ تعالى: وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها [محمد: 10] إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قَوْمَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام أهلكوا بِأَيْدِي أَمْثَالِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا لَا يَرْضَوْنَ بِمُجَالَسَتِهِمْ وهو آلم

[سورة محمد (47) : آية 12]

مِنَ الْهَلَاكِ بِالسَّبَبِ الْعَامِّ، قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ أَيِ الْإِهْلَاكُ وَالْهَوَانُ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَاصِرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْكَافِرُونَ اتَّخَذُوا آلِهَةً لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَتَرَكُوا اللَّهَ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يَنْصُرُهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقْدِرُ عَلَى الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَإِنْ كَانَ لَهُ أَلْفُ نَاصِرٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَا نَاصِرَ لَهُمْ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا مَوْلى لَهُمْ وَبَيْنَ قَوْلِهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [الْأَنْعَامِ: 62] نَقُولُ الْمَوْلَى وَرَدَ بِمَعْنَى السَّيِّدِ وَالرَّبِّ وَالنَّاصِرِ فَحَيْثُ قَالَ: لَا مَوْلى لَهُمْ أَرَادَ لَا نَاصِرَ لَهُمْ، وَحَيْثُ قَالَ: مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَيْ رَبُّهُمْ وَمَالِكُهُمْ، كَمَا قَالَ: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء: 1] وقال: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 26] / وَفِي الْكَلَامِ تَبَايُنٌ عَظِيمٌ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْصُرُهُ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ، وَالْكَافِرَ لَا مَوْلَى لَهُ بِصِيغَةٍ نَافِيَةٍ لِلْجِنْسِ، فليس له ناصر وإنه شر الناصرين ثم قال تعالى: [سورة محمد (47) : آية 12] إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا بَيَّنَ حَالَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَقَالَ إِنَّهُ يُدْخِلُ الْمُؤْمِنَ الْجَنَّةَ وَالْكَافِرَ النَّارَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَثِيرًا مَا يَقْتَصِرُ اللَّهُ عَلَى ذِكْرِ الْأَنْهَارِ فِي وَصْفِ الْجَنَّةِ لِأَنَّ الْأَنْهَارَ يَتْبَعُهَا الْأَشْجَارُ وَالْأَشْجَارُ تَتْبَعُهَا الثِّمَارُ وَلِأَنَّهُ سَبَبُ حَيَاةِ الْعَالَمِ، وَالنَّارُ سَبَبُ الْإِعْدَامِ، وَلِلْمُؤْمِنِ الْمَاءُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ، وَلِلْكَافِرِ النَّارُ يَتَقَلَّبُ فِيهَا وَيَتَضَرَّرُ بِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صِلَةً مَعْنَاهُ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ مَاءَهَا مِنْهَا لَا يَجْرِي إِلَيْهَا مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، فَيُقَالُ هَذَا النَّهْرُ مَنْبَعُهُ مِنْ أَيْنَ؟ يُقَالُ مِنْ عَيْنِ كَذَا مِنْ تَحْتِ جَبَلِ كَذَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ أَيْضًا لَهُ التَّمَتُّعُ بِالدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا، نَقُولُ مَنْ يَكُونُ لَهُ مُلْكٌ عَظِيمٌ وَيَمْلِكُ شَيْئًا يَسِيرًا أَيْضًا لَا يُذْكَرُ إِلَّا بِالْمُلْكِ الْعَظِيمِ، يُقَالُ فِي حَقِّ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ صَاحِبُ الضَّيْعَةِ الْفُلَانِيَّةِ وَمَنْ لَا يَمْلِكُ إِلَّا شَيْئًا يَسِيرًا فَلَا يُذْكَرُ إِلَّا بِهِ، فَالْمُؤْمِنُ لَهُ مُلْكُ الْجَنَّةِ فَمَتَاعُ الدُّنْيَا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ فِي حَقِّهِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ لَهُ إِلَّا الدُّنْيَا، وَوَجْهٌ آخَرُ: الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِ سِجْنٌ كَيْفَ كَانَ، وَمَنْ يَأْكُلُ فِي السِّجْنِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ يَتَمَتَّعُ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَكُونُ الدُّنْيَا سِجْنًا مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الطَّيِّبَاتِ؟ نَقُولُ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْآخِرَةِ طَيِّبَاتٌ مُعَدَّةٌ وَإِخْوَانٌ مُكْرَمُونَ نِسْبَتُهَا وَنِسْبَتُهُمْ إِلَى الدُّنْيَا وَمَنْ فِيهَا تَتَبَيَّنُ بِمِثَالٍ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ يَكُونُ لَهُ بُسْتَانٌ فِيهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ الطَّيِّبَةِ فِي غَايَةِ اللَّذَّةِ وَأَنْهَارٌ جَارِيَةٌ فِي غَايَةِ الصَّفَاءِ وَدُورٌ وَغُرَفٌ فِي غَايَةِ الرِّفْعَةِ وَأَوْلَادُهُ فِيهَا، وَهُوَ قَدْ غَابَ عَنْهُمْ سِنِينَ ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِيهَا، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُمْ عُوِّقَ فِي أَجَمَةٍ فِيهَا مِنْ بَعْضِ الثِّمَارِ الْعَفْصَةِ وَالْمِيَاهِ الْكَدِرَةِ، وَفِيهَا سِبَاعٌ وَحَشَرَاتٌ كَثِيرَةٌ، فَهَلْ يَكُونُ حَالُهُ فِيهَا كَحَالِ مَسْجُونٍ فِي بِئْرٍ مُظْلِمَةٍ وَفِي بَيْتٍ خَرَابٍ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهُ اتْرُكْ مَا هُوَ لَكَ وَتَعَلَّلْ بِهَذِهِ الثِّمَارِ وَهَذِهِ الْأَنْهَارِ أَمْ لَا؟. / كَذَلِكَ حَالُ الْمُؤْمِنِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَحَالُهُ كَحَالِ مَنْ يُقَدَّمُ إِلَى الْقَتْلِ فَيَصْبِرُ عَلَيْهِ أَيَّامًا فِي مِثْلِ تِلْكَ الْأَجَمَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا يَكُونُ فِي جَنَّةٍ، وَنِسْبَةُ الدُّنْيَا إِلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ دُونَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمِثَالِ، لَكِنَّهُ يُنْبِئُ ذَا الْبَالِ، عَنْ حَقِيقَةِ الحال.

[سورة محمد (47) : آية 13]

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحُدُهَا: أَنَّ الْأَنْعَامَ يُهِمُّهَا الْأَكْلُ لَا غَيْرُ وَالْكَافِرُ كَذَلِكَ وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ لِيَعْمَلَ صَالِحًا وَيَقْوَى عَلَيْهِ وَثَانِيهَا: الْأَنْعَامُ لَا تَسْتَدِلُّ بِالْمَأْكُولِ عَلَى خَالِقِهَا وَالْكَافِرُ كَذَلِكَ وَثَالِثُهَا: الْأَنْعَامُ تُعْلَفُ لِتَسْمُنَ وَهِيَ غَافِلَةٌ عَنِ الْأَمْرِ، لَا تَعْلَمُ أَنَّهَا كُلَّمَا كَانَتْ أَسْمَنَ كَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى الذَّبْحِ وَالْهَلَاكِ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ وَيُنَاسِبُ ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بِصِيغَةِ الْوَعْدِ، وَقَالَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ بِصِيغَةٍ تُنْبِئُ عَنِ الِاسْتِحْقَاقِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِحْسَانَ لَا يَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ عَنِ اسْتِحْقَاقٍ، فَالْمُحْسِنُ إِلَى مَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُوجِبُ الْإِحْسَانَ كَرِيمٌ، وَالْمُعَذِّبُ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ ظالم. [سورة محمد (47) : آية 13] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ مَثَلًا بِقَوْلِهِ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [محمد: 10] وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلَائِلِ ضَرَبَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَثَلًا تَسْلِيَةً لَهُ فَقَالَ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِهِمْ، فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ رُسُلُهُمْ، وَقَوْلُهُ فَلا ناصِرَ لَهُمْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ كَيْفَ قَوْلُهُ فَلا ناصِرَ لَهُمْ مَعَ أَنَّ الْإِهْلَاكَ مَاضٍ، وَقَوْلُهُ فَلا ناصِرَ لَهُمْ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحِكَايَةِ وَالْحِكَايَةُ كَالْحَالِ الْحَاضِرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ أَهْلَكْنَاهُمْ فِي الدُّنْيَا فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ يَنْصُرُهُمْ وَيُخَلِّصُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي هُمْ فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ فَلا ناصِرَ لَهُمْ عَائِدٌ إِلَى أَهْلِ قَرْيَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَأَنَّهُ قَالَ أَهْلَكْنَا مَنْ تَقَدَّمَ أَهْلَ قَرْيَتِكَ وَلَا نَاصِرَ لِأَهْلِ قَرْيَتِكَ يَنْصُرُهُمْ وَيُخَلِّصُهُمْ مِمَّا جَرَى على الأولين ثم قال تعالى: [سورة محمد (47) : آية 14] أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْكُفَّارِ لِيَعْلَمَ أَنَّ إِهْلَاكَ الْكُفَّارِ وَنُصْرَةَ/ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الدُّنْيَا مُحَقَّقٌ، وَأَنَّ الْحَالَ يُنَاسِبُ تَعْذِيبَ الْكَافِرِ وَإِثَابَةَ الْمُؤْمِنِ، وَقَوْلُهُ عَلى بَيِّنَةٍ فَرْقٌ فَارِقٌ، وَقَوْلُهُ مِنْ رَبِّهِ مُكَمِّلٌ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ إِذَا كَانَتْ نَظَرِيَّةً تَكُونُ كَافِيَةً لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمُتَمَسِّكِ بِهَا وَبَيْنَ الْقَائِلِ قَوْلًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَتِ الْبَيِّنَةُ مُنَزَّلَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَكُونُ أَقْوَى وَأَظْهَرَ فَتَكُونُ أَعْلَى وَأَبْهَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ مِنْ رَبِّهِ لَيْسَ الْمُرَادُ إِنْزَالَهَا مِنْهُ بَلِ الْمُرَادُ كَوْنُهَا مِنَ الرَّبِّ بمعنى قوله يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [المدثر: 31] وَقَوْلُنَا الْهِدَايَةُ مِنَ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرْقٌ فَارِقٌ، وَقَوْلُهُ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ تَكْمِلَةٌ وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَرَاجَتِ الشُّبْهَةُ عَلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ يَتَبَيَّنُ لَهُ الْبُرْهَانُ وَقَبِلَهُ، لَكِنَّ مَنْ رَاجَتِ الشُّبْهَةُ عَلَيْهِ قَدْ يَتَفَكَّرُ فِي الْأَمْرِ وَيَرْجِعُ إِلَى الْحَقِّ، فَيَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى مَنْ هُوَ عَلَى الْبُرْهَانِ، وَقَدْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ وَلَا يَتَدَبَّرُ فِي الْبُرْهَانِ وَلَا يَتَفَكَّرُ فِي الْبَيَانِ فَيَكُونُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، فَإِذَنْ حصل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُ مَعَ الْكَافِرِ فِي طَرَفَيِ التَّضَادِّ وَغَايَةِ التَّبَاعُدِ حَتَّى مَدَّهُمْ بِالْبَيِّنَةِ، وَالْكَافِرُ لَهُ الشُّبْهَةُ وَهُوَ مَعَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ مَعَ الْهَوَى وَعَلَى قَوْلِنَا مِنْ رَبِّهِ مَعْنَاهُ الْإِضَافَةُ إِلَى اللَّهِ، كَقَوْلِنَا الْهِدَايَةُ مِنَ الله، فقوله اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ مَعَ ذَلِكَ الْقَوْلِ يُفِيدُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النِّسَاءِ: 79] وَقَوْلُهُ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ بِصِيغَةِ التَّوْحِيدِ مَحْمُولٌ عَلَى لَفْظَةِ مَنْ، وَقَوْلُهُ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَاهُ فَإِنَّهَا لِلْجَمِيعِ وَالْعُمُومِ،

[سورة محمد (47) : آية 15]

وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّزْيِينَ لِلْكُلِّ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فَحُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ فِي الْحِسِّ وَالذِّكْرِ، وَعِنْدَ اتِّبَاعِ الْهَوَى كُلُّ أَحَدٍ يَتَّبِعُ هَوَى نَفْسِهِ، فَظَهَرَ التَّعَدُّدُ فَحُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى. [سورة محمد (47) : آية 15] مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الي قوله وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ] لَمَّا بَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الِاهْتِدَاءِ وَالضَّلَالِ بَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي مَرْجِعِهِمَا وَمَآلِهِمَا، وَكَمَا قَدَّمَ مَنْ عَلَى الْبَيِّنَةِ فِي الذِّكْرِ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ، قَدَّمَ حَالَهُ فِي مَآلِهِ عَلَى حَالِ مَنْ هُوَ بِخِلَافِ حَالِهِ، وَفِي التَّفْسِيرِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُ الْجَنَّةِ يَسْتَدْعِي أَمْرًا يُمَثِّلُ بِهِ فَمَا هُوَ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ سِيبَوَيْهِ حَيْثُ قَالَ الْمَثَلُ هُوَ الْوَصْفُ مَعْنَاهُ وَصْفُ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي مُمَثَّلًا بِهِ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ احْتِمَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا وَيَكُونَ مَثَلُ الْجَنَّةِ مُبْتَدَأً تَقْدِيرُهُ فِيمَا قَصَصْنَاهُ مَثَلُ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ وَيَقُولُ فِيها أَنْهارٌ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ يَكُونُ قوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الرعد: 35] ابْتِدَاءَ بَيَانٍ وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ وَقَوْلُهُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا خَبَرًا كَمَا يُقَالُ صِفْ لِي زَيْدًا، فَيَقُولُ الْقَائِلُ: زَيْدٌ أَحْمَرُ قَصِيرٌ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَثَلَ زِيَادَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: الْجَنَّةُ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ. الوجه الثاني: هاهنا الْمُمَثَّلُ بِهِ مَحْذُوفٌ غَيْرُ مَذْكُورٍ وَهُوَ يَحْتَمِلُ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: قَالَ الزَّجَّاجُ حَيْثُ قَالَ: مَثَلُ الْجَنَّةِ جَنَّةٌ تَجْرِي فِيها أَنْهارٌ كَمَا يُقَالُ مَثَلُ زَيْدٍ رَجُلٌ طَوِيلٌ أَسْمَرُ فَيَذْكُرُ عَيْنَ صِفَاتِ زَيْدٍ فِي رَجُلٍ مُنْكَرٍ لَا يَكُونُ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا زَيْدًا الثَّانِي: مِنَ الْقَوْلَيْنِ هُوَ أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ مَثَلٌ عَجِيبٌ، أَوْ شَيْءٌ عَظِيمٌ أَوْ مِثْلُ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ فِيها أَنْهارٌ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا مُحَقِّقًا لِقَوْلِنَا مَثَلٌ عَجِيبٌ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: الْمُمَثَّلُ بِهِ مَذْكُورٌ وَهُوَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ حَيْثُ قَالَ: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ مُشَبَّهٌ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِنْكَارِ، وَحِينَئِذٍ فَهَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ حَرَكَاتُ زَيْدٍ أَوْ أَخْلَاقُهُ كَعَمْرٍو، وَكَذَلِكَ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ، إِمَّا عَلَى تَأْوِيلِ كَحَرَكَاتِ عَمْرٍو أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ زَيْدٌ فِي حركاته كعمر، وَكَذَلِكَ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ، إِمَّا عَلَى تَأْوِيلِ كَحَرَكَاتِ عَمْرٍو أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ زَيْدٌ فِي حركاته كعمر، وكذلك هاهنا كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَثَلُ الْجَنَّةِ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ، وَهَذَا أَقْصَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَرَّرُ بِهِ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِيها أَنْهارٌ وَمَا بَعْدَ هَذَا جُمَلٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ وَقَعَتْ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ كَمَا يُقَالُ نَظِيرُ زَيْدٍ فِيهِ مُرُوءَةٌ وَعِنْدَهُ عِلْمٌ وَلَهُ أَصْلُ عَمْرٍو. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى. اخْتَارَ الْأَنْهَارَ مِنَ الْأَجْنَاسِ الْأَرْبَعَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَشْرُوبَ إِمَّا أَنْ يُشْرَبَ لِطَعْمِهِ، وَإِمَّا أَنْ يُشْرَبَ لِأَمْرٍ غَيْرِ عَائِدٍ إِلَى الطَّعْمِ، فَإِنْ كَانَ لِلطَّعْمِ فَالطُّعُومُ تِسْعَةٌ: الْمُرُّ وَالْمَالِحُ وَالْحِرِّيفُ وَالْحَامِضُ وَالْعَفِصُ وَالْقَابِضُ وَالتَّفِهُ وَالْحُلْوُ وَالدَّسِمُ أَلَذُّهَا الْحُلْوُ وَالدَّسِمُ، لَكِنْ أَحْلَى الْأَشْيَاءِ الْعَسَلُ فَذَكَرَهُ وَأَمَّا أَدْسَمُ الْأَشْيَاءِ فَالدُّهْنُ، لَكِنَّ الدُّسُومَةَ إِذَا تَمَحَّضَتْ لَا تَطِيبُ لِلْأَكْلِ وَلَا لِلشُّرْبِ، فَإِنَّ الدُّهْنَ لَا يُؤْكَلُ وَلَا يُشْرَبُ كَمَا هُوَ فِي الغالب، وأما

اللَّبَنُ فِيهِ الدَّسَمُ الْكَائِنُ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ طَيِّبٌ لِلْأَكْلِ وَبِهِ تَغْذِيَةُ الْحَيَوَانِ أَوَّلًا فَذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا مَا يُشْرَبُ لَا لِأَمْرٍ عَائِدٍ إِلَى الطَّعْمِ فَالْمَاءُ وَالْخَمْرُ فَإِنَّ الْخَمْرَ فيها أمر يشربها الشارب لأجله، هي كَرِيهَةُ الطَّعْمِ بِاتِّفَاقِ مَنْ يَشْرَبُهَا وَحُصُولِ التَّوَاتُرِ بِهِ ثُمَّ عَرَّى كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ الَّتِي هِيَ فِيهَا وَتَتَغَيَّرُ بِهَا الدُّنْيَا فَالْمَاءُ يَتَغَيَّرُ يُقَالُ أَسِنَ الْمَاءُ يَأْسَنُ عَلَى وَزْنِ أَمِنَ يَأْمَنُ فَهُوَ آسِنٌ وَأَسِنَ اللَّبَنُ إِذَا بَقِيَ زَمَانًا تَغَيَّرَ طَعْمُهُ، وَالْخَمْرُ يَكْرَهُهُ الشَّارِبُ عِنْدَ الشُّرْبِ، وَالْعَسَلُ يَشُوبُهُ أَجْزَاءٌ مِنَ الشَّمْعِ وَمِنَ النَّحْلِ يَمُوتُ فِيهِ كَثِيرًا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَطَ الْجِنْسَيْنِ فَذَكَرَ الْمَاءَ الَّذِي يُشْرَبُ لَا لِلطَّعْمِ وَهُوَ عَامُّ الشُّرْبِ، وَقَرَنَ بِهِ اللَّبَنَ الَّذِي يُشْرَبُ لِطَعْمِهِ وَهُوَ عَامُّ الشُّرْبِ إِذْ مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَكَانَ شُرْبُهُ اللَّبَنَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْخَمْرَ الَّذِي يُشْرَبُ لَا لِلطَّعْمِ وَهُوَ قَلِيلُ الشُّرْبِ، وَقَرَنَ بِهِ الْعَسَلَ الَّذِي يُشْرَبُ لِلطَّعْمِ وَهُوَ قَلِيلُ الشُّرْبِ، فَإِنْ قِيلَ الْعَسَلُ/ لَا يُشْرَبُ، نَقُولُ شَرَابُ الْجُلَّابِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا مِنَ الْعَسَلِ وَالسُّكَّرِ قَرِيبُ الزَّمَانِ، أَلَا تَرَى أَنِ السَّكَنْجَبِينَ مِنْ «سركه وانكبين» وَهُوَ الْخَلُّ وَالْعَسَلُ بِالْفَارِسِيَّةِ كَمَا أَنَّ اسْتِخْرَاجَهُ كَانَ أَوَّلًا مِنَ الْخَلِّ وَالْعَسَلِ وَلَمْ يُعْرَفِ السُّكَّرُ إِلَّا فِي زَمَانٍ مُتَأَخِّرٍ، وَلِأَنَّ الْعَسَلَ اسْمٌ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ عَسَلِ النَّحْلِ حَتَّى يُقَالَ عَسَلُ النَّحْلِ لِلتَّمْيِيزِ «1» وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ فِي الْخَمْرِ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَلَمْ يَقُلْ فِي اللَّبَنِ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ لِلطَّاعِمِينَ وَلَا قَالَ فِي الْعَسَلِ مُصَفًّى لِلنَّاظِرِينَ لِأَنَّ اللَّذَّةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ فَرُبَّ طَعَامٍ يَلْتَذُّ بِهِ شَخْصٌ وَيَعَافُهُ الْآخَرُ، فَقَالَ: لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ بِأَسْرِهِمْ وَلِأَنَّ الْخَمْرَ كَرِيهَةُ الطَّعْمِ فَقَالَ: لَذَّةٍ أَيْ لَا يَكُونُ فِي خَمْرِ الْآخِرَةِ كَرَاهَةُ الطَّعْمِ، وَأَمَّا الطَّعْمُ وَاللَّوْنُ فَلَا يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ، فَإِنَّ الْحُلْوَ وَالْحَامِضَ وَغَيْرُهُمَا يُدْرِكُهُ كُلُّ أَحَدٍ كَذَلِكَ، لَكِنَّهُ قَدْ يَعَافُهُ بَعْضُ النَّاسِ وَيَلْتَذُّ بِهِ الْبَعْضُ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ لَهُ طَعْمًا وَاحِدًا وَكَذَلِكَ اللَّوْنُ فَلَمْ يَكُنْ إِلَى التَّصْرِيحِ بِالتَّعْمِيمِ حَاجَةٌ، وَقَوْلُهُ لَذَّةٍ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَأْنِيثُ لَذَّ يُقَالُ طَعَامٌ لَذَّ وَلَذِيذٌ وَأَطْعِمَةٌ لَذَّةٌ وَلَذِيذَةٌ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَصْفًا بِنَفْسِ الْمَعْنَى لَا بِالْمُشْتَقِّ مِنْهُ كَمَا يُقَالُ لِلْحَلِيمِ هُوَ حِلْمٌ كُلُّهُ وللعاقل كُلُّهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ. بَعْدَ ذِكْرِ الْمَشْرُوبِ أَشَارَ إِلَى الْمَأْكُولِ، وَلَمَّا كَانَ فِي الْجَنَّةِ الْأَكْلُ لِلَذَّةٍ لَا لِلْحَاجَةِ ذَكَرَ الثِّمَارَ فَإِنَّهَا تُؤْكَلُ لِلَذَّةِ بِخِلَافِ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها [الرَّعْدِ: 35] حَيْثُ أَشَارَ إِلَى المأكول والمشروب، وهاهنا لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِيهَا وَظِلُّها ولم يقل هاهنا ذلك، نقول قال هاهنا وَمَغْفِرَةٌ وَالظِّلُّ فِيهِ مَعْنَى السَّتْرِ وَالْمَغْفِرَةِ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْمَغْفُورَ تَحْتَ نَظَرٍ مِنْ رَحْمَةِ الْغَافِرِ يُقَالُ نَحْنُ تَحْتَ ظِلِّ الْأَمِيرِ، وَظِلُّهَا هُوَ رَحْمَةُ اللَّهِ وَمَغْفِرَتُهُ حَيْثُ لَا يَمَسُّهُمْ حَرٌّ وَلَا بَرْدٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُتَّقِي لَا يَدْخُلُ الجنة إِلَّا بَعْدَ الْمَغْفِرَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُمْ فِيهَا مَغْفِرَةٌ؟ فَنَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَيْسَ بِلَازِمٍ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ فِيهَا، بَلْ يَكُونُ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ (لَهُمْ) كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُمْ الثَّمَرَاتُ فِيهَا وَلَهُمُ الْمَغْفِرَةُ قَبْلَ دُخُولِهَا وَالثَّانِي: هُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَهُمْ فِيهَا مَغْفِرَةٌ أَيْ رفع

_ (1) كانت العرب تشرب العسل ممزوجا بالماء، وقد شربه الرسول كذلك وأمر بأن يسقي مريض البطن عسلا، والأحاديث الدالة على هذا كثيرة، والمراد به في كلها عسل النحل والعسل إذا أطلق لا يراد إلا عسل النحل كما أنه لم يسمه إلا عسلا بدون إضافة.

التَّكْلِيفَ عَنْهُمْ فَيَأْكُلُونَ مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ بِخِلَافِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الثِّمَارَ فِيهَا عَلَى حِسَابٍ أَوْ عِقَابٍ، وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْآكِلَ فِي الدُّنْيَا لَا يَخْلُو عَنِ اسْتِنْتَاجٍ قَبِيحٍ أَوْ مَكْرُوهٍ كَمَرَضٍ أَوْ حَاجَةٍ إِلَى تَبَرُّزٍ، فَقَالَ: وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ لَا قَبِيحَ عَلَى الْآكِلِ بَلْ مَسْتُورُ الْقَبَائِحِ مَغْفُورٌ، وَهَذَا اسْتَفَدْتُهُ مِنَ الْمُعَلِّمِينَ فِي بِلَادِنَا فَإِنَّهُمْ يُعَوِّدُونَ الصِّبْيَانَ بِأَنْ يَقُولُونَ/ وَقْتَ حَاجَتِهِمْ إِلَى إِرَاقَةِ الْبَوْلِ وَغَيْرِهِ: يَا مُعَلِّمُ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، فَيَفْهَمُ الْمُعَلِّمُ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ الْإِذْنَ فِي الْخُرُوجِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ فَيَأْذَنُ لَهُمْ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي مَعْنَاهُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي الْجَنَّةِ غَفَرَ لِمَنْ أَكَلَ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا، فَلِأَنَّ لِلْأَكْلِ تَوَابِعُ وَلَوَازِمُ لَا بُدَّ مِنْهَا فَيَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِمْ حَاجَتَهُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ وَفِيهِ أَيْضًا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: مَثَلُ الْجَنَّةِ مَعْنَاهُ وَصْفُ الْجَنَّةِ فَقَوْلُهُ كَمَنْ هُوَ بِمَاذَا يتعلق؟ نقول قوله لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ يَتَضَمَّنُ كَوْنَهُمْ فِيهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ هُوَ فِيهَا كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ، فَالْمُشَبَّهُ يَكُونُ مَحْذُوفًا مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِمَا سَبَقَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ مَا قِيلَ فِي تَقْرِيرِ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ هَذِهِ الْجَنَّةُ الَّتِي مَثَّلَهَا مَا ذَكَرْنَا كَمَقَامِ مَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ رَاجِعٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زين له سوء عمله وهو خالد فِي النَّارِ فَهَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ نَقُولُ لَنَا نَظَرٌ إِلَى اللَّفْظِ فَيُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِتَعَسُّفٍ وَنَظَرٍ إِلَى الْمَعْنَى لَا يَصِحُّ إِلَّا بِأَنْ يَعُودَ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، أَمَّا التَّصْحِيحُ فَبِحَذْفِ كَمَنْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ أَوْ جَعْلِهِ بَدَلًا عَنِ الْمُتَقَدِّمِ أَوْ بِإِضْمَارِ عَاطِفٍ يَعْطِفُ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ عَلَى كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ أَوْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ، وَأَمَّا التَّعَسُّفُ فَبَيِّنٌ نَظَرًا إِلَى الْحَذْفِ وإلى الإضمار مع الفاضل الطَّوِيلِ بَيْنَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ، وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْبَدَلِ فَفَاسِدَةٌ وَإِلَّا لَكَانَ الِاعْتِمَادُ عَلَى الثَّانِي فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ؟ وَهُوَ سَمِجٌ فِي التَّشْبِيهِ تَعَالَى كَلَامُ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ، وَالْقَوْلُ فِي إِضْمَارِ الْعَاطِفِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ أَيْضًا يَصِيرُ مُسْتَقِلًّا فِي التَّشْبِيهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ الْمَجْمُوعُ بِالْمَجْمُوعِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ، كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمِلِهِ وَهُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ، وَعَلَى هَذَا تَقَعُ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ مَنْ هُوَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وَبَيْنَ مَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ، وَبَيْنَ مَنْ فِي الْجَنَّةِ وَبَيْنَ مَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فَلَا حَاجَةَ إِلَى خَلْطِ الْآيَةِ بِالْآيَةِ، وَكَيْفَ وَعَلَى مَا قَالَهُ تَقَعُ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ مَنْ هُوَ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا وَبَيْنَ مَنْ هُوَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَأَيَّةُ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا، بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوُجُوهِ الْأُخَرِ فَإِنَّ الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ الْجَنَّةِ الَّتِي فِيهَا الْأَنْهَارُ وَبَيْنَ النَّارِ الَّتِي فِيهَا الْمَاءُ الْحَمِيمُ وَذَلِكَ تَشْبِيهُ إِنْكَارٍ مُنَاسِبٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ حَمْلًا عَلَى اللَّفْظِ الْوَاحِدِ وَقَالَ: وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ جَمْعٌ وَكَذَلِكَ قَالَ مِنْ قَبْلُ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ [محمد: 14] عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِفْرَادِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ عَلَى الْجَمْعِ فَمَا الْوَجْهُ فِيهِ؟ نَقُولُ الْمُسْنَدُ إِلَى مَنْ إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا فَرِعَايَةُ اللَّفْظِ أَوْلَى لِأَنَّهُ هُوَ الْمَسْمُوعُ، إِذَا كَانَ مَعَ انْفِصَالٍ فَالْعَوْدُ إلى المعنى أولا، لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَبْقَى فِي السَّمْعِ، وَالْمَعْنَى يَبْقَى فِي ذِهْنِ/ السَّامِعِ فَالْحَمْلُ فِي الثَّانِي عَلَى الْمَعْنَى أَوْلَى وَحَمْلُ الْأَوَّلِ عَلَى اللَّفْظِ أَوْلَى، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ فِي سَائِرِ المواضع مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [سبأ: 37] وفَمَنْ تابَ ... وَأَصْلَحَ [المائدة: 39] ؟ نَقُولُ إِذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ مُفْرَدًا أَوْ شَبِيهًا بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى فَالْأَوْلَى أَنْ يَخْتَلِفَا كَمَا ذَكَرْتُ فَإِنَّهُ عَطْفُ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرَدٍ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: كَمَنْ

[سورة محمد (47) : آية 16]

هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَمُعَذَّبٌ فِيهَا لِأَنَّ الْمُشَابَهَةَ تُنَافِي الْمُخَالَفَةَ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ سُقُوا مَاءً جُمْلَةٌ غَيْرُ مُشَابِهَةٍ لِقَوْلِهِ هُوَ خالِدٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً بَيَانٌ لِمُخَالَفَتِهِمْ فِي سَائِرِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَهُمْ أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَلَهُمْ مَاءٌ حَمِيمٌ، فَإِنْ قِيلَ الْمُشَابَهَةُ الْإِنْكَارِيَّةُ بِالْمُخَالَفَةِ عَلَى مَا ثَبَتَ، وَقَدْ ذَكَرْتُ الْبَعْضَ وَقُلْتُ بِأَنَّ قَوْلَهُ عَلى بَيِّنَةٍ فِي مُقَابَلَةِ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ومِنْ رَبِّهِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَالْجَنَّةُ فِي مُقَابَلَةِ النَّارِ فِي قَوْلِهِ خالِدٌ فِي النَّارِ وَالْمَاءُ الْحَمِيمُ فِي مُقَابَلَةِ الْأَنْهَارِ، فَأَيْنَ مَا يُقَابِلُ قَوْلَهُ وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ فَنَقُولُ تَقَطُّعُ الْأَمْعَاءِ فِي مُقَابَلَةِ مَغْفِرَةٍ لِأَنَّا بَيَّنَّا عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْمَغْفِرَةَ الَّتِي فِي الْجَنَّةِ هِيَ تَعْرِيَةٌ «1» أَكْلِ الثَّمَرَاتِ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْأَمْرَاضِ وَغَيْرِهَا، كَأَنَّهُ قَالَ: لِلْمُؤْمِنِ أَكْلٌ وَشُرْبٌ مُطَهَّرٌ طَاهِرٌ لَا يَجْتَمِعُ فِي جَوْفِهِمْ فَيُؤْذِيهِمْ وَيُحْوِجُهُمْ إِلَى قَضَاءِ حَاجَةٍ، وَلِلْكَافِرِ مَاءٌ حَمِيمٌ فِي أَوَّلِ مَا يَصِلُ إِلَى جَوْفِهِمْ يَقْطَعُ أَمْعَاءَهُمْ وَيَشْتَهُونَ خُرُوجَهُ مِنْ جَوْفِهِمْ، وَأَمَّا الثِّمَارُ فَلَمْ يَذْكُرْ مُقَابِلَهَا، لِأَنَّ فِي الْجَنَّةِ زِيَادَةٌ مَذْكُورَةٌ فحققها بذكر أمر زائد. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمَاءُ الْحَارُّ يَقْطَعُ أَمْعَاءَهُمْ لِأَمْرٍ آخَرَ غَيْرَ الْحَرَارَةِ، وَهِيَ الْحِدَّةُ الَّتِي تَكُونُ فِي السُّمُومِ الْمَدُوفَةِ «2» ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْحَرَارَةِ لَا يَقْطَعُ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَطَّعَ بِالْفَاءِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ بِمَا ذُكِرَ، نَقُولُ نَعَمْ، لَكِنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ: يَقْطَعُ، لِأَنَّهُ مَاءٌ حَمِيمٌ فَحَسْبُ، بَلْ مَاءٌ حَمِيمٌ مخصوص يقطع. ثم قال تعالى: [سورة محمد (47) : آية 16] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَ الْكَافِرِ ذَكَرَ حَالَ الْمُنَافِقِ بِأَنَّهُ مِنَ الْكُفَّارِ، وَقَوْلُهُ وَمِنْهُمْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى النَّاسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 8] بَعْدَ ذِكْرِ الْكُفَّارِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، لِأَنَّ ذِكْرَهُمْ سَبَقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ [محمد: 13] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ/ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً [محمد: 15] يَعْنِي وَمِنَ الْخَالِدِينَ فِي النَّارِ قَوْمٌ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ، وَقَوْلُهُ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا حَمْلٌ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي هو الجمع، ويستمع حَمْلٌ عَلَى اللَّفْظِ، وَقَدْ سَبَقَ التَّحْقِيقُ فِيهِ، وَقَوْلُهُ حَتَّى لِلْعَطْفِ فِي قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ، وَعَلَى هَذَا فَالْعَطْفُ بِحَتَّى لَا يَحْسُنُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ جُزْءًا مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ إِمَّا أَعْلَاهُ أَوْ دُونَهُ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَكْرَمَنِي النَّاسُ حَتَّى الْمَلِكُ، وَجَاءَ الْحَاجُّ حَتَّى الْمُشَاةُ، وَفِي الْجُمْلَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَطْفِ بِالْوَاوِ ذَلِكَ، فَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ فِي الْوَاوِ: جَاءَ الْحَاجُّ وَمَا عَلِمْتُ، وَلَا يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَتَّى، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَوَجْهُ التَّعَلُّقِ هاهنا هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ يُفِيدُ مَعْنًى زَائِدًا فِي الِاسْتِمَاعِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَسْتَمِعُونَ اسْتِمَاعًا بَالِغًا جَيِّدًا، لِأَنَّهُمْ يَسْتَمِعُونَ وَإِذَا خَرَجُوا يَسْتَعِيدُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُجْتَهِدُ فِي التَّعَلُّمِ الطَّالِبُ لِلتَّفَهُّمِ، فَإِنَّ قُلْتَ فعلى هذا

_ (1) في المطبوع الأميري (تعربة) بالباء الموحدة. (2) فيه أيضا (المدونة) بالنون وكلاهما تصحيف ومعنى المدوفة المعدة للشرب. [.....]

[سورة محمد (47) : آية 17]

يَكُونُ هَذَا صِفَةَ مَدْحٍ لَهُمْ، وَهُوَ ذِكْرُهُمْ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، نَقُولُ يَتَمَيَّزُ بِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا كَوْنُهُمْ بِذَلِكَ مُسْتَهْزِئِينَ، كَالذَّكِيِّ يَقُولُ لِلْبَلِيدِ: أَعِدْ كَلَامَكَ حَتَّى أَفْهَمَهُ، وَيَرَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ مُسْتَمِعٌ إِلَيْهِ غَايَةَ الاستماع، وكل أحد يعلم أنه مستهزىء غَيْرُ مُسْتَفِيدٍ وَلَا مُسْتَعِيدٍ، وَإِمَّا كَوْنُهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مَعَ أَنَّهُمْ يَسْتَمِعُونَ وَيَسْتَعِيدُونَ، وَيُنَاسِبُ هَذَا الثَّانِي قَوْلَهُ تَعَالَى: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ [الْأَعْرَافِ: 101] ، وَالْأَوَّلُ: يُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [الْبَقَرَةِ: 14] . وَالثَّانِي: يُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 14] وَقَوْلُهُ آنِفاً قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ السَّاعَةُ، وَمِنْهُ الِاسْتِئْنَافُ وَهُوَ الِابْتِدَاءُ، فَعَلَى هَذَا فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ يَقُولُونَ مَاذَا قَالَ آنِفًا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يَسْتَعِيدُونَ كَلَامَهُ مِنَ الِابْتِدَاءِ، كَمَا يَقُولُ الْمُسْتَعِيدُ لِلْمُعِيدِ: أَعِدْ كَلَامَكَ مِنَ الِابْتِدَاءِ حَتَّى لَا يَفُوتَنِي شَيْءٌ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ. أَيْ تَرَكُوا اتِّبَاعَ الْحَقِّ إِمَّا بِسَبَبِ عَدَمِ الْفَهْمِ، أَوْ بِسَبَبِ عَدَمِ الِاسْتِمَاعِ لِلِاسْتِفَادَةِ وَاتَّبَعُوا ضده ثم قال تعالى: [سورة محمد (47) : آية 17] وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمُنَافِقَ يَسْتَمِعُ وَلَا يَنْتَفِعُ، وَيَسْتَعِيدُ وَلَا يَسْتَفِيدُ، بَيَّنَ أَنَّ حَالَ الْمُؤْمِنِ الْمُهْتَدِي بِخِلَافِهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَمِعُ فَيَفْهَمُ، وَيَعْمَلُ بِمَا يَعْلَمُ، وَالْمُنَافِقُ يَسْتَعِيدُ، وَالْمُهْتَدِي يُفَسِّرُ وَيُعِيدُ، وَفِيهِ فَائِدَتَانِ إِحْدَاهُمَا: مَا ذَكَرْنَا مِنْ بَيَانِ التَّبَايُنِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَثَانِيهِمَا: قَطْعُ عُذْرِ الْمُنَافِقِ وَإِيضَاحُ كَوْنِهِ مَذْمُومَ الطَّرِيقَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ مَا فَهِمْتُهُ لِغُمُوضِهِ وَكَوْنِهِ مُعَمًّى، يَرُدُّ عَلَيْهِ وَيَقُولُ لَيْسَ/ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُهْتَدِيَ فَهِمَ وَاسْتَنْبَطَ لَوَازِمَهُ وَتَوَابِعَهُ، فَذَلِكَ لِعَمَاءِ الْقُلُوبِ، لَا لِخَفَاءِ الْمَطْلُوبِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْفَاعِلُ لِلزِّيَادَةِ فِي قَوْلِهِ زادَهُمْ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: الْمَسْمُوعُ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ الرَّسُولِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قوله وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [محمد: 16] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَسْمُوعٍ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ التَّبَايُنِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هُمْ لَمْ يَفْهَمُوهُ، وَهَؤُلَاءِ فَهِمُوهُ وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَادَهُمْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [محمد: 16] وَكَأَنَّهُ تَعَالَى طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَزَادَهُمْ عَمًى، والمهتدين زَادَهُ هُدًى وَالثَّالِثُ: اسْتِهْزَاءُ الْمُنَافِقِ زَادَ الْمُهْتَدِي هُدًى، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ قَالَ: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ اتِّبَاعُهُمُ الْهُدَى هُدًى، فَإِنَّهُمُ اسْتَقْبَحُوا فِعْلَهُمْ فَاجْتَنَبُوهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ما معنى قوله وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ مَنْقُولَةٌ وَمُسْتَنْبَطَةٌ، أَمَّا الْمَنْقُولَةُ فَنَقُولُ: قِيلَ فِيهِ إِنَّ الْمُرَادَ آتَاهُمْ ثَوَابَ تَقْوَاهُمْ، وَقِيلَ آتَاهُمْ نَفْسَ تَقْوَاهُمْ مِنْ غَيْرِ إِضْمَارٍ، يَعْنِي بَيَّنَ لَهُمُ التَّقْوَى، وَقِيلَ آتَاهُمْ توفيق العمل بما علموا. وَأَمَّا الْمُسْتَنْبَطُ فَنَقُولُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ بَيَانَ حَالِ الْمُسْتَمِعِينَ لِلْقُرْآنِ الْفَاهِمِينَ لِمَعَانِيهِ الْمُفَسِّرِينَ لَهُ بَيَانًا لِغَايَةِ الْخِلَافِ بَيْنَ الْمُنَافِقِ، فَإِنَّهُ اسْتَمَعَ وَلَمْ يَفْهَمْهُ، وَاسْتَعَادَ وَلَمْ يَعْلَمْهُ، وَالْمُهْتَدِي فَإِنَّهُ عَلِمَهُ وَبَيَّنَهُ لِغَيْرِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: زادَهُمْ هُدىً وَلَمْ يَقُلْ اهْتِدَاءً، وَالْهُدَى مَصْدَرٌ مِنْ هَدَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَامِ: 90] أَيْ خُذْ بِمَا هَدُوا وَاهْتَدِ كَمَا هُدُوا، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ

[سورة محمد (47) : آية 18]

تعالى: وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ مَعْنَاهُ جَنَّبَهُمْ عَنِ الْقَوْلِ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى الِاتِّقَاءِ مِنَ التَّفْسِيرِ بِالرَّأْيِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ زادَهُمْ هُدىً مَعْنَاهُ كَانُوا مُهْتَدِينَ فَزَادَهُمْ عَلَى الِاهْتِدَاءِ هُدًى حَتَّى ارْتَقَوْا مِنْ دَرَجَةِ الْمُهْتَدِينَ إِلَى دَرَجَةِ الْهَادِينَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ زادَهُمْ هُدىً إِشَارَةٌ إِلَى العلم وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ فِيمَا لَمْ يَعْلَمُوهُ، وهو مستنبط من قوله تَعَالَى: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزُّمَرِ: 17، 18] وَقَوْلِهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آلِ عِمْرَانَ: 7] . الْمَعْنَى الثَّالِثُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَيَانُ أَنَّ الْمُخْلِصَ عَلَى خَطَرٍ فَهُوَ أَخْشَى مِنْ غَيْرِهِ، وَتَحْقِيقُهُ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: زادَهُمْ هُدىً أَفَادَ أَنَّهُمُ ازْدَادَ عِلْمُهُمْ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: 28] فَقَالَ آتَاهُمْ خَشْيَتَهُمُ الَّتِي يُفِيدُهَا الْعِلْمُ. وَالْمَعْنَى الرَّابِعُ: تَقْوَاهُمْ مِنْ يوم القيامة كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ [لُقْمَانَ: 33] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً [مُحَمَّدٍ: 18] كَأَنَّ ذِكْرَ السَّاعَةِ عَقِيبَ التَّقْوَى يَدُلُّ عَلَيْهِ. الْمَعْنَى الْخَامِسُ: آتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ، التَّقْوَى الَّتِي تَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِ، وَهِيَ التَّقْوَى الَّتِي لَا يَخَافُ مَعَهَا لَوْمَةَ لَائِمٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ [الْأَحْزَابِ: 39] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَابِ: 1] وَهَذَا الْوَجْهُ مُنَاسِبٌ لِأَنَّ الْآيَةَ لِبَيَانِ تَبَايُنِ الْفَرِيقَيْنِ، وَهَذَا يُحَقِّقُ ذَلِكَ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُنَافِقَ كَانَ يَخْشَى النَّاسَ وَهُمُ الْفَرِيقَانِ، الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ فَكَانَ يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا وَيُرْضِي الْفَرِيقَيْنِ وَيُسْخِطُ اللَّهَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنُ الْمُهْتَدِي بخلاف المنافق حيث علم ذاك ولم يعلم ذَلِكَ وَاتَّقَى اللَّهَ لَا غَيْرُ، وَاتَّقَى ذَلِكَ غير الله. ثم قال تعالى: [سورة محمد (47) : آية 18] فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) يَعْنِي الْكَافِرُونَ وَالْمُنَافِقُونَ لَا يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَرَاهِينَ قَدْ صَحَّتْ وَالْأُمُورَ قَدِ اتَّضَحَتْ وَهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا فَلَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ إِلَّا عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ عَلَى تَقْدِيرِ لَا يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ إِتْيَانُهَا بَغْتَةً، وَقُرِئَ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ عَلَى الشَّرْطِ وَجَزَاؤُهُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذِكْرَاهُمْ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِيَامَةَ سُمِّيَتْ بِالسَّاعَةِ لِسَاعَةِ الْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ فِيهَا مِنَ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ وَالْحِسَابِ. وَقَوْلُهُ فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: لِبَيَانِ غَايَةِ عِنَادِهِمْ وَتَحْقِيقُهُ هُوَ أَنَّ الدَّلَائِلَ لَمَّا ظَهَرَتْ وَلَمْ يُؤْمِنُوا لَمْ يَبْقَ إِلَّا إِيمَانُ الْيَأْسِ وَهُوَ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ لَكِنَّ أَشْرَاطَهَا بَانَتْ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يُؤْمِنُوا فَهُمْ فِي لُجَّةِ الْفَسَادِ وَغَايَةِ الْعِنَادِ ثَانِيهِمَا: يَكُونُ لِتَسْلِيَةِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ كَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: فَهَلْ يَنْظُرُونَ فُهِمَ مِنْهُ تَعْذِيبُهُمْ وَالسَّاعَةُ عِنْدَ الْعَوَامِّ مُسْتَبْطَأَةٌ فَكَأَنَّ قَائِلًا قَالَ مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [الْقَمَرِ: 1] وَالْأَشْرَاطُ الْعَلَامَاتُ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ هِيَ مِثْلُ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَى الْأَشْرَاطِ الْبَيِّنَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِجَوَازِ الْحَشْرِ، مِثْلُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ

[سورة محمد (47) : آية 19]

ابتداء وخلق السموات وَالْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: 81] وَالْأَوَّلُ هُوَ التَّفْسِيرُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ يَعْنِي لَا تَنْفَعُهُمُ الذِّكْرَى إِذْ لَا تُقْبَلُ التَّوْبَةُ وَلَا يُحْسَبُ الْإِيمَانُ، وَالْمُرَادُ فَكَيْفَ لَهُمُ الْحَالُ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ، وَمَعْنَى ذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ قَوْلَهُ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 103] هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [الصَّافَّاتِ: 21] فَيُذَكَّرُونَ بِهِ لِلتَّحَسُّرِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الزمر: 71] . / ثم قال تعالى: [سورة محمد (47) : آية 19] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19) وَلِبَيَانِ الْمُنَاسَبَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لما قال: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها [محمد: 18] قَالَ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَأْتِي بِالسَّاعَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ [النَّجْمِ: 57، 58] وَثَانِيهَا: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها وَهِيَ آتِيَةٌ فَكَأَنَّ قَائِلًا قَالَ مَتَى هَذَا؟ فَقَالَ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ فَلَا تَشْتَغِلْ بِهِ وَاشْتَغِلْ بِمَا عَلَيْكَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ، وَكُنْ فِي أَيِّ وَقْتٍ مُسْتَعِدًّا لِلِقَائِهَا وَيُنَاسِبُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ، الثَّالِثُ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَنْفَعُكَ، فَإِنْ قِيلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ فَمَا مَعْنَى الْأَمْرِ، نَقُولُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: فَاثْبُتْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِجَالِسٍ يُرِيدُ الْقِيَامَ: اجْلِسْ أَيْ لَا تَقُمْ ثَانِيهِمَا: الْخِطَابُ مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْمُرَادُ قَوْمُهُ وَالضَّمِيرُ فِي أَنَّهُ لِلشَّأْنِ، وَتَقْدِيرُ هَذَا هُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَعَا الْقَوْمَ إِلَى الْإِيمَانِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ إِلَّا ظُهُورُ الْأَمْرِ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُحْزِنُ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَسَلَّى قَلْبَهُ وَقَالَ أَنْتَ كَامِلٌ فِي نَفْسِكَ مُكَمِّلٌ لِغَيْرِكَ فَإِنْ لَمْ يَكْمُلْ بِكَ قَوْمٌ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ خَيْرًا فَأَنْتَ فِي نَفْسِكَ عَامِلٌ بِعِلْمِكَ وَعِلْمُكَ حَيْثُ تَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ وتستغفر وأنت بحمد الله مكمل وتكمل الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَأَنْتَ تَسْتَغْفِرُ لَهُمْ، فَقَدْ حَصَلَ لَكَ الْوَصْفَانِ، فَاثْبُتْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ، وَلَا يُحْزِنْكَ كُفْرُهُمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَهُ وَالْمُرَادُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُوَ بَعِيدٌ لِإِفْرَادِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِالذِّكْرِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لِذَنْبِكَ أَيْ لِذَنْبِ أَهْلِ بَيْتِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ أَيِ الَّذِينَ لَيْسُوا منك بأهل بيت وثالثهما: الْمُرَادُ هُوَ النَّبِيُّ وَالذَّنْبُ هُوَ تَرْكُ الْأَفْضَلِ الَّذِي هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ ذَنْبٌ وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ وَثَالِثُهَا: وَجْهٌ حَسَنٌ مُسْتَنْبَطٌ وَهُوَ أَنَّ المراد توفيق العمل الحسن واجتناب العمل السيء، وَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ طَلَبُ الْغُفْرَانِ، وَالْغُفْرَانُ هُوَ السَّتْرُ عَلَى الْقَبِيحِ وَمَنْ عُصِمَ فَقَدْ سُتِرَ عَلَيْهِ قَبَائِحُ الْهَوَى، وَمَعْنَى طَلَبِ الْغُفْرَانِ أَنْ لَا تَفْضَحَنَا وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِالْعِصْمَةِ مِنْهُ فَلَا يَقَعُ فِيهِ كَمَا كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ يَكُونُ بِالسَّتْرِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْوُجُودِ كَمَا هُوَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ أَحْوَالٌ ثَلَاثَةٌ حَالٌ مَعَ اللَّهِ وَحَالٌ مَعَ نَفْسِهِ وَحَالٌ مَعَ غَيْرِهِ، فَأَمَّا مَعَ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَأَمَّا مَعَ نَفْسِكَ فَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَاطْلُبِ الْعِصْمَةَ مِنَ اللَّهِ، وَأَمَّا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَاطْلُبِ الْغُفْرَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ يَعْنِي حَالَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الآخرة وحالكم في الليل والنهار/ ثم قال تعالى:

[سورة محمد (47) : آية 20]

[سورة محمد (47) : آية 20] وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ حَالَ الْمُنَافِقِ وَالْكَافِرِ وَالْمُهْتَدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْآيَاتِ الْعِلْمِيَّةِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْحَشْرِ وغيرهما بقوله وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [محمد: 16] وقوله وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد: 17] بَيَّنَ حَالَهُمْ فِي الْآيَاتِ الْعَمَلِيَّةِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ كَانَ يَنْتَظِرُ وُرُودَهَا وَيَطْلُبُ تَنْزِيلَهَا وَإِذَا تَأَخَّرَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ كَانَ يَقُولُ هَلَّا أَمَرْتَ بِشَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَةِ خَوْفًا مِنْ أَنْ لَا يُؤَهَّلَ لَهَا، وَالْمُنَافِقُ إِذَا نَزَلَتِ السُّورَةُ أَوِ الْآيَةُ وَفِيهَا تَكْلِيفٌ شَقَّ عَلَيْهِ، لِيُعْلَمَ تَبَايُنُ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، حَيْثُ لَا يَفْهَمُ الْمُنَافِقُ الْعِلْمَ وَلَا يُرِيدُ الْعَمَلَ، وَالْمُؤْمِنُ يَعْلَمُ وَيُحِبُّ الْعَمَلَ وَقَوْلُهُمْ لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ الْمُرَادُ مِنْهُ سورة فيها تكليف بمحن الْمُؤْمِنَ وَالْمُنَافِقَ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ سُورَةً فِيهَا الْقِتَالُ فَإِنَّهُ أَشَقُّ تَكْلِيفٍ وَقَوْلُهُ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ فِيهَا وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: سُورَةٌ لَمْ تُنْسَخْ ثَانِيهَا: سُورَةٌ فِيهَا أَلْفَاظٌ أُرِيدَتْ حَقَائِقُهَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] وَقَوْلِهِ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزُّمَرِ: 56] فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَضَرْبَ الرِّقابِ [محمد: 4] أراد القتل وهو أبلغ من قوله فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة: 191] وقوله وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [النساء: 91] صَرِيحٌ وَكَذَلِكَ غَيْرُ هَذَا مِنْ آيَاتِ الْقِتَالِ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَقَوْلُهُ مُحْكَمَةٌ فِيهَا فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا الْمُرَادُ غَيْرُ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ، أَوْ يَقُولُوا هَذِهِ آيَةٌ وَقَدْ نُسِخَتْ فَلَا نُقَاتِلُ، وَقَوْلُهُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَيِ الْمُنَافِقِينَ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ لِأَنَّ عِنْدَ التَّكْلِيفِ بِالْقِتَالِ لَا يَبْقَى لِنِفَاقِهِمْ فَائِدَةٌ، فَإِنَّهُمْ قَبْلَ الْقِتَالِ كَانُوا يَتَرَدَّدُونَ إِلَى الْقَبِيلَتَيْنِ وَعِنْدَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ إِمْكَانُ ذَلِكَ فَأَوْلى لَهُمْ دُعَاءٌ كَقَوْلِ الْقَائِلِ فَوَيْلٌ لَهُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ سَبَقَ ذِكْرُهُ وَهُوَ الْمَوْتُ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ قَالَ فَالْمَوْتُ أَوْلَى لَهُمْ، لِأَنَّ الْحَيَاةَ الَّتِي لَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْمَوْتُ خَيْرٌ مِنْهَا، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ أَيِ الطَّاعَةُ أولى لهم. [سورة محمد (47) : آية 21] طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ تَقْدِيرُهُ خَيْرٌ لَهُمْ أَيْ أَحْسَنُ وَأَمْثَلُ، لَا يُقَالُ طَاعَةٌ نَكِرَةٌ لَا تَصْلُحُ/ لِلِابْتِدَاءِ. لِأَنَّا نَقُولُ هِيَ مَوْصُوفَةٌ بدل عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِنَّهُ مَوْصُوفٌ فَكَأَنَّهُ تعالى قال: طاعَةٌ مخلصة وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ خير، وقيل معناه قالوا: طاعة وقول معروف أي قولهم أمرنا طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ يَقُولُونَ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ. وَقَوْلُهُ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ. جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ خَالَفُوا وَتَخَلَّفُوا، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِمَعْنَى قِرَاءَةِ أُبَيٍّ كَأَنَّهُ يَقُولُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ قَالُوا سَمْعًا وَطَاعَةً، وَعِنْدَ آخِرِ الْأَمْرِ خَالَفُوا وَأَخْلَفُوا مَوْعِدَهُمْ، وَنَسَبَ الْعَزْمَ إِلَى الْأَمْرِ وَالْعَزْمُ لِصَاحِبِ الْأَمْرِ مَعْنَاهُ: فَإِذَا عَزَمَ صَاحِبُ الْأَمْرِ. هَذَا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ مَجَازٌ كَقَوْلِنَا جَاءَ الْأَمْرُ وولى

[سورة محمد (47) : آية 22]

فَإِنَّ الْأَمْرَ فِي الْأَوَّلِ يُتَوَقَّعُ أَنْ لَا يَقَعَ وَعِنْدَ إِظْلَالِهِ وَعَجْزِ الْكَارِهِ عَنْ إِبْطَالِهِ فَهُوَ وَاقِعٌ فَقَالَ عَزَمَ وَالْوَجْهَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْ صَدَقُوا فِيهِ وَجْهَانِ عَلَى قَوْلِنَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ طَاعَةٌ أَنَّهُمْ قَالُوا طَاعَةٌ فَمَعْنَاهُ لَوْ صَدَقُوا فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ وَأَطَاعُوا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَعَلَى قَوْلِنَا طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ خير لهم وأحسن، فمعناه لو صَدَقُوا فِي إِيمَانِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمُ الرَّسُولَ لَكَانَ خَيْرًا لهم ثم قال تعالى: [سورة محمد (47) : آية 22] فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى فَسَادِ قَوْلٍ قَالُوهُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ كَيْفَ نُقَاتِلُ وَالْقَتْلُ إِفْسَادٌ وَالْعَرَبُ مِنْ ذَوِي أَرْحَامِنَا وَقَبَائِلِنَا؟ فَقَالَ تَعَالَى: إِنْ تَوَلَّيْتُمْ لَا يَقَعُ مِنْكُمْ إِلَّا الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّكُمْ تَقْتُلُونَ مَنْ تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ وَتَنْهَبُونَهُ وَالْقِتَالُ وَاقِعٌ بَيْنَكُمْ، أَلَيْسَ قَتْلُكُمُ الْبَنَاتَ إِفْسَادًا وَقَطْعًا لِلرَّحِمِ؟ فَلَا يَصِحُّ تَعَلُّلُكُمْ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ مَا أَمَرَ اللَّهُ وَهَذَا طَاعَةٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي اسْتِعْمَالِ عَسَى ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا: الْإِتْيَانُ بِهَا عَلَى صُورَةِ فِعْلٍ مَاضٍ مَعَهُ فَاعِلٌ تَقُولُ عَسَى زَيْدٌ وَعَسَيْنَا وَعَسَوْا وَعَسَيْتُ وَعَسَيْتُمَا وَعَسَيْتُمْ وَعَسَتْ وَعَسَتَا وَالثَّانِي: أَنْ يُؤْتَى بِهَا عَلَى صُورَةِ فِعْلٍ مَعَهُ مَفْعُولٌ تَقُولُ عَسَاهُ وَعَسَاهُمَا وَعَسَاكَ وَعَسَاكُمَا وَعَسَايَ وَعَسَانَا. وَالثَّالِثُ: الْإِتْيَانُ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْرَنَ بِهَا شَيْءٌ تَقُولُ عَسَى زَيْدٌ يَخْرُجُ وَعَسَى أَنْتَ تَخْرُجُ وَعَسَى أَنَا أَخْرُجُ وَالْكُلُّ لَهُ وَجْهٌ وَمَا عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ أَوْجَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَسَى مِنَ الْأَفْعَالِ الْجَامِدَةِ وَاقْتِرَانُ الْفَاعِلِ بِالْفِعْلِ أَوْلَى مِنَ اقْتِرَانِ الْمَفْعُولِ لِأَنَّ الْفَاعِلَ كَالْجُزْءِ مِنَ الْفِعْلِ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ فِيهِ أَرْبَعُ مُتَحَرِّكَاتٍ فِي مِثْلِ قَوْلِ الْقَائِلِ نُصِرْتُ وَجُوِّزَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِمْ نَصَرَكَ وَلِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَهُ فَاعِلٌ سَوَاءٌ كَانَ لَازِمًا أَوْ مُتَعَدِّيًا وَلَا كَذَلِكَ الْمَفْعُولُ بِهِ، فَعَسَيْتَ وَعَسَاكَ كَعَصَيْتَ وَعَصَاكَ فِي اقْتِرَانِ الْفَاعِلِ بِالْفِعْلِ/ وَالْمَفْعُولِ بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ عَسَى أَنْتَ تَقُومُ وَعَسَى أَنْ أَقُومَ فَدُونَ مَا ذَكَرْنَا لِلتَّطْوِيلِ الَّذِي فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ الْمُؤَكَّدِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ لَكَانَ لِلْمُخَاطَبِ أَنْ يُنْكِرَهُ فَإِذَا قَالَ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ كَأَنَّهُ يَقُولُ أَنَا أَسْأَلُكَ عَنْ هَذَا وَأَنْتَ لَا تَقْدِرُ أَنْ تُجِيبَ إِلَّا بِلَا أَوْ نَعَمْ، فَهُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَكَ وَعِنْدِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: عَسَى لِلتَّوْقِيعِ وَاللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ فَنَقُولُ فِيهِ مَا قُلْنَا فِي لَعَلَّ، وَفِي قَوْلِهِ لِنَبْلُوَهُمْ [الْكَهْفِ: 7] إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ يَفْعَلُ بِكُمْ فِعْلَ الْمُتَرَجِّي وَالْمُبْتَلِي وَالْمُتَوَقِّعِ، وَقَالَ آخَرُونَ كُلُّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَتَوَقَّعُ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَنَحْنُ قُلْنَا مَحْمُولٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ إِذَا كَانَ مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ فَالنَّظَرُ إِلَيْهِ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِأَمْرٍ، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ تَارَةً وَلَا يَحْصُلَ مِنْهُ أُخْرَى فَيَكُونُ الْفِعْلُ لِذَلِكَ الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ عَلَى سَبِيلِ التَّرَجِّي سَوَاءٌ كَانَ الْفَاعِلُ يَعْلَمُ حُصُولَ الْأَمْرِ مِنْهُ وَسَوَاءٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، مِثَالُهُ مَنْ نَصَبَ شَبَكَةً لِاصْطِيَادِ الصَّيْدِ يُقَالُ هُوَ مُتَوَقِّعٌ لِذَلِكَ فَإِنْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِوُقُوعِهِ فِيهِ بِإِخْبَارِ صَادِقٍ أَنَّهُ سَيَقَعُ فِيهِ أَوْ بِطَرِيقٍ أُخْرَى لَا يَخْرُجُ عَنِ التَّوَقُّعِ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ فِي الشَّاهِدِ لَمْ يَحْصُلْ لَنَا الْعِلْمُ فِيمَا نَتَوَقَّعُهُ فَيُظَنُّ أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ لَازِمٌ لِلْمُتَوَقِّعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الْمُتَوَقِّعُ هُوَ الْمُنْتَظِرُ لِأَمْرٍ لَيْسَ بِوَاجِبِ الْوُقُوعِ نظرا ذلك الْأَمْرِ فَحَسْبُ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَقَوْلُهُ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْوِلَايَةِ يَعْنِي إِنْ أَخَذْتُمُ الْوِلَايَةَ وَصَارَ النَّاسُ بِأَمْرِكُمْ أَفْسَدْتُمْ وَقَطَّعْتُمُ الْأَرْحَامَ وَثَانِيهِمَا: هُوَ مِنَ التَّوَلِّي الَّذِي هُوَ الْإِعْرَاضُ وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِمَا ذَكَرْنَا، أَيْ كُنْتُمْ

[سورة محمد (47) : آية 23]

تَتْرُكُونَ الْقِتَالَ وَتَقُولُونَ فِيهِ الْإِفْسَادُ وَقَطْعُ الْأَرْحَامِ لِكَوْنِ الْكُفَّارِ أَقَارِبَنَا فَلَا يَقَعُ مِنْكُمْ إِلَّا ذَلِكَ حَيْثُ تُقَاتِلُونَ عَلَى أَدْنَى شَيْءٍ كَمَا كَانَ عَادَةُ الْعَرَبِ الْأَوَّلُ: يُؤَكِّدُهُ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تُوُلِّيتُمْ، أَيْ إِنْ تَوَلَّاكُمْ وُلَاةٌ ظَلَمَةٌ جُفَاةٌ غُشَمَةٌ وَمَشَيْتُمْ تَحْتَ لِوَائِهِمْ وَأَفْسَدْتُمْ بإفسادهم معهم وَقَطَّعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَأْمُرُكُمْ إِلَّا بِالْإِصْلَاحِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، فَلِمَ تَتَقَاعَدُونَ عَنِ القتال وتتباعدون في الضلال ثم قال تعالى: [سورة محمد (47) : آية 23] أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) إِشَارَةٌ لِمَنْ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَبْعَدَهُمُ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ عَنِ الْخَيْرِ فَأَصَمَّهُمْ فَلَا يَسْمَعُونَ الْكَلَامَ الْمُسْتَبِينَ وَأَعْمَاهُمْ فَلَا يَتَّبِعُونَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَفِيهِ تَرْتِيبٌ حَسَنٌ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمُ اسْتَمَعُوا الْكَلَامَ الْعِلْمِيَّ وَلَمْ يَفْهَمُوهُ فَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ صُمٌّ أَصَمَّهُمُ اللَّهُ وَعِنْدَ الْأَمْرِ بِالْعَمَلِ تَرَكُوهُ وَعَلَّلُوا بِكَوْنِهِ إِفْسَادًا وَقَطْعًا لِلرَّحِمِ وَهُمْ كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ عِنْدَ النَّهْيِ عَنْهُ فَلَمْ يَرَوْا حَالَهُمْ عَلَيْهِ وَتَرَكُوا اتِّبَاعَ النَّبِيِّ الَّذِي يَأْمُرُهُمْ بِالْإِصْلَاحِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَلَوْ دَعَاهُمْ مَنْ يَأْمُرُ بِالْإِفْسَادِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ لَاتَّبَعُوهُ فَهُمْ عُمْيٌ أَعْمَاهُمُ اللَّهُ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ أَصَمَّهُمْ وَلَمْ يَقُلْ أَصَمَّ آذَانَهُمْ، وَقَالَ: وَأَعْمى / أَبْصارَهُمْ وَلَمْ يَقُلْ أَعْمَاهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَيْنَ آلَةُ الرُّؤْيَةِ وَلَوْ أَصَابَهَا آفَةٌ لَا يَحْصُلُ الْإِبْصَارُ وَالْأُذُنُ لَوْ أَصَابَهَا آفَةٌ مِنْ قَطْعٍ أَوْ قَلْعٍ تَسْمَعُ الْكَلَامَ، لِأَنَّ الْأُذُنَ خُلِقَتْ وَخُلِقَ فِيهَا تَعَارِيجٌ لِيَكْثُرَ فِيهَا الْهَوَاءُ الْمُتَمَوِّجُ وَلَا يَقْرَعُ الصِّمَاخَ بِعُنْفٍ فَيُؤْذِي كما يؤذي الصوت القوي فقال: فَأَصَمَّهُمْ من غير ذكر الأذن، وقال: أَعْمى أَبْصارَهُمْ مع ذكر العين لأن البصر هاهنا بِمَعْنَى الْعَيْنِ، وَلِهَذَا جَمَعَهُ بِالْأَبْصَارِ، وَلَوْ كَانَ مَصْدَرًا لَمَا جُمِعَ فَلَمْ يَذْكُرِ الْأُذُنَ إِذْ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْإِصْمَامِ، وَالْعَيْنُ لَهَا مَدْخَلٌ فِي الرُّؤْيَةِ بَلْ هِيَ الْكُلُّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْآفَةَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَمَّا أَضَافَهَا إِلَى الْأُذُنِ سَمَّاهَا وَقْرًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فُصِّلَتْ: 5] وَقَالَ: كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً [لُقْمَانَ: 7] وَالْوَقْرُ دُونَ الصم وكذلك الطرش ثم قال تعالى: [سورة محمد (47) : آية 24] أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) وَلْنَذْكُرَ تَفْسِيرَهَا فِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَمَّا قال الله تعالى: فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ [محمد: 23] كَيْفَ يُمْكِنُهُمُ التَّدَبُّرُ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِلْأَعْمَى أَبْصِرْ وَلِلْأَصَمِّ اسْمَعْ؟ فَنَقُولُ الْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ مُتَرَتِّبَةٍ بَعْضُهَا أَحْسَنُ مِنَ الْبَعْضِ الْأَوَّلُ: تَكْلِيفُهُ مَا لَا يُطَاقُ جَائِزٌ وَاللَّهُ أَمَرَ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِأَنْ يُؤْمِنَ، فَكَذَلِكَ جَازَ أَنْ يُعْمِيَهُمْ وَيَذُمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ التَّدَبُّرِ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّاسُ الثَّالِثُ: أَنْ نَقُولَ هَذِهِ الْآيَةُ وَرَدَتْ مُحَقِّقَةً لِمَعْنَى الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قال: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ [محمد: 23] أَيْ أَبْعَدَهُمْ عَنْهُ أَوْ عَنِ الصِّدْقِ أَوْ عَنِ الْخَيْرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْحَسَنَةِ فَأَصَمَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ حَقِيقَةَ الْكَلَامِ وَأَعْمَاهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ طَرِيقَ الْإِسْلَامِ فَإِذَنْ هُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إِمَّا لَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ فَيَبْعُدُونَ مِنْهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَعَنَهُمْ وَأَبْعَدَهُمْ عَنِ الْخَيْرِ وَالصِّدْقِ، وَالْقُرْآنُ مِنْهُمَا الصِّنْفُ الْأَعْلَى بَلِ النَّوْعُ الْأَشْرَفُ، وَإِمَّا يَتَدَبَّرُونَ لَكِنْ لَا تَدْخُلُ مَعَانِيهِ فِي قُلُوبِهِمْ لِكَوْنِهَا مُقْفَلَةً، تَقْدِيرُهُ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القرآن لكونهم ملعونين معبودين، أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالٌ فَيَتَدَبَّرُونَ وَلَا يَفْهَمُونَ، وَعَلَى هَذَا لَا نَحْتَاجُ أَنْ نَقُولَ أَمْ بِمَعْنَى بَلْ، بَلْ هِيَ عَلَى حَقِيقَتِهَا

[سورة محمد (47) : آية 25]

لِلِاسْتِفْهَامِ وَاقِعَةٌ فِي وَسَطِ الْكَلَامِ وَالْهَمْزَةُ أَخَذَتْ مَكَانَهَا وَهُوَ الصَّدْرُ، وَأَمْ دَخَلَتْ عَلَى الْقُلُوبِ الَّتِي فِي وَسَطِ الْكَلَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ عَلى قُلُوبٍ عَلَى التَّنْكِيرِ مَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى كَوْنِهِ مَوْصُوفًا لِأَنَّ النَّكِرَةَ بِالْوَصْفِ أَوْلَى مِنَ الْمَعْرِفَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ قَاسِيَةٍ أَوْ مُظْلِمَةٍ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ كَأَنَّهُ قَالَ أَمْ عَلَى بَعْضِ الْقُلُوبِ لِأَنَّ النَّكِرَةَ لَا تَعُمُّ، تَقُولُ جَاءَنِي رِجَالٌ فَيُفْهَمُ الْبَعْضُ وَجَاءَنِي الرِّجَالُ فَيُفْهَمُ الْكُلُّ، وَنَحْنُ نَقُولُ التَّنْكِيرُ لِلْقُلُوبِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْإِنْكَارِ الَّذِي فِي الْقُلُوبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَلْبَ إِذَا كَانَ عَارِفًا كَانَ/ مَعْرُوفًا لِأَنَّ الْقَلْبَ خُلِقَ لِلْمَعْرِفَةِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ الْمَعْرِفَةُ فَكَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ فِي الْإِنْسَانِ الْمُؤْذِي: هَذَا لَيْسَ بِإِنْسَانٍ هَذَا سَبُعٌ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ هَذَا لَيْسَ بِقَلْبٍ هَذَا حَجَرٌ. إِذَا عُلِمَ هَذَا فَالتَّعْرِيفُ إِمَّا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَإِمَّا بِالْإِضَافَةِ، وَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ أَوْ لِلْعَهْدِ، وَلَمْ يُمْكِنْ إِرَادَةُ الْجِنْسِ إِذْ لَيْسَ عَلَى قَلْبٍ قُفْلٌ، وَلَا تَعْرِيفُ الْعَهْدِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَلْبَ لَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ لَهُ قَلْبٌ، وَإِمَّا بِالْإِضَافَةِ بِأَنْ نَقُولَ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا وَهِيَ لِعَدَمِ عَوْدِ فَائِدَةٍ إِلَيْهِمْ، كَأَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُمْ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 7] وَقَالَ: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ [الزُّمَرِ: 22] فَنَقُولُ الْأَقْفَالُ أَبْلَغُ مِنَ الْخَتْمِ فَتَرَكَ الْإِضَافَةَ لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ رَأْسًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ أَقْفالُها بِالْإِضَافَةِ وَلَمْ يَقُلْ أَقْفَالٌ كَمَا قَالَ: قُلُوبٍ لِأَنَّ الْأَقْفَالَ كَانَتْ مِنْ شَأْنِهَا فَأَضَافَهَا إِلَيْهَا كَأَنَّهَا لَيْسَتْ إِلَّا لَهَا، وَفِي الْجُمْلَةِ لَمْ يُضِفِ الْقُلُوبَ إِلَيْهِمْ لِعَدَمِ نَفْعِهَا إِيَّاهُمْ وَأَضَافَ الْأَقْفَالَ إِلَيْهَا لِكَوْنِهَا مُنَاسِبَةً لَهَا، وَنَقُولُ أَرَادَ بِهِ أَقْفَالًا مَخْصُوصَةً هِيَ أَقْفَالُ الكفر والعناد ثم قال تعالى: [سورة محمد (47) : آية 25] إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) إشارة إلى أهل الكتاب الذين تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فِي التَّوْرَاةِ بِنَعْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْثِهِ وَارْتَدُّوا، أَوْ إِلَى كُلِّ مَنْ ظَهَرَتْ لَهُ الدَّلَائِلُ وَسَمِعَهَا وَلَمْ يُؤْمِنْ، وَهُمْ جَمَاعَةٌ مَنَعَهُمْ حُبُّ الرِّيَاسَةِ عَنِ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ سَهَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ يَعْنِي قَالُوا نَعِيشُ أَيَّامًا ثُمَّ نُؤْمِنُ بِهِ، وَقُرِئَ وَأَمْلَى لَهُمْ فَإِنْ قِيلَ الْإِمْلَاءُ وَالْإِمْهَالُ وَحَدُّ الْآجَالِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ وَأَمْلى لَهُمْ فَإِنَّ الْمُمْلِيَ حِينَئِذٍ يَكُونُ هُوَ الشَّيْطَانَ نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَأَمْلى لَهُمْ اللَّهُ فَيَقِفُ عَلَى سَوَّلَ لَهُمْ وَثَانِيهَا: هُوَ أَنَّ الْمُسَوِّلَ أَيْضًا لَيْسَ هُوَ الشَّيْطَانَ، وَإِنَّمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ عَلَى يَدِهِ وَلِسَانِهِ ذَلِكَ، فَذَلِكَ الشَّيْطَانُ يُمْلِيهِمْ وَيَقُولُ لَهُمْ فِي آجَالِكُمْ فُسْحَةٌ فَتَمَتَّعُوا بِرِيَاسَتِكُمْ ثُمَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ تُؤْمِنُونَ، وَقُرِئَ وَأُمْلِي لَهُمْ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْهَمْزَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ ثم قال تعالى: [سورة محمد (47) : آية 26] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِمْلَاءِ، أَيْ ذَلِكَ الْإِمْلَاءُ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا وَهُوَ اخْتِيَارُ الْوَاحِدِيِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّسْوِيلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ الِارْتِدَادُ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قَالُوا سَنُطِيعُكُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّا نُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ هُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: نُوَافِقُكُمْ عَلَى أَنَّ محمدا ليس

[سورة محمد (47) : آية 27]

بِمُرْسَلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ كَاذِبٌ، وَلَكِنْ لَا نُوَافِقُكُمْ فِي إِنْكَارِ الرِّسَالَةِ وَالْحَشْرِ وَالْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ آمَنَ بِغَيْرِهِ. لَا بَلْ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَلَا بِرُسُلِهِ وَلَا بِالْحَشْرِ، لِأَنَّ اللَّهَ كَمَا أَخْبَرَ عَنِ الْحَشْرِ وَهُوَ جَائِزٌ، أَخْبَرَ عَنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهِيَ جَائِزَةٌ فَإِذَا لَمْ يُصَدِّقِ اللَّهَ فِي شَيْءٍ لَا يَنْفِي الْكَذِبَ بِقَوْلِ اللَّهِ فِي غَيْرِهِ، فَلَا يَكُونُ مُصَدِّقًا مُوقِنًا بِالْحَشْرِ، وَلَا بِرِسَالَةِ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَتِهِمْ وَاحِدٌ، وَالْمُرَادُ مِنَ الَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ هُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُنَافِقُونَ، وَقِيلَ الْمُرَادُ الْيَهُودُ، فَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَالُوا لَهُمْ: نُوَافِقُكُمْ فِي إِخْرَاجِ مُحَمَّدٍ وَقَتْلِهِ وَقِتَالِ أَصْحَابِهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّ قَوْلَهُ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ لَوْ كَانَ مُسْنَدًا إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ لَكَانَ مَخْصُوصًا بِبَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّهُ مُسْنَدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ يَكُونُ عَامًّا، لِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ بِأَسْرِهِمْ، وَأَنْكَرُوا الرِّسَالَةَ رَأْسًا، وَقَوْلُهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ يَعْنِي فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمُحَمَّدٍ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ فَلَا نُؤْمِنُ، وَالتَّكْذِيبِ بِهِ فَنُكَذِّبُهُ كَمَا تُكَذِّبُونَهُ وَالْقِتَالِ مَعَهُ، وَأَمَّا الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَاتِّخَاذُ الْأَنْدَادِ لَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَإِنْكَارُ الْحَشْرِ وَالنُّبُوَّةِ فَلَا، وَقَوْلُهُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ قَالَ أَكْثَرُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْهُ هُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ سِرًّا، فَأَفْشَاهُ اللَّهُ وَأَظْهَرَهُ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ وَهُوَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْعِلْمِ بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُكَابِرِينَ مُعَانِدِينَ، وَكَانُوا يَعْرِفُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، وَقُرِئَ إِسْرارَهُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْمَصْدَرِ «1» ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى ظَاهِرٌ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُسِرُّونَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَلَى قَوْلِنَا الْمُرَادُ مِنَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا الْمُنَافِقُونَ، فَكَانُوا يَقُولُونَ لِلْمُجَاهِدِينَ مِنَ الْكُفَّارِ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَكَانُوا يُسِرُّونَ أَنَّهُمْ إِنْ غَلَبُوا انْقَلَبُوا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ [العنكبوت: 10] وقال تعالى: فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ ... سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ [الأحزاب: 15] ثم قال تعالى: [سورة محمد (47) : آية 27] فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ [محمد: 26] قَالَ فَهَبْ أَنَّهُمْ يُسِرُّونَ وَاللَّهُ لَا يُظْهِرُهُ الْيَوْمَ فَكَيْفَ يَبْقَى مَخْفِيًّا وَقْتَ وَفَاتِهِمْ، أَوْ نَقُولُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ وهب أنهم/ يختارون القتال لما فيه الضراب وَالطِّعَانُ، مَعَ أَنَّهُ مُفِيدٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، إِنْ غَلَبُوا فَالْمَالُ فِي الْحَالِ وَالثَّوَابُ فِي الْمَآلِ، وَإِنْ غُلِبُوا فَالشَّهَادَةُ وَالسَّعَادَةُ، فَكَيْفَ حَالُهُمْ إِذَا ضَرَبَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فِيهِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْقِتَالَ فِي الْحَالِ إِنْ أقدم الْمُبَارَزَةِ فَرُبَّمَا يَهْزِمُ الْخَصْمَ وَيُسَلِّمُ وَجْهَهُ وَقَفَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَهْزِمْهُ فَالضَّرْبُ عَلَى وَجْهِهِ إِنْ ضبر وَثَبَتَ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ وَانْهَزَمَ، فَإِنْ فَاتَ الْقَرْنُ فَقَدْ سَلَّمَ وَجْهَهُ وَقَفَاهُ وَإِنْ لَمْ يَفُتْهُ فَالضَّرْبُ عَلَى قَفَاهُ لَا غَيْرُ، وَيَوْمُ الْوَفَاةِ لَا نُصْرَةَ لَهُ وَلَا مَفَرَّ، فَوَجْهُهُ وَظَهْرُهُ مَضْرُوبٌ مَطْعُونٌ، فَكَيْفَ يَحْتَرِزُ عَنِ الْأَذَى ويختار العذاب الأكبر. [سورة محمد (47) : آية 28] ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ أَمْرَيْنِ: ضَرْبَ الْوَجْهِ، وَضَرْبَ الْأَدْبَارِ، وَذَكَرَ بَعْدَهُمَا أَمْرَيْنِ آخَرَيْنِ: اتِّبَاعُ مَا أسخط الله وكراهة رضوانه، فكأنه

_ (1) جرى المصنف في تفسيره على القراءة بفتح الهمزة، ولذلك نبه على الثانية هنا وكأنها ليست مشهورة.

[سورة محمد (47) : آية 29]

تَعَالَى قَابَلَ الْأَمْرَيْنِ فَقَالَ: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ حَيْثُ أَقْبَلُوا عَلَى سُخْطِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُتَّسِعَ لِلشَّيْءِ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِ، وَيَضْرِبُونَ أَدْبَارَهُمْ لِأَنَّهُمْ تَوَلَّوْا عَمَّا فِيهِ رِضَا اللَّهِ، فَإِنَّ الْكَارِهَ لِلشَّيْءِ يَتَوَلَّى عَنْهُ، وَمَا أَسْخَطَ اللَّهَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: إِنْكَارُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَرِضْوَانُهُ الْإِقْرَارُ بِهِ وَالْإِسْلَامُ الثَّانِي: الْكُفْرُ هُوَ مَا أَسْخَطَ الله والإيمان يرضنيه يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزُّمَرِ: 7] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ إِلَى أَنْ قَالَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [الْبَيِّنَةِ: 7، 8] الثَّالِثُ: مَا أَسْخَطَ اللَّهَ تَسْوِيلُ الشَّيْطَانِ، وَرِضْوَانُ اللَّهِ التَّعْوِيلُ عَلَى الْبُرْهَانِ وَالْقُرْآنِ، فَإِنْ قِيلَ هُمْ مَا كَانُوا يَكْرَهُونَ رِضْوَانَ اللَّهِ، بَلْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ فِيهِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَلَا نَطْلُبُ إِلَّا رِضَاءَ اللَّهِ، وَكَيْفَ لَا وَالْمُشْرِكُونَ بِإِشْرَاكِهِمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّا نَطْلُبُ رِضَاءَ اللَّهِ. كَمَا قَالُوا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزُّمَرِ: 3] وَقَالُوا فَيَشْفَعُوا لَنا [الْأَعْرَافِ: 53] فَنَقُولُ مَعْنَاهُ كَرِهُوا مَا فِيهِ رِضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَلَمْ يَقُلْ: مَا أَرْضَى اللَّهَ «1» وَذَلِكَ لِأَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ سَابِقَةٌ، فَلَهُ رَحْمَةٌ ثَابِتَةٌ وَهِيَ مَنْشَأُ الرِّضْوَانِ، وَغَضَبُ اللَّهِ مُتَأَخِّرٌ فَهُوَ يَكُونُ عَلَى ذَنْبٍ، فَقَالَ: رِضْوانَهُ لِأَنَّهُ وَصْفٌ ثَابِتٌ لِلَّهِ سَابِقٌ، وَلَمْ يَقُلْ سَخَطَ اللَّهِ، بَلْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ السَّخَطَ لَيْسَ ثُبُوتُهُ كَثُبُوتِ الرِّضْوَانِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ فِي اللِّعَانِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ [النُّورِ: 9] يُقَالُ: غَضَبَ اللَّهِ مُضَافًا لِأَنَّ لِعَانَهُ قَدْ سَبَقَ مُظْهِرُ الزِّنَا بِقَوْلِهِ وَأَيْمَانِهِ، وَقَبْلَهُ لَمْ يكن لله غضب، ورضوان اللَّهِ أَمْرٌ يَكُونُ مِنْهُ الْفِعْلُ، وَغَضَبُ اللَّهِ أَمْرٌ يَكُونُ مِنْ فِعْلِهِ، وَلْنَضْرِبْ لَهُ مِثَالًا: الْكَرِيمُ الَّذِي رُسِّخَ الْكَرَمُ فِي نَفْسِهِ يَحْمِلُهُ الْكَرَمُ عَلَى الْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ، فَإِذَا كَثُرَ مِنَ السيء الْإِسَاءَةُ فَغَضَبُهُ لَا لِأَمْرٍ يَعُودُ إِلَيْهِ، بَلْ غَضَبُهُ عَلَيْهِ يَكُونُ لِإِصْلَاحِ/ حَالَةٍ، وَزَجْرًا لِأَمْثَالِهِ عَنْ مِثْلِ فِعَالِهِ، فَيُقَالُ هُوَ كَانَ الْكَرِيمُ فكرمه لما فيه من الغريزة الحسنة، لَكِنَّ فُلَانًا أَغْضَبَهُ وَظَهَرَ مِنْهُ الْغَضَبُ، فَيَجْعَلُ الْغَضَبَ ظَاهِرًا مِنَ الْفِعْلِ، وَالْفِعْلَ الْحَسَنَ ظَاهِرًا مِنَ الْكَرَمِ، فَالْغَضَبُ فِي الْكَرِيمِ بَعْدَ فِعْلٍ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ بَعْدَ كَرَمٍ، وَمِنْ هَذَا يُعْرَفُ لُطْفُ قَوْلِهِ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ حَيْثُ لَمْ يَطْلُبُوا إِرْضَاءَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا طَلَبُوا إِرْضَاءَ الشَّيْطَانِ والأصنام. [سورة محمد (47) : آية 29] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى المنافقين وأَمْ تَسْتَدْعِي جُمْلَةً أُخْرَى اسْتِفْهَامِيَّةً إِذَا كَانَتْ لِلِاسْتِفْهَامِ، لِأَنَّ كَلِمَةَ أَمْ إِذَا كَانَتْ مُتَّصِلَةً اسْتِفْهَامِيَّةً تَسْتَدْعِي سَبْقَ جُمْلَةٍ أُخْرَى اسْتِفْهَامِيَّةٍ، يُقَالُ أَزَيْدٌ فِي الدَّارِ أَمْ عَمْرٌو، وَإِذَا كَانَتْ مُنْقَطِعَةً لَا تَسْتَدْعِي ذَلِكَ، يُقَالُ إِنَّ هَذَا لَزَيْدٌ أَمْ عَمْرٌو، وَكَمَا يُقَالُ بَلْ عَمْرٌو، وَالْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهَا مُنْقَطِعَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالسَّابِقُ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ إِسْرَارَهُمْ أَمْ حَسِبَ الْمُنَافِقُونَ أَنْ لَنْ يُظْهِرَهَا وَالْكُلُّ قَاصِرٌ، وإنما يعلمها ويظهرها، ويؤيد هذا أن المتقطعة لَا تَكَادُ تَقَعُ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ فَلَا يُقَالُ ابْتِدَاءً، بَلْ جَاءَ زَيْدٌ، وَلَا أَمْ جَاءَ عَمْرٌو، وَالْإِخْرَاجُ بِمَعْنَى الْإِظْهَارِ فَإِنَّهُ إِبْرَازٌ، وَالْأَضْغَانُ هِيَ الْحُقُودُ وَالْأَمْرَاضُ، وَاحِدُهَا ضِغْنٌ. ثُمَّ قال تعالى:

_ (1) يعني أنه تعالى قال: وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ ولم يقل: وكرهوا ما أرضى الله، وليس في مقابلة قوله ما أَسْخَطَ اللَّهَ كما هو المتبادر من قول المفسر.

[سورة محمد (47) : آية 30]

[سورة محمد (47) : آية 30] وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ. لَمَّا كَانَ مَفْهُومُ قَوْلِهِ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ [محمد: 29] أَنَّ اللَّهَ يُظْهِرُ ضَمَائِرَهُمْ وَيُبْرِزُ سَرَائِرَهُمْ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ فَلِمَ لَمْ يُظْهِرْ فَقَالَ أَخَّرْنَاهُ لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ لَا لِخَوْفٍ مِنْهُمْ، كَمَا لَا تُفْشَى أَسْرَارُ الْأَكَابِرِ خَوْفًا مِنْهُمْ وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ أَيْ لَا مَانِعَ لَنَا وَالْإِرَاءَةُ بِمَعْنَى التعريف، وقوله لَتَعْرِفَنَّهُمْ لِزِيَادَةِ فَائِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّ التَّعْرِيفَ قَدْ يُطْلَقُ وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَعْرِفَةُ، يُقَالُ عَرَّفْتُهُ وَلَمْ يَعْرِفْ وفهمته ولم يفهم فقال هاهنا فَلَعَرَفْتَهُمْ يَعْنِي عَرَّفْنَاهُمْ تَعْرِيفًا تَعْرِفُهُمْ بِهِ، إِشَارَةٌ إِلَى قُوَّةِ التَّعْرِيفِ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ فَلَعَرَفْتَهُمْ هِيَ الَّتِي تَقَعُ فِي جَزَاءِ لَوْ كَمَا فِي قَوْلِهِ لَأَرَيْناكَهُمْ أُدْخِلَتْ عَلَى الْمَعْرِفَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمَعْرِفَةَ كَالْمُرَتَّبَةِ عَلَى الْمَشِيئَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَوْ نَشَاءُ لَعَرَفْتَهُمْ، لِيُفْهَمَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ غَيْرُ مُتَأَخِّرَةٍ عَنِ التَّعْرِيفِ فَتُفِيدُ تَأْكِيدَ التَّعْرِيفِ، أَيْ لَوْ نَشَاءُ لَعَرَّفْنَاكَ تَعْرِيفًا مَعَهُ الْمَعْرِفَةُ/ لَا بَعْدَهُ، وَأَمَّا اللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قَالَ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ وَاللَّهِ، وَقَوْلُهُ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: فِي مَعْنَى الْقَوْلِ وَعَلَى هَذَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْقَوْلِ قَوْلُهُمْ أَيْ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ حَيْثُ يَقُولُونَ مَا مَعْنَاهُ النِّفَاقُ كَقَوْلِهِمْ حِينَ مَجِيءِ النَّصْرِ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ، وَقَوْلُهُمْ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ [الْمُنَافِقُونَ: 8] وَقَوْلُهُمْ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ [الْأَحْزَابِ: 13] وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَيْ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ قَالَ مَا تَعْلَمُ مِنْهُ حَالَ الْمُنَافِقِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا [النُّورِ: 62] وَقَوْلِهِ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الْأَنْفَالِ: 2] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَثَانِيهَا: فِي مَيْلِ الْقَوْلِ عَنِ الصَّوَابِ حَيْثُ قَالُوا مَا لَمْ يَعْتَقِدُوا، فَأَمَالُوا كَلَامَهُمْ حَيْثُ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [الْمُنَافِقُونَ: 1] وَقَالُوا إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ [الْأَحْزَابِ: 13] ، وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ [الْأَحْزَابِ: 15] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَثَالِثُهَا: فِي لَحْنِ الْقَوْلِ أَيْ فِي الْوَجْهِ الْخَفِيِّ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي يَفْهَمُهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا يَفْهَمُهُ غَيْرُهُ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَيْضًا وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْرِفُ الْمُنَافِقَ وَلَمْ يَكُنْ يُظْهِرُ أَمْرَهُ إِلَى أَنَّ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فِي إِظْهَارِ أَمْرِهِمْ وَمُنِعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى جَنَائِزِهِمْ وَالْقِيَامِ عَلَى قُبُورِهِمْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ بِسِيماهُمْ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَجَعَلَ عَلَى وُجُوهِهِمْ عَلَامَةً أَوْ يَمْسَخُهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ [يس: 67] وَرُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْهُمْ أَصْبَحُوا وَعَلَى جِبَاهِهِمْ مَكْتُوبٌ هَذَا مُنَافِقٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ وَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَبَيَانٌ لِكَوْنِ حَالِهِمْ عَلَى خِلَافِ حَالِ الْمُنَافِقِ، فَإِنَّ الْمُنَافِقَ كَانَ لَهُ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ، وَالْمُؤْمِنُ كَانَ لَهُ عَمَلٌ وَلَا يَقُولُ بِهِ، وَإِنَّمَا قَوْلُهُ التَّسْبِيحُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [الْبَقَرَةِ: 286] وَقَوْلُهُ رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا [آلِ عِمْرَانَ: 193] وَكَانُوا يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ وَيَتَكَلَّمُونَ فِي السَّيِّئَاتِ مُسْتَغْفِرِينَ مُشْفِقِينَ، وَالْمُنَافِقُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي الصَّالِحَاتِ كَقَوْلِهِ إِنَّا مَعَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 14] قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا [الْحُجُرَاتِ: 14] ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا [البقرة: 8] ويعمل السيء فَقَالَ تَعَالَى اللَّهُ يَسْمَعُ أَقْوَالَهُمُ الْفَارِغَةَ وَيَعْلَمُ أعمالكم الصالحة فلا يضيع. ثم قال تعالى:

[سورة محمد (47) : آية 31]

[سورة محمد (47) : آية 31] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) أَيْ لَنَأْمُرَنَّكُمْ بِمَا لَا يَكُونُ مُتَعَيِّنًا لِلْوُقُوعِ، بَلْ بِمَا يَحْتَمِلُ الْوُقُوعَ وَيَحْتَمِلُ عَدَمَ الْوُقُوعِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُخْتَبِرُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ أَيْ نَعْلَمُ الْمُجَاهِدِينَ مِنْ غَيْرِ الْمُجَاهِدِينَ وَيَدْخُلُ فِي عِلْمِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَدْ عَلَّمَهُ عِلْمَ الْغَيْبِ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي الِابْتِلَاءِ، وَفِي قَوْلِهِ حَتَّى نَعْلَمَ وَقَوْلُهُ الْمُجاهِدِينَ أَيِ الْمُقْدِمِينَ عَلَى الْجِهَادِ وَالصَّابِرِينَ أَيِ الثَّابِتِينَ الَّذِينَ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وقوله وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ يحتمل وجوها أحدها: قوله آمَنَّا [البقرة: 8] لِأَنَّ الْمُنَافِقَ وُجِدَ مِنْهُ هَذَا الْخَبَرُ/ وَالْمُؤْمِنَ وُجِدَ مِنْهُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَبِالْجِهَادِ يُعْلَمُ الصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، [الْحُجُرَاتِ: 15] وَثَانِيهَا: إِخْبَارُهُمْ مِنْ عَدَمِ التَّوْلِيَةِ فِي قَوْلِهِ وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ [الْأَحْزَابِ: 15] إِلَى غَيْرِ ذلك، فالمؤمن وفى بعهده وقاتل مع أصحابه في سبيل الله كأنهم بنيان مرصوص وَالْمُنَافِقُ كَانَ كَالْهَبَاءِ يَنْزَعِجُ بِأَدْنَى صَيْحَةٍ وَثَالِثُهَا: الْمُؤْمِنُ كَانَ لَهُ أَخْبَارٌ صَادِقَةٌ مَسْمُوعَةٌ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ [الفتح: 27] ، لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] ، ونَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصَّافَّاتِ: 173] وَلِلْمُنَافِقِ أَخْبَارٌ أَرَاجِيفُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ [الْأَحْزَابِ: 60] فَعِنْدَ تَحَقُّقِ الْإِيجَافِ، يَتَبَيَّنُ الصِّدْقُ من الإرجاف. ثم قال تعالى: [سورة محمد (47) : آية 32] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ وَالثَّانِي: كُفَّارُ قُرَيْشٍ يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى قِيلَ أَهْلُ الْكِتَابِ تَبَيَّنَ لَهُمْ صِدْقُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَوْلُهُ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً تَهْدِيدٌ مَعْنَاهُ هُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ الشِّقَاقَ مَعَ الرَّسُولِ وَهُمْ بِهِ يُشَاقُّونَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الشِّقَاقُ مَعَ اللَّهِ فَإِنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مَا عَلَيْهِ إِلَّا الْبَلَاغُ فَإِنْ ضَرُّوا يَضُرُّوا الرُّسُلَ لَكِنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَتَضَرَّرَ بِكُفْرِ كَافِرٍ وَفِسْقِ فَاسِقٍ، وَقَوْلُهُ وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ قَدْ عُلِمَ مَعْنَاهُ. فَإِنْ قِيلَ قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ فَكَيْفَ يُحْبَطُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؟ فَنَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلُهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [محمد: 1] فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الْمُشْرِكُونَ، وَمِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ كَانُوا مُبْطِلِينَ، وَأَعْمَالُهُمْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ شَرِيعَةٍ، والمراد من الذين كفروا هاهنا أَهْلُ الْكِتَابِ وَكَانَتْ لَهُمْ أَعْمَالٌ قَبْلَ الرَّسُولِ فَأَحْبَطَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ وَلَا يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ بِالْحَشْرِ وَالرُّسُلِ وَالتَّوْحِيدِ، وَالْكَافِرُ الْمُشْرِكُ أُحْبِطَ عَمَلُهُ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْعٍ أَصْلًا وَلَا كَانَ مُعْتَرِفًا بِالْحَشْرِ الثَّانِي: هُوَ أن المراد بالأعمال هاهنا مَكَايِدُهُمْ فِي الْقِتَالِ وَذَلِكَ فِي تَحَقُّقٍ مِنْهُمْ وَاللَّهُ سَيُبْطِلُهُ حَيْثُ يَكُونُ النَّصْرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُرَادُ بِالْأَعْمَالِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ هُوَ مَا ظَنُّوهُ حسنة. ثم قال تعالى: [سورة محمد (47) : آية 33] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) العطف هاهنا مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ يُقَالُ اجْلِسْ وَاسْتَرِحْ وَقُمْ وَامْشِ لِأَنَّ طَاعَةَ/ اللَّهِ تُحْمَلُ عَلَى طَاعَةِ الرَّسُولِ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْعَمَلِ بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلِمْتُمُ الْحَقَّ

[سورة محمد (47) : آية 34]

فَافْعَلُوا الْخَيْرَ، وَقَوْلُهُ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحُدُهَا: دُومُوا عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَلَا تُشْرِكُوا فَتَبْطُلَ أَعْمَالُكُمْ، قَالَ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] الوجه الثاني: لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ بِتَرْكِ طَاعَةِ الرَّسُولِ كَمَا أَبْطَلَ الْكِتَابِ أَعْمَالَهُمْ بِتَكْذِيبِ الرَّسُولِ وَعِصْيَانِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ إِلَى أَنْ قَالَ: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الْحُجُرَاتِ: 2] الثَّالِثُ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَةِ: 264] كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 17] وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ يَمُنُّ بِالطَّاعَةِ عَلَى الرَّسُولِ كَأَنَّهُ يَقُولُ هَذَا فَعَلْتُهُ لِأَجْلِ قَلْبِكَ، وَلَوْلَا رِضَاكَ بِهِ لَمَا فَعَلْتُ، وَهُوَ مُنَافٍ لِلْإِخْلَاصِ، وَاللَّهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الْعَمَلَ الخالص. ثم قال تعالى: [سورة محمد (47) : آية 34] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ وَمَا دُونَ ذَلِكَ يَغْفِرُهُ إِنْ شَاءَ حَتَّى لَا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ وَإِنْ بَطَلَتْ لَكِنَّ فَضْلَ اللَّهِ بَاقٍ يَغْفِرُ لَهُمْ بِفَضْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَغْفِرْ لَهُمْ بِعَمَلِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تعالى: [سورة محمد (47) : آية 35] فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ عَمَلَ الْكَافِرِ الَّذِي لَهُ صُورَةُ الْحَسَنَاتِ مُحْبَطٌ، وَذَنْبَهُ الَّذِي هُوَ أَقْبَحُ السَّيِّئَاتِ غَيْرُ مَغْفُورٍ، بَيَّنَ أَنْ لَا حُرْمَةَ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بطاعة الرسول بقوله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء: 59] وَأَمَرَ بِالْقِتَالِ بِقَوْلِهِ فَلا تَهِنُوا أَيْ لَا تَضْعُفُوا بَعْدَ مَا وُجِدَ السَّبَبُ فِي الْجِدِّ في الأمر والاجتهاد في الجهاد فقال فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَفِي الْآيَاتِ تَرْتِيبٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ يَقْتَضِي السَّعْيَ فِي الْقِتَالِ لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ وَأَمْرَ الرَّسُولِ وَرَدَ بِالْجِهَادِ وَقَدْ أُمِرُوا بِالطَّاعَةِ، فَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَضْعُفَ الْمُكَلَّفُ وَلَا يَكْسَلَ وَلَا يَهِنَ وَلَا يَتَهَاوَنَ، ثُمَّ إِنَّ بَعْدَ الْمُقْتَضَى قَدْ يَتَحَقَّقُ مَانِعٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْمُسَبِّبُ، وَالْمَانِعُ مِنَ الْقِتَالِ إِمَّا أُخْرَوِيٌّ وَإِمَّا دُنْيَوِيٌّ، فَذَكَرَ الْأُخْرَوِيَّ وَهُوَ أَنَّ الْكَافِرَ لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لِأَنَّهُ لَا عَمَلَ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَلَا مَغْفِرَةَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، فَإِذَا وُجِدَ السَّبَبُ وَلَمْ يُوجَدِ الْمَانِعُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَقَّقَ الْمُسَبِّبُ، وَلَمْ يُقَدِّمِ الْمَانِعَ الدُّنْيَوِيَّ عَلَى قَوْلِهِ فَلا تَهِنُوا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْأُمُورَ الدُّنْيَوِيَّةَ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ/ مَانِعَةً مِنَ الْإِتْيَانِ، فَلَا تَهِنُوا فَإِنَّ لَكُمُ النَّصْرَ، أَوْ عَلَيْكُمْ بِالْعَزِيمَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الِاعْتِزَامِ لِلْهَزِيمَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ الْمَانِعُ الدُّنْيَوِيُّ مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَانِعًا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ أَيْضًا حَيْثُ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَالْأَعْلَوْنَ وَالْمُصْطَفَوْنَ فِي الْجَمْعِ حَالَةَ الرَّفْعِ مَعْلُومُ الْأَصْلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْرَ كَيْفَ آلَ إِلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ فِي التَّصْرِيفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَهُ فِي الْجَمْعِ الْمُوَافِقِ أَعْلِيُونَ وَمُصْطَفِيُونَ فَسُكِّنَتِ الْيَاءُ لِكَوْنِهَا حَرْفَ عِلَّةٍ فَتَحَرَّكَ مَا قَبْلَهَا وَالْوَاوُ كَانَتْ سَاكِنَةً فَالْتَقَى سَاكِنَانِ وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ حَذْفِ أَحَدِهِمَا أَوْ تَحْرِيكِهِ وَالتَّحْرِيكُ كَانَ يُوقِعُ فِي الْمَحْذُورِ الَّذِي اجْتُنِبَ مِنْهُ فَوَجَبَ الْحَذْفُ، وَالْوَاوُ كَانَتْ فِيهِ لِمَعْنًى لَا يُسْتَفَادُ إِلَّا مِنْهَا وَهُوَ الْجَمْعُ فَأُسْقِطَتِ الْيَاءُ وَبَقِيَ أَعْلَوْنَ، وَبِهَذَا الدَّلِيلِ صَارَ فِي الْجَرِّ أَعْلَيْنَ وَمُصْطَفَيْنَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ مَعَكُمْ هِدَايَةٌ وَإِرْشَادٌ يَمْنَعُ الْمُكَلَّفَ مِنَ الْإِعْجَابِ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ كَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الِافْتِخَارِ فَقَالَ: وَاللَّهُ مَعَكُمْ يَعْنِي لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ بَلْ مِنَ اللَّهِ، أَوْ نَقُولُ لَمَّا قَالَ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ فَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَ ضَعْفَ أنفسهم وقتلهم مَعَ كَثْرَةِ الْكُفَّارِ وَشَوْكَتِهِمْ وَكَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُمْ كَيْفَ

[سورة محمد (47) : آية 36]

يَكُونُ لَهُمُ الْغَلَبَةُ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ مَعَكُمْ لَا يَبْقَى لَكُمْ شَكٌّ وَلَا ارْتِيَابٌ فِي أَنَّ الْغَلَبَةَ لَكُمْ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] وقوله إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصَّافَّاتِ: 173] وَقَوْلُهُ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَعْدٌ آخَرُ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا قَالَ إِنَّ اللَّهَ مَعَكُمْ، كَانَ فِيهِ أَنَّ النُّصْرَةَ بِاللَّهِ لَا بِكُمْ فَكَانَ الْقَائِلُ يَقُولُ لَمْ يَصْدُرْ مِنِّي عَمَلٌ لَهُ اعْتِبَارٌ فَلَا أَسْتَحِقُّ تَعْظِيمًا، فَقَالَ هُوَ يَنْصُرُكُمْ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا، وَيَجْعَلُ كَأَنَّ النُّصْرَةَ جُعِلَتْ بِكُمْ وَمِنْكُمْ فَكَأَنَّكُمْ مُسْتَقِلُّونَ فِي ذَلِكَ وَيُعْطِيكُمْ أَجْرَ الْمُسْتَبِدِّ، وَالتِّرَةُ النَّقْصُ، وَمِنْهُ الْمُوتِرُ كَأَنَّهُ نَقَصَ مِنْهُ مَا يَشْفَعُهُ، وَيَقُولُ عِنْدَ الْقِتَالِ إِنْ قُتِلَ مِنَ الْكَافِرِينَ أَحَدٌ فَقَدْ وُتِرُوا فِي أَهْلِهِمْ وَعَمَلِهِمْ حَيْثُ نَقَصَ عَدَدُهُمْ وَضَاعَ عَمَلُهُمْ، وَالْمُؤْمِنُ إِنْ قُتِلَ فَإِنَّمَا يَنْقُصُ مِنْ عَدَدِهِ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْ عَمَلِهِ، وَكَيْفَ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْ عَدَدِهِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ حَيٌّ مرزوق، فرح بما هو إليه مسوق. ثم قال تعالى: [سورة محمد (47) : آية 36] إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) زِيَادَةٌ فِي التَّسْلِيَةِ يَعْنِي كَيْفَ تَمْنَعُكَ الدُّنْيَا مِنْ طَلَبِ الْآخِرَةِ بِالْجِهَادِ، وَهِيَ لَا تَفُوتُكَ لِكَوْنِكَ مَنْصُورًا غَالِبًا، وَإِنْ فَاتَتْكَ فَعَمَلُكَ غَيْرُ مُوتَرٍ، فَكَيْفَ وَمَا يَفُوتُكَ، فَإِنْ فَاتَ فَائِتٌ وَلَمْ يُعَوَّضْ لَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَلْتَفِتَ إِلَيْهَا لِكَوْنِهَا لَعِبًا وَلَهْوًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ مِرَارًا أَنَّ اللَّعِبَ/ مَا تَشْتَغِلُ بِهِ وَلَا يَكُونُ فِيهِ ضَرُورَةٌ فِي الْحَالِ وَلَا مَنْفَعَةٌ فِي الْمَآلِ، ثُمَّ إِنِ استعمله الإنسان ولم يشتغله عَنْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَثْنِهِ عَنْ أَشْغَالِهِ الْمُهِمَّةِ فَهُوَ لَعِبٌ وَإِنْ شَغَلَهُ وَدَهَشَهُ عَنْ مُهِمَّاتِهِ فهو لهو، ولهذا يقال ملاهي لِآلَاتِ الْمَلَاهِي لِأَنَّهَا مَشْغَلَةٌ عَنِ الْغَيْرِ، وَيُقَالُ لِمَا دُونَهُ لَعِبٌ كَاللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ وَالْحَمَامِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَقَوْلُهُ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ إِعَادَةٌ لِلْوَعْدِ وَالْإِضَافَةُ لِلتَّعْرِيفِ، أَيِ الْأَجْرُ الَّذِي وَعَدَكُمْ بِقَوْلِهِ أَجْرٍ كَرِيمٍ [يس: 11] وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [هود: 11] وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 172] وقوله وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ الْجِهَادَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إِنْفَاقٍ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ أَنَا لَا أُنْفِقُ مَالِي، فَيُقَالُ لَهُ اللَّهُ لا يسئلكم مَالَكُمْ فِي الْجِهَاتِ الْمُعَيَّنَةِ مِنَ الزَّكَاةِ وَالْغَنِيمَةِ وأموال المصالح فيها تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَالِ لَا تُرَاعُونَ بِإِخْرَاجِهِ وَثَانِيهَا: الْأَمْوَالُ لِلَّهِ وَهِيَ فِي أَيْدِيكُمْ عَارِيَةٌ وَقَدْ طَلَبَ مِنْكُمْ أَوْ أَجَازَ لَكُمْ فِي صَرْفِهَا فِي جِهَةِ الْجِهَادِ فَلَا مَعْنَى لِبُخْلِكُمْ بِمَالِهِ، وَإِلَى هَذَا إِشَارَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْحَدِيدِ: 10] أَيِ الْكُلُّ لِلَّهِ وَثَالِثُهَا: لَا يَسْأَلُكُمْ أَمْوَالَكُمْ كُلَّهَا، وَإِنَّمَا يَسْأَلُكُمْ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْهَا وَهُوَ رُبْعُ الْعُشْرِ، وَهُوَ قَلِيلٌ جِدًّا لِأَنَّ الْعُشْرَ هُوَ الْجُزْءُ الْأَقَلُّ إذ ليس دونه جزء آخر وَلَيْسَ اسْمًا مُفْرَدًا، وَأَمَّا الْجُزْءُ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ وَمِنِ اثْنَيْ عَشَرَ وَ [إِلَى] مِائَةِ جُزْءٍ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُلْتَفَتًا إِلَيْهِ لَمْ يُوضَعْ لَهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ فِي رَأْسِ الْمَالِ بَلْ أَوْجَبَ ذَلِكَ فِي الرِّبْحِ الَّذِي هُوَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَعَطَائِهِ، وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ أَيْضًا كَذَلِكَ لَكِنَّ هَذَا الْمَعْنَى فِي الرِّبْحِ أَظْهَرُ، وَلَمَّا كَانَ الْمَالُ مِنْهُ مَا يُنْفَقُ لِلتِّجَارَةِ فِيهِ وَمِنْهُ مَا لَا يُنْفَقُ، وَمَا أُنْفِقَ مِنْهُ لِلتِّجَارَةِ أَحَدُ قِسْمَيْهِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ التِّجَارَةُ فِيهِ رَابِحَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَكُونَ رَابِحَةً فَصَارَ الْقِسْمُ الْوَاحِدُ قِسْمَيْنِ فَصَارَ فِي التَّقْدِيرِ كَانَ الرِّبْحُ فِي رُبْعِهِ فَأَوْجَبَ [رُبْعَ] عُشْرِ الَّذِي فِيهِ الرِّبْحُ وَهُوَ عُشْرٌ فَهُوَ رُبْعُ الْعُشْرِ وَهُوَ الْوَاجِبُ، فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْأَلُكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَلَا الكثير منه. ثم قال تعالى: [سورة محمد (47) : آية 37] إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37)

[سورة محمد (47) : آية 38]

الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَيُحْفِكُمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْإِحْفَاءَ يَتْبَعُ السُّؤَالَ بَيَانًا لِشُحِّ الْأَنْفُسِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ قَدْ يَكُونُ لِلْمِثْلَيْنِ وَبِالْفَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْمُتَعَاقِبَيْنِ أَوْ مُتَعَلِّقَيْنِ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْإِحْفَاءَ يَقَعُ عَقِيبَ السُّؤَالِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بِمُجَرَّدِ السُّؤَالِ لَا يُعْطِي شَيْئًا وَقَوْلُهُ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ يَعْنِي مَا طَلَبَهَا وَلَوْ طَلَبَهَا وَأَلَحَّ عَلَيْكُمْ فِي الطلب لبخلتم، كَيْفَ وَأَنْتُمْ تَبْخَلُونَ بِالْيَسِيرِ لَا تَبْخَلُونَ بِالْكَثِيرِ وَقَوْلُهُ وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ يَعْنِي بِسَبَبِهِ فَإِنَّ الطَّالِبَ وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَطْلُبُونَكُمْ وَأَنْتُمْ لِمَحَبَّةِ الْمَالِ وَشُحِّ الْأَنْفُسِ تَمْتَنِعُونَ فيفضي إلى القتال وتظهر به الضغائن/ ثم قال تعالى: [سورة محمد (47) : آية 38] ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38) [يَعْنِي] قَدْ طَلَبْتُ مِنْكُمُ الْيَسِيرَ فَبَخِلْتُمْ فَكَيْفَ لَوْ طَلَبْتُ مِنْكُمُ الْكُلَّ وَقَوْلُهُ هؤُلاءِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ الله وثانيهما: هؤُلاءِ وحدها خبر أنتم كَمَا يُقَالُ أَنْتَ هَذَا تَحْقِيقًا لِلشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ أَيْ ظَهَرَ أَثَرُكُمْ بِحَيْثُ لَا حَاجَةَ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْكُمْ بِأَمْرٍ مُغَايِرٍ ثُمَّ يَبْتَدِئُ تُدْعَوْنَ وَقَوْلُهُ تُدْعَوْنَ أَيْ إِلَى الْإِنْفَاقِ إِمَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْجِهَادِ، وَإِمَّا فِي صَرْفِهِ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ مِنْ إِخْوَانِكُمْ، وَبِالْجُمْلَةِ فَفِي الْجِهَتَيْنِ تَخْذِيلُ الْأَعْدَاءِ وَنُصْرَةُ الْأَوْلِيَاءِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْبُخْلَ ضَرَرٌ عَائِدٌ إِلَيْهِ فَلَا تَظُنُّوا أَنَّهُمْ لَا يُنْفِقُونَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ بَلْ لَا يُنْفِقُونَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَإِنَّ من يبخل بأجرة الطبيب وثمن الداء وَهُوَ مَرِيضٌ فَلَا يَبْخَلُ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ حَقَّقَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى مَالِكُمْ وَأَتَمَّهُ بِقَوْلِهِ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ حَتَّى لَا تَقُولُوا إِنَّا أَيْضًا أَغْنِيَاءُ عَنِ الْقِتَالِ، وَدَفْعِ حَاجَةِ الْفُقَرَاءِ فَإِنَّهُمْ لَا غِنَى لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلِأَنَّهُ لَوْلَا الْقِتَالُ لَقُتِلُوا، فَإِنَّ الْكَافِرَ إِنْ يَغْزُ يُغْزَ، وَالْمُحْتَاجُ إِنْ لَمْ يَدْفَعْ حَاجَتَهُ يَقْصِدْهُ، لَا سِيَّمَا أَبَاحَ الشَّارِعُ لِلْمُضْطَرِّ ذَلِكَ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَظَاهِرٌ فَكَيْفَ لا يكون فقيرا وهو موقوف مسؤول يوم لا ينفع مال ولا بنون. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ بَيَانُ التَّرْتِيبِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ذَكَرَهُ بَيَانًا لِلِاسْتِغْنَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [إِبْرَاهِيمَ: 19] وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا تَقْرِيرٌ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: اللَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِ بِأَسْرِهِ فَلَا حَاجَةَ لَهُ إِلَيْكُمْ. فَإِنْ كَانَ ذَاهِبٌ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ مُلْكَهُ بِالْعَالَمِ وَجَبَرُوتَهُ يَظْهَرُ بِهِ وَعَظَمَتَهُ بِعِبَادِهِ، فَنَقُولُ هَبْ أَنَّ هَذَا الْبَاطِلَ حَقٌّ لَكِنَّكُمْ غَيْرُ مُتَعَيِّنِينَ لَهُ، بَلِ اللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا غَيْرَكُمْ يَفْتَخِرُونَ بِعِبَادَتِهِ، وَعَالَمًا غَيْرَ هَذَا يَشْهَدُ بِعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْأُمُورَ وَأَقَامَ عَلَيْهَا الْبَرَاهِينَ وَأَوْضَحَهَا بِالْأَمْثِلَةِ قَالَ إِنْ أَطَعْتُمْ فَلَكُمْ أُجُورُكُمْ وَزِيَادَةٌ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا لَمْ يَبْقَ لَكُمْ إِلَّا الْإِهْلَاكُ فَإِنَّ مَا مِنْ نَبِيٍّ أَنْذَرَ قَوْمَهُ وَأَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِ إِلَّا وَقَدْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ بِالْإِهْلَاكِ وَطَهَّرَ اللَّهُ الْأَرْضَ مِنْهُمْ وَأَتَى بِقَوْمٍ آخَرِينَ طَاهِرِينَ، وَقَوْلُهُ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ فِيهِ مَسْأَلَةٌ نَحْوِيَّةٌ يَتَبَيَّنُ مِنْهَا فَوَائِدَ عَزِيزَةً وَهِيَ: / أَنَّ النُّحَاةَ قَالُوا: يَجُوزُ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ بِالْوَاوِ وَالْفَاءِ وَثُمَّ، الجزم والرفع جميعا، قال الله تعالى هاهنا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ بِالْجَزْمِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 111] بِالرَّفْعِ بِإِثْبَاتِ النُّونِ وَهُوَ مَعَ الجواز،

ففيه تدقيق: وهو أن هاهنا لَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِالتَّوَلِّي لِأَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَتَوَلَّوْا يَكُونُونَ مِمَّنْ يَأْتِي بِهِمُ اللَّهُ عَلَى الطَّاعَةِ وَإِنْ تَوَلَّوْا لَا يَكُونُونَ مِثْلَهُمْ لِكَوْنِهِمْ عَاصِينَ، كَوْنُ مَنْ يَأْتِي بِهِمْ مُطِيعِينَ، وَأَمَّا هُنَاكَ سَوَاءٌ قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا لَا يُنْصَرُونَ، فَلَمْ يَكُنْ لِلتَّعْلِيقِ هُنَاكَ وَجْهٌ فَرُفِعَ بالابتداء، وهاهنا جُزِمَ لِلتَّعْلِيقِ. وَقَوْلُهُ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ فِي الْوَصْفِ وَلَا فِي الْجِنْسِ وَهُوَ لَائِقٌ الْوَجْهُ الثَّانِي: وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَوْمٌ مِنَ الْعَجَمِ ثَانِيهَا: قَوْمٌ مِنْ فَارِسَ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَمَّنْ يُسْتَبْدَلُ بِهِمْ إِنْ تَوَلَّوْا وَسَلْمَانُ إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ: «هَذَا وَقَوْمُهُ» ثُمَّ قَالَ: «لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ مَنُوطًا بِالثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ فَارِسَ» وَثَالِثُهَا: قَوْمٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَاتُهُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَعِتْرَتِهِ وَآلِ بَيْتِهِ أَجْمَعِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا آمين.

سورة الفتح

بسم الله الرّحمن الرّحيم سُورَةُ الْفَتْحِ وَهِيَ عِشْرُونَ وَتِسْعُ آيَاتٍ مَدَنِيَّةٍ [سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْفَتْحِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: فَتْحُ مَكَّةَ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَثَانِيهَا: فَتْحُ الرُّومِ وَغَيْرِهَا وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ مِنَ الْفَتْحِ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ وَرَابِعُهَا: فَتْحُ الْإِسْلَامِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ وَخَامِسُهَا: الْمُرَادُ مِنْهُ الْحُكْمُ كَقَوْلِهِ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الْأَعْرَافِ: 89] وَقَوْلِهِ ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ [سَبَأٍ: 26] وَالْمُخْتَارُ مِنَ الْكُلِّ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: فَتْحُ مَكَّةَ، وَالثَّانِي: فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَالثَّالِثُ: فَتْحُ الْإِسْلَامِ بِالْآيَةِ وَالْبَيَانِ وَالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ. وَالْأَوَّلُ مُنَاسِبٌ لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا مِنْ وجوه أحدها: أنه تعالى لما قال: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. إِلَى أَنْ قَالَ: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [مُحَمَّدٍ: 38] بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ فَتَحَ لَهُمْ مَكَّةَ وَغَنِمُوا دِيَارَهُمْ وَحَصَلَ لَهُمْ أَضْعَافُ مَا أَنْفَقُوا وَلَوْ بَخِلُوا لَضَاعَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ بُخْلُهُمْ إِلَّا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ثَانِيهَا: لما قال: وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَقَالَ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ [مُحَمَّدٍ: 35] بَيَّنَ بُرْهَانَهُ بِفَتْحِ مَكَّةَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا هُمُ الْأَعْلَوْنَ ثَالِثُهَا: لَمَّا قَالَ تَعَالَى: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ [مُحَمَّدٍ: 35] وَكَانَ مَعْنَاهُ لَا تَسْأَلُوا الصُّلْحَ مِنْ عِنْدِكُمْ، بَلِ اصْبِرُوا فَإِنَّهُمْ يَسْأَلُونَ الصُّلْحَ وَيَجْتَهِدُونَ فِيهِ كَمَا كَانَ يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ فِي أَحَدِ الْوُجُوهِ، وَكَمَا كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ حَيْثُ أَتَى صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ مُسْتَأْمِنِينَ وَمُؤْمِنِينَ وَمُسْلِمِينَ، فَإِنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ فَتْحَ مَكَّةَ، فَمَكَّةُ لَمْ تَكُنْ قَدْ فُتِحَتْ، فَكَيْفَ قَالَ تَعَالَى: فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً بِلَفْظِ الْمَاضِي؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فَتَحْنَا فِي حُكْمِنَا وَتَقْدِيرِنَا ثَانِيهِمَا: مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ كَائِنٌ، فَأَخْبَرَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ أَمْرٌ لَا دَافِعَ لَهُ، وَاقِعٌ لَا رَافِعَ لَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ يُنْبِئُ عَنْ كَوْنِ الْفَتْحِ سَبَبًا لِلْمَغْفِرَةِ، وَالْفَتْحُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمَغْفِرَةِ، فَمَا الْجَوَابُ عَنْهُ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: مَا قِيلَ إِنَّ الْفَتْحَ لَمْ يَجْعَلْهُ سَبَبًا لِلْمَغْفِرَةِ وَحْدَهَا، بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِاجْتِمَاعِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ: الْمَغْفِرَةُ، وَإِتْمَامُ النِّعْمَةِ وَالْهِدَايَةِ وَالنُّصْرَةِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى

قَالَ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ وَيَهْدِيَكَ وَيَنْصُرَكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاجْتِمَاعَ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِالْفَتْحِ، فَإِنَّ النِّعْمَةَ بِهِ تَمَّتْ، وَالنُّصْرَةَ بَعْدَهُ قَدْ عَمَّتْ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ كَانَ سَبَبًا لِتَطْهِيرِ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِجْسِ الْأَوْثَانِ، وَتَطْهِيرُ بَيْتِهِ صَارَ سَبَبًا لِتَطْهِيرِ عَبْدِهِ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ بِالْفَتْحِ يَحْصُلُ الْحَجُّ، ثُمَّ بِالْحَجِّ تَحْصُلُ الْمَغْفِرَةُ، أَلَا تَرَى إِلَى دُعَاءِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ قَالَ فِي الْحَجِّ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا، وَسَعْيًا مَشْكُورًا، وَذَنْبًا مَغْفُورًا» الرَّابِعُ: الْمُرَادُ مِنْهُ التَّعْرِيفُ تَقْدِيرُهُ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ لِيُعْرَفَ أَنَّكَ مَغْفُورٌ، مَعْصُومٌ، فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا عَلِمُوا بَعْدَ عَامِ الْفِيلِ أَنَّ مَكَّةَ لَا يَأْخُذُهَا عَدُوُّ اللَّهِ الْمَسْخُوطُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُهَا وَيَأْخُذُهَا حَبِيبُ اللَّهِ الْمَغْفُورُ لَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَنْبٌ، فَمَاذَا يُغْفَرُ لَهُ؟ قُلْنَا الْجَوَابُ: عَنْهُ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ ذَنْبُ الْمُؤْمِنِينَ ثَانِيهَا: الْمُرَادُ تَرْكُ الْأَفْضَلِ ثَالِثُهَا: الصَّغَائِرُ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِالسَّهْوِ وَالْعَمْدِ، وَهُوَ يَصُونُهُمْ عَنِ الْعَجَبِ رَابِعُهَا: الْمُرَادُ الْعِصْمَةُ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَهُ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَما تَأَخَّرَ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَعَدَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ لَا يُذْنِبُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ ثَانِيهَا: مَا تَقَدَّمَ عَلَى الْفَتْحِ، وَمَا تَأَخَّرَ عَنِ الْفَتْحِ ثَالِثُهَا: الْعُمُومُ يُقَالُ اضْرِبْ مَنْ لَقِيتَ وَمَنْ لَا تَلْقَاهُ، مَعَ أَنَّ مَنْ لَا يَلْقَى لَا يُمْكِنُ ضَرْبُهُ إِشَارَةً إِلَى الْعُمُومِ رَابِعُهَا: مِنْ قَبْلِ النُّبُوَّةِ وَمِنْ بَعْدِهَا، وَعَلَى هَذَا فَمَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ بِالْعَفْوِ وَمَا بَعْدَهَا بِالْعِصْمَةِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ أُخَرُ سَاقِطَةٌ، مِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِ مَارِيَةَ، وَمَا تَأَخَّرَ مِنْ أَمْرِ زَيْنَبَ، وَهُوَ أَبْعَدُ الْوُجُوهِ وَأَسْقَطُهَا لِعَدَمِ الْتِئَامِ الْكَلَامِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: هُوَ أَنَّ التَّكَالِيفَ عِنْدَ الْفَتْحِ تَمَّتْ حَيْثُ وَجَبَ الْحَجُّ، وَهُوَ آخِرُ التَّكَالِيفِ، وَالتَّكَالِيفُ نِعَمٌ ثَانِيهَا: يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بِإِخْلَاءِ الْأَرْضِ لَكَ عَنْ مُعَانِدِيكَ، فَإِنَّ يَوْمَ الْفَتْحِ لَمْ يَبْقَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَدُوٌّ ذُو اعْتِبَارٍ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ كَانُوا أُهْلِكُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَالْبَاقُونَ آمَنُوا وَاسْتَأْمَنُوا يَوْمَ الْفَتْحِ ثَالِثُهَا: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا بِاسْتِجَابَةِ دعائك في طلب الفتح، وفي الآخرة بقبول شَفَاعَتِكَ فِي الذُّنُوبِ وَلَوْ كَانَتْ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَظْهَرُهَا: يُدِيمُكَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ حَتَّى لَا يَبْقَى مَنْ يَلْتَفِتُ إِلَى قَوْلِهِ مِنَ الْمُضِلِّينَ، أَوْ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ، وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [الْمَائِدَةِ: 3] حَيْثُ أَهْلَكْتُ الْمُجَادِلِينَ فِيهِ، وَحَمَلْتُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَثَانِيهَا: أَنْ يُقَالَ جَعَلَ الْفَتْحَ سَبَبًا لِلْهِدَايَةِ إِلَى/ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، لِأَنَّهُ سَهَّلَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْجِهَادَ لِعِلْمِهِمْ بِالْفَوَائِدِ الْعَاجِلَةِ بِالْفَتْحِ وَالْآجِلَةِ بِالْوَعْدِ، وَالْجِهَادُ سُلُوكُ سَبِيلِ اللَّهِ، ولهذا يقال للغازي في سبيل الله مجاهدو ثالثها: مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ التَّعْرِيفُ، أَيْ لِيُعْرَفَ أَنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْفَتْحَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى يَدِ مَنْ يَكُونُ عَلَى صِرَاطِ اللَّهِ بِدَلِيلِ حِكَايَةِ الْفِيلِ، وَقَوْلُهُ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً ظَاهِرٌ، لِأَنَّ بِالْفَتْحِ ظَهَرَ النَّصْرُ وَاشْتَهَرَ الْأَمْرُ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ إِحْدَاهُمَا لَفْظِيَّةٌ وَالْأُخْرَى مَعْنَوِيَّةٌ: أَمَّا الْمَسْأَلَةُ اللَّفْظِيَّةُ: فَهِيَ أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ النَّصْرَ بِكَوْنِهِ عَزِيزًا، وَالْعَزِيزُ مَنْ لَهُ النَّصْرُ وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا ثَلَاثَةً الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ نُصِرَ إِذْ عَزَّ، كَقَوْلِهِ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: 21] أَيْ ذَاتُ رِضًى الثَّانِي: وَصْفُ النَّصْرِ بِمَا يُوصَفُ بِهِ الْمَنْصُورُ إِسْنَادًا مَجَازِيًّا يُقَالُ لَهُ كَلَامٌ صَادِقٌ، كَمَا يقال له متكلم صادق الثالث: المراد نصرا عَزِيزًا صَاحِبُهُ الْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ الْجَوَابِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّمَا يَلْزَمُنَا مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنَ التَّقْدِيرَاتِ إِذَا قُلْنَا: الْعِزَّةُ مِنَ الْغَلَبَةِ، وَالْعَزِيزُ الْغَالِبُ وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: الْعَزِيزُ هُوَ النَّفِيسُ القليل

[سورة الفتح (48) : آية 4]

النَّظِيرِ، أَوِ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ الْقَلِيلُ الْوُجُودِ، يُقَالُ عَزَّ الشَّيْءُ إِذَا قَلَّ وُجُودُهُ مَعَ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، فَالنَّصْرُ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ وَمِثْلُهُ لَمْ يُوجَدْ وَهُوَ أَخْذُ بَيْتِ اللَّهِ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُتَمَكِّنِينَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ. أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ أَبْرَزَ الْفَاعِلَ وَهُوَ اللَّهُ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَيُتِمَّ وَبِقَوْلِهِ وَيَهْدِيَكَ وَلَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ اللَّهِ عَلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْكَثِيرَةَ إِذَا صَدَرَتْ مِنْ فَاعِلٍ يَظْهَرُ اسْمُهُ فِي الْفِعْلِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَظْهَرُ فِيمَا بَعْدَهُ تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ وَتَكَلَّمَ، وَقَامَ وَرَاحَ، وَلَا تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ، وَقَعَدَ زيد اختصارا للكلام بالاقتصار على الأول، وهاهنا لَمْ يَقُلْ وَيَنْصُرَكَ نَصْرًا، بَلْ أَعَادَ لَفْظَ اللَّهِ، فَنَقُولُ هَذَا إِرْشَادٌ إِلَى طَرِيقِ النَّصْرِ، وَلِهَذَا قَلَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ النَّصْرَ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ، فَقَالَ تَعَالَى: بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ [الرُّومِ: 5] وَلَمْ يَقُلْ بِالنَّصْرِ يَنْصُرُ، وَقَالَ: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ [الْأَنْفَالِ: 62] وَلَمْ يَقُلْ بِالنَّصْرِ، وَقَالَ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النَّصْرِ: 1] وَقَالَ: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصف: 13] وَلَمْ يَقُلْ نَصْرٌ وَفَتْحٌ، وَقَالَ: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأنفال: 10] وَهَذَا أَدَلُّ الْآيَاتِ عَلَى مَطْلُوبِنَا، وَتَحْقِيقُهُ هُوَ أَنَّ النَّصْرَ بِالصَّبْرِ، وَالصَّبْرَ بِاللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النَّحْلِ: 127] وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّبْرَ سُكُونُ الْقَلْبِ وَاطْمِئْنَانُهُ، وَذَلِكَ بِذِكْرِ الله، كما قال تَعَالَى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْدِ: 28] فلما قال هاهنا وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ، أَظْهَرَ لَفْظَ اللَّهِ ذِكْرًا لِلتَّعْلِيمِ أَنَّ بِذِكْرِ اللَّهِ يَحْصُلُ اطْمِئْنَانُ الْقُلُوبِ، وَبِهِ يحصل الصبر، وبه يتحقق النصر، وهاهنا مَسْأَلَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: إِنَّا فَتَحْنا ثُمَّ قَالَ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ وَلَمْ يَقُلْ إِنَّا فَتَحْنَا لِنَغْفِرَ لَكَ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الْفَتْحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ وَإِنْ كَانَتْ عَظِيمَةً لَكِنَّهَا عَامَّةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزُّمَرِ: 53] وَقَالَ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] وَلَئِنْ قُلْنَا بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَغْفِرَةِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْعِصْمَةُ، فَذَلِكَ لَمْ يَخْتَصَّ بِنَبِيِّنَا، بَلْ غَيْرُهُ مِنَ الرُّسُلِ كَانَ مَعْصُومًا، وَإِتْمَامُ/ النِّعْمَةِ كَذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [الْمَائِدَةِ: 3] وَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 47] وكذلك الهداية قال الله تعالى: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «1» [القصص: 56] فَعَمَّمَ، وَكَذَلِكَ النَّصْرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [الصَّافَّاتِ: 171، 172] وَأَمَّا الْفَتْحُ فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَظَّمَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً وَفِيهِ التَّعْظِيمُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: إِنَّا وَثَانِيهِمَا: لَكَ أَيْ لأجلك على وجه المنة. ثم قال تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 4] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لَمَّا قَالَ تعالى: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ [الفتح: 3] بَيَّنَ وَجْهَ النَّصْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَنْصُرُ رُسُلَهُ بِصَيْحَةٍ يُهْلِكُ بِهَا أَعْدَاءَهُمْ، أَوْ رَجْفَةٍ تَحْكُمُ عَلَيْهِمْ بِالْفَنَاءِ، أَوْ جُنْدٍ يُرْسِلُهُ مِنَ السَّمَاءِ، أَوْ نَصْرٍ وَقُوَّةٍ وَثَبَاتِ قَلْبٍ يَرْزُقُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، لِيَكُونَ لَهُمْ بِذَلِكَ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ أَيْ تَحْقِيقًا لِلنَّصْرِ، وَفِي السَّكِينَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: هُوَ السُّكُونُ الثَّانِي: الْوَقَارُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِ اللَّهِ وَهُوَ مِنَ السُّكُونِ الثَّالِثُ: الْيَقِينُ وَالْكُلُّ مِنَ السكون وفيه مسائل:

_ (1) في تفسير الرازي المطبوع (يهدي إليه من يشاء) وهو خطأ وما أثبتناه هو الصواب من المعجم المفهرس.

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: السَّكِينَةُ هُنَا غَيْرُ السَّكِينَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [الْبَقَرَةِ: 248] فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَيَحْتَمِلُ هِيَ تِلْكَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ الْيَقِينُ وَثَبَاتُ الْقُلُوبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: السَّكِينَةُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَيْهِمْ هِيَ سَبَبُ ذِكْرِهِمُ اللَّهَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْدِ: 28] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكَافِرِينَ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ [الْأَحْزَابِ: 26] بِلَفْظِ الْقَذْفِ الْمُزْعِجِ وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْزَلَ السَّكِينَةَ بِلَفْظِ الْإِنْزَالِ الْمُثْبَتِ، وَفِيهِ مَعْنًى حُكْمِيٌّ وَهُوَ أَنَّ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا مِنْ قَبْلُ وَتَذَكَّرَهُ وَاسْتَدَامَ تَذَكُّرُهُ فَإِذَا وَقَعَ لَا يَتَغَيَّرُ، وَمَنْ كَانَ غَافِلًا عَنْ شَيْءٍ فَيَقَعُ دُفْعَةً يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أُخْبِرَ بِوُقُوعِ صَيْحَةٍ وَقِيلَ لَهُ لَا تَنْزَعِجْ مِنْهَا فَوَقَعَتِ الصَّيْحَةُ لَا يَرْجُفُ، ومن لم يخبر به وأخبر وغفل عنه يَرْتَجِفُ إِذَا وَقَعَتْ، فَكَذَلِكَ الْكَافِرُ أَتَاهُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَقَذَفَ فِي قَلْبِهِ فَارْتَجَفَ، وَالْمُؤْمِنُ أَتَاهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ يَذْكُرُهُ فَسَكَنَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ فيه وجوه أحدها: أمرهم بتكاليف شيئا بَعْدَ شَيْءٍ فَآمَنُوا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، مَثَلًا أُمِرُوا بِالتَّوْحِيدِ فَآمَنُوا وَأَطَاعُوا، ثُمَّ أُمِرُوا بِالْقِتَالِ وَالْحَجِّ فَآمَنُوا وَأَطَاعُوا، فَازْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ثَانِيهَا: أَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ فَصَبَرُوا فَرَأَوْا عَيْنَ الْيَقِينِ بِمَا عَلِمُوا مِنَ النَّصْرِ عِلْمَ الْيَقِينِ إِيمَانًا بِالْغَيْبِ فَازْدَادُوا إِيمَانًا مُسْتَفَادًا مِنَ الشَّهَادَةِ مَعَ إِيمَانِهِمُ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْغَيْبِ ثَالِثُهَا: ازْدَادُوا بِالْفُرُوعِ مَعَ إِيمَانِهِمْ بِالْأُصُولِ، فَإِنَّهُمْ آمَنُوا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ وَالْحَشْرَ كَائِنٌ وَآمَنُوا بِأَنَّ كُلَّ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِدْقٌ وَكُلَّ مَا يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَاجِبٌ رَابِعُهَا: ازْدَادُوا إِيمَانًا اسْتِدْلَالِيًّا مَعَ إِيمَانِهِمُ الْفِطْرِيِّ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ نُبَيِّنُ لَطِيفَةً وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آلِ عِمْرَانَ: 178] وَلَمْ يَقُلْ مَعَ كُفْرِهِمْ لِأَنَّ كُفْرَهُمْ عِنَادِيٌّ وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ كُفْرٌ فِطْرِيٌّ لِيَنْضَمَّ إِلَيْهِ الْكُفْرُ الْعِنَادِيُّ بَلِ الْكُفْرُ لَيْسَ إِلَّا عِنَادِيًّا وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ بِالْفُرُوعِ لَا يُقَالُ انْضَمَّ إِلَى الْكُفْرِ بِالْأُصُولِ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ الْكُفْرِ بِالْأُصُولِ الْكُفْرَ بِالْفُرُوعِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْإِيمَانِ بِالْأُصُولِ الْإِيمَانُ بِالْفُرُوعِ بِمَعْنَى الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ فَقَالَ: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَقَوْلُهُ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَكَانَ قَادِرًا عَلَى إِهْلَاكِ عَدُّوِهِ بِجُنُودِهِ بَلْ بِصَيْحَةٍ وَلَمْ يَفْعَلْ بَلْ أَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِيَكُونَ إِهْلَاكُ أَعْدَائِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ فَيَكُونَ لَهُمُ الثَّوَابُ، وَفِي جنود السموات والأرض وجوه أحدها: ملائكة السموات والأرض ثانيها: من في السموات مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالْجِنِّ وَثَالِثُهَا: الْأَسْبَابُ السَّمَاوِيَّةُ وَالْأَرْضِيَّةُ حَتَّى يَكُونَ سُقُوطُ كِسْفٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْخَسْفُ مِنْ جُنُودِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً لَمَّا قال: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [سَبَأٍ: 3] وَأَيْضًا لَمَّا ذَكَرَ أَمْرَ الْقُلُوبِ بِقَوْلِهِ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْإِيمَانُ مِنْ عَمَلِ الْقُلُوبِ ذَكَرَ الْعِلْمَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَقَوْلُهُ حَكِيماً بَعْدَ قَوْلِهِ عَلِيماً إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَفْعَلُ عَلَى وَفْقِ الْعِلْمِ فَإِنَّ الْحَكِيمَ مَنْ يَعْمَلُ شَيْئًا مُتْقَنًا وَيَعْلَمُهُ، فَإِنَّ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ صُنْعٌ عَجِيبٌ اتِّفَاقًا لَا يُقَالُ لَهُ حَكِيمٌ وَمَنْ يَعْلَمُ وَيَعْمَلُ عَلَى خِلَافِ الْعِلْمِ لَا يقال له حكيم. وقوله تعالى:

[سورة الفتح (48) : آية 5]

[سورة الفتح (48) : آية 5] لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) [فيه مسائل] [المسألة الأولى] يَسْتَدْعِي فِعْلًا سَابِقًا لِيُدْخِلَ فَإِنَّ مَنْ قَالَ ابْتِدَاءً لِتُكْرِمَنِي لَا يَصِحُّ مَا لَمْ يَقُلْ قَبْلَهُ جِئْتُكَ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَفِي ذَلِكَ الْفِعْلِ وُجُوهٌ وَضَبْطُ الْأَحْوَالِ فِيهِ بِأَنْ تَقُولَ ذَلِكَ الْفِعْلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا بِصَرِيحِهِ أَوْ لَا يَكُونَ، وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَفْهُومًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَفْهُومًا مَنْ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ بَلْ فُهِمَ بِقَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ فَإِنْ كَانَ مَذْكُورًا فَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحُدُهَا: قوله لِيَزْدادُوا إِيماناً [الفتح: 4] كَأَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ السَّكِينَةَ/ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا بِسَبَبِ الْإِنْزَالِ لِيُدْخِلَهُمْ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ جَنَّاتٍ، فَإِنْ قِيلَ فَقَوْلُهُ وَيُعَذِّبَ [الْفَتْحِ: 6] عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِيُدْخِلَ وَازْدِيَادُ إِيمَانِهِمْ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِتَعْذِيبِهِمْ، نَقُولُ بَلَى وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّعْذِيبَ مَذْكُورٌ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا لِلْمُؤْمِنِينَ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ بِسَبَبِ ازْدِيَادِكُمْ فِي الْإِيمَانِ يُدْخِلُكُمْ فِي الْآخِرَةِ جَنَّاتٍ وَيُعَذِّبُ بِأَيْدِيكُمْ فِي الدُّنْيَا الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ الثَّانِي: تَقْدِيرُهُ وَيُعَذِّبُ بِسَبَبِ مَا لَكُمْ مِنَ الِازْدِيَادِ، يُقَالُ فَعَلْتُهُ لِأُجَرِّبَ بِهِ الْعَدُوَّ وَالصَّدِيقَ أَيْ لِأَعْرِفَ بِوُجُودِهِ الصَّدِيقَ وَبِعَدَمِهِ الْعَدُوَّ فَكَذَلِكَ لِيَزْدَادَ الْمُؤْمِنُ إِيمَانًا فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَيَزْدَادَ الْكَافِرُ كُفْرًا فَيُعَذِّبَهُ بِهِ وَوَجْهٌ آخَرُ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنْ سَبَبَ زِيَادَةِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ بِكَثْرَةِ صَبْرِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ فَيَعْيَى الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ مَعَهُ وَيَتَعَذَّبُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرْنَا الثَّانِي: قَوْلُهُ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ [الفتح: 3] كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ وَيَنْصُرُكَ اللَّهُ بِالْمُؤْمِنِينَ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ جَنَّاتٍ الثَّالِثُ: قَوْلِهِ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ [الفتح: 2] عَلَى قَوْلِنَا الْمُرَادُ ذَنْبُ الْمُؤْمِنِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِيَغْفِرَ لَكَ ذَنْبَ الْمُؤْمِنِينَ، لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ جَنَّاتٍ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ لَفْظٍ غَيْرِ صَرِيحٍ فَيَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَيْضًا أَحَدُهَا: قوله حَكِيماً [الفتح: 4] يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: اللَّهُ حَكِيمٌ، فَعَلَ مَا فَعَلَ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ جَنَّاتٍ وثانيها: قوله تعالى: وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [الفتح: 2] فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَيَسْتَجِيبُ دُعَاءَكَ فِي الدُّنْيَا وَيَقْبَلُ شَفَاعَتَكَ فِي الْعُقْبَى لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ ثالثها: قوله إِنَّا فَتَحْنا لَكَ [الفتح: 1] وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَنِيئًا لَكَ إِنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَكَ فَمَاذَا لَنَا؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ وَفَتَحْنَا لِلْمُؤْمِنِينَ لِيُدْخِلَهُمْ جَنَّاتٍ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ مَفْهُومٌ مِنْ غَيْرِ مَقَالٍ بَلْ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ، فَنَقُولُ هُوَ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ لِأَنَّ مِنْ ذِكْرِ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ عُلِمَ أَنَّ الْحَالَ حَالُ الْقِتَالِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْقِتَالِ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ نَقُولُ عُرِفَ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ أَنَّ اللَّهَ اخْتَارَ الْمُؤْمِنِينَ ليدخلهم جنّات. المسألة الثانية: قال هاهنا وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ اكْتَفَى بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَدَخَلَتِ الْمُؤْمِنَاتُ فِيهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَحْزَابِ: 47] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونُ: 1] فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا مَا يُوهِمُ اخْتِصَاصَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَزَاءِ الْمَوْعُودِ بِهِ مَعَ كَوْنِ الْمُؤْمِنَاتِ يَشْتَرِكْنَ مَعَهُمْ ذَكَرَهُنَّ اللَّهُ صَرِيحًا، وَفِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَا يُوهِمُ ذَلِكَ اكْتَفَى بِدُخُولِهِمْ فِي الْمُؤْمِنِينَ فَقَوْلُهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّهُ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سَبَأٍ: 28] الْعُمُومُ لَا يُوهِمُ خُرُوجَ الْمُؤْمِنَاتِ عن البشارة، وأما هاهنا فَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ لِفِعْلٍ سَابِقٍ وَهُوَ إِمَّا الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ أَوِ الصَّبْرُ فِيهِ أَوِ النَّصْرُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوِ الْفَتْحُ بِأَيْدِيهِمْ على ما

[سورة الفتح (48) : الآيات 6 إلى 7]

كَانَ يُتَوَهَّمُ لِأَنَّ إِدْخَالَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ لِلْقِتَالِ، وَالْمَرْأَةُ لَا تُقَاتِلُ فَلَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ الْمَوْعُودَ بِهَا صَرَّحَ اللَّهُ بِذِكْرِهِنَّ، وَكَذَلِكَ فِي الْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكَاتِ، وَالْمُنَافِقَةُ وَالْمُشْرِكَةُ لَمْ تُقَاتِلْ فَلَا تُعَذَّبُ فَصَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِهِنَّ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ/ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الْأَحْزَابِ: 35] لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ ذِكْرِ النِّسَاءِ وَأَحْوَالِهِنَّ لِقَوْلِهِ وَلا تَبَرَّجْنَ ... وَأَقِمْنَ ... وَآتِينَ ... وَأَطِعْنَ [الْأَحْزَابِ: 33] وَقَوْلُهُ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ [الْأَحْزَابِ: 34] فَكَانَ ذِكْرُهُنَّ هُنَاكَ أَصْلًا، لَكِنَّ الرِّجَالَ لَمَّا كَانَ لَهُمْ مَا لِلنِّسَاءِ مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ ذَكَرَهُمْ وَذَكَرَهُنَّ بِلَفْظٍ مُفْرَدٍ مِنْ غَيْرِ تَبَعِيَّةٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَصْلَ ذِكْرُهُنَّ في ذلك الموضع. المسألة الثالثة: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ بَعْدَ ذِكْرِ الْإِدْخَالِ مَعَ أَنَّ تَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ قَبْلَ الْإِدْخَالِ؟ نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: الواو لا تقتضي الترتيب الثاني: تكفر السَّيِّئَاتِ وَالْمَغْفِرَةُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ تَوَابِعِ كَوْنِ الْمُكَلَّفِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَقَدَّمَ الْإِدْخَالَ فِي الذِّكْرِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ التَّكْفِيرَ يَكُونُ بِإِلْبَاسِ خُلَعِ الْكَرَامَةِ وَهِيَ فِي الْجَنَّةِ، وَكَانَ الْإِنْسَانُ فِي الْجَنَّةِ تُزَالُ عَنْهُ قَبَائِحُ الْبَشَرِيَّةِ الْجِرْمِيَّةِ كَالْفَضَلَاتِ، وَالْمَعْنَوِيَّةِ كَالْغَضَبِ وَالشَّهْوَةِ وَهُوَ التَّكْفِيرُ وَتَثْبُتُ فِيهِ الصِّفَاتُ الْمَلَكِيَّةُ وَهِيَ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْخُلَعِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مَشْهُورٌ وَهُوَ أَنَّ الْإِدْخَالَ وَالتَّكْفِيرَ فِي اللَّهِ فَوْزٌ عَظِيمٌ، يُقَالُ عِنْدِي هَذَا الْأَمْرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، أَيْ فِي اعْتِقَادِي وَثَانِيهِمَا: أَغْرَبُ مِنْهُ وَأَقْرَبُ مِنْهُ عَقْلًا، وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ عِنْدَ اللَّهِ كَالْوَصْفِ لِذَلِكَ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَيُوصَفُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزٌ عَظِيمٌ حَتَّى إِنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قُرْبٌ مِنَ الله بالعندية لما كان فوزا ثم قال تعالى: [سورة الفتح (48) : الآيات 6 الى 7] وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدَّمَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي الذِّكْرِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ لِأُمُورٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْكَافِرِ الْمُجَاهِرِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ كَانَ يَتَوَقَّى الْمُشْرِكَ الْمُجَاهِرَ وَكَانَ يُخَالِطُ الْمُنَافِقَ لِظَنِّهِ بِإِيمَانِهِ، وَهُوَ كَانَ يُفْشِي أَسْرَارَهُ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «أَعْدَى عَدُوِّكَ نَفْسُكُ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ» وَالْمُنَافِقُ عَلَى صُورَةِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي الْإِنْسَانَ عَلَى أَنِّي عَدُوُّكَ، وَإِنَّمَا/ يَأْتِيهِ عَلَى أَنِّي صَدِيقُكَ، وَالْمُجَاهِرُ عَلَى خِلَافِ الشَّيْطَانِ مِنْ وَجْهٍ، وَلِأَنَّ الْمُنَافِقَ كَانَ يَظُنُّ أَنْ يَتَخَلَّصَ لِلْمُخَادَعَةِ، وَالْكَافِرُ لَا يَقْطَعُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِنْ غَلَبَ يَفْدِيهِ، فَأَوَّلُ ما أخبر الله أخبر عن المنافق وقول الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ هَذَا الظَّنُّ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحُدُهَا: هُوَ الظَّنُّ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ [الْفَتْحِ: 12] ثَانِيهَا: ظَنُّ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ فِي الْإِشْرَاكِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ إِلَى أَنْ قَالَ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [النَّجْمِ: 23- 28] ثَالِثُهَا: ظَنُّهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَرَى وَلَا يَعْلَمُ كَمَا قَالَ: وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ [فُصِّلَتْ: 22] وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ أَوْ نَقُولُ الْمُرَادُ جَمِيعُ ظُنُونِهِمْ حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ ظَنُّهُمُ الَّذِي ظَنُّوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُحْيِي الْمَوْتَى، وَأَنَّ الْعَالَمَ خَلْقُهُ بَاطِلٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص: 27] وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ الَّذِي فِي السُّوءِ وَسَنَذْكُرُهُ فِي قَوْلِهِ ظَنَّ السَّوْءِ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا:

مَا اخْتَارَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْأُدَبَاءِ، وَهُوَ أَنَّ السُّوءَ صَارَ عِبَارَةً عَنِ الْفَسَادِ، وَالصِّدْقَ عِبَارَةً عَنِ الصَّلَاحِ يُقَالُ مَرَرْتُ بِرَجُلِ سُوءٍ أَيْ فَاسِدٍ، وَسُئِلْتُ عَنْ رَجُلِ صِدْقٍ أَيْ صَالِحٍ، فَإِذَا كَانَ مَجْمُوعُ قَوْلِنَا رَجُلُ سَوْءٍ يُؤَدِّي مَعْنَى قَوْلِنَا فَاسِدٌ، فَالسُّوءُ وَحْدَهُ يَكُونُ بِمَعْنَى الْفَسَادِ، وَهَذَا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْخَلِيلُ وَالزَّجَّاجُ وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَتَحْقِيقُ هَذَا أَنَّ السَّوْءَ فِي الْمَعَانِي كَالْفَسَادِ فِي الْأَجْسَادِ، يُقَالُ سَاءَ مِزَاجُهُ، وَسَاءَ خُلُقُهُ، وَسَاءَ ظَنُّهُ، كَمَا يُقَالُ فَسَدَ اللحم وفسد الهواء، بل كان مَا سَاءَ فَقَدْ فَسَدَ وَكُلُّ مَا فَسَدَ فَقَدْ سَاءَ غَيْرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا كَثِيرُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْمَعَانِي وَالْآخَرَ فِي الْأَجْرَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الرُّومِ: 41] وَقَالَ: ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [التَّوْبَةِ: 9] هَذَا مَا يَظْهَرُ لِي مِنْ تَحْقِيقِ كَلَامِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ أَيْ دَائِرَةُ الْفَسَادِ وَحَاقَ بِهِمُ الْفَسَادُ بِحَيْثُ لَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ زِيَادَةٌ فِي الْإِفَادَةِ لِأَنَّ مَنْ كَانَ بِهِ بَلَاءٌ فَقَدْ يَكُونُ مُبْتَلًى بِهِ عَلَى وَجْهِ الِامْتِحَانِ فَيَكُونُ مُصَابًا لِكَيْ يَصِيرَ مُثَابًا، وَقَدْ يَكُونُ مُصَابًا عَلَى وَجْهِ التَّعْذِيبِ فَقَوْلُهُ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الَّذِي حَاقَ بِهِمْ عَلَى وَجْهِ التَّعْذِيبِ وَقَوْلُهُ وَلَعَنَهُمْ زِيَادَةُ إِفَادَةٍ لِأَنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يَقْنَعُ الْغَاضِبُ بِالْعَتَبِ وَالشَّتْمِ أَوِ الضَّرْبِ، وَلَا يُفْضِي غَضَبُهُ إِلَى إِبْعَادِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ مِنْ جَنَابِهِ وَطَرْدِهِ مِنْ بَابِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يُفْضِي إِلَى الطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ، فَقَالَ: وَلَعَنَهُمْ لِكَوْنِ الْغَضَبِ شَدِيدًا، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا بَيَّنَ مَآلَهُمْ فِي الْعُقْبَى قَالَ: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً وَقَوْلُهُ ساءَتْ إِشَارَةٌ لِمَكَانِ التَّأْنِيثِ فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ هَذِهِ الدَّارُ نِعْمَ الْمَكَانُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الفتح: 4] قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَبَقِيَ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْفَائِدَةُ فِي الْإِعَادَةِ؟ نَقُولُ لِلَّهِ جُنُودُ الرَّحْمَةِ وَجُنُودُ الْعَذَابِ أَوْ جُنُودُ اللَّهِ إِنْزَالُهُمْ قَدْ يَكُونُ لِلرَّحْمَةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْعَذَابِ فذكرهم أولى لِبَيَانِ الرَّحْمَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ/ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الْأَحْزَابِ: 43] وَثَانِيًا لِبَيَانِ إِنْزَالِ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ هُنَاكَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [الفتح: 4] وَهُنَا وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الفتح: 4] قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِهِمُ الْإِشَارَةُ إِلَى شِدَّةِ الْعَذَابِ فَذَكَرَ الْعِزَّةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ [الزُّمَرِ: 37] وَقَالَ تَعَالَى: فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَرِ: 42] وَقَالَ تَعَالَى: الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ [الْحَشْرِ: 23] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذكر جنود السموات والأرض قبل إدخال المؤمنين الجنة، وذكرهم هاهنا بعد ذكر تعذيب الكفار وإعداد جنهم، نَقُولُ فِيهِ تَرْتِيبٌ حَسَنٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنْزِلُ جُنُودَ الرَّحْمَةِ فَيُدْخِلُ الْمُؤْمِنِينَ مُكَرَّمِينَ مُعَظَّمِينَ الْجَنَّةَ ثُمَّ يُلْبِسُهُمْ خِلَعَ الْكَرَامَةِ بِقَوْلِهِ وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ [الفتح: 5] كَمَا بَيَّنَّا ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْقُرْبَى وَالزُّلْفَى بِقَوْلِهِ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً وَبَعْدَ حُصُولِ الْقُرْبِ وَالْعِنْدِيَّةِ لَا تَبْقَى وَاسِطَةُ الْجُنُودِ فَالْجُنُودُ فِي الرَّحْمَةِ أَوَّلًا يَنْزِلُونَ وَيُقَرَّبُونَ آخِرًا وَأَمَّا فِي الْكَافِرِ فَيُغْضَبُ عَلَيْهِ أَوَّلًا فَيُبْعَدُ وَيُطْرَدُ إِلَى الْبِلَادِ النَّائِيَةِ عَنْ نَاحِيَةِ الرَّحْمَةِ وَهِيَ جَهَنَّمُ وَيُسَلَّطُ عَلَيْهِمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ وَهُمْ جُنُودُ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التَّحْرِيمِ: 6] وَلِذَلِكَ ذَكَرَ جُنُودَ الرَّحْمَةِ أَوَّلًا والقربة بقوله عند الله آخرا، وقال هاهنا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَهُوَ الْإِبْعَادُ أَوَّلًا وَجُنُودُ السموات والأرض آخرا. ثم قال تعالى:

[سورة الفتح (48) : الآيات 8 إلى 9]

[سورة الفتح (48) : الآيات 8 الى 9] إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: شاهِداً عَلَى أُمَّتِكَ بِمَا يَفْعَلُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [الْبَقَرَةِ: 143] وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَعَلَيْهِ يَشْهَدُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آلِ عِمْرَانَ: 18] وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، الَّذِينَ آتَاهُمُ اللَّهُ عِلْمًا مِنْ عِنْدِهِ وَعَلَّمَهُمْ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [مُحَمَّدٍ: 19] أَيْ فَاشْهَدْ وَقَوْلُهُ وَمُبَشِّراً لِمَنْ قَبِلَ شَهَادَتَهُ وَعَمِلَ بِهَا وَيُوَافِقُهُ فِيهَا وَنَذِيراً لِمَنْ رَدَّ شَهَادَتَهُ وَيُخَالِفُهُ فِيهَا ثُمَّ بَيَّنَ فَائِدَةَ الْإِرْسَالِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ فَقَالَ: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْأُمُورُ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ مُرَتَّبَةً عَلَى الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ قَبْلُ فَقَوْلُهُ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُرَتَّبٌ عَلَى قَوْلِهِ إِنَّا أَرْسَلْناكَ/ لِأَنَّ كَوْنَهُ مُرْسَلًا مِنَ اللَّهِ يقتضي أن يؤمن المكلف بالله والمرسل وَبِالْمُرْسَلِ وَقَوْلُهُ شاهِداً يَقْتَضِي أَنْ يُعَزِّرَ اللَّهُ وَيُقَوِّيَ دِينَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ شاهِداً عَلَى مَا بَيَّنَّا مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَدِينُهُ هُوَ الْحَقُّ وَأَحَقُّ أَنْ يتبع وقوله مُبَشِّراً يَقْتَضِي أَنْ يُوَقِّرَ اللَّهَ لِأَنَّ تَعْظِيمَ اللَّهَ عِنْدَهُ عَلَى شَبَهِ تَعْظِيمِ اللَّهِ إِيَّاهُ. وَقَوْلُهُ نَذِيراً يَقْتَضِي أَنْ يُنَزَّهَ عَنِ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ مَخَافَةَ عَذَابِهِ الْأَلِيمِ وَعِقَابِهِ الشَّدِيدِ، وَأَصْلُ الْإِرْسَالَ مُرَتَّبٌ عَلَى أَصْلِ الْإِيمَانِ وَوَصْفُ الرَّسُولِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَصْفُ الْمُؤْمِنِ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مُقْتَضِيًا لِلْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ فَكَوْنُهُ مُرْسَلًا يَقْتَضِي أَنْ يُؤْمِنَ الْمُكَلَّفُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُعَزِّرَهُ وَيُوَقِّرَهُ وَيُسَبِّحَهُ، وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ شاهِداً بِالْوَحْدَانِيَّةِ يَقْتَضِي الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ، وكذلك كونه مُبَشِّراً وَنَذِيراً لَا يُقَالُ إِنَّ اقْتِرَانَ اللَّامِ بِالْفِعْلِ يَسْتَدْعِي فِعْلًا مُقَدَّمًا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَصْفِ وَقَوْلُهُ لِتُؤْمِنُوا يَسْتَدْعِي فِعْلًا وَهُوَ قَوْلُهُ إِنَّا أَرْسَلْناكَ فَكَيْفَ تَتَرَتَّبُ الْأُمُورُ عَلَى كَوْنِهِ شاهِداً وَمُبَشِّراً لِأَنَّا نَقُولُ يَجُوزُ التَّرْتِيبُ عَلَيْهِ مَعْنًى لَا لَفْظًا، كَمَا أَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ بَعَثْتُ إِلَيْكَ عَالِمًا لِتُكْرِمَهُ فَاللَّفْظُ يُنْبِئُ عَنْ كَوْنِ الْبَعْثِ سَبَبَ الْإِكْرَامِ، وَفِي الْمَعْنَى كونه عالما هو السيب لِلْإِكْرَامِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ بَعَثْتُ إِلَيْكَ جَاهِلًا لِتُكْرِمَهُ كَانَ حَسَنًا، وَإِذَا أَرَدْنَا الْجَمْعَ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى نَقُولُ: الْإِرْسَالُ الَّذِي هُوَ إِرْسَالُ حَالِ كَوْنِهِ شَاهِدًا كَمَا تَقُولُ بَعْثُ الْعَالَمِ سَبَبُ جَعْلِهِ سَبَبًا لَا مُجَرَّدُ الْبَعْثِ، وَلَا مجرد العالم، في الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ فِي الْأَحْزَابِ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب: 45، 46] وهاهنا اقْتَصَرَ عَلَى الثَّلَاثَةِ مِنَ الْخَمْسَةِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ الْمَقَامَ كَانَ مَقَامَ ذِكْرِهِ لِأَنَّ أَكْثَرَ السُّورَةِ فِي ذِكْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْوَالِهِ وَمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْمُبَايَعَةِ والوعد والدخول ففصل هنالك، ولم يفصل هاهنا ثانيهما: أن نقول الكلام مذكور هاهنا لِأَنَّ قَوْلَهُ شاهِداً لَمَّا لَمْ يَقْتَضِ أَنْ يَكُونَ دَاعِيًا لِجَوَازِ أَنْ يَقُولَ مَعَ نَفْسِهِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يدعو الناس قال هناك وداعيا لذلك، وهاهنا لَمَّا لَمْ يَكُنْ كَوْنُهُ شاهِداً مُنْبِئًا عَنْ كَوْنِهِ دَاعِيًا قَالَ: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ سِرَاجًا لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا يَجِبُ مِنَ التَّعْظِيمِ وَالِاجْتِنَابِ عَمَّا يَحْرُمُ مِنَ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ بِالتَّنْزِيهِ وَهُوَ التَّسْبِيحُ.

[سورة الفتح (48) : آية 10]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ اخْتِيَارَ الْبُكْرَةِ وَالْأَصِيلِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْمُدَاوَمَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِخِلَافِ مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَعْمَلُونَهُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فِي الْكَعْبَةِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً فَأُمِرُوا بِالتَّسْبِيحِ فِي أَوْقَاتٍ كَانُوا يَذْكُرُونَ فِيهَا الْفَحْشَاءَ والمنكر. المسألة الثالثة: الكنايات المذكور فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ رَاجِعَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصلاة والسلام؟ والأصح هو الأول. / ثم قال تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 10] إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ بَايَعَهُ فَقَدْ بَايَعَ اللَّهَ، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَدَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَيَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: يَدُ اللَّهِ بِمَعْنَى نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَوْقَ إِحْسَانِهِمْ إِلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [الْحُجُرَاتِ: 17] وَثَانِيهِمَا: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ أَيْ نُصْرَتُهُ إِيَّاهُمْ أَقْوَى وَأَعْلَى مِنْ نُصْرَتِهِمْ إِيَّاهُ، يُقَالُ: الْيَدُ لِفُلَانٍ، أَيِ الْغَلَبَةُ وَالنُّصْرَةُ وَالْقَهْرُ. وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّهَا بِمَعْنَيَيْنِ، فَنَقُولُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى الْحِفْظِ، وَفِي حَقِّ الْمُبَايِعِينَ بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ، وَالْيَدُ كِنَايَةٌ عَنِ الْحِفْظِ مَأْخُوذٌ مِنْ حَالِ الْمُتَبَايِعِينَ إِذَا مَدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَهُ إِلَى صَاحِبِهِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَبَيْنَهُمَا ثَالِثٌ مُتَوَسِّطٍ لَا يُرِيدُ أَنْ يَتَفَاسَخَا الْعَقْدَ مِنْ غَيْرِ إِتْمَامِ الْبَيْعِ، فَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى يَدَيْهِمَا، وَيَحْفَظُ أَيْدِيَهُمَا إِلَى أَنْ يَتِمَّ الْعَقْدُ، وَلَا يَتْرُكَ أَحَدَهُمَا يَتْرُكُ يَدَ الْآخَرِ، فَوَضْعُ الْيَدِ فَوْقَ الْأَيْدِي صَارَ سَبَبًا لِلْحِفْظِ عَلَى الْبَيْعَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ يَحْفَظُهُمْ عَلَى الْبَيْعَةِ كَمَا يَحْفَظُ ذَلِكَ الْمُتَوَسِّطُ أَيْدِيَ الْمُتَبَايِعِينَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا الْمُرَادُ مِنَ الْيَدِ النِّعْمَةُ أَوِ الْغَلَبَةُ وَالْقُوَّةُ، فَلِأَنَّ مَنْ نَكَثَ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ الْإِحْسَانَ الْجَزِيلَ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ الْقَلِيلِ، فَقَدْ خَسِرَ وَنَكْثُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا الْمُرَادُ الْحِفْظُ، فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَعْنِي مَنْ يُبَايِعُكُ أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا نَكَثَ لَا يَكُونُ نَكْثُهُ عَائِدًا إِلَيْكَ، لِأَنَّ الْبَيْعَةَ مَعَ اللَّهِ وَلَا إِلَى اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَضَرَّرُ بِشَيْءٍ، فَضَرَرُهُ لَا يَعُودُ إِلَّا إِلَيْهِ. قَالَ: وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِظَمَ فِي الْأَجْرَامِ، لَا يُقَالُ إِلَّا إِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ الطُّولُ الْبَالِغُ وَالْعَرْضُ الْوَاسِعُ وَالسُّمْكُ الْغَلِيظُ، فَيُقَالُ فِي الْجَبَلِ الَّذِي هُوَ مُرْتَفِعٌ، وَلَا اتِّسَاعَ لِعَرْضِهِ جَبَلٌ عَالٍ أَوْ مُرْتَفِعٌ أَوْ شَاهِقٌ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ الِاتِّسَاعُ فِي الْجَوَانِبِ يُقَالُ عَظِيمٌ، وَالْأَجْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَآكِلَ الْجَنَّةِ تَكُونُ مِنْ أَرْفَعِ الْأَجْنَاسِ، وَتَكُونُ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، وَتَكُونُ مُمْتَدَّةً إِلَى الْأَبَدِ لَا انْقِطَاعَ لَهَا، فَحَصَلَ فِيهِ مَا يُنَاسِبُ أَنْ يُقَالَ لَهُ عَظِيمٌ وَالْعَظِيمُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِهِ فِي صِفَاتِهِ، كَمَا أَنَّهُ فِي الْجِسْمِ إِشَارَةٌ إلى كماله في جهاته. / ثم قال تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 11] سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11)

[سورة الفتح (48) : آية 12]

لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ ذَكَرَ الْمُتَخَلِّفِينَ، فَإِنَّ قَوْمًا مِنَ الْأَعْرَابِ امْتَنَعُوا عَنِ الْخُرُوجِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ يُهْزَمُ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا أَهْلُ مَكَّةَ يُقَاتِلُونَ عَنْ بَابِ الْمَدِينَةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ إِذَا دَخَلُوا بِلَادَهُمْ وَأَحَاطَ بِهِمُ الْعَدُوُّ فَاعْتَذَرُوا، وَقَوْلُهُمْ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فِيهِ أَمْرَانِ يُفِيدَانِ وُضُوحَ الْعُذْرِ أَحَدُهُمَا: [قَوْلُهُمْ] أَمْوالُنا وَلَمْ يَقُولُوا شَغَلَتْنَا الْأَمْوَالُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَمْعَ الْمَالِ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا [لِأَنَّهُ] لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَأَمَّا حِفْظُ مَا جُمِعَ مِنَ الشَّتَاتِ وَمَنْعُ الْحَاصِلَ مِنَ الفوائت يَصْلُحُ عُذْرًا، فَقَالُوا شَغَلَتْنا أَمْوالُنا أَيْ مَا صَارَ مَالًا لَنَا لَا مُطْلَقَ الْأَمْوَالِ وَثَانِيهِمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَهْلُونا وَذَلِكَ لَوْ أَنَّ قَائِلًا قَالَ لَهُمْ: الْمَالُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَبْلُغَ إِلَى دَرَجَةٍ يَمْنَعُكُمْ حِفْظُهُ مِنْ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: فَالْأَهْلُ يَمْنَعُ الِاشْتِغَالُ بِهِمْ وَحِفْظُهُمْ عَنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ الْعُذْرِ تَضَرَّعُوا وَقَالُوا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَعْنِي فَنَحْنُ مَعَ إِقَامَةِ الْعُذْرِ مُعْتَرِفُونَ بِالْإِسَاءَةِ، فَاسْتَغْفِرْ لَنَا وَاعْفُ عَنَّا فِي أَمْرِ الْخُرُوجِ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّكْذِيبُ رَاجِعًا إِلَى قَوْلِهِمْ فَاسْتَغْفِرْ لَنا وَتَحْقِيقُهُ هُوَ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ مُسِيئُونَ بِالتَّخَلُّفِ حَتَّى اسْتَغْفَرُوا، وَلَمْ يَكُنْ فِي اعْتِقَادِهِمْ ذَلِكَ، بَلْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ بِالتَّخَلُّفِ مُحْسِنُونَ ثَانِيهِمَا: قَالُوا شَغَلَتْنا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ امْتِنَاعَنَا لِهَذَا لَا غَيْرُ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي اعْتِقَادِهِمْ، بَلْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ امْتِنَاعَهُمْ لِاعْتِقَادِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم والمؤمنون يُقْهَرُونَ وَيُغْلَبُونَ، كَمَا قَالَ بَعْدَهُ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً [الْفَتْحِ: 12] وَقَوْلُهُ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً مَعْنَاهُ أَنَّكُمْ تَحْتَرِزُونَ عن الضرر. وَتَتْرُكُونَ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَقْعُدُونَ طَلَبًا لِلسَّلَامَةِ، وَلَوْ أَرَادَ بِكُمُ الضَّرَرَ لَا يَنْفَعُكُمْ قُعُودُكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّكُمْ تَحْتَرِزُونَ عَنْ ضَرَرِ الْقِتَالِ وَالْمُقَاتِلِينَ وَتَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَهْلِيكُمْ وَبِلَادَكُمْ تَحْفَظُكُمْ مِنَ الْعَدُوِّ، فَهَبْ أَنَّكُمْ حَفِظْتُمْ أَنْفُسَكُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَمَنْ يَدْفَعُ عَنْكُمْ عَذَابَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى بِالِاحْتِرَازِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ يس فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ [يس: 23] أَنَّهُ فِي/ صُورَةِ كَوْنِ الْكَلَامِ مَعَ الْمُؤْمِنِ أَدْخَلَ الْبَاءَ عَلَى الضُّرِّ، فَقَالَ: إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ [الزُّمَرِ: 38] وَقَالَ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ [الْأَنْعَامِ: 17] وَفِي صُورَةِ كَوْنِ الْكَلَامِ مَعَ الكافر أدخل الباء على الكافر، فقال هاهنا إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا وَقَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً [الْأَحْزَابِ: 17] وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ الْفَائِقَ «1» هُنَاكَ، وَلَا نُعِيدُهُ لِيَكُونَ هَذَا بَاعِثًا عَلَى مُطَالَعَةِ تَفْسِيرِ سُورَةِ يس، فَإِنَّهَا دُرْجُ الدُّرَرِ الْيَتِيمَةِ، بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أَيْ بما تعملون من إظهار الحرب وإشمار غيره. ثم قال تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 12] بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) يَعْنِي لَمْ يَكُنْ تَخَلُّفُكُمْ لِمَا ذَكَرْتُمْ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ وَأَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، أي ظننتم أنهم لا ينقلبون ولا يرجعون، وقوله وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ يعني ظَنَنْتُمْ أَوَّلًا، فَزَيَّنَ الشَّيْطَانُ ظَنَّكُمْ عِنْدَكُمْ حَتَّى قَطَعْتُمْ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ قَدْ يُزَيِّنُهَا الشَّيْطَانُ، وَيَضُمُّ إِلَيْهَا مُخَايَلَةً يَقْطَعُ بِهَا الْغَافِلُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَشُكُّ فِيهَا الْعَاقِلُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أن يكون هذا العطف عطفا يفيد

_ (1) سبق أن عبر المفسر عنه بقوله (الفرق الفارق) فلعلها مصحفة هنا للفائق، وهذا معنى مناسب أيضا.

[سورة الفتح (48) : آية 13]

الْمُغَايَرَةَ، فَقَوْلُهُ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ غَيْرُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ بَلْ ظَنَنْتُمْ وَحِينَئِذٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ الثَّانِي مَعْنَاهُ: وَظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ يُخْلِفُ وَعْدَهُ، أَوْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ الرَّسُولَ كَاذِبٌ فِي قَوْلِهِ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ظَنِّ أَنْ لَا يَنْقَلِبُوا، وَيَكُونُ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الْقَائِلِ: عَلِمْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَعَلِمْتُ كَذَا، أَيْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا غَيْرُهَا، وَذَلِكَ كَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ. وَظَنُّكُمْ ذَلِكَ فَاسِدٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا التَّحْقِيقَ فِي ظَنِّ السُّوءِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: وَصِرْتُمْ بِذَلِكَ الظَّنِّ بَائِرِينَ هَالِكِينَ وثانيها: أَنْتُمْ فِي الْأَصْلِ بَائِرُونَ وَظَنَنْتُمْ ذَلِكَ الظَّنَّ الفاسد. ثم قال تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 13] وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) عَلَى قَوْلِنَا: وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ [الفتح: 12] ظَنٌّ آخَرُ غَيْرُ مَا فِي قَوْلِهِ بَلْ ظَنَنْتُمْ ظَاهِرٌ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ ظَنُّهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ يُخْلِفُ وَعْدَهُ أَوْ ظَنُّهُمْ بِأَنَّ الرَّسُولَ كَاذِبٌ فَقَالَ: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَظُنُّ بِهِ خُلْفًا وَبِرَسُولِهِ كَذِبًا فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لَهُ سَعِيرًا، وَفِي قَوْلِهِ لِلْكافِرِينَ بَدَلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لَهُ/ فَائِدَةٌ وَهِيَ التَّعْمِيمُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَهُوَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَإِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سعيرا. ثم قال تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 14] وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) بَعْدَ مَا ذَكَرَ مَنْ لَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ مِنَ الْمُبَايِعِينَ وَمِنْ لَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ مِنَ الظَّانِّينَ الضَّالِّينَ، أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يَغْفِرُ لِلْأَوَّلِينَ بِمَشِيئَتِهِ وَيُعَذِّبُ الْآخِرِينَ بِمَشِيئَتِهِ، وَغُفْرَانُهُ وَرَحْمَتُهُ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ وَأَتَمُّ وَأَكْمَلُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُفِيدُ عَظَمَةَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ مِنْ عِظَمِ مُلْكِهِ يَكُونُ أَجْرُهُ وَهِبَتُهُ فِي غَايَةِ الْعِظَمِ وَعَذَابُهُ وَعُقُوبَتُهُ كَذَلِكَ فِي غَايَةِ النكال والألم. [سورة الفتح (48) : آية 15] سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ. أَوْضَحَ اللَّهُ كذبهم بهذا حيث كانوا عند ما يَكُونُ السَّيْرُ إِلَى مَغَانِمَ يَتَوَقَّعُونَهَا يَقُولُونَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ فَإِذَا كَانَ أَمْوَالُهُمْ وَأَهْلُوهُمْ شَغَلَتْهُمْ يَوْمَ دَعْوَتِكُمْ إِيَّاهُمْ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَمَا بَالُهُمْ لَا يَشْتَغِلُونَ بِأَمْوَالِهِمْ يَوْمَ الْغَنِيمَةِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْمَغَانِمِ مَغَانِمُ أَهْلِ خَيْبَرَ وَفَتْحُهَا وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْمَدِينَةِ، وَفِي قَوْلِهِ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ وَعَدَ الْمُبَايِعِينَ الْمُوَافِقِينَ بِالْغَنِيمَةِ وَالْمُتَخَلِّفِينَ الْمُخَالِفِينَ بِالْحِرْمَانِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ. يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: هُوَ مَا قَالَ اللَّهُ إِنَّ غَنِيمَةَ خَيْبَرَ لِمَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَعَاهَدَ بِهَا لَا غَيْرُ وَهُوَ الْأَشْهَرُ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ، وَالْأَظْهَرُ نَظَرًا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ، ثَانِيهَا: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الفتح: 6] وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَوِ اتَّبَعُوكُمْ لَكَانُوا فِي حُكْمِ بَيْعَةِ أَهْلِ الرِّضْوَانِ الْمَوْعُودِينَ بِالْغَنِيمَةِ فَيَكُونُونَ مِنَ الَّذِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ

[سورة الفتح (48) : آية 16]

يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الْفَتْحِ: 18] فَلَا يَكُونُونَ مِنَ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَيَلْزَمُ تَبْدِيلُ كَلَامِ اللَّهِ ثَالِثُهَا: هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَخَلَّفَ الْقَوْمُ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى بَاطِنِهِمْ وَأَظْهَرَ لَهُ نِفَاقَهُمْ وَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ وَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [التَّوْبَةِ: 83] فَأَرَادُوا أَنْ يُبَدِّلُوا ذَلِكَ الْكَلَامَ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ، لَا يُقَالُ فَالْآيَةُ/ الَّتِي ذَكَرْتُمْ وَارِدَةٌ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ لَا فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، لِأَنَّا نَقُولُ قَدْ وُجِدَ هاهنا بِقَوْلِهِ لَنْ تَتَّبِعُونا عَلَى صِيغَةِ النَّفْيِ بَدَلًا عَنْ قَوْلِهِ: لَا تَتَّبِعُونَا، عَلَى صِيغَةِ النَّهْيِ مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَى عَلَى إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمُ النَّفْيَ لِوُثُوقِهِ وَقَطْعِهِ بِصِدْقِهِ فَجَزَمَ وَقَالَ: لَنْ تَتَّبِعُونا يَعْنِي لَوْ أَذِنْتُكُمْ وَلَوْ أَرَدْتُمْ وَاخْتَرْتُمْ لَا يَتِمُّ لَكُمْ ذَلِكَ لِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا. رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَا قَالَ الله كذلك من قبل، بل تحسدوننا، وبل لِلْإِضْرَابِ وَالْمَضْرُوبُ عَنْهُ مَحْذُوفٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، أَمَّا هاهنا فَهُوَ بِتَقْدِيرِ مَا قَالَ اللَّهُ وَكَذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ بِمَاذَا كَانَ الْحَسَدُ فِي اعْتِقَادِهِمْ؟ نَقُولُ كَأَنَّهُمْ قَالُوا نَحْنُ كُنَّا مُصِيبِينَ فِي عَدَمِ الْخُرُوجِ حَيْثُ رَجَعُوا مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ غَيْرِ حَاصِلٍ وَنَحْنُ اسْتَرَحْنَا، فَإِنْ خَرَجْنَا مَعَهُمْ وَيَكُونُ فِيهِ غَنِيمَةٌ يَقُولُونَ هُمْ غَنِمُوا مَعَنَا وَلَمْ يَتْعَبُوا مَعَنَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ كَمَا رَدُّوا بَلْ كانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ لَمْ يَفْقَهُوا مِنْ قَوْلِكَ لَا تَخْرُجُوا إِلَّا ظَاهِرَ النَّهْيِ وَلَمْ يَفْهَمُوا مَنْ حُكْمِهِ إِلَّا قَلِيلًا فَحَمَلُوهُ عَلَى مَا أَرَادُوهُ وعللوه بالحسد. ثم قال تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 16] قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا [الفتح: 15] وَقَالَ: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً [التَّوْبَةِ: 83] فَكَانَ الْمُخَلَّفُونَ جَمْعًا كَثِيرًا، مِنْ قَبَائِلَ مُتَشَعِّبَةٍ، دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى بَيَانِ قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَبْقَوْا عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَكُونُوا مِنَ الَّذِينَ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ حَسُنَ حَالُهُ وَصَلَحَ بَالُهُ فَجَعَلَ لِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ عَلَامَةً، وَهُوَ أَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ إِلَى قِتَالِ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ وَيُطِيعُونَ بِخِلَافِ حَالِ ثَعْلَبَةَ حَيْثُ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ ثُمَّ أَتَى بِهَا وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ الْحَالُ وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَذَلِكَ كَانَ يَسْتَمِرُّ حَالُ هَؤُلَاءِ لَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ يدعون فإن كانوا يطيعون يؤتون الأجور الْحَسَنَ وَمَا كَانَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يَتْرُكُهُمْ يَتَّبِعُونَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ حَالِ ثَعْلَبَةَ/ وَبَيْنَ حَالِ هَؤُلَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ثَعْلَبَةَ جَازَ أَنْ يُقَالَ حَالُهُ لَمْ يَكُنْ يَتَغَيَّرُ فِي عِلْمِ اللَّهِ، فَلَمْ يُبَيِّنْ لِتَوْبَتِهِ عَلَامَةً، وَالْأَعْرَابُ تَغَيَّرَتْ، فَإِنَّ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى النِّفَاقِ أَحَدٌ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى بَيَانِ حَالِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ وَالْجَمِّ الْغَفِيرِ أَمَسُّ، لِأَنَّهُ لَوْلَا الْبَيَانُ لَكَانَ يُفْضِي الْأَمْرُ إِلَى قِيَامِ الْفِتْنَةِ بَيْنَ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي قَوْلِهِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ وُجُوهٌ أَشْهَرُهَا وَأَظْهَرُهَا أَنَّهُمْ بَنُو حَنِيفَةَ حَيْثُ تَابَعُوا مُسَيْلِمَةَ وَغَزَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَثَانِيهَا: هُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ غَزَاهُمْ عُمَرُ ثَالِثُهَا: هَوَازِنُ وَثَقِيفٌ غَزَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْوَى الْوُجُوهِ هُوَ أَنَّ الدُّعَاءَ كَانَ مِنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ الْأَظْهَرُ غَيْرَهُ، أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى قُوَّةِ هَذَا الْوَجْهِ هُوَ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَمْرَ الْعَرَبِ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَهَرَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا كَافِرٌ مُجَاهِرٌ، أَوْ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ طَاهِرٌ، وَامْتَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى مَوْتَى الْمُنَافِقِينَ، وَتَرَكَ الْمُؤْمِنُونَ مُخَالَطَتَهُمْ حَتَّى

إِنَّ عُبَادَةَ بْنَ كَعْبٍ مَعَ كَوْنِهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يُكَلِّمْهُ الْمُؤْمِنُونَ مُدَّةً، وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَلَامَةٌ لِظُهُورِ حَالِ مَنْ كَانَ مُنَافِقًا، فَإِنْ كَانَ ظَهَرَ حَالُهُمْ بِغَيْرِ هَذَا، فَلَا مَعْنَى لِجَعْلِ هَذَا عَلَامَةً وَإِنْ ظَهَرَ بِهَذَا الظُّهُورِ كَانَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَوِ امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهِمْ لِاتِّبَاعِهِ لَامْتَنَعَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوهُ [الْأَعْرَافِ: 158] وَقَوْلُهُ فَاتَّبِعُونِي [مريم: 43] فَإِنْ قِيلَ هَذَا ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَنْ تَتَّبِعُونا [الفتح: 15] وَقَالَ: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً [التَّوْبَةِ: 83] فَكَيْفَ كَانُوا يَتَّبِعُونَهُ مَعَ النَّفْيِ؟ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَرْبُ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَإِنَّ الرُّعْبَ اسْتَوْلَى عَلَى قُلُوبِ الناس ولم يبق الكفار بَعْدَهُ شِدَّةٌ وَبَأْسٌ، وَاتِّفَاقُ الْجُمْهُورِ يَدُلُّ عَلَى الْقُوَّةِ وَالظُّهُورِ، نَقُولُ أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُقَيَّدًا، تَقْدِيرُهُ: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَأَنْتُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ هَذَا التَّقْيِيدُ لِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ بَلِ الْأَكْثَرُ ذَلِكَ، وَمَا كَانَ يَجُوزُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ لَسْتُمْ مُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النِّسَاءِ: 94] وَمَعَ الْقَوْلِ بِإِسْلَامِهِمْ مَا كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مَا كَانَ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ وُجُوبِهِ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ مُقَيَّدًا، وَقَدْ تَبَيَّنَ حُسْنُ حَالِهِمْ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُمْ إِلَى جِهَادٍ فَأَطَاعَهُ قَوْمٌ وَامْتَنَعَ آخَرُونَ، وَظَهَرَ أَمْرُهُمْ وَعُلِمَ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْكُفْرِ مِمَّنِ اسْتَقَرَّ قَلْبُهُ عَلَى الْإِيمَانِ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ لَنْ تَتَّبِعُونا [الفتح: 15] فِي هَذَا الْقِتَالِ فَحَسْبُ وَقَوْلُهُ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ [التوبة: 83] كَانَ فِي غَيْرِ هَذَا وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَأَمَّا اتِّفَاقُ الْجُمْهُورِ فَنَقُولُ لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ لِأَنَّا نَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُمْ أَوَّلًا، وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا دَعَاهُمْ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ جَوَازَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّمَا نَحْنُ نُثْبِتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُمْ فَإِنْ قَالُوا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَاهُمْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ تَنَافٍ، وَإِنْ قَالُوا لَمْ يَدْعُهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالنَّفْيُ وَالْجَزْمُ بِهِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ، وَكَيْفَ لَا وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ مِنْ كَلَامِ/ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [آلِ عِمْرَانَ: 31] وَقَالَ: وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [الزُّخْرُفِ: 61] وَمِنْهُمْ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ وَاخْتَارَ اتِّبَاعَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ بقاء جمعهم على النفاق والكفر بعد ما اتَّسَعَتْ دَائِرَةُ الْإِسْلَامِ وَاجْتَمَعَتِ الْعَرَبُ عَلَى الْإِيمَانِ بِعِيدٌ، وَيَوْمَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنْ تَتَّبِعُونا كَانَ أَكْثَرُ الْعَرَبِ عَلَى الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ وَقَبْلَ أَخْذِ حُصُونٍ كَثِيرَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ لَمْ يَبْقَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرْبٌ مَعَ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ دَعَاهُمْ إِلَى الْحَرْبِ لِأَنَّهُ خَرَجَ مُحْرِمًا وَمَعَهُ الْهُدَيُ لِيَعْلَمَ قُرَيْشٌ أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ الْقِتَالَ وَامْتَنَعُوا فَقَالَ سَتُدْعَوْنَ إِلَى الْحَرْبِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يَكُونُ خَصْمُهُ مُسَلَّحًا مُحَارِبًا أَكْثَرُ بَأْسًا مِمَّنْ يَكُونُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَكَانَ قَدْ عَلِمَ مِنْ حَالِ مَكَّةَ أَنَّهُمْ لَا يُوَقِّرُونَ حَاجًّا وَلَا مُعْتَمِرًا فَقَوْلُهُ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يَعْنِي أُولِي سِلَاحٍ مِنْ آلَةِ الْحَدِيدِ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ، وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ الدَّاعِيَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ تَمَسَّكَ بِالْآيَةِ عَلَى خلافتهما ودلالتها ظاهرة، وحينئذ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا يَقَعُ، وَقُرِئَ أَوْ يُسْلِمُوا بِالنَّصْبِ بِإِضْمَارِ أَنْ عَلَى مَعْنَى تُقَاتِلُونَهُمْ إِلَى أَنْ يُسْلِمُوا، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ هُوَ أَنَّ أَوْ لَا تَجِيءُ إِلَّا بَيْنَ الْمُتَغَايِرَيْنِ وَتُنْبِئُ عَنِ الْحَصْرِ فَيُقَالُ الْعَدَدُ زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هُوَ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، وَلِهَذَا يُقَالُ الْعَدَدُ زَوْجٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ غَيْرُهُمَا، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَقَالَ الْقَائِلُ لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تَقْضِينِي حَقِّي يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الزَّمَانَ انْحَصَرَ فِي قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَكُونُ فِيهِ الْمُلَازَمَةُ، وَقِسْمٌ يَكُونُ فِيهِ

[سورة الفتح (48) : آية 17]

قَضَاءُ الْحَقُّ، فَلَا يَكُونُ بَيْنَ الْمُلَازَمَةِ وَقَضَاءِ الْحَقِّ زَمَانٌ لَا يُوجَدُ فِيهِ الْمُلَازَمَةُ وَلَا قَضَاءُ الْحَقِّ، فَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تَقْضِينِي، كَمَا حَكَى فِي قَوْلِ الْقَائِلِ، لَأَلْزَمَنَّكَ إِلَى أَنْ تَقْضِيَنِي، لِامْتِدَادِ زَمَانِ الْمُلَازَمَةِ إِلَى الْقَضَاءِ، وَهَذَا مَا يُضْعِفُ قَوْلَ الْقَائِلِ الدَّاعِي هُوَ عُمَرُ وَالْقَوْمُ فَارِسُ وَالرُّومُ لِأَنَّ الْفَرِيقَيْنِ يُقِرَّانِ بِالْجِزْيَةِ، فَالْقِتَالُ مَعَهُمْ لَا يَمْتَدُّ إِلَى الْإِسْلَامِ لِجَوَازِ أَنْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ فِيهِ فَائِدَةٌ لِأَنَّ التَّوَلِّيَ إِذَا كَانَ بِعُذْرٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ [النُّورِ: 61] لَا يَكُونُ لِلْمُتَوَلِّي عَذَابٌ أَلِيمٌ، فَقَالَ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ يَعْنِي إِنْ كَانَ تَوَلِّيكُمْ بِنَاءً عَلَى الظَّنِّ الْفَاسِدِ وَالِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ كَمَا كَانَ حَيْثُ قُلْتُمْ بِأَلْسِنَتِكُمْ لَا بِقُلُوبِكُمْ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا [الفتح: 11] فالله يعذبكم عذابا أليما. [سورة الفتح (48) : آية 17] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) بَيَّنَ مَنْ يَجُوزُ لَهُ التَّخَلُّفُ وَتَرْكُ الْجِهَادِ وَمَا بِسَبَبِهِ يَجُوزُ تَرْكُ الْجِهَادِ وَهُوَ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْكَرِّ وَالْفَرِّ وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِبَيَانِ ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ الْأَوَّلُ: الْأَعْمى فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعَدُوِّ وَالطَّلَبِ وَلَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ وَالْهَرَبُ، وَالْأَعْرَجُ كَذَلِكَ وَالْمَرِيضُ كَذَلِكَ، وَفِي مَعْنَى الْأَعْرَجِ الْأَقْطَعُ/ وَالْمُقْعَدُ، بَلْ ذَلِكَ أَوْلَى بِأَنْ يُعْذَرَ، وَمَنْ بِهِ عَرَجٌ لَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْكَرِّ وَالْفَرِّ لَا يُعْذَرُ، وَكَذَلِكَ الْمَرَضُ الْقَلِيلُ الَّذِي لَا يَمْنَعُ مِنَ الْكَرِّ وَالْفَرِّ كَالطُّحَالِ وَالسُّعَالِ إِذْ بِهِ يَضْعُفُ وَبَعْضُ أَوْجَاعِ الْمَفَاصِلِ لَا يَكُونُ عُذْرًا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ هَذِهِ أَعْذَارٌ تَكُونُ فِي نَفْسِ الْمُجَاهِدِ وَلَنَا أَعْذَارٌ خَارِجَةٌ كَالْفَقْرِ الَّذِي لَا يَتَمَكَّنُ صَاحِبُهُ مِنِ اسْتِصْحَابِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَالِاشْتِغَالِ بِمَنْ لَوْلَاهُ لَضَاعَ كَطِفْلٍ أَوْ مَرِيضٍ، وَالْأَعْذَارُ تُعْلَمُ مِنَ الْفِقْهِ وَنَحْنُ نَبْحَثُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّفْسِيرِ فِي بَيَانِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذِكْرُ الْأَعْذَارِ الَّتِي فِي السَّفَرِ، لِأَنَّ غَيْرَهَا مُمْكِنُ الْإِزَالَةِ بِخِلَافِ الْعَرَجِ وَالْعَمَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اقْتُصِرَ مِنْهَا عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ الْعُذْرَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِخْلَالٍ فِي عُضْوٍ أَوْ بِاخْتِلَالٍ فِي الْقُوَّةِ، وَالَّذِي بِسَبَبِ إِخْلَالِ الْعُضْوِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ اخْتِلَالٍ فِي الْعُضْوِ الَّذِي بِهِ الْوُصُولُ إِلَى الْعَدُوِّ وَالِانْتِقَالُ فِي مَوَاضِعِ الْقِتَالِ، أَوْ فِي الْعُضْوِ الَّذِي تَتِمُّ بِهِ فائدة الحصول في المعركة وَالْوُصُولِ، وَالْأَوَّلُ: هُوَ الرِّجْلُ، وَالثَّانِي: هُوَ الْعَيْنُ، لِأَنَّ بِالرِّجْلِ يَحْصُلُ الِانْتِقَالُ، وَبِالْعَيْنِ يَحْصُلُ الِانْتِفَاعُ فِي الطَّلَبِ وَالْهَرَبِ. وَأَمَّا الْأُذُنُ وَالْأَنْفُ وَاللِّسَانُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ، فَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، بَقِيَتِ الْيَدُ، فَإِنَّ الْمَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، وَهُوَ عُذْرٌ وَاضِحٌ وَلَمْ يَذْكُرْهُ، نَقُولُ: لِأَنَّ فَائِدَةَ الرِّجْلِ وَهِيَ الِانْتِقَالُ تَبْطُلُ بِالْخَلَلِ فِي إِحْدَاهُمَا، وَفَائِدَةُ الْيَدِ وَهِيَ الضِّرَابُ وَالْبَطْشُ لَا تَبْطُلُ إِلَّا بِبُطْلَانِ الْيَدَيْنِ جَمِيعًا، وَمَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ لَا يُوجَدُ إِلَّا نَادِرًا، وَلَعَلَّ فِي جَمَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ فَلَمْ يَذْكُرْهُ، أَوْ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْجِهَادِ، فَإِنَّهُ يُنْظَرُ وَلَوْلَاهُ لَاسْتَقَلَّ بِهِ مُقَاتِلٌ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَاتِلَ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْذُورٍ فِي التَّخَلُّفِ، لِأَنَّ الْمُجَاهِدِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ بِخِلَافِ الْأَعْمَى، فَإِنْ قِيلَ كَمَا أَنَّ مَقْطُوعَ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ لَا تَبْطُلُ مَنْفَعَةُ بَطْشِهِ كَذَلِكَ الْأَعْوَرُ لَا تَبْطُلُ مَنْفَعَةُ رُؤْيَتِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْأَعْمَى، وَمَا ذَكَرَ الْأَشَلَّ وَأَقْطَعَ الْيَدَيْنِ، قُلْنَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ نَادِرُ الْوُجُودِ والآفة النازلة

[سورة الفتح (48) : الآيات 18 إلى 19]

بِإِحْدَى الْيَدَيْنِ لَا تَعُمُّهُمَا وَالْآفَةُ النَّازِلَةُ بِالْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ تَعُمُّ الْعَيْنَيْنِ لِأَنَّ مَنْبَعَ النُّورِ وَاحِدٌ وَهُمَا مُتَجَاذِبَانِ وَالْوُجُودُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْأَعْمَى كَثِيرُ الْوُجُودِ وَمَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ نَادِرٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَدَّمَ الْآفَةَ فِي الْآلَةِ عَلَى الْآفَةِ فِي الْقُوَّةِ، لِأَنَّ الْآفَةَ فِي الْقُوَّةِ تَزُولُ وَتَطْرَأُ، والآفة في الآلة إذ طَرَأَتْ لَا تَزُولُ، فَإِنَّ الْأَعْمَى لَا يَعُودُ بَصِيرًا فَالْعُذْرُ فِي مَحَلِّ الْآلَةِ أَتَمُّ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَدَّمَ الْأَعْمَى عَلَى الْأَعْرَجِ، لِأَنَّ عُذْرَ الْأَعْمَى يَسْتَمِرُّ وَلَوْ حَضَرَ الْقِتَالَ، وَالْأَعْرَجُ إِنْ حَضَرَ رَاكِبًا أَوْ بِطْرِيقٍ آخَرَ يَقْدِرُ عَلَى القتال بالرمي وغيره. [سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 19] لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) اعْلَمْ أَنَّ طاعة كل واحد منهما طاعة الآخر فَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بَيَانًا لِطَاعَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ قَالَ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ، كَانَ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ: نَحْنُ لَا نَرَى اللَّهَ وَلَا نَسْمَعُ كَلَامَهُ، فَمِنْ أَيْنَ نَعْلَمُ أَمْرَهُ حَتَّى نُطِيعَهُ؟ فَقَالَ طَاعَتُهُ فِي طَاعَةِ رَسُولِهِ وَكَلَامُهُ يُسْمَعُ مِنْ رَسُولِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يَتَوَلَّ أَيْ بِقَلْبِهِ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُخَلَّفِينَ بَعْدَ قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْحِ: 10] عَادَ إِلَى بَيَانِ حَالِهِمْ وَقَالَ: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الصِّدْقِ كَمَا عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْمَرَضِ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ حَتَّى بَايَعُوا عَلَى الْمَوْتِ، وَفِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ [الفتح: 17] فَجَعَلَ طَاعَةَ اللَّهِ وَالرَّسُولِ عَلَامَةً لِإِدْخَالِ اللَّهِ الْجَنَّةَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَّنَ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ وَالرَّسُولِ وُجِدَتْ مِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، أَمَّا طَاعَةُ اللَّهِ فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمَّا طَاعَةُ الرَّسُولِ فَبِقَوْلِهِ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ بَقِيَ الْمَوْعُودُ بِهِ وَهُوَ إِدْخَالُ الْجَنَّةِ أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الرِّضَا يَكُونُ مَعَهُ إِدْخَالُ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ [الْمُجَادَلَةِ: 22] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ وَعِلْمُ اللَّهِ قَبْلَ الرِّضَا لِأَنَّهُ عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الصِّدْقِ فَرَضِيَ عَنْهُمْ فَكَيْفَ يُفْهَمُ التَّعْقِيبُ فِي الْعِلْمِ؟ نَقُولُ قَوْلُهُ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ فَرِحْتُ أَمْسِ إِذْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَقَامَ إِلَيَّ، أَوْ إِذْ دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَأَكْرَمَنِي، فيكون الفرح بعد الإكرام ترتيبا كذلك، هاهنا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الصِّدْقِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الرِّضَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُبَايَعَةِ فَحَسْبُ، بَلْ عِنْدَ الْمُبَايَعَةِ الَّتِي كَانَ مَعَهَا عِلْمُ اللَّهِ بِصِدْقِهِمْ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ/ لِلتَّعْقِيبِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فَإِنَّهُ تَعَالَى رَضِيَ عَنْهُمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، وَفِي عَلِمَ بَيَانُ وَصْفِ الْمُبَايِعَةِ بِكَوْنِهَا مُعَقَّبَةً بِالْعِلْمِ بِالصِّدْقِ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ وَهَذَا تَوْفِيقٌ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا لِمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَعَانِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً هُوَ فَتْحُ خَيْبَرَ وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها مَغَانِمُهَا وَقِيلَ مَغَانِمُ هَجَرَ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً كَامِلَ الْقُدْرَةِ غَنِيًّا عَنْ إعانتكم إياه

[سورة الفتح (48) : آية 20]

حَكِيماً حَيْثُ جَعَلَ هَلَاكَ أَعْدَائِهِ عَلَى أَيْدِيكُمْ لِيُثِيبَكُمْ عَلَيْهِ أَوْ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِعْزَازَ قَوْمٍ وَإِذْلَالَ آخَرِينَ، فَإِنَّهُ يُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ بعزته ويعز من يشاء بحكمته. [سورة الفتح (48) : آية 20] وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مَا أَتَاهُمْ مِنَ الْفَتْحِ وَالْمَغَانِمِ لَيْسَ هُوَ كُلَّ الثَّوَابِ بَلِ الْجَزَاءُ قُدَّامَهُمْ، وَإِنَّمَا هِيَ لعاجلة عَجَّلَ بِهَا، وَفِي الْمَغَانِمِ الْمَوْعُودِ بِهَا أَقْوَالٌ، أَصَحُّهَا أَنَّهُ وَعَدَهُمْ مَغَانِمَ كَثِيرَةً مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَكُلُّ مَا غَنِمُوهُ كَانَ مِنْهَا وَاللَّهُ كَانَ عَالِمًا بِهَا، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْمَلِكُ الْجَوَادُ لِمَنْ يَخْدِمُهُ: يَكُونُ لَكَ مِنِّي عَلَى مَا فَعَلْتَهُ الْجَزَاءُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَا يُرِيدُ شَيْئًا بِعَيْنِهِ، ثُمَّ كَلُّ مَا يَأْتِي بِهِ وَيُؤْتِيهِ يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ ذَلِكَ الْوَعْدِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَلِكَ لَا يَعْلَمُ تَفَاصِيلَ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ وَقْتَ الْوَعْدِ، وَاللَّهَ عَالِمٌ بِهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ لِإِتْمَامِ الْمِنَّةِ، كَأَنَّهُ قَالَ رَزَقْتُكُمْ غَنِيمَةً بَارِدَةً مِنْ غَيْرِ مَسِّ حَرِّ الْقِتَالِ وَلَوْ تَعِبْتُمْ فِيهِ لَقُلْتُمْ هَذَا جَزَاءُ تَعَبِنَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ عَطْفٌ عَلَى مَفْهُومٍ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَاللَّامُ يُنْبِئُ عَنِ النَّفْعِ كَمَا أَنَّ عَلَى يُنْبِئُ عَنِ الضُّرِّ الْقَائِلِ لَا عَلَيَّ وَلَا لِيَّا بِمَعْنَى لَا مَا أَتَضَرَّرُ بِهِ وَلَا مَا أَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا أَضُرُّ بِهِ وَلَا أَنْفَعُ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ لِتَنْفَعَكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّ الْمَغَانِمَ الْمَوْعُودَ بِهَا كُلُّ مَا يَأْخُذُهُ الْمُسْلِمُونَ فَقَوْلُهُ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي لِيَنْفَعَكُمْ بِهَا وَلِيَجْعَلَهَا لِمَنْ بَعْدَكُمْ آيَةً تَدُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ يَصِلُ إِلَيْهِمْ كَمَا وَصَلَ إِلَيْكُمْ، أَوْ نَقُولُ: مَعْنَاهُ لِتَنْفَعَكُمْ فِي الظَّاهِرِ وَتَنْفَعَكُمْ فِي الْبَاطِنِ حَيْثُ يَزْدَادُ يَقِينُكُمْ إِذَا رَأَيْتُمْ صِدْقَ الرَّسُولِ فِي إِخْبَارِهِ عَنِ الْغُيُوبِ فَتَجْمُلُ أَخْبَارُكُمْ وَيَكْمُلُ اعْتِقَادُكُمْ، وَقَوْلُهُ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَهُوَ التَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَالتَّفْوِيضُ إِلَيْهِ وَالِاعْتِزَازُ به. [سورة الفتح (48) : آية 21] وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) قِيلَ غَنِيمَةُ هَوَازِنَ، وَقِيلَ غَنَائِمُ فَارِسَ وَالرُّومِ وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي أُخْرَى ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ قَدْ أَحاطَ ولَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها صِفَةً لِأُخْرَى كَأَنَّهُ يَقُولُ وَغَنِيمَةً أُخْرَى غَيْرَ مَقْدُورَةٍ قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها ثَانِيهَا: أَنْ تَكُونَ مَرْفُوعَةً، وَخَبَرُهَا قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَحَسُنَ جَعْلُهَا مُبْتَدَأً مَعَ كَوْنِهِ نكرة لكونها موصوفة بلم تقدروا وثالثها: الجز بِإِضْمَارِ رُبَّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ مَنْصُوبَةٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَنْصُوبٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَأُخْرَى مَا قَدَرْتُمْ عَلَيْهَا وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ أُخْرَى لَمْ يُعَجِّلْ بِهَا وَثَانِيهُمَا: عَلَى مَغَانِمَ كَثِيرَةٍ تَأْخُذُونَهَا، وَأُخْرَى أَيْ وَعَدَكُمُ اللَّهَ أُخْرَى، وَحِينَئِذٍ كَأَنَّهُ قَالَ: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ تَأْخُذُونَهَا وَمَغَانِمَ لَا تَأْخُذُونَهَا أَنْتُمْ وَلَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَأْخُذُهَا مَنْ يَجِيءُ بَعْدَكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى هَذَا تَبَيَّنَ لِقَوْلِ الْفَرَّاءِ حُسْنٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فَسَّرَ قَوْلَهُ تَعَالَى: قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها أَيْ حَفِظَهَا لِلْمُؤْمِنِينَ لَا يَجْرِي عَلَيْهَا هَلَاكٌ إِلَى أَنْ يأخذها المسلمون كإحاطة الحراس بالخزائن. [سورة الفتح (48) : آية 22] وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) وَهُوَ يَصْلُحُ جَوَابًا لِمَنْ يَقُولُ: كَفُّ الْأَيْدِي عَنْهُمْ كَانَ أَمْرًا اتِّفَاقِيًّا، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمُ الْعَرَبُ كَمَا عَزَمُوا

[سورة الفتح (48) : آية 23]

لَمَنَعُوهُمْ مِنْ فَتْحِ خَيْبَرَ وَاغْتِنَامِ غَنَائِمِهَا، فَقَالَ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ سَوَاءٌ قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا لَا يُنْصَرُونَ، وَالْغَلَبَةُ وَاقِعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ أَمْرُهُمْ أَمْرًا اتِّفَاقِيًّا، بَلْ هُوَ إِلَهِيٌّ مَحْكُومٌ بِهِ مَحْتُومٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. قَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ الشَّخْصِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِوَلِيٍّ يَنْفَعُ بِاللُّطْفِ، أَوْ بِنَصِيرٍ يَدْفَعُ بِالْعُنْفِ، وَلَيْسَ لِلَّذِينِ كَفَرُوا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ مَنْ يُوَلِّي دُبُرَهُ يَطْلُبُ الْخَلَاصَ مِنَ الْقَتْلِ بِالِالْتِحَاقِ بِمَا يُنْجِيهِ، فَقَالَ وَلَيْسَ إِذَا وَلَّوُا الْأَدْبَارَ يتخلصون، بل بعد التولي الهلاك لا حق بهم. [سورة الفتح (48) : آية 23] سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ آخَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْجِهَادِ وَهُوَ أَنَّ الطَّوَالِعَ لَهَا تَأْثِيرَاتٌ، وَالِاتِّصَالَاتِ لَهَا تَغَيُّرَاتٌ، فَقَالَ لَيْسَ كَذَلِكَ [بَلْ] سُنَّةُ اللَّهِ نُصْرَةُ رَسُولِهِ، وَإِهْلَاكُ عَدُوِّهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا. بِشَارَةٌ وَدَفْعُ وَهْنٍ يَقَعُ بِسَبَبِ وَهْمٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ هَذَا بِالتَّأْثِيرَاتِ فَلَا يَجِبُ وُقُوعُهُ، بَلِ اللَّهُ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْعِبَادَ لَأَهْلَكَهُمْ، بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُنَجِّمِ بِأَنَّ الْغَلَبَ لِمَنْ/ لَهُ طَالِعٌ وَشَوَاهِدُ تَقْتَضِي غَلَبَتَهُ قَطْعًا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَقْدِرُ عَلَى إِهْلَاكِ أَصْدِقَائِهِ، وَلَكِنْ لَا يُبَدِّلُ سُنَّتَهُ وَلَا يُغَيِّرُ عادته. [سورة الفتح (48) : آية 24] وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) تَبْيِينًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ [الفتح: 22] أَيْ هُوَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ بِالْفِرَارِ، وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِالرُّجُوعِ عَنْهُمْ وَتَرْكِهِمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِبَطْنِ مَكَّةَ إِشَارَةٌ إِلَى أَمْرٍ كَانَ هُنَاكَ يَقْتَضِي عَدَمَ الْكَفِّ، وَمَعَ ذَاكَ وُجِدَ كَفُّ الْأَيْدِي، وَذَلِكَ الْأَمْرُ هُوَ دُخُولُ الْمُسْلِمِينَ بِبَطْنِ مَكَّةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَصْبِرَ الْمَكْفُوفُ عَلَى الْقِتَالِ لِكَوْنِ الْعَدُوِّ دَخَلَ دَارَهُمْ طَالِبِينَ ثَأْرَهُمْ، وَذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ اجْتِهَادَ الْبَلِيدِ فِي الذَّبِّ عَنِ الْحَرِيمِ، وَيَقْتَضِي أَنْ يُبَالِغَ الْمُسْلِمُونَ فِي الِاجْتِهَادِ فِي الْجِهَادِ لِكَوْنِهِمْ لَوْ قَصَّرُوا لَكُسِرُوا وَأُسِرُوا لِبُعْدِ مَأْمَنِهِمْ، فَقَوْلُهُ بِبَطْنِ مَكَّةَ إِشَارَةٌ إِلَى بُعْدِ الْكَفِّ، وَمَعَ ذَلِكَ وُجِدَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ صَالِحٌ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ الظَّفَرَ كَانَ لَكُمْ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ كَانَ يَسْتَدْعِي كَوْنَ الظَّفَرِ لَهُمْ لِكَوْنِ الْبِلَادِ لَهُمْ، وَلِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ أَمْرَيْنِ مَانِعَيْنِ مِنَ الْأَمْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ حَقَّقَهُمَا مَعَ الْمُنَافِقِينَ، أَمَّا كَفُّ أَيْدِي الْكُفَّارِ، فَكَانَ بَعِيدًا لِكَوْنِهِمْ فِي بِلَادِهِمْ ذَابِّينَ عَنْ أَهْلِيهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ بِبَطْنِ مَكَّةَ وَأَمَّا كَفُّ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، فَلِأَنَّهُ كَانَ بَعْدَ أَنْ ظَفِرُوا بِهِمْ، وَمَتَى ظَفِرَ الْإِنْسَانُ بِعَدُوِّهِ الَّذِي لَوْ ظَفِرَ هُوَ بِهِ لَاسْتَأْصَلَهُ يَبْعُدُ انْكِفَافُهُ عَنْهُ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ كَفَّ الْيَدَيْنِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً.

[سورة الفتح (48) : آية 25]

يَعْنِي كَانَ اللَّهُ يَرَى فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَإِنْ كُنْتُمْ لَا تَرَوْنَ ذَلِكَ، وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً إِلَى أَنْ قَالَ: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ [الْفَتْحِ: 25] يَعْنِي كَانَ الْكَفُّ مُحَافَظَةً عَلَى مَا فِي مَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَخْرُجُوا مِنْهَا، وَيَدْخُلُوهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ فِيهِ إِيذَاءُ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَلِكَ الْكَفِّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ مَا كَانَ عَامَ الْفَتْحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ مَا كَانَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ هَزَمُوا جَيْشَ الْكُفَّارِ حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ بُيُوتَهُمْ، وَقِيلَ إِنَّ الحرب كان بالحجارة. [سورة الفتح (48) : آية 25] هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ. إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْكَفَّ لَمْ يَكُنْ لِأَمْرٍ فِيهِمْ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا وَصَدُّوا وَأُحْصِرُوا، وَكُلُّ ذَلِكَ يَقْتَضِي قِتَالَهُمْ، فَلَا يَقَعُ لِأَحَدٍ أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ اتَّفَقُوا، وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا خِلَافٌ وَاصْطَلَحُوا، وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا نِزَاعٌ، بَلِ الِاخْتِلَافُ بَاقٍ وَالنِّزَاعُ مُسْتَمِرٌّ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ وَمَنَعُوا فَازْدَادُوا كُفْرًا وَعَدَاوَةً، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلرِّجَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالنِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَقَوْلُهُ وَالْهَدْيَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى كَمْ فِي صَدُّوكُمْ وَيَجُوزُ الْجَرُّ عَطْفًا عَلَى الْمَسْجِدِ، أي وعن الهدي. ومَعْكُوفاً حال وأَنْ يَبْلُغَ تَقْدِيرُهُ عَلَى أَنْ يَبْلُغَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ رَفْعٌ، تَقْدِيرُهُ مَعْكُوفًا بُلُوغُهُ مَحِلَّهُ، كَمَا يُقَالُ: رَأَيْتُ زَيْدًا شَدِيدًا بِأْسُهُ، وَمَعْكُوفًا، أَيْ مَمْنُوعًا، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ عَنْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَصْفُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، يَعْنِي لَوْلَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ يُؤْمِنُونَ غَيْرُ معلومين، وقوله تعالى: أَنْ تَطَؤُهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: رِجَالٌ غَيْرُ مَعْلُومِي الْوَطْءِ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ عَيْبٌ أَوْ إِثْمٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّكُمْ رُبَّمَا تَقْتُلُونَهُمْ. فَتَلْزَمُكُمُ الْكَفَّارَةُ وَهِيَ دَلِيلُ الْإِثْمِ، أَوْ يَعِيبُكُمُ الْكُفَّارُ بِأَنَّهُمْ فَعَلُوا بِإِخْوَانِهِمْ مَا فَعَلُوا بِأَعْدَائِهِمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِغَيْرِ عِلْمٍ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ أَنْ تَطَؤُهُمْ يَعْنِي تَطَئُوهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنِ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي قَوْلِهِ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: يَكُونُ هَذَا تَكْرَارًا، لِأَنَّ عَلَى قَوْلِنَا هُوَ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَمْ تَعْلَمُوا أَنْ تَطَئُوهُمْ بِغَيْرِ علم، فيلزم تكرار بغير علم لحصوله بِقَوْلِهِ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ بِغَيْرِ عِلْمٍ هُوَ فِي مَوْضِعِهِ تَقْدِيرُهُ: لَمْ تَعْلَمُوا أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ، مَنْ يُعِرُّكُمْ وَيَعِيبُ عَلَيْكُمْ، يَعْنِي إِنْ وَطَأْتُمُوهُمْ غَيْرَ عَالِمِينَ يُصِبْكُمْ مَسَبَّةُ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَيْ بِجَهْلٍ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ مَعْذُورُونَ فِيهِ، أَوْ نَقُولُ تَقْدِيرُهُ: لَمْ تَعْلَمُوا أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَيْ فَتَقْتُلُوهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَوْ تُؤْذُوهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَيَكُونُ الْوَطْءُ سَبَبَ الْقَتْلِ، وَالْوَطْءُ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَكُمْ، وَالْقَتْلُ الَّذِي هُوَ بِسَبَبِ الْمَعَرَّةِ وَهُوَ الْوَطْءُ الَّذِي يَحْصُلُ بِغَيْرِ عِلْمٍ. أَوْ نَقُولُ: الْمَعَرَّةُ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا: مَا يَحْصُلُ مِنَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ مِمَّنْ هُوَ غَيْرُ

الْعَالِمِ بِحَالِ الْمَحَلِّ وَالثَّانِي: مَا يَحْصُلُ مِنَ الْقَتْلِ خَطَأً، وَهُوَ/ غَيْرُ عَدَمِ الْعِلْمِ، فَقَالَ: تُصِيبُكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، لَا الَّتِي تَكُونُ عَنِ الْعِلْمِ وَجَوَابُ: لَوْلَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَفَّ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ، هَذَا مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ حَسَنٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ جَوَابُهُ: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعني قد استحقوا لأن لَا يُهْمَلُوا، وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ لَوَقَعَ مَا اسْتَحَقُّوهُ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: هُوَ سَارِقٌ وَلَوْلَا فُلَانٌ لَقَطَعْتُ يَدَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ لَوْلَا لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا لِامْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِوُجُودِ غَيْرِهِ، وَامْتِنَاعُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا وُجِدَ الْمُقْتَضِي لَهُ فَمَنَعَهُ الْغَيْرُ فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَوَّلًا الْمُقْتَضِيَ التَّامَّ الْبَالِغَ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالصَّدُّ وَالْمَنْعُ، وَذَكَرَ مَا امْتَنَعَ لِأَجْلِهِ مُقْتَضَاهُ وَهُوَ وُجُودُ الرِّجَالِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً فِيهِ أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ: فِي الْفِعْلِ الَّذِي يَسْتَدْعِي اللَّامَ الَّذِي بِسَبَبِهِ يَكُونُ الْإِدْخَالُ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ هو قوله أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ لِيُدْخِلَ، لَا يُقَالُ بِأَنَّكَ ذَكَرْتَ أَنَّ الْمَانِعَ وُجُودُ رِجَالٍ مُؤْمِنِينَ فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ: كَفَّ أَيْدِيَكُمْ لِئَلَّا تَطَئُوا فَكَيْفَ يَكُونُ لِشَيْءٍ آخَرَ؟ نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن نَقُولَ كَفَّ أَيْدِيَكُمْ لِئَلَّا تَطَئُوا لِتَدْخُلُوا كَمَا يُقَالُ أَطْعَمْتُهُ لِيَشْبَعَ لِيَغْفِرَ اللَّهُ لِي أَيِ الْإِطْعَامُ لِلشَّابِعِ كَانَ لِيَغْفِرَ الثَّانِي: هُوَ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ لَوْلَا جَوَابُهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاسْتَحَقُّوا التَّعَجُّلَ فِي إِهْلَاكِهِمْ، وَلَوْلَا رِجَالٌ لَعَجَّلَ بِهِمْ وَلَكِنْ كَفَّ أَيْدِيَكُمْ لِيُدْخِلَ ثَانِيهَا: أَنْ يُقَالَ فَعَلَ مَا فَعَلَ لِيُدْخِلَ لِأَنَّ هُنَاكَ أَفْعَالًا مِنَ الْأَلْطَافِ وَالْهِدَايَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَوْلُهُ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لِيُؤْمِنَ مِنْهُمْ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُؤْمِنُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ أَوْ لِيَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ وَيُهَاجِرَ فَيُدْخِلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ تَزَيَّلُوا أَيْ لَوْ تَمَيَّزُوا، وَالضَّمِيرُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ ضَمِيرُ الرِّجَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالنِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا وَقَدْ قُلْتُمْ بِأَنَّ جَوَابَ لَوْلَا مَحْذُوفٌ وَهُوَ قَوْلُهُ لَمَّا كَفَّ أَوْ لَعَجَّلَ وَلَوْ كَانَ لَوْ تَزَيَّلُوا رَاجِعًا إِلَى الرِّجَالِ لَكَانَ لَعَذَّبْنَا جَوَابَ لَوْلَا؟ نَقُولُ وَقَدْ قَالَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: لَوْ تَزَيَّلُوا يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ لَوْلَا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَعَذَّبْنَا جَوَابَ لَوْلَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ ضَمِيرُ مَنْ يَشَاءُ، كَأَنَّهُ قَالَ لِيُدْخِلَ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ لَوْ تَزَيَّلُوا هُمْ وَتَمَيَّزُوا وَآمَنُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرٍ نَفْرِضُهُ فَالْكَلَامُ يُفِيدُ أَنَّ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ انْدَفَعَ عَنْهُمْ، إِمَّا بِسَبَبِ عَدَمِ التَّزْيِيلِ، أَوْ بِسَبَبِ وُجُودِ الرِّجَالِ وَعُلِمَ تَقْدِيرُ وُجُودِ الرِّجَالِ وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ لَا يَنْدَفِعُ/ عَنِ الْكَافِرِ، نَقُولُ الْمُرَادُ عَذَابًا عَاجِلًا بِأَيْدِيكُمْ يَبْتَدِئُ بِالْجِنْسِ إِذْ كَانُوا غَيْرَ مُقْرِنِينَ وَلَا مُنْقَلِبِينَ إِلَيْهِمْ فَيَظْهَرُونَ وَيَقْتَدِرُونَ يَكُونُ أَلِيمًا. الْبَحْثُ الثَّانِي: مَا الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ مَعَ أَنَّ الْمُؤَنَّثَ يَدْخُلُ فِي ذِكْرِ الْمُذَكَّرِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ؟ قُلْنَا الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا تَقَدَّمَ يَعْنِي أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ وهم اختصاص الرجال بالحكم لأن قوله تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مَعْنَاهُ تُهْلِكُوهُمْ وَالْمُرَادُ لَا تُقَاتِلْ وَلَا تَقْتُلْ فَكَانَ الْمَانِعَ وَهُوَ وُجُودُ الرِّجَالِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: وَالنِّسَاءُ الْمُؤْمِنَاتُ أَيْضًا لِأَنَّ تَخْرِيبَ بُيُوتِهِنَّ وَيُتْمَ أَوْلَادِهِنَّ بِسَبَبِ رِجَالِهِنَّ وَطْأَةٌ شَدِيدَةٌ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ فِي مَحَلِّ الشَّفَقَةِ تُعَدُّ الْمَوَاضِعُ لِتَرْقِيقِ الْقَلْبِ، يُقَالُ لِمَنْ يُعَذِّبُ شَخْصًا لَا تُعَذِّبْهُ وَارْحَمْ ذُلَّهُ وَفَقْرَهُ وَضَعْفَهُ، وَيُقَالُ أَوْلَادُهُ وَصِغَارُهُ وأهله الضعفاء العاجزين، فكذلك هاهنا قال: لَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ

[سورة الفتح (48) : آية 26]

لِتَرْقِيقِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنَاتِ وَرِضَاهُمْ بِمَا جَرَى مِنَ الكف بعد الظفر. [سورة الفتح (48) : آية 26] إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا فَلَا بُدَّ مِنْ فِعْلٍ يَقَعُ فِيهِ وَيَكُونُ عَامِلًا لَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ ظَرْفٌ فَالْفِعْلُ الْوَاقِعُ فِيهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ مَذْكُورٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ مَفْهُومٌ غَيْرُ مَذْكُورٍ، فَإِنْ قُلْنَا هُوَ مَذْكُورٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَصَدُّوكُمْ [الفتح: 25] أَيْ وَصَدُّوكُمْ حِينَ جَعَلُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ [الفتح: 25] أَيْ لَعَذَّبْنَاهُمْ حِينَ جَعَلُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ وَالثَّانِي: أَقْرَبُ لِقُرْبِهِ لَفْظًا وَشَدَّةِ مُنَاسَبَتِهِ مَعْنًى لِأَنَّهُمْ إِذَا جَعَلُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى الِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ، وَالْمُؤْمِنُونَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةَ لَا يَتْرُكُونَ الِاجْتِهَادَ فِي الْجِهَادِ وَاللَّهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فَيُعَذِّبُونَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا أَوْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ مَفْهُومٌ غَيْرُ مَذْكُورٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: حَفِظَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَطَئُوهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا الَّذِينَ جَعَلَ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ وَثَانِيهَا: أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ تَفْسِيرٌ لِذَلِكَ الْإِحْسَانِ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، فَالْعَامِلُ مُقَدَّرٌ تَقْدِيرُهُ اذْكُرْ، أَيْ: اذْكُرْ ذَلِكَ الْوَقْتَ، كَمَا تَقُولُ أَتَذْكُرُ إِذْ قَامَ زَيْدٌ، أَيْ أَتَذْكُرُ وَقْتَ قِيَامِهِ/ كَمَا تَقُولُ أَتَذْكُرُ زَيْدًا، وعلى هذا يكون الظرف للفعل الْمُضَافُ إِلَيْهِ عَامِلًا فِيهِ، وَفِيهِ. لَطَائِفُ مَعْنَوِيَّةٌ وَلَفْظِيَّةٌ: الْأُولَى: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَانَ غَايَةَ الْبَوْنِ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ، فَأَشَارَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا: جَعَلَ مَا لِلْكَافِرِينَ بِجَعْلِهِمْ فَقَالَ: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَعَلَ مَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِجَعْلِ اللَّهِ، فَقَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَبَيْنَ الْفَاعِلَيْنِ مَا لَا يَخْفَى ثَانِيهَا: جَعَلَ لِلْكَافِرِينَ الْحَمِيَّةَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ السَّكِينَةَ وَبَيْنَ الْمَفْعُولَيْنِ تَفَاوُتٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ثَالِثُهَا: أَضَافَ الْحَمِيَّةَ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَضَافَ السَّكِينَةَ إِلَى نَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ: حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَالَ: سَكِينَتَهُ، وَبَيْنَ الْإِضَافَتَيْنِ مَا لَا يُذْكَرُ الثَّانِيَةُ: زَادَ الْمُؤْمِنِينَ خَيْرًا بَعْدَ حُصُولِ مُقَابَلَةِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ فِعْلُهُمْ بِفِعْلِ اللَّهِ وَالْحَمِيَّةُ بِالسَّكِينَةِ وَالْإِضَافَةُ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَسَنَذْكُرُ مَعْنَاهُ، وَأَمَّا اللَّفْظِيَّةُ فَثَلَاثُ لَطَائِفَ الْأُولَى: قَالَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ (جَعَلَ) وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ (أَنْزَلَ) وَلَمْ يَقُلْ خَلَقَ وَلَا جَعَلَ سَكِينَتَهُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْحَمِيَّةَ كَانَتْ مَجْعُولَةً فِي الْحَالِ فِي الْعَرَضِ الَّذِي لَا يَبْقَى، وَأَمَّا السَّكِينَةُ فَكَانَتْ كَالْمَحْفُوظَةِ فِي خِزَانَةِ الرَّحْمَةِ مُعَدَّةً لِعِبَادِهِ فَأَنْزَلَهَا الثَّانِيَةُ: قَالَ الْحَمِيَّةَ ثُمَّ أَضَافَهَا بِقَوْلِهِ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ لِأَنَّ الْحَمِيَّةَ فِي نَفْسِهَا صِفَةٌ مَذْمُومَةٌ وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ تَزْدَادُ قُبْحًا، وَلِلَحَمِيَّةِ فِي الْقُبْحِ دَرَجَةٌ لَا يُعْتَبَرُ مَعَهَا قُبْحُ الْقَبَائِحِ كَالْمُضَافِ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ. وَأَمَّا السَّكِينَةُ فِي نَفْسِهَا وَإِنْ كَانَتْ حَسَنَةً لَكِنَّ الْإِضَافَةَ إِلَى اللَّهِ فِيهَا مِنَ الْحُسْنِ مَا لَا يَبْقَى معه لحسن اعتبار، فقال سَكِينَتَهُ اكتفاه بِحُسْنِ الْإِضَافَةِ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ فَأَنْزَلَ بِالْفَاءِ لَا بِالْوَاوِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كَالْمُقَابَلَةِ تَقُولُ أَكْرَمَنِي فَأَكْرَمْتُهُ لِلْمُجَازَاةِ وَالْمُقَابَلَةِ وَلَوْ قُلْتَ أَكْرَمَنِي وَأَكْرَمْتُهُ لَا يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ عِنْدَ اشْتِدَادِ غَضَبِ أَحَدِ الْعَدُوَّيْنِ فَالْعَدُوُّ الْآخَرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا أَوْ قَوِيًّا، فَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا يَنْهَزِمُ وَيَنْقَهِرُ، وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا فَيُورِثُ غَضَبُهُ فِيهِ غَضَبًا، وَهَذَا سَبَبُ قِيَامِ الْفِتَنِ وَالْقِتَالِ فَقَالَ فِي نَفْسِ الْحَرَكَةِ عِنْدَ حَرَكَتِهِمْ مَا أَقْدَمْنَا وَمَا انْهَزَمْنَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ بِالْفَاءِ يَدُلُّ تَعَلُّقُ الْإِنْزَالِ بِالْفَاءِ عَلَى تَرْتِيبِهِ عَلَى شَيْءٍ، نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ إِذْ ظَرْفٌ كَأَنَّهُ قَالَ أَحْسَنَ اللَّهُ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقَوْلُهُ

فَأَنْزَلَ تَفْسِيرٌ لِذَلِكَ الْإِحْسَانِ كَمَا يُقَالُ أَكْرَمَنِي فَأَعْطَانِي لِتَفْسِيرِ الْإِكْرَامِ وَثَانِيهِمَا: أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ تَعَلُّقَ إِنْزَالِ السَّكِينَةِ بِجَعْلِهِمُ الْحَمِيَّةَ فِي قُلُوبِهِمْ عَلَى مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ، تَقُولُ أَكْرَمَنِي فَأَثْنَيْتُ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا فِعْلَيْنِ وَاقِعَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ، كَمَا تَقُولُ جَاءَنِي زَيْدٌ وَخَرَجَ عَمْرٌو، وَهُوَ هُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا جَعَلُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ فَالْمُسْلِمُونَ عَلَى مَجْرَى الْعَادَةِ لَوْ نَظَرْتَ إِلَيْهِمْ لَزِمَ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُمْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا إِقْدَامٌ، وَإِمَّا انْهِزَامٌ لِأَنَّ أَحَدَ الْعَدُوَّيْنِ إِذَا اشْتَدَّ غَضَبُهُ فَالْعَدُوُّ الْآخَرُ إِنْ كَانَ مِثْلَهُ فِي الْقُوَّةِ يَغْضَبُ أَيْضًا وَهَذَا يُثِيرُ الْفِتَنَ، وَإِنْ كَانَ أَضْعَفَ مِنْهُ يَنْهَزِمُ أَوْ يَنْقَادُ لَهُ فَاللَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ فِي مُقَابَلَةِ حَمِيَّةِ الْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَكِينَتَهُ حَتَّى لَمْ يَغْضَبُوا وَلَمْ يَنْهَزِمُوا بَلْ يَصْبِرُوا، وَهُوَ بَعِيدٌ فِي الْعَادَةِ فَهُوَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَجَابَ الْكَافِرِينَ إِلَى الصُّلْحِ، وَكَانَ فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَرْجِعُوا إِلَّا بِأَحَدِ الثَّلَاثَةِ بِالنَّحْرِ فِي الْمَنْحَرِ، وَأَبَوْا أَنْ/ لَا يَكْتُبُوا مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ وَبِسْمِ اللَّهِ، فَلَمَّا سَكَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكَنَ الْمُؤْمِنُونَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى فِيهِ وُجُوهٌ أَظْهَرُهَا أَنَّهُ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِنَّ بِهَا يَقَعُ الِاتِّقَاءُ عَنِ الشِّرْكِ، وَقِيلَ هُوَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَإِنَّ الْكَافِرِينَ أَبَوْا ذَلِكَ وَالْمُؤْمِنُونَ الْتَزَمُوهُ، وَقِيلَ هِيَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ ونحن توضح فِيهِ مَا يَتَرَجَّحُ بِالدَّلِيلِ فَنَقُولُ وَأَلْزَمَهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا يَعْنِي أَلْزَمَ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ كَلِمَةَ التَّقْوَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فَحَسْبُ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا نَقُولُ هُوَ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ [الْأَحْزَابِ: 1] وقال للمؤمنين يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آلِ عِمْرَانَ: 102] وَالْأَمْرُ بِتَقْوَى اللَّهِ حَتَّى تُذْهِلَهُ تَقْوَاهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى مَا سِوَى اللَّهِ، كَمَا قَالَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَقَالَ تَعَالَى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الْأَحْزَابِ: 37] ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ حَالَ مَنْ صَدَّقَهُ بِقَوْلِهِ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ [الْأَحْزَابِ: 39] أَمَّا في حق المؤمنين فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وقال: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [البقرة: 150] وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الْحَشْرِ: 7] أَلَا تَرَى إِلَى قوله وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحجرات: 1] وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وفي معنى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى عَلَى هَذَا مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا قَالَ: (اتَّقُوا) يَكُونُ الْأَمْرُ وَارِدًا ثُمَّ إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقْبَلُهُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَيَلْتَزِمُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَلْتَزِمُهُ، وَمَنِ الْتَزَمَهُ فَقَدِ الْتَزَمَهُ بِإِلْزَامِ اللَّهِ إِيَّاهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَفِي هَذَا الْمَعْنَى رُجْحَانٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ التَّقْوَى وَإِنْ كَانَ كَامِلًا وَلَكِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْكَلِمَةِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ اللَّهِ أَكْرَمَ النَّاسِ فَأُلْزِمُوا تَقْوَاهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 13] يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ يَكُونُ تَقْوَاهُ أَكْثَرَ يُكْرِمُهُ اللَّهُ أَكْثَرَ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ سَيَكُونُ أَكْرَمَ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْرَبَ إِلَيْهِ كَانَ أَتْقَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ «وَالْمُخْلِصُونَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 57] وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ وَكانُوا أَحَقَّ بِها لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِاللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: 28] وَقَوْلُهُ وَأَهْلَها يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ مَعْنَى الْأَحَقِّ أَنَّهُ يُثْبِتُ رُجْحَانًا عَلَى الْكَافِرِينَ إِنْ لَمْ يُثْبِتِ الْأَهْلِيَّةَ، كَمَا لَوِ اخْتَارَ الْمَلِكُ اثْنَيْنِ لَشُغْلٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ صَالِحٍ لَهُ وَلَكِنَّ أَحَدَهُمَا أَبْعَدُ عَنِ الِاسْتِحْقَاقِ فَقَالَ فِي الْأَقْرَبِ إِلَى الِاسْتِحْقَاقِ إِذَا كَانَ وَلَا بُدَّ فَهَذَا أحق، كما

[سورة الفتح (48) : آية 27]

يُقَالُ الْحَبْسُ أَهْوَنُ مِنَ الْقَتْلِ مَعَ أَنَّهُ لاهين هُنَاكَ فَقَالَ: وَأَهْلَها دَفَعًا لِذَلِكَ الثَّانِي: وَهُوَ أَقْوَى وَهُوَ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَهْلَها: فيه وجوه نبينها بعد ما نُبَيِّنُ مَعْنَى الْأَحَقِّ، فَنَقُولُ هُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْأَحَقُّ بِمَعْنَى الْحَقِّ لَا لِلتَّفْضِيلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [مَرْيَمَ: 73] إِذْ لَا خَيْرَ فِي غَيْرِهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِلتَّفْضِيلِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ/ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ أَحَقُّ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَلِمَةِ التَّقْوَى مِنْ كَلِمَةٍ أُخْرَى غَيْرِ تَقْوَى، تَقُولُ زِيدٌ أَحَقُّ بِالْإِكْرَامِ مِنْهُ بِالْإِهَانَةِ، كَمَا إِذَا سَأَلَ شَخْصٌ عَنْ زيد إنه بالطب أعلم أو بالفقه، نقول هو بالفقه أعلم أي من الطلب. [سورة الفتح (48) : آية 27] لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) بَيَانٌ لِفَسَادِ مَا قَالَهُ الْمُنَافِقُونَ بَعْدَ إِنْزَالِ اللَّهِ السَّكِينَةَ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَوُقُوفِهِمْ عِنْدَ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ عَدَمِ الْإِقْبَالِ عَلَى الْقِتَالِ وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ مَا دَخَلْنَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَلَا حَلَقْنَا وَلَا قَصَّرْنَا حَيْثُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي مَنَامِهِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ مَكَّةَ وَيُتِمُّونَ الْحَجَّ وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ وَقْتًا فَقَصَّ رُؤْيَاهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَقَطَعُوا بِأَنَّ الْأَمْرَ كَمَا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهِ وَظَنُّوا أَنَّ الدُّخُولَ يَكُونُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَامَ الْفَتْحِ فَلَمَّا صَالَحُوا وَرَجَعُوا قَالَ الْمُنَافِقُونَ اسْتِهْزَاءً مَا دَخَلْنَا وَلَا حَلَقْنَا فَقَالَ تَعَالَى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ وَتَعْدِيَةُ صَدَقَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِنَفْسِهِ، وَكَوْنُهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولَيْنِ كَكَلِمَةِ جَعَلَ وَخَلَقَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ عُدِّيَ إِلَى الرُّؤْيَا بِحَرْفٍ تَقْدِيرُهُ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ فِي الرُّؤْيَا، وَعَلَى الْأَوَّلِ مَعْنَاهُ جَعَلَهَا وَاقِعَةً بَيْنَ صِدْقِ وَعْدِهِ إِذْ وَقَعَ الْمَوْعُودُ بِهِ وَأَتَى بِهِ، وَعَلَى الثَّانِي مَعْنَاهُ مَا أَرَاهُ اللَّهُ لَمْ يَكْذِبْ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَأَى فِي مَنَامِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ سَتَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ صَدَقَ ظَاهِرًا لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الصِّدْقِ فِي الْكَلَامِ ظَاهِرٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى أَنَّهُ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ صَدَقَ اللَّهُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَتَى بِمَا يُحَقِّقُ الْمَنَامَ وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ صَادِقًا يُقَالُ صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرِهِ مَثَلًا وَفِيمَا إِذَا حَقَّقَ الْأَمْرَ الَّذِي يُرِيهِ مِنْ نَفْسِهِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِبِلِ إِذَا قِيلَ لَهُ هِدَعْ سَكَنَ فَحَقَّقَ كَوْنَهُ مِنْ صِغَارِ الْإِبِلِ، فَإِنَّ هِدَعْ كَلِمَةٌ يُسَكَّنُ بِهَا صِغَارُ الْإِبِلِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِالْحَقِّ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُوَ حَالٌ أَوْ قَسَمٌ أو صفة صدق، وعلى كونه حال تَقْدِيرُهُ صَدَقَهُ الرُّؤْيَا مُلْتَبِسَةً بِالْحَقِّ وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ صِفَةً تَقْدِيرُهُ صَدَقَهُ صِدْقًا مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ قَسَمًا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَسَمًا بِاللَّهِ فَإِنَّ الْحَقَّ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَسَمًا بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْبَاطِلِ هَذَا مَا قَالَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ [إِنَّ] فِيهِ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ فيه تقديم/ تأخير تَقْدِيرُهُ: صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِالْحَقِّ الرُّؤْيَا، أَيِ الرَّسُولَ الَّذِي هُوَ رَسُولٌ بِالْحَقِّ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى امْتِنَاعِ الْكَذِبِ فِي الرُّؤْيَا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ رَسُولًا بِالْحَقِّ فَلَا يَرَى فِي مَنَامِهِ الْبَاطِلَ وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ قَوْلَهُ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ قُلْنَا بِأَنَّ الْحَقَّ قَسَمٌ فَأَمْرُ اللَّامِ ظَاهِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ فَتَقْدِيرُهُ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ، وَاللَّهِ لَتَدْخُلُنَّ، وَقَوْلُهُ: وَاللَّهِ لَتَدْخُلُنَّ، جَازَ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِلرُّؤْيَا يَعْنِي الرُّؤْيَا هِيَ: وَاللَّهِ لَتُدْخُلُنَّ، وَعَلَى هَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ صَدَقَ اللَّهُ كَانَ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّ الرُّؤْيَا كَانَتْ كَلَامًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ يَعْنِي وَاللَّهِ لَيَقَعَنَّ الدُّخُولُ وليظهرن الصدق فلتدخلن ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ شاءَ اللَّهُ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ ذَكَرَهُ تَعْلِيمًا لِلْعِبَادِ الْأَدَبَ وَتَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ

[سورة الفتح (48) : الآيات 28 إلى 29]

[الْكَهْفِ: 23، 24] الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الدُّخُولَ لَمَّا لَمْ يَقَعْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ يُرِيدُونَ الدُّخُولَ وَيَأْبَوْنَ الصُّلْحَ قَالَ: لَتَدْخُلُنَّ وَلَكِنْ لَا بِجَلَادَتِكُمْ وَلَا بِإِرَادَتِكُمْ، إِنَّمَا تَدْخُلُونَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ فِي الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتَدْخُلُنَّ ذَكَرَ أَنَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ وَعْدٌ لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَا حَقٌّ وَاجِبٌ، وَمَنْ وَعَدَ بِشَيْءٍ لَا يُحَقِّقُهُ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا فَلَا يُلْزِمُهُ بِهِ أَحَدٌ، وَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَ الْمَوْعُودِ بِهِ فِي الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ صَرِيحًا فِي الْيَقَظَةِ فَمَا ظَنُّكُمْ بِالْوَحْيِ بِالْمَنَامِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ الْكَلَامُ، فَإِذَا تَأَخَّرَ الدُّخُولُ لِمَ يَسْتَهْزِئُونَ؟ الرَّابِعُ: هُوَ أَنَّ ذَلِكَ تَحْقِيقًا لِلدُّخُولِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَالُوا لَا تَدْخُلُوهَا إِلَّا بِإِرَادَتِنَا وَلَا نُرِيدُ دُخُولَكُمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَنَخْتَارُ دُخُولَكُمْ فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ، وَالْمُؤْمِنُونَ أَرَادُوا الدُّخُولَ فِي عَامِهِمْ وَلَمْ يَقَعْ. فَكَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ بَقِيَ الْأَمْرُ مَوْقُوفًا عَلَى مَشِيئَةِ أَهْلِ مَكَّةَ إِنْ أَرَادُوا فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ يَتْرُكُونَنَا نَدْخُلُهَا وَإِنْ كَرِهُوا لَا نَدْخُلُهَا فَقَالَ لَا تُشْتَرَطُ إِرَادَتُهُمْ وَمَشِيئَتُهُمْ، بَلْ تَمَامُ الشَّرْطِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وقوله مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخافُونَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّكُمْ تُتِمُّونَ الْحَجَّ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَقَوْلُهُ لَتَدْخُلُنَّ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ مُحَلِّقِينَ إِشَارَةٌ إِلَى الْآخَرِ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مُحَلِّقِينَ حَالُ الداخلين والداخل لا يكون الآن مُحْرِمًا، وَالْمُحْرِمُ لَا يَكُونُ مُحَلِّقًا، فَقَوْلُهُ آمِنِينَ يُنْبِئُ عَنِ الدَّوَامِ فِيهِ إِلَى الْحَلْقِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: تَدْخُلُونَهَا آمِنِينَ مُتَمَكِّنِينَ مِنْ أَنْ تُتِمُّوا الْحَجَّ مُحَلِّقِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَخافُونَ أَيْضًا حَالٌ مَعْنَاهُ غَيْرُ خَائِفِينَ، وَذَلِكَ حَصَلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: آمِنِينَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي إِعَادَتِهَا؟ نَقُولُ: فِيهِ بَيَانُ كَمَالِ الْأَمْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَعْدَ الْحَلْقِ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ عَنِ الْإِحْرَامِ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْقِتَالُ، وَكَانَ عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ يَحْرُمُ قِتَالُ مَنْ أَحْرَمَ وَمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ فَقَالَ: تَدْخُلُونَ آمِنِينَ، وَتُحَلِّقُونَ، وَيَبْقَى أَمْنُكُمْ بَعْدَ خُرُوجِكُمْ عَنِ الْإِحْرَامِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَيْ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَكَوْنِ دُخُولِكُمْ فِي سَنَتِكُمْ سَبَبًا لِوَطْءِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ/ أَوْ فَعَلِمَ لِلتَّعْقِيبِ، فَعَلِمَ وَقَعَ عَقِيبَ مَاذَا؟ نَقُولُ إِنْ قُلْنَا الْمُرَادُ مِنْ فَعَلِمَ وَقْتُ الدُّخُولِ فَهُوَ عَقِيبَ صَدَقَ، وَإِنْ قُلْنَا الْمُرَادُ فَعَلِمَ الْمَصْلَحَةَ فَالْمَعْنَى عِلْمُ الْوُقُوعِ وَالشَّهَادَةِ لَا عِلْمُ الْغَيْبِ، وَالتَّقْدِيرُ يَعْنِي حَصَلَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْمُتَجَدِّدَةِ فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً إِمَّا صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَإِمَّا فَتْحُ خَيْبَرَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً يَدْفَعُ وَهْمَ حُدُوثِ عِلْمِهِ مِنْ قَوْلِهِ فَعَلِمَ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً يُفِيدُ سَبْقَ عِلْمِهِ الْعَامِّ لكل علم محدث. [سورة الفتح (48) : الآيات 28 الى 29] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً.

تَأْكِيدًا لِبَيَانِ صِدْقِ اللَّهِ فِي رَسُولِهِ الرُّؤْيَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُرْسِلًا لِرَسُولِهِ لِيَهْدِيَ، لَا يُرِيدُ مَا لَا يَكُونُ مُهْدِيًا لِلنَّاسِ فَيَظْهَرُ خِلَافُهُ، فَيَقَعُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلضَّلَالِ، وَيَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الرُّؤْيَا بحيث توافق الواقع تقع لِغَيْرِ الرُّسُلِ، لَكِنَّ رُؤْيَةَ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهَا فِي الْيَقَظَةِ لَا تَقَعُ لِكُلِّ أَحَدٍ فَقَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَحَكَى لَهُ مَا سَيَكُونُ فِي الْيَقَظَةِ، وَلَا يَبْعُدُ مِنْ أَنْ يُرِيَهُ فِي الْمَنَامِ مَا يَقَعُ فَلَا اسْتِبْعَادَ فِي صِدْقِ رُؤْيَاهُ، وَفِيهَا أَيْضًا بَيَانُ وُقُوعِ الْفَتْحِ وَدُخُولِ مَكَّةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أَيْ مَنْ يُقَوِّيهِ عَلَى الْأَدْيَانِ لَا يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ فَتْحُ مَكَّةَ لَهُ وَ (الْهُدَى) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقُرْآنَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ [الْبَقَرَةِ: 185] وَعَلَى هَذَا دِينِ الْحَقِّ هُوَ مَا فِيهِ مِنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْهُدَى هُوَ الْمُعْجِزَةُ أَيْ أَرْسَلَهُ بِالْحَقِّ أَيْ مَعَ الْحَقِّ إِشَارَةً إِلَى مَا شَرَعَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْهُدَى هُوَ الْأُصُولَ ودِينِ الْحَقِّ هُوَ الْأَحْكَامَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنَ الرُّسُلِ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَحْكَامٌ بَلْ بَيَّنَ الْأُصُولَ فَحَسْبُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْهُدَى يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلِاسْتِغْرَاقِ أَيْ كُلُّ مَا هُوَ هُدًى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ [الزُّمَرِ: 23] وَهُوَ إِمَّا الْقُرْآنُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ إِلَى أَنْ قَالَ: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ [الزُّمَرِ: 23] وَإِمَّا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الرُّسُلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَامِ: 90] وَالْكُلُّ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مُوَافِقٌ لِمَا اتَّفَقَ/ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَدِينِ الْحَقِّ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ: بِالْهُدَى وَدِينِ اللَّهِ، وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ نَقِيضَ الْبَاطِلِ فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَدِينِ الْأَمْرِ الْحَقِّ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الِانْقِيَادَ إِلَى الْحَقِّ وَالْتِزَامَهُ لِيُظْهِرَهُ أَيْ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَهُوَ الْمُعْجِزُ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أَيْ جِنْسِ الدِّينِ، فَيَنْسَخُ الْأَدْيَانَ دُونَ دِينِهِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْهَاءَ فِي قَوْلِهِ لِيُظْهِرَهُ رَاجِعَةٌ إِلَى الرَّسُولِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى دِينِ الْحَقِّ أَيْ أَرْسَلَ الرَّسُولَ بِالدِّينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ أَيْ لِيُظْهِرَ الدِّينَ الْحَقَّ عَلَى الْأَدْيَانِ، وَعَلَى هَذَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ لِلْإِظْهَارِ هُوَ اللَّهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّبِيَّ أَيْ لِيُظْهِرَ النَّبِيُّ دِينَ الْحَقِّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أَيْ فِي أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَهَذَا مِمَّا يُسَلِّي قَلْبَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُمْ تَأَذَّوْا مِنْ رَدِّ الْكُفَّارِ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ الْمَكْتُوبَ، وَقَالُوا لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ فَلَا تَكْتُبُوا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ بَلِ اكْتُبُوا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ تَعَالَى: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً فِي أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَفِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ مَعَ أَنَّهُ كَافٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لَكِنَّهُ فِي الرِّسَالَةِ أَظْهَرُ كِفَايَةً، لِأَنَّ الرَّسُولَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِقَوْلِ الْمُرْسِلِ، فَإِذَا قَالَ مَلِكٌ هَذَا رَسُولِي، لَوْ أَنْكَرَ كُلُّ مَنْ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُ رَسُولٌ فَلَا يُفِيدُ إِنْكَارُهُمْ فَقَالَ تَعَالَى أَيُّ خَلَلٍ فِي رِسَالَتِهِ بِإِنْكَارِهِمْ مَعَ تَصْدِيقِي إِيَّاهُ بِأَنَّهُ رَسُولِي، وَقَوْلُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُوَ مُحَمَّدٌ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ أَرْسَلَ رَسُولَهُ وَرَسُولُ اللَّهِ عَطْفُ بَيَانٍ وَثَانِيهَا: أَنَّ مُحَمَّدًا مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ رَسُولُ اللَّهِ وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ وَلَا تَتَوَقَّفُ رِسَالَتُهُ إِلَّا عَلَى شَهَادَتِهِ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ بِهَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَثَالِثُهَا: وَهُوَ مُسْتَنْبَطٌ وهو أن يقال مُحَمَّدٌ مبتدأ ورَسُولُ اللَّهِ عَطْفُ بَيَانٍ سِيقَ لِلْمَدْحِ لَا لِلتَّمْيِيزِ وَالَّذِينَ مَعَهُ عَطْفٌ عَلَى مُحَمَّدٌ، وَقَوْلُهُ أَشِدَّاءُ خَبَرُهُ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَالَّذِينَ مَعَهُ جَمِيعُهُمْ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ لِأَنَّ وَصْفَ الشِّدَّةِ وَالرَّحْمَةِ وُجِدَ فِي جَمِيعِهِمْ، أَمَّا فِي الْمُؤْمِنِينَ فَكَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [الْمَائِدَةِ: 54] وَأَمَّا فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَمَا فِي قَوْلِهِ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ

[التوبة: 73] وقال في حقه بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التَّوْبَةِ: 128] وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَراهُمْ لَا يَكُونُ خِطَابًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ يَكُونُ عَامًّا أُخْرِجَ مَخْرَجَ الْخَطَّابِ تَقْدِيرُهُ أَيُّهَا السَّامِعُ كَائِنًا مَنْ كَانَ، كَمَا قُلْنَا إِنَّ الْوَاعِظَ يَقُولُ انْتَبِهْ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ الِانْتِبَاهُ وَلَا يُرِيدُ بِهِ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً لِتَمْيِيزِ رُكُوعِهِمْ وَسُجُودِهِمْ عَنْ رُكُوعِ الْكُفَّارِ وَسُجُودِهِمْ، وَرُكُوعِ الْمُرَائِي وَسُجُودِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَبْتَغِي بِهِ ذَلِكَ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنًى لَطِيفٍ وَهُوَ أن الله تعالى قال الراكعون والساجدون لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [فاطر: 30] وَقَالَ الرَّاكِعُ يَبْتَغِي الْفَضْلَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَجْرَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا قَالَ لَكُمْ أَجْرٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَفَضُّلًا، وَإِشَارَةً إِلَى أَنَّ عَمَلَكُمْ جَاءَ عَلَى مَا طَلَبَ اللَّهُ مِنْكُمْ، لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُسْتَحَقُّ إِلَّا عَلَى الْعَمَلِ الْمُوَافِقِ لِلطَّلَبِ مِنَ الْمَالِكِ، وَالْمُؤْمِنُ إِذَا قَالَ أَنَا أَبْتَغِي فَضْلَكَ يَكُونُ مِنْهُ اعْتِرَافًا/ بِالتَّقْصِيرِ فَقَالَ: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ أَجْرًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ فيه وجهان أحدهما: أَنَّ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ [آلِ عِمْرَانَ: 106] وَقَالَ تَعَالَى: نُورُهُمْ يَسْعى [التَّحْرِيمِ: 8] وَعَلَى هَذَا فَنَقُولُ نُورُهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ بِسَبَبِ تَوَجُّهِهِمْ نَحْوَ الْحَقِّ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَامِ: 79] وَمَنْ يُحَاذِي الشَّمْسَ يَقَعُ شُعَاعُهَا عَلَى وَجْهِهِ، فَيَتَبَيَّنُ عَلَى وَجْهِهِ النُّورَ مُنْبَسِطًا، مَعَ أَنَّ الشَّمْسَ لَهَا نُورٌ عَارِضِيٌّ يَقْبَلُ الزَّوَالَ، وَاللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَمَنْ يَتَوَجَّهُ إِلَى وَجْهِهِ يَظْهَرُ فِي وَجْهِهِ نُورٌ يُبْهِرُ الْأَنْوَارَ وَثَانِيهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَظْهَرُ فِي الْجِبَاهِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ السُّجُودِ وَالثَّانِي: مَا يُظْهِرُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي وُجُوهِ السَّاجِدِينَ لَيْلًا مِنَ الْحُسْنِ نَهَارًا، وَهَذَا مُحَقَّقٌ لِمَنْ يَعْقِلُ فَإِنَّ رَجُلَيْنِ يَسْهَرَانِ بِاللَّيْلِ أَحَدُهُمَا قَدِ اشْتَغَلَ بِالشَّرَابِ وَاللَّعِبِ وَالْآخَرُ قَدِ اشْتَغَلَ بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَاسْتِفَادَةِ الْعِلْمِ فَكُلُّ أَحَدٍ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي يُفَرِّقُ بَيْنَ السَّاهِرِ فِي الشُّرْبِ وَاللَّعِبِ، وَبَيْنَ السَّاهِرِ فِي الذِّكْرِ وَالشُّكْرِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مَذْكُورَةٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ذلِكَ مُبْتَدَأً، ومَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ خَبَرًا لَهُ، وقوله تعالى: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ خبرا مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَمَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ خَبَرُ ذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَقَوْلُهُ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ كَزَرْعٍ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ أُوضِحَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كَزَرْعٍ كَقَوْلِهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الْحِجْرِ: 66] وَفِيهِ وَجْهٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَبَرًا لَهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ هَذَا الظَّاهِرُ فِي وُجُوهِهِمْ ذَلِكَ يُقَالُ ظَهَرَ فِي وَجْهِهِ أَثَرُ الضَّرْبِ، فَنَقُولُ أَيْ وَاللَّهِ ذَلِكَ أَيْ هَذَا ذَلِكَ الظَّاهِرُ، أَوِ الظَّاهِرُ الَّذِي تَقُولُهُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ. أَيْ وُصِفُوا فِي الْكِتَابَيْنِ بِهِ وَمُثِّلُوا بِذَلِكَ وَإِنَّمَا جُعِلُوا كَالزَّرْعِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَخْرُجُ يَكُونُ ضَعِيفًا وَلَهُ نُمُوٌّ إِلَى حَدِّ الْكَمَالِ، فكذلك المؤمنون، والشطء الفرخ وفَآزَرَهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَخْرَجَ/ الشَّطْءَ وَآزَرَ الشَّطْءَ، وَهُوَ أَقْوَى وَأَظْهَرُ وَالْكَلَامُ يَتِمُّ عِنْدَ قَوْلِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ أَيْ تَنْمِيَةُ اللَّهِ ذَلِكَ لِيَغِيظَ أَوْ يَكُونُ الْفِعْلَ الْمُعَلَّلَ هُوَ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَيْ وَعَدَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ يُقَالُ رَغْمًا لِأَنْفِكَ أَنْعَمَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً لِبَيَانِ الْجِنْسِ لَا لِلتَّبْعِيضِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ لِلتَّبْعِيضِ، وَمَعْنَاهُ: لِيَغِيظَ الْكُفَّارَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ لَهُمُ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ، وَالْعَظِيمُ وَالْمَغْفِرَةُ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا وَاللَّهُ تعالى أعلم، وهاهنا لَطِيفَةٌ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ الرَّاكِعِينَ وَالسَّاجِدِينَ إِنَّهُمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَقَالَ: لَهُمْ أَجْرٌ وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ مَا يَطْلُبُونَهُ مِنْ ذَلِكَ الْفَضْلِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ الْعَمَلِ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى عَمَلِهِ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَجْرًا يَعْتَدُّ بِهِ، فَقَالَ لَا أَبْتَغِي إِلَّا فَضْلَكَ، فَإِنَّ عَمَلِي نَزْرٌ لَا يَكُونُ لَهُ أَجْرٌ وَاللَّهُ تَعَالَى آتَاهُ مَا آتَاهُ مِنَ الْفَضْلِ وَسَمَّاهُ أَجْرًا إِشَارَةً إِلَى قبول عمله ووقوعه الْمَوْقِعَ وَعَدَمُ كَوْنِهِ عِنْدَ اللَّهِ نَزْرًا لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ أَجْرًا، وَقَدْ عُلِمَ بِمَا ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ قَوْلَهُ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لِبَيَانِ تَرَتُّبِ الْمَغْفِرَةِ عَلَى الْإِيمَانِ فَإِنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ يُغْفَرُ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

سورة الحجرات

سورة الحجرات ثماني عشرة آية مدينة بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الحجرات (49) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) فِي بَيَانِ حُسْنِ التَّرْتِيبِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنْ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَمَّا جَرَى مِنْهُمْ مَيْلٌ إِلَى الِامْتِنَاعِ مِمَّا أَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصُّلْحِ وَتَرْكِ آيَةِ التَّسْمِيَةِ وَالرِّسَالَةِ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ: لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا تَتَجَاوَزُوا مَا يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مَحَلَّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعُلُوَّ دَرَجَتِهِ بِكَوْنِهِ رَسُولَهُ الَّذِي يُظْهِرُ دِينَهُ وَذَكَرَهُ بِأَنَّهُ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ رَحِيمٌ [التَّوْبَةِ: 128] قَالَ لَا تَتْرُكُوا مِنِ احْتِرَامِهِ شَيْئًا لَا بِالْفِعْلِ وَلَا بِالْقَوْلِ، وَلَا تَغْتَرُّوا بِرَأْفَتِهِ، وَانْظُرُوا إِلَى رِفْعَةِ دَرَجَتِهِ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ بِكَوْنِهِمْ أَشِدَّاءَ وَرُحَمَاءَ فِيمَا بَيْنَهُمْ رَاكِعِينَ سَاجِدِينَ نَظَرًا إِلَى جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ أَنَّ لَهُمْ مِنَ الْحُرْمَةِ عِنْدَ اللَّهِ مَا أَوْرَثَهُمْ حُسْنَ الثَّنَاءِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ [الْفَتْحِ: 29] فَإِنَّ الْمَلِكَ الْعَظِيمَ لَا يَذْكُرُ أَحَدًا فِي غَيْبَتِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ عِنْدَهُ مُحْتَرَمًا وَوَعَدَهُمْ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، فَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لَا تَفْعَلُوا مَا يُوجِبُ انْحِطَاطَ دَرَجَتِكُمْ وَإِحْبَاطَ حسناتكم ولا تُقَدِّمُوا. وَقِيلَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وُجُوهٌ: قِيلَ نَزَلَتْ فِي صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي التَّضْحِيَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي ثَلَاثَةٍ قَتَلُوا اثْنَيْنِ مِنْ سَلِيمٍ ظَنُّوهُمَا مِنْ بَنِي عَامِرٍ، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ أَكْثَرُوا مِنَ السُّؤَالِ وَكَانَ قَدْ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُفُودٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إِرْشَادٌ عَامٌّ يَشْمَلُ الْكُلَّ وَمَنْعٌ مُطْلَقٌ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ إِثْبَاتٍ وَتَقَدُّمٍ وَاسْتِبْدَادٍ بِالْأَمْرِ وَإِقْدَامٍ عَلَى فِعْلٍ غَيْرِ ضَرُورِيٍّ مِنْ غَيْرِ مُشَاوَرَةٍ وَفِي التَّفْسِيرِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تُقَدِّمُوا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّقْدِيمِ الَّذِي هُوَ مُتَعَدٍّ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَرْكُ مَفْعُولِهِ بِرَأْسِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: / يُحْيِي وَيُمِيتُ وَقَوْلُ الْقَائِلِ فُلَانٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَلَا يُرِيدُ بِهِمَا إِعْطَاءَ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَلَا مَنْعَ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ وإنَّما يُرِيدُ بِهِمَا أَنَّ لَهُ مَنْعًا وإعطاء كذلك هاهنا، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْدُرَ مِنْكُمْ تَقْدِيمٌ أَصْلًا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الْفِعْلَ أَوِ الْأَمْرَ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَا تُقَدِّمُوا يَعْنِي فِعْلًا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْ لا تقدموا أمرا الثاني: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا تُقَدِّمُوا بِمَعْنَى لَا تَتَقَدَّمُوا، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ مَجَازٌ لَيْسَ الْمُرَادُ هُوَ نَفْسُ التَّقْدِيمِ بَلِ الْمُرَادُ لَا تَجْعَلُوا لِأَنْفُسِكُمْ تَقَدُّمًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ فُلَانٌ تَقَدَّمَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ إِذَا ارْتَفَعَ أَمَرُهُ وَعَلَا شَأْنُهُ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ مَنِ ارْتَفَعَ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا فِي الدُّخُولِ في

[سورة الحجرات (49) : آية 2]

الْأُمُورِ الْعِظَامِ، وَفِي الذِّكْرِ عِنْدَ ذِكْرِ الْكِرَامِ، وَعَلَى هَذَا نَقُولُ سَوَاءٌ جَعَلْنَاهُ مُتَعَدِّيًا أَوْ لازما لا يتعدى إلى ما يَتَعَدَّى إِلَيْهِ التَّقْدِيمُ فِي قَوْلِنَا قَدَّمْتُ زَيْدًا، فالمعنى واحد لأن قوله لا تُقَدِّمُوا إذا جعلناه متعديا أو لازما لا يتعدى إلى ما يَتَعَدَّى إِلَيْهِ التَّقْدِيمُ فِي قَوْلِنَا قَدَّمْتُ زَيْدًا، فَتَقْدِيرُهُ لَا تُقَدِّمُوا أَنْفُسَكُمْ فِي حَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ لَا تَجْعَلُوا لِأَنْفُسِكُمْ تَقَدُّمًا وَرَأْيًا عِنْدَهُ، وَلَا نَقُولُ بِأَنَّ الْمُرَادَ لَا تُقَدِّمُوا أَمْرًا وَفِعْلًا، وَحِينَئِذٍ تَتَّحِدُ الْقِرَاءَتَانِ فِي الْمَعْنَى، وَهُمَا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالدَّالِ وَقِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَيْ بِحَضْرَتِهِمَا لِأَنَّ مَا بِحَضْرَةِ الْإِنْسَانِ فَهُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ نَاظِرٌ إِلَيْهِ وَهُوَ نُصْبُ عَيْنَيْهِ وَفِي قَوْلِهِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَوَائِدُ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ فُلَانٌ بَيْنَ يَدَيْ فُلَانٍ، إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَاضِرًا عِنْدَ الْآخَرِ مَعَ أَنَّ لِأَحَدِهِمَا عُلُوَّ الشَّأْنِ وَلِلْآخَرِ دَرَجَةَ الْعَبِيدِ وَالْغِلْمَانِ، لِأَنَّ مَنْ يَجْلِسُ بِجَنْبِ الْإِنْسَانِ يُكَلِّفُهُ تَقْلِيبَ الْحَدَقَةِ إِلَيْهِ وَتَحْرِيكَ الرَّأْسِ إِلَيْهِ عِنْدَ الْكَلَامِ وَالْأَمْرِ، وَمَنْ يَجْلِسُ بَيْنَ يَدَيْهِ لَا يُكَلِّفُهُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْيَدَيْنِ تُنْبِئُ عَنِ الْقُدْرَةِ يَقُولُ الْقَائِلُ هُوَ بَيْنَ يَدَيْ فُلَانٍ، أَيْ يُقَلِّبُهُ كَيْفَ شَاءَ فِي أَشْغَالِهِ كَمَا يَفْعَلُ الْإِنْسَانُ بِمَا يَكُونُ مَوْضُوعًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُفِيدُ وُجُوبَ الِاحْتِرَازِ مِنَ التَّقَدُّمِ، وَتَقْدِيمِ النَّفْسِ لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ كَمَتَاعٍ يُقَلِّبُهُ الْإِنْسَانُ بِيَدَيْهِ كَيْفَ يَكُونُ لَهُ عِنْدَهُ التَّقَدُّمُ وَثَانِيهَا: ذِكْرُ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى وُجُوبِ احْتِرَامِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالِانْقِيَادُ لِأَوَامِرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ احْتِرَامَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ يُتْرَكُ عَلَى بُعْدِ الْمُرْسِلِ وَعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى مَا يُفْعَلُ بِرَسُولِهِ فَقَالَ: بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ أَيْ أَنْتُمْ بِحَضْرَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ نَاظِرٌ إِلَيْكُمْ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ يَجِبُ احْتِرَامُ رَسُولِهِ وَثَالِثُهَا: هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ كَمَا تَقَرَّرَ النَّهْيُ الْمُتَقَدِّمُ تَقَرَّرَ مَعْنَى الْأَمْرِ الْمُتَأَخِّرِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَاتَّقُوا لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ الْغَيْرِ كَالْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ بَيْنَ يَدَيْهِ يَفْعَلُ بِهِ مَا يَشَاءُ يَكُونُ جَدِيرًا بِأَنْ يَتَّقِيَهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَطْفًا يُوجِبُ مُغَايِرَةً مِثْلَ الْمُغَايَرَةِ التي في قول القائل لا تتم وَاشْتَغِلْ، أَيْ فَائِدَةُ ذَلِكَ النَّهْيِ هُوَ مَا فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَلَيْسَ الْمَطْلُوبُ بِهِ تَرْكَ النَّوْمِ كَيْفَ كَانَ، بَلِ الْمَطْلُوبُ بِذَلِكَ الِاشْتِغَالُ فَكَذَلِكَ لَا تُقَدِّمُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَتَقَدَّمُوا عَلَى وَجْهِ التَّقْوَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مُغَايِرَةٌ أَتَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ الَّتِي فِي قَوْلِ الْقَائِلِ احْتَرِمْ زَيْدًا وَاخْدِمْهُ، أَيِ ائْتِ بِأَتَمِّ الاحترام، فكذلك هاهنا مَعْنَاهُ لَا تَتَقَدَّمُوا عِنْدَهُ وَإِذَا تَرَكْتُمُ التَّقَدُّمَ فَلَا تَتَّكِلُوا عَلَى ذَلِكَ فَلَا تَنْتَفِعُوا/ بَلْ مَعَ أَنَّكُمْ قَائِمُونَ بِذَلِكَ مُحْتَرِمُونَ لَهُ اتَّقُوا اللَّهَ وَاخْشَوْهُ وَإِلَّا لَمْ تَكُونُوا أَتَيْتُمْ بِوَاجِبِ الِاحْتِرَامِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يُؤَكِّدُ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا آمَنَّا، لِأَنَّ الْخِطَابَ يُفْهَمُ بِقَوْلِهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَقَدْ يَسْمَعُ قَوْلَهُمْ وَيَعْلَمُ فِعْلَهُمْ وَمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ التَّقْوَى وَالْخِيَانَةِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ قَوْلُكُمْ وَفِعْلُكُمْ وَضَمِيرُ قَلْبِكُمْ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ مَا فِي سَمْعِهِ مِنْ قَوْلِكُمْ آمَنَّا وَسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَمَا فِي عِلْمِهِ مِنْ فِعْلِكُمُ الظَّاهِرِ، وَهُوَ عَدَمُ التَّقَدُّمِ وَمَا فِي قلوبكم من الضمائر وهو التقوى. [سورة الحجرات (49) : آية 2] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) لا تُقَدِّمُوا [الحجرات: 1] نَهْيٌ عَنْ فِعْلٍ يُنْبِئُ عَنْ كَوْنِهِمْ جَاعِلِينَ لِأَنْفُسِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا وَزْنًا وَمِقْدَارًا وَمَدْخَلًا فِي أَمْرٍ مِنْ أَوَامِرِهِمَا وَنَوَاهِيهِمَا، وَقَوْلُهُ لَا تَرْفَعُوا نَهْيٌ عَنْ قَوْلٍ يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ، لِأَنَّ مَنْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ يَجْعَلُ لِنَفْسِهِ اعْتِبَارًا وَعَظَمَةً وَفِيهِ فوائد: الفائدة الْأَوَّلُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي إِعَادَةِ النِّدَاءِ، وَمَا هَذَا النَّمَطُ مِنَ الْكَلَامَيْنِ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ [الْحُجُرَاتِ: 1] ، ولا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ؟ نَقُولُ فِي إِعَادَةِ النِّدَاءِ فَوَائِدُ خَمْسَةٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ بَيَانُ زِيَادَةِ الشَّفَقَةِ عَلَى الْمُسْتَرْشِدِ كَمَا فِي قَوْلِ لقمان لابنه يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان: 13] يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ [لقمان: 16] ، يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لُقْمَانَ: 17] لِأَنَّ النِّدَاءَ لِتَنْبِيهِ الْمُنَادَى لِيُقْبِلَ عَلَى اسْتِمَاعِ الْكَلَامِ وَيَجْعَلَ بَالَهُ مِنْهُ، فَإِعَادَتُهُ تُفِيدُ ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ الْمُخَاطَبَ ثَانِيًا غَيْرُ الْمُخَاطَبِ أَوَّلًا: فَإِنَّ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ يَا زَيْدُ افْعَلْ كَذَا وَقُلْ كَذَا يَا عَمْرُو، فَإِذَا أَعَادَهُ مَرَّةً أُخْرَى، وَقَالَ يَا زَيْدُ قُلْ كَذَا، يُعْلَمُ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ أَنَّهُ هُوَ الْمُخَاطَبُ ثَانِيًا أَيْضًا وَمِنْهَا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَلَامَيْنِ مَقْصُودٌ، وَلَيْسَ الثَّانِي تَأْكِيدًا لِلْأَوَّلِ كَمَا تَقُولُ يَا زَيْدُ لَا تَنْطِقْ وَلَا تَتَكَلَّمْ إِلَّا بِالْحَقِّ فَإِنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ يَا زَيْدُ لَا تَنْطِقْ يَا زَيْدُ لَا تَتَكَلَّمْ كَمَا يَحْسُنُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَطْلُوبَيْنِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حَقِيقَتَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ دَلِيلُ قِلَّةِ الِاحْتِشَامِ وَتَرْكِ الِاحْتِرَامِ، وَهَذَا مِنْ مَسْأَلَةٍ حُكْمِيَّةٍ وَهِيَ أَنَّ الصَّوْتَ بِالْمَخَارِجِ وَمَنْ خَشِيَ قَلْبُهُ ارْتَجَفَ وَتَضْعُفُ حَرَكَتُهُ الدَّافِعَةُ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ الصَّوْتُ بِقُوَّةٍ، وَمَنْ لَمْ يَخَفْ ثَبَتَ قَلْبُهُ وَقَوِيَ، فَرَفْعُ الْهَوَاءِ دَلِيلُ عَدَمِ الْخَشْيَةِ ثَانِيهَا: أن يكون المراد المنع من كثر الْكَلَامِ لِأَنَّ مَنْ يُكْثِرُ الْكَلَامَ يَكُونُ مُتَكَلِّمًا عَنْ سُكُوتِ الْغَيْرِ فَيَكُونُ فِي وَقْتِ سُكُوتِ الْغَيْرِ لِصَوْتِهِ ارْتِفَاعٌ وَإِنْ كَانَ خَائِفًا إِذَا نَظَرْتَ إِلَى حَالِ غَيْرِهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامٌ كَثِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُبَلِّغٌ، فَالْمُتَكَلِّمُ عِنْدَهُ إِنْ أَرَادَ الْإِخْبَارَ لَا يَجُوزُ، وَإِنِ اسْتَخْبَرَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْبَيَانُ، فَهُوَ لَا يَسْكُتُ عَمَّا يُسْأَلُ وَإِنْ لَمْ يُسْأَلْ، وَرُبَّمَا يَكُونُ فِي السُّؤَالِ حَقِيدَةٌ بِرَدِّ جَوَابٍ لَا يَسْهُلُ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْإِتْيَانُ بِهِ فَيَبْقَى فِي وَرْطَةِ الْعِقَابِ ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ رَفْعَ الْكَلَامِ بِالتَّعْظِيمِ أَيْ لَا تَجْعَلُوا لِكَلَامِكُمُ ارْتِفَاعًا عَلَى كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخِطَابِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ أَمَرْتُكَ مرارا بكذا عند ما يَقُولُ لَهُ صَاحِبُهُ مُرْنِي بِأَمْرٍ مِثْلِهِ، فَيَكُونُ أَحَدُ الْكَلَامَيْنِ أَعْلَى وَأَرْفَعَ مِنَ الْآخَرِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَالْكُلُّ يَدْخُلُ فِي حُكْمِ الْمُرَادِ، لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلِاحْتِرَامِ وَإِظْهَارِ الِاحْتِشَامِ، وَمَنْ بَلَغَ احْتِرَامُهُ إِلَى حَيْثُ تَنْخَفِضُ الْأَصْوَاتُ عِنْدَهُ مِنْ هَيْبَتِهِ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ لَا يَكْثُرُ عِنْدَهُ الْكَلَامُ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُتَكَلِّمُ مَعَهُ فِي الْخِطَابِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ فِيهِ فَوَائِدُ: إِحْدَاهَا: أَنْ بِالْأَوَّلِ حَصَلَ الْمَنْعُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانُ كَلَامَهُ أَوْ صَوْتَهُ أَعْلَى مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَوْتِهِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ فَمَا مَنَعَتْ مِنَ الْمُسَاوَاةِ فَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ كَمَا تَجْهَرُونَ لِأَقْرَانِكُمْ وَنُظَرَائِكُمْ بَلِ اجْعَلُوا كَلِمَتَهُ عُلْيَا. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذَا أَفَادَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَكَلَّمَ الْمُؤْمِنُ عِنْدَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا يَتَكَلَّمُ الْعَبْدُ عِنْدَ سَيِّدِهِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ لِأَنَّهُ لِلْعُمُومِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْهَرَ الْمُؤْمِنُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَجْهَرُ الْعَبْدُ لِلسَّيِّدِ وَإِلَّا لَكَانَ قَدْ جَهَرَ لَهُ كَمَا يَجْهَرُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ، لَا يُقَالُ الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا النَّمَطِ أَنْ لَا تَجْعَلُوهُ كَمَا يَتَّفِقُ بَيْنَكُمْ، بَلْ تُمَيِّزُوهُ بِأَنْ لَا تَجْهَرُوا عِنْدَهُ أَبَدًا وَفِيمَا بَيْنَكُمْ لَا تُحَافِظُونَ عَلَى الِاحْتِرَامِ، لِأَنَّا نَقُولُ مَا ذَكَرْنَا أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ، وَفِيهِ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْمَعْنَى وَزِيَادَةٌ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الْأَحْزَابِ: 6] وَالسَّيِّدُ لَيْسَ أَوْلَى عِنْدَ عَبْدِهِ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى لَوْ كَانَا فِي مَخْمَصَةٍ وَوَجَدَ الْعَبْدُ مَا لَوْ لَمْ يَأْكُلْهُ لَمَاتَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ لِسَيِّدِهِ، وَيَجِبُ الْبَذْلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ بِمَوْتِهِ يَنْجُو سَيِّدُهُ لَا يلزمه أن

يُلْقِيَ نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ لِإِنْجَاءِ سَيِّدِهِ، وَيَجِبُ لِإِنْجَاءِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حَقِيقَتَهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَأَنَّ الْحِكْمَةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ كَمَا أَنَّ الْعُضْوَ الرَّئِيسَ أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ عِنْدَ خَلَلِ الْقَلْبِ مَثَلًا لَا يَبْقَى لِلْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ اسْتِقَامَةٌ فَلَوْ حَفِظَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ وَتَرَكَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهَلَكَ هُوَ أَيْضًا بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالسَّيِّدِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ لَمَّا كَانَ مِنْ جِنْسِ لَا تَجْهَرُوا لَمْ يَسْتَأْنِفِ النِّدَاءَ، وَلَمَّا كَانَ هُوَ يُخَالِفُ التَّقَدُّمَ لَكِوْنِ أَحَدِهِمَا فِعْلًا وَالْآخَرِ قَوْلًا اسْتَأْنَفَ كَمَا في قول لقمان يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ [لقمان: 13] وقوله يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لُقْمَانَ: 17] لِكَوْنِ الْأَوَّلِ مِنْ عَمَلِ القلب والثاني من عمل الجوارح، وقوله يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ النِّدَاءِ لِأَنَّ الْكُلَّ مِنْ عَمَلِ الْجَوَارِحِ. وَاعْلَمْ أَنَّا إِنْ قُلْنَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ أَيْ لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ فَقَوْلُهُ وَلا تَجْهَرُوا يَكُونُ مَجَازًا عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْكَلَامِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدْرِ مَا يُؤْتَى بِهِ عِنْدَ غَيْرِهِ، أَيْ لَا تُكْثِرُوا وَقَلِّلُوا غَايَةَ التَّقْلِيلِ، وَكَذَلِكَ إِنْ قُلْنَا الْمُرَادُ بِالرَّفْعِ الْخِطَابُ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَا تَجْهَرُوا أَيْ لَا تُخَاطِبُوهُ كَمَا تُخَاطِبُونَ غَيْرَهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ: أَحَدُهُمَا: لِئَلَّا تَحْبَطَ وَالثَّانِي: كَرَاهَةَ أَنْ تَحْبَطَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النِّسَاءِ: 176] وأمثاله، ويحتمل هاهنا وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ الْإِضْمَارَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ بُدٌّ فَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ فِيهِ أَوْلَى أَنْ يُضْمَرَ وَالْأَمْرُ بِالتَّقْوَى قَدْ سبق في قوله تعالى: وَاتَّقُوا [الحجرات: 1] وَأَمَّا الْمَعْنَى فَنَقُولُ قَوْلُهُ أَنْ تَحْبَطَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّكُمْ إِنْ رَفَعْتُمْ أَصْوَاتَكُمْ وَتَقَدَّمَتْكُمْ تَتَمَكَّنْ مِنْكُمْ هَذِهِ الرَّذَائِلُ وَتُؤَدِّي إِلَى الِاسْتِحْقَارِ، وَأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى الِانْفِرَادِ وَالِارْتِدَادِ الْمُحْبِطِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الرِّدَّةَ تَتَمَكَّنُ مِنَ النَّفْسِ بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ الْإِنْسَانُ، فَإِنَّ مَنِ ارْتَكَبَ ذَنْبًا لَمْ يَرْتَكِبْهُ فِي عُمُرِهِ تَرَاهُ نَادِمًا غَايَةَ النَّدَامَةِ خَائِفًا غَايَةَ الْخَوْفِ فَإِذَا ارْتَكَبَهُ مِرَارًا يَقِلُّ الْخَوْفُ وَالنَّدَامَةُ وَيَصِيرُ عَادَةً مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ، وَهَذَا كَانَ لِلتَّمَكُّنِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَنْ بَلَغَهُ خَبَرٌ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ بِقَوْلِ الْمُخْبِرِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَإِذَا تَكَرَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَبَلَغَ حَدَّ التَّوَاتُرِ يَحْصُلُ لَهُ الْيَقِينُ وَيَتَمَكَّنُ الِاعْتِقَادُ، وَلَا يَدْرِي مَتَى كَانَ ذَلِكَ، وَعِنْدَ أَيِّ خَبَرٍ حَصَلَ هَذَا الْيَقِينُ، فَقَوْلُهُ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ تَأْكِيدٌ لِلْمَنْعِ أَيْ لَا تَقُولُوا بِأَنَّ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ تُعْفِي وَلَا تُوجِبُ رَدَّهُ، لِأَنَّ الْأَمْرَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَاحْسِمُوا الْبَابَ، وَفِيهِ بَيَانٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا لَمْ يَحْتَرِمِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَجْعَلْ نَفْسَهُ مِثْلَهُ فِيمَا يَأْتِي بِهِ بِنَاءً عَلَى أَمْرِهِ يَكُونُ كَمَا يَأْتِي بِهِ بِنَاءً عَلَى أَمْرِ نَفْسِهِ، لَكِنْ مَا تَأْمُرُ بِهِ النَّفْسُ لَا يُوجِبُ الثَّوَابَ وَهُوَ مُحْبِطٌ حَابِطٌ، كَذَلِكَ مَا يَأْتِي بِهِ بِغَيْرِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ حَابِطٌ مُحْبِطٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِاحْتِرَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِكْرَامِهِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى كُلِّ مَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَنْ يَكُونَ أَرْأَفَ بِهِمْ مِنَ الْوَالِدِ، كَمَا قَالَ: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الْحِجْرِ: 88] وَقَالَ تَعَالَى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الْكَهْفِ: 28] وَقَالَ: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ [الْقَلَمِ: 48] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ لِئَلَّا تَكُونَ خِدْمَتُهُ خِدْمَةَ الْجَبَّارِينَ الَّذِينَ يَسْتَعْبِدُونَ الْأَحْرَارَ بِالْقَهْرِ فَيَكُونُ انْقِيَادُهُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ.

[سورة الحجرات (49) : آية 3]

[سورة الحجرات (49) : آية 3] إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى مَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: ظَاهِرٌ لِكُلِّ أَحَدٍ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّ مَنْ يُقَدِّمُ نَفْسَهُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ يُرِيدُ إِكْرَامَ نَفْسِهِ وَاحْتِرَامَ شَخْصِهِ، فَقَالَ تَعَالَى تَرْكُ هَذَا الِاحْتِرَامِ يَحْصُلُ بِهِ حَقِيقَةُ الِاحْتِرَامِ، وَبِالْإِعْرَاضِ عَنْ هَذَا الْإِكْرَامِ يَكْمُلُ الْإِكْرَامُ، لِأَنَّ به تتبين تقواكم، وإِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 13] وَمِنَ الْقَبِيحِ أَنْ يَدْخُلَ الْإِنْسَانُ حَمَّامًا فَيَتَخَيَّرُ لِنَفْسِهِ فِيهِ مَنْصِبًا وَيُفَوِّتُ بِسَبَبِهِ مَنْصِبَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَيُعَظِّمُ نَفْسَهُ فِي الْخَلَاءِ وَالْمُسْتَرَاحِ وَبِسَبَبِهِ يَهُونُ فِي الْجَمْعِ الْعَظِيمِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: امْتَحَنَهَا لِيَعْلَمَ مِنْهَا التَّقْوَى فَإِنَّ مَنْ يُعَظِّمُ وَاحِدًا مِنْ أَبْنَاءِ جنسه لكونه رسول مرسل يَكُونُ تَعْظِيمُهُ لِلْمُرْسِلِ أَعْظَمَ وَخَوْفُهُ مِنْهُ أَقْوَى، وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الْحَجِّ: 32] أَيْ تَعْظِيمُ أَوَامِرِ اللَّهِ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ فَكَذَلِكَ تَعْظِيمُ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ تَقْوَاهُ الثَّانِي: امْتَحَنَ أَيْ عَلِمَ وَعَرَفَ، لِأَنَّ الِامْتِحَانَ تَعَرُّفُ الشَّيْءِ فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَعْنَاهُ، وَعَلَى هَذَا فَاللَّامُ تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ عَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ صَالِحَةً، أَيْ كَائِنَةً لِلتَّقْوَى، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ أَنْتَ لِكَذَا أَيْ صَالِحٌ أَوْ كَائِنٌ الثَّالِثُ: امْتَحَنَ: أَيْ أَخْلَصَ يُقَالُ لِلذَّهَبِ مُمْتَحَنٌ، أَيْ مُخْلَصٌ فِي النَّارِ وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا مَذْكُورَةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ امْتَحَنَهَا لِلتَّقْوَى اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا يَجْرِي مَجْرَى بَيَانِ السَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: جِئْتُكَ لِإِكْرَامِكَ لِي أَمْسِ، أَيْ صَارَ ذَلِكَ الْإِكْرَامُ السَّابِقُ سَبَبَ الْمَجِيءِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا يَجْرِي مَجْرَى بَيَانِ غَايَةِ المقصود المتوقع الذي يكون لا حقا لَا سَابِقًا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ جِئْتُكَ لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ فَتَحْقِيقُهُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ تَقْوَاهُ، وَامْتَحَنَ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى الَّتِي كَانَتْ فِيهَا، وَلَوْلَا أَنَّ قُلُوبَهُمْ كَانَتْ مَمْلُوءَةً مِنَ التَّقْوَى لَمَا أَمَرَهُمْ بِتَعْظِيمِ رَسُولِهِ وَتَقْدِيمِ نَبِيِّهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، بَلْ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ آمِنُوا بِرَسُولِي وَلَا تُؤْذُوهُ وَلَا تُكَذِّبُوهُ، فَإِنَّ الْكَافِرَ أَوَّلَ مَا يُؤْمِنُ يُؤْمِنُ بِالِاعْتِرَافِ بِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقًا، وَبَيْنَ مَنْ قِيلَ لَهُ لَا تَسْتَهْزِئْ بِرَسُولِ اللَّهِ وَلَا تُكَذِّبْهُ وَلَا تُؤْذِهِ، وَبَيْنَ مَنْ قِيلَ لَهُ لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ عِنْدَهُ وَلَا تَجْعَلْ لِنَفْسِكَ وَزْنًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا تَجْهَرْ بِكَلَامِكَ الصَّادِقِ بَيْنَ يَدَيْهِ، بَوْنٌ عَظِيمٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ بِقَدْرِ تَقْدِيمِكَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَفْسِكَ فِي الدُّنْيَا يَكُونُ تَقْدِيمُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِيَّاكَ فِي الْعُقْبَى، فَإِنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ مَا لَمْ يُدْخِلِ اللَّهُ أُمَّتَهُ الْمُتَّقِينَ الْجَنَّةَ، فَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي فَتَحْقِيقُهُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى امْتَحَنَ قُلُوبَهُمْ بِمَعْرِفَتِهِ وَمَعْرِفَةِ رَسُولِهِ بِالتَّقْوَى، أَيْ لِيَرْزُقَهُمُ اللَّهُ التَّقْوَى الَّتِي هِيَ حَقُّ التُّقَاةِ، وَهِيَ الَّتِي لَا تَخْشَى مَعَ خَشْيَةِ اللَّهِ أَحَدًا فَتَرَاهُ آمِنًا مِنْ كُلِّ مُخِيفٍ لَا يَخَافُ/ فِي الدُّنْيَا بَخْسًا، وَلَا يَخَافُ فِي الْآخِرَةِ نَحْسًا، وَالنَّاظِرُ الْعَاقِلُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ بِالْخَوْفِ مِنَ السُّلْطَانِ يَأْمَنُ جَوْرَ الْغِلْمَانِ، وَبِتَجَنُّبِ الْأَرَاذِلِ يَنْجُو مِنْ بَأْسِ السُّلْطَانِ فَيَجْعَلُ خَوْفَ السُّلْطَانِ جُنَّةً فَكَذَلِكَ الْعَالِمُ لَوْ أَمْعَنَ النَّظَرَ لَعَلِمَ أَنَّ بِخَشْيَةِ اللَّهِ النَّجَاةَ فِي الدَّارَيْنِ وَبِالْخَوْفِ مِنْ غَيْرِهِ الْهَلَاكَ فِيهِمَا فَيَجْعَلُ خَشْيَةَ اللَّهِ جُنَّتَهُ الَّتِي يُحِسُّ بِهَا نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَغْفِرَةَ إِزَالَةُ السَّيِّئَاتِ الَّتِي هِيَ فِي الدُّنْيَا لَازِمَةٌ لِلنَّفْسِ وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَيَاةِ الَّتِي

[سورة الحجرات (49) : آية 4]

هِيَ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الدُّنْيَا عَنِ النَّفْسِ، فَيُزِيلُ اللَّهُ عَنْهُ الْقَبَائِحَ الْبَهِيمِيَّةَ وَيُلْبِسُهُ الْمَحَاسِنَ الْمَلَكِيَّةَ. [سورة الحجرات (49) : آية 4] إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) بَيَانًا لِحَالِ مَنْ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ تَقَدَّمَ فَإِنَّ الْأَوَّلَ غَضَّ صَوْتَهُ وَالْآخَرَ رَفْعَهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَرْكٌ لِأَدَبِ الْحُضُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَرْضُ الْحَاجَةِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ لِلْمَلِكِ يَا فُلَانُ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ، فَإِنْ قُلْتَ كُلُّ أَحَدٍ يَقُولُ يَا اللَّهُ مَعَ أَنَّ اللَّهَ أَكْبَرُ، نَقُولُ النِّدَاءُ عَلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا: لِتَنْبِيهِ الْمُنَادَى وَثَانِيهِمَا: لِإِظْهَارِ حَاجَةِ الْمُنَادِي مِثَالُ الْأَوَّلِ: قَوْلُ الْقَائِلِ لِرَفِيقِهِ أَوْ غُلَامِهِ: يَا فُلَانُ وَمِثَالُ الثَّانِي: قول القائل في الندبة: يا أمير المؤميناه أَوْ يَا زَيْدَاهُ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنْ كَانَ زَيْدٌ بِالْمَشْرِقِ لَا تَنْبِيهَ فَإِنَّهُ مُحَالٌ، فَكَيْفَ يُنَادِيهِ وَهُوَ مَيِّتٌ؟ فَنَقُولُ قَوْلُنَا يَا اللَّهُ لِإِظْهَارِ حَاجَةِ الْأَنْفُسِ لَا لِتَنْبِيهِ الْمُنَادَى، وَإِنَّمَا كَانَ فِي النِّدَاءِ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا لِأَنَّ الْمُنَادِيَ لَا يُنَادِي إِلَّا لِحَاجَةٍ فِي نَفْسِهِ يَعْرِضُهَا وَلَا يُنَادِي فِي الْأَكْثَرِ إِلَّا مُعْرِضًا أَوْ غَافِلًا، فَحَصَلَ فِي النِّدَاءِ الْأَمْرَانِ وَنِدَاؤُهُمْ كَانَ لِلتَّنْبِيهِ وَهُوَ سُوءُ أَدَبٍ وَأَمَّا قَوْلُ أَحَدِنَا لِلْكَبِيرِ يَا سَيِّدِي وَيَا مَوْلَايَ فَهُوَ جَارٍ مَجْرَى الْوَصْفِ وَالْإِخْبَارِ الثَّانِي: النِّدَاءُ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ فَإِنَّ مَنْ يُنَادِي غَيْرَهُ وَلَا حَائِلَ بَيْنَهُمَا لَا يُكَلِّفُهُ الْمَشْيَ وَالْمَجِيءَ بَلْ يُجِيبُهُ مِنْ مَكَانِهِ وَيُكَلِّمُهُ وَلَا يَطْلُبُ الْمُنَادِي إِلَّا لِالْتِفَاتِ الْمُنَادَى إِلَيْهِ وَمَنْ يُنَادِي غَيْرَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحَائِلِ فَكَأَنَّهُ يُرِيدُ مِنْهُ حُضُورَهُ كَمَنْ يُنَادِي صَاحِبَ الْبُسْتَانِ مِنْ خَارِجِ الْبُسْتَانِ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ الْحُجُراتِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَلْوَتِهِ الَّتِي لَا يَحْسُنُ فِي الْأَدَبِ إِتْيَانُ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ فِي حَاجَتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، بَلِ الْأَحْسَنُ التَّأْخِيرُ وَإِنْ كَانَ فِي وَرْطَةِ الْحَاجَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ فِيهِ بَيَانُ الْمَعَايِبِ بِقَدْرِ مَا فِي سُوءِ أَدَبِهِمْ مِنَ الْقَبَائِحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ مِنْ خَوَاصِّ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ أَعْلَى مَرْتَبَةً مِنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ لِمَنْ دُونَهُ كَلَامٌ، لَكِنَّ النِّدَاءَ فِي الْمَعْنَى كَالتَّنْبِيهِ، وَقَدْ يحصل بصوت، يضرب شيء على شي/ وَفِي الْحَيَوَانَاتِ الْعُجْمُ مَا يَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ كَالنِّدَاءِ، فَإِنَّ الشَّاةَ تَصِيحُ وَتَطْلُبُ وَلَدَهَا وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَالسَّخْلَةُ كَذَلِكَ فَكَأَنَّ النِّدَاءَ حَصَلَ فِي الْمَعْنَى لِغَيْرِ الْآدَمِيِّ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ يَعْنِي النِّدَاءَ الصَّادِرَ مِنْهُمْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَقْرُونًا بِحُسْنِ الْأَدَبِ كَانُوا فِيهِ خَارِجِينَ عَنْ دَرَجَةِ مَنْ يَعْقِلُ وَكَانَ نِدَاؤُهُمْ كَصِيَاحٍ صَدَرَ مِنْ بَعْضِ الْحَيَوَانِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَكْثَرُهُمْ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَرَبَ تَذْكُرُ الْأَكْثَرَ وَتُرِيدُ الْكُلَّ، وَإِنَّمَا تَأْتِي بِالْأَكْثَرِ احْتِرَازًا عَنِ الْكَذِبِ وَاحْتِيَاطًا فِي الْكَلَامِ، لِأَنَّ الْكَذِبَ مِمَّا يَحْبَطُ بِهِ عَمَلُ الْإِنْسَانِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ فَيَقُولُ الْأَكْثَرَ وَفِي اعْتِقَادِهِ الْكُلُّ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَعَ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِالْأُمُورِ أَتَى بِمَا يُنَاسِبُ كَلَامَهُمْ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى لَطِيفَةٍ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: أَنَا مَعَ إِحَاطَةِ عِلْمِي بِكُلِّ شَيْءٍ جَرَيْتُ عَلَى عَادَتِكُمُ اسْتِحْسَانًا لِتِلْكَ الْعَادَةِ وَهِيَ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْكَذِبِ فَلَا تَتْرُكُوهَا، وَاجْعَلُوا اخْتِيَارِي ذَلِكَ فِي كَلَامِي دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى رِضَائِي بِذَلِكَ وَثَانِيهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِمْ لَا يَعْقِلُونَ، وَتَحْقِيقُ هَذَا هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اعْتَبَرَ مَعَ وَصْفٍ ثُمَّ اعْتَبَرَ مَعَ وَصْفٍ آخَرَ يَكُونُ الْمَجْمُوعُ الْأَوَّلُ غَيْرَ الْمَجْمُوعِ الثَّانِي، مِثَالُهُ الْإِنْسَانُ يَكُونُ جَاهِلًا وَفَقِيرًا فَيَصِيرُ عَالِمًا وَغَنِيًّا فَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ زَيْدٌ لَيْسَ هُوَ الَّذِي رَأَيْتُهُ مِنْ قَبْلُ بَلِ الْآنَ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ، فَيَجْعَلُهُ كَأَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى مَا ذَكَرْنَا. إِذَا عُلِمَ هَذَا فَهُمْ، فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ إِذَا اعْتَبَرْتَهُمْ مَعَ تِلْكَ الْحَالَةِ، مُغَايِرُونَ لِأَنْفُسِهِمْ إِذَا اعْتَبَرْتَهُمْ مَعَ غَيْرِهَا فَقَالَ تَعَالَى: أَكْثَرُهُمْ إِشَارَةً إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ يُقَالَ لَعَلَّ مِنْهُمْ مَنْ رَجَعَ عَنْ تِلْكَ الْأَهْوَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى تِلْكَ الْعَادَةِ الرَّدِيئَةِ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ إِخْرَاجًا لمن ندم منهم عنهم.

[سورة الحجرات (49) : آية 5]

[سورة الحجرات (49) : آية 5] وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ إِشَارَةً إِلَى حُسْنِ الْأَدَبِ الَّذِي عَلَى خِلَافِ مَا أَتَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ فَإِنَّهُمْ لَوْ صَبَرُوا لَمَا احْتَاجُوا إِلَى النِّدَاءِ، وَإِذَا كُنْتَ تَخْرُجُ إِلَيْهِمْ فَلَا يَصِحُّ إِتْيَانُهُمْ فِي وَقْتِ اخْتِلَائِكَ بِنَفْسِكَ أَوْ بِأَهْلِكَ أَوْ بِرَبِّكَ، فَإِنَّ لِلنَّفْسِ حَقًّا وَلِلْأَهْلِ حَقًّا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَكانَ خَيْراً لَهُمْ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَسَنُ وَالْخَيْرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا [الْفُرْقَانِ: 24] ، وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ أَنَّ بِالنِّدَاءِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ يَسْتَفِيدُونَ تَنْجِيزَ الشُّغْلِ وَدَفْعَ الْحَاجَةِ فِي الْحَالِ وَهُوَ مَطْلُوبٌ، وَلَكِنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمَهُ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهَا تَدْفَعُ الْحَاجَةَ الْأَصْلِيَّةَ الَّتِي فِي الْآخِرَةِ وَحَاجَاتُ الدُّنْيَا فَضْلِيَّةٌ، وَالْمَرْفُوعُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلِمَةُ كَانَ إِمَّا الصَّبْرُ وَتَقْدِيرُهُ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا لَكَانَ الصَّبْرُ خَيْرًا، أَوِ الْخُرُوجُ مِنْ غَيْرِ نِدَاءٍ وَتَقْدِيرُهُ لَوْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خُرُوجُكَ مِنْ غَيْرِ نِدَاءٍ خَيْرًا لَهُمْ، وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِلْحِكَايَةِ، لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا خُرُوجَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِيَأْخُذُوا ذَرَارِيَّهُمْ، فَخَرَجَ/ وَأَعْتَقَ نِصْفَهُمْ وَأَخَذُوا نَصْفَهُمْ، وَلَوْ صَبَرُوا لَكَانَ يَعْتِقُ كُلُّهُمْ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَحْقِيقًا لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: لِسُوءِ صَنِيعِهِمْ فِي التَّعَجُّلِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَتَى بِقَبِيحٍ وَلَا يُعَاقِبُهُ الْمَلِكُ أَوِ السَّيِّدُ يُقَالُ مَا أَحْلَمَ سَيِّدَهُ لَا لِبَيَانِ حِلْمِهِ، بَلْ لِبَيَانِ عَظِيمِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ وَثَانِيهِمَا: لِحُسْنِ الصَّبْرِ يَعْنِي بِسَبَبِ إِتْيَانِهِمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَيَجْعَلُ هَذِهِ الْحَسَنَةَ كَفَّارَةً لِكَثِيرٍ مِنَ السَّيِّئَاتِ، كَمَا يُقَالُ لِلْآبِقِ إِذَا رَجَعَ إِلَى بَابِ سَيِّدِهِ أَحْسَنْتَ فِي رُجُوعِكَ وَسَيِّدُكَ رَحِيمٌ، أَيْ لَا يُعَاقِبُكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ بِسَبَبِ مَا أَتَيْتَ بِهِ مِنَ الْحَسَنَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ ذَلِكَ حَثٌّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفْحِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ كَالْعُذْرِ لَهُمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الْغُفْرَانَ قَبْلَ الرَّحْمَةِ، كَمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَذَكَرَ الرَّحْمَةَ قَبْلَ الْمَغْفِرَةِ فِي سُورَةِ سَبَأٍ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ [سَبَأٍ: 2] فَحَيْثُ قَالَ: غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ يَغْفِرُ سَيِّئَاتِهِ ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَيْهِ فَيَرَاهُ عَارِيًا مُحْتَاجًا فَيَرْحَمُهُ وَيُلْبِسُهُ لِبَاسَ الْكَرَامَةِ وَقَدْ يَرَاهُ مَغْمُورًا فِي السَّيِّئَاتِ فَيَغْفِرُ سَيِّئَاتِهِ، ثُمَّ يَرْحَمُهُ بَعْدَ الْمَغْفِرَةِ، فَتَارَةً تَقَعُ الْإِشَارَةُ إِلَى الرَّحْمَةِ الَّتِي بَعْدَ الْمَغْفِرَةِ فَيُقَدِّمُ الْمَغْفِرَةَ، وَتَارَةً تَقَعُ الرَّحْمَةُ قَبْلَ الْمَغْفِرَةِ فَيُؤَخِّرُهَا، وَلَمَّا كَانَتِ الرَّحْمَةُ وَاسِعَةً تُوجَدُ قَبْلَ الْمَغْفِرَةِ وبعدها ذكرها قبلها وبعدها. [سورة الحجرات (49) : آية 6] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) هَذِهِ السُّورَةُ فِيهَا إِرْشَادُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَهِيَ إِمَّا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مَعَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْجِنْسِ، وَهُمْ عَلَى صِنْفَيْنِ، لِأَنَّهُمْ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَدَاخِلِينَ فِي رُتْبَةِ الطَّاعَةِ أَوْ خَارِجًا عَنْهَا وَهُوَ الْفَاسِقُ وَالدَّاخِلُ فِي طَائِفَتِهِمُ السَّالِكُ لِطَرِيقَتِهِمْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا عِنْدَهُمْ أَوْ غَائِبًا عَنْهُمْ فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: يَتَعَلَّقُ بِجَانِبِ اللَّهِ وَثَانِيهَا: بِجَانِبِ الرَّسُولِ وَثَالِثُهَا: بِجَانِبِ الْفُسَّاقِ وَرَابِعُهَا: بِالْمُؤْمِنِ الْحَاضِرِ وَخَامِسُهَا: بِالْمُؤْمِنِ الْغَائِبِ فَذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَرْشَدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ إِلَى مَكْرُمَةٍ مَعَ قِسْمٍ مِنَ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ فَقَالَ أولًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ

اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات: 1] وَذِكْرُ الرَّسُولِ كَانَ لِبَيَانِ طَاعَةِ اللَّهِ لِأَنَّهَا لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ، وَقَالَ ثانياً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات: 2] لِبَيَانِ وُجُوبِ احْتِرَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وقال ثالثاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ لِبَيَانِ وُجُوبِ الِاحْتِرَازِ عَنِ الِاعْتِمَادِ عَلَى أَقْوَالِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ إِلْقَاءَ الْفِتْنَةِ/ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] وقال رابعاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ [الْحُجُرَاتِ: 11] وَقَالَ: وَلا تَنابَزُوا [الْحُجُرَاتِ: 11] لِبَيَانِ وُجُوبِ تَرْكِ إِيذَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي حُضُورِهِمْ والازدراء بحالهم ومنصبهم، وقال خامساً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الْحُجُرَاتِ: 12] وَقَالَ: وَلا تَجَسَّسُوا [الْحُجُرَاتِ: 12] وَقَالَ: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً لِبَيَانِ وُجُوبِ الِاحْتِرَازِ عَنْ إِهَانَةِ جَانِبِ الْمُؤْمِنِ حَالَ غَيْبَتِهِ، وَذِكْرِ مَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَتَأَذَّى، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ مِنَ التَّرْتِيبِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يَذْكُرِ الْمُؤْمِنَ قَبْلَ الْفَاسِقِ لِتَكُونَ الْمَرَاتِبُ مُتَدَرِّجَةَ الِابْتِدَاءِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ بِالْمُؤْمِنِ الْحَاضِرِ، ثُمَّ بِالْمُؤْمِنِ الْغَائِبِ، ثُمَّ بِالْفَاسِقِ؟ نَقُولُ: قَدَّمَ اللَّهُ مَا هُوَ الْأَهَمُّ عَلَى مَا دُونَهُ، فَذَكَرَ جَانِبَ اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ جَانِبَ الرَّسُولِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُفْضِي إِلَى الِاقْتِتَالِ بَيْنَ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ الْإِصْغَاءِ إِلَى كَلَامِ الْفَاسِقِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَذْكُرُ كُلَّ مَا كَانَ أَشَدَّ نِفَارًا لِلصُّدُورِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الْحَاضِرُ أَوِ الْغَائِبُ فَلَا يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ إِلَى حَدٍّ يُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ عَقِيبَ نَبَأِ الْفَاسِقِ آيَةَ الِاقْتِتَالِ، فَقَالَ: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا وَفِي التَّفْسِيرِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ، وَهُوَ أَخُو عُثْمَانَ لِأُمِّهِ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَلِيًّا وَمُصَدِّقًا فَالْتَقَوْهُ، فَظَنَّهُمْ مُقَاتِلِينَ، فَرَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنَّهُمُ امْتَنَعُوا وَمَنَعُوا، فَهَمَّ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِيقَاعِ بِهِمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَهَذَا جَيِّدٌ إِنْ قَالُوا بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأَمَّا إِنْ قَالُوا بِأَنَّهَا نَزَلَتْ لِذَلِكَ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ وَمُتَعَدِّيًا إِلَى غَيْرِهِ فَلَا، بل نقول هو نزل عاما لبيان التثبت، وَتَرْكِ الِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِ الْفَاسِقِ، وَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ لِكَذَا، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ إِنِّي أَنْزَلْتُهَا لِكَذَا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْآيَةَ وَرَدَتْ لِبَيَانِ ذَلِكَ فَحَسْبُ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهُوَ مِثْلُ التَّارِيخِ لِنُزُولِ الْآيَةِ، وَنَحْنُ نُصَدِّقُ ذَلِكَ، وَيَتَأَكَّدُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْفَاسِقِ عَلَى الوليد سيء بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ تَوَهَّمَ وَظَنَّ فَأَخْطَأَ، وَالْمُخْطِئُ لَا يُسَمَّى فَاسِقًا، وَكَيْفَ وَالْفَاسِقُ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ خَرَجَ عَنْ رِبْقَةِ الْإِيمَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [الْمُنَافِقُونَ: 6] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الْكَهْفِ: 50] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [السَّجْدَةِ: 20] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ إِشَارَةٌ إِلَى لَطِيفَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ كَانَ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ شَدِيدٌ عَلَى الْكَافِرِ غَلِيظٌ عَلَيْهِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الْفَاسِقُ مِنْ أَنْ يُخْبِرَهُ بِنَبَأٍ، فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ يَكُونُ نَادِرًا، فَقَالَ: إِنْ جاءَكُمْ بِحَرْفِ الشَّرْطِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ إِلَّا مَعَ التَّوَقُّعِ، إِذْ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: إِنِ احْمَرَّ الْبُسْرُ، وَإِنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: النَّكِرَةُ فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ تَعُمُّ إِذَا كَانَتْ فِي جَانِبِ الثُّبُوتِ، كَمَا أَنَّهَا تَعُمُّ فِي/ الْإِخْبَارِ إِذَا كَانَتْ فِي جَانِبِ النَّفْيِ، وتخص في معرض الشرط إذ كَانَتْ فِي جَانِبِ النَّفْيِ، كَمَا تَخُصُّ فِي الْإِخْبَارِ إِذَا كَانَتْ

فِي جَانِبِ الثُّبُوتِ، فَلْنَذْكُرْ بَيَانَهُ بِالْمِثَالِ وَدَلِيلَهُ، أَمَّا بَيَانُهُ بِالْمِثَالِ فَنَقُولُ: إِذَا قَالَ قَائِلٌ لِعَبْدِهِ: إِنْ كَلَّمْتُ رَجُلًا فَأَنْتَ حُرٌّ، فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ رَجُلًا حَتَّى يعْتِقَ بِتَكَلُّمِ كُلِّ رَجُلٍ، وَإِذَا قَالَ: إِنْ لَمْ أُكَلِّمِ الْيَوْمَ رَجُلًا فَأَنْتَ حُرٌّ، يَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ الْيَوْمَ رَجُلًا حَتَّى لَا يَعْتِقَ الْعَبْدُ بِتَرْكِ كَلَامِ كُلِّ رَجُلٍ، كَمَا لَا يَظْهَرُ الْحَلِفُ فِي كَلَامِهِ بِكَلَامِ كُلِّ رَجُلٍ إِذَا تَرَكَ الْكَلَامَ مَعَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ فَلِأَنَّ النَّظَرَ أَوَّلًا إِلَى جَانِبِ الْإِثْبَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ حَرْفِ لَمَّا أَنَّ الْوَضْعَ لِلْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ بِحَرْفٍ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ: زَيْدٌ قَائِمٌ، وُضِعَ أَوَّلًا وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يُقَالَ مَعَ ذَلِكَ حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ، وَفِي جَانِبِ النَّفْيِ احْتَجْنَا إِلَى أَنْ نَقُولَ: زَيْدٌ لَيْسَ بِقَائِمٍ، وَلَوْ كَانَ الْوَضْعُ وَالتَّرْكِيبُ أَوَّلًا لِلنَّفْيِ، لَمَا احْتَجْنَا إِلَى الْحَرْفِ الزَّائِدِ اقْتِصَارًا أَوِ اخْتِصَارًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُ الْقَائِلِ: رَأَيْتُ رَجُلًا، يَكْفِي فِيهِ مَا يُصَحِّحُ الْقَوْلَ وَهُوَ رُؤْيَةُ وَاحِدٍ، فَإِذَا قُلْتَ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا، وَهُوَ وُضِعَ لِمُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: رَأَيْتُ رَجُلًا، وَرُكِّبَ لِتِلْكَ الْمُقَابَلَةِ، وَالْمُتَقَابِلَانِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصْدُقَا، فَقَوْلُ الْقَائِلِ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا، لَوْ كَفَى فِيهِ انْتِفَاءُ الرُّؤْيَةِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ لَصَحَّ قَوْلُنَا: رَأَيْتُ رَجُلًا، وَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا، فَلَا يَكُونَانِ مُتَقَابِلَيْنِ، فَيَلْزَمُنَا مِنَ الِاصْطِلَاحِ الْأَوَّلِ الِاصْطِلَاحُ الثَّانِي، وَلَزِمَ مِنْهُ الْعُمُومُ فِي جَانِبِ النَّفْيِ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ: الشَّرْطِيَّةُ وُضِعَتْ أَوَّلًا، ثُمَّ رُكِّبَتْ بَعْدَ الْجَزْمِيَّةِ بِدَلِيلِ زِيَادَةِ الْحَرْفِ وَهُوَ فِي مُقَابَلَةِ الْجَزْمِيَّةِ، وَكَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ: إِذَا لَمْ تَكُنْ أَنْتَ حُرًّا مَا كَلَّمْتُ رَجُلًا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى النَّفْيِ، وَكَمَا عُلِمَ عُمُومُ الْقَوْلِ فِي الْفَاسِقِ عُلِمَ عُمُومُهُ فِي النَّبَأِ فَمَعْنَاهُ: أَيُّ فَاسِقٍ جَاءَكُمْ بِأَيِّ نَبَأٍ، فَالتَّثَبُّتُ فِيهِ وَاجِبٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مُتَمَسَّكُ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ، وَشَهَادَةَ الْفَاسِقِ لَا تُقْبَلُ، أَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَقَالُوا عَلَّلَ الْأَمْرَ بِالتَّوَقُّفِ بِكَوْنِهِ فَاسِقًا، وَلَوْ كَانَ خَبَرُ الوحد الْعَدْلِ لَا يُقْبَلُ، لَمَا كَانَ لِلتَّرْتِيبِ عَلَى الْفَاسِقِ فَائِدَةٌ، وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّمَسُّكِ بِالْمَفْهُومِ. وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَمَرَ بِالتَّبَيُّنِ، فَلَوْ قَبِلَ قَوْلَهُ لَمَا كَانَ الْحَاكِمُ مَأْمُورًا بِالتَّبَيُّنِ، فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُ الْفَاسِقِ مَقْبُولًا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالتَّبَيُّنِ فِي الْخَبَرِ والنبأ، وباب الشهادة أضيف مِنْ بَابِ الْخَبَرِ وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ وَالْجَهْلُ فَوْقَ الخطأ، لأن المجتهد إذ أَخْطَأَ لَا يُسَمَّى جَاهِلًا، وَالَّذِي يَبْنِي الْحُكْمَ عَلَى قَوْلِ الْفَاسِقِ إِنْ لَمْ يُصِبْ جَهِلَ فَلَا يَكُونُ الْبِنَاءُ عَلَى قَوْلِهِ جَائِزًا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ تُصِيبُوا ذَكَرْنَا فِيهَا وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ لِئَلَّا تُصِيبُوا، وَثَانِيهَا: مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ كَرَاهَةَ أن تصيبوا، ويحتلم أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ فَتَبَيَّنُوا وَاتَّقُوا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً يُبَيِّنُ مَا ذَكَرْنَا أَنْ يَقُولَ الْفَاسِقُ: تَظْهَرُ الْفِتَنُ بَيْنَ أَقْوَامٍ، وَلَا كَذَلِكَ بِالْأَلْفَاظِ الْمُؤْذِيَةِ فِي الْوَجْهِ، وَالْغِيبَةِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَمْنَعُهُ دِينُهُ مِنَ الْإِفْحَاشِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْإِيحَاشِ، وَقَوْلُهُ بِجَهالَةٍ فِي تَقْدِيرِ حَالٍ، أَيْ أَنْ/ تُصِيبُوهُمْ جَاهِلِينَ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْإِصَابَةَ تُسْتَعْمَلُ فِي السَّيِّئَةِ وَالْحَسَنَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النِّسَاءِ: 79] لَكِنَّ الْأَكْثَرَ أنها تستعمل فيها يَسُوءُ، لَكِنَّ الظَّنَّ السُّوءَ يُذْكَرُ مَعَهُ، كَمَا في قوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ [النساء: 78] ثُمَّ حَقَّقَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ بَيَانًا لِأَنَّ الْجَاهِلَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى فِعْلِهِ نَادِمًا، وَقَوْلُهُ فَتُصْبِحُوا مَعْنَاهُ تَصِيرُوا، قَالَ النُّحَاةُ: أَصْبَحَ يُسْتَعْمَلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: بِمَعْنَى دُخُولِ الرَّجُلِ فِي الصَّبَاحِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: أَصْبَحْنَا نَقْضِي عَلَيْهِ وَثَانِيهَا: بِمَعْنَى كَانَ الْأَمْرُ وَقْتَ الصَّبَاحِ كَذَا وَكَذَا، كَمَا يَقُولُ: أَصْبَحَ الْيَوْمَ مَرِيضُنَا

[سورة الحجرات (49) : آية 7]

خَيْرًا مِمَّا كَانَ، غَيْرَ أَنَّهُ تَغَيَّرَ ضَحْوَةَ النَّهَارِ، وَيُرِيدُ كَوْنَهُ فِي الصُّبْحِ عَلَى حَالِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: كَانَ الْمَرِيضُ وَقْتَ الصُّبْحِ خَيْرًا وَتَغَيَّرَ ضَحْوَةَ النَّهَارِ وَثَالِثُهَا: بِمَعْنَى صَارَ يَقُولُ الْقَائِلُ أَصْبَحَ زَيْدٌ غَنِيًّا وَيُرِيدُ بِهِ صَارَ مِنْ غَيْرِ إِرَادَةِ وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَالْمُرَادُ هاهنا هُوَ الْمَعْنَى الثَّالِثُ وَكَذَلِكَ أَمْسَى وَأَضْحَى، وَلَكِنْ لِهَذَا تَحْقِيقٌ وَهُوَ أَنْ نَقُولَ لَا بُدَّ فِي اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ مِنِ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي وَاخْتِلَافِ الْفَوَائِدِ، فَنَقُولُ الصَّيْرُورَةُ قَدْ تَكُونُ مِنِ ابْتِدَاءِ أَمْرٍ وَتَدُومُ، وَقَدْ تَكُونُ فِي آخَرَ بِمَعْنَى آلَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَكُونُ مُتَوَسِّطَةً. مِثَالُ الْأَوَّلِ: قَوْلُ الْقَائِلِ صَارَ الطِّفْلُ فَاهِمًا أَيْ أَخَذَ فِيهِ وَهُوَ فِي الزِّيَادَةِ. مِثَالُ الثَّانِي: قَوْلُ الْقَائِلِ صَارَ الْحَقُّ بَيِّنًا وَاجِبًا أَيِ انْتَهَى حَدُّهُ وَأَخَذَ حَقَّهُ. مِثَالُ الثَّالِثِ: قَوْلُ الْقَائِلِ صَارَ زَيْدٌ عَالِمًا وَقَوِيًّا إِذَا لَمْ يُرِدْ أَخْذَهُ فِيهِ، وَلَا بُلُوغَهُ نِهَايَتَهُ بَلْ كَوْنَهُ مُتَلَبِّسًا بِهِ مُتَّصِفًا بِهِ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَأَصْلُ اسْتِعْمَالِ أَصْبَحَ فِيمَا يَصِيرُ الشَّيْءُ آخِذًا فِي وَصْفٍ وَمُبْتَدِئًا فِي أَمْرٍ، وَأَصْلُ أَمْسَى فِيمَا يَصِيرُ الشَّيْءُ بَالِغًا فِي الْوَصْفِ نِهَايَتَهُ، وَأَصْلُ أَضْحَى التَّوَسُّطُ لَا يُقَالُ أَهْلُ الِاسْتِعْمَالِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأُمُورِ وَيَسْتَعْمِلُونَ الْأَلْفَاظَ الثَّلَاثَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، نَقُولُ إِذَا تَقَارَبَتِ الْمَعَانِي جَازَ الِاسْتِعْمَالُ، وَجَوَازُ الِاسْتِعْمَالِ لَا يُنَافِي الْأَصْلَ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْأَلْفَاظِ أَصْلُهُ مُضِيٌّ وَاسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالًا شَائِعًا فِيمَا لَا يُشَارِكُهُ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتُصْبِحُوا أَيْ فَتَصِيرُوا آخِذِينَ فِي النَّدَمِ مُتَلَبِّسِينَ بِهِ ثُمَّ تَسْتَدِيمُونَهُ وَكَذَلِكَ في قوله تعالى: فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً أَيْ أَخَذْتُمْ فِي الْأُخُوَّةِ وَأَنْتُمْ فِيهَا زَائِدُونَ وَمُسْتَمِرُّونَ، وَفِي الْجُمْلَةِ اخْتَارَ فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمَقْرُونَ بِهِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، إِمَّا فِي الثَّوَابِ أَوْ فِي الْعِقَابِ وَكِلَاهُمَا فِي الزِّيَادَةِ، وَلَا نِهَايَةَ لِلْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: نادِمِينَ النَّدَمُ هَمٌّ دَائِمٌ وَالنُّونُ وَالدَّالُ وَالْمِيمُ فِي تَقَالِيبِهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْ مَعْنَى الدَّوَامِ، كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: أَدْمَنَ فِي الشُّرْبِ وَمُدْمِنٌ أَيْ أَقَامَ، وَمِنْهُ الْمَدِينَةُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ فِيهِ فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: تَقْرِيرُ التَّحْذِيرِ وَتَأْكِيدُهُ، وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ قَالَ بَعْدَهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَقُولَ: هَبْ أَنِّي أَصَبْتُ قَوْمًا فَمَاذَا عَلَيَّ؟ بَلْ عَلَيْكُمْ مِنْهُ الْهَمُّ الدَّائِمُ وَالْحُزْنُ الْمُقِيمُ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّيْءِ وَاجِبُ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ. وَالثَّانِيَةُ: مَدْحُ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ لَسْتُمْ مِمَّنْ إِذَا فَعَلُوا سَيِّئَةً لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهَا بَلْ تُصْبِحُونَ نَادِمِينَ عَلَيْهَا. [سورة الحجرات (49) : آية 7] وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) وَلْنَذْكُرْ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا قِيلَ وَمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ، أَمَّا مَا قِيلَ فَلْنَخْتَرْ أَحْسَنَهُ وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنَّهُ بَحَثَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بَحْثًا طَوِيلًا، فَقَالَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ لَيْسَ كَلَامًا مُسْتَأْنِفًا لِأَدَائِهِ إِلَى تَنَافُرِ النَّظْمِ، إِذْ لَا تَبْقَى مُنَاسِبَةٌ بَيْنَ قَوْلِهِ وَاعْلَمُوا وَبَيْنَ قَوْلِهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ ثُمَّ وَجْهُ التَّعَلُّقِ هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي تَقْدِيرِ حَالٍ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي قَوْلِهِ فِيكُمْ كَانَ التَّقْدِيرُ كَائِنٌ فِيكُمْ، أَوْ مَوْجُودٌ فِيكُمْ، عَلَى حَالٍ تُرِيدُونَ أَنْ يُطِيعَكُمْ أَوْ يَفْعَلَ بِاسْتِصْوَابِكُمْ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي تِلْكَ الْحَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَعَنِتُّمْ أَوْ لَوَقَعْتُمْ فِي شِدَّةٍ أَوْ أولمتم به.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ خِطَابًا مَعَ بَعْضٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرِ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ اكْتَفَى بِالتَّغَايُرِ فِي الصِّفَةِ وَاخْتَصَرَ وَلَمْ يَقُلْ حَبَّبَ إِلَى بَعْضِكُمُ الْإِيمَانَ، وَقَالَ أَيْضًا بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَوْ يُطِيعُكُمْ دُونَ أَطَاعَكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ اسْتِمْرَارَ تِلْكَ الْحَالَةِ، وَدَوَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْعَمَلِ بِاسْتِصْوَابِهِمْ، وَلَكِنْ يَكُونُ مَا بَعْدَهَا عَلَى خِلَافِ ما قبلها، وهاهنا كَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَحْصُلُ الْمُخَالَفَةُ بِتَصْرِيحِ اللَّفْظِ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمُخَاطَبِينَ فِي الْوَصْفِ يَدُلُّنَا عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ هُمُ الَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ بِمُرَادِهِمْ، وَالْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ هُمُ الَّذِينَ أَرَادُوا عَمَلَهُمْ بِمُرَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَذَا مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَاخْتَارَهُ وَهُوَ حَسَنٌ، وَالَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ وَكَأَنَّهُ هُوَ الْأَقْوَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6] أَيْ فَتَثَبَّتُوا وَاكْشِفُوا قَالَ بَعْدَهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أَيِ الْكَشْفُ سَهْلٌ عَلَيْكُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ فِيكُمْ مُبِينٌ مُرْشِدٌ، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ عِنْدَ اخْتِلَافِ تَلَامِيذِ شَيْخٍ فِي مَسْأَلَةٍ: هَذَا الشَّيْخُ قَاعِدٌ لَا يُرِيدُ بَيَانَ قُعُودِهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَمْرَهُمْ بِالْمُرَاجَعَةِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ/ لَا يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْخَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمِثَالِ لَوْ كَانَ يَعْتَمِدُ عَلَى قَوْلِ التَّلَامِيذِ لَا تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ لَا يَذْكُرُ إِلَّا مِنَ النَّقْلِ الصَّحِيحِ، وَيُقَرِّرُهُ بِالدَّلِيلِ الْقَوِيِّ يُرَاجِعُهُ كُلُّ أَحَدٍ، فكذلك هاهنا قَالَ اسْتَرْشِدُوهُ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ وَلَا يُطِيعُ أَحَدًا فَلَا يُوجَدُ فِيهِ حَيْفٌ وَلَا يُرَوَّجُ عَلَيْهِ زَيْفٌ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يُطِيعُكُمْ هُوَ أَنَّ الْجُمْلَةَ الشَّرْطِيَّةَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ تَرِدُ لبيان امتناع لشرط لِامْتِنَاعِ الْجَزَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاءِ: 82] فَإِنَّهُ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا آلِهَةٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ إِشَارَةً إِلَى جَوَابِ سُؤَالٍ يَرُدُّ عَلَى قَوْلِهِ فَتَبَيَّنُوا وَهُوَ أَنْ يَقَعَ لِوَاحِدٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى الْمُرَاجَعَةِ وَعُقُولُنَا كَافِيَةٌ بِهَا أَدْرَكْنَا الْإِيمَانَ وَتَرَكْنَا الْعِصْيَانَ فَكَذَلِكَ نَجْتَهِدُ فِي أُمُورِنَا، فَقَالَ لَيْسَ إِدْرَاكُ الْإِيمَانِ بِالِاجْتِهَادِ، بَلِ اللَّهُ بَيَّنَ الْبُرْهَانَ وَزَيَّنَ الْإِيمَانَ حَتَّى حَصَلَ الْيَقِينُ، وَبَعْدَ حُصُولِ الْيَقِينِ لَا يَجُوزُ التَّوَقُّفُ وَاللَّهُ إِنَّمَا أَمَرَكُمْ بِالتَّوَقُّفِ عِنْدَ تَقْلِيدِ قَوْلِ الْفَاسِقِ، وَمَا أَمَرَكُمْ بِالْعِنَادِ بَعْدَ ظُهُورِ الْبُرْهَانِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: تَوَقَّفُوا فِيمَا يَكُونُ مَشْكُوكًا فِيهِ لَكِنَّ الْإِيمَانَ حَبَّبَهُ إِلَيْكُمْ بِالْبُرْهَانِ فَلَا تَتَوَقَّفُوا فِي قَبُولِهِ، وَعَلَى قَوْلِنَا الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ إِذَا عَلِمْتَ مَعْنَى الْآيَةِ جُمْلَةً، فَاسْمَعْهُ مُفَصَّلًا وَلْنُفَصِّلْهُ فِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَوْ قَالَ قَائِلٌ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ وَالِاعْتِمَادَ عَلَى قَوْلِهِ، فَلِمَ لَمْ يَقُلْ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ فَتَبَيَّنُوا وَرَاجِعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَمَا الْفَائِدَةُ فِي الْعُدُولِ إِلَى هَذَا الْمَجَازِ؟ نَقُولُ الْفَائِدَةُ زِيَادَةُ التَّأْكِيدِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمِثَالِ هَذَا الشَّيْخُ قَاعِدٌ آكَدُ فِي وُجُوبِ الْمُرَاجَعَةِ إِلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ رَاجِعُوا شَيْخَكُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَائِلَ يَجْعَلُ وُجُوبَ الْمُرَاجَعَةِ إِلَيْهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَيَجْعَلُ سَبَبَ عَدَمِ الرُّجُوعِ عَدَمَ عِلْمِهِمْ بِقُعُودِهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّكُمْ لَا تَشُكُّونَ فِي أَنَّ الْكَاشِفَ هُوَ الشَّيْخُ، وَأَنَّ الْوَاجِبَ مُرَاجَعَتُهُ فَإِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ قُعُودَهُ فَهُوَ قَاعِدٌ فَيَجْعَلُ حُسْنَ الْمُرَاجَعَةِ أَظْهَرَ مِنْ أَمْرِ الْقُعُودِ كَأَنَّهُ يَقُولُ خَفِيَ عَلَيْكُمْ قُعُودُهُ فَتَرَكْتُمْ مُرَاجَعَتَهُ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ حُسْنُ مُرَاجَعَتِهِ، فَيَجْعَلُ حُسْنَ مُرَاجَعَتِهِ أَظْهَرَ مِنَ الْأَمْرِ الْحِسِّيِّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ

رَاجِعُوهُ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ قَائِلًا بِأَنَّكُمْ مَا عَلِمْتُمْ أَنَّ مُرَاجَعَتَهُ هُوَ الطَّرِيقُ، وَبَيْنَ الْكَلَامَيْنِ بَوْنٌ بَعِيدٌ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ يَعْنِي لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ وُجُوبُ مُرَاجَعَتِهِ، فَإِنْ كَانَ خَفِيَ عَلَيْكُمْ كَوْنُهُ فِيكُمْ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ فِيكُمْ فَيَجْعَلُ حُسْنَ الْمُرَاجَعَةِ أَظْهَرَ مِنْ كَوْنِهِ فِيهِمْ حَيْثُ تَرَكَ بَيَانَهُ وَأَخَذَ فِي بَيَانِ كَوْنِهِ فِيهِمْ، وَهَذَا مِنَ الْمَعَانِي الْعَزِيزَةِ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْمَجَازَاتِ وَلَا تُوجَدُ فِي الصَّرِيحِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ بَيَانَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُطِيعٍ لِأَحَدٍ بَلْ هُوَ/ مُتَّبِعٌ لِلْوَحْيِ فَلِمَ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ؟ نَقُولُ بَيَانُ نَفْيِ الشَّيْءِ مَعَ بَيَانِ دَلِيلِ النَّفْيِ أَتَمُّ مِنْ بَيَانِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ بَيَانُ النَّفْيِ مَعَ بَيَانِ دَلِيلِهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ (لَيْسَ فِيهِمَا آلِهَةٌ) لَوْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَ قُلْتَ إِنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا آلِهَةٌ يَجِبُ أَنْ يَذْكُرَ الدَّلِيلَ فَقَالَ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] فكذلك هاهنا لَوْ قَالَ لَا يُطِيعُكُمْ، وَقَالَ قَائِلٌ لِمَ لَا يُطِيعُ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ لَوْ أَطَاعَكُمْ لَأَطَاعَكُمْ لِأَجْلِ مَصْلَحَتِكُمْ، لَكِنْ لَا مَصْلَحَةَ لَكُمْ فِيهِ لِأَنَّكُمْ تَعْنَتُونَ وَتَأْثَمُونَ وَهُوَ يَشُقُّ عَلَيْهِ عَنَتُكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [التَّوْبَةِ: 128] فَإِنَّ طَاعَتَكُمْ لَا تُفِيدُهُ شَيْئًا فَلَا يُطِيعُكُمْ، فَهَذَا نَفْيُ الطَّاعَةِ بِالدَّلِيلِ وَبَيْنَ نَفْيِ الشَّيْءِ بِدَلِيلٍ وَنَفْيِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ فَرْقٌ عَظِيمٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ يُوَافِقُهُمْ وَيَفْعَلُ بِمُقْتَضَى مَصْلَحَتِهِمْ تَحْقِيقًا لِفَائِدَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آلِ عِمْرَانَ: 159] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ، فَلَا تَتَوَقَّفُوا فَلِمَ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ؟ قُلْنَا لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى ظُهُورِ الْأَمْرِ يَعْنِي أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْيَقِينَ لَا يَتَوَقَّفُ فِيهِ، إِذْ لَيْسَ بَعْدَهُ مَرْتَبَةٌ حَتَّى يَتَوَقَّفَ إِلَى بُلُوغِ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ لِأَنَّ مَنْ بَلَغَ إِلَى دَرَجَةِ الظَّنِّ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ دَرَجَةَ الْيَقِينِ، فَلَمَّا كَانَ عَدَمُ التَّوَقُّفِ فِي الْيَقِينِ مَعْلُومًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ لَمْ يَقُلْ فَلَا تَتَوَقَّفُوا بَلْ قَالَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ، أَيْ بَيَّنَهُ وَزَيَّنَهُ بِالْبُرْهَانِ الْيَقِينِيِّ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ نَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ أَيْ قَرَّبَهُ وَأَدْخَلَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ثُمَّ زَيَّنَهُ فِيهَا بِحَيْثُ لَا تُفَارِقُونَهُ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ قُلُوبِكُمْ، وَهَذَا لِأَنَّ مَنْ يُحِبُّ أَشْيَاءَ فَقَدْ يَمَلُّ شَيْئًا مِنْهَا إِذَا حَصَلَ عِنْدَهُ وَطَالَ لَبْثُهُ وَالْإِيمَانُ كُلَّ يَوْمٍ يَزْدَادُ حُسْنًا، وَلَكِنْ مَنْ كَانَتْ عِبَادَتُهُ أَكْثَرَ وَتَحَمُّلُهُ لِمَشَاقِّ التَّكْلِيفِ أَتَمَّ، تَكُونُ الْعِبَادَةُ وَالتَّكَالِيفُ عِنْدَهُ أَلَذَّ وَأَكْمَلَ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْأَوَّلِ: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ وَقَالَ ثَانِيًا: وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ كَأَنَّهُ قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَقَامَهُ فِي قُلُوبِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ؟ فَنَقُولُ هَذِهِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ فِي مُقَابَلَةِ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْكَامِلَ الْمُزَيَّنَ، هُوَ أَنْ يَجْمَعَ التَّصْدِيقَ بِالْجَنَانِ وَالْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ وَالْعَمَلَ بِالْأَرْكَانِ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَهُوَ التَّكْذِيبُ فِي مُقَابَلَةِ التَّصْدِيقِ بِالْجَنَانِ وَالْفُسُوقُ هُوَ الْكَذِبُ وَثَانِيهَا: هُوَ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ [الحجرات: 6] سَمَّى مَنْ كَذَبَ فَاسِقًا فَيَكُونُ الْكَذِبُ فُسُوقًا ثَالِثُهَا: مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ [الْحُجُرَاتِ: 11] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفُسُوقَ أَمْرٌ قَوْلِيٌّ لِاقْتِرَانِهِ بِالِاسْمِ، وَسَنُبَيِّنُ تَفْسِيرَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَابِعُهَا: وَجْهٌ مَعْقُولٌ وَهُوَ أَنَّ الْفُسُوقَ هُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الطَّاعَةِ عَلَى مَا عُلِمَ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْفُسُوقَ هُوَ الْخُرُوجُ زِيدَ فِي الِاسْتِعْمَالِ كَوْنُهُ الْخُرُوجَ عَنِ الطَّاعَةِ، لَكِنَّ الْخُرُوجَ لَا يَكُونُ/ لَهُ ظُهُورٌ بِالْأَمْرِ الْقَلْبِيِّ، إِذْ لَا اطِّلَاعَ عَلَى مَا فِي الْقُلُوبِ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَظْهَرُ بِالْأَفْعَالِ لِأَنَّ الْأَمْرَ

[سورة الحجرات (49) : آية 8]

قَدْ يُتْرَكُ إِمَّا لِنِسْيَانٍ أَوْ سَهْوٍ، فَلَا يُعْلَمُ حَالُ التَّارِكِ وَالْمُرْتَكِبِ أَنَّهُ مُخْطِئٌ أَوْ مُتَعَمِّدٌ، وَأَمَّا الْكَلَامُ فَإِنَّهُ حُصُولُ الْعِلْمِ بِمَا عَلَيْهِ حَالُ الْمُتَكَلِّمِ، فَالدُّخُولُ فِي الْإِيمَانِ وَالْخُرُوجُ مِنْهُ يَظْهَرُ بِالْكَلَامِ فَتَخْصِيصُ الْفُسُوقِ بِالْأَمْرِ الْقَوْلِي أَقْرَبُ، وَأَمَّا الْعِصْيَانُ فَتَرْكُ الْأَمْرِ وَهُوَ بِالْفِعْلِ أَلْيَقُ، فَإِذَا عُلِمَ هَذَا فَفِيهِ تَرْتِيبٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَهُوَ الْأَمْرُ الْأَعْظَمُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالْفُسُوقَ يَعْنِي مَا يُظْهِرُ لِسَانُكُمْ أَيْضًا، ثُمَّ قَالَ: وَالْعِصْيانَ وَهُوَ دُونَ الْكُلِّ وَلَمْ يَتْرُكْ عَلَيْكُمُ الْأَمْرَ الْأَدْنَى وَهُوَ الْعِصْيَانُ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ الْكُفْرُ ظَاهِرٌ وَالْفُسُوقُ هُوَ الْكَبِيرَةُ، وَالْعِصْيَانُ هُوَ الصَّغِيرَةُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَقْوَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ. خِطَابًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أَيْ هُوَ مُرْشِدٌ لَكُمْ فَخِطَابُ الْمُؤْمِنِينَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى شَفَقَتِهِ بِالْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ فِي الْأَوَّلِ كَفَى النَّبِيُّ مُرْشِدًا لَكُمْ مَا تَسْتَرْشِدُونَهُ فَأَشْفَقَ عَلَيْهِمْ وَأَرْشَدَهُمْ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ الرَّاشِدُونَ أَيِ الْمُوَافِقُونَ لِلرُّشْدِ يَأْخُذُونَ مَا يَأْتِيهِمْ وَيَنْتَهُونَ عَمَّا يَنْهَاهُمْ. [سورة الحجرات (49) : آية 8] فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نَصَبَ فَضْلًا لِأَجْلِ أُمُورٍ، إِمَّا لِكَوْنِهِ مَفْعُولًا لَهُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أن العالم فيه هو الفعل الذي فِي قَوْلِهِ الرَّاشِدُونَ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَضْلُ اللَّهِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ اللَّهِ مَفْعُولًا لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرُّشْدِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ؟ نَقُولُ لَمَّا كَانَ الرُّشْدُ تَوْفِيقًا مِنَ اللَّهِ كَانَ كَأَنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَرْشَدَهُمْ فَضْلًا، أَيْ يَكُونُ مُتَفَضِّلًا عَلَيْهِمْ مُنْعِمًا فِي حَقِّهِمْ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أن العالم فيه هو قوله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ ... وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ [الحجرات: 7] فضلا وقوله أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات: 7] جملة اعترضت بين الكلامين أو يكون العالم فِعْلًا مُقَدَّرًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى جَرَى ذَلِكَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا، وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِنْ غَيْرِ اللَّفْظِ وَلِأَنَّ الرُّشْدَ فَضْلٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ رُشْدًا وَثَانِيهُمَا: هُوَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، كَأَنَّهُ قَالَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمِ الْكُفْرَ فَأَفْضَلَ فَضْلًا وَأَنْعَمَ نِعْمَةً، وَالْقَوْلُ بِكَوْنِهِ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ وَهُوَ الْمَصْدَرُ، أَوْ مَفْعُولٌ لَهُ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَضْلًا مَفْعُولًا بِهِ، وَالْفِعْلُ مُضْمَرًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ أَيْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَضْلِ وَالنِّعْمَةِ فِي الْآيَةِ؟ نَقُولُ فَضْلُ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ، وَالنِّعْمَةُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَصِلُ إِلَى الْعَبْدِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْفَضْلَ فِي الْأَصْلِ يُنْبِئُ عَنِ الزِّيَادَةِ، وَعِنْدَهُ خَزَائِنُ مِنَ الرَّحْمَةِ لَا لِحَاجَةٍ إِلَيْهَا، وَيُرْسِلُ مِنْهَا عَلَى عِبَادِهِ مَا لَا يَبْقَوْنَ مَعَهُ فِي وَرْطَةِ الْحَاجَةِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَالنِّعْمَةُ تُنْبِئُ عَنِ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَهُوَ مِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ، وَفِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ تَأْكِيدُ الْإِعْطَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُحْتَاجَ يَقُولُ لِلْغَنِيِّ: أَعْطِنِي مَا فَضَلَ عَنْكَ وَعِنْدَكَ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهِ وَأَنَابَهُ قِيَامِي وَبَقَائِي، فَإِذَنْ قَوْلُهُ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا هُوَ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ الْغَنِيِّ، وَالنِّعْمَةُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا هُوَ مِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ مِنِ انْدِفَاعِ

[سورة الحجرات (49) : آية 9]

الْحَاجَةِ، وَهَذَا مِمَّا يُؤَكِّدُ قَوْلَنَا فَضْلًا مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، وَهُوَ الِابْتِغَاءُ وَالطَّلَبُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: خَتْمُ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فِيهِ مُنَاسَبَاتٌ عِدَّةٌ مِنْهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ نَبَأَ الْفَاسِقِ، قَالَ إِنْ يَشْتَبِهْ عَلَى الْمُؤْمِنِ كَذِبُ الْفَاسِقِ فَلَا تَعْتَمِدُوا عَلَى تَرْوِيجَهِ عَلَيْكُمُ الزُّورَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ، وَلَا تَقُولُوا كَمَا كَانَ عَادَةُ الْمُنَافِقِ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ، فَإِنَّ اللَّهَ حَكِيمٌ لَا يَفْعَلُ إِلَّا عَلَى وَفْقِ حِكْمَتِهِ وَثَانِيهَا: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ [الحجرات: 7] بِمَعْنَى لَا يُطِيعُكُمْ، بَلْ يَتَّبِعُ الْوَحْيَ، قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ مَنْ كَوْنِهِ عَلِيمًا يُعْلِمُهُ، وَمَنْ كَوْنِهِ حَكِيمًا يَأْمُرُهُ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ فَاتَّبِعُوهُ ثَالِثُهَا: الْمُنَاسَبَةُ الَّتِي بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ أَيْ حَبَّبَ بِعِلْمِهِ الْإِيمَانَ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَاخْتَارَ لَهُ مَنْ يَشَاءُ بِحِكْمَتِهِ رَابِعُهَا: وَهُوَ الْأَقْرَبُ، وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَلَمَّا كَانَ الْفَضْلُ هُوَ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْخَيْرِ الْمُسْتَغْنَى عَنْهُ، قَالَ تَعَالَى هُوَ عَلِيمٌ بِمَا فِي خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَكَانَتِ النِّعْمَةُ هُوَ مَا يَدْفَعُ بِهِ حَاجَةَ الْعَبْدِ، قَالَ هُوَ حَكِيمٌ يُنَزِّلُ الْخَيْرَ بقدر ما يشاء على وفق الحكمة. [سورة الحجرات (49) : آية 9] وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) [قوله تَعَالَى وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما] لَمَّا حَذَّرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّبَأِ الصَّادِرِ مِنَ الْفَاسِقِ، أَشَارَ إِلَى مَا يَلْزَمُ مِنْهُ اسْتِدْرَاكًا لِمَا يَفُوتُ، فَقَالَ فَإِنِ اتَّفَقَ أَنَّكُمْ تَبْنُونَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُوقِعُ بَيْنَكُمْ، وَآلَ الْأَمْرُ إِلَى اقْتِتَالِ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَزِيلُوا مَا أَثْبَتَهُ ذَلِكَ الْفَاسِقُ وَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي أَيِ الظَّالِمُ يَجِبُ عَلَيْكُمْ دَفْعُهُ عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّ الظَّالِمَ إِنْ كَانَ هُوَ الرَّعِيَّةَ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْأَمِيرِ دَفْعُهُمْ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَمِيرَ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَنْعُهُ بِالنَّصِيحَةِ فَمَا فَوْقَهَا، وَشَرْطُهُ أَنْ لَا يُثِيرَ فِتْنَةً مِثْلَ الَّتِي/ في اقتتال الطائفتين أو أشد منهما، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ إِشَارَةٌ إِلَى نُدْرَةِ وُقُوعِ الْقِتَالِ بَيْنَ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ قِيلَ فَنَحْنُ نَرَى أَكْثَرَ الِاقْتِتَالِ بَيْنَ طَوَائِفِهِمْ؟ نَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ إِلَّا نَادِرًا، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى خِلَافِ مَا يَنْبَغِي، وَكَذَلِكَ إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ [الحجرات: 6] إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَجِيءَ الْفَاسِقِ بِالنَّبَأِ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ قَلِيلًا، مَعَ أَنَّ مَجِيءَ الْفَاسِقِ بِالنَّبَأِ كَثِيرٌ، وَقَوْلُ الْفَاسِقِ صَارَ عِنْدَ أُولِي الْأَمْرِ أَشَدَّ قَبُولًا مِنْ قَوْلِ الصَّادِقِ الصَّالِحِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ طائِفَتانِ وَلَمْ يَقُلْ وَإِنْ فِرْقَتَانِ تَحْقِيقًا لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ التَّقْلِيلُ، لِأَنَّ الطَّائِفَةَ دُونَ الْفِرْقَةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التَّوْبَةِ: 122] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ تَعَالَى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَقُلْ مِنْكُمْ، مَعَ أَنَّ الخطاب مع المؤمنين لسبق قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ [الحجرات: 6] تَنْبِيهًا عَلَى قُبْحِ ذَلِكَ وَتَبْعِيدًا لَهُمْ عَنْهُمْ، كَمَا يَقُولُ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: إِنْ رَأَيْتَ أَحَدًا مِنْ غِلْمَانِي يَفْعَلُ كَذَا فَامْنَعْهُ، فَيَصِيرُ بِذَلِكَ مَانِعًا لِلْمُخَاطَبِ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِالطَّرِيقِ الْحَسَنِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَنْتَ حَاشَاكَ أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ، فإن فعل غيرك فامنعه، كذلك هاهنا قَالَ: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَقُلْ مِنْكُمْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّنْبِيهِ مَعَ أَنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا وَلَمْ يَقُلْ: وَإِنِ اقْتَتَلَ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ،

مَعَ أَنَّ كَلِمَةَ (إِنْ) اتِّصَالُهَا بِالْفِعْلِ أَوْلَى، وَذَلِكَ لِيَكُونَ الِابْتِدَاءُ بِمَا يَمْنَعُ مِنَ الْقِتَالِ، فَيَتَأَكَّدُ مَعْنَى النَّكِرَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِكَلِمَةِ (إِنْ) وذلك لأن كونهما طائفتين مؤمنين يَقْتَضِي أَنْ لَا يَقَعَ الْقِتَالُ مِنْهُمَا، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ لَمْ يَقُلْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ فَاسْقٌ جَاءَكُمْ، أَوْ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْفُسَّاقِ جَاءَكُمْ، لِيَكُونَ الِابْتِدَاءُ بِمَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْإِصْغَاءِ إِلَى كَلَامِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ فَاسِقًا؟ نَقُولُ الْمَجِيءُ بِالنَّبَأِ الْكَاذِبِ يُورِثُ كَوْنَ الْإِنْسَانِ فَاسِقًا، أَوْ يَزْدَادُ بِسَبَبِهِ فِسْقُهُ، فَالْمَجِيءُ بِهِ سَبَبُ الْفِسْقِ فَقَدَّمَهُ. وَأَمَّا الِاقْتِتَالُ فَلَا يَقَعُ سَبَبًا لِلْإِيمَانِ أَوِ الزِّيَادَةِ، فَقَالَ: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ أَيْ سَوَاءٌ كَانَ فَاسِقًا أَوْ لَا أَوْ جَاءَكُمْ بِالنَّبَأِ فَصَارَ فَاسِقًا بِهِ، وَلَوْ قَالَ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْفُسَّاقِ جَاءَكُمْ، كَانَ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا مَشْهُورَ الْفِسْقِ قَبْلَ الْمَجِيءِ إِذَا جَاءَهُمْ بِالنَّبَأِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ تَعَالَى: اقْتَتَلُوا وَلَمْ يَقُلْ: يَقْتَتِلُوا، لِأَنَّ صِيغَةَ الِاسْتِقْبَالِ تُنْبِئُ عَنِ الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ تَمَادَى الِاقْتِتَالُ بَيْنَهُمَا فَأَصْلِحُوا، وَهَذَا لِأَنَّ صِيغَةَ الْمُسْتَقْبَلِ تُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ، يُقَالُ فُلَانٌ يَتَهَجَّدُ وَيَصُومُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ: اقْتَتَلُوا وَلَمْ يَقُلْ اقْتَتَلَا، وَقَالَ: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما وَلَمْ يَقُلْ بَيْنَهُمْ، ذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ الِاقْتِتَالِ تَكُونُ الْفِتْنَةُ قَائِمَةً، وَكُلُّ أَحَدٍ بِرَأْسِهِ يَكُونُ فَاعِلًا فِعْلًا، فَقَالَ: اقْتَتَلُوا وَعِنْدَ الْعَوْدِ إِلَى الصُّلْحِ تَتَّفِقُ كَلِمَةُ كُلِّ طَائِفَةٍ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ يَتَحَقَّقُ الصُّلْحُ فَقَالَ: بَيْنَهُما لِكَوْنِ/ الطائفتين حينئذ كنفسين. [قوله تعالى فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما إلى قوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما إِشَارَةً إِلَى نَادِرَةٍ أُخْرَى وَهِيَ الْبَغْيُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَوَقَّعٍ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَلِمَةُ (إِنْ) مَعَ أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرْطِ الَّذِي لَا يُتَوَقَّعُ وُقُوعُهُ، وَبَغْيُ أَحَدِهِمَا عِنْدَ الِاقْتِتَالِ لَا بُدَّ مِنْهُ، إِذْ كَلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَكُونُ مُحْسِنًا، فَقَوْلُهُ إِنْ تَكُونُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِ الْقَائِلِ: إِنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، نَقُولُ فِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: الِاقْتِتَالُ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ لَا يَكُونُ إِلَّا نَادِرَ الْوُقُوعِ، وَهُوَ كَمَا تَظُنُّ كُلُّ طَائِفَةٍ أَنَّ الْأُخْرَى فِيهَا الْكُفْرُ وَالْفَسَادُ، فَالْقِتَالُ وَاجِبٌ كَمَا سَبَقَ فِي اللَّيَالِي الْمُظْلِمَةِ، أَوْ يَقَعُ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنَّ الْقِتَالَ جَائِزٌ بِالِاجْتِهَادِ، وَهُوَ خَطَأٌ، فَقَالَ تَعَالَى: الِاقْتِتَالُ لَا يَقَعُ إِلَّا كَذَا، فَإِنْ بَانَ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا الْخَطَأُ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ فَهُوَ نَادِرٌ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ قَدْ بَغَى فَقَالَ: فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى يَعْنِي بَعْدَ اسْتِبَانَةِ الْأَمْرِ، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُهُ فَإِنْ بَغَتْ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ النُّدْرَةَ وَقِلَّةَ الْوُقُوعِ، وَفِيهِ أَيْضًا مَبَاحِثُ الْأَوَّلُ: قَالَ: فَإِنْ بَغَتْ وَلَمْ يَقُلْ فَإِنْ تَبْغِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اقْتَتَلُوا وَلَمْ يَقُلْ يَقْتَتِلُوا الثَّانِي: قَالَ: حَتَّى تَفِيءَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْقِتَالَ لَيْسَ جَزَاءً لِلْبَاغِي كَحَدِّ الشُّرْبِ الَّذِي يُقَامُ وَإِنْ تَرَكَ الشُّرْبَ، بَلِ الْقِتَالُ إِلَى حَدِّ الْفَيْئَةِ، فَإِنْ فَاءَتِ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ حَرُمَ قِتَالُهُمْ الثَّالِثُ: هَذَا الْقِتَالُ لِدَفْعِ الصَّائِلِ، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْفَيْئَةُ مِنْ إِحْدَاهُمَا، فَإِنْ حَصَلَتْ مِنَ الْأُخْرَى لَا يُوجَدُ الْبَغْيُ الَّذِي لِأَجْلِهِ حَلَّ الْقِتَالُ الرَّابِعُ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِالْكَبِيرَةِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا لِأَنَّ الْبَاغِيَ جَعَلَهُ مِنْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَسَمَّاهُمَا مُؤْمِنِينَ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلى أَمْرِ اللَّهِ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: إِلَى طَاعَةِ الرَّسُولِ وَأُولِي الْأَمْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النِّسَاءِ: 59] . وَثَانِيهَا: إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، أَيْ إِلَى الصُّلْحِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ [الْأَنْفَالِ: 1] ، ثَالِثُهَا: إِلَى أَمْرِ اللَّهِ بِالتَّقْوَى، فَإِنَّ مَنْ خَافَ اللَّهَ حَقَّ الْخَوْفِ لَا يَبْقَى لَهُ عَدَاوَةٌ إِلَّا مَعَ الشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فَاطِرٍ: 6] ، السَّادِسُ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ ذَكَرْتُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الشَّرْطِ غَيْرَ مُتَوَقَّعِ الْوُقُوعِ وَقُلْتُمْ بِأَنَّ الْقِتَالَ وَالْبَغْيَ مِنَ الْمُؤْمِنِ نادر، فإذن تكون الفئة

[سورة الحجرات (49) : آية 10]

متوقعة فكيف قال: فَإِنْ فاءَتْ؟ نَقُولُ قَوْلُ الْقَائِلِ لِعَبْدِهِ: إِنْ مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ، مَعَ أَنَّ الْمَوْتَ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ وُقُوعُهُ بِحَيْثُ يَكُونُ الْعَبْدُ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ بِأَنْ يَكُونَ بَاقِيًا فِي مِلْكِهِ حَيًّا يَعِيشُ بَعْدَ وَفَاتِهِ غَيْرَ مَعْلُومٍ فكذلك هاهنا لَمَّا كَانَ الْوَاقِعُ فَيْئَتَهُمْ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ فَلَمَّا لَمْ يَقَعْ دَلَّ عَلَى تَأْكِيدِ الْأَخْذِ بَيْنَهُمْ فَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ فاءَتْ بِقِتَالِكُمْ إِيَّاهُمْ بَعْدَ اشْتِدَادِ الْأَمْرِ وَالْتِحَامِ الْحَرْبِ فَأَصْلِحُوا، وَفِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَشَارَ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ وَبَغَى لَا يَكُونُ رُجُوعُهُ بِقِتَالِكُمْ إِلَّا جَبْرًا السَّابِعُ: قَالَ هاهنا: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْعَدْلَ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا نَقُولُ لِأَنَّ الْإِصْلَاحَ هُنَاكَ بِإِزَالَةِ الِاقْتِتَالِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالنَّصِيحَةِ أَوِ التَّهْدِيدِ وَالزَّجْرِ وَالتَّعْذِيبِ، والإصلاح هاهنا بِإِزَالَةِ آثَارِ الْقَتْلِ/ بَعْدَ انْدِفَاعِهِ مِنْ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَهُوَ حُكْمٌ فَقَالَ: بِالْعَدْلِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَاحْكُمُوا بَيْنَهُمَا بَعْدَ تَرْكِهِمَا الْقِتَالَ بِالْحَقِّ وَأَصْلِحُوا بِالْعَدْلِ مِمَّا يَكُونُ بَيْنَهُمَا، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إِلَى ثَوَرَانِ الْفِتْنَةِ بَيْنَهُمَا مَرَّةً أُخْرَى الثَّامِنُ: إِذَا قَالَ: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ فَأَيَّةُ فَائِدَةٍ فِي قَوْلِهِ وَأَقْسِطُوا نَقُولُ قَوْلُهُ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ كَانَ فِيهِ تَخْصِيصٌ بِحَالٍ دُونَ حَالٍ فَعَمَّمَ الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ وَأَقْسِطُوا أَيْ فِي كُلِّ أَمْرٍ مُفْضٍ إِلَى أَشْرَفِ دَرَجَةٍ وَأَرْفَعِ مَنْزِلَةٍ وَهِيَ مَحَبَّةُ اللَّهِ، وَالْإِقْسَاطُ إِزَالَةُ الْقِسْطِ وَهُوَ الْجَوْرُ وَالْقَاسِطُ هُوَ الْجَائِرُ، وَالتَّرْكِيبُ دَالٌّ عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ غَيْرَ مَرْضِيٍّ مِنَ الْقِسْطِ وَالْقَاسِطِ فِي الْقَلْبِ وَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ مَرْضِيٍّ وَلَا مُعْتَدٍّ به فكذلك القسط. [سورة الحجرات (49) : آية 10] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ تَتْمِيمًا لِلْإِرْشَادِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا قال: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] كَانَ لِظَانٍّ أَنْ يَظُنَّ أَوْ لِمُتَوَهِّمٍ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ قَوْمٍ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الِاقْتِتَالُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَلَا تَعُمُّ الْمَفْسَدَةُ فَلَا يُؤْمَرُ بِالْإِصْلَاحِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْإِصْلَاحِ هُنَاكَ عِنْدَ الِاقْتِتَالِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ دُونَ الِاقْتِتَالِ كَالتَّشَاتُمِ وَالتَّسَافُهِ فَلَا يَجِبُ الْإِصْلَاحُ فَقَالَ: بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْفِتْنَةُ عَامَّةً وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ عَظِيمًا كَالْقِتَالِ بَلْ لَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَدْنَى اخْتِلَافٍ فَاسْعَوْا فِي الْإِصْلَاحِ. وَقَوْلُهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ الْإِخْوَةُ جَمْعُ الْأَخِ مِنَ النَّسَبِ وَالْإِخْوَانُ جَمْعُ الْأَخِ مِنَ الصَّدَاقَةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ تَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ وَإِشَارَةً إِلَى أَنَّ مَا بَيْنَهُمْ مَا بَيْنَ الْأُخُوَّةِ مِنَ النَّسَبِ وَالْإِسْلَامِ كَالْأَبِ، قَالَ قَائِلُهُمْ: أَبِي الْإِسْلَامُ لَا أَبَ [لِي] سِوَاهُ ... إِذَا افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أَوْ تَمِيمِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عِنْدَ إِصْلَاحِ الْفَرِيقَيْنِ والطائفتين لم يقل اتقوا، وقال هاهنا اتَّقُوا مَعَ أَنَّ ذَلِكَ أَهَمُّ؟ نَقُولُ الْفَائِدَةُ هُوَ أَنَّ الِاقْتِتَالَ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ يُفْضِي إِلَى أَنْ تَعُمَّ الْمَفْسَدَةُ وَيَلْحَقَ كُلَّ مُؤْمِنٍ مِنْهَا شَيْءٌ وَكُلٌّ يَسْعَى فِي الْإِصْلَاحِ لِأَمْرِ نَفْسِهِ فَلَمْ يُؤَكِّدْ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَأَمَّا عِنْدُ تَخَاصُمِ رجلين لا يخاف الناس ذلك وربما يزيد بَعْضُهُمْ تَأَكُّدَ الْخِصَامِ بَيْنَ الْخُصُومِ لِغَرَضٍ فَاسِدٍ فَقَالَ: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ أَوْ نَقُولُ قَوْلُهُ فَأَصْلِحُوا إِشَارَةٌ إِلَى الصُّلْحِ، وَقَوْلُهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ/ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَصُونُهُمْ عَنِ التَّشَاجُرِ، لِأَنَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ شَغَلَهُ تَقْوَاهُ عن

[سورة الحجرات (49) : آية 11]

الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَ [يَدِهِ] » لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَكُونُ مُنْقَادًا لِأَمْرِ اللَّهِ مُقْبِلًا عَلَى عِبَادِ اللَّهِ فَيَشْغَلُهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ وَيَمْنَعُهُ أَنْ يُرْهِبَ الْأَخَ الْمُؤْمِنَ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ مَنْ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» يَعْنِي اتَّقِ اللَّهَ فَلَا تَتَفَرَّغْ لِغَيْرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (إِنَّمَا) لِلْحَصْرِ أَيْ لَا أُخُوَّةَ إِلَّا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فَلَا، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْجَامِعُ وَلِهَذَا إِذَا مَاتَ الْمُسْلِمُ وَلَهُ أَخٌ كَافِرٌ يَكُونُ مَالُهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا يَكُونُ لِأَخِيهِ الْكَافِرِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ فِي النَّسَبِ الْمُعْتَبَرَ الْأَبُ الَّذِي هُوَ أَبٌ شَرْعًا، حَتَّى أَنَّ وَلَدَيِ الزِّنَا مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ لَا يَرِثُ أَحَدُهُمَا الْآخَرُ، فَكَذَلِكَ الْكُفْرُ كَالْجَامِعِ الْفَاسِدِ فَهُوَ كَالْجَامِعِ الْعَاجِزِ لَا يُفِيدُ الْأُخُوَّةَ، وَلِهَذَا مَنْ مَاتَ مِنَ الْكُفْرِ وَلَهُ أَخٌ مُسْلِمٌ وَلَا وَارِثَ لَهُ مِنَ النَّسَبِ لَا يُجْعَلُ مَالُهُ لِلْكُفَّارِ، وَلَوْ كَانَ الدِّينُ يَجْمَعُهُمْ لَكَانَ مَالُ الْكَافِرِ لِلْكُفَّارِ، كَمَا أَنَّ مَالَ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِينَ عِنْدَ عَدَمِ الْوَارِثِ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْأُخُوَّةَ لِلْإِسْلَامِ أَقْوَى مِنَ الْأُخُوَّةِ النَّسَبِيَّةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَا يَرِثُهُ الْأَخُ الْكَافِرُ مِنَ النَّسَبِ، فَلِمَ لَمْ يُقَدِّمُوا الْأُخُوَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ عَلَى الْأُخُوَّةِ النَّسَبِيَّةِ مُطْلَقًا حَتَّى يَكُونَ مَالُ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِينَ لَا لِإِخْوَتِهِ مِنَ النَّسَبِ؟ نَقُولُ هَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَخَ الْمُسْلِمَ إِذَا كَانَ أَخًا مِنَ النَّسَبِ فَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ أَخُوَّتَانِ فَصَارَ أَقْوَى وَالْعُصُوبَةُ لِمَنْ لَهُ الْقُوَّةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَخَ مِنَ الْأَبَوَيْنِ يَرِثُ وَلَا يَرِثُ الْأَخُ مِنَ الْأَبِ مَعَهُ فَكَذَلِكَ الْأَخُ الْمُسْلِمُ مِنَ النَّسَبِ لَهُ أَخُوَّتَانِ فَيُقَدَّمُ عَلَى سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ النُّحَاةُ (مَا) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَافَّةٌ تَكُفُّ إِنَّ عَنِ الْعَمَلِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقِيلَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنِينَ إِخْوَةٌ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 159] وَقَوْلِهِ عَمَّا قَلِيلٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 40] لَيْسَتْ كَافَّةً. وَالسُّؤَالُ الْأَقْوَى هُوَ أَنَّ رُبَّ مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ وَالْبَاءَ وَعَنْ كذلك، وما في رب كافة وفي عما وبما لَيْسَتْ كَافَّةً، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ هُوَ أَنَّ الْكَلَامَ بَعْدَ رُبَّمَا وَإِنَّمَا يَكُونُ تَامًّا، وَيُمْكِنُ جَعْلُهُ مستقلا ولو حذف ربما وإنما لم ضَرَّ، فَنَقُولُ رُبَّمَا قَامَ الْأَمِيرُ وَرُبَّمَا زِيدٌ فِي الدَّارِ، وَلَوْ حَذَفْتَ رُبَّمَا وَقُلْتَ زِيدٌ فِي الدَّارِ وَقَامَ الْأَمِيرُ لَصَحَّ، وَكَذَلِكَ فِي إنما ولكنما، وأما عما وبما فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ لَوْ أَذْهَبْتَ بِمَا وَقُلْتَ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، لَمَا كَانَ كَلَامًا فَالْبَاءُ يُعَدُّ تَعَلُّقُهَا بِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فَهِيَ بَاقِيَةٌ حَقِيقَةً، ولكنما وإنما وربما لَمَّا اسْتُغْنِيَ عَنْهَا فَكَأَنَّهَا لَمْ يَبْقَ حُكْمُهَا وَلَا عَمَلَ لِلْمَعْدُومِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ إِذَا لم تكف بما فَمَا بَعْدَهُ كَلَامٌ تَامٌّ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عَمَلٌ تَقُولُ إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ وَلَوْ قُلْتَ زَيْدٌ قَائِمٌ لَكَفَى وَتَمَّ؟ نَقُولُ: لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَا بَعْدَ إِنَّ جَازَ أَنْ يَكُونَ نَكِرَةً، تَقُولُ إِنَّ رَجُلًا جَاءَنِي وَأَخْبَرَنِي بِكَذَا وَأَخْبَرَنِي بِعَكْسِهِ، وَتَقُولُ جَاءَنِي رَجُلٌ وَأَخْبَرَنِي، وَلَا يَحْسُنُ إِنَّمَا رَجُلٌ جَاءَنِي كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ إِنَّمَا، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي بَيْنَمَا وَأَيْنَمَا فَإِنَّكَ لَوْ حَذَفْتَهُمَا وَاقْتَصَرْتَ عَلَى مَا يَكُونُ بَعْدَهُمَا لَا يَكُونُ تَامًّا فَلَمْ يُكَفَّ، وَالْكَلَامُ فِي لَعَلَّ قَدْ تَقَدَّمَ مرارا. [سورة الحجرات (49) : آية 11] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السُّورَةَ لِلْإِرْشَادِ بَعْدَ إِرْشَادٍ فَبَعْدَ الْإِرْشَادِ إِلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ مَنْ يُخَالِفُهُمَا وَيَعْصِيهُمَا وَهُوَ الْفَاسِقُ، بَيَّنَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ مَعَ الْمُؤْمِنِ، وَقَدْ

ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَائِبًا، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْخَرَ مِنْهُ وَلَا يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ بِمَا يُنَافِي التَّعْظِيمَ، وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ مُرَتَّبَةٍ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ وَهِيَ السُّخْرِيَةُ وَاللَّمْزُ وَالنَّبْزُ، فَالسُّخْرِيَةُ هِيَ أَنْ لَا يَنْظُرَ الْإِنْسَانُ إِلَى أَخِيهِ بِعَيْنِ الْإِجْلَالِ وَلَا يَلْتَفِتَ إِلَيْهِ وَيُسْقِطَهُ عَنْ دَرَجَتِهِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَذْكُرُ مَا فِيهِ مِنَ الْمَعَايِبِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ تَرَاهُمْ إِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُمْ عَدُوُّهُمْ يَقُولُونَ هُوَ دُونَ أَنْ يُذْكَرَ، وَأَقَلُّ مِنْ أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَا تُحَقِّرُوا إِخْوَانَكُمْ وَلَا تَسْتَصْغِرُوهُمْ الثَّانِي: هُوَ اللَّمْزُ وَهُوَ ذِكْرُ مَا فِي الرَّجُلِ مِنَ الْعَيْبِ فِي غَيْبَتِهِ وَهَذَا دُونَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ وَلَمْ يَرْضَ بِأَنْ يَذْكُرَهُ أَحَدٌ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مِثْلَ الْمَسْخَرَةِ الَّذِي لَا يُغْضَبُ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ الثَّالِثُ: هُوَ النَّبْزُ وَهُوَ دُونَ الثَّانِي، لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ يُضِيفُ إِلَيْهِ وَصْفًا ثَابِتًا فِيهِ يُوجِبُ بغضه وحظ مَنْزِلَتِهِ، وَأَمَّا النَّبْزُ فَهُوَ مُجَرَّدُ التَّسْمِيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّقَبَ الْحَسَنَ وَالِاسْمَ الْمُسْتَحْسَنَ إِذَا وُضِعَ لِوَاحِدٍ وَعُلِّقَ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ مَعْنَاهُ مَوْجُودًا فَإِنَّ مَنْ يُسَمَّى سَعْدًا وَسَعِيدًا قَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَكَذَا مَنْ لُقِّبَ إِمَامَ الدِّينِ وَحُسَامَ الدِّينِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَامَةٌ وَزِينَةٌ، وَكَذَلِكَ النَّبْزُ بِالْمَرْوَانِ وَمَرْوَانُ الْحِمَارُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ سِمَةً وَنِسْبَةً، وَلَا يَكُونُ اللَّفْظُ مُرَادًا إِذَا لَمْ يُرَدْ بِهِ الْوَصْفُ كَمَا أَنَّ الْأَعْلَامَ كَذَلِكَ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ لِمَنْ سُمِّيَ بِعَبْدِ اللَّهِ أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ فَلَا تَعْبُدْ غَيْرَهُ، وَتُرِيدُ بِهِ وَصْفَهُ لَا تَكُونُ قَدْ أَتَيْتَ بِاسْمِ عَلَمِهِ إِشَارَةً، فَقَالَ لَا تَتَكَبَّرُوا فَتَسْتَحْقِرُوا إِخْوَانَكُمْ وَتَسْتَصْغِرُوهُمْ بِحَيْثُ لَا تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ أَصْلًا وَإِذَا نَزَلْتُمْ عَنْ هَذَا مِنَ النِّعَمِ إِلَيْهِمْ فَلَا تَعِيبُو [هُمْ] طَالِبِينَ حَطَّ دَرَجَتِهِمْ وَالْغَضَّ عَنْ مَنْزِلَتِهِمْ، وَإِذَا تَرَكْتُمُ النَّظَرَ فِي مَعَايِبِهِمْ وَوَصْفِهِمْ بِمَا يَعِيبُهُمْ فَلَا تُسَمُّوهُمْ بِمَا يَكْرَهُونَهُ وَلَا تُهَوِّلُوا هَذَا لَيْسَ بِعَيْبٍ يُذْكَرُ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ اسْمٌ يُتَلَفَّظُ بِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى بَيَانِ صِفَةٍ وَذَكَرَ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ الْقَوْمُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى جَمْعٍ مِنَ الرِّجَالِ وَلَا يَقَعُ/ عَلَى النِّسَاءِ وَلَا عَلَى الْأَطْفَالِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ قَائِمٌ كَصَوْمٍ جَمْعُ صَائِمٍ، وَالْقَائِمُ بِالْأُمُورِ هُمُ الرِّجَالُ فَعَلَى هَذَا الْأَقْوَامُ الرِّجَالُ لَا النِّسَاءُ فَائِدَةٌ: وَهِيَ أَنَّ عَدَمَ الِالْتِفَاتِ وَالِاسْتِحْقَارِ إِنَّمَا يَصْدُرُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرِّجَالِ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي نَفْسِهَا ضَعِيفَةٌ، فَإِذَا لَمْ يَلْتَفِتِ الرِّجَالُ إِلَيْهَا لَا يَكُونُ لَهَا أَمْرٌ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النِّسَاءُ لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍ إِلَّا مَا رَدَدْتَ عَنْهُ» وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يُوجَدُ مِنْهَا اسْتِحْقَارُ الرَّجُلِ وَعَدَمُ الْتِفَاتِهَا إِلَيْهِ لِاضْطِرَارِهَا فِي دَفْعِ حَوَائِجِهَا [إِلَيْهِ] ، وَأَمَّا الرِّجَالُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النِّسَاءِ فَيُوجَدُ فِيهِمْ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْقُبْحِ وَهَذَا أَشْهَرُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ فِي الدَّرَجَةِ الْعَالِيَةِ الَّتِي هِيَ نِهَايَةُ الْمُنْكَرِ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ كَسْرًا لَهُ وَبُغْضًا لِنُكْرِهِ، وَقَالَ في المرتبة الثانية لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ جَعَلَهُمْ كَأَنْفُسِهِمْ لَمَّا نَزَلُوا دَرَجَةً رَفَعَهُمُ اللَّهُ دَرَجَةً وَفِي الْأَوَّلِ جَعَلَ الْمَسْخُورَ مِنْهُ خَيْرًا، وَفِي الثَّانِي جَعَلَ الْمَسْخُورَ مِنْهُ مَثَلًا، وَفِي قَوْلِهِ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ حِكْمَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ وَجَدَ مِنْهُمُ النُّكْرَ الَّذِي هُوَ مُفْضٍ إِلَى الْإِهْمَالِ وَجَعَلَ نَفْسَهُ خَيْرًا مِنْهُمْ كَمَا فَعَلَ إِبْلِيسُ حَيْثُ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى آدَمَ وَقَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف: 12] فَصَارَ هُوَ خَيْرًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ يَكُونُوا يَصِيرُوا فَإِنَّ مَنِ اسْتَحْقَرَ إِنْسَانًا لِفَقْرِهِ أَوْ وَحْدَتِهِ أَوْ ضَعْفِهِ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَفْتَقِرَ هُوَ وَيَسْتَغْنِيَ الْفَقِيرُ، وَيَضْعُفَ هُوَ وَيَقْوَى الضَّعِيفُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ تَعَالَى: قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ وَلَمْ يَقُلْ نَفْسٌ مِنْ نَفْسٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا فِيهِ إِشَارَةٌ إلى منع

التَّكَبُّرِ وَالْمُتَكَبِّرُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ يُرِي جَبَرُوتَهُ على رؤوس الْأَشْهَادِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الْخَلَوَاتِ مَعَ مَنْ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ فِي الْجَامِعِ يَجْعَلُ نَفْسَهُ مُتَوَاضِعًا، فَذَكَرَهُمْ بِلَفْظِ الْقَوْمِ مَنْعًا لَهُمْ عَمَّا يَفْعَلُونَهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَيْبَ الْأَخِ عَائِدٌ إِلَى الْأَخِ فَإِذَا عَابَ عَائِبٌ نَفْسًا فَكَأَنَّمَا عَابَ نَفْسَهُ وَثَانِيهُمَا: هُوَ أَنَّهُ إِذَا عَابَهُ وَهُوَ لَا يَخْلُو مِنْ عَيْبٍ يُحَارِبُهُ الْمَعِيبُ فَيَعِيبُهُ فَيَكُونُ هُوَ بِعَيْبِهِ حَامِلًا لِلْغَيْرِ عَلَى عَيْبِهِ وَكَأَنَّهُ هُوَ الْعَائِبُ نَفْسَهُ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاءِ: 29] أَيْ أَنَّكُمْ إِذَا قَتَلْتُمْ نَفْسًا قُتِلْتُمْ فَتَكُونُوا كَأَنَّكُمْ قَتَلْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ ثَالِثًا وَهُوَ أَنْ تَقُولَ لَا تَعِيبُوا أَنْفُسَكُمْ أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ فَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ فَقَدْ عِبْتُمْ أَنْفُسَكُمْ، أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ عَابَ كُلَّ وَاحِدٍ فَصِرْتُمْ عَائِبِينَ مِنْ وَجْهٍ مَعِيبِينَ من وجه، وهذا الوجه هاهنا ظَاهِرٌ وَلَا كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِنْ قِيلَ قَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ هَذَا إِرْشَادٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا يَجِبُ أَنْ يَفْعَلَهُ الْمُؤْمِنُ عِنْدَ حُضُورِهِ بَعْدَ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا يَفْعَلُهُ فِي غَيْبَتِهِ، لَكِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تَلْمِزُوا قِيلَ فِيهِ بِأَنَّهُ الْعَيْبُ خَلْفَ الْإِنْسَانِ وَالْهَمْزُ هُوَ الْعَيْبُ فِي وَجْهِ الْإِنْسَانِ، نَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الْعَكْسُ أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى قَلْبِ الْحُرُوفِ دَلَلْنَ عَلَى الْعَكْسِ، لِأَنَّ لَمَزَ قَلْبُهُ لَزَمَ وَهَمَزَ قَلْبُهُ هَزَمَ، وَالْأَوَّلُ: يَدُلُّ عَلَى الْقُرْبِ، وَالثَّانِي: عَلَى الْبُعْدِ، فَإِنْ قِيلَ اللَّمْزُ هُوَ الطَّعْنُ وَالْعَيْبُ فِي الْوَجْهِ كَانَ أَوْلَى مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ/ قِيلَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ تَعَالَى: وَلا تَنابَزُوا وَلَمْ يَقُلْ لَا تَنْبِزُوا، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّمَّازَ إِذَا لَمَزَ فَالْمَلْمُوزُ قَدْ لَا يَجِدُ فِيهِ فِي الْحَالِ عَيْبًا يَلْمِزُهُ بِهِ، وَإِنَّمَا يَبْحَثُ وَيَتْبَعُهُ لِيَطَّلِعَ مِنْهُ عَلَى عَيْبٍ فَيُوجَدُ اللَّمْزُ مِنْ جَانِبٍ، وَأَمَّا النَّبْزُ فَلَا يَعْجِزُ كُلُّ وَاحِدٍ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهِ، فَإِنَّ مَنْ نَبَزَ غَيْرَهُ بالحمار وهو يَنْبِزُهُ بِالثَّوْرِ وَغَيْرِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبْزَ يُفْضِي فِي الْحَالِ إِلَى التَّنَابُزِ وَلَا كَذَلِكَ اللَّمْزُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ. قِيلَ فِيهِ إِنَّ الْمُرَادَ بِئْسَ أَنْ يَقُولَ للمسلم يا يهودي بعد الإيمان أي بعد ما آمَنَ فَبِئْسَ تَسْمِيَتُهُ بِالْكَافِرِ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ هَذَا تَمَامٌ للزجر، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مَنْ قَوْمٍ وَلَا تَلْمِزُوا ولا تنابزوا فإنه إن فعل يفسق بعد ما آمَنَ، وَالْمُؤْمِنُ يَقْبُحُ مِنْهُ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَ إِيمَانِهِ بِفُسُوقٍ فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الْأَنْعَامِ: 82] ويصير التقدير بِئْسَ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَبِئْسَ أَنَّ تَسَمَّوْا بالفاسق بسبب هذه الأفعال بعد ما سَمَّيْتُمُوهُمْ مُؤْمِنِينَ. قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنَ الصَّغَائِرِ فَمَنْ يصير عَلَيْهِ يَصِيرُ ظَالِمًا فَاسِقًا وَبِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ لَا يَتَّصِفُ بِالظُّلْمِ وَالْفِسْقِ فَقَالَ وَمَنْ لَمْ يَتْرُكْ ذَلِكَ وَيَجْعَلْهُ عَادَةً فَهُوَ ظَالِمٌ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ وَلا تَلْمِزُوا وَلا تَنابَزُوا مَنْعٌ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ أَمَرَهُمْ بِالتَّوْبَةِ عَمَّا مَضَى وَإِظْهَارِ النَّدَمِ عَلَيْهَا مُبَالَغَةً فِي التَّحْذِيرِ وَتَشْدِيدًا فِي الزَّجْرِ، وَالْأَصْلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَنابَزُوا لَا تَتَنَابَزُوا أُسْقِطَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، كَمَا أَسْقَطَ فِي الِاسْتِفْهَامِ إِحْدَى الْهَمْزَتَيْنِ فَقَالَ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ [الْبَقَرَةِ: 6] والحذف هاهنا أَوْلَى لِأَنَّ تَاءَ

[سورة الحجرات (49) : آية 12]

الْخِطَابِ وَتَاءَ الْفَاعِلِ حَرْفَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فِي كَلِمَةٍ وَهَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ كَلِمَةٌ بِرَأْسِهَا وَهَمْزَةَ أَنْذَرْتَهُمْ أُخْرَى وَاحْتِمَالَ حَرْفَيْنِ فِي كَلِمَتَيْنِ أَسْهَلُ مِنِ احْتِمَالِهِ فِي كَلِمَةٍ، وَلِهَذَا وَجَبَ الْإِدْغَامُ فِي قَوْلِنَا: مَدَّ، وَلَمْ يَجِبْ فِي قَوْلِنَا امْدُدْ، وَ [فِي] قَوْلِنَا: مَرَّ، [دُونَ] قَوْلِهِ: أمر ربنا. [سورة الحجرات (49) : آية 12] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) [في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ] لِأَنَّ الظَّنَّ هُوَ السَّبَبُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَعَلَيْهِ تُبْنَى الْقَبَائِحُ، وَمِنْهُ يَظْهَرُ الْعَدُوُّ الْمُكَاشِحُ وَالْقَائِلُ إِذَا أَوْقَفَ أُمُورَهُ عَلَى الْيَقِينِ فَقَلَّمَا يَتَيَقَّنُ فِي أَحَدٍ عَيْبًا فَيَلْمِزُهُ بِهِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ فِي الصُّورَةِ قَدْ يَكُونُ قَبِيحًا وَفِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ سَاهِيًا أَوْ يَكُونَ الرَّائِي مُخْطِئًا، وَقَوْلُهُ كَثِيراً إِخْرَاجٌ لِلظُّنُونِ الَّتِي عَلَيْهَا تُبْنَى الْخَيْرَاتُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ظُنُّوا بِالْمُؤْمِنِ خَيْرًا» وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ أَمْرٍ لَا يَكُونُ بِنَاؤُهُ عَلَى الْيَقِينِ، فَالظَّنُّ فِيهِ غَيْرُ مُجْتَنِبٍ مِثَالُهُ حُكْمُ الْحَاكِمِ عَلَى قَوْلِ الشُّهُودِ وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الشُّهُودِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ اجْتَنِبُوا كَثِيراً وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَخْذِ بِالْأَحْوَطِ كَمَا أَنَّ الطَّرِيقَ الْمُخَوِّفَةَ لَا يَتَّفِقُ كُلَّ مَرَّةٍ فيه قاطع طريق، لكنك لا تسلك لِاتِّفَاقِ ذَلِكَ فِيهِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ، إِلَّا إِذَا تَعَيَّنَ فَتَسْلُكُهُ مَعَ رُفْقَةٍ كَذَلِكَ الظَّنُّ يَنْبَغِي بَعْدَ اجْتِهَادٍ تَامٍّ وَوُثُوقٍ بَالِغٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَجَسَّسُوا إِتْمَامًا لِمَا سَبَقَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْيَقِينُ فَيَقُولُ الْقَائِلُ أَنَا أَكْشِفُ فُلَانًا يَعْنِي أَعْلَمُهُ يَقِينًا وَأَطَّلِعُ عَلَى عَيْبِهِ مُشَاهَدَةً فَأَعِيبُ فَأَكُونُ قَدِ اجْتَنَبْتُ الظن فقال تعالى: ولا تتبعوا الظَّنَّ، وَلَا تَجْتَهِدُوا فِي طَلَبِ الْيَقِينِ فِي مَعَايِبِ النَّاسِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً إِشَارَةً إِلَى وُجُوبِ حِفْظِ عِرْضِ الْمُؤْمِنِ فِي غَيْبَتِهِ وَفِيهِ مَعَانٍ أَحَدُهَا: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَإِنَّهُ لِلْعُمُومِ فِي الحقيقة كقوله لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] وَأَمَّا مَنِ اغْتَابَ فَالْمُغْتَابُ أَوَّلًا يَعْلَمُ عَيْبَهُ فَلَا يُحْمَلُ فِعْلُهُ عَلَى أَنْ يَغْتَابَهُ فَلَمْ يَقُلْ وَلَا تَغْتَابُوا أَنْفُسَكُمْ لِمَا أَنَّ الْغِيبَةَ لَيْسَتْ حَامِلَةً لِلَعَائِبَ عَلَى عَيْبِهِ مَنِ اغْتَابَهُ، وَالْعَيْبُ حَامِلٌ عَلَى الْعَيْبِ ثَانِيهَا: لَوْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ حَاصِلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَغْتَابُوا، مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ نَقُولُ لَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ اغْتِيَابُ الْمُؤْمِنِ فَقَالَ: بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُعْلَنُ وَيُذْكَرُ بِمَا فِيهِ وَكَيْفَ لَا وَالْفَاسِقُ يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ بِمَا فيه عند الحاجة [قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً] ثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاغْتِيَابَ الْمَمْنُوعَ اغْتِيَابُ الْمُؤْمِنِ لَا ذِكْرُ الْكَافِرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ شَبَّهَهُ بِأَكْلِ لَحْمِ الْأَخِ، وَقَالَ مِنْ قبل إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] فَلَا أُخُوَّةَ إِلَّا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا مَنْعَ إِلَّا مِنْ شَيْءٍ يُشْبِهُ أَكْلَ لَحْمِ الْأَخِ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ نَهْيٌ عَنِ اغْتِيَابِ الْمُؤْمِنِ دُونَ الْكَافِرِ رَابِعُهَا: مَا الْحِكْمَةُ فِي هَذَا التَّشْبِيهِ؟ نَقُولُ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عِرْضَ الْإِنْسَانِ كَدَمِهِ وَلَحْمِهِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِرْضَ الْمَرْءِ أَشْرَفُ مِنْ لَحْمِهِ، فَإِذَا لَمْ يَحْسُنْ مِنَ الْعَاقِلِ أَكْلُ لُحُومِ النَّاسِ لَمْ يَحْسُنْ مِنْهُ قَرْضُ عِرْضِهِمْ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ ذَلِكَ آلَمُ، وَقَوْلُهُ لَحْمَ أَخِيهِ آكَدُ فِي الْمَنْعِ لِأَنَّ الْعَدُوَّ يَحْمِلُهُ الْغَضَبُ عَلَى مَضْغِ لَحْمِ الْعَدُوِّ، فَقَالَ أَصْدَقُ الْأَصْدِقَاءِ مَنْ وَلَدَتْهُ أُمُّكَ، فَأَكْلُ لَحْمِهِ أَقْبَحُ/ مَا يَكُونُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَيْتاً إِشَارَةٌ إِلَى دَفْعِ وَهْمٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْقَوْلُ فِي الْوَجْهِ يُؤْلِمُ فَيَحْرُمُ، وَأَمَّا الِاغْتِيَابُ فَلَا اطِّلَاعَ عَلَيْهِ لِلْمُغْتَابِ فَلَا

يُؤْلِمُ، فَقَالَ أَكْلُ لَحْمِ الْأَخِ وَهُوَ مَيِّتٌ أَيْضًا لَا يُؤْلِمُ، وَمَعَ هَذَا هُوَ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ لِمَا أَنَّهُ لَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ لَتَأَلَّمَ، كَمَا أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ أَحَسَّ بِأَكْلِ لَحْمِهِ لَآلَمَهُ، وَفِيهِ مَعْنًى: وَهُوَ أَنَّ الِاغْتِيَابَ كَأَكْلِ لَحْمِ الْآدَمِيِّ مَيْتًا، وَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلَّا لِلْمُضْطَرِّ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَالْمُضْطَرُّ إِذَا وَجَدَ لَحْمَ الشَّاةِ الْمَيِّتَةِ وَلَحَمَ الْآدَمِيِّ الْمَيِّتِ فَلَا يَأْكُلُ لَحْمَ الْآدَمِيِّ، فَكَذَلِكَ الْمُغْتَابُ إِنْ وَجَدَ لِحَاجَتِهِ مَدْفَعًا غَيْرَ الْغِيبَةِ فَلَا يُبَاحُ لَهُ الِاغْتِيَابُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَيْتاً حَالٌ عَنِ اللَّحْمِ أَوْ عَنِ الْأَخِ، فَإِنْ قِيلَ اللَّحْمُ لَا يَكُونُ مَيْتًا، قُلْنَا بَلَى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فهو ميت» فسمى الغلفة ميتا، فإن قيل إذا جعلناه حال عَنِ الْأَخِ، لَا يَكُونُ هُوَ الْفَاعِلُ وَلَا المفعول فلا يجوز جعله حال، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: مَرَرْتُ بِأَخِي زَيْدٍ قَائِمًا، ويريد كون زيدا قَائِمًا، قُلْنَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مَنْ أَكَلَ لَحْمَهُ فَقَدْ أَكَلَ، فَصَارَ الْأَخُ مَأْكُولًا مَفْعُولًا، بِخِلَافِ الْمُرُورِ بِأَخِي زَيْدٍ، فَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ ضَرَبْتُ وَجْهَهُ آثِمًا أَيْ وَهُوَ آثِمٌ، أَيْ صَاحِبَ الْوَجْهِ، كَمَا أَنَّكَ إِذَا ضَرَبْتَ وَجْهَهُ فَقَدْ ضَرَبْتَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ مَزَّقْتُ ثَوْبَهُ آثِمًا، فَتَجْعَلُ الْآثِمَ حَالًا مِنْ غَيْرِكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَرِهْتُمُوهُ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَائِدُ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: وَهُوَ الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَكْلَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ مَعْنَاهُ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمُ الْأَكْلَ، لِأَنَّ أَنْ مَعَ الْفِعْلِ تَكُونُ لِلْمَصْدَرِ، يَعْنِي فَكَرِهْتُمُ الْأَكْلَ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هُوَ اللَّحْمَ، أَيْ فَكَرِهْتُمُ اللَّحْمَ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَيِّتَ فِي قَوْلِهِ مَيْتاً وَتَقْدِيرُهُ: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا مُتَغَيِّرًا فَكَرِهْتُمُوهُ، فَكَأَنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ مَيْتاً وَيَكُونُ فِيهِ زِيَادَةُ مُبَالَغَةٍ فِي التَّحْذِيرِ، يَعْنِي الْمَيْتَةَ إِنْ أُكِلَتْ فِي النُّدْرَةِ لِسَبَبٍ كَانَ نَادِرًا، وَلَكِنْ إِذَا أَنْتَنَ وَأَرْوَحَ وَتَغَيَّرَ لَا يُؤْكَلُ أَصْلًا، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْغِيبَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَرِهْتُمُوهُ تَقْتَضِي وُجُودَ تَعَلُّقٍ، فَمَا ذَلِكَ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَقْدِيرَ جَوَابِ كَلَامٍ، كَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: أَيُحِبُّ قِيلَ فِي جَوَابِهِ ذَلِكَ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ أَيُحِبُّ لِلْإِنْكَارِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ إِذًا وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارٍ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ هُوَ تَعَلُّقَ الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ، وَتَرَتُّبَهُ عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ: جَاءَ فُلَانٌ مَاشِيًا فَتَعِبَ، لِأَنَّ الْمَشْيَ يُورِثُ التَّعَبَ، فَكَذَا قَوْلُهُ مَيْتاً لِأَنَّ الْمَوْتَ يُورِثُ النَّفْرَةَ إِلَى حَدٍّ لَا يَشْتَهِي الْإِنْسَانُ أَنْ يَبِيتَ فِي بَيْتٍ فِيهِ مَيِّتٌ، فَكَيْفَ يَقْرَبُهُ بِحَيْثُ يَأْكُلُ مِنْهُ، فَفِيهِ إِذًا كَرَاهَةٌ شَدِيدَةٌ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَالَ الْغَيْبَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ عَطْفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، / أَيِ اجْتَنِبُوا وَاتَّقُوا، وَفِي الْآيَةِ لِطَائِفُ: مِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أُمُورًا ثَلَاثَةً مُرَتَّبَةً بَيَانُهَا، هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: اجْتَنِبُوا كَثِيراً أَيْ لَا تَقُولُوا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ مَا لَمْ تَعْلَمُوهُ فِيهِمْ بِنَاءً عَلَى الظَّنِّ، ثُمَّ إِذَا سُئِلْتُمْ عَلَى الْمَظْنُونَاتِ، فَلَا تَقُولُوا نَحْنُ نَكْشِفُ أُمُورَهُمْ لِنَسْتَيْقِنَهَا قَبْلَ ذِكْرِهَا، ثُمَّ إِنْ عَلِمْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا مِنْ غَيْرِ تَجَسُّسٍ، فَلَا تَقُولُوهُ وَلَا تُفْشُوهُ عَنْهُمْ وَلَا تَعِيبُوا، ففي الأول نهى عما لم أن يُعْلَمَ، ثُمَّ نَهْيٌ عَنْ طَلَبِ ذَلِكَ الْعِلْمِ، ثُمَّ نَهْيٌ عَنْ ذِكْرِ مَا عَلِمَ، وَمِنْهَا أن الله تعالى لم يقل اجتنبوا تَقُولُوا أَمْرًا عَلَى خِلَافِ مَا تَعْلَمُونَهُ، وَلَا قَالَ اجْتَنِبُوا الشَّكَّ، بَلْ أَوَّلُ مَا نَهَى عَنْهُ هُوَ الْقَوْلُ بِالظَّنِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْلَ عَلَى خِلَافِ الْعِلْمِ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ، وَالْقَوْلُ بِالشَّكِّ، وَالرَّجْمُ بِالْغَيْبِ سَفَهٌ وَهُزْءٌ، وَهُمَا فِي غَايَةِ الْقُبْحِ، فَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ اكْتِفَاءً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِأَنَّ وَصْفَهُمْ

[سورة الحجرات (49) : آية 13]

بِالْإِيمَانِ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الِافْتِرَاءِ وَالِارْتِيَابِ الَّذِي هُوَ دَأْبُ الْكَافِرِ. وَإِنَّمَا مَنَعَهُمْ عَمَّا يَكْثُرُ وَجُودُهُ في المسلمين، لذلك قَالَ فِي الْآيَةِ لَا يَسْخَرْ وَمِنْهَا أَنَّهُ خَتَمَ الْآيَتَيْنِ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ، فَقَالَ فِي الْأُولَى: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الْحُجُرَاتِ: 11] وقال في الأخرى إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ [الحجرات: 12] لَكِنْ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى لَمَّا كَانَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّهْيِ فِي قَوْلِهِ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ذَكَرَ النَّفْيَ الَّذِي هُوَ قَرِيبٌ مِنَ النَّهْيِ، وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ لَمَّا كَانَ الِابْتِدَاءُ بِالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ اجْتَنِبُوا ذَكَرَ الِارْتِيَابَ الَّذِي هو قريب من الأمر. ثم قال تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 13] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) تَبْيِينًا لِمَا تَقَدَّمَ وَتَقْرِيرًا لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السُّخْرِيَةَ مِنَ الْغَيْرِ وَالْعَيْبَ إِنْ كَانَ بِسَبَبِ التَّفَاوُتِ فِي الدِّينِ وَالْإِيمَانِ، فَهُوَ جَائِزٌ لِمَا بينا أن قوله لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الحجرات: 12] وقوله وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] مَنْعٌ مِنْ عَيْبِ الْمُؤْمِنِ وَغِيبَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ السَّبَبِ فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّ النَّاسَ بَعُمُومِهِمْ كُفَّارًا كَانُوا أَوْ مُؤْمِنِينَ يَشْتَرِكُونَ فِيمَا يَفْتَخِرُ بِهِ الْمُفْتَخِرُ غَيْرَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالِافْتِخَارُ إِنْ كَانَ بِسَبَبِ الْغِنَى، فَالْكَافِرُ قَدْ يَكُونُ غَنِيًّا، وَالْمُؤْمِنُ فَقِيرًا وَبِالْعَكْسِ، وَإِنْ كَانَ بِسَبَبِ النَّسَبِ، فَالْكَافِرُ قَدْ يَكُونُ نَسِيبًا، وَالْمُؤْمِنُ قَدْ يَكُونُ عَبْدًا أَسْوَدَ وَبِالْعَكْسِ، فَالنَّاسُ فِيمَا لَيْسَ مِنَ الدِّينِ وَالتَّقْوَى مُتَسَاوُونَ مُتَقَارِبُونَ، وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ مَعَ عَدَمِ التَّقْوَى، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ يَتَدَيَّنُ بِدِينٍ يَعْرِفُ أَنَّ مَنْ يُوَافِقُهُ فِي دِينِهِ أَشْرَفُ مِمَّنْ يُخَالِفُهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ أَرْفَعَ نَسَبًا أَوْ أَكْثَرَ نَشَبًا، فَكَيْفَ مَنْ لَهُ الدِّينُ الْحَقُّ وَهُوَ فِيهِ رَاسِخٌ، وَكَيْفَ يُرَجَّحُ عَلَيْهِ مَنْ دُونَهُ فِيهِ بسبب غيره، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ ثَانِيهُمَا: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمَوْجُودُونَ وَقْتَ النِّدَاءِ خَلَقْنَاهُ مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْأَوَّلُ، فَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنْ لَا يَتَفَاخَرَ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ لِكَوْنِهِمْ أَبْنَاءَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْمُرَادَ هُوَ الثَّانِي، فَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ خُلِقَ كَمَا خُلِقَ الْآخَرُ مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ، وَالتَّفَاوُتُ فِي الْجِنْسِ دُونَ التَّفَاوُتِ فِي الْجِنْسَيْنِ، فَإِنَّ مِنْ سُنَنِ التَّفَاوُتِ أَنْ لَا يَكُونَ تَقْدِيرُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الذُّبَابِ وَالذِّئَابِ، لَكِنَّ التَّفَاوُتَ الَّذِي بَيْنَ النَّاسِ بِالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ كَالتَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ، لِأَنَّ الْكَافِرَ جَمَادٌ إِذْ هُوَ كَالْأَنْعَامِ، بَلْ أَضَلُّ، وَالْمُؤْمِنُ إِنْسَانٌ فِي الْمَعْنَى الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ، وَالتَّفَاوُتُ فِي الْإِنْسَانِ تَفَاوُتٌ فِي الْحِسِّ لَا فِي الْجِنْسِ إِذْ كُلُّهُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، فَلَا يَبْقَى لِذَلِكَ عِنْدَ هَذَا اعْتِبَارٌ، وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فَإِنْ قِيلَ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ النَّسَبِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ لِلنَّسَبِ اعْتِبَارًا عُرْفًا وَشَرْعًا، حَتَّى لَا يَجُوزَ تَزْوِيجُ الشَّرِيفَةِ بِالنَّبَطِيِّ، فَنَقُولُ إِذَا جَاءَ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ لَا يَبْقَى الْأَمْرُ الْحَقِيرُ مُعْتَبَرًا، وَذَلِكَ فِي الْحِسِّ وَالشَّرْعِ والعرف، أما الحسن فَلِأَنَّ الْكَوَاكِبَ لَا تُرَى عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، ولجناح الذباب دوي ولا يسمع عند ما يَكُونُ رَعْدٌ قَوِيٌّ، وَأَمَّا فِي الْعُرْفِ، فَلِأَنَّ مَنْ جَاءَ مَعَ الْمَلِكِ لَا يَبْقَى لَهُ اعْتِبَارٌ وَلَا إِلَيْهِ الْتِفَاتٌ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فِيهِمَا فَفِي الشَّرْعِ كَذَلِكَ، إِذَا جَاءَ الشَّرَفُ الديني الإلهي، لا يبقى الأمر هُنَاكَ اعْتِبَارٌ، لَا لِنَسَبٍ وَلَا لِنَشَبٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَافِرَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَعْلَى النَّاسِ نَسَبًا، وَالْمُؤْمِنَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَدْوَنِهِمْ نَسَبًا، لَا يُقَاسُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَكَذَلِكَ مَا هو من الدين مَعَ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا يَصْلُحُ لِلْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ كَالْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ كُلُّ شَرِيفٍ وَوَضِيعٍ إِذَا كَانَ دَيِّنًا عَالِمًا صَالِحًا، وَلَا يَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْهَا فَاسْقٌ، وَإِنْ كَانَ قُرَشِيَّ النَّسَبِ، وَقَارُونِيَّ النَّشَبِ، وَلَكِنْ إِذَا اجْتَمَعَ فِي

اثْنَيْنِ الدِّينُ الْمَتِينُ، وَأَحَدُهُمَا نَسِيبٌ تَرَجَّحَ بِالنَّسَبِ عِنْدَ النَّاسِ لَا عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى [النَّجْمِ: 39] وَشَرَفُ النَّسَبِ لَيْسَ مُكْتَسَبًا وَلَا يَحْصُلُ بِسَعْيٍ. الْبَحْثُ الثَّانِي: مَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِ النَّسَبِ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ التَّفَاخُرِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَالَ؟ نَقُولُ الْأُمُورُ الَّتِي يُفْتَخَرُ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً لَكِنَّ النَّسَبَ أَعْلَاهَا، لِأَنَّ الْمَالَ قَدْ يَحْصُلُ لِلْفَقِيرِ فَيَبْطُلُ افْتِخَارُ الْمُفْتِخِرِ بِهِ، وَالْحُسْنُ وَالسِّنُّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ غَيْرُ ثَابِتٍ دَائِمٍ، وَالنَّسَبُ ثَابِتٌ مُسْتَمِرٌّ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّحْصِيلِ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ فَاخْتَارَهُ اللَّهُ لِلذِّكْرِ وَأَبْطَلَ اعْتِبَارَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّقْوَى لِيُعْلَمَ مِنْهُ بُطْلَانُ غَيْرِهِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: إِذَا كَانَ وُرُودُ الْآيَةِ لِبَيَانِ عَدَمِ جَوَازِ الِافْتِخَارِ بِغَيْرِ التَّقْوَى فَهَلْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْناكُمْ فَائِدَةٌ؟ نَقُولُ نَعَمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَتَرَجَّحُ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَتَرَجَّحَ بِأَمْرٍ فِيهِ يَلْحَقُهُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَتَرَجَّحَ عَلَيْهِ بِأَمْرٍ هُوَ قَبْلَهُ، وَالَّذِي بَعْدَهُ/ كَالْحُسْنِ وَالْقُوَّةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَوْصَافِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَالَّذِي قَبْلَهُ فَإِمَّا رَاجِعٌ إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي مِنْهُ وُجِدَ، أَوْ إلى الفاعل الذي هو له أوجد، كم يُقَالُ فِي إِنَاءَيْنِ هَذَا مِنَ النُّحَاسِ وَهَذَا مِنَ الْفِضَّةِ، وَيُقَالُ هَذَا عَمَلُ فُلَانٍ، وَهَذَا عَمَلُ فُلَانٍ، فَقَالَ تَعَالَى لَا تَرْجِيحَ فِيمَا خَلَقْتُمْ مِنْهُ لِأَنَّكُمْ كُلُّكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَلَا بِالنَّظَرِ إِلَى جَاعِلِينَ لِأَنَّكُمْ كُلُّكُمْ خَلَقَكُمُ اللَّهُ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَكُمْ تَفَاوُتٌ يَكُونُ بِأُمُورٍ تَلْحَقُكُمْ وَتَحْصُلُ بَعْدَ وُجُودِكُمْ وَأَشْرَفُهَا التَّقْوَى وَالْقُرْبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ وفيه وجهان: أحدهما: جَعَلْناكُمْ شُعُوباً مُتَفَرِّقَةً لَا يُدْرَى مَنْ يَجْمَعُكُمْ كَالْعَجَمِ، وَقَبَائِلَ يَجْمَعُكُمْ وَاحِدٌ مَعْلُومٌ كَالْعَرَبِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ وثانيهما: جَعَلْناكُمْ شُعُوباً دَاخِلِينَ فِي قَبَائِلَ، فَإِنَّ الْقَبِيلَةَ تَحْتَهَا الشُّعُوبُ، وَتَحْتَ الشُّعُوبِ الْبُطُونُ وَتَحْتَ الْبُطُونِ الْأَفْخَاذُ، وَتَحْتَ الْأَفْخَاذِ الْفَصَائِلُ، وَتَحْتَ الْفَصَائِلِ الْأَقَارِبُ، وَذَكَرَ الأعم لأنه أذهب للافتخار، لأن لأمر الْأَعَمَّ مِنْهَا يَدْخُلُهُ فُقَرَاءُ وَأَغْنِيَاءُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ، وَضُعَفَاءُ وَأَقْوِيَاءُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَعْدُودَةٍ، ثُمَّ بَيَّنَ فَائِدَةَ ذَلِكَ وَهِيَ التَّعَارُفُ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ فَائِدَةَ ذَلِكَ التَّنَاصُرُ لَا التَّفَاخُرُ وَثَانِيهُمَا: أَنَّ فَائِدَتَهُ التَّعَارُفُ لَا التَّنَاكُرُ، وَاللَّمْزُ وَالسُّخْرِيَةُ وَالْغِيبَةُ تُفْضِي إِلَى التَّنَاكُرِ لَا إِلَى التَّعَارُفِ وَفِيهِ مَعَانٍ لَطِيفَةٌ الْأُولَى: قَالَ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْناكُمْ وَقَالَ: وَجَعَلْناكُمْ لِأَنَّ الْخَلْقَ أَصْلٌ تَفَرَّعَ عَلَيْهِ الْجَعْلُ شُعُوباً فَإِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْخَلْقُ وَالْإِيجَادُ، ثُمَّ الِاتِّصَافُ بِمَا اتَّصَفُوا بِهِ، لَكِنَّ الْجَعْلَ شُعُوبًا لِلتَّعَارُفِ وَالْخَلْقَ لِلْعِبَادَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] وَاعْتِبَارُ الْأَصْلِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْفَرْعِ، فَاعْلَمْ أَنَّ النَّسَبَ يُعْتَبَرُ بَعْدَ اعْتِبَارِ العبادة كما أن الجعل شعوبا يتحقق بعد ما يَتَحَقَّقُ الْخَلْقُ، فَإِنْ كَانَ فِيكُمْ عِبَادَةٌ تُعْتَبَرُ فِيكُمْ أَنْسَابُكُمْ وَإِلَّا فَلَا الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقْناكُمْ، وجَعَلْناكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الِافْتِخَارِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِسَعْيِكُمْ وَلَا قُدْرَةَ لَكُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ تَفْتَخِرُونَ بِمَا لَا مَدْخَلَ لَكُمْ فِيهِ؟ فَإِنْ قِيلَ الْهِدَايَةُ وَالضَّلَالُ كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ [الْإِنْسَانِ: 3] نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ [الشُّورَى: 52] فَنَقُولُ أَثْبَتَ اللَّهُ لَنَا فِيهِ كَسْبًا مَبْنِيًّا عَلَى فعل، كم قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 19] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَأَمَّا فِي النَّسَبِ فَلَا الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِتَعارَفُوا إِشَارَةٌ إِلَى قِيَاسٍ خَفِيٍّ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّكُمْ جُعِلْتُمْ قَبَائِلَ لَتَعَارَفُوا وَأَنْتُمْ إِذَا كُنْتُمْ أَقْرَبَ إِلَى شَرِيفٍ تَفْتَخِرُونَ بِهِ فَخَلَقَكُمْ لِتَعْرِفُوا رَبَّكُمْ، فَإِذَا كُنْتُمْ أَقْرَبَ مِنْهُ وَهُوَ أَشْرَفُ الْمَوْجُودَاتِ كَانَ الْأَحَقُّ بِالِافْتِخَارِ هُنَاكَ مِنَ الْكُلِّ

الِافْتِخَارَ بِذَلِكَ الرَّابِعَةُ: فِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى بُرْهَانٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِافْتِخَارَ لَيْسَ بِالْأَنْسَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَبَائِلَ لِلتَّعَارُفِ بِسَبَبِ الِانْتِسَابِ إِلَى شَخْصٍ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّخْصُ شَرِيفًا صَحَّ الِافْتِخَارُ فِي ظَنِّكُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرِيفًا لَمْ يَصِحَّ، فَشَرَفُ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي تَفْتَخِرُونَ بِهِ هُوَ بِانْتِسَابِهِ إِلَى فَصِيلَةٍ أَوْ بِاكْتِسَابِ فَضِيلَةٍ، فَإِنْ كَانَ بِالِانْتِسَابِ لَزِمَ الِانْتِهَاءُ، وَإِنْ كَانَ بِالِاكْتِسَابِ فَالدَّيِّنُ الْفَقِيهُ الْكَرِيمُ الْمُحْسِنُ صَارَ مِثْلَ مَنْ يَفْتَخِرُ بِهِ الْمُفْتَخِرُ، فَكَيْفَ/ يَفْتَخِرُ بِالْأَبِ وَأَبِ الْأَبِ عَلَى مَنْ حَصَلَ لَهُ مِنَ الْحَظِّ وَالْخَيْرِ مَا فَضَّلَ بِهِ نَفْسَهُ عَنْ ذلك الأب والجد؟ اللهم إلا أن يجوز شَرَفَ الِانْتِسَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَقْرَبُ مِنَ الرَّسُولِ فِي الْفَضِيلَةِ حَتَّى يَقُولَ أَنَا مِثْلُ أَبِيكَ، وَلَكِنْ فِي هَذَا النَّسَبِ أَثْبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّرَفَ لِمَنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِ بِالِاكْتِسَابِ، وَنَفَاهُ لِمَنْ أَرَادَ الشَّرَفَ بِالِانْتِسَابِ، فَقَالَ: «نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» . وَقَالَ: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» أَيْ لَا نُورَثُ بِالِانْتِسَابِ، وَإِنَّمَا نُورَثُ بِالِاكْتِسَابِ، سَمِعْتُ أَنَّ بَعْضَ الشُّرَفَاءِ فِي بِلَادِ خُرَاسَانَ كَانَ فِي النَّسَبِ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ فَاسِقًا، وَكَانَ هُنَاكَ مَوْلًى أَسْوَدَ تَقَدَّمَ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَمَالَ النَّاسُ إِلَى التَّبَرُّكِ بِهِ فَاتَّفَقَ أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا مِنْ بَيْتِهِ يَقْصِدُ الْمَسْجِدَ، فَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ فَلَقِيَهُ الشَّرِيفُ سَكْرَانَ، وَكَانَ النَّاسُ يَطْرُدُونَ الشَّرِيفَ وَيُبْعِدُونَهُ عَنْ طَرِيقِهِ، فَغَلَبَهُمْ وَتَعَلَّقَ بِأَطْرَافِ الشَّيْخِ وَقَالَ لَهُ: يَا أَسْوَدَ الْحَوَافِرِ وَالشَّوَافِرِ، يَا كَافِرُ ابْنَ كَافِرٍ، أَنَا ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ، أُذَلُّ وَتُجَلُّ! وَأُذَمُّ وَتُكْرَمُ! وَأُهَانُ وَتُعَانُ! فَهَمَّ النَّاسُ بِضَرْبِهِ فَقَالَ الشَّيْخُ: لَا هَذَا مُحْتَمَلٌ مِنْهُ لِجَدِّهِ، وَضَرْبُهُ مَعْدُودٌ لِحَدِّهِ، وَلَكِنْ يَا أَيُّهَا الشَّرِيفُ بَيَّضْتَ بَاطِنِي وَسَوَّدْتَ بَاطِنَكَ، فَيَرَى النَّاسُ بَيَاضَ قَلْبِي فَوْقَ سَوَادِ وَجْهِي فَحَسُنْتُ، وَأَخَذْتُ سِيرَةَ أَبِيكَ وَأَخَذْتَ سِيرَةَ أَبِي، فَرَآنِي الْخَلْقُ فِي سِيرَةِ أَبِيكَ وَرَأَوْكَ فِي سِيرَةِ أَبِي فَظَنُّونِي ابْنَ أَبِيكَ وَظَنُّوكَ ابْنَ أَبِي، فَعَمِلُوا مَعَكَ مَا يُعْمَلُ مَعَ أَبِي، وَعَمِلُوا مَعِي مَا يُعْمَلُ مَعَ أَبِيكَ!، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ يَكُونُ أَتْقَى يَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ أَكْرَمَ أَيِ التَّقْوَى تُفِيدُ الْإِكْرَامَ ثَانِيهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مَنْ يَكُونُ أَكْرَمَ عِنْدَ اللَّهِ يَكُونُ أَتْقَى أَيِ الْإِكْرَامُ يُورِثُ التَّقْوَى كَمَا يُقَالُ: الْمُخْلِصُونَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَالثَّانِي أظهر لأن المذكور ثانيا ينبغي أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْمَذْكُورِ أَوَّلًا فِي الظَّاهِرِ فَيُقَالُ الْإِكْرَامُ لِلتُّقَى، لَكِنَّ ذَوَا الْعُمُومِ فِي الْمَشْهُورِ هُوَ الْأَوَّلُ، يُقَالُ أَلَذُّ الْأَطْعِمَةِ أَحْلَاهَا أَيِ اللَّذَّةُ بِقَدْرِ الْحَلَاوَةِ لَا أَنَّ الْحَلَاوَةَ بِقَدْرِ اللَّذَّةِ، وَهِيَ إِثْبَاتٌ لِكَوْنِ التَّقْوَى مُتَقَدِّمَةً عَلَى كُلِّ فَضِيلَةٍ، فَإِنْ قِيلَ التَّقْوَى مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْعِلْمُ أَشْرَفُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَفَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ» نَقُولُ التَّقْوَى ثَمَرَةُ الْعِلْمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: 28] فَلَا تَقْوَى إِلَّا لِلْعَالِمِ فَالْمُتَّقِي الْعَالِمُ أَتَمَّ عِلْمَهُ، وَالْعَالِمُ الَّذِي لَا يَتَّقِي كَشَجَرَةٍ لَا ثَمَرَةَ لَهَا، لَكِنَّ الشَّجَرَةَ الْمُثْمِرَةَ أَشْرَفُ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي لَا تُثْمِرُ بَلْ هُوَ حَطَبٌ، وَكَذَلِكَ الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَتَّقِي حَصَبَ جَهَنَّمَ، وَأَمَّا الْعَابِدُ الَّذِي يُفَضِّلُ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفَقِيهَ فَهُوَ الَّذِي لَا عِلْمَ لَهُ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ نِصَابٌ كَامِلٌ، وَلَعَلَّهُ يَعْبُدُهُ مَخَافَةَ الْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ، فَهُوَ كَالْمُكْرَهِ، أَوْ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَهُوَ يَعْمَلُ كَالْفَاعِلِ لَهُ أُجْرَةٌ وَيَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهِ، وَالْمُتَّقِي هُوَ الْعَالِمُ بِاللَّهِ، الْمُوَاظِبُ لِبَابِهِ، أَيِ الْمُقَرَّبُ إِلَى جَنَابِهِ عِنْدَهُ يَبِيتُ. وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْخِطَابُ مَعَ النَّاسِ وَالْأَكْرَمُ يَقْتَضِي اشْتِرَاكَ الْكُلِّ فِي الْكَرَامَةِ وَلَا كَرَامَةَ/ لِلْكَافِرِ، فَإِنَّهُ أَضَلُّ مِنَ الْأَنْعَامِ وَأَذَلُّ مِنَ الْهَوَامِّ. نَقُولُ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ مَعَ أَنَّهُ حَاصِلٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الْإِسْرَاءِ: 70] لِأَنَّ كُلَّ مَنْ خُلِقَ فَقَدِ اعْتَرَفَ بِرَبِّهِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ لَوْ زَادَ زِيدَ فِي كَرَامَتِهِ، ومن

[سورة الحجرات (49) : آية 14]

رَجَعَ عَنْهُ أُزِيلَ عَنْهُ أَثَرُ الْكَرَامَةِ الثَّانِي: ما حد التقوى ومن الأتقى؟ تقول أَدْنَى مَرَاتِبِ التَّقْوَى أَنْ يَجْتَنِبَ الْعَبْدُ الْمَنَاهِيَ وَيَأْتِيَ بِالْأَوَامِرِ وَلَا يَقِرَّ وَلَا يَأْمَنَ إِلَّا عِنْدَهُمَا فَإِنِ اتَّفَقَ أَنِ ارْتَكَبَ مَنْهِيًّا لَا يَأْمَنُ وَلَا يَتَّكِلُ لَهُ بَلْ يُتْبِعُهُ بِحَسَنَةٍ وَيُظْهِرُ عَلَيْهِ نَدَامَةً وَتَوْبَةً، وَمَتَى ارْتَكَبَ مَنْهِيًّا وَمَا تَابَ فِي الْحَالِ وَاتَّكَلَ عَلَى الْمُهْلَةِ فِي الْأَجَلِ وَمَنَعَهُ عَنِ التَّذَاكُرِ طُولُ الْأَمَلِ فَلَيْسَ بِمُتَّقٍ، أَمَّا الْأَتْقَى فَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِمَا أُمِرَ بِهِ وَيَتْرُكُ مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ خَاشٍ رَبَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَيُنَوِّرُ اللَّهُ قَلْبَهُ، فَإِنِ الْتَفَتَ لَحْظَةً إِلَى نَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ جَعَلَ ذَلِكَ ذَنْبَهُ، وَلِلْأَوَّلِينَ النَّجَاةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مَرْيَمَ: 72] وَلِلْآخَرِينَ السَّوْقُ إِلَى الْجَنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ فَبَيْنَ مَنْ أَعْطَاهُ السُّلْطَانُ بُسْتَانًا وَأَسْكَنَهُ فِيهِ، وَبَيْنَ مَنِ اسْتَخْلَصَهُ لِنَفْسِهِ يَسْتَفِيدُ كُلَّ يَوْمٍ بِسَبَبِ الْقُرْبِ مِنْهُ بَسَاتِينَ وَضِيَاعًا بَوْنٌ عَظِيمٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ أَيْ عَلِيمٌ بِظَوَاهِرِكُمْ، يَعْلَمُ أَنْسَابَكُمْ خَبِيرٌ بِبَوَاطِنِكُمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ أَسْرَارُكُمْ، فَاجْعَلُوا التَّقْوَى عَمَلَكُمْ وزيدوا في التقوى كما زادكم. [سورة الحجرات (49) : آية 14] قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) لَمَّا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 13] وَالْأَتْقَى لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ التَّقْوَى، وَأَصْلُ الْإِيمَانِ هُوَ الِاتِّقَاءُ مِنَ الشِّرْكِ، قَالَتِ الْأَعْرَابُ لَنَا النَّسَبُ الشَّرِيفُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَنَا الشَّرَفُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالْقَوْلِ، إِنَّمَا هُوَ بِالْقَلْبِ فَمَا آمَنْتُمْ لِأَنَّهُ خَبِيرٌ يَعْلَمُ مَا فِي الصُّدُورِ، وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا أَيِ انْقَدْنَا وَاسْتَسْلَمْنَا، قِيلَ إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي بَنِي أَسَدٍ، أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ فِي سَنَةٍ مُجْدِبَةٍ طَالِبِينَ الصَّدَقَةَ وَلَمْ يَكُنْ قَلْبُهُمْ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ كَالتَّارِيخِ لِلنُّزُولِ لَا لِلِاخْتِصَاصِ بِهِمْ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَظْهَرَ فِعْلَ الْمُتَّقِينَ وَأَرَادَ أَنْ يَصِيرَ لَهُ مَا لِلْأَتْقِيَاءِ مِنَ الْإِكْرَامِ لَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ التَّقْوَى مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا فِي تَفْسِيرِهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النساء: 94] وقال هاهنا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا مَعَ أَنَّهُمْ أَلْقَوْا إِلَيْهِمُ السَّلَامَ، نَقُولُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَمَلَ الْقَلْبِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَاجْتِنَابَ الظَّنِّ وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا يُحْكَمُ بِالظَّاهِرِ فَلَا يُقَالُ لِمَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا هُوَ مُرَائِي، وَلَا لِمَنْ أَسْلَمَ هُوَ مُنَافِقٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا فِي الصُّدُورِ، إِذَا قَالَ فُلَانٌ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ حَصَلَ الْجَزْمُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا فَهُوَ الَّذِي جَوَّزَ لَنَا ذَلِكَ الْقَوْلَ، وَكَانَ مُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى الْغَيْبِ وَضَمِيرِ قُلُوبِهِمْ، فَقَالَ لَنَا: أَنْتُمْ لَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا لِعَدَمِ عِلْمِكُمْ بِمَا فِي قَلْبِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمْ ولما حرفا نفي، وما وإن ولا كذلك من حروف النفي، ولم ولما يَجْزِمَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حُرُوفِ النَّفْيِ لَا يَجْزِمُ، فما الفرق بينهما؟ نقول لم ولما يَفْعَلَانِ بِالْفِعْلِ مَا لَا يَفْعَلُ بِهِ غَيْرُهُمَا، فَإِنَّهُمَا يُغَيِّرَانِ مَعْنَاهُ مِنَ الِاسْتِقْبَالِ إِلَى الْمُضِيِّ، تَقُولُ لَمْ يُؤْمِنْ أَمْسِ وَآمَنَ الْيَوْمَ، وَلَا تَقُولُ لَا يُؤْمِنُ أَمْسِ، فَلَمَّا فَعَلَا بِالْفِعْلِ مَا لَمْ يَفْعَلْ بِهِ غَيْرُهُمَا جُزِمَ بِهِمَا، فَإِنْ قِيلَ مَعَ هَذَا لِمَ جُزِمَ بِهِمَا غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْفَرْقَ حَصَلَ، وَلَكِنْ مَا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْجَزْمِ بِهِمَا؟ نَقُولُ لِأَنَّ الْجَزْمَ وَالْقَطْعَ يَحْصُلُ فِي الْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ قَامَ حَصَلَ الْقَطْعُ

بِقِيَامِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا قَامَ وَالْأَفْعَالُ الْمُسْتَقْبَلَةُ إِمَّا مُتَوَقَّعَةُ الْحُصُولِ وَإِمَّا مُمْكِنَةٌ غَيْرُ مُتَوَقَّعَةٍ، وَلَا يَحْصُلُ الْقَطْعُ وَالْجَزْمُ فِيهِ، فإذا كان لم ولما يَقْلِبَانِ اللَّفْظَ مِنَ الِاسْتِقْبَالِ إِلَى الْمُضِيِّ كَانَا يُفِيدَانِ الْجَزْمَ وَالْقَطْعَ فِي الْمَعْنَى فَجَعَلَ لَهُمَا تَنَاسُبًا بِالْمَعْنَى وَهُوَ الْجَزْمُ لَفْظًا، وَعَلَى هَذَا نَقُولُ السَّبَبُ فِي الْجَزْمِ مَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا فِي الْأَمْرِ يَجْزِمُ كَأَنَّهُ جَزَمَ عَلَى الْمَأْمُورِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ وَلَا يَتْرُكُهُ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي أَنَّ اللَّفْظَ يُجْزَمُ مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ فِيهِ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ وَأَنَّ فِي الشَّرْطِ تغير، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِنْ تُغَيِّرُ مَعْنَى الْفِعْلِ مِنَ الْمُضِيِّ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ إِنْ لَمْ تُغَيِّرْهُ مِنَ الِاسْتِقْبَالِ إِلَى الْمُضِيِّ، تَقُولُ: إِنْ جِئْتَنِي جِئْتُكَ، وَإِنْ أَكْرَمْتَنِي أَكْرَمْتُكَ، فَلَمَّا كَانَ إِنْ مِثْلُ لَمْ فِي كَوْنِهِ حَرْفًا، وَفِي لُزُومِ الدُّخُولِ عَلَى الْأَفْعَالِ وَتَغْيِيرِهِ مَعْنَى الْفِعْلِ صَارَ جَازِمًا لِشَبَهٍ لَفْظِيٍّ، أَمَّا الْجَزَاءُ فَجَزْمٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْجَزَاءَ يَجْزِمُ بِوُقُوعِهِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَالْجَزْمُ إِذًا إِمَّا لِمَعْنًى أَوْ لِشَبَهٍ لَفْظِيٍّ، كَمَا أَنَّ الْجَزَاءَ كَذَلِكَ فِي الْإِضَافَةِ وَفِي الْجَرِّ بِحَرْفٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنْ قُولُوا يَقْتَضِي قَوْلًا سَابِقًا مُخَالِفًا لما بعده، كقولنا لا تقدموا آمَنَّا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَفِي تَرْكِ التَّصْرِيحِ بِهِ إِرْشَادٌ وَتَأْدِيبٌ كَأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَجُزِ النَّهْيَ عَنْ قَوْلِهِمْ آمَنَّا فَلَمْ يَقُلْ لَا تَقُولُوا آمَنَّا وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى الِامْتِنَاعِ عَنِ الْكَذِبِ فَقَالَ: لَمْ تُؤْمِنُوا فَإِنْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ شَيْئًا فَقُولُوا أَمْرًا عَامًّا، لَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَذِبُكُمْ وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ أَسْلَمْنا فَإِنَّ الْإِسْلَامَ بِمَعْنَى الِانْقِيَادِ حَصَلَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُؤْمِنُ وَالْمُسْلِمُ وَاحِدٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَكَيْفَ يُفْهَمُ ذَلِكَ مَعَ هَذَا؟ نَقُولُ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ فَرْقٌ، فَالْإِيمَانُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْقَلْبِ وَقَدْ يَحْصُلُ بِاللِّسَانِ، وَالْإِسْلَامُ أَعَمُّ/ لَكِنَّ الْعَامَّ فِي صُورَةِ الْخَاصِّ مُتَّحِدٌ مَعَ الْخَاصِّ وَلَا يَكُونُ أَمْرًا آخَرَ غَيْرَهُ، مِثَالُهُ الْحَيَوَانُ أَعَمُّ مِنَ الْإِنْسَانِ لَكِنَّ الْحَيَوَانَ فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ لَيْسَ أَمْرًا يَنْفَكُّ عَنِ الْإِنْسَانِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ حَيَوَانًا وَلَا يَكُونُ إِنْسَانًا، فَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ مُخْتَلِفَانِ فِي الْعُمُومِ مُتَّحِدَانِ فِي الْوُجُودِ، فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ وَالْمُسْلِمُ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذَّارِيَاتِ: 35، 36] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ هَلْ فِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا؟ نَقُولُ نَعَمْ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا آمَنَّا وَقِيلَ لَهُمْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا قَالُوا إِذَا أَسْلَمْنَا فَقَدْ آمَنَّا، قِيلَ لَا فَإِنَّ الْإِيمَانَ مِنْ عمل القلب لا غير وَالْإِسْلَامُ قَدْ يَكُونُ عَمَلَ اللِّسَانِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ عَمَلَ الْقَلْبِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي قُلُوبِكُمُ الْإِيمَانُ لَمْ تُؤْمِنُوا الثَّانِي: لَمَّا قَالُوا آمَنَّا وَقِيلَ لَهُمْ لَمْ تُؤْمِنُوا قَالُوا جَدَلًا قَدْ آمَنَّا عَنْ صِدْقِ نِيَّةٍ مُؤَكِّدِينَ لِمَا أَخْبَرُوا فَقَالَ: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ لِأَنَّ لَمَّا يَفْعَلْ يُقَالُ فِي مُقَابَلَةِ قَدْ فَعَلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الْآيَةَ فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى حَالِ الْمُؤَلَّفَةِ إِذَا أَسْلَمُوا وَيَكُونُ إِيمَانُهُمْ بعده ضَعِيفًا قَالَ لَهُمْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِأَنَّ الْإِيمَانَ إِيقَانٌ وَذَلِكَ بَعْدُ لَمْ يَدْخُلْ فِي قُلُوبِكُمْ وَسَيَدْخُلُ بِاطِّلَاعِكُمْ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُكْمِلْ لَكُمُ الْأَجْرَ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى هَذَا هُوَ أَنَّ لَمَّا فِيهَا مَعْنَى التَّوَقُّعِ وَالِانْتِظَارِ، وَالْإِيمَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِفِعْلِ الْمُؤْمِنِ وَاكْتِسَابِهِ وَنَظَرِهِ فِي الدَّلَائِلِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِلْهَامًا يَقَعُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ فَقَوْلُهُ قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَيْ مَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ أَيْ وَلَا دَخْلَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِكُمْ إِلْهَامًا مِنْ غَيْرِ فِعْلِكُمْ فَلَا إِيمَانَ لَكُمْ حِينَئِذٍ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عِنْدَ فِعْلِهِمْ قَالَ: لَمْ تُؤْمِنُوا بِحَرْفٍ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى

[سورة الحجرات (49) : آية 15]

الِانْتِظَارِ لِقُصُورِ نَظَرِهِمْ وَفُتُورِ فِكْرِهِمْ، وَعِنْدَ فِعْلِ الْإِيمَانِ قَالَ لَمَّا يَدْخُلِ بِحَرْفٍ فِيهِ مَعْنَى التَّوَقُّعِ لِظُهُورِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ، كَأَنَّهُ يَكَادُ يَغْشَى الْقُلُوبَ بِأَسْرِهَا. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ أَيْ لَا يُنْقِصْكُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّكُمْ إِذَا أَتَيْتُمْ بِمَا يَلِيقُ بِضَعْفِكُمْ مِنَ الْحَسَنَةِ فَهُوَ يُؤْتِيكُمْ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْجَزَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَنْ حَمَلَ إِلَى مَلِكٍ فَاكِهَةً طَيِّبَةً يَكُونُ ثَمَنُهَا فِي السُّوقِ دِرْهَمًا، وَأَعْطَاهُ الْمَلِكُ دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا يَنْسِبُ الْمَلِكَ إِلَى قِلَّةِ الْعَطَاءِ بَلِ الْبُخْلِ، فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُعْطِي مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ، بَلِ الْمَعْنَى يُعْطِي مَا تَتَوَقَّعُونَ بِأَعْمَالِكُمْ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ. وَفِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى الْإِيمَانِ الصَّادِقِ، لِأَنَّ مَنْ أَتَى بِفِعْلٍ مِنْ غَيْرِ صِدْقِ نِيَّةٍ يَضِيعُ عَمَلُهُ وَلَا يُعْطَى عَلَيْهِ أَجْرًا فَقَالَ: وَإِنْ تُطِيعُوا وَتُصَدِّقُوا لَا يَنْقُصُ عَلَيْكُمْ، فَلَا تُضَيِّعُوا أَعْمَالَكُمْ بِعَدَمِ الْإِخْلَاصِ، وَفِيهِ أَيْضًا تَسْلِيَةٌ لِقُلُوبِ مِنْ تَأَخَّرَ إِيمَانُهُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ غَيْرِي سَبَقَنِي وَآمَنَ حِينَ كَانَ النَّبِيُّ وَحِيدًا وَآوَاهُ حِينَ كَانَ ضَعِيفًا، وَنَحْنُ آمنا عند ما عَجَزْنَا عَنْ مُقَاوَمَتِهِ وَغَلَبَنَا بِقُوَّتِهِ، فَلَا يَكُونُ لِإِيمَانِنَا وَقْعٌ وَلَا لَنَا عَلَيْهِ أَجْرٌ، فَقَالَ تَعَالَى إِنَّ أَجْرَكُمْ لَا يَنْقُصُ وَمَا تَتَوَقَّعُونَ تُعْطَوْنَ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ التَّقَدُّمَ يَزِيدُ فِي أُجُورِهِمْ، وَمَاذَا عَلَيْكُمْ إِذَا أَرْضَاكُمُ اللَّهُ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَكُمْ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ/ رَحْمَةً وَاسِعَةً، وَمَا حَالُكُمْ فِي ذَلِكَ إِلَّا حَالُ مَلِكٍ أَعْطَى وَاحِدًا شَيْئًا وَقَالَ لِغَيْرِهِ مَاذَا تَتَمَنَّى؟ فَتَمَنَّى عَلَيْهِ بَلْدَةً وَاسِعَةً وَأَمْوَالًا فَأَعْطَاهُ وَوَفَّاهُ، ثُمَّ زَادَ ذَلِكَ الْأَوَّلَ أَشْيَاءً أُخْرَى مِنْ خَزَائِنِهِ فَإِنْ تَأَذَّى مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ بُخْلًا وَحَسَدًا، وَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ لَا يَكُونُ، وَفِي الدُّنْيَا هُوَ مِنْ صِفَةِ الْأَرَاذِلِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ يَغْفِرُ لَكُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَيَرْحَمُكُمْ بِمَا أتيتم به. ثم قال تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 15] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) إِرْشَادًا لِلْأَعْرَابِ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا إِلَى حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ فَقَالَ إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الْإِيمَانَ فَالْمُؤْمِنُونَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا، يَعْنِي أَيْقَنُوا بِأَنَّ الإيمان إيقان، وثم لِلتَّرَاخِي فِي الْحِكَايَةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ آمَنُوا، ثُمَّ أَقُولُ شَيْئًا آخَرَ لَمْ يَرْتَابُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ لِلتَّرَاخِي فِي الْفِعْلِ تَقْدِيرُهُ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا فِيمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ يُحَقِّقُ ذَلِكَ، أَيْ أَيْقَنُوا أَنَّ بَعْدَ هَذِهِ الدَّارِ دَارًا فَجَاهَدُوا طَالِبِينَ الْعُقْبَى، وَقَوْلُهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ فِي إِيمَانِهِمْ، لَا الْأَعْرَابُ الَّذِينَ قَالُوا قولا ولم يخلصوا عملا. [سورة الحجرات (49) : آية 16] قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) فَإِنَّهُ عَالِمٌ بِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الدِّينَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَأَنْتُمْ أَظْهَرْتُمُوهُ لَنَا لا لله، فلا يقبل منكم ذلك. [سورة الحجرات (49) : آية 17] يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) يُقَرِّرُ ذَلِكَ ويبين أن إسلامهم لمن يَكُنْ لِلَّهِ، وَفِيهِ لَطَائِفُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِقَبِيحِ فِعْلِهِمْ،

[سورة الحجرات (49) : آية 18]

وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَهُ شَرَفَانِ أَحَدُهُمَا: بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنِ الشِّرْكِ وَتَوْحِيدُهُ فِي الْعَظَمَةِ، وَثَانِيهِمَا: بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يُنَزِّهُ النَّفْسَ عَنِ الْجَهْلِ وَيُزَيِّنُهَا بِالْحَقِّ وَالصِّدْقِ، فَهُمْ لَا يَطْلُبُونَ بِإِسْلَامِهِمْ جَانِبَ اللَّهِ وَلَا يَطْلُبُونَ شَرَفَ أَنْفُسِهِمْ بَلْ مَنُّوا وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ فِيهِ شَرَفَهُمْ لَمَا مَنُّوا بِهِ بَلْ شَكَرُوا. اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ: قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ أَيِ الَّذِي عِنْدَكُمْ إِسْلَامٌ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمْ يَقُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ أَسْلَمْتُمْ لِئَلَّا يَكُونَ تَصْدِيقًا لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ أَيْضًا كَمَا لَمْ يَصْدُقُوا فِي الْإِيمَانِ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصْدُقُوا فِي إِسْلَامِهِمْ، وَالْإِسْلَامُ هُوَ الِانْقِيَادُ، وَقَدْ وُجِدَ مِنْهُمْ قَوْلًا وَفِعْلًا وَإِنْ لَمْ يُوجَدِ اعْتِقَادًا وَعِلْمًا وَذَلِكَ الْقَدْرُ كَافٍ فِي صِدْقِهِمْ؟ نَقُولُ التَّكْذِيبُ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُوجَدَ نَفْسُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَثَانِيهِمَا: أَنْ لَا يُوجَدَ كَمَا أَخْبَرَ فِي نَفْسِهِ فَقَدْ يَقُولُ مَا جِئْتَنَا بَلْ جَاءَتْ بِكَ الْحَاجَّةُ، فَاللَّهُ تَعَالَى كَذَّبَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ آمَنَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، أَيْ مَا آمَنْتُمْ أَصْلًا وَلَمْ يَصْدُقُوا فِي الْإِسْلَامِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَإِنَّهُمُ انْقَادُوا لِلْحَاجَةِ وَأَخْذِ الصَّدَقَةِ. اللَّطِيفَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ يَعْنِي لَا مِنَّةَ لَكُمْ وَمَعَ ذَلِكَ لَا تُسْلِمُونَ رَأْسًا بِرَأْسٍ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَكُمْ عَلَيْنَا وَلَا لَنَا عَلَيْكُمْ مِنَّةٌ، بَلِ الْمِنَّةُ عَلَيْكُمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ حُسْنُ أَدَبٍ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ بَلْ لِيَ الْمِنَّةُ عَلَيْكُمْ حَيْثُ بَيَّنَتْ لَكُمُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا الْأَدَبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشُّورَى: 52] . اللَّطِيفَةُ الرَّابِعَةُ: لَمْ يَقُلْ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ أَسْلَمْتُمْ بَلْ قَالَ: أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ لِأَنَّ إِسْلَامَهُمْ كَانَ ضَلَالًا حَيْثُ كَانَ نِفَاقًا فَمَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الْإِيمَانِ مَعَ أَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا؟ نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ رَزَقَكُمُ الْإِيمَانَ، بَلْ قَالَ: أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ وَإِرْسَالُ الرُّسُلِ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ هِدَايَةٌ ثَانِيهَا: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِمَا زَعَمُوا، فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْتُمْ قُلْتُمْ آمَنَّا، فَذَلِكَ نِعْمَةٌ فِي حَقِّكُمْ حَيْثُ تَخَلَّصْتُمْ مِنَ النَّارِ، فَقَالَ هُدَاكُمْ فِي زَعْمِكُمْ ثَالِثُهَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ، هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ شَرْطًا فقال: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. [سورة الحجرات (49) : آية 18] إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَسْرَارُكُمْ، وَأَعْمَالُ قُلُوبِكُمُ الْخَفِيَّةُ، وَقَالَ: بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يُبْصِرُ أَعْمَالَ جَوَارِحِكُمُ الظَّاهِرَةَ، وَآخِرُ السُّورَةِ مَعَ الْتِئَامِهِ بِمَا قَبْلَهُ فِيهِ تَقْرِيرُ مَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحجرات: 1] فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ سِرٌّ، فَلَا تَتْرُكُوا خَوْفَهُ فِي السِّرِّ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ عَلَنٌ فَلَا تَأْمَنُوهُ فِي الْعَلَانِيَةِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.

سورة ق

سُورَةُ ق أَرْبَعُونَ وَخَمْسُ آيَاتٍ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة ق (50) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَقَبْلَ التَّفْسِيرِ نَقُولُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالسُّورَةِ وَهِيَ أُمُورٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ تُقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهَا ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [ق: 42] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 11] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ [ق: 44] فَإِنَّ الْعِيدَ يَوْمُ الزِّينَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْسَى الْإِنْسَانُ خُرُوجَهُ إِلَى عَرْصَاتِ الْحِسَابِ، وَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَرِحًا فَخُورًا، وَلَا يَرْتَكِبُ فِسْقًا وَلَا فُجُورًا، وَلَمَّا أَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّذْكِيرِ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ السُّورَةِ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق: 45] ذَكَّرَهُمْ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَهُمْ فِي يَوْمِهِمْ بِقَوْلِهِ ق وَالْقُرْآنِ. الثَّانِي: هَذِهِ السُّورَةُ، وَسُورَةُ ص تَشْتَرِكَانِ فِي افْتِتَاحِ أَوَّلِهِمَا بِالْحُرُوفِ الْمُعْجَمِ «1» وَالْقَسَمِ بِالْقُرْآنِ وَقَوْلِهِ بَلْ وَالتَّعَجُّبِ، وَيَشْتَرِكَانِ فِي شَيْءٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ أَوَّلَ السُّورَتَيْنِ وَآخِرَهُمَا مُتَنَاسِبَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي ص قَالَ فِي أَوَّلِهَا وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: 1] وَقَالَ فِي آخِرِهَا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [ص: 87] وَفِي ق قَالَ فِي أَوَّلِهَا وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَقَالَ فِي آخِرِهَا فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق: 45] فَافْتَتَحَ بِمَا اخْتَتَمَ بِهِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ فِي تِلْكَ السُّورَةِ صَرْفَ الْعِنَايَةِ إِلَى تَقْرِيرِ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: 5] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ [ص: 6] وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى تَقْرِيرِ الْأَصْلِ الْآخَرِ وَهُوَ الْحَشْرُ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: 3] وَلَمَّا كَانَ افْتِتَاحُ السُّورَةِ فِي ص فِي تَقْرِيرِ الْمَبْدَأِ، قَالَ فِي آخِرِهَا إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [ص: 71] وَخَتَمَهُ بِحِكَايَةِ بَدْءِ [خَلْقِ] آدَمَ، لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْوَحْدَانِيَّةِ. وَلَمَّا كَانَ افْتِتَاحُ هَذِهِ لِبَيَانِ الْحَشْرِ، قَالَ فِي آخِرِهَا يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ [ق: 44] وأما التفسير، ففيه مسائل:

_ (1) يريد بالمعجم المعنى الأعم وإلا فإن ق حرف معجم أي منقوط وأما ص فهو حرف مهمل أي غير منقوط، والإعجام إذا أطلق صرف إلى النقط.

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قِيلَ: ق اسْمُ جَبَلٍ مُحِيطٍ بِالْعَالَمِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ حِكْمَةٌ، هِيَ قَوْلُنَا: قُضِيَ/ الْأَمْرُ. وَفِي ص: صَدَقَ اللَّهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُرُوفَ تَنْبِيهَاتٌ قُدِّمَتْ عَلَى الْقُرْآنِ، لِيَبْقَى السَّامِعُ مُقْبِلًا عَلَى اسْتِمَاعِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ، فَلَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنَ الْكَلَامِ الرَّائِقِ وَالْمَعْنَى الْفَائِقِ. وَذَكَرْنَا أَيْضًا أَنَّ الْعِبَادَةَ مِنْهَا قَلْبِيَّةٌ، وَمِنْهَا لِسَانِيَّةٌ، وَمِنْهَا جارحية ظَاهِرَةٌ، وَوُجِدَ فِي الْجَارِحِيَّةِ مَا عُقِلَ مَعْنَاهُ، وَوُجِدَ مِنْهَا مَا لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهُ، كَأَعْمَالِ الْحَجِّ مِنَ الرَّمْيِ وَالسَّعْيِ وَغَيْرِهِمَا، وَوُجِدَ فِي الْقَلْبِيَّةِ مَا عُقِلَ بِدَلِيلٍ، كَعِلْمِ التَّوْحِيدِ، وَإِمْكَانِ الْحَشْرِ، وَصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَصِدْقِ الرُّسُلِ، وَوُجِدَ فِيهَا مَا يُبْعِدُهَا عَنْ كَوْنِهَا مَعْقُولَةَ الْمَعْنَى أمور لا يمكن التصديق، والجزم بما لَوْلَا السَّمْعُ كَالصِّرَاطِ الْمَمْدُودِ الْأَحَدِّ مِنَ السَّيْفِ الْأَرَقِّ مِنَ الشَّعْرِ، وَالْمِيزَانُ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ الْأَعْمَالُ، فَكَذَلِكَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْأَذْكَارُ الَّتِي هِيَ الْعِبَادَةُ اللِّسَانِيَّةُ مِنْهَا مَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ كَجَمِيعِ الْقُرْآنِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُ، وَمِنْهَا مَا لَا يُعْقَلُ وَلَا يُفْهَمُ كَحَرْفِ التَّهَجِّي لِكَوْنِ التَّلَفُّظِ بِهِ مَحْضَ الِانْقِيَادِ لِلْأَمْرِ، لَا لِمَا يَكُونُ فِي الْكَلَامِ مِنْ طِيبِ الْحِكَايَةِ والقصد إلى غرض، كقولنا ربنا اغفر لنا وارحمنا بَلْ يَكُونُ النُّطْقُ بِهِ تَعَبُّدًا مَحْضًا، وَيُؤَيِّدُ هذا وجه آخر، وهو أن هذا الْحُرُوفَ مُقْسَمٌ بِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَقْسَمَ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ كَانَ تَشْرِيفًا لَهُمَا، فَإِذَا أَقْسَمَ بِالْحُرُوفِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْكَلَامِ الشَّرِيفِ الَّذِي هُوَ دَلِيلُ الْمَعْرِفَةِ، وَآلَةُ التَّعْرِيفِ كَانَ أَوْلَى، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ عَلَى هَذَا فِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: الْقَسَمُ مِنَ اللَّهِ وَقَعَ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْعَصْرِ وقوله تعالى: وَالنَّجْمِ وَبِحَرْفٍ وَاحِدٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ص ون وَوَقَعَ بِأَمْرَيْنِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى وفي قوله تعالى: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وبحرفين، كما في قوله تعالى: طه وطس ويس وحم وَبِثَلَاثَةِ أُمُورٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالصَّافَّاتِ ... فَالزَّاجِراتِ ... فَالتَّالِياتِ وَبِثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ، كَمَا فِي الم وفي طسم والر وبأربعة أمور، كما في وَالذَّارِياتِ «1» وفي وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ وفي وَالتِّينِ وبأربعة أحرف، كما في المص والمر وبخمسة أمور، كما في وَالطُّورِ وفي وَالْمُرْسَلاتِ وفي وَالنَّازِعاتِ وفي وَالْفَجْرِ وبخمسة أحرف، كما في كهيعص وحم عسق وَلَمْ يُقْسِمْ بِأَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ إِلَّا فِي سُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَلَمْ يُقْسِمْ بِأَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ أُصُولٍ، لِأَنَّهُ يَجْمَعُ كَلِمَةَ الِاسْتِثْقَالِ، وَلَمَّا اسْتُثْقِلَ حِينَ رُكِّبَ لِمَعْنًى، كَانَ اسْتِثْقَالُهَا حِينَ رُكِّبَ مِنْ غَيْرِ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِالْمَعْنَى أَوْ لَا لِمَعْنًى كَانَ أَشَدَّ. الْبَحْثُ الثَّانِي: عِنْدَ الْقَسَمِ بِالْأَشْيَاءِ الْمَعْهُودَةِ، ذَكَرَ حَرْفَ الْقَسَمِ وَهِيَ الْوَاوُ، فَقَالَ: وَالطُّورِ وَالنَّجْمِ وَالشَّمْسِ وَعِنْدَ الْقَسَمِ بِالْحُرُوفِ لَمْ يَذْكُرْ حرف القسم، فلم يقل وق وحم لِأَنَّ الْقَسَمَ لَمَّا كَانَ بِنَفْسِ الْحُرُوفِ كَانَ الحروف مُقْسَمًا بِهِ، فَلَمْ يُورِدْهُ فِي مَوْضِعِ كَوْنِهِ آلَةَ الْقَسَمِ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْحُرُوفِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَقْسَمَ اللَّهُ بِالْأَشْيَاءِ: كَالتِّينِ وَالطُّورِ، وَلَمْ يُقْسِمْ بِأُصُولِهَا، وَهِيَ الْجَوَاهِرُ/ الْفَرْدَةُ وَالْمَاءُ وَالتُّرَابُ. وَأَقْسَمَ بِالْحُرُوفِ مِنْ غَيْرِ تَرْكِيبٍ، لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ عِنْدَهُ يُرَكِّبُهَا عَلَى أَحْسَنِ حَالِهَا، وَأَمَّا الْحُرُوفُ إِنْ رُكِّبَتْ بِمَعْنًى، يَقَعُ الْحَلِفُ بِمَعْنَاهُ لَا بِاللَّفْظِ، كقولنا (والسماء والأرض) وَإِنْ رُكِّبَتْ لَا بِمَعْنًى، كَانَ الْمُفْرَدُ أَشْرَفَ، فأقسم بمفردات الحروف.

_ (1) يقصد ما عطف على الذاريات وهو قوله تعالى: فَالْحامِلاتِ وِقْراً، فَالْجارِياتِ يُسْراً، فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً وهكذا في وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ، وَالتِّينِ، وَالطُّورِ وَالْمُرْسَلاتِ، وَالنَّازِعاتِ وَالْفَجْرِ يريد تمام الآيات.

الْبَحْثُ الرَّابِعُ: أَقْسَمَ بِالْحُرُوفِ فِي أَوَّلِ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ سُورَةً، وَبِالْأَشْيَاءِ الَّتِي عَدَدُهَا عَدَدُ الْحُرُوفِ، وهي غير وَالشَّمْسِ فِي أَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً، لِأَنَّ الْقَسَمَ بِالْأُمُورِ غَيْرُ الْحُرُوفِ وَقَعَ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَفِي أَثْنَائِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [الْمُدَّثِّرِ: 32، 33] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ [الِانْشِقَاقِ: 17] وَقَوْلِهِ وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ [التَّكْوِيرِ: 17] وَالْقَسَمُ بِالْحُرُوفِ لَمْ يُوجَدْ وَلَمْ يَحْسُنْ إِلَّا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، لِأَنَّ ذِكْرَ مَا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ الْمَنْظُومِ الْمَفْهُومِ يُخِلُّ بِالْفَهْمِ، وَلَمَّا كَانَ الْقَسَمُ بِالْأَشْيَاءِ لَهُ مَوْضِعَانِ وَالْقَسَمُ بِالْحُرُوفِ لَهُ مَوْضِعٌ وَاحِدٌ جُعِلَ الْقَسَمُ بِالْأَشْيَاءِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ عَلَى نِصْفِ الْقَسَمِ بِالْحُرُوفِ فِي أَوَائِلِهَا. الْبَحْثُ الْخَامِسُ: الْقَسَمُ بِالْحُرُوفِ وَقَعَ فِي النِّصْفَيْنِ جَمِيعًا بَلْ فِي كُلِّ سَبْعٍ وَبِالْأَشْيَاءِ الْمَعْدُودَةِ لَمْ يُوجَدْ إِلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ بَلْ لَمْ يُوجَدْ إِلَّا فِي السَّبْعِ الْأَخِيرِ غَيْرَ وَالصَّافَّاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْقَسَمَ بِالْحُرُوفِ لَمْ يَنْفَكَّ عَنْ ذِكْرِ الْقُرْآنِ أَوِ الْكِتَابِ أَوِ التَّنْزِيلِ بَعْدَهُ إِلَّا نَادِرًا فَقَالَ تَعَالَى: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: 1، 2] حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ [غَافِرٍ: 1، 2] ، الم ذلِكَ الْكِتابُ [الْبَقَرَةِ: 1، 2] وَلَمَّا كَانَ جَمِيعُ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةً مُؤَدَّاةً بِالْحُرُوفِ وُجِدَ ذَلِكَ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ وَلَا كَذَلِكَ الْقَسَمُ بِالْأَشْيَاءِ الْمَعْدُودَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ، وَلْنَذْكُرْ مَا يَخْتَصُّ بِقَافٍ قِيلَ إِنَّهُ اسْمُ جَبَلٍ مُحِيطٍ بِالْأَرْضِ عَلَيْهِ أَطْرَافُ السَّمَاءِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقِرَاءَةَ الْكَثِيرَةَ الْوَقْفُ، وَلَوْ كَانَ اسْمَ جَبَلٍ لَمَا جَازَ الْوَقْفُ فِي الْإِدْرَاجِ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ قَالَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقْسَمَ بِهِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَذُكِرَ بِحَرْفِ الْقَسَمِ كَمَا فِي قوله تعالى: وَالطُّورِ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَرْفَ الْقَسَمِ يُحْذَفُ حَيْثُ يَكُونُ الْمُقْسَمُ بِهِ مُسْتَحِقًّا لِأَنْ يُقْسَمَ بِهِ، كَقَوْلِنَا اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، وَاسْتِحْقَاقُهُ لِهَذَا غَنِيٌّ عَنِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ زَيْدٍ لَأَفْعَلَنَّ ثَالِثُهَا: هُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرَ لَكَانَ يُكْتَبُ قَافٌ مَعَ الْأَلِفِ وَالْفَاءِ كَمَا يُكْتَبُ عَيْنٌ جارِيَةٌ [الْغَاشِيَةِ: 12] وَيُكْتَبُ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ [الزُّمَرِ: 36] وَفِي جَمِيعِ المصاحف يكتب حرف ق، رابعها: هُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ كَالْأَمْرِ فِي ص، ن، حم وَهِيَ حُرُوفٌ لَا كَلِمَاتٌ وَكَذَلِكَ فِي ق فَإِنْ قِيلَ هُوَ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، نَقُولُ الْمَنْقُولُ عَنْهُ أَنَّ قَافْ اسْمُ جَبَلٍ، وَأَمَّا أَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِهِ ذَلِكَ فَلَا، وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَاهُ قُضِيَ الْأَمْرُ، وَفِي ص صَدَقَ اللَّهُ، وَقِيلَ هُوَ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْ قَفَا يقفو وص مِنْ صَادَ مِنَ الْمُصَادَاةِ، وَهِيَ الْمُعَارَضَةُ، مَعْنَاهُ هَذَا قَافٍ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ بِالْكَشْفِ، وَمَعْنَاهُ حِينَئِذٍ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الْأَنْعَامِ: 59] إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْكِتَابَ هُنَاكَ الْقُرْآنُ. هَذَا مَا قِيلَ فِي ق وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فِيهِ فَكَثِيرَةٌ وَحَصْرُهَا بَيَانُ مَعْنَاهَا، فَنَقُولُ إِنْ قُلْنَا هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَحَقُّهَا الْوَقْفُ إِذْ لَا عَامِلَ فِيهَا فَيُشْبِهُ/ بِنَاءَ الْأَصْوَاتِ وَيَجُوزُ الْكَسْرُ حَذَرًا مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَيَجُوزُ الْفَتْحُ اخْتِيَارًا لِلْأَخَفِّ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ جَازَ اخْتِيَارُ الْفَتْحِ هاهنا، وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا آخِرَ كَلِمَةٍ وَالْآخَرُ أَوَّلَ أُخْرَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْبَيِّنَةِ: 1] وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ [الْأَنْعَامِ: 52] ؟ نَقُولُ لِأَنَّ هُنَاكَ إِنَّمَا وَجَبَ التَّحْرِيكُ وَعُيِّنَ الْكَسْرُ فِي الْفِعْلِ لِشُبْهَةِ تَحَرُّكِ الْإِعْرَابِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ مَحَلٌّ يَرِدُ عَلَيْهِ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ وَلَا يُوجَدُ فِيهِ الْجَرُّ فَاخْتِيرَتِ الْكَسْرَةُ الَّتِي لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِجَرٍّ، لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَجُوزُ فِيهِ الْجَرُّ وَلَوْ فُتِحَ لَاشْتَبَهَ بِالنَّصْبِ، وَأَمَّا فِي أَوَاخِرِ الْأَسْمَاءِ فَلَا اشْتِبَاهَ، لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ مَحَلٌّ تَرِدُ عَلَيْهِ الْحَرَكَاتُ الثَّلَاثُ فَلَمْ يَكُنْ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ فَاخْتَارُوا الْأَخَفَّ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّهَا حَرْفٌ مُقْسَمٌ بِهِ فَحَقُّهَا الْجَرُّ وَيَجُوزُ النَّصْبُ بِجَعْلِهِ مَفْعُولًا بِأَقْسَمَ عَلَى وَجْهِ الاتصال،

وَتَقْدِيرُ الْبَاءِ كَأَنْ لَمْ يُوجَدْ، وَإِنْ قُلْنَا هِيَ اسْمُ السُّورَةِ، فَإِنْ قُلْنَا مُقْسَمٌ بِهَا مَعَ ذَلِكَ فَحَقُّهَا الْفَتْحُ لِأَنَّهَا لَا تَنْصَرِفُ حِينَئِذٍ فَفَتَحَ فِي مَوْضِعِ الْجَرِّ كَمَا تَقُولُ وَإِبْرَاهِيمَ وَأَحْمَدَ فِي الْقَسَمِ بِهِمَا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ مُقْسَمًا بِهَا وَقُلْنَا اسْمُ السُّورَةِ، فَحَقُّهَا الرَّفْعُ إِنْ جَعَلْنَاهَا خَبَرًا تَقْدِيرُهُ: هَذِهِ ق، وَإِنْ قُلْنَا هُوَ مِنْ قَفَا يَقْفُو فَحَقُّهُ التَّنْوِينُ كَقَوْلِنَا هَذَا دَاعٍ وَرَاعٍ، وَإِنْ قُلْنَا اسْمُ جَبَلٍ فَالْجَرُّ وَالتَّنْوِينُ وَإِنْ كَانَ قَسَمًا، وَلْنَعُدْ إِلَى التَّفْسِيرِ فَنَقُولُ الْوَصْفُ قَدْ يَكُونُ لِلتَّمْيِيزِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ كَقَوْلِنَا الْكَلَامُ الْقَدِيمُ ليتميز عن الحادث والرجل الْكَرِيمُ لِيَمْتَازَ عَنِ اللَّئِيمِ، وَقَدْ يَكُونُ لِمُجَرَّدِ الْمَدْحِ كَقَوْلِنَا اللَّهُ الْكَرِيمُ إِذْ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ إِلَهٌ آخَرُ حَتَّى نُمَيِّزَهُ عَنْهُ بِالْكَرِيمِ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِمُجَرَّدِ الْمَدْحِ، وَأَمَّا التَّمْيِيزُ فَبِأَنْ نَجْعَلَ الْقُرْآنَ اسْمًا لِلْمَقْرُوءِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرَّعْدِ: 31] وَالْمَجِيدُ الْعَظِيمُ، وَقِيلَ الْمَجِيدُ هُوَ كَثِيرُ الْكَرَمِ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْقُرْآنُ مَجِيدٌ، أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا الْمَجِيدُ هُوَ الْعَظِيمُ، فَلِأَنَّ الْقُرْآنَ عَظِيمُ الْفَائِدَةِ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرُ اللَّهِ الْعَظِيمِ، وَذِكْرُ الْعَظِيمِ عَظِيمٌ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ، وَهُوَ آيَةُ الْعَظَمَةِ يُقَالُ مَلِكٌ عَظِيمٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ يُغْلَبُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الْحِجْرِ: 87] أَيِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى مَثَلِهِ أَحَدٌ لِيُكُونَ مُعْجِزَةً دَالَّةً عَلَى نُبُوَّتِكَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [الْبُرُوجِ: 21، 22] أَيْ مَحْفُوظٌ مِنْ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا بِإِطْلَاعِهِ تَعَالَى فَلَا يُبَدَّلُ وَلَا يغير ولا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فُصِّلَتْ: 42] فَهُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَهُوَ عَظِيمٌ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا الْمَجِيدُ هُوَ كَثِيرُ الْكَرَمِ فَالْقُرْآنُ كَرِيمٌ كُلُّ مَنْ طَلَبَ مِنْهُ مَقْصُودَهُ وَجَدَهُ، وَإِنَّهُ مُغْنٍ كُلَّ مَنْ لَاذَ بِهِ، وَإِغْنَاءُ الْمُحْتَاجِ غَايَةُ الْكَرَمِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْمَجِيدَ مَقْرُونٌ بِالْحَمِيدِ فِي قَوْلِنَا إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، فَالْحَمِيدُ هُوَ الْمَشْكُورُ وَالشُّكْرُ عَلَى الْإِنْعَامِ وَالْمُنْعِمُ كَرِيمٌ فَالْمَجِيدُ هُوَ الْكَرِيمُ الْبَالِغُ فِي الْكَرَمِ، وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: الْقُرْآنُ مُقْسَمٌ بِهِ فَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ مَاذَا؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ وَضَبْطُهَا بِأَنْ نَقُولَ، ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يُفْهَمَ بِقَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ قَرِينَةٍ مَقَالِيَّةٍ، وَالْمَقَالِيَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْمُقْسَمِ بِهِ أَوْ مُتَأَخِّرَةً، فَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْ قَرِينَةٍ مَقَالِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ فَلَا مُتَقَدِّمَ هُنَاكَ لَفْظًا إِلَّا ق فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: هَذَا ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ أَوْ ق أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى: وَالْقُرْآنِ كَمَا يَقُولُ هَذَا حَاتِمٌ وَاللَّهِ أَيْ هُوَ الْمَشْهُورُ/ بِالسَّخَاءِ وَيَقُولُ الْهِلَالُ رَأَيْتُهُ وَاللَّهِ، وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْ قَرِينَةٍ مَقَالِيَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ، فَنَقُولُ ذَلِكَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُنْذِرُ وَالثَّانِي: الرَّجْعُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إِنَّكَ الْمُنْذِرُ، أَوْ: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إِنَّ الرَّجْعَ لَكَائِنٌ، لِأَنَّ الْأَمْرَيْنِ وَرَدَ الْقَسَمُ عَلَيْهِمَا ظَاهِرًا، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَى أَنْ قَالَ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ [يس: 1- 6] . وَأَمَّا الثَّانِي: فَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تعالى: وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ إِلَى أَنْ قَالَ: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ [الطور: 1- 7] وَهَذَا الْوَجْهُ يَظْهَرُ عَلَيْهِ غَايَةَ الظُّهُورِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ ق اسْمُ جَبَلٍ فَإِنَّ الْقَسَمَ يَكُونُ بِالْجَبَلِ وَالْقُرْآنِ، وَهُنَاكَ الْقَسَمُ بِالطُّورِ وَالْكِتَابِ الْمَسْطُورِ وَهُوَ الْجَبَلُ وَالْقُرْآنُ، فَإِنْ قِيلَ أَيُّ الْوَجْهَيْنِ مِنْهُمَا أَظْهَرُ عِنْدَكَ؟ قُلْتُ الْأَوَّلُ: لِأَنَّ الْمُنْذِرَ أَقْرَبُ مِنَ الرَّجْعِ، وَلِأَنَّ الْحُرُوفَ رَأَيْنَاهَا مَعَ الْقُرْآنِ وَالْمُقْسَمُ كَوْنُهُ مُرْسِلًا وَمُنْذِرًا، وَمَا رَأَيْنَا الْحُرُوفَ ذُكِرَتْ وَبَعْدَهَا الْحَشْرُ، وَاعْتَبِرْ ذلك في سور مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ [السَّجْدَةِ: 1- 3] وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى كَوْنِ مُحَمَّدٍ رَسُولَ اللَّهِ، فَالْقَسَمُ بِهِ عَلَيْهِ يَكُونُ إِشَارَةً إِلَى الدَّلِيلِ عَلَى طَرِيقَةِ الْقَسَمِ، وَلَيْسَ

[سورة ق (50) : آية 2]

هُوَ بِنَفْسِهِ دَلِيلًا عَلَى الْحَشْرِ، بَلْ فِيهِ أَمَارَاتٌ مُفِيدَةٌ لِلْجَزْمِ بِالْحَشْرِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ صِدْقِ الرَّسُولِ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا هُوَ مَفْهُومٌ بِقَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ، فَهُوَ كَوْنُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَقِّ وَلِكَلَامِهِ صِفَةُ الصِّدْقِ، فَإِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَالْمُخْتَارُ مَا ذَكَرْنَاهُ والثاني: بَلْ عَجِبُوا [ق: 2] يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَمْرٌ مُضْرَبٌ عَنْهُ فَمَا ذَلِكَ؟ نَقُولُ قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَوَافَقَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ إِنَّهُ تَقْدِيرُ قَوْلِهِ مَا الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ وَنَزِيدُهُ وُضُوحًا، فَنَقُولُ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ: فَإِنَّ التَّقْدِيرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ق، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إِنَّكَ لَتُنْذِرُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ وَإِنَّهُمْ شَكُّوا فِيهِ فأضرب عنه. [سورة ق (50) : آية 2] بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) [فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ] يَعْنِي لَمْ يَقْتَنِعُوا بِالشَّكِّ فِي صِدْقِ الْأَمْرِ وَطَرْحِهِ بِالتَّرْكِ وَبَعْدَ الْإِمْكَانِ، بَلْ جَزَمُوا بِخِلَافِهِ حَتَّى جَعَلُوا ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي هَذَا الِاخْتِصَارِ الْعَظِيمِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ حَذَفَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ وَالْمُضْرَبَ عَنْهُ، وَأَتَى بِأَمْرٍ لَا يُفْهَمُ إِلَّا بَعْدَ الْفِكْرِ الْعَظِيمِ وَلَا يُفْهَمُ مَعَ الْفِكْرِ إِلَّا بِالتَّوْفِيقِ الْعَزِيزِ؟ فَنَقُولُ إِنَّمَا حُذِفَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّرْكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يُفْهَمُ مِنْهُ ظُهُورٌ لَا يُفْهَمُ مِنَ الذِّكْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ ذَكَرَ الْمَلِكَ الْعَظِيمَ فِي مَجْلِسٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ يَكُونُ قَدْ عَظَّمَهُ، فَإِذَا قَالَ لَهُ غَيْرُهُ هُوَ لَا يُذْكَرُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ يَكُونُ بِالْإِرْشَادِ إِلَى تَرْكِ الذِّكْرِ دَالًّا عَلَى عَظَمَتِهِ فَوْقَ مَا يَسْتَفِيدُ صَاحِبُهُ بِذِكْرِهِ فَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِبَيَانِ رِسَالَتِكَ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، وَأَمَّا حَذْفُ الْمُضْرَبِ عَنْهُ، فَلِأَنَّ الْمُضْرَبَ عَنْهُ إِذَا ذُكِرَ وَأُضْرِبَ عَنْهُ بِأَمْرٍ آخَرَ إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا كَانَ بَيْنَ الْمَذْكُورَيْنِ تَفَاوُتٌ مَا، فَإِذَا عَظُمَ التَّفَاوُتُ لَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُمَا مَعَ الْإِضْرَابِ، مِثَالُهُ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ/ الْوَزِيرُ يُعَظِّمُ فُلَانًا بَلِ الْمَلِكُ يُعَظِّمُهُ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ الْبَوَّابُ يُعَظِّمُ فُلَانًا بَلِ الْمَلِكُ يُعَظِّمُهُ لِكَوْنِ الْبَوْنِ بَيْنَهُمَا بَعِيدًا، إِذِ الْإِضْرَابُ لِلتَّدَرُّجِ، فَإِذَا تَرَكَ الْمُتَكَلِّمُ الْمُضْرَبَ عَنْهُ صَرِيحًا وَأَتَى بِحَرْفِ الْإِضْرَابِ اسْتُفِيدَ مِنْهُ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ قَبْلَهُ وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ يَجْعَلُ الثَّانِيَ: تَفَاوُتًا عَظِيمًا مِثْلَ مَا يكون ومما لا يذكر، وهاهنا كَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّكَّ بَعْدَ قِيَامِ الْبُرْهَانِ بَعِيدٌ لَكِنَّ الْقَطْعَ بِخِلَافِهِ فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْبُعْدِ. الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَعَ الْفِعْلِ يَكُونُ بِمَثَابَةِ ذِكْرِ الْمَصْدَرِ، تَقُولُ أُمِرْتُ بِأَنْ أَقُومَ وَأُمِرْتُ بِالْقِيَامِ، وَتَقُولُ مَا كَانَ جَوَابُهُ إِلَّا أَنْ قَالَ وَمَا كَانَ جَوَابُهُ إِلَّا قَوْلَهُ كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَمْ يَنْزِلْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْمَصْدَرِ حَيْثُ جَازَ أَنْ يُقَالَ أُمِرْتُ أَنْ أَقُومَ مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْإِلْصَاقِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أُمِرْتُ الْقِيَامَ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْبَاءِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا أَيْ عَجِبُوا مِنْ مَجِيئِهِ، نَقُولُ أَنْ جاءَهُمْ وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْنَى قَائِمًا مَقَامَ الْمَصْدَرِ لَكِنَّهُ فِي الصُّورَةِ فِعْلٌ وَحَرْفٌ، وَحُرُوفُ التَّعْدِيَةِ كُلُّهَا حُرُوفٌ جَارَّةٌ وَالْجَارُّ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَدْخُلَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَجُوزَ عَدَمُ الدُّخُولِ، فَجَازَ أَنْ يُقَالَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ وَلَا يَجُوزُ عجبوا مَجِيئُهُمْ لِعَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ إِدْخَالِ الْحُرُوفِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْهُمْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا كَالْمُقَرِّرِ لِتَعَجُّبِهِمْ، وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا لِإِبْطَالِ تَعَجُّبِهِمْ، أَمَّا التَّقْرِيرُ فَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ [القمر: 24] وقالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [يس: 15] إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ كَيْفَ يَجُوزُ اخْتِصَاصُكُمْ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ مَعَ اشْتِرَاكِنَا فِي الْحَقِيقَةِ وَاللَّوَازِمِ وَأَمَّا الْإِبْطَالُ فَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَيُرَى بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَظَهَرَ عَلَيْهِ مَا عَجَزَ عَنْهُ كُلُّهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا هَذَا لَيْسَ مِنْ عِنْدِهِ وَلَا مِنْ عِنْدِ أَحَدٍ مِنْ جِنْسِنَا، فَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ جَاءَهُمْ وَاحِدٌ مِنْ

[سورة ق (50) : آية 3]

خِلَافِ جِنْسِهِمْ وَأَتَى بِمَا يَعْجَزُونَ عَنْهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ لَا نَقْدِرُ لِأَنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ خَاصِّيَّةً، فَإِنَّ خَاصِّيَّةَ النَّعَامَةِ بَلْعُ النَّارِ، وَالطُّيُورِ الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ، وَابْنُ آدَمَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ الْإِبْطَالُ جَائِزٌ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ كَانَ بَاطِلًا، وَلَكِنَّ تَقْرِيرَ الْبَاطِلِ كَيْفَ يَجُوزُ، نَقُولُ الْمُبَيِّنُ لِبُطْلَانِ الْكَلَامِ يَجِبُ أَنْ يُورِدَهُ عَلَى أَبْلَغِ مَا يُمْكِنُ وَيَذْكُرَ فِيهِ كُلَّ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ثُمَّ يُبْطِلُهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ عَجِبْتُمْ بِسَبَبِ أَنَّهُ مِنْكُمْ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ سَبَبٌ لِهَذَا التَّعَجُّبِ، فَإِنْ قِيلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَاللَّهُ تَعَالَى فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ قَدَّمَ كَوْنَهُ بَشِيرًا عَلَى كَوْنِهِ نَذِيرًا، فَلِمَ لَمْ يَذْكُرْ: عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ بَشِيرٌ مِنْهُمْ؟ نَقُولُ هُوَ لَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنْ لِلْبِشَارَةِ مَوْضِعًا كَانَ فِي حَقِّهِمْ مُنْذِرًا لَا غَيْرُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا تَعَجُّبٌ آخَرُ مِنْ أَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ الْحَشْرُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: 3] فَعَجِبُوا مِنْ كَوْنِهِ مُنْذِرًا مِنْ وُقُوعِ الْحَشْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي أَوَّلِ/ سُورَةِ ص حيث قال فيه وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ [ص: 4] وَقَالَ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] ذَكَرَ تَعَجُّبَهُمْ مِنْ أَمْرَيْنِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ إِشَارَةٌ إِلَى مَجِيءِ الْمُنْذِرِ لَا إِلَى الْحَشْرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ هُنَاكَ ذَكَرَ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ فَقَالَ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ وقال هاهنا هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ وَلَمْ يَكُنْ مَا يَقَعُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ إِلَّا مَجِيءَ الْمُنْذِرِ. ثُمَّ قَالُوا: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ الثَّانِي: هاهنا وجد بعد الاستبعاد بِالِاسْتِفْهَامِ أَمْرٌ يُؤَدِّي مَعْنَى التَّعَجُّبِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ فَإِنَّهُ اسْتِبْعَادٌ وَهُوَ كَالتَّعَجُّبِ فَلَوْ كَانَ التَّعَجُّبُ أَيْضًا عَائِدًا إِلَيْهِ لَكَانَ كَالتَّكْرَارِ، فَإِنْ قِيلَ التَّكْرَارُ الصَّرِيحُ يَلْزَمُ مِنْ جَعْلِ قَوْلِكَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ عَائِدًا إِلَى مَجِيءِ الْمُنْذِرِ، فَإِنَّ تَعَجُّبَهُمْ مِنْهُ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ فَقَوْلُهُ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ يَكُونُ تَكْرَارًا، نَقُولُ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَكْرَارٍ بَلْ هُوَ تَقْرِيرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: بَلْ عَجِبُوا بِصِيغَةِ الْفِعْلِ وَجَازَ أَنْ يَتَعَجَّبَ الْإِنْسَانُ مِمَّا لَا يَكُونُ عَجِيبًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هُودٍ: 73] وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ لَا وَجْهَ لِتَعَجُّبِكَ مِمَّا لَيْسَ بِعَجَبٍ فَكَأَنَّهُمْ لَمَّا عَجِبُوا قِيلَ لَهُمْ لَا مَعْنَى لِفِعْلِكُمْ وَعَجَبِكُمْ فَقَالُوا هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ فَكَيْفَ لَا نَعْجَبُ مِنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ تعالى قال هاهنا فَقالَ الْكافِرُونَ بِحَرْفِ الْفَاءِ، وَقَالَ فِي ص وَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ [ص: 4] لِأَنَّ قَوْلَهُمْ ساحِرٌ كَذَّابٌ كَانَ تَعَنُّتًا غَيْرَ مُرَتَّبٍ على ما تقدم، وهذا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَمْرٌ مُرَتَّبٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَيْ عَجِبُوا وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالُوا هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ فَكَيْفَ لَا نَعْجَبُ مِنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: 3] بِلَفْظِ الْإِشَارَةِ إِلَى الْبُعْدِ، وَقَوْلُهُ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْحَاضِرِ الْقَرِيبِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ غَيْرَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِهَذَا، وَذَلِكَ لا يصح إلا على قولنا. ثم قال تعالى: [سورة ق (50) : آية 3] أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَظْهَرُوا الْعَجَبَ مِنْ رِسَالَتِهِ أَظْهَرُوا اسْتِبْعَادَ كَلَامِهِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ قالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ [سَبَأٍ: 43] ، وَقالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً [سَبَأٍ: 43] وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الأولى: فقوله أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً إِنْكَارٌ مِنْهُمْ بِقَوْلٍ أَوْ بِمَفْهُومٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: جاءَهُمْ مُنْذِرٌ [ق: 2] لِأَنَّ الْإِنْذَارَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِالْعَذَابِ الْمُقِيمِ وَالْعِقَابِ الْأَلِيمِ، كَانَ فِيهِ الْإِشَارَةُ لِلْحَشْرِ، فقالوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً.

[سورة ق (50) : آية 4]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قَالَهُ وهو الإنذار، وقوله هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ [ق: 2] إِشَارَةٌ إِلَى الْمَجِيءِ عَلَى مَا قُلْنَا، فَلَمَّا اخْتَلَفَتِ الصِّفَتَانِ نَقُولُ الْمَجِيءُ وَالْجَائِي كُلُّ وَاحِدٍ حَاضِرٌ. وَأَمَّا الْإِنْذَارُ وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا لَكِنْ لِكَوْنِ الْمُنْذَرِ بِهِ لَمَّا كَانَ غَيْرَ حَاضِرٍ قَالُوا فِيهِ ذَلِكَ، وَالرَّجْعُ مَصْدَرُ رَجَعَ يَرْجِعُ إِذَا/ كَانَ مُتَعَدِّيًا، وَالرُّجُوعُ مَصْدَرُهُ إِذَا كَانَ لَازِمًا، وَكَذَلِكَ الرُّجْعَى مَصْدَرٌ عِنْدَ لُزُومِهِ، وَالرَّجْعُ أَيْضًا يَصِحُّ مَصْدَرًا لِلَّازِمِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أَيْ رُجُوعٌ بَعِيدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الرَّجْعَ الْمُتَعَدِّيَ، وَيَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى [الْعَلَقِ: 8] وَعَلَى الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ [النَّازِعَاتِ: 10] أَيْ مُرْجَعُونَ فَإِنَّهُ مِنَ الرَّجْعِ الْمُتَعَدِّي، فَإِنْ قُلْنَا هُوَ مِنَ الْمُتَعَدِّي، فَقَدْ أَنْكَرُوا كَوْنَهُ مَقْدُورًا فِي نَفْسِهِ. ثُمَّ إِنَّ الله تعالى قال: [سورة ق (50) : آية 4] قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) إِشَارَةً إِلَى دَلِيلِ جَوَازِ الْبَعْثِ وَقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بجميع أَجْزَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَوْتَى لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ جُزْءُ أَحَدٍ عَلَى الْآخَرِ، وَقَادِرٌ عَلَى الجمع والتأليف، فليس الرجوع منه ببعد، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس: 81] حَيْثُ جَعَلَ لِلْعِلْمِ مَدْخَلًا فِي الْإِعَادَةِ، وَقَوْلُهُ قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ يَعْنِي لَا تَخْفَى عَلَيْنَا أَجَزَاؤُهُمْ بِسَبَبِ تَشَتُّتِهَا فِي تُخُومِ الأرضين، وهذا جواب لما كانوا يقولون أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [السَّجْدَةِ: 10] يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ إشارة إلى أنه تعالى كما يعلم أجزاؤهم يعلم أعمالهم مِنْ ظُلْمِهِمْ، وَتَعَدِّيهِمْ بِمَا كَانُوا يَقُولُونَ وَبِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ هُوَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِتَفَاصِيلِ الْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ إِجْمَالِيٌّ وَتَفْصِيلِيٌّ، فَالْإِجْمَالِيُّ كَمَا يَكُونُ عِنْدَ الْإِنْسَانِ الَّذِي يَحْفَظُ كِتَابًا وَيَفْهَمُهُ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا سُئِلَ عَنْ أَيَّةِ مَسْأَلَةٍ تَكُونُ فِي الْكِتَابِ يَحْضُرُ عِنْدَهُ الْجَوَابُ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ حَرْفًا بِحَرْفٍ، وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ فِي حَالَةٍ بَابًا بَابًا، أَوْ فَصْلًا فَصْلًا، وَلَكِنْ عِنْدَ الْعَرْضِ عَلَى الذِّهْنِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ فِكْرٍ وَتَحْدِيدِ نَظَرٍ، وَالتَّفْصِيلِيُّ مِثْلُ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنِ الْأَشْيَاءِ، وَالْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَ فِيهِ تِلْكَ الْمَسَائِلَ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ عِنْدَ الْإِنْسَانِ إِلَّا في مسألة أو مسألتين. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى كِتَابٍ فَلَا يُقَالُ: وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ يَعْنِي الْعِلْمُ عِنْدِي كَمَا يَكُونُ فِي الْكِتَابِ أَعْلَمُ جُزْءًا جُزْءًا وَشَيْئًا شَيْئًا، وَالْحَفِيظُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَحْفُوظِ، أَيْ مَحْفُوظٌ مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْحَافِظِ، أَيْ حَافِظٌ أَجَزَاءَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ بِحَيْثُ لَا يَنْسَى شَيْئًا مِنْهَا، وَالثَّانِي هُوَ الْأَصَحُّ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَفِيظَ بِمَعْنَى الْحَافِظِ وَارِدٌ في القرآن، قال تعالى: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ «1» [الأنعام: 104] وقال تعالى: اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ [الشورى: 6] «2» وَلِأَنَّ الْكِتَابَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لِلتَّمْثِيلِ فَهُوَ يَحْفَظُ الْأَشْيَاءَ، وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْ أَنْ يُحْفَظَ. [سورة ق (50) : آية 5] بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) وقوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ.

_ (1) في تفسير الرازي المطبوع وما أنت عليهم بحفيظ وهو خطأ والصواب ما أثبتناه من المعجم المفهرس. (2) في تفسير الرازي المطبوع والله حفيظ عليم وهو خطأ والصواب ما أثبتناه من المعجم المفهرس.

رَدٌّ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ قِيلَ مَا الْمَضْرُوبُ عَنْهُ، نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: تَقْدِيرُهُ لَمْ يَكْذِبِ الْمُنْذِرُ، بَلْ كَذَّبُوا هُمْ، وَتَقْدِيرُهُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ قَالُوا هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ [ق: 2] كَانَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ: / إِنَّ الْمُنْذِرَ كَاذِبٌ، فَقَالَ تَعَالَى: لَمْ يَكْذِبِ الْمُنْذِرُ، بَلْ هُمْ كَذَّبُوا، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْحَقُّ؟ نَقُولُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: الْبُرْهَانُ الْقَائِمُ عَلَى صِدْقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّانِي: الْفُرْقَانُ الْمُنَزَّلُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ بُرْهَانٌ الثَّالِثُ: النُّبُوَّةُ الثَّابِتَةُ بِالْمُعْجِزَةِ الْقَاهِرَةِ فَإِنَّهَا حَقٌّ الرَّابِعُ: الْحَشْرُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ فَهُوَ حَقٌّ، فَإِنْ قِيلَ بَيِّنْ لَنَا مَعْنَى الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِالْحَقِّ وَأَيَّةُ حَاجَةٍ إِلَيْهَا، يَعْنِي أَنَّ التَّكْذِيبَ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ، فَهَلْ هِيَ لِلتَّعْدِيَةِ إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ أَوْ هِيَ زَائِدَةٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ؟ [الْقَلَمِ: 5، 6] نَقُولُ فِيهِ بَحْثٌ وَتَحْقِيقٌ، وَهِيَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِإِظْهَارِ مَعْنَى التَّعْدِيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ هُوَ النِّسْبَةُ إِلَى الْكَذِبِ، لَكِنَّ النِّسْبَةَ تَارَةً تُوجَدُ فِي الْقَائِلِ، وَأُخْرَى فِي الْقَوْلِ، تَقُولُ: كَذَّبَنِي فُلَانٌ وَكُنْتُ صَادِقًا، وَتَقُولُ: كَذَّبَ فُلَانٌ قَوْلَ فُلَانٍ، وَيُقَالُ كَذَّبَهُ، أَيْ جَعَلَهُ كَاذِبًا، وَتَقُولُ: قُلْتُ لِفُلَانٍ زَيْدٌ يَجِيءُ غَدًا، فَتَأَخَّرَ عَمْدًا حَتَّى كَذَّبَنِي وَكَذَّبَ قَوْلِي، وَالتَّكْذِيبُ فِي الْقَائِلِ يُسْتَعْمَلُ بِالْبَاءِ وَبِدُونِهَا، قَالَ تَعَالَى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاءِ: 141] وَقَالَ تَعَالَى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ [الْقَمَرِ: 23] وَفِي الْقَوْلِ كَذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ فِي الْقَائِلِ بِدُونِ الْبَاءِ أَكْثَرُ، قَالَ تَعَالَى: فَكَذَّبُوهُ [الْأَعْرَافِ: 64] وَقَالَ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [فَاطِرٍ: 4] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَفِي الْقَوْلِ الِاسْتِعْمَالُ بِالْبَاءِ أَكْثَرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها [الْقَمَرِ: 42] وَقَالَ: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ وَقَالَ تَعَالَى: وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ [الزُّمَرِ: 32] وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ هُوَ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْمُطْلَقَ هُوَ الْمَصْدَرُ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَصْدُرُ مِنَ الْفَاعِلِ، فَإِنَّ مَنْ ضَرَبَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ غَيْرُ الضَّرْبِ، غَيْرَ أَنَّ لَهُ مَحَلًّا يَقَعُ فِيهِ فَيُسَمَّى مَضْرُوبًا، ثُمَّ إِذَا كَانَ ظَاهِرًا لِكَوْنِهِ مَحَلًّا لِلْفِعْلِ يَسْتَغْنِي بِظُهُورِهِ عَنِ الْحَرْفِ فَيُعَدَّى مِنْ غَيْرِ حَرْفٍ، يُقَالُ ضَرَبْتُ عَمْرًا، وَشَرِبْتُ خَمْرًا، لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الضَّرْبَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ، وَالشُّرْبُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ مَشْرُوبٍ يَتَحَقَّقُ فِيهِ، وَإِذَا قُلْتَ مَرَرْتُ يَحْتَاجُ إِلَى الْحِرَفِ، لِيَظْهَرَ مَعْنَى التَّعْدِيَةِ لِعَدَمِ ظُهُورِهِ فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ: مَرَّ السَّحَابُ يُفْهَمُ مِنْهُ مُرُورٌ وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَنْ مَرَّ بِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْفِعْلَ قَدْ يَكُونُ فِي الظُّهُورِ دُونَ الضَّرْبِ وَالشُّرْبِ، وَفِي الْخَفَاءِ دُونَ الْمُرُورِ، فَيَجُوزُ الْإِتْيَانُ فِيهِ بِدُونِ الْحَرْفِ لِظُهُورِهِ الَّذِي فَوْقَ ظُهُورِ الْمُرُورِ، وَمَعَ الْحَرْفِ لِكَوْنِ الظُّهُورِ دُونَ ظُهُورِ الضَّرْبِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: ضَرَبْتُ بِعَمْرٍو، إِلَّا إِذَا جَعَلْتَهُ آلَةَ الضَّرْبِ. أَمَّا إِذَا ضَرَبْتَهُ بِسَوْطٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ فِيهِ زِيَادَةُ الْبَاءِ، وَلَا يَجُوزُ مَرُّوا بِهِ إِلَّا مَعَ الِاشْتِرَاكِ، وَتَقُولُ مَسَحْتُهُ وَمَسَحْتُ بِهِ وَشَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ، لِأَنَّ الْمَسْحَ إِمْرَارُ الْيَدِ بِالشَّيْءِ فَصَارَ كَالْمُرُورِ، وَالشُّكْرُ فِعْلٌ جَمِيلٌ غَيْرَ أَنَّهُ يَقَعُ بِمُحْسِنٍ، فَالْأَصْلُ فِي الشُّكْرِ، الْفِعْلُ الْجَمِيلُ، وَكَوْنُهُ وَاقِعًا بِغَيْرِهِ كَالْبَيْعِ بِخِلَافِ الضَّرْبِ، فَإِنَّهُ إِمْسَاسُ جِسْمٍ بِجِسْمٍ بِعُنْفٍ، فَالْمَضْرُوبُ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ الضَّرْبِ أَوَّلًا، وَالْمَشْكُورُ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ الشُّكْرِ ثَانِيًا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالتَّكْذِيبُ فِي الْقَائِلِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُصَدِّقُ أَوْ يُكَذِّبُ، وَفِي الْقَوْلِ غَيْرُ ظَاهِرٍ فَكَانَ الِاسْتِعْمَالُ فِيهِ بِالْبَاءِ أَكْثَرَ وَالْبَاءُ فِيهِ لِظُهُورِ مَعْنَى التَّعْدِيَةِ. وَقَوْلُهُ لَمَّا جاءَهُمْ فِي الْجَائِي وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ هُوَ الْمُكَذِّبُ تَقْدِيرُهُ: كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ، أَيْ لَمْ يُؤَخِّرُوهُ إِلَى الْفِكْرِ وَالتَّدَبُّرِ ثَانِيهُمَا: الجائي هاهنا هُوَ الْجَائِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [ق: 2] تَقْدِيرُهُ: كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمُ الْمُنْذِرُ، وَالْأَوَّلُ لَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِنَا الْحَقُّ وَهُوَ الرَّجْعُ،

[سورة ق (50) : آية 6]

لِأَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَ بِهِ وَقْتَ الْمَجِيءِ بَلْ يَقُولُونَ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ [يس: 52] . وَقَوْلُهُ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أَيْ مُخْتَلِفٍ مُخْتَلِطٍ قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: لِأَنَّهُمْ تَارَةً يَقُولُونَ سَاحِرٌ وَأُخْرَى شَاعِرٌ، وَطَوْرًا يَنْسِبُونَهُ إِلَى الْكِهَانَةِ، وَأُخْرَى إِلَى الْجُنُونِ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يُقَالَ: هَذَا بَيَانُ الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: بَلْ عَجِبُوا يَدُلُّ عَلَى أَمْرٍ سَابِقٍ أُضْرِبَ عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ الشَّكُّ وَتَقْدِيرُهُ: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، إِنَّكَ لَمُنْذِرٌ، وَإِنَّهُمْ شَكُّوا فِيكَ، بَلْ عَجِبُوا، بَلْ كَذَّبُوا. وَهَذِهِ مَرَاتِبُ ثَلَاثٌ الْأُولَى: الشَّكُّ وَفَوْقَهَا التَّعَجُّبُ، لِأَنَّ الشَّاكَّ يَكُونُ الْأَمْرَانِ عِنْدَهُ سِيَّيْنِ، وَالْمُتَعَجِّبَ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ اعْتِقَادُ عَدَمِ وُقُوعِ الْعَجِيبِ لَكِنَّهُ لَا يَقْطَعُ بِهِ وَالْمُكَذِّبُ الَّذِي يَجْزِمُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا شَاكِّينَ وَصَارُوا ظَانِّينَ وَصَارُوا جَازِمِينَ فَقَالَ: فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَهُمْ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ كَوْنُهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مُرَتَّبًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَفِيمَا ذَكَرُوهُ لَا يَكُونُ مُرَتَّبًا. فَإِنْ قِيلَ: الْمَرِيجُ، الْمُخْتَلِطُ، وَهَذِهِ أُمُورٌ مُرَتَّبَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ عَلَى مُقْتَضَى الْعَقْلِ، لِأَنَّ الشَّاكَّ يَنْتَهِي إِلَى دَرَجَةِ الظَّنِّ، وَالظَّانَّ يَنْتَهِي إِلَى دَرَجَةِ الْقَطْعِ، وَعِنْدَ الْقَطْعِ لَا يَبْقَى الظَّنُّ، وَعِنْدَ الظَّنِّ لَا يَبْقَى الشَّكُّ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ فَفِيهِ يَحْصُلُ الِاخْتِلَاطُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ تَرْتِيبٌ، بَلْ تَارَةً كَانُوا يَقُولُونَ كَاهِنٌ وَأُخْرَى مَجْنُونٌ، ثُمَّ كَانُوا يَعُودُونَ إِلَى نِسْبَتِهِ إِلَى الْكِهَانَةِ بَعْدَ نِسْبَتِهِ إِلَى الْجُنُونِ وَكَذَا إِلَى الشِّعْرِ بَعْدَ السِّحْرِ وَإِلَى السِّحْرِ بَعْدَ الشِّعْرِ فَهَذَا هُوَ الْمَرِيجُ. نَقُولُ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَنْتَقِلُوا مِنَ الشَّكِّ إِلَى الظَّنِّ بِصِدْقِهِ لِعِلْمِهِمْ بِأَمَانَتِهِ وَاجْتِنَابِهِ الْكَذِبَ طُولَ عُمُرِهِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَمِنَ الظَّنِّ إِلَى الْقَطْعِ بِصِدْقِهِ لِظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ عَلَى يَدَيْهِ وَلِسَانِهِ، فَلَمَّا غَيَّرُوا التَّرْتِيبَ حَصَلَ عَلَيْهِ الْمَرَجُ وَوَقَعَ الدَّرَكُ مَعَ الْمَرَجِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ فَاللَّائِقُ بِهِ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ [الذَّارِيَاتِ: 8] لِأَنَّ مَا كَانَ يَصْدُرُ مِنْهُمْ فِي حَقِّهِ كَانَ قَوْلًا مُخْتَلِفًا، وَأَمَّا الشَّكُّ وَالظَّنُّ وَالْجَزْمُ فَأُمُورٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْمَرِيجِ عَلَى ظَنِّهِمْ وَقَطْعِهِمْ يُنْبِئُ عَنْ عَدَمِ كَوْنِ ذَلِكَ الْجَزْمِ صَحِيحًا لِأَنَّ الْجَزْمَ الصَّحِيحَ لَا يَتَغَيَّرُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَاجِبَ التَّغَيُّرِ فَكَانَ أَمْرُهُمْ مُضْطَرِبًا، بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِ الْمُوَفَّقِ فَإِنَّهُ لَا يقع في اعتقاده تردد ولا يوجد معتقده تعدد. ثم قال تعالى: [سورة ق (50) : آية 6] أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) إشارة إلى الدَّلِيلِ الَّذِي يَدْفَعُ قَوْلَهُمْ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: 3] وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: 81] وقوله تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غَافِرٍ: 57] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى [الْأَحْقَافِ: 33] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ تَارَةً تَدْخُلُ عَلَى الْكَلَامِ وَلَا وَاوَ فِيهِ، وَتَارَةً تَدْخُلُ عَلَيْهِ وَبَعْدَهَا وَاوٌ، فَهَلْ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ فَرْقٌ؟ نَقُولُ فَرْقٌ أَدَقُّ مِمَّا عَلَى الْفَرْقِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: أَزَيْدٌ فِي الدَّارِ بَعْدُ، وَقَدْ طَلَعَتِ الشمس؟ يذكره للإنكار، فإذا قال: أو زيدا فِي الدَّارِ بَعْدُ، وَقَدْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ؟ يُشِيرُ بِالْوَاوِ إِشَارَةً خَفِيَّةً إِلَى أَنَّ قُبْحَ فِعْلِهِ صار بمنزلة فعلين قبيحين، كأنه يقول بعد ما سَمِعَ مِمَّنْ صَدَرَ عَنْ زَيْدٍ هُوَ فِي الدَّارِ، أَغَفَلَ وَهُوَ فِي الدَّارِ بَعْدُ، لِأَنَّ الْوَاوَ تُنْبِئُ عَنْ ضَيْفِ أَمْرٍ مُغَايِرٍ لِمَا بَعْدَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَابِقٌ لَكِنَّهُ يُومِئُ بِالْوَاوِ إِلَيْهِ زِيَادَةً فِي الْإِنْكَارِ، فَإِنْ قِيلَ قَالَ فِي مَوْضِعٍ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا [الْأَعْرَافِ: 185] وقال هاهنا أَفَلَمْ يَنْظُرُوا بالفاء فما الفرق؟ نقول هاهنا سَبَقَ مِنْهُمْ إِنْكَارُ الرَّجْعِ فَقَالَ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ بِمُخَالِفِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَفِي يس سَبَقَ ذَلِكَ بقوله قال:

[سورة ق (50) : آية 7]

مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ [يس: 78] نقول هناك الاستدلال بالسموات لَمَّا لَمْ يَعْقُبِ الْإِنْكَارَ عَلَى عَقِيبِ الْإِنْكَارِ اسْتَدَلَّ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس: 79] ثُمَّ ذكر الدليل الآخر، وهاهنا الدَّلِيلُ كَانَ عَقِيبَ الْإِنْكَارِ فَذُكِرَ بِالْفَاءِ، وَأَمَّا قوله هاهنا بِلَفْظِ النَّظَرِ، وَفِي الْأَحْقَافِ بِلَفْظِ الرُّؤْيَةِ، فَفِيهِ لطيفة وهي أنهم هاهنا لَمَّا اسْتَبْعَدُوا أَمْرَ الرَّجْعِ بِقَوْلِهِمْ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: 3] اسْتَبْعَدَ اسْتِبْعَادَهُمْ، وَقَالَ: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ لِأَنَّ النَّظَرَ دُونَ الرُّؤْيَةِ فَكَأَنَّ النَّظَرَ كَانَ فِي حُصُولِ الْعِلْمِ بِإِنْكَارِ الرَّجْعِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى الرُّؤْيَةِ لِيَقَعَ الِاسْتِبْعَادُ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِبْعَادِ، وَهُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ بِإِنْكَارٍ مَذْكُورٍ فَأَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ بِالرُّؤْيَةِ الَّتِي هِيَ أَتَمُّ مِنَ النَّظَرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَمَّلَ ذَلِكَ وَجَمَّلَهُ بِقَوْلِهِ إِلَى السَّماءِ وَلَمْ يَقُلْ فِي السَّمَاءِ لِأَنَّ النَّظَرَ فِي الشَّيْءِ يُنْبِئُ عَنِ التَّأَمُّلِ وَالْمُبَالَغَةِ وَالنَّظَرَ إِلَى الشَّيْءِ يُنْبِئُ عَنْهُ، لِأَنَّ إِلَى لِلْغَايَةِ فَيَنْتَهِي النَّظَرُ عِنْدَهُ فِي الدُّخُولِ فِي مَعْنَى الظَّرْفِ فَإِذَا انْتَهَى النَّظَرُ إِلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ يَنْفُذَ فِيهِ حَتَّى يَصِحَّ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَوْقَهُمْ تَأْكِيدٌ آخَرُ أَيْ وَهُوَ ظَاهِرٌ فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ غَيْرُ غَائِبٍ عَنْهُمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ إِشَارَةٌ إِلَى وَجْهِ الدَّلَالَةِ وَأَوْلَوِيَّةِ الْوُقُوعِ وَهِيَ لِلرَّجْعِ، أَمَّا وَجْهُ الدَّلَالَةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ أَسَاسٌ هِيَ الْعِظَامُ الَّتِي هِيَ كَالدِّعَامَةِ وَقُوًى وَأَنْوَارٌ كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَبِنَاءُ السَّمَاءِ أَرْفَعُ مِنْ أَسَاسِ الْبَدَنِ، وَزِينَةُ السَّمَاءِ أَكْمَلُ مِنْ زِينَةِ الْإِنْسَانِ بِلَحْمٍ وَشَحْمٍ. وَأَمَّا الْأَوْلَوِيَّةُ فَإِنَّ السَّمَاءَ مَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ فَتَأْلِيفُهَا أَشَدُّ، وَلِلْإِنْسَانِ فُرُوجٌ وَمَسَامٌّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّأْلِيفَ الْأَشَدَّ كَالنَّسْجِ الْأَصْفَقِ وَالتَّأْلِيفَ الْأَضْعَفَ كَالنَّسْجِ الْأَسْخَفِ، وَالْأَوَّلُ أَصْعَبُ عِنْدَ النَّاسِ وَأَعْجَبُ، فَكَيْفَ يَسْتَبْعِدُونَ الْأَدْوَنَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِوُجُودِ الْأَعْلَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَتِ الْفَلَاسِفَةُ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ السَّمَاءَ لَا تَقْبَلُ الْخَرْقَ، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْلِهِ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الْمُلْكِ: 3] وَقَوْلِهِ سَبْعاً شِداداً [النَّبَأِ: 12] وَتَعَسَّفُوا فِيهِ لِأَنَّ/ قَوْلَهُ تعالى: ما لَها مِنْ فُرُوجٍ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ ذَلِكَ، وَالْإِخْبَارُ عَنْ عَدَمِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ إِخْبَارًا عَنْ عَدَمِ إِمْكَانِهِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ: مَا لفلان قال؟ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ إِمْكَانِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ خِلَافَ قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ [الْمُرْسَلَاتِ: 9] وَقَالَ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الِانْفِطَارِ: 1] وَقَالَ: فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ [الْحَاقَّةِ: 16] فِي مُقَابَلَةِ قوله سَبْعاً شِداداً وَقَالَ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرَّحْمَنِ: 37] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَالْكُلُّ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ صَرِيحٌ وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الدَّلَالَةِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، بَلْ وَلَيْسَ لَهُ دَلَالَةٌ خَفِيَّةٌ أَيْضًا، وَأَمَّا دَلِيلُهُمُ الْمَعْقُولُ فَأَضْعَفُ وَأَسْخَفُ مِنْ تَمَسُّكِهِمْ بالمنقول. ثم قال تعالى: [سورة ق (50) : آية 7] وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) إِشَارَةً إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ وَوَجْهُ دَلَالَةِ الْأَرْضِ هُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْإِنْسَانُ إِذَا مَاتَ وَفَارَقَتْهُ الْقُوَّةُ الْغَاذِيَةُ وَالنَّامِيَةُ لَا تَعُودُ إِلَيْهِ تِلْكَ الْقُوَّةُ، فَنَقُولُ الْأَرْضُ أَشَدُّ جُمُودًا وَأَكْثَرُ خُمُودًا وَاللَّهُ تَعَالَى يُنْبِتُ فِيهَا أَنْوَاعَ النَّبَاتِ وَيَنْمُو وَيَزِيدُ، فَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ تَعُودُ إِلَيْهِ الْحَيَاةُ وَذَكَرَ فِي الْأَرْضِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ كَمَا ذَكَرَ فِي السَّمَاءِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ فِي الْأَرْضِ الْمَدُّ وَإِلْقَاءُ الرَّوَاسِي وَالْإِنْبَاتُ فِيهَا، وَفِي السَّمَاءِ الْبِنَاءُ وَالتَّزْيِينُ وَسَدُّ الْفُرُوجِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ فِي مُقَابَلَةِ وَاحِدٍ فَالْمَدُّ فِي مُقَابَلَةِ الْبِنَاءِ، لِأَنَّ الْمَدَّ وَضْعٌ وَالْبِنَاءَ رَفْعٌ، وَالرَّوَاسِي فِي الْأَرْضِ ثَابِتَةٌ وَالْكَوَاكِبُ فِي السَّمَاءِ مَرْكُوزَةٌ مُزَيِّنَةٌ لَهَا وَالْإِنْبَاتُ فِي الْأَرْضِ شَقُّهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا [عَبَسَ: 25، 26] وَهُوَ عَلَى خِلَافِ سَدِّ الْفُرُوجِ وَإِعْدَامِهَا، وَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَفِي الْإِنْسَانِ أَشْيَاءُ مَوْضُوعَةٌ وَأَشْيَاءُ مَرْفُوعَةٌ وَأَشْيَاءُ ثَابِتَةٌ كَالْأَنْفِ وَالْأُذُنِ وَأَشْيَاءُ مُتَحَرِّكَةٌ كَالْمُقْلَةِ وَاللِّسَانِ، وَأَشْيَاءُ مَسْدُودَةُ الْفُرُوجِ كَدَوْرِ الرَّأْسِ

[سورة ق (50) : آية 8]

وَالْأَغْشِيَةِ الْمَنْسُوجَةِ نَسْجًا ضَعِيفًا كَالصِّفَاقِ، وَأَشْيَاءُ لَهَا فُرُوجٌ وَشُقُوقٌ كَالْمَنَاخِرِ وَالصِّمَاخِ وَالْفَمِ وَغَيْرِهَا، فَالْقَادِرُ عَلَى الْأَضْدَادِ فِي هَذَا الْمِهَادِ، فِي السَّبْعِ الشِّدَادِ، غَيْرُ عَاجِزٍ عَنْ خَلْقِ نَظِيرِهَا فِي هَذِهِ الْأَجْسَادِ. [وَ] تَفْسِيرُ الرَّوَاسِي قَدْ ذَكَرْنَاهُ في سورة لقمان، والبهيج الحسن. [سورة ق (50) : آية 8] تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرَانِ عَائِدَيْنِ إِلَى الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَهُمَا السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، عَلَى أَنَّ خَلْقَ السَّمَاءِ تَبْصِرَةٌ وَخَلْقَ الْأَرْضِ ذِكْرَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ السَّمَاءَ زِينَتُهَا مُسْتَمِرَّةٌ غَيْرُ مُسْتَجَدَّةٍ فِي كُلِّ عَامٍ فَهِيَ كَالشَّيْءِ الْمَرْئِيِّ عَلَى مُرُورِ الزَّمَانِ، وَأَمَّا الْأَرْضُ فَهِيَ كُلَّ سَنَةٍ تَأْخُذُ زُخْرُفَهَا فَذِكْرُ السَّمَاءِ تَبْصِرَةٌ وَالْأَرْضِ تَذْكِرَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مَوْجُودًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، فَالسَّمَاءُ تَبْصِرَةٌ وَالْأَرْضُ كَذَلِكَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّبْصِرَةِ وَالتَّذْكِرَةِ هُوَ أَنَّ فِيهَا آيَاتٍ/ مُسْتَمِرَّةً مَنْصُوبَةً فِي مُقَابَلَةِ الْبَصَائِرِ وَآيَاتٍ مُتَجَدِّدَةً مُذَكِّرَةً عِنْدَ التَّنَاسِي، وَقَوْلُهُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أَيْ رَاجِعٍ إِلَى التَّفَكُّرِ وَالتَّذَكُّرِ وَالنَّظَرِ في الدلائل. ثم قال تعالى: [سورة ق (50) : الآيات 9 الى 10] وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) إِشَارَةً إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَيَكُونُ الِاسْتِدْلَالُ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ إِنْزَالُ [الْمَاءِ مِنْ] السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَإِخْرَاجُ النَّبَاتِ مِنْ تَحْتُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا الِاسْتِدْلَالُ قَدْ تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق: 7] فَمَا الْفَائِدَةُ فِي إِعَادَتِهِ بِقَوْلِهِ فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ؟ نَقُولُ قَوْلُهُ فَأَنْبَتْنا اسْتِدْلَالٌ بِنَفْسِ النَّبَاتِ أَيِ الْأَشْجَارِ تَنْمُو وَتَزِيدُ، فَكَذَلِكَ بَدَنُ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ يَنْمُو وَيَزِيدُ بِأَنْ يُرْجِعَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ قُوَّةَ النُّشُوءِ وَالنَّمَاءِ كَمَا يُعِيدُهَا إِلَى الْأَشْجَارِ بِوَاسِطَةِ مَاءِ السَّمَاءِ وَحَبَّ الْحَصِيدِ فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ وَحَبَّ الزَّرْعِ الْحَصِيدِ وَهُوَ الْمَحْصُودُ أَيْ أَنْشَأْنَا جَنَّاتٍ يُقْطَفُ ثِمَارُهَا وَأُصُولُهَا بَاقِيَةٌ وَزَرْعًا يُحْصَدُ كُلَّ سَنَةٍ وَيُزْرَعُ فِي كُلِّ عَامٍ أَوْ عَامَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ التَّقْدِيرُ وَنُنْبِتُ الْحَبَّ الْحَصِيدَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُخْتَارُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُخْتَلِطِ مِنْ جِنْسَيْنِ، لِأَنَّ الْجَنَّاتِ تُقْطَفُ ثمارها وتثمر من غير زراعة في كُلَّ سَنَةٍ، لَكِنَّ النَّخْلَ يُؤَبَّرُ وَلَوْلَا التَّأْبِيرُ لَمْ يُثْمِرْ، فَهُوَ جِنْسٌ مُخْتَلِطٌ مِنَ الزَّرْعِ والشجر، فكأنه تعالى خلق ما يقطف كل سنة ويزرع وخلق ما لا يزرع كل سنة ويقطف مع بقاء أصلها وَخُلِقَ الْمُرَكَّبُ مِنْ جِنْسَيْنِ فِي الْأَثْمَارِ، لِأَنَّ بَعْضَ الثِّمَارِ فَاكِهَةً وَلَا قُوتَ فِيهِ، وَأَكْثَرُ الزَّرْعِ قُوتٌ وَالثَّمَرُ فَاكِهَةٌ وَقُوتٌ، وَالْبَاسِقَاتُ الطِّوَالُ مِنَ النَّخِيلِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: باسِقاتٍ يُؤَكِّدُ كَمَالَ الْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الزَّرْعَ إِنْ قِيلَ فِيهِ إِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقْطَفَ مِنْ ثَمَرَتِهِ لِضَعْفِهِ وَضَعْفِ حَجْمِهِ، فَكَذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى إِعَادَتِهِ كُلَّ سَنَةٍ وَالْجَنَّاتُ لِكِبَرِهَا وَقُوَّتِهَا تَبْقَى وَتُثْمِرُ سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ فَيُقَالُ: أَلَيْسَ النَّخْلُ الْبَاسِقَاتُ أَكْثَرَ وَأَقْوَى مِنَ الْكَرْمِ الضَّعِيفِ وَالنَّخْلُ مُحْتَاجَةٌ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى عَمَلِ عَامِلٍ وَالْكَرْمُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ، فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي قَدَّرَ ذَلِكَ لِذَلِكَ لَا لِلْكِبَرِ وَالصِّغَرِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ أَيْ منضود بعضها فوق بعض في أكمامها كما فِي سُنْبُلِهِ الزَّرْعُ وَهُوَ

[سورة ق (50) : آية 11]

عَجِيبٌ، فَإِنَّ الْأَشْجَارَ الطِّوَالَ أَثْمَارُهَا بَارِزُهَا مُتَمَيِّزٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَصْلٌ يَخْرُجُ مِنْهُ كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَغَيْرِهِمَا وَالطَّلْعُ كَالسُّنْبُلَةِ الواحدة يكون على أصل واحد. [سورة ق (50) : آية 11] رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: رِزْقاً لِلْعِبادِ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّ الْإِنْبَاتَ رِزْقٌ/ فكأنه تعالى قال: أنبتناها إنباتا لِلْعِبَادِ، وَالثَّانِي نَصْبٌ عَلَى كَوْنِهِ مَفْعُولًا لَهُ كأنه قال: أنبتناها لرزق العباد، وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ فِي خَلْقِ السَّمَاءِ والأرض تَبْصِرَةً وَذِكْرى [ق: 8] وَفِي الثِّمَارِ قَالَ: رِزْقاً وَالثِّمَارُ أَيْضًا فِيهَا تَبْصِرَةٌ، وَفِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَيْضًا مَنْفَعَةٌ غَيْرُ التَّبْصِرَةِ وَالتَّذْكِرَةِ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِ الْأَمْرَيْنِ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنْ نَقُولَ الِاسْتِدْلَالُ وَقَعَ لِوُجُودِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا الْإِعَادَةُ وَالثَّانِي الْبَقَاءُ بَعْدَ الْإِعَادَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخْبِرُهُمْ بحشر وجمع يكون بعد الثَّوَابُ الدَّائِمُ وَالْعِقَابُ الدَّائِمُ، وَأَنْكَرُوا ذَلِكَ، فَأَمَّا الأول فالله القادر على خلق السموات وَالْأَرْضِ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْخَلْقِ بَعْدَ الْفَنَاءِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْبَقَاءَ فِي الدُّنْيَا بِالرِّزْقِ وَالْقَادِرُ عَلَى إِخْرَاجِ الْأَرْزَاقِ مِنَ النَّجْمِ وَالشَّجَرِ، قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرْزُقَ الْعَبْدَ فِي الْجَنَّةِ وَيَبْقَى، فَكَأَنَّ الْأَوَّلَ تَبْصِرَةٌ وَتَذْكِرَةٌ بِالْخَلْقِ، وَالثَّانِي تَذْكِرَةٌ بِالْبَقَاءِ بِالرِّزْقِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ تَبْصِرَةً وَذِكْرى حَيْثُ ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ الْآيَتَيْنِ، ثُمَّ بَدَأَ بِذِكْرِ الْمَاءِ وَإِنْزَالِهِ وَإِنْبَاتِهِ النَّبَاتَ ثَانِيهَا: أَنَّ مَنْفَعَةَ الثِّمَارِ الظَّاهِرَةِ هِيَ الرِّزْقُ فَذَكَرَهَا وَمَنْفَعَةَ السَّمَاءِ الظَّاهِرَةِ لَيْسَتْ أَمْرًا عَائِدًا إِلَى انْتِفَاعِ الْعِبَادِ لِبُعْدِهَا عَنْ ذِهْنِهِمْ، حَتَّى أَنَّهُمْ لَوْ تَوَهَّمُوا عَدَمَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ لَظَنُّوا أَنْ يَهْلَكُوا، وَلَوْ تَوَهَّمُوا عَدَمَ السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ لَقَالُوا لَا يَضُرُّنَا ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ أَوْلَى، لِأَنَّ السَّمَاءَ سَبَبُ الْأَرْزَاقِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ، وَفِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَالثِّمَارُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ [مَا] كَانَ الْعَيْشُ، كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى قَوْمٍ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَعَلَى قَوْمٍ الْمَائِدَةَ مِنَ السَّمَاءِ فَذَكَرَ الْأَظْهَرَ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ثَالِثُهَا: قَوْلُهُ رِزْقاً إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ مُنْعِمًا لِكَوْنِ تَكْذِيبِهِمْ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ فَإِنَّهُ يَكُونُ إِشَارَةً [لِلتَّكْذِيبِ] بِالْمُنْعِمِ وَهُوَ أَقْبَحُ مَا يَكُونُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قال: تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ق: 8] فَقَيَّدَ الْعَبْدَ بِكَوْنِهِ مُنِيبًا وَجَعَلَ خَلْقَهَا تَبْصِرَةً لِعِبَادِهِ الْمُخْلِصِينَ وَقَالَ: رِزْقاً لِلْعِبادِ مُطْلَقًا لِأَنَّ الرِّزْقَ حَصَلَ لِكُلِّ أَحَدٍ، غَيْرَ أَنَّ الْمُنِيبَ يَأْكُلُ ذَاكِرًا شَاكِرًا لِلْإِنْعَامِ، وَغَيْرَهُ يَأْكُلُ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ فَلَمْ يُخَصِّصِ الرِّزْقَ بِقَيْدٍ. الْمَسْأَلَةُ الثالثة: ذكر في هذه الآية أمور ثلاثة أيضا وهي إنبات الجنات والحب والنخل كَمَا ذَكَرَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ أُمُورًا ثَلَاثَةً، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْأُمُورَ الثلاثة في الآيتين المتقدمين مُتَنَاسِبَةٌ، فَهَلْ هِيَ كَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؟ نَقُولُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ الَّتِي يَبْقَى أَصْلُهَا سِنِينَ، وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى عَمَلِ عَامِلٍ وَالَّتِي لَا يَبْقَى أَصْلُهَا وَتَحْتَاجُ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى عَمَلِ عَامِلٍ، وَالَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا الْأَمْرَانِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ خَارِجًا عَنْهُ أَصْلًا كَمَا أَنَّ أُمُورَ الْأَرْضِ مُنْحَصِرَةٌ فِي ثَلَاثَةٍ: ابْتِدَاءٌ وَهُوَ الْمَدُّ، وَوَسَطٌ وَهُوَ النَّبَاتُ بِالْجِبَالِ الرَّاسِيَةِ، وَثَالِثُهَا هُوَ غَايَةُ الْكَمَالِ وَهُوَ الْإِنْبَاتُ وَالتَّزْيِينُ بِالزَّخَارِفِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً عطفا على فَأَنْبَتْنا بِهِ [ق: 9] وفهي بحثان:

الْأَوَّلُ: إِنْ قُلْنَا إِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِإِنْبَاتِ الزَّرْعِ وَإِنْزَالِ الْمَاءِ كَانَ لِإِمْكَانِ الْبَقَاءِ بِالرِّزْقِ فَقَوْلُهُ وَأَحْيَيْنا بِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْإِعَادَةِ كَمَا أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْبَقَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ الْخُرُوجُ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُكَ اسْتِدْلَالًا، وَإِنْزَالُ الْمَاءِ كَانَ لِبَيَانِ الْبَقَاءِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً. وَقَالَ: كَذلِكَ الْخُرُوجُ فَيَكُونُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْبَقَاءِ قَبْلَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِحْيَاءُ سَابِقٌ عَلَى الْإِبْقَاءِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنَ أَوَّلًا أَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى، ثُمَّ يُبَيِّنَ أَنَّهُ يُبْقِيهِمْ، نَقُولُ لَمَّا كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بالسموات وَالْأَرْضِ عَلَى الْإِعَادَةِ كَافِيًا بَعْدَ ذِكْرِ دَلِيلِ الْإِحْيَاءِ ذَكَرَ دَلِيلَ الْإِبْقَاءِ، ثُمَّ عَادَ وَاسْتَدْرَكَ فَقَالَ هَذَا الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى الْإِبْقَاءِ دَالٌّ عَلَى الْإِحْيَاءِ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ لِسَبْقِ دَلِيلَيْنِ قَاطِعَيْنِ فَبَدَأَ بِبَيَانِ الْبَقَاءِ وَقَالَ: فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ [ق: 9] ثُمَّ ثَنَّى بِإِعَادَةِ ذِكْرِ الْإِحْيَاءِ فَقَالَ: وَأَحْيَيْنا بِهِ وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ وَإِنْبَاتِ الزَّرْعِ لَا لِبَيَانِ إِمْكَانِ الْحَشْرِ فَقَوْلُهُ وَأَحْيَيْنا بِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِقَوْلِهِ فَأَنْبَتْنا بِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْإِنْبَاتِ لَكِنَّ الِاسْتِدْلَالَ لَمَّا كَانَ بِهِ عَلَى أَمْرَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ جَازَ الْعَطْفُ، تَقُولُ خَرَجَ لِلتِّجَارَةِ وَخَرَجَ لِلزِّيَارَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ خَرَجَ لِلتِّجَارَةِ وَذَهَبَ لِلتِّجَارَةِ إِلَّا إِذَا كَانَ الذَّهَابُ غَيْرَ الْخُرُوجِ فَنَقُولُ الْإِحْيَاءُ غَيْرُ إِنْبَاتِ الرِّزْقِ لِأَنَّ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ يَخْضَرُّ وَجْهُ الْأَرْضِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا أَنْوَاعٌ مِنَ الْأَزْهَارِ وَلَا يُتَغَذَّى بِهِ وَلَا يُقْتَاتُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِهِ زِينَةُ وَجْهِ الْأَرْضِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ لِأَنَّهُ يُوجَدُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَالزَّرْعُ وَالثَّمَرُ لَا يُوجَدَانِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْإِحْيَاءُ، فَإِنْ قِيلَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّ اخْضِرَارَ وَجْهِ الْأَرْضِ يَكُونُ قَبْلَ حُصُولِ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ، وَلِأَنَّهُ يُوجَدُ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِخِلَافِ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ، نَقُولُ لَمَّا كَانَ إِنْبَاتُ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ أَكْمَلَ نِعْمَةً قَدَّمَهُ فِي الذِّكْرِ. الثَّانِي: فِي قَوْلِهِ بَلْدَةً مَيْتاً نَقُولُ جَازَ إِثْبَاتُ التَّاءِ فِي الْمَيْتِ وَحَذْفُهَا عِنْدَ وَصْفِ الْمُؤَنَّثِ بِهَا، لِأَنَّ الْمَيْتَ تَخْفِيفٌ لِلْمَيِّتِ، وَالْمَيِّتُ فَيْعِلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ فَيَجُوزُ فِيهِ إِثْبَاتُ التَّاءِ لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ فِي الْفَعِيلِ بِمَعْنَى المفعول كقوله إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الْأَعْرَافِ: 56] فَإِنْ قِيلَ لِمَ سَوَّى بَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ فِي الْفَعِيلِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ؟ قُلْنَا لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ أَشَدُّ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى التمييز الْمَفْعُولِ الْمُذَكَّرِ وَالْمَفْعُولِ الْمُؤَنَّثِ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى وَنَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ، فَأَمَّا الْمَعْنَى فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا اللفظ فلأن المخالفة بين الفاعل والمفعول في الوزن والحرف أشد من المخالفة بين المفعول وَالْمَفْعُولِ لَهُ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ فِي الْفَعِيلِ لَمْ يَتَمَيَّزِ الْفَاعِلُ بِحَرْفٍ فَإِنَّ فَعِيلًا جَاءَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ كَالنَّصِيرِ وَالْبَصِيرِ وَبِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْكَسِيرِ وَالْأَسِيرِ، وَلَا يَتَمَيَّزُ بِحَرْفٍ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ إِلَّا الْأَقْوَى فَلَا يَتَمَيَّزُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ/ الْأَدْنَى، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ فَعِيلًا وُضِعَ لِمَعْنًى لَفْظِيٍّ، وَالْمَفْعُولَ وُضِعَ لِمَعْنًى حَقِيقِيٍّ فَكَأَنَّ الْقَائِلَ قَالَ اسْتَعْمَلُوا لَفْظَ الْمَفْعُولِ لِلْمَعْنَى الْفُلَانِيِّ، وَاسْتَعْمَلُوا لَفْظَ الْفَعِيلِ مَكَانَ لَفْظِ الْمَفْعُولِ فَصَارَ فَعِيلٌ كَالْمَوْضُوعِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْمَفْعُولُ كَالْمَوْضُوعِ لِلْمَعْنَى، وَلَمَّا كَانَ تَغَيُّرُ اللَّفْظِ تَابِعًا لِتَغَيُّرِ الْمَعْنَى تَغَيَّرَ الْمَفْعُولُ لِكَوْنِهِ بِإِزَاءِ الْمَعْنَى، وَلَمْ يَتَغَيَّرِ الْفَعِيلُ لِكَوْنِهِ بِإِزَاءِ اللَّفْظِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها [يس: 33] حَيْثُ أَثْبَتَ التَّاءَ هُنَاكَ؟ نَقُولُ الْأَرْضُ أَرَادَ بِهَا الْوَصْفَ فَقَالَ: الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ لِأَنَّ مَعْنَى الْفَاعِلِيَّةِ ظَاهِرٌ هُنَاكَ وَالْبَلْدَةُ الْأَصْلُ فِيهَا الْحَيَاةُ، لِأَنَّ الْأَرْضَ إِذَا صَارَتْ حَيَّةً صَارَتْ آهِلَةً، وَأَقَامَ بِهَا النَّاسُ وَعَمَّرُوهَا فَصَارَتْ بَلْدَةً فَأَسْقَطَ التَّاءَ لِأَنَّ مَعْنَى الْفَاعِلِيَّةِ ثَبَتَ

[سورة ق (50) : الآيات 12 إلى 14]

فِيهَا وَالَّذِي بِمَعْنَى الْفَاعِلِ لَا يَثْبُتُ فِيهِ التَّاءُ، وَتَحْقِيقُ هَذَا قَوْلُهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ [سَبَأٍ: 15] حَيْثُ أَثْبَتَ التَّاءَ حَيْثُ ظَهَرَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، وَلَمْ يَثْبُتْ حَيْثُ لَمْ يَظْهَرْ وَهَذَا بَحْثٌ عَزِيزٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ الْخُرُوجُ أَيْ كَالْإِحْيَاءِ الْخُرُوجُ فَإِنْ قِيلَ الْإِحْيَاءُ يُشَبَّهُ بِهِ الْإِخْرَاجُ لَا الْخُرُوجُ فَنَقُولُ تَقْدِيرُهُ أَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً فَتَشَقَّقَتْ وَخَرَجَ مِنْهَا النَّبَاتُ كَذَلِكَ تَشَقَّقُ وَيَخْرُجُ مِنْهَا الْأَمْوَاتُ، وَهَذَا يُؤَكِّدُ قَوْلَنَا الرَّجْعُ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ فِي قَوْلِهِ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: 3] لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لَهُمْ مَا اسْتَبْعَدُوهُ فَلَوِ اسْتَبْعَدُوا الرَّجْعَ الَّذِي هُوَ مِنَ الْمُتَعَدِّي لَنَاسَبَ أَنْ يَقُولَ، كَذَلِكَ الْإِخْرَاجُ، وَلَمَّا قَالَ: كَذلِكَ الْخُرُوجُ فُهِمَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الرُّجُوعَ فَقَالَ: كَذلِكَ الْخُرُوجُ نَقُولُ فِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا الرَّجْعَ الَّذِي هُوَ مِنَ الْمُتَعَدِّي بِمَعْنَى الْإِخْرَاجِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ الْخُرُوجَ وَفِيهِمَا مُبَالِغَةٌ تَنْبِيهًا عَلَى بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّهَا مُسْتَغْنِيَةٌ عَنِ الْبَيَانِ، وَوَجْهُهَا هُوَ أَنَّ الرَّجْعَ وَالْإِخْرَاجَ كَالسَّبَبِ لِلرُّجُوعِ وَالْخُرُوجِ، وَالسَّبَبُ إِذَا انْتَفَى يَنْتَفِي الْمُسَبَّبُ جَزْمًا، وَإِذَا وُجِدَ قَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الْمُسَبَّبُ لِمَانِعٍ تَقُولُ كَسَرْتُهُ فَلَمْ يَنْكَسِرْ وَإِنْ كَانَ مَجَازًا وَالْمُسَبَّبُ إِذَا وُجِدَ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُهُ وَإِذَا انْتَفَى لَا يَنْتَفِي السَّبَبُ لِمَا تَقَدَّمَ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَهُمْ أَنْكَرُوا وُجُودَ السَّبَبِ وَنَفَوْهُ وَيَنْتَفِي الْمُسَبَّبُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ جَزْمًا فَبَالَغُوا وَأَنْكَرُوا الْأَمْرَ جَمِيعًا، لِأَنَّ نَفْيَ السَّبَبِ نَفْيُ الْمُسَبَّبِ، فَأَثْبَتَ اللَّهُ الْأَمْرَيْنِ بِالْخُرُوجِ كَمَا نَفُوَا الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا بِنَفْيِ الإخراج. [سورة ق (50) : الآيات 12 الى 14] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) ذَكَرَ الْمُكَذِّبِينَ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِحَالِهِمْ وَوَبَالِهِمْ وَأَنْذَرَهُمْ بِإِهْلَاكِهِمْ وَاسْتِئْصَالِهِمْ، وَتَفْسِيرُهُ ظَاهِرٌ وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَنْبِيهٌ بِأَنَّ حَالَهُ كَحَالِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الرُّسُلِ، كُذِّبُوا وَصَبَرُوا فَأَهْلَكَ اللَّهُ/ مُكَذِّبِيهِمْ وَنَصَرَهُمْ وَأَصْحابُ الرَّسِّ فِيهِمْ وُجُوهٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ هُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُمُ الَّذِينَ جَاءَهُمْ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى وَهُمْ قَوْمُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُمْ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، وَالرَّسُّ مَوْضِعٌ نُسِبُوا إِلَيْهِ أَوْ فِعْلٌ وَهُوَ حَفْرُ الْبِئْرِ يُقَالُ رَسَّ إِذَا حَفَرَ بِئْرًا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ ذلك، وقال هاهنا إِخْوانُ لُوطٍ وَقَالَ: قَوْمُ نُوحٍ لِأَنَّ لُوطًا كَانَ مُرْسَلًا إِلَى طَائِفَةٍ مِنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَارِفَ لُوطٍ، وَنُوحٌ كَانَ مُرْسَلًا إِلَى خَلْقٍ عَظِيمٍ، وَقَالَ: فِرْعَوْنُ وَلَمْ يَقُلْ قَوْمُ فِرْعَوْنَ، وَقَالَ: وَقَوْمُ تُبَّعٍ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ هُوَ الْمُغْتَرَّ الْمُسْتَخِفَّ بِقَوْمِهِ الْمُسْتَبِدَّ بِأَمْرِهِ، وَتُبَّعٌ كَانَ مُعْتَمِدًا بِقَوْمِهِ فَجَعَلَ الِاعْتِبَارَ لِفِرْعَوْنَ، وَلَمْ يَقُلْ إِلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ. يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ كَذَّبَ رَسُولَهُ فَهُمْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَاللَّامُ حِينَئِذٍ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ وَثَانِيهِمَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ هُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ كَذَّبَ جَمِيعَ الرُّسُلِ وَاللَّامُ حِينَئِذٍ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُكَذِّبَ لِلرَّسُولِ مُكَذِّبٌ لِكُلِّ رَسُولٍ وَثَانِيهِمَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ الْمَذْكُورِينَ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلرِّسَالَةِ وَالْحَشْرِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَوْلُهُ فَحَقَّ وَعِيدِ أَيْ مَا وَعَدَ اللَّهُ مِنْ نُصْرَةِ الرسل عليهم وإهلاكهم. ثم قال تعالى:

[سورة ق (50) : آية 15]

[سورة ق (50) : آية 15] أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِدَلَائِلِ الْأَنْفُسِ، لِأَنَّا ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ الدَّلَائِلَ آفَاقِيَّةٌ وَنَفْسِيَّةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فُصِّلَتْ: 53] وَلَمَّا قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى دَلَائِلَ الْآفَاقِ عَطَفَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِحَرْفِ الْوَاوِ فَقَالَ: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها [الحجر: 19] وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ ذَكَرَ الدَّلِيلَ النَّفْسِيَّ، وَعَلَى هَذَا فِيهِ لَطَائِفُ لَفْظِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ. أَمَّا اللَّفْظِيَّةُ فَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى فِي الدَّلَائِلِ الْآفَاقِيَّةِ عَطَفَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِحَرْفِ الْوَاوِ فَقَالَ: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَقَالَ: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً [ق: 9] ثُمَّ فِي الدَّلِيلِ النَّفْسِيِّ ذَكَرَ حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ وَالْفَاءُ بَعْدَهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تِلْكَ الدَّلَائِلَ مِنْ جِنْسٍ، وَهَذَا مِنْ جِنْسٍ، فَلَمْ يَجْعَلْ هَذَا تَبَعًا لِذَلِكَ، وَمِثْلُ هَذَا مُرَاعًى فِي أَوَاخِرِ يس، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ [يس: 77] ثُمَّ لَمْ يَعْطِفِ الدليل الآفاقي هاهنا؟ نقول والله أعلم هاهنا وُجِدَ مِنْهُمُ الِاسْتِبْعَادُ بِقَوْلِ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: 3] فاستدل بالأكبر وهو خلق السموات، ثُمَّ نَزَلَ كَأَنَّهُ قَالَ لَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالِ بَلْ فِي أَنْفُسِهِمْ دَلِيلُ جَوَازِ ذَلِكَ، وَفِي سُورَةِ يس لَمْ يَذْكُرِ اسْتِبْعَادَهُمْ فَبَدَأَ بِالْأَدْنَى وَارْتَقَى إِلَى الْأَعْلَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ هُوَ خلق السموات، لِأَنَّهُ هُوَ الْخَلْقُ الْأَوَّلُ وَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ [ق: 6] ثُمَّ قَالَ: أَفَعَيِينا بِهَذَا الْخَلْقِ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ [الْأَحْقَافِ: 33] وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [ق: 16] فَهُوَ كَالِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ بِحَرْفِ الْوَاوِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخَلْقِ وَهُوَ بِنَاءُ السَّمَاءِ وَمَدُّ الْأَرْضِ وَتَنْزِيلُ الْمَاءِ وَإِنْبَاتُ الْجَنَّاتِ، وَفِي تَعْرِيفِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَتَنْكِيرِ خَلْقٍ جَدِيدٍ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مَا عَلَيْهِ الْأَمْرَانِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ عَرَفَهُ كُلُّ وَاحِدٍ وَعُلِمَ لِنَفْسِهِ، وَالْخَلْقُ الْجَدِيدُ لَمْ يُعْلَمْ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ كُلُّ أَحَدٍ وَلِأَنَّ الْكَلَامَ عَنْهُمْ وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِالْخَلْقِ الْجَدِيدِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ لِبَيَانِ إِنْكَارِهِمْ لِلْخَلْقِ الثَّانِي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا أَيَكُونُ لَنَا خَلْقٌ مَا عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ لَهُ بِالْكُلِّيَّةِ؟ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ تَقْدِيرُهُ مَا عَيِينَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مَنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ، يَعْنِي لَا مَانِعَ مِنْ جِهَةِ الْفَاعِلِ، فَيَكُونُ مِنْ جَانِبِ الْمَفْعُولِ وَهُوَ الْخَلْقُ الْجَدِيدُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ مُحَالٌ وَامْتِنَاعُ وُقُوعِ الْمُحَالِ بِالْفَاعِلِ لَا يُوجِبُ عَجْزًا فِيهِ، وَيُقَالُ لِلْمَشْكُوكِ فِيهِ مُلْتَبِسٌ كَمَا يُقَالُ لِلْيَقِينِ إِنَّهُ ظَاهِرٌ وَوَاضِحٌ، ثُمَّ إِنَّ اللَّبْسَ يُسْنَدُ إِلَى الْأَمْرِ كَمَا قُلْنَا: إِنَّهُ يُقَالُ إِنَّ هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ، وهذا أمر ملتبس وهاهنا أَسْنَدَ الْأَمْرَ إِلَيْهِمْ حَيْثُ قَالَ: هُمْ فِي لَبْسٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَكُونُ وَرَاءَ حِجَابٍ وَالنَّاظِرَ إِلَيْهِ بَصِيرٌ فَيَخْتَفِي الْأَمْرُ مِنْ جَانِبِ الرائي فقال هاهنا بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ ومن فِي قَوْلِهِ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ يُفِيدُ فَائِدَةً وَهِيَ ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ كَأَنَّ اللَّبْسَ كَانَ حَاصِلًا لهم من ذلك. [سورة ق (50) : آية 16] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِيهِ وَجْهَانِ:

[سورة ق (50) : الآيات 17 إلى 18]

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ اسْتِدْلَالٍ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ، وهذا على قولنا أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ [ق: 15] مَعْنَاهُ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ تَتْمِيمَ بَيَانِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُنَا (الْخَلْقُ الْأَوَّلُ) هُوَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَمْرٍ يُوجِبُ عَوْدَهُمْ عَنْ مَقَالِهِمْ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ كَانَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ وَيَعْلَمُ ذَوَاتَ صُدُورِهِمْ. وَقَوْلُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. بَيَانٌ لِكَمَالِ عِلْمِهِ، وَالْوَرِيدُ الْعِرْقُ الَّذِي هُوَ مَجْرَى الدَّمِ يَجْرِي فِيهِ وَيَصِلُ إِلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ وَاللَّهُ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ، لِأَنَّ الْعِرْقَ تَحْجُبُهُ أَجْزَاءُ اللَّحْمِ وَيَخْفَى عَنْهُ، وَعِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى/ لَا يُحْجَبُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ بِتَفَرُّدِ قُدْرَتِنَا فِيهِ يَجْرِي فِيهِ أَمْرُنَا كَمَا يَجْرِي الدَّمُ فِي عروقه. ثم قال تعالى: [سورة ق (50) : الآيات 17 الى 18] إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) إِذْ ظَرْفٌ وَالْعَامِلُ فِيهِ مَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ غَيْرُ مَتْرُوكٍ سُدًى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا أَقَامَ كِتَابًا عَلَى أَمْرٍ اتَّكَلَ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ غَفْلَةٌ عَنْهُ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَتَّكِلُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا كَانَ عِنْدَ إِقَامَةِ الْكِتَابِ لَا يَبْعُدُ عَنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ وَلَا يَغْفَلُ عَنْهُ فَهُوَ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ وَأَشَدُّ إِقْبَالًا عَلَيْهِ، فَنَقُولُ: اللَّهُ فِي وَقْتِ أَخْذِ الْمَلَكَيْنِ مِنْهُ فِعْلَهُ وَقَوْلَهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ عرقه المخالط له، فعند ما يَخْفَى عَلَيْهِمَا شَيْءٌ يَكُونُ حِفْظُنَا بِحَالِهِ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ التَّلَقِّي مِنَ الِاسْتِقْبَالِ يُقَالُ فُلَانٌ يَتَلَقَّى الرَّكْبَ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ وَقْتَ مَا يَتَلَقَّاهُ الْمُتَلَقِّيَانِ يَكُونُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ قَعِيدٌ، فَالْمُتَلَقِّيَانِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُمَا الْمَلَكَانِ اللَّذَانِ يَأْخُذَانِ رُوحَهُ مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ أَحَدُهُمَا يَأْخُذُ أَرْوَاحَ الصَّالِحِينَ وَيَنْقُلُهَا إِلَى السُّرُورِ وَالْحُبُورِ إِلَى يَوْمِ النُّشُورِ وَالْآخَرُ يَأْخُذُ أَرْوَاحَ الطَّالِحِينَ وَيَنْقُلُهَا إِلَى الْوَيْلِ وَالثُّبُورِ إِلَى يَوْمِ الْحَشْرِ مِنَ الْقُبُورِ، فَقَالَ تَعَالَى وَقْتَ تَلَقِّيهِمَا وَسُؤَالِهِمَا إِنَّهُ مِنْ أَيِّ الْقَبِيلَيْنِ يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ قَعِيدٌ عَنِ الْيَمِينِ وَقَعِيدٌ عَنِ الشِّمَالِ، يَعْنِي الْمَلَكَانِ يَنْزِلَانِ وَعِنْدَهُ مَلَكَانِ آخَرَانِ كَاتِبَانِ لِأَعْمَالِهِ يَسْأَلَانِهِمَا مِنْ أَيِّ القيلين كَانَ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ يَأْخُذُ رُوحَهُ مَلَكُ السُّرُورِ، وَيَرْجِعُ إِلَى الْمَلَكِ الْآخَرِ مَسْرُورًا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَسْرُورًا مِمَّنْ يَأْخُذُهَا هُوَ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الطَّالِحِينَ يَأْخُذُهَا مَلَكُ الْعَذَابِ وَيَرْجِعُ إِلَى الْآخَرِ مَحْزُونًا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَأْخُذُهَا هُوَ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: 21] فَالشَّهِيدُ هُوَ الْقَعِيدُ وَالسَّائِقُ هُوَ الْمُتَلَقِّي يَتَلَقَّى أَخْذَ رُوحِهِ مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ فَيَسُوقُهُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَقْتَ الْإِعَادَةِ. وَهَذَا أَعْرَفُ الْوَجْهَيْنِ وَأَقْرَبُهُمَا إِلَى الْفَهْمِ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ جَلَسْتُ عَنْ يَمِينِ فُلَانٍ فِيهِ إِنْبَاءٌ عَنْ تَنَحٍّ مَا عَنْهُ احْتِرَامًا لَهُ وَاجْتِنَابًا مِنْهُ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] الْمَخَالِطِ لِأَجْزَائِهِ الْمُدَاخِلِ فِي أَعْضَائِهِ وَالْمَلَكُ مُتَنَحٍّ عنه فيكون علنا بِهِ أَكْمَلَ مِنْ عِلْمِ الْكَاتِبِ لَكِنَّ مَنْ أَجْلَسَ عِنْدَهُ أَحَدًا لِيَكْتُبَ أَفْعَالَهُ وَأَقْوَالَهُ وَيَكُونُ الْكَاتِبُ نَاهِضًا خَبِيرًا وَالْمَلِكُ الَّذِي أَجْلَسَ الرَّقِيبَ يَكُونُ جَبَّارًا عَظِيمًا فَنَفْسُهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْكَاتِبِ بِكَثِيرٍ، وَالْقَعِيدُ هُوَ الْجَلِيسُ كَمَا أَنَّ قعد بمعنى جلس. [سورة ق (50) : آية 19] وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)

[سورة ق (50) : آية 20]

أَيْ شِدَّتُهُ الَّتِي تُذْهِبُ الْعُقُولَ وَتُذْهِلُ الْفِطَنَ، وَقَوْلُهُ بِالْحَقِّ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَوْتَ فَإِنَّهُ حَقٌّ، كَأَنَّ شِدَّةَ الْمَوْتِ تُحْضِرُ الْمَوْتَ وَالْبَاءُ حِينَئِذٍ لِلتَّعْدِيَةِ، يُقَالُ جاء فلان بكذا أي أحضره، وثانيها: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحَقِّ مَا أَتَى بِهِ مِنَ الدِّينِ لِأَنَّهُ حَقٌّ وَهُوَ يَظْهَرُ عِنْدَ شِدَّةِ الْمَوْتِ وَمَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ لَكِنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِلَّا مِمَّنْ سَبَقَ مِنْهُ ذَلِكَ وَآمَنَ بِالْغَيْبِ، وَمَعْنَى الْمَجِيءِ بِهِ هُوَ أَنَّهُ يُظْهِرُهُ، كَمَا يُقَالُ الدِّينُ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ أَظْهَرَهُ، وَلَمَّا كَانَتْ شِدَّةُ الْمَوْتِ مُظْهِرَةً لَهُ قِيلَ فِيهِ جَاءَ بِهِ، وَالْبَاءُ حِينَئِذٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا مُلْبِسَةً يُقَالُ جِئْتُكَ بِأَمَلٍ فَسِيحٍ وَقَلْبٍ خَاشِعٍ، وَقَوْلُهُ ذلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْمَوْتِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْحَقِّ، وَحَادَ عَنِ الطَّرِيقِ أَيْ مَالَ عَنْهُ، وَالْخِطَابُ قِيلَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُنْكِرٌ، وَقِيلَ مَعَ الْكَافِرِينَ وَهُوَ أَقْرَبُ، وَالْأَقْوَى أَنْ يُقَالَ هُوَ خِطَابٌ عَامٌّ مَعَ السَّامِعِ كَأَنَّهُ يَقُولُ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أيها السامع. [سورة ق (50) : آية 20] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) عَطْفٌ على قوله وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ [ق: 19] وَالْمُرَادُ مِنْهُ إِمَّا النَّفْخَةُ الْأُولَى فَيَكُونُ بَيَانًا لِمَا يَكُونُ عِنْدَ مَجِيءِ سَكْرَةِ الْمَوْتِ أَوِ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ أَظْهَرُ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ بِالنَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ أَلْيَقُ وَيَكُونُ قَوْلُهُ وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ إِشَارَةً إِلَى الْإِمَاتَةِ، وَقَوْلُهُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ إِشَارَةً إِلَى الْإِعَادَةِ وَالْإِحْيَاءِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي مِنْ قَوْلِهِ وَنُفِخَ أَيْ وَقْتُ ذَلِكَ النَّفْخِ يَوْمَ الْوَعِيدِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ يَوْمَ لَوْ كَانَ مَنْصُوبًا لَكَانَ مَا ذَكَرْنَا ظَاهِرًا وَأَمَّا رَفْعُ يَوْمٍ فَيُفِيدُ أَنَّ ذَلِكَ نَفْسُ الْيَوْمِ، وَالْمَصْدَرُ لَا يَكُونُ نَفْسَ الزَّمَانِ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي الزَّمَانِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الزَّمَانِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ وَنُفِخَ لِأَنَّ الْفِعْلَ كَمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ يَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ ذَلِكَ الزَّمَانُ يَوْمُ الْوَعِيدِ، وَالْوَعِيدُ هُوَ الَّذِي أَوْعَدَ بِهِ مِنَ الْحَشْرِ وَالْإِيتَاءِ وَالْمُجَازَاةِ. [سورة ق (50) : آية 21] وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) قَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ السَّائِقَ هُوَ الَّذِي يَسُوقُهُ إِلَى الْمَوْقِفِ وَمِنْهُ إِلَى مَقْعَدِهِ وَالشَّهِيدُ هُوَ الْكَاتِبُ، وَالسَّائِقُ لَازِمٌ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ أَمَّا الْبَرُّ فَيُسَاقُ/ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَمَّا الْفَاجِرُ فَإِلَى النَّارِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الزُّمَرِ: 71] وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [الزمر: 73] . [سورة ق (50) : آية 22] لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا إِمَّا عَلَى تَقْدِيرٍ يُقَالُ لَهُ أَوْ قِيلَ لَهُ لَقَدْ كُنْتَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها [الزُّمَرِ: 73] وَقَالَ تَعَالَى: قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ [الزُّمَرِ: 72] وَالْخِطَابُ عَامٌّ أَمَّا الْكَافِرُ فَمَعْلُومُ الدُّخُولِ فِي هَذَا الْحُكْمِ وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَإِنَّهُ يَزْدَادُ عِلْمًا وَيَظْهَرُ لَهُ مَا كَانَ مَخْفِيًّا عَنْهُ وَيَرَى عِلْمَهُ يَقِينًا رَأْيَ الْمُعْتَبَرِ يَقِينًا فَيَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الْأَحْوَالِ وَشِدَّةِ الْأَهْوَالِ كَالْغَافِلِ وَفِيهِ الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق: 19] وَالْغَفْلَةُ شَيْءٌ مِنَ الْغِطَاءِ كَاللَّبْسِ وَأَكْثَرَ مِنْهُ لِأَنَّ الشَّاكَّ يَلْتَبِسُ الْأَمْرُ عَلَيْهِ وَالْغَافِلَ يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْكُلِّيَّةِ مَحْجُوبًا قَلْبُهُ عَنْهُ وَهُوَ الْغُلْفُ.

[سورة ق (50) : الآيات 23 إلى 24]

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ أَيْ أَزَلْنَا عَنْكَ غَفْلَتَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وَكَانَ مِنْ قَبْلُ كَلِيلًا، وَقَرِينُكَ حَدِيدًا، وَكَانَ فِي الدُّنْيَا خليلا، وإليه الإشارة بقوله تعالى: [سورة ق (50) : الآيات 23 الى 24] وَقالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) وَفِي الْقَرِينِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا الشَّيْطَانُ الَّذِي زَيَّنَ الْكُفْرَ لَهُ وَالْعِصْيَانَ وَهُوَ الَّذِي قَالَ تَعَالَى فِيهِ وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ [فُصِّلَتْ: 25] وَقَالَ تَعَالَى: نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزُّخْرُفِ: 36] وقال تعالى: فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزُّخْرُفِ: 38] فَالْإِشَارَةُ بِهَذَا الْمَسُوقِ إِلَى الْمُرْتَكِبِ الْفُجُورَ وَالْفُسُوقَ، وَالْعَتِيدُ مَعْنَاهُ الْمُعَدُّ لِلنَّارِ وَجُمْلَةُ الْآيَةِ مَعْنَاهَا أَنَّ الشَّيْطَانَ يَقُولُ هَذَا الْعَاصِي شَيْءٌ هُوَ عِنْدِي مُعَدٌّ لِجَهَنَّمَ أَعْدَدْتُهُ بِالْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ، والوجه الثاني وَقالَ قَرِينُهُ أَيِ الْقَعِيدُ الشَّهِيدُ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ وَهُوَ الْمَلَكُ وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى كِتَابِ أَعْمَالِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا يكون له مِنَ الْمَكَانَةِ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ الْقَوْلَ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ فَيَكُونُ عَتِيدٌ صِفَتُهُ، وَثَانِيهُمَا أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، فَيَكُونُ عَتِيدٌ مُحْتَمِلًا الثَّلَاثَةَ أَوْجُهٍ «1» أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ وَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ مَا لَدَيَّ مَعْنَاهُ هَذَا الَّذِي هُوَ لَدَيَّ وَهُوَ عَتِيدٌ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ عَتِيدٌ هُوَ الْخَبَرُ لَا غَيْرُ، وما لَدَيَّ يَقَعُ كَالْوَصْفِ الْمُمَيِّزِ لِلْعَتِيدِ عَنْ غَيْرِهِ كَمَا تَقُولُ هَذَا الَّذِي عِنْدَ زَيْدٍ وَهَذَا الَّذِي يَجِيئُنِي عَمْرٌو فَيَكُونُ الَّذِي عِنْدِي وَالَّذِي يَجِيئُنِي لِتَمْيِيزِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ عَنْ غَيْرِهِ ثُمَّ يُخْبِرُ عَنْهُ بِمَا بَعْدَهُ ثُمَّ يُقَالُ لِلسَّائِقِ أَوِ الشَّهِيدِ أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ فَيَكُونُ هُوَ أَمْرًا لِوَاحِدٍ، وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ثَنَّى تَكْرَارَ الْأَمْرِ كَمَا أَلْقِ أَلْقِ، وَثَانِيهِمَا عَادَةُ الْعَرَبِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ الْكَفَّارُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْكُفْرَانِ فَيَكُونَ بِمَعْنَى كَثِيرِ/ الْكُفْرَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْكُفْرِ، فَيَكُونَ بِمَعَنَى شَدِيدِ الْكُفْرِ، وَالتَّشْدِيدُ فِي لَفْظَةِ فَعَّالٍ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةٍ فِي الْمَعْنَى، وَالْعَنِيدُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مِنْ عَنَدَ عُنُودًا وَمِنْهُ الْعِنَادُ، فَإِنْ كَانَ الْكَفَّارُ مِنَ الْكُفْرَانِ، فَهُوَ أنكر نعم الله مع كثرتها. [سورة ق (50) : آية 25] مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ. فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: كَثِيرُ الْمَنْعِ لِلْمَالِ الْوَاجِبِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْكُفْرِ، فَهُوَ أَنْكَرَ دَلَائِلَ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ مَعَ قُوَّتِهَا وَظُهُورِهَا، فَكَانَ شَدِيدَ الْكُفْرِ عَنِيدًا حَيْثُ أَنْكَرَ الْأَمْرَ اللَّائِحَ وَالْحَقَّ الْوَاضِحَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْكُفْرَانِ لِوُجُودِ الْكُفْرَانِ مِنْهُ عِنْدَ كُلِّ نِعْمَةٍ عَنِيدٍ يُنْكِرُهَا مَعَ كَثْرَتِهَا عَنِ الْمُسْتَحِقِّ الطَّالِبِ، وَالْخَيْرُ هُوَ الْمَالُ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فُصِّلَتْ: 6، 7] حَيْثُ بَدَأَ بِبَيَانِ الشِّرْكِ، وَثَنَّى بِالِامْتِنَاعِ مِنْ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَعَلَى هَذَا ففيه مناسبة شديدة إذا جعلنا الكفار من الْكُفْرَانِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: كَفَرَ أَنْعُمَ اللَّهِ تَعَالَى، ولم يؤد منها شيئا لشكر أنعمه ثانيهما: شَدِيدُ الْمَنْعِ مِنَ الْإِيمَانِ فَهُوَ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ وَهُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مَحْضٌ مِنْ أن

_ (1) يلاحظ أن المفسر لم يذكر إلا وجهين، ولعل الوجه الثالث أن يكون بدلا من اسم الإشارة وما لَدَيَّ هو الخبر.

[سورة ق (50) : آية 26]

يَدْخُلَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ مُنَاسَبَةٌ شَدِيدَةٌ إِذَا جَعَلْنَا الْكَفَّارَ مِنَ الْكُفْرِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: كَفَرَ بِاللَّهِ، وَلَمْ يَقْتَنِعْ بِكُفْرِهِ حَتَّى مَنَعَ الْخَيْرَ مِنَ الْغَيْرِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مُعْتَدٍ. فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مُعْتَدٍ مُرَتَّبًا عَلَى مَنَّاعٍ بِمَعْنَى مَنَّاعِ الزَّكَاةِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ لَمْ يُؤَدِّ الْوَاجِبَ، وَتَعَدَّى ذَلِكَ حَتَّى أَخَذَ الْحَرَامَ أَيْضًا بِالرِّبَا وَالسَّرِقَةِ، كَمَا كَانَ عَادَةَ الْمُشْرِكِينَ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مُعْتَدٍ مُرَتَّبًا عَلَى مَنَّاعٍ بِمَعْنَى مَنْعِ الْإِيمَانِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: مَنَعَ الْإِيمَانَ وَلَمْ يَقْنَعْ بِهِ حَتَّى تَعَدَّاهُ، وَأَهَانَ مَنْ آمَنَ وَآذَاهُ، وَأَعَانَ مَنْ كَفَرَ وَآوَاهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مُرِيبٍ. فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: ذُو رَيْبٍ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِنَا: الْكَفَّارُ كَثِيرُ الْكُفْرَانِ، وَالْمَنَّاعُ مَانِعُ الزَّكَاةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يُعْطِي الزَّكَاةَ لِأَنَّهُ فِي رَيْبٍ مِنَ الْآخِرَةِ، وَالثَّوَابِ فَيَقُولُ: لَا أُقَرِّبُ مَالًا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَثَانِيهِمَا: مُرِيبٍ يُوقِعُ الْغَيْرَ فِي الرَّيْبِ بِإِلْقَاءِ الشُّبْهَةِ، وَالْإِرَابَةُ جَاءَتْ بِالْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا، وَفِي الْآيَةِ تَرْتِيبٌ آخَرُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: هَذَا بَيَانُ أَحْوَالِ الْكُفْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَإِلَى الْيَوْمِ الْآخِرِ، فَقَوْلُهُ كَفَّارٍ عَنِيدٍ إِشَارَةٌ إِلَى حَالِهِ مَعَ اللَّهِ يَكْفُرُ بِهِ وَيُعَانِدُ آيَاتِهِ، وَقَوْلُهُ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ إِشَارَةٌ إِلَى حَالِهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، فَيَمْنَعُ النَّاسَ مِنَ اتِّبَاعِهِ، وَمِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ، وَيَتَعَدَّى بِالْإِيذَاءِ وَكَثْرَةِ الْهُذَاءِ، وَقَوْلُهُ مُرِيبٍ إِشَارَةٌ إِلَى حَالِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْيَوْمِ الْآخِرِ يَرِيبُ فِيهِ وَيَرْتَابُ، وَلَا يَظُنُّ أَنَّ السَّاعَةَ قَائِمَةٌ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلْقِيا/ فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ يوجب أن يكون الإلقاء خاص بِمَنِ اجْتَمَعَ فِيهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ بِأَسْرِهَا، وَالْكُفْرُ كَافٍ فِي إِيرَاثِ الْإِلْقَاءِ فِي جَهَنَّمَ وَالْأَمْرِ بِهِ، فَنَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْوَصْفَ الْمُمَيِّزَ، كَمَا يُقَالُ: أَعْطِ الْعَالِمَ الزَّاهِدَ، بَلِ الْمُرَادُ الْوَصْفُ الْمُبَيِّنُ بِكَوْنِ الْمَوْصُوفِ مَوْصُوفًا بِهِ إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَدْحِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الذَّمِّ، كَمَا يُقَالُ: هَذَا حَاتِمٌ السَّخِيُّ، فَقَوْلُهُ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ يُفِيدُ أَنَّ الْكَفَّارَ عَنِيدٌ وَمَنَّاعٌ، فَالْكَفَّارُ كَافِرٌ، لِأَنَّ آيَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ ظَاهِرَةٌ، وَنِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ وَافِرَةٌ، وَعَنِيدٌ وَمَنَّاعٌ لِلْخَيْرِ، لِأَنَّهُ يَمْدَحُ دِينَهُ وَيَذُمُّ دِينَ الْحَقِّ فَهُوَ يَمْنَعُ، وَمُرِيبٌ لِأَنَّهُ شَاكٌّ فِي الْحَشْرِ، فَكُلُّ كَافِرٍ فهو موصوف بهذه الصفات. وقوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 26] الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [ق: 24] ثَانِيهَا: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كَأَنَّهُ قَالَ: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) أَيْ وَالَّذِي جَعَلَ مَعَ الله إلها آخر فألقياه بعد ما أَلْقَيْتُمُوهُ فِي جَهَنَّمَ فِي عَذَابٍ شَدِيدٍ مِنْ عذاب جهنم. ثم قال تعالى: [سورة ق (50) : آية 27] قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) وَهُوَ جَوَابٌ لِكَلَامٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّ الْكَافِرَ حِينَمَا يُلْقَى فِي النَّارِ يَقُولُ: رَبَّنَا أَطْغَانِي شَيْطَانِي، فَيَقُولُ الشَّيْطَانُ: رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ [ق: 28] لأن الِاخْتِصَامُ يَسْتَدْعِي كَلَامًا مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَحِينَئِذٍ هَذَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي ص قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ [ص: 60]

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ إِلَى أَنْ قَالَ: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: 61، 64] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُرَادُ بِالْقَرِينِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ هُوَ الشَّيْطَانُ لَا الْمَلَكُ الَّذِي هُوَ شَهِيدٌ وَقَعِيدٌ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِهَذَا. وَقَالَ غَيْرُهُ، الْمُرَادُ الْمَلَكُ لَا الشَّيْطَانُ، وَهَذَا يَصْلُحُ دَلِيلًا لِمَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الشَّيْطَانَ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ هَذَا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق: 23] معناه هذا الشخص عندي عتيد متعد لِلنَّارِ أَعْتَدْتُهُ بِإِغْوَائِي، فَإِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ صَرَّحَ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ بِهَذِهِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِ أَعْتَدْتُهُ وَلِلزَّمَخْشَرِيِّ أَنْ يَقُولَ الْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَقُولُ أَعْتَدْتُهُ بِمَعْنَى زَيَّنْتُ لَهُ الْأَمْرَ وَمَا أَلْجَأْتُهُ فَيَصِحُّ الْقَوْلَانِ مِنَ الشَّيْطَانِ وَثَانِيهِمَا: أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى حَالَيْنِ: فَفِي الْحَالَةِ/ الْأُولَى إِنَّمَا فَعَلْتُ بِهِ ذَلِكَ إِظْهَارًا لِلِانْتِقَامِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَتَصْحِيحًا لِمَا قَالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 82] ثُمَّ إِذَا رَأَى الْعَذَابَ وَأَنَّهُ مَعَهُ مُشْتَرِكٌ وَلَهُ عَلَى الْإِغْوَاءِ عَذَابٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ [ص: 84، 85] فَيَقُولُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ فَيَرْجِعُ عَنْ مَقَالَتِهِ عِنْدَ ظُهُورِ الْعَذَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قال هاهنا قالَ قَرِينُهُ مِنْ غَيْرِ وَاوٍ، وَقَالَ فِي الآية الأولى وَقالَ قَرِينُهُ [ق: 23] بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ الْإِشَارَةَ وَقَعَتْ إِلَى مَعْنَيَيْنِ مُجْتَمِعَيْنِ، وَأَنَّ كُلَّ نَفْسٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تَجِيءُ وَمَعَهَا سَائِقٌ، وَيَقُولُ الشَّهِيدُ ذَلِكَ الْقَوْلَ، وَفِي الثَّانِي لَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ مَعْنَيَانِ مُجْتَمِعَانِ حَتَّى يُذْكَرَ بِالْوَاوِ، وَالْفَاءُ في قوله فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ [ق: 26] لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ تَعَالَى: قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ مُنَاسَبَةً مُقْتَضِيَةً لِلْعَطْفِ بِالْوَاوِ. الْمَسْأَلَةُ الثالثة: القائل هاهنا وَاحِدٌ، وَقَالَ رَبَّنا وَلَمْ يَقُلْ رَبِّ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ مَعَ كَوْنِ الْقَائِلِ وَاحِدًا، قَالَ رَبِّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الْأَعْرَافِ: 143] وَقَوْلِ نُوحٍ رَبِّ اغْفِرْ لِي [نوح: 28] وقوله تعالى: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ [يوسف: 33] وقوله قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ [التَّحْرِيمِ: 11] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ص: 79] نَقُولُ فِي جَمِيعِ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ الْقَائِلُ طَالِبٌ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ الطَّالِبُ: يَا رَبِّ عَمِّرْنِي وَاخْصُصْنِي وَأَعْطِنِي كَذَا، وَإِنَّمَا يَقُولُ: أَعْطِنَا لِأَنَّ كَوْنَهُ رَبًّا لَا يُنَاسِبُ تَخْصِيصَ الطَّالِبِ، وَأَمَّا هَذَا الْمَوْضِعُ فَمَوْضِعُ الْهَيْبَةِ وَالْعَظَمَةِ وَعَرْضِ الْحَالِ دُونَ الطَّلَبِ فَقَالَ: رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِإِطْغَائِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ ضَالًّا مُتَغَلْغِلًا فِي الضَّلَالِ فَطَغَى، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْوَجْهُ فِي اتِّصَافِ الضَّلَالِ بِالْبَعِيدِ؟ نَقُولُ الضَّالُّ يَكُونُ أَكْثَرَ ضَلَالًا عَنِ الطَّرِيقِ، فَإِذَا تَمَادَى فِي الضَّلَالِ وَبَقِيَ فِيهِ مُدَّةً يَبْعُدُ عَنِ الْمَقْصِدِ كَثِيرًا، وَإِذَا عَلِمَ الضَّلَالَ قَصَّرَ فِي الطَّرِيقِ مِنْ قَرِيبٍ فَلَا يَبْعُدُ عَنِ الْمَقْصِدِ كَثِيرًا، فَقَوْلُهُ ضَلالٍ بَعِيدٍ وَصْفُ الْمَصْدَرِ بِمَا يُوصَفُ بِهِ الْفَاعِلُ، كَمَا يُقَالُ كَلَامٌ صَادِقٌ وَعِيشَةٌ رَاضِيَةٌ أَيْ ضَلَالٌ ذُو بُعْدٍ، وَالضَّلَالُ إِذَا بَعُدَ مَدَاهُ وَامْتَدَّ الضَّالُّ فِيهِ يَصِيرُ بَيِّنًا وَيَظْهَرُ الضَّلَالُ، لِأَنَّ مَنْ حَادَ عَنِ

[سورة ق (50) : آية 28]

الطَّرِيقِ وَأَبْعَدَ عَنْهُ تَتَغَيَّرَ عَلَيْهِ السِّمَاتُ وَالْجِهَاتُ وَلَا يَرَى عَيْنَ الْمَقْصِدِ وَيَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهُ ضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ، وَرُبَّمَا يَقَعُ فِي أَوْدِيَةٍ وَمَفَاوِزَ وَيَظْهَرُ لَهُ أَمَارَاتُ الضَّلَالِ بِخِلَافِ مَنْ حَادَ قَلِيلًا، فَالضَّلَالُ وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَصْفَيْنِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ فَقَالَ تَارَةً فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَأُخْرَى قَالَ: فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ/ الْمُخْلَصِينَ [الْحِجْرِ: 40] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الْحِجْرِ: 42] أَيْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ أَهْلَ الْعِنَادِ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ فِي سَبِيلِكَ قَدَمُ صِدْقٍ لَمَا كَانَ لِي عَلَيْهِمْ مِنْ يَدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَيْفَ قَالَ مَا أَطْغَيْتُهُ مَعَ أَنَّهُ قَالَ: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ؟ [الْحِجْرِ: 39] قُلْنَا الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ وَجْهَانِ: قَدْ تَقَدَّمَا فِي الِاعْتِذَارِ عَمَّا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالثَّالِثُ: هُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَيْ لَأُدِيمَنَّهُمْ عَلَى الْغَوَايَةِ كَمَا أَنَّ الضَّالَّ إِذَا قَالَ لَهُ شَخْصٌ أَنْتَ عَلَى الْجَادَّةِ، فَلَا تتركها، يقال أنه يضله كذلك هاهنا، وَقَوْلُهُ مَا أَطْغَيْتُهُ أَيْ مَا كَانَ ابْتِدَاءُ الإطغاء مني. [سورة ق (50) : آية 28] قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ كَلَامًا قَبْلَ قَوْلِهِ قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ [ق: 27] وَهُوَ قَوْلُ الْمُلْقَى فِي النَّارِ رَبَّنَا أَطْغَانِي وَقَوْلُهُ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ يُفِيدُ مَفْهُومُهُ أَنَّ الِاخْتِصَامَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْحُضُورِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيَّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ. تَقْرِيرٌ لِلْمَنْعِ مِنَ الِاخْتِصَامِ وَبَيَانٌ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ قَدْ قُلْتُ إِنَّكُمْ إِذَا اتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ تَدْخُلُونَ النَّارَ وَقَدِ اتَّبَعْتُمُوهُ، فَإِنْ قِيلَ مَا حُكْمُ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِالْوَعِيدِ؟ قُلْنَا فِيهَا وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهَا مَزِيدَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: 20] ، عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهَا هُنَاكَ زَائِدَةٌ، وَقَوْلِهِ وَكَفى بِاللَّهِ [النِّسَاءِ: 6] وَثَانِيهَا: مُعَدِّيَّةٌ فَقَدَّمْتُ بمعنى تقدمت كما في قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ [الْحُجُرَاتِ: 1] ثَالِثُهَا: فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ، وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ مُقْتَرِنًا بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: 29] فَيَكُونُ الْمُقَدَّمُ هُوَ قَوْلَهُ، مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، رَابِعُهَا: هِيَ الْمُصَاحَبَةُ يَقُولُ الْقَائِلُ: اشْتَرَيْتُ الْفَرَسَ بِلِجَامِهِ وَسَرْجِهِ أَيْ مَعَهُ فَيَكُونُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ مَا يَجِبُ مَعَ الوعيد على تركه بالإنذار. [سورة ق (50) : آية 29] مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ لَدَيَّ مُتَعَلِّقًا بِالْقَوْلِ أَيْ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ مَا يُبَدَّلُ أَيْ لَا يَقَعُ التَّبْدِيلُ عِنْدِي، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي الْقَوْلِ الَّذِي لَدَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: هُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا حَتَّى يُبَدَّلَ مَا قيل في حقهم أَلْقِيا [ق: 24] بِقَوْلِ اللَّهِ بَعْدَ اعْتِذَارِهِمْ لَا تُلْقِيَاهُ فَقَالَ تَعَالَى: مَا يُبَدَّلُ هَذَا الْقَوْلُ لَدَيَّ، وَكَذَلِكَ قوله قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ/ جَهَنَّمَ [الزمر: 72] لا تَبْدِيلَ لَهُ ثَانِيهَا: هُوَ قَوْلُهُ وَلكِنْ حَقَّ

الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [السَّجْدَةِ: 13] أَيْ لَا تَبْدِيلَ لِهَذَا الْقَوْلِ ثَالِثُهَا: لَا خُلْفَ فِي إِيعَادِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا لَا إِخْلَافَ فِي مِيعَادِ اللَّهِ، وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ حَيْثُ قَالُوا مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْوَعِيدِ، فَهُوَ تَخْوِيفٌ لَا يُحَقِّقُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْهُ، وَقَالُوا الْكَرِيمُ إِذَا وَعَدَ أَنْجَزَ وَوَفَّى، وَإِذَا أَوْعَدَ أَخْلَفَ وَعَفَا رَابِعُهَا: لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ السَّابِقُ أَنَّ هَذَا شَقِيٌّ، وَهَذَا سَعِيدٌ، حِينَ خَلَقْتُ الْعِبَادَ، قُلْتُ هَذَا شَقِيٌّ وَيَعْمَلُ عَمَلَ الْأَشْقِيَاءِ، وَهَذَا تَقِيٌّ وَيَعْمَلُ عَمَلَ الْأَتْقِيَاءِ، وَذَلِكَ الْقَوْلُ عِنْدِي لَا تَبْدِيلَ لَهُ بِسَعْيِ سَاعٍ وَلَا سَعَادَةَ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَفِي مَا يُبَدَّلُ وُجُوهٌ أَيْضًا أَحَدُهَا: لَا يُكْذَبُ لَدَيَّ وَلَا يُفْتَرَى بَيْنَ يَدَيَّ، فَإِنِّي عَالِمٌ عَلِمْتُ مَنْ طَغَى وَمَنْ أَطْغَى، وَمَنْ كَانَ طَاغِيًا وَمَنْ كَانَ أَطْغَى، فَلَا يُفِيدُكُمْ قَوْلُكُمْ أَطْغَانِي شَيْطَانِي، وَلَا قول الشيطان رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ [ق: 27] ثَانِيهَا: إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً [الْحَدِيدِ: 13] كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَوْ أَرَدْتُمْ أَنْ لَا أَقُولَ فَأَلْقَيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ كُنْتُمْ بَدَّلْتُمْ هَذَا مِنْ قَبْلُ بِتَبْدِيلِ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ قَبْلَ أَنْ تَقِفُوا بَيْنَ يَدَيَّ، وَأَمَّا الْآنَ فَمَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ [ق: 28] الْمُرَادُ أَنَّ اخْتِصَامَكُمْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ هَذَا حَيْثُ قُلْتُ إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فَاطِرٍ: 6] ثَالِثُهَا: مَعْنَاهُ لَا يُبَدَّلُ الْكُفْرُ بِالْإِيمَانِ لَدَيَّ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَ الْيَأْسِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فَقَوْلُكُمْ رَبَّنَا وَإِلَهَنَا لَا يُفِيدُكُمْ فَمَنْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ رَبَّنَا مَا أَشْرَكْنَا وَقَوْلُهُ رَبَّنَا آمَنَّا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ الْحَالِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ مَا يُبَدَّلُ الْيَوْمَ لَدَيَّ الْقَوْلُ، لِأَنَّ مَا يُنْفَى بِهَا الْحَالُ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ، يَقُولُ الْقَائِلُ مَاذَا تَفْعَلُ غَدًا؟ يُقَالُ مَا أَفْعَلُ شَيْئًا أَيْ فِي الْحَالِ، وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ مَاذَا يَفْعَلُ غَدًا، يُقَالُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا أَوْ لَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا إِذَا أُرِيدَ زِيَادَةُ بَيَانِ النَّفْيِ، فَإِنْ قِيلَ هَلْ فِيهِ بَيَانٌ معنوي يفيد افتراق ما ولا فِي الْمَعْنَى نَقُولُ: نَعَمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَلِمَةَ لَا أَدَلُّ عَلَى النَّفْيِ لِكَوْنِهَا مَوْضُوعَةً لِلنَّفْيِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَالنَّهْيِ خَاصَّةً لَا يُفِيدُ الْإِثْبَاتَ إِلَّا بِطَرِيقِ الْحَذْفِ أَوِ الْإِضْمَارِ وَبِالْجُمْلَةِ فَبِطَرِيقِ الْمَجَازِ كَمَا فِي قَوْلِهِ لَا أُقْسِمُ [الْبَلَدِ: 1] وَأَمَّا مَا فَغَيْرُ مُتَمَحِّضَةٍ لِلنَّفْيِ لِأَنَّهَا وَارِدَةٌ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمَعَانِي حَيْثُ تَكُونُ اسْمًا وَالنَّفْيُ فِي الْحَالِ لَا يُفِيدُ النَّفْيَ الْمُطْلَقَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَعَ النَّفْيِ فِي الْحَالِ الْإِثْبَاتُ فِي الِاسْتِقْبَالِ، كَمَا يُقَالُ مَا يَفْعَلُ الْآنَ شَيْئًا وَسَيَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَاخْتُصَّ بِمَا لَمْ يَتَمَحَّضْ نَفْيًا حَيْثُ لَمْ تَكُنْ مُتَمَحٍّضَةً لِلنَّفْيِ لَا يُقَالُ إِنَّ لَا لِلنَّفْيِ فِي الِاسْتِقْبَالِ وَالْإِثْبَاتِ فِي الْحَالِ فَاكْتَفَى فِي استقبال بِمَا لَمْ يَتَمَحَّضْ نَفْيًا لِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَا يَفْعَلُ زَيْدٌ وَيَفْعَلُ الْآنَ نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَا يَفْعَلُ غَدًا وَيَفْعَلُ الْآنَ لِكَوْنِ قَوْلِكَ غَدًا يَجْعَلُ الزَّمَانَ مُمَيَّزًا فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُكَ لَا يَفْعَلُ لِلنَّفْيِ فِي الِاسْتِقْبَالِ بَلْ كَانَ لِلنَّفْيِ فِي بَعْضِ أَزْمِنَةِ الِاسْتِقْبَالِ، وَفِي مثالنا قلنا ما يَفْعَلُ وَسَيَفْعَلُ وَمَا قُلْنَا سَيَفْعَلُ غَدًا وَبَعْدَ غد، بل هاهنا نَفَيْنَا فِي الْحَالِ وَأَثْبَتْنَا فِي الِاسْتِقْبَالِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزِ زَمَانٍ مِنْ أَزْمِنَةِ الِاسْتِقْبَالِ عَنْ زَمَانٍ، وَمِثَالُهُ فِي الْعَكْسِ أَنْ يُقَالَ لَا يَفْعَلُ زَيْدٌ وَهُوَ يَفْعَلُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَتَمْيِيزٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ مُنَاسِبٌ لِمَا تَقَدَّمَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، أَمَّا إِذَا قُلْنَا بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ لَدَيَّ أَنَّ قَوْلَهُ فَأَلْقِياهُ [ق: 26] وَقَوْلَ الْقَائِلِ فِي قَوْلِهِ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ [الزَّمْرِ: 72] لَا تَبْدِيلَ لَهُ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ [ق: 24] لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْكَافِرِ الْعَنِيدِ فَلَا يَكُونُ هُوَ ظَلَّامًا لِلْعَبِيدِ. وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِأَنَّ المراد ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ التَّبْدِيلَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيَّ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَنْذَرَ مِنْ قَبْلُ، وَمَا عَذَّبَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أرسل الرسل وَبَيَّنَ السُّبُلَ، وَفِيهِ مَبَاحِثُ لَفْظِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ.

أما اللفظية [ففيه بحثان] [البحث الأول] فَهِيَ فِي الْبَاءِ مِنْ قَوْلِهِ لَيْسَ بِظَلَّامٍ وَفِي اللَّامِ مِنْ قَوْلِهِ لِلْعَبِيدِ أَمَّا الْبَاءُ فَنَقُولُ الْبَاءُ تَدْخُلُ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ حَيْثُ لَا يَكُونُ تَعَلُّقُ الْفِعْلِ بِهِ ظَاهِرًا وَلَا يَجُوزُ إِدْخَالُهَا فِيهِ حَيْثُ يَكُونُ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَيَجُوزُ الْإِدْخَالُ وَالتَّرْكُ حَيْثُ لَا يَكُونُ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَلَا فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ، فَلَا يُقَالُ ضَرَبْتُ بِزَيْدٍ لِظُهُورِ تَعَلُّقِ الْفِعْلِ بِزَيْدٍ، وَلَا يُقَالُ خَرَجْتُ وَذَهَبْتُ زَيْدًا بَدَلَ قولنا خرجت وذهبت بزيد لخفاه تعلق الفعل بزيد فيهما، ويقال شكرته وشكرت لَهُ لِلتَّوَسُّطِ فَكَذَلِكَ خَبَرُ مَا لَمَّا كَانَ مُشَبَّهًا بِالْمَفْعُولِ، وَلَيْسَ فِي كَوْنِهِ فِعْلًا غَيْرَ ظَاهِرٍ غَايَةَ الظُّهُورِ، لِأَنَّ إِلْحَاقَ الضَّمَائِرِ الَّتِي تَلْحَقُ بِالْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ كَالتَّاءِ وَالنُّونِ فِي قَوْلِكَ لَسْتَ وَلَسْتُمْ وَلَسْتُنَّ وَلَسْنَا يُصَحِّحُ كَوْنَهَا فِعْلًا كَمَا فِي قَوْلِكَ كُنْتُ وَكُنَّا، لَكِنْ فِي الِاسْتِقْبَالِ يَبِينُ الْفَرْقُ حَيْثُ نَقُولُ يَكُونُ وَتَكُونُ وَكُنْ، وَلَا نَقُولُ ذَلِكَ فِي لَيْسَ وَمَا يُشَبَّهُ بِهَا فَصَارَتَا كَالْفِعْلِ الَّذِي لَا يَظْهَرُ تَعَلُّقُهُ بِالْمَفْعُولِ غَايَةَ الظُّهُورِ، فَجَازَ أَنْ يُقَالَ لَيْسَ زَيْدٌ جَاهِلًا وَلَيْسَ زَيْدٌ بِجَاهِلٍ، كَمَا يُقَالُ مَسَحْتُهُ وَمَسَحْتُ بِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِالْبَاءِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ كَانَ زَيْدٌ بِخَارِجٍ وَصَارَ عَمْرٌو بِدَارِجٍ لِأَنَّ صَارَ وَكَانَ فِعْلٌ ظَاهِرٌ غَايَةَ الظُّهُورِ بِخِلَافِ لَيْسَ وَمَا النَّافِيَةِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قال: (ما هذا بشر) وَهَذَا ظَاهِرٌ. الْبَحْثُ الثَّانِي: لَوْ قَالَ قَائِلٌ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ إِخْلَاءُ خَبَرِ مَا عَنِ الْبَاءِ، كَمَا لَا يَجُوزُ إِدْخَالُ الْبَاءِ فِي خَبَرِ كَانَ وَخَبَرُ لَيْسَ يَجُوزُ فِيهِ الْأَمْرَانِ وَتَقْرِيرُ هَذَا السُّؤَالِ هُوَ أَنَّ كَانَ لَمَّا كَانَ فِعْلًا ظَاهِرًا جَعَلْنَاهُ بِمَنْزِلَةِ ضَرَبَ حَيْثُ مَنَعْنَا دُخُولَ الْبَاءِ فِي خَبَرِهِ كَمَا مَنَعْنَاهُ فِي مَفْعُولِهِ، وَلَيْسَ لَمَّا كَانَ فِعْلًا مِنْ وَجْهٍ نَظَرًا إِلَى قَوْلِنَا لَسْتَ وَلَسْنَا وَلَسْتُمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِعْلًا ظَاهِرًا نَظَرًا إِلَى صِيَغِ الِاسْتِقْبَالِ وَالْأَمْرِ جَعَلْنَاهُ مُتَوَسِّطًا وَجَوَّزْنَا إِدْخَالَ الْبَاءِ فِي خَبَرِهِ وَتَرْكَهُ، كَمَا قُلْنَا فِي مَفْعُولِ شَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ، وَمَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِعْلًا بِوَجْهٍ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْفِعْلِ الَّذِي لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ إِلَّا بِالْحَرْفِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِيءَ خَبَرُهُ إِلَّا مَعَ الْبَاءِ كَمَا لَا يَجِيءُ مَفْعُولُ ذَهَبَ إِلَّا مَعَ الْبَاءِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّا فَرَّقْنَا بَيْنَ مَا وَلَيْسَ وَكَانَ، وَجَعَلَنَا لِكُلِّ وَاحِدَةِ مَرْتَبَةً لَيْسَتْ لِلْأُخْرَى فَجَوَّزْنَا تَأْخِيرَ كَانَ فِي اللَّفْظِ حَيْثُ جَوَّزْنَا أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ زَيْدٌ خَارِجًا كَانَ وَمَا جَوَّزْنَا زَيْدٌ خَارِجًا لَيْسَ، لِأَنَّ كَانَ فِعْلٌ ظَاهِرٌ وَلَيْسَ/ دُونَهُ فِي الظُّهُورِ، وَمَا جَوَّزْنَا تَأْخِيرَ مَا عَنْ أَحَدِ شَطْرَيِ الْكَلَامِ أَيْضًا بِخِلَافِ لَيْسَ، حَيْثُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: زَيْدٌ مَا بِظَلَّامٍ، إِلَّا أَنْ يُعِيدَ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ فَيَقُولَ زَيْدٌ مَا هُوَ بِظَلَّامٍ فَصَارَ بَيْنَهُمَا تَرْتِيبٌ مَا يُوَجَّهُ، وَلَيْسَ يُؤَخَّرُ عَنْ أَحَدِ الشَّطْرَيْنِ وَلَا يُؤَخَّرُ فِي الْكَلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَكَانَ يُؤَخَّرُ بِالْكُلِّيَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الظُّهُورِ وَالْخَفَاءِ، فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي إِلْحَاقِ الْبَاءِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ إِخْلَاءُ خَبَرِ مَا عَنِ الْبَاءِ، وَفِي لَيْسَ يَجُوزُ الْأَمْرَانِ، وَفِي كَانَ لَا يَجُوزُ الْإِدْخَالُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ حَيْثُ قَالُوا إِنَّ مَا بَعْدَ مَا إِذَا جُعِلَ خَبَرًا يَجِبُ إِدْخَالُ الْبَاءِ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ عَلَيْهِ يَكُونُ ذَلِكَ مُعَرَّبًا عَلَى الِابْتِدَاءِ أَوْ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَلَا يَكُونُ خَبَرًا، وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ هُوَ أَنْ نَقُولَ الْأَكْثَرُ إِدْخَالُ الْبَاءِ فِي خَبَرِ مَا وَلَا سِيَّمَا فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ [الروم: 53] وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ [فَاطِرٍ: 22] وَما هُمْ بِخارِجِينَ [البقرة: 167] وَما أَنَا بِظَلَّامٍ وَأَمَّا الْوُجُوبُ فَلَا لِأَنَّ مَا أَشْبَهَ لَيْسَ فِي الْمَعْنَى فِي الْحَقِيقَةِ وَخَالَفَهَا فِي الْعَوَارِضِ وَهُوَ لُحُوقُ التَّاءِ وَالنُّونِ، وَأَمَّا فِي الْمَعْنَى فهما لنفي الحال فالشبه مقتضى لِجَوَازِ الْإِخْلَاءِ وَالْمُخَالَفَةُ مُقْتَضِيَةٌ لِوُجُوبِ الْإِدْخَالِ، لَكِنَّ ذَلِكَ الْمُقْتَضَى أَقْوَى لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ، وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى الْأَمْرِ الْعَارِضِيِّ وَمَا بِالنَّفْسِ أَقْوَى مِمَّا بِالْعَارِضِ، وَأَمَّا التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُوبُ إِدْخَالِ الْبَاءِ، وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي اللَّامِ فَنَقُولُ اللَّامُ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْإِضَافَةِ يُقَالُ غُلَامُ زَيْدٍ وَغُلَامٌ

لِزَيْدٍ، وَهَذَا فِي الْإِضَافَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ بِإِثْبَاتِ التَّنْوِينِ فِيهِ، وَأَمَّا فِي الْإِضَافَاتِ اللَّفْظِيَّةِ كَقَوْلِنَا ضَارِبُ زَيْدٍ وَقَاتِلُ عَمْرٍو، فَإِنَّ الْإِضَافَةَ فِيهِ غَيْرُ مَعْنَوِيَّةٍ فَإِذَا خَرَجَ الضَّارِبُ عَنْ كَوْنِهِ مُضَافًا بِإِثْبَاتِ التَّنْوِينِ فَقَدْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُعَادَ الْأَصْلُ وَيُنْصَبُ مَا كَانَ مُضَافًا إِلَيْهِ الْفَاعِلُ بِالْمَفْعُولِ بِهِ وَلَا يُؤْتَى بِاللَّامِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ تَبْقَ الْإِضَافَةُ فِي اللَّفْظِ، وَلَمْ تَكُنِ الْإِضَافَةُ فِي الْمَعْنَى، غَيْرَ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ مُنْحَطُّ الدَّرَجَةِ عَنِ الْفِعْلِ فَصَارَ تَعَلُّقُهُ بِالْمَفْعُولِ أَضْعَفَ مِنْ تَعَلُّقِ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ، وَصَارَ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ الضَّعِيفَةِ التَّعَلُّقِ حَيْثُ بَيَّنَّا جَوَازَ تَعْدِيَتِهَا إِلَى الْمَفْعُولِ بِحَرْفٍ وَغَيْرِ حَرْفٍ، فَلِذَلِكَ جاز أن يقال ضارب زيد أَوْ ضَارِبٌ لِزَيْدٍ، كَمَا جَازَ: مَسَحْتُهُ وَمَسَحْتُ بِهِ وَشَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ، وَذَلِكَ إِذَا تَقَدَّمَ الْمَفْعُولُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يُوسُفَ: 43] لِلضَّعْفِ، وَأَمَّا الْمَعْنَوِيَّةُ فَمَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: الظَّلَّامُ مُبَالَغَةٌ فِي الظَّالِمِ وَيَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِهِ إِثْبَاتُ أَصْلِ الظُّلْمِ إِذَا قَالَ الْقَائِلُ هُوَ كَذَّابٌ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا كَثُرَ كَذِبُهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِهِ نَفْيُ أَصْلِ الْكَذِبِ لِجَوَازِ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ لَيْسَ بِكَذَّابٍ كَثِيرَ الْكَذِبِ لَكِنَّهُ يَكْذِبُ أَحْيَانًا فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ نَفْيُ أَصْلِ الظُّلْمِ وَاللَّهُ لَيْسَ بِظَالِمٍ فَمَا الْوَجْهُ فيه؟ نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الظَّلَّامَ بِمَعْنَى الظَّالِمِ كَالتَّمَّارِ بِمَعْنَى التَّامِرِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلْعَبِيدِ لِتَحْقِيقِ النِّسْبَةِ لِأَنَّ الْفَعَّالَ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى ذِي ظُلْمٍ، وَهَذَا وَجْهٌ جَيِّدٌ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْإِمَامِ زَيْنِ الدِّينِ أَدَامَ اللَّهُ فَوَائِدَهُ وَالثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ تَقْدِيرِيٌّ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَوْ ظَلَمْتُ عَبْدِيَ الضَّعِيفَ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الرَّحْمَةِ لَكَانَ ذَلِكَ غَايَةَ الظُّلْمِ، وَمَا أَنَا بِذَلِكَ فَيَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ كَوْنِهِ ظَلَّامًا نَفْيُ كَوْنِهِ ظَالِمًا، وَيُحَقِّقُ هَذَا الْوَجْهَ/ إظهار لفظ العبيد حيث يقول ما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي امْتَلَأَتْ جَهَنَّمُ مَعَ سِعَتِهَا حَتَّى تَصِيحَ وَتَقُولَ لَمْ يَبْقَ لِي طَاقَةٌ بِهِمْ، وَلَمْ يَبْقَ فِيَّ مَوْضِعٌ لَهُمْ فَهَلْ مِنْ مَزِيدٍ اسْتِفْهَامُ اسْتِكْثَارٍ، فَذَلِكَ الْيَوْمُ مَعَ أَنِّي أُلْقِي فِيهَا عَدَدًا لَا حَصْرَ لَهُ لَا أَكُونُ بِسَبَبِ كَثْرَةِ التَّعْذِيبِ كَثِيرَ الظُّلْمِ وَهَذَا مُنَاسِبٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّصَ النَّفْيَ بِالزَّمَانِ حَيْثُ قَالَ: مَا أَنَا بِظَلَّامٍ يَوْمَ نَقُولُ: أَيْ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ أَيْضًا، وَخَصَّصَ بِالْعَبِيدِ حَيْثُ قَالَ: وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَلَمْ يُطْلِقْ، فَكَذَلِكَ خَصَّصَ النَّفْيَ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَلَمْ يُطْلِقْ، فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَفِي حَقَّ غَيْرِ الْعَبِيدِ وَإِنْ خَصَّصَ وَالْفَائِدَةُ فِي التَّخْصِيصِ أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى التَّصْدِيقِ مِنَ التَّعْمِيمِ وَالثَّالِثُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التخصيص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه، لأنه نفى كونه ظلاما ولم يلزم مِنْهُ نَفْيُ كَوْنِهِ ظَالِمًا، وَنَفَى كَوْنَهُ ظَلَّامًا للعبيد، ولم يلزم مِنْهُ نَفْيُ كَوْنِهِ ظَلَّامًا لِغَيْرِهِمْ، كَمَا قَالَ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ [فَاطِرٍ: 32] . البحث الثاني: قال هاهنا وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ، وقال: ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ [النَّمْلِ: 81] وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فَاطِرٍ: 22] عَلَى وَجْهِ الْإِضَافَةِ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ نَقُولُ الْكَلَامُ قَدْ يَخْرُجُ أَوَّلًا مَخْرَجَ الْعُمُومِ، ثُمَّ يُخَصَّصُ لِأَمْرٍ مَا لَا لِغَرَضِ التَّخْصِيصِ، يَقُولُ الْقَائِلُ: فُلَانٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَكُونُ غَرَضُهُ التَّعْمِيمَ، فَإِنْ سَأَلَ سَائِلٌ: يُعْطِي مَنْ، وَيَمْنَعُ مَنْ؟ يَقُولُ زَيْدًا وَعَمْرًا، وَيَأْتِي بِالْمُخَصَّصِ لَا لِغَرَضِ التَّخْصِيصِ، وَقَدْ يَخْرُجُ أَوَّلًا مَخْرَجَ الْخُصُوصِ، فَيَقُولُ فُلَانٌ يُعْطِي زَيْدًا مَالَهُ إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَقَوْلُهُ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ كَلَامٌ لَوِ اقْتُصِرَ عَلَيْهِ لَكَانَ لِلْعُمُومِ، فَأَتَى بِلَفْظِ الْعَبِيدِ لَا لِكَوْنِ عَدَمِ الظُّلْمِ مُخْتَصًّا بِهِمْ، بَلْ لِكَوْنِهِمْ أَقْرَبَ إِلَى كَوْنِهِمْ مَحَلَّ الظُّلْمِ مِنْ نَفْسِهِ تَعَالَى، وَأَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ فِي نَفْسِهِ هَادِيًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ نَفْيَ ذَلِكَ الْخَاصِّ

[سورة ق (50) : آية 30]

فقال: وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ وَمَا قَالَ: مَا أَنْتَ بِهَادٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ [الزُّمَرِ: 36] . الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الْعَبِيدُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الكفار، كما في قوله تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ [يس: 30] يعني أعذبهم وما أن بِظَلَّامٍ لَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُؤْمِنِينَ وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: لَوْ أَبْدَلْتُ الْقَوْلَ وَرَحِمْتُ الْكَافِرَ، لَكُنْتُ فِي تَكْلِيفِ الْعِبَادِ ظَالِمًا لِعِبَادِيَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنِّي مَنَعْتُهُمْ مِنَ الشَّهَوَاتِ لِأَجْلِ هَذَا الْيَوْمِ، فَإِنْ كَانَ يَنَالُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِمَا أَتَى الْمُؤْمِنُ مَا يَنَالُهُ الْمُؤْمِنُ، لَكَانَ إِتْيَانُهُ بِمَا أَتَى بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعِبَادَةِ غَيْرَ مُفِيدٍ فَائِدَةً، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الْحَشْرِ: 20] وَمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزُّمَرِ: 9] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النِّسَاءِ: 95] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التعميم. ثم قال تعالى: [سورة ق (50) : آية 30] يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) الْعَامِلُ فِي يَوْمَ مَاذَا؟ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَا أَنَا بِظَلَّامٍ مُطْلَقًا وَالثَّانِي: الْوَقْتُ، حَيْثُ قَالَ مَا أَنَا يَوْمَ كَذَا، ولم يقل: ما أنا بِظَلَّامٍ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ؟ نَقُولُ النَّفْيُ الْخَاصُّ أَقْرَبُ إِلَى التَّصْدِيقِ مِنَ النَّفْيِ الْعَامِّ لِأَنَّ الْمُتَوَهَّمَ ذَلِكَ، فَإِنَّ قَاصِرَ النَّظَرِ يَقُولُ: يَوْمَ يُدْخِلُ اللَّهُ عَبْدَهُ الضَّعِيفَ جَهَنَّمَ يَكُونُ ظَالِمًا لَهُ، وَلَا يَقُولُ: بِأَنَّهُ يَوْمَ خَلَقَهُ يَرْزُقُهُ وَيُرَبِّيهِ يَكُونُ ظَالِمًا، وَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَظْلِمُ عَبْدَهُ بِإِدْخَالِهِ النَّارَ، وَلَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَظْلِمُ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَ عَبِيدِهِ الْمَذْكُورِينَ، وَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ مَنْ يُدْخِلُ خَلْقًا كَثِيرًا لَا يَجُوزُهُ حَدٌّ، ولا يدركه عد النار، ويتركهم فيها زَمَانًا لَا نِهَايَةَ لَهُ كَثِيرُ الظُّلْمِ، فَنَفَى مَا يُتَوَهَّمُ دُونَ مَا لَا يُتَوَهَّمُ، وَقَوْلُهُ هَلِ امْتَلَأْتِ بَيَانٌ لِتَصْدِيقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ وَقَوْلُهُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِبَيَانِ اسْتِكْثَارِهَا الدَّاخِلِينَ، كَمَا أَنَّ مَنْ يَضْرِبُ غَيْرَهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، أَوْ يَشْتُمُهُ شَتْمًا قَبِيحًا فَاحِشًا، وَيَقُولُ الْمَضْرُوبُ: هَلْ بَقِيَ شَيْءٌ آخَرُ!، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَأَمْلَأَنَّ لِأَنَّ الِامْتِلَاءَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَحْصُلَ، فَلَا يَبْقَى فِي جَهَنَّمَ مَوْضِعٌ خَالٍ حَتَّى تَطْلُبَ الْمَزِيدَ وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّهَا تَطْلُبُ الزِّيَادَةَ، وَحِينَئِذٍ لَوْ قَالَ قَائِلٌ فَكَيْفَ يُفْهَمُ مَعَ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَأَمْلَأَنَّ؟ نَقُولُ الْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ رُبَّمَا يَقَعُ قَبْلَ إِدْخَالِ الْكُلِّ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ جَهَنَّمَ تَتَغَيَّظُ عَلَى الْكُفَّارِ فَتَطْلُبُهُمْ، ثُمَّ يَبْقَى فِيهَا مَوْضِعٌ لِعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَطْلُبُ جَهَنَّمُ امْتِلَاءَهَا لِظَنِّهَا بَقَاءَ أَحَدٍ مِنَ الْكُفَّارِ خَارِجًا، فَيُدْخَلُ الْعَاصِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيُبْرِدُ إِيمَانُهَ حَرَارَتَهَا، وَيُسْكِنُ إِيقَانُهُ غَيْظَهَا فَتَسْكُنُ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ، أَنَّ جَهَنَّمَ تَطْلُبُ الزِّيَادَةَ حَتَّى يَضَعَ الْجَبَّارُ قَدَمَهُ، وَالْمُؤْمِنُ جَبَّارٌ مُتَكَبِّرٌ عَلَى مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى ذَلِيلٌ مُتَوَاضِعٌ لِلَّهِ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ جَهَنَّمُ تَطْلُبُ أَوَّلًا سِعَةً فِي نَفْسِهَا، ثُمَّ مَزِيدًا فِي الدَّاخِلِينَ لِظَنِّهَا بَقَاءَ أَحَدٍ مِنَ الْكُفَّارٍ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَلْءَ لَهُ دَرَجَاتٌ، فَإِنَّ الْكَيْلَ إِذَا مُلِئَ مِنْ غَيْرِ كَبْسٍ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: مُلِئَ وَامْتَلَأَ، فَإِذَا كُبِسَ يَسَعُ غَيْرَهُ ولا ينافي كونه ملآن أو لا، فَكَذَلِكَ فِي جَهَنَّمَ مَلَأَهَا اللَّهُ ثُمَّ تَطْلُبُ زِيَادَةً تَضْيِيقًا لِلْمَكَانِ عَلَيْهِمْ وَزِيَادَةً فِي التَّعْذِيبِ، وَالْمَزِيدُ جَازَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ هل بقي أحد تزيد به. ثم قال تعالى: [سورة ق (50) : آية 31] وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)

بِمَعْنَى قَرِيبًا أَوْ بِمَعْنَى قَرِيبٍ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا وَجْهُ التَّقْرِيبِ، مَعَ أَنَّ الْجَنَّةَ مَكَانٌ وَالْأَمْكِنَةُ يَقْرُبُ مِنْهَا وَهِيَ لَا تَقْرُبُ؟ نَقُولُ الْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْجَنَّةَ لَا تُزَالُ وَلَا تُنْقَلُ، وَلَا الْمُؤْمِنُ يُؤْمَرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالِانْتِقَالِ إِلَيْهَا مَعَ بُعْدِهَا، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَطْوِي الْمَسَافَةَ الَّتِي بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْجَنَّةِ فَهُوَ التَّقْرِيبُ. فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا لَيْسَ إِزْلَافُ الْجَنَّةِ مِنَ الْمُؤْمِنِ بِأَوْلَى مِنْ إِزْلَافِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْجَنَّةِ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي/ قَوْلِهِ: أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ؟ نَقُولُ إِكْرَامًا لِلْمُؤْمِنِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بَيَانَ شَرَفِ الْمُؤْمِنِ الْمُتَّقِي أَنَّهُ مِمَّنْ يُمْشَى إِلَيْهِ وَيُدْنَى مِنْهُ الثَّانِي: قُرِّبَتْ مِنَ الْحُصُولِ فِي الدُّخُولِ، لَا بِمَعْنَى الْقُرْبِ الْمَكَانِيِّ، يُقَالُ يَطْلُبُ مِنَ الْمَلِكِ أَمْرًا خَطِيرًا، وَالْمَلِكُ بِعِيدٌ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ إِذَا رَأَى مِنْهُ مَخَايِلَ إِنْجَازِ حَاجَتِهِ، يُقَالُ قُرِّبَ الْمَلِكُ وَمَا زِلْتُ أُنْهِي إِلَيْهِ حَالَكَ حَتَّى قَرَّبْتَهُ، فَكَذَلِكَ الْجَنَّةُ كَانَتْ بَعِيدَةَ الْحُصُولِ، لِأَنَّهَا بِمَا فِيهَا لَا قِيمَةَ لَهَا، وَلَا قُدْرَةَ لِلْمُكَلَّفِ عَلَى تَحْصِيلِهَا لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقِيلَ وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ وَلَا أَنَا» وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ غَيْرَ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، تَقْدِيرُهُ قُرِّبَتْ مِنَ الْحُصُولِ، وَلَمْ تَكُنْ بَعِيدَةً فِي الْمَسَافَةِ حَتَّى يُقَالَ كَيْفَ قُرِّبَتْ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى نَقْلِ الْجَنَّةِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ فَيُقَرِّبُهَا لِلْمُؤْمِنِ. وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّهَا قُرِّبَتْ، فَمَعْنَاهُ جُمِعَتْ محاسنها، كما قال تعالى: فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ [الزخرف: 71] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَعَلَى قَوْلِنَا قُرِّبَتْ تَقْرِيبَ حُصُولٍ وَدُخُولٍ، فَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُزْلِفَتِ أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَمَّا فِي جَمْعِ الْمَحَاسِنِ فَرُبَّمَا يَزِيدُ اللَّهُ فِيهَا زِينَةَ وَقْتِ الدُّخُولِ، وَأَمَّا فِي الْحُصُولِ فلأن الدخول قبل ذلك كان مستبعدا إذ لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ دُخُولَ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ فِي الدُّنْيَا وَوَعَدَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَقُرِّبَتْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ: أَيْ أُزْلِفَتْ فِي الدُّنْيَا، إِمَّا بِمَعْنَى جَمْعِ الْمَحَاسِنِ فَلِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ وَخُلِقَ فِيهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَإِمَّا بِمَعْنَى تَقْرِيبِ الْحُصُولِ فَلِأَنَّهَا تَحْصُلُ بِكَلِمَةٍ حَسَنَةٍ وَإِمَّا عَلَى تَفْسِيرِ الْإِزْلَافِ بِالتَّقْرِيبِ الْمَكَانِيِّ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَحْمُولًا إلى عَلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ أَيْ أُزْلِفَتْ فِي ذَلِكَ اليوم للمتقين. المسألة الثالثة: إِنْ حُمِلَ عَلَى الْقُرْبِ الْمَكَانِيِّ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي الِاخْتِصَاصِ بِالْمُتَّقِينَ مَعَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ فِي عَرْصَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَنَقُولُ قَدْ يَكُونُ شَخْصَانِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَهُنَاكَ مَكَانٌ آخَرُ هُوَ إِلَى أَحَدِهِمَا فِي غَايَةِ الْقُرْبِ، وَعَنِ الْآخَرِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، مِثَالُهُ مَقْطُوعُ الرِّجْلَيْنِ وَالسَّلِيمُ الشَّدِيدُ الْعَدْوِ إِذَا اجْتَمَعَا فِي مَوْضِعٍ وَبِحَضْرَتِهِمَا شَيْءٌ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْيَدُ بِالْمَدِّ فَذَلِكَ بَعِيدٌ عَنِ الْمَقْطُوعِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْقُرْبِ مِنَ الْعَادِي، أَوْ نَقُولُ إِذَا اجْتَمَعَ شَخْصَانِ فِي مَكَانِ وَأَحَدُهُمَا أُحِيطَ بِهِ سَدٌّ مِنْ حَدِيدٍ وَوُضِعَ بِقُرْبِهِ شَيْءٌ لَا تَنَالُهُ يَدُهُ بِالْمَدِّ وَالْآخَرُ لَمْ يُحِطْ بِهِ ذَلِكَ السَّدُّ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هُوَ بَعِيدٌ عَنِ الْمَسْدُودِ وَقَرِيبٌ مِنَ الْمَحْظُوظِ وَالْمَجْدُودِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: غَيْرَ بَعِيدٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى الظَّرْفِ يُقَالُ اجْلِسْ غَيْرَ بَعِيدٍ مِنِّي أَيْ مَكَانًا غَيْرَ بَعِيدٍ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ غَيْرَ بَعِيدٍ يُفِيدُ التَّأْكِيدَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَرِيبَ قَدْ يَكُونُ بَعِيدًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ، فَإِنَّ الْمَكَانَ الَّذِي هُوَ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ قَرِيبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبِلَادِ النَّائِيَةِ وَبَعِيدٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُتَنَزَّهَاتِ الْمَدِينَةِ، فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ أَيُّمَا أَقْرَبُ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى أَوِ الْبَلَدُ الَّذِي هُوَ بِأَقْصَى الْمَغْرِبِ أَوِ الْمَشْرِقِ؟ يُقَالُ لَهُ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قَرِيبٌ، وَإِنْ قَالَ أَيُّهُمَا أَقْرَبُ هُوَ أَوِ الْبَلَدُ؟ يُقَلْ لَهُ هُوَ بَعِيدٌ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ ... غَيْرَ بَعِيدٍ أَيْ قُرِّبَتْ قُرْبًا حَقِيقِيًّا لَا نِسْبِيًّا حَيْثُ لَا يُقَالُ فِيهَا إِنَّهَا بَعِيدَةٌ عَنْهُ مُقَايَسَةً أَوْ

[سورة ق (50) : آية 32]

مُنَاسِبَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى/ الْحَالِ تَقْدِيرُهُ: قَرُبَتْ حَالَ كَوْنِ ذَلِكَ غَايَةَ التَّقْرِيبِ أَوْ نَقُولُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مَعْنَى أُزْلِفَتْ قَرُبَتْ وَهِيَ غَيْرُ بَعِيدٍ، فَيَحْصُلُ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا الْإِقْرَابُ وَالِاقْتِرَابُ أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ الْقُرْبَ وَالْحُصُولَ لَا لِلْمَكَانِ فَيَحْصُلُ مَعْنَيَانِ الْقُرْبُ الْمَكَانِيُّ بِقَوْلِهِ غَيْرَ بَعِيدٍ وَالْحُصُولُ بِقَوْلِهِ أُزْلِفَتِ وَقَوْلُهُ، غَيْرَ بَعِيدٍ مَعَ قَوْلِهِ أُزْلِفَتِ عَلَى التَّأْنِيثِ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: إِذَا قُلْنَا إِنَّ غَيْرَ نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ تَقْدِيرُهُ مَكَانًا غَيْرَ الثَّانِي: التَّذْكِيرُ فِيهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ [الْأَعْرَافِ: 56] إِجْرَاءٌ لِفَعِيلٍ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مَجْرَى فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ غَيْرَ مَنْصُوبٌ نَصْبًا عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ إِزْلَافًا غَيْرَ بَعِيدٍ، أَيْ عَنْ قُدْرَتِنَا فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْجَنَّةَ مَكَانٌ، وَالْمَكَانُ لَا يَقْرُبُ وَإِنَّمَا يُقْرَبُ مِنْهُ، فَقَالَ الْإِزْلَافُ غَيْرُ بَعِيدٍ عن قدرتنا فإنا نطوي المسافة بينهما. [سورة ق (50) : آية 32] هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هَذَا مَا تُوعَدُونَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ هِيَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ كَلَامَيْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِكُلِّ أَوَّابٍ بَدَلٌ عَنِ الْمُتَّقِينَ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: (أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ لِكُلِّ أَوَّابٍ) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ [الزُّخْرُفِ: 33] غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ وَهَذَا بَدَلُ الْكُلِّ وَقَالَ: هَذَا إِشَارَةً إِلَى الثَّوَابِ أَيْ هَذَا الثَّوَابُ مَا تُوعَدُونَ أَوْ إِلَى الْإِزْلَافِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: أُزْلِفَتِ [ق: 31] أَيْ هَذَا الْإِزْلَافُ مَا وُعِدْتُمْ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ وَوَجْهُهُ أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى لَا مَا يُوعَدُ بِهِ يُقَالُ لِلْمَوْعُودِ هَذَا لَكَ وَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ هَذَا مَا قُلْتُ إِنَّهُ لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ بَدَلًا عَنِ الضَّمِيرِ فِي تُوعَدُونَ، وَكَذَلِكَ إِنْ قُرِئَ بِالْيَاءِ يَكُونُ تَقْدِيرُهُ هَذَا لِكُلِّ أَوَّابٍ بَدَلًا عَنِ الضَّمِيرِ، وَالْأَوَّابُ الرَّجَّاعُ، قِيلَ هُوَ الَّذِي يَرْجِعُ مِنَ الذُّنُوبِ وَيَسْتَغْفِرُ، وَالْحَفِيظُ الْحَافِظُ لِلَّذِي يَحْفَظُ تَوْبَتَهُ مِنَ النَّقْضِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْأَوَّابُ هُوَ الرَّجَّاعُ إِلَى اللَّهِ بِفِكْرِهِ، وَالْحَفِيظُ الَّذِي يَحْفَظُ اللَّهَ فِي ذِكْرِهِ أَيْ رَجَعَ إِلَيْهِ بِالْفِكْرِ فَيَرَى كُلَّ شَيْءٍ وَاقِعًا بِهِ وَمُوجَدًا مِنْهُ ثُمَّ إِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ حَفِظَهُ بِحَيْثُ لَا يَنْسَاهُ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَالنَّعْمَاءِ، وَالْأَوَّابُ وَالْحَفِيظُ كِلَاهُمَا مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ أَيْ يَكُونُ كَثِيرَ الْأَوْبِ شَدِيدَ الْحِفْظِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ أُخَرُ أَدَقُّ، وَهُوَ أَنَّ الْأَوَّابَ هُوَ الَّذِي رَجَعَ عَنْ مُتَابَعَةِ هَوَاهُ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَالْحَفِيظُ هُوَ الَّذِي إِذَا أَدْرَكَهُ بِأَشْرَفِ قُوَاهُ لَا يَتْرُكُهُ فَيُكْمِلُ بِهَا تَقْوَاهُ وَيَكُونُ هَذَا تَفْسِيرًا لِلْمُتَّقِي، لِأَنَّ الْمُتَّقِي هُوَ الَّذِي اتَّقَى الشِّرْكَ وَالتَّعْطِيلَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ وَلَمْ يَعْتَرِفْ بِغَيْرِهِ، وَالْأَوَّابُ هُوَ الَّذِي لَا يَعْتَرِفُ بِغَيْرِهِ وَيَرْجِعُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحَفِيظُ هُوَ الَّذِي لَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ إِلَى شَيْءٍ مما عداه. ثم قال تعالى: [سورة ق (50) : آية 33] مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) وَفِي مَنْ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: / وَهُوَ أَغْرَبُهَا أَنَّهُ مُنَادَى كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ ادْخَلُوهَا بِسَلَامٍ وَحَذْفُ حَرْفِ النِّدَاءِ شَائِعٌ وَثَانِيهَا: مَنْ بَدَلٌ عَنْ كُلٍّ فِي قَوْلِهِ تعالى: لِكُلِّ أَوَّابٍ [ق: 32] مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ تَقْدِيرُهُ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِمَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ، ثَالِثُهَا: فِي قوله تعالى: أَوَّابٍ حَفِيظٍ [ق: 32] مَوْصُوفٌ مَعْلُومٌ غَيْرُ مَذْكُورٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ لِكُلِّ شَخْصٍ أَوَّابٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ خَشِيَ

الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ بَدَلٌ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْصُوفِ هَذِهِ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ ذَكَرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ أَوَّابٍ أَوْ حَفِيظٍ لأن أواب وحفيظ قَدْ وُصِفَ بِهِ مَوْصُوفٌ مَعْلُومٌ غَيْرُ مَذْكُورٍ كَمَا بَيَّنَاهُ وَالْبَدَلُ فِي حُكْمِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، فَتَكُونُ مَنْ مَوْصُوفًا بِهَا وَمَنْ لَا يُوصَفُ بِهَا لَا يُقَالُ: الرَّجُلُ مَنْ جَاءَنِي جَالَسَنِي، كم يُقَالُ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَنِي جَالَسَنِي، هَذَا تَمَامُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إِذَا كَانَ (من) و (الذي) يَشْتَرِكَانِ فِي كَوْنِهِمَا مِنَ الْمَوْصُولَاتِ فَلِمَاذَا لَا يَشْتَرِكَانِ فِي جَوَازِ الْوَصْفِ بِهِمَا؟ نَقُولُ الْأَمْرُ مَعْقُولٌ نُبَيِّنُهُ فِي مَا، وَمِنْهُ يَتَبَيَّنُ الْأَمْرُ فِيهِ فَنَقُولُ: مَا اسْمٌ مُبْهَمٌ يَقَعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَمَفْهُومُهُ هُوَ شَيْءٌ لَكِنَّ الشَّيْءَ هُوَ أَعَمَّ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّ الْجَوْهَرَ شَيْءٌ وَالْعَرَضَ شَيْءٌ وَالْوَاجِبَ شَيْءٌ وَالْمُمْكِنَ شَيْءٌ وَالْأَعَمُّ قَبْلَ الْأَخَصِّ فِي الْفَهْمِ لِأَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ مِنَ الْبُعْدِ شَبَحًا تَقُولُ أَوَّلًا إِنَّهُ شَيْءٌ ثُمَّ إِذَا ظَهَرَ لَكَ مِنْهُ مَا يَخْتَصُّ بِالنَّاسِ تَقُولُ إِنْسَانٌ فَإِذَا بَانَ ذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرٌ قُلْتَ هُوَ رَجُلٌ فَإِذَا وَجَدْتَهُ ذَا قُوَّةٍ تَقُولُ شُجَاعٌ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَالْأَعَمُّ أَعْرَفُ وَهُوَ قَبْلَ الْأَخَصِّ فِي الْفَهْمِ فَمَفْهُومُ مَا قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِأَنَّ الصِّفَةَ بَعْدَ الْمَوْصُوفِ هَذَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْقُولُ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ النَّحْوِ فَلِأَنَّ الْحَقَائِقَ لَا يُوصَفُ بِهَا، فَلَا يُقَالُ جِسْمٌ رَجُلٌ جَاءَنِي كَمَا يُقَالُ جِسْمٌ نَاطِقٌ جَاءَنِي كَمَا يُقَالُ جِسْمٌ نَاطِقٌ جَاءَنِي لِأَنَّ الْوَصْفَ يَقُومُ بِالْمَوْصُوفِ وَالْحَقِيقَةَ تَقُومُ بِنَفْسِهَا لَا بِغَيْرِهَا وَكُلُّ مَا يَقَعُ وَصْفًا لِلْغَيْرِ يَكُونُ مَعْنَاهُ شَيْءٌ لَهُ كَذَا، فَقَوْلُنَا عَالِمٌ مَعْنَاهُ شَيْءٌ لَهُ عِلْمٌ أَوْ عَالَمِيَّةٌ فَيَدْخُلُ فِي مَفْهُومِ الْوَصْفِ شَيْءٌ مَعَ أَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ لَهُ كَذَا لَكِنْ مَا لِمُجَرَّدِ شَيْءٍ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ مَا يَتِمُّ بِهِ الْوَصْفُ وَهُوَ الْأَمْرُ الْآخَرُ الَّذِي مَعْنَاهُ ذُو كَذَا فَلَمْ يَجُزْ أن يكون صفة وإذا بان القول فمن في العقلاء كما في غيرهم وفيهم فمن مَعْنَاهُ إِنْسَانٌ أَوْ مَلِكٌ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنَ الْحَقَائِقِ الْعَاقِلَةِ، وَالْحَقَائِقِ لَا تَقَعُ صِفَاتٍ، وَأَمَّا الَّذِي يَقَعُ عَلَى الْحَقَائِقِ وَالْأَوْصَافِ وَيَدْخُلُ فِي مَفْهُومِهِ تَعْرِيفٌ أَكْثَرَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي مَجَازِ الوصف بما دُونَ مَنْ. وَفِي الْآيَةِ لَطَائِفُ مَعْنَوِيَّةٌ الْأَوَّلُ: الْخَشْيَةُ وَالْخَوْفُ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، لَكِنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَهُوَ أَنَّ الْخَشْيَةَ مِنْ عَظَمَةِ الْمَخْشِيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَرْكِيبَ حُرُوفِ خ ش ي فِي تَقَالِيبِهَا يَلْزَمُهُ مَعْنَى الْهَيْبَةِ يُقَالُ شَيْخٌ لِلسَّيِّدِ وَالرَّجُلِ الْكَبِيرِ السِّنِّ وَهُمْ جَمِيعًا مَهِيبَانِ، وَالْخَوْفَ خَشْيَةٌ مِنْ ضَعْفِ الْخَاشِي وذلك لأن تركيب خ وف فِي تَقَالِيبِهَا يَدُلُّ عَلَى الضَّعْفِ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْخِيفَةُ وَالْخُفْيَةُ وَلَوْلَا قُرْبُ مَعْنَاهُمَا لَمَا وَرَدَ في القرآن تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الأنعام: 63] وتَضَرُّعاً وَخِيفَةً [الأعراف: 205] وَالْمَخْفِيُّ فِيهِ ضَعْفٌ كَالْخَائِفِ إِذَا عَلِمْتَ هَذَا تَبَيَّنَ لَكَ اللَّطِيفَةَ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ ذَكَرَ لَفْظَ الْخَشْيَةِ حَيْثُ كَانَ الْخَوْفُ مِنْ عَظَمَةِ الْمَخْشِيِّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: 28] وَقَالَ: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا/ الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الْحَشْرِ: 21] فَإِنَّ الْجَبَلَ لَيْسَ فِيهِ ضَعْفٌ يَكُونُ الْخَوْفُ مِنْ ضَعْفِهِ وَإِنَّمَا اللَّهُ عَظِيمٌ يَخْشَاهُ كل قوي هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 57] مَعَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَقْوِيَاءُ وَقَالَ تَعَالَى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الْأَحْزَابِ: 37] أَيْ تَخَافُهُمْ إِعْظَامًا لَهُمْ إِذْ لَا ضَعْفَ فِيكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ وَقَالَ تَعَالَى: لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ [الْعَنْكَبُوتِ: 33] أَيْ لَا تَخَفْ ضَعْفًا فَإِنَّهُمْ لَا عظمة لهم وقال: يَخافُونَ يَوْماً [الإنسان: 7] حَيْثُ كَانَ عَظَمَةُ الْيَوْمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَظَمَةِ اللَّهِ ضَعِيفَةً وَقَالَ: أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فُصِّلَتْ: 30] أَيْ بِسَبَبٍ مَكْرُوهٍ يَلْحَقُكُمْ مِنَ الْآخِرَةِ فَإِنَّ الْمَكْرُوهَاتِ كُلَّهَا مَدْفُوعَةٌ عَنْكُمْ، وَقَالَ تَعَالَى: خائِفاً يَتَرَقَّبُ [الْقَصَصِ: 21] وَقَالَ: فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [القصص: 33] لوحدته وضعفه وقال هارون: نِّي خَشِيتُ [طه: 94] لِعَظَمَةِ مُوسَى فِي عَيْنِ

هَارُونَ لَا لِضَعْفٍ فِيهِ وَقَالَ: فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً [الْكَهْفِ: 80] حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لِضَعْفٍ فِيهِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ اسْتِعْمَالَ الْخَشْيَةِ وَجَدْتَهَا مُسْتَعْمَلَةً لِخَوْفٍ بِسَبَبِ عَظَمَةِ الْمَخْشِيِّ، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْخَوْفِ وَجَدْتَهُ مُسْتَعْمَلًا لِخَشْيَةٍ مِنْ ضَعْفِ الْخَائِفِ، وَهَذَا فِي الْأَكْثَرِ وَرُبَّمَا يَتَخَلَّفُ الْمُدَّعَى عَنْهُ لَكِنَّ الْكَثْرَةَ كافية الثانية: قال الله تعالى هاهنا خَشِيَ الرَّحْمنَ مَعَ أَنَّ وَصْفَ الرَّحْمَةِ غَالِبًا يُقَابِلُ الْخَشْيَةَ إِشَارَةً إِلَى مَدْحِ الْمُتَّقِي حَيْثُ لَمْ تَمْنَعْهُ الرَّحْمَةُ مِنَ الْخَوْفِ بِسَبَبِ الْعَظَمَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الْحَشْرِ: 21] إِشَارَةً إِلَى ذَمِّ الْكَافِرِ حَيْثُ لَمْ تَحْمِلْهُ الْأُلُوهِيَّةُ الَّتِي تُنْبِئُ عَنْهَا لَفْظَةُ اللَّه وَفِيهَا الْعَظَمَةُ عَلَى خَوْفِهِ وَقَالَ: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: 28] لِأَنَّ (إِنَّمَا) لِلْحَصْرِ فَكَانَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْجَاهِلَ لَا يَخْشَاهُ فَذَكَرَ اللَّه لِيُبَيِّنَ أَنَّ عَدَمَ خَشْيَتِهِ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضَى وَعَدَمَ الْمَانِعِ وَهُوَ الرَّحْمَةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ يس ونزيد هاهنا شَيْئًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ نَقُولَ لَفْظَةُ الرَّحْمنَ إِشَارَةٌ إِلَى مُقْتَضَى لَا إِلَى الْمَانِعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّحْمَنَ مَعْنَاهُ وَاهِبُ الْوُجُودِ بِالْخَلْقِ، وَالرَّحِيمُ وَاهِبُ الْبَقَاءِ بِالرِّزْقِ وَهُوَ فِي الدُّنْيَا رَحْمَانٌ حَيْثُ أَوْجَدَنَا بِالرَّحْمَةِ، وَرَحِيمٌ حَيْثُ أَبْقَى بِالرِّزْقِ، وَلَا يُقَالُ لِغَيْرِهِ رَحِيمٌ لِأَنَّ الْبَقَاءَ بِالرِّزْقِ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يَأْتِي مِمَّنْ يُطْعِمُ الْمُضْطَرَّ، فَيُقَالُ فُلَانٌ هُوَ الَّذِي أَبْقَى فُلَانًا، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا رَحْمَانٌ حَيْثُ يُوجِدُنَا، وَرَحِيمٌ حَيْثُ يَرْزُقُنَا، وَذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ حَيْثُ قُلْنَا قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِشَارَةً إِلَى كَوْنِهِ رَحْمَانًا فِي الدُّنْيَا حَيْثُ خَلَقَنَا، رَحِيمًا فِي الدُّنْيَا حَيْثُ رَزَقَنَا رَحْمَةً ثُمَّ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَيْ هُوَ رَحْمَنٌ مَرَّةً أُخْرَى فِي الْآخِرَةِ بِخَلْقِنَا ثَانِيًا، وَاسْتَدْلَلْنَا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَةِ: 4] أَيْ يَخْلُقُنَا ثَانِيًا، وَرَحِيمٌ يَرْزُقُنَا وَيَكُونُ هُوَ الْمَالِكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَمَنْ يَكُونُ مِنْهُ وُجُودُ الْإِنْسَانِ لَا يَكُونُ خَوْفُهُ خَشْيَةً مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ الْقَائِلَ يَقُولُ لِغَيْرِهِ أَخَافُ مِنْكَ أَنْ تَقْطَعَ رِزْقِي أَوْ تُبَدِّلَ حَيَاتِي، فَإِذَا كَانَ اللَّه تَعَالَى رَحْمَانًا مِنْهُ الْوُجُودُ يَنْبَغِي أَنْ يُخْشَى، فَإِنَّ مَنْ بِيَدِهِ الْوُجُودُ بِيَدِهِ الْعَدَمُ، وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَشْيَةُ اللَّه رَأْسُ كُلِّ حِكْمَةٍ» وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَكِيمَ إِذَا تَفَكَّرَ فِي غَيْرِ اللَّه وَجَدَهُ مَحَلَّ التَّغَيُّرِ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ فِي كُلِّ طَرْفَةِ عَيْنٍ، وَرُبَّمَا يُقَدِّرُ اللَّه عَدَمَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْإِضْرَارِ، لِأَنَّ غَيْرَ اللَّه إِنْ/ لَمْ يُقَدِّرِ اللَّه أَنْ يَضُرَّ لَا يَقْدِرُ عَلَى الضَّرَرِ وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بِتَقْدِيرِ اللَّه فَسَيَزُولُ الضَّرَرُ بِمَوْتِ الْمُعَذَّبِ أَوِ الْمُعَذِّبِ، وَأَمَّا اللَّه تَعَالَى فَلَا رَادَّ لِمَا أَرَادَ وَلَا آخِرَ لِعَذَابِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: بِالْغَيْبِ أَيْ كَانَتْ خَشْيَتُهُمْ قَبْلَ ظُهُورِ الْأُمُورِ حَيْثُ تُرَى رَأْيَ الْعَيْنِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ إِشَارَةٌ إِلَى صِفَةِ مَدْحٍ أُخْرَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَاشِيَ قَدْ يَهْرُبُ وَيَتْرُكُ الْقُرْبَ مِنَ الْمَخْشِيِّ وَلَا يَنْتَفِعُ، وَإِذَا عَلِمَ الْمَخْشِيُّ أَنَّهُ تَحْتَ حُكْمِهِ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ الْهَرَبُ، فَيَأْتِي الْمَخْشِيُّ وَهُوَ [غَيْرُ] خَاشٍ فَقَالَ: وَجاءَ وَلَمْ يَذْهَبْ كَمَا يَذْهَبُ الْآبِقُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِقَلْبٍ مُنِيبٍ الْبَاءُ فِيهِ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا ذَكَرْنَاهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق: 19] أَحَدُهَا: التَّعْدِيَةُ أَيْ أَحْضَرَ قَلْبًا سَلِيمًا، كَمَا يُقَالُ ذَهَبَ بِهِ إِذَا أَذْهَبَهُ ثَانِيهَا: الْمُصَاحَبَةُ يُقَالُ اشْتَرَى فُلَانٌ الْفَرَسَ بِسَرْجِهِ، أَيْ مَعَ سَرْجِهِ وَجَاءَ فُلَانٌ بِأَهْلِهِ أَيْ مَعَ أَهْلِهِ ثَالِثُهَا: وَهُوَ أَعْرَفُهَا الْبَاءُ لِلسَّبَبِ يُقَالُ مَا أَخَذَ فُلَانٌ إِلَّا بِقَوْلِ فُلَانٍ وَجَاءَ بِالرَّجَاءِ لَهُ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: جَاءَ وَمَا جَاءَ إِلَّا بِسَبَبِ إِنَابَةٍ فِي قَلْبِهِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا مَرْجِعَ إِلَّا إِلَى اللَّه فَجَاءَ بِسَبَبِ قَلْبِهِ الْمُنِيبِ، وَالْقَلْبُ الْمُنِيبُ كَالْقَلْبِ السَّلِيمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصَّافَّاتِ: 84] أَيْ سَلِيمٍ مِنَ الشِّرْكِ، وَمَنْ سَلِمَ مِنَ الشِّرْكِ يَتْرُكُ غَيْرَ اللَّه وَيَرْجِعُ إِلَى اللَّه فَكَانَ مُنِيبًا، وَمَنْ أَنَابَ إِلَى اللَّه برىء من الشرك فكان سليما.

[سورة ق (50) : آية 34]

[سورة ق (50) : آية 34] ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ادْخُلُوها بِسَلامٍ. فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إلى الجنة التي في وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ [ق: 31] أَيْ لَمَّا تَكَامَلَ حُسْنُهَا وَقُرْبُهَا وَقِيلَ لَهُمْ إنها منزلكم بقوله هذا ما تُوعَدُونَ [ق: 32] أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِهَا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْخِطَابُ مَعَ مَنْ؟ نَقُولُ إِنْ قُرِئَ مَا تُوعَدُونَ بِالتَّاءِ فَهُوَ ظَاهِرٌ إِذْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْخِطَابَ مَعَ الْمَوْعُودِينَ، وَإِنْ قُرِئَ بِالْيَاءِ فَالْخِطَابُ مَعَ الْمُتَّقِينَ أَيْ يُقَالُ لِلْمُتَّقِينَ ادْخُلُوهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِذْنِ، وَفِيهِ مِنَ الِانْتِظَارِ مَا لَا يَلِيقُ بِالْإِكْرَامِ، نَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مَنْ دَعَا مُكْرَمًا إِلَى بُسْتَانِهِ يَفْتَحُ لَهُ الْبَابَ وَيَجْلِسُ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَا يَقِفُ عَلَى الْبَابِ مَنْ يُرَحِّبُهُ، وَيَقُولُ إِذَا بَلَغْتَ بُسْتَانِي فَادْخُلْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَحَدٌ يَكُونُ قَدْ أَخَلَّ بِإِكْرَامِهِ بِخِلَافِ مَنْ يَقِفُ على بابه قَوْمٍ يَقُولُونَ: ادْخُلْ بِاسْمِ اللَّه، يَدُلُّ عَلَى الْإِكْرَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِسَلامٍ كَمَا يَقُولُ الْمُضِيفُ: ادْخُلْ مُصَاحَبًا بِالسَّلَامَةِ وَالسَّعَادَةِ وَالْكَرَامَةِ، وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ فِي مَعْنَى الْحَالِ، أَيْ سَالِمِينَ مَقْرُونِينَ بِالسَّلَامَةِ، أَوْ مَعْنَاهُ ادْخُلُوهَا مُسَلَّمًا عَلَيْكُمْ، وَيُسَلِّمُ اللَّه وَمَلَائِكَتُهُ عَلَيْكُمْ، وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِرْشَادًا لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَا أُرْشِدُوا إِلَيْهَا فِي الدُّنْيَا، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النُّورِ: 27] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: هَذِهِ دَارُكُمْ وَمَنْزِلُكُمْ، وَلَكِنْ لَا تَتْرُكُوا حَسَنَ/ عَادَتِكُمْ، وَلَا تُخِلُّوا بِمَكَارِمِ أَخْلَاقِكُمْ، فَادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ، وَيَصِيحُونَ سَلَامًا على من فيها، ويسلم من فيها عليهم، وَيَقُولُونَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الْوَاقِعَةِ: 26] أَيْ يُسَلِّمُونَ على من فيها، ويسلم من فيها عليهم، وَهَذَا الْوَجْهُ إِنْ كَانَ مَنْقُولًا فَنِعْمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْقُولًا فَهُوَ مُنَاسِبٌ مَعْقُولٌ أَيَّدَهُ دَلِيلٌ مَنْقُولٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ. حَتَّى لَا يَدْخُلَ فِي قَلْبِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ فَتَبْقَى فِي قَلْبِهِمْ حَسْرَتُهُ، فَإِنْ قِيلَ الْمُؤْمِنُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ خُلِّدَ فِيهَا، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّذْكِيرِ؟ وَالْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ قَوْلٌ قَالَهُ اللَّه فِي الدُّنْيَا إِعْلَامًا وَإِخْبَارًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ قَوْلًا يَقُولُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ ادْخُلُوها فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَنَا فِي يَوْمِنَا أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَوْمُ الْخُلُودِ. ثَانِيهِمَا: اطْمِئْنَانُ الْقَلْبِ بِالْقَوْلِ أَكْثَرُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ يَوْمُ الْخُلُودِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ: ذَلِكَ يَوْمُ تَقْدِيرِ الْخُلُودِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْيَوْمُ يُذَكَّرُ، وَيُرَادُ الزَّمَانُ الْمُطْلَقُ سَوَاءٌ كَانَ يَوْمًا أَوْ لَيْلًا، نَقُولُ: يَوْمَ يُولَدُ لِفُلَانٍ ابْنٌ يَكُونُ السُّرُورُ الْعَظِيمُ، وَلَوْ وُلِدَ لَهُ بِاللَّيْلِ لَكَانَ السُّرُورُ حَاصِلًا، فَتُرِيدُ بِهِ الزَّمَانَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ذَلِكَ زَمَانٌ الْإِقَامَةِ الدَّائِمَةِ. ثُمَّ قال تعالى: [سورة ق (50) : آية 35] لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) وَفِي الْآيَةِ تَرْتِيبٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بِبَيَانِ إكرامهم حيث قال: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [الشعراء: 90] وَلَمْ يَقُلْ: قُرِّبَ الْمُتَّقُونَ مِنَ الْجَنَّةِ بَيَانًا لِلْإِكْرَامِ حَيْثُ جَعَلَهُمْ مِمَّنْ تُنْقَلُ إِلَيْهِمُ الْجِنَانُ

[سورة ق (50) : آية 36]

بِمَا فِيهَا مِنَ الْحِسَانِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ هذا لكم، بقوله هذا ما تُوعَدُونَ [ق: 32] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ أَجْرُ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ بِقَوْلِهِ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ وقوله مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ [ق: 33] فَإِنَّ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ الَّذِي مَلَكَ شَيْئًا بِعِوَضٍ أَتَمُّ فِيهِ مِنْ تَصَرُّفِ مَنْ مَلَكَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، لِإِمْكَانِ الرُّجُوعِ فِي التَّمْلِيكِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، ثم زاد في الإكرام بقوله ادْخُلُوها [ق: 34] كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ إِكْرَامٌ، لِأَنَّ مَنْ فَتَحَ بَابَهُ لِلنَّاسِ، وَلَمْ يَقِفْ بِبَابِهِ مَنْ يُرَحِّبُ الدَّاخِلِينَ، لَا يَكُونُ قَدْ أَتَى بِالْإِكْرَامِ التام، ثم قال: ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ [ق: 34] أَيْ لَا تَخَافُوا مَا لَحِقَكُمْ مِنْ قَبْلُ حَيْثُ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْهَا، فَهَذَا دُخُولٌ لَا خُرُوجَ بَعْدَهُ مِنْهَا. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ قَالَ لَا تَخَافُوا انْقِطَاعَ أَرْزَاقِكُمْ وَبَقَاءَكُمْ فِي حَاجَةٍ، كَمَا كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا مَنْ كَانَ يُعَمَّرُ يُنَكَّسُ وَيَحْتَاجُ، بَلْ لَكُمُ الخلود، ولا ينفد ما تمتعون بِهِ فَلَكُمْ مَا تَشَاءُونَ فِي أَيِّ وَقْتٍ تَشَاءُونَ، وَإِلَى اللَّه الْمُنْتَهَى، وَعِنْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَالْمُثُولِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَا يُوَصَفُ مَا لَدَيْهِ، وَلَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ عَلَيْهِ، وَعَظَمَةُ مَنْ عِنْدَهُ تَدُلُّكَ عَلَى فَضِيلَةِ مَا عِنْدَهُ، هَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ، وَأَمَّا التَّفْسِيرُ، فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قال تعالى: ادْخُلُوها بِسَلامٍ [ق: 34] عَلَى سَبِيلِ الْمُخَاطَبَةِ، ثُمَّ قَالَ: لَهُمْ وَلَمْ يَقُلْ لَكُمْ مَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ الْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ادْخُلُوها مُقَدَّرٌ فِيهِ يُقَالُ لَهُمْ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ادْخُلُوها فَلَا يَكُونُ عَلَى هَذَا الْتِفَاتًا الثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ وَالْحِكْمَةِ الْجَمْعُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: أَكْرَمَهُمْ بِهِ فِي حُضُورِهِمْ، فَفِي حُضُورِهِمُ الْحُبُورُ، وَفِي غَيْبَتِهِمُ الْحُورُ وَالْقُصُورُ وَالثَّالِثُ: هُوَ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ جَازَ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مَعَ الْمَلَائِكَةِ، يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ: تَوَكَّلُوا بِخِدْمَتِهِمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا، فَأَحْضِرُوا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَا يَشَاءُونَ، وَأَمَّا أَنَا فَعِنْدِي مَا لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ، وَلَا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لَفْظَ مَزِيدٌ [ق: 30] يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الزِّيَادَةَ، فَيَكُونُ كَمَا فِي قَوْلَهُ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُسَ: 26] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ عِنْدِنَا مَا نَزِيدُهُ عَلَى مَا يَرْجُونَ وَمَا يكون مما يشتهون. [سورة ق (50) : آية 36] وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً. لَمَّا أَنْذَرَهُمْ بم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، أَنْذَرَهُمْ بِمَا يُعَجَّلُ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهْلِكِ وَالْإِهْلَاكِ الْمُدْرِكِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ حَالَ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي مَوَاضِعَ، وَالَّذِي يَخْتَصُّ بِهَذَا الْمَوْضِعِ أُمُورٌ أَحَدُهَا: إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْإِنْذَارِ بِالْعَذَابِ الْعَاجِلِ وَالْعِقَابِ الْآجِلِ، فَلِمَ تَوَسَّطَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ إلى قوله وَلَدَيْنا مَزِيدٌ [ق: 31- 35] نَقُولُ لِيَكُونَ ذَلِكَ دُعَاءً بِالْخَوْفِ وَالطَّمَعِ، فَذَكَرَ حَالَ الْكَفُورِ الْمُعَانِدِ، وَحَالَ الشَّكُورِ الْعَابِدِ فِي الْآخِرَةِ تَرْهِيبًا وَتَرْغِيبًا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنَ الْعَذَابِ الْأَبَدِيِّ الدَّائِمِ، فَمَا أَنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ الْمُهْلِكِ الَّذِي أَهْلَكَ أَمْثَالَكُمْ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ التَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الْعَاجِلَةِ، كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْآجِلَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ حَالَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَبْلُ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ، كَمَا ذَكَرَ حَالَ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ فَأَهْلَكَهُ نَقُولُ لِأَنَّ النِّعْمَةَ كَانَتْ قَدْ وَصَلَتْ إِلَيْهِمْ، وَكَانُوا مُتَقَلِّبِينَ فِي النِّعَمِ، فَلَمْ يَذْكُرْهُمْ

[سورة ق (50) : آية 37]

بِهِ، وَإِنَّمَا كَانُوا غَافِلِينَ عَنِ الْهَلَاكِ فَأَنْذَرَهُمْ بِهِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ، فَكَانُوا غَافِلِينَ عَنِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، فَأَخْبَرَهُمْ بِهِمَا. الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ. فِي مَعْنَاهُ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: هُوَ مَا قَالَهُ تَعَالَى فِي حَقِّ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ [الْفَجْرِ: 9] مِنْ قُوَّتِهِمْ خَرَقُوا الطُّرُقَ وَنَقَبُوهَا، وَقَطَعُوا الصُّخُورَ وَثَقَبُوهَا ثَانِيهَا: نَقَبُوا، أَيْ سَارُوا فِي الْأَسْفَارِ وَلَمْ يَجِدُوا مَلْجَأً وَمَهْرَبًا، وَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَهْلَ مَكَّةَ، أَيْ هُمْ سَارُوا فِي الْأَسْفَارِ، وَرَأَوْا مَا فِيهَا مِنَ الْآثَارِ ثَالِثُهَا: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ أَيْ صَارُوا نُقَبَاءَ فِي الْأَرْضِ أَرَادَ مَا أَفَادَهُمْ/ بَطْشُهُمْ وَقُوَّتُهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْفَاءُ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ حِينَئِذٍ مُفِيدَةً تَرَتُّبَ الْأَمْرِ عَلَى مُقْتَضَاهُ، تَقُولُ كَانَ زَيْدٌ أَقْوَى مِنْ عَمْرٍو فَغَلَبَهُ، وكان عمرو مريضا فغلبه زيد، كذلك هاهنا قَالَ تَعَالَى: هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَصَارُوا نُقَبَاءَ فِي الْأَرْضِ، وَقُرِئَ فَنَقَّبُوا بِالتَّشْدِيدِ، وَهُوَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ، لِأَنَّ التَّنْقِيبَ الْبَحْثُ، وَهُوَ مِنْ نَقُبَ بِمَعْنَى صَارَ نَقِيبًا. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ مِنْ مَحِيصٍ. يَحْتَمِلُ وُجُوهًا ثَلَاثَةً الْأَوَّلُ: عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ مَفْعُولٌ، أَيْ بَحَثُوا عَنِ الْمَحِيصِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ الثَّانِي: عَلَى الْقِرَاءَاتِ جَمِيعًا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَحِيصٌ الثَّالِثُ: هُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِقَوْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ أهلكوا مع قوة بطشهم فهل مِنْ مَحِيصٍ لَكُمْ تَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ وَالْمَحِيصُ كَالْمَحِيدِ غَيْرَ أَنْ الْمَحِيصَ مَعْدَلٌ وَمَهْرَبٌ عَنِ الشِّدَّةِ، يَدُلُّكَ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ وَقَعُوا فِي حَيْصَ بَيْصَ أَيْ فِي شِدَّةٍ وَضِيقٍ، وَالْمَحِيدُ مَعْدَلٌ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ بِالِاخْتِيَارِ يُقَالُ حَادَ عَنِ الطَّرِيقِ نَظَرًا، وَلَا يُقَالُ حَاصَ عَنِ الْأَمْرِ نَظَرًا. [سورة ق (50) : آية 37] إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ. الْإِشَارَةُ إِلَى الْإِهْلَاكِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قَالَهُ مِنْ إِزْلَافِ الْجَنَّةِ وَمَلْءِ جَهَنَّمَ وَغَيْرِهِمَا، وَالذِّكْرَى اسْمُ مَصْدَرٍ هُوَ التَّذَكُّرُ وَالتَّذْكِرَةُ وَهِيَ فِي نَفْسِهَا مَصْدَرُ ذَكَرَهُ يَذْكُرُهُ ذِكْرًا وَذِكْرَى وَقَوْلَهُ لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ قِيلَ الْمُرَادُ قَلْبٌ مَوْصُوفٌ بِالْوَعْيِ، أَيْ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ وَاعٍ يُقَالُ لِفُلَانٍ مَالٌ أَيْ كَثِيرٌ فَالتَّنْكِيرُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى فِي الْكَمَالِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ هُوَ لِبَيَانِ وُضُوحِ الْأَمْرِ بَعْدَ الذِّكْرِ وَأَنْ لَا خَفَاءَ فِيهِ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ مَا وَلَوْ كَانَ غَيْرَ كَامِلٍ، كَمَا يُقَالُ أَعْطِهِ شَيْئًا وَلَوْ كَانَ دِرْهَمًا، وَنَقُولُ الْجَنَّةُ لِمَنْ عَمِلَ خَيْرًا وَلَوْ حَسَنَةً، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ قَلْبٌ وَحِينَئِذٍ فَمَنْ لَا يَتَذَكَّرُ لَا قَلْبَ لَهُ أَصْلًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [الْبَقَرَةِ: 18] حَيْثُ لَمْ تَكُنْ آذَانُهُمْ وَأَلْسِنَتُهُمْ وَأَعْيُنُهُمْ مُفِيدَةً لِمَا يُطْلَبُ مِنْهَا كَذَلِكَ مَنْ لَا يَتَذَكَّرُ كَأَنَّهُ لَا قَلْبَ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الْأَعْرَافِ: 179] أَيْ هُمْ كَالْجَمَادِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [الْمُنَافِقُونَ: 4] أَيْ لَهُمْ صُوَرٌ وَلَيْسَ لَهُمْ قَلْبٌ لِلذِّكْرِ وَلَا لِسَانٌ لِلشُّكْرِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ أَيِ اسْتَمَعَ وَإِلْقَاءُ السَّمْعِ كِنَايَةٌ فِي الِاسْتِمَاعِ، لِأَنَّ مَنْ لَا يَسْمَعُ فَكَأَنَّهُ حَفِظَ سَمْعَهُ وَأَمْسَكَهُ فَإِذَا أَرْسَلَهُ حَصَلَ الِاسْتِمَاعُ، فَإِنْ قِيلَ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ التَّنْكِيرُ فِي الْقَلْبِ لِلتَّكْثِيرِ يَظْهَرُ

[سورة ق (50) : آية 38]

حُسْنُ تَرْتِيبٍ فِي قَوْلِهِ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ/ تَعَالَى يَقُولُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لِذِكْرَى لِمَنْ كَانَ ذَا قَلْبٍ وَاعٍ ذَكِيٍّ يَسْتَخْرِجُ الْأُمُورَ بِذَكَائِهِ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَيَسْتَمِعُ مِنَ الْمُنْذِرِ فَيَتَذَكَّرُ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِكَ الْمُرَادُ مَنْ صَحَّ أَنَّ يُقَالَ لَهُ قَلْبٌ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ وَاعٍ لَا يَظْهَرُ هَذَا الْحُسْنَ، نَقُولُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا رُبَّمَا يَكُونُ التَّرْتِيبُ أَحْسَنَ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ يَصِيرُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فِيهِ ذِكْرَى لِكُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ذَكِيٌّ يَسْتَمِعُ وَيَتَعَلَّمُ. وَنَحْنُ نَقُولُ التَّرْتِيبُ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى كَأَنَّهُ يَقُولُ: فِيهِ ذِكْرَى لِكُلِّ وَاحِدٍ كَيْفَ كَانَ لَهُ قَلْبٌ لِظُهُورِ الْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَحْصُلُ لِكُلِّ أَحَدٍ فَلِمَنْ يَسْتَمِعُ حَاصِلٌ وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ أَوِ اسْتَمَعَ لِأَنَّ الِاسْتِمَاعَ يُنْبِئُ عَنْ طَلَبٍ زَائِدٍ، وَأَمَّا إِلْقَاءُ السَّمْعِ فَمَعْنَاهُ أَنَّ الذِّكْرَى حَاصِلَةٌ لِمَنْ لَا يُمْسِكُ سَمْعَهُ بَلْ يُرْسِلُهُ إِرْسَالًا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ السَّمَاعَ كَالسَّامِعِ فِي الصَّوْتِ الْهَائِلِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ عِنْدَ مُجَرَّدِ فَتْحِ الْأُذُنِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ السَّمَاعَ وَالصَّوْتُ الْخَفِيُّ لَا يُسْمَعُ إِلَّا بِاسْتِمَاعٍ وَتَطَلُّبٍ، فَنَقُولُ الذِّكْرَى حَاصِلَةٌ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ كَيْفَ كَانَ قَلْبُهُ لِظُهُورِهَا فَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ فَلِمَنْ لَهُ أُذُنٌ غَيْرُ مَسْدُودَةٍ كَيْفَ كان حاله سواء استمع باجتهاد أَوْ لَمْ يَجْتَهِدْ فِي سَمَاعِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ شَهِيدٌ لِلْحَالِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِلْقَاءَ السَّمْعِ بِمُجَرَّدِهِ غَيْرُ كَافٍ، نَقُولُ هَذَا يُصَحِّحُ مَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّا قُلْنَا بِأَنَّ الذِّكْرَى حَاصِلَةٌ لِمَنْ لَهُ قَلْبٌ مَا، فَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ فَتَحْصُلْ لَهُ إِذَا أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ حَاضِرٌ بِبَالِهِ مِنَ الْقَلْبِ، وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَمَعْنَاهُ مَنْ لَيْسَ لَهُ قَلْبٌ وَاعٍ يَحْصُلُ لَهُ الذِّكْرُ إِذَا أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ حَاضِرٌ بِقَلْبِهِ فَيَكُونُ عِنْدَ الْحُضُورِ بِقَلْبِهِ يَكُونُ لَهُ قَلْبٌ وَاعٍ، وَقَدْ فُرِضَ عَدَمُهُ هَذَا إِذَا قُلْنَا بِأَنَّ قَوْلَهُ وَهُوَ شَهِيدٌ بِمَعْنَى الْحَالِ، وَإِذَا لَمْ نَقُلْ بِهِ فَلَا يُرَدُّ مَا ذُكِرَ وَهُوَ يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ بَيَانُهُ هُوَ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَتَقْرِيرُهُ هُوَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا قَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [ق: 1، 2] وَذَكَرَ مَا يَدْفَعُ تَعَجُّبَهُمْ وَبَيَّنَ كَوْنَهُ مُنْذِرًا صَادِقًا وَكَوْنَ الْحَشْرِ أَمْرًا وَاقِعًا وَرَغَّبَ وَأَرْهَبَ بِالثَّوَابِ وَالْعَذَابِ آجِلًا وَعَاجِلًا وَأَتَمَّ الْكَلَامَ قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ أَيِ الْقُرْآنِ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ لِمَنْ يَسْتَمِعُ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ شَهِيدٌ أَيِ الْمُنْذِرُ الَّذِي تَعَجَّبْتُمْ مِنْهُ شَهِيدٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً [الْفَتْحِ: 8] وَقَالَ تعالى: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ [الحج: 78] . ثم قال تعالى: [سورة ق (50) : آية 38] وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) أَعَادَ الدَّلِيلَ مَرَّةً أُخْرَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ ذَلِكَ فِي الم السَّجْدَةِ وَقُلْنَا إِنَّ الْأَجْسَامَ ثَلَاثَةُ أجناس أحدها: السموات، ثُمَّ حَرَّكَهَا وَخَصَّصَهَا بِأُمُورٍ وَمَوَاضِعَ وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ خَلَقَهَا، ثُمَّ دَحَاهَا وَكَذَلِكَ مَا بَيْنَهُمَا خَلَقَ أَعْيَانَهَا وَأَصْنَافَهَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ إِشَارَةً إِلَى ستة أطوار، والذي يدل عليه/ ويقرره هو أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَيَّامِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَفْهُومَ فِي وَضْعِ اللُّغَةِ، لِأَنَّ الْيَوْمَ عِبَارَةٌ فِي اللُّغَةِ عَنْ زَمَانِ مُكْثِ الشَّمْسِ فَوْقَ الْأَرْضِ مِنَ الطُّلُوعِ إِلَى الْغُرُوبِ، وقبل خلق السموات لَمْ يَكُنْ شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ لَكِنَّ الْيَوْمَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ يُقَالُ يَوْمَ يُولَدُ لِلْمَلِكِ ابْنٌ يَكُونُ سُرُورٌ عَظِيمٌ وَيَوْمَ يَمُوتُ فُلَانٌ يَكُونُ حَزْنٌ شَدِيدٌ، وَإِنِ اتَّفَقَتِ الْوِلَادَةُ أَوِ الْمَوْتُ لَيْلًا وَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ وَيَدْخُلُ فِي مُرَادِ الْعَاقِلِ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْيَوْمِ مُجَرَّدَ الْحِينِ وَالْوَقْتِ، إِذَا عَلِمْتَ الْحَالَ مِنْ إِضَافَةِ الْيَوْمِ إِلَى الْأَفْعَالِ فَافْهَمْ مَا عِنْدَ إِطْلَاقِ الْيَوْمِ فِي قَوْلِهِ سِتَّةِ أَيَّامٍ وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الرَّدُّ عَلَى الْيَهُودِ، حَيْثُ قَالُوا بَدَأَ اللَّه تَعَالَى خَلْقَ الْعَالَمِ يَوْمَ الْأَحَدِ وَفَرَغَ مِنْهُ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ آخِرُهَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَاسْتَرَاحَ يَوْمَ السَّبْتِ وَاسْتَلْقَى عَلَى عَرْشِهِ فَقَالَ تَعَالَى: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ رَدًّا عَلَيْهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الرَّدُّ على المشرك والاستدلال

[سورة ق (50) : آية 39]

بخلق السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ أَيْ مَا تَعِبْنَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ حَتَّى لَا نَقْدِرَ عَلَى الْإِعَادَةِ ثَانِيًا: وَالْخَلْقُ الْجَدِيدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ [ق: 15] وَأَمَّا مَا قَالَهُ الْيَهُودُ وَنَقَلُوهُ مِنَ التَّوْرَاةِ فَهُوَ إِمَّا تَحْرِيفٌ مِنْهُمْ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا تَأْوِيلَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَحَدَ وَالِاثْنَيْنِ أَزْمِنَةٌ مُتَمَيِّزٌ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، فَلَوْ كَانَ خَلْقُ السموات ابْتُدِئَ يَوْمَ الْأَحَدِ لَكَانَ الزَّمَانُ مُتَحَقِّقًا قَبْلَ الْأَجْسَامِ وَالزَّمَانُ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْأَجْسَامِ فَيَكُونُ قَبْلَ خَلْقِ الْأَجْسَامِ أَجْسَامٌ أُخَرُ فَيَلْزَمُ الْقَوْلُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْفَلَاسِفَةِ، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ بَيْنَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُشَبِّهَةِ غَايَةَ الْخِلَافِ، فَإِنَّ الْفَلْسَفِيَّ لَا يُثْبِتُ للَّه تَعَالَى صِفَةً أَصْلًا وَيَقُولُ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَقْبَلُ صِفَةً بَلْ هُوَ وَاحِدٌ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، فَعِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَحَيَاتُهُ هُوَ حَقِيقَتُهُ وَعَيْنُهُ وَذَاتُهُ، وَالْمُشَبِّهِيُّ يُثْبِتُ للَّه صِفَةَ الْأَجْسَامِ مِنَ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالِاسْتِوَاءِ وَالْجُلُوسِ وَالصُّعُودِ وَالنُّزُولِ فَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ، ثُمَّ إِنَّ الْيَهُودَ فِي هَذَا الْكَلَامِ جَمَعُوا بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَأَخَذُوا بِمَذْهَبِ الْفَلَاسِفَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ الْمَسَائِلِ بِهِمْ وَهِيَ الْقِدَمُ حَيْثُ أَثْبَتُوا قَبْلَ خَلْقِ الْأَجْسَامِ أَيَّامًا مَعْدُودَةً وَأَزْمِنَةً مَحْدُودَةً، وَأَخَذُوا بِمَذْهَبِ الْمُشَبِّهَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ الْمَسَائِلِ بِهِمْ وَهِيَ الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ فَأَخْطَأُوا [وَضَلُّوا] وَأَضَلُّوا فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ جميعا. [سورة ق (50) : آية 39] فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ قَالَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ مَعْنَاهُ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ مِنْ حَدِيثِ التَّعَبِ بِالِاسْتِلْقَاءِ، وعلى ما قلنا مَعْنَاهُ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَقْرَبُ لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ، وَذِكْرُ الْيَهُودِ وَكَلَامُهُمْ لَمْ يَجْرِ. وَقَوْلُهُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ اللَّه أَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ [هُودٍ: 114] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ إشارة إلى طرفي النهار. [سورة ق (50) : آية 40] وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) وَقَوْلُهُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ إِشَارَةٌ إِلَى زُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ، ووجه هذا هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ شُغْلَانِ أَحَدُهُمَا: عِبَادَةُ اللَّه. وَثَانِيهِمَا: هِدَايَةُ الْخَلْقِ فَإِذَا هَدَاهُمْ وَلَمْ يَهْتَدُوا، قِيلَ لَهُ أَقْبِلْ عَلَى شُغْلِكَ الْآخَرِ وَهُوَ عِبَادَةُ الْحَقِّ ثَانِيهَا: سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، أَيْ نَزِّهْهُ عَمَّا يَقُولُونَ وَلَا تَسْأَمْ مِنِ امْتِنَاعِهِمْ بَلْ ذَكِّرْهُمْ بِعَظَمَةِ اللَّه تَعَالَى وَنَزِّهْهُ عَنِ الشِّرْكِ وَالْعَجْزِ عَنِ الْمُمْكِنِ الَّذِي هُوَ الْحَشْرُ قَبْلَ الطُّلُوعِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، فَإِنَّهُمَا وَقْتُ اجْتِمَاعِهِمْ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أَيْ أَوَائِلِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ أَيْضًا وَقْتُ اجْتِمَاعِ الْعَرَبِ، وَوَجْهُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَسْأَمَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ فَإِنَّ الرُّسُلَ مِنْ قَبْلِكَ أُوذُوا وَكُذِّبُوا وَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا، وَعَلَى هَذَا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَدْبارَ السُّجُودِ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ وَهِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ شُغْلَ الرَّسُولِ أَمْرَانِ الْعِبَادَةُ وَالْهِدَايَةُ فَقَوْلُهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ أَيْ عَقِبَ مَا سَجَدْتَ وَعَبَدْتَ نَزِّهْ رَبَّكَ بِالْبُرْهَانِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْقَوْمِ لِيَحْصُلَ لَكَ الْعِبَادَةُ بِالسُّجُودِ وَالْهِدَايَةُ أَدْبَارَ السُّجُودِ ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قُلْ سُبْحَانَ اللَّه، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَلْفَاظًا مَعْدُودَةً جَاءَتْ بِمَعْنَى التَّلَفُّظِ بِكَلَامِهِمْ، فَقَوْلُنَا كَبَّرَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ قَوْلُ الْقَائِلِ اللَّه أَكْبَرُ، وَسَلَّمَ يُرَادُ بِهِ قَوْلُهُ السَّلَامُ عليكم، وحمد يقال لمن قال الحمد للَّه، ويقال هل لِمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، وَسَبَّحَ لِمَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّه، وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ تَتَكَرَّرُ مِنَ الْإِنْسَانِ فِي الْكَلَامِ والحاجة تدعو

إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهَا، فَلَوْ قَالَ الْقَائِلُ فُلَانٌ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه أَوْ قَالَ اللَّه أَكْبَرُ طَوَّلَ الْكَلَامَ، فَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى اسْتِعْمَالِ لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ مُفِيدَةٍ لِذَلِكَ لِعَدَمِ تَكَرُّرٍ مَا فِي الْأَوَّلِ، وَأَمَّا مُنَاسَبَةُ هَذَا الْوَجْهِ لِلْكَلَامِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَهِيَ أَنَّ تَكْذِيبَهُمُ الرَّسُولَ وَتَعَجُّبَهُمْ مِنْ قَوْلِهِ أَوِ اسْتِهْزَاءَهُمْ كَانَ يُوجِبُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَشْتَغِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَعْنِهِمْ وَسَبِّهِمْ وَالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاجْعَلْ كَلَامَكَ بَدَلَ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمُ التَّسْبِيحَ للَّه وَالْحَمْدَ لَهُ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ أَوْ كَنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نُوحٍ: 26] بَلِ ادْعُ إلى ربك فإذا ضجرت عن ذَلِكَ بِسَبَبِ إِصْرَارِهِمْ فَاشْتَغَلَ بِذِكْرِ رَبِّكَ فِي نَفْسِكَ، وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اسْتَعْمَلَ اللَّه التَّسْبِيحَ تَارَةً مَعَ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ [الجمعة: 1] ويُسَبِّحُونَ لَهُ [فُصِّلَتْ: 38] وَأُخْرَى مَعَ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الْوَاقِعَةِ: 74] وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [طه: 130] وَثَالِثَةً مِنْ غَيْرِ حَرْفٍ فِي قَوْلِهِ وَسَبِّحْهُ [الْإِنْسَانِ: 26] وَقَوْلُهُ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً [الْأَحْزَابِ: 42] وَقَوْلُهُ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] فما الفرق بينها؟ نَقُولُ أَمَّا الْبَاءُ فَهِيَ الْأَهَمُّ وَبِالتَّقْدِيمِ أَوْلَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ فَنَقُولُ أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا الْمُرَادُ مِنْ سَبِّحْ قُلْ سُبْحَانَ اللَّه، فَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ أَيْ مُقْتَرِنًا بِحَمْدِ اللَّه، فَيَكُونُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ قُلْ سُبْحَانَ اللَّه وَالْحَمْدُ للَّه، وَعَلَى قَوْلِنَا الْمُرَادِ التَّنْزِيهُ لِذَلِكَ أَيْ نَزِّهْهُ وَأَقْرِنْهُ بِحَمْدِهِ أَيْ سَبِّحْهُ وَاشْكُرْهُ حَيْثُ وَفَّقَكَ اللَّه لِتَسْبِيحِهِ فَإِنَّ السَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ لِمَنْ سَبَّحَهُ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْمَفْعُولُ/ غَيْرَ مَذْكُورٍ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ تَقْدِيرُهُ: سَبِّحِ اللَّه بِحَمْدِ رَبِّكَ، أَيْ مُلْتَبِسًا وَمُقْتَرِنًا بِحَمْدِ رَبِّكَ، وَعَلَى قَوْلِنَا صَلِّ، نَقُولُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَمْرًا بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ يُقَالُ: صَلَّى فُلَانٌ بِسُورَةِ كَذَا أَوْ صَلَّى بِقُلْ هُوَ اللَّه أحد، فكأنه يقول صلّى بِحَمْدِ اللَّه أَيْ مَقْرُوءًا فِيهَا: الْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ أَبْعَدُ الْوُجُوهِ، وَأَمَّا التَّعْدِيَةُ مِنْ غَيْرِ حَرْفٍ فَنَقُولُ هُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ تَبْعِيدٌ مِنَ السُّوءِ، وَأَمَّا اللَّامُ فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ نَصَحْتُهُ وَنَصَحْتُ لَهُ، وَشَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ لِبَيَانِ الْأَظْهَرِ أَيْ يُسَبِّحُونَ اللَّه وَقُلُوبُهُمْ لِوَجْهِ اللَّه خالصة. البحث الثاني: قال هاهنا سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ مِنْ غَيْرِ بَاءٍ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ؟ نَقُولُ الْأَمْرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدٌ عَلَى قَوْلِنَا التَّقْدِيرُ سَبِّحِ اللَّه مُقْتَرِنًا بِحَمْدِ رَبِّكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَبِّحِ اللَّه كَقَوْلِ الْقَائِلِ فَسَبِّحْهُ غَيْرَ أَنَّ الْمَفْعُولَ لَمْ يُذْكَرْ أَوَّلًا: لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ بِحَمْدِ رَبِّكَ عَلَيْهِ وَثَانِيًا: لِدَلَالَةِ مَا سَبَقَ عَلَيْهِ لَمْ يَذْكُرْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، الْجَوَابُ الثَّانِي عَلَى قَوْلِنَا سَبِّحْ بِمَعْنَى صَلِّ يَكُونُ الْأَوَّلُ أَمْرًا بِالصَّلَاةِ، وَالثَّانِي أَمْرًا بِالتَّنْزِيهِ، أَيْ وَصَلِّ بِحَمْدِ رَبِّكَ فِي الْوَقْتِ وَبِاللَّيْلِ نَزِّهْهُ عَمًّا لَا يَلِيقُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا إِشَارَةً إِلَى الْعَمَلِ وَالذِّكْرِ وَالْفِكْرِ. فَقَوْلُهُ سَبِّحْ إِشَارَةٌ إِلَى خَيْرِ الْأَعْمَالِ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَقَوْلُهُ بِحَمْدِ رَبِّكَ إِشَارَةٌ إِلَى الذِّكْرِ، وَقَوْلُهُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ إشارة إلى الفكر حين هدو الْأَصْوَاتِ، وَصَفَاءِ الْبَاطِنِ أَيْ نَزِّهْهُ عَنْ كُلِّ سُوءٍ بِفِكْرِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَتَّصِفُ إِلَّا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَدْبارَ السُّجُودِ قَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ مَا يُقَالُ فِي تَفْسِيرِهِ، وَوَجْهٌ آخَرُ هُوَ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَمْرِ بِإِدَامَةِ التَّسْبِيحِ، فَقَوْلُهُ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، وَقَوْلُهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ يعني بعد ما فَرَغْتَ مِنَ السُّجُودِ وَهُوَ الصَّلَاةُ فَلَا تَتْرُكْ تَسْبِيحَ اللَّه وَتَنْزِيهَهُ بَلْ دَاوِمْ أَدْبَارَ السُّجُودِ لِيَكُونَ جَمِيعُ أَوْقَاتِكَ فِي التَّسْبِيحِ فَيُفِيدُ فَائِدَةَ قوله

[سورة ق (50) : آية 41]

تَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ [الْكَهْفِ: 24] وَقَوْلِهِ فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشَّرْحِ: 7، 8] وَقُرِئَ وَأَدْبارَ السُّجُودِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَبِّحْهُ مَا وَجْهُهَا؟ نَقُولُ هِيَ تُفِيدُ تَأْكِيدَ الْأَمْرِ بِالتَّسْبِيحِ مِنَ اللَّيْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الشَّرْطَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَأَمَّا مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرْطَ يُفِيدُ أَنَّ عِنْدَ وُجُودِهِ يَجِبُ وُجُودُ الْجَزَاءِ، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ النَّهَارُ مَحَلُّ الِاشْتِغَالِ وَكَثْرَةِ الشَّوَاغِلِ، فَأَمَّا اللَّيْلُ فَمَحَلُّ السُّكُونِ وَالِانْقِطَاعِ فَهُوَ وَقْتُ التَّسْبِيحِ، أَوْ نَقُولُ بِالْعَكْسِ اللَّيْلُ مَحَلُّ النَّوْمِ وَالثَّبَاتِ وَالْغَفْلَةِ، فَقَالَ أَمَّا اللَّيْلُ فَلَا تَجْعَلْهُ لِلْغَفْلَةِ بَلِ اذْكُرْ فِيهِ رَبَّكَ وَنَزِّهْهُ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: (مَنْ) فِي قَوْلِهِ وَمِنَ اللَّيْلِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ يَكُونَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيْ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ، وَعَلَى هَذَا فَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ غَايَةً لِاخْتِلَافِ ذَلِكَ بِغَلَبَةِ النَّوْمِ وَعَدَمِهَا، يُقَالُ أَنَا مِنَ اللَّيْلِ أَنْتَظِرُكَ ثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ أَيِ اصْرِفْ مِنَ اللَّيْلِ طَرَفًا إِلَى التَّسْبِيحِ يُقَالُ: مِنْ مَالِكِ مُنِعَ وَمِنَ اللَّيْلِ انْتَبِهْ، أَيْ بَعْضَهُ. الْبَحْثُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ عَطْفٌ عَلَى مَاذَا؟ نَقُولُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَ الْغُرُوبِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) وَذَكَرَ بَيْنَهُمَا قَوْلَهُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَائِدَةِ وَهِيَ الْأَمْرُ بِالْمُدَاوَمَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: سَبِّحْ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَإِذَا جَاءَ وَقْتُ الْفَرَاغِ مِنَ السُّجُودِ قَبْلَ الطُّلُوعِ فَسَبِّحْ وَسَبِّحْ قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ السُّجُودِ قَبْلَ الْغُرُوبِ سَبِّحْهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى صَرْفِ اللَّيْلِ إِلَى التَّسْبِيحِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَطْفًا عَلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ جَمِيعًا، تَقْدِيرُهُ وَبَعْضُ اللَّيْلِ (فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) . ثم قال تعالى: [سورة ق (50) : آية 41] وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ غَايَةِ التَّسْبِيحِ، يَعْنِي اشْتَغِلْ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ وَانْتَظِرِ الْمُنَادِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحِجْرِ: 99] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الَّذِي يَسْتَمِعُهُ؟ قُلْنَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا ثَلَاثَةً أَحَدُهَا: أَنْ يَتْرُكَ مَفْعُولَهُ رَأْسًا وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ كُنْ مُسْتَمِعًا وَلَا تَكُنْ مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْمُعْرِضِينَ الْغَافِلِينَ، يُقَالُ هُوَ رَجُلٌ سَمِيعٌ مُطِيعٌ وَلَا يُرَادُ مَسْمُوعٌ بِعَيْنِهِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ وَكَّاسٌ، وَفُلَانٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ ثَانِيهَا: اسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِلَيْكَ ثَالِثُهَا: اسْتَمَعَ نِدَاءَ الْمُنَادِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مَنْصُوبٌ بِأَيِّ فِعْلٍ؟ نَقُولُ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، إِنْ قُلْنَا اسْتَمِعْ لَا مَفْعُولَ لَهُ فَعَامِلُهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمُ الْخُرُوجِ [ق: 42] تَقْدِيرُهُ: يَخْرُجُونَ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي، وَإِنْ قُلْنَا مَفْعُولُهُ لِمَا يُوحَى فَتَقْدِيرُهُ (وَاسْتَمِعْ) لِمَا يُوحَى (يَوْمَ يُنَادِي) وَيَحْتَمِلُ مَا ذَكَرْنَا وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ مَا يُوحَى أَيْ ما يوحى يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ اسْمَعْهُ، فَإِنْ قِيلَ اسْتَمِعْ عَطْفٌ عَلَى فَاصْبِرْ وَسَبِّحْ وَهُوَ فِي الدُّنْيَا، وَالِاسْتِمَاعُ يَكُونُ فِي الدنيا، وما يوحى يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ لَا يُسْتَمَعُ فِي الدُّنْيَا، نَقُولُ لَيْسَ بِلَازِمٍ ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يُقَالَ صَلِّ وَادْخُلِ الْجَنَّةَ أَيْ صَلِّ فِي الدُّنْيَا وَادْخُلِ الْجَنَّةَ فِي العقبى، فكذلك هاهنا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ اسْتَمِعْ بِمَعْنَى انْتَظِرْ فَيُحْتَمَلُ الْجَمْعُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ قُلْنَا اسْتَمِعِ الصَّيْحَةَ وَهُوَ نِدَاءُ الْمُنَادِي: يَا عِظَامُ انْتَشِرِي، وَالسُّؤَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ عُلِمَ الْجَوَابُ مِنْهُ، وَجَوَابٌ آخَرُ نَقُولُهُ حِينَئِذٍ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ

[سورة ق (50) : آية 42]

فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزُّمَرِ: 68] قُلْنَا: إِنَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ هُمُ الَّذِينَ عَلِمُوا وُقُوعَ الصَّيْحَةِ، وَاسْتَيْقَظُوا لَهَا فَلَمْ تُزْعِجْهُمْ كَمَنْ يَرَى بَرْقًا أَوْمَضَ، وَعَلِمَ أَنَّ عَقِيبَهُ يَكُونُ رَعْدٌ قَوِيٌّ فَيَنْظُرُهُ وَيَسْتَمِعُ لَهُ، وَآخَرُ غَافِلٌ فَإِذَا رَعَدَ بِقُوَّةٍ رُبَّمَا يُغْشَى عَلَى الْغَافِلِ وَلَا يَتَأَثَّرُ مِنْهُ الْمُسْتَمِعُ، فَقَالَ: اسْتَمِعْ ذَلِكَ كَيْ لَا تَكُونَ مِمَّنْ يُصْعَقُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. المسألة الثالثة: مَا الَّذِي يُنَادِي الْمُنَادِيَ؟ فِيهِ وُجُوهٌ مُحْتَمَلَةٌ مَنْقُولَةٌ مَعْقُولَةٌ وَحَصْرُهَا بِأَنْ نَقُولَ الْمُنَادِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ الْمَلَائِكَةَ أو غير هما وَهُمُ الْمُكَلَّفُونَ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فِي الظَّاهِرِ، وغير هم لَا يُنَادِي، فَإِنْ قُلْنَا هُوَ تَعَالَى فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: يُنَادِي احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ، [الصَّافَّاتِ: 22] ثَانِيهَا: يُنَادِي أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [ق: 24] مَعَ قَوْلِهِ ادْخُلُوها بِسَلامٍ [ق: 34] وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ [الْحَاقَّةِ: 30] يَدُلُّ على هذا قوله تعالى: يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ [ق: 41] وَقَالَ: وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ [سَبَأٍ: 51] ، ثَالِثُهَا: غير هما لقوله تعالى: يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا الْمُنَادِي غَيْرُ اللَّهِ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَيْضًا أَحَدُهَا: قَوْلُ إِسْرَافِيلَ: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ اجْتَمِعُوا لِلْوَصْلِ وَاسْتَمِعُوا لِلْفَصْلِ ثَانِيهَا: النِّدَاءُ مَعَ النَّفْسِ يُقَالُ لِلنَّفْسِ ارْجِعِي إلى ربك لِتَدْخُلِي مَكَانَكِ مِنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ ثَالِثُهَا: يُنَادِي مُنَادٍ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشُّورَى: 7] وَعَلَى قَوْلِنَا الْمُنَادِي هُوَ الْمُكَلَّفُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ مَا بَيَّنَ اللَّهُ تعالى في قوله وَنادَوْا يا مالِكُ [الزُّخْرُفِ: 77] أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ الْمُنَادِي لِلتَّعْرِيفِ وَكَوْنُ الْمَلَكِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مُنَادِيًا مَعْرُوفٌ عُرِفَ حَالُهُ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُهُ، فَيُقَالُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَأَمَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنَادٍ فَقَدْ سَبَقَ فِي هذه السورة في قوله أَلْقِيا [ق: 24] وهذا نداء، وقوله يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ [ق: 30] وَهُوَ نِدَاءٌ، وَأَمَّا الْمُكَلَّفُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الصَّوْتَ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ بَلْ يَسْتَوِي فِي اسْتِمَاعِهِ كُلُّ أَحَدٍ وَعَلَى هَذَا فَلَا يَبْعُدُ حَمْلُ الْمُنَادِي عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَكَانِ الْقَرِيبِ نَفْسَ الْمَكَانِ بَلْ ظُهُورَ النِّدَاءِ وَهُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَقْرَبُ، وَهَذَا كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] وليس ذلك بالمكان. ثم قال تعالى: [سورة ق (50) : آية 42] يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) هَذَا تَحْقِيقُ مَا بَيَّنَّا مِنَ الْفَائِدَةِ فِي قوله وَاسْتَمِعْ [ق: 41] أَيْ لَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ حَتَّى لَا تُصْعَقَ يَوْمَ الصَّيْحَةِ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّهُ قَالَ اسْتَمِعْ أَيْ كُنْ قَبْلَ أَنْ تَسْتَمِعَ مُسْتَيْقِظًا لِوُقُوعِهِ، فَإِنَّ السَّمْعَ لَا بُدَّ مِنْهُ أَنْتَ وَهْمٌ فِيهِ سَوَاءٌ فَهُمْ يَسْمَعُونَ لَكِنْ مِنْ غَيْرِ اسْتِمَاعٍ فَيُصْعَقُونَ وَأَنْتَ تَسْمَعُ بَعْدَ الِاسْتِمَاعِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيكَ إِلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ ويَوْمَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ يَوْمٍ فِي قَوْلِهِ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ وَالْعَامِلُ فِيهِمَا الْفِعْلُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [ق: 42] أَيْ يَخْرُجُونَ يَوْمَ يَسْمَعُونَ ثَانِيهَا: أَنْ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الْعَامِلُ فيه ما في قوله ذلك يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ الْعَامِلُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا ثَالِثُهَا: أَنْ يُقَالَ اسْتَمِعْ عَامِلٌ فِي يَوْمَ يُنَادِي كَمَا ذَكَرْنَا وَيُنَادِي عَامِلٌ فِي يَسْمَعُونَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ يَوْمَ يُنَادِي وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ يُنَادِي لَكِنَّ غَيْرَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِهِ، يُقَالُ: اذْكُرْ حَالَ زَيْدٍ وَمَذَلَّتَهُ يَوْمَ ضَرَبَهُ عَمْرٌو، وَيَوْمَ كَانَ عَمْرٌو وَالِيًا، إِذَا كَانَ الْقَائِلُ يُرِيدُ/ بَيَانَ مذلة زيد عند ما صَارَ زَيْدٌ يُكْرَمُ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، فَلَا

[سورة ق (50) : آية 43]

يَكُونُ يَوْمَ كَانَ عَمْرٌو وَالِيًا مَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ اذْكُرْ لِأَنَّ غَرَضَ الْقَائِلِ التَّذْكِيرُ بِحَالِ زَيْدٍ وَمَذَلَّتِهِ وَذَلِكَ يَوْمَ الضَّرْبِ، لَكِنْ يَوْمَ كَانَ عَمْرٌو مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ ضَرَبَهُ عَمْرٌو يَوْمَ كَانَ واليا، فكذلك هاهنا قال: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ لِئَلَّا تَكُونَ مِمَّنْ يَفْزَعُ وَيُصْعَقُ، ثُمَّ بَيَّنَ هذا النداء بقوله يُنادِ الْمُنادِ يَوْمَ يَسْمَعُونَ أَيْ لَا يَكُونُ نِدَاءً خَفِيًّا بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُهُ بَعْضُ النَّاسِ بَلْ يَكُونُ نِدَاؤُهُ بِحَيْثُ تَكُونُ نِسْبَتُهُ إِلَى مَنْ فِي أَقْصَى الْمَغْرِبِ كَنِسْبَتِهِ إِلَى مَنْ فِي الْمَشْرِقِ، وَكُلُّكُمْ تَسْمَعُونَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الصَّوْتِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُتَهَيِّئًا لِاسْتِمَاعِهِ، وَذَلِكَ يَشْغَلُ النَّفْسَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَذِكْرِهِ وَالتَّفَكُّرِ فِيهِ فَظَهَرَ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ مِنْ قَوْلِهِ فَاصْبِرْ، وسَبِّحْ، واسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ، ويَوْمَ يَسْمَعُونَ وَاللَّامُ فِي الصَّيْحَةِ لِلتَّعْرِيفِ، وَقَدْ عُرِفَ حَالُهَا وَذَكَرَهَا اللَّهُ مِرَارًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: 29] وَقَوْلِهِ فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ [الصَّافَّاتِ: 19] وَقَوْلِهِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ [الْحَاقَّةِ: 13] وَقَوْلُهُ بِالْحَقِّ جَازَ أَنَّ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالصَّيْحَةِ أَيِ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ يَسْمَعُونَهَا، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْحَقُّ الْحَشْرُ أَيِ الصَّيْحَةُ بِالْحَشْرِ وَهُوَ حَقٌّ يَسْمَعُونَهَا يقال صاح زيد بياقوم اجتمعوا عل حَدِّ اسْتِعْمَالِ تَكَلُّمٍ بِهَذَا الْكَلَامِ وَتَقْدِيرُهُ حِينَئِذٍ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِيَا عِظَامُ اجْتَمِعِي وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَقِّ الثَّانِي: الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ أَيْ بِالْيَقِينِ وَالْحَقُّ هو اليقين، يقل صَاحَ فُلَانٌ بِيَقِينٍ لَا بِظَنٍّ وَتَخْمِينٍ أَيْ وُجِدَ مِنْهُ الصِّيَاحُ يَقِينًا لَا كَالصَّدَى وَغَيْرِهِ وَهُوَ يَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ لِلصَّيْحَةِ، يُقَالُ اسْتَمَعَ سَمَاعًا بِطَلَبٍ، وَصَاحَ صَيْحَةً بِقُوَّةٍ أَيْ قَوِيَّةٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ الصَّيْحَةُ الْمُحَقَّقَةُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الصَّيْحَةَ الْمُقْتَرِنَةَ بِالْحَقِّ وَهُوَ الْوُجُودُ، يُقَالُ كُنْ فَيَتَحَقَّقُ وَيَكُونُ، وَيُقَالُ اذْهَبْ بِالسَّلَامَةِ وَارْجِعْ بِالسَّعَادَةِ أَيْ مَقْرُونًا وَمَصْحُوبًا، فَإِنْ قِيلَ زِدْ بَيَانًا فَإِنَّ الْبَاءَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلْإِلْصَاقِ فَكَيْفَ يُفْهَمُ مَعْنَى الْإِلْصَاقِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؟ نَقُولُ التَّعْدِيَةُ قَدْ تَتَحَقَّقُ بِالْبَاءِ يُقَالُ ذَهَبَ بِزَيْدٍ عَلَى مَعْنَى أَلْصَقَ الذَّهَابَ بِزَيْدٍ فَوُجِدَ قَائِمًا بِهِ فَصَارَ مَفْعُولًا، فَعَلَى قَوْلِنَا الْمُرَادُ يَسْمَعُونَ صَيْحَةَ مَنْ صَاحَ بِيَا عِظَامُ اجْتَمِعِي هُوَ تَعْدِيَةُ الْمَصْدَرِ بِالْبَاءِ يُقَالُ أَعْجَبَنِي ذَهَابُ زَيْدٍ بِعَمْرٍوِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ أَيِ ارْفَعِ الصَّوْتَ عَلَى الْحَقِّ وَهُوَ الْحَشْرُ، وَلَهُ مَوْعِدٌ نُبَيِّنُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ يَسْمَعُونَ أَيْ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ سَمِعْتُهُ بِيَقِينٍ الثَّانِي: الْبَاءُ فِي يَسْمَعُونَ بِالْحَقِّ قَسَمٌ أَيْ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِاللَّهِ الْحَقِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَقَوْلُهُ تعالى: ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى يَوْمٍ أي ذلك اليوم يوم الخروج ذلك إشارة إلى نداء المنادي. ثم قال تعالى: [سورة ق (50) : آية 43] إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) قَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ يس مَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ إِنَّا نَحْنُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ نُحْيِي وَنُمِيتُ فَالْمُرَادُ مِنَ الْإِحْيَاءِ الْإِحْيَاءُ أَوَّلًا وَنُمِيتُ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَوْتَةِ الْأُولَى وَقَوْلُهُ وَإِلَيْنَا بَيَانٌ لِلْحَشْرِ فَقَدَّمَ إِنَّا نَحْنُ لِتَعْرِيفِ عَظَمَتِهِ يَقُولُ الْقَائِلُ أَنَا أنا أي مشهور ونُحْيِي وَنُمِيتُ أُمُورٌ مُؤَكِّدَةٌ مَعْنَى الْعَظَمَةِ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ بيان للمقصود. [سورة ق (50) : آية 44] يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً الْعَامِلُ فِيهِ هُوَ مَا فِي قَوْلِهِ يَوْمُ الْخُرُوجِ [ق: 42] مِنَ الْفِعْلِ أَيْ يَخْرُجُونَ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا وَقَوْلَهُ سِراعاً حَالٌ لِلْخَارِجِينَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: عَنْهُمْ

[سورة ق (50) : آية 45]

يُفِيدُ كَوْنَهُمْ مَفْعُولِينَ بِالتَّشَقُّقِ فَكَانَ التَّشَقُّقُ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْقَبْرِ كَمَا يُقَالُ كَشَفَ عَنْهُ فَهُوَ مَكْشُوفٌ عَنْهُ فَيَصِيرُ سِرَاعًا هَيْئَةَ الْمَفْعُولِ كَأَنَّهُ قَالَ مُسْرِعِينَ وَالسِّرَاعُ جَمْعُ سَرِيعٍ كَالْكِرَامِ جَمْعُ كَرِيمٍ. قَوْلُهُ ذلِكَ حَشْرٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى التَّشَقُّقِ عَنْهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْإِخْرَاجِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ سِرَاعًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ ذَلِكَ الْحَشْرُ حَشْرٌ يَسِيرٌ، لِأَنَّ الْحَشْرَ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَلْفَاظِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَيْنا يَسِيرٌ بِتَقْدِيمِ الظَّرْفِ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَيْ هُوَ عَلَيْنَا هَيِّنٌ لَا عَلَى غَيْرِنَا وَهُوَ إِعَادَةُ جَوَابِ قَوْلِهِمْ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: 3] وَالْحَشْرُ الْجَمْعُ وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمْعُ الْأَجْزَاءِ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَجَمْعُ الْأَرْوَاحِ مَعَ الْأَشْبَاحِ أَيْ يُجْمَعُ بَيْنَ كُلِّ رُوحِ وَجَسَدِهَا وَجَمْعُ الْأُمَمِ الْمُتَفَرِّقَةِ وَالرِّمَمِ المتمزقة والكل واحد في الجمع. [سورة ق (50) : آية 45] نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: تَسْلِيَةً لِقَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَتَحْرِيضٌ لَهُمْ عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّبْرِ وَالتَّسْبِيحِ، أَيِ اشْتَغِلْ بِمَا قُلْنَاهُ وَلَا يَشْغَلُكَ الشَّكْوَى إِلَيْنَا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَقْوَالَهُمْ وَنَرَى أَعْمَالَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ مُنَاسِبٌ لَهُ أَيْ لَا تَقُلْ بِأَنِّي أُرْسِلْتُ إِلَيْهِمْ لِأَهْدِيَهُمْ، فَكَيْفَ أَشْتَغِلُ بِمَا يَشْغَلُنِي عَنِ الْهِدَايَةِ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَالتَّسْبِيحُ، فَإِنَّكَ مَا بُعِثْتَ مُسَلَّطًا عَلَى دَوَاعِيهِمْ وَقُدَرِهِمْ، وَإِنَّمَا أُمِرْتَ بِالتَّبْلِيغِ، وَقَدْ بَلَغْتَ فَاصْبِرْ وَسَبِّحْ وَانْتَظِرِ الْيَوْمَ الَّذِي يُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَكُمْ ثَانِيهَا: هِيَ كَلِمَةُ تَهْدِيدٍ وَتَخْوِيفٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ [ق: 43] ظَاهِرٌ فِي التَّهْدِيدِ بِالْعِلْمِ بِعَمَلِكُمْ لِأَنَّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ مَرْجِعَهُ إِلَى الْمَلِكِ وَلَكِنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْمَلِكَ لَا يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنَ الْقَبَائِحِ، أَمَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَعْلَمُهُ وَعِنْدَهُ غَيْبُهُ وَإِلَيْهِ عَوْدُهُ يَمْتَنِعُ فَقَالَ تعالى: وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ونَحْنُ أَعْلَمُ/ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي التَّهْدِيدِ، وَهَذَا حِينَئِذٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الزمر: 7] ثَالِثُهَا: تَقْرِيرُ الْحَشْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْحَشْرَ عَلَيْهِ يَسِيرٌ لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَنُفُوذِ إِرَادَتِهِ وَلَكِنَّ تَمَامَ ذَلِكَ بِالْعِلْمِ الشَّامِلِ حَتَّى يُمَيِّزَ بَيْنَ جُزْءِ بَدَنَيْنِ جُزْءِ بَدَنِ زَيْدٍ وَجُزْءِ بَدَنِ عَمْرٍو فَقَالَ: ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ لِكَمَالِ قُدْرَتِنَا، وَلَا يَخْفَى عَلَيْنَا الْأَجْزَاءُ لِمَكَانِ عِلْمِنَا، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ مَعْنَاهُ نَحْنُ نَعْلَمُ عَيْنَ مَا يقولون في قولهم أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً [المؤمنون: 82] ، أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [السَّجْدَةِ: 10] فَيَقُولُ نَحْنُ نَعْلَمُ الْأَجْزَاءَ الَّتِي يَقُولُونَ فِيهَا إِنَّهَا ضَالَّةٌ وَخَفِيَّةٌ وَلَا يَكُونُ الْمُرَادُ نَحْنُ نَعْلَمُ وَقَوْلُهُمْ فِي الْأَوَّلِ جَازَ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً فَيَكُونُ المراد من قوله بِما يَقُولُونَ أَيْ قَوْلَهُمْ، وَفِي الْوَجْهِ الْآخَرِ تَكُونُ خَبَرِيَّةً، وَعَلَى هَذَا الدَّلِيلِ فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ نَحْنُ أَعْلَمُ إِذْ لَا عَالِمَ بِتِلْكَ الْأَجْزَاءِ سِوَاهُ حَتَّى يَقُولَ نَحْنُ أَعْلَمُ نَقُولُ قَدْ عُلِمَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِرَارًا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَفْعَلَ لَا يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي أَصْلِ الْفِعْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الأحزاب: 37] وفي قوله تعالى: أَحْسَنُ نَدِيًّا [مَرْيَمَ: 77] ، وَفِي قَوْلِهِ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: 27] . ثَانِيهَا: مَعْنَاهُ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ مِنْ كُلِّ عَالِمٍ بِمَا يَعْلَمُهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ وَأَوْضَحُ وَأَشْهَرُ وَقَوْلُهُ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فيه وجوه: أحدها: أن لِلتَّسْلِيَةِ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا مَنَّ عَلَيْهِ بِالْإِقْبَالِ عَلَى الشُّغُلِ

الْأُخْرَوِيِّ وَهُوَ الْعِبَادَةُ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ لَمْ يُصْرَفْ عَنِ الشُّغُلِ الْآخَرِ وَهُوَ الْبَعْثُ، كَمَا أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا أَمَرَ بَعْضَ عَبِيدِهِ بِشُغُلَيْنِ فَظَهَرَ عَجْزُهُ فِي أَحَدِهِمَا يَقُولُ لَهُ أَقْبِلْ عَلَى الشُّغُلِ الْآخَرِ مِنْهُمَا وَنَحْنُ نَبْعَثُ مَنْ يَقْدِرُ على الذي عجزت عنه منهما، فقال: فَاصْبِرْ. وسَبِّحْ، وَمَا أَنْتَ.. بِجَبَّارٍ أَيْ فَمَا كَانَ امْتِنَاعُهُمْ بِسَبَبِ تَجَبُّرٍ مِنْكَ أَوْ تَكَبُّرٍ فَاشْمَأَزُّوا مِنْ سُوءِ خُلُقِكَ، بَلْ كُنْتَ بِهِمْ رَؤُوفًا وَعَلَيْهِمْ عَطُوفًا وَبَالَغْتَ وَبَلَّغْتَ وَامْتَنَعُوا فَأَقْبِلْ عَلَى الصَّبْرِ وَالتَّسْبِيحِ غَيْرَ مَصْرُوفٍ عَنِ الشُّغْلِ الْأَوَّلِ بِسَبَبِ جَبَرُوتِكَ، وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ إِلَى أَنْ قَالَ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [الْقَلَمِ: 2- 4] ، ثَانِيهَا: هُوَ بَيَانُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْهِدَايَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ مُنْذِرًا وَهَادِيًا لَا مُلْجِأً وَمُجْبِرًا، وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [الشورى: 18] أَيْ تَحْفَظُهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالنَّارِ وَقَوْلُهُ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ فِي مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: الْيَوْمَ فُلَانٌ عَلَيْنَا، فِي جَوَابِ مَنْ يَقُولُ: مَنْ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ؟ أَيْ مَنِ الْوَالِي عَلَيْكُمْ ثَالِثُهَا: هُوَ بَيَانٌ لِعَدَمِ وَقْتِ نُزُولِ الْعَذَابِ بَعْدُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَنْذَرَ وَأَعْذَرَ وَأَظْهَرَ لَمْ يُؤْمِنُوا كَانَ يَقُولُ إِنَّ هَذَا وَقْتُ الْعَذَابِ، فَقَالَ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَلَّطٍ فَذَكِّرْ بِعَذَابِي إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَعْلَمُ أَنَّهُ يُؤْمِنُ ثُمَّ تَسَلَّطْ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْقِتَالِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ أَيْ مِنْ بَقِيَ مِنْهُمْ مِمَّنْ يَخَافُ يَوْمَ الْوَعِيدِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ أُخَرُ أَحَدُهَا: أَنَّا بَيَّنَا فِي أَحَدِ الْوُجُوهِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ [ق: 39] مَعْنَاهُ أَقْبِلْ عَلَى الْعِبَادَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا تَتْرُكِ الْهِدَايَةَ بِالْكُلِّيَّةِ بَلْ وذكر الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذَّارِيَاتِ: 55] وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 199] / وَقَوْلُهُ بِالْقُرْآنِ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: فَذَكِّرْ بِمَا فِي الْقُرْآنِ وَاتْلُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ يَحْصُلُ لَهُمْ بِسَبَبِ مَا فِيهِ الْمَنْفَعَةُ الثَّانِي: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ أَيْ بَيِّنْ بِهِ أَنَّكَ رَسُولٌ لِكَوْنِهِ مُعْجِزًا، وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُكَ رَسُولًا لَزِمَهُمْ قَبُولُ قَوْلِكَ فِي جَمِيعِ مَا تَقُولُ بِهِ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ فَذَكِّرْ بِمُقْتَضَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَوَامِرِ الواردة بالتبليغ والتذكير، وحينئذ يكون ذكر الْقُرْآنُ لِانْتِفَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ أَيِ اجْعَلِ الْقُرْآنَ إِمَامَكَ، وَذَكِّرْهُمْ بِمَا أُخْبِرْتَ فِيهِ بِأَنْ تُذَكِّرَهُمْ، وَعَلَى الْأَوَّلِ مَعْنَاهُ اتْلُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ لِيَتَذَكَّرُوا بِسَبَبِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ يَخافُ وَعِيدِ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُبَيِّنُ كَوْنَ الْخَشْيَةِ دَالَّةً عَلَى عَظَمَةِ الْمَخْشِيِّ أَكْثَرَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْخَوْفُ، حَيْثُ قَالَ: يَخافُ عند ما جعل المخوف عذابه ووعيده، وقال: اخْشَوْنِي [البقرة: 150] عند ما جَعَلَ الْمَخُوفَ نَفْسَهُ الْعَظِيمَ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إشارة إلى الأصول الثلاثة، وقوله فَذَكِّرْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مُرْسَلٌ مَأْمُورٌ بِالتَّذْكِيرِ مُنَزَّلٌ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ حَيْثُ قَالَ: بِالْقُرْآنِ وَقَوْلُهُ وَعِيدِ إِشَارَةٌ إِلَى الْيَوْمِ الْآخِرِ وَضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ فِي قَوْلِهِ وَعِيدِ يَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ مَنْ يَخَافُ وَعِيدَ اللَّهِ كَانَ يَذْهَبُ وَهُمُ اللَّهِ إِلَى كُلِّ صَوْبٍ فَلِذَا قَالَ: وَعِيدِ وَالْمُتَكَلِّمُ أَعْرِفُ الْمَعَارِفِ وَأَبْعَدُ عَنِ الْإِشْرَاكِ بِهِ وَقَبُولِ الِاشْتِرَاكِ فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ وَآخِرَهَا مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى حَيْثُ قَالَ فِي الْأَوَّلِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق: 1] وَقَالَ فِي آخِرِهَا فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ. وَهَذَا آخِرُ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَاتُهُ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَزْوَاجِهِ وذريته أجمعين.

سورة الذاريات

سُورَةُ الذَّارِيَاتِ سِتُّونَ آيَةً مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرّحمن الرّحيم [سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) أَوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ مُنَاسِبٌ لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْحَشْرَ بِدَلَائِلِهِ وَقَالَ: ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ [ق: 44] وَقَالَ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق: 45] أَيْ تُجْبِرُهُمْ وَتُلْجِئُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ إِشَارَةً إِلَى إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِقَامَةِ الْبُرْهَانِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْيَمِينُ فَقَالَ: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً ... إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَأَوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ وَآخِرُهَا مُتَنَاسِبَانِ حَيْثُ قَالَ فِي أَوَّلِهَا إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ [الذَّارِيَاتِ: 5] وَقَالَ فِي آخِرِهَا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [الذَّارِيَاتِ: 60] وَفِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ ذَكَرْنَا الْحِكْمَةَ وَهِيَ فِي الْقَسَمِ مِنَ الْمَسَائِلِ الشَّرِيفَةِ وَالْمَطَالِبِ الْعَظِيمَةِ في سورة والصافات، ونعيدها هاهنا وَفِيهَا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ يَعْتَرِفُونَ بِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَالِبًا فِي إِقَامَةِ الدَّلِيلِ وَكَانُوا يَنْسُبُونَهُ إِلَى الْمُجَادَلَةِ وَإِلَى أَنَّهُ عَارِفٌ فِي نَفْسِهِ بِفَسَادِ مَا يَقُولُهُ، وَإِنَّهُ يَغْلِبُنَا بِقُوَّةِ الْجَدَلِ لَا بِصِدْقِ الْمَقَالِ، كَمَا أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ إِذَا أَقَامَ عَلَيْهِ الْخَصْمُ الدَّلِيلَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ حُجَّةٌ، يَقُولُ إِنَّهُ غَلَبَنِي لِعِلْمِهِ بِطَرِيقِ الْجَدَلِ وَعَجْزِي عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ يَعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ بِيَدِي فَلَا يَبْقَى للمتكلم المبرهن طَرِيقٍ غَيْرُ الْيَمِينِ، فَيَقُولُ وَاللَّهِ إِنَّ الْأَمْرَ كَمَا أَقُولُ، وَلَا أُجَادِلُكَ بِالْبَاطِلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ سَلَكَ طَرِيقًا آخَرَ مِنْ ذِكْرِ دَلِيلٍ آخَرَ، فَإِذَا تَمَّ الدَّلِيلُ الْآخَرُ يَقُولُ الْخَصْمُ فِيهِ مِثْلَ مَا قَالَ فِي الْأَوَّلِ إِنَّ ذَلِكَ تَقْرِيرٌ بِقُوَّةِ عِلْمِ الْجَدَلِ فَلَا يَبْقَى إِلَّا السُّكُوتُ أَوِ التَّمَسُّكُ بِالْأَيْمَانِ وَتَرْكُ إِقَامَةِ الْبُرْهَانِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَحْتَرِزُ عَنِ الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ وَتَعْتَقِدُ أَنَّهَا تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مِنَ الْأَيْمَانِ بِكُلِّ شَرِيفٍ وَلَمْ يَزِدْهُ ذَلِكَ إِلَّا رِفْعَةً وَثَبَاتًا، وَكَانَ يَحْصُلُ لَهُمُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ لَا يَحْلِفُ بِهَا كَاذِبًا، وَإِلَّا لَأَصَابَهُ شُؤْمُ الْأَيْمَانِ وَلَنَالَهُ/ الْمَكْرُوهُ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الْأَيْمَانَ الَّتِي حَلَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا كُلَّهَا دَلَائِلُ أَخْرَجَهَا فِي صُورَةِ الْأَيْمَانِ مِثَالُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ لِمُنْعِمِهِ: وحق نعمك

الْكَثِيرَةِ إِنِّي لَا أَزَالُ أَشْكُرُكَ فَيَذْكُرُ النِّعَمَ وَهِيَ سَبَبٌ مُفِيدٌ لِدَوَامِ الشُّكْرِ وَيَسْلُكُ مَسْلَكَ الْقَسَمِ، كَذَلِكَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا دَلِيلٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْإِعَادَةِ، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ أَخْرَجَهَا مَخْرَجَ الْأَيْمَانِ؟ نَقُولُ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إذا شرع في أول كلامه بحلف بِعِلْمِ السَّامِعِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ عَظِيمٍ فَيُصْغِي إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُصْغِيَ إِلَيْهِ حَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فَبَدَأَ بِالْحَلِفِ وَأَدْرَجَ الدَّلِيلَ فِي صُورَةِ الْيَمِينِ حَتَّى أَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَى سَمَاعِهِ فَخَرَجَ لَهُمُ الْبُرْهَانُ الْمُبِينُ، وَالتِّبْيَانُ الْمَتِينُ فِي صُورَةِ الْيَمِينِ، وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ فِي سُورَةِ وَالصَّافَّاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي جَمِيعِ السُّوَرِ الَّتِي أَقْسَمَ اللَّهُ فِي ابْتِدَائِهَا بِغَيْرِ الْحُرُوفِ كَانَ الْقَسَمُ لِإِثْبَاتِ أَحَدِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ: الْوَحْدَانِيَّةُ وَالرِّسَالَةُ وَالْحَشْرُ، وَهِيَ الَّتِي يَتِمُّ بِهَا الْإِيمَانُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُقْسِمْ لِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ إِلَّا فِي سُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ السُّوَرِ وَهِيَ وَالصَّافَّاتِ حَيْثُ قَالَ فِيهَا إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ [الصَّافَّاتِ: 4] وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: 5] عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَكَانُوا يُبَالِغُونَ فِي الشِّرْكِ، لَكِنَّهُمْ فِي تَضَاعِيفَ أَقْوَالِهِمْ، وَتَصَارِيفِ أَحْوَالِهِمْ كَانُوا يُصَرِّحُونَ بِالتَّوْحِيدِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزُّمَرِ: 3] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر: 38] فَلَمْ يُبَالِغُوا فِي الْحَقِيقَةِ فِي إِنْكَارِ الْمَطْلُوبِ الْأَوَّلِ، فَاكْتَفَى بِالْبُرْهَانِ، وَلَمْ يُكْثِرْ مِنَ الْأَيْمَانِ، وَفِي سُورَتَيْنِ مِنْهَا أَقْسَمَ لِإِثْبَاتِ صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَوْنِهِ رَسُولًا فِي إِحْدَاهُمَا بِأَمْرٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ [النَّجْمِ: 1، 2] وَفِي الثَّانِيَةِ بِأَمْرَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [الضُّحَى: 1- 3] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَسَمَ عَلَى إِثْبَاتِ رِسَالَتِهِ قَدْ كَثُرَ بِالْحُرُوفِ وَالْقُرْآنِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس: 1- 3] وَقَدْ ذَكَرْنَا الْحُكْمَ فِيهِ أَنَّ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنُ، فَأَقْسَمَ بِهِ لِيَكُونَ فِي الْقَسَمِ الْإِشَارَةُ وَاقِعَةً إِلَى الْبُرْهَانِ، وَفِي بَاقِي السُّورِ كَانَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ الْحَشْرَ وَالْجَزَاءَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لِكَوْنِ إِنْكَارِهِمْ فِي ذَلِكَ خَارِجًا عَنِ الْحَدِّ، وَعَدَمِ اسْتِيفَاءِ ذَلِكَ فِي صُورَةِ الْقَسَمِ بِالْحُرُوفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِجُمُوعِ السَّلَامَةِ الْمُؤَنَّثَةِ فِي سُورٍ خَمْسٍ، وَلَمْ يُقْسِمْ بِجُمُوعٍ السَّلَامَةِ الْمُذَكَّرَةِ فِي سُورَةٍ أَصْلًا، فَلَمْ يَقُلْ: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِي، وَلَا الْمُقَرَّبِينَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، مَعَ أن المذكر أشرف، وذلك لأن جموع السلامة بِالْوَاوِ وَالنُّونِ فِي الْأَمْرِ الْغَالِبِ لِمَنْ يَعْقِلُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَسَمَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ لِبَيَانِ التَّوْحِيدِ إِلَّا فِي صُورَةِ ظُهُورِ الْأَمْرِ فِيهِ، وَحُصُولِ الِاعْتِرَافِ مِنْهُمْ بِهِ، وَلَا لِلرِّسَالَةِ لِحُصُولِ ذَلِكَ فِي صُوَرِ الْقَسَمِ بِالْحُرُوفِ وَالْقُرْآنِ. بَقِيَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ إِثْبَاتَ الْحَشْرِ وَالْجَزَاءِ، لكن إثبات الحشر لثواب الصالح، وعذاب/ الصالح، فَفَائِدَةُ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ يَعْقِلُ، فَكَانَ الْأَمْرُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقَسَمُ بِغَيْرِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي السُّورَةِ الَّتِي أَقْسَمَ لِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، أَقْسَمَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِالسَّاكِنَاتِ حَيْثُ قَالَ: وَالصَّافَّاتِ [الصَّافَّاتِ: 1] وَفِي السُّوَرِ الْأَرْبَعِ الْبَاقِيَةِ أَقْسَمَ بِالْمُتَحَرِّكَاتِ، فَقَالَ: وَالذَّارِياتِ وَقَالَ: وَالْمُرْسَلاتِ [الْمُرْسَلَاتِ: 1] وَقَالَ: وَالنَّازِعاتِ [النَّازِعَاتِ: 1] وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّابِحاتِ ... فَالسَّابِقاتِ [النازعات: 3، 4] وَقَالَ: وَالْعادِياتِ [الْعَادِيَاتِ: 1] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَشْرَ فِيهِ جَمْعٌ وَتَفْرِيقٌ، وَذَلِكَ بِالْحَرَكَةِ أَلْيَقُ، أَوْ أَنْ نَقُولَ فِي جَمِيعِ السُّوَرِ الْأَرْبَعِ أَقْسَمَ بِالرِّيَاحِ عَلَى مَا بَيَّنَ وَهِيَ الَّتِي تَجْمَعُ وَتُفَرِّقُ،

فَالْقَادِرُ عَلَى تَأْلِيفِ السَّحَابِ الْمُتَفَرِّقِ بِالرِّيَاحِ الذَّارِيَةِ وَالْمُرْسَلَةِ، قَادِرٌ عَلَى تَأْلِيفِ الْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي يَخْتَارُهَا بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي الذَّارِيَاتِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: هِيَ الرِّيَاحُ تَذْرُو التُّرَابَ وَغَيْرَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَذْرُوهُ الرِّياحُ [الْكَهْفِ: 45] الثَّانِي: هِيَ الْكَوَاكِبُ مِنْ ذَرَا يَذْرُو إِذَا أَسْرَعَ الثَّالِثُ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ الرَّابِعُ: رَبُّ الذَّارِيَاتِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْأُمُورُ الْأَرْبَعَةُ جَازَ أَنْ تَكُونَ أُمُورًا مُتَبَايِنَةً، وَجَازَ أن تكون أمرا له أربع اعتبارات والأول: هِيَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلَيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّ الذَّارِيَاتِ هِيَ الرِّيَاحُ وَالْحَامِلَاتِ هِيَ السَّحَابُ، وَالْجَارِيَاتِ هِيَ السُّفُنُ، وَالْمُقَسِّمَاتِ هِيَ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يُقَسِّمُونَ الْأَرْزَاقَ، وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنَّ هَذِهِ صِفَاتٌ أَرْبَعٌ لِلرِّيَاحِ، فَالذَّارِيَاتُ هِيَ الرِّيَاحُ الَّتِي تُنْشِئُ السَّحَابَ أَوَّلًا، وَالْحَامِلَاتُ هِيَ الرِّيَاحُ الَّتِي تَحْمِلُ السُّحُبَ الَّتِي هِيَ بُخَارُ الْمِيَاهِ الَّتِي إِذَا سَحَّتْ جَرَتِ السُّيُولُ الْعَظِيمَةُ، وَهِيَ أَوَقَارٌ أَثْقَلُ مِنْ جِبَالٍ، وَالْجَارِيَاتُ هِيَ الرِّيَاحُ الَّتِي تَجْرِي بِالسُّحُبِ بَعْدَ حَمْلِهَا، وَالْمُقَسِّمَاتُ هِيَ الرِّيَاحُ الَّتِي تُفَرِّقُ الْأَمْطَارَ عَلَى الْأَقْطَارِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي مُقَابَلَةِ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ بِهَا تَتِمُّ الْإِعَادَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَجْزَاءَ الَّتِي تَفَرَّقَتْ بَعْضُهَا فِي تُخُومِ الْأَرَضِينَ، وَبَعْضُهَا فِي قُعُورِ الْبُحُورِ، وَبَعْضُهَا فِي جَوِّ الْهَوَاءِ، وَهِيَ الْأَجْزَاءُ اللَّطِيفَةُ الْبُخَارِيَّةُ الَّتِي تَنْفَصِلُ عَنِ الْأَبْدَانِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالذَّارِياتِ يَعْنِي الْجَامِعَ لِلذَّارِيَاتِ مِنَ الْأَرْضِ عَلَى أَنَّ الذَّارِيَةَ هِيَ التي تذور التُّرَابَ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْحامِلاتِ وِقْراً هِيَ الَّتِي تَجْمَعُ الْأَجْزَاءَ مِنَ الْجَوِّ وَتَحْمِلُهُ حَمْلًا، فَإِنَّ التُّرَابَ لَا تَرْفَعُهُ الرِّيَاحُ حَمْلًا، بَلْ تَنْقُلُهُ مِنْ مَوْضِعٍ، وَتَرْمِيهِ فِي مَوْضِعٍ بِخِلَافِ السَّحَابِ، فَإِنَّهُ يَحْمِلُهُ وَيَنْقُلُهُ فِي الْجَوِّ حَمْلًا لَا يَقَعُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَوْلُهُ فَالْجارِياتِ يُسْراً إِشَارَةٌ إِلَى الْجَامِعِ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنَّ مَنْ يُجْرِي السُّفُنَ الثَّقِيلَةَ مِنْ تَيَّارِ الْبِحَارِ إِلَى السَّوَاحِلِ يَقْدِرُ عَلَى نَقْلِ الْأَجْزَاءِ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَرِّ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْجَمْعَ مِنَ الْأَرْضِ، وَجَوِّ الْهَوَاءِ وَوَسَطِ الْبِحَارِ مُمْكِنٌ، وَإِذَا اجْتَمَعَ يَبْقَى نَفْخُ الرُّوحِ لَكِنَّ الرُّوحَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاءِ: 85] فَقَالَ: فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً الْمَلَائِكَةُ الَّتِي تَنْفُخُ الرُّوحَ فِي الْجَسَدِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمْ بِالْمُقَسِّمَاتِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْأَجْزَاءِ الْجِسْمِيَّةِ غَيْرُ مُخَالِفٍ تَخَالُفًا بَيِّنًا، فَإِنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ رَأْسًا وَرِجْلًا، وَالنَّاسُ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْأَعْدَادِ وَالْأَقْدَارِ، لَكِنَّ التَّفَاوُتَ الْكَثِيرَ فِي/ النُّفُوسِ، فَإِنَّ الشَّرِيفَةَ وَالْخَسِيسَةَ بينهما غاية الخلاف، وتلك القسمة المتفاوتة تتقسم بِمُقَسِّمٍ مُخْتَارٍ وَمَأْمُورٍ مُخْتَارٍ فَقَالَ: فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً. المسألة السابعة: مَا هَذِهِ الْمَنْصُوبَاتُ مِنْ حَيْثُ النَّحْوُ؟ فَنَقُولُ أَمَّا ذَرْواً فَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَأَمَّا وِقْراً فَهُوَ مَفْعُولٌ بِهِ، كَمَا يُقَالُ: حَمَلَ فُلَانٌ عَدْلًا ثَقِيلًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا أُقِيمَ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، كَمَا يُقَالُ: ضَرَبَهُ سَوْطًا يُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ الْوَاوِ. وَأَمَّا يُسْراً فَهُوَ أَيْضًا مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ، تَقْدِيرُهُ جَرْيًا ذَا يُسْرٍ، وَأَمَّا فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً فَهُوَ إِمَّا مَفْعُولٌ بِهِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ قَسَّمَ الرِّزْقَ أَوِ الْمَالَ وَإِمَّا حَالٌ أَتَى عَلَى صُورَةِ الْمَصْدَرِ، كَمَا يُقَالُ: قَتَلْتُهُ صَبْرًا، أَيْ مَصْبُورًا كذلك هاهنا فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً أَيْ مَأْمُورَةً، فَإِنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ وِقْراً مَفْعُولَهُ بِهِ فَلِمَ لَمْ يَجْمَعْ، وَمَا قِيلَ: وَالْحَامِلَاتِ أَوَقَارًا؟ نَقُولُ لِأَنَّ الْحَامِلَاتِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا صِفَةُ الرِّيَاحِ، وَهِيَ تَتَوَارَدُ عَلَى وِقْرٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ رِيحًا تَهُبُّ وَتَسُوقُ السَّحَابَةَ فَتَسْبِقُ السَّحَابَ، فَتَهُبُّ أُخْرَى وَتَسُوقُهَا، وَرُبَّمَا تَتَحَوَّلُ عَنْهُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الرِّيَاحِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا، إِذَا

[سورة الذاريات (51) : آية 5]

قُلْنَا هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ، لِأَنَّ جَمَاعَةً يَكُونُونَ مَأْمُورِينَ تَنْقَسِمُ أَمْرًا وَاحِدًا، أَوْ نَقُولُ هُوَ فِي تَقْدِيرِ التَّكْرِيرِ كَأَنَّهُ قَالَ: فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا وِقْرًا، وَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا أَمْرًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: مَا فَائِدَةُ الْفَاءِ؟ نَقُولُ إِنْ قُلْنَا إِنَّهَا صِفَاتُ الرِّيَاحِ فَلِبَيَانِ تَرْتِيبِ الْأُمُورِ فِي الْوُجُودِ، فَإِنَّ الذاريات تنشئ السحاب فتقسم الأمطار على الأمطار، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ فَالْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ فِي الْقَسَمِ لَا لِلتَّرْتِيبِ فِي الْمُقْسَمِ بِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: أُقْسِمُ بِالرِّيَاحِ الذَّارِيَاتِ ثُمَّ بِالسُّحُبِ الْحَامِلَاتِ ثُمَّ بِالسُّفُنِ الْجَارِيَاتِ ثُمَّ بِالْمَلَائِكَةِ الْمُقَسِّمَاتِ، وَقَوْلُهُ فَالْحامِلاتِ وَقَوْلُهُ فَالْجارِياتِ إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ مَا فِي الرِّيَاحِ مِنَ الْفَوَائِدِ، أَمَّا فِي الْبَرِّ فَإِنْشَاءُ السُّحُبِ، وَأَمَّا فِي الْبَحْرِ فَإِجْرَاءُ السُّفُنِ، ثُمَّ الْمُقَسِّمَاتُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى حَمْلِ السُّحُبِ وَجَرْيِ السُّفُنِ مِنَ الْأَرْزَاقِ، والأرياح الَّتِي تَكُونُ بِقِسْمَةِ اللَّه تَعَالَى فَتَجْرِي سُفُنُ بَعْضِ النَّاسِ كَمَا يَشْتَهِي وَلَا تَرْبَحُ وَبَعْضُهُمْ تَرْبَحُ وَهُوَ غَافِلٌ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ [الزخرف: 32] . ثم قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 5] إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) (مَا) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مصدرية معناه الإيعاد صادق و (إن) تَكُونَ مَوْصُولَةً أَيِ الَّذِي تُوعَدُونَ صَادِقٌ، وَالصَّادِقُ مَعْنَاهُ ذُو صِدْقٍ كَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَوَصْفُ الْمَصْدَرِ بِمَا يُوصَفُ بِهِ الْفَاعِلُ بِالْمَصْدَرِ فِيهِ إِفَادَةُ مُبَالَغَةٍ، فَكَمَا أَنَّ مَنْ قَالَ فُلَانٌ لُطْفٌ مَحْضٌ وَحِلْمٌ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَالَغَ كَذَلِكَ مَنْ قَالَ كَلَامٌ صَادِقٌ وَبُرْهَانٌ قَاهِرٌ لِلْخَصْمِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ يَكُونُ قَدْ بَالَغَ، وَالْوَجْهُ فِيهِ هُوَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ هُوَ لُطْفٌ بَدَلَ قَوْلِهِ لِطَيْفٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ اللَّطِيفُ شَيْءٌ لَهُ لُطْفٌ فَفِي اللَّطِيفِ لُطْفٌ وَشَيْءٌ آخَرُ، فَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ كَثْرَةَ اللُّطْفِ فَجَعَلَهُ كُلَّهُ لُطْفًا، وَفِي الثَّانِي لَمَّا كَانَ/ الصِّدْقُ يَقُومُ بِالْمُتَكَلِّمِ بِسَبَبِ كَلَامِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَحُوجُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ حَتَّى يَصِحَّ إِطْلَاقُ الصَّادِقِ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ كَافٍ فِي إِطْلَاقِ الصَّادِقِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا قَوِيًّا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: تُوعَدُونَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَعَدَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوْعَدَ، وَالثَّانِي هُوَ الْحَقُّ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَعَ الْمُنْكَرِ بِوَعِيدٍ لَا بوعد. وقوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 6] وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) أَيِ الْجَزَاءُ كَائِنٌ، وَعَلَى هذا فالإبعاد بِالْحَشْرِ فِي الْمَوْعِدِ هُوَ الْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ هُوَ الْعِقَابُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بِقَوْلِهِ إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ أَنَّ الْحِسَابَ يُسْتَوْفَى والعقاب يوفى ثم قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 7 الى 8] وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) وَفِي تَفْسِيرِهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ قِيلَ الطَّرَائِقُ، وَعَلَى هَذَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ طَرَائِقَ الْكَوَاكِبِ وَمَمَرَّاتِهَا كَمَا يُقَالُ فِي الْمَحَابِكِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا فِي السَّمَاءِ مِنَ الْأَشْكَالِ بِسَبَبِ النُّجُومِ، فَإِنَّ فِي سَمْتِ كَوَاكِبَهَا طَرِيقَ التِّنِّينِ وَالْعَقْرَبِ وَالنَّسْرِ الَّذِي يَقُولُ بِهِ أَصْحَابُ الصُّوَرِ وَمِنْطَقَةَ الْجَوْزَاءِ وَغَيْرَ ذَلِكَ كَالطَّرَائِقِ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِهِ السَّمَاءُ الْمُزَيَّنَةُ بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ

[سورة الذاريات (51) : آية 9]

[الْبُرُوجِ: 1] وَقِيلَ حُبُكُهَا صِفَاقُهَا يُقَالُ فِي الثَّوْبِ الصَّفِيقِ حَسَنُ الْحُبُكِ وَعَلَى هَذَا فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ [الطَّارِقِ: 11] لِشِدَّتِهَا وَقُوَّتِهَا هذا مَا قِيلَ فِيهِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ وَفِي تَفْسِيرِهِ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ كُلُّهَا مُحْكَمَةٌ الْأَوَّلُ: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تارة تقولون إِنَّهُ أَمِينٌ وَأُخْرَى إِنَّهُ كَاذِبٌ، وَتَارَةً تَنْسُبُونَهُ إِلَى الْجُنُونِ، وَتَارَةً تَقُولُونَ إِنَّهُ كَاهِنٌ وَشَاعِرٌ وَسَاحِرٌ، وَهَذَا مُحْتَمَلٌ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ إِذْ لَا حَاجَةَ إِلَى الْيَمِينِ عَلَى هَذَا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ حَتَّى يُؤَكِّدَ بِيَمِينٍ الثَّانِي: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ أَيْ غَيْرِ ثَابِتِينَ عَلَى أَمْرٍ وَمَنْ لَا يَثْبُتُ عَلَى قَوْلٍ لَا يَكُونُ مُتَيَقِّنًا فِي اعْتِقَادِهِ فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى، وَالسَّمَاءِ إِنَّكُمْ غَيْرُ جَازِمِينَ فِي اعْتِقَادِكُمْ وَإِنَّمَا تُظْهِرُونَ الْجَزْمَ لِشِدَّةِ عِنَادِكُمْ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِيهِ فَائِدَةٌ وَهِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّكَ غَيْرُ صَادِقٍ فِي قَوْلِكَ، وَإِنَّمَا تُجَادِلُ وَنَحْنُ نَعْجِزُ عَنِ الْجَدَلِ قَالَ: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً أَيْ إِنَّكَ صَادِقٌ وَلَسْتَ مُعَانِدًا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ أَنْتُمْ وَاللَّهِ جَازِمُونَ بِأَنِّي صَادِقٌ فَعَكَسَ الْأَمْرَ عَلَيْهِمْ الثَّالِثُ: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، أَيْ مُتَنَاقِضٍ، أَمَّا فِي الْحَشْرِ فَلِأَنَّكُمْ تَقُولُونَ لَا حَشْرَ وَلَا حَيَاةَ بَعْدَ الْمَوْتِ ثُمَّ تَقُولُونَ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ، فَإِذَا كَانَ لَا حَيَاةَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا شُعُورَ لِلْمَيِّتِ، فَمَاذَا يُصِيبُ آبَاءَكُمْ إِذَا خَالَفْتُمُوهُمْ؟ وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا مِمَّنْ يَقُولُونَ بِأَنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ عَذَابًا فَلَوْ/ عَلِمْنَا شَيْئًا يَكْرَهُهُ الْمَيِّتُ يُبْدَى فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِكُمْ إِنَّا لَا نَنْسُبُ آبَاءَنَا بَعْدَ مَوْتِهِمْ إِلَى الضَّلَالِ، وَكَيْفَ وَأَنْتُمْ تَرْبِطُونَ الرَّكَائِبَ عَلَى قُبُورِ الأكابر، وأما في التوحيد فتقولون خالق السموات وَالْأَرْضِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا غَيْرُهُ ثُمَّ تَقُولُونَ هُوَ إِلَهُ الْآلِهَةِ وَتَرْجِعُونَ إِلَى الشِّرْكِ، وَأَمَّا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَقُولُونَ إِنَّهُ مَجْنُونٌ ثُمَّ تَقُولُونَ لَهُ إِنَّكَ تَغْلِبُنَا بِقُوَّةِ جَدَلِكَ، وَالْمَجْنُونُ كَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ الْمُنْتَظِمِ الْمُعْجِزِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ من الأمور المتناقضة. ثم قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 9] يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَدْحٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ يُؤْفَكُ عَنِ الْقَوْلِ الْمُخْتَلِفِ وَيُصْرَفُ مِنْ صُرِفَ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَيُرْشَدُ إِلَى الْقَوْلِ الْمُسْتَوِي وَثَانِيهَا: أَنَّهُ ذَمٌّ مَعْنَاهُ يُؤْفَكُ عَنِ الرَّسُولِ ثَالِثُهَا: يُؤْفَكُ عَنِ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ رَابِعُهَا: يُؤْفَكُ عَنِ الْقُرْآنِ وَقُرِئَ يُؤْفَنُ عَنْهُ مَنْ أُفِنَ أَيْ يُحْرَمُ وَقُرِئَ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أَفَكَ أَيْ كَذَبَ. ثُمَّ قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 10] قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ [الذاريات: 8] أَنَّهُمْ غَيْرُ ثَابِتِينَ عَلَى أَمْرٍ وَغَيْرُ جَازِمِينَ بَلْ هُمْ يَظُنُّونَ وَيَخْرُصُونَ، وَمَعْنَاهُ لُعِنَ الْخَرَّاصُونَ دعاء عليهم بمكروه. ثم وصفهم فقال: [سورة الذاريات (51) : آية 11] الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ إِحْدَاهُمَا لَفْظِيَّةٌ وَالْأُخْرَى مَعْنَوِيَّةٌ. أَمَّا اللَّفْظِيَّةُ: فَقَوْلُهُ ساهُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَالْمُبْتَدَأُ هُوَ قَوْلُهُ هُمْ وَتَقْدِيرُهُ هُمْ كَائِنُونَ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ، كَمَا يُقَالُ زَيْدٌ جَاهِلٌ جائز لا على قصد وصف الجاهل بالجائز، بَلِ الْإِخْبَارِ بِالْوَصْفَيْنِ

[سورة الذاريات (51) : آية 12]

عَنْ زَيْدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ساهُونَ خَبَرًا وفِي غَمْرَةٍ ظَرْفٌ لَهُ كَمَا يُقَالُ زَيْدٌ فِي بَيْتِهِ قَاعِدٌ يَكُونُ الْخَبَرُ هُوَ الْقَاعِدَ لَا غَيْرُ وَفِي بَيْتِهِ لِبَيَانِ ظَرْفِ الْقُعُودِ كَذَلِكَ فِي غَمْرَةٍ لبيان ظرف السهو الذي يصحح وَصْفُ الْمَعْرِفَةِ بِالْجُمْلَةِ، وَلَوْلَاهَا لَمَا جَازَ وَصْفُ الْمَعْرِفَةِ بِالْجُمْلَةِ. وَأَمَّا الْمَعْنَوِيَّةُ: فَهِيَ أَنَّ وَصْفَ الْخَرَّاصِ بِالسَّهْوِ وَالِانْهِمَاكِ فِي الْبَاطِلِ، يُحَقِّقُ ذَلِكَ كَوْنَ الْخَرَّاصِ صِفَةَ ذَمٍّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا الظَّنُّ إِذَا خَرَصَ الْخَارِصُ وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ الْخَرَّاصُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مُفِيدُ نَقْصٍ، كَمَا يُقَالُ فِي خَرَّاصِ الْفَوَاكِهِ وَالْعَسَاكِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْخَرْصُ فِي مَحَلِّ الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينِ فَهُوَ ذَمٌّ فَقَالَ: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ جَاهِلُونَ سَاهُونَ لَا الَّذِينَ تَعَيَّنَ طَرِيقُهُمْ فِي التَّخْمِينِ وَالْحَزْرِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ساهُونَ بَعْدَ قَوْلِهِ فِي غَمْرَةٍ يُفِيدُ أَنَّهُمْ وَقَعُوا فِي جَهْلٍ وَبَاطِلٍ وَنَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهِ فَلَمْ يرجعوا عنه. ثم قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 12] يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) فَإِنْ قِيلَ الزَّمَانُ يُجْعَلُ ظَرْفَ الْأَفْعَالِ وَلَا يُمْكِنُ/ أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ ظرفا لظرف آخر، وهاهنا جُعِلَ أَيَّانَ ظَرْفَ الْيَوْمِ فَقَالَ: أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ وَيُقَالُ مَتَى يَقْدَمُ زَيْدٌ، فَيُقَالُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَا يُقَالُ مَتَى يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فَالْجَوَابُ التَّقْدِيرُ مَتَى يَكُونُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَأَيَّانَ يَكُونُ يَوْمُ الدِّينِ، وَأَيَّانَ مِنَ الْمُرَكَّبَاتِ رُكِّبَ مِنْ أَيِّ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الِاسْتِفْهَامُ وَآنَ الَّتِي هِيَ الزَّمَانُ أَوْ مِنْ أَيْ وَأَوَانٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَيُّ أَوَانٍ فَلَمَّا رُكِّبَ بُنِيَ وَهَذَا مِنْهُمْ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا أَيَّانَ يَقَعُ اسْتِهْزَاءٌ وَتَرْكُ الْمَسْؤُولِ فِي قوله يَسْئَلُونَ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ يَسْأَلُونَ مَنْ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَرَضَهُمْ لَيْسَ الْجَوَابَ وَإِنَّمَا يَسْأَلُونَ اسْتِهْزَاءً. وقوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 13] يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ أَيَّانَ يَقَعُ وَحِينَئِذٍ كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا سُؤَالَ مُسْتَفْهِمٍ طَالِبٍ لِحُصُولِ الْعِلْمِ كَذَلِكَ لَمْ يُجِبْهُمْ جَوَابَ مُجِيبٍ مُعَلِّمٍ مُبِينٍ حَيْثُ قَالَ: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ وَجَهْلُهُمْ بِالثَّانِي أَقْوَى مِنْ جَهْلِهِمْ بِالْأَوَّلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ بِالْأَخْفَى، فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ مَتَى يَقْدَمُ زَيْدٌ فَلَوْ قَالَ الْمُجِيبُ يَوْمَ يَقْدَمُ رَفِيقُهُ وَلَا يُعْلَمُ يَوْمُ قُدُومِ الرَّفِيقِ، لَا يَصِحُّ هَذَا الْجَوَابُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْكَلَامُ فِي صُورَةِ جَوَابٍ، وَلَا يَكُونُ جَوَابًا كَمَا أَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ كَمْ تَعِدُ عِدَاتِي وَتُخْلِفُهَا إِلَى مَتَى هَذَا الْإِخْلَافُ فَيَغْضَبُ وَيَقُولُ إِلَى أَشْأَمِ يَوْمٍ عَلَيْكَ، الْكَلَامَانِ فِي صُورَةِ سُؤَالٍ وَجَوَابٍ وَلَا الْأَوَّلُ يُرِيدُ بِهِ السُّؤَالَ، وَلَا الثاني يريد به الجواب، فكذلك هاهنا قَالَ: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ مُقَابَلَةُ استهزائهم بالإيعاد لا على وجه الإتيان وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ تَمَامُهُ. في قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 14] ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) فَإِنْ قِيلَ هَذَا يُفْضِي إِلَى الْإِضْمَارِ، نَقُولُ الْإِضْمَارُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِمَا قَبْلَهُ إِلَّا بِإِضْمَارٍ، يُقَالُ وَيُفْتَنُونَ قِيلَ مَعْنَاهُ يُحْرَقُونَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ عَرْضَ الْمُجَرِّبِ الذهب على النار كلمة عَلَى تُنَاسِبُ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ يُحْرَقُونَ لَكَانَ بِالنَّارِ أَوْ فِي النَّارِ أَلْيَقُ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ هِيَ التَّجْرِبَةُ، وَأَمَّا مَا يُقَالُ مَنِ اخْتَبَرَهُ وَمِنْ أَنَّهُ تَجْرِبَةُ الْحِجَارَةِ فَعَنَى بِذَلِكَ المعنى مصدر الفتن، وهاهنا يقال: ذُوقُوا

[سورة الذاريات (51) : آية 15]

فِتْنَتَكُمْ وَالْفِتْنَةَ الِامْتِحَانُ، فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا جَعَلْتَ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ مَقُولًا لَهُمْ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ فَمَا قَوْلُهُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟ قُلْنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كُنْتُمْ تَسْتَعْجِلُونَ بِصَرِيحِ الْقَوْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص: 16] وَقَوْلِهِ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا [الْأَعْرَافِ: 70] إِلَى غير ذلك يدله عليه هاهنا قوله تعالى: يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ [الذاريات: 12] فَإِنَّهُ نَوْعُ اسْتِعْجَالٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الِاسْتِعْجَالَ بِالْفِعْلِ وَهُوَ الْإِصْرَارُ عَلَى الْعِنَادِ وَإِظْهَارُ الفساد فإنه يعجل العقوبة. / ثم قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 15] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) بَعْدَ بَيَانِ حَالِ الْمُغْتَرِّينَ الْمُجْرِمِينَ بَيَّنَ حَالَ الْمُحِقِّ الْمُتَّقِي، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُتَّقِيَ لَهُ مَقَامَاتٌ أَدْنَاهَا أَنْ يَتَّقِيَ الشِّرْكَ، وَأَعْلَاهَا أَنْ يَتَّقِيَ مَا سِوَى اللَّهِ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْمُتَّقِي الْجَنَّةُ، فَمَا مِنْ مُكَلَّفٍ اجْتَنَبَ الْكُفْرَ إِلَّا وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَيُرْزَقُ نَعِيمَهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْجَنَّةُ تَارَةً وَحَّدَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرَّعْدِ: 35] وَأُخْرَى جَمَعَهَا كَمَا فِي هَذَا الْمَقَامِ قَالَ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَتَارَةً ثَنَّاهَا فَقَالَ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَنِ: 46] فَمًا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ أَمَّا الْجَنَّةُ عِنْدَ التَّوْحِيدِ فَلِأَنَّهَا لِاتِّصَالِ الْمَنَازِلِ وَالْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ كَجَنَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا حِكْمَةُ الْجَمْعِ فَلِأَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدُّنْيَا وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى جِنَانِهَا جَنَّاتٌ لَا يَحْصُرُهَا عَدَدٌ، وَأَمَّا التَّثْنِيَةُ فَسَنَذْكُرُهَا فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ غير أنا نقول هاهنا اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْوَعْدِ وَحَّدَ الْجَنَّةَ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشِّرَاءِ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التَّوْبَةِ: 111] وَعِنْدَ الْإِعْطَاءِ جَمَعَهَا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْوَعْدِ مَوْجُودَةٌ وَالْخِلَافُ مَا لَوْ وَعَدَ بِجَنَّاتٍ، ثُمَّ كَانَ يَقُولُ إِنَّهُ فِي جَنَّةٍ لِأَنَّهُ دُونَ الْمَوْعُودِ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعُيُونٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُتَّقِي فِيهَا وَلَا لَذَّةَ فِي كَوْنِ الْإِنْسَانِ فِي مَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَائِعَاتِ، نَقُولُ مَعْنَاهُ فِي خِلَالِ الْعُيُونِ، وَذَلِكَ بَيْنَ الْأَنْهَارِ بِدَلِيلِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فِي جَنَّاتٍ لَيْسَ مَعْنَاهُ إِلَّا بَيْنَ جَنَّاتٍ وَفِي خِلَالِهَا لِأَنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْأَشْجَارُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَهَا كَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْعُيُونِ وَالتَّنْكِيرُ، مَعَ أَنَّهَا مَعْرِفَةٌ لِلتَّعْظِيمِ يُقَالُ فلان رجل أي عظيم في الرجولية. [سورة الذاريات (51) : آية 16] آخِذِينَ مَا آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: آخِذِينَ مَا آتاهُمْ رَبُّهُمْ فِيهِ مَسَائِلُ وَلَطَائِفُ، أَمَّا الْمَسَائِلُ: فَالْأُولَى مِنْهَا: مَا مَعْنَى آخِذِينَ؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: قَابِضِينَ مَا آتَاهُمْ شَيْئًا فَشَيْئًا وَلَا يَسْتَوْفُونَهُ بِكَمَالِهِ لِامْتِنَاعِ اسْتِيفَاءِ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ ثَانِيهَا: آخِذِينَ قَابِلِينَ قَبُولَ رَاضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ [التَّوْبَةِ: 104] أَيْ يَقْبَلُهَا، وَهَذَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ فِي جَنَّاتٍ يَدُلُّ عَلَى السُّكْنَى فَحَسْبُ وَقَوْلُهُ آخِذِينَ يَدُلُّ عَلَى التَّمَلُّكِ وَلِذَا يُقَالُ أَخَذَ بِلَادَ كَذَا وَقَلْعَةَ كَذَا إِذَا دَخَلَهَا مُتَمَلِّكًا لَهَا، وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنِ اشْتَرَى دَارًا أَوْ بُسْتَانًا أَخَذَهُ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ أَيْ تَمَلَّكَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَبْضٌ حِسًّا وَلَا قَبُولٌ بِرِضًا، وَحِينَئِذٍ فَائِدَتُهُ بَيَانُ أَنَّ دُخُولَهُمْ فِيهَا لَيْسَ دُخُولَ مُسْتَعِيرٍ أَوْ ضَعْفٍ يُسْتَرَدُّ مِنْهُ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِلْكُهُ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى

[سورة الذاريات (51) : آية 17]

وَقَوْلُهُ آتاهُمْ يَكُونُ لِبَيَانِ أَنَّ أَخْذَهُمْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَنْوَةً وَفُتُوحًا، وَإِنَّمَا كَانَ بِإِعْطَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْجَنَّاتِ وَالْعُيُونِ. وَقَوْلُهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ إِشَارَةٌ إِلَى ثَمَنِهَا أَيْ أَخَذُوهَا وَمَلَكُوهَا بِالْإِحْسَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى [يُونُسَ: 26] بِلَامِ الْمِلْكِ وَهِيَ الْجَنَّةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: آخِذِينَ حَالٌ وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ يَأْخُذُونَ فَكَيْفَ قَالَ مَا آتَاهُمْ وَلَمْ يَقُلْ مَا يُؤْتِيهِمْ لِيَتَّفِقَ اللَّفْظَانِ، وَيُوَافِقَ الْمَعْنَى لِأَنَّ قَوْلَهُ آتاهُمْ يُنْبِئُ عَنِ الِانْقِرَاضِ وَقَوْلُهُ يؤتيهم تَنْبِيهٌ عَلَى الدَّوَامِ وَإِيتَاءُ اللَّهِ فِي الْجَنَّةِ كُلَّ يَوْمٍ مُتَجَدِّدٌ وَلَا نِهَايَةَ لَهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا فَسَّرْنَا الْأَخْذَ بِالْقَبُولِ، كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ يَقْبَلُ الْيَوْمَ مَا آتَاهُ زَيْدٌ أَمْسِ؟ نَقُولُ أَمَّا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّفْسِيرِ لَا يُرَدُّ لِأَنَّ مَعْنَاهُ يَتَمَلَّكُونَ مَا أَعْطَاهُمْ، وَقَدْ يُوجِدُ الْإِعْطَاءُ أَمْسِ وَيَتَمَلَّكُ الْيَوْمَ، وَأَمَّا عَلَى مَا ذَكَرُوهُ فَنَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَعْطَى الْمُؤْمِنَ الْجَنَّةَ وَهُوَ فِي الدُّنْيَا غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ جَنَى ثِمَارَهَا فَهُوَ يَدْخُلُهَا عَلَى هَيْئَةِ الْآخِذِ وَرُبَّمَا يَأْخُذُ خَيْرًا مِمَّا آتَاهُ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ كَوْنَهُ دَاخِلًا عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ، يَقُولُ الْقَائِلُ جِئْتُكَ خَائِفًا فَإِذَا أَنَا آمِنٌ وَمَا ذَكَرْتُمْ إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ أَخْذُهُمْ مُقْتَصِرًا عَلَى مَا آتَاهُمْ مِنْ قَبْلُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا هُمْ دخلوا عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ غَيْرُهُ فَيُؤْتِيهِمُ اللَّهُ مَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ فَيَأْخُذُونَ مَا يُؤْتِيهِمُ اللَّهُ وَإِنْ دَخَلُوهَا لِيَأْخُذُوا مَا آتَاهُمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ هُوَ أَخْذُهُمْ مَا آتَاهُمْ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ يس [55] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَاذَا؟ نَقُولُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: قَبْلَ دُخُولِهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فِي جَنَّاتٍ فِيهِ مَعْنَى الدُّخُولِ يَعْنِي قَبْلَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ أَحْسَنُوا ثَانِيهِمَا: قَبْلَ إِيتَاءِ اللَّهِ مَا آتَاهُمُ الْحُسْنَى وَهِيَ الْجَنَّةُ فَأَخَذُوهَا، وَفِيهِ وُجُوهٌ أُخَرُ، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَقَدْ تَقَدَّمَ وَأَمَّا اللَّطَائِفُ: فَقَدْ سَبَقَ بَعْضُهَا، وَمِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ لَمَّا كَانَ إِشَارَةً إِلَى التَّقْوَى مِنَ الشِّرْكِ كَانَ كَأَنَّهُ قَالَ الَّذِينَ آمَنُوا لَكِنَّ الْإِيمَانَ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ يُفِيدُ سَعَادَتَيْنِ، وَلِذَلِكَ دَلَالَةٌ أَتَمُّ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ إِنَّهُمْ أَحْسَنُوا اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا التَّقْوَى فَلِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَا إِلَهَ فَقَدِ اتَّقَى الشِّرْكَ، وَأَمَّا الْإِحْسَانُ فَلِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ إِلَّا اللَّهُ فَقَدْ أَتَى بِالْإِحْسَانِ، وَلِهَذَا قِيلَ فِي مَعْنَى كَلِمَةِ التَّقْوَى إِنَّهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي الْإِحْسَانِ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ [فُصِّلَتْ: 33] وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرَّحْمَنِ: 60] أَنَّ الْإِحْسَانَ هُوَ الْإِتْيَانُ بِكَلِمَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَهُمَا حِينَئِذٍ لَا يَتَفَاصَلَانِ بل هما متلازمان. وقوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 17] كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) كَالتَّفْسِيرِ لِكَوْنِهِمْ مُحْسِنِينَ، تَقُولُ حَاتِمٌ كَانَ سَخِيًّا كَانَ يَبْذُلُ مَوْجُودَهُ وَلَا يَتْرُكُ مَجْهُودَهُ، وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: قَلِيلًا مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ تَقْدِيرُهُ يَهْجَعُونَ قَلِيلًا تَقُولُ قَامَ بَعْضَ اللَّيْلِ فَتَنْصِبُ بَعْضَ عَلَى الظَّرْفِ وَخَبَرُ كَانَ هُوَ قَوْلُهُ يَهْجَعُونَ و (ما) زَائِدَةٌ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ/ أَنْ يُقَالَ كَانُوا قَلِيلًا، مَعْنَاهُ نَفْيُ النَّوْمِ عَنْهُمْ وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنِ الضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ، وَأَنْكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ كَوْنَ مَا نَافِيَةً، وَقَالَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً لِأَنَّ مَا بَعْدَ مَا لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا لَا تَقُولُ زَيْدًا مَا ضَرَبْتُ وَيَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ مَا بَعْدَ لَمْ فِيمَا تَقُولُ زَيْدًا لَمْ أَضْرِبْ، وسبب

ذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ إِنَّمَا يَفْعَلُ فِي النَّفْيِ حَمْلًا لَهُ عَلَى الْإِثْبَاتِ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ ضَرَبَ زِيدٌ عَمْرًا ثَبَتَ تَعَلُّقُ فِعْلِهِ بِعَمْرٍو فَإِذَا قُلْتَ مَا ضَرَبَهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلٌ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ وَيَتَعَدَّى إِلَيْهِ لَكِنَّ الْمَنْفِيَّ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالنَّفْيُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِثْبَاتِ كَاسْمِ الْفَاعِلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفِعْلِ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْفِعْلِ، لَكِنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمَاضِي لَا يَعْمَلُ، فَلَا تَقُولُ زَيْدٌ ضَارِبٌ عَمْرًا أَمْسِ، وَتَقُولُ زَيْدٌ ضَارِبٌ عَمْرًا غَدًا وَالْيَوْمَ وَالْآنَ، لِأَنَّ الْمَاضِيَ لَمْ يَبْقَ مَوْجُودًا وَلَا مُتَوَقَّعَ الْوُجُودِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَفْعُولِ حَقِيقَةً لَكِنَّ الْفِعْلَ لِقُوَّتِهِ يَعْمَلُ وَاسْمُ الْفَاعِلِ لِضَعْفِهِ لَمْ يَعْمَلْ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ مَا ضرب للنفي في المضي فَاجْتَمَعَ فِيهِ النَّفْيُ وَالْمُضِيُّ فَضَعُفَ وَأَمَّا لَمْ أَضْرِبْ وَإِنْ كَانَ يَقْلِبُ الْمُسْتَقْبِلَ إِلَى الْمَاضِي لَكِنَّ الصِّيغَةَ صِيغَةُ الْمُسْتَقْبَلِ فَوُجِدَ فِيهِ مَا يُوجَدُ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ زَيْدٌ ضَارِبٌ عَمْرًا غَدًا فَأَعْمَلَ هَذَا بَيَانَ قَوْلِهِ غَيْرَ أَنَّ الْقَائِلَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ يَقُولُ قَلِيلًا لَيْسَ مَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ يَهْجَعُونَ وَإِنَّمَا ذَلِكَ خَبَرُ كَانُوا أَيْ كَانُوا قَلِيلِينَ، ثُمَّ قَالَ: مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ أَيْ مَا يَهْجَعُونَ أَصْلًا بَلْ يُحْيُونَ اللَّيْلَ جَمِيعَهُ وَمِنْ يَكُونُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ لَا لِلتَّبْعِيضِ، وَهَذَا الْوَجْهُ حِينَئِذٍ فِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [ص: 24] وَذَلِكَ لِأَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ قوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ [الذاريات: 16] فِيهِ مَعْنَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَقَوْلَهُ مُحْسِنِينَ فِيهِ مَعْنَى الَّذِينَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَقَوْلَهُ كانُوا قَلِيلًا فِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. الْبَحْثُ الثَّانِي: عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ أَنَّ مَا زَائِدَةٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا صِفَةَ مَصْدَرٍ تَقْدِيرُهُ يَهْجَعُونَ هُجُوعًا قَلِيلًا. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ قَلِيلًا مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ تَقْدِيرُهُ كَانَ هُجُوعُهُمْ مِنَ اللَّيْلِ قَلِيلًا فَيَكُونُ فَاعِلُ كانُوا هو الهجوع، ويكون ذلك من باب بَدَلِ الِاشْتِمَالِ لِأَنَّ هُجُوعَهُمْ مُتَّصِلٌ بِهِمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ كَانَ هُجُوعُهُمْ قَلِيلًا كَمَا يُقَالُ كَانَ زَيْدٌ خُلُقُهُ حَسَنًا، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْقَوْلِ بِزِيَادَةٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ النُّحَاةَ لَا يَقُولُونَ فِيهِ إِنَّهُ بَدَلٌ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ زَيْدٌ حَسَنٌ وَجْهُهُ أَوِ الْوَجْهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ زَيْدٌ وَجْهُهُ حَسَنٌ فَيَقُولُونَ فِي الْأَوَّلِ صِفَةٌ وَفِي الثَّانِي بَدَلٌ وَنَحْنُ حَيْثُ قُلْنَا إِنَّهُ مِنْ بَابِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ أَرَدْنَا بِهِ مَعْنًى لَا اصْطِلَاحًا، وَإِلَّا فَقَلِيلًا عِنْدَ التَّقْدِيمِ لَيْسَ فِي النَّحْوِ مِثْلُهُ عِنْدَ التَّأْخِيرِ حَتَّى قَوْلِكَ فُلَانٌ قَلِيلٌ هُجُوعُهُ لَيْسَ بِبَدَلٍ، وَفُلَانٌ هُجُوعُهُ قَلِيلٌ بَدَلٌ، وَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً مَعْنَاهُ كَانَ مَا يَهْجَعُونَ فِيهِ قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ، هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ، أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى فَنَقُولُ تَقْدِيمُ قَلِيلًا فِي الذِّكْرِ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ السَّجْعِ حَتَّى يَقَعَ يَهْجَعُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ فِي أَوَاخِرِ الْآيَاتِ، بَلْ فِيهِ فَائِدَتَانِ الْأُولَى: هِيَ أَنَّ الْهُجُوعَ رَاحَةٌ لَهُمْ، وَكَانَ الْمَقْصُودُ بَيَانَ اجْتِهَادِهِمْ وَتَحَمُّلِهِمُ السَّهَرَ لِلَّهِ/ تَعَالَى فَلَوْ قَالَ كَانُوا يَهْجَعُونَ كَانَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا رَاحَتَهُمْ ثُمَّ يَصِفُهُ بِالْقِلَّةِ وَرُبَّمَا يَغْفُلُ الْإِنْسَانُ السَّامِعُ عَمَّا بَعْدَ الْكَلَامِ فَيَقُولُ إِحْسَانُهُمْ وَكَوْنُهُمْ مُحْسِنِينَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ يَهْجَعُونَ وَإِذَا قَدَّمَ قَوْلَهُ قَلِيلًا يَكُونُ السَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ قِلَّةُ الْهُجُوعِ، وَهَذِهِ الْفَائِدَةُ مَنْ يُرَاعِيهَا يَقُولُ فُلَانٌ قَلِيلُ الْهُجُوعِ وَلَا يَقُولُ هُجُوعُهُ قَلِيلٌ، لِأَنَّ الْغَرَضَ بَيَانُ قِلَّةِ الْهُجُوعِ لَا بَيَانُ الْهُجُوعِ بِوَصْفِ الْقِلَّةِ أَوِ الْكَثْرَةِ، فَإِنَّ الْهُجُوعَ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَانَ نَفْيُ الْقِلَّةِ أَوْلَى وَلَا كَذَلِكَ قِلَّةُ الْهُجُوعِ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لَكَانَ بَدَلَهَا الْكَثْرَةُ فِي الظَّاهِرِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنَ اللَّيْلِ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّوْمَ الْقَلِيلَ بِالنَّهَارِ قَدْ يُوجَدُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَأَمَّا اللَّيْلُ فَهُوَ زَمَانُ النَّوْمِ لَا يَسْهَرُهُ فِي الطَّاعَةِ إِلَّا مُتَعَبِّدٌ مُقْبِلٌ، فَإِنْ قِيلَ الْهُجُوعُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللَّيْلِ وَالنَّوْمُ نَهَارًا، لا يقال

[سورة الذاريات (51) : آية 18]

لَهُ الْهُجُوعُ قُلْنَا ذِكْرُ الْأَمْرِ الْعَامِّ وَإِرَادَةُ التَّخْصِيصِ حَسَنٌ فَنَقُولُ: رَأَيْتُ حَيَوَانًا نَاطِقًا فَصِيحًا، وَذِكْرُ الْخَاصِّ وَإِرَادَةُ الْعَامِّ لَا يَحْسُنُ إِلَّا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَلَا نَقُولُ رَأَيْتُ فَصِيحًا نَاطِقًا حَيَوَانًا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ذَكَرَ أَمْرًا هُوَ كَالْعَامِّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ: كَانُوا مِنَ اللَّيْلِ يُسَبِّحُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ أَوْ يَسْهَرُونَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَالَ يَهْجَعُونَ فَكَأَنَّهُ خَصَّصَ ذَلِكَ الْأَمْرَ الْعَامَّ الْمُحْتَمَلَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ فلا إشكال فيه. ثم قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 18] وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَهَجَّدُونَ وَيَجْتَهِدُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَأَخْلَصَ مِنْهُ وَيَسْتَغْفِرُونَ مِنَ التَّقْصِيرِ وَهَذَا سِيرَةُ الْكَرِيمِ يَأْتِي بِأَبْلَغِ وُجُوهِ الْكَرَمِ وَيَسْتَقِلُّهُ وَيَعْتَذِرُ مِنَ التَّقْصِيرِ، وَاللَّئِيمُ يَأْتِي بِالْقَلِيلِ وَيَسْتَكْثِرُهُ وَيَمُنُّ بِهِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَلْطَفُ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ يَهْجَعُونَ قَلِيلًا، وَالْهُجُوعُ مُقْتَضَى الطَّبْعِ، قَالَ: يَسْتَغْفِرُونَ أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ النَّوْمِ الْقَلِيلِ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ أُخْرَى تَنْبِيهًا فِي جَوَابِ سُؤَالٍ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَهُمْ بِقِلَّةِ الْهُجُوعِ، وَلَمْ يَمْدَحْهُمْ بِكَثْرَةِ السَّهَرِ، وَمَا قَالَ: كَانُوا كَثِيرًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَسْهَرُونَ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ، مَعَ أَنَّ السَّهَرَ هُوَ الْكُلْفَةُ وَالِاجْتِهَادُ لَا الْهُجُوعُ؟ نَقُولُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نَوْمَهُمْ عِبَادَةٌ، حَيْثُ مَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِكَوْنِهِمْ هَاجِعِينَ قَلِيلًا، وذلك الهجوع أورثهم لاشتغال بِعِبَادَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ الِاسْتِغْفَارُ فِي وُجُوهِ الْأَسْحَارِ، وَمَنَعَهُمْ مِنَ الْإِعْجَابِ بِأَنْفُسِهِمْ وَالِاسْتِكْبَارِ. وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي الْبَاءِ فَإِنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ لِلظَّرْفِ هاهنا، وَهِيَ لَيْسَتْ لِلظَّرْفِ، نَقُولُ قَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: إِنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يَنُوبُ بَعْضُهَا مَنَابَ بَعْضٍ، يُقَالُ فِي الظَّرْفِ خَرَجْتُ لِعَشْرٍ بَقِينَ وَبِاللَّيْلِ وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَيُسْتَعْمَلُ اللَّامُ وَالْبَاءُ وَفِي، وكذلك في المكان، نقول: أَقَمْتُ بِالْمَدِينَةِ كَذَا وَفِيهَا، وَرَأَيْتُهُ بِبَلْدَةِ كَذَا وَفِيهَا، فَإِنْ قِيلَ مَا التَّحْقِيقُ فِيهِ؟ نَقُولُ الحروف لها معاني مُخْتَلِفَةٌ، كَمَا أَنَّ الْأَسْمَاءَ وَالْأَفْعَالَ كَذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ الْحُرُوفَ غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ بِإِفَادَةِ الْمَعْنَى، وَالِاسْمُ وَالْفِعْلُ/ مُسْتَقِلَّانِ، لَكِنْ بَيْنَ بَعْضِ الْحُرُوفِ وَبَعْضِهَا تَنَافٍ وَتَبَاعُدٌ، كَمَا فِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ، فَإِنَّ الْبَيْتَ وَالْمَسْكَنَ مُخْتَلِفَانِ مُتَفَاوِتَانِ، وَكَذَلِكَ سَكَنَ وَمَكَثَ، وَلَا كَذَلِكَ كُلُّ اسْمَيْنِ يُفْرَضُ أَوْ كُلُّ فِعْلَيْنِ يُوجَدُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: بَيْنَ الْبَاءِ وَاللَّامِ وَفِي مُشَارَكَةٌ، أَمَّا الْبَاءُ فَإِنَّهَا لِلْإِلْصَاقِ، وَالْمُتَمَكِّنُ فِي مَكَانٍ مُلْتَصِقٌ بِهِ مُتَّصِلٌ، وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّمَانِ، فَإِذَا قَالَ: سَارَ بِالنَّهَارِ مَعْنَاهُ ذَهَبَ ذَهَابًا مُتَّصِلًا بِالنَّهَارِ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أَيِ اسْتِغْفَارًا مُتَّصِلًا بِالْأَسْحَارِ مُقْتَرِنًا بِهَا، لِأَنَّ الْكَائِنَ فِيهَا مُقْتَرِنًا بِهَا، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى تَفَاوُتٌ؟ نَقُولُ نَعَمْ، وَذَلِكَ لأن من قال: قمت بالليل واستغفرت بِالْأَسْحَارِ أَخْبَرَ عَنِ الْأَمْرَيْنِ، وَذَلِكَ أَدَلُّ عَلَى وُجُودِ الْفِعْلِ مَعَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ مِنْ قَوْلِهِ قُمْتُ فِي اللَّيْلِ، لِأَنَّهُ يَسْتَدْعِي احْتِوَاشَ الزَّمَانِ بِالْفِعْلِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: أَقَمْتُ بِبَلَدِ كَذَا، لَا يُفِيدُ أَنَّهُ كَانَ مُحَاطًا بِالْبَلَدِ، وَقَوْلُهُ أَقَمْتُ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى إِحَاطَتِهَا بِهِ، فَإِذَنْ قَوْلُ الْقَائِلِ: أَقَمْتُ بِالْبَلْدَةِ وَدَعَوْتُ بِالْأَسْحَارِ، أَعَمُّ مِنْ قَوْلِهِ: قُمْتُ فِيهِ، لِأَنَّ الْقَائِمَ فِيهِ قَائِمٌ بِهِ، وَالْقَائِمَ بِهِ لَيْسَ قَائِمًا فِيهِ مِنْ كُلِّ بُدٍّ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ وَقْتًا عَنِ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّهُمْ بِاللَّيْلِ لَا يَهْجَعُونَ، وَمَعَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّحَرِ يَسْتَغْفِرُونَ، فَيَكُونُ فِيهِ بَيَانُ كَوْنِهِمْ مُسْتَغْفِرِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ مِنْهُمْ ذَنْبٌ، لِأَنَّهُمْ وَقْتَ الِانْتِبَاهِ فِي الْأَسْحَارِ لَمْ يَخْلُو الْوَقْتُ لِلذَّنْبِ، فَإِنْ قِيلَ: زِدْنَا بَيَانًا فَإِنَّ مِنَ الْأَزْمَانِ أَزْمَانًا لَا تُجْعَلُ ظُرُوفًا بِالْبَاءِ، فَلَا يُقَالُ خَرَجْتُ بِيَوْمِ

[سورة الذاريات (51) : آية 19]

الجمعة ويقال بفي، نَقُولُ: إِنَّ كُلَّ فِعْلٍ جَارٍ فِي زَمَانٍ فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ، فَالْخُرُوجُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مُتَّصِلٌ مُقْتَرِنٌ بِذَلِكَ الزَّمَانِ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ خَرَجْتُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، نَقُولُ الْفَارِقُ بَيْنَهُمَا الْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ، بِدَلِيلِ أَنَّكَ إِنْ قُلْتَ: خَرَجْتُ بِنَهَارِنَا وَبِلَيْلَةِ الْجُمُعَةِ لَمْ يَحْسُنْ، وَلَوْ قُلْتَ: خَرَجْتُ بِيَوْمِ سَعْدٍ، وَخَرَجَ هُوَ بِيَوْمِ نَحْسٍ حَسُنَ، فَالنَّهَارُ وَاللَّيْلُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا خُصُوصٌ وَتَقْيِيدٌ جَازَ اسْتِعْمَالُ الْبَاءِ فِيهِمَا، فَإِذَا قَيَّدْتَهُمَا وَخَصَّصْتَهُمَا زَالَ ذَلِكَ الْجَوَازُ، وَيَوْمُ الْجُمُعَةَ لَمَّا كَانَ فِيهِ خُصُوصٌ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُ الْبَاءِ، وَحَيْثُ زَالَ الخصوص بالتنكير، وقلت خرت بِيَوْمِ كَذَا عَادَ الْجَوَازُ، وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ مِثْلَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَهَذِهِ السَّاعَةِ، وَتِلْكَ اللَّيْلَةِ وُجِدَ فِيهَا أَمْرٌ غَيْرُ الزَّمَانِ وَهُوَ خُصُوصِيَّاتٌ، وَخُصُوصِيَّةُ الشَّيْءِ فِي الْحَقِيقَةِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ عِنْدَ الْعَاقِلِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ لَكِنَّهَا مَحْصُورَةٌ عَلَى الْإِجْمَالِ، مِثَالُهُ إِذَا قُلْتَ هَذَا الرَّجُلَ فَالْعَامُّ فِيهِ هُوَ الرَّجُلُ، ثُمَّ إِنَّكَ لَوْ قُلْتَ الرَّجُلُ الطَّوِيلُ، مَا كَانَ يَصِيرُ مُخَصَّصًا، لَكِنَّهُ يَقْرُبُ مِنَ الْخُصُوصِ، وَيَخْرُجُ مِنَ الْقِصَارِ، فَإِنْ قُلْتَ الْعَالِمُ لَمْ يَصِرْ مُخَصَّصًا لَكِنَّهُ يَخْرُجُ عَنِ الْجُهَّالِ، فَإِذَا قُلْتَ الزَّاهِدُ فَكَذَلِكَ، فَإِذَا قُلْتَ ابْنُ عَمْرٍو خَرَجَ عَنْ أَبْنَاءِ زَيْدٍ وَبَكْرٍ وَخَالِدٍ وَغَيْرِهِمْ، فَإِذَا قُلْتَ هَذَا يَتَنَاوَلُ تِلْكَ الْمُخَصَّصَاتِ الَّتِي بِأَجْمَعِهَا لَا تَجْتَمِعُ إِلَّا فِي ذَلِكَ، فَإِذَنِ الزَّمَانُ الْمُتَعَيِّنُ فِيهِ أُمُورٌ غَيْرُ الزَّمَانِ، وَالْفِعْلُ حَدَثٌ مُقْتَرِنٌ بِزَمَانٍ لَا نَاشِئٌ عَنِ الزَّمَانِ، وَأَمَّا فِي فَصَحِيحٌ، لِأَنَّ مَا حَصَلَ فِي الْعَامِّ فَهُوَ فِي الْخَاصِّ، لِأَنَّ الْعَامَّ أَمْرٌ دَاخِلٌ فِي الْخَاصِّ، وَأَمَّا فِي فَيَدْخُلُ فِي الَّذِي فِيهِ الشَّيْءُ، فَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَفِي/ هَذِهِ السَّاعَةِ، وَأَمَّا بَحْثُ اللَّامِ فَنُؤَخِّرُهُ إِلَى مَوْضِعِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها [يس: 38] وَقَوْلُهُ هُمْ غَيْرُ خَالٍ عَنْ فَائِدَةٍ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَائِدَتُهُ انْحِصَارُ الْمُسْتَغْفِرِينَ، أَيْ لِكَمَالِهِمْ فِي الِاسْتِغْفَارِ، كَأَنَّ غَيْرَهُمْ لَيْسَ بِمُسْتَغْفِرٍ، فَهُمُ الْمُسْتَغْفِرُونَ لَا غَيْرُ، يُقَالُ فُلَانٌ هُوَ الْعَالِمُ لِكَمَالِهِ في العلم كَأَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ وَهُوَ جَيِّدٌ، وَلَكِنَّ فِيهِ فَائِدَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَطَفَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ عَلَى قَوْلِهِ كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ [الذاريات: 17] فَلَوْ لَمْ يُؤَكِّدْ مَعْنَى الْإِثْبَاتِ بِكَلِمَةِ هُمْ لَصَلَحَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَبِالْأَسْحَارِ قَلِيلًا مَا يَسْتَغْفِرُونَ، تَقُولُ فُلَانٌ قَلِيلًا مَا يُؤْذِي وَإِلَى النَّاسِ يُحْسِنُ قَدْ يُفْهَمُ أَنَّهُ قَلِيلُ الْإِيذَاءِ قَلِيلُ الْإِحْسَانِ، فَإِذَا قُلْتَ قَلِيلًا مَا يُؤْذِي وَهُوَ يُحْسِنُ زَالَ ذَلِكَ الْفَهْمُ وَظَهَرَ فِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ: قَلِيلُ الْإِيذَاءِ كَثِيرُ الْإِحْسَانِ، وَالِاسْتِغْفَارُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ بِالذِّكْرِ بِقَوْلِهِمْ ربنا اغفر لنا الثَّانِي: طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ بِالْفِعْلِ، أَيْ بِالْأَسْحَارِ يَأْتُونَ بِفِعْلٍ آخَرَ طَلَبًا لِلْغُفْرَانِ، وَهُوَ الصَّلَاةُ أَوْ غَيْرَهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَغْرَبُهَا الِاسْتِغْفَارُ مِنْ بَابِ اسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ إِذَا جَاءَ أَوَانُ حَصَادِهِ، فَكَأَنَّهُمْ بِالْأَسْحَارِ يَسْتَحِقُّونَ الْمَغْفِرَةَ وَيَأْتِيهِمْ أَوَانُ الْمَغْفِرَةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَاللَّهُ لَمْ يُؤَخِّرْ مُغْفِرَتَهُمْ إِلَى السَّحَرِ؟ نَقُولُ وَقْتُ السَّحَرِ تَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الْمَشْهُودُ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَلَى مَلَأٍ مِنْهُمْ: إِنِّي غَفَرْتُ لِعَبْدِي، وَالْأَوَّلُ أظهر، والثاني عند المفسرين أشهر. ثم قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 19] وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَقَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ تَعْظِيمِ نَفْسِهِ يَذْكُرُ الشَّفَقَةَ عَلَى خَلْقِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَلِيلَ الْهُجُوعِ الْمُسْتَغْفِرَ فِي وُجُوهِ الْأَسْحَارِ وجد منه التعظيم العظيم، فأشار إلى الشفقة بِقَوْلِهِ وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَضَافَ الْمَالَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ فِي مَوَاضِعَ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [يس: 47] وَقَالَ:

وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [الشورى: 38] نَقُولُ سَبَبُهُ أَنَّ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ كَانَ الذِّكْرُ لِلْحَثِّ، فَذَكَرَ مَعَهُ مَا يَدْفَعُ الْحَثَّ وَيَرْفَعُ الْمَانِعَ، فَقَالَ هُوَ رِزْقُ اللَّهِ وَاللَّهُ يرزقكم فلا تخافوا الفقر وأعطوا، وأما هاهنا فَمَدَحَ عَلَى مَا فَعَلُوهُ فَلَمْ يَكُنْ إِلَى الْحِرْصِ حَاجَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَشْهُورُ فِي الْحَقِّ أَنَّهُ هُوَ الْقَدْرُ الَّذِي عُلِمَ شَرْعًا وَهُوَ الزَّكَاةُ وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى هَذَا صِفَةُ مَدْحٍ، لِأَنَّ كَوْنَ الْمُسْلِمِ فِي مَالِهِ حَقٌّ وَهُوَ الزَّكَاةُ لَيْسَ صِفَةَ مَدْحٍ لِأَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ كَذَلِكَ، بَلِ الْكَافِرُ إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ مُخَاطَبٌ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ فِي مَالِهِ حَقٌّ مَعْلُومٌ غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ سَقَطَ عَنْهُ وَإِنْ مَاتَ عُوقِبَ عَلَى تَرْكِهِ، وَإِنْ أَدَّى مِنْ غَيْرِ الْإِسْلَامِ لَا يَقَعُ الْمَوْقِعُ، فَكَيْفَ يُفْهَمُ كَوْنُهُ مَدْحًا؟ نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أنا نفسر بِمَنْ يَطْلُبُ شَرْعًا، وَالْمَحْرُومَ الَّذِي لَا مَكِنَةَ لَهُ/ مِنَ الطَّلَبِ وَمَنْعَهُ الشَّارِعُ مِنَ الْمُطَالَبَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْمَنْعَ قَدْ يَكُونُ لِكَوْنِ الطَّالِبِ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ، وَقَدْ يَكُونُ لِكَوْنِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلَا يُطَالَبُ فَقَالَ تَعَالَى فِي مَالِهِ حَقٌّ لِلطَّالِبِ وَهُوَ الزَّكَاةُ وَلِغَيْرِ الطَّالِبِ وَهُوَ الصَّدَقَةُ الْمُتَطَوَّعُ بِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَالِكَ لَا يُطَالَبُ بِهَا وَيُحْرَمُ الطَّالِبُ مِنْهُ طَلَبًا عَلَى سَبِيلِ الْجِزْيَةِ وَالزَّكَاةِ، بَلْ يَسْأَلُ سُؤَالًا اخْتِيَارِيًّا فَيَكُونُ حِينَئِذٍ كَأَنَّهُ قَالَ فِي مَالِهِ زَكَاةٌ وَصَدَقَةٌ وَالصَّدَقَةُ فِي الْمَالِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِفَرْضِهِ هُوَ ذَلِكَ وَتَقْدِيرِهِ وَإِفْرَازِهِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، الْجَوَابُ الثَّانِي هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ. أَيْ مَالُهُمْ ظَرْفٌ لِحُقُوقِهِمْ فَإِنَّ كَلِمَةَ فِي لِلظَّرْفِيَّةِ لَكِنَّ الظَّرْفَ لَا يُطْلَبُ إِلَّا لِلْمَظْرُوفِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ هُمْ لَا يَطْلُبُونَ الْمَالَ وَلَا يَجْمَعُونَهُ إِلَّا وَيَجْعَلُونَهُ ظَرْفًا لِلْحَقِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ الظَّرْفِ هُوَ الْمَظْرُوفُ وَالظَّرْفُ مَالُهُمْ فَجَعَلَ مَالَهُمْ ظَرْفًا لِلْحُقُوقِ وَلَا يَكُونُ فَوْقَ هَذَا مَدْحٌ فَإِنْ قِيلَ فَلَوْ قِيلَ مَالُهُمْ لِلسَّائِلِ هَلْ كَانَ أَبْلَغَ؟ قُلْنَا لَا وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ لَهُ أَرْبَعُونَ دِينَارًا فَتَصَدَّقَ بِهَا لَا تَكُونُ صَدَقَتُهُ دَائِمَةً لَكِنْ إِذَا اجْتَهَدَ وَاتَّجَرَ وَعَاشَ سِنِينَ وَأَدَّى الزَّكَاةَ وَالصَّدَقَةَ يَكُونُ مِقْدَارُ الْمُؤَدَّى أَكْثَرَ وَهَذَا كَمَا فِي الصلاة والصوم لو أَضْعَفَ وَاحِدٌ نَفْسَهُ بِهِمَا حَتَّى عَجَزَ عَنْهُمَا لَا يَكُونُ مِثْلَ مَنِ اقْتَصَدَ فِيهِمَا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى» وَفِي السَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ السَّائِلَ هُوَ النَّاطِقُ وَهُوَ الْآدَمِيُّ وَالْمَحْرُومُ كُلُّ ذِي رُوحٍ غَيْرُهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمَحْرُومَةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لِكُلِّ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ» وَثَانِيهَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَالْأَشْهَرُ، أَنَّ السَّائِلَ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ، وَالْمَحْرُومَ الْمُتَعَفِّفُ الَّذِي يَحْسَبُهُ بَعْضُ النَّاسِ غَنِيًّا فَلَا يُعْطِيهِ شَيْئًا وَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ [طه: 54] وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الْحَجِّ: 36] فَالْقَانِعُ كَالْمَحْرُومِ فَإِنْ قِيلَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ التَّرْتِيبُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، فَإِنَّ دَفْعَ حَاجَةِ النَّاطِقِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَفْعِ حَاجَةِ الْبَهَائِمِ، فَمَا وَجْهُ التَّرْتِيبِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّائِلَ انْدِفَاعُ حَاجَتِهِ قَبْلَ انْدِفَاعِ حَاجَةِ الْمَحْرُومِ فِي الْوُجُودِ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ حَالُهُ بِمَقَالِهِ وَيَطْلُبُ لِقِلَّةِ مَالِهِ فَيُقَدَّمُ بِدَفْعِ حَاجَتِهِ، وَالْمَحْرُومَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَا تَنْدَفِعُ حَاجَتُهُ إِلَّا بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، فَكَانَ الذِّكْرُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْوَاقِعِ وَثَانِيهِمَا: هُوَ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى كَثْرَةِ الْعَطَاءِ فَيَقُولُ يُعْطِي السَّائِلَ فَإِذَا لَمْ يَجِدْهُمْ يسأل هو عن المحتاجين فيكون سائلا ومسئولا الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الْمَحَاسِنَ اللَّفْظِيَّةَ غَيْرُ مَهْجُورَةٍ فِي الْكَلَامِ الْحِكَمِيِّ، فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ إِنَّ رُجُوعَهُمْ إِلَيْنَا وَعَلَيْنَا حِسَابُهُمْ لَيْسَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ [الْغَاشِيَةِ: 26] وَالْكَلَامُ لَهُ جِسْمٌ وَهُوَ اللَّفْظُ وَلَهُ رُوحٌ وَهُوَ الْمَعْنَى، وَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي نَوَّرَ رُوحَهُ بِالْمَعْرِفَةِ يَنْبَغِي أَنْ يُنَوِّرَ جِسْمَهُ الظَّاهِرَ بِالنَّظَافَةِ، كَذَلِكَ الْكَلَامُ وَرُبَّ كَلِمَةٍ حِكَمَيَّةٍ لَا تُؤَثِّرُ فِي النُّفُوسِ لِرَكَاكَةِ لَفْظِهَا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُهُ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوالِهِمْ

[سورة الذاريات (51) : آية 20]

حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ أَحْسَنُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ مِنْ قَوْلِنَا وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلْمَحْرُومِ وَالسَّائِلِ، فَإِنْ قِيلَ قُدِّمَ السَّائِلُ على المحروم هاهنا لِمَا ذَكَرْتَ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلِمَ قُدِّمَ الْمَحْرُومُ على السائل في قوله الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ لِأَنَّ الْقَانِعَ/ هُوَ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَالْمُعْتَرَّ السَّائِلُ؟ نَقُولُ قَدْ قِيلَ إِنَّ الْقَانِعَ هُوَ السَّائِلُ وَالْمُعْتَرَّ الَّذِي لَا يَسْأَلُ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ، وَقِيلَ بِأَنَّ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كِلَاهُمَا لَا يَسْأَلُ لَكِنَّ الْقَانِعَ لَا يَتَعَرَّضُ وَلَا يَخْرُجُ مَنْ بَيْتِهِ وَالْمُعْتَرَّ يَتَعَرَّضُ لِلْأَخْذِ بِالسَّلَامِ وَالتَّرَدُّدِ وَلَا يَسْأَلُ، وَقِيلَ بِأَنَّ الْقَانِعَ لَا يَسْأَلُ وَالْمُعْتَرَّ يَسْأَلُ، فَعَلَى هَذَا فَلَحْمُ الْبَدَنَةِ يُفَرَّقُ مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَةِ سَاعٍ أَوْ مُسْتَحِقِّ مُطَالَبَةِ جِزْيَةٍ، وَالزَّكَاةُ لَهَا طَالِبٌ وَسَائِلٌ هُوَ السَّاعِي وَالْإِمَامُ، فَقَوْلُهُ لِلسَّائِلِ إِشَارَةٌ إِلَى الزَّكَاةِ وَقَوْلُهُ وَالْمَحْرُومِ أَيِ الْمَمْنُوعِ إِشَارَةٌ إِلَى الصَّدَقَةِ المتطوع بها وأحدهما قبل الأخرى بخلاف إعطاء اللحم. ثم قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 20] وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ ... وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ تَدُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ الْحَشْرَ كَائِنٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً إِلَى أَنْ قَالَ: إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى [فُصِّلَتْ: 39] وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِأَفْعَالِ الْمُتَّقِينَ، فَإِنَّهُمْ خَافُوا اللَّهَ فَعَظَّمُوهُ فَأَظْهَرُوا الشَّفَقَةَ عَلَى عِبَادِهِ، وَكَانَ لَهُمْ آيَاتٌ فِي الْأَرْضِ، وَفِي أَنْفُسِهِمْ عَلَى إِصَابَتِهِمُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ مَنْ يَكُونُ لَهُ فِي الْأَرْضِ الْآيَاتُ الْعَجِيبَةُ يَكُونُ لَهُ الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ فَيُخْشَى وَيُتَّقَى، ومن له من أَنْفُسِ النَّاسِ حِكَمٌ بَالِغَةٌ وَنِعَمٌ سَابِغَةٌ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَيُتْرُكَ الْهُجُوعُ لِعِبَادَتِهِ، وَإِذَا قَابَلَ الْعَبْدُ الْعِبَادَةَ بِالنِّعْمَةِ يَجِدُهَا دُونَ حَدِّ الشُّكْرِ فَيَسْتَغْفِرُ عَلَى التَّقْصِيرِ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الرِّزْقَ مِنَ السَّمَاءِ لَا يَبْخَلُ بِمَالِهِ، فَالْآيَاتُ الثَّلَاثَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ فِيهَا تَقْرِيرُ مَا تَقَدَّمَ، وَعَلَى هَذَا فقوله تعالى: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الذَّارِيَاتِ: 23] يَكُونُ عَوْدُ الْكَلَامِ بَعْدَ اعْتِرَاضِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ أَقْوَى وَأَظْهَرَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَيْفَ خَصَّصَ الْمُوقِنِينَ بِكَوْنِ الْآيَاتِ لَهُمْ مَعَ أَنَّ الْآيَاتِ حَاصِلَةٌ لِلْكُلِّ قَالَ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها [يس: 33] نَقُولُ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْيَمِينَ آخَرُ مَا يَأْتِي بِهِ الْمُبَرْهِنُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلًا يَأْتِي بِالْبُرْهَانِ، فَإِنْ صُدِّقَ فَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُصَدَّقْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَنْسُبَهُ الْخَصْمُ إِلَى إِصْرَارٍ عَلَى الْبَاطِلِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَدْحٍ فِيهِ وَلَمْ يُصَدِّقْهُ يَعْتَرِفْ لَهُ بِقُوَّةِ الْجَدَلِ وَيَنْسُبْهُ إِلَى الْمُكَابَرَةِ فَيَتَعَيَّنُ طَرِيقُهُ فِي الْيَمِينِ، فَإِذًا آيَاتُ الْأَرْضِ لَمْ تفدهم لأن اليمين بقوله وَالذَّارِياتِ ذَرْواً [الذاريات: 1] دَلَّتْ عَلَى سَبْقِ إِقَامَةِ الْبَيِّنَاتِ وَذِكْرِ الْآيَاتِ وَلَمْ يُفِدْ فَقَالَ فِيهَا: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لِلْمُصِرِّ الْمُعَانِدِ مِنْهَا فَائِدَةٌ، وَأَمَّا فِي سُورَةِ يس وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي جَعَلَ فِيهَا آيَاتِ الْأَرْضِ لِلْعَامَّةِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهَا الْيَمِينُ وَذِكْرُ الْآيَاتِ قَبْلَهُ فَجَازَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْأَرْضَ آيَاتٌ لِمَنْ يَنْظُرُ فِيهَا الْجَوَابُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ هُنَا الْآيَاتُ بِالْفِعْلِ وَالِاعْتِبَارِ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ حَصَلَ ذَلِكَ لَهُمْ وَحَيْثُ قَالَ لِكُلٍّ مَعْنَاهُ إِنَّ فِيهَا آيَاتٍ لَهُمْ إِنْ نَظَرُوا وَتَأَمَّلُوا. الْمَسْأَلَةُ الثانية: هاهنا قَالَ: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ وَقَالَ هُنَاكَ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ [يس: 33] نَقُولُ لَمَّا جَعَلَ الْآيَةَ لِلْمُوقِنِينَ ذَكَرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِأَنَّ الْمُوقِنَ لَا يَغْفُلُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَالٍ وَيَرَى فِي كُلِّ شَيْءٍ آيَاتٍ دَالَّةً، وَأَمَّا الْغَافِلُ فَلَا يَتَنَبَّهُ إِلَّا بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ فَيَكُونُ الْكُلُّ له كالآية الواحدة.

[سورة الذاريات (51) : آية 21]

[سورة الذاريات (51) : آية 21] وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) إِشَارَةً إِلَى دَلِيلِ الْأَنْفُسِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فُصِّلَتْ: 53] وَإِنَّمَا اخْتَارَ مِنْ دَلَائِلَ الْآفَاقِ مَا فِي الْأَرْضِ لِظُهُورِهَا لِمَنْ عَلَى ظُهُورِهَا فَإِنَّ فِي أَطْرَافِهَا وَأَكْنَافِهَا مَا لَا يُمْكِنُ عَدُّ أَصْنَافِهَا فَدَلِيلُ الْأَنْفُسِ فِي قَوْلِهِ وَفِي أَنْفُسِكُمْ عَامٌّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا أَتَى بِصِيغَةِ الْخِطَابِ لِأَنَّهَا أَظْهَرُ لِكَوْنِ عِلْمِ الْإِنْسَانِ بِمَا فِي نَفْسِهِ أَتَمَّ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَفِيكُمْ، يُقَالُ الْحِجَارَةُ فِي نَفْسِهَا صُلْبَةٌ وَلَا يُرَادُ بِهَا النَّفْسُ الَّتِي هِيَ مَنْبَعُ الْحَيَاةِ وَالْحِسِّ وَالْحَرَكَاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَفِي نُفُوسِكُمُ الَّتِي بِهَا حَيَاتُكُمْ آيَاتٌ وَقَوْلُهُ أَفَلا تُبْصِرُونَ بِالِاسْتِفْهَامِ إِشَارَةٌ إِلَى ظُهُورِهَا. [سورة الذاريات (51) : آية 22] وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ فِيهِ وُجُوهٌ: أحدها: في السحاب المطر ثانيها: فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ مَكْتُوبٌ ثَالِثُهَا: تَقْدِيرُ الْأَرْزَاقِ كُلِّهَا مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلَاهُ لَمَا حَصَلَ فِي الْأَرْضِ حَبَّةُ قُوتٍ، وَفِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ تَرْتِيبٌ حَسَنٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ أُمُورٌ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا لَا بُدَّ مِنْ سَبْقِهَا حَتَّى يُوجَدَ هُوَ فِي نَفْسِهِ وَأُمُورٌ تُقَارِنُهُ فِي الْوُجُودِ وَأُمُورٌ تَلْحَقُهُ وَتُوجَدُ بَعْدَهُ لِيَبْقَى بِهَا، فَالْأَرْضُ هِيَ الْمَكَانُ وَإِلَيْهِ يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ وَلَا بُدَّ مِنْ سَبْقِهَا فَقَالَ: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ ثُمَّ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ أُمُورٌ مِنَ الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ فَقَالَ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ ثُمَّ بَقَاؤُهُ بِالرِّزْقِ فَقَالَ: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَلَوْلَا السَّمَاءُ لَمَا كَانَ لِلنَّاسِ الْبَقَاءُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما تُوعَدُونَ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: الْجَنَّةُ الْمَوْعُودُ بِهَا لِأَنَّهَا فِي السَّمَاءِ ثَانِيهَا: هُوَ مِنَ الْإِيعَادِ لِأَنَّ الْبِنَاءَ لِلْمَفْعُولِ مِنْ أَوْعَدَ يُوعِدُ أَيْ وَمَا تُوعَدُونَ إِمَّا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ [الذاريات: 13] وقوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ [الذاريات: 15] فَيَكُونُ إِيعَادًا عَامًّا، وَإِمَّا مِنَ الْعَذَابِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْخِطَابُ مَعَ الْكُفَّارِ فَيَكُونُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ كَافِيَةٌ، وَأَمَّا أَنْتُمْ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فَفِي أَنْفُسِكُمْ آيَاتٌ هِيَ أَظْهَرُ الْآيَاتِ وَتَكْفُرُونَ بِهَا لِحُطَامِ الدُّنْيَا وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ، وَفِي السَّمَاءِ الْأَرْزَاقُ، فَلَوْ نَظَرْتُمْ وَتَأَمَّلْتُمْ حَقَّ التَّأَمُّلِ، لَمَا تَرَكْتُمُ الْحَقَّ لِأَجْلِ الرِّزْقِ، فَإِنَّهُ وَاصِلٌ بِكُلِّ طَرِيقٍ وَلَاجْتَنَبْتُمُ الْبَاطِلَ اتِّقَاءً لِمَا تُوعِدُونَ مِنَ الْعَذَابِ النَّازِلِ. ثُمَّ قَالَ تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 23] فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) وفي المقسم عليه وجوه أحدها: ما تُوعَدُونَ أَيْ مَا تُوعَدُونَ لَحَقٌّ يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تعالى: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ [الذاريات: 5] وعلى هذا يعود كل ما قلناه من وجوه ما تُوعَدُونَ إِنْ قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْجَنَّةُ فَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ هُوَ هِيَ ثَانِيهَا: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ أَيْ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ وَفِيمَا ذكرناه في قوله تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ [الذاريات: 9] دَلِيلُ هَذِهِ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ مَعْنَاهُ تَكَلَّمَ بِهِ الْمَلَكُ النَّازِلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِهِ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ وَسَنَذْكُرُهُ ثَالِثُهَا: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الدِّينِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ [الذاريات: 6] رَابِعُهَا: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ فِي قوله أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ [الذاريات: 12] يدل عليه

[سورة الذاريات (51) : آية 24]

وَصْفُ اللَّهِ الْيَوْمَ بِالْحَقِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ [النَّبَأِ: 39] خَامِسُهَا: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُقَالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [الذاريات: 14] وَفِي التَّفْسِيرِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: الْفَاءُ تَسْتَدْعِي تَعْقِيبَ أَمْرٍ لِأَمْرٍ فَمَا الْأَمْرُ الْمُتَقَدِّمُ؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الدَّلِيلُ الْمُتَقَدِّمُ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَحَقٌّ بِالْبُرْهَانِ الْمُبِينِ، ثُمَّ بِالْقَسَمِ وَالْيَمِينِ ثَانِيهِمَا: الْقَسَمُ الْمُتَقَدِّمُ كَأَنَّهُ تَعَالَى يقول وَالذَّارِياتِ ثم فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَاءُ حَرْفَ عَطْفٍ أُعِيدَ مَعَهُ حَرْفُ الْقَسَمِ كَمَا يُعَادُ الْفِعْلُ إِذْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ وَمَرَرْتُ بِعَمْرٍو، فقوله وَالذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً [الذاريات: 1، 2] عَطْفٌ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ حَرْفِ الْقَسَمِ، وَقَوْلُهُ فَوَ رَبِّ السَّماءِ مَعَ إِعَادَةِ حَرْفِهِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ وُقُوعُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْقَسَمَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ الْأَمْرُ الْمُتَقَدِّمُ هُوَ بَيَانُ الثَّوَابِ فِي قَوْلِهِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: 13] وقوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ [الذاريات: 15] وَفِيهِ فَائِدَةٌ، وَهُوَ أَنَّ الْفَاءَ تَكُونُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنْ لَا حَاجَةَ إِلَى الْيَمِينِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَشْفِ الْمُبِينِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ وَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ، كَمَا يَقُولُ القائل بعد ما يُظْهِرُ دَعْوَاهُ هَذَا وَاللَّهِ إِنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْتُ فَيُؤَكِّدُ قَوْلَهُ بِالْيَمِينِ، وَيُشِيرُ إِلَى ثُبُوتِهِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَقْسَمَ مِنْ قَبْلُ بِالْأُمُورِ الْأَرْضِيَّةِ وَهِيَ الرِّيَاحُ وَبِالسَّمَاءِ فِي قوله وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ [الذاريات: 7] ولم يقسم بربها، وهاهنا أَقْسَمَ بِرَبِّهَا نَقُولُ كَذَلِكَ التَّرْتِيبُ يُقْسِمُ الْمُتَكَلِّمُ أَوَّلًا بِالْأَدْنَى فَإِنْ لَمْ يُصَدَّقْ بِهِ يَرْتَقِي إِلَى الْأَعْلَى، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ إِذَا قَالَ قَائِلٌ وَحَيَاتِكَ، وَاللَّهِ لَا يَكْفُرُ وَإِذَا قَالَ: وَاللَّهِ وَحَيَاتِكَ لَا شَكَّ يَكْفُرُ وَهَذَا اسْتِشْهَادٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ لِأَنَّ الْكُفْرَ إِمَّا بِالْقَلْبِ، أَوْ بِاللَّفْظِ الظَّاهِرِ فِي أَمْرِ الْقَلْبِ، أَوْ بِالْفِعْلِ الظَّاهِرِ، وَمَا ذَكَرَهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ فِي تَعْظِيمِ جَانِبِ غَيْرِ اللَّهِ، وَالْعَجَبُ مِنْ ذَلِكَ الْقَائِلِ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ التَّأْخِيرَ فِي الذِّكْرِ مُفِيدًا لِلتَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قُرِئَ مِثْلُ بِالرَّفْعِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ وَصْفًا لِقَوْلِهِ لَحَقٌّ وَمِثْلُ وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى الْمَعْرِفَةِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ جَوَازِ وَصْفِ الْمُنْكَّرِ بِهِ، تَقُولُ رَأَيْتُ رَجُلًا مِثْلَ عَمْرٍو، لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُهُ تَعْرِيفًا لِأَنَّهُ فِي غَايَةِ الْإِبْهَامِ وَقُرِئَ مِثْلَ بِالنَّصْبِ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَفْتُوحًا لِإِضَافَتِهِ إِلَى مَا هُوَ ضَعِيفٌ وَإِلَّا جَازَ أَنْ يُقَالَ زَيْدٌ قَاتِلُ مَنْ يَعْرِفُهُ أَوْ ضَارِبُ مَنْ يَشْتُمُهُ ثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ/ مَنْصُوبًا عَلَى الْبَيَانِ تَقْدِيرُهُ لَحَقٌّ حَقًّا مِثْلَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَعْلُومٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّا دَلَّلَنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ إِنَّهُ هُوَ الْقُرْآنُ فَكَأَنَّهُ قَالَ إِنَّ الْقُرْآنَ لَحَقٌّ نَطَقَ بِهِ الْمَلَكُ نُطْقًا مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ وما مجرور لا شك فيه. ثم قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 24] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِشَارَةً إِلَى تَسْلِيَةِ قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيَانِ أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَانَ مِثْلَهُ، وَاخْتَارَ إِبْرَاهِيمَ لِكَوْنِهِ شَيْخَ المرسلين كون النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سُنَّتِهِ فِي بعض الأشياء، وإنذار لِقَوْمِهِ بِمَا جَرَى مِنَ الضَّيْفِ، وَمِنْ إِنْزَالِ الْحِجَارَةِ عَلَى الْمُذْنِبِينَ الْمُضِلِّينَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْتَ مِنَ التَّسْلِيَةِ وَالْإِنْذَارِ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي حِكَايَةِ الضِّيَافَةِ؟ نقول ليكون

[سورة الذاريات (51) : آية 25]

ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى الْفَرَجِ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْبَلَاءِ عَلَى الْجَهَلَةِ وَالْأَغْبِيَاءِ، إِذَا جَاءَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يُحْتَسَبُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الْحَشْرِ: 2] فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَبَرٌ مِنْ إِنْزَالِ الْعَذَابِ مَعَ ارْتِفَاعِ مَكَانَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَيْفَ سَمَّاهُمْ ضَيْفًا وَلَمْ يَكُونُوا؟ نَقُولُ لَمَّا حَسِبَهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ضَيْفًا لَمْ يُكَذِّبْهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي حِسَابِهِ إِكْرَامًا لَهُ، يُقَالُ فِي كَلِمَاتِ الْمُحَقِّقِينَ الصَّادِقُ يَكُونُ مَا يَقُولُ، وَالصِّدِّيقِ يَقُولُ مَا يَكُونُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ضَيْفُ لَفْظٌ وَاحِدٌ وَالْمُكْرَمِينَ جَمْعٌ، فَكَيْفَ وَصَفَ الْوَاحِدَ بِالْجَمْعِ؟ نَقُولُ الضَّيْفُ يَقَعُ عَلَى الْقَوْمِ، يُقَالُ قَوْمٌ ضَيْفٌ وَلِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فَيَكُونُ كَلَفْظِ الرِّزْقُ مَصْدَرًا، وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِالْمُكْرَمِينَ إِمَّا لِكَوْنِهِمْ عِبَادًا مُكْرَمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 26] وَإِمَّا لِإِكْرَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِيَّاهُمْ، فَإِنْ قِيلَ: بِمَاذَا أَكْرَمَهُمْ؟ قُلْنَا بِبَشَاشَةِ الْوَجْهِ أَوَّلًا، وَبِالْإِجْلَاسِ فِي أَحْسَنِ الْمَوَاضِعِ وَأَلْطَفِهَا ثَانِيًا، وَتَعْجِيلِ الْقِرَى ثَالِثًا، وَبَعْدُ التَّكْلِيفُ لِلضَّيْفِ بِالْأَكْلِ وَالْجُلُوسِ وَكَانُوا عِدَّةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي قَوْلٍ ثَلَاثَةٌ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَثَالِثٌ، وَفِي قَوْلٍ عَشَرَةٌ، وَفِي آخَرَ اثْنَا عَشْرَةَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هُمْ أُرْسِلُوا لِلْعَذَابِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ [الذَّارِيَاتِ: 32] وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا كَانُوا مِنْ قَوْمِ لُوطٍ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي مَجِيئِهِمْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ نَقُولُ فِيهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، وَبَيَانُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَيْخُ الْمُرْسَلِينَ وَكَانَ لُوطٌ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنْ إِكْرَامِ الْمَلِكِ لِلَّذِي فِي عُهْدَتِهِ وَتَحْتَ طاعته إذا كان يرسل رسول إِلَى غَيْرِهِ يَقُولُ لَهُ اعْبُرْ عَلَى فُلَانٍ الْمَلِكِ وَأَخْبِرْهُ بِرِسَالَتِكَ وَخُذْ فِيهَا رَأْيَهُ وَثَانِيهِمَا: هُوَ أَنَّ/ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَدَّرَ أَنْ يُهْلِكَ قَوْمًا كَثِيرًا وَجَمًّا غَفِيرًا، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُحْزِنُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَفَقَةً مِنْهُ عَلَى عِبَادِهِ قَالَ لَهُمْ بَشِّرُوهُ بِغُلَامٍ يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِهِ أَضْعَافُ مَا يَهْلِكُ، وَيَكُونُ مِنْ صلبه خروج الأنبياء عليهم السلام. ثم قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 25] إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْعَامِلُ فِي إِذْ؟ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: مَا فِي الْمُكْرَمِينَ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى الْفِعْلِ إِنْ قُلْنَا وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ مُكْرَمِينَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكْرَمُهُمْ فَيَكُونُ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: أُكْرِمُوا إِذْ دَخَلُوا، وَهَذَا مِنْ شَأْنِ الْكَرِيمِ أَنْ يُكْرِمَ ضَيْفَهُ وَقْتَ الدُّخُولِ ثَانِيهَا: مَا فِي الضَّيْفِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْفِعْلِ، لِأَنَّا قُلْنَا إِنَّ الضَّيْفَ مَصْدَرٌ فَيَكُونُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَضَافَهُمْ إِذْ دَخَلُوا وَثَالِثُهَا: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهِ أَتَاكَ تَقْدِيرُهُ مَا أَتَاكَ حَدِيثُهُمْ وَقْتَ دُخُولِهِمْ، فَاسْمَعِ الْآنَ ذَلِكَ، لِأَنَّ هَلْ لَيْسَ لِلِاسْتِفْهَامِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حَقِيقَةً بَلْ لِلْإِعْلَامِ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُصَرَّحٌ بِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ اذْكُرْ إِذْ دَخَلُوا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِمَاذَا اخْتَلَفَ إِعْرَابُ السَّلَامَيْنِ فِي الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ؟ نَقُولُ: نُبَيِّنُ أَوَّلًا وُجُوهَ النَّصْبِ وَالرَّفْعِ، ثُمَّ نُبَيِّنُ وُجُوهَ الِاخْتِلَافِ فِي الْإِعْرَابِ، أَمَّا النَّصْبُ فَيَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ السَّلَامِ هُوَ التَّحِيَّةَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، ونصبه حينئذ عل الْمَصْدَرِ تَقْدِيرُهُ نُسَلِّمُ سَلَامًا ثَانِيهَا: هُوَ أَنْ يَكُونَ السَّلَامُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ وَهُوَ كَلَامٌ سَلِمَ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ مِنْ أَنْ يَلْغُوَ أَوْ يَأْثَمَ فَكَأَنَّهُمْ

لَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا حَسَنًا سَلِمُوا مِنَ الْإِثْمِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَفْعُولًا لِلْقَوْلِ لِأَنَّ مَفْعُولَ الْقَوْلِ هُوَ الْكَلَامُ، يُقَالُ قَالَ فُلَانٌ كَلَامًا، وَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ ضَرْبَهُ سَوْطًا لأن المضروب هناك ليس هو السوط، وهاهنا الْقَوْلُ هُوَ الْكَلَامُ فَسَّرَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الْفَرْقَانِ: 63] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الْوَاقِعَةِ: 21] . ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ نُبَلِّغُكَ سَلَامًا، لَا يُقَالُ عَلَى هَذَا إِنَّ الْمُرَادَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَعَلِمَ كَوْنِهِمْ رُسُلَ اللَّهِ عِنْدَ السَّلَامِ فَمَا كَانَ يَقُولُ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ وَلَا كَانَ يُقَرِّبُ إِلَيْهِمُ الطَّعَامَ، وَلِمَا قَالَ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ [هود: 70] لِأَنَّا نَقُولُ جَازَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ قَالُوا: نُبَلِّغُكَ سَلَامًا وَلَمْ يَقُولُوا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى أَنْ سَأَلَهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّنْ تُبَلِّغُونَ لِيَ السَّلَامَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَكِيمَ لَا يَأْتِي بِالْأَمْرِ الْعَظِيمِ إِلَّا بِالتَّدْرِيجِ فَلَمَّا كَانَتْ هَيْبَتُهُمْ عَظِيمَةً، فَلَوْ ضَمُّوا إِلَيْهِ الْأَمْرَ الْعَظِيمَ الذي هو السلام مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَانْزَعَجَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اشْتَغَلَ بِإِكْرَامِهِمْ عَنْ سُؤَالِهِمْ وَأَخَّرَ السُّؤَالَ إِلَى حِينِ الْفَرَاغِ فَنَكِرَهُمْ بَيْنَ السَّلَامِ وَالسُّؤَالِ عَمَّنْ مِنْهُ السَّلَامُ هَذَا وَجْهُ النَّصْبِ، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَنَقُولُ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ السَّلَامُ الَّذِي هُوَ التَّحِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَيْضًا، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُبْتَدَأً/ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَكَوْنُ الْمُبْتَدَأِ نَكِرَةً يَحْتَمِلُ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَوَيْلٌ لَهُ، أَوْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ قَالَ جَوَابَهُ سَلَامٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَوْلًا يُسَلِّمُ بِهِ أَوْ يُنْبِئُ عَنِ السَّلَامَةِ فَيَكُونُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَمْرِي سَلَامٌ بِمَعْنَى مُسَالَمَةٍ لَا تَعَلُّقَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ لِأَنِّي لَا أَعْرِفُكُمْ، أَوْ يَكُونُ الْمُبْتَدَأُ قَوْلَكُمْ، وَتَقْدِيرُهُ قَوْلُكُمْ سَلَامٌ يُنْبِئُ عَنِ السَّلَامَةِ وَأَنْتُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَمَا خَطْبُكُمْ فَإِنَّ الْأَمْرَ أُشْكِلَ عَلَيَّ، وَهَذَا مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ فِي النَّصْبِ وَالرَّفْعِ، وَأَمَّا الْفَرْقُ فَنَقُولُ أَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ أَنَّ السَّلَامَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنَى التَّحِيَّةِ فَنَقُولُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. أَمَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ: فَنَقُولُ سَلَامٌ عَلَيْكَ إِنَّمَا جُوِّزَ وَاسْتُحْسِنَ لِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً وَهُوَ نَكِرَةٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَالْمَتْرُوكِ عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى تَقْدِيرِ أُسَلِّمُ سَلَامًا وَعَلَيْكَ يَكُونُ لِبَيَانِ مَنْ أُرِيدَ بِالسَّلَامِ، وَلَا يَكُونُ لَعَلَيْكَ حَظٌّ مِنَ الْمَعْنَى غَيْرَ ذَلِكَ الْبَيَانِ فَيَكُونُ كَالْخَارِجِ عَنِ الْكَلَامِ، وَالْكَلَامُ التَّامُّ أُسَلِّمُ سَلَامًا، كَمَا أَنَّكَ تَقُولُ ضَرَبْتُ زَيْدًا عَلَى السَّطْحِ يَكُونُ عَلَى السَّطْحِ خَارِجًا عَنِ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ لِبَيَانِ مُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَكَانَ السَّلَامُ وَالْأَدْعِيَةُ كَثِيرَ الْوُقُوعِ، قَالُوا نَعْدِلُ عَنِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ وَنَجْعَلُ لَعَلَيْكَ حَظًّا فِي الْكَلَامِ، فَنَقُولُ سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَتَصِيرُ عَلَيْكَ لِفَائِدَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَهِيَ الْخَبَرِيَّةُ، وَيُتْرَكُ السَّلَامُ نَكِرَةً كَمَا كَانَ حَالُ النَّصْبِ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَالنَّصْبُ أَصْلٌ وَالرَّفْعُ مَأْخُوذٌ مِنْهُ، والأصل مقدم على المأخوذ منه، فقال: فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قُدِّمَ الْأَصْلُ عَلَى الْمُتَفَرِّعِ مِنْهُ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى: فَذَلِكَ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِالْأَحْسَنِ، فَأَتَى بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فَإِنَّهَا أَدَلُّ عَلَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ، فَإِنَّ قَوْلَنَا جَلَسَ زَيْدٌ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْإِنْبَاءِ عَنِ التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ وَلِهَذَا لَوْ قُلْتَ: اللَّهُ مَوْجُودٌ الْآنَ لَأَثْبَتَ الْعَقْلُ الدَّوَامَ إِذْ لَا يُنْبِئُ عَنِ التَّجَدُّدِ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: وُجِدَ اللَّهُ الْآنَ لَكَادَ يُنْكِرُهُ الْعَاقِلُ لِمَا بَيَّنَّا فَلَمَّا قَالُوا: سَلَامًا قَالَ: سَلَامُ عَلَيْكُمْ مُسْتَمِرٌّ دَائِمٌ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا الْمُرَادُ الْقَوْلُ ذُو السَّلَامَةِ فَظَاهِرُ الْفَرْقِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا قَوْلًا ذَا سَلَامٍ، وَقَالَ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَلَامٌ أَيْ قَوْلُكُمْ ذُو سَلَامٍ وَأَنْتُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَالْتَبَسَ الْأَمْرُ عَلَيَّ، وَإِنْ قُلْنَا الْمُرَادُ أَمْرُ مُسَالَمَةٍ وَمُتَارَكَةٍ وَهُمْ سَلَّمُوا عَلَيْهِ تَسْلِيمًا، فَنَقُولُ فِيهِ

[سورة الذاريات (51) : الآيات 26 إلى 27]

جَمْعٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: تَعْظِيمُ جَانِبِ اللَّهِ، وَرِعَايَةُ قَلْبِ عِبَادِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَهُوَ لَمْ يَعْلَمْ كَوْنَهُمْ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ الرَّسُولُ قَدْ أَمَّنَهُمْ، فَإِنَّ السَّلَامَ أَمَانٌ وَأَمَانُ الرَّسُولِ أَمَانُ الْمُرْسِلِ فَيَكُونُ فَاعِلًا لِلْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ إِذَنِ اللَّهِ نِيَابَةً عَنِ اللَّهِ فَقَالَ أَنْتُمْ سَلَّمْتُمْ عَلَيَّ وَأَنَا مُتَوَقِّفٌ أَمْرِي مُتَارَكَةٌ لَا تَعَلُّقَ بَيْنَنَا إِلَى أَنَّ يَتَبَيَّنَ الْحَالُ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: 63] وَقَالَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ [الزُّخْرُفِ: 89] وَلَمْ يُقِلْ قُلْ سَلَامًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَخْيَارَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ لَوْ/ سَلَّمُوا عَلَى الْجَاهِلِينَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِحُرْمَةِ التَّعَرُّضِ إِلَيْهِمْ، وَأَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ لَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِحُرْمَةِ التَّعَرُّضِ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: قُلْ سَلَامٌ أَيْ أَمْرِي مَعَكُمْ مُتَارَكَةٌ تَرَكْنَاهُ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ بِأَمْرٍ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا بِمَعْنَى نُبَلِّغُ سَلَامًا فَنَقُولُ هُمْ لَمَّا قَالُوا نُبَلِّغُكَ سَلَامًا وَلَمْ يَعْلَمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ مِمَّنْ قَالَ سَلَامٌ أَيْ إِنْ كَانَ مِنَ اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا مِنْهُ قَدِ ازْدَادَ بِهِ شَرَفِي وَإِلَّا فَقَدْ بَلَغَنِي مِنْهُ سَلَامٌ وَبِهِ شَرَفِي وَلَا أَتَشَرَّفُ بِسَلَامِ غَيْرِهِ، وَهَذَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي عَلَيْهِمَا الِاعْتِمَادُ فَإِنَّهُمَا أَقْوَى وَقَدْ قِيلَ بِهِمَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ [هُودٍ: 70] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِنْكَارَهُمْ كَانَ حَاصِلًا بعد تقريبه العجل منهم وقال هاهنا قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 26 الى 27] فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَقْرِيبَ الطَّعَامِ مِنْهُمْ بَعْدَ حُصُولِ الْإِنْكَارِ لَهُمْ، فَمَا الْوَجْهُ فِيهِ؟ نَقُولُ جَازَ أَنْ يَحْصُلَ أَوَّلًا عِنْدَهُ مِنْهُمْ نُكْرٌ ثُمَّ زَادَ عِنْدَ إِمْسَاكِهِمْ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى هَذَا هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى شَكْلٍ وَهَيْئَةٍ غَيْرَ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ النَّاسُ وَكَانُوا فِي أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ مُنْكَرِينَ، وَاشْتَرَكَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرُهُ فِيهِ وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَنْكَرْتُكُمْ بل قال: أنتم منكرون فِي أَنْفُسِكُمْ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ مِنَّا، ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَفَرَّدَ بِمُشَاهَدَةِ أَمْرٍ مِنْهُمْ هُوَ الْإِمْسَاكُ فَنَكِرَهُمْ فَوْقَ مَا كَانَ مِنْهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُلِّ لَكِنَّ الْحَالَةَ فِي سُورَةِ هُودٍ مَحْكِيَّةٌ عَلَى وَجْهٍ أَبْسَطَ مِمَّا ذكره هاهنا، فإن هاهنا لم يبين المبشر به، وهناك ذكر باسمه وهو إسحاق، ولم يقل هاهنا إِنَّ الْقَوْمَ قَوْمُ مَنْ وَهُنَاكَ قَالَ قَوْمُ لُوطٍ، وَفِي الْجُمْلَةِ مَنْ يَتَأَمَّلُ السُّورَتَيْنِ يَعْلَمُ أَنَّ الْحِكَايَةَ مَحْكِيَّةٌ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ الْإِضَافَةِ أَبْسَطَ، فَذَكَرَ فِيهَا النُّكْتَةَ الزَّائِدَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ هاهنا وَلْنَعُدْ إِلَى بَيَانِ مَا أَتَى بِهِ مِنْ آدَابِ الْإِضَافَةِ وَمَا أَتَوْا بِهِ مِنْ آدَابِ الضِّيَافَةِ، فَالْإِكْرَامُ أَوَّلًا مِمَّنْ جَاءَهُ ضَيْفٌ قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ وَيُسَلِّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْإِكْرَامِ وَهِيَ اللِّقَاءُ الْحَسَنُ وَالْخُرُوجُ إِلَيْهِ وَالتَّهَيُّؤُ لَهُ ثُمَّ السَّلَامُ مِنَ الضَّيْفِ عَلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ النَّصْبُ فِي قَوْلِهِ سَلاماً إِمَّا لِكَوْنِهِ مُؤَكَّدًا بِالْمَصْدَرِ أَوْ لِكَوْنِهِ مُبَلِّغًا مِمَّنْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، ثُمَّ الرَّدُّ الْحَسَنُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الرَّفْعُ وَالْإِمْسَاكُ عَنِ الْكَلَامِ لَا يَكُونُ فِيهِ وَفَاءٌ إن إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بَلْ قَالَ أَمْرِي مُسَالِمَةٌ أَوْ قَوْلُكُمْ سَلَامٌ وَسَلَامُكُمْ مُنْكَرٌ فَإِنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُخِلًّا بِالْإِكْرَامِ، لَكِنَّ الْعُذْرَ لَيْسَ مِنْ شِيَمِ الْكِرَامِ وَمَوَدَّةُ أَعْدَاءِ اللَّهِ لَا تَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ثُمَّ تَعْجِيلُ الْقِرَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ [هُودٍ: 69] وقوله هاهنا فَراغَ فَإِنَّ الرَّوَغَانَ يَدُلُّ عَلَى السُّرْعَةِ وَالرَّوْغِ الَّذِي بِمَعْنَى النَّظَرِ الْخَفِيِّ أَوِ الرَّوَاحِ الْمَخْفِيِّ أَيْضًا كَذَلِكَ، ثُمَّ الْإِخْفَاءُ فَإِنَّ الْمُضِيفَ إِذَا

[سورة الذاريات (51) : آية 28]

أَحْضَرَ شَيْئًا يَنْبَغِي أَنْ يُخْفِيَهُ عَنِ الضَّيْفِ كَيْ لَا يَمْنَعَهُ مِنَ الْإِحْضَارِ بِنَفْسِهِ حَيْثُ رَاغَ هُوَ وَلَمْ يَقُلْ هَاتُوا، وَغَيْبَةُ الْمُضِيفِ لَحْظَةً/ مِنَ الضَّيْفِ مُسْتَحْسَنٌ لِيَسْتَرِيحَ وَيَأْتِيَ بِدَفْعِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَيَمْنَعُهُ الْحَيَاءُ مِنْهُ ثُمَّ اخْتِيَارُ الْأَجْوَدِ بِقَوْلِهِ سَمِينٍ ثُمَّ تَقْدِيمُ الطَّعَامِ إِلَيْهِمْ لَا نَقْلُهُمْ إِلَى الطَّعَامِ بِقَوْلِهِ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ مَنْ قَدَّمَ الطَّعَامَ إِلَى قَوْمٍ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مُسْتَقِرًّا فِي مَقَرِّهِ لَا يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الْمَكَانُ فَإِنْ نَقَلَهُمْ إِلَى مَكَانِ الطَّعَامِ رُبَّمَا يَحْصُلُ هُنَاكَ اخْتِلَافُ جُلُوسٍ فَيُقَرَّبُ الْأَدْنَى وَيُضَيَّقُ عَلَى الْأَعْلَى ثُمَّ الْعَرْضُ لَا الْأَمْرُ حَيْثُ قَالَ: أَلا تَأْكُلُونَ وَلَمْ يَقُلْ كُلُوا ثُمَّ كَوْنُ الْمُضِيفِ مَسْرُورًا بِأَكْلِهِمْ غَيْرَ مَسْرُورٍ بِتَرْكِهِمُ الطَّعَامَ كَمَا يُوجَدُ فِي بَعْضِ الْبُخَلَاءِ الْمُتَكَلِّفِينَ الَّذِينَ يُحْضِرُونَ طَعَامًا كَثِيرًا وَيَكُونُ نَظَرُهُ وَنَظَرُ أَهْلِ بَيْتِهِ فِي الطَّعَامِ مَتَى يمسك الضيف يده عنه يدل عليه قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 28] فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) ثُمَّ أَدَبُ الضَّيْفِ أَنَّهُ إِذَا أَكَلَ حَفِظَ حَقَّ الْمُؤَاكَلَةِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَافَهُمْ حَيْثُ لَمْ يَأْكُلُوا، ثُمَّ وُجُوبُ إِظْهَارِ الْعُذْرِ عِنْدَ الْإِمْسَاكِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ لَا تَخَفْ ثُمَّ تَحْسِينُ الْعِبَارَةِ فِي الْعُذْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ مُحْتَمِيًا وَأُحْضِرُ لَدَيْهِ الطَّعَامُ فَهُنَاكَ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّعَامَ لَا يَصْلُحُ لَهُ لِكَوْنِهِ مُضِرًّا بِهِ الثَّانِي: كَوْنُهُ ضَعِيفَ الْقُوَّةِ عَنْ هَضْمِ ذَلِكَ الطَّعَامِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقُولَ الضَّيْفُ هَذَا طَعَامٌ غَلِيظٌ لَا يَصْلُحُ لِي بَلِ الْحَسَنُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْعِبَارَةِ الْأُخْرَى وَيَقُولَ: لِي مَانِعٌ مِنْ أَكْلِ الطَّعَامِ وَفِي بَيْتِي لَا آكُلُ أَيْضًا شَيْئًا، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ حَيْثُ فَهَّمُوهُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ يَأْكُلُونَ وَلَمْ يَقُولُوا لَا يَصْلُحُ لَنَا الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ، ثُمَّ أَدَبٌ آخَرُ فِي الْبِشَارَةِ أَنْ لَا يُخْبَرَ الْإِنْسَانُ بِمَا يَسُرُّهُ دُفْعَةً فَإِنَّهُ يُورِثُ مَرَضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ جَلَسُوا وَاسْتَأْنَسَ بِهِمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ قَالُوا نُبَشِّرُكَ ثُمَّ ذَكَرُوا أَشْرَفَ النَّوْعَيْنِ وَهُوَ الذِّكْرُ وَلَمْ يَقْتَنِعُوا بِهِ حَتَّى وَصَفُوهُ بِأَحْسَنِ الْأَوْصَافِ فَإِنَّ الِابْنَ يَكُونُ دُونَ الْبِنْتِ إِذَا كَانَتِ الْبِنْتُ كَامِلَةَ الْخِلْقَةِ حَسَنَةَ الْخُلُقِ وَالِابْنُ بِالضِّدِّ، ثُمَّ إِنَّهُمْ تَرَكُوا سَائِرَ الْأَوْصَافِ مِنَ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ وَالْقُوَّةِ وَالسَّلَامَةِ وَاخْتَارُوا الْعِلْمَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْعِلْمَ رَأْسُ الْأَوْصَافِ وَرَئِيسُ النُّعُوتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فَائِدَةَ تَقْدِيمِ الْبِشَارَةِ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ إِهْلَاكِهِمْ قَوْمَ لُوطٍ، لِيَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُهْلِكُهُمْ إِلَى خَلَفٍ، وَيَأْتِي بِبَدَلِهِمْ خَيْرًا منهم. [سورة الذاريات (51) : الآيات 29 الى 30] فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ. أَيْ أَقْبَلَتْ عَلَى أَهْلِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي خِدْمَتِهِمْ، فَلَمَّا تَكَلَّمُوا مَعَ زَوْجِهَا بِوِلَادَتِهَا اسْتَحْيَتْ وَأَعْرَضَتْ عَنْهُمْ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِلَفْظِ الْإِقْبَالِ عَلَى الْأَهْلِ، وَلَمْ يَقُلْ بِلَفْظِ الْإِدْبَارِ عَنِ الْمَلَائِكَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي صَرَّةٍ أَيْ صَيْحَةٍ، كَمَا جَرَتْ عَادَةُ النِّسَاءِ حَيْثُ يَسْمَعْنَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِهِنَّ يَصِحْنَ صَيْحَةً مُعْتَادَةً لَهُنَّ عِنْدَ الِاسْتِحْيَاءِ أَوِ التَّعَجُّبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ تِلْكَ الصَّيْحَةُ/ كَانَتْ بِقَوْلِهَا يَا وَيْلَتَا، تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ هُودٍ، وَصَكُّ الْوَجْهَ أَيْضًا مِنْ عَادَتِهِنَّ، وَاسْتَبْعَدَتْ ذَلِكَ لِوَصْفَيْنِ مِنِ اجْتِمَاعِهِمَا أَحَدُهُمَا: كِبَرُ السِّنِّ وَالثَّانِي: الْعُقْمُ، لِأَنَّهَا كَانَتْ لَا تَلِدُ فِي صِغَرِ سِنِّهَا، وَعُنْفُوَانِ شَبَابِهَا، ثُمَّ عَجَزَتْ وَأَيِسَتْ فَاسْتَبْعَدَتْ، فَكَأَنَّهَا قَالَتْ يَا لَيْتَكُمْ دَعَوْتُمْ دُعَاءً قَرِيبًا مِنَ الْإِجَابَةِ، ظَنًّا مِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ، كَمَا يَصْدُرُ مِنَ الضَّيْفِ عَلَى سَبِيلِ الْأَخْبَارِ مِنَ الْأَدْعِيَةِ كَقَوْلِ الدَّاعِي: اللَّهُ يُعْطِيكَ مَالًا وَيَرْزُقُكَ وَلَدًا، فَقَالُوا هَذَا مِنَّا لَيْسَ بِدُعَاءٍ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:

[سورة الذاريات (51) : آية 31]

قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ ثُمَّ دَفَعُوا اسْتِبْعَادَهَا بِقَوْلِهِمْ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا تفسيرهما مرارا، فإن قيل لم قال هاهنا الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ وَقَالَ فِي هُودٍ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هُودٍ: 73] نَقُولُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحِكَايَةَ هُنَاكَ أَبْسَطُ، فَذَكَرُوا مَا يَدْفَعُ الِاسْتِبْعَادَ بِقَوْلِهِمْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هُودٍ: 73] ثُمَّ لَمَّا صَدَّقَتْ أَرْشَدُوهُمْ إِلَى الْقِيَامِ بِشُكْرِ نِعَمِ اللَّهِ، وَذَكَّرُوهُمْ بِنِعْمَتِهِ بِقَوْلِهِمْ حَمِيدٌ فَإِنَّ الْحَمِيدَ هُوَ الَّذِي يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْأَفْعَالُ الْحَسَنَةُ، وَقَوْلُهُمْ مَجِيدٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْفَائِقَ الْعَالِيَ الْهِمَّةَ لَا يَحْمَدُهُ لِفِعْلِهِ الْجَمِيلِ، وَإِنَّمَا يَحْمَدُهُ وَيَسْبَحُ لَهُ لِنَفْسِهِ، وهاهنا لَمَّا لَمْ يَقُولُوا أَتَعْجَبِينَ إِشَارَةً إِلَى مَا يَدْفَعُ تَعُجُّبَهَا مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى حُكْمِهِ وَعِلْمِهِ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ مُرَاعًى فِي السُّورَتَيْنِ، فَالْحَمِيدُ يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ، وَالْمَجِيدُ يَتَعَلَّقُ بِالْقَوْلِ، وَكَذَلِكَ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي فِعْلُهُ، كَمَا يَنْبَغِي لِعِلْمِهِ قَاصِدًا لِذَلِكَ الْوَجْهِ بِخِلَافِ مَنْ يَتَّفِقُ فِعْلُهُ مُوَافِقًا لِلْمَقْصُودِ اتِّفَاقًا، كَمَنْ يَنْقَلِبُ على جنبه فيقتل حية وهو نائم، فائدة لَا يُقَالُ لَهُ حَكِيمٌ، وَأَمَّا إِذَا فَعَلَ فِعْلًا قَاصِدًا لِقَتْلِهَا بِحَيْثُ يَسْلَمُ عَنْ نَهْشِهَا، يُقَالُ لَهُ حَكِيمٌ فِيهِ، وَالْعَلِيمُ رَاجِعٌ إِلَى الذَّاتِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ بِمَجْدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فِعْلًا وَهُوَ قَاصِدٌ لِعِلْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ عَلَى وَفْقِ الْقَاصِدِ. ثُمَّ قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 31] قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَمَّا عَلِمَ حَالَهُمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ مُنْكَرُونَ [الذاريات: 25] لِمَ لَمْ يَقْنَعْ بِمَا بَشَّرُوهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهُمْ لِلْبِشَارَةِ لَا غَيْرُ؟ نَقُولُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى بِمَا هُوَ مِنْ آدَابِ الْمُضِيفِ حَيْثُ يَقُولُ لِضَيْفِهِ إِذَا اسْتَعْجَلَ فِي الْخُرُوجِ مَا هَذِهِ الْعَجَلَةُ، وَمَا شُغْلُكَ الَّذِي يَمْنَعُنَا مِنَ التَّشَرُّفِ بِالِاجْتِمَاعِ بِكَ، وَلَا يَسْكُتُ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ يُوهِمُ اسْتِثْقَالَهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَتَوْا بِمَا هُوَ مِنْ آدَابِ الصَّدِيقِ الَّذِي لَا يُسِرُّ عَنِ الصَّدِيقِ الصَّدُوقِ، لَا سِيَّمَا وَكَانَ ذَلِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ فِي إِطْلَاعِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ، وَجَبْرِ قَلْبِهِ بِتَقْدِيمِ الْبِشَارَةِ بِخَيْرِ الْبَدَلِ، وَهُوَ أَبُو الْأَنْبِيَاءِ إِسْحَاقُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا الَّذِي اقْتَضَى ذِكْرَهُ بِالْفَاءِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرْتُمْ لَقَالَ مَا هَذَا/ الِاسْتِعْجَالُ، وَمَا خَطْبُكُمُ الْمُعَجَّلُ لَكُمْ؟ نَقُولُ لَوْ كَانَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً وَخَرَجُوا مِنْ غَيْرِ بِشَارَةٍ وَإِينَاسٍ مَا كَانَ يَقُولُ شَيْئًا، فَلَمَّا آنَسُوهُ قَالَ مَا خَطْبُكُمْ، أَيْ بَعْدَ هَذَا الْأُنْسِ الْعَظِيمِ، مَا هَذَا الْإِيحَاشُ الْأَلِيمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَلْ فِي الْخَطْبِ فَائِدَةٌ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ؟ نَقُولُ نَعَمْ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْأَلْفَاظَ الْمُفْرَدَةَ الَّتِي يَقْرُبُ مِنْهَا الشُّغْلُ وَالْأَمْرُ وَالْفِعْلُ وَأَمْثَالُهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ الْأَمْرِ، وَأَمَّا الْخَطْبُ فَهُوَ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ، وَعِظَمُ الشَّأْنِ يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ مَنْ عَلَى يَدِهِ يَنْقَضِي، فَقَالَ: فَما خَطْبُكُمْ أَيْ لِعَظَمَتِكُمْ لَا تُرْسَلُونَ إِلَّا فِي عَظِيمٍ، وَلَوْ قَالَ بِلَفْظٍ مُرَكَّبٍ بِأَنْ يَقُولَ مَا شُغْلُكُمُ الْخَطِيرُ وَأَمْرُكُمُ الْعَظِيمُ لَلَزِمَ التَّطْوِيلُ، فَالْخَطْبُ أَفَادَ التَّعْظِيمَ مَعَ الْإِيجَازِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَنْ أَيْنَ عُرِفَ كَوْنُهُمْ مُرْسَلِينَ، فَنَقُولُ قَالُوا لَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ [هُودٍ: 70] وَإِنَّمَا لَمْ يذكر هاهنا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحِكَايَةَ بِبَسْطِهَا مَذْكُورَةٌ فِي سُورَةِ هُودٍ، أَوْ نَقُولُ لَمَّا قَالُوا لِامْرَأَتِهِ كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ [الذاريات: 30] علم كونهم منزلين من عند لله حَيْثُ كَانُوا يَحْكُونَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى،

[سورة الذاريات (51) : آية 32]

يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ قَوْلَهُمْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ كَانَ جَوَابَ سُؤَالِهِ مِنْهُمْ. [سورة الذاريات (51) : آية 32] قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذِهِ الْحِكَايَةُ بِعَيْنِهَا هِيَ الْمَحْكِيَّةُ في هود، وهناك قالوا إِنَّا أُرْسِلْنا [هود: 70] بعد ما زَالَ عَنْهُ الرَّوْعُ وَبَشَّرُوهُ، وَهُنَا قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا بعد ما سَأَلَهُمْ عَنِ الْخَطْبِ، وَأَيْضًا قَالُوا هُنَاكَ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ [هود: 70] وقالوا هاهنا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ وَالْحِكَايَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ وَرَدَ السُّؤَالُ أَيْضًا، فَنَقُولُ إِذًا قَالَ قَائِلٌ حَاكِيًا عَنْ زَيْدٍ: قَالَ زَيْدٌ عَمْرٌو خَرَجَ، ثُمَّ يَقُولُ مَرَّةً أُخْرَى: قَالَ زَيْدٌ إِنْ بَكْرًا خَرَجَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَدَرَ مِنْ زَيْدٍ قَوْلَانِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ حَاكِيًا مَا قَالَهُ زَيْدٌ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: هُوَ أَنَّهُ لَمَّا خَافَ جَازَ أَنَّهُمْ مَا قَالُوا لَهُ لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ مَاذَا تَفْعَلُونَ بِهِمْ، كَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ لِنُهْلِكَهُمْ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: خَرَجْتُ مِنَ الْبَيْتِ، فَيُقَالُ لِمَاذَا خَرَجْتَ؟ فَيَقُولُ خَرَجْتُ لِأَتَّجِرَ، لكن هاهنا فَائِدَةً مَعْنَوِيَّةً، وَهِيَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا قَالُوا فِي جواب ما خَطْبُكُمْ نُهْلِكُهُمْ؟ بِأَمْرِ اللَّهِ، لِتُعْلَمَ بَرَاءَتُهُمْ عَنْ إِيلَامِ الْبَرِيءِ، وَإِهْمَالِ الرَّدِيءِ فَأَعَادُوا لَفْظَ الْإِرْسَالِ، وَأَمَّا عَنِ الثَّانِي: نَقُولُ الْحِكَايَةُ قَدْ تَكُونُ حِكَايَةَ اللَّفْظِ، كَمَا تَقُولُ: قَالَ زَيْدٌ بِعَمْرٍو مَرَرْتُ، فَيَحْكِي لَفْظَهُ الْمَحْكِيَّ، وَقَدْ يَكُونُ حِكَايَةً لِكَلَامِهِ بِمَعْنَاهُ تَقُولُ: زَيْدٌ قَالَ عَمْرٌو خَرَجَ، وَلَكَ أَنَّ تُبَدِّلَ مَرَّةً أُخْرَى فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحِكَايَةِ بِلَفْظَةٍ أُخْرَى، فَتَقُولُ لَمَّا قَالَ زَيْدٌ بَكْرٌ خَرَجَ، قُلْتُ كَيْتَ وَكَيْتَ، كَذَلِكَ هاهنا الْقُرْآنُ لَفْظٌ مُعْجِزٌ، وَمَا صَدَرَ مِمَّنْ تَقَدَّمَ نَبِيَّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ سَوَاءً كَانَ مِنْهُمْ، وَسَوَاءً كَانَ مُنَزَّلًا عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ لَفْظُهُ مُعْجِزًا، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا تَكُونَ هَذِهِ الْحِكَايَاتُ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ وَقَالُوا/ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَلَهُ أَنْ يَقُولَ، إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ مَنْ آمَنَ بِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَحْكِي لَفْظَهُمْ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ وَاحِدًا، بَلْ يَحْكِي كَلَامَهُمْ بِمَعْنَاهُ وَلَهُ عِبَارَاتٌ كَثِيرَةٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى لَفْظَهُمْ فِي السَّلَامِ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ فِي التَّفْسِيرِ، قَالَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: سَلَامًا وَسَلَامٌ ثُمَّ بَيَّنَ مَا لِأَجْلِهِ أُرْسِلُوا بقوله: [سورة الذاريات (51) : آية 33] لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) وَقَدْ فَسَّرْنَا ذَلِكَ فِي الْعَنْكَبُوتِ، وَقُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الرَّمْيِ بِالْحِجَارَةِ عَلَى اللَّائِطِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَيُّ حَاجَةٍ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَوَاحِدٌ مِنْهُمْ كَانَ يَقْلِبُ الْمَدَائِنَ بِرِيشَةٍ مِنْ جَنَاحِهِ؟ نَقُولُ الْمَلِكُ الْقَادِرُ قَدْ يَأْمُرُ الْحَقِيرَ بِإِهْلَاكِ الرَّجُلِ الْخَطِيرِ، وَيَأْمُرُ الرَّجُلَ الْخَطِيرَ بِخِدْمَةِ الشَّخْصِ الْحَقِيرِ، إِظْهَارًا لِنَفَاذِ أَمْرِهِ، فَحَيْثُ أَهْلَكَ الْخَلْقَ الْكَثِيرَ بِالْقُمَّلِ وَالْجَرَادِ وَالْبَعُوضِ بَلْ بِالرِّيحِ الَّتِي بِهَا الْحَيَاةُ، كَانَ أَظْهَرَ في القدرة وحيث أمر آلاف مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِإِهْلَاكِ أَهْلِ بَدْرٍ مَعَ قِلَّتِهِمْ كَانَ أَظْهَرَ فِي نَفَاذِ الْأَمْرِ وَفِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنْ مَنْ يَكُونُ تَحْتَ طَاعَةِ مَلِكٍ عَظِيمٍ، وَيَظْهَرُ لَهُ عَدُوٌّ وَيَسْتَعِينُ بِالْمَلِكِ فَيُعِينُهُ بِأَكَابِرِ عَسْكَرِهِ، يَكُونُ ذَلِكَ تَعْظِيمًا مِنْهُ لَهُ وَكُلَّمَا كَانَ الْعَدُوُّ أَكْثَرَ وَالْمَدَدُ أَوْفَرَ كَانَ التَّعْظِيمُ أَتَمَّ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَانَ لُوطًا بِعَشْرَةٍ وَنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِخَمْسَةِ آلَافٍ، وَبَيْنَ الْعَدَدَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ مَا لَا يَخْفَى وَقَدْ ذَكَرْنَا نُبَذًا مِنْهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ [يس: 28] .

[سورة الذاريات (51) : آية 34]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَأْكِيدِ الْحِجَارَةِ بِكَوْنِهَا مِنْ طِينٍ؟ نَقُولُ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يُسَمِّي الْبَرَدَ حِجَارَةً فَقَوْلُهُ مِنْ طِينٍ يَدْفَعُ ذَلِكَ التَّوَهُّمَ، وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ مَنْ يَدَّعِي النَّظَرَ يَقُولُ لَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَّا حِجَارَةٌ مِنْ طِينٍ مُدَوَّرَاتٌ عَلَى هَيْئَةِ الْبَرَدِ وَهَيْئَةِ الْبَنَادِقِ الَّتِي يَتَّخِذُهَا الرُّمَاةُ، قَالُوا وَسَبَبُ ذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْإِعْصَارَ يُصْعِدُ الْغُبَارَ مِنَ الْفَلَوَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا عِمَارَةَ فِيهَا وَالرِّيَاحَ تَسُوقُهَا إِلَى بَعْضِ الْبِلَادِ، وَيَتَّفِقُ وُصُولُ ذَلِكَ إِلَى هَوَاءٍ نَدِيٍّ، فَيَصِيرُ طِينًا رَطْبًا، وَالرَّطْبُ إِذَا نَزَلَ وَتَفَرَّقَ اسْتَدَارَ، بِدَلِيلِ أَنَّكَ إِذَا رَمَيْتَ الْمَاءَ إِلَى فَوْقُ ثُمَّ نَظَرْتَ إِلَيْهِ رأيته ينزل كرات مدورات كاللئالئ الْكِبَارِ، ثُمَّ فِي النُّزُولِ إِذَا اتَّفَقَ أَنْ تَضْرِبَهُ النِّيرَانُ الَّتِي فِي الْجَوِّ، جَعَلَتْهُ حِجَارَةً كَالْآجُرِّ الْمَطْبُوخِ، فَيَنْزِلُ فَيُصِيبُ مَنْ قَدَّرَ اللَّهُ هَلَاكَهُ، وَقَدْ يَنْزِلُ كَثِيرًا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا عِمَارَةَ بِهَا فَلَا يُرَى وَلَا يُدْرَى بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: مِنْ طِينٍ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ مِنْ طِينٍ كَالْحَجَرِ الَّذِي فِي الصَّوَاعِقِ لَا يَكُونُ كَثِيرًا بِحَيْثُ يُمْطِرُ وَهَذَا تَعَسُّفٌ، وَمَنْ يَكُونُ كَامِلَ الْعَقْلِ يُسْنِدُ الْفِكْرَ إِلَى مَا قَالَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ، فَيَقُولُ ذَلِكَ الْإِعْصَارُ لَمَّا وَقَعَ فَإِنْ وَقَعَ بِحَادِثٍ آخَرَ يَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَلَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى مُحْدِثٍ لَيْسَ بِحَادِثٍ، فَذَلِكَ الْمُحْدِثُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فَاعِلًا مُخْتَارًا، وَالْمُخْتَارُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا ذَكَرَ وَلَهُ أَنْ يَخْلُقَ الْحِجَارَةَ مِنْ طِينٍ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ نَارٍ وَلَا غُبَارٍ، لَكِنَّ الْعَقْلَ لَا طَرِيقَ لَهُ إِلَى الْجَزْمِ/ بِطَرِيقِ إِحْدَاثِهِ وَمَا لَا يَصِلُ الْعَقْلَ إِلَيْهِ يَجِبُ أَخْذُهُ بِالنَّقْلِ، وَالنَّصُّ وَرَدَ بِهِ فَأَخَذْنَا بِهِ وَلَا نَعْلَمُ الْكَيْفِيَّةَ وَإِنَّمَا الْمَعْلُومُ أَنَّ الْحِجَارَةَ الَّتِي مِنْ طِينٍ نُزُولُهَا مِنَ السَّمَاءِ أَغْرَبُ وَأَعْجَبُ مَنْ غَيْرِهَا، لِأَنَّهَا فِي الْعَادَةِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مكث في النار. [سورة الذاريات (51) : آية 34] مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مَكْتُوبٌ عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ اسْمُ وَاحِدٍ يُقْتَلُ بِهِ ثَانِيهَا: أَنَّهَا خُلِقَتْ بِاسْمِهِمْ وَلِتَعْذِيبِهِمْ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَحْجَارِ فَإِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلِانْتِفَاعِ فِي الْأَبْنِيَةِ وَغَيْرِهَا ثَالِثُهَا: مُرْسَلَةٌ لِلْمُجْرِمِينَ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ يُقَالُ فِي السَّوَائِمِ يُقَالُ أَرْسَلَهَا لِتَرْعَى فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ سَوَّمَهَا بِمَعْنَى أَرْسَلَهَا وَبِهَذَا يُفَسَّرُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ [/ آلِ عِمْرَانَ: 14] إِشَارَةً إِلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا وَأَنَّهَا لَيْسَتْ لِلرُّكُوبِ لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى الْغِنَى، كَمَا قَالَ: وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ [آلِ عِمْرَانَ: 14] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِلْمُسْرِفِينَ إِشَارَةٌ إِلَى خِلَافِ مَا يَقُولُ الطَّبِيعِيُّونَ إِنَّ الْحِجَارَةَ إِذَا أَصَابَتْ وَاحِدًا مِنَ النَّاسِ فَذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الِاتِّفَاقِ فَإِنَّهَا تَنْزِلُ بِطَبْعِهَا يَتَّفِقُ شَخْصٌ لَهَا فَتُصِيبُهُ فَقَوْلُهُ مُسَوَّمَةً أَيْ فِي أَوَّلِ مَا خُلِقَ وَأُرْسِلَ إِذَا عُلِمَ هَذَا فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى قَصْدِ إِهْلَاكِ الْمُسْرِفِينَ، فَإِنْ قِيلَ إِذَا كَانَتِ الْحِجَارَةُ مُسَوَّمَةً لِلْمُسْرِفِينَ فَكَيْفَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ [الذاريات: 32، 33] مَعَ أَنَّ الْمُسْرِفَ غَيْرُ الْمُجْرِمِ فِي اللُّغَةِ؟ نَقُولُ الْمُجْرِمُ هُوَ الْآتِي بِالذَّنْبِ الْعَظِيمِ لِأَنَّ الْجُرْمَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْعِظَمِ وَمِنْهُ جُرْمُ الشَّيْءِ لِعَظَمَةِ مِقْدَارِهِ، وَالْمُسْرِفُ هُوَ الْآتِي بِالْكَبِيرَةِ، وَمَنْ أَسْرَفَ وَلَوْ فِي الصَّغَائِرِ يَصِيرُ مُجْرِمًا لِأَنَّ الصَّغِيرَ إِلَى الصَّغِيرِ إِذَا انْضَمَّ صَارَ كَبِيرًا، وَمَنْ أَجْرَمَ فَقَدْ أَسْرَفَ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْكَبِيرَةِ وَلَوْ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَالْوَصْفَانِ اجْتَمَعَا فِيهِمْ. لَكِنَّ فِيهِ لَطِيفَةً مَعْنَوِيَّةً، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَوَّمَهَا لِلْمُسْرِفِ الْمُصِرِّ الَّذِي لَا يَتْرُكُ الْجُرْمَ وَالْعِلْمُ بِالْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، يَعْلَمُ أَنَّهُمْ مُسْرِفُونَ فَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِإِرْسَالِهَا عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَعِلْمُهُمْ تَعَلَّقَ بِالْحَاضِرِ وَهُمْ كَانُوا مُجْرِمُونَ فَقَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ نَعْلَمُهُمْ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً خُلِقَتْ لِمَنْ لَا يُؤْمِنُ وَيُصِرُّ وَيُسْرِفُ وَلَزِمَ مِنْ هَذَا عِلْمُنَا بِأَنَّهُمْ لَوْ عَاشُوا سِنِينَ لَتَمَادَوْا فِي الْإِجْرَامِ، فَإِنْ قِيلَ اللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ أَوْ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ؟ نَقُولُ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ أَيْ مُسَوَّمَةً لِهَؤُلَاءِ الْمُسْرِفِينَ إِذْ لَيْسَ لِكُلِّ مُسْرِفٍ حِجَارَةٌ مُسَوَّمَةٌ، فَإِنْ قِيلَ مَا

[سورة الذاريات (51) : آية 35]

إِسْرَافُهُمْ؟ نَقُولُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ [العنكبوت: 28] أَيْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَكُمْ أَحَدٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: [سورة الذاريات (51) : آية 35] فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فِيهِ فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: بَيَانُ الْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ فَإِنَّ مَنْ يَقُولُ بِالِاتِّفَاقِ يَقُولُ يُصِيبُ الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ فَلَمَّا مَيَّزَ اللَّهُ الْمُجْرِمَ عَنِ الْمُحْسِنِ دَلَّ عَلَى الِاخْتِيَارِ. ثَانِيهَا: بَيَانُ أَنَّهُ بِبَرَكَةِ الْمُحْسِنِ يَنْجُو الْمُسِيءُ فَإِنَّ الْقَرْيَةَ مَا دَامَ فِيهَا الْمُؤْمِنُ لَمْ تَهْلِكْ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْقَرْيَةِ مَعْلُومَةً وإن لم تكن مذكورة وقوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 36] فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْكُفْرَ إِذَا غَلَبَ وَالْفِسْقَ إِذَا فَشَا لَا تَنْفَعُ مَعَهُ عِبَادَةُ الْمُؤْمِنِينَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ أَكْثَرُ الْخَلْقِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ وَفِيهِمْ شِرْذِمَةٌ يَسِيرَةٌ يَسْرِقُونَ وَيَزْنُونَ، وَقِيلَ فِي مِثَالِهِ إِنَّ الْعَالَمَ كَبَدَنٍ وَوُجُودُ الصَّالِحِينَ كَالْأَغْذِيَةِ الْبَارِدَةِ وَالْحَارَّةِ وَالْكُفَّارُ وَالْفُسَّاقُ كَالسُّمُومِ الْوَارِدَةِ عَلَيْهِ الضَّارَّةِ، ثُمَّ إِنَّ الْبَدَنَ إِنْ خَلَا عَنِ الْمَنَافِعِ وَفِيهِ الْمَضَارُّ هَلَكَ وَإِنَّ خَلَا عَنِ الْمَضَارِّ وَفِيهِ الْمَنَافِعُ طَابَ عَيْشُهُ وَنَمَا، وَإِنْ وُجِدَ فِيهِ كِلَاهُمَا فَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ فَكَذَلِكَ الْبِلَادُ وَالْعِبَادُ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ بِمَعْنَى الْمُؤْمِنِ ظَاهِرَةٌ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُسْلِمَ أَعَمُّ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَإِطْلَاقُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لَا مَانِعَ مِنْهُ، فَإِذَا سُمِّيَ الْمُؤْمِنُ مُسْلِمًا لَا يَدُلُّ عَلَى اتِّحَادِ مَفْهُومَيْهِمَا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَخْرَجْنَا الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا الْأَعَمَّ مِنْهُمْ إِلَّا بَيْتًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا كَمَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ لِغَيْرِهِ: مَنْ فِي الْبَيْتِ مِنَ النَّاسِ؟ فَيَقُولُ لَهُ مَا فِي الْبَيْتِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ أَحَدٌ غَيْرُ زَيْدٍ، فَيَكُونُ مُخْبِرًا لَهُ بِخُلُوِّ الْبَيْتِ عَنْ كُلِّ إنسان غير زيد. ثم قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 37] وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي الْآيَةِ خِلَافٌ، قِيلَ هُوَ مَاءٌ أَسْوَدُ مُنْتِنٌ انْشَقَّتْ أَرْضُهُمْ وَخَرَجَ مِنْهَا ذَلِكَ، وَقِيلَ حِجَارَةٌ مَرْمِيَّةٌ فِي دِيَارِهِمْ وَهِيَ بَيْنَ الشَّامِ وَالْحِجَازِ، وَقَوْلُهُ لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ أَيِ الْمُنْتَفِعِ بِهَا هُوَ الْخَائِفُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: 35] فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ، وَبَيْنَهُمَا في اللفظ فرق قال هاهنا آيَةً وقال هناك آيَةً بَيِّنَةً وقال هناك لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وقال هاهنا لِلَّذِينَ يَخافُونَ فَهَلْ فِي الْمَعْنَى فَرْقٌ؟ نَقُولُ هُنَاكَ مَذْكُورٌ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: آيَةً بَيِّنَةً حَيْثُ وَصَفَهَا بِالظُّهُورِ، وَكَذَلِكَ مِنْهَا وَفِيهَا فَإِنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مِنْ نَفْسِهَا لَكُمْ آيَةٌ بَاقِيَةٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فَإِنَّ الْعَاقِلَ أَعَمُّ مِنَ الْخَائِفِ، فَكَانَتِ الْآيَةُ هُنَاكَ أَظْهَرَ، وَسَبَبُهُ مَا ذكرنا أن القصد هناك تخويف القوم، وهاهنا تَسْلِيَةُ الْقَلْبِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذَّارِيَاتِ: 35، 36] وَقَالَ هُنَاكَ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ [الْعَنْكَبُوتِ: 33] مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ وَافٍ بِنَجَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَسْرِهِمْ. / ثم قال تعالى:

[سورة الذاريات (51) : آية 38]

[سورة الذاريات (51) : آية 38] وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) قَوْلُهُ وَفِي مُوسى يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَعْلُومٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَذْكُورٍ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ذَلِكَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَفِي مُوسَى، لِأَنَّ مَنْ ذَكَرَ إِبْرَاهِيمَ يَعْلَمُ ذَلِكَ الثَّانِي: لِقَوْمِكَ فِي لُوطٍ وَقَوْمِهِ عِبْرَةٌ، وَفِي مُوسَى وَفِرْعَوْنَ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: تَفَكَّرُوا فِي إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ وَقَوْمِهِمَا، وَفِي مُوسَى وَفِرْعَوْنَ، وَالْكُلُّ قَرِيبٌ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ، وَأَمَّا الثَّانِي فَفِيهِ أَيْضًا وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ [الذاريات: 20] ، وَفِي مُوسى وَهُوَ بَعِيدٌ لِبُعْدِهِ فِي الذِّكْرِ، وَلِعَدَمِ الْمُنَاسِبَةِ بَيْنَهُمَا ثَانِيهَا: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قوله وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ [الذاريات: 37] ، وَفِي مُوسى أَيْ وَجَعَلْنَا فِي مُوسَى عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِمْ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا، وَتَقَلَّدْتُ سَيْفًا وَرُمْحًا، وَهُوَ أَقْرَبُ، وَلَا يَخْلُو عَنْ تَعَسُّفٍ إِذَا قُلْنَا بِمَا قَالَ بِهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرَكْنا فِيها عَائِدٌ إِلَى الْقَرْيَةِ ثَالِثُهَا: أَنْ نَقُولَ فِيهَا رَاجِعٌ إِلَى الْحِكَايَةِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَتَرَكْنَا فِي حِكَايَتِهِمْ آيَةً أَوْ فِي قِصَّتِهِمْ، فَيَكُونُ: وَفِي قِصَّةِ مُوسَى آيَةٌ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْعَطْفُ عَلَى الْمَعْلُومِ رَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الذاريات: 24] وَتَقْدِيرُهُ: وَفِي مُوسَى حَدِيثٌ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ، «وَهُوَ مُنَاسِبٌ إِذْ جَمَعَ اللَّهُ كَثِيرًا مِنْ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النَّجْمِ: 36] وَقَالَ تَعَالَى: صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الأعلى: 19] وَالسُّلْطَانُ الْقُوَّةُ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَالْمُبِينُ الْفَارِقُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ الَّتِي حَاجَّ بِهَا فِرْعَوْنَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمُعْجِزُ الْفَارِقُ بَيْنَ سِحْرِ السَّاحِرِ وَأَمْرِ الْمُرْسَلِينَ. [سورة الذاريات (51) : آية 39] فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَالرَّكْنُ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَوْمِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: أَعْرَضَ مَعَ قَوْمِهِ، يُقَالُ نَزَلَ فُلَانٌ بِعَسْكَرِهِ عَلَى كَذَا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى [النَّازِعَاتِ: 20- 22] قَالَ: أَدْبَرَ وَهُوَ بِمَعْنَى تَوَلَّى وَقَوْلُهُ فَحَشَرَ فَنادى [النَّازِعَاتِ: 23] فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى بِرُكْنِهِ، الثَّانِي: فَتَوَلَّى أَيِ اتَّخَذَ وَلِيًّا، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ حِينَئِذٍ يَعْنِي تَقَوَّى بِجُنْدِهِ وَالثَّالِثُ: تَوَلَّى أَمْرَ مُوسَى بِقُوَّتِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَقْتُلُ مُوسَى لِئَلَّا يُبَدِّلُ دِينَكُمْ، وَلَا يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ، فَتَوَلَّى أَمْرَهُ بِنَفْسِهِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَفْعُولُ غَيْرَ مَذْكُورٍ، وَرُكْنُهُ هُوَ نَفْسُهُ الْقَوِيَّةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ رُكْنِهِ هَامَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ وَزِيرَهُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي أَظْهَرُ. وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَيْ هَذَا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، وَقَوْلُهُ ساحِرٌ أَيْ يَأْتِي الْجِنَّ بِسِحْرِهِ/ أَوْ يَقْرُبُ مِنْهُمْ، وَالْجِنُّ يَقْرُبُونَ مِنْهُ وَيَقْصِدُونَهُ إِنْ كَانَ هُوَ لَا يَقْصِدُهُمْ، فَالسَّاحِرُ وَالْمَجْنُونُ كِلَاهُمَا أَمْرُهُ مَعَ الْجِنِّ، غَيْرَ أَنَّ السَّاحِرَ يَأْتِيهِمْ بِاخْتِيَارِهِ، وَالْمَجْنُونَ يَأْتُونَهُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ صِيَانَةَ كَلَامِهِ عَنِ الْكَذِبِ فَقَالَ هُوَ يَسْحَرُ الْجِنَّ أَوْ يُسْحَرُ، فَإِنْ كَانَ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْهُ خبر، ولا يقصد ذلك فالجن يأتونه. ثم قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 40] فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)

[سورة الذاريات (51) : آية 41]

وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى بَعْضِ مَا أَتَى بِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَاتَّخَذَ الْأَوْلِيَاءَ فَلَمْ يَنْفَعُوهُ، وَأَخَذَهُ اللَّهُ وَأَخَذَ أَرْكَانَهُ وَأَلْقَاهُمْ جَمِيعًا فِي الْيَمِّ وهو البحر، والحكاية مشهورة، وقوله تعالى: هُوَ مُلِيمٌ نَقُولُ فِيهِ شَرَفُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِشَارَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَمَّا شَرَفُهُ فَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بِأَنَّهُ أَتَى بِمَا يُلَامُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: إِنِّي أُرِيدُ هَلَاكَ أَعْدَائِكَ يَا إِلَهَ الْعَالَمِينَ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ سَبَبٌ إِلَّا هَذَا، أَمَّا فِرْعَوْنُ فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النَّازِعَاتِ: 24] فَكَانَ سَبَبُهُ تِلْكَ، وَهَذَا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: فُلَانٌ عَيْبُهُ أَنَّهُ سَارِقٌ، أَوْ قَاتِلٌ، أَوْ يُعَاشِرُ الناس يؤذيهم، وَفُلَانٌ عَيْبُهُ أَنَّهُ مَشْغُولٌ بِنَفْسِهِ لَا يُعَاشِرُ، فَتَكُونُ نِسْبَةُ الْعَيْبَيْنِ بَعْضِهِمَا إِلَى بَعْضٍ سَبَبًا لِمَدْحِ أَحَدِهِمَا وَذَمِّ الْآخَرِ. وَأَمَّا بِشَارَةُ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ بِسَبَبِ أَنَّ مَنِ الْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ نَجَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَسْبِيحِهِ، وَمَنْ أَهْلَكَهُ اللَّهُ بِتَعْذِيبِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ إِيمَانُهُ حِينَ قَالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ [يونس: 90] . ثم قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 41] وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) وَفِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي عَطْفِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الأولى: ذكر أن المقصود هاهنا تسلية قلب النبي صلى الله عليه وسلم وَتَذْكِيرُهُ بِحَالِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي عَادٍ وثمود أنبياءهم، كم ذَكَرَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، نَقُولُ فِي ذِكْرِ الْآيَاتِ سِتُّ حِكَايَاتٍ: حِكَايَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِشَارَتِهِ، وَحِكَايَةُ قَوْمِ لُوطٍ وَنَجَاةِ مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَحِكَايَةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي هَذِهِ الْحِكَايَاتِ الثَّلَاثِ ذِكْرُ الرُّسُلِ وَالْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ النَّاجِينَ فِيهِمْ كَانُوا كَثِيرِينَ، أَمَّا فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي قَوْمِ لُوطٍ فَلِأَنَّ النَّاجِينَ، وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ بَيْتٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّ الْمُهْلَكِينَ كَانُوا أَيْضًا أَهْلَ بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَمَّا عَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ نُوحٍ فَكَانَ عَدَدُ الْمُهْلَكِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّاجِينَ أَضْعَافَ مَا كَانَ عَدَدُ الْمُهْلَكِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّاجِينَ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَذَكَرَ الْحِكَايَاتِ الثَّلَاثَ الْأُوَلَ لِلتَّسْلِيَةِ بِالنَّجَاةِ، وَذَكَرَ الثَّلَاثَ الْمُتَأَخِّرَةَ لِلتَّسْلِيَةِ بِإِهْلَاكِ الْعَدُوِّ، وَالْكُلُّ مَذْكُورٌ لِلتَّسْلِيَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ/ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ إِلَى أَنْ قَالَ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذَّارِيَاتِ: 54، 55] . وَفِي هُودٍ قَالَ بَعْدَ الْحِكَايَاتِ ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ إِلَى أَنْ قَالَ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هُودٍ: 100- 102] فَذَكَرَ بَعْدَهَا مَا يُؤَكِّدُ التَّهْدِيدَ، وذكر بعد الحكايات هاهنا مَا يُفِيدُ التَّسَلِّي، وَقَوْلُهُ الْعَقِيمَ أَيْ لَيْسَتْ مِنَ اللَّوَاقِحِ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَكْسِرُ وَتَقْلَعُ فَكَيْفَ كَانَتْ تُلَقِّحُ وَالْفَعِيلُ لَا يَلْحَقُ بِهِ تَاءُ التَّأْنِيثِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَقَدْ ذكرنا سببه أن فعيل لَمَّا جَاءَ لِلْمَفْعُولِ وَالْفَاعِلِ جَمِيعًا وَلَمْ يَتَمَيَّزِ الْمَفْعُولُ عَنِ الْفَاعِلِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَتَمَيَّزَ الْمُؤَنَّثُ عَنِ الْمُذَكَّرِ فِيهِ لِأَنَّهُ لَوْ تَمَيَّزَ لَتَمَيَّزَ الْفَاعِلُ عَنِ الْمَفْعُولِ قَبْلَ تَمَيُّزِ الْمُؤَنَّثِ وَالْمُذَكَّرِ لَأَنَّ الْفَاعِلَ جُزْءٌ مِنَ الْكَلَامِ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فَأَوَّلُ مَا يَحْصُلُ فِي الْفِعْلِ الْفَاعِلُ ثُمَّ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ يَصِيرُ كَالصِّفَةِ لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، تَقُولُ فَاعِلٌ وَفَاعِلَةٌ وَمَفْعُولٌ وَمُفَعْوِلَةٌ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ جُعِلَ بِحَرْفٍ مُمَازِجٍ لِلْكَلِمَةِ

[سورة الذاريات (51) : آية 42]

فَقِيلَ فَاعِلٌ بِأَلِفٍ فَاصِلَةٍ بَيْنَ الْفَاءِ وَالْعَيْنِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَصْلِ الْكَلِمَةِ، وَقِيلَ مَفْعُولٌ بِوَاوٍ فَاصِلَةٍ بَيْنَ الْعَيْنِ وَاللَّامِ وَالتَّأْنِيثُ كَانَ بِحَرْفٍ فِي آخِرِ الْكَلِمَةِ فَالْمُمَيِّزُ فِيهِمَا غَيَّرَ نَظْمَ الْكَلِمَةِ لِشَدَّةِ الْحَاجَةِ وَفِي التَّأْنِيثِ لَمْ يُؤَثِّرْ، وَلِأَنَّ التَّمْيِيزَ فِي الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ كَانَ بِأَمْرَيْنِ يَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَحَدِهِمَا فَالْأَلِفُ بَعْدَ الْفَاءِ يَخْتَصُّ بِالْفَاعِلِ وَالْمِيمُ وَالْوَاوُ يَخْتَصُّ بِالْمَفْعُولِ وَالتَّمْيِيزُ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ بِحَرْفٍ عِنْدَ وُجُودِهِ يُمَيَّزُ الْمُؤَنَّثُ وَعِنْدَ عَدَمِهِ يَبْقَى اللَّفْظُ عَلَى أَصْلِ التَّذْكِيرِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَعِيلٌ يَمْتَازُ فِيهِ الْفَاعِلُ عَنِ الْمَفْعُولِ إِلَّا بِأَمْرٍ مُنْفَصِلٍ كَذَلِكَ الْمُؤَنَّثُ وَالْمُذَكَّرُ لَا يَمْتَازُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ إِلَّا بِحَرْفٍ غَيْرِ مُتَّصِلٍ بِهِ وقوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 42] مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: فِي إِعْرَابِهِ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ الرِّيحِ بَعْدَ صِفَةِ الْعَقِيمِ ذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ أَنَّهُ وَصْفٌ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ وَصْفًا وَالْمَعْرِفَةُ لَا تُوصَفُ بِالْجُمَلِ وَمَا تَذْرُ جُمْلَةٌ وَلَا يُوصَفُ بِهَا إِلَّا النَّكِرَاتُ؟ نَقُولُ الْجَوَابُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ بِإِعَادَةِ الرِّيحِ تَقْدِيرًا كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ رِيحًا مَا تَذْرُ ثَانِيهِمَا: هُوَ أَنَّ الْمُعَرَّفَ نَكِرَةٌ لِأَنَّ تِلْكَ الرِّيحَ مُنْكَّرَةٌ كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَأَرْسَلْنَا الرِّيحَ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مِنَ الرِّيَاحِ الَّتِي تَقَعُ وَلَا وَقَعَ مِثْلُهَا فَهِيَ لِشِدَّتِهَا مُنْكَّرَةٌ، وَلِهَذَا أَكْثَرَ مَا ذَكَرَهَا فِي الْقُرْآنِ ذَكَرَهَا مُنَكَّرَةً وَوَصَفَهَا بِالْجُمْلَةِ مِنْ جُمْلَتِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف: 24] وقوله بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها [الحاقة: 6، 7] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ تَقُولُ جَاءَنِي مَا يَفْهَمُ شَيْئًا فَعَلَّمْتُهُ وَفَهَّمْتُهُ أَيْ حَالُهُ كَذَا، فَإِنْ قِيلَ لَمْ تَكُنْ حَالُ الْإِرْسَالِ مَا تَذْرُ وَالْحَالُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مَعَ ذِي الْحَالِ وَقْتَ الْفِعْلِ/ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ جَاءَنِي زَيْدٌ أَمْسِ رَاكِبًا غَدًا، وَالرِّيحَ بعد ما أرست بِزَمَانٍ صَارَتْ مَا تَذْرُ شَيْئًا نَقُولُ الْمُرَادُ بِهِ الْبَيَانُ بِالصَّلَاحِيَّةِ أَيْ أَرْسَلْنَاهَا وَهِيَ عَلَى قُوَّةٍ وَصَلَاحِيَّةٍ أَنْ لَا تَذْرَ، نَقُولُ لِمَنْ جَاءَ وَأَقَامَ عِنْدَكَ أَيَّامًا ثُمَّ سَأَلَكَ شَيْئًا، جِئْتَنِي سَائِلًا أَيْ قَبْلَ السُّؤَالِ بِالصَّلَاحِيَةِ وَالْإِمْكَانِ، هَذَا إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ نُصِبَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ رُفِعَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هِيَ مَا تَذْرُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: مَا تَذَرُ لِلنَّفْيِ حَالَ التَّكَلُّمِ يُقَالُ مَا يَخْرُجُ زَيْدٌ أَيِ الْآنَ، وَإِذَا أَرَدْتَ الْمُسْتَقْبَلَ تَقُولُ لَا يَخْرُجُ أَوْ لَنْ يَخْرُجَ، وَأَمَّا الْمَاضِي تَقُولُ مَا خَرَجَ وَلَمْ يَخْرُجْ، وَالرِّيحُ حَالَةَ الْكَلَامِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ مَا تَرَكَتْ شَيْئًا إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ فَكَيْفَ قَالَ بِلَفْظِ الْحَالَةِ مَا تَذَرُ؟ نَقُولُ الْحِكَايَةُ مُقَدَّرَةٌ عَلَى أَنَّهَا مَحْكِيَّةٌ حَالَ الْوُقُوعِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الْكَهْفِ: 18] مَعَ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ الْمَاضِي لَا يَعْمَلُ وَإِنَّمَا يَعْمَلُ مَا كَانَ مِنْهُ بِمَعْنَى الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: هَلْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ مُبَالَغَةٌ وَدُخُولُ تَخْصِيصٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الْأَحْقَافِ: 25] نَقُولُ هُوَ كَمَا وَقَعَ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَتَتْ عَلَيْهِ وَصْفٌ لِقَوْلِهِ شَيْءٍ كَأَنَّهُ قَالَ كُلُّ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ أَوْ كُلُّ شَيْءٍ تَأْتِي عليه جعلته كالرميم ولا يدخل فيه السموات لِأَنَّهَا مَا أَتَتْ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ الْأَجْسَامُ الَّتِي تَهُبُّ عَلَيْهَا الرِّيَاحُ، فَإِنْ قِيلَ فَالْجِبَالُ وَالصُّخُورُ أَتَتْ عَلَيْهَا وَمَا جَعَلَتْهَا كَالرَّمِيمِ؟ نَقُولُ الْمُرَادُ أَتَتْ عَلَيْهِ قَصْدًا وَهُوَ عَادٌ وَأَبْنِيَتُهُمْ وَعُرُوشُهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَأْمُورَةً بِأَمْرٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ

[سورة الذاريات (51) : آية 43]

فَكَأَنَّهَا كَانَتْ قَاصِدَةً إِيَّاهُمْ فَمَا تَرَكَتْ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا جَعَلْتَهُ كَالرَّمِيمِ مَعَ أَنَّ الصِّرَّ الرِّيحُ الْبَارِدَةُ وَالْمُكَرَّرُ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي فِي اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ تَكْرِيرٍ، تَقُولُ حَثَّ وَحَثْحَثَ وَفِيهِ مَا فِي حَثَّ نَقُولُ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَانَتْ بَارِدَةً فَكَانَتْ فِي أَيَّامِ الْعَجُوزُ وَهِيَ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ مِنْ آخَرِ شُبَاطَ وَأَوَّلِ أَذَارَ، وَالرِّيحُ الْبَارِدَةُ مِنْ شِدَّةِ بَرْدِهَا تُحْرِقُ الْأَشْجَارَ وَالثِّمَارَ وَغَيْرَهُمَا وَتُسَوِّدُهُمَا وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَانَتْ حَارَةٌ وَالصِّرُّ هُوَ الشَّدِيدُ لَا الْبَارِدُ وَبِالشِّدَّةِ فُسِّرَ قَوْلُهُ تعالى: فِي صَرَّةٍ [الذاريات: 29] أَيْ فِي شِدَّةٍ مِنَ الْحَرِّ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا تَذَرُ نَفْيُ التَّرْكِ مَعَ إِثْبَاتِ الْإِتْيَانِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ تَأْتِي عَلَى أَشْيَاءَ وَمَا تَتْرُكُهَا غَيْرَ مُحَرَّقَةٍ وَقَوْلُ الْقَائِلِ: مَا أَتَى عَلَى شَيْءٍ إِلَّا جَعَلَهُ كَذَا يَكُونُ نَفْيُ الْإِتْيَانِ عَمَّا لَمْ يَجْعَلْهُ كَذَلِكَ. [سورة الذاريات (51) : آية 43] وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي ثَمُودَ وَالْبَحْثُ فِيهِ وَفِي عَادٍ هُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي مُوسى [الذاريات: 38] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ مِنْهُ هُوَ مَا أَمْهَلَهُمُ اللَّهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ قَتْلِهِمُ النَّاقَةَ وَكَانَتْ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ تَتَغَيَّرُ أَلْوَانُهُمْ فَتَصْفَرُّ وُجُوهُهُمْ وَتَسْوَدُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ [الذَّارِيَاتِ: 44] بِحَرْفِ الْفَاءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعُتُوَّ كَانَ بَعْدَ قَوْلِهِ/ تَمَتَّعُوا فَإِذَنِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ مَا قَدَّرَ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنَ الْآجَالِ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ مُمَهَّلٌ مُدَّةَ الْأَجَلِ يَقُولُ لَهُ تَمَتَّعْ إِلَى آخِرِ أَجَلِكَ فَإِنْ أَحْسَنْتَ فَقَدْ حَصَلَ لَكَ التَّمَتُّعُ فِي الدَّارَيْنِ وَإِلَّا فَمَا لَكَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ. وقوله: [سورة الذاريات (51) : آية 44] فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فِيهِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ عَتَا يُسْتَعْمَلُ بِعَلَى قَالَ تَعَالَى: أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا [مريم: 69] وهاهنا اسْتُعْمِلَ مَعَ كَلِمَةِ عَنْ فَنَقُولُ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِعْتَاءِ فَحَيْثُ قَالَ تَعَالَى: عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ كَانَ كَقَوْلِهِ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الْأَعْرَافِ: 206] وَحَيْثُ قَالَ عَلَى كَانَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ فُلَانٌ يَتَكَبَّرُ عَلَيْنَا، وَالصَّاعِقَةُ فِيهِ وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا هُنَا أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْوَاقِعَةُ وَالثَّانِي: الصَّوْتُ الشَّدِيدُ وَقَوْلُهُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِشَارَةٌ إِلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إِمَّا بِمَعْنَى تَسْلِيمِهِمْ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى الدَّفْعِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِلْمَضْرُوبِ يَضْرِبُكَ فُلَانٌ وَأَنْتَ تَنْظُرُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ، وَإِمَّا بِمَعْنَى أَنَّ الْعَذَابَ أَتَاهُمْ لَا عَلَى غَفْلَةٍ بَلْ أُنْذِرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَانْتَظَرُوهُ، وَلَوْ كَانَ عَلَى غَفْلَةٍ لَكَانَ لِمُتَوَهِّمٍ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّهُمْ أُخِذُوا عَلَى غَفْلَةٍ أَخْذَ الْعَاجِلِ الْمُحْتَاجِ، كَمَا يَقُولُ الْمُبَارِزُ الشُّجَاعُ أَخْبَرْتُكَ بِقَصْدِي إياك فانتظرني. [سورة الذاريات (51) : آية 45] فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِبَيَانِ عَجْزِهِمْ عَنِ الْهَرَبِ وَالْفِرَارِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى قِيَامٍ كَيْفَ يَمْشِي فَضْلًا عَنْ أَنْ يَهْرُبَ، وَعَلَى هَذَا فِيهِ لَطَائِفُ لَفْظِيَّةٌ إِحْدَاهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا اسْتَطاعُوا فَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ دُونَ الْقُدْرَةِ، لِأَنَّ فِي الِاسْتِطَاعَةِ دَلَالَةَ الطَّلَبِ وهو ينبئ

[سورة الذاريات (51) : آية 46]

عَنْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِقْلَالِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ شَيْئًا كَانَ دُونَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يَقُولُ الْمُتَكَلِّمُونَ الِاسْتِطَاعَةُ مَعَ الْفِعْلِ أَوْ قَبْلَ الْفِعْلِ إِشَارَةٌ إِلَى قُدْرَةٍ مَطْلُوبَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَأْخُوذَةٍ مِنْهُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ [الْمَائِدَةِ: 112] عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ وَقَوْلِهِ فَمَا اسْتَطاعُوا أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ مَا قَدَرُوا عَلَى قِيَامٍ ثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ قِيامٍ بِزِيَادَةِ مِنْ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ مِنَ التَّأْكِيدِ ثَالِثُهَا: قَوْلُهُ قِيامٍ بَدَلُ قَوْلِهِ هَرَبٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَاجِزَ عَنِ الْقِيَامِ أَوْلَى أَنْ يَعْجِزَ عَنِ الْهَرَبِ الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قِيَامٍ الْقِيَامُ بِالْأَمْرِ، أَيْ مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ بِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ أَيْ مَا اسْتَطَاعُوا الْهَزِيمَةَ وَالْهَرَبَ، وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ يُقَاتِلُ وَيَنْتَصِرُ بِكُلِّ مَا يُمْكِنُهُ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ عَنِ الرُّوحِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ مَا هُوَ بِمُنْتَصِرٍ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ مَا انْتَصَرَ وَلَا يَنْتَصِرُ وَالْجَوَابُ تُرِكَ مَعَ كَوْنِهِ يجب تقديره وقوله/ (ما انتصر) أَيْ لِشَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ، كَمَا تَقُولُ فُلَانٌ لَا يَنْصُرُ أَوْ فُلَانٌ لَيْسَ يَنْصُرُ. ثم قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 46] وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) قُرِئَ قَوْمَ بِالْجَرِّ وَالنَّصْبِ فَمَا وَجْهُهُمَا؟ نَقُولُ أَمَّا الْجَرُّ فَظَاهِرٌ عَطْفًا عَلَى مَا تقدم في قوله تعالى وَفِي عادٍ [الذاريات: 41] وَفِي مُوسى [الذاريات: 38] ، تَقُولُ لَكَ فِي فُلَانٍ عِبْرَةٌ وَفِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَأَمَّا النَّصْبُ فَعَلَى تَقْدِيرِ: وَأَهْلَكْنَا قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ دَلَّ عَلَى الْهَلَاكِ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الْمَحَلِّ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ مِنْ قَبْلُ مَعْنَاهُ ظَاهِرٌ كَأَنَّهُ يَقُولُ (وَأَهْلَكْنَا قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَتَقْدِيرُهُ: وَفِي قَوْمِ نُوحٍ لَكُمْ عِبْرَةٌ مِنْ قَبْلِ ثَمُودَ وَعَادٍ وَغَيْرِهِمْ. ثم قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 47] وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَهُوَ بَيَانٌ لِلْوَحْدَانِيَّةِ، وَمَا تَقَدَّمَ كَانَ بَيَانًا لِلْحَشْرِ. وَأَمَّا قوله هاهنا وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَ أَنَّ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا خَلَقُوا مِنْهَا شَيْئًا فَلَا يَصِحُّ الْإِشْرَاكُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هَذَا عَوْدٌ بَعْدَ التَّهْدِيدِ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ، وَبِنَاءُ السَّمَاءِ دَلِيلٌ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى خَلْقِ الْأَجْسَامِ ثَانِيًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: 81] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: النَّصْبُ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ يُخْتَارُ فِي مَوَاضِعَ، وَإِذَا كَانَ الْعَطْفُ عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ فَمَا تِلْكَ الْجُمْلَةُ؟ نَقُولُ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا في قوله تعالى: وَفِي عادٍ [الذاريات: 41] وَفِي ثَمُودَ [الذاريات: 43] تَقْدِيرُهُ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ عَادٍ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ثَمُودَ، عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [الذاريات: 24] وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَا تَقَدَّمَ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً لَا خَفَاءَ فِيهِ، وَعَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْوَجْهِ فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ النَّصْبُ أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى الرَّفْعِ فَكَانَ عَطْفًا عَلَى مَا بِالنَّصْبِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ قوله تعالى: نَبَذْناهُمْ [الذاريات: 40] وقوله أَرْسَلْنا [الذاريات: 32] وقوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ [الذاريات: 44] وفَمَا اسْتَطاعُوا [الذاريات: 45] كُلُّهَا فِعْلِيَّاتٌ فَصَارَ النَّصْبُ مُخْتَارًا.

المسألة الثانية: كرر ذكر البناء في السموات، قَالَ تَعَالَى: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشَّمْسِ: 5] وَقَالَ تعالى: [النازعات: 27] أَمِ السَّماءُ بَناها وَقَالَ تَعَالَى: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً [غَافِرٍ: 64] فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْبِنَاءَ بَاقٍ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَمْ يُعْدَمْ مِنْهُ جُزْءٌ، وَأَمَّا الْأَرْضُ فَهِيَ فِي التَّبَدُّلِ وَالتَّغَيُّرِ فَهِيَ كَالْفَرْشِ الَّذِي يُبْسَطُ وَيُطْوَى وَيُنْقَلُ، وَالسَّمَاءُ كَالْبِنَاءِ الْمَبْنِيِّ الثَّابِتِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: سَبْعاً شِداداً [النَّبَأِ: 12] وَأَمَّا الْأَرَاضِي فَكَمْ مِنْهَا مَا صَارَ بَحْرًا وَعَادَ أَرْضًا مِنْ وَقْتِ/ حُدُوثِهَا ثَانِيهَا: أَنَّ السَّمَاءَ تُرَى كَالْقُبَّةِ المبنية فوق الرؤوس، وَالْأَرْضَ مَبْسُوطَةٌ مَدْحُوَّةٌ وَالْبِنَاءُ بِالْمَرْفُوعِ أَلْيَقُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: رَفَعَ سَمْكَها [النَّازِعَاتِ: 28] ثَالِثُهَا: قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: السَّمَاءُ مَسْكَنُ الْأَرْوَاحِ وَالْأَرْضُ مَوْضِعُ الْأَعْمَالِ وَالْمَسْكَنُ أَلْيَقُ بِكَوْنِهِ بِنَاءً وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَصْلُ تَقْدِيمُ الْعَامِلِ عَلَى الْمَعْمُولِ وَالْفِعْلُ هُوَ الْعَامِلُ فَقَوْلُهُ بَنَيْنا عَامِلٌ فِي السَّمَاءِ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفِعْلِ وَلَوْ قَالَ: وَبَنَيْنَا السَّمَاءَ بِأَيْدٍ، كَانَ أَوْجَزَ؟ نَقُولُ الصَّانِعُ قَبْلَ الصُّنْعِ عِنْدَ النَّاظِرِ فِي الْمَعْرِفَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ إِثْبَاتُ الْعِلْمِ بِالصَّانِعِ، قُدِّمَ الدَّلِيلُ فَقَالَ وَالسَّمَاءَ الْمُزَيَّنَةَ الَّتِي لَا تَشُكُّونَ فِيهَا بَنَيْنَاهَا فَاعْرِفُونَا بِهَا إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْرِفُونَنَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ إِثْبَاتَ التَّوْحِيدِ، فَكَيْفَ قَالَ: بَنَيْناها وَلَمْ يَقُلْ بَنَيْتُهَا أَوْ بَنَاهَا اللَّهُ؟ نَقُولُ قَوْلُهُ بَنَيْنا أَدَلُّ عَلَى عَدَمِ الشَّرِيكِ فِي التَّصَرُّفِ وَالِاسْتِبْدَادِ وَقَوْلُهُ بَنَيْتُهَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَشْرِيكٌ، وَتَمَامُ التَّقْرِيرِ هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: بَنَيْناها لَا يُورِثُ إِيهَامًا بِأَنَّ الْآلِهَةَ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا هِيَ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا الضَّمِيرُ فِي بَنَيْناها لِأَنَّ تِلْكَ إِمَّا أَصْنَامٌ مَنْحُوتَةٌ وَإِمَّا كَوَاكِبُ جَعَلُوا الْأَصْنَامَ عَلَى صُوَرِهَا وَطَبَائِعِهَا، فَأَمَّا الْأَصْنَامُ الْمَنْحُوتَةُ فَلَا يَشُكُّونَ أَنَّهَا مَا بَنَتْ مِنَ السَّمَاءِ شَيْئًا، وَأَمَّا الْكَوَاكِبُ فَهِيَ فِي السَّمَاءِ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهَا فَلَا تَكُونُ هِيَ بَانِيَتَهَا، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّمَا بُنِيَتْ لَهَا وَجُعِلَتْ أَمَاكِنُهَا، فَلَمَّا لَمْ يُتَوَهَّمْ مَا قَالُوا قَالَ بَنَيْنَا نَحْنُ وَنَحْنُ غَيْرُ مَا يَقُولُونَ وَيَدَعُونَهُ فَلَا يَصْلُحُونَ لَنَا شُرَكَاءَ لِأَنَّ كُلَّ مَا هُوَ غَيْرُ السَّمَاءِ وَدُونَ السَّمَاءِ فِي الْمَرْتَبَةِ فَلَا يَكُونُ خَالِقَ السَّمَاءِ وَبَانِيَهَا فَإِذَنْ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ جَمْعُ التَّعْظِيمِ وَأَفَادَ النَّصُّ عَظَمَتَهُ، فَالْعَظَمَةُ أَنْفَى لِلشَّرِيكِ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ بَنَيْناها أَدَلُّ عَلَى نَفْيِ الشَّرِيكِ مِنْ بَنَيْتُهَا وَبَنَاهَا اللَّهُ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قُلْتَ إِنَّ الْجَمْعَ يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ؟ قُلْنَا الْجَوَابُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى قَدْرٍ فَهْمِ السَّامِعِ، وَالسَّامِعُ هُوَ الْإِنْسَانُ، وَالْإِنْسَانُ يَقِيسُ الشَّاهِدَ عَلَى الْغَائِبِ، فَإِنَّ الْكَبِيرَ عِنْدَهُمْ مَنْ يَفْعَلُ الشَّيْءَ بِجُنْدِهِ وَخَدَمِهِ وَلَا يُبَاشِرُ بِنَفْسِهِ، فَيَقُولُ الْمَلِكُ فَعَلْنَا أَيْ فَعَلَهُ عِبَادُنَا بِأَمْرِنَا وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَعْظِيمٌ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْغَائِبِ الْوَجْهُ الْآخَرُ: هُوَ أَنَّ الْقَوْلَ إِذَا وَقَعَ مِنْ وَاحِدٍ وَكَانَ الْغَيْرُ بِهِ رَاضِيًا يَقُولُ الْقَائِلُ فَعَلْنَا كُلُّنَا كَذَا وَإِذَا اجْتَمَعَ جَمْعٌ عَلَى فِعْلٍ لَا يَقَعُ إِلَّا بِالْبَعْضِ، كَمَا إِذَا خَرَجَ جَمٌّ غَفِيرٌ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ لِقَتْلِ سَبْعٍ وَقَتَلُوهُ يُقَالُ قَتَلَهُ أَهْلُ بَلْدَةٍ كَذَا لِرِضَا الْكُلِّ بِهِ وَقَصْدِ الْكُلِّ إِلَيْهِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاللَّهُ تَعَالَى كَيْفَمَا أَمَرَ بِفِعْلِ شَيْءٍ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ رَدُّهُ وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مُنْقَادًا لَهُ، يَقُولُ بَدَلَ فَعَلْتُ فَعَلْنَا، وَلِهَذَا الْمَلِكِ الْعَظِيمِ أَجْمَعْنَا بِحَيْثُ لَا ينكره أحد ولا يرده نَفْسٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِأَيْدٍ أَيْ قُوَّةٍ وَالْأَيْدُ الْقُوَّةُ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَبِهِ فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 17] يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْمُرَادَ جَمْعُ الْيَدِ، وَدَلِيلُهُ أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] وَقَالَ تَعَالَى: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: 71] وَهُوَ رَاجِعٌ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَعَلَى هَذَا فَحَيْثُ قَالَ: خَلَقْتُ

[سورة الذاريات (51) : آية 48]

قَالَ: بِيَدَيَّ وَحَيْثُ قَالَ: بَنَيْنا قَالَ: بِأَيْدٍ لمقابلة الجمع بالجمع، فإن قيل فلم لَمْ يَقُلْ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدِينَا وَقَالَ: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا؟ نَقُولُ لِفَائِدَةٍ/ جَلِيلَةٍ، وَهِيَ أَنَّ السَّمَاءَ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ وَالْأَنْعَامُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَقَالَ هُنَاكَ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا تَصْرِيحًا بِأَنَّ الْحَيَوَانَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَكَذَلِكَ خَلَقْتُ بِيَدَيَّ وَفِي السَّمَاءِ بِأَيْدٍ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا وَفِيهِ لَطِيفَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ هُنَاكَ لَمَّا أَثْبَتَ الْإِضَافَةَ بَعْدَ حَذْفِ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ إِلَى الْمَفْعُولِ، فَلَمْ يَقُلْ خَلَقْتُهُ بِيَدَيَّ وَلَا قال عملته أيدينا وقال هاهنا بَنَيْناها لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ أَحَدٍ أَنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ الْحَيَوَانَ غَيْرُ مَعْمُولٍ فَلَمْ يَقُلْ خَلَقْتُهُ وَلَا عَمِلْتُهُ وَأَمَّا السَّمَاءُ فَبَعْضُ الْجُهَّالِ يَزْعُمُ أَنَّهَا غَيْرُ مَجْعُولَةٍ فَقَالَ: بَنَيْناها بِعَوْدِ الضَّمِيرِ تَصْرِيحًا بِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِنَ السَّعَةِ أَيْ أَوْسَعْنَاهَا بِحَيْثُ صَارَتِ الْأَرْضُ وَمَا يُحِيطُ بِهَا مِنَ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّمَاءِ وَسَعَتِهَا كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ، وَالْبِنَاءُ الْوَاسِعُ الْفَضَاءِ عَجِيبٌ فَإِنَّ الْقُبَّةَ الْوَاسِعَةَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا الْبَنَّاءُونَ لِأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَى إِقَامَةِ آلَةٍ يَصِحُّ بِهَا اسْتِدَارَتُهَا وَيَثْبُتُ بِهَا تَمَاسُكُ أَجْزَائِهَا إِلَى أَنْ يَتَّصِلَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ ثَانِيهَا: قَوْلُهُ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ أَيْ لَقَادِرُونَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَةِ: 286] أَيْ قُدْرَتُهَا وَالْمُنَاسَبَةُ حِينَئِذٍ ظَاهِرَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ ذَلِكَ حِينَئِذٍ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَقْصُودِ الْآخَرِ وَهُوَ الْحَشْرُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: بَنَيْنَا السَّمَاءَ، وَإِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نَخْلُقَ أَمْثَالَهَا، كَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: 81] ثالثها: إِنَّا لَمُوسِعُونَ الرزق على الخلق. ثم قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 48] وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) اسْتِدْلَالًا بِالْأَرْضِ وَقَدْ عُلِمَ مَا فِي قَوْلِهِ وَالْأَرْضَ فَرَشْناها وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دَحْوَ الْأَرْضِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، لِأَنَّ بِنَاءَ الْبَيْتِ يَكُونُ فِي الْعَادَةِ قَبْلَ الْفَرْشِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أَيْ نحن أو فنعم الماهدون ماهدوها. [سورة الذاريات (51) : آية 49] وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ اسْتِدْلَالًا بِمَا بَيْنَهُمَا وَالزَّوْجَانِ إِمَّا الضِّدَّانِ فَإِنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى كَالضِّدَّيْنِ وَالزَّوْجَانِ مِنْهُمَا كَذَلِكَ، وَإِمَّا الْمُتَشَاكِلَانِ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ شَبِيهٌ وَنَظِيرٌ وَضِدٌّ وَنِدٌّ، قَالَ الْمَنْطِقِيُّونَ الْمُرَادُ بِالشَّيْءِ الْجِنْسُ وَأَقَلُّ مَا يَكُونُ تَحْتَ الْجِنْسِ نَوْعَانِ فَمِنْ كُلِّ جِنْسٍ خَلَقَ نَوْعَيْنِ مِنَ الْجَوْهَرِ مَثَلًا الْمَادِّيَّ وَالْمُجَرَّدَ، وَمِنَ الْمَادِّيِّ النَّامِيَ وَالْجَامِدَ ومن النامي المدرك والنبات من المدرك للناطق وَالصَّامِتَ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَرْدٌ لَا كَثْرَةَ فِيهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أَيْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أَنَّ خَالِقَ الْأَزْوَاجِ لَا يَكُونُ لَهُ زَوْجٌ وَإِلَّا لَكَانَ مُمْكِنًا فَيَكُونُ مَخْلُوقًا وَلَا يَكُونُ خَالِقًا، أَوْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أَنَّ خَالِقَ الْأَزْوَاجِ لَا يَعْجِزُ عَنْ حَشْرِ الأجسام وجمع الأرواح. / ثم قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 50] فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)

أَمْرٌ بِالتَّوْحِيدِ، وَفِيهِ لِطَائِفُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَفِرُّوا يُنْبِئُ عَنْ سُرْعَةِ الْإِهْلَاكِ كَأَنَّهُ يَقُولُ الْإِهْلَاكُ وَالْعَذَابُ أَسْرَعُ وَأَقْرَبُ مِنْ أَنْ يَحْتَمِلَ الْحَالُ الْإِبْطَاءَ فِي الرُّجُوعِ، فَافْزَعُوا إِلَى اللَّهِ سَرِيعًا وَفِرُّوا الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَى اللَّهِ بَيَانُ الْمَهْرُوبِ إِلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرِ الَّذِي مِنْهُ الْهَرَبُ لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا وَهُوَ هَوْلُ الْعَذَابِ أَوِ الشَّيْطَانُ الَّذِي قَالَ فِيهِ إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فَاطِرٍ: 6] وَإِمَّا لِيَكُونَ عَامًّا كَأَنَّهُ يَقُولُ: كُلُّ مَا عَدَا اللَّهَ عَدُوُّكُمْ فَفِرُّوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ، وَبَيَانُهُ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ فَإِنَّهُ يُتْلِفُ عَلَيْكَ رَأْسَ مَالِكَ الَّذِي هُوَ الْعُمُرُ، وَيُفَوِّتُ عَلَيْكَ مَا هُوَ الْحَقُّ وَالْخَيْرُ، وَمُتْلِفُ رَأْسِ الْمَالِ مُفَوِّتُ الْكَمَالِ عَدُوٌّ، وَأَمَّا إِذَا فَرَرْتَ إِلَى اللَّهِ وَأَقْبَلْتَ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ يَأْخُذُ عُمُرَكَ وَلَكِنْ يَرْفَعُ أَمْرَكَ وَيُعْطِيكَ بَقَاءً لَا فَنَاءَ مَعَهُ وَالثَّالِثَةُ: الْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ مَعْنَاهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ خَالِقَ الزَّوْجَيْنِ فَرْدٌ فَفِرُّوا إِلَيْهِ وَاتْرُكُوا غَيْرَهُ تَرْكًا مُؤَبَّدًا الرَّابِعَةُ: فِي تَنَوُّعِ الْكَلَامِ فَائِدَةٌ وَبَيَانُهَا هُوَ أن الله تعالى قال: وَالسَّماءَ بَنَيْناها [الذاريات: 47] وَالْأَرْضَ فَرَشْناها [الذاريات: 48] وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا [الذاريات: 49] ثُمَّ جَعَلَ الْكَلَامَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَلَمْ يَقُلْ فَفِرُّوا إِلَيْنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ لِاخْتِلَافِ الْكَلَامِ تَأْثِيرًا، وَكَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمُتَكَلِّمِينَ تَأْثِيرًا، وَلِهَذَا يُكْثِرُ الْإِنْسَانُ مِنَ النَّصَائِحِ مَعَ وَلَدِهِ الَّذِي حَادَ عَنِ الْجَادَّةِ، وَيَجْعَلُ الْكَلَامَ مُخْتَلِفًا، نَوْعًا تَرْغِيبًا وَنَوْعًا تَرْهِيبًا، وَتَنْبِيهًا بِالْحِكَايَةِ، ثُمَّ يَقُولُ لِغَيْرِهِ تَكَلَّمْ مَعَهُ لَعَلَّ كَلَامَكَ يَنْفَعُ، لِمَا فِي أَذْهَانِ النَّاسِ أَنَّ اخْتِلَافَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَاخْتِلَافَ الْكَلَامِ كِلَاهُمَا مُؤَثِّرٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنْوَاعًا مِنَ الْكَلَامِ وَكَثِيرًا مِنَ الِاسْتِدْلَالَاتِ وَالْآيَاتِ وَذَكَرَ طَرَفًا صَالِحًا مِنَ الْحِكَايَاتِ، ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامًا مِنْ مُتَكَلِّمٍ آخَرَ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ تَقْدِيرَهُ فَقُلْ لَهُمْ فَفِرُّوا وَقَوْلُهُ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ إِشَارَةٌ إِلَى الرِّسَالَةِ. وَفِيهِ أَيْضًا لَطَائِفُ إِحْدَاهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ عَظَمَتَهُ بِقَوْلِهِ وَالسَّماءَ بَنَيْناها وَالْأَرْضَ فَرَشْناها وَهَيْبَتَهُ بِقَوْلِهِ نَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ [القصص: 40] وقوله تعالى: أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [الذاريات: 48] وقوله فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ [النساء: 153] وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا عَذَّبَ قَدَرَ عَلَى أَنْ يُعَذِّبَ بِمَا بِهِ الْبَقَاءُ وَالْوُجُودُ وَهُوَ التُّرَابُ وَالْمَاءُ وَالْهَوَاءُ وَالنَّارُ، فَحِكَايَاتُ لُوطٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التُّرَابَ الَّذِي مِنْهُ الْوُجُودُ وَالْبَقَاءُ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ جَعْلَهُ سَبَبَ الْفِنَاءِ وَالْمَاءُ كَذَلِكَ فِي قَوْمِ فِرْعَوْنِ وَالْهَوَاءُ فِي عَادٍ وَالنَّارُ فِي ثَمُودَ، وَلَعَلَّ تَرْتِيبَ الْحِكَايَاتِ الْأَرْبَعِ لِلتَّرْتِيبِ الَّذِي فِي الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ شَيْئًا مِنْهُ، ثُمَّ إِذْ أَبَانَ عَظَمَتَهُ وَهَيْبَتَهُ قَالَ لِرَسُولِهِ عَرِّفْهُمُ الْحَالَ وَقُلْ أَنَا رَسُولٌ بِتَقْدِيمِ الْآيَاتِ وَسَرْدِ الْحِكَايَاتِ فَلِإِرْدَافِهِ بِذِكْرِ الرَّسُولِ فَائِدَةٌ ثَانِيهَا: فِي الرِّسَالَةِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ الْمُرْسِلُ وَالرَّسُولُ وَالْمُرْسَلُ إليه وهاهنا ذَكَرَ الْكُلَّ، فَقَوْلُهُ لَكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ وَقَوْلُهُ مِنْهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُرْسِلِ وَقَوْلُهُ نَذِيرٌ بَيَانٌ لِلرَّسُولِ، وَقَدَّمَ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِ فِي الذِّكْرِ، لِأَنَّ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِ أَدْخَلُ فِي أَمْرِ الرِّسَالَةِ/ لِأَنَّ عِنْدَهُ يَتِمُّ الْأَمْرُ، وَالْمَلِكُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يُخَالِفُهُ أَوْ يُوَافِقُهُ فَيُرْسِلُ إِلَيْهِ نَذِيرًا أَوْ بَشِيرًا لَا يُرْسِلُ وَإِنْ كَانَ مَلِكًا عَظِيمًا، وَإِذَا حَصَلَ الْمُخَالِفُ أَوِ الْمُوَافِقُ يُرْسِلُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَظِيمٍ، ثُمَّ الْمُرْسِلُ لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ وَهُوَ الْبَاعِثُ، وَأَمَّا الرَّسُولُ فَبِاخْتِيَارِهِ، وَلَوْلَا الْمُرْسِلُ الْمُتَعَيِّنُ لَمَا تَمَّتِ الرِّسَالَةُ، وَأَمَّا الرَّسُولُ فَلَا يَتَعَيَّنُ، لِأَنَّ لِلْمَلِكِ اخْتِيَارَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَقَالَ: مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: نَذِيرٌ تَأْخِيرًا لِلرَّسُولِ عَنِ الْمُرْسِلِ ثَالِثُهَا: قَوْلُهُ مُبِينٌ إِشَارَةٌ إِلَى مَا بِهِ تُعْرَفُ الرِّسَالَةُ، لِأَنَّ كُلَّ حَادِثٍ لَهُ سَبَبٌ وَعَلَامَةٌ، فَالرَّسُولُ هُوَ الَّذِي بِهِ تَتِمُّ الرِّسَالَةُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عَلَامَةٍ يُعْرَفُ بِهِ، فَقَوْلُهُ مُبِينٌ إِشَارَةٌ إِلَيْهَا وَهِيَ إِمَّا الْبُرْهَانُ والمعجزة.

[سورة الذاريات (51) : آية 51]

[سورة الذاريات (51) : آية 51] وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِتْمَامًا لِلتَّوْحِيدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالتَّشْرِيكِ، وَطَرِيقَةُ التَّوْحِيدِ هِيَ الطَّرِيقَةُ، فَالْمُعَطِّلُ يَقُولُ لَا إِلَهَ أَصْلًا، وَالْمُشْرِكُ يَقُولُ فِي الْوُجُودِ آلِهَةٌ، وَالْمُوَحِّدُ يَقُولُ قَوْلُهُ الِاثْنَيْنِ باطل، نفي الْوَاحِدٍ بَاطِلٌ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات: 50] أَثْبَتَ وُجُودَ اللَّهِ، وَلَمَّا قَالَ: وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ نَفَى الْأَكْثَرَ مِنَ الْوَاحِدِ فَصَحَّ التَّوْحِيدُ بِالْآيَتَيْنِ، وَلِهَذَا قَالَ مَرَّتَيْنِ: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَيْ فِي الْمَقَامَيْنِ وَالْمَوْضِعَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ الْمُعَطِّلَ إِذَا قَالَ لَا وَاجِبَ يَجْعَلُ الْكُلَّ مُمْكِنًا، فَإِنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مُمْكِنٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ فِي الْحَقِيقَةِ مَوْجُودٌ، فَقَدْ جَعَلَهُ فِي تَضَاعِيفِ قَوْلِهِ كَالْمُمْكِنَاتِ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَجَعَلَ اللَّهَ كَغَيْرِهِ، وَالْمُشْرِكُ لَمَّا قَالَ بِأَنَّ غَيْرَهُ إِلَهٌ يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ نَفْيُ كَوْنِ الْإِلَهِ إِلَهًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي تَقْرِيرِ دَلَالَةِ التَّمَانُعِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَلَزِمَ عَجْزُ كُلِّ وَاحِدٍ، فَلَا يَكُونُ فِي الْوُجُودِ إِلَهٌ أصلا، فيكون ناقيا للإلهية، فَيَكُونُ مُعَطِّلًا، فَالْمُعَطِّلُ مُشْرِكٌ، وَالْمُشْرِكُ مُعَطِّلٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّ خَصْمَهُ مُبْطِلٌ، لَكِنَّهُ هُوَ عَلَى مَذْهَبِ خَصْمِهِ يَقُولُ إِنَّهُ نَفْسَهُ مُبْطِلٌ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا، وَقَوْلُهُ وَلا تَجْعَلُوا فِيهِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْآلِهَةَ مَجْعُولَةٌ، لَا يُقَالُ فَاللَّهُ مُتَّخَذٌ لِقَوْلِهِ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 9] قُلْنَا الْجَوَابُ: عَنْهُ الظَّاهِرُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً [مريم: 81] . ثم قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 52] كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) وَالتَّفْسِيرُ مَعْلُومٌ مِمَّا سَبَقَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْحِكَايَاتِ لِلتَّسْلِيَةِ، غَيْرَ أَنَّ فِيهِ لَطِيفَةً وَاحِدَةً لَا نَتْرُكُهَا، وَهِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ كُذِّبَ، وَحِينَئِذٍ يَرِدُ عَلَيْهِ أَسْئِلَةٌ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ قَرَّرَ دِينَ النَّبِيِّ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَبَقِيَ الْقَوْمُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ/ كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُدَّةً، وَكَيْفَ وَآدَمُ لَمَّا أُرْسِلَ لَمْ يُكَذَّبْ الثَّانِي: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيرِ اللَّهِ تَكْذِيبَ الرُّسُلِ، وَلَمْ يُرْسِلْ رَسُولًا مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَاخْتِلَافِ مُعْجِزَاتِهِمْ بِحَيْثُ يُصَدِّقُهُ أَهْلُ زَمَانِهِ؟ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ مَا أَتَى ... إِلَّا قالُوا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ قَالُوا سَاحِرٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا وَآمَنَ بِهِ قَوْمٌ، وَهُمْ مَا قَالُوا ذَلِكَ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: هُوَ أَنْ نَقُولَ، أَمَّا الْمُقَرَّرُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ رَسُولٌ، بَلْ هُوَ نَبِيٌّ عَلَى دِينِ رَسُولٍ، وَمَنْ كَذَّبَ رَسُولَهُ فَهُوَ مُكَذِّبُهُ أَيْضًا ضَرُورَةً. وَعَنِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرْسِلُ إِلَّا عِنْدَ حَاجَةِ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ عِنْدَ ظُهُورِ الْكُفَّارِ فِي العلم، وَلَا يَظْهَرُ الْكُفْرُ إِلَّا عِنْدَ كَثْرَةِ الْجَهْلِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُرْسِلُ رَسُولًا مَعَ كَوْنِ الْإِيمَانِ بِهِ ضَرُورِيًّا، وَإِلَّا لَكَانَ الْإِيمَانُ بِهِ إِيمَانَ الْيَأْسِ فَلَا يُقْبَلُ، وَالْجَاهِلُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُبَيَّنُ لَهُ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ لَا يَقْبَلُهُ فَيَبْقَى فِي وَرْطَةِ الضَّلَالَةِ، فَهَذَا قَدَرٌ لَزِمَ بِقَضَاءِ اللَّهِ عَلَى الْخَلْقِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَرَّةً أُخْرَى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ: كُلُّ مَا هُوَ قَضَاءُ اللَّهُ فَهُوَ خَيْرٌ، وَالشَّرُّ فِي الْقَدَرِ، فَاللَّهُ قَضَى بِأَنَّ النَّارَ فِيهَا مُصْلِحَةٌ لِلنَّاسِ لِأَنَّهَا نُورٌ، وَيَجْعَلُونَهَا مَتَاعًا فِي الْأَسْفَارِ وَغَيْرِهَا كَمَا ذَكَرَ اللَّه، وَالْمَاءُ فِيهِ مَصْلَحَةُ الشُّرْبِ، لَكِنَّ النَّارَ إِنَّمَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهَا بِالْحَرَارَةِ الْبَالِغَةِ وَالْمَاءَ بِالسَّيَلَانِ الْقَوِيِّ، وَكَوْنُهُمَا كَذَلِكَ يَلْزَمُهُمَا بِإِجْرَاءِ اللَّهِ عَادَتَهُ عَلَيْهِمَا أَنْ يَحْرِقَ ثَوْبَ الْفَقِيرِ، وَيُغْرِقَ شَاةَ الْمِسْكِينِ، فَالْمَنْفَعَةُ فِي الْقَضَاءِ وَالْمُضِرَّةُ فِي الْقَدَرِ، وَهَذَا الْكَلَامُ لَهُ غَوْرٌ، وَالسُّنَّةُ أَنْ نَقُولَ (يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِعَامٍّ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ إِلَّا قَالَ كُلُّهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: إِلَّا قالُوا وَلَمَّا كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ قَائِلِينَ بِهِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: إِلَّا

[سورة الذاريات (51) : آية 53]

قالُوا فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَذْكُرِ الْمُصَدِّقِينَ، كَمَا ذَكَرَ الْمُكَذِّبِينَ، وَقَالَ إِلَّا قَالَ بَعْضُهُمْ صَدَقْتَ، وَبَعْضُهُمْ كَذَبْتَ؟ نَقُولُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّسْلِيَةُ وَهِيَ عَلَى التَّكْذِيبِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا تَأْسَ عَلَى تَكْذِيبِ قَوْمِكَ، فَإِنَّ أَقْوَامًا قَبْلَكَ كذبوا، ورسلا كذبوا. ثم قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 53] أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) أَيْ بِذَلِكَ الْقَوْلِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ وَمَعْنَاهُ التَّعْجِيبُ، أَيْ كَيْفَ اتَّفَقُوا عَلَى قَوْلٍ واحد كأنهم تواطؤا عَلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تَقُولُوا إِلَّا هذا، ثم قال: لم يكن ذلك على التواطؤ، وَإِنَّمَا كَانَ لِمَعْنًى جَامِعٍ هُوَ أَنَّ الْكُلَّ أُتْرِفُوا فَاسْتَغْنَوْا فَنَسُوا اللَّهَ وَطَغَوْا فَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، كَمَا أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا أَمْهَلَ أَهْلَ بُقْعَةٍ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ بِشَيْءٍ، ثُمَّ قَعَدَ بَعْدَ مُدَّةٍ وَطَلَبَهُمْ إِلَى بَابِهِ يَصْعُبُ عَلَيْهِمْ لِاتِّخَاذِهِمُ الْقُصُورَ وَالْجِنَانَ، وَتَحْسِينَ بِلَادِهِمْ مِنَ الْوُجُوهِ الْحِسَانِ، فَيَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى الْعِصْيَانِ، وَالْقَوْلِ بِطَاعَةِ مَلِكٍ آخَرَ. ثم قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 54] فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) هَذِهِ تَسْلِيَةٌ أُخْرَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ كَرَمِ الْأَخْلَاقِ يَنْسُبُ نَفْسَهُ إِلَى تَقْصِيرٍ، وَيَقُولُ إِنَّ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ لِتَقْصِيرِي فِي التَّبْلِيغِ/ فَيَجْتَهِدُ فِي الْإِنْذَارِ وَالتَّبْلِيغِ، فَقَالَ تَعَالَى: قَدْ أَتَيْتَ بِمَا عَلَيْكَ، وَلَا يَضُرُّكَ التَّوَلِّي عَنْهُمْ، وَكُفْرُهُمْ لَيْسَ لِتَقْصِيرٍ مِنْكَ، فَلَا تَحْزَنْ فَإِنَّكَ لَسْتَ بِمَلُومٍ بِسَبَبِ التَّقْصِيرِ، وَإِنَّمَا هم الملومون بالإعراض والعناد. ثم قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 55] وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) يَعْنِي لَيْسَ التَّوَلِّي مُطْلَقًا، بَلْ تَوَلَّ وَأَقْبِلْ وَأَعْرِضْ وَادْعُ، فَلَا التَّوَلِّي يَضُرُّكَ إِذَا كَانَ عَنْهُمْ، وَلَا التَّذْكِيرُ يَنْفَعُ إِلَّا إِذَا كَانَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ أَلْطَفُ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الْهَادِيَ إِذَا كَانَتْ هِدَايَتُهُ نَافِعَةً يَكُونُ ثَوَابُهُ أَكْثَرَ، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: فَتَوَلَّ كَانَ يَقَعُ لِمُتَوَهِّمٍ أَنْ يَقُولَ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوَابٌ عَظِيمٌ، فَقُلْ بَلَى وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي الْمُؤْمِنِينَ كَثْرَةً، فَإِذَا ذَكَّرْتَهُمْ زَادَ هُدَاهُمْ، وَزِيَادَةُ الْهُدَى مِنْ قَوْلِهِ كَزِيَادَةِ الْقَوْمِ، فَإِنَّ قَوْمًا كَثِيرًا إِذَا صَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ رَكْعَةً أَوْ رَكْعَتَيْنِ، وَقَوْمًا قَلِيلًا إِذَا صَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ تَكُونُ الْعِبَادَةُ فِي الْكَثْرَةِ كَالْعِبَادَةِ عَنْ زِيَادَةِ الْعَدَدِ، فَالْهَادِي لَهُ عَلَى عِبَادَةِ كُلِّ مُهْتَدٍ أَجْرٌ، ولا ينقص أجر المهتدي، قال تعالى: إِنَّ لَكَ لَأَجْراً [الْقَلَمِ: 3] أَيْ وَإِنْ تَوَلَّيْتَ بِسَبَبِ انْتِفَاعِ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ وَحَالَةِ إِعْرَاضِكَ عَنِ الْمُعَانِدِينَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يُرَادَ قُوَّةُ يَقِينِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِيَزْدادُوا إِيماناً [الْفَتْحِ: 4] وَقَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً [التَّوْبَةِ: 124] وَقَالَ تَعَالَى: زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ [مُحَمَّدٍ: 17] ثَانِيهَا: تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَعْدَكَ فَكَأَنَّكَ إِذَا أَكْثَرْتَ التَّذْكِيرَ بِالتَّكْرِيرِ نُقِلَ عَنْكَ ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ فَيَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ يَجِيءُ بَعْدَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ثَالِثُهَا: هُوَ أَنَّ الذِّكْرَى إِنْ أَفَادَ إِيمَانَ كَافِرٍ فَقَدْ نَفَعَ مُؤْمِنًا لِأَنَّهُ صَارَ مُؤْمِنًا، وَإِنْ لَمْ يُفِدْ يُوجِدُ حَسَنَةً وَيُزَادُ فِي حَسَنَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَنْتَفِعُوا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قِيلَ فِي قوله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها [الزُّخْرُفِ: 72] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: [سورة الذاريات (51) : آية 56] وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)

وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ، وَلْنَذْكُرْهَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْصَاءِ، فَنَقُولُ أَمَّا تَعَلُّقُهَا بِمَا قَبْلَهَا فَلِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَذَكِّرْ [الذاريات: 55] يَعْنِي أَقْصَى غَايَةِ التَّذْكِيرِ وَهُوَ أَنَّ الْخَلْقَ لَيْسَ إِلَّا لِلْعِبَادَةِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ إِيجَادِ الْإِنْسَانِ الْعِبَادَةُ فَذَكِّرْهُمْ بِهِ وَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ تَضْيِيعٌ لِلزَّمَانِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّا ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ شُغُلَ الْأَنْبِيَاءِ مُنْحَصِرٌ فِي أَمْرَيْنِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَهِدَايَةِ الْخَلْقِ، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات: 54] بَيَّنَ أَنَّ الْهِدَايَةَ قَدْ تَسْقُطُ عِنْدَ الْيَأْسِ وَعَدَمِ الْمُهْتَدِي، وَأَمَّا الْعِبَادَةُ فَهِيَ لَازِمَةٌ وَالْخَلْقُ الْمُطْلَقُ لَهَا وَلَيْسَ الْخَلْقُ الْمُطْلَقُ لِلْهِدَايَةِ، فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ إِذَا أَتَيْتَ بِالْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ إِذَا تَرَكْتَ الْهِدَايَةَ بَعْدَ بَذْلِ الْجُهْدِ فِيهَا الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ حَالَ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ التَّكْذِيبِ، ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ لِيُبَيِّنَ سُوءَ/ صَنِيعِهِمْ حَيْثُ تَرَكُوا عِبَادَةَ اللَّهِ فَمَا كَانَ خَلْقُهُمْ إِلَّا لِلْعِبَادَةِ، وَأَمَّا التَّفْسِيرُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَلَائِكَةُ أَيْضًا مِنْ أَصْنَافِ الْمُكَلَّفِينَ وَلَمْ يَذْكُرْهُمُ اللَّهُ مَعَ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْكُبْرَى فِي إِيجَادِهِ لَهُمْ هِيَ الْعِبَادَةُ ولهذا قال: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء: 26] وقال تعالى: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الأعراف: 206] فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ أَنَّ تَعَلُّقَ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا بَيَانُ قُبْحِ مَا يَفْعَلُهُ الْكَفَرَةُ مِنْ تَرْكِ مَا خُلِقُوا لَهُ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالْجِنِّ وَالْإِنْسِ لِأَنَّ الْكُفْرَ فِي الْجِنِّ أَكْثَرُ، وَالْكَافِرُ مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنَ الْمُؤْمِنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ قُبْحِهِمْ وَسُوءِ صَنِيعِهِمْ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْجِنِّ، فَلَمَّا قَالَ وَذَكِّرْهُمْ مَا يُذَكَّرُ بِهِ وَهُوَ كَوْنُ الْخَلْقِ لِلْعِبَادَةِ خَصَّ أُمَّتَهُ بِالذِّكْرِ أَيْ ذِكْرِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ الثَّالِثُ: أَنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ كَانُوا يَقُولُونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَظِيمُ الشَّأْنِ خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ وَجَعَلَهُمْ مُقَرَّبِينَ فَهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَخَلَقَهُمْ لِعِبَادَتِهِ وَنَحْنُ لِنُزُولِ دَرَجَتِنَا لَا نَصْلُحُ لِعِبَادَةِ اللَّهِ فَنَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، فَقَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَلَائِكَةَ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهِمْ كَانَ مُسَلَّمًا بَيْنَ الْقَوْمِ فَذَكَرَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ الرَّابِعُ: قِيلَ الْجِنُّ يَتَنَاوَلُ الْمَلَائِكَةَ لِأَنَّ الْجِنَّ أَصْلُهُ مِنَ الِاسْتِتَارِ وَهُمْ مُسْتَتِرُونَ عَنِ الْخَلْقِ، وَعَلَى هَذَا فَتَقْدِيمُ الْجِنِّ لِدُخُولِ الْمَلَائِكَةِ فِيهِمْ وكونهم أكثر عبادة وأخصلها الْخَامِسُ: قَالَ بَعْضُ النَّاسِ كُلَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَانَ فِيهِ التَّقْدِيرُ فِي الْجِرْمِ وَالزَّمَانِ قَالَ تَعَالَى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [الْفُرْقَانِ: 59] وَقَالَ تَعَالَى: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فُصِّلَتْ: 9] وَقَالَ: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا لَمْ يَكُنْ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] وَقَالَ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاءِ: 85] وَقَالَ تَعَالَى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الْأَعْرَافِ: 54] وَالْمَلَائِكَةُ كَالْأَرْوَاحِ مِنْ عَالَمِ الْأَمْرِ أَوَجَدَهُمْ مِنْ غَيْرِ مُرُورِ زَمَانٍ فَقَوْلُهُ وَما خَلَقْتُ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ هُوَ مِنْ عَالَمِ الْخَلْقِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ، وَهُوَ بَاطِلٌ لقوله تعالى: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [غافر: 62] فَالْمَلَكُ مِنْ عَالَمِ الْخَلْقِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَقْدِيمُ الْجِنِّ عَلَى الْإِنْسِ لِأَيَّةِ حِكْمَةٍ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: بَعْضُهَا مَرَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْعِبَادَةَ سِرِّيَّةٌ وَجَهْرِيَّةٌ، وَلِلسِّرِّيَّةِ فَضْلٌ عَلَى الْجَهْرِيَّةِ لَكِنَّ عِبَادَةَ الْجِنِّ سِرِّيَّةٌ لَا يَدْخُلُهَا الرِّيَاءُ الْعَظِيمُ، وَأَمَّا عِبَادَةُ الْإِنْسِ فَيَدْخُلُهَا الرِّيَاءُ فَإِنَّهُ قَدْ يَعْبُدُ اللَّهَ لِأَبْنَاءِ جِنْسِهِ، وَقَدْ يَعْبُدُ اللَّهَ لِيَسْتَخْبِرَ مِنَ الْجِنِّ أَوْ مَخَافَةً مِنْهُمْ وَلَا كَذَلِكَ الْجِنُّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ لِغَرَضٍ وَإِلَّا لَكَانَ بِالْغَرَضِ مُسْتَكْمِلًا وَهُوَ فِي نَفْسِهِ كَامِلٌ فَكَيْفَ يُفْهَمُ لِأَمْرِ اللَّهِ الْغَرَضُ وَالْعِلَّةُ؟ نَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ تَمَسَّكُوا بِهِ، وَقَالُوا أَفْعَالُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَغْرَاضٍ وَبَالَغُوا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى

مُنْكِرِي ذَلِكَ، وَنَحْنُ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّعْلِيلَ لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، وَاللَّفْظِيُّ مَا يُطْلِقُ النَّاظِرُ إِلَيْهِ اللَّفْظَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ، مِثَالُهُ إِذَا خَرَجَ مَلِكٌ مِنْ بِلَادِهِ وَدَخَلَ بِلَادَ الْعَدُوِّ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ أَنْ يُتْعِبَ عَسْكَرَ نَفْسِهِ لَا غَيْرُ، فَفِي الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ ذَلِكَ، وَفِي اللَّفْظِ لَا يَصِحُّ وَلَوْ قَالَ هُوَ أَنَا مَا سَافَرْتُ إِلَّا لِابْتِغَاءِ أَجْرٍ أَوْ لِأَسْتَفِيدَ حَسَنَةً يُقَالُ/ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَا يَصِحُّ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ خَرَجَ لِيَأْخُذَ بِلَادَ الْعَدُوِّ وَلِيُرْهِبَهُ لَصُدِّقَ، فَالتَّعْلِيلُ اللَّفْظِيُّ هُوَ جَعْلُ الْمَنْفَعَةِ الْمُعْتَبَرَةِ عِلَّةً لِلْفِعْلِ الَّذِي فِيهِ الْمَنْفَعَةُ، يُقَالُ اتَّجَرَ لِلرِّبْحِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ لَهُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَنَقُولُ الْحَقَائِقُ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ عِنْدَ النَّاسِ، وَالْمَفْهُومُ مِنَ النُّصُوصِ مَعَانِيهَا اللَّفْظِيَّةُ لَكِنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهَا لَفْظًا وَالنِّزَاعُ فِي الْحَقِيقَةِ فِي اللَّفْظِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ ذَلِكَ تَقْدِيرٌ كَالتَّمَنِّي وَالتَّرَجِّي فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَأَنَّهُ يَقُولُ الْعِبَادَةُ عِنْدَ الْخَلْقِ شَيْءٌ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِكُمْ لَقُلْتُمْ إِنَّهُ لَهَا، كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ [طه: 44] أَيْ بِحَيْثُ يَصِيرُ تَذْكِرَةً عِنْدِكُمْ مَرْجُوًّا وَقَوْلُهُ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ [الْأَعْرَافِ: 129] أَيْ يَصِيرُ إِهْلَاكُهُ عِنْدَكُمْ مَرْجُوًّا تَقُولُونَ إِنَّهُ قَرُبَ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ اللَّامَ قَدْ تَثْبُتُ فِيمَا لَا يَصِحُّ غَرَضًا كَمَا فِي الْوَقْتِ قَالَ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاءِ: 78] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطَّلَاقِ: 1] وَالْمُرَادُ الْمُقَارَنَةُ، وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَعْنَاهُ قَرَنْتُ الْخَلْقَ بِالْعِبَادَةِ أَيْ بِفَرْضِ الْعِبَادَةِ أَيْ خَلَقْتُهُمْ وَفَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الْعِبَادَةَ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّعْلِيلِ الْحَقِيقِيِّ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَغْنٍ عَنِ الْمَنَافِعِ فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ لِمَنْفَعَةٍ رَاجِعَةٍ إِلَيْهِ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِيصَالِ الْمَنْفَعَةِ إِلَى الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ الْعَمَلِ فَيَكُونُ تَوَسُّطَ ذَلِكَ لَا لِيَكُونَ عِلَّةً، وَإِذَا لَزِمَ الْقَوْلُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُ فِعْلًا هُوَ لِمُتَوَسِّطٍ لَا لِعِلَّةٍ لَزِمَهُمُ الْمَسْأَلَةُ، وَأَمَّا النُّصُوصُ فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُعَدَّ وَهِيَ عَلَى أَنْوَاعٍ، مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِضْلَالَ بِفِعْلِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ [الرعد: 27] وَأَمْثَالِهِ وَمِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا بِخَلْقِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: 16] ومنها الصرائح الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الْأَنْبِيَاءِ: 23] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ [إبراهيم: 27] يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [الْمَائِدَةِ: 1] وَالِاسْتِقْصَاءُ مُفَوَّضٌ فِيهِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ الْأُصُولِيِّ لَا إِلَى الْمُفَسِّرِ. الْمَسْأَلَةُ الرابعة: قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا [الْحُجُرَاتِ: 13] وَقَالَ: لِيَعْبُدُونِ فَهَلْ بَيْنَهَا اخْتِلَافٌ؟ نَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّلَ جَعْلَهُمْ شُعُوبًا بِالتَّعَارُفِ، وهاهنا عَلَّلَ خَلْقَهُمْ بِالْعِبَادَةِ وَقَوْلُهُ هُنَاكَ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 13] دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ هاهنا وَمُوَافِقٌ لَهُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ أَتْقَى كَانَ أَعْبَدَ وَأَخْلَصَ عَمَلًا، فَيَكُونُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ أَتَمَّ فِي الْوُجُودِ فَيَكُونُ أَكْرَمَ وَأَعَزَّ، كَالشَّيْءِ الَّذِي مَنْفَعَتُهُ فَائِدَةٌ، وَبَعْضُ أَفْرَادِهِ يَكُونُ أَنْفَعَ فِي تِلْكَ الْفَائِدَةِ، مِثَالُهُ الْمَاءُ إِذَا كَانَ مَخْلُوقًا لِلتَّطْهِيرِ وَالشُّرْبِ فَالصَّافِي مِنْهُ أَكْثَرُ فَائِدَةً فِي تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ فَيَكُونُ أَشْرَفَ مِنْ مَاءٍ آخَرَ، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ أَبْلَغَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا الْعِبَادَةُ الَّتِي خُلِقَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ لَهَا؟ قُلْنَا: التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ لَمْ يَخْلُ شَرْعٌ مِنْهُمَا، وَأَمَّا خُصُوصُ الْعِبَادَاتِ فَالشَّرَائِعُ مُخْتَلِفَةٌ فِيهَا بِالْوَضْعِ وَالْهَيْئَةِ وَالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالشَّرَائِطِ وَالْأَرْكَانِ، وَلَمَّا كَانَ التَّعْظِيمُ اللَّائِقُ بِذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ لَا يُعْلَمُ عَقْلًا لَزِمَ اتِّبَاعُ الشَّرَائِعِ فِيهَا وَالْأَخْذُ بِقَوْلِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَقَدْ أَنْعَمَ/ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِيضَاحِ السبل في

[سورة الذاريات (51) : آية 57]

نَوْعَيِ الْعِبَادَةِ، وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَاهُ لِيَعْرِفُونِي، رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ عَنْ رَبِّهِ «كُنْتُ كَنْزًا مَخْفِيًّا فَأَرَدْتُ أن أعرف» . ثم قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 57] مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) وَفِيهِ جَوَابُ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنَّ الْخَلْقَ لِلْغَرَضِ يُنْبِئُ عَنِ الْحَاجَةِ، فَقَالَ مَا خَلَقْتُهُمْ لِيُطْعِمُونِ وَالنَّفْعُ فِيهِ لَهُمْ لَا لِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْعَبْدِ فِي حَقِّ السَّيِّدِ أَنْ يَكْتَسِبَ لَهُ، إِمَّا بِتَحْصِيلِ الْمَالِ لَهُ أَوْ بِحِفْظِ الْمَالِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِنْ كَانَ لِلْكَسْبِ فَغَرَضُ التَّحْصِيلِ فِيهِ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ لِلشُّغُلِ فَلَوْلَا الْعَبْدُ لَاحْتَاجَ السَّيِّدُ إِلَى اسْتِئْجَارِ مَنْ يَفْعَلُ الشُّغُلَ لَهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى إِخْرَاجِ مَالٍ، وَالْعَبْدُ يَحْفَظُ مَالَهُ عَلَيْهِ وَيُغْنِيهِ عَنِ الْإِخْرَاجِ فَهُوَ نَوْعُ كَسْبٍ فَقَالَ تَعَالَى: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أَيْ لَسْتُ كَالسَّادَةِ فِي طَلَبِ الْعِبَادَةِ بَلْ هُمُ الرَّابِحُونَ فِي عِبَادَتِهِمْ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ هَذَا تَقْرِيرٌ لِكَوْنِهِمْ مَخْلُوقِينَ لِلْعِبَادَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي الْعُرْفِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَنْفَعَةٍ، لَكِنَّ الْعَبِيدَ عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ مِنْهُمْ يَكُونُ لِلْعَظَمَةِ وَالْجَمَالِ كَمَمَالِيكِ الْمُلُوكِ يُطْعِمُهُمُ الْمَلِكُ وَيَسْقِيهِمْ وَيُعْطِيهِمُ الْأَطْرَافَ مِنَ الْبِلَادِ وَيُؤْتِيهِمُ الطِّرَافَ بَعْدَ التِّلَادِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُمُ التَّعْظِيمُ وَالْمُثُولُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَوَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ لَدَيْهِ، وَقِسْمٌ مِنْهُمْ لِلِانْتِفَاعِ بِهِمْ فِي تَحْصِيلِ الْأَرْزَاقِ أَوْ لِإِصْلَاحِهَا فَقَالَ تَعَالَى إِنِّي خَلَقْتُهُمْ فَلَا بُدَّ فِيهِمْ مِنْ مَنْفَعَةٍ فَلْيَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ هَلْ هُمْ مِنْ قَبِيلِ أَنْ يُطْلُبَ مِنْهُمْ تَحْصِيلُ رِزْقٍ وَلَيْسُوا كَذَلِكَ، فَمَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ، أَوْ هَلْ هُمْ مِمَّنْ يُطْلَبُ مِنْهُمْ إِصْلَاحُ قُوتٍ كَالطَّبَّاخِ وَالْخِوَانِيِّ الَّذِي يُقَرُّبُ الطَّعَامَ وَلَيْسُوا كَذَلِكَ فَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، فَإِذَنْ هُمْ عبيد من القسم الأول فينبغي أَنْ لَا يَتْرُكُوا التَّعْظِيمَ، وَفِيهِ لَطَائِفُ نَذْكُرُهَا فِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَكْرَارِ الْإِرَادَتَيْنِ، وَمَنْ لَا يُرِيدُ مِنْ أَحَدٍ رِزْقًا لَا يُرِيدُ أَنْ يُطْعِمَهُ؟ نَقُولُ هُوَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ أَنَّ السَّيِّدَ قَدْ يَطْلُبُ مِنَ الْعَبْدِ الْكَسْبَ لَهُ، وَهُوَ طَلَبُ الرِّزْقِ مِنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ لِلسَّيِّدِ مَالٌ وَافِرٌ يَسْتَغْنِي عَنِ الْكَسْبِ لَكِنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ قَضَاءَ حَوَائِجَهُ بِمَالِهِ مِنَ الْمَالِ وَإِحْضَارَ الطَّعَامِ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ مَالِهِ، فَالسَّيِّدُ قَالَ لَا أُرِيدُ ذَلِكَ وَلَا هَذَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِمَ قَدَّمَ طَلَبَ الرِّزْقِ عَلَى طَلَبِ الْإِطْعَامِ؟ نَقُولُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِارْتِقَاءِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ لَا أَطْلُبُ مِنْكَ الْإِعَانَةَ وَلَا مِمَّنْ هُوَ أَقْوَى ولا يعكس، ويقل فُلَانٌ يُكْرِمُهُ الْأُمَرَاءُ بَلِ السَّلَاطِينُ وَلَا يُعْكَسُ، فقال هاهنا لَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ رِزْقًا وَلَا مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ وَهُوَ تَقْدِيمُ طَعَامٍ بَيْنَ يَدَيِ السَّيِّدِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ كَثِيرُ الطَّلَبِ مِنَ الْعِبَادِ وَإِنْ كَانَ الْكَسْبُ لَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَوْ قَالَ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ أَنْ يَرْزُقُونِ وَمَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مَنِ الطَّعَامِ هَلْ تَحْصُلُ هَذِهِ الْفَائِدَةُ؟ نَقُولُ عَلَى مَا فَصَّلَ لَا وَذَلِكَ لِأَنَّ بِالتَّكَسُّبِ يُطْلَبُ الْغِنَى لَا الْفِعْلُ فَإِنِ اشْتَغَلَ بِشُغُلٍ/ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ غِنًى لَا يَكُونُ كَمَنْ حَصَلَ لَهُ غِنًى، وَإِنْ لَمْ يَشْتَغِلْ، كَالْعَبْدِ الْمُتَكَسِّبِ إِذَا تَرَكَ الشُّغُلَ لِحَاجَتِهِ وَوَجَدَ مَطْلَبًا يَرْضَى مِنْهُ السَّيِّدُ إِذَا كَانَ شُغُلُهُ التَّكَسُّبَ، وَأَمَّا مَنْ يُرَادُ مِنْهُ الْفِعْلُ لِذَاتِ الْفِعْلِ، كَالْجَائِعِ إِذَا بَعَثَ عَبْدَهُ لِإِحْضَارِ الطَّعَامِ فَاشْتَغَلَ بِأَخْذِ الْمَالِ مِنْ مَطْلَبٍ فَرُبَّمَا لَا يَرْضَى بِهِ السَّيِّدُ فَالْمَقْصُودُ مِنَ الرِّزْقِ الْغِنَى، فَلَمْ يَقُلْ بِلَفْظِ الْفِعْلِ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِطْعَامِ الْفِعْلُ نَفْسُهُ فَذُكِرَ بِلَفْظِ الْفِعْلِ، وَلَمْ يَقُلْ وَمَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ طَعَامٍ هَذَا مَعَ مَا فِي اللَّفْظَيْنِ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْجَزَالَةِ لِلتَّنْوِيعِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا كَانَ الْمَعْنَى بِهِ مَا ذَكَرْتَ، فَمَا فَائِدَةُ الْإِطْعَامِ وَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ عَدَمُ

[سورة الذاريات (51) : آية 58]

طَلَبِ فِعْلٍ مِنْهُمْ غَيْرَ التَّعْظِيمِ؟ نَقُولُ لَمَّا عَمَّمَ فِي الْمَطْلَبِ الْأَوَّلِ اكْتَفَى بِقَوْلِهِ مِنْ رِزْقٍ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَأَشَارَ إِلَى التَّعْظِيمِ فَذَكَرَ الْإِطْعَامَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَفْعَالِ أن تستعين السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ أَوْ جَارِيَتِهِ فِي تَهْيِئَةِ أَمْرِ الطَّعَامِ، وَنَفْيُ الْأَدْنَى يَسْتَتْبِعُهُ نَفْيُ الْأَعْلَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَصَارَ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ عَيْنٍ وَلَا عَمَلٍ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: عَلَى مَا ذَكَرْتُ لَا تَنْحَصِرُ الْمَطَالِبُ فِيمَا ذكره، لأن السيد قد يشتري لعبد لَا لِطَلَبِ عَمَلٍ مِنْهُ وَلَا لِطَلَبِ رِزْقٍ ولا للتعظيم، بل تشتريه لِلتِّجَارَةِ وَالرِّبْحِ فِيهِ، نَقُولُ عُمُومُ قَوْلِهِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ فَإِنَّ مَنِ اشْتَرَى عَبَدًا لِيَتَّجِرَ فِيهِ فَقَدْ طَلَبَ مِنْهُ رِزْقًا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَا أُرِيدُ فِي الْعَرَبِيَّةِ يُفِيدُ النَّفْيَ فِي الْحَالِ، وَالتَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ يُوهِمُ نَفْيَ مَا عَدَا الْمَذْكُورِ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُرِيدُ مِنْهُمْ رِزْقًا لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الِاسْتِقْبَالِ، فَلِمَ لَمْ يَقُلْ لا أريد منهم من رزق ولا أُرِيدُ؟ نَقُولُ مَا لِلنَّفْيِ فِي الْحَالِ، وَلَا لِلنَّفْيِ فِي الِاسْتِقْبَالِ، فَالْقَائِلُ إِذَا قَالَ فُلَانٌ لَا يَفْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ وَهُوَ فِي الْفِعْلِ لَا يَصْدُقُ، لَكِنَّهُ إِذَا تَرَكَ مَعَ فَرَاغِهِ مِنْ قَوْلِهِ يَصْدُقُ الْقَائِلُ، وَلَوْ قَالَ مَا يَفْعَلُ لَمَا صَدَقَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنَ الصُّورَةِ، مِثَالُهُ إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ قَائِلٌ إِنَّهُ مَا يُصَلِّي فَانْظُرْ إِلَيْهِ فَإِذَا كَانَ نَظَرَ إِلَيْهِ النَّاظِرُ وَقَدْ قَطَعَ صَلَاةَ نَفْسِهِ صَحَّ أَنْ يَقُولَ إِنَّكَ لَا تُصَلِّي، وَلَوْ قَالَ الْقَائِلُ إِنَّهُ مَا يُصَلِّي فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمَا صَدَقَ، فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّفْظَيْنِ لِلنَّافِيَةِ فِيهِ خُصُوصٌ لَكِنَّ النَّفْيَ فِي الْحَالِ أَوْلَى لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْحَالِ الدُّنْيَا وَالِاسْتِقْبَالُ هُوَ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ فَالدُّنْيَا وَأُمُورُهَا كُلُّهَا حَالِيَّةٌ فَقَوْلُهُ مَا أُرِيدُ أَيْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ الَّتِي هِيَ سَاعَةُ الدُّنْيَا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَبْدَ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ رِزْقٌ أَوْ عَمَلٌ فَكَانَ قَوْلُهُ مَا أُرِيدُ مُفِيدًا لِلنَّفْيِ الْعَامِّ، وَلَوْ قَالَ لَا أُرِيدُ لما أفاد ذلك. ثم قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 58] إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) تَعْلِيلًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، فَقَوْلُهُ هُوَ الرَّزَّاقُ تَعْلِيلٌ لِعَدَمِ طَلَبِ الرِّزْقِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذُو الْقُوَّةِ تَعْلِيلٌ لِعَدَمِ طَلَبِ الْعَمَلِ، لِأَنَّ مَنْ يَطْلُبُ رِزْقًا يَكُونُ فَقِيرًا مُحْتَاجًا وَمَنْ يَطْلُبُ عَمَلًا مِنْ غَيْرِهِ يَكُونُ عَاجِزًا لَا قُوَّةَ لَهُ، فَصَارَ كَأَنَّهُ يَقُولُ مَا أُرِيدَ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ فَإِنِّي أَنَا الرَّزَّاقُ وَلَا عَمَلَ فَإِنِّي قَوِيٌّ وَفِيهِ مَبَاحِثُ الْأَوَّلُ: قَالَ: مَا أُرِيدُ وَلَمْ يَقُلْ إِنِّي رَزَّاقٌ بَلْ قَالَ عَلَى الْحِكَايَةِ عَنِ الْغَائِبِ إِنَّ اللَّهَ فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ (إِنِّي أَنَا الرَّزَّاقُ) عَلَى مَا ذَكَرْتَ وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ فَفِيهَا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ وَالرُّجُوعِ مِنَ التَّكَلُّمِ عَنِ النَّفْسِ إِلَى التَّكَلُّمِ عن الغائب، وفيه هاهنا فَائِدَةٌ وَهِيَ أَنَّ اسْمَ اللَّهِ يُفِيدُ كَوْنَهُ رَزَّاقًا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِلَهَ بِمَعْنَى الْمَعْبُودِ كَمَا ذَكَرْنَا مِرَارًا وَتَمَسَّكْنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف: 127] أي معبوديك وإذ كَانَ اللَّهُ هُوَ الْمَعْبُودَ وَرَزَقَ الْعَبْدَ اسْتَعْمَلَهُ مِنْ غَيْرِ الْكَسْبِ إِذْ رَزْقُهُ عَلَى السَّيِّدِ وهاهنا لما قال: ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَخْلَصَهُمْ لِنَفْسِهِ وَعِبَادَتِهِ وَكَانَ عَلَيْهِ رِزْقُهُمْ فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ بِلَفْظِ اللَّهِ الدَّالِّ عَلَى كَوْنِهِ رَزَّاقًا، وَلَوْ قَالَ إِنِّي أَنَا الرَّزَّاقُ لَحَصَلَتِ الْمُنَاسَبَةُ الَّتِي ذَكَرْتَ وَلَكِنْ لَا يَحْصُلُ مَا ذَكَرْنَا الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قُلْ مُضْمَرًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ تَقْدِيرُهُ قُلْ يَا مُحَمَّدُ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ فَيَكُونُ بِمَعْنَى قَوْلِهِ قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الْفُرْقَانِ: 57] وَيَكُونُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يقل القوي، بل

قَالَ: ذُو الْقُوَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَقْرِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ إِرَادَةِ الرِّزْقِ وَعَدَمِ الِاسْتِعَانَةِ بِالْغَيْرِ، وَلَكِنْ فِي عَدَمِ طَلَبِ الرِّزْقِ لَا يَكْفِي كَوْنُ الْمُسْتَغْنِي بِحَيْثُ يَرْزُقُ وَاحِدًا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَرْزُقُ وَلَدَهُ وَغَيْرَهُ وَيَسْتَرْزِقُ وَالْمَلِكُ يَرْزُقُ الْجُنْدَ وَيَسْتَرْزِقُ، فَإِذَا كَثُرَ مِنْهُ الرِّزْقُ قَلَّ مِنْهُ الطَّلَبُ، لِأَنَّ الْمُسْتَرْزِقَ مِمَّنْ يُكْثِرُ الرِّزْقَ لَا يُسْتَرْزَقُ مِنْ رِزْقِهِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ لَهُ إِلَّا بِالْمُبَالَغَةِ فِي وَصْفِ الرِّزْقِ، فَقَالَ: الرَّزَّاقُ وَأَمَّا مَا يُغْنِي عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِالْغَيْرِ فَدُونَ ذَلِكَ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوِيَّ إِذَا كَانَ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ يُعِينُ الْغَيْرَ فَإِذَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ لَا يُعِينَ غَيْرَهُ وَلَا يَسْتَعِينُ بِهِ، وَإِذَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ يَسْتَعِينُ اسْتِعَانَةً مَا وَتَتَفَاوَتُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَمَّا قَالَ: وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ كَفَاهُ بَيَانُ نَفْسِ الْقُوَّةِ فَقَالَ: ذُو الْقُوَّةِ إِفَادَةُ مَعْنَى الْقُوَّةِ دُونَ الْقُوَى لِأَنَّ ذَا لَا يُقَالُ فِي الْوَصْفِ اللَّازِمِ الْبَيِّنِ فَيُقَالُ فِي الْآدَمِيِّ ذُو مَالٍ وَمُتَمَوِّلٌ وَذُو جَمَالٍ وَجَمِيلٌ وَذُو خُلُقٍ حَسَنٌ وَخَلِيقٌ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَلْزَمُهُ لُزُومًا بَيِّنًا، وَلَا يُقَالُ فِي الثَّلَاثَةِ ذَاتُ فَرْدِيَّةٍ وَلَا فِي الْأَرْبَعَةِ ذَاتُ زَوْجِيَّةٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَرِدْ فِي الْأَوْصَافِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ مَأْخُوذَةً مِنَ الْأَفْعَالِ وَلِذَا لَمْ يُسْمَعُ ذُو الْوُجُودِ وَذُو الْحَيَاةِ وَلَا ذُو الْعِلْمِ وَيُقَالُ فِي الْإِنْسَانِ ذُو عِلْمٍ وَذُو حَيَاةٍ لِأَنَّهَا عَرَضٌ فِيهِ عَارِضٌ لَا لَازِمٌ بَيِّنٌ، وَفِي صِفَاتِ الْفِعْلِ يُقَالُ اللَّهُ تَعَالَى ذُو الْفَضْلِ كَثِيرًا وَذُو الْخَلْقِ قَلِيلًا لِأَنَّ ذَا كَذَا بِمَعْنَى صَاحِبِهِ وَرَبِّهِ وَالصُّحْبَةُ لَا يُفْهَمُ مِنْهَا اللُّزُومُ فَضْلًا عَنِ اللُّزُومِ الْبَيِّنِ، وَالَّذِي يُؤَيِّدُ هَذَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يُوسُفَ: 76] فَجَعَلَ غَيْرَهُ ذَا عِلْمٍ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْفِعْلِ فَبَيْنَ ذِي الْعِلْمِ وَالْعَلِيمِ فَرْقٌ وَكَذَلِكَ بَيْنَ ذِي الْقُوَّةِ وَالْقَوِيِّ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ [غَافِرٍ: 22] وَقَالَ تَعَالَى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ [الشُّورَى: 19] وَقَالَ تَعَالَى: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الْمُجَادَلَةِ: 21] لِأَنَّ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كَانَ الْمُرَادُ بَيَانَ الْقِيَامِ بِالْأَفْعَالِ الْعَظِيمَةِ والمراد هاهنا عَدَمُ الِاحْتِيَاجِ وَمَنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْغَيْرِ يَكْفِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ قَدْرٌ مَا، وَمَنْ يَقُومُ مُسْتَبِدًّا/ بِالْفِعْلِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قُوَّةٍ عَظِيمَةٍ، لِأَنَّ عَدَمَ الْحَاجَةِ قَدْ يَكُونُ بِتَرْكِ الْفِعْلِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، وَلَوْ بَيَّنَ هَذَا الْبَحْثُ فِي مَعْرِضِ الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالِ سَائِلٍ عَنِ الفرق بين قوله ذُو الْقُوَّةِ هاهنا وَبَيْنَ قَوْلِهِ قَوِيٌّ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ لَكَانَ أحسن، فإن قيل فقد قال تعالى: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الْحَدِيدِ: 25] وَفِيهِ مَا ذَكَرْتُ مِنَ الْمَعْنَى وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ قَوِيٌّ لِبَيَانِ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى النُّصْرَةِ وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ لِيُثِيبَ النَّاصِرَ، لَكِنَّ عَدَمَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى النُّصْرَةِ يَكْفِي فِيهِ قُوَّةٌ مَا، فَلِمَ لَمْ يَقُلْ إِنَّ اللَّهَ ذُو الْقُوَّةِ؟ نَقُولُ فِيهِ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُغْنِي رُسُلَهُ عَنِ الْحَاجَةِ وَلَا يَطْلُبُ نُصْرَتَهُمْ مِنْ خَلْقِهِ لِيُعْجِزَهُمْ وَإِنَّمَا يَطْلُبُهَا لِثَوَابِ النَّاصِرِينَ لَا لِاحْتِيَاجِ الْمُسْتَنْصِرِينَ وَإِلَّا فَاللَّهُ تَعَالَى وَعَدَهُمْ بِالنَّصْرِ حَيْثُ قَالَ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [الصَّافَّاتِ: 171، 172] وَلَمَّا ذَكَرَ الرُّسُلَ قَالَ قَوِيٌّ يَكُونُ ذَلِكَ تَقْوِيَةَ تَقَارُبِ رُسُلِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَسْلِيَةً لِصُدُورِهِمْ وَصُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ: الْمَتِينُ وَذَلِكَ لِأَنَّ ذُو الْقُوَّةِ كَمَا بَيَّنَّا لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّ لَهُ قُوَّةً مَا فَزَادَ فِي الْوَصْفِ بَيَانًا وَهُوَ الَّذِي لَهُ ثَبَاتٌ لَا يَتَزَلْزَلُ وَهُوَ مَعَ الْمَتِينِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ لَفْظًا وَمَعْنًى فَإِنَّ مَتْنَ الشَّيْءِ هُوَ أَصْلُهُ الَّذِي عَلَيْهِ ثَبَاتُهُ، وَالْمَتْنُ هُوَ الظَّهْرُ الَّذِي عَلَيْهِ أَسَاسُ الْبَدَنِ، وَالْمَتَانَةُ مَعَ الْقُوَّةِ كَالْعِزَّةِ مَعَ الْقُوَّةِ حَيْثُ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعِ ذِكْرِ الْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ فَقَالَ: قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الْحَدِيدِ: 25] وقال الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ [هود: 66] . وَفِيهِ لَطِيفَةٌ تُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْبَحْثِ فِي الْقَوِيِّ وَذِي الْقُوَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَتِينَ هُوَ الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَتَزَلْزَلُ

[سورة الذاريات (51) : الآيات 59 إلى 60]

وَالْعَزِيزُ هُوَ الْغَالِبُ، فَفِي الْمَتِينِ أَنَّهُ لَا يُغْلَبُ وَلَا يُقْهَرُ وَلَا يُهْزَمُ، وَفِي الْعَزِيزِ أَنَّهُ يَغْلِبُ وَيَقْهَرُ وَيُزِلُّ الْأَقْدَامَ، وَالْعِزَّةُ أَكْمَلُ مِنَ الْمَتَانَةِ، كَمَا أَنَّ الْقَوِيَّ أَكْمَلُ مِنْ ذِي الْقُوَّةِ، فَقَرَنَ الْأَكْمَلَ بِالْأَكْمَلِ وَمَا دُونَهُ بِمَا دُونَهُ، وَلَوْ نَظَرْتَ حَقَّ النَّظَرِ وَتَأَمَّلْتَ حَقَّ التَّأَمُّلِ لَرَأَيْتَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَطَائِفَ تُنَبِّهُكَ عَلَى عِنَادِ الْمُنْكِرِينَ وَقُبْحِ إِنْكَارِ المعاندين. ثم قال تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 59 الى 60] فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِمَا قَبْلَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ مَنْ يَضَعْ نَفْسَهُ في موضع عبادة غير الله يكون وَضَعَ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَيَكُونُ ظَالِمًا، فَقَالَ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَ مَخْلُوقُونَ لِلْعِبَادَةِ فَإِنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعِبَادَةِ الْغَيْرِ لَهُمْ هَلَاكٌ مِثْلُ هَلَاكِ مَنْ تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا خَرَجَ عَنِ الِانْتِفَاعِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ، لَا يُحْفَظُ وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يُخَلَّى الْمَكَانُ عَنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّابَّةَ الَّتِي لَا يَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهَا بِالْمَوْتِ أَوْ بِمَرَضٍ يُخَلَّى عَنْهَا الْإِصْطَبْلُ، وَالطَّعَامُ الَّذِي يَتَعَفَّنُ يُبَدَّدُ وَيُفَرَّغُ مِنْهُ الْإِنَاءُ، فَكَذَلِكَ الْكَافِرُ/ إِذَا ظَلَمَ، وَوَضَعَ نَفْسَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، خَرَجَ عَنِ الِانْتِفَاعِ فَحَسُنَ إِخْلَاءُ الْمَكَانِ عَنْهُ وَحَقَّ نُزُولُ الْهَلَاكِ بِهِ، وَفِي التَّفْسِيرِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْفَاءُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا لَكَ فِي وَجْهِ التَّعَلُّقَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا مُنَاسَبَةُ الذَّنُوبِ؟ نَقُولُ الْعَذَابُ مَصْبُوبٌ عَلَيْهِمْ، كَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى نصب من فوق رؤوسهم ذَنُوبًا كَذَنُوبٍ صُبَّ فَوْقَ رُؤُوسِ أُولَئِكَ، وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ يَسْتَقُونَ مِنَ الْآبَارِ عَلَى النَّوْبَةِ ذَنُوبًا فَذَنُوبًا وَذَلِكَ وَقْتَ عَيْشِهِمُ الطَّيِّبَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنَ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا ذَنُوباً أَيْ مِلَاءً، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ، كَمَا كَانَ عَلَيْهِ حَالُ أَصْحَابِهِمُ اسْتَقَوْا ذَنُوبًا وَتَرَكُوهَا، وَعَلَى هَذَا فَالذَّنُوبُ لَيْسَ بِعَذَابٍ وَلَا هَلَاكٍ، وَإِنَّمَا هُوَ رَغَدُ الْعَيْشِ وَهُوَ أَلْيَقُ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا يَسْتَعْجِلُونِ فَإِنَّ الرِّزْقَ مَا لَمْ يَفْرَغْ لَا يَأْتِي الْأَجَلُ. ثُمَّ أَعَادَ مَا ذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَقَالَ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

سورة الطور

سُورَةُ الطُّورِ أَرْبَعُونَ وَتِسْعُ آيَاتٍ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) هَذِهِ السُّورَةُ مُنَاسِبَةٌ لِلسُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ حَيْثُ الِافْتِتَاحُ بِالْقَسَمِ وَبَيَانِ الْحَشْرِ فِيهِمَا، وَأَوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ مُنَاسِبٌ لِآخَرِ مَا قَبْلَهَا، لِأَنَّ فِي آخِرِهَا قَوْلَهُ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الذَّارِيَاتِ: 60] وَهَذِهِ السُّورَةُ فِي أَوَّلِهَا فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [الطُّورِ: 11] وَفِي آخِرِ تِلْكَ السُّورَةِ قَالَ: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً [الذَّارِيَاتِ: 59] إِشَارَةً إِلَى الْعَذَابِ وَقَالَ هُنَا إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ [الطُّورِ: 7] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الطُّورُ، وَمَا الْكِتَابُ الْمَسْطُورُ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الطُّورُ هُوَ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ كَلَّمَ اللَّهُ تعالى موسى عليه السلام الثَّانِي: هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَطُورِ سِينِينَ [التِّينِ: 2] الثَّالِثُ: هُوَ اسْمُ الْجِنْسِ وَالْمُرَادُ الْقَسَمُ بِالْجَبَلِ غَيْرَ أَنَّ الطُّورَ الْجَبَلُ الْعَظِيمُ كَالطَّوْدِ، وَأَمَّا الْكِتَابُ فَفِيهِ أَيْضًا وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: كِتَابُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَانِيهَا: الْكِتَابُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ ثَالِثُهَا: صَحَائِفُ أَعْمَالِ الْخَلْقِ رَابِعُهَا: الْقُرْآنُ وَكَيْفَمَا كَانَ فَهِيَ فِي رُقُوقٍ، وَسَنُبَيِّنُ فَائِدَةَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَأَمَّا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: هُوَ بَيْتٌ فِي السَّمَاءِ الْعُلْيَا عِنْدَ الْعَرْشِ وَوَصَفَهُ بِالْعِمَارَةِ لِكَثْرَةِ الطَّائِفِينَ بِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الثَّانِي: هُوَ بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامُ وَهُوَ مَعْمُورٌ بِالْحَاجِّ الطَّائِفِينَ بِهِ الْعَاكِفِينَ الثَّالِثُ: الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ اللَّامُ فِيهِ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ كَأَنَّهُ يُقْسِمُ بِالْبُيُوتِ الْمَعْمُورَةِ وَالْعَمَائِرِ الْمَشْهُورَةِ، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ السَّمَاءُ، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ، قِيلَ الْمُوقَدُ يُقَالُ سَجَرْتُ التَّنُّورَ، وَقِيلَ هُوَ الْبَحْرُ الْمَمْلُوءُ مَاءً الْمُتَمَوِّجُ، وَقِيلَ هُوَ بَحْرٌ مَعْرُوفٌ فِي السَّمَاءِ يُسَمَّى بَحْرُ الْحَيَوَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؟ نَقُولُ هِيَ تَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَمَاكِنَ الثلاثة

وَهِيَ: الطُّورُ، وَالْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَالْبَحْرُ الْمَسْجُورُ، أَمَاكِنُ كَانَتْ لِثَلَاثَةِ أَنْبِيَاءَ يَنْفَرِدُونَ فِيهَا لِلْخَلْوَةِ بِرَبِّهِمْ وَالْخَلَاصِ مِنَ الْخَلْقِ وَالْخِطَابِ مَعَ اللَّهِ، أَمَّا الطُّورُ فَانْتَقَلَ إِلَيْهِ مُوسَى/ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْبَيْتُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْبَحْرُ الْمَسْجُورُ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْكُلُّ خَاطَبُوا اللَّهَ هُنَاكَ فَقَالَ مُوسَى: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ [الْأَعْرَافِ: 155] وَقَالَ: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الْأَعْرَافِ: 143] وَأَمَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» وَأَمَّا يُونُسُ فَقَالَ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 87] فَصَارَتِ الْأَمَاكِنُ شَرِيفَةً بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، فَحَلَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا، وَأَمَّا ذِكْرُ الْكِتَابِ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَمَاكِنِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى كَلَامٌ وَالْكَلَامُ فِي الْكِتَابِ وَاقْتِرَانُهُ بِالطُّورِ أَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ لَهُ مَكْتُوبٌ يُنَزَّلُ عَلَيْهِ وَهُوَ بِالطُّورِ، وَأَمَّا ذِكْرُ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَمَعَهُ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ لِيُعْلَمَ عَظَمَةُ شَأْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَانِيهَا: وَهُوَ أَنَّ الْقَسَمَ لَمَّا كَانَ عَلَى وُقُوعِ الْعَذَابِ وَعَلَى أَنَّهُ لَا دَافِعَ لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ لَا مَهْرَبَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ لِأَنَّ مَنْ يُرِيدُ دَفْعَ الْعَذَابِ عَنْ نَفْسِهِ، فَفِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ يَتَحَصَّنُ بِمِثْلِ الْجِبَالِ الشَّاهِقَةِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا طَرَفٌ وَهِيَ مُتَضَايِقَةٌ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ التَّحَصُّنُ بِهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ ابْنُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هُودٍ: 43] حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَنْكِيرِ الْكِتَابِ وَتَعْرِيفِ بَاقِي الْأَشْيَاءِ؟ نَقُولُ مَا يَحْتَمِلُ الْخَفَاءَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُلْتَبِسَةِ بِأَمْثَالِهَا مِنَ الْأَجْنَاسِ يُعَرَّفُ بِاللَّامِ، فَيُقَالُ رَأَيْتُ الْأَمِيرَ وَدَخَلْتُ عَلَى الْوَزِيرِ، فَإِذَا بَلَغَ الْأَمِيرُ الشُّهْرَةَ بِحَيْثُ يُؤْمَنُ الِالْتِبَاسُ مَعَ شُهْرَتِهِ، وَيُرِيدُ الْوَاصِفُ وَصْفَهُ بِالْعَظَمَةِ، يَقُولُ: الْيَوْمَ رَأَيْتُ أَمِيرًا مَا لَهُ نَظِيرٌ جَالِسًا وَعَلَيْهِ سِيمَا الْمُلُوكِ وَأَنْتَ تُرِيدُ ذَلِكَ الْأَمِيرَ الْمَعْلُومَ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّكَ بِالتَّنْكِيرِ تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ أَنْ يُعْلَمَ وَيُعْرَفَ بِكُنْهِ عَظَمَتِهِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةِ: 1- 3] فَاللَّامُ وَإِنْ كَانَتْ مُعَرِّفَةً لَكِنْ أَخْرَجَهَا عَنِ الْمَعْرِفَةِ كَوْنُ شِدَّةِ هَوْلِهَا غير معروف، فكذلك هاهنا الطُّورُ لَيْسَ فِي الشُّهْرَةِ بِحَيْثُ يُؤْمَنُ اللَّبْسُ عِنْدَ التَّنْكِيرِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَأَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَقَدْ تَمَيَّزَ عَنْ سَائِرِ الْكُتُبِ، بِحَيْثُ لَا يَسْبِقُ إِلَى أَفْهَامِ السَّامِعِينَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظُ الْكِتَابِ إِلَّا ذَلِكَ، فَلَمَّا أُمِنَ اللَّبْسُ وَحَصَلَتْ فَائِدَةُ التَّعْرِيفِ سَوَاءٌ ذُكِرَ بِاللَّامِ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ قَصْدًا لِلْفَائِدَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ فِي الذِّكْرِ بِالتَّنْكِيرِ، وَفِي تِلْكَ الْأَشْيَاءِ لِمَّا لَمْ تَحْصُلْ فَائِدَةُ التَّعْرِيفِ إِلَّا بِآلَةِ التَّعْرِيفِ اسْتَعْمَلَهَا، وَهَذَا يُؤَيِّدُ كَوْنَ الْمُرَادِ مِنْهُ الْقُرْآنُ وَكَذَلِكَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ مَشْهُورٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَعَظَمَةُ الْكِتَابِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ لا بخطه ورقه؟ نَقُولُ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْوُضُوحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكِتَابَ الْمَطْوِيَّ لَا يُعْلَمُ مَا فِيهِ فَقَالَ هُوَ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَلَيْسَ كَالْكُتُبِ الْمَطْوِيَّةِ وَعَلَى هَذَا الْمُرَادِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَمَعْنَاهُ هُوَ مَنْشُورٌ لَكُمْ لَا يَمْنَعُكُمْ أَحَدٌ مِنْ مُطَالَعَتِهِ، وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّ الْمُرَادَ كِتَابُ أَعْمَالِ كُلِّ أَحَدٍ فَالتَّنْكِيرُ لِعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِعَيْنِهِ وَفِي رَقٍّ مَنْشُورٍ لِبَيَانِ وَصْفِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً [الْإِسْرَاءِ: 13] وَذَلِكَ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَعْرُوفِ إِذَا/ وُصِفَ كَانَ إِلَى الْمَعْرِفَةِ أَقْرَبَ شَبَهًا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي بَعْضِ السُّورِ أَقْسَمَ بِجُمُوعٍ كما في قوله تعالى: وَالذَّارِياتِ وقوله

[سورة الطور (52) : الآيات 7 إلى 8]

وَالْمُرْسَلاتِ وقوله وَالنَّازِعاتِ وَفِي بَعْضِهَا بِإِفْرَادٍ كَمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ حَيْثُ قَالَ: وَالطُّورِ وَلَمْ يَقُلْ وَالْأَطْوَارِ وَالْبِحَارِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا قُلْنَا الْمُرَادُ مِنَ الطُّورِ الْجَبَلُ الْعَظِيمُ كَالطَّوْدِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ [النِّسَاءِ: 154] أَيِ الْجَبَلَ فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ فِي الْجُمُوعِ فِي أَكْثَرِهَا أَقْسَمَ بِالْمُتَحَرِّكَاتِ وَالرِّيحُ الْوَاحِدَةُ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ حَتَّى يَقَعَ الْقَسَمُ بِهَا، بَلْ هِيَ مُتَبَدِّلَةٌ بِأَفْرَادِهَا مُسْتَمِرَّةٌ بِأَنْوَاعِهَا وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالتَّبَدُّلِ وَالتَّغَيُّرِ فَقَالَ: وَالذَّارِياتِ إِشَارَةً إِلَى النَّوْعِ الْمُسْتَمِرِّ إِلَى الْفَرْدِ الْمُعَيَّنِ الْمُسْتَقِرِّ، وَأَمَّا الْجَبَلُ فَهُوَ ثَابِتٌ قَلِيلُ التَّغَيُّرِ وَالْوَاحِدُ مِنَ الْجِبَالِ دَائِمٌ زَمَانًا وَدَهْرًا، فَأَقْسَمَ فِي ذَلِكَ بالواحد وكذلك قوله وَالنَّجْمِ وَالرِّيحُ مَا عُلِمَ الْقَسَمُ بِهِ وَفِي الطُّورِ علم. ثم قال تعالى: [سورة الطور (52) : الآيات 7 الى 8] إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) إِشَارَةٌ إِلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَفِيهِ مَبَاحِثُ الْأَوَّلُ: فِي حَرْفِ (إِنَّ) وَفِيهِ مَقَامَاتٌ الْأَوَّلُ: هِيَ تَنْصِبُ الِاسْمَ وَتَرْفَعُ الْخَبَرَ وَالسَّبَبُ فِيهِ هُوَ أَنَّهَا شُبِّهَتْ بِالْفِعْلِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، أَمَّا اللَّفْظُ فَلِكَوْنِ الْفَتْحِ لَازِمًا فِيهَا وَاخْتِصَاصِهَا بِالدُّخُولِ عَلَى الْأَسْمَاءِ وَالْمَنْصُوبُ مِنْهَا عَلَى وَزْنِ إِنَّ أَنِينًا، وَأَمَّا الْمَعْنَى، فَنَقُولُ اعْلَمْ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْإِثْبَاتِيَّةَ قَبْلَ الْجُمْلَةِ الِانْتِفَائِيَّةِ، وَلِهَذَا اسْتَغْنَوْا عَنْ حَرْفٍ يَدُلُّ عَلَى الْإِثْبَاتِ، فَإِذَا قَالُوا زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ فُهِمَ مِنْهُ إِرَادَةُ إِثْبَاتِ الِانْطِلَاقِ لِزَيْدٍ، وَالِانْتِفَائِيَّةُ لَمَّا كَانَتْ بَعْدَ الْمُثْبَتَةِ زِيدَ فِيهَا حَرْفٌ يُغَيِّرُهَا عَنِ الْأَصْلِ وَهُوَ الْإِثْبَاتُ فَقِيلَ لَيْسَ زَيْدٌ مُنْطَلِقًا، فَصَارَ لَيْسَ زَيْدٌ مُنْطَلِقًا بَعْدَ قَوْلِ الْقَائِلِ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ إِنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ قَوْلِهِ لَيْسَ زَيْدٌ مُنْطَلِقًا، كَأَنَّ الْوَاضِعَ لَمَّا وَضَعَ أَوَّلًا زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ لِلْإِثْبَاتِ وَعِنْدَ النَّفْيِ يَحْتَاجُ إِلَى مَا يُغَيِّرُهُ أَتَى بِلَفْظٍ مُغَيِّرٍ وَهُوَ فِعْلٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّكَ قَدْ تُبْقِي مَكَانَهُ مَا النَّافِيَةَ وَلِهَذَا قِيلَ لَسْتُ وَلَيْسُوا، فَأُلْحِقَ بِهِ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ فَعَلَ لَمَا جَازَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَضَعَ فِي مُقَابَلَةِ لَيْسَ زَيْدٌ مُنْطَلِقًا جُمْلَةً إِثْبَاتِيَّةً فِيهَا لَفْظُ الْإِثْبَاتِ، كَمَا أَنَّ فِي النَّافِيَةِ لَفْظَ النَّفْيِ فَقَالَ إِنَّ وَلَمْ يَقْصِدْ أَنَّ إِنَّ فِعْلٌ لِأَنَّ لَيْسَ يُشَبَّهُ بِالْفِعْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ وَهُوَ التَّغْيِيرُ، فَإِنَّهَا غَيَّرَتِ الْجُمْلَةَ مِنْ أَصْلِهَا الَّذِي هُوَ الْإِثْبَاتُ وَأَمَّا إِنَّ فَلَمْ تُغَيِّرْهُ فَالْجُمْلَةُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ إِثْبَاتِيَّةٌ فَصَارَتْ مُشَبَّهَةً بِالْمُشَبَّهَةِ بِالْفِعْلِ وَهِيَ لَيْسَ، وَهَذَا مَا يَقُولُهُ النَّحْوِيُّونَ فِي إِنَّ وَأَنَّ وَكَأَنَّ وَلَيْتَ وَلَعَلَّ إِنَّهَا حُرُوفٌ مُشَبَّهَةٌ بِالْأَفْعَالِ إِذَا عَلِمْتَ هَذَا، فَنَقُولُ كَمَا أَنَّ لَيْسَ لَهَا اسْمٌ كَالْفَاعِلِ وَخَبَرٌ كَالْمَفْعُولِ، تَقُولُ لَيْسَ زَيْدٌ لَئِيمًا بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ كَمَا تَقُولُ بَاتَ زَيْدٌ كَرِيمًا، فَكَذَلِكَ إِنَّ لَهَا اسْمٌ وَخَبَرٌ، لَكِنَّ اسْمَهَا يُخَالِفُ اسْمَ لَيْسَ وَخَبَرَهَا خَبَرَهَا فَإِنَّ اسْمَ إِنَّ مَنْصُوبٌ وَخَبَرَهَا مَرْفُوعٌ، لِأَنَّ إِنَّ لَمَّا كَانَتْ زِيَادَةً عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِأَنَّهَا لَا تُفِيدُ إِلَّا الْإِثْبَاتَ الَّذِي كَانَ مُسْتَفَادًا مِنْ غَيْرِ حرف، وليس لَمَّا كَانَتْ زِيَادَةً عَلَى الْأَصْلِ لِأَنَّهَا تُغَيِّرُ الأصل/ ولو لاها لَمَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ جُعِلَ الْمَرْفُوعُ وَالْمَنْصُوبُ فِي لَيْسَ عَلَى الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ تَقْدِيمُ الْفَاعِلِ، وَفِي إِنَّ جُعِلَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَقُدِّمَ الْمُشَبَّهُ بِالْمَفْعُولِ عَلَى الْمُشَبَّهِ بِالْفَاعِلِ تَقْدِيمًا لَازِمًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ مُنْطَلِقٌ زَيْدًا وَهُوَ فِي لَيْسَ مُنْطَلِقًا زَيْدٌ جَائِزٌ كَمَا فِي الْفِعْلِ لِأَنَّهَا فِعْلٌ. الْمَقَامُ الثَّانِي: هِيَ لِمَ تُكْسَرُ تَارَةً وَتُفْتَحُ أُخْرَى؟ نَقُولُ الْأَصْلُ فِيهَا الْكَسْرَةُ وَالْعَارِضُ وَإِنْ كَانَ هَذَا فِي الظَّاهِرِ يُخَالِفُ قَوْلَ النُّحَاةِ لَكِنَّ فِي الْحَقِيقَةِ هِيَ كَذَلِكَ.

[سورة الطور (52) : الآيات 9 إلى 10]

الْمَقَامُ الثَّالِثُ: لِمَ تَدْخُلُ اللَّامُ عَلَى خَبَرِ إِنَّ الْمَكْسُورَةِ دُونَ الْمَفْتُوحَةِ؟ قُلْنَا قَدْ خَرَجَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ أَصْلٌ، لِأَنَّ الْمُثْبَتَاتِ هِيَ الْمُحْتَاجَةُ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهَا فَإِنَّ التَّغَيُّرَ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا الْعَدَمِيَّاتُ فَعَلَى أُصُولِهَا مُسْتَمِرَّةٌ، وَلِهَذَا يُقَالُ الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْبَقَاءُ ثُمَّ إِنَّ السَّامِعَ لَهُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ فَيَقُولُ لَيْسَ زَيْدٌ منطلق فَيَقُولُ هُوَ إِنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ فَيَقُولُ هُوَ رَدًّا عَلَيْهِ لَيْسَ زَيْدٌ بِمُنْطَلِقٍ فَيَقُولُ رَدًّا عليه إن زيدا لمنطلق وأن لَيْسَتْ فِي مُقَابَلَةِ لَيْسَ وَإِنَّمَا هِيَ مُتَفَرِّعَةٌ عَنِ الْمَكْسُورَةِ. الْمَبْحَثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: عَذابَ رَبِّكَ فِيهِ لَطِيفَةٌ عَزِيزَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ قَالَ إِنَّ عَذَابَ اللَّهِ لَوَاقِعٌ، وَاللَّهُ اسْمٌ مُنْبِئٌ عَنِ الْعَظَمَةِ وَالْهَيْبَةِ كَانَ يَخَافُ الْمُؤْمِنُ بَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ يَلْحَقَهُ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ تَعَالَى مُسْتَغْنِيًا عَنِ الْعَالَمِ بِأَسْرِهِ، فَضْلًا عَنْ وَاحِدٍ فِيهِ فَآمَنُهُ بِقَوْلِهِ رَبِّكَ فَإِنَّهُ حِينَ يَسْمَعُ لَفْظَ الرَّبِّ يَأْمَنُ. الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ لَواقِعٌ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الشِّدَّةِ، فَإِنَّ الْوَاقِعَ وَالْوُقُوعَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ فَالْوَاقِعُ أَدَلُّ عَلَى الشِّدَّةِ مِنَ الْكَائِنِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا لَهُ مِنْ دافِعٍ وَالْبَحْثُ فِيهِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فُصِّلَتْ: 46] وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ وَالطُّورِ.. وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ.. وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى عَدَمِ الدَّافِعِ فَإِنَّ مَنْ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ عَذَابًا قَدْ يَدْفَعُ بِالتَّحَصُّنِ بِقُلَلِ الْجِبَالِ وَلُجَجِ الْبِحَارِ وَلَا يَنْفَعُ ذَلِكَ بَلِ الْوُصُولُ إِلَى السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَدُخُولِ البيت المعمور لا يدفع ثم قال تعالى: [سورة الطور (52) : الآيات 9 الى 10] يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) وفيه مسائل: المسألة الأولى: ما الناصب ليوم؟ نَقُولُ الْمَشْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وَاقِعٌ أَيْ يَقَعُ الْعَذَابُ يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً وَالَّذِي أَظُنُّهُ أَنَّهُ هُوَ الْفِعْلُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ مَا لَهُ مِنْ دافِعٍ [الطور: 8] وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَذَابَ الْوَاقِعَ عَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، لَكِنَّ الْعَذَابَ الَّذِي بِهِ التَّخْوِيفُ هُوَ الَّذِي بَعْدَ الْحَشْرِ، وَمَوْرُ السَّمَاءِ قَبْلَ الْحَشْرِ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ يَوْمَ تَمُورُ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غَافِرٍ: 85] كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ مَا إِذَا صَارَتِ السَّمَاءُ تَمُورُ فِي أَعْيُنِكُمْ وَالْجِبَالُ تَسِيرُ، وَتَتَحَقَّقُونَ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَنْفَعُ شَيْئًا وَلَا يَدْفَعُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا مَوْرُ السَّمَاءِ؟ نَقُولُ خُرُوجُهَا عَنْ مَكَانِهَا تَتَرَدَّدُ وَتَمُوجُ، وَالَّذِي تَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ قَدْ عَلِمْتَ ضَعْفَهُ مِرَارًا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ وَافَقُوا عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ مِنْ مَكَانِهِ جَائِزٌ وَكَيْفَ لَا وَهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّ زَلْزَلَةَ الْأَرْضِ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْجِبَالِ بِبُخَارٍ يَجْتَمِعُ تَحْتَ الْأَرْضِ فَيُحَرِّكُهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ السَّمَاءُ قَابِلَةٌ لِلْحَرَكَةِ بِإِخْرَاجِهَا خَارِجَةً عَنِ السَّمْتِيَّاتِ وَالْجَبَلُ سَاكِنٌ يَقْتَضِي طَبْعُهُ السُّكُونَ، وَإِذَا قَبِلَ جِسْمٌ الْحَرَكَةَ مَعَ أَنَّهَا عَلَى خِلَافِ طَبْعِهِ، فَلَأَنْ يَقْبَلَهَا جِرْمٌ آخَرُ مَعَ أَنَّهَا عَلَى مُوَافَقَتِهِ أَوْلَى وَقَوْلُهُمُ الْقَابِلُ لِلْحَرَكَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ لَا يَقْبَلُ الْحَرَكَةَ الْمُسْتَقِيمَةَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، وَقَوْلُهُ مَوْراً يُفِيدُ فَائِدَةً جَلِيلَةً وَهِيَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَتَسِيرُ الْجِبالُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِكَيْفِيَّةِ مَوْرِ السَّمَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِبَالَ إِذَا سَارَتْ وَسَيَّرَتْ مَعَهَا سُكَّانَهَا يَظْهَرُ أَنَّ السَّمَاءَ كَالسَّيَّارَةِ إِلَى خِلَافِ تِلْكَ الْجِهَةِ كما يشاهده

رَاكِبُ السَّفِينَةِ فَإِنَّهُ يَرَى الْجَبَلَ السَّاكِنَ مُتَحَرِّكًا، فَكَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ السَّمَاءُ تَمُورُ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ بِسَبَبِ سَيْرِ الْجِبَالِ كَمَا يَرَى الْقَمَرَ سَائِرًا رَاكِبُ السَّفِينَةِ، وَالسَّمَاءُ إِذَا مَارَتْ كَذَلِكَ فَلَا يَبْقَى مَهْرَبٌ وَلَا مَفْزَعٌ لَا فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا السَّبَبُ فِي مَوْرِهَا وَسَيْرِهَا؟ قُلْنَا قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَالْإِيذَانُ وَالْإِعْلَامُ بِأَنْ لَا عَوْدَ إِلَى الدُّنْيَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَرْضَ وَالْجِبَالَ وَالسَّمَاءَ وَالنُّجُومَ كُلَّهَا لِعِمَارَةِ الدُّنْيَا وَالِانْتِفَاعِ لِبَنِي آدَمَ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُمْ عَوْدٌ لَمْ يَبْقَ فِيهَا نَفْعٌ فَأَعْدَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ كُنْتَ وَعَدْتَ بِبَحْثٍ فِي الزَّمَانِ يَسْتَفِيدُ الْعَاقِلُ مِنْهُ فَوَائِدَ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَهَذَا مَوْضِعُهُ، فَإِنَّ الْفِعْلَ لَا يُضَافُ إِلَيْهِ شَيْءٌ غَيْرُ الزَّمَانِ فَيُقَالُ يَوْمَ يَخْرُجُ فُلَانٌ وَحِينَ يَدْخُلُ فُلَانٌ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ [الْمَائِدَةِ: 119] وَقَالَ: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ وَقَالَ: يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [التَّوْبَةِ: 36] وَكَذَلِكَ يُضَافُ إِلَى الْجُمْلَةِ فَمَا السَّبَبُ فِي ذَلِكَ؟ فَنَقُولُ الزَّمَانُ ظَرْفُ الْأَفْعَالِ كَمَا أَنَّ الْمَكَانَ ظَرْفُ الْأَعْيَانِ، وَكَمَا أَنَّ جَوْهَرًا مِنَ الْجَوَاهِرِ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي مَكَانٍ، فَكَذَلِكَ عَرَضٌ مِنَ الْأَعْرَاضِ لَا يَتَجَدَّدُ إِلَّا فِي زَمَانٍ، وَفِيهِمَا تَحَيُّرُ خَلْقٍ عَظِيمٍ، فَقَالُوا إِنْ كَانَ الْمَكَانُ جَوْهَرًا فَلَهُ مَكَانٌ آخَرُ وَيَتَسَلْسَلُ الْأَمْرُ، وَإِنْ كَانَ عَرَضًا فَالْعَرَضُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ جَوْهَرٍ، وَالْجَوْهَرُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَكَانٍ فَيَدُورُ الْأَمْرُ أَوْ يَتَسَلْسَلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَوْهَرًا وَلَا عَرَضًا، فَالْجَوْهَرُ يَكُونُ حَاصِلًا فِيمَا لَا وُجُودَ لَهُ أَوْ فِيمَا لَا إِشَارَةَ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَالُوا فِي الزَّمَانِ إِنْ كَانَ الزَّمَانُ غَيْرَ مُتَجَدِّدٍ فَيَكُونُ كَالْأُمُورِ الْمُسْتَمِرَّةِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ الْمُضِيُّ وَالِاسْتِقْبَالُ، وَإِنْ كَانَ مُتَجَدِّدًا وَكُلُّ مُتَجَدِّدٍ فَهُوَ فِي زَمَانٍ، فَلِلزَّمَانِ زَمَانٌ آخَرُ فَيَتَسَلْسَلُ الْأَمْرُ، ثُمَّ إِنَّ الْفَلَاسِفَةَ الْتَزَمُوا التَّسَلْسُلَ فِي الْأَزْمِنَةِ، وَوَقَعُوا بِسَبَبِ هَذَا فِي الْقَوْلِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَلَمْ يَلْتَزِمُوا التَّسَلْسُلَ فِي الْأَمْكِنَةِ وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ فَارِقٍ وَقَوْمٌ الْتَزَمُوا التَّسَلْسُلَ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَقَالُوا بِالْقِدَمِ وَأَزْمَانٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَبِالِامْتِدَادِ وَأَبْعَادٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَهُمْ وَإِنْ خَالَفُونَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا وَالْفَلَاسِفَةُ وَافَقُونَا فِي إِحْدَاهُمَا دُونَ/ الْأُخْرَى لَكِنَّهُمْ سَلَكُوا جَادَّةَ الْوَهْمِ وَلَمْ يَتْرُكُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ سَبِيلَ الِالْتِزَامِ فِي الْأَزْمَانِ، فَإِنْ قِيلَ فَالْمُتَجَدِّدُ الْأَوَّلُ قَبْلَهُ مَاذَا؟ نَقُولُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، فَإِنْ قِيلَ فَعَدَمُهُ قَبْلَهُ أَوْ قَبْلَهُ عَدَمُهُ؟ نَقُولُ قَوْلُنَا لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِكَ قَبْلَهُ عَدَمُهُ، لِأَنَّا إِذَا قُلْنَا لَيْسَ قَبْلَ آدَمَ حَيَوَانٌ بِأَلْفِ رَأْسٍ، صَدَقْنَا وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ صِدْقَ قَوْلِنَا آدَمُ قَبْلَ حَيَوَانٍ بِأَلْفِ رَأْسٍ أَوْ حَيَوَانٌ بِأَلْفِ رَأْسٍ بَعْدَ آدَمَ، لِانْتِفَاءِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ أَوَّلًا وَآخِرًا وَعَدَمِ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ أَزَلًا وَأَبَدًا، فَكَذَلِكَ مَا قُلْنَا، فَإِنْ قِيلَ هَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَيْءٌ مَوْجُودٌ وَهُوَ قَبْلَ الْعَالَمِ، نَقُولُ قَوْلُنَا لَيْسَ قَبْلَ الْمُتَجَدِّدِ الْأَوَّلِ شَيْءٌ مَعْنَاهُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ بِالزَّمَانِ، وَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَلَيْسَ قَبْلَهُ بِالزَّمَانِ إِذْ كَانَ اللَّهُ وَلَا زَمَانَ، وَالزَّمَانُ وُجِدَ مَعَ الْمُتَجَدِّدِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى وُجُودِ اللَّهِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ غَيْرَهُ؟ نَقُولُ مَعْنَاهُ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرَهُ لَا يُقَالُ مَا ذَكَرْتُمْ إِثْبَاتُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ الشَّيْءُ إِلَّا بِمَا تَرُومُونَ إِثْبَاتَهُ، فَإِنَّ بِدَايَةَ الزَّمَانِ غَرَضُكُمْ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُتَجَدِّدِ الْأَوَّلِ وَالنِّزَاعُ فِي الْمُتَجَدِّدِ، فَإِنَّ عِنْدَ الْخَصْمِ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ مُتَجَدِّدٌ أَوَّلٌ بَلْ قَبْلَ كُلِّ مُتَجَدِّدٍ، لِأَنَّا نَقُولُ نَحْنُ مَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ دَلِيلًا، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ بَيَانًا لِعَدَمِ الْإِلْزَامِ، وَأَنَّهُ لَا يَرِدُ عَلَيْنَا شَيْءٌ إِذَا قُلْنَا بِالْحُدُوثِ وَنِهَايَةِ الأبعاد واللزوم وَالْإِلْزَامِ، فَيَسْلَمُ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ يَلْزَمُ وَيَقُولُ: أَلَسْتَ تَقُولُ إِنَّ لَنَا مُتَجَدِّدًا أَوَّلًا فَكَذَلِكَ قُلْ لَهُ عَدَمٌ، فَنَقُولُ لَا بَلْ لَيْسَ قَبْلَهُ أَمْرٌ بِالزَّمَانِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ نَفْيًا عَامًّا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِانْتِفَاءِ الزَّمَانِ، كَمَا ذَكَرْنَا في

[سورة الطور (52) : الآيات 11 إلى 12]

الْمِثَالِ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَصَارَ الزَّمَانُ تَارَةً مَوْجُودًا مَعَ عَرَضٍ وَأُخْرَى مَوْجُودًا بَعْدَ عَرَضٍ، لِأَنَّ يَوْمَنَا هَذَا وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَيَّامِ كُلِّهَا صَارَتْ مُتَمَيِّزَةً بِالْمُتَجَدِّدِ الْأَوَّلِ، وَالْمُتَجَدِّدُ الْأَوَّلُ لَهُ زَمَانٌ هُوَ مَعَهُ، إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الزَّمَانَ وَالْمَكَانَ أَمْرُهُمَا مُشْكِلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ الْأَفْهَامِ وَالْأَمْرُ الْخَفِيُّ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ وَالْإِضَافَةِ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ غُلَامٌ لَمْ يُعْرَفْ، فَإِذَا وَصَفْتَهُ أَوْ أَضَفْتَهُ وَقُلْتَ غُلَامٌ صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ، وَأَبْيَضُ أَوْ أَسْوَدُ قَرُبَ مِنَ الْفَهْمِ، وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ غُلَامُ زَيْدٍ قَرُبَ، وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ مَعْرِفَةِ الزَّمَانِ، وَلَا يُعْرَفُ الشَّيْءُ إِلَّا بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ فِي الْإِنْسَانِ حَيَوَانٌ مَوْجُودٌ بَعَّدْتَهُ عَنِ الْفَهْمِ، وَإِذَا قُلْتَ حَيَوَانٌ طَوِيلُ الْقَامَةِ قَرَّبْتَهُ مِنْهُ، فَفِي الزَّمَانِ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ وَالْمُسْتَقْبَلَ وَالْحَالَ يَخْتَصُّ بِأَزْمِنَةٍ، وَالْمَصْدَرُ لَهُ زَمَانٌ مُطْلَقٌ، فَلَوْ قُلْتَ زَمَانُ الْخُرُوجِ تَمَيَّزَ عَنْ زَمَانِ الدُّخُولِ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا قُلْتَ يَوْمَ خَرَجَ أَفَادَ مَا أَفَادَ قَوْلُكَ يَوْمَ الْخُرُوجِ مَعَ زِيَادَةٍ هُوَ أَنَّهُ تَمَيَّزَ عَنْ يَوْمَ يَخْرُجُ وَالْإِضَافَةُ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ تَمْيِيزًا أَوْلَى، كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ غُلَامُ رَجُلٍ مَيَّزْتَهُ عَنْ غُلَامِ امْرَأَةٍ، وَإِذَا قُلْتَ غُلَامُ زَيْدٍ زِدْتَ عَلَيْهِ فِي الْإِفَادَةِ وَكَانَ أَحْسَنَ، كَذَلِكَ قَوْلُنَا يَوْمَ خَرَجَ لِتَعْرِيفِ ذَلِكَ الْيَوْمِ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِكَ يَوْمَ الْخُرُوجِ، فَظَهَرَ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ الزَّمَانَ يُضَافُ إِلَى الْفِعْلِ وَغَيْرُهُ لَا يُضَافُ لِاخْتِصَاصِ الْفِعْلِ بِالزَّمَانِ دُونَ غَيْرِهِ إِلَّا الْمَكَانَ فِي قَوْلِهِ اجْلِسْ حَيْثُ يَجْلِسُ، فَإِنَّ حَيْثُ يُضَافُ إِلَى الْجُمَلِ لِمُشَابَهَةِ ظَرْفِ الْمَكَانِ لِظَرْفِ الزَّمَانِ، وَأَمَّا الْجُمَلُ فَهِيَ إِنَّمَا يَصِحُّ بِوَاسِطَةِ تَضَمُّنِهَا الْفِعْلَ، فَلَا يُقَالُ يَوْمَ زَيْدٌ أَخُوكَ ، وَيُقَالُ يَوْمَ زَيْدٌ فِيهِ خَارِجٌ. وَمِنْ جُمْلَةِ الْفَوَائِدِ اللَّفْظِيَّةِ أَنَّ لَاتَ يَخْتَصُّ اسْتِعْمَالُهَا بِالزَّمَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ [ص: 3] وَلَا يُقَالُ لَاتَ الرَّجُلُ سُوءٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الزَّمَانَ تَجَدُّدٌ بَعْدَ تَجَدُّدٍ وَلَا يَبْقَى بَعْدَ الْفَنَاءِ حَيَاةٌ أُخْرَى وَبَعْدَ كُلِّ حَرَكَةٍ حَرَكَةٌ أُخْرَى وَبَعْدَ كُلِّ زَمَانٍ زَمَانٌ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرَّحْمَنِ: 29] أَيْ قَبْلَ الْخَلْقِ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا، لَكِنَّهُ يعد ما خَلَقَ فَهُوَ أَبَدًا دَائِمًا يَخْلُقُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَبَعْدَ حَيَاتِنَا مَوْتٌ وَبَعْدَ مَوْتِنَا حَيَاةٌ وَبَعْدَ حَيَاتِنَا حِسَابٌ وَبَعْدَ الْحِسَابِ ثَوَابٌ دَائِمٌ أَوْ عِقَابٌ لَازِمٌ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ الْفِعْلَ فَلَمَّا بَعُدَ الزَّمَانُ عَنِ النَّفْيِ زِيدَ فِي الْحُرُوفِ النَّافِيَةِ زِيَادَةً، فَإِنْ قِيلَ فَاللَّهُ تَعَالَى أَبْعَدُ عَنِ الِانْتِفَاءِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تقرب التاء بكلمة لا هناك، نقول لاتَ حِينَ مَناصٍ تَأْوِيلٌ وَعَلَيْهِ لَا يَرِدُ مَا ذَكَرْتُمْ وَهُوَ أَنَّ لَا هِيَ الْمُشَبَّهَةُ بِلَيْسَ تَقْدِيرُهُ لَيْسَ الْحِينُ حِينَ مَنَاصٍ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَلِذَلِكَ اخْتَصَّ بِالْحِينِ دُونَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلِ لِأَنَّ الْحِينَ أَدْوَمُ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ قَدْ لَا يكون والحين يكون. ثم قال تعالى: [سورة الطور (52) : الآيات 11 الى 12] فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) أَيْ إِذَا عُلِمَ أَنَّ عَذَابَ اللَّهِ وَاقِعٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ فَوَيْلٌ إِذًا لِلْمُكَذِّبِينَ، فَالْفَاءُ لِاتِّصَالِ الْمَعْنَى، وَهُوَ الْإِيذَانُ بِأَمَانِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ [الطور: 7] لَمْ يُبَيِّنْ بِأَنَّ مَوْقِعَهُ بِمَنْ، فَلَمَّا قَالَ: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ عُلِمَ الْمَخْصُوصُ بِهِ وَهُوَ الْمُكَذِّبُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِذَا قُلْتَ بِأَنَّ قَوْلَهُ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بَيَانٌ لِمَنْ يَقَعُ بِهِ الْعَذَابُ وَيَنْزِلُ عَلَيْهِ فَمَنْ لَا يُكَذِّبُ لَا يُعَذَّبُ، فَأَهْلُ الْكَبَائِرِ لَا يُعَذَّبُونَ لِأَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَ، نَقُولُ ذَلِكَ الْعَذَابُ لَا يَقَعُ عَلَى أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا

[سورة الطور (52) : آية 13]

[الْمُلْكِ: 8، 9] فَنَقُولُ الْمُؤْمِنُ لَا يُلْقَى فِيهَا إِلْقَاءً بهوان، وإنما يدخل فيها ليظهر إِدْخَالٌ مَعَ نَوْعِ إِكْرَامٍ، فَكَذَلِكَ الْوَيْلُ لِلْمُكَذِّبِينَ، وَالْوَيْلُ يُنْبِئُ عَنِ الشِّدَّةِ وَتَرْكِيبُ حُرُوفِ الْوَاوِ وَالْيَاءِ وَاللَّامِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ نَوْعِ شِدَّةٍ، مِنْهُ لَوَى إِذَا دَفَعَ وَلَوَى يَلْوِي إِذَا كَانَ قَوِيًّا وَالْوَلِيُّ فِيهِ الْقُوَّةُ عَلَى الْمَوْلَى عليه، ويدل عليه قوله تعالى: يُدَعُّونَ [الطور: 13] فَإِنَّ الْمُكَذِّبَ يُدَعُّ وَالْمُصَدِّقُ لَا يُدَعُّ، وَقَدْ ذكرنا جواز التنكير في قوله فَوَيْلٌ مَعَ كَوْنِهِ مُبْتَدَأً لِأَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ الْمَنْصُوبِ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَمَضَى، وَجْهُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ سَلامٌ [الذاريات: 25] وَالْخَوْضُ نَفْسُهُ خُصَّ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ بِالِانْدِفَاعِ فِي الْأَبَاطِيلِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التَّوْبَةِ: 69] وَقَالَ تَعَالَى: وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ [الْمُدَّثِّرِ: 45] وَتَنْكِيرُ الْخَوْضِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِلتَّكْثِيرِ أَيْ فِي خَوْضٍ كَامِلٍ عَظِيمٍ ثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ التَّنْوِينُ تَعْوِيضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلًّا [التوبة: 8] وقوله وَإِنَّ كُلًّا [هود: 111] وبَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [البقرة: 251] . وَالْأَصْلُ فِي خَوْضِهِمُ الْمَعْرُوفُ مِنْهُمْ وَقَوْلُهُ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ لَيْسَ وَصْفًا لِلْمُكَذِّبِينَ بِمَا يُمَيِّزُهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلذَّمِّ كَمَا أَنَّكَ تَقُولُ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ/ وَلَا تُرِيدُ فَصْلَهُ عَنِ الشَّيْطَانِ الَّذِي لَيْسَ بِرَجِيمٍ بِخِلَافِ قَوْلِكَ أَكْرِمِ الرَّجُلَ الْعَالِمَ، فَالْوَصْفُ بِالرَّجِيمِ لِلذَّمِّ بِهِ لَا لِلتَّعْرِيفِ وَتَقُولُ فِي الْمَدْحِ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ، وَاللَّهُ الْعَظِيمُ لِلْمَدْحِ لَا لِلتَّمْيِيزِ وَلَا لِلتَّعْرِيفِ عَنْ إِلَهٍ لَمْ يَخْلُقْ أَوْ إِلَهٍ لَيْسَ بِعَظِيمٍ، فإن الله واحد لا غير. [سورة الطور (52) : آية 13] يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) وفيه مَبَاحِثُ لَفْظِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ. أَمَّا اللَّفْظِيَّةُ فَفِيهَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَوْمَ مَنْصُوبٌ بِمَاذَا؟ نَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هذِهِ النَّارُ [الطُّورِ: 14] تَقْدِيرُهُ يَوْمَ يُدَعُّونَ يُقَالُ لَهُمْ هَذِهِ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ، وَيُحْتَمَلُ غَيْرُ هَذَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ بَدَلًا عَنْ يَوْمَ فِي يومئذ تقريره فويل يومئذ للمكذبين ويوم يوعدون أَيِ الْمُكَذِّبُونَ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ يَوْمَئِذٍ [الطُّورِ: 11] مَعْنَاهُ يَوْمَ يَقَعُ الْعَذَابُ وَذَلِكَ الْيَوْمُ هُوَ يوم يوعدون فِيهِ إِلَى النَّارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ يُدَعُّونَ إلى النار يَدُلُّ عَلَى هَوْلِ نَارِ جَهَنَّمَ، لِأَنَّ خَزَنَتَهَا لَا يَقْرَبُونَ مِنْهَا وَإِنَّمَا يَدْفَعُونَ أَهْلَهَا إِلَيْهَا مِنْ بَعِيدٍ وَيُلْقُونَهُمْ فِيهَا وَهُمْ لَا يَقْرَبُونَهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَعًّا مَصْدَرٌ، وَقَدْ ذَكَرْتُ فَائِدَةَ ذِكْرِ الْمَصَادِرِ وَهِيَ الْإِيذَانُ بِأَنَّ الدَّعَّ دَعٌّ مُعْتَبَرٌ يُقَالُ لَهُ دَعٌّ وَلَا يُقَالُ فِيهِ لَيْسَ بِدَعٍّ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ فِي الضَّرْبِ الْخَفِيفِ مُسْتَحْقِرًا لَهُ: هَذَا لَيْسَ بِضَرْبٍ وَالْعَدُوِّ الْمَهِينِ: هَذَا لَيْسَ بِعَدُوٍّ فِي غَيْرِ الْمَصَادِرِ، وَالرَّجُلِ الْحَقِيرِ لَيْسَ بِرَجُلٍ إِلَّا عَلَى قِرَاءَةِ من قرأ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا فَإِنَّ دُعَاءً حِينَئِذٍ يَكُونُ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ تَقْدِيرُهُ يُقَالُ لَهُمْ هَلُمُّوا إِلَى النَّارِ مَدْعُوِّينَ إِلَيْهَا. أَمَّا الْمَعْنَوِيَّةُ فَنَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَزَنَتَهَا يَقْذِفُونَهُمْ فِيهَا وَهُمْ بُعَدَاءُ عَنْهَا، وَقَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ [الْقَمَرِ: 48] نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَسْحَبُونَهُمْ فِي النَّارِ ثُمَّ إِذَا قَرُبُوا مِنْ نَارٍ مَخْصُوصَةٍ هِيَ نَارُ جَهَنَّمَ يَقْذِفُونَهُمْ فِيهَا مِنْ بَعِيدٍ فَيَكُونُ السَّحْبُ فِي النَّارِ وَالدَّفْعُ فِي نَارٍ أَشَدَّ وَأَقْوَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غَافِرٍ: 71، 72] أَيْ يَكُونُ لَهُمْ سَحْبٌ فِي حَمْوَةِ النَّارِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لَهُمْ إِدْخَالٌ الثَّانِي: جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي

[سورة الطور (52) : آية 14]

كُلِّ زَمَانٍ يَتَوَلَّى أَمْرَهُمْ مَلَائِكَةٌ، فَإِلَى النَّارِ يَدْفَعُهُمْ مَلَكٌ وَفِي النَّارِ يَسْحَبُهُمْ آخَرُ. الثَّالِثُ: جَازَ أَنْ يَكُونَ السَّحْبُ بِسَلَاسِلَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ وَالسَّاحِبُ خَارِجُ النَّارِ. الرَّابِعُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَلَائِكَةُ يَدْفَعُونَ أَهْلَ النَّارِ إِلَى النَّارِ إِهَانَةً وَاسْتِخْفَافًا بِهِمْ، ثُمَّ يَدْخُلُونَ مَعَهُمُ النَّارَ ويسحبونهم فيها. ثم قال تعالى: [سورة الطور (52) : آية 14] هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) عَلَى تقدير يقال ثم قال تعالى: [سورة الطور (52) : آية 15] أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) تَحْقِيقًا لِلْأَمْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَرَى شَيْئًا وَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ عَلَى مَا يَرَاهُ، فَذَلِكَ الْخَطَأُ يَكُونُ لِأَجْلِ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا لِأَمْرٍ عَائِدٍ إِلَى الْمَرْئِيِّ وَإِمَّا لِأَمْرٍ عَائِدٍ إِلَى الرَّائِي فَقَوْلُهُ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَيْ هَلْ فِي الْمَرْئِيِّ شَكٌّ أَمْ هَلْ فِي بَصَرِكُمْ خَلَلٌ؟ اسْتِفْهَامُ إنكار، أي لا واحد منها ثَابِتٌ، فَالَّذِي تَرَوْنَهُ حَقٌّ وَقَدْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ، وَإِنَّمَا قَالَ: أَفَسِحْرٌ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْسُبُونَ الْمَرْئِيَّاتِ إِلَى السِّحْرِ فَكَانُوا يَقُولُونَ بِأَنَّ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ وَأَمْثَالَهُ سِحْرٌ وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِهِمْ مَعَ الْبَصَرِ الْأَلَمُ الْمُدْرَكُ بِحِسِّ اللَّمْسِ وَبَلَغَ الْإِيلَامُ الْغَايَةَ لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَقُولُوا هَذَا سِحْرٌ، وَإِلَّا لَمَا صَحَّ مِنْهُمْ طَلَبُ الْخَلَاصِ مِنَ النَّارِ. ثم قال تعالى: [سورة الطور (52) : آية 16] اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) أَيْ إِذَا لَمْ يُمْكِنْكُمْ إِنْكَارُهَا وَتُحُقِّقَ أَنَّهُ لَيْسَ بِسِحْرٍ وَلَا خَلَلٍ فِي أَبْصَارِكُمْ فَاصَلَوْهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا فِيهِ فَائِدَتَانِ إِحْدَاهُمَا: بَيَانُ عَدَمِ الْخَلَاصِ وَانْتِفَاءِ الْمَنَاصِ فَإِنَّ مَنْ لَا يَصْبِرُ يَدْفَعُ الشَّيْءَ عَنْ نَفْسِهِ إِمَّا بِأَنْ يَدْفَعَ الْمُعَذِّبَ فَيَمْنَعَهُ وَإِمَّا بِأَنْ يُغْضِبَهُ فَيَقْتُلَهُ وَيُرِيحَهُ وَلَا شَيْءَ مِنْ ذَلِكَ يُفِيدُ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ فَإِنَّ مَنْ لَا يَغْلِبُ المعذب فيدفعه ولا يتلخص بِالْإِعْدَامِ فَإِنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ فَيَمُوتُ، فَإِذَنِ الصَّبْرُ كَعَدَمِهِ، لِأَنَّ مَنْ يَصْبِرُ يَدُومُ فِيهِ، وَمَنْ لَا يَصْبِرُ يَدُومُ فِيهِ الثَّانِيَةُ: بَيَانُ مَا يَتَفَاوَتُ بِهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ عَنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْمُعَذَّبَ فِي الدُّنْيَا إِنْ صَبَرَ رُبَّمَا انْتَفَعَ بِالصَّبْرِ إِمَّا بِالْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا بِالْحَمْدِ فِي الدُّنْيَا، فَيُقَالُ لَهُ مَا أَشْجَعَهُ وَمَا أَقْوَى قَلْبَهُ، وَإِنْ جَزِعَ يُذَمُّ، فَيُقَالُ يَجْزَعُ كَالصِّبْيَانِ وَالنِّسْوَانِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ لَا مَدْحَ وَلَا ثَوَابَ عَلَى الصَّبْرِ، وَقَوْلُهُ تعالى: سَواءٌ عَلَيْكُمْ سواء خبر، ومبتدأه مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا كَأَنَّهُ يَقُولُ: الصَّبْرُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُ الزِّيَادَةُ فِي التَّعْذِيبِ، وَيَلْزَمُ التَّعْذِيبُ عَلَى الْمَنْوِيِّ الَّذِي لَمْ يَفْعَلْهُ، نَقُولُ فِيهِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِإِيمَانِهِ اسْتَفَادَ أَنَّ الْخَيْرَ الَّذِي يَنْوِيهِ يُثَابُ عَلَيْهِ، وَالشَّرَّ الَّذِي يَنْوِيهِ وَلَا يُحَقِّقُهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَالْكَافِرُ بِكُفْرِهِ صَارَ عَلَى الضِّدِّ، فَالْخَيْرُ الَّذِي يَنْوِيهِ وَلَا يَعْمَلُهُ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ، وَالشَّرُّ الَّذِي يَقْصِدُهُ وَلَا يَقَعُ مِنْهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَلَا ظُلْمَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَهُ بِهِ، وَهُوَ اخْتَارَ ذَلِكَ وَدَخَلَ فِيهِ بِاخْتِيَارِهِ، كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَإِنَّ مَنْ كَفَرَ وَمَاتَ كَافِرًا أُعَذِّبُهُ أَبَدًا فَاحْذَرُوا، وَمَنْ آمَنَ أُثِيبُهُ دَائِمًا، فَمَنِ ارتكب الكفر ودام عليه بعد ما سَمِعَ ذَلِكَ، فَإِذَا عَاقَبَهُ الْمُعَاقِبُ دَائِمًا تَحْقِيقًا لِمَا أَوْعَدَهُ بِهِ لَا يَكُونُ ظَالِمًا. ثُمَّ قال تعالى:

[سورة الطور (52) : آية 17]

[سورة الطور (52) : آية 17] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) عَلَى مَا هُوَ عَادَةُ الْقُرْآنِ مِنْ بَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِ/ بَعْدَ بَيَانِ حَالِ الْكَافِرِ، وَذِكْرُ الثَّوَابِ عَقِيبَ ذِكْرِ الْعِقَابِ لِيَتِمَّ أَمْرُ التَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ الْمُتَّقِينَ فِي مَوَاضِعَ، وَالْجَنَّةُ وَإِنْ كَانَتْ مَوْضِعَ السُّرُورِ، لَكِنَّ النَّاطُورَ قَدْ يَكُونُ فِي الْبُسْتَانِ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الطِّيبَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَنَعِّمٍ، فَقَوْلُهُ وَنَعِيمٍ يُفِيدُ أَنَّهُمْ فِيهَا يَتَنَعَّمُونَ، كَمَا يَكُونُ الْمُتَفَرِّجُ لَا كَمَا يَكُونُ الناطور. [سورة الطور (52) : آية 18] فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) وَقَوْلُهُ فاكِهِينَ يَزِيدُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُتَنَعِّمَ قَدْ يَكُونُ آثَارُ التَّنَعُّمِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَقَلْبُهُ مَشْغُولٌ، فَلَمَّا قَالَ: فاكِهِينَ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الطِّيبَةِ، وَقَوْلُهُ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ يُفِيدُ زِيَادَةً فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْفَكِهَ قَدْ يَكُونُ خَسِيسَ النَّفْسِ فَيَسُرُّهُ أَدْنَى شَيْءٍ، وَيَفْرَحُ بِأَقَلِّ سَبَبٍ، فَقَالَ: فاكِهِينَ لَا لِدُنُوِّ هِمَمِهِمْ بَلْ لِعُلُوِّ نِعَمِهِمْ حَيْثُ هِيَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ فَاكِهُونَ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: بِمَا آتَاهُمْ، وَالثَّانِي: بِأَنَّهُ وَقَاهُمْ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جُمْلَةً أُخْرَى مَنْسُوقَةً عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى، كَأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّهُ أَدْخَلَهُمْ جَنَّاتٍ ونعيما ووقاهم عذاب الجحيم. ثم قال تعالى: [سورة الطور (52) : الآيات 19 الى 20] كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَفِيهِ بَيَانُ أَسْبَابِ التَّنْعِيمِ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَأَوَّلُ مَا يَكُونُ الْمَسْكَنُ وَهُوَ الْجَنَّاتُ ثُمَّ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، ثُمَّ الْفُرُشُ وَالْبُسُطُ ثُمَّ الْأَزْوَاجُ، فَهَذِهِ أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ ذَكَرَهَا اللَّهُ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَذَكَرَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِهِ قَوْلُهُ جَنَّاتٍ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَسْكَنِ وَالْمَسْكَنُ لِلْجِسْمِ ضَرُورِيٌّ وَهُوَ الْمَكَانُ، فَقَالَ: فاكِهِينَ لِأَنَّ مَكَانَ التنعيم قد ينتغص بأمور وبين سَبَبَ الْفَكَاهَةِ وَعُلُوَّ الْمَرْتَبَةِ يَكُونُ مِمَّا آتَاهُمُ اللَّهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا، وَأَمَّا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْإِذْنِ الْمُطْلَقِ فَتَرَكَ ذِكْرَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ لِتَنَوُّعِهِمَا وَكَثْرَتِهِمَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: هَنِيئاً إِشَارَةٌ إِلَى خُلُوِّهِمَا عَمَّا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ فِي الدُّنْيَا، مِنْهَا أَنَّ الْآكِلَ يَخَافُ مِنَ الْمَرَضِ فَلَا يَهْنَأُ لَهُ الطَّعَامُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَخَافُ النَّفَادَ فَلَا يَسْخُو بِالْأَكْلِ وَالْكُلُّ مُنْتَفٍ فِي الْجَنَّةِ فَلَا مَرَضَ وَلَا انْقِطَاعَ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ عِنْدَهُ مَا يَفْضُلُ عَنْهُ، وَلَا إِثْمَ وَلَا تَعَبَ فِي تَحْصِيلِهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ فِي الدُّنْيَا رُبَّمَا يَتْرُكُ لَذَّةَ الْأَكْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَهْيِئَةِ الْمَأْكُولِ بِالطَّبْخِ وَالتَّحْصِيلِ مِنَ التَّعَبِ أَوِ الْمِنَّةِ أَوْ مَا فِيهِ مِنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَاسْتِقْذَارِ مَا فِيهِ، فَلَا يَتَهَنَّأُ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ مُنْتَفٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ/ أَيْ مَعَ أَنِّي رَبُّكُمْ وَخَالِقُكُمْ وَأَدْخَلْتُكُمْ بِفَضْلِي الْجَنَّةَ، وَإِنَّمَا مِنَّتِي عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ هَدَيْتُكُمْ وَوَفَّقْتُكُمْ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [الْحُجُرَاتِ: 17] . وَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا مَنَّ عَلَيْكُمْ لِأَنَّ هَذَا إِنْجَازُ الْوَعْدِ فَإِنْ قِيلَ قَالَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التَّحْرِيمِ: 7] وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَهَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ؟ قُلْتُ بَيْنَهُمَا بَوْنٌ عَظِيمٌ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: كَلِمَةُ (إِنَّمَا) لِلْحَصْرِ أَيْ لَا تُجْزَوْنَ إِلَّا ذَلِكَ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي حَقِّ

[سورة الطور (52) : آية 21]

الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَجْزِيهِ أَضْعَافَ مَا عَمِلَ وَيَزِيدُهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَحِينَئِذٍ إِنْ كَانَ يَمُنُّ اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ فَيَمُنُّ بِذَلِكَ لَا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ الثَّانِي: قَالَ هُنَا بِما كُنْتُمْ وَقَالَ هُنَاكَ مَا كُنْتُمْ أَيْ تُجْزَوْنَ عَيْنَ أَعْمَالِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْمُمَاثَلَةِ كَمَا تَقُولُ هَذَا عَيْنُ مَا عَمِلْتَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ بِما كُنْتُمْ كَأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ ثَابِتٌ مُسْتَمِرٌّ بِعَمَلِكُمْ هَذَا الثَّالِثُ: ذَكَرَ الْجَزَاءَ هُنَاكَ وَقَالَ هَاهُنَا بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لِأَنَّ الْجَزَاءَ يُنْبِئُ عَنِ الِانْقِطَاعِ فَإِنَّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَى أَحَدٍ فَأَتَى بِجَزَائِهِ لَا يَتَوَقَّعُ الْمُحْسِنُ مِنْهُ شَيْئًا آخَرَ. فَإِنْ قِيلَ فاللَّه تَعَالَى قَالَ فِي مَوَاضِعَ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف: 14] فِي الثَّوَابِ، نَقُولُ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ لَمَّا لَمْ يُخَاطِبِ الْمُجْزَى لَمْ يَقُلْ تُجْزَى وَإِنَّمَا أَتَى بِمَا يُفِيدُ الْعَالِمَ بِالدَّوَامِ وَعَدَمِ الِانْقِطَاعِ. وَأَمَّا فِي السُّرُرِ فَذَكَرَ أُمُورًا أَيْضًا أَحَدُهَا: الِاتِّكَاءُ فَإِنَّهُ هَيْئَةٌ تَخْتَصُّ بِالْمُنَعَّمِ، وَالْفَارِغِ الَّذِي لَا كُلْفَةَ عَلَيْهِ وَلَا تَكَلُّفَ لَدَيْهِ فَإِنَّ مَنْ يَكُونُ عِنْدَهُ مَنْ يَتَكَلَّفُ لَهُ يَجْلِسُ لَهُ وَلَا يَتَّكِئُ عِنْدَهُ، وَمَنْ يَكُونُ فِي مُهِمٍّ لَا يَتَفَرَّغُ لِلِاتِّكَاءِ فَالْهَيْئَةُ دَلِيلُ خَيْرٍ. ثُمَّ الْجَمْعُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ سُرُرٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَصْفُوفَةٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لِوَاحِدٍ لِأَنَّ سُرُرَ الْكُلِّ لَا تَكُونُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مُصْطَفَّةً وَلَفْظُ السَّرِيرِ فِيهِ حُرُوفُ السُّرُورِ بِخِلَافِ التَّخْتِ وَغَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ مَصْفُوفَةٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لِمُجَرَّدِ الْعِظَمِ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً لَقِيلَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَاحِدٌ لِيَتَّكِئَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ إِذَا حَضَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَزَوَّجْناهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى النِّعْمَةِ الرَّابِعَةِ وَفِيهَا أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْحَالِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُزَوِّجُ وَهُوَ يَتَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ يُزَوِّجُ عِبَادَهُ بِأَمَانِهِ وَمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا فِيهِ رَاحَةُ الْعِبَادِ وَالْإِمَاءِ ثَانِيهَا: قَالَ: وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ وَلَمْ يَقُلْ وَزَوَّجْنَاهُمْ حُورًا مَعَ أَنَّ لَفْظَةَ التَّزْوِيجِ يَتَعَدَّى فِعْلُهُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ بِغَيْرِ حَرْفٍ يُقَالُ زَوَّجْتُكَهَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها [الْأَحْزَابِ: 37] وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي التَّزْوِيجِ لَهُمْ وَإِنَّمَا زُوِّجُوا لِلَذَّتِهِمْ بِالْحُورِ لَا لِلَذَّةِ الْحُورِ بِهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَفْعُولَ بِغَيْرِ حَرْفٍ يُعَلَّقُ الْفِعْلُ بِهِ كَذَلِكَ التَّزْوِيجُ تَعَلَّقَ بِهِمْ ثُمَّ بِالْحُورِ، لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَعْنَى جَعَلْنَا ازْدِوَاجَهُمْ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَهُوَ الْحُورُ ثَالِثُهَا: عَدَمُ الِاقْتِصَارِ عَلَى الزَّوْجَاتِ بَلْ وَصَفَهُنَّ بِالْحُسْنِ وَاخْتَارَ الْأَحْسَنَ مِنَ الْأَحْسَنِ، فَإِنَّ أَحْسَنَ مَا فِي صُورَةِ الْآدَمِيِّ وَجْهُهُ وَأَحْسَنَ مَا فِي الْوَجْهِ الْعَيْنُ، وَلِأَنَّ الْحَوَرَ وَالْعَيَنَ يَدُلَّانِ عَلَى حُسْنِ الْمِزَاجِ فِي الْأَعْضَاءِ وَوَفْرَةِ الْمَادَّةِ فِي الْأَرْوَاحِ، أَمَّا حُسْنُ الْمِزَاجِ فَعَلَامَتُهُ الْحَوَرُ، وَأَمَّا وَفْرَةُ الرَّوْحِ فَإِنَّ سَعَةَ الْعَيْنِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الرَّوْحِ المصوبة إليها، فإن قيل قوله زَوَّجْناهُمْ ذكره بفعل ماض ومُتَّكِئِينَ حَالَ وَلَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُ فِعْلٍ مَاضٍ/ يُعْطَفُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَعَطْفُ الْمَاضِي عَلَى الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ أَحْسَنُ، نَقُولُ الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ اثْنَانِ لَفْظِيَّانِ وَمَعْنَوِيٌّ أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ، تَقُولُ جَاءَ زَيْدٌ ويجيء عمرا وَخَرَجَ زَيْدٌ ثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ تَقْدِيرُهُ أَدْخَلْنَاهُمْ فِي جَنَّاتٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُدَعُّ الْكَافِرُ فِي النَّارِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَكُونُ الْمُؤْمِنُ قَدْ أُدْخِلَ مَكَانَهُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ كَائِنُونَ فِي جَنَّاتٍ وَالثَّالِثُ: الْمَعْنَوِيُّ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَجْزَاةَ الْحُكْمِ، فَهُوَ فِي هَذَا الْيَوْمِ زَوَّجَ عِبَادَهُ حُورًا عِينًا، وَهُنَّ مُنْتَظِرَاتُ الزِّفَافِ يَوْمَ الآزفة. [سورة الطور (52) : آية 21] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21)

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ «1» بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَفِيهِ لَطَائِفُ الْأُولَى: أَنَّ شَفَقَةَ الْأُبُوَّةِ كَمَا هِيَ فِي الدُّنْيَا مُتَوَفِّرَةٌ كَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا طَيَّبَ اللَّهُ تَعَالَى قُلُوبَ عِبَادِهِ بِأَنَّهُ لَا يُوَلِّهَهُمْ بِأَوْلَادِهِمْ بَلْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ ذَكَرْتَ فِي تَفْسِيرِ بَعْضِ الْآيَاتِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُسَلِّي الْآبَاءَ عَنِ الْأَبْنَاءِ وَبِالْعَكْسِ، وَلَا يَتَذَكَّرُ الْأَبُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الِابْنَ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، نَقُولُ الْوَلَدُ الصَّغِيرُ وَجَدَ فِي وَالِدِهِ الْأُبُوَّةَ الْحَسَنَةَ وَلَمْ يُوجَدْ لَهَا مُعَارِضٌ وَلِهَذَا أَلْحَقَ اللَّهُ الْوَلَدَ بِالْوَالِدِ فِي الْإِسْلَامِ فِي دَارِ الدُّنْيَا عِنْدَ الصِّغَرِ وَإِذَا كَبِرَ اسْتَقَلَّ، فَإِنْ كَفَرَ يُنْسَبْ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لِلْمُسْلِمِينَ كَالْأَبِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الْحُجُرَاتِ: 10] جَمْعُ أَخٍ بِمَعْنَى أُخُوَّةِ الْوِلَادَةِ وَالْإِخْوَانُ جَمْعُهُ بِمَعْنَى أُخُوَّةِ الصَّدَاقَةِ وَالْمَحَبَّةِ فَإِذَنِ الْكُفْرُ مِنْ حَيْثُ الْحِسُّ وَالْعُرْفُ أَبٌ، فَإِنْ خَالَفَ دِينُهُ دِينَ أَبِيهِ صَارَ لَهُ مِنْ حَيْثُ الشَّرْعُ أَبٌ آخَرُ، وَفِيهِ إِرْشَادُ الْآبَاءِ إِلَى أَنْ لَا يَشْغَلَهُمْ شَيْءٌ عَنِ الشَّفَقَةِ عَلَى الْوَلَدِ فَيَكُونُ مِنَ الْقَبِيحِ الْفَاحِشِ أَنْ يَشْتَغِلَ الْإِنْسَانُ بِالتَّفَرُّجِ فِي الْبُسْتَانِ مَعَ الْأَحِبَّةِ الْإِخْوَانِ وعن تَحْصِيلِ قُوتِ الْوِلْدَانِ، وَكَيْفَ لَا يَشْتَغِلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ بِمَا فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ عَنْ أَوْلَادِهِمْ حَتَّى ذَكَرُوهُمْ فَأَرَاحَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بقوله ألحقنا بهم ذرياتهم وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا ظَنُّكَ بِالْفَاسِقِ الَّذِي يُبَذِّرُ مَالَهُ فِي الْحَرَامِ وَيَتْرُكُ أَوْلَادَهُ يَتَكَفَّفُونَ وُجُوهَ اللِّئَامِ وَالْكِرَامِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ يُورِّثُ أَوْلَادَهُ مَالًا حَلَالًا يُكْتَبُ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ، وَلِهَذَا لَمْ يجوز لِلْمَرِيضِ التَّصَرُّفُ فِي أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ. اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ «2» فَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّا فِي الْآخِرَةِ نُلْحَقُ بِهِمْ لِأَنَّ فِي دَارِ الدُّنْيَا مُرَاعَاةَ الْأَسْبَابِ أَكْثَرُ. وَلِهَذَا لَمْ يُجْرِ اللَّهُ عَادَتَهُ عَلَى أَنْ يُقْدِّمَ بَيْنَ يَدَيِ الْإِنْسَانِ طَعَامًا مِنَ السَّمَاءِ، فَمَا يَتَسَبَّبُ لَهُ بِالزِّرَاعَةِ وَالطَّحْنِ وَالْعَجْنِ لَا يَأْكُلُهُ، وَفِي الْآخِرَةِ/ يُؤْتِيهِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ سَعْيٍ جَزَاءً لَهُ عَلَى مَا سَعَى لَهُ مِنْ قَبْلُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ دَلِيلًا ظَاهِرًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُلْحِقُ بِهِ وَلَدَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا كَمَا اتَّبَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ وَلَمْ يَعْتَقِدْ شَيْئًا. اللَّطِيفَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِإِيمانٍ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَتْبَعَ الْوَلَدَ الْوَالِدَيْنِ فِي الْإِيمَانِ وَلَمْ يُتْبِعْهُ أَبَاهُ فِي الْكُفْرِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْكُفَّارِ حُكِمَ بِإِسْلَامِ أَوْلَادِهِ، وَمَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِ وَلَدِهِ. اللَّطِيفَةُ الرَّابِعَةُ: قال في الدنيا أَتْبَعْناهُمْ وَقَالَ فِي الْآخِرَةِ: أَلْحَقْنا بِهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ في الدنيا لا يدرك الصغير التبع مساوات الْمَتْبُوعِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هُوَ تَبَعًا وَالْأَبُ أَصْلًا لِفَضْلِ السَّاعِي عَلَى غَيْرِ السَّاعِي، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِذَا أَلْحَقَ اللَّهُ بِفَضْلِهِ وَلَدَهُ بِهِ جُعِلَ لَهُ مِنَ الدَّرَجَةِ مِثْلُ مَا لِأَبِيهِ. اللَّطِيفَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَلَتْناهُمْ تطييب لقلبهم وإزالة وهم الْمُتَوَهِّمِ أَنَّ ثَوَابَ عَمَلِ الْأَبِ يُوَزَّعُ عَلَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ بَلْ لِلْوَالِدِ أَجْرُ عَمَلِهِ بِفَضْلِ السَّعْيِ وَلِأَوْلَادِهِ مِثْلُ ذَلِكَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةً. اللَّطِيفَةُ السَّادِسَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ عَمَلِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ أَجْرِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قوله تعالى:

_ (1) في الطبعة الأميرية وأتبعناهم ذرياتهم في الموضعين وهي قراءة وعليها جرى المفسر في تفسيره، وهي لا تفيد إيمان الذرية بخلاف قراءة حفص وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ فهي تفيد إيمان الذرية، مع أن الذرية تابعة لأصلها لسقوط التكليف، بل إن أولاد غير المؤمنين هم على فطرة الإيمان بدليل الحديث «كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» . (2) في الطبعة الأميرية وأتبعناهم ذرياتهم في الموضعين وهي قراءة وعليها جرى المفسر في تفسيره، وهي لا تفيد إيمان الذرية بخلاف قراءة حفص واتبعتهم ذريتهم فهي تفيد إيمان الذرية، مع أن الذرية تابعة لأصلها لسقوط التكليف، بل إن أولاد غير المؤمنين هم على فطرة الإيمان بدليل الحديث «كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» .

وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ عَمَلِهِمْ كَمَا كَانَ وَالْأَجْرُ عَلَى الْعَمَلِ مَعَ الزِّيَادَةِ فَيَكُونُ فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى بَقَاءِ الْعَمَلِ الَّذِي لَهُ الْأَجْرُ الْكَبِيرُ الزَّائِدُ عَلَيْهِ الْعَظِيمُ الْعَائِدُ إِلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: مَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ أَجْرِهِمْ، لَكَانَ ذَلِكَ حَاصِلًا بِأَدْنَى شَيْءٍ لِأَنَّ كُلَّ مَا يُعْطِي اللَّهُ عَبْدَهُ عَلَى عَمَلِهِ فَهُوَ أَجْرٌ كَامِلٌ وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ تَعَالَى مَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ أَجْرِهِمْ، كَانَ مَعَ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِالْأَجْرِ الْكَامِلِ عَلَى الْعَمَلِ النَّاقِصِ، وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ الْجَزِيلَ، مَعَ أَنَّ عَمَلَهُ كَانَ لَهُ وَلِوَلَدِهِ جَمِيعًا، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا عُطِفَ عَلَى مَاذَا؟ نَقُولُ على قوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ [الطور: 17] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِمَ أَعَادَ لَفْظَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ تعالى: وألحقنا بهم ذرياتهم بعد قوله وَزَوَّجْناهُمْ [الطور: 20] وَكَانَ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ وَزَوَّجْنَاهُمْ وَأَلْحَقْنَا بِهِمْ؟ نَقُولُ فِيهِ فَائِدَةٌ وَهُوَ أَنَّ الْمُتَّقِينَ هُمُ الَّذِينَ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَالْمَعْصِيَةَ وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات وَقَالَ هَاهُنَا الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ بِوُجُودِ الْإِيمَانِ يَصِيرُ وَلَدُهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ إِنِ ارْتَكَبَ الْأَبُ كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً عَلَى صَغِيرَةٍ لَا يُعَاقَبُ بِهِ وَلَدُهُ بَلِ الْوَالِدُ وَرُبَّمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الِابْنُ قَبْلَ الْأَبِ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ يَشْفَعُ لِأَبِيهِ وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْجَزَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَلْ يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ؟ نَقُولُ نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا عطفا على بِحُورٍ عِينٍ [الطور: 20] تَقْدِيرُهُ: زَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ، أَيْ قَرَنَّاهُمْ بِهِنَّ، وَبِالَّذِينِ آمَنُوا، إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [الْحِجْرِ: 47] أَيْ جَمَعْنَا شَمْلَهُمْ بالأزواج والإخوان والأولاد بقوله تعالى: وَأَتْبَعْناهُمْ وَهَذَا الْوَجْهُ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ وَأَصَحُّ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ عَلَى/ هَذَا الْوَجْهِ الْإِخْبَارُ بِلَفْظِ الْمَاضِي مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعد ما قَرَنَ بَيْنَهُمْ؟ قُلْنَا صَحَّ فِي وَزَوَّجْنَاهُمْ عَلَى مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تَزْوِيجِهِنَّ مِنَّا مِنْ يَوْمِ خَلَقَهُنَّ وَإِنْ تَأَخَّرَ زَمَانُ الِاقْتِرَانِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُرِئَ ذُرِّيَّاتهِمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالْجَمْعِ وذُرِّيَّتُهُمْ فِيهِمَا بِالْفَرْدِ، وَقُرِئَ فِي الْأَوَّلِ ذُرِّيَّاتُهِمْ وَفِي الثَّانِيَةِ ذُرِّيَّتُهُمْ فَهَلْ لِلثَّالِثِ وَجْهٌ؟ نَقُولُ نَعَمْ مَعْنَوِيٌّ لَا لَفْظِيٌّ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ تَتَّبِعُهُ ذُرِّيَّاتُهُ فِي الْإِيمَانِ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ عَلَى مَعْنًى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ لَهُ أَلْفُ وَلَدٍ لَكَانُوا أَتْبَاعَهُ فِي الْإِيمَانِ حُكْمًا، وَأَمَّا الْإِلْحَاقُ فَلَا يَكُونُ حُكْمًا إِنَّمَا هُوَ حَقِيقَةٌ وَذَلِكَ فِي الْمَوْجُودِ فَالتَّابِعُ أَكْثَرُ مِنَ الْمَلْحُوقِ فَجُمِعَ فِي الْأَوَّلِ وَأُفْرِدَ الثَّانِي. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَنْكِيرِ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ «1» بِإِيمَانٍ؟ نَقُولُ هُوَ إِمَّا التَّخْصِيصُ أَوِ التَّنْكِيرُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بِإِيمَانٍ مُخْلِصٍ كَامِلٍ أَوْ يَقُولُ أَتْبَعْنَاهُمْ بِإِيمَانٍ مَا أَيُّ شَيْءٍ مِنْهُ فَإِنَّ الْإِيمَانَ كَامِلًا لَا يُوجَدُ فِي الْوَلَدِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ حُكِمَ بِإِيمَانِهِ فَإِذَا بَلَغَ وَصَرَّحَ بِالْكُفْرِ وَأَنْكَرَ التَّبَعِيَّةَ قِيلَ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُرْتَدًّا وَتَبَيَّنَ بِقَوْلِ إِنَّهُ لَمْ يَتَّبِعْ وَقِيلَ بأنه يكون مرتدا لأنه كفر بعد ما حُكِمَ بِإِيمَانِهِ كَالْمُسْلِمِ الْأَصْلِيِّ فَإِذَنْ بِهَذَا الْخِلَافِ تَبَيَّنَ أَنَّ إِيمَانَهُ يَقْوَى وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غَيْرَ هَذَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّنْوِينُ لِلْعِوَضِ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [البقرة: 251]

_ (1) كذلك رسمت في الطبعة الأميرية وهو مخالف للرسم وهو كما سبق بيان في صفحة (208) .

[سورة الطور (52) : آية 22]

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [النِّسَاءِ: 95] وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّ التَّقْدِيرَ أَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بِإِيمَانٍ أَيْ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ لِأَنَّ الْإِتْبَاعَ لَيْسَ بِإِيمَانٍ كَيْفَ كَانَ وَمِمَّنْ كَانَ، وَإِنَّمَا هُوَ إِيمَانُ الْآبَاءِ لَكِنَّ الْإِضَافَةَ تُنْبِئُ عَنْ تَقْيِيدِ وَعَدَمِ كَوْنِ الْإِيمَانِ إِيمَانًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّ قَوْلَ القائل ماء الشجر وماء الزمان يَصِحُّ وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ لَا يَصِحُّ فَقَوْلُهُ بِإِيمانٍ يُوهِمُ أَنَّهُ إِيمَانٌ مُضَافٌ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غَافِرٍ: 85] حَيْثُ أَثْبَتَ الْإِيمَانَ الْمُضَافَ وَلَمْ يَكُنْ إِيمَانًا، فَقَطَعَ الْإِضَافَةَ مَعَ إِرَادَتِهَا لِيُعْلَمَ أَنَّهُ إِيمَانٌ صَحِيحٌ وَعَوَّضَ التَّنْوِينَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْأَمَانَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا إِيمَانُ الْآبَاءِ وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا عَوْدٌ إِلَى ذِكْرِ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّهُمْ مُرْتَهِنُونَ فِي النَّارِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَا يَكُونُ مُرْتَهِنًا قَالَ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ [المدثر: 38، 39] وهو قول مجاهد وقال الزَّمَخْشَرِيُّ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ عَامٌّ فِي كُلِّ أَحَدٍ مَرْهُونٍ عِنْدَ اللَّهِ بِالْكَسْبِ فَإِنْ كَسَبَ خَيْرًا فَكَّ رَقَبَتَهُ وَإِلَّا أُرْبِقَ بِالرَّهْنِ وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّهِينُ فَعَيْلًا بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَاهِنٌ أَيْ دَائِمٌ، إِنْ أَحْسَنَ فَفِي الْجَنَّةِ مُؤَبَّدًا، وَإِنْ أَسَاءَ فَفِي النَّارِ مُخَلَّدًا، / وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِي الدُّنْيَا دَوَامَ الْأَعْمَالِ بِدَوَامِ الْأَعْيَانِ فَإِنَّ الْعَرَضَ لَا يَبْقَى إِلَّا فِي جَوْهَرٍ وَلَا يُوجَدُ إِلَّا فِيهِ، وَفِي الْآخِرَةِ دَوَامُ الْأَعْيَانِ بِدَوَامِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ اللَّهَ يُبْقِي أَعْمَالَهُمْ لِكَوْنِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَالْبَاقِي يبقى مع عامله. ثم قال تعالى: [سورة الطور (52) : آية 22] وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) أَيْ زِدْنَاهُمْ مَأْكُولًا وَمَشْرُوبًا، أَمَّا الْمَأْكُولُ فَالْفَاكِهَةُ وَاللَّحْمُ، وَأَمَّا الْمَشْرُوبُ فَالْكَأْسُ الَّذِي يَتَنَازَعُونَ فِيهَا، وَفِي تَفْسِيرِهَا لَطَائِفُ: اللَّطِيفَةُ الْأُولَى: لَمَّا قَالَ: أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذرياتهم [الطُّورِ: 21] بَيَّنَ الزِّيَادَةَ لِيَكُونَ ذَلِكَ جَارِيًا عَلَى عَادَةِ الْمُلُوكِ فِي الدُّنْيَا إِذَا زَادُوا فِي حَقِّ عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِمْ يَزِيدُونَ فِي أَقْدَارِ أَخْبَازِهِمْ وَأَقْطَاعِهِمْ، وَاخْتَارَ مِنَ الْمَأْكُولِ أَرْفَعَ الْأَنْوَاعِ وَهُوَ الْفَاكِهَةُ وَاللَّحْمُ فَإِنَّهُمَا طَعَامُ الْمُتَنَعِّمِينَ، وَجَمَعَ أَوْصَافًا حَسَنَةً فِي قَوْلِهِ مِمَّا يَشْتَهُونَ لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ نَوْعًا فَرُبَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ النَّوْعُ غَيْرَ مُشْتَهًى عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ فَقَالَ كُلُّ أَحَدٍ يُعْطَى مَا يَشْتَهِي، فَإِنْ قِيلَ الِاشْتِهَاءُ كَالْجُوعِ وَفِيهِ نَوْعُ أَلَمٍ، نَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الِاشْتِهَاءُ بِهِ اللَّذَّةُ وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَتْرُكُهُ فِي الِاشْتِهَاءِ بِدُونِ الْمُشْتَهَى حَتَّى يَتَأَلَّمَ، بَلِ الْمُشْتَهَى حَاصِلٌ مَعَ الشَّهْوَةِ وَالْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا لَا يَتَأَلَّمُ إِلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا بِاشْتِهَاءٍ صَادِقٍ وَعَجْزِهِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمُشْتَهَى، وَإِمَّا بِحُصُولِ أَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ عِنْدَهُ وَسُقُوطِ شَهْوَتِهِ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ فِي الْآخِرَةِ. اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا قَالَ: وَما أَلَتْناهُمْ وَنَفْيُ النُّقْصَانِ يَصْدُقُ بِحُصُولِ الْمُسَاوِي، فَقَالَ لَيْسَ عَدَمُ النُّقْصَانِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْمُسَاوِي، بِطَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ الزِّيَادَةُ وَالْإِمْدَادُ، فَإِنْ قِيلَ أَكْثَرَ اللَّهُ مِنْ ذِكْرِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَبَعْضُ الْعَارِفِينَ يَقُولُونَ لِخَاصَّةِ اللَّهِ بِاللَّهِ شُغْلٌ شَاغِلٌ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَكُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ، نَقُولُ هَذَا عَلَى الْعَمَلِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الْوَاقِعَةِ: 24] وَقَالَ: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطُّورِ: 16] وَأَمَّا عَلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ فَذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:

[سورة الطور (52) : آية 23]

57، 58] أي للنفوس ما تتفكه به، للأرواح ما تتمناه من القربة والزلفى. [سورة الطور (52) : آية 23] يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى عَادَةِ الْمُلُوكِ إِذَا جَلَسُوا فِي مَجَالِسِهِمْ لِلشُّرْبِ يُدْخَلُ عَلَيْهِمْ بِفَوَاكِهَ وَلُحُومٍ وَهُمْ عَلَى الشُّرْبِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَتَنازَعُونَ أَيْ يَتَعَاطَوْنَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ التَّنَازُعُ التَّجَاذُبُ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَجَاذُبُهُمْ تَجَاذُبَ مُلَاعَبَةٍ لَا تَجَاذُبَ مُنَازَعَةٍ، وَفِيهِ نَوْعُ لَذَّةٍ وَهُوَ بَيَانُ مَا هُوَ عَلَيْهِ حَالُ الشَّرَابِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ يَتَفَاخَرُونَ بِكَثْرَةِ الشُّرْبِ وَلَا يَتَفَاخَرُونَ بِكَثْرَةِ الْأَكْلِ، وَلِهَذَا إِذَا شَرِبَ أَحَدُهُمْ يَرَى الْآخَرُ وَاجِبًا أَنْ يَشْرَبَ مِثْلَ مَا شَرِبَهُ حَرِيفُهُ وَلَا يَرَى وَاجِبًا أَنْ يَأْكُلَ مِثْلَ مَا أَكَلَ نَدِيمُهُ وَجَلِيسُهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ وَسَوَاءٌ قُلْنَا فِيها عَائِدَةٌ إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى الْكَأْسِ فَذِكْرُهُمَا/ لِجَرَيَانِ ذِكْرِ الشَّرَابِ وَحِكَايَتِهِ عَلَى مَا فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ تَعَالَى لَيْسَ فِي الشُّرْبِ فِي الْآخِرَةِ كُلَّ مَا فِيهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ اللَّغْوِ بِسَبَبِ زَوَالِ الْعَقْلِ وَمِنَ التَّأْثِيمِ الَّذِي بِسَبَبِ نُهُوضِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ عِنْدَ وُفُورِ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَا يَعْتَرِيهِ كَمَا يَعْتَرِي الشَّارِبَ بِالشُّرْبِ فِي الدُّنْيَا فَلَا يُؤْثَمُ أَيْ لَا يُنْسَبُ إِلَى إِثْمٍ، وَفِيهِ وَجْهٌ رَابِعٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ التَّأْثِيمِ السُّكْرَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِيهِ تَرْتِيبٌ حَسَنٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَسْكَرُ وَيَكُونُ رَزِينَ الْعَقْلِ عَدِيمَ اعْتِيَادِ الْعَرْبَدَةِ فَيَسْكُنُ وَيَنَامُ وَلَا يُؤْذِي وَلَا يَتَأَذَّى وَلَا يَهْذِي وَلَا يَسْمَعُ إِلَى مَنْ هَذَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَرْبِدُ فَقَالَ: لَا لَغْوٌ فِيها ثم قال تعالى: [سورة الطور (52) : آية 24] وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) أَيْ بِالْكُؤُوسِ وَقَالَ تَعَالَى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الْوَاقِعَةِ: 17، 18] وَقَوْلُهُ لَهُمْ أَيْ مِلْكُهُمْ إِعْلَامًا لَهُمْ بِقُدْرَتِهِمْ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِمْ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ امْتِيَازَ خَمْرِ الْآخِرَةِ عَنْ خَمْرِ الدُّنْيَا بَيَّنَ امْتِيَازَ غِلْمَانِ الْآخِرَةِ عَنْ غِلْمَانِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْغِلْمَانَ فِي الدُّنْيَا إِذَا طَافُوا عَلَى السَّادَةِ الْمُلُوكِ يَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ لِحَظِّ أَنْفُسِهِمْ إِمَّا لِتَوَقُّعِ النَّفْعِ أَوْ لِتَوَفُّرِ الصَّفْحِ، وأما في الآخرة فطوفهم عليهم متمحض لَهُمْ وَلِنَفْعِهِمْ وَلَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَيْهِمْ وَالْغُلَامُ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ وَرُبَّمَا يَبْلُغُ دَرَجَةَ الْأَوْلَادِ «1» . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ أي في الصفاء، ومَكْنُونٌ لِيُفِيدَ زِيَادَةً فِي صَفَاءِ أَلْوَانِهِمْ أَوْ لِبَيَانِ أَنَّهُمْ كَالْمُخَدَّرَاتِ لَا بُرُوزَ لَهُمْ وَلَا خُرُوجَ مِنْ عِنْدِهِمْ فَهُمْ فِي أَكْنَافِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تعالى: [سورة الطور (52) : الآيات 25 الى 28] وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)

_ (1) اللام في لَهُمْ للملك أو التخصيص أي لا كسقاة الخمر في الدنيا يسقون كل شارب، ويستجيبون لكل طالب.

[سورة الطور (52) : الآيات 29 إلى 31]

إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا جَرَى عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَيَذْكُرُونَهُ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَا يَنْسَى مَا كَانَ لَهُ مِنَ النَّعِيمِ فِي الدُّنْيَا، فَتَزْدَادُ لَذَّةُ الْمُؤْمِنِ مِنْ حَيْثُ يَرَى نَفْسَهُ انْتَقَلَتْ مِنَ السِّجْنِ إِلَى الْجَنَّةِ وَمِنَ الضِّيقِ إِلَى السَّعَةِ، وَيَزْدَادُ الْكَافِرُ أَلَمًا حَيْثُ يَرَى نَفْسَهُ مُنْتَقِلَةً مِنَ الشَّرَفِ إِلَى التَّلَفِ وَمِنَ النَّعِيمِ إِلَى الْجَحِيمِ، ثُمَّ يَتَذَكَّرُونَ مَا كَانُوا/ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخَشْيَةِ وَالْخَوْفِ، فَيَقُولُونَ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَكُونُ تَسَاؤُلُهُمْ عَنْ سَبَبِ مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ فَيَقُولُونَ خَشْيَةُ اللَّهِ كُنَّا نَخَافُ اللَّهَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إِشْفَاقُهُمْ عَلَى فَوَاتِ الدُّنْيَا وَالْخُرُوجِ مِنْهَا وَمُفَارَقَةِ الْإِخْوَانِ ثُمَّ لَمَّا نزلوا الجنة علموا خطأهم. ثم قال تعالى: [سورة الطور (52) : الآيات 29 الى 31] فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) وَتَعَلُّقُ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ فِي الْوُجُودِ قَوْمًا يَخَافُونَ اللَّه وَيُشْفِقُونَ فِي أَهْلِيهِمْ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِتَذْكِيرِ مَنْ يَخَافُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق: 45] فَحَقَّقَ مَنْ يُذَكِّرُهُ فَوَجَبَ التَّذْكِيرُ، وَأَمَّا الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الْإِتْيَانُ بِمَا أُمِرَ بِهِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ فَذَكِّرْ قَدْ عُلِمَ تَعَلُّقُهُ بِمَا قَبْلَهُ فَحَسُنَ ذِكْرُهُ بِالْفَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ فَما أَنْتَ أَيْضًا قَدْ عُلِمَ أَيْ أَنَّكَ لَسْتَ بِكَاهِنٍ فَلَا تَتَغَيَّرْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ سِيرَةُ الْمُزَوِّرِ فَذَكِّرْ فَإِنَّكَ لَسْتَ بِمُزَوِّرٍ، وَذَلِكَ سَبَبُ التَّذْكِيرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا وَجْهُ تَعَلُّقِ قَوْلِهِ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ بِقَوْلِهِ شاعِرٌ؟ نَقُولُ فيه ووجهان الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَحْتَرِزُ عَنْ إِيذَاءِ الشُّعَرَاءِ وَتَتَّقِي أَلْسِنَتَهُمْ، فَإِنَّ الشِّعْرَ كَانَ عِنْدَهُمْ يُحْفَظُ وَيُدَوَّنُ، وَقَالُوا لَا نُعَارِضُهُ فِي الْحَالِ مَخَافَةَ أَنْ يَغْلِبَنَا بِقُوَّةِ شِعْرْهِ، وَإِنَّمَا سَبِيلُنَا الصَّبْرُ وَتَرَبُّصُ مَوْتِهِ الثَّانِي: أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِنَّ الْحَقَّ دِينُ اللَّه، وَإِنَّ الشَّرْعَ الَّذِي أَتَيْتَ بِهِ يَبْقَى أَبَدَ الدَّهْرِ وَكِتَابِي يُتْلَى إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، فَقَالُوا لَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ شَاعِرٌ، وَالَّذِي يَذْكُرُهُ فِي حَقِّ آلِهَتِنَا شِعْرٌ وَلَا نَاصِرَ لَهُ وَسَيُصِيبُهُ مِنْ بَعْضِ آلِهَتِنَا الْهَلَاكُ فَنَتَرَبَّصُ بِهِ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا مَعْنَى رَيْبِ الْمَنُونِ؟ نَقُولُ قِيلَ هُوَ اسْمٌ لِلْمَوْتِ فَعُولٌ مِنَ الْمَنِّ وَهُوَ الْقَطْعُ وَالْمَوْتُ قَطُوعٌ، وَلِهَذَا سُمِّيَ بِمَنُونٍ، وَقِيلَ الْمَنُونُ الدَّهْرُ وَرَيْبُهُ حَوَادِثُهُ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُمْ نَتَرَبَّصُ يَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ شَاعِرًا فَصُرُوفُ الزَّمَانِ رُبَّمَا تُضْعِفُ ذِهْنَهُ وَتُورِثُ وَهَنَهُ فَيَتَبَيَّنُ لِكُلٍّ فَسَادُ أَمْرِهِ وَكَسَادُ شِعْرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: كَيْفَ قَالَ: تَرَبَّصُوا بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَأَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوجِبُ الْمَأْمُورَ [بِهِ] أَوْ يُفِيدُ جَوَازَهُ، وَتَرَبُّصُهُمْ ذَلِكَ كَانَ حَرَامًا؟ نَقُولُ ذَلِكَ لَيْسَ بِأَمْرٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَهْدِيدٌ مَعْنَاهُ تَرَبَّصُوا ذَلِكَ فَإِنَّا نَتَرَبَّصُ الْهَلَاكَ بِكُمْ عَلَى حَدِّ مَا يَقُولُ السَّيِّدُ الْغَضْبَانُ لِعَبْدِهِ افْعَلْ مَا شِئْتَ فَإِنِّي لَسْتُ عَنْكَ/ بِغَافِلٍ وَهُوَ أَمْرٌ لِتَهْوِينِ الْأَمْرِ عَلَى النَّفْسِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِمَنْ يُهَدِّدُهُ بِرَجُلٍ وَيَقُولُ أَشْكُوكَ إِلَى زَيْدٍ فَيَقُولُ اشْكُنِي أَيْ لَا يَهُمُّنِي ذَلِكَ وَفِيهِ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَا تَشْكُنِي لَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلَ الْخَوْفِ وَيُنَافِيهِ مَعْنَاهُ، فَأَتَى بِجَوَابٍ تَامٍّ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، فَإِنْ قِيلَ

[سورة الطور (52) : آية 32]

لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ تَرَبَّصُوا أَوْ لَا تَرَبَّصُوا كَمَا قَالَ: فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا [الطُّورِ: 16] نَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ الْقَائِلُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمِثَالِ اشْكُنِي أَوْ لَا تَشْكُنِي يَكُونُ ذَلِكَ مُفِيدًا عَدَمَ خَوْفِهِ مِنْهُ، فَإِذَا قَالَ اشْكُنِي يَكُونُ أَدَلَّ عَلَى عَدَمِ الْخَوْفِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ أَنَا فَارِغٌ عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَنْتَ تَتَوَهَّمُ أَنَّهُ يُفِيدُ فَافْعَلْ حَتَّى يَبْطُلَ اعْتِقَادُكَ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أَتَرَبَّصُ هَلَاكَكُمْ وَقَدْ أُهْلِكُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ هَذَا مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَالَّذِي نَقُولُهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ أَنَّ الْكَلَامَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا وَبَيَانُهَا هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَنُونِ الْمَوْتَ فَقَوْلُهُ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ مَعْنَاهُ إِنِّي أَخَافُ الْمَوْتَ وَلَا أَتَمَنَّاهُ لَا لِنَفْسِي وَلَا لِأَحَدٍ، لِعَدَمِ عِلْمِي بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ وَأَنَا أَقُولُ مَا قَالَ رَبِّي أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 144] فَتَرَبَّصُوا مَوْتِي وَأَنَا متربصه وَلَا يَسُرُّكُمْ ذَلِكَ لِعَدَمِ حُصُولِ مَا تَتَوَقَّعُونَ بَعْدِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَمَا قِيلَ تَرَبَّصُوا مَوْتِي فَإِنِّي مُتَرَبِّصٌ مَوْتَكُمْ بِالْعَذَابِ، وَإِنْ قُلْنَا الْمُرَادُ مِنْ رَيْبِ الْمَنُونِ صُرُوفُ الدَّهْرِ فَمَعْنَاهُ إِنْكَارُ كَوْنِ صُرُوفِ الدَّهْرِ مُؤَثِّرَةً فَكَأَنَّهُ يَقُولُ أَنَا مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ حَتَّى أُبْصِرَ مَاذَا يَأْتِي بِهِ دَهْرُكُمُ الَّذِي تَجْعَلُونَهُ مُهْلِكًا وَمَاذَا يُصِيبُنِي مِنْهُ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَنَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَرَبَّصُ مَا يَتَرَبَّصُونَ، غَيْرَ أَنَّ فِي الْأَوَّلِ: تَرَبُّصُهُ مَعَ اعْتِقَادِ الْوُقُوعِ، وَفِي الثَّانِي: تَرَبُّصُهُ مَعَ اعْتِقَادِ عَدَمِ التَّأْثِيرِ، عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ يَقُولُ أَنَا أَيْضًا أَنْتَظِرُ مَا يَنْتَظِرُهُ حَتَّى أَرَى مَاذَا يَكُونُ مُنْكِرًا عَلَيْهِ وُقُوعَ مَا يَتَوَقَّعُ وُقُوعَهُ، وَإِنَّمَا هَذَا لِأَنَّ تَرْكَ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ لِكَوْنِهِ مَذْكُورًا وَهُوَ رَيْبُ الْمَنُونِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ وَإِرَادَةِ غَيْرِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الْعَذَابُ الثَّانِي: أَتَرَبَّصُ صُرُوفَ الدَّهْرِ لِيَظْهَرَ عَدَمُ تَأْثِيرِهَا فَهُوَ لَمْ يَتَرَبَّصْ بِهِمْ شَيْئًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَرَبَّصُ بَقَاءَهُ بَعْدَهُمْ وَارْتِفَاعَ كَلِمَتِهِ فَلَمْ يَتَرَبَّصْ بِهِمْ شَيْئًا عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي اخْتَرْنَاهَا فَقَالَ: فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ. ثم قال تعالى: [سورة الطور (52) : آية 32] أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) وَأَمْ هَذِهِ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مُتَّصِلَةٌ تَقْدِيرُهَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ ذِكْرٌ؟ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا؟ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ إِمَّا أَنْ تَثْبُتَ بِسَمْعٍ وَإِمَّا أَنْ تَثْبُتَ بِعَقْلٍ فَقَالَ هَلْ وَرَدَ أَمْرٌ سَمْعِيٌّ؟ أَمْ عُقُولُهُمْ تَأْمُرُهُمْ بِمَا كَانُوا يَقُولُونَ؟ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ يَغْتَرُّونَ، وَيَقُولُونَ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ سَمْعًا وَلَا مُقْتَضًى لَهُ عَقْلًا؟ وَالطُّغْيَانُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْعِصْيَانِ وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ ظَاهِرُهُ مَكْرُوهٌ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ [الْحَاقَّةِ: 11] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْتَ فَلِمَ أَسْقَطَ مَا يُصَدَّرُ بِهِ؟ نَقُولُ لِأَنَّ كَوْنَ مَا يَقُولُونَ بِهِ مُسْنَدًا إِلَى نَقْلٍ مَعْلُومٍ عَدَمُهُ لَا يَنْفِي، وَأَمَّا كَوْنُهُ مَعْقُولًا فَهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّهُ مَعْقُولٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُمْ طَاغِينَ فَهُوَ حَقٌّ، فَخَصَّ اللَّه تَعَالَى بِالذِّكْرِ مَا قَالُوا بِهِ وَقَالَ اللَّه بِهِ، فَهُمْ قَالُوا نَحْنُ نَتَّبِعُ الْعَقْلَ، واللَّه تَعَالَى قَالَ هُمْ طَاغُونَ فَذَكَرَ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ وَقَعَ فِيهِمَا الْخِلَافُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَكُونُ عَلَى وَفْقِ الْعَقْلِ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ مَا يَجِبُ قَوْلُهُ عَقْلًا، فَهَلْ صَارَ [كُلُّ] وَاجِبٍ عَقْلًا مَأْمُورًا بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْأَحْلَامُ؟ نَقُولُ جَمْعُ حِلْمٍ وَهُوَ الْعَقْلُ وَهُمَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْعَقْلَ يَضْبِطُ الْمَرْءَ فَيَكُونُ كَالْبَعِيرِ الْمَعْقُولِ لَا يَتَحَرَّكُ مِنْ مَكَانِهِ، وَالْحُلْمُ مِنَ الْحِلْمِ وَهُوَ أَيْضًا سَبَبُ وَقَارِ الْمَرْءِ وَثَبَاتِهِ،

[سورة الطور (52) : آية 33]

وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِلْعُقُولِ النُّهَى مِنَ النَّهْيِ وَهُوَ الْمَنْعُ، وَفِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّ الْحُلْمَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ فَيُنْزِلُ وَيَلْزَمُهُ الْغُسْلُ، وَهُوَ سَبَبُ الْبُلُوغِ وَعِنْدَهُ يَصِيرُ الْإِنْسَانُ مُكَلَّفًا، وَكَأَنَّ اللَّه تَعَالَى مِنْ لَطِيفِ حِكْمَتِهِ قَرَنَ الشَّهْوَةَ بِالْعَقْلِ وَعِنْدَ ظُهُورِ الشَّهْوَةِ كَمُلَ الْعَقْلُ فَأَشَارَ إِلَى الْعَقْلِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى مَا يُقَارِنُهُ وَهُوَ الْحُلْمُ، لِيَعْلَمَ أَنَّهُ نَذِيرُ كَمَالِ الْعَقْلِ، لَا الْعَقْلُ الَّذِي بِهِ يحترز الإنسان تخطئ الشِّرْكَ وَدُخُولَ النَّارِ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ كُلَّ مَعْقُولٍ، بَلْ لَا يَقُولُ إِلَّا مَا يَأْمُرُ بِهِ الْعَقْلُ الرَّزِينُ الَّذِي يُصَحِّحُ التكليف. المسألة الرابعة: بِهذا إِشَارَةٌ إِلَى مَاذَا؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا إِشَارَةً مُهِمَّةً، أَيْ بِهَذَا الَّذِي يَظْهَرُ مِنْهُمْ قَوْلًا وَفِعْلًا حَيْثُ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالْأَوْثَانَ وَيَقُولُونَ الْهَذَيَانَ مِنَ الْكَلَامِ الثَّانِي: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِمْ هُوَ كَاهِنٌ هُوَ شَاعِرٌ هُوَ مَجْنُونٌ الثَّالِثُ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى التَّرَبُّصِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا نَتَرَبَّصُ قَالَ اللَّه تَعَالَى أَعُقُولُهُمْ تَأْمُرُهُمْ بِتَرَبُّصِ هَلَاكِهِمْ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يَتَوَقَّعْ هَلَاكَ نَبِيِّهِ إِلَّا وَهَلَكَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَلْ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ (أَمْ) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى بَلْ؟ نَقُولُ نَعَمْ، تَقْدِيرُهُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ شَاعِرٌ قَوْلًا بَلْ يَعْتَقِدُونَهُ عَقْلًا وَيَدْخُلُ فِي عُقُولِهِمْ ذَلِكَ، أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ قَوْلًا مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ عَقْلٍ بَلْ يَعْتَقِدُونَ كَوْنَهُ كَاهِنًا وَمَجْنُونًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) ، لَكِنْ بَلْ هَاهُنَا وَاضِحٌ وَفِي قَوْلِهِ بَلْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ خفي ثم قال تعالى: [سورة الطور (52) : آية 33] أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ [الطُّورِ: 30] وَتَقْدِيرُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَتَقُولُونَ كَاهِنٌ، أَمْ تَقُولُونَ شَاعِرٌ، أَمْ تَقَوَّلَهُ ثُمَّ قال لبطلان جميع الأقسام: [سورة الطور (52) : آية 34] فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) أَيْ إِنْ كَانَ هُوَ شَاعِرًا فَفِيكُمُ الشُّعَرَاءُ الْبُلَغَاءُ والكهنة الأذكياء ومن يرتجل الخطب والقصائر وَيَقُصُّ الْقَصَصَ وَلَا يَخْتَلِفُ/ النَّاقِصُ وَالزَّائِدُ فَلْيَأْتُوا بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ، وَالتَّقَوُّلُ يُرَادُ بِهِ الْكَذِبُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنًى لَطِيفٍ وَهُوَ أَنَّ التَّفَعُّلَ لِلتَّكَلُّفِ وِإِرَاءَةِ الشَّيْءِ وَهُوَ لَيْسَ عَلَى مَا يُرَى يُقَالُ تَمَرَّضَ فُلَانٌ أَيْ لَمْ يَكُنْ مَرِيضًا وَأَرَى مِنْ نَفْسِهِ الْمَرَضَ وَحِينَئِذٍ كَأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ كَذِبٌ وَلَيْسَ بِقَوْلٍ إِنَّمَا هُوَ تَقَوُّلُ صُورَةِ الْقَوْلِ وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ بِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّ الْمُكَذِّبَ هُوَ الصَّادِقُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ بَيَانُ هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَانِ نُزُولِ الْوَحْيِ وَحُصُولِ الْمُعْجِزَةِ كَانُوا يُشَاهِدُونَهَا وَكَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَشْهَدُوا لَهُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ وَيَكُونُوا كَالنُّجُومِ لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا كَانَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ بَلْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُونُوا أَيْضًا وَهُوَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا تِلْكَ الْأُمُورَ وَلَمْ يَظْهَرِ الْأَمْرُ عِنْدَهُمْ ذَلِكَ الظُّهُورِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَأْتُوا الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ أَيْ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ لِيُصَحِّحَ كَلَامَهُمْ وَيُبْطِلَ كَلَامَهُ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَلْيَأْتُوا أَمْرُ تعجيز يقول الْقَائِلِ لِمَنْ يَدَّعِي أَمْرًا أَوْ فِعْلًا وَيَكُونُ غرضه إظهار

[سورة الطور (52) : آية 35]

عجزه، والظاهر أن الأمر هاهنا مبقي عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: ائْتُوا مُطْلَقًا بَلْ إِنَّمَا قَالَ: ائْتُوا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَوُجُودِ ذَلِكَ الشَّرْطِ يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِهِ وَأَمْرُ التَّعْجِيزِ فِي كَلَامِ اللَّه تَعَالَى قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [الْبَقَرَةِ: 258] وَلَيْسَ هَذَا بَحْثًا يُورِثُ خَلَلًا فِي كَلَامِهِمْ. الثَّانِي: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْحَدِيثُ مُحْدَثٌ وَالْقُرْآنُ سَمَّاهُ حَدِيثًا فَيَكُونُ مُحْدَثًا، نَقُولُ الْحَدِيثُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ، يُقَالُ لِلْمُحْدَثِ وَالْقَدِيمِ، وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هَذَا حَدِيثٌ قَدِيمٌ بِمَعْنَى مُتَقَادِمِ الْعَهْدِ لَا بِمَعْنَى سَلْبِ الْأَوَّلِيَّةِ وَذَلِكَ لَا نِزَاعَ فِيهِ. الثَّالِثُ: النُّحَاةُ يَقُولُونَ الصِّفَةُ تَتْبَعُ الْمَوْصُوفَ فِي التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ، لَكِنَّ الْمَوْصُوفَ حَدِيثٌ وَهُوَ مُنَكَّرٌ وَمِثْلُ مُضَافٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَالْمُضَافُ إِلَى الْمُعَرَّفِ مُعَرَّفٌ، فَكَيْفَ هَذَا؟ نَقُولُ مِثْلُ وَغَيْرُ لَا يَتَعَرَّفَانِ بِالْإِضَافَةِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا هُوَ مِثْلُهُمَا وَالسَّبَبُ أَنَّ غَيْرَ أَوْ مِثْلًا وَأَمْثَالَهُمَا فِي غَايَةِ التَّنْكِيرِ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا مِثْلَ زَيْدٍ يَتَنَاوَلُ كُلَّ شَيْءٍ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِثْلُ زَيْدٍ فِي كَوْنِهِ شَيْئًا، فَالْجَمَادُ مِثْلُهُ فِي الْجِسْمِ وَالْحَجْمِ وَالْإِمْكَانِ، وَالنَّبَاتُ مِثْلُهُ فِي النُّشُوءِ وَالنَّمَاءِ وَالذُّبُولِ وَالْفَنَاءِ، وَالْحَيَوَانُ مِثْلُهُ فِي الْحَرَكَةِ وَالْإِدْرَاكِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَوْصَافِ، وَأَمَّا غَيْرُ فَهُوَ عِنْدَ الْإِضَافَةِ يُنَكَّرُ وَعِنْدَ قَطْعِ الْإِضَافَةِ رُبَّمَا يَتَعَرَّفُ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ غَيْرَ زَيْدٍ صَارَ فِي غاية الإبهام فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ أُمُورًا لَا حَصْرَ لَهَا، وَأَمَّا إِذَا قَطَعْتَهُ عَنِ الْإِضَافَةِ رُبَّمَا تَقُولُ الْغَيْرُ وَالْمُغَايَرَةُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَكَذَلِكَ التَّغَيُّرُ فَتَجْعَلُ الْغَيْرَ كَأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، أَوْ تَجْعَلُهُ مُبْتَدَأً وَتُرِيدُ بِهِ مَعْنًى مُعَيَّنًا. الرَّابِعُ: إِنْ كانُوا صادِقِينَ أَيْ فِي قَوْلِهِمْ تَقَوَّلَهُ [الطُّورِ: 33] وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ كَاهِنٌ وَأَنَّهُ مَجْنُونٌ، وَأَنَّهُ شَاعِرٌ، وَأَنَّهُ مُتَقَوِّلٌ، وَلَوْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَهَانَ عَلَيْهِمِ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ، وَلَمَّا امْتَنَعَ كَذَبُوا فِي الْكُلِّ. الْبَحْثُ الْخَامِسُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ وَلَا شَكَّ فِيهِ، فَإِنَّ الْخَلْقَ عَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ عِنْدَ التَّحَدِّي فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُ مُعْجِزًا لِفَصَاحَتِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْجِزًا لِصَرْفِ اللَّه عُقُولَ الْعُقَلَاءِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَعَقْلِهِ أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ النُّطْقِ بِمَا يَقْرُبُ مِنْهُ، وَمَنْعِ الْقَادِرِ مِنَ الْإِتْيَانِ بِالْمَقْدُورِ كَإِتْيَانِ الْوَاحِدِ بِفِعْلٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ أَنَا أُحَرِّكُ هَذَا الْجَبَلَ يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ، وَكَذَا إِذَا قَالَ إِنِّي أَفْعَلُ فِعْلًا لَا يَقْدِرُ الْخَلْقُ [مَعَهُ] عَلَى حَمْلِ تُفَّاحَةٍ مِنْ مَوْضِعِهَا يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِعْلٌ مُعْجِزٌ إِذَا اتَّصَلَ بِالدَّعْوَى، وَهَذَا مَذْهَبُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَلَا فَسَادَ فِيهِ وَعَلَى أَنْ يُقَالَ هو معجز بهما جميعا. ثم قال تعالى: [سورة الطور (52) : آية 35] أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) وَمِنْ هُنَا لَا خِلَافَ أَنَّ أَمْ لَيْسَتْ بِمَعْنَى بَلْ، لَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَقَعُ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ، إِمَّا بِالْهَمْزَةِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ أَخُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَوْ هَلْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ عَلَى أَصْلِ الْوَضْعِ لِلِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يَقَعُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ وَتَقْدِيرُهُ أَمَا خُلِقُوا، أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ؟ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا وَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا؟ نَقُولُ لَمَّا كَذَّبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَسَبُوهُ إِلَى الْكِهَانَةِ وَالْجُنُونِ وَالشِّعْرِ وَبَرَّأَهُ اللَّه مِنْ ذَلِكَ، ذكر الدَّلِيلَ عَلَى صِدْقِهِ إِبْطَالًا لِتَكْذِيبِهِمْ وَبَدَأَ بِأَنْفُسِهِمْ، كَأَنَّهُ يَقُولُ كَيْفَ يُكَذِّبُونَهُ وَفِي

أَنْفُسِهِمْ دَلِيلُ صِدْقِهِ لِأَنَّ قَوْلَهَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ فِي التَّوْحِيدِ وَالْحَشْرِ وَالرِّسَالَةِ فَفِي أَنْفُسِهِمْ مَا يُعْلَمُ بِهِ صِدْقُهُ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّهُمْ خُلِقُوا وَذَلِكَ دَلِيلُ التَّوْحِيدِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَهُ مِرَارًا فَلَا نُعِيدُهُ. وَأَمَّا الْحَشْرُ فَلِأَنَّ الْخَلْقَ الْأَوَّلَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْخَلْقِ الثَّانِي وَإِمْكَانِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَتَمَ الِاسْتِفْهَامَاتِ بِقَوْلِهِ أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الطُّورِ: 43] . «1» الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُ فَلِمَ حُذِفَ قَوْلُهُ أَمَا خُلِقُوا؟ نَقُولُ: لِظُهُورِ انْتِفَاءِ ذَلِكَ ظُهُورًا لَا يَبْقَى مَعَهُ لِلْخِلَافِ وَجْهٌ، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ لَمْ يُصَدَّرْ بِقَوْلِهِ أَمَا خُلِقُوا «2» وَيَقُولُ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ؟ نَقُولُ لِيُعْلَمَ أَنَّ قَبْلَ هَذَا أَمْرًا مَنْفِيًّا ظَاهِرًا، وَهَذَا الْمَذْكُورُ قَرِيبٌ مِنْهُ فِي ظُهُورِ الْبُطْلَانِ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَيْضًا ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مِنْ تُرَابٍ وَمَاءٍ وَنُطْفَةٍ، نَقُولُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي الْبُطْلَانِ لِأَنَّ كَوْنَهُمْ غَيْرَ مَخْلُوقِينَ أَمْرٌ يَكُونُ مُدَّعِيهِ مُنْكِرًا لِلضَّرُورَةِ فَمُنْكِرُهُ مُنْكِرٌ لِأَمْرٍ ضَرُورِيٍّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْمَنْقُولُ مِنْهَا أَنَّهُمْ/ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ وَقِيلَ إِنَّهُمْ خُلِقُوا لَا لِشَيْءٍ عَبَثًا، وَقِيلَ إِنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَأُمٍّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، أَيْ أَلَمْ يُخْلَقُوا مِنْ تُرَابٍ أَوْ مِنْ مَاءٍ، وَدَلِيلُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [الْمُرْسَلَاتِ: 20] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الِاسْتِفْهَامُ الثَّانِي لَيْسَ بِمَعْنَى النَّفْيِ بَلْ هُوَ بِمَعْنَى الْإِثْبَاتِ قَالَ اللَّه تَعَالَى: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ [الواقعة: 59] وأَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الْوَاقِعَةِ: 64] أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ [الْوَاقِعَةِ: 72] كُلُّ ذَلِكَ فِي الْأَوَّلِ مَنْفِيٌّ وَفِي الثَّانِي مُثْبَتٌ كَذَلِكَ هَاهُنَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَيِ الصَّادِقُ هُوَ هَذَا الثَّانِي حِينَئِذٍ، وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الْإِنْسَانِ: 1] فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ الْإِثْبَاتُ وَالْآدَمِيُّ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ؟ نَقُولُ وَالتُّرَابُ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، فَالْإِنْسَانُ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى خَلْقِهِ وَأَسْنَدْتَ النَّظَرَ إِلَى ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ وَجَدْتَهُ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَوْ نَقُولُ الْمُرَادُ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ مَذْكُورٍ أَوْ مُعْتَبَرٍ وَهُوَ الْمَاءُ الْمَهِينُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْوَجْهُ فِي ذِكْرِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي فِي الْآيَةِ؟ نَقُولُ هِيَ أُمُورٌ مُرَتَّبَةٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَمْنَعُ الْقَوْلَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْحَشْرِ فَاسْتُفْهِمَ بِهَا، وَقَالَ أَمَا خُلِقُوا أَصْلًا، وَلِذَلِكَ يُنْكِرُونَ الْقَوْلَ بِالتَّوْحِيدِ لِانْتِفَاءِ الْإِيجَادِ وَهُوَ الْخَلْقُ، وَيُنْكِرُونَ الْحَشْرَ لِانْتِفَاءِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، أَيْ أَمْ يَقُولُونَ بِأَنَّهُمْ خُلِقُوا لَا لِشَيْءٍ فَلَا إِعَادَةَ، كَمَا قَالَ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [الْمُؤْمِنُونَ: 115] . وَعَلَى قَوْلِنَا إِنَّ الْمُرَادَ خُلِقُوا لَا مِنْ تُرَابٍ وَلَا مِنْ مَاءٍ فَلَهُ وَجْهٌ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ الْخَلْقَ إِذَا لَمْ يكن من شيء بل يكون إيداعيا يَخْفَى كَوْنُهُ مَخْلُوقًا عَلَى بَعْضِ الْأَغْبِيَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمُ السَّمَاءُ رُفِعَ اتِّفَاقًا وَوُجِدَ مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ وَأَمَّا الْإِنْسَانُ الَّذِي يَكُونُ أَوَّلًا نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ لَحْمًا وَعَظْمًا لَا يَتَمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ إِنْكَارِهِ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ تَغَيُّرِ أَحْوَالِهِ فَقَالَ تَعَالَى: أَمْ خُلِقُوا بِحَيْثُ يَخْفَى عَلَيْهِمْ وَجْهُ خَلْقِهِمْ بِأَنْ خُلِقُوا ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبْقِ حَالَةٍ عَلَيْهِمْ يَكُونُونَ فيها ترابا ولا ماء ولا نطفة

_ (1) ترك المصنف الكلام هنا على الثالث وهو الرسالة سهوا أو اعتمادا على ما ذكره فيما سلف من التفسير ولأنه إذا ثبت أمر المبدأ والمعاد سهل إثبات الرسالة. [.....] (2) يلاحظ أن هذا السؤال قريب من الذي قبله في نفس المسألة الثانية.

[سورة الطور (52) : آية 36]

لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُمْ كَانُوا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ خُلِقُوا مِنْهُ خَلْقًا، فَمَا خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ حَتَّى يُنْكِرُوا الْوَحْدَانِيَّةَ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ [الزُّمَرِ: 6] وَلِهَذَا أَكْثَرَ اللَّه مِنْ قَوْلِهِ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ [الْإِنْسَانِ: 2] وَقَوْلُهُ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [الْمُرْسَلَاتِ: 20] يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَفَى الْمَجْمُوعَ بِنَفْيِ الْخَلْقِ فَيَكُونَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَخُلِقْتُمْ لَا مِنْ مَاءٍ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، أَيْ مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ فَفِيهِ تَرْتِيبٌ حَسَنٌ أَيْضًا وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْيَ الصَّانِعِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِنَفْيِ كَوْنِ الْعَالَمِ مَخْلُوقًا فَلَا يَكُونُ مُمْكِنًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا لَكِنَّ الْمُمْكِنَ لَا يَكُونُ مُحْتَاجًا فَيَقَعُ الْمُمْكِنُ مِنْ غَيْرِ مُؤَثِّرٍ وَكِلَاهُمَا مُحَالٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ فمعناه أهم الْخَالِقُونَ لِلْخَلْقِ فَيَعْجِزُ الْخَالِقُ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ، فَإِنَّ دَأْبَ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ يَعْيَا بِالْخَلْقِ، فَمَا قَوْلُهُمْ أَمَا خُلِقُوا فَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ إِلَهٌ الْبَتَّةَ، أَمْ خُلِقُوا وَخَفِيَ عَلَيْهِمْ وَجْهُ الْخَلْقِ أَمْ جَعَلُوا الْخَالِقَ مِثْلَهُمْ فَنَسَبُوا إِلَيْهِ الْعَجْزَ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ [ق: 15] هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَشْرِ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ فَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ حَيْثُ قَالُوا الْأُمُورُ مُخْتَلِفَةٌ وَاخْتِلَافُ الْآثَارِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمُؤَثِّرَاتِ وَقَالُوا أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: 5] فَقَالَ تَعَالَى: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ حَيْثُ لَا يَقْدِرُ/ الْخَبَّازُ عَلَى الْخِيَاطَةِ وَالْخَيَّاطُ عَلَى الْبِنَاءِ وَكُلُّ وَاحِدٍ يشغله شأن عن شأن. ثم قال تعالى: [سورة الطور (52) : آية 36] أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يُوقِنُونَ بِأَنَّهُمْ خُلِقُوا وَهُوَ حِينَئِذٍ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: 25] أَيْ هُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ خَلْقُ اللَّه وَلَيْسَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ بَلْ لَا يُوقِنُونَ بِأَنَّ اللَّه وَاحِدٌ وَتَقْدِيرُهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ أَيْ مَا خُلِقُوا وَإِنَّمَا لَا يُوقِنُونَ بِوِحْدَةِ اللَّه وَثَالِثُهَا: لَا يُوقِنُونَ أَصْلًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مَفْعُولٍ يُقَالُ فُلَانٌ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَفُلَانٌ لَيْسَ بِكَافِرٍ لِبَيَانِ مَذْهَبِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ مَفْعُولًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ فُلَانٌ يُؤْذِي وَيُؤَدِّي لِبَيَانِ مَا فِيهِ لَا مَعَ الْقَصْدِ إِلَى ذِكْرِ مَفْعُولٍ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَقْدِيرُهُ أَنَّهُمْ مَا خَلَقُوا السموات وَالْأَرْضَ وَلَا يُوقِنُونَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ، بَلْ لَا يُوقِنُونَ أَصْلًا وَإِنْ جِئْتَهُمْ بِكُلِّ آيَةٍ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ [الطُّورِ: 44] وَهَذِهِ الْآيَةُ إِشَارَةٌ إِلَى دَلِيلِ الْآفَاقِ، وَقَوْلُهُ مِنْ قَبْلُ أَمْ خُلِقُوا [الطُّورِ: 35] دَلِيلُ الأنفس. ثم قال تعالى: [سورة الطور (52) : آية 37] أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ مِنَ الْخَزَائِنِ خَزَائِنُ الرَّحْمَةِ ثَانِيهَا: خَزَائِنُ الْغَيْبِ ثَالِثُهَا: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَسْرَارِ الْإِلَهِيَّةِ الْمَخْفِيَّةِ عَنِ الْأَعْيَانِ رَابِعُهَا: خَزَائِنُ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي لَمْ يَرَهَا الْإِنْسَانُ وَلَمْ يَسْمَعْ بِهَا، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مَنْقُولٌ، وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ مُسْتَنْبَطٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ تَتِمَّةٌ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِخَزَنَةِ [رَحْمَةِ] اللَّه فَيَعْلَمُوا خَزَائِنَ اللَّه، وَلَيْسَ بِمُجَرَّدِ انْتِفَاءِ كَوْنِهِمْ خَزَنَةً يَنْتَفِي الْعِلْمُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُشْرِفًا عَلَى الْخِزَانَةِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالْخَزَائِنِ عِنْدَ الْخَازِنِ وَالْكَاتِبِ فِي الْخِزَانَةِ، فَقَالَ لَسْتُمْ بِخَزَنَةٍ وَلَا بِكَتَبَةِ الْخِزَانَةِ الْمُسَلَّطِينَ عَلَيْهَا، وَلَا يَبْعُدُ تَفْسِيرُ الْمُسَيْطِرِينَ بِكَتَبَةِ الْخِزَانَةِ، لِأَنَّ التَّرْكِيبَ يَدُلُّ عَلَى السَّطْرِ وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْكِتَابِ، وَقِيلَ الْمُسَيْطِرُ الْمُسَلَّطُ وَقُرِئَ بِالصَّادِ، وكذلك في كثير من

[سورة الطور (52) : آية 38]

السينات الَّتِي مَعَ الطَّاءِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِمُصَيْطِرٍ [الْغَاشِيَةِ: 22] وَ [قَدْ قُرِئَ] مُصَيْطِرٌ. ثُمَّ قال تعالى: [سورة الطور (52) : آية 38] أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) وَهُوَ أَيْضًا تَتْمِيمٌ لِلدَّلِيلِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَكُونُ خَازِنًا وَلَا كَاتِبًا قَدْ يَطَّلِعُ عَلَى الْأَمْرِ بِالسَّمَاعِ مِنَ الْخَازِنِ أَوِ الْكَاتِبِ، / فَقَالَ أَنْتُمْ لَسْتُمْ بِخَزَنَةٍ وَلَا كَتَبَةٍ وَلَا اجْتَمَعْتُمْ بِهِمْ، لِأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ وَلَا صُعُودَ لَكُمْ إِلَيْهِمْ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصُودُ نَفْيُ الصُّعُودِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ السُّلَّمِ لَهُمْ نَفْيُ الصُّعُودِ، فَمَا الْجَوَابُ عَنْهُ؟ نَقُولُ النَّفْيُ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الصُّعُودِ، وَهُوَ نَفْيُ الِاسْتِمَاعِ وَآخِرُ الْآيَةِ شَامِلٌ لِلْكُلِّ، قَالَ تَعَالَى: فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: السُّلَّمُ لَا يُسْتَمَعُ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُسْتَمَعُ عَلَيْهِ، فَمَا الْجَوَابُ؟ نَقُولُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ يَسْتَمِعُونَ صَاعِدِينَ فِيهِ وَثَانِيهِمَا: مَا ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ أَنَّ فِي بِمَعْنَى عَلَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طَه: 71] أَيْ جُذُوعِ النَّخْلِ، وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْمَارِ وَالتَّغْيِيرِ «1» الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِمَ تَرَكَ ذِكْرَ مَفْعُولِ يَسْتَمِعُونَ وَمَاذَا هُوَ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْمُسْتَمَعُ هُوَ الْوَحْيُ أَيْ هَلْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ الْوَحْيَ ثَانِيهَا: يَسْتَمِعُونَ مَا يَقُولُونَ مِنْ أَنَّهُ شَاعِرٌ، وَأَنَّ للَّه شَرِيكًا، وَأَنَّ الْحَشْرَ لَا يَكُونُ ثَالِثُهَا: تَرَكَ الْمَفْعُولَ رَأْسًا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: هَلْ لَهُمْ قُوَّةُ الِاسْتِمَاعِ مِنَ السَّمَاءِ حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِرَسُولٍ، وَكَلَامُهُ لَيْسَ بِمُرْسَلٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ: فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ وَلَمْ يَقُلْ فَلْيَأْتُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطُّورِ: 34] نَقُولُ طَلَبَ مِنْهُمْ مَا يَكُونُ أَهْوَنَ عَلَى تَقْدِيرِ صِدْقِهِمْ، لِيَكُونَ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَيْهِ أَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ، فَقَالَ هُنَاكَ فَلْيَأْتُوا أَيِ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَتَعَاوَنُوا، وَأَتَوْا بِمِثْلِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ أَهْوَنُ، وَأَمَّا الِارْتِقَاءُ فِي السُّلَّمِ بِالِاجْتِمَاعِ [فَإِنَّهُ] مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّهُ لَا يَرْتَقِي إِلَّا وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، وَلَا يَحْصُلُ فِي الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا إِلَّا وَاحِدٌ فَقَالَ: فَلْيَأْتِ ذَلِكَ الْوَاحِدُ الَّذِي كَانَ أَشَدَّ رُقِيًّا بِمَا سَمِعَهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ مَا الْمُرَادُ بِهِ؟ نَقُولُ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى لَطِيفَةٍ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ طُلِبَ مِنْهُمْ مَا سَمِعُوهُ، وَقِيلَ لَهُمْ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِمَا سَمِعَ لَكَانَ لِوَاحِدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا سَمِعْتُ كَذَا وَكَذَا فَيَفْتَرِي كَذِبًا، فَقَالَ لَا بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَأْتِيَ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عليه. ثم قال تعالى: [سورة الطور (52) : آية 39] أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ الشِّرْكِ، وَفَسَادِ مَا يَقُولُونَ بِطَرِيقٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى الشَّرِيكِ لِعَجْزِهِ، واللَّه قَادِرٌ فَلَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: نَحْنُ لَا نَجْعَلُ هَذِهِ الْأَصْنَامَ وَغَيْرَهَا شُرَكَاءَ، وَإِنَّمَا نُعَظِّمُهَا لِأَنَّهَا بَنَاتُ اللَّه، فَقَالَ تَعَالَى: كَيْفَ تَجْعَلُونَ للَّه الْبَنَاتِ، وَخَلْقُ الْبَنَاتِ وَالْبَنِينَ إِنَّمَا كَانَ لِجَوَازِ الْفَنَاءِ عَلَى الشَّخْصِ، وَلَوْلَا التَّوَالُدُ لَانْقَطَعَ النَّسْلُ وَارْتَفَعَ الْأَصْلُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ الْفَصْلُ، فَقَدَّرَ اللَّه التَّوَالُدَ، وَلِهَذَا لَا يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ وِلَادَةٌ،

_ (1) يخلص من هذا أن يفسر السلم بالرقي وحينئذ تصلح الظرفية.

[سورة الطور (52) : آية 40]

لِأَنَّ الدَّارَ دَارُ الْبَقَاءِ، لَا مَوْتَ فِيهَا لِلْآبَاءِ، حَتَّى تُقَامَ الْعِمَارَةُ بِحُدُوثِ الْأَبْنَاءِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْوَلَدُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي صُورَةِ إِمْكَانِ فَنَاءِ الْأَبِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ/ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آلِ عِمْرَانَ: 2] أَيْ حَيٌّ لَا يَمُوتُ فَيَحْتَاجُ إِلَى وَلَدٍ يَرِثُهُ، وَهُوَ قَيُّومٌ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَضْعُفُ، فَيَفْتَقِرُ إِلَى وَلَدٍ لِيَقُومَ مَقَامَهُ، لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ. ثُمَّ إِنَّ اللَّه تَعَالَى بَيَّنَ هَذَا بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ، وَقَالَ إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ بَنَاتٍ، وَيَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بَنَيْنَ، مَعَ أَنَّ جَعْلَ الْبَنَاتِ لَهُمْ أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ كثير البنات تعين عل كَثْرَةِ الْأَوْلَادِ، لِأَنَّ الْإِنَاثَ الْكَثِيرَةَ يُمْكِنُ مِنْهُنَّ الْوِلَادَةُ بِأَوْلَادٍ كَثِيرَةٍ مِنْ وَاحِدٍ. وَأَمَّا الذُّكُورُ الْكَثِيرَةُ لَا يُمْكِنُ مِنْهُمْ إِحْبَالُ أُنْثَى وَاحِدَةٍ بِأَوْلَادٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَنَمَ لَا يُذْبَحُ مِنْهَا الْإِنَاثُ إِلَّا نَادِرًا، وَذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ إِبْقَاءَ النَّوْعِ بِالْأُنْثَى أَنْفَعُ نَظَرًا إِلَى التَّكْثِيرِ، فَقَالَ تَعَالَى: أَنَا الْقَيُّومُ الَّذِي لَا فَنَاءَ لِي، وَلَا حَاجَةَ لِي فِي بَقَاءِ النَّوْعِ فِي حُدُوثِ الشَّخْصِ، وَأَنْتُمْ مُعَرَّضُونَ لِلْمَوْتِ الْعَاجِلِ، وَبَقَاءُ الْعَالَمِ بِالْإِنَاثِ أَكْثَرُ، وَتَتَبَرَّءُونَ مِنْهُنَّ واللَّه تَعَالَى مُسْتَغْنٍ عَنْ ذَلِكَ وَتَجْعَلُونَ لَهُ الْبَنَاتِ، وَعَلَى هَذَا فَمَا تَقَدَّمَ كَانَ إِشَارَةً إلى نفي الشريك نظرا إلى أنه لابتداء للَّه، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ الشَّرِيكِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ لَا فَنَاءَ لَهُ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ وَقَعَ لَهُمْ نِسْبَةُ الْبَنَاتِ إِلَى اللَّه تَعَالَى مَعَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ، وَالْقَوْمُ كَانَ لَهُمُ الْعُقُولُ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، وَذَلِكَ الْقَدْرُ كَافٍ فِي الْعِلْمِ بِفَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ؟ نَقُولُ ذَلِكَ الْقَوْلُ دَعَاهُمْ إِلَيْهِ اتِّبَاعُ الْعَقْلِ، وَعَدَمُ اعْتِبَارِ النَّقْلِ، وَمَذْهَبُهُمْ فِي ذَلِكَ مَذْهَبُ الْفَلَاسِفَةِ حَيْثُ يَقُولُونَ يَجِبُ اتِّبَاعُ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ، وَيَقُولُونَ النَّقْلُ بِمَعْزِلٍ لَا يُتَّبَعُ إِلَّا إِذَا وَافَقَ الْعَقْلَ، وَإِذَا وَافَقَ فَلَا اعْتِبَارَ لِلنَّقْلِ، لِأَنَّ الْعَقْلَ هُنَاكَ كَافٍ، ثُمَّ قَالُوا الْوَالِدُ يُسَمَّى وَالِدًا، لِأَنَّهُ سَبَبُ وُجُودِ الْوَلَدِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: إِذَا ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ شَيْءٍ هَذَا تَوَلَّدَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُونَ الْحُمَّى تَتَوَلَّدُ مِنْ عُفُونَةِ الْخَلْطِ، فَقَالُوا اللَّه تَعَالَى سَبَبُ وُجُودِ الْمَلَائِكَةِ سَبَبًا وَاجِبًا لَا اخْتِيَارَ لَهُ فَسَمَّوْهُ بِالْوَالِدِ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى وُجُوبِ تَنْزِيهِ اللَّه فِي تَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ عَنِ التَّسْمِيَةِ بِمَا يُوهِمُ النَّقْصَ، وَوُجُوبُ الِاقْتِصَارِ فِي أَسْمَائِهِ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى الَّتِي وَرَدَ بِهَا الشَّرْعُ لِعَدَمِ اعْتِبَارِهِمُ النَّقْلَ، فَقَالُوا يَجُوزُ إِطْلَاقُ الْأَسْمَاءِ الْمَجَازِيَّةِ وَالْحَقِيقِيَّةِ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، فَسَمَّوْهُ عَاشِقًا وَمَعْشُوقًا، وَسَمَّوْهُ أَبًا وَوَالِدًا، وَلَمْ يُسَمُّوهُ ابْنًا وَلَا مولودا باتفاقهم، وذلك ضلالة. ثم قال تعالى: [سورة الطور (52) : آية 40] أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) وَجْهُ التَّعَلُّقِ هُوَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا اطَّرَحُوا الشَّرْعَ وَاتَّبَعُوا مَا ظَنُّوهُ عَقْلًا، وَسَمُّوا الْمَوْجُودَ بَعْدَ الْعَدَمِ مَوْلُودًا وَمُتَوَلِّدًا، وَالْمُوجِدُ وَالِدًا لَزِمَهُمُ الْكُفْرُ بِسَبَبِهِ وَالْإِشْرَاكُ، فَقَالَ لَهُمْ مَا الَّذِي يَحْمِلُكُمْ عَلَى اطِّرَاحِ الشَّرْعِ، وَتَرْكِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ هَلْ ذَلِكَ لِطَلَبِهِ مِنْكُمْ شَيْئًا فَمَا كَانَ يَسَعُهُمْ أَنْ يَقُولُوا نَعَمْ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا لَا، فَنَقُولُ لَهُمْ: كَيْفَ اتَّبَعْتُمْ قَوْلَ الْفَلْسَفِيِّ الَّذِي يُسَوِّغُ لَكُمُ الزُّورَ وَمَا يُوجِبُ الِاسْتِخْفَافَ بِجَانِبِ اللَّه تَعَالَى لَفْظًا إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْنًى كَمَا تَقُولُونَ، وَلَا تَتَّبِعُونَ الَّذِي يَأْمُرُكُمْ بِالْعَدْلِ فِي الْمَعْنَى وَالْإِحْسَانِ فِي اللَّفْظِ، وَيَقُولُ لَكُمُ اتَّبِعُوا الْمَعْنَى الْحَقَّ الْوَاضِحَ وَاسْتَعْمِلُوا اللَّفْظَ/ الْحَسَنَ الْمُؤَدَّبَ؟ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ مِنَ التَّفْسِيرِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْفَائِدَةُ فِي سُؤَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ وَلَمْ يَقُلْ أَمْ يُسْأَلُونَ أَجْرًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ [يُونُسَ: 38] وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً [الطُّورِ: 42] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ؟ نَقُولُ فِيهِ فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: تَسْلِيَةُ قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا امْتَنَعُوا مِنَ الِاسْتِمَاعِ وَاسْتَنْكَفُوا مِنَ الِاتِّبَاعِ صَعُبَ عَلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ أَنْتَ أَتَيْتَ بِمَا عَلَيْكَ فَلَا يَضِيقُ صَدْرُكَ حَيْثُ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَنْتَ غَيْرُ مَلُومٍ، وَإِنَّمَا كُنْتَ تُلَامُ

[سورة الطور (52) : آية 41]

لَوْ كُنْتَ طَلَبْتَ مِنْهُمْ أَجْرًا فَهَلْ طَلَبْتَ ذَلِكَ فَأَثْقَلَهُمْ؟ لَا فَلَا حَرَجَ عَلَيْكَ إِذًا. ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَمْ يُسْأَلُونَ لَزِمَ نفي أَجْرٍ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشْرِكُونَ وَيُطَالِبُونَ بِالْأَجْرِ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ، وَأَمَّا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ أَنْتَ لَا تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ لَا يَتَّبِعُونَكَ وَغَيْرُكَ يَسْأَلُهُمْ وَهُمْ يُسْأَلُونَ وَيَتَّبِعُونَ السَّائِلِينَ وَهَذَا غَايَةُ الضَّلَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ قَالَ قَائِلٌ أَلْزَمْتَ أَنْ تُبَيِّنَ أَنَّ أَمْ لَا تَقَعُ إِلَّا مُتَوَسِّطَةً حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا فَكَيْفَ ذَلِكَ هَاهُنَا؟ نَقُولُ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ أَتَهْدِيهِمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا، وَتَرَكَ الْأَوَّلَ لِعَدَمِ وُقُوعِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ أَمْ لَهُ الْبَناتُ [الطور: 39] إِنَّ الْمِقْدَارَ هُوَ وَاحِدٌ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ، وَتَرَكَ ذِكْرَ الْأَوَّلِ لِعَدَمِ وُقُوعِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَوْنِهِمْ قَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الرِّيَاسَةَ وَالْأَجْرَ فِي الدُّنْيَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَلْ فِي خُصُوصِ قَوْلِهِ تَعَالَى أَجْراً فَائِدَةٌ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ لَوْ قَالَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ شَيْئًا أَوْ مَالًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟ نَقُولُ نَعَمْ، وقد تقدم القول مني أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ فِي الْقُرْآنِ فِيهِ فَائِدَةٌ وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُهَا، وَالَّذِي يَظْهَرُ هَاهُنَا أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا يَأْتِي بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ مَصْلَحَتُهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَجْرَ لَا يُطْلَبُ إِلَّا عِنْدَ فِعْلِ شَيْءٍ يُفِيدُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْأَجْرَ فَقَالَ: أَنْتَ أَتَيْتَهُمْ بِمَا لَوْ طَلَبْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا وَعَلِمُوا كَمَالَ مَا فِي دَعْوَتِكَ مِنَ الْمَنْفَعَةِ لَهُمْ وَبِهِمْ، لَأَتَوْكَ بِجَمِيعِ أَمْوَالِهِمْ وَلَفَدَوْكَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَمَعَ هَذَا لَا تَطْلُبُ مِنْهُمْ أَجْرًا، وَلَوْ قَالَ شَيْئًا أَوْ مَالًا لَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَطْلُبْ مِنْهُمْ أَجْرًا ما، وقوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشُّورَى: 23] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ طَلَبَ أَجْرًا مَا فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ نَقُولُ لَا تَفْرِقَةَ بَيْنِهِمَا بَلِ الْكُلُّ حَقٌّ وَكِلَاهُمَا كَكَلَامٍ وَاحِدٍ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى هُوَ أَنِّي لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا يَعُودُ إِلَى الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا أَجْرِي الْمَحَبَّةُ فِي الزُّلْفَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ عِبَادَ اللَّهِ الْكَامِلِينَ أَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عِبَادِهِ النَّاقِصِينَ، وَعِبَادَ اللَّهِ الَّذِينَ كَلَّمَهُمُ اللَّهُ وَكَلَّمُوهُ وَأَرْسَلَهُمْ لِتَكْمِيلِ عِبَادِهِ فَكَمِلُوا أَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ مِنَ الذين [لم يكلمهم و] لم يُرْسِلْهُمُ اللَّهُ وَلَمْ يَكْمُلُوا وَعَلَى هَذَا فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [يونس: 72] وَإِلَيْهِ أَنْتَمِي وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَقَوْلُهُ فَهُمْ/ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَا أن قوله أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً الْمُرَادُ أَجْرُ الدُّنْيَا وَقَوْلَهُ قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً الْمُرَادُ الْعُمُومُ ثُمَّ اسْتَثْنَى، وَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ إِنَّ ذَلِكَ مُنْقَطِعٌ مَعْنَاهُ لَكِنَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ هُنَاكَ فَلْيُطْلَبْ مِنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا طَلَبَ مِنْهُمْ شَيْئًا وَلَوْ طَالَبَهُمْ بِأَجْرٍ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا اتِّبَاعَهُ بِأَدْنَى شَيْءٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا إِنْ أَثْقَلَهُمُ التَّكْلِيفُ وَيَأْخُذُ كُلَّ مَا لهم ويمنعهم التخليف فيثقلهم الدين بعد ما لا يبقى لهم العين. ثم قال تعالى: [سورة الطور (52) : آية 41] أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) وَهُوَ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُمْ: بِمَ اطَّرَحْتُمُ الشَّرْعَ وَمَحَاسِنَهُ، وَقُلْتُمْ مَا قُلْتُمْ بِنَاءً عَلَى اتِّبَاعِكُمُ الْأَوْهَامَ الْفَاسِدَةَ الَّتِي تُسَمُّونَهَا الْمَعْقُولَاتِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَطْلُبُ مِنْكُمْ أَجْرًا وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فَلَا عذر

[سورة الطور (52) : آية 42]

لَكُمْ لِأَنَّ الْعُذْرَ إِمَّا فِي الْغَرَامَةِ وَإِمَّا فِي عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ وَلَا غَرَامَةَ عَلَيْكُمْ فِيهِ وَلَا غِنًى لَكُمْ عَنْهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَيْفَ التَّقْدِيرُ؟ قُلْنَا لَا حَاجَةَ إِلَى التَّقْدِيرِ بَلْ هُوَ اسْتِفْهَامٌ مُتَوَسِّطٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا كَأَنَّهُ قَالَ أَتَهْدِيهِمْ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَيَمْتَنِعُونَ أَمْ لَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَى مَا تَقُولُ لِكَوْنِهِمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَلَا يَتَّبِعُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْغَيْبِ لِتَعْرِيفِ مَاذَا أَلِجِنْسٍ أَوْ لِعَهْدٍ؟ نَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ نَوْعُ الْغَيْبِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ اشْتَرَى اللَّحْمَ يُرِيدُ بَيَانَ الْحَقِيقَةِ لِأَكْلِ لَحْمٍ وَلَا لَحْمًا مُعَيَّنًا، وَالْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [الْأَنْعَامِ: 73] الْجِنْسُ وَاسْتِغْرَاقُهُ لِكُلِّ غَيْبٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: عَلَى هَذَا كَيْفَ يَصِحُّ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ وَمَا عِنْدَ الشَّخْصِ لَا يَكُونُ غَيْبًا؟ نَقُولُ مَعْنَاهُ حَضَرَ عِنْدَهُمْ مَا غَابَ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَقِيلَ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: 30] أَيْ أَعِنْدَكُمُ الْغَيْبُ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَمُوتُ قَبْلَكُمْ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِبُعْدِ ذَلِكَ ذُكِرَ، أَوْ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْ تَرَبَّصُوا مُتَّصِلٌ بِهِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ اتِّصَالَ هَذَا بِذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ فَهُمْ يَكْتُبُونَ؟ نَقُولُ وُضُوحُ الْأَمْرِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ عَلِمَ بِالْوَحْيِ أُمُورًا وَأَسْرَارًا وَأَحْكَامًا وَأَخْبَارًا كَثِيرَةً كُلُّهَا هُوَ جَازِمٌ بِهَا وَلَيْسَ كَمَا يَقُولُ الْمُتَفَرِّسُ، الْأَمْرُ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ قِيلَ اكْتُبْ بِهِ خَطَّكَ أَنَّهُ يَكُونُ يَمْتَنِعُ وَيَقُولُ أَنَا لَا أَدَّعِي فِيهِ الْجَزْمَ وَالْقَطْعَ وَلَكِنْ أَذْكُرُهُ كَذَا وَكَذَا عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَإِنْ كَانَ قَاطِعًا يَقُولُ اكْتُبُوا هَذَا عَنِّي، وَأَثْبِتُوا فِي الدَّوَاوِينِ أَنَّ فِي الْيَوْمِ الْفُلَانِيِّ يَقَعُ كَذَا وَكَذَا فَقَوْلُهُ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ يَعْنِي هَلْ صَارُوا فِي دَرَجَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اسْتَغْنَوْا عَنْهُ/ وَأَعْرَضُوا، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكِتَابَةِ الْحُكْمُ مَعْنَاهُ يَحْكُمُونَ وَتَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ» أَيْ حُكْمِ اللَّهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ مَعْنَاهُ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى يُقَالُ فُلَانٌ يَقْضِي بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَيْ بِمَا فِيهِ، وَيَقُولُ الرَّسُولُ الَّذِي مَعَهُ كِتَابُ الْمَلِكِ لِلرَّعِيَّةِ اعْمَلُوا بِكِتَابِ الملك. ثم قال تعالى: [سورة الطور (52) : آية 42] أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا وَجْهُ التَّعَلُّقِ وَالْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ؟ قُلْنَا يُبَيَّنُ ذَلِكَ بِبَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ أَمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَكِيدُوكَ فَهُمُ الْمَكِيدُونَ، أَيْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْكَيْدِ فَإِنَّ اللَّهَ يَصُونُكَ بِعَيْنِهِ وَيَنْصُرُكَ بِصَوْنِهِ، وَعَلَى هَذَا إِذَا قُلْنَا بِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ [الطور: 41] مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: 30] فِيهِ تَرْتِيبٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قِيلَ لَهُمْ أَتَعْلَمُونَ الْغَيْبَ فَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَمُوتُ قَبْلَكُمْ أَمْ تُرِيدُونَ كَيْدًا فَتَقُولُونَ نَقْتُلُهُ فَيَمُوتُ قَبْلَنَا فَإِنْ كُنْتُمْ تَدَّعُونَ الْغَيْبَ فَأَنْتُمْ كَاذِبُونَ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَظُنُّونَ أَنَّكُمْ تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ فَأَنْتُمْ غَالِطُونَ فَإِنَّ اللَّهَ يَصُونُهُ عَنْكُمْ وَيَنْصُرُهُ عَلَيْكُمْ، وَأَمَّا عَلَى مَا قُلْنَا إِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْأَلُكُمْ عَلَى الهداية ما لا وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا جَاءَ بِهِ لَوْلَا هِدَايَتُهُ لِكَوْنِهِ مِنَ الْغُيُوبِ، فَنَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً أَيْ مِنَ الشَّيْطَانِ

[سورة الطور (52) : آية 43]

وَإِزَاغَتِهِ فَيَحْصُلُ مُرَادُهُمْ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَنْتَ لَا تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ فَهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْكَ وَأَعْرَضُوا فَقَدِ اخْتَارُوا كَيْدَ الشَّيْطَانِ وَرَضُوا بِإِزَاغَتِهِ، وَالْإِرَادَةُ بِمَعْنَى الِاخْتِيَارِ وَالْمَحَبَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشُّورَى: 20] وَكَمَا قَالَ: أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [الصَّافَّاتِ: 86] وَأَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [الْمَائِدَةِ: 29] الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْمُرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا لِلَّهِ فَهُوَ وَاصِلٌ إِلَيْهِمْ وَهُمْ عَنْ قَرِيبٍ مَكِيدُونَ، وَتَرْتِيبُ الْكَلَامِ هُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَبْقَ حُجَّةٌ فِي الْإِعْرَاضِ فَهُمْ يُرِيدُونَ نُزُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ وَاللَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا لَا يَسْأَلُهُمْ أَجْرًا وَيَهْدِيهِمْ إِلَى مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ وَلَا كِتَابَ عِنْدَهُمْ وَهُمْ يُعْرِضُونَ، فَهُمْ يُرِيدُونَ إِذًا أَنْ يُهْلِكَهُمْ وَيَكِيدَهُمْ، لِأَنَّ الِاسْتِدْرَاجَ كَيْدٌ وَالْإِمْلَاءَ لِازْدِيَادِ الْإِثْمِ، كَذَلِكَ لَا يُقَالُ هُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْكَيْدَ وَالْإِسَاءَةَ لَا يُطْلَقُ عَلَى فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ، وكذلك المكر فلا يقابله أَسَاءَ اللَّهُ إِلَى الْكُفَّارِ وَلَا اعْتَدَى اللَّهُ إِلَّا إِذَا ذُكِرَ أَوَّلًا فِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبَبِهِ لَفْظًا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] وَقَالَ: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ [الْبَقَرَةِ: 194] وَقَالَ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: 54] وَقَالَ: يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً [الطَّارِقِ: 15، 16] لِأَنَّا نَقُولُ الْكَيْدُ مَا يَسُوءُ مَنْ نَزَلَ بِهِ وَإِنْ حَسُنَ مِمَّنْ وُجِدَ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 57] مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ وَمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَهُمُ الْمَكِيدُونَ؟ نَقُولُ الْفَائِدَةُ كَوْنُ الْكَافِرِ مَكِيدًا فِي مُقَابَلَةِ كُفْرِهِ لَا فِي مُقَابَلَةِ إِرَادَتِهِ الْكَيْدَ وَلَوْ قَالَ: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَهُمُ الْمَكِيدُونَ، كَانَ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُرِيدُوهُ لَا يَكُونُوا مَكِيدِينَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكَيْدِ كَيْدُ الشَّيْطَانِ أَوْ كَيْدُ اللَّهِ، بِمَعْنَى عَذَابِهِ إِيَّاهُمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ عَامٌّ فِي كُلِّ كَافِرٍ كَادَهُ الشَّيْطَانُ وَيَكِيدُهُ اللَّهُ أَيْ يُعَذِّبُهُ، وَصَارَ الْمَعْنَى عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَتَهْدِيهِمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَتُثْقِلُهُمْ فَيَمْتَنِعُونَ عَنْ الِاتِّبَاعِ، أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْكَ فَيُعْرِضُونَ عَنْكَ، أَمْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ فَيُرِيدُونَ الْعَذَابَ، وَالْعَذَابُ غَيْرُ مَدْفُوعٍ عَنْهُمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ لِكُفْرِهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا مُعَذَّبُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَنْكِيرِ الْكَيْدِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدَكَ أَوِ الْكَيْدَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لِيَزُولَ الْإِبْهَامُ؟ نَقُولُ فِيهِ فَائِدَةٌ، وَهِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى وُقُوعِ الْعَذَابِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ فَكَأَنَّهُ قَالَ يَأْتِيهِمْ بَغْتَةً وَلَا يَكُونُ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ أَوْ يَكُونُ إِيرَادًا لِعَظَمَتِهِ كَمَا ذكرنا مرارا. ثم قال تعالى: [سورة الطور (52) : آية 43] أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) أَعَادَ التَّوْحِيدَ وَهُوَ يُفِيدُ فَائِدَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الطُّورِ: 39] وَفِي سُبْحانَ اللَّهِ بَحْثٌ شَرِيفٌ: وَهُوَ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: سُبْحَانَ اسْمُ عَلَمٍ لِلتَّسْبِيحِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الرُّومِ: 17] وَأَكْثَرْنَا مِنَ الْفَوَائِدِ، فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ نَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَنَقُولُ سُبْحَانَ عَلَى وَزْنِ فُعْلَانَ فَنَذْكُرُ سُبْحَانَ مِنْ غَيْرِ مَوَاضِعِ الْإِيقَاعِ لِلَّهِ كَمَا يُقَالُ فِي التَّسْبِيحِ، نَقُولُ ذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ مِنْ حَرْفُ جَارٍّ وَفِي كَلِمَةُ ظَرْفٍ حَيْثُ يُخْبَرُ عَنْهُ مَعَ أَنَّ الْحَرْفَ لَا يُخْبَرُ عَنْهُ فَيُجَابُ بِأَنَّ مِنْ وَفِي حِينَئِذٍ جُعِلَا كَالِاسْمِ وَلَمْ يُتْرَكَا عَلَى أَصْلِهِمَا الْمُسْتَعْمَلِ فِي مِثْلِ قَوْلِكَ أَخَذْتُ مِنْ زَيْدٍ وَالدِّرْهَمُ فِي

[سورة الطور (52) : آية 44]

الْكِيسِ، فَكَذَلِكَ سُبْحَانَ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْمَوَاضِعِ لَمْ يُتْرَكْ عَلَى مَوَاضِعِ اسْتِعْمَالِهِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يُتْرَكْ عَلَمًا كَمَا يُقَالُ زَيْدٌ عَلَى وَزْنِ فَعْلٍ بِخِلَافِ التَّسْبِيحِ فِيمَا ذَكَرْنَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَمَّا يُشْرِكُونَ، يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً مَعْنَاهُ سبحان عَنْ إِشْرَاكِهِمْ ثَانِيهِمَا: خَبَرِيَّةٌ مَعْنَاهُ عَنِ الَّذِينَ يُشْرِكُونَ، وَعَلَى هَذَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَنِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ الْبَنَاتُ لِلَّهِ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَلَى الْبَنَاتِ وَالْبَنِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَنْ مِثْلِ الْآلِهَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ هُوَ مِثْلُ مَا يَعْبُدُونَهُ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَنْ مِثْلِ مَا يَعْبُدُونَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: [سورة الطور (52) : آية 44] وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) [المسألة الأولى في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ] وَجْهُ التَّرْتِيبِ فِيهِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فَسَادَ أَقْوَالِهِمْ وَسُقُوطَهَا عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ وَجْهِ الِاعْتِذَارِ، فَإِنَّ الْآيَاتِ ظَهَرَتْ وَالْحُجَجَ تَمَيَّزَتْ وَلَمْ يُؤْمِنُوا، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ أَيْ يُنْكِرُونَ الْآيَةَ لَكِنَّ الْآيَةَ إِذَا أُظْهِرَتْ فِي أَظْهَرِ الْأَشْيَاءِ كَانَتْ أَظْهَرَ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّ مَنْ يَأْتِي بِجِسْمٍ مِنَ الْأَجْسَامِ مِنْ بَيْتِهِ وَادَّعَى فِيهِ أَنَّهُ فَعَلَ بِهِ كَذَا فَرُبَّمَا يَخْطُرُ بِبَالِ السَّامِعِ أَنَّهُ فِي بَيْتِهِ وَلَمَّا يُبْدِعْهُ، فَإِذَا قَالَ لِلنَّاسِ هَاتُوا جِسْمًا تُرِيدُونَ حَتَّى أَجْعَلَ لَكُمْ مِنْهُ كَذَا يَزُولُ ذَلِكَ الْوَهْمُ، لَكِنْ أَظْهَرُ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ الْإِنْسَانِ الْأَرْضُ الَّتِي هِيَ مَهْدُهُ وَفَرْشُهُ، وَالسَّمَاءُ الَّتِي هِيَ سَقْفُهُ وَعَرْشُهُ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ عَلَى مَذْهَبِ الْفَلَاسِفَةِ فِي أَصْلِ الْمَذْهَبِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلِ الْفَلْسَفِيِّ نَحْنُ نُنَزِّهُ غَايَةَ التَّنْزِيهِ حَتَّى لَا نُجَوِّزَ رُؤْيَتَهُ وَاتِّصَافَهُ بِوَصْفٍ زَائِدٍ عَلَى ذَاتِهِ لِيَكُونَ وَاحِدًا فِي الْحَقِيقَةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَذْهَبُنَا مَذْهَبَ مَنْ يُشْرِكُ بِاللَّهِ صَنَمًا مَنْحُوتًا؟ نَقُولُ أَنْتُمْ لَمَّا نَسَبْتُمُ الْحَوَادِثَ إِلَى الْكَوَاكِبِ وَشَرَعْتُمْ فِي دَعْوَةِ الْكَوَاكِبِ أَخَذَ الْجُهَّالُ عَنْكُمْ ذَلِكَ وَاتَّخَذُوهُ مَذْهَبًا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ عَلَى مَذْهَبِ الْفَلَاسِفَةِ وَهُمْ يَقُولُونَ بِالطَّبَائِعِ فَيَقُولُونَ الْأَرْضُ طَبْعُهَا التَّكْوِينُ وَالسَّمَاءُ طَبْعُهَا يَمْنَعُ الِانْفِصَالَ وَالِانْفِكَاكَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [سَبَأٍ: 9] إِبْطَالًا لِلطَّبَائِعِ وَإِيثَارًا لِلِاخْتِيَارِ فِي الْوَقَائِعِ، فَقَالَ هَاهُنَا إِنْ أَتَيْنَا بِشَيْءٍ غَرِيبٍ فِي غَايَةِ الْغَرَابَةِ فِي أَظْهَرِ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ السَّمَاءُ الَّتِي يَرَوْنَهَا أَبَدًا وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَحَدًا لا يصل إليها ليعمل بِالْأَدْوِيَةِ وَغَيْرِهَا مَا يَجِبُ سُقُوطُهَا لَأَنْكَرُوا ذَلِكَ، فَكَيْفَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ، وَالَّذِي يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مَذْهَبِ الْفَلَاسِفَةِ فِي أَمْرِ السَّمَاءِ أَنَّهُمْ قَالُوا أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الْإِسْرَاءِ: 92] أَيْ ذَلِكَ فِي زَعْمِكَ مُمْكِنٌ، فَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَا، وَالْكِسْفَةُ الْقِطْعَةُ يُقَالُ كِسْفَةٌ مِنْ ثَوْبٍ أَيْ قِطْعَةٌ، وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اسْتَعْمَلَ فِي السَّمَاءِ لَفْظَةَ الْكِسْفِ، وَاللُّغَوِيُّونَ ذَكَرُوا اسْتِعْمَالَهَا فِي الثَّوْبِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَبَّهَ السَّمَاءَ بِالثَّوْبِ الْمَنْشُورِ، وَلِهَذَا ذَكَرَهُ فِيمَا مَضَى فَقَالَ: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ [الزُّمَرِ: 67] وَقَالَ تَعَالَى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ [الْأَنْبِيَاءِ: 104] . الْبَحْثُ الثَّانِي: اسْتَعْمَلَ الْكِسْفَ فِي السَّمَاءِ وَالْخَسْفَ فِي الْأَرْضِ فَقَالَ تَعَالَى: نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ [سَبَأٍ: 9] وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ يُقَالُ فِي الْقَمَرِ خُسُوفٌ، وَفِي الشَّمْسِ كُسُوفٌ وَوَجْهُهُ أَنَّ مَخْرَجَ الْخَاءِ دُونَ مَخْرَجِ الْكَافِ وَمَخْرَجَ الْكَافِ فَوْقَهُ مُتَّصِلٌ بِهِ فَاسْتَعْمَلَ وَصْفَ الْأَسْفَلِ لِلْأَسْفَلِ وَالْأَعْلَى لِلْأَعْلَى، فَقَالُوا فِي الشَّمْسِ وَالسَّمَاءِ الْكُسُوفُ وَالْكَسْفُ، وَفِي الْقَمَرِ وَالْأَرْضِ الْخُسُوفُ وَالْخَسْفُ، وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ في الماتح

[سورة الطور (52) : آية 45]

وَالْمَايِحِ إِنَّ مَا نَقْطُهُ فَوْقُ لِمَنْ فَوْقَ الْبِئْرِ وَمَا نَقْطُهُ مِنْ أَسْفَلَ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ نَقْطَهُ مِنْ أَسْفَلَ لِمَنْ تَحْتُ فِي أَسْفَلِ الْبِئْرِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ فِي السَّحَابِ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً [الروم: 48] مَعَ أَنَّهُ تَحْتَ الْقَمَرِ، وَقَالَ فِي الْقَمَرِ وَخَسَفَ الْقَمَرُ [الْقِيَامَةِ: 8] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَمَرَ عِنْدَ الْخُسُوفِ لَهُ نَظِيرٌ فَوْقَهُ وَهُوَ الشَّمْسُ عِنْدَ الْكُسُوفِ وَالسَّحَابُ/ اعْتُبِرَ فِيهِ نِسْبَتُهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ حَيْثُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَقُلْ فِي الْقَمَرِ خَسْفٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّحَابِ وَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّمْسِ وَفِي السَّحَابِ قِيلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَرْضِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: سَاقِطًا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا يُقَالُ رَأَيْتُ زَيْدًا عَالِمًا وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ حَالًا كَمَا يُقَالُ ضَرْبَتُهُ قَائِمًا، وَالثَّانِي أَوَّلًا لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ عِنْدَ التَّعَدِّي إِلَى مَفْعُولَيْنِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ تَكُونُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، تَقُولُ أَرَى هَذَا الْمَذْهَبَ صَحِيحًا وَهَذَا الْوَجْهَ ظَاهِرًا وَعِنْدَ التَّعَدِّي إِلَى وَاحِدٍ تَكُونُ بِمَعْنَى رَأْيِ الْعَيْنِ فِي الأكثر تقول رأيت زيدا وقال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غَافِرٍ: 84] ، وَقَالَ: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً [مَرْيَمَ: 26] وَالْمُرَادُ فِي الْآيَةِ رُؤْيَةُ الْعَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ ساقِطاً فَائِدَةٌ لَا تَحْصُلُ فِي غَيْرِ السُّقُوطِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عندهم لا يجوز الانفصال على السموات وَلَا يُمْكِنُ نُزُولُهَا وَهُبُوطُهَا، فَقَالَ سَاقِطًا لِيَكُونَ مُخَالِفًا لِمَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: الِانْفِصَالُ وَالْآخَرُ: السُّقُوطُ وَلَوْ قَالَ وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مُنْفَصِلًا أَوْ مُعَلَّقًا لَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ يَقُولُوا فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُفِيدُ بَيَانَ الْعِنَادِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ سَرْدِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَسْتَخْرِجُونَ وُجُوهًا حَتَّى لَا يَلْزَمَهُمُ التَّسْلِيمُ فَيَقُولُونَ سَحَابٌ قَوْلًا مِنْ غَيْرِ عَقِيدَةٍ، وَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ وَإِنْ يَرَوْا الْمُرَادُ الْعِلْمُ لِيَكُونَ أَدْخَلَ فِي الْعِنَادِ، أَيْ إِذَا عَلِمُوا وَتَيَقَّنُوا أَنَّ السَّمَاءَ سَاقِطَةٌ غَيَّرُوا وَعَانَدُوا، وَقَالُوا هَذَا سَحَابٌ مَرْكُومٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ حِينَ يَعْجِزُونَ عَنِ التَّكْذِيبِ وَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ عَلَى الْأَرْضِ يَرْجِعُونَ إِلَى التَّأْوِيلِ وَالتَّخْيِيلِ وَقَوْلُهُ مَرْكُومٌ أَيْ مُرَكَّبٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ كَأَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَا يُورَدُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ السَّحَابَ كَالْهَوَاءِ لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ الْجِسْمِ فِيهِ، وَهَذَا أَقْوَى مَانِعٍ فَيَقُولُونَ إِنَّهُ رُكَامٌ فَصَارَ صُلْبًا قَوِيًّا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي إِسْقَاطِ كَلِمَةِ الْإِشَارَةِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: يَقُولُوا هَذَا، إِشَارَةٌ إِلَى وُضُوحِ الْأَمْرِ وَظُهُورِ الْعِنَادِ فَلَا يَسْتَحْسِنُونَ أَنْ يَأْتُوا بِمَا لَا يَبْقَى مَعَهُ مِرَاءٌ فَيَقُولُونَ سَحابٌ مَرْكُومٌ مَعَ حَذْفِ الْمُبْتَدَأِ لِيَبْقَى لِلْقَائِلِ فِيهِ مَجَالٌ فَيَقُولُ عِنْدَ تَكْذِيبِ الْخَلْقِ إِيَّاهُمْ، قُلْنَا سَحابٌ مَرْكُومٌ شَبَهُهُ وَمِثْلُهُ، وَأَنْ يَتَمَشَّى الْأَمْرُ مَعَ عَوَامِّهِمُ اسْتَمَرُّوا، وَهَذَا مَجَالُ مَنْ يَخَافُ مِنْ كَلَامٍ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ أَوْ لَا يُقْبَلُ، فَيَجْعَلُهُ ذَا وَجْهَيْنِ، فَإِنْ رَأَى النكر على أحدهما فسّره بالآخرون وإن رأى القبول خرج بمراده. ثم قال تعالى: [سورة الطور (52) : آية 45] فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) أَيْ إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ فَدَعْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَذَرْهُمْ أَمْرٌ وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ لَمْ يَبْقَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَازُ دُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ،

وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الآيات مثل قوله تعالى: فَأَعْرِضْ [النساء: 63] وتَوَلَّ عَنْهُمْ [الصَّافَّاتِ: 178] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ كُلُّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، ثَانِيهَا: لَيْسَ الْمُرَادُ الْأَمْرَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ التَّهْدِيدُ كَمَا يَقُولُ سَيِّدُ الْعَبْدِ الْجَانِي لِمَنْ يَنْصَحُهُ دَعْهُ فَإِنَّهُ سَيَنَالُ وَبَالَ جِنَايَتِهِ ثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ يُعَانِدُ وَهُوَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو الْخَلْقَ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْخِطَابِ مَنْ لَمْ يَظْهَرْ عِنَادُهُ لَا مَنْ ظَهَرَ عِنَادُهُ فَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ فِي حَقِّهِ فَذَرْهُمْ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مِنْ قَبْلُ فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ [الطُّورِ: 29] وَقَالَ هَاهُنَا فَذَرْهُمْ فَمَنْ يَذْكُرُهُمْ هُمُ الْمُشْفِقُونَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ [الطُّورِ: 26] وَمَنْ يَذَرُهُمُ الَّذِينَ قَالُوا شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطُّورِ: 30] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَتَّى لِلْغَايَةِ فَيَكُونُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ذَرْهُمْ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا تُكَلِّمْهُمْ ثُمَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ تُجَدِّدُ الْكَلَامَ وَتَقُولُ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ وَإِنَّ الْحِسَابَ يَقُومُ وَالْعَذَابَ يَدُومُ فَلَا تُكَلِّمْهُمْ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ ثُمَّ كَلِّمْهُمْ لِتُعْلِمَهُمْ ثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ حَتَّى الْغَايَةُ الَّتِي يُسْتَعْمَلُ فِيهَا اللَّامُ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لَا تُطْعِمْهُ حَتَّى يَمُوتَ أَيْ لِيَمُوتَ، لِأَنَّ اللَّامَ الَّتِي لِلْغَرَضِ عِنْدَهَا يَنْتَهِي الْفِعْلُ الَّذِي لِلْغَرَضِ فَيُوجَدُ فِيهَا مَعْنَى الْغَايَةِ وَمَعْنَى التَّعْلِيلِ وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْكَلِمَتَيْنِ فِيهَا وَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحِجْرِ: 99] هَذَا أَيْ إِلَى أَنْ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ، فَإِنْ قِيلَ فَمَنْ لَا يَذَرُهُ أَيْضًا يُلَاقِي ذَلِكَ الْيَوْمَ، نَقُولُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ يُصْعَقُونَ يُهْلَكُونَ فَالْمُذَكِّرُ الْمُشْفِقُ لَا يَهْلِكُ وَيَكُونُ مُسْتَثْنًى مِنْهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزُّمَرِ: 68] وقذ ذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ مَنِ اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ وَعَلِمَ أَنَّ يَوْمَ الْحِسَابِ كَائِنٌ فَإِذَا وَقَعَتِ الصَّيْحَةُ يَكُونُ كَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الرَّعْدَ يَرْعَدُ وَيَسْتَعِدُّ لِسَمَاعِهِ، وَمَنْ لَا يَعْلَمُ يَكُونُ كَالْغَافِلِ، فَإِذَا وَقَعَتِ الصَّيْحَةُ ارْتَجَفَ الْغَافِلُ وَلَمْ يَرْتَجِفِ الْعَالِمُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّوَعُّدُ بِمُلَاقَاةِ يَوْمِهِمْ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُلَاقِي يَوْمَهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ بِمُلَاقَاةِ يَوْمِهِمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ، أَيِ الْيَوْمِ الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ [الْقَلَمِ: 49] فَإِنَّ الْمَنْفِيَّ لَيْسَ النَّبْذَ بِالْعَرَاءِ لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ [الصَّافَّاتِ: 145] وَإِنَّمَا الْمَنْفِيُّ النَّبْذُ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ مَذْمُومًا وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حَتَّى يُنْصَبُ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ تَارَةً وَيُرْفَعُ أُخْرَى وَالْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا كَانَ مُسْتَقْبَلًا مُنْتَظَرًا لَا يَقَعُ فِي الْحَالِ يُنْصَبُ تَقُولُ تَعَلَّمْتُ الْفِقْهَ حَتَّى تَرْتَفِعَ دَرَجَتِي فَإِنَّكَ تَنْتَظِرُهُ وَإِنْ كَانَ حَالًا يُرْفَعُ تَقُولُ أُكَرِّرُ حَتَّى تَسْقُطُ قُوَّتِي ثُمَّ أَنَامُ، وَالسَّبَبُ فِيهِ هُوَ أَنَّ حَتَّى الْمُسْتَقْبَلِ لِلْغَايَةِ وَلَامَ التَّعْلِيلِ لِلْغَرَضِ وَالْغَرَضُ غَايَةُ الْفِعْلِ، تقول لم تبنى الدار يقول للسكنى أنصار قَوْلُهُ حَتَّى تُرْفَعَ كَقَوْلِهِ لِأَرْفَعَ وَفِيهِمَا إِضْمَارُ أَنْ، فَإِنْ قِيلَ مَا قُلْتَ شَيْئًا وَمَا ذَكَرْتَ السَّبَبَ فِي النَّصْبِ عِنْدَ إِرَادَةِ الِاسْتِقْبَالِ وَالرَّفْعِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْحَالِ، نَقُولُ الْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ إذا كان منتظرا وكان/ تصب الْعَيْنِ وَمَنْصُوبًا لَدَى الذِّهْنِ يَرْقُبُهُ يُفْعَلُ بِلَفْظِهِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَلِهَذَا قَالُوا فِي الْإِضَافَةِ أَنَّ الْمُضَافَ لَمَّا جَرَّ أَمْرًا إِلَى أَمْرٍ فِي الْمَعْنَى جُزِّءَ فِي اللَّفْظِ، وَالَّذِي يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفِعْلَ إِنَّمَا يُنْصَبُ بِأَنْ وَلَنْ وَكَيْ وَإِذَنْ، وَخُلُوصُ الْفِعْلِ لِلِاسْتِقْبَالِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَازِمٌ وَالْحَرْفُ الَّذِي يَجْعَلُ الْفِعْلَ لِلْحَالِ يَمْنَعُ النَّصْبَ حَيْثُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ إِنَّ فُلَانًا لَيَضْرِبَ فَإِنْ قِيلَ: السِّينُ وَسَوْفَ مَعَ أَنَّهُمَا يُخَلِّصَانِ الْفِعْلَ لِلِاسْتِقْبَالِ لَا يَنْصِبَانِ وَيَمْنَعَانِ النَّصْبَ بِالنَّاصِبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى

[سورة الطور (52) : آية 46]

[الْمُزَّمِّلِ: 20] نَقُولُ: سَوْفَ وَالسِّينُ لَيْسَا بِمَعْنًى غَيْرَ اخْتِصَاصِ الْفِعْلِ بِالِاسْتِقْبَالِ وَأَنْ وَلَنْ بِمَعْنًى لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي الِاسْتِقْبَالِ فَلَمْ يَثْبُتْ بِالسِّينِ إِلَّا الِاسْتِقْبَالُ وَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ مَعْنًى فِي الِاسْتِقْبَالِ وَالْمُنْتَظَرُ هُوَ مَا فِي الِاسْتِقْبَالِ لَا نَفْسُ الِاسْتِقْبَالِ، مِثَالُهُ إِذَا قُلْتَ أَعْبُدُ اللَّهَ كَيْ يَغْفِرَ لِي أَوْ لِيَغْفِرَ لِي أَثْبَتَتْ كَيْ غَرَضًا وَهُوَ الْمَغْفِرَةُ، وَهِيَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الزَّمَانِ، وَإِذَا قُلْتَ: أَسْتَغْفِرُكَ رَبِّي أَثْبَتَتِ السِّينُ اسْتِقْبَالَ الْمَغْفِرَةِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ بَيَانَ الِاسْتِقْبَالِ، لَكِنَّ الِاسْتِقْبَالَ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي مَعْنًى فَأَتَى بِالْمَعْنَى لِيُبَيِّنَ بِهِ الِاسْتِقْبَالَ وَبَيْنَ مَا يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مَعْنًى فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَتَذْكُرُ الِاسْتِقْبَالَ لِتُبَيِّنَ محل مقصودك. ثم قال تعالى: [سورة الطور (52) : آية 46] يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) لَمَّا قَالَ: يُلاقُوا يَوْمَهُمُ [الطُّورِ: 45] وَكُلُّ بَرِّ وَفَاجِرٍ يُلَاقِي يَوْمَهُ أَعَادَ صِفَةَ يَوْمِهِمْ وَذَكَرَ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ يَوْمُهُمْ عَنْ يَوْمِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: يَوْمَ لَا يُغْنِي وَهُوَ يُخَالِفُ يَوْمَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِيهِ يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ [الْمَائِدَةِ: 119] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي يَوْمَ لَا يُغْنِي وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: بدل عن قوله يَوْمَهُمُ [الطور: 45] ثَانِيهِمَا: ظَرْفُ يُلاقُوا أَيْ يُلَاقُوا يَوْمَهُمْ يَوْمَ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمُ فِي يَوْمٍ فَيَكُونَ الْيَوْمُ ظَرْفَ الْيَوْمِ نَقُولُ هُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ يَأْتِي يَوْمُ قَتْلِ فُلَانٍ يَوْمَ تُبَيَّنُ جَرَائِمُهُ وَلَا مَانِعَ مِنْهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَحْثَ الزَّمَانِ وَجَوَازَ كَوْنِهِ ظَرْفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ وَجَوَازُ إِضَافَةِ الْيَوْمِ إِلَى الزَّمَانِ مَعَ أَنَّهُ زَمَانٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ وَلَمْ يَقُلْ يَوْمَ لَا يُغْنِيهِمْ كَيْدُهُمْ مَعَ أَنَّ الْإِغْنَاءَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ لِفَائِدَةٍ جَلِيلَةٍ وَهِيَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ أَغْنَانِي كَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ نَفَعَنِي، وَقَوْلَهُ أَغْنَى عَنِّي يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ دَفَعَ عَنِّي الضَّرَرَ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَغْنَانِي مَعْنَاهُ فِي الْحَقِيقَةِ أَفَادَنِي غَيْرَ مُسْتَفِيدٍ وَقَوْلَهُ: أَغْنَى عَنِّي، أَيْ لَمْ يُحْوِجْنِي إِلَى الْحُضُورِ فَأَغْنَى غَيْرِي عَنْ حُضُورِي يَقُولُ مَنْ يُطْلَبُ لِأَمْرٍ: خُذُوا عَنِّي وَلَدِي، فَإِنَّهُ يُغْنِي عَنِّي أَيْ يُغْنِيكُمْ عَنِّي فَيَدْفَعُ عَنِّي أَيْضًا مَشَقَّةَ الْحُضُورِ فَقَوْلُهُ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ أَيْ لَا يَدْفَعُ عَنْهُمُ الضَّرَرَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ لَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ ضَرَرًا أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ لَا يَنْفَعُهُمْ نَفْعًا وَإِنَّمَا فِي الْمُؤْمِنِ لَوْ قَالَ يَوْمَ يُغْنِي عَنْهُمْ صِدْقُهُمْ لَمَا فُهِمَ مِنْهُ نَفْعُهُمْ فَقَالَ: يَوْمُ يَنْفَعُ [الْمَائِدَةِ: 119] كَأَنَّهُ قَالَ يَوْمَ يُغْنِيهِمْ/ صِدْقُهُمْ، فَكَأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ فِي الْمُؤْمِنِ يُغْنِيهِمْ وَفِي الْكَافِرِ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ وَهُوَ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ طَرَفٌ وَيَتَفَكَّرُ بِقَرِيحَةٍ وَقَّادَةٍ آيَاتِ اللَّهِ وَوَفَّقَهُ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَصْلُ تَقْدِيمُ الْفَاعِلِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَالْأَصْلُ تَقْدِيمُ الْمُضْمَرِ عَلَى الْمُظْهَرِ، أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الْفَاعِلَ مُتَّصِلٌ بِالْفِعْلِ وَلِهَذَا قَالُوا فَعَلْتُ فَأَسْكَنُوا اللَّامَ لِئَلَّا يَلْزَمَ أَرْبَعُ مُتَحَرِّكَاتٍ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَالُوا ضَرَبَكَ وَلَمْ يُسَكِّنُوا لِأَنَّ الْكَافَ ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ وَهُوَ مُنْفَصِلٌ، وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْمُضْمَرِ فَلِأَنَّهُ يَكُونُ أَشَدَّ اخْتِصَارًا، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ضَرَبَنِي زَيْدٌ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الِاخْتِصَارِ مِنْ قَوْلِكَ ضَرَبَ زَيْدٌ إِيَّايَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ اخْتِصَارٌ كقولك مربي زيد ومربي فَالْأَوْلَى تَقْدِيمُ الْفَاعِلِ، وَهَاهُنَا لَوْ قَالَ يَوْمَ لَا يُغْنِيهِمْ كَيْدُهُمْ كَانَ الْأَحْسَنُ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ، فَإِذَا قَالَ يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ صَارَ كَمَا قُلْنَا فِي مَرَّ زَيْدٌ بِي فَلِمَ لَمْ يُقَدِّمِ الْفَاعِلَ، نَقُولُ فِيهِ فَائِدَةٌ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ، وَهُوَ أَنَّ تَقْدِيمَ الْأَهَمِّ أَوْلَى فَلَوْ قَالَ يَوْمُ لَا يُغْنِي كَيْدُهُمْ كَانَ السَّامِعُ لِهَذَا الْكَلَامِ رُبَّمَا يَقُولُ لَا يغني

[سورة الطور (52) : آية 47]

كَيْدُهُمْ غَيْرَهُمْ فَيَرْجُو الْخَيْرَ فِي حَقِّهِمْ وَإِذَا سَمِعَ لَا يُغْنِي عَنْهُمُ انْقَطَعَ رَجَاؤُهُ وَانْتَظَرَ الْأَمْرَ الَّذِي لَيْسَ بِمُغْنٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى الْكَيْدِ هُوَ فِعْلٌ يَسُوءُ مَنْ نَزَلَ بِهِ وَإِنْ حَسُنَ مِمَّنْ صَدَرَ مِنْهُ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَخْصِيصِ الْعَمَلِ الَّذِي يَسُوءُ بِالذِّكْرِ وَلَمْ يَقُلْ يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ أَفْعَالُهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ؟ نَقُولُ هُوَ قِيَاسٌ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ أَحْسَنُ أَعْمَالِهِمْ فَقَالَ مَا أَغْنَى أَحْسَنُ أَعْمَالِهِمُ الَّذِي كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِيهِ لِيَقْطَعَ رَجَاءَهُمْ عَمَّا دُونَهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ مِنْ قَبْلُ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً [الطور: 42] وَقَدْ قُلْنَا إِنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَدْبِيرُهُمْ فِي قَتْلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هُمُ الْمَكِيدُونَ أَيْ لَا يَنْفَعُهُمْ كَيْدُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَمَاذَا يَفْعَلُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ الْكَيْدُ بَلْ يَضُرُّهُمْ وَقَوْلُهُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُتَمِّمُ بَيَانٍ وَجْهُهُ هُوَ أَنَّ الدَّاعِيَ أَوَّلًا يُرَتِّبُ أُمُورًا لِدَفْعِ الْمَكْرُوهِ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الِانْتِصَارِ بِالْغَيْرِ وَالْمِنَّةِ ثُمَّ إِذَا لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ يَنْتَصِرُ بِالْأَغْيَارِ، فَقَالَ لَا يَنْفَعُهُمْ أَفْعَالُ أَنْفُسِهِمْ وَلَا يَنْصُرُهُمْ عِنْدَ الْيَأْسِ وَحُصُولِ الْيَأْسِ عَنْ إِقْبَالِهِمْ ثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ [يس: 23] ، فَقَوْلُهُ يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً أَيْ عِبَادَتُهُمُ الْأَصْنَامَ، وَقَوْلُهُمْ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا [يُونُسَ: 18] وَقَوْلُهُمْ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا [الزُّمَرِ: 3] وَقَوْلُهُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ، أَيْ لَا نَصِيرَ لَهُمْ كَمَا لَا شَفِيعَ، وَدَفْعُ الْعَذَابِ، إِمَّا بِشَفَاعَةِ شَفِيعٍ أَوْ بِنَصْرِ نَاصِرٍ ثَالِثُهَا: أَنْ نَقُولَ الْإِضَافَةُ فِي كَيْدِهِمْ إِضَافَةُ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ، لَا إِضَافَتُهُ إِلَى الْفَاعِلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُمْ، وَبَيَانُهُ هو أنك تقول أعجبني ضرب زيدا عَمْرًا، وَأَعْجَبَنِي ضَرْبُ عَمْرٍو، فَإِذَا اقْتَصَرْتَ عَلَى الْمَصْدَرِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالْقَرِينَةِ وَالنِّيَّةِ، فَإِذَا سَمِعْتَ قَوْلَ الْقَائِلِ، أَعْجَبَنِي ضَرْبُ زَيْدٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ ضَارِبًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَضْرُوبًا فَإِذَا سَمِعْتَ قَوْلَ الْقَائِلِ، أَعْجَبَنِي قَطْعُ اللِّصِّ عَلَى سَرِقَتِهِ دَلَّتِ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا فَاسِدٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ إِيضَاحُ وَاضِحٍ/ لِأَنَّ كَيْدَ الْمَكِيدِ لَا يَنْفَعُ قَطْعًا، وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ، لَكِنَّ كَيْدَ الْكَائِدِ يَظُنُّ أَنَّهُ يَنْفَعُ فَقَالَ تَعَالَى: ذَلِكَ لَا يَنْفَعُ، نَقُولُ كَيْدَ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَهُمْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهَا تَنْفَعُ، وَأَمَّا كَيْدُهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ وَإِنَّمَا طَلَبُوا أَنْ يَنْفَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَا فِي الْآخِرَةِ فَالْإِشْكَالُ يَنْقَلِبُ عَلَى صَاحِبِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَلَا إِشْكَالَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جميعا إذا تفكرت فيما قلناه. ثم قال تعالى: [سورة الطور (52) : آية 47] وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) فِي اتِّصَالِ الْكَلَامِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَرْهُمْ [الطُّورِ: 45] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْقِتَالِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ نَازِلٌ قَبْلَ شَرْعِ الْقِتَالِ، وَحِينَئِذٍ كَأَنَّهُ قَالَ فَذَرْهُمْ وَلَا تَذَرْهُمْ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، بَلْ لَهُمْ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ حَيْثُ تُؤْمَرُ بِقِتَالِهِمْ، فَيَكُونُ بَيَانًا وَعْدًا يَنْسَخُ فَذَرْهُمْ بِالْعَذَابِ يَوْمَ بَدْرٍ ثَانِيهِمَا: هُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُغْنِي [الطور: 46] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ كَيْدَهُمْ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ قَالَ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى عَدَمِ الْإِغْنَاءِ بَلْ لَهُمْ مَعَ أَنَّ كَيْدَهُمْ لَا يُغْنِي وَيْلٌ آخَرُ وَهُوَ الْعَذَابُ الْمُعَدُّ لَهُمْ، وَلَوْ قَالَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ كَانَ يُوهِمُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ وَلَكِنْ لَا يَضُرُّ وَلَمَّا قَالَ مَعَ ذَلِكَ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً زَالَ ذَلِكَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الَّذِينَ ظَلَمُوا هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ إِنْ قُلْنَا الْعَذَابُ هُوَ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ، وَإِنْ قُلْنَا الْعَذَابُ هُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ فَالَّذِينَ ظَلَمُوا عَامٌّ فِي كُلِّ ظَالِمٍ.

[سورة الطور (52) : آية 48]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْمُرَادُ مِنَ الظُّلْمِ هَاهُنَا؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: هُوَ كَيْدُهُمْ نَبِيَّهُمْ، وَالثَّانِي: عِبَادَتُهُمُ الْأَوْثَانَ، وَالثَّالِثُ: كُفْرُهُمْ وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِلْوَجْهِ الثَّانِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دُونَ ذَلِكَ، عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ مَعْنَاهُ قَبْلَ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ [السَّجْدَةِ: 21] وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ أَحَدُهُمَا: دُونَ ذَلِكَ، أَيْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فِي الدَّوَامِ وَالشِّدَّةِ يُقَالُ الضَّرْبُ دُونَ الْقَتْلِ فِي الْإِيلَامِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا دُونَ عَذَابِ الْآخِرَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ فَائِدَةُ التَّنْبِيهِ عَلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ الْعَظِيمِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ أَيْ قَتْلًا وَعَذَابًا فِي الْقَبْرِ فَيَتَفَكَّرُ الْمُتَفَكِّرُ وَيَقُولُ مَا يَكُونُ الْقَتْلُ دُونَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَظِيمًا، فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ قُلْنَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هَاهُنَا هَذَا الثَّانِي عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ: تَحْتَ لَجَاجِكَ مَفَاسِدُ وَدُونَ غَرَضِكَ مَتَاعِبُ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ وَضَعُوهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا الَّذِي خُلِقَتْ لَهُ فَقِيلَ لَهُمْ إِنَّ لَكُمْ دُونَ ذَلِكَ الظُّلْمِ عَذَابًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَاذَا؟ نَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْيَوْمِ وَفِيهِ وَجْهَانِ/ آخَرَانِ أَحَدُهُمَا: فِي قوله يُصْعَقُونَ [الطور: 45] وقوله يُغْنِي عَنْهُمْ [الطور: 46] إِشَارَةٌ إِلَى عَذَابٍ وَاقِعٍ فَقَوْلُهُ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ قَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ [الطُّورِ: 7] وَقَوْلُهُ دُونَ ذلِكَ، أَيْ دُونَ ذَلِكَ الْعَذَابِ ثَانِيهِمَا: دُونَ ذلِكَ، أَيْ كَيْدِهِمْ فَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْكَيْدِ وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَهُ فِي الْمِثَالِ الَّذِي مَثَّلْنَا وَهُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ: تَحْتَ لَجَاجِكَ حِرْمَانُكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَكَرْنَا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَرَى عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ حَيْثُ تُعَبِّرُ عَنِ الْكُلِّ بِالْأَكْثَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سَبَأٍ: 41] ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ عَلَى تِلْكَ الْعَادَةِ لِيُعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ اسْتَحْسَنَهَا مِنَ الْمُتَكَلِّمِ حَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ بَعِيدًا عَنِ الْخُلْفِ ثَانِيهَا: مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ فَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ ثَالِثُهَا: هُمْ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ لَمْ يَعْلَمُوا وَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَلِمُوا وَأَقَلُّهُ أَنَّهُمْ عَلِمُوا حَالَ الْكَشْفِ وَإِنْ لَمْ يَنْفَعْهُمْ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَفْعُولُ لَا يَعْلَمُونَ جَازَ أَنْ يَكُونَ هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ: وَهُوَ أَنَّ لَهُمْ عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ، وَجَازَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَفْعُولٌ أَصْلًا، فَيَكُونَ الْمُرَادُ أَكْثَرُهُمْ غافلون جاهلون. ثم قال تعالى: [سورة الطور (52) : آية 48] وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ [طه: 130] وَنُشِيرُ إِلَى بَعْضِهِ هَاهُنَا فَإِنَّ طُولَ الْعَهْدِ يُنْسِي، فَنَقُولُ لَمَّا قَالَ تَعَالَى: فَذَرْهُمْ [الطُّورِ: 45] كَانَ فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي نُصْحِهِمْ نَفْعٌ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ [الطُّورِ: 44] وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْمِلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الدُّعَاءِ كَمَا قَالَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نُوحٍ: 26] وَكَمَا دَعَا يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ تَعَالَى: وَاصْبِرْ وَبَدِّلِ اللَّعْنَ بِالتَّسْبِيحِ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بَدَلَ قَوْلِكَ اللَّهُمَّ أَهْلِكْهُمْ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ

الْحُوتِ [الْقَلَمِ: 48] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ يَكِيدُونَهُ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي فِي الْعُرْفِ الْمُبَادَرَةَ إِلَى إِهْلَاكِهِمْ لِئَلَّا يَتِمَّ كَيْدُهُمْ فَقَالَ: اصْبِرْ وَلَا تَخَفْ، فَإِنَّكَ مَحْفُوظٌ بِأَعْيُنِنَا ثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فَاصْبِرْ وَلَا تَدْعُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّكَ بِمَرْأًى مِنَّا نَرَاكَ وَهَذِهِ الْحَالَةُ تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ عَلَى أَفْضَلِ مَا يَكُونُ مِنَ الْأَحْوَالِ لَكِنَّ كَوْنَكَ مُسَبِّحًا لَنَا أَفْضَلَ مِنْ كَوْنِكَ دَاعِيًا عَلَى عِبَادٍ خَلَقْنَاهُمْ، فَاخْتَرِ الْأَفْضَلَ فَإِنَّكَ بِمَرْأًى مِنَّا ثَالِثُهَا: أَنَّ مَنْ يَشْكُو حَالَهُ عَنْدَ غَيْرِهِ يَكُونُ فِيهِ إِنْبَاءٌ عَنْ عَدَمِ عِلْمِ الْمَشْكُوِّ إِلَيْهِ بِحَالِ الشَّاكِي فَقَالَ تَعَالَى: اصْبِرْ وَلَا تَشْكُ حَالَكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا نَرَاكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي شَكْوَاكَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ مُخْتَصَّةٌ بِهَذَا الْمَوْضِعِ لَا تُوجَدُ فِي قَوْلِهِ فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [طَه: 130] . الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ تَحْتَمِلُ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: هِيَ بِمَعْنَى إِلَى أَيِ اصْبِرْ إِلَى أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ الثَّانِي: الصَّبْرُ فِيهِ مَعْنَى الثَّبَاتِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ فَاثْبُتْ لِحُكْمِ رَبِّكَ يُقَالُ/ ثَبَتَ فُلَانٌ لِحَمْلِ قَرْنِهِ الثَّالِثُ: هِيَ اللَّامُ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى السَّبَبِ يُقَالُ لِمَ خَرَجْتَ فَيُقَالُ لِحُكْمِ فُلَانٍ عَلَيَّ بِالْخُرُوجِ فَقَالَ: وَاصْبِرْ وَاجْعَلْ سَبَبَ الصَّبْرِ امْتِثَالَ الْأَمْرِ حَيْثُ قَالَ وَاصْبِرْ لِهَذَا الْحُكْمِ عَلَيْكَ لَا لِشَيْءٍ آخَرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ هَاهُنَا بِأَعْيُنِنا وَقَالَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طَه: 39] نَقُولُ لَمَّا وَحَّدَ الضَّمِيرَ هُنَاكَ وَهُوَ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ وحده وَحَّدَ الْعَيْنَ وَلَمَّا ذَكَرَ هَاهُنَا ضَمِيرَ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ بِأَعْيُنِنا وَهُوَ النُّونُ جَمَعَ الْعَيْنَ، وَقَالَ: بِأَعْيُنِنا هَذَا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الْحِفْظَ هَاهُنَا أَتَمُّ لِأَنَّ الصَّبْرَ مَطِيَّةُ الرَّحْمَةِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ اجْتَمَعَ لَهُ النَّاسُ وَجَمَعُوا لَهُ مَكَايِدَ وَتَشَاوَرُوا فِي أَمْرِهِ، وَكَذَلِكَ أَمَرَهُ بِالْفُلْكِ وَأَمَرَهُ بِالِاتِّخَاذِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَحَفَظَهُ مِنَ الْغَرَقِ مَعَ كَوْنِ كُلِّ الْبِقَاعِ مَغْمُورَةً تَحْتَ الْمَاءِ تَحْتَاجُ إِلَى حِفْظٍ عَظِيمٍ فِي نَظَرِ الْخَلْقِ فَقَالَ بِأَعْيُنِنا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا وَجْهُ تَعَلُّقِ الْبَاءِ هَاهُنَا قُلْنَا قَدْ ظَهَرَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، أَمَّا إِنْ قُلْنَا بِأَنَّهُ لِلْحِفْظِ فَتَقْدِيرُهُ مَحْفُوظٌ بِأَعْيُنِنَا، وَإِنْ قُلْنَا لِلْعِلْمِ فَمَعْنَاهُ بِمَرْأًى مِنَّا أَيْ بِمَكَانٍ نَرَاكَ وَتَقْدِيرُهُ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا مَرْئِيٌّ وَحِينَئِذٍ هُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ رَأَيْتُهُ بِعَيْنَيَّ كَمَا يُقَالُ كُتِبَ بِالْقَلَمِ الْآلَةِ وَإِنْ كَانَ رُؤْيَةُ اللَّهِ لَيْسَتْ بِآلَةٍ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْفَرْقُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ حَيْثُ قَالَ فِي طه عَلى عَيْنِي [طَه: 39] وَقَالَ هَاهُنَا بِأَعْيُنِنا وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ عَلَى وَبَيْنَ الْبَاءِ نَقُولُ مَعْنَى عَلَى هُنَاكَ هُوَ أَنَّهُ يَرَى عَلَى مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا يَقُولُ أَفْعَلُهُ عَلَى عَيْنِي أَيْ عَلَى رِضَايَ تَقْدِيرُهُ عَلَى وَجْهٍ يَدْخُلُ فِي عَيْنِي وَأَلْتَفِتُ إِلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ يَفْعَلُ شَيْئًا لِغَيْرِهِ وَلَا يَرْتَضِيهِ لَا يَنْظُرُ فِيهِ وَلَا يُقَلِّبُ عَيْنَهُ إِلَيْهِ وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا وَقَوْلُهُ حِينَ تَقُومُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: تَقُومُ مِنْ مَوْضِعِكَ وَالْمُرَادُ قَبْلَ الْقِيَامِ حِينَ مَا تَعْزِمُ عَلَى الْقِيَامِ وَحِينَ مَجِيءِ الْقِيَامِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ مَنْ قَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ» مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ يُكْتَبُ ذَلِكَ كَفَارَّةً لِمَا يَكُونُ قَدْ صَدَرَ مِنْهُ مِنَ اللَّفْظِ وَاللَّغْوِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ الثَّانِي: حِينَ تَقُومُ مِنَ النَّوْمِ، وَقَدْ وَرَدَ أَيْضًا فِيهِ خَبَرٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ «يُسَبِّحُ بَعْدَ الِانْتِبَاهِ» الثَّالِثُ: حِينَ تَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ» الرَّابِعُ: حِينَ تَقُومُ لِأَمْرٍ مَا وَلَا سِيَّمَا إِذَا قُمْتَ مُنْتَصِبًا لِمُجَاهَدَةِ قَوْمِكَ ومعاداتهم والدعاء عليهم ف سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَبَدِّلْ قِيَامَكَ لِلْمُعَادَاةِ وَانْتِصَابَكَ لِلِانْتِقَامِ بِقِيَامِكَ لِذِكْرِ اللَّهِ وَتَسْبِيحِهِ الْخَامِسُ: حِينَ تَقُومُ أَيْ بِالنَّهَارِ، فَإِنَّ اللَّيْلَ مَحَلُّ السُّكُونِ وَالنَّهَارَ مَحَلُّ الِابْتِغَاءِ وَهُوَ بِالْقِيَامِ أَوْلَى، وَيَكُونُ كَقَوْلِهِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا

[سورة الطور (52) : آية 49]

بقي من الزمان وكذلك وَإِدْبارَ النُّجُومِ [الطور: 49] وهو أول الصبح. وقوله تعالى: [سورة الطور (52) : آية 49] وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الرُّومِ: 17] وَقَدْ ذَكَرْنَا فَائِدَةَ الِاخْتِصَاصِ بِهَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَمَعْنَاهُ، وَنَخْتِمُ هَذِهِ السُّورَةَ بِفَائِدَةٍ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ هَاهُنَا وَإِدْبارَ النُّجُومِ وقال في ق [40] وَأَدْبارَ السُّجُودِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى وَاحِدٌ وَالْمُرَادُ مِنَ السُّجُودِ جَمْعُ سَاجِدٍ وَلِلنُّجُومِ سُجُودٌ قَالَ تَعَالَى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرَّحْمَنِ: 6] وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنَ النَّجْمِ نُجُومُ السَّمَاءِ وَقِيلَ النَّجْمُ مَا لَا سَاقَ لَهُ مِنَ النَّبَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الحج: 18] «1» أَوِ الْمُرَادُ مِنَ النُّجُومِ الْوَظَائِفُ وَكُلُّ وَظِيفَةِ نَجْمٍ فِي اللُّغَةِ أَيْ إِذَا فَرَغْتَ مِنْ وَظَائِفِ الصَّلَاةِ فَقُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ قَالَ عَقِيبَ الصَّلَاةِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَشْرَ مَرَّاتٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَشْرَ مَرَّاتٍ وَاللَّهُ أَكْبَرُ عَشْرَ مَرَّاتٍ كُتِبَ لَهُ أَلْفُ حسنة» فيكون المعنى في الموضعين واحد لِأَنَّ السُّجُودَ مِنَ الْوَظَائِفِ وَالْمَشْهُورُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ إِدْبَارِ النُّجُومِ وَقْتُ الصُّبْحِ حَيْثُ يُدْبِرُ النَّجْمُ وَيَخْفَى وَيَذْهَبُ ضِيَاؤُهُ بِضَوْءِ الشَّمْسِ، وَحِينَئِذٍ تَبَيَّنَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهِ الْخَامِسِ في قوله حِينَ تَقُومُ [الطور: 48] أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ النَّهَارُ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْقِيَامِ وَمِنَ اللَّيْلِ القدر الذي يكون الإنسان في يَقْظَانَ فِيهِ وَإِدْبارَ النُّجُومِ وَقْتُ الصُّبْحِ فَلَا يَخْرُجُ عَنِ التَّسْبِيحِ إِلَّا وَقْتَ النَّوْمِ، وَهَذَا آخِرُ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا محمد وآله وسلّم.

_ (1) في تفسير الرازي المطبوع (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرض) وهو خطأ وما أثبتناه هو الصواب.

سورة النجم

سُورَةُ النَّجْمِ سِتُّونَ وَآيَتَانِ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرّحمن الرّحيم [سورة النجم (53) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِي التَّفْسِيرِ نُقَدِّمُ مَسَائِلَ ثُمَّ نَتَفَرَّغُ لِلتَّفْسِيرِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُ: الْأُولَى: أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها لفظا ومعنى، أما اللفظ فلأن ختم الطور بِالنَّجْمِ، وَافْتِتَاحَ هَذِهِ بِالنَّجْمِ مَعَ وَاوِ الْقَسَمِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَنَقُولُ: اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ [الطُّورِ: 49] بَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ جَزَّأَهُ فِي أَجْزَاءِ مُكَايَدَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالنَّجْمِ وَبُعْدَهُ فَقَالَ: مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى [النَّجْمِ: 2] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: السُّورَةُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ وَافْتِتَاحُهَا بِالْقَسَمِ بِالْأَسْمَاءِ دُونَ الْحُرُوفِ وَهِيَ الصَّافَّاتُ وَالذَّارِيَاتُ، وَالطُّورُ، وَهَذِهِ السُّورَةُ بَعْدَهَا بِالْأَوْلَى فِيهَا الْقَسَمُ لِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ [الصَّافَّاتِ: 4] وَفِي الثَّانِيَةِ لِوُقُوعِ الْحَشْرِ وَالْجَزَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ [الذَّارِيَاتِ: 5، 6] وَفِي الثَّالِثَةِ لِدَوَامِ الْعَذَابِ بَعْدَ وُقُوعِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دافِعٍ [الطُّورِ: 7، 8] . وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ لِنُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَكْمُلَ الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ: الْوَحْدَانِيَّةُ، وَالْحَشْرُ، وَالنُّبُوَّةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمْ يُقْسِمِ اللَّهُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَلَا عَلَى النُّبُوَّةِ كَثِيرًا، أَمَّا عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ فَلِأَنَّهُ أَقْسَمَ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ، وَأَمَّا عَلَى النُّبُوَّةِ فَلِأَنَّهُ أَقْسَمَ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَبِأَمْرَيْنِ فِي سُورَةِ الضُّحَى وَأَكْثَرَ مِنَ الْقَسَمِ عَلَى الْحَشْرِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [اللَّيْلِ: 1] وَقَوْلَهُ تَعَالَى: وَالشَّمْسِ وَضُحاها [الشَّمْسِ: 1] وَقَوْلَهُ تَعَالَى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ [الْبُرُوجِ: 1] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، كُلُّهَا فِيهَا الْحَشْرُ أَوْ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ دَلَائِلَ الْوَحْدَانِيَّةِ كَثِيرَةٌ كُلُّهَا عَقْلِيَّةٌ كَمَا قِيلَ: وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ وَدَلَائِلُ النُّبُوَّةِ أَيْضًا كَثِيرَةٌ وَهِيَ الْمُعْجِزَاتُ الْمَشْهُورَةُ وَالْمُتَوَاتِرَةُ، وَأَمَّا الْحَشْرُ فَإِمْكَانُهُ يَثْبُتُ بالعقل، وأما

وُقُوعُهُ فَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ إِلَّا بِالسَّمْعِ فَأَكْثَرَ الْقَسَمَ لِيَقْطَعَ بِهِ الْمُكَلَّفُ وَيَعْتَقِدَهُ اعْتِقَادًا جَازِمًا، وَأَمَّا التَّفْسِيرُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: الْوَاوُ لِلْقَسَمِ بِالنَّجْمِ أَوْ بِرَبِّ النَّجْمِ فَفِيهِ خِلَافٌ قَدَّمْنَاهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ قَسَمٌ بِالنَّجْمِ/ يُقَالُ لَيْسَ لِلْقَسَمِ فِي الْأَصْلِ حَرْفٌ أَصْلًا لَكِنَّ الْبَاءَ وَالْوَاوَ استعملنا فِيهِ لِمَعْنًى عَارِضٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَاءَ فِي أَصْلِ الْقَسَمِ هِيَ الْبَاءُ الَّتِي لِلْإِلْصَاقِ وَالِاسْتِعَانَةِ فَكَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: اسْتَعَنْتُ بِاللَّهِ، يَقُولُ: أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ، وَكَمَا يَقُولُ: أَقُومُ بِعَوْنِ اللَّهِ عَلَى الْعَدُوِّ، يَقُولُ: أُقْسِمُ بِحَقِّ اللَّهِ فَالْبَاءُ فِيهِمَا بِمَعْنًى كَمَا تَقُولُ: كُتِبَ بِالْقَلَمِ، فَالْبَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ لِلْقَسَمِ غَيْرَ أَنَّ الْقَسَمَ كَثُرَ فِي الْكَلَامِ فَاسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِهِ وَغَيْرُهُ لَمْ يَكْثُرْ فَلَمْ يُسْتَغْنَ عَنْهُ، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: بِحَقِّ زَيْدٍ فُهِمْ مِنْهُ الْقَسَمُ لِأَنَّ الْمُرَادَ لَوْ كَانَ هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: ادْخُلْ زَيْدٍ، أَوِ اذْهَبْ بِحَقِّ زَيْدٍ، أَوْ لَمْ يُقْسِمْ بِحَقِّ زَيْدٍ لَذُكِرَ كَمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِعَدَمِ الِاسْتِغْنَاءِ فَلَمَّا لَمْ يُذْكَرْ شَيْءٌ عُلِمَ أَنَّ الْحَذْفَ لِلشُّهْرَةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ، وَذَلِكَ لَيْسَ فِي غَيْرِ الْقَسَمِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَحْذُوفَ فِعْلُ الْقَسَمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أُقْسِمُ بِحَقِّ زَيْدٍ، فَالْبَاءُ فِي الْأَصْلِ لَيْسَ لِلْقَسَمِ لَكِنْ لَمَّا عَرَضَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْكَثْرَةِ وَالِاشْتِهَارِ قِيلَ الْبَاءُ لِلْقَسَمِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُتَكَلِّمَ نَظَرَ فِيهِ فَقَالَ هَذَا لَا يَخْلُو عَنِ الْتِبَاسٍ فَإِنِّي إِذَا قُلْتُ بِاللَّهِ تَوَقَّفَ السَّامِعُ فَإِنْ سَمِعَ بَعْدَهُ فِعْلًا غَيْرَ الْقَسَمِ كَقَوْلِهِ: بِاللَّهِ اسْتَعَنْتُ وَبِاللَّهِ قَدَرْتُ وَبِاللَّهِ مَشَيْتُ وَأَخَذْتُ، لَا يَحْمِلُهُ عَلَى الْقَسَمِ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ حَمَلَهُ عَلَى الْقَسَمِ إِنْ لَمْ يَتَوَهَّمْ وُجُودَ فِعْلِ مَا ذَكَرْتُهُ وَلَمْ يَسْمَعْهُ، أَمَّا إِنْ تَوَهَّمَ أَنِّي ذَكَرْتُ مَعَ قَوْلِي بِاللَّهِ شَيْئًا آخَرَ وَمَا سَمِعَهُ هُوَ أَيْضًا يَتَوَقَّفُ فِيهِ فَفِي الْفَهْمِ تَوَقُّفٌ، فَإِذَا أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ الْحَكِيمُ إِذْهَابَ ذَلِكَ مَعَ الِاخْتِصَارِ وَتَرْكِ مَا اسْتَغْنَى عَنْهُ، وَهُوَ فِعْلُ الْقَسَمِ أَبْدَلَ الْبَاءَ بِالتَّاءِ، وَقَالَ: تَاللَّهِ، فَتَكَلَّمَ بِهَا فِي كَلِمَةِ اللَّهِ لِاشْتِهَارِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَالْأَمْنِ مِنَ الِالْتِبَاسِ فَإِنَّ التَّاءَ فِي أَوَائِلِ الْكَلِمَاتِ قَدْ تَكُونُ أَصْلِيَّةً، وَقَدْ تَكُونُ لِلْخِطَابِ وَالتَّأْنِيثِ، فَلَوْ أَقْسَمَ بِحَرْفِ التَّاءِ بِمَنِ اسْمُهُ دَاعِي أَوْ رَاعِي أَوْ هَادِي أَوْ عَادِي يَقُولُ تَدَاعِي أَوْ تَرَاعِي أَوْ تَهَادِي أَوْ تَعَادِي فَيَلْتَبِسُ، وَكَذَلِكَ فِيمَنِ اسْمُهُ رُومَانُ أَوْ تُورَانُ إِذَا قُلْتَ تَرُومَانِ أَوْ تَتُورَانِ عَلَى أَنَّكَ تُقْسِمُ بِالتَّاءِ تَلْتَبِسُ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَالتَّأْنِيثِ فِي الِاسْتِقْبَالِ، فَأَبْدَلُوهَا وَاوًا لَا يُقَالُ عَلَيْهِ إِشْكَالَانِ الْأَوَّلُ: مَعَ الْوَاوِ لَمْ يُؤْمَنِ الِالْتِبَاسُ، نَقُولُ وَلَّى فَتَلْتَبِسُ الْوَاوُ الْأَصْلِيَّةُ بِالَّتِي لِلْقَسَمِ لِأَنَّا نَقُولُ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ فِيمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْوَاوِ حَيْثُ يَدُلُّ وَيُنْبِئُ عَنِ الْعَطْفِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلِ الْوَاوَ لِلْقَسَمِ، كَيْفَ وَذَلِكَ فِي الْبَاءِ الَّتِي هِيَ كَالْأَصْلِ مُتَحَقِّقٌ تَقُولُ بِرَامٌ فِي جَمْعِ بُرْمَةٍ، وَبِهَامٌ فِي جَمْعِ بَهْمَةٍ، وَبِغَالٌ لِلَبْسِيَّةِ الْبَاءِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي فِي الْبِغَالِ وَالْبِرَامِ بِالْبَاءِ الَّتِي تُلْصِقُهَا بِقَوْلِكَ مَالَ وَرَأَى فَتَقُولُ بِمَالٍ، وَأَمَّا التَّاءُ لَمَّا اسْتُعْمِلَتْ لِلْقَسَمِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالِ الِالْتِبَاسُ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ حَرْفًا مِنَ الْأَدَوَاتِ كَالْبَاءِ وَالْوَاوِ الْإِشْكَالُ الثَّانِي: لِمَ تُرِكَتْ مِمَّا لَا الْتِبَاسَ فِيهِ كَقَوْلِكَ: تَالرَّحِيمِ وَتَالْعَظِيمِ؟ نَقُولُ: لَمَّا كَانَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي غَايَةِ الشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ اسْتُعْمِلَتِ التَّاءُ فِيهَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، بِمَعْنَى لَمْ يجز أن يقال عَلَيْهَا إِلَّا مَا يَكُونُ فِي شُهْرَتِهَا، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَرُبَّمَا يَخْفَى عِنْدَ الْبَعْضِ، فَإِنَّ مَنْ يَسْمَعُ الرَّحِيمَ وَسَمِعَ فِي النُّدْرَةِ تَرَ بِمَعْنَى قَطَعَ رُبَّمَا يَقُولُ تَرَحِيمَ فِعْلٌ وَفَاعِلٌ أَوْ فِعْلٌ وَمَفْعُولٌ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ لَكِنَّ الِاسْتِوَاءَ فِي الشُّهْرَةِ فِي الْمَنْقُولِ مِنْهُ وَالْمَنْقُولِ إِلَيْهِ لَازِمٌ، وَلَا مَشْهُورَ مِثْلُ كَلِمَةِ اللَّهِ، عَلَى أَنَّا نَقُولُ لِمَ قُلْتَ إِنَّ عِنْدَ الْأَمْنِ لَا تُسْتَعْمَلُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ نُقِلَ عَنِ الْعَرَبِ بِرَبِّ الْكَعْبَةِ/ وَالَّذِي يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا أَنْتَ تَقُولُ أُقْسِمُ بِاللَّهِ وَلَا تَقُولُ أُقْسِمُ تَاللَّهِ لِأَنَّ التَّاءَ فِيهِ مَخَافَةُ الِالْتِبَاسِ عِنْدَ حَذْفِ الْفِعْلِ مِنَ الْقَسَمِ وَعِنْدَ الْإِتْيَانِ بِهِ لَمْ يَخْفَ ذَلِكَ فَلَمْ يجز.

[سورة النجم (53) : الآيات 2 إلى 3]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالنَّجْمِ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ فِي قَوْلٍ وَلِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ فِي قَوْلٍ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: وَالنَّجْمِ الْمُرَادُ مِنْهُ الثُّرَيَّا، قَالَ قَائِلُهُمْ: إِنْ بَدَا النَّجْمُ عَشِيًّا ... ابْتَغَى الرَّاعِي كَسِيًّا وَالثَّانِي فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: النَّجْمُ هُوَ نَجْمُ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ ثَابِتَةٌ فِيهَا لِلِاهْتِدَاءِ وَقِيلَ لَا بَلِ النَّجْمُ الْمُنْقَضَّةُ فِيهَا الَّتِي هِيَ رُجُومٌ لِلشَّيَاطِينِ ثَانِيهَا: نُجُومُ الْأَرْضِ وَهِيَ مِنَ النَّبَاتِ مَا لَا سَاقَ لَهُ ثَالِثُهَا: نُجُومُ الْقُرْآنِ وَلْنَذْكُرْ مُنَاسِبَةَ كُلِّ وَجْهٍ وَنُبَيِّنْ فِيهِ الْمُخْتَارَ مِنْهَا، أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا الْمُرَادُ الثُّرَيَّا فَهُوَ أَظْهَرُ النُّجُومِ عِنْدَ الرَّائِي لِأَنَّ لَهُ عَلَامَةً لَا يَلْتَبِسُ بِغَيْرِهِ فِي السَّمَاءِ وَيَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَيَّزَ عَنِ الْكُلِّ بِآيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَأَقْسَمَ بِهِ، وَلِأَنَّ الثُّرَيَّا إِذَا ظَهَرَتْ مِنَ الْمَشْرِقِ بِالْبِكْرِ حَانَ إِدْرَاكُ الثِّمَارِ، وإذا ظهرت بالعشاء أواخر الخريف نقل الْأَمْرَاضُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ظَهَرَ قَلَّ الشَّكُّ وَالْأَمْرَاضُ الْقَلْبِيَّةُ وَأُدْرِكَتِ الثِّمَارُ الْحِكَمِيَّةُ وَالْحِلْمِيَّةُ، وَعَلَى قَوْلِنَا الْمُرَادُ هِيَ النُّجُومُ الَّتِي فِي السَّمَاءِ لِلِاهْتِدَاءِ نَقُولُ النُّجُومُ بِهَا الِاهْتِدَاءُ فِي الْبَرَارِي فَأَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُشَابَهَةِ وَالْمُنَاسَبَةِ، وَعَلَى قَوْلِنَا الْمُرَادُ الرُّجُومُ مِنَ النُّجُومِ، فَالنُّجُومُ تُبْعِدُ الشَّيَاطِينَ عَنْ أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَنْبِيَاءُ يُبْعِدُونَ الشَّيَاطِينَ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَعَلَى قَوْلِنَا الْمُرَادُ الْقُرْآنُ فَهُوَ اسْتَدَلَّ بِمُعْجِزَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صِدْقِهِ وَبَرَاءَتِهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [يس: 1- 4] مَا ضَلَلْتَ وَلَا غَوَيْتَ، وَعَلَى قَوْلِنَا النَّجْمُ هُوَ النَّبَاتُ، فَنَقُولُ النَّبَاتُ بِهِ ثَبَاتُ الْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةِ وَصَلَاحُهَا وَالْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ أَوْلَى بِالْإِصْلَاحِ، وَذَلِكَ بِالرُّسُلِ وَإِيضَاحِ السُّبُلِ، وَمِنْ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْمُخْتَارَ هُوَ النُّجُومُ الَّتِي هِيَ فِي السَّمَاءِ لِأَنَّهَا أَظْهَرُ عِنْدَ السَّامِعِ وَقَوْلُهُ إِذا هَوى أَدَلُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْقُرْآنُ أَيْضًا فِيهِ ظُهُورٌ ثُمَّ الثُّرَيَّا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: القول في وَالنَّجْمِ كالقول في وَالطُّورِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ وَالنُّجُومِ وَلَا الْأَطْوَارِ، وَقَالَ: وَالذَّارِياتِ وَالْمُرْسَلاتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَقْيِيدِ الْقَسَمِ بِهِ بِوَقْتٍ هُوَ بِهِ؟ نَقُولُ النَّجْمُ إِذَا كَانَ فِي وَسَطِ السَّمَاءِ يَكُونُ بَعِيدًا عَنِ الْأَرْضِ لَا يَهْتَدِي بِهِ السَّارِي لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِهِ الْمَشْرِقَ مِنَ الْمَغْرِبِ وَلَا الْجَنُوبَ مِنَ الشَّمَالِ، فَإِذَا زَالَ تَبَيَّنَ بِزَوَالِهِ جَانِبُ الْمَغْرِبِ مِنَ الْمَشْرِقِ وَالْجَنُوبُ مِنَ الشَّمَالِ كَذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَفَضَ جَنَاحَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [الْقَلَمِ: 4] وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آلِ عِمْرَانَ: 159] إِنْ قِيلَ الِاهْتِدَاءُ بِالنَّجْمِ إِذَا كَانَ عَلَى أُفُقِ الْمَشْرِقِ كَالِاهْتِدَاءِ بِهِ إِذَا كَانَ عَلَى أُفُقِ الْمَغْرِبِ فَلَمْ يَبْقَ مَا ذَكَرْتَ جَوَابًا عَنِ السُّؤَالِ، نَقُولُ الِاهْتِدَاءُ بِالنَّجْمِ وَهُوَ مَائِلٌ إِلَى الْمَغْرِبِ أَكْثَرُ لِأَنَّهُ يَهْدِي فِي/ الطَّرِيقَيْنِ الدُّنْيَوِيِّ وَالدِّينِيِّ، أَمَّا الدُّنْيَوِيُّ فَلِمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا الدِّينِيُّ فَكَمَا قَالَ الْخَلِيلُ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الْأَنْعَامِ: 76] وَفِيهِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَقْسَمَ بِالنَّجْمِ شَرَّفَهُ وَعَظَّمَهُ، وَكَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ يَعْبُدُهُ فَقَرَنَ بِتَعْظِيمِهِ وَصْفًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّهُ هَاوٍ آفل. [سورة النجم (53) : الآيات 2 الى 3] مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ، وَالَّذِي قَالَهُ

بَعْضُهُمْ عِنْدَ مُحَاوَلَةِ الْفَرْقِ: أَنَّ الضَّلَالَ فِي مُقَابَلَةِ الْهُدَى، وَالْغَيَّ فِي مُقَابَلَةِ الرُّشْدِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [الْأَعْرَافِ: 146] وَقَالَ تَعَالَى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [الْبَقَرَةِ: 256] وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ الضَّلَالَ أَعَمُّ اسْتِعْمَالًا فِي الْوَضْعِ، تَقُولُ ضَلَّ بِعِيرِي وَرَحْلِي، وَلَا تَقُولُ غَوَى، فَالْمُرَادُ مِنَ الضَّلَالِ أَنْ لَا يَجِدَ السَّالِكُ إِلَى مَقْصِدِهِ طَرِيقًا أَصْلًا، وَالْغِوَايَةُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى الْمَقْصِدِ مُسْتَقِيمٌ يَدُلُّكَ عَلَى هَذَا أَنَّكَ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِ الَّذِي لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ السَّدَادِ إِنَّهُ سَفِيهٌ غَيْرُ رَشِيدٍ، وَلَا تَقُولُ إِنَّهُ ضَالٌّ، وَالضَّالُّ كَالْكَافِرِ، وَالْغَاوِي كَالْفَاسِقِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا ضَلَّ أَيْ مَا كَفَرَ، وَلَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَمَا فَسَقَ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النِّسَاءِ: 6] أَوْ نَقُولُ الضَّلَالُ كَالْعَدَمِ، وَالْغِوَايَةُ كَالْوُجُودِ الْفَاسِدِ فِي الدَّرَجَةِ وَالْمَرْتَبَةِ، وقوله صاحِبُكُمْ فيه ووجهان الْأَوَّلُ: سَيِّدُكُمْ وَالْآخَرُ: مُصَاحِبُكُمْ، يُقَالُ صَاحِبُ الْبَيْتِ وَرَبُّ الْبَيْتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ مَا ضَلَّ أَيْ مَا جُنَّ، فَإِنَّ الْمَجْنُونَ ضَالٌّ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ [الْقَلَمِ: 1- 3] فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مَا غَوَى، بَلْ هُوَ رَشِيدٌ مُرْشِدٌ دَالٌّ عَلَى اللَّهِ بِإِرْشَادٍ آخَرَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الشعراء: 109] وقال: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [يونس: 72] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [الْقَلَمِ: 4] إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ هَاهُنَا وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ هَذَا خُلُقٌ عَظِيمٌ، وَلِنُبَيِّنَ التَّرْتِيبَ فَنَقُولُ: قَالَ أَوَّلًا مَا ضَلَّ أَيْ هُوَ عَلَى الطَّرِيقِ وَما غَوى أَيْ طَرِيقُهُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ مُسْتَقِيمٌ وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى أَيْ هُوَ رَاكِبٌ مَتْنَهُ آخِذٌ سَمْتَ الْمَقْصُودِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَسْلُكُ طَرِيقًا لِيَصِلَ إِلَى مَقْصِدِهِ فَرُبَّمَا يَبْقَى بِلَا طَرِيقٍ، وَرُبَّمَا يَجِدُ إِلَيْهِ طَرِيقًا بَعِيدًا فِيهِ مَتَاعِبُ وَمَهَالِكُ، وَرُبَّمَا يَجِدُ طَرِيقًا وَاسِعًا آمِنًا وَلَكِنَّهُ يَمِيلُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً فَيَبْعُدُ عَنْهُ الْمَقْصِدُ، وَيَتَأَخَّرُ عَلَيْهِ الْوُصُولُ، فَإِذَا سَلَكَ الْجَادَّةَ وَرَكِبَ مَتْنَهَا كَانَ أَسْرَعَ وُصُولًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَا ضَلَّ وَمَا غَوَى، تَقْدِيرُهُ: كَيْفَ يَضِلُّ أَوْ يَغْوَى وَهُوَ لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، وَإِنَّمَا يَضِلُّ مَنْ يَتَّبِعُ الْهَوَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص: 26] فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتَ مِنَ التَّرْتِيبِ الْأَوَّلِ عَلَى صِيغَةِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ مَا ضَلَّ وَصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ فِي قَوْلِهِ وَما يَنْطِقُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، أَيْ مَا ضَلَّ حِينَ اعْتَزَلَكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ فِي صِغَرِهِ وَمَا غَوَى حِينَ/ اخْتَلَى بِنَفْسِهِ وَرَأَى مَنَامَهُ مَا رَأَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى الْآنَ حَيْثُ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ وَجُعِلَ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ، فَلَمْ يَكُنْ أَوَّلًا ضَالًّا وَلَا غَاوِيًا، وَصَارَ الْآنَ مُنْقِذًا مِنَ الضَّلَالَةِ وَمُرْشِدًا وَهَادِيًا. وَأَمَّا عَلَى مَا ذَكَرْتَ أَنَّ تَقْدِيرَهُ كَيْفَ يَضِلُّ وَهُوَ لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى فَلَا تُوَافِقُهُ الصِّيغَةُ؟ نَقُولُ بَلَى، وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَصُونُ مَنْ يُرِيدُ إِرْسَالَهُ فِي صِغَرِهِ عَنِ الْكُفْرِ، وَالْمَعَايِبِ الْقَبِيحَةِ كَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَاعْتِيَادِ الْكَذِبِ، فَقَالَ تَعَالَى: مَا ضَلَّ فِي صِغَرِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، وَأَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِي تَفْسِيرِ الْهَوَى أَنَّهَا الْمَحَبَّةُ، لَكِنْ مِنَ النَّفْسِ يُقَالُ هَوِيتُهُ بِمَعْنَى أَحْبَبْتُهُ لَكِنَّ الْحُرُوفَ الَّتِي فِي هَوِيَ تَدُلُّ عَلَى الدُّنُوِّ وَالنُّزُولِ وَالسُّقُوطِ وَمِنْهُ الْهَاوِيَةُ، فَالنَّفْسُ إِذَا كَانَتْ دَنِيئَةً، وَتَرَكَتِ الْمَعَالِيَ وَتَعَلَّقَتْ بِالسَّفَاسِفِ فَقَدْ هَوَتْ فَاخْتَصَّ الْهَوَى بِالنَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، وَلَوْ قُلْتَ أَهْوَاهُ بِقَلْبِي لَزَالَ مَا فِيهِ مِنَ السَّفَالَةِ، لَكِنَّ الِاسْتِعْمَالَ بَعْدَ اسْتِبْعَادِ اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ حَيْثُ لَمْ يُسْتَعْمَلِ الْهَوَى إِلَّا فِي الْمَوَاضِعِ الَّذِي يُخَالِفُ الْمَحَبَّةَ، فَإِنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْمَدْحِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا إِلَى قَوْلِهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى [النَّازِعَاتِ: 37- 40] إِشَارَةٌ إِلَى عُلُوِّ مَرْتَبَةِ النَّفْسِ. ثم قال تعالى:

[سورة النجم (53) : آية 4]

[سورة النجم (53) : آية 4] إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4) بِكَلِمَةِ الْبَيَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النَّجْمِ: 3] كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: فَبِمَاذَا يَنْطِقُ أَعَنِ الدَّلِيلِ أَوْ الِاجْتِهَادِ؟ فَقَالَ لَا، وَإِنَّمَا يَنْطِقُ عَنِ اللَّهِ بِالْوَحْيِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنْ اسْتُعْمِلَتْ مَكَانَ مَا لِلنَّفْيِ، كَمَا اسْتُعْمِلَتْ مَا لِلشَّرْطِ مَكَانَ إِنْ، قَالَ تَعَالَى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها [الْبَقَرَةِ: 106] وَالْمُشَابَهَةُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّ إِنْ من الهمزة والنون، وما مِنَ الْمِيمِ وَالْأَلِفِ، وَالْأَلِفُ كَالْهَمْزَةِ وَالنُّونُ كَالْمِيمِ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَبِدَلِيلِ جَوَازِ الْقَلْبِ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَبِدَلِيلِ جَوَازِ الْإِدْغَامِ وَوُجُوبِهِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ إِنْ تَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ مِنْ وَجْهٍ، وَعَلَى الْإِثْبَاتِ مِنْ وَجْهٍ، وَلَكِنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى النَّفْيِ أَقْوَى وَأَبْلَغُ، لِأَنَّ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ فِي صُورَةِ اسْتِعْمَالِ لَفْظَةِ إِنْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَالَةِ مَعْدُومًا إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْحَثَّ أَوِ الْمَنْعَ، تَقُولُ إِنْ تُحْسِنْ فَلَكَ الثَّوَابُ، وَإِنْ تسيء فَلَكَ الْعَذَابُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بَيَانَ حَالِ الْقِسْمَيْنِ الْمَشْكُوكِ فِيهِمَا كَقَوْلِكَ: إِنْ كَانَ هَذَا الْفَصُّ زُجَاجًا فَقِيمَتُهُ نِصْفٌ، وَإِنْ كَانَ جَوْهَرًا فقيمته ألف، فههنا وُجُودُ شَيْءٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مَعْلُومٍ وَعَدَمُ الْعِلْمِ حَاصِلٌ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ هَاهُنَا كَعَدَمِ الْحُصُولِ فِي الْحَثِّ وَالْمَنْعِ، فَلَا بُدَّ فِي صُوَرِ اسْتِعْمَالِ إِنْ عَدَمٌ، إِمَّا فِي الْأَمْرِ، وَإِمَّا فِي العلم، وإما الْوُجُودِ فَذَلِكَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فِي بَيَانِ الْحَالِ، وَلِهَذَا قَالَ النُّحَاةُ: لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ إِنِ احْمَرَّ الْبُسْرُ آتِيكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ سَيُوجَدُ لَا مَحَالَةَ، وَجَوَّزُوا اسْتِعْمَالَ إِنْ فِيمَا لَا يُوجَدُ أَصْلًا، يُقَالُ فِي قَطْعِ الرَّجَاءِ/ إِنِ ابْيَضَّ الْقَارُ تَغْلِبْنِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي [الْأَعْرَافِ: 143] وَلَمْ يُوجَدِ الِاسْتِقْرَارُ وَلَا الرُّؤْيَةُ، فَعُلِمَ أَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى النَّفْيِ أَتَمُّ، فَإِنَّ مَدْلُولَهُ إِلَى مَدْلُولٍ مَا أَقْرَبُ فَاسْتُعْمِلَ أَحَدُهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَمَا يُقَالُ إِنْ وَمَا، حَرْفَانِ نَافِيَانِ فِي الْأَصْلِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّرَادُفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هُوَ ضَمِيرٌ مَعْلُومٌ أَوْ ضَمِيرٌ مَذْكُورٌ، نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَشْهَرُهُمَا: أَنَّهُ ضَمِيرٌ مَعْلُومٌ وَهُوَ الْقُرْآنُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: مَا الْقُرْآنُ إِلَّا وَحْيٌ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ النَّجْمُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقُرْآنَ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ هُوَ الْقُرْآنُ فَهُوَ عائد إلى المذكور وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَذْكُورٍ ضِمْنًا وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3] فِي ضِمْنِهِ النُّطْقُ وَهُوَ كَلَامٌ وَقَوْلٌ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ وَمَا كَلَامُهُ وَهُوَ نُطْقُهُ إِلَّا وَحْيٌ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَبْعَدُ وَأَدَقُّ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ قَدْ ذُكِرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ فِي وَجْهٍ أَنَّهُ مَا جُنَّ وَمَا مَسَّهُ الْجِنُّ فَلَيْسَ بِكَاهِنٍ، وَقَوْلُهُ وَما غَوى أَيْ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغِوَايَةِ تَعَلُّقٌ، فَلَيْسَ بِشَاعِرٍ، فَإِنَّ الشُّعَرَاءَ يتبعهم الغاوون، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَوْلُهُ وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى رَدًّا عَلَيْهِمْ حَيْثُ قَالُوا قَوْلُهُ قَوْلُ كَاهِنٍ وَقَالُوا قَوْلُهُ قَوْلُ شَاعِرٍ فَقَالَ مَا قَوْلُهُ إِلَّا وَحْيٌ وَلَيْسَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ وَلَا شَاعِرٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الْحَاقَّةِ: 41، 42] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْوَحْيُ اسْمٌ أَوْ مَصْدَرٌ، نَقُولُ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ، فَإِنَّ الْوَحْيَ اسْمٌ مَعْنَاهُ الْكِتَابُ وَمَصْدَرٌ وَلَهُ مَعَانٍ مِنْهَا الْإِرْسَالُ وَالْإِلْهَامُ، وَالْكِتَابَةُ وَالْكَلَامُ وَالْإِشَارَةُ وَالْإِفْهَامُ فَإِنْ قُلْنَا هُوَ ضَمِيرُ الْقُرْآنِ، فَالْوَحْيُ اسْمٌ مَعْنَاهُ

الْكِتَابُ كَأَنَّهُ يَقُولُ، مَا الْقُرْآنُ إِلَّا كِتَابٌ وَيُوحَى بِمَعْنَى يُرْسَلُ، وَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا أَيْضًا أَنْ يُقَالَ هُوَ مَصْدَرٌ، أَيْ مَا الْقُرْآنُ إِلَّا إِرْسَالٌ وَإِلْهَامٌ، بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَيْ مُرْسَلٌ، وَإِنْ قُلْنَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ إِنْ هُوَ قَوْلُهُ وَكَلَامُهُ فَالْوَحْيُ حِينَئِذٍ هُوَ الْإِلْهَامُ مُلْهَمٌ مِنَ اللَّهِ، أَوْ مُرْسَلٌ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الظَّاهِرُ خِلَافُ مَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَنْطِقُ إِلَّا عَنْ وَحْيٍ، وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ تَوَهَّمَ هَذَا فِي الْآيَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى إِنْ كَانَ ضَمِيرَ الْقُرْآنِ فَظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ ضَمِيرًا عَائِدًا إِلَى قَوْلِهِ فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ إِنَّهُ قَوْلُ شَاعِرٍ، وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فقال: ولا بقول شاعر وَذَلِكَ الْقَوْلُ هُوَ الْقُرْآنُ، وَإِنْ قُلْنَا بِمَا قَالُوا بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ الْوَحْيُ بِالْإِلْهَامِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْتَهِدْ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، فَإِنَّهُ فِي الْحُرُوبِ اجْتَهَدَ وَحَرَّمَ مَا قَالَ اللَّهُ لَمْ يَحْرُمْ وَأَذِنَ لِمَنْ قَالَ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: 43] ، نَقُولُ عَلَى مَا ثَبَتَ لَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَيْهِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: (يُوحَى) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَحِيَ يُوحِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوْحَى يُوحِي، تَقُولُ عَدِمَ يَعْدَمُ، وَأَعْدَمَ يُعْدِمُ وَكَذَلِكَ عَلِمَ يَعْلَمُ وَأَعْلَمَ يُعْلِمُ فَنَقُولُ يُوحَى مِنْ أَوْحَى لَا مِنْ وَحَى، وَإِنْ كَانَ وَحِيَ وَأَوْحَى كِلَاهُمَا جَاءَ بِمَعْنًى وَلَكِنَّ اللَّهَ فِي الْقُرْآنِ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَصْدَرِ لَمْ يَذْكُرِ/ الْإِيحَاءَ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ أَوْحَى، وَعِنْدَ ذِكْرِ الْفِعْلِ لَمْ يَذْكُرْ وَحِيَ، الَّذِي مَصْدَرُهُ وَحْيٌ، بَلْ قَالَ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَصْدَرِ الْوَحْيُ، وقال عند ذكر الفعل أوحى وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي أَحَبَّ وَحَبَّ فَإِنَّ حَبَّ وَأَحَبَّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِ الْمَصْدَرِ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْقُرْآنِ الْإِحْبَابَ، وَذَكَرَ الحب قال أَشَدُّ حُبًّا «1» [الْبَقَرَةِ: 165] وَعِنْدَ الْفِعْلِ لَمْ يَقُلْ حَبَّهُ اللَّهُ بَلْ قَالَ: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [الْمَائِدَةِ: 54] ، وَقَالَ: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 12] وَقَالَ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آلِ عِمْرَانَ: 92] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَفِيهِ سِرٌّ مِنْ عِلْمِ الصَّرْفِ وَهُوَ أَنَّ الْمَصْدَرَ وَالْفِعْلَ الْمَاضِيَ الثُّلَاثِيَّ فِيهِمَا خِلَافٌ قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الصَّرْفِ الْمَصْدَرُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفِعْلِ الْمَاضِي، وَالْمَاضِي هُوَ الْأَصْلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ، لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ: أَمَّا اللَّفْظِيُّ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ مَصْدَرُ فَعَلَ يَفْعِلُ إِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فَعْلًا بِسُكُونِ الْعَيْنِ، وَإِذَا كَانَ لَازِمًا فُعُولٌ فِي الْأَكْثَرِ، وَلَا يَقُولُونَ الْفِعْلُ الْمَاضِي مِنْ فُعُولٍ فُعْلَى، وَهَذَا دَلِيلُ مَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الْمَعْنَوِيُّ فَلِأَنَّ مَا يُوجَدُ مِنَ الْأُمُورِ لَا يُوجَدُ إِلَّا وَهُوَ خَاصٌّ وَفِي ضِمْنِهِ الْعَامُّ مِثَالُهُ الْإِنْسَانُ الَّذِي يُوجَدُ وَيَتَحَقَّقُ يَكُونُ زيدا أن عَمْرًا أَوْ غَيْرَهُمَا، وَيَكُونُ فِي ضِمْنِهِ أَنَّهُ هِنْدِيٌّ أَوْ تُرْكِيٌّ وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ أَنَّهُ حَيَوَانٌ وَنَاطِقٌ، وَلَا يُوجَدُ أَوَّلًا إِنْسَانٌ ثُمَّ يَصِيرُ تُرْكِيًّا ثُمَّ يَصِيرُ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا. إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَالْفِعْلُ الَّذِي يَتَحَقَّقُ لَا يَنْفَكُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا وَفِي ضِمْنِهِ أَنَّهُ فِعْلٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مُضِيِّهِ وَاسْتِقْبَالِهِ مِثَالُهُ الضَّرْبُ إِذَا وُجِدَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ مَضَى أَوْ بَعْدُ لَمْ يَمْضِ، وَالْأَوَّلُ مَاضٍ وَالثَّانِي حَاضِرٌ أَوْ مُسْتَقْبَلٌ، وَلَا يُوجَدُ الضَّرْبُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ ضَرْبٌ خَالِيًا عَنِ الْمُضِيِّ وَالْحُضُورِ وَالِاسْتِقْبَالِ، غَيْرَ أَنَّ الْعَاقِلَ يُدْرِكُ مِنْ فَعَلَ وَهُوَ يَفْعَلُ الْآنَ وَسَيَفْعَلُ غَدًا أَمْرًا مُشْتَرَكًا فَيُسَمِّيهِ فِعْلًا، كذلك يدرك في ضرب وهو يضرب

_ (1) في تفسير الرازي المطبوع (أو أشد حبا) وهو خطأ والصواب ما أثبتناه من المعجم المفهرس.

[سورة النجم (53) : آية 5]

الْآنَ وَسَيَضْرِبُ غَدًا أَمْرًا مُشْتَرَكًا فَيُسَمِّيهِ ضَرْبًا فَضَرَبَ يُوجَدُ أَوَّلًا وَيُسْتَخْرَجُ مِنْهُ الضَّرْبُ، وَالْأَلْفَاظُ وُضِعَتْ لِأُمُورٍ تَتَحَقَّقُ فِيهَا فَيُعَبَّرُ بِهَا عَنْهَا وَالْأُمُورُ الْمُشْتَرَكَةُ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا فِي ضِمْنِ أَشْيَاءَ أُخَرَ، فَالْوَضْعُ أَوَّلًا لِمَا يُوجَدُ مِنْهُ لَا يُدْرَكُ مِنْهُ قَبْلَ الضَّرْبِ، وَهَذَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ يَقُولُ الْمَاضِي أَصْلٌ وَالْمَصْدَرُ مَأْخُوذٌ مِنْهُ وَأَمَّا الَّذِي يَقُولُ الْمَصْدَرُ أَصْلٌ وَالْمَاضِي مَأْخُوذٌ مِنْهُ فَلَهُ دَلَائِلُ مِنْهَا أَنَّ الِاسْمَ أَصْلٌ، وَالْفِعْلَ مُتَفَرِّعٌ، وَالْمَصْدَرُ اسْمٌ، وَلِأَنَّ الْمَصْدَرَ مُعْرَبٌ وَالْمَاضِي مَبْنِيٌّ، وَالْإِعْرَابُ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَلِأَنَّ قَالَ وَقَالَ، وَرَاعَ وَرَاعَ، إِذَا أَرَدْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا نَرُدُّ أَبْنِيَتَهُمَا إِلَى الْمَصْدَرِ فَنَقُولُ قَالَ الْأَلِفُ مُنْقَلِبَةٌ مِنْ وَاوٍ بِدَلِيلِ الْقَوْلِ، وَقَالَ أَلِفٌ مُنْقَلِبَةٌ مِنْ يَاءٍ بِدَلِيلِ الْقِيلِ وَكَذَلِكَ الرَّوْعُ وَالرَّيْعُ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ الْأَلْفَاظَ وُضِعَتْ لِلْأُمُورِ الَّتِي فِي الْأَذْهَانِ، وَالْعَامُّ قَبْلَ الْخَاصِّ فِي الذِّهْنِ، فَإِنَّ الْمَوْجُودَ إِذَا أُدْرِكَ يَقُولُ الْمُدْرِكُ هَذَا الْمَوْجُودُ جَوْهَرٌ أَوْ عَرَضٌ فَإِذَا أَدْرَكَ أَنَّهُ جَوْهَرٌ يَقُولُ إِنَّهُ جِسْمٌ أَوْ غَيْرُ جِسْمٍ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ الْجِسْمَ جَوْهَرًا وَهُوَ الْأَصَحُّ الْأَظْهَرُ، ثُمَّ إِذَا أَدْرَكَ كَوْنَهُ جِسْمًا يَقُولُ هُوَ تَامٌّ وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى أَخَصِّ الْأَشْيَاءِ إِنْ أَمْكَنَ الِانْتِهَاءُ إِلَيْهِ بِالتَّقْسِيمِ، فَالْوَضْعُ الْأَوَّلُ الْفِعْلُ وَهُوَ الْمَصْدَرُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، ثُمَّ إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ زَمَانٌ تَقُولُ: ضَرَبَ أَوْ سَيَضْرِبُ فَالْمَصْدَرُ قَبْلَ الْمَاضِي، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَنَقُولُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ الْمَصْدَرُ فِي الثُّلَاثِيِّ مِنَ الْمَاضِي فَالْحُبُّ وَأَحَبَّ كِلَاهُمَا فِي دَرَجَةٍ/ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا مِنْ حَبَّ يُحِبُّ وَالْمَصْدَرُ مِنَ الثُّلَاثِيِّ قَبْلَ مَصْدَرِ الْمُنْشَعِبَةِ بِمَرْتَبَةٍ، وَعَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ الْمَاضِي فِي الثُّلَاثِيِّ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَصْدَرِ فَالْمَصْدَرُ الثُّلَاثِيُّ قَبْلَ الْمَصْدَرِ فِي الْمُنْشَعِبَةِ بِمَرْتَبَتَيْنِ فَاسْتُعْمِلَ مَصْدَرُ الثُّلَاثِيِّ لِأَنَّهُ قَبْلَ مَصْدَرِ الْمُنْشَعِبَةِ، وَأَمَّا الْفِعْلُ فِي أَحَبَّ وَأَوْحَى فَلِأَنَّ الْأَلِفَ فِيهِمَا تُفِيدُ فَائِدَةً لَا يُفِيدُهَا الثُّلَاثِيُّ الْمُجَرَّدُ لِأَنَّ أَحَبَّ أَدْخَلُ فِي التَّعْدِيَةِ وَأَبْعَدُ عَنْ تَوَهُّمِ اللُّزُومِ فَاسْتَعْمَلَهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ هُوَ وَحْيٌ، وَفِيهِ فَائِدَةٌ غَيْرُ الْمُبَالَغَةِ وَهِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ هُوَ قَوْلُ كَاهِنٍ، هُوَ قَوْلُ شَاعِرٍ فَأَرَادَ نَفْيَ قَوْلِهِمْ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِصِيغَةِ النَّفْيِ فَقَالَ مَا هُوَ كَمَا يَقُولُونَ وَزَادَ فَقَالَ: بَلْ هُوَ وَحْيٌ، وَفِيهِ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ أُخْرَى وَهُوَ قَوْلُهُ يُوحى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: 38] وَفِيهِ تَحْقِيقُ الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ الْفَرَسَ الشَّدِيدَ الْعَدْوِ رُبَّمَا يُقَالُ هُوَ طَائِرٌ فَإِذَا قَالَ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ يُزِيلُ جَوَازَ الْمَجَازِ، كَذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُ مَنْ لَا يَحْتَرِزُ فِي الْكَلَامِ وَيُبَالِغُ فِي الْمُبَالَغَةِ كَلَامُ فُلَانٍ وَحْيٌ، كَمَا يَقُولُ شِعْرُهُ سِحْرٌ، وَكَمَا يَقُولُ قَوْلُهُ مُعْجِزَةٌ، فَإِذَا قَالَ يوحى يزول ذلك المجاز أو يبعد. ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 5] عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) وَفِيهِ وَجْهَانِ أَشْهَرُهُمَا عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي عَلَّمَهُ عَائِدٌ إِلَى الْوَحْيِ أَيِ الْوَحْيُ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى وَالْوَحْيُ إِنْ كَانَ هُوَ الْكِتَابُ فَظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ الْإِلْهَامَ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشُّعَرَاءِ: 193] وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْدِيرُهُ علم محمد شَدِيدُ الْقُوَى جِبْرِيلُ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ عَائِدًا إِلَى صَاحِبِكُمْ، تَقْدِيرُهُ عَلَّمَ صَاحِبَكُمْ وَشَدِيدُ الْقُوَى هُوَ جِبْرِيلُ، أَيْ قُوَاهُ الْعِلْمِيَّةُ وَالْعَمَلِيَّةُ كُلُّهَا شَدِيدَةٌ فَيَعْلَمُ وَيَعْمَلُ، وَقَوْلُهُ شَدِيدُ الْقُوى فِيهِ فَوَائِدُ الْأُولَى: أَنَّ مَدْحَ الْمُعَلِّمِ مَدْحُ الْمُتَعَلِّمِ فَلَوْ قَالَ عَلَّمَهُ جِبْرِيلُ وَلَمْ يَصِفْهُ مَا كَانَ يَحْصُلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنَّ فِيهِ رَدًّا عَلَيْهِمْ حَيْثُ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ سَمِعَهَا وَقْتَ سَفَرِهِ إِلَى الشَّامِ، فَقَالَ لَمْ يُعَلِّمْهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بَلْ مُعَلِّمُهُ شَدِيدُ الْقُوَى، وَالْإِنْسَانُ خُلِقَ ضَعِيفًا وَمَا أُوتِيَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا الثَّالِثَةُ: فِيهِ وُثُوقٌ بِقَوْلِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى جَمَعَ مَا يوجب الوثوق

[سورة النجم (53) : آية 6]

لِأَنَّ قُوَّةَ الْإِدْرَاكِ شَرْطُ الْوُثُوقِ بِقَوْلِ الْقَائِلِ لِأَنَّا إِنْ ظَنَنَّا بِوَاحِدٍ فَسَادَ ذِهْنٍ ثُمَّ نَقَلَ إِلَيْنَا عَنْ بَعْضِ الْأَكَابِرِ مَسْأَلَةً مُشْكِلَةً لَا نَثِقُ بِقَوْلِهِ وَنَقُولُ هُوَ مَا فَهِمَ مَا قَالَ، وَكَذَلِكَ قُوَّةُ الْحِفْظِ حَتَّى لَا نَقُولَ أَدْرَكَهَا لَكِنْ نَسِيَهَا وَكَذَلِكَ قُوَّةُ الْأَمَانَةِ حَتَّى لَا نَقُولَ حَرَّفَهَا وَغَيَّرَهَا فَقَالَ: شَدِيدُ الْقُوى لِيَجْمَعَ هَذِهِ الشَّرَائِطَ فَيَصِيرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ إلى أن قال: أَمِينٍ [التكوير: 20، 21] الرَّابِعَةُ: فِي تَسْلِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ مُخْتَصًّا بِمَكَانٍ فَنِسْبَتُهُ إِلَى جِبْرِيلَ كَنِسْبَتِهِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا عُلِّمَ بِوَاسِطَتِهِ يَكُونُ نَقْصًا عَنْ دَرَجَتِهِ فَقَالَ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ شَدِيدُ الْقُوَى يَثْبُتُ لِمُكَالَمَتِنَا وَأَنْتَ/ بَعْدَ مَا اسْتَوَيْتَ فَتَكُونُ كَمُوسَى حَيْثُ خَرَّ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ عَلَّمَهُ بِوَاسِطَةٍ ثُمَّ عَلَّمَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النِّسَاءِ: 113] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَدَّبَنِي رَبِّي فأحسن تأديبي» . ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 6] ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذُو مِرَّةٍ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: ذُو قُوَّةٍ ثَانِيهَا: ذُو كَمَالٍ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ جَمِيعًا ثَالِثُهَا: ذُو مَنْظَرٍ وَهَيْبَةٍ عَظِيمَةٍ رَابِعُهَا: ذُو خُلُقٍ حَسَنٍ فَإِنْ قِيلَ عَلَى قَوْلِنَا الْمُرَادُ ذُو قُوَّةٍ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ كَوْنِهِ ذَا قُوَى فِي قوله شَدِيدُ الْقُوى [النجم: 5] فَكَيْفَ نَقُولُ قُوَاهُ شَدِيدَةٌ وَلَهُ قُوَّةٌ؟ نَقُولُ ذَلِكَ لَا يَحْسُنُ إِنْ جَاءَ وَصْفًا بَعْدَ وَصْفٍ، وَأَمَّا إِنْ جَاءَ بَدَلًا لَا يَجُوزُ كَأَنَّهُ قَالَ: عَلَّمَهُ ذُو قُوَّةٍ وَتَرَكَ شَدِيدَ الْقُوَى فَلَيْسَ وَصْفًا لَهُ وَتَقْدِيرُهُ: ذُو قُوَّةٍ عَظِيمَةٍ أَوْ كَامِلَةٍ وَهُوَ حِينَئِذٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التَّكْوِيرِ: 19، 20] فَكَأَنَّهُ قَالَ: عَلَّمَهُ ذُو قُوَّةٍ فَاسْتَوَى، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ فِي الْجَوَابِ هُوَ أَنَّ إِفْرَادَ قُوَّةٍ بِالذِّكْرِ رُبَّمَا يَكُونُ لِبَيَانِ أَنَّ قُوَاهُ الْمَشْهُورَةَ شَدِيدَةٌ وَلَهُ قُوَّةٌ أُخْرَى خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا، يُقَالُ: فُلَانٌ كَثِيرُ الْمَالِ، وَلَهُ مَالٌ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ أَيْ أَمْوَالُهُ الظَّاهِرَةُ كَثِيرَةٌ وَلَهُ مَالٌ بَاطِنٌ، عَلَى أَنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ ذُو شِدَّةٍ وَتَقْدِيرُهُ: عَلَّمَهُ مَنْ قُوَاهُ شَدِيدَةٌ وَفِي ذَاتِهِ أَيْضًا شِدَّةٌ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا تَكُونُ قُوَاهُ شَدِيدَةً وَفِي جِسْمِهِ صِغَرٌ وَحَقَارَةٌ وَرَخَاوَةٌ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِقَوْلِهِ شَدِيدُ الْقُوى قُوَّتَهُ فِي الْعِلْمِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذُو مِرَّةٍ أَيْ شِدَّةٍ فِي جِسْمِهِ فَقَدَّمَ الْعِلْمِيَّةَ عَلَى الْجِسْمِيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [الْبَقَرَةِ: 247] وَفِي قَوْلِهِ فَاسْتَوى وَجْهَانِ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ جِبْرِيلُ أَيْ فَاسْتَوَى جِبْرِيلُ في خلقه. ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 7] وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) وَالْمَشْهُورُ أَنَّ هُوَ ضَمِيرُ جِبْرِيلَ وَتَقْدِيرُهُ اسْتَوَى كَمَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأُفُقِ الشَّرْقِيِّ، فَسَدَّ الْمَشْرِقَ لِعَظَمَتِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَاهُ اسْتَوَى بِمَكَانٍ وَهُوَ بِالْمَكَانِ الْعَالِي رُتْبَةً وَمَنْزِلَةً فِي رِفْعَةِ الْقَدْرِ لَا حَقِيقَةً فِي الْحُصُولِ فِي الْمَكَانِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ هَذَا وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التَّكْوِيرِ: 23] إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ؟ نَقُولُ وَفِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَيْضًا نَقُولُ كَمَا قُلْنَا هَاهُنَا إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جِبْرِيلَ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ يَقُولُ الْقَائِلُ رَأَيْتُ الْهِلَالَ فَيُقَالُ لَهُ أَيْنَ رَأَيْتَهُ فَيَقُولُ فَوْقَ السَّطْحِ أَيْ أَنَّ الرَّائِيَ فَوْقَ السطح لا المرئي والْمُبِينِ هُوَ الْفَارِقُ مِنْ أَبَانَ أَيْ فَرَّقَ، أَيْ هُوَ بِالْأُفُقِ الْفَارِقِ بَيْنَ دَرَجَةِ الْإِنْسَانِ وَمَنْزِلَةِ الْمَلَكِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى وَبَلَغَ الْغَايَةَ وَصَارَ نَبِيًّا كَمَا صَارَ بَعْضُ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيًّا يَأْتِيهِ الْوَحْيُ فِي نَوْمِهِ وَعَلَى هَيْئَتِهِ وَهُوَ وَاصِلٌ إِلَى الْأُفُقِ

[سورة النجم (53) : آية 8]

الْأَعْلَى وَالْأُفُقُ الْفَارِقُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ مَا بَعْدَهُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا تَذْهَبُ إِلَيْهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى [النَّجْمِ: 8] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى [النَّجْمِ: 14] كُلَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرْتَهُ؟ نَقُولُ سَنُبَيِّنُ مُوَافَقَتَهُ لِمَا/ ذَكَرْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوَاضِعِهِ عِنْدَ ذِكْرِ تَفْسِيرِهِ، فَإِنْ قِيلَ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرْتَهُ حَيْثُ ورد في الأخبار أن جبريل عليه السلام أَرَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ عَلَى صُورَتِهِ فَسَدَّ الْمَشْرِقَ فَنَقُولُ نَحْنُ مَا قُلْنَا إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ تِلْكَ الْحِكَايَةَ حَتَّى يَلْزَمَ مُخَالَفَةُ الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا نَقُولُ إِنَّ جِبْرِيلَ أَرَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ مَرَّتَيْنِ وَبَسَطَ جَنَاحَيْهِ وَقَدْ سَتَرَ الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ وَسَدَّهُ، لَكِنَّ الْآيَةَ لَمْ تَرِدْ لبيان ذلك. ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 8] ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) وَفِيهِ وُجُوهٌ مَشْهُورَةٌ أَحَدُهَا: أَنَّ جِبْرِيلَ دَنَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أي بعد ما مَدَّ جَنَاحَهُ وَهُوَ بِالْأُفُقِ عَادَ إِلَى الصُّورَةِ الَّتِي كَانَ يَعْتَادُ النُّزُولَ عَلَيْهَا وَقَرُبَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى هَذَا ففي فَتَدَلَّى ثَلَاثَةُ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ ثُمَّ تَدَلَّى مِنَ الْأُفُقِ الْأَعْلَى فَدَنَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّانِي: الدُّنُوُّ وَالتَّدَلِّي بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَأَنَّهُ قَالَ دَنَا فَقَرُبَ الثَّالِثُ: دَنَا أَيْ قَصَدَ الْقُرْبَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَحَرَّكَ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ فَتَدَلَّى فَنَزَلَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّانِي: عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهِ الْأَخِيرِ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى [النجم: 7] أن محمدا دَنَا مِنَ الْخَلْقِ وَالْأُمَّةِ وَلَانَ لَهُمْ وَصَارَ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَتَدَلَّى أَيْ فَتَدَلَّى إِلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ اللَّيِّنِ وَالدُّعَاءِ الرَّفِيقِ فَقَالَ: أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [فصلت: 6] وعلى هذا ففي الكلام كما لان كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَاسْتَوَى مُحَمَّدٌ وَكَمُلَ فَدَنَا مِنَ الْخَلْقِ بَعْدَ عُلُوِّهِ وَتَدَلَّى إِلَيْهِمْ وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ الثَّالِثُ: وَهُوَ ضَعِيفٌ سَخِيفٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هُوَ رَبُّهُ تَعَالَى وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَائِلِينَ بِالْجِهَةِ وَالْمَكَانِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ الْقُرْبَ بِالْمَنْزِلَةِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِيهِ مَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِكَايَةً عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى «مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَمَنْ مَشَى إِلَيَّ أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، وَهَاهُنَا لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَوَى وَعَلَا فِي الْمَنْزِلَةِ الْعَقْلِيَّةِ لَا فِي الْمَكَانِ الْحِسِّيِّ قَالَ وَقَرُبَ اللَّهُ مِنْهُ تَحْقِيقًا لِمَا فِي قَوْلِهِ «مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إليه باعا» . ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 9] فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) أَيْ بَيْنَ جِبْرَائِيلَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مِقْدَارُ قَوْسَيْنِ أَوْ أَقَلَّ، وَرُدَّ هَذَا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ وَعَادَتِهِمْ، فَإِنَّ الْأَمِيرَيْنِ مِنْهُمْ أَوِ الْكَبِيرَيْنِ إِذَا اصْطَلَحَا وَتَعَاهَدَا خَرَجَا بِقَوْسَيْهِمَا وَوَتَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طرف قوسه بطرق قَوْسِ صَاحِبِهِ وَمَنْ دُونَهُمَا مِنَ الرَّعِيَّةِ يَكُونُ كَفُّهُ بِكَفِّهِ فَيُنْهِيَانِ بَاعَيْهِمَا، وَلِذَلِكَ تُسَمَّى مُسَايَعَةً، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ قَوْلَهُ قابَ قَوْسَيْنِ عَلَى جَعْلِ كَوْنِهِمَا كَبِيرَيْنِ، وَقَوْلَهُ أَوْ أَدْنى لِفَضْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَإِنَّ الْأَمِيرَ إِذَا بَايَعَهُ الرَّعِيَّةُ لَا يَكُونُ مَعَ الْمُبَايِعِ قَوْسٌ فَيُصَافِحُهُ الْأَمِيرُ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمَا كَأَمِيرَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا مِقْدَارُ قَوْسَيْنِ أَوْ كَانَ جِبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَفِيرًا بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى/ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ كَالتَّبَعِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَ كَالْمُبَايِعِ الَّذِي يَمُدُّ الْبَاعَ لَا الْقَوْسَ، هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُفَضِّلُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم على جبرائيل عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَّا قليلا منهم إذ كان جبرائيل رَسُولًا مِنَ اللَّهِ

وَاجِبَ التَّعْظِيمِ وَالِاتِّبَاعِ فَصَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهُ كَالتَّبَعِ لَهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُفَضِّلُ جِبْرِيلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْسُ عِبَارَةً عَنْ بعد من قاس يقوس، وَعَلَى هَذَا فَنَقُولُ ذَلِكَ الْبُعْدُ هُوَ الْبُعْدُ النَّوْعِيُّ الَّذِي كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ كَانَ بَشَرًا، وَجِبْرِيلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ كَانَ مَلَكًا، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ زَالَ عَنِ الصِّفَاتِ الَّتِي تُخَالِفُ صِفَاتِ الْمَلَكِ مِنَ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَالْجَهْلِ وَالْهَوَى لَكِنَّ بَشَرِيَّتَهُ كَانَتْ بَاقِيَةً، وَكَذَلِكَ جِبْرِيلُ وَإِنْ تَرَكَ الْكَمَالَ وَاللُّطْفَ الَّذِي يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ وَالِاحْتِجَابَ، لَكِنْ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ مَلَكًا فَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا اخْتِلَافُ حَقِيقَتِهِمَا، وَأَمَّا سَائِرُ الصِّفَاتِ الْمُمْكِنَةِ الزَّوَالِ فَزَالَتْ عَنْهُمَا فَارْتَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ الْأُفُقَ الْأَعْلَى مِنَ الْبَشَرِيَّةِ وَتَدَلَّى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى بَلَغَ الْأُفُقَ الْأَدْنَى مِنَ الْمَلَكِيَّةِ فَتَقَارَبَا وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا حَقِيقَتُهُمَا، وَعَلَى هَذَا فَفِي فَاعِلِ أَوْحَى الْأَوَّلِ وَجْهَانِ أَحَدَهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى، وَعَلَى هَذَا فَفِي عَبْدِهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَعْنَاهُ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى جِبْرِيلَ، وَعَلَى هَذَا فَفِي فَاعِلِ أَوْحَى الْأَخِيرِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا، وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيْهِ تَفْخِيمًا وَتَعْظِيمًا لِلْمُوحَى ثَانِيهِمَا: فَاعِلُ أَوْحَى ثَانِيًا جِبْرِيلُ، وَالْمَعْنَى أَوْحَى اللَّهُ إِلَى جِبْرِيلَ مَا أَوْحَى جِبْرِيلُ إِلَى كُلِّ رَسُولٍ، وفيه بيان أن جبرائيل أَمِينٌ لَمْ يَخُنْ فِي شَيْءٍ مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشُّعَرَاءِ: 193] وَقَوْلِهِ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التَّكْوِيرِ: 21] الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي عَبْدِهِ عَلَى قَوْلِنَا الْمُوحِي هُوَ اللَّهُ أَنَّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَاهُ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُحَمَّدٍ مَا أَوْحَى إِلَيْهِ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، وَهَذَا عَلَى مَا ذكرناه مِنَ التَّفْسِيرِ وَرَدَ عَلَى تَرْتِيبٍ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَوَّلِ حَصَّلَ فِي الْأُفُقِ الْأَعْلَى مِنْ مَرَاتِبِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ النُّبُوَّةُ ثُمَّ دَنَا مِنْ جِبْرِيلَ وَهُوَ فِي مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ فَصَارَ رَسُولًا فَاسْتَوَى وَتَكَامَلَ وَدَنَا مِنَ الْأُمَّةِ بِاللُّطْفِ وَتَدَلَّى إِلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ الرَّفِيقِ وَجَعَلَ يَتَرَدَّدُ مِرَارًا بَيْنَ أُمَّتِهِ وَرَبِّهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ جِبْرِيلَ مَا أَوْحَى وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي فَاعِلِ أَوْحَى أَوَّلًا هُوَ أَنَّهُ جِبْرِيلُ أَوْحَى أَيْ عَبْدُهُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعْلُومٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سَبَأٍ: 40، 41] مَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِعَدَمِ جَوَازِ إِطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى هَذَا فَفَاعِلُ أَوْحَى ثَانِيًا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جِبْرِيلُ أَيْ أَوْحَى جِبْرِيلُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ مَا أَوْحَاهُ جِبْرِيلُ لِلتَّفْخِيمِ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى أَيْ أَوْحَى جِبْرِيلَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ وَفِي الَّذِي وُجُوهٌ أَوَّلُهَا: الَّذِي أَوْحَى الصَّلَاةُ/. ثَانِيهَا: أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَبْلَكَ وَأُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ لَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَبْلَ أُمَّتِكَ. ثَالِثُهَا: أَنَّ مَا لِلْعُمُومِ وَالْمُرَادُ كُلُّ مَا جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِنَا بِأَنَّ الْمُرَادَ جِبْرِيلُ صَحِيحٌ، وَالْوَجْهَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ عَلَى قَوْلِنَا الْمُرَادُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَظْهَرُ، وَفِيهِ وَجْهٌ غَرِيبٌ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ مَشْهُورٌ مَعْنَاهُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، وَلْنُبَيِّنْ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ بِمَ عَرَفَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جِبْرِيلَ مَلَكٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَيْسَ أَحَدًا مِنَ الْجِنِّ، وَالَّذِي يُقَالُ إِنَّ خَدِيجَةَ كَشَفَتْ رَأْسَهَا امْتِحَانًا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ إِنِ ادَّعَى ذَلِكَ الْقَائِلُ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ حَصَلَتْ بِأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَهَذَا إِنْ أَرَادَ الْقِصَّةَ وَالْحِكَايَةَ، وَإِنَّ خَدِيجَةَ فَعَلَتْ هَذَا لِأَنَّ فِعْلَ خَدِيجَةَ غَيْرُ مُنْكَرٍ وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ دَعْوَى حُصُولِ الْمَعْرِفَةِ بِفِعْلِهَا وَأَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ رُبَّمَا تَسَتَّرَ عِنْدَ كَشْفِ رَأْسِهَا أَصْلًا فَكَانَ يَشْتَبِهُ بِالْمَلَائِكَةِ فَيَحْصُلُ اللَّبْسُ وَالْإِبْهَامُ؟ وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ أَظْهَرَ عَلَى يَدِ جِبْرِيلَ مُعْجِزَةً عَرَفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا كَمَا أَظْهَرَ عَلَى يَدِ مُحَمَّدٍ مُعْجِزَاتٍ عَرَفْنَاهُ بِهَا وَثَانِيهِمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِأَنَّ جِبْرِيلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مَلَكٌ لَا جِنِّيٌّ وَلَا شَيْطَانٌ كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي جِبْرِيلَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّ

[سورة النجم (53) : آية 10]

الْمُتَكَلِّمَ مَعَهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنَّ الْمُرْسِلَ لَهُ رَبُّهُ لَا غَيْرُهُ. إِذَا عُلِمَ الْجَوَابَانِ فنقول قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 10] فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى (10) فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَوْحَى إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَوْحَاهُ إِلَى جِبْرِيلَ أَيْ كَلَّمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ وَحْيٌ أَوْ خَلَقَ فِيهِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا ثَانِيهِمَا: أَوْحَى إِلَى جِبْرِيلَ مَا أَوْحَى إِلَى مُحَمَّدٍ دَلِيلَهُ الَّذِي بِهِ يُعْرَفُ أَنَّهُ وَحْيٌ، فَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مَا مَصْدَرِيَّةٌ تَقْدِيرُهُ فَأَوْحَى إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيحَاءَ أَيِ الْعِلْمَ بِالْإِيحَاءِ، لِيُفَرِّقَ بين الملك والجن. ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 11] مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى (11) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفُؤَادُ فُؤَادُ مَنْ؟ نَقُولُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ فُؤَادُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَا كَذَبَ فُؤَادُهُ وَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ مَا عُلِمَ حَالُهُ لِسَبْقِ ذِكْرِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي قَوْلِهِ إِلى عَبْدِهِ وَفِي قوله وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى [النجم: 7] وقوله تعالى: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ [النجم: 2] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ مَا كَذَبَ الْفُؤادُ أَيْ جِنْسُ الْفُؤَادِ لِأَنَّ الْمُكَذَّبَ هُوَ الْوَهْمُ وَالْخَيَالُ يَقُولُ كَيْفَ يَرَى اللَّهَ أَوْ كَيْفَ يَرَى جِبْرِيلَ مَعَ أَنَّهُ أَلْطَفُ مِنَ الْهَوَى وَالْهَوَاءُ لَا يُرَى، وَكَذَلِكَ يَقُولُ الْوَهْمُ وَالْخَيَالُ إِنْ رأى ربه رأى فِي جِهَةٍ وَمَكَانٍ وَعَلَى هَيْئَةٍ وَالْكُلُّ يُنَافِي كَوْنَ الْمَرْئِيِّ إِلَهًا، وَلَوْ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَنَّهُ صَارَ عَلَى صُورَةِ دِحْيَةَ أَوْ غَيْرِهِ فَقَدِ انْقَلَبَتْ حَقِيقَتُهُ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَارْتَفَعَ الْأَمَانُ عَنِ الْمَرْئِيَّاتِ، فَنَقُولُ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَرُؤْيَةُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَا رَآهُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَائِزَةٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ قَلْبٌ فَالْفُؤَادُ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتِ النَّفْسُ الْمُتَوَهِّمَةُ وَالْمُتَخَيِّلَةُ تُنْكِرُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا مَعْنَى مَا كَذَبَ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ أَنَّ قَلْبَهُ لَمْ يَكْذِبْ وَمَا قَالَ إِنَّ مَا رَآهُ بَصَرُكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَوْ قَالَ فُؤَادُهُ ذَلِكَ لَكَانَ كَاذِبًا فِيمَا قَالَهُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَالَهُ الْمُبَرِّدُ حَيْثُ قَالَ: مَعْنَاهُ صَدَقَ الْفُؤَادُ، فِيمَا رَأَى، [رَأَى] شَيْئًا فَصَدَقَ فِيهِ الثَّانِي: قُرِئَ مَا كَذَبَ الْفُؤادُ بِالتَّشْدِيدِ وَمَعْنَاهُ مَا قَالَ إِنَّ الْمَرْئِيَّ خَيَالٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ هَذَا مُقَرِّرٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلَقَ اللَّهُ لَهُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَيَالٍ وَلَيْسَ هُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَصْدَ الْحَقِّ، وَتَقْدِيرُهُ مَا جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا وَفِي الْوُقُوعِ وَإِرَادَةِ نَفْيِ الْجَوَازِ كَثِيرٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ [غَافِرٍ: 16] وَقَالَ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] وقال: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ [النمل: 93] وَالْكُلُّ لِنَفِيَ الْجَوَازِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 56] ولا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: 30] ، ولا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النِّسَاءِ: 48] فَإِنَّهُ لِنَفْيِ الْوُقُوعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الرَّائِي فِي قَوْلِهِ مَا رَأى هُوَ الْفُؤَادُ أَوِ الْبَصَرُ أَوْ غَيْرُهُمَا؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: الْفُؤَادُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَآهُ الْفُؤَادُ أَيْ لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ جِنِّيٌّ أَوْ شَيْطَانٌ بَلْ تَيَقَّنَ أَنَّ مَا رَآهُ بِفُؤَادِهِ صِدْقٌ صَحِيحٌ الثَّانِي: الْبَصَرُ أَيْ: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَآهُ الْبَصَرُ، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ مَا رَآهُ الْبَصَرُ خَيَالٌ الثَّالِثُ: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِنَا الْفُؤَادُ لِلْجِنْسِ ظَاهِرٌ أَيِ الْقُلُوبُ تَشْهَدُ بِصِحَّةِ مَا رَآهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [مِنَ الرُّؤْيَا] وَإِنْ كَانَتِ الْأَوْهَامُ لَا تَعْتَرِفُ بِهَا.

[سورة النجم (53) : آية 12]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْمَرْئِيُّ فِي قَوْلِهِ مَا رَأى؟ نَقُولُ عَلَى الِاخْتِلَافِ السَّابِقِ وَالَّذِي يَحْتَمِلُ الْكَلَامَ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: الرَّبُّ تَعَالَى وَالثَّانِي: جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالثَّالِثُ: الْآيَاتُ الْعَجِيبَةُ الْإِلَهِيَّةُ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تُمْكِنُ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِحَيْثُ لَا يَقْدَحُ فِيهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ جِسْمًا فِي جِهَةٍ؟ نَقُولُ، اعْلَمْ أَنَّ الْعَاقِلَ إِذَا تَأَمَّلَ وَتَفَكَّرَ فِي رَجُلٍ مَوْجُودٍ فِي مَكَانٍ، وَقَالَ هَذَا مَرْئِيُّ اللَّهِ تَعَالَى يَرَاهُ اللَّهُ، وَ [إِذَا] تَفَكَّرَ فِي أَمْرٍ لَا يُوجَدُ أَصْلًا وَقَالَ هَذَا مَرْئِيُّ اللَّهِ تَعَالَى يَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجِدُ بَيْنَهُمَا فَرْقًا وَعَقْلُهُ يُصَحِّحُ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ وَيُكَذِّبُ الْكَلَامَ الثَّانِيَ، فَذَلِكَ لَيْسَ بِمَعْنَى كَوْنِهِ مَعْلُومًا لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ الْمَوْجُودُ مَعْلُومُ اللَّهِ وَالْمَعْدُومُ مَعْلُومُ اللَّهِ لَمَا وَجَدَ فِي كَلَامِهِ خَلَلًا وَاسْتِبْعَادًا فَاللَّهُ رَاءٍ بِمَعْنَى كَوْنِهِ عَالِمًا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ يَكُونُ رَائِيًا وَلَا يَصِيرُ مُقَابِلًا لِلْمَرْئِيِّ، وَلَا يَحْصُلُ فِي جِهَةٍ وَلَا يَكُونُ مُقَابِلًا لَهُ، وَإِنَّمَا يَصْعُبُ عَلَى الْوَهْمِ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَرَ شَيْئًا إِلَّا فِي جِهَةٍ فَيَقُولُ إِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ، وَمِمَّا يُصَحِّحُ هَذَا أَنَّكَ تَرَى فِي الْمَاءِ قَمَرًا وَفِي الْحَقِيقَةِ مَا رَأَيْتَ الْقَمَرَ حَالَةَ نَظَرِكَ إِلَى الْمَاءِ إِلَّا فِي مَكَانِهِ فَوْقَ السَّمَاءِ فَرَأَيْتَ الْقَمَرَ فِي الْمَاءِ، لِأَنَّ الشُّعَاعَ الْخَارِجَ مِنَ الْبَصَرِ اتَّصَلَ بِهِ فَرَدَّ الْمَاءُ ذَلِكَ الشُّعَاعَ إِلَى السَّمَاءِ، لَكِنَّ وَهْمَكَ لَمَّا رَأَى أَكْثَرَ مَا رَآهُ فِي الْمُقَابَلَةِ لَمْ يَعْهَدْ رُؤْيَةَ شَيْءٍ يَكُونُ خَلْفَهُ إِلَّا بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، قَالَ إِنِّي أرى القمر، ولا رؤية إلا إذا كَانَ الْمَرْئِيُّ فِي مُقَابَلَةِ الْحَدَقَةِ وَلَا مُقَابِلَ لِلْحَدَقَةِ إِلَّا الْمَاءُ، فَحُكِمَ إِذَنْ بِنَاءً عَلَى هَذَا أَنَّهُ يَرَى الْقَمَرَ فِي الْمَاءِ، فَالْوَهْمُ يَغْلِبُ الْعَقْلَ فِي الْعَالَمِ لِكَوْنِ الْأُمُورِ الْعَاجِلَةِ أَكْثَرُهَا وَهْمِيَّةٌ/ حِسِّيَّةٌ، وَفِي الْآخِرَةِ تَزُولُ الْأَوْهَامُ وَتَنْجَلِي الْأَفْهَامُ فَتَرَى الْأَشْيَاءَ لِوُجُودِهَا لَا لِتَحَيُّزِهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ يُنْكِرُ جَوَازَ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، يَلْزَمُهُ أَنْ يُنْكِرَ جَوَازَ رُؤْيَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِيهِ إِنْكَارُ الرِّسَالَةِ وَهُوَ كُفْرٌ، وَفِيهِ مَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ شَكَّ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَقُولُ لَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى جَائِزَ الرُّؤْيَةِ لَكَانَ وَاجِبَ الرُّؤْيَةِ لَأَنَّ حَوَاسَّنَا سَلِيمَةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَلَا هُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنَّا لِعَدَمِ كَوْنِهِ فِي جِهَةٍ وَلَا مَكَانٍ فَلَوْ جَازَ أَنْ يُرَى وَلَا نَرَاهُ، لَلَزِمَ الْقَدْحُ فِي الْمَحْسُوسَاتِ الْمُشَاهَدَاتِ، إِذْ يَجُوزُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ عِنْدَنَا جَبَلٌ وَلَا نَرَاهُ، فَيُقَالُ لِذَلِكَ الْقَائِلِ قَدْ صَحَّ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَنْزِلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ يَرَاهُ وَلَوْ وَجَبَ مَا يَجُوزُ لَرَآهُ كُلُّ أَحَدٍ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ هُنَاكَ حِجَابًا نَقُولُ وَجَبَ أَنْ يَرَى هُنَاكَ حِجَابًا فَإِنَّ الْحِجَابَ لَا يُحْجَبُ إِذَا كَانَ مَرْئِيًّا عَلَى مَذْهَبِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ النُّصُوصَ وَرَدَتْ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ فَجُعِلَ بَصَرُهُ فِي فُؤَادِهِ أَوْ رَآهُ بِبَصَرِهِ فَجُعِلَ فُؤَادُهُ فِي بَصَرِهِ، وَكَيْفَ لَا، وَعَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ الرُّؤْيَةُ بِالْإِرَادَةِ لَا بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ، فَإِذَا حَصَّلَ اللَّهُ تَعَالَى الْعِلْمَ بِالشَّيْءِ مِنْ طَرِيقِ الْبَصَرِ كَانَ رُؤْيَةً، وَإِنْ حَصَّلَهُ مِنْ طَرِيقِ الْقَلْبِ كَانَ مَعْرِفَةً وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحَصِّلَ الْعِلْمَ بِخَلْقٍ مُدْرِكٍ لِلْمَعْلُومِ فِي الْبَصَرِ كَمَا قَدَرَ عَلَى أَنْ يُحَصِّلَهُ بخلق مدرك في القلب، والمسألة مختلف فيها بين الصحابة في الوقوع واختلاف الوقوع مما ينبئ عن الاتفاق على الجواز والمسألة مذكورة في الأصول فلا نطولها: ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 12] أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى (12) أَيْ كَيْفَ تُجَادِلُونَهُ وَتُورِدُونَ شُكُوكَكُمْ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ رَأَى مَا رَأَى عَيْنَ الْيَقِينِ؟ وَلَا شَكَّ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ فَهُوَ جَازِمٌ مُتَيَقِّنٌ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ أَصَابَهُ الْجِنُّ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هُوَ مُؤَكِّدٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ تَيَقَّنَ شَيْئًا قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ لَا يَزُولُ عَنْ نَفْسِهِ تَشْكِيكٌ وأكد بقوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 13 الى 14] وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14)

وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَآهُ وَهُوَ عَلَى بَسِيطِ الْأَرْضِ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ احْتِمَالًا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِأَنَّهُ مَلَكٌ مُرْسَلٌ، وَاحْتِمَالُ الْبَعِيدِ لَا يَقْدَحُ فِي الْجَزْمِ وَالْيَقِينِ، أَلَا تَرَى أَنَّا إِذَا نِمْنَا بِاللَّيْلِ وَانْتَبَهْنَا بِالنَّهَارِ نُجْزِمُ بِأَنَّ الْبِحَارَ وَقْتَ نَوْمِنَا مَا نَشِفَتْ وَلَا غَارَتْ، وَالْجِبَالَ مَا عُدِمَتْ وَلَا سَارَتْ، مَعَ احْتِمَالِ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ وَقْتَ نَوْمِنَا، وَيُعِيدُهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي يَوْمِنَا، فَلَمَّا رَآهُ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهُوَ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّادِسَةِ لَمْ يُحْتَمَلْ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ، فَنَفَى ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ أَيْضًا فَقَالَ تَعَالَى: أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى رَأْيَ الْعَيْنِ، وَكَيْفَ وَهُوَ/ قَدْ رَآهُ فِي السَّمَاءِ فَمَاذَا تُقَدِّرُونَ فِيهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَاوُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْحَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، أَيْ كَيْفَ تُجَادِلُونَهُ فِيمَا رَآهُ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَشُكُّ فِيهِ؟ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُحْتَمَلُ إِيرَادُ الشُّكُوكِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مَا يَشُكُّ الْمُعْتَقِدُ لِشَيْءٍ فِيهِ وَلَكِنَّ تُرَدَّدُ عَلَيْهِ الشُّكُوكُ وَلَا يُمْكِنُهُ الْجَوَابُ عَنْهَا، وَلَا تَثْرِيبَ مَعَ ذَلِكَ فِي أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمِثَالِ، لِأَنَّا لَا نَشُكُّ فِي أَنَّ الْبِحَارَ مَا صَارَتْ ذَهَبًا وَالْجِبَالَ مَا صَارَتْ عِهْنًا، وَإِذَا أَوْرَدَ عَلَيْنَا مُورِدٌ شَكًّا، وَقَالَ وَقْتَ نَوْمِكَ يُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَلَبَهَا ثُمَّ أَعَادَهَا لَا يُمْكِنُنَا الْجَوَابُ عَنْهُ مَعَ أَنَّا لَا نَشُكُّ فِي اسْتِمْرَارِهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، لَا يُقَالُ اللَّامُ تُنَافِي كَوْنَ الْوَاوِ لِلْحَالِ، فَإِنَّ الْمُسْتَعْمَلَ يُقَالُ أَفَتُمَارُونَهُ، وَقَدْ رَأَى مِنْ غَيْرِ لَامٍ، لِأَنَّا نَقُولُ الْوَاوُ الَّتِي لِلْحَالِ تَدْخُلُ عَلَى جملة والجملة تتركب من مبتدأ وخبر، أو هن فِعْلٌ وَفَاعِلٌ، وَكِلَاهُمَا يَجُوزُ فِيهِ اللَّامُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ نَزْلَةً فَعْلَةٌ مِنَ النُّزُولِ فَهِيَ كَجَلْسَةٍ مِنَ الْجُلُوسِ، فَلَا بُدَّ مِنْ نُزُولٍ، فَذَلِكَ النُّزُولُ لِمَنْ كَانَ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ، وَهِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي رَآهُ عَائِدٌ إِلَى مَنْ وَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْ رَأَى اللَّهَ نَزْلَةً أُخْرَى، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مَا رَأى فِي قَوْلِهِ مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى [النجم: 11] هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ قِيلَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ بِقَلْبِهِ مَرَّتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا فَالنَّزْلَةُ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لِلَّهِ، وَعَلَى هَذَا فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: قَوْلُ مَنْ يُجَوِّزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْحَرَكَةَ وَالِانْتِقَالَ وَهُوَ بَاطِلٌ وَثَانِيهِمَا: النُّزُولُ بِالْقُرْبِ الْمَعْنَوِيِّ لَا الْحِسِّيِّ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَقْرُبُ بِالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ مِنْ عَبْدِهِ وَلَا يَرَاهُ الْعَبْدُ، وَلِهَذَا قال موسى عليه السلام رَبِّ أَرِنِي [البقرة: 260] أَيْ أَزِلْ بَعْضَ حُجُبِ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ، وَادْنُ مِنَ الْعَبْدِ بِالرَّحْمَةِ وَالْإِفْضَالِ لِأَرَاكَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى اللَّهَ نَزْلَةً أُخْرَى، وَحِينَئِذٍ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ عَلَى مَتْنِ الْهَوَى وَمَرْكَبِ النَّفْسِ وَلِهَذَا يُقَالُ لِمَنْ رَكِبَ مَتْنَ هَوَاهُ إِنَّهُ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَاسْتَكْبَرَ، قَالَ تَعَالَى: عَلا فِي الْأَرْضِ [الْقَصَصِ: 4] ثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النَّزْلَةِ ضِدُّهَا وَهِيَ الْعَرْجَةُ كَأَنَّهُ قَالَ رَآهُ عَرْجَةً أُخْرَى، وَإِنَّمَا اخْتَارَ النَّزْلَةَ، لِأَنَّ الْعَرْجَةَ الَّتِي فِي الْآخِرَةِ لَا نَزْلَةَ لَهَا فَقَالَ نَزْلَةً لِيُعْلَمَ أَنَّهَا مِنَ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْ رَأَى جِبْرِيلَ نَزْلَةً أُخْرَى، وَالنَّزْلَةُ حِينَئِذٍ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ أَخْبَارِ لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ، جَاوَزَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوْ دَنَوْتُ أُنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتَ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ فَذَلِكَ نَزْلَةٌ. فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ قَالَ: أُخْرى؟ نَقُولُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

[سورة النجم (53) : آية 15]

فِي أَمْرِ الصَّلَاةِ تَرَدَّدَ مِرَارًا فَرُبَّمَا كَانَ يُجَاوِزُ كُلَّ مَرَّةٍ، وَيَنْزِلُ إِلَى جِبْرِيلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكِلَاهُمَا مَنْقُولٌ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَنَزْلَةٌ أُخْرَى ظَاهِرٌ، لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ لَهُ نَزَلَاتٌ وَكَانَ لَهُ نَزْلَتَانِ عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى صُورَتِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى الْمَشْهُورُ أَنَّ السِّدْرَةَ شَجَرَةٌ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَعَلَيْهَا/ مِثْلُ النَّبْقِ وَقِيلَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، وَوَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ صَلَّى الله عليه وسلم قال: «نيقها كَقِلَالِ هَجَرَ وَوَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ» وَقِيلَ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى هِيَ الْحَيْرَةُ الْقُصْوَى مِنَ السِّدْرَةِ، وَالسِّدْرَةُ كالركبة من الراكب عند ما يُحَارُ الْعَقْلُ حَيْرَةً لَا حَيْرَةَ فَوْقَهَا، مَا حَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا غَابَ وَرَأَى مَا رَأَى، وَقَوْلُهُ عِنْدَ ظَرْفُ مَكَانٍ، أَوْ ظَرْفُ زَمَانٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؟ نَقُولُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ ظَرْفُ مَكَانٍ تَقْدِيرُهُ رَأَى جِبْرِيلَ أَوْ غَيْرَهُ بِقُرْبِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَقِيلَ ظَرْفُ زَمَانٍ، كَمَا يُقَالُ صَلَّيْتُ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَتَقْدِيرُهُ رَآهُ عِنْدَ الْحَيْرَةِ الْقُصْوَى، أَيْ فِي الزَّمَانِ الَّذِي تُحَارُ فِيهِ عُقُولُ الْعُقَلَاءِ، وَالرُّؤْيَةُ مِنْ أَتَمِّ الْعُلُومِ وَذَلِكَ الْوَقْتُ مِنْ أَشَدِّ أَوْقَاتِ الْجَهْلِ وَالْحَيْرَةِ، فَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا حَارَ وَقْتًا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَحَارَ الْعَاقِلُ فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْ قُلْنَا مَعْنَاهُ رَأَى اللَّهَ كَيْفَ يُفْهَمُ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى؟ قُلْنَا فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُ اللَّهَ فِي مَكَانٍ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَقَدْ بَالَغْنَا فِي بَيَانِ بُطْلَانِهِ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ الثَّانِي: رَآهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى لِأَنَّ الظَّرْفَ قَدْ يَكُونُ ظَرْفًا لِلرَّائِي كَمَا ذَكَرْنَا من المثال يقال رأيت الهلال، فيقاله لِقَائِلِهِ أَيْنَ رَأَيْتَهُ؟ فَيَقُولُ عَلَى السَّطْحِ وَرُبَّمَا يَقُولُ عِنْدَ الشَّجَرَةِ الْفُلَانِيَّةِ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْمُرَادَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْوَجْهَانِ ظَاهِرَانِ وَكَوْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ جِبْرِيلَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى أَظْهَرُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِضَافَةُ السِّدْرَةِ إِلَى الْمُنْتَهَى مِنْ أَيِّ [أَنْوَاعِ] الْإِضَافَةِ؟ نَقُولُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: إِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى مَكَانِهِ يُقَالُ أَشْجَارُ بَلْدَةِ كَذَا لَا تَطُولُ مِنَ الْبَرْدِ وَيُقَالُ أَشْجَارُ الْجَنَّةِ لَا تَيْبَسُ وَلَا تَخْلُو مِنَ الثِّمَارِ، فَالْمُنْتَهَى حِينَئِذٍ مَوْضِعٌ لَا يَتَعَدَّاهُ مَلَكٌ، وَقِيلَ لَا يَتَعَدَّاهُ رُوحٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ وَثَانِيهَا: إِضَافَةُ الْمَحَلِّ إِلَى الْحَالِّ فِيهِ، يُقَالُ: كِتَابُ الْفِقْهِ، وَمَحَلُّ السَّوَادِ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُنْتَهَى عِنْدَ السِّدْرَةِ تَقْدِيرُهُ سِدْرَةٌ عِنْدَ مُنْتَهَى الْعُلُومِ ثَالِثُهَا: إِضَافَةُ الْمُلْكِ إِلَى مَالِكِهِ يُقَالُ دَارُ زَيْدٍ وَأَشْجَارُ زَيْدٍ وَحِينَئِذٍ فَالْمُنْتَهَى إِلَيْهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى إِلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النَّجْمِ: 42] فَالْمُنْتَهَى إِلَيْهِ هُوَ اللَّهُ وَإِضَافَةُ السِّدْرَةِ إِلَيْهِ حِينَئِذٍ كَإِضَافَةِ الْبَيْتِ إِلَيْهِ لِلتَّشْرِيفِ وَالتَّعْظِيمِ، وَيُقَالُ فِي التَّسْبِيحِ: يَا غَايَةَ مُنَاهُ، وَيَا مُنْتَهَى أملاه. ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 15] عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) وَفِي الْجَنَّةِ خِلَافٌ قَالَ بَعْضُهُمْ جَنَّةُ الْمَأْوَى هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي وُعِدَ بِهَا الْمُتَّقُونَ، وَحِينَئِذٍ الْإِضَافَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: دارَ الْمُقامَةِ [فَاطِرٍ: 35] وَقِيلَ هِيَ جَنَّةٌ أُخْرَى عِنْدَهَا يَكُونُ أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ وَقِيلَ هِيَ جَنَّةٌ لِلْمَلَائِكَةِ وَقُرِئَ جَنَّهُ بِالْهَاءِ مِنْ جَنَّ بِمَعْنَى أَجَنَّ يُقَالُ جَنَّ اللَّيْلُ وَأَجَنَّ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ عِنْدَها عَائِدًا إِلَى النَّزْلَةِ، أَيْ عِنْدَ النَّزْلَةِ جَنَّ مُحَمَّدًا الْمَأْوَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى السِّدْرَةِ وَهِيَ الْأَصَحُّ، وَقِيلَ إِنَّ عَائِشَةَ أنكرت/ هذه القراءة، وقيل إنها أجازتها وقوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 16] إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى (16) فِيهِ مَسَائِلُ:

[سورة النجم (53) : آية 17]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَامِلُ فِي إِذْ مَا قَبْلَهَا أَوْ مَا بَعْدَهَا فِيهِ وَجْهَانِ، فَإِنْ قُلْنَا ما قبلها ففيه احتمالان: أظهرهما رَآهُ [النجم: 13] أَيْ رَآهُ وَقْتَ مَا يَغْشَى السِّدْرَةَ الَّذِي يَغْشَى، وَالِاحْتِمَالُ الْآخَرُ الْعَامِلُ فِيهِ الْفِعْلُ الَّذِي فِي النَّزْلَةِ، تَقْدِيرُهُ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى تِلْكَ النَّزْلَةُ وَقْتَ مَا يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، أي نزوله لم يكن إلا بعد ما ظهرت العجائب عند السدرة وغشيها ما غشى فَحِينَئِذٍ نَزَلَ مُحَمَّدٌ نَزْلَةً إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَإِنْ قُلْنَا مَا بَعْدَهُ، فَالْعَامِلُ فِيهِ مَا زاغَ الْبَصَرُ [النَّجْمِ: 17] أَيْ مَا زَاغَ بَصَرُهُ وَقْتَ غَشَيَانِ السِّدْرَةِ مَا غَشِيَهَا، وَسَنَذْكُرُهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ ذَكَرْتُ أَنَّ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى هِيَ الْحَيْرَةُ الْقُصْوَى، وَقَوْلُهُ يَغْشَى السِّدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ يُنَادِي بِالْبُطْلَانِ، فَهَلْ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ؟ نَقُولُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنَ الْغَشَيَانِ غَشَيَانُ حَالَةٍ عَلَى حَالَةٍ، أَيْ وَرَدَ عَلَى حَالَةِ الْحَيْرَةِ حَالَةُ الرُّؤْيَةِ وَالْيَقِينِ، وَرَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ما حَارَ الْعَقْلُ مَا رَآهُ وَقْتَ مَا طَرَأَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ مَا طَرَأَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ النَّقْلَ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ السِّدْرَةَ نَبْقُهَا كَقِلَالِ هَجَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا شَجَرَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الَّذِي غَشَى السِّدْرَةَ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: فَرَاشٌ أَوْ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ، فَإِنْ صَحَّ فِيهِ خَبَرٌ فَلَا يَبْعُدُ مِنْ جَوَازِ التَّأْوِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا وَجْهَ لَهُ الثَّانِي: الَّذِي يَغْشَى السِّدْرَةَ مَلَائِكَةٌ يَغْشُونَهَا كَأَنَّهُمْ طُيُورٌ، وَهُوَ قَرِيبٌ، لِأَنَّ الْمَكَانَ مَكَانٌ لَا يَتَعَدَّاهُ الْمَلَكُ، فَهُمْ يَرْتَقُونَ إِلَيْهِ مُتَشَرِّفِينَ بِهِ مُتَبَرِّكِينَ زَائِرِينَ، كَمَا يَزُورُ النَّاسُ الْكَعْبَةَ فَيَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا الثَّالِثُ: أَنْوَارُ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا تَجَلَّى رَبُّهُ لَهَا، كَمَا تَجَلَّى لِلْجَبَلِ، وَظَهَرَتِ الْأَنْوَارُ، لَكِنَّ السِّدْرَةَ كَانَتْ أَقْوَى مِنَ الْجَبَلِ وَأَثْبَتُ، فَجُعِلَ الْجَبَلُ دَكًّا، وَلَمْ تَتَحَرَّكِ الشَّجَرَةُ، وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا، وَلَمْ يَتَزَلْزَلْ مُحَمَّدٌ الرَّابِعُ: هُوَ مُبْهَمٌ لِلتَّعْظِيمِ، يَقُولُ الْقَائِلُ: رَأَيْتُ مَا رَأَيْتُ عِنْدَ الْمَلِكِ، يُشِيرُ إِلَى الْإِظْهَارِ مِنْ وَجْهٍ، وَإِلَى الْإِخْفَاءِ مِنْ وَجْهٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يَغْشَى يَسْتُرُ، وَمِنْهُ الْغَوَاشِي أَوْ مِنْ مَعْنَى الْإِتْيَانِ، يُقَالُ فَلَا يَغْشَانِي كُلَّ وَقْتٍ، أَيْ يَأْتِينِي، وَالْوَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: اللَّهُ يَأْتِي ويذهب، فالإتيان أقرب. / ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 17] مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّامُ فِي الْبَصَرُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْمَعْرُوفُ وَهُوَ بَصَرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ مَا زَاغَ بَصَرُ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى هَذَا فَعَدَمُ الزَّيْغِ عَلَى وُجُوهٍ، إِنْ قُلْنَا الْغَاشِي لِلسِّدْرَةِ هُوَ الْجَرَادُ وَالْفَرَاشُ، فَمَعْنَاهُ لم يتلفت إِلَيْهِ وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِهِ، وَلَمْ يَقْطَعْ نَظَرَهُ عَنِ الْمَقْصُودِ، وَعَلَى هَذَا فَغَشِيَانُ الْجَرَادِ وَالْفَرَاشِ يَكُونُ ابْتِلَاءً، وَامْتِحَانًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنْ قُلْنَا أَنْوَارُ اللَّهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَمْ يَلْتَفِتْ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، وَاشْتَغَلَ بِمُطَالَعَتِهَا وَثَانِيهِمَا: مَا زَاغَ الْبَصَرُ بِصَعْقَةٍ بِخِلَافِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ قَطَعَ النَّظَرَ وَغُشِيَ عَلَيْهِ، وَفِي الْأَوَّلِ: بَيَانُ أَدَبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الثَّانِي: بَيَانُ قُوَّتِهِ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي اللَّامِ أَنَّهُ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ، أَيْ مَا زَاغَ بَصَرٌ أَصْلًا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِعَظَمَةِ الْهَيْبَةِ، فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ مَا زَاغَ بَصَرٌ، لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى الْعُمُومِ، لَأَنَّ النَّكِرَةَ فِي مَعْرِضِ النَّفْيِ تَعُمُّ، نَقُولُ هُوَ كَقَوْلِهِ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الْأَنْعَامِ: 103] وَلَمْ يَقُلْ لَا يُدْرِكُهُ بَصَرٌ.

[سورة النجم (53) : آية 18]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مُحَمَّدًا، فَلَوْ قَالَ مَا زَاغَ قَلْبُهُ كَانَ يَحْصُلُ بِهِ فَائِدَةُ قَوْلِهِ مَا زاغَ الْبَصَرُ؟ نَقُولُ لَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَحْضُرُ عِنْدَ مَلِكٍ عَظِيمٍ يَرَى مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَهَابُهُ وَيَرْتَجِفُ إِظْهَارًا لِعَظَمَتِهِ مَعَ أَنَّ قَلْبَهُ قَوِيٌّ، فَإِذَا قَالَ: مَا زاغَ الْبَصَرُ يَحْصُلُ مِنْهُ فَائِدَةُ أَنَّ الْأَمْرَ كَانَ عَظِيمًا، وَلَمْ يَزِغْ بَصَرُهُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْ صَاحِبِ الْبَصَرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَما طَغى عَطْفُ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ عَلَى جُمْلَةٍ أُخْرَى، أَوْ عَطْفُ جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، مِثَالُ الْمُسْتَقِلَّةِ: خَرَجَ زَيْدٌ وَدَخَلَ عَمْرٌو، وَمِثَالُ مقدرة: خَرَجَ زَيْدٌ وَدَخَلَ، فَنَقُولُ الْوَجْهَانِ جَائِزَانِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ عِنْدَ ظُهُورِ النُّورِ: مَا زَاغَ بَصَرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا طَغَى مُحَمَّدٌ بِسَبَبِ الِالْتِفَاتِ، وَلَوِ الْتَفَتَ لَكَانَ طَاغِيًا وَأَمَّا الثَّانِي: فَظَاهِرٌ عَلَى الْأَوْجُهِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا: غَشِيَ السِّدْرَةَ جَرَادٌ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ وَما طَغى أَيْ مَا الْتَفَتَ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى الْجَرَادِ، وَلَا إِلَى غَيْرِ الْجَرَادِ سِوَى اللَّهِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا غَشِيَهَا نُورٌ، فَقَوْلُهُ مَا زاغَ أَيْ مَا مَالَ عَنِ الْأَنْوَارِ وَما طَغى أَيْ مَا طَلَبَ شَيْئًا وَرَاءَهَا وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَا زَاغَ وَمَا طَغَى، وَلَمْ يَقُلْ: مَا مَالَ وَمَا جَاوَزَ، لِأَنَّ الْمَيْلَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَالْمُجَاوَزَةَ مَذْمُومَانِ، فَاسْتَعْمَلَ الزَّيْغَ وَالطُّغْيَانَ فِيهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَيَانًا لِوُصُولِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سِدْرَةِ الْيَقِينِ الَّذِي لَا يَقِينَ فَوْقَهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ بَصَرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا زَاغَ أَيْ مَا مَالَ عَنِ الطَّرِيقِ، فَلَمْ يَرَ الشَّيْءَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى عَيْنِ الشَّمْسِ مَثَلًا، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى شَيْءٍ أَبْيَضَ، فَإِنَّهُ يَرَاهُ أَصْفَرَ أَوْ أَخْضَرَ يَزِيغُ بَصَرُهُ عَنْ جَادَّةِ الْأَبْصَارِ وَما طَغى مَا تَخَيَّلَ المعدوم موجودا فرأى المعدوم مجاوزا الحد. / ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 18] لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ آيَاتِ اللَّهِ وَلَمْ يَرَ اللَّهَ، وَفِيهِ خِلَافٌ وَوَجْهُهُ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَتَمَ قِصَّةَ الْمِعْرَاجِ هَاهُنَا بِرُؤْيَةِ الْآيَاتِ، وَقَالَ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا إِلَى أَنْ قَالَ: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا [الْإِسْرَاءِ: 1] وَلَوْ كَانَ رَأَى رَبَّهُ لَكَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ مَا يُمْكِنُ، فَكَانَتِ الْآيَةُ الرُّؤْيَةَ، وَكَانَ أَكْبَرُ شَيْءٍ هُوَ الرُّؤْيَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَهُ مَالٌ يُقَالُ لَهُ: سَافِرْ لِتَرْبَحْ، وَلَا يُقَالُ: سَافِرْ لِتَتَفَرَّجَ، لِمَا أَنَّ الرِّبْحَ أَعْظَمُ مِنَ التَّفَرُّجِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى وَهِيَ أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَتِهِ، فَهَلْ هُوَ عَلَى مَا قَالَهُ؟ نَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ غَيْرُ تِلْكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا، لَكِنْ وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً أَعْظَمُ مِنْهُ، وَالْكُبْرَى تَأْنِيثُ الْأَكْبَرِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ آيَاتٍ هُنَّ أَكْبَرُ الْآيَاتِ، فَإِنْ قِيلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ [الْمُدَّثِّرِ: 35] مَعَ أَنَّ أَكْبَرَ مِنْ سَقَرَ عَجَائِبُ اللَّهِ، فَكَذَلِكَ الْآيَاتُ الْكُبْرَى تَكُونُ جِبْرِيلَ وَمَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لِلَّهِ آيَاتٌ أَكْبَرُ مِنْهُ نَقُولُ سَقَرُ إِحْدَى الْكُبَرِ أَيْ إِحْدَى الدَّوَاهِي الْكُبَرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي الدَّوَاهِي سَقَرَ عَظِيمَةً كَبِيرَةً، وَأَمَّا آيَاتُ اللَّهِ فَلَيْسَ جِبْرِيلُ أَكْبَرَهَا وَلِأَنَّ سَقَرَ فِي نَفْسِهَا أَعْظَمُ وَأَعْجَبُ مِنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِفَتِهَا بِالْكِبَرِ صِفَتُهَا بِالْكُبْرَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (الْكُبْرَى) صِفَةُ مَاذَا؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: صِفَةُ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيات

[سورة النجم (53) : الآيات 19 إلى 20]

رَبِّهِ الْآيَةَ الْكُبْرَى، ثَانِيهِمَا: صِفَةُ آيَاتِ رَبِّهِ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَفْعُولُ رَأَى مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ رَأَى مِنَ الْآيَاتِ الْكُبْرَى آيَةً أَوْ شَيْئًا ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 20] أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) لَمَّا قَرَّرَ الرِّسَالَةَ ذَكَرَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَبْتَدِئَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَمَنْعُ الْخَلْقِ عَنِ الْإِشْرَاكِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ إِشَارَةٌ إِلَى إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ بِنَفْسِ الْقَوْلِ كَمَا أَنَّ ضَعِيفًا إِذَا ادَّعَى الْمُلْكَ ثُمَّ رَآهُ الْعُقَلَاءُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَمَّا يَدَّعِيهِ يَقُولُونَ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الَّذِي يَدَّعِي الْمُلْكَ، مُنْكِرِينَ عَلَيْهِ غَيْرَ مُسْتَدِلِّينَ بِدَلِيلٍ لِظُهُورِ أَمْرِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى أَيْ كَمَا هُمَا فَكَيْفَ تُشْرِكُونَهُمَا بِاللَّهِ، وَالتَّاءُ فِي اللَّاتِ تَاءُ تَأْنِيثٍ كَمَا فِي الْمَنَاةِ لَكِنَّهَا تُكْتَبُ مُطَوَّلَةً لِئَلَّا يُوقَفَ عَلَيْهَا فَتَصِيرَ هَاءً فَيَشْتَبِهُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْهَاءَ فِي اللَّهِ أَصْلِيَّةٌ لَيْسَتْ تَاءَ تَأْنِيثٍ وُقِفَ عَلَيْهَا فَانْقَلَبَتْ هَاءً، وَهِيَ صَنَمٌ كَانَتْ لِثَقِيفٍ بِالطَّائِفِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ هِيَ فَعْلَةٌ مِنْ لَوَى يَلْوِي، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَلْوُونَ عَلَيْهَا، وَعَلَى مَا قَالَ فَأَصْلُهُ لَوْيَةٌ أُسْكِنَتِ الْيَاءُ/ وَحُذِفَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ فَبَقِيَتْ لَوْةٌ قُلِبَتِ الْوَاوُ أَلِفًا لِفَتْحِ مَا قَبْلَهَا فَصَارَتْ لَاتَ، وَقُرِئَ اللَّاتُّ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ لَتَّ، قِيلَ إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ رَجُلٍ كَانَ يَلُتُّ بِالسَّمْنِ الطَّعَامَ وَيُطْعِمُ النَّاسَ فَعُبِدَ وَاتُّخِذَ عَلَى صُورَتِهِ وَثَنٌ وَسَمُّوهُ بِاللَّاتِ، وَعَلَى هَذَا فَاللَّاتُ ذَكَرٌ، وَأَمَّا الْعُزَّى فَتَأْنِيثُ الْأَعَزِّ وَهِيَ شَجَرَةٌ كَانَتْ تُعْبَدُ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَطَعَهَا وَخَرَجَتْ مِنْهَا شَيْطَانَةٌ مَكْشُوفَةُ الرَّأْسِ مَنْشُورَةُ الشَّعْرِ تَضْرِبُ رَأْسَهَا وَتَدْعُوا بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ فَقَتَلَهَا خَالِدٌ وَهُوَ يَقُولُ: يَا عُزُّ كُفْرَانَكِ لَا سُبْحَانَكِ ... إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهَانَكِ وَرَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ بِمَا رَأَى وَفَعَلَ فَقَالَ تِلْكَ الْعُزَّى وَلَنْ تُعْبَدَ أَبَدًا، وَأَمَّا مَنَاةُ فَهِيَ فَعْلَةٌ صَنَمُ الصَّفَا، وَهِيَ صَخْرَةٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ وَخُزَاعَةَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآخَرُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِلَّا إِذَا كَانَ الْأَوَّلُ مُشَارِكًا لِلثَّانِي فَلَا يُقَالُ رَأَيْتُ امْرَأَةً وَرَجُلًا آخَرَ، وَيُقَالُ رَأَيْتُ رَجُلًا وَرَجُلًا آخَرَ لِاشْتِرَاكِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي كَوْنِهِمَا مِنَ الرِّجَالِ وَهَاهُنَا قَوْلُهُ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى يَقْتَضِي عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنْ تَكُونَ الْعُزَّى ثَالِثَةً أُولَى وَمَنَاةُ ثَالِثَةً أُخْرَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: الْأُخْرَى كَمَا هِيَ تُسْتَعْمَلُ لِلذَّمِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ [الْأَعْرَافِ: 39] أَيْ لِمُتَأَخِّرَتِهِمْ وَهُمُ الْأَتْبَاعُ وَيُقَالُ لَهُمُ الْأَذْنَابُ لِتَأَخُّرِهِمْ فِي الْمَرَاتِبِ فَهِيَ صِفَةُ ذَمٍّ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ وَمَنَاةُ الثَّالِثَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ الذَّلِيلَةُ، وَنَقُولُ عَلَى هَذَا لِلْأَصْنَامِ الثَّلَاثَةِ تَرْتِيبٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ وَثَنًا عَلَى صُورَةِ آدَمِيٍّ وَالْعُزَّى صَوُرَتُهَا صُورَةُ نَبَاتٍ وَمَنَاةُ صَوُرَتُهَا صُورَةُ صَخْرَةٍ هِيَ جَمَادٌ، فَالْآدَمِيُّ أَشْرَفُ مِنَ النَّبَاتِ، وَالنَّبَاتُ أَشْرَفُ مِنَ الْجَمَادِ، فَالْجَمَادُ مُتَأَخِّرٌ وَالْمَنَاةُ جَمَادٌ فَهِيَ فِي الْأُخْرَيَاتِ مِنَ الْمَرَاتِبِ الْجَوَابُ الثَّانِي: فِيهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى الْمَعْبُودَيْنِ بِالْبَاطِلِ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْمَعْبُودَةَ الْأُخْرَى وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الْأَصْنَامَ كَانَ فِيهَا كَثْرَةٌ وَاللَّاتُ وَالْعُزَّى إِذَا أُخِذَتَا مُتَقَدِّمَتَيْنِ فَكُلُّ صَنَمَةٍ تُوجَدُ فَهِيَ ثَالِثَةٌ، فَهُنَاكَ ثَوَالِثُ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمَا ثَوَالِثُ كَثِيرَةٌ وَهَذِهِ ثَالِثَةٌ أُخْرَى، وَهَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ يَوْمًا وَيَوْمًا وَالْجَوَابُ الرَّابِعُ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ وَمَنَاةُ الْأُخْرَى الثَّالِثَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْأُخْرَى تُسْتَعْمَلُ لِمَوْهُومٍ أَوْ مَفْهُومٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا وَلَا مَذْكُورًا يَقُولُ من يكثر

[سورة النجم (53) : آية 21]

تَأَذِّيهِ مِنَ النَّاسِ إِذَا آذَاهُ إِنْسَانٌ الْآخَرُ جَاءَ يُؤْذِينَا، وَرُبَّمَا يَسْكُتُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْتَ الْآخَرُ فَيُفْهَمُ غَرَضُهُ كَذَلِكَ هَاهُنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ فِي التَّرْتِيبِ أَوْلَى مَا فَائِدَةُ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي مَوَاضِعَ بِغَيْرِ الْفَاءِ؟ قَالَ تَعَالَى: أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأحقاف: 4] رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ [فَاطِرٍ: 40] ، نَقُولُ لَمَّا قَدَّمَ مِنْ عَظَمَةِ آيَاتِ اللَّهِ فِي مَلَكُوتِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ إِلَى الرُّسُلِ الَّذِي يَسُدُّ الْآفَاقَ بِبَعْضِ أَجْنِحَتِهِ وَيُهْلِكُ الْمَدَائِنَ بِشِدَّتِهِ وَقُوَّتِهِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَعَدَّى السِّدْرَةَ فِي مَقَامِ جَلَالِ اللَّهِ وَعِزَّتِهِ، قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ هَذِهِ الْأَصْنَامَ مَعَ زِلَّتِهَا وَحَقَارَتِهَا شُرَكَاءَ اللَّهِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ، فَقَالَ بِالْفَاءِ أَيْ عَقِيبَ مَا سَمِعْتُمْ مِنْ عَظَمَةِ آيَاتِ/ اللَّهِ تَعَالَى الْكُبْرَى وَنَفَاذِ أَمْرِهِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَمَا تَحْتَ الثَّرَى، فَانْظُرُوا إِلَى اللَّاتِ وَالْعُزَّى تَعْلَمُوا فَسَادَ مَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ وَعَوَّلْتُمْ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَيْنَ تَتِمَّةُ الْكَلَامِ الَّذِي يُفِيدُ فَائِدَةً مَا؟ نَقُولُ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَهُوَ أَنَّهُ يَقُولُ هَلْ رَأَيْتُمْ هَذِهِ حَقَّ الرُّؤْيَةِ، فَإِنْ رَأَيْتُمُوهَا عَلِمْتُمْ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ شُرَكَاءَ، نَظِيرُهُ مَا ذَكَرْنَا فِيمَنْ يُنْكِرُ كَوْنَ ضَعِيفٍ يَدَّعِي مُلْكًا، يَقُولُ لِصَاحِبِهِ أَمَا تَعْرِفُ فُلَانًا مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ مُشِيرًا إِلَى بُطْلَانِ مَا يذهب إليه ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 21] أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَجِبُ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ وَالطُّورِ فِي قَوْلِهِ أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الطُّورِ: 39] وَنُعِيدُ هَاهُنَا بَعْضَ ذَلِكَ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ، فَنَقُولُ لَمَّا ذَكَرَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا آخَرَ قَالَ إِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي رَأَيْتُمُوهَا وَعَرَفْتُمُوهَا تَجْعَلُونَهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ وَقَدْ سَمِعْتُمْ جَلَالَ اللَّهِ وَعَظَمَتَهُ وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ رِفْعَتِهِمْ وَعُلُوِّهِمْ يَنْتَهُونَ إِلَى السِّدْرَةِ وَيَقِفُونَ هُنَاكَ لَا يَبْقَى شَكٌّ فِي كَوْنِهِمْ بَعِيدِينَ عَنْ طَرِيقَةِ الْمَعْقُولِ أَكْثَرَ مِمَّا بَعُدُوا عَنْ طَرِيقَةِ الْمَنْقُولِ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا نَحْنُ لَا نَشُكُّ أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا لَيْسَ مِثْلًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا قَرِيبًا مِنْ أَنْ يُمَاثِلَهُ، وَإِنَّمَا صَوَّرْنَا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى صُوَرِ الْمَلَائِكَةِ الْمُعَظَّمِينَ الَّذِينَ اعْتَرَفَ بِهِمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَقَالُوا إِنَّهُمْ يَرْتَقُونَ وَيَقِفُونَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَيَرِدُ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَيُنْهُونَ إِلَى اللَّهِ مَا يَصْدُرُ مِنْ عِبَادِهِ فِي أَرْضِهِ وَهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، فَاتَّخَذْنَا صُوَرًا عَلَى صُوَرِ الْإِنَاثِ وَسَمَّيْنَاهَا أَسْمَاءَ الْإِنَاثِ، فَاللَّاتُ تَأْنِيثُ اللَّوَةِ وَكَانَ أَصْلُهُ أَنْ يُقَالَ اللَّاهَةُ لَكِنَّ فِي التَّأْنِيثِ يُوقَفُ عَلَيْهَا فَتَصِيرُ اللَّاهَةُ فَأُسْقِطَ إِحْدَى الْهَاءَيْنِ وَبَقِيَتِ الْكَلِمَةُ عَلَى حَرْفَيْنِ أَصْلِيَّيْنِ وَتَاءِ التَّأْنِيثِ فَجَعَلْنَاهَا كَالْأَصْلِيَّةِ كَمَا فَعَلْنَا بِذَاتِ مَالٍ وَذَا مَالِ وَالْعُزَّى تَأْنِيثُ الْأَعَزِّ، فَقَالَ لَهُمْ كَيْفَ جَعَلْتُمْ لِلَّهِ بَنَاتٍ وَقَدِ اعْتَرَفْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أَنَّ الْبَنَاتِ نَاقِصَاتٌ وَالْبَنِينَ كَامِلُونَ، وَاللَّهُ كَامِلُ الْعَظَمَةِ فَالْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ كَيْفَ جَعَلْتُمُوهُ نَاقِصًا وَأَنْتُمْ فِي غَايَةِ الْحَقَارَةِ وَالذِّلَّةِ حَيْثُ جعلتم أنفسكم أذل من خمار وَعَبْدٍ ثُمَّ صَخْرَةٍ وَشَجَرَةٍ ثُمَّ نَسَبْتُمْ إِلَى أنفسكم الكامل، فهذه القسمة جائزة عَلَى طَرِيقِكُمْ أَيْضًا حَيْثُ أَذْلَلْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَنَسَبْتُمْ إِلَيْهَا الْأَعْظَمَ مِنَ الثَّقَلَيْنِ وَأَبْغَضْتُمُ الْبَنَاتِ وَنَسَبْتُمُوهُنَّ إِلَى الْأَعْظَمِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ عَلَى عَادَتِكُمْ أَنْ تَجْعَلُوا الْأَعْظَمَ لِلْعَظِيمِ وَالْأَنْقَصَ لِلْحَقِيرِ، فَإِذَنْ أَنْتُمْ خَالَفْتُمُ الْفِكْرَ وَالْعَقْلَ وَالْعَادَةَ الَّتِي لكم. وقوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 22] تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: (تِلْكَ) إِشَارَةٌ إِلَى مَاذَا؟ نَقُولُ إِلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ تِلْكَ الْقِسْمَةُ قِسْمَةٌ ضِيزَى أَيْ غَيْرُ عَادِلَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ تِلْكَ النِّسْبَةُ قِسْمَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مَا قَسَّمُوا وَمَا قَالُوا لَنَا الْبَنُونَ وَلَهُ الْبَنَاتُ، وَإِنَّمَا نَسَبُوا إلى

[سورة النجم (53) : آية 23]

اللَّهِ الْبَنَاتِ وَكَانُوا يَكْرَهُونَهُنَّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [النَّحْلِ: 62] / فَلَمَّا نَسَبُوا إِلَى اللَّهِ الْبَنَاتِ حَصَلَ مِنْ تِلْكَ النِّسْبَةِ قسمة جائزة وَهَذَا الْخِلَافُ لَا يُرْهِقُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذاً جَوَابُ مَاذَا؟ نَقُولُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: نِسْبَتُكُمُ الْبَنَاتِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذَا كَانَ لَكُمُ الْبَنُونَ قِسْمَةٌ ضِيزَى الثَّانِي: نِسْبَتُكُمُ الْبَنَاتِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ اعْتِقَادِكُمْ أَنَّهُنَّ نَاقِصَاتٌ وَاخْتِيَارِكُمُ الْبَنِينَ مَعَ اعْتِقَادِكُمْ أَنَّهُمْ كَامِلُونَ إِذَا كُنْتُمْ فِي غَايَةِ الْحَقَارَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى فِي نِهَايَةِ الْعَظَمَةِ قِسْمَةٌ ضِيزَى، فَإِنْ قِيلَ مَا أَصْلُ إِذاً؟ قُلْنَا هُوَ إِذَا الَّتِي لِلظَّرْفِ قُطِعَتِ الْإِضَافَةُ عَنْهَا فَحَصَلَ فِيهَا تَنْوِينٌ وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّكَ تَقُولُ آتِيكَ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَكَأَنَّكَ أَضَفْتَ إِذَا لِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَقُلْتَ آتِيكَ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ آتِيكَ فَتَقُولُ لَهُ إِذَنْ أُكْرِمُكَ أَيْ إِذَا أَتَيْتَنِي أُكْرِمُكَ فَلَمَّا حَذَفْتَ الْإِتْيَانَ لِسَبْقِ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ أَتَيْتَ بَدَلَهُ بِتَنْوِينٍ وَقُلْتَ إِذَنْ كَمَا تَقُولُ: وَكُلًّا آتَيْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ضِيزى قُرِئَ بِالْهَمْزَةِ وَبِغَيْرِ هَمْزَةٍ وَعَلَى الْأُولَى هِيَ فِعْلَى بِكَسْرِ الْفَاءِ كَذِكْرَى عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ كَرَجُلٍ عَدْلٍ أَيْ قِسْمَةٌ ضَائِزَةٌ وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ هِيَ فُعْلَى وَكَانَ أَصْلُهَا ضُوزَى لَكِنَّ عَيْنَ الْكَلِمَةِ كَانَتْ يَائِيَّةً فَكُسِرَتِ الْفَاءُ لِتَسْلَمَ الْعَيْنُ عَنِ الْقَلْبِ كَذَلِكَ فُعِلَ بِبِيضٍ فَإِنَّ جَمْعَ أَفْعَلَ فُعْلٌ تَقُولُ أَسْوَدُ وَسُودٌ وَأَحْمَرُ وَحُمْرٌ وَتَقُولُ أَبْيَضُ وَبِيضٌ وَكَانَ الْوَزْنُ بيض وَكَانَ يَلْزَمُ مِنْهُ قَلْبُ الْعَيْنِ فَكُسِرَتِ الْبَاءُ وتركت الباء عَلَى حَالِهَا، وَعَلَى هَذَا ضِيزَى لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ ضَائِزَةٍ، تَقُولُ فَاضِلٌ وَأَفْضَلُ وَفَاضِلَةٌ وَفُضْلَى وَكَبِيرٌ وَأَكْبَرُ وَكَبِيرَى وَكُبْرَى كَذَلِكَ ضَائِزٌ وَضُوَزٌ وَضَائِزَةٌ وَضُوزَى عَلَى هَذَا نَقُولُ أَضْوَزُ مِنْ ضَائِزٍ وَضِيزَى مِنْ ضَائِزَةٍ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ قُلْتَ مِنْ قَبْلُ إِنَّ قَوْلَهُ أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الطُّورِ: 39] لَيْسَ بِمَعْنَى إِنْكَارِ الْأَمْرَيْنِ بَلْ بِمَعْنَى إِنْكَارِ الْأَوَّلِ وَإِظْهَارِ النُّكْرِ بِالْأَمْرِ الثَّانِي، كَمَا تَقُولُ أَتَجْعَلُونَ لِلَّهِ أَنْدَادًا وَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ خَلَقَ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَإِنَّهُ لَا يُنْكَرُ الثَّانِي، وَهَاهُنَا قَوْلُهُ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَنْكَرَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا نَقُولُ قَدْ ذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ الْأَمْرَيْنِ مُحْتَمَلَانِ: أَمَّا إِنْكَارُ الْأَمْرَيْنِ فَظَاهِرٌ فِي الْمَشْهُورِ، أَمَّا إِنْكَارُ الْأَوَّلِ فَثَابِتٌ بِوُجُوهٍ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ كَيْفَ تَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ وَقَدْ صَارَ لَكُمُ الْبَنُونَ بِقُدْرَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ الشُّورَى: 49] خَالِقُ الْبَنِينَ لَكُمْ لَا يَكُونُ لَهُ بَنَاتٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى فَنَقُولُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تِلْكَ عَائِدَةٌ إِلَى النِّسْبَةِ أَيْ نِسْبَتُكُمُ الْبَنَاتِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّ لَكُمُ الْبَنِينَ قِسْمَةٌ ضَائِزَةٌ فَالْمُنْكَرُ تِلْكَ النِّسْبَةُ وَإِنْ كَانَ الْمُنْكَرُ الْقِسْمَةَ نَقُولُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ أَيَجُوزُ جَعْلُ الْبَنَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا أَنَّ وَاحِدًا إِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ شَيْءٌ مُشْتَرَكٌ عَلَى السَّوِيَّةِ فَيَأْخُذُ نِصْفَهُ لِنَفْسِهِ وَيُعْطِي مِنَ النِّصْفِ الْبَاقِي نِصْفَهُ لِظَالِمِهِ وَنِصْفَهُ لِصَاحِبِهِ فَقَالَ هَذِهِ قِسْمَةٌ ضَائِزَةٌ لَا لِكَوْنِهِ أَخَذَ النِّصْفَ فَذَلِكَ حَقُّهُ بَلْ لِكَوْنِهِ لَمْ يُوصِلْ إليه النصف الباقي. [سورة النجم (53) : آية 23] إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ وَفِيهِ/ مَبَاحِثُ تَدُقُّ عَنْ إِدْرَاكِ اللُّغَوِيِّ إِنْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعُلُومِ حَظٌّ عَظِيمٌ، وَلْنَذْكُرْ مَا قِيلَ فِيهِ أَوَّلًا فَنَقُولُ قِيلَ مَعْنَاهُ: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ، أَيْ كَوْنُهَا إِنَاثًا وَكَوْنُهَا مَعْبُودَاتٍ أَسْمَاءٌ لَا مُسَمًّى لَهَا فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِإِنَاثٍ حَقِيقَةً وَلَا مَعْبُودَاتٍ، وَقِيلَ أَسْمَاءٌ

أَيْ قُلْتُمْ بَعْضُهَا عُزَّى وَلَا عِزَّةَ لَهَا، وَقِيلَ قُلْتُمْ إِنَّهَا آلِهَةٌ وَلَيْسَتْ بِآلِهَةٍ، وَالَّذِي نَقُولُهُ هُوَ أَنَّ هَذَا جَوَابٌ عَنْ كَلَامِهِمْ، وَذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ قَالُوا نَحْنُ لَا نَشُكُّ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَلِدْ كَمَا تَلِدُ النِّسَاءُ وَلَمْ يُولَدْ كَمَا تُولَدُ الرِّجَالُ بِالْمُجَامَعَةِ وَالْإِحْبَالِ، غَيْرَ أَنَّا رَأَيْنَا لَفْظَ الْوَلَدِ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْمُسَبَّبِ تَقُولُ: بِنْتُ الْجَبَلِ وَبِنْتُ الشَّفَةِ لِمَا يَظْهَرُ مِنْهُمَا وَيُوجَدُ، لَكِنَّ الْمَلَائِكَةَ أَوْلَادُ اللَّهِ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ وُجِدُوا بِسَبَبِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ فَقُلْنَا إِنَّهُمْ أَوْلَادُهُ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ فِيهَا تَاءُ التَّأْنِيثِ فَقُلْنَا هُمْ أَوْلَادٌ مُؤَنَّثَةٌ، وَالْوَلَدُ الْمُؤَنَّثُ بِنْتٌ، فَقُلْنَا لَهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، أَيْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِيجَادِ كَمَا تَقُولُ الْفَلَاسِفَةُ، فَقَالَ تَعَالَى: هَذِهِ الْأَسْمَاءُ اسْتَنْبَطْتُمُوهَا أَنْتُمْ بِهَوَى أَنْفُسِكُمْ وَأَطْلَقْتُمْ عَلَى اللَّهِ مَا يُوهِمُ النَّقْصَ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَقَوْلُهُ تعالى: يا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزُّمَرِ: 56] وقوله (بيده الْخَيْرُ) «1» أَسْمَاءٌ مُوهَمَةٌ غَيْرَ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَهَا، وَلَهُ أَنْ يُسَمِّيَ نَفْسَهُ بِمَا اخْتَارَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ بِمَا يُوهِمُ النَّقْصَ مِنْ غَيْرِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ، وَلْنُبَيِّنِ التَّفْسِيرَ فِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هِيَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى مَاذَا؟ نَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّهَا عَائِدَةٌ إِلَى أَمْرٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ الْأَسْمَاءُ كَأَنَّهُ قَالَ مَا هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي وَضَعْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هِيَ عَائِدَةٌ إِلَى الْأَصْنَامِ بِأَنْفُسِهَا أَيْ مَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ إِلَّا أَسْمَاءٌ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّجَوُّزِ، يُقَالُ لِتَحْقِيرِ إِنْسَانٍ مَا زَيْدٌ إِلَّا اسْمٌ وَمَا الْمَلِكُ إِلَّا اسْمٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُشْتَمِلًا عَلَى صِفَةٍ تُعْتَبَرُ فِي الْكَلَامِ بَيْنَ النَّاسِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً [يُوسُفَ: 40] أَيْ مَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ إِلَّا أَسْمَاءٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ سَمَّيْتُمُوها مَعَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ وَضَعُوهَا أَوْ بَعْضَهَا هُمْ وَضَعُوهَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ؟ نَقُولُ الْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَلَا يَتِمُّ الذَّمُّ إِلَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ إِنْ أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَلَا كَلَامَ فِيهَا، وَإِنْ وَضَعَهَا لِلتَّفَاهُمِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ فِي ضِمْنِ تِلْكَ الْفَائِدَةِ مَفْسَدَةٌ أَعْظَمَ مِنْهَا لَكِنَّ إِيهَامَ النَّقْصِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ مِنْهَا، فَاللَّهُ تَعَالَى مَا جَوَّزَ وَضْعَ الْأَسْمَاءِ لِلْحَقَائِقِ إِلَّا حَيْثُ تَسْلَمُ عَنِ الْمُحَرَّمِ، فَلَمْ يُوجَدْ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ دَلِيلٌ نَقْلِيٌّ وَلَا وَجْهٌ عَقْلِيٌّ، لِأَنَّ ارْتِكَابَ الْمَفْسَدَةِ الْعَظِيمَةِ لِأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ الْقَلِيلَةِ لَا يُجَوِّزُهُ الْعَاقِلُ، فَإِذَا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ وَوَضَعَ الِاسْمَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِدَلِيلٍ نَقْلِيٍّ أَوْ عَقْلِيٍّ، وَهُوَ أَنَّهُ يَقَعُ خَالِيًا عَنْ وُجُوهِ الْمَضَارِّ الرَّاجِحَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَيْفَ قَالَ: سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْأَسَامِي لِأَصْنَامِهِمْ كَانَتْ قَبْلَهُمْ؟ نَقُولُ فِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا مَا سَمَّيْنَاهَا، وَإِنَّمَا هِيَ مَوْضُوعَةٌ قَبْلَنَا، قِيلَ لَهُمْ كُلُّ مَنْ يُطْلِقُ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فَهُوَ كَالْمُبْتَدِئِ الْوَاضِعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاضِعَ الْأَوَّلَ لِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ وَاضِعًا بِدَلِيلٍ/ عَقْلِيٍّ لَمْ يَجِبِ اتِّبَاعُهُ فَمَنْ يُطْلِقُ اللَّفْظَ لِأَنَّ فُلَانًا أَطْلَقَهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ أَضَلَّنِي الْأَعْمَى وَلَوْ قَالَهُ لَقِيلَ لَهُ بَلْ أَنْتَ أَضْلَلْتَ نَفْسَكَ حَيْثُ اتَّبَعْتَ مَنْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْأَسْمَاءُ لَا تُسَمَّى، وَإِنَّمَا يُسَمَّى بِهَا فَكَيْفَ قَالَ: سَمَّيْتُمُوها؟ نَقُولُ عَنْهُ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا: لُغَوِيٌّ وَهُوَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ وَضْعُ الِاسْمِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَسْمَاءٌ وَضَعْتُمُوهَا فَاسْتَعْمَلَ سَمَّيْتُمُوهَا اسْتِعْمَالَ وَضَعْتُمُوهَا، وَيُقَالُ سَمَّيْتُهُ زَيْدًا وسميته يزيد فَسَمَّيْتُمُوهَا بِمَعْنَى سَمَّيْتُمْ بِهَا وَثَانِيهِمَا: مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمْ بِهَا لَكَانَ هُنَاكَ غَيْرُ الِاسْمِ شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِها لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ سَمَّيْتُ به يستدعي مفعولا

_ (1) لم نعثر عليها في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن.

آخَرَ تَقُولُ سَمَّيْتُ بِزَيْدٍ ابْنِي أَوْ عَبْدِي أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَكُونُ قَدْ جَعَلَ لِلْأَصْنَامِ اعْتِبَارًا وَرَاءَ أَسْمَائِهَا، وَإِذَا قَالَ: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَيْ وَضَعْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِهَا لَا مُسَمَّيَاتٌ لَهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ هَذَا بَاطِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ [آلِ عِمْرَانَ: 36] حَيْثُ لَمْ يَقُلْ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا بِمَرْيَمَ وَلَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرْتَ مَقْصُودًا وَإِلَّا لَكَانَتْ مَرْيَمُ غَيْرَ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهَا كَمَا قُلْتَ فِي الْأَصْنَامِ؟ نَقُولُ بَيْنَهُمَا بَوْنٌ عَظِيمٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ هُنَاكَ قَالَ: سَمَّيْتُها مَرْيَمَ فَذَكَرَ الْمَفْعُولَيْنِ فَاعْتَبَرَ حَقِيقَةَ مَرْيَمَ بِقَوْلِهِ سَمَّيْتُها وَاسْمَهَا بِقَوْلِهِ مَرْيَمَ وَأَمَّا هَاهُنَا فَقَالَ: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَيْ مَا هُنَاكَ إِلَّا أَسْمَاءٌ مَوْضُوعَةٌ فَلَمْ تُعْتَبَرِ الْحَقِيقَةُ هَاهُنَا وَاعْتُبِرَتْ فِي مَرْيَمَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ اسْتُعْمِلَتِ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِها مِنْ سُلْطانٍ؟ نَقُولُ كَمَا يَسْتَعْمِلُ الْقَائِلُ ارْتَحَلَ فُلَانٌ بِأَهْلِهِ وَمَتَاعِهِ، أَيِ ارْتَحَلَ وَمَعَهُ الْأَهْلُ وَالْمَتَاعُ كَذَا هَاهُنَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ إِنْ تَتَّبِعُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ عَلَى الْمُغَايَبَةِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَهُمْ لَكِنَّهُ يَكُونُ الْتِفَاتًا كَأَنَّهُ قَطَعَ الْكَلَامَ مَعَهُمْ، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ: إِنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِهِمْ ثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غَيْرَهُمْ وَفِيهِ احْتِمَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ آبَاءَهُمْ وَتَقْدِيرُهُ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ كَأَنَّهُمْ قَالُوا هَذِهِ لَيْسَتْ أَسْمَاءً وَضَعْنَاهَا نَحْنُ، وَإِنَّمَا هِيَ كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ تَلَقَّيْنَاهَا مِمَّنْ قَبْلَنَا مِنْ آبَائِنَا فَقَالَ وَسَمَّاهَا آبَاؤُكُمْ وَمَا يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، فَإِنْ قِيلَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، نَقُولُ وَبِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا كَأَنَّهُ يَفْرِضُ الزَّمَانَ بَعْدَ زَمَانِ الْكَلَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ [الْكَهْفِ: 18] . ثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عَامَّةَ الْكُفَّارِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ يَتَّبِعِ الْكَافِرُونَ إِلَّا الظَّنَّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا مَعْنَى الظَّنِّ وَكَيْفَ ذَمَّهُمْ بِهِ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ فِي الْفِقْهِ وَقَالَ/ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» ؟ نَقُولُ أَمَّا الظَّنُّ فَهُوَ خِلَافُ الْعِلْمِ وَقَدِ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا مَكَانَ الْعِلْمِ وَالْعِلْمُ مَكَانَهُ، وَأَصْلُ الْعِلْمِ الظُّهُورُ وَمِنْهُ الْعِلْمُ وَالْعَالَمُ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْعَالَمِينَ أَنَّ حُرُوفَ ع ل م فِي تَقَالِيبِهَا فِيهَا مَعْنَى الظُّهُورِ، وَمِنْهَا لَمَعَ الْآلُ إِذَا ظَهَرَ وَمِيضُ السَّرَابِ وَلَمَعَ الْغَزَالُ إِذَا عَدَا وَكَذَا النَّعَامُ وَفِيهِ الظُّهُورُ وَكَذَلِكَ عَلِمْتُ، وَالظَّنُّ إِذَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ الْعِلْمِ فَفِيهِ الْخَفَاءُ وَمِنْهُ بِئْرٌ ظَنُونٌ لَا يُدْرَى أَفِيهَا مَاءٌ أَمْ لَا، وَمِنْهُ الظَّنِينُ الْمُتَّهَمُ لَا يُدْرَى مَا يَظُنُّ، نَقُولُ يَجُوزُ بِنَاءُ الْأَمْرِ عَلَى الظَّنِّ الْغَالِبِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ دَرْكِ الْيَقِينِ وَالِاعْتِقَادُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَقِينَ لم يتعذر علينا وإلى هذا إشارة بقول وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى [النجم: 23] أَيِ اتَّبَعُوا الظَّنَّ، وَقَدْ أَمْكَنَهُمُ الْأَخْذُ بِالْيَقِينِ وَفِي الْعَمَلِ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ أَيْضًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (مَا) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ خَبَرِيَّةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مَصْدَرِيَّةٌ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَهَوَى الْأَنْفُسِ، فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَائِدَةُ فِي الْعُدُولِ عَنْ صَرِيحِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْفِعْلِ مَعَ زِيَادَةِ مَا وِفِيهِ تَطْوِيلٌ؟ نَقُولُ فِيهِ فَائِدَةٌ، وَإِنَّهَا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ ثُمَّ نَذْكُرُهَا هُنَا فَنَقُولُ إِذَا قَالَ الْقَائِلُ أَعْجَبَنِي صُنْعُكَ يُعْلَمُ مِنَ الصِّيغَةِ أَنَّ الْإِعْجَابَ مِنْ مَصْدَرٍ قَدْ تَحَقَّقَ وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ أَعْجَبَنِي مَا تَصْنَعُ يُعْلَمُ أَنَّ الْإِعْجَابَ مِنْ مَصْدَرٍ هُوَ فِيهِ فَلَوْ قَالَ أَعْجَبَنِي صُنْعُكَ وَلَهُ صُنْعٌ أَمْسِ وَصُنْعٌ الْيَوْمَ لَا يُعْلَمُ أَنَّ الْمُعْجَبَ أَيُّ صُنْعٍ هُوَ إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَنَقُولُ هَاهُنَا قَوْلُهُ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ مَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فِي

[سورة النجم (53) : آية 24]

الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِثَابِتِينَ عَلَى ضَلَالٍ وَاحِدٍ وَمَا هَوَتْ أَنْفُسُهُمْ فِي الْمَاضِي شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ فَالْتَزَمُوا بِهِ وَدَامُوا عَلَيْهِ بَلْ كُلُّ يَوْمٍ هُمْ يَسْتَخْرِجُونَ عِبَادَةً، وَإِذَا انْكَسَرَتْ أَصْنَامُهُمُ الْيَوْمَ أَتَوْا بِغَيْرِهَا غَدًا وَيُغَيِّرُونَ وَضْعَ عِبَادَتِهِمْ بِمُقْتَضَى شَهْوَتِهِمُ الْيَوْمَ ثَانِيهِمَا: أَنَّهَا خَبَرِيَّةٌ تَقْدِيرُهُ، وَالَّذِي تَشْتَهِيهِ أَنْفُسُهُمْ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَصْدَرِيَّةِ وَالْخَبَرِيَّةِ أَنَّ الْمُتَّبَعَ عَلَى الْأَوَّلِ الْهَوَى وَعَلَى الثَّانِي مُقْتَضَى الْهَوَى كَمَا إِذَا قُلْتُ أَعْجَبَنِي مَصْنُوعُكَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: كَيْفَ قَالَ: وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ مَا تَهْوَاهُ كُلُّ نَفْسٍ فَإِنَّ مِنَ النُّفُوسِ مَا لَا تَهْوَى مَا تَهْوَاهُ غَيْرُهَا؟ نَقُولُ هُوَ مِنْ بَابِ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ مَعْنَاهُ اتَّبَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ يُقَالُ خَرَجَ النَّاسُ بِأَهْلِيهِمْ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ بِأَهْلِهِ لَا كُلُّ وَاحِدٍ بِأَهْلِ الْجَمْعِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: بَيَّنَ لَنَا مَعْنَى الْكَلَامِ جُمْلَةً، نَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ أَمْرَانِ مَذْكُورَانِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُمَا لِأَمْرَيْنِ تَقْدِيرٌ بَيْنَ يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ فِي الِاعْتِقَادِ وَيَتَّبِعُونَ مَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ فِي الْعَمَلِ وَالْعِبَادَةِ وَكِلَاهُمَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَبْنَاهُ عَلَى الْيَقِينِ، وَكَيْفَ يَجُوزُ اتِّبَاعُ الظَّنِّ فِي الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْأَمْرُ أَشْرَفَ وَأَخْطَرَ كَانَ الِاحْتِيَاطُ فِيهِ أَوْجَبَ وَأَحْذَرَ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَالْعِبَادَةُ مُخَالِفَةٌ الْهَوَى فَكَيْفَ تُنْبِئُ عَلَى مُتَابَعَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ عَلَى طَرِيقَةِ النُّزُولِ دَرَجَةً دَرَجَةً فَقَالَ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ أَيْ وَمَا دُونَ الظَّنِّ لِأَنَّ الْقُرُونَةَ تَهْوَى مَا لَا يُظَنُّ بِهِ خَيْرٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى إِشَارَةٌ/ إِلَى أَنَّهُمْ عَلَى حَالٍ لَا يُعْتَدُّ بِهِ لِأَنَّ الْيَقِينَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ وَتَحَقَّقَ بِمَجِيءِ الرُّسُلِ وَالْهُدَى فِيهِ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ الْأُولَى: القرآن الثاني: الرسل الثالث: المعجزات. ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 24] أَمْ لِلْإِنْسانِ مَا تَمَنَّى (24) الْمَشْهُورُ أَنَّ أَمْ مُنْقَطِعَةٌ مَعْنَاهُ: أَلِلْإِنْسَانِ مَا اخْتَارَهُ وَاشْتَهَاهُ؟ وَفِي ما تَمَنَّى وجوه الأولى: الشَّفَاعَةُ تَمَنَّوْهَا وَلَيْسَ لَهُمْ شَفَاعَةٌ الثَّانِي: قَوْلُهُمْ وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فُصِّلَتْ: 50] الثَّالِثُ: قَوْلُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً [مَرْيَمَ: 77] الرَّابِعُ: تَمَنَّى جَمَاعَةٌ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ وَلَمْ تَحْصُلْ لَهُمْ تِلْكَ الدَّرَجَةُ الرَّفِيعَةُ، فَإِنْ قُلْتَ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أَمْ هَاهُنَا مُتَّصِلَةً؟ نَقُولُ نَعَمْ وَالْجُمْلَةُ الْأُولَى حِينَئِذٍ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَذْكُورَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى [النجم: 21] كَأَنَّهُ قَالَ أَلْكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ تَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِكُمْ مَا تَشْتَهُونَ وَتَتَمَنَّوْنَ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم: 22] وَغَيْرُهَا جُمَلٌ اعْتَرَضَتْ بَيْنَ كَلَامَيْنِ مُتَّصِلَيْنِ ثَانِيهِمَا: أَنَّهَا مَحْذُوفَةٌ وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ هُوَ أَنَّا بَيَّنَّا أن قوله أَفَرَأَيْتُمُ [النجم: 19] لِبَيَانِ فَسَادِ قَوْلِهِمْ، وَالْإِشَارَةِ إِلَى ظُهُورِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، كَمَا إِذَا قَالَ قَائِلٌ فُلَانٌ يَصْلُحُ لِلْمُلْكِ فَيَقُولُ آخَرُ لِثَالِثٍ، أَمَا رَأَيْتَ هَذَا الَّذِي يَقُولُهُ فُلَانٌ وَلَا يَذْكُرُ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْمُلْكِ، وَيَكُونُ مُرَادُهُ ذَلِكَ فيذكره وحده منبها عَلَى عَدَمِ صَلَاحِهِ، فَهَهُنَا قَالَ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى أَيْ يَسْتَحِقَّانِ الْعِبَادَةَ أَمْ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْبُدَ مَا يَشْتَهِيهِ طَبْعُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ أَمْ لِلْإِنْسَانِ أَيْ هَلْ لَهُ أَنْ يَعْبُدَ بِالتَّمَنِّي وَالِاشْتِهَاءِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ أَيْ عَبَدْتُمْ بِهَوَى أَنْفُسِكُمْ مَا لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ فَهَلْ لَكَمَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ تعالى: [سورة النجم (53) : آية 25] فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25)

وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِ الْفَاءِ بالكلام وفيه وجوه الأولى: أَنَّ تَقْدِيرَهُ الْإِنْسَانُ إِذَا اخْتَارَ مَعْبُودًا فِي دُنْيَاهُ عَلَى مَا تَمَنَّاهُ وَاشْتَهَاهُ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى يُعَاقِبُهُ عَلَى فِعْلِهِ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ لَمْ يُعَاقِبْهُ فِي الدُّنْيَا فَيُعَاقِبُهُ فِي الْآخِرَةِ، وقوله تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ [النَّجْمِ: 26] يَكُونُ مُؤَكِّدًا لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْ عِقَابُهُمْ يَقَعُ وَلَا يَشْفَعُ فِيهِمْ أَحَدٌ وَلَا يُغْنِيهِمْ شَفَاعَةُ شَافِعٍ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ اتِّخَاذَ اللَّاتِ وَالْعُزَّى بِاتِّبَاعِ الظَّنِّ وَهَوَى الْأَنْفُسِ كَأَنَّهُ قَرَّرَهُ وَقَالَ إِنْ لَمْ تَعْلَمُوا هَذَا فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى، وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ لَيْسَ لَهَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ الْإِشْرَاكُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَوَابُ كَلَامٍ كَأَنَّهُمْ قَالُوا لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ شُفَعَاؤُنَا فَإِنَّهَا صُورَةُ مَلَائِكَةٍ مُقَرَّبِينَ، فَقَالَ: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً الثَّالِثُ: هَذِهِ تَسْلِيَةٌ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ ذَلِكَ لِنَبِيِّهِ حَيْثُ بَيَّنَ رِسَالَتَهُ وَوَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا فَقَالَ لَا تَأْسَ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى أَيْ لَا يُعْجِزُونَ اللَّهَ الرَّابِعُ: هُوَ تَرْتِيبُ حَقٍّ عَلَى دَلِيلِهِ/ بَيَانُهُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ رِسَالَةَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 4] إِلَى آخِرِهِ وَبَيَّنَ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ التَّوْحِيدُ، قال إذا علمتم صدق محمد ببيان الرسالة اللَّهِ تَعَالَى: فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَكُمْ عَنِ الْحَشْرِ فَهُوَ صَادِقٌ الْخَامِسُ: هُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَقُولُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَهَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَّا؟ وَقَالُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ [الْأَحْقَافِ: 11] فَقَالَ تَعَالَى: إن الله اختار لكم لدنيا وَأَعْطَاكُمُ الْأَمْوَالَ وَلَمْ يُعْطِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضَ ذَلِكَ الْأَمْرِ بَلْ قُلْتُمْ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَغْنَاهُمْ وَتَحَقَّقْتُمْ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى قُولُوا في الآخرة ما قلتم في الدنيا يهدي الله من يشاء كَمَا يُغْنِي اللَّهُ مَا يَشَاءُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْآخِرَةُ صِفَةُ مَاذَا؟ نَقُولُ صِفَةُ الْحَيَاةِ أَوْ صِفَةُ الدَّارِ وَهِيَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ فِعْلٍ غَيْرِ مُسْتَعْمَلٍ، تَقُولُ أَخَّرْتُهُ فَتَأَخَّرَ وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ تَقُولَ فَأُخِّرَ كَمَا تَقُولُ غَبَّرْتُهُ فَغُبِّرَ فَمُنِعْتَ مِنْهُ سَمَاعًا، وَلِهَذَا الْبَحْثِ فَائِدَةٌ سَتَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأُولى فُعْلَى لِلتَّأْنِيثِ، فَالْأَوَّلُ إِذَنْ أَفْعَلُ صِفَةٌ. وَفِيهِ مَبَاحِثُ. الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: لَا بُدَّ مِنْ فَاعِلٍ أُخِذَ مِنْهُ الْأَفْعَلُ وَالْفُعْلَى فَإِنَّ كُلَّ فُعْلَى وَأَفْعَلَ لِلتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ لَهُ أَصْلٌ فَلْيُؤْخَذْ مِنْهُ كَالْفُضْلَى وَالْأَفْضَلِ مِنَ الْفَاضِلَةِ وَالْفَاضِلِ، فَمَا ذَلِكَ؟ نَقُولُ هَاهُنَا أُخِذَ مِنْ أَصْلٍ غَيْرِ مُسْتَعْمَلٍ كَمَا قُلْنَا إِنَّ الْآخِرَ فَاعِلٌ مِنْ فِعْلٍ غَيْرِ مُسْتَعْمَلٍ، وَسَبَبُ ذَلِكَ هُوَ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ مُسْتَعْمَلٍ فَلَهُ آخَرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ لَهُ مَاضِيًا فَإِذَا اسْتَعْمَلَتْ مَاضِيَهُ لَزِمَ فَرَاغُ الْفِعْلِ وَإِلَّا لَكَانَ الْفَاعِلُ بَعْدُ فِي الْفِعْلِ فَلَا يَكُونُ مَاضِيًا فَإِنَّكَ لَا تَقُولُ لِمَنْ هُوَ بعد الأكل أكل إلا متجوزا عند ما يَبْقَى لَهُ قَلِيلٌ، فَيَقُولُ أَكَلَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا بَقِيَ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ وَتَقُولُ لِمَنْ قَرُبَ مِنَ الْفَرَاغِ فَرَغْتَ فَيَقُولُ فَرَغْتُ بِمَعْنَى أَنَّ مَا بَقِيَ قَلِيلٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فَكَأَنِّي فَرَغْتُ، وَأَمَّا الْمَاضِي فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا عِنْدَ تَمَامِ الشَّيْءِ وَالْفَرَاغِ عنه فإذا للفعل لمستعمل آخِرٌ فَلَوْ كَانَ لِقَوْلِنَا آخِرٌ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ فِعْلٌ هُوَ أَخَرَ يَأْخُرُ كَأَمَرَ يَأْمُرُ لَكَانَ مَعْنَاهُ صَدَرَ مَصْدَرُهُ كَجَلَسَ مَعْنَاهُ صَدَرَ الْجُلُوسُ مِنْهُ بِالتَّمَامِ وَالْكَمَالِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ فُلَانٌ آخَرُ كَانَ مَعْنَاهُ وُجِدَ مِنْهُ تَمَامُ الْآخِرِيَّةِ وَفَرَغَ مِنْهَا فَلَا يكون بعد ما يَكُونُ آخَرُ لَكِنْ تَقَدَّمَ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ فَلَهُ آخِرٌ بَعْدَهُ لَا يُقَالُ يُشَكَّلُ بِقَوْلِنَا تَأَخَّرَ فَإِنَّ مَعْنَاهُ صَارَ آخِرًا لِأَنَّا نَقُولُ وَزْنُ الْفِعْلِ يُنَادِي عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّكَلُّفِ وَالتَّكَبُّرِ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ الْمُتَكَبِّرِ أَيْ يُرَى أَنَّهُ آخِرٌ، وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فنقول

الْآخِرُ فَاعِلٌ لَيْسَ لَهُ فِعْلٌ، وَمُبَالَغَتُهُ بِأَفْعَلَ وَهُوَ كَقَوْلِنَا أَأْخَرُ، فَنُقِلَتِ الْهَمْزَةُ إِلَى مَكَانِ الْأَلِفِ، وَالْأَلِفُ إِلَى مَكَانِ الْهَمْزَةِ، فَصَارَتِ الْأَلِفُ همزة وألفا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ التَّأْوِيلُ فِي الْمَعْنَى، فَإِنَّ آخِرَ الشَّيْءِ جُزْءٌ مِنْهُ مُتَّصِلٌ بِهِ وَالْآخِرُ مُبَايِنٌ عَنْهُ مُنْفَصِلٌ وَالْمُنْفَصِلُ بَعْدَ الْمُتَّصِلِ، وَالْآخِرُ أَشَدُّ تَأَخُّرًا عَنِ الشَّيْءِ مِنْ آخِرِهِ، وَالْأَوَّلُ أَفْعَلُ لَيْسَ لَهُ فَاعِلٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِعْلٌ، وَالْأَوَّلُ أَبْعَدُ عَنِ الْفِعْلِ مِنَ الْآخِرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ عُلِمَ لَهُ آخِرٌ مِنْ وَصْفْهِ بِالْمَاضِي وَلَوْلَا ذَلِكَ الْوَصْفُ لَمَا عُلِمَ لَهُ آخِرٌ، وَأَمَّا الْفِعْلُ لِتَفْسِيرِ كَوْنِهِ فِعْلًا عُلِمَ لَهُ أَوَّلٌ/ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ يَقُومُ بِهِ، أَوْ يُوجَدُ مِنْهُ فَإِذًا الْفَاعِلُ أَوَّلًا ثُمَّ الْفِعْلُ، فَإِذَا كَانَ الْفَاعِلُ أَوَّلَ الْفِعْلِ كَيْفَ يَكُونُ الْأَوَّلُ لَهُ فِعْلٌ يُوجَدُ مِنْهُ فَلَا فِعْلَ لَهُ وَلَا فَاعِلَ فَلَا يُقَالُ آلَ الشَّيْءُ بِمَعْنَى سَبَقَ كَمَا يُقَالُ قَالَ مِنَ الْقَوْلِ، أَوْ نَالَ مِنَ النَّيْلِ، لَا يُقَالُ إِنَّ قَوْلَنَا سَبَقَ أُخِذَ مِنْهُ السَّابِقُ وَمِنَ السَّابِقِ الْأَسْبَقُ مَعَ أَنَّ الْفَاعِلَ يَسْبِقُ الْفِعْلَ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ تَقَدَّمَ الشَّيْءُ مَعَ أَنَّ الْفَاعِلَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْفِعْلِ إلى غير ذلك، فقول أَمَّا تَقَدَّمَ قَدْ مَضَى الْجَوَابُ عَنْهُ فِي تَأَخَّرَ، وَأَمَّا سَبَقَ يَقُولُ الْقَائِلُ سَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ فتجيب عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ مُفْتَقِرٌ إِلَى أَمْرٍ يَصْدُرُ مِنْ فَاعِلٍ فَالسَّابِقُ إِنِ اسْتُعْمِلَ فِي الْأَوَّلِ فَهُوَ بِطْرِيقِ الْمُشَابَهَةِ لَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، وَالْفَاعِلُ أَوَّلُ الْفِعْلِ بِمَعْنَى قَبْلَ الْفِعْلِ، وَلَيْسَ سَابِقَ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْفَاعِلَ وَالْفِعْلَ لَا يَتَسَابَقَانِ فَالْفَاعِلُ لَا يَسْبِقُهُ، وَالَّذِي يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْآخِرَ أَبْعَدُ مِنَ الْأَوَّلِ عَنِ الْفِعْلِ بِخِلَافِ الْآخِرِ، وَمَا يُقَالُ إِنَّ أَوَّلَ بِمَعْنَى جَعْلِ الْآخِرِ أَوَّلًا لِاسْتِخْرَاجِ مَعْنًى مِنَ الْكَلَامِ فَبَعِيدٌ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ آخِرٌ دُونَهُ فِي إِفَادَةِ ذَلِكَ، بَلِ التَّأْوِيلُ مِنْ آلَ شَيْءٌ إِذَا رَجَعَ أَيْ رَجَعَهُ إِلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ وَأَبْعَدُ مِنَ اللَّفْظَيْنِ قَبْلُ وَبَعْدُ فَإِنَّ الْآخِرَ فَاعِلٌ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ وَالْأَوَّلَ أَفْعَلُ مِنْ غَيْرِ فَاعِلٍ وَلَا فِعْلَ، وَقَبْلُ وَبَعْدُ لَا فَاعِلَ وَلَا أَفْعَلَ فَلَا يُفْهَمُ مِنْ فِعْلٍ أَصْلًا لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَوَّلٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى قَبْلُ وَلَيْسَ قَبْلُ قَبْلًا لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْأَوَّلِ وَالْآخِرُ آخِرٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى بَعْدُ، وَلَيْسَ بَعْدُ بَعْدًا لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْآخِرِ يَدُلُّكَ عَلَيْهِ أَنَّكَ تُعَلِّلُ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ وَلَا تَعْكِسُهُ فَتَقُولُ هَذَا آخِرُ مَنْ جَاءَ لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ الْكُلِّ وَلَا تَقُولُ هُوَ جَاءَ بَعْدَ الْكُلِّ لِأَنَّهُ آخِرُ مَنْ جَاءَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْآخِرَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِبَعْدِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ الَّتِي لَا بَعْدِيَّةَ بَعْدَهَا وَبَعْدُ لَيْسَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالْآخِرِ فَإِنَّ الْمُتَوَسِّطَ بَعْدَ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِآخِرٍ. وَهَذَا الْبَحْثُ مِنْ أَبْحَاثِ الزَّمَانِ وَمِنْهُ يُعْلَمُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ [فَإِنَّ الدَّهْرَ هُوَ اللَّهُ] » أَيِ الدَّهْرُ هُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ الْقَبْلِيَّةُ وَالْبَعْدِيَّةُ وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ ذَلِكَ وَالْبَعْدِيَّةُ وَالْقَبْلِيَّةُ حَقِيقَةٌ لِإِثْبَاتِ اللَّهِ وَلَا مَفْهُومَ لِلزَّمَانِ إِلَّا مَا بِهِ الْقَبْلِيَّةُ وَالْبَعْدِيَّةُ فَلَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ مَا تَفْهَمُونَهُ مِنْهُ لَا يَتَحَقَّقُ إلا في الله وبالله ولو لاه لَمَا كَانَ قَبْلُ وَلَا بَعْدُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: وَرَدَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْأَوْلَةُ تَأْنِيثُ الْأَوَّلِ وَهُوَ يُنَافِيهِ صِحَّةُ اسْتِعْمَالِ الْأُولَى لِأَنَّ الْأُولَى تدل على أن الأول أفعل للفضيل، وَأَفْعَلُ لِلتَّفْضِيلِ لَا يَلْحَقُهُ تَاءُ التَّأْنِيثِ فَلَا يُقَالُ زَيْدٌ أَعْلَمُ وَزَيْنَبُ أَعْلَمَةٌ لِسَبَبٍ يَطُولُ ذِكْرُهُ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ هُوَ أَنَّ أَوَّلَ لَمَّا كَانَ أَفْعَلَ وَلَيْسَ لَهُ فَاعِلٌ شَابَهَ الْأَرْبَعَ وَالْأَرْنَبَ فَجَازَ إِلْحَاقُ التَّاءِ بِهِ وَلَمَّا كَانَ صِفَةً شَابَهَ الْأَكْبَرَ وَالْأَصْغَرَ فَقِيلَ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أُولَى تَدَلُّ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ لَا يَنْصَرِفُ فَكَيْفَ يُقَالُ أَفْعَلُهُ أَوَّلًا وَيُقَالُ جَاءَ زَيْدٌ أَوَّلًا وَعَمْرٌو ثَانِيًا فَإِنْ قِيلَ جَازَ فِيهِ الْأَمْرَانِ بِنَاءً عَلَى أَوْلَةٍ وَأُولَى فَمَنْ قَالَ بِأَنَّ تَأْنِيثَ أَوَّلٍ أُولَةٌ فَهُوَ كَالْأَرْبَعِ وَالْأَرْبَعَةِ فَجَازَ التَّنْوِينُ، وَمَنْ قَالَ أُولَى لَا يَجُوزُ، نَقُولُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْأَشْهَرُ تَرْكَ التَّنْوِينِ لِأَنَّ الْأَشْهَرَ أَنَّ تَأْنِيثَهُ أَوْلَى وَعَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ، فَإِذَنِ الْجَوَابُ أَنَّ عِنْدَ التَّأْنِيثِ الْأَوْلَى أَنْ/ يُقَالَ أُولَى نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى، وَعِنْدَ الْعَرَبِ أُولَةٌ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ وَدَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَإِنْ كَانَ أَضْعَفَ مِنَ الْغَيْرِ وَرُبَّمَا يُقَالُ بِأَنَّ مَنْعَ الصَّرْفِ مِنْ أَفْعَلَ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ تَأْنِيثُهُ إِلَّا

[سورة النجم (53) : آية 26]

فُعْلَى، وَأَمَّا إِذَا كَانَ تَأْنِيثُهُ بِالتَّاءِ أَوْ جَازَ ذَلِكَ فِيهِ لَا يَكُونُ غَيْرَ مُنْصَرِفٍ. ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 26] وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) وَقَدْ عُلِمَ وَجْهُ تَعَلُّقِهَا بِمَا قَبْلَهَا فِي الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قوله تعالى: فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ [النجم: 25] إِنْ قُلْنَا إِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَغَيْرَهُمَا لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى فَلَا يَجُوزُ إِشْرَاكُهُمْ فَيَقُولُونَ نَحْنُ لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا نَقُولُ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا فَقَالَ كَيْفَ تَشْفَعُ هَذِهِ وَمَنْ فِي السموات لَا يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَمْ كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ فِي الْمَقَادِيرِ، إِمَّا لِاسْتِبَانَتِهَا فَتَكُونُ اسْتِفْهَامِيَّةً كَقَوْلِكَ كَمْ ذِرَاعًا طُولُهُ وَكَمْ رَجُلًا جَاءَكَ أَيْ كَمْ عَدَدُ الْجَائِينَ تَسْتَبِينُ الْمِقْدَارَ وَهِيَ مِثْلُ كَيْفَ لِاسْتِبَانَةِ الْأَحْوَالِ وَأَيُّ لِاسْتِبَانَةِ الْأَفْرَادِ، وَمَا لِاسْتِبَانَةِ الْحَقَائِقِ، وَإِمَّا لِبَيَانِهَا عَلَى الْإِجْمَالِ فَتَكُونُ خَبَرِيَّةً كَقَوْلِكَ كَمْ رَجُلٌ أَكْرَمَنِي أَيْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَكْرَمُونِي غَيْرَ أَنَّ عَلَيْهِ أَسْئِلَةً الْأَوَّلُ: لِمَ لَمْ يَجُزْ إِدْخَالُ مِنْ عَلَى الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَجَازَ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ الثَّانِي: لِمَ نُصِبَ مُمَيَّزُ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَجُرَّ الَّذِي لِلْخَبَرِيَّةِ الثَّالِثُ: هِيَ تُسْتَعْمَلُ فِي الْخَبَرِيَّةِ فِي مُقَابَلَةِ رب فلم جعل اسماء مَعَ أَنَّ رُبَّ حَرْفٌ، أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنَّ مِنْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَوْضِعِ الْمُتَعَيِّنِ بِالْإِضَافَةِ تَقُولُ خَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ كَمَا تَقُولُ خَاتَمُ فِضَّةٍ، وَلَمَّا لَمْ تُضَفْ فِي الِاسْتِفْهَامِيَّةِ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُ مَا يُضَاهِيهِ وَسَنُبَيِّنُ هَذَا الْجَوَابَ، وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي هُوَ أَنْ نَقُولَ إِنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُمَيَّزِ الْإِضَافَةُ، وَعَنِ الثَّالِثِ هُوَ أَنَّ كَمْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ حَرْفُ الْجَرِّ فَتَقُولُ إِلَى كَمْ تَصْبِرُ، وَفِي كَمْ يَوْمٍ جِئْتَ، وَبِكَمْ رَجُلٍ مَرَرْتَ وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِنَّ كَمْ إِذَا قُرِنَ بِهَا مِنْ وَجُعِلَ مُمَيِّزُهُ جَمْعًا كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ كَمْ مِنْ رِجَالٍ خَدَمْتُهُمْ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ كَثِيرٌ مِنَ الرِّجَالِ خَدَمْتُهُمْ وَرُبَّ وَإِنْ كَانَتْ لِلتَّقْلِيلِ لَكِنْ لَا تَقُومُ مَقَامَ الْقَلِيلِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي رُبَّ إِنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ قَلِيلٍ كَمَا قُلْنَا فِي كَمْ إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ كَثِيرٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ شَفَاعَتُهُمْ عَلَى عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَعْنَى، وَلَوْ قَالَ شَفَاعَتُهُ لَكَانَ الْعَوْدُ إِلَى اللَّفْظِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ كَمْ مِنْ رَجُلٍ رَأَيْتُهُ، وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ رَأَيْتُهُمْ، فَإِنْ قُلْتَ هَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مَعْنَوِيٌّ؟ قُلْتُ نَعَمْ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ يَعْنِي شَفَاعَةَ الْكُلِّ، وَلَوْ قَالَ شَفَاعَتُهُ/ لَكَانَ مَعْنَاهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كُلُّ وَاحِدٍ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُ فَرُبَّمَا كَانَ يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَنَّ شَفَاعَتَهُمْ تُغْنِي إِذَا جُمِعَتْ، وَعَلَى هَذَا فَفِي الْكَلَامِ أُمُورٌ كُلُّهَا تُشِيرُ إِلَى عِظَمِ الْأَمْرِ أَحَدُهَا: كَمْ فَإِنَّهُ لِلتَّكْثِيرِ ثَانِيهَا: لَفْظُ الْمَلَكِ فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أجناس المخلوقات ثالثها: في السموات فَإِنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى عُلُوِّ مَنْزِلَتِهِمْ وَدُنُوِّ مَرْتَبَتِهِمْ مِنْ مَقَرِّ السَّعَادَةِ رَابِعُهَا: اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ شَفاعَتُهُمْ وَكُلُّ ذَلِكَ لِبَيَانِ فَسَادِ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْأَصْنَامَ يَشْفَعُونَ أَيْ كَيْفَ تَشْفَعُ مَعَ حَقَارَتِهَا وَضَعْفِهَا وَدَنَاءَةِ مَنْزِلَتِهَا فَإِنَّ الْجَمَادَ أَخَسُّ الْأَجْنَاسِ وَالْمَلَائِكَةَ أَشْرَفُهَا وَهُمْ فِي أَعْلَى السموات وَلَا تُقْبَلُ شَفَاعَةُ الْمَلَائِكَةِ فَكَيْفَ تُقْبَلُ شَفَاعَةُ الْجَمَادَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ بِمَعْنَى كَثِيرٌ مِنَ الملائكة مع أن كل من في السموات مِنْهُمْ لَا يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ؟ نَقُولُ الْمَقْصُودُ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ تَشْفَعُ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِبَيَانِ أَنَّ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْكَثِيرَةِ، وَلَمْ يَقُلْ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْمُنَازَعَةِ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ كَثِيرٌ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ بِهِ، ثُمَّ هَاهُنَا بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ يُسْتَعْمَلُ صيغة

الْعُمُومِ وَالْمُرَادُ الْكَثِيرُ، وَفِي الْبَعْضِ يُسْتَعْمَلُ الْكَثِيرُ والمراد الكل وكلاهما على طريقة واحد، وَهُوَ اسْتِقْلَالُ الْبَاقِي وَعَدَمُ الِاعْتِدَادِ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ [الْأَحْقَافِ: 25] كَأَنَّهُ يَجْعَلُ الْخَارِجَ عَنِ الْحُكْمِ غَيْرَ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهِ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ وَقَوْلِهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [النَّحْلِ: 75] وَقَوْلِهِ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سَبَأٍ: 41] يُجْعَلُ الْمَخْرَجُ غَيْرَ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ مَا أَخْرَجَهُ كَالْأَمْرِ الْخَارِجِ عَنِ الْحُكْمِ كَأَنَّهُ مَا خَرَجَ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْكَلَامِ، فَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ مَذْكُورًا لِأَمْرٍ فِيهِ يُبَالَغُ يُسْتَعْمَلُ الْكُلُّ، مِثَالُهُ يُقَالُ لِلْمَلِكِ كُلُّ النَّاسِ يَدْعُونَ لَكَ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ بَيَانَ كَثْرَةِ الدُّعَاءِ لَهُ لَا غَيْرَ، وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ مَذْكُورًا لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ لَا يُبَالَغُ فِيهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ غَيْرُهُ فَلَا يُسْتَعْمَلُ الْكُلُّ، مِثَالُهُ إِذَا قَالَ الْمَلِكُ لِمَنْ قَالَ لَهُ اغْتَنِمْ دُعَائِيَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَدْعُونَ لِي، إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ احْتِيَاجِهِ إِلَى دُعَائِهِ لَا لِبَيَانِ كَثْرَةِ الدُّعَاءِ لَهُ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ: لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ وَلَمْ يَقُلْ لَا يَشْفَعُونَ مَعَ أَنَّ دَعْوَاهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا لَا أَنَّ شَفَاعَتَهُمْ تَنْفَعُ أَوْ تُغْنِي وَقَالَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَةِ: 255] فَنَفَى الشَّفَاعَةَ بِدُونِ الْإِذْنِ وَقَالَ: مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ [السجدة: 4] نَفَى الشَّفِيعَ وَهَاهُنَا نَفَى الْإِغْنَاءَ؟ نَقُولُ هُمْ كَانُوا يَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ نَفْعَ شَفَاعَتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزُّمَرِ: 3] ثُمَّ نَقُولُ نَفْيُ دَعْوَاهُمْ يَشْتَمِلُ عَلَى فَائِدَةٍ عَظِيمَةٍ، أَمَّا نَفْيُ دَعْوَاهُمْ لِأَنَّهُمْ قَالُوا الْأَصْنَامُ تَشْفَعُ لَنَا شَفَاعَةً مُقَرِّبَةً مُغْنِيَةً فَقَالَ: لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ بِدَلِيلِ أَنَّ شَفَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ لَا تُغْنِي، وَأَمَّا الْفَائِدَةُ فَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ: إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ أَيْ فَيَشْفَعُ وَلَكِنْ لَا يَكُونُ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهَا تُقْبَلُ وَتُغْنِي أَوْ لَا تُقْبَلُ، فَإِذَا قَالَ: لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ ثُمَّ قَالَ: إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ/ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ تُغْنِي فَيَحْصُلُ الْبِشَارَةُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غَافِرٍ: 7] وَقَالَ تَعَالَى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشُّورَى: 5] وَالِاسْتِغْفَارُ شَفَاعَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَةِ: 255] فَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الشَّفَاعَةِ وَقَبُولَهَا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَيْثُ رَدَّ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ عَظَمَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ فِي حَضْرَتِهِ أَحَدٌ وَلَا يَتَكَلَّمُ كَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ «1» [النَّبَأِ: 38] . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْإِذْنِ وَهُوَ عَلَى طَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي الشَّفَاعَةِ لِمَنْ يَشَاءُ الشَّفَاعَةَ وَيَرْضَى الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْإِذْنُ فِي الْمَشْفُوعِ لَهُ لِأَنَّ الْإِذْنَ حَاصِلٌ لِلْكُلِّ فِي الشَّفَاعَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ جَمِيعَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُمْ فَلَا مَعْنًى لِلتَّخْصِيصِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُنَازَعَ فِيهِ وَثَانِيهِمَا: أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْإِغْنَاءِ يَعْنِي إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُمْ فِي الشَّفَاعَةِ فَتُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ هَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ تَشْفَعَ الْمَلَائِكَةُ، وَالْإِغْنَاءُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ يَشَاءُ، فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ التَّنْبِيهَ عَلَى مَعْنَى عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْمَلَكَ إِذَا شَفَعَ فَاللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَشِيئَتِهِ بَعْدَ شَفَاعَتِهِمْ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَرْضى؟ نَقُولُ فِيهِ فَائِدَةُ الْإِرْشَادِ، وَذَلِكَ لأنه لما قال:

_ (1) في المطبوعة (لا يتكلمون إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يشاء) وهي خطأ وغير موجودة في القرآن فأثبتنا التي في سورة النبأ.

[سورة النجم (53) : آية 27]

لِمَنْ يَشاءُ كَانَ الْمُكَلَّفُ مُتَرَدِّدًا لَا يَعْلَمُ مَشِيئَتَهُ فَقَالَ: وَيَرْضى لِيَعْلَمَ أَنَّهُ الْعَابِدُ الشَّاكِرُ لَا الْمُعَانِدُ الْكَافِرُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزُّمَرِ: 7] فَكَأَنَّهُ قَالَ: لِمَنْ يَشاءُ ثُمَّ قَالَ: وَيَرْضى بَيَانًا لِمَنْ يَشَاءُ، وَجَوَابٌ آخَرُ عَلَى قَوْلِنَا: لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا مِمَّنْ يَشَاءُ، هُوَ أَنَّ فَاعِلَ يَرْضَى الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ لِمَنْ يَشَاءُ كَأَنَّهُ قَالَ وَيَرْضَى هُوَ أَيْ تُغْنِيهِ الشَّفَاعَةُ شَيْئًا صَالِحًا فَيَحْصُلُ بِهِ رِضَاهُ كَمَا قَالَ: وَيَرْضَى هُوَ أَيْ تُغْنِيهِ الشَّفَاعَةُ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ يَرْضَى لِلْبَيَانِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ كَانَ اللَّازِمُ عِنْدَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ شَفَاعَتَهُمْ تُغْنِي شَيْئًا وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا وَيَرْضَى الْمَشْفُوعُ لَهُ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا تُغْنِي أَكْثَرَ مِنَ اللَّازِمِ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ وَيَرْضى لِتَبْيِينِ أَنَّ قَوْلَهُ يَشاءُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْمَشِيئَةَ الَّتِي هِيَ الرِّضَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا شَاءَ الضَّلَالَةَ بِعَبْدٍ لَمْ يَرْضَ بِهِ، وَإِذَا شَاءَ الْهِدَايَةَ رَضِيَ فَقَالَ: لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمَشِيئَةَ لَيْسَتْ هِيَ الْمَشِيئَةَ الْعَامَّةَ، إِنَّمَا هِيَ الْخَاصَّةُ. ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 27] إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الطُّورِ وَاسْتَدْلَلْنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَنَذْكُرُ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ هَاهُنَا فَنَقُولُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ/ هُمُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالرُّسُلِ وَلَا يَتَّبِعُونَ الشَّرْعَ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ مَا يَدَّعُونَ أَنَّهُ عَقْلٌ فَيَقُولُونَ أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ تَوْقِيفِيَّةً، وَيَقُولُونَ الْوَلَدُ هُوَ الْمَوْجُودُ مِنَ الْغَيْرِ وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ أَهْلِ اللُّغَةِ: كَذَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ كَذَا، يُقَالُ الزُّجَاجُ يَتَوَلَّدُ مِنَ الْآجُرِّ بِمَعْنَى يُوجَدُ مِنْهُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي بِنْتِ الْكَرَمِ وَبِنْتِ الْجَبَلِ، ثُمَّ قَالُوا الْمَلَائِكَةُ وُجِدُوا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُمْ أَوْلَادُهُ بِمَعْنَى الْإِيجَادِ ثُمَّ إِنَّهُمْ رَأَوْا فِي الْمَلَائِكَةِ تَاءَ التَّأْنِيثِ وَصَحَّ عِنْدَهُمْ أَنْ يُقَالَ سَجَدَتِ الْمَلَائِكَةُ فَقَالُوا: بَنَاتُ اللَّهِ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى أَيْ كَمَا سُمِّيَ الْإِنَاثُ بَنَاتٍ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنْ يَرْبُطُوا مَرْكُوبًا عَلَى قَبْرِ مَنْ يَمُوتُ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يُحْشَرُ عَلَيْهِ؟ فَنَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا لَا يَجْزِمُونَ بِهِ كَانُوا يَقُولُونَ لَا حَشْرَ، فَإِنْ كَانَ فَلَنَا شُفَعَاءُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فُصِّلَتْ: 50] ثَانِيهِمَا: أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِالْآخِرَةِ عَلَى الْوَجْهِ [الْحَقِّ] وَهُوَ مَا وَرَدَ بِهِ الرُّسُلُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُ النَّاسِ أُنْثَى فُعْلَى مِنْ أَفْعَلَ يُقَالُ فِي فِعْلِهَا آنَثَ وَيُقَالُ فِي فَاعِلِهَا أَنِيثٌ يُقَالُ حَدِيدٌ ذَكَرٌ وَحَدِيدٌ أَنِيثٌ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْأُنْثَى يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَكْثَرِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ بِدَلِيلِ جَمْعِهَا عَلَى إِنَاثٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَيْفَ قَالَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى وَلَمْ يَقُلْ تَسْمِيَةَ الْإِنَاثِ؟ نَقُولُ عَنْهُ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا: ظَاهِرٌ وَالْآخَرُ دَقِيقٌ، أَمَّا الظَّاهِرُ فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ الْجِنْسِ، وَهَذَا اللَّفْظُ أَلْيَقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ لَمَّا جَاءَ عَلَى وَفْقِهِ آخِرُ الْآيَاتِ. وَالدَّقِيقُ هُوَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ يُسَمُّونَهُمْ تَسْمِيَةَ الْإِنَاثِ كَانَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْبَنَاتُ وَثَانِيهِمَا: الْأَعْلَامُ الْمُعْتَادَةُ لِلْإِنَاثِ كَعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، فَإِنَّ تَسْمِيَةَ الْإِنَاثِ كَذَلِكَ تَكُونُ فَإِذَا قَالَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ وَهِيَ الْبِنْتُ وَالْبَنَاتُ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ إِنَّ الصَّنَمَ جَمَادٌ لَا يَشْفَعُ وَبَيَّنَ لَهُمْ إِنَّ أَعْظَمَ أجناس

الْخَلْقِ لَا شَفَاعَةَ لَهُمْ إِلَّا بِالْإِذْنِ قَالُوا نَحْنُ لَا نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ لِأَنَّهَا جَمَادَاتٌ وَإِنَّمَا نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ بِعِبَادَتِهَا فَإِنَّهَا عَلَى صُوَرِهَا وَنَنْصِبُهَا بين أيدينا ليذكرنا الشاهد والغائب، فَنُعَظِّمُ الْمَلَكَ الَّذِي ثَبَتَ أَنَّهُ مُقَرَّبٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ رَفِيعُ الْمَكَانِ فَقَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ كَيْفَ تُعَظِّمُونَهُمْ وَأَنْتُمْ تُسَمُّونَهُمْ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى، ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ مُسْتَنَدَهُمْ فِي ذَلِكَ وَهُوَ لَفْظُ الْمَلَائِكَةِ، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى بَلْ قَالَ: لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ فَإِنَّهُمُ اغْتَرُّوا بِالتَّاءِ وَاغْتِرَارُهُمْ بَاطِلٌ لِأَنَّ التَّاءَ تَجِيءُ لِمَعَانٍ غَيْرِ التَّأْنِيثِ الْحَقِيقِيِّ وَالْبِنْتُ لَا تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْمُؤَنَّثِ الْحَقِيقِيِّ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّاءُ فِيهَا لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْجَمْعِ كَمَا فِي صَيَاقِلَةٍ وَهِيَ تُشْبِهُ تِلْكَ التَّاءَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ فِي الْمَشْهُورِ جَمْعُ مَلَكٍ، وَالْمَلَكُ اخْتِصَارٌ مِنَ الْمَلَاكِ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَالْمَلْأَكُ قَلْبُ الْمَأْلَكِ مِنَ الْأَلُوكَةِ وَهِيَ الرِّسَالَةُ، فَالْمَلَائِكَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَفَاعِلَةٌ، وَالْأَصْلُ مَفَاعِلُ وَرُدَّ إِلَى مَلَائِكَةٍ فِي الْجَمْعِ فَهِيَ تُشْبِهُ فَعَائِلَ وَفَعَائِلَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ فَعَائِلُ جَمْعُ مَلِيكِيٍّ/ مَنْسُوبٌ إِلَى الْمَلِيكِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَرِ: 55] فِي وَعْدِ الْمُؤْمِنِ، وَقَالَ فِي وصف الملائكة الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [الأعراف: 206] وَقَالَ أَيْضًا فِي الْوَعْدِ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى [ص: 40] وقال في وصف الملائكة لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النِّسَاءِ: 172] فَهُمْ إِذَنْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ اخْتَصَّهُمُ اللَّهُ بِمَزِيدِ قُرْبِهِ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل: 50] كَأَمْرِ الْمُلُوكِ وَالْمُسْتَخْدَمِينَ عِنْدَ السَّلَاطِينِ الْوَاقِفِينَ بِأَبْوَابِهِمْ مُنْتَظِرِينَ لِوُرُودِ أَمْرٍ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ مُنْتَسِبُونَ إِلَى الْمَلِيكِ الْمُقْتَدِرِ فِي الْحَالِ فَهُمْ مَلِيكِيُّونَ وَمَلَائِكَةٌ فَالتَّاءُ لِلنِّسْبَةِ فِي الْجَمْعِ كَمَا فِي الصَّيَارِفَةِ وَالْبَيَاطِرَةِ. فَإِنْ قِيلَ هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَحَدًا لَمْ يُسْتَعْمَلْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ مَلِيكِيٌّ كَمَا اسْتُعْمِلَ صَيْرَفِيٌّ وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ عند ما يَصِيرُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جِنْسٌ غَيْرُ الْآدَمِيِّ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ فَعَائِلَةَ فِي جَمْعِ فَعِيلِيَّ لَمْ يُسْمَعْ وَإِنَّمَا يُقَالُ فَعِيلَةٌ كَمَا يُقَالُ جَاءَ بِالنَّمِيمَةِ وَالْحَقِيبَةِ الرَّابِعُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لِمَا جُمِعَ مَلَكٌ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَمَّا عَدَمُ اسْتِعْمَالِ وَاحِدِهِ فَمُسَلَّمٌ وَهُوَ لِسَبَبٍ وَهُوَ أَنَّ الْمَلِكَ كُلَّمَا كَانَ أَعْظَمَ كَانَ حُكْمُهُ وَخَدَمُهُ وَحَشَمُهُ أَكْثَرَ، فَإِذَا وُصِفَ بِالْعَظَمَةِ وُصِفَ بِالْجَمْعِ فَيُقَالُ صَاحِبُ الْعَسْكَرِ الْكَثِيرِ وَلَا يُوصَفُ بِوَاحِدٍ وَصْفَ تَعْظِيمٍ، وَأَمَّا ذَلِكَ الْوَاحِدُ فَإِنْ نُسِبَ إِلَى الْمَلِيكِ عُيِّنَ لِلْخَبَرِ بِأَنْ يُقَالَ هَذَا مَلِيكِيٌّ وذلك عند ما تُعْرَفُ عَيْنُهُ فَتَجْعَلُهُ مُبْتَدَأً وَتُخْبِرُ بِالْمَلِيكِيِّ عَنْهُ، وَالْمَلَائِكَةُ لَمْ يُعْرَفُوا بِأَعْيَانِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ كَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَحِينَئِذٍ لَا فَائِدَةَ فِي قَوْلِنَا جِبْرِيلُ مَلِيكِيٌّ، لِأَنَّ مَنْ عَرَّفَ الْخَبَرَ وَلَا يُصَاغُ الْحَمْلُ إِلَّا لِبَيَانِ ثُبُوتِ الْخَبَرِ لِلْمُبْتَدَأِ فَلَا يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ حَيَوَانٌ أَوْ جِسْمٌ لِأَنَّهُ إِيضَاحُ وَاضِحٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَ ذَلِكَ فِي ضَرْبِ مِثَالٍ أَوْ فِي صُورَةٍ نَادِرَةٍ لِغَرَضٍ، وَأَمَّا أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْمَلِيكِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ فَلَا، لِأَنَّ الْعَظَمَةَ فِي أَنْ يَقُولَ وَاحِدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَنَبَّهَ عَلَى كَثْرَةِ الْمُقَرَّبِينَ إِلَيْهِ كَمَا تَقُولُ وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمَلِكِ وَلَا تَقُولُ صَاحِبُ الْمَلِكِ، فَإِذَا أَرَدْتَ التَّعْظِيمَ الْبَالِغَ فَعِنْدَ الْوَاحِدِ اسْتَعْمَلَ اسْمَ الْمَلَكِ غَيْرَ مَنْسُوبٍ بَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ لِشِدَّتِهِ وَقُوَّتِهِ كَمَا قال تعالى: ذُو مِرَّةٍ [النجم: 6] وذِي قُوَّةٍ [التكوير: 20] فقال: شَدِيدُ الْقُوى [النجم: 5] وم ل ك تَدُلُّ عَلَى الشِّدَّةِ فِي تَقَالِيبِهَا عَلَى مَا عُرِفَ وَعِنْدَ الْجَمْعِ اسْتَعْمَلَ الْمَلَائِكَةَ لِلتَّعْظِيمِ، كَمَا قَالَهُ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [الْمُدَّثِّرِ: 31] . الْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: نَقُولُ قَدْ يَكُونُ الِاسْمُ فِي الْأَوَّلِ لِوَصْفٍ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ مَنْ يَتَّصِفُ بِهِ وَغَيْرُهُ لَوْ صَارَ مُتَّصِفًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ لَا يُسَمَّى بِذَلِكَ الِاسْمِ كَالدَّابَّةِ فَاعِلَةٌ مِنْ دَبَّ، وَلَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ ذَاتِ الدَّبِّ دَابَّةٌ اسْمًا وَرُبَّمَا

[سورة النجم (53) : آية 28]

يُقَالُ لَهَا صِفَةً عِنْدَ حَالَةِ مَا تَدِبُّ بِدَبٍّ مَخْصُوصٍ غَيْرِ الدَّبِّ الْعَامِّ الَّذِي فِي الْكُلِّ كَمَا لَوْ دَبَّتْ بِلَيْلٍ لِأَخْذِ شَيْءٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ يُقَالُ إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْمَلَائِكَةُ مَلَائِكَةً لِطُولِ انْتِسَابِهِمْ مِنْ قَبْلِ خَلْقِ الْآدَمِيِّ بِسِنِينَ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهَا إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ لم يصل إلى الله ويقوم بِبَابِهِ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْعَهْدُ وَالِانْتِسَابُ فَلَا يُسَمَّى بِذَلِكَ الِاسْمِ. الْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ: نَقُولُ الْجُمُوعُ الْقِيَاسِيَّةُ لَا مَانِعَ لَهَا كَفِعَالٍ فِي جمع فعل كجمال وَثِمَارٍ وَأَفْعَالٍ كَأَثْقَالٍ وَأَشْجَارٍ وَفَعْلَانَ وَغَيْرِهَا، وَأَمَّا السَّمَاعُ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ إِلَّا قَلِيلًا فَاكْتُفِيَ بِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْظِيمِ مِنْ نِسْبَةِ الْجَمْعِ إِلَّا بَابَ اللَّهِ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْمَرْأَةِ وَالنِّسَاءِ. الْجَوَابُ عَنِ الرَّابِعِ: فَالْمَنْعُ وَلَعَلَّ هَذَا مِنْهُ أَوْ نَقُولُ حُمِلَ فَعِيلِيٌّ عَلَى فَعِيلٍ فِي الْجَمْعِ كَمَا حُمِلَ فَيْعِلٌ فِي الْجَمْعِ عَلَى فَعِيلٍ فَقِيلَ فِي جَمْعِ جَيِّدٍ جِيَادٌ وَلَا يُقَالُ فِي فَعِيلٍ أَفَاعِلُ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذكرنا أن إبليس عند ما كَانَ وَاقِفًا بِالْبَابِ كَانَ دَاخِلًا فِي جُمْلَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَنَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [الكهف: 50] عند ما صُرِفَ وَأُبْعِدَ خَرَجَ عَنْهُمْ وَصَارَ مِنَ الْجِنِّ. وَأَمَّا مَا قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ جَمْعُ مَلْأَكٍ، وَأَصْلُ مَلْأَكٍ مَأْلَكٌ مِنَ الْأَلُوكَةِ وَهِيَ الرِّسَالَةُ فَفِيهِ تَعَسُّفَاتٌ أَكْثَرُ مِمَّا ذَكَرْنَا بِكَثِيرٍ، مِنْهَا أَنَّ الْمَلَكَ لَا يَكُونُ فَعَلٌ بَلْ هُوَ مَفْعَلٌ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلِمَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مَآلِكُ عَلَى أَصْلِهِ كَمَآرِبَ وَمَآثِمَ وَمَآكِلَ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَا يُعَدُّ إِلَّا بِتَعَسُّفٍ؟ وَمِنْهَا أَنَّ مَلَكًا لِمَ جُعِلَ مَلْأَكٌ وَلَمْ يُفْعَلْ ذَلِكَ بِأَخَوَاتِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا؟ وَمِنْهَا أَنَّ التَّاءَ لِمَ أُلْحِقَتْ بِجَمْعِهِ وَلِمَ لَمْ يَقُلْ مَلَائِكُ كَمَا فِي جَمْعِ كُلِّ مَفْعَلٍ؟ وَالَّذِي يَرُدُّ قَوْلَهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فَاطِرٍ: 1] فَهِيَ غَيْرُ الرُّسُلِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ جُعِلَتِ الْمَلَائِكَةُ رُسُلًا كَمَا لَا يَصِحُّ جُعِلَتِ الرُّسُلُ مُرْسَلِينَ وَجُعِلَ الْمُقْتَرِبُ قَرِيبًا، لِأَنَّ الْجَعْلَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَغْيِيرٍ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرُوا أَنَّ الْكُلَّ مَنْسُوبُونَ إِلَيْهِ مَوْقُوفُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ منتظرون أمره لورود الأوامر عليهم. ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 28] وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) وَفِيمَا يَعُودُ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي بِهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: مَا نَقَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَا كَانُوا يَقُولُونَ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ ثَانِيهَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ عِلْمٍ، أَيْ مَا لَهُمْ بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ فَيُشْرِكُونَ وَقُرِئَ مَا لَهُمْ بِهَا. وَفِيهِ وُجُوهٌ أَيْضًا أَحَدُهَا: مَا لَهُمْ بِالْآخِرَةِ وَثَانِيهَا: مَا لَهُمْ بِالتَّسْمِيَةِ ثَالِثُهَا: مَا لهم بالملائكة، فإن قلنا (ما لهم بالآخرة) فَهُوَ جَوَابٌ لِمَا قُلْنَا إِنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ الْأَصْنَامُ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ وَكَانُوا يَرْبُطُونَ الْإِبِلَ عَلَى قُبُورِ الْمَوْتَى لِيَرْكَبُوهَا لَكِنْ مَا كَانُوا يَقُولُونَ بِهِ عَنْ عِلْمٍ، وَإِنْ قُلْنَا بِالتَّسْمِيَةِ قَدْ تَكُونُ وَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّسْمِيَةِ حَاصِلٌ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا فِي شَكٍّ، إِذِ التَّسْمِيَةُ قَدْ تَكُونُ وَضْعًا أَوَّلِيًّا وَهُوَ لَا يَكُونُ بِالظَّنِّ بَلْ بِالْعِلْمِ بِأَنَّهُ وَضْعٌ، وَقَدْ يَكُونُ اسْتِعْمَالًا مَعْنَوِيًّا وَيَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الْكَذِبُ وَالصِّدْقُ وَالْعِلْمُ، مِثَالُ الْأَوَّلِ: مَنْ وَضَعَ أولا اسم السماء لموضوعها وقال هذا سَمَاءٌ، مِثَالُ الثَّانِي: إِذَا قُلْنَا بَعْدَ ذَلِكَ لِلْمَاءِ وَالْحَجَرِ هَذَا سَمَاءٌ، فَإِنَّهُ كَذِبٌ، وَمَنْ يَعْتَقِدُهُ فَهُوَ جَاهِلٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الْمَلَائِكَةِ إِنَّهَا بَنَاتُ اللَّهِ، لَمْ تَكُنْ تَسْمِيَةً وَضْعِيَّةً، وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُمْ مَوْصُوفُونَ بِأَمْرٍ يَجِبُ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْبَنَاتِ فِيهِمْ، وَذَلِكَ كَذِبٌ وَمُعْتَقِدُهُ جَاهِلٌ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الظَّنَّ يُتَّبَعُ فِي الْأُمُورِ الْمَصْلَحِيَّةِ، وَالْأَفْعَالِ الْعُرْفِيَّةِ أَوِ الشَّرْعِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الْوُصُولِ إِلَى الْيَقِينِ، وَأَمَّا فِي الِاعْتِقَادَاتِ فَلَا يُغْنِي الظَّنُّ شَيْئًا مِنَ الْحَقِّ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الظَّنُّ قَدْ يُصِيبُ، فَكَيْفَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يُغْنِي أصلا؟ نقول

[سورة النجم (53) : آية 29]

الْمُكَلَّفُ يَحْتَاجُ إِلَى يَقِينٍ يُمَيِّزُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، لِيَعْتَقِدَ الْحَقَّ وَيُمَيِّزَ الْخَيْرَ/ مِنَ الشَّرِّ لِيَفْعَلَ الْخَيْرَ، لَكِنَّ فِي الْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَازِمًا لِاعْتِقَادِ مُطَابِقِهِ، وَالظَّانُّ لَا يَكُونُ جَازِمًا، وَفِي الْخَيْرِ رُبَّمَا يُعْتَبَرُ الظَّنُّ فِي مَوَاضِعَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنَ الْحَقِّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الظَّنَّ لَا يُفِيدُ شَيْئًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَيِ الْأَوْصَافُ الْإِلَهِيَّةُ لَا تُسْتَخْرَجُ بِالظُّنُونِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ [الْحَجِّ: 6] وَفِيهِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مَنَعَ مِنَ الظَّنِّ، وَفِي جَمِيعِ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ كَانَ الْمَنْعُ عَقِيبَ التَّسْمِيَةِ، وَالدُّعَاءُ بِاسْمٍ مَوْضِعَانِ مِنْهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [النجم: 23] . وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً، وَالثَّالِثُ: فِي الْحُجُرَاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ [الْحُجُرَاتِ: 11، 12] عَقِيبَ الدُّعَاءِ بِالْقَلْبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ دليل على أن حفظ اللسن أَوْلَى مِنْ حِفْظِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَرْكَانِ، وَأَنَّ الْكَذِبَ أَقْبَحُ مِنَ السَّيِّئَاتِ الظَّاهِرَةِ مِنَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ، وَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ الثَّلَاثَةُ أَحَدُهَا: مَدْحُ مَنْ لا يستحق المدح كاللّات والعزى من العزو ثانيها: ذَمُّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ يُسَمُّونَهُمْ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى وَثَالِثُهَا: ذَمُّ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ، وَأَمَّا مَدْحُ مَنْ حَالُهُ لَا يُعْلَمُ، فَلَمْ يَقُلْ فِيهِ: لَا يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، بَلِ الظَّنُّ فِيهِ مُعْتَبَرٌ، وَالْأَخْذُ بِظَاهِرِ حَالِ الْعَاقِلِ وَاجِبٌ. ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 29] فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) أَيِ اتْرُكْ مُجَادَلَتَهُمْ فَقَدْ بَلَّغْتَ وَأَتَيْتَ بِمَا كَانَ عَلَيْكَ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُونَ: بِأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْقَتْلِ وَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْإِعْرَاضِ مُوَافِقٌ لِآيَةِ الْقِتَالِ، فَكَيْفَ يُنْسَخُ بِهِ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَأْمُورًا بِالدُّعَاءِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، فَلَمَّا عَارَضُوهُ بِأَبَاطِيلِهِمْ قِيلَ لَهُ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْلِ: 125] ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَنْفَعْ، قَالَ لَهُ رَبُّهُ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَلَا تُقَابِلْهُمْ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَلَا يَتَّبِعُونَ الْحَقَّ، وَقَابِلْهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُنَاظَرَةِ بِشَرْطِ جَوَازِ الْمُقَابَلَةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَنْسُوخًا، وَالْإِعْرَاضُ مِنْ بَابِ أَشْكَاهُ وَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلسَّلْبِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَزِلِ الْعَرْضَ، وَلَا تُعْرِضْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ هَذَا أَمْرًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا لِبَيَانِ تَقْدِيمِ فَائِدَةِ الْعَرْضِ وَالْمُنَاظَرَةِ، لِأَنَّ مَنْ لَا يُصْغِي إِلَى الْقَوْلِ كَيْفَ يَفْهَمُ مَعْنَاهُ؟ وَفِي ذِكْرِنا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: الْقُرْآنُ الثَّانِي: الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ الثَّالِثُ: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ مَنْ/ لَا يَنْظُرُ فِي الشَّيْءِ كَيْفَ يَعْرِفُ صِفَاتِهِ؟ وَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ لَا نَتَفَكَّرُ فِي آلَاءِ اللَّهِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِنَا بِاللَّهِ، وَإِنَّمَا أَمْرُنَا مَعَ مَنْ خَلَقَنَا، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوِ الدَّهْرُ عَلَى اخْتِلَافِ أَقَاوِيلِهِمْ وَتَبَايُنِ أَبَاطِيلِهِمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا إِشَارَةٌ إِلَى إِنْكَارِهِمُ الْحَشْرَ، كَمَا قَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الْمُؤْمِنُونَ: 37] وَقَالَ تَعَالَى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا [التَّوْبَةِ: 38] يَعْنِي لَمْ يُثْبِتُوا وَرَاءَهَا شَيْئًا آخَرَ يَعْمَلُونَ لَهُ، فَقَوْلُهُ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا إِشَارَةٌ إِلَى إِنْكَارِهِمُ الْحَشْرَ، لِأَنَّهُ إِذَا تَرَكَ النَّظَرَ فِي آلَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَعْرِفُهُ فَلَا يَتَّبِعُ رَسُولَهُ فَلَا يَنْفَعُهُ كَلَامُهُ. وَإِذَا لَمْ يَقُلْ بِالْحَشْرِ وَالْحِسَابِ لَا يَخَافُ فَلَا يَرْجِعُ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ، فَلَا يَبْقَى إِذَنْ فَائِدَةٌ فِي الدُّعَاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ طَبِيبَ الْقُلُوبِ، فَأَتَى عَلَى تَرْتِيبِ الْأَطِبَّاءِ، وَتَرْتِيبُهُمْ أَنَّ الْحَالَ إِذَا أَمْكَنَ إِصْلَاحُهُ بِالْغِذَاءِ لَا يَسْتَعْمِلُونَ الدَّوَاءَ، وَمَا أَمْكَنَ إِصْلَاحُهُ بِالدَّوَاءِ الضَّعِيفِ لَا يَسْتَعْمِلُونَ الدَّوَاءَ الْقَوِيَّ، ثُمَّ إِذَا عَجَزُوا عَنِ الْمُدَاوَاةِ

بِالْمَشْرُوبَاتِ وَغَيْرِهَا عَدَلُوا إِلَى الْحَدِيدِ وَالْكَيِّ وَقِيلَ آخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا أَمَرَ الْقُلُوبَ بِذِكْرِ اللَّهِ فَحَسْبُ فإن بذكر الله تطمئن القلوب كَمَا أَنَّ بِالْغِذَاءِ تَطْمَئِنُّ النُّفُوسُ، فَالذِّكْرُ غِذَاءُ الْقَلْبِ، وَلِهَذَا قَالَ أَوَّلًا: قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَمَرَ بِالذِّكْرِ لِمَنِ انْتَفَعَ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنِ انْتَفَعَ، وَمَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ ذَكَرَ لَهُمُ الدَّلِيلَ، وَقَالَ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا [الْأَعْرَافِ: 184] قُلِ انْظُرُوا [يُونُسَ: 101] أَفَلا يَنْظُرُونَ [الْغَاشِيَةِ: 17] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَى بِالْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْفَعْهُمْ قَالَ: أَعْرِضْ عَنِ الْمُعَالَجَةِ، وَاقْطَعِ الْفَاسِدَ لِئَلَّا يُفْسِدَ الصَّالِحَ. تَمَّ الْجُزْءُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ، وَيَلِيهِ الْجُزْءُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ وَأَوَّلُهُ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ

الجزء التاسع والعشرون

الجزء التاسع والعشرون

[تتمة سورة النجم] بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة النجم (53) : آية 30] ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ذلِكَ في وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَظْهَرُهَا أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الظَّنِّ، أَيْ غَايَةُ مَا يَبْلُغُونَ بِهِ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بِالظَّنِّ وَثَانِيهَا: إِيثَارُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، أَيْ ذَلِكَ الْإِيثَارُ غَايَةُ مَا بَلَغُوهُ مِنَ الْعِلْمِ ثَالِثُهَا: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى [النَّجْمِ: 29] وَذَلِكَ الْإِعْرَاضُ غَايَةُ مَا بَلَغُوهُ مِنَ الْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ عَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعِلْمَ بِالْمَعْلُومِ، وَتَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلتَّعْرِيفِ، وَالْعِلْمُ بِالْمَعْلُومِ هُوَ مَا فِي الْقُرْآنِ، وَتَقْرِيرُ هَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا وَرَدَ بَعْضُهُمْ تَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ وَانْشَرَحَ صَدْرُهُ فَبَلَغَ الْغَايَةَ الْقُصْوَى، وَبَعْضُهُمْ قَبِلَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُعْجِزَةٌ، وَاتَّبَعَ الرَّسُولَ فَبَلَغَ الدَّرَجَةَ الْوُسْطَى، وَبَعْضُهُمْ تَوَقَّفَ فِيهِ كَأَبِي طَالِبٍ، وَذَلِكَ أَدْنَى الْمَرَاتِبِ، وَبَعْضُهُمْ رَدَّهُ وَعَابَهُ، فَالْأَوَّلُونَ لَمْ يَجُزِ الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ، وَالْآخَرُونَ وَجَبَ الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ، وَكَانَ مَوْضِعُ بُلُوغِهِ مِنَ الْعِلْمِ أَنَّهُ قَطَعَ الْكَلَامَ مَعَهُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ سُؤَالٌ وَهُوَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ غَايَتَهُمْ ذلك: ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وَالْمَجْنُونُ الَّذِي لَا عِلْمَ لَهُ، وَالصَّبِيُّ لَا يُؤْمَرُ بِمَا فَوْقَ احْتِمَالِهِ فَكَيْفَ يُعَاقِبُهُمُ اللَّهُ؟. نَقُولُ ذُكِرَ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ تَوَلَّوْا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَكَأَنَّ عَدَمَ عِلْمِهِمْ لِعَدَمِ قَبُولِهِمُ الْعِلْمَ، وَإِنَّمَا قَدَّرَ اللَّهُ تَوَلِّيَهُمْ لِيُضَافَ الْجَهْلُ إِلَى ذَلِكَ فَيُحَقِّقَ الْعِقَابَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ كَلَامَيْنِ، وَالْمُتَّصِلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ... إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [النَّجْمِ: 29، 30] وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا الْمَقْصُودُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ، يَكُونُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَعْرِضْ عَنْهُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ غَايَتُهُمْ، وَلَا يُوجَدُ وَرَاءَ مَا ظَهَرَ مِنْهُمْ شَيْءٌ، وَكَأَنَّ قَوْلَهُ: عَنْ مَنْ تَوَلَّى إِشَارَةٌ إِلَى قَطْعِ عُذْرِهِمْ بِسَبَبِ الْجَهْلِ، فَإِنَّ الْجَهْلَ كَانَ بِالتَّوَلِّي وَإِيثَارِ الْعَاجِلِ. ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى وَفِي الْمُنَاسَبَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَعْرِضْ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيدَ الْمَيْلِ إِلَى إِيمَانِ قَوْمِهِ وَكَانَ رُبَّمَا هَجَسَ فِي خَاطِرِهِ، أَنَّ فِي الذِّكْرَى بَعْدُ مَنْفَعَةٌ، وَرُبَّمَا يُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِينَ قَوْمٌ آخَرُونَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ علم أنه يؤمن بمجرد الدعاء أَحَدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، وَإِنَّمَا يَنْفَعُ فِيهِمْ أَنْ يَقَعَ السَّيْفُ وَالْقِتَالُ فَأَعْرِضْ عَنِ الْجِدَالِ وَأَقْبِلْ عَلَى/ الْقِتَالِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: بِمَنِ اهْتَدى أَيْ عَلِمَ فِي الْأَزَلِ، مَنْ ضَلَّ فِي تَقْدِيرِهِ وَمَنِ اهْتَدَى، فَلَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الْأَمْرَانِ، وَلَا يَأْسَ فِي الْإِعْرَاضِ وَيُعَدُّ فِي الْعُرْفِ مَصْلَحَةً ثَانِيهَا: هُوَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سَبَأٍ: 24] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا

[الْأَعْرَافِ: 87] وَوَجْهُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ عَلَى الْهُدَى وَأَنْتُمْ مُبْطِلُونَ وَأَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى: أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَأَجْرُكَ وَقَعَ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ مُهْتَدُونَ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُمْ ضَالُّونَ، وَالْمُتَنَاظِرَانِ إِذَا تَنَاظَرَا عِنْدَ مَلِكٍ قَادِرٍ مَقْصُودُهُمْ ظُهُورُ الْأَمْرِ عِنْدَ الْمَلِكِ فَإِنِ اعْتَرَفَ الْخَصْمُ بِالْحَقِّ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَغَرَضُ الْمُصِيبِ يَظْهَرُ عِنْدَ الْمَلِكِ فَقَالَ تَعَالَى: جَادَلْتَ وَأَحْسَنْتَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمُحِقِّ مِنَ الْمُبْطِلِ ثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ نَبِيَّهُ بِالْإِعْرَاضِ وَكَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْهُمْ إِيذَاءٌ عَظِيمٌ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَمَّلُهُ رَجَاءَ أَنْ يُؤْمِنُوا، فَنُسِخَ جَمِيعُ ذَلِكَ فَلَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا فَكَأَنَّهُ قَالَ: سَعْيِي وَتَحَمُّلِي لِإِيذَائِهِمْ وَقَعَ هَبَاءً، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إن الله يعلم حال المضلين والمهتدين: لله ما في السموات والأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: (هُوَ) يُسَمَّى عِمَادًا وَفَصْلًا، وَلَوْ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ أَعْلَمُ لَتَمَّ الْكَلَامُ، غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ خُلُوِّ الْكَلَامِ عَنْ هَذَا الْعِمَادِ رُبَّمَا يَتَوَقَّفُ السَّامِعُ عَلَى سَمَاعِ مَا بَعْدَهُ، لِيَعْلَمَ أَنَّ: أَعْلَمُ خَبَرُ: رَبَّكَ أَوْ هُوَ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ خَبَرٌ، مِثَالُهُ لَوْ قَالَ: إِنَّ زَيْدًا أَعْلَمُ مِنْهُ عَمْرٌو يَكُونُ خَبَرُ زَيْدٍ الْجُمْلَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، فَإِنْ قَالَ: هُوَ أَعْلَمُ انْتَفَى ذَلِكَ التَّوَهُّمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَعْلَمُ يَقْتَضِي مُفَضَّلًا عَلَيْهِ يُقَالُ: زَيْدٌ أَعْلَمُ مِنْ عَمْرٍو وَاللَّهُ أَعْلَمُ مِمَّنْ؟ نَقُولُ: أَفْعَلُ يَجِيءُ كَثِيرًا بِمَعْنَى عَالِمٍ لَا عَالِمَ مِثْلُهُ، وَحِينَئِذٍ إِنْ كَانَ هُنَاكَ عَالِمٌ فَذَلِكَ مُفَضَّلٌ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْعَالِمُ لَا غَيْرَ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ أَفْعَلُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى يُقَالُ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا كَبِيرَ مِثْلُهُ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا هُوَ، وَالَّذِي يُنَاسِبُ هَذَا أَنَّهُ وَرَدَ فِي الدَّعَوَاتِ يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَكْرَمَ مِثْلُكَ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا أَكْرَمَ إِلَّا هُوَ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: أَعْلَمُ بِمَعْنَى عَالِمٍ بِالْمُهْتَدِي وَالضَّالِّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: أَعْلَمُ مِنْ كُلِّ عَالِمٍ بِفَرْضِ عَالِمٍ غَيْرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: عَلِمْتُهُ وَعَلِمْتُ بِهِ مُسْتَعْمَلَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَنْعَامِ: هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 117] ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَعْلُومِ الْعِلْمَ إِذَا كَانَ تَعَلُّقُهُ بِالْمَعْلُومِ أَقْوَى، إِمَّا لِقُوَّةِ الْعِلْمِ وَإِمَّا لِظُهُورِ الْمَعْلُومِ وَإِمَّا لِتَأْكِيدِ وُجُوبِ الْعِلْمِ بِهِ، وَإِمَّا لِكَوْنِ الْفِعْلِ لَهُ قُوَّةٌ، أَمَّا قُوَّةُ الْعِلْمِ فَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ [الْمُزَّمِّلِ: 20] وَقَالَ: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى [الْعَلَقِ: 14] لَمَّا كَانَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى تَامًّا شَامِلًا عَلَّقَهُ بِالْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ عَبْدِهِ الَّذِي هُوَ بِمَرْأَى مِنْهُ مِنْ غَيْرِ حَرْفٍ، وَلَمَّا كَانَ عِلْمُ الْعَبْدِ ضَعِيفًا حَادِثًا عَلَّقَهُ بِالْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمُ الْبَشَرِ بِالْحَرْفِ أَوْ لَمَّا كَانَ كَوْنُ اللَّهِ رَائِيًا لَمْ يَكُنْ مَحْسُوسًا بِهِ مُشَاهَدًا عُلِّقَ الْفِعْلُ بِهِ بِنَفْسِهِ وَبِالْآخَرِ بِالْحَرْفِ، وَأَمَّا ظُهُورُ الْمَعْلُومِ فَكَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ/ لِمَنْ يَشاءُ [الزُّمَرِ: 52] وَهُوَ مَعْلُومٌ ظَاهِرٌ وَأَمَّا تَأْكِيدُ وُجُوبِ الْعِلْمِ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [مُحَمَّدٍ: 19] وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مِنْ قَبِيلِ الظَّاهِرِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 2] وَأَمَّا قُوَّةُ الْفِعْلِ فَقَالَ تَعَالَى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ [الْمُزَّمِّلِ: 20] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى لَمَّا كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ صِفَةَ الْفِعْلِ عَلَّقَهُ بِالْمَفْعُولِ بِغَيْرِ حَرْفٍ وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ كَمَا كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ اسْمًا دَالًّا عَلَى فِعْلٍ ضَعُفَ عَمَلُهُ لِتَعَلُّقِهِ بِالْمَفْعُولِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُدِّمَ الْعِلْمُ بِمَنْ ضَلَّ عَلَى الْعِلْمِ بِالْمُهْتَدِي فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ مِنْهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَمِنْهَا فِي سُورَةِ: ن وَمِنْهَا فِي السُّورَةِ، لِأَنَّ فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا الْمَذْكُورُ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُعَانِدُونَ، فَذَكَرَهُمْ أَوَّلًا تَهْدِيدًا لَهُمْ وَتَسْلِيَةً لِقَلْبِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ: هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 117] وفي غيره قال: بِمَنْ ضَلَّ فَهَلْ عِنْدَكَ فِيهِ شَيْءٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَنُبَيِّنُ ذَلِكَ بِبَحْثٍ عَقْلِيٍّ وَآخَرَ نَقْلِيٍّ: أَمَّا الْعَقْلِيُّ: فَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ الْقَدِيمَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، إِنْ وُجِدَ أَمْسِ عُلِمَ أَنَّهُ وُجِدَ أَمْسِ فِي نَهَارِ أَمْسِ، وَلَيْسَ مِثْلَ عِلْمِنَا حَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يَتَحَقَّقَ الشَّيْءُ أَمْسِ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُ إِلَّا فِي يَوْمِنَا هَذَا بَلْ: لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلَا يَتَأَخَّرُ الْوَاقِعُ عَنْ عِلْمِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَمَّا النَّقْلِيُّ: فَهُوَ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ يَعْمَلُ عَمَلَ الْفِعْلِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ وَلَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ إِذَا كَانَ مَاضِيًا فَلَا تَقُولُ: أَنَا ضَارِبٌ زَيْدًا أَمْسِ، وَالْوَاجِبُ إِنْ كُنْتَ تَنْصِبُ أَنْ تَقُولَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا وَإِنْ كُنْتَ تَسْتَعْمِلُ اسْمَ الْفَاعِلِ فَالْوَاجِبُ الْإِضَافَةُ تَقُولُ: ضَارِبُ زَيْدٍ أَمْسِ أَنَا وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَنَا غَدًا ضَارِبٌ زَيْدًا وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا وُجِدَ فَلَا تَجَدُّدَ لَهُ فِي [غَيْرِ] الِاسْتِقْبَالِ، وَلَا تَحَقُّقَ لَهُ فِي الْحَالِ فَهُوَ عَدَمٌ وَضَعْفٌ عَنْ أَنْ يَعْمَلَ، وَأَمَّا الْحَالُ وَمَا يُتَوَقَّعُ فَلَهُ وُجُودٌ فَيُمْكِنُ إِعْمَالُهُ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمَّا قَالَ ضَلَّ كَانَ الْأَمْرُ مَاضِيًا وَعِلْمُهُ تَعَلَّقَ بِهِ وَقْتَ وُجُودِهِ فَعُلِمَ، وَقَوْلُهُ أَعْلَمُ بِمَعْنَى عَالِمٍ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: عَالِمٌ بِمَنْ ضَلَّ فَلَوْ تَرَكَ الْبَاءَ لَكَانَ إِعْمَالًا لِلْفَاعِلِ بِمَعْنَى الْمَاضِي، وَلَمَّا قَالَ: يَضِلُّ كَانَ يَعْلَمُ الضَّلَالَ عِنْدَ الْوُقُوعِ وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ فِي الْأَزَلِ أَنَّهُ سَيَضِلُّ لَكِنْ لِلْعِلْمِ بَعْدَ ذَلِكَ تَعَلُّقٌ آخَرُ سَيُوجَدُ، وَهُوَ تَعَلُّقُهُ بِكَوْنِ الضَّلَالِ قَدْ وَقَعَ وَحَصَلَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي الْأَزَلِ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: إِنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ فُلَانًا ضَلَّ فِي الْأَزَلِ، وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ: عُلِمَ فِي الْأَزَلِ، فَإِنَّهُ سَيَضِلُّ، فَيَكُونُ كَأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَضِلُّ فَيَكُونُ اسْمُ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلَ الْفِعْلِ، فَلَا يُقَالُ: زَيْدٌ أَعْلَمُ مَسْأَلَتَنَا مِنْ عَمْرٍو، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: زَيْدٌ أَعْلَمُ بِمَسْأَلَتِنَا مِنْ عَمْرٍو، وَلِهَذَا قَالَتِ النُّحَاةُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ يَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ وَقَالُوا: أَعْلَمُ لِلتَّفْضِيلِ لَا يُبْنَى إِلَّا مِنْ فِعْلٍ لَازِمٍ غَيْرِ مُتَعَدٍّ، فَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا يُرَدُّ إِلَى لَازِمٍ. وَقَوْلُنَا: عَلِمَ كَأَنَّهُ مِنْ بَابِ عَلُمَ بِالضَّمِّ وَكَذَا فِي التَّعَجُّبِ إِذَا قُلْنَا: مَا أَعْلَمَهُ بِكَذَا كَأَنَّهُ مِنْ فِعْلٍ لَازِمٍ. وَأَمَّا أَنَا فَقَدَ أَجَبْتُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ قَوْلَهُ: أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ مَعْنَاهُ عَالِمٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا يَجِبُ أَنْ يُعْتَقَدَ فِي أَوْصَافِ اللَّه فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عَالِمٌ وَلَا عَالِمَ مِثْلُهُ فَيَكُونُ أَعْلَمَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: هُوَ بِمَعْنَى عَالِمٍ لَا غَيْرَ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قَالَ هَاهُنَا: بِمَنْ ضَلَّ وَقَالَ هُنَاكَ: يَضِلُّ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ/ هَاهُنَا حَصَلَ الضَّلَالُ فِي الْمَاضِي وَتَأَكَّدَ حَيْثُ حَصَلَ يَأْسُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمِرَ بِالْإِعْرَاضِ، وَأَمَّا هُنَاكَ فَقَالَ تَعَالَى مِنْ قَبْلُ: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الْأَنْعَامِ: 116] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ بِمَعْنَى إِنْ ضَلَلْتَ يَعْلَمُكَ اللَّه فَكَانَ الضَّلَالُ غَيْرَ حَاصِلٍ فِيهِ فَلَمْ يَسْتَعْمِلْ صِيغَةَ الْمَاضِي. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ فِي الضَّلَالِ عَنْ سَبِيلِهِ وَلَمْ يَقُلْ فِي الِاهْتِدَاءِ إِلَى سَبِيلِهِ، لِأَنَّ الضَّلَالَ عَنِ السَّبِيلِ هُوَ الضَّلَالُ وَهُوَ كَافٍ فِي الضَّلَالِ لِأَنَّ الضَّلَالَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي السَّبِيلِ، وَأَمَّا بَعْدَ الْوُصُولِ فَلَا ضَلَالَ أَوْ لِأَنَّ مَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ لَا يَصِلُ إِلَى الْمَقْصُودِ سَوَاءٌ سَلَكَ سَبِيلًا أَوْ [لَمْ] يَسْلُكْ وَأَمَّا مَنِ اهْتَدَى إِلَى سَبِيلٍ فَلَا وُصُولَ إِنْ لَمْ يَسْلُكْهُ، وَيُصَحِّحُ هَذَا أَنَّ مَنْ ضَلَّ فِي غَيْرِ سَبِيلِهِ فَهُوَ ضَالٌّ وَمَنِ اهْتَدَى إِلَيْهَا لَا يَكُونُ مُهْتَدِيًا إِلَّا إِذَا اهْتَدَى إِلَى كُلِّ

[سورة النجم (53) : آية 31]

مَسْأَلَةٍ يَضُرُّ الْجَهْلُ بِهَا بِالْإِيمَانِ فَكَانَ الِاهْتِدَاءُ الْيَقِينِيُّ هُوَ الِاهْتِدَاءُ الْمُطْلَقُ فَقَالَ بِمَنِ اهْتَدى وقال بِالْمُهْتَدِينَ [القلم: 7] ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 31] وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ غِنَاهُ وَقُدْرَتِهِ لِيَذْكُرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَقُولَ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مِنَ الْغَنِيِّ الْقَادِرِ لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ وَلَمْ يَقْدِرْ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْجَزَاءُ فَقَالَ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُعْتَقَدُ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لِيَجْزِيَ كَاللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها [النَّحْلِ: 8] وَهُوَ جَرَى فِي ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِهِ فَقَالَ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَعْنَاهُ خَلَقَ مَا فِيهِمَا لِغَرَضِ الْجَزَاءِ وَهُوَ لَا يَتَحَاشَى مِمَّا ذَكَرَهُ لِمَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: اللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا [الْقَصَصِ: 8] أَيْ أَخَذُوهُ وَعَاقِبَتُهُ أَنَّهُ يَكُونُ لَهُمْ عَدُوًّا، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ وَهُوَ أَنَّ حَتَّى وَلَامَ الْغَرَضِ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْغَرَضَ نهاية الفعل، وحتى لِلْغَايَةِ الْمُطْلَقَةِ فَبَيْنَهُمَا مُقَارَبَةٌ فَيُسْتَعْمَلُ أَحَدُهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ، يُقَالُ: سِرْتُ حَتَّى أَدْخُلَهَا وَلِكَيْ أَدْخُلَهَا، فَلَامُ الْعَاقِبَةِ هِيَ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ حَتَّى لِلْغَايَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هُنَا وَجْهٌ أَقْرَبُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ وَإِنْ كَانَ أَخْفَى مِنْهُمَا وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: لِيَجْزِيَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ضَلَّ وَاهْتَدَى لَا بِالْعِلْمِ وَلَا بِخَلْقِ ما في السموات، تَقْدِيرُهُ كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ وَاهْتَدَى: لِيَجْزِيَ أَنَّ مَنْ ضَلَّ وَاهْتَدَى يُجْزَى الْجَزَاءَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، فَيَصِيرُ قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ مَا فِي/ السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ كَلَامًا مُعْتَرِضًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تعالى: فَأَعْرِضْ [النجم: 29] أَيْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ لِيَقَعَ الْجَزَاءُ، كَمَا يَقُولُ المريد فعلا لمن يمنعه منه زرني لِأَفْعَلَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا دَامَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم لم ييأس مَا كَانَ الْعَذَابُ يَنْزِلُ وَالْإِعْرَاضُ وَقْتَ الْيَأْسِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى حِينَئِذٍ يَكُونُ مَذْكُورًا لِيَعْلَمَ أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي عِنْدَ إِعْرَاضِهِ يَتَحَقَّقُ لَيْسَ مِثْلَ الَّذِي قَالَ تَعَالَى فِيهِ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَالِ: 25] بَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالَّذِينِ ظَلَمُوا وَغَيْرُهُمْ لَهُمُ الْحُسْنَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُسِيءِ بِما عَمِلُوا وَفِي حَقِّ الْمُحْسِنِ بِالْحُسْنَى فِيهِ لَطِيفَةٌ لِأَنَّ جَزَاءَ الْمُسِيءِ عَذَابٌ فَنَبَّهَ عَلَى مَا يَدْفَعُ الظُّلْمَ فَقَالَ: لَا يُعَذِّبُ إِلَّا عَنْ ذَنْبٍ، وَأَمَّا فِي الْحُسْنَى فَلَمْ يَقُلْ: بِمَا عَمِلُوا لِأَنَّ الثَّوَابَ إِنْ كَانَ لَا عَلَى حَسَنَةٍ يَكُونُ فِي غَايَةِ الْفَضْلِ فَلَا يُخِلُّ بِالْمَعْنَى هَذَا إِذَا قُلْنَا الْحُسْنَى هِيَ الْمَثُوبَةُ بِالْحُسْنَى، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا الْأَعْمَالُ الْحُسْنَى فَفِيهِ لَطِيفَةٌ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهِيَ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا التَّسَاوِي، وَقَالَ فِي أَعْمَالِ الْمُحْسِنِينَ الْحُسْنَى إِشَارَةً إِلَى الْكَرَمِ وَالصَّفْحِ حَيْثُ ذَكَرَ أَحْسَنَ الِاسْمَيْنِ وَالْحُسْنَى صِفَةٌ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بِالْأَعْمَالِ الْحُسْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الْأَعْرَافِ: 180] وَحِينَئِذٍ هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ [العنكبوت: 7] أَيْ يَأْخُذُ أَحْسَنَ أَعْمَالِهِمْ وَيَجْعَلُ ثَوَابَ كُلِّ مَا وُجِدَ مِنْهُمْ لِجَزَاءٍ ذَلِكَ الْأَحْسَنِ أَوْ هِيَ صِفَةُ الْمَثُوبَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْمَثُوبَةِ الْحُسْنَى أَوْ بِالْعَاقِبَةِ الْحُسْنَى أَيْ جَزَاؤُهُمْ حَسْنُ الْعَاقِبَةِ وَهَذَا جَزَاءٌ فَحَسْبُ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الَّتِي هِيَ الْفَضْلُ بَعْدَ الْفَضْلِ فَغَيْرُ داخلة فيه. [سورة النجم (53) : آية 32] الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32)

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ (الَّذِينَ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنِ الَّذِينَ أَحْسَنُوا وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا، وَيَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْمُحْسِنَ لَيْسَ يَنْفَعُ اللَّهَ بِإِحْسَانِهِ شَيْئًا وَهُوَ الَّذِي لَا يُسِيءُ وَلَا يَرْتَكِبُ الْقَبِيحَ الَّذِي هُوَ سَيِّئَةٌ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ رَبِّهِ فَالَّذِينَ أَحْسَنُوا هُمُ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا وَلَهُمُ الْحُسْنَى، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ الْمُسِيءُ وَالْمُحْسِنُ لِأَنَّ مَنْ لَا يَجْتَنِبُ كَبَائِرَ الْإِثْمِ يَكُونُ مُسِيئًا وَالَّذِي يَجْتَنِبُهَا يَكُونُ مُحْسِنًا، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهُوَ أَنَّ الْمُحْسِنَ لَمَّا كَانَ هُوَ مَنْ يَجْتَنِبُ الْآثَامَ فَالَّذِي يَأْتِي بِالنَّوَافِلِ يَكُونُ فَوْقَ الْمُحْسِنِ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ الْمُحْسِنَ بِالزِّيَادَةِ فَالَّذِي فَوْقَهُ يَكُونُ لَهُ زِيَادَاتٌ فَوْقَهَا وَهُمُ الَّذِينَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ تَقْدِيرُهُ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمْ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ وَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَ مَا قَبْلَهَا مُبَيِّنَةً لِحَالِ الْمُسِيءِ وَالْمُحْسِنِ وَحَالِ مَنْ لم يحسن ولم يسيء وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَرْتَكِبُوا سَيِّئَةً وَإِنْ لَمْ تَصْدُرْ مِنْهُمُ الْحَسَنَاتُ، وَهُمْ كَالصِّبْيَانِ الَّذِينَ لَمْ يُوجَدُ فِيهِمْ شَرَائِطُ التَّكْلِيفِ وَلَهُمُ الْغُفْرَانُ وَهُوَ دُونَ الْحُسْنَى، وَيَظْهَرُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ أَيْ يَعْلَمُ الْحَالَةَ الَّتِي لَا إِحْسَانَ فِيهَا وَلَا/ إِسَاءَةَ، كَمَا عَلِمَ مَنْ أَسَاءَ وَضَلَّ وَمَنْ أَحْسَنَ وَاهْتَدَى، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِذَا كَانَ بَدَلًا عَنِ الَّذِينَ أَحْسَنُوا فَلِمَ خَالَفَ مَا بَعْدَهُ بِالْمُضِيِّ وَالِاسْتِقْبَالِ حَيْثُ قَالَ تعالى: الَّذِينَ أَحْسَنُوا [النجم: 31] وَقَالَ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ وَلَمْ يَقُلِ اجْتَنَبُوا؟ نَقُولُ: هُوَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ الَّذِينَ سَأَلُونِي أَعْطَيْتُهُمْ، الَّذِينَ يَتَرَدَّدُونَ إِلَيَّ سَائِلِينَ أَيِ الَّذِينَ عَادَتُهُمُ التَّرَدُّدُ وَالسُّؤَالُ سَأَلُونِي وَأَعْطَيْتُهُمْ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا قَالَ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ أَيِ الَّذِينَ عَادَتُهُمْ وَدَأْبُهُمُ الِاجْتِنَابُ لَا الَّذِينَ اجْتَنَبُوا مَرَّةً وَقَدِمُوا عَلَيْهَا أُخْرَى، فَإِنْ قِيلَ: فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ قَالَ فِي الْكَبَائِرِ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ، وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشُّورَى: 37] وَقَالَ فِي عُبَّادِ الطَّاغُوتِ: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ [الزُّمَرِ: 17] فَمَا الْفَرْقُ؟ نَقُولُ: عِبَادَةُ الطَّاغُوتِ رَاجِعَةٌ إِلَى الِاعْتِقَادِ وَالِاعْتِقَادُ إِذَا وُجِدَ دَامَ ظَاهِرًا فَمَنِ اجْتَنَبَهَا اعْتَقَدَ بُطْلَانَهَا فَيَسْتَمِرُّ، وَأَمَّا مَثَلُ الشُّرْبِ وَالزِّنَا أَمْرٌ يَخْتَلِفُ أَحْوَالُ النَّاسِ فِيهِ فَيَتْرُكُهُ زَمَانًا وَيَعُودُ إِلَيْهِ وَلِهَذَا يُسْتَبْرَأُ الْفَاسِقُ إِذَا تَابَ وَلَا يُسْتَبْرَأُ الْكَافِرُ إِذَا أَسْلَمَ، فَقَالَ فِي الْآثَامِ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ دَائِمًا، وَيُثَابِرُونَ عَلَى التَّرْكِ أَبَدًا، وفي عبادة الأصنام: فَاجْتَنِبُوا بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى الْحُصُولِ، وَلِأَنَّ كَبَائِرَ الْإِثْمِ لَهَا عَدَدُ أَنْوَاعٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَ عَنْ نَوْعٍ وَيَجْتَنِبَ عَنْ آخَرَ وَيَجْتَنِبَ عَنْ ثَالِثٍ فَفِيهِ تَكَرُّرٌ وَتَجَدُّدٌ فَاسْتُعْمِلَ فِيهِ صِيغَةُ الِاسْتِقْبَالِ، وَعِبَادَةُ الصَّنَمِ أَمْرٌ وَاحِدٌ مُتَّحِدٌ، فَتَرَكَ فِيهِ ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالَ وَأَتَى بِصِيغَةٍ الْمَاضِي الدَّالَّةِ عَلَى وُقُوعِ الِاجْتِنَابِ لَهَا دُفْعَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْكَبَائِرُ جَمْعُ كَبِيرَةٍ وَهِيَ صِفَةٌ فَمَا الْمَوْصُوفُ؟ نَقُولُ: هِيَ صِفَةُ الْفِعْلَةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: الْفِعْلَاتُ الْكَبَائِرُ مِنَ الْإِثْمِ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا بَالُ اخْتِصَاصِ الْكَبِيرَةِ بِالذُّنُوبِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: الْفِعْلَةُ الْكَبِيرَةُ الْحَسَنَةُ لَا يَمْنَعُهُ مَانِعٌ؟ نَقُولُ: الْحَسَنَةُ لَا تَكُونُ كَبِيرَةً لِأَنَّهَا إِذَا قُوبِلَتْ بِمَا يَجِبُ أَنْ يُوجَدَ مِنَ الْعَبْدِ فِي مُقَابَلَةِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى تَكُونُ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ يَقْبَلُهَا لَكَانَتْ هَبَاءً لَكِنَّ السَّيِّئَةَ مِنَ الْعَبْدِ الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ كَبِيرَةٌ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ لَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ عِبَادَتِهِ سَيِّئَةً، وَلَكِنَّ اللَّهَ غَفَرَ بَعْضَ السَّيِّئَاتِ وَخَفَّفَ بَعْضَهَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا ذُكِرَ الْكَبَائِرُ فَمَا الْفَوَاحِشُ بَعْدَهَا؟ نَقُولُ: الْكَبَائِرُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِيهَا مِنْ مِقْدَارِ السَّيِّئَةِ، وَالْفَوَاحِشُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِيهَا مِنْ وَصْفِ الْقُبْحِ كَأَنَّهُ قَالَ: عَظِيمَةُ الْمَقَادِيرِ قَبِيحَةُ الصُّوَرِ، وَالْفَاحِشُ فِي اللُّغَةِ مُخْتَصٌّ بِالْقَبِيحِ الْخَارِجِ قُبْحُهُ عَنْ حَدِّ الْخَفَاءِ وَتَرْكِيبُ الْحُرُوفِ فِي التَّقَالِيبِ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّكَ إِذَا قَلَبْتَهَا وَقُلْتَ: حَشَفَ كَانَ فِيهِ مَعْنَى الرَّدَاءَةِ الخارجة عن الحد، ويقال: فشحت النَّاقَةُ إِذَا وَقَفَتْ عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ لِلْبَوْلِ فَالْفُحْشُ يُلَازِمُهُ الْقُبْحُ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلِ: الْفَوَاحِشُ مِنَ الْإِثْمِ وَقَالَ فِي الْكَبَائِرِ: كَبائِرَ الْإِثْمِ لِأَنَّ الْكَبَائِرَ إِنْ لَمْ يُمَيِّزْهَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْإِثْمِ لَمَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِخِلَافِ الْفَوَاحِشِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: كَثُرَتِ الْأَقَاوِيلُ فِي الْكَبَائِرِ وَالْفَوَاحِشِ، فَقِيلَ: الْكَبَائِرُ مَا أَوْعَدَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ/ صَرِيحًا وَظَاهِرًا، وَالْفَوَاحِشُ مَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ حَدًّا فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: الْكَبَائِرُ مَا يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهُ، وَقِيلَ: الكبائر مالا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفَاعِلِهِ إِلَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَكُلُّ هَذِهِ التَّعْرِيفَاتِ تَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ فِي الْخَفَاءِ أَوْ فَوْقَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَبَائِرَ هِيَ الَّتِي مِقْدَارُهَا عَظِيمٌ، وَالْفَوَاحِشَ هِيَ الَّتِي قُبْحُهَا وَاضِحٌ فَالْكَبِيرَةُ صِفَةٌ عَائِدَةٌ إِلَى الْمِقْدَارِ، وَالْفَاحِشَةُ صِفَةٌ عَائِدَةٌ إِلَى الْكَيْفِيَّةِ، كَمَا يُقَالُ مَثَلًا: فِي الْأَبْرَصِ عَلَتْهُ بَيَاضُ لَطْخَةٍ كَبِيرَةٍ ظَاهِرَةِ اللَّوْنِ فَالْكَبِيرَةُ لِبَيَانِ الْكِمِّيَّةِ وَالظُّهُورُ لِبَيَانِ الْكَيْفِيَّةِ وَعَلَى هَذَا فَنَقُولُ عَلَى مَا قُلْنَا: إِنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ أَنْ تَكُونَ كَبِيرَةً، لِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ كَثِيرَةٌ وَمُخَالَفَةَ الْمُنْعِمِ سَيِّئَةٌ عَظِيمَةٌ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَطَّ عَنْ عِبَادِهِ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ لِأَنَّهُمَا لَا يَدُلَّانِ عَلَى تَرْكِ التَّعْظِيمِ، إِمَّا لِعُمُومِهِ فِي الْعِبَادِ أَوْ لِكَثْرَةِ وَجُودِهِ مِنْهُمْ كَالْكَذِبَةِ وَالْغِيبَةِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ وَالنَّظْرَةِ وَالْقَبَائِحِ الَّتِي فِيهَا شُبْهَةٌ، فَإِنَّ الْمُجْتَنِبَ عَنْهَا قَلِيلٌ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ، وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّ اسْتِمَاعَ الْغِنَاءِ الَّذِي مَعَ الْأَوْتَارِ يُفَسَّقُ بِهِ، وَإِنِ اسْتَمَعَهُ مِنْ أَهْلِ بَلْدَةٍ لا يعتدون أَمْرَ ذَلِكَ لَا يُفَسَّقُ فَعَادَتِ الصَّغِيرَةُ إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْعُقَلَاءَ إِنْ لَمْ يُعِدُّوهُ تَارِكًا لِلتَّعْظِيمِ لَا يَكُونُ مُرْتَكِبًا لِلْكَبِيرَةِ، وَعَلَى هَذَا تَخْتَلِفُ الْأُمُورُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَشْخَاصِ فَالْعَالِمُ الْمُتَّقِي إِذَا كَانَ يَتْبَعُ النِّسَاءَ أَوْ يُكْثِرُ مِنَ اللَّعِبِ يَكُونُ مُرْتَكِبًا لِلْكَبِيرَةِ، وَالدَّلَّالُ وَالْبَاعَةُ وَالْمُتَفَرِّغُ الَّذِي لَا شُغْلَ لَهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ اللَّعِبُ وَقْتَ الصَّلَاةِ، وَاللَّعِبُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَعَلَى هَذَا كُلُّ ذَنْبٍ كَبِيرَةٌ إِلَّا مَا عَلِمَ الْمُكَلَّفُ أَوْ ظَنَّ خُرُوجَهُ بِفَضْلِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ عَنِ الْكَبَائِرِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي اللَّمَمِ وَفِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: مَا يَقْصِدُهُ الْمُؤْمِنُ وَلَا يُحَقِّقُهُ وَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ لَمَّ يَلُمُّ إِذَا جَمَعَ فَكَأَنَّهُ جَمَعَ عَزْمَهُ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ وَثَانِيهَا: مَا يَأْتِي بِهِ الْمُؤْمِنُ وَيَنْدَمُ فِي الْحَالِ وَهُوَ مِنَ اللَّمَمِ الَّذِي هُوَ مَسٌّ مِنَ الْجُنُونِ كَأَنَّهُ مَسَّهُ وَفَارَقَهُ وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمران: 135] ثَالِثُهَا: اللَّمَمُ الصَّغِيرُ مِنَ الذَّنْبِ مِنْ أَلَمَّ إِذَا نَزَلَ نُزُولًا مِنْ غَيْرِ لُبْثٍ طَوِيلٍ، وَيُقَالُ: أَلَمَّ بِالطَّعَامِ إِذَا قَلَّلَ مِنْ أَكْلِهِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: إِلَّا اللَّمَمَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْفَوَاحِشِ وَحِينَئِذٍ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ اللَّمَمَ لَيْسَ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَثَانِيهِمَا: غَيْرُ مُنْقَطِعٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ إِذَا نُظِرَتْ إِلَى جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ فَهِيَ كَبِيرَةٌ وَفَاحِشَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً [الْأَعْرَافِ: 28] غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَى مِنْهَا أُمُورًا يُقَالُ: الْفَوَاحِشُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا وَوَعَدَنَا بِالْعَفْوِ عَنْهُ ثَانِيهَا: إِلَّا بِمَعْنَى غَيْرَ وَتَقْدِيرُهُ وَالْفَوَاحِشَ غَيْرَ اللَّمَمِ وَهَذَا لِلْوَصْفِ إِنْ كَانَ لِلتَّمْيِيزِ كَمَا يُقَالُ: الرِّجَالُ غَيْرُ أُولِي الْإِرْبَةِ فَاللَّمَمُ عَيْنُ الْفَاحِشَةِ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ كَمَا يُقَالُ الرِّجَالُ غَيْرُ النِّسَاءِ جَاءُونِي لِتَأْكِيدٍ وَبَيَانٍ فَلَا وَثَالِثُهَا: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ من الفعل الذي يدل عليه قوله تعالى:

الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَقْرَبُونَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَقْرَبُونَهُ إِلَّا مقاربة من غير مواقعة وهو اللمم. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ وَذَلِكَ عَلَى قَوْلِنَا: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، لِأَنَّ الْمُحْسِنَ مُجْزَى وَذَنْبُهُ مَغْفُورٌ، وَمُجْتَنِبَ الْكَبَائِرِ كَذَلِكَ ذَنَبُهُ الصَّغِيرُ مَغْفُورٌ، وَالْمُقْدِمُ عَلَى الْكَبَائِرِ إِذَا تَابَ مَغْفُورُ الذَّنْبِ، فَلَمْ يَبْقَ مِمَّنْ لَمْ تَصِلُ إِلَيْهِمْ مَغْفِرَةٌ إلا الذين أساؤا وَأَصَرُّوا عَلَيْهَا، فَالْمَغْفِرَةُ وَاسِعَةٌ وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ لَطِيفٌ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْرَجَ الْمُسِيءَ عَنِ الْمَغْفِرَةِ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِضِيقٍ فِيهَا، بَلْ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ مَغْفِرَةَ كُلِّ مَنْ أَحْسَنَ وَأَسَاءَ لَفَعَلَ، وَمَا كَانَ يَضِيقُ عَنْهُمْ مَغْفِرَتُهُ، وَالْمَغْفِرَةُ مِنَ السَّتْرِ، وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى قَبِيحٍ، وَكُلُّ مَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ إِذَا نَظَرْتَ فِي فِعْلِهِ، وَنِسْبَتِهِ إِلَى نِعَمِ اللَّهِ تَجِدُهُ مُقَصِّرًا مُسِيئًا، فَإِنَّ مَنْ جَازَى الْمُنْعِمَ بِنِعَمٍ لَا تُحْصَى مَعَ اسْتِغْنَائِهِ الظَّاهِرِ، وَعَظَمَتِهِ الْوَاضِحَةِ بِدِرْهَمٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ يَحْتَاجُ إِلَى سَتْرِ مَا فَعَلَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى وَفِي الْمُنَاسَبَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: هُوَ تَقْرِيرٌ لِمَا مَرَّ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ [النجم: 30] كَأَنَّ الْعَامِلَ مِنَ الْكُفَّارِ يَقُولُ: نَحْنُ نَعْمَلُ أُمُورًا فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، وَفِي الْبَيْتِ الْخَالِي فَكَيْفَ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى؟ فَقَالَ: لَيْسَ عَمَلُكُمْ أَخْفَى مِنْ أَحْوَالِكُمْ وَأَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ، وَاللَّهُ عَالِمٌ بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ ثَانِيهَا: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الضَّالِّ وَالْمُهْتَدِي حَصَلَا عَلَى مَا هُمَا عَلَيْهِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْحَقَّ عَلِمَ أَحْوَالَهُمْ وَهُمْ فِي بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ، فَكَتَبَ عَلَى الْبَعْضِ أَنَّهُ ضَالٌّ، وَالْبَعْضِ أَنَّهُ مُهْتَدٍ ثَالِثُهَا: تَأْكِيدٌ وَبَيَانٌ لِلْجَزَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا قال: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا [النجم: 31] قَالَ الْكَافِرُونَ: هَذَا الْجَزَاءُ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالْحَشْرِ، وَجَمْعُ الْأَجْزَاءِ بَعْدَ تَفَرُّقِهَا وَإِعَادَةُ مَا كَانَ لِزَيْدٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ فِي بَدَنِهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَاطٍ غَيْرِ مُمْكِنٍ، فَقَالَ تَعَالَى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ فَيَجْمَعُهَا بِقُدْرَتِهِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ كَمَا أَنْشَأَكُمْ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَامِلُ فِي: إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ: أَعْلَمُ أَيْ عَلِمَكُمْ وَقْتَ الْإِنْشَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اذْكُرُوا فَيَكُونُ تَقْرِيرًا لِكَوْنِهِ عَالِمًا وَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ وَقَدْ تَمَّ الْكَلَامُ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ عِلْمِهِ بِكُمْ فَاذْكُرُوا حَالَ إِنْشَائِكُمْ مِنَ التُّرَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ الْأَرْضِ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ آدَمُ فَإِنَّهُ مِنْ تُرَابٍ، وَقَرَّرْنَا أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ أَصْلُهُ مِنَ التُّرَابِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ غِذَاءً، ثُمَّ يَصِيرُ نُطْفَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ: لَا بُدَّ مِنْ صَرْفِ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى آدَمَ، لِأَنَّ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ جَنِينًا، وَلَوْ قُلْتَ بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى/ إِذْ أَنْشَأَكُمْ عَائِدٌ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ النَّاسِ أَجِنَّةً فِي بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ؟ نَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْخِطَابُ مَعَ الْمَوْجُودِينَ حَالَةَ الْخِطَابِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ خِطَابٌ مَعَ كُلِّ مَنْ بَعْدَ الْإِنْزَالِ عَلَى قَوْلٍ، وَمَعَ مَنْ حَضَرَ وَقْتَ الْإِنْزَالِ عَلَى قَوْلٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْأَرْضِ وَهُمْ كَانُوا أَجِنَّةً. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْأَجِنَّةُ هُمُ الَّذِينَ فِي بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ، وَبَعْدَ الْخُرُوجِ لَا يُسَمَّى إِلَّا وَلَدًا أَوْ سَقْطًا، فما فائدة

[سورة النجم (53) : الآيات 33 إلى 35]

قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ؟ نَقُولُ: التَّنْبِيهُ عَلَى كَمَالِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، فَإِنَّ بَطْنَ الْأُمِّ فِي غَايَةِ الظُّلْمَةِ، وَمَنْ عَلِمَ بِحَالِ الْجَنِينِ فِيهَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا ظَهَرَ مِنْ حَالِ الْعِبَادِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذَا قُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ تَقْرِيرٌ لِكَوْنِهِ عَالِمًا بِمَنْ ضَلَّ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ تَعَلُّقُهُ بِهِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ تَأْكِيدٌ وَبَيَانٌ لِلْجَزَاءِ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ الْأَجْزَاءَ فَيُعِيدُهَا إِلَى أَبْدَانِ أَشْخَاصِهَا، فَكَيْفَ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ؟ نَقُولُ: مَعْنَاهُ حِينَئِذٍ فَلَا تُبْرِئُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَلَا تَقُولُوا تَفَرَّقَتِ الْأَجْزَاءُ فَلَا يَقَعُ الْعَذَابُ، لِأَنَّ الْعَالِمَ بِكُمْ عِنْدَ الْإِنْشَاءِ عَالِمٌ بِكُمْ عِنْدَ الْإِعَادَةِ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى أَيْ يَعْلَمُ أَجْزَاءَهُ فَيُعِيدُهَا إِلَيْهِ، وَيُثِيبُهُ بِمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْخِطَابُ مَعَ مَنْ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ احْتِمَالَاتٍ الْأَوَّلُ: مَعَ الْكُفَّارِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِنَا إِنَّهُمْ قَالُوا كَيْفَ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، فَرُدَّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُمُ الثَّانِي كُلُّ مَنْ كَانَ زَمَانَ الْخِطَابِ وَبَعْدَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ الثَّالِثُ هُوَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَقْرِيرُهُ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا [النَّجْمِ: 29] قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ عُلِمَ كَوْنُكَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْحَقِّ، وَكَوْنُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْبَاطِلِ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَلَا تَقُولُوا: نَحْنُ عَلَى الْحَقِّ وَأَنْتُمْ عَلَى الضَّلَالِ، لِأَنَّهُمْ يُقَابِلُونَكُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَفَوِّضِ الْأَمْرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى وَمَنْ طَغَى، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُ مَنْ قَالَ: فَأَعْرِضْ مَنْسُوخٌ أَظْهَرُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سَبَأٍ: 24] وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِجُمْلَةِ الْأُمُورِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّالِثِ إِنَّهُ إِرْشَادٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَخَاطَبَهُمُ اللَّهُ وَقَالَ: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، عَلِمَ مَا لَكَمَ مِنْ أَوَّلِ خَلْقِكُمْ إِلَى آخِرِ يَوْمِكُمْ، فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ رِيَاءً وَخُيَلَاءَ، وَلَا تَقُولُوا لِآخَرَ أَنَا خَيْرٌ مِنْكَ وَأَنَا أَزْكَى مِنْكَ وَأَتْقَى، فَإِنَّ الْأَمْرَ عِنْدَ اللَّهِ، وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى وُجُوبِ الْخَوْفِ مِنَ الْعَاقِبَةِ، أَيْ لَا تَقْطَعُوا بِخَلَاصِكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ عَاقِبَةَ مَنْ يَكُونُ عَلَى التُّقَى، وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شاء الله للصرف إلى العاقبة ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 33 الى 35] أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ جَلَسَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَ وَعْظَهُ، وَأَثَّرَتِ الْحِكْمَةُ فِيهِ تَأْثِيرًا قَوِيًّا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: لِمَ تَتْرُكُ دِينَ آبَائِكَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: لَا تَخَفْ وَأَعْطِنِي كَذَا وَأَنَا أَتَحَمَّلُ عَنْكَ أَوْزَارَكَ، فَأَعْطَاهُ بَعْضَ مَا الْتَزَمَهُ، وَتَوَلَّى عَنِ الْوَعْظِ وَسَمَاعِ الْكَلَامِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ يُعْطِي مَالَهُ عَطَاءً كَثِيرًا، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ مِنْ أُمِّهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ: يُوشِكُ أَنْ يَفْنَى مَالُكَ فَأَمْسِكْ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: إِنَّ لِي ذُنُوبًا أَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي بِسَبَبِ الْعَطَاءِ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ: أَنَا أَتَحَمَّلُ عَنْكَ ذُنُوبَكَ إِنْ تُعْطِي نَاقَتَكَ مَعَ كَذَا، فَأَعْطَاهُ مَا طَلَبَ وَأَمْسَكَ يَدَهُ عَنِ الْعَطَاءِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ لَا يَجُوزُ ذِكْرُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَاتَرْ ذَلِكَ وَلَا اشْتُهِرَ، وَظَاهِرُ حَالِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْبَى ذَلِكَ، بَلِ الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَبْلُ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا

[النَّجْمِ: 29] وَكَانَ التَّوَلِّي مِنْ جُمْلَةِ أَنْوَاعِهِ تَوَلِّي الْمُسْتَغْنِي، فَإِنَّ الْعَالِمَ بِالشَّيْءِ لَا يَحْضُرُ مَجَالِسَ ذِكْرِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَيَسْعَى فِي تَحْصِيلِ غَيْرِهِ، فَقَالَ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى عَنِ اسْتِغْنَاءٍ، أَعَلِمَ بِالْغَيْبِ؟. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفَاءُ تَقْتَضِي كَلَامًا يَتَرَتَّبُ هَذَا عَلَيْهِ، فَمَاذَا هُوَ؟ نَقُولُ: هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَوَعْدِهِ الْمُسِيءَ وَالْمُحْسِنَ بِالْجَزَاءِ وَتَقْدِيرُهُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْجَزَاءَ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ عَلَى الْإِسَاءَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَأَنَّ الْمُحْسِنَ هُوَ الَّذِي يَجْتَنِبُ كَبَائِرَ الْإِثْمِ، فَلَمْ يَكُنِ الْإِنْسَانُ مُسْتَغْنِيًا عَنْ سَمَاعِ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتْبَاعِهِ، فَبَعْدَ هَذَا مَنْ تَوَلَّى لَا يَكُونُ تَوَلِّيهِ إِلَّا بَعْدَ غَايَةِ الْحَاجَةِ وَنِهَايَةِ الِافْتِقَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِي عَلَى مَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ، وَهُوَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَهُوَ الْوَلِيدُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَذْكُورٍ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ مِنْ قَبْلُ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَهُوَ الْمَعْلُومُ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِعْرَاضِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِوَاحِدٍ مِنَ الْمُعَانِدِينَ فَقَالَ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى أَيِ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ، فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ الَّذِينَ تَوَلَّوْا، لِأَنَّ (من) في قوله: عَنْ مَنْ تَوَلَّى لِلْعُمُومِ؟ نَقُولُ: الْعَوْدُ إِلَى اللَّفْظِ كَثِيرٌ شَائِعٌ قال تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ [القصص: 84] وَلَمْ يَقُلْ فَلَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَعْطى قَلِيلًا مَا الْمُرَادُ مِنْهُ؟ نَقُولُ: عَلَى مَا تَقَدَّمَ هُوَ الْمِقْدَارُ الَّذِي أَعْطَاهُ الْوَلِيدُ، وَقَوْلُهُ: وَأَكْدى هُوَ مَا أَمْسَكَ عَنْهُ وَلَمْ يُعْطِ الْكُلَّ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ إِنَّ الْإِكْدَاءَ لَا يَكُونُ مَذْمُومًا لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَالِامْتِنَاعُ لَا يُذَمُّ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا فَلَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ قَلِيلًا فَائِدَةٌ، لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ حِينَئِذٍ نَفْسَهُ يَكُونُ مَذْمُومًا، نَقُولُ فِيهِ بَيَانُ خُرُوجِهِمْ عَنِ الْعَقْلِ وَالْعُرْفِ/ أَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّهُ مَنَعَ مِنَ الْإِعْطَاءِ لِأَجْلِ حَمْلِ الْوِزْرِ، فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ، وَأَمَّا الْعُرْفُ فَلِأَنَّ عَادَةَ الْكِرَامِ مِنَ الْعَرَبِ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، وَهُوَ لَمْ يَفِ بِهِ حَيْثُ الْتَزَمَ الْإِعْطَاءَ وَامْتَنَعَ، وَالَّذِي يَلِيقُ بِمَا ذَكَرْنَا هُوَ أَنْ نَقُولَ: تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، يَعْنِي إِعْطَاءَ مَا وَجَبَ إِعْطَاؤُهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا يَجِبُ لِإِصْلَاحِ أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَيَقَعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [النَّجْمِ: 30] أَيْ لَمْ يَعْلَمِ الْغَيْبَ وَمَا فِي الْآخِرَةِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [النَّجْمِ: 36- 38] فِي مُقَابَلَةِ قوله: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ إلى قوله: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا [النَّجْمِ: 30، 31] لِأَنَّ الْكَلَامَيْنِ جَمِيعًا لِبَيَانِ الْجَزَاءِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ الْعَابِدِينَ لِلَّاتِ وَالْعُزَّى وَالْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أهل الكتاب، وقال بعد ما رَأَيْتَ حَالَ الْمُشْرِكِ الَّذِي تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا، أَفَرَأَيْتَ حَالَ مَنْ تَوَلَّى وَلَهُ كِتَابٌ وَأَعْطَى قَلِيلًا مِنَ الزَّمَانِ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا بَلَغَ زَمَانَ مُحَمَّدٍ أَكْدَى فَهَلْ عَلِمَ الْغَيْبَ فَقَالَ شَيْئًا لَمْ يَرِدْ فِي كُتُبِهِمْ وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِمْ فِي الصُّحُفِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَوَجَدَ فِيهَا بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُؤَاخَذُ بِفِعْلِهِ وَيُجَازَى بِعَمَلِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى يُخْبِرُ أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ الْمَذْكُورَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَكْدى قِيلَ هُوَ مَنْ بَلَغَ الْكُدْيَةَ وَهِيَ الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ لَا تُحْفَرُ، وَحَافِرُ الْبِئْرِ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهَا فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ الْحَفْرُ أَوْ تَعَسَّرَ يُقَالُ: أَكْدَى الْحَافِرُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ الرَّدُّ وَالْمَنْعُ يُقَالُ: أَكْدَيْتُهُ أَيْ رَدَدْتُهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى قَدْ عُلِمَ تَفْسِيرُهُ جُمْلَةً أَنَّ الْمُرَادَ جَهْلُ الْمُتَوَلِّي وَحَاجَتُهُ وَبَيَانُ قُبْحِ التَّوَلِّي مَعَ الْحَاجَةِ إِلَى الْإِقْبَالِ وَعِلْمُ الْغَيْبِ، أَيِ الْعِلْمُ بِالْغَيْبِ، أَيْ عِلْمُ مَا هُوَ غَائِبٌ عَنِ الْخَلْقِ وَقَوْلُهُ: فَهُوَ يَرى تَتِمَّةُ بَيَانِ وَقْتَ جَوَازِ التَّوَلِّي وَهُوَ حُصُولُ الرُّؤْيَةِ وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي لَا يَنْفَعُ الْإِيمَانُ فِيهِ، وَهُنَاكَ لَا يَبْقَى وُجُوبُ

[سورة النجم (53) : الآيات 36 إلى 39]

مُتَابَعَةِ أَحَدٍ فِيمَا رَآهُ، لِأَنَّ الْهَادِيَ يَهْدِي إِلَى الطَّرِيقِ فَإِذَا رَأَى الْمُهْتَدِي مَقْصِدَهُ بِعَيْنِهِ لَا يَنْفِيهِ السَّمَاعُ، فَقَالَ تَعَالَى: هَلْ عَلِمَ الْغَيْبَ بِحَيْثُ رَآهُ فَلَا يَكُونُ عِلْمُهُ عِلْمًا نَظَرِيًّا بَلْ عِلْمًا بَصَرِيًّا فَعَصَى فَتَوَلَّى وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَهُوَ يَرى يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ يَرى هُوَ احْتِمَالُ الْوَاحِدِ وِزْرَ الْآخَرِ كَأَنَّهُ قَالَ فَهُوَ يَرَى أَنَّ وِزْرَهُ مَحْمُولٌ أَلَمْ يَسْمَعْ أَنَّ وِزْرَهُ غَيْرُ مَحْمُولٍ فَهُوَ عَالِمٌ بِالْحِمْلِ وَغَافِلٌ عَنْ عَدَمِ الْحِمْلِ لِيَكُونَ مَعْذُورًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَفْعُولٌ تَقْدِيرُهُ فَهُوَ يَرَى رَأْيَ نَظَرٍ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى هاد ونذير. [سورة النجم (53) : الآيات 36 الى 39] أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ مَا سَعى (39) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى حَالٌ أُخْرَى مُضَادَّةٌ لِلْأُولَى يُعْذَرُ فِيهَا الْمُتَوَلِّي وَهُوَ الْجَهْلُ الْمُطْلَقُ فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ الشَّيْءَ عِلْمًا تَامًّا لَا يُؤْمَرُ بِتَعَلُّمِهِ، وَالَّذِي جَهِلَهُ جَهْلًا مُطْلَقًا وَهُوَ الْغَافِلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَالنَّائِمِ أَيْضًا لَا يُؤْمَرُ فَقَالَ: هَذَا الْمُتَوَلِّي هَلْ عَلِمَ الْكُلَّ فَجَازَ لَهُ التَّوَلِّي/ أَوَلَمْ يَسْمَعْ شَيْئًا وَمَا بَلَغَهُ دَعْوَةٌ أَصْلًا فَيُعْذَرُ، وَلَا وَاحِدٌ مِنَ الْأَمْرَيْنِ بِكَائِنٍ فَهُوَ فِي التَّوَلِّي غَيْرُ مَعْذُورٍ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: بِما فِي يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا فِيهَا لَا بِصِفَةِ كَوْنِهِ فِيهَا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِالتَّوْحِيدِ وَالْحَشْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ أُمُورٌ مَذْكُورَةٌ فِي صُحُفِ موسى، مثاله: يَقُولُ الْقَائِلُ لِمَنْ تَوَضَّأَ بِغَيْرِ الْمَاءِ تَوَضَّأْ بِمَا تَوَضَّأَ بِهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى هَذَا فَالْكَلَامُ مَعَ الْكُلِّ لِأَنَّ الْمُشْرِكَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ نَبَّأَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا فِي الصُّحُفِ مَعَ كَوْنِهِ فِيهَا، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمِثَالِ تَوَضَّأْ بِمَا فِي الْقِرْبَةِ لَا بِمَا فِي الْجَرَّةِ فَيُرِيدُ عَيْنَ ذَلِكَ لَا جِنْسَهُ وَعَلَى هَذَا فَالْكَلَامُ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ نَبَّئُوا بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: صُحُفُ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ، هَلْ جَمَعَهَا لِكَوْنِهَا صُحُفًا كَثِيرَةً أَوْ لِكَوْنِهَا مُضَافَةً إِلَى اثْنَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيمِ: 4] ؟ الظَّاهِرُ أَنَّهَا كَثِيرَةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَخَذَ الْأَلْواحَ [الْأَعْرَافِ: 154] وَقَالَ تَعَالَى: وَأَلْقَى الْأَلْواحَ [الْأَعْرَافِ: 150] وَكُلُّ لَوْحٍ صَحِيفَةٌ. المسألة الثالثة: ما المراد بالذي فِيهَا؟ نَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ أَنَّ بِالْفَتْحِ وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ يَكْسِرُ وَيَقُولُ: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النَّجْمِ: 42] ففيه وجوه أحدها: هو ما ذكره بقوله: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَإِنَّمَا احْتَمَلَ غَيْرَهُ، لِأَنَّ صُحُفَ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ لَيْسَ فِيهَا هَذَا فَقَطْ، وَلَيْسَ هَذَا مُعْظَمَ الْمَقْصُودِ بِخِلَافِ قِرَاءَةِ الْفَتْحِ، فَإِنَّ فِيهَا تَكُونُ جَمِيعُ الْأُصُولِ عَلَى مَا بُيِّنَ ثَانِيهَا: هُوَ أَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ مِنَ الْأُولَى يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الْأَعْلَى: 18، 19] ثَالِثُهَا: أُصُولُ الدِّينِ كُلُّهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ بِأَسْرِهَا، وَلَمْ يُخْلِ اللَّهُ كِتَابًا عَنْهَا، وَلِهَذَا قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَامِ: 90] وَلَيْسَ الْمُرَادُ فِي الْفُرُوعِ، لِأَنَّ فُرُوعَ دِينِهِ مُغَايِرَةٌ لِفُرُوعِ دِينِهِمْ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَدَّمَ مُوسَى هَاهُنَا وَلَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ فِي سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: 1] فَهَلْ فِيهِ فَائِدَةٌ؟ نَقُولُ: مِثْلُ هَذَا فِي كَلَامِ الْفُصَحَاءِ لَا يُطْلَبُ لَهُ فَائِدَةٌ، بَلِ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ سَوَاءٌ فِي كَلَامِهِمْ فَيَصِحُّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ، وَيُمْكِنَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الذِّكْرَ هُنَاكَ لِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ وَالْإِنْذَارِ وَهَاهُنَا الْمَقْصُودُ بَيَانُ انْتِفَاءِ الْأَعْذَارِ، فَذَكَرَ هُنَاكَ عَلَى تَرْتِيبِ الْوُجُودِ صُحُفَ إِبْرَاهِيمَ قَبْلَ صُحُفِ مُوسَى فِي الْإِنْزَالِ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَقَدْ قُلْنَا إِنَّ الْكَلَامَ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمُ الْيَهُودُ فَقَدَّمَ كِتَابَهُمْ، وَإِنْ قُلْنَا الْخِطَابُ عَامٌّ فَصُحُفُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ كَثِيرَةَ الْوُجُودِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ انْظُرُوا فِيهَا تَعْلَمُوا أَنَّ الرِّسَالَةَ حَقٌّ، وَأُرْسِلَ مِنْ قَبْلِ مُوسَى رُسُلٌ وَالتَّوْحِيدُ صِدْقٌ وَالْحَشْرُ وَاقِعٌ فَلَمَّا كَانَتْ صُحُفُ مُوسَى عِنْدَ الْيَهُودِ كَثِيرَةَ الْوُجُودِ قَدَّمَهَا، وَأَمَّا صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فَكَانَتْ بَعِيدَةً وَكَانَتِ الْمَوَاعِظُ الَّتِي فِيهَا غَيْرَ مَشْهُورَةٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ كَصُحُفِ مُوسَى فَأَخَّرَ ذِكْرَهَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: كَثِيرًا مَا ذَكَرَ اللَّهُ مُوسَى فَأَخَّرَ ذِكْرَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ كَانَ مُبْتَلَى فِي/ أَكْثَرِ الْأَمْرِ بِمَنْ حَوَالَيْهِ وَهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ وَمُتَهَوِّدِينَ وَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يُعَظِّمُونَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِكَوْنِهِ أَبَاهُمْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفَّى فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْوَفَاءُ الَّذِي يُذْكَرُ فِي الْعُهُودِ وَعَلَى هَذَا فَالتَّشْدِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ يُقَالُ وَفَى وَوَفَّى كَقَطَعَ وَقَطَّعَ وَقَتَلَ وَقَتَّلَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ وَفَّى بِالنَّذْرِ وَأَضْجَعَ ابْنَهُ لِلذَّبْحِ، وَوَرَدَ فِي حَقِّهِ: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا [الصَّافَّاتِ: 105] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [الصَّافَّاتِ: 106] وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ مِنَ التَّوْفِيَةِ الَّتِي من الوفاء وهو التمام والتوفية الإتمام يُقَالُ وَفَّاهُ أَيْ أَعْطَاهُ تَامًّا، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنْ قَوْلُهُ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [الْبَقَرَةِ: 124] وَقِيلَ: وَفَّى أَيْ أَعْطَى حُقُوقَ اللَّهِ فِي بَدَنِهِ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ عَلَى ضِدِّ مَنْ قَالَ تَعَالَى فِيهِ: وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى مَدَحَ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يَصِفْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، نَقُولُ: أَمَّا بَيَانُ تَوْفِيَتِهِ فَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ لَمْ يَعْهَدْ عَهْدًا إِلَّا وَفَّى بِهِ، وَقَالَ لِأَبِيهِ: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [يوسف: 98] فَاسْتَغْفَرَ وَوَفَّى بِالْعَهْدِ وَلَمْ يَغْفِرِ اللَّهُ لَهُ، فعلم أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى وَأَنَّ وِزْرَهُ لَا تَزِرُهُ نَفْسٌ أُخْرَى، وَأَمَّا مَدْحُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلِأَنَّهُ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ كَوْنَهُ وَفِيًّا، وَمُوفِيًا، وَرُبَّمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَوَقَّفُونَ فِي وَصْفِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَالَّذِي يَحْسُنُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: بِما فِي صُحُفِ مُوسى هُوَ مَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ أَلَّا تَزِرُ فَيَكُونُ هَذَا بَدَلًا عَنْ مَا وَتَقْدِيرُهُ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِأَلَّا تَزِرُ وَذَكَرْنَا هُنَاكَ وَجْهَيْنِ أحدهما: المراد أن الآخرة خير وأبقى الأصول. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَلَّا تَزِرُ أَنْ خَفِيفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنَّهُ لَا تَزِرُ وَتَخْفِيفُ الثَّقِيلَةِ لَازِمٌ وَغَيْرُ لَازِمٍ جَائِزٌ وَغَيْرُ جَائِزٍ، فاللازم عند ما يَكُونُ بَعْدَهَا فِعْلٌ أَوْ حَرْفٌ دَاخِلٌ عَلَى فِعْلٍ، وَلَزِمَ فِيهَا التَّخْفِيفُ، لِأَنَّهَا مُشَبَّهَةٌ بِالْفِعْلِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَالْفِعْلُ لَا يُمْكِنُ إِدْخَالُهُ عَلَى فِعْلٍ فَأُخْرِجَ عَنْ شَبَهِ الْفِعْلِ إِلَى صُورَةٍ تَكُونُ حَرْفًا مُخْتَصًّا بِالْفِعْلِ فَتُنَاسِبُ الْفِعْلَ فَتَدْخُلُ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْآيَةُ مَذْكُورَةٌ لِبَيَانِ أَنَّ وِزْرَ الْمُسِيءِ لَا يُحْمَلُ عَنْهُ وَبِهَذَا الْكَلَامِ لَا تَحْصُلُ هَذِهِ الْفَائِدَةُ لِأَنَّ الْوَازِرَةَ تَكُونُ مُثْقَلَةً بِوِزْرِهَا فَيَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهَا لَا تُحْمَلُ شَيْئًا وَلَوْ قَالَ لَا تَحْمِلُ فَارِغَةٌ وِزْرَ أُخْرَى كَانَ أبلغ تقول لَيْسَ كَمَا ظَنَنْتَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْوَازِرَةِ هِيَ الَّتِي يُتَوَقَّعُ مِنْهَا الْوِزْرُ وَالْحِمْلُ لَا الَّتِي وَزَرَتْ

وَحَمَلَتْ كَمَا يُقَالُ: شَقَانِي الْحِمْلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ حِمْلٌ، وَإِذَا لَمْ تَزِرْ تِلْكَ النَّفْسُ الَّتِي يُتَوَقَّعُ مِنْهَا ذَلِكَ فَكَيْفَ تَتَحَمَّلُ وِزْرَ غَيْرِهَا فَتَكُونُ الْفَائِدَةُ كَامِلَةً. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى تَتِمَّةُ بَيَانِ أَحْوَالِ الْمُكَلَّفِ فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ لَهُ/ أَنَّ سَيِّئَتَهُ لَا يَتَحَمَّلُهَا عَنْهُ أَحَدٌ بَيَّنَ لَهُ أَنَّ حَسَنَةَ الْغَيْرِ لَا تُجْدِي نَفْعًا وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ صَالِحًا لَا يَنَالُ خَيْرًا فَيُكْمِلُ بِهَا وَيُظْهِرُ أَنَّ الْمُسِيءَ لَا يَجِدُ بِسَبَبِ حَسَنَةِ الْغَيْرِ ثَوَابًا وَلَا يَتَحَمَّلُ عَنْهُ أَحَدٌ عِقَابًا، وَفِيهِ أَيْضًا مَسَائِلُ: الْأُولَى: لَيْسَ لِلْإِنْسانِ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَامٌّ وَهُوَ الْحَقُّ وَقِيلَ عَلَيْهِ بِأَنَّ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَرِيبُ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصَّوْمِ يَصِلُ إِلَى الْمَيِّتِ وَالدُّعَاءُ أَيْضًا نافع فللإنسان شيء لم يسمع فِيهِ، وَأَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الْأَنْعَامِ: 160] وَهِيَ فَوْقَ مَا سَعَى، الْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنْ لَمْ يَسْعَ فِي أَنْ يَكُونَ لَهُ صَدَقَةُ الْقَرِيبِ بِالْإِيمَانِ لَا يَكُونُ لَهُ صَدَقَتُهُ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَنَقُولُ: اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ الْمُحْسِنَ بِالْأَمْثَالِ وَالْعَشَرَةِ وَبِالْأَضْعَافِ الْمُضَاعَفَةِ فَإِذَا أَتَى بِحَسَنَةٍ رَاجِيًا أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ مَا يَتَفَضَّلُ بِهِ فَقَدْ سَعَى فِي الْأَمْثَالِ، فَإِنْ قِيلَ: أَنْتُمْ إِذَنْ حَمَلْتُمُ السَّعْيَ عَلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى الشَّيْءِ، يُقَالُ: سَعَى فِي كَذَا إِذَا أَسْرَعَ إِلَيْهِ، وَالسَّعْيُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَا سَعى مَعْنَاهُ الْعَمَلُ يُقَالُ: سَعَى فُلَانٌ أَيْ عَمِلَ، وَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرْتُمْ لَقَالَ: إِلَّا مَا سَعَى فِيهِ نَقُولُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا: لَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةٍ فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ لَهُ عَيْنَ مَا سَعَى، بَلِ الْمُرَادُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ لَيْسَ لَهُ إِلَّا ثَوَابُ مَا سَعَى، أَوْ إِلَّا أَجْرُ مَا سَعَى، أَوْ يُقَالُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مَا سَعَى مَحْفُوظٌ لَهُ مَصُونٌ عَنِ الْإِحْبَاطِ فَإِذَنْ لَهُ فِعْلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِنْسَانِ الْكَافِرُ دُونَ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقِيلَ بِأَنَّ قَوْلَهُ: لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى كَانَ فِي شَرْعِ مَنْ تَقَدَّمَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَهُ فِي شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ لِلْإِنْسَانِ مَا سَعَى وَمَا لَمْ يَسْعَ وَهُوَ بَاطِلٌ إِذْ لَا حَاجَةَ إلى هذا التكلف بعد ما بَانَ الْحَقُّ، وَعَلَى مَا ذُكِرَ فَقَوْلُهُ: مَا سَعى مُبْقًى عَلَى حَقِيقَتِهِ مَعْنَاهُ لَهُ عَيْنُ مَا سَعَى مَحْفُوظٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا نُقْصَانَ يَدْخُلُهُ ثُمَّ يُجْزَى بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ (مَا) خَبَرِيَّةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ؟ نَقُولُ: كَوْنُهَا مَصْدَرِيَّةً أَظْهَرُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تعالى: وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أَيْ سَوْفَ يُرَى الْمَسْعِيُّ، وَالْمَصْدَرُ لِلْمَفْعُولِ يَجِيءُ كَثِيرًا يُقَالُ: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ أَيْ مَخْلُوقُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ ثَوَابِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَوْ بَيَانُ كُلِّ عَمَلٍ، نَقُولُ: المشهور أنها لِكُلِّ عَمَلٍ فَالْخَيْرُ مُثَابٌ عَلَيْهِ وَالشَّرُّ مُعَاقَبٌ بِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِبَيَانِ الْخَيْرَاتِ يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلْإِنْسانِ فَإِنَّ اللَّامَ لعود المنافع وعلى لِعُودِ الْمَضَارِّ تَقُولُ: هَذَا لَهُ، وَهَذَا عَلَيْهِ، وَيَشْهَدُ لَهُ وَيَشْهَدُ عَلَيْهِ فِي الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ، وَلِلْقَائِلِ الْأَوَّلِ أَنْ يَقُولَ: بِأَنَّ الْأَمْرَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا غَلَبَ الْأَفْضَلُ كَجُمُوعِ السَّلَامَةِ تُذْكَرُ إِذَا اجْتَمَعَتِ الْإِنَاثُ مَعَ الذُّكُورِ، وَأَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى [النَّجْمِ: 41] وَالْأَوْفَى لَا يَكُونُ إِلَّا فِي مُقَابَلَةِ الْحَسَنَةِ، وَأَمَّا فِي السَّيِّئَةِ فَالْمِثْلُ أَوْ دُونَهُ الْعَفْوُ بِالْكُلِّيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِلَّا مَا سَعى بِصِيغَةِ الْمَاضِي دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ لِزِيَادَةِ الْحَثِّ عَلَى السَّعْيِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَتَقْرِيرُهُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ قَالَ: لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا يَسْعَى، تَقُولُ النَّفْسُ إِنِّي أُصَلِّي غَدًا/ كَذَا رَكْعَةً وَأَتَصَدَّقُ بِكَذَا دِرْهَمًا، ثُمَّ يُجْعَلُ مُثْبَتًا فِي صَحِيفَتِي الْآنَ لِأَنَّهُ أَمْرٌ يُسْعَى وَلَهُ فِيهِ مَا يَسْعَى فِيهِ، فَقَالَ: لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَا قَدْ سَعَى وَحَصَلَ وَفُرِغَ مِنْهُ، وَأَمَّا تَسْوِيلَاتُ الشَّيْطَانِ وَعِدَاتُهُ فَلَا اعْتِمَادَ عَلَيْهَا ثُمَّ قال تعالى:

[سورة النجم (53) : الآيات 40 إلى 41]

[سورة النجم (53) : الآيات 40 الى 41] وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) أَيْ يُعْرَضُ عَلَيْهِ وَيُكْشَفُ لَهُ مِنْ أَرَيْتُهُ الشَّيْءَ، وَفِيهِ بِشَارَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يُرِيهِ أَعْمَالَهُ الصَّالِحَةَ لِيَفْرَحَ بِهَا، أَوْ يَكُونُ يُرِي مَلَائِكَتَهُ وَسَائِرَ خَلْقِهِ لِيَفْتَخِرَ الْعَامِلُ بِهِ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَهُوَ مَذْكُورٌ لِفَرَحِ الْمُسْلِمِ وَلِحُزْنِ الْكَافِرِ، فَإِنَّ سَعْيَهُ يُرَى لِلْخَلْقِ، وَيُرَى لِنَفْسِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مِنْ رَأَى يَرَى فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [التَّوْبَةِ: 105] وَفِيهَا وَفِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا مَسَائِلُ: الْأُولَى: الْعَمَلُ كَيْفَ يُرَى بَعْدَ وُجُودِهِ وَمُضِيِّهِ؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرَاهُ عَلَى صُورَةٍ جَمِيلَةٍ إِنْ كَانَ الْعَمَلُ صَالِحًا ثَانِيهِمَا: هُوَ عَلَى مَذْهَبِنَا غَيْرُ بَعِيدٍ فَإِنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يُرَى، وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ كُلِّ مَعْدُومٍ فَبَعْدَ الْفِعْلِ يُرَى «1» وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ عَنِ الثَّوَابِ يُقَالُ: سَتَرَى إِحْسَانَكَ عِنْدَ الْمَلِكِ أَيْ جَزَاءَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ بَعِيدٌ لِمَا قَالَ بَعْدَهُ: ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْهَاءُ ضَمِيرُ السَّعْيِ أَيْ ثُمَّ يُجْزَى الْإِنْسَانُ سَعْيَهُ بِالْجَزَاءِ، وَالْجَزَاءُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ قَالَ تَعَالَى: وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً [الْإِنْسَانِ: 12] وَيُقَالُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، وَيَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةِ مَفَاعِيلَ بِحَرْفٍ يُقَالُ: جَزَاهُ اللَّهُ عَلَى عَمَلِهِ الْخَيْرَ الْجَنَّةَ، وَيُحْذَفُ الْجَارُّ وَيُوصَلُ الْفِعْلُ فَيُقَالُ: جَزَاهُ اللَّهُ عَمَلَهُ الْخَيْرَ الْجَنَّةَ، هَذَا وَجْهٌ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْجَزَاءِ، وَتَقْدِيرُهُ ثُمَّ يُجْزَى جَزَاءً وَيَكُونُ قَوْلُهُ: الْجَزاءَ الْأَوْفى تَفْسِيرًا أَوْ بَدَلًا مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الْأَنْبِيَاءِ: 3] فَإِنَّ التَّقْدِيرَ وَالَّذِينَ ظَلَمُوا أَسَرُّوا النَّجْوَى، الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَالْجَزَاءُ الْأَوْفَى عَلَى مَا ذَكَرْنَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الصَّالِحِ، وَإِنْ قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً [الْإِسْرَاءِ: 63] وَعَلَى مَا قِيلَ: يُجَابُ أَنَّ الْأَوْفَى بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ فَإِنَّ جَهَنَّمَ ضَرَرُهَا أَكْثَرُ بِكَثِيرٍ مَعَ نَفْعِ الْآثَامِ فَهِيَ فِي نَفْسِهَا أَوْفَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (ثُمَّ) لِتَرَاخِي الْجَزَاءِ أَوْ لِتَرَاخِي الْكَلَامِ أَيْ ثُمَّ نَقُولُ يُجْزَاهُ فَإِنْ كَانَ لِتَرَاخِي الْجَزَاءِ فَكَيْفَ يُؤَخَّرُ الْجَزَاءُ عَنِ الصَّالِحِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الصَّالِحُ؟ نَقُولُ: الْوَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ وَجَوَابُ السُّؤَالِ هُوَ أَنَّ الْوَصْفَ بِالْأَوْفَى يَدْفَعُ مَا ذَكَرْتَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ أَوَّلِ زَمَانٍ يَمُوتُ الصَّالِحُ يَجْزِيهِ جَزَاءً عَلَى خَيْرِهِ وَيُؤَخِّرُ لَهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، وَهِيَ الْجَنَّةُ أَوْ نَقُولُ الْأَوْفَى إِشَارَةٌ إِلَى الزِّيَادَةِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى [يُونُسَ: 26] وَهِيَ الْجَنَّةُ: وَزِيادَةٌ وَهِيَ الرُّؤْيَةُ فَكَأَنَّهُ/ تَعَالَى قَالَ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُرْزَقُ الرُّؤْيَةَ، وَهَذَا الْوَجْهُ يَلِيقُ بِتَفْسِيرِ اللَّفْظِ فَإِنَّ الْأَوْفَى مُطْلَقٌ غَيْرُ مُبَيَّنٍ فَلَمْ يَقُلْ: أَوْفَى مِنْ كَذَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَوْفَى مِنْ كُلِّ وَافٍ وَلَا يَتَّصِفُ بِهِ غَيْرُ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي بَيَانِ لَطَائِفَ فِي الْآيَاتِ الْأُولَى: قَالَ فِي حَقِّ الْمُسِيءِ: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى

_ (1) ثبت علميا أن أعمال الإنسان وغيره مثبتة كما هي على لوحات الأثير كالصورة الفوتوغرافية تماما وكذلك الأصوات فإنها تسجل في الموجات الأثيرية غير أنها تبتعد عنا بتقدم الزمان وقد استطاع العلماء سماع تلك الأصوات بمكبرات صوتية والراديو والتليفزيون أمثلة مصغرة لذلك وهذا من أدلة القدرة الباهرة ومن الأدلة على البعث والحساب، فمحال أن يكون حفظها عبثا.

[سورة النجم (53) : آية 42]

[النجم: 38] وَهُوَ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى عَدَمِ الْحِمْلِ عَنِ الْوَازِرَةِ وَهَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْهُ بَقَاءُ الْوِزْرِ عَلَيْهَا مِنْ ضَرُورَةِ اللَّفْظِ، لِجَوَازِ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهَا وَيَمْحُوَ اللَّهُ ذَلِكَ الْوِزْرَ فَلَا يَبْقَى عَلَيْهَا وَلَا يَتَحَمَّلُ عَنْهَا غَيْرُهَا وَلَوْ قَالَ: لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ إِلَّا وِزْرَ نَفْسِهَا كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهَا تَزِرُ، وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُحْسِنِ: لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَلَمْ يَقُلْ: لَيْسَ لَهُ مَا لَمْ يَسْعَ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ الثَّانِيَةَ لَيْسَ فِيهَا أَنَّ لَهُ مَا سَعَى، وَفِي الْعِبَارَةِ الْأُولَى أَنَّ لَهُ مَا سَعَى، نَظَرًا إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَقَالَ: فِي حَقِّ الْمُسِيءِ بِعِبَارَةٍ لَا تَقْطَعُ رَجَاءَهُ، وَفِي حَقِّ الْمُحْسِنِ بِعِبَارَةٍ تَقْطَعُ خَوْفَهُ، كُلُّ ذلك إشارة إلى سبق الرحمة الغضب ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 42] وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ فَتْحُ الْهَمْزَةِ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى مَا، يَعْنِي أَنَّ هَذَا أَيْضًا فِي الصُّحُفِ وَهُوَ الْحَقُّ، وَقُرِئَ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: مَا الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ؟ قُلْنَا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَشْهُورُ بَيَانُ الْمَعَادِ أَيْ لِلنَّاسِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وُقُوفٌ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ يَتَّصِلُ بِمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: ثُمَّ يُجْزاهُ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ لَا تَرَى الْجَزَاءَ، وَمَتَى يَكُونُ، فَقَالَ: إِنَّ الْمَرْجِعَ إِلَى اللَّهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يُجَازِي الشَّكُورَ وَيَجْزِي الْكَفُورَ وَثَانِيهِمَا: الْمُرَادُ التَّوْحِيدُ، وَقَدْ فَسَّرَ الْحُكَمَاءُ أَكْثَرَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الِانْتِهَاءُ وَالرُّجُوعُ بِمَا سَنَذْكُرُهُ غَيْرَ أَنَّ فِي بَعْضِهَا تَفْسِيرَهُمْ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ ظَاهِرٌ، فَنَقُولُ: هُوَ بَيَانُ وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى الْمَوْجُودَاتِ الْمُمْكِنَةِ لَا تَجِدُ لَهَا بُدًّا مِنْ مُوجِدٍ، ثُمَّ إِنَّ مُوجِدَهَا رُبَّمَا يُظَنُّ أَنَّهُ مُمْكِنٌ آخَرُ كَالْحَرَارَةِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى وَجْهٍ يُظَنُّ أَنَّهَا مِنْ إِشْرَاقِ الشَّمْسِ أَوْ مِنَ النَّارِ فَيُقَالُ الشَّمْسُ وَالنَّارُ مُمْكِنَتَانِ فَمِمَّ وُجُودُهُمَا؟ فَإِنِ اسْتَنَدَتَا إِلَى مُمْكِنٍ آخَرَ لَمْ يَجِدِ الْعَقْلُ بُدًّا مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى غَيْرِ مُمْكِنٍ فَهُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ فَإِلَيْهِ يَنْتَهِي الْأَمْرُ فَالرَّبُّ هُوَ الْمُنْتَهَى، وَهَذَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ظَاهِرٌ مَعْقُولٌ مُوَافِقٌ لِلْمَنْقُولِ، فَإِنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى، لَا فِكْرَةَ فِي الرَّبِّ» أَيِ انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ وُجُودُهُ بِمُوجِدٍ وَمِنْهُ كُلُّ وُجُودٍ، وَقَالَ أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا ذُكِرَ الرَّبُّ فَانْتَهُوا» وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا بَعْضُ النَّاسِ فَيُبَالِغُ وَيُفَسِّرُ كُلَّ آيَةٍ فِيهَا الرُّجْعَى وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرُهُمَا بِهَذَا التَّفْسِيرِ حَتَّى قِيلَ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فَاطِرٍ: 10] بِهَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا دَلِيلُ الْوُجُودِ، وَأَمَّا دَلِيلُ الْوَحْدَانِيَّةِ فَمِنْ حَيْثُ إِنَّ الْعَقْلَ انْتَهَى إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبَ/ الْوُجُودِ لَمَا كَانَ مُنْتَهًى بَلْ يَكُونُ لَهُ مُوجِدٌ، فَالْمُنْتَهَى هُوَ الْوَاجِبُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ وَاجِبٌ، وَهَذَا الْمَعْنَى وَاحِدٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْعَقْلِ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى هَذَا الْوَاجِبِ أَوْ إِلَى ذَلِكَ الْوَاجِبِ فلا يثبت الواجب مَعْنًى غَيْرَ أَنَّهُ وَاجِبٌ فَيَبْعُدُ إِذًا وُجُوبُهُ، فَلَوْ كَانَ وَاجِبَانِ فِي الْوُجُودِ لَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ قَبْلَ الْمُنْتَهَى لِأَنَّ الْمَجْمُوعَ قَبْلَهُ الْوَاجِبُ فَهُوَ الْمُنْتَهَى وَهَذَانَ دَلِيلَانِ ذَكَرْتُهُمَا عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى فِي الْمُخَاطَبِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَامٌّ تَقْدِيرُهُ إِلَى رَبِّكَ أَيُّهَا السَّامِعُ أَوِ الْعَاقِلُ ثَانِيهِمَا: الْخِطَابُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ بَيَانُ صِحَّةِ دِينِهِ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ كَانَ يَدَّعِي رَبًّا وَإِلَهًا، لَكِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ: «رَبِّيَ الَّذِي هُوَ أَحَدٌ وَصَمَدٌ» يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلُّ مُمْكِنٍ فَإِذًا رَبُّكَ هُوَ الْمُنْتَهَى، وَهُوَ رَبُّ الْأَرْبَابِ

[سورة النجم (53) : آية 43]

وَمُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْكَافُ أَحْسَنُ مَوْقِعًا، أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ فَهُوَ تَهْدِيدٌ بَلِيغٌ لِلْمُسِيءِ وَحَثٌّ شَدِيدٌ لِلْمُحْسِنِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَيُّهَا السَّامِعُ كَائِنًا مَنْ كَانَ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى يُفِيدُ الْأَمْرَيْنِ إِفَادَةً بَالِغَةً حَدَّ الْكَمَالِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا: الْخِطَابُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ تَسْلِيَةٌ لِقَلْبِهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَحْزَنْ فَإِنَّ الْمُنْتَهَى إِلَى اللَّهِ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِلَى أَنْ قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس: 76- 83] وَأَمْثَالُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اللَّامُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِلْعَهْدِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: أَبَدًا إِنَّ مَرْجِعَكُمْ إِلَى اللَّهِ فَقَالَ: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى الْمَوْعُودُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لِلْعُمُومِ أَيْ إِلَى الرَّبِّ كُلُّ مُنْتَهًى وَهُوَ مَبْدَأٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ نَقُولُ: مُنْتَهَى الْإِدْرَاكَاتِ الْمُدْرِكَاتِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ أَوَّلًا يُدْرِكُ الْأَشْيَاءَ الظَّاهِرَةَ ثُمَّ يُمْعِنُ النَّظَرَ فَيَنْتَهِي إِلَى اللَّهِ فَيَقِفُ عنده ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 43] وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: عَلَى قَوْلِنَا: إِلَيْهِ الْمُنْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ إِثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ، هَذِهِ الْآيَاتُ مُثْبِتَاتٌ لِمَسَائِلَ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ مِنْ جُمْلَتِهَا قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ مَنْ يَعْتَرِفُ بِأَنَّ اللَّهَ الْمُنْتَهَى وَأَنَّهُ وَاحِدٌ لَكِنْ يَقُولُ: هُوَ مُوجِبٌ لَا قَادِرٌ، فَقَالَ تَعَالَى: هُوَ أَوْجَدَ ضِدَّيْنِ الضَّحِكَ وَالْبُكَاءَ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَالْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ وَالذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ فِي مَادَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قَادِرٍ وَاعْتَرَفَ بِهِ كُلُّ عَاقِلٍ، وَعَلَى قَوْلِنَا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم: 42] بَيَانُ الْمَعَادِ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ أَمْرِهِ فَهُوَ كَمَا يَكُونُ فِي بَعْضِهَا ضَاحِكًا فَرِحًا وَفِي بَعْضِهَا بَاكِيًا مَحْزُونًا كَذَلِكَ يُفْعَلُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَضْحَكَ وَأَبْكى لَا مَفْعُولَ لَهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُمَا مَسُوقَتَانِ لِقُدْرَةِ اللَّهِ لَا لِبَيَانِ الْمَقْدُورِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْمَفْعُولِ. يَقُولُ الْقَائِلُ: فُلَانٌ بِيَدِهِ الْأَخْذُ وَالْعَطَاءُ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَلَا يُرِيدُ مَمْنُوعًا وَمُعْطًى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَارَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِأَنَّهُمَا أَمْرَانِ لَا يُعَلَّلَانِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الطَّبِيعِيِّينَ أَنْ يُبْدِيَ فِي اخْتِصَاصِ الْإِنْسَانِ بِالضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ وَجْهًا وَسَبَبًا، وَإِذَا لَمْ يُعَلَّلْ بِأَمْرٍ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ فَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، بِخِلَافِ الصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: سَبَبُهُمَا اخْتِلَالُ الْمِزَاجِ وَخُرُوجُهُ عَنِ الِاعْتِدَالِ، وَيَدُلُّكَ عَلَى هَذَا أَنَّهُمْ إِذَا ذَكَرُوا فِي الضَّحِكِ أَمْرًا لَهُ الضَّحِكُ قَالُوا: قُوَّةُ التَّعَجُّبِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا يَبْهَتُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ وَلَا يَضْحَكُ، وَقِيلَ: قُوَّةُ الْفَرَحِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَفْرَحُ كَثِيرًا وَلَا يَضْحَكُ، وَالْحَزِينُ الَّذِي عِنْدَ غَايَةِ الْحُزْنِ يُضْحِكُهُ الْمُضْحِكُ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي الْبُكَاءِ، وَإِنْ قِيلَ لِأَكْثَرِهِمْ عِلْمًا بِالْأُمُورِ الَّتِي يَدَّعِيهَا الطَّبِيعِيُّونَ إِنَّ خُرُوجَ الدَّمْعِ مِنَ الْعَيْنِ عِنْدَ أُمُورٍ مَخْصُوصَةٍ لِمَاذَا؟ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَعْلِيلٍ صَحِيحٍ، وَعِنْدَ الْخَوَاصِّ كَالَّتِي فِي الْمِغْنَاطِيسِ وَغَيْرِهَا يَنْقَطِعُ الطَّبِيعِيُّ، كَمَا أَنَّ عِنْدَ أَوْضَاعِ الْكَوَاكِبِ يَنْقَطِعُ هُوَ وَالْمُهَنْدِسُ الَّذِي لَا يُفَوِّضُ أَمْرَهُ إلى قدرة الله تعالى وإرادته ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 44] وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44)

[سورة النجم (53) : آية 45]

وَالْبَحْثُ فِيهِ كَمَا فِي الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي الْأَوَّلِ بَيَّنَ خَاصَّةَ النَّوْعِ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ مِنَ الْجِنْسِ، فَإِنَّهُ أَظْهَرُ وَعَنِ التَّعْلِيلِ أَبْعَدُ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ وَدُونَهُ فِي الْبُعْدِ عَنِ التَّعْلِيلِ وَهِيَ الْإِمَاتَةُ وَالْإِحْيَاءُ وَهُمَا صِفَتَانِ مُتَضَادَّتَانِ أَيِ الْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ كَالضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ وَالْمَوْتُ عَلَى هَذَا لَيْسَ بِمُجَرَّدِ الْعَدَمِ وَإِلَّا لَكَانَ الْمُمْتَنِعُ مَيِّتًا، وَكَيْفَمَا كَانَ فَالْإِمَاتَةُ وَالْإِحْيَاءُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ وَهُمَا مِنْ خَوَاصِّ الْحَيَوَانِ، وَيَقُولُ الطَّبِيعِيُّ فِي الْحَيَاةِ لِاعْتِدَالِ الْمِزَاجِ، وَالْمِزَاجُ مِنْ أَرْكَانٍ مُتَضَادَّةٍ هِيَ النَّارُ وَالْهَوَاءُ وَالْمَاءُ وَالتُّرَابُ وَهِيَ متداعية إلى الانفكاك ومالا تَرْكِيبَ فِيهِ مِنَ الْمُتَضَادَّاتِ لَا مَوْتَ لَهُ، لِأَنَّ الْمُتَضَادَّاتِ كُلُّ أَحَدٍ يَطْلُبُ مُفَارَقَةَ مُجَاوِرِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ وَمَزَجَ الْعَنَاصِرَ وَحَفِظَهَا مُدَّةً قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَحْفَظَهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَإِذَا مَاتَ فَلَيْسَ عَنْ ضَرُورَةٍ فَهُوَ بفعل فاعل مختار وهو الله تعالى: فهو الذي أَمَاتَ وَأَحْيَا. فَإِنْ قِيلَ: مَتَى أَمَاتَ وَأَحْيَا حَتَّى يَعْلَمَ ذَلِكَ بَلْ مُشَاهَدَةُ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ بِنَاءً عَلَى الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ؟ نَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَحْيَا وَأَمَاتَ ثَانِيهَا: هُوَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ قَرِيبٌ يُقَالُ: فُلَانٌ وَصَلَ وَاللَّيْلُ دَخَلَ إِذَا قَرُبَ مَكَانُهُ وَزَمَانُهُ، فَكَذَلِكَ الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ ثَالِثُهَا: أَمَاتَ أَيْ خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْجُمُودَ فِي الْعَنَاصِرِ، ثُمَّ رَكَّبَهَا وَأَحْيَا أَيْ خَلَقَ الْحِسَّ والحركة فيها. ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 45] وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) وَهُوَ أَيْضًا مِنْ جُمْلَةِ الْمُتَضَادَّاتِ الَّتِي تَتَوَارَدُ عَلَى النُّطْفَةِ فَبَعْضُهَا يُخْلَقُ ذَكَرًا، وَبَعْضُهَا أُنْثَى وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ فَهْمُ الطَّبِيعِيِّ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّهُ مِنَ الْبَرْدِ وَالرُّطُوبَةِ فِي الْأُنْثَى، فَرُبَّ امْرَأَةٍ أَيْبَسُ مِزَاجًا مِنَ الرَّجُلِ، وَكَيْفَ وَإِذَا نَظَرْتَ فِي الْمُمَيِّزَاتِ/ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ تَجِدُهَا أُمُورًا عَجِيبَةً مِنْهَا نَبَاتُ اللِّحْيَةِ، وَأَقْوَى مَا قَالُوا فِي نَبَاتِ اللِّحْيَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: الشُّعُورُ مُكَوَّنَةٌ مِنْ بخار دخاني يَنْحَدِرُ إِلَى الْمَسَامِّ، فَإِذَا كَانَتِ الْمَسَامُّ فِي غَايَةِ الرُّطُوبَةِ وَالتَّحَلُّلِ كَمَا فِي مِزَاجِ الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ، لَا يَنْبُتُ الشَّعْرُ لِخُرُوجِ تِلْكَ الْأَدْخِنَةِ مِنَ الْمَسَامِّ الرَّطْبَةِ بِسُهُولَةٍ قَبْلَ أَنْ يَتَكَوَّنَ شعرا، وَإِذَا كَانَتْ فِي غَايَةِ الْيُبُوسَةِ وَالتَّكَاثُفِ يَنْبُتُ الشَّعْرُ لِعُسْرِ خُرُوجِهِ مِنَ الْمَخْرَجِ الضَّيِّقِ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْمَوَادَّ تَنْجَذِبُ إِلَى مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ فَتَنْدَفِعُ، إِمَّا إِلَى الرَّأْسِ فَتَنْدَفِعُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ كَقُبَّةٍ فَوْقَ الْأَبْخِرَةِ وَالْأَدْخِنَةِ فَتَتَصَاعَدُ إِلَيْهِ تِلْكَ الْمَوَادُّ، فَلِهَذَا يَكُونُ شَعْرُ الرَّأْسِ أَكْثَرَ وَأَطْوَلَ، وَلِهَذَا فِي الرَّجُلِ مَوَاضِعُ تَنْجَذِبُ إِلَيْهَا الْأَبْخِرَةُ وَالْأَدْخِنَةُ، مِنْهَا الصَّدْرُ لِحَرَارَةِ الْقَلْبِ وَالْحَرَارَةُ تَجْذِبُ الرُّطُوبَةَ كَالسِّرَاجِ لِلزَّيْتِ، وَمِنْهَا بِقُرْبِ آلَةِ التَّنَاسُلِ لِأَنَّ حَرَارَةَ الشَّهْوَةِ تَجْذِبُ أَيْضًا، وَمِنْهَا اللِّحْيَانِ فَإِنَّهَا كَثِيرَةُ الْحَرَكَةِ بِسَبَبِ الْأَكْلِ، وَالْكَلَامِ وَالْحَرَكَةُ أَيْضًا جَاذِبَةٌ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: فَمَا السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِتَلَازُمِ نَبَاتِ شَعْرِ اللِّحْيَةِ وَآلَةِ التَّنَاسُلِ فَإِنَّهَا إِذَا قُطِعَتْ لَمْ تَنْبُتِ اللِّحْيَةُ؟ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ سِنِّ الصِّبَا وَسِنِّ الشَّبَابِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ؟ فَفِي بَعْضِهَا يُبْهَتُ وَفِي بَعْضِهَا يُتَكَلَّمُ بِأُمُورٍ وَاهِيَةٍ، وَلَوْ فَوَّضَهَا إِلَى حِكْمَةٍ إِلَهِيَّةٍ لَكَانَ أَوْلَى، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّهُ خَلَقَ وَلَمْ يَقُلْ: وَأَنَّهُ هُوَ خَلَقَ كَمَا قَالَ: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى [النجم: 43] وَذَلِكَ لِأَنَّ الضَّحِكَ وَالْبُكَاءَ رُبَّمَا يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُ بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ، وَفِي الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ التَّوَهُّمُ بَعِيدًا، لَكِنْ رُبَّمَا يَقُولُ بِهِ جَاهِلٌ، كَمَا قَالَ مَنْ حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [الْبَقَرَةِ: 258] فَأَكَّدَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْفَصْلِ، وَأَمَّا خَلْقُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ النُّطْفَةِ فَلَا يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ أَنْ يَفْعَلَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ فَلَمْ يُؤَكِّدْ بِالْفَصْلِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى [النَّجْمِ: 48] حَيْثُ

[سورة النجم (53) : آية 46]

كَانَ الْإِغْنَاءُ عِنْدَهُمْ غَيْرَ مُسْتَنِدٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَكَانَ فِي مُعْتَقَدِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ بِفِعْلِهِمْ كَمَا قَالَ قَارُونُ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي [الْقَصَصِ: 78] وَلِذَلِكَ قَالَ: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى [النَّجْمِ: 49] لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَبْعِدُونَ أَنْ يَكُونَ رَبُّ مُحَمَّدٍ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى فَأَكَّدَ فِي مَوَاضِعِ اسْتِبْعَادِهِمُ النِّسْبَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْإِسْنَادُ وَلَمْ يُؤَكِّدْهُ فِي غَيْرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى اسْمَانِ هُمَا صِفَةٌ أَوِ اسْمَانِ لَيْسَا بِصِفَةٍ؟ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ الثَّانِي وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي هِيَ صِفَاتٌ، فَالذَّكَرُ كَالْحَسَنِ وَالْعَزَبِ وَالْأُنْثَى كَالْحُبْلَى وَالْكُبْرَى وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهَا كَالْحُبْلَى فِي رَأْيٍ لِأَنَّهَا حِيَالُهَا أُنْشِئَتْ لَا كَالْكُبْرَى، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا كَالْكُبْرَى فِي رَأْيٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمَا صِفَتَانِ، لِأَنَّ الصِّفَةَ مَا يُطْلَقُ عَلَى شَيْءٍ ثَبَتَ لَهُ أَمْرٌ كَالْعَالِمِ يُطْلَقُ عَلَى شَيْءٍ لَهُ عِلْمٌ وَالْمُتَحَرِّكُ يُقَالُ لِشَيْءٍ لَهُ حَرَكَةٌ بِخِلَافِ الشَّجَرِ وَالْحَجَرِ، فَإِنَّ الشَّجَرَ لَا يُقَالُ لِشَيْءٍ بِشَرْطِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ أَمْرٌ بَلْ هُوَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَالذَّكَرُ اسْمٌ يُقَالُ لِشَيْءٍ لَهُ أَمْرٌ، وَلِهَذَا يُوصَفُ بِهِ، وَلَا يُوصَفُ بِالشَّجَرِ، يُقَالُ جَاءَنِي شَخْصٌ ذَكَرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ ذَكَرٌ، وَلَا يُقَالُ جِسْمٌ شَجَرٌ، وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ اسْمٌ غَيْرُ صِفَةٍ إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ لَهُ فِعْلٌ، وَالصِّفَةُ فِي الْغَالِبِ لَهُ فِعْلٌ كَالْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ/ وَالْعَزَبِ وَالْكُبْرَى وَالْحُبْلَى، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي لَا يَتَبَدَّلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَلَا يُصَاغُ لَهَا أَفْعَالٌ لِأَنَّ الْفِعْلَ لِمَا يُتَوَقَّعُ لَهُ تَجَدُّدٌ فِي صُورَةِ الْغَالِبِ، وَلِهَذَا لَمْ يُوجَدْ لِلْإِضَافِيَّاتِ أَفْعَالٌ كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ وَالْأُخُوَّةِ إِذْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الَّذِي يَتَبَدَّلُ، وَوُجِدَ لِلْإِضَافِيَّاتِ الْمُتَبَدِّلَةِ أَفْعَالٌ يُقَالُ: وَاخَاهُ وَتَبَنَّاهُ لَمَّا لَمْ يكن مثبتا بتكلف فقبل التبدل. [سورة النجم (53) : آية 46] مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَقَوْلَهُ تَعَالَى: مِنْ نُطْفَةٍ أَيْ قِطْعَةٍ مِنَ الْمَاءِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا تُمْنى مِنْ أَمْنَى الْمَنِيَّ إِذَا نَزَلَ أَوْ مَنِيَ يَمْنَى إِذَا قَدَرَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ نُطْفَةٍ تَنْبِيهٌ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ النُّطْفَةَ جِسْمٌ مُتَنَاسِبُ الْأَجْزَاءِ، وَيَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ أَعْضَاءً مُخْتَلِفَةً وَطِبَاعًا مُتَبَايِنَةً وَخَلْقُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْهَا أَعْجَبُ مَا يَكُونُ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلِهَذَا لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يَدَّعِيَهُ كَمَا لَمْ يَقْدِرْ أحد على أن يدعي خلق السموات، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزُّخْرُفِ: 87] كَمَا قَالَ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر: 38] . ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 47] وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَهِيَ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَشْرِ، وَالَّذِي ظَهَرَ لِي بَعْدَ طُولِ التَّفَكُّرِ وَالسُّؤَالِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى الْهِدَايَةَ فِيهِ إِلَى الْحَقِّ، أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْخَ الرُّوحِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّفْسَ الشَّرِيفَةَ لَا الْأَمَّارَةَ تُخَالِطُ الْأَجْسَامَ الْكَثِيفَةَ الْمُظْلِمَةَ، وَبِهَا كَرَّمَ اللَّهُ بَنِي آدَمَ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [الْمُؤْمِنُونَ: 14] غَيْرَ خَلْقِ النُّطْفَةِ عَلَقَةً، وَالْعَلَقَةِ مُضْغَةً، وَالْمُضْغَةِ عِظَامًا، وَبِهَذَا الْخَلْقِ الْآخَرِ تَمَيَّزَ الْإِنْسَانُ عَنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانَاتِ، وَشَارَكَ الْمَلَكَ فِي الْإِدْرَاكَاتِ فكما قال هنالك: أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ بَعْدَ خَلْقِ النُّطْفَةِ قَالَ هَاهُنَا: وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى فَجَعَلَ نَفْخَ الرُّوحِ نَشْأَةً أُخْرَى كَمَا جَعَلَهُ هُنَالِكَ إِنْشَاءً آخَرَ، وَالَّذِي أَوْجَبَ الْقَوْلَ بِهَذَا هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النَّجْمِ: 42]

[سورة النجم (53) : آية 48]

عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لِبَيَانِ الْإِعَادَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى [النَّجْمِ: 41] كَذَلِكَ فَيَكُونُ ذِكْرُ النَّشْأَةِ الْأُخْرَى إِعَادَةً، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذَا: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى [النَّجْمِ: 48] وَهَذَا مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا يَكُونُ التَّرْتِيبُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فَإِنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَنَفَخَ فِيهِمَا الرُّوحَ الْإِنْسَانِيَّةَ الشَّرِيفَةَ ثُمَّ أَغْنَاهُ بِلَبَنِ الْأُمِّ وَبِنَفَقَةِ الْأَبِ فِي صِغَرِهِ، ثُمَّ أَقْنَاهُ بِالْكَسْبِ بَعْدَ كِبَرِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وَرَدَتِ النَّشْأَةُ الْأُخْرَى لِلْحَشْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ [الْعَنْكَبُوتِ: 20] نَقُولُ الْآخِرَةُ مِنَ الْآخِرِ لَا مِنَ الْآخَرِ لِأَنَّ الْآخِرَ أَفْعَلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ لَمَّا ذُكِرَ الْبَدْءُ حُمِلَ عَلَى الْإِعَادَةِ وَهَاهُنَا ذُكِرَ خَلْقُهُ مِنْ نُطْفَةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ثم قال: أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: 14] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: (عَلَى) لِلْوُجُوبِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ الْإِعَادَةُ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ عَلَيْهِ/ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُهُ عَلَيْهِ عَقْلًا، فَإِنَّ مِنَ الْحِكْمَةِ الْجَزَاءَ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْحَشْرِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ عَقْلًا الْإِعَادَةُ، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بهذا القول، ونقول فيه ووجهان الْأَوَّلُ: عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْوَعْدِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى [يس: 12] فَعَلَيْهِ بِحُكْمِ الْوَعْدِ لَا بِالْعَقْلِ وَلَا بِالشَّرْعِ الثَّانِي: عَلَيْهِ لِلتَّعْيِينِ فَإِنَّ مَنْ حَضَرَ بَيْنَ جَمْعٍ وَحَاوَلُوا أَمْرًا وَعَجَزُوا عَنْهُ، يُقَالُ: وَجَبَ عَلَيْكَ إِذَنْ أَنْ تَفْعَلَهُ أَيْ تَعَيَّنَتْ لَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: النَّشْأَةَ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ كالضربة على وزن فعلة وهي للمرة، نقول: ضَرَبْتُهُ ضَرْبَتَيْنِ، أَيْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، يَعْنِي النشأة مرة أخرى عليه، وقرئ النشأة بِالْمَدِّ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ فَعَالَةٍ كَالْكَفَالَةِ، وَكَيْفَمَا قُرِئَ فَهِيَ مِنْ نَشَأَ، وَهُوَ لَازِمٌ وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: عَلَيْهِ الْإِنْشَاءُ لَا النَّشْأَةُ، نَقُولُ فِيهِ فَائِدَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْجَزْمَ يَحْصُلُ مِنْ هَذَا بِوُجُودِ الْخَلْقِ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَوْ قَالَ: عَلَيْهِ الْإِنْشَاءُ رُبَّمَا يَقُولُ قَائِلٌ: الْإِنْشَاءُ مِنْ بَابِ الْإِجْلَاسِ، حَيْثُ يُقَالُ فِي السَّعَةِ أَجْلَسْتُهُ فَمَا جَلَسَ، وَأَقَمْتُهُ فَمَا قام فيقال: أنشأ وَمَا نَشَأَ أَيْ قَصَدَهُ لِيَنْشَأَ وَلَمْ يُوجَدْ، فَإِذَا قَالَ: عَلَيْهِ النَّشْأَةُ أَيْ يُوجِدُ النَّشْءَ وَيُحَقِّقُهُ بِحَيْثُ يُوجَدُ جَزْمًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَلْ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ: عَلَيْهِ النَّشْأَةُ مَرَّةً أُخْرَى، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: عَلَيْهِ النَّشْأَةُ الْأُخْرَى فَرْقٌ؟ نَقُولُ: نَعَمْ إِذَا قَالَ: عَلَيْهِ النَّشْأَةُ مَرَّةً أُخْرَى لَا يَكُونُ النَّشْءُ قَدْ عُلِمَ أَوَّلًا، وَإِذَا قَالَ: عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى يَكُونُ قَدْ عُلِمَ حَقِيقَةُ النَّشْأَةِ الْأُخْرَى، فَنَقُولُ ذَلِكَ الْمَعْلُومُ عَلَيْهِ. ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 48] وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَهُ فَنَقُولُ: أَغْنى يَعْنِي دَفَعَ حَاجَتَهُ وَلَمْ يَتْرُكْهُ مُحْتَاجًا لِأَنَّ الْفَقِيرَ فِي مُقَابَلَةِ الْغَنِيِّ، فَمَنْ لَمْ يَبْقَ فَقِيرًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فَهُوَ غَنِيٌّ مُطْلَقًا، وَمَنْ لَمْ يَبْقَ فَقِيرًا مِنْ وَجْهٍ فَهُوَ غَنِيٌّ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَغْنُوهُمْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ» وَحُمِلَ ذَلِكَ عَلَى زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَمَعْنَاهُ إِذَا أَتَاهُ مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ، وقوله تعالى: أَقْنى مَعْنَاهُ وَزَادَ عَلَيْهِ الْإِقْنَاءُ فَوْقَ الْإِغْنَاءِ، وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّ الْحُرُوفَ مُتَنَاسِبَةٌ فِي الْمَعْنَى، فَنَقُولُ لَمَّا كَانَ مَخْرَجُ الْقَافِ فَوْقَ مَخْرَجِ الْغَيْنِ جَعَلَ الْإِقْنَاءَ لِحَالَةٍ فَوْقَ الْإِغْنَاءِ، وَعَلَى هَذَا فَالْإِغْنَاءُ هُوَ مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْعَيْنِ وَاللِّسَانِ، وَهَدَاهُ إِلَى الِارْتِضَاعِ فِي صِبَاهُ أَوْ هُوَ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْقُوتِ وَاللِّبَاسِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِمَا وَفِي الْجُمْلَةِ كُلُّ مَا دَفَعَ اللَّهُ بِهِ الْحَاجَةَ فَهُوَ إِغْنَاءٌ، وَكُلُّ مَا زَادَ عَلَيْهِ فَهُوَ إِقْنَاءٌ. ثُمَّ قَالَ تعالى:

[سورة النجم (53) : آية 49]

[سورة النجم (53) : آية 49] وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) إِشَارَةٌ إِلَى فَسَادِ قَوْلِ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْفَقْرَ وَالْغِنَى بِكَسْبِ الْإِنْسَانِ وَاجْتِهَادِهِ فَمَنْ كَسَبَ اسْتَغْنَى، وَمَنْ كَسِلَ افْتَقَرَ وَبَعْضَهُمْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ بِالْبَخْتِ، وَذَلِكَ بِالنُّجُومِ، فَقَالَ: هُوَ أَغْنى وَأَقْنى وَإِنَّ قَائِلَ الْغِنَى بِالنُّجُومِ غَالِطٌ، فَنَقُولُ هُوَ رَبُّ النُّجُومِ وَهُوَ مُحَرِّكُهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ رَبُّ الشِّعْرى وَقَوْلُهُ: هُوَ/ رَبُّ الشِّعْرى لِإِنْكَارِهِمْ ذَلِكَ أُكِّدَ بِالْفَصْلِ، وَالشِّعْرَى نَجْمٌ مُضِيءٌ، وَفِي النُّجُومِ شِعْرَيَانِ إِحْدَاهُمَا شَامِيَّةٌ وَالْأُخْرَى يَمَانِيَّةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ المراد اليمانية لأنهم كانوا يعبدونها. ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 50] وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى (50) لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ: أَغْنى وَأَقْنى [النجم: 48] وَكَانَ ذَلِكَ بِفَضْلِ اللَّهِ لَا بِعَطَاءِ الشِّعْرَى وَجَبَ الشُّكْرُ لِمَنْ قَدْ أَهْلَكَ وَكَفَى لَهُمْ دليلا حال عاد وثمود وغيرهم. وعاداً الْأُولى قِيلَ: بِالْأُولَى تَمَيَّزَتْ مِنْ قَوْمٍ كَانُوا بِمَكَّةَ هُمْ عَادٌ الْآخِرَةُ، وَقِيلَ: الْأُولَى لِبَيَانِ تَقَدُّمِهِمْ لَا لِتَمْيِيزِهِمْ، تَقُولُ: زَيْدٌ الْعَالِمُ جَاءَنِي فَتَصِفُهُ لَا لِتُمَيِّزَهُ وَلَكِنْ لِتُبَيِّنَ عِلْمَهُ، وَفِيهِ قِرَاءَاتٌ عَادًا الْأُولَى بِكَسْرِ نُونِ التَّنْوِينِ لِالْتِقَاءِ الساكنين، وعاد الْأُولَى بِإِسْقَاطِ نُونِ التَّنْوِينِ أَيْضًا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ كقراءة عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص: 1، 2] وعاداً الْأُولى بِإِدْغَامِ النُّونِ فِي اللَّامِ وَنَقْلِ ضَمَّةِ الْهَمْزَةِ إلى اللام وعاد الؤلي بهمزة الواو وقرأ هذا القارئ عَلى سُوقِهِ وَدَلِيلُهُ ضَعِيفٌ وَهُوَ يَحْتَمِلُ هَذَا فِي مَوْضِعِ الْمُوقَدَةُ ومُؤْصَدَةٌ لِلضَّمَّةِ وَالْوَاوُ فَهِيَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تُجْزِي عَلَى الْهَمْزَةِ، وَكَذَا فِي (سُؤْقِهِ) لِوُجُودِ الْهَمْزَةِ فِي الْأَصْلِ، وَفِي مُوسَى وَقَوْلُهُ لَا يَحْسُنُ. ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 51] وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) يَعْنِي وَأَهْلَكَ ثَمُودَ وَقَوْلُهُ: فَما أَبْقى عَائِدٌ إِلَى عَادٍ وَثَمُودَ أَيْ فَمَا أَبْقَى عَلَيْهِمْ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: فَمَا أَبْقَاهُمْ أَيْ فَما أَبْقى مِنْهُمْ أَحَدًا وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [الحافة: 8] وَتَمَسَّكَ الْحَجَّاجُ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ ثَقِيفًا من ثمود بقوله تعالى: فَما أَبْقى. [سورة النجم (53) : آية 52] وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَقَوْمَ نُوحٍ أَيْ أَهْلَكَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَالْمَسْأَلَةُ مشهورة في قبل وبعد تُقْطَعُ عَنِ الْإِضَافَةِ فَتَصِيرُ كَالْغَايَةِ فَتُبْنَى عَلَى الضَّمَّةِ. أَمَّا الْبِنَاءُ فَلِتَضَمُّنَهُ الْإِضَافَةَ، وَأَمَّا عَلَى الضَّمَّةِ فَلِأَنَّهَا لَوْ بُنِيَتْ عَلَى الْفُتْحَةِ لَكَانَ قَدْ أَثْبَتَ فِيهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْإِعْرَابِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا ظُرُوفُ زَمَانٍ فَتَسْتَحِقُّ النَّصْبَ وَالْفَتْحَ مِثْلَهُ، وَلَوْ بُنِيَتْ عَلَى الْكَسْرِ لَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْإِعْرَابُ وَهُوَ الْجَرُّ بِالْجَارِّ فَبُنِيَ عَلَى مَا يُخَالِفُ حَالَتَيْ إِعْرَابِهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى أَمَّا الظُّلْمُ فَلِأَنَّهُمْ هُمُ الْبَادِئُونَ بِهِ الْمُتَقَدِّمُونَ فِيهِ «وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا» وَالْبَادِئُ أَظْلَمُ، وَأَمَا أَطْغَى فَلِأَنَّهُمْ سَمِعُوا الْمَوَاعِظَ وَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ

[سورة النجم (53) : آية 53]

وَلَمْ يَرْتَدِعُوا حَتَّى دَعَا عَلَيْهِمْ نَبِيُّهُمْ، وَلَا يَدْعُو نَبِيٌّ عَلَى قَوْمِهِ إِلَّا بَعْدَ الْإِصْرَارِ الْعَظِيمِ، وَالظَّالِمُ وَاضِعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَالطَّاغِي الْمُجَاوِزُ الْحَدَّ فَالطَّاغِي أَدْخَلُ فِي الظُّلْمِ فَهُوَ كَالْمُغَايِرِ وَالْمُخَالِفِ فَإِنَّ الْمُخَالِفَ مُغَايِرٌ مَعَ وَصْفٍ آخَرَ زَائِدٍ، وَكَذَا الْمُغَايِرُ وَالْمُضَادُّ وَكُلُّ ضِدٍّ غَيْرٌ وَلَيْسَ كُلُّ غَيْرٍ ضِدًّا، وَعَلَيْهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَقَوْمَ نُوحٍ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَخْوِيفُ الظَّالِمِ/ بِالْهَلَاكِ، فَإِذَا قَالَ: هُمْ كَانُوا فِي غَايَةِ الظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ فَأُهْلِكُوا يَقُولُ الظَّالِمُ هُمْ كَانُوا أَظْلَمَ فَأُهْلِكُوا لِمُبَالَغَتِهِمْ فِي الظُّلْمِ، وَنَحْنُ مَا بَالَغْنَا فَلَا نَهْلَكُ، وَأَمَّا لَوْ قَالَ أُهْلِكُوا لِأَنَّهُمْ ظَلَمَةٌ لَخَافَ كُلُّ ظَالِمٍ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: أَظْلَمَ؟ نَقُولُ: الْمَقْصُودُ بَيَانُ شِدَّتِهِمْ وَقُوَّةِ أَجْسَامِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُقْدِمُوا عَلَى الظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ الشَّدِيدِ إِلَّا بِتَمَادِيهِمْ وَطُولِ أَعْمَارِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ مَا نَجَا أَحَدٌ مِنْهُمْ فَمَا حَالُ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ مِنَ الْعُمْرِ وَالْقُوَّةِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً [الزخرف: 8] . وقوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 53] وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) الْمُؤْتَفِكَةَ الْمُنْقَلِبَةُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الأولى: قرئ: والمؤتفكات والمشهور فيه أنها قرئ قَوْمِ لُوطٍ لَكِنْ كَانَتْ لَهُمْ مَوَاضِعُ ائْتَفَكَتْ فَهِيَ مُؤْتَفِكَاتٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ كُلُّ مَنِ انْقَلَبَتْ مَسَاكِنُهُ وَدَثَرَتْ أَمَاكِنُهُ وَلِهَذَا خَتَمَ الْمُهْلِكِينَ بِالْمُؤْتَفِكَاتِ كَمَنْ يَقُولُ: مَاتَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَمْثَالِهِمْ وَأَشْكَالِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَهْوى أَيْ أَهْوَاهَا بِمَعْنَى أَسْقَطَهَا، فَقِيلَ: أَهْوَاهَا مِنَ الْهَوَى إِلَى الْأَرْضِ مِنْ حَيْثُ حَمَلَهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى جَنَاحِهِ، ثُمَّ قَلَبَهَا، وَقِيلَ: كَانَتْ عِمَارَتُهُمْ مُرْتَفِعَةً فَأَهْوَاهَا بِالزَّلْزَلَةِ وَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى عَلَى مَا قُلْتُ: كَقَوْلِ الْقَائِلِ وَالْمُنْقَلِبَةُ قَلَبَهَا وَقَلْبُ الْمُنْقَلِبِ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، نَقُولُ: لَيْسَ مَعْنَاهُ الْمُنْقَلِبَةُ مَا انْقَلَبَتْ بِنَفْسِهَا بَلِ اللَّهُ قَلَبَهَا فَانْقَلَبَتْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِصَاصِ الْمُؤْتَفِكَةِ بِاسْمِ الْمَوْضِعِ فِي الذِّكْرِ، وَقَالَ فِي عَادٍ وَثَمُودَ، وَقَوْمِ نُوحٍ اسْمَ الْقَوْمِ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ثَمُودَ اسْمُ الْمَوْضِعِ فَذَكَرَ عَادًا بَاسِمِ الْقَوْمُ، وَثَمُودَ بَاسِمِ الْمَوْضِعِ، وَقَوْمَ نُوحٍ بِاسْمِ الْقَوْمِ وَالْمُؤْتَفِكَةَ بِاسْمِ الْمَوْضِعِ لِيُعْلِمَ أَنَّ الْقَوْمَ لَا يُمْكِنُهُمْ صَوْنَ أَمَاكِنِهِمْ عَنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا الْمَوْضِعَ يُحْصِنُ الْقَوْمَ عَنْهُ فَإِنَّ فِي الْعَادَةِ تَارَةً يَقْوَى السَّاكِنُ فَيَذُبُّ عَنْ مَسْكَنِهِ وَأُخْرَى يَقْوَى الْمَسْكَنُ فَيَرُدُّ عَنْ سَاكِنِهِ وَعَذَابُ اللَّهِ لَا يَمْنَعُهُ مَانِعٌ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي آيَتَيْنِ أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ [الْفَتْحِ: 20] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ [الْحَشْرِ: 2] فَفِي الْأَوَّلِ لَمْ يَقْدِرِ السَّاكِنُ عَلَى حِفْظِ مَسْكَنِهِ وَفِي الثَّانِي لَمْ يَقْوَ الْحِصْنُ عَلَى حِفْظِ السَّاكِنِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ عَادًا وَثَمُودَ وَقَوْمَ نُوحٍ، كَانَ أَمْرُهُمْ مُتَقَدِّمًا، وَأَمَاكِنُهُمْ كَانَتْ قَدْ دَثَرَتْ، وَلَكِنَّ أَمْرَهُمْ كَانَ مَشْهُورًا مُتَوَاتِرًا، وَقَوْمَ لُوطٍ كَانَتْ مَسَاكِنُهُمْ وَآثَارُ الِانْقِلَابِ فِيهَا ظَاهِرَةً، فَذَكَرَ الْأَظْهَرَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فِي كل قوم. ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 54] فَغَشَّاها مَا غَشَّى (54)

[سورة النجم (53) : آية 55]

يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا مَفْعُولًا وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا يُقَالُ: ضَرَبَهُ مَنْ ضَرَبَهُ، وَعَلَى هَذَا نَقُولُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الذي غش هو الله تعالى فيكون كقوله تعالى: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشَّمْسِ: 5] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى سَبَبِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَيْ/ غَشَّاهَا عَلَيْهِمُ السَّبَبُ، بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ غَضِبَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِهِ، يُقَالُ لِمَنْ أَغْضَبَ مَلِكًا بكلام فضربه الملك كلامك الذي ضربك. ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 55] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) قِيلَ هَذَا أَيْضًا مِمَّا فِي الصُّحُفِ، وَقِيلَ هُوَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَالْخِطَابُ عَامٌّ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: بِأَيِّ النِّعَمِ أَيُّهَا السَّامِعُ تَشُكُّ أَوْ تُجَادِلُ، وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ مَعَ الْكَافِرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يُقَالُ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَتَمارى لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ مِنْ بَابِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: 65] يَعْنِي لَمْ يَبْقَ فِيهِ إِمْكَانُ الشَّكِّ، حَتَّى أَنَّ فَارِضًا لَوْ فُرِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ يَشُكُّ أَوْ يُجَادِلُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ لَمَا كَانَ يُمْكِنُهُ الْمِرَاءُ فِي نِعَمِ اللَّهِ وَالْعُمُومُ هُوَ الصَّحِيحُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: بِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى أَيُّهَا الْإِنْسَانُ، كَمَا قَالَ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الِانْفِطَارِ: 6] وَقَالَ تَعَالَى: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الْكَهْفِ: 54] فَإِنْ قِيلَ: الْمَذْكُورُ مِنْ قَبْلُ نِعَمٌ وَالْآلَاءُ نِعَمٌ، فَكَيْفَ آلَاءُ رَبِّكَ؟ نَقُولُ: لَمَّا عَدَّ مِنْ قَبْلُ النِّعَمَ وَهُوَ الْخَلْقُ مِنَ النُّطْفَةِ وَنَفْخُ الرُّوحِ الشَّرِيفَةِ فِيهِ وَالْإِغْنَاءُ وَالْإِقْنَاءُ، وَذَكَرَ أَنَّ الْكَافِرَ بِنِعَمِهِ أُهْلِكَ قَالَ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى فَيُصِيبُكَ مِثْلَ مَا أَصَابَ الَّذِينَ تَمَارَوْا مِنْ قَبْلُ، أَوْ تَقُولُ: لَمَّا ذُكِرَ الْإِهْلَاكُ، قَالَ لِلشَّاكِّ: أَنْتَ مَا أَصَابَكَ الَّذِي أَصَابَهُمْ وَذَلِكَ بِحِفْظِ اللَّهِ إِيَّاكَ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى وَسَنَزِيدُهُ بَيَانًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن: 13] في مواضع. ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 56] هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِهَذَا مَاذَا؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِنْسِ النُّذُرِ الْأُولَى ثَانِيهَا: الْقُرْآنُ ثَالِثُهَا: مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَخْبَارِ الْمُهْلَكِينَ، وَمَعْنَاهُ حِينَئِذٍ هَذَا بَعْضُ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ مُنْذِرَةٌ، وَعَلَى قَوْلِنَا: الْمُرَادُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فالنذير هو المنذر و (من) لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَعَلَى قَوْلِنَا: الْمُرَادُ هُوَ الْقُرْآنُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّذِيرُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، وَكَوْنُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْقُرْآنِ بَعِيدٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، أَمَّا مَعْنًى: فَلِأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الصُّحُفِ الْأُولَى لِأَنَّهُ مُعْجِزٌ وَتِلْكَ لَمْ تَكُنْ مُعْجِزَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَقَالَ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى [النجم: 55] قَالَ: هَذَا نَذِيرٌ إِشَارَةٌ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللُّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِثْبَاتًا لِلرِّسَالَةِ، وَقَالَ بَعْدَ ذلك: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ [النجم: 57] إِشَارَةً إِلَى الْقِيَامَةِ لِيَكُونَ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الْمُرَتَّبَةِ إِثْبَاتُ أُصُولٍ ثَلَاثٍ مُرَتَّبَةٍ، فَإِنَّ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ هُوَ اللَّهُ وَوَحْدَانِيَّتُهُ ثُمَّ الرَّسُولُ وَرِسَالَتُهُ ثُمَّ الْحَشْرُ وَالْقِيَامَةُ، وَأَمَّا لَفْظًا فَلِأَنَّ النَّذِيرَ إِنْ كَانَ كَامِلًا، فَمَا ذَكَرَهُ مِنْ حِكَايَةِ الْمُهْلَكِينَ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْرَبُ وَيَكُونُ/ عَلَى هَذَا مِنْ بَقِيَ عَلَى حَقِيقَةِ التَّبْعِيضِ أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا بَعْضَ مَا جَرَى وَنُبَذٌ مِمَّا وَقَعَ، أَوْ يَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، بِمَعْنَى هَذَا إِنْذَارٌ مِنَ الْمُنْذِرِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ، يُقَالُ: هَذَا الْكِتَابُ، وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ فُلَانٍ وَعَلَى الْأَقْوَالِ كُلِّهَا لَيْسَ ذِكْرُ الْأُولَى لِبَيَانِ الْمَوْصُوفِ بِالْوَصْفِ وَتَمْيِيزِهِ عَنِ النُّذُرِ الْآخِرَةِ كَمَا يُقَالُ: الْفِرْقَةُ الْأُولَى احْتِرَازًا عَنِ الْفِرْقَةِ الْأَخِيرَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ الوصف

[سورة النجم (53) : آية 57]

لِلْمَوْصُوفِ، كَمَا يُقَالُ: زَيْدٌ الْعَالِمُ جَاءَنِي فَيَذْكُرُ الْعَالِمَ، إِمَّا لِبَيَانِ أَنَّ زَيْدًا عَالِمٌ غَيْرَ أَنَّكَ لَا تَذْكُرُهُ بِلَفْظِ الْخَبَرِ فَتَأْتِي بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْوَصْفِ، وَإِمَّا لِمَدْحِ زَيْدٍ بِهِ، وَإِمَّا لِأَمْرٍ آخَرَ، وَالْأَوْلَى عَلَى الْعَوْدِ إِلَى لَفْظِ الْجَمْعِ وَهُوَ النُّذُرُ وَلَوْ كَانَ لِمَعْنَى الْجَمْعِ لَقَالَ: مِنَ النُّذُرِ الْأَوَّلِينَ يُقَالُ مِنَ الأقوام المتقدمة والمتقدمين على اللفظ والمعنى. ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 57] أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الْوَاقِعَةِ: 1] وَيُقَالُ: كَانَتِ الْكَائِنَةُ. وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ مِنْهَا مَا إِذَا كَانَ الْفَاعِلُ صَارَ فَاعِلًا لِمِثْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ مِنْ قَبْلُ، ثُمَّ صَدَرَ مِنْهُ مَرَّةً أُخْرَى مِثْلَ الْفِعْلِ، فَيُقَالُ: فَعَلَ الْفَاعِلُ أَيِ الَّذِي كَانَ فَاعِلًا صَارَ فَاعِلًا مَرَّةً أُخْرَى، يُقَالُ: حَاكَهُ الْحَائِكُ أَيْ مَنْ شَغَلَهُ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ فَعَلَهُ، وَمِنْهَا مَا يَصِيرُ الْفَاعِلُ فَاعِلًا بِذَلِكَ الْفِعْلِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: «إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ» وَإِذَا غَصَبَ الْعَيْنَ غَاصِبٌ ضَمِنَهُ، فَقَوْلُهُ: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقَبِيلِ الْأَوَّلِ أَيْ قَرُبَتِ السَّاعَةُ الَّتِي كَلَّ يَوْمٍ يَزْدَادُ قُرْبُهَا فَهِيَ كَائِنَةٌ قَرِيبَةٌ وَازْدَادَتْ فِي الْقُرْبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي قرب وقوعها وأزفت فَاعِلُهَا فِي الْحَقِيقَةِ الْقِيَامَةُ أَوِ السَّاعَةُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَزِفَتِ الْقِيَامَةُ الْآزِفَةُ أَوِ السَّاعَةُ أَوْ مثلها. وقوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 58] لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: لَا مُظْهِرَ لَهَا إِلَّا اللَّهُ فَمَنْ يَعْلَمُهَا لَا يَعْلَمُ إِلَّا بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ وَإِظْهَارِهِ إِيَّاهَا لَهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لُقْمَانَ: 34] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الْأَعْرَافِ: 187] . ثَانِيهَا: لَا يَأْتِي بِهَا إِلَّا اللَّهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَامِ: 17] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: (مِنْ) زَائِدَةٌ تَقْدِيرُهُ لَيْسَ لَهَا غَيْرُ اللَّهِ كَاشِفَةٌ، وَهِيَ تَدْخُلُ عَلَى النَّفْيِ فَتُؤَكِّدُ مَعْنَاهُ، تَقُولُ: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ وَمَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ، وَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ لَيْسَ لَهَا مِنْ كَاشِفَةٍ دُونَ اللَّهِ، فَيَكُونُ نَفْيًا عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَوَاشِفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ بَلْ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ نَفْسٌ تَكْتَشِفُهَا أَيْ تُخْبِرُ عَنْهَا كَمَا هِيَ وَمَتَى وَقْتُهَا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى يَعْنِي مَنْ يَكْشِفُهَا فَإِنَّمَا يَكْشِفُهَا مِنَ اللَّهِ لَا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ يُقَالُ: كَشْفُ الْأَمْرِ مِنْ زيد، ودون يَكُونُ بِمَعْنَى غَيْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [الصَّافَّاتِ: 86] أَيْ غَيْرَ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَاشِفَةٌ صِفَةٌ لِمُؤَنَّثٍ أَيْ نَفْسٌ كَاشِفَةٌ، وَقِيلَ هِيَ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا فِي الْعَلَّامَةِ وَعَلَى هَذَا لَا يُقَالُ بِأَنَّهُ نَفْيٌ أَنْ يَكُونَ لَهَا كَاشِفَةٌ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْكَاشِفِ الْفَائِقِ نَفْيُ/ نَفْسِ الْكَاشِفِ، لِأَنَّا نَقُولُ: لَوْ كَشَفَهَا أَحَدٌ لَكَانَ كَاشِفًا بِالْوَجْهِ الْكَامِلِ، فَلَا كَاشِفَ لَهَا وَلَا يَكْشِفُهَا أَحَدٌ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق: 29] مِنْ حَيْثُ نَفْيُ كَوْنِهِ ظَالِمًا مُبَالِغًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ كَوْنِهِ ظَالِمًا، وَقُلْنَا هُنَاكَ: إِنَّهُ لَوْ ظَلَمَ عَبِيدَهُ الضُّعَفَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ لَكَانَ فِي غَايَةِ الظُّلْمِ وَلَيْسَ فِي غَايَةِ الظُّلْمِ فَلَا يَظْلِمُهُمْ أَصْلًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا قُلْتَ: إِنْ مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهَا نَفْسٌ كَاشِفَةٌ، فَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ اللَّهِ اسْتِثْنَاءٌ عَلَى الْأَشْهَرِ مِنَ الْأَقْوَالِ، فَيَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسًا لَهَا كَاشِفَةٌ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: لَا فَسَادَ فِي ذَلِكَ قَالَ الله

[سورة النجم (53) : آية 59]

تَعَالَى: وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [الْمَائِدَةِ: 116] حِكَايَةً عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمَعْنَى الْحَقِيقَةُ. الثَّانِي: لَيْسَ هُوَ صَرِيحُ الِاسْتِثْنَاءِ فَيَجُوزُ فِيهِ أَنْ لَا يَكُونَ نَفْسًا الثَّالِثُ: الِاسْتِثْنَاءُ الْكَاشِفُ المبالغ. ثم قال تعالى: [سورة النجم (53) : آية 59] أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) قِيلَ: مِنَ الْقُرْآنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى حَدِيثِ: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ [النجم: 57] فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَجَّبُونَ مِنْ حَشْرِ الْأَجْسَادِ وَجَمْعِ العظام. بعد الفساد. [سورة النجم (53) : آية 60] وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وقوله تعالى: وَتَضْحَكُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَتَضْحَكُونَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ [الزُّخْرُفِ: 47] فِي حَقِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانُوا هُمْ أَيْضًا يَضْحَكُونَ مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِنْكَارًا عَلَى مُطْلَقِ الضَّحِكِ مَعَ سَمَاعِ حَدِيثِ الْقِيَامَةِ، أَيْ أَتَضْحَكُونَ وَقَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَرُبَتْ، فَكَانَ حَقًّا أَنْ لَا تَضْحَكُوا حِينَئِذٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَبْكُونَ أَيْ كَانَ حَقًّا لَكُمْ أَنْ تَبْكُوا مِنْهُ فَتَتْرُكُونَ ذَلِكَ وَتَأْتُونَ بضده. [سورة النجم (53) : آية 61] وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ سامِدُونَ أَيْ غَافِلُونَ، وَذُكِرَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، لِأَنَّ الْغَفْلَةَ دَائِمَةٌ، وَأَمَّا الضَّحِكُ وَالْعَجَبُ فَهُمَا أَمْرَانِ يَتَجَدَّدَانِ وَيَعْدَمَانِ. [سورة النجم (53) : آية 62] فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَامًّا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْتِفَاتًا، فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ اسْجُدُوا شُكْرًا عَلَى الْهِدَايَةِ وَاشْتَغِلُوا بِالْعِبَادَةِ، وَلَمْ يَقُلْ: اعْبُدُوا اللَّهَ إِمَّا لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، وَإِمَّا لِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ، فَقَالَ: وَاعْبُدُوا أَيِ ائْتُوا بِالْمَأْمُورِ، وَلَا تَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِعِبَادَةٍ، وَهَذَا يُنَاسِبُ السَّجْدَةَ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ مُنَاسِبَةً أَشَدَّ وَأَتَمَّ مِمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعُمُومِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.

سورة القمر

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة القمر خمسون وخمس آيات مكية [سورة القمر (54) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) أَوَّلُ السُّورَةِ مُنَاسِبٌ لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ [النَّجْمِ: 57] فَكَأَنَّهُ أَعَادَ ذَلِكَ مَعَ الدَّلِيلِ، وَقَالَ قُلْتُ: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ وَهُوَ حَقٌّ، إِذِ الْقَمَرُ انْشَقَّ، وَالْمُفَسِّرُونَ بِأَسْرِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ، وَحَصَلَ فِيهِ الِانْشِقَاقُ، وَدَلَّتِ الْأَخْبَارُ عَلَى حَدِيثِ الِانْشِقَاقِ، وَفِي الصَّحِيحِ خَبَرٌ مَشْهُورٌ رَوَاهُ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَالُوا: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةَ الِانْشِقَاقِ بِعَيْنِهَا مُعْجِزَةً، فَسَأَلَ رَبَّهُ فَشَقَّهُ وَمَضَى، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُرَادُ سَيَنْشَقُّ، وَهُوَ بَعِيدٌ وَلَا مَعْنَى لَهُ، لِأَنَّ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ وَهُوَ الْفَلْسَفِيُّ يَمْنَعُهُ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَمَنْ يُجَوِّزُهُ لَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الذَّاهِبُ، لِأَنَّ الِانْشِقَاقَ أَمْرٌ هَائِلٌ، فَلَوْ وَقَعَ لَعَمَّ وَجْهَ الْأَرْضِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَبْلُغَ حَدَّ التَّوَاتُرِ، نَقُولُ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ يَتَحَدَّى بِالْقُرْآنِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّا نَأْتِي بِأَفْصَحِ مَا يَكُونُ مِنَ الْكَلَامِ، وَعَجَزُوا عَنْهُ، فَكَانَ الْقُرْآنُ مُعْجِزَةً بَاقِيَةً إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ لَا يَتَمَسَّكُ بِمُعْجِزَةٍ أُخْرَى فَلَمْ يَنْقُلْهُ الْعُلَمَاءُ بِحَيْثُ يَبْلُغُ حَدَّ التَّوَاتُرِ. وَأَمَّا الْمُؤَرِّخُونَ فَتَرَكُوهُ، لِأَنَّ التَّوَارِيخَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ يَسْتَعْمِلُهَا الْمُنَجِّمُ، وَهُوَ لَمَّا وَقَعَ الْأَمْرُ قَالُوا: بِأَنَّهُ مِثْلُ خُسُوفِ الْقَمَرِ، وَظُهُورِ شَيْءٍ فِي الْجَوِّ عَلَى شَكْلِ نِصْفِ الْقَمَرِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَتَرَكُوا حِكَايَتَهُ فِي تَوَارِيخِهِمْ، وَالْقُرْآنُ أَدَلُّ دَلِيلٍ وَأَقْوَى مُثْبِتٍ لَهُ، وَإِمْكَانُهُ لَا يُشَكُّ فِيهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ الصَّادِقُ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ وُقُوعِهِ، وَحَدِيثُ امْتِنَاعِ الْخَرْقِ وَالِالْتِئَامِ حَدِيثُ اللِّئَامِ، وَقَدْ ثَبَتَ جواز الخرق والتخريب على السموات، وذكرناه مرارا فلا نعيده. وقوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 2] وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) تَقْدِيرُهُ: وَبَعْدَ هَذَا إِنْ يَرَوْا آيَةً يَقُولُوا سِحْرٌ، فَإِنَّهُمْ رَأَوْا آيَاتٍ أَرْضِيَّةً، وَآيَاتٍ سَمَاوِيَّةً، وَلَمْ يُؤْمِنُوا، وَلَمْ يَتْرُكُوا عِنَادَهُمْ، فَإِنْ يَرَوْا مَا يَرَوْنَ بَعْدَ هَذَا لَا يُؤْمِنُونَ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْمَعْنَى أَنَّ عَادَتَهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا، فَلَمَّا رَأَوُا انْشِقَاقَ الْقَمَرِ أَعْرَضُوا لِتِلْكَ الْعَادَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: قَوْلُهُ: آيَةً مَاذَا؟ نَقُولُ آيَةُ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ، فَإِنَّ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ مِنْ آيَاتِهِ، وَقَدْ/ رَدُّوا وَكَذَّبُوا، فَإِنْ يَرَوْا غَيْرَهَا أَيْضًا يُعْرِضُوا، أَوْ آيَةُ الِانْشِقَاقِ فَإِنَّهَا مُعْجِزَةٌ، أَمَّا كَوْنُهَا مُعْجِزَةً فَفِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَأَمَّا كَوْنُهَا آية

الساعة، فلأن منكر خراب الْعَالَمِ يُنْكِرُ انْشِقَاقَ السَّمَاءِ وَانْفِطَارِهَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فِي كُلِّ جِسْمٍ سَمَاوِيٍّ مِنَ الْكَوَاكِبِ، فَإِذَا انْشَقَّ بَعْضُهَا ثَبَتَ خِلَافَ مَا يَقُولُ بِهِ، وَبَانَ جَوَازُ خَرَابِ الْعَالَمِ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ أَنَّ مِنْ عَلَامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ انْشِقَاقُ الْقَمَرِ عَنْ قَرِيبٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ حَمَلَهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ضِيقُ الْمَكَانِ، وَخَفَاءُ الْأَمْرِ عَلَى الْأَذْهَانِ، وَبَيَانُ ضَعْفِهِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْقَمَرَ يَنْشَقُّ، وَهُوَ عَلَّامَةُ قِيَامِ السَّاعَةِ، لَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ مِثْلَ خُرُوجِ دَابَّةِ الْأَرْضِ، وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ، فَلَا يَكُونُ مُعْجِزَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَجَائِبُ، وَلَيْسَتْ بِمُعْجِزَةٍ لِلنَّبِيِّ، لَا يُقَالُ: الْإِخْبَارُ عَنْهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا مُعْجِزَةٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: فَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ، فَلَا يَكُونُ هُوَ مُعْجِزَةً بِرَأْسِهِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ، وَلَا يُقَالُ: بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُعْجِزَةً وَعَلَامَةً، فَأَخْبَرَ اللَّهُ فِي الصُّحُفِ وَالْكُتُبِ السَّالِفَةِ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكُونُ السَّاعَةُ قَرِيبَةً حِينَئِذٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَعْثَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَامَةٌ كَائِنَةٌ حَيْثُ قَالَ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» وَلِهَذَا يُحْكَى عَنْ سَطِيحٍ أَنَّهُ لَمَّا أُخْبِرَ بِوُجُودِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَنْ أُمُورٍ تَكُونُ، فَكَانَ وُجُودُهُ دَلِيلَ أُمُورٍ، وَأَيْضًا الْقَمَرُ لَمَّا انْشَقَّ كَانَ انْشِقَاقُهُ عِنْدَ اسْتِدْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ كَانُوا غَافِلِينَ عَمَّا فِي الْكُتُبِ، وَأَمَّا أَصْحَابُ الْكُتُبِ فَلَمْ يَفْتَقِرُوا إِلَى بَيَانِ عَلَامَةِ السَّاعَةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِهَا وَبِقُرْبِهَا، فَهِيَ إِذَنْ آيَةٌ دَالَّةٌ على جواز تخريب السموات وهو العمدة الكبرى، لأن السموات إِذَا طُوِيَتْ وَجُوِّزَ ذَلِكَ، فَالْأَرْضُ وَمَنْ عَلَيْهَا لَا يُسْتَبْعَدُ فَنَاؤُهُمَا، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَعْنَى اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْعُقُولِ وَالْأَذْهَانِ، يَقُولُ: مَنْ يَسْمَعْ أَمْرًا لَا يَقَعُ هَذَا بَعِيدٌ مُسْتَبْعَدٌ، وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ ضُعَفَاءِ الْأَذْهَانِ يُنْكِرُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى قُرْبِ الْوُقُوعِ زَمَانًا لَا إِمْكَانًا يُمَكِّنُ الْكَافِرَ مِنْ مُجَادَلَةٍ فَاسِدَةٍ، فَيَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْتَرَبَتِ وَيَقُولُونَ بِأَنَّ مِنْ قَبْلُ أَيْضًا فِي الْكُتُبِ [السَّابِقَةِ] كَانَ يَقُولُ: (اقترب الوعد) ثُمَّ مَضَى مِائَةُ سَنَةٍ وَلَمْ يَقَعْ، وَلَا يَبْعُدْ أَنْ يَمْضِيَ أَلْفٌ آخَرُ وَلَا يَقَعُ، وَلَوْ صَحَّ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْقُرْبِ زَمَانًا عَلَى مِثْلِ هَذَا لَا يَبْقَى وُثُوقٌ بِالْإِخْبَارَاتِ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ: اقْتَرَبَتِ لِانْتِهَازِ الْفُرْصَةِ، وَالْإِيمَانِ قَبْلَ أَنْ لَا يَصِحَّ الْإِيمَانُ، فَلِلْكَافِرِ أَنْ يَقُولَ، إِذَا كَانَ الْقُرْبُ بِهَذَا الْمَعْنَى فَلَا خَوْفَ مِنْهَا، لِأَنَّهَا لَا تُدْرِكُنِي، وَلَا تُدْرِكُ أَوْلَادِي، وَلَا أَوْلَادَ أَوْلَادِي، وَإِذَا كَانَ إِمْكَانُهَا قَرِيبًا فِي الْعُقُولِ يَكُونُ ذَلِكَ رَدًّا بَالِغًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوَّلَ مَا كَلَّفَ الِاعْتِرَافَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَقَالَ: اعْلَمُوا أَنَّ الْحَشْرَ كَائِنٌ فَخَالَفَ الْمُشْرِكُ وَالْفَلْسَفِيُّ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِمُجَرَّدِ إِنْكَارِ مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِبَيَانِهِ، وَلَمْ يَقُلْ لَا يَقَعُ أَوْ لَيْسَ بِكَائِنٍ، بَلْ قَالَ ذَلِكَ بَعِيدٌ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِهَذَا أَيْضًا، بَلْ قَالَ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِهِ أَيْضًا، بَلْ قَالَ فَإِنَّ امْتِنَاعَهُ ضَرُورِيٌّ، فَإِنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ إِعَادَةَ الْمَعْدُومِ وَإِحْيَاءَ الْمَوْتَى محال/ بالضرورة، ولهذا قالوا: أَإِذا مِتْنا [المؤمنون: 82] أَإِذا كُنَّا عِظاماً [الأسراء: 49] أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [السَّجْدَةِ: 10] بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ مَعَ ظُهُورِ الْأَمْرِ، فَلَمَّا اسْتَبْعَدُوا لَمْ يَكْتَفِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِبَيَانِ وُقُوعِهِ، بَلْ قَالَ: أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها [الْحَجِّ: 7] وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهِ بَلْ قَالَ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الْأَحْزَابِ: 63] وَلَمْ يَتْرُكْهَا حَتَّى قَالَ (اقْتَرَبَتِ الساعة واقترب الوعد الحق اقترب للناس حسابهم) اقْتِرَابًا عَقْلِيًّا لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْكَرَ مَا يَقَعُ فِي زَمَانٍ طَرْفَةَ عَيْنٍ، لِأَنَّهُ عَلَى اللَّهِ يَسِيرُ، كَمَا أَنَّ تَقْلِيبَ الْحَدَقَةِ عَلَيْنَا يَسِيرٌ، بَلْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ بِكَثِيرٍ، وَالَّذِي يُقَوِّيهِ قَوْلُ الْعَامَّةِ: إِنَّ زَمَانَ وُجُودِ الْعَالَمِ زَمَانٌ مَدِيدٌ، وَالْبَاقِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَاضِي شَيْءٌ يَسِيرٌ، فَلِهَذَا قَالَ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ.

[سورة القمر (54) : آية 3]

وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» فَمَعْنَاهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي فَإِنَّ زَمَانِي يَمْتَدُّ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، فَزَمَانِي وَالسَّاعَةُ مُتَلَاصِقَانِ كَهَاتَيْنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الزَّمَانَ زَمَانُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا دَامَتْ أَوَامِرُهُ نَافِذَةً فَالزَّمَانُ زَمَانُهُ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ هُوَ فِيهِ، كَمَا أَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي تَنْفُذُ فِيهِ أَوَامِرُ الْمَلِكِ مَكَانُ الْمَلِكِ يُقَالُ لَهُ بِلَادُ فُلَانٍ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الْقُرْبِ بِالْمَعْقُولِ مَعَ أَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ؟ قُلْتُ: كَمَا صَحَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الْأَحْزَابِ: 63] فَإِنَّ لَعَلَّ لِلتَّرَجِّي وَالْأَمْرُ عِنْدَ اللَّهِ مَعْلُومٌ، وَفَائِدَتُهُ أَنَّ قِيَامَ السَّاعَةِ مُمْكِنٌ لَا إِمْكَانًا بَعِيدًا عَنِ الْعَادَاتِ كَحَمْلِ الْآدَمِيِّ فِي زَمَانِنَا حِمْلًا فِي غَايَةِ الثِّقَلِ أَوْ قَطْعِهِ مَسَافَةً بَعِيدَةً فِي زَمَانٍ يَسِيرٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ إِمْكَانًا بَعِيدًا، وَأَمَّا تَقْلِيبُ الْحَدَقَةِ فَمُمْكِنٌ إِمْكَانًا فِي غَايَةِ الْقُرْبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْجَمْعُ الَّذِينَ تَكُونُ الْوَاوُ ضَمِيرَهُمْ في قوله يَرَوْا ويُعْرِضُوا غَيْرُ مَذْكُورٍ فَمَنْ هُمْ؟ نَقُولُ: هُمْ مَعْلُومُونَ وَهُمُ الْكُفَّارُ تَقْدِيرُهُ: وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: التَّنْكِيرُ فِي الْآيَةِ لِلتَّعْظِيمِ أَيْ إِنْ يَرَوْا آيَةً قَوِيَّةً أَوْ عَظِيمَةً يُعْرِضُوا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ مَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ: فَائِدَتُهُ بَيَانُ كَوْنِ الْآيَةِ خَالِيَةً عَنْ شَوَائِبَ الشَّبَهِ، وَأَنَّ الِاعْتِرَافَ لَزِمَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقُولُوا: نَحْنُ نَأْتِي بِمِثْلِهَا وَبَيَانُ كَوْنِهِمْ مُعْرِضِينَ لَا إِعْرَاضَ مَعْذُورٍ، فَإِنَّ مَنْ يُعْرِضُ إِعْرَاضَ مَشْغُولٍ بِأَمْرٍ مُهِمٍّ فَلَمْ يَنْظُرْ فِي الْآيَةِ لَا يُسْتَقْبَحُ مِنْهُ الْإِعْرَاضُ مِثْلَ مَا يُسْتَقْبَحُ لمن ينظر فيها إِلَى آخِرِهَا وَيَعْجَزُ عَنْ نِسْبَتِهَا إِلَى أَحَدٍ وَدَعْوَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا، ثُمَّ يَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ هَذَا سِحْرٌ لِأَنَّ مَا مِنْ آيَةٍ إِلَّا وَيُمْكِنُ الْمُعَانِدُ أَنْ يَقُولَ فِيهَا هَذَا الْقَوْلَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا الْمُسْتَمِرُّ؟ نَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: دَائِمٌ فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْتِي كُلُّ زَمَانٍ بِمُعْجِزَةٍ قَوْلِيَّةٍ أَوْ فِعْلِيَّةٍ أَرْضِيَّةٍ أَوْ سَمَاوِيَّةٍ، فَقَالُوا: هَذَا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ دَائِمٌ لَا يَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِخِلَافِ سِحْرِ السَّحَرَةِ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ يَقْدِرُ عَلَى أَمْرٍ وَأَمْرَيْنِ/ وَثَلَاثَةٍ وَيَعْجَزُ عَنْ غَيْرِهَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْكُلِّ وَثَانِيهَا: مُسْتَمِرٌّ أَيْ قَوِيٌّ مِنْ حَبْلٍ مَرِيرِ الْفَتْلِ مِنَ الْمِرَّةِ وَهِيَ الشِّدَّةُ وَثَالِثُهَا: مِنَ الْمَرَارَةِ أَيْ سِحْرٌ مُرٌّ مُسْتَبْشَعٌ وَرَابِعُهَا: مُسْتَمِرٌّ أَيْ مَارٍّ ذَاهِبٍ، فَإِنَّ السِّحْرَ لَا بَقَاءَ له. [سورة القمر (54) : آية 3] وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: وَكَذَّبُوا مُحَمَّدًا الْمُخْبِرَ عَنِ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ وَثَانِيهِمَا: كَذَّبُوا بِالْآيَةِ وَهِيَ انْشِقَاقُ الْقَمَرِ، فَإِنْ قُلْنَا: كَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَوْلُهُ: وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ أَيْ تَرَكُوا الْحُجَّةَ وَأَوَّلُوا الْآيَاتِ وَقَالُوا: هُوَ مَجْنُونٌ تُعِينُهُ الْجِنُّ وَكَاهِنٌ يَقُولُ: عَنِ النُّجُومِ وَيَخْتَارُ الْأَوْقَاتَ للأفعال وساحر، فهذه أهواءهم، وَإِنْ قُلْنَا: كَذَّبُوا بِانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، فَقَوْلُهُ: وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ فِي أَنَّهُ سَحَرَ الْقَمَرَ، وَأَنَّهُ خُسُوفٌ والقمر لم يصبه شيء فهذه أهواءهم، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي كُلِّ آيَةٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ عَلَى سُنَنِ الْحَقِّ يَثْبُتُ وَالْبَاطِلُ يَزْهَقُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَهْدِيدًا لَهُمْ، وَتَسْلِيَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ [الزمر: 7] أَيْ بِأَنَّهَا حَقٌّ ثَانِيهَا: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٍّ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شيء فَهُمْ كَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَالْأَنْبِيَاءُ صَدَّقُوا وَبَلَّغُوا مَا جَاءَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ [غَافِرٍ: 16] ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى

[سورة القمر (54) : آية 4]

فِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [الْقَمَرِ: 52، 53] ، ثَالِثُهَا: هُوَ جَوَابُ قَوْلِهِمْ: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ أَيْ لَيْسَ أَمْرُهُ بِذَاهِبٍ بَلْ كُلُّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِهِ مستقر. ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 4] وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ لُطْفٌ بِالْعِبَادِ قَدْ وُجِدَ، فَأَخْبَرَهُمُ الرَّسُولُ بِاقْتِرَابِ السَّاعَةِ، و. أقام الدَّلِيلَ عَلَى صِدْقِهِ، وَإِمْكَانِ قِيَامِ السَّاعَةِ عَقِيبَ دَعَوَاهُ بِانْشِقَاقِ الْقَمَرِ الَّذِي هُوَ آيَةٌ لِأَنَّ مَنْ يُكَذِّبُ بِهَا لَا يُصَدِّقُ بِشَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ فَكَذَّبُوا بِهَا وَاتَّبَعُوا الْأَبَاطِيلَ الذَّاهِبَةَ، وَذَكَرُوا الْأَقَاوِيلَ الْكَاذِبَةَ فَذَكَرَ لَهُمْ أَنْبَاءَ الْمُهْلِكِينَ بِالْآيَتَيْنِ تَخْوِيفًا لَهُمْ، وَهَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الْحُكْمِيُّ، وَلِهَذَا قال بعد الآيات: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ [القمر: 5] أَيْ هَذِهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، وَالْأَنْبَاءُ هِيَ الْأَخْبَارُ الْعِظَامُ، وَيَدُلُّكَ عَلَى صِدْقِهِ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ لَمْ يَرِدِ النَّبَأُ وَالْأَنْبَاءُ إِلَّا لِمَا لَهُ وَقْعٌ قَالَ: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النَّمْلِ: 22] لِأَنَّهُ كَانَ خَبَرًا عَظِيمًا وَقَالَ: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ [الْحُجُرَاتِ: 6] أَيْ مُحَارَبَةٌ أَوْ مُسَالَمَةٌ وَمَا يُشْبِهُهُ مِنَ الْأُمُورِ الْعُرْفِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ التَّثَبُّتُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَمْرٌ ذُو بَالٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [آلِ عِمْرَانَ: 44] فَكَذَلِكَ الْأَنْبَاءُ هَاهُنَا، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ [الْقَصَصِ: 29] حَيْثُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَظْهَرُ لَهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: نَبَأٌ/ وَلَمْ يَقْصِدْهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنْبَاءُ الْمُهْلِكِينَ بِسَبَبِ التَّكْذِيبِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ الْقُرْآنُ، وَتَقْدِيرُهُ جَاءَ فِيهِ الْأَنْبَاءُ، وَقِيلَ قَوْلُهُ: جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الزَّوَاجِرِ وَالْمَوَاعِظِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ: فِيهِ مُزْدَجَرٌ وَفِي: مَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ أَيْ جَاءَكُمُ الَّذِي فِيهِ مُزْدَجَرٌ ثَانِيهِمَا: مَوْصُوفَةٌ تَقْدِيرُهُ: جَاءَكُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ شَيْءٌ مَوْصُوفٌ بِأَنَّ فِيهِ مُزْدَجَرٌ وَهَذَا أَظْهَرُ وَالْمُزْدَجَرُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا ازْدِجَارٌ وَثَانِيهِمَا مَوْضِعُ ازْدِجَارٍ، كَالْمُرْتَقَى، وَلَفْظُ الْمَفْعُولِ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ كَثِيرٌ لِأَنَّ المصدر هو المفعول الحقيقي. [سورة القمر (54) : آية 5] حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقُرْآنُ، قَالَ: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ بَدَلٌ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ مَا فِي قَوْلِهِ: مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ الثَّانِي: حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هَذِهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَالْإِشَارَةُ حِينَئِذٍ تَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: هَذَا التَّرْتِيبُ الَّذِي فِي إِرْسَالِ الرَّسُولِ وَإِيضَاحِ الدَّلِيلِ وَالْإِنْذَارِ بِمَنْ مَضَى مِنَ الْقُرُونِ وَانْقَضَى حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ثَانِيهَا: إِنْزَالُ مَا فِيهِ الْأَنْبَاءُ: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ ثَالِثُهَا: هَذِهِ السَّاعَةُ الْمُقْتَرِبَةُ وَالْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَيْهَا حِكْمَةٌ الثَّالِثُ: قُرِئَ بِالنَّصْبِ فَيَكُونُ حَالًا وَذُو الْحَالِ مَا فِي قَوْلِهِ: مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ أَيْ جَاءَكُمْ ذَلِكَ حِكْمَةً، فَإِنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ مَا مَوْصُولَةً تَكُونُ مُعَرَّفَةً فَيَحْسُنُ كَوْنُهُ ذَا الْحَالِ فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ شَيْءٌ فِيهِ ازْدِجَارٌ يَكُونُ مُنَكَّرًا وَتَنْكِيرُ ذِي الْحَالِ قَبِيحٌ نَقُولُ: كَوْنُهُ مَوْصُوفًا يَحْسُنُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: فَما تُغْنِ النُّذُرُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ مَا نَافِيَةٌ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ النُّذُرَ لَمْ يُبْعَثُوا لِيُغْنُوا وَيُلْجِئُوا قَوْمَهُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَإِنَّمَا أُرْسِلُوا مُبَلِّغِينَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [الشُّورَى: 48] وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ [القمر: 6] أَيْ لَيْسَ عَلَيْكَ وَلَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْإِغْنَاءُ والإلجاء، فإذا

[سورة القمر (54) : آية 6]

بَلَّغَتْ فَقَدْ أَتَيْتَ بِمَا عَلَيْكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ الَّتِي أُمِرْتَ بِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النَّحْلِ: 125] وَتَوَلَّ إِذَا لَمْ تَقْدِرْ ثَانِيهِمَا: (مَا) اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَمَعْنَى الْآيَاتِ حِينَئِذٍ أَنَّكَ أَتَيْتَ بِمَا عَلَيْكَ مِنَ الدَّعْوَى وَإِظْهَارِ الْآيَةِ عَلَيْهَا وَكَذَّبُوا فَأَنْذَرْتَهُمْ بِمَا جَرَى عَلَى الْمُكَذِّبِينَ فَلَمْ يُفِدْهُمْ فَهَذِهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَمَا الَّذِي تُغْنِي النُّذُرُ غَيْرَ هذا فلم يبق عليك شيء آخر. [سورة القمر (54) : آية 6] فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ المفسرين يقولون إلى قوله: فَتَوَلَّ مَنْسُوخٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ لَا تناظرهم بالكلام. ثم قال تعالى: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ قَدْ ذَكَرْنَا أَيْضًا أَنَّ مَنْ يَنْصَحْ شَخْصًا وَلَا يُؤَثِّرْ فِيهِ النُّصْحُ يُعْرِضْ عَنْهُ وَيَقُولُ مَعَ غَيْرِهِ: مَا فِيهِ نُصْحُ الْمُعْرِضِ عَنْهُ، وَيَكُونُ فِيهِ قَصْدُ إِرْشَادِهِ أيضا فقال بعد ما قال: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ... يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ [المعارج: 43] لِلتَّخْوِيفِ، وَالْعَامِلُ/ فِي: يَوْمَ هُوَ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ وَالدَّاعِي مُعَرَّفٌ كالمنادي في قوله: يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ [ق: 41] لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ، فَقِيلَ: إِنَّ مُنَادِيًا يُنَادِي وَدَاعِيًا يَدْعُو وَفِي الدَّاعِي وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِسْرَافِيلُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ جِبْرِيلُ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِذَلِكَ وَالتَّعْرِيفُ حِينَئِذٍ لَا يَقْطَعُ حَدَّ الْعِلْمِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ كَقَوْلِنَا: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: الرَّجُلُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ أَيْ مُنْكَرٍ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ فِي يَوْمِنَا هَذَا لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوهُ أَيْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ يَخْرُجُونَ ثَانِيهَا: نُكُرٍ أَيْ مُنْكَرٍ يَقُولُ: ذَلِكَ الْقَائِلُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ أَيْ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يُوجَدَ يُقَالُ: فُلَانٌ يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ عِنْدَهُمْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ لِأَنَّهُ يُرْدِيهِمْ فِي الْهَاوِيَةِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَلِكَ الشَّيْءُ النُّكُرُ؟ نَقُولُ: الْحِسَابُ أَوِ الْجَمْعُ لَهُ أَوِ النَّشْرُ لِلْجَمْعِ، وَهَذَا أَقْرَبُ، فَإِنْ قِيلَ: النَّشْرُ لَا يَكُونُ مُنْكَرًا فَإِنَّهُ إِحْيَاءٌ وَلِأَنَّ الْكَافِرَ مِنْ أَيْنَ يَعْرِفُ وَقْتَ النَّشْرِ وَمَا يَجْرِي عَلَيْهِ لِيُنْكِرَهُ؟ نَقُولُ: يعرف ويعلم بدليل قوله تعالى عنهم: يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس: 52] ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 7] خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) وَفِيهِ قِرَاءَاتٌ خَاشِعًا وَخَاشِعَةً وَخُشَّعًا، فَمَنْ قَرَأَ خَاشِعًا عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِ: يَخْشَعُ أَبْصَارُهُمْ عَلَى تَرْكِ التَّأْنِيثِ لِتَقَدُّمِ الْفِعْلِ وَمَنْ قَرَأَ خاشعة على قوله: تخشع أبصارهم وَمَنْ قَرَأَ خُشَّعًا فَلَهُ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: يَخْشَعْنَ أَبْصَارُهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ يَقُولُ: أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ ثَانِيهَا: فِي: خُشَّعاً ضَمِيرُ أَبْصَارُهُمْ بَدَلٌ عَنْهُ، تَقْدِيرُهُ يَخْشَعُونَ أَبْصَارُهُمْ عَلَى بَدَلِ الِاشْتِمَالِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَعْجَبُونِي حُسْنُهُمْ. ثَالِثُهَا: فِيهِ فِعْلٌ مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ يَخْرُجُونَ تَقْدِيرُهُ يَخْرُجُونَ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ عَلَى بَدَلِ الِاشْتِمَالِ وَالصَّحِيحُ خَاشِعًا، رُوِيَ أَنَّ مُجَاهِدًا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ أَوْ خَاشِعًا أَبْصَارُهُمْ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: خَاشِعًا، وَلِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهٌ آخَرُ أَظْهَرُ مِمَّا قَالُوهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ خُشَّعًا مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ خُشَّعًا أَيْ يَدْعُو هَؤُلَاءِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ لِأَنَّ الدَّاعِيَ يَدْعُو كُلَّ أَحَدٍ، ثَانِيهَا: قَوْلُهُ: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ بَعْدَ الدُّعَاءِ فَيَكُونُونَ خُشَّعًا قَبْلَ الْخُرُوجِ وَإِنَّهُ بَاطِلٌ، ثَالِثُهَا: قِرَاءَةُ خَاشِعًا تُبْطِلُ هَذَا، نَقُولُ أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ يَدْفَعُ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يُدْعَى إِلَى

[سورة القمر (54) : آية 8]

شَيْءٍ نُكُرٍ وَعَنِ الثَّانِي الْمُرَادُ: (مِنْ شَيْءٍ نكر) الحساب العسر يعني يوم يدع الداع إِلَى الْحِسَابِ الْعَسِرِ خُشَّعًا وَلَا يَكُونُ الْعَامِلُ في: يَوْمَ يَدْعُ يَخْرُجُونَ بَلِ اذْكُرُوا، أَوْ: فَما تُغْنِ النُّذُرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [الْمُدَّثِّرِ: 48] وَيَكُونُ يَخْرُجُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ، وَعَنِ الثَّالِثِ أنه لا منافاة بين القراءتين، وخاشعا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ يدعو/ كأنه يقول: يدعو الداعي قوما خاشعة أَبْصَارُهُمْ وَالْخُشُوعُ السُّكُونُ قَالَ تَعَالَى: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ [طه: 108] وَخُشُوعُ الْأَبْصَارِ سُكُونُهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ لَا تَنْفَلِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ [إِبْرَاهِيمَ: 43] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ مَثَّلَهُمْ بِالْجَرَادِ الْمُنْتَشِرِ فِي الْكَثْرَةِ وَالتَّمَوُّجِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمُنْتَشِرُ مُطَاوِعُ نَشَرَهُ إِذَا أَحْيَاهُ فَكَأَنَّهُمْ جَرَادٌ يَتَحَرَّكُ مِنَ الْأَرْضِ وَيَدِبُّ إِشَارَةً إِلَى كَيْفِيَّةِ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ وَضَعْفِهِمْ. [سورة القمر (54) : آية 8] مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) ثم قال تعالى: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ أَيْ مُسْرِعِينَ إِلَيْهِ انْقِيَادًا يَقُولُ الْكافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ النَّاصِبُ ليوم في قوله تعالى: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ [القمر: 6] أَيْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي: يَقُولُ الْكافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ، وَفِيهِ فَائِدَتَانِ إِحْدَاهُمَا: تَنْبِيهُ الْمُؤْمِنِ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَلَى الْكَافِرِ عَسِيرٌ فَحَسْبُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [الْمُدَّثِّرِ: 9، 10] يَعْنِي لَهُ عُسْرٌ لَا يُسْرَ مَعَهُ ثَانِيَتُهُمَا: هِيَ أَنَّ الْأَمْرَيْنِ مُتَّفِقَانِ مُشْتَرِكَانِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَإِنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ وَالِانْقِطَاعُ إِلَى الدَّاعِي يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَخَافُ وَلَا يَأْمَنُ الْعَذَابَ إِلَّا بِإِيمَانِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ فَيُؤْتِيهِ اللَّهُ الثَّوَابَ فَيَبْقَى الْكَافِرُ فَيَقُولُ: هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَعَادَ بَعْضَ الْأَنْبَاءِ فقال: [سورة القمر (54) : آية 9] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فِيهَا تَهْوِينٌ وَتَسْلِيَةٌ لِقَلْبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ حَالَهُ كَحَالِ مَنْ تَقَدَّمَهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِلْحَاقُ ضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ بِالْفِعْلِ قَبْلَ ذِكْرِ الْفَاعِلِ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ وَحَسَنٌ، وَإِلْحَاقُ ضَمِيرِ الْجَمْعِ بِهِ قَبِيحٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، فَلَا يُجَوِّزُونَ كَذَّبُوا قَوْمَ نُوحٍ، وَيُجَوِّزُونَ كَذَّبَتْ فَمَا الْفَرْقُ؟ نَقُولُ: التَّأْنِيثُ قَبْلَ الْجَمْعِ لِأَنَّ الْأُنُوثَةَ وَالذُّكُورَةَ لِلْفَاعِلِ أَمْرٌ لَا يتبدل ولا تَحْصُلِ الْأُنُوثَةُ لِلْفَاعِلِ بِسَبَبِ فِعْلِهَا الَّذِي هُوَ فَاعِلُهُ فَلَيْسَ إِذَا قُلْنَا: ضَرَبَتْ هَذِهِ كَانَتْ هَذِهِ أُنْثَى لِأَجْلِ الضَّرْبِ بِخِلَافِ الْجَمْعِ، لِأَنَّ الْجَمْعَ لِلْفَاعِلِينَ بِسَبَبِ فِعْلِهِمُ الَّذِي هُمْ فَاعِلُوهُ، فَإِنَّا إِذَا قُلْنَا: جَمْعٌ ضَرَبُوا وَهُمْ ضَارِبُونَ لَيْسَ مُجَرَّدُ اجْتِمَاعِهِمْ فِي الْوُجُودِ يُصَحِّحُ قَوْلَنَا: ضَرَبُوا وَهُمْ ضَارِبُونَ، لِأَنَّهُمْ إِنِ اجْتَمَعُوا فِي مَكَانٍ فَهُمْ جَمْعٌ، وَلَكِنْ إِنْ لَمْ يَضْرِبِ الْكُلُّ لَا يَصِحُّ قَوْلُنَا: ضَرَبُوا، فَضَمِيرُ الْجَمْعِ مِنَ الْفِعْلِ فَاعِلُونَ جَمَعَهُمْ بِسَبَبِ الِاجْتِمَاعِ فِي الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِيَّةِ، وَلَيْسَ بِسَبَبِ الْفِعْلِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: ضَرَبُوا جَمْعٌ، لِأَنَّ الْجَمْعَ لَمْ يُفْهَمْ إِلَّا بِسَبَبِ أَنَّهُمْ ضَرَبُوا جَمِيعُهُمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَوَّلًا اجْتِمَاعُهُمْ فِي الْفِعْلِ، فَيَقُولُ: الضَّارِبُونَ ضَرَبُوا، وَأَمَّا ضَرَبَتْ هِنْدٌ فَصَحِيحٌ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: التَّأْنِيثُ لَمْ يُفْهَمْ إِلَّا بِسَبَبِ أَنَّهَا ضَرَبَتْ، بَلْ هِيَ كَانَتْ أُنْثَى فَوُجِدَ مِنْهَا ضَرْبٌ فَصَارَتْ ضَارِبَةً، وَلَيْسَ الْجَمْعُ كَانُوا جَمْعًا فَضَرَبُوا/ فَصَارُوا ضَارِبِينَ، بَلْ صَارُوا ضَارِبِينَ لِاجْتِمَاعِهِمْ فِي الْفِعْلِ وَلِهَذَا وَرَدَ الْجَمْعُ عَلَى اللَّفْظِ بَعْدَ وُرُودِ التَّأْنِيثِ عَلَيْهِ فقيل:

ضَارِبَةٌ وَضَارِبَاتٌ وَلَمْ يُجْمَعِ اللَّفْظُ أَوَّلًا لِأُنْثَى وَلَا لِذَكَرٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يُقَالَ: ضَرَبَ هِنْدٌ، وَحَسُنَ بِالْإِجْمَاعِ ضَرَبَ قَوْمٌ وَالْمُسْلِمُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا قَالَ تَعَالَى: كَذَّبَتْ مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَذَّبُوا عَبْدَنا؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ أَيْ بِآيَاتِنَا وَآيَةِ الانشقاق فكذبوا الثاني: كذبت قوم نوح الرسل وَقَالُوا: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ رَسُولًا وَكَذَّبُوهُمْ فِي التَّوْحِيدِ: فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا كَمَا كَذَّبُوا غَيْرَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْمَ نُوحٍ مُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَمَنْ يَعْبُدِ الْأَصْنَامَ يُكَذِّبْ كُلَّ رَسُولٍ وَيُنْكِرِ الرِّسَالَةَ لِأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَعَلُّقَ لِلَّهِ بِالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَإِنَّمَا أَمْرُهُ إِلَى الْكَوَاكِبِ فَكَانَ مَذْهَبُهُمُ التَّكْذِيبَ فَكَذَّبُوا الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَذَّبُوا عَبْدَنا لِلتَّصْدِيقِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ تَقْدِيرُهُ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ وَكَانَ تَكْذِيبُهُمْ عَبْدَنَا أَيْ لَمْ يَكُنْ تَكْذِيبًا بِحَقٍّ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: كَذَّبَنِي فَكَذَّبَ صَادِقًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَثِيرًا مَا يَخُصُّ اللَّهُ الصَّالِحِينَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى نَفْسِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي [الحجر: 42] يا عِبادِيَ [العنكبوت: 56] وَاذْكُرْ عَبْدَنا [ص: 17] إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا [يوسف: 24] وَكُلُّ وَاحِدٍ عَبْدُهُ فَمَا السِّرُّ فِيهِ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: مَا قِيلَ: فِي الْمَشْهُورِ أَنَّ الْإِضَافَةَ إِلَيْهِ تَشْرِيفٌ مِنْهُ فَمَنْ خَصَّصَهُ بِكَوْنِهِ عَبْدَهُ شُرِّفَ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ [الْبَقَرَةِ: 125] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ناقَةُ اللَّهِ [الأعراف: 73] الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْ عَبْدِنَا أَيِ الَّذِي عَبَدَنَا فَالْكُلُّ عِبَادٌ لِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلْعِبَادَةِ لِقَوْلِهِ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ عَبَدَ فَحَقَّقَ الْمَقْصُودَ فَصَارَ عَبْدَهُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: كُونُوا عِباداً لِي [آلِ عِمْرَانَ: 79] أَيْ حَقِّقُوا الْمَقْصُودَ الثَّالِثُ: الْإِضَافَةُ تُفِيدُ الْحَصْرَ فَمَعْنَى عَبْدَنَا هُوَ الَّذِي لَمْ يَقُلْ: بِمَعْبُودِ سِوَانَا، وَمَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ فَقَدِ اتَّخَذَ إِلَهًا فَالْعَبْدُ الْمُضَافُ هُوَ الَّذِي بِكُلِّيَّتِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ لِلَّهِ فَأَكْلُهُ وَشُرْبُهُ وَجَمِيعُ أُمُورِهِ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي اخْتِيَارِ لَفْظِ الْعَبْدِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ رَسُولُنَا لَكَانَ أَدَلَّ عَلَى قُبْحِ فِعْلِهِمْ؟ نَقُولُ: قَوْلُهُ عَبْدَنَا أَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ وَقُبْحِ تَكْذِيبِهِمْ مِنْ قَوْلِهِ رَسُولَنَا لَوْ قَالَهُ لَأَنَّ الْعَبْدَ أَقَلُّ تَحْرِيفًا لِكَلَامِ السَّيِّدِ مِنَ الرَّسُولِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الْحَاقَّةِ: 44- 46] . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى وَقالُوا مَجْنُونٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ أَتَى بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ حَيْثُ رَأَوْا مَا عَجَزُوا مِنْهُ، وَقَالُوا: هُوَ مُصَابُ الْجِنِّ أَوْ هُوَ لِزِيَادَةِ بَيَانِ قُبْحِ صُنْعِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَقْنَعُوا بِقَوْلِهِمْ إِنَّهُ كَاذِبٌ، بَلْ قالوا مجنون، أي يقول مالا يَقْبَلُهُ عَاقِلٌ، وَالْكَاذِبُ الْعَاقِلُ يَقُولُ مَا يَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فَقَالُوا: مَجْنُونٌ أَيْ يَقُولُ مَا لَمْ يَقُلْ بِهِ عَاقِلٌ فَبَيَّنَ مُبَالَغَتَهُمْ فِي التَّكْذِيبِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: وَازْدُجِرَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حِكَايَةُ قَوْلِهِمْ، نَقُولُ: فِيهِ خِلَافٌ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى كَذَّبُوا، وَقَالُوا: أَيْ هُمْ كَذَّبُوا وَهُوَ ازْدُجِرَ أَيْ أُوذِيَ وَزُجِرَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُذِّبُوا وَأُوذُوا [الْأَنْعَامِ: 34] وَعَلَى هَذَا إِنْ قِيلَ: لَوْ قَالَ كَذَّبُوا عَبْدَنَا وَزَجَرُوهُ/ كَانَ الْكَلَامُ أَكْثَرَ مُنَاسَبَةً، نَقُولُ: لَا بَلْ هَذَا أَبْلَغُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَقْوِيَةُ قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِكْرِ مَنْ تَقَدَّمَهُ فَقَالَ: وَازْدُجِرَ أَيْ فَعَلُوا مَا يُوجِبُ الِانْزِجَارَ مِنْ دُعَائِهِمْ حَتَّى تَرَكَ دَعْوَتَهُمْ وَعَدَلَ عَنِ الدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ إِلَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، ولو قال:

[سورة القمر (54) : آية 10]

زَجَرُوهُ مَا كَانَ يُفِيدُ أَنَّهُ تَأَذَّى مِنْهُمْ لِأَنَّ فِي السَّعَةِ يُقَالُ: آذَوْنِي وَلَكِنْ مَا تَأَذَّيْتُ، وَأَمَّا أُوذِيتُ فَهُوَ كَاللَّازِمِ لَا يُقَالُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الْفِعْلِ لَا قَبْلَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: وَازْدُجِرَ حِكَايَةُ قَوْلِهِمْ أَيْ هُمْ قَالُوا ازْدُجِرَ، تَقْدِيرُهُ قَالُوا: مَجْنُونٌ مُزْدَجَرٌ، وَمَعْنَاهُ: ازْدَجَرَهُ الْجِنُّ أَوْ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: جُنَّ وَازْدُجِرَ، والأول أصح ويترتب عليه قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 10] فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) تَرْتِيبًا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا زَجَرُوهُ وَانْزَجَرَ هُوَ عَنْ دُعَائِهِمْ دَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ إِنِّي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ دُعَاءٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنِّي مَغْلُوبٌ، وَبِالْفَتْحِ عَلَى مَعْنَى بِأَنِّي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا مَعْنَى مَغْلُوبٌ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: غَلَبَنِي الْكُفَّارُ فَانْتَصِرْ لِي مِنْهُمْ الثَّانِي: غَلَبَتْنِي نَفْسِي وَحَمَلَتْنِي عَلَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ فَانْتَصِرْ لِي مِنْ نَفْسِي، وَهَذَا الْوَجْهُ نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ الثَّالِثُ: وَجْهٌ مُرَكَّبٌ مِنَ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْهُمَا وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْعُو عَلَى قَوْمِهِ مَا دَامَ فِي نَفْسِهِ احْتِمَالٌ وَحِلْمٌ، وَاحْتِمَالُ نَفْسِهِ يَمْتَدُّ مَا دَامَ الْإِيمَانُ مِنْهُمْ محتملا، ثم إن يأسه يَحْصُلُ وَالِاحْتِمَالَ يَفِرُّ بَعْدَ الْيَأْسِ بِمُدَّةٍ، بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ [الكهف: 6] ، فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فَاطِرٍ: 8] وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 27] فَقَالَ نُوحٌ: يَا إِلَهِي إِنَّ نَفْسِي غَلَبَتْنِي وَقَدْ أَمَرَتْنِي بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ فَأَهْلِكْهُمْ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ [إِنِّي] مَغْلُوبٌ بِحُكْمِ الْبَشَرِيَّةِ أَيْ غُلِبْتُ وَعِيلَ صَبْرِي فَانْتَصِرْ لِي مِنْهُمْ لَا مِنْ نَفْسِي: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَانْتَصِرْ مَعْنَاهُ انْتَصِرْ لِي أَوْ لِنَفْسِكَ فَإِنَّهُمْ كَفَرُوا بِكَ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: فَانْتَصِرْ لِي مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ مَغْلُوبٌ ثَانِيهَا: فَانْتَصِرْ لَكَ وَلِدِينِكَ فَإِنِّي غُلِبْتُ وَعَجَزْتُ عَنِ الِانْتِصَارِ لِدِينِكَ ثَالِثُهَا: فَانْتَصِرْ لِلْحَقِّ وَلَا يَكُونُ فِيهِ ذِكْرُهُ وَلَا ذِكْرُ رَبِّهِ، وَهَذَا يَقُولُهُ قَوِيُّ النَّفْسِ بِكَوْنِ الْحَقِّ مَعَهُ، يَقُولُ الْقَائِلُ: اللَّهُمَّ أَهْلِكِ الْكَاذِبَ مِنَّا، وَانْصُرِ الْمُحِقَّ منا. ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 11] فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) عَقِيبَ دُعَائِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ مِنَ الْفَتْحِ وَالْأَبْوَابِ وَالسَّمَاءِ حَقَائِقُهَا أَوْ هُوَ مَجَازٌ؟ نَقُولُ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: حَقَائِقُهَا وَلِلسَّمَاءِ أَبْوَابٌ تُفْتَحُ وَتُغْلَقُ وَلَا اسْتِبْعَادَ فِيهِ وَثَانِيهِمَا: هُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَاءَ كَانَ مِنَ السَّحَابِ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ فِي الْمَطَرِ الْوَابِلِ جَرَتْ مَيَازِيبُ السَّمَاءِ وَفُتِحَ أَفْوَاهُ الْقِرَبِ أَيْ كَأَنَّهُ ذَلِكَ، فَالْمَطَرُ فِي الطُّوفَانِ كَانَ بِحَيْثُ يَقُولُ الْقَائِلَ/ فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَطَرَ مِنْ فَوْقُ كَانَ فِي غَايَةِ الْهَطَلَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَفَتَحْنا بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ انْتَصَرَ مِنْهُمْ وَانْتَقَمَ بِمَاءٍ لَا بِجُنْدٍ أَنْزَلَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: 28، 29] بَيَانًا لِكَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ الْمَطَرَ سِنِينَ فَأَهْلَكَهُمْ بِمَطْلُوبِهِمْ.

[سورة القمر (54) : آية 12]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِماءٍ مُنْهَمِرٍ مَا وَجْهُهُ وَكَيْفَ مَوْقِعُهُ؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: كَمَا هِيَ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ فَتَحْتُ الْبَابَ بِالْمِفْتَاحِ وَتَقْدِيرُهُ هُوَ أَنْ يَجْعَلَ كَأَنَّ الْمَاءَ جَاءَ وَفَتَحَ الْبَابَ وَعَلَى هَذَا تَفْسِيرُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: يَفْتَحُ اللَّهُ لَكِ بِخَيْرٍ أَيْ يُقَدِّرُ خَيْرًا يَأْتِي وَيَفْتَحُ الْبَابَ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ مِنْ بَدَائِعِ الْمَعَانِي، وَهِيَ أَنْ يُجْعَلَ الْمَقْصُودُ مُقَدَّمًا فِي الْوُجُودِ، وَيَقُولُ كَأَنَّ مَقْصُودَكَ جَاءَ إِلَى بَابٍ مُغْلَقٍ فَفَتَحَهُ وَجَاءَكَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: لَعَلَّ اللَّهَ يَفْتَحُ بِرِزْقٍ، أَيْ يُقَدِّرُ رِزْقًا يَأْتِي إِلَى الْبَابِ الَّذِي كَالْمُغْلَقِ فَيَدْفَعُهُ وَيَفْتَحُهُ، فَيَكُونُ اللَّهُ قَدْ فَتَحَهُ بِالرِّزْقِ ثَانِيهُمَا: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ مَقْرُونَةٌ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ وَالِانْهِمَارُ الِانْسِكَابُ وَالِانْصِبَابُ صَبًّا شَدِيدًا، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْمَطَرَ يَخْرُجُ مِنَ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ السَّحَابُ خُرُوجَ مُتَرَشِّحٍ مِنْ ظَرْفِهِ، وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كَانَ يَخْرُجُ خُرُوجَ مرسل خارج من باب. ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 12] وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) [في قوله تعالى وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ] وَفِيهِ مِنَ الْبَلَاغَةِ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: وَفَجَّرْنَا عُيُونَ الْأَرْضِ، وَهَذَا بَيَانُ التَّمْيِيزِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ، إِذَا قُلْتَ ضَاقَ زَيْدٌ ذَرْعًا، أَثْبَتَ مَا لَا يُثْبِتُهُ قَوْلُكَ ضَاقَ ذَرْعُ زَيْدٍ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً وَلَمْ يَقُلْ فَفَتَحْنَا السَّمَاءَ أَبْوَابًا، لِأَنَّ السَّمَاءَ أَعْظَمُ مِنَ الْأَرْضِ وَهِيَ لِلْمُبَالَغَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: أَبْوابَ السَّماءِ وَلَمْ يَقُلْ: أَنَابِيبُ وَلَا مَنَافِذُ وَلَا مَجَارِي أَوْ غَيْرُهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ: وَفَجَّرْنَا عُيُونَ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ حَقِيقَةً لَا مُبَالَغَةَ فِيهِ، وَيَكْفِي فِي صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ أَنْ يَجْعَلَ فِي الْأَرْضِ عُيُونًا ثَلَاثَةً، وَلَا يَصْلُحُ مَعَ هَذَا فِي السَّمَاءِ إِلَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً أَوْ مِيَاهًا، وَمِثْلُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَعْنَى لَا فِي الْمُعْجِزَةِ، وَالْحِكْمَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ [الزُّمَرِ: 21] حَيْثُ لَا مُبَالَغَةَ فِيهِ، وَكَلَامُهُ لَا يُمَاثِلُ كَلَامَ اللَّهِ وَلَا يَقْرُبُ مِنْهُ، غَيْرَ أَنِّي ذَكَرْتُهُ مَثَلًا: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى [النَّحْلِ: 60] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعُيُونُ فِي عُيُونِ الْمَاءِ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ؟ نَقُولُ: الْمَشْهُورُ أَنَّ لَفْظَ الْعَيْنِ/ مُشْتَرَكٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ آلَةُ الْإِبْصَارِ وَمَجَازٌ فِي غَيْرِهَا، أَمَّا فِي عُيُونِ الْمَاءِ فَلِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْعَيْنَ الْبَاصِرَةَ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا الدَّمْعُ، أَوْ لِأَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْعَيْنِ كَالنُّورِ الَّذِي فِي الْعَيْنِ غَيْرَ أَنَّهَا مَجَازٌ مَشْهُورٌ صَارَ غَالِبًا حَتَّى لَا يَفْتَقِرَ إِلَى الْقَرِينَةِ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ إِلَّا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ، فَكَمَا لَا يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى الْعَيْنِ الْبَاصِرَةِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ، كَذَلِكَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْفَوَّارَةِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ مِثْلِ: شَرِبْتُ مِنَ الْعَيْنِ وَاغْتَسَلْتُ مِنْهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْيَنْبُوعِ، وَيُقَالُ: عَانَهُ يَعِينُهُ إِذَا أَصَابَهُ بِالْعَيْنِ، وَعَيَّنَهُ تَعْيِينًا، حَقِيقَتُهُ جَعَلَهُ بِحَيْثُ تَقَعُ عَلَيْهِ الْعَيْنُ، وَعَايَنَهُ مُعَايِنَةً وَعِيَانًا، وَعَيَّنَ أَيْ صَارَ بِحَيْثُ تَقَعُ عَلَيْهِ الْعَيْنُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْتَقَى الْماءُ قُرِئَ فَالْتَقَى الْمَاءَانِ، أَيِ النَّوْعَانِ، مِنْهُ مَاءُ السَّمَاءِ وَمَاءُ الْأَرْضِ، فَتُثَنَّى أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ عَلَى تأويل صنف، تجمع أَيْضًا، يُقَالُ: عِنْدِي تَمْرَانِ وَتُمُورٌ وَأَتْمَارٌ عَلَى تَأْوِيلِ نَوْعَيْنِ وَأَنْوَاعٍ مِنْهُ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ: فَالْتَقَى الْماءُ وَلَهُ مَعْنًى لَطِيفٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ [القمر: 11] ذَكَرَ الْمَاءَ وَذَكَرَ الِانْهِمَارَ وَهُوَ النُّزُولُ بِقُوَّةٍ، فَلَمَّا قَالَ: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً كَانَ مِنَ الْحُسْنِ الْبَدِيعِ أَنْ يَقُولَ: مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَاءَ نَبَعَ مِنْهَا بِقُوَّةٍ، فَقَالَ: فَالْتَقَى الْماءُ أي من

[سورة القمر (54) : آية 13]

العين فار الماء بِقُوَّةٍ حَتَّى ارْتَفَعَ وَالْتَقَى بِمَاءِ السَّمَاءِ، وَلَوْ جَرَى جَرْيًا ضَعِيفًا لَمَا كَانَ هُوَ يَلْتَقِي مَعَ مَاءِ السَّمَاءِ بَلْ كَانَ مَاءُ السَّمَاءِ يَرِدُ عَلَيْهِ وَيَتَّصِلُ بِهِ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَفارَ التَّنُّورُ [هُودٍ: 40] مَثَلُ هَذَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: عَلَى حَالٍ قَدْ قَدَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا شَاءَ الثَّانِي: عَلَى حَالِ قَدَّرَ أَحَدَ الْمَاءَيْنِ بِقَدْرِ الْآخَرِ الثَّالِثُ: عَلَى سَائِرِ الْمَقَادِيرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَاءُ السَّمَاءِ كَانَ أَكْثَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَاءُ الْأَرْضِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ، فَقَالَ: عَلَى أَيِّ مِقْدَارٍ كَانَ، وَالْأَوَّلُ إِشَارَةٌ إِلَى عَظَمَةِ أَمْرِ الطُّوفَانِ، فَإِنَّ تَنْكِيرَ الْأَمْرِ يُفِيدُ ذَلِكَ، يَقُولُ الْقَائِلُ: جَرَى عَلَى فُلَانٍ شَيْءٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِشَارَةً إِلَى عَظَمَتِهِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْتَقَى الْمَاءُ، أَيِ اجْتَمَعَ عَلَى أَمْرِ هَلَاكِهِمْ، وَهُوَ كَانَ مَقْدُورًا مُقَدَّرًا، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُنَجِّمِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ الطُّوفَانَ كَانَ بِسَبَبِ اجْتِمَاعِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ حَوْلَ بُرْجٍ مَائِيٍّ، وَالْغَرَقُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَمْرٌ لَزِمَ مِنَ الطُّوفَانِ الْوَاجِبِ وُقُوعُهُ، فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلَّا لِأَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى نُوحٍ بأنهم من المغرقين وقوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 13] وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) أَيْ سَفِينَةٍ، حَذَفَ الْمَوْصُوفَ وَأَقَامَ الصِّفَةَ مَقَامَهُ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ أَلْوَاحٍ مُرَكَّبَةٍ موثقة بدثر، وَكَانَ انْفِكَاكُهَا فِي غَايَةِ السُّهُولَةِ، وَلَمْ يَقَعْ فهو بفضل الله، والدسر المسامير. [سورة القمر (54) : آية 14] تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: تَجْرِي أَيْ سَفِينَةٌ ذَاتُ أَلْوَاحٍ جَارِيَةٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِأَعْيُنِنا أَيْ بِمَرْأَى مِنَّا أَوْ بِحِفْظِنَا، لِأَنَّ الْعَيْنَ آلَةُ ذَلِكَ فَتُسْتَعْمَلُ فيه. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ يَحْتَمِلُ وجوها أحدها: أن يكون نصبه بقوله: حَمَلْناهُ أَيْ حَمَلْنَاهُ جَزَاءً، أَيْ لِيَكُونَ ذَلِكَ الْحَمْلُ جَزَاءَ الصَّبْرِ عَلَى كُفْرَانِهِمْ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ بِقَوْلِهِ: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى حِفْظِنَا، أَيْ مَا تَرَكْنَاهُ عَنْ أَعْيُنِنَا وَعَوْنِنَا جَزَاءً لَهُ ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ بِفِعْلٍ حَاصِلٍ مِنْ مَجْمُوعِ مَا ذَكَرَهُ كَأَنَّهُ قَالَ: فَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا وَحَمَلْنَاهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ فَعَلْنَاهُ جَزَاءً لَهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا، لِأَنَّ الْجَزَاءَ مَا كَانَ يَحْصُلُ إِلَّا بِحِفْظِهِ وَإِنْجَائِهِ لَهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَزَاءً مَنْصُوبًا بِكَوْنِهِ مَفْعُولًا لَهُ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَلِنَذْكُرْ مَا فِيهِ مِنَ اللَّطَائِفِ فِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ في السماء: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ [القمر: 11] لِأَنَّ السَّمَاءَ ذَاتُ الرَّجْعِ وَمَا لَهَا فُطُورٌ، وَلَمْ يَقُلْ: وَشَقَقْنَا السَّمَاءَ، وَقَالَ فِي الْأَرْضِ: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ [القمر: 12] لِأَنَّهَا ذَاتُ الصَّدْعِ. الثَّانِيَةُ: لَمَّا جُعِلَ الْمَطَرُ كَالْمَاءِ الْخَارِجِ مِنْ أَبْوَابٍ مَفْتُوحَةٍ وَاسِعَةٍ، وَلَمْ يَقُلْ فِي الْأَرْضِ وَأَجْرَيْنَا مِنَ الْأَرْضِ بِحَارًا وَأَنْهَارًا، بَلْ قَالَ: عُيُوناً وَالْخَارِجُ مِنَ الْعَيْنِ دُونَ الْخَارِجِ مِنَ الْبَابِ ذَكَرَ فِي الْأَرْضِ أَنَّهُ تَعَالَى فَجَّرَهَا كُلَّهَا، فَقَالَ: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ لِتُقَابِلَ كَثْرَةُ عُيُونِ الْأَرْضِ سَعَةَ أَبْوَابِ السَّمَاءِ فَيَحْصُلُ بِالْكَثْرَةِ هَاهُنَا مَا حَصَلَ بِالسَّعَةِ هَاهُنَا. الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ عِنْدَ الْغَضَبِ سَبَبَ الْإِهْلَاكِ وَهُوَ فَتْحُ أَبْوَابِ السَّمَاءِ وَفَجَّرَ الْأَرْضَ بِالْعُيُونِ، وَأَشَارَ إلى

[سورة القمر (54) : آية 15]

الْإِهْلَاكِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر: 12] أَيْ أَمْرِ الْإِهْلَاكِ وَلَمْ يُصَرِّحْ وَعِنْدَ الرَّحْمَةِ ذكر الإنجاء صَرِيحًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَمَلْناهُ وَأَشَارَ إِلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ بِقَوْلِهِ: ذاتِ أَلْواحٍ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي موضع آخر: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ [العنكبوت: 14] ، وَلَمْ يَقُلْ فَأُهْلِكُوا، وَقَالَ: فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ [العنكبوت: 15] فَصَرَّحَ بِالْإِنْجَاءِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِهْلَاكِ إِشَارَةً إِلَى سَعَةِ الرَّحْمَةِ وَغَايَةِ الْكَرَمِ أَيْ خَلَقْنَا سَبَبَ الْهَلَاكِ وَلَوْ رَجَعُوا لَمَا ضَرَّهُمْ ذَلِكَ السَّبَبُ كما قال صلى الله عليه وسلم: يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا [هُودٍ: 42] وَعِنْدَ الْإِنْجَاءِ أَنْجَاهُ وَجَعَلَ لِلنَّجَاةِ طَرِيقًا وَهُوَ اتِّخَاذُ السَّفِينَةِ وَلَوِ انْكَسَرَتْ لَمَا ضَرَّهُ بَلْ كَانَ يُنْجِيهِ فَالْمَقْصُودُ عِنْدَ الْإِنْجَاءِ هُوَ النَّجَاةُ فَذَكَرَ الْمَحَلَّ وَالْمَقْصُودُ عِنْدَ الْإِهْلَاكِ إِظْهَارُ الْبَأْسِ فَذَكَرَ السَّبَبَ صَرِيحًا. الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا أَبْلَغُ مِنْ حِفْظِنَا، يَقُولُ الْقَائِلُ اجْعَلْ هَذَا نُصْبَ عَيْنِكَ وَلَا يَقُولُ احْفَظْهُ طَلَبًا لِلْمُبَالَغَةِ. الْخَامِسَةُ: بِأَعْيُنِنا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِحِفْظِنَا، وَلِهَذَا يُقَالُ: الرُّؤْيَةُ لِسَانُ الْعَيْنِ. السَّادِسَةُ: قَالَ: كَانَ ذَلِكَ جَزَاءً عَلَى مَا كَفَرُوا بِهِ لَا عَلَى إِيمَانِهِ وَشُكْرِهِ فَمَا جُوزِيَ بِهِ كَانَ جَزَاءَ صَبْرِهِ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَأَمَّا جَزَاءُ شُكْرِهِ لَنَا فَبَاقٍ، وَقُرِئَ: جِزَاءً بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ مُجَازَاةً كَقِتَالٍ/ وَمُقَاتَلَةٍ وَقُرِئَ: لِمَنْ كَانَ كَفَرَ بِفَتْحِ الْكَافِ، وَأَمَّا: كُفِرَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كُفِرَ مِثْلَ شُكِرَ يُعَدَّى بِالْحَرْفِ وَبِغَيْرِ حَرْفٍ يُقَالُ شَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [الْبَقَرَةِ: 152] وَقَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 256] . ثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْكُفْرِ لَا مِنَ الْكُفْرَانِ أَيْ جَزَاءً لِمَنْ سُتِرَ أَمْرُهُ وَأُنْكِرَ شَأْنُهُ وَيُحْتَمَلُ أن يقال: كفر به وترك الظهور المراد. ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 15] وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) وَفِي الْعَائِدِ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: عَائِدٌ إِلَى مَذْكُورٍ وَهُوَ السَّفِينَةُ الَّتِي فِيهَا أَلْوَاحٌ وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: تَرَكَ اللَّهُ عَيْنَهَا مُدَّةً حَتَّى رُؤِيَتْ وَعُلِمَتْ وَكَانَتْ عَلَى الْجُودِيِّ بِالْجَزِيرَةِ وَقِيلَ بِأَرْضِ الْهِنْدِ وَثَانِيهِمَا: تُرِكَ مَثَلُهَا فِي النَّاسِ يُذْكَرُ وَثَانِي: الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ أَيْ تَرَكْنَا السَّفِينَةَ آيَةً، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: تَرَكْناها أَيْ جَعَلْنَاهَا آيَةً لِأَنَّهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا صَارَتْ مَتْرُوكَةً وَمَجْعُولَةً يَقُولُ الْقَائِلُ: تَرَكْتُ فُلَانًا مَثُلَةً أَيْ جَعَلْتُهُ، لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ مِنْ فَرَغَ مِنْ أَمْرٍ تَرَكَهُ وَجَعَلَهُ فَذَكَرَ أَحَدَ الْفِعْلَيْنِ بَدَلًا عَنِ الْآخَرِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ مِنْ جَانِبِ الرُّسُلِ قَدْ تَمَّ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا جَانِبُ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ بِأَنْ كَانُوا مُنْذَرِينَ مُتَفَكِّرِينَ يَهْتَدُونَ بِفَضْلِ اللَّهِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ مُهْتَدٍ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَصْلُحُ حَثًّا وَيَصْلُحُ تَخْوِيفًا وَزَجْرًا، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: قَالَ هَاهُنَا وَلَقَدْ تَرَكْناها وَقَالَ فِي الْعَنْكَبُوتِ: وَجَعَلْناها آيَةً [الْعَنْكَبُوتِ: 15] قُلْنَا هُمَا وَإِنْ كَانَا فِي الْمَعْنَى وَاحِدًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ لَكِنَّ لَفْظَ التَّرْكِ يَدُلُّ عَلَى الْجَعْلِ وَالْفَرَاغِ بِالْأَيَّامِ فَكَأَنَّهَا هُنَا مَذْكُورَةٌ بِالتَّفْصِيلِ حَيْثُ بَيَّنَ الْإِمْطَارَ مِنَ السَّمَاءِ وَتَفْجِيرَ الْأَرْضِ وَذَكَرَ السَّفِينَةَ بِقَوْلِهِ: ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ [القمر: 13] وَذَكَرَ جَرْيَهَا فَقَالَ: تَرَكْناها إِشَارَةً إِلَى تَمَامِ الْفِعْلِ الْمَقْدُورِ وَقَالَ هُنَاكَ وَجَعَلْناها إِشَارَةً إِلَى بَعْضِ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كذلك فكيف قال هاهنا وَحَمَلْناهُ [القمر: 13] وَلَمْ يَقُلْ: وَأَصْحَابَهُ وَقَالَ هُنَاكَ فَأَنْجَيْناهُ

[سورة القمر (54) : آية 16]

وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ ؟ نَقُولُ: النَّجَاةُ هَاهُنَا مَذْكُورَةٌ عَلَى وَجْهٍ أَبْلَغَ مِمَّا ذَكَرَهُ هُنَاكَ لِأَنَّهُ قَالَ: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا [القمر: 14] أَيْ حِفْظِنَا وَحِفْظُ السَّفِينَةِ حِفْظٌ لِأَصْحَابِهِ وَحِفْظٌ لِأَمْوَالِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ وَالْحَيَوَانَاتِ الَّتِي مَعَهُمْ فَقَوْلُهُ: فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِنْجَاءُ الْأَمْوَالِ إِلَّا بِبَيَانٍ آخَرَ وَالْحِكَايَةُ فِي سُورَةِ هُودٍ أَشَدُّ تَفْصِيلًا وَأَتَمُّ فَلِهَذَا قَالَ: قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هُودٍ: 40] يَعْنِي الْمَحْمُولَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هُودٍ: 44] تَصْرِيحًا بِخَلَاصِ السَّفِينَةِ وَإِشَارَةً إِلَى خَلَاصِ كُلِّ مَنْ فِيهَا وَقَوْلُهُ: آيَةً مَنْصُوبَةٌ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ ثَانٍ لِلتَّرْكِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْجَعْلِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ حَالٌ فَإِنَّكَ تَقُولُ تَرَكْتُهَا وَهِيَ آيَةٌ وَهِيَ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَى وَزْنِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ/ فَهِيَ فِي مَعْنَاهُ كَأَنَّهُ قَالَ: تَرَكْنَاهَا دَالَّةً «1» ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: نَصْبُهَا عَلَى التَّمْيِيزِ لِأَنَّهَا بَعْضُ وُجُوهِ التِّرْكِ كَقَوْلِهِ ضَرَبْتُهُ سَوْطًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مُدَّكِرٍ مُفْتَعِلٌ مِنْ ذَكَرَ يَذْكُرُ وَأَصْلُهُ مُذْتَكِرٌ [لَمَّا] كَانَ مَخْرَجُ الذَّالِ قَرِيبًا مِنْ مَخْرَجِ التَّاءِ، وَالْحُرُوفُ الْمُتَقَارِبَةُ الْمَخْرَجِ يَصْعُبُ النُّطْقُ بِهَا عَلَى التَّوَالِي وَلِهَذَا إِذَا نَظَرْتَ إِلَى الذَّالِ مَعَ التَّاءِ عِنْدَ النُّطْقِ تَقْرُبُ الذَّالُ مِنْ أَنْ تَصِيرَ تَاءً وَالتَّاءُ تَقْرُبُ مِنْ أَنْ تَصِيرَ دَالًا فَجُعِلَ التَّاءُ دَالًا ثُمَّ أُدْغِمَتِ الدَّالُ فِيهَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ عَلَى الْأَصْلِ مُذْتَكِرٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَلَبَ التَّاءَ دَالًا وَقَرَأَ مُذْدَكِرٌ وَمِنَ اللُّغَوِيِّينَ مَنْ يَقُولُ فِي مُدَّكِرٍ مُذْدَكِرٌ فَيَقْلِبُ التَّاءَ وَلَا يُدْغِمُ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ، وَالْمُدَّكِرُ الْمُعْتَبِرُ الْمُتَفَكِّرُ، وَفِي قَوْلِهِ: مُدَّكِرٍ إِمَّا إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي قَوْلِهِ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَافِ: 172] أَيْ هَلْ مَنْ يَتَذَكَّرُ تِلْكَ الْحَالَةَ وَإِمَّا إِلَى وُضُوحِ الْأَمْرِ كَأَنَّهُ حَصَلَ لِلْكُلِّ آيَاتُ اللَّهِ وَنَسُوهَا فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يَتَذَكَّرُ شَيْئًا مِنْهَا. ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 16] فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اسْتِفْهَامًا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْبِيهًا لَهُ وَوَعْدًا بِالْعَاقِبَةِ وثانيهما: أن يكون عاما تنبيها للخلق ونذر أُسْقِطَ مِنْهُ يَاءُ الْإِضَافَةِ كَمَا حُذِفَ يَاءُ يسري في قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [الْفَجْرِ: 4] وَذَلِكَ عِنْدَ الْوَقْفِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [الْعَنْكَبُوتِ: 51] وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ [يس: 43] وقوله تعالى: يا عِبادِ فَاتَّقُونِ [الزُّمَرِ: 16] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكْفُرُونِ [الْبَقَرَةِ: 152] وَقُرِئَ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ: عَذَابِي وَنُذُرِي وَفِيهِ مَسَائِلُ: الأولى: ما الذي اقتضى الفاى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ كانَ؟ نَقُولُ: أَمَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ الِاسْتِفْهَامَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ قَدْ عَلِمْتَ أَخْبَارَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ فَكَيْفَ كان أي بعد ما أَحَاطَ بِهِمْ عِلْمُكَ بِنَقْلِهَا إِلَيْكَ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا الِاسْتِفْهَامُ عَامٌّ فَنَقُولُ لَمَّا قَالَ: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [الْقَمَرِ: 15] فَرَضَ وَجُودَهُمْ وَقَالَ: يَا مَنْ يَتَذَكَّرُ، وَعُلِمَ الْحَالُ بِالتَّذْكِيرِ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ تقديره مدكر كَيْفَ كَانَ عَذَابِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا رَأَوُا الْعَذَابَ وَلَا النُّذُرَ فَكَيْفَ اسْتُفْهِمَ مِنْهُمْ؟ نَقُولُ: أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا الِاسْتِفْهَامُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ عُلِمَ لَمَّا عُلِمَ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا عَامٌّ فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الِادِّكَارِ وَعَلَى تَقْدِيرِ الِادِّكَارِ يُعْلَمُ الْحَالُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِاسْتِفْهَامٍ وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ عَظَمَةِ الْأَمْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ

_ (1) في الأصل دالا، والمقصود بيان من معنى الآية أي لها دلالة الآية وقوتها.

[سورة القمر (54) : آية 17]

[الحاقة: 1، 2] والْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ [الْقَارِعَةِ: 1، 2] وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يُذْكَرُ لِلْإِخْبَارِ كَمَا أَنَّ صِيغَةَ هَلْ تُذْكَرُ لِلِاسْتِفْهَامِ فَيُقَالُ زَيْدٌ فِي الدَّارِ؟ بِمَعْنَى هَلْ زَيْدٌ فِي الدَّارِ، وَيَقُولُ الْمُنْجِزُ وَعْدَهُ هَلْ صَدَقْتُ؟ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: عَذَابِي وَقَعَ وَكَيْفَ كَانَ أَيْ كَانَ عَظِيمًا وَحِينَئِذٍ لَا يُحْتَاجُ إِلَى عِلْمِ مَنْ يُسْتَفْهَمُ مِنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ تعالى من قبل: فَفَتَحْنا، وفَجَّرْنَا، وبِأَعْيُنِنا وَلَمْ يَقُلْ كَيْفَ كَانَ عَذَابُنَا نَقُولُ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: لَفْظِيٌّ وَهُوَ أَنَّ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ يُمْكِنُ حَذْفُهَا لِأَنَّهَا فِي اللَّفْظِ تَسْقُطُ كَثِيرًا فِيمَا إِذَا الْتَقَى سَاكِنَانِ، تَقُولُ: غُلَامِي الَّذِي، وَدَارِي الَّتِي، وَهُنَا حُذِفَتْ لِتَوَاخِي آخِرِ الْآيَاتِ، وَأَمَّا النُّونُ وَالْأَلِفُ فِي ضَمِيرِ الْجَمْعِ فَلَا تُحْذَفُ وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ الْمَعْنَوِيُّ فَنَقُولُ: إِنْ كَانَ الاستفهام من النبي صلى الله عليه وسلم فَتَوْحِيدُ الضَّمِيرِ لِلْأَنْبَاءِ، وَفِي فَتَحْنَا وَفَجَّرْنَا لِتَرْهِيبِ الْعُصَاةِ، وَنَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: مُدَّكِرٍ [القمر: 15] فيه إشارة إلى قوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] فَلَمَّا وُحِّدَ الضَّمِيرُ بِقَوْلِهِ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالَ فَكَيْفَ كَانَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: النُّذُرُ جَمْعُ نَذِيرٍ فَهَلْ هُوَ مَصْدَرٌ كَالنَّسِيبِ وَالنَّحِيبِ أَوْ فَاعِلٌ كَالْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ؟ نَقُولُ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ هَاهُنَا، أَيْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ عَذَابِي وَعَاقِبَةُ إِنْذَارِي وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الْأَنْبَاءُ، أَيْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ؟ هَلْ أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ أَمْ لَا؟ فَإِذَا عَلِمْتَ الْحَالَ يَا مُحَمَّدُ فَاصْبِرْ فَإِنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِكَ كَعَاقِبَةِ أُولَئِكَ النُّذُرِ وَلَمْ يُجْمَعِ الْعَذَابُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وَلَوْ جُمِعَ لَكَانَ فِي جَمْعِهِ تَقْدِيرٌ وَفَرْضٌ وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، فَإِنْ قيل: قوله تعالى: (كذبت ثمود بالنذر) أَيْ بِالْإِنْذَارَاتِ لِأَنَّ الْإِنْذَارَاتِ جَاءَتْهُمْ، وَأَمَّا الرُّسُلُ فَقَدْ جَاءَهُمْ وَاحِدٌ، نَقُولُ: كُلُّ مَنْ تَقَدَّمَ من الأمم الذين أشركوا بالله كذبوا بِالرُّسُلِ وَقَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ مُكَذِّبِينَ بِالْكُلِّ مَا خَلَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الْخَيْرَ لِكَوْنِهِ شَيْخَ الْمُرْسَلِينَ فَلَا يُقَالُ (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) ، أَيْ بِالْأَنْبِيَاءِ بِأَسْرِهِمْ، كَمَا أَنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ تكذبون بهم. [سورة القمر (54) : آية 17] وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: لِلْحِفْظِ فَيُمْكِنُ حِفْظُهُ وَيَسْهُلُ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى يُحْفَظُ عَلَى ظَهْرِ الْقَلْبِ غَيْرَ الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أَيْ هَلْ مَنْ يَحْفَظُ وَيَتْلُوهُ الثَّانِي: سَهَّلْنَاهُ لِلِاتِّعَاظِ حَيْثُ أَتَيْنَا فِيهِ بِكُلِّ حِكْمَةٍ الثَّالِثُ: جَعَلْنَاهُ بِحَيْثُ يَعْلَقُ بِالْقُلُوبِ وَيُسْتَلَذُّ سَمَاعُهُ وَمَنْ لَا يَفْهَمُ يَتَفَهَّمُهُ وَلَا يَسْأَمُ مِنْ سَمْعِهِ وَفَهْمِهِ وَلَا يَقُولُ قَدْ عَلِمْتُ فَلَا أَسْمَعُهُ بَلْ كُلَّ سَاعَةٍ يَزْدَادُ مِنْهُ لَذَّةً وَعِلْمًا. الرَّابِعُ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذُكِّرَ بِحَالِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ لَهُ مُعْجِزَةٌ قِيلَ لَهُ: إِنَّ مُعْجِزَتَكَ الْقُرْآنُ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ تَذْكِرَةً لِكُلِّ أَحَدٍ وَتَتَحَدَّى بِهِ فِي الْعَالَمِ وَيَبْقَى عَلَى مُرُورِ الدُّهُورِ، وَلَا يَحْتَاجُ كُلُّ مَنْ يَحْضُرُكَ إِلَى دُعَاءٍ وَمَسْأَلَةٍ فِي إِظْهَارِ مُعْجِزَةٍ، وَبَعْدَكَ لَا يُنْكِرُ أَحَدٌ وُقُوعَ مَا وَقَعَ كَمَا يُنْكِرُ الْبَعْضُ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أَيْ مُتَذَكِّرٍ لِأَنَّ الِافْتِعَالَ وَالتَّفَعُّلَ كَثِيرًا مَا يَجِيءُ بِمَعْنًى، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: هذا يقتضي وجود أمر سابق فنسي، تقول: مَا فِي الْفِطْرَةِ مِنَ الِانْقِيَادِ لِلْحَقِّ هُوَ كَالْمَنْسِيِّ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يَرْجِعُ إِلَى مَا فُطِرَ عَلَيْهِ/ وَقِيلَ: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أَيْ حافظ

[سورة القمر (54) : آية 18]

أَوْ مُتَّعِظٍ عَلَى مَا فَسَّرْنَا بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ وَقَوْلَهُ: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وَعَلَى قَوْلِنَا الْمُرَادُ مُتَذَكِّرٌ إِشَارَةً إِلَى ظُهُورِ الْأَمْرِ فَكَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نُكُرٍ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ حَاصِلٌ عِنْدَهُ لَا يَحْتَاجُ إلى معاودة ما عند غيره. ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 18] كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: قَالَ فِي قَوْمِ نُوحٍ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ [الشُّعَرَاءِ: 105] وَلَمْ يَقُلْ فِي عَادٍ كَذَّبَتْ قَوْمُ هُودٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ كُلَّمَا أَمْكَنَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ عَلَى وَجْهٍ أَبْلَغَ فَالْأَوْلَى أَنْ يُؤْتَى بِهِ وَالتَّعْرِيفُ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ أَوْلَى مِنَ التَّعْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: بَيْتُ اللَّهِ لَا يُفِيدُ مَا يُفِيدُ قَوْلُكَ الْكَعْبَةُ، فَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ: رَسُولُ اللَّهِ لَا يُفِيدُ مَا يُفِيدُ قَوْلُكَ مُحَمَّدٌ فَعَادٌ اسْمُ عَلَمٍ لِلْقَوْمِ لَا يُقَالُ قَوْمُ هُودٍ أَعْرَفُ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ عَادًا بِقَوْمِ هُودٍ حَيْثُ قَالَ: أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ [هُودٍ: 60] وَلَا يُوصَفُ الْأَظْهَرُ بِالْأَخْفَى وَالْأَخَصُّ بِالْأَعَمِّ ثَانِيهِمَا: أَنَّ قَوْمَ هُودٍ وَاحِدٌ وَعَادٌ، قِيلَ: إِنَّهُ لَفْظٌ يَقَعُ عَلَى أَقْوَامٍ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: عَادًا الْأُولى [النَّجْمِ: 50] لِأَنَّا نَقُولُ: أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ [هُودٍ: 60] فَلَيْسَ ذَلِكَ صِفَةً وَإِنَّمَا هُوَ بَدَلٌ وَيَجُوزُ فِي الْبَدَلِ أَنْ يَكُونَ دُونَ الْمُبْدَلِ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُبْدَلَ عَنِ الْمَعْرِفَةِ بِالنَّكِرَةِ، وَأَمَّا عَادًا الْأُولَى فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ لِبَيَانِ تَقَدُّمِهِمْ أَيْ عَادًا الَّذِينَ تَقَدَّمُوا وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلتَّمْيِيزِ وَالتَّعْرِيفِ كَمَا تَقُولُ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ شَفِيعِي وَاللَّهُ الْكَرِيمُ رَبِّي وَرَبُّ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ لِبَيَانِ الشَّرَفِ لَا لِبَيَانِهَا وَتَعْرِيفِهَا كَمَا تَقُولُ: دَخَلْتُ الدَّارَ الْمَعْمُورَةَ مِنَ الدَّارَيْنِ وَخَدَمْتُ الرَّجُلَ الزَّاهِدَ مِنَ الرَّجُلَيْنِ فَتَبَيَّنَ الْمَقْصُودُ بِالْوَصْفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمْ يَقُلْ كَذَّبُوا هُودًا كَمَا قَالَ: فَكَذَّبُوا عَبْدَنا [الْقَمَرِ: 9] وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَكْذِيبَ نُوحٍ كَانَ أَبْلَغَ وَأَشَدَّ حَيْثُ دَعَاهُمْ قَرِيبًا مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ وَأَصَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى تَكْذِيبَ نُوحٍ فِي مَوَاضِعَ وَلَمْ يَذْكُرْ تَكْذِيبَ غَيْرِ نُوحٍ صَرِيحًا وَإِنْ نَبَّهَ عَلَيْهِ [فِي] وَاحِدٍ مِنْهَا في الأعراف قال: فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ [الأعراف: 64] وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ: قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ [الشُّعَرَاءِ: 117] وَقَالَ: إِنَّهُمْ عَصَوْنِي [نُوحٍ: 21] وَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَمْ يُصَرِّحْ بِتَكْذِيبِ قَوْمِ غَيْرِهِ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعِ ذِكْرِ شُعَيْبٍ فَكَذَّبُوهُ: وَقَالَ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً [الْأَعْرَافِ: 92] وَقَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِهِ: وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ [الْأَعْرَافِ: 66] لِأَنَّهُ دَعَا قومه زمانا مديداو ثانيهما: أَنَّ حِكَايَةَ عَادٍ مَذْكُورَةٌ هَاهُنَا عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ فَلَمْ يَذْكُرْ إِلَّا تَكْذِيبَهُمْ وَتَعْذِيبَهُمْ فَقَالَ: كَذَّبَتْ عادٌ كما قال: كَذَّبَتْ (قَبْلَهُمْ) قَوْمُ نُوحٍ وَلَمْ يَذْكُرْ دُعَاءَهُ عَلَيْهِمْ وَإِجَابَتَهُ كَمَا قَالَ فِي نُوحٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ تَعَالَى: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ قَبْلَ أَنْ بَيَّنَ الْعَذَابَ وَفِي حِكَايَةِ نُوحٍ بَيَّنَ الْعَذَابَ، ثُمَّ قَالَ: فَكَيْفَ كانَ فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ: الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي حِكَايَةِ نُوحٍ/ مَذْكُورٌ هَاهُنَا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ كَمَا قَالَ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ فِي حِكَايَةِ ثَمُودَ غَيْرَ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى فِي حِكَايَةِ عَادٍ فَكَيْفَ كانَ مَرَّتَيْنِ، الْمَرَّةُ الْأُولَى اسْتَفْهَمَ لِيُبَيِّنَ كَمَا يَقُولُ الْمُعَلِّمُ لِمَنْ لَا يَعْرِفُ كَيْفَ الْمَسْأَلَةُ الْفُلَانِيَّةُ لِيَصِيرَ الْمَسْئُولُ سَائِلًا، فَيَقُولُ: كَيْفَ هِيَ فَيَقُولُ إِنَّهَا كَذَا وَكَذَا فَكَذَلِكَ هَاهُنَا قَالَ: كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي فَقَالَ

[سورة القمر (54) : آية 19]

السَّامِعُ: بَيِّنْ أَنْتَ فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ فَقَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنا [القمر: 19] وَأَمَّا الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ فَاسْتَفْهَمَ لِلتَّعْظِيمِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِلْعَارِفِ الْمُشَاهِدِ كَيْفَ فَعَلْتَ وَصَنَعْتَ فَيَقُولُ: نِعْمَ مَا فَعَلْتَ وَيَقُولُ: أَتَيْتُ بِعَجِيبَةٍ فَيُحَقِّقُ عَظَمَةَ الْفِعْلِ بِالِاسْتِفْهَامِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَاهُنَا الْمَرَّةَ الْأُولَى وَلَمْ يَذْكُرْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لِأَنَّ الْحِكَايَةَ ذَكَرَهَا مُخْتَصَرَةً فَكَانَ يُفَوِّتُ الِاعْتِبَارَ بِسَبَبِ الِاخْتِصَارِ فَقَالَ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي حَثًّا عَلَى التَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ، وَأَمَّا الِاخْتِصَارُ فِي حِكَايَتِهِمْ فَلِأَنَّ أَكْثَرَ أَمْرِهِمُ الِاسْتِكْبَارُ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الْقُوَّةِ وَعَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فُصِّلَتْ: 15] وَذَكَرَ اسْتِكْبَارَهُمْ كَثِيرًا، وَمَا كَانَ قَوْمُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَالِغِينَ فِي الِاسْتِكْبَارِ وَإِنَّمَا كَانَتْ مُبَالَغَتُهُمْ فِي التَّكْذِيبِ وَنِسْبَتِهِ إِلَى الْجُنُونِ، وَذَكَرَ حَالَةَ نُوحٍ عَلَى التَّفْصِيلِ فَإِنَّ قَوْمَهُ جَمَعُوا بَيْنَ التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِكْبَارِ، وَكَذَلِكَ حَالُ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَهَا عَلَى التَّفْصِيلِ لِشِدَّةِ مُنَاسَبَتِهَا بِحَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: [سورة القمر (54) : آية 19] إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ تعالى: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي [القمر: 18] بِتَوْحِيدِ الضَّمِيرِ هُنَاكَ وَلَمْ يَقُلْ عَذَابُنَا، وَقَالَ: هَاهُنَا إِنَّا، وَلَمْ يَقُلْ إِنِّي، وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ [الْقَمَرِ: 11] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الصَّرْصَرُ فِيهَا وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ الصَّوْتِ مِنَ الصَّرِيرِ وَالصَّرَّةُ شِدَّةُ الصِّيَاحِ ثَانِيهَا: دَائِمَةُ الْهُبُوبِ مِنْ أَصَرَّ عَلَى الشَّيْءِ إِذَا دَامَ وَثَبَتَ، وَفِيهِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُشْتَقَّةَ هِيَ الَّتِي تَصْلُحُ لِأَنْ يُوصَفَ بِهَا، وَأَمَّا أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ فَلَا يُوصَفُ بِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ أَجْرَامًا أَوْ مَعَانِيَ، فَلَا يُقَالُ: إِنْسَانٌ رَجُلٌ جَاءَ وَلَا يُقَالُ: لَوْنٌ أَبْيَضُ وَإِنَّمَا يُقَالُ: إِنْسَانٌ عَالِمٌ وَجِسْمٌ أَبْيَضُ. وَقَوْلُنَا: أَبْيَضُ مَعْنَاهُ شَيْءٌ لَهُ بَيَاضٌ، وَلَا يَكُونُ الْجِسْمُ مَأْخُوذًا فِيهِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي قَوْلِنَا رَجُلٌ عَالِمٌ فَإِنَّ الْعَالِمَ شَيْءٌ لَهُ عِلْمٌ حَتَّى الْحَدَّادُ وَالْخَبَّازُ وَلَوْ أَمْكَنَ قِيَامُ الْعِلْمِ بِهِمَا لَكَانَ عَالِمًا وَلَا يَدْخُلُ الْحَيُّ فِي الْمَعْنَى مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومِ فَإِنَّا إِذَا قُلْنَا: عَالِمٌ يُفْهَمُ أَنَّ ذَلِكَ حَيٌّ لِأَنَّ اللَّفْظَ مَا وُضِعَ لِحَيٍّ يَعْلَمُ بَلِ اللَّفْظُ وُضِعَ لِشَيْءٍ يُعْلَمُ وَيَزِيدُهُ ظُهُورًا قَوْلُنَا: مَعْلُومٌ فَإِنَّهُ شَيْءٌ يُعْلَمُ أَوْ أَمْرٌ يُعْلَمُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا، وَلَوْ دَخَلَ الْجِسْمُ فِي الْأَبْيَضِ لَكَانَ قَوْلُنَا جِسْمٌ أَبْيَضُ كَقَوْلِنَا جِسْمٌ لَهُ بَيَاضٌ فَيَقَعُ الْوَصْفُ بِالْجُثَّةِ، إِذَا عَلِمْتَ هذا فمن المستفاد بالجنس شَيْءٍ، فَإِنَّ قَوْلَنَا الْهِنْدِيُّ يَقَعُ عَلَى كُلِّ مَنْسُوبٍ إِلَى الْهِنْدِ وَأَمَّا الْمُهَنَّدُ فَهُوَ سَيْفٌ مَنْسُوبٌ إِلَى الْهِنْدِ فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: عَبْدٌ هِنْدِيٌّ وَتَمْرٌ هِنْدِيٌّ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: مُهَنَّدٌ وَكَذَا الْأَبْلَقُ وَلَوْنٌ آخَرُ/ فِي فَرَسٍ وَلَا يُقَالُ لِلثَّوْبِ أَبْلَقُ، كَذَلِكَ الْأَفْطَسُ أَنْفٌ فِيهِ تَقْعِيرٌ إِذَا قَالَ لِقَائِلٍ: أَنْفٌ أَفْطَسُ فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْفٌ بِهِ فَطَسٌ فَيَكُونُ وَصَفَهُ بِالْجُثَّةِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَالَ فَرَسٌ أَبْلَقُ وَلَا أَنْفٌ أَفْطَسُ وَلَا سَيْفٌ مُهَنَّدٌ وَهُمْ يَقُولُونَ فَمَا الْجَوَابُ؟ وَهَذَا السُّؤَالُ يَرُدُّ عَلَى الصَّرْصَرِ لِأَنَّهَا الرِّيحُ الْبَارِدَةُ، فَإِذَا قَالَ: رِيحٌ صَرْصَرٌ فَلَيْسَ ذَلِكَ كَقَوْلِنَا: رِيحٌ بَارِدَةٌ فَإِنَّ الصَّرْصَرَ هِيَ الرِّيحُ الْبَارِدَةُ فَحَسْبُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: رِيحٌ بَارِدَةٌ فَنَقُولُ: الْأَلْفَاظُ الَّتِي فِي مَعَانِيهَا أَمْرَانِ فَصَاعِدًا، كَقَوْلِنَا: عَالِمٌ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ لَهُ عِلْمٌ فَفِيهِ شَيْءٌ وَعِلْمٌ هِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحَالُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْمَحَلُّ تَبَعٌ كَمَا فِي الْعَالِمِ وَالضَّارِبِ وَالْأَبْيَضِ فَإِنَّ الْمَقَاصِدَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْعِلْمُ وَالضَّرْبُ وَالْبَيَاضُ بِخُصُوصِهَا، وَأَمَّا الْمَحَلُّ فَمَقْصُودٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عَلَى عُمُومِهِ حَتَّى أَنَّ الْبَيَاضَ لَوْ كَانَ يُبَدَّلُ بِلَوْنِ غَيْرِهِ اخْتَلَّ مَقْصُودُهُ كَالْأَسْوَدِ. وَأَمَّا الْجِسْمُ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْبَيَاضِ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُبَدَّلَ وَأَمْكَنَ قِيَامُ الْبَيَاضِ

بِجَوْهَرٍ غَيْرِ جِسْمٍ لَمَا اخْتَلَّ الْغَرَضُ ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَحَلُّ هُوَ الْمَقْصُودُ كَقَوْلِنَا الْحَيَوَانُ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِجِنْسِ مَا لَهُ الْحَيَاةُ لَا كَالْحَيِّ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِشَيْءٍ لَهُ الْحَيَاةُ، فَالْمَقْصُودُ هُنَا الْمَحَلُّ وَهُوَ الْجِسْمُ حَتَّى لَوْ وُجِدَ حَيٌّ لَيْسَ بِجِسْمٍ لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ مَنْ قَالَ: الْحَيَوَانُ وَلَوْ حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى اللَّهِ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ لَحَصَلَ غَرَضُ الْمُتَكَلِّمِ وَلَوْ حُمِلَ لَفْظُ الْحَيَوَانِ عَلَى فَرَسٍ قَائِمٍ أَوْ إِنْسَانٍ نَائِمٍ لَمْ تُفَارِقْهُ الْحَيَاةُ لَمْ يَبْقَ لِلسَّامِعِ نَفْعٌ وَلَمْ يَحْصُلْ لِلْمُتَكَلِّمِ غَرَضٌ فَإِنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ لِإِنْسَانٍ قَائِمٌ وَهُوَ مَيِّتٌ هَذَا حَيَوَانٌ ثُمَّ بَانَ مَوْتُهُ لَا يَرْجِعُ عَمَّا قَالَ بَلْ يَقُولُ: مَا قُلْتُ إِنَّهُ حَيٌّ بَلْ قُلْتُ إِنَّهُ حَيَوَانٌ فَهُوَ حَيَوَانٌ فَارَقَتْهُ الْحَيَاةُ ثَالِثُهَا: مَا يَكُونُ الْأَمْرَانِ مَقْصُودَيْنِ كَقَوْلِنَا رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ وَنَاقَةٌ وَجَمَلٌ فَإِنَّ الرَّجُلَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِإِنْسَانٍ ذَكَرٍ وَالْمَرْأَةَ لِإِنْسَانٍ أُنْثَى وَالنَّاقَةَ لِبَعِيرٍ أُنْثَى وَالْجَمَلَ لِبَعِيرٍ ذَكَرٍ فَالنَّاقَةُ إِنْ أُطْلِقَتْ عَلَى حَيَوَانٍ فَظَهَرَ فرسا أو ثور اخْتَلَّ الْغَرَضُ وَإِنْ بَانَ جَمَلًا كَذَلِكَ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَفِي كُلِّ صُورَةٍ كَانَ الْمَحَلُّ مَقْصُودًا إِمَّا وَحْدَهُ وَإِمَّا مَعَ الْحَالِ فَلَا يُوصَفُ بِهِ فَلَا يُقَالُ جِسْمٌ حَيَوَانٌ وَلَا يُقَالُ بَعِيرٌ نَاقَةٌ وَإِنَّمَا يُجْعَلُ ذَلِكَ جُمْلَةً، فَيُوصَفُ بِالْجُمْلَةِ، فَيُقَالُ جِسْمٌ هُوَ حَيَوَانٌ وَبَعِيرٌ هُوَ نَاقَةٌ، ثُمَّ إِنَّ الْأَبْلَقَ وَالْأَفْطَسَ شَأْنُهُ الْحَيَوَانُ مِنْ وَجْهٍ وَشَأْنُهُ الْعَالِمُ مِنْ وَجْهٍ وَكَذَلِكَ الْمُهَنَّدُ لَكِنَّ دَلِيلَ تَرْجِيحِ الْحَالِ فِيهِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْمُهَنَّدَ لَا يُذْكَرُ إِلَّا لِمَدْحِ السَّيْفِ، وَالْأَفْطَسُ لَا يُقَالُ إِلَّا لِوَصْفِ الْأَنْفِ لَا لِحَقِيقَتِهِ، وَكَذَلِكَ الْأَبْلَقُ بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ لِوَصْفِهِ، وَكَذَلِكَ النَّاقَةُ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَالصَّرْصَرُ يُقَالُ لِشِدَّةِ الرِّيحِ أَوْ لِبَرْدِهَا فَوَجَبَ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ مَا يُعْمَلُ بِالْبَارِدِ وَالشَّدِيدِ فَجَازَ الْوَصْفُ وَهَذَا بَحْثٌ عَزِيزٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ تَعَالَى هَاهُنَا إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً وقال في الطور: وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [الذَّارِيَاتِ: 41] فَعَرَّفَ الرِّيحَ هُنَاكَ وَنَكَّرَهَا هُنَا لِأَنَّ الْعُقْمَ فِي الرِّيحِ أَظْهَرُ مِنَ الْبَرْدِ الَّذِي يَضُرُّ النَّبَاتَ أَوِ الشَّدَّةَ الَّتِي تَعْصِفُ الْأَشْجَارَ لِأَنَّ الرِّيحَ الْعَقِيمَ هِيَ الَّتِي لَا تُنْشِئُ سَحَابًا وَلَا تُلَقِّحُ شَجَرًا وَهِيَ كَثِيرَةُ الْوُقُوعِ، وَأَمَّا الرِّيحُ الْمُهْلِكَةُ الْبَارِدَةُ فَقَلَّمَا تُوجَدُ، فَقَالَ: الرِّيحَ الْعَقِيمَ أَيْ هَذَا الْجِنْسَ الْمَعْرُوفَ، ثُمَّ زَادَهُ بَيَانًا بِقَوْلِهِ: مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذَّارِيَاتِ: 42] فَتَمَيَّزَتْ عن/ الرياح العقم، وَأَمَّا الصَّرْصَرُ فَقَلِيلَةُ الْوُقُوعِ فَلَا تَكُونُ مَشْهُورَةً فَنَكَّرَهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ هُنَا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ وقال في السجدة: فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ [فُصِّلَتْ: 16] وَقَالَ فِي الْحَاقَّةِ: سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الْحَاقَّةِ: 7] وَالْمُرَادُ مِنَ الْيَوْمِ هُنَا الْوَقْتُ وَالزَّمَانُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مَرْيَمَ: 33] وَقَوْلُهُ: مُسْتَمِرٍّ يُفِيدُ مَا يُفِيدُهُ الْأَيَّامُ لِأَنَّ الِاسْتِمْرَارَ يُنْبِئُ عَنْ إِمْرَارِ الزَّمَانِ كَمَا يُنْبِئُ عَنْهُ الْأَيَّامُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ اللَّفْظُ مَعَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْحِكَايَةَ هُنَا مَذْكُورَةٌ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ، فَذَكَرَ الزَّمَانَ وَلَمْ يَذْكُرْ مِقْدَارَهُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَصِفْهَا، ثُمَّ إِنَّ فيه قراءتين أحدهما: يَوْمِ نَحْسٍ بِإِضَافَةِ يَوْمٍ، وَتَسْكِينِ نَحْسٍ عَلَى وَزْنِ نَفْسٍ، وَثَانِيَتُهُمَا: يَوْمِ نَحْسٍ بِتَنْوِينِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْحَاءِ عَلَى وَصْفِ الْيَوْمِ بِالنَّحِسِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ فَإِنْ قِيلَ أَيَّتُهُمَا أَقْرَبُ؟ قُلْنَا: الْإِضَافَةُ أَصَحُّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَقْرَأُ: يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ يَجْعَلُ الْمُسْتَمِرَّ صِفَةً لِيَوْمٍ، وَمَنْ يَقْرَأُ يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ يَكُونُ الْمُسْتَمِرُّ وَصَفًّا لِنَحْسٍ، فَيَحْصُلُ مِنْهُ اسْتِمْرَارُ النُّحُوسَةِ فَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَلْيَقُ، فَإِنْ قِيلَ: مَنْ يَقْرَأُ يَوْمِ نَحْسٍ بِسُكُونِ الْحَاءِ، فَمَاذَا يَقُولُ فِي النَّحِسِ؟ نَقُولُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَقُولَ هُوَ تَخْفِيفُ نَحْسٍ كَفَخْذٍ وَفَخِذٍ فِي غَيْرِ الصِّفَاتِ، وَنَصْرٍ وَنَصِرٍ وَرَعْدٍ وَرَعِدٍ، وَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ تَقْدِيرَهُ: يَوْمٍ كَائِنٍ نَحِسٍ، كَمَا تَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِجانِبِ

[سورة القمر (54) : آية 20]

الْغَرْبِيِ [الْقَصَصِ: 44] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقُولَ: نَحِسٍ لَيْسَ بِنَعْتٍ، بَلْ هُوَ اسْمُ مَعْنًى أَوْ مَصْدَرٌ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِمْ يَوْمُ بَرْدٍ وَحَرٍّ، وَهُوَ أَقْرَبُ وَأَصَحُّ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا مَعْنَى مُسْتَمِرٍّ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مُمْتَدٌّ ثَابِتٌ مُدَّةً مَدِيدَةً مِنِ اسْتَمَرَّ الْأَمْرُ إِذَا دَامَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تعالى: فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ [فصلت: 16] لِأَنَّ الْجَمْعَ يُفِيدُ مَعْنَى الِاسْتِمْرَارِ وَالِامْتِدَادِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: حُسُوماً [الْحَاقَّةِ: 7] الثَّانِي: شَدِيدٌ مِنَ الْمَرَّةِ كَمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [الْقَمَرِ: 2] وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ أَيَّامُ الشَّدَائِدِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ (عذاب الخزي) «1» [فصلت: 16] فإنه يذيقهم المر المضر من العذاب. ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 20] تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَنْزِعُ النَّاسَ وَصْفٌ أَوْ حَالٌ؟ نَقُولُ: يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، إِذْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: أَرْسَلَ رِيحًا صَرْصَرًا نَازِعَةً لِلنَّاسِ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: أُرْسِلَ الرِّيحُ نَازِعَةً، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُمْكِنُ جَعْلُهَا حَالًا، وَذُو الْحَالِ نَكِرَةٌ؟ نَقُولُ: الْأَمْرُ هُنَا أَهْوَنُ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ [الْقَمَرِ: 4] فَإِنَّهُ نَكِرَةٌ، وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ (مَا) مَوْصُوفَةٌ فَتَخَصَّصَتْ فَحَسُنَ جَعْلُهَا ذَاتَ الْحَالِ، فَكَذَلِكَ نَقُولُ هَاهُنَا الرِّيحُ مَوْصُوفَةٌ بِالصَّرْصَرِ، وَالتَّنْكِيرُ فِيهِ لِلتَّعْظِيمِ، وَإِلَّا فَهِيَ ثَلَاثَةٌ فَلَا يَبْعُدُ جَعْلُهَا ذَاتَ حَالٍ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنِفٌ عَلَى فِعْلٍ وَفَاعِلٍ، كَمَا تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ جَذَبَنِي، وَتَقْدِيرُهُ جَاءَ فَجَذَبَنِي، كَذَلِكَ هَاهُنَا قَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً [القمر: 19] / فَأَصْبَحَتْ تَنْزِعُ النَّاسَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى [الْحَاقَّةِ: 7] فَالتَّاءُ فِي قَوْلِهِ: تَنْزِعُ النَّاسَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: صَرْعى وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: نَزَعَتْهُمْ فَصَرَعَتْهُمْ: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ كَمَا قَالَ: صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ [الْحَاقَّةِ: 7] ثَانِيهَا: نَزَعَتْهُمْ فَهُمْ بَعْدَ النَّزْعِ: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ وَهَذَا أَقْرَبُ، لِأَنَّ الِانْقِعَارَ قَبْلَ الْوُقُوعِ، فَكَأَنَّ الرِّيحَ تَنْزِعُ [الْوَاحِدَ] وتقعر [هـ] فَيَنْقَعِرُ فَيَقَعُ فَيَكُونُ صَرِيعًا، فَيَخْلُو الْمَوْضِعُ عَنْهُ فَيَخْوَى، وَقَوْلُهُ فِي الْحَاقَّةِ: فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ إِشَارَةٌ إِلَى حَالَةٍ بَعْدَ الِانْقِعَارِ الَّذِي هُوَ بَعْدَ النَّزْعِ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْحِكَايَةَ هَاهُنَا مُخْتَصَرَةً حَيْثُ لَمْ يُشِرْ إِلَى صَرْعِهِمْ وَخُلُوِّ مَنَازِلِهِمْ عَنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّ حَالَ الِانْقِعَارِ لَا يَحْصُلُ الْخُلُوُّ التَّامُّ إِذْ هُوَ مِثْلُ الشُّرُوعَ فِي الْخُرُوجِ وَالْأَخْذِ فِيهِ ثَالِثُهَا: تَنْزِعُهُمْ نَزْعًا بِعُنْفٍ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ تَقْعَرُهُمْ فَيَنْقَعِرُوا إِشَارَةً إِلَى قُوَّتِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ عَلَى الْأَرْضِ، وَفِي الْمَعْنَى وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى عَظَمَةِ أَجْسَادِهِمْ وَطُولِ أَقْدَادَهِمْ ثَانِيهَا: ذَكَرَهُ إِشَارَةً إِلَى ثَبَاتِهِمْ فِي الْأَرْضِ، فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يُعْمِلُونَ أَرْجُلَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَيَقْصِدُونَ الْمَنْعَ بِهِ عَلَى الرِّيحِ وَثَالِثُهَا: ذَكَرَهُ إِشَارَةً إِلَى يُبْسِهُمْ وَجَفَافِهِمْ بِالرِّيحِ، فَكَانَتْ تَقْتُلُهُمْ وَتَحْرِقُهُمْ بِبَرْدِهَا الْمُفْرِطِ فَيَقَعُونَ كَأَنَّهُمْ أَخْشَابٌ يَابِسَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ هَاهُنَا: مُنْقَعِرٍ فَذَكَّرَ النَّخْلَ، وَقَالَ فِي الْحَاقَّةِ: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَأَنَّثَهَا، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فِي تِلْكَ السُّورَةِ كَانَتْ أَوَاخِرُ الْآيَاتِ تَقْتَضِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: مُسْتَمِرٍّ ومُنْهَمِرٍ ومُنْتَشِرٌ [الْقَمَرِ: 19، 11، 7] وَهُوَ جَوَابٌ حَسَنٌ، فَإِنَّ الْكَلَامَ كَمَا يُزَيَّنُ بِحُسْنِ الْمَعْنَى يُزَيَّنُ بِحُسْنِ اللَّفْظِ، وَيُمْكِنُ أن يقال:

_ (1) ما بين القوسين في المطبوعة (بعض الذي) وهو خطأ.

[سورة القمر (54) : الآيات 21 إلى 22]

النَّخْلُ لَفْظُهُ لَفْظُ الْوَاحِدِ، كَالْبَقْلِ وَالنَّمْلِ وَمَعْنَاهُ مَعْنَى الْجَمْعِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: نَخْلٌ مُنْقَعِرٌ وَمُنْقَعِرَةٌ وَمُنْقَعِرَاتٌ، وَنَخْلٌ خَاوٍ وَخَاوِيَةٌ وَخَاوِيَاتٌ وَنَخْلٌ بَاسِقٌ وَبَاسِقَةٌ وَبَاسِقَاتٌ، فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: مُنْقَعِرٌ أَوْ خَاوٍ أَوْ بَاسِقٌ جَرَّدَ النَّظَرَ إِلَى اللَّفْظِ وَلَمْ يُرَاعِ جَانِبَ الْمَعْنَى، وَإِذَا قَالَ: مُنْقَعِرَاتٌ أَوْ خَاوِيَاتٌ أَوْ بَاسِقَاتٌ جَرَّدَ النَّظَرَ إِلَى الْمَعْنَى وَلَمْ يُرَاعِ جَانِبَ اللَّفْظِ، وَإِذَا قَالَ: مُنْقَعِرَةٌ أَوْ خَاوِيَةٌ أَوْ بَاسِقَةٌ جَمَعَ بَيْنَ الِاعْتِبَارَيْنِ مِنْ حَيْثُ وِحْدَةِ اللَّفْظِ، وَرُبَّمَا قَالَ: مُنْقَعِرَةٌ عَلَى الْإِفْرَادِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، وَأُلْحِقُ بِهِ تَاءُ التَّأْنِيثِ الَّتِي فِي الْجَمَاعَةِ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَفْظَ النَّخْلِ فِي مَوَاضِعَ ثَلَاثَةٍ، وَوَصَفَهَا عَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، فَقَالَ: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ [ق: 10] فَإِنَّهَا حَالٌ مِنْهَا وَهِيَ كَالْوَصْفِ، وَقَالَ: نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: 7] وَقَالَ: نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَحَيْثُ قَالَ: مُنْقَعِرٍ كَانَ الْمُخْتَارُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنْقَعِرَ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ كَالْمَفْعُولِ، لِأَنَّهُ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ القعر فهو مقعور، والخاو وَالْبَاسِقُ فَاعِلٌ وَمَعْنَاهُ إِخْلَاءُ مَا هُوَ مَفْعُولٌ مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ أَوَّلًا، كَمَا تَقُولُ: امْرَأَةٌ كَفِيلٌ، وَامْرَأَةٌ كَفِيلَةٌ، وَامْرَأَةٌ كَبِيرٌ، وَامْرَأَةٌ كَبِيرَةٌ. وَأَمَّا الْبَاسِقَاتُ، فَهِيَ فَاعِلَاتٌ حَقِيقَةً، لِأَنَّ الْبُسُوقَ أَمْرٌ قَامَ بِهَا، وَأَمَّا الْخَاوِيَةٌ، فَهِيَ مِنْ بَابِ حُسْنِ الْوَجْهِ، لِأَنَّ الْخَاوِيَ مَوْضِعُهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: نَخْلٌ خَاوِيَةُ الْمَوَاضِعِ، وَهَذَا غَايَةُ الْإِعْجَازِ حَيْثُ أَتَى بِلَفْظٍ مُنَاسِبٍ لِلْأَلْفَاظِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ مِنْ حَيْثُ/ اللَّفْظِ، فَكَانَ الدَّلِيلُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ الشَّاعِرِ الَّذِي يَخْتَارُ اللَّفْظَ عَلَى الْمَذْهَبِ الضعيف لأجل الوزن والقافية. ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 21 الى 22] فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) وَتَفْسِيرُهُ قَدْ تَقَدَّمَ وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّقْرِيرِ، وَفِي قَوْلِهِ: عَذابِي وَنُذُرِ لَطِيفَةٌ مَا ذَكَرْنَاهَا، وَهِيَ تَثْبُتُ بِسُؤَالٍ وَجَوَابٍ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ النُّذُرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ جَمْعُ نَذِيرٍ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ مَعْنَاهُ إِنْذَارٌ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَوْحِيدِ الْعَذَابِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: فَكَيْفَ كَانَ أَنْوَاعُ عَذَابِي وَوَبَالِ إِنْذَارِي؟ نَقُولُ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى غَلَبَةِ الرَّحْمَةِ الْغَضَبَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْذَارَ إِشْفَاقٌ وَرَحْمَةٌ، فَقَالَ: الْإِنْذَارَاتُ الَّتِي هِيَ نِعَمٌ وَرَحْمَةٌ تَوَاتَرَتْ، فَلَمَّا لَمْ تَنْفَعْ وَقَعَ الْعَذَابُ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَكَانَتِ النِّعَمُ كَثِيرَةً، وَالنِّقْمَةُ وَاحِدَةً وَسَنُبَيِّنُ هَذَا زِيَادَةَ بَيَانٍ حِينَ نُفَسِّرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرَّحْمَنِ: 13] حَيْثُ جَمَعَ الْآلَاءَ وَكَثُرَ ذِكْرُهَا وَكَرَّرَهَا ثَلَاثِينَ مَرَّةً، ثُمَّ بين الله تعالى حال قوم آخرين. فقال: [سورة القمر (54) : آية 23] كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ غَيْرَ أنه في قصة عاد قال: كَذَّبَتْ [القمر: 18] وَلَمْ يَقُلْ: بِالنُّذُرِ، وَفِي قِصَّةِ نُوحٍ قَالَ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ «1» [الشعراء: 105] فَنَقُولُ: هَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ المراد بقوله: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [القمر: 9] أَنَّ عَادَتَهُمْ وَمَذْهَبَهُمْ إِنْكَارُ الرُّسُلِ وَتَكْذِيبُهُمْ فَكَذَّبُوا نُوحًا بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَإِنَّمَا صَرَّحَ هَاهُنَا لِأَنَّ كُلَّ قَوْمٍ يَأْتُونَ بَعْدَ قَوْمٍ وَأَتَاهُمَا رَسُولَانِ فَالْمُكَذِّبُ الْمُتَأَخِّرُ يُكَذِّبُ الْمُرْسَلِينَ جَمِيعًا حَقِيقَةً وَالْأَوَّلُونَ يُكَذِّبُونَ رَسُولًا وَاحِدًا حَقِيقَةً وَيَلْزَمُهُمْ تَكْذِيبُ مَنْ بَعْدَهُ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَذَّبُوا مَنْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ، وَالْحَشْرُ كَائِنٌ، وَمَنْ أُرْسِلَ بَعْدَهُ كَذَلِكَ قَوْلُهُ وَمَذْهَبُهُ لَزِمَ مِنْهُ أَنْ يُكَذِّبُوهُ وَيَدُلُّ على هذا

_ (1) لم نعثر عليها في المعجم، ولفظ (بالنذر) مقحمة فإزالتها تستقيم الآية.

[سورة القمر (54) : آية 24]

أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي قَوْمِ نُوحٍ: فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ [الْأَعْرَافِ: 64] وَقَالَ فِي عَادٍ: وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ [هُودٍ: 59] وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاءِ: 105] فَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ كَذَّبُوا وَقَالُوا مَا يُفْضِي إِلَى تَكْذِيبِ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ، وَلِهَذَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ هُنَاكَ عَنْ نُوحٍ: رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ [الشُّعَرَاءِ: 117] وَلَمْ يَقُلْ: كَذَّبُوا رُسُلَكَ إِشَارَةً إِلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ حَقِيقَةً لَا أَنَّ مَا أَلْزَمَهُمْ لَزِمَهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلَمَّا سَبَقَ قِصَّةُ ثَمُودَ ذَكَرَ رَسُولَيْنِ وَرَسُولُهُمْ ثَالِثُهُمْ قَالَ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ هَذَا كُلُّهُ إِذَا قُلْنَا إِنَّ النُّذُرَ جَمْعُ نَذِيرٍ بِمَعْنَى مُنْذِرٍ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّهَا الْإِنْذَارَاتُ فَنَقُولُ: قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ لَمْ تَسْتَمِرَّ الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي زَمَانِهِمْ، وَأَمَّا ثَمُودُ فَأُنْذِرُوا وَأُخْرِجَ لَهُمْ نَاقَةٌ مِنْ صَخْرَةٍ وَكَانَتْ تَدُورُ بَيْنَهُمْ وَكَذَّبُوا فَكَانَ تَكْذِيبُهُمْ بِإِنْذَارَاتٍ وَآيَاتٍ ظَاهِرَةٍ فَصَرَّحَ بِهَا، وقوله: فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا/ واحِداً نَتَّبِعُهُ [القمر: 24] يُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ لَا أَتَّبِعُ بَشَرًا مِثْلِي وَجَمِيعُ الْمُرْسَلِينَ مِنَ الْبَشَرِ يَكُونُ مُكَذِّبًا لِلرُّسُلِ وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِالنُّذُرِ يُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الثَّانِيَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ عَدَّى التَّكْذِيبَ بِغَيْرِ حرف فقال: فَكَذَّبُوهُ [الأعراف: 64] وكَذَّبُوا (....) رُسُلَنا [غافر: 70] فَكَذَّبُوا عَبْدَنا [القمر: 9] وكَذَّبُونِ [المؤمنون: 26] وقال: كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ [الأنفال: 54] وبِآياتِنا [البقرة: 39] فَعَدَّى بِحَرْفٍ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ هُوَ النِّسْبَةُ إِلَى الْكَذِبِ وَالْقَائِلُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ كَاذِبًا حَقِيقَةً وَالْكَلَامُ وَالْقَوْلُ يُقَالُ فِيهِ كَاذِبٌ مَجَازًا وَتَعَلُّقُ التَّكْذِيبِ بِالْقَائِلِ أَظْهَرُ فَيَسْتَغْنِي عَنِ الْحَرْفِ بِخِلَافِ الْقَوْلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ وَبَيَّنَّاهُ بَيَانًا شَافِيًا. [سورة القمر (54) : آية 24] فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: زَيْدًا ضَرَبْتُهُ وَزَيْدٌ ضَرْبَتُهُ كِلَاهُمَا جَائِزٌ وَالنَّصْبُ مُخْتَارٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا هَذَا الْمَوْضِعُ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ النَّصْبُ وَالرَّفْعُ بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ، وَالسَّبَبُ فِي اخْتِيَارِ النَّصْبِ أَمْرٌ مَعْقُولٌ وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَفْهِمَ يَطْلُبُ مِنَ الْمَسْئُولِ أَنْ يَجْعَلَ مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ مَبْدَأٌ لِكَلَامِهِ وَيُخْبِرُ عَنْهُ، فَإِذَا قَالَ: أَزَيْدٌ عِنْدَكَ مَعْنَاهُ أَخْبِرْنِي عَنْ زَيْدٍ وَاذْكُرْ لِي حَالَهُ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ فِعْلٌ مَذْكُورٌ تَرَجَّحَ جَانِبُ النَّصْبِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَزَيْدًا ضَرَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ فَالْأَحْسَنُ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ: من قرأ أبشر مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ كَيْفَ تَرَكَ الْأَجْوَدَ؟ نَقُولُ: نَظَرًا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالُوا إِذْ مَا بعد القول لا يكون إلا جملة وَالِاسْمِيَّةُ أَوْلَى وَالْأَوْلَى أَقْوَى وَأَظْهَرُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ بَشَرًا مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَأَخُّرِ الْفِعْلِ فِي الظَّاهِرِ؟ نَقُولُ: قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا أَنَّ الْبَلِيغَ يُقَدِّمُ فِي الْكَلَامِ مَا يَكُونُ تَعَلُّقُ غَرَضِهِ بِهِ أَكْثَرَ وَهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ تَبْيِينَ كَوْنِهِمْ مُحِقِّينَ فِي تَرْكِ الِاتِّبَاعِ فَلَوْ قَالُوا: أَنَتَّبِعُ بَشَرًا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ نَعَمِ اتَّبِعُوهُ وَمَاذَا يَمْنَعُكُمْ مِنِ اتِّبَاعِهِ، فَإِذَا قَدَّمُوا حَالَهُ وَقَالُوا هُوَ نَوْعُنَا بَشَرٌ وَمِنْ صِنْفِنَا رَجُلٌ لَيْسَ غَرِيبًا نَعْتَقِدُ فِيهِ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَا نَعْلَمُ أَوْ يَقْدِرُ مَا لَا نَقْدِرُ وَهُوَ وَاحِدٌ وَحِيدٌ وَلَيْسَ لَهُ جُنْدٌ وَحَشَمٌ وَخَيْلٌ وَخَدَمٌ فَكَيْفَ نَتَّبِعُهُ، فَيَكُونُونَ قَدْ قَدَّمُوا الْمُوجِبَ لِجَوَازِ الِامْتِنَاعِ مِنْ الِاتِّبَاعِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَاتٍ إِلَى ذَلِكَ أَحَدُهَا: نَكَّرُوهُ حَيْثُ قَالُوا أَبَشَراً وَلَمْ يَقُولُوا: أَنَتَّبِعُ صَالِحًا أَوِ الرَّجُلَ الْمُدَّعِيَ النُّبُوَّةَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُعَرَّفَاتِ وَالتَّنْكِيرُ تَحْقِيرٌ ثَانِيهَا: قَالُوا أَبَشَرًا وَلَمْ يَقُولُوا أَرَجُلًا ثَالِثُهَا: قَالُوا مِنَّا وَهُوَ يَحْمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ صِنْفِنَا لَيْسَ غَرِيبًا، وَثَانِيهِمَا مِنَّا أَيْ تَبَعَنَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ أَنْتَ مِنَّا فَيَتَأَذَّى السَّامِعُ وَيَقُولُ: لَا بَلْ أَنْتَ مِنَّا وَلَسْتُ أَنَا مِنْكُمْ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَالْبَعْضُ يَتْبَعُ الْكُلَّ لَا الْكُلُّ يَتْبَعُ الْبَعْضَ رَابِعُهَا: واحِداً

[سورة القمر (54) : آية 25]

يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَيْضًا أَحَدُهُمَا: وَحِيدًا إِلَى ضَعْفِهِ وَثَانِيهِمَا: وَاحِدًا أَيْ هُوَ مِنَ الْآحَادِ لَا مِنَ الْأَكَابِرِ الْمَشْهُورِينَ، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي اسْتِعْمَالِ الْآحَادِ فِي الْأَصَاغِرِ حَيْثُ يُقَالُ: هُوَ مِنْ آحَادِ النَّاسِ هُوَ أَنَّ مَنْ لَا يَكُونُ مشهودا بِحَسَبٍ وَلَا نَسَبٍ إِذَا حَدَّثَ عَنْهُ/ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ عَنْهُ قَالَ فُلَانٌ أَوِ ابْنُ فُلَانٍ فَيَقُولُ قَالَ وَاحِدٌ وَفَعَلَ وَاحِدٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ غَايَةَ الْخُمُولِ، لِأَنَّ الْأَرْذَلَ لَا يَنْضَمُّ إِلَيْهِ أَحَدٌ فَيَبْقَى فِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهِ وَاحِدًا فَيُقَالُ: لِلْأَرْذَالِ آحَادٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا قَدْ قَالُوا فِي جَوَابِ مَنْ يَقُولُ لَهُمْ إِنْ لَمْ تَتَّبِعُوهُ تَكُونُوا فِي ضَلَالٍ، فَيَقُولُونَ لَهُ: لَا بَلْ إِنْ تَبِعْنَاهُ نَكُونُ فِي ضَلَالٍ ثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَرْتِيبًا عَلَى مَا مَضَى أَيْ حَالُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الضَّعْفِ وَالْوَحْدَةِ فَإِنِ اتَّبَعْنَاهُ نَكُونُ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ أَيْ جُنُونٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ قَالُوهُ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَابِ فَيَكُونُ الْقَائِلُ قَالَ لَهُمْ: إِنْ لَمْ تَتَّبِعُوهُ فَإِنَّا إِذًا فِي الْحَالِ فِي ضَلَالٍ وَفِي سُعُرٍ فِي الْعُقْبَى فَقَالُوا: لَا بَلْ لَوِ اتَّبَعْنَاهُ فَإِنَّا إِذًا فِي الْحَالِ فِي ضَلَالٍ وَفِي سُعُرٍ مِنَ الذُّلِّ وَالْعُبُودِيَّةِ مَجَازًا فَإِنَّهُمْ مَا كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِالسَّعِيرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: السَّعِيرُ فِي الْآخِرَةِ وَاحِدٌ فَكَيْفَ جُمِعَ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: فِي جَهَنَّمَ دَرَكَاتٌ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ سَعِيرًا أَوْ فِيهَا سَعِيرٌ ثَانِيهَا: لِدَوَامِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ يُبَدِّلُهُمْ جُلُودًا كَأَنَّهُمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ فِي سَعِيرٍ آخَرَ وَعَذَابٍ آخَرَ ثَالِثُهَا: لِسِعَةِ السَّعِيرِ الْوَاحِدِ كَأَنَّهَا سُعُرٍ يُقَالُ لِلرَّجُلِ الْوَاحِدِ: فُلَانٌ لَيْسَ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ بَلْ هُوَ رجال. ثم قال تعالى عنهم: [سورة القمر (54) : آية 25] أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النَّفْيَ بِطَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ أَبْلَغُ لِأَنَّ مَنْ قَالَ: مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ رُبَّمَا يَعْلَمُ أَوْ يَظُنُّ أَوْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ السَّامِعَ يُكَذِّبُهُ فِيهِ فَإِذَا ذُكِرَ بِطَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ يَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّ السَّامِعَ يُجِيبُنِي بِقَوْلِهِ: مَا أُنْزِلَ فَيُجْعَلُ الْأَمْرُ حِينَئِذٍ مَنْفِيًّا ظَاهِرًا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ يَقُولُ: مَا أُنْزِلَ، وَالذِّكْرُ الرِّسَالَةُ أَوِ الْكِتَابُ إِنْ كَانَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا يَذْكُرُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يُقَالُ الْحَقُّ وَيُرَادُ بِهِ مَا يَحُلُّ مِنَ اللَّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُمْ أَأُلْقِيَ بَدَلُ أَأُنْزِلَ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانُوا يُنْكِرُونَهُ مِنْ طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ إِنْزَالٌ بِسُرْعَةٍ وَالنَّبِيُّ كَانَ يَقُولُ: «جَاءَنِي الْوَحْيُ مَعَ الْمَلَكِ فِي لَحْظَةٍ يَسِيرَةٍ» فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: الْمَلَكُ جِسْمٌ وَالسَّمَاءُ بَعِيدَةٌ فَكَيْفَ يَنْزِلُ فِي لَحْظَةٍ فَقَالُوا: أَأُلْقِيَ وَمَا قَالُوا: أَأُنْزِلَ، وَقَوْلُهُمْ عَلَيْهِ إِنْكَارٌ آخَرُ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَا أُلْقِيَ ذِكْرٌ أَصْلًا، قَالُوا: إِنْ أُلْقِيَ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا وَفِينَا مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فِي الشَّرَفِ وَالذَّكَاءِ، وَقَوْلُهُمْ أَأُلْقِيَ بَدَلٌ عَنْ قَوْلِهِمْ أَأَلْقَى اللَّهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْإِلْقَاءَ مِنَ السَّمَاءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عَرَّفُوا الذِّكْرَ وَلَمْ يَقُولُوا: أَأُلْقِيَ عَلَيْهِ ذِكْرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى إِنْكَارَهُمْ/ لِمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْكَرَ فَقَالَ: أَنْكَرُوا الذِّكْرَ الظَّاهِرَ الْمُبِينَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْكَرَ فَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَنْكَرُوا الْمَعْلُومَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (بَلْ) يَسْتَدْعِي أَمْرًا مَضْرُوبًا عَنْهُ سَابِقًا فَمَا ذَاكَ؟ نَقُولُ قولهم: أألقي للإنكار فهم قالوا: ما أألقي، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُمْ: أَأُلْقِيَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ لَا يَقْتَضِي إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ، ثُمَّ قَالُوا: بَلْ هُوَ لَيْسَ بِصَادِقٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْكَذَّابُ فَعَّالٌ مِنْ فَاعِلٍ لِلْمُبَالَغَةِ أَوْ يُقَالُ: بَلْ مِنْ فَاعِلٍ كَخَيَّاطٍ وَتَمَّارٍ؟ نَقُولُ: الْأَوَّلُ

[سورة القمر (54) : آية 26]

هُوَ الصَّحِيحُ الْأَظْهَرُ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْمَنْسُوبَ إِلَى الشَّيْءِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ مُزَاوَلَةِ الشَّيْءِ فَإِنَّ مَنْ خَاطَ يَوْمًا ثَوْبَهُ مَرَّةً لَا يُقَالُ لَهُ خَيَّاطٌ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الْمُبَالَغَةُ إِمَّا فِي الْكَثْرَةِ، وَإِمَّا فِي الشِّدَّةِ فَالْكَذَّابُ إِمَّا شَدِيدُ الْكَذِبِ يَقُولُ مَا لَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ أَوْ كَثِيرُ الْكَذِبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا وَصَفُوهُ بِهِ لِاعْتِقَادِهِمُ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ وَقَوْلُهُمْ: أَشِرٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَذِبٌ لَا لِضَرُورَةٍ وَحَاجَةٍ إِلَى خَلَاصٍ كَمَا يَكْذِبُ الضَّعِيفُ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتَغْنَى وَبَطِرَ وَطَلَبَ الرِّيَاسَةَ عَلَيْكُمْ وَأَرَادَ اتِّبَاعَكُمْ لَهُ فَكَانَ كُلُّ وَصْفٍ مَانِعًا مِنْ الِاتِّبَاعِ لِأَنَّ الْكَاذِبَ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ كَذِبُهُ لَا لِضَرُورَةٍ، وَقُرِئَ: أَشَرُّ «1» فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذَا عَلَى الْأَصْلِ الْمَرْفُوضِ فِي الْأَشِرِ وَالْأَخِيرُ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ، وَإِنَّمَا رُفِضَ الْأَصْلُ فِيهِ لِأَنَّ أَفْعَلَ إِذَا فُسِّرَ قَدْ يُفَسَّرُ بِأَفْعَلَ أَيْضًا وَالثَّانِي بِأَفْعَلَ ثَالِثٍ، مِثَالُهُ إِذَا قَالَ: مَا مَعْنَى الْأَعْلَمِ؟ يُقَالُ: هُوَ الْأَكْثَرُ عِلْمًا فَإِذَا قِيلَ: الْأَكْثَرُ مَاذَا؟ فَيُقَالُ: الْأَزْيَدُ عَدَدًا أَوْ شَيْءٌ مِثْلُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ يُفَسَّرُ بِهِ الأفعل لَا مِنْ بَابِهِ فَقَالُوا: أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ وَالْفَضِيلَةُ أَصْلُهَا الْخَيْرُ وَالْخَيْرُ أَصْلٌ فِي بَابِ أَفْعَلَ فَلَا يُقَالُ: فِيهِ أَخْيَرُ، ثُمَّ إِنَّ الشَّرَّ فِي مُقَابَلَةِ الْخَيْرِ يُفْعَلُ بِهِ مَا يُفْعَلُ بِالْخَيْرِ فَيُقَالُ هُوَ شَرٌّ مِنْ كَذَا وَخَيْرٌ مِنْ كَذَا وَالْأَشَرُّ فِي مُقَابَلَةِ الْأَخْيَرِ، ثُمَّ إِنَّ خَيْرًا يُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مُبَالَغَةُ الْخَيْرِ بِفَعْلٍ أَوْ أَفْعَلَ عَلَى اخْتِلَافٍ يُقَالُ: هَذَا خَيْرٌ وَهَذَا أَخْيَرُ وَيُسْتَعْمَلُ فِي مُبَالَغَةِ خَيْرٍ عَلَى الْمُشَابَهَةِ لَا عَلَى الْأَصْلِ فَمَنْ يَقُولُ: أَشَرَّ يَكُونُ قَدْ تَرَكَ الْأَصْلَ الْمُسْتَعْمَلَ لِأَنَّهُ أُخِذَ فِي الْأَصْلِ الْمَرْفُوضِ بِمَعْنَى هُوَ شَرٌّ مِنْ غَيْرِهِ وَكَذَا مَعْنَى الْأَعْلَمِ أَنَّ عِلْمَهُ خَيْرٌ مِنْ عِلْمِ غَيْرِهِ، أَوْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ غِرَّةِ الْجَهْلِ كَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الأضعف وغيره. ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 26] سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: سَيَعْلَمُ لِلِاسْتِقْبَالِ وَوَقْتُ إِنْزَالِ الْقُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا، لِأَنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ تَتَبَيَّنُ الْأُمُورُ وَقَدْ عَايَنُوا مَا عَايَنُوا فَكَيْفَ الْقَوْلُ فِيهِ؟ نَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ مَفْرُوضَ الْوُقُوعِ فِي وَقْتِ قَوْلِهِمْ: بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ يَوْمَ قَالُوا: بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَدًا وَثَانِيهِمَا: أَنَّ هَذَا التَّهْدِيدَ بِالتَّعْذِيبِ لَا بِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ لَا عَذَابَ الْقَبْرِ فَهُمْ سَيُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: غَداً لِقُرْبِ الزَّمَانِ فِي الْإِمْكَانِ وَالْأَذْهَانِ/ ثُمَّ إِنْ قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ لِلتَّهْدِيدِ بِالتَّعْذِيبِ لَا لِلتَّكْذِيبِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَفْسِيرِهِ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ إِعَادَةً لِقَوْلِهِمْ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى مَعْنَاهُ، وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ لِلرَّدِّ وَالْوَعْدِ بِبَيَانِ انْكِشَافِ الْأَمْرِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَعْلَمُونَ غَداً مَعْنَاهُ سَيَعْلَمُونَ غَدًا أَنَّهُمُ الْكَاذِبُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا لَا لِحَاجَةٍ وَضَرُورَةٍ، بَلْ بَطِرُوا وَأَشِرُوا لَمَّا اسْتَغْنَوْا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: غَداً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يَوْمَ الْعَذَابِ وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 27] إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الأولى: قوله: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ بِمَعْنَى الْمَاضِي أَوْ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، إِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمَاضِي فَكَيْفَ يَقُولُ: فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ حِكَايَةِ عَادٍ وَحِكَايَةِ ثَمُودَ حَيْثُ قَالَ هُنَاكَ: إِنَّا أَرْسَلْنا [القمر: 19] وقال هاهنا: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ بِمَعْنَى إِنَّا نُرْسِلُ؟ نَقُولُ: هُوَ بِمَعْنَى

_ (1) أشر بفتح الهمزة والشين وتشديد الراء على زنة أفعل للتفضيل والمبالغة.

الْمُسْتَقْبَلِ، وَمَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: سَيَعْلَمُونَ غَداً يدل عليه، فإن قوله: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ كَالْبَيَانِ لَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ سَيَعْلَمُونَ حَيْثُ: نُرْسِلُ النَّاقَةَ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَارْتَقِبْهُمْ وَنَبِّئْهُمْ [القمر: 28] أَيْضًا يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَنادَوْا [القمر: 29] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمَاضِي قُلْنَا سَنُجِيبُ عَنْهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَأَمَّا الْفَارِقُ فَنَقُولُ: حِكَايَةُ ثَمُودَ مُسْتَقْصَاةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حَيْثُ ذَكَرَ تَكْذِيبَ الْقَوْمِ بِالنَّذْرِ وَقَوْلَهُمْ لِرَسُولِهِمْ وَتَصْدِيقَ الرُّسُلِ بِقَوْلِهِ: سَيَعْلَمُونَ وَذَكَرَ الْمُعْجِزَةَ وَهِيَ النَّاقَةُ وَمَا فَعَلُوهُ بِهَا وَالْعَذَابَ وَالْهَلَاكَ يَذْكُرُ حِكَايَةً عَلَى وَجْهِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ لِيَكُونَ وَصْفُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّهُ حَاضِرُهَا فَيَقْتَدِي بِصَالِحٍ فِي الصَّبْرِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الْحَقِّ وَيَثِقُ بِرَبِّهِ فِي النَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ بِالْحَقِّ فَقَالَ: إِنِّي مُؤَيِّدُكَ بِالْمُعْجِزَةِ الْقَاطِعَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ خَمْسَ قِصَصٍ، وَجَعَلَ الْقِصَّةَ الْمُتَوَسِّطَةَ مَذْكُورَةً عَلَى أَتَمِّ وَجْهٍ لِأَنَّ حَالَ صَالِحٍ كَانَ أَكْثَرَ مُشَابَهَةً بِحَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ أَتَى بِأَمْرٍ عَجِيبٍ أَرْضِيٍّ كَانَ أَعْجَبَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، لِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحْيَا الْمَيِّتَ لَكِنَّ الْمَيِّتَ كَانَ مَحَلًّا لِلْحَيَاةِ فَأَثْبَتَ بِإِذْنِ اللَّهِ الْحَيَاةَ فِي مَحَلٍّ كَانَ قَابِلًا لَهَا، وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ انْقَلَبَتْ عَصَاهُ ثُعْبَانًا فَأَثْبَتَ اللَّهُ لَهُ فِي الْخَشَبَةِ الْحَيَاةَ لَكِنَّ الْخَشَبَةَ نَبَاتٌ كَانَ لَهُ قُوَّةٌ فِي النَّمَاءِ يُشْبِهُ الْحَيَوَانَ فِي النُّمُوِّ فَهُوَ أَعْجَبُ، وَصَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ الظَّاهِرُ فِي يَدِهِ خُرُوجَ النَّاقَةِ من الحجر والحجر جَمَادٌ لَا مَحَلَّ لِلْحَيَاةِ وَلَا مَحَلَّ لِلنُّمُوِّ [فِيهِ] وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بِأَعْجَبَ مِنَ الْكُلِّ وَهُوَ التَّصَرُّفُ فِي جِرْمِ السَّمَاءِ الَّذِي يَقُولُ الْمُشْرِكُ لَا وَصُولَ لِأَحَدٍ إِلَى السَّمَاءِ وَلَا إِمْكَانَ لِشَقِّهِ وَخَرْقِهِ، وَأَمَّا الْأَرْضِيَّاتُ فَقَالُوا: إِنَّهَا أَجْسَامٌ مُشْتَرِكَةُ الْمَوَادِّ يَقْبَلُ كل واحد منها صورة الأخرى، والسموات لَا تَقْبَلُ ذَلِكَ فَلَمَّا أَتَى بِمَا عَرَفُوا فِيهِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ آدَمِيٌّ كَانَ أَتَمَّ وَأَبْلَغَ مِنْ مُعْجِزَةِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّتِي هِيَ أَتَمُّ مُعْجِزَةٍ مِنْ مُعْجِزَاتِ مَنْ كَانَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهُوَ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى/ الْمَاضِي. وَذُكِرَ مَعَهُ مَفْعُولُهُ فَالْوَاجِبُ الْإِضَافَةُ تَقُولُ: وَحْشِيٌّ قَاتِلُ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ قُلْنَا: قَاتِلٌ عَمَّ النَّبِيِّ بِالْإِعْمَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ الْحِكَايَةِ فِي الْحَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ [الْكَهْفِ: 18] عَلَى أَنَّهُ يَحْكِي الْقِصَّةَ فِي حَالِ وُقُوعِهَا تَقُولُ: خَرَجْتُ أَمْسِ فَإِذَا زَيْدٌ ضَارِبٌ عَمْرًا كَمَا تَقُولُ: يَضْرِبُ عَمْرًا، وَإِنْ كَانَ الضَّرْبُ قَدْ مَضَى، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ فَالْأَحْسَنُ الْإِعْمَالٌ تَقُولُ: إِنِّي ضَارِبٌ عَمْرًا غَدًا، فَإِنْ قُلْتَ إِنِّي ضَارِبُ عَمْرٍو غَدًا حَيْثُ كَانَ الْأَمْرُ وَقَعَ وَكَانَ جَازَ لَكِنَّهُ غَيْرُ الْأَحْسَنِ، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ قَوْلَنَا: ضَارِبٌ وَسَارِقٌ وَقَاتِلٌ أَسْمَاءٌ فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرَ أَنَّ لَهَا دَلَالَةً عَلَى الْفِعْلِ فَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ تَحَقَّقَ فِي الْمَاضِي فَهُوَ قَدْ عُدِمَ حَقِيقَةً فَلَا وُجُودَ لِلْفِعْلِ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا فِي التَّوَقُّعِ فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى مَا لِلِاسْمِ مِنَ الْإِضَافَةِ وَتَرْكُ مَا لِلْفِعْلِ مِنَ الْأَعْمَالِ لِغَلَبَةِ الِاسْمِيَّةِ وَفِقْدَانِ الْفِعْلِ بِالْمَاضِي، وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ حَاضِرًا أَوْ مُتَوَقَّعًا فِي الِاسْتِقْبَالِ فَلَهُ وُجُودٌ حَقِيقَةً أَوْ فِي التَّوَقُّعِ فَتَجُوزُ الْإِضَافَةُ لِصُورَةِ الِاسْمِ، وَالْإِعْمَالُ لِتَوَقُّعِ الْفِعْلِ أَوْ لِوُجُودِهِ وَلَكِنَّ الْإِعْمَالَ أَوْلَى لِأَنَّ فِي الِاسْتِقْبَالِ لَنْ يَضْرِبَ يُفِيدُ لَا يَكُونُ ضَارِبًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ، أَمَّا الْإِعْمَالُ فَهُوَ يُنْبِئُ عَنْ تَوَقُّعِ الْفِعْلِ أَوْ وُجُودِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: زَيْدٌ ضَارِبٌ عَمْرًا فَالسَّامِعُ إِذَا سَمِعَ بِضَرْبِ عَمْرٍو عَلِمَ أَنَّهُ يَفْعَلُ فَإِذَا لَمْ يَرَهُ فِي الْحَالِ يَتَوَقَّعُهُ فِي الِاسْتِقْبَالِ غَيْرَ أَنَّ الْإِضَافَةَ تُفِيدُ تَخْفِيفًا حَيْثُ سَقَطَ بِهَا التَّنْوِينُ وَالنُّونُ فَتُخْتَارُ لَفْظًا لَا معنى، إذا عرفت هذا فنقول: مُرْسِلُوا النَّاقَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّخْفِيفِ فِيهِ تَحْقِيقُ الْأَمْرِ وَتَقْدِيرُهُ كَأَنَّهُ وَقَعَ وَكَانَ بِخِلَافِ مَا لَوْ قِيلَ: إِنَّا نُرْسِلُ النَّاقَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِتْنَةً مَفْعُولٌ لَهُ فَتَكُونُ الْفِتْنَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةَ مِنَ الْإِرْسَالِ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَصْدِيقُ

[سورة القمر (54) : آية 28]

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ مُعْجِزَةٌ فَمَا التَّحْقِيقُ فِي تَفْسِيرِهِ؟ نَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُعْجِزَةَ فِتْنَةٌ لِأَنَّ بِهَا يَتَمَيَّزُ حَالُ مَنْ يُثَابُ مِمَّنْ يُعَذَّبُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِالْمُعْجِزَةِ لَا يُعَذِّبُ الْكُفَّارَ إِلَّا إِذَا كَانَ يُنْبِئُهُمْ بِصِدْقِهِ مِنْ حَيْثُ نُبُوَّتِهِ فَالْمُعْجِزَةُ ابْتِلَاءٌ لِأَنَّهَا تَصْدِيقٌ وَبَعْدَ التَّصْدِيقِ يَتَمَيَّزُ الْمُصَدِّقُ عَنِ الْمُكَذِّبِ وَثَانِيهِمَا: وَهُوَ أَدَقُّ أَنَّ إِخْرَاجَ النَّاقَةِ مِنَ الصَّخْرَةِ كَانَ مُعْجِزَةً وَإِرْسَالَهَا إِلَيْهِمْ وَدَوَرَانَهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَقِسْمَةَ الْمَاءِ كَانَ فِتْنَةً وَلِهَذَا قَالَ: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّا مُخْرِجُو النَّاقَةِ فِتْنَةً، وَالتَّحْقِيقُ فِي الْفِتْنَةِ وَالِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا وَإِلَيْهِ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلِلْهِدَايَةِ طُرُقٌ، مِنْهَا مَا يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ لِلْإِنْسَانِ مَدْخَلٌ فِيهِ بِالْكَسْبِ، مِثَالُهُ يَخْلُقُ شَيْئًا دَالًّا وَيَقَعُ تَفَكُّرُ الْإِنْسَانِ فِيهِ وَنَظَرُهُ إِلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ الْحَقُّ فَيَتَّبِعُهُ وَتَارَةً يُلْجِئُهُ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً وَيَصُونُهُ عَنِ الْخَطَأِ مِنْ صِغَرِهِ فَإِظْهَارُ الْمُعْجِزِ عَلَى يَدِ الرَّسُولِ أَمْرٌ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ اهْتِدَاءً مَعَ الْكَسْبِ وَهِدَايَةُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ مِنْهُمْ بَلْ يَخْلُقُ فيهم علوما غير كسبية فقوله: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً إِشَارَةٌ إِلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ: وَمَعْنَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ فِتْنَةً وَعَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ كَانَتْ مُعْجِزَتُهُ أَظْهَرَ يَكُونُ ثَوَابُ قَوْمِهِ أَقَلَّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَارْتَقِبْهُمْ أَيْ فَارْتَقِبْهُمْ بِالْعَذَابِ، وَلَمْ يَقُلْ: فَارْتَقِبِ الْعَذَابَ إِشَارَةً إِلَى حُسْنِ الْأَدَبِ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ طَلَبِ الشَّرِّ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: / وَاصْطَبِرْ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ بِمَعْنَى إِنْ كَانُوا يُؤْذُونَكَ فَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمُ الْعَذَابَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى قُرْبِ الْوَقْتِ إِلَى أَمْرِهِمَا وَالْأَمْرُ بِحَيْثُ يَعْجِزُ عَنِ الصبر. ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 28] وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) أي مقسوم وصف بالمصدر مرادا به المشتق منه كقوله ماء ملح وقوله زُورٌ وَفِيهِ ضَرْبٌ مِنَ الْمُبَالَغَةِ يُقَالُ لِلْكَرِيمِ: كَرَمٌ كَأَنَّهُ هُوَ عَيْنُ الْكَرَمِ وَيُقَالُ: فُلَانٌ لُطْفٌ مَحْضٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْقِسْمَةُ وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ النَّاقَةَ كَانَتْ عَظِيمَةً وَكَانَتْ حَيَوَانَاتُ الْقَوْمِ تَنْفِرُ مِنْهَا وَلَا تَرِدُ الْمَاءَ وَهِيَ عَلَى الْمَاءِ، فَصَعُبَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَجُعِلَ الْمَاءُ بَيْنَهُمَا يَوْمًا لِلنَّاقَةِ وَيَوْمًا لِلْقَوْمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِقِلَّةِ الْمَاءِ فَشِرْبُهُ يَوْمًا لِلنَّاقَةِ وَيَوْمًا لِلْحَيَوَانَاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ كَانَ بَيْنَهُمْ قسمة يوم لقوم ويوم لِقَوْمٍ وَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ النَّاقَةَ كَانَتْ تَرِدُ الماء يوم فَكَانَ الَّذِينَ لَهُمُ الْمَاءُ فِي غَيْرِ يَوْمِ وُرُودِهَا يَقُولُونَ: الْمَاءُ كُلُّهُ لَنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ وَيَوْمُكُمْ كَانَ أَمْسِ وَالنَّاقَةُ مَا أَخَّرَتْ شَيْئًا فَلَا نُمَكِّنُكُمْ مِنَ الْوُرُودِ أَيْضًا فِي هَذَا الْيَوْمِ فَيَكُونُ النُّقْصَانُ وَارِدًا عَلَى الْكُلِّ وَكَانَتِ النَّاقَةُ تَشْرَبُ الْمَاءَ بِأَسْرِهِ وَهَذَا أَيْضًا ظَاهِرٌ وَمَنْقُولٌ وَالْمَشْهُورُ هُنَا الْوَجْهُ الْأَوْسَطُ، وَنَقُولُ: إِنَّ قَوْمًا كَانُوا يَكْتَفُونَ بِلَبَنِهَا يَوْمَ وُرُودِهَا الْمَاءَ وَالْكُلُّ مُمْكِنٌ وَلَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ خَبَرٌ مُتَوَاتِرٌ وَالثَّالِثُ: قِطَعٌ وَهُوَ مِنَ الْقِسْمَةِ لِأَنَّهَا مُثْبَتَةٌ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَمَّا كَيْفِيَّةُ الْقِسْمَةِ وَالسَّبَبُ فَلَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ مِمَّا يُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الثَّالِثَ أَيْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ لِلْقَوْمِ بِأَسْرِهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لِبَيَانِ كَوْنِ الشِّرْبِ مُحْتَضَرًا لِلْقَوْمِ أَوِ النَّاقَةِ فَهُوَ مَعْلُومٌ لَأَنَّ الْمَاءَ مَا كَانَ يُتْرَكُ مِنْ غَيْرِ حُضُورٍ وَإِنْ كَانَ لِبَيَانِ أَنَّهُ تَحْضُرُهُ النَّاقَةُ يَوْمًا وَالْقَوْمُ يَوْمًا فَلَا دَلَالَةَ فِي اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْعَادَةُ قَبْلَ النَّاقَةِ عَلَى أَنْ يَرِدَ الْمَاءَ قَوْمٌ فِي يَوْمٍ وَآخَرُونَ فِي يَوْمٍ آخَرَ، ثُمَّ لَمَّا خُلِقَتِ النَّاقَةُ كَانَتْ تَنْقُصُ شِرْبَ الْبَعْضِ وَتَتْرُكُ شِرْبَ الْبَاقِينَ مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ، فَقَالَ: كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ كُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ فَرِدُوا كُلَّ يَوْمٍ الْمَاءَ وَكُلُّ شِرْبٍ نَاقِصٍ تقاسموه وكل شرب كامل تقاسموه.

[سورة القمر (54) : آية 29]

[سورة القمر (54) : آية 29] فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَنادَوْا صاحِبَهُمْ نِدَاءَ الْمُسْتَغِيثِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: يَا لَقُدَارٍ لِلْقَوْمِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: بِاللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ وَصَاحِبُهُمْ قُدَارٌ وَكَانَ أَشْجَعَ وَأَهْجَمَ عَلَى الْأُمُورِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَئِيسَهُمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَعاطى فَعَقَرَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: تَعَاطَى آلَةَ الْعَقْرِ فَعَقَرَ الثَّانِي: تَعَاطَى النَّاقَةَ فَعَقَرَهَا وَهُوَ أَضْعَفُ الثَّالِثُ: التَّعَاطِي يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْإِقْدَامُ عَلَى الْفِعْلِ الْعَظِيمِ وَالتَّحْقِيقُ هُوَ أَنَّ الْفِعْلَ الْعَظِيمَ يَقْدُمُ كُلُّ أَحَدٍ فِيهِ صَاحِبَهُ وَيُبْرِئُ نَفْسَهُ مِنْهُ فَمَنْ يَقْبَلُهُ وَيُقْدِمُ عَلَيْهِ يُقَالُ: تَعَاطَاهُ كَأَنَّهُ كَانَ فِيهِ تَدَافُعٌ فَأَخَذَهُ هُوَ بَعْدَ التدافع أَنَّ الْقَوْمَ جَعَلُوا لَهُ عَلَى عَمَلِهِ جُعْلًا فتعاطاه وعقر الناقة. / ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 30] فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَتَفْسِيرُهُ غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ ذَكَرَهَا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ ذَكَرَهَا فِي حِكَايَةِ نُوحٍ بَعْدَ بَيَانِ الْعَذَابِ، وَذَكَرَهَا هَاهُنَا قَبْلَ بَيَانِ الْعَذَابِ، وذكرها في حكاية عاد قبل بيانه وبعد بَيَانِهِ، فَحَيْثُ ذَكَرَ قَبْلَ بَيَانِ الْعَذَابِ ذَكَرَهَا لِلْبَيَانِ كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ فُلَانًا أَيَّ ضَرْبٍ وَأَيَّمَا ضَرْبٍ، وَتَقُولُ: ضَرَبْتُهُ وَكَيْفَ ضَرَبْتُهُ أَيْ قَوِيًّا، وَفِي حِكَايَةِ عَادٍ ذَكَرَهَا مَرَّتَيْنِ لِلْبَيَانِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَقَدْ ذَكَرْنَا السَّبَبَ فِيهِ، فَفِي حِكَايَةِ نُوحٍ ذَكَرَ الَّذِي لِلتَّعْظِيمِ وَفِي حِكَايَةِ ثَمُودَ ذَكَرَ الَّذِي لِلْبَيَانِ لِأَنَّ عَذَابَ قَوْمِ نُوحٍ كَانَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ عَامٍّ وَهُوَ الطُّوفَانُ الَّذِي عَمَّ الْعَالَمَ وَلَا كَذَلِكَ عَذَابُ قَوْمِ هُودٍ فَإِنَّهُ كَانَ مُخْتَصًّا بِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: [سورة القمر (54) : آية 31] إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) سَمِعُوا صَيْحَةً فَمَاتُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَانَ فِي قَوْلِهِ: فَكانُوا مِنْ أَيِّ الْأَقْسَامِ؟ نَقُولُ: قَالَ النُّحَاةُ تَجِيءُ تَارَةً بِمَعْنَى صَارَ وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِ الْقَائِلِ: بِتَيْمَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا ... قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخًا بُيُوضُهَا بِمَعْنَى صَارَتْ فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: فِي هَذَا موضع إِنَّهَا بِمَعْنَى صَارَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كَانَ لَا تُخَالِفُ غَيْرَهَا مِنَ الْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ اللَّازِمَةِ الَّتِي لا تتعدى والذي يقال إن كان تَامَّةً وَنَاقِصَةً وَزَائِدَةً وَبِمَعْنَى صَارَ فَلَيْسَ ذَلِكَ يُوجِبُ اخْتِلَافَ أَحْوَالِهَا اخْتِلَافًا يُفَارِقُ غَيْرَهَا مِنَ الْأَفْعَالِ وَذَلِكَ لِأَنَّ كَانَ بِمَعْنَى وُجِدَ أَوْ حَصَلَ أَوْ تَحَقَّقَ غَيْرَ أَنَّ الَّذِي وُجِدَ تَارَةً يَكُونُ حَقِيقَةَ الشَّيْءِ وَأُخْرَى صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ فَإِذَا قُلْتَ: كَانَتِ الْكَائِنَةُ وَكُنْ فَيَكُونُ جَعَلْتَ الْوُجُودَ وَالْحُصُولَ لِلشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ فَكَأَنَّكَ قُلْتَ: وَجَدْتُ الْحَقِيقَةَ الْكَائِنَةَ وَكُنْ أَيِ احْصُلْ فَيُوجَدُ فِي نَفْسِهِ وَإِذَا قُلْتَ: كَانَ زَيْدٌ عَالِمًا أَيْ وُجِدَ عِلْمُ زَيْدٍ، غَيْرَ أَنَّا نَقُولُ فِي وُجِدَ زَيْدٌ عَالِمًا إِنَّ عَالِمًا حَالٌ، وَفِي كَانَ زَيْدٌ عَالِمًا نَقُولُ: إِنَّهُ خَبَرٌ كَقَوْلِنَا حَصَلَ زَيْدٌ عَالِمًا غَيْرَ أَنَّ قَوْلَنَا وُجِدَ زَيْدٌ عَالِمًا رُبَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْوُجُودَ وَالْحُصُولَ لِزَيْدٍ فِي تِلْكَ الْحَالِ كَمَا تَقُولُ قَامَ زَيْدٌ مُنْتَحِيًا حَيْثُ يَكُونُ القيامة لِزَيْدٍ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَقَوْلُنَا: كَانَ زَيْدٌ عَالِمًا لَيْسَ مَعْنَاهُ كَانَ زَيْدٌ وَفِي تِلْكَ الْحَالِ هُوَ عَالِمٌ لَكِنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ أَنَّ كَانَ عَلَى خِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ اللَّازِمَةِ الَّتِي لَهَا بِالْحَالِ

[سورة القمر (54) : آية 32]

تَعَلُّقٌ شَدِيدٌ، لِأَنَّ مَنْ يَفْهَمُ مِنْ قَوْلِنَا حَصَلَ زَيْدٌ الْيَوْمَ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ مَا نَفْهَمُهُ مِنْ قَوْلِنَا خَرَجَ زَيْدٌ الْيَوْمَ فِي أَحْسَنِ زِيٍّ لَا يَمْنَعُهُ مَانِعٌ مِنْ أَنْ يَفْهَمَ مِنْ قَوْلِنَا: كَانَ زَيْدٌ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ مِثْلَ مَا فَهِمَ هُنَاكَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْفِعْلُ الْمَاضِي يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى مَا يُوجَدُ فِي الزَّمَانِ الْمُتَّصِلِ/ بِالْحَاضِرِ، كَقَوْلِنَا: قَامَ زَيْدٌ فِي صِبَاهُ، وَيُطْلَقُ تَارَةً عَلَى مَا يُوجَدُ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ كَقَوْلِنَا قَامَ زَيْدٌ فَقُمْ وَقُمْ فَإِنَّ زَيْدًا قَامَ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي كَانَ رُبَّمَا يُقَالُ كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا عَامَ كَذَا وَرُبَّمَا يُقَالُ كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا الْآنَ كَمَا فِي قَامَ زَيْدٌ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَكانُوا فِيهِ اسْتِعْمَالُ الْمَاضِي فِيمَا اتَّصَلَ بِالْحَالِ فَهُوَ كَقَوْلِكَ أُرْسِلَ عَلَيْهِمْ صَيْحَةٌ فَمَاتُوا أَيْ مُتَّصِلًا بِتِلْكَ الْحَالِ، نَعَمْ لَوِ اسْتُعْمِلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ صَارَ يَجُوزُ لَكِنْ كَانَ وصار كُلُّ وَاحِدٍ بِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ وَلَيْسَ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ حَمْلُ كَانَ عَلَى صَارَ إِذَا لَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هُوَ كَذَا كَمَا فِي الْبَيْتِ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْبُيُوضُ فِرَاخٌ، وَأَمَّا هُنَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هُمْ كَهَشِيمٍ وَلَوْلَا الْكَافُ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: يَجِبُ حَمْلُ كَانَ عَلَى صَارَ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُمُ انْقَلَبُوا هَشِيمًا كَمَا يُقْلَبُ الْمَمْسُوخُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْهَشِيمُ؟ نَقُولُ هُوَ الْمَهْشُومُ أَيِ الْمَكْسُورُ وَسُمِّيَ هَاشِمٌ هَاشِمًا لِهَشْمِهِ الثَّرِيدِ فِي الْجِفَانِ غَيْرَ أَنَّ الْهَشِيمَ اسْتُعْمِلَ كَثِيرًا فِي الْحَطَبِ الْمُتَكَسِّرِ الْيَابِسِ، فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانُوا كَالْحَشِيشِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْحَظَائِرِ بَعْدَ الْبِلَا بِتَفَتُّتٍ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ [الْكَهْفِ: 54] وَهُوَ مِنْ بَابِ إِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ كَمَا يُقَالُ: رَأَيْتُ جَرِيحًا وَمِثْلُهُ السَّعِيرُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِمَاذَا شَبَّهَهُمْ بِهِ؟ قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ بِكَوْنِهِمْ يَابِسِينَ كَالْحَشِيشِ بَيْنَ الْمَوْتَى الَّذِينَ مَاتُوا مِنْ زَمَانٍ وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: سَمِعُوا الصَّيْحَةَ فَكَانُوا كَأَنَّهُمْ مَاتُوا مِنْ أَيَّامٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُمُ انْضَمُّوا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ كَمَا يَنْضَمُّ الرُّفَقَاءُ عِنْدَ الْخَوْفِ دَاخِلِينَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ فَاجْتَمَعُوا بعضهم فَوْقَ بَعْضٍ كَحَطَبِ الْحَاطِبِ الَّذِي يَصُفُّهُ شَيْئًا فَوْقَ شَيْءٍ مُنْتَظِرًا حُضُورَ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّ الْحَطَّابَ الَّذِي عِنْدَهُ الْحَطَبُ الْكَثِيرُ يَجْعَلُ مِنْهُ كَالْحَظِيرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِبَيَانِ كَوْنِهِمْ فِي الْجَحِيمِ أَيْ كَانُوا كَالْحَطَبِ الْيَابِسِ الَّذِي لِلْوَقِيدِ فَهُوَ مُحَقِّقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] وقوله تعالى: كانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [الْجِنِّ: 15] وَقَوْلِهِ: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نُوحٍ: 25] كَذَلِكَ مَاتُوا فَصَارُوا كَالْحَطَبِ الَّذِي لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْإِحْرَاقِ لِأَنَّ الْهَشِيمَ لَا يَصْلُحُ للبناء. ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 32] وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) والتكرار للتذكار. ثم بين حال قوم آخرون وهم قوم لوط فقال: [سورة القمر (54) : آية 33] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) ثُمَّ بَيَّنَ عَذَابَهُمْ وإهلاكهم، فقال: [سورة القمر (54) : آية 34] إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: الْحَاصِبُ فَاعِلٌ مِنْ حَصَبَ إِذَا رَمَى الْحَصْبَاءَ وَهِيَ اسْمُ الْحِجَارَةِ وَالْمُرْسَلُ عَلَيْهِمْ/ هُوَ نَفْسُ

الْحِجَارَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الْحِجْرِ: 74] وَقَالَ تَعَالَى عَنِ الْمَلَائِكَةِ: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ [الذَّارِيَاتِ: 33] فَالْمُرْسَلُ عَلَيْهِمْ لَيْسَ بِحَاصِبٍ فَكَيْفَ الْجَوَابُ عَنْهُ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا حَاصِبًا بِالْحِجَارَةِ الَّتِي هِيَ الْحَصْبَاءُ وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُ الْحَاصِبِ فِي الرِّيحِ الشَّدِيدَةِ فَأَقَامَ الصِّفَةَ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا ضَعِيفٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّ الرِّيحَ مُؤَنَّثَةٌ قَالَ تَعَالَى: بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: 6] ، بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يُونُسَ: 22] وَقَالَ تَعَالَى: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ [ص: 36] وَقَالَ تَعَالَى: غُدُوُّها شَهْرٌ [سَبَأٍ: 12] وَقَالَ تَعَالَى فِي: [وَأَرْسَلْنَا] الرِّياحَ لَواقِحَ [الحجر: 22] وَمَا قَالَ لِقَاحًا وَلَا لِقْحَةً، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مُسَوَّمَةً عَلَيْهَا عَلَامَةُ كُلِّ وَاحِدٍ وَهِيَ لَا تُسَمَّى حَصْبَاءُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ لَا بِالرِّيحِ، نَقُولُ: تَأْنِيثُ الرِّيحِ لَيْسَ حَقِيقَةً وَلَهَا أَصْنَافٌ الْغَالِبُ فِيهَا التَّذْكِيرُ كَالْإِعْصَارِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ [الْبَقَرَةِ: 266] فَلَمَّا كَانَ حَاصِبُ حِجَارَةٍ كَانَ كَالَّذِي فِيهِ نَارٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَانَ الرَّمْيُ بِالسِّجِّيلِ لَا بِالْحَصْبَاءِ، وَبِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ لَا بِالرِّيحِ، فَنَقُولُ: كُلُّ رِيحٍ يَرْمِي بِحِجَارَةٍ يُسَمَّى حَاصِبًا، وَكَيْفَ لا والسحاب الذي يأتي بالبرد يسمى حاصبا تَشْبِيهًا لِلْبَرَدِ بِالْحَصْبَاءِ، فَكَيْفَ لَا يُقَالُ فِي السِّجِّيلِ. وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَإِنَّهُمْ حَرَّكُوا الرِّيحَ وَهِيَ حَصَبَتِ الْحِجَارَةَ عَلَيْهِمْ الْجَوَابُ الثَّانِي: الْمُرَادُ عَذَابٌ حَاصِبٌ وَهَذَا أَقْرَبُ لِتَنَاوُلِهِ الْمَلَكَ وَالْحِسَابَ وَالرِّيحَ وَكُلَّ مَا يُفْرَضُ الْجَوَابُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: حاصِباً هُوَ أَقْرَبُ مِنَ الْكُلِّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا أَرْسَلْنا يَدُلُّ عَلَى مُرْسَلٍ هُوَ مُرْسَلُ الْحِجَارَةِ وَحَاصِبِهَا، فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ حَاصِبِينَ، نَقُولُ لَمَّا لَمْ يَذْكُرِ الْمَوْصُوفَ رَجَّحَ جَانِبَ اللَّفْظِ كَأَنَّهُ قَالَ شَيْئًا حَاصِبًا إِذِ الْمَقْصُودُ بَيَانُ جِنْسِ الْعَذَابِ لَا بَيَانُ مَنْ عَلَى يَدِهِ الْعَذَابُ، وَهَذَا وَارِدٌ عَلَى مَنْ قَالَ: الرِّيحُ مُؤَنَّثٌ لِأَنَّ تَرْكَ التَّأْنِيثِ هُنَاكَ كَتَرْكِ عَلَامَةِ الْجَمْعِ هُنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا رَتَّبَ الْإِرْسَالَ عَلَى التَّكْذِيبِ بِالْفَاءِ فَلَمْ يَقُلْ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ فَأَرْسَلْنَا كَمَا قَالَ: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ [الْقَمَرِ: 11] لِأَنَّ الْحِكَايَةَ مَسُوقَةٌ عَلَى مَسَاقِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحِكَايَاتِ، فَكَأَنَّهُ قال: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ [القمر: 30] كَمَا قَالَ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ قِيلَ: لَا عِلْمَ لَنَا بِهِ وَإِنَّمَا أَنْتَ الْعَلِيمُ فَأَخْبِرْنَا، فَقَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَرْكِ الْعَذَابِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي كَمَا قَالَ فِي الْحِكَايَاتِ الثَّلَاثِ، نَقُولُ: لِأَنَّ التَّكْرَارَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بَالِغٌ، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا هَلْ بلغت ثلاثا» وقال: «فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ» وَالْإِذْكَارُ تَكَرَّرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَبِثَلَاثِ مِرَارٍ حَصَلَ التَّأْكِيدُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي فِي حِكَايَةِ نُوحٍ لِلتَّعْظِيمِ وَفِي حِكَايَةِ ثَمُودَ لِلْبَيَانِ وَفِي حِكَايَةِ عَادٍ أَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ لِلتَّعْظِيمِ وَالْبَيَانِ جَمِيعًا وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي فِي ثَلَاثِ حِكَايَاتٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَالْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ لِلْإِنْذَارِ، وَالْمَرَّاتُ الثَّلَاثُ لِلْإِذْكَارِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَصَلَ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرَّحْمَنِ: 13] ذَكَرَهُ مَرَّةً لِلْبَيَانِ وَأَعَادَهَا ثَلَاثِينَ مَرَّةً غَيْرَ الْمَرَّةِ الْأُولَى كَمَا أَعَادَ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ غَيْرَ الْمَرَّةِ/ الْأُولَى فَكَانَ ذِكْرُ الْآلَاءِ عَشَرَةَ أَمْثَالِ ذِكْرِ الْعَذَابِ إِشَارَةً إِلَى الرَّحْمَةِ الَّتِي قَالَ فِي بَيَانِهَا مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الْأَنْعَامِ: 160] وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ: الرَّحْمَنِ. المسألة الرابعة: إِلَّا آلَ لُوطٍ استثناء مما ذا؟ إِنْ كَانَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً

[سورة القمر (54) : آية 35]

فَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِمْ عَائِدٌ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ ثَمَّ قَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ لَكِنْ لَمْ يَسْتَثْنِ عِنْدَ قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ وَآلُهُ مِنْ قَوْمِهِ فَيَكُونُ آلُهُ قَدْ كَذَّبُوا وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؟ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِمَّنْ عَادَ إِلَيْهِمُ الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِمْ وَهُمُ الْقَوْمُ بِأَسْرِهِمْ غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ لَا يُوجِبُ كَوْنَ آلِهِ مُكَذِّبِينَ، لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: عَصَى أَهْلُ بَلْدَةِ كَذَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ فِيهَا شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ يُطِيعُونَ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ مِنَ الْمُطِيعِينَ لَا غَيْرَ، فَإِنْ قِيلَ: ماله حَاجَةٌ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ يَصِحُّ وَإِنْ نَجَا مِنْهُمْ طَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ نَقُولُ: الْفَائِدَةُ لَمَّا كَانَتْ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِبَيَانِ إِهْلَاكِ مَنْ كَذَّبَ وَإِنْجَاءِ مَنْ آمَنَ فَكَانَ ذِكْرُ الْإِنْجَاءِ مَقْصُودًا، وَحَيْثُ يَكُونُ الْقَلِيلُ مِنَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مَقْصُودًا لَا يَجُوزُ التَّعْمِيمُ وَالْإِطْلَاقُ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ حَالِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَوْ بِكَلَامٍ مُنْفَصِلٍ مِثَالُهُ: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ [الْحِجْرِ: 30، 31] اسْتَثْنَى الْوَاحِدَ لِأَنَّهُ كَانَ مَقْصُودًا، وَقَالَ تَعَالَى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْلِ: 23] وَلَمْ يَسْتَثْنِ إِذِ الْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّهَا أُوتِيَتْ، لَا بَيَانُ أَنَّهَا مَا أُوتِيَتْ، وَفِي حِكَايَةِ إِبْلِيسَ كِلَاهُمَا مُرَادٌ لِيَعْلَمَ أَنَّ مَنْ تَكَبَّرَ عَلَى آدَمَ عُوقِبَ وَمَنْ تَوَاضَعَ أُثِيبَ كَذَلِكَ الْقَوْلُ هَاهُنَا، وَأَمَّا عِنْدَ التَّكْذِيبِ فَكَأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ الْمُكَذِّبِينَ فَلَمْ يَسْتَثْنِ الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ كَلَامٍ مَدْلُولٍ عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا فَمَا أَنْجَيْنَا مِنَ الْحَاصِبِ إِلَّا آلَ لُوطٍ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْإِرْسَالُ عَلَيْهِمْ وَالْإِهْلَاكُ يَكُونُ عَامًّا كَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَالِ: 25] فَكَانَ الْحَاصِبُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ الْإِرْسَالُ عَلَيْهِ مَقْصُودًا وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَأَطْفَالِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ فَمَا نَجَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا آلُ لُوطٍ. فَإِنْ قِيلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ بَلْ كَانَ مَنْ أَمْرٍ عَامٍّ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لُوطٌ أَيْضًا مُسْتَثْنًى؟ نَقُولُ: هُوَ مُسْتَثْنًى عَقْلًا لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ وَإِنْجَاءُ أَتْبَاعِهِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُسْتَثْنًى قَوْلُهُ تَعَالَى عَنِ الْمَلَائِكَةِ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ [الْعَنْكَبُوتِ: 32] فِي جَوَابِهِمْ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السلام حيث قال: إِنَّ فِيها لُوطاً [العنكبوت: 32] فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ [الْحِجْرِ: 59] اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَآلُ لُوطٍ لَمْ يَكُونُوا مُجْرِمِينَ فَكَيْفَ اسْتَثْنَى مِنْهُمْ؟ وَالْجَوَابُ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا فَأَحَدُ الْجَوَابَيْنِ إِنَّا أَرْسَلَنَا إِلَى قَوْمٍ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ مُجْرِمُونَ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُجْرِمْ ثَانِيهِمَا: إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ بِإِهْلَاكٍ يَعُمُّ الْكُلَّ إِلَّا آلَ لُوطٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ وَقْتِ الْإِنْجَاءِ أَوْ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ آلَ لُوطٍ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا فِيهِمْ وَلَا يُصِيبُهُمُ الْحَاصِبُ كَمَا فِي عَادٍ كَانْتِ الرِّيحُ تَقْلَعُ الْكَافِرَ وَلَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْهَا مَكْرُوهٌ أَوْ يَجْعَلُ لَهُمْ مِدْفَعًا كَمَا فِي قَوْمِ نُوحٍ، فَقَالَ: نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْقَرْيَةِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ وَالسَّحَرُ قُبَيْلَ الصُّبْحِ وَقِيلَ هو السدس الأخير من الليل. / ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 35] نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) أَيْ ذَلِكَ الْإِنْجَاءُ كَانَ فَضْلًا مِنَّا كَمَا أَنَّ ذَلِكَ الْإِهْلَاكَ كَانَ عَدْلًا وَلَوْ أُهْلِكُوا لَكَانَ ذَلِكَ عَدْلًا، قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَالِ: 25] قَالَ الْحُكَمَاءُ الْعُضْوُ الْفَاسِدُ يُقْطَعُ وَلَا بُدَّ أَنْ يُقْطَعَ مَعَهُ جُزْءٌ مِنَ الصَّحِيحِ لِيَحْصُلَ اسْتِئْصَالُ الْفَسَادِ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى التَّمْيِيزِ التَّامِّ فَهُوَ مُخْتَارٌ إِنْ شَاءَ أهلك من آمن وكذب، ثُمَّ يُثَبِّتُ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمْ مِنَ الْمُصَدِّقِينَ فِي دَارِ الْجَزَاءِ وَإِنْ شَاءَ أَهْلَكَ مَنْ كَذَّبَ، فَقَالَ: نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا إِشَارَةً إِلَى ذَلِكَ وَفِي نَصْبِهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ كَأَنَّهُ قَالَ: نَجَّيْنَاهُمْ نِعْمَةً مِنَّا ثَانِيهِمَا

[سورة القمر (54) : آية 36]

عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، لِأَنَّ الْإِنْجَاءَ مِنْهُ إِنْعَامٌ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَنْعَمْنَا عَلَيْهِمْ بِالْإِنْجَاءِ إِنْعَامًا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: ظَاهِرٌ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ أَنَّهُ مَنْ آمَنَ كَذَلِكَ نُنَجِّيهِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَلَا نُهْلِكُهُ وَعْدًا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ يَصُونُهُمْ عَنِ الْإِهْلَاكَاتِ الْعَامَّةِ وَالسَّيِّئَاتِ الْمُطْبِقَةِ الشَّامِلَةِ وَثَانِيهِمَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ ذَلِكَ وَعْدٌ لَهُمْ وَجَزَاؤُهُمْ بِالثَّوَابِ فِي دَارِ الْآخِرَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: كَمَا نَجَّيْنَاهُمْ فِي الدُّنْيَا، أَيْ كَمَا أَنْعَمْنَا عَلَيْهِمْ نُنْعِمُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْحِسَابِ وَالَّذِي يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ النَّجَاةَ مِنَ الْإِهْلَاكَاتِ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَمِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ لَازِمٌ بِحُكْمِ الْوَعِيدِ، وَكَذَلِكَ يُنَجِّي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَيَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تعالى: مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 145] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ [الْمَائِدَةِ: 85] وَالشَّاكِرُ مُحْسِنٌ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ جَزَاؤُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ تعالى: [سورة القمر (54) : آية 36] وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَفِيهِ تَبْرِئَةُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيَانُ أَنَّهُ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا رَتَّبَ التَّعْذِيبَ عَلَى التَّكْذِيبِ وَكَانَ مِنَ الرَّحْمَةِ أَنْ يُؤَخِّرَهُ وَيُقَدِّمَ عَلَيْهِ الْإِنْذَارَاتِ الْبَالِغَةَ بَيَّنَ ذَلِكَ فَقَالَ: أَهْلَكْنَاهُمْ وَكَانَ قَدْ أَنْذَرَهُمْ مِنْ قَبْلُ، وَفِي قَوْلِهِ: بَطْشَتَنا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ الْبَطْشَةُ الَّتِي وَقَعَتْ وَكَانَ يُخَوِّفُهُمْ بِهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً [القمر: 34] فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ مَا سَبَقَ، ذكرها للإنذار بِهَا وَالتَّخْوِيفِ وَثَانِيهِمَا: الْمُرَادُ بِهَا مَا فِي الْآخِرَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى [الدُّخَانِ: 16] وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ كَانُوا يُنْذِرُونَ قَوْمَهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى [الليل: 14] وَقَالَ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ [غَافِرٍ: 18] وَقَالَ تَعَالَى: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً [النَّبَإِ: 40] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَعَلَى ذَلِكَ فَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [الْبُرُوجِ: 12] وَقَالَ هَاهُنَا: بَطْشَتَنا وَلَمْ يَقُلْ: بَطَشْنَا وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ بَطْشَ/ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ بَيَانٌ لِجِنْسِ بَطْشِهِ، فَإِذَا كَانَ جِنْسُهُ شَدِيدًا فَكَيْفَ الْكُبْرَى مِنْهُ، وَأَمَّا لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَذَكَرَ لَهُمُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى لِئَلَّا يَكُونَ مُقَصِّرًا فِي التَّبْلِيغِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ يَدُلُّ على أن النذر هي الإنذارات. ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 37] وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) وَالْمُرَاوَدَةُ مِنَ الرَّوْدِ، وَمِنْهُ الْإِرَادَةُ وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمُطَالَبَةِ غَيْرَ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ تُسْتَعْمَلُ فِي الْعَيْنِ يُقَالُ: طَالَبَ زَيْدٌ عَمْرًا بِالدَّرَاهِمِ، وَالْمُرَاوَدَةُ لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْعَمَلِ يُقَالُ: رَاوَدَهُ عَنِ الْمُسَاعَدَةِ، وَلِهَذَا تُعَدَّى الْمُرَاوَدَةُ إلى مفعول ثان بعن، وَالْمُطَالَبَةُ بِالْبَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّغْلَ مَنُوطٌ بِاخْتِيَارِ الْفَاعِلِ، وَالْعَيْنُ قَدْ تُوجَدُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ وَهَذَا فَرْقُ الْحَالِ، فَإِذَا قُلْتَ: أَخْبِرْنِي بِأَمْرِهِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْخَبَرُ الْعَيْنُ بِخِلَافٍ مَا إِذَا قِيلَ عَنْ كَذَا، وَيُزِيدُ هَذَا ظُهُورًا قَوْلُ الْقَائِلِ: أَخْبَرَنِي زَيْدٌ عَنْ مَجِيءِ فُلَانٍ، وَقَوْلُهُ: أَخْبَرَنِي بِمَجِيئِهِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ عَنْ مَجِيئِهِ رُبَّمَا يَكُونُ الْإِخْبَارُ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْمَجِيءِ لَا عَنْ نَفْسِهِ وَأَخْبَرَنِي بِمَجِيئِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ نَفْسِ الْمَجِيءِ وَالضَّيْفُ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ وَكَيْفِيَّةُ الْمُرَاوَدَةِ مَذْكُورَةٌ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ أَنَّهُمْ كانوا مفسدين وسمعوا يضيف

دَخَلُوا عَلَى لُوطٍ فَرَاوَدُوهُ عَنْهُمْ. وَقَوْلُهُ: فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ نَقُولُ: إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ فِيهِمْ فَضَرَبَ بِبَعْضِ جَنَاحِهِ عَلَى وُجُوهِهِمْ فَأَعْمَاهُمْ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي رَاوَدُوهُ إِنْ كَانَ عَائِدًا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ فَمَا فِي قَوْلِهِ: أَعْيُنَهُمْ أَيْضًا عَائِدًا إِلَيْهِمْ فَيَكُونُ قَدْ طَمَسَ أَعْيُنَ قَوْمٍ وَلَمْ يَطْمِسْ إِلَّا أَعْيُنَ قَلِيلٍ مِنْهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ دَخَلُوا دَارَ لُوطٍ، وَإِنْ كَانَ عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ دَخَلُوا الدَّارَ فَلَا ذِكْرَ لَهُمْ فَكَيْفَ الْقَوْلُ فِيهِ؟ نَقُولُ: الْمُرَاوَدَةُ حَقِيقَةً حَصَلَتْ مِنْ جَمْعٍ مِنْهُمْ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ مِنَ الْقَوْمِ وَكَانَ غَيْرُهُمْ ذَلِكَ مَذْهَبُهُ أَسْنَدَهَا إِلَى الْكُلِّ ثُمَّ بِقَوْلِهِ رَاوَدُوهُ حَصَلَ قَوْمٌ هُمُ الْمُرَاوِدُونَ حَقِيقَةً فَعَادَ الضَّمِيرُ فِي أَعْيُنِهِمْ إِلَيْهِمْ مِثَالُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: الَّذِينَ آمَنُوا صَلَّوْا فَصَحَّتْ صَلَاتُهُمْ فَيَكُونُ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ صَلَّوْا بَعْدَ مَا آمَنُوا وَلَا يَعُودُ إِلَى مُجَرَّدِ الَّذِينَ آمَنُوا لِأَنَّكَ لَوِ اقْتَصَرْتَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا فَصَحَّتْ صَلَاتُهُمْ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا مَنْظُومًا وَلَوْ قُلْتَ الَّذِينَ صَلَّوْا فَصَحَّتْ صَلَاتُهُمْ صَحَّ الْكَلَامُ، فَعُلِمَ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى مَا حَصَلَ بَعْدَ قَوْلِهِ: راوَدُوهُ وَالضَّمِيرُ فِي رَاوَدُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْمُنْذِرِينَ الْمُتَمَارِينَ بِالنُّذُرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ هَاهُنَا: فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ وَقَالَ فِي يس: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ [يس: 66] فَمَا الْفَرْقُ؟ نَقُولُ: هَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْمُرَادُ مِنَ الطَّمْسِ الْحَجْبُ عَنِ الْإِدْرَاكِ فَمَا جُعِلَ عَلَى بَصَرِهِمْ شَيْءٌ غَيْرَ أَنَّهُمْ دَخَلُوا وَلَمْ يَرَوْا هُنَاكَ شَيْئًا فَكَانُوا كَالْمَطْمُوسِينَ، وَفِي يس أَرَادَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِمْ غِشَاوَةً، أَيْ أَلْزَقَ أَحَدَ الْجَفْنَيْنِ بِالْآخَرِ فَيَكُونُ عَلَى/ الْعَيْنِ جِلْدَةٌ فَيَكُونُ قَدْ طُمِسَ عَلَيْهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُمْ عَمُوا وَصَارَتْ عَيْنُهُمْ مَعَ وَجْهِهِمْ كَالصَّفْحَةِ الْوَاحِدَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذُوقُوا عَذابِي لِأَنَّهُمْ إِنْ بَقُوا مُصِرِّينَ وَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا هُنَاكَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ عَذَابًا وَالطَّمْسُ بِالْمَعْنَى الَّذِي قَالَهُ غَيْرُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَذَابٌ، فَنَقُولُ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى هَاهُنَا مَا وَقَعَ وَهُوَ طَمْسُ الْعَيْنِ وَإِذْهَابُ ضَوْئِهَا وَصُورَتِهَا بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى صَارَتْ وُجُوهُهُمْ كَالصَّفْحَةِ الْمَلْسَاءِ وَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْإِنْكَارُ لِأَنَّهُ أَمْرٌ وَقَعَ، وَأَمَّا هُنَاكَ فَقَدَ خَوَّفَهُمْ بِالْمُمْكِنِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ فَاخْتَارَ مَا يُصَدِّقُهُ كُلُّ أَحَدٍ وَيُعْرَفُ بِهِ وَهُوَ الطَّمْسُ عَلَى الْعَيْنِ، لِأَنَّ إِطْبَاقَ الْجَفْنِ عَلَى الْعَيْنِ أَمْرٌ كَثِيرُ الْوُقُوعِ وَهُوَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ فَقَالَ: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ [يس: 66] وما شققنا جفنهم عَنْ عَيْنِهِمْ وَهُوَ أَمْرٌ ظَاهِرُ الْإِمْكَانِ كَثِيرُ الْوُقُوعِ وَالطَّمْسُ عَلَى مَا وَقَعَ لِقَوْمِ لُوطٍ نَادِرٌ، فَقَالَ: هُنَاكَ عَلَى أَعْيُنِهِمْ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى الْقَبُولِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ خِطَابٌ مِمَّنْ وَقَعَ وَمَعَ مَنْ وَقَعَ؟ قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: فِيهِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ فَقُلْتُ: عَلَى لِسَانِ الْمَلَائِكَةِ ذُوقُوا عَذَابِي ثَانِيهَا: هَذَا خِطَابٌ مَعَ كُلِّ مُكَذِّبٍ تَقْدِيرُهُ كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ فَذُوقُوا عَذَابِي فَإِنَّهُمْ لَمَّا كَذَّبُوا ذَاقُوهُ ثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ كَلَامِ النَّاسِ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنَ الْمُلُوكِ إِذَا أَمَرَ بِضَرْبِ مُجْرِمٍ وَهُوَ شَدِيدُ الْغَضَبِ فَإِذَا ضرب ضربا مبرحا وهو يصرح وَالْمَلِكُ يَسْمَعُ صُرَاخَهُ يَقُولُ عِنْدَ سَمَاعِ صُرَاخِهِ ذُقْ إِنَّكَ مُجْرِمٌ مُسْتَأْهِلٌ وَيَعْلَمُ الْمَلِكُ أَنَّ الْمُعَذَّبَ لَا يَسْمَعُ كَلَامَهُ وَيُخَاطِبُ بِكَلَامِهِ الْمُسْتَغِيثَ الصَّارِخَ وَهَذَا كَثِيرٌ فَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَ كُلُّ أَحَدٍ بِمَرْأًى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يُسْمَعُ إِذَا عَذَّبَ مُعَانِدًا كَانَ قَدْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَقُولُ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدُّخَانِ: 49] فَذُوقُوا (بِما نَسِيتُمْ) لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [السَّجْدَةِ: 14] فَذُوقُوا عَذابِي وَلَا يَكُونُ بِهِ مُخَاطِبًا لِمَنْ يَسْمَعُ وَيُجِيبُ، وَذَلِكَ إِظْهَارُ الْعَدْلِ أَيْ لَسْتُ بِغَافِلٍ عَنْ تَعْذِيبِكَ فَتَتَخَلَّصَ بِالصُّرَاخِ وَالضَّرَاعَةِ، وَإِنَّمَا أَنَا بِكَ عَالِمٌ وَأَنْتَ لَهُ أَهْلٌ لِمَا قَدْ صَدَرَ مِنْكَ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا وَقَعَ بِغَيْرِ الْفَاءِ، وَأَمَّا

[سورة القمر (54) : آية 38]

بِالْفَاءِ فَلَا تَقُولُ: وَبِالْفَاءِ فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَقُولُ: كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ فَذُوقُوا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: النُّذُرُ كَيْفَ يُذَاقُ؟ نَقُولُ: مَعْنَاهُ ذُقْ فِعْلَكَ أَيْ مُجَازَاةَ فِعْلِكَ وَمُوجَبَهُ وَيُقَالُ: ذُقِ الْأَلَمَ عَلَى فِعْلِكَ وَقَوْلُهُ: فَذُوقُوا عَذابِي كَقَوْلِهِمْ: ذُقِ الْأَلَمَ، وَقَوْلُهُ: وَنُذُرِ كَقَوْلِهِمْ ذُقْ فِعْلَكَ أَيْ ذُقْ مَا لَزِمَ مِنْ إِنْذَارِي، فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ الْعَطْفُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَذُوقُوا عَذابِي وَمَا لَزِمَ مِنْ إِنْذَارِي وَهُوَ الْعَذَابُ يَكُونُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: ذُوقُوا عَذَابِي وَعَذَابِي؟ نَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذُوقُوا عَذابِي أَيِ الْعَاجِلَ مِنْهُ، وَمَا لَزِمَ مِنْ إِنْذَارِي وَهُوَ الْعَذَابُ الْآجِلُ، لِأَنَّ الْإِنْذَارَ كَانَ بِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: ذُوقُوا عَذَابِي الْعَاجِلَ وَعَذَابِي الْآجِلَ، فَإِنْ قِيلَ: هُمَا لَمْ يَكُونَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، فَكَيْفَ يُقَالُ: ذُوقُوا، نَقُولُ: الْعَذَابُ الْآجِلُ أَوَّلُهُ مُتَّصِلٌ بِآخِرِ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ، فَهُمَا كَالْوَاقِعِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً [نوح: 25] . / ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 38] وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) أَيِ الْعَذَابُ الَّذِي عَمَّ الْقَوْمَ بَعْدَ الْخَاصِّ الَّذِي طَمَسَ أَعْيُنَ الْبَعْضِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: صَبَّحَهُمْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الصُّبْحِ، فَمَا مَعْنَى: بُكْرَةً؟ نَقُولُ: فَائِدَتُهُ تَبْيِينُ انْطِرَاقِهِ فِيهِ، فَقَوْلُهُ: بُكْرَةً يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ عَلَى أَنَّهَا ظرف، ومثله نقوله فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الْإِسْرَاءِ: 1] وَفِيهِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ قَالَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: لَيْلًا وَقَالَ: جَوَابًا فِي التَّنْكِيرِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ، وَتَمَسَّكَ بِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَالْأَظْهَرُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: بِأَنَّ الْوَقْتَ الْمُبْهَمَ يُذْكَرُ لِبَيَانِ أَنَّ تَعْيِينَ الْوَقْتِ لَيْسَ بِمَقْصُودِ الْمُتَكَلِّمِ وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ بَيَانَهُ، كَمَا يَقُولُ: خَرَجْنَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، مَعَ أَنَّ الْخُرُوجَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ بيان الوقت المعين، وَلَوْ قَالَ: خَرَجْنَا، فَرُبَّمَا يَقُولُ السَّامِعُ: مَتَى خَرَجْتُمْ، فَإِذَا قَالَ: فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أَشَارَ إِلَى أَنَّ غَرَضَهُ بَيَانُ الْخُرُوجِ لَا تَعْيِينُ وَقْتِهِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً أَيْ بكرة من البكر وأَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا أَيْ لَيْلًا مِنَ اللَّيَالِي فَلَا أُبَيِّنُهُ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ نَفْسُ الْإِسْرَاءِ، وَلَوْ قَالَ: أَسْرَى بِعَبْدِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لَكَانَ لِلسَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: أَيُّمَا لَيْلَةٍ؟ فَإِذَا قَالَ: لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي قَطَعَ سُؤَالَهُ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أُبَيِّنُهُ، وَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ مِمَّنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْجَهْلُ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا أَعْلَمُ الْوَقْتَ، فَهَذَا أَقْرَبُ فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا فِي أَسْرَى لَيْلًا، فَاعْلَمْ مِثْلَهُ فِي: صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: صَبَّحَهُمْ بِمَعْنَى قَالَ لَهُمْ: عِمُوا صَبَاحًا اسْتِهْزَاءً بِهِمْ، كَمَا قَالَ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آلِ عِمْرَانَ: 21] فَكَأَنَّهُ قَالَ: جَاءَهُمُ الْعَذَابُ بُكْرَةً كَالْمُصَبِّحِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَيُحْتَمَلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّهَا مَنْصُوبَةٌ عَلَى الظَّرْفِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا وَهُوَ أَنَّ: صَبَّحَهُمْ مَعْنَاهُ أَتَاهُمْ وَقْتَ الصُّبْحِ، لَكِنَّ التَّصْبِيحَ يُطْلَقُ عَلَى الْإِتْيَانِ فِي أَزْمِنَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَوَّلِ الصُّبْحِ إِلَى مَا بَعْدَ الْإِسْفَارِ، فَإِذَا قَالَ: بُكْرَةً أَفَادَ أَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ جُزْءٍ مِنْهُ، وَمَا أُخِّرَ إِلَى الْأَسْفَارِ، وَهَذَا أَوْجَهُ وَأَلْيَقُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْعَدَهُمْ بِهِ وَقْتَ الصُّبْحِ، بِقَوْلِهِ: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [هُودٍ: 81] وَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ بِحُكْمِ الْإِخْبَارِ تَحَقُّقُهُ بِمَجِيءِ الْعَذَابِ فِي أَوَّلِ الصُّبْحِ، وَمُجَرَّدُ قِرَاءَةِ: صَبَّحَهُمْ مَا كَانَ يُفِيدُ ذَلِكَ، وَهَذَا أَقْوَى لِأَنَّكَ تَقُولُ: صَبِيحَةُ أَمْسِ بُكْرَةً وَالْيَوْمُ بُكْرَةً، فَيَأْتِي فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بُكْرَةٌ مِنَ الْبِكْرِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ بَابِ ضَرَبْتُهُ سَوْطًا ضَرْبًا فَإِنَّ الْمَنْصُوبَ فِي ضَرَبْتُهُ ضَرْبًا عَلَى الْمَصْدَرِ، وَقَدْ

[سورة القمر (54) : آية 39]

يَكُونُ غَيْرَ الْمَصْدَرِ كَمَا فِي ضَرَبْتُهُ سَوْطًا ضَرْبًا، لَا يُقَالُ: ضَرْبًا سَوْطًا بَيْنَ أَحَدِ أَنْوَاعِ الضَّرْبِ، لِأَنَّ الضَّرْبَ قَدْ يَكُونُ بِسَوْطٍ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ، وَأَمَّا: بُكْرَةً فَلَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ، لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بُكْرَةً بَيْنَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الصُّبْحَ قَدْ يَكُونُ بِالْإِتْيَانِ وَقْتَ الْإِسْفَارِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْإِتْيَانِ بِالْأَبْكَارِ، فَإِنْ قِيلَ: مِثْلُهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: فِي/ أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا قُلْنَا: نَعَمْ، فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ هُنَاكَ بَيَانُ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِسْرَاءِ، نَقُولُ: هُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: ضَرَبْتُهُ شَيْئًا، فَإِنَّ شَيْئًا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي كُلِّ ضَرْبٍ، وَيَصِحُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَفَائِدَتُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ بَيَانِ عَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِأَنْوَاعِهِ، وَكَأَنَّ الْقَائِلَ يَقُولُ: إِنِّي لَا أُبَيِّنُ مَا ضَرَبْتُهُ بِهِ، وَلَا أَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْمَقْصُودِ بِهِ لِيَقْطَعَ سُؤَالَ السَّائِلِ: بِمَاذَا ضَرَبَهُ بِسَوْطٍ أَوْ بِعَصَا، فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي: أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا يَقْطَعُ سُؤَالَ السَّائِلِ عَنِ الْإِسْرَاءِ، لِأَنَّ الْإِسْرَاءَ هُوَ السَّيْرُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَالسُّرَى هُوَ السَّيْرُ آخِرَ اللَّيْلِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مُسْتَقِرٌّ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: عَذَابٌ لَا مَدْفَعَ لَهُ، أَيْ يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِمْ وَيَثْبُتُ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِزَالَتِهِ وَرَفْعِهِ أَوْ إِحَالَتِهِ وَدَفْعِهِ ثَانِيهَا: دَائِمٌ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا أُهْلِكُوا نُقِلُوا إِلَى الْجَحِيمِ، فَكَأَنَّ مَا أَتَاهُمْ عَذَابٌ لَا يَنْدَفِعُ بِمَوْتِهِمْ، فَإِنَّ الْمَوْتَ يُخَلِّصُ مِنَ الْأَلَمِ الَّذِي يَجِدُهُ الْمَضْرُوبُ مِنَ الضَّرْبِ وَالْمَحْبُوسُ مِنَ الْحَبْسِ، وَمَوْتُهُمْ مَا خَلَّصَهُمْ ثَالِثُهَا: عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ عَلَيْهِمْ لَا يَتَعَدَّى غَيْرَهُمْ، أَيْ هُوَ أَمْرٌ قَدْ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَقَرَّرَهُ فَاسْتَقَرَّ، وَلَيْسَ كَمَا يُقَالُ: إِنَّهُ أَمْرٌ أَصَابَهُمُ اتِّفَاقًا كَالْبَرْدِ الَّذِي يَضُرُّ زَرْعَ قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، وَيُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ أَمْرٌ اتِّفَاقِيٌّ، وَلَيْسَ لَوْ خَرَجُوا مِنْ أَمَاكِنِهِمْ لَنَجَوْا كَمَا نَجَا آلُ لُوطٍ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ يَتْبَعُهُمْ، لِأَنَّهُ كَانَ أَمْرًا قَدِ اسْتَقَرَّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الضَّمِيرُ فِي صَبَّحَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ عَادَ إِلَيْهِمُ الضَّمِيرُ فِي أَعْيُنِهِمْ فَيَعُودُ لَفْظًا إِلَيْهِمْ لِلْقُرْبِ، وَمَعْنًى إِلَى الَّذِينَ تَمَارَوْا بِالنُّذُرِ، أَوِ الَّذِينَ عَادَ إِلَيْهِمُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا [القمر: 36] . ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 39] فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) مَرَّةً أُخْرَى، لِأَنَّ الْعَذَابَ كان مرتين خاص بالمراودين، والآخر عام. وقوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 40] وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) قَدْ فَسَّرْنَاهُ مِرَارًا وَبَيَّنَّا مَا لِأَجْلِهِ تَكْرَارًا. ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 41 الى 42] وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْفَائِدَةُ فِي لَفْظِ: آلَ فِرْعَوْنَ بَدَلَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ؟ نَقُولُ: الْقَوْمُ أَعَمُّ مِنَ الْآلِ، فَالْقَوْمُ كُلُّ مَنْ يَقُومُ الرَّئِيسُ بِأَمْرِهِمْ أَوْ يَقُومُونَ بِأَمْرِهِ، وَالْآلُ كُلُّ مَنْ يَؤُولُ إِلَى/ الرَّئِيسِ خَيْرُهُمْ وَشَرُّهُمْ أَوْ يَؤُولُ إِلَيْهِمْ خَيْرُهُ وَشَرُّهُ، فَالْبَعِيدُ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ الرَّئِيسُ وَلَا يَعْرِفُ هُوَ عَيْنَ الرَّئِيسِ وَإِنَّمَا يَسْمَعُ اسْمَهُ، فَلَيْسَ هُوَ بِآلِهِ، إِذَا عَرَفْتَ الْفَرْقَ، نَقُولُ: قَوْمُ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ هُمْ غَيْرُ مُوسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ قَاهِرٌ يَقْهَرُ الْكُلَّ وَيَجْمَعُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا كَانُوا هُمْ رُؤَسَاءَ وَأَتْبَاعًا، وَالرُّؤَسَاءُ إِذَا كَثُرُوا لَا يَبْقَى لِأَحَدٍ مِنْهُمْ حُكْمٌ نَافِذٌ عَلَى أحد،

[سورة القمر (54) : آية 43]

أَمَّا عَلَى مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى الْأَرَاذِلِ فَلِأَنَّهُمْ يَلْجَئُونَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَيَدْفَعُونَ بِهِ الْآخَرَ، فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ بِرَأْسِهِ، فَكَأَنَّ الْإِرْسَالَ إِلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَأَمَّا فِرْعَوْنُ فَكَانَ قَاهِرًا يَقْهَرُ الْكُلَّ، وَجَعَلَهُمْ بِحَيْثُ لَا يُخَالِفُونَهُ فِي قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ الرَّسُولَ وَحْدَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ الْمُقَرَّبِينَ مِثْلُ قَارُونَ تَقَدَّمَ عِنْدَهُ لِمَالِهِ الْعَظِيمِ، وَهَامَانَ لِدَهَائِهِ، فَاعْتَبَرَهُمُ اللَّه فِي الْإِرْسَالِ، حَيْثُ قَالَ: فِي مَوَاضِعَ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ [الزخرف: 46] وقال تعالى: بِآياتِنا ... إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ [غَافِرٍ: 23، 24] وَقَالَ فِي الْعَنْكَبُوتِ: وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى [الْعَنْكَبُوتِ: 39] لِأَنَّهُمْ إِنْ آمَنُوا آمَنَ الْكُلُّ بِخِلَافِ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ وَبَعْدَهُمْ، فَقَالَ: وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ وَقَالَ كَثِيرًا مِثْلَ هَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غَافِرٍ: 46] ، وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ [غَافِرٍ: 28] وَقَالَ: بِلَفْظِ الْمَلَأِ أَيْضًا كَثِيرًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ: وَلَقَدْ جاءَ وَلَمْ يَقُلْ فِي غَيْرِهِمْ جَاءَ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا جَاءَهُمْ، كَمَا جَاءَ الْمُرْسَلُونَ أَقْوَامَهُمْ، بَلْ جَاءَهُمْ حَقِيقَةً حَيْثُ كَانَ غَائِبًا عَنِ الْقَوْمِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَةِ: 128] حَقِيقَةً أَيْضًا لِأَنَّهُ جَاءَهُمْ مِنَ اللَّه من السموات بَعْدَ الْمِعْرَاجِ، كَمَا جَاءَ مُوسَى قَوْمَهُ مِنَ الطُّورِ حَقِيقَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: النُّذُرُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهَا الْإِنْذَارَاتِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَالْكَلَامُ الَّذِي جَاءَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى وَيَدِهِ تِلْكَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الرُّسُلَ فَهُوَ لِأَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ جَاءَهُ وَكُلُّ مُرْسَلٍ تَقَدَّمَهُمَا جَاءَ لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ قَالُوا مَا قَالَا مِنَ التَّوْحِيدِ وَعِبَادَةِ اللَّه وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: كَذَّبُوا بِآياتِنا مِنْ غَيْرِ فَاءٍ تَقْتَضِي تَرَتُّبَ التَّكْذِيبِ عَلَى الْمَجِيءِ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ وَقَوْلُهُ: كَذَّبُوا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى كُلِّ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ إِلَى آلِ فِرْعَوْنَ ثَانِيهِمَا: أَنَّ الْحِكَايَةَ مَسُوقَةٌ عَلَى سِيَاقِ مَا تَقَدَّمَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: (فَكَيْفَ كان عذابي ونذر وَقَدْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ) ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ آيَاتُنَا كُلُّهَا ظَاهِرَةٌ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي الْمُرَادُ آيَاتُهُ الَّتِي كَانَتْ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ التِّسْعُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّه كُلِّهَا السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فَإِنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ واحد. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَخَذْناهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا كَالْآبِقِينَ أَوْ إِلَى أَنَّهُمْ عَاصُونَ يُقَالُ: أَخَذَ الْأَمِيرُ فُلَانًا إِذَا حَبَسَهُ، وَفِي قَوْلِهِ: عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْعَزِيزَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْغَالِبُ لَكِنَّ الْعَزِيزَ قَدْ يَكُونُ [الَّذِي] يَغْلِبُ عَلَى الْعَدُوِّ وَيَظْفَرُ بِهِ وَفِي الْأَوَّلِ يَكُونُ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ مِنْ أَخْذِهِ لِبُعْدِهِ إِنْ كَانَ هاربا ولمنعته إن/ كان محاربا، فقال أحد غَالِبٍ لَمْ يَكُنْ عَاجِزًا وَإِنَّمَا كَانَ مُمْهِلًا. ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 43] أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) تَنْبِيهًا لَهُمْ لِئَلَّا يَأْمَنُوا الْعَذَابَ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا بِخَيْرٍ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أُهْلِكُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْخِطَابُ مَعَ أَهْلِ مَكَّةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كُفَّارُهُمْ بَعْضَهُمْ وَإِلَّا لَقَالَ: أَنْتُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ، وَإِذَا كَانَ كُفَّارُهُمْ بَعْضَهُمْ فَكَيْفَ قَالَ: أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ ولم يقل: أم لَهُمْ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: جَاءَنَا الْكُرَمَاءُ فَأَكْرَمْنَاهُمْ، وَلَا يَقُولُ: فَأَكْرَمْنَاكُمْ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَكُفَّارُكُمُ الْمُسْتَمِرُّونَ

عَلَى الْكُفْرِ الَّذِينَ لَا يَرْجِعُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّ جَمْعًا عَظِيمًا مِمَّنْ كَانَ كَافِرًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَ الْخِطَابِ أَيْقَنُوا بِوُقُوعِ ذَلِكَ، وَالْعَذَابُ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْقَوْمِ مَنْ يُؤْمِنُ فَقَالَ: الَّذِينَ يُصِرُّونَ مِنْكُمْ عَلَى الْكُفْرِ يَا أَهْلَ مَكَّةَ خَيْرٌ، أَمِ الَّذِينَ أَصَرُّوا مِنْ قَبْلُ؟ فَيَصِحُّ كَوْنُ التَّهْدِيدِ مَعَ بَعْضِهِمْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَمْ لَكُمْ لِعُمُومِكُمْ بَرَاءَةٌ فَلَا يَخَافُ الْمُصِرُّ مِنْكُمْ لِكَوْنِهِ فِي قَوْمٍ لَهُمْ بَرَاءَةٌ وَثَانِيهِمَا: أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ إِنْ أَصْرَرْتُمْ فَيَكُونُ الْخِطَابُ عَامًّا وَالتَّهْدِيدُ كَذَلِكَ، فَالشَّرْطُ غَيْرُ مَذْكُورٍ وَهُوَ الْإِصْرَارُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: خَيْرٌ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ: خَيْرٌ يَقْتَضِي اشْتِرَاكَ أَمْرَيْنِ فِي صِفَةٍ مَحْمُودَةٍ مَعَ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ خَيْرٌ وَلَا صِفَةٌ مَحْمُودَةٌ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: مَنْعُ اقْتِضَاءِ الاشتراك يدل عليه قول حسان: [أتهجوه وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ] ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ مَعَ اخْتِصَاصِ الْخَيْرِ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالشَّرِّ بِمَنْ هَجَاهُ وَعَدَمِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا ثَانِيهَا: أَنَّ ذَلِكَ عَائِدٌ إِلَى مَا فِي زَعْمِهِمْ أَيْ: أَيَزْعُمُ كُفَّارُكُمْ أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ أُهْلِكُوا وَهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ فِي أَنْفُسِهِمُ الْخَيْرَ، وَكَذَا فِيمَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَمُكَذِّبِي الرُّسُلِ وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْهَلَاكَ كَانَ بِأَسْبَابٍ سَمَاوِيَّةٍ مِنِ اجْتِمَاعِ الْكَوَاكِبِ عَلَى هَيْئَةٍ مَذْمُومَةٍ ثَالِثُهَا: الْمُرَادُ: أَكُفَّارُكُمْ أَشَدُّ قُوَّةً، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ فِي الْقُوَّةِ؟ وَالْقُوَّةُ مَحْمُودَةٌ فِي الْعُرْفِ رَابِعُهَا: أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مُمْكِنٌ فَفِيهِ صِفَاتٌ مَحْمُودَةٌ وَأُخْرَى غَيْرُ مَحْمُودَةٍ فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى الْمَحْمُودَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَقَابَلْتَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، تَسْتَعْمِلُ فِيهَا لَفْظَ الْخَيْرِ، وَكَذَلِكَ فِي الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ تُسْتَعْمَلُ فِيهَا لَفْظُ الشَّرِّ؟ فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى كَافِرَيْنِ وَقُلْتَ: أَحَدُهُمَا خَيْرٌ مِنَ الْآخَرِ فَلَكَ حِينَئِذٍ أَنْ تُرِيدَ أَحَدُهُمَا خَيْرٌ مِنَ الْآخَرِ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى مُؤْمِنَيْنِ يُؤْذِيَانِكَ قُلْتَ: أَحَدُهُمَا شَرٌّ مِنَ الْآخَرِ، أَيْ فِي الْأَذِيَّةِ لَا الْإِيمَانِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ لِأَنَّ النَّظَرَ وَقَعَ عَلَى مَا يَصْلُحُ مُخَلِّصًا لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، فَهُوَ كَمَا يُقَالُ أَكُفَّارُكُمْ فِيهِمْ شَيْءٌ مِمَّا يُخَلِّصُهُمْ لَمْ يَكُنْ فِي غَيْرِهِمْ فَهُمْ خَيْرٌ أَمْ لَا شَيْءَ فِيهِمْ يُخَلِّصُهُمْ لَكِنَّ اللَّه بفضله أمنهم لا بخصال فيهم. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ إِشَارَةٌ إِلَى سَبَبٍ آخَرَ مِنْ أَسْبَابِ الْخَلَاصِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَلَاصَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ أَمْرٍ فِيهِمْ أَوْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ بِسَبَبِ أَمْرٍ فِيهِمْ وَذَلِكَ السَّبَبُ لَمْ يَكُنْ فِي غَيْرِهِمْ مِنَ الَّذِينَ تَقَدَّمُوهُمْ فَيَكُونُونَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ لَا بِسَبَبِ أَمْرٍ فِيهِمْ فَيَكُونُ بِفَضْلِ اللَّه وَمُسَامَحَتِهِ إِيَّاهُمْ وَإِيمَانِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ الْعَذَابِ فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ فَلَا تَهْلِكُونَ أَمْ لَسْتُمْ بِخَيْرٍ مِنْهُمْ لَكِنَّ اللَّه آمَنَكُمْ وَأَهْلَكَهُمْ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْتَفٍ فَلَا تَأْمَنُوا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ إِشَارَةٌ إِلَى لَطِيفَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَأْمَنُ إِلَّا إِذَا حَصَلَ لَهُ الْجَزْمُ بِالْأَمْنِ أَوْ صَارَ لَهُ آيَاتٌ تُقَرِّبُ الْأَمْرَ مِنَ الْقَطْعِ، فَقَالَ: لَكُمْ بَرَاءَةٌ يُوثَقُ بِهَا وَتَكُونُ مُتَكَرِّرَةً فِي الْكُتُبِ، فَإِنَّ الْحَاصِلَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ رُبَّمَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ أَوْ يَكُونُ قَدْ تَطَرَّقَ إِلَيْهِ التَّحْرِيفُ وَالتَّبْدِيلُ كَمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَقَالَ: هَلْ حَصَلَ لَكُمْ بَرَاءَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ فِي كُتُبٍ تَأْمَنُونَ بِسَبَبِهَا الْعَذَابَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْأَمْنُ لَكِنَّ الْبَرَاءَةَ لَمْ تَحْصُلْ فِي كُتُبٍ وَلَا كِتَابٍ وَاحِدٍ وَلَا شِبْهِ كِتَابٍ، فَيَكُونُ أَمْنُهُمْ مِنْ غَايَةِ الْغَفْلَةِ وَعِنْدَ هَذَا تَبَيَّنَ فَضْلُ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ مَعَ مَا فِي كِتَابِ اللَّه الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، مِنَ الْوَعْدِ لَا يَأْمَنُ وَإِنْ بَلَغَ دَرَجَةَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَنْبِيَاءِ، لِمَا فِي آيَاتِ الْوَعِيدِ مِنِ احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ، وَكَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ يُسْتَثْنَى مِنَ الْأُمَّةِ

[سورة القمر (54) : آية 44]

وَيَخْرُجُ عَنْهَا فَالْمُؤْمِنُ خَائِفٌ وَالْكَافِرُ آمِنٌ فِي الدنيا، وفي الآخرة الأمر على العكس. ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 44] أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) تَتْمِيمًا لِبَيَانِ أَقْسَامِ الْخَلَاصِ وَحَصْرِهِ فِيهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَلَاصَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِاسْتِحْقَاقِ مَنْ يُخَلِّصُ عَنِ الْعَذَابِ كَمَا أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا عَذَّبَ جَمَاعَةً وَرَأَى فِيهِمْ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ فَلَا يُعَذِّبُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَمْرٍ فِي الْمُخَلَّصِ كَمَا إِذَا رَأَى فِيهِمْ مَنْ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ أَوْ أُمٌّ ضَعِيفَةٌ فَيَرْحَمُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ وَيُكْتَبُ لَهُ الْخَلَاصُ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ مَا يَسْتَحِقُّ الْخَلَاصَ بِسَبَبِهِ وَلَا فِي نَفْسِ الْمُعَذِّبِ مِمَّا يُوجِبُ الرَّحْمَةَ لَكِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ أَعْوَانِهِ وَتَعَصُّبِ إِخْوَانِهِ، كَمَا إِذَا هَرَبَ وَاحِدٌ مِنَ الْمَلِكِ وَالْتَجَأَ إِلَى عَسْكَرٍ يَمْنَعُونَ الْمَلِكَ عَنْهُ، فَكَمَا نَفَى الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ كَذَلِكَ نَفَى الْقِسْمَ الثَّالِثَ وَهُوَ التمتع بالأعوان والتحزب الْإِخْوَانِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حُسْنِ التَّرْتِيبِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِذَاتِهِ أَقْرَبُ إِلَى الْخَلَاصِ مِنَ الْمَرْحُومِ، فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ سَبَبُ الْعَذَابِ وَالْمَرْحُومَ وُجِدَ فِيهِ ذَلِكَ، وَوُجِدَ الْمَانِعُ مِنَ الْعَذَابِ، وَمَا لَا سَبَبَ له لا يتحقق أصلا، وماله مَانِعٌ رُبَّمَا لَا يَقْوَى الْمَانِعُ عَلَى دَفْعِ السَّبَبِ، وَمَا فِي نَفْسِ الْمُعَذِّبِ مِنَ الْمَانِعِ أَقْوَى مِنَ الَّذِي بِسَبَبِ الْغَيْرِ، لِأَنَّ الَّذِي مِنْ عِنْدِهِ يَمْنَعُ الدَّاعِيَةَ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْفِعْلَ عِنْدَ عَدَمِ الدَّاعِيَةِ، وَالَّذِي مِنَ الْغَيْرِ بِسَبَبِ التمتع لَا يَقْطَعُ قَصْدَهُ بَلْ يَجْتَهِدُ وَرُبَّمَا يَغْلِبُ فَيَكُونُ تَعْذِيبُهُ أَضْعَافَ مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ، بِخِلَافِ مَنْ يَرِقُّ لَهُ قَلْبُهُ وَتَمْنَعُهُ الرَّحْمَةُ فَإِنَّهَا وَإِنْ لَمْ تَمْنَعْهُ/ لَكِنْ لَا يَزِيدُ فِي حَمْلِهِ وَحَبْسِهِ وَزِيَادَتِهِ فِي التَّعْذِيبِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، فَهَذَا تَرْتِيبٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: جَمِيعٌ فِيهِ فَائِدَتَانِ إِحْدَاهُمَا الْكَثْرَةُ وَالْأُخْرَى الِاتِّفَاقُ، كَأَنَّهُ قَالَ: نَحْنُ كَثِيرٌ مُتَّفِقُونَ فَلَنَا الِانْتِصَارُ وَلَا يَقُومُ غَيْرُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ مَقَامَهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ فِيهِ فَائِدَتَيْنِ لِأَنَّ الْجَمْعَ يَدُلُّ عَلَى الْجَمَاعَةِ بِحُرُوفِهِ الْأَصْلِيَّةِ مِنْ ج م ع وَبِوَزْنِهِ وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ عَلَى أَنَّهُمْ جَمَعُوا جَمْعِيَّتَهُمُ الْعَصَبِيَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ نَحْنُ الْكُلُّ لَا خَارِجَ عَنَّا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا اعْتِدَادَ بِهِ قَالَ تَعَالَى فِي نُوحٍ: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشُّعَرَاءِ: 111] إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [هُودٍ: 27] وَعَلَى هَذَا جَمِيعٌ يَكُونُ التَّنْوِينُ فِيهِ لِقَطْعِ الْإِضَافَةِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: نَحْنُ جَمْعُ النَّاسِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا وَجْهُ إِفْرَادِ الْمُنْتَصِرِ مَعَ أَنَّ نَحْنُ ضَمِيرُ الْجَمْعِ؟ نَقُولُ: عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ وَصَفَ الْجُزْءَ الْآخَرَ الْوَاقِعَ خَبَرًا فَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَنْتُمْ جِنْسٌ مُنْتَصِرٌ وَهُمْ عَسْكَرٌ غَالِبٌ وَالْجَمِيعُ كَالْجِنْسِ لَفْظُهُ لَفْظٌ وَاحِدٌ، وَمَعْنَاهُ جَمْعٌ فِيهِ الْكَثْرَةُ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ جَمِيعَ النَّاسِ لَا خَارِجَ عَنْهُمْ إِلَّا مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، لَكِنْ لَمَّا قُطِعَ وَنُوِّنَ صَارَ كَالْمُنْكَرِ فِي الْأَصْلِ فَجَازَ وَصْفُهُ بِالْمُنْكَرِ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ فَعَادَ إِلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يكون أحد الخبرين معرفة والآخرين نَكِرَةً، قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [الْبُرُوجِ: 14- 16] وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ أَفْرَدَهُ لِمُجَاوَرَتِهِ جَمِيعٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَى: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ أَنْ جَمِيعًا بِمَعْنَى كُلِّ وَاحِدٍ كَأَنَّهُ قَالَ: نَحْنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مُنْتَصِرٌ، كَمَا تَقُولُ: هُمْ جَمِيعُهُمْ أَقْوِيَاءُ بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَوِيٌّ، وَهُمْ كُلُّهُمْ عُلَمَاءُ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ عَالِمٌ فَتَرَكَ الْجَمْعَ وَاخْتَارَ الْإِفْرَادَ لِعَوْدِ الْخَبَرِ إِلَى كُلِّ

[سورة القمر (54) : آية 45]

وَاحِدٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَغْلِبُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ وَهَذَا فِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ غَالِبٌ، واللَّه رَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَجْمَعِهِمْ بِقَوْلِهِ: [سورة القمر (54) : آية 45] سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) وَهُوَ أَنَّهُمُ ادَّعَوُا الْقُوَّةَ الْعَامَّةَ بِحَيْثُ يَغْلِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واللَّه تَعَالَى بَيَّنَ ضَعْفَهُمُ الظَّاهِرَ الَّذِي يَعُمُّهُمْ جَمِيعَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ قال: يُوَلُّونَ الدُّبُرَ وَلَمْ يَقُلْ: يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 111] وَقَالَ: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ [الْأَحْزَابِ: 15] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ [الْأَنْفَالِ: 15] فَكَيْفَ تَصْحِيحُ الْإِفْرَادِ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوَاضِعِ؟ نَقُولُ: أَمَّا التَّصْحِيحُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: فَعَلُوا كَقَوْلِهِ فَعَلَ هَذَا وَفَعَلَ ذَاكَ وَفَعَلَ الآخر. قالوا: وفي الْجَمْعِ تَنُوبُ مَنَابَ الْوَاوَاتِ الَّتِي فِي الْعَطْفِ، وقوله: يُوَلُّونَ بمثابة يول هذا/ الدبر، ويول ذاك ويول الْآخَرُ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ يُوَلِّي دُبُرَهُ، وَأَمَّا الْفَرْقُ فَنَقُولُ اقْتِضَاءُ أَوَاخِرِ الْآيَاتِ حُسْنَ الْإِفْرَادِ، فقوله: يُوَلُّونَ الدُّبُرَ إِفْرَادُهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ فِي التَّوْلِيَةِ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا يَتَخَلَّفُ أَحَدٌ عَنِ الْجَمْعِ وَلَا يَثْبُتُ أَحَدٌ لِلزَّحْفِ فَهُمْ كَانُوا فِي التَّوْلِيَةِ كَدُبُرٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ يُوجَدُ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ وَلَا يُوَلِّيَ دُبُرَهُ، فَلَيْسَ الْمَنْهِيُّ هُنَاكَ تَوْلِيَتَهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ بَلِ الْمَنْهِيُّ أَنْ يُوَلِّيَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ دُبُرَهُ، فَكُلُّ أَحَدٍ مَنْهِيٌّ عَنْ تَوْلِيَةِ دُبُرِهِ، فَجَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ بِرَأْسِهِ فِي الْخِطَابِ ثُمَّ جَمَعَ الْفِعْلَ بِقَوْلِهِ: فَلا تُوَلُّوهُمُ وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِقَوْلِهِ: الْأَدْبارَ وَكَذَلِكَ في قوله: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ [الأحزاب: 15] أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ قَالَ: أَنَا أَثْبُتُ وَلَا أُوَلِّي دُبُرِي، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ [الْحَشْرِ: 12] فَإِنَّ الْمُرَادَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ وَعَدُوا الْيَهُودَ وَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الْحَشْرِ: 14] ، وَأَمَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَهُمْ كَانُوا يَدًا وَاحِدَةً عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ. ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 46] بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ غَيْرَ مُقْتَصِرٍ عَلَى انْهِزَامِهِمْ وَإِدْبَارِهِمْ بَلِ الْأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْهُ فَإِنَّ السَّاعَةَ مَوْعِدُهُمْ فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَا يُصِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّبُرِ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا هُوَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِصْرَارِ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْذَارَ بِالسَّاعَةِ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ تَقَدَّمَ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَهْلَكْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلِكَ وَأَصَرُّوا وَقَوْمُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسُوا بِخَيْرٍ مِنْهُمْ فَيُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَهُمْ إِنْ أَصَرُّوا، ثُمَّ إِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا لَيْسَ لِإِتْمَامِ الْمُجَازَاةِ فَإِتْمَامُ الْمُجَازَاةِ بِالْأَلِيمِ الدَّائِمِ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِ اخْتِصَاصِ السَّاعَةِ مَوْعِدَهُمْ مَعَ أَنَّهَا مَوْعِدُ كُلِّ أَحَدٍ؟ نَقُولُ: الْمَوْعِدُ الزَّمَانُ الَّذِي فِيهِ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالْمُؤْمِنُ مَوْعُودٌ بِالْخَيْرِ وَمَأْمُورٌ بِالصَّبْرِ فَلَا يَقُولُ هُوَ: مَتَى يَكُونُ، بَلْ يُفَوِّضُ الْأَمْرَ إِلَى اللَّه، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَغَيْرُ مُصَدِّقٍ فَيَقُولُ: مَتَى يَكُونُ الْعَذَابُ؟ فَيُقَالُ لَهُ: اصْبِرْ فَإِنَّهُ آتٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ: عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص: 16] وَقَالَ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ [الْحَجِّ: 47] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَدْهَى مِنْ أَيِّ شَيْءٍ؟ نَقُولُ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا مَضَى مِنْ أَنْوَاعِ عَذَابِ الدُّنْيَا ثَانِيهِمَا: أَدْهَى الدَّوَاهِي فَلَا دَاهِيَةَ مِثْلُهَا.

[سورة القمر (54) : الآيات 47 إلى 48]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَمَرُّ؟ قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: هُوَ مُبَالَغَةٌ مِنَ الْمُرِّ وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَذُوقُوا عَذابِي [القمر: 37] وقوله: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر: 48] وَعَلَى هَذَا فَأَدْهَى أَيْ أَشَدُّ وَأَمَرُّ أَيْ آلَمُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّدِيدِ وَالْأَلِيمِ أَنَّ الشَّدِيدَ يَكُونُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَا يُطِيقُهُ أَحَدٌ لِقُوَّتِهِ وَلَا يَدْفَعُهُ أَحَدٌ بِقُوَّتِهِ، مِثَالُهُ ضَعِيفٌ أُلْقِيَ فِي مَاءٍ يَغْلِبُهُ أَوْ نَارٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهَا، وَقَوِيٌّ أُلْقِيَ فِي بَحْرٍ أَوْ نَارٍ عَظِيمَةٍ يَسْتَوِيَانِ فِي الْأَلَمِ وَالْعَذَابِ وَيَتَسَاوَيَانِ فِي الْإِيلَامِ لَكِنْ يَفْتَرِقَانِ فِي الشِّدَّةِ فَإِنَّ نَجَاةَ الضَّعِيفِ مِنَ الْمَاءِ الضَّعِيفِ بِإِعَانَةِ مُعِينٍ مُمْكِنٌ، وَنَجَاةَ الْقَوِيِّ مِنَ الْبَحْرِ الْعَظِيمِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ثَانِيهِمَا: أَمَرُّ مُبَالِغَةٌ/ فِي الْمَارِّ إِذْ هِيَ أَكْثَرُ مُرُورًا بِهِمْ إِشَارَةً إِلَى الدَّوَامِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: أَشُدُّ وَأَدْوَمُ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا إِنِ اشْتَدَّ قُتِلَ الْمُعَذَّبُ وَزَالَ فَلَا يَدُومُ وَإِنْ دَامَ بِحَيْثُ لَا يُقْتَلُ فَلَا يَكُونُ شَدِيدًا ثَالِثُهَا: أَنَّهُ الْمَرِيرُ وَهُوَ مِنَ الْمِرَّةِ الَّتِي هِيَ الشِّدَّةُ، وَعَلَى هَذَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: فُلَانٌ نَحِيفٌ نَحِيلٌ وَقَوِيٌّ شَدِيدٌ، فَيَأْتِي بِلَفْظَيْنِ مُتَرَادِفَيْنِ إِشَارَةً إِلَى التَّأْكِيدِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَدْهَى مُبَالَغَةً مِنَ الدَّاهِيَةِ الَّتِي هِيَ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْ دَهَاهُ أَمْرُ كَذَا إِذَا أَصَابَهُ، وَهُوَ أَمْرٌ صَعْبٌ لِأَنَّ الدَّاهِيَةَ صَارَتْ كَالِاسْمِ الْمَوْضُوعِ لِلشَّدِيدِ عَلَى وَزْنِ الْبَاطِيَةِ وَالسَّائِبَةِ الَّتِي لَا تَكُونُ مِنْ أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّاهِيَةُ أَصْلُهَا ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهَا اسْتُعْمِلَتِ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ وَكُتِبَتْ فِي أَبْوَابِهَا وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَاهُ أَلْزَمَ وَأَضْيَقَ، أَيْ هِيَ بِحَيْثُ لَا تُدْفَعُ. [سورة القمر (54) : الآيات 47 الى 48] إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: فِيمَنْ نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي حَقِّهِمْ؟ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا نَازِلَةٌ فِي الْقَدَرِيَّةِ رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ رَضِيَّ الدِّينِ الْمُؤَيِّدَ الطُّوسِيَّ بِنَيْسَابُورَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْجَبَّارِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْوَاحِدِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّه الْكَعْبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمْدَانُ بْنُ صَالِحٍ الْأَشَجُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ زِيَادِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخَاصِمُونَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَدَرِ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَرِ: 47- 49] وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ في القدرة. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْقَدَرِيَّةُ» وَهُمُ الْمُجْرِمُونَ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللَّه تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ وَكَثُرَتِ الْأَحَادِيثُ فِي الْقَدَرِيَّةِ وَفِيهَا مَبَاحِثُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَى الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمْ، فَنَقُولُ: كُلُّ فَرِيقٍ فِي خَلْقِ الْأَعْمَالِ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْقَدَرِيَّ خَصْمُهُ، فَالْجَبْرِيُّ يَقُولُ: الْقَدَرِيُّ مَنْ يَقُولُ: الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ لَيْسَتَا بِخَلْقِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، فَهُمْ قَدَرِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْقَدَرَ وَالْمُعْتَزِلِيُّ يَقُولُ: الْقَدَرِيُّ هُوَ الْجَبْرِيُّ الَّذِي يَقُولُ حِينَ يَزْنِي وَيَسْرِقُ اللَّه قَدَّرَنِي فَهُوَ قَدَرِي لِإِثْبَاتِهِ الْقَدَرَ، وَهُمَا جَمِيعًا يَقُولَانِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِي يَعْتَرِفُ بِخَلْقِ اللَّه وَلَيْسَ مِنَ الْعَبْدِ إِنَّهُ قَدَرِيٌّ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْقَدَرِيَّ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ هُوَ الَّذِي يُنْكِرُ الْقَدَرَ وَيَقُولُ بِأَنَّ الْحَوَادِثَ كُلَّهَا حَادِثَةٌ بِالْكَوَاكِبِ وَاتِّصَالَاتِهَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قوله جاء مشركوا قُرَيْشٍ يُحَاجُّونَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ فِي الْقَدَرِ فَإِنَّ مَذْهَبَهُمْ ذَلِكَ، وَمَا كَانُوا يَقُولُونَ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ إِنَّ اللَّه خَلَقَ لِي سَلَامَةَ الْأَعْضَاءِ وَقُوَّةَ الْإِدْرَاكِ

وَمَكَّنَنِي مِنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، واللَّه قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ فِي الطَّاعَةِ إِلْجَاءً وَالْمَعْصِيَةِ إِلْجَاءً، وَقَادِرٌ عَلَى أَنْ يُطْعِمَ الْفَقِيرَ الَّذِي أُطْعِمُهُ أَنَا بِفَضْلِ اللَّه، وَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يَقُولُونَ: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس: 47] مُنْكِرِينَ لِقُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْإِطْعَامِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ هُمُ الْقَدَرِيَّةُ» فَنَقُولُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، إِمَّا الْأُمَّةُ الَّتِي كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا إِلَيْهِمْ سَوَاءٌ آمَنُوا بِهِ أَوْ لَمْ يُؤْمِنُوا كَلَفْظِ الْقَوْمِ، وَإِمَّا أُمَّتُهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْأَوَّلَ فَالْقَدَرِيَّةُ فِي زَمَانِهِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا قُدْرَةَ اللَّه عَلَى الْحَوَادِثِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِمُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الثَّانِيَ فَقَوْلُهُ: «مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ» يَكُونُ مَعْنَاهُ الَّذِينَ نِسْبَتُهُمْ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ كَنِسْبَةِ الْمَجُوسِ إِلَى الْأُمَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، لَكِنَّ الْأُمَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ أَكْثَرُهُمْ كَفَرَةٌ، وَالْمَجُوسُ نَوْعٌ مِنْهُمْ أَضْعَفُ شُبْهَةً وَأَشَدُّ مُخَالَفَةً لِلْعَقْلِ فَكَذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ تَكُونُ نَوْعًا مِنْهُمْ أَضْعَفُ دَلِيلًا وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ الْجَزْمَ بِكَوْنِهِمْ فِي النَّارِ فَالْحَقُّ أَنَّ الْقَدَرِيَّ هُوَ الَّذِي يُنْكِرُ قُدْرَةَ اللَّه تَعَالَى، إِنْ قُلْنَا: إِنَّ النِّسْبَةَ لِلنَّفْيِ أَوِ الَّذِي يُثْبِتُ قُدْرَةَ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْحَوَادِثِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّ النِّسْبَةَ لِلْإِثْبَاتِ وَحِينَئِذٍ يُقْطَعُ بِكَوْنِهِ: فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ وَإِنَّهُ ذَائِقٌ مَسَّ سَقَرَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْقَدَرِيَّةِ الَّتِي فِي النَّصِّ مِمَّنْ هُوَ مُنْتَسِبٌ إِلَى أَنَّهُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ قُلْنَا: الْقَدَرِيَّةُ سُمُّوا بِهَذَا الِاسْمِ لِنَفْيِهِمْ قُدْرَةَ اللَّه تَعَالَى فَالَّذِي يَقُولُ لَا قُدْرَةَ للَّه عَلَى تَحْرِيكِ الْعَبْدِ بِحَرَكَةٍ هِيَ الصَّلَاةُ وَحَرَكَةٍ هِيَ الزِّنَا مَعَ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مُمْكِنٌ لَا يَبْعُدُ دُخُولُهُ فِيهِمْ، وَأَمَّا الَّذِي يَقُولُ: بِأَنَّ اللَّه قَادِرٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُجْبِرْهُ وَتَرَكَهُ مَعَ دَاعِيَةِ الْعَبْدِ كَالْوَالِدِ الَّذِي يُجَرِّبُ الصَّبِيَّ فِي حَمْلِ شَيْءٍ تَرَكَهُ مَعَهُ لَا لِعَجْزِ الْوَالِدِ بَلْ لِلِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ، لَا كَالْمَفْلُوجِ الَّذِي لَا قُوَّةَ لَهُ إِذَا قَالَ لِغَيْرِهِ: احْمِلْ هَذَا فَلَا يَدْخُلُ فِيهِمْ ظَاهِرًا وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْقَدَرِيَّةَ سُمُّوا بِهَذَا الِاسْمِ لِإِثْبَاتِهِمُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَوَادِثِ لِغَيْرِ اللَّه مِنَ الْكَوَاكِبِ، وَالْجَبْرِيُّ الَّذِي قَالَ: هُوَ الْحَائِطُ السَّاقِطُ الَّذِي لَا يَجُوزُ تَكْلِيفُهُ بِشَيْءٍ لِصُدُورِ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِهِ وَهُمْ أَهْلُ الْإِبَاحَةِ، فَلَا شَكَّ فِي دُخُولِهِ فِي الْقَدَرِيَّةِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِنَفْيِهِ التَّكْلِيفَ وَأَمَّا الَّذِي يَقُولُ: خَلَقَ اللَّه تَعَالَى فِينَا الْأَفْعَالَ وَقَدَّرَهَا وكلفنا، ولا يسأل عما يفعل فَمَا هُوَ مِنْهُمْ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ في التعصب أن الاسم بالمعتزلة أحق أن بِالْأَشَاعِرَةِ؟ فَقَالَتِ: الْمُعْتَزِلَةُ الِاسْمُ بِكُمْ أَحَقُّ لِأَنَّ النِّسْبَةَ تَكُونُ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ، يُقَالُ لِلدَّهْرِيِّ: دَهْرِيٌّ لِقَوْلِهِ بِالدَّهْرِ، وَإِثْبَاتِهِ، وَلِلْمُبَاحِيِّ إِبَاحِيٌّ لِإِثْبَاتِهِ الإباحة وللتنوية ثَنَوِيَّةٌ لِإِثْبَاتِهِمُ الِاثْنَيْنِ وَهُمَا النُّورُ وَالظُّلْمَةُ، وَكَذَلِكَ أمثله وَأَنْتُمْ تُثْبِتُونَ الْقَدَرَ، وَقَالَتِ الْأَشَاعِرَةُ: النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَدَرِيَّ مَنْ يَنْفِي قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَمُشْرِكُو قُرَيْشٍ مَا كَانُوا قَدَرِيَّةً إِلَّا لِإِثْبَاتِهِمْ قُدْرَةً لِغَيْرِ اللَّهِ، قَالَتِ: الْمُعْتَزِلَةُ إِنَّمَا سُمِّيَ الْمُشْرِكُونَ قَدَرِيَّةً لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْحَوَادِثِ كَمَا تَقُولُ يَا مُحَمَّدُ فَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَهَدَانَا وَلَوْ شَاءَ/ لَأَطْعَمَ الْفَقِيرَ، فَاعْتَقَدُوا أَنَّ مِنْ لَوَازِمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْحَوَادِثِ خَلْقَهُ الْهِدَايَةَ فِيهِمْ إِنْ شَاءَ، وَهَذَا مَذْهَبُكُمْ أَيُّهَا الْأَشَاعِرَةُ، وَالْحَقُّ الصُّرَاحُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى الْمَذْهَبَيْنِ خَارِجٌ عَنِ الْقَدَرِيَّةِ، وَلَا يَصِيرُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَدَرِيًّا إِلَّا إِذَا صَارَ النَّافِي نَافِيًا لِلْقُدْرَةِ وَالْمُثَبِتُ مُنْكِرًا لِلتَّكْلِيفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُجْرِمُونَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ هَاهُنَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ [السَّجْدَةِ: 12] وَقَوْلِهِ: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي [الْمَعَارِجِ: 11] وَفِي قَوْلِهِ: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ [الرَّحْمَنِ: 41] فَالْآيَةُ عَامَّةٌ، وَإِنْ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ خَاصٍّ. وَجُرْمُهُمْ تَكْذِيبُ الرُّسُلِ وَالنُّذُرِ بِالْإِشْرَاكِ

[سورة القمر (54) : آية 49]

وَإِنْكَارِ الْحَشْرِ وَإِنْكَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ، وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْحَوَادِثِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا ثَلَاثَةً أَحَدُهَا: الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي الدُّنْيَا أَيْ هُمْ فِي الدُّنْيَا فِي ضَلَالٍ وَجُنُونٍ لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: يُسْحَبُونَ بَيَانُ حَالِهِمْ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ وَهُوَ أَقْرَبُ ثَانِيهَا: الْجَمْعُ فِي الْآخِرَةِ أَيْ هُمْ فِي ضَلَالِ الْآخِرَةِ وَسُعُرٍ أَيْضًا. أَمَّا السُّعُرُ فَكَوْنُهُمْ فِيهَا ظَاهِرٌ، وَأَمَّا الضَّلَالُ فَلَا يَجِدُونَ إِلَى مَقْصِدِهِمْ أَوْ إِلَى مَا يَصْلُحُ مَقْصِدًا وَهُمْ مُتَحَيِّرُونَ سَبِيلًا، فَإِنْ قِيلَ: الصَّحِيحُ هُوَ الْوَجْهُ الْأَخِيرُ لَا غَيْرَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ ظَرْفُ الْقَوْلِ أَيْ يَوْمَ يُسْحَبُونَ يُقَالُ لَهُمْ ذُوقُوا، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فَنَقُولُ: يَوْمَ يُسْحَبُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِعَامِلٍ مَذْكُورٍ أَوْ مَفْهُومٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ لَهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الْعَامِلُ سَابِقٌ وَهُوَ مَعْنًى كَائِنٌ وَمُسْتَقِرٌّ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ صَارَ نَسْيًا مَنْسِيًّا ثَانِيهِمَا: الْعَامِلُ مُتَأَخِّرٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: ذُوقُوا تَقْدِيرُهُ: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ يَوْمَ يُسْحَبُ الْمُجْرِمُونَ، وَالْخِطَابُ حِينَئِذٍ مَعَ مَنْ خُوطِبَ بِقَوْلِهِ: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ [الْقَمَرِ: 43] وَالِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ «1» : أَنَّ الْمَفْهُومَ هُوَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: يَوْمَ يُسْحَبُونَ ذُوقُوا، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذُوقُوا اسْتِعَارَةٌ وَفِيهِ حِكْمَةٌ وَهُوَ أَنَّ الذوق من جملة الإدراكات فإن المذوق إذا لَاقَى اللِّسَانَ يُدْرِكُ أَيْضًا حَرَارَتَهُ وَبُرُودَتَهُ وَخُشُونَتَهُ وَمَلَاسَتَهُ، كَمَا يُدْرِكُ سَائِرُ أَعْضَائِهِ الْحِسِّيَّةِ وَيُدْرِكُ أَيْضًا طَعْمَهُ وَلَا يُدْرِكُهُ غَيْرُ اللِّسَانِ، فَإِدْرَاكُ اللِّسَانِ أَتَمُّ، فَإِذَا تَأَذَّى مِنْ نَارٍ تَأَذَّى بِحَرَارَتِهِ وَمَرَارَتِهِ إِنْ كَانَ الْحَارُّ أَوْ غَيْرُهُ لَا يُتَأَذَّى إِلَّا بِحَرَارَتِهِ فَإِذَنِ الذَّوْقُ إِدْرَاكٌ لَمْسِيٌّ أَتَمُّ مِنْ غَيْرِهِ فِي الْمَلْمُوسَاتِ فَقَالَ: ذُوقُوا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ إِدْرَاكَهُمْ بِالذَّوْقِ أَتَمُّ الْإِدْرَاكَاتِ فَيَجْتَمِعُ فِي الْعَذَابِ شِدَّتُهُ وَإِيلَامُهُ بِطُولِ مُدَّتِهِ وَدَوَامِهِ، وَيَكُونُ الْمُدْرِكُ لَهُ لَا عُذْرَ لَهُ يَشْغَلُهُ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى أَتَمِّ مَا يَكُونُ مِنَ الْإِدْرَاكِ فَيَحْصُلُ الْأَلَمُ الْعَظِيمُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ يُقَالُ لَهُمْ أَوْ نَقُولُ مُضْمَرٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى الْإِضْمَارِ إِذَا كَانَ الْخِطَابُ مَعَ غَيْرِ مَنْ قِيلَ فِي حَقِّهِمْ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ فَإِنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: ذُوقُوا أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَّ سَقَرَ يَوْمَ يُسْحَبُ الْمُجْرِمُونَ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي النار. / ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 49] إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: الْمَشْهُورُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ كَأَنَّهُ قَالَ: ذُوقُوا فَإِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، أَيْ هُوَ جَزَاءٌ لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدُّخَانِ: 49] وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر: 48] ثُمَّ ذَكَرَ بَيَانَ الْعَذَابِ لِأَنَّ عَطْفَ: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ [الْقَمَرِ: 50] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ لَيْسَ آخِرَ الْكَلَامِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى الْخَلْقَ بِقَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ فَيَكُونُ مِنَ اللَّائِقِ أَنْ يَذْكُرَ الْأَمْرَ فَقَالَ: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنَ الْجَدَلِ فَنَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَسَّكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ إِلَى قَوْلِهِ: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر: 47، 48] وَتَلَا آيَةً أُخْرَى عَلَى قَصْدِ التِّلَاوَةِ، وَلَمْ يَقْرَأِ الْآيَةَ الْأَخِيرَةَ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ مَنْ عَلِمَ الْآيَةَ كَمَا تَقُولُ فِي الِاسْتِدْلَالَاتِ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ

_ (1) في النسخة الأميرية والاحتمال الثاني وهو خطأ ظاهر وقد علق عليها بما لا طائل تحته.

[النساء: 29] الآية: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: 121] الآية: وإِذا تَدايَنْتُمْ [الْبَقَرَةِ: 283] الْآيَةَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كُلَّ قُرِئَ بِالنَّصْبِ وَهُوَ الْأَصَحُّ الْمَشْهُورُ، وَبِالرَّفْعِ فَمَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ فَنَصْبُهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ كَقَوْلِهِ: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ [يس: 39] وَقَوْلِهِ: وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ [الْإِنْسَانِ: 31] وَذَلِكَ الْفِعْلُ هُوَ خَلَقْنَاهُ وَقَدْ فَسَّرَهُ قَوْلُهُ: خَلَقْناهُ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّا خَلَقْنَا كُلَّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، وَخَلَقْنَاهُ عَلَى هَذَا لَا يَكُونُ صِفَةً لِشَيْءٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ [الذَّارِيَاتِ: 49] غَيْرَ أَنْ هُنَاكَ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صِفَةً كَوْنُهُ خَالِيًا عَنْ ضَمِيرٍ عَائِدٍ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَهَاهُنَا لَمْ يُوجَدُ ذَلِكَ الْمَانِعُ، وَعَلَى هَذَا فَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّ أَفْعَالَنَا شَيْءٌ فَتَكُونُ دَاخِلَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَتَكُونُ مَخْلُوقَةً للَّه تَعَالَى، وَمَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَقُولَ كَمَا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ [فُصِّلَتْ: 17] حَيْثُ قُرِئَ بِالرَّفْعِ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ نَكِرَةٌ فَلَا يَصِحُّ مُبْتَدَأً فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ: كُلُّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ فَهُوَ بِقَدَرٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرَّعْدِ: 8] فِي الْمَعْنَى، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ وَذَكَرَ أَنَّ الْمُعْتَزِلِيَّ يَتَمَسَّكُ بِقِرَاءَةِ الرَّفْعِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْقِرَاءَةُ الْأُولَى وَهُوَ النَّصْبُ لَهُ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: نَصْبُهُ بِفِعْلٍ مَعْلُومٍ لَا بِمُضْمَرٍ مُفَسَّرٍ وَهُوَ قَدَّرْنَا أَوْ خَلَقْنَا، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّا خَلَقْنَا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرِ، أَوْ قَدَّرْنَا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ مَعْلُومٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [غَافِرٍ: 62] دَلَّ عَلَيْهِ، وَقَوْلَهُ: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدَرٌ وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلِيِّ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى بطلان قوله: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62] وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ الرَّفْعُ، فَنَقُولُ: جاز أن يكون كل شيء مبتدأ وخلقناه بِقَدَرٍ خَبَرَهُ وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْحُجَّةُ قَائِمَةً عَلَيْهِمْ بِأَبْلَغَ وَجْهٍ، وَقَوْلُهُ: كُلَّ شَيْءٍ نَكِرَةٌ فَلَا يَصْلُحُ مُبْتَدَأً ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: كُلَّ شَيْءٍ عَمَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا بِأَسْرِهَا، فَلَيْسَ فِيهِ/ الْمَحْذُورُ الَّذِي فِي قَوْلِنَا: رَجُلٌ قَائِمٌ، لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً ظَاهِرَةً، وَقَوْلُهُ: كُلَّ شَيْءٍ يُفِيدُ مَا يُفِيدُ زَيْدٌ خَلَقْنَاهُ وَعَمْرٌو خَلَقْنَاهُ مَعَ زِيَادَةِ فَائِدَةٍ، وَلِهَذَا جَوَّزُوا مَا أَحَدَ خَيْرٌ مِنْكَ لِأَنَّهُ أَفَادَ الْعُمُومَ وَلَمْ يَحْسُنْ قَوْلُ الْقَائِلِ أَحَدٌ خَيْرٌ مِنْكَ حَيْثُ لَمْ يُفِدِ الْعُمُومَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا مَعْنَى الْقَدَرِ؟ قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْمِقْدَارُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرعد: 8] وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ شَيْءٍ مُقَدَّرٌ فِي ذَاتِهِ وَفِي صِفَاتِهِ، أَمَّا الْمُقَدَّرُ فِي الذَّاتِ فَالْجِسْمُ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِيهِ وَكَذَلِكَ الْقَائِمُ بِالْجِسْمِ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ كَالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ، وَأَمَّا الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ مَا لَا مِقْدَارَ لَهُ وَالْقَائِمُ بِالْجَوْهَرِ مَا لَا مِقْدَارَ لَهُ بِمَعْنَى الِامْتِدَادِ كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَغَيْرِهِمَا، فنقول: هاهنا مقادير لا بمعنى الامتداد، أما الجواهر الْفَرْدُ فَإِنَّ الِاثْنَيْنِ مِنْهُ أَصْغَرُ مِنَ الثَّلَاثَةِ، وَلَوْلَا أَنَّ حَجْمًا يَزْدَادُ بِهِ الِامْتِدَادُ، وَإِلَّا لَمَا حَصَلَ دُونَ الِامْتِدَادِ فِيهِ، وَأَمَّا الْقَائِمُ بِالْجَوْهَرِ فَلَهُ نِهَايَةٌ وَبِدَايَةٌ، فَمِقْدَارُ الْعُلُومِ الْحَادِثَةِ وَالْقُدُرُ الْمَخْلُوقَةُ مُتَنَاهِيَةٌ، وَأَمَّا الصِّفَةُ فَلِأَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ ابْتُدِئَ زَمَانًا فَلَهُ مِقْدَارٌ فِي الْبَقَاءِ لِكَوْنِ كُلِّ شَيْءٍ حَادِثًا، فَإِنْ قِيلَ: اللَّه تَعَالَى وُصِفَ بِهِ، وَلَا مِقْدَارَ لَهُ وَلَا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ، نَقُولُ: الْمُتَكَلِّمُ إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ أَوْ مُسَمًّى بِاسْمٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَشْيَاءَ الْمُسَمَّاةَ بِذَلِكَ الِاسْمِ أَوِ الْأَشْيَاءَ الْمَوْصُوفَةَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَأَسْنَدَ فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِهِ إِلَيْهِ يَخْرُجُ هُوَ عَنْهُ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: رَأَيْتُ جَمِيعَ مَنْ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَرَأَيْتُهُمْ كُلُّهُمْ أَكْرَمَنِي، وَيَقُولُ مَا فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ إِلَّا وَضَرَبَنِي أَوْ ضَرَبْتُهُ يَخْرُجُ هُوَ عَنْهُ لَا لِعَدَمِ كَوْنِهِ مُقْتَضَى الِاسْمِ، بَلْ بِمَا فِي التَّرْكِيبِ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى خُرُوجِهِ عَنِ الْإِرَادَةِ، فَكَذَلِكَ قوله: خَلَقْناهُ وخالِقُ كُلِّ

[سورة القمر (54) : آية 50]

شَيْءٍ [الزمر: 62] يَخْرُجُ عَنْهُ لَا بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ، بَلْ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ التَّرْكِيبَ وَضْعِيٌّ، فَإِنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ لَمْ يُوضَعْ حِينَئِذٍ إِلَّا لِغَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ ثَانِيهَا: الْقَدَرُ التَّقْدِيرُ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ [الْمُرْسَلَاتِ: 23] وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَقَدْ قَدَّرَ الرَّحْمَنُ مَا هُوَ قَادِرُ أَيْ قَدَّرَ مَا هُوَ مُقَدَّرٌ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، كَمَا يَرْمِي الرَّامِي السَّهْمَ فَيَقَعُ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَكُنْ قَدْ قَدَّرَهُ، بَلْ خَلَقَ اللَّه كَمَا قَدَّرَ بِخِلَافِ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ إِنَّهُ فَاعِلٌ لِذَاتِهِ وَالِاخْتِلَافُ لِلْقَوَابِلِ، فَالَّذِي جَاءَ قَصِيرًا أَوْ صَغِيرًا فَلِاسْتِعْدَادِ مَادَّتِهِ، وَالَّذِي جَاءَ طَوِيلًا أَوْ كَبِيرًا فَلِاسْتِعْدَادٍ آخَرَ، فَقَالَ تَعَالَى: كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ مِنَّا فَالصَّغِيرُ جَازَ أَنْ يَكُونَ كَبِيرًا، وَالْكَبِيرُ جَازَ خَلْقُهُ صَغِيرًا ثَالِثُهَا: بِقَدَرٍ هُوَ مَا يُقَالُ مَعَ الْقَضَاءِ، يُقَالُ بِقَضَاءِ اللَّه وَقَدَرِهِ، وَقَالَتِ الْفَلَاسِفَةُ فِي الْقَدَرِ الَّذِي مَعَ الْقَضَاءِ: إِنَّ مَا يُقْصَدُ إِلَيْهِ فَقَضَاءٌ وَمَا يَلْزَمُهُ فَقَدَرٌ، فَيَقُولُونَ: خَلْقُ النَّارِ حَارَّةً بِقَضَاءٍ وَهُوَ مَقْضِيٌّ بِهِ لِأَنَّهَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ، لَكِنْ مِنْ لَوَازِمِهَا أَنَّهَا إِذَا تَعَلَّقَتْ بِقُطْنِ عَجُوزٍ أَوْ وَقَعَتْ فِي قصب صعلوك تخرقه، فَهُوَ بِقَدَرٍ لَا بِقَضَاءٍ، وَهُوَ كَلَامٌ فَاسِدٌ، بَلِ الْقَضَاءُ مَا فِي الْعِلْمِ وَالْقَدَرُ مَا فِي الْإِرَادَةِ فَقَوْلُهُ: كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ أَيْ بِقَدَرِهِ مَعَ إِرَادَتِهِ، لَا عَلَى مَا يقولون إنه موجب ردا على المشركين. / ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 50] وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) أَيْ إِلَّا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ لَهُ: (كُنْ) هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ الظَّاهِرُ، وَعَلَى هَذَا فاللَّه إِذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ: (كُنْ) فَهُنَاكَ شَيْئَانِ: الْإِرَادَةُ وَالْقَوْلُ، فَالْإِرَادَةُ قَدَرٌ، وَالْقَوْلُ قَضَاءٌ، وَقَوْلُهُ: واحِدَةٌ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: بَيَانُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى تَكْرِيرِ الْقَوْلِ إِشَارَةً إِلَى نَفَاذِ الْأَمْرِ ثَانِيهِمَا: بَيَانُ عَدَمِ اخْتِلَافِ الْحَالِ، فَأَمْرُهُ عِنْدَ خَلْقِ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ كَأَمْرِهِ عِنْدَ خَلْقِ النَّمْلِ الصَّغِيرِ، فَأَمْرُهُ عِنْدَ الْكُلِّ وَاحِدٌ وَقَوْلُهُ: كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ تَشْبِيهُ الْكَوْنِ لَا تَشْبِيهَ الْأَمْرِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَمْرُنَا وَاحِدَةٌ، فَإِذْنُ الْمَأْمُورُ كَائِنٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْأَمْرِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ صِفَةَ مَدْحٍ يَلِيقُ بِهِ، فَإِنَّ كَلِمَةَ (كُنْ) شَيْءٌ أَيْضًا يُوجَدُ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ هَذَا هُوَ التَّفْسِيرُ الظَّاهِرُ الْمَشْهُورُ، وَفِيهِ وَجْهٌ ظَاهِرٌ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحُكَمَاءُ، وَهِيَ أَنَّ مَقْدُورَاتِ اللَّه تَعَالَى هِيَ الْمُمْكِنَاتُ يُوجِدُهَا بِقُدْرَتِهِ، وَفِي عَدَمِهَا خِلَافٌ لَا يَلِيقُ بَيَانُهُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ لِطُولِهِ لَا لِسَبَبِ غَيْرِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُمْكِنَاتِ الَّتِي يُوجِدُهَا اللَّه تَعَالَى قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا: أُمُورٌ لَهَا أَجْزَاءٌ مُلْتَئِمَةٌ عِنْدَ الْتِئَامِهَا يَتِمُّ وُجُودُهَا، كَالْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَالْأَجْسَامِ النَّبَاتِيَّةِ والمعدنية وكذلك الأركان الأربعة، والسموات، وَسَائِرُ الْأَجْسَامِ وَسَائِرُ مَا يَقُومُ بِالْأَجْسَامِ مِنَ الْأَعْرَاضِ، فَهِيَ كُلُّهَا مُقَدَّرَةٌ لَهُ وَحَوَادِثُ، فَإِنَّ أَجْزَاءَهَا تُوجَدُ أَوَّلًا، ثُمَّ يُوجَدُ فِيهَا التَّرْكِيبُ وَالِالْتِئَامُ بِعَيْنِهَا، فَفِيهَا تَقْدِيرَاتٌ نَظَرًا إِلَى الْأَجْزَاءِ وَالتَّرْكِيبِ وَالْأَعْرَاضِ وَثَانِيهِمَا: أُمُورٌ لَيْسَ لَهَا أَجْزَاءٌ وَمَفَاصِلُ وَمَقَادِيرُ امْتِدَادِيَّةٍ، وَهِيَ الْأَرْوَاحُ الشَّرِيفَةُ الْمُنَوِّرَةُ لِلْأَجْسَامِ، وَقَدْ أَثْبَتَهَا جَمِيعُ الْفَلَاسِفَةِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، وَوَافَقَهُمْ جَمْعٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَقَطَعَ بِهَا كَثِيرٌ مِمَّنْ لَهُ قَلْبٌ مِنْ أَصْحَابِ الرِّيَاضَاتِ وَأَرْبَابِ الْمُجَاهَدَاتِ، فَتِلْكَ الْأُمُورُ وُجُودُهَا وَاحِدٌ لَيْسَ يُوجَدُ أَوَّلًا أَجْزَاءٌ، وَثَانِيًا تَتَحَقَّقُ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ بِخِلَافِ الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ الْقَائِمَةِ بِهَا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا قَالُوا: الْأَجْسَامُ خَلْقِيَّةٌ قَدَرِيَّةٌ، وَالْأَرْوَاحُ إِبْدَاعِيَّةٌ أَمْرِيَّةٌ، وَقَالُوا إِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الْأَعْرَافِ: 54] فَالْخَلْقُ فِي الْأَجْسَامِ وَالْأَمْرُ فِي الْأَرْوَاحِ ثُمَّ قَالُوا: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُظَنَّ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْأَخْبَارِ فَإِنَّهُ صَلَّى

اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّه الْعَقْلُ» ، وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «خَلَقَ اللَّه الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْأَجْسَامِ بِأَلْفَيْ عَامٍ» وَقَالَ تَعَالَى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62] فَالْخَلْقُ أُطْلِقَ عَلَى إِيجَادِ الْأَرْوَاحِ وَالْعَقْلِ لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْخَلْقِ عَلَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ جَائِزٌ، وَإِنَّ الْعَالَمَ بِالْكُلِّيَّةِ حَادِثٌ وَإِطْلَاقُ الْخَلْقِ بِمَعْنَى الْإِحْدَاثِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ فِي حَقِيقَةِ الْخَلْقِ تَقْدِيرٌ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَلَا كَذَلِكَ فِي الْإِحْدَاثِ، وَلَوْلَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ وَإِلَّا لَاسْتَقْبَحَ الْفَلْسَفِيُّ مِنْ أَنْ يَقُولَ الْمَخْلُوقُ قَدِيمٌ كما يستقبح من أن المحدث قديم، فإذن قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَقَ اللَّه الْأَرْوَاحَ بِمَعْنَى أَحْدَثَهَا بِأَمْرِهِ، وَفِي هَذَا الْإِطْلَاقِ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ غَيَّرَ الْعِبَارَةَ وَقَالَ فِي الْأَرْوَاحِ أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ/ بِالْأَمْرِ وَالْأَجْسَامِ بِالْخَلْقِ لَظَنَّ الَّذِي لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّه الْعِلْمَ الْكَثِيرَ أَنَّ الرُّوحَ لَيْسَتْ بِمَخْلُوقَةٍ بِمَعْنَى لَيْسَتْ بِمُحْدَثَةٍ فَكَانَ يَضِلُّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ رَحْمَةً، وقالوا: إذا نظرت إلى قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاءِ: 85] وَإِلَى قَوْلَهُ تَعَالَى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [الحديد: 4] وَإِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً [الْمُؤْمِنُونَ: 14] تَجِدُ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالْخَلْقِ وَالْأَرْوَاحِ وَالْأَشْبَاحِ حَيْثُ جَعَلَ لِخَلْقِ بَعْضِ الْأَجْسَامِ زَمَانًا مُمْتَدًّا هُوَ سِتَّةُ أَيَّامٍ وَجَعَلَ لِبَعْضِهَا تَرَاخِيًا وَتَرْتِيبًا بقوله: ثُمَّ خَلَقْنَا وبقوله: فَخَلَقْنَا وَلَمْ يَجْعَلْ لِلرُّوحِ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُظَنَّ بِقَوْلِنَا هَذَا إِنَّ الْأَجْسَامَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ زَمَانٍ مُمْتَدٍّ وَأَيَّامٍ حَتَّى يُوجِدَهَا اللَّه تَعَالَى فِيهِ، بَلِ اللَّه مختار إن أراد خلق السموات وَالْأَرْضَ وَالْإِنْسَانَ وَالدَّوَابَّ وَالشَّجَرَ وَالنَّبَاتَ فِي أَسْرَعِ مِنْ لَمْحِ الْبَصَرِ لَخَلَقَهَا كَذَلِكَ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا مَوْجُودَاتٍ حَصَلَتْ لَهَا أَجْزَاءٌ وَوُجُودُ أَجْزَائِهَا قَبْلَ وُجُودِ التَّرْكِيبِ فِيهَا وَوُجُودُهَا بَعْدَ وُجُودِ الْأَجْزَاءِ وَالتَّرْكِيبِ فِيهَا فَهِيَ سِتَّةٌ ثَلَاثَةٌ فِي ثَلَاثَةٍ كَمَا يَخْلُقُ اللَّه الْكَسْرَ وَالِانْكِسَارَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَلَهُمَا تَرْتِيبٌ عَقْلِيٌّ. فَالْجِسْمُ إِذَنْ كَيْفَمَا فَرَضْتَ خَلْقَهُ فَفِيهِ تَقْدِيرُ وُجُودَاتٍ كُلُّهَا بِإِيجَادِ اللَّه عَلَى التَّرْتِيبِ وَالرُّوحُ لَهَا وُجُودٌ وَاحِدٌ بِإِيجَادِ اللَّه تَعَالَى هَذَا قَوْلُهُمْ. وَلْنَذْكُرْ مَا فِي الْخَلْقِ والأمر من الوجود الْمَنْقُولَةِ وَالْمَعْقُولَةِ أَحَدُهَا: مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ هُوَ كَلِمَةُ: كُنْ وَالْخَلْقَ هُوَ مَا بِالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ ثَانِيهَا: مَا ذَكَرُوا فِي الْأَجْسَامِ أَنَّ مِنْهَا الْأَرْوَاحَ ثَالِثُهَا: هُوَ أَنَّ اللَّه لَهُ قُدْرَةٌ بِهَا الْإِيجَادُ وَإِرَادَةٌ بِهَا التَّخْصِيصُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُحْدَثَ لَهُ وُجُودٌ مُخْتَصٌّ بِزَمَانٍ وَلَهُ مِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ فَوُجُودُهُ بِالْقُدْرَةِ وَاخْتِصَاصُهُ بِالزَّمَانِ بِالْإِرَادَةِ فَالَّذِي بِقُدْرَتِهِ خَلْقٌ وَالَّذِي بِالْإِرَادَةِ أَمْرٌ حَيْثُ يُخَصِّصُهُ بِأَمْرِهِ بِزَمَانٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَنْقُولُ وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا الْمَنْقُولُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] جَعَلَ كُنْ لِتَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ: كُنْ لَيْسَ هُوَ الْحَرْفَ وَالْكَلِمَةَ الَّتِي مِنَ الْكَافِ وَالنُّونِ، لِأَنَّ الْحُصُولَ أَسْرَعُ مِنْ كَلِمَةِ كُنْ إِذَا حَمَلْتَهَا عَلَى حَقِيقَةِ اللَّفْظِ فَإِنَّ الْكَافَ وَالنُّونَ لَا يُوجِدُ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ إِلَّا التَّرْتِيبَ فَفِي كُنْ لَفْظُ زَمَانٍ وَالْكَوْنُ بَعْدُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَيَكُونُ بِالْفَاءِ فَإِذَنْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِكُنْ حَقِيقَةَ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ لَكَانَ الْحُصُولُ بَعْدَهُ بِزَمَانٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ الْحَرْفَانِ مَعًا وَلَيْسَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى كَكَلَامِنَا يَحْتَاجُ إِلَى الزَّمَانِ قُلْنَا: قَدْ جَعَلَ لَهُ مَعْنًى غَيْرَ مَا نَفْهَمُهُ مِنَ اللَّفْظِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ بِالزَّمَانِ لَيْسَ لِمَعْنًى وَعِلَّةٍ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْخَلْقَ وَالْإِيجَادَ لِحِكْمَةٍ وَقَالَ: بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَرْضَ لِتَكُونَ مَقَرَّ النَّاسِ أَوْ مِثْلَ هَذَا مِنَ الْحُكْمِ وَلَمْ يِمْكِنْهُ أَنْ يَقُولُ: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي الزَّمَانِ الْمَخْصُوصِ لِتَكُونَ مَقَرًّا لَهُمْ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَقَهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ لَكَانَتْ أَيْضًا مَقَرًّا لَهُمْ فَإِذَنِ التَّخْصِيصُ لَيْسَ لِمَعْنًى فَهُوَ لِمَحْضِ الْحِكْمَةِ فَهُوَ يُشْبِهُ أَمْرَ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ الَّذِي يَأْمُرُ وَلَا يُقَالُ لَهُ: لِمَ أَمَرْتَ وَلِمَ فَعَلْتَ وَلَا يُعْلَمُ مَقْصُودُ الْآمِرِ إِلَّا مِنْهُ رَابِعُهَا: هُوَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمَخْلُوقَةَ لَا تَنْفَكُّ عَنْ أَوْصَافٍ ثَلَاثَةٍ أَوْ عَنْ وَصْفَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ، مِثَالُهُ الْجِسْمُ لَا بُدَّ لَهُ بَعْدَ

خَلْقِهِ أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ/ سَاكِنًا أَوْ مُتَحَرِّكًا فَإِيجَادُهُ أولا يخلقه وَمَا هُوَ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ إِلَى أَنْ قَالَ: مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ [الأعراف: 54] فجعل مالها بَعْدَ خَلْقِهَا مِنَ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَغَيْرِهِمَا بِأَمْرِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَقْلُ فَقَالَ لَهُ أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ ثُمَّ قَالَ لَهُ أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ» جَعَلَ الْخَلْقَ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْأَمْرَ فِي الْوَصْفِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ قَالَ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ [السجدة: 4، 5] وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَهُ خَامِسُهَا: مَخْلُوقَاتُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا: خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَسْرَعِ مَا يَكُونُ كَالْعَقْلِ وَغَيْرِهِ وَثَانِيهِمَا: خَلَقَهُ بِمُهْلَةٍ كَالسَّمَاوَاتِ وَالْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، فَالْمَخْلُوقُ سَرِيعًا أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ وَالْمَخْلُوقُ بِمُهْلَةٍ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْخَلْقَ، وَهَذَا مِثْلُ الْوَجْهِ الثَّانِي. سَادِسُهَا: مَا قاله فخر الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [فُصِّلَتْ: 11] وَهُوَ أَنَّ الْخَلْقَ هُوَ التَّقْدِيرُ وَالْإِيجَادُ بَعْدَهُ بَعْدِيَّةٌ تَرْتِيبِيَّةٌ لَا زَمَانِيَّةٌ فَفِي عِلْمِ اللَّهِ تعالى أن السموات تكون سبع سموات فِي يَوْمَيْنِ تَقْدِيرِيَّةٌ فَهُوَ قَدَّرَ خَلْقَهُ كَمَا عَلِمَ وَهُوَ إِيجَادٌ فَالْأَوَّلُ خَلْقٌ وَالثَّانِي وَهُوَ الْإِيجَادُ أَمْرٌ وَأُخِذَ هَذَا مِنَ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ قَالَ الشَّاعِرُ: وَبَعْضُ النَّاسِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي أَيْ يُقَدِّرُ وَلَا يَقْطَعُ وَلَا يَفْصِلُ كَالْخَيَّاطِ الَّذِي يُقَدِّرُ أَوَّلًا وَيَقْطَعُ ثَانِيًا وَهُوَ قَرِيبٌ إِلَى اللُّغَةِ لَكِنَّهُ بَعِيدُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْقُرْآنِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيْثُ ذَكَرَ الْخَلْقَ أَرَادَ الْإِيجَادَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ [العنكبوت: 61] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ [يس: 77] وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّا قَدَّرْنَا أَنَّهُ سَيُوجَدُ مِنْهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. سَابِعُهَا: الْخَلْقُ هُوَ الْإِيجَادُ ابْتِدَاءً وَالْأَمْرُ هُوَ مَا بِهِ الْإِعَادَةُ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ أَوَّلًا بِمُهْلَةٍ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَبْعَثُهُمْ فِي أَسْرَعِ مِنْ لَحْظَةٍ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ [الصافات: 19] وقوله: صَيْحَةً واحِدَةً [يس: 29] ونَفْخَةٌ واحِدَةٌ [الْحَاقَّةِ: 13] وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَرِ: 49] إِشَارَةٌ إِلَى الْوَحْدَانِيَّةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ إِلَى الْحَشْرِ فَكَأَنَّهُ بَيَّنَ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ وَالْأَصْلَ الْآخِرَ بِالْآيَاتِ. ثَامِنُهَا: الْإِيجَادُ خَلْقٌ وَالْإِعْدَامُ أَمْرٌ، يَعْنِي يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ الْغِلَاظِ الشِّدَادِ أَهْلِكُوا وَافْعَلُوا فَلَا يعصون الله ما أمرهم ولا يقفون الِامْتِثَالَ عَلَى إِعَادَةِ الْأَمْرِ مَرَّةً أُخْرَى فَأَمْرُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً يَعْقُبُهُ الْعَدَمُ وَالْهَلَاكُ. وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وهي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْإِيجَادَ الَّذِي هُوَ مِنَ الرَّحْمَةِ بِيَدِهِ، وَالْإِهْلَاكُ يُسَلِّطُ عَلَيْهِ رُسُلَهُ وَمَلَائِكَتَهُ، وَجَعَلَ الْمَوْتَ بِيَدِ مَلَكِ الْمَوْتِ وَلَمْ يَجْعَلِ الْحَيَاةَ بِيَدِ مَلَكٍ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِهَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ بَيَّنَ النِّعْمَةَ بِقَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49] وَبَيَّنَ قُدْرَتَهُ عَلَى النِّقْمَةِ فَقَالَ: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ. وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 18] وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ [المؤمنون: 27] عِنْدَ الْعَذَابِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً [هُودٍ: 66] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها [هُودٍ: 82] وَكَمَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْحِكَايَاتِ الْعَذَابَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَبَيَّنَ الإهلاك به كذلك هاهنا/ وَلَا سِيَّمَا إِذَا نَظَرْتَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحِكَايَاتِ وَوَجَدْتَهَا عَيْنَ تِلْكَ الْحِكَايَاتِ يُقَوِّي هَذَا الْقَوْلَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 51] يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ تَاسِعُهَا: فِي مَعْنَى اللَّمْحِ بِالْبَصَرِ

[سورة القمر (54) : آية 51]

وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: النَّظَرُ بِالْعَيْنِ يُقَالُ: لَمَحْتُهُ بِبَصَرِي كَمَا يُقَالُ: نَظَرْتُ إِلَيْهِ بِعَيْنِي وَالْبَاءُ حِينَئِذٍ كَمَا يُذْكَرُ فِي الْآيَاتِ فَيُقَالُ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَاخْتَارَ هَذَا الْمِثَالَ لِأَنَّ النَّظَرَ بِالْعَيْنِ أَسْرَعُ حَرَكَةٍ تُوجَدُ فِي الْإِنْسَانِ لِأَنَّ الْعَيْنَ وُجِدَ فِيهَا أُمُورٌ تُعِينُ عَلَى سُرْعَةِ الْحَرَكَةِ أَحَدُهَا: قُرْبُ الْمُحَرِّكِ مِنْهَا فَإِنَّ الْمُحَرِّكَ الْعَصَبِيَّةُ وَمَنْبَتُهَا الدِّمَاغُ وَالْعَيْنُ فِي غَايَةِ الْقُرْبِ مِنْهُ ثَانِيهَا: صِغَرُ حَجْمِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْصَى عَلَى الْمُحَرِّكِ وَلَا تَثْقُلُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْعِظَامِ ثَالِثُهَا: اسْتِدَارَةُ شَكْلِهَا فَإِنَّ دَحْرَجَةَ الْكُرَةِ أَسْهَلُ مِنْ دَحْرَجَةِ الْمُرَبَّعِ وَالْمُثَلَّثِ رَابِعُهَا: كَوْنُهَا فِي رُطُوبَةٍ مَخْلُوقَةٍ فِي الْعُضْوِ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُهَا وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ الْمَرْئِيَّاتِ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ بِخِلَافِ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ وَالْمَقَاصِدِ الَّتِي تُقْصَدُ بِالْأَرْجُلِ وَالْمَذُوقَاتِ، فَلَوْلَا سُرْعَةُ حَرَكَةِ الْآلَةِ الَّتِي بِهَا إِدْرَاكُ الْمُبْصَرَاتِ لَمَا وَصَلَ إِلَى الْكُلِّ إِلَّا بَعْدَ طُولِ زَمَانٍ. وَثَانِيهِمَا: اللَّمْحُ بِالْبَصَرِ مَعْنَاهُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ بِالْبَصَرِ وَيَمُرُّ بِهِ سَرِيعًا وَالْبَاءُ حِينَئِذٍ لِلْإِلْصَاقِ لَا لِلِاسْتِعَانَةِ كَقَوْلِهِ: مَرَرْتُ بِهِ وَذَلِكَ فِي غَايَةِ السُّرْعَةِ، وَقَوْلُهُ: بِالْبَصَرِ فِيهِ فَائِدَةٌ وَهِيَ غَايَةُ السُّرْعَةِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: كَلَمْحِ الْبَرْقِ حِينَ بَرَقَ وَيَبْتَدِئُ حَرَكَتَهُ مِنْ مَكَانٍ وَيَنْتَهِي إِلَى مَكَانٍ آخَرَ فِي أَقَلِّ زَمَانٍ يُفْرَضُ لَصَحَّ، لَكِنْ مَعَ هَذَا فَالْقَدْرُ الَّذِي مُرُورُهُ يَكُونُ بِالْبَصَرِ أَقَلُّ مِنَ الَّذِي يَكُونُ مِنْ مُبْتَدَاهُ إِلَى مُنْتَهَاهُ، فَقَالَ: كَلَمْحٍ لَا كَمَا قِيلَ: مِنَ الْمَبْدَأِ إِلَى الْمُنْتَهَى بَلِ الْقَدْرُ الَّذِي يَمُرُّ بِالْبَصَرِ وَهُوَ غَايَةُ الْقِلَّةِ ونهاية السرعة. ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 51] وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَالْأَشْيَاعُ الْأَشْكَالُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أن قوله: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ [القمر: 50] تهديد بالإهلاك والثاني ظاهر. وقوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 52] وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ غَيْرُ مُقْتَصِرٍ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ بَلِ الْإِهْلَاكُ هُوَ الْعَاجِلُ وَالْعَذَابُ الْآجِلُ الَّذِي هُوَ مُعَدٌّ لَهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوهُ، مَكْتُوبٌ عَلَيْهِمْ، وَالزُّبُرُ هِيَ كُتُبُ الْكَتَبَةِ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ [الِانْفِطَارِ: 9- 11] وَ: فَعَلُوهُ صِفَةُ شيء والنكرة توصف بالجمل. وقوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 53] وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) تَعْمِيمٌ لِلْحُكْمِ أَيْ لَيْسَتِ الْكِتَابَةُ مُقْتَصِرَةً عَلَى مَا فَعَلُوهُ بَلْ مَا فَعَلَهُ غَيْرُهُمْ أَيْضًا مَسْطُورٌ فَلَا يَخْرُجُ عَنِ الْكُتُبِ صَغِيرَةٌ وَلَا كَبِيرَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ/ إِلَّا فِي كِتابٍ [سَبَأٍ: 3] أَنَّ فِي قَوْلِهِ أَكْبَرُ فَائِدَةً عَظِيمَةً وَهِيَ أَنَّ مَنْ يَكْتُبُ حِسَابَ إِنْسَانٍ فَإِنَّمَا يَكْتُبُهُ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ لِئَلَّا يَنْسَى فَإِذَا جَاءَ بِالْجُمْلَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يَأْمَنُ نِسْيَانَهَا رُبَّمَا يَتْرُكُ كِتَابَتَهَا وَيَشْتَغِلُ بِكِتَابَةِ مَا يَخَافُ نسيانه، فلما قال: وَلا أَكْبَرُ أَشَارَ إِلَى الْأُمُورِ الْعِظَامِ الَّتِي يُؤْمَنُ مِنْ نِسْيَانِهَا أَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ أَيْ لَيْسَتْ كِتَابَتُنَا مِثْلَ كِتَابَتِكُمُ الَّتِي يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا الْأَمْنُ مِنَ النسيان، فكذلك نقول: هاهنا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الْكَهْفِ: 49] وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ قَدَّمَ الصَّغِيرَةَ لِأَنَّهَا أَلْيَقُ بِالتَّثَبُّتِ عِنْدَ الْكِتَابَةِ فَيْبَتَدِئُ بِهَا حِفْظًا عَنِ النِّسْيَانِ فِي عَادَةِ الْخَلْقِ فَأَجْرَى اللَّهُ الذكر على

[سورة القمر (54) : آية 54]

عَادَتِهِمْ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّ كُلًّا وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً يَحْسُنُ الِابْتِدَاءُ به للعموم وعدم الإبهام. ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 54] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) قَدْ ذَكَرْنَا تفسير المتقين والجنات في سور منها: الطُّورِ وأما النهر ففيه قراءات فَتْحُ النُّونِ وَالْهَاءِ كَحَجَرٍ وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ وَيَقُومُ مَقَامَ الْأَنْهَارِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْأَصَحُّ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا شَكَّ أَنَّ كَمَالَ اللَّذَّةِ بِالْبِسْتَانِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ فِيهِ، وَلَيْسَ مِنَ اللَّذَّةِ بِالنَّهَرِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ فِيهِ، بَلْ لَذَّتُهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ النَّهَرِ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَهَرٍ؟ نَقُولُ: قَدْ أَجَبْنَا عَنْ هَذَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الذاريات: 15] فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ، وَقُلْنَا: الْمُرَادُ فِي خِلَالِ الْعُيُونِ، وَفِيمَا بَيْنَهَا مِنَ الْمَكَانِ وَكَذَلِكَ فِي جَنَّاتٍ لِأَنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْأَشْجَارُ الَّتِي تَسْتُرُ شُعَاعَ الشَّمْسِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ [الْمُرْسَلَاتِ: 41] . وَإِذَا كَانَتِ الْجَنَّةُ هِيَ الْأَشْجَارَ السَّاتِرَةَ فَالْإِنْسَانُ لَا يَكُونُ فِي الْأَشْجَارِ وَإِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَهَا أَوْ خِلَالَهَا، فَكَذَلِكَ النَّهَرُ، وَنُزِيدُ هاهنا وَجْهًا آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ فِي جَنَاتٍ وَعِنْدَ نَهَرٍ لِكَوْنِ الْمُجَاوَرَةِ تُحَسِّنُ إِطْلَاقَ اللَّفْظِ الَّذِي لَا يَحْسُنُ إِطْلَاقُهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُجَاوَرَةِ كَمَا قَالَ: «عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا» وَقَالُوا: تَقَلَّدْتُ سَيْفًا وَرُمْحًا، وَالْمَاءُ لَا يُعْلَفُ وَالرُّمْحُ لَا يُتَقَلَّدُ وَلَكِنْ لِمُجَاوَرَةِ التِّبْنِ وَالسَّيْفِ حَسُنَ الْإِطْلَاقُ فَكَذَلِكَ هُنَا لَمْ يَأْتِ فِي الثَّانِي بِمَا أَتَى بِهِ فِي الْأَوَّلِ مِنْ كَلِمَةِ فِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَحَدَّ النَّهْرَ مَعَ جَمْعِ الجنات وجمع الأنهار وفي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [البقرة: 25] إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَوَاضِعِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ: أَمَّا عَلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ فَنَقُولُ: لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى فِي نَهَرٍ فِي خِلَالٍ فَلَمْ يَكُنْ لِلسَّامِعِ حَاجَةٌ إِلَى سَمَاعِ الْأَنْهَارِ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ النَّهَرَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ لَهُ خِلَالٌ. وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَلَوْ لَمْ يَجْمَعِ الْأَنْهَارَ لَجَازَ أَنْ يُفْهَمَ أَنَّ فِي الْجَنَّاتِ كُلِّهَا نَهَرًا وَاحِدًا كَمَا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ يَكُونُ نَهَرٌ وَاحِدٌ مُمْتَدٌّ جَارٍ فِي جَنَّاتٍ كَثِيرَةٍ وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَنَقُولُ: الْإِنْسَانُ يَكُونُ فِي جَنَّاتٍ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْجَمْعَ فِي جَنَّاتٍ إِشَارَةٌ إلى سعتها وكثرة/ أشجارها وتنوعها والتوحيد عند ما قَالَ: مَثَلُ الْجَنَّةِ [مُحَمَّدٍ: 15] وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التَّوْبَةِ: 111] لِاتِّصَالِ أَشْجَارِهَا وَلِعَدَمِ وُقُوعِ الْقِيعَانِ الْخَرِبَةِ بَيْنَهَا، وَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَالْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا إِذَا كَانَ فِي بَيْتٍ فِي دَارٍ وَتِلْكَ الدَّارُ فِي مَحَلَّةٍ، وَتِلْكَ الْمَحَلَّةُ فِي مَدِينَةٍ، يُقَالُ إِنَّهُ فِي بَلْدَةِ كَذَا، وَأَمَّا الْقُرْبُ فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا بَيْنَ نَهْرَيْنِ بِحَيْثُ يَكُونُ قُرْبُهُ مِنْهُمَا عَلَى السَّوَاءِ يُقَالُ إِنَّهُ جَالِسٌ عِنْدَ نَهْرَيْنِ، فَإِذَا قَرُبَ مِنْ أَحَدِهِمَا يُقَالُ مِنْ عِنْدِ أَحَدِ نَهْرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، لَكِنْ فِي دَارِ الدُّنْيَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ ثَلَاثَةِ أَنْهَارٍ وَإِنَّمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ نَهْرَيْنِ، وَالثَّالِثُ مِنْهُ أَبْعَدُ مِنَ النَّهْرَيْنِ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ يكون في زمان واحد عند أَنْهَارٍ واللَّه تَعَالَى يَذْكُرُ أَمْرَ الْآخِرَةِ عَلَى مَا نَفْهَمُهُ فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ: عِنْدَ نَهَرٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: وَنَهَرٍ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي فِي نَهَرٍ لَكِنْ ذَلِكَ لِلْمُجَاوَرَةِ كَمَا فِي تَقَلَّدْتُ سَيْفًا وَرُمْحًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَحَقِيقَتُهُ مَفْهُومَةٌ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْجَنَّةَ الْوَاحِدَةَ قَدْ يَجْرِي فِيهَا أَنْهَارٌ كَثِيرَةٌ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ، فَهَذَا مَا فِيهِ مَعَ أَنَّ أَوَاخِرَ

[سورة القمر (54) : آية 55]

الْآيَاتِ يَحْسُنُ فِيهَا التَّوْحِيدُ دُونَ الْجَمْعِ، وَيُحْتَمَلُ أن يقال وَنَهَرٍ التَّنْكِيرُ لِلتَّعْظِيمِ. وَفِي الْجَنَّةِ نَهَرٌ وَهُوَ أَعْظَمُ الْأَنْهُرِ وَأَحْسَنُهَا، وَهُوَ الَّذِي مِنَ الْكَوْثَرِ، وَمِنْ عَيْنِ الرِّضْوَانِ وَكَانَ الْحُصُولُ عِنْدَهُ شَرَفًا وَغِبْطَةً وَكُلُّ أَحَدٍ يَكُونُ لَهُ مَقْعَدٌ عِنْدَهُ وَسَائِرُ الْأَنْهَارُ تَجْرِي فِي الْجَنَّةِ وَيَرَاهَا أَهْلُهَا وَلَا يَرَوْنَ الْقَاعِدَ عِنْدَهَا فَقَالَ: فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ أَيْ ذَلِكَ النَّهَرُ الَّذِي عِنْدَهُ مَقَاعِدُ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ [الْبَقَرَةِ: 249] لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَعْلُومٍ لَهُمْ، وَفِي هَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ أَيْضًا وَلَا يُحْتَاجُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ أَنْ نَقُولَ: نَهَرٌ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ لكونه اسم جنس. المسألة الثالثة: قال هاهنا: وَنَهَرٍ وَقَالَ فِي الذَّارِيَاتِ: وَعُيُونٍ [الذَّارِيَاتِ: 15] فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ نَقُولُ: إِنَّا إِنْ قُلْنَا فِي نَهَرٍ مَعْنَاهُ فِي خِلَالٍ فَالْإِنْسَانُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا فِي خِلَالِ عُيُونٍ كَثِيرَةٍ تُحِيطُ بِهِ إِذَا كَانَ عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ وَالْعُيُونُ تَنْفَجِرُ مِنْهُ وَتَجْرِي فَتَصِيرُ أَنْهَارًا عِنْدَ الِامْتِدَادِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وفي خِلَالِ أَنْهَارٍ وَإِنَّمَا هِيَ نَهْرَانِ فَحَسْبُ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ عِنْدَ نَهَرٍ فَكَذَلِكَ وإن قلنا: ... «1» أي عَظِيمٌ عَلَيْهِ مَقَاعِدُ، فَنَقُولُ: يَكُونُ ذَلِكَ النَّهَرُ مُمْتَدًّا وَاصِلًا إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَلَهُ عِنْدَهُ مقعد عيون كَثِيرَةٌ تَابِعَةٌ، فَالنَّهَرُ لِلتَّشْرِيفِ وَالْعُيُونُ لِلتَّفَرُّجِ وَالتَّنَزُّهِ مَعَ أَنَّ النَّهَرَ الْعَظِيمَ يَجْتَمِعُ مَعَ الْعُيُونِ الْكَثِيرَةِ فَكَانَ النَّهَرُ مَعَ وَحْدَتِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْعُيُونِ مَعَ كَثْرَتِهَا وَهَذَا كُلُّهُ مَعَ النَّظَرِ إلى أواخر الآيات هاهنا وهناك يحسن ذكر لفظ الواحد هاهنا وَالْجَمْعُ هُنَاكَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُرِئَ: فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ عَلَى أَنَّهَا جَمْعُ نَهَارٍ إِذْ لَا لَيْلَ هُنَاكَ وَعَلَى هَذَا فَكَلِمَةُ فِي حَقِيقَةٌ فِيهِ فَقَوْلُهُ: فِي جَنَّاتٍ ظَرْفُ مَكَانٍ، وَقَوْلُهُ: وَنَهَرٍ أَيْ وَفِي نَهَرٍ إِشَارَةٌ إِلَى ظَرْفِ زمان، وقرئ وَنَهَرٍ بِسُكُونِ الْهَاءِ وَضَمِّ النُّونِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ نَهَرٍ كَأُسْدٍ فِي جَمْعِ أَسَدٍ نَقَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: نُهُرٌ بِضَمِّ الْهَاءِ جَمْعُ نهر كثمر في جمع ثمر. / ثم قال تعالى: [سورة القمر (54) : آية 55] فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ، كَيْفَ مَخْرَجُهُ؟ نَقُولُ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى صُورَةِ بَدَلٍ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: فُلَانٌ فِي بَلْدَةِ كَذَا فِي دَارِ كَذَا وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَقْعَدِ مِنْ جُمْلَةِ الْجَنَّاتِ مَوْضِعًا مُخْتَارًا لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى مَا فِي الْجَنَّاتِ مِنَ الْمَوَاضِعِ وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: عِنْدَ مَلِيكٍ لِأَنَّا بَيَّنَّا فِي أَحَدِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْمُرَادَ من قوله: فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [القمر: 54] فِي جَنَّاتٍ عِنْدَ نَهَرٍ فَقَالَ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: عِنْدَ مَلِيكٍ صِفَةُ مَقْعَدِ صِدْقٍ تَقُولُ دِرْهَمٌ في ذمة ملئ خَيْرٌ مِنْ دِينَارٍ فِي ذِمَّةِ مُعْسِرٍ، وَقَلِيلٌ عِنْدَ أَمِينٍ أَفْضَلُ مِنْ كَثِيرٍ عِنْدَ خَائِنٍ فَيَكُونُ صِفَةً وَإِلَّا لَمَا حَسُنَ جَعْلُهُ مُبْتَدَأً ثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ كَالصِّفَةِ لِجَنَّاتٍ وَنَهَرٍ أَيْ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ مَوْصُوفَيْنِ بِأَنَّهُمَا فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ، تَقُولُ: وَقْفَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّه أَفْضَلُ مِنْ كَذَا وَ: عِنْدَ مَلِيكٍ صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ يَدُلُّ عَلَى لُبْثٍ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَجْلِسُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَعَدَ وَجَلَسَ لَيْسَا عَلَى مَا يُظَنُّ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا بَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ إِلَّا لِلْبَارِعِ، وَالْفَرْقُ هُوَ أَنَّ

_ (1) هنا كلمة محذوفة بالأصل لم نهتد إليها.

الْقُعُودَ جُلُوسٌ فِيهِ مُكْثٌ حَقِيقَةً وَاقْتِضَاءً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ الزَّمَنَ يُسَمَّى مَقْعَدًا وَلَا يُسَمَّى مَجْلِسًا لِطُولِ الْمُكْثِ حَقِيقَةً وَمِنْهُ سُمِّيَ قَوَاعِدُ الْبَيْتِ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ قَوَاعِدُ وَلَا يُقَالُ لَهُنَّ: جَوَالِسُ لِعَدَمِ دَلَالَةِ الْجُلُوسِ عَلَى الْمُكْثِ الطَّوِيلِ فَذَكَرَ الْقَوَاعِدَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِكَوْنِهِ مُسْتَقِرًّا بَيْنَ الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَيُقَالُ لِلْمَرْكُوبِ مِنَ الْإِبِلِ قَعُودٌ لِدَوَامِ اقْتِعَادِهِ اقْتِضَاءً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً فَهُو لِصَوْنِهِ عَنِ الْحَمْلِ وَاتِّخَاذِهِ لِلرُّكُوبِ كَأَنَّهُ وُجِدَ فِيهِ نَوْعُ قُعُودٍ دَائِمٍ اقْتَضَى ذَلِكَ وَلَمْ يُرَدْ لِلْإِجْلَاسِ الثَّانِي: النَّظَرُ إِلَى تَقَالِيبِ الْحُرُوفِ فَإِنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى ق ع د وَقَلَبْتَهَا تَجِدُ مَعْنَى الْمُكْثِ فِي الْكُلِّ فَإِذَا قَدَّمْتَ الْقَافَ رَأَيْتَ قَعَدَ وَقَدَعَ بِمَعْنًى وَمِنْهُ تَقَادَعَ الْفَرَاشُ بِمَعْنَى تَهَافَتَ، وَإِذَا قَدَّمْتَ الْعَيْنَ رَأَيْتَ عَقَدَ وَعَدَقَ بِمَعْنَى الْمُكْثِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَفِي عَدَقَ لِخَفَاءٍ يُقَالُ: أَعْدِقْ بِيَدِكَ الدَّلْوَ فِي الْبِئْرِ إِذَا أَمَرَهُ بِطَلَبِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ فِيهَا وَالْعَوْدَقَةُ خَشْبَةٌ عَلَيْهَا كُلَّابٌ يَخْرُجُ مَعَهُ الدَّلْوُ الْوَاقِعُ فِي الْبِئْرِ، وَإِذَا قَدَّمْتَ الدَّالَ رَأَيْتَ دَقَعَ وَدَعَقَ وَالْمُكْثُ فِي الدَّقْعِ ظَاهِرٌ وَالدَّقْعَاءُ هِيَ التُّرَابُ الْمُلْتَصِقُ بِالْأَرْضِ وَالْفَقْرُ الْمُدْقَعُ هُوَ الَّذِي يُلْصَقُ صَاحِبُهُ بِالتُّرَابِ. وَفِي دَعَقَ أَيْضًا إِذِ الدَّعْقُ مَكَانٌ تَطَؤُهُ الدَّوَابُّ بِحَوَافِرِهَا فَيَكُونُ صَلْبًا أَجْزَاؤُهُ مُتَدَاخِلٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ لَا يَتَحَرَّكُ شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ مَوْضِعِهِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: الِاسْتِعْمَالَاتُ فِي الْقُعُودِ إِذَا اعْتُبِرَتْ ظَهَرَ مَا ذَكَرْنَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النِّسَاءِ: 95] وَالْمُرَادُ الَّذِي لَا يَكُونُ بَعْدَهُ اتِّبَاعٌ وَقَالَ تَعَالَى: مَقاعِدَ لِلْقِتالِ [آلِ عِمْرَانَ: 121] مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ اللَّهَ/ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ [الصَّفِّ: 4] فَأَشَارَ إِلَى الثَّبَاتِ الْعَظِيمِ. وَقَالَ تَعَالَى: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الْأَنْفَالِ: 45] فَالْمَقَاعِدُ إِذَنْ هِيَ الْمَوَاضِعُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْمُقَاتِلُ بِثَبَاتٍ وَمُكْثٍ وَإِطْلَاقُ مَقْعَدَةٍ عَلَى الْعُضْوِ الَّذِي عَلَيْهِ الْقُعُودُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْجُلُوسِ وَالْقُعُودِ حَصَلَ لَكَ فَوَائِدُ مِنْهَا هاهنا فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى دَوَامِ الْمُكْثِ وَطُولِ اللُّبْثِ، وَمِنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق: 17] فَإِنَّ الْقَعِيدَ بِمَعْنَى الْجَلِيسِ وَالنَّدِيمِ، ثُمَّ إِذَا عُرِفَ هَذَا وَقِيلَ لِلْمُفَسِّرِينَ الظَّاهِرِينَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي اخْتِيَارِ لَفْظِ الْقَعِيدِ يدل لَفْظِ الْجَلِيسِ مَعَ أَنَّ الْجَلِيسَ أَشْهَرُ؟ يَكُونُ جَوَابُهُمْ أَنَّ آخِرَ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] ولَدَيَّ عَتِيدٌ [ق: 23] وَقَوْلِهِ: جَبَّارٍ عَنِيدٍ [هُودٍ: 59] يُنَاسِبُ القعيد، ولا الْجَلِيسَ وَإِعْجَازُ الْقُرْآنِ لَيْسَ فِي السَّجْعِ، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى مَا ذُكِرَ تَبَيَّنَ لَكَ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ حِكْمِيَّةٌ فِي وَضْعِ اللَّفْظِ الْمُنَاسِبِ لِأَنَّ الْقَعِيدَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا لَا يُفَارِقَانِهِ وَيُدَاوِمَانِ الْجُلُوسَ مَعَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْجِزُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّاعِرَ يَخْتَارُ اللَّفْظَ الْفَاسِدَ لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ وَالسَّجْعِ وَيَجْعَلُ الْمَعْنَى تَبَعًا لِلَّفْظِ، واللَّه تَعَالَى بَيَّنَ الْحِكْمَةَ عَلَى مَا يَنْبَغِي وَجَاءَ بِاللَّفْظِ عَلَى أَحْسَنِ مَا يَنْبَغِي، وَفَائِدَةٌ أُخْرَى فِي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا [الْمُجَادَلَةِ: 11] فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَافْسَحُوا إشارة إلى الحركة، وقوله: فَانْشُزُوا إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ الْجُلُوسِ فَذَكَرَ الْمَجْلِسَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مَوْضِعُ جُلُوسٍ فَلَا يَجِبُ مُلَازَمَتُهُ وَلَيْسَ بِمَقْعَدٍ حَتَّى لَا يُفَارِقُونَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مَقْعَدِ صِدْقٍ، أَيْ صَالِحٍ يُقَالُ: رَجُلُ صِدْقٍ لِلصَّالِحِ وَرَجُلُ سَوْءٍ لِلْفَاسِدِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ: إِنَّا فَتَحْنا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ [الْفَتْحِ: 12] ، وَثَانِيهِمَا: الصِّدْقُ الْمُرَادُ مِنْهُ ضِدُّ الْكَذِبِ، وَعَلَى هذا ففيه ووجهان الْأَوَّلُ: مَقْعَدُ صِدْقِ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ وَهُوَ اللَّه وَرَسُولُهُ الثَّانِي: مَقْعَدٌ نَالَهُ مَنْ صَدَقَ فَقَالَ: بِأَنَّ اللَّه وَاحِدٌ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَقْعَدٌ لَا

يُوجَدُ فِيهِ كَذِبٌ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى صَادِقٌ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ وَمَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ امْتَنَعَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ لِأَنَّ مَظَنَّةَ الْكَذِبِ الْجَهْلُ وَالْوَاصِلُ إِلَيْهِ، يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ وَيَسْتَغْنِي بِفَضْلِ اللَّه عَنْ أَنْ يَكْذِبَ لِيَسْتَفِيدَ بِكَذِبِهِ شَيْئًا فَهُوَ مَقْعَدُ صِدْقٍ وَكَلِمَةُ عِنْدَ قَدْ عَرَفْتَ مَعْنَاهَا وَالْمُرَادُ مِنْهُ قُرْبُ الْمَنْزِلَةِ وَالشَّأْنِ لَا قُرْبُ الْمَعْنَى وَالْمَكَانِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ مِنَ الْمُلُوكِ لَذِيذَةٌ كُلَّمَا كَانَ الْمَلِكُ أَشَدَّ اقْتِدَارًا كَانَ الْمُتَقَرِّبُ مِنْهُ أَشَدَّ الْتِذَاذًا وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مُخَالَفَةِ مَعْنَى الْقُرْبِ مِنْهُ مِنْ مَعْنَى الْقُرْبِ مِنَ الْمُلُوكِ، فَإِنَّ الْمُلُوكَ يُقَرِّبُونَ مَنْ يَكُونُ مِمَّنْ يُحِبُّونَهُ وَمِمَّنْ يرهبونه، مخالفة أَنْ يَعْصُوا عَلَيْهِ وَيَنْحَازُوا إِلَى عَدُوِّهِ فَيَغْلِبُونَهُ، واللَّه تَعَالَى قَالَ: مُقْتَدِرٍ لَا يُقَرِّبُ أَحَدًا إِلَّا بِفَضْلِهِ. وَالْحَمْدُ للَّه وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا محمد خير خلقه وآله وصحبه وسلامه.

سورة الرحمن

بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم سورة الرحمن خمسون وخمس آيات مكية [سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) [في قوله تعالى الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ] اعلم أولا أَنَّ مُنَاسَبَةَ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى افْتَتَحَ السُّورَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ بِذِكْرِ مُعْجِزَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْعِزَّةِ وَالْجَبَرُوتِ وَالْهَيْبَةِ وَهُوَ انْشِقَاقُ الْقَمَرِ، فَإِنَّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى شَقِّ الْقَمَرِ يَقْدِرُ عَلَى هَدِّ الْجِبَالِ وَقَدِّ الرِّجَالِ، وَافْتَتَحَ هَذِهِ السُّورَةَ بِذِكْرِ مُعْجِزَةٍ تَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ وَالرَّحَمُوتِ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، فَإِنَّ شِفَاءَ الْقُلُوبِ بِالصَّفَاءِ عَنِ الذُّنُوبِ ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ [القمر: 16] غَيْرَ مَرَّةٍ، وَذَكَرَ فِي السُّورَةِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرَّحْمَنِ: 13] مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تِلْكَ السُّورَةَ سُورَةُ إِظْهَارِ الْهَيْبَةِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ سُورَةُ إِظْهَارِ الرَّحْمَةِ، ثُمَّ إِنَّ أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها حَيْثُ قَالَ فِي آخِرِ تِلْكَ السُّورَةِ: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَرِ: 55] ، وَالِاقْتِدَارُ إِشَارَةٌ إِلَى الْهَيْبَةِ والعظمة وقال هاهنا: الرَّحْمنُ أَيْ عَزِيزٌ شَدِيدٌ مُنْتَقِمٌ مُقْتَدِرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ، رَحْمَنٌ مُنْعِمٌ غَافِرٌ لِلْأَبْرَارِ. ثُمَّ فِي التَّفْسِيرِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي لَفْظِ الرَّحْمنُ أَبْحَاثٌ، وَلَا يَتَبَيَّنُ بَعْضُهَا إِلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ فِي كَلِمَةِ اللَّه فَنَقُولُ: الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّه مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ اسْمُ عَلَمٍ لِمُوجِدِ الْمُمْكِنَاتِ وَعَلَى هَذَا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الرَّحْمنُ أَيْضًا اسْمُ عَلَمٍ لَهُ وَتَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الْإِسْرَاءِ: 110] أَيْ أَيًّا مَا مِنْهُمَا، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ قَوْلَ الْقَائِلِ: يَا الرَّحْمَنُ كَمَا يَجُوزُ يَا اللَّه وَتَمَسَّكَ بِالْآيَةِ وَكُلُّ هَذَا ضَعِيفٌ وَبَعْضُهَا أَضْعَفُ مِنْ بَعْضٍ، أَمَّا قَوْلُهُ: اللَّه مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ اسْمُ عَلَمٍ فَفِيهِ بَعْضُ الضَّعْفِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتِ الْهَمْزَةُ فِيهِ أَصْلِيَّةً، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ وَصْلِيَّةً، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: خَلَقَ اللَّه كَمَا يُقَالُ: عَلِمَ أَحْمَدُ وَفَهِمَ إِسْمَاعِيلُ، بَلِ الْحَقُّ فِيهِ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: إِمَّا أَنْ نَقُولَ: إِلَهٌ أَوْ لَاهٌ اسْمٌ لِمُوجِدِ الْمُمْكِنَاتِ اسْمُ عَلَمٍ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ كَمَا فِي الْفَضْلِ وَالْعَبَّاسِ وَالْحَسَنِ وَالْخَلِيلِ، وَعَلَى هَذَا فَمَنْ

سَمَّى غَيْرَهُ إِلَهًا فَهُوَ كَمَنْ يَسْتَعْمِلُ فِي مَوْلُودٍ لَهُ فَيَقُولُ لِابْنِهِ مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَإِنْ كَانَ عَلَمَيْنِ لِغَيْرِهِ قَبْلَهُ فِي أَنَّهُ جَائِزٌ لأن من سمى ابنه أحمد لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ الْمُطَاعِ/ مَا يَمْنَعُ الْغَيْرَ عَنِ التَّسْمِيَةِ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الِاحْتِجَارُ وَأَخْذُ الِاسْمِ لِنْفَسِهِ أَوْ لِوَلَدِهِ بِخِلَافِ الْمَلِكِ الْمُطَاعِ إِذَا اسْتَأْثَرَ لِنَفْسِهِ اسْمًا لَا يَسْتَجْرِئُ أَحَدٌ مِمَّنْ تَحْتَ وِلَايَتِهِ مَا دَامَ لَهُ الْمُلْكُ أَنْ يُسَمِّيَ وَلَدَهُ أَوْ نَفْسَهُ بِذَلِكَ الِاسْمِ خُصُوصًا مَنْ يَكُونُ مَمْلُوكًا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُسَمِّيَ نَفْسَهُ بِاسْمِ الْمَلِكِ وَلَا أَنْ يُسَمِّيَ وَلَدَهُ بِهِ، واللَّه تَعَالَى مَلِكٌ مُطَاعٌ وَكُلُّ مَنْ عَدَاهُ تَحْتَ أَمْرِهِ فَإِذَا اسْتَأْثَرَ لِنَفْسِهِ اسْمًا لَا يَجُوزُ لِلْعَبِيدِ أَنْ يَتَسَمَّوْا بِذَلِكَ الِاسْمِ، فَمَنْ يُسَمِّي فَقَدْ تَعَدَّى فَالْمُشْرِكُونَ فِي التَّسْمِيَةِ مُتَعَدُّونَ، وَفِي الْمَعْنَى ضَالُّونَ وَإِمَّا أَنْ نَقُولَ: إِلَهٌ أَوْ لَاهٌ اسْمٌ لِمَنْ يُعْبَدُ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلتَّعْرِيفِ، وَلَمَّا امْتَنَعَ الْمَعْنَى عَنْ غَيْرِ اللَّه امْتَنَعَ الِاسْمُ، فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ سَمَّى أَحَدٌ ابْنَهُ بِهِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ؟ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّهُ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِذَلِكَ الِابْنِ لِمَعْنًى لَا لِكَوْنِهِ عَلَمًا، فَإِنْ قِيلَ: تَسْمِيَةُ الْوَاحِدِ بِالْكَرِيمِ وَالْوَدُودِ جَائِزَةٌ قُلْنَا: كُلُّ مَا يَكُونُ حَمْلُهُ عَلَى الْعَلَمِ وَعَلَى اسْمٍ لِمَعْنًى مَلْحُوظٍ فِي اللَّفْظِ الذِّكْرِيِّ لَا يُفْضِي إِلَى خَلَلٍ يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهِ فَيَجُوزُ تَسْمِيَةُ الْوَاحِدِ بِالْكَرِيمِ وَالْوَدُودِ وَلَا يَجُوزُ تَسْمِيَتُهُ بِالْخَالِقِ، وَالْقَدِيمِ لِأَنَّ عَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِهِ عَلَى أَنَّهُ عَلَمٌ غَيْرُ مَلْحُوظٍ فِيهِ الْمَعْنَى يَجُوزُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِهِ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِمَعْنًى هُوَ قَائِمٌ بِهِ كَالْقُدْرَةِ الَّتِي بِهَا بَقَاءُ الْخَلْقِ أَوِ الْعَدَمِ، فَلَا يَجُوزُ لَكِنِ اسْمُ الْمَعْبُودِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَلَا يَجُوزُ التَّسْمِيةُ بِهِ، فَأَحَدُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ وَقَوْلُهُمْ مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَمٌ لَيْسَ بِحَقٍّ، إِذَا عَرَفْتَ الْبَحْثَ فِي اللَّه فَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ الرَّحْمَنَ اسْمٌ عَلَى أَضْعَفَ مِنْهُ، وَتَجْوِيزُ يَا الرَّحْمَنُ أَضْعَفُ مِنَ الْكُلِّ. الْبَحْثُ الثَّانِي: اللَّه وَالرَّحْمَنُ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى كَالِاسْمِ الْأَوَّلِ وَالْوَصْفُ الْغَالِبُ الَّذِي يَصِيرُ كَالِاسْمِ بَعْدَ الِاسْمِ الْأَوَّلِ كَمَا فِي قَوْلِنَا: عُمَرُ الْفَارُوقُ، وَعَلِيٌّ الْمُرْتَضَى وَمُوسَى الرِّضَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نَجِدُهُ فِي أَسْمَاءِ الْخُلَفَاءِ وَأَوْصَافِهِمُ الْمُعَرِّفَةِ لَهُمُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ وَصْفًا وَخَرَجَتْ بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ عَنِ الْوَصْفِيَّةِ، حَتَّى إِنَّ الشَّخْصَ وَإِنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ أَوْ فَارَقَهُ الْوَصْفُ يُقَالُ لَهُ ذَلِكَ كَالْعَلَمِ فَإِذَنْ لِلرَّحْمَنِ اخْتِصَاصٌ باللَّه تَعَالَى، كَمَا أَنَّ لِتِلْكَ الْأَوْصَافِ اخْتِصَاصًا بِأُولَئِكَ غَيْرَ أَنَّ فِي تِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَوْصَافِ جَازَ الْوَضْعُ لِمَا بَيَّنَّا حَيْثُ اسْتَوَى النَّاسُ فِي الِاقْتِدَارِ وَالْعَظَمَةِ، وَلَا يَجُوزُ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَطْلَقَ لَفْظَ الرَّحْمَنِ عَلَى الْيَمَامِيِّ، نَقُولُ: هُوَ كَمَا أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَطْلَقَ لَفْظَ الْإِلَهِ عَلَى غَيْرِ اللَّه تَعَدِّيًا وَكُفْرًا، نَظَرًا إِلَى جَوَازِهِ لُغَةً وَهُوَ اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: للَّه تَعَالَى رَحْمَتَانِ سَابِقَةٌ وَلَاحِقَةٌ فَالسَّابِقَةُ هِيَ الَّتِي بِهَا خَلَقَ الْخَلْقَ وَاللَّاحِقَةُ هِيَ الَّتِي أَعْطَى بِهَا الْخَلْقَ بَعْدَ إِيجَادِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ الرِّزْقِ وَالْفِطْنَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ تَعَالَى بِالنَّظَرِ إِلَى الرَّحْمَةِ السَّابِقَةِ رَحْمَنٌ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى اللَّاحِقَةِ رَحِيمٌ، وَلِهَذَا يُقَالُ: يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَرَحِيمَ الْآخِرَةِ، فَهُوَ رَحْمَنٌ، لِأَنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ أَوَّلًا بِرَحْمَتِهِ، فَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ فِي غَيْرِهِ هَذِهِ الرَّحْمَةَ وَلَمْ يَخْلُقْ أَحَدٌ أَحَدًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ لِغَيْرِهِ: رَحْمَنٌ، وَلَمَّا تَخَلَّقَ الصَّالِحُونَ مِنْ عِبَادِهِ بِبَعْضِ أَخْلَاقِهِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَأَطْعَمَ الْجَائِعَ وَكَسَا الْعَارِيَ، وُجِدَ شَيْءٌ مِنَ الرَّحْمَةِ اللَّاحِقَةِ الَّتِي بِهَا الرِّزْقُ وَالْإِعَانَةُ فَجَازَ أَنْ يُقَالَ لَهُ رَحِيمٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا كُلَّهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ غَيْرَ أَنَّا أَرَدْنَا أن يصير ما ذكرنا مضموما إلى ما ذكرناه هناك، / فأعدناه هاهنا لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ كَالتَّفْصِيلِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَاتِحَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الرَّحْمنُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ الْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: عَلَّمَ الْقُرْآنَ وَقِيلَ الرَّحْمنُ

[خَبَرُ] مُبْتَدَأٍ تَقْدِيرُهُ هُوَ الرَّحْمَنُ، ثُمَّ أَتَى بِجُمْلَةٍ بَعْدَ جُمْلَةٍ فَقَالَ: عَلَّمَ الْقُرْآنَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَعَلَى الْقَوْلِ الضَّعِيفِ الرَّحْمَنُ آيَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَّمَ الْقُرْآنَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَفْعُولٍ ثَانٍ فَمَا ذَلِكَ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: قِيلَ: عَلَّمَ بِمَعْنَى جَعَلَهُ عَلَامَةً أَيْ هُوَ عَلَامَةُ النُّبُوَّةِ وَمُعْجِزَةٌ وَهَذَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [الْقَمَرِ: 1] عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ تِلْكَ السُّورَةِ مُعْجِزَةً مِنْ بَابِ الْهَيْئَةِ وَهُوَ أَنَّهُ شَقَّ مَا لَا يَشُقُّهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُعْجِزَةً مِنْ بَابِ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ نَشَرَ مِنَ الْعُلُومِ مَا لَا يَنْشُرُهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ مَا فِي الْقُرْآنِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الْجَوَابِ فَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَهُ بِحَيْثُ يُعَلَّمُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [الْقَمَرِ: 17] وَالتَّعْلِيمُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَجَازٌ. يُقَالُ: إِنْ أُنْفِقَ عَلَى مُتَعَلِّمٍ وَأُعْطِيَ أُجْرَةً عَلَى تَعْلِيمِهِ عَلِمَهُ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِي لَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ جِبْرِيلُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَّمَهُمُ الْقُرْآنَ ثُمَّ أَنْزَلَهُ عَلَى عَبْدِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: 193، 194] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمَفْعُولُ الثَّانِي هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّه تَعَالَى لَا كَلَامَ مُحَمَّدٍ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّمَ الْقُرْآنَ الْإِنْسَانَ، وَهَذَا أَقْرَبُ لِيَكُونَ الْإِنْعَامُ أَتَمَّ وَالسُّورَةُ مُفْتَتَحَةٌ لِبَيَانِ الْأَعَمِّ مِنَ النِّعَمِ الشَّامِلَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لِمَ تَرَكَ الْمَفْعُولَ الثَّانِي؟ نَقُولُ: إِشَارَةً إِلَى أَنَّ النِّعْمَةَ فِي تَعْمِيمِ التَّعْلِيمِ لَا فِي تَعْلِيمِ شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، يُقَالُ: فُلَانٌ يُطْعِمُ الطَّعَامَ إِشَارَةً إِلَى كَرَمِهِ، وَلَا يُبَيِّنُ مَنْ يُطْعِمُهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا مَعْنَى التَّعْلِيمِ؟ نَقُولُهُ عَلَى قَوْلِنَا لَهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ إِفَادَةُ الْعِلْمِ بِهِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُفْهَمُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَّمَ الْقُرْآنَ مَعَ قَوْلَهُ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: 7] نَقُولُ: مَنْ لَا يَقِفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهُ ويعطف: الرَّاسِخُونَ عَلَى اللَّه عَطْفَ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ هَذَا، وَمَنْ يَقِفُ وَيَعْطِفُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ عَلَى قَوْلِهِ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ يَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ الْقُرْآنَ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ كِتَابًا عَظِيمًا وَوَقَعَ عَلَى مَا فِيهِ، وَفِيهِ مَوَاضِعُ مُشْكِلَةٌ فَعَلِمَ مَا فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، يُقَالَ: فُلَانٌ يَعْلَمُ الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ وَيُتْقِنُهُ بِقَدْرِ وُسْعِهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْلَمْ مُرَادَ صَاحِبِ الْكِتَابِ بِيَقِينٍ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تعليم القرآن، أو تقول: لا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يَعْلَمُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ، فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ كِتَابَ اللَّه تَعَالَى لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي يُسْتَخْرَجُ مَا فِيهَا بِقُوَّةِ الذَّكَاءِ وَالْعُلُومِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي وَجْهِ التَّرْتِيبِ وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ عَلَّمَ عَلَّمَ الْمَلَائِكَةَ وَتَعْلِيمُهُ الْمَلَائِكَةَ قَبْلَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، فَعَلَّمَ تَعَالَى مَلَائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ الْقُرْآنَ حَقِيقَةً/ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْوَاقِعَةِ: 77- 80] إِشَارَةً إِلَى تَنْزِيلِهِ بَعْدَ تَعْلِيمِهِ، وَعَلَى هَذَا فَفِي النَّظْمِ حُسْنٌ زَائِدٌ وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أُمُورًا عُلْوِيَّةً وَأُمُورًا سُفْلِيَّةً، وَكُلُّ عُلْوِيٍّ قَابَلَهُ بِسُفْلِيٍّ، وَقَدَّمَ الْعُلْوِيَّاتِ عَلَى السُّفْلِيَّاتِ إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، فَقَالَ: عَلَّمَ الْقُرْآنَ إِشَارَةً إِلَى تَعْلِيمِ الْعُلْوِيِّينَ، وَقَالَ: عَلَّمَهُ الْبَيانَ إِشَارَةً إِلَى تَعْلِيمِ السُّفْلِيِّينَ، وَقَالَ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [الرَّحْمَنِ: 5] فِي الْعُلْوِيَّاتِ وَقَالَ فِي مُقَابِلَتِهِمَا مِنَ السُّفْلِيَّاتِ: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرَّحْمَنِ: 6] .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالسَّماءَ رَفَعَها [الرَّحْمَنِ: 7] وَفِي مُقَابِلَتِهَا: وَالْأَرْضَ وَضَعَها [الرَّحْمَنِ: 10] ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ تَقْدِيمَ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ أَتَمَّ نِعْمَةٍ وَأَعْظَمَ إِنْعَامًا، ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: عَلَّمْتُ فُلَانًا الْأَدَبَ حَمَلْتُهُ عَلَيْهِ، وَأَنْفَقْتُ عَلَيْهِ مَالِي، فَقَوْلُهُ: حَمَلْتُهُ وَأَنْفَقْتُ بَيَانٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ الْإِنْعَامُ الْعَظِيمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ السُّورَةِ وَسُورَةِ الْعَلَقِ، حَيْثُ قَالَ هُنَاكَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [الْعَلَقِ: 1] ثُمَّ قَالَ: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [الْعَلَقِ: 3، 4] فَقَدَّمَ الْخَلْقَ عَلَى التَّعْلِيمِ؟ نَقُولُ: فِي تِلْكَ السُّورَةِ لَمْ يُصَرِّحْ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ فَهُوَ كَالتَّعْلِيمِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: عَلَّمَهُ الْبَيانَ بَعْدَ قَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسانَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْمُرَادُ مِنَ الْإِنْسَانِ؟ نَقُولُ: هُوَ الْجِنْسُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ آدَمُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ فِي خَلَقَ وَيَدْخُلُ فِيهِ مُحَمَّدٌ وَآدَمُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْبَيَانُ وَكَيْفَ تَعْلِيمُهُ؟ نَقُولُ: مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: الْبَيَانُ الْمَنْطِقُ فَعَلَّمَهُ مَا يَنْطِقُ بِهِ وَيَفْهَمُ غَيْرُهُ مَا عِنْدَهُ، فَإِنَّ بِهِ يَمْتَازُ الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَقَوْلُهُ: خَلَقَ الْإِنْسانَ إِشَارَةٌ إِلَى تقدير خلق جسمه الخاص، وعَلَّمَهُ الْبَيانَ إِشَارَةٌ إِلَى تَمَيُّزِهِ بِالْعِلْمِ عَنْ غَيْرِهِ. وَقَدْ خَرَجَ مَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا أَنَّ الْبَيَانَ هُوَ الْقُرْآنُ وَأَعَادَهُ لِيُفَصِّلَ مَا ذَكَرَهُ إِجْمَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَّمَ الْقُرْآنَ كَمَا قُلْنَا فِي الْمِثَالِ حَيْثُ يَقُولُ الْقَائِلُ: عَلَّمْتُ فُلَانًا الْأَدَبَ حَمَلْتُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا فَالْبَيَانُ مَصْدَرٌ أُرِيدَ بِهِ مَا فِيهِ الْمَصْدَرُ، وَإِطْلَاقُ الْبَيَانِ بِمَعْنَى الْقُرْآنِ عَلَى الْقُرْآنِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، قَالَ تَعَالَى: هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ [آلِ عِمْرَانَ: 138] وَقَدْ سَمَّى اللَّه تَعَالَى الْقُرْآنَ فُرْقَانًا وَبَيَانًا وَالْبَيَانُ فُرْقَانٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَصَحَّ إِطْلَاقُ الْبَيَانِ، وَإِرَادَةُ الْقُرْآنِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: كَيْفَ صَرَّحَ بِذِكْرِ الْمَفْعُولَيْنِ فِي عِلْمِهِ الْبَيَانَ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِمَا فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ نَقُولُ: أَمَا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَّمَ الْقُرْآنَ هُوَ أَنَّهُ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ الْقُرْآنَ، فَنَقُولُ حَذَفَهُ لِعِظَمِ نِعْمَةِ التَّعْلِيمِ وَقَدَّمَ ذِكْرَهُ عَلَى مَنْ عَلَّمَهُ وَعَلَى بَيَانِ خَلْقِهِ، ثُمَّ فَصَّلَ بَيَانَ كَيْفِيَّةِ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: الْمُرَادُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ الْمَلَائِكَةَ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْدِيدُ النِّعَمِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَمُطَالَبَتُهُ بِالشُّكْرِ وَمَنْعُهُ مِنَ التَّكْذِيبِ بِهِ، وَتَعْلِيمُهُ لِلْمَلَائِكَةِ لَا يَظْهَرُ لِلْإِنْسَانِ أَنَّهُ فَائِدَةٌ/ رَاجِعَةٌ إِلَى الْإِنْسَانِ «1» وَأَمَّا تَعْلِيمُ الْإِنْسَانِ فَهِيَ نِعْمَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَقَالَ: عَلَّمَهُ الْبَيانَ أَيْ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ تَعْدِيدًا لِلنِّعَمِ عَلَيْهِ وَمِثْلُ هَذَا قَالَ في: اقْرَأْ قال مرة: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْمُعَلَّمِ، ثُمَّ قَالَ مَرَّةً أخرى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ وَهُوَ الْبَيَانُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللُّغَاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ حَصَلَ الْعِلْمُ بِهَا بتعليم اللَّه. ثم قال تعالى:

_ (1) أقول: إن كان اطراد علم الملائكة فيه نعمة أعظم على الإنسان وإشارة إلى نوع المنة التي أنعم بها عليه بالقرآن وإلى شرف القرآن بأنه مما تعلمه الملائكة ولا ريب أن الملائكة وقد نزلوا بالقرآن على محمد صلى اللَّه عليه وسلم وحملوه إليه فإن علمهم به ولا شك ألزم وإنزال ملائكة موصوفين بالعلم على الرسول فيه تبجيل للرسول ولأمته وللقرآن نفسه، وبهذا تظهر الفائدة في إرادة هذا المعنى ربما تعين هذا المراد مراعاة للترتيب الذي في الآية، ووقوع خلق الإنسان بعد خلقه الملائكة. [.....]

[سورة الرحمن (55) : الآيات 5 إلى 6]

[سورة الرحمن (55) : الآيات 5 الى 6] الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَفِي التَّرْتِيبِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لما ثبت كونه رحمن وَأَشَارَ إِلَى مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ وَهُوَ الْقُرْآنُ ذَكَرَ نِعَمَهُ وَبَدَأَ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ نِعْمَةٌ جَمِيعُ النِّعَمِ بِهِ تَتِمُّ، وَلَوْلَا وُجُودُهُ لَمَا انْتُفِعَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ بَيَّنَ نِعْمَةَ الْإِدْرَاكِ بقوله: عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرحمن: 4] وَهُوَ كَالْوُجُودِ إِذْ لَوْلَاهُ لَمَا حَصَلَ النَّفْعُ وَالِانْتِفَاعُ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ نِعْمَتَيْنِ ظَاهِرَتَيْنِ هُمَا أَظْهَرُ أَنْوَاعِ النِّعَمِ السَّمَاوِيَّةِ وَهُمَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَلَوْلَا الشَّمْسُ لَمَا زَالَتِ الظُّلْمَةُ، وَلَوْلَا الْقَمَرُ لَفَاتَ كَثِيرٌ مِنَ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا مِنَ الْكَوَاكِبِ فَإِنَّ نِعَمَهَا لَا تَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِثْلَ مَا تَظْهَرُ نِعْمَتُهُمَا، ثُمَّ بَيَّنَ كَمَالَ نَفْعِهِمَا فِي حَرَكَتِهِمَا بِحِسَابٍ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَوْ كَانَتِ الشَّمْسُ ثَابِتَةً فِي مَوْضِعٍ لَمَا انْتَفَعَ بِهَا أَحَدٌ، وَلَوْ كَانَ سَيْرُهَا غَيْرَ مَعْلُومٍ لِلْخَلْقِ لَمَا انْتَفَعُوا بِالزِّرَاعَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا وَبِنَاءُ الْأَمْرِ عَلَى الْفُصُولِ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي مُقَابِلَتِهِمَا نِعْمَتَيْنِ ظَاهِرَتَيْنِ مِنَ الْأَرْضِ وَهُمَا النَّبَاتُ الَّذِي لَا سَاقَ لَهُ وَالَّذِي لَهُ سَاقٌ، فَإِنَّ الرِّزْقَ أَصْلُهُ مِنْهُ، وَلَوْلَا النَّبَاتُ لَمَا كَانَ لِلْآدَمِيِّ رِزْقٌ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، وَأَصْلُ النِّعَمِ عَلَى الرِّزْقِ الدَّارِّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: النَّبَاتُ هُوَ أَصْلُ الرِّزْقِ لِأَنَّ الرِّزْقَ إِمَّا نَبَاتِيٌّ وَإِمَّا حَيَوَانِيٌّ كَاللَّحْمِ وَاللَّبَنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ، وَلَوْلَا النَّبَاتُ لَمَا عَاشَ الْحَيَوَانُ وَالنَّبَاتُ وَهُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ قِسْمَانِ قَائِمٌ عَلَى سَاقٍ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْأَشْجَارِ الْكِبَارِ وَأُصُولِ الثِّمَارِ وَغَيْرُ قَائِمٍ كَالْبُقُولِ الْمُنْبَسِطَةِ عَلَى الْأَرْضِ وَالْحَشِيشِ وَالْعُشْبِ الَّذِي هُوَ غَذَاءُ الْحَيَوَانِ ثَانِيهَا: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْقُرْآنَ وَكَانَ هُوَ كَافِيًا لَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ قَالَ بَعْدَهُ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ إِنْ تَكُنْ لَهُ النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ الَّتِي يُغْنِيهَا اللَّهُ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ، فَلَهُ فِي الْآفَاقِ آيَاتٌ مِنْهَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَإِنَّمَا اخْتَارَهُمَا لِلذِّكْرِ لِأَنَّ حَرَكَتَهُمَا بِحُسْبَانٍ تَدُلُّ عَلَى فَاعِلٍ مُخْتَارٍ سَخَّرَهُمَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَلَوِ اجْتَمَعَ مَنْ فِي الْعَالَمِ مِنَ الطَّبِيعِيِّينَ وَالْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ وَتَوَاطَئُوا أَنْ يُثَبِّتُوا حَرَكَتَهُمَا عَلَى الْمَمَرِّ الْمُعَيَّنِ عَلَى الصَّوَابِ الْمُعَيَّنِ وَالْمِقْدَارِ الْمَعْلُومِ فِي الْبُطْءِ وَالسُّرْعَةِ لَمَا بَلَغَ أَحَدٌ مُرَادَهُ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْحَقِّ/ وَيَقُولَ: حَرَّكَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا أَرَادَ، وَذَكَرَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ وَغَيْرَهُمَا إِشَارَةً إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُؤَكِّدَةِ لِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ ثَالِثُهَا: هُوَ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُفْتَتَحَةٌ بِمُعْجِزَةٍ دَالَّةٍ عَلَيْهَا مِنْ بَابِ الْهَيْئَةِ فَذَكَرَ مُعْجِزَةَ الْقُرْآنِ بِمَا يَكُونُ جَوَابًا لِمُنْكِرِي النُّبُوَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي نَبَّهْنَا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ الْكِتَابَ وَأَرْسَلَهُ إِلَى النَّاسِ بِأَشْرَفِ خِطَابٍ، فَقَالَ: بَعْضُ الْمُنْكِرِينَ كَيْفَ يُمْكِنُ نُزُولُ الْجِرْمِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَكَيْفَ يَصْعَدُ مَا حَصَلَ فِي الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ؟ فَقَالَ تَعَالَى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ إِشَارَةً إِلَى [أَنَّ] حَرَكَتَهُمَا بِمُحَرِّكٍ مُخْتَارٍ لَيْسَ بِطَبِيعِيٍّ وَهُمْ وَافَقُونَا فِيهِ وَقَالُوا: إِنَّ الْحَرَكَةَ الدَّوْرِيَّةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ طَبِيعِيَّةً اخْتِيَارِيَّةً فَنَقُولُ: مَنْ حَرَّكَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ أَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ ثُمَّ النَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَتَحَرَّكَانِ إِلَى فَوْقُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ مَعَ أَنَّ الثَّقِيلَ عَلَى مَذْهَبِكُمْ لَا يَصْعَدُ إِلَى جِهَةِ فَوْقُ فَذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ، فَكَذَلِكَ حَرَكَةُ الْمَلَكِ جَائِزَةٌ مِثْلَ الْفَلَكِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِحُسْبانٍ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْجَوَابِ عن قولهم: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص: 8] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى كَمَا اخْتَارَ لِحَرَكَتِهِمَا مَمَرًّا مُعَيَّنًا وَصَوْبًا مَعْلُومًا وَمِقْدَارًا مَخْصُوصًا كَذَلِكَ اخْتَارَ لِلْمَلَكِ وَقْتًا مَعْلُومًا وَمَمَرًّا مُعَيَّنًا بِفَضْلِهِ وَفِي التَّفْسِيرِ مَبَاحِثُ:

الْأَوَّلُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَعْرِيفِهِ عَمَّا يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ قَالَ هُمَا: بِحُسْبانٍ وَلَمْ يَقُلْ: حَرَّكَهُمَا اللَّهُ بِحُسْبَانٍ أَوْ سَخَّرَهُمَا أَوْ أَجْرَاهُمَا كَمَا قَالَ: خَلَقَ الْإِنْسانَ وَقَالَ: عَلَّمَهُ الْبَيانَ؟ [الرحمن: 3، 4] نَقُولُ: فِيهِ حِكَمٌ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ وَتَعْلِيمَهُ الْبَيَانَ أَتَمُّ وَأَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ الْمَنَافِعِ لَهُ مِنَ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ، حَيْثُ صَرَّحَ هُنَاكَ بِأَنَّهُ فَاعِلُهُ وَصَانِعُهُ وَلَمْ يُصَرِّحْ هُنَا، وَمِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ هاهنا بِمِثْلِ هَذَا فِي الْعِظَمِ يَقُولُ الْقَائِلُ: إِنِّي أَعْطَيْتُكَ الْأُلُوفَ وَالْمِئَاتِ مِرَارًا وَحَصَلَ لَكَ الْآحَادُ وَالْعَشَرَاتُ كَثِيرًا وَمَا شَكَرْتَ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ حَصَلَ لَكَ مِنِّي وَمِنْ عَطَائِي لَكِنَّهُ يُخَصِّصُ التَّصْرِيحَ بِالْعَطَاءِ عِنْدَ الْكَثِيرِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إِشَارَةٌ إِلَى دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ مُؤَكِّدٍ السَّمْعِيَّ وَلَمْ يَقُلْ: فَعَلْتُ صَرِيحًا إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مَعْقُولٌ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ عَرَفْتَ أَنَّهُ مِنِّي وَاعْتَرَفْتَ بِهِ، وَأَمَّا السَّمْعِيُّ فَصَرَّحَ بِمَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنَ الْفِعْلِ الثَّانِي: عَلَى أَيِّ وَجْهٍ تَعَلُّقُ الْبَاءِ مِنْ بِحُسْبانٍ، نَقُولُ: هُوَ بَيِّنٌ مِنْ تَفْسِيرِهِ وَالتَّفْسِيرُ أَيْضًا مَرَّ بَيَانُهُ وَخَرَجَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَنَقُولُ: فِي الْحُسْبَانِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ الْحِسَابُ يُقَالُ: حَسِبَ حِسَابًا وَحُسْبَانًا، وَعَلَى هَذَا فالباء للمصالحة تَقُولُ: قَدِمْتَ بِخَيْرٍ أَيْ مَعَ خَيْرٍ وَمَقْرُونًا بِخَيْرٍ فَكَذَلِكَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَجْرِيَانِ وَمَعَهُمَا حِسَابُهُمَا ومثله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49] ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرعد: 8] وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلِاسْتِعَانَةِ كَمَا فِي قَوْلِكَ: بعون الله غلبت، وبتوفيق الله حجت، فَكَذَلِكَ يَجْرِيَانِ بِحُسْبَانٍ مِنَ اللَّهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْحُسْبَانَ هُوَ الْفَلَكُ تَشْبِيهًا لَهُ بِحُسْبَانِ الرَّحَا وَهُوَ مَا يَدُورُ فَيُدِيرُ الْحَجَرَ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ لِلِاسْتِعَانَةِ كَمَا يُقَالُ فِي الْآلَاتِ كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ فَهُمَا يَدُورَانِ بِالْفَلَكِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 40] ، الثَّالِثُ: عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ هَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يَجْرِي بِحُسْبَانٍ أَوْ كِلَاهُمَا بِحُسْبَانٍ وَاحِدٍ مَا الْمُرَادُ؟ نَقُولُ: كِلَاهُمَا مُحْتَمَلٌ فَإِنْ نَظَرْنَا إِلَيْهِمَا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِسَابٌ عَلَى حِدَةٍ فَهُوَ/ كقوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ [الأنبياء: 33] لَا بِمَعْنَى أَنَّ الْكُلَّ مَجْمُوعٌ فِي فَلَكٍ وَاحِدٍ وَكَقَوْلِهِ: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرَّعْدِ: 8] وَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلِلْكُلِّ حِسَابٌ وَاحِدٌ قَدْرَ الْكُلِّ بِتَقْدِيرِ حُسْبَانِهِمَا بِحِسَابٍ، مِثَالُهُ مَنْ يُقَسِّمُ مِيرَاثَ نَفْسِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ نَصِيبًا مَعْلُومًا بِحِسَابٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَخْتَلِفُ الْأَمْرُ عِنْدَهُمْ فَيَأْخُذُ الْبَعْضُ السُّدُسَ وَالْبَعْضُ كَذَا وَالْبَعْضُ كَذَا، فَكَذَلِكَ الْحِسَابُ الْوَاحِدُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ فَفِيهِ أَيْضًا مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ مِنْ غَيْرِ وَاوٍ عَاطِفَةٍ، وَمِنْ هُنَا ذَكَرَهَا بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ؟ نَقُولُ لِيَتَنَوَّعَ الْكَلَامُ نَوْعَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ من بعد النِّعَمَ عَلَى غَيْرِهِ تَارَةً يَذْكُرُ نَسَقًا مِنْ غَيْرِ حَرْفٍ، فَيَقُولُ: فُلَانٌ أَنْعَمَ عَلَيْكَ كَثِيرًا، أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذلك، قَوَّاكَ بَعْدَ ضَعْفٍ، وَأُخْرَى يَذْكُرُهَا بِحَرْفٍ عَاطِفٍ وَذَلِكَ الْعَاطِفُ قَدْ يَكُونُ وَاوًا وَقَدْ يَكُونُ فَاءً وَقَدْ يَكُونُ ثُمَّ، فَيَقُولُ: فُلَانٌ أَكْرَمَكَ وَأَنْعَمَ عَلَيْكَ وَأَحْسَنَ إِلَيْكَ، وَيَقُولُ: رَبَّاكَ فَعَلَّمَكَ فَأَغْنَاكَ، وَيَقُولُ: أَعْطَاكَ ثُمَّ أَغْنَاكَ ثُمَّ أَحْوَجَ النَّاسَ إِلَيْكَ، فَكَذَلِكَ هُنَا ذَكَرَ التَّعْدِيدَ بِالنَّوْعَيْنِ جَمِيعًا، فَإِنْ قِيلَ: زِدْهُ بَيَانًا وَبَيِّنِ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ فِي الْمَعْنَى، قُلْنَا: الَّذِي يَقُولُ بِغَيْرِ حَرْفٍ كَأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ بَيَانَ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ فَيَتْرُكُ الْحَرْفَ لِيَسْتَوْعِبَ الْكُلَّ مِنْ غَيْرِ تَطْوِيلِ كَلَامٍ، وَلِهَذَا يَكُونُ ذَلِكَ النَّوْعُ فِي أَغْلَبِ الْأَمْرِ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ النِّعَمِ ثَلَاثًا أَوْ عند ما تَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ نِعْمَتَيْنِ فَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ عِنْدَ نِعْمَتَيْنِ فَيَقُولُ: فُلَانٌ أَعْطَاكَ الْمَالَ وَزَوَّجَكَ الْبِنْتَ، فَيَكُونُ فِي كَلَامِهِ إِشَارَةٌ إِلَى نِعَمٍ كَثِيرَةٍ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى النِّعْمَتَيْنِ لِلْأُنْمُوذَجِ، وَالَّذِي يَقُولُ بِحَرْفٍ فَكَأَنَّهُ يُرِيدُ التَّنْبِيهَ عَلَى اسْتِقْلَالِ كُلِّ نِعْمَةٍ بِنَفْسِهَا، وَإِذْهَابِ تَوَهُّمِ الْبَدَلِ وَالتَّفْسِيرِ، فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: أَنْعَمَ عَلَيْكَ أَعْطَاكَ الْمَالَ هو تفسير

لِلْأَوَّلِ فَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ ذِكْرُ نِعْمَتَيْنِ مَعًا بِخِلَافِ مَا إِذَا ذُكِرَ بِحَرْفٍ، فَإِنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ فَلَوْ ذَكَرَ النِّعَمَ الْأُوَلَ بِالْوَاوِ ثُمَّ عِنْدَ تَطْوِيلِ الْكَلَامِ فِي الْآخِرِ سَرَدَهَا سَرْدًا، هَلْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْبَلَاغَةِ؟ وَوُرُودُ كَلَامِهِ تَعَالَى عَلَيْهِ كَفَاهُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَبْلَغُ، وَلَهُ دَلِيلٌ تَفْصِيلِيٌّ ظَاهِرٌ يُبَيَّنُ بِبَحْثٍ وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ قَدْ يَشْرَعُ فِيهِ الْمُتَكَلِّمُ أَوَّلًا عَلَى قَصْدِ الِاخْتِصَارِ فَيَقْتَضِي الْحَالُ التَّطْوِيلَ، إِمَّا لِسَائِلٍ يُكْثِرُ السُّؤَالَ، وَإِمَّا لِطَالِبٍ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ لِلُطْفِ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ، وَإِمَّا لِغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَسْبَابِ وَقَدْ يَشْرَعُ عَلَى قَصْدِ الْإِطْنَابِ وَالتَّفْصِيلِ، فَيَعْرِضُ مَا يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْ شُغْلِ السَّامِعِ أَوِ الْمُتَكَلِّمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ، نَقُولُ: كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى فَوَائِدُهُ لِعِبَادِهِ لَا لَهُ فَفِي هَذِهِ السُّورَةِ ابْتَدَأَ الْأَمْرَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى بَيَانِ أَتَمِّ النِّعَمِ إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ، فَأَتَى بِمَا يَخْتَصُّ بِالْكَثْرَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ بِكَامِلِ الْعِلْمِ يَعْلَمُ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى، فَبَدَأَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْفَائِدَةِ الْأُخْرَى وَإِذْهَابُ تَوَهُّمِ الْبَدَلِ وَالتَّفْسِيرِ وَالنَّعْيِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا نِعْمَةٌ كَامِلَةٌ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِ الْعَطْفِ بِهَذَا الْكَلَامِ وَالِابْتِدَاءِ بِهِ لَا بِمَا قَبْلَهُ وَلَا بِمَا بَعْدَهُ؟ قُلْنَا: لِيَكُونَ النَّوْعَانِ عَلَى السَّوَاءِ فَذَكَرَ الثَّمَانِيَةَ مِنَ النِّعَمِ كَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَرْبَعًا مِنْهَا بِغَيْرِ وَاوٍ وَأَرْبَعًا بِوَاوٍ، / وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ [الرَّحْمَنِ: 11] وَقَوْلُهُ: وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ [الرَّحْمَنِ: 12] فَلِبَيَانِ نِعْمَةِ الْأَرْضِ عَلَى التَّفْصِيلِ ثُمَّ فِي اخْتِيَارِ الثَّمَانِيَةِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ السَّبْعَةَ عَدَدٌ كَامِلٌ وَالثَّمَانِيَةَ هِيَ السَّبْعَةُ مَعَ الزِّيَادَةِ فَيَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ خَارِجَةٌ عَنْ حَدِّ التَّعْدِيدِ لِمَا أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْكَمَالِ لَا يَكُونُ مُعَيَّنًا مُبَيَّنًا، فَذَكَرَ الثَّمَانِيَةَ مِنْهَا إِشَارَةً إِلَى بَيَانِ الزِّيَادَةِ عَلَى حَدِّ الْعَدَدِ لَا لِبَيَانِ الِانْحِصَارِ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: النَّجْمُ مَاذَا؟ نَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: النَّبَاتُ الَّذِي لَا سَاقَ لَهُ وَالثَّانِي: نَجْمُ السَّمَاءِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ مَعَ الشَّجَرِ فِي مُقَابَلَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ذَكَرَ أَرْضَيْنِ فِي مُقَابَلَةِ سَمَاوَيْنِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: يَسْجُدانِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ نَجْمَ السَّمَاءِ لِأَنَّ مَنْ فَسَّرَ بِهِ قَالَ: يَسْجُدُ بِالْغُرُوبِ، وَعَلَى هَذَا فَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ أَيْضًا كَذَلِكَ يَغْرُبَانِ، فَلَا يَبْقَى لِلِاخْتِصَاصِ فَائِدَةٌ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: هُمَا أَرْضَانِ فَنَقُولُ: يَسْجُدانِ بِمَعْنَى ظِلَالِهِمَا تَسْجُدُ فَيَخْتَصُّ السُّجُودُ بِهِمَا دُونَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَفِي سُجُودِهِمَا وُجُوهٌ أَحَدُهَا: مَا ذَكَرْنَا مِنْ سُجُودِ الظِّلَالِ ثَانِيهَا: خُضُوعُهُمَا لِلَّهِ تَعَالَى وَخُرُوجُهُمَا مِنَ الْأَرْضِ وَدَوَامُهُمَا وَثَبَاتُهُمَا عَلَيْهَا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بِحَرَكَةٍ مُسْتَدِيرَةٍ وَالنَّجْمَ بِحَرَكَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ إِلَى فَوْقُ، فَشَبَّهَ النَّبَاتَ فِي مَكَانِهَا بِالسُّجُودِ لِأَنَّ السَّاجِدَ يَثْبُتُ. ثَالِثُهَا: حَقِيقَةُ السُّجُودِ تُوجَدُ مِنْهُمَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَرْئِيَّةً كما يسمح كُلٌّ مِنْهُمَا وَإِنْ لَمْ يُفْقَهْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الْإِسْرَاءِ: 44] ، رَابِعُهَا: السُّجُودُ وَضْعُ الْجَبْهَةِ أَوْ مَقَادِيمِ الرَّأْسِ عَلَى الأرض والنجم والشجر في الحقيقة رؤوسهما عَلَى الْأَرْضِ وَأَرْجُلُهُمَا فِي الْهَوَاءِ، لِأَنَّ الرَّأْسَ من الحيوان ما به شربه واغذاؤه، وَلِلنَّجْمِ وَالشَّجَرِ اغْتَذَاؤُهُمَا وَشُرْبُهُمَا بِأَجْذَالِهِمَا وَلِأَنَّ الرَّأْسَ لَا تَبْقَى بِدُونِهِ الْحَيَاةُ وَالشَّجَرُ وَالنَّجْمُ لَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْهُمَا ثَابِتًا غَضًّا عِنْدَ وُقُوعِ الْخَلَلِ فِي أُصُولِهِمَا، وَيَبْقَى عِنْدَ قَطْعِ فُرُوعِهِمَا وأعاليهما، وإنما يقال: للفروع رؤوس الْأَشْجَارِ، لِأَنَّ الرَّأْسَ فِي الْإِنْسَانِ هُوَ مَا يلي جهة فوق فقيل لأعالي الشجر رؤوس، إذا علمت هذا فالنجم والشجر رؤوسهما عَلَى الْأَرْضِ دَائِمًا، فَهُوَ سُجُودُهُمَا بِالشَّبَهِ لَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَقْدِيمِ النَّجْمِ عَلَى الشَّجَرِ مُوَازَنَةٌ لَفْظِيَّةٌ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَأَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ أَنَّ النَّجْمَ فِي

[سورة الرحمن (55) : آية 7]

مَعْنَى السُّجُودِ أَدْخَلُ لِمَا أَنَّهُ يَنْبَسِطُ عَلَى الْأَرْضِ كَالسَّاجِدِ حَقِيقَةً، كَمَا أَنَّ الشَّمْسَ فِي الْحُسْبَانِ أَدْخَلُ، لِأَنَّ حِسَابَ سَيْرِهَا أَيْسَرُ عِنْدَ الْمُقَوِّمِينَ مِنْ حِسَابِ سَيْرِ الْقَمَرِ، إِذْ لَيْسَ عِنْدَ الْمُقَوِّمِينَ أَصْعَبُ مِنْ تَقْوِيمِ الْقَمَرِ فِي حساب الزيج. ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : آية 7] وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) وَرَفْعُ السَّمَاءِ مَعْلُومٌ مَعْنًى، وَنَصْبُهَا مَعْلُومٌ لَفْظًا فَإِنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: رَفَعَها كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: رَفَعَ السَّمَاءَ، وَقُرِئَ وَالسَّماءَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْعَطْفِ عَلَى الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [الرحمن: 5] وأما وضع الْمِيزَانَ/ فَإِشَارَةٌ إِلَى الْعَدْلِ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ أَوَّلًا بِالْعِلْمِ ثُمَّ ذَكَرَ مَا فِيهِ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْعَدْلَ وَذَكَرَ أَخَصَّ الْأُمُورِ لَهُ وَهُوَ الْمِيزَانُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ [الْحَدِيدِ: 25] لِيَعْمَلَ النَّاسُ بِالْكِتَابِ وَيَفْعَلُوا بِالْمِيزَانِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ: عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن: 2] وَوَضَعَ الْمِيزانَ مِثْلَ: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ فَإِنْ قِيلَ: الْعِلْمُ لَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ نِعْمَةً عَظِيمَةً، وَأَمَّا الْمِيزَانُ فَمَا الَّذِي فِيهِ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي بِسَبَبِهَا يُعَدُّ فِي الآلاء؟ نقول: النفوس تأبى الْغُبْنَ وَلَا يَرْضَى أَحَدٌ بِأَنْ يَغْلِبَهُ الْآخَرُ وَلَوْ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ، وَيَرَى أَنَّ ذَلِكَ اسْتِهَانَةٌ بِهِ فَلَا يَتْرُكُهُ لِخَصْمِهِ لِغَلَبَةٍ، فَلَا أَحَدَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ خَصْمَهُ يَغْلِبُهُ فَلَوْلَا التَّبْيِينُ ثُمَّ التَّسَاوِي لَأَوْقَعَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ النَّاسِ الْبَغْضَاءَ كَمَا وَقَعَ عِنْدَ الْجَهْلِ وَزَوَالِ الْعَقْلِ وَالسُّكْرِ، فَكَمَا أَنَّ الْعَقْلَ وَالْعِلْمَ صَارَا سَبَبًا لِبَقَاءِ عِمَارَةِ الْعَالَمِ، فَكَذَلِكَ الْعَدْلُ فِي الْحِكْمَةِ سَبَبٌ، وَأَخَصُّ الْأَسْبَابِ الْمِيزَانُ فَهُوَ نِعْمَةٌ كَامِلَةٌ وَلَا يُنْظَرُ إِلَى عَدَمِ ظُهُورِ نِعْمَتِهِ لِكَثْرَتِهِ وَسُهُولَةِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ كَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ اللَّذَيْنِ لَا يتبين فضلهما إلا عند فقدهما. ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : آية 8] أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَعَلَى هَذَا قِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْمِيزَانِ الْأَوَّلِ الْعَدْلُ وَوَضْعُهُ شَرْعُهُ كَأَنَّهُ قَالَ: شَرَعَ اللَّهُ الْعَدْلَ لِئَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ الَّذِي هُوَ آلَةُ الْعَدْلِ، هَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُعْكَسَ الْأَمْرُ، وَيُقَالَ: الْمِيزَانُ الْأَوَّلُ هُوَ الْآلَةُ، وَالثَّانِي هُوَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ وَمَعْنَاهُ وَضَعَ الْمِيزَانَ لِئَلَّا تَطْغَوْا فِي الْوَزْنِ أَوْ بِمَعْنَى الْعَدْلِ وَهُوَ إِعْطَاءُ كُلِّ مُسْتَحَقٍّ حَقَّهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَضَعَ الْآلَةَ لِئَلَّا تَطْغَوْا فِي إِعْطَاءِ الْمُسْتَحِقِّينَ حُقُوقَهُمْ. وَيَجُوزُ إِرَادَةُ الْمَصْدَرِ مِنَ الْمِيزَانِ كَإِرَادَةِ الْوُثُوقِ مِنَ الْمِيثَاقِ وَالْوَعْدِ مِنَ الْمِيعَادِ، فَإِذَنِ الْمُرَادُ مِنَ الْمِيزَانِ آلَةُ الْوَزْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: (أَنَّ) (أَنْ) مُفَسِّرَةٌ وَالتَّقْدِيرُ شَرَعَ الْعَدْلَ، أَيْ لَا تَطْغَوْا، فَيَكُونُ وَضَعَ الْمِيزَانَ بِمَعْنَى شَرَعَ الْعَدْلَ، وَإِطْلَاقُ الْوَضْعِ لِلشَّرْعِ وَالْمِيزَانِ لِلْعَدْلِ جَائِزٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: وَضَعَ الْمِيزَانَ أَيِ الْوَزْنَ. وَقَوْلُهُ: أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، الْمُرَادُ مِنْهُ الْوَزْنُ، فَكَأَنَّهُ نَهَى عَنِ الطُّغْيَانِ فِي الْوَزْنِ، وَالِاتِّزَانِ وَإِعَادَةُ الْمِيزَانِ بِلَفْظِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا وَاحِدٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَلَّا تَطْغَوْا فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْوَزْنَ، لَقَالَ: أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْوَزْنِ، نَقُولُ: لَوْ قَالَ فِي الْوَزْنِ لَظُنَّ أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالْوَزْنِ لِلْغَيْرِ لَا بِالِاتِّزَانِ لِلنَّفْسِ، فَذُكِرَ بِلَفْظِ الْآلَةِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ لَوْ وَزَنَ وَرَجَّحَ رُجْحَانًا ظَاهِرًا يَكُونُ قَدْ أَرْبَى، وَلَا سيما في الصرف وبيع المثل.

[سورة الرحمن (55) : آية 9]

[سورة الرحمن (55) : آية 9] وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ هُوَ بِمَعْنَى لَا تَطْغَوْا فِي الْوَزْنِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ كَالْبَيَانِ لِقَوْلِهِ: أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ إِقَامَتِهِ بِالْعَدْلِ، وَقَوْلُهُ: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَقِيمُوا بِمَعْنَى قُومُوا بِهِ كَمَا فِي قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة: 43] أَيْ قُومُوا بِهَا دَوَامًا، لِأَنَّ الْفِعْلَ تَارَةً يُعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَتَارَةً بِزِيَادَةِ الْهَمْزَةِ، تَقُولُ: أَذْهَبَهُ وَذَهَبَ بِهِ ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ أَقِيمُوا بِمَعْنَى قُومُوا، يُقَالُ: فِي الْعُودِ أَقَمْتُهُ وَقَوَّمْتُهُ، وَالْقِسْطُ الْعَدْلُ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَاءَ قَسَطَ بِمَعْنَى جَارَ لَا بِمَعْنَى عَدَلَ؟ نَقُولُ: الْقِسْطُ اسْمٌ لَيْسَ بِمَصْدَرٍ، وَالْأَسْمَاءُ الَّتِي لَا تَكُونُ مَصَادِرَ إِذَا أَتَى بِهَا آتٍ أَوْ وَجَدَهَا مُوجِدٌ، يُقَالُ فِيهَا: أَفْعَلَ بِمَعْنَى أَثْبَتَ، كَمَا قَالَ: فُلَانٌ أَطْرَفَ وَأَتْحَفَ وَأَعْرَفَ بِمَعْنَى جَاءَ بِطُرْفَةٍ وَتُحْفَةٍ وَعُرْفٍ، وَتَقُولُ: أَقْبَضَ السَّيْفَ بِمَعْنَى أَثْبَتَ لَهُ قَبْضَةً، وَأَعْلَمَ الثَّوْبَ بِمَعْنَى جَعَلَ لَهُ عَلَمًا، وَأَعْلَمَ بِمَعْنَى أَثْبَتَ الْعَلَامَةَ، وَكَذَا أَلْجَمَ الْفَرَسَ وَأَسْرَجَ، فَإِذَا أَمَرَ بِالْقِسْطِ أَوْ أَثْبَتَهُ فَقَدْ أَقْسَطَ، وَهُوَ بِمَعْنَى عَدَلَ، وَأَمَّا قَسَطَ فَهُوَ فَعَلَ مِنَ اسْمٍ لَيْسَ بِمَصْدَرٍ، وَالِاسْمُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَصْدَرًا فِي الْأَصْلِ، وَيُورَدُ عَلَيْهِ فِعْلٌ فَرُبَّمَا يُغَيِّرُهُ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ فِي أَصْلِهِ، مِثَالُهُ الْكَتِفُ إِذَا قُلْتَ كَتَّفْتُهُ كِتَافًا فَكَأَنَّكَ قُلْتَ: أَخْرَجْتُهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الِانْتِفَاعِ وَغَيَّرْتُهُ، فَإِنَّ مَعْنَى كَتَّفْتُهُ شَدَدْتُ كَتِفَيْهِ بَعْضَهُمَا إِلَى بَعْضٍ فَهُوَ مَكْتُوفٌ، فَالْكَتِفُ كَالْقِسْطِ صَارَا مَصْدَرَيْنِ عَنِ اسْمٍ وَصَارَ الْفِعْلُ مَعْنَاهُ تَغَيَّرَ عَنِ الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ، وَعَلَى هَذَا لَا يُحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُقَالَ: الْقَاسِطُ وَالْمُقْسِطُ لَيْسَ أَصْلُهُمَا وَاحِدًا وَكَيْفَ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: أَقْسَطَ بِمَعْنَى أَزَالَ الْقِسْطَ، كَمَا يُقَالُ: أَشْكَى بِمَعْنَى أَزَالَ الشَّكْوَى أَوْ أَعْجَمَ بِمَعْنَى أَزَالَ الْعُجْمَةَ، وَهَذَا الْبَحْثُ فِيهِ فَائِدَةٌ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: فُلَانٌ أَقْسَطُ مِنْ فُلَانٍ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 282] وَالْأَصْلُ فِي أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ تَقُولُ: أَظْلَمُ وَأَعْدَلُ مِنْ ظَالِمٍ وَعَادِلٍ، فَكَذَلِكَ أَقْسَطُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ قَاسِطٍ، وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا الْأَصْلُ الْقِسْطُ، وَقَسَطَ فِعْلٌ فِيهِ لَا عَلَى الْوَجْهِ، وَالْإِقْسَاطُ إِزَالَةُ ذَلِكَ، وَرَدَّ الْقِسْطَ إِلَى أَصْلِهِ، فَصَارَ أَقْسَطُ مُوَافِقًا لِلْأَصْلِ، وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ يُؤْخَذُ مِمَّا هُوَ أَصْلٌ لَا مِنَ الَّذِي فَرْعٌ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ: أَظْلَمُ مِنْ ظَالِمٍ لَا مِنْ مُتَظَلِّمٍ وَأَعْلَمُ مِنْ عَالِمٍ لَا مِنْ مُعَلِّمٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَقْسَطَ وَإِنْ كَانَ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقَاسِطِ، لَكِنَّهُ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُقْسِطِ، لِأَنَّ الْمُقْسِطَ أَقْرَبُ مِنَ الْأَصْلِ الْمُشْتَقِّ وَهُوَ الْقِسْطُ، وَلَا كَذَلِكَ الظَّالِمُ وَالْمُظْلِمُ، فَإِنَّ الْأَظْلَمَ صَارَ مُشْتَقًّا مِنَ الظَّالِمِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْأَصْلِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَكَذَلِكَ الْعَالِمُ والمعلم والخبر والمخبر. ثُمَّ قَالَ: وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ أَيْ لَا تُنْقِصُوا الْمَوْزُونَ. وَالْمِيزَانُ ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلُّ مَرَّةٍ بِمَعْنًى آخَرَ، فَالْأَوَّلُ هُوَ الآلة وَوَضَعَ الْمِيزانَ [الرحمن: 7] ، والثاني بمعنى المصدر أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ [الرحمن: 8] أَيِ الْوَزْنِ، وَالثَّالِثُ لِلْمَفْعُولِ: وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ أَيِ الْمَوْزُونَ، وَذَكَرَ الْكُلَّ بِلَفْظِ الْمِيزَانِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمِيزَانَ أَشْمَلُ لِلْفَائِدَةِ وَهُوَ كَالْقُرْآنِ ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [الْقِيَامَةِ: 18] وَبِمَعْنَى الْمَقْرُوءِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [الْقِيَامَةِ: 17] وَبِمَعْنَى الْكِتَابِ الَّذِي فِيهِ الْمَقْرُوءُ فِي/ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرَّعْدِ: 31] فكأنه آلة ومجل له، وفي قوله تعالى: آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الْحِجْرِ: 87] وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ ذَكَرَ الْقُرْآنَ لِهَذَا

[سورة الرحمن (55) : آية 10]

الْكِتَابِ الْكَرِيمِ، وَبَيْنَ الْقُرْآنِ وَالْمِيزَانِ مُنَاسَبَةٌ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ، وَالْمِيزَانُ فِيهِ مِنَ العدل مالا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْآلَاتِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَقْدِيمِ السَّمَاءِ عَلَى الْفِعْلِ حَيْثُ قَالَ: وَالسَّماءَ رَفَعَها وَتَقْدِيمِ الْفِعْلِ عَلَى الميزان حيث قال: وَوَضَعَ الْمِيزانَ [الرحمن: 7] نَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْ كَلِمَاتِ اللَّه فَوَائِدُ لَا يُحِيطُ بِهَا عِلْمُ الْبَشَرِ إِلَّا مَا ظَهَرَ وَالظَّاهِرُ هاهنا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَدَّ النِّعَمَ الثَّمَانِيَةَ كَمَا بَيَّنَّا وَكَانَ بَعْضُهَا أَشَدَّ اخْتِصَاصًا بِالْإِنْسَانِ مِنْ بَعْضٍ فَمَا كَانَ شَدِيدَ الِاخْتِصَاصِ بِالْإِنْسَانِ قَدَّمَ فِيهِ الْفِعْلَ، كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَقُولُ: أَعْطَيْتُكَ الْأُلُوفَ وَحَصَّلْتُ لَكَ الْعَشَرَاتِ، فَلَا يُصَرِّحُ فِي الْقَلِيلِ بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ: فِي النِّعَمِ الْمُخْتَصَّةِ، أَعْطَيْتُكَ كَذَا، وَفِي التَّشْرِيكِ وَصَلَ إِلَيْكَ مِمَّا اقْتَسَمْتُمْ بَيْنَكُمْ كَذَا، فَيُصَرِّحُ بِالْإِعْطَاءِ عِنْدَ الِاخْتِصَاصِ، وَلَا يُسْنِدُ الْفِعْلَ إلى نفسه عند التشريك، فكذلك هاهنا ذَكَرَ أُمُورًا أَرْبَعَةً بِتَقْدِيمِ الْفِعْلِ، قَالَ تَعَالَى: عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرحمن: 2- 4] وَوَضَعَ الْمِيزانَ [الرَّحْمَنِ: 7] وَأُمُورًا أَرْبَعَةً بِتَقْدِيمِ الِاسْمِ، قَالَ تَعَالَى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ... وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ ... وَالسَّماءَ رَفَعَها ... وَالْأَرْضَ وَضَعَها [الرحمن: 5- 10] لِمَا أَنَّ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ نَفْعُهُ إِلَى الْإِنْسَانِ أَعْوَدُ، وَخَلْقُ الْإِنْسَانِ مُخْتَصٌّ بِهِ، وَتَعْلِيمُهُ الْبَيَانَ كَذَلِكَ وَوَضْعُ الْمِيزَانِ، كَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ، وَلَا غَيْرَ الْإِنْسَانِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَأَمَّا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ وَالسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ فَيَنْتَفِعُ بِهِ كُلُّ حَيَوَانٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وتحت السماء. ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : آية 10] وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّهُ قَدْ مَرَّ أَنَّ تَقْدِيمَ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ كَانَ فِي مَوَاضِعِ عَدَمِ الِاخْتِصَاصِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِلْأَنامِ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، فَإِنَّ اللَّامَ لِعَوْدِ النَّفْعِ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا قِيلَ: إِنَّ الْأَنَامَ يَجْمَعُ الْإِنْسَانَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، فَقَوْلُهُ لِلْأَنامِ لَا يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِالْإِنْسَانِ ثَانِيهِمَا: أَنَّ الْأَرْضَ مَوْضُوعَةٌ لِكُلِّ مَا عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا خَصَّ الْإِنْسَانَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ انْتِفَاعَهُ بِهَا أَكْثَرُ فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهَا وَبِمَا فِيهَا وَبِمَا عَلَيْهَا، فَقَالَ لِلْأَنامِ لِكَثْرَةِ انْتِفَاعِ الْأَنَامِ بِهَا، إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْأَنَامَ هُوَ الْإِنْسَانُ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ الْخَلْقُ فَالْخَلْقُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْإِنْسَانَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ. وقوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : آية 11] فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) إِشَارَةٌ إِلَى الْأَشْجَارِ، وَقَوْلُهُ: وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ [الرَّحْمَنِ: 12] إِشَارَةٌ إِلَى النَّبَاتِ الَّذِي لَيْسَ بِشَجَرٍ وَالْفَاكِهَةُ مَا تَطِيبُ بِهِ النَّفْسُ، وَهِيَ فَاعِلَةٌ إِمَّا عَلَى طريقة: عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21] أَيْ ذَاتُ رِضًى يَرْضَى بِهَا كُلُّ أَحَدٍ، وَإِمَّا عَلَى تَسْمِيَةِ الْآلَةِ بِالْفَاعِلِ يُقَالُ: رَاوِيَةٌ لِلْقِرْبَةِ الَّتِي يُرْوَى بِهَا الْعَطْشَانُ، وَفِيهِ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ كَالرَّاحِلَةِ لِمَا يُرْحَلُ عَلَيْهِ، ثُمَّ صَارَ اسْمًا لِبَعْضِ الثِّمَارِ/ وُضِعَتْ أَوَّلًا مِنْ غَيْرِ اشْتِقَاقِ، وَالتَّنْكِيرُ لِلْتَكْثِيرِ، أَيْ كَثِيرَةٌ كَمَا يُقَالُ لِفُلَانٍ مَالٌ أَيْ عَظِيمٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ دَلَالَةِ التَّنْكِيرِ عَلَى التَّعْظِيمِ وَهُوَ أَنَّ الْقَائِلَ: كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ عَظِيمٌ لَا يُحِيطُ بِهِ مَعْرِفَةُ كُلِّ أَحَدٍ فَتَنْكِيرُهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ أَنْ يُعْرَفَ كُنْهُهُ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ إِشَارَةٌ إِلَى النَّوْعِ الْآخَرِ مِنَ الْأَشْجَارِ، لِأَنَّ الْأَشْجَارَ الْمُثْمِرَةَ أَفْضَلُ الْأَشْجَارِ وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى أَشْجَارِ ثِمَارٍ هِيَ فَوَاكِهُ لَا يُقْتَاتُ بِهَا وَإِلَى أَشْجَارِ ثِمَارٍ هِيَ قُوتٌ وَقَدْ يُتَفَكَّهُ بِهَا، كَمَا أَنَّ الْفَاكِهَةَ قَدْ يُقْتَاتُ بِهَا، فَإِنَّ الْجَائِعَ إِذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَ الْفَوَاكِهِ يَتَقَوَّتُ بِهَا وَيَأْكُلُ غَيْرَ مُتَفَكِّهٍ بِهَا، وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيمِ الْفَاكِهَةِ عَلَى الْقُوتِ؟ نَقُولُ: هُوَ بَابُ الِابْتِدَاءِ بِالْأَدْنَى وَالِارْتِقَاءِ إِلَى الْأَعْلَى، وَالْفَاكِهَةُ فِي النَّفْعِ دُونَ النَّخْلِ الَّذِي مِنْهُ الْقُوتُ، وَالتَّفَكُّهُ وَهُوَ دُونَ الْحَبِّ الَّذِي عَلَيْهِ الْمَدَارُ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَبِهِ يَتَغَذَّى الْأَنَامُ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، فَبَدَأَ بِالْفَاكِهَةِ ثُمَّ ذَكَرَ النَّخْلَ ثُمَّ ذَكَرَ الْحَبَّ الَّذِي هُوَ أَتَمُّ نِعْمَةٍ لِمُوَافَقَتِهِ مِزَاجَ الْإِنْسَانِ، وَلِهَذَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ وَخَصَّصَ النَّخْلَ بِالْبِلَادِ الْحَارَّةِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَنْكِيرِ الْفَاكِهَةِ وَتَعْرِيفِ النَّخْلِ؟ وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْقُوتَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ مُتَدَاوَلٌ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَوَانٍ فَهُوَ أَعْرَفُ وَالْفَاكِهَةُ تَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ وَعِنْدَ بَعْضِ الْأَشْخَاصِ وَثَانِيهَا: هُوَ أَنَّ الْفَاكِهَةَ عَلَى مَا بَيَّنَّا مَا يُتَفَكَّهُ بِهِ وَتَطِيبُ بِهِ النَّفْسُ وَذَلِكَ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِ كُلِّ وَقْتٍ شَيْءٌ، فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حَرَارَةٌ وَعَطَشٌ، يُرِيدُ التَّفَكُّهَ بِالْحَامِضِ وَأَمْثَالِهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُرِيدُ التَّفَكُّهَ بِالْحُلْوِ وَأَمْثَالِهِ، فَالْفَاكِهَةُ غَيْرُ مُتَعَيِّنَةٍ فَنَكَّرَهَا وَالنَّخْلُ وَالْحَبُّ مُعْتَادَانِ مَعْلُومَانِ فَعَرَّفَهُمَا وَثَالِثُهَا: النَّخْلُ وَحْدَهَا نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ تَعَلَّقَتْ بِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ، وَأَمَّا الْفَاكِهَةُ فَنَوْعٌ مِنْهَا كَالْخَوْخِ وَالْإِجَّاصِ مَثَلًا لَيْسَ فِيهِ عَظِيمُ النِّعْمَةِ كَمَا فِي النَّخْلِ، فَقَالَ: فاكِهَةٌ بِالتَّنْكِيرِ لَيَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ وَقَدْ صَرَّحَ بِالْكَثْرَةِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ فَقَالَ: يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ [ص: 51] وَقَالَ: وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الْوَاقِعَةِ: 32، 33] ، فَالْفَاكِهَةُ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَوَصَفَهَا بِالْكَثْرَةِ صَرِيحًا وَذَكَرَهَا مُنَكَّرَةً، لِتُحْمَلَ عَلَى أَنَّهَا مَوْصُوفَةٌ بِالْكَثْرَةِ اللَّائِقَةِ بِالنِّعْمَةِ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنْهَا بِخِلَافِ النَّخْلِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ الْفَاكِهَةِ بِاسْمِهَا لَا بِاسْمِ أَشْجَارِهَا، وَذِكْرِ النَّخْلِ بِاسْمِهَا لَا بِاسْمِ ثَمَرِهَا؟ نَقُولُ: قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ: يس حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ [يس: 34] وَهُوَ أَنَّ شَجَرَةَ الْعِنَبِ، وَهِيَ الْكَرْمُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثَمَرَتِهَا وَهِيَ الْعِنَبُ حَقِيرَةٌ، وَشَجَرَةُ النَّخْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثَمَرَتِهَا عَظِيمَةٌ، وَفِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ الْكَثِيرَةِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنَ اتِّخَاذِ الظُّرُوفِ مِنْهَا وَالِانْتِفَاعِ بِجُمَّارِهَا وَبِالطَّلْعِ وَالْبُسْرِ وَالرُّطَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَثَمَرَتُهَا فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ كَأَنَّهَا ثَمَرَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَهِيَ أَتَمُّ نِعْمَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغَيْرِ مِنَ الْأَشْجَارِ، فَذَكَرَ النَّخْلَ بِاسْمِهِ وَذَكَرَ الْفَاكِهَةَ دُونَ أَشْجَارِهَا، فَإِنَّ فَوَائِدَ أَشْجَارِهَا فِي عَيْنِ ثِمَارِهَا. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: مَا مَعْنَى: ذاتُ الْأَكْمامِ؟ نَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الْأَكْمَامُ كُلُّ مَا يُغَطِّي/ جَمْعُ كُمٍّ بِضَمِّ الْكَافِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ لِحَاؤُهَا وَلِيفُهَا وَنَوَاهَا وَالْكُلُّ مُنْتَفَعٌ بِهِ، كَمَا أَنَّ النَّخْلَ مُنْتَفَعٌ بِهَا وَأَغْصَانِهَا وَقَلْبِهَا الَّذِي هُوَ الْجُمَّارُ ثَانِيهِمَا: الْأَكْمَامُ جَمْعُ كِمٍّ بِكَسْرِ الْكَافِ وَهُوَ وِعَاءُ الطَّلْعِ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَوَّلًا فِي وِعَاءٍ فَيَنْشَقُّ وَيَخْرُجُ مِنْهُ الطَّلْعُ، فَإِنْ قِيلَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: ذاتُ الْأَكْمامِ فِي ذِكْرِهَا فَائِدَةٌ لِأَنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنْوَاعِ النِّعَمِ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِهَا؟ نَقُولُ: الْإِشَارَةُ إِلَى سُهُولَةِ جَمْعِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا فَإِنَّ النَّخْلَةَ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ لَا يُمْكِنُ هَزُّهَا لِتَسْقُطَ مِنْهَا الثَّمَرَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ قَطْفِ الشَّجَرَةِ فَلَوْ كَانَ مِثْلَ الْجُمَّيْزِ الَّذِي يُقَالُ: إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الشَّجَرَةِ مُتَفَرِّقًا وَاحِدَةً لَصَعُبَ قِطَافُهَا فَقَالَ: ذاتُ الْأَكْمامِ أَيْ يَكُونُ فِي كِمٍّ شَيْءٌ كَثِيرٌ إِذَا أُخِذَ عُنْقُودٌ وَاحِدٌ مِنْهُ كَفَى رَجُلًا وَاثْنَيْنِ كَعَنَاقِيدِ الْعِنَبِ، فَانْظُرْ إِلَيْهَا فَلَوْ كَانَ الْعِنَبُ حَبَّاتُهَا فِي الْأَشْجَارِ مُتَفَرِّقَةٌ كَالْجُمَّيْزِ وَالزُّعْرُورِ لَمْ يُمْكِنْ

[سورة الرحمن (55) : آية 12]

جَمْعُهُ بِالْهَزِّ مَتَى أُرِيدَ جَمْعُهُ، فَخَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنَاقِيدَ مُجْتَمِعَةً، كَذَلِكَ الرُّطَبُ فَكَوْنُهَا ذاتُ الْأَكْمامِ من جملة إتمام الإنعام. ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : آية 12] وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) اقْتَصَرَ مِنَ الْأَشْجَارِ عَلَى النَّخْلِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُهَا وَدَخَلَ فِي الْحَبِّ الْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَكُلُّ حَبٍّ يُقْتَاتُ بِهِ خُبْزًا أَوْ يُؤْدَمُ بِهِ بَيَّنَّا أَنَّهُ أَخَّرَهُ فِي الذِّكْرِ عَلَى سَبِيلِ الِارْتِقَاءِ دَرَجَةً فَدَرَجَةً فَالْحُبُوبُ أَنْفَعُ مِنَ النَّخْلِ وَأَعَمُّ وُجُودًا فِي الْأَمَاكِنِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذُو الْعَصْفِ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: التِّبْنُ الَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ دَوَابُّنَا الَّتِي خُلِقَتْ لَنَا ثَانِيهَا: أَوْرَاقُ النَّبَاتِ الَّذِي لَهُ سَاقٌ الْخَارِجَةُ مِنْ جَوَانِبِ السَّاقِ كَأَوْرَاقِ السُّنْبُلَةِ مِنْ أَعْلَاهَا إِلَى أَسْفَلِهَا ثَالِثُهَا: الْعَصْفُ هُوَ وَرَقُ مَا يُؤْكَلُ فَحَسْبُ وَالرَّيْحانُ فِيهِ وُجُوهٌ، قِيلَ: مَا يُشَمُّ وَقِيلَ: الْوَرَقُ، وَقِيلَ: هُوَ الرَّيْحَانُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَنَا وَبَزْرُهُ يَنْفَعُ فِي الْأَدْوِيَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ رَأْسَهَا كَالزَّهْرِ وَهُوَ أَصْلُ وُجُودِ الْمَقْصُودِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الزَّهْرَ يَتَكَوَّنُ بِذَلِكَ الْحَبِّ وَيَنْعَقِدُ إلى أن يدرك فالعصف إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ الْوَرَقِ وَالرَّيْحَانُ إِلَى ذَلِكَ الزَّهْرِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمَا لِأَنَّهُمَا يَؤُولَانِ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلْفَ الدَّوَابِّ، وَمِنَ الْآخَرِ دَوَاءَ الْإِنْسَانِ، وَقُرِئَ الرَّيْحَانُ بِالْجَرِّ مَعْطُوفًا عَلَى الْعَصْفِ، وَبِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى الْحَبِّ وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الرَّيْحَانِ الْمَشْمُومَ فَيَكُونَ أَمْرًا مُغَايِرًا لِلْحَبِّ فَيُعْطَفَ عَلَيْهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ ذُو الرَّيْحَانِ بِحَذْفِ الْمُضَافِ، وإقامة المضاف إليه مقامه كما في: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا، لِيَكُونَ الرَّيْحَانُ الَّذِي خَتَمَ بِهِ أَنْوَاعَ النِّعَمِ الْأَرْضِيَّةِ أَعَزَّ وَأَشْرَفَ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الرَّيْحَانِ هُوَ الْمَعْرُوفَ أَوِ الْمَشْمُومَاتِ لَمَا حَصَلَ ذَلِكَ التَّرْتِيبُ، وَقُرِئَ: وَالرَّيْحانُ وَلَا يَقْرَأُ هَذَا إِلَّا مَنْ يَقْرَأُ: وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَيَعُودُ الوجهان فيه. ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : آية 13] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: الْخِطَابُ مَعَ مَنْ؟ نَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: يُقَالُ: الْأَنَامُ اسْمٌ لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ، فَعَادَ الضَّمِيرُ إِلَى مَا فِي الْأَنَامِ مِنَ الجنس ثانيها: الأنام اسم الإنسان والجان لَمَّا كَانَ مَنْوِيًّا وَظَهَرَ مِنْ بَعْدُ بِقَوْلِهِ: وَخَلَقَ الْجَانَّ [الرَّحْمَنِ: 15] جَازَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ، وَكَيْفَ لَا وَقَدْ جَازَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَنْوِيِّ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ مِنْهُ شَيْءٌ، تَقُولُ: لَا أَدْرِي أَيَّهُمَا خَيْرٌ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ فِي النِّيَّةِ لَا فِي اللَّفْظِ كَأَنَّهُ قَالَ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ الثَّانِي: الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى. فَعَادَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِمَا وَالْخِطَابُ مَعَهُمَا الثَّالِثُ: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تُكَذِّبُ، بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَالْمُرَادُ التَّكْرَارُ لِلتَّأْكِيدِ الرَّابِعُ: الْمُرَادُ الْعُمُومُ، لَكِنَّ الْعَامَّ يَدْخُلُ فِيهِ قِسْمَانِ بِهِمَا يَنْحَصِرُ الْكُلُّ وَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنَ الْعَامِّ خَارِجًا عَنْهُ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ مَنْ يَعْقِلُ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ، أَوْ قُلْتَ: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا ظَهَرَ وَمَا لَمْ يَظْهَرْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّقَاسِيمِ الْحَاصِرَةِ يَلْزَمُ التَّعْمِيمُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا الْقِسْمَانِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَاعْلَمْ أَنَّ التَّقْسِيمَ الْحَاصِرَ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَمْرَيْنِ أَصْلًا وَلَا يَحْصُلُ الْحَصْرُ إِلَّا بِهِمَا، فَإِنْ زَادَ فَهُنَاكَ قِسْمَانِ قَدْ طُوِيَ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ، مِثَالُهُ إِذَا قُلْتَ: اللَّوْنُ إِمَّا سَوَادٌ وَإِمَّا بَيَاضٌ، وَإِمَّا حُمْرَةٌ وَإِمَّا صُفْرَةٌ وَإِمَّا غَيْرُهَا فَكَأَنَّكَ قُلْتَ: اللَّوْنُ إِمَّا أَسْوَدُ وَإِمَّا لَيْسَ بِسَوَادٍ أَوْ إِمَّا بَيَاضٌ، وَإِمَّا لَيْسَ بِبَيَاضٍ، ثُمَّ الَّذِي لَيْسَ بِبَيَاضٍ إِمَّا حُمْرَةٌ وَإِمَّا لَيْسَ بِحُمْرَةٍ

وَكَذَلِكَ إِلَى جُمْلَةِ التَّقْسِيمَاتِ، فَأَشَارَ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْحَاصِرَيْنِ عَلَى أَنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ وَلَا لِشَيْءٍ أَنْ يُنْكِرَ نِعَمَ اللَّهِ الْخَامِسُ: التَّكْذِيبُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَلْبِ دُونَ اللِّسَانِ، كَمَا فِي الْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ يَكُونُ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ كَمَا فِي الْمُعَانِدِينَ وَقَدْ يَكُونُ بِهِمَا جَمِيعًا، فَالْكَذِبُ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ بِاللِّسَانِ أَوْ بِالْقَلْبِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا أَيُّهَا الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَإِنَّ النِّعَمَ بَلَغَتْ حَدًّا لَا يُمْكِنُ الْمُعَانِدُ أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى تَكْذِيبِهَا، السَّادِسُ: الْمُكَذِّبُ مُكَذِّبٌ بِالرَّسُولِ وَالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ الَّتِي بِالْقُرْآنِ وَمُكَذِّبٌ بِالْعَقْلِ وَالْبَرَاهِينِ وَالَّتِي فِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا أَيُّهَا الْمُكَذِّبَانِ بِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، وَقَدْ ظَهَرَتْ آيَاتُ الرِّسَالَةِ فَإِنَّ الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ، وَآيَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَعَلَّمَهُ الْبَيَانَ، وَرَفَعَ السَّمَاءَ وَوَضَعَ الْأَرْضَ السَّابِعُ: الْمُكَذِّبُ قَدْ يَكُونُ مُكَذِّبًا بِالْفِعْلِ وَقَدْ يَكُونُ التَّكْذِيبُ مِنْهُ غَيْرَ وَاقِعٍ بَعْدُ لَكِنَّهُ مُتَوَقَّعٌ فَاللَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا أَيُّهَا الْمُكَذِّبُ تَكْذِبُ وَتَتَلَبَّسُ بِالْكَذِبِ، وَيَخْتَلِجُ فِي صَدْرِكَ أَنَّكَ تَكْذِبُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ قَرِيبَةٌ بَعْضُهَا مِنْ بعض والظاهر منها الثقلان، لذكر هما فِي الْآيَاتِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن: 31] ، وبقوله: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الرَّحْمَنِ: 33] وَبِقَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ [الرحمن: 14، 15] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، (وَالزَّوْجَانِ) لِوُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ كثير وَالتَّعْمِيمُ بِإِرَادَةِ نَوْعَيْنِ حَاصِرَيْنِ لِلْجَمِيعِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: التَّعْمِيمُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمُرَادَ لَوْ كَانَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ اللَّذَّانِ خَاطَبَهُمَا بِقَوْلِهِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مَا كَانَ يَقُولُ بَعْدَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، بَلْ كَانَ يُخَاطِبُ وَيَقُولُ: خَلَقْنَاكَ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مِنْ صَلْصَالٍ وَخَلَقْنَاكَ يَا أَيُّهَا الْجَانُّ أَوْ يَقُولُ: خَلَقَكَ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ/ لِأَنَّ الْكَلَامَ صَارَ خِطَابًا مَعَهُمَا، وَلَمَّا قَالَ الْإِنْسَانُ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ غَيْرُهُ وَهُوَ الْعُمُومُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا الْخَلْقُ وَالسَّامِعُونَ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقْنَا الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ. وَسَيَأْتِي بَاقِي الْبَيَانِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الثَّانِي: مَا الْحِكْمَةُ فِي الْخِطَابِ وَلَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُ مُخَاطَبٍ، نَقُولُ: هُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ إِذْ مَبْنَى افْتِتَاحِ السُّورَةِ عَلَى الْخِطَابِ مَعَ كُلِّ مَنْ يَسْمَعُ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن: 1، 2] قَالَ: اسْمَعُوا أَيُّهَا السَّامِعُونَ، وَالْخِطَابُ لِلتَّقْرِيعِ وَالزَّجْرِ كَأَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ الْغَافِلَ الْمُكَذِّبَ عَلَى أَنَّهُ يَفْرِضُ نَفْسَهُ كَالْوَاقِفِ بَيْنَ يَدَيِ رَبِّهِ يَقُولُ لَهُ رَبُّهُ: أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ بِكَذَا وَكَذَا، ثُمَّ يَقُولُ: فَبِأَيِّ آلَائِي تُكَذِّبُ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عِنْدَ هَذَا يَسْتَحِي اسْتِحْيَاءً لَا يَكُونُ عِنْدَهُ فَرْضُ الْغَيْبَةِ الثَّالِثُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي اخْتِيَارِ لَفْظَةِ الرَّبِّ وَإِذَا خَاطَبَ أَرَادَ خِطَابَ الْوَاحِدِ فَلِمَ قَالَ: رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَهُوَ الْحَاضِرُ الْمُتَكَلِّمُ فَكَيْفَ يَجْعَلُ التَّكْذِيبَ الْمُسْنَدَ إِلَى الْمُخَاطَبِ وَارِدًا عَلَى الْغَائِبِ وَلَوْ قَالَ: بِأَيِّ آلَائِي تُكَذِّبَانِ كَانَ أَلْيَقَ فِي الْخِطَابِ؟ نَقُولُ: فِي السُّورَةِ المتقدمة قال: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ [القمر: 23] وكَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ [الْقَمَرِ: 33] وَقَالَ: كَذَّبُوا بِآياتِنا [القمر: 42] وقال: فَأَخَذْناهُمْ [القمر: 42] وَقَالَ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ [الْقَمَرِ: 21] كُلُّهَا بِالِاسْتِنَادِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ لِلتَّخْوِيفِ فَاللَّهُ تَعَالَى أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَخْشَى فَلَوْ قَالَ: أَخَذَهُمُ الْقَادِرُ أَوِ الْمُهْلِكُ لَمَا كان في التعظيم مثل قوله: فَأَخَذْناهُمْ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28] وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمَشْهُورَ بِالْقُوَّةِ يَقُولُ أَنَا الَّذِي تَعْرِفُنِي فَيَكُونُ فِي إِثْبَاتِ الْوَعِيدِ فَوْقَ قَوْلِهِ أَنَا الْمُعَذِّبُ فَلَمَّا كَانَ الْإِسْنَادُ إِلَى النَّفْسِ مُسْتَعْمَلًا فِي تِلْكَ السُّورَةِ عِنْدَ الْإِهْلَاكِ وَالتَّعْذِيبِ ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ بَيَانِ الرَّحْمَةِ لَفْظٌ يُزِيلُ الْهَيْبَةَ وَهُوَ لَفْظُ الرَّبِّ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَهُوَ رَبَّاكُمَا الرَّابِعُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَكْرِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَكَوْنِهِ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ مَرَّةً؟ نقول: الجواب عنه من وجوه الأول: أن فَائِدَةَ التَّكْرِيرِ التَّقْرِيرُ وَأَمَّا هَذَا الْعَدَدُ الْخَاصُّ فَالْأَعْدَادُ تَوْقِيفِيَّةٌ لَا تَطَّلِعُ

[سورة الرحمن (55) : آية 14]

عَلَى تَقْدِيرِ الْمُقَدَّرَاتِ أَذْهَانُ النَّاسِ وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُبَالِغَ الْإِنْسَانُ فِي اسْتِخْرَاجِ الْأُمُورِ الْبَعِيدَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَمَسُّكًا بِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَيْثُ قَالَ مَعَ نفسه عند قراءته سورة عَبَسَ: كُلُّ هَذَا قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الْأَبُّ ثُمَّ رَفَعَ عَصًا كَانَتْ بِيَدِهِ وَقَالَ هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ التَّكْلِيفُ وَمَا عَلَيْكَ يَا عُمَرُ أَنْ لَا تَدْرِيَ مَا الْأَبُّ ثُمَّ قَالَ: اتَّبِعُوا مَا بُيِّنَ لَكُمْ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَمَا لَا فَدَعُوهُ وَسَيَأْتِي فَائِدَةُ كَلَامِهِ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْجَوَابُ الثَّانِي: مَا قُلْنَاهُ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ لِبَيَانِ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَعْنَى وَثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّكْرِيرِ وَلِلثَّلَاثِ وَالسَّبْعِ مِنْ بَيْنِ الْأَعْدَادِ فَوَائِدُ ذَكَرْنَاهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لُقْمَانَ: 27] فلما ذكرنا الْعَذَابَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ذَكَرَ الْآلَاءَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ مَرَّةً لِبَيَانِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَعْنَى وَثَلَاثِينَ مرة للتقرير الآلاء مَذْكُورَةٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ أَضْعَافَ مَرَّاتِ ذِكْرِ الْعَذَابِ إِشَارَةً إِلَى مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الْأَنْعَامِ: 160] ، الثَّالِثُ: أَنَّ الثَّلَاثِينَ مَرَّةً تَكْرِيرٌ بَعْدَ الْبَيَانِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى لِأَنَّ/ الْخِطَابَ مَعَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَالنِّعَمُ مُنْحَصِرَةٌ فِي دَفْعِ الْمَكْرُوهِ وَتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ، لَكِنَّ أعظم المكروهات عذاب جهنم ولها سبعة أبواب وَأَتَمُّ الْمَقَاصِدِ نَعِيمُ الْجَنَّةِ وَلَهَا ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ فَإِغْلَاقُ الْأَبْوَابِ السَّبْعَةِ وَفَتْحُ الْأَبْوَابِ الثَّمَانِيَةِ جَمِيعُهُ نِعْمَةٌ وَإِكْرَامٌ، فَإِذَا اعْتَبَرْتَ تِلْكَ النِّعَمَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جِنْسَيِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ تَبْلُغُ ثَلَاثِينَ مَرَّةً وَهِيَ مَرَّاتُ التَّكْرِيرِ لِلتَّقْرِيرِ، وَالْمَرَّةُ الْأُولَى لِبَيَانِ فَائِدَةِ الْكَلَامِ، وَهَذَا مَنْقُولٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ نِعَمَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا ذكره اقتصار عَلَى بَيَانِ نِعَمِ الْآخِرَةِ الرَّابِعُ: هُوَ أَنَّ أَبْوَابَ النَّارِ سَبْعَةٌ وَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ سَبْعَ آيَاتٍ تَتَعَلَّقُ بِالتَّخْوِيفِ مِنَ النَّارِ، مِنْ قَوْلِهِ تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرَّحْمَنِ: 31- 44] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ جَنَّتَيْنِ حَيْثُ قَالَ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَنِ: 46] وَلِكُلِّ جَنَّةٍ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ تُفْتَحُ كُلُّهَا لِلْمُتَّقِينَ، وَذَكَرَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ آيَاتِ التَّخْوِيفِ ثَمَانِيَ مَرَّاتٍ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ سَبْعَ مَرَّاتٍ لِلتَّقْرِيرِ بِالتَّكْرِيرِ اسْتِيفَاءً لِلْعَدَدِ الْكَثِيرِ الَّذِي هُوَ سَبْعَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا سَبَبَ اخْتِصَاصِهِ فِي قَوْلِهِ تعالى: سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لقمان: 27] وَسَنُعِيدُ مِنْهُ طَرَفًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَصَارَ الْمَجْمُوعُ ثَلَاثِينَ مَرَّةً الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ الَّتِي هِيَ عَقِيبَ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ لِبَيَانِ الْمَعْنَى وَهُوَ الْأَصْلُ وَالتَّكْثِيرُ تَكْرَارٌ فَصَارَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ مَرَّةً. ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : آية 14] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَفِي الصَّلْصَالِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: هُوَ بِمَعْنَى الْمَسْنُونِ مِنْ صَلَّ اللَّحْمُ إِذَا أَنْتَنَ، وَيَكُونُ الصَّلْصَالُ حِينَئِذٍ مِنَ الصُّلُولِ وَثَانِيهِمَا: مِنَ الصَّلِيلِ يُقَالُ: صَلَّ الْحَدِيدُ صَلِيلًا إِذَا حَدَثَ مِنْهُ صَوْتٌ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ الطِّينُ الْيَابِسُ الَّذِي يَقَعُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَحْدُثُ فِيمَا بَيْنَهُمَا صَوْتٌ، إِذْ هُوَ الطِّينُ اللَّازِبُ الْحَرُّ الَّذِي إِذَا الْتَزَقَ بِالشَّيْءِ ثُمَّ انْفَصَلَ عَنْهُ دَفْعَةً سُمِعَ مِنْهُ عِنْدَ الِانْفِصَالِ صَوْتٌ، فَإِنْ قِيلَ: الْإِنْسَانُ إِذَا خُلِقَ من صلصال كيف ورد في القرآن أنه خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ وَوَرَدَ أَنَّهُ خُلِقَ مِنَ الطِّينِ وَمِنْ حَمَأٍ وَمِنْ مَاءٍ مَهِينٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ نَقُولُ: أَمَّا قَوْلُهُ مِنْ تُرابٍ [الحج: 5] تارة، ومِنْ ماءٍ مَهِينٍ [المرسلات: 20] أُخْرَى، فَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ شَخْصَيْنِ آدَمُ خُلِقَ مِنَ الصَّلْصَالِ وَمِنْ حَمَأٍ وَأَوْلَادُهُ خُلِقُوا مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، وَلَوْلَا خَلْقُ آدَمَ لَمَا خُلِقَ أَوْلَادُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: زَيْدٌ خُلِقَ مِنْ حَمَأٍ بِمَعْنَى أَنَّ أَصْلَهُ الَّذِي هُوَ جَدُّهُ خُلِقَ منه، وأما قوله: مِنْ طِينٍ لازِبٍ [الصافات: 11] ومِنْ حَمَإٍ [الحجر: 26] وَغَيْرُ ذَلِكَ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خُلِقَ أَوَّلًا مِنَ التُّرَابِ، ثُمَّ صَارَ طِينًا ثُمَّ حَمَأً مَسْنُونًا ثُمَّ لَازِبًا،

[سورة الرحمن (55) : الآيات 15 إلى 16]

فَكَأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ هَذَا وَمِنْ ذَاكَ، وَمِنْ ذَلِكَ، وَالْفَخَّارُ الطِّينُ الْمَطْبُوخُ بِالنَّارِ وَهُوَ الْخَزَفُ مُسْتَعْمَلٌ عَلَى أَصْلِ الِاشْتِقَاقِ، وَهُوَ مُبَالَغَةُ الْفَاخِرِ كَالْعَلَّامِ فِي الْعَالِمِ، وَذَلِكَ أَنَّ التُّرَابَ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ التَّفَتُّتُ إِذَا صَارَ بِحَيْثُ يُجْعَلُ ظَرْفَ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ وَلَا يَتَفَتَّتُ وَلَا يَنْقَعُ فكأنه يفخر على أفراد جنسه. / ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 15 الى 16] وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) وَفِي الْجَانِّ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: هُوَ أَبُو الْجِنِّ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ الْمَذْكُورَ هُنَا هُوَ أَبُو الْإِنْسِ وَهُوَ آدَمُ ثَانِيهِمَا: هُوَ الْجِنُّ بِنَفْسِهِ فَالْجَانُّ وَالْجِنُّ وَصْفَانِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، كَمَا يُقَالُ: مِلْحٌ وَمَالِحٌ، أَوْ نَقُولُ الْجِنُّ اسْمُ الْجِنْسِ كَالْمِلْحِ وَالْجَانُّ مِثْلُ الصِّفَةِ كَالْمَالِحِ. وَفِيهِ بَحْثٌ: وَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: جُنَّ الرَّجُلُ وَلَا يُعْلَمُ لَهُ فَاعِلٌ يبني الفعل معه على المذكور، و. أصل ذَلِكَ جَنَّهُ الْجَانُّ فَهُوَ مَجْنُونٌ، فَلَا يُذْكَرُ الْفَاعِلُ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ، وَيُقْتَصَرُ عَلَى قَوْلِهِمْ: جُنَّ فَهُوَ مَجْنُونٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْقَائِلَ الْأَوَّلَ لَا يَقُولُ: الْجَانُّ اسْمُ عَلَمٍ لِأَنَّ الْجَانَّ لِلْجِنِّ كَآدَمَ لَنَا، وَإِنَّمَا يَقُولُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْجَانِّ أَبُوهُمْ، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِنْسَانِ أَبُونَا آدَمُ، فَالْأَوَّلُ مِنَّا خُلِقَ مِنْ صَلْصَالٍ، وَمَنْ بَعْدَهُ خُلِقَ مِنْ صُلْبِهِ، كَذَلِكَ الْجِنُّ الْأَوَّلُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ، وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ خُلِقَ مِنْ مَارِجٍ، وَالْمَارِجُ الْمُخْتَلِطُ ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَارِجَ هُوَ النَّارُ الْمَشُوبَةُ بِدُخَانٍ وَالثَّانِي: النَّارُ الصَّافِيَةُ وَالثَّانِي أَصَحُّ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى أَمَّا اللَّفْظُ: فَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ أَيْ نَارٍ مَارِجَةٍ، وَهَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ: هُوَ مَصُوغٌ مِنْ ذَهَبٍ فَإِنَّ قَوْلَهُ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ بَيَانُ تَنَاسُبِ الْأَخْلَاطِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى الْكُلُّ مِنْ ذَهَبٍ غَيْرَ أَنَّهُ يَكُونُ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً مُخْتَلِطَةً بِخِلَافِ مَا إِذَا قُلْتَ: هَذَا قَمْحٌ مُخْتَلِطٌ فَلَكَ أَنْ تَقُولَ: مُخْتَلِطٌ بِمَاذَا فَيَقُولُ: مِنْ كَذَا وَكَذَا فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: مِنْ قَمْحٍ وَكَانَ مِنْهُ وَمِنْ وغيره أيضا لكان اقتصاره عليه مختلط بِمَا طُلِبَ مِنَ الْبَيَانِ وَأَمَّا الْمَعْنَى: فَلَأَنَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ [الرحمن: 14] أَيْ مِنْ طِينٍ حَرٍّ كَذَلِكَ بَيَّنَ أَنَّ خَلْقَ الْجَانِّ مِنْ نَارٍ خَالِصَةٍ فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ: مارِجٍ بِمَعْنَى مُخْتَلَطٍ مَعَ أَنَّهُ خَالِصٌ؟ نَقُولُ: النَّارُ إِذَا قَوِيَتِ الْتَهَبَتْ، وَدَخَلَ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ كَالشَّيْءِ الْمُمْتَزِجِ امْتِزَاجًا جَيِّدًا لَا تُمَيِّزُ فِيهِ بَيْنَ الْأَجْزَاءِ الْمُخْتَلِطَةِ وَكَأَنَّهُ مِنْ حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا فِي الطِّينِ الْمُخْتَمِرِ، وَذَلِكَ يَظْهَرُ فِي التَّنُّورِ الْمَسْجُورِ، إِنْ قَرُبَ مِنْهُ الْحَطَبُ تَحْرِقُهُ فَكَذَلِكَ مَارِجٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ لَا يُعْقَلُ بَيْنَ أَجْزَائِهَا دُخَانٌ وَأَجْزَاءٌ أَرْضِيَّةٌ، وَسَنُبَيِّنُ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ [الرحمن: 19] فَإِنْ قِيلَ: الْمَقْصُودُ تَعْدِيدُ النِّعَمِ عَلَى الْإِنْسَانِ، فَمَا وَجْهُ بَيَانِ خَلْقِ الْجَانِّ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عندي مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: مَا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: رَبِّكُما خِطَابٌ مَعَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُعَدِّدُ عَلَيْهِمَا النِّعَمَ بَلْ عَلَى الْإِنْسَانِ وَحْدَهُ ثَانِيهَا: أَنَّهُ بَيَانُ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْإِنْسَانِ، حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ أَصْلٍ كَثِيفٍ كَدِرٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ أَصْلٍ لَطِيفٍ، وَجُعِلَ الْإِنْسَانُ أَفْضَلَ مِنَ الْجَانِّ فَإِنَّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَى أَصْلِهِ، عَلِمَ أَنَّهُ مَا نَالَ الشَّرَفَ إِلَّا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يُكَذِّبُ بِآلَاءِ اللَّهِ ثَالِثُهَا: أَنَّ الْآيَةَ مَذْكُورَةٌ لِبَيَانِ الْقُدْرَةِ لَا لِبَيَانِ النِّعْمَةِ، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ النِّعَمَ الثَّمَانِيَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، فَكَأَنَّهُ ذَكَرَ الثَّمَانِيَةَ لِبَيَانِ خُرُوجِهَا عَنِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ الَّذِي هُوَ سَبْعَةٌ وَدُخُولُهَا فِي/ الزِّيَادَةِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الثَّمَانِيَةُ كَمَا بَيَّنَّا وَقُلْنَا إِنَّ الْعَرَبَ عِنْدَ الثَّامِنِ تَذْكُرُ الْوَاوَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الثَّامِنَ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ، فَبَعْدَ تَمَامِ السَّبْعَةِ الْأُوَلِ شَرَعَ فِي بَيَانِ قُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ، وَقَالَ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ تُرَابٍ والجان من نار: (فبأي آلاء) الْكَثِيرَةِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي سَبَقَتْ مِنَ السَّبْعَةِ،

[سورة الرحمن (55) : الآيات 17 إلى 18]

وَالَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الثَّامِنَةُ: (تُكَذِّبَانِ) وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الثَّمَانِيَةُ وَإِلَى قَوْلِهِ: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن: 29، 30] ، يَظْهَرُ لَكَ صِحَّةَ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ بَيَّنَ قُدْرَتَهُ وَعَظَمَتَهُ ثُمَّ يَقُولُ: فَبِأَيِّ تِلْكَ الْآلَاءِ الَّتِي عَدَدْتُهَا أَوَّلًا تُكَذِّبَانِ، وَسَنَذْكُرُ تَمَامَهُ عِنْدَ تلك الآيات. ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 17 الى 18] رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) وَفِيهِ وُجُوهٌ أَوَّلُهَا مَشْرِقُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَغْرِبُهُمَا، وَالْبَيَانُ حِينَئِذٍ فِي حُكْمِ إِعَادَةِ مَا سَبَقَ مَعَ زِيَادَةٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ [الرحمن: 5] دَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُمَا مَشْرِقَيْنِ وَمَغْرِبَيْنِ، وَلَمَّا ذكر: خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرحمن: 3، 4] دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ شَيْءٍ فَبَيَّنَ أَنَّهُ الصَّلْصَالُ الثَّانِي: مَشْرِقُ الشِّتَاءِ وَمَشْرِقُ الصَّيْفِ فَإِنْ قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِصَاصِهِمَا مَعَ أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لِلشَّمْسِ مَشْرِقٌ وَمَغْرِبٌ يُخَالِفُ بَعْضُهَا الْبَعْضَ؟ نَقُولُ: غَايَةُ انْحِطَاطِ الشَّمْسِ فِي الشِّتَاءِ وَغَايَةُ ارْتِفَاعِهَا فِي الصَّيْفِ وَالْإِشَارَةُ إِلَى الطَّرَفَيْنِ تَتَنَاوَلُ مَا بَيْنَهُمَا فَهُوَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ فِي وَصْفِ مَلِكٍ عَظِيمٍ لَهُ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ وَيُفْهَمُ أَنَّ لَهُ مَا بَيْنَهُمَا أَيْضًا الثَّالِثُ: التَّثْنِيَةُ إِشَارَةٌ إِلَى النَّوْعَيْنِ الْحَاصِرَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فَإِنَّهُ يَنْحَصِرُ فِي قِسْمَيْنِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: رَبُّ مَشْرِقِ الشَّمْسِ وَمَشْرِقِ غَيْرِهَا فَهُمَا مَشْرِقَانِ فَتَنَاوَلَ الْكُلَّ، أَوْ يُقَالُ: مَشْرِقُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَا يغرض إِلَيْهِمَا الْعَاقِلُ مِنْ مَشْرِقِ غَيْرِهِمَا فَهُوَ تَثْنِيَةٌ في معنى الجمع. ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 19 الى 21] مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا فَنَقُولُ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ وَهُمَا حَرَكَتَانِ فِي الْفَلَكِ نَاسَبَ ذَلِكَ ذِكْرَ الْبَحْرَيْنِ لِأَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يَجْرِيَانِ فِي الْفَلَكِ كَمَا يَجْرِي الْإِنْسَانُ فِي الْبَحْرِ قَالَ تَعَالَى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 33] فَذَكَرَ الْبَحْرَيْنِ عَقِيبَ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ وَلِأَنَّ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ فِيهِمَا إِشَارَةٌ إِلَى الْبَحْرِ لِانْحِصَارِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، لَكِنَّ الْبَرَّ كَانَ مَذْكُورًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ وَضَعَها [الرَّحْمَنِ: 10] فَذَكَرَ هاهنا مَا لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَرَجَ، إِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا كَانَ بِمَعْنَى خَلَطَ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ فَكَيْفَ قَالَ تَعَالَى: مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرحمن: 15] وَلَمْ يَقُلْ: مِنْ مَمْرُوجٍ؟ نَقُولُ: مَرَجَ مُتَعَدٍّ وَمَرِجَ بِكَسْرِ الرَّاءِ لَازِمٌ فَالْمَارِجُ وَالْمَرِيجُ مِنْ مَرِجَ يَمْرَجُ كَفَرِحَ يَفْرَحُ، وَالْأَصْلُ فِي فَعَلَ أَنْ يَكُونَ غَرِيزِيًّا وَالْأَصْلُ فِي الْغَرِيزِيِّ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا، وَيَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْغَرِيزِيِّ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: في البحرين وجوه أحدها: بحر السماء وبحر الْأَرْضِ ثَانِيهَا: الْبَحْرُ الْحُلْوُ وَالْبَحْرُ الْمَالِحُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ [فَاطِرٍ: 12] وَهُوَ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ مِنَ الْأَوَّلِ ثَالِثُهَا: مَا ذُكِرَ فِي الْمَشْرِقَيْنِ وَفِي قَوْلِهِ: تُكَذِّبانِ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى النَّوْعَيْنِ الْحَاصِرَيْنِ فَدَخَلَ فِيهِ

بَحْرُ السَّمَاءِ وَبَحْرُ الْأَرْضِ وَالْبَحْرُ الْعَذْبُ وَالْبَحْرُ الْمَالِحُ، رَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِي الْأَرْضِ بِحَارًا تُحِيطُ بِهَا الْأَرْضُ وَبِبَعْضِ جَزَائِرِهَا يُحِيطُ الْمَاءُ وَخَلَقَ بَحْرًا مُحِيطًا بِالْأَرْضِ وَعَلَيْهِ الْأَرْضُ وَأَحَاطَ بِهِ الْهَوَاءَ كَمَا قَالَ بِهِ أَصْحَابُ عِلْمِ الْهَيْئَةِ وَوَرَدَ بِهِ أَخْبَارٌ مَشْهُورَةٌ، وَهَذِهِ البِّحَارُ الَّتِي فِي الْأَرْضِ لَهَا اتِّصَالٌ بِالْبَحْرِ الْمُحِيطِ، ثُمَّ إِنَّهُمَا لَا يَبْغِيَانِ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا يُغَطِّيَانِهَا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَكُونَ الْأَرْضُ بَارِزَةً يَتِّخَذُهَا الْإِنْسَانُ مَكَانًا وَعِنْدَ النَّظَرِ إِلَى أَمْرِ الْأَرْضِ يَحَارُ الطَّبِيعِيُّ وَيَتَلَجْلَجُ فِي الْكَلَامِ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ مَوْضِعُ الْأَرْضِ بِطَبْعِهِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَرْكَزِ وَيَكُونُ الْمَاءُ مُحِيطًا بِجَمِيعِ جَوَانِبِهِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: فَكَيْفَ ظَهَرَتِ الْأَرْضُ مِنَ الْمَاءِ وَلَمْ تَرْسُبْ يَقُولُونَ لِانْجِذَابِ الْبِحَارِ إِلَى بَعْضِ جَوَانِبِهَا، فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا انْجَذَبَ؟ فَالَّذِي يَكُونُ عِنْدَهُ قَلِيلٌ مِنَ الْعَقْلِ يَرْجِعُ إِلَى الْحَقِّ وَيَجْعَلُهُ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ، وَالَّذِي يَكُونُ عَدِيمَ الْعَقْلِ يَجْعَلُ سَبَبَهُ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَأَوْضَاعِهَا وَاخْتِلَافِ مُقَابَلَاتِهَا، وَيَنْقَطِعُ فِي كُلِّ مَقَامٍ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَفِي آخِرِ الْأَمْرِ إِذَا قِيلَ لَهُ: أَوْضَاعُ الْكَوَاكِبِ لِمَ اخْتَلَفَتْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْجَبَ الْبَرْدَ فِي بَعْضِ الْأَرْضِ دُونَ بَعْضٍ آخَرَ صَارَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [الْبَقَرَةِ: 258] وَيَرْجِعُ إِلَى الْحَقِّ إِنْ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا كَانَ الْمَرَجُ بِمَعْنَى الْخَلْطِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَلْتَقِيانِ؟ نَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أَيْ أَرْسَلَ بَعْضَهُمَا فِي بَعْضٍ وَهُمَا عِنْدَ الْإِرْسَالِ بِحَيْثُ يَلْتَقِيَانِ أَوْ مِنْ شَأْنِهِمَا الِاخْتِلَاطُ وَالِالْتِقَاءُ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَهُمَا عَمَّا فِي طَبْعِهِمَا، وَعَلَى هَذَا يَلْتَقِيَانِ حَالٌ مِنَ البحرين، ويحتمل أن يقال: من محذوف تقديره تَرْكُهُمَا فَهُمَا يَلْتَقِيَانِ إِلَى الْآنَ وَلَا يَمْتَزِجَانِ وَعَلَى الْأَوَّلِ: فَالْفَائِدَةُ إِظْهَارُ الْقُدْرَةِ فِي النَّفْعِ فَإِنَّهُ إِذَا أَرْسَلَ الْمَاءَيْنِ بَعْضَهُمَا عَلَى بَعْضٍ وَفِي طَبْعِهِمَا بِخَلْقِ اللَّهِ وَعَادَتُهُ السَّيَلَانُ وَالِالْتِقَاءُ وَيَمْنَعُهُمَا الْبَرْزَخُ الَّذِي هُوَ قُدْرَةُ اللَّهِ أَوْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ، يَكُونُ أَدَلَّ عَلَى الْقُدْرَةِ مِمَّا إِذَا لَمْ يَكُونَا عَلَى حَالِ يَلْتَقِيَانِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَسْأَلَةٍ حِكْمِيَّةٍ وَهِيَ: أَنَّ الْحُكَمَاءَ اتفقوا على أن الماء له حيز واحد بعضه ينجذب إلى بعض كأجزاء الزئبق غير أن عند الْحُكَمَاءَ الْمُحَقِّقِينَ ذَلِكَ بِإِجْرَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعِنْدَ مَنْ يَدَّعِي الْحِكْمَةَ وَلَمْ يُوَفِّقْهُ اللَّهُ مِنَ الطَّبِيعِيِّينَ يَقُولُ: ذَلِكَ لَهُ بِطَبْعِهِ، فَقَوْلُهُ: يَلْتَقِيانِ أَيْ مِنْ شَأْنِهِمَا أَنْ يَكُونَ مَكَانُهُمَا وَاحِدًا، ثُمَّ إِنَّهُمَا بَقِيَا/ فِي مَكَانٍ مُتَمَيِّزَيْنِ فَذَلِكَ بُرْهَانُ الْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: الْفَائِدَةُ فِي بَيَانِ الْقُدْرَةِ أَيْضًا عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الِاخْتِلَاطِ، فَإِنَّ الْمَاءَيْنِ إِذَا تَلَاقَيَا لَا يَمْتَزِجَانِ فِي الْحَالِ بَلْ يَبْقَيَانِ زَمَانًا يَسِيرًا كَالْمَاءِ الْمُسَخَّنِ إِذَا غُمِسَ إِنَاءٌ مَمْلُوءٌ مِنْهُ فِي مَاءٍ بَارِدٍ إِنْ لَمْ يَمْكُثْ فِيهِ زَمَانًا لَا يَمْتَزِجُ بِالْبَارِدِ، لَكِنْ إِذَا دَامَ مُجَاوَرَتُهُمَا فَلَا بُدَّ مِنَ الِامْتِزَاجِ فَقَالَ تَعَالَى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ خَلَّاهُمَا ذَهَابًا إِلَى أَنْ يلتقيان ولا يمتزجان فَذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ إِشَارَةً إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَنْعِهِ إِيَّاهُمَا مِنَ الْجَرَيَانِ عَلَى عَادَتِهِمَا، وَالْبَرْزَخُ الْحَاجِزُ وَهُوَ قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْبَعْضِ وَبِقُدْرَةِ اللَّهِ فِي الْبَاقِي، فَإِنَّ الْبَحْرَيْنِ قَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ أَرْضِيٌّ مَحْسُوسٌ وَقَدْ لَا يَكُونُ، وَقَوْلُهُ: لَا يَبْغِيانِ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مِنَ الْبَغْيِ أَيْ لَا يَظْلِمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِخِلَافِ قَوْلِ الطَّبِيعِيِّ حَيْثُ يَقُولُ: الْمَاءَانِ كِلَاهُمَا جُزْءٌ وَاحِدٌ، فَقَالَ: هُمَا لَا يَبْغِيانِ ذَلِكَ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يُقَالَ: لَا يَبْغِيَانِ مِنَ الْبَغْيِ بِمَعْنَى الطَّلَبِ أَيْ لَا يَطْلُبَانِ شَيْئًا، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُو أَنْ يُقَالَ: إِنَّ يَبْغِيَانِ لَا مَفْعُولَ لَهُ مُعَيَّنٌ، بَلْ هُوَ بَيَانُ أَنَّهُمَا لَا يَبْغِيَانِ فِي ذَاتِهِمَا وَلَا يَطْلُبَانِ شَيْئًا أَصْلًا، بِخِلَافِ مَا يَقُولُ الطَّبِيعِيُّ: إِنَّهُ يَطْلُبُ الْحَرَكَةَ والسكون في موضع عن موضع. ثم قال تعالى:

[سورة الرحمن (55) : الآيات 22 إلى 23]

[سورة الرحمن (55) : الآيات 22 الى 23] يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْقِرَاءَاتِ الَّتِي فِيهَا قُرِئَ يَخْرُجُ مِنْ خَرَجَ وَيُخْرَجُ بِفَتْحِ الرَّاءِ مِنْ أَخْرَجَ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَاللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانِ مَرْفُوعَانِ وَيُخْرِجُ بِكَسْرِ الرَّاءِ بِمَعْنَى يُخْرِجُ اللَّهُ وَنُخْرِجُ بِالنُّونِ الْمَضْمُومَةِ وَالرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ، وَعَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ يُنْصَبُ اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ، اللُّؤْلُؤُ كِبَارُ الدُّرِّ وَالْمَرْجَانُ صِغَارُهُ وَقِيلَ: الْمَرْجَانُ هُوَ الْحَجَرُ الْأَحْمَرُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اللُّؤْلُؤُ لَا يَخْرُجُ إِلَّا مِنَ الْمَالِحِ فَكَيْفَ قَالَ: مِنْهُمَا؟ نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ النَّاسِ الَّذِي لَا يُوثَقُ بِقَوْلِهِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ اللُّؤْلُؤَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَاءِ الْعَذْبِ وَهَبْ أَنَّ الْغَوَّاصِينَ مَا أَخْرَجُوهُ إِلَّا مِنَ الْمَالِحِ وَمَا وَجَدُوهُ إِلَّا فِيهِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ لَا يُوجَدَ فِي الْغَيْرِ سَلَّمْنَا لِمَ قُلْتُمْ: أَنَّ الصَّدَفَ يَخْرُجُ بِأَمْرِ اللَّهِ مِنَ الْمَاءِ الْعَذْبِ إِلَى الْمَاءِ الْمَالِحِ وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْجَزْمُ وَالْأُمُورُ الْأَرْضِيَّةُ الظَّاهِرَةُ خَفِيَتْ عَنِ التُّجَّارِ الَّذِينَ قَطَعُوا الْمَفَاوِزَ وَدَارُوا الْبِلَادَ فَكَيْفَ لَا يَخْفَى أَمْرُ مَا فِي قَعْرِ الْبَحْرِ عَلَيْهِمْ ثَانِيهِمَا: أَنْ نَقُولَ: إِنْ صَحَّ قَوْلُهُمْ فِي اللُّؤْلُؤِ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ إِلَّا مِنَ الْبَحْرِ الْمَالِحِ فَنَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّدَفَ لَا يَتَوَلَّدُ فِيهِ اللُّؤْلُؤُ إِلَّا مِنَ الْمَطَرِ وَهُوَ بَحْرُ السَّمَاءِ ثَانِيهَا: أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ فِي مُلْتَقَاهُمَا ثُمَّ يَدْخُلُ الصَّدَفَ فِي الْمَالِحِ عِنْدَ انْعِقَادِ الدُّرِّ فِيهِ طَالِبًا لِلْمُلُوحَةِ كَالْمُتَوَحِّمَةِ الَّتِي تَشْتَهِي الْمُلُوحَةَ أَوَائِلَ/ الْحَمْلِ فَيَثْقُلُ هُنَاكَ فَلَا يُمْكِنُهُ الدُّخُولُ فِي الْعَذْبِ ثَالِثُهَا: أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ إِنَّمَا كَانَ يَرِدُ أَنْ لَوْ قَالَ: يَخْرُجُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا لَا يَرِدُ إِذِ الْخَارِجُ مِنْ أَحَدِهِمَا مَعَ أَنَّ أَحَدَهُمَا مُبْهَمٌ خَارِجٌ مِنْهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نُوحٍ: 16] يُقَالُ: فُلَانٌ خَرَجَ مِنْ بِلَادِ كَذَا وَدَخَلَ فِي بِلَادِ كَذَا وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَّا مِنْ مَوْضِعٍ مِنْ بَيْتٍ مِنْ مَحَلَّةٍ فِي بَلْدَةٍ رَابِعُهَا: أَنَّ (مِنْ) ليست لابتداء شيء كما يقال: خرجت الْكُوفَةِ بَلْ لِابْتِدَاءٍ عَقْلِيٍّ كَمَا يُقَالُ: خُلِقَ آدَمُ مِنْ تُرَابٍ وَوُجِدَتِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فَكَذَلِكَ اللُّؤْلُؤُ يَخْرُجُ مِنَ الْمَاءِ أَيْ مِنْهُ يَتَوَلَّدُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَيُّ نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ فِي اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ حَتَّى يَذْكُرَهُمَا اللَّهُ مَعَ نِعْمَةِ تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَخَلْقِ الْإِنْسَانِ؟ وَفِي الْجَوَابِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ: النِّعَمُ مِنْهَا خَلْقُ الضَّرُورِيَّاتِ كَالْأَرْضِ الَّتِي هِيَ مَكَانُنَا وَلَوْلَا الْأَرْضُ لَمَا أَمْكَنَ وُجُودُ التَّمْكِينِ وَكَذَلِكَ الرُّزْقُ الَّذِي بِهِ الْبَقَاءُ وَمِنْهَا خَلْقُ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَرُورِيًّا كَأَنْوَاعِ الْحُبُوبِ وَإِجْرَاءِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَمِنْهَا النَّافِعُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ كَأَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ وَخَلْقِ الْبِحَارِ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ [الْبَقَرَةِ: 164] وَمِنْهَا الزِّينَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَافِعًا كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها [فَاطِرٍ: 12] فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنْوَاعَ النِّعَمِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةِ وَصَدَّرَهَا بِالْقُوَّةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ الروح وهي العلم بقوله: عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن: 2] وَالثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: هَذِهِ بَيَانُ عَجَائِبِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بَيَانُ النِّعَمِ، وَالنِّعَمُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا هُنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ صَلْصَالٍ، وَخَلْقَ الْجَانِّ مِنْ نَارٍ، مِنْ بَابِ الْعَجَائِبِ لَا مِنْ بَابِ النِّعَمِ، وَلَوْ خَلَقَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ لَكَانَ إِنْعَامًا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْأَرْكَانُ أَرْبَعَةٌ، التُّرَابُ وَالْمَاءُ وَالْهَوَاءُ وَالنَّارُ فَاللَّهُ تَعَالَى

[سورة الرحمن (55) : الآيات 24 إلى 25]

بين بقوله: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ [الرحمن: 14] أَنَّ الْإِنْسَانَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ وَطِينٍ وَبَيَّنَ بقوله: خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرحمن: 15] أَنَّ النَّارَ أَيْضًا أَصْلٌ لِمَخْلُوقٍ عَجِيبٍ، وَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ أَنَّ الْمَاءَ أَصْلٌ لِمَخْلُوقٍ آخَرَ، كَالْحَيَوَانِ عَجِيبٌ، بَقِيَ الْهَوَاءُ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَحْسُوسٍ، فَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَصْلُ مَخْلُوقٍ بَلْ بَيَّنَ كَوْنَهُ مَنْشَأً لِلْجَوَارِي فِي البحر كالأعلام. فقال: [سورة الرحمن (55) : الآيات 24 الى 25] وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْفَائِدَةُ في جعل الجواري خاصة له وله السموات وَمَا فِيهَا وَالْأَرْضُ وَمَا عَلَيْهَا؟ نَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ مَعَ الْعَوَامِّ، فَذَكَرَ مَا لَا يَغْفَلُ عَنْهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ فَضْلًا عَنِ الْفَاضِلِ الذَّكِيِّ، فَقَالَ: لَا شَكَّ أَنَّ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لَا يَمْلِكُهُ فِي الْحَقِيقَةِ أَحَدٌ إِذْ لَا تَصَرُّفَ لِأَحَدٍ فِي هَذَا الْفُلْكِ وَإِنَّمَا كُلُّهُمْ مُنْتَظِرُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَأَرْوَاحَهُمْ فِي قَبْضَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَقُولُونَ لَكَ: الْفُلْكُ وَلَكَ الْمُلْكُ وَيَنْسِبُونَ الْبَحْرَ وَالْفُلْكَ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا وَنَظَرُوا إِلَى/ بُيُوتِهِمُ الْمَبْنِيَّةِ بِالْحِجَارَةِ وَالْكِلْسِ وَخَفِيَ عَلَيْهِمْ وُجُوهُ الْهَلَاكِ، يَدْعُونَ مَالِكَ الْفُلْكِ، وَيَنْسِبُونَ مَا كَانُوا يَنْسِبُونَ الْبَحْرَ وَالْفُلْكَ إِلَيْهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ [الْعَنْكَبُوتِ: 65] الْآيَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: (الْجَوَارِي) جَمْعُ جَارِيَةٍ، وَهِيَ اسْمٌ لِلسَّفِينَةِ أَوْ صِفَةٌ، فَإِنْ كَانَتِ اسْمًا لَزِمَ الِاشْتِرَاكُ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَإِنْ كَانَتْ صِفَةً الْأَصْلُ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ جَارِيَةً عَلَى الْمَوْصُوفِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَوْصُوفَ هُنَا، فَنَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِلَّتِي تَجْرِي وَنُقِلَ عَنِ الْمَيْدَانِيِّ أَنَّ الْجَارِيَةَ السَّفِينَةُ الَّتِي تَجْرِي لِمَا أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْجَرْيِ، وَسُمِّيَتِ الْمَمْلُوكَةُ جَارِيَةً لِأَنَّ الْحُرَّةَ تُرَادُ لِلسَّكَنِ وَالِازْدِوَاجِ، وَالْمَمْلُوكَةُ لِتَجْرِيَ فِي الْحَوَائِجِ، لَكِنَّهَا غَلَبَتِ السَّفِينَةَ، لِأَنَّهَا فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهَا تَجْرِي، وَدَلَّ الْعَقْلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ السَّفِينَةَ هِيَ الَّتِي تَجْرِي غَيْرَ أَنَّهَا غَلَبَتْ بِسَبَبِ الِاشْتِقَاقِ عَلَى السَّفِينَةِ الْجَارِيَةِ، ثُمَّ صَارَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تَجْرِ، حَتَّى يُقَالُ: لِلسَّفِينَةِ السَّاكِنَةِ أَوِ الْمَشْدُودَةِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ جَارِيَةٌ، لِمَا أَنَّهَا تَجْرِي، وَلِلْمَمْلُوكَةِ الْجَالِسَةِ جَارِيَةٌ لِلْغَلَبَةِ، تُرِكَ الْمَوْصُوفُ، وأقيمت الصفة مقامه فقوله تعالى: وَلَهُ الْجَوارِ أَيِ السُّفُنُ الْجَارِيَاتُ، عَلَى أَنَّ السَّفِينَةَ أَيْضًا فَعِيلَةٌ مِنَ السَّفَنِ وَهُوَ النَّحْتُ، وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ عِنْدَ ابْنِ دُرَيْدٍ أَيْ تَسْفِنُ الْمَاءَ، أَوْ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ عِنْدَ غَيْرِهِ بِمَعْنَى مَنْحُوتَةٍ فَالْجَارِيَةُ وَالسَّفِينَةُ جَارِيَتَانِ عَلَى الْفُلْكِ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ لَفْظِيَّةٌ: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِاتِّخَاذِ السَّفِينَةِ، قَالَ: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا [هُودٍ: 37] فَفِي أَوَّلِ الْأَمْرِ قَالَ لَهَا: الْفُلْكُ لِأَنَّهَا بَعْدُ لَمْ تكن جرت، ثم سماها بعد ما عَمِلَهَا سَفِينَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ [الْعَنْكَبُوتِ: 15] وَسَمَّاهَا جَارِيَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الْحَاقَّةِ: 11] وَقَدْ عَرَفْنَا أَمْرَ الْفُلْكِ وَجَرْيَهَا وَصَارَتْ كَالْمُسَمَّاةِ بِهَا، فَالْفُلْكُ قَبْلَ الْكُلِّ، ثُمَّ السَّفِينَةُ ثم الجارية. المسألة الثالثة: ما معنى المنشآت؟ نَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الْمَرْفُوعَاتُ مِنْ نَشَأَتِ السحابة إذا ارتفعت، وأنشأ اللَّهُ إِذَا رَفَعَهُ وَحِينَئِذٍ إِمَّا هِيَ بِأَنْفِسِهَا مُرْتَفِعَةٌ فِي الْبَحْرِ، وَإِمَّا مَرْفُوعَاتُ الشِّرَاعِ وَثَانِيهِمَا:

[سورة الرحمن (55) : آية 26]

الْمُحْدَثَاتُ الْمَوْجُودَاتُ مِنْ أَنْشَأَ اللَّهُ الْمَخْلُوقَ أَيْ خَلَقَهُ فَإِنْ قِيلَ: الْوَجْهُ الثَّانِي بَعِيدٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُنْشَآتِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَهُ الْجَوَارِي الَّتِي خُلِقَتْ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ، وَهَذَا غَيْرُ مُنَاسِبٍ، وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فيكون كأنه قال: الجواري التي رفعت فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ، وَذَلِكَ جَيْدٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّكَ تَقُولُ: الرَّجُلُ الْجَرِيءُ فِي الْحَرْبِ كَالْأَسَدِ فَيَكُونُ حَسَنًا، وَلَوْ قُلْتَ: الرَّجُلُ الْعَالِمُ بَدَلَ الْجَرِيءِ فِي الْحَرْبِ كَالْأَسَدِ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، نَقُولُ: إِذَا تَأَمَّلْتَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ الْجَارِيَةِ صِفَةً أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ، كَانَ الْإِنْشَاءُ بِمَعْنَى الْخَلْقِ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ: فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ حِينَئِذٍ لَهُ السُّفُنُ الْجَارِيَةُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ، فَيَكُونُ أَكْثَرَ بَيَانًا لِلْقُدْرَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَهُ السُّفُنُ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ، أَيْ كَأَنَّهَا الْجِبَالُ وَالْجِبَالُ لَا تَجْرِي إِلَّا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالْأَعْلَامُ جَمْعُ الْعَلَمِ الَّذِي هُوَ الْجَبَلُ وَأَمَّا الشِّرَاعُ الْمَرْفُوعُ كَالْعَلَمِ الَّذِي هُوَ مَعْرُوفٌ، فَلَا عَجَبَ فِيهِ، وَلَيْسَ الْعَجَبُ فِيهِ كَالْعَجَبِ فِي جَرْيِ الْجَبَلِ فِي الْمَاءِ وَتَكُونُ الْمُنْشَآتُ/ مَعْرُوفَةً، كَمَا أَنَّكَ تَقُولُ: الرَّجُلُ الْحَسَنُ الْجَالِسُ كَالْقَمَرِ فَيَكُونُ مُتَعَلِّقُ قَوْلِكَ كَالْقَمَرِ الْحَسَنَ لَا الْجَالِسَ فَيَكُونُ مَنْشَأً لِلْقُدْرَةِ، إِذِ السُّفُنُ كَالْجِبَالِ والجبال لا تجري إلا بقدرة الله تعالى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُرِئَ الْمُنْشَآتُ بِكَسْرِ الشِّينِ، وَيُحْتَمَلُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: كَالْأَعْلامِ، يَقُومُ مَقَامَ الْجُمْلَةِ، وَالْجَوَارِي مَعْرِفَةٌ وَلَا تُوصَفُ الْمَعَارِفُ بِالْجُمَلِ، فَلَا نَقُولُ: الرَّجُلُ كَالْأَسَدِ جَاءَنِي وَلَا الرَّجُلُ هُوَ أَسَدٌ جَاءَنِي، وَتَقُولُ: رَجُلٌ كَالْأَسَدِ جَاءَنِي، وَرَجُلٌ هُوَ أَسَدٌ جَاءَنِي، فَلَا تُحْمَلُ قِرَاءَةُ الْفَتْحِ إِلَّا عَلَى أَنْ يَكُونَ حَالًا وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَجْعَلَ الْكَافَ اسْمًا فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ: الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ شَبَهُ الْأَعْلَامِ ثَانِيهِمَا: يُقَدِّرُ حَالًا هَذَا شَبَهُهُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: كَالْأَعْلَامِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ [هُودٍ: 42] . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي جَمْعِ الْجَوَارِي وَتَوْحِيدِ الْبَحْرِ وَجَمْعِ الْأَعْلَامِ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى عَظَمَةِ الْبَحْرِ، وَلَوْ قَالَ: فِي الْبِحَارِ لَكَانَتْ كُلُّ جَارِيَةٍ فِي بَحْرٍ، فَيَكُونُ الْبَحْرُ دُونَ بَحْرٍ يَكُونُ فِيهِ الْجَوَارِي الَّتِي هِيَ كَالْجِبَالِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْبَحْرُ وَاحِدًا وَفِيهِ الْجَوَارِي الَّتِي هِيَ كَالْجِبَالِ يَكُونُ ذَلِكَ بَحْرًا عَظِيمًا وَسَاحِلُهُ بَعِيدًا فَيَكُونُ الْإِنْجَاءُ بقدرة كاملة. ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : آية 26] كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَذْكُورَةً قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا [فَاطِرٍ: 45] الْآيَةَ وَعَلَى هَذَا فَلَهُ تَرْتِيبٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ [الرحمن: 24] إِشَارَةً إِلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْرِفُ وَيَجْزِمُ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْبَحْرِ فَرُوحُهُ وَجِسْمُهُ وَمَالُهُ فِي قَبْضَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا خَرَجَ إِلَى الْبَرِّ وَنَظَرَ إِلَى الثَّبَاتِ الَّذِي لِلْأَرْضِ وَالتَّمَكُّنِ الَّذِي لَهُ فِيهَا يَنْسَى أَمْرَهُ فَذَكَّرَهُ وَقَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ كَمَنْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَلَوْ أَمْعَنَ الْعَاقِلُ النَّظَرَ لَكَانَ رُسُوبُ الْأَرْضِ الثَّقِيلَةِ فِي الْمَاءِ الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ أَقْرَبَ إِلَى الْعَقْلِ مِنْ رُسُوبِ الْفُلْكِ الْخَفِيفَةِ فِيهِ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْجَارِيَةِ إِلَّا أَنَّهُ بِضَرُورَةِ مَا قَبْلَهَا كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: الْجَوَارِي وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ فِيهَا إِلَى الْفَنَاءِ أَقْرَبُ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ إِنْكَارُ كَوْنِهِ فِي مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرَّحْمَنِ: 27] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ الْأَوَّلُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

[سورة الرحمن (55) : الآيات 27 إلى 28]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: (مَنْ) لِلْعُقَلَاءِ وَكُلُّ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَعَ الْأَرْضِ فَانٍ، فَمَا فَائِدَةُ الِاخْتِصَاصِ بِالْعُقَلَاءِ؟ نَقُولُ: الْمُنْتَفِعُ بِالتَّخْوِيفِ هُوَ الْعَاقِلُ فَخَصَّهُ تَعَالَى بِالذِّكْرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفَانِي هُوَ الَّذِي فَنِيَ وَكُلُّ مَنْ عَلَيْهَا سَيَفْنَى فَهُوَ بَاقٍ بَعْدُ لَيْسَ بِفَانٍ، نَقُولُ كَقَوْلِهِ: إِنَّكَ مَيِّتٌ [الزُّمَرِ: 30] وَكَمَا يُقَالُ لِلْقَرِيبِ إِنَّهُ وَاصِلٌ، وَجَوَابٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ وُجُودَ الْإِنْسَانِ/ عَرَضٌ وهو غير باق وما ليس بِبَاقٍ فَهُوَ فَانٍ، فَأَمْرُ الدُّنْيَا بَيْنَ شَيْئَيْنِ حُدُوثٍ وَعَدَمٍ، أَمَّا الْبَقَاءُ فَلَا بَقَاءَ لَهُ لِأَنَّ الْبَقَاءَ اسْتِمْرَارٌ، وَلَا يُقَالُ هَذَا تَثْبِيتٌ بِالْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ الَّذِي هُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْجِسْمَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ كَمَا قِيلَ فِي الْعَرَضِ، لِأَنَّا نَقُولُ قَوْلُهُ (مَنْ) بَدَلُ قَوْلِهِ (مَا) يَنْفِي ذَلِكَ التَّوَهُّمَ لِأَنِّي قُلْتُ: (مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) لَا بَقَاءَ لَهُ، وَمَا قُلْتُ: مَا عَلَيْهَا فَانٍ، وَمَنْ مَعَ كَوْنِهِ عَلَى الْأَرْضِ يَتَنَاوَلُ جِسْمًا قَامَ بِهِ أَعْرَاضٌ بَعْضُهَا الْحَيَاةُ وَالْأَعْرَاضُ غَيْرُ بَاقِيَةٍ، فَالْمَجْمُوعُ لَمْ يَبْقَ كَمَا كَانَ وَإِنَّمَا الْبَاقِي أَحَدُ جُزْأَيْهِ وَهُوَ الْجِسْمُ وَلَيْسَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ لَفْظَةُ (مَنْ) ، فَالْفَانِي لَيْسَ مَا عَلَيْهَا وَمَا عَلَيْهَا لَيْسَ بِبَاقٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي بَيَانِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فانٍ؟ نَقُولُ: فِيهِ فَوَائِدُ مِنْهَا: الْحَثُّ عَلَى الْعِبَادَةِ وَصَرْفِ الزَّمَانِ الْيَسِيرِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَمِنْهَا: الْمَنْعُ مِنَ الْوُثُوقِ بِمَا يَكُونُ لِلْمَرْءِ فَلَا يَقُولُ: إِذَا كَانَ فِي نِعْمَةٍ إِنَّهَا لَنْ تَذْهَبَ فَيَتْرُكَ الرُّجُوعَ إِلَى اللَّهِ مُعْتَمِدًا عَلَى مَالِهِ وَمُلْكِهِ، وَمِنْهَا: الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ إِنْ كَانَ فِي ضُرٍّ فَلَا يَكْفُرُ بِاللَّهِ مُعْتَمِدًا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ ذَاهِبٌ وَالضُّرَّ زَائِلٌ، وَمِنْهَا: تَرْكُ اتِّخَاذِ الْغَيْرِ مَعْبُودًا وَالزَّجْرُ عَلَى الِاغْتِرَارِ بِالْقُرْبِ مِنَ الْمُلُوكِ وَتَرْكِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ أَمْرَهُمْ إِلَى الزَّوَالِ قَرِيبٌ فَيَبْقَى الْقَرِيبُ مِنْهُمْ عَنْ قَرِيبٍ فِي نَدَمٍ عَظِيمٍ لِأَنَّهُ إِنْ مَاتَ قَبْلَهُمْ يَلْقَى اللَّهَ كَالْعَبْدِ الْآبِقِ، وَإِنْ مَاتَ الْمَلِكُ قَبْلَهُ فَيَبْقَى بَيْنَ الْخَلْقِ وَكُلُّ أَحَدٍ يَنْتَقِمُ مِنْهُ وَيَتَشَفَّى فِيهِ، وَيَسْتَحِي مِمَّنْ كَانَ يَتَكَبَّرُ عَلَيْهِ وَإِنْ مَاتَا جَمِيعًا فَلِقَاءُ اللَّهِ عَلَيْهِ بَعْدَ التوفي في غاية الصعوبة، ومنها: حسن التَّوْحِيدِ وَتَرْكُ الشِّرْكِ الظَّاهِرِ وَالْخَفِيِّ جَمِيعًا لِأَنَّ الفاني لا يصلح لأن يعبد. ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 27 الى 28] وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَجْهُ يُطْلَقُ عَلَى الذَّاتِ وَالْمُجَسِّمُ يَحْمِلُ الْوَجْهَ عَلَى الْعُضْوِ وَهُوَ خِلَافُ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ أَعْنِي الْقُرْآنَ لِأَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] يدل على أن لَا يَبْقَى إِلَّا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَلَى الْقَوْلِ الْحَقِّ لَا إِشْكَالَ فِيهِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَبْقَى غَيْرُ حَقِيقَةِ اللَّهِ أَوْ غَيْرُ ذَاتِ اللَّهِ شَيْءٌ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُجَسِّمِ يَلْزَمُ أَنْ لَا تَبْقَى يَدُهُ الَّتِي أَثْبَتَهَا وَرِجْلُهُ الَّتِي قَالَ بِهَا، لَا يُقَالُ: فَعَلَى قَوْلِكُمْ أَيْضًا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَبْقَى عِلْمُ اللَّهِ وَلَا قُدْرَةُ اللَّهِ، لِأَنَّ الْوَجْهَ جَعَلْتُمُوهُ ذَاتًا، وَالذَّاتُ غَيْرُ الصِّفَاتِ فَإِذَا قُلْتَ: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا حَقِيقَةَ اللَّهِ خَرَجَتِ الصِّفَاتُ عَنْهَا فَيَكُونُ قَوْلُكُمْ نَفْيًا لِلصِّفَاتِ، نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، أَمَّا النَّقْلُ فَذَلِكَ أَمْرٌ يُذْكَرُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَأَمَّا الْعَقْلُ فَهُوَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: لَمْ يَبْقَ لِفُلَانٍ إِلَّا ثَوْبٌ يَتَنَاوَلُ الثَّوْبَ وَمَا قَامَ بِهِ مِنَ اللَّوْنِ وَالطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَإِذَا قَالَ: لَمْ يَبْقَ إِلَّا كُمُّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ جَيْبِهِ وَذَيْلِهِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُنَا: يَبْقَى ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى يَتَنَاوَلُ صِفَاتِهِ وَإِذَا قُلْتُمْ: لَا يَبْقَى غَيْرُ وَجْهِهِ بِمَعْنَى الْعُضْوِ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا تَبْقَى يَدُهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَمَا السَّبَبُ فِي حُسْنِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْوَجْهِ عَلَى الذَّاتِ؟ نَقُولُ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ عُرْفِ النَّاسِ، فَإِنَّ الْوَجْهَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعُرْفِ لِحَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَأَى وَجْهَ غَيْرِهِ يَقُولُ: رَأَيْتُهُ، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ الْوَجْهِ مِنَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مَثَلًا لَا يَقُولُ: رَأَيْتُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اطِّلَاعَ الْإِنْسَانَ عَلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ يَحْصُلُ بِالْحِسِّ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَأَىَ شَيْئًا عَلِمَ مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ حَالَ غَيْبَتِهِ، لِأَنَّ الْحِسَّ لَا يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ الْمَرْئِيِّ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْحِسَّ يُدْرِكُ وَالْحَدْسَ يَحْكُمُ فَإِذَا رَأَىَ شَيْئًا بِحِسِّهِ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِأَمْرٍ بِحَدْسِهِ، لَكِنَّ الْإِنْسَانَ اجْتَمَعَ فِي وَجْهِهِ أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ كُلُّ وَاحِدٍ يَدُلُّ عَلَى أَمْرٍ، فَإِذَا رَأَى الْإِنْسَانُ وَجْهَ الْإِنْسَانِ حَكَمَ عَلَيْهِ بِأَحْكَامٍ مَا كَانَ يَحْكُمُ بِهَا لَوْلَا رُؤْيَتُهُ وَجْهَهُ، فَكَانَ أَدَلَّ عَلَى حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ وَأَحْكَامِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَاسْتُعْمِلَ الْوَجْهُ فِي الْحَقِيقَةِ فِي الْإِنْسَانِ ثُمَّ نُقِلَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَجْسَامِ، ثم نقل لي مَا لَيْسَ بِجِسْمٍ، يُقَالُ فِي الْكَلَامِ هَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ وَهَذَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْوَجْهَ مِنَ الْمُوَاجَهَةِ كَمَا هُوَ الْمَسْطُورُ فِي الْبَعْضِ مِنَ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ إِذِ الْأَمْرُ عَلَى الْعَكْسِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنَ الْمَصْدَرِ وَالْمَصْدَرَ مِنَ الِاسْمِ الْأَصْلِيِّ وَإِنْ كَانَ بِالنَّقْلِ، فَالْوَجْهُ أَوَّلُ مَا وُضِعَ لِلْعُضْوِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ وَاشْتُقَّ مِنْهُ غَيْرُهُ، وَيَعْرِفُ ذَلِكَ الْعَارِفُ بِالتَّصْرِيفِ الْبَارِعِ فِي الْأَدَبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَوْ قَالَ: وَيَبْقَى رَبُّكَ أَوِ اللَّهُ أَوْ غَيْرُهُ فَحَصَلَتِ الْفَائِدَةُ مِنْ غَيْرِ وُقُوعٍ فِي توهم ما هو ابتدع، نَقُولُ: مَا كَانَ يَقُومُ مَقَامَ الْوَجْهِ لَفَظٌ آخَرُ وَلَا وَجْهَ فِيهِ إِلَّا مَا قَالَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَسْمَاءِ الْمَعْرُوفَةِ لِلَّهِ تَعَالَى أَسْمَاءُ الْفَاعِلِ كَالرَّبِّ وَالْخَالِقِ وَاللَّهُ عِنْدَ الْبَعْضِ بِمَعْنَى الْمَعْبُودِ، فَلَوْ قَالَ: وَيَبْقَى رَبُّكَ رَبُّكَ، وَقَوْلُنَا: رَبُّكَ مَعْنَيَانِ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ: شَيْءٌ مِنْ كُلِّ رَبِّكَ، ثَانِيهِمَا أَنْ يُقَالَ: يَبْقَى رَبُّكَ مَعَ أَنَّهُ حَالَةَ الْبَقَاءِ رَبُّكَ فَيَكُونُ الْمَرْبُوبَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: يَبْقَى الْخَالِقُ وَالرَّازِقُ وَغَيْرُهُمَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي لَفْظِ الرَّبِّ وَإِضَافَةِ الْوَجْهِ إِلَيْهِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 115] وَقَالَ: يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ [الرُّومِ: 38] نَقُولُ: الْمُرَادُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ هُوَ الْعِبَادَةُ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُنَاكَ الصَّلَاةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَالْمَذْكُورُ هُوَ الزَّكَاةُ قَالَ تَعَالَى مِنْ قَبْلُ: فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الرُّومِ: 38] ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ [الروم: 38] وَلَفْظُ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى الْعِبَادَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَعْبُودُ، وَالْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ النِّعَمُ الَّتِي بِهَا تَرْبِيَةُ الْإِنْسَانِ فَقَالَ: وَجْهُ رَبِّكَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: رَبِّكَ مَعَ مَنْ؟ نَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ أَيُّهَا السَّامِعُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ قَالَ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ خِطَابًا مَعَ الِاثْنَيْنِ، وَقَالَ: وَجْهُ رَبِّكَ خِطَابًا مَعَ الْوَاحِدِ؟ نَقُولُ: عِنْدَ قَوْلِهِ: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى فَنَاءِ كُلِّ أَحَدٍ، وَبَقَاءِ اللَّهِ فَقَالَ/ وَجْهُ ربك أي يا أَيُّهَا السَّامِعُ فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى أَحَدٍ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ عَدَاهُ فَانٍ، وَالْمُخَاطِبُ كَثِيرًا مَا يَخْرُجُ عَنِ الْإِرَادَةِ فِي الْكَلَامِ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لِمَنْ يَشْكُو إِلَيْكَ مِنْ أَهْلِ مَوْضِعٍ سَأُعَاقِبُ لِأَجْلِكَ كُلَّ مَنْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ يَخْرُجُ الْمُخَاطِبُ عَنِ الْوَعِيدِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَوْضِعِ فَقَالَ: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ لِيُعْلِمَ كُلَّ أَحَدٍ أَنَّ غَيْرَهُ فَانٍ، وَلَوْ قَالَ: وَجْهُ رَبِّكُمَا لَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يُخْرِجُ نَفْسَهُ وَرَفِيقَهُ الْمُخَاطَبَ مِنَ الْفَنَاءِ، فَإِنْ قُلْتَ: لَوْ قَالَ وَيَبْقَى وَجْهُ الرَّبِّ مِنْ غَيْرِ خِطَابٍ كَانَ أَدَلَّ عَلَى فَنَاءِ الْكُلِّ؟ نَقُولُ: كَأَنَّ الْخِطَابَ فِي الرَّبِّ إِشَارَةٌ إِلَى اللُّطْفِ وَالْإِبْقَاءَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَهْرِ، وَالْمَوْضِعُ مَوْضُعُ بَيَانِ اللُّطْفِ وَتَعْدِيدِ

[سورة الرحمن (55) : الآيات 29 إلى 30]

النِّعَمِ، فَلَوْ قَالَ: بِلَفْظِ الرَّبِّ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ، وَفِي لَفْظِ الرَّبِّ عَادَةٌ جَارِيَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ الْإِضَافَةِ. فالعبد يقول: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا، وَرَبِّ اغْفِرْ لِي، وَاللَّهُ تعالى يقول: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ [الدخان: 8] ورَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2] وَحَيْثُ تَرَكَ الْإِضَافَةَ ذَكَرَهُ مَعَ صِفَةٍ أُخْرَى مِنْ أَوْصَافِ اللَّفْظِ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سَبَأٍ: 15] وَقَالَ تَعَالَى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] وَلَفْظُ الرَّبِّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى التَّرْبِيَةِ، يُقَالُ: رَبَّهُ يُرَبِّهِ رَبًّا مِثْلَ رَبَّاهُ يُرَبِّيهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا مِنَ الرَّبِّ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الرَّابِّ كَالطِّبِّ لِلطَّبِيبِ، وَالسَّمْعِ لِلْحَاسَّةِ، وَالْبُخْلِ لِلْبَخِيلِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ لَكِنْ مِنْ بَابِ فَعَلَ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ كَأَنَّهُ فَعَلَ مِنْ بَابِ فَعَلَ يَفْعَلُ أَيْ فَعَلَ الَّذِي لِلْغَرِيزِيِّ كَمَا يُقَالُ فِيمَا إِذَا قُلْنَا: فُلَانٌ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، فَكَانَ وَصْفًا لَهُ مِنْ بَابِ فَعَلَ اللَّازِمِ لِيَخْرُجَ عَنِ التَّعَدِّي. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْجَلالِ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ صِفَةٍ مِنْ بَابِ النَّفْيِ، كَقَوْلِنَا: اللَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جَوْهَرٍ وَلَا عَرَضٍ، وَلِهَذَا يُقَالُ: جَلَّ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا، وَجَلَّ أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْجَلَالَ هُوَ بِمَعْنَى الْعَظَمَةِ غَيْرَ أَنَّ الْعَظَمَةَ أَصْلُهَا فِي الْقُوَّةِ، وَالْجَلَالُ فِي الْفِعْلِ، فَهُوَ عَظِيمٌ لَا يَسَعُهُ عَقْلٌ ضَعِيفٌ فَجَلَّ أَنْ يَسَعَهُ كُلُّ فَرْضٍ مَعْقُولٍ: وَالْإِكْرامِ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ صِفَةٍ هِيَ مِنْ بَابِ الْإِثْبَاتِ، كَقَوْلِنَا: حَيٌّ قَادِرٌ عَالِمٌ، وَأَمَّا السَّمِيعُ وَالْبَصِيرُ فَإِنَّهُمَا مِنْ بَابِ الْإِثْبَاتِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ بَابِ النَّفْيِ، وَصِفَاتُ بَابِ النَّفْيِ قَبْلَ صِفَاتِ بَابِ الْإِثْبَاتِ عِنْدَنَا، لِأَنَّا أَوَّلًا نَجِدُ الدَّلِيلَ وَهُوَ الْعَالَمُ فَنَقُولُ: الْعَالَمُ مُحْتَاجٌ إِلَى شَيْءٍ وَذَلِكَ الشَّيْءُ لَيْسَ مِثْلَ الْعَالَمِ فَلَيْسَ بِمُحْدَثٍ وَلَا مُحْتَاجٍ، وَلَا مُمْكِنٍ، ثُمَّ نُثْبِتُ لَهُ الْقُدْرَةَ وَالْعِلْمَ وَغَيْرَهُمَا، وَمِنْ هُنَا قَالَ تَعَالَى لِعِبَادِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [الصَّافَّاتِ: 35] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» وَنَفْيُ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ، نَفْيُ صِفَاتِ غَيْرِ اللَّهِ عَنِ اللَّهِ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: الْجِسْمُ لَيْسَ بِإِلَهٍ لَزِمَ مِنْهُ قَوْلُكَ: اللَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَ (الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) وَصْفَانِ مُرَتَّبَانِ عَلَى أَمْرَيْنِ سَابِقَيْنِ، فَالْجَلَالُ مُرَتَّبٌ عَلَى فَنَاءِ الْغَيْرِ وَالْإِكْرَامُ عَلَى بَقَائِهِ تَعَالَى، فَيَبْقَى الْفَرْدُ وَقَدْ عَزَّ أَنْ يُحَدَّ أَمْرُهُ بِفَنَاءِ مَنْ عَدَاهُ وَمَا عَدَاهُ، وَيَبْقَى وَهُوَ مُكْرِمٌ قَادِرٌ عَالِمٌ فَيُوجِدُ بَعْدَ فَنَائِهِمْ من يريد، وقرئ: ذُو الْجَلالِ، وذِي الْجَلالِ. وَسَنَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي تَفْسِيرِ آخر السورة إن شاء الله تعالى. / ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 29 الى 30] يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) وَفِيهِ وجهان أحدهما: أنه حال تقديره: يبقى وَجْهُ رَبِّكَ مَسْئُولًا وَهَذَا مَنْقُولٌ مَعْقُولٌ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى التَّنَاقُضِ لِأَنَّهُ لما قال: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27] كَانَ إِشَارَةً إِلَى بَقَائِهِ بَعْدَ فَنَاءِ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ، فَكَيْفَ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَسْئُولًا لِمَنْ فِي الْأَرْضِ؟ فَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى [الْأُمُورِ] الْجَارِيَةِ [فِي يَوْمِنَا] فَلَا إِشْكَالَ فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَأَمَّا عَلَى الصَّحِيحِ فَنَقُولُ عَنْهُ أَجْوِبَةٌ أَحَدُهَا: لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ فَانٍ نَظَرًا إِلَيْهِ وَلَا يَبْقَى إِلَّا بِإِبْقَاءِ اللَّهِ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مَسْئُولًا ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ مَسْئُولًا مَعْنًى لَا حَقِيقَةً، لِأَنَّ الْكُلَّ إِذَا فَنَوْا وَلَمْ يَكُنْ وُجُودٌ إِلَّا بِاللَّهِ، فَكَأَنَّ الْقَوْمَ فَرَضُوا سَائِلِينَ بِلِسَانِ الْحَالِ ثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَيَبْقى لِلِاسْتِمْرَارِ فَيَبْقَى وَيُعِيدُ مَنْ كَانَ فِي الْأَرْضِ وَيَكُونُ مَسْئُولًا وَالثَّانِي: أَنَّهُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَهُوَ أَظْهَرُ وَفِيهِ مسائل:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَاذَا يَسْأَلُهُ السَّائِلُونَ؟ فَنَقُولُ: يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُؤَالُ اسْتِعْطَاءٍ فَيَسْأَلُهُ كُلُّ أَحَدٍ الرَّحْمَةَ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ ثَانِيهَا: أَنَّهُ سُؤَالُ اسْتِعْلَامٍ أَيْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ، فَكُلُّ أَحَدٍ يَسْأَلُهُ عَنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِ وَعَمَّا فِيهِ صَلَاحُهُ وَفَسَادُهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَعْتَرِفُ بِجَهْلِهِ وَعِلْمِ اللَّهِ نَقُولُ: هَذَا كَلَامٌ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ مِنْ جَاهِلٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ جَاهِلٍ مُعَانِدٍ فَهُوَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيْضًا وَارِدٌ، فَإِنَّ مِنَ الْمُعَانِدِينَ مَنْ لَا يَعْتَرِفُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ فَلَا يَسْأَلُهُ شَيْئًا بِلِسَانِهِ وَإِنْ كَانَ يَسْأَلُهُ بِلِسَانِ حَالِهِ لِإِمْكَانِهِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ أَيْ كُلُّ أَحَدٍ عَاجِزٌ عَنْ تَحْصِيلِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْعِلْمِ أَيْ كُلُّ أَحَدٍ جَاهِلٌ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ ثَالِثُهَا: أَنَّ ذَلِكَ سُؤَالُ اسْتِخْرَاجِ، أَمْرٍ. وَقَوْلُهُ: مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَسْأَلُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ وَيَقُولُونَ: إِلَهَنَا مَاذَا نَفْعَلُ وَبِمَاذَا تَأْمُرُنَا، وَهَذَا يَصْلُحُ جَوَابًا آخَرَ عَنِ الْإِشْكَالِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: يَسْأَلُهُ حَالٌ لِأَنَّهُ يَقُولُ: قَالَ تَعَالَى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: 26] ومن عليها تكون الأرض مكانه ومعتمده ولو لاها لَا يَعِيشُ وَأَمَّا مَنْ فِيهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْأَرْضِيَّةِ فَهُمْ فِيهَا وَلَيْسُوا عَلَيْهَا وَلَا تَضُرُّهُمْ زلزلتها، فعند ما يَفْنَى مَنْ عَلَيْهَا وَيَبْقَى اللَّهُ تَعَالَى لَا يَفْنَى هَؤُلَاءِ فِي تِلْكَ الْحَالِ فَيَسْأَلُونَهُ وَيَقُولُونَ: مَاذَا نَفْعَلُ فَيَأْمُرُهُمْ بِمَا يَأْمُرُهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يؤمرون، ثم يقول لهم: عند ما يَشَاءُ مُوتُوا فَيَمُوتُوا هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قال: يَسْئَلُهُ حَالٌ وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ لَا إِشْكَالَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هُوَ عَائِدٌ إِلَى مَنْ؟ نَقُولُ: الظَّاهِرُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْمُفَسِّرِينَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ الشَّأْنِ فَقَالَ: «يَغْفِرُ/ ذَنْبًا وَيُفَرِّجُ كَرْبًا، وَيَرْفَعُ مَنْ يَشَاءُ وَيَضَعُ مَنْ يَشَاءُ» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ عَائِدٌ إِلَى يَوْمٍ وكُلَّ يَوْمٍ ظَرْفُ سُؤَالِهِمْ أَيْ يَقَعُ سُؤَالُهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَهُوَ فِي شَأْنٍ يَكُونُ جُمْلَةً وُصِفَ بِهَا يَوْمٌ وَهُوَ نَكِرَةٌ كَمَا يُقَالُ: يَسْأَلُنِي فُلَانٌ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ يَوْمُ رَاحَتِي أَيْ يَسْأَلُنِي أَيَّامَ الرَّاحَةِ، وَقَوْلُهُ: هُوَ فِي شَأْنٍ يَكُونُ صِفَةً مُمَيِّزَةً لِلْأَيَّامِ الَّتِي فِيهَا شَأْنٌ عَنِ الْيَوْمِ الَّذِي قَالَ تَعَالَى فِيهِ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غَافِرٍ: 16] فَإِنَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ هُوَ السَّائِلَ وَهُوَ الْمُجِيبَ، وَلَا يُسْأَلُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَوْمًا هُوَ فِي شَأْنٍ يَتَعَلَّقُ بِالسَّائِلِينَ مِنَ النَّاسِ وَالْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا يَسْأَلُونَهُ فِي يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ فَيَطْلُبُونَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ أَوْ يَسْتَخْرِجُونَ أَمْرَهُ بِمَا يَفْعَلُونَ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يُنَافِي مَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ، نَقُولُ: لَا مُنَافَاةَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ: مَا هَذَا الشَّأْنُ؟ فَقَالَ: «يَغْفِرُ ذَنْبًا [وَيُفَرِّجُ كَرْبًا] » أَيْ فَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ بَعْضَ الْأَيَّامِ مَوْسُومَةً بِوَسْمٍ يَتَعَلَّقُ بِالْخَلْقِ مِنْ مَغْفِرَةِ الذنوب والتفريج عن المكروب فقال تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الَّتِي فِي ذَلِكَ الشَّأْنِ وَجَعَلَ بَعْضَهَا مَوْسُومَةً بِأَنْ لَا دَاعِي فِيهَا وَلَا سَائِلٌ، وَكَيْفَ لَا نَقُولُ بِهَذَا، وَلَوْ تَرَكْنَا كُلَّ يَوْمٍ عَلَى عُمُومِهِ لَكَانَ كُلُّ يَوْمٍ فِيهِ فِعْلٌ وَأَمْرٌ وَشَأْنٌ فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى الْقَوْلِ بِالْقِدَمِ وَالدَّوَامِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: عَامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْلِ: 23] وتُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ [الْأَحْقَافِ: 25] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَعَلَى الْمَشْهُورِ يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كُلِّ يَوْمٍ وَوَقْتٍ فِي شَأْنٍ، وَقَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، نَقُولُ: فِيهِ أَجْوِبَةٌ مَنْقُولَةٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فَلَا نَبْخَلُ بِهَا وَأَجْوِبَةٌ مَعْقُولَةٌ نَذْكُرُهَا بَعْدَهَا: أَمَّا الْمَنْقُولَةُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ سَوْقُ الْمَقَادِيرِ إِلَى الْمَوَاقِيتِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْقَلَمَ جَفَّ بِمَا يَكُونُ فِي كُلِّ [يَوْمٍ وَ] وَقْتٍ، فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِالْفِعْلِ فِيهِ فَيُوَجَدُ، وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ لَفْظًا وَمَعْنًى وقال بعضهم: شؤون يبديها لا شؤون يبتديها،

وَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ مَعْنًى، أَيْ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ وَلَكِنْ يَأْتِي وَقْتٌ قَدَّرَ اللَّهُ فِيهِ فِعْلَهُ فَيَبْدُو فِيهِ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ يُنْسَبَانِ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ الْفَضْلِ أَجَابَ بِهِمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الليل ويخرج الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيَشْفِي سَقِيمًا وَيُمْرِضُ سَلِيمًا، وَيُعِزُّ ذَلِيلًا وَيُذِلُّ عَزِيزًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَغْفِرُ ذَنْبًا وَيُفَرِّجُ كَرْبًا» وَهُوَ أَحْسَنُ وَأَبْلَغُ حَيْثُ بَيَّنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ وَالْآخَرُ بِالدُّنْيَا، وَقَدَّمَ الْأُخْرَوِيَّ عَلَى الدُّنْيَوِيِّ وَأَمَّا الْمَعْقُولَةُ: فَهِيَ أَنْ نَقُولَ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَلْقِ، وَمَنْ يَسْأَلُهُ مِنْ أَهْلِ السموات وَالْأَرْضِ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِمَا أَرَادَ وَقَضَى وَأَبْرَمَ فِيهِ حُكْمَهُ وَأَمْضَى، غَيْرَ أَنَّ مَا حَكَمَهُ يَظْهَرُ كُلَّ يَوْمٍ، فَنَقُولُ: أَبْرَمَ اللَّهُ الْيَوْمَ رِزْقَ فُلَانٍ وَلَمْ يَرْزُقْهُ أَمْسِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُحِيطَ عِلْمُ خَلْقِهِ بِمَا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ، فَتَسْأَلُهُ الْمَلَائِكَةُ كُلَّ يَوْمٍ إِنَّكَ يَا إِلَهَنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ فِي أَيِّ شَأْنٍ فِي نَظَرِنَا وَعِلْمِنَا الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْفِعْلَ يَتَحَقَّقُ بِأَمْرَيْنِ مِنْ جَانِبِ الْفَاعِلِ بِأَمْرٍ خَاصٍّ، وَمِنْ جَانِبِ الْمَفْعُولِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَلَا يُمْكِنُ غَيْرُهُ وَعَلَى وَجْهٍ يَخْتَارُهُ الْفَاعِلُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِثَالُ الْأَوَّلِ: تَحْرِيكُ السَّاكِنِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِإِزَالَةِ السُّكُونِ/ عَنْهُ وَالْإِتْيَانِ بِالْحَرَكَةِ عَقِيبَهُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَمِثَالُ الثَّانِي: تَسْكِينُ السَّاكِنُ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ مَعَ إِبْقَاءِ السُّكُونِ فِيهِ وَمَعَ إِزَالَتِهِ عَقِيبَهُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ أَوْ مَعَ فَصْلٍ، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يُزِيلَ عَنْهُ السُّكُونَ وَلَا يُحَرِّكُهُ مَعَ بَقَاءِ الْجِسْمِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْأَجْسَامَ الْكَثِيرَةَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَخَلَقَ فِيهَا صِفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَإِيجَادُهَا فِيهِ لَا فِي زَمَانٍ آخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الزَّمَانِ فَمَنْ خَلَقَهُ فَقِيرًا فِي زَمَانٍ لَمْ يُمْكِنْ خَلْقُهُ غَنِيًّا فِي عَيْنِ ذَلِكَ الزَّمَانِ مَعَ خَلْقِهِ فَقِيرًا فِيهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَالَّذِي يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْهُ الْعَجْزُ أَوْ يُتَوَهَّمُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الْعَجْزُ فِي خِلَافِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَقَهُ فَقِيرًا فِي زَمَانٍ يُرِيدُ كَوْنَهُ غَنِيًّا لَمَا وَقَعَ الْغِنَى فِيهِ مَعَ أَنَّهُ أَرَادَهُ، فَيَلْزَمُ الْعَجْزُ مِنْ خِلَافِ مَا قُلْنَا: لَا فِيمَا قُلْنَا، فَإِذَنْ كُلُّ زَمَانٍ هُوَ غَيْرُ الزَّمَانِ الْآخَرِ فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ: أَغْنَى فَقِيرًا وَأَفْقَرَ غَنِيًّا، وَأَعَزَّ ذَلِيلًا وَأَذَلَّ عَزِيزًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَضْدَادِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الضِّدَّيْنِ لَيْسَا مُنْحَصِرَيْنِ فِي مُخْتَلِفَيْنِ بَلِ الْمِثْلَانِ فِي حُكْمِهِمَا فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ، فَمَنْ وُجِدَ فِيهِ حَرَكَةٌ إِلَى مَكَانٍ فِي زَمَانٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُوجَدَ فِيهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ حَرَكَةٌ أُخْرَى أَيْضًا إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَلَيْسَ شَأْنُ اللَّهِ مُقْتَصِرًا عَلَى إِفْقَارِ غَنِيٍّ أَوْ إِغْنَاءِ فَقِيرٍ فِي يَوْمِنَا دُونَ إِفْقَارِهِ أَوْ إِغْنَائِهِ أَمْسِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْمَعَ فِي زَيْدٍ إِغْنَاءً هُوَ أَمْسِي مَعَ إِغَنَاءٍ هُوَ يَوْمِي، فَالْغِنَى الْمُسْتَمِرُّ لِلْغَنِيِّ فِي نَظَرِنَا فِي الْأَمْرِ مُتَبَدِّلُ الْحَالِ، فَهُوَ أَيْضًا مِنْ شَأْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوصَفُ بِكَوْنِهِ: لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّأْنَ الْوَاحِدَ لَا يَصِيرُ مَانِعًا لَهُ تَعَالَى عَنْ شَأْنٍ آخَرَ كَمَا أَنَّهُ يَكُونُ مَانِعًا لَنَا، مِثَالُهُ: وَاحِدٌ مِنَّا إِذَا أَرَادَ تَسْوِيدَ جِسْمٍ بِصَبْغَةٍ يُسَخِّنُهُ بِالنَّارِ أَوْ تَبْيِيضَ جِسْمٍ يُبَرِّدُهُ بِالْمَاءِ وَالْمَاءُ وَالنَّارُ مُتَضَادَّانِ إِذَا طُلِبَ مِنْهُ أَحَدُهُمَا وَشَرَعَ فِيهِ يَصِيرُ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُ مِنْ فِعْلِ الْآخَرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مَانِعًا مِنَ الْفِعْلِ لِأَنَّ تَسْوِيدَ جِسْمٍ وَتَبْيِيضَ آخَرَ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ تَسْخِينُهُ وَتَسْوِيدُهُ بِصَبْغَةٍ لَا تَنَافِيَ فِيهِ، فَالْفِعْلُ صَارَ مَانِعًا لِلْفَاعِلِ مِنْ فِعْلِهِ وَلَمْ يَصِرْ مَانِعًا مِنَ الْفِعْلِ، وَفِي حَقِّ اللَّهِ مَا لَا يَمْنَعُ الْفِعْلَ لَا يَمْنَعُ الْفَاعِلَ، فَيُوجِدُ تَعَالَى مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ مَا لَا يُحْصَرُ وَلَا يُحْصَى فِي آنٍ وَاحِدٍ، أَمَّا مَا يُمْنَعُ مِنَ الْفِعْلِ كَالَّذِي يُسَوِّدُ جِسْمًا فِي آنٍ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُبَيِّضَهُ فِي ذَلِكَ الْآنِ، فَهُوَ قَدْ يَمْنَعُ الْفَاعِلَ أَيْضًا وَقَدْ لَا يَمْنَعُ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ مَنْعِهِ لِلْفَاعِلِ، فَالتَّسْوِيدُ لَا يُمْكِنُ مَعَهُ التَّبْيِيضُ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ أَصْلًا لَكِنَّ أَسْبَابَهُ تَمْنَعُ أَسْبَابًا أُخَرَ لَا تَمْنَعُ الْفَاعِلَ. إِذَا عَلِمْتَ هذا البحث فقد أفادك.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 31 إلى 32]

التحقيق في قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 31 الى 32] سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) وَلْنَذْكُرْ أَوَّلًا مَا قِيلَ فِيهِ تَبَرُّكًا بِأَقْوَالِ الْمَشَايِخِ ثُمَّ نُحَقِّقُهُ بِالْبَيَانِ الشَّافِي فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ سَنَقْصِدُكُمْ بِالْفِعْلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ التَّهْدِيدِ عَلَى مَا هِيَ عَادَةُ اسْتِعْمَالِ النَّاسِ/ فَإِنَّ السَّيِّدَ يَقُولُ لِعَبْدِهِ عِنْدَ الْغَضَبِ: سَأَفْرُغُ لَكَ، وَقَدْ يَكُونُ السَّيِّدُ فَارِغًا جَالِسًا لَا يَمْنَعُهُ شُغْلٌ، وَأَمَّا التَّحْقِيقُ فِيهِ، فَنَقُولُ: عَدَمُ الْفَرَاغِ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ فِي فِعْلٍ لَا يُمْكِنُهُ مَعَهُ إِيجَادُ فِعْلٍ آخَرَ فَإِنَّ مَنْ يَخِيطُ يَقُولُ: مَا أَنَا بِفَارِغٍ لِلْكِتَابَةِ، لَكِنْ عَدَمُ الْفَرَاغِ قَدْ يَكُونُ لِكَوْنِ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ مَانِعًا لِلْفَاعِلِ مِنَ الْفِعْلِ الْآخَرِ، يُقَالُ: هُوَ مَشْغُولٌ بِكَذَا عَنْ كَذَا كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: أَنَا مَشْغُولٌ بِالْخِيَاطَةِ عَنِ الْكِتَابَةِ، وَقَدْ يَكُونُ عَدَمُ الْفَرَاغِ لِكَوْنِ الْفِعْلِ مَانِعًا مِنَ الْفِعْلِ لَا لِكَوْنِهِ مَانِعًا مِنَ الْفَاعِلِ كَالَّذِي يُحَرِّكُ جِسْمًا فِي زَمَانٍ لَا يُمْكِنُ تَسْكِينُهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَهُوَ لَيْسَ بِفَارِغٍ لِلتَّسْكِينِ، وَلَكِنْ لَا يُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ أَنَا مَشْغُولٌ بِالتَّحْرِيكِ عَنِ التَّسْكِينِ، فَإِنَّ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ لَوْ كَانَ غَيْرَ مَشْغُولٍ بِهِ بَلْ كَانَ فِي نَفْسِ الْمَحَلِّ حَرَكَةٌ لَا بِفِعْلِ ذَلِكَ الْفَاعِلِ لَا يُمْكِنُهُ التَّسْكِينُ فَلَيْسَ امْتِنَاعُهُ مِنْهُ إِلَّا لِاسْتِحَالَتِهِ بِالتَّحْرِيكِ، وَفِي الصُّورَةِ الْأُولَى لَوْلَا اشْتِغَالُهُ بِالْخِيَاطَةِ لَتَمَكَّنَ مِنَ الْكِتَابَةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا صَارَ عَدَمُ الْفَرَاغِ قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا: بِشُغْلٍ وَالْآخَرُ لَيْسَ بِشُغْلٍ، فَنَقُولُ: إِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى بِاخْتِيَارِهِ أَوْجَدَ الْإِنْسَانَ وَأَبْقَاهُ مُدَّةً أَرَادَهَا بِمَحْضِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ لَا يُمْكِنُ مَعَ هَذَا إِعْدَامُهُ، فَهُوَ فِي فِعْلٍ لَا يَمْنَعُ الْفَاعِلَ لَكِنْ يَمْنَعُ الْفِعْلَ وَمِثْلُ هَذَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرَاغٍ، وَإِنْ كَانَ لَهُ شُغْلٌ، فَإِذَا أَوْجَدَ مَا أَرَادَ أَوَّلًا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْكَنَ الْإِعْدَامُ وَالزِّيَادَةُ فِي آنِهِ فَيَتَحَقَّقُ الْفَرَاغُ لَكِنْ لَمَّا كَانَ لِلْإِنْسَانِ مُشَاهَدَةٌ مُقْتَصِرَةٌ عَلَى أَفْعَالِ نَفْسِهِ وَأَفْعَالِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ وَعَدَمُ الْفِرَاغِ مِنْهُمْ بِسَبَبِ الشُّغْلِ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَارِغٌ فَحَمَلَ الْخَلْقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَارِغٍ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ الْفِعْلُ وَهُوَ لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ يَلْزَمُهُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَيْسَ قَوْلًا آخَرَ غَيْرُ قَوْلِ الْمَشَايِخِ، بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِمْ: سَنَقْصِدُكُمْ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا مُبَيَّنٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى أَنْ هَدَانَا لِلْبَيَانِ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ عَنْ قَوْلِ أَرْبَابِ اللِّسَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْفَرَاغِ بِمَعْنَى الْخُلُوِّ، لَكِنْ ذَلِكَ إِنْ كَانَ فِي الْمَكَانِ فَيَتَّسِعُ لِيَتَمَكَّنَ آخَرُ، وإن كان في الزمان فَيَتَّسِعُ لِلْفِعْلِ، فَالْأَصْلُ أَنَّ زَمَانَ الْفَاعِلِ فَارِغٌ عَنْ فِعْلِهِ وَغَيْرُ فَارِغٍ لَكِنَّ الْمَكَانَ مَرْئِيٌّ بِالْخُلُوِّ فِيهِ، فَيُطْلَقُ الْفَرَاغَ عَلَى خُلُوِّ الْمَكَانِ فِي الظَّرْفِ الْفُلَانِيِّ وَالزَّمَانُ غَيْرُ مَرْئِيٍّ، فَلَا يُرَى خُلُوُّهُ. وَيُقَالُ: فُلَانٌ فِي زَمَانِ كَذَا فَارِغٌ لِأَنَّ فُلَانًا هُوَ الْمَرْئِيُّ لَا الزَّمَانَ وَالْأَصْلُ أَنَّ هَذَا الزَّمَانَ مِنْ أَزْمِنَةِ فُلَانٍ فارغ فَيُمْكِنُهُ وَصْفُهُ لِلْفِعْلِ فِيهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ اسْتِعْمَالٌ عَلَى مُلَاحَظَةِ الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْمَكَانَ إِذَا خَلَا يُقَالُ: لِكَذَا وَلَا يُقَالُ: إِلَى كَذَا فَكَذَلِكَ الزَّمَانُ لَكِنْ لَمَّا نُقِلَ إِلَى الْفَاعِلِ وَقِيلَ: الْفَاعِلُ عَلَى فَرَاغٍ وَهُوَ عِنْدَ الْفَرَاغِ يَقْصِدُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ قِيلَ فِي الْفَاعِلِ: فَرَغَ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا، وَفِي الظَّرْفِ يُقَالُ: فَرَغَ مِنْ كَذَا لِكَذَا فَقَالَ لَكُمْ عَلَى مُلَاحَظَةِ الْأَصْلِ، وَهُوَ يُقَوِّي مَا ذكرنا أن المانع ليس بالنسبة إلى الفعل بل بالنسبة إلى الفعل. وأما أَيُّهَ فَنَقُولُ: الْحِكْمَةُ فِي نِدَاءِ الْمُبْهَمِ وَالْإِتْيَانُ بِالْوَصْفِ بَعْدَهُ هِيَ أَنَّ الْمُنَادِيَ يُرِيدُ صَوْنَ كَلَامِهِ عَنِ الضَّيَاعِ، فَيَقُولُ أَوَّلًا: يَا أَيْ نِدَاءٌ لِمُبَهَمٍ لِيُقْبِلَ عَلَيْهِ كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ وَيَتَنَبَّهُ لِكَلَامِهِ مَنْ يَقْصِدُهُ، ثُمَّ عِنْدَ إِقْبَالِ السَّامِعِينَ يُخَصِّصُ الْمَقْصُودَ فَيَقُولُ: الرَّجُلُ وَالْتُزِمَ فِيهِ

[سورة الرحمن (55) : الآيات 33 إلى 34]

أمران أحدهما: الوصف بِالْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ أَوْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ، فَتَقُولُ: يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ/ أَوْ يَا أَيُّهَذَا لَا الْأَعْرَفُ مِنْهُ وَهُوَ الْعَلَمُ، لِأَنَّ بَيْنَ الْمُبْهَمِ الْوَاقِعِ عَلَى كُلِّ جِنْسٍ وَالْعَلَمِ الْمُمَيَّزِ عَنْ كُلِّ شخص تباعد أو ثانيهما: توسط (ها) التَّنْبِيهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَصْفِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي أَيِ الْإِضَافَةُ لِمَا أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْإِبْهَامِ فَيُحْتَاجُ إِلَى التَّمْيِيزِ، وَأَصْلُ التَّمْيِيزِ عَلَى مَا بَيَّنَّا الْإِضَافَةُ، فَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا لِتَعْوِيضِهِ عَنِ الْإِضَافَةِ، وَالْتُزِمَ أَيْضًا حَذْفُ لَامِ التَّعْرِيفِ عِنْدَ زَوَالِ أَيْ فَلَا تَقُولُ: يَا الرَّجُلُ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَطْوِيلًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، فَإِنَّكَ لَا تُفِيدُ بِاللَّامِ التَّنْبِيهَ الَّذِي ذَكَرْنَا، فَقَوْلُكَ: يَا رَجُلُ مُفِيدٌ فَلَا حَاجَةَ إِلَى اللَّامِ فَهُوَ يُوجِبُ إِسْقَاطَ اللَّامِ عِنْدَ الْإِضَافَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَإِنَّهَا لَمَّا أَفَادَتِ التَّعْرِيفَ كَانَ إِثْبَاتُ اللَّامِ تَطْوِيلًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ لِكَوْنِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْمُعَرَّفَيْنِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الثَّقَلانِ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُمَا سُمِّيَا بِذَلِكَ لِكَوْنِهِمَا مُثْقَلَيْنِ بِالذُّنُوبِ ثَانِيهِمَا: سُمِّيَا بِذَلِكَ لِكَوْنِهِمَا ثَقِيلَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَإِنَّ التُّرَابَ وَإِنْ لَطُفَ فِي الْخَلْقِ لِيَتَمَّ خَلْقُ آدَمَ لَكِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ ثَقِيلًا، وَأَمَّا النَّارُ فَلَمَّا وُلِدَ فِيهَا خَلْقُ الْجِنِّ كَثُفَتْ يَسِيرًا، فَكَمَا أَنَّ التُّرَابَ لَطُفَ يَسِيرًا فَكَذَلِكَ النَّارُ صَارَتْ ثَقِيلَةً، فَهُمَا ثَقَلَانِ فَسُمِّيَا بِذَلِكَ ثَالِثُهَا: الثَّقِيلُ أَحَدُهُمَا: لَا غَيْرُ وَسُمِّيَ الْآخَرُ بِهِ لِلْمُجَاوَرَةِ وَالِاصْطِحَابِ كَمَا يُقَالُ: الْعُمَرَانِ وَالْقَمَرَانِ وَأَحَدُهُمَا عُمَرُ وَقَمَرٌ، أَوْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ العموم بالنوعين الحاصرين، تَقُولُ: يَا أَيُّهَا الثَّقَلُ الَّذِي هُوَ كَذَا، وَالثَّقَلُ الَّذِي لَيْسَ كَذَا، وَالثَّقَلُ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ. قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ» . ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 33 الى 34] يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي وَجْهِ التَّرْتِيبِ وَحُسْنِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن: 31] وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ شُغْلٌ فَكَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: فَلِمَ كَانَ التَّأْخِيرُ إِذَا لَمْ يَكُنْ شُغْلٌ هُنَاكَ مَانِعٌ؟ فَقَالَ: الْمُسْتَعْجِلُ يَسْتَعْجِلُ. إِمَّا لِخَوْفِ فَوَاتِ الْأَمْرِ بِالتَّأْخِيرِ وَإِمَّا لِحَاجَةٍ فِي الْحَالِ، وَإِمَّا لِمُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ وَالْإِرَادَةِ عَلَى وَجْهِ التَّأْخِيرِ، وَبَيَّنَ عَدَمَ الْحَاجَةِ مِنْ قَبْلُ بِقَوْلِهِ: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 26، 27] لِأَنَّ مَا يَبْقَى بَعْدَ فَنَاءِ الْكُلِّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ، فَبَيَّنَ عَدَمَ الْخَوْفِ مِنَ الْفَوَاتِ، وَقَالَ: لَا يَفُوتُونَ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الخروج من السموات وَالْأَرْضِ، وَلَوْ أَمْكَنَ خُرُوجُهُمْ عَنْهُمَا لَمَا خَرَجُوا عَنْ مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ آخِذُهُمْ أَيْنَ كَانُوا وَكَيْفَ كَانُوا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَعْشَرُ الْجَمَاعَةُ الْعَظِيمَةُ، وَتَحْقِيقُهُ هُوَ أَنَّ الْمَعْشَرَ الْعَدَدُ الْكَامِلُ الكثير الذي لا عدد بعده إلا بابتداء فِيهِ حَيْثُ يُعِيدُ الْآحَادَ وَيَقُولُ: أَحَدَ عَشَرَ وَاثْنَا عَشَرَ وَعِشْرُونَ وَثَلَاثُونَ، / أَيْ ثَلَاثُ عَشَرَاتٍ فَالْمَعْشَرُ كَأَنَّهُ مَحَلُّ الْعَشْرِ الَّذِي هُوَ الْكَثْرَةُ الْكَامِلَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذَا الْخِطَابُ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ؟ نَقُولُ: الظَّاهِرُ فِيهِ أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ يُرِيدُونَ الْفِرَارَ مِنَ الْعَذَابِ فَيَجِدُونَ سَبْعَةَ صُفُوفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ محيطين بأقطار السموات وَالْأَرْضِ، وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَامٌّ بِمَعْنَى لَا مَهْرَبَ وَلَا مَخْرَجَ لَكُمْ عَنْ مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَيْنَمَا تَوَلَّيْتُمْ فَثَمَّ مُلْكُ اللَّهِ، وَأَيْنَمَا تَكُونُوا أَتَاكُمْ حُكْمُ اللَّهِ.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 35 إلى 36]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيمِ الْجِنِّ على الإنس هاهنا وَتَقْدِيمِ الْإِنْسِ عَلَى الْجِنِّ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ؟ [الإسراء: 88] نقول: النفوذ من أقطار السموات وَالْأَرْضِ بِالْجِنِّ أَلْيَقُ إِنْ أَمْكَنَ، وَالْإِتْيَانُ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ بِالْإِنْسِ أَلْيَقُ إِنْ أَمْكَنَ، فَقَدَّمَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَنْ يُظَنُّ بِهِ الْقُدْرَةُ عَلَى ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا مَعْنَى: لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ؟ نَقُولُ: ذَلِكَ يَحْتِمُلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَيَانًا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ أَيْ مَا تَنْفُذُونَ وَلَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِقُوَّةٍ وَلَيْسَ لَكُمْ قُوَّةٌ عَلَى ذَلِكَ. ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُكُمْ، وَتَقْدِيرُهُ مَا تَنْفُذُوا وَإِنْ نَفَذْتُمْ مَا تَنْفُذُونَ إِلَّا وَمَعَكُمْ سُلْطَانُ اللَّهِ، كَمَا يَقُولُ: خَرَجَ الْقَوْمُ بِأَهْلِهِمْ أَيْ مَعَهُمْ ثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النُّفُوذِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّ نُفُوذَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى طَلَبِ خَلَاصِهِمْ فَقَالَ: لَا تَنْفُذُونَ مِنْ أَقْطَارِ السموات لا تَتَخَلَّصُونَ مِنَ الْعَذَابِ وَلَا تَجِدُونَ مَا تَطْلُبُونَ من النفود وَهُوَ الْخَلَاصُ مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا بِسُلْطَانٍ مِنَ اللَّهِ يُجِيرُكُمْ وَإِلَّا فَلَا مُجِيرَ لَكُمْ، كَمَا تَقُولُ: لَا يَنْفَعُكَ الْبُكَاءُ إِلَّا إِذَا صَدَقْتَ وَتُرِيدُ بِهِ أَنَّ الصِّدْقَ وَحْدَهُ يَنْفَعُكَ، لَا أَنَّكَ إِنْ صَدَقْتَ فَيَنْفَعُكَ الْبُكَاءُ رَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ، وَوَجْهُهُ هُوَ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا أَيُّهَا الْغَافِلُ لَا يمكنك أن تخرج بذهنك عن أقطار السموات وَالْأَرْضِ فَإِذَا أَنْتَ أَبَدًا تُشَاهِدُ دَلِيلًا مِنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ، ثُمَّ هَبْ أَنَّكَ تَنْفُذُ مِنْ أقطار السموات وَالْأَرْضِ، فَاعْلَمْ أَنَّكَ لَا تَنْفُذُ إِلَّا بِسُلْطَانٍ تجده خارج السموات وَالْأَرْضِ قَاطِعٍ دَالٍّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ تَعَالَى وَالسُّلْطَانُ هو القوة الكاملة. ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 35 الى 36] يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا وَجْهُ تَعَلُّقِ الآية بما قَبْلَهَا؟ نَقُولُ: إِنْ قُلْنَا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نِدَاءٌ يُنَادَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَوْمَ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ فَلَا يَبْقَى لَكُمَا انْتِصَارٌ/ إِنِ اسْتَطَعْتُمَا النُّفُوذَ فَانْفُذَا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ النِّدَاءَ فِي الدُّنْيَا، فَنَقُولُ قَوْلُهُ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا مَهْرَبَ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ فَيُمْكِنُكُمُ الْفِرَارُ قَبْلَ الْوُقُوعِ فِي الْعَذَابِ وَلَا نَاصِرَ لَكُمْ فَيُخَلِّصُكُمْ مِنَ النَّارِ بَعْدَ وُقُوعِكُمْ فِيهَا وَإِرْسَالِهَا عَلَيْكُمْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتُمُ الْفِرَارَ لِئَلَّا تَقَعُوا فِي الْعَذَابِ فَفِرُّوا ثُمَّ إِذَا تَبَيَّنَ لَكُمْ أَنْ لَا فِرَارَ لَكُمْ وَلَا بُدَّ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهِ فَإِذَا وَقَعْتُمْ فِيهِ وَأُرْسِلَ عَلَيْكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَا تُنْصَرُونَ فَلَا خَلَاصَ لَكُمْ إِذَنْ، لِأَنَّ الْخَلَاصَ إِمَّا بِالدَّفْعِ قَبْلَ الْوُقُوعِ وَإِمَّا بِالرَّفْعِ بَعْدَهُ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِمَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَيْفَ ثَنَّى الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْكُما مَعَ أَنَّهُ جُمِعَ قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ [الرحمن: 33] وَالْخِطَابُ مَعَ الطَّائِفَتَيْنِ وَقَالَ: فَلا تَنْتَصِرانِ وَقَالَ من قبل: لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ؟ [الرحمن: 33] نَقُولُ: فِيهِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ لِبَيَانِ عَجْزِهِمْ وَعَظَمَةِ مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا بِاجْتِمَاعِكُمْ وَقُوَّتِكُمْ فَانْفُذُوا، وَلَا تَسْتَطِيعُونَ لِعَجْزِكُمْ فَقَدْ بَانَ عِنْدَ اجْتِمَاعِكُمْ وَاعْتِضَادِكُمْ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ فَهُوَ عِنْدَ افْتِرَاقِكُمْ أَظْهَرُ، فَهُوَ خِطَابٌ عَامٌّ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ عِنْدَ الِانْضِمَامِ إِلَى جَمِيعِ مَنْ عَدَاهُ مِنَ

[سورة الرحمن (55) : الآيات 37 إلى 38]

الْأَعْوَانِ وَالْإِخْوَانِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرْسَلُ عَلَيْكُما فَهُوَ لِبَيَانِ الْإِرْسَالِ عَلَى النَّوْعَيْنِ لَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ جَمِيعَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ لَا يُرْسَلُ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ وَالنَّارُ، فَهُوَ يُرْسَلُ عَلَى النَّوْعَيْنِ وَيَتَخَلَّصُ مِنْهُ بَعْضٌ مِنْهُمَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَلَا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنَ الْأَقْطَارِ أَصْلًا، وَهَذَا يَتَأَيَّدُ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَالَ: لَا فِرَارَ لَكُمْ قَبْلَ الْوُقُوعِ، وَلَا خَلَاصَ لَكُمْ عِنْدَ الْوُقُوعِ لَكِنْ عَدَمُ الْفِرَارِ عَامٌّ وَعَدَمُ الْخَلَاصِ لَيْسَ بِعَامٍّ وَالْجَوَابُ الثَّانِي: مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، هُوَ أَنَّ الْخِطَابَ مَعَ الْمَعْشَرِ فَقَوْلُهُ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَيُّهَا الْمَعْشَرُ وَقَوْلُهُ: يُرْسَلُ عَلَيْكُما لَيْسَ خِطَابًا مَعَ النِّدَاءِ بَلْ هُوَ خِطَابٌ مَعَ الْحَاضِرِينَ وَهُمَا نَوْعَانِ وَلَيْسَ الْكَلَامُ مَذْكُورًا بِحَرْفِ وَاوِ الْعَطْفِ حَتَّى يَكُونَ النَّوْعَانِ مُنَادَيَيْنِ فِي الْأَوَّلِ وَعِنْدَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِالنِّدَاءِ فَالتَّثْنِيَةُ أَوْلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما وَهَذَا يتأيد بقوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن: 31] وَحَيْثُ صَرَّحَ بِالنِّدَاءِ جَمَعَ الضَّمِيرَ، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما حَيْثُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالنِّدَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الشُّوَاظُ وَمَا النُّحَاسُ؟ نَقُولُ: الشُّوَاظُ لَهَبُ النَّارِ وَهُوَ لِسَانُهُ، وَقِيلَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ إِلَّا لِلْمُخْتَلِطِ بِالدُّخَانِ الَّذِي مِنَ الْحَطَبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْحُكَمَاءِ إِنَّ النَّارَ إِذَا صَارَتْ خَالِصَةً لَا تُرَى كَالَّتِي تَكُونُ فِي الْكِيرِ الَّذِي يَكُونُ فِي غَايَةِ الِاتِّقَادِ، وَكَمَا فِي التَّنُّورِ الْمَسْجُورِ فَإِنَّهُ يُرَى فِيهِ نُورٌ وَهُوَ نَارٌ، وَأَمَّا النُّحَاسُ فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا الدُّخَانُ، وَالثَّانِي الْقِطْرُ وَهُوَ النُّحَاسُ الْمَشْهُورُ عِنْدَنَا، ثُمَّ إِنَّ ذِكْرَ الْأَمْرَيْنِ بَعْدَ خِطَابِ النَّوْعَيْنِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِاخْتِصَاصِ كُلِّ وَاحِدٍ بِوَاحِدٍ. وَحِينَئِذٍ فَالنَّارُ الْخَفِيفُ لِلْإِنْسِ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ جَوْهَرَهُ، وَالنُّحَاسُ الثَّقِيلُ لِلْجِنِّ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ جَوْهَرَهُ أَيْضًا. فَإِنَّ الْإِنْسَ ثَقِيلٌ وَالنَّارَ خَفِيفَةٌ، وَالْجِنَّ خِفَافٌ وَالنُّحَاسَ ثَقِيلٌ، وَكَذَلِكَ إِنْ قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنَ النُّحَاسِ الدُّخَانُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وُرُودُهُمَا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ الظَّاهِرُ الْأَصَحُّ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَنْ قَرَأَ نُحاسٌ بِالْجَرِّ كَيْفَ يَعْرِبُهُ وَلَوْ زَعَمَ أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى النَّارِ يَكُونُ شُوَاظٌ مِنْ نُحَاسٍ وَالشُّوَاظُ لَا يَكُونُ مِنْ نُحَاسٍ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: تَقْدِيرُهُ شَيْءٌ مِنْ نُحَاسٍ كَقَوْلِهِمْ: تَقَلَّدْتُ سَيْفًا وَرُمْحًا وَثَانِيهِمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنْ يَقُولَ: الشُّوَاظُ لَمْ يَكُنْ إلا عند ما يَكُونُ فِي النَّارِ أَجْزَاءٌ هُوَائِيَّةٌ وَأَرْضِيَّةٌ، وَهُوَ الدُّخَانُ، فَالشُّوَاظُ مُرَكَّبٌ مِنْ نَارٍ وَمِنْ نُحَاسٍ وَهُوَ الدُّخَانُ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرْسَلُ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا شَيْئَانِ غَيْرَ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ، فَإِنْ قِيلَ: عَلَى هَذَا لَا فَائِدَةَ لِتَخْصِيصِ الشُّوَاظِ بِالْإِرْسَالِ إِلَّا بَيَانُ كَوْنِ تِلْكَ النَّارِ بَعْدُ غَيْرَ قَوِيَّةٍ قُوَّةً تُذْهِبُ عَنْهُ الدُّخَانُ، نَقُولُ: الْعَذَابُ بِالنَّارِ الَّتِي لَا تُرَى دُونَ الْعَذَابُ بِالنَّارِ الَّتِي تُرَى، لِتَقَدُّمِ الْخَوْفِ عَلَى الْوُقُوعِ فِيهِ وَامْتِدَادِ الْعَذَابِ وَالنَّارُ الصِّرْفَةُ لَا تُرَى أَوْ تُرَى كَالنُّورِ، فَلَا يَكُونُ لَهَا لَهِيبٌ وَهَيْبَةٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَنْتَصِرانِ نَفْيٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الِانْتِصَارِ، فَلَا يَنْتَصِرُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَلَا هُمَا بِغَيْرِهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْكُفَّارُ يَقُولُونَ فِي الدُّنْيَا: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ [الْقَمَرِ: 44] وَالِانْتِصَارُ التَّلَبُّسُ بِالنُّصْرَةِ، يُقَالُ لِمَنْ أَخَذَ الثَّأْرَ انْتَصَرَ مِنْهُ كَأَنَّهُ انْتَزَعَ النُّصْرَةَ مِنْهُ لِنَفْسِهِ وَتَلَبَّسَ بِهَا، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الِانْتِقَامُ وَالِادِّخَارُ وَالِادِّهَانُ، وَالَّذِي يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ الِانْتِصَارَ بِمَعْنَى الِامْتِنَاعِ: فَلا تَنْتَصِرانِ بِمَعْنَى لَا تَمْتَنِعَانِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّهُ يَكُونُ مُتَلَبِّسًا بِالنُّصْرَةِ فهو ممتنع لذلك. ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 37 الى 38] فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38)

إِشَارَةً إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ إِرْسَالِ الشُّوَاظِ عَلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلًا مَا يَخَافُ مِنْهُ الْإِنْسَانُ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَخَافُ مِنْهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ لَهُ إدراك من الجن والإنس والملك حيث تخلوا أَمَاكِنُهُمْ بِالشَّقِّ وَمَسَاكِنُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ بِالْخَرَابِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: 26] إِشَارَةً إِلَى سُكَّانِ الْأَرْضِ، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ بَيَانًا لِحَالِ سُكَّانِ السَّمَاءِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفَاءُ فِي الْأَصْلِ لِلتَّعْقِيبِ عَلَى وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ مِنْهَا: التَّعْقِيبُ الزَّمَانِيُّ لِلشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يَتَعَلَّقُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ عَقْلًا كَقَوْلِهِ قَعَدَ زَيْدٌ فَقَامَ عَمْرٌو، لِمَنْ سَأَلَكَ عن قعود زيد وقيام عمر، وَإِنَّهُمَا كَانَا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبَيْنِ وَمِنْهَا: التَّعْقِيبُ الذِّهْنِيُّ لِلَّذِينَ يَتَعَلَّقُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ كَقَوْلِكَ: جَاءَ زَيْدٌ فَقَامَ عَمْرٌو إِكْرَامًا لَهُ إِذْ يَكُونُ فِي مِثْلِ هَذَا قِيَامُ عَمَرٍو مَعَ مَجِيءِ زَيْدٍ زَمَانًا وَمِنْهَا: التَّعْقِيبُ فِي الْقَوْلِ كَقَوْلِكَ: لَا أَخَافُ الْأَمِيرَ فَالْمَلِكَ فَالسُّلْطَانَ، كَأَنَّكَ تَقُولُ: أَقُولُ لَا أَخَافُ الْأَمِيرَ، وَأَقُولُ لَا أَخَافُ الْمَلِكَ، وَأَقُولُ لَا أَخَافُ السُّلْطَانَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالْفَاءُ هُنَا تَحْتَمِلُ الْأَوْجُهَ جَمِيعًا، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ إِرْسَالَ الشُّوَاظِ عَلَيْهِمْ يَكُونُ قَبْلَ انشقاق السموات، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْإِرْسَالُ/ إِشَارَةً إِلَى عَذَابِ الْقَبْرِ، وَإِلَى مَا يَكُونُ عِنْدَ سَوْقِ الْمُجْرِمِينَ إِلَى الْمَحْشَرِ، إِذْ وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الشُّوَاظَ يَسُوقُهُمْ إِلَى الْمَحْشَرِ، فَيَهْرَبُونَ مِنْهَا إِلَى أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا مَعْنَاهُ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ، فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ يَكُونُ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ، وَالْحِسَابُ الشَّدِيدُ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَمَّا الثَّانِي: فَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَوْنِ السَّمَاءِ تَكُونُ حَمْرَاءَ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ لَهِيبَهَا يَصِلُ إِلَى السَّمَاءِ وَيَجْعَلُهَا كَالْحَدِيدِ الْمُذَابِ الْأَحْمَرِ، وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَوَجْهُهُ أن يقال: لما قال: فَلا تَنْتَصِرانِ [الرحمن: 35] أَيْ فِي وَقْتِ إِرْسَالِ الشُّوَاظِ عَلَيْكُمَا قَالَ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ وَصَارَتْ كَالْمُهْلِ، وَهُوَ كَالطِّينِ الذَّائِبِ، كَيْفَ تَنْتَصِرَانِ؟ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الشُّوَاظَ الْمُرْسَلَ لَهَبٌ وَاحِدٌ، أَوْ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ وَذَابَتْ، وَصَارَتِ الْأَرْضُ وَالْجَوُّ وَالسَّمَاءُ كُلُّهَا نَارًا فَكَيْفَ تَنْتَصِرَانِ؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَلِمَةُ (إِذَا) قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِ وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْمُفَاجَأَةِ وَإِنْ كَانَتْ فِي أَوْجُهِهَا ظَرْفًا لَكِنْ بَيْنَهَا فَرْقٌ فَالْأَوَّلُ: مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [اللَّيْلِ: 1، 2] وَالثَّانِي: مِثْلَ قَوْلِهِ: إِذَا أَكْرَمْتَنِي أُكْرِمْكَ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 159] وَفِي الْأَوَّلِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ مُتَّصِلًا بِهِ وَفِي الثَّانِي لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: إِذَا عَلَّمْتَنِي تُثَابُ يَكُونُ الثَّوَابُ بَعْدَهُ زَمَانًا لَكِنَّ اسْتِحْقَاقَهُ يَثْبُتُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُتَّصِلًا بِهِ وَالثَّالِثُ: مِثَالُ مَا يَقُولُ: خَرَجْتُ فَإِذَا قَدْ أَقْبَلَ الرَّكْبُ أَمَّا لو قال: خرجت إذا أَقْبَلَ الرَّكْبُ فَهُوَ فِي جَوَابِ مَنْ يَقُولُ مَتَى خَرَجْتَ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: عَلَى أَيِّ وَجْهٍ اسْتَعْمَلَ (إِذَا) هَاهُنَا؟ نَقُولُ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: الظَّرْفِيَّةُ الْمُجَرَّدَةُ عَلَى أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ الزَّمَانِيِّ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ بَيَانٌ لِوَقْتِ الْعَذَابِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ يَكُونُ الْعَذَابُ أَيْ بَعْدَ إِرْسَالِ الشُّوَاظِ، وَعِنْدَ انْشِقَاقِ السَّمَاءِ يَكُونُ وَثَانِيهِمَا: الشَّرْطِيَّةُ وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ وَهُوَ قَوْلُنَا: فَلا تَنْتَصِرانِ عِنْدَ إِرْسَالِ الشُّوَاظِ فَكَيْفَ تَنْتَصِرَانِ إِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَلَا تَتَوَقَّعُوا الِانْتِصَارَ أَصْلًا، وَأَمَّا الْحَمْلُ عَلَى الْمُفَاجَأَةِ عَلَى أَنْ يُقَالَ: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ فَإِذَا السَّمَاءُ قَدِ انْشَقَّتْ، فَبَعِيدٌ وَلَا يُحْمَلُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ الذِّهْنِيِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْمُخْتَارُ مِنَ الْأَوْجُهِ؟ نَقُولُ: الشَّرْطِيَّةُ وَحِينَئِذٍ لَهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ

[سورة الرحمن (55) : الآيات 39 إلى 40]

مَحْذُوفًا رَأْسًا لِيَفْرِضَ السَّامِعُ بَعْدَهُ كُلَّ هَائِلٍ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: إِذَا غَضِبَ السُّلْطَانُ عَلَى فُلَانٍ لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَاذَا يَفْعَلُهُ، ثُمَّ رُبَّمَا يَسْكُتُ عِنْدَ قَوْلِهِ إِذَا غَضِبَ السُّلْطَانُ مُتَعَجِّبًا آتِيًا بِقَرِينَةٍ دَالَّةٍ عَلَى تَهْوِيلِ الْأَمْرِ، لِيَذْهَبَ السَّامِعُ مَعَ كُلِّ مَذْهَبٍ، وَيَقُولُ: كَأَنَّهُ إِذَا غَضِبَ السُّلْطَانُ يَقْتُلُ وَيَقُولُ الْآخَرُ: إِذَا غَضِبَ السُّلْطَانُ يَنْهَبُ وَيَقُولُ الْآخَرُ غَيْرَ ذَلِكَ وَثَانِيهِمَا: مَا بَيَّنَّا مِنْ بَيَانِ عَدَمِ الِانْتِصَارِ وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ إِلَى أَنْ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً [الْفُرْقَانِ: 25، 26] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى/ قَالَ: إِذَا أرسل عليهم شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٍ فَلَا يَنْتَصِرَانِ، فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ كَيْفَ يَنْتَصِرَانِ؟ فَيَكُونُ الْأَمْرُ عَسِيرًا، فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ يَكُونُ الْأَمْرُ عَسِيرًا فِي غَايَةِ الْعُسْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ يَلْقَى الْمَرْءُ فِعْلَهُ وَيُحَاسَبُ حِسَابَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ إلى أن قال: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الِانْشِقَاقِ: 1- 6] الْآيَةَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْمَعْنَى مِنَ الِانْشِقَاقِ؟ نَقُولُ: حَقِيقَتُهُ ذَوَبَانُهَا وَخَرَابُهَا كَمَا قَالَ تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ [السماء: 104] إِشَارَةً إِلَى خَرَابِهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: انْشَقَّتْ بِالْغَمَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان: 25] وَفِيهِ وُجُوهٌ مِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ: بِالْغَمامِ أَيْ مع الغمام فيكون مثل ما ذكرنا هاهنا مِنَ الِانْفِطَارِ وَالْخَرَابِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ؟ نَقُولُ: الْمَشْهُورُ أَنَّهَا فِي الْحَالِ تَكُونُ حَمْرَاءَ يُقَالُ: فَرَسٌ وَرْدٌ إِذَا أُثْبِتَ لِلْفَرَسِ الْحُمْرَةُ، وَحُجْرَةٌ وَرْدَةٌ أَيْ حَمْرَاءُ اللَّوْنِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لَهِيبَ النَّارِ يَرْتَفِعُ فِي السَّمَاءِ فَتَذُوبُ فَتَكُونُ كَالصُّفْرِ الذَّائِبِ حَمْرَاءَ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: وَرْدَةٌ لِلْمَرَّةِ مِنَ الْوُرُودِ كَالرَّكْعَةِ وَالسَّجْدَةِ وَالْجَلْسَةِ وَالْقَعْدَةِ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْجُلُوسِ وَالْقُعُودِ، وَحِينَئِذٍ الضَّمِيرُ فِي كَانَتْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: 53] أَيِ الكائنة أو الداهية وأنت الضَّمِيرَ لِتَأْنِيثِ الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا مُذَكَّرًا، فكذا هاهنا قَالَ: فَكانَتْ وَرْدَةً وَاحِدَةً أَيِ الْحَرَكَةُ الَّتِي بِهَا الِانْشِقَاقُ كَانَتْ وَرْدَةً وَاحِدَةً، وَتَزَلْزَلَ الْكُلُّ وَخَرِبَ دُفْعَةً، وَالْحَرَكَةُ مَعْلُومَةٌ بِالِانْشِقَاقِ لِأَنَّ الْمُنْشَقَّ يَتَحَرَّكُ، وَيَتَزَلْزَلُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَالدِّهانِ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: جَمْعُ دُهْنٍ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الدِّهَانَ هُوَ الْأَدِيمُ الْأَحْمَرُ، فَإِنْ قِيلَ: الْأَدِيمُ الْأَحْمَرُ مُنَاسِبٌ لِلْوَرْدَةِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ كَانَتِ السَّمَاءُ كَالْأَدِيمِ الْأَحْمَرِ، وَلَكِنْ مَا الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْوَرْدَةِ وَبَيْنَ الدِّهَانِ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنَ الدِّهَانِ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ [الْمَعَارِجِ: 8] وَهُوَ عَكَرُ الزَّيْتِ وَبَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةٌ، فَإِنَّ الْوَرْدَ يُطْلَقُ عَلَى الْأَسَدِ فَيُقَالُ: أَسَدٌ وَرْدٌ، فَلَيْسَ الْوَرْدُ هُوَ الْأَحْمَرَ الْقَانِي وَالثَّانِي: أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالدُّهْنِ لَيْسَ فِي اللَّوْنِ بَلْ فِي الذَّوَبَانِ وَالثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الدُّهْنَ الْمُذَابَ يَنْصَبُّ انْصِبَابَةً وَاحِدَةً وَيَذُوبُ دُفْعَةً وَالْحَدِيدُ وَالرَّصَاصُ لَا يَذُوبُ غَايَةَ الذَّوَبَانِ، فَتَكُونُ حَرَكَةُ الدُّهْنِ بَعْدَ الذَّوَبَانِ أَسْرَعَ مِنْ حَرَكَةِ غَيْرِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ حَرَكَتُهَا تَكُونُ وَرْدَةً وَاحِدَةً كَالدِّهَانِ الْمَصْبُوبَةِ صَبًّا لَا كَالرَّصَاصِ الَّذِي يَذُوبُ مِنْهُ أَلْطَفُهُ وَيُنْتَفَعُ بِهِ وَيَبْقَى الْبَاقِي، وَكَذَلِكَ الْحَدِيدُ وَالنُّحَاسُ، وَجَمَعَ الدِّهَانَ لِعَظَمَةِ السَّمَاءِ وَكَثْرَةِ مَا يَحْصُلُ مِنْ ذَوَبَانِهَا لِاخْتِلَافِ أجزائها، فإن الكواكب تخالف غيرها. ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 39 الى 40] فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40)

وَفِيهِ/ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَا يَسْأَلُهُ أَحَدٌ عَنْ ذَنْبِهِ، فَلَا يُقَالُ: لَهُ أَنْتَ الْمُذْنِبُ أَوْ غَيْرُكَ، وَلَا يُقَالُ: مَنِ الْمُذْنِبُ مِنْكُمْ بَلْ يَعْرِفُونَهُ بِسَوَادِ وُجُوهِهِمْ وَغَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا فَالضَّمِيرُ فِي ذَنْبِهِ عَائِدٌ إِلَى مُضْمَرٍ مُفَسَّرٍ بِمَا يعده، وَتَقْدِيرُهُ لَا يُسْأَلُ إِنْسٌ عَنْ ذَنْبِهِ وَلَا جَانٌّ يُسْأَلُ، أَيْ عَنْ ذَنْبِهِ وَثَانِيهِمَا: مَعْنَاهُ قريب من المعنى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الْأَنْعَامِ: 164] كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ مُذْنِبٌ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ وَفِيهِ إِشْكَالٌ لَفْظِيٌّ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي ذَنْبِهِ إِنْ عَادَ إِلَى أَمْرٍ قَبْلَهُ يَلْزَمُ اسْتِحَالَةُ مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْمَعْنَى بَلْ يَلْزَمُ فَسَادُ الْمَعْنَى رَأْسًا لِأَنَّكَ إذا قلت: لا يسأل مسؤول وَاحِدٌ أَوْ إِنْسِيٌّ مَثَلًا عَنْ ذَنْبِهِ فَقَوْلُكَ بَعْدُ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ، يَقْتَضِي تَعَلُّقَ فِعْلٍ بِفَاعِلَيْنِ وَإِنَّهُ مُحَالٌ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَفْرِضَ عَائِدًا وَإِنَّمَا يُجْعَلُ بِمَعْنَى الْمُظْهَرِ لَا غَيْرُ وَيُجْعَلُ عَنْ ذَنْبِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: عَنْ ذَنْبِ مُذْنِبٍ ثَانِيهِمَا. وَهُوَ أَدَقُّ وَبِالْقَبُولِ أَحَقُّ أَنْ يُجْعَلَ مَا يَعُودُ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ قَبْلَ الْفِعْلِ فَيُقَالُ: تَقْدِيرُهُ فَالْمُذْنِبُ يَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ، وفيه مسائل لفظية ومعنوية: [أما اللفظية] المسألة الأولى: اللفظية الفاء للتعذيب وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ زَمَانِيًّا كَأَنَّهُ يَقُولُ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ يَقَعُ الْعَذَابُ، فَيَوْمَ وُقُوعِهِ لَا يُسْأَلُ، وَبَيْنَ الْأَحْوَالِ فَاصِلٌ زَمَانِيٌّ غَيْرُ مُتَرَاخٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَقْلِيًّا كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَقَعُ الْعَذَابُ فَلَا يَتَأَخَّرُ تَعَلُّقُهُ بِهِمْ مِقْدَارَ مَا يُسْأَلُونَ عَنْ ذَنْبِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ التَّرْتِيبَ الْكَلَامِيَّ كَأَنَّهُ يَقُولُ: تَهْرَبُونَ بِالْخُرُوجِ من أقطار السموات، وَأَقُولُ لَا تَمْتَنِعُونَ عِنْدَ انْشِقَاقِ السَّمَاءِ، فَأَقُولُ: لَا تُمْهَلُونَ مِقْدَارَ مَا تُسْأَلُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْمُرَادُ مِنَ السُّؤَالِ؟ نَقُولُ: الْمَشْهُورُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ لَا يُقَالُ لَهُمْ: مَنِ الْمُذْنِبُ مِنْكُمْ، وَهُوَ عَلَى هَذَا سُؤَالُ اسْتِعْلَامٍ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي سُؤَالُ تَوْبِيخٍ أَيْ لَا يُقَالُ لَهُ: لِمَ أَذْنَبَ الْمُذْنِبُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالَ مَوْهِبَةٍ وَشَفَاعَةٍ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: أَسْأَلُكَ ذَنْبَ فُلَانٍ، أَيْ أَطْلُبُ مِنْكَ عَفْوَهُ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ السُّؤَالَ إِذَا عُدِّيَ بِعَنْ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَعْنَى الِاسْتِعْلَامِ أَوِ التَّوْبِيخِ وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الِاسْتِعْطَاءِ يُعَدَّى بِنَفْسِهِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ فَيُقَالُ: نَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ ثَانِيهَا: الْكَلَامُ لَا يَحْتَمِلُ تَقْدِيرًا وَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ بِحَيْثُ يُطَابِقُ الْكَلَامَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَصِيرُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يُسْأَلُ وَاحِدٌ ذَنْبَ أَحَدٍ بَلْ أَحَدٌ لَا يُسْأَلُ ذَنْبَ نفسه ثالثها: قوله: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ [الرحمن: 41] لَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ نَقُولُ: أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنَّ السُّؤَالَ رُبَّمَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ الِاسْتِعْلَامِ يُحْذَفُ الثَّانِي وَيُؤْتَى بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ يُقَالُ: سَأَلْتُهُ عَنْ كَذَا أَيْ سَأَلْتُهُ الْإِخْبَارَ عَنْ كَذَا فَيَحْذِفُ الْإِخْبَارَ وَيَكْتَفِي بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى طَلَبْتُ مِنْهُ أَنْ يُخْبِرَنِي عن كذاو عن الثاني: أن يكون التَّقْدِيرَ لَا يُسْأَلُ إِنْسٌ ذَنْبَهُ وَلَا جَانٌّ، وَالضَّمِيرُ يَكُونُ عَائِدًا إِلَى الْمُضْمَرِ لَفْظًا لَا معنى، كما نقول: قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ، فَالضَّمِيرُ فِي أَنْفُسِهِمْ عَائِدٌ إِلَى مَا فِي قَوْلِكَ: قَتَلُوا لَفْظًا لَا مَعْنًى لِأَنَّ مَا فِي قَتَلُوا ضَمِيرُ الْفَاعِلِ، وَفِي أَنْفُسِهِمْ ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ، إِذِ الْوَاحِدُ لَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ كُلُّ وَاحِدٍ قَتَلَ وَاحِدًا غَيْرَهُ، فَكَذَلِكَ [كُلُّ] إِنْسٍ لَا يُسْأَلُ [عَنْ] ذَنْبِهِ أَيْ ذَنْبِ إِنْسٍ غَيْرِهِ، / وَمَعْنَى الْكَلَامِ لَا يُقَالُ: لِأَحَدٍ اعْفُ عَنْ فُلَانٍ، لِبَيَانِ أَنْ لَا مَسْئُولَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَإِنَّمَا كُلُّهُمْ سَائِلُونَ اللَّهَ وَاللَّهُ تَعَالَى حِينَئِذٍ هُوَ الْمَسْئُولُ. وَأَمَّا الْمَعْنَوِيَّةُ فَالْأَوْلَى: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الْحِجْرِ: 92] وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ؟ [الصافات: 24] نَقُولُ: عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلْآخِرَةِ مَوَاطِنَ. فَلَا يُسْأَلُ فِي مَوْطِنٍ، وَيُسْأَلُ فِي مَوْطِنٍ وَثَانِيهِمَا: وَهُوَ أَحْسَنُ لَا يُسْأَلُ عن فعله

[سورة الرحمن (55) : الآيات 41 إلى 42]

أَحَدٌ مِنْكُمْ، وَلَكِنْ يُسْأَلُ بِقَوْلِهِ: لِمَ فَعَلَ الْفَاعِلُ فَلَا يُسْأَلُ سُؤَالَ اسْتِعْلَامٍ، بَلْ يُسْأَلُ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَلَا يَرِدُ السُّؤَالُ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ الْجَمْعِ. وَالثَّانِيَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي بَيَانِ عَدَمِ السُّؤَالِ؟ نَقُولُ: عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ فَائِدَتُهُ التَّوْبِيخُ لَهُمْ كقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عَبَسَ: 40، 41] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 106] وَعَلَى الثَّانِي بَيَانُ أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُمْ فِدْيَةٌ، فَيَكُونُ تَرْتِيبُ الْآيَاتِ أَحْسَنَ، لِأَنَّ فِيهَا حِينَئِذٍ بَيَانَ أَنْ لَا مَفَرَّ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا [الرحمن: 33] ثُمَّ بَيَانَ أَنْ لَا مَانِعَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: فَلا تَنْتَصِرانِ [الرحمن: 35] ثُمَّ بَيَانَ أَنْ لَا فِدَاءَ لَهُمْ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: لَا يُسْأَلُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَخِيرِ، بَيَانُ أَنْ لَا شَفِيعَ لَهُمْ وَلَا رَاحِمَ وَفَائِدَةٌ أُخْرَى: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا مُؤَخَّرٌ بِقَوْلِهِ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ [الرحمن: 31] بَيَّنَ أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَا يُؤَخَّرُ بِقَدْرِ مَا يُسْأَلُ وَفَائِدَةٌ أُخْرَى: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ لَا مَفَرَّ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: لا تَنْفُذُونَ [الرحمن: 33] وَلَا نَاصِرَ لَهُمْ يُخَلِّصُهُمْ بِقَوْلِهِ: فَلا تَنْتَصِرانِ بَيَّنَ أَمْرًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمُذْنِبُ: رُبَّمَا أَنْجُو فِي ظِلِّ خُمُولٍ وَاشْتِبَاهِ حَالٍ، فَقَالَ: وَلَا يَخْفَى أَحَدٌ مِنَ الْمُذْنِبِينَ بِخِلَافِ أَمْرِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الشِّرْذِمَةَ الْقَلِيلَةَ رُبَّمَا تَنْجُو من العذاب العام بسبب خمولهم. وقال تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 41 الى 42] يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) اتِّصَالُ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ، ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ فِيهِ، إِذْ قَوْلُهُ: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ كَالتَّفْسِيرِ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ غَيْرُهُ كَيْفَ قَالَ: يُعْرَفُ وَيُؤْخَذُ وَعَلَى قَوْلِنَا: لَا يُسْأَلُ سُؤَالَ حَطٍّ وَعَفْوٍ أَيْضًا كَذَلِكَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: السِّيمَا كَالضِّيزَى وَأَصْلُهُ سَوْمَى مِنَ السَّوْمَةِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: كَيٌّ عَلَى جِبَاهِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ [التَّوْبَةِ: 35] ثَانِيهَا: سَوَادٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 106] وَقَالَ تَعَالَى: وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزُّمَرِ: 60] ثَالِثُهَا: غَبَرَةٌ وَقَتَرَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا وَجْهُ إِفْرَادِ (يُؤْخَذُ) مَعَ أَنَّ (الْمُجْرِمِينَ) جَمْعٌ، وَهُمُ الْمَأْخُوذُونَ؟ نَقُولُ فِيهِ/ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ يُؤْخَذَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بِالنَّواصِي كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ ذُهِبَ بِزَيْدٍ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ يُؤْخَذُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ، فَيُؤْخَذُونَ بِالنَّوَاصِي، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ عُدِّيَ الْأَخْذُ بِالْبَاءِ وَهُوَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ قَالَ تَعَالَى: لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ [الْحَدِيدِ: 15] وَقَالَ: خُذْها وَلا تَخَفْ [طه: 21] نَقُولُ: الْأَخْذُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ كَمَا بَيَّنْتَ، وَبِالْبَاءِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه: 94] لَكِنْ فِي الِاسْتِعْمَالِ تَدْقِيقٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ إِنْ كَانَ مَقْصُودًا بِالْأَخْذِ تَوَجَّهَ الْفِعْلُ نَحْوَهُ فَيَتَعَدَّى إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَرْفٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْأَخْذِ غَيْرَ الشَّيْءِ الْمَأْخُوذِ حِسًّا تَعَدَّى إِلَيْهِ بِحَرْفٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا فَكَأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمَأْخُوذُ، وَكَأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَتَعَدَّ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، فَذَكَرَ الْحَرْفَ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا اسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: خُذْها وَلا تَخَفْ فِي الْعَصَا وَقَالَ تَعَالَى: وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [النساء: 102] وأَخَذَ الْأَلْواحَ [الأعراف: 154]

[سورة الرحمن (55) : آية 43]

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ مَا ذُكِرَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْأَخْذِ عُدِّيَ الْفِعْلُ إِلَيْهِ مِنْ غير حرف، وقال تعالى: تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي وَقَالَ تَعَالَى: فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ وَيُقَالُ: خُذْ بِيَدِي وَأَخَذَ اللَّهُ بِيَدِكَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ الْمَقْصُودُ بِالْأَخْذِ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَوْجِيهِ الْفِعْلِ إِلَى غَيْرِ مَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ الْأَوَّلُ، وَلِمَ قَالَ: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي؟ نَقُولُ فِيهِ بَيَانُ نَكَالِهِمْ وَسُوءِ حَالِهِمْ وَنُبَيِّنُ هَذَا بِتَقْدِيمِ مِثَالٍ وَهُوَ أَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ ضُرِبَ زَيْدٌ فَقُتِلَ عَمْرٌو فَإِنَّ الْمَفْعُولَ فِي بَابِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْفَاعِلِ وَمُشَبَّهٌ بِهِ وَلِهَذَا أُعْرِبَ إِعْرَابُهُ فَلَوْ لَمْ يُوَجَّهْ يُؤْخَذْ إِلَى غَيْرِ مَا وُجِّهَ إِلَيْهِ يُعْرَفُ لَكَانَ الْأَخْذُ فِعْلٌ مِنْ عَرَفَ فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ: يَعْرِفُ الْمُجْرِمِينَ عَارِفٌ فَيَأْخُذُهُمْ ذَلِكَ الْعَارِفُ، لَكِنِ الْمُجْرِمُ يَعْرِفُهُ بِسِيمَاهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَلَا يَأْخُذُهُ كُلُّ مَنْ عَرَفَهُ بِسِيمَاهُ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ الْمُرَادُ يَعْرِفُهُمُ النَّاسُ وَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَحْتَاجُونَ فِي مَعْرِفَتِهِمْ إِلَى عَلَامَةٍ، أَمَّا كَتَبَةُ الْأَعْمَالِ وَالْمَلَائِكَةُ الْغِلَاظُ الشِّدَادُ فَيَعْرِفُونَهُمْ كَمَا يَعْرِفُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى عَلَامَةٍ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: يُعْرَفُ مَعْنَاهُ يَكُونُونَ مَعْرُوفِينَ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ فَلَوْ قَالَ: يُؤْخَذُونَ يَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ: فَيَكُونُونَ مَأْخُوذِينَ لِكُلِّ أَحَدٍ، كَذَلِكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: شُغِلْتُ فَضُرِبَ زَيْدٌ عَلِمْتَ عِنْدَ تَوْجِهِ التَّعْلِيقِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ دَلِيلُ تَغَايُرِ الشَّاغِلِ وَالضَّارِبِ لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنِّي شَغَلَنِي شَاغِلٌ فَضَرَبَ زَيْدًا ضَارِبٌ، فَالضَّارِبُ غَيْرُ ذَلِكَ الشَّاغِلِ، وَإِذَا قُلْتَ: شُغِلَ زَيْدٌ فَضُرِبَ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ تَوَجَّهَ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ يَدُلُّ فَلَا يَظْهَرُ مِثْلَ مَا يَظْهَرُ عِنْدَ تَوَجُّهِهِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، أَمَّا بَيَانُ النَّكَالِ فَلِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ الْأَخْذِ وَجَعْلَهَا مَقْصُودَ الْكَلَامِ، وَلَوْ قَالَ: فَيُؤْخَذُونَ لَكَانَ الْكَلَامُ يَتِمُّ عِنْدَهُ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: بِالنَّواصِي فَائِدَةً جَاءَتْ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ فَلَا يَكُونُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَأَمَّا إِذَا قَالَ: فَيُؤْخَذُ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَيَنْتَظِرُ السَّامِعُ وُجُودَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَالَ: بِالنَّواصِي يَكُونُ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَفِي كَيْفِيَّةِ الْأَخْذِ ظُهُورُ نَكَالِهِمْ لِأَنَّ فِي نَفْسِ الْأَخْذِ بِالنَّاصِيَةِ إِذْلَالًا وَإِهَانَةً، وَكَذَلِكَ الْأَخْذُ بِالْقَدَمِ، لَا يُقَالُ قَدْ ذَكَرْتَ أَنَّ التَّعْدِيَةَ بِالْبَاءِ إِنَّمَا تَكُونُ حَيْثُ لَا يَكُونُ الْمَأْخُوذُ مَقْصُودًا وَالْآنَ ذَكَرْتَ أَنَّ الْأَخْذَ بِالنَّوَاصِي هُوَ الْمَقْصُودُ لِأَنَّا نَقُولُ: لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْأَخْذَ بِالنَّوَاصِي مَقْصُودُ الْكَلَامِ وَالنَّاصِيَةُ مَا أُخِذَتْ لِنَفْسِ كَوْنِهَا/ نَاصِيَةً وَإِنَّمَا أُخِذَتْ لِيَصِيرَ صَاحِبُهَا مَأْخُوذًا، وَفَرْقٌ بَيْنَ مَقْصُودِ الْكَلَامِ وَبَيْنَ الْأَخْذِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: يَجْمَعُ بَيْنَ نَاصِيَتِهِمْ وَقَدَمِهِمْ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ جَانِبِ ظُهُورِهِمْ فَيَرْبِطُ بِنَوَاصِيهِمْ أَقْدَامَهُمْ مِنْ جَانِبِ الظَّهْرِ فَتَخْرُجُ صُدُورُهُمْ نَتَأً وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جَانِبِ وُجُوهِهِمْ فَتَكُونُ رُءُوسُهُمْ عَلَى رُكَبِهِمْ وَنَوَاصِيهِمْ فِي أَصَابِعِ أَرْجُلِهِمْ مَرْبُوطَةً الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يُسْحَبُونَ سَحْبًا فَبَعْضُهُمْ يُؤْخَذُ بِنَاصِيَتِهِ وَبَعْضُهُمْ يُجَرُّ بِرِجْلِهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وأوضح. ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : آية 43] هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) وَالْمَشْهُورُ أن هاهنا إِضْمَارًا تَقْدِيرُهُ يُقَالُ لَهُمْ: هَذِهِ جَهَنَّمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي مَوَاضِعَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ هَذِهِ صِفَةُ جَهَنَّمَ فَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَ الْمُضَافِ وَيَكُونُ مَا تَقَدَّمَ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ، وَالْأَقْوَى أَنْ يُقَالَ: الْكَلَامُ عِنْدَ النَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ قَدْ تَمَّ، وَقَوْلُهُ: هذِهِ جَهَنَّمُ لِقُرْبِهَا كَمَا يُقَالُ هَذَا زَيْدٌ قَدْ وَصَلَ إِذَا قَرُبَ مَكَانُهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ هَذِهِ قَرِيبَةٌ غَيْرُ بَعِيدَةٍ عَنْهُمْ، وَيُلَائِمُهُ قَوْلُهُ: يُكَذِّبُ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَوْ كَانَ بِإِضْمَارٍ يُقَالُ، لَقَالَ تَعَالَى لَهُمْ: هَذِهِ جَهَنَّمُ التي يكذب بِهَا الْمُجْرِمُونَ لِأَنَّ فِي هَذَا الْوَقْتِ لَا يبقى مكذب،

[سورة الرحمن (55) : آية 44]

وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يُضْمَرُ فِيهِ: كَانَ يُكَذِّبُ. وقوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : آية 44] يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ [الْكَهْفِ: 29] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [السَّجْدَةِ: 20] لِأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ فَيَسْتَغِيثُونَ فَيَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ بُعْدٍ شَيْءٌ مَائِعٌ هُوَ صَدِيدُهُمُ الْمَغْلِيُّ فَيَظُنُّونَهُ مَاءٌ، فَيَرِدُونَ عَلَيْهِ كَمَا يَرِدُ الْعَطْشَانُ فَيَقَعُونَ وَيَشْرَبُونَ مِنْهُ شُرْبَ الْهِيمِ، فَيَجِدُونَهُ أَشَدَّ حَرًّا فَيُقَطِّعُ أَمْعَاءَهُمْ، كَمَا أَنَّ الْعَطْشَانَ إِذَا وَصَلَ إِلَى مَاءٍ مَالِحٍ لَا يَبْحَثُ عَنْهُ وَلَا يَذُوقُهُ، وَإِنَّمَا يَشْرَبُهُ عَبًّا فَيَحْرِقُ فُؤَادَهُ وَلَا يُسَكِّنُ عَطَشَهُ. وَقَوْلُهُ: حَمِيمٍ إِشَارَةٌ إِلَى مَا فُعِلَ فِيهِ مِنَ الْإِغْلَاءِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: آنٍ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: قَطَعْتُهُ فَانْقَطَعَ فَكَأَنَّهُ حَمَتْهُ النَّارُ فَصَارَ فِي غَايَةِ السُّخُونَةِ وَآنَ الْمَاءُ إِذَا انْتَهَى فِي الْحَرِّ نِهَايَةً. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: [سورة الرحمن (55) : آية 45] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45) وَفِيهِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَيْسَتْ مِنَ الْآلَاءِ فَكَيْفَ قَالَ: فَبِأَيِّ آلاءِ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَاهُ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمُرَادَ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما مِمَّا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. تُكَذِّبانِ فَتَسْتَحِقَّانِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ مِنَ الْعَذَابِ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ: فِي قَوْلِهِ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرحمن: 46] هِيَ الْجِنَانُ ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْآلَاءَ لَا تُرَى، وَهَذَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْجِنَانَ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ، وَإِنَّمَا حَصَلَ الْإِيمَانُ بِهَا بِالْغَيْبِ، فَلَا/ يَحْسُنُ الِاسْتِفْهَامُ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ مِثْلَ مَا يَحْسُنُ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ هَيْئَةِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالنَّجْمِ وَالشَّجَرِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُدْرَكُ وَيُشَاهَدُ، لَكِنَّ النَّارَ وَالْجَنَّةَ ذُكِرَتَا لِلتَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ فَبِأَيِّهِمَا تُكَذِّبَانِ فَتَسْتَحِقَّانِ الْعَذَابَ وَتُحْرَمَانِ الثَّوَابَ. ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 47] وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) وَفِيهِ لَطَائِفُ: الْأُولَى: التَّعْرِيفُ فِي عذاب جهنم قال: هذِهِ جَهَنَّمُ [الرحمن: 43] وَالتَّنْكِيرُ فِي الثَّوَابِ بِالْجَنَّةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كَثْرَةَ الْمَرَاتِبِ الَّتِي لَا تُحَدُّ وَنِعَمِهِ الَّتِي لَا تُعَدُّ، وَلْيُعْلَمْ أَنَّ آخِرَ الْعَذَابِ جَهَنَّمُ وَأَوَّلَ مَرَاتِبِ الثَّوَابِ الْجَنَّةُ ثُمَّ بَعْدَهَا مَرَاتِبُ وَزِيَادَاتٌ الثَّانِيَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق: 45] أَنَّ الْخَوْفَ خَشْيَةٌ سَبَبُهَا ذُلُّ الْخَاشِي، وَالْخَشْيَةُ خَوْفٌ سَبَبُهُ عَظَمَةُ الْمَخْشِيِّ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: 28] لأنهم عرفوا عظمة الله فخافوه لا لذل منهم، بل لعظمة جانب الله، وكذلك قوله: مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المؤمنون: 57] وَقَالَ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الْحَشْرِ: 21] أَيْ لَوْ كَانَ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ الْعَالِمَ بِالْمُنَزَّلِ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ فِي الْقُوَّةِ وَالِارْتِفَاعِ لَتَصَدَّعَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ لِعَظَمَتِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الْأَحْزَابِ: 37] وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْخَشْيَةَ تَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ الشَّيْخَ لِلسَّيِّدِ وَالرَّجُلِ الْكَبِيرِ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ مَعْنَى الْعَظَمَةِ فِي خ ش ي، وَقَالَ تَعَالَى فِي الْخَوْفِ: وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها [طه: 21] لَمَّا كَانَ الْخَوْفُ يُضْعِفُ

فِي مُوسَى، وَقَالَ: لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ [العنكبوت: 33] وقال: فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الشعراء: 14] وقال إني: خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي [مَرْيَمَ: 5] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تقاليب خ وف فَإِنَّ قَوْلَكَ خَفِيَ قَرِيبٌ مِنْهُ، وَالْخَافِي فِيهِ ضُعْفٌ وَالْأَخْيَفُ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَإِذَا عُلِمَ هَذَا فَاللَّهُ تَعَالَى مَخُوفٌ وَمَخْشِيٌّ، وَالْعَبْدُ مِنَ اللَّهِ خَائِفٌ وَخَاشٍ، لِأَنَّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَى نَفْسِهِ رَآهَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ فَهُوَ خَائِفٌ، وَإِذَا نَظَرَ إِلَى حَضْرَةِ اللَّهِ رَآهَا فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ فَهُوَ خَاشٍ، لَكِنَّ دَرَجَةَ الْخَاشِي فَوْقَ دَرَجَةِ الْخَائِفِ، فَلِهَذَا قَالَ: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ جَعَلَهُ مُنْحَصِرًا فِيهِمْ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ فَرَضُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى غَيْرِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَقَدَّرُوا أَنَّ اللَّهَ رَفَعَ عَنْهُمْ جَمِيعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحَوَائِجِ لَا يَتْرُكُونَ خَشْيَتَهُ، بَلْ تَزْدَادُ خَشْيَتُهُمْ، وَأَمَّا الَّذِي يَخَافُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُفْقِرُهُ أَوْ يَسْلُبُ جَاهَهُ، فَرُبَّمَا يَقِلُّ خَوْفُهُ إِذَا أَمِنَ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ وَإِذَا كَانَ هَذَا لِلْخَائِفِ فَمَا ظَنُّكَ بِالْخَاشِي؟ الثَّالِثَةُ: لَمَّا ذَكَرَ الْخَوْفَ ذَكَرَ الْمَقَامَ، وَعِنْدَ الْخَشْيَةِ ذَكَرَ اسْمَهُ الْكَرِيمَ فَقَالَ: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ وَقَالَ: لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «خَشْيَةُ اللَّهِ رَأْسُ كُلِّ حِكْمَةٍ» لِأَنَّهُ يَعْرِفُ رَبَّهُ بِالْعَظَمَةِ فَيَخْشَاهُ. وَفِي مَقَامِ رَبِّهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَقَامُ رَبِّهِ أَيِ الْمَقَامُ الَّذِي يَقُومُ هُوَ فِيهِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، وَهُوَ مَقَامُ عِبَادَتِهِ كَمَا يُقَالُ: هَذَا مَعْبَدُ اللَّهِ وَهَذَا مَعْبَدُ الْبَارِي أَيِ الْمَقَامُ الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ الْعَبْدُ فِيهِ وَالثَّانِي: مَقَامُ رَبِّهِ الْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ اللَّهُ قَائِمٌ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: / أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرَّعْدِ: 33] أَيْ حَافِظٌ وَمُطَّلِعٌ أَخْذًا مِنَ الْقَائِمِ عَلَى الشَّيْءِ حَقِيقَةً الْحَافِظِ لَهُ فَلَا يَغِيبُ عَنْهُ، وَقِيلَ: مَقَامٌ مُقْحَمٌ يُقَالُ: فُلَانٌ يَخَافُ جَانِبَ فُلَانٍ أَيْ يَخَافُ فُلَانًا وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ غَايَةَ الظُّهُورِ بَيْنَ الْخَائِفِ وَالْخَاشِي، لِأَنَّ الْخَائِفَ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ فَالْخَاشِي لَوْ قِيلَ لَهُ: افْعَلْ مَا تُرِيدُ فَإِنَّكَ لَا تُحَاسَبُ وَلَا تُسْأَلُ عَمَّا تَفْعَلُ لَمَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِغَيْرِ التَّعْظِيمِ وَالْخَائِفُ رُبَّمَا كَانَ يُقْدِمُ عَلَى مَلَاذِّ نَفْسِهِ لَوْ رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ وَكَيْفَ لَا، وَيُقَالُ: خَاصَّةُ اللَّهِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فِي شُغْلٍ شَاغِلٍ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاقِفُونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ سَابِحُونَ فِي مُطَالَعَةِ جَمَالِهِ غَائِصُونَ فِي بِحَارِ جَلَالِهِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي قَرُبَ الْخَائِفُ مِنَ الْخَاشِي وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ: جَنَّتانِ وهذه اللطيفة نبينها بعد ما نَذْكُرُ مَا قِيلَ فِي التَّثْنِيَةِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ [ق: 24] وَتَمَسَّكَ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: وَمَهْمَهَيْنِ سَرَتْ مَرَّتَيْنِ ... قَطَعْتُهُ بِالسَّهْمِ لَا السَّهْمَيْنِ فَقَالَ: أَرَادَ مَهْمَهًا وَاحِدًا بِدَلِيلِ تَوْحِيدِ الضَّمِيرِ فِي قَطَعْتُهُ وَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ بِالسَّهْمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَهْمَهَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَهْمَهًا وَاحِدًا لَمَا كَانُوا فِي قَطَعْتُهُ يَقْصِدُونَ جَدَلًا، بَلْ يَقْصِدُونَ التَّعَجُّبَ وَهُوَ إِرَادَتُهُ قَطْعَ مَهْمَهَيْنِ بِأُهْبَةٍ وَاحِدَةٍ وَسَهْمٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مِنَ الْعَزْمِ الْقَوِيِّ، وَأَمَّا الضَّمِيرُ فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى مَفْهُومٍ تَقْدِيرُهُ قَطَعْتُ كِلَيْهِمَا وَهُوَ لَفْظٌ مَقْصُورٌ مَعْنَاهُ التَّثْنِيَةُ وَلَفْظُهُ لِلْوَاحِدِ، يُقَالُ: كِلَاهُمَا مَعْلُومٌ وَمَجْهُولٌ، قَالَ تَعَالَى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها [الْكَهْفِ: 33] فَوَحَّدَ اللَّفْظَ وَلَا حَاجَةَ هاهنا إِلَى التَّعَسُّفِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ اللَّهُ جَنَّتَيْنِ وَجِنَانًا عَدِيدَةً، وَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ بعد: ذَواتا أَفْنانٍ [الرحمن: 48] وَقَالَ: فِيهِمَا. وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُمَا جَنَّتَانِ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُمَا جَنَّةٌ لِلْجِنِّ وَجَنَّةٌ لِلْإِنْسِ لِأَنَّ الْمُرَادَ هَذَانِ النَّوْعَانِ وَثَانِيهِمَا: جَنَّةٌ لِفِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَجَنَّةٌ لِتَرْكِ الْمَعَاصِي لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ وَثَالِثُهَا: جَنَّةٌ هِيَ جَزَاءٌ وَجَنَّةٌ أُخْرَى زِيَادَةٌ عَلَى الْجَزَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: جَنَّتَانِ جَنَّةٌ جِسْمِيَّةٌ وَالْأُخْرَى رُوحِيَّةٌ فَالْجِسْمِيَّةُ فِي نَعِيمٍ وَالرُّوحِيَّةُ فِي رَوْحٍ فَكَانَ كَمَا قَالَ تعالى: فَرَوْحٌ

[سورة الرحمن (55) : الآيات 48 إلى 49]

وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ [الْوَاقِعَةِ: 89] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَائِفَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَالْمُقَرَّبُ فِي رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَجَنَّةِ نَعِيمٍ وَأَمَّا اللَّطِيفَةُ: فَنَقُولُ: لَمَّا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُجْرِمِ إِنَّهُ يَطُوفُ بَيْنَ نَارٍ وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ، وَهُمَا نَوْعَانِ ذَكَرَ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْخَائِفُ جَنَّتَيْنِ فِي مُقَابَلَةِ مَا ذَكَرَ فِي حَقِّ الْمُجْرِمِ، لَكِنَّهُ ذَكَرَ هُنَاكَ أَنَّهُمْ يَطُوفُونَ فَيُفَارِقُونَ عَذَابًا وَيَقَعُونَ فِي الْآخَرِ، وَلَمْ يقل: هاهنا يَطُوفُونَ بَيْنَ الْجَنَّتَيْنِ بَلْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مُلُوكًا وَهُمْ فِيهَا يُطَافُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُطَافُ بِهِمُ احْتِرَامًا لَهُمْ وَإِكْرَامًا فِي حَقِّهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرعد: 35] وقوله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ [الذاريات: 15] أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْجَنَّةَ وَالْجَنَّاتِ، فَهِيَ لِاتِّصَالِ أَشْجَارِهَا وَمَسَاكِنِهَا وَعَدَمِ وُقُوعِ الْفَاصِلِ بَيْنَهُمَا كَمَهَامِّهِ وَقِفَارٍ صَارَتْ كَجَنَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِسِعَتِهَا وَتَنَوُّعِ أَشْجَارِهَا وَكَثْرَةِ مَسَاكِنِهَا كَأَنَّهَا جَنَّاتٌ، وَلِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَا تَلْتَذُّ بِهِ الرُّوحُ وَالْجِسْمُ كَأَنَّهَا جَنَّتَانِ، فَالْكُلُّ عائد إلى صفة مدح. ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 48 الى 49] ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) هِيَ جَمْعُ فَنَنٍ أَيْ ذَوَاتَا أَغْصَانٍ أَوْ جَمْعُ فَنٍّ أَيْ فِيهِمَا فُنُونٌ مِنَ الْأَشْجَارِ وَأَنْوَاعٌ مِنَ الثِّمَارِ. فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ الْوَجْهَيْنِ أَقْوَى؟ نَقُولُ: الْأَوَّلُ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَفْنَانَ فِي جَمْعِ فَنَنٍ هُوَ الْمَشْهُورُ وَالْفُنُونُ فِي جَمْعِ الْفَنِّ كَذَلِكَ، وَلَا يُظَنُّ أَنَّ الْأَفْنَانَ وَالْفُنُونَ جَمْعُ فَنٍّ بَلْ كَلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ وَالْأَفْعَالُ فِي فَعَلَ كَثِيرٌ وَالْفُعُولُ فِي فَعَلَ أَكْثَرُ ثَانِيهِمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرحمن: 52] مُسْتَقِلٌّ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْفَائِدَةِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا يَكُونُ ثَابِتًا لَا تَفَاوُتَ فِيهِ ذِهْنًا وَوُجُودًا أَكْثَرُ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تُمْدَحُ بِالْأَفْنَانِ وَالْجَنَّاتُ فِي الدُّنْيَا ذَوَاتُ أَفْنَانٍ كَذَلِكَ؟ نَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَنَّاتِ فِي الْأَصْلِ ذَوَاتُ أَشْجَارٍ، وَالْأَشْجَارُ ذَوَاتُ أَغْصَانٍ، وَالْأَغْصَانُ ذَوَاتُ أَزْهَارٍ وَأَثْمَارٍ، وَهِيَ لِتَنَزُّهِ النَّاظِرِ إِلَّا أَنَّ جَنَّةَ الدُّنْيَا لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ وَجَنَّةَ الْآخِرَةِ لَيْسَتْ كَالدُّنْيَا فَلَا يَكُونُ فِيهَا إِلَّا مَا فِيهِ اللَّذَّةُ وَأَمَّا الْحَاجَةُ فَلَا، وَأُصُولُ الْأَشْجَارِ وَسُوقُهَا أُمُورٌ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا مَانِعَةٌ لِلْإِنْسَانِ عَنِ التَّرَدُّدِ فِي الْبُسْتَانِ كَيْفَمَا شَاءَ، فَالْجَنَّةُ فِيهَا أَفْنَانٌ عَلَيْهَا أَوْرَاقٌ عَجِيبَةٌ، وَثِمَارٌ طَيِّبَةٌ مِنْ غَيْرِ سُوقٍ غِلَاظٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَصِفِ الْجَنَّةَ إِلَّا بِمَا فِيهِ اللَّذَّةُ بِقَوْلِهِ: ذَواتا أَفْنانٍ أَيِ الْجَنَّةُ هِيَ ذَاتُ فَنَنٍ غَيْرِ كَائِنٍ عَلَى أَصْلٍ وَعِرْقٍ بَلْ هِيَ وَاقِفَةٌ فِي الْجَوِّ وَأَهْلُهَا مِنْ تَحْتِهَا وَالثَّانِي: مِنَ الْوَجْهَيْنِ هُوَ أَنَّ التَّنْكِيرَ لِلْأَفْنَانِ لِلتَّكْثِيرِ أو للتعجب. ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 50 الى 53] فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) أَيْ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْفَوَاكِهِ نَوْعَانِ، وَفِيهَا مَسَائِلُ بَعْضُهَا يُذْكَرُ عِنْدَ تَفْسِيرِ قوله تعالى: يهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ ... فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ

[سورة الرحمن (55) : الآيات 54 إلى 55]

وَرُمَّانٌ [الرحمن: 66- 68] وبعضها يذكر هاهنا. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هِيَ أَنَّ قَوْلَهُ: ذَواتا أَفْنانٍ [الرحمن: 48] وفِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ وفِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ كُلُّهَا أَوْصَافٌ لِلْجَنَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فَهُوَ كَالْكَلَامِ الْوَاحِدِ تَقْدِيرُهُ: جَنَّتَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ، ثَابِتٌ فِيهِمَا عَيْنَانِ، كَائِنٌ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي فَصْلِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مَعَ أَنَّهُ فِي ذِكْرِ الْعَذَابِ مَا فَصَلَ بَيْنَ كَلَامَيْنِ بِهَا حَيْثُ قَالَ: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ [الرَّحْمَنِ: 35] مَعَ أَنَّ إِرْسَالَ نُحَاسٍ غَيْرُ/ إِرْسَالِ شُوَاظٍ، وَقَالَ: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرَّحْمَنِ: 44] مَعَ أَنَّ الْحَمِيمَ غَيْرُ الْجَحِيمِ، وَكَذَا قَالَ تَعَالَى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ [الرحمن: 43] وَهُوَ كَلَامٌ تَامٌّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن: 44] كَلَامٌ آخَرُ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ؟ نَقُولُ: فِيهِ تَغْلِيبُ جَانَبِ الرَّحْمَةِ، فَإِنَّ آيَاتِ الْعَذَابِ سَرَدَهَا سَرْدًا وَذَكَرَهَا جُمْلَةً لِيُقْصِرَ ذِكْرَهَا، وَالثَّوَابُ ذَكَرَهُ شَيْئًا فَشَيْئًا، لِأَنَّ ذِكْرَهُ يَطِيبُ لِلسَّامِعِ فَقَالَ بِالْفَصْلِ وَتَكْرَارِ عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى الْجِنْسِ بِقَوْلِهِ: فِيهِما عَيْنانِ، فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ لِأَنَّ إِعَادَةَ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ مَحْبُوبٌ، وَالتَّطْوِيلُ بِذِكْرِ اللَّذَّاتِ مُسْتَحْسَنٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ أَيْ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ عَيْنٌ وَاحِدَةٌ كَمَا مَرَّ، وَقَوْلُهُ: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ مَعْنَاهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ، أَوْ مَعْنَاهُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْفَوَاكِهِ زَوْجَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِثْلَ ذَلِكَ أَيْ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجَنَّتَيْنِ زَوْجٌ مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ فَفِيهِمَا جَمِيعًا زَوْجَانِ مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ، وَهَذَا إِذَا جَعَلْنَا الْكِنَايَتَيْنِ فِيهِمَا لِلزَّوْجَيْنِ، أَوْ نَقُولُ: مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ لِبَيَانِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ، وَمِثَالُهُ إِذَا دَخَلَتْ مِنْ عَلَى مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَائِنًا فِي شَيْءٍ كَقَوْلِكَ: فِي الدَّارِ مِنَ الشَّرْقِ رَجُلٌ، أَيْ فِيهَا رَجَلٌ مِنَ الشَّرْقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا زَوْجَانِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَالصِّفَةِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ كَأَنَّهُ قَالَ: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ، أَيْ كَائِنٌ فِيهِمَا شَيْءٌ مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ، وَذَلِكَ الْكَائِنُ زَوْجَانِ، وَهَذَا بَيِّنٌ فِيمَا تَكُونُ مِنْ دَاخِلِهِ عَلَى مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ كَائِنٌ فِي الشَّيْءِ غَيْرُهُ، كَقَوْلِكَ: فِي الدَّارِ مِنْ كُلِّ سَاكِنٍ، فَإِذَا قُلْنَا: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ الثَّالِثُ: عِنْدَ ذِكْرِ الْأَفْنَانِ لَوْ قَالَ: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ كَانَ مُتَنَاسِبًا لِأَنَّ الْأَغْصَانَ عَلَيْهَا الْفَوَاكِهُ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الْعَيْنَيْنِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَّصِلِ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ؟ نَقُولُ: جَرَى ذِكْرُ الْجَنَّةِ عَلَى عَادَةِ الْمُتْنَعِّمِينَ، فَإِنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا الْبُسْتَانَ لَا يُبَادِرُونَ إِلَى أَكْلِ الثِّمَارِ بَلْ يُقَدِّمُونَ التَّفَرُّجَ عَلَى الْأَكْلِ، مَعَ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي بُسْتَانِ الدُّنْيَا لَا يَأْكُلُ حَتَّى يَجُوعَ وَيَشْتَهِيَ شَهْوَةً مُؤْلِمَةً فَكَيْفَ فِي الْجَنَّةِ فَذَكَرَ مَا يَتِمُّ بِهِ النُّزْهَةُ وَهُوَ خُضْرَةُ الْأَشْجَارِ، وَجَرَيَانُ الْأَنْهَارِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَكُونُ بَعْدَ النُّزْهَةِ وَهُوَ أَكْلُ الثِّمَارِ، فَسُبْحَانَ مَنْ يَأْتِي بِالْآيِ بِأَحْسَنِ الْمَعَانِي في أبين المباني. ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 54 الى 55] مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) وَفِيهِ مَسَائِلُ نَحْوِيَّةٌ وَلُغَوِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مِنَ النَّحْوِيَّةِ: هُوَ أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ (مُتَّكِئِينَ) حَالٌ وَذُو الْحَالِ مَنْ فِي قَوْلِهِ: وَلِمَنْ خافَ

مَقامَ رَبِّهِ [الرحمن: 46] وَالْعَامِلُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّامُ الْجَارَّةُ تَقْدِيرُهُ لَهُمْ فِي حَالِ الِاتِّكَاءِ جَنَّتَانِ/ وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى الْمَدْحِ، وَإِنَّمَا حَمْلُهُ عَلَى هَذَا إِشْكَالٌ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ حَالٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَنَّةَ لَيْسَتْ لَهُمْ حَالَ الِاتِّكَاءِ بَلْ هِيَ لَهُمْ فِي كُلِّ حَالٍ فَهِيَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ حَالٌ وَذُو الْحَالِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْفَاكِهَةُ. لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرحمن: 52] يَدُلُّ عَلَى مُتَفَكِّهِينَ بِهَا كَأَنَّهُ قَالَ: يَتَفَكَّهُ الْمُتَفَكِّهُونَ بِهَا، مُتَّكِئِينَ، وَهَذَا فِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَكْلَ إِنْ كَانَ ذَلِيلًا كَالْخَوَلِ وَالْخَدَمِ وَالْعَبِيدِ وَالْغِلْمَانِ، فَإِنَّهُ يَأْكُلُ قَائِمًا، وَإِنْ كَانَ عَزِيزًا فَإِنْ كَانَ يَأْكُلُ لِدَفْعِ الْجُوعِ يَأْكُلُ قَاعِدًا وَلَا يَأْكُلُ مُتَّكِئًا إِلَّا عَزِيزٌ مُتَفَكِّهٌ لَيْسَ عِنْدَهُ جُوعٌ يُقْعِدُهُ لِلْأَكْلِ، وَلَا هُنَالِكَ مَنْ يَحْسِمُهُ، فَالتَّفَكُّهُ مُنَاسِبٌ لِلِاتِّكَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْمَسَائِلِ النَّحْوِيَّةِ: عَلى فُرُشٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَيِّ فِعْلٍ هُوَ؟ إِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَا فِي مُتَّكِئِينَ، حَتَّى يَكُونَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَتَّكِئُونَ عَلَى فُرُشٍ كَمَا كَانَ يُقَالُ: فُلَانٌ اتَّكَأَ عَلَى عَصَاهُ أَوْ عَلَى فَخْذَيْهِ فَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْفِرَاشَ لَا يُتَّكَأُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِغَيْرِهِ فَمَاذَا هُوَ؟ نَقُولُ: مُتَعَلِّقٌ بِغَيْرِهِ تَقْدِيرُهُ يَتَفَكَّهُ الْكَائِنُونَ عَلَى فُرُشٍ مُتَّكِئِينَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ مَا يَتَّكِئُونَ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اتِّكَاؤُهُمْ عَلَى الْفُرُشِ غَيْرَ أَنَّ الْأَظْهَرَ مَا ذَكَرْنَا لِيَكُونَ ذَلِكَ بَيَانًا لِمَا تَحْتَهُمْ وَهُمْ بِجَمِيعِ بَدَنِهِمْ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنْعَمُ وَأَكْرَمُ لَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الظَّاهِرُ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ فُرُشًا كَثِيرَةً لَا أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِرَاشًا فَلِكُلِّهِمْ فُرُشٌ عَلَيْهَا كَائِنُونَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ لُغَوِيَّةٌ: الْإِسْتَبْرَقُ هُوَ الدِّيبَاجُ الثَّخِينُ وَكَمَا أَنَّ الدِّيبَاجَ مُعَرَّبٌ بِسَبَبِ أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا مِنَ الْعَجَمِ، اسْتَعْمَلَ الِاسْمَ الْمُعْجَمَ فِيهِ غَيْرَ أَنَّهُمْ تَصَرَّفُوا فِيهِ تَصَرُّفًا وَهُوَ أَنَّ اسْمَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ ستبرك بِمَعْنَى ثَخِينٍ تَصْغِيرُ «ستبر» فَزَادُوا فِيهِ هَمْزَةً مُتَقَدِّمَةً عَلَيْهِ، وَبَدَّلُوا الْكَافَ بِالْقَافِ، أَمَّا الْهَمْزَةُ، فَلِأَنَّ حَرَكَاتِ أَوَائِلِ الكلمة في لسان العجم غير مبنية فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ فَصَارَتْ كَالسُّكُونِ، فَأَثْبَتُوا فِيهِ هَمْزَةً كَمَا أَثْبَتُوا هَمْزَةَ الْوَصْلِ عِنْدَ سُكُونِ أَوَّلِ الْكَلِمَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْبَعْضَ جَعَلُوهَا هَمْزَةَ وَصْلٍ وَقَالُوا: مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَالْأَكْثَرُونَ جَعَلُوهَا هَمْزَةَ قَطْعٍ لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلِمَةِ فِي الْأَصْلِ مُتَحَرِّكٌ لَكِنْ بِحَرَكَةٍ فَاسِدَةٍ فَأَتَوْا بِهَمْزَةٍ تُسْقِطُ عَنْهُمُ الْحَرَكَةَ الْفَاسِدَةَ وَتُمَكِّنُهُمْ مِنْ تَسْكِينِ الْأَوَّلِ وَعِنْدَ تَسَاوِي الْحَرَكَةِ، فَالْعَوْدُ إِلَى السُّكُونِ أَقْرَبُ، وَأَوَاخِرُ الْكَلِمَاتِ عِنْدَ الْوَقْفِ تُسَكَّنُ وَلَا تُبْدَلُ حَرَكَةٌ بِحَرَكَةٍ، وَأَمَّا الْقَافُ فَلِأَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا الْكَافَ لَاشْتَبَهَ ستبرك بِمَسْجِدِكَ وَدَارِكَ، فَأَسْقَطُوا مِنْهُ الْكَافَ الَّتِي هِيَ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ فِي آخِرِ الْكَلِمِ لِلْخِطَابِ وَأَبْدَلُوهَا قَافًا ثُمَّ عَلَيْهِ سُؤَالٌ مَشْهُورٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، وَهَذَا لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ، وَالْجَوَابُ الْحَقُّ أَنَّ اللَّفْظَةَ فِي أَصْلِهَا لَمْ تَكُنْ بَيْنَ الْعَرَبِ بِلُغَةٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ أُنْزِلَ بِلُغَةٍ هِيَ فِي أَصْلِ وَضْعِهَا عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ بِلِسَانٍ لَا يَخْفَى مَعْنَاهُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ وَلَمْ يَسْتَعْمِلْ فِيهِ لُغَةً لَمْ تَتَكَلَّمُ الْعَرَبُ بِهَا، فَيَصْعُبُ عَلَيْهِمْ مِثْلُهُ لِعَدَمِ مُطَاوَعَةِ لِسَانِهِمُ التَّكَلُّمَ بِهَا فَعَجْزُهُمْ عَنْ مِثْلِهِ لَيْسَ إِلَّا لِمُعْجِزٍ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَعْنَوِيَّةٌ الِاتِّكَاءُ مِنَ الْهَيْئَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْجِسْمِ وَفَرَاغِ الْقَلْبِ، فَالْمُتَّكِئُ تَكُونُ أُمُورُ جِسْمِهِ عَلَى مَا يَنْبَغِي وَأَحْوَالُ قَلْبِهِ عَلَى مَا يَنْبَغِي، لِأَنَّ الْعَلِيلَ يَضْطَجِعُ وَلَا يَسْتَلْقِي أَوْ يَسْتَنِدُ إِلَى شَيْءٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لِلِاسْتِرَاحَةِ، وَأَمَّا الِاتِّكَاءُ بِحَيْثُ يَضَعُ كَفَّهُ تَحْتَ رَأْسِهِ وَمِرْفَقَهُ عَلَى الْأَرْضِ وَيُجَافِي جَنْبَيْهِ عَنِ الْأَرْضِ فَذَاكَ أَمْرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَشْغُولُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ شَيْءٍ فَتَحَرُّكُهُ تَحَرُّكُ مُسْتَوْفِزٍ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ قَوْلُهُ: بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ شَرَفِهَا فَإِنَّ مَا تَكُونُ

[سورة الرحمن (55) : الآيات 56 إلى 57]

بَطَائِنُهَا مِنَ الْإِسْتَبْرَقِ تَكُونُ ظَهَائِرُهَا خَيْرًا مِنْهَا، وَكَأَنَّهُ شَيْءٌ لَا يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ مِنْ سُنْدُسٍ وَهُوَ الدِّيبَاجُ الرَّقِيقُ النَّاعِمُ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا يُظْهِرُونَ الزِّينَةَ وَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ أَنْ يَجْعَلُوا الْبَطَائِنَ كَالظَّهَائِرِ، لِأَنَّ غَرَضَهُمْ إِظْهَارُ الزِّينَةِ وَالْبَطَائِنُ لَا تَظْهَرُ، وَإِذَا انْتَفَى السَّبَبُ انْتَفَى الْمُسَبَّبُ، فَلَمَّا لَمْ يَحْصُلْ فِي جَعْلِ الْبَطَائِنِ مِنَ الدِّيبَاجِ مَقْصُودُهُمْ وَهُوَ الْإِظْهَارُ تَرَكُوهُ، وَفِي الْآخِرَةِ الْأَمْرُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِكْرَامِ وَالتَّنْعِيمِ فَتَكُونُ الْبَطَائِنُ كَالظَّهَائِرِ فَذَكَرَ الْبَطَائِنَ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مُخَالَفَتِهَا لِجَنَّةِ دَارِ الدُّنْيَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الثَّمَرَةَ فِي الدُّنْيَا عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرَةِ وَالْإِنْسَانُ عِنْدَ الِاتِّكَاءِ يَبْعُدُ عَنْ رُءُوسِهَا وَفِي الْآخِرَةِ هُوَ مُتَّكِئٌ وَالثَّمَرَةُ تَنْزِلُ إِلَيْهِ ثَانِيهَا: فِي الدُّنْيَا مَنْ قَرُبَ مِنْ ثَمَرَةِ شَجَرَةٍ بَعُدَ عَنِ الْأُخْرَى وَفِي الْآخِرَةِ كُلُّهَا دَانٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَمَكَانٍ وَاحِدٍ، وَفِي الْآخِرَةِ الْمُسْتَقِرُّ فِي جَنَّةٍ عِنْدَهُ جَنَّةٌ أُخْرَى ثَالِثُهَا: أَنَّ الْعَجَائِبَ كُلَّهَا مِنْ خَوَاصِّ الْجَنَّةِ فَكَانَ أَشْجَارُهَا دَائِرَةً عَلَيْهِمْ سَاتِرَةً إِلَيْهِمْ وَهُمْ سَاكِنُونَ عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا وَجَنَّاتِهَا وَفِي الدُّنْيَا الْإِنْسَانُ مُتَحَرِّكٌ وَمَطْلُوبُهُ سَاكِنٌ، وَفِيهِ الْحَقِيقَةُ وَهِيَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكْسَلْ وَلَمْ يَتَقَاعَدْ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسَعَى فِي الدُّنْيَا فِي الْخَيْرَاتِ انْتَهَى أَمْرُهُ إِلَى سُكُونٍ لَا يُحْوِجُهُ شَيْءٌ إِلَى حَرَكَةٍ، فَأَهْلُ الْجَنَّةِ إِنْ تَحَرَّكُوا تَحَرَّكُوا لَا لِحَاجَةٍ وَطَلَبٍ، وَإِنْ سَكَنُوا سَكَنُوا لَا لِاسْتِرَاحَةٍ بَعْدَ التَّعَبِ، ثُمَّ إِنَّ الْوَلِيَّ قَدْ تَصِيرُ لَهُ الدُّنْيَا أُنْمُوذَجًا مِنَ الْجَنَّةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ سَاكِنًا فِي بَيْتِهِ وَيَأْتِيهِ الرِّزْقُ مُتَحَرِّكًا إِلَيْهِ دَائِرًا حَوَالَيْهِ، يَدُلُّكَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [آلِ عِمْرَانَ: 37] . الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْجَنَّتَانِ إِنْ كَانَتَا جِسْمِيَّتَيْنِ فَهُوَ أَبَدًا يَكُونُ بَيْنَهُمَا وَهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ هُوَ يَتَنَاوَلُ ثِمَارَهُمَا وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا رُوحِيَّةً وَالْأُخْرَى جِسْمِيَّةً فَلِكُلِّ واحد منهما فواكه وفرش تليق بها. ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 56 الى 57] فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) وَفِيهِ مسائل: الْأَوَّلُ: فِي التَّرْتِيبِ وَإِنَّهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ لِأَنَّهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بَيَّنَ الْمَسْكَنَ وَهُوَ الْجَنَّةُ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا يَتَنَزَّهُ بِهِ فَإِنَّ مَنْ يَدْخُلُ بُسْتَانًا يَتَفَرَّجُ أَوَّلًا فَقَالَ: ذَواتا أَفْنانٍ ... فِيهِما عَيْنانِ [الرحمن: 48- 50] ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُتَنَاوَلُ مِنَ الْمَأْكُولِ فَقَالَ: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ [الرحمن: 52] ثُمَّ ذَكَرَ مَوْضِعَ الرَّاحَةِ بَعْدَ التَّنَاوُلِ وَهُوَ الْفِرَاشُ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَكُونُ فِي الْفِرَاشِ مَعَهُ. الثَّانِي: فِيهِنَّ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَاذَا؟ نَقُولُ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: إِلَى الْآلَاءِ وَالنِّعَمِ أَيْ قَاصِرَاتِ الطَّرْفِ ثَانِيهَا: إِلَى الْفِرَاشِ أَيْ فِي الْفُرُشِ قَاصِرَاتٌ وَهُمَا ضَعِيفَانِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ اخْتِصَاصَ الْقَاصِرَاتِ بِكَوْنِهِنَّ فِي الْآلَاءِ مَعَ أَنَّ الْجَنَّتَيْنِ فِي الْآلَاءِ وَالْعَيْنَيْنِ فِيهِمَا وَالْفَوَاكِهُ كَذَلِكَ لَا يَبْقَى لَهُ فَائِدَةٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْفُرُشَ جَعَلَهَا ظَرْفَهُمْ حَيْثُ قَالَ: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ [الرَّحْمَنِ: 54] وَأَعَادَ الضَّمِيرَ إِلَيْهَا بقوله: بَطائِنُها [الرحمن: 54] وَلَمْ يَقُلْ: بَطَائِنُهُنَّ، فَقَوْلُهُ فِيهِنَّ يَكُونُ تَفْسِيرًا لِلضَّمِيرِ فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ فَائِدَةٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذَا مَرَّةً أُخْرَى: فِيهِنَّ خَيْراتٌ [الرحمن: 70] وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ذِكْرُ الْفُرُشِ فَالْأَصَحُّ إِذَنْ هُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلى الجنتين، وجمع الضمير هاهنا وثنى في قوله: فِيهِما عَيْنانِ [الرحمن: 50]

و: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ [الرحمن: 52] وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْجَنَّةَ لَهَا اعْتِبَارَاتٌ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا: اتِّصَالُ أَشْجَارِهَا وَعَدَمُ وُقُوعِ الْفَيَافِي وَالْمَهَامَةِ فِيهَا وَالْأَرَاضِي الْغَامِرَةِ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَأَنَّهَا جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ لَا يَفْصِلُهَا فَاصِلٌ وَثَانِيهَا: اشتمالها على النوعين الحاصرين للخيرات، فإن فيها ما في الدنيا، وما ليس في الدنيا وفيها ما يعرف، ومالا يعرف، وفيها ما يقدر على وصفه، وفيها مالا يقدر، وفيها لذات جسمانية ولذات غير جسمانية فلاشتمالها عَلَى النَّوْعَيْنِ كَأَنَّهَا جَنَّتَانِ وَثَالِثُهَا: لِسِعَتِهَا وَكَثْرَةِ أَشْجَارِهَا وَأَمَاكِنِهَا وَأَنْهَارِهَا وَمَسَاكِنِهَا كَأَنَّهَا جَنَّاتٌ، فَهِيَ مِنْ وَجْهٍ جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ وَمِنْ وَجْهٍ جَنَّتَانِ وَمِنْ وَجْهٍ جَنَّاتٌ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: اجْتِمَاعُ النِّسْوَانِ لِلْمُعَاشَرَةِ مَعَ الْأَزْوَاجِ وَالْمُبَاشَرَةِ فِي الْفِرَاشِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فِي الدُّنْيَا لَا يُمْكِنُ، وَذَلِكَ لِضِيقِ الْمَكَانِ، أَوْ عَدَمِ الْإِمْكَانِ أَوْ دَلِيلِ ذِلَّةِ النِّسْوَانِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ الْوَاحِدَ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ النِّسَاءِ فِي بَيْتٍ إِلَّا إِذَا كُنَّ جَوَارِيَ غَيْرَ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهِنَّ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ كَبِيرَةَ النَّفْسِ كَثِيرَةَ الْمَالِ فَلَا يَجْمَعُ بَيْنَهُنَّ، وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّهْوَةَ فِي الدُّنْيَا كَمَا تَزْدَادُ بِالْحُسْنِ الَّذِي فِي الْأَزْوَاجِ تَزْدَادُ بِسَبَبِ الْعَظَمَةِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ تَدُلُّ عَلَيْهِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْحَظَايَا فِي الْجَنَّةِ يَجْتَمِعُ فِيهِنَّ حُسْنُ الصُّورَةِ وَالْجَمَالِ وَالْعِزِّ وَالشَّرَفِ وَالْكَمَالِ، فَتَكُونُ الْوَاحِدَةُ لَهَا كَذَا وَكَذَا مِنَ الْجَوَارِي وَالْغِلْمَانِ فَتَزْدَادُ اللَّذَّةُ بِسَبَبِ كَمَالِهَا، فَإِذَنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْمَكَانِ الْوَاسِعِ فَتَصِيرُ الْجَنَّةُ الَّتِي هِيَ وَاحِدَةٌ مِنْ حَيْثُ الِاتِّصَالُ كَثِيرَةً مِنْ حَيْثُ تَفَرُّقِ الْمَسَاكِنِ فِيهَا فَقَالَ: فِيهِنَّ وَأَمَّا الدُّنْيَا فَلَيْسَ فِيهَا تَفَرُّقُ الْمَسَاكِنِ دَلِيلًا لِلْعَظَمَةِ وَاللَّذَّةِ فَقَالَ فِيهِما [الرحمن: 50] وَهَذَا مِنَ اللَّطَائِفِ الثَّالِثُ: قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ حُذِفَ، وَأُقِيمَتِ الصِّفَةُ مَكَانَهُ، وَالْمَوْصُوفُ النِّسَاءُ أَوِ الْأَزْوَاجُ كَأَنَّهُ قَالَ فِيهِنَّ، نِسَاءٌ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرِ النِّسَاءَ إِلَّا بِأَوْصَافِهِنَّ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ الْجِنْسِ فِيهِنَّ، فَقَالَ تَارَةً: وَحُورٌ عِينٌ [الْوَاقِعَةِ: 22] / وَتَارَةً: عُرُباً أَتْراباً [الرحمن: 56] وَتَارَةً: قاصِراتُ الطَّرْفِ وَلَمْ يَذْكُرْ نِسَاءَ كَذَا وَكَذَا لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْإِشَارَةُ إِلَى تَخْدِرِهِنَّ وَتَسَتُّرِهِنَّ، فَلَمْ يَذْكُرْهُنَّ بِاسْمِ الْجِنْسِ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ يَكْشِفُ مِنَ الْحَقِيقَةِ مَا لَا يَكْشِفُهُ الْوَصْفُ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ الْمُتَحَرِّكُ الْمُرِيدُ الْآكِلُ الشَّارِبُ لَا تَكُونُ بَيِّنَتُهُ بِالْأَوْصَافِ الْكَثِيرَةِ أَكْثَرَ مِمَّا بينته بقوله: حَيَوَانٌ وَإِنْسَانٌ وَثَانِيهِمَا: إِعْظَامًا لَهُنَّ لِيَزْدَادَ حُسْنُهُنَّ فِي أَعْيُنِ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ فَإِنَّ بَنَاتِ الْمُلُوكِ لَا يُذْكَرْنَ إِلَّا بِالْأَوْصَافِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قاصِراتُ الطَّرْفِ مِنَ الْقَصْرِ وَهُوَ الْمَنْعُ أَيِ الْمَانِعَاتُ أَعْيُنَهُنَّ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْغَيْرِ، أَوْ مِنَ الْقُصُورِ، وَهُوَ كَوْنِ أَعْيُنِهِنَّ قَاصِرَةً لَا طَمَاحَ فِيهَا لِلْغَيْرِ، أَقُولُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ الْقَصْرِ إِذِ الْقَصْرُ مَدْحٌ وَالْقُصُورُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مِنَ الْقَصْرِ بِمَعْنَى أَنَّهُنَّ قَصَرْنَ أَبْصَارَهُنَّ، فَأَبْصَارُهُنَّ مَقْصُورَةٌ وَهُنَّ قَاصِرَاتٌ فَيَكُونُ مِنْ إِضَافَةِ الْفَاعِلِ إِلَى الْمَفْعُولِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْقَصْرَ مَدْحٌ وَالْقُصُورَ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مِنْ بَعْدِ هَذِهِ: حُورٌ مَقْصُوراتٌ [الرَّحْمَنِ: 72] فَهُنَّ مَقْصُورَاتٌ وَهُنَّ قَاصِرَاتٌ، وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: هُنَّ قَاصِرَاتٌ أَبْصَارَهُنَّ كَمَا يَكُونُ شُغْلُ الْعَفَائِفِ، وَهُنَّ قَاصِرَاتُ أَنْفُسِهُنَّ فِي الْخِيَامِ كَمَا هُوَ عَادَةُ الْمُخَدَّرَاتِ لِأَنْفُسِهُنَّ فِي الْخِيَامِ وَلِأَبْصَارِهِنَّ عَنِ الطِّمَاحِ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَيَانًا لِعَظَمَتِهِنَّ وَعَفَافِهِنَّ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي لَا يَكُونُ لَهَا رَادِعٌ مِنْ نَفْسِهَا وَلَا يَكُونُ لَهَا أَوْلِيَاءُ يَكُونُ فِيهَا نَوْعُ هَوَانٍ، وَإِذَا كَانَ لَهَا أَوْلِيَاءُ أَعِزَّةٌ امْتَنَعَتْ عَنِ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهِنَّ، وَإِذَا كُنَّ فِي أَنْفُسِهِنَّ عِنْدَ الْخُرُوجِ لَا يَنْظُرْنَ يَمْنَةً وَيَسْرَةً فَهُنَّ فِي أَنْفُسِهِنَّ عَفَائِفُ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْإِشَارَةِ إِلَى عَظَمَتِهِنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

[سورة الرحمن (55) : الآيات 58 إلى 59]

مَقْصُوراتٌ منعهن أولياؤهن وهاهنا وَلِيُّهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى، وَبَيْنَ الْإِشَارَةِ إِلَى عِفَّتِهِنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قاصِراتُ الطَّرْفِ ثُمَّ تَمَامُ اللُّطْفِ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعِفَّةِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الْعَظَمَةِ وَذَكَرَ فِي أَعْلَى الْجَنَّتَيْنِ قَاصِرَاتٍ وَفِي أَدْنَاهُمَا مَقْصُورَاتٍ، وَالذَّيِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُورَاتِ يَدُلُّ عَلَى الْعَظَمَةِ أَنَّهُنَّ يُوصَفْنَ بِالْمُخَدَّرَاتِ لَا بِالْمُتَخَدِّرَاتِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُنَّ خَدَّرَهُنَّ خَادِرٌ لَهُنَّ غَيْرُهُنَّ كَالَّذِي يَضْرِبُ الْخِيَامَ وَيُدْلِي السِّتْرَ، بِخِلَافِ مَنْ تَتَّخِذُهُ لِنَفْسِهَا وَتُغْلِقُ بَابَهَا بِيَدِهَا، وَسَنَذْكُرُ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ بَعْدُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قاصِراتُ الطَّرْفِ فِيهَا دَلَالَةُ عِفَّتِهِنَّ، وَعَلَى حُسْنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أعينهن، فيجبن أَزْوَاجَهُنَّ حُبًّا يَشْغَلُهُنَّ عَنِ النَّظَرِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى الْحَيَاءِ لِأَنَّ الطَّرْفَ حَرَكَةُ الْجَفْنِ، وَالْحُورِيَّةُ لَا تُحَرِّكُ جَفْنَهَا وَلَا تَرْفَعُ رَأْسَهَا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: لَمْ يَفْرَعْهُنَّ ثَانِيهَا: لَمْ يُجَامِعْهُنَّ ثَالِثُهَا: لَمْ يَمْسَسْهُنَّ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى حَالِهِنَّ وَأَلْيَقُ بِوَصْفِ كَمَالِهِنَّ، لَكِنْ لَفْظُ الطَّمْثِ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِيهِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَسَّ لَذَكَرَ اللَّفْظَ الَّذِي يُسْتَحْسَنُ، وَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الْبَقَرَةِ: 237] وَقَالَ: فَاعْتَزِلُوا [الْبَقَرَةِ: 222] وَلَمْ يُصَرِّحْ بِلَفْظٍ مَوْضُوعٍ لِلْوَطْءِ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا ذَكَرْتُمْ مِنَ/ الْإِشْكَالِ بَاقٍ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى كَنَّى عَنِ الْوَطْءِ فِي الدُّنْيَا بِاللَّمْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النِّسَاءِ: 43] عَلَى الصَّحِيحِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَسَنَذْكُرُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ إِمَامِنَا الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِالْمَسِّ في قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: 237] وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَسَّ فِي الْآخِرَةِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ، نَقُولُ: إِنَّمَا ذَكَرَ الْجِمَاعَ فِي الدُّنْيَا بِالْكِنَايَةِ لِمَا أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا قَضَاءً لِلشِّهْوَةِ وَأَنَّهُ يُضْعِفُ الْبَدَنَ وَيَمْنَعُ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَهُوَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ قُبْحُهُ كَقُبْحِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَفِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ هُوَ كَالْأَكْلِ الْكَثِيرِ وَفِي الْآخِرَةِ مُجَرَّدٌ عَنْ وُجُوهِ الْقُبْحِ، وَكَيْفَ لَا وَالْخَمْرُ فِي الْجَنَّةِ مَعْدُودَةٌ مِنَ اللَّذَّاتِ وَأَكْلُهَا وَشُرْبُهَا دَائِمٌ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ فِي الدُّنْيَا بِلَفْظٍ مَجَازِيٍّ مَسْتُورٍ فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ بِالْكِنَايَةِ إِشَارَةً إِلَى قُبْحِهِ وَفِي الْآخِرَةِ ذَكَرَهُ بِأَقْرَبِ الْأَلْفَاظِ إِلَى التَّصْرِيحِ أَوْ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ، لِأَنَّ الطَّمْثَ أَدَلُّ مِنَ الْجِمَاعِ وَالْوِقَاعِ لِأَنَّهُمَا مِنَ الْجَمْعِ وَالْوُقُوعِ إِشَارَةً إِلَى خُلُوِّهِ عَنْ وُجُوهِ الْقُبْحِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي كَلِمَةِ قَبْلَهُمْ؟ قُلْنَا لَوْ قَالَ: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ يَكُونُ نَفْيًا لِطَمْثِ الْمُؤْمِنِ إِيَّاهُنَّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الْجَانِّ مَعَ أَنَّ الْجَانَّ لَا يُجَامِعُ؟ نَقُولُ: لَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الْجِنُّ لَهُمْ أَوْلَادٌ وَذُرِّيَّاتٌ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُمْ هُلْ يُوَاقِعُونَ الْإِنْسَ أَمْ لَا؟ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمْ يُوَاقِعُونَ وَإِلَّا لَمَا كَانَ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَابٌ وَلَا أَنْسَابٌ، فَكَأَنَّ مُوَاقَعَةَ الْإِنْسِ إِيَّاهُنَّ كَمُوَاقَعَةِ الجن من حيث الإشارة إلى نفيها. ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 58 الى 59] كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) وَهَذَا التَّشْبِيهُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: تَشْبِيهٌ بِصَفَائِهِمَا وَثَانِيهِمَا: بِحُسْنِ بَيَاضِ اللُّؤْلُؤِ وَحُمْرَةِ الْيَاقُوتِ، وَالْمَرْجَانُ صِغَارُ اللُّؤْلُؤِ وَهِيَ أَشَدُّ بَيَاضًا وَضِيَاءً مِنَ الْكِبَارِ بِكَثِيرٍ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ التَّشْبِيهَ لِبَيَانِ صَفَائِهِنَّ، فَنَقُولُ: فِيهِ لَطِيفَةٌ هِيَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: قاصِراتُ الطَّرْفِ إِشَارَةٌ إِلَى خُلُوصِهِنَّ عَنِ الْقَبَائِحِ، وَقَوْلَهُ: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ

[سورة الرحمن (55) : الآيات 60 إلى 61]

وَالْمَرْجانُ إِشَارَةٌ إِلَى صَفَائِهِنَّ فِي الْجَنَّةِ، فَأَوَّلُ مَا بَدَأَ بِالْعَقْلِيَّاتِ وَخَتَمَ بِالْحِسِّيَّاتِ، كَمَا قُلْنَا: إِنَّ التَّشْبِيهَ لِبَيَانِ مُشَابَهَةِ جِسْمِهِنَّ بِالْيَاقُوتِ وَالْمَرْجَانِ فِي الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِيهِ حَيْثُ قَدَّمَ بَيَانَ الْعِفَّةِ عَلَى بَيَانِ الْحُسْنِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُؤَكِّدٌ لِمَا مَضَى لِأَنَّهُنَّ لَمَّا كُنَّ قَاصِرَاتِ الطَّرْفِ مُمْتَنِعَاتٍ عَنِ الاجتماع بالإنس والجن لم يطمثهن فَهُنَّ كَالْيَاقُوتِ الَّذِي يَكُونُ فِي مَعْدِنِهِ وَالْمَرْجَانِ الْمَصُونِ فِي صَدَفِهِ لَا يَكُونُ قَدْ مَسَّهُ يَدُ لَامِسٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَرَّةً أُخْرَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصَّافَّاتِ: 49] أَنَّ (كَأَنَّ) الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ لَا تُفِيدُ مِنَ التَّأْكِيدِ مَا تُفِيدُهُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمُشَبَّهِ، فَإِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ كَالْأَسَدِ، كَانَ مَعْنَاهُ زَيْدٌ يُشْبِهُ الْأَسَدَ، وَإِذَا قُلْتَ كَأَنَّ زَيْدًا الْأَسَدُ فَمَعْنَاهُ يُشْبِهُ أَنَّ زَيْدًا هُوَ الْأَسَدُ حَقِيقَةً، لَكِنَّ قَوْلَنَا: زَيْدٌ يُشْبِهُ الْأَسَدَ لَيْسَ فِيهِ مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ، فَإِنَّهُ يُشْبِهُهُ فِي أَنَّهُمَا حَيَوَانَانِ/ وَجِسْمَانِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَقَوْلُنَا: زَيْدٌ يُشْبِهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَمَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ فَنَقُولُ: إِذَا دَخَلَتِ الْكَافُ عَلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ زَيْدًا كَالْأَسَدِ عَمِلَتِ الْكَافُ فِي الْأَسَدِ عَمَلًا لَفْظِيًّا وَالْعَمَلُ اللَّفْظِيُّ مَعَ الْعَمَلِ الْمَعْنَوِيِّ، فَكَأَنَّ الْأَسَدَ عُمِلَ بِهِ عَمَلٌ حَتَّى صَارَ زَيْدًا، وَإِذَا قُلْتَ: كَأَنَّ زَيْدًا الْأَسَدُ تَرَكْتَ الْأَسَدَ عَلَى إِعْرَابِهِ فَإِذَنْ هُوَ مَتْرُوكٌ عَلَى حَالِهِ وَحَقِيقَتِهِ وَزَيْدٌ يُشَبَّهُ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ زَيْدًا إِذَا شُبِّهَ بِأَسَدٍ هُوَ عَلَى حَالِهِ بَاقٍ يَكُونُ أَقْوَى مِمَّا إِذَا شُبِّهَ بِأَسَدٍ لَمْ يَبْقَ عَلَى حَالِهِ، وَكَأَنَّ مَنْ قَالَ: زَيْدٌ كَالْأَسَدِ نَزَّلَ الْأَسَدَ عَنْ دَرَجَتِهِ فَسَاوَاهُ زَيْدٌ، وَمَنْ قَالَ: كَأَنَّ زَيْدًا الْأَسَدُ رَفَعَ زَيْدًا عَنْ دَرَجَتِهِ حَتَّى سَاوَى الْأَسَدَ، وَهَذَا تدقيق لطيف. ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 60 الى 61] هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) وَفِيهِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ حَتَّى قِيلَ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثَ آيَاتٍ فِي كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا مِائَةُ قَوْلٍ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] ، الثانية: قوله تعالى: إِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [الْإِسْرَاءِ: 8] ، الثَّالِثَةُ: قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ وَلْنَذْكُرِ الْأَشْهَرَ مِنْهَا وَالْأَقْرَبَ. أَمَّا الْأَشْهَرُ فَوُجُوهٌ أَحَدُهَا: هَلْ جَزَاءُ التَّوْحِيدِ غَيْرُ الْجَنَّةِ، أَيْ جَزَاءُ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِدْخَالُ الْجَنَّةِ ثَانِيهَا: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ فِي الدُّنْيَا إِلَّا الْإِحْسَانُ فِي الْآخِرَةِ ثَالِثُهَا: هَلْ جَزَاءُ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا بِالنِّعَمِ وَفِي الْعُقْبَى بِالنَّعِيمِ إِلَّا أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِ بِالْعِبَادَةِ وَالتَّقْوَى، وَأَمَّا الْأَقْرَبُ فَإِنَّهُ عَامٌّ فَجَزَاءُ كُلِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَى غَيْرِهِ أَنْ يُحْسِنَ هُوَ إِلَيْهِ أَيْضًا، وَلْنَذْكُرْ تَحْقِيقَ الْقَوْلِ فِيهِ وَتَرْجِعُ الْوُجُوهُ كُلُّهَا إِلَى ذَلِكَ، فَنَقُولُ: الْإِحْسَانُ يُسْتَعْمَلُ فِي ثَلَاثِ مَعَانٍ أَحَدُهَا: إِثْبَاتُ الْحُسْنِ وَإِيجَادُهُ قَالَ تَعَالَى: فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غَافِرٍ: 64] وَقَالَ تَعَالَى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السَّجْدَةِ: 7] ثَانِيهَا: الْإِتْيَانُ بِالْحُسْنِ كَالْإِظْرَافِ وَالْإِغْرَابِ لِلْإِتْيَانِ بِالظَّرِيفِ وَالْغَرِيبِ قَالَ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الْأَنْعَامِ: 160] ثَالِثُهَا: يُقَالُ: فُلَانٌ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَلَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ أَيْ لَا يَعْلَمُهُمَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِحْسَانِ الْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ وَالثَّالِثُ مَأْخُوذٌ مِنْهُمَا، وَهَذَا لَا يُفْهَمُ إِلَّا بِقَرِينَةِ الِاسْتِعْمَالِ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ إِرَادَةُ الْعِلْمِ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَنَقُولُ: يُمْكِنُ حَمْلُ الْإِحْسَانِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى مَعْنًى مُتَّحِدٍ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ فِيهِمَا عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ أَيْ هَلْ جَزَاءُ مَنْ أَتَى بِالْفِعْلِ الْحَسَنِ إِلَّا أَنْ يُؤْتَى فِي مُقَابَلَتِهِ بِفِعْلٍ حَسَنٍ، لَكِنَّ الْفِعْلَ الْحَسَنَ مِنَ الْعَبْدِ لَيْسَ كُلَّ مَا يَسْتَحْسِنُهُ هُوَ، بَلِ الْحُسْنُ هُوَ مَا اسْتَحْسَنَهُ اللَّهُ مِنْهُ، فَإِنَّ الْفَاسِقَ رُبَّمَا يَكُونُ الْفِسْقُ فِي نَظَرِهِ حَسَنًا وَلَيْسَ بِحَسَنٍ بَلِ الْحَسَنُ مَا طَلَبَهُ الله منه،

كَذَلِكَ الْحَسَنُ مِنَ اللَّهِ هُوَ كُلُّ مَا يَأْتِي بِهِ مِمَّا يَطْلُبُهُ الْعَبْدُ كَمَا أَتَى الْعَبْدُ بِمَا يَطْلُبُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزُّخْرُفِ: 71] وقوله تعالى: وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 102] وَقَالَ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى [يُونُسَ: 26] أَيْ مَا هُوَ حَسَنٌ عِنْدَهُمْ وَأَمَّا الثَّانِي: فَنَقُولُ: هَلْ جَزَاءُ مَنْ أَثْبَتَ/ الْحُسْنَ فِي عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَنْ يُثْبِتَ اللَّهُ الْحُسْنَ فِيهِ وَفِي أَحْوَالِهِ فِي الدَّارَيْنِ وَبِالْعَكْسِ هَلْ جَزَاءُ مَنْ أَثْبَتَ الْحُسْنَ فِينَا وَفِي صُوَرِنَا وَأَحْوَالِنَا إِلَّا أَنْ نُثْبِتَ الْحُسْنَ فِيهِ أَيْضًا، لَكِنَّ إِثْبَاتَ الْحُسْنِ فِي اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، فَإِثْبَاتُ الْحُسْنِ أَيْضًا فِي أَنْفُسِنَا وَأَفْعَالِنَا فَنُحَسِّنُ أَنْفُسَنَا بِعِبَادَةِ حَضْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَفْعَالَنَا بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَأَحْوَالَ بَاطِنِنَا بِمَعْرِفَتِهِ تَعَالَى، وَإِلَى هَذَا رَجَعَتِ الْإِشَارَةُ، وَوَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ مِنْ حُسْنِ وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ وَقُبْحِ وُجُوهِ الْكَافِرِينَ وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ فَهُوَ أَنْ تَقُولَ: عَلَى جَزَاءِ مَنْ أَتَى بِالْفِعْلِ الْحَسَنِ إِلَّا أَنْ يُثَبِّتَ اللَّهُ فِيهِ الْحُسْنَ، وَفِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ فَيَجْعَلُ وَجْهَهُ حَسَنًا وَحَالَهُ حَسَنًا، ثُمَّ فِيهِ لَطَائِفُ: اللَّطِيفَةُ الْأُولَى: هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى رَفْعِ التَّكْلِيفِ عَنِ الْعَوَامِّ فِي الْآخِرَةِ، وَتَوْجِيهُ التَّكْلِيفِ عَلَى الْخَوَاصِّ فِيهَا أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ وَالْمُؤْمِنُ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يُثَابُ بِالْجَنَّةِ فَيَكُونُ لَهُ مِنَ اللَّهِ الْإِحْسَانُ جَزَاءً لَهُ وَمَنْ جَازَى عَبْدًا عَلَى عَمَلِهِ لَا يَأْمُرُهُ بِشُكْرِهِ، وَلِأَنَّ التَّكْلِيفَ لَوْ بَقِيَ فِي الْآخِرَةِ فَلَوْ تَرَكَ الْعَبْدُ الْقِيَامَ بِالتَّكْلِيفِ لَاسْتَحَقَّ الْعِقَابَ، وَالْعِقَابُ تَرْكُ الْإِحْسَانِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا عَبَدَ اللَّهَ فِي الدُّنْيَا مَا دَامَ وَبَقِيَ يَلِيقُ بِكَرَمِهِ تَعَالَى أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ مَا دَامَ وَبَقِيَ، فَلَا عِقَابَ عَلَى تركه بلا تكليف وأما الثاني: فنقول: خَاصَّةُ اللَّهِ تَعَالَى عَبَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا لِنِعَمٍ قَدْ سَبَقَتْ لَهُ عَلَيْنَا، فَهَذَا الَّذِي أَعْطَانَا اللَّهُ تَعَالَى ابْتِدَاءَ نِعْمَةٍ وَإِحْسَانٍ جَدِيدٍ فَلَهُ عَلَيْنَا شُكْرُهُ، فَيَقُولُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَيَذْكُرُونَ اللَّهَ وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ نَفْسُ الْإِحْسَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ سَبَبًا لِقِيَامِهِمْ بِشُكْرِهِ، فَيَعْرِضُونَ هُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ عِبَادَتَهُ تَعَالَى فَيَكُونُ لَهُمْ بِأَدْنَى عِبَادَةٍ شُغْلٌ شَاغِلٌ عَنِ الْحُورِ وَالْقُصُورِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَلَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ وَلَا يَتَنَابَذُونَ وَلَا يَلْعَبُونَ فَيَكُونُ حَالُهُمْ كَحَالِ الْمَلَائِكَةِ فِي يَوْمِنَا هَذَا لَا يَتَنَاكَحُونَ وَلَا يَلْعَبُونَ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَكْلِيفًا مِثْلَ هَذِهِ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لَذَّةً زَائِدَةً عَلَى كُلِّ لَذَّةٍ فِي غَيْرِهَا. اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ مُحَكَّمٌ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [يس: 57] وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِحْسَانَ هُوَ الْإِتْيَانُ بِمَا هُوَ حَسَنٌ عِنْدَ مَنْ أَتَى بِالْإِحْسَانِ، لَكِنَّ اللَّهَ لَمَّا طَلَبَ مِنَّا الْعِبَادَةَ طَلَبَ كَمَا أَرَادَ، فَأَتَى بِهِ الْمُؤْمِنُ كَمَا طُلِبَ مِنْهُ، فَصَارَ مُحْسِنًا فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُحْسِنَ اللَّهُ إِلَى عَبْدِهِ وَيَأْتِي بِمَا هُوَ حَسَنٌ عِنْدَهُ، وَهُوَ مَا يَطْلُبُهُ كَمَا يُرِيدُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ أَيْ هَلْ جَزَاءُ مَنْ أَتَى بِمَا طَلَبْتُهُ مِنْهُ عَلَى حَسَبِ إِرَادَتِي إِلَّا أَنْ يُؤْتَى بِمَا طَلَبَهُ مِنِّي عَلَى حَسَبِ إِرَادَتِهِ، لَكِنَّ الْإِرَادَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالرُّؤْيَةِ، فَيَجِبُ بِحُكْمِ الْوَعْدِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ آيَةً دَالَّةً عَلَى الرُّؤْيَةِ الْبَلْكَفِيَّةِ. اللَّطِيفَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَفْرِضُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ دُونَ الْإِحْسَانِ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ لِأَنَّ الْكَرِيمَ إِذَا قَالَ لِلْفَقِيرِ: افْعَلْ كَذَا وَلَكَ كَذَا دِينَارًا، وَقَالَ لِغَيْرِهِ افْعَلْ كَذَا عَلَى أَنْ أُحْسِنَ إِلَيْكَ يَكُونُ رَجَاءُ مَنْ لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ أَجْرًا أَكْثَرُ مِنْ/ رَجَاءِ مَنْ عَيَّنَ لَهُ، هَذَا إِذَا كَانَ الْكَرِيمُ فِي غَايَةِ الْكَرَمِ وَنِهَايَةِ الْغِنَى، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَاللَّهُ تَعَالَى قَالَ: جَزَاءُ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيَّ أَنْ أُحْسِنَ إِلَيْهِ بِمَا يُغْبَطُ بِهِ، وَأُوصِلُ إِلَيْهِ فَوْقَ مَا يَشْتَهِيهِ فَالَّذِي يُعْطِي اللَّهُ فَوْقَ مَا يَرْجُوهُ وَذَلِكَ عَلَى وفق كرمه وإفضاله. ثم قال تعالى:

[سورة الرحمن (55) : الآيات 62 إلى 67]

[سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 67] وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) لَمَّا ذَكَرَ الْجَزَاءَ ذَكَرَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَهُوَ جَنَّتَانِ أُخْرَيَانِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُسَ: 26] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: دُونِهِما وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: دُونِهِمَا فِي الشَّرَفِ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَقَالَ قَوْلُهُ: مُدْهامَّتانِ مَعَ قَوْلِهِ فِي الأوليين: ذَواتا أَفْنانٍ [الرحمن: 48] وقوله في هذه: ْنانِ نَضَّاخَتانِ مَعَ قَوْلِهِ فِي الْأُولَيَيْنِ: عَيْنانِ تَجْرِيانِ [الرحمن: 50] لأن النضخ دون الجري، وقوله في الأولين: مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرحمن: 52] مَعَ قَوْلِهِ فِي هَاتَيْنِ: فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن: 68] وَقَوْلُهُ فِي الْأُولَيَيْنِ: فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ حَيْثُ تَرَكَ ذِكْرَ الظَّهَائِرِ لِعُلُوِّهَا وَرِفْعَتِهَا وَعَدَمِ إِدْرَاكِ الْعُقُولِ إِيَّاهَا مَعَ قَوْلِهِ فِي هَاتَيْنِ: رَفْرَفٍ خُضْرٍ [الرَّحْمَنِ: 76] دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ عَطَايَا اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ مُتَتَابِعَةٌ لَا يُعْطِي شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إِلَّا وَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُ ذَلِكَ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ تَقْرِيرًا لِمَا اختاره الزمخشري أن الجنتين اللتين دون الأولين لذريتهم اللذين أَلْحَقَهُمُ اللَّهُ بِهِمْ وَلِأَتْبَاعِهِمْ، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَهُمَا لَهُمْ إِنْعَامًا عَلَيْهِمْ، أَيْ هَاتَانِ الْأُخْرَيَانِ لَكُمْ أَسْكِنُوا فِيهِمَا مَنْ تُرِيدُونَ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ دُونَهُمَا فِي الْمَكَانِ كَأَنَّهُمْ فِي جَنَّتَيْنِ وَيَطَّلِعُوا مِنْ فَوْقُ عَلَى جَنَّتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ دُونَهُمَا، وَيَدُلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ [الزُّمَرِ: 20] الْآيَةَ. وَالْغُرَفُ الْعَالِيَةُ عِنْدَهَا أَفْنَانٌ، وَالْغُرَفُ الَّتِي دُونَهَا أَرْضُهَا مُخْضَرَّةٌ، وَعَلَى هَذَا فَفِي الْآيَاتِ لَطَائِفُ: الْأُولَى: قَالَ فِي الْأُولَيَيْنِ: ذَواتا أَفْنانٍ وَقَالَ فِي هَاتَيْنِ: مُدْهامَّتانِ أَيْ مُخْضَرَّتَانِ فِي غَايَةِ الْخُضْرَةِ، وَادْهَامَّ الشَّيْءُ أَيِ اسْوَادَّ لَكِنْ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَالْأَرْضُ إِذَا اخْضَرَّتْ غَايَةَ الْخُضْرَةِ تَضْرِبُ إِلَى أَسْوَدَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْأَرْضُ الْخَالِيَةُ عَنِ الزَّرْعِ يُقَالُ لَهَا: بَيَاضٌ أرض وَإِذَا كَانَتْ مَعْمُورَةً يُقَالُ لَهَا: سَوَادُ أَرْضٍ كَمَا يُقَالُ: سَوَادُ الْبَلَدِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ وَمَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْأَلْوَانِ هُوَ الْبَيَاضُ/ وَانْتِهَاءَهَا هُوَ السَّوَادُ، فَإِنَّ الْأَبْيَضَ يَقْبَلُ كُلَّ لَوْنٍ وَالْأَسْوَدَ لَا يَقْبَلُ شَيْئًا مِنَ الْأَلْوَانِ، وَلِهَذَا يُطْلَقُ الْكَافِرُ عَلَى الْأَسْوَدِ وَلَا يُطْلَقُ عَلَى لَوْنٍ آخَرَ، وَلَمَّا كَانَتِ الْخَالِيَةُ عَنِ الزَّرْعِ مُتَّصِفَةً بالبياض واللاخالية بِالسَّوَادِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا تَحْتَ الْأُولَيَيْنِ مَكَانًا، فَهُمْ إِذَا نَظَرُوا إِلَى مَا فَوْقَهُمْ، يَرَوْنَ الْأَفْنَانَ تُظِلُّهُمْ، وَإِذَا نَظَرُوا إِلَى مَا تحتهم يرون الأرض مخضرة، وقوله تعالى: يهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ أَيْ فَائِرَتَانِ مَاؤُهُمَا مُتَحَرِّكٌ إِلَى جِهَةِ فَوْقُ، وَأَمَّا الْعَيْنَانِ الْمُتَقَدِّمَتَانِ فَتَجْرِيَانِ إِلَى صَوْبِ الْمُؤْمِنِينَ فَكِلَاهُمَا حَرَكَتُهُمَا إِلَى جِهَةِ مَكَانِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» : النَّضْخُ دُونَ الْجَرْيِ فَغَيْرُ لَازِمٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْجَرْيُ يَسِيرًا وَالنَّضْخُ قَوِيًّا كَثِيرًا، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ النَّضْخَ فِيهِ الْحَرَكَةُ إِلَى جِهَةِ الْعُلُوِّ، وَالْعَيْنَانِ فِي مَكَانِ الْمُؤْمِنِينَ، فَحَرَكَةُ الْمَاءِ تَكُونُ إلى

[سورة الرحمن (55) : الآيات 68 إلى 69]

جِهَتِهِمْ، فَالْعَيْنَانِ الْأُولَيَانِ فِي مَكَانِهِمْ فَتَكُونُ حركة مائهما إلى صوب المؤمنين جريا. وأما قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 68 الى 69] فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرحمن: 52] وذلك لأن الفاكهة أرضية نحوه الْبِطِّيخِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَرْضِيَّاتِ الْمَزْرُوعَاتِ وَشَجَرِيَّةٌ نَحْوَ النخل وغيره من الشجريات فقال: مُدْهامَّتانِ [الرحمن: 64] بِأَنْوَاعِ الْخُضَرِ الَّتِي مِنْهَا الْفَوَاكِهُ الْأَرْضِيَّةُ وَفِيهِمَا أَيْضًا الْفَوَاكِهُ الشَّجَرِيَّةُ وَذَكَرَ مِنْهَا نَوْعَيْنِ وَهُمَا الرَّمَّانُ وَالرُّطَبُ لِأَنَّهُمَا مُتَقَابِلَانِ فَأَحَدُهُمَا حُلْوٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ حُلْوٍ وَكَذَلِكَ أَحَدُهُمَا حَارٌّ وَالْآخَرُ بَارِدٌ وَأَحَدُهُمَا فَاكِهَةٌ وَغِذَاءٌ، وَالْآخَرُ فَاكِهَةٌ، وَأَحَدُهُمَا مِنْ فَوَاكِهِ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ وَالْآخَرُ مِنْ فَوَاكِهِ الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ، وَأَحَدُهُمَا أَشْجَارُهُ فِي غَايَةِ الطُّولِ وَالْآخَرُ أَشْجَارُهُ بِالضِّدِّ وَأَحَدُهُمَا مَا يُؤْكَلُ مِنْهُ بَارِزٌ ومالا يُؤْكَلُ كَامِنٌ، وَالْآخَرُ بِالْعَكْسِ فَهُمَا كَالضِّدَّيْنِ وَالْإِشَارَةُ إِلَى الطَّرَفَيْنِ تَتَنَاوَلُ الْإِشَارَةَ إِلَى مَا بَيْنَهُمَا، كَمَا قَالَ: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرَّحْمَنِ: 17] وقدمنا ذلك. ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 70 الى 71] فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) أَيْ فِي بَاطِنِهِنَّ الْخَيْرُ وَفِي ظَاهِرِهِنَّ الْحُسْنُ وَالْخَيْرَاتُ جَمْعُ خَيْرَةٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قاصِراتُ الطَّرْفِ إِلَى أَنْ قَالَ: كَأَنَّهُنَّ [الرحمن: 56- 58] إشارة إلى كونهن حسانا. وقوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 72 الى 75] حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) إِشَارَةٌ إِلَى عَظَمَتِهِنَّ فَإِنَّهُنَ مَا قَصُرْنَ حَجْرًا عَلَيْهِنَّ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى ضَرْبِ الْخِيَامِ لَهُنَّ وَإِدْلَاءِ السِّتْرِ عَلَيْهِنَّ، وَالْخَيْمَةُ مَبِيتُ الرَّجُلِ كَالْبَيْتِ مِنَ الْخَشَبِ، حَتَّى أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْبَيْتَ مِنَ الشَّعْرِ خَيْمَةً لِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِلْإِقَامَةِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنَى فِي غَايَةِ اللُّطْفِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ فِي الْجَنَّةِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّحَرُّكِ لِشَيْءٍ وَإِنَّمَا الْأَشْيَاءُ تَتَحَرَّكُ إِلَيْهِ فَالْمَأْكُولُ وَالْمَشْرُوبُ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَرَكَةٍ مِنْهُ، وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِمَا يَشْتَهُونَهُ فَالْحُورُ يَكُنَّ فِي بُيُوتٍ، وَعِنْدَ الِانْتِقَالِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي وَقْتِ إِرَادَتِهِمْ تَسِيرُ بِهِنَّ لِلِارْتِحَالِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ خِيَامٌ وَلِلْمُؤْمِنِينَ قُصُورٌ تَنْزِلُ الْحُورُ مِنَ الْخِيَامِ إِلَى الْقُصُورِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ قد سبق تفسيره. ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 76 الى 77] مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77)

وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَأْخِيرِ ذِكْرِ اتِّكَائِهِمْ عَنْ ذِكْرِ نِسَائِهِمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَ اتِّكَائِهِمْ عَلَى ذِكْرِ نِسَائِهِمْ فِي الْجَنَّتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ حَيْثُ قَالَ: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ [الرَّحْمَنِ: 54] ثُمَّ قال: قاصِراتُ الطَّرْفِ [الرحمن: 56] وقال هاهنا: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ [الرحمن: 70] ثُمَّ قَالَ: مُتَّكِئِينَ؟ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيْسَ عَلَيْهِمْ تَعَبٌ وَحَرَكَةٌ فَهُمْ مُنَعَّمُونَ دَائِمًا لَكِنَّ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَقْسَامٍ مِنْهُمْ مَنْ يَجْتَمِعْ مَعَ أَهْلِهِ اجْتِمَاعَ مُسْتَفِيضٍ وَعِنْدَ قَضَاءِ وَطَرِهِ يَسْتَعْمِلُ الِاغْتِسَالَ وَالِانْتِشَارَ فِي الْأَرْضِ لِلْكَسْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ مُتَرَدِّدًا فِي طَلَبِ الْكَسْبِ وَعِنْدَ تَحْصِيلِهِ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ وَيُرِيحُ قَلْبَهُ مِنَ التَّعَبِ قَبْلَ قَضَاءِ الْوَطَرِ فَيَكُونُ التَّعَبُ لَازِمًا قَبْلَ قَضَاءِ الْوَطَرِ أَوْ بَعْدَهُ فَاللَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي بَيَانِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: مُتَّكِئِينَ قَبْلَ الِاجْتِمَاعِ بأهلهم وبعد الاجتماع كذلك، ليعلم أنهم دائم عَلَى السُّكُونِ فَلَا تَعَبَ لَهُمْ لَا قَبْلَ الِاجْتِمَاعِ وَلَا بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ وَثَانِيهِمَا: هُوَ أَنَّا بَيَّنَّا فِي الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ أَنَّ الْجَنَّتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ جَاهُدُوا وَالْمُتَأَخِّرِينَ لِذُرِّيَّاتِهِمُ الَّذِينَ أُلْحِقُوا بِهِمْ، فَهُمْ فِيهِمَا وَأَهْلُهُمْ فِي الْخِيَامِ مُنْتَظِرَاتٌ قُدُومَ أَزْوَاجِهِنَّ، فَإِذَا دَخَلَ الْمُؤْمِنُ جَنَّتَهُ الَّتِي هِيَ سُكْنَاهُ يَتَّكِئُ عَلَى الْفُرُشِ وَتَنْتَقِلُ إِلَيْهِ أَزْوَاجُهُ الْحِسَانُ، فَكَوْنُهُنَّ فِي الْجَنَّتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ بَعْدَ اتِّكَائِهِمْ عَلَى الْفُرُشِ، وَأَمَّا كَوْنُهُمْ فِي الْجَنَّتَيْنِ الْمُتْأَخِّرَتَيْنِ فَذَلِكَ حَاصِلٌ فِي يَوْمِنَا، وَاتِّكَاءُ المؤمن غير حاصل في يومنا، فقدم ذكر كونهن فيهن هنا وأخره هناك. ومُتَّكِئِينَ حَالٌ وَالْعَامِلُ فِيهِ/ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ [الرحمن: 74] وَذَلِكَ فِي قُوَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّهُمْ يَطْمِثُوهُنَّ مُتَّكِئِينَ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ [الرحمن: 54] يُقَالُ هُنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الرَّفْرَفُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ مِنْ رَفَّ الزَّرْعُ إِذَا بَلَغَ مِنْ نَضَارَتِهِ فَيَكُونُ مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مُدْهامَّتانِ [الرحمن: 64] وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَنَّهُمْ مُتَّكِئُونَ عَلَى الرِّيَاضِ وَالثِّيَابِ الْعَبْقَرِيَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ رَفْرَفَةِ الطَّائِرِ، وَهِيَ حَوْمُهُ فِي الْهَوَاءِ حَوْلَ مَا يُرِيدُ النُّزُولَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ عَلَى بُسُطٍ مَرْفُوعَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [الْوَاقِعَةِ: 34] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ [الرحمن: 62] أَنَّهُمَا دُونَهُمَا فِي الْمَكَانِ حَيْثُ رُفِعَتْ فُرُشُهُمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: خُضْرٍ صِيغَةُ جَمْعٍ فَالرَّفْرَفُ يَكُونُ جَمْعًا لِكَوْنِهِ اسْمَ جِنْسٍ وَيَكُونُ وَاحِدُهُ رَفْرَفَةً كحنظلة وحنظل وَالْجَمْعُ فِي مُتَّكِئِينَ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: مُتَّكِئِينَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ عَلَى رَفَارِفَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْفُرُشِ وَالرَّفْرَفِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: رَفَارِفَ اكْتِفَاءً بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مُتَّكِئِينَ وَقَالَ: فُرُشٍ وَلَمْ يَكْتَفِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ؟ نَقُولُ: جَمْعُ الرُّبَاعِيِّ أثقل من جمع الثلاثي، ولهذا لم يجيء لِلْجَمْعِ فِي الرُّبَاعِي إِلَّا مِثَالٌ وَاحِدٌ وَأَمْثِلَةُ الْجَمْعِ فِي الثُّلَاثِي كَثِيرَةٌ وَقَدْ قُرِئَ: (عَلَى رفارف خضر) ، و (رفارف خضار وعباقر) . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الرَّفْرَفَ هِيَ الْبُسُطُ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي الْخُضْرِ حَيْثُ وَصَفَ تَعَالَى ثِيَابَ الْجَنَّةِ بِكَوْنِهَا خُضْرًا قَالَ تَعَالَى: ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ؟ [الْإِنْسَانِ: 21] نَقُولُ: مَيْلُ النَّاسِ إِلَى اللَّوْنِ الْأَخْضَرِ فِي الدُّنْيَا أَكْثَرُ، وَسَبَبُ الْمَيْلِ إِلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْأَلْوَانَ الَّتِي يُظَنُّ أَنَّهَا أُصُولُ الْأَلْوَانِ سَبْعَةٌ وَهِيَ الشَّفَّافُ وَهُوَ الَّذِي لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ الْبَصَرِ فِيهِ وَلَا يَحْجُبُ مَا وَرَاءَهُ كَالزُّجَاجِ وَالْمَاءِ الصَّافِي وَغَيْرِهِمَا ثُمَّ الْأَبْيَضُ بَعْدَهُ ثُمَّ الْأَصْفَرُ ثُمَّ الْأَحْمَرُ ثم

[سورة الرحمن (55) : آية 78]

الْأَخْضَرُ ثُمَّ الْأَزْرَقُ ثُمَّ الْأَسْوَدُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَلْوَانَ الْأَصْلِيَّةَ ثَلَاثَةٌ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَهُمَا غَايَةُ الْخِلَافِ وَالْأَحْمَرُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ فَإِنَّ الدَّمَ خُلِقَ عَلَى اللَّوْنِ الْمُتَوَسِّطِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الصِّحَّةُ عَلَى مَا يَنْبَغِي فَإِنْ كَانَ لِفَرْطِ الْبُرُودَةِ فِيهِ كَانَ أَبْيَضَ وَإِنْ كَانَ لِفَرْطِ الْحَرَارَةِ فِيهِ كَانَ أَسْوَدَ لَكِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ يَحْصُلُ مِنْهَا الْأَلْوَانُ الْأُخَرُ فَالْأَبْيَضُ إِذَا امْتَزَجَ بِالْأَحْمَرِ حَصَلَ الْأَصْفَرُ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَزْجُ اللَّبَنِ الْأَبْيَضِ بِالدَّمِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْحُمْرِ وَإِذَا امْتَزَجَ الْأَبْيَضُ بِالْأَسْوَدِ حَصَلَ اللَّوْنُ الْأَزْرَقُ يَدُلُّ عَلَيْهِ خَلْطُ الْجَصِّ الْمَدْقُوقِ بِالْفَحْمِ وَإِذَا امْتَزَجَ الْأَحْمَرُ بِالْأَسْوَدِ حَصَلَ الْأَزْرَقُ أَيْضًا لَكِنَّهُ إِلَى السَّوَادِ أَمْيَلُ، وَإِذَا امْتَزَجَ الْأَصْفَرُ بِالْأَزْرَقِ حَصَلَ الْأَخْضَرُ مِنَ الْأَصْفَرِ وَالْأَزْرَقِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْأَصْفَرَ مِنَ الْأَبْيَضِ وَالْأَحْمَرِ وَالْأَزْرَقَ مِنَ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ فَالْأَخْضَرُ حَصَلَ فِيهِ الْأَلْوَانُ الثَّلَاثَةُ الْأَصْلِيَّةُ فَيَكُونُ مَيْلُ الْإِنْسَانِ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى الْأَلْوَانِ الْأَصْلِيَّةِ وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْأَبْيَضَ يُفَرِّقُ الْبَصَرُ وَلِهَذَا لَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَى إِدَامَةِ النَّظَرِ فِي الْأَرْضِ عِنْدَ كَوْنِهَا مَسْتُورَةً بِالثَّلْجِ وَإِنَّهُ يُورِثُ الْجَهْرَ وَالنَّظَرَ إِلَى الْأَشْيَاءِ السُّودِ يَجْمَعُ الْبَصَرَ وَلِهَذَا كَرِهَ الْإِنْسَانُ النَّظَرَ إِلَيْهِ وَإِلَى الْأَشْيَاءِ الْحُمْرِ كَالدَّمِ وَالْأَخْضَرُ لَمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ دَفَعَ بَعْضُهَا أَذَى بَعْضٍ وَحَصَلَ اللَّوْنُ الْمُمْتَزِجُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَهِيَ الْأَحْمَرُ/ وَالْأَبْيَضُ وَالْأَصْفَرُ وَالْأَسْوَدُ وَلَمَّا كَانَ مَيْلُ النَّفْسِ فِي الدُّنْيَا إِلَى الْأَخْضَرِ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ مَا هُوَ عَلَى مُقْتَضَى طَبْعِهِ فِي الدُّنْيَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْعَبْقَرِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى عَبْقَرٍ وَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ مَوْضِعٌ مِنْ مَوَاضِعِ الْجِنِّ فَالثِّيَابُ الْمَعْمُولَةُ عَمَلًا جَيِّدًا يُسَمُّونَهَا عَبْقَرِيَّاتٍ مُبَالَغَةً فِي حُسْنِهَا كَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ عَمَلِ الْإِنْسِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الثِّيَابِ أَيْضًا حَتَّى يُقَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلًا عَجِيبًا: هُوَ عَبْقَرِيٌّ أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ الَّذِي رَآهُ: «فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِي فَرْيَهُ» وَاكْتَفَى بِذِكْرِ اسْمِ الْجِنْسِ عَنِ الْجَمْعِ وَوَصَفَهُ بِمَا تُوصَفُ بِهِ الْجُمُوعُ فَقَالَ حِسَانٍ: وَذَلِكَ لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ جَمْعَ الرُّبَاعِيِّ يُسْتَثْقَلُ بَعْضَ الِاسْتِثْقَالِ، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ: عَبَاقِرِيٍّ فَقَدْ جَعَلَ اسْمَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عَبَاقِرَ فَإِنْ زَعَمَ أَنَهُ جَمَعَهُ فَقَدْ وَهِمَ، وَإِنْ جَمَعَ الْعَبْقَرِيَّ ثُمَّ نَسَبَ فَقَدِ الْتَزَمَ تَكَلُّفًا خِلَافَ مَا كَلَّفَ الْأُدَبَاءُ الْتِزَامَهُ فَإِنَّهُمْ فِي الْجَمْعِ إِذَا نَسَبُوا رَدُّوهُ إِلَى الْوَاحِدِ وَهَذَا القارئ تكلف في الواحد وروده إِلَى الْجَمْعِ ثُمَّ نَسَبَهُ لِأَنَّ عِنْدَ الْعَرَبِ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ بِلَادٌ كُلُّهَا عَبْقَرٌ حَتَّى تُجْمَعَ وَيُقَالُ: عَبَاقِرُ، فَهَذَا تَكَلُّفُ الْجَمْعِ فِيمَا لَا جَمْعَ لَهُ ثُمَّ نُسِبَ إِلَى ذَلِكَ الْجَمْعِ وَالْأُدَبَاءُ تَكْرَهُ الْجَمْعَ فِيمَا يُنْسَبُ لِئَلَّا يجمعوا بين الجمع والنسبة. ثم قال تعالى: [سورة الرحمن (55) : آية 78] تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي التَّرْتِيبِ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَتَمَ نِعَمَ الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرَّحْمَنِ: 27] خَتَمَ نِعَمَ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْبَاقِيَ وَالدَّائِمَ لِذَاتِهِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا غَيْرَ والدنيا فانية، والآخرة وإن كَانَتْ بَاقِيَةً لَكِنْ بَقَاؤُهَا بِإِبْقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ثَانِيهَا: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّوَرِ كُلِّهَا ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ فَقَالَ فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَرِ: 55] وَكَوْنُ الْعَبْدِ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَتَمِّ النعم كذلك هاهنا بَعْدَ ذِكْرِ الْجَنَّاتِ وَمَا فِيهَا مِنَ النِّعَمِ قَالَ: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ أَتَمَّ النِّعَمِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَكْمَلَ اللَّذَّاتِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ فِي السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ: فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ [الْوَاقِعَةِ: 89] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي آخر

السُّورَةِ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الْوَاقِعَةِ: 96] ثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ جَمِيعَ اللَّذَّاتِ فِي الْجَنَّاتِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَذَّةَ السَّمَاعِ وَهِيَ مِنْ أَتَمِّ أَنْوَاعِهَا، فَقَالَ: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ يَسْمَعُونَ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَصْلُ التَّبَارُكِ مِنَ الْبَرَكَةِ وَهِيَ الدَّوَامُ وَالثَّبَاتُ، وَمِنْهَا بُرُوكُ الْبَعِيرِ وَبِرْكَةُ الْمَاءِ، فَإِنَّ الْمَاءَ يَكُونُ فِيهَا دَائِمًا وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: دَامَ اسْمُهُ وَثَبَتَ وَثَانِيهَا: دَامَ الْخَيْرُ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْبَرَكَةَ وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الثَّبَاتِ لَكِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَثَالِثُهَا: تَبَارَكَ بِمَعْنَى عَلَا وَارْتَفَعَ شَأْنًا لَا مَكَانًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ نِعَمِ الدُّنْيَا: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرَّحْمَنِ: 27] وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ نِعَمِ الْآخِرَةِ: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بَعْدَ عَدِّ نِعَمِ الدُّنْيَا وَقَعَتْ إِلَى عَدَمِ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ وَفَنَائِهَا فِي ذَوَاتِهَا، وَاسْمُ اللَّهِ تَعَالَى يَنْفَعُ الذَّاكِرِينَ وَلَا ذَاكِرَ هُنَاكَ يُوَحِّدُ اللَّهَ غَايَةَ التَّوْحِيدِ فَقَالَ: وَيَبْقَى وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِشَارَةُ هُنَا، وَقَعَتْ إِلَى أَنَّ بَقَاءَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِإِبْقَاءِ اللَّهِ ذَاكِرِينَ اسْمَ اللَّهِ مُتَلَذِّذِينَ بِهِ فَقَالَ: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا يَبْقَى اسْمُ أَحَدٍ إِلَّا اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ تَدُورُ الْأَلْسُنُ وَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ عِنْدَ أَحَدٍ حَاجَةٌ بِذِكْرِهِ وَلَا مِنْ أَحَدٍ خَوْفٌ، فَإِنْ تَذَاكَرُوا تَذَاكَرُوا بِاسْمِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الِاسْمُ مُقْحَمٌ أَوْ هُوَ أَصْلٌ مَذْكُورٌ لَهُ التَّبَارُكُ، نَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ مُقْحَمٌ كَالْوَجْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنين: 14] وَ: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الْمُلْكِ: 1] وَغَيْرُهُ مِنْ صُوَرِ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ تَبَارَكَ وَثَانِيهِمَا: هُوَ أَنَّ الِاسْمَ تَبَارَكَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنًى بَلِيغٍ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا: تَبَارَكَ بِمَعْنَى عَلَا فَمَنْ عَلَا اسْمُهُ كَيْفَ يَكُونُ مُسَمَّاهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا عَظُمَ شَأْنُهُ لَا يُذْكَرُ اسْمُهُ إِلَّا بِنَوْعِ تَعْظِيمٍ ثُمَّ إِذَا انْتَهَى الذَّاكِرُ إِلَيْهِ يَكُونُ تَعْظِيمُهُ لَهُ أَكْثَرَ، فَإِنَّ غَايَةَ التَّعْظِيمِ لِلِاسْمِ أَنَّ السَّامِعَ إِذَا سَمِعَهُ قَامَ كَمَا جَرَتْ عَادَةُ الْمُلُوكِ أَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا فِي الرَّسَائِلِ اسْمَ سُلْطَانٍ عَظِيمٍ يَقُومُونَ عِنْدَ سَمَاعِ اسْمِهِ، ثُمَّ إِنْ أَتَاهُمُ السُّلْطَانُ بِنَفْسِهِ بَدَلًا عَنْ كِتَابِهِ الَّذِي فِيهِ اسْمُهُ يَسْتَقْبِلُونَهُ وَيَضَعُونَ الْجِبَاهَ عَلَى الْأَرْضِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهَذَا مِنَ الدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ عَلَى أَنَّ عُلُوَّ الِاسْمِ يَدُلُّ عَلَى عُلُوٍّ زَائِدٍ فِي الْمُسَمَّى، أَمَّا إِنْ قُلْنَا: بِمَعْنَى دَامَ الْخَيْرُ عِنْدَهُ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّه تَعَالَى يُزِيلُ الشَّرَّ وَيُهَرِّبُ الشَّيْطَانَ وَيَزِيدُ الْخَيْرَ وَيُقَرِّبُ السَّعَادَاتِ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: بِمَعْنَى دَامَ اسْمُ اللَّه، فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى دَوَامِ الذَّاكِرِينَ فِي الْجَنَّةِ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ. المسألة الخامسة: القراءة المشهورة هاهنا: ذِي الْجَلالِ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ لِأَنَّ الْجَلَالَ لِلرَّبِّ، وَالِاسْمُ غَيْرُ الْمُسَمَّى، وَأَمَّا وَجْهُ الرَّبِّ فَهُوَ الرَّبُّ فوصف هناك الوجه ووصف هاهنا الرَّبَّ، دُونَ الِاسْمِ وَلَوْ قَالَ: وَيَبْقَى الرَّبُّ للتوهم أَنَّ الرَّبَّ إِذَا بَقِيَ رَبًّا فَلَهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَرْبُوبٌ، فَإِذَا قَالَ وَجْهُ أُنْسِيَ الْمَرْبُوبُ فَحَصَلَ الْقَطْعُ بِالْبَقَاءِ لِلْحَقِّ فَوَصْفُ الْوَجْهِ يُفِيدُ هَذِهِ الْفَائِدَةَ، واللَّه أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصحبه وسلامه.

سورة الواقعة

بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم سُورَةُ الْوَاقِعَةِ وَهِيَ سِتٌّ وَتِسْعُونَ آيَةً مَكِّيَّةٌ [سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) أَمَّا تَعَلُّقُ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا قَبْلَهَا، فَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ تِلْكَ السُّورَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَعْدِيدِ النِّعَمِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَمُطَالَبَتِهِ بِالشُّكْرِ وَمَنْعِهِ عَنِ التَّكْذِيبِ كَمَا مَرَّ، وَهَذِهِ السُّورَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْرِ الْجَزَاءِ بِالْخَيْرِ لِمَنْ شَكَرَ وَبِالشَّرِّ لِمَنْ كَذَّبَ وَكَفَرَ ثَانِيهَا: أَنَّ تِلْكَ السُّورَةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلتَّنْبِيهَاتِ بِذِكْرِ الْآلَاءِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ كَذَلِكَ لِذِكْرِ الْجَزَاءِ فِي حَقِّهِمْ يَوْمَ التَّنَادِ ثَالِثُهَا: أَنَّ تِلْكَ السُّورَةَ سُورَةُ إِظْهَارِ الرَّحْمَةِ وَهَذِهِ السُّورَةُ سُورَةُ إِظْهَارِ الْهَيْبَةِ عَلَى عَكْسِ تِلْكَ السُّورَةِ مَعَ مَا قَبْلَهَا، وَأَمَّا تَعَلُّقُ الْأَوَّلِ بِالْآخِرِ فَفِي آخِرِ تِلْكَ السُّورَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الصِّفَاتِ مِنْ بَابِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَفِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى الْقِيَامَةِ وَإِلَى ما فيها من المثوبات والعقوبات، وكل واحد مِنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ اسْمِهِ وَعَظَمَةِ شَأْنِهِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعِزِّ سُلْطَانِهِ. ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَفِي تَفْسِيرِهَا جُمْلَةُ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ إِذَا وَقَعَتِ الْقِيَامَةُ الْوَاقِعَةُ أَوِ الزَّلْزَلَةُ الْوَاقِعَةُ يَعْتَرِفُ بِهَا كُلُّ أَحَدٍ، وَلَا يَتَمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ إِنْكَارِهَا، وَيَبْطُلُ عِنَادُ الْمُعَانِدِينَ فَتُخْفِضُ الْكَافِرِينَ فِي دَرَكَاتِ النَّارِ، وَتَرْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ فِي دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ، هَؤُلَاءِ فِي الْجَحِيمِ وَهَؤُلَاءِ فِي النَّعِيمِ الثَّانِي: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ تَزَلْزَلَ النَّاسُ، فَتُخْفِضُ الْمُرْتَفِعَ، وَتَرْفَعُ الْمُنْخَفِضَ، وَعَلَى هَذَا فَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها [الْحِجْرِ: 74] فِي الْإِشَارَةِ إِلَى شِدَّةِ الْوَاقِعَةِ، لِأَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي جَعَلَ الْعَالِيَ سَافِلًا بِالْهَدْمِ، وَالسَّافِلَ عَالِيًا حَتَّى صَارَتِ الْأَرْضُ الْمُنْخَفِضَةُ كَالْجِبَالِ الرَّاسِيَةِ، وَالْجِبَالُ الرَّاسِيَةُ كَالْأَرْضِ الْمُنْخَفِضَةِ أَشَدُّ وَأَبْلَغُ، فَصَارَتِ الْبُرُوجُ الْعَالِيَةُ مَعَ الْأَرْضِ مُتَسَاوِيَةً، وَالْوَاقِعَةُ الَّتِي تَقَعُ تَرْفَعُ الْمُنْخَفِضَةَ فَتَجْعَلُ مِنَ الْأَرْضِ أَجَزَاءً عَالِيَةً وَمِنَ السَّمَاءِ أَجْزَاءً سَافِلَةً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا [الواقعة: 4، 5] فَإِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَرْضَ تَتَحَرَّكُ بِحَرَكَةٍ مُزْعِجَةٍ، وَالْجِبَالَ تَتَفَتَّتُ، فَتَصِيرُ الْأَرْضُ الْمُنْخَفِضَةُ كَالْجِبَالِ الرَّاسِيَةِ، وَالْجِبَالُ الشَّامِخَةُ كَالْأَرْضِ السَّافِلَةِ، كَمَا يَفْعَلُ هُبُوبُ الرِّيحِ فِي الْأَرْضِ الْمُرْمِلَةِ الثَّالِثُ: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ يَظْهَرُ وُقُوعُهَا/ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَكَيْفِيَّةُ وُقُوعِهَا، فَلَا يُوجَدُ لَهَا كَاذِبَةٌ وَلَا مُتَأَوَّلٌ يَظْهَرُ فَقَوْلُهُ: خافِضَةٌ رافِعَةٌ مَعْطُوفٌ عَلَى كاذِبَةٌ نسقا،

فَيَكُونُ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: لَيْسَ لِي فِي الْأَمْرِ شَكٌّ وَلَا خَطَأٌ، أَيْ لَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَى رَفْعِ الْمُنْخَفِضِ وَلَا خَفْضِ الْمُرْتَفِعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاقِعَةُ صِفَةً لِمَحْذُوفٍ وَهِيَ الْقِيَامَةُ أَوِ الزَّلْزَلَةُ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ شَيْئًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَتَكُونُ تَاءُ التَّأْنِيثِ مُشِيرَةً إِلَى شِدَّةِ الْأَمْرِ الْوَاقِعِ وَهَوْلِهِ، كَمَا يُقَالُ: كَانَتِ الْكَائِنَةُ وَالْمُرَادُ كَانَ الْأَمْرُ كَائِنًا مَا كَانَ، وَقَوْلُنَا: الْأَمْرُ كَائِنٌ لَا يُفِيدُ إِلَّا حُدُوثَ أَمْرٍ وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْلِهِ: كَانَتِ الْكَائِنَةُ، إِذْ فِي الْكَائِنَةِ وَصْفٌ زَائِدٌ عَلَى نَفْسِ كَوْنِهِ شَيْئًا، وَلْنُبَيِّنْ هَذَا بِبَيَانِ كَوْنِ الْهَاءِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ رَاوِيَةٌ وَنَسَّابَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَأْتُوا بِالْمُبَالَغَةِ فِي كَوْنِهِ رَاوِيًا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِوَصْفٍ بَعْدَ الْخَبْرِ وَيَقُولُونَ: فُلَانٌ رَاوٍ جَيِّدٌ أَوَ حَسَنٌ أَوْ فَاضِلٌ، فَعَدَلُوا عَنِ التَّطْوِيلِ إِلَى الْإِيجَازِ مَعَ زِيَادَةِ فَائِدَةٍ، فَقَالُوا: نَأْتِي بِحَرْفِ نِيَابَةٍ عَنْ كَلِمَةٍ كَمَا أَتَيْنَا بِهَاءِ التَّأْنِيثِ حَيْثُ قُلْنَا: ظَالِمَةٌ بَدَلَ قَوْلَ الْقَائِلِ: ظَالِمٌ أُنْثَى، وَلِهَذَا لَزِمَهُمْ بيان الأنثى عند ما لَا يُمْكِنُ بَيَانُهَا بِالْهَاءِ فِي قَوْلِهِمْ شَاةٌ أُنْثَى وَكَالْكِتَابَةِ فِي الْجَمْعِ حَيْثُ قُلْنَا: قَالُوا بَدَلًا عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَالَ وَقَالَ وَقَالَ، وَقَالَا بَدَلًا عَنْ قَوْلِهِ: قَالَ وَقَالَ فَكَذَلِكَ فِي الْمُبَالَغَةِ أَرَادُوا أَنْ يَأْتُوا بِحَرْفٍ يُغْنِي عَنْ كَلِمَةٍ وَالْحَرْفُ الدَّالُّ عَلَى الزِّيَادَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرِ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بَعْدَ أَصْلِ الشَّيْءِ، فَوَضَعُوا الْهَاءَ عِنْدَ عَدَمِ كَوْنِهَا لِلتَّأْنِيثِ وَالتَّوْحِيدِ فِي اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ لَا فِي الْجَمْعِ لِلْمُبَالَغَةِ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي كَانَتِ الْكَائِنَةُ وَوَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ حَصَلَ هَذَا مَعْنًى لَا لَفْظًا، أَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِقَوْلِهِمْ: كَانَتِ الْكَائِنَةُ أَنَّ الْكَائِنَ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ مَا يَكُونُ، وَأَمَّا لَفْظًا فَلِأَنَّ الْهَاءَ لَوْ كَانَتْ لِلْمُبَالَغَةِ لَمَا جَازَ إِثْبَاتُ ضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ فِي الْفِعْلِ، بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولُوا: كَانَ الْكَائِنَةُ وَوَقَعَ الْوَاقِعَةُ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: العامل في إِذا ماذا؟ نقول: فيه ثلاث أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: فِعْلٌ مُتَقَدِّمٌ يَجْعَلُ إِذَا مَفْعُولًا بِهِ لَا ظَرْفًا وَهُوَ اذْكُرْ، كَأَنَّهُ قَالَ: اذْكُرِ الْقِيَامَةَ ثَانِيهَا: الْعَامِلُ فِيهَا لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ كَمَا تَقُولُ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَيْسَ لِي شُغْلٌ ثَالِثُهَا: يُخْفَضُ قَوْمٌ وَيُرْفَعُ قَوْمٌ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ خافِضَةٌ رافِعَةٌ، وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهَا قوله: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ [الواقعة: 8] أَيْ فِي يَوْمِ وُقُوعِ الْوَاقِعَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَيْسَ لِوَقْعَتِها إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا تَقَعُ دُفْعَةً واحدة فالواقعة لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَقَوْلُهُ: كاذِبَةٌ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: كَاذِبَةٌ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ أُقِيمَتْ مَقَامُهُ تَقْدِيرُهُ لَيْسَ لَهَا نَفْسٌ تَكْذِبُ ثَانِيهَا: الْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا تَقُولُ فِي الْوَاقِعَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ثَالِثُهَا: هِيَ مَصْدَرٌ كَالْعَاقِبَةِ فَإِنْ قُلْنَا بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَاللَّامُ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ لَا تَكْذِبُ نَفْسٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِشِدَّةِ وَقْعَتِهَا كَمَا يُقَالُ: لَا كَاذِبَ عِنْدَ الْمَلِكِ لِضَبْطِهِ الْأُمُورَ فَيَكُونُ نَفْيًا عَامًّا بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُصَدِّقُهُ فِيمَا يَقُولُ وَقَالَ: وَقَبْلَهُ نُفُوسٌ كَوَاذِبُ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَلَا كَاذِبَ فَيَقُولُ: / لَا قِيَامَةَ لِشِدَّةِ وَقْعَتِهَا وَظُهُورِ الْأَمْرِ وَكَمَا يُقَالُ: لَا يَحْتَمِلُ الْأَمْرُ الْإِنْكَارَ لِظُهُورِهِ لِكُلِّ أَحَدٍ فَيَكُونُ نَفْيًا خَاصًّا بِمَعْنَى لَا يُكَذِّبُ أَحَدٌ فَيَقُولُ: لَا قِيَامَةَ وَقَبْلَهُ نُفُوسٌ قَائِلَةٌ بِهِ كَاذِبَةٌ فِيهِ ثَانِيهِمَا: أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْدِيَةِ وَذَلِكَ كَمَا يُقَالُ: لَيْسَ لِزَيْدٍ ضَارِبٌ، وَحِينَئِذٍ تَقْدِيرُهُ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لوقعتها امرؤ يُوجَدُ لَهَا كَاذِبٌ إِنْ أَخْبَرَ عَنْهَا فَهِيَ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ تُخْفِضُ قَوْمًا وَتَرْفَعُ قَوْمًا وَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ عَامِلًا فِي إِذا وَهُوَ بِمَعْنَى لَيْسَ لَهَا كَاذِبٌ يَقُولُ: هِيَ أَمْرٌ سَهْلٌ يُطَاقُ يُقَالُ لِمَنْ يُقْدِمُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ ظَانًّا أَنَّهُ يُطِيقُهُ سَلْ نَفْسَكَ أَيْ سَهَّلْتَ الْأَمْرَ عَلَيْكَ وَلَيْسَ بِسَهْلٍ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهَا كَاذِبٌ عَظِيمٌ بِمَعْنَى أَنَّ مَنْ يكذب

[سورة الواقعة (56) : الآيات 4 إلى 6]

وَيُقْدِمُ عَلَى الْكَذِبِ الْعَظِيمِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْذِبَ لِهَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ أَحَدًا لَوْ كَذَّبَ وَقَالَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا قِيَامَةَ وَلَا وَاقِعَةَ لَكَانَ كَاذِبًا عَظِيمًا وَلَا كَاذِبَ لَهِذِهِ الْعَظَمَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَالْأَوَّلُ أَدَلُّ عَلَى هَوْلِ الْيَوْمِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ يَعُودُ مَا ذَكَرْنَا إِلَى أَنَّهُ لَا كَاذِبَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ يُصَدِّقُهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: خافِضَةٌ رافِعَةٌ تَقْدِيرُهُ هِيَ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي التَّفْسِيرِ الْجُمْلِيِّ وَفِيهِ وُجُوهٌ أُخْرَى أَحَدُهَا: خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ صِفَتَانِ لِلنَّفْسِ الْكَاذِبَةِ أَيْ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا مَنْ يُكَذِّبُ وَلَا مَنْ يُغَيِّرُ الْكَلَامَ فَتُخْفِضُ أَمْرًا وَتَرْفَعُ آخَرَ فَهِيَ خَافِضَةٌ أَوْ يَكُونُ هُوَ زِيَادَةً لِبَيَانِ صِدْقِ الْخَلْقِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَعَدَمِ إِمْكَانِ كَذِبِهِمْ وَالْكَاذِبُ يُغَيِّرُ الْكَلَامَ، ثُمَّ إِذَا أَرَادَ نَفْيَ الْكَذِبِ عَنْ نَفْسِهِ يَقُولُ مَا عَرَفْتُ مِمَّا كَانَ كَلِمَةً وَاحِدَةً وَرُبَّمَا يَقُولُ مَا عَرَفْتُ حَرْفًا وَاحِدًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْكَاذِبَ قَدْ يَكْذِبُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَرُبَّمَا يَكْذِبُ في صفة من صِفَاتِهِ وَالصِّفَةُ قَدْ يَكُونُ مُلْتَفَتًا إِلَيْهَا وَقَدْ لَا يَكُونُ مُلْتَفَتًا إِلَيْهَا الْتِفَاتًا مُعْتَبَرًا وَقَدْ لَا يَكُونُ مُلْتَفَتًا إِلَيْهَا أَصْلًا مِثَالُ الْأَوَّلِ: قَوْلُ الْقَائِلِ: مَا جَاءَ زَيْدٌ وَيَكُونُ قَدْ جَاءَ وَمِثَالُ الثَّانِي: مَا جَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَمِثَالُ الثَّالِثُ: مَا جَاءَ بُكْرَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَيَكُونُ قَدْ جَاءَ بُكْرَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَمَا جَاءَ أَوَّلَ بُكْرَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ وَالرَّابِعُ دُونَ الْكُلِّ، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: مَا أَعْرِفُ كَلِمَةً كَاذِبَةً نَفَى عَنْهُ الْكَذِبَ فِي الْإِخْبَارِ وَفِي صِفَتِهِ وَالَّذِي يَقُولُ: مَا عَرَفْتُ حَرْفًا وَاحِدًا نَفَى أَمْرًا وَرَاءَهُ، وَالَّذِي يَقُولُ: مَا عَرَفْتُ أَعْرَافَةً وَاحِدَةً يَكُونُ فَوْقَ ذلك فقوله: يْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ خافِضَةٌ رافِعَةٌ أَيْ مَنْ يُغَيِّرُ تغييرا ولو كان يسيرا. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 4 الى 6] إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) أَيْ كَانَتِ الْأَرْضُ كَثِيبًا مُرْتَفِعًا وَالْجِبَالُ مَهِيلًا مُنْبَسِطًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْجِبَالِ: كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [الْقَارِعَةِ: 5] وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ فَائِدَةِ ذِكْرِ الْمَصْدَرِ وَهِيَ أَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ الْفِعْلَ كَانَ قَوْلًا مُعْتَبَرًا وَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَيُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: ضَرَبْتُهُ ضَرْبًا مُعْتَبَرًا لَا يَقُولُ الْقَائِلُ فِيهِ: لَيْسَ بِضَرْبٍ مُحْتَقِرًا لَهُ كَمَا يُقَالُ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالْعَامِلُ فِي: إِذا رُجَّتِ/ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ إِذَا رُجَّتِ بَدَلًا عَنْ إِذَا وَقَعَتْ فَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ ثَانِيهَا: أن يكون العامل في: إِذا وَقَعَتِ [الواقعة: 1] هو قوله: لَيْسَ لِوَقْعَتِها [الواقعة: 2] وَالْعَامِلُ فِي: إِذا رُجَّتِ هُوَ قَوْلُهُ: خافِضَةٌ رافِعَةٌ [الواقعة: 3] تَقْدِيرُهُ تُخْفَضُ الْوَاقِعَةُ وَتُرْفَعُ وَقْتَ رَجِّ الْأَرْضِ وَبَسِّ الْجِبَالِ وَالْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ الزَّمَانِيِّ لِأَنَّ الْأَرْضَ مَا لَمْ تَتَحَرَّكْ وَالْجِبَالَ مَا لَمْ تَنْبَسَّ لَا تَكُونُ هَبَاءً مُنْبَثًّا، وَالْبَسُّ التَّقْلِيبُ، وَالْهَبَاءُ هُوَ الْهَوَاءُ الْمُخْتَلِطُ بِأَجْزَاءٍ أَرْضِيَّةٍ تَظْهَرُ فِي خَيَالِ الشَّمْسِ إِذَا وَقَعَ شُعَاعُهَا فِي كُوَّةٍ، وَقَالَ: الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ بَيْنَ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي مُنَاسَبَةً إِنَّ الْهَوَاءَ إِذَا خَالَطَهُ أَجْزَاءٌ ثَقِيلَةٌ أَرْضِيَّةٌ ثَقُلَ مِنْ لَفْظِهِ حَرْفٌ فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ الْخَفِيفَةُ بِالْبَاءِ الَّتِي لَا يُنْطَقُ بِهَا إِلَّا بإطباق الشفتين بقوة ما لو في الباء ثقل ما. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 7 الى 9] وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9)

أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنْتُمْ أَزْوَاجٌ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ وَفَسَّرَهَا بَعْدَهَا بِقَوْلِهِ: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفَاءُ تَدُلُّ عَلَى التَّفْسِيرِ، وَبَيَانُ مَا وَرَدَ عَلَى التَّقْسِيمِ كَأَنَّهُ قَالَ: (أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ) إِلَخْ، ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ كُلِّ قَوْمٍ، فَقَالَ: مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ فَتَرَكَ التَّقْسِيمَ أَوَّلًا وَاكْتَفَى بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ مَعَ أَحْوَالِهَا، وَسَبَقَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً يُغْنِي عَنْ تَعْدِيدِ الْأَقْسَامِ، ثُمَّ أَعَادَ كُلَّ وَاحِدَةٍ لِبَيَانِ حَالِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثانية: أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ هُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ، وَتَسْمِيَتُهُمْ بِأَصْحَابِ الْمَيْمَنَةِ إِمَّا لِكَوْنِهِمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ كُتُبُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَإِمَّا لِكَوْنِ أَيْمَانِهِمْ تَسْتَنِيرُ بِنُورٍ مِنَ اللَّه تعالى، كما قال تعالى: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الحديد: 12] وَإِمَّا لِكَوْنِ الْيَمِينِ يُرَادُ بِهِ الدَّلِيلُ عَلَى الْخَيْرِ، وَالْعَرَبُ تَتَفَاءَلُ بِالسَّانِحِ، وَ [هُوَ] الَّذِي يَقْصِدُ جَانِبَ الْيَمِينِ مِنَ الطُّيُورِ وَالْوُحُوشِ عِنْدَ الزَّجْرِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ كَانَ لَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ دَلِيلٌ عَلَى قُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، حَتَّى أَنَّ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ لَهُ دَلَائِلُ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، وَدَلَائِلُ الِاخْتِيَارِ إِثْبَاتُ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ مُتَشَابِهَيْنِ، أَوْ إِثْبَاتُ مُتَشَابِهَيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، إِذْ حَالُ الْإِنْسَانِ مِنْ أَشَدِّ الْأَشْيَاءِ مُشَابَهَةً فَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مُتَشَابِهٍ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ مِنَ الْإِنْسَانِ قُوَّةً لَيْسَتْ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ لَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنْ يَذْكُرُوا لَهُ مُرَجِّحًا غَيْرَ قُدْرَةِ اللَّه وَإِرَادَتِهِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَدَّعِي كِيَاسَةً وَذَكَاءً يَقُولُ: إِنَّ الْكَبِدَ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، وَبِهَا قُوَّةُ التَّغْذِيَةِ، وَالطِّحَالَ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، وَلَيْسَ فِيهِ قُوَّةٌ ظَاهِرَةُ/ النَّفْعِ فَصَارَ الْجَانِبُ الْأَيْمَنُ قَوِيًّا لِمَكَانِ الْكَبِدِ عَلَى الْيَمِينِ؟ فَنَقُولُ: هَذَا دَلِيلُ الِاخْتِيَارِ لِأَنَّ الْيَمِينَ كَالشِّمَالِ، وَتَخْصِيصُ اللَّه اليمين يجعله مَكَانَ الْكَبِدِ دَلِيلُ الِاخْتِيَارِ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَمِينُهُ أَقْوَى مِنْ شِمَالِهِ، فَضَّلُوا الْيَمِينَ عَلَى الشِّمَالِ، وَجَعَلُوا الْجَانِبَ الْأَيْمَنَ لِلْأَكَابِرِ، وَقِيلَ: لِمَنْ لَهُ مَكَانَةٌ هُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَوَضَعُوا لَهُ لَفْظًا عَلَى وَزْنِ الْعَزِيزِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ كَالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ، وَمَا لَا يَتَغَيَّرُ كَالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ، وَقِيلَ لَهُ، الْيَمِينُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْقُوَّةِ، وَوَضَعُوا مُقَابَلَتَهُ الْيَسَارَ عَلَى الْوَزْنِ الَّذِي اخْتُصَّ بِهِ الِاسْمُ الْمَذْمُومِ عِنْدَ النِّدَاءِ بِذَلِكَ الْوَزْنِ، وَهُوَ الْفَعَالِ، فَإِنَّ عِنْدَ الشَّتْمِ وَالنِّدَاءِ بِالِاسْمِ الْمَذْمُومِ يؤتى بهذا الْوَزْنُ مَعَ الْبِنَاءِ عَلَى الْكَسْرِ، فَيُقَالُ: يَا فَجَارِ يَا فَسَاقِ يَا خَبَاثِ، وَقِيلَ: الْيَمِينُ الْيَسَارُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتَعْمَلَ فِي الْيَمِينِ، وَأَمَّا الْمَيْمَنَةُ فَهِيَ مَفْعَلَةٌ كَأَنَّهُ الْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ الْيَمِينُ وَكُلُّ مَا وَقَعَ بِيَمِينِ الْإِنْسَانِ فِي جَانِبٍ مِنَ الْمَكَانِ، فَذَلِكَ مَوْضِعُ الْيَمِينِ فَهُوَ مَيْمَنَةٌ كَقَوْلِنَا: مَلْعَبَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: جَعْلُ اللَّه تعالى الْخَلْقَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ دَلِيلُ غَلَبَةِ الرَّحْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَوَانِبَ الْإِنْسَانِ أَرْبَعَةٌ، يَمِينُهُ وَشِمَالُهُ، وَخَلْفُهُ وَقُدَّامُهُ، وَالْيَمِينُ فِي مُقَابَلَةِ الشِّمَالِ وَالْخَلْفُ فِي مُقَابَلَةِ الْقُدَّامِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَشَارَ بِأَصْحَابِ الْيَمِينِ إِلَى النَّاجِينَ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ وَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْجَانِبِ الْأَشْرَفِ الْمُكْرَمُونَ، وَبِأَصْحَابِ الشِّمَالِ إِلَى الَّذِينَ حَالُهُمْ عَلَى خِلَافِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَهُمُ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ كُتُبَهْمُ بِشَمَائِلِهِمْ مُهَانُونَ وَذِكْرُ السَّابِقِينَ الَّذِينَ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَيَسْبِقُونَ الْخَلْقَ مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ بِيَمِينٍ أَوْ شِمَالٍ، أَنَّ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي الْمَنْزِلَةِ الْعُلْيَا مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، وَهُمُ الْمُقَرَّبُونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّه يَتَكَلَّمُونَ فِي حَقِّ الْغَيْرِ وَيَشْفَعُونَ لِلْغَيْرِ ويقضون

أَشْغَالَ النَّاسِ وَهَؤُلَاءِ أَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: فِي مُقَابَلَتِهِمْ قَوْمًا يَكُونُونَ مُتَخَلِّفِينَ مُؤَخَّرِينَ عَنْ أَصْحَابِ الشِّمَالِ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِمْ لِشِدَّةِ الْغَضَبِ عَلَيْهِمْ وَكَانَتِ الْقِسْمَةُ فِي الْعَادَةِ رُبَاعِيَّةً فَصَارَتْ بِسَبَبِ الْفَضْلِ ثُلَاثِيَّةً وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فَاطِرٍ: 32] لم يَقُلْ: مِنْهُمْ مُتَخَلِّفٌ عَنِ الْكُلِّ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي الِابْتِدَاءِ بِأَصْحَابِ الْيَمِينِ وَالِانْتِقَالِ إِلَى أَصْحَابِ الشِّمَالِ ثُمَّ إِلَى السَّابِقِينَ مَعَ أَنَّهُ فِي الْبَيَانِ بَيَّنَ حَالَ السَّابِقِينَ ثُمَّ أَصْحَابِ الشِّمَالِ عَلَى التَّرْتِيبِ وَالْجَوَابُ: أَنْ نَقُولَ: ذِكْرُ الْوَاقِعَةِ وَمَا يَكُونُ عِنْدَ وُقُوعِهَا مِنَ الْأُمُورِ الْهَائِلَةِ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّه تَعَالَى مَا يَكْفِهِ مَانِعًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَمَّا الَّذِينَ سِرُّهُمْ مَشْغُولٌ بربهم فلا يجزون بِالْعَذَابِ، فَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الواقعة: 1] وكان فيه من التخويف مالا يَخْفَى وَكَانَ التَّخْوِيفُ بِالَّذِينَ يَرْغَبُونَ وَيَرْهَبُونَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ أَوْلَى ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ لِقَطْعِ الْعُذْرِ لَا نَفْعِ الْخَبَرِ، وَأَمَّا السَّابِقُونَ فَهُمْ غَيْرُ مُحْتَاجِينَ إِلَى تَرْغِيبٍ أَوْ تَرْهِيبٍ فَقَدَّمَ سُبْحَانَهُ أَصْحَابَ الْيَمِينِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَيَرْغَبُونَ ثُمَّ ذَكَرَ السَّابِقِينَ لِيَجْتَهِدَ أَصْحَابُ الْيَمِينِ وَيَقْرُبُوا مِنْ دَرَجَتِهِمْ وَإِنْ كَانَ لَا يَنَالُهَا أَحَدٌ إِلَّا بِجَذْبٍ مِنَ اللَّه فَإِنَّ السَّابِقَ يَنَالُهُ مَا يَنَالُهُ بِجَذْبٍ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: جَذْبَةٌ مِنْ جَذَبَاتِ الرَّحْمَنِ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعِينَ سَنَةً. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ؟ نَقُولُ: هُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَتَقْرِيرُهُ هُوَ أَنْ يَشْرَعَ الْمُتَكَلِّمُ فِي بَيَانِ أَمْرٍ ثُمَّ يَسْكُتُ عَنِ الْكَلَامِ وَيُشِيرُ إِلَى أَنَّ السَّامِعَ لَا يَقْدِرُ عَلَى سَمَاعِهِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ: أُخْبِرُكَ بِمَا جَرَى عَلَيَّ ثُمَّ يَقُولُ هُنَاكَ هُوَ مُجِيبًا لِنَفْسِهِ لَا أَخَافُ أَنْ يَحْزُنَكَ وَكَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: مَنْ يَعْرِفُ فُلَانًا فَيَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ أَنْ يَصِفَهُ، لِأَنَّ السَّامِعَ إِذَا سَمِعَ وَصْفَهُ يَقُولُ: هَذَا نِهَايَةُ مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَإِذَا قَالَ: مَنْ يَعْرِفُ فُلَانًا بِفَرْضِ السَّامِعِ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا، ثُمَّ يَقُولُ: فُلَانٌ عِنْدَ هَذَا الْمُخْبَرِ أَعْظَمُ مِمَّا فَرَضْتُهُ وَأَنْبَهُ مِمَّا عَلِمْتُ مِنْهُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَا إِعْرَابُهُ وَمِنْهُ يُعْرَفُ مَعْنَاهُ؟ نَقُولُ: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مُبْتَدَأٌ أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يَذْكُرَ خَبَرَهُ فَرَجَعَ عَنْ ذِكْرِهِ وَتَرْكِهِ وَقَوْلُهُ: مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ عَلَى مَعْنَى التَّعَجُّبِ كَمَا تَقُولُ: لِمُدَّعِي الْعِلْمِ مَا مَعْنَى كَذَا مُسْتَفْهِمًا مُمْتَحِنًا زَاعِمًا أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْجَوَابَ حَتَّى إِنَّكَ تُحِبُّ وَتَشْتَهِي أَلَّا يُجِيبُ عَنْ سُؤَالِكَ وَلَوْ أَجَابَ لَكَرِهَتَهُ لِأَنَّ كَلَامَكَ مَفْهُومٌ كَأَنَّكَ تَقُولُ: إِنَّكَ لَا تَعْرِفُ الْجَوَابَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فكأن المتكلم في أول الأمر مخبرا ثُمَّ لَمْ يُخْبِرْ بِشَيْءٍ لِأَنَّ فِي الْأَخْبَارِ تَطْوِيلًا ثُمَّ لَمْ يَسْكُتْ وَقَالَ ذَلِكَ مُمْتَحِنًا زَاعِمًا أَنَّكَ لَا تَعْرِفُ كُنْهَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَشْرَعْ فِي كَلَامٍ وَيَذْكُرُ الْمُبْتَدَأَ ثُمَّ يَسْكَتُ عَنِ الْخَبَرِ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ السُّكُوتُ لِحُصُولِ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْمُخَاطَبَ قَدْ عَلِمَ الْخَبَرَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْخَبَرِ، كَمَا أَنَّ قَائِلًا: إذا أراد أن يخبره غَيْرَهُ بِأَنَّ زَيْدًا وَصَلَ، وَقَالَ: إِنَّ زَيْدًا ثُمَّ قَبْلَ قَوْلِهِ: جَاءَ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى زَيْدٍ وَرَآهُ جَالِسًا عِنْدَهُ يَسْكُتُ وَلَا يَقُولُ جَاءَ لِخُرُوجِ الْكَلَامِ عَنِ الْفَائِدَةِ وَقَدْ يَسْكُتُ عَنْ ذِكْرِ الْخَبَرِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ وَحْدَهُ يَكْفِي لِمَنْ قَالَ: مَنْ جَاءَ فَإِنَّهُ إِنْ قَالَ: زَيْدٌ يَكُونُ جَوَابًا وَكَثِيرًا مَا نَقُولُ: زَيْدٌ وَلَا نَقُولُ: جَاءَ، وَقَدْ يَكُونُ السُّكُوتُ عَنِ الْخَبَرِ إِشَارَةً إِلَى طُولِ الْقِصَّةِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: الْغَضْبَانُ مِنْ زَيْدٍ وَيَسْكُتُ ثُمَّ يَقُولُ: مَاذَا أَقُولُ عَنْهُ. إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ لَمَّا قَالَ: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ كَانَ كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْخَبَرِ فَسَكَتَ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ فِي نَفْسِهِ: إِنَّ السُّكُوتَ قَدْ يُوهِمُ أَنَّهُ لِظُهُورِ حَالِ الْخَبَرِ كَمَا يُسْكَتُ عَلَى زَيْدٍ فِي جَوَابِ مَنْ جَاءَ فَقَالَ: مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مُمْتَحِنًا زَاعِمًا أَنَّهُ لَا يَفْهَمُ لِيَكُونَ ذَلِكَ

[سورة الواقعة (56) : الآيات 10 إلى 11]

دَلِيلًا عَلَى أَنَّ سُكُوتَهُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لَمْ يَكُنْ لِظُهُورِ الْأَمْرِ بَلْ لِخَفَائِهِ وَغَرَابَتِهِ، وَهَذَا وَجْهٌ بَلِيغٌ، وَفِيهِ وَجْهٌ ظَاهِرٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا هُمْ؟ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ غَيْرَ أَنَّهُ أَقَامَ الْمُظْهَرَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ وَقَالَ: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَالْإِتْيَانُ بِالْمُظْهَرِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِ أَمْرِهِمْ حَيْثُ ذَكَرَهُمْ ظاهرا مرتين وكذلك القول في قوله تعالى: وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وكذلك في قوله: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة: 1، 2] وفي قوله: الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ [الْقَارِعَةُ: 1، 2] . الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِ لفظ الْمَشْئَمَةِ فِي مُقَابَلَةِ الْمَيْمَنَةِ، مَعَ أَنَّهُ قَالَ فِي بَيَانِ أَحْوَالِهِمْ: وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ؟ نَقُولُ: الْيَمِينُ وُضِعَ لِلْجَانِبِ الْمَعْرُوفِ أَوَّلًا ثُمَّ تَفَاءَلُوا بِهِ وَاسْتَعْمَلُوا مِنْهُ أَلْفَاظًا فِي مَوَاضِعَ وَقَالُوا: هَذَا مَيْمُونٌ وَقَالُوا: أَيْمِنْ بِهِ وَوَضَعُوا لِلْجَانِبِ الْمُقَابِلِ/ لَهُ الْيَسَارَ مِنَ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ إِشَارَةً إِلَى ضَعْفِهِ، فَصَارَ فِي مُقَابَلَةِ الْيَمِينِ كَيْفَمَا يَدُورُ فَيُقَالُ: فِي مُقَابَلَةِ الْيُمْنَى الْيُسْرَى، وَفِي مُقَابَلَةِ الْأَيْمَنِ الْأَيْسَرُ، وَفِي مُقَابَلَةِ الْمَيْمَنَةِ الْمَيْسَرَةُ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ الشِّمَالُ كَمَا تُسْتَعْمَلُ الْيَمِينُ، فَلَا يُقَالُ: الْأَشْمَلُ وَلَا الْمَشْمَلَةُ، وَتُسْتَعْمَلُ الْمَشْأَمَةُ كَمَا تُسْتَعْمَلُ الْمَيْمَنَةُ، فَلَا يُقَالُ: فِي مُقَابَلَةِ الْيَمِينِ لَفْظٌ مِنْ بَابِ الشُّؤْمِ، وَأَمَّا الشَّآمُ فَلَيْسَ فِي مُقَابَلَةِ الْيَمِينِ بَلْ فِي مُقَابَلَةِ يمان، إذا علم هذا فنقول: بعد ما قَالُوا بِالْيَمِينِ لَمْ يَتْرُكُوهُ وَاقْتَصَرُوا عَلَى اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْيَمِينِ فِي الْجَانِبِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْآدَمِيِّ، وَلَفْظِ الشِّمَالِ فِي مُقَابَلَتِهِ وَحَدَثَ لَهُمْ لَفْظَانِ آخَرَانِ فِيهِ أَحَدُهُمَا: الشِّمَالُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى الْكَوَاكِبِ مِنَ السَّمَاءِ وَجَعَلُوا مَمَرَّهَا وَجْهَ الْإِنْسَانِ وَجَعَلُوا السَّمَاءَ جَانِبَيْنِ وَجَعَلُوا أَحَدَهُمَا أَقْوَى كَمَا رَأَوْا فِي الْإِنْسَانِ، فَسَمَّوُا الْأَقْوَى بِالْجَنُوبِ لقوة الجانب كما يقال: غضوب ورؤوف، ثُمَّ رَأَوْا فِي مُقَابَلَةِ الْجَنُوبِ جَانِبًا آخَرَ شَمِلَ ذَلِكَ الْجَانِبُ عِمَارَةَ الْعَالَمِ فَسَمَّوْهُ شِمَالًا وَاللَّفْظُ الْآخَرُ: الْمَشْأَمَةُ وَالْأَشْأَمُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَيْمَنَةِ وَالْأَيْمَنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَخَذُوا مِنَ الْيَمِينِ الْيُمْنَ وَغَيْرَهُ لِلْتَفَاؤُلِ وَضَعُوا الشُّؤْمَ فِي مُقَابَلَتِهِ لَا فِي أَعْضَائِهِمْ وَجَوَانِبِهِمْ تَكَرُّهًا لِجَعْلِ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ نَفْسِهِ شُؤْمًا، وَلَمَّا وَضَعُوا ذَلِكَ وَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ نَقَلُوا الْيَمِينَ مِنَ الْجَانِبِ إِلَى غَيْرِهِ، فاللَّه تَعَالَى ذَكَرَ الْكُفَّارَ بِلَفْظَيْنِ مختلفين فقال: وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَأَصْحابُ الشِّمالِ [الواقعة: 41] وَتَرَكَ لَفْظَ الْمَيْسَرَةِ وَالْيَسَارِ الدَّالِ عَلَى هَوْنِ الأمر، فقال هاهنا: وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ بِأَفْظَعِ الِاسْمَيْنِ، وَلِهَذَا قَالُوا فِي الْعَسَاكِرِ: الْمَيْمَنَةُ والميسرة اجتنابا من لفظ الشؤم. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 10 الى 11] وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي إِعْرَابِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: وَالسَّابِقُونَ عطف على فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ [الواقعة: 8] وعنده تم الكلام، وقوله: وَالسَّابِقُونَ ... أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: أَنْتَ أَنْتَ وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِشُهْرَةِ أَمْرِ الْمُبْتَدَأِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْخَبَرِ عَنْهُ وَهُوَ مُرَادُ الشَّاعِرِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ النُّحَاةِ وَالثَّانِي: لِلْإِشَارَةِ إلى أن في المبتدأ مالا يُحِيطُ الْعِلْمُ بِهِ وَلَا يُخْبَرُ عَنْهُ وَلَا يُعْرَفُ مِنْهُ إِلَّا

[سورة الواقعة (56) : آية 12]

نَفْسُ الْمُبْتَدَأِ، وَهُوَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ أَخْبِرْنِي عَنْ حَالِ الْمَلِكِ فَيَقُولُ: لَا أَعْرِفُ مِنَ الْمَلِكِ إِلَّا أَنَّهُ مَلِكٌ فَقَوْلُهُ: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أَيْ لَا يُمْكِنُ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ إِلَّا بِنَفْسِهِمْ فَإِنَّ حَالَهُمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ فَوْقَ أن يحيط به علم البشر وهاهنا لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّهُ فِي أَصْحَابِ الْمَيْمَنَةِ قَالَ: ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ [الواقعة: 8] بِالِاسْتِفْهَامِ وَإِنْ كَانَ لِلْإِعْجَازِ لَكِنْ جَعْلَهُمْ مَوْرِدَ الاستفهام وهاهنا لَمْ يَقُلْ: وَالسَّابِقُونَ مَا السَّابِقُونَ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الَّذِي لِلْإِعْجَازِ يُورَدُ عَلَى مُدَّعِي الْعِلْمَ فَيُقَالُ/ لَهُ: إِنْ كُنْتَ تَعَلَمُ فَبَيَّنَ الْكَلَامَ وَأَمَّا إِذَا كَانَ يَعْتَرِفُ بِالْجَهْلِ فَلَا يُقَالُ لَهُ: كَذَبْتَ وَلَا يُقَالُ: كَيْفَ كَذَا، وَمَا الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ فِي: وَالسَّابِقُونَ مَا جَعَلَهُمْ بِحَيْثُ يَدَّعُونَ، فَيُورَدُ عَلَيْهِمُ الِاسْتِفْهَامُ فَيُبَيِّنُ عَجْزَهُمْ بَلْ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى أَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ فِي الِابْتِدَاءِ بِالْعَجْزِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ كَقَوْلِ الْعَالِمِ: لِمَنْ سَأَلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ مُعْضِلَةٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْهَمُهَا وَإِنْ كَانَ أَبَانَهَا غَايَةَ الْإِبَانَةِ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَلَا يَشْتَغِلُ بِالْبَيَانِ وَثَالِثُهَا: هُوَ أَنَّ السَّابِقُونَ ثَانِيًا تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَالسَّابِقُونَ وَالْوَجْهُ الْأَوْسَطُ هُوَ الْأَعْدَلُ الْأَصَحُّ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوْسَطِ قَوْلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ السَّابِقِينَ إِلَى الْخَيْرَاتِ فِي الدُّنْيَا هُمُ السَّابِقُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي الْعُقْبَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ يَقْتَضِي الْحَصْرَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ غَيْرُهُمْ مُقَرَّبًا، وَقَدْ قَالَ فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ إِنَّهُمْ مُقَرَّبُونَ، نَقُولُ: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ مِنَ الْأَزْوَاجِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ لَيْسُوا مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، نَقُولُ: لِلتَّقْرِيبِ دَرَجَاتٌ وَالسَّابِقُونَ فِي غَايَةِ الْقُرْبِ، وَلَا حَدَّ هُنَاكَ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ السَّابِقُونَ مُقَرَّبُونَ مِنَ الْجَنَّاتِ حَالَ كَوْنِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ لِأَنَّهُ بِمِقْدَارِ مَا يُحَاسَبُ الْمُؤْمِنُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيُؤْتَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ يَكُونُ السَّابِقُونَ قَدْ قَرُبُوا مِنَ الْمَنْزِلِ أَوْ قَرَّبَهُمْ إِلَى اللَّه فِي الْجَنَّةِ وَأَصَحَابُ الْيَمِينِ بَعْدُ مُتَوَجِّهُونَ إِلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ الْمُقَرَّبُونَ، ثُمَّ إِنَّ السَّيْرَ وَالِارْتِفَاعَ لَا يَنْقَطِعُ فَإِنَّ السَّيْرَ فِي اللَّه لَا انْقِطَاعَ لَهُ، وَالِارْتِفَاعَ لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَكُلَّمَا تَقَرَّبَ أَصْحَابُ الْيَمِينِ مِنْ دَرَجَةِ السَّابِقِ، يَكُونُ قَدِ انْتَقَلَ هُوَ إِلَى مَوْضِعٍ أَعْلَى مِنْهُ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ حَالَ وُصُولِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ إِلَى الْحُورِ الْعِينِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: بَعْدَ بَيَانِ أَقْسَامِ الْأَزْوَاجِ لَمْ يَعُدْ إِلَى بَيَانِ حَالِهِمْ عَلَى تَرْتِيبِ ذِكْرِهِمْ، بَلْ بَيَّنَ حَالَ السَّابِقِينَ مَعَ أَنَّهُ أَخَّرَهُمْ، وَأَخَّرَ ذِكْرَ أَصْحَابِ الشِّمَالِ مَعَ أَنَّهُ قَدَّمَهُمْ أَوَّلًا فِي الذِّكْرِ عَلَى السَّابِقِينَ، نَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ ذِكْرِ الْوَاقِعَةِ قَدَّمَ مَنْ يَنْفَعُهُ ذِكْرُ الْأَهْوَالِ، وَأَخَّرَ مَنْ لَا يَخْتَلِفُ حَالُهُ بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْبَيَانِ فَذَكَرَ السَّابِقَ لفضيلته وفضيلة حاله. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : آية 12] فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: عرف النعيم باللام هاهنا وَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ [الْوَاقِعَةِ: 89] بِدُونِ اللَّامِ، وَالْمَذْكُورُ فِي آخِرِ السُّورَةِ هُوَ وَاحِدٌ مِنَ السَّابِقِينَ فَلَهُ جَنَّةٌ مِنْ هَذِهِ الْجَنَّاتِ وَهَذِهِ مُعَرَّفَةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَعْرِفَةِ، وَتِلْكَ غَيْرُ مُعَرَّفَةٍ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ فَنَقُولُ: الْفَرْقُ لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ فَاللَّفْظِيُّ هُوَ أَنَّ السَّابِقِينَ مُعَرَّفُونَ بِاللَّامِ الْمُسْتَغْرِقَةِ لِجِنْسِهِمْ، فَجَعَلَ مَوْضِعَ الْمُعَرَّفَيْنِ مُعَرَّفًا، وَأَمَّا هُنَاكَ فَهُوَ غَيْرُ مُعَرَّفٍ، لأن قوله:

[سورة الواقعة (56) : الآيات 13 إلى 14]

إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الواقعة: 88] أَيْ إِنْ كَانَ فَرْدًا مِنْهُمْ فَجَعَلَ مَوْضِعَهُ غَيْرَ مُعَرَّفٍ/ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ مُعَرَّفًا وَمَوْضِعُهُ غَيْرُ مُعَرَّفٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الذاريات: 15] وإِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [الْقَمَرِ: 54] وَبِالْعَكْسِ أَيْضًا، وَأَمَّا الْمَعْنَوِيُّ: فَنَقُولُ: عِنْدَ ذِكْرِ الْجَمْعِ جَمَعَ الْجَنَّاتِ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَقَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ [الواقعة: 11، 12] لَكِنِ السَّابِقُونَ نَوْعٌ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَفِي الْمُتَّقِينَ غَيْرُ السَّابِقِينَ أَيْضًا، ثُمَّ إِنَّ السَّابِقِينَ لَهُمْ مَنَازِلُ لَيْسَ فَوْقَهَا مَنَازِلُ، فَهِيَ صَارَتْ مَعْرُوفَةً لِكَوْنِهَا فِي غَايَةِ الْعُلُوِّ أَوْ لِأَنَّهَا لَا أَحَدَ فَوْقَهَا، وَأَمَّا بَاقِي الْمُتَّقِينَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مَرْتَبَةٌ وَفَوْقَهَا مَرْتَبَةٌ فَهُمْ فِي جَنَّاتٍ مُتَنَاسِبَةٍ فِي الْمَنْزِلَةِ لَا يَجْمَعُهَا صُقْعٌ وَاحِدٌ لِاخْتِلَافِ مَنَازِلِهِمْ، وَجَنَّاتُ السَّابِقِينَ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فِي على عِلِّيِّينَ يَعْرِفُهَا كُلُّ أَحَدٍ، وَأَمَّا الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فَإِنَّ مَنْزِلَتَهُ بَيْنَ الْمَنَازِلِ، وَلَا يَعْرِفُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُ لِفُلَانٍ السَّابِقِ فَلَمْ يَعْرِفْهَا، وَأَمَّا مَنَازِلُهُمْ فَيَعْرِفُهَا كُلُّ أَحَدٍ، وَيَعْلَمُ أَنَّهَا لِلسَّابِقِينَ، وَلَمْ يَعْرِفِ الَّذِي لِلْمُتَّقِينَ عَلَى وَجْهِ كَذَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِضَافَةُ الْجَنَّةِ إِلَى النَّعِيمِ مِنْ أَيِّ الْأَنْوَاعِ؟ نَقُولُ: إِضَافَةُ الْمَكَانِ إِلَى مَا يَقَعُ فِي الْمَكَانِ يُقَالُ: دَارُ الضِّيَافَةِ، وَدَارُ الدَّعْوَةِ، وَدَارُ الْعَدْلِ، فَكَذَلِكَ جَنَّةُ النَّعِيمِ، وَفَائِدَتُهَا أَنَّ الْجَنَّةَ فِي الدُّنْيَا قَدْ تَكُونُ لِلنَّعِيمِ، وَقَدْ تَكُونُ لِلِاشْتِغَالِ وَالتَّعَيُّشِ بِأَثْمَانِ ثِمَارِهَا، بِخِلَافِ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهَا لِلنَّعِيمِ لَا غَيْرُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَاحِدًا، أَمَّا الْأَوَّلُ فَتَقْدِيرُهُ: أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ كَائِنُونَ فِي جَنَّاتٍ، كَقَوْلِهِ: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [البروج: 16] ، وأما الثاني فتقديرهم الْمُقَرَّبُونَ فِي الْجَنَّاتِ مِنَ اللَّهِ كَمَا يُقَالُ: هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمَلِكِ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَائِدَتُهُ بَيَانُ تَنْعِيمِ جِسْمِهِمْ، وَكَرَامَةِ نَفْسِهِمْ فَهُمْ مُقَرَّبُونَ عِنْدَ اللَّهِ فَهُمْ فِي غَايَةِ اللَّذَّةِ وَفِي جَنَّاتٍ، فَجِسْمُهُمْ فِي غَايَةِ النَّعِيمِ، بِخِلَافِ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ الْمُلُوكِ، فَإِنَّهُمْ يَلْتَذُّونَ بِالْقُرْبِ لَكِنْ لَا يَكُونُ لِجِسْمِهِمْ رَاحَةٌ، بَلْ يَكُونُونَ فِي تَعَبٍ مِنَ الْوُقُوفِ وَقَضَاءِ الْأَشْغَالِ، وَلِهَذَا قَالَ: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى جَنَّاتٍ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَائِدَتُهُ التَّمْيِيزُ عَنِ الْمَلَائِكَةِ، فَإِنَّ الْمُقَرَّبِينَ فِي يَوْمِنَا هذا في السموات هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالسَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ فِي الْجَنَّةِ فَيَكُونُ الْمُقَرَّبُونَ فِي غَيْرِهَا هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ قُرْبَ الْمَلَائِكَةِ قُرْبُ الْخَوَاصِّ عِنْدَ الْمَلِكِ الَّذِينَ هُمْ لِلْأَشْغَالِ، فَهُمْ لَيْسُوا فِي نَعِيمٍ، وَإِنْ كَانُوا فِي لَذَّةٍ عَظِيمَةٍ وَلَا يَزَالُونَ مُشْفِقِينَ قَائِمِينَ بِبَابِ اللَّهِ يَرِدُ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ وَلَا يَرْتَفِعُ عَنْهُمُ التَّكْلِيفُ، وَالسَّابِقُونَ لَهُمْ قُرْبٌ عِنْدِ اللَّهِ، كَمَا يَكُونُ لِجُلَسَاءِ الْمُلُوكِ، فَهُمْ لَا يَكُونُ بِيَدِهِمْ شُغْلٌ وَلَا يَرِدُ عليهم أمر، فيلتذون بالقرب، ويتنعمون بالراحة. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 13 الى 14] ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) وَهَذَا خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَفِيهِ مَسَائِلُ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قد ذكرت أن قوله: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الواقعة: 10] جُمْلَةٌ، وَإِنَّمَا كَانَ الْخَبَرُ عَيْنَ الْمُبْتَدَأِ لِظُهُورِ حَالِهِمْ أَوْ لِخَفَاءِ أَمْرِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَكَيْفَ جَاءَ خَبَرٌ بَعْدَهُ؟ نَقُولُ: ذَلِكَ الْمَقْصُودُ قَدْ أَفَادَ ذِكْرَ خَبَرٍ آخَرَ لِمَقْصُودٍ آخَرَ، كَمَا أَنَّ وَاحِدًا يَقُولُ: زَيْدٌ لَا يَخْفَى عَلَيْكَ حَالُهُ إِشَارَةً إِلَى كَوْنِهِ مِنَ الْمَشْهُورِينَ ثُمَّ يشرع

[سورة الواقعة (56) : الآيات 15 إلى 16]

فِي حَالٍ يَخْفَى عَلَى السَّامِعِ مَعَ أَنَّهُ قال: لا يخفى، لأن ذلك كالبيان كونه ليس من الغرباء كذلك هاهنا قَالَ: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ لِبَيَانِ عَظَمَتِهِمْ ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ عَدَدِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَوَّلِينَ مَنْ هُمْ؟ نَقُولُ: الْمَشْهُورُ أَنَّهُمْ مَنْ كَانَ قَبْلَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا قَالَ: ثُلَّةٌ وَالثُّلَّةُ الْجَمَاعَةُ الْعَظِيمَةُ، لِأَنَّ مَنْ قَبْلَ نَبِيِّنَا مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ مَنْ كَانَ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِهِمْ إِذَا جُمِعُوا يَكُونُونَ أَكْثَرَ بِكَثِيرٍ مِنَ السَّابِقِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى هَذَا قِيلَ: إِنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ صَعُبَ عَلَيْهِمْ قِلَّتُهُمْ، فَنَزَلَ بعده: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ [الواقعة: 13] ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة: 40] هذا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ عَدَدَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بَلْ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ مَضَى فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ فَمَاذَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ إِنْعَامِ اللَّهِ عَلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَمَا هَذَا إِلَّا خُلْفٌ غَيْرُ جَائِزٍ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا كَالنَّسْخِ فِي الْأَخْبَارِ وَأَنَّهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ ثَالِثُهَا: مَا وَرَدَ بَعْدَهَا لَا يَرْفَعُ هَذَا لِأَنَّ الثُّلَّةَ مِنَ الْأَوَّلِينَ هُنَا فِي السَّابِقِينَ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَهَذَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثُرُوا وَرَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَعَفَا عَنْهُمْ أُمُورًا لَمْ تُعْفَ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَجَعَلَ لِلنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّفَاعَةَ فَكَثُرَ عَدَدُ النَّاجِينَ وَهُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَأْثَمْ وَلَمْ يَرْتَكِبِ الْكَبِيرَةَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمْ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ وَهُمُ السَّابِقُونَ وَرَابِعُهَا: هَذَا تَوَهُّمٌ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَفْرَحُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ دَخَلَ فِيهِمُ الْأَوَّلُ مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ، وَلَا نَبِيَّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا جَعَلَ قَلِيلًا مِنْ أُمَّتِهِ مَعَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، يَكُونُ ذَلِكَ إِنْعَامًا فِي حَقِّهِمْ وَلَعَلَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عُلَمَاءُ أُمَّتِي كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ» الْوَجْهُ الثَّانِي: المراد منه: السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [التَّوْبَةِ: 100] فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَهُمُ الدَّرَجَةُ الْعُلْيَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ [الْحَدِيدِ: 10] الْآيَةَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ، وعلى هذا فقوله: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً [الواقعة: 7] يَكُونُ خِطَابًا مَعَ الْمَوْجُودِينَ وَقْتَ التَّنْزِيلِ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ بَيَانُ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْخِطَابَ لَا يَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالْمَوْجُودِينَ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُهُمْ بِالدَّلِيلِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِأَنْفُسِهِمْ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فيهم: وأتبعتهم ذرياتهم [الطور: 21] فَالْمُؤْمِنُونَ وَذُرِّيَّاتُهُمْ إِنْ كَانُوا مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَهُمْ فِي الْكَثْرَةِ سَوَاءٌ، لِأَنَّ كُلَّ صَبِيٍّ مَاتَ وَأَحَدُ أَبَوَيْهِ مُؤْمِنٌ فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَأَمَّا إِنْ كَانُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ، فَقَلَّمَا يُدْرِكُ وَلَدُهُمْ دَرَجَةَ السَّابِقِينَ وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ وَلَدُ الْمُؤْمِنِ أَحْسَنَ حَالًا مِنَ الْأَبِ لِتَقْصِيرٍ فِي أَبِيهِ وَمَعْصِيَةٍ لَمْ تُوجَدْ فِي الِابْنِ الصَّغِيرِ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: الْآخِرِينَ الْمُرَادُ منه الآخرون التابعون من الصغار. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 15 الى 16] عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) وَالْمَوْضُونَةُ هِيَ الْمَنْسُوجَةُ الْقَوِيَّةُ اللُّحْمَةِ وَالسَّدَى، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلدِّرْعِ الْمَنْسُوجَةِ: مَوْضُونَةٌ وَالْوَضِينُ هُوَ الْحَبْلُ الْعَرِيضُ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ الْحَزْمُ لِقُوَّةِ سُدَاهُ وَلُحْمَتِهِ، وَالسُّرُرُ الَّتِي تَكُونُ لِلْمُلُوكِ يَكُونُ لَهَا قَوَائِمُ مِنْ شَيْءٍ صُلْبٍ وَيَكُونُ مَجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا مَعْمُولًا بِحَرِيرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَنْعَمُ مِنَ الْخَشَبِ وَمَا يُشْبِهُهُ فِي الصَّلَابَةِ وَهَذِهِ السُّرُرُ قَوَائِمُهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ، وَأَرْضُهَا مِنَ الذَّهَبِ الْمَمْدُودِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مُتَّكِئِينَ عَلَيْها لِلتَّأْكِيدِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَائِنُونَ عَلَى سُرُرٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ، فَفَائِدَةُ التَّأْكِيدِ هُوَ أَنْ لَا يُظَنَّ أَنَّهُمْ كَائِنُونَ عَلَى سُرُرٍ مُتَّكِئِينَ عَلَى

[سورة الواقعة (56) : آية 17]

غَيْرِهَا كَمَا يَكُونُ حَالُ مَنْ يَكُونُ عَلَى كُرْسِيٍّ صَغِيرٍ لَا يَسَعُهُ لِلِاتِّكَاءِ فَيُوضَعُ تَحْتَهُ شَيْءٌ آخَرُ لِلِاتِّكَاءِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَالَ: عَلَى سُرُرٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ اسْتِقْرَارَهُمْ وَاتِّكَاءَهُمْ جَمِيعًا عَلَى سُرُرٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مُتَقابِلِينَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَدْبِرُ أَحَدًا وَثَانِيهِمَا: أَنَّ أَحَدًا مِنَ السَّابِقِينَ لَا يَرَى غَيْرَهُ فَوْقَهُ، وَهَذَا أَقْرَبُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مُتَقابِلِينَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُقَالَ: مُتَقَابِلِينَ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُقَابِلُ أَحَدًا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَلَا يُفْهَمُ هَذَا إِلَّا فِيمَا لَا يَكُونُ فِيهِ اخْتِلَافُ جِهَاتٍ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُمْ أَرْوَاحٌ لَيْسَ لَهُمْ أَدْبَارٌ وَظُهُورٌ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ السَّابِقِينَ هُمُ الَّذِينَ أَجْسَامُهُمْ أَرْوَاحٌ نُورَانِيَّةٌ جَمِيعُ جِهَاتِهِمْ وَجْهٌ كَالنُّورِ الَّذِي يُقَابِلُ كُلَّ شَيْءٍ وَلَا يَسْتَدْبِرُ أَحَدًا، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى أَوْصَافِ الْمَكَانِيَّاتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: [سورة الواقعة (56) : آية 17] يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) وَالْوِلْدَانُ جَمْعُ الْوَلِيدِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَهُوَ الْمَوْلُودُ لَكِنْ غَلَبَ عَلَى الصِّغَارِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِمْ مَوْلُودِينَ، وَالدَّلِيلُ أَنَّهُمْ قَالُوا لِلْجَارِيَةِ الصَّغِيرَةِ وَلِيدَةٌ، وَلَوْ نَظَرُوا إِلَى الْأَصْلِ لَجَرَّدُوهَا عَنِ الْهَاءِ كَالْقَتِيلِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي الْوِلْدَانِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْأَصْلِ وَهُمْ صِغَارُ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ صِغَارَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُ يُلْحِقُهُمْ بِآبَائِهِمْ، وَمِنَ النَّاسِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْدِمَ وَلَدُ الْمُؤْمِنِ مُؤْمِنًا غَيْرَهُ، فَيَلْزَمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اخْتِصَاصٌ بِبَعْضِ الصَّالِحِينَ وَأَنْ لَا يَكُونَ لِمَنْ لَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ مَنْ يَطُوفُ عَلَيْهِ مِنَ الْوِلْدَانِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الْآخَرِ يَخْدِمُ غَيْرَ أَبِيهِ وَفِيهِ مَنْقَصَةٌ بِالْأَبِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قِيلَ: هُمْ صِغَارُ الْكُفَّارِ وَهُوَ أَقْرَبُ مِنَ الْأَوَّلِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَفْسَدَةِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الَّذِي لَمْ يُلْحَظْ فِيهِ الْأَصْلُ وَهُوَ إِرَادَةُ الصِّغَارِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِمْ مَوْلُودِينَ وَهُوَ حِينَئِذٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ [الطُّورِ: 24] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مُخَلَّدُونَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْخُلُودِ وَالدَّوَامِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَظْهَرُ/ وَجْهَانِ آخَرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ وَلَا مَوْتَ لَهُمْ وَلَا فَنَاءَ وَثَانِيهِمَا: لَا يَتَغَيَّرُونَ عَنْ حَالِهِمْ وَيَبْقَوْنَ صِغَارًا دَائِمًا لَا يَكْبَرُونَ وَلَا يَلْتَحُونَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْخَلَدَةِ وَهُوَ الْقُرْطُ بِمَعْنَى فِي آذانهم حلق، والأول أظهر وأليق. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : آية 18] بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) أَوَانِي الْخَمْرِ تَكُونُ فِي الْمَجَالِسِ، وَفِي الْكُوبِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَقْدَاحِ وَهُوَ قَدَحٌ كَبِيرٌ ثانيهما: مِنْ جِنْسِ الْكِيزَانِ وَلَا عُرْوَةَ لَهُ وَلَا خُرْطُومَ وَالْإِبْرِيقُ لَهُ عُرْوَةٌ وَخُرْطُومٌ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَكْوَابِ وَالْأَبَارِيقِ وَالْكَأْسِ حَيْثُ ذَكَرَ الْأَكْوَابَ وَالْأَبَارِيقَ بِلَفْظِ الْجَمِيعِ وَالْكَأْسَ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَقُلْ: وَكُئُوسٍ؟ نَقُولُ: هُوَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الشُّرْبِ يَكُونُ عِنْدَهُمْ أَوَانٍ كَثِيرَةٌ فِيهَا الْخَمْرُ مُعَدَّةٌ مَوْضُوعَةٌ عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا الْكَأْسُ فَهُوَ الْقَدَحُ الَّذِي يُشْرَبُ بِهِ الْخَمْرُ إِذَا كَانَ فِيهِ الْخَمْرُ وَلَا يَشْرَبُ وَاحِدٌ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ إِلَّا مِنْ كَأْسٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا أَوَانِي الْخَمْرِ الْمَمْلُوءَةُ مِنْهَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فَتُوجَدُ كَثِيرًا، فَإِنْ قِيلَ: الطَّوَافُ بِالْكَأْسِ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَأَمَّا الطَّوَافُ بِالْأَكْوَابِ وَالْأَبَارِيقِ فَغَيْرُ مُعْتَادٍ فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ: عَدَمُ الطَّوَافِ بِهَا فِي الدُّنْيَا لِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ عَنِ الطَّائِفِ لِثِقَلِهَا وَإِلَّا فَهِيَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ عِنْدَ الْفَرَاغِ يرجع إلى الموضع الذي هي فِيهِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَالْآنِيَةُ تَدُورُ بِنَفْسِهَا وَالْوَلِيدُ مَعَهَا إِكْرَامًا لَا لِلْحَمْلِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخر من

[سورة الواقعة (56) : آية 19]

حَيْثُ اللُّغَةُ وَهُوَ أَنَّ الْكَأْسَ إِنَاءٌ فِيهِ شَرَابٌ فَيَدْخُلُ فِي مَفْهُومِهِ الْمَشْرُوبُ، وَالْإِبْرِيقُ آنِيَةٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْإِبْرِيقِ عَلَيْهَا أَنْ يَكُونَ فِيهَا شَرَابٌ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ الْإِنَاءُ الْمَمْلُوءُ الِاعْتِبَارُ لِمَا فِيهِ لَا لِلْإِنَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاعْتِبَارُ الْكَأْسِ بِمَا فِيهِ لَكِنْ فِيهِ مَشْرُوبٌ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ، وَالْجِنْسُ لَا يُجْمَعُ إِلَّا عِنْدَ تَنَوُّعِهِ فَلَا يُقَالُ لِلْأَرْغِفَةِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ: أخباز، وإنما يقال: أخباز عند ما يَكُونُ بَعْضُهَا أَسْوَدَ وَبَعْضُهَا أَبْيَضَ وَكَذَلِكَ اللُّحُومُ يُقَالُ عِنْدَ تَنَوُّعِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي مِنْهَا اللُّحُومُ وَلَا يُقَالُ لِلْقِطْعَتَيْنِ مِنَ اللَّحْمِ لَحْمَانِ، وَأَمَّا الْأَشْيَاءُ الْمُصَنَّفَةُ فَتُجْمَعُ، فَالْأَقْدَاحُ وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَكِنَّهَا لَمَّا مُلِئَتْ خَمْرًا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ لَهَا: خُمُورٌ فَلَمْ يَقُلْ: كُئُوسٌ وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لِلظُّرُوفِ، لِأَنَّ الْكَأْسَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا شَرَابٌ مِنْ جنس واحد لا بجمع وَاحِدٌ فَيُتْرَكُ الْجَمْعُ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْمَظْرُوفِ بِخِلَافِ الْإِبْرِيقِ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ الْإِنَاءُ فَحَسْبُ، وَعَلَى هَذَا يَتَبَيَّنُ بَلَاغَةُ الْقُرْآنِ حَيْثُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ لَفْظُ الْكُئُوسِ إِذْ كَانَ مَا فِيهَا نَوْعٌ وَاحِدٌ مِنَ الْخَمْرِ، وَهَذَا بَحْثٌ عَزِيزٌ فِي اللُّغَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَأْخِيرِ الْكَأْسِ تَرْتِيبٌ حَسَنٌ، فَكَذَلِكَ فِي تَقْدِيمِ الْأَكْوَابِ إِذَا كَانَ الْكُوبُ مِنْهُ يُصَبُّ الشَّرَابُ فِي الْإِبْرِيقِ وَمِنَ الْإِبْرِيقِ الْكَأْسُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ مَعِينٍ بَيَانُ مَا فِي الْكَأْسِ أَوْ بَيَانُ مَا فِي الْأَكْوَابِ وَالْأَبَارِيقِ، نَقُولُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ مِنْ مَعِينٍ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ بِالْوَضْعِ، وَالثَّانِي لَيْسَ كَذَلِكَ، فَلَمَّا قَالَ: وَكَأْسٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَمَشْرُوبٍ، وَكَأَنَّ السَّامِعَ مُحْتَاجًا إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَشْرُوبِ، وَأَمَّا الْإِبْرِيقُ فَدَلَالَتُهُ عَلَى الْمَشْرُوبِ لَيْسَ بِالْوَضْعِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ كَوْنَ الْكُلِّ مَلْآنًا هُوَ الْحَقُّ، وَلِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْفَارِغِ لَا يَلِيقُ فَكَانَ الظَّاهِرُ بَيَانَ مَا فِي الْكُلِّ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِ الْأَوَانِي ذَكَرَ جِنْسَهَا لَا نَوْعَ مَا فِيهَا فَقَالَ تَعَالَى: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ [الْإِنْسَانِ: 15] الْآيَةَ، وَعِنْدَ ذِكْرِ الْكَأْسِ بَيَّنَ مَا فِيهَا فَقَالَ: وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الطَّوَافَ بِالْأَبَارِيقِ، وَإِنْ كَانَتْ فَارِغَةً لِلزِّينَةِ وَالتَّجَمُّلِ وَفِي الْآخِرَةِ تَكُونُ لِلْإِكْرَامِ وَالتَّنَعُّمِ لَا غَيْرُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا مَعْنَى الْمَعِينِ؟ قُلْنَا: ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ أَنَّهُ فَعِيلٌ أَوْ مَفْعُولٌ وَمَضَى فِيهِ خِلَافٌ، فَإِنْ قُلْنَا: فَعِيلٌ فَهُوَ من معن الْمَاءِ إِذَا جَرَى وَإِنْ قُلْنَا: مَفْعُولٌ فَهُوَ مِنْ عَانَهُ إِذَا شَخَّصَهُ بِعَيْنِهِ وَمَيَّزَهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ لِأَنَّ الْمَعْيُونَ يُوهِمُ بِأَنَّهُ مَعْيُوبٌ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: عَانَنِي فُلَانٌ مَعْنَاهُ ضَرَّنِي إِذَا أَصَابَتْنِي عَيْنُهُ، وَلِأَنَّ الْوَصْفَ بِالْمَفْعُولِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَأَمَّا الْجَرَيَانُ فِي الْمَشْرُوبِ فَهُوَ إِنْ كَانَ فِي الْمَاءِ فَهُوَ صِفَةُ مَدْحٍ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ فَهُوَ أَمْرٌ عَجِيبٌ لَا يُوجَدُ فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ [محمد: 15] ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : آية 19] لَا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا يُصَدَّعُونَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَا يُصِيبُهُمْ مِنْهَا صُدَاعٌ يُقَالُ: صَدَّعَنِي فُلَانٌ أَيْ أَوْرَثَنِي الصُّدَاعَ وَالثَّانِي: لَا يُنْزِفُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْفِدُونَهَا مِنَ الصَّدْعِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَصْلَ الصُّدَاعِ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَلَمَ الَّذِي فِي الرَّأْسِ يَكُونُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ بِخِلْطٍ وَرِيحٍ فِي أَغْشِيَةِ الدِّمَاغِ فَيُؤْلِمُهُ فَيَكُونُ الَّذِي بِهِ صداع كأنه يتطرف فِي غِشَاءِ دِمَاغِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ نَفْيَ الصُّدَاعِ فَكَيْفَ يَحْسُنُ عَنْهَا مَعَ أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ فِي السَّبَبِ كَلِمَةُ مِنْ،

[سورة الواقعة (56) : الآيات 20 إلى 21]

فَيُقَالُ: مَرِضَ مِنْ كَذَا وَفِي الْمُفَارَقَةِ يُقَالُ: عن، فيقال: برىء عَنِ الْمَرَضِ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ هُوَ أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي يُثْبِتُ أَمْرًا فِي شَيْءٍ كَأَنَّهُ يَنْفَصِلُ عَنْهُ شَيْءٌ وَيُثْبِتُ فِي مَكَانِهِ فِعْلَهُ، فَهُنَاكَ أَمْرَانِ وَنَظَرَانِ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى الْمَحَلِّ وَرَأَيْتَ فِيهِ شَيْئًا تَقُولُ: هَذَا مِنْ مَاذَا، أَيِ ابْتِدَاءُ وَجُودِهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ فَيَقَعُ نَظَرُكَ عَلَى السَّبَبِ فَتَقُولُ: هَذَا مِنْ هَذَا أَيِ ابْتِدَاءُ وَجُودِهِ مِنْهُ، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى جَانِبِ الْمُسَبِّبِ تَرَى الْأَمْرَ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ كَأَنَّهُ فَارَقَهُ وَالْتَصَقَ بِالْمَحَلِّ، وَلِهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، وَالسَّبَبُ كَأَنَّهُ كَانَ فِيهِ وَانْتَقَلَ عَنْهُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ فَهَهُنَا يَكُونُ الْأَمْرَانِ مِنَ الْأَجْسَامِ وَالْأُمُورِ الَّتِي لَهَا قُرْبٌ وَبُعْدٌ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُرَادُ هاهنا بَيَانُ خَمْرِ الْآخِرَةِ فِي/ نَفْسِهَا وَبَيَانُ مَا عَلَيْهَا، فَالنَّظَرُ وَقَعَ عَلَيْهَا لَا عَلَى الشَّارِبِينَ وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا لِوَصْفٍ مِنْهُمْ لَمَا كَانَ مَدْحًا لَهَا، وَأَمَّا إِذَا قَالَ: هِيَ لَا تُصَدِّعُ لِأَمْرٍ فِيهَا يَكُونُ مَدْحًا لَهَا فَلَمَّا وَقَعَ النَّظَرُ عَلَيْهَا قَالَ عَنْهَا، وَأَمَّا إِذَا كُنْتَ تَصِفُ رَجُلًا بِكَثْرَةِ الشُّرْبِ وَقُوَّتِهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّكَ تَقُولُ: فِي حَقِّهِ هُوَ لَا يُصَدَّعُ مِنْ كَذَا مِنَ الْخَمْرِ، فَإِذَا وَصَفْتَ الْخَمْرَ تَقُولُ هَذِهِ لَا يُصَدَّعُ عَنْهَا أَحَدٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُنْزِفُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الصَّافَّاتِ وَالَّذِي يَحْسُنُ ذِكْرُهُ هُنَا أَنْ نَقُولَ: إِنْ كَانَ معنى لا يُنْزِفُونَ لَا يَسْكَرُونَ، فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ نَقُولَ مَعْنَى: لَا يُصَدَّعُونَ أَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمُ الصُّدَاعُ، وَإِمَّا أَنَّهُمْ لَا يَفْقِدُونَ، فَإِنْ قُلْنَا: بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالتَّرْتِيبُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ لِأَنَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِارْتِقَاءِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا يُصَدَّعُونَ مَعْنَاهُ لَا يُصِيبُهُمُ الصُّدَاعُ لَكِنَّ هَذَا لَا يَنْفِي السُّكْرَ فَقَالَ: بَعْدَهُ وَلَا يُورِثُ السُّكْرَ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَيْسَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ يَقُولُ: وَلَا قَلِيلَةٌ، تَتْمِيمًا لِلْبَيَانِ، وَلَوْ عَكَسْتَ الترتيب لا يكون حسنا، وإن قلنا: لا يُنْزِفُونَ لَا يَفْقِدُونَ فَالتَّرْتِيبُ أَيْضًا كَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَنَا: لَا يُصَدَّعُونَ أَيْ لَا يَفْقِدُونَهُ وَمَعَ كَثْرَتِهِ وَدَوَامِ شُرْبِهِ لَا يَسْكَرُونَ فَإِنَّ عَدَمَ السُّكْرِ لِنَفَادِ الشَّرَابِ لَيْسَ بِعَجَبٍ، لَكِنَّ عَدَمَ سُكْرِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ مُسْتَدِيمُونَ لِلشَّرَابِ عَجِيبٌ وَإِنْ قلنا: لا يُنْزِفُونَ بِمَعْنَى لَا يَنْفَدُ شَرَابُهُمْ كَمَا بَيَّنَّا هُنَاكَ. فَنَقُولُ: أَيْضًا إِنْ كَانَ لَا يُصَدَّعُونَ بِمَعْنَى لَا يُصِيبُهُمْ صُدَاعٌ فَالتَّرْتِيبُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا يُصَدَّعُونَ لَا يَكُونُ بَيَانَ أَمْرٍ عَجِيبٍ إِنْ كَانَ شَرَابُهُمْ قَلِيلًا فَقَالَ: لَا يُصَدَّعُونَ عَنْها مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَفْقِدُونَ الشَّرَابَ وَلَا يَنْزِفُونَ الشَّرَابَ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى لَا يَنْزِفُونَ عَنْهَا فَالتَّرْتِيبُ حَسَنٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَنْزِفُونَ عَنْهَا بِمَعْنَى لَا يَخْرُجُونَ عَمَّا هُمْ فِيهِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مَا أُعْطُوا مِنَ الشَّرَابِ، ثُمَّ إِذَا أَفْنَوْهَا بالشراب يعطون. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 20 الى 21] وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا وَجْهُ الْجَرِّ، وَالْفَاكِهَةُ لَا يَطُوفُ بِهَا الْوِلْدَانُ وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي ذَلِكَ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَاكِهَةَ وَاللَّحْمَ فِي الدُّنْيَا يُطْلَبَانِ فِي حَالَتَيْنِ أَحَدُهُمَا: حَالَةُ الشُّرْبِ وَالْأُخْرَى حَالُ عَدَمِهِ، فَالْفَاكِهَةُ مِنْ رُءُوسِ الْأَشْجَارِ تُؤْخَذُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُطُوفُها دانِيَةٌ [الْحَاقَّةِ: 23] وَقَالَ: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ [الرَّحْمَنِ: 54] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا حَالَةُ الشَّرَابِ فَجَازَ أَنْ يَطُوفَ بِهَا الْوِلْدَانُ، فَيُنَاوِلُوهُمُ الْفَوَاكِهَ الْغَرِيبَةَ وَاللُّحُومَ الْعَجِيبَةَ لَا لِلْأَكْلِ بَلْ لِلْإِكْرَامِ، كَمَا يَضَعُ الْمُكْرِمُ لِلضَّيْفِ أَنْوَاعَ الْفَوَاكِهِ بِيَدِهِ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ كُلُّ

وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشَارِكًا لِلْآخَرِ فِي الْقُرْبِ مِنْهَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَطْفًا فِي الْمَعْنَى عَلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ، أَيْ هُمُ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتٍ وَفَاكِهَةٍ، وَلَحْمٍ وَحُورٍ، أَيْ فِي هَذِهِ النِّعَمِ يَتَقَلَّبُونَ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ عَطْفٌ فِي اللَّفْظِ لِلْمُجَاوَرَةِ لَا فِي الْمَعْنَى، وَكَيْفَ لَا يَجُوزُ هَذَا، وَقَدْ جَازَ تَقَلَّدَ سَيْفًا وَرُمْحًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَلْ فِي تَخْصِيصِ التَّخْيِيرِ بِالْفَاكِهَةِ وَالِاشْتِهَاءِ بِاللَّحْمِ بَلَاغَةٌ؟ قُلْتُ: وَكَيْفَ لَا وَفِي كُلِّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْقُرْآنِ بَلَاغَةٌ وَفَصَاحَةٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحِيطُ بِهَا ذِهْنِيَ الْكَلِيلُ، وَلَا يَصِلُ إِلَيْهَا عِلْمِيَ الْقَلِيلُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِيهِ أَنَّ اللَّحْمَ وَالْفَاكِهَةَ إِذَا حَضَرَا عِنْدَ الْجَائِعِ تَمِيلُ نَفْسُهُ إِلَى اللَّحْمِ، وَإِذَا حَضَرَا عِنْدَ الشَّبْعَانِ تَمِيلُ إِلَى الْفَاكِهَةِ، وَالْجَائِعُ مُشْتَهٍ وَالشَّبْعَانُ غَيْرُ مُشْتَهٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُخْتَارٌ إِنْ أَرَادَ أَكَلَ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ لَا يَأْكُلُ، وَلَا يُقَالُ فِي الْجَائِعِ إِنْ أَرَادَ أَكَلَ لِأَنَّ إِنْ لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى الْمَشْكُوكِ، إِذَا عُلِمَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي الدُّنْيَا اللَّحْمَ عِنْدَ الْمُشْتَهِي مُخْتَارٌ وَالْفَاكِهَةَ عِنْدَ غَيْرِ الْمُشْتَهِي مُخْتَارَةٌ وَحِكَايَةُ الْجَنَّةِ عَلَى مَا يُفْهَمُ في الدنيا فحص اللَّحْمُ بِالِاشْتِهَاءِ وَالْفَاكِهَةُ بِالِاخْتِيَارِ، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ أَنَّ الِاخْتِيَارَ هُوَ أَخْذُ الْخَيْرِ مِنْ أَمْرَيْنِ وَالْأَمْرَانِ اللَّذَانِ يَقَعُ فِيهِمَا الِاخْتِيَارُ في الظاهر لا يكون للمختار أو لا مَيْلٌ إِلَى أَحَدِهِمَا، ثُمَّ يَتَفَكَّرُ وَيَتَرَوَّى، وَيَأْخُذُ مَا يُغَلِّبُهُ نَظَرُهُ عَلَى الْآخَرِ فَالتَّفَكُّهُ هُوَ مَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ، وَأَمَّا إِنِ اشْتَهَى وَاحِدٌ فَاكِهَةً بِعَيْنِهَا فَاسْتَحْضَرَهَا وَأَكَلَهَا فَهُوَ لَيْسَ بِمُتَفَكِّهٍ وَإِنَّمَا هُوَ دَافِعُ حَاجَةٍ، وَأَمَّا فَوَاكِهُ الْجَنَّةِ تَكُونُ أَوَّلًا عِنْدَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ مَيْلٍ مِنْهُمْ إِلَيْهَا ثُمَّ يَتَفَكَّهُونَ بِهَا عَلَى حَسَبِ اخْتِيَارِهِمْ، وَأَمَّا اللَّحْمُ فَتَمِيلُ أَنْفُسُهُمْ إِلَيْهِ أَدْنَى مَيْلٍ فَيَحْضُرُ عِنْدَهُمْ، وَمَيْلُ النَّفْسِ إِلَى الْمَأْكُولِ شَهْوَةٌ، وَيَدُلُّ عَلَى هذا قوله تعالى: قُطُوفُها دانِيَةٌ [الحاقة: 23] وقوله: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ [الرحمن: 54] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة: 32، 33] فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا دَائِمَةُ الْحُضُورِ، وَأَمَّا اللَّحْمُ فَالْمَرْوِيُّ أَنَّ الطَّائِرَ يَطِيرُ فَتَمِيلُ نَفْسُ الْمُؤْمِنِ إِلَى لَحْمِهِ فَيَنْزِلُ مَشْوِيًّا وَمَقْلِيًّا عَلَى حَسَبِ مَا يَشْتَهِيهِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفَاكِهَةَ تَحْضُرُ عِنْدَهُمْ فَيَتَخَيَّرُ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ الْحُضُورِ وَاللَّحْمُ يَطْلُبُهُ الْمُؤْمِنُ وَتَمِيلُ نَفْسُهُ إِلَيْهِ أَدْنَى مَيْلٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفَاكِهَةَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ بِحُضُورِهَا، وَاللَّحْمُ لَا تَلَذُّ الْأَعْيُنُ بِحُضُورِهِ، ثُمَّ إِنَّ فِي اللَّفْظِ لَطِيفَةً، وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَمْ يَقُلْ: مِمَّا يَخْتَارُونَ مَعَ قُرْبِ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ التَّخَيُّرَ مِنْ بَابِ التَّكَلُّفِ فَكَأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مَا يَكُونُ فِي نِهَايَةِ الْكَمَالِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ إِلَّا مِمَّنْ لَا يَكُونُ لَهُ حَاجَةٌ وَلَا اضْطِرَارٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيمِ الْفَاكِهَةِ عَلَى اللَّحْمِ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: الْعَادَةُ فِي الدُّنْيَا التَّقْدِيمُ لِلْفَوَاكِهِ فِي الْأَكْلِ وَالْجَنَّةُ وُضِعَتْ بِمَا عُلِمَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَوْصَافِ وَعَلَى مَا عُلِمَ فِيهَا، وَلَا سِيَّمَا عَادَةُ أَهْلِ الشُّرْبِ وَكَأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ حَالِ شُرْبِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَثَانِيهَا: الْحِكْمَةُ فِي الدُّنْيَا تَقْتَضِي أَكْلَ الْفَاكِهَةِ أَوَّلًا لِأَنَّهَا أَلْطَفُ وَأَسْرَعُ انْحِدَارًا وَأَقَلُّ حَاجَةً إِلَى الْمُكْثِ الطَّوِيلِ فِي الْمَعِدَةِ لِلْهَضْمِ، وَلِأَنَّ الْفَاكِهَةَ تُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ لِلْأَكْلِ وَاللَّحْمُ يَدْفَعُهَا وَثَالِثُهَا: يَخْرُجُ مِمَّا ذَكَرْنَا جَوَابًا خَلَا عَنْ لَفْظِ التَّخْيِيرِ وَالِاشْتِهَاءِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْفَاكِهَةَ دَائِمَةُ الْحُضُورِ وَالْوُجُودِ، وَاللَّحْمَ يُشْتَهَى وَيَحْضُرُ عِنْدَ الِاشْتِهَاءِ دَلَّ هَذَا عَلَى عَدَمِ الْجُوعِ لِأَنَّ الْجَائِعَ حَاجَتُهُ إِلَى اللَّحْمِ أَكْثَرُ مِنَ اخْتِيَارِهِ اللَّحْمَ فَقَالَ: وَفاكِهَةٍ لِأَنَّ الْحَالَ فِي الْجَنَّةِ يُشْبِهُ حَالَ الشَّبْعَانِ فِي الدُّنْيَا فَيَمِيلُ إِلَى الْفَاكِهَةِ أَكْثَرَ فَقَدَّمَهَا، وَهَذَا الْوَجْهُ أَصَحُّ لِأَنَّ مِنَ الْفَوَاكِهِ مَا لَا يُؤْكَلُ إِلَّا بَعْدَ الطَّعَامِ، فلا يصح الأول جوابا في الكل/. ثم قال تعالى:

[سورة الواقعة (56) : الآيات 22 إلى 23]

[سورة الواقعة (56) : الآيات 22 الى 23] وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) وَفِيهَا قِرَاءَاتٌ الْأُولَى: الرَّفْعُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى وِلْدَانٌ، فَإِنْ قِيلَ قَالَ قَبْلَهُ: حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ [الرَّحْمَنِ: 72] إِشَارَةً إِلَى كَوْنِهَا مُخَدَّرَةً وَمَسْتُورَةً، فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُكَ: إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى وِلْدَانٌ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنْ نَقُولَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَيْهِمْ فِي اللَّفْظِ لَا فِي الْمَعْنَى، أَوْ فِي الْمَعْنَى عَلَى التَّقْدِيرِ وَالْمَفْهُومِ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ [الواقعة: 17] مَعْنَاهُ لَهُمْ وِلْدَانٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ [الطور: 24] فَيَكُونُ: وَحُورٌ عِينٌ بِمَعْنَى وَلَهُمْ حُورٌ عِينٌ وَثَانِيهِمَا: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَتِ الْحُورُ مُنْحَصِرَاتٍ فِي جِنْسٍ، بَلْ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: حُورٌ مَقْصُوراتٌ في حظائر معظمات ولهن جواري وخوادم، وَحُورٌ تَطُوفُ مَعَ الْوِلْدَانِ السُّقَاةِ فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ وَنِسَاءٌ الثَّانِيَةُ: الْجَرُّ عَطْفًا عَلَى أَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُطَافُ بِهِنَّ عَلَيْهِمْ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ سَبَقَ عِنْدَ قوله: وَلَحْمِ طَيْرٍ [الواقعة: 21] أو عطفا على: جَنَّاتِ [الواقعة: 12] أَيْ: أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَحُورٌ. وَقُرِئَ حُورًا عِينًا بِالنَّصْبِ، وَلَعَلَّ الْحَاصِلَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى غَيْرِ الْعَطْفِ بِمَعْنَى الْعَطْفِ لَكِنَّ هَذَا الْقَارِئَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَقْدِيرِ نَاصِبٍ فَيَقُولُ: يُؤْتَوْنَ حُورًا فَيُقَالُ: قَدْ رَافِعًا فَقَالَ: وَلَهُمْ حُورٌ عِينٌ فَلَا يَلْزَمُ الْخُرُوجُ عَنْ مُوَافَقَةِ الْعَاطِفِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ فِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ، وَالْمِثْلُ حَقِيقَةٌ فِيهِ، فَلَوْ قَالَ: أَمْثَالُ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ لَمْ يَكُنْ إِلَى الْكَافِ حَاجَةٌ، فَمَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ كَلِمَتَيِ التَّشْبِيهِ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ الْمَشْهُورُ أَنَّ كَلِمَتَيِ التَّشْبِيهِ يُفِيدَانِ التَّأْكِيدَ وَالزِّيَادَةَ فِي التَّشْبِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَا يُفِيدَانِ مَا يُفِيدُ أَحَدُهُمَا لِأَنَّكَ إِنْ قُلْتَ مَثَلًا: هُوَ كَاللُّؤْلُؤَةِ لِلْمُشَبَّهِ، دُونَ الْمُشَبَّهِ بِهِ فِي الْأَمْرِ الَّذِي لِأَجْلِهِ التَّشْبِيهُ؟ نَقُولُ: التَّحْقِيقُ فِيهِ، هُوَ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ لَهُ مَثَلٌ فَهُوَ مِثْلُهُ، فَإِذَا قُلْتَ هُوَ مِثْلُ الْقَمَرِ لَا يَكُونُ فِي الْمُبَالَغَةِ مِثْلَ قَوْلِكَ هُوَ قَمَرٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا: هُوَ كَالْأَسَدِ، وَهُوَ أَسَدٌ، فَإِذَا قُلْتَ: كَمِثْلِ اللُّؤْلُؤِ كَأَنَّكَ قُلْتَ: مِثْلُ اللُّؤْلُؤِ وَقَوْلُكَ: هُوَ اللُّؤْلُؤُ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: هُوَ كَاللُّؤْلُؤِ، وَهَذَا الْبَحْثُ يُفِيدُنَا هاهنا، وَلَا يُفِيدُنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: 11] لِأَنَّ النَّفْيَ فِي مُقَابَلَةِ الْإِثْبَاتِ، وَلَا يُفْهَمُ مَعْنَى النَّفْيِ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَمْ يُفْهَمْ مَعْنَى الْإِثْبَاتِ الَّذِي يُقَابِلُهُ، فَنَقُولُ قَوْلُهُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَنَفَى مَا أَثْبَتَهُ لَكِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: كَمِثْلِهِ شَيْءٌ إِذَا لَمْ نَقُلْ بِزِيَادَةِ الْكَافِ هُوَ أَنَّ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهَذَا كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ مِثْلًا، ثُمَّ إِنَّ لِمِثْلِهِ مِثْلًا، فَإِذَا قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ كَانَ رَدًّا عَلَيْهِ، وَالرَّدُّ عَلَيْهِ صَحِيحٌ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الرَّادَّ عَلَى مَنْ يُثْبِتُ أُمُورًا لَا يَكُونُ نَافِيًا لِكُلِّ مَا أَثْبَتَهُ، فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: زَيْدٌ عَالِمٌ جَيِّدٌ، ثُمَّ قِيلَ رَدًّا عَلَيْهِ: لَيْسَ زَيْدٌ عَالِمًا جَيِّدًا لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ نَافِيًا لِكَوْنِهِ عَالِمًا، فَمَنْ يَقُولُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ بِمَعْنَى لَيْسَ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ نَافِيًا لِمِثْلِهِ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَافِيًا لِمِثْلِ الْمِثْلِ، فَلَا يَكُونُ/ الرَّادُّ أَيْضًا مُوَحِّدًا فَيُخْرِجُ الْكَلَامَ عَنْ إِفَادَةِ التَّوْحِيدِ، فَنَقُولُ: يَكُونُ مُفِيدًا لِلتَّوْحِيدِ لِأَنَّا إِذَا قُلْنَا: لَيْسَ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَكَانَ هُوَ مِثْلَ مِثْلِهِ، وَهُوَ شَيْءٌ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ [الْأَنْعَامِ: 19] فَإِنَّ حَقِيقَةَ الشَّيْءِ هُوَ الْمَوْجُودُ فَيَكُونُ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ مَنْفِيٌّ بِقَوْلِنَا: لَيْسَ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ، فَعُلِمَ أَنَّ الْكَلَامَ لَا

[سورة الواقعة (56) : آية 24]

يَخْرُجُ عَنْ إِفَادَةِ التَّوْحِيدِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ يُفِيدُ فِي الْكَلَامِ مُبَالِغَةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَأَمْثالِ وَأَمَّا عَدَمُ الْحَمْلِ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَهُوَ أَوْجَزُ فَتُجْعَلُ الْكَافُ زَائِدَةً لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّعْطِيلُ، وَهُوَ نَفْيُ الْإِلَهِ، نَقُولُ: فِيهِ فَائِدَةٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَفْيًا مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى وَجْهِ الدَّلِيلِ عَلَى النَّفْيِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَاجِبُ الْوُجُودِ، وَقَدْ وَافَقَنَا مَنْ قَالَ بِالشَّرِيكِ، وَلَا يخالفنا إلا المعطل، وذلك إثباته ظاهرا، وَإِذَا كَانَ هُوَ وَاجِبَ الْوُجُودِ فَلَوْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ، لِأَنَّهُ مَعَ مِثْلِهِ تَعَادَلَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ ذَلِكَ مِثْلَهُ وَقَدْ تَعَدَّدَ فَلَا بُدَّ مِنَ انْضِمَامِ مُمَيِّزٍ إِلَيْهِ بِهِ يَتَمَيَّزُ عَنْ مِثْلِهِ، فَلَوْ كَانَ مُرَكَّبًا فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا لِأَنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ مُمْكِنٌ، فَلَوْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَمَا كَانَ هُوَ هُوَ فَيَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِ الْمِثْلِ لَهُ نَفْيُهُ، فَقَوْلُهُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ إِذَا حَمَلْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ، وَيَكُونُ فِي مُقَابَلَتِهِ قَوْلُ الْكَافِرِ: مِثْلُ مِثْلِهِ شَيْءٌ فَيَكُونُ مُثْبِتًا لِكَوْنِهِ مِثْلَ مِثْلِهِ وَيَكُونُ مِثْلُهُ يَخْرُجُ عَنْ حَقِيقَةِ نَفْسِهِ وَمِنْهُ لَا يَبْقَى وَاجِبَ الْوُجُودِ فَذِكْرُ الْمِثْلَيْنِ لَفْظًا يُفِيدُ التَّوْحِيدَ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى وَجْهِ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْمُشْرِكِ وَلَوْ قُلْنَا: لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ يَكُونُ نَفْيًا مِنْ غَيْرِ إِشَارَةٍ إِلَى دَلِيلٍ، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّا نَقُولُ: فِي نَفْيِ الْمِثْلِ رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِ لَا مِثْلَ لِلَّهِ، ثُمَّ نَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ وَنَقُولُ: لَوْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَكَانَ هُوَ مِثْلًا لِذَلِكَ الْمِثْلِ فَيَكُونُ مُمْكِنًا مُحْتَاجًا فَلَا يَكُونُ إِلَهًا وَلَوْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَمَا كَانَ اللَّهُ إِلَهًا وَاجِبَ الْوُجُودِ، لِأَنَّ عِنْدَ فَرْضِ مِثْلٍ لَهُ يُشَارِكُهُ بِشَيْءٍ وَيُنَافِيهِ بِشَيْءٍ، فَيَلْزَمُ تَرْكُهُ فَلَوْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَخَرَجَ عَنْ حَقِيقَةِ كَوْنِهِ إِلَهًا فَإِثْبَاتُ الشَّرِيكِ يُفْضِي إِلَى نَفْيِ الْإِلَهِ فَقَوْلُهُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ تَوْحِيدٌ بِالدَّلِيلِ وَلَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ تَوْحِيدٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَشَيْءٌ مِنْ هَذَا رَأَيْتُهُ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ فخر الدين الرازي رحمه الله «1» بعد ما فَرَغْتُ مِنْ كِتَابَةِ هَذَا مِمَّا وَافَقَ خَاطِرِي خَاطِرَهُ عَلَى أَنِّي مُعْتَرِفٌ بِأَنِّي أَصَبْتُ مِنْهُ فوائد لا لَا أُحْصِيهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ إِشَارَةٌ إِلَى غَايَةِ صَفَائِهِنَّ أَيِ اللُّؤْلُؤِ الَّذِي لم يغير لونه الشمس والهواء. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : آية 24] جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) وَفِي نَصْبِهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ تَقْدِيرُهُ فَعَلَ بِهِمْ هَذَا لِيَقَعَ جَزَاءً وَلِيُجْزَوْنَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَعَلَى هَذَا فِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنْ نَقُولَ: الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا كُلَّهُ جَزَاءُ عَمَلِكُمْ وَأَمَّا الزِّيَادَةُ/ فَلَا يُدْرِكُهَا أَحَدٌ مِنْكُمْ وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ فَهُوَ جَزَاءٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: تُجْزَوْنَ جَزَاءً، وَقَوْلُهُ: بِما كانُوا قَدْ ذَكَرْنَا فَائِدَتَهُ فِي سُورَةِ الطُّورِ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ في حق المؤمنين: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الواقعة: 24] وَفِي حَقِّ الْكَافِرِينَ: إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التَّحْرِيمِ: 7] إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْعَذَابَ عَيْنُ جَزَاءِ مَا فَعَلُوا فَلَا زِيَادَةَ عَلَيْهِمْ، وَالثَّوَابَ: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 17] فَلَا يُعْطِيهِمُ اللَّهُ عَيْنَ عَمَلِهِمْ، بَلْ يُعْطِيهِمْ بِسَبَبِ عَمَلِهِمْ مَا يُعْطِيهِمْ، وَالْكَافِرُ يُعْطِيهِ عَيْنَ مَا فَعَلَ، فَيَكُونُ فِيهِ مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الْأَنْعَامِ: 160] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أُصُولِيَّةٌ ذَكَرَهَا الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ بَعْضَهَا فَالْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ يُقَالَ: الثَّوَابُ عَلَى اللَّهِ وَاجِبٌ، لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَجُوزُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَجْوِبَةٍ كَثِيرَةٍ، وَأَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَا أَقُولُهُ فِيهِ وَهُوَ مَا ذَكَرُوهُ. ولو صح

_ (1) هذه العبارة تشعر وتؤكد أن الكتاب أو هذه السورة لمؤلف آخر غير فخر الدين الرازي وإنما هذا لأحد تلاميذه أكملها بعد وفاته أو نقص بالأصل وكمله أحد العلماء المتأخرين والله أعلم.

لَمَا كَانَ فِي الْوَعْدِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَائِدَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْلَ إِذَا حَكَمَ بِأَنَّ تَرْكَ الْجَزَاءِ قَبِيحٌ وَعُلِمَ بِالْعَقْلِ أَنَّ الْقَبِيحَ مِنَ اللَّهِ لَا يُوجَدُ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ يُعْطِي هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِأَنَّهَا أَجْزِيَةٌ، وَإِيصَالُ الْجَزَاءِ وَاجِبٌ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: بِمَذْهَبِنَا تَكُونُ الْآيَاتُ مُفِيدَةً مُبَشِّرَةً، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْخَيْرِ عَنْ أَمْرٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ، لَا يُقَالُ: الْجَزَاءُ كَانَ وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ وَأَمَّا الْخَبَرُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَا يَذْكُرُهَا مُبَشِّرًا، لِأَنَّا نَقُولُ: إِذَا وَجَبَ نَفْسُ الْجَزَاءِ فَمَا أَعْطَانَا اللَّهُ تَعَالَى مِنَ النِّعَمِ فِي الدُّنْيَا جَزَاءً فَثَوَابُ الْآخِرَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا تَفَضُّلًا مِنْهُ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَّلَ النِّعْمَةَ بِقَوْلِهِ: هَذَا جَزَاؤُكُمْ، أَيْ جَعَلْتُهُ لَكُمْ جَزَاءً، وَلَمْ يَكُنْ مُتَعَيِّنًا وَلَا وَاجِبًا، كَمَا أَنَّ الْكَرِيمَ إِذَا أَعْطَى مَنْ جَاءَ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ شَيْئًا كَثِيرًا، فَيَظُنُّ أَنَّهُ يُودِعُهُ إِيدَاعًا أَوْ يَأْمُرُهُ بِحَمْلِهِ إِلَى مَوْضِعٍ، فَيَقُولُ لَهُ: هَذَا لَكَ فَيَفْرَحُ، ثُمَّ إِنَّهُ يَقُولُ: هَذَا إِنْعَامٌ عَظِيمٌ يُوجِبُ عَلَيَّ خِدْمَةً كَثِيرَةً، فَيَقُولُ لَهُ هَذَا جَزَاءُ مَا أَتَيْتَ بِهِ، وَلَا أَطْلُبُ مِنْكَ عَلَى هَذَا خِدْمَةً، فَإِنْ أَتَيْتَ بِخِدْمَةٍ فَلَهَا ثَوَابٌ جَدِيدٌ، فَيَكُونُ هَذَا غَايَةَ الْفَضْلِ، وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ: هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْآتِي غَيْرَ الْعَبْدِ، وَأَمَّا إِذَا فَعَلَ الْعَبْدُ مَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ سَيِّدُهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أَجْرًا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا أَتَى بِمَا أَمَرَ بِهِ عَلَى نَوْعِ اخْتِلَالٍ، فَمَا ظَنُّكَ بِحَالِنَا مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَعَ أَنَّ السَّيِّدَ لَا يَمْلِكُ مِنْ عَبْدِهِ إِلَّا الْبِنْيَةَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَمْلِكُ مِنَّا أَنْفُسَنَا وَأَجْسَامَنَا، ثُمَّ إِنَّكَ إِذَا تَفَكَّرْتَ فِي مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ تَجِدُهُمْ قَدْ حَقَّقُوا مَعْنَى الْعُبُودِيَّةِ غَايَةَ التَّحْقِيقِ، وَاعْتَرَفُوا أَنَّهُمْ عَبِيدٌ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَجِبُ لِلْعَبْدِ عَلَى السَّيِّدِ دَيْنٌ، وَالْمُعْتَزِلَةُ لَمْ يُحَقِّقُوا الْعُبُودِيَّةَ، وَجَعَلُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ مُعَامَلَةً تُوجِبُ مُطَالَبَةً، ونرجو أن يحقق الله تعالى معناه الْمَالِكِيَّةَ غَايَةَ التَّحْقِيقِ، وَيَدْفَعَ حَاجَاتِنَا الْأَصْلِيَّةَ وَيُطَهِّرَ أَعْمَالَنَا، كَمَا أَنَّ السَّيِّدَ يَدْفَعُ حَاجَةَ عَبْدِهِ بِإِطْعَامِهِ وَكُسْوَتِهِ، وَيُطَهِّرُ صَوْمَهُ بِزَكَاةِ فِطْرِهِ، وَإِذَا جَنَى جِنَايَةً لَمْ يُمَكِّنِ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ مِنْهُ، بَلْ يَخْتَارُ فِدَاءَهُ وَيُخَلِّصُ رَقَبَتَهُ مِنَ الْجِنَايَةِ، كَذَلِكَ يَدْفَعُ اللَّهُ حَاجَاتِنَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَهَمُّ الْحَاجَاتِ أَنْ يَرْحَمَنَا وَيَعْفُوَ عَنَّا، وَيَتَغَمَّدَنَا/ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرِّضْوَانِ، حَيْثُ مَنَعَ غَيْرَهُ عَنْ تَمَلُّكِ رِقَابِنَا بِاخْتِيَارِ الْفِدَاءِ عَنَّا، وَأَرْجُو أَنْ لَا يَفْعَلَ مَعَ إِخْوَانِنَا الْمُعْتَزِلَةِ مَا يَفْعَلُهُ الْمُتَعَامِلَانِ فِي الْمُحَاسَبَةِ بِالنَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ، وَالْمُطَالَبَةِ بِمَا يَفْضُلُ لِأَحَدِهِمَا مِنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا: لَوْ كَانَ فِي الْآخِرَةِ رُؤْيَةٌ لَكَانَتْ جَزَاءً، وَقَدْ حَصَرَ اللَّهُ الْجَزَاءَ فِيمَا ذَكَرَ وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنْ نَقُولَ: لِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَكُونُ جَزَاءً، بَلْ تَكُونُ فَضْلًا مِنْهُ فَوْقَ الْجَزَاءِ، وَهَبْ أَنَّهَا تَكُونُ جَزَاءً، وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ ذِكْرَ الْجَزَاءِ حَصْرٌ وَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَعْطَيْتُكَ كَذَا جَزَاءً عَلَى عَمَلٍ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ: وَأَعْطَيْتُكَ شَيْئًا آخَرَ فَوْقَهُ أَيْضًا جَزَاءً عَلَيْهِ، وَهَبْ أَنَّهُ حَصْرٌ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ الْقُرْبَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الرُّؤْيَةِ، فَإِنْ قِيلَ: قَالَ في حق الملائكة: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء: 172] ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ قُرْبِهِمُ الرُّؤْيَةُ، نَقُولُ: أَجَبْنَا أَنَّ قُرْبَهُمْ مِثْلُ قُرْبِ مَنْ يَكُونُ عِنْدَ الْمَلِكِ لِقَضَاءِ الْأَشْغَالِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ التَّكْلِيفُ وَالْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالْبَابِ تَخْرُجُ أَوَامِرُهُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التَّحْرِيمِ: 6] وَقُرْبُ الْمُؤْمِنِ قُرْبُ الْمُنَعَّمِ مِنَ الْمَلِكِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْمُكَالَمَةِ وَالْمُجَالَسَةِ فِي الدُّنْيَا، لَكِنَّ الْمُقَرَّبَ الْمُكَلَّفَ لَيْسَ كُلَّمَا يَرُوحُ إِلَى بَابِ الْمَلِكِ يَدْخُلُ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْمُنَعَّمُ لَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ إِلَّا وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة: 11] فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الرُّؤْيَةِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ ذَكَرَ الْأَبْرَارَ وَالْفُجَّارَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ الْفُجَّارِ: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: 15] وَقَالَ فِي الْأَبْرَارِ: يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: 28] وَلَمْ يَذْكُرْ فِي مُقَابَلَةِ الْمَحْجُوبُونَ مَا يَدُلُّ عَلَى مُخَالَفَةِ حَالِ الْأَبْرَارِ حَالَ الْفُجَّارِ فِي الْحِجَابِ وَالْقُرْبِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَفِي عِلِّيِّينَ [الْمُطَفِّفِينَ: 18]

[سورة الواقعة (56) : الآيات 25 إلى 26]

وَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى الْقُرْبِ وَعُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ لَكِنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: لَفِي سِجِّينٍ [الْمُطَفِّفِينَ: 7] فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً [الْإِنْسَانِ: 21] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقُرْبُ الَّذِي يَكُونُ لِجُلَسَاءِ الْمَلِكِ عِنْدَ الْمَلِكِ، وَقَوْلُهُ فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ فِي تِلْكَ السُّورَةِ: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: 21] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقُرْبُ الَّذِي يَكُونُ لِلْكِتَابِ وَالْحِسَابِ عِنْدَ الْمَلِكِ لِمَا أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا يَحْسُدُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَإِنَّ الْكَاتِبَ إِنْ كَانَ قُرْبُهُ مِنَ الْمَلِكِ بِسَبَبِ الْخِدْمَةِ لَا يَخْتَارُ قُرْبَ الْكِتَابِ وَالْحِسَابِ، بَلْ قُرْبَ النَّدِيمِ، ثُمَّ إِنَّهُ بَيْنَ ذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الْقُرْبِ وَبَيْنَ الْقُرْبِ الَّذِي بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَخْتَارَ غَيْرَهُ، وَفِي سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ قَوْلُهُ: لَمَحْجُوبُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُقَرَّبِينَ غَيْرُ مَحْجُوبِينَ عَنِ النَّظَرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْظَرَ إِلَى اللَّهِ قَوْلُنَا: جُلَسَاءُ الْمَلِكِ فِي ظَاهِرِ النَّظَرِ الَّذِي يَقْتَضِي فِي نَظَرِ الْقَوْمِ الْجِهَةَ وَإِلَى الْقُرْبِ الَّذِي يَفْهَمُ الْعَامِّيُّ مِنْهُ الْمَكَانَ إِلَّا بنظر العلماء الأخبار الحكماء الأخبار. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالُوا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ عَمَلُهُمْ وَحَاصِلٌ بفعلهم، نقول: لا نزاع في أن العلم فِي الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ وُضِعَ لِلْفِعْلِ وَالْمَجْنُونَ لِلَّذِي لَا عَقْلَ لَهُ وَالْعَاقِلَ لِلَّذِي بَلَغَ الْكَمَالَ فِيهِ، وَذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا بِوَضْعِ اللُّغَةِ لِمَا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَرَى/ الْحَرَكَةَ مِنَ الْجِسْمَيْنِ فَيَقُولُ: تَحَرَّكَ وَسَكَنَ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ، كَمَا يَقُولُ: تَدُورُ الرَّحَا وَيَصْعَدُ الْحَجَرُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْقُدْرَةِ الَّتِي بِهَا الْفِعْلُ فِي الْمَحَلِّ الْمَرْئِيِّ، وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ وَضْعِ اللُّغَةِ. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 25 الى 26] لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَأْخِيرِ ذِكْرِهِ عَنِ الْجَزَاءِ مَعَ أَنَّهُ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ؟ نَقُولُ فِيهِ لَطَائِفُ الْأُولَى: أَنَّ هَذَا مِنْ أَتَمِّ النِّعَمِ، فَجَعَلَهَا مِنْ بَابِ الزِّيَادَةِ الَّتِي مِنْهَا الرُّؤْيَةُ عِنْدَ الْبَعْضِ وَلَا مُقَابِلَ لَهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهَا مِنْ أَتَمِّ النِّعَمِ، لِأَنَّهَا نِعْمَةُ سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا سَنُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: سَلاماً هُوَ مَا قَالَ فِي سُورَةِ يس: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] فَلَمْ يَذْكُرْهَا فِيمَا جَعَلَهُ جَزَاءً، وَهَذَا عَلَى قَوْلِنَا: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة: 11] لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الرُّؤْيَةِ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تعالى بدأ بأتم النعم وهي نعمة الرؤيا، وَهِيَ الرُّؤْيَةُ بِالنَّظَرِ كَمَا مَرَّ وَخَتَمَ بِمِثْلِهَا، وَهِيَ نِعْمَةُ الْمُخَاطَبَةِ الثَّالِثَةُ: هِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ النِّعَمَ الْفِعْلِيَّةَ وَقَابَلَهَا بِأَعْمَالِهِمْ حَيْثُ قال: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الواقعة: 24] ذَكَرَ النِّعَمَ الْقَوْلِيَّةَ فِي مُقَابَلَةِ أَذْكَارِهِمُ الْحَسَنَةِ وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي فِي مُقَابَلَةِ أَعْمَالِ قُلُوبِهِمْ مِنْ إِخْلَاصِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الْقَلْبِيَّ لَمْ يُرَ وَلَمْ يُسْمَعْ، فَمَا يُعْطِيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ النِّعْمَةِ تَكُونُ نِعْمَةً لَمْ تَرَهَا عَيْنٌ وَلَا سَمِعَتْهَا أُذُنٌ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها: «مالا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَلَا خَطَرَ» إِشَارَةٌ إِلَى الزِّيَادَةِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى النِّعْمَةِ الْقَوْلِيَّةِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِمُ الطَّيِّبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا إِلَى قَوْلِهِ: نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فُصِّلَتْ: 30- 32] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً نَفْيٌ لِلْمَكْرُوهِ لِمَا أَنَّ اللَّغْوَ كَلَامٌ غَيْرُ

مُعْتَبَرٍ، لِأَنَّهُ عِنْدَ الْمُعْتَبَرَينَ مِنَ الرِّجَالِ مَكْرُوهٌ، وَنَفْيُ الْمَكْرُوهِ لَا يُعَدُّ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا، كَيْفَ وَقَدْ ذَكَرْتَ أَنَّ تَأْخِيرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ لِكَوْنِهَا أَتَمَّ، وَلَوْ قَالَ: إِنَّ فُلَانًا فِي بَلْدَةِ كَذَا مُحْتَرَمٌ مُكَرَّمٌ لَا يُضْرَبُ وَلَا يُشْتَمُ فَهُوَ غَيْرُ مُكَرَّمٍ وَهُوَ مَذْمُومٌ وَالْوَاغِلُ مَذْمُومٌ وَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُ عَلَى قَوْمٍ يَشْرَبُونَ وَيَأْكُلُونَ فَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَهُمْ مِنْ غَيْرِ دُعَاءٍ وَلَا إِذْنٍ فَكَأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ فِي عَدَمِ الِاعْتِبَارِ كَلَامٌ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَهُوَ اللَّغْوُ، وَكَذَلِكَ مَا يَتَصَرَّفُ مِنْهُ مِثْلُ الْوُلُوغِ لَا يُقَالُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْوَالِغُ كَلْبًا أَوْ مَا يُشْبِهُهُ مِنَ السِّبَاعِ، وَأَمَّا التَّأْثِيمُ فَهُوَ النِّسْبَةُ إِلَى الْإِثْمِ وَمَعْنَاهُ لَا يَذْكُرُ إِلَّا بَاطِلًا وَلَا يَنْسُبُهُ أَحَدٌ إِلَّا إِلَى الْبَاطِلِ، وَأَمَّا التَّقْدِيمُ فَلِأَنَّ اللَّغْوَ أَعَمُّ مِنَ التَّأْثِيمِ أَيْ يَجْعَلُهُ آثِمًا كَمَا تَقُولُ: إِنَّهُ فَاسِقٌ أَوْ سَارِقٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُتَكَلِّمُ يَنْقَسِمُ إِلَى أَنْ يَلْغُوَ وَإِلَى أَنْ لَا يَلْغُوَ وَالَّذِي لَا يَلْغُو يَقْصِدُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَيَأْخُذُ النَّاسَ بِأَقْوَالِهِمْ وَهُوَ لَا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَقَالَ/ تَعَالَى: لَا يَلْغُو أَحَدٌ وَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ لَغْوٌ وَلَا مَا يُشْبِهُ اللَّغْوَ فَيَقُولُ لَهُ: الصَّادِقُ لَا يَلْغُو وَلَا يَأْثَمُ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْبَاطِلَ أَقْبَحُ مَا يُشْبِهُهُ فَقَالَ: لَا يَأْثَمُ أَحَدٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّبَأِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً [النبأ: 35] فَهَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ؟ قُلْنَا: نَعَمْ الْكِذَّابُ كَثِيرُ التَّكْذِيبِ وَمَعْنَاهُ هُنَاكَ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ كَذِبًا وَلَا أَحَدًا يَقُولُ لِآخَرَ: كَذَبْتَ وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ كَذِبًا مِنْ مُعَيَّنٍ مِنَ النَّاسِ وَلَا مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ لِتَفَاوُتِ حَالِهِمْ وَحَالِ الدُّنْيَا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ بِأَعْيَانِهِمْ كَذَّابُونَ فَإِنْ لَمْ نَعْرِفْ ذَلِكَ نَقْطَعْ بِأَنَّ فِي النَّاسِ كَذَّابًا لِأَنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: كَذَبْتَ فَإِنْ صَدَقَ فَصَاحِبُهُ كَذَّابٌ، وَإِنْ لَمْ يَصْدُقْ فَهُوَ كَاذِبٌ فَيَعْلَمُ أَنَّ فِي الدُّنْيَا كَذَّابًا بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَلَا كَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ فَلَا كَذِبَ فِيهَا، وقال هاهنا: وَلا تَأْثِيماً وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ التَّكْذِيبِ فَإِنَّ مَنْ يَقُولُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ: إِنَّهُ زَانٍ أَوْ شَارِبٌ الْخَمْرَ مَثَلًا فَإِنَّهُ يَأْثَمُ وَقَدْ يَكُونُ صَادِقًا، فَالَّذِي لَيْسَ عَنْ عِلْمٍ إِثْمٌ فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ: قُلْتَ ما لا علم لك به فالكلام هاهنا أَبْلَغُ لِأَنَّهُ قَصَرَ السُّورَةَ عَلَى بَيَانِ أَحْوَالِ الْأَقْسَامِ لِأَنَّ الْمَذْكُورِينَ هُنَا هُمُ السَّابِقُونَ وَفِي سُورَةِ النَّبَأِ هُمُ الْمُتَّقُونَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السَّابِقَ فَوْقَ الْمُتَّقِي. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِلَّا قِيلًا استثناء متصل أو مُنْقَطِعٌ، فَنَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ السَّلَامَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ اللَّغْوِ تَقْدِيرُهُ لَكِنْ يَسْمَعُونَ قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ مُتَّصِلٌ وَوَجْهُهُ أَنْ نَقُولَ: الْمَجَازُ قَدْ يَكُونُ فِي الْمَعْنَى، وَمِنْ جُمْلَتِهِ أَنَّكَ تقول: مالي ذنب إلا أُحِبُّكَ، فَلِهَذَا تُؤْذِينِي فَتَسْتَثْنِي مَحَبَّتَهُ مِنَ الذَّنْبِ وَلَا تُرِيدُ الْمُنْقَطِعَ لِأَنَّكَ لَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ بَيَانَ أَنَّكَ تُحِبُّهُ إِنَّمَا تُرِيدُ فِي تَبْرِئَتِكَ عَنِ الذُّنُوبِ وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّ بَيْنَهُمَا غَايَةَ الْخِلَافِ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُتَوَسِّطَةٌ مِثَالُهُ: الْحَارُّ وَالْبَارِدُ وَبَيْنَهُمَا الْفَاتِرُ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْحَارِّ مِنَ الْبَارِدِ وَأَقْرَبُ إِلَى الْبَارِدِ مِنَ الْحَارِّ، وَالْمُتَوَسِّطُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَارِدِ عِنْدَ النِّسْبَةِ إِلَى الْحَارِّ فَيُقَالُ: هَذَا بَارِدٌ وَيُخْبَرُ عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَارِدِ فَيُقَالُ: إِنَّهُ حَارٌّ، إذا ثبت هذا فنقول قول القائل: مالي ذَنْبٌ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّكَ، مَعْنَاهُ لَا تَجِدُ مَا يُقَرِّبُ مِنَ الذَّنْبِ إِلَّا الْمَحَبَّةَ فَإِنَّ عِنْدِي أُمُورًا فَوْقَهَا إِذَا نَسَبْتَهَا إِلَى الذَّنْبِ تَجِدُ بَيْنَهَا غَايَةَ الْخِلَافِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: دَرَجَاتُ الْحُبِّ عِنْدِي طَاعَتُكَ وَفَوْقَهَا إِنَّ أَفْضَلَ جَانِبٍ أَقَلُّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ عَلَى جَانِبِ الْحِفْظِ لِرُوحِي، إِشَارَةً إِلَى الْمُبَالَغَةِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ مُسْتَحْقَرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فَوْقَهُ فَقَوْلُهُ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً أَيْ يَسْمَعُونَ فِيهَا كَلَامًا فَائِقًا عَظِيمَ الْفَائِدَةِ كَامِلَ اللَّذَّةِ أَدْنَاهَا وَأَقْرَبُهَا إِلَى اللَّغْوِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: سَلَامٌ عَلَيْكَ فَلَا يَسْمَعُونَ مَا يَقْرُبُ مِنَ اللَّغْوِ إِلَّا سَلَامًا، فَمَا ظَنُّكَ بالذين يَبْعُدُ مِنْهُ كَمَا يَبْعُدُ الْمَاءُ الْبَارِدُ الصَّادِقُ

وَالْمَاءُ الَّذِي كَسَرَتِ الشَّمْسُ بُرُودَتَهُ وَطُلِبَ مِنْهُ ماء حار ليس عندي ماء جار إِلَّا هَذَا أَيْ لَيْسَ عِنْدِي مَا يَبْعُدُ مِنَ الْبَارِدِ الصَّادِقِ الْبُرُودَةِ وَيَقْرُبُ مِنَ الْحَارِّ إِلَّا هَذَا وَفِيهِ الْمُبَالَغَةُ الْفَائِقَةُ وَالْبَلَاغَةُ الرَّائِقَةُ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ اللَّغْوُ مَجَازًا، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا فَإِنْ قِيلَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ مَجَازٍ وَحُمِلَ اللَّغْوُ عَلَى مَا يَقْرُبُ مِنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ فَلْيُحْمَلْ إِلَّا عَلَى لَكِنْ لِأَنَّهُمَا/ مُشْتَرِكَانِ فِي إِثْبَاتِ خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، نَقُولُ: الْمَجَازُ فِي الْأَسْمَاءِ أَوْلَى مِنَ الْمَجَازِ فِي الْحُرُوفِ لِأَنَّهَا تَقْبَلُ التَّغَيُّرَ فِي الدَّلَالَةِ وَتَتَغَيَّرُ فِي الْأَحْوَالِ، وَلَا كَذَلِكَ الْحُرُوفُ لِأَنَّ الْحُرُوفَ لَا تَصِيرُ مَجَازًا إِلَّا بِالِاقْتِرَانِ بِاسْمٍ وَالِاسْمُ يَصِيرُ مَجَازًا مِنْ غَيْرِ الِاقْتِرَانِ بِحَرْفٍ فَإِنَّكَ تَقُولُ: رَأَيْتُ أَسَدًا يَرْمِي وَيَكُونُ مَجَازًا وَلَا اقْتِرَانَ لَهُ بِحَرْفٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ لِرَجُلٍ: هَذَا أَسَدٌ وَتُرِيدُ بِأَسَدٍ كَامِلَ الشَّجَاعَةِ، وَلِأَنَّ عَرْضَ المتكلم في قوله مالي ذَنْبٌ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّكَ، لَا يَحْصُلُ بِمَا ذَكَرْتَ مِنَ الْمَجَازِ، وَلِأَنَّ الْعُدُولَ عَنِ الْأَصْلِ لَا يَكُونُ لَهُ فَائِدَةٌ مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَالْبَلَاغَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قِيلًا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَصْدَرٌ كَالْقَوْلِ فَيَكُونُ قِيلًا مَصْدَرًا، كَمَا أَنَّ الْقَوْلَ مَصْدَرٌ لَكِنْ لَا يَظْهَرُ لَهُ فِي بَابِ فَعَلَ يَفْعُلُ إِلَّا حَرْفٌ ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ اسْمٌ وَالْقَوْلُ مَصْدَرٌ فَهُوَ كَالسِّدْلِ وَالسِّتْرِ بِكَسْرِ السِّينِ اسْمٌ وَبِفَتْحِهَا مَصْدَرٌ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَعَلَى هَذَا نَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ فِعْلٍ هُوَ: قَالَ وَقِيلَ، لِمَا لَمْ يُذْكَرْ فَاعِلُهُ، وَمَا قِيلَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْقِيلِ وَالْقَالِ، يَكُونُ مَعْنَاهُ نَهَى عَنِ الْمُشَاجَرَةِ، وَحِكَايَةِ أُمُورٍ جَرَتْ بَيْنَ أَقْوَامٍ لَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهَا، وَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا مُجَرَّدُ الْحِكَايَةِ مِنْ غَيْرِ وَعْظٍ وَلَا حِكْمَةٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ اللَّه عَبْدًا قَالَ خَيْرًا فَغَنِمَ، أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ» وَعَلَى هَذَا فَالْقِيلُ اسْمٌ لِقَوْلٍ لَمْ يُعْلَمْ قَائِلُهُ، وَالْقَالُ اسْمٌ لِلْقَوْلِ مَأْخُوذٌ مِنْ قِيلَ لِمَا لَمْ يُذْكَرْ فَاعِلُهُ، تَقُولُ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا، ثُمَّ قِيلَ لَهُ: كَذَا، فَقَالَ: كَذَا، فَيَكُونُ حَاصِلُ كَلَامِهِ قِيلَ وَقَالَ، وَعَلَى هَذَا فَالْقِيلُ اسْمٌ لِقَوْلٍ لَمْ يُعْلَمْ قَائِلُهُ، وَالْقَالُ مَأْخُوذٌ مِنْ قِيلَ هُوَ قَالَ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا بَاطِلٌ لقوله تعالى: وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ [الزُّخْرُفِ: 88] فَإِنَّ الضَّمِيرَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ يَعْلَمُ اللَّه قِيلَ مُحَمَّدٍ: يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ، كَمَا قَالَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ [نُوحٍ: 27] ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ [الزُّخْرُفِ: 89] إِرْشَادٌ لَهُ لِئَلَّا يَدْعُوَ عَلَى قَوْمِهِ عِنْدَ يَأْسِهِ مِنْهُمْ كَمَا دَعَا عَلَيْهِمْ نُوحٌ عِنْدَهُ، وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ مُضَافًا إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَكُونُ الْقِيلُ اسْمًا لِقَوْلٍ لَمْ يُعْلَمْ قَائِلُهُ؟ فَنَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَنَا: إِنَّهُ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ قِيلَ الْمَوْضُوعِ لِقَوْلٍ لَمْ يُعْلَمْ قَائِلُهُ فِي الْأَصْلِ لَا يُنَافِي جَوَازَ اسْتِعْمَالِهِ فِي قَوْلِ مَنْ عُلِمَ بِغَيْرِ الْمَوْضُوعِ وَثَانِيهِمَا: وَهُوَ الْجَوَابُ الدَّقِيقُ أَنْ نَقُولَ: الْهَاءُ فِي: وَقِيلِهِ ضَمِيرٌ كَمَا فِي رَبِّهِ وَكَالضَّمِيرِ الْمَجْهُولِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ قَالَ: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ [الْحَجِّ: 46] وَالْهَاءُ غَيْرُ عَائِدٍ إِلَى مَذْكُورٍ، غَيْرَ أَنَّ الْكُوفِيِّينَ جَعَلُوهُ لِغَيْرِ مَعْلُومٍ وَالْبَصْرِيِّينَ جَعَلُوهُ ضَمِيرَ الْقِصَّةِ، وَالظَّاهِرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ، وَعَلَى هَذَا مَعْنَى عِبَارَتِهِمْ بَلَغَ غَايَةَ عِلْمِ اللَّه تَعَالَى قِيلُ الْقَائِلِ مِنْهُمْ: يَا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِاخْتِصَاصَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ فِي كُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ لِعِلْمِهِ أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِهَذَا وَأَنَّهُمْ عَالِمُونَ، وَأَهْلُ السَّمَاءِ عَلِمُوا بِأَنَّ عِنْدَ اللَّه عِلْمَ السَّاعَةِ يَعْلَمُهَا فَيَعْلَمُ قول من يقول: يَا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ [الزخرف: 88] مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ قَوْلٍ لِاشْتِرَاكِ الْكُلِّ فِيهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الضَّمِيرَ لَوْ كَانَ عَائِدًا إِلَى مَعْلُومٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِلَى مَذْكُورٍ قَبْلَهُ، وَلَا شَيْءَ فِيمَا/ قَبْلَهُ يَصِحُّ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ، وَإِمَّا إِلَى مَعْلُومٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّ الخطاب بقوله: فَاصْفَحِ [الحجر: 85] كَانَ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ، وَقِيلِكَ يَا رَبِّ لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَاطَبُ أَوَّلًا بِكَلَامِ اللَّه، وَقَدْ قَالَ

[سورة الواقعة (56) : الآيات 27 إلى 29]

قبله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ [الزخرف: 87] وَقَالَ مِنْ قَبْلُ: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزُّخْرُفِ: 81] وَكَانَ هُوَ الْمُخَاطَبَ أَوَّلًا، إِذَا تَحَقَّقَ هَذَا؟ نَقُولُ: إِذَا تَفَكَّرْتَ فِي اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْقِيلِ فِي الْقُرْآنِ ترى ما ذكرنا ملحوظا مراعى، فقال هاهنا: إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً لِعَدَمِ اخْتِصَاصِ هَذَا الْقَوْلِ بِقَائِلٍ دُونَ قَائِلٍ فَيَسْمَعُ هَذَا الْقَوْلَ دَائِمًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ [الرعد: 23، 24] وَقَالَ تَعَالَى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] حَيْثُ كَانَ الْمُسَلِّمُ مُنْفَرِدًا، وَهُوَ اللَّه كَأَنَّهُ قَالَ: سَلَامٌ قَوْلًا مِنَّا، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً [فُصِّلَتْ: 33] وَقَالَ: هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 6] لِأَنَّ الدَّاعِيَ مُعَيَّنٌ وَهُمُ الرُّسُلُ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الْأُمَّةِ وَكُلُّ مَنْ قَامَ لَيْلًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: قَوِيمٌ، وَنَهْجَهُ مُسْتَقِيمٌ، وَقَالَ تعالى: وَقِيلِهِ يا رَبِّ [الزخرف: 88] لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَقُولُ: إِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. أَمَّا هُمْ فَلِاعْتِرَافِهِمْ وَلِإِقْرَارِهِمْ وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَلِكُفْرَانِهِمْ بِإِسْرَافِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَّصِلُ يُقَرِّبُ إِلَى الْمَعْنَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلٌ لَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ، فَقَالَ: إِلَّا قِيلًا وَهُوَ سَلَامٌ عَلَيْكَ، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يُعْرَفُ وَهُوَ اللَّه فَهُوَ الْأَبْعَدُ عَنِ اللَّغْوِ غَايَةَ الْبُعْدِ وَبَيْنَهُمَا نِهَايَةُ الْخِلَافِ فَقَالَ: سَلامٌ قَوْلًا [يس: 58] . الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: (سَلَامٌ) ، فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ صِفَةٌ وَصَفَ اللَّه تَعَالَى بِهَا قِيلًا كَمَا يُوصَفُ الشَّيْءُ بِالْمَصْدَرِ حَيْثُ يُقَالُ: رَجُلٌ عَدْلٌ، وَقَوْمٌ صَوْمٌ، وَمَعْنَاهُ إِلَّا قِيلًا سَالِمًا عَنِ الْعُيُوبِ، وَثَانِيهَا: هُوَ مَصْدَرٌ تَقْدِيرُهُ، إِلَّا أَنْ يَقُولُوا سَلَامًا وَثَالِثُهَا: هُوَ بَدَلٌ مِنْ قِيلًا، تَقْدِيرُهُ: إِلَّا سَلَامًا. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: تَكْرِيرُ السَّلَامِ هَلْ فِيهِ فَائِدَةٌ؟ نَقُولُ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَمَامِ النِّعْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَثَرَ السَّلَامِ فِي الدُّنْيَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالتَّسْلِيمِ وَرَدِّ السَّلَامِ، فَكَمَا أَنَّ أَحَدَ الْمُتَلَاقِيَيْنِ فِي الدُّنْيَا يَقُولُ لِلْآخَرِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ، فَيَقُولُ الْآخَرُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، فَكَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ يَقُولُونَ: سَلاماً سَلاماً ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدٌّ لِأَنَّ تَسْلِيمَ اللَّه عَلَى عَبْدِهِ مُؤَمِّنٌ لَهُ، فَأَمَّا اللَّه تَعَالَى فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يُؤَمِّنَهُ أَحَدٌ، بَلِ الرَّدُّ إِنْ كَانَ فَهُوَ قَوْلُ الْمُؤَمَّنِ: سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّه الصَّالِحِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَلاماً سَلاماً بِنَصْبِهِمَا، وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [هود: 69] قُلْنَا: قَدْ ذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ قَوْلَهُ: سَلامٌ عَلَيْكَ أَتَمُّ وَأَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِمْ سَلَامًا عَلَيْكَ فَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَادَ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالذِّكْرِ وَيُجِيبَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا حَيَّوْا، وَأَمَّا هُنَا فَلَا يَتَفَضَّلُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى الْآخَرِ مِثْلَ التَّفَضُّلِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ إِذْ هُمْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَلَا يَنْسُبُ أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ تَقْصِيرًا. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إِذَا كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ: سَلامٌ عَلَيْكَ أَتَمَّ وَأَبْلَغَ فَمَا بَالُ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ/ صَارَتْ بِالنَّصْبِ، وَمَنْ قَرَأَ (سَلَامٌ) لَيْسَ مِثْلَ الَّذِي قَرَأَ بِالنَّصْبِ، نَقُولُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنَ الْمَسْمُوعِ وَهُوَ مَفْعُولٌ مَنْصُوبٌ، فَالنَّصْبُ بِقَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، وَقَوْلُهُمْ: سَلامٌ أَبْعَدُ مِنَ اللَّغْوِ مِنْ قَوْلِهِمْ: سَلاماً فَقَالَ: إِلَّا قِيلًا سَلاماً لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى اللَّغْوِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي نفسه بعيدا عنه. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 29] وَأَصْحابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)

لَمَّا بَيَّنَ حَالَ السَّابِقِينَ شَرَعَ فِي شَأْنِ أَصْحَابِ الْمَيْمَنَةِ مِنَ الْأَزْوَاجِ الثَّلَاثَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهِمْ بِلَفْظِ: أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ [الواقعة: 8] عند ذكر الأقسام، وبلفظ أَصْحابُ الْيَمِينِ عِنْدَ ذِكْرِ الْإِنْعَامِ؟ نَقُولُ: الْمَيْمَنَةُ مَفْعَلَةٌ إِمَّا بِمَعْنَى مَوْضِعِ الْيَمِينِ كَالْمَحْكَمَةِ لِمَوْضِعِ الْحُكْمِ، أَيِ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا الْيَمِينُ وَإِمَّا بِمَعْنَى موضع اليمين كَالْمَنَارَةِ مَوْضِعِ النَّارِ، وَالْمَجْمَرَةِ مَوْضِعِ الْجَمْرِ، فَكَيْفَمَا كَانَ الْمَيْمَنَةُ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى الْمَوْضِعِ، لَكِنَّ الْأَزْوَاجَ الثَّلَاثَةَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يَتَمَيَّزُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَيَتَفَرَّقُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم: 14] وقال: يَصَّدَّعُونَ [الروم: 43] فَيَتَفَرَّقُونَ بِالْمَكَانِ فَأَشَارَ فِي الْأَوَّلِ إِلَيْهِمْ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْمَكَانِ، ثُمَّ عِنْدَ الثَّوَابِ وَقَعَ تَفَرُّقُهُمْ بِأَمْرٍ مُبْهَمٍ لَا يَتَشَارَكُونَ فِيهِ كَالْمَكَانِ، فَقَالَ: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَصْحَابُ الْيَمِينِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ بِأَيْمَانِهِمْ كُتُبَهُمْ ثَانِيهَا: أَصْحَابُ الْقُوَّةِ ثَالِثُهَا: أَصْحَابُ النُّورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي سِدْرٍ وَأَيَّةُ نِعْمَةٍ تَكُونُ فِي كَوْنِهِمْ فِي سِدْرٍ، وَالسِّدْرُ مِنْ أَشْجَارِ الْبَوَادِي، لَا بِمُرٍّ وَلَا بِحُلْوٍ وَلَا بِطَيِّبٍ؟ نَقُولُ: فِيهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ غَفَلَتْ عَنْهَا الْأَوَائِلُ وَالْأَوَاخِرُ، وَاقْتَصَرُوا فِي الْجَوَابِ وَالتَّقْرِيبِ أَنَّ الْجَنَّةَ تُمَثَّلُ بِمَا كَانَ عِنْدَ الْعَرَبِ عَزِيزًا مَحْمُودًا، وَهُوَ صَوَابٌ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ فَائِقٍ، وَالْفَائِقُ الرَّائِقُ الَّذِي هُوَ بِتَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّه لَائِقٌ، هُوَ أَنْ نَقُولَ: إِنَّا قَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ الْبَلِيغَ يَذْكُرُ طَرَفَيْ أَمْرَيْنِ، يَتَضَمَّنُ ذِكْرُهُمَا الْإِشَارَةَ إِلَى جَمِيعِ مَا بَيْنَهُمَا، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ مَلِكُ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مَلِكُهُمَا وَمَلِكُ مَا بَيْنَهُمَا، وَيُقَالُ: فُلَانٌ أَرْضَى الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ أَرْضَى كُلَّ أَحَدٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَنَقُولُ: لَا خَفَاءَ فِي أَنَّ تَزَيُّنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُتَفَرَّجُ فِيهَا بِالْأَشْجَارِ، وَتِلْكَ الْأَشْجَارُ تَارَةً يُطْلَبُ مِنْهَا نَفْسُ الْوَرَقِ وَالنَّظَرُ إِلَيْهِ وَالِاسْتِظْلَالُ بِهِ، وَتَارَةً يُقْصَدُ إِلَى ثِمَارِهَا، وَتَارَةً يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، لَكِنَّ الْأَشْجَارَ أَوْرَاقُهَا عَلَى أَقْسَامٍ كثيرة، ويجمعها نوعان: أوراث صِغَارٌ، وَأَوْرَاقٌ كِبَارٌ، وَالسِّدْرُ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ، وَالطَّلْحُ وَهُوَ شَجَرُ الْمَوْزِ فِي غَايَةِ الْكِبَرِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَكُونُ وَرَقُهُ/ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ مِنَ الْأَشْجَارِ، وَإِلَى مَا يَكُونُ وَرَقُهُ فِي غَايَةِ الْكِبَرِ مِنْهَا، فَوَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الطَّرَفَيْنِ جَامِعَةً لِجَمِيعِ الْأَشْجَارِ نَظَرًا إِلَى أَوْرَاقِهَا، وَالْوَرَقُ أَحَدُ مَقَاصِدِ الشَّجَرِ وَنَظِيرُهُ فِي الذِّكْرِ ذِكْرُ النَّخْلِ وَالرُّمَّانِ عِنْدَ الْقَصْدِ إِلَى ذِكْرِ الثِّمَارِ، لِأَنَّ بَيْنَهُمَا غَايَةَ الْخِلَافِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ، فَوَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمَا جَامِعَةً لِجَمِيعِ الْأَشْجَارِ نَظَرًا إِلَى ثِمَارِهَا، وَكَذَلِكَ قُلْنَا فِي النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، فَإِنَّ النَّخْلَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ، وَالْكَرْمُ مِنْ أَصْغَرِ الْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ، وَبَيْنَهُمَا أَشْجَارٌ فَوَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمَا جَامِعَةً لِسَائِرِ الْأَشْجَارِ، وَهَذَا جَوَابٌ فَائِقٌ وَفَّقَنَا اللَّه تَعَالَى لَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا مَعْنَى الْمَخْضُودِ؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مَأْخُوذُ الشَّوْكِ، فَإِنَّ شَوْكَ السِّدْرِ يَسْتَقْصِفُ وَرَقَهَا، وَلَوْلَاهُ لَكَانَ مُنْتَزَهَ الْعَرَبِ، ذَلِكَ لِأَنَّهَا تُظِلُّ لِكَثْرَةِ أَوْرَاقِهَا وَدُخُولِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ وَثَانِيهِمَا: مَخْضُودٌ أَيْ مُتَعَطِّفٌ إِلَى أَسْفَلُ، فإن رؤوس أَغْصَانِ السِّدْرِ فِي الدُّنْيَا تَمِيلُ إِلَى فَوْقُ بخلاف أشجار الثمار، فإن رؤوسها تَتَدَلَّى، وَحِينَئِذٍ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُخَالِفُ سِدْرَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ لَهَا ثَمَرًا كَثِيرًا.

[سورة الواقعة (56) : آية 30]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الطَّلْحُ؟ نَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ شَجَرُ الْمَوْزِ، وَبِهِ يَتِمُّ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَائِدَةِ رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمِعَ مَنْ يَقْرَأُ: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ فَقَالَ: مَا شَأْنُ الطَّلْحِ؟ إِنَّمَا هُوَ (وَطَلْعٍ) ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق: 10] فَقَالُوا: فِي الْمَصَاحِفِ كَذَلِكَ، فَقَالَ: لَا تُحَوَّلُ الْمَصَاحِفُ، فَنَقُولُ: هَذَا دليل معجزة القرآن، وغرارة عِلْمِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أَمَّا الْمُعْجِزَةُ فَلِأَنَّ عَلِيًّا كَانَ مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ وَلَمَّا سَمِعَ هَذَا حَمَلَهُ عَلَى الطَّلْعِ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ قَدِ اتَّفَقَ حَرْفُهُ لِمُبَادَرَةِ ذِهْنِهِ إِلَى مَعْنًى، ثُمَّ قَالَ فِي نَفْسِهِ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الشَّجَرَ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْوَرَقُ لِلِاسْتِظْلَالِ بِهِ، وَالشَّجَرَ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الثَّمَرُ لِلِاسْتِغْلَالِ بِهِ، فَذَكَرَ النَّوْعَيْنِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا اطَّلَعَ عَلَى حَقِيقَةِ اللَّفْظِ عَلِمَ أَنَّ الطَّلْحَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَوْلَى، وَهُوَ أَفْصَحُ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي ظَنَّهُ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ فَقَالَ: الْمُصْحَفُ بَيَّنَ لِي أَنَّهُ خَيْرٌ مِمَّا كَانَ فِي ظَنِّي فَالْمُصْحَفُ لَا يُحَوَّلُ. وَالَّذِي يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ طَلْعٌ لَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ [الواقعة: 32] تَكْرَارَ أَحْرُفٍ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَأَمَّا عَلَى الطَّلْحِ فَتَظْهَرُ فَائِدَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفاكِهَةٍ وَسَنُبَيِّنُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا الْمَنْضُودُ؟ فَنَقُولُ: إِمَّا الْوَرَقُ وَإِمَّا الثَّمَرُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الْوَرَقُ، لِأَنَّ شَجَرَ الْمَوْزِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى أَعْلَاهُ يَكُونُ وَرَقًا بَعْدَ وَرَقٍ، وَهُوَ يَنْبُتُ كَشَجَرِ الْحِنْطَةِ وَرَقًا بَعْدَ وَرَقِ وَسَاقُهُ يَغْلُظُ وَتَرْتَفِعُ أَوْرَاقُهُ، وَيَبْقَى بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ، كَمَا فِي الْقَصَبِ، فَمَوْزُ الدُّنْيَا إِذَا ثَبَتَ كَانَ بَيْنَ الْقَصَبِ وَبَيْنَ بَعْضِهَا فُرْجَةٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا وَرَقٌ، وَمَوْزُ الْآخِرَةِ يَكُونُ وَرَقُهُ مُتَّصِلًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَهُوَ أَكْثَرُ أَوْرَاقًا، وَقِيلَ: الْمَنْضُودُ الْمُثْمِرُ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الطَّلْحُ شَجَرًا فَهُوَ لَا يَكُونُ مَنْضُودًا وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ ثَمَرٌ مَنْضُودٌ، فَكَيْفَ وَصَفَ بِهِ الطَّلْحَ؟ نَقُولُ: هُوَ مِنْ بَابِ حَسَنُ الْوَجْهِ وُصِفَ بِسَبَبِ اتِّصَافِ مَا يَتَّصِلُ بِهِ، يُقَالُ: زَيْدٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، وَقَدْ يُتْرَكُ الْوَجْهُ وَيُقَالُ: زَيْدٌ حَسَنٌ وَالْمُرَادُ/ حَسَنُ الْوَجْهِ وَلَا يُتْرَكُ إِنْ أَوْهَمَ فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: زَيْدٌ مَضْرُوبُ الْغُلَامِ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْغُلَامِ لِأَنَّهُ يُوهِمُ الْخَطَأَ، وأما حسن الوجه فيجوز ترك الوجه. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : آية 30] وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَمْدُودٌ زَمَانًا، أَيْ لَا زَوَالَ لَهُ فَهُوَ دَائِمٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها [الرَّعْدِ: 35] أَيْ كَذَلِكَ الثَّانِي: مَمْدُودٌ مَكَانًا، أَيْ يَقَعُ عَلَى شَيْءٍ كَبِيرٍ وَيَسْتُرُهُ مِنْ بُقْعَةِ الْجَنَّةِ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ مَمْدُودٌ أَيْ مُنْبَسِطٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها [الْحِجْرِ: 19] فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ الْوَجْهُ الثَّانِي؟ نَقُولُ: الظِّلُّ قَدْ يَكُونُ مُرْتَفِعًا، فَإِنَّ الشَّمْسَ إِذَا كَانَتْ تَحْتَ الْأَرْضِ يَقَعُ ظِلُّهَا فِي الْجَوِّ فَيَتَرَاكَمُ الظِّلُّ فَيَسْوَدُّ وَجْهُ الْأَرْضِ وَإِذَا كَانَتْ عَلَى أَحَدِ جَانِبَيْهَا قَرِيبَةً مِنَ الْأُفُقِ يَنْبَسِطُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَيُضِيءُ الْجَوُّ وَلَا يَسْخُنُ وَجْهُ الْأَرْضِ، فَيَكُونُ فِي غَايَةِ الطِّيبَةِ، فَقَوْلُهُ: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ أَيْ عِنْدِ قِيَامِهِ عَمُودًا عَلَى الْأَرْضِ كَالظِّلِّ بِاللَّيْلِ، وَعَلَى هَذَا فَالظِّلُّ لَيْسَ ظِلَّ الْأَشْجَارِ بَلْ ظِلٌّ يخلقه الله تعالى. وقوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : آية 31] وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) فِيهِ أَيْضًا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَسْكُوبٌ مِنْ فَوْقُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ عِنْدَهُمُ الْآبَارُ وَالْبِرَكُ فَلَا سَكْبَ لِلْمَاءِ عِنْدَهُمْ بِخِلَافِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا الْعُيُونُ النَّابِعَةُ مِنَ الْجِبَالِ الْحَاكِمَةُ عَلَى الْأَرْضِ تَسْكُبُ عَلَيْهَا الثَّانِي: جَارٍ فِي غَيْرِ أُخْدُودٍ، لِأَنَّ الْمَاءَ الْمَسْكُوبَ يَكُونُ جَارِيًا فِي الْهَوَاءِ وَلَا نَهْرَ هُنَاكَ، كَذَلِكَ الْمَاءُ فِي الْجَنَّةِ الثَّالِثُ:

[سورة الواقعة (56) : الآيات 32 إلى 33]

كَثِيرٌ وَذَلِكَ الْمَاءُ عِنْدَ الْعَرَبِ عَزِيزٌ لَا يُسْكَبُ، بَلْ يُحْفَظُ وَيُشْرَبُ، فَإِذَا ذَكَرُوا النِّعَمَ يَعُدُّونَ كَثْرَةَ الْمَاءِ وَيُعَبِّرُونَ عَنْ كَثْرَتِهَا بِإِرَاقَتِهَا وسكبها، والأول أصح. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 32 الى 33] وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) لَمَّا ذَكَرَ الْأَشْجَارَ الَّتِي يُطْلَبُ مِنْهَا وَرَقُهَا ذَكَرَ بَعْدَهَا الْأَشْجَارَ الَّتِي يُقْصَدُ ثَمَرُهَا، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيمِ الْأَشْجَارِ الْمُورِقَةِ عَلَى غَيْرِ الْمُورِقَةِ؟ نَقُولُ: هِيَ ظَاهِرَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدَّمَ الْوَرَقَ عَلَى الشَّجَرِ عَلَى طَرِيقَةِ الِارْتِقَاءِ مِنْ نِعْمَةٍ إِلَى ذِكْرِ نِعْمَةٍ فَوْقَهَا، وَالْفَوَاكِهُ أَتَمُّ نِعْمَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ الْأَشْجَارِ الْمُورِقَةِ بِأَنْفُسِهَا، وَذِكْرِ أَشْجَارِ الْفَوَاكِهِ بِثِمَارِهَا؟ نَقُولُ: هِيَ أَيْضًا ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّ الْأَوْرَاقَ حُسْنُهَا عِنْدَ كَوْنِهَا عَلَى الشَّجَرِ، وَأَمَّا الثِّمَارُ فَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا مَطْلُوبَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَيْهَا أَوْ مَقْطُوعَةً، وَلِهَذَا صَارَتِ الْفَوَاكِهُ لَهَا أَسْمَاءٌ بِهَا تُعْرَفُ أَشْجَارُهَا، فَيُقَالُ: شَجَرُ التِّينِ وَوَرَقُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي وَصْفِ الْفَاكِهَةِ بِالْكَثْرَةِ، لَا بِالطِّيبِ وَاللَّذَّةِ؟ نَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ أَنَّ الْفَاكِهَةَ فَاعِلَةٌ كَالرَّاضِيَةِ فِي قَوْلِهِ: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21] أي ذات فكهة، وَهِيَ لَا تَكُونُ بِالطَّبِيعَةِ إِلَّا بِالطِّيبِ وَاللَّذَّةِ، وَأَمَّا الْكَثْرَةُ، فَبَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيْثُ ذَكَرَ الْفَاكِهَةَ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لِدَفْعِ الْحَاجَةِ حَتَّى تَكُونَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، بَلْ هِيَ لِلتَّنَعُّمِ، فَوَصَفَهَا بِالْكَثْرَةِ وَالتَّنَوُّعِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَا مَقْطُوعَةٍ أَيْ لَيْسَتْ كَفَوَاكِهِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا تَنْقَطِعُ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَزْمَانِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ وَالْأَمَاكِنِ وَلا مَمْنُوعَةٍ أَيْ لَا تُمْنَعُ مِنَ النَّاسِ لِطَلَبِ الْأَعْوَاضِ وَالْأَثْمَانِ، وَالْمَمْنُوعُ مِنَ النَّاسِ لِطَلَبِ الْأَعْوَاضِ وَالْأَثْمَانِ ظَاهِرٌ فِي الْحِسِّ، لِأَنَّ الْفَاكِهَةَ فِي الدُّنْيَا تُمْنَعُ عَنِ الْبَعْضِ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ، وَفِي الْآخِرَةِ لَيْسَتْ مَمْنُوعَةً. وَأَمَّا الْقَطْعُ فَيُقَالُ فِي الدُّنْيَا: إِنَّهَا انْقَطَعَتْ فَهِيَ مُنْقَطِعَةٌ لَا مَقْطُوعَةٌ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا مَقْطُوعَةٍ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، لِأَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى دَلِيلِ عَدَمِ الْقَطْعِ، كَمَا أن في: لا مَمْنُوعَةٍ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْمَنْعِ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّ الْفَاكِهَةَ فِي الدُّنْيَا لَا تُمْنَعُ إِلَّا لِطَلَبِ الْعِوَضِ، وَحَاجَةِ صَاحِبِهَا إِلَى ثَمَنِهَا لِدَفْعِ حَاجَةٍ بِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ مَالِكُهَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَا حَاجَةَ لَهُ، فَلَزِمَ أَنْ لَا تُمْنَعَ الْفَاكِهَةُ مِنْ أَحَدٍ كَالَّذِي لَهُ فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ، وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَبِيعُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ لَا شَكَّ فِي أَنْ يُفَرِّقَهَا وَلَا يَمْنَعَهَا مِنْ أَحَدٍ. وَأَمَّا الِانْقِطَاعُ فَنَقُولُ الَّذِي يُقَالُ فِي الدُّنْيَا: الْفَاكِهَةُ انْقَطَعَتْ، وَلَا يُقَالُ عِنْدَ وُجُودِهَا: امْتَنَعَتْ، بَلْ يُقَالُ: مُنِعَتْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِمَا يَفْهَمُهُ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَلَكِنَّ كُلَّ أَحَدٍ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْفَاكِهَةِ زَمَانَ وُجُودِهَا يَرَى أَحَدًا يَحُوزُهَا وَيَحْفَظُهَا وَلَا يَرَاهَا بِنَفْسِهَا تَمْتَنِعُ فَيَقُولُ: إِنَّهَا مَمْنُوعَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَ انْقِطَاعِهَا وَفَقْدِهَا لَا يَرَى أَحَدًا قَطَعَهَا حِسًّا وَأَعْدَمَهَا فَيَظُنُّهَا مُنْقَطِعَةً بِنَفْسِهَا لِعَدَمِ إِحْسَاسِهِ بِالْقَاطِعِ وَوُجُودِ إِحْسَاسِهِ بِالْمَانِعِ، فَقَالَ تَعَالَى: لَوْ نَظَرْتُمْ فِي الدُّنْيَا حَقَّ النَّظَرِ عَلِمْتُمْ أَنَّ كُلَّ زَمَانٍ نَظَرًا إِلَى كَوْنِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا مُمْكِنٌ فِيهِ الْفَاكِهَةُ فَهِيَ بِنَفْسِهَا لَا تَنْقَطِعُ، وَإِنَّمَا لَا تُوجَدُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِ لِقَطْعِ اللَّهِ إِيَّاهَا وَتَخْصِيصِهَا بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَعِنْدَ غَيْرِ الْمُحَقِّقِ لِبَرْدِ الزَّمَانِ وَحَرِّهِ، وَكَوْنِهِ مُحْتَاجًا إِلَى الظُّهُورِ وَالنُّمُوِّ وَالزَّهْرِ وَلِذَلِكَ تَجْرِي الْعَادَةُ بِأَزْمِنَةٍ فَهِيَ يَقْطَعُهَا الزَّمَانُ فِي نَظَرِ غَيْرِ الْمُحَقِّقِ فَإِذَا كَانَتِ الْجَنَّةُ

[سورة الواقعة (56) : آية 34]

ظلها ممدودا لَا شَمْسَ هُنَاكَ وَلَا زَمْهَرِيرَ اسْتَوَتِ الْأَزْمِنَةُ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقْطَعُهَا فَلَا تَكُونُ مَقْطُوعَةً بِسَبَبٍ حَقِيقِيٍّ وَلَا ظَاهِرٍ، فَالْمَقْطُوعُ يَتَفَكَّرُ الْإِنْسَانُ فِيهِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ مَقْطُوعٌ لَا مُنْقَطِعٌ مِنْ غَيْرِ قَاطِعٍ، وَفِي الْجَنَّةِ لَا قَاطِعَ فَلَا تَصِيرُ مَقْطُوعَةً. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَدَّمَ نَفْيَ كَوْنِهَا مَقْطُوعَةً لِمَا أَنَّ الْقَطْعَ لِلْمَوْجُودِ وَالْمَنْعَ بَعْدَ الْوُجُودِ لِأَنَّهَا تُوجَدُ أَوَّلًا ثُمَّ تُمْنَعُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً لَا تَكُونُ مَمْنُوعَةً مَحْفُوظَةً فَقَالَ: لَا تُقْطَعُ فَتُوجَدَ أَبَدًا ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْمَوْجُودَ لَا يُمْنَعُ مِنْ أَحَدٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ غَيْرَ أَنَّا نُحِبُّ أَنْ لَا نَتْرُكَ شَيْئًا مما يخطر بالبال ويكون صحيحا. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : آية 34] وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى الْفُرُشِ وَنَذْكُرُ وَجْهًا آخَرَ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا الْمَرْفُوعَةُ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: مَرْفُوعَةُ الْقَدْرِ يُقَالُ: ثَوْبٌ رَفِيعٌ أَيِ عَزِيزٌ مُرْتَفِعُ الْقَدْرِ وَالثَّمَنِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها [الرَّحْمَنِ: 54] وَثَانِيهَا: مَرْفُوعَةٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ثَالِثُهَا: مَرْفُوعَةٌ فَوْقَ السَّرِيرِ. ثُمَّ قَالَ تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 35 الى 38] إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) وَفِي الْإِنْشَاءِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي: أَنْشَأْناهُنَّ عَائِدٌ إِلَى مَنْ؟ فِيهِ ثلاثة أوجه أحدها: إلى حُورٌ عِينٌ [الواقعة: 22] وَهُوَ بَعِيدٌ لِبُعْدِهِنَّ وَوُقُوعِهِنَّ فِي قِصَّةٍ أُخْرَى ثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْفُرُشِ النِّسَاءُ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَيْهِنَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 187] ، وَيُقَالُ لِلْجَارِيَةِ صَارَتْ فِرَاشًا وَإِذَا صَارَتْ فِرَاشًا رُفِعَ قَدْرُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَارِيَةٍ لَمْ تَصِرْ فِرَاشًا، وَهُوَ أَقْرَبُ مِنَ الْأَوَّلِ لَكِنْ يَبْعُدُ ظَاهِرًا لِأَنَّ وَصْفَهَا بِالْمَرْفُوعَةِ يُنْبِئُ عَنْ خِلَافِ ذَلِكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ دَلَّ عَلَيْهِ فُرُشٌ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ فِي الدُّنْيَا وَفِي مَوَاضِعَ مِنْ ذِكْرِ الْآخِرَةِ، أَنَّ فِي الْفُرُشِ حَظَايَا تَقْدِيرُهُ وَفِي فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ حَظَايَا مُنْشَآتٌ وَهُوَ مِثْلُ مَا ذُكِرَ فِي قوله تعالى: قاصِراتُ الطَّرْفِ [الرحمن: 56] ومَقْصُوراتٌ [الرَّحْمَنِ: 72] فَهُوَ تَعَالَى أَقَامَ الصِّفَةَ مُقَامَ الْمَوْصُوفِ وَلَمْ يَذْكُرْ نِسَاءَ الْآخِرَةِ بِلَفْظٍ حَقِيقِيٍّ أَصْلًا وَإِنَّمَا عَرَّفَهُنَّ بِأَوْصَافِهِنَّ وَلِبَاسِهِنَّ إِشَارَةً إِلَى صَوْنِهِنَّ وَتَخَدُّرِهِنَّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْحُورَ فَيَكُونَ الْمُرَادُ الْإِنْشَاءَ الَّذِي هُوَ الِابْتِدَاءُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَنَاتِ آدَمَ فَيَكُونَ الْإِنْشَاءُ بِمَعْنَى إِحْيَاءِ الْإِعَادَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَبْكاراً يَدُلُّ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّ الْإِنْشَاءَ لَوْ كَانَ بِمَعْنَى الِابْتِدَاءِ لَعُلِمَ مِنْ كَوْنِهِنَّ أَبْكَارًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى بَيَانٍ وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ إِحْيَاءَ بَنَاتِ آدَمَ قَالَ: أَبْكاراً أَيْ نَجْعَلُهُنَّ أَبْكَارًا وَإِنْ مِتْنَ ثَيِّبَاتٍ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَصْفَ بَعْدَهَا لَا يَكُونُ مِنْ غَيْرِهَا إِذَا كُنَّ أَزْوَاجَهُمْ بَيِّنُ الْفَائِدَةِ لِأَنَّ الْبِكْرَ فِي الدُّنْيَا لَا تَكُونُ عَارِفَةً بِلَذَّةِ الزَّوْجِ فَلَا

[سورة الواقعة (56) : الآيات 39 إلى 40]

تَرْضَى بِأَنْ تَتَزَوَّجَ مِنْ رَجُلٍ لَا تَعْرِفُهُ وَتَخْتَارُ التَّزْوِيجَ بِأَقْرَانِهَا وَمَعَارِفِهَا لَكِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا لَمْ يَكُنَّ مِنْ جِنْسِ أَبْنَاءِ آدَمَ وَتَكُونُ الْوَاحِدَةُ مِنْهُنَّ بِكْرًا لَمْ تَرَ زَوْجًا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ جِنْسِهَا فَرُبَّمَا يُتَوَهَّمُ مِنْهَا سُوءُ عِشْرَةٍ فَقَالَ: أَبْكاراً فَلَا يُوجَدُ فِيهِنَّ مَا يُوجَدُ فِي أَبْكَارِ الدُّنْيَا الثَّانِي: الْمُرَادُ أَبْكَارًا بَكَارَةً تُخَالِفُ بَكَارَةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْبَكَارَةَ لَا تَعُودُ إِلَّا عَلَى بُعْدٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَتْراباً يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: مُسْتَوِيَاتٌ فِي السِّنِّ فَلَا تَفْضُلُ إِحْدَاهُنَّ عَلَى الْأُخْرَى بِصِغَرٍ وَلَا كِبَرٍ كُلُّهُنَّ خُلِقْنَ فِي زَمَانٍ/ وَاحِدٍ، وَلَا يَلْحَقُهُنَّ عَجْزٌ وَلَا زَمَانَةٌ وَلَا تَغَيُّرُ لَوْنٍ، وَعَلَى هَذَا إِنْ كُنَّ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ فَاللَّفْظُ فِيهِنَّ حَقِيقَةٌ، وَإِنْ كُنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ فَمَعْنَاهُ مَا كَبِرْنَ سُمِّينَ بِهِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُنَّ تُمَسُّ وَقْتَ مَسِّ الْأُخْرَى لَكِنْ نُسِيَ الْأَصْلُ، وَجُعِلَ عِبَارَةً عَنْ ذَلِكَ كَاللَّذَّةِ لِلْمُتَسَاوِيَيْنِ مِنَ الْعُقَلَاءِ، فَأَطْلَقَ عَلَى حُورِ الْجَنَّةِ أَتْرَابًا ثَانِيهَا: أَتْرَابًا مُتَمَاثِلَاتٍ فِي النَّظَرِ إِلَيْهِنَّ كَالْأَتْرَابِ سَوَاءٌ وُجِدْنَ فِي زَمَانٍ أَوْ فِي أَزْمِنَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي أَزْمِنَةٍ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا خُلِقَ لَهُ مِنْهُنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ ثَالِثُهَا: أَتْرَابًا لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ، أَيْ عَلَى سِنِّهِمْ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الِاتِّفَاقِ، لِأَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا كَانَ أَكْبَرَ مِنَ الْآخَرِ فَالشَّابُّ يُعَيِّرُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ قِيلَ مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: فَجَعَلْناهُنَّ؟ نَقُولُ: فَائِدَتُهُ ظَاهِرَةٌ تَتَبَيَّنُ بِالنَّظَرِ إِلَى اللَّامِ فِي: لِأَصْحابِ الْيَمِينِ فنقول: إن كانت اللام متعلقة بأترابا يَكُونُ مَعْنَاهُ: أَنْشَأْناهُنَّ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ كانت متعلقة بأنشأناهن يَكُونُ مَعْنَاهُ أَنْشَأْنَاهُنَّ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ وَالْإِنْشَاءُ حَالَ كَوْنِهِنَّ أَبْكَارًا وَأَتْرَابًا فَلَا يَتَعَلَّقُ الْإِنْشَاءُ بِالْأَبْكَارِ بِحَيْثُ يَكُونُ كَوْنُهُنَّ أَبْكَارًا بِالْإِنْشَاءِ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحَالِ تَأْثِيرًا وَاجِبًا فَنَقُولُ: صَرْفُهُ لِلْإِنْشَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْشَاءَ كَانَ بِفِعْلٍ فَيَكُونُ الْإِنْعَامُ عَلَيْهِمْ بِمُجَرَّدِ إِنْشَائِهِنَّ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ: فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً لِيَكُونَ تَرْتِيبُ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ كَوْنَهُنَّ أَبْكَارًا، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْإِنْشَاءُ أَوَّلًا مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ لِلْأَزْوَاجِ مَا كَانَ يَقْتَضِي جَعْلَهُنَّ أَبْكَارًا فَالْفَاءُ لترتيب المقتضى على المقتضى. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 39 الى 40] ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِيهِ لَكِنَّ هُنَا لَطِيفَةً: وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي السَّابِقِينَ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ [الواقعة: 13] قَبْلَ ذِكْرِ السُّرُرِ وَالْفَاكِهَةِ وَالْحُورِ وَذَكَرَ فِي أَصْحَابِ الْيَمِينِ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ النِّعَمِ، نَقُولُ: السَّابِقُونَ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى الْحُورِ الْعِينِ وَالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَنِعَمُ الْجَنَّةِ تَتَشَرَّفُ بِهِمْ، وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهَا فَقَدَّمَ ذِكْرَهَا عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَأَمَّا السَّابِقُونَ فَذَكَرَهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ ذَكَرَ مَكَانَهُمْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ هَؤُلَاءِ وَارِدُونَ عَلَيْكُمْ. وَالَّذِي يُتَمِّمُ هَذِهِ اللَّطِيفَةَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُقَدِّمْ ثُلَّةَ السَّابِقِينَ إِلَّا لِكَوْنِهِمْ مُقَرَّبِينَ حِسًّا فَقَالَ: الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ [الْوَاقِعَةِ: 11، 12] ثُمَّ قَالَ: ثُلَّةٌ ثُمَّ ذَكَرَ النِّعَمَ لِكَوْنِهَا فَوْقَ الدُّنْيَا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى مِنَ اللَّهِ فَإِنَّهَا فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشُّورَى: 23] أي في المؤمنين ووعد المرسلين بالزلفى في قوله: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى [ص: 25] وأما قوله: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الواقعة: 12] فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لِتَمْيِيزِ مُقَرَّبِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُقَرَّبِي الْمَلَائِكَةِ، فَإِنَّهُمْ مُقَرَّبُونَ فِي الْجَنَّةِ وَهُمْ مُقَرَّبُونَ فِي أَمَاكِنِهِمْ لِقَضَاءِ الْأَشْغَالِ الَّتِي لِلنَّاسِ وَغَيْرِهِمْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَقَدْ بَانَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ هُمُ النَّاجُونَ الَّذِينَ أَذْنَبُوا وَأَسْرَفُوا وَعَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ بِسَبَبِ أَدْنَى حَسَنَةٍ لَا الَّذِينَ غَلَبَتْ

[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 إلى 43]

حَسَنَاتُهُمْ وَكَثُرَتْ وَسَنَذْكُرُ الدَّلِيلَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الْوَاقِعَةِ: 91] . / ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 43] وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ السَّمُومِ وَالْحَمِيمِ وَتَرْكِ ذِكْرِ النَّارِ وَأَهْوَالِهَا؟ نَقُولُ: فِيهِ إِشَارَةٌ بِالْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى فَقَالَ: هَوَاؤُهُمُ الَّذِي يَهُبُّ عَلَيْهِمْ سَمُومٌ، وَمَاؤُهُمُ الَّذِي يَسْتَغِيثُونَ بِهِ حَمِيمٌ، مَعَ أَنَّ الْهَوَاءَ وَالْمَاءَ أَبْرَدُ الْأَشْيَاءِ، وَهُمَا أَيِ السُّمُومُ وَالْحَمِيمُ مِنْ أَضَرِّ الْأَشْيَاءِ بِخِلَافِ الْهَوَاءِ وَالْمَاءِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُمَا مِنْ أَنْفَعِ الْأَشْيَاءِ فَمَا ظَنُّكَ بِنَارِهِمُ الَّتِي هِيَ عِنْدَنَا أَيْضًا أَحَرُّ، وَلَوْ قَالَ: هُمْ فِي نَارٍ، كُنَّا نَظُنُّ أَنَّ نَارَهُمْ كَنَارِنَا لِأَنَّا مَا رَأَيْنَا شَيْئًا أَحَرَّ مِنَ الَّتِي رَأَيْنَاهَا، وَلَا أَحَرَّ مِنَ السَّمُومِ، وَلَا أَبْرَدَ مِنَ الزُّلَالِ، فَقَالَ: أَبْرَدُ الْأَشْيَاءِ لَهُمْ أَحَرُّهَا فَكَيْفَ حَالُهُمْ مَعَ أَحَرِّهَا، فَإِنْ قِيلَ: مَا السَّمُومُ؟ نَقُولُ: الْمَشْهُورُ هِيَ رِيحٌ حَارَّةٌ تَهُبُّ فَتُمْرِضُ أَوْ تَقْتُلُ غَالِبًا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: هِيَ هَوَاءٌ مُتَعَفِّنٌ، يَتَحَرَّكُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ فَإِذَا اسْتَنْشَقَ الْإِنْسَانُ مِنْهُ يَفْسُدُ قَلْبُهُ بِسَبَبِ الْعُفُونَةِ وَيُقْتَلُ الْإِنْسَانُ، وَأَصْلُهُ مِنَ السُّمِّ كَسُمِّ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَغَيْرِهِمَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا السُّمُّ مِنَ السَّمِّ، وَهُوَ خُرْمُ الْإِبْرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الْأَعْرَافِ: 40] لِأَنَّ سُمَّ الْأَفْعَى يَنْفُذُ فِي الْمَسَامِّ فَيُفْسِدُهَا، وَقِيلَ: إِنَّ السَّمُومَ مُخْتَصَّةٌ بِمَا يَهُبُّ لَيْلًا، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: سَمُومٍ إِشَارَةٌ إِلَى ظُلْمَةِ مَا هُمْ فِيهِ غَيْرَ أَنَّهُ بَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّ السَّمُومَ قَدْ تُرَى بِالنَّهَارِ بِسَبَبِ كَثَافَتِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَمِيمُ هُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مِنْ حَمِمَ الْمَاءُ بكسر الميم، أو بمعنى مفعول من حمم الْمَاءَ إِذَا سَخَّنَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا غَيْرَ أن هاهنا لَطِيفَةً لُغَوِيَّةً: وَهِيَ أَنَّ فَعُولًا لَمَّا تَكَرَّرَ مِنْهُ الشَّيْءُ وَالرِّيحَ لَمَّا كَانَتْ كَثِيرَةَ الْهُبُوبِ تَهُبُّ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ خُصَّ السَّمُومُ بِالْفَعُولِ، وَالْمَاءُ الْحَارُّ لَمَّا كَانَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْوُرُودُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ لَمْ يُقَلْ: فِيهِ حَمُومٌ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْيَحْمُومُ؟ نَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ أَوَّلُهَا: أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ ثَانِيهَا: أَنَّهُ الدُّخَانُ ثَالِثُهَا: أَنَّهُ الظُّلْمَةُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحُمَمِ وَهُوَ الْفَحْمُ فَكَأَنَّهُ لِسَوَادِهِ فَحْمٌ فَسَمَّوْهُ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ مِنْهُ، وَزِيَادَةُ الْحَرْفِ فِيهِ لِزِيَادَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيهِ، وَرُبَّمَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ فِيهِ جَاءَتْ لِمَعْنَيَيْنِ: الزِّيَادَةُ فِي سَوَادِهِ وَالزِّيَادَةُ فِي حَرَارَتِهِ، وَفِي الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ إِشَارَةٌ إِلَى دُونِهِمْ فِي الْعَذَابِ دَائِمًا لِأَنَّهُمْ إِنْ تَعَرَّضُوا لِمَهَبِّ الْهَوَاءِ أَصَابَهُمُ الْهَوَاءُ الَّذِي هُوَ السَّمُومُ، وَإِنِ اسْتَكَنُّوا كَمَا يَفْعَلُهُ الَّذِي يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ السَّمُومَ بِالِاسْتِكْنَانِ فِي الْكِنِّ يَكُونُوا فِي ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ وَإِنْ أَرَادُوا الرَّدَّ عَنْ أَنْفُسِهِمُ السَّمُومَ بِالِاسْتِكْنَانِ فِي مَكَانٍ مِنْ حَمِيمٍ فَلَا انْفِكَاكَ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ تَرْتِيبٌ وَهُوَ أَنَّ السَّمُومَ يَضْرِبُهُ فَيَعْطَشُ وَتَلْتَهِبُ نَارُ السَّمُومِ فِي أَحْشَائِهِ فَيَشْرَبُ الْمَاءَ/ فَيُقَطِّعُ أَمْعَاءَهُ وَيُرِيدُ الِاسْتِظْلَالَ بِظِلٍّ فَيَكُونُ ذَلِكَ الظِّلُّ ظِلَّ الْيَحْمُومِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ وَجْهُ اسْتِعْمَالِ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ يَحْمُومٍ؟ فَنَقُولُ: إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ اسْمُ جَهَنَّمَ فَهُوَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ كَمَا تَقُولُ: جَاءَنِي نَسِيمٌ مِنَ الْجَنَّةِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ دُخَانٌ فَهُوَ كَمَا فِي قَوْلِنَا: خَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ الظُّلْمَةُ فَكَذَلِكَ،

[سورة الواقعة (56) : آية 44]

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِجَهَنَّمَ مَعَ أَنَّهُ اسْمٌ مُنْصَرِفٌ مُنَكَّرٌ فَكَيْفَ وُضِعَ لِمَكَانٍ مُعَرَّفٍ، وَلَوْ كَانَ اسْمًا لَهَا، قُلْنَا: اسْتِعْمَالُهُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ كَالْجَحِيمِ، أَوْ كَانَ غَيْرَ مُنْصَرِفٍ كَأَسْمَاءِ جَهَنَّمَ يَكُونُ مِثْلَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ كلها يحموم. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : آية 44] لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَرَمُ الظِّلِّ نَفْعُهُ الْمَلْهُوفَ، وَدَفْعُهُ أَذَى الْحَرِّ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْبَارِدُ وَالْكَرِيمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: فَائِدَةُ الظِّلِّ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا دَفْعُ الْحَرِّ، وَالْآخَرُ كَوْنُ الْإِنْسَانِ فِيهِ مُكْرَمًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْبَرْدِ يَقْصِدُ عَيْنَ الشَّمْسِ لِيَتَدَفَّأَ بِحَرِّهَا إِذَا كَانَ قَلِيلَ الثِّيَابِ، فَإِذَا كَانَ مِنَ الْمُكْرَمِينَ يَكُونُ أَبَدًا فِي مَكَانٍ يَدْفَعُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ عَنْ نَفْسِهِ فِي الظِّلِّ، أَمَّا الْحَرُّ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْبَرْدُ فَيَدْفَعُهُ بِإِدْفَاءِ الْمَوْضِعِ بِإِيقَادِ مَا يُدْفِئُهُ، فَيَكُونُ الظل في الحر مطلوبا للبرد فيطلب كونه بَارِدًا، وَفِي الْبَرْدِ يُطْلَبُ لِكَوْنِهِ ذَا كَرَامَةٍ لَا لِبَرْدٍ يَكُونُ فِي الظِّلِّ فَقَالَ: لَا بارِدٍ يُطْلَبُ لِبَرْدِهِ، وَلَا ذِي كَرَامَةٍ قَدْ أُعِدَّ لِلْجُلُوسِ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوَاضِعَ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْهَا ظِلٌّ كَالْمَوَاضِعِ الَّتِي تَحْتَ أَشْجَارٍ وَأَمَامَ الْجِدَارِ يُتَّخَذُ مِنْهَا مَقَاعِدُ فَتَصِيرُ تِلْكَ الْمَقَاعِدُ مَحْفُوظَةً عَنِ الْقَاذُورَاتِ، وَبَاقِي الْمَوَاضِعِ تَصِيرُ مَزَابِلَ، ثُمَّ إِذَا وَقَعَتِ الشَّمْسُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ عَلَيْهَا تُطْلَبُ لِنَظَافَتِهَا، وَكَوْنِهَا مُعَدَّةً لِلْجُلُوسِ، فَتَكُونُ مَطْلُوبَةً فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ لِأَجْلِ كَرَامَتِهَا لَا لِبَرْدِهَا، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ يَحْتَمِلُ هَذَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الظِّلَّ يُطْلَبُ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الْحِسِّ، أَوْ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الْعَقْلِ، فَالَّذِي يَرْجِعُ إِلَى الْحِسِّ هُوَ بَرْدُهُ، وَالَّذِي يَرْجِعُ إِلَى الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ كَرَامَةً، وَهَذَا لَا بَرْدَ لَهُ وَلَا كَرَامَةَ فِيهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِمَا نَقَلَهُ الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ الْعَرَبَ تُتْبِعُ كُلَّ مَنْفِيٍّ بِكَرِيمٍ إِذَا كَانَ الْمَنْفِيُّ أَكْرَمَ فَيُقَالُ: هَذِهِ الدَّارُ لَيْسَتْ بِوَاسِعَةٍ وَلَا كَرِيمَةٍ، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ وَصْفَ الْكَمَالِ، إِمَّا حِسِّيٌّ، وَإِمَّا عَقْلِيٌّ، وَالْحِسِّيُّ يُصَرَّحُ بِلَفْظِهِ، وَأَمَّا الْعَقْلِيُّ فَلِخَفَائِهِ عَنِ الْحِسِّ يُشَارُ إِلَيْهِ بِلَفْظٍ جَامِعٍ، لِأَنَّ الْكَرَامَةَ، وَالْكَرَامَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ أَشْهَرِ أَوْصَافِ الْمَدْحِ وَنَفْيُهُمَا نَفْيُ وَصْفِ الْكَمَالِ الْعَقْلِيِّ، فَيَصِيرُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ مَعْنَاهُ لَا مَدْحَ فِيهِ أَصْلًا لَا حِسًّا وَلَا عَقْلًا. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 45 الى 48] إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) وَفِي الْآيَاتِ لَطَائِفُ، نَذْكُرُهَا فِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْحِكْمَةُ فِي بَيَانِ سَبَبِ كَوْنِهِمْ فِي الْعَذَابِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ سَبَبَ كَوْنِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فِي النَّعِيمِ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ شَاكِرِينَ مُذْعِنِينَ؟ فَنَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ إِيصَالِ الثَّوَابِ لَا يَذْكُرُ أَعْمَالَ الْعِبَادِ الصَّالِحَةَ، وَعِنْدَ إِيصَالِ الْعِقَابِ يَذْكُرُ أَعْمَالَ الْمُسِيئِينَ لِأَنَّ الثَّوَابَ فَضْلٌ وَالْعِقَابَ عَدْلٌ، وَالْفَضْلُ سَوَاءٌ ذُكِرَ سَبَبُهُ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ لَا يُتَوَهَّمُ فِي الْمُتَفَضِّلِ بِهِ نَقْصٌ وَظُلْمٌ، وَأَمَّا الْعَدْلُ فَإِنْ لَمْ

يُعْلَمْ سَبَبُ الْعِقَابِ، يُظَنُّ أَنَّ هُنَاكَ ظُلْمًا فَقَالَ: هُمْ فِيهَا بِسَبَبِ تَرَفِهِمْ، وَالَّذِي يُؤَيِّدُ هَذِهِ اللَّطِيفَةَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ السَّابِقِينَ: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الْوَاقِعَةِ: 24] وَلَمْ يَقُلْ: فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، ذَلِكَ لِأَنَّا أَشَرْنَا أَنَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ هُمُ النَّاجُونَ بِالْفَضْلِ الْعَظِيمِ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَلامٌ لَكَ [الْوَاقِعَةِ: 91] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْفَضْلُ فِي حَقِّهِمْ مُتَمَحِّضٌ فَقَالَ: هَذِهِ النِّعَمُ لَكُمْ، وَلَمْ يَقُلْ جَزَاءً لِأَنَّ قَوْلَهُ: جَزاءً فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْعَفْوِ عَنْهُمْ لا يثبت لَهُمْ سُرُورًا بِخِلَافِ مَنْ كَثُرَتْ حَسَنَاتُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: نِعْمَ مَا فَعَلْتَ خُذْ هَذَا لَكَ جَزَاءً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: جُعِلَ السَّبَبَ كَوْنُهُمْ مُتْرَفِينَ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ هُوَ مِنْ أَصْحَابِ الشِّمَالِ يَكُونُ مُتْرَفًا فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ يَكُونُ فَقِيرًا؟ نَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ لَيْسَ بِذَمٍّ، فَإِنَّ الْمُتْرَفَ هُوَ الَّذِي جُعِلَ ذَا تَرَفٍ أَيْ نِعْمَةٍ، فَظَاهِرُ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ ذَمًّا، لَكِنَّ ذَلِكَ يُبَيِّنُ قُبْحَ مَا ذُكِرَ عَنْهُمْ بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانُوا يُصِرُّونَ لِأَنَّ صُدُورَ الْكُفْرَانِ مِمَّنْ عَلَيْهِ غَايَةُ الْإِنْعَامِ أَقْبَحُ الْقَبَائِحِ فَقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا مُتْرَفِينَ، وَلَمْ يَشْكُرُوا نِعَمَ اللَّهِ بَلْ أَصَرُّوا عَلَى الذَّنْبِ وَعَلَى هَذَا فَنَقُولُ: النِّعَمُ الَّتِي تَقْتَضِي شُكْرَ اللَّهِ وَعِبَادَتَهُ فِي كُلِّ أَحَدٍ كَثِيرَةٌ فَإِنَّ الْخَلْقَ وَالرِّزْقَ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَتَتَوَقَّفُ مَصَالِحُهُ عَلَيْهِ حَاصِلٌ لِلْكُلِّ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ حَالَ النَّاسِ فِي الْإِتْرَافِ مُتَقَارِبٌ، فَيُقَالُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضٍ: إِنَّهُ فِي ضُرٍّ، وَلَوْ حَمَلَ نَفْسَهُ عَلَى الْقَنَاعَةِ لَكَانَ أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ وَكَيْفَ لَا وَالْإِنْسَانُ إِذَا نَظَرَ إِلَى حَالِهِ يَجِدُهَا مُفْتَقِرَةً إِلَى مَسْكَنٍ يَأْوِي إِلَيْهِ وَلِبَاسِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَمَا يَسُدُّ جُوعَهُ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، وَغَيْرِ هَذَا مِنَ الْفَضَلَاتِ الَّتِي يَحْمِلُ عَلَيْهَا شُحُّ النَّفْسِ، ثُمَّ إِنَّ أَحَدًا لَا يُغْلَبُ عَنْ تَحْصِيلِ مَسْكَنٍ بِاشْتِرَاءٍ أَوِ اكْتِرَاءٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَيْسَ هُوَ أَعْجَزَ مِنَ الْحَشَرَاتِ، لَا تَفْقِدُ مُدَّخَلًا أَوْ مَغَارَةً، وَأَمَّا اللِّبَاسُ فَلَوِ اقْتَنَعَ بِمَا يَدْفَعُ الضَّرُورَةَ كَانَ يَكْفِيهِ فِي عُمُرِهِ لِبَاسٌ وَاحِدٌ، كُلَّمَا تَمَزَّقَ مِنْهُ مَوْضِعٌ يرفعه مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، بَقِيَ أَمْرُ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، فَإِذَا نَظَرَ النَّاظِرُ يَجِدُ كُلَّ أَحَدٍ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ غَيْرَ مَغْلُوبٍ عَنْ كِسْرَةِ خُبْزٍ وَشَرْبَةِ مَاءٍ، غَيْرَ أَنَّ طَلَبَ الْغِنَى يورث الفقر فيريد الإنسان بيتا مزخرفا ولباسا فاخرا وَمَأْكُولًا طَيِّبًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّوَابِّ/ وَالثِّيَابِ، فَيَفْتَقِرُ إِلَى أَنْ يَحْمِلَ الْمَشَاقَّ، وَطَلَبُ الْغِنَى يُورِثُ فَقْرَهُ، وَارْتِيَادُ الِارْتِفَاعِ يَحُطُّ قَدْرَهُ، وَبِالْجُمْلَةِ شَهْوَةُ بَطْنِهِ وَفَرْجِهِ تَكْسِرُ ظَهْرَهُ عَلَى أَنَّنَا نَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ لَا شَكَّ أَنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ لَمَّا فَقَدُوا الْأَيْدِيَ الْبَاطِشَةَ، وَالْأَعْيُنَ الْبَاصِرَةَ، وَبَانَ لَهُمُ الْحَقَائِقُ، عَلِمُوا إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْإِصْرَارُ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ؟ نَقُولُ: الشِّرْكُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] وَفِيهَا لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ أَشَارَ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ إِلَى الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِعْمَالُ يَدُلُّ عَلَى ذَمِّهِمْ بِإِنْكَارِ الرُّسُلِ، إِذِ الْمُتْرَفُ مُتَكَبِّرٌ بِسَبَبِ الْغِنَى فَيُنْكِرُ الرِّسَالَةَ، وَالْمُتْرَفُونَ كَانُوا يَقُولُونَ: أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ [الْقَمَرِ: 34] وقوله: يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ [الواقعة: 46] إِشَارَةٌ إِلَى الشِّرْكِ وَمُخَالَفَةِ التَّوْحِيدِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً إِشَارَةٌ إِلَى إِنْكَارِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ فِيهِ مُبَالَغَاتٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تعالى: كانُوا يُصِرُّونَ وَهُوَ آكَدُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: إِنَّهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ أَصَرُّوا لِأَنَّ اجْتِمَاعَ لَفْظَيِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ، لِأَنَّ قَوْلَنَا: فُلَانٌ كَانَ يُحْسِنُ إِلَى النَّاسِ، يُفِيدُ كَوْنَ ذَلِكَ عَادَةً لَهُ ثَانِيهَا:

لَفْظُ الْإِصْرَارِ فَإِنَّ الْإِصْرَارَ مُدَاوَمَةُ الْمَعْصِيَةِ وَالْغُلُولِ، وَلَا يُقَالُ: فِي الْخَيْرِ أَصَرَّ ثَالِثُهَا: الْحِنْثُ فَإِنَّهُ فَوْقَ الذَّنْبِ فَإِنَّ الْحِنْثَ لَا يَكَادُ فِي اللُّغَةِ يَقَعُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالذَّنْبُ يَقَعُ عَلَيْهَا، وَأَمَّا الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ فَاسْتَعْمَلُوهُ لِأَنَّ نَفْسَ الْكَذِبِ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ قَبِيحٌ، فَإِنَّ مَصْلَحَةَ الْعَالَمِ مَنُوطَةٌ بِالصِّدْقِ وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ بِقَوْلِ أَحَدٍ ثِقَةٌ فَلَا يُبْنَى عَلَى كَلَامِهِ مَصَالِحُ، وَلَا يُجْتَنَبُ عَنْ مَفَاسِدَ، ثُمَّ إِنَّ الْكَذِبَ لَمَّا وُجِدَ فِي كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ لِأَغْرَاضٍ فَاسِدَةٍ أَرَادُوا تَوْكِيدَ الْأَمْرِ بِضَمِّ شَيْءٍ إِلَيْهِ يَدْفَعُ تَوَهُّمَهُ فَضَمُّوا إِلَيْهِ الْأَيْمَانَ وَلَا شَيْءَ فَوْقَهَا، فَإِذَا حَنِثَ لَمْ يَبْقَ أَمْرٌ يُفِيدُ الثِّقَةَ فَيَلْزَمُ مِنْهُ فَسَادٌ فَوْقَ فَسَادِ الزِّنَا وَالشُّرْبِ، غَيْرَ أَنَّ الْيَمِينَ إِذَا كَانَتْ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ وَرَأَى الْحَالِفُ غَيْرَهُ جَوَّزَ الشَّرْعُ الْحِنْثَ وَلَمْ يُجَوِّزْهُ فِي الْكَبِيرَةِ كَالزِّنَا وَالْقَتْلِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ الْأَيْمَانِ وَقِلَّةِ وُقُوعِ الْقَتْلِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحِنْثَ هُوَ الْكَبِيرَةُ قَوْلُهُمْ لِلْبَالِغِ: بَلَغَ الْحِنْثَ، أَيْ بَلَغَ مَبْلَغًا بِحَيْثُ يَرْتَكِبُ الْكَبِيرَةَ وَقَبْلَهُ مَا كَانَ يُنْفَى عَنْهُ الصَّغِيرَةُ، لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَأْمُورٌ بِالْمُعَاقَبَةِ عَلَى إِسَاءَةِ الْأَدَبِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: الْعَظِيمِ هَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ الشِّرْكُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا تَجْتَمِعُ فِي غَيْرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: كَيْفَ اشْتُهِرَ مِتْنا بِكَسْرِ الْمِيمِ مَعَ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْقُرْآنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَمُوتُ قَالَ تَعَالَى عَنْ يَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: وَيَوْمَ أَمُوتُ [مَرْيَمَ: 33] وَلَمْ يُقْرَأْ أَمَاتُ عَلَى وَزْنِ أَخَافُ، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ مُوتُوا [آلِ عمران: 119] ولم يقل: قل ماتوا، وقال تعالى: وَلا تَمُوتُنَّ [آلِ عِمْرَانَ: 102] وَلَمْ يَقُلْ: وَلَا تَمَاتُوا كَمَا قَالَ: أَلَّا تَخافُوا [فُصِّلَتْ: 30] قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ خَالَفَتْ غَيْرَهَا، فَقِيلَ فِيهَا: أَمُوتُ وَالسَّمَاعُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَالثَّانِي: مَاتَ يَمَاتُ لُغَةٌ فِي مَاتَ يَمُوتُ، فَاسْتُعْمِلَ مَا فِيهَا الْكَسْرُ لِأَنَّ/ الْكَسْرَ فِي الْمَاضِي يُوجَدُ أَكْثَرَ الْأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: كَثْرَةُ يَفْعَلُ عَلَى يَفْعُلُ وَثَانِيهِمَا: كَوْنُهُ عَلَى فَعَلَ يَفْعَلُ، مِثْلُ خَافَ يَخَافُ، وَفِي مُسْتَقْبَلِهَا الضَّمُّ لِأَنَّهُ يُوجَدُ لِسَبَبَيْنِ أَحَدُهُمَا: كَوْنُ الْفِعْلِ عَلَى فَعَلَ يَفْعُلُ، مِثْلُ طَالَ يَطُولُ، فَإِنَّ وَصْفَهُ بِالتَّطْوِيلِ دُونَ الطَّائِلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ قَصَرَ يَقْصُرُ، وَثَانِيهِمَا: كَوْنُهُ عَلَى فَعِلَ يَفْعُلُ، تَقُولُ: فَعِلْتُ فِي الْمَاضِي بِالْكَسْرِ وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالضَّمِّ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: كَيْفَ أَتَى بِاللَّامِ الْمُؤَكِّدَةِ فِي قَوْلِهِ: لَمَبْعُوثُونَ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ النَّفْيُ وَفِي النَّفْيِ لَا يُذْكَرُ فِي خَبَرِ إِنَّ اللَّامُ يُقَالُ: إِنَّ زَيْدًا لَيَجِيءُ وَإِنَّ زَيْدًا لَا يَجِيءُ، فَلَا تُذْكَرُ اللَّامُ، وَمَا مُرَادُهُمْ بِالِاسْتِفْهَامِ إِلَّا الْإِنْكَارَ بِمَعْنَى إِنَّا لَا نُبْعَثُ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: عِنْدَ إِرَادَةِ التَّصْرِيحِ بِالنَّفْيِ يُوجَدُ التَّصْرِيحُ بِالنَّفْيِ وَصِيغَتُهُ ثَانِيهِمَا: أَنَّهُمْ أَرَادُوا تَكْذِيبَ مَنْ يُخْبِرُ عَنِ الْبَعْثِ فَذَكَرُوا أَنَّ الْمُخْبِرَ عَنْهُ يُبَالِغُ فِي الْإِخْبَارِ وَنَحْنُ نَسْتَكْثِرُ مُبَالَغَتَهُ وَتَأْكِيدَهُ فَحَكَوْا كَلَامَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَشَارُوا فِي الْإِنْكَارِ إِلَى أُمُورٍ اعْتَقَدُوهَا مُقَرَّرَةً لصحة إنكارهم فقالوا أولا: أَإِذا مِتْنا وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَيْهِ بَلْ قَالُوا بَعْدَهُ: وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَيْ فَطَالَ عَهْدُنَا بَعْدَ كَوْنِنَا أَمْوَاتًا حَتَّى صَارَتِ اللُّحُومُ تُرَابًا وَالْعِظَامُ رُفَاتًا، ثُمَّ زَادُوا وَقَالُوا: مَعَ هَذَا يُقَالُ لَنَا: إِنَّكُمْ لَمَبْعُوثُونَ بِطَرِيقِ التَّأْكِيدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: اسْتِعْمَالُ كَلِمَةٍ إِنَّ ثَانِيهَا: إِثْبَاتُ اللَّامِ فِي خَبَرِهَا ثَالِثُهَا: تَرْكُ صِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ، وَالْإِتْيَانُ بِالْمَفْعُولِ كَأَنَّهُ كَائِنٌ، فَقَالُوا لَنَا: إِنَّكُمْ لَمَبْعُوثُونَ ثُمَّ زَادُوا وَقَالُوا: أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ يَعْنِي هَذَا أَبْعَدُ فَإِنَّا إِذَا كُنَّا تُرَابًا بَعْدَ مَوْتِنَا وَالْآبَاءُ حَالُهُمْ فَوْقَ حَالِ الْعِظَامِ الرُّفَاتِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْبَعْثُ؟ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ وَالصَّافَّاتِ هَذَا كُلَّهُ وَقُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ: أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الصافات: 17]

[سورة الواقعة (56) : الآيات 49 إلى 50]

مَعْنَاهُ: أَوْ يَقُولُوا: آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ فِي الْإِشْكَالِ أَعْظَمُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَهُمْ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ فِي الْجَوَابِ فِي كل مبالغة بمبالغة أخرى فقال: [سورة الواقعة (56) : الآيات 49 الى 50] قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) فَقَوْلُهُ: قُلْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي الرِّسَالَةِ أَسْرَارًا لَا تُقَالُ إِلَّا لِلْأَبْرَارِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا تَعْيِينُ وَقْتِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ الْعَوَامَّ لَوْ عَلِمُوا لَاتَّكَلُوا وَالْأَنْبِيَاءُ رُبَّمَا اطَّلَعُوا عَلَى عَلَامَاتِهَا أَكْثَرَ مِمَّا بَيَّنُوا وَرُبَّمَا بَيَّنُوا لِلْأَكَابِرِ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَامَاتٍ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: قُلْ يَعْنِي أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْأُمُورِ الَّتِي بَلَغَتْ فِي الظُّهُورِ إِلَى حَدٍّ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْعَوَامُّ وَالْخَوَاصُّ، فَقَالَ: قُلْ قَوْلًا عَامًّا وَهَكَذَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، قَالَ: قُلْ كَانَ الْأَمْرُ ظَاهِرًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الصمد: 1] وقال: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الكهف: 110] وَقَالَ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاءِ: 85] أَيْ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أَمْرِ الرُّوحِ وَغَيْرُهُ خَفِيٌّ ثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ بِتَقْدِيمِ الْأَوَّلِينَ عَلَى الْآخَرِينَ فِي جَوَابِ قَوْلِهِمْ: أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الواقعة: 48] فَإِنَّهُمْ أَخَّرُوا ذِكْرَ الْآبَاءِ لِكَوْنِ الِاسْتِبْعَادِ فِيهِمْ أَكْثَرَ، فَقَالَ إِنَّ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ تَسْتَبْعِدُونَ بَعْثَهُمْ وَتُؤَخِّرُونَهُمْ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ فِي أَمْرٍ مُقَدَّمٍ عَلَى الْآخِرِينَ، يَتَبَيَّنُ مِنْهُ إِثْبَاتُ/ حَالِ مَنْ أَخَّرْتُمُوهُ مُسْتَبْعِدِينَ، إِشَارَةً إِلَى كَوْنِ الْأَمْرِ هَيِّنًا ثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمَجْمُوعُونَ فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا قَوْلَهُ: لَمَبْعُوثُونَ فَقَالَ: هُوَ وَاقِعٌ مَعَ أَمْرٍ زَائِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ وَيُجْمَعُونَ فِي عَرْصَةِ الْحِسَابِ، وَهَذَا فَوْقَ الْبَعْثِ، فَإِنَّ مَنْ بَقِيَ تَحْتَ التُّرَابِ مُدَّةً طَوِيلَةً ثُمَّ حُشِرَ رُبَّمَا لَا يَكُونُ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْحَرَكَةِ، وَكَيْفَ لَوْ كَانَ حَيًّا مَحْبُوسًا فِي قَبْرِهِ مُدَّةً لَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بِقُدْرَتِهِ يُحَرِّكُهُ بِأَسْرَعِ حَرَكَةٍ وَيَجْمَعُهُ بِأَقْوَى سَيْرٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَمَجْمُوعُونَ فَوْقَ قَوْلِ الْقَائِلِ: مَجْمُوعُونَ كَمَا قُلْنَا: إِنَّ قول قَوْلَ الْقَائِلِ: إِنَّهُ يَمُوتُ فِي إِفَادَةِ التَّوْكِيدِ دُونَ قَوْلِهِ: إِنَّهُ مَيِّتٌ رَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْمَعُهُمْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مَعْلُومٍ، وَاجْتِمَاعُ عَدَدٍ مِنَ الْأَمْوَاتِ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَعْجَبُ مِنْ نَفْسِ الْبَعْثِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ وَالصَّافَّاتِ: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ [الصَّافَّاتِ: 19] أَيْ أَنْتُمْ تَسْتَبْعِدُونَ نَفْسَ الْبَعْثِ، وَالْأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَبْعَثُهُمْ بِزَجْرَةٍ وَاحِدَةٍ أَيْ صَيْحَةٍ وَاحِدَةٍ: فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ أَيْ يُبْعَثُونَ مَعَ زِيَادَةِ أَمْرٍ، وَهُوَ فَتْحُ أَعْيُنِهِمْ وَنَظَرُهُمْ، بِخِلَافِ مَنْ نَعَسَ فَإِنَّهُ إِذَا انْتَبَهَ يَبْقَى سَاعَةً ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْأَشْيَاءِ، فَأَمْرُ الْإِحْيَاءِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَهْوَنُ مِنْ تَنْبِيهِ نَائِمٍ خَامِسُهَا: حَرْفُ (إِلَى) أَدَلُّ عَلَى الْبَعْثِ مِنَ اللَّامِ، وَلْنَذْكُرْ هَذَا فِي جَوَابِ سُؤَالٍ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التَّغَابُنِ: 9] وَقَالَ هُنَا: لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَلَمْ يَقُلْ: لِمِيقَاتِنَا وَقَالَ: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا [الْأَعْرَافِ: 143] نَقُولُ: لَمَّا كَانَ ذكر الجمع جوابا للمنكرين المستبعدين ذَكَرَ كَلِمَةَ (إِلَى) الدَّالَّةِ عَلَى التَّحَرُّكِ وَالِانْتِقَالِ لِتَكُونَ أَدَلَّ عَلَى فِعْلٍ غَيْرِ الْبَعْثِ وَلَا يَجْمَعُ هُنَاكَ قَالَ: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ وَلَا يُفْهَمُ النُّشُورُ مِنْ نَفْسِ الْحَرْفِ وَإِنْ كَانَ يفهم من الكلام، ولهذا قال هاهنا: لَمَجْمُوعُونَ بِلَفْظِ التَّأْكِيدِ، وَقَالَ هُنَاكَ: يَجْمَعُكُمْ وَقَالَ هاهنا: إِلى مِيقاتِ وَهُوَ مَصِيرُ الْوَقْتِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا فَنَقُولُ: الْمَوْضِعُ هُنَاكَ لَمْ يَكُنْ مَطْلُوبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا كَانَ مَطْلُوبُهُ الْحُضُورَ، لِأَنَّ مَنْ وُقِّتَ لَهُ وَقْتٌ وَعُيِّنَ لَهُ مَوْضِعٌ كَانَتْ حَرَكَتُهُ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَمْرٍ بِالتَّبَعِ إِلَى أَمْرٍ، وَأَمَّا هُنَاكَ فَالْأَمْرُ الْأَعْظَمُ

[سورة الواقعة (56) : الآيات 51 إلى 55]

الْوُقُوفُ فِي مَوْضِعِهِ لَا زَمَانِهِ فَقَالَ بِكَلِمَةٍ دلالتها على الموضع والمكان أظهر. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 51 الى 55] ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْخِطَابُ مَعَ مَنْ؟ نَقُولُ: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مَعَ أَهْلِ مَكَّةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَامٌّ مَعَ كُلِّ ضَالٍّ مُكَذِّبٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي مَوَاضِعَ، وَهُوَ تَمَامُ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ تُعَذَّبُونَ بِهَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْعَذَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثانية: قال هاهنا: الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ بِتَقْدِيمِ الضَّالِّ وَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ [الْوَاقِعَةِ: 92] بِتَقْدِيمِ الْمُكَذِّبِينَ، فَهَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ؟ قُلْتُ: نعم، وذلك أن المراد من الضالين هاهنا هُمُ الَّذِينَ صَدَرَ مِنْهُمُ الْإِصْرَارُ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ، فَضَلُّوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَصِلُوا إِلَيْهِ وَلَمْ يُوَحِّدُوهُ، وَذَلِكَ ضَلَالٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ كذبوا رسله وقالوا: أَإِذا مِتْنا فَكَذَّبُوا بِالْحَشْرِ، فَقَالَ: أَيُّهَا الضَّالُّونَ الَّذِينَ أَشْرَكْتُمْ: الْمُكَذِّبُونَ الَّذِينَ أَنْكَرْتُمُ الْحَشْرَ لَتَأْكُلُونَ مَا تَكْرَهُونَ، وَأَمَّا هُنَاكَ فَقَالَ لَهُمْ: أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ الَّذِينَ كَذَّبْتُمْ بِالْحَشْرِ الضَّالُّونَ فِي طَرِيقِ الْخَلَاصِ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى النَّعِيمِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا مَعَ الْكُفَّارِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ضَلَلْتُمْ أَوَّلًا وَكَذَّبْتُمْ ثَانِيًا، وَالْخِطَابُ فِي آخِرِ السُّورَةِ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَيِّنُ لَهُ حَالَ الْأَزْوَاجِ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ: الْمُقَرَّبُونَ فِي رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وجنة ونعيم، وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سَلَامٍ، وَأَمَّا الْمُكَذِّبُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا فَقَدْ ضَلُّوا فَقَدَّمَ تَكْذِيبَهُمْ إِشَارَةً إِلَى كَرَامَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّ أَقْوَى سَبَبٍ فِي عِقَابِهِمْ تَكْذِيبُهُمْ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ هُنَاكَ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الْوَاقِعَةِ: 91] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الزَّقُّومُ؟ نَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَاخْتَلَفَ فِيهِ أَقْوَالُ النَّاسِ وَمَآلُ الْأَقْوَالِ إِلَى كَوْنِ ذَلِكَ فِي الطَّعْمِ مُرًّا وَفِي اللَّمْسِ حَارًّا، وَفِي الرَّائِحَةِ مُنْتِنًا، وَفِي الْمَنْظَرِ أَسْوَدَ لَا يَكَادُ آكِلُهُ يُسِيغُهُ فَيُكْرَهُ عَلَى ابْتِلَاعِهِ، وَالتَّحْقِيقُ اللُّغَوِيُّ فِيهِ أَنَّ الزَّقُّومَ لُغَيَّةٌ عَرَبِيَّةٌ دَلَّنَا تَرْكِيبُهُ عَلَى قُبْحِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ زق لَمْ يَجْتَمِعْ إِلَّا فِي مُهْمَلٍ أَوْ فِي مَكْرُوهٍ مِنْهُ مَزَقَ، وَمِنْهُ زَمَقَ شَعْرُهُ إِذَا نَتَفَهُ، وَمِنْهُ الْقَزْمُ لِلدَّنَاءَةِ، وَأَقْوَى مِنْ هَذَا أَنَّ الْقَافَ مَعَ كُلِّ حَرْفٍ مِنَ الْحَرْفَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ يَدُلُّ عَلَى الْمَكْرُوهِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ، فَالْقَافُ مَعَ الْمِيمِ قُمَامَةٌ وَقُمْقُمَةٌ، وَبِالْعَكْسِ مُقَامِقٌ، الْغَلِيظُ الصَّوْتِ وَالْقُمْقُمَةُ هُوَ السُّورُ، وَأَمَّا الْقَافُ مَعَ الزَّايِ فَالْزَّقُّ رَمْيُ الطَّائِرِ بِذَرْقِهِ، وَالزَّقْزَقَةُ الْخِفَّةُ، وَبِالْعَكْسِ الْقَزْنُوبُ فَيَنْفِرُ الطَّبْعُ مِنْ تَرْكِيبِ الْكَلِمَةِ مِنْ حُرُوفٍ اجْتِمَاعُهَا دَلِيلُ الْكَرَاهَةِ وَالْقُبْحِ، ثُمَّ قُرِنَ بِالْأَكْلِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ طَعَامٌ ذو غضة، وَأَمَّا مَا يُقَالُ بِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: زَقَمْتَنِي بِمَعْنَى أَطْعَمْتَنِي الزُّبْدَ وَالْعَسَلَ وَاللَّبَنَ، فَذَلِكَ لِلْمَجَانَةِ كَقَوْلِهِمْ: أَرْشَقَنِي بِثَوْبٍ حَسَنٍ، وَأَرْجَمَنِي بِكِيسٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَقَوْلُهُ: مِنْ شَجَرٍ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيْ تناولكم منه،

[سورة الواقعة (56) : آية 56]

وقوله: فَمالِؤُنَ مِنْهَا زِيَادَةٌ فِي بَيَانِ الْعَذَابِ أَيْ لَا يُكْتَفَى مِنْكُمْ بِنَفْسٍ كَمَا الْأَكْلُ يَكْتَفِي مَنْ يَأْكُلُ الشَّيْءَ لِتَحِلَّةِ الْقَسَمِ، بَلْ يُلْزَمُونَ بِأَنْ تملأوا مِنْهَا الْبُطُونَ وَالْهَاءُ عَائِدَةٌ إِلَى الشَّجَرَةِ، وَالْبُطُونُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مُقَابَلَةَ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ أَيْ يَمْلَأُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بَطْنَهُ/ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ يَمْلَأُ الْبُطُونَ، وَالْبُطُونُ حِينَئِذٍ تَكُونُ بُطُونَ الْأَمْعَاءِ، لِتَخَيُّلِ وَصْفِ الْمِعَى فِي بَاطِنِ الْإِنْسَانِ لَهُ، كَيَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ، فَيَمْلَئُونَ بُطُونَ الْأَمْعَاءِ وَغَيْرِهَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَالثَّانِي أَدْخَلُ فِي التَّعْذِيبِ وَالْوَعِيدِ، قَوْلُهُ: فَشارِبُونَ عَلَيْهِ أَيْ عَقِيبَ الْأَكْلِ تَجُرُّ مَرَارَتُهُ وَحَرَارَتُهُ إِلَى شُرْبِ الْمَاءِ فَيَشْرَبُونَ عَلَى ذَلِكَ الْمَأْكُولِ وَعَلَى ذَلِكَ الزَّقُّومِ مِنَ الْمَاءِ الْحَارِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْحَمِيمِ، وَقَوْلُهُ: فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ بَيَانٌ أَيْضًا لِزِيَادَةِ الْعَذَابِ أَيْ لَا يَكُونُ أَمْرُكُمْ أَمْرَ مَنْ شرب ماءا حَارًّا مُنْتِنًا فَيُمْسِكُ عَنْهُ بَلْ يَلْزَمُكُمْ أَنْ تشربوا منه مثل ما تشرب إليهم وَهِيَ الْجِمَالُ الَّتِي أَصَابَهَا الْعَطَشُ فَتَشْرَبُ وَلَا تَرْوَى، وَهَذَا الْبَيَانُ فِي الشُّرْبِ لِزِيَادَةِ الْعَذَابِ، وقوله: فَمالِؤُنَ مِنْهَا فِي الْأَكْلِ، فَإِنْ قِيلَ: الْأَهْيَمُ إِذَا شَرِبَ الْمَاءَ الْكَثِيرَ يَضُرُّهُ وَلَكِنْ فِي الْحَالِ يَلْتَذُّ بِهِ، فَهَلْ لِأَهْلِ الْجَحِيمِ مِنْ شُرْبِ الْحَمِيمِ الْحَارِّ فِي النَّارِ لَذَّةٌ؟ قُلْنَا: لَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِبَيَانِ زِيَادَةِ الْعَذَابِ، وَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ: يُلْزَمُونَ بِشُرْبِ الْحَمِيمِ وَلَا يُكْتَفَى مِنْهُمْ بِذَلِكَ الشُّرْبِ بَلْ يُلْزَمُونَ أَنْ يَشْرَبُوا كَمَا يَشْرَبُ الْجَمَلُ الْأَهْيَمُ الَّذِي بِهِ الْهُيَامُ، أَوْ هُمْ إِذَا شَرِبُوا تَزْدَادُ حَرَارَةُ الزَّقُّومِ فِي جَوْفِهِمْ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ مِنَ الزَّقُّومِ لَا مِنَ الْحَمِيمِ فَيَشْرَبُونَ مِنْهُ شَيْئًا كَثِيرًا بِنَاءً عَلَى وَهْمِ الرِّيِّ، وَالْقَوْلُ فِي الْهِيمِ كَالْقَوْلِ فِي الْبِيضِ، أَصْلُهُ هُومٌ، وَهَذَا مِنْ هَامَ يَهِيمُ كَأَنَّهُ مِنَ الْعَطَشِ يَهِيمُ، وَالْهُيَامُ ذَلِكَ الدَّاءُ الذي يجعله كالهائم من العطش. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : آية 56] هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) يَعْنِي لَيْسَ هَذَا كُلَّ الْعَذَابِ بَلْ هَذَا أَوَّلُ مَا يَلْقَوْنَهُ وَهُوَ بَعْضٌ مِنْهُ وَأَقْطَعُ لِأَمْعَائِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 59] نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) دَلِيلًا عَلَى كَذِبِهِمْ وَصِدْقِ الرُّسُلِ فِي الْحَشْرِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ إِلْزَامٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ الْخَالِقَ فِي الِابْتِدَاءِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْخَلْقِ أَوَّلًا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْخَلْقِ ثَانِيًا، وَلَا مَجَالَ لِلنَّظَرِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفُوا بِهِ، بل يشكون ويقولن: الْخَلْقُ الْأَوَّلُ مِنْ مَنِيٍّ بِحَسَبِ الطَّبِيعَةِ، فَنَقُولُ: الْمَنِيُّ مِنَ الْأُمُورِ الْمُمْكِنَةِ وَلَا وُجُودَ لِلْمُمْكِنِ بِذَاتِهِ بَلْ بِالْغَيْرِ عَلَى مَا عُرِفَ، فَيَكُونُ الْمَنِيُّ مِنَ الْقَادِرِ الْقَاهِرِ، وَكَذَلِكَ خَلْقُ الطَّبِيعَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحَادِثَاتِ أَيْضًا، فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ تَشُكُّونَ فِي أَنَّ اللَّهَ خَلَقَكُمْ أَوَّلًا أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا نَشُكُّ فِي أَنَّهُ خالقا، فَيُقَالُ: فَهَلْ تُصَدِّقُونَ أَيْضًا بِخَلْقِكُمْ ثَانِيًا؟ فَإِنَّ مَنْ خَلَقَكُمْ أَوَّلًا مِنْ لَا شَيْءٍ لَا يَعْجِزُ أَنْ يَخْلُقَكُمْ ثَانِيًا مِنْ أَجْزَاءٍ هِيَ عِنْدَهُ مَعْلُومَةٌ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَشُكُّونَ وَتَقُولُونَ: الْخَلْقُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ (مَنِيٍّ وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَا وَالِدَةَ وَلَا مَنِيَّ، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا الْمَنِيُّ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمِ اللَّهُ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَعْتَرِفُونَ بِاللَّهِ وَبِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَعَمَلِهِ، فَذَلِكَ/ يُلْزِمُكُمُ القول بجواز الحشر وصحته، و (لولا) كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ مَعْنَاهَا التَّحْضِيضُ وَالْحَثُّ وَالْأَصْلُ فِيهِ: لِمَ لَا، فَإِذَا قُلْتَ: لِمَ لَا أَكَلْتَ وَلِمَ مَا أَكَلْتَ، جَازَ الِاسْتِفْهَامَانِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ لَا عِلَّةَ لِعَدَمِ

[سورة الواقعة (56) : الآيات 60 إلى 62]

الْأَكْلِ وَلَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَذْكُرَ عِلَّةً لَهُ، كَمَا تَقُولُ: لِمَ فَعَلْتَ؟ مُوَبِّخًا، يَكُونُ مَعْنَاهُ فَعَلْتَ أَمْرًا لَا سَبَبَ لَهُ وَلَا يُمْكِنُكَ ذِكْرُ سَبَبٍ لَهُ ثُمَّ إِنَّهُمْ تَرَكُوا حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْعِلَّةِ وَأَتَوْا بِحَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْحُكْمِ، فَقَالُوا: هَلَّا فَعَلْتَ؟ كَمَا يَقُولُونَ فِي مَوْضِعٍ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا وَأَنْتَ تَعْلَمُ فَسَادَهُ، أَتَفْعَلُ هَذَا وَأَنْتَ عَاقِلٌ؟ وَفِيهِ زِيَادَةُ حَثٍّ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: لِمَ فَعَلْتَ حَقِيقَتُهُ سُؤَالٌ عَنِ الْعِلَّةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ عِلَّتَهُ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ وَغَيْرُ ظَاهِرَةٍ، فَلَا يَجُوزُ ظُهُورُ وُجُودِهِ، وَقَوْلُهُ: أَفَعَلْتَ، سُؤَالٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ فِي جِنْسِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَالسَّائِلُ عَنِ الْعِلَّةِ كَأَنَّهُ سَلَّمَ الْوُجُودَ وَجَعَلَهُ مَعْلُومًا وَسَأَلَ عَنِ الْعِلَّةِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: زَيْدٌ جَاءَ فَلِمَ جَاءَ، وَالسَّائِلُ عَنِ الْوُجُودِ لَمْ يُسَلِّمْهُ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ: لِمَ فَعَلْتَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِيهِ دُونَ قَوْلِهِ: أَفَعَلْتَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِيهِ، لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ جَعَلَهُ كَالْمُصِيبِ فِي فِعْلِهِ لِعِلَّةٍ خَفِيَّةٍ تُطْلَبُ مِنْهُ، وَفِي الثَّانِي جَعَلَهُ مُخْطِئًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَإِذَا عُلِمَ مَا بَيْنَ لِمَ فَعَلْتَ، وَأَفَعَلْتَ، عُلِمَ مَا بَيْنَ لِمَ تفعل وهلا تفعل، وأما (لولا) فَنَقُولُ: هِيَ كَلِمَةُ شَرْطٍ فِي الْأَصْلِ وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ غَيْرُ مَجْزُومَةٍ بِهَا كَمَا أَنَّ جُمْلَةَ الِاسْتِفْهَامِ غَيْرُ مَجْزُومٍ بِهِ لَكِنَّ لَوْلَا تَدُلُّ عَلَى الِاعْتِسَافِ وَتَزِيدُ نَفْيَ النَّظَرِ وَالتَّوَانِي، فَيَقُولُ: لَوْلَا تُصَدِّقُونَ، بَدَلَ قَوْلِهِ: لِمَ لَا، وَهَلَّا، لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى نَفْيِ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ عَدَمُ التَّصْدِيقِ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ لَوْلَا تَدْخُلُ عَلَى فِعْلٍ مَاضٍ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التَّوْبَةِ: 122] فَمَا وَجْهُ اخْتِصَاصِ الْمُسْتَقْبَلِ هاهنا بِالذِّكْرِ وَهَلَّا قَالَ: فَلَوْلَا صَدَّقْتُمْ؟ نَقُولُ: هَذَا كَلَامٌ مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْإِسْلَامُ فِيهَا مَقْبُولٌ وَيَجُبُّ مَا قَبْلَهُ فَقَالَ: لِمَ لَا تُصَدِّقُونَ في ساعتكم، والدلائل واضحة مستمر وَالْفَائِدَةُ حَاصِلَةٌ، فَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: فَلَوْلا نَفَرَ لَمْ تَكُنِ الْفَائِدَةُ تَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ فَقَالَ: لَوْ سَافَرْتُمْ لَحَصَلَ لَكُمُ الْفَائِدَةُ فِي الْحَالِ وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا تُسَافِرُونَ فِي الْحَالِ تَفُوتُكُمُ الْفَائِدَةُ أَيْضًا فِي الِاسْتِقْبَالِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ مِنْ تَقْرِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ قَالَ الطَّبِيعِيُّونَ: نَحْنُ مَوْجُودُونَ مِنْ نُطَفِ الْخَلْقِ بِجَوَاهِرَ كَامِنَةٍ وَقَبْلَ كُلِّ وَاحِدٍ نُطْفَةُ وَاحِدٍ فَقَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: هَلْ رَأَيْتُمْ هَذَا الْمَنِيَّ وَأَنَّهُ جِسْمٌ ضَعِيفٌ مُتَشَابِهُ الصُّورَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُكَوِّنٍ، فَأَنْتُمْ خَلَقْتُمُ النُّطْفَةَ أَمْ غَيْرُكُمْ خَلَقَهَا، وَلَا بُدَّ مِنْ الِاعْتِرَافِ بِخَالِقٍ غَيْرِ مَخْلُوقٍ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ الْبَاطِلِ وَإِلَى رَبِّنَا الْمُنْتَهَى، وَلَا يَرْتَابُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَوَّلِ مَا خَلَقَ اللَّهُ النُّطْفَةَ وَصَوَّرَهَا وَأَحْيَاهَا وَنَوَّرَهَا فَلِمَ لَا تُصَدِّقُونَ أَنَّهُ وَاحِدٌ أَحَدٌ صَمَدٌ قَادِرٌ عَلَى الْأَشْيَاءِ، فَإِنَّهُ يُعِيدُكُمْ كَمَا أَنْشَأَكُمْ فِي الِابْتِدَاءِ، وَالِاسْتِفْهَامُ يُفِيدُ زِيَادَةَ تَقْرِيرٍ وَقَدْ علمت ذلك مرارا. قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 60 الى 62] نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي التَّرْتِيبِ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَقْرِيرٌ لِمَا سَبَقَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الملك: 2] فقال: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ [الواقعة: 57] ثُمَّ قَالَ: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ فَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَهُمَا ضِدَّانِ ثَبَتَ كَوْنُهُ مُخْتَارًا فَيُمْكِنُ الْإِحْيَاءُ ثَانِيًا مِنْهُ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْإِحْيَاءُ مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْإِمَاتَةِ فَيُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ مُوجَبٌ لَا مُخْتَارٌ، وَالْمُوجَبُ لَا يَقْدِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ

مُمْكِنٍ فَقَالَ: نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ وَقَدَّرْنَا الْمَوْتَ بَيْنَكُمْ فَانْظُرُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّا قَادِرُونَ أَنْ نُنْشِئَكُمْ، ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ مُبْطِلٍ يَقُولُ: إِنْ لَمْ تَكُنِ الْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ بِأُمُورٍ طَبِيعِيَّةٍ فِي الْأَجْسَامِ مِنْ حَرَارَاتٍ وَرُطُوبَاتٍ إِذَا تَوَفَّرَتْ بَقِيَتْ حَيَّةً، وَإِذَا نَقَصَتْ وَفَنِيَتْ مَاتَتْ لَمْ يَقَعِ الْمَوْتُ وَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا يُتْقِنُ خَلْقَهُ وَيُحْسِنُ صُورَتَهُ ثُمَّ يُفْسِدُهُ وَيُعْدِمُهُ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَيُنْشِئُهُ، فَقَالَ تَعَالَى: نَحْنُ قَدَّرْنَا الْمَوْتَ، وَلَا يَرُدُّ قَوْلَكُمْ: لِمَاذَا أَعْدَمَ وَلِمَاذَا أَنْشَأَ، وَلِمَاذَا هَدَمَ، لِأَنَّ كَمَالَ الْقُدْرَةِ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَقْبُحُ مِنَ الصَّائِغِ وَالْبَانِي صياغة شيء وبناؤه وكسره وإفناؤه لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى صَرْفِ زَمَانٍ إِلَيْهِ وَتَحَمُّلِ مَشَقَّةٍ وَمَا مَثَلُهُ إِلَّا مَثَلُ إِنْسَانٍ يَنْظُرُ إِلَى شَيْءٍ فَيَقْطَعُ نَظَرَهُ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، ثُمَّ يُعَاوِدُهُ وَلَا يُقَالُ لَهُ: لِمَ قَطَعْتَ النَّظَرَ وَلِمَ نَظَرْتَ إِلَيْهِ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى مِنْ هَذَا، لِأَنَّ هُنَا لَا بُدَّ مِنْ حَرَكَةٍ وَزَمَانٍ وَلَوْ تَوَارَدَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَمْثَالُهُ لَتَعِبَ لَكِنْ فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ لَا يَثْبُتُ التَّعَبُ وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ التَّعَبِ وَلَا افْتِقَارَ لِفِعْلِهِ إِلَى زَمَانٍ وَلَا زَمَانَ لِفِعْلِهِ وَلَا إِلَى حَرَكَةٍ بِجِرْمٍ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَلْطَفُ مِنْهَا، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ [الواقعة: 58] مَعْنَاهُ أَفَرَأَيْتُمْ ذَلِكَ مَيِّتًا لَا حَيَاةَ فِيهِ وَهُوَ مَنِيٌّ، وَلَوْ تَفَكَّرْتُمْ فِيهِ لَعَلِمْتُمْ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ حَيًّا مُتَّصِلًا بِحَيٍّ وَكَانَ أَجْزَاءً مُدْرِكَةً مُتَأَلِّمَةً مُتَلَذِّذَةً ثُمَّ إِذَا أَمْنَيْتُمُوهُ لَا تَسْتَرِيبُونَ فِي كَوْنِهِ مَيِّتًا كَالْجَمَادَاتِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُهُ آدَمِيًّا وَيَجْعَلُهُ بَشَرًا سَوِيًّا فَالنُّطْفَةُ كَانَتْ قَبْلَ الِانْفِصَالِ حَيَّةً، ثُمَّ صَارَتْ مَيِّتَةً ثُمَّ أَحْيَاهَا اللَّهُ تَعَالَى مَرَّةً أُخْرَى فَاعْلَمُوا أَنَّمَا إِذَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلًا ثُمَّ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ثَانِيًا ثُمَّ نُنْشِئُكُمْ مَرَّةً أخرى فلا تستعبدوا ذَلِكَ كَمَا فِي النُّطَفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيْنَ أَوَّلِ سُورَةِ تَبَارَكَ حَيْثُ قَالَ هُنَاكَ: خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الملك: 2] بِتَقْدِيمِ ذِكْرِ الْمَوْتِ؟ نَقُولُ: الْكَلَامُ هُنَا عَلَى التَّرْتِيبِ الْأَصْلِيِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 12] ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 15] وَأَمَّا فِي سُورَةِ الْمُلْكِ فَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَائِدَتَهَا وَمَرْجِعَهَا إِلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَالَ: خَلَقَ الْمَوْتَ فِي النُّطَفِ بَعْدَ كَوْنِهَا حَيَّةً عِنْدَ الِاتِّصَالِ ثُمَّ خَلَقَ الْحَيَاةَ فِيهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ دَلِيلُ الْحَشْرِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْمَوْتِ هُنَا الْمَوْتُ الَّذِي بَعْدَ الْحَيَاةِ، وَالْمُرَادُ هُنَاكَ الَّذِي قَبْلَ الْحَيَاةِ. الْمَسْأَلَةُ الثالثة: قال هاهنا: نَحْنُ قَدَّرْنا وَقَالَ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ: خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ فَذَكَرَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ بِلَفْظِ الْخَلْقِ، وهاهنا قَالَ: خَلَقْناكُمْ وَقَالَ: قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ فَنَقُولُ: كَانَ الْمُرَادُ هُنَاكَ بَيَانَ كَوْنِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ مَخْلُوقَيْنِ مُطْلَقًا لَا فِي النَّاسِ عَلَى الْخُصُوصِ، وهنا لما قال: خَلَقْناكُمْ [الواقعة: 57] خَصَّصَهُمْ بِالذِّكْرِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: خَلَقْنَا حَيَاتَكُمْ، فَلَوْ قَالَ: نَحْنُ قَدَّرْنَا مَوْتَكُمْ، كَانَ يَنْبَغِي أَنَّهُ يُوجَدُ مَوْتُهُمْ فِي الْحَالِ وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ وَأَمَّا هُنَاكَ فَالْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ كَانَا مَخْلُوقَيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضٍ مَخْصُوصٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَلْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَيْنَكُمُ بَدَلًا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ فَائِدَةٌ؟ نَقُولُ: نَعَمْ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ، وَهِيَ تَبِينُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَقُومُ مَقَامَهَا فَنَقُولُ: قَدَّرْنَا لَكُمُ الْمَوْتَ، وَقَدَّرْنَا فِيكُمُ الْمَوْتَ، فَقَوْلُهُ: قَدَّرْنَا فِيكُمْ يُفِيدُ مَعْنَى الْخَلْقِ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ يَسْتَدْعِي كَوْنَهُ ظَرْفًا لَهُ إِمَّا ظَرْفُ حُصُولٍ فِيهِ أَوْ ظَرْفُ حُلُولٍ فِيهِ كَمَا يُقَالُ: الْبَيَاضُ فِي الْجِسْمِ وَالْكَحَلُ فِي الْعَيْنِ، فَلَوْ قَالَ: قَدَّرْنَا فِيكُمُ الْمَوْتَ لَكَانَ مَخْلُوقًا فِينَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنْ قُلْنَا: قَدَّرْنَا لَكُمُ الْمَوْتَ كَانَ ذَلِكَ يُنْبِئُ عَنْ تَأَخُّرِهِ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: هَذَا مُعَدٌّ لَكَ كان

مَعْنَاهُ أَنَّهُ الْيَوْمَ لِغَيْرِكَ وَغَدًا لَكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آلِ عِمْرَانَ: 140] . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ: وَمَا نَحْنُ بِمَغْلُوبِينَ عَاجِزِينَ عَنْ خَلْقِ أَمْثَالِكُمْ وَإِعَادَتِكُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِ أَوْصَالِكُمْ، يُقَالُ: فَاتَهُ الشَّيْءُ إِذَا غَلَبَهُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ وَمِثْلُهُ سَبَقَهُ وَعَلَى هَذَا نُعِيدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّرْتِيبِ، وَنَقُولُ: إِذَا كَانَ قَوْلُهُ: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ لِبَيَانِ أَنَّهُ خَلَقَ الْحَيَاةَ وَقَدَّرَ الْمَوْتَ، وَهُمَا ضِدَّانِ وَخَالِقُ الضِّدَّيْنِ يَكُونُ قَادِرًا مُخْتَارًا فَقَالَ: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَاجِزِينَ عَنِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ الْمُوجِبِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ مِنْ إِيقَاعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الضِّدَّيْنِ فَيَسْبِقُهُ وَيَفُوتُهُ، فَإِنَّ النَّارَ لَا يُمْكِنُهَا التَّبْرِيدُ لِأَنَّ طَبِيعَتَهَا مُوجِبَةٌ لِلتَّسْخِينِ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا بِأَنَّهُ ذَكَرَهُ رَدًّا عَلَيْهِمْ حَيْثُ قَالُوا: لَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَوْتُ مِنْ فَنَاءِ الرُّطُوبَاتِ الْأَصْلِيَّةِ وَانْطِفَاءِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَكَانَ بِخَلْقِ حَكِيمٍ مُخْتَارٍ مَا كَانَ يَجُوزُ وُقُوعُهُ لِأَنَّ الْحَكِيمَ كَيْفَ يَبْنِي وَيَهْدِمُ وَيُوجِدُ وَيُعْدِمُ فَقَالَ: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أَيْ عَاجِزِينَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يَسْتَبْعِدُونَهَا مِنَ الْبَنَّاءِ وَالصَّائِغِ فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ فِي الْإِيجَادِ إِلَى زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَتَمْكِينٍ مِنَ الْمَفْعُولِ وَإِمْكَانٍ وَيَلْحَقُهُ تَعَبٌ مِنْ تَحْرِيكٍ وَإِسْكَانٍ وَاللَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ بِكُنْ فَيَكُونُ، فَهُوَ فَوْقَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَثَلِ مِنْ قَطْعِ النَّظَرِ وَإِعَادَتِهِ فِي أَسْرَعِ حِينٍ حَيْثُ لَا يَصِحُّ مِنَ الْقَائِلِ أَنْ يَقُولَ: لِمَ قَطَعْتَ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ اللَّطِيفِ الَّذِي لَا يُدْرَكُ وَلَا يُحَسُّ بَلْ رُبَّمَا يَكُونُ مُدَّعِي الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ عَلَى الشَّيْءِ فِي الزَّمَانِ الْيَسِيرِ بِالْحَرَكَةِ السَّرِيعَةِ يَأْتِي بِشَيْءٍ ثُمَّ يُبْطِلُهُ ثُمَّ يَأْتِي بِمِثْلِهِ ثُمَّ يُبْطِلُهُ يَدُلُّكَ عَلَيْهِ فِعْلُ أَصْحَابِ خِفَّةِ الْيَدِ، حَيْثُ يُوهِمُ أَنَّهُ يَفْعَلُ شَيْئًا ثم يبطله، ثم يأتي بمثله إراءة مِنْ نَفْسِهِ الْقُدْرَةَ، وَعَلَى هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ تَبَارَكَ: خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ [الْمُلْكِ: 2] مَعْنَاهُ أَمَاتَ وَأَحْيَا لِتَعْلَمُوا أَنَّهُ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ، فَتَعْبُدُونَهُ وَتَعْتَقِدُونَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ فَيَحْسُنُ عَمَلُكُمْ وَلَوِ اعْتَقَدْتُمُوهُ/ مُوجِبًا لَمَا عَمِلْتُمْ شَيْئًا عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الْمَشْهُورِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ حَقِيقَتُهُ وَهِيَ أَنَّا مَا سُبِقْنَا وَهُوَ يَحْتَمِلُ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ هُوَ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ وَثَانِيهِمَا: فِي خَلْقِ النَّاسِ وَتَقْدِيرِ الْمَوْتِ فِيهِمْ مَا سُبِقَ وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْعٍ آخَرَ وَفِيهِ فَائِدَتَانِ أَمَّا إِذَا قُلْنَا: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ مَعْنَاهُ مَا سَبَقَنَا شَيْءٌ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّكُمْ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ تَسْلُكُونَ طَرِيقَ النَّظَرِ تَنْتَهُونَ إِلَى اللَّهِ وَتَقِفُونَ عِنْدَهُ وَلَا تُجَاوِزُونَهُ، فَإِنَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ: قَبْلَ النُّطْفَةِ أَبٌ وَقَبْلَ الْأَبِ نُطْفَةٌ فَالْعَقْلُ يَحْكُمُ بِانْتِهَاءِ النُّطَفِ وَالْآبَاءِ إِلَى خَالِقٍ غَيْرِ مَخْلُوقٍ، وَأَنَا ذَلِكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَسْبُوقٍ وَلَيْسَ هُنَاكَ خَالِقٌ وَلَا سَابِقٌ غَيْرِي، وَهَذَا يَكُونُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّدَرُّجِ وَالنُّزُولِ مِنْ مَقَامٍ إِلَى مَقَامٍ، وَالْعَاقِلُ الَّذِي هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى الْهِدَايَةَ الْقَوِيَّةَ يَعْرِفُ أَوَّلًا وَالَّذِي دُونَهُ يَعْرِفُ بَعْدَ ذَلِكَ بِرُتْبَةٍ، وَالْمُعَانِدُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْرِفَ إِنْ عَادَ إِلَى عَقْلِهِ بَعْدَ الْمَرَاتِبِ، وَيَقُولُ: لَا بُدَّ لِلْكُلِّ مِنْ إِلَهٍ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَسْبُوقٍ فِيمَا فَعَلَهُ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ، وَلَمْ يَكُنْ لِمَفْعُولِهِ مِثَالٌ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِمَسْبُوقٍ، وَأَيُّ حَاجَةٍ فِي إِعَادَتِهِ لَهُ بِمِثَالٍ هُوَ أَهْوَنُ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: 27] وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا وَرَدَ فِي سُؤَالِ سَائِلٍ، وَالْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَا كَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، أَيْ لَسْنَا بِعَاجِزِينَ مَغْلُوبِينَ فَهَذَا دَلِيلُنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّا لَقادِرُونَ أَفَادَ فَائِدَةَ انْتِفَاءِ الْعَجْزِ عَنْهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ فَائِدَةٌ ظَاهِرَةٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ فِي الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى أَنْ نُبَدِّلَ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أَيْ عَلَى التَّبْدِيلِ، وَمَعْنَاهُ وَمَا نَحْنُ عَاجِزِينَ عَنِ التَّبْدِيلِ.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 63 إلى 64]

وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ مَنْ سَبَقَهُ الشَّيْءُ كَأَنَّهُ غَلَبَهُ فَعَجَزَ عَنْهُ، وَكَلِمَةُ عَلَى فِي هَذَا الْوَجْهِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْمُسَابَقَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى شَيْءٍ، فَإِنَّ مَنْ سَبَقَ غَيْرَهُ عَلَى أَمْرٍ فَهُوَ الْغَالِبُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ قَدَّرْنا وَتَقْدِيرُهُ: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ عَلَى وَجْهِ التَّبْدِيلِ لَا عَلَى وَجْهِ قَطْعِ النَّسْلِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: خَرَجَ فُلَانٌ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَاجِلًا، أَيْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ خَرَجَ، وَتَعَلُّقُ كَلِمَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَظْهَرُ، فَإِنْ قِيلَ: عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ لَا إِشْكَالَ فِي تَبْدِيلِ أَمْثَالِكُمْ، أَيْ أَشْكَالِكُمْ وَأَوْصَافِكُمْ، وَيَكُونُ الْأَمْثَالُ جَمْعَ مِثْلٍ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ وَمَا نَحْنُ بِعَاجِزِينَ عَلَى أَنْ نَمْسَخَكُمْ، وَنَجْعَلَكُمْ فِي صُورَةِ قِرَدَةٍ وَخَنَازِيرَ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ [يس: 67] وَعَلَى مَا قُلْتُ فِي تَفْسِيرِ الْمَسْبُوقِينَ، وَجَعَلْتُ الْمُتَعَلِّقَ لِقَوْلِهِ: عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ هُوَ قَوْلَهُ: نَحْنُ قَدَّرْنا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ مَعْنَاهُ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَهُمْ لَا عَلَى عَمَلِهِمْ، نَقُولُ: هَذَا إِيرَادٌ وَارِدٌ عَلَى الْمُفَسِّرِينَ بِأَسْرِهِمْ إِذَا فَسَّرُوا الْأَمْثَالَ بِجَمْعِ الْمِثْلِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد: 38] وَقَوْلِهِ: وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا [الْإِنْسَانِ: 28] فَإِنَّ قَوْلَهُ: إِذا دَلِيلُ الْوُقُوعِ، وَتَغَيُّرُ أَوْصَافِهِمْ بِالْمَسْخِ لَيْسَ أَمْرًا يَقَعُ وَالْجَوَابُ: أَنْ يُقَالَ: الْأَمْثَالُ/ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَمْعَ مِثْلٍ، وَإِمَّا جَمْعَ مَثَلٍ، فَإِنْ كَانَ جَمْعَ مِثْلٍ فَنَقُولُ مَعْنَاهُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ أَنْ نُغَيِّرَ أَوْصَافَكُمْ فَتَكُونُوا أَطْفَالًا، ثُمَّ شُبَّانًا، ثُمَّ كُهُولًا، ثُمَّ شُيُوخًا، ثُمَّ يُدْرِكَكُمُ الْأَجَلُ، وَمَا قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ عَلَى أَنْ نُهْلِكَكُمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً إِلَّا إِذَا جَاءَ وَقْتُ ذَلِكَ فَتُهْلَكُونَ بِنَفْخَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ جَمْعُ مَثَلٍ فَنَقُولُ مَعْنَى: نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ نَجْعَلُ أَمْثَالَكُمْ بَدَلًا وَبَدَّلَهُ بِمَعْنَى جَعَلَهُ بَدَلًا، وَلَمْ يَحْسُنْ أَنْ يُقَالَ: بَدَّلْنَاكُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، لِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّا جَعَلْنَا بَدَلًا فَلَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْفَنَاءِ عَلَيْهِمْ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: جَعَلْتُ كَذَا بَدَلًا لَا تَتِمُّ فَائِدَتُهُ إِلَّا إِذَا قَالَ: جَعَلْتُهُ بَدَلًا عَنْ كَذَا لَكِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ فَالْمَثَلُ يَدُلُّ عَلَى الْمَثَلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: جَعَلْنَا أَمْثَالَكُمْ بَدَلًا لَكُمْ، وَمَعْنَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمْ نُقَدِّرِ الْمَوْتَ عَلَى أَنْ نُفْنِيَ الْخَلْقَ دُفْعَةً بَلْ قَدَّرْنَاهُ عَلَى أَنْ نَجْعَلَ مَثَلَهُمْ بَدَلَهُمْ مُدَّةً طَوِيلَةً ثُمَّ نُهْلِكَهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نُنْشِئَهُمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ فِيمَا لَا تَعْلَمُونَ مِنَ الْأَوْصَافِ وَالْأَخْلَاقِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ: فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنَ الْأَوْصَافِ وَالزَّمَانِ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَدْرِي أَنَّهُ مَتَى يَمُوتُ وَمَتَى يُنْشَأُ أَوْ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: وَمَتَى السَّاعَةُ وَالْإِنْشَاءُ؟ فَقَالَ: لَا عِلْمَ لَكُمْ بِهِمَا، هَذَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ مَا ذُكِرَ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ قَوْلَهُ: فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ تَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ [الواقعة: 59] وكأنه قال: كيف يمكن أن تقولوا هذا وأنتم تنشأون في بطون أمهاتكم على أوصاف لا تعلمون وَكَيْفَ يَكُونُ خَالِقُ الشَّيْءِ غَيْرَ عَالِمٍ بِهِ؟ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ [النَّجْمِ: 32] وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيهِ فَائِدَةٌ وَهِيَ التَّحْرِيضُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، لِأَنَّ التَّبْدِيلَ وَالْإِنْشَاءَ وَهُوَ الْمَوْتُ وَالْحَشْرُ إِذَا كَانَ وَاقِعًا فِي زَمَانٍ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَّكِلَ الْإِنْسَانُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَلَا يَغْفُلَ عَنْ إِعْدَادِ الْعُدَّةِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى تَقْرِيرًا لِإِمْكَانِ النَّشْأَةِ الثانية. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 63 الى 64] أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)

[سورة الواقعة (56) : الآيات 65 إلى 67]

ذَكَرَ بَعْدَ دَلِيلِ الْخَلْقِ دَلِيلَ الرِّزْقِ فَقَوْلُهُ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ إِشَارَةٌ إِلَى دَلِيلِ الْخَلْقِ وَبِهِ الِابْتِدَاءُ، وَقَوْلُهُ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ إِشَارَةٌ إِلَى دَلِيلِ الرِّزْقِ وَبِهِ الْبَقَاءُ، وَذَكَرَ أُمُورًا ثَلَاثَةً الْمَأْكُولُ، وَالْمَشْرُوبُ، وَمَا بِهِ إِصْلَاحُ الْمَأْكُولِ، وَرَتَّبَهُ تَرْتِيبًا فَذَكَرَ الْمَأْكُولَ أَوَّلًا لِأَنَّهُ هُوَ الْغِذَاءُ، ثُمَّ الْمَشْرُوبَ لِأَنَّ بِهِ الِاسْتِمْرَاءَ، ثُمَّ النار للتي بِهَا الْإِصْلَاحُ وَذَكَرَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مَا هُوَ الْأَصْلُ، فَذَكَرَ مِنَ الْمَأْكُولِ الْحَبَّ فَإِنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ، وَمِنَ الْمَشْرُوبِ الْمَاءَ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ، وَذَكَرَ مِنَ الْمُصْلِحَاتِ النَّارَ لِأَنَّ بِهَا إِصْلَاحَ أَكْثَرِ الْأَغْذِيَةِ وَأَعَمِّهَا، وَدَخَلَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَا هُوَ دُونَهُ، هَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ، وَأَمَّا التَّفْسِيرُ فَنَقُولُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَرْثِ وَالزَّرْعِ هُوَ أَنَّ الْحَرْثَ أَوَائِلُ الزَّرْعِ وَمُقَدِّمَاتُهُ/ مِنْ كِرَابِ الْأَرْضِ، وَإِلْقَاءِ الْبَذْرِ، وَسَقْيِ الْمَبْذُورِ، وَالزَّرْعُ هُوَ آخِرُ الْحَرْثِ مِنْ خُرُوجِ النَّبَاتِ وَاسْتِغْلَاظِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى السَّاقِ، فَقَوْلُهُ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَيْ مَا تَبْتَدِئُونَ مِنْهُ مِنَ الْأَعْمَالِ أَأَنْتُمْ تُبْلِغُونَهَا الْمَقْصُودَ أَمِ اللَّهُ؟ وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ فِي أَنَّ إِيجَادَ الْحَبِّ فِي السُّنْبُلَةِ لَيْسَ بِفِعْلِ النَّاسِ، وَلَيْسَ بِفِعْلِهِمْ إِنْ كَانَ سِوَى إِلْقَاءِ الْبَذْرِ وَالسَّقْيِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الزَّارِعُ، فَكَيْفَ قَالَ تَعَالَى: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ [الْفَتْحِ: 29] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الزَّرْعُ لِلزَّارِعِ» قُلْنَا قَدْ ثَبَتَ مِنَ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْحَرْثَ مُتَّصِلٌ بِالزَّرْعِ، فَالْحَرْثُ أَوَائِلُ الزَّرْعِ، وَالزَّرْعُ أَوَاخِرُ الْحَرْثِ، فَيَجُوزُ إِطْلَاقُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، لَكِنَّ قَوْلَهُ: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ بَدَلًا عَنْ قَوْلِهِ: يُعْجِبُ الْحُرَّاثَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَارِثَ إِذَا كَانَ هُوَ المبتدي، فَرُبَّمَا يَتَعَجَّبُ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فِعْلِهِ مِنْ خُرُوجِ النَّبَاتِ وَالزَّارِعُ لَمَّا كَانَ هُوَ الْمُنْتَهِيَ، وَلَا يُعْجِبُهُ إِلَّا شَيْءٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ الَّذِينَ تَعَوَّدُوا أَخْذَ الْحِرَاثِ، فَمَا ظَنُّكَ بِإِعْجَابِهِ الْحُرَّاثَ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الزَّرْعُ لِلزَّارِعِ» فِيهِ فَائِدَةٌ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: لِلْحَارِثِ فَمَنِ ابْتَدَأَ بِعَمَلِ الزَّرْعِ وَأَتَى بِكِرَابِ الْأَرْضِ وَتَسْوِيَتِهَا يَصِيرُ حَارِثًا، وَذَلِكَ قَبْلَ إِلْقَاءِ الْبَذْرَةِ لِزَرْعٍ لِمَنْ أَتَى بِالْأَمْرِ الْمُتَأَخِّرِ وَهُوَ إِلْقَاءُ الْبَذْرِ، أَيْ مَنْ لَهُ الْبَذْرُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَهَذَا أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْإِلْقَاءِ فِي الْأَرْضِ يُجْعَلُ الزَّرْعُ لِلْمُلْقِي سَوَاءٌ كَانَ مَالِكًا أَوْ غاصبا. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 65 الى 67] لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) وَهُوَ تَدْرِيجٌ فِي الْإِثْبَاتِ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة: 64] لَمْ يَبْعُدْ مِنْ مُعَانِدٍ أَنْ يَقُولَ: نَحْنُ نَحْرُثُ وَهُوَ بِنَفْسِهِ يَصِيرُ زَرْعًا، لَا بِفِعْلِنَا وَلَا بِفِعْلِ غَيْرِنَا، فَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ سَلِمَ لكم هذا الباطل هَذَا الْبَاطِلُ، فَمَا تَقُولُونَ فِي سَلَامَتِهِ عَنِ الْآفَاتِ الَّتِي تُصِيبُهُ، فَيَفْسُدُ قَبْلَ اشْتِدَادِ الْحَبِّ وَقَبْلَ انْعِقَادِهِ، أَوْ قَبْلَ اشْتِدَادِ الْحَبِّ وَقَبْلَ ظُهُورِ الْحَبِّ فِيهِ، فَهَلْ تَحْفَظُونَهُ مِنْهَا أَوْ تَدْفَعُونَهَا عَنْهُ، أَوْ هَذَا الزَّرْعُ بِنَفْسِهِ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ تِلْكَ الْآفَاتِ، كَمَا تَقُولُونَ: إِنَّهُ بِنَفْسِهِ يَنْبُتُ، وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّ دَفْعَ الْآفَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحِفْظَهُ عَنْهَا بِفَضْلِ اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا أَعَادَهُ لِيَذْكُرَ أُمُورًا مُرَتَّبَةً بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فَيَكُونُ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: لِلْمُهْتَدِينَ وَالثَّانِي: لِلظَّالِمِينَ وَالثَّالِثُ: لِلْمُعَانِدِينَ الضَّالِّينَ فَيَذْكُرُ الْأَمْرَ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَى الضَّالِّ الْمُعَانِدِ. وَفِيهِ سُؤَالٌ وهو أنه تعالى هاهنا قَالَ: لَجَعَلْناهُ بِلَامِ الْجَوَابِ وَقَالَ فِي الْمَاءِ: جَعَلْناهُ أُجاجاً

[الْوَاقِعَةِ: 7] مِنْ غَيْرِ لَامٍ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ نَقُولُ: ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْهُ جَوَابَيْنِ أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً كَانَ قَرِيبَ الذِّكْرِ فَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ اللَّامِ فِيهِ عَنْ ذِكْرِهَا ثانيا، وهذا ضعيف لأن/ وقوله تعالى: لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ [يس: 66] مَعَ قَوْلِهِ: لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ [يس: 67] أَقْرَبُ مِنْ قَوْلِهِ: لَجَعَلْناهُ حُطاماً وجَعَلْناهُ أُجاجاً [الواقعة: 70] اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ نَقُولَ: هُنَاكَ أَحَدُهُمَا قَرِيبٌ مِنَ الْآخَرِ ذِكْرًا لَا مَعْنًى لِأَنَّ الطَّمْسَ لَا يَلْزَمُهُ الْمَسْخُ وَلَا بِالْعَكْسِ وَالْمَأْكُولَ مَعَهُ الْمَشْرُوبُ فِي الدَّهْرِ، فَالْأَمْرَانِ تَقَارَبَا لَفْظًا وَمَعْنًى وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّامَ يُفِيدُ نَوْعَ تَأْكِيدٍ فَذَكَرَ اللَّامَ فِي الْمَأْكُولِ لِيُعْلَمَ أَنَّ أَمْرَ الْمَأْكُولِ أَهَمُّ مِنْ أَمْرِ الْمَشْرُوبِ وَأَنَّ نِعْمَتَهُ أَعْظَمُ وَمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا وَارِدٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ أَمْرَ الطَّمْسِ أَهْوَنُ مِنْ أَمْرِ الْمَسْخِ وَأَدْخَلَ فيهما اللام، وهاهنا جَوَابٌ آخَرُ يَبِينُ بِتَقْدِيمِ بَحْثٍ عَنْ فَائِدَةِ اللَّامِ فِي جَوَابِ لَوْ، فَنَقُولُ: حَرْفُ الشَّرْطِ إِذَا دَخَلَ عَلَى الْجُمْلَةِ يُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا جُمْلَةً فِي الْمَعْنَى فَاحْتَاجُوا إِلَى عَلَامَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى، فَأَتَوْا بِالْجَزْمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ الشَّرْطَ يَقْتَضِي جَزَاءً، وَفِيهِ تَطْوِيلٌ فَالْجَزْمُ الَّذِي هُوَ سُكُونٌ أَلْيَقُ بِالْمَوْضِعِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْنَى أَيْضًا مُنَاسَبَةٌ لَكِنَّ كَلِمَةَ لَوْ مُخْتَصَّةٌ بِالدُّخُولِ عَلَى الْمَاضِي مَعْنًى فَإِنَّهَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ جَعَلَتْهُ مَاضِيًا، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْجُمْلَةَ الشَّرْطِيَّةَ لَا تَخْرُجُ عَنْ أَقْسَامٍ فَإِنَّهَا إِذَا ذُكِرَتْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ لِأَنَّ الشَّرْطَ إِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ فَالْجَزَاءُ لَازِمُ الْوُقُوعِ فَجَعْلُ الْكَلَامِ جُمْلَةً شَرْطِيَّةً عُدُولٌ عَنْ جُمْلَةٍ إِسْنَادِيَّةٍ إِلَى جُمْلَةٍ تَعْلِيقِيَّةٍ وَهُوَ تَطْوِيلٌ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ فَقَوْلُ الْقَائِلِ: آتِيكَ إِنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ تَطْوِيلٌ وَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: آتِيكَ جَزْمًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَإِذَا عُلِمَ هَذَا فَحَالُ الشَّرْطِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْعَدَمِ أَوْ مَشْكُوكًا فِيهِ فَالشَّرْطُ إِذَا وَقَعَ عَلَى قِسْمَيْنِ فَلَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ لَفْظَيْنِ وَهُمَا إِنْ وَلَوْ، وَاخْتَصَّتْ إِنْ بِالشُّكُوكِ، وَلَوْ بِمَعْلُومٍ لِأَمْرٍ بَيَّنَّاهُ في موضع آخر لكن ما علم عدم يَكُونُ الْآخَرُ فَقَدْ أَثْبَتَ مِنْهُ فَهُوَ مَاضٍ أَوْ فِي حُكْمِهِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْأُمُورِ يَكُونُ بَعْدَ وُقُوعِهَا وَمَا يُشَكُّ فِيهِ فَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ أَوْ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّنَا نَشُكُّ فِي الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ أَنَّهَا تَكُونُ أَوْ لَا تَكُونُ وَالْمَاضِي خَرَجَ عَنِ التَّرَدُّدِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَنَقُولُ: لَمَّا دَخَلَ لَوْ عَلَى الْمَاضِي وَمَا اخْتَلَفَ آخَرُ بِالْعَامِلِ لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ إِعْرَابٌ، وَإِنْ لَمَّا دَخَلَ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ بَانَ فِيهِ الْإِعْرَابُ، ثُمَّ إِنَّ الْجَزَاءَ عَلَى حَسَبِ الشَّرْطِ وَكَانَ الْجَزَاءُ فِي بَابِ لَوْ مَاضِيًا فَلَمْ يَتَبَيَّنْ فيه الحال وَلَا سُكُونٍ، فَيُضَافُ لَهُ حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى خُرُوجِهِ عَنْ كَوْنِهِ جُمْلَةً وَدُخُولِهِ فِي كَوْنِهِ جزء جملة، إذا ثبت هذا فنقول: عند ما يَكُونُ الْجَزَاءُ ظَاهِرًا يَسْتَغْنِي عَنِ الْحَرْفِ الصَّارِفِ، لَكِنَّ كَوْنَ الْمَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ الْمَاءُ الْمَشْرُوبُ الْمُنَزَّلُ مِنَ الْمُزْنِ أُجَاجًا لَيْسَ أَمْرًا وَاقِعًا يُظَنُّ أَنَّهُ خَبَرٌ مُسْتَقِلٌّ، وَيُقَوِّيهِ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: جَعَلْناهُ أُجاجاً عَلَى طَرِيقَةِ الْإِخْبَارِ وَالْحَرْثُ وَالزَّرْعُ كَثِيرًا مَا وَقَعَ كَوْنُهُ حُطَامًا فَلَوْ قَالَ: جَعَلْنَاهُ حُطَامًا، كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْهُ الْإِخْبَارُ فَقَالَ هُنَاكَ: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ لِيُخْرِجَهُ عَمَّا هُوَ صَالِحٌ لَهُ فِي الْوَاقِعِ، وَهُوَ الْحُطَامِيَّةُ وَقَالَ الْمَاءُ الْمُنَزَّلُ الْمَشْرُوبُ مِنَ الْمُزْنِ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا لِأَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ فَاسْتَغْنَى عَنِ اللَّامِ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: أُخْرَى نَحْوِيَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ إِسْقَاطَ اللَّامِ عَنْ جَزَاءِ لَوْ حَيْثُ كَانَتْ لَوْ دَاخِلَةً عَلَى مُسْتَقْبَلٍ لَفْظًا، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ لَوْ مَاضِيًا، وَكَانَ الْجَزَاءُ مُوجَبًا فَلَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا [السجدة: 13] ولَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ [إِبْرَاهِيمَ: 21] وَذَلِكَ لِأَنَّ لَوْ إذا دخلت على فعل مستقل كَمَا فِي/ قَوْلِهِ: لَوْ نَشاءُ فَقَدْ أُخْرِجَتْ عَنْ حَيِّزِهَا لَفْظًا، لِأَنَّ لَوْ لِلْمَاضِي فَإِذَا خَرَجَ الشَّرْطُ عَنْ حَيِّزِهِ جَازَ فِي الْجَزَاءِ الْإِخْرَاجُ عَنْ حَيِّزِهِ لَفْظًا وَإِسْقَاطُ اللَّامِ عَنْهُ، لِأَنَّ إِنْ كَانَ حَيِّزُهَا الْمُسْتَقْبَلَ وَتَدْخُلُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِذَا جُعِلَ مَا دَخَلَ إِنْ عَلَيْهِ مَاضِيًا كَقَوْلِكَ: إِنْ جِئْتَنِي، جَازَ فِي الْخَبَرِ الْإِخْرَاجُ عَنْ حَيِّزِهِ وَتَرْكُ الْجَزْمِ فَنَقُولُ: أُكْرِمُكَ بِالرَّفْعِ، وَأُكْرِمْكَ بِالْجَزْمِ، كَمَا تَقُولُ فِي: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ

[سورة الواقعة (56) : الآيات 68 إلى 70]

وفي: لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ [الواقعة: 70] وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْجَوَابِ فِي قَوْلِهِ: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس: 47] إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ تَجِدُهُ مُسْتَقِيمًا، وَحَيْثُ لَمْ يَقُلْ: لَوْ شَاءَ اللَّه أَطْعَمَهُ، عُلِمَ أَنَّ الْآخَرَ جَزَاءٌ وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ تَوَهُّمٌ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ عَالِمٌ بِحَقِيقَةِ كَلَامِهِ، وَإِمَّا أَنْ يكون عندهم وذلك غير جائز هاهنا، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: لَوْ شَاءَ اللَّه أَطْعَمَهُ رَدٌّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي زَعْمِهِمْ يَعْنِي أَنْتُمْ تَقُولُونَ: إن اللَّه لو شاء فعل فَلَا نُطْعِمُ مِنْ لَوْ شَاءَ اللَّه أَطْعَمَهُ عَلَى زَعْمِكُمْ، فَلَمَّا كَانَ أَطْعَمَهُ جَزَاءً مَعْلُومًا عِنْدَ السَّامِعِ وَالْمُتَكَلِّمِ اسْتَغْنَى عَنِ اللَّامِ، وَالْحُطَامُ كَالْفُتَاتِ وَالْجُذَاذِ وَهُوَ مِنَ الْحَطْمِ كَمَا أَنَّ الْفُتَاتَ وَالْجُذَاذَ مِنَ الْفَتِّ وَالْجَذِّ وَالْفُعَالُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ يَدُلُّ عَلَى مَكْرُوهٍ أَوْ مُنْكَرٍ، إِمَّا فِي الْمَعَانِي: فَكَالسُّبَاتِ وَالْفُوَاقِ وَالزُّكَامِ وَالدُّوَارِ وَالصُّدَاعِ لِأَمْرَاضٍ وَآفَاتٍ فِي النَّاسِ وَالنَّبَاتِ. وَإِمَّا فِي الْأَعْيَانِ: فَكَالْجُذَاذِ وَالْحُطَامِ وَالْفُتَاتِ وَكَذَا إِذَا لَحِقَتْهُ الْهَاءُ كَالْبُرَادَةِ وَالسُّحَالَةِ، وَفِيهِ زِيَادَةُ بَيَانٍ وَهُوَ أَنَّ ضَمَّ الْفَاءِ مِنَ الْكَلِمَةِ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْأَفْعَالِ فَإِنَّا نَقُولُ: فُعِلَ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَكَانَ السَّبَبُ أَنَّ أَوَائِلَ الْكَلِمِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ التَّخْفِيفُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ السُّكُونُ لَمْ يَثْبُتِ التَّثْقِيلُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ الضَّمُّ، فَإِذَا ثَبَتَ فَهُوَ لِعَارِضٍ، فإن عُلِمَ كَمَا ذَكَرْنَا فَلَا كَلَامَ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ كَمَا فِي بُرْدٍ وَقُفْلٍ فَالْأَمْرُ خَفِيٌّ يَطُولُ ذِكْرُهُ وَالْوَضْعُ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي الثُّلَاثِيِّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: كَأَنَّمَا هُوَ كَلَامٌ مُقَدَّرٌ عَنْهُمْ كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَحِينَئِذٍ يَحِقُّ أَنْ تَقُولُوا: إِنَّا لَمُعَذَّبُونَ دَائِمُونَ فِي الْعَذَابِ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: فَيَقُولُونَ: إِنَّا لمعذبون ومحرمون عَنْ إِعَادَةِ الزَّرْعِ مَرَّةً أُخْرَى، يَقُولُونَ: إِنَّا لَمُعَذَّبُونَ بِالْجُوعِ بِهَلَاكِ الزَّرْعِ وَمَحْرُومُونَ عَنْ دَفْعِهِ بغير الزرع لفوات الماء والوجه الثالث: فِي الْغُرْمِ إِنَّا لَمُكْرَهُونَ بِالْغَرَامَةِ مِنْ غَرِمَ الرجل وأصل الغرم والغرام لزوم المكروه. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 68 الى 70] أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَلْطَفُ وَأَنْظَفُ أَوْ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ، وَالْمُزْنُ السَّحَابُ الثَّقِيلُ بِالْمَاءِ لَا بِغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ يَدُلُّ عَلَى ثِقَلِهِ قَلْبُ اللَّفْظِ وَعَلَى مدافعة الأمر وهو التزم فِي بَعْضِ اللُّغَاتِ/ السَّحَابُ الَّذِي مَسَّ الْأَرْضَ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْأُجَاجِ أَنَّهُ الْمَاءُ الْمُرُّ مِنْ شِدَّةِ الْمُلُوحَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هُوَ الْحَارُّ مِنْ أَجِيجِ النَّارِ كَالْحُطَامِ مِنَ الْحَطِيمِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ [الْفُرْقَانِ: 53] ذَكَرَ فِي الْمَاءِ الطَّيِّبِ صِفَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا عَائِدَةٌ إِلَى طَعْمِهِ وَالْأُخْرَى عَائِدَةٌ إِلَى كَيْفِيَّةِ مَلْمَسِهِ وَهِيَ الْبُرُودَةُ وَاللَّطَافَةُ، وَفِي الْمَاءِ الْآخَرِ أَيْضًا صِفَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا عَائِدَةٌ إلى طعمه والأخرى عائدة إلى كيفية لمسه وَهِيَ الْحَرَارَةُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا تَشْكُرُونَ لَمْ يَقُلْ عِنْدَ ذِكْرِ الطَّعَامِ الشُّكْرَ وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَأْكُولِ أَكْلَهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ: تَأْكُلُونَ لَمْ يَقُلْ: تَشْكُرُونَ وَقَالَ فِي الْمَاءِ: تَشْرَبُونَ فَقَالَ: تَشْكُرُونَ والثاني: أن في المأكول قال: تَحْرُثُونَ [الواقعة: 63] فَأَثْبَتَ لَهُمْ سَعْيًا فَلَمْ يَقُلْ: تَشْكُرُونَ وَقَالَ في الماء: أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ لَا عَمَلَ لَكُمْ فِيهِ أَصْلًا فَهُوَ مَحْضُ النِّعْمَةِ فَقَالَ: فَلَوْلا تَشْكُرُونَ وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ الْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: النِّعْمَةُ لَا تَتِمُّ إِلَّا عِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْبَرَارِيِّ الَّتِي لَا يُوجَدُ فِيهَا الْمَاءُ لَا يَأْكُلُ الْإِنْسَانُ شَيْئًا

[سورة الواقعة (56) : آية 71]

مَخَافَةَ الْعَطَشِ، فَلَمَّا ذَكَرَ الْمَأْكُولَ أَوَّلًا وَأَتَمَّهُ بِذِكْرِ الْمَشْرُوبِ ثَانِيًا قَالَ: فَلَوْلا تَشْكُرُونَ عَلَى هذه النعمة التامة. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : آية 71] أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أي: تقدمون. [سورة الواقعة (56) : آية 72] أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) وَفِي شَجَرَةِ النَّارِ وَجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهَا الشَّجَرَةُ الَّتِي تُورِي النَّارَ مِنْهَا بِالزَّنْدِ وَالزَّنْدَةِ كَالْمَرْخِ وثانيهما: الشَّجَرَةُ الَّتِي تَصْلُحُ لِإِيقَادِ النَّارِ كَالْحَطَبِ فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لَمْ يَسْهُلْ إِيقَادُ النَّارِ، لَأَنَّ النَّارَ لَا تَتَعَلَّقُ بِكُلِّ شَيْءٍ كَمَا تَتَعَلَّقُ بِالْحَطَبِ وَثَالِثُهَا: أُصُولُ شَعْلِهَا وَوَقُودُ شَجَرَتِهَا وَلَوْلَا كَوْنُهَا ذَاتَ شَعْلٍ لَمَا صَلَحَتْ لِإِنْضَاجِ الأشياء والباقي ظاهر. [سورة الواقعة (56) : آية 73] نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فِي قَوْلِهِ: تَذْكِرَةً وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: تَذْكِرَةً لِنَارِ الْقِيَامَةِ فَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَخْشَى اللَّه تَعَالَى وَعَذَابَهُ إِذَا رَأَى النَّارَ الْمُوقَدَةَ وَثَانِيهِمَا: تَذْكِرَةً بِصِحَّةِ الْبَعْثِ، لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى إِيدَاعِ النَّارِ فِي الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ لَا يَعْجِزُ عَنْ إِيدَاعِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ فِي بَدَنِ الْمَيِّتِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا [يس: 80] وَالْمُقْوِي: هُوَ الَّذِي أَوْقَدَهُ فَقَوَّاهُ وَزَادَهُ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ كَوْنَهَا تَذْكِرَةً عَلَى كَوْنِهَا مَتَاعًا لِيُعْلَمَ أَنَّ الْفَائِدَةَ الْأُخْرَوِيَّةَ أَتَمُّ وَبِالذِّكْرِ أهم. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : آية 74] فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي وَجْهِ تَعَلُّقِهِ بِمَا قَبْلَهُ؟ نَقُولُ: لَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى حَالَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْحَشْرِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ ذَكَرَ الدَّلِيلَ عَلَيْهِمَا بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَلَمْ يُفِدْهُمُ الْإِيمَانُ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: / إِنَّ وَظِيفَتَكَ أَنْ تَكْمُلَ فِي نَفْسِكَ وَهُوَ عِلْمُكَ بِرَبِّكَ وَعَمَلُكَ لِرَبِّكَ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ [طه: 130] وفي مَوْضِعٍ آخَرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: التَّسْبِيحُ التَّنْزِيهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِ الِاسْمِ وَلَمْ يَقُلْ: فَسَبِّحْ بِرَبِّكَ الْعَظِيمِ؟ فَنَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: هُوَ الْمَشْهُورُ وَهُوَ أَنَّ الِاسْمَ مُقْحَمٌ، وَعَلَى هَذَا الْجَوَابِ فَنَقُولُ: فِيهِ فَائِدَةٌ زِيَادَةُ التَّعْظِيمِ، لِأَنَّ مَنْ عَظَّمَ عَظِيمًا وَبَالَغَ فِي تَعْظِيمِهِ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَهُ إِلَّا وَعَظَّمَهُ، فَلَا يَذْكُرُ اسْمَهُ فِي مَوْضِعٍ وَضِيعٍ وَلَا عَلَى وَجْهِ الِاتِّفَاقِ كَيْفَمَا اتَّفَقَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يُعَظِّمُ شَخْصًا عِنْدَ حُضُورِهِ رُبَّمَا لَا يُعَظِّمُهُ عِنْدَ غَيْبَتِهِ فَيَذْكُرُهُ بِاسْمِ عَلَمِهِ، فَإِنْ كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ، فَإِذَا عَظُمَ عِنْدَهُ لَا يَذْكُرُهُ فِي حُضُورِهِ وَغَيْبَتِهِ إِلَّا بِأَوْصَافِ الْعَظَمَةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا فَمَا فَائِدَةُ الْبَاءِ وَكَيْفَ صَارَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقُلْ: فَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْعَظِيمِ، أَوِ الرَّبَّ الْعَظِيمَ، نَقُولُ: قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا كَانَ تَعَلُّقُهُ بِالْمَفْعُولِ ظَاهِرًا غَايَةَ الظُّهُورِ لَا يَتَعَدَّى إِلَيْهِ بِحَرْفٍ فَلَا يُقَالُ: ضَرَبْتُ بِزَيْدٍ بِمَعْنَى ضَرَبْتُ زَيْدًا، وَإِذَا كَانَ فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ لَا يَتَعَدَّى إِلَيْهِ إِلَّا بِحَرْفٍ فَلَا يُقَالُ: ذَهَبْتُ زَيْدًا بِمَعْنَى ذَهَبْتُ بِزَيْدٍ، وَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا جَازَ الْوَجْهَانِ فَنَقُولُ: سَبَّحْتُهُ وَسَبَّحْتُ بِهِ وَشَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمَّا عَلَّقَ

التَّسْبِيحَ بِالِاسْمِ وَكَانَ الِاسْمُ مُقْحَمًا كَانَ التَّسْبِيحُ فِي الْحَقِيقَةِ مُتَعَلِّقًا بِغَيْرِهِ وَهُوَ الرَّبُّ وَكَانَ التَّعَلُّقُ خَفِيًّا مِنْ وَجْهٍ فَجَازَ إِدْخَالُ الْبَاءِ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا جَازَ الْإِسْقَاطُ وَالْإِثْبَاتُ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى؟ [الأعلى: 1] فنقول: هاهنا تَقْدِيمُ الدَّلِيلِ عَلَى الْعَظَمَةِ أَنْ يُقَالَ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِاسْمِ غَيْرُ زَائِدَةٍ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْأُمُورَ وَقَالَ: نَحْنُ أَمْ أَنْتُمْ، فَاعْتَرَفَ الْكُلُّ بِأَنَّ الْأُمُورَ مِنَ اللَّه، وَإِذَا طُولِبُوا بِالْوَحْدَانِيَّةِ قَالُوا: نَحْنُ لَا نُشْرِكُ فِي الْمَعْنَى وَإِنَّمَا نَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً فِي الِاسْمِ وَنُسَمِّيهَا آلِهَةً وَالَّذِي خَلَقَهَا وخلق السموات هُوَ اللَّه فَنَحْنُ نُنَزِّهُهُ فِي الْحَقِيقَةِ فَقَالَ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ وَكَمَا أَنَّكَ أَيُّهَا الْعَاقِلُ اعْتَرَفْتَ بِعَدَمِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْحَقِيقَةِ اعْتَرِفْ بِعَدَمِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الِاسْمِ، وَلَا تَقُلْ لِغَيْرِهِ إِلَهٌ، فَإِنَّ الِاسْمَ يَتْبَعُ الْمَعْنَى وَالْحَقِيقَةَ، وَعَلَى هَذَا فَالْخِطَابُ لَا يَكُونُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ يَكُونُ كَمَا يَقُولُ الْوَاعِظُ: يَا مِسْكِينُ أَفْنَيْتَ عُمُرَكَ وَمَا أَصْلَحْتَ عَمَلَكَ، وَلَا يُرِيدُ أَحَدًا بِعَيْنِهِ، وَتَقْدِيرُهُ يَا أَيُّهَا الْمِسْكِينُ السَّامِعُ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذِكْرِ رَبِّكَ، أَيْ إِذَا قُلْتَ: وَتَوَلَّوْا، فَسَبِّحْ رَبَّكَ بِذِكْرِ اسْمِهِ بَيْنَ قَوْمِكَ وَاشْتَغِلْ بِالتَّبْلِيغِ، وَالْمَعْنَى اذْكُرْهُ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ وَبَيِّنْ وَصْفَهُ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوا فَإِنَّكَ مُقْبِلٌ عَلَى شُغْلِكَ الَّذِي هُوَ التَّبْلِيغُ، وَلَوْ قَالَ: فَسَبِّحْ رَبَّكَ، مَا أَفَادَ الذِّكْرَ لَهُمْ، وَكَانَ يُنْبِئُ عَنِ التَّسْبِيحِ بِالْقَلْبِ، وَلَمَّا قَالَ: فَسَبِّحْ بَاسْمِ رَبِّكَ، وَالِاسْمُ هُوَ الَّذِي يُذْكَرُ لَفْظًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: فَسَبِّحْ مُبْتَدِئًا بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فَلَا تَكُونُ الْبَاءُ زَائِدَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَيْفَ يُسَبَّحُ رَبُّنَا؟ نَقُولُ: إِمَّا مَعْنًى، فَبِأَنْ يُعْتَقَدَ فِيهِ أَنَّهُ وَاحِدٌ مُنَزَّهٌ عَنِ/ الشَّرِيكِ وَقَادِرٌ بَرِيءٌ عَنِ الْعَجْزِ فَلَا يَعْجِزُ عَنِ الْحَشْرِ وَإِمَّا لَفْظًا فَبِأَنْ يُقَالَ: سُبْحَانَ اللَّه وَسُبْحَانَ اللَّه الْعَظِيمِ، وَسُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنَ الْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَنِ الشَّرِيكِ وَالْعَجْزِ فَإِنَّكَ إِذَا سَبَّحْتَهُ وَاعْتَقَدْتَ أَنَّهُ وَاحِدٌ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَجُوزُ فِي حَقِيقَتِهِ، لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ جِسْمًا لِأَنَّ الْجِسْمَ فِيهِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ وَهُوَ وَاحِدٌ حَقِيقِيٌّ لَا كَثْرَةَ لِذَاتِهِ، وَلَا يَكُونُ عَرَضًا وَلَا فِي مكان، وكل مالا يَجُوزُ لَهُ يَنْتَفِي عَنْهُ بِالتَّوْحِيدِ وَلَا يَكُونُ عَلَى شَيْءٍ، وَلَا فِي شَيْءٍ، وَلَا عَنْ شَيْءٍ، وَإِذَا قُلْتَ: هُوَ قَادِرٌ ثَبَتَ لَهُ الْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ وَالْحَيَاةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الصِّفَاتِ وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَظِيمِ وَبَيْنَ الْأَعْلَى، وَهَلْ فِي ذِكْرِ الْعَظِيمِ هُنَا بَدَلَ الْأَعْلَى وَذِكْرِ الْأَعْلَى فِي قَوْلِهِ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: 1] بَدَلَ الْعَظِيمِ فَائِدَةٌ؟ نَقُولُ: أَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَظِيمِ وَالْأَعْلَى فَهُوَ أَنَّ الْعَظِيمَ يَدُلُّ عَلَى الْقُرْبِ، وَالْأَعْلَى يَدُلُّ عَلَى الْبُعْدِ، بَيَانُهُ هُوَ أَنَّ مَا عَظُمَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُدْرَكَةِ بِالْحِسِّ قَرِيبٌ مِنْ كُلِّ مُمْكِنٍ، لِأَنَّهُ لَوْ بَعُدَ عَنْهُ لَخَلَا عَنْهُ مَوْضِعُهُ، فَلَوْ كَانَ فِيهِ أَجْزَاءٌ أُخَرُ لَكَانَ أَعْظَمَ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ فَالْعَظِيمُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُلِّ هُوَ الَّذِي يَقْرُبُ مِنَ الْكُلِّ، وَأَمَّا الصَّغِيرُ إِذَا قَرُبَ مِنْ جِهَةٍ فَقَدْ بَعُدَ عَنْ أُخْرَى، وَأَمَّا الْعَلِيُّ فَهُوَ الْبَعِيدُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّ مَا قَرُبَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ جِهَةِ فَوْقُ يَكُونُ أَبْعَدَ مِنْهُ وَكَانَ أَعْلَى فَالْعَلِيُّ الْمُطْلَقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الَّذِي فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالْأَشْيَاءُ الْمُدْرِكَةُ تُسَبِّحُ اللَّه، وَإِذَا عَلِمْنَا مِنَ اللَّه مَعْنًى سَلْبِيًّا فَصَحَّ أَنْ نَقُولَ: هُوَ أَعْلَى مِنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ إِدْرَاكُنَا وَإِذَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَصْفًا ثُبُوتِيًّا مِنْ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ يُزِيدُ تَعْظِيمَهُ أَكْثَرَ مِمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُنَا، فَنَقُولُ: هُوَ أَعْظَمُ وَأَعْلَى مِنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ عِلْمُنَا، وَقَوْلُنَا: أَعْظَمُ مَعْنَاهُ عَظِيمٌ لَا عَظِيمَ مِثْلُهُ، فَفِيهِ مَفْهُومٌ سَلْبِيٌّ وَمَفْهُومٌ ثُبُوتِيٌّ وَقَوْلُهُ: أَعْلَى، مَعْنَاهُ هُوَ عَلِيٌّ وَلَا عَلِيَّ مِثْلُهُ، وَالْعَلِيُّ

[سورة الواقعة (56) : الآيات 75 إلى 76]

إِشَارَةٌ إِلَى مَفْهُومٍ سَلْبِيٍّ وَالْأَعْلَى مِثْلُهُ بِسَبَبٍ آخَرَ، فَالْأَعْلَى مُسْتَعْمَلٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَالْأَعْظَمُ مُسْتَعْمَلٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَفْظًا، وَفِيهِ مَعْنًى سَلْبِيٌّ، وَكَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَظِيمِ مَفْهُومٌ ثُبُوتِيٌّ لَا سَلْبَ فِيهِ فَالْأَعْلَى أَحْسَنُ اسْتِعْمَالًا مِنَ الأعظم هذا هو الفرق. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 76] فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) [في قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي التَّرْتِيبِ وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ آتَاهُ كُلَّ مَا يَنْبَغِي له وطهره عن كل مالا يَنْبَغِي لَهُ فَآتَاهُ الْحِكْمَةَ وَهِيَ الْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ وَاسْتِعْمَالُهَا عَلَى وُجُوهِهَا، وَالْمَوْعِظَةَ الْحَسَنَةَ وَهِيَ الْأُمُورُ الْمُفِيدَةُ الْمُرَقِّقَةُ لِلْقُلُوبِ الْمُنَوِّرَةُ لِلصُّدُورِ، وَالْمُجَادَلَةَ الَّتِي هِيَ عَلَى أَحْسَنِ الطُّرُقِ فَأَتَى بِهَا وَعَجَزَ الْكُلُّ عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُؤْمِنُوا وَالَّذِي يُتْلَى عَلَيْهِ، كُلُّ ذَلِكَ وَلَا يُؤْمِنُ لَا يَبْقَى لَهُ غَيْرَ أَنَّهُ يَقُولُ: هَذَا الْبَيَانُ لَيْسَ لِظُهُورِ الْمُدَّعَى بَلْ لِقُوَّةِ ذِهْنِ الْمُدَّعِي وَقُوَّتِهِ عَلَى تَرْكِيبِ الْأَدِلَّةِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَغْلِبُ بِقُوَّةِ جِدَالِهِ لَا بِظُهُورِ مَقَالِهِ وَرُبَّمَا يَقُولُ أَحَدُ الْمُنَاظِرَيْنِ لِلْآخَرِ عِنْدَ/ انْقِطَاعِهِ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ بِيَدِي لَكِنْ تَسْتَضْعِفُنِي وَلَا تُنْصِفُنِي وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِلْخَصْمِ جَوَابٌ غَيْرَ الْقَسَمِ بِالْأَيْمَانِ الَّتِي لَا مَخَارِجَ عَنْهَا أَنَّهُ غَيْرُ مُكَابِرٍ وَأَنَّهُ مُنْصِفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِدَلِيلٍ آخَرَ لَكَانَ لَهُ أَنْ يَقُولَ: وَهَذَا الدَّلِيلُ أَيْضًا غَلَبْتَنِي فِيهِ بِقُوَّتِكَ وَقُدْرَتِكَ، فَكَذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا آتَاهُ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ مَا يَنْبَغِي قَالُوا: إِنَّهُ يُرِيدُ التَّفَضُّلَ عَلَيْنَا وَهُوَ يُجَادِلُنَا فِيمَا يَعْلَمُ خِلَافَهُ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا أَنْ يُقْسِمَ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ أَنْوَاعًا مِنَ الْقَسَمِ بَعْدَ الدَّلَائِلِ، وَلِهَذَا كَثُرَتِ الْأَيْمَانُ فِي أَوَائِلِ التَّنْزِيلِ وَفِي السُّبُعِ الْأَخِيرِ خَاصَّةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَعَلُّقِ الْبَاءِ، نَقُولُ: إِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ خَالِقُ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَلَهُ الْعَظَمَةُ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا قَالَ: لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَسَمُ فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ إِنِّي لَصَادِقٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ. فَلا أُقْسِمُ مَعَ أَنَّكَ تَقُولُ: إِنَّهُ قَسَمٌ؟ نَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ مَنْقُولَةٌ وَمَعْقُولَةٌ غَيْرُ مُخَالِفَةٍ لِلنَّقْلِ، أَمَّا الْمَنْقُولُ فَأَحَدُهَا: أَنَّ (لَا) زَائِدَةٌ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِئَلَّا يَعْلَمَ [الْحَدِيدِ: 29] مَعْنَاهُ لِيَعْلَمَ ثَانِيهَا: أَصْلُهَا لَأُقْسِمُ بِلَامِ التَّأْكِيدِ أُشْبِعَتْ فَتْحَتُهَا فَصَارَتْ لَا كَمَا فِي الْوَقْفِ ثَالِثُهَا: لَا، نَافِيَةٌ وَأَصْلُهُ عَلَى مَقَالَتِهِمْ وَالْقَسَمُ بَعْدَهَا كَأَنَّهُ قَالَ: لَا، واللَّه لَا صِحَّةَ لِقَوْلِ الْكُفَّارِ أُقْسِمُ عَلَيْهِ، أَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ كَلِمَةَ لَا هِيَ نَافِيَةٌ عَلَى مَعْنَاهَا غَيْرَ أَنَّ فِي الْكَلَامِ مَجَازًا تَرْكِيبِيًّا، وَتَقْدِيرُهُ أَنْ نَقُولَ: لَا فِي النَّفْيِ هُنَا كَهِيَ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ لَا تَسْأَلْنِي عَمَّا جَرَى عَلَيَّ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُشْرَحَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُ فَإِنَّ غَرَضَهُ مِنَ السُّؤَالِ لَا يَحْصُلُ وَلَا يَكُونُ غَرَضُهُ مِنْ ذَلِكَ النَّهْيِ إِلَّا بَيَانَ عَظَمَةِ الْوَاقِعَةِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: جَرَى عَلَيَّ أَمْرٌ عَظِيمٌ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ السَّامِعَ يَقُولُ لَهُ مَاذَا جَرَى عَلَيْكَ وَلَوْ فَهِمَ مِنْ حَقِيقَةِ كَلَامِهِ النَّهْيَ عَنِ السُّؤَالِ لَمَا قَالَ: مَاذَا جَرَى عَلَيْكَ، فَيَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ: أَخْطَأْتُ حَيْثُ مَنَعْتُكَ عَنِ السُّؤَالِ، ثُمَّ سَأَلْتَنِي وَكَيْفَ لَا، وَكَثِيرًا مَا يَقُولُ ذَلِكَ الْقَائِلُ الَّذِي قال: لا تسألني عند سكون صَاحِبِهِ عَنِ السُّؤَالِ، أَوْ لَا تَسْأَلْنِي، وَلَا تَقُولُ: مَاذَا جَرَى عَلَيْكَ وَلَا يَكُونُ لِلسَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّكَ مَنَعْتَنِي عَنِ السُّؤَالِ كُلُّ ذَلِكَ تَقَرَّرَ فِي أَفْهَامِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ تَعْظِيمُ الْوَاقِعَةِ لَا النَّهْيُ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ فِي الْقَسَمِ: مِثْلُ هَذَا مَوْجُودٌ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إِمَّا لِكَوْنِ الْوَاقِعَةِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ فيقول: لا

أُقْسِمُ بِأَنَّهُ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُشْهَرَ، وَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُنْكَرَ، فَيَقُولُ: لَا أُقْسِمُ وَلَا يُرِيدُ بِهِ الْقَسَمَ وَنَفْيَهُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْإِعْلَامَ بِأَنَّ الْوَاقِعَةَ ظَاهِرَةٌ، وَإِمَّا لِكَوْنِ الْمُقْسَمِ بِهِ فَوْقَ مَا يُقْسِمُ بِهِ، وَالْمُقْسِمُ صَارَ يُصَدِّقُ نَفْسَهُ فَيَقُولُ لَا أُقْسِمُ يَمِينًا بَلْ أَلْفَ يَمِينٍ، وَلَا أُقْسِمُ بِرَأْسِ الْأَمِيرِ بَلْ بِرَأْسِ السُّلْطَانِ وَيَقُولُ: لَا أُقْسِمُ بِكَذَا مُرِيدًا لِكَوْنِهِ فِي غَايَةِ الْجَزْمِ وَالثَّانِي: يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَمْ تَرِدْ فِي الْقُرْآنِ وَالْمُقْسَمُ بِهِ هُوَ اللَّه تَعَالَى أَوْ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ أُمُورٌ مَخْلُوقَةٌ وَالْأَوَّلُ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ إِشْكَالٌ إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْمُقْسَمَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ رَبُّ الْأَشْيَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَالصَّافَّاتِ [الصَّافَّاتِ: 1] الْمُرَادُ مِنْهُ رَبُّ الصَّافَّاتِ وَرَبُّ الْقِيَامَةِ وَرَبُّ الشَّمْسِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَإِذًا قَوْلُهُ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ أَيْ الْأَمْرُ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُقْسَمَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَتَطَرَّقَ الشَّكُّ إِلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَوَاقِعُ النُّجُومِ مَا هِيَ؟ فَنَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: الْمَشَارِقُ وَالْمَغَارِبُ أَوِ الْمَغَارِبُ وَحْدَهَا، فَإِنَّ عِنْدَهَا سُقُوطَ النُّجُومِ الثَّانِي: هِيَ مَوَاضِعُهَا فِي السَّمَاءِ فِي بُرُوجِهَا وَمَنَازِلِهَا الثَّالِثُ: مَوَاقِعُهَا فِي اتِّبَاعِ الشَّيَاطِينِ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ الرَّابِعُ: مَوَاقِعُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ تَنْتَثِرُ النُّجُومُ، وَأَمَّا مَوَاقِعُ نُجُومِ الْقُرْآنِ، فَهِيَ قُلُوبُ عِبَادِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَصَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مَعَانِيهَا وَأَحْكَامُهَا الَّتِي وَرَدَتْ فِيهَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَلْ فِي اخْتِصَاصِ مَوَاقِعِ النُّجُومِ لِلْقَسَمِ بِهَا فَائِدَةٌ؟ قُلْنَا: نَعَمْ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ، وَبَيَانُهَا أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَسَمَ بِمَوَاقِعِهَا كَمَا هِيَ قَسَمٌ كَذَلِكَ هِيَ مِنَ الدَّلَائِلِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الذَّارِيَاتِ، وَفِي الطُّورِ، وَفِي النَّجْمِ، وَغَيْرِهَا، فَنَقُولُ: هِيَ هُنَا أَيْضًا كَذَلِكَ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ خَلْقَ الْآدَمِيِّ مِنَ الْمَنِيِّ وَمَوْتَهُ، بَيَّنَ بِإِشَارَتِهِ إِلَى إِيجَادِ الضِّدَّيْنِ فِي الْأَنْفُسِ قُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ دَلِيلًا مِنْ دَلَائِلِ الْأَنْفُسِ ذَكَرَ مِنْ دَلَائِلِ الْآفَاقِ أَيْضًا قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ، فَقَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ [الْوَاقِعَةِ: 63] أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ [الْوَاقِعَةِ: 68] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَذَكَرَ قُدْرَتَهُ عَلَى زَرْعِهِ وَجَعْلِهِ حُطَامًا، وَخَلْقِهِ الْمَاءَ فُرَاتًا عَذْبًا، وَجَعْلِهِ أُجَاجًا، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الضِّدَّيْنِ مُخْتَارٌ، وَلَمْ يَكُنْ ذَكَرَ مِنَ الدَّلَائِلِ السَّمَاوِيَّةِ شَيْئًا، فَذَكَرَ الدَّلِيلَ السَّمَاوِيَّ فِي مَعْرِضِ الْقَسَمِ، وَقَالَ: مَوَاقِعُ النُّجُومِ، فَإِنَّهَا أَيْضًا دَلِيلُ الِاخْتِيَارِ، لِأَنَّ كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ فِي مَوْضِعٍ مِنَ السَّمَاءِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَوَاضِعِ مَعَ اسْتِوَاءِ الْمَوَاضِعِ فِي الْحَقِيقَةِ دَلِيلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، فَقَالَ: بِمَواقِعِ النُّجُومِ لَيْسَ إِلَى الْبَرَاهِينِ النَّفْسِيَّةِ وَالْآفَاقِيَّةِ بِالذِّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فُصِّلَتْ: 53] وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 20، 21] وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ [الذَّارِيَاتِ: 22] حَيْثُ ذَكَرَ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ كَذَلِكَ هُنَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْقَسَمِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا أُقْسِمُ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ الْمَصْدَرِ، وَلِهَذَا تُوصَفُ الْمَصَادِرُ الَّتِي لَمْ تَظْهَرُ بَعْدَ الْفِعْلِ، فَيُقَالُ: ضَرَبْتُهُ قَوِيًّا، وَفِيهِ مَسَائِلُ نَحْوِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ، أَمَّا النَّحْوِيَّةُ: فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هُوَ أَنْ يُقَالَ: جَوَابُ لَوْ تَعْلَمُونَ مَاذَا؟ وَرُبَّمَا يَقُولُ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْلَمُ: إِنَّ جَوَابَهُ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ فَاسِدٌ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ، لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ لَا يَتَقَدَّمُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَمَلَ الْحُرُوفِ فِي مَعْمُولَاتِهَا لَا يَكُونُ قَبْلَ وُجُودِهَا، فَلَا يُقَالُ: زَيْدًا إِنْ قَامَ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْحُرُوفِ وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ عَمَلَ الْحُرُوفِ مُشَبَّهٌ بِعَمَلِ الْمَعَانِي، وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِذَا كَانَ الْعَامِلُ مَعْنًى لَا مَوْضِعَ لَهُ فِي الْحِسِّ فَيُعْلَمُ تَقَدُّمُهُ وَتَأَخُّرُ مُدْرَكٍ بِالْحِسِّ، جاز أن يقال: قائما ضربت زيد، أَوْ ضَرْبًا شَدِيدًا ضَرْبَتُهُ، وَأَمَّا الْحُرُوفُ فَلَهَا تَقَدُّمٌ وَتَأَخُّرٌ مُدْرَكٌ بِالْحِسِّ فَلَمْ يُمْكِنْ بَعْدَ عِلْمِنَا بِتَأَخُّرِهَا فَرْضُ وُجُودِهَا مُتَقَدِّمَةً بِخِلَافِ الْمَعَانِي، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: عَمَلُ

حَرْفِ الشَّرْطِ فِي الْمَعْنَى إِخْرَاجُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ عَنْ كَوْنِهَا جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً، فَإِذَا قُلْتَ: مَنْ، وَإِنْ، لَا يُمْكِنُ إِخْرَاجُ الْجُمْلَةِ الْأُولَى عَنْ كَوْنِهَا جُمْلَةً بَعْدِ وُقُوعِهَا جُمَلٌ، لِيُعْلَمَ أَنَّ حَرْفَهَا أَضْعَفُ مِنْ عَمَلِ الْمَعْنَى لِتَوَقُّفِهِ عَلَى/ عَمَلِهِ مَعَ أَنَّ الْمَعْنَى أَمْكَنَ فَرْضُهُ مُتَقَدِّمًا وَمُتَأَخِّرًا، وَعَمَلُ الْأَفْعَالِ عَمَلٌ مَعْنَوِيٌّ، وَعَمَلُ الْحُرُوفِ عَمَلٌ مُشَبَّهٌ بِالْمَعْنَى، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى [يُوسُفَ: 24] قَالَ بَعْضُ الْوُعَّاظِ مُتَعَلِّقٌ بِلَوْلَا، فَلَا يَكُونُ الْهَمُّ وَقَعَ مِنْهُ، وَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا، وَهُنَا أَدْخَلُ فِي الْبُطْلَانِ، لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمَ لَا يَصْلُحُ جَزَاءً لِلْمُتَأَخِّرِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: لَوْ تَعْلَمُونَ إِنَّ زَيْدًا لَقَائِمٌ، لَمْ يَأْتِ بِالْعَرَبِيَّةِ، إِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَالْقَوْلُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ بِالْكُلِّيَّةِ لَمْ يُقْصَدْ بِذَلِكَ جَوَابٌ، وَإِنَّمَا يُرَادُ نَفْيُ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَوْ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَا تَعْلَمُونَ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ لَوْ تُذْكَرُ لِامْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ، فَلَا بُدَّ مِنَ انْتِفَاءِ الْأَوَّلِ، فَإِدْخَالُ لَوْ عَلَى تَعْلَمُونَ أَفَادَنَا أَنَّ عِلْمَهُمْ مُنْتَفٍ، سَوَاءٌ عَلِمْنَا الْجَوَابَ أَوْ لَمْ نَعْلَمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ فِي الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي فُلَانٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، حَيْثُ لَا يُقْصَدُ بِهِ مَفْعُولٌ، وَإِنَّمَا يُرَادُ إِثْبَاتُ الْقُدْرَةِ، وَعَلَى هَذَا إِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ الْعُدُولِ إِلَى غَيْرِ الْحَقِيقَةِ، وَتَرْكِ قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقَسَمٌ وَلَا تَعْلَمُونَ؟ فَنَقُولُ: فَائِدَتُهُ تَأْكِيدُ النَّفْيِ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ: لَوْ تَعْلَمُونَ كَانَ ذَلِكَ دَعْوَى مِنْهُ، فَإِذَا طُولِبَ وَقِيلَ: لِمَ قُلْتَ إِنَّا لَا نَعْلَمُ يَقُولُ: لَوْ تَعْلَمُونَ لَفَعَلْتُمْ كَذَا، فَإِذَا قَالَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ: لَا تَعْلَمُونَ كَانَ مُرِيدًا لِلنَّفْيِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَقُولُ: إِنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ قَوْلًا مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقٍ بِدَلِيلٍ وَسَبَبٍ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ جَوَابٌ تَقْدِيرُهُ: لَوْ تَعْلَمُونَ لَعَظَّمْتُمُوهُ لَكِنَّكُمْ مَا عَظَّمْتُمُوهُ، فَعُلِمَ أَنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ، إِذْ لَوْ تَعْلَمُونَ لَعَظُمَ فِي أَعْيُنِكُمْ، وَلَا تَعْظِيمَ فَلَا تَعْلَمُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: لَوْ تَعْلَمُونَ هَلْ لَهُ مَفْعُولٌ أَمْ لَا؟ قُلْنَا: عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا مَفْعُولَ لَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا عِلْمَ لَكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا عِلْمَ لَكُمْ بِعِظَمِ الْقَسَمِ، فَيَكُونُ لَهُ مَفْعُولٌ، وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ وَأَدْخَلُ فِي الْحُسْنِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا أَصْلًا لِأَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا لَكَانَ أَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالْعِلْمِ هَذِهِ الْأُمُورُ الظَّاهِرَةُ بِالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: صُمٌّ بُكْمٌ [الْبَقَرَةِ: 18] وَقَوْلِهِ: كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الْأَعْرَافِ: 179] وَعَلَى الثَّانِي أَيْضًا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: لَوْ كَانَ لَكُمْ عِلْمٌ بِالْقَسَمِ لَعَظَّمْتُمُوهُ وَثَانِيهِمَا: لَوْ كَانَ لَكُمْ عِلْمٌ بِعَظَمَتِهِ لَعَظَّمْتُمُوهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَيْفَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ تَعْلَمُونَ بِمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ؟ فَنَقُولُ: هُوَ كَلَامُ اعْتِرَاضٍ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ تَقْدِيرُهُ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ عَظِيمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ لَصَدَّقْتُمْ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ الِاعْتِرَاضِ؟ نَقُولُ: الِاهْتِمَامُ بِقَطْعِ اعْتِرَاضِ الْمُعْتَرِضِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ أَرَادَ أَنْ يَصِفَهُ بِالْعَظَمَةِ بِقَوْلِهِ: عَظِيمٌ وَالْكَفَّارُ كَانُوا يَجْهَلُونَ ذَلِكَ وَيَدَّعُونَ الْعِلْمَ بِأُمُورِ النَّجْمِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ فَمَا بَالُهُ لَا يَحْصُلُ لَنَا عِلْمٌ وَظَنٌّ، فَقَالَ: لَوْ تَعْلَمُونَ لَحَصَلَ لَكُمُ الْقَطْعُ، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا الْأَمْرُ أَظْهَرُ مِنْ هَذَا، وَذَلِكَ لِأَنَّا قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ: فَلا أُقْسِمُ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ وَاضِحٌ مِنْ أَنْ يُصَدَّقَ بِيَمِينٍ، وَالْكُفَّارُ كَانُوا يَقُولُونَ: أَيْنَ الظُّهُورُ وَنَحْنُ نَقْطَعُ بِعَدَمِهِ، فَقَالَ: لَوْ تَعْلَمُونَ شَيْئًا لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَالْأَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ قَسَمًا فَهُوَ فِي نَفْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْقَسَمِ، فَقَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ مَعْنَاهُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ، وَإِنَّهُ دَلِيلٌ وَبُرْهَانٌ قَوِيٌّ لَوْ تَعْلَمُونَ وَجْهَهُ لَاعْتَرَفْتُمْ بِمَدْلُولِهِ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ/ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْحَشْرِ، وَذَلِكَ لَأَنَّ دَلَالَةَ اخْتِصَاصِ الْكَوَاكِبِ بِمَوَاضِعِهَا فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَلَا يَلْزَمُ الْفَلَاسِفَةَ دَلِيلٌ أَظْهَرُ مِنْهُ، وَأَمَّا المعنوية:

[سورة الواقعة (56) : الآيات 77 إلى 80]

فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ؟ نَقُولُ: فِيهِ ووجهان الْأَوَّلُ: الْقُرْآنُ كَانُوا يَجْعَلُونَهُ تَارَةً شِعْرًا وَأُخْرَى سِحْرًا وَغَيْرَ ذَلِكَ وَثَانِيهِمَا: هُوَ التَّوْحِيدُ وَالْحَشْرُ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَقَوْلُهُ: لَقُرْآنٌ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي وَصْفِهِ بِالْعَظِيمِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ فَنَقُولُ: لَمَّا قَالَ: فَلا أُقْسِمُ وَكَانَ مَعْنَاهُ: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا لِوُضُوحِ الْمُقْسَمِ بِهِ عَلَيْهِ. قَالَ: لَسْتُ تَارِكًا لِلْقَسَمِ بِهَذَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَسَمٍ أَوْ لَيْسَ بِقَسَمٍ عَظِيمٍ، بَلْ هُوَ قَسَمٌ عَظِيمٌ وَلَا أُقْسِمُ بِهِ، بَلْ بِأَعْظَمَ مِنْهُ أُقْسِمُ لِجَزْمِي بِالْأَمْرِ وَعِلْمِي بِحَقِيقَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْيَمِينُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ تُوصَفُ بِالْمُغَلَّظَةِ، وَالْعِظَمِ يُقَالُ: فِي الْمُقْسِمِ حَلَفَ فُلَانٌ بِالْأَيْمَانِ الْعِظَامِ، ثُمَّ تَقُولُ فِي حَقِّهِ يَمِينٌ مُغَلَّظَةٌ لِأَنَّ آثَامَهَا كَبِيرَةٌ. وَأَمَّا فِي حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَبِالْعَظِيمِ وَذَلِكَ هُوَ الْمُنَاسِبُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ هُوَ الَّذِي قَرُبَ قَوْلُهُ مِنْ كُلِّ قَلْبٍ وَمَلَأَ الصَّدْرَ بِالرُّعْبِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى الْعَظِيمِ فِيهِ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ الْجِسْمَ الْعَظِيمَ هُوَ الَّذِي قَرُبَ مِنْ أَشْيَاءَ عَظِيمَةٍ وَمَلَأَ أَمَاكِنَ كَثِيرَةً مِنَ الْعِظَمِ، كَذَلِكَ الْعَظِيمُ الَّذِي لَيْسَ بِجِسْمٍ قَرُبَ مِنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَمَلَأَ صُدُورًا كثيرة. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 77 الى 80] إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَاذَا؟ فَنَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: إِلَى مَعْلُومٍ وَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْكُلِّ، وَكَانَ الْكُفَّارُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ شِعْرٌ وَإِنَّهُ سِحْرٌ، فَقَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ عَائِدٌ إِلَى مَذْكُورٍ وَهُوَ جَمِيعُ مَا سَبَقَ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَالْحَشْرِ، وَالدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ عَلَيْهِمَا، وَالْقَسَمِ الَّذِي قال فيه: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ [الواقعة: 76] وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ مُحَمَّدٍ وَمُخْتَرَعٌ مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقُرْآنُ مَصْدَرٌ أَوِ اسْمٌ غَيْرُ مَصْدَرٍ؟ فَنَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مَصْدَرٌ أُرِيدَ بِهِ الْمَفْعُولُ وَهُوَ الْمَقْرُوءُ وَمِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرَّعْدِ: 31] وَهَذَا كَمَا يُقَالُ فِي الْجِسْمِ الْعَظِيمِ: انْظُرْ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ مَقْدُورِهِ وَهُوَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي [لقمان: 11] ثانيهما: اسم لما يقرأ كالقربان لما يتقرب به، والحلوان لما يحلى به فم المكاري أو الكاهن/ وَعَلَى هَذَا سَنُبَيِّنُ فَسَادَ قَوْلِ مَنْ رَدَّ عَلَى الْفُقَهَاءِ قَوْلَهُمْ فِي بَابِ الزَّكَاةِ: يُعْطِي شَيْئًا أَعْلَى مِمَّا وَجَبَ وَيَأْخُذُ الْجُبْرَانَ أَوْ يُعْطِي شَيْئًا دُونَهُ، وَيُعْطِي الْجُبْرَانَ أَيْضًا، حَيْثُ قَالَ: الْجُبْرَانُ مَصْدَرٌ لَا يُؤْخَذُ وَلَا يُعْطَى، فَيُقَالُ لَهُ هُوَ كَالْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْمَقْرُوءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لِمَا أُخِذَ جَابِرٌ أَوْ مَجْبُورٌ أَوْ يُقَالُ: هُوَ اسْمٌ لِمَا يُجْبَرُ بِهِ كَالْقُرْبَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَهُمْ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَ كَوْنَهُ مَقْرُوءًا فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِخْبَارٌ عن الكل وهو قوله: قرآن كَرِيمٌ فَهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ

كَوْنَهُ قُرْآنًا كَرِيمًا وَهُمْ مَا كَانُوا يُقِرُّونَ بِهِ وَثَانِيهِمَا: وَهُوَ أَحْسَنُ مِنَ الْأَوَّلِ، أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ مُخْتَرَعٌ مِنْ عِنْدِهِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّهُ مَسْمُوعٌ سَمِعْتُهُ وَتَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ فَمَا كَانَ الْقُرْآنُ عِنْدَهُمْ مَقْرُوءًا، وَمَا كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَفَرْقٌ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالْإِنْشَاءِ، فَلَمَّا قَالَ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ أَثْبَتَ كَوْنَهُ مَقْرُوءًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُقْرَأَ وَيُتْلَى فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ سَمَّاهُ قُرْآنًا لِكَثْرَةِ مَا قُرِئَ، وَيُقْرَأُ إِلَى الْأَبَدِ بَعْضُهُ فِي الدُّنْيَا وَبَعْضُهُ فِي الْآخِرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: كَرِيمٌ فِيهِ لَطِيفَةٌ؟ وَهِيَ أَنَّ الْكَلَامَ إِذَا قُرِئَ كَثِيرًا يَهُونُ فِي الْأَعْيُنِ وَالْآذَانِ، وَلِهَذَا تَرَى مَنْ قَالَ: شَيْئًا فِي مَجْلِسِ الْمُلُوكِ لَا يَذْكُرُهُ ثَانِيًا، وَلَوْ قِيلَ فِيهِ: يُقَالُ لِقَائِلِهِ لِمَ تُكَرِّرُ هَذَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ أَيْ مَقْرُوءٌ قُرِئَ وَيُقْرَأُ، قَالَ: كَرِيمٌ أَيْ لَا يَهُونُ بِكَثْرَةِ التِّلَاوَةَ وَيَبْقَى أَبَدَ الدَّهْرِ كَالْكَلَامِ الْغَضِّ وَالْحَدِيثِ الطَّرِيِّ، وَمِنْ هُنَا يَقَعُ أَنَّ وَصْفَ الْقُرْآنِ بِالْحَدِيثِ مَعَ أَنَّهُ قَدِيمٌ يَسْتَمِدُّ مِنْ هَذَا مَدَدًا فَهُوَ قَدِيمٌ يَسْمَعُهُ السَّامِعُونَ كَأَنَّهُ كَلَامُ السَّاعَةِ، وَمَا قَرَعَ سَمْعَ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ عَلِمُوهُ قَبْلَ النَّبِيِّ بِأُلُوفٍ مِنَ السِّنِينَ إِذَا سَمِعُوهُ مِنْ أَحَدِنَا يَتَلَذَّذُونَ بِهِ الْتِذَاذَ السَّامِعِ بِكَلَامٍ جَدِيدٍ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ مِنْ قَبْلُ، وَالْكَرِيمُ اسْمٌ جَامِعٌ لِصِفَاتِ الْمَدْحِ، قِيلَ: الْكَرِيمُ هُوَ الَّذِي كَانَ طَاهِرَ الْأَصْلِ ظَاهِرَ الْفَضْلِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ أَصْلُهُ غَيْرُ زَكِيٍّ لَا يُقَالُ لَهُ كَرِيمٌ مُطْلَقًا، بَلْ يُقَالُ لَهُ: كَرِيمٌ فِي نَفْسِهِ، وَمَنْ يَكُونُ زَكِيَّ الْأَصْلِ غَيْرَ زَكِيِّ النَّفْسِ لَا يُقَالُ لَهُ: كَرِيمٌ إِلَّا مَعَ تَقْيِيدٍ، فَيُقَالُ: هُوَ كَرِيمُ الْأَصْلِ لَكِنَّهُ خَسِيسٌ فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ إِنَّ السَّخِيَّ الْمُجَرَّدَ هُوَ الَّذِي يَكْثُرُ عَطَاؤُهُ لِلنَّاسِ، أَوْ يَسْهُلُ عَطَاؤُهُ وَيُسَمَّى كَرِيمًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلٌ آخَرُ لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لِسَبَبٍ، وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ يُحِبُّونَ مَنْ يُعْطِيهِمْ، وَيَفْرَحُونَ بِمَنْ يُعْطِي أَكْثَرَ مِمَّا يَفْرَحُونَ بِغَيْرِهِ، فَإِذَا رَأَوْا زَاهِدًا أَوْ عَالِمًا لَا يُسَمُّونَهُ كَرِيمًا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا وَاحِدًا لَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ شَيْئًا يُسَمُّونَهُ كَرِيمَ النَّفْسِ لِمُجَرَّدِ تَرْكِهِ الِاسْتِعْطَاءَ لَمَّا أَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ صَعْبٌ عَلَيْهِمْ وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْعَادَةِ الرَّدِيئَةِ، وَأَمَّا فِي الْأَصْلِ فَيُقَالُ: الْكَرِيمُ هُوَ الَّذِي اسْتُجْمِعَ فِيهِ مَا يَنْبَغِي مِنْ طَهَارَةِ الْأَصْلِ وَظُهُورِ الْفَضْلِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ السَّخِيَّ فِي مُعَامَلَتِهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُوجَدَ مِنْهُ مَا يُقَالُ بِسَبَبِهِ إِنَّهُ لَئِيمٌ، فَالْقُرْآنُ أَيْضًا كَرِيمٌ بِمَعْنَى طَاهِرِ الْأَصْلِ ظَاهِرِ الْفَضْلِ لَفْظُهُ فَصِيحٌ، وَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ لَكِنَّ الْقُرْآنَ أَيْضًا كَرِيمٌ عَلَى مَفْهُومِ الْعَوَامِّ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ/ طَلَبَ مِنْهُ شَيْئًا أَعْطَاهُ، فَالْفَقِيهُ يَسْتَدِلُّ بِهِ وَيَأْخُذُ مِنْهُ، وَالْحَكِيمُ يستمد به وَيَحْتَجُّ بِهِ، وَالْأَدِيبُ يَسْتَفِيدُ مِنْهُ وَيَتَقَوَّى بِهِ، واللَّه تَعَالَى وَصَفَ الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ كَرِيمًا، وَبِكَوْنِهِ عَزِيزًا، وَبِكَوْنِهِ حَكِيمًا، فَلِكَوْنِهِ كَرِيمًا كُلُّ مَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ نَالَ مِنْهُ مَا يُرِيدُهُ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَا يَفْهَمُ مِنَ الْعُلُومِ شَيْئًا وَإِذَا اشْتَغَلَ بِالْقُرْآنِ سَهُلَ عَلَيْهِ حِفْظُهُ، وَقَلَّمَا يُرَى شَخْصٌ يَحْفَظُ كِتَابًا يَقْرَؤُهُ بِحَيْثُ لَا يُغَيِّرُ مِنْهُ كَلِمَةً بِكَلِمَةٍ، وَلَا يُبَدِّلُ حَرْفًا بِحَرْفٍ وَجَمِيعُ الْقُرَّاءِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ وَلَا تَبْدِيلٍ، وَلِكَوْنِهِ عَزِيزًا أَنَّ كُلَّ مَنْ يُعْرِضُ عَنْهُ لَا يَبْقَى مَعَهُ مِنْهُ شَيْءٌ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْكُتُبِ، فَإِنَّ مَنْ قَرَأَ كِتَابًا وَحَفِظَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ يَتَعَلَّقُ بِقَلْبِهِ مَعْنَاهُ حَتَّى يَنْقُلَهُ صَحِيحًا، وَالْقُرْآنُ مَنْ تَرَكَهُ لَا يَبْقَى مَعَهُ مِنْهُ شَيْءٌ لِعِزَّتِهِ وَلَا يَثْبُتُ عِنْدَ مَنْ لَا يَلْزَمُهُ بِالْحِفْظِ، وَلِكَوْنِهِ حَكِيمًا مَنِ اشْتَغَلَ بِهِ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ بِالْقَلْبِ أَغْنَاهُ عَنْ سَائِرِ الْعُلُومِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي كِتابٍ جَعَلَهُ شَيْئًا مَظْرُوفًا بِكِتَابٍ فَمَا ذَلِكَ؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الْمَظْرُوفُ: الْقُرْآنُ، أَيْ هُوَ قُرْآنٌ فِي كِتَابٍ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ رَجُلٌ كَرِيمٌ فِي بَيْتِهِ، لَا يَشُكُّ السَّامِعُ أَنَّ مُرَادَ الْقَائِلِ: أَنَّهُ فِي الدَّارِ قَاعِدٌ وَلَا يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ كَرِيمٌ إِذَا كَانَ فِي الدَّارِ، وَغَيْرُ كَرِيمٍ إِذَا كَانَ خَارِجًا وَلَا يَشُكُّ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ كَرِيمٌ فِي بَيْتِهِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ رجل كريم وهو في البيت، فكذلك هاهنا أن القرآن الكريم وهو في

كِتَابٍ، أَوِ الْمَظْرُوفَ كَرِيمٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ رَجُلٌ كَرِيمٌ فِي نَفْسِهِ، فَيَفْهَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الْقَائِلَ لَمْ يَجْعَلْهُ رَجُلًا مَظْرُوفًا فَإِنَّ الْقَائِلَ: لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ رَجُلٌ فِي نَفْسِهِ قَاعِدٌ أَوْ نَائِمٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ كَرِيمٌ كَرَمُهُ فِي نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ قُرْآنٌ كَرِيمٌ فَالْقُرْآنُ كَرِيمٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَرِيمًا عِنْدَ الْكُفَّارِ ثَانِيهِمَا: الْمَظْرُوفُ هُوَ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) أَيْ هُوَ كَذَا فِي كِتَابٍ كَمَا يُقَالُ: وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ [الْمُطَفِّفِينَ: 19] فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى، وَالْمُرَادُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ نَعْتُهُ مَكْتُوبٌ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ وَالْكُلُّ صَحِيحٌ، وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ فِي التَّعْظِيمِ بِالْمَقْرُوءِ السَّمَاوِيِّ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [الْبُرُوجِ: 20، 21] الثَّانِي: الْكِتَابُ هُوَ الْمُصْحَفُ الثَّالِثُ: كِتَابٌ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ فَهُوَ قُرْآنٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ سُمِّيَ الْكِتَابُ كِتَابًا وَالْكِتَابُ فِعَالٌ، وَهُوَ إِذَا كَانَ لِلْوَاحِدِ فَهُوَ إِمَّا مَصْدَرٌ كَالْحِسَابِ وَالْقِيَامِ وَغَيْرِهِمَا، أَوِ اسْمٌ لِمَا يُكْتَبُ كَاللِّبَاسِ وَاللِّثَامِ وَغَيْرِهِمَا، فَكَيْفَمَا كَانَ فَالْقُرْآنُ لَا يَكُونُ فِي كِتَابٍ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَلَا يَكُونُ فِي مَكْتُوبٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَكْتُوبًا فِي لَوْحٍ أَوْ وَرَقٍ، فَالْمَكْتُوبُ لَا يَكُونُ فِي الْكِتَابِ، إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْقِرْطَاسِ، نَقُولُ: مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْمَوَازِينِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ لَيْسَ الْمَكْتُوبَ وَلَا هُوَ الْمَكْتُوبَ فِيهِ أَوِ الْمَكْتُوبَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللِّثَامَ مَا يُلْثَمُ بِهِ، وَالصِّوَانَ مَا يُصَانُ فِيهِ الثَّوْبُ، لَكِنَّ اللَّوْحَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ إِلَّا الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ صَحَّ تَسْمِيَتُهُ كِتَابًا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْمَكْتُوبُ هُوَ الْمَسْتُورُ قَالَ اللَّه تَعَالَى: كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [الْوَاقِعَةِ: 23] ، قَالَ: بَيْضٌ/ مَكْنُونٌ [الصَّافَّاتِ: 49] فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ اللَّوْحَ فَهُوَ لَيْسَ بِمَسْتُورٍ وَإِنَّمَا الشَّيْءُ فِيهِ مَنْشُورٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْمُصْحَفَ فَعُدِمَ كَوْنُهُ مَكْتُوبًا مَسْتُورًا، فَكَيْفَ الْجَوَابُ عَنْهُ؟ فَنَقُولُ: الْمَكْنُونُ الْمَحْفُوظُ إِذَا كَانَ غَيْرَ عَزِيزٍ يُحْفَظُ بِالْعَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِلنَّاسِ فَإِذَا كَانَ شَرِيفًا عَزِيزًا لَا يُكْتَفَى بِالصَّوْنِ وَالْحِفْظِ بِالْعَيْنِ بَلْ يُسْتَرُ عَنِ الْعُيُونِ، ثُمَّ كَلَّمَا تَزْدَادُ عِزَّتُهُ يَزْدَادُ سَتْرُهُ فَتَارَةً يَكُونُ مَخْزُونًا ثُمَّ يُجْعَلُ مَدْفُونًا، فَالسَّتْرُ صَارَ كَاللَّازِمِ لِلصَّوْنِ الْبَالِغِ فَقَالَ: مَكْنُونٍ أَيْ مَحْفُوظٍ غَايَةَ الْحِفْظِ، فَذَكَرَ اللَّامَ وَأَرَادَ الْمَلْزُومَ وَهُوَ بَابٌ مِنَ الْكَلَامِ الْفَصِيحِ تَقُولُ مَثَلًا: فُلَانٌ كِبْرِيتٌ أَحْمَرُ، أَيْ قَلِيلُ الْوُجُودِ وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ مَسْتُورٌ عَنِ الْعَيْنِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا مَلَائِكَةٌ مَخْصُوصُونَ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ إِلَّا قَوْمٌ مُطَهَّرُونَ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ مَكْتُوبٌ مَسْتُورٌ أَبَدَ الدَّهْرِ عَنْ أَعْيُنِ الْمُبَدِّلِينَ، مَصُونٌ عَنْ أَيْدِي الْمُحَرِّفِينَ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ كَوْنِهِ فِي كِتابٍ وَكُلُّ مَقْرُوءٍ فِي كِتَابٍ؟ نَقُولُ: هُوَ لِتَأْكِيدِ الرَّدِّ عَلَى الْكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ مُخْتَرَعٌ مِنْ عِنْدِهِ مُفْتَرًى، فَلَمَّا قَالَ: مَقْرُوءٌ عَلَيْهِ انْدَفَعَ كَلَامُهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كَانَ مَقْرُوءًا عَلَيْهِ فَهُوَ كَلَامُ الْجِنِّ فَقَالَ: فِي كِتابٍ أَيْ لَمْ يَنْزِلْ بِهِ عَلَيْهِ الملك إلا بعدم أَخَذَهُ مِنْ كِتَابٍ فَهُوَ لَيْسَ بِكَلَامِ الْمَلَائِكَةِ فَضْلًا أَنْ يَكُونَ كَلَامَ الْجِنِّ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِذَا كَانَ كَرِيمًا فَهُوَ فِي كِتَابٍ، فَفَائِدَتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا فَائِدَةُ كَوْنِهِ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ فَيَكُونُ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي كُتُبٍ ظَاهِرَةٍ، أَيْ فَلِمَ لَا يُطَالِعُهَا الْكُفَّارُ، وَلِمَ لَا يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ لَا بَلْ هُوَ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، فإذا بين فِيمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وَصْفَهُ بِكَوْنِهِ قُرْآنًا صَارَ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ: يَذْكُرُهُ مِنْ عِنْدِهِ، وَقَوْلُهُ: فِي كِتابٍ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: يَتْلُوهُ عَلَيْهِ الْجِنُّ حَيْثُ اعْتَرَفَ بِكَوْنِهِ مَقْرُوءًا وَنَازَعَ فِي شَيْءٍ آخَرَ، وَقَوْلُهُ: مَكْنُونٍ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَقْرُوءٌ فِي كِتَابٍ لَكِنَّهُ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: لَا يَمَسُّهُ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْكِتَابِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ الْمُضْمَرُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ وَمَعْنَاهُ: لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، وَالصِّيغَةُ إِخْبَارٌ، لَكِنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ بِمَعْنَى النَّهْيِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ [الْبَقَرَةِ: 228] إِخْبَارٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، فَمَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عَلَى مَا بَيَّنَّا، قَالَ: هُوَ إِخْبَارٌ مَعْنًى كَمَا هُوَ إِخْبَارٌ لَفْظًا، إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُضْمَرَ فِي يَمَسُّهُ لِلْكِتَابِ، وَمَنْ قَالَ: الْمُرَادُ الْمُصْحَفُ اخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّهُ نَهْيٌ لَفْظًا وَمَعْنًى وَجُلِبَتْ إِلَيْهِ ضَمَّةُ الْهَاءِ لَا لِلْإِعْرَابِ وَلَا وَجْهَ لَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إِذَا كَانَ الْأَصَحُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكِتَابِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَا يَمَسُّهُ لِلْكِتَابِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ: لَا يَجُوزُ مَسُّ الْمُصْحَفِ لِلْمُحْدِثِ، نَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَا أَخَذَهُ مِنْ صَرِيحِ الْآيَةِ وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنَ السُّنَّةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ مَنْ هُوَ عَلَى غَيْرِ طُهْرٍ» أَوْ أَخَذَهُ مِنَ الْآيَةِ على طريق الاستنباط، وقال: إن المس يطهر صِفَةٌ مِنَ الصِّفَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْظِيمِ وَالْمَسَّ بِغَيْرِ طُهُورٍ/ نَوْعُ إِهَانَةٍ فِي الْمَعْنَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَضْدَادَ يَنْبَغِي أَنْ تُقَابَلَ بِالْأَضْدَادِ، فَالْمَسُّ بِالْمُطَهَّرِ فِي مُقَابَلَةِ الْمَسِّ عَلَى غَيْرِ طُهْرٍ، وَتَرْكُ الْمَسِّ خُرُوجٌ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَكَذَلِكَ الْإِكْرَامُ فِي مُقَابَلَةِ الْإِهَانَةِ وَهُنَاكَ شَيْءٌ لَا إِكْرَامَ وَلَا إِهَانَةَ فَنَقُولُ: إِنَّ مَنْ لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ لَا يَكُونُ مُكَرَّمًا وَلَا مَهِينًا وَبِتَرْكِ الْمَسِّ خَرَجَ عَنِ الضِّدَّيْنِ فَفِي المس عن الطُّهْرِ التَّعْظِيمُ، وَفِي الْمَسِّ عَلَى الْحَدَثِ الْإِهَانَةُ فَلَا تَجُوزُ وَهُوَ مَعْنًى دَقِيقٌ يَلِيقُ بِالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه وَمَنْ يَقْرُبُ مِنْهُ فِي الدَّرَجَةِ. ثُمَّ إِنَّ هَهُنَا لَطِيفَةً فِقْهِيَّةً: لَاحَتْ لِهَذَا الضَّعِيفِ فِي حَالِ تَفَكُّرِهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَأَرَادَ تَقْيِيدَهَا هُنَا فَإِنَّهَا مِنْ فَضْلِ اللَّه فَيَجِبُ عَلَيَّ إِكْرَامُهَا بِالتَّقْيِيدِ بِالْكِتَابِ، وَهِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّه مَنَعَ الْمُحْدِثَ وَالْجُنُبَ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ وَجَعَلَهُمَا غَيْرَ مُطَهَّرَيْنِ ثُمَّ مَنَعَ الْجُنُبَ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَمْنَعِ الْمُحْدِثَ وَهُوَ اسْتِنْبَاطٌ مِنْهُ مِنْ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى مَنَعَهُ عَنِ الْمَسْجِدِ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ: وَلا جُنُباً [النِّسَاءِ: 43] فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلذِّكْرِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَهْلًا لِلذِّكْرِ لَمَا مَنَعَهُ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَذِنَ لِأَهْلِ الذِّكْرِ فِي الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النُّورِ: 36] الْآيَةَ، وَالْمَأْذُونُ فِي الذِّكْرِ فِي الْمَسْجِدِ مَأْذُونٌ فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ ضَرُورَةً فَلَوْ كَانَ الْجُنُبُ أَهْلًا لِلذِّكْرِ لَمَا كَانَ مَمْنُوعًا عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْمُكْثِ فِيهِ وَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْهُمَا وَعَنْ أَحَدِهِمَا، وَأَمَّا الْمُحْدِثُ فَعُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ كَانَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ وَجَوَّزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْمَ الْقَوْمِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ النَّوْمُ حَدَثًا إِذِ النَّوْمُ الْخَاصُّ يَلْزَمُهُ الْحُكْمُ بِالْحَدَثِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ وَمَا لَمْ يَكُنْ مَمْنُوعًا مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ غَيْرَ أَهْلٍ لِلذِّكْرِ فَجَازَ لَهُ الْقِرَاءَةُ، فَإِنْ قِيلَ: وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْجُنُبِ أَنْ يُسَبِّحَ وَيَسْتَغْفِرَ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ، نَقُولُ: الْقُرْآنُ هُوَ الذِّكْرُ الْمُطْلَقُ قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزُّخْرُفِ: 44] وَقَالَ اللَّه تَعَالَى: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: 1] وَقَوْلُهُ: يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْمَسْجِدَ يُسَمَّى مَسْجِدًا، وَمَسْجِدُ الْقَوْمِ مَحَلُّ السُّجُودِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الصَّلَاةُ وَالذِّكْرُ الْوَاجِبُ فِي الصَّلَاةِ هُوَ الْقُرْآنُ، فَالْقُرْآنُ، مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْقُولُ هُوَ أَنَّ غَيْرَ الْقُرْآنِ رُبَّمَا يُذْكَرُ مُرِيدًا بِهِ مَعْنَاهُ فَيَكُونُ كَلَامًا غَيْرَ ذكرا، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّه أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَمْرٍ، وَمَنْ قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّه الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ كَذَلِكَ أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ كَائِنٍ بِخِلَافِ مَنْ قَالَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ

[الصمد: 1] فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَكَلِّمٍ بِهِ بَلْ هُوَ قَائِلٌ لَهُ غَيْرُ آمِرٍ لِغَيْرِهِ بِالْقَوْلِ، فَالْقُرْآنُ هُوَ الذِّكْرُ الَّذِي لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى قَصْدِ الذِّكْرِ لَا عَلَى قَصْدِ الْكَلَامِ فَهُوَ الْمُطْلَقُ وَغَيْرُهُ قَدْ يَكُونُ ذِكْرًا، وَقَدْ لَا يَكُونُ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا قَالَ: ادْخُلُوها بِسَلامٍ [الْحِجْرِ: 46] وَأَرَادَ الْإِخْبَارَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ قُرْآنًا وَذِكْرًا، نَقُولُ: هُوَ فِي نَفْسِهِ قُرْآنٌ، وَمَنْ ذَكَرَهُ عَلَى قَصْدِ الْإِخْبَارِ، وَأَرَادَ الْأَمْرَ وَالْإِذْنَ فِي الدُّخُولِ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ قَارِئًا لِلْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ قُرْآنًا، وَلِهَذَا نَقُولُ نَحْنُ بِبُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَلَوْ كَانَ قَارِئًا لَمَا بَطَلَتْ، وَهَذَا جَوَابٌ فِيهِ لُطْفٌ يَنْبَغِي أَنْ يَتَنَبَّهَ لَهُ الْمُطَالِعُ لِهَذَا الْكِتَابِ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنِّي فَرَّقْتُ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ لَيْسَ قَوْلُ/ الْقَائِلٍ: ادْخُلُوها بِسَلامٍ عَلَى قَصْدِ الْإِذْنِ قُرْآنًا، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: لَيْسَ الْقَائِلُ ادْخُلُوها بِسَلامٍ عَلَى غَيْرِ قَصْدٍ بِقَارِئٍ لِلْقُرْآنِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْعِبَادَةَ عَلَى مُنَافَاةِ الشَّهْوَةِ، وَالشَّهْوَةُ إِمَّا شَهْوَةُ الْبَطْنِ، وَإِمَّا شَهْوَةُ الْفَرْجِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَخْلُو عَنْهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِ شَيْئًا آخَرَ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَنْكُوحِ، لَكِنَّ شَهْوَةَ الْبَطْنِ قَدْ لَا تَبْقَى شَهْوَةً بَلْ تَصِيرُ حَاجَةً عِنْدَ الْجُوعِ وَضَرُورَةً عِنْدِ الْخَوْفِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الْوَاقِعَةِ: 21] أَيْ لَا يَكُونُ لِحَاجَةٍ وَلَا ضَرُورَةٍ بَلْ لِمُجَرَّدِ الشَّهْوَةِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَمَّا شَهْوَةُ الْفَرْجِ فَلَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا شَهْوَةً وَإِنْ خَرَجَتْ تَكُونُ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ لَا الضَّرُورَةِ، فَلَا يُعْلَمُ أَنَّ شَهْوَةَ الْفَرْجِ لَيْسَتْ شَهْوَةً مَحْضَةً، وَالْعِبَادَةُ فِيهَا مُنْضَمَّةٌ لِلشَّهْوَةِ، فَلَمْ تَخْرُجْ شَهْوَةُ الْفَرْجِ عَنْ كونها عبادة بدنية قط بل حكم الشارع بِبُطْلَانِ الْحَجِّ بِهِ، وَبُطْلَانِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَأَمَّا قَضَاءُ شَهْوَةِ الْبَطْنِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ شَهْوَةً مُجَرَّدَةً بَطَلَ بِهِ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ دُونَ الْحَجِّ، وَرُبَّمَا لَمْ تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ أَيْضًا، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: خُرُوجُ الْخَارِجِ دَلِيلُ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ الْبَطْنِيَّةِ، وَخُرُوجُ الْمَنِيِّ دَلِيلُ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ الْفَرْجِيَّةِ، فَوَاجِبٌ بِهِمَا تَطْهِيرُ النَّفْسِ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ مُتَحَاذِيَانِ، فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِتَطْهِيرِ الظَّاهِرِ عِنْدَ الْحَدَثِ وَالْإِنْزَالِ لِمُوَافَقَةِ الْبَاطِنِ، وَالْإِنْسَانُ إِذَا كَانَ لَهُ بَصِيرَةٌ وَيَنْظُرُ فِي تَطْهِيرِ بَاطِنِهِ عِنْدَ الِاغْتِسَالِ لِلْجَنَابَةِ، فَإِنَّهُ يَجِدُ خِفَّةً وَرَغْبَةً فِي الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَهُنَا تَتِمَّةٌ لِهَذِهِ اللَّطِيفَةِ وَهِيَ أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ: لَوْ صَحَّ قَوْلُكَ لَلَزِمَ أَنْ يَجِبَ الْوُضُوءُ بِالْأَكْلِ كَمَا يَجِبُ بِالْحَدَثِ لِأَنَّ الْأَكْلَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الِاغْتِسَالَ لَمَّا وَجَبَ بِالْإِنْزَالِ، لِكَوْنِهِ دَلِيلَ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَكَذَا بِالْإِيلَاجِ، لِكَوْنِهِ قَضَاءً بالإيلاج، فكذلك الإحداث والأكل فنقول: هاهنا سِرٌّ مَكْنُونٌ وَهُوَ مَا بَيَّنَّاهُ أَنَّ الْأَكْلَ قَدْ يَكُونُ لِحَاجَةٍ وَضَرُورَةٍ فَنَقُولُ: الْأَكْلُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ لِلشَّهْوَةِ إِلَّا بِعَلَامَةٍ، فَإِذَا أَحْدَثَ عُلِمَ أَنَّهُ أَكَلَ وَلَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ لِلشَّهْوَةِ وَأَمَّا الْإِيلَاجُ فَلَا يَكُونُ لِلْحَاجَةِ وَلَا يَكُونُ لِلضَّرُورَةِ فَهُوَ شَهْوَةٌ كَيْفَمَا كَانَ، فَنَاطَ الشَّارِعُ إِيجَابَ التَّطْهِيرِ بِدَلِيلَيْنِ أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» فَإِنَّ الْإِنْزَالَ كَالْإِحْدَاثِ، وَكَمَا أَنَّ الْحَدَثَ هُوَ الْخَارِجُ وَهُوَ أَصْلٌ فِي إِيجَابِ الْوُضُوءِ، كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْزَالُ الَّذِي هُوَ الْخُرُوجُ هُوَ الْأَصْلَ فِي إِيجَابِ الْغُسْلِ فَإِنَّ عِنْدَهُ يَتَبَيَّنُ قَضَاءُ الْحَاجَةِ وَالشَّهْوَةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ الْإِنْزَالِ لَا يَشْتَهِي الْجِمَاعَ فِي الظَّاهِرِ وَثَانِيهِمَا: مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوُضُوءُ مِنْ أَكْلِ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ كَمَا أَنَّ خُرُوجَ الْحَدَثِ دَلِيلُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا يَصْبِرُ إِلَى أَنْ يَسْتَوِيَ الطَّعَامُ بِالنَّارِ بَلْ يَأْكُلُ كَيْفَمَا كَانَ، فَأَكْلُ الشَّيْءِ بَعْدَ الطَّبْخِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَاضٍ بِهِ الشَّهْوَةَ لَا دَافِعٌ بِهِ الضَّرُورَةَ، وَنَعُودُ إِلَى الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ وَنَقُولُ: إِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَضَى بِأَنَّ شَهْوَةَ الْفَرْجِ شَهْوَةٌ مَحْضَةٌ، فَلَا تُجَامِعُ الْعِبَادَةُ الْجَنَابَةَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ الْجُنُبُ الْقُرْآنَ، وَالْمُحْدِثُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ لِأَنَّ الْحَدَثَ لَيْسَ يَكُونُ عَنْ شَهْوَةٍ مَحْضَةٍ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ طَهَّرَهُمُ اللَّه فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ وَأَبْقَاهُمْ/ كَذَلِكَ طول عمرهم

[سورة الواقعة (56) : الآيات 81 إلى 82]

وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْحَدَثِ لَقَالَ: لَا يمسه إلا المطهرون أَوِ الْمُطَّهَّرُونَ، بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ، وَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ الصَّحِيحَةُ الْمُطَهَّرُونَ مِنَ التَّطْهِيرِ لَا مِنَ الْإِطْهَارِ، وَعَلَى هَذَا يَتَأَيَّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَقُولُ: هُوَ مِنَ السَّمَاءِ يَنْزِلُ بِهِ الْجِنُّ وَيُلْقِيهِ عَلَيْهِ كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي حَقِّ الْكَهَنَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاهِنٌ، فَقَالَ: لَا يَمَسُّهُ الْجِنُّ وَإِنَّمَا يَمَسُّهُ الْمُطَهَّرُونَ الَّذِينَ طُهِّرُوا عَنِ الْخُبْثِ، وَلَا يَكُونُونَ مَحَلًّا لِلْإِفْسَادِ وَالسَّفْكِ، فَلَا يُفْسِدُونَ وَلَا يَسْفِكُونَ، وَغَيْرُهُمْ لَيْسَ بِمُطَهَّرٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَيَكُونُ هَذَا رَدًّا عَلَى الْقَائِلِينَ: بِكَوْنِهِ مُفْتَرِيًا، وَبِكَوْنِهِ شَاعِرًا، وَبِكَوْنِهِ مَجْنُونًا بِمَسِّ الْجِنِّ، وَبِكَوْنِهِ كَاهِنًا، وَكُلُّ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ وَالْكُلُّ رُدَّ عليهم بما ذكر اللَّه تعالى هاهنا مِنْ أَوْصَافِ كِتَابِ اللَّه الْعَزِيزِ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ مَصْدَرٌ، وَالْقُرْآنُ الَّذِي فِي كِتَابٍ لَيْسَ تَنْزِيلًا إِنَّمَا هُوَ مُنَزَّلٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشُّعَرَاءِ: 193] نَقُولُ: ذِكْرُ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةُ الْمَفْعُولِ كَثِيرٌ كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لقمان: 11] فَإِنْ قِيلَ: مَا فَائِدَةُ الْعُدُولِ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؟ فَنَقُولُ: التَّنْزِيلُ وَالْمُنَزَّلُ كِلَاهُمَا مَفْعُولَانِ وَلَهُمَا تَعَلُّقٌ بِالْفَاعِلِ، لَكِنَّ تَعَلُّقَ الْفَاعِلِ بِالْمَصْدَرِ أَكْثَرُ، وَتَعَلُّقَ الْمَفْعُولِ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَصْفِ الْقَائِمِ بِهِ، فَنَقُولُ: هَذَا فِي الْكَلَامِ، فَإِنَّ كَلَامَ اللَّه أَيْضًا وَصْفٌ قَائِمٌ باللَّه عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا نَقُولُ: مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةُ وَاللَّفْظُ وَلَكَ أَنْ تَنْظُرَ فِي مِثَالٍ آخَرَ لِيَتَيَسَّرَ لَكَ الْأَمْرُ مِنْ غَيْرِ غَلَطٍ وَخَطَأٍ فِي الِاعْتِقَادِ، فَنَقُولُ: فِي الْقُدْرَةِ وَالْمَقْدُورِ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِالْفَاعِلِ أَبْلَغُ مِنْ تَعَلُّقِ الْمَقْدُورِ، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ فِي الْقَادِرِ وَالْمَقْدُورُ لَيْسَ فِيهِ، فَإِذَا قَالَ: هَذَا قُدْرَةُ اللَّه تَعَالَى كَانَ لَهُ مِنَ الْعَظَمَةِ مَا لَا يَكُونُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا مَقْدُورُ اللَّه، لِأَنَّ عَظَمَةَ الشَّيْءِ بِعَظَمَةِ اللَّه، فَإِذَا جَعَلْتَ الشَّيْءَ قَائِمًا بِالتَّعْظِيمِ غَيْرَ مُبَايِنٍ عَنْهُ كَانَ أَعْظَمَ، وَإِذَا ذَكَرْتَهُ بِلَفْظٍ يُقَالُ مِثْلُهُ فِيمَا لَا يَقُومُ باللَّه وَهُوَ الْمَفْعُولُ بِهِ كَانَ دُونَهُ، فَقَالَ: تَنْزِيلٌ وَلَمْ يقل: منزل، ثم إن هاهنا: بَلَاغَةً أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْمَفْعُولَ قَدْ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ عَلَى ضِدِّ مَا ذَكَرْنَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: مُدْخَلَ صِدْقٍ [الْإِسْرَاءِ: 80] أَيْ دُخُولَ صِدْقٍ أَوْ إِدْخَالَ صِدْقٍ وَقَالَ تَعَالَى: كُلَّ مُمَزَّقٍ [سَبَأٍ: 7] أَيْ تَمْزِيقٍ، فَالْمُمَزَّقُ بِمَعْنَى التَّمْزِيقِ، كَالْمُنَزَّلِ بِمَعْنَى التَّنْزِيلِ، وَعَلَى الْعَكْسِ سَوَاءٌ، وَهَذِهِ الْبَلَاغَةُ هِيَ أَنَّ الْفِعْلَ لَا يُرَى، وَالْمَفْعُولَ بِهِ يَصِيرُ مَرْئِيًّا، وَالْمَرْئِيُّ أَقْوَى فِي الْعِلْمِ، فَيُقَالُ: مَزَّقَهُمْ تَمْزِيقًا وَهُوَ فِعْلٌ مَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ عِلْمًا بَيِّنًا يَبْلُغُ دَرَجَةَ الرُّؤْيَةِ وَيَصِيرُ التَّمَزُّقُ هُنَا كَمَا صَارَ الْمُمَزَّقُ ثَابِتًا مَرْئِيًّا، وَالْكَلَامُ يَخْتَلِفُ بِمَوَاضِعِ الْكَلَامِ، وَيَسْتَخْرِجُ الْمُوَفَّقُ بِتَوْفِيقِ اللَّه، وَقَوْلُهُ: مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَيْضًا لِتَعْظِيمِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ يَعْظُمُ بِعَظَمَةِ الْمُتَكَلِّمُ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِرَسُولِ الْمَلِكِ هَذَا كَلَامُ الْمَلِكِ أَوْ كَلَامُكَ وَهَذَا كَلَامُ الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ أَوْ كَلَامُ الْمَلِكِ الَّذِي دُونَهُ، إِذَا كَانَ الرَّسُولُ رَسُولَ مُلُوكٍ، فَيَعْظُمُ الْكَلَامُ بِقَدْرِ عَظَمَةِ الْمُتَكَلِّمِ، فَإِذَا قَالَ: مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ تَبَيَّنَ مِنْهُ عَظَمَةٌ لَا عَظَمَةَ مِثْلُهَا وَقَدْ بَيَّنَّا تَفْسِيرَ الْعَالَمِ وَمَا فِيهِ مِنَ اللَّطَائِفِ، وَقَوْلُهُ: تَنْزِيلٌ رَدٌّ عَلَى طَائِفَةٍ أُخْرَى، وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ فِي كِتَابٍ وَلَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، لَكِنَّ الْمَلَكَ يَأْخُذُ وَيُعَلِّمُ النَّاسَ مِنْ عِنْدِهِ وَلَا/ يَكُونُ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الرَّوَافِضِ يَقُولُونَ: إِنَّ جِبْرَائِيلَ أُنْزِلَ عَلَى عَلِيٍّ، فَنَزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَقَالَ تَعَالَى: هُوَ مِنَ اللَّه لَيْسَ بِاخْتِيَارِ الْمَلَكِ أَيْضًا، وَعِنْدَ هَذَا تَبَيَّنَ الْحَقُّ فَعَادَ إلى توبيخ الكفار. فقال تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 81 الى 82] أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)

[سورة الواقعة (56) : الآيات 83 إلى 85]

وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: (هَذَا) إِشَارَةٌ إِلَى مَاذَا؟ فَنَقُولُ: الْمَشْهُورُ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَإِطْلَاقُ الْحَدِيثِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْكَلَامِ الْقَدِيمِ كَثِيرٌ بِمَعْنَى كَوْنِهِ اسْمًا لَا وَصْفًا فَإِنَّ الْحَدِيثَ اسْمٌ لِمَا يُتَحَدَّثُ بِهِ، وَوَصْفٌ يُوصَفُ بِهِ مَا يَتَجَدَّدُ، فَيُقَالُ: أَمْرٌ حَادِثٌ وَرَسْمٌ حَدِيثٌ أَيْ جَدِيدٌ، وَيُقَالُ: أَعْجَبَنِي حَدِيثُ فُلَانٍ وَكَلَامُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ لَهُ لَذَّةُ الْكَلَامِ الْجَدِيدِ، وَالْحَدِيثِ الَّذِي لَمْ يُسْمَعْ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَحَدَّثُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الْوَاقِعَةِ: 47، 48] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ مُسْتَقِلٌّ مُنْتَظِمٌ فَإِنَّهُ تَعَالَى رَدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ [الْوَاقِعَةِ: 49] وذكر الدليل عليهم بقوله: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ [الواقعة: 57] وبقوله: أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ [الواقعة: 58] أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ [الواقعة: 63] وَأَقْسَمَ بَعْدَ إِقَامَةِ الدَّلَائِلِ بِقَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ [الواقعة: 75] وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ بقوله: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ [الواقعة: 77] ثُمَّ عَادَ إِلَى كَلَامِهِمْ، وَقَالَ: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ الَّذِي تَتَحَدَّثُونَ بِهِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ لِأَصْحَابِكُمْ تَعْلَمُونَ خِلَافَهُ وَتَقُولُونَهُ، أَمْ أَنْتُمْ بِهِ جَازِمُونَ، وَعَلَى الْإِصْرَارِ عَازِمُونَ، وَسَنُبَيِّنُ وَجْهَهُ بِتَفْسِيرِ الْمُدْهِنِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُدْهِنَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُكَذِّبُ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ أَفَبِالْقُرْآنِ أَنْتُمْ تُكَذِّبُونَ، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْإِدْهَانَ تَلْيِينُ الْكَلَامِ لِاسْتِمَالَةِ السَّامِعِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ صِحَّةِ الْكَلَامِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ كَمَا أَنَّ الْعَدُوَّ إِذَا عَجَزَ عَنْ عَدُوِّهِ يَقُولُ لَهُ أَنَا دَاعٍ لَكَ وَمُثْنٍ عَلَيْكَ مُدَاهَنَةً وَهُوَ كَاذِبٌ، فَصَارَ اسْتِعْمَالُ الْمُدْهِنِ فِي الْمُكَذِّبِ اسْتِعْمَالًا ثَانِيًا وَهَذَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْحَدِيثَ هُوَ الْقُرْآنُ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: الْمُدْهِنُ هُوَ الَّذِي يَلِينَ فِي الْكَلَامِ وَيُوَافِقُ بِاللِّسَانِ وَهُوَ مصر على الخلاف فقال: أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ كَاذِبٌ، وَإِنَّ الْحَشْرَ مُحَالٌ وَذَلِكَ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ حُبِّ الرِّيَاسَةِ، وَتَخَافُونَ أَنَّكُمْ إِنْ صَدَّقْتُمْ وَمَنَعْتُمْ ضُعَفَاءَكُمْ عَنِ الْكُفْرِ يَفُوتُ عَلَيْكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ مَا تَرْبَحُونَهُ بِسَبَبِهِمْ فَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ الرُّسُلَ، وَالْأَوَّلُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، لَكِنَّ الثَّانِيَ مُطَابِقٌ لِصَرِيحِ اللَّفْظِ فَإِنَّ الْحَدِيثَ بِكَلَامِهِمْ أَوْلَى وهو عبارة عن قولهم: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الواقعة: 47] وَالْمُدْهِنُ يَبْقَى عَلَى حَقِيقَتِهِ فَإِنَّهُمْ مَا كَانُوا مُدْهِنِينَ بِالْقُرْآنِ، وَقَوْلُ الزَّجَّاجِ: مُكَذِّبُونَ جَاءَ بَعْدَهُ صَرِيحًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: تَجْعَلُونَ شُكْرَ النِّعَمِ أَنَّكُمْ تَقُولُونَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، وَهَذَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، الثَّانِي: تَجْعَلُونَ مَعَاشَكُمْ وَكَسْبَكُمْ تَكْذِيبَ مُحَمَّدٍ، يُقَالُ: فُلَانٌ قَطَعَ الطَّرِيقُ مَعَاشَهُ، وَالرِّزْقُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ مَا يُرْزَقُ، يُقَالُ لِلْمَأْكُولِ رِزْقٌ، كَمَا يُقَالُ لِلْمَقْدُورِ قُدْرَةٌ، وَالْمَخْلُوقِ خَلْقٌ، وَعَلَى هَذَا/ فَالتَّكْذِيبُ مَصْدَرٌ قُصِدَ بِهِ مَا كَانُوا يُحَصِّلُونَ بِهِ مَقَاصِدَهُمْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: تُكَذِّبُونَ فَعَلَى الْأَوَّلِ الْمُرَادُ تَكْذِيبُهُمْ بِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هُودٍ: 6] وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَعَلَى الثَّانِي الْمُرَادُ جَمِيعُ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ من التكذيب، وهو أقرب إلى اللفظ. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 83 الى 85] فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) وفيه مسائل:

المسألة الأولى: المراد من كلمة: لولا مَعْنَى هَلَّا مِنْ كَلِمَاتِ التَّحْضِيضِ وَهِيَ أَرْبَعُ كلمات: لولا، ولو ما، وَهَلَّا، وَأَلَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: أَصْلُ الْكَلِمَاتِ لِمَ لَا، عَلَى السُّؤَالِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَلِمَ لَا يَظْهَرُ صِدْقُكَ، ثُمَّ إِنَّمَا قُلْنَا: الْأَصْلُ لِمَ لَا لِكَوْنِهِ اسْتِفْهَامًا أَشْبَهَ قَوْلَنَا: هَلَّا، ثُمَّ إِنَّ الِاسْتِفْهَامَ تَارَةً يَكُونُ عَنْ وُجُودِ شَيْءٍ وَأُخْرَى عَنْ سَبَبِ وُجُودِهِ، فَيُقَالُ: هَلْ جَاءَ زَيْدٌ وَلِمَ جَاءَ، وَالِاسْتِفْهَامُ بِهَلْ قَبْلَ الِاسْتِفْهَامِ بِلِمَ، ثُمَّ إِنَّ الِاسْتِفْهَامَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِنْكَارِ وَهُوَ كَثِيرٌ، ومنه قوله تعالى هاهنا: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ [الواقعة: 81] وَقَوْلُهُ: أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ [الصَّافَّاتِ: 125] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [الصَّافَّاتِ: 86] وَنَظَائِرُهَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا لَكَ الْحِكْمَةَ فِيهِ، وَهِيَ أَنَّ النَّافِيَ وَالنَّاهِيَ لَا يَأْمُرُ أَنْ يُكَذَّبَ الْمُخَاطَبُ فَعَرَّضَ بِالنَّفْيِ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إِلَى بَيَانِ النَّفْيِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالِاسْتِفْهَامُ «بِهَلْ» لِإِنْكَارِ الْفِعْلِ، وَالِاسْتِفْهَامُ «بِلِمَ» لِإِنْكَارِ سَبَبِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَالَ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا، يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا سَبَبَ لِلْفِعْلِ، وَيَقُولُ: كَانَ الْفِعْلُ وَقَعَ مِنْ غَيْرِ سَبَبِ الْوُقُوعِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِذَا قَالَ: هَلْ فَعَلْتَ، يُنْكِرُ نَفْسَ الْفِعْلِ لَا الْفِعْلَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، وَكَأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ يَقُولُ: لَوْ وُجِدَ لِلْفِعْلِ سَبَبٌ لَكَانَ فِعْلُهُ أَلْيَقَ، وَفِي الثَّانِي يَقُولُ: الْفِعْلُ غَيْرُ لَائِقٍ وَلَوْ وُجِدَ لَهُ سَبَبٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقَعُ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ، وَيَسْتَدْعِي كَلَامًا مُرَكَّبًا مِنْ كَلَامَيْنِ فِي الْأَصْلِ، أَمَّا فِي «هَلْ» فَلِأَنَّ أَصْلَهَا أَنَّكَ تَسْتَعْمِلُهَا فِي جُمْلَتَيْنِ، فَتَقُولُ: هَلْ جَاءَ زَيْدٌ أَوْ مَا جَاءَ، لَكِنَّكَ رُبَّمَا تَحْذِفُ إحداهما، وَأَمَّا فِي (لَوْ) فَإِنَّكَ تَقُولُ: لَوْ كَانَ كَذَا لَكَانَ كَذَا، وَرُبَّمَا تَحْذِفُ الْجَزَاءَ كَمَا ذكرنا في قوله تعالى: لَوْ تَعْلَمُونَ [الواقعة: 76] لِأَنَّهُ يُشِيرُ بِلَوْ إِلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ لَهُ دَلِيلٌ، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، وَقِيلَ لَهُ لِمَ لَا يَعْلَمُونَ، قَالَ: إِنَّهُمْ لَوْ يَعْلَمُونَ لَفَعَلُوا كَذَا، فَدَلِيلُهُ مُسْتَحْضَرٌ إِنْ طُولِبَ بِهِ بَيَّنَهُ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّفْيَّ بِلَوْ، وَالنَّفْيَ بِهَلْ، أَبْلَغُ مِنَ النَّفْيِ بِلَا، وَالنَّفْيُ بِقَوْلِهِ: لِمَ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكٌ مَعْنًى وَلَفْظًا وَحُكْمًا وَصَارَتْ كَلِمَاتُ التَّحْضِيضِ وَهِيَ: لو ما، وَلَوْلَا، وَهَلَّا وَأَلَا، كَمَا تَقُولُ: لِمَ لَا فَإِذَنْ قَوْلُ الْقَائِلِ: هَلْ تَفْعَلُ وَأَنْتَ عَنْهُ مُسْتَغْنٍ، كَقَوْلِهِ: لِمَ تَفْعَلُ وَهُوَ قَبِيحٌ، وَقَوْلُهُ: وَهَلَّا تَفْعَلُ وَأَنْتَ إِلَيْهِ مُحْتَاجٌ، وَأَلَا تَفْعَلُ/ وأنت إليه محتاج، وقوله: لولا، ولو ما، كَقَوْلِهِ: لِمَ لَا تَفْعَلُ، وَلِمَ لَا فَعَلْتَ، فَقَدْ وُجِدَ فِي أَلَا زِيَادَةُ نَصٍّ، لِأَنَّ نَقْلَ اللَّفْظِ لَا يَخْلُو مِنْ نَصٍّ، كَمَا أَنَّ الْمَعْنَى صَارَ فِيهِ زِيَادَةٌ مَا، عَلَى مَا فِي الْأَصْلِ كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ أَيْ لِمَ لَا يَقُولُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ وَقْتُ ظُهُورِ الْأُمُورِ وَزَمَانُ اتِّفَاقِ الْكَلِمَاتِ، وَلَوْ كَانَ مَا يَقُولُونَهُ حَقًّا ظَاهِرًا كَمَا يَزْعُمُونَ لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُشْرِكُوا عِنْدَ النَّزْعِ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُؤْمِنُ عِنْدَ الْمَوْتِ لَكِنْ لَمْ يُقْبَلْ إِيمَانُ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ قَبْلَهُ، فَإِنْ قِيلَ: مَا سُمِعَ مِنْهُمُ الِاعْتِرَافُ وَقْتَ النَّزْعِ بَلْ يَقُولُونَ: نَحْنُ نُكَذِّبُ الرُّسُلَ أَيْضًا وَقْتَ بُلُوغِ النَّفْسِ إِلَى الْحُلْقُومِ وَنَمُوتُ عَلَيْهِ؟ فَنَقُولُ: هَذِهِ الْآيَةُ بِعَيْنِهَا إِشَارَةٌ وَبِشَارَةٌ، أَمَّا الْإِشَارَةُ فَإِلَى الْكُفَّارِ، وَأَمَّا الْبِشَارَةُ فَلِلرُّسُلِ، أَمَّا الْإِشَارَةُ وَهِيَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ لِلْكُفَّارِ حَالَةً لَا يُمْكِنُهُمْ إِنْكَارُهَا وَهِيَ حَالَةُ الْمَوْتِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَفَرُوا بِالْحَشْرِ وَهُوَ الْحَيَاةُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَكِنَّهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا الْمَوْتَ، وَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ كُلِّ مَا هُوَ مَنْ مِثْلُهُ فَلَا يَشُكُّونَ فِي حَالَةِ النَّزْعِ، وَلَا يَشُكُّونَ فِي أَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا يَبْقَى لَهُمْ لِسَانٌ يَنْطِقُ، وَلَا إِنْكَارٌ بِعَمَلٍ فَتَفُوتُهُمْ قُوَّةُ الِاكْتِسَابِ لِإِيمَانِهِمْ وَلَا يُمْكِنُهُمُ الْإِتْيَانُ بِمَا يَجِبُ فَيَكُونُ ذَلِكَ حَثًّا لَهُمْ عَلَى تَجْدِيدِ النَّظَرِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ قَبْلَ تِلْكَ الْحَالَةِ، وَأَمَّا الْبِشَارَةُ فَلِأَنَّ الرُّسُلَ لَمَّا كُذِّبُوا وَكُذِّبَ مُرْسِلُهُمْ صَعُبَ عَلَيْهِمْ، فَبُشِّرُوا بِأَنَّ الْمُكَذِّبِينَ سَيَرْجِعُونَ عَمَّا يَقُولُونَ، ثُمَّ هُوَ إِنْ كَانَ قَبْلَ النَّزْعِ فَذَلِكَ مَقْبُولٌ وَإِلَّا فَعِنْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ غَيْرُ نَافِعٍ، والضمير في بَلَغَتِ للنفس

[سورة الواقعة (56) : الآيات 86 إلى 87]

أو الحياة أَوِ الرُّوحِ، وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ تَأْكِيدٌ لِبَيَانِ الْحَقِّ أَيْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تَصِيرُ الْأُمُورُ مَرْئِيَّةً مُشَاهَدَةً يَنْظُرُ إِلَيْهَا كُلُّ مَنْ بَلَغَ إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، فَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمْ حَقًّا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا التَّحْقِيقَ فِي حِينَئِذٍ في قوله: يَوْمَئِذٍ [الطور: 11] فِي سُورَةِ وَالطُّورِ وَاللَّفْظُ وَالْمَعْنَى مُتَطَابِقَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِالرُّسُلِ وَالْحَشْرِ، وَصَرَّحَ بِهِ اللَّه فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَنْهُمْ حيث قال: إنهم كانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا [الواقعة: 46، 47] وَهَذَا كَالتَّصْرِيحِ بِالتَّكْذِيبِ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى مُنْزِلٌ لَكِنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ أَيْضًا الْكَوَاكِبَ مِنَ الْمُنْزِلِينَ، وَأَمَّا الْمُضْمَرُ فَذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى عِنْدَ قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ [الواقعة: 68] ثُمَّ قَالَ: أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [الواقعة: 69] بِالْوَاسِطَةِ وَبِالتَّفْوِيضِ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُشْرِكِينَ أَوْ مَذْهَبُ الْفَلَاسِفَةِ. وَأَيْضًا التَّفْسِيرُ الْمَشْهُورُ مُحْتَاجٌ إِلَى إِضْمَارٍ تَقْدِيرُهُ أَتَجْعَلُونَ شُكْرَ رِزْقِكُمْ، وَأَمَّا جَعْلُ الرِّزْقِ بِمَعْنَى الْمَعَاشِ فَأَقْرَبُ، يُقَالُ: فُلَانٌ رِزْقُهُ فِي لِسَانِهِ، وَرِزْقُ فُلَانٍ فِي رِجْلِهِ وَيَدِهِ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ الرُّسُلَ فَلِمَ لَا تُكَذِّبُونَهُمْ وَقْتَ النَّزْعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الْعَنْكَبُوتِ: 63] فَعُلِمَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَذَبَ الْمُنَجِّمُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ» وَلَمْ يَكْذِبُوا وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ يَقْرَأُ تَكْذِبُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَأَمَّا الْمُدْهِنُ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ وَيُوَافِقُهُ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [الْقَلَمِ: 9] فَإِنَّ الْمُرَادَ هُنَاكَ لَيْسَ تَكْذِبُ فَيَكْذِبُونَ، لأنهم أرادوا النفاق لا التكذيب الظاهر. / ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 86 الى 87] فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَكْثَرُ المفسرين على أن (لولا) فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ مُكَرَّرَةٌ وَهِيَ بِعَيْنِهَا هِيَ الَّتِي قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الواقعة: 83] وَلَهَا جَوَابٌ وَاحِدٌ، وَتَقْدِيرُهُ عَلَى مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَوْلَا تَرْجِعُونَهَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [الْبَقَرَةِ: 38] حَيْثُ جَعَلَ فَلا خَوْفٌ جَزَاءَ شَرْطَيْنِ، وَالظَّاهِرُ خِلَافُ مَا قَالُوا، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: جَوَابُ لَوْلَا فِي قَوْلِهِ: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ هُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ يَعْنِي تُكَذِّبُونَ مُدَّةَ حَيَاتِكُمْ جَاعِلِينَ التَّكْذِيبَ رِزْقَكُمْ وَمَعَاشَكُمْ فَلَوْلَا تُكَذِّبُونَ وَقْتَ النَّزْعِ وَأَنْتُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تَعْلَمُونَ الْأُمُورَ وَتُشَاهِدُونَهَا، وَأَمَّا لَوْلَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَجَوَابُهَا: تَرْجِعُونَها. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَدِينِينَ أَقْوَالٌ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مَمْلُوكِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَجْزِيِّينَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ دَانَهُ السُّلْطَانُ إِذَا سَاسَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ غَيْرُ مُقِيمِينَ مِنْ مَدَنَ إِذَا أَقَامَ، هُوَ حِينَئِذٍ فَعَيْلٌ، وَمِنْهُ الْمَدِينَةُ، وَجَمْعُهَا مَدَائِنُ، مِنْ غَيْرِ إِظْهَارِ الْيَاءِ، وَلَوْ كَانَتْ مَفْعَلَةً لَكَانَ جَمْعُهَا مَدَايِنَ كَمَعَايِشَ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، وَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ: كَانَ قَوْمٌ يُنْكِرُونَ الْعَذَابَ الدَّائِمَ، وَقَوْمٌ يُنْكِرُونَ الْعَذَابَ وَمَنِ اعْتَرَفَ بِهِ كَانَ يُنْكِرُ دَوَامَهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَةِ: 80] قِيلَ: إِنْ كُنْتُمْ عَلَى مَا تَقُولُونَ لَا تَبْقَوْنَ فِي

[سورة الواقعة (56) : الآيات 88 إلى 89]

الْعَذَابِ الدَّائِمِ فَلِمَ لَا تُرْجِعُونَ أَنْفُسَكُمْ إِلَى الدُّنْيَا إِنْ لَمْ تَكُنِ الْآخِرَةُ دَارَ الْإِقَامَةِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ: (مَجْزِيِّينَ) فَالتَّفْسِيرُ مِثْلُ هَذَا كَأَنَّهُ قَالَ: سَتُصَدِّقُونَ وَقْتَ النَّزْعِ رُسُلَ اللَّه فِي الْحَشْرِ، فَإِنْ كُنْتُمْ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرَ مَجْزِيِّينَ فَلِمَ لَا تُرْجِعُونَ أَنْفُسَكُمْ إِلَى دُنْيَاكُمْ، فَإِنَّ التَّعْوِيقَ لِلْجَزَاءِ لَا غَيْرُ، وَلَوْلَا الْجَزَاءُ لَكُنْتُمْ مُخْتَارِينَ كَمَا كُنْتُمْ فِي دُنْيَاكُمُ الَّتِي لَيْسَتْ دَارَ الْجَزَاءِ مُخْتَارِينَ تَكُونُونَ حَيْثُ تُرِيدُونَ مِنَ الْأَمَاكِنِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا: مَمْلُوكِينَ مِنَ الملك، ومنه المدينة للمملوكة، فَالْأَمْرُ أَظْهَرُ بِمَعْنَى أَنَّكُمْ إِذَا كُنْتُمْ لَسْتُمْ تَحْتَ قُدْرَةِ أَحَدٍ، فَلِمَ لَا تُرْجِعُونَ أَنْفُسَكُمْ إِلَى الدُّنْيَا كَمَا كُنْتُمْ فِي دُنْيَاكُمُ الَّتِي لَيْسَتْ دَارَ جَزَاءٍ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مُشْتَهَى أَنْفُسِكُمْ وَمُنَى قُلُوبِكُمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ رَاجِعٌ إِلَى كَلَامٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ بِقَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَعْضٍ، وَكَانُوا يَقُولُونَ بِالطَّبَائِعِ، وَأَنَّ الْأَمْطَارَ مِنَ السُّحُبِ، وَهِيَ مُتَوَلِّدَةٌ بِأَسْبَابٍ فَلَكِيَّةٍ، وَالنَّبَاتُ كَذَلِكَ، وَالْحَيَوَانُ كَذَلِكَ، وَلَا اخْتِيَارَ للَّه فِي شَيْءٍ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِ إِنْكَارُ الرُّسُلِ وَالْحَشْرِ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ فَمَا بَالُ الطَّبِيعِيِّ الَّذِي يَدَّعِي الْعِلْمَ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُرْجِعَ النَّفْسَ مِنَ الْحُلْقُومِ، مَعَ أَنَّ فِي الطَّبْعِ عِنْدَهُ إِمْكَانًا لِذَلِكَ، فَإِنَّ عِنْدَهُمُ الْبَقَاءَ بالغداء ولزوال الْأَمْرَاضِ بِالدَّوَاءِ، وَإِذَا عُلِمَ هَذَا فَإِنْ قُلْنَا: غَيْرَ مَدِينِينَ مَعْنَاهُ غَيْرَ مَمْلُوكِينَ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِمْ مِنْ إِنْكَارِ الِاخْتِيَارِ وَقَلْبِ الْأُمُورِ كَمَا يَشَاءُ اللَّه، وَإِنْ قُلْنَا: غَيْرَ مُقِيمِينَ فَكَذَلِكَ، لِأَنَّ إِنْكَارَ الْحَشْرِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِالطَّبْعِ، وَإِنْ قُلْنَا: غَيْرَ/ مُحَاسَبِينَ وَمَجْزِيِّينَ فَكَذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْمَوْتَ كَائِنٌ وَالْحَشْرَ بَعْدَهُ لَازِمٌ، بَيَّنَ مَا يَكُونُ بَعْدَ الْحَشْرِ لِيَكُونَ ذَلِكَ بَاعِثًا لِلْمُكَلَّفِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَزَاجِرًا للمتمرد عن العصيان والكذب فقال: [سورة الواقعة (56) : الآيات 88 الى 89] فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) هَذَا وَجْهُ تَعَلُّقِهِ مَعْنًى، وَأَمَّا تَعَلُّقُهُ لَفْظًا فَنَقُولُ: لَمَّا قَالَ: فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها [الواقعة: 86، 87] وَكَانَ فِيهَا أَنَّ رُجُوعَ الْحَيَاةِ وَالنَّفْسِ إِلَى الْبَدَنِ لَيْسَ تَحْتَ قُدْرَتِهِمْ وَلَا رُجُوعَ لَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى الدُّنْيَا صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ دَائِمُونَ فِي دَارِ الْإِقَامَةِ وَمَجْزِيُّونَ، فَالْمَجْزِيُّ إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَلَهُ الرُّوحُ وَالرَّيْحَانُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَعْنَى الرُّوحِ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: هُوَ الرَّحْمَةُ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يُوسُفَ: 87] أَيْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّه الثَّانِي: الرَّاحَةُ الثَّالِثُ: الْفَرَحُ، وَأَصْلُ الرَّوْحِ السَّعَةُ، وَمِنْهُ الرَّوْحُ لِسَعَةِ مَا بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ دُونَ الْفَحَجِ، وَقُرِئَ، فَرَوْحٌ بِضَمِّ الرَّاءِ بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ: فَلَهُ رَوْحٌ أَفْصَحَتِ الْفَاءُ عَنْهُ لِكَوْنِهِ فَاءَ الْجَزَاءِ لِرَبْطِ الْجُمْلَةِ بِالشَّرْطِ فَعُلِمَ كَوْنُهَا جَزَاءً، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ مَاضِيًا، لِأَنَّ الْجَزَاءَ إِذَا كَانَ مُسْتَقْبَلًا يُعْلَمُ كَوْنُهُ جَزَاءً بِالْجَزْمِ الظَّاهِرِ فِي السَّمْعِ وَالْخَطِّ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي ذُكِرَتْ لَا تَحْتَمِلُ الْجَزْمَ، أَمَّا غَيْرُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فَلِأَنَّ الْجَزْمَ فِيهِمَا لَيْسَ لِكَوْنِهِمَا جَزَاءَيْنِ فَلَا عَلَامَةَ لِلْجَزَاءِ فِيهِ، فَاخْتَارُوا الْفَاءَ فَإِنَّهَا لِتَرْتِيبِ أَمْرٍ عَلَى أَمْرٍ، وَالْجَزَاءُ مُرَتَّبٌ عَلَى الشَّرْطِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الرَّيْحَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تعالى: ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ [الرحمن: 12] ولكن هاهنا فيه كلام، فمنهم من قال: المراد هاهنا مَا هُوَ الْمُرَادُ ثَمَّةَ، إِمَّا الْوَرَقُ وَإِمَّا الزَّهْرُ وَإِمَّا النَّبَاتُ

[سورة الواقعة (56) : الآيات 90 إلى 91]

الْمَعْرُوفُ، وَعَلَى هَذَا فَقَدَ قِيلَ: إِنَّ أَرْوَاحَ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا تُخْرَجُ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا وَيُؤْتَى إِلَيْهِمْ بِرَيْحَانٍ مِنَ الْجَنَّةِ يَشُمُّونَهُ، وَقِيلَ: إن المراد هاهنا غَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ الْخُلُودُ، وَقِيلَ: هُوَ رِضَاءُ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ فَإِذَا قُلْنَا: الرَّوْحُ هُوَ الرَّحْمَةُ فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ [التَّوْبَةِ: 21] وَأَمَّا: جَنَّةُ نَعِيمٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ السَّابِقِينَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الْوَاقِعَةِ: 11، 12] وَذَكَرْنَا فَائِدَةَ التعريف هناك وفائدة التنكير هاهنا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرَ فِي حَقِّ الْمُقَرَّبِينَ أُمُورًا ثلاثة هاهنا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ [التَّوْبَةِ: 21] وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَتَوْا بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ وَهِيَ: عَقِيدَةٌ حَقَّةٌ وَكَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ وَأَعْمَالٌ حَسَنَةٌ، فَالْقَلْبُ وَاللِّسَانُ وَالْجَوَارِحُ كُلُّهَا كَانَتْ مُرَتَّبَةً بِرَحْمَةِ اللَّه عَلَى عَقِيدَتِهِ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ عَقِيدَةٌ حَقَّةٌ يَرْحَمُهُ اللَّه وَيَرْزُقُهُ اللَّه دَائِمًا وَعَلَى الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ وَهِيَ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه فَلَهُ رِزْقٌ كَرِيمٌ وَالْجَنَّةُ لَهُ عَلَى أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 111] وَقَالَ: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النَّازِعَاتِ: 40، 41] فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا مَنْ أَتَى بِالْعَقِيدَةِ/ الْحَقَّةِ، وَلَمْ يَأْتِ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الرَّحْمَةِ وَلَا يَرْحَمُ اللَّه إِلَّا مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، نَقُولُ: مَنْ كَانَتْ عَقِيدَتُهُ حَقَّةً، لَا بُدَّ وَأَنْ يَأْتِيَ بِالْقَوْلِ الطَّيِّبِ فَإِنْ لَمْ يُسْمَعْ لَا يُحْكُمُ بِهِ، لِأَنَّ الْعَقِيدَةَ لَا اطِّلَاعَ لَنَا عَلَيْهَا فَالْقَوْلُ دَلِيلٌ لَنَا، وَأَمَّا اللَّه تَعَالَى فَهُوَ عَالِمُ الْأَسْرَارِ، وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْكُفَّارِ وَيُحْشَرُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَيُحْشَرُ مَعَ الْكُفَّارِ لَا يُقَالُ: إِنَّ مَنْ لَا يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ لَا تَكُونُ لَهُ الْجَنَّةُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَقِيدَتَهُ الْحَقَّةَ وَكَلِمَتَهُ الطَّيِّبَةَ لَا يَتْرُكَانِهِ بِلَا عَمَلٍ، فَهَذَا أَمْرٌ غَيْرُ وَاقِعٍ وَفَرْضٌ غَيْرُ جَائِزٍ وَثَانِيهِمَا: أَنَّا نَقُولُ مِنْ حَيْثُ الْجَزَاءِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلًا لَا عَلَى وَجْهِ الْجَزَاءِ بَلْ بِمَحْضِ فَضْلِ اللَّه مِنْ غَيْرِ جَزَاءٍ، وَإِنْ كَانَ الْجَزَاءُ أَيْضًا مِنَ الْفَضْلِ لَكِنَّ مِنَ الْفَضْلِ مَا يَكُونُ كَالصَّدَقَةِ الْمُبْتَدَأَةِ، وَمِنَ الفضل مالا كَمَا يُعْطِي الْمَلِكُ الْكَرِيمُ آخَرَ وَالْمُهْدَى إِلَيْهِ غَيْرُ مَلِكٍ لَا يَسْتَحِقُّ هَدِيَّتَهُ وَلَا رِزْقَهُ. ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 90 الى 91] وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي السَّلَامِ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَوَّلُهَا: يُسَلِّمُ بِهِ صَاحِبُ الْيَمِينِ عَلَى صَاحِبِ الْيَمِينِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مِنْ قَبْلُ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الْوَاقِعَةِ: 25، 26] ، ثَانِيهَا: فَسَلامٌ لَكَ أَيْ سَلَامَةٌ لَكَ مِنْ أَمْرٍ خَافَ قَلْبُكَ مِنْهُ فَإِنَّهُ فِي أَعْلَى الْمَرَاتِبِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ لِمَنْ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِوَلَدِهِ الْغَائِبِ عَنْهُ، إِذَا كَانَ يَخْدِمُ عِنْدَ كَرِيمٍ، يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَارِغًا مِنْ جَانِبِ وَلَدِكَ فَإِنَّهُ فِي رَاحَةٍ. ثَالِثُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تُفِيدُ عَظْمَةَ حَالِهِمْ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ نَاهِيكَ بِهِ، وَحَسْبُكَ أَنَّهُ فُلَانٌ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مَمْدُوحٌ فَوْقَ الْفَضْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: لَكَ مَعَ مَنْ؟ نَقُولُ: قَدْ ظَهَرَ بَعْضُ ذَلِكَ فَنَقُولُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْكَلَامِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحِينَئِذٍ فِيهِ وَجْهٌ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ تَسْلِيَةً لِقَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مُحْتَاجِينَ

[سورة الواقعة (56) : الآيات 92 إلى 94]

إِلَى شَيْءٍ مِنَ الشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهَا، فَسَلَامٌ لَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ فِي سَلَامَةٍ وَعَافِيَةٍ لَا يُهِمُّكَ أَمْرُهُمْ، أَوْ فَسَلَامٌ لَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْهُمْ، وَكَوْنُهُمْ مِمَّنْ يُسَلِّمُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلُ الْعَظَمَةِ، فَإِنَّ الْعَظِيمَ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا عَظِيمٌ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَانَتُهُ فَوْقَ مَكَانَةِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُقَرَّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي عِلِّيِّينَ، كَأَصْحَابِ الْجَنَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ عِلِّيِّينَ، فَلَمَّا قَالَ: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ كَانَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَكَانَهُمْ غَيْرُ مَكَانِ الْأَوَّلِينَ الْمُقَرَّبِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانُوا دُونَ الْأَوَّلِينَ لَكِنْ لَا تَنْفَعُ بَيْنَهُمُ الْمَكَانَةُ وَالتَّسْلِيمُ، بَلْ هُمْ يَرَوْنَكَ وَيَصِلُونَ إِلَيْكَ وُصُولَ جَلِيسِ الْمَلِكِ إِلَى الْمَلِكِ وَالْغَائِبِ إِلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَأَمَّا الْمُقَرَّبُونَ فَهُمْ يُلَازِمُونَكَ وَلَا يُفَارِقُونَكَ وَإِنْ كُنْتَ أَعْلَى مَرْتَبَةً مِنْهُمْ. / ثم قال تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 92 الى 94] وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الأولى: قال هاهنا: مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ وَقَالَ مِنْ قَبْلُ: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَةِ: 51] وَقَدْ بَيَّنَّا فَائِدَةَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ هُنَاكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ الْأَزْوَاجَ الثَّلَاثَةَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِعِبَارَةٍ وَأَعَادَهُمْ بعبارة أخرى فقال: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ [الواقعة: 8] ثم قال: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ [الواقعة: 27] وقال: وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ [الْوَاقِعَةِ: 9] ثُمَّ قَالَ: وَأَصْحابُ الشِّمالِ [الْوَاقِعَةِ: 41] وَأَعَادَهُمْ هاهنا، وَفِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ ذَكَرَ أَصْحَابَ الْيَمِينِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ أَوْ بِلَفْظَيْنِ مَرَّتَيْنِ، أَحَدُهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ، وَذَكَرَ السَّابِقِينَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِلَفْظِ السَّابِقِينَ، وَفِي آخِرِ السُّورَةِ بِلَفْظِ الْمُقَرَّبِينَ، وَذَكَرَ أَصْحَابَ النار في الأول بلفظ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ثُمَّ بِلَفْظِ أَصْحابُ الشِّمالِ ثُمَّ بِلَفْظِ الْمُكَذِّبِينَ فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ: أَمَّا السَّابِقُ فَلَهُ حَالَتَانِ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُولَى، وَالْأُخْرَى فِي الْآخِرَةِ، فذكره في المرة الأولى بماله في الحالة الأولى، وفي الثانية بماله فِي الْحَالَةِ الْآخِرَةِ، وَلَيْسَ لَهُ حَالَةٌ هِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْوُقُوفِ لِلْعَرْضِ وَبَيْنَ الْحِسَابِ، بَلْ هُوَ يُنْقَلُ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَصْحَابَ الْيَمِينِ بِلَفْظَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ، لِأَنَّ حَالَهُمْ قَرِيبَةٌ مِنْ حَالِ السَّابِقِينَ، وَذَكَرَ الْكُفَّارَ بِأَلْفَاظٍ ثَلَاثَةٍ كَأَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا ضَحِكُوا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ مَوْضِعِ شُؤْمٍ، فَوَصَفُوهُمْ بِمَوْضِعِ الشُّؤْمِ، فَإِنَّ الْمَشْأَمَةَ مَفْعَلَةٌ وَهِيَ الْمَوْضِعُ، ثُمَّ قَالَ: أَصْحابُ الشِّمالِ فَإِنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ يُؤْتَوْنَ كِتَابَهُمْ بِشِمَالِهِمْ، وَيَقِفُونَ فِي مَوْضِعٍ هُوَ شِمَالٌ، لِأَجْلِ كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَهُمْ فِي أَوَّلِ الْحَشْرِ بِكَوْنِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ الشِّمَالِ ذَكَرَ مَا يَكُونُ لَهُمْ مِنَ السَّمُومِ وَالْحَمِيمِ، ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّبَبَ فِيهِ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ وَكانُوا يُصِرُّونَ [الْوَاقِعَةِ: 45، 46] فَذَكَرَ سَبَبَ الْعِقَابِ لِمَا بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ الْعَادِلَ يَذْكُرُ لِلْعِقَابِ سَبَبًا، وَالْمُتَفَضِّلَ لَا يَذْكُرُ لِلْإِنْعَامِ وَالتَّفَضُّلِ سَبَبًا، فَذَكَّرَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا عَمِلُوهُ فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ لِيَكُونَ تَرْتِيبُ الْعِقَابِ عَلَى تَكْذِيبِ الْكِتَابِ فَظَهَرَ الْعَدْلُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ. ثُمَّ قَالَ تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 95 الى 96] إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَاذَا؟ نَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْقُرْآنُ ثَانِيهَا: مَا ذَكَرَهُ فِي السُّورَةِ ثَالِثُهَا: جَزَاءُ الْأَزْوَاجِ الثَّلَاثَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَيْفَ أَضَافَ الْحَقَّ إِلَى الْيَقِينِ مَعَ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ؟ نَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: هَذِهِ الْإِضَافَةُ، كَمَا أَضَافَ الْجَانِبَ إِلَى الْغَرْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ [الْقَصَصِ: 44] وَأَضَافَ الدَّارَ إِلَى الْآخِرَةِ فِي قوله: وَلَدارُ الْآخِرَةِ [الأنعام: 32] غَيْرَ أَنَّ الْمُقَدَّرَ هُنَا غَيْرُ ظَاهِرٍ، فَإِنَّ شَرْطَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يُوصَفُ بِالْيَقِينِ، وَيُضَافُ إِلَيْهِ الْحَقُّ، وَمَا يُوصَفُ بِالْيَقِينِ بَعْدَ إِضَافَةِ الْحَقِّ إِلَيْهِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مِنَ الْإِضَافَةِ الَّتِي بِمَعْنَى مِنْ، كَمَا يُقَالُ: بَابٌ مِنْ سَاجٍ، وَبَابُ سَاجٍ، وَخَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَخَاتَمُ فِضَّةٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَهُوَ الْحَقُّ مِنَ الْيَقِينِ ثَالِثُهَا: وَهُوَ أَقْرَبُ مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ ذَلِكَ نَوْعُ تَأْكِيدٍ يُقَالُ: هَذَا مِنْ حَقِّ الْحَقِّ، وَصَوَابُ الصَّوَابِ، أَيْ غَايَتُهُ وَنِهَايَتُهُ الَّتِي لَا وُصُولَ فَوْقَهُ، وَالَّذِي وَقَعَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا أَنَّ الْإِنْسَانَ أَظْهَرُ مَا عِنْدَهُ الْأَنْوَارُ الْمُدْرَكَةُ بِالْحِسِّ، وَتِلْكَ الْأَنْوَارُ أَكْثَرُهَا مَشُوبَةٌ بِغَيْرِهَا، فَإِذَا وَصَلَ الطَّالِبُ إِلَى أَوَّلِهِ يَقُولُ: وَجَدْتُ أَمْرَ كَذَا، ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ صِحَّةِ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ، فَيَتَوَسَّطُ الطَّالِبُ وَيَأْخُذُ مَطْلُوبَهُ مِنْ وَسَطِهِ، مِثَالُهُ مَنْ يَطْلُبُ الْمَاءَ، ثُمَّ يَصِلُ إِلَى بِرْكَةٍ عَظِيمَةٍ، فَإِذَا أَخَذَ مِنْ طَرَفِهِ شَيْئًا يَقُولُ: هُوَ مَاءٌ، وَرُبَّمَا يَقُولُ قَائِلٌ آخَرُ: هَذَا لَيْسَ بِمَاءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ طِينٌ، وَأَمَّا الْمَاءُ مَا أَخَذْتَهُ مِنْ وَسَطِ الْبِرْكَةِ، فَالَّذِي فِي طَرَفِ الْبِرْكَةِ مَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَجْسَامٍ أُخْرَى، ثُمَّ إِذَا نُسِبَ إِلَى الْمَاءِ الصَّافِي رُبَّمَا يُقَالُ لَهُ شَيْءٌ آخَرُ، فَإِذَا قَالَ: هذا هو الماء حقا يكون قَدْ أَكَّدَ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: حَقُّ الْمَاءِ، أَيِ الْمَاءُ حَقًّا هَذَا بِحَيْثُ لَا يَقُولُ أحد فيه شيء، فكذلك هاهنا كَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا هُوَ الْيَقِينُ حَقًّا لَا الْيَقِينُ الَّذِي يَقُولُ بَعْضٌ إِنَّهُ لَيْسَ بِيَقِينٍ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْإِضَافَةُ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَمَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَحُقُّ الْيَقِينِ أَنْ تَقُولَ كَذَا، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَا يُقَالُ: حَقُّ الْكَمَالِ أَنْ يُصَلِّيَ الْمُؤْمِنُ، وَهَذَا كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا» أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْكَلِمَةِ أَيْ إِلَّا بِحَقِّ الْكَلِمَةِ، وَمِنْ حَقِّ الْكَلِمَةِ أَدَاءُ الزَّكَاةِ وَالصَّلَاةُ، فَكَذَلِكَ حَقُّ الْيَقِينِ أَنْ يَعْرِفَ مَا قَالَهُ اللَّه تَعَالَى فِي الْوَاقِعَةِ فِي حَقِّ الْأَزْوَاجِ الثَّلَاثَةِ، وَعَلَى هَذَا مَعْنَاهُ: أَنَّ الْيَقِينَ لَا يَحِقُّ وَلَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا صَدَقَ فِيمَا قَالَهُ بِحَقٍّ، فَالتَّصْدِيقُ حَقُّ الْيَقِينِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَقُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْحَقَّ وَامْتَنَعَ الْكُفَّارُ، قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا هُوَ حَقٌّ، فَإِنِ امْتَنَعُوا فَلَا تَتْرُكْهُمْ وَلَا تُعْرِضْ عَنْهُمْ وَسَبِّحْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ، وَمَا عَلَيْكَ مِنْ قَوْمِكَ سَوَاءٌ صَدَّقُوكَ أَوْ كَذَّبُوكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَسَبِّحْ وَاذْكُرْ رَبَّكَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ، وَهَذَا مُتَّصِلٌ بِمَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ قَالَ فِي السُّورَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ [الْحَدِيدِ: 1] فَكَأَنَّهُ قَالَ: سبح اللَّه ما في السموات، فَعَلَيْكَ أَنْ تُوَافِقَهُمْ وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى الشِّرْذِمَةِ الْقَلِيلَةِ الضَّالَّةِ، فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَعَكَ يُسَبِّحُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. تَمَّ تَفْسِيرُ السُّورَةِ، واللَّه أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، وَصَلَّى اللَّه عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة الحديد

بسم الله الرحمن الرّحيم سُورَةُ الْحَدِيدِ وَهِيَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً مَكِّيَّةٌ [سورة الحديد (57) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) وَفِيهِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّسْبِيحُ تَبْعِيدُ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ السُّوءِ، وَكَذَا التَّقْدِيسُ مِنْ سَبَحَ فِي الْمَاءِ وَقَدَّسَ فِي الْأَرْضِ إِذَا ذَهَبَ فِيهَا وَأَبْعَدَ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّسْبِيحَ عَنِ السُّوءِ يَدْخُلُ فِيهِ تَبْعِيدُ الذَّاتِ عَنِ السُّوءِ، وَتَبْعِيدُ الصِّفَاتِ وَتَبْعِيدُ الْأَفْعَالِ، وَتَبْعِيدُ الْأَسْمَاءِ وَتَبْعِيدُ الْأَحْكَامِ، أَمَّا فِي الذَّاتِ: فَأَنْ لَا تَكُونَ مَحَلًّا لِلْإِمْكَانِ، فَإِنَّ السُّوءَ هُوَ الْعَدَمُ وَإِمْكَانُهُ، ثُمَّ نَفْيُ الْإِمْكَانِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْكَثْرَةِ، وَنَفْيُهَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْجِسْمِيَّةِ وَالْعَرَضِيَّةِ، وَنَفْيَ الضِّدِّ وَالنِّدِّ وَحُصُولَ الْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ. وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ: فَأَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنِ الْجَهْلِ بِأَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، وَيَكُونَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ، وَتَكُونَ صِفَاتُهُ مُنَزَّهَةً عَنِ التَّغَيُّرَاتِ. وَأَمَّا فِي الْأَفْعَالِ: فَأَنْ تَكُونَ فَاعِلِيَّتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى مَادَّةٍ وَمِثَالٍ، لِأَنَّ كُلَّ مَادَّةٍ وَمِثَالٍ فَهُوَ فِعْلُهُ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَهُوَ فِعْلُهُ، فَلَوِ افْتَقَرَتْ فَاعِلِيَّتُهُ إِلَى مَادَّةٍ وَمِثَالٍ، لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَغَيْرُ مَوْقُوفَةٍ عَلَى زَمَانٍ وَمَكَانٍ، لِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ فَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ مُنْقَضِيَةٍ، فَيَكُونُ مُمْكِنًا، كُلُّ مَكَانٍ فهو يعد ممكن مركب مِنْ أَفْرَادِ الْأَحْيَازِ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُمْكِنًا وَمُحْدَثًا، فَلَوِ افْتَقَرَتْ فَاعِلِيَّتُهُ إِلَى زَمَانٍ وإلى مكان، لا فتقرت فَاعِلِيَّةُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ إِلَى زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَغَيْرُ مَوْقُوفَةٍ عَلَى جَلْبِ مَنْفَعَةٍ، وَلَا دَفْعِ مَضَرَّةٍ، وَإِلَّا لَكَانَ مُسْتَكْمَلًا بِغَيْرِهِ نَاقِصًا فِي ذَاتِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَأَمَّا فِي الْأَسْمَاءِ: فَكَمَا قَالَ: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الْأَعْرَافِ: 18] . وَأَمَّا فِي الْأَحْكَامِ: فَهُوَ أَنْ كُلَّ مَا شَرَعَهُ فَهُوَ مَصْلَحَةٌ وَإِحْسَانٌ وَخَيْرٌ، وَأَنَّ كَوْنَهُ فَضْلًا وَخَيْرًا لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْسَانِ، وَبِالْجُمْلَةِ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَنَّ حُكْمَهُ وَتَكْلِيفَهُ لَازِمٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حُكْمٌ وَلَا تَكْلِيفٌ وَلَا يَجِبُ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَصْلًا، فَهَذَا هُوَ ضَبْطُ مَعَاقِدِ التَّسْبِيحِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: جَاءَ فِي بَعْضِ الْفَوَاتِحِ سَبَّحَ عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي، وَفِي بَعْضِهَا عَلَى لَفْظِ الْمُضَارِعِ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُسَبِّحَةً غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، بَلْ هِيَ كَانَتْ مُسَبِّحَةً أَبَدًا فِي الْمَاضِي، وَتَكُونُ مُسَبِّحَةً أَبَدًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَوْنَهَا مُسَبِّحَةً صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِمَاهِيَّاتِهَا، فَيَسْتَحِيلُ انفكاك

تِلْكَ الْمَاهِيَّاتِ عَنْ ذَلِكَ التَّسْبِيحِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ الْمُسَبَّحِيَّةَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِمَاهِيَّاتِهَا، لِأَنَّ كل ما عدا الواجب ممكن، وكل ممكن فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْوَاجِبِ، وَكَوْنُ الْوَاجِبِ وَاجِبًا يَقْتَضِي تَنْزِيهَهُ عَنْ كُلِّ سُوءٍ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَحْكَامِ وَالْأَسْمَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْمُسَبَّحِيَّةَ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي الْمَاضِي، وَتَكُونُ حَاصِلَةً فِي الْمُسْتَقْبَلِ، واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذَا الْفِعْلُ تَارَةً عُدِّيَ بِاللَّامِ كَمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَأُخْرَى بِنَفْسِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْفَتْحِ: 9] وَأَصْلُهُ التَّعَدِّي بِنَفْسِهِ، لِأَنَّ مَعْنَى سَبَّحْتُهُ أَيْ بَعَّدْتُهُ عَنِ السُّوءِ، فَاللَّامُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِثْلَ اللَّامِ فِي نَصَحْتُهُ وَنَصَحْتُ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ يُسَبِّحُ للَّه أَحْدَثَ التَّسْبِيحَ لِأَجْلِ اللَّه وَخَالِصًا لِوَجْهِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: زَعَمَ الزَّجَّاجُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا التَّسْبِيحِ، التَّسْبِيحُ الَّذِي هُوَ الْقَوْلُ، واحتج عليه بوجهين الأول: أنه تعالى قَالَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الْإِسْرَاءِ: 44] فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ التَّسْبِيحِ، هُوَ دَلَالَةَ آثَارِ الصُّنْعِ عَلَى الصَّانِعِ لَكَانُوا يَفْقَهُونَهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ [الْأَنْبِيَاءِ: 79] فَلَوْ كَانَ تَسْبِيحًا عِبَارَةً عَنْ دَلَالَةِ الصُّنْعِ عَلَى الصَّانِعِ لَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ تَخْصِيصٌ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ ضَعِيفٌ [لِحُجَّتَيْنِ] : أَمَّا الْأُولَى: فَلِأَنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ الْأَجْسَامِ عَلَى تَنْزِيهِ ذَاتِ اللَّه وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ مِنْ أَدَقِّ الْوُجُوهِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْعُقَلَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهَا، فَقَوْلُهُ: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ لَعَلَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَقْوَامٍ جَهِلُوا بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: لَا تَفْقَهُونَ إِشَارَةٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ إِشَارَةً إِلَى جَمْعٍ مُعَيَّنٍ، فَهُوَ خِطَابٌ مَعَ الْكُلِّ فَكَأَنَّهُ قَالَ: كُلُّ هَؤُلَاءِ مَا فَقِهُوا ذَلِكَ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنْ يَفْقَهَهُ بَعْضُهُمْ. وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: فَضَعِيفَةٌ، لِأَنَّ هُنَاكَ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنَّ اللَّه خَلَقَ حَيَاةً فِي الْجَبَلِ حَتَّى نَطَقَ بِالتَّسْبِيحِ. أَمَّا هَذِهِ الْجَمَادَاتُ الَّتِي تَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهَا جَمَادَاتٌ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا تُسَبِّحُ اللَّه عَلَى سَبِيلِ النُّطْقِ بِذَلِكَ التَّسْبِيحِ، إِذْ لَوْ جَوَّزْنَا صُدُورَ الْفِعْلِ الْمُحْكَمِ عَنِ الْجَمَادَاتِ لَمَا أَمْكَنَنَا أَنْ نَسْتَدِلَّ بِأَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا حَيًّا، وَذَلِكَ كُفْرٌ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ التَّسْبِيحَ الَّذِي هُوَ الْقَوْلُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنَ الْعَاقِلِ الْعَارِفِ باللَّه تَعَالَى، فَيَنْوِي بِذَلِكَ الْقَوْلِ تَنْزِيهَ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنَ الْجَمَادَاتِ، فَإِذَا التَّسْبِيحُ الْعَامُّ الْحَاصِلُ مِنَ الْعَاقِلِ وَالْجَمَادِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُفَسَّرًا بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تُسَبِّحُ بِمَعْنَى أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِهِ وَتَنْزِيهِهِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُمْكِنَاتِ بِأَسْرِهَا مُنْقَادَةٌ لَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَيْفَ يُرِيدُ لَيْسَ لَهُ عَنْ فِعْلِهِ وَتَكْوِينِهِ مَانِعٌ وَلَا دَافِعٌ، إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ،. فَنَقُولُ: إِنْ حَمَلْنَا/ التَّسْبِيحَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ عَلَى التَّسْبِيحِ بِالْقَوْلِ، كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ما فِي السَّماواتِ من في السموات وَمِنْهُمْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ [فُصِّلَتْ: 38] . وَمِنْهُمُ الْمُقَرَّبُونَ: قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ [سبأ: 41] ومن سَائِرُ الْمَلَائِكَةِ: قالُوا سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا [الفرقان: 18] وَأَمَّا الْمُسَبِّحُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي الْأَرْضِ فَمِنْهُمُ الْأَنْبِيَاءُ كَمَا قَالَ ذُو النُّونِ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ [الْأَنْبِيَاءِ: 87] وَقَالَ مُوسَى: سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ [الْأَعْرَافِ: 143] وَالصَّحَابَةُ يُسَبِّحُونَ كَمَا قَالَ: سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [آلِ عِمْرَانَ: 191] وَأَمَّا إِنْ حَمَلْنَا هَذَا التَّسْبِيحَ عَلَى التَّسْبِيحِ الْمَعْنَوِيِّ: فأجزاء السموات وَذَرَّاتُ الْأَرْضِ وَالْجِبَالُ وَالرِّمَالُ وَالْبِحَارُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ وَاللَّوْحُ وَالْقَلَمُ وَالنُّورُ وَالظُّلْمَةُ وَالذَّوَاتُ وَالصِّفَاتُ وَالْأَجْسَامُ وَالْأَعْرَاضُ كُلُّهَا مُسَبِّحَةٌ خَاشِعَةٌ خَاضِعَةٌ لِجَلَالِ اللَّه

[سورة الحديد (57) : آية 2]

مُنْقَادَةٌ لِتَصَرُّفِ اللَّه كَمَا قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 44] وَهَذَا التَّسْبِيحُ هُوَ الْمُرَادُ بِالسُّجُودِ فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [النحل: 49] أَمَّا قَوْلُهُ: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يُنَازِعُهُ شَيْءٌ، فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَالْحَكِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَحْتَجِبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ أَوْ أَنَّهُ الَّذِي يَفْعَلُ أَفْعَالَهُ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ، وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ عَالِمًا لَا جَرَمَ قَدَّمَ الْعَزِيزَ عَلَى الْحَكِيمِ فِي الذِّكْرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَزِيزَ لَيْسَ إِلَّا هُوَ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ تُفِيدُ الْحَصْرَ، يُقَالُ: زَيْدٌ هُوَ الْعَالِمُ لَا غَيْرُهُ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الْوَاحِدُ، لِأَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ بِعَزِيزٍ وَلَا حَكِيمٍ وَمَا لَا يَكُونُ كذلك لا يكون إلها. ثم قال تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 2] لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) [في قوله تعالى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ] وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَلِكَ الْحَقَّ هُوَ الَّذِي يَسْتَغْنِي فِي ذَاتِهِ، وَفِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ، وَيَحْتَاجُ كُلُّ مَا عَدَاهُ إِلَيْهِ فِي ذَوَاتِهِمْ وَفِي صِفَاتِهِمْ، وَالْمَوْصُوفُ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَيْسَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ. أَمَّا أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ فِي ذَاتِهِ وَفِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ فَلِأَنَّهُ لَوِ افْتَقَرَ فِي ذَاتِهِ إِلَى الْغَيْرِ لَكَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ فَكَانَ مُحْدَثًا، فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبَ الْوُجُودِ، وَأَمَّا أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ السَّلْبِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ، فَلِأَنَّ كُلَّ مَا يَفْرِضُ صِفَةٌ لَهُ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ هُوِيَّتَهُ سُبْحَانَهُ كَافِيَةً فِي تَحَقُّقِ تِلْكَ الصِّفَةِ سَوَاءٌ كَانَتِ الصِّفَةُ سَلْبًا أَوْ إِيجَابًا أَوْ لَا تَكُونُ كَافِيَةً فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ هُوِيَّتَهُ كَافِيَةً فِي ذَلِكَ مِنْ دَوَامِ تِلْكَ الْهُوِيَّةِ دَوَامَ تِلْكَ الصِّفَةِ سَلْبًا كَانَتِ الصِّفَةُ أَوْ إِيجَابًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ لَزِمَ الْهُوِيَّةَ كَافِيَةٌ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ تِلْكَ الْهُوِيَّةُ مُمْتَنِعَةَ الِانْفِكَاكِ عَنْ ثُبُوتِ تِلْكَ الصِّفَةِ وَعَنْ سَلْبِهَا، ثُمَّ ثُبُوتُ تِلْكَ الصِّفَةِ وَسَلْبُهَا، يَكُونُ مُتَوَقِّفًا عَلَى ثُبُوتِ أَمْرٍ آخَرَ وَسَلْبِهِ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَى الشَّيْءِ مَوْقُوفٌ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَهُوِيَّتُهُ سُبْحَانَهُ تَكُونُ مَوْقُوفَةَ التَّحَقُّقِ عَلَى تَحَقُّقِ عِلَّةِ/ ثُبُوتِ تِلْكَ الصِّفَةِ أَوْ عِلَّةِ سَلْبِهَا، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْغَيْرِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ فَوَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ مُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَهَذَا خُلْفٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ لَا فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ السَّلْبِيَّةِ وَلَا الثُّبُوتِيَّةِ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا أَنَّ كَلَّ مَا عَدَاهُ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ فَلِأَنَّ كُلَّ مَا عداه ممكن، لأن الواجب الْوُجُودِ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ وَالْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُؤَثِّرٍ، وَلَا وَاجِبَ إِلَّا هَذَا الْوَاحِدُ فَإِذَنْ كُلُّ مَا عَدَاهُ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ جَوْهَرًا أَوْ عَرَضًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْجَوْهَرُ رُوحَانِيًّا أَوْ جُسْمَانِيًّا، وَذَهَبَ جَمْعٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ إِلَى أَنَّ تَأْثِيرَ وَاجِبِ الْوُجُودِ فِي إِعْطَاءِ الْوُجُودِ لَا فِي الْمَاهِيَّاتِ فَوَاجِبُ الْوُجُودِ يَجْعَلُ السَّوَادَ مَوْجُودًا، أَمَّا أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَجْعَلَ السَّوَادَ سَوَادًا، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَوْنُ السَّوَادِ سَوَادًا بِالْفَاعِلِ، لَكَانَ يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ عَدَمِ ذَلِكَ الْفَاعِلِ أَنْ لَا يَبْقَى السَّوَادُ سَوَادًا وَهَذَا مُحَالٌ، فَيُقَالُ لَهُمْ يَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ الْوُجُودُ أَيْضًا بِالْفَاعِلِ، وَإِلَّا لَزِمَ مِنْ فَرْضِ عَدَمِ ذَلِكَ الْفَاعِلِ أَنْ لَا يَكُونَ الْوُجُودُ وُجُودًا، فَإِنْ قَالُوا: تَأْثِيرُ الْفَاعِلِ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ بَلْ فِي جَعْلِ الْمَاهِيَّةِ مَوْصُوفَةً بِالْوُجُودِ، قُلْنَا: هَذَا مَدْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَوْصُوفِيَّةَ الْمَاهِيَّةِ بِالْوُجُودِ لَيْسَ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا، إِذْ لَوْ كَانَ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا لَكَانَتْ لَهُ مَاهِيَّةٌ وَوُجُودٌ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ مَوْصُوفِيَّةُ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ بِالْوُجُودِ زَائِدَةً عَلَيْهِ وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ مَوْصُوفِيَّةُ الْمَاهِيَّةِ بِالْوُجُوهِ لَيْسَ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا، اسْتَحَالَ أَنْ يُقَالَ: لَا تَأْثِيرَ لِلْفَاعِلِ فِي الْمَاهِيَّةِ وَلَا فِي الْوُجُودِ بَلْ تَأْثِيرُهُ فِي مَوْصُوفِيَّةِ الْمَاهِيَّةِ بِالْوُجُودِ الثَّانِي: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَوْصُوفِيَّةُ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا، اسْتَحَالَ أَيْضًا جَعَلُهَا أَثَرًا لِلْفَاعِلِ، وَإِلَّا لَزِمَ عند فرض

[سورة الحديد (57) : آية 3]

عَدَمِ ذَلِكَ الْفَاعِلِ أَنْ تَبْقَى الْمَوْصُوفِيَّةُ مَوْصُوفِيَّةً، فَظَهَرَ أَنَّ الشُّبْهَةَ الَّتِي ذَكَرُوهَا لَوْ تَمَّتْ وَاسْتَقَرَّتْ يَلْزَمُ نَفْيُ التَّأْثِيرِ وَالْمُؤَثِّرِ أَصْلًا، بَلْ كَمَا أَنَّ الْمَاهِيَّاتِ إِنَّمَا صَارَتْ مَوْجُودَةً بِتَأْثِيرِ وَاجِبِ الْوُجُودِ، فَكَذَا أَيْضًا الْمَاهِيَّاتُ إِنَّمَا صَارَتْ مَاهِيَّاتٍ بِتَأْثِيرِ وَاجِبِ الْوُجُودِ، وَإِذَا لَاحَتْ هَذِهِ الْحَقَائِقُ ظَهَرَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ صِدْقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بل ملك السموات وَالْأَرْضِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَمَالِ مُلْكِهِ أَقَلُّ مِنَ الذَّرَّةِ، بَلْ لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى كَمَالِ ملكه أصلا، لأن ملك السموات وَالْأَرْضِ مُلْكٌ مُتَنَاهٍ، وَكَمَالُ مُلْكِهِ غَيْرُ مُتَنَاهٍ، وَالْمُتَنَاهِي لَا نِسْبَةَ لَهُ الْبَتَّةَ إِلَى غَيْرِ المتناهي، لكنه سبحانه وتعالى ذكر ملك السموات وَالْأَرْضِ لِأَنَّهُ شَيْءٌ مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ، وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ عُقُولُهُمْ ضَعِيفَةٌ قَلَّمَا يُمْكِنُهُمُ التَّرَقِّيَ مِنَ الْمَحْسُوسِ إلى المعقول. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ مِنْ دَلَائِلِ الآفاق ملك السموات وَالْأَرْضِ ذَكَرَ بَعْدَهُ دَلَائِلَ الْأَنْفُسِ فَقَالَ: يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: يُحْيِي الْأَمْوَاتَ لِلْبَعْثِ، وَيُمِيتُ الْأَحْيَاءَ فِي الدُّنْيَا وَالثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: يُحْيِي النُّطَفَ فَيَجْعَلُهَا أشخاصا عقلاء نَاطِقِينَ وَيُمِيتُ/ وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ تَخْصِيصِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ وَبِأَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى خَلْقِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: 2] وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِإِيجَادِ هَاتَيْنِ الْمَاهِيَّتَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَا يَمْنَعُهُ عَنْهُمَا مَانِعٌ وَلَا يَرُدُّهُ عَنْهُمَا رَادٌّ، وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِيهِ الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُفَسِّرُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَوْضِعُ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَفْعٌ عَلَى مَعْنَى هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نصبا على معنى: له ملك السموات وَالْأَرْضِ حَالَ كَوْنِهِ مُحْيِيًا وَمُمِيتًا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ دَلَائِلَ الْآفَاقِ أَوَّلًا: وَدَلَائِلَ الْأَنْفُسِ ثَانِيًا: ذَكَرَ لَفْظًا يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ فَقَالَ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَفَوَائِدُ هَذِهِ الآية مذكورة في أول سورة الملك. [سورة الحديد (57) : آية 3] هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: «إِنَّهُ الْأَوَّلُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ وَالْآخِرُ لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ» وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ مَقَامٌ مَهِيبٌ غَامِضٌ عَمِيقٌ وَالْبَحْثُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَقَدُّمَ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ يُعْقَلُ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: التَّقَدُّمُ بِالتَّأْثِيرِ فَإِنَّا نَعْقِلُ أَنَّ لِحَرَكَةِ الْأُصْبُعِ تَقَدُّمًا عَلَى حَرَكَةِ الْخَاتَمِ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّقَدُّمِ كَوْنُ الْمُتَقَدِّمِ مُؤَثِّرًا فِي الْمُتَأَخِّرِ وَثَانِيهَا: التَّقَدُّمُ بِالْحَاجَةِ لَا بِالتَّأْثِيرِ، لِأَنَّا نَعْقِلُ احْتِيَاجَ الِاثْنَيْنِ إِلَى الْوَاحِدِ وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْوَاحِدَ لَيْسَ عِلَّةً لِلِاثْنَيْنِ وَثَالِثُهَا: التَّقَدُّمُ بِالشَّرَفِ كَتَقَدُّمِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى عُمَرَ وَرَابِعُهَا: التَّقَدُّمُ بِالرُّتْبَةِ، وَهُوَ إِمَّا مِنْ مَبْدَأٍ مَحْسُوسٍ كَتَقَدُّمِ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ، أَوْ مِنْ مَبْدَأٍ مَعْقُولٍ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا جَعَلْنَا الْمَبْدَأَ هُوَ الْجِنْسَ الْعَالِيَ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ النَّوْعُ أَشَدَّ تَسَفُّلًا كَانَ أَشَدَّ تَأَخُّرًا، وَلَوْ قَلَبْنَاهُ انْقَلَبَ الْأَمْرُ وَخَامِسُهَا: التَّقَدُّمُ بِالزَّمَانِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَوْجُودَ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ، مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْمَوْجُودِ فِي الزَّمَانِ الْمُتَأَخِّرِ، فَهَذَا مَا حَصَّلَهُ أَرْبَابُ الْعُقُولِ مِنْ أَقْسَامِ الْقَبْلِيَّةِ وَالتَّقَدُّمِ وَعِنْدِي أَنَّ هاهنا قِسْمًا سَادِسًا، وَهُوَ مِثْلُ تَقَدُّمِ بَعْضِ أَجْزَاءِ

الزَّمَانِ عَلَى الْبَعْضِ، فَإِنَّ ذَلِكَ التَّقَدُّمَ لَيْسَ تَقَدُّمًا بِالزَّمَانِ، وَإِلَّا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ مُحِيطًا بِزَمَانٍ آخَرَ، ثُمَّ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ الْمُحِيطِ كَالْكَلَامِ فِي الْمُحَاطِ بِهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يُحِيطَ بِكُلِّ زَمَانٍ زَمَانٌ آخَرُ لَا إِلَى نِهَايَةٍ بِحَيْثُ تَكُونُ كُلُّهَا حَاضِرَةً فِي هَذَا الْآنِ، فَلَا يَكُونُ هَذَا الْآنُ الْحَاضِرُ وَاحِدًا، بَلْ يَكُونُ كُلُّ حَاضِرٍ فِي حَاضِرٍ آخَرَ لَا إِلَى نِهَايَةٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ مَجْمُوعَ تِلْكَ الْآنَاتِ الْحَاضِرَةِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْآنَاتِ الْمَاضِيَةِ، فَلِمَجْمُوعِ الْأَزْمِنَةِ زَمَانٌ آخَرُ مُحِيطٌ بِهَا لَكِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ زَمَانًا كَانَ دَاخِلًا فِي مَجْمُوعِ الْأَزْمِنَةِ، فإذا ذلك لزمان دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ وَخَارِجٌ عَنْهُ وَهُوَ مُحَالٌ، فَظَهَرَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الظَّاهِرِ أَنَّ تَقَدُّمَ بَعْضِ أَجْزَاءِ الزَّمَانِ عَلَى الْبَعْضِ لَيْسَ بِالزَّمَانِ، وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِالْعِلَّةِ وَلَا بِالْحَاجَةِ، وَإِلَّا لوجدا معا، كما أن العلة والعلول/ يُوجِدَانِ مَعًا، وَالْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ يُوجِدَانِ مَعًا، وَلَيْسَ أَيْضًا بِالشَّرَفِ وَلَا بِالْمَكَانِ، فَثَبَتَ أَنَّ تَقَدُّمَ بَعْضِ أَجْزَاءِ الزَّمَانِ عَلَى الْبَعْضِ قِسْمٌ سَادِسٌ غَيْرُ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَوَّلٌ لِكُلِّ مَا عَدَاهُ، وَالْبُرْهَانُ دَلَّ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّا نَقُولُ: كُلُّ مَا عَدَا الْوَاجِبَ مُمْكِنٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ مُحْدَثٌ، فَكُلُّ مَا عَدَا الْوَاجِبَ فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَذَلِكَ الْوَاجِبُ أَوَّلٌ لِكُلِّ مَا عَدَاهُ، إِنَّمَا قُلْنَا: أَنَّ مَا عَدَا الْوَاجِبَ مُمْكِنٌ، لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ شَيْئَانِ وَاجِبَانِ لِذَاتِهِمَا لَاشْتَرَكَا فِي الْوَاجِبِ الذَّاتِيِّ، وَلَتَبَايَنَا بِالتَّعَيُّنِ وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُمَايَزَةُ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَكَّبًا، ثُمَّ كَلُّ وَاحِدٍ مِنْ جُزْأَيْهِ إِنْ كَانَ وَاجِبًا فَقَدِ اشْتَرَكَ الْجُزْآنِ فِي الْوُجُوبِ وَتَبَايَنَا بِالْخُصُوصِيَّةِ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ذَيْنِكَ الْجُزْأَيْنِ أَيْضًا مُرَكَّبًا وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا وَاجِبَيْنِ أَوْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا وَاجِبًا، كَانَ الْكُلُّ الْمُتَقَوِّمُ بِهِ أَوْلَى بِأَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَا الْوَاجِبَ مُمْكِنٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ مُحْدَثٌ، لِأَنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، وَذَلِكَ الِافْتِقَارُ إِمَّا حَالَ الْوُجُودِ أَوْ حَالَ الْعَدَمِ، فَإِذَا كَانَ حَالَ الْوُجُودِ، فَإِمَّا حَالَ الْبَقَاءِ وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إِيجَادَ الْمَوْجُودِ وَتَحْصِيلَ الْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَإِنَّ تِلْكَ الْحَاجَةَ إِمَّا حَالَ الْحُدُوثِ أَوْ حَالَ الْعَدَمِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُمْكِنٍ مُحْدَثًا، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَا ذَلِكَ الْوَاجِبَ فَهُوَ مُحْدَثٌ مُحْتَاجٌ إِلَى ذَلِكَ الْوَاجِبِ، فَإِذًا ذَلِكَ الْوَاجِبُ يَكُونُ قَبْلَ كُلِّ مَا عَدَاهُ، ثُمَّ طَلَبَ الْعَقْلُ كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الْقَبْلِيَّةِ فَقُلْنَا: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْقَبْلِيَّةُ بِالتَّأْثِيرِ، لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُؤَثِّرٌ مُضَافٌ إِلَى الْأَثَرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَثَرٌ وَالْمُضَافَانِ مَعًا، وَالْمَعُ لَا يَكُونُ قَبْلَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِمُجَرَّدِ الْحَاجَةِ لِأَنَّ الْمُحْتَاجَ وَالْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُوجِدَا مَعًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تِلْكَ الْمَعِيَّةَ هاهنا مُمْتَنِعَةٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِمَحْضِ الشَّرَفِ فإنه ليس المطلوب من هذه القبلية هاهنا مُجَرَّدَ أَنَّهُ تَعَالَى أَشْرَفُ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ، وَأَمَّا الْقَبْلِيَّةُ الْمَكَانِيَّةُ فَبَاطِلَةٌ، وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا فَتَقَدُّمُ الْمُحْدِثِ عَلَى الْمُحْدَثِ أَمْرٌ زَائِدٌ آخَرُ وَرَاءَ كَوْنِ أَحَدِهِمَا فَوْقَ الْآخَرِ بِالْجِهَةِ، وَأَمَّا التَّقَدُّمُ الزَّمَانِيُّ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّ الزَّمَانَ أَيْضًا مُمْكِنٌ وَمُحْدَثٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، وَأَمَا ثَانِيًا فَلِأَنَّ أَمَارَةَ الْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ فِيهِ أَظْهَرُ كَمَا فِي غَيْرِهِ لِأَنَّ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ مُتَعَاقِبَةٌ، وَكُلُّ مَا وُجِدَ بَعْدَ الْعَدَمِ وَعُدِمَ بَعْدَ الْوُجُودِ فَلَا شك أنه ممكن الحدث وَإِذَا كَانَ جَمِيعُ أَجْزَاءِ الزَّمَانِ مُمْكِنًا وَمُحْدَثًا وَالْكُلُّ مُتَقَوِّمٌ بِالْأَجْزَاءِ فَالْمُفْتَقِرُ إِلَى الْمُمْكِنِ الْمُحْدَثِ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ، فَإِذَنِ الزَّمَانُ بِمَجْمُوعِهِ وَبِأَجْزَائِهِ مُمْكِنٌ وَمُحْدَثٌ، فَتَقَدُّمُ مُوجِدِهِ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ بِالزَّمَانِ، لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ لَا يَكُونُ بِالزَّمَانِ، وَإِلَّا فَيَلْزَمُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي مَجْمُوعِ الْأَزْمِنَةِ لِأَنَّهُ زَمَانٌ، وَأَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْهَا لِأَنَّهُ ظَرْفُهَا، وَالظَّرْفُ مُغَايِرٌ لِلْمَظْرُوفِ لَا مُحَالٌ، لَكِنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ دَاخِلًا فِي شَيْءٍ وَخَارِجًا عَنْهُ مُحَالٌ، وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ الزَّمَانَ مَاهِيَّتُهُ تَقْتَضِي السَّيَلَانَ وَالتَّجَدُّدَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ وَالْأَزَلُ يُنَافِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ،

فَثَبَتَ أَنَّ تَقَدُّمَ الصَّانِعِ عَلَى كُلِّ مَا عَدَاهُ لَيْسَ بِالزَّمَانِ الْبَتَّةَ، فَإِذَنِ الَّذِي عِنْدَ الْعَقْلِ أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى كُلِّ مَا عَدَاهُ، أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ التَّقَدُّمَ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ/ الْخَمْسَةِ، فَبَقِيَ أَنَّهُ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ التَّقَدُّمِ يُغَايِرُ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الْخَمْسَةَ، فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ التَّقَدُّمِ فَلَيْسَ عِنْدَ الْعَقْلِ مِنْهَا خَبَرٌ، لِأَنَّ كُلَّ مَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْعَقْلِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ حَالٌ مِنَ الزَّمَانِ، وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُحَالٌ، فَإِذَنْ كَوْنُهُ تَعَالَى أَوَّلًا مَعْلُومٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، فَأَمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ وَالْإِحَاطَةِ بِحَقِيقَةِ تِلْكَ الْأَوَّلِيَّةِ، فَلَيْسَ عِنْدَ عُقُولِ الخلق منه أثر. النوع الثاني: من هذا غوامض الموضع، وهو أن الأزل متقدم على اللايزال، وَلَيْسَ الْأَزَلُ شَيْئًا سِوَى الْحَقِّ، فَتَقَدُّمُ الْأَزَلِ على اللايزال، يستدعي الامتياز بين الأزل وبين اللايزال، فهذا يقتضي أن يكون اللايزال لَهُ مَبْدَأٌ وَطَرَفٌ، حَتَّى يَحْصُلَ هَذَا الِامْتِيَازُ، لَكِنَّ فَرْضَ هَذَا الطَّرَفِ مُحَالٌ، لِأَنَّ كُلَّ مبدأ فرضته، فإن اللايزال، كَانَ حَاصِلًا قَبْلَهُ، لِأَنَّ الْمَبْدَأَ الَّذِي يُفْرَضُ قَبْلَ ذَلِكَ الطَّرَفِ الْمَفْرُوضِ بِزِيَادَةِ مِائَةِ سَنَةٍ، يكون من جملة اللايزال، لَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَزَلِ، فَقَدْ كَانَ مَعْنَى اللايزال مَوْجُودًا قَبْلَ أَنْ كَانَ مَوْجُودًا وَذَلِكَ مُحَالٌ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ غَوَامِضِ هَذَا الْمَوْضُوعِ، أَنَّ امتياز الأزل عن اللايزال، يَسْتَدْعِي انْقِضَاءَ حَقِيقَةِ الْأَزَلِ، وَانْقِضَاءُ حَقِيقَةِ الْأَزَلِ محال، لأن مالا أَوَّلَ لَهُ يَمْتَنِعُ انْقِضَاؤُهُ، وَإِذَا امْتَنَعَ انْقِضَاؤُهُ امتنع أن يحصل عقيبه ماهية اللايزال، فإذن يمتنع امتياز الأزل عن اللايزال، وامتياز اللايزال عن الأزال، وَإِذَا امْتَنَعَ حُصُولُ هَذَا الِامْتِيَازِ امْتَنَعَ حُصُولُ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، فَهَذِهِ أَبْحَاثٌ غَامِضَةٌ فِي حَقِيقَةِ التَّقَدُّمِ وَالْأَوَّلِيَّةِ وَالْأَزَلِيَّةِ، وَمَا هِيَ إِلَّا بِسَبَبِ حَيْرَةِ الْعُقُولِ الْبَشَرِيَّةِ فِي نُورِ جَلَالِ مَاهِيَّةِ الْأَزَلِيَّةِ وَالْأَوَّلِيَّةِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ إِنَّمَا يَعْرِفُ الشَّيْءَ إِذَا أَحَاطَ بِهِ، وَكُلُّ مَا اسْتَحْضَرَهُ الْعَقْلُ، وَوَقَفَ عَلَيْهِ فَذَاكَ يَصِيرُ مُحَاطًا بِهِ، وَالْمُحَاطُ يَكُونُ مُتَنَاهِيًا، وَالْأَزَلِيَّةُ تَكُونُ خَارِجَةً عَنْهُ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ ظَاهِرٌ بَاطِنٌ فِي كَوْنِهِ أَوَّلًا، لِأَنَّ الْعُقُولَ شَاهِدَةٌ بِإِسْنَادِ الْمُحْدَثَاتِ إِلَى مُوجِدٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَيْهَا فَكَوْنُهُ تَعَالَى أَوَّلًا أَظْهَرُ مِنْ كُلِّ ظَاهِرٍ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، ثُمَّ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ حَقِيقَةَ تِلْكَ الْأَوَّلِيَّةِ عَجَزْتَ لِأَنَّ كُلَّ مَا أَحَاطَ بِهِ عَقْلُكَ وَعِلْمُكَ فَهُوَ مَحْدُودُ عَقْلِكَ وَمُحَاطُ عِلْمِكَ فَيَكُونُ مُتَنَاهِيًا، فَتَكُونُ الْأَوَّلِيَّةُ خَارِجَةً عَنَّا، فَكَوْنُهُ تَعَالَى أَوَّلًا إِذَا اعْتَبَرْتَهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ كَانَ أَبْطَنَ مِنْ كُلِّ بَاطِنٍ، فَهَذَا هُوَ الْبَحْثُ عَنْ كَوْنِهِ تَعَالَى أَوَّلًا. أَمَّا الْبَحْثُ عَنْ كَوْنِهِ آخِرًا، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّهُ تعالى إنما يكون آخر الكل مَا عَدَاهُ، لَوْ بَقِيَ هُوَ مَعَ عَدَمِ كُلِّ مَا عَدَاهُ لَكِنَّ عَدَمَ مَا عَدَاهُ إنما يكون بعده وُجُودِهِ، وَتِلْكَ الْبَعْدِيَّةُ، زَمَانِيَّةٌ، فَإِذَنْ لَا يُمْكِنُ فرض عدم كل عَدَاهُ إِلَّا مَعَ وُجُودِ الزَّمَانِ الَّذِي بِهِ تَتَحَقَّقُ تِلْكَ الْبَعْدِيَّةُ، فَإِذَنْ حَالُ مَا فُرِضَ عَدَمُ كُلِّ مَا عَدَاهُ، أَنْ لَا يُعْدَمَ كُلُّ مَا عَدَاهُ، فَهَذَا خُلْفٌ، فَإِذَنْ فَرْضُ بَقَائِهِ مَعَ عَدَمِ كُلِّ مَا عَدَاهُ مُحَالٌ، وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ مَبْنِيَّةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ لَا يَتَقَرَّرَانِ إِلَّا بِالزَّمَانِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ فَبَطَلَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ، وَأَمَّا الَّذِينَ سَلَّمُوا إِمْكَانَ عَدَمِ كُلِّ مَا عَدَاهُ مَعَ بَقَائِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ حَتَّى يَتَقَرَّرَ كَوْنُهُ تَعَالَى آخِرًا لِلْكُلِّ، وَهَذَا مَذْهَبُ جَهْمٍ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ/ سُبْحَانَهُ يُوصِلُ الثَّوَابَ إِلَى أَهْلِ الثَّوَابِ، وَيُوصِلُ الْعِقَابَ إِلَى أَهْلِ الْعِقَابِ، ثُمَّ يُفْنِي الْجَنَّةَ وَأَهْلَهَا، وَالنَّارَ وَأَهْلَهَا، وَالْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ وَالْمَلَكَ وَالْفَلَكَ، وَلَا يَبْقَى مَعَ اللَّه شَيْءٌ أَصْلًا، فَكَمَا أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْأَزَلِ وَلَا شَيْءَ يَبْقَى مَوْجُودًا في اللايزال أَبَدَ الْآبَادِ وَلَا شَيْءَ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ هُوَ الْآخِرُ، يَكُونُ آخِرًا إِلَّا عِنْدَ فَنَاءِ الْكُلِّ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِعَدَدِ حَرَكَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَوْ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِهَا، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهَا كَانَ عَالِمًا بِكَمِّيَّتِهَا، وَكُلُّ ماله عَدَدٌ مُعَيَّنٌ فَهُوَ مُتَنَاهٍ، فَإِذَنْ حَرَكَاتُ أَهْلِ الجنة

مُتَنَاهِيَةٌ، فَإِذَنْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ بَعْدَهَا عَدَمٌ أَبَدِيٌّ غَيْرُ مُنْقَضٍّ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا كَانَ جَاهِلًا بِهَا وَالْجَهْلُ عَلَى اللَّه مُحَالٌ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْحَوَادِثَ الْمُسْتَقْبَلَةَ قَابِلَةٌ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُتَنَاهٍ وَالْجَوَابُ: أَنَّ إِمْكَانَ اسْتِمْرَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَاصِلٌ إِلَى الْأَبَدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْمَاهِيَّاتِ لَوْ زَالَتْ إِمْكَانَاتُهَا، لَزِمَ أَنْ يَنْقَلِبَ الْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ، وَلَوِ انْقَلَبَتْ قُدْرَةُ اللَّه مِنْ صَلَاحِيَّةِ التَّأْثِيرِ إِلَى امْتِنَاعِ التَّأْثِيرِ، لَانْقَلَبَتِ الْمَاهِيَّاتُ وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى هَذَا الْإِمْكَانُ أَبَدًا، فَإِذَنْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَجِبُ انْتِهَاءُ هَذِهِ الْمُحْدَثَاتِ إِلَى الْعَدَمِ الصِّرْفِ، أَمَّا التَّمَسُّكُ بِالْآيَةِ فَسَنَذْكُرُ الْجَوَابَ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: فَجَوَابُهَا أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا عَدَدٌ مُعَيَّنٌ، وَهَذَا لَا يَكُونُ جَهْلًا، إِنَّمَا الْجَهْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ وَلَا يَعْلَمُهُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ وَأَنْتَ تَعْلَمُهُ عَلَى الْوَجْهِ فَهَذَا لَا يَكُونُ جَهْلًا بَلْ عِلْمًا وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: فَجَوَابُهَا أَنَّ الْخَارِجَ مِنْهُ إِلَى الْوُجُودِ أَبَدًا لَا يَكُونُ مُتَنَاهِيًا، ثُمَّ إِنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ لَمَّا أَثْبَتُوا إِمْكَانَ بَقَاءِ الْعَالَمِ أَبَدًا عَوَّلُوا فِي بَقَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ أَبَدًا، عَلَى إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَظَوَاهِرِ الْآيَاتِ، وَلَا يَخْفَى تَقْرِيرُهَا، وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ سَلَّمُوا بَقَاءَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ أَبَدًا، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى كَوْنِهِ تَعَالَى آخِرًا عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يُفْنِي جَمِيعَ الْعَالَمِ وَالْمُمْكِنَاتِ فَيَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ آخِرًا، ثُمَّ إِنَّهُ يُوجِدُهَا وَيُبْقِيهَا أَبَدًا وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَوْجُودَ الَّذِي يَصِحُّ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ آخِرًا لِكُلِّ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ إِلَّا هُوَ، فَلَمَّا كَانَتْ صِحَّةُ آخِرِيَّةِ كُلِّ الْأَشْيَاءِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ سُبْحَانَهُ، لَا جَرَمَ وُصِفَ بِكَوْنِهِ آخِرًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْوُجُودَ مِنْهُ تَعَالَى يَبْتَدِئُ، وَلَا يَزَالُ يَنْزِلُ وَيَنْزِلُ حتى ينتهي إلى الموجود الأخير، الذي كون هُوَ مُسَبِّبًا لِكُلِّ مَا عَدَاهُ، وَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِشَيْءٍ آخَرَ، فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ إِذَا انْتَهَى أَخَذَ يَتَرَقَّى مِنْ هَذَا الْمَوْجُودِ الْأَخِيرِ دَرَجَةً فَدَرَجَةً حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى آخِرِ التَّرَقِّي، فَهُنَاكَ وُجُودُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ أَوَّلٌ فِي نُزُولِ الْوُجُودِ مِنْهُ إِلَى الْمُمْكِنَاتِ، آخِرٌ عِنْدَ الصُّعُودِ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ إِلَيْهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ يُمِيتُ الْخَلْقَ وَيَبْقَى بَعْدَهُمْ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ آخِرٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ أَوَّلٌ فِي الْوُجُودِ وَآخِرٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ الِاسْتِدْلَالَاتِ مَعْرِفَةُ الصَّانِعِ، وَأَمَّا سَائِرُ الِاسْتِدْلَالَاتِ الَّتِي لَا يُرَادُ مِنْهَا مَعْرِفَةُ الصَّانِعِ فَهِيَ حَقِيرَةٌ خَسِيسَةٌ، أَمَّا كَوْنُهُ تعالى ظاهرا وباطنا، فاعلم أنه ظاهر بحسيب الْوُجُودِ، فَإِنَّكَ لَا تَرَى شَيْئًا مِنَ الْكَائِنَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ إِلَّا وَيَكُونُ دَلِيلًا/ عَلَى وُجُودِهِ وَثُبُوتِهِ وَحَقِيقَتِهِ وَبَرَاءَتِهِ عَنْ جِهَاتِ التَّغَيُّرِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، وَأَمَّا كَوْنُهُ تَعَالَى بَاطِنًا فَمِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ كَمَالَ كَوْنِهِ ظَاهِرًا سَبَبٌ لِكَوْنِهِ بَاطِنًا، فَإِنَّ هَذِهِ الشَّمْسَ لَوْ دَامَتْ عَلَى الْفَلَكِ لَمَا كُنَّا نَعْرِفُ أَنَّ هَذَا الضَّوْءَ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِهَا، بَلْ رُبَّمَا كُنَّا نَظُنُّ أَنَّ الْأَشْيَاءَ مُضِيئَةٌ لِذَوَاتِهَا إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ بِحَيْثُ تَغْرُبُ ثُمَّ تَرَى أَنَّهَا مَتَى غَرَبَتْ أُبْطِلَتِ الْأَنْوَارُ وَزَالَتِ الْأَضْوَاءُ عَنْ هَذَا الْعَالَمِ، عَلِمْنَا حِينَئِذٍ أَنَّ هَذِهِ الْأَضْوَاءَ مِنَ الشَّمْسِ، فَهَهُنَا لَوْ أَمْكَنَ انْقِطَاعُ وُجُودِ اللَّه عَنْ هَذِهِ الْمُمْكِنَاتِ لَظَهَرَ حِينَئِذٍ أَنَّ وُجُودَ هَذِهِ الْمُمْكِنَاتِ مِنْ وُجُودِ اللَّه تَعَالَى، لَكِنَّهُ لَمَّا دَامَ ذَلِكَ الْجُودُ وَلَمْ يَنْقَطِعْ صَارَ دَوَامُهُ وَكَمَالُهُ سَبَبًا لِوُقُوعِ الشُّبْهَةِ، حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا يَظُنُّ أَنَّ نُورَ الْوُجُودِ لَيْسَ مِنْهُ بَلْ وُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ مِنْ ذَاتِهِ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِتَارَ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْ كَمَالِ وَجُودِهِ، وَمِنْ دَوَامِ جُودِهِ، فَسُبْحَانَ مَنِ اخْتَفَى عَنِ الْعُقُولِ لِشِدَّةِ ظُهُورِهِ، وَاحْتَجَبَ عَنْهَا بِكَمَالِ نُورِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَاهِيَّتَهُ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ لِلْبَشَرِ الْبَتَّةَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَصَوَّرُ مَاهِيَّةَ الشَّيْءِ إِلَّا إِذَا أَدْرَكَهُ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى سَبِيلِ الْوِجْدَانِ كَالْأَلَمِ وَاللَّذَّةِ وَغَيْرِهِمَا أَوْ أَدْرَكَهُ بِحِسِّهِ كَالْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَسَائِرِ الْمَحْسُوسَاتِ، فَأَمَّا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَصَوَّرَ مَاهِيَّتَهُ الْبَتَّةَ، وَهُوِيَّتَهُ المخصوصة جل

[سورة الحديد (57) : آية 4]

جَلَالُهُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَلَا تَكُونُ مَعْقُولَةً لِلْبَشَرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْهُ عِنْدَ الْخَلْقِ، إِمَّا الْوُجُودُ وَإِمَّا السُّلُوبُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جَوْهَرٍ، وَإِمَّا الْإِضَافَةُ، وَهُوَ أَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ كَذَا وَكَذَا، وَالْحَقِيقَةُ الْمَخْصُوصَةُ مُغَايِرَةٌ لِهَذِهِ الْأُمُورِ فَهِيَ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ أَظْهَرَ الْأَشْيَاءِ مِنْهُ عِنْدَ الْعَقْلِ كَوْنُهُ خَالِقًا لِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمُتَقَدِّمًا عَلَيْهَا، وَقَدْ عَرَفْتَ حَيْرَةَ الْعَقْلِ وَدَهْشَتَهُ فِي مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَوَّلِيَّةِ، فَقَدْ ظَهَرَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْآخِرُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْبَاطِنُ، وَسَمِعْتُ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّه يَقُولُ: إِنَّهُ كَانَ يُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ نَحْوَ الْبَيْتِ وَسَجَدُوا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ بِقَوْلِهِ: هُوَ الْأَوَّلُ قَالُوا الْأَوَّلُ هُوَ الْفَرْدُ السَّابِقُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَوْ قَالَ: أَوَّلُ مَمْلُوكٍ اشْتَرَيْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ، ثُمَّ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ لَمْ يُعْتَقَا، لِأَنَّ شَرْطَ كونه أولا حصول الفردية، وهاهنا لَمْ تَحْصُلْ، فَلَوِ اشْتَرَى بَعْدَ ذَلِكَ عَبْدًا وَاحِدًا لَمْ يُعْتِقْ، لِأَنَّ شَرْطَ الْأَوَّلِيَّةِ كَوْنُهُ سابقا وهاهنا لَمْ يَحْصُلْ، فَثَبَتَ أَنَّ الشَّرْطَ فِي كَوْنِهِ أَوَّلًا أَنْ يَكُونَ فَرْدًا، فَكَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ فَرَدٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: إِنَّهُ أَوَّلٌ لِأَنَّهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنَّهُ آخِرٌ لِأَنَّهُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنَّهُ ظَاهِرٌ بِحَسَبِ الدَّلَائِلِ، وَإِنَّهُ بَاطِنٌ عَنِ الْحَوَاسِّ مُحْتَجِبٌ عَنِ الْأَبْصَارِ، وَأَنَّ جَمَاعَةً لَمَّا عَجَزُوا عَنْ جَوَابِ جَهْمٍ قَالُوا: مَعْنَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ: فُلَانٌ هُوَ أَوَّلُ هَذَا الْأَمْرِ وَآخِرُهُ وَظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ، أَيْ عَلَيْهِ يَدُورُ، وَبِهِ يَتِمُّ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا أَمْكَنَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مَعَ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِهَا اسْتِدْلَالُ جَهْمٍ/ لَمْ يَكُنْ بِنَا إِلَى حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَجَازِ حَاجَةٌ، وَذَكَرُوا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ أَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الْغَالِبُ الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ [الصَّفِّ: 14] أَيْ غَالِبِينَ عَالِينَ، مِنْ قَوْلِكَ: ظَهَرْتُ عَلَى فُلَانٍ أَيْ عَلَوْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَيْها يَظْهَرُونَ [الزُّخْرُفِ: 33] وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ» وَأَمَّا الْبَاطِنُ فَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ الْعَالِمُ بِمَا بَطَنَ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: فُلَانٌ يَظُنُّ أَمْرَ فُلَانٍ، أَيْ يَعْلَمُ أَحْوَالَهُ الْبَاطِنَةَ قَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ: أَنْتَ أَبْطَنُ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ فُلَانٍ، أَيْ أَخْبَرُ بِبَاطِنِهِ، فَمَعْنَى كَوْنِهِ بَاطِنًا، كَوْنُهُ عَالِمًا بِبَوَاطِنِ الْأُمُورِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَكُونُ تَكْرَارًا. أَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَحْسُنُ مَوْقِعُهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ أَحَدًا لَا يُحِيطُ بِهِ وَلَا يَصِلُ إِلَى أَسْرَارِهِ، وَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِ غَيْرِهِ وَنَظِيرُهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [الْمَائِدَةِ: 116] . [سورة الحديد (57) : آية 4] هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَهُوَ مُفَسَّرٌ فِي الْأَعْرَافِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ دَلَائِلُ الْقُدْرَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مُفَسَّرٌ فِي سَبَأٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ كَمَالُ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ وَصْفَ الْقُدْرَةِ عَلَى وَصْفِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا قَبْلَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا، وَلِذَلِكَ ذَهَبَ جَمْعٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ الْعِلْمِ باللَّه، هُوَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا،

[سورة الحديد (57) : آية 5]

وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ الْعِلْمِ باللَّه هُوَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مُؤَثِّرًا، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْعِلْمُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ عَالِمًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَا الْوَاجِبِ الْحَقِّ فَهُوَ مُمْكِنٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَوُجُودُهُ مِنَ الْوَاجِبِ، فَإِذَنْ وَصُولُ الْمَاهِيَّةِ الْمُمْكِنَةِ إِلَى وُجُودِهَا بِوَاسِطَةِ إِفَادَةِ الْوَاجِبِ الْحَقِّ ذَلِكَ الْوُجُودَ لِتِلْكَ الْمَاهِيَّةِ فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ كُلِّ مَاهِيَّةٍ وَبَيْنَ وُجُودِهَا، فَهُوَ إِلَى كُلِّ مَاهِيَّةٍ أَقْرَبُ مِنْ وُجُودِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ، وَمِنْ هَذَا السِّرِّ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا إِلَّا وَرَأَيْتُ اللَّه قَبْلَهُ، وَقَالَ الْمُتَوَسِّطُونَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا إِلَّا وَرَأَيْتُ اللَّه مَعَهُ، وَقَالَ الظَّاهِرِيُّونَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا إِلَّا وَرَأَيْتُ اللَّه بَعْدَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الدَّقَائِقَ الَّتِي أَظْهَرْنَاهَا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَهَا دَرَجَتَانِ إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَصِلَ الْإِنْسَانُ إِلَيْهَا بِمُقْتَضَى الْفِكْرَةِ وَالرَّوِيَّةِ وَالتَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ وَالدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَتَّفِقَ لِنَفْسِ الْإِنْسَانِ/ قُوَّةٌ ذَوْقِيَّةٌ وَحَالَةٌ وِجْدَانِيَّةٌ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا، وَتَكُونُ نِسْبَةُ الْإِدْرَاكِ مَعَ الذَّوْقِ إِلَى الْإِدْرَاكِ لَا مَعَ الذَّوْقِ، كَنِسْبَةِ مَنْ يَأْكُلُ السُّكَّرَ إِلَى مَنْ يَصِفُ حَلَاوَتَهُ بِلِسَانِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: هَذِهِ الْمَعِيَّةُ إِمَّا بِالْعِلْمِ وَإِمَّا بِالْحِفْظِ وَالْحِرَاسَةِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ مَعَنَا بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ وَالْحَيِّزِ، فَإِذَنْ قَوْلُهُ: وَهُوَ مَعَكُمْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ وَإِذَا جَوَّزْنَا التَّأْوِيلَ فِي مَوْضِعٍ وَجَبَ تَجْوِيزُهُ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَرْتِيبًا عَجِيبًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ كَوْنَهُ إِلَهًا لِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ وَالْكَائِنَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ كونه إلها للعرش والسموات وَالْأَرَضِينَ. ثُمَّ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ معينه لَنَا بِسَبَبِ الْقُدْرَةِ وَالْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ وَبِسَبَبِ الْعِلْمِ وَهُوَ كَوْنُهُ عَالَمًا بِظَوَاهِرِنَا وَبَوَاطِنِنَا، فَتَأَمَّلْ فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّرْتِيبِ، ثُمَّ تَأَمَّلْ فِي أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآيَاتِ فَإِنَّ فِيهَا أَسْرَارًا عَجِيبَةً وَتَنْبِيهَاتٍ على أمور عالية. ثم قال تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 5] لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) أَيْ إِلَى حَيْثُ لَا مَالِكَ سِوَاهُ، وَدَلَّ بِهَذَا الْقَوْلِ عَلَى إِثْبَاتِ الْمَعَادِ. ثُمَّ قال تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 6] يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) وَهَذِهِ الْآيَاتُ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سَائِرِ السُّوَرِ، وَهِيَ جَامِعَةٌ بَيْنَ الدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ، وَبَيْنَ إِظْهَارِ نِعَمِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِعَادَتِهَا الْبَعْثُ عَلَى النَّظَرِ والتأمل، ثم الاشتغال بالشكر. [سورة الحديد (57) : آية 7] آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) قَوْلُهُ تَعَالَى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنْوَاعًا مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، أَتْبَعَهَا بِالتَّكَالِيفِ، وَبَدَأَ بِالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ باللَّه وَرَسُولِهِ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: آمِنُوا خِطَابٌ مَعَ مَنْ عَرَفَ اللَّه، أَوْ

[سورة الحديد (57) : آية 8]

مَعَ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ اللَّه، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا بِأَنْ يَعْرِفَهُ مَنْ عَرَفَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، كَانَ الْخِطَابُ مُتَوَجِّهًا عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِهِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِأَمْرِهِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ مُتَوَجِّهًا عَلَى مَنْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَعْرِفَ كَوْنَهُ مَأْمُورًا بِذَلِكَ الْأَمْرِ، وهذا تكليف مالا يُطَاقُ وَالْجَوَابُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: مَعْرِفَةُ وُجُودِ الصَّانِعِ حَاصِلَةٌ لِلْكُلِّ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَعْرِفَةُ الصِّفَاتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ، فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ/ كَبِيرٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ أَمَرَ النَّاسَ أَوَّلًا بِأَنْ يَشْتَغِلُوا بِطَاعَةِ اللَّه، ثُمَّ أَمَرَهُمْ ثَانِيًا بِتَرْكِ الدُّنْيَا وَالْإِعْرَاضِ عَنْهَا وَإِنْفَاقِهَا فِي سَبِيلِ اللَّه، كَمَا قَالَ: قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [الأنعام: 91] ، فقوله: قُلِ اللَّهُ هو المراد هاهنا مِنْ قَوْلِهِ: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَقَوْلِهِ: ثُمَّ ذَرْهُمْ هو المراد هاهنا مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَمْوَالَ الَّتِي فِي أَيْدِيكُمْ إِنَّمَا هِيَ أَمْوَالُ اللَّه بِخَلْقِهِ وَإِنْشَائِهِ لَهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا تَحْتَ يَدِ الْمُكَلَّفِ، وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ لِيَنْتَفِعَ بِهَا عَلَى وَفْقِ إِذَنِ الشَّرْعِ، فَالْمُكَلَّفُ فِي تَصَرُّفِهِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ وَالنَّائِبِ وَالْخَلِيفَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْهُلَ عَلَيْكُمُ الْإِنْفَاقُ مِنْ تِلْكَ الْأَمْوَالِ، كَمَا يَسْهُلُ عَلَى الرَّجُلِ النَّفَقَةُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ الثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، لِأَجْلِ أَنَّهُ نَقَلَ أَمْوَالَهُمْ إِلَيْكُمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِرْثِ، فَاعْتَبِرُوا بِحَالِهِمْ، فَإِنَّهَا كَمَا انْتَقَلَتْ مِنْهُمْ إليكم فستنقل مِنْكُمْ إِلَى غَيْرِكُمْ فَلَا تَبْخَلُوا بِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْإِنْفَاقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ التَّطَوُّعُ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي جَمِيعِ وُجُوهِ الْبِرِّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ضَمِنَ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَجْرًا كَبِيرًا فَقَالَ: فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَجْرَ لَا يَحْصُلُ بِالْإِيمَانِ الْمُنْفَرِدِ حَتَّى يَنْضَافَ هَذَا الْإِنْفَاقُ إِلَيْهِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخَلَّ بِالْوَاجِبِ مِنْ زَكَاةٍ وَغَيْرِهَا فَلَا أَجْرَ لَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخَلَّ بِالزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ الْأَجْرُ الْكَبِيرُ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ أصلا. وقوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 8] وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَبَخَّ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بِشَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدْعُوَ الرَّسُولُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَتْلُو عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ الثَّانِي: أَنَّهُ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ، وَذَكَرُوا فِي أَخْذِ الْمِيثَاقِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: مَا نُصِبَ فِي الْعُقُولِ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِقَبُولِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَاعْلَمْ أَنَّ تِلْكَ الدَّلَائِلَ كَمَا اقْتَضَتْ وُجُوبَ الْقَبُولِ فَهِيَ أَوْكَدُ مِنَ الْحَلْفِ وَالْيَمِينِ، / فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ مِيثَاقًا، وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّهُ تَطَابَقَتْ دَلَائِلُ النَّقْلِ

[سورة الحديد (57) : آية 9]

وَالْعَقْلِ، أَمَّا النَّقْلُ فَبِقَوْلِهِ: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ، وَأَمَّا الْعَقْلُ فَبِقَوْلِهِ: وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ وَمَتَّى اجْتَمَعَ هَذَانِ النَّوْعَانِ، فَقَدْ بَلَغَ الْأَمْرُ إِلَى حَيْثُ تَمْتَنِعُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّه تَعَالَى لَا تَجِبُ إِلَّا بِالسَّمْعِ، قَالَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَمَّهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ يَدْعُوهُمْ، فَعَلِمْنَا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الذَّمِّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ دَعْوَةِ الرَّسُولِ الْوَجْهُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ أَخْذِ الْمِيثَاقِ: قَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ وَالْمُقَاتِلَانِ: يُرِيدُ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، وَقَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَافِ: 172] وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ أَخْذَ الْمِيثَاقِ لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْإِيمَانِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَخْذُ الْمِيثَاقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْقَوْمِ إِلَّا بِقَوْلِ الرَّسُولِ، فَقَبْلَ مَعْرِفَةِ صِدْقِ الرَّسُولِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا فِي وُجُوبِ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ، أَمَّا نَصْبُ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ فَمَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، فَذَلِكَ يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ جَائِزٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي قَوْلُهُ: وَما لَكُمْ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ إِلَّا لِمَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْفِعْلِ، كَمَا لَا يقال: مالك لَا تَطُولُ وَلَا تَبِيضُ، فَيَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَعَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ صَالِحَةٌ لِلضِّدَّيْنِ، وَعَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ حَصَلَ بِالْعَبْدِ لَا بِخَلْقِ اللَّه. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ: وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، أَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَالْمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِشَيْءٍ لِأَجْلِ دَلِيلٍ، فَمَا لَكَمَ لَا تُؤْمِنُونَ الْآنَ، فَإِنَّهُ قَدْ تَطَابَقَتِ الدَّلَائِلُ النَّقْلِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ، وبلغت مبلغا لا يمكن الزيادة عليها. [سورة الحديد (57) : آية 9] هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) قَالَ الْقَاضِي: بَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مُرَادَهُ بِإِنْزَالِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي هِيَ الْقُرْآنُ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَلَوْ كَانَ تَعَالَى يُرِيدُ مِنْ بَعْضِهِمُ الثَّبَاتَ عَلَى ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ، وَيَخْلُقُ ذَلِكَ فِيهِمْ، وَيُقَدِّرُهُ لَهُمْ تَقْدِيرًا لَا يَقْبَلُ الزَّوَالَ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْقَوْلُ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ ظَاهِرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ مِنْ فِعْلِهِ؟ قُلْنَا: لَوْ أَرَادَ بِهَذَا الْإِخْرَاجِ خَلْقَ الْإِيمَانِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مَعْنًى، لِأَنَّهُ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْ، فَخَلَقَهُ لِمَا خَلَقَهُ لَا يَتَغَيَّرُ، فَالْمُرَادُ إِذَنْ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَلْطُفُ بِهِمْ فِي إِخْرَاجِهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى/ النُّورِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يُخْرِجُهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى خِسَّتِهِ وَرَوْغَتِهِ مَعَارَضٌ بِالْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ عِلْمَهُ سُبْحَانَهُ بِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ قَائِمٌ، وَعَالِمًا بِأَنَّ هَذَا الْعِلْمَ يُنَافِي وُجُودَ الْإِيمَانِ، فَإِذَا كَلَّفَهُمْ بِتَكْوِينِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ مَعَ عِلْمِهِ بِقِيَامِ الضِّدِّ الْآخَرِ فِي الْوُجُودِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ وَإِبْطَالُهُ، فَهَلْ يُعْقَلُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُرِيدَ بِهِمْ ذَلِكَ الْخَيْرَ وَالْإِحْسَانَ، لَا شك أن مِمَّا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، وَإِذَا تَوَجَّهَتِ الْمُعَارَضَةُ زَالَتْ تِلْكَ الْقُوَّةُ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَطْ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ لَا وَجْهَ لَهُ، بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ ذَلِكَ مَعَ سَائِرِ مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ الْمَرْءُ مِنْ أداء التكاليف.

[سورة الحديد (57) : آية 10]

[سورة الحديد (57) : آية 10] وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. لَمَّا أَمَرَ أَوَّلًا بِالْإِيمَانِ وَبِالْإِنْفَاقِ، ثُمَّ أَكَّدَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِيجَابَ الْإِيمَانِ أَتْبَعَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِتَأْكِيدِ إِيجَابِ الْإِنْفَاقِ، وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ سَتَمُوتُونَ فَتُورَثُونَ، فَهَلَّا قَدَّمْتُمُوهُ فِي الْإِنْفَاقِ فِي طَاعَةِ اللَّه، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمَالَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْيَدِ، إِمَّا بِالْمَوْتِ وَإِمَّا بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّه، فَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، كَانَ أَثَرُهُ اللَّعْنَ وَالْمَقْتَ وَالْعِقَابَ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، كَانَ أَثَرُهُ الْمَدْحَ وَالثَّوَابَ، وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ خُرُوجِهِ عَنِ الْيَدِ، فَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ خُرُوجَهُ عَنِ الْيَدِ بِحَيْثُ يَسْتَعْقِبُ الْمَدْحَ وَالثَّوَابَ أَوْلَى مِنْهُ بِحَيْثُ يَسْتَعْقِبُ اللَّعْنَ وَالْعِقَابَ. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْإِنْفَاقَ فَضِيلَةٌ بَيَّنَ أَنَّ الْمُسَابَقَةَ فِي الْإِنْفَاقِ تَمَامُ الْفَضِيلَةِ فَقَالَ: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ، وَمَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدِ الْفَتْحِ، كَمَا قَالَ: لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ [الْحَشْرِ: 20] إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ لِوُضُوحِ الْحَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْفَتْحِ فَتْحُ مَكَّةَ، لِأَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْفَتْحِ فِي الْمُتَعَارَفِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: وَيَدُلُّ الْقُرْآنُ عَلَى فَتْحٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [الْفَتْحِ: 27] وَأَيُّهُمَا كَانَ، فَقَدْ بَيَّنَ اللَّه عِظَمَ مَوْقِعِ الْإِنْفَاقِ قَبْلَ الْفَتْحِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَنْفَقَ الْمَالَ عَلَى رَسُولِ اللَّه فِي سَبِيلِ اللَّه، قَالَ عُمَرُ: «كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَلَيْهِ عَبَاءَةٌ قَدْ خَلَّلَهَا فِي صَدْرِهِ بِخِلَالٍ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصلاة والسلام، فقال: مالي أَرَى أَبَا بَكْرٍ عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ خَلَلَّهَا فِي صَدْرِهِ؟ فَقَالَ: أَنْفَقَ مَالَهُ عَلَيَّ قَبْلَ الْفَتْحِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنِ صَدَرَ عَنْهُ الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّه، وَالْقِتَالُ مَعَ أَعْدَاءِ اللَّه قَبْلَ الْفَتْحِ يَكُونُ أَعْظَمَ حَالًا مِمَّنْ صَدَرَ عَنْهُ هَذَانِ الْأَمْرَانِ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ صَاحِبَ الْإِنْفَاقِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ، وَصَاحِبُ الْقِتَالِ هُوَ عَلِيٌّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ صَاحِبَ الْإِنْفَاقِ فِي الذِّكْرِ عَلَى صَاحِبِ الْقِتَالِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ، وَلِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنْ بَابِ الرَّحْمَةِ، وَالْقِتَالَ مِنْ بَابِ الْغَضَبِ، وَقَالَ تَعَالَى: «سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي» فَكَانَ السَّبْقُ لِصَاحِبِ الْإِنْفَاقِ، فَإِنْ قِيلَ: بَلْ صَاحِبُ الْإِنْفَاقِ هُوَ عَلِيٌّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ [الْإِنْسَانِ: 8] قُلْنَا: إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ أَنْفَقَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا أَنْفَقَ فِي الْوَقَائِعِ الْعَظِيمَةِ أَمْوَالًا عَظِيمَةً، وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَاتَلَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ عَلِيًّا فِي أَوَّلِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ كَانَ صَبِيًّا صَغِيرًا، وَلَمْ يَكُنْ صاحب القتال وأما أبا بَكْرٍ فَإِنَّهُ كَانَ شَيْخًا مُقَدَّمًا، وَكَانَ يَذُبُّ عَنِ الْإِسْلَامِ حَتَّى ضُرِبَ بِسَبَبِهِ ضَرْبًا أَشْرَفَ بِهِ عَلَى الْمَوْتِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: جَعَلَ عُلَمَاءُ التَّوْحِيدِ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةً عَلَى فَضْلِ مَنْ سَبَقَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنْفَقَ وَجَاهَدَ مَعَ

الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَبَيَّنُوا الْوَجْهَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ عِظَمُ مَوْقِعِ نُصْرَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالنَّفْسِ، وَإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَفِي عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ قِلَّةٌ، وَفِي الْكَافِرِينَ شَوْكَةٌ وَكَثْرَةُ عَدَدٍ، فَكَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى النُّصْرَةِ وَالْمُعَاوَنَةِ أَشَدَّ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْفَتْحِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ صَارَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَوِيًّا، وَالْكُفْرَ ضَعِيفًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [التَّوْبَةِ: 100] وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَيْ وَكُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ وَعَدَ اللَّه بالحسنى أَيِ الْمَثُوبَةَ الْحُسْنَى، وَهِيَ الْجَنَّةُ مَعَ تَفَاوُتِ الدَّرَجَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ وَكُلًّا بِالنَّصْبِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ: زَيْدًا وَعَدْتُ خَيْرًا، فَهُوَ مَفْعُولُ وَعَدَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: (وَكُلٌّ) بِالرَّفْعِ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا تَأَخَّرَ عَنْ مَفْعُولِهِ لَمْ يَقَعْ عَمَلُهُ فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ قَالُوا: زَيْدٌ ضَرَبْتُ، وَكَقَوْلِهِ فِي الشِّعْرِ: قَدْ أَصْبَحَتْ أَمُّ الْخِيَارِ تَدَّعِي ... عَلَيَّ ذَنْبًا كُلَّهُ لَمْ أَصْنَعِ رُوِيَ (كُلُّهُ) بِالرَّفْعِ لِتَأَخُّرِ الْفِعْلِ عَنْهُ لِمُوجِبٍ آخَرَ، وَاعْلَمْ أَنَّ لِلشَّيْخِ عَبْدِ الْقَاهِرِ فِي هَذَا الْبَابِ كَلَامًا حَسَنًا، قَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى فِي هَذَا الْبَيْتِ يَتَفَاوَتُ بِسَبَبِ النَّصْبِ وَالرَّفْعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّصْبَ يُفِيدُ أَنَّهُ مَا فَعَلَ كُلَّ الذُّنُوبِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ فَاعِلًا لِبَعْضِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ: مَا فَعَلْتُ كُلَّ الذُّنُوبِ، أَفَادَ أَنَّهُ مَا فَعَلَ الْكُلَّ، وَيَبْقَى احْتِمَالُ أَنَّهُ فَعَلَ الْبَعْضَ، بَلْ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّ دَلِيلَ الْخِطَابِ حُجَّةٌ يَكُونُ ذَلِكَ اعْتِرَافًا بِأَنَّهُ فَعَلَ بَعْضَ الذُّنُوبِ. أَمَّا رِوَايَةُ الرَّفْعِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: كُلُّهُ لَمْ أصنع، فمعناه أن كل واحد وَاحِدٍ مِنَ الذُّنُوبِ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَصْنُوعٍ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَا أَتَى بِشَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ الْبَتَّةَ، وَغَرَضُ الشَّاعِرِ أَنْ يَدَّعِيَ الْبَرَاءَةَ عَنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمَعْنَى يَتَفَاوَتُ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، وَمِمَّا يَتَفَاوَتُ فِيهِ الْمَعْنَى بِسَبَبِ تَفَاوُتِ الْإِعْرَابِ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَرِ: 49] فَمَنْ قَرَأَ (كُلَّ) شَيْءٍ بِالنَّصْبِ، أَفَادَ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْكُلَّ بِقَدَرٍ، وَمَنْ قَرَأَ (كَلُّ) بِالرَّفْعِ لَمْ يُفِدْ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْكُلَّ، بَلْ يُفِيدُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَخْلُوقًا لَهُ فَهُوَ إِنَّمَا خَلَقَهُ بِقَدَرٍ، وَقَدْ يَكُونُ تَفَاوُتُ الْإِعْرَابِ فِي هَذَا الْبَابِ بِحَيْثُ لَا يُوجِبُ تَفَاوُتَ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ [يس: 39] فَإِنَّكَ سَوَاءٌ قَرَأْتَ وَالْقَمَرَ بِالرَّفْعِ أَوْ بِالنَّصْبِ فَإِنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ فَكَذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ سَوَاءٌ قَرَأْتَ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أَوْ قَرَأْتَ وَكُلٌّ وَعَدَ اللَّه الْحُسْنَى فَإِنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ غَيْرُ مُتَفَاوِتٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَكُلًّا وَعَدَهُ اللَّهُ الْحُسْنَى إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الضَّمِيرَ لِظُهُورِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الْفُرْقَانِ: 41] وَكَذَا قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [الْبَقَرَةِ: 48] ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ السَّابِقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ بِالثَّوَابِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْجُزْئِيَّاتِ، وَبِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، حَتَّى يُمْكِنَهُ إِيصَالُ الثَّوَابِ إِلَى المستحقين، إذا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِمْ وَبِأَفْعَالِهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، لَمَا أَمْكَنَ الْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَعْدِ بِالتَّمَامِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَتْبَعَ ذَلِكَ الْوَعْدَ بقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.

[سورة الحديد (57) : آية 11]

[سورة الحديد (57) : آية 11] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ قَالَ عِنْدَ نزول هذه الآية ما استقرض إليه مُحَمَّدٍ حَتَّى افْتَقَرَ، فَلَطَمَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَشَكَا الْيَهُودِيُّ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: مَا أَرَدْتَ بِذَلِكَ؟ فَقَالَ: مَا مَلَكْتُ نَفْسِي أَنْ لَطَمْتُهُ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً [آلِ عِمْرَانَ: 186] قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: الْيَهُودِيُّ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، لَا لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِلَهَ يَفْتَقِرُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي قولهم: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آلِ عِمْرَانَ: 181] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ بِهَذِهِ الْآيَةِ تَرْغِيبَ النَّاسِ فِي أَنْ يُنْفِقُوا أَمْوَالَهُمْ فِي نُصْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَقِتَالِ الْكَافِرِينَ وَمُوَاسَاةِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَمَّى ذَلِكَ الْإِنْفَاقَ قَرْضًا مِنْ حَيْثُ وَعَدَ بِهِ الْجَنَّةَ تَشْبِيهًا بِالْقَرْضِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذَا الْإِنْفَاقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ الْإِنْفَاقَاتُ الْوَاجِبَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هُوَ فِي التَّطَوُّعَاتِ، وَالْأَقْرَبُ دُخُولُ الْكُلِّ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرُوا فِي كَوْنِ الْقَرْضِ حَسَنًا وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي طَيِّبَةٌ بِهَا نَفْسُهُ وَثَانِيهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي يَتَصَدَّقُ بِهَا لِوَجْهِ اللَّه وَثَالِثُهَا: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْقَرْضُ لَا يَكُونُ حَسَنًا حَتَّى يَجْمَعَ أَوْصَافًا عَشَرَةً الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَلَالِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّه طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الطَّيِّبَ» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَقْبَلُ اللَّه صَلَاةَ بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ» وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَكْرَمِ مَا يَمْلِكُهُ دُونَ أَنْ يُنْفِقَ الرَّدِيءَ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ [الْبَقَرَةِ: 267] ، الثَّالِثُ: أَنْ تَتَصَدَّقَ بِهِ وَأَنْتَ تُحِبُّهُ وَتَحْتَاجُ إِلَيْهِ بِأَنْ تَرْجُوَ الْحَيَاةَ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة: 177] . وبقول: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ [الْإِنْسَانِ: 8] عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الصَّدَقَةُ أَنْ تُعْطِيَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَأْمُلُ الْعَيْشَ، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغْتَ التَّرَاقِيَ قَلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا» وَالرَّابِعُ: أَنْ تَصْرِفَ صَدَقَتَكَ إِلَى الْأَحْوَجِ الْأَوْلَى بِأَخْذِهَا، وَلِذَلِكَ خَصَّ اللَّه تَعَالَى أَقْوَامًا بِأَخْذِهَا وَهُمْ أَهْلُ السُّهْمَانِ الْخَامِسُ: أَنْ تَكْتُمَ الصَّدَقَةَ مَا أَمْكَنَكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 271] ، السَّادِسُ: أَنْ لَا تُتْبِعَهَا مَنًّا وَلَا أَذًى، قَالَ تَعَالَى: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَةِ: 264] ، السَّابِعُ: أَنْ تَقْصِدَ بِهَا وَجْهَ اللَّه وَلَا تُرَائِيَ، كَمَا قَالَ: إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى [الليل: 20، 21] وَلِأَنَّ الْمُرَائِيَ مَذْمُومٌ بِالِاتِّفَاقِ الثَّامِنُ: أَنْ تَسْتَحْقِرَ مَا تُعْطِي وَإِنْ كَثُرَ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ مِنَ الدُّنْيَا، وَالدُّنْيَا كُلُّهَا قَلِيلَةٌ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [الْمُدَّثِّرِ: 6] فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَبِّ أَمْوَالِكَ إِلَيْكَ، قَالَ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آلِ عِمْرَانَ: 92] الْعَاشِرُ: أَنْ لَا تَرَى عِزَّ نَفْسِكَ وَذُلَّ الْفَقِيرِ، بَلْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فِي نَظَرِكَ، فَتَرَى الْفَقِيرَ كَأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَحَالَ عَلَيْكَ رِزْقَهُ الَّذِي قَبِلَهُ بِقَوْلِهِ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هُودَ: 6] وَتَرَى نَفْسَكَ تَحْتَ دَيْنِ الْفَقِيرِ، فَهَذِهِ أَوْصَافٌ عَشَرَةٌ إِذَا اجْتَمَعَتْ كَانَتِ الصَّدَقَةُ قَرْضًا حَسَنًا، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُفَسَّرَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

[سورة الحديد (57) : آية 12]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى ضَمِنَ عَلَى هَذَا الْقَرْضِ الْحَسَنِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْمُضَاعَفَةُ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ مَعَ الْمُضَاعَفَةِ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَضُمُّ إِلَى قَدْرِ الثَّوَابِ مِثْلَهُ مِنَ التَّفْضِيلِ وَالْأَجْرُ الْكَرِيمُ/ عِبَارَةٌ عَنِ الثَّوَابِ، فَإِنْ قِيلَ: مَذْهَبُكُمْ أَنَّ الثَّوَابَ أَيْضًا تَفَضُّلٌ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلِ الِامْتِيَازُ لَمْ يَتِمَّ هَذَا التَّفْسِيرُ الْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَنَّ كُلَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ الْفُلَانِيُّ، فَلَهُ قَدْرُ كَذَا مِنَ الثَّوَابِ، فَذَاكَ الْقَدْرُ هُوَ الثَّوَابُ، فَإِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ مِثْلُهُ فَذَلِكَ الْمِثْلُ هُوَ الضِّعْفُ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: هُوَ قَوْلُ الْجُبَّائِيِّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْأَعْوَاضَ تُضَمُّ إِلَى الثَّوَابِ فَذَلِكَ هُوَ الْمُضَاعَفَةُ، وَإِنَّمَا وَصَفَ الْأَجْرَ بِكَوْنِهِ كَرِيمًا لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَلَبَ ذَلِكَ الضِّعْفَ، وَبِسَبَبِهِ حَصَلَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ، فَكَانَ كَرِيمًا، مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ: (فَيُضَعِّفَهُ) مُشَدَّدَةً بِغَيْرِ أَلِفٍ، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ كَثِيرٍ قَرَأَ بِضَمِّ الْفَاءِ وَابْنَ عَامِرٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ (فَيُضَاعِفَهُ) بِالْأَلِفِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عمر وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: فَيُضَاعِفُهُ بِالْأَلِفِ وَضَمِّ الْفَاءِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: يُضَاعَفُ وَيُضَعَّفُ بِمَعْنًى إِنَّمَا الشَّأْنُ فِي تَعْلِيلِ قِرَاءَةِ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، أَمَّا الرفع فوجه ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى يُقْرِضُ، أَوْ عَلَى الِانْقِطَاعِ مِنَ الْأَوَّلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَهُوَ يُضَاعَفُ، وأما قراء النَّصْبِ فَوَجْهُهَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَيُقْرِضُ اللَّه أَحَدٌ قَرْضًا حَسَنًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَيُضاعِفَهُ جَوَابًا عَنِ الاستفهام فحينئذ ينصب. [سورة الحديد (57) : آية 12] يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَوْمَ تَرَى ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد: 11] أو منصوب بأذكر تَعْظِيمًا لِذَلِكَ الْيَوْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ هُوَ يَوْمُ الْمُحَاسَبَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا النُّورِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ نَفْسُ النُّورِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أن كُلَّ مُثَابٍ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ النُّورُ عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِ وَثَوَابِهِ فِي الْعِظَمِ وَالصِّغَرِ» فَعَلَى هَذَا مَرَاتِبُ الْأَنْوَارِ مُخْتَلِفَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يُضِيءُ لَهُ نُورٌ كَمَا بَيْنَ عَدَنَ إِلَى صَنْعَاءَ، وَمِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ الْجَبَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُضِيءُ لَهُ نُورٌ إِلَّا مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ، وَأَدْنَاهُمْ نُورًا مَنْ يَكُونُ نُورُهُ عَلَى إِبْهَامِهِ يَنْطَفِئُ مَرَّةً وَيَتَّقِدُ أُخْرَى، وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَيُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا فُلَانُ هَا نُورُكَ، وَيَا فُلَانُ لَا نُورَ لَكَ، نُعُوذُ باللَّه مِنْهُ، وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا فِي سُورَةِ النُّورِ، أَنَّ النُّورَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَأَنَّ نُورَ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ نُورُ الْبَصِيرَةِ أَوْلَى بِكَوْنِهِ نُورًا مِنْ نُورِ الْبَصَرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّه هِيَ النُّورُ فِي الْقِيَامَةِ فَمَقَادِيرُ الْأَنْوَارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى حَسَبِ مَقَادِيرِ الْمَعَارِفِ فِي الدُّنْيَا الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النُّورِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلنَّجَاةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ لِأَنَّ السُّعَدَاءَ يُؤْتَوْنَ صَحَائِفَ أَعْمَالِهِمْ مِنْ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ، كَمَا أَنَّ الْأَشْقِيَاءَ يُؤْتَوْنَهَا مِنْ شَمَائِلِهِمْ، وَوَرَاءِ ظُهُورِهِمْ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ بِهَذَا النُّورِ الْهِدَايَةُ إِلَى الْجَنَّةِ، كَمَا يُقَالُ/ لَيْسَ لِهَذَا الْأَمْرِ نُورٌ، إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا، وَيُقَالُ: هَذَا

[سورة الحديد (57) : آية 13]

الْأَمْرُ لَهُ نُورٌ وَرَوْنَقٌ، إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ سَهْلُ بْنُ شُعَيْبٍ وَبِأَيْمانِهِمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَالْمَعْنَى يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِإِيمَانِهِمْ حَصَلَ ذَلِكَ السَّعْيُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ [الْحَجِّ: 10] أَيْ ذلك كائن بذلك. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: حَقِيقَةُ الْبِشَارَةِ ذَكَرْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَةِ: 25] ثُمَّ قَالُوا: تَقْدِيرُ الْآيَةِ وَتَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ، كَمَا قَالَ: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرَّعْدِ: 23، 24] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَنَالُهُمْ أَهْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ صِفَتُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْكَعْبِيُّ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ فَقَالَ: لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا لَدَخَلَ تَحْتَ هَذِهِ الْبِشَارَةِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَطَعَ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْفَاسِقَ قَاطِعٌ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ أَوْ إِنْ دَخَلَهَا لَكِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْهَا وَسَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَيَبْقَى فِيهَا أَبَدَ الْآبَادِ، فهو إذن قَاطِعٌ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَسَقَطَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ذلِكَ عَائِدٌ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ النُّورُ وَالْبُشْرَى بِالْجَنَّاتِ الْمُخَلَّدَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قُرِئَ: ذَلِكَ الْفَوْزُ، بِإِسْقَاطِ كَلِمَةِ: هُوَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بشرح حال المنافقين. فقال: [سورة الحديد (57) : آية 13] يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) قوله: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَوْمَ يَقُولُ، بدل من يَوْمَ تَرَى [الحديد: 12] ، أو هو أيضا منصوب با ذكر تَقْدِيرًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ (أَنْظِرُونَا) مَكْسُورَةَ الظَّاءِ، وَالْبَاقُونَ (انْظُرُوا) ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ/ الْفَارِسِيُّ لَفْظُ النَّظَرِ يُسْتَعْمَلُ عَلَى ضُرُوبٍ أَحَدُهَا: أَنْ تُرِيدَ بِهِ نَظَرْتُ إِلَى الشَّيْءِ، فَيُحْذَفُ الْجَارُّ وَيُوصَلُ الْفِعْلُ، كَمَا أَنْشَدَ أَبُو الْحَسَنِ: ظَاهِرَاتُ الْجَمَالِ وَالْحُسْنِ يَنْظُرْنَ ... كَمَا يَنْظُرُ الْأَرَاكَ الظِّبَاءُ وَالْمَعْنَى يَنْظُرْنَ إِلَى الْأَرَاكِ وَثَانِيهَا: أَنْ تُرِيدَ بِهِ تَأَمَّلْتُ وَتَدَبَّرْتُ، وَمِنْهُ قَوْلُكَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ زَيْدًا أَيُؤْمِنُ، فَهَذَا يُرَادُ بِهِ التَّأَمُّلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ [الْإِسْرَاءِ: 48] ، انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ

عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النِّسَاءِ: 50] ، انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْإِسْرَاءِ: 21] قَالَ: وَقَدْ يَتَعَدَّى هَذَا بِإِلَى كَقَوْلِهِ: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الْغَاشِيَةِ: 17] وَهَذَا نَصٌّ عَلَى التَّأَمُّلِ، وبين وجه الحكمة فيه، وقد يتعدى بقي، كَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَعْرَافِ: 185] ، أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ [الروم: 8] وَثَالِثُهَا: أَنْ يُرَادَ بِالنَّظَرِ الرُّؤْيَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا بَدَا حَوْرَانُ وَالْآلُ دُونَهُ ... نَظَرْتَ فَلَمْ تَنْظُرْ بِعَيْنِكَ مَنْظَرًا وَالْمَعْنَى نَظَرْتَ، فَلَمْ تَرَ بِعَيْنِكَ مَنْظَرًا تَعْرِفُهُ فِي الْآلِ قَالَ: إِلَّا أَنَّ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، لِأَنَّهُ دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ عِبَارَةٌ عَنْ تَقَلُّبِ الْحَدَقَةِ نَحْوَ الْمَرْئِيِّ الْتِمَاسًا لِرُؤْيَتِهِ، فَلَمَّا كَانَتِ الرُّؤْيَةُ مِنْ تَوَابِعِ النَّظَرِ وَلَوَازِمِهِ غَالِبًا أَجْرَى عَلَى الرُّؤْيَةِ لَفْظَ النَّظَرِ عَلَى سَبِيلِ إِطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: نَظَرْتَ فَلَمْ تَنْظُرْ، كَمَا يُقَالُ: تَكَلَّمْتَ وَمَا تَكَلَّمْتَ، أَيْ مَا تَكَلَّمْتَ بِكَلَامٍ مُفِيدٍ، فَكَذَا هُنَا نَظَرْتَ وَمَا نَظَرْتَ نَظَرًا مُفِيدًا وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الْأَحْزَابِ: 53] أَيْ غَيْرَ مُنْتَظِرِينَ إِدْرَاكَهُ وَبُلُوغَهُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ نَظَرْتُ مَعْنَاهُ انْتَظَرْتُ، وَمَجِيءُ فَعَلْتَ وَافْتَعَلْتَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَثِيرٌ، كَقَوْلِهِمْ: شَوَيْتُ وَاشْتَوَيْتُ، وَحَقَرْتُ وَاحْتَقَرْتُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: انْظُرُونا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: انْظُرُونَا، أَيِ انْتَظِرُونَا، لِأَنَّهُ يُسْرَعُ بِالْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجَنَّةِ كَالْبُرُوقِ الْخَاطِفَةِ، وَالْمُنَافِقُونَ مُشَاةٌ وَالثَّانِي: انْظُرُونَا أَيِ انْظُرُوا إِلَيْنَا، لِأَنَّهُمْ إِذَا نَظَرُوا إِلَيْهِمُ اسْتَقْبَلُوهُمْ بِوُجُوهِهِمْ، وَالنُّورُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَيَسْتَضِيئُونَ بِهِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ (أَنْظِرُونَا) مَكْسُورَةَ الظَّاءِ فَهِيَ مِنَ النَّظِرَةِ وَالْإِمْهَالِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر: 36] وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنْظَارِ الْمُعْسِرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَ اتِّئَادَهُمْ فِي الْمَشْيِ إِلَى أَنْ يَلْحَقُوا بِهِمْ إِنْظَارًا لَهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشَ كَانَا يَطْعَنَانِ في حصة هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَقَدْ ظَهَرَ الْآنَ وَجْهُ صِحَّتِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الِاحْتِمَالَاتِ فِي هَذَا الْبَابِ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي الظُّلُمَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُعْطِي الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْأَنْوَارَ، وَالْمُنَافِقُونَ يَطْلُبُونَهَا مِنْهُمْ وَثَانِيهَا: أَنْ تَكُونَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي الْأَنْوَارِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَكُونُونَ فِي الْجَنَّاتِ فَيَمُرُّونَ سَرِيعًا، وَالْمُنَافِقُونَ يَبْقَوْنَ وَرَاءَهُمْ فَيَطْلُبُونَ مِنْهُمُ الِانْتِظَارَ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ فِي النُّورِ وَالْمُنَافِقُونَ فِي الظُّلُمَاتِ، ثُمَّ الْمُنَافِقُونَ يَطْلُبُونَ النُّورَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ قَوْمٌ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ إِنَّمَا تَقَعُ/ عِنْدَ الْمَوْقِفِ، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: انْظُرُونا انْظُرُوا إِلَيْنَا، لِأَنَّهُمْ إِذَا نَظَرُوا إِلَيْهِمْ، فَقَدْ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ، وَمَتَى أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ وَكَانَتْ أَنْوَارُهُمْ مِنْ قُدَّامِهِمُ اسْتَضَاءُوا بِتِلْكَ الْأَنْوَارِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ إِنَّمَا تَقَعُ عِنْدَ مَسِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجَنَّةِ، كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: انْظُرُونا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الِانْتِظَارَ وَأَنْ يَكُونَ النَّظَرَ إِلَيْهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْقَبَسُ: الشُّعْلَةُ مِنَ النَّارِ أَوِ السِّرَاجِ، وَالْمُنَافِقُونَ طَمِعُوا فِي شَيْءٍ مِنْ أَنْوَارِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقْتَبِسُوهُ كَاقْتِبَاسِ نِيرَانِ الدُّنْيَا وَهُوَ مِنْهُمْ جَهْلٌ، لِأَنَّ تِلْكَ الْأَنْوَارَ نَتَائِجُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الدُّنْيَا، فَلَمَّا لَمْ تُوجَدْ تِلْكَ الْأَعْمَالُ فِي الدُّنْيَا امْتَنَعَ حُصُولُ تِلْكَ الْأَنْوَارِ فِي الْآخِرَةِ، قَالَ الْحَسَنُ: يُعْطَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ كُلُّ أَحَدٍ نُورًا عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ وَمِمَّا فِيهِ مِنَ الْكَلَالِيبِ وَالْحَسَكِ وَيُلْقَى عَلَى الطَّرِيقِ، فَتَمْضِي زُمْرَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ تَمْضِي زُمْرَةٌ أُخْرَى كَأَضْوَاءِ الْكَوَاكِبِ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ عَلَى ذَلِكَ تَغْشَاهُمْ

[سورة الحديد (57) : آية 14]

ظُلْمَةٌ فَتُطْفِئُ نُورَ الْمُنَافِقِينَ، فَهُنَالِكَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ كَقَبَسِ النَّارِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ذَكَرُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ: ارْجِعُوا إِلَى دَارِ الدُّنْيَا فَالْتَمِسُوا هَذِهِ الْأَنْوَارَ هُنَالِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَنْوَارَ إِنَّمَا تَتَوَلَّدُ مِنَ اكْتِسَابِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالتَّنَزُّهِ عَنِ الْجَهْلِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ ضَرْبِ السُّورِ، هُوَ امْتِنَاعُ الْعَوْدِ إِلَى الدُّنْيَا وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: النَّاسُ يَكُونُونَ فِي ظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ، ثُمَّ الْمُؤْمِنُونَ يُعْطَوْنَ الْأَنْوَارَ، فَإِذَا أَسْرَعَ الْمُؤْمِنُ فِي الذَّهَابِ قَالَ الْمُنَافِقُ: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ فَيُقَالُ لَهُمُ: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً قَالَ: وَهِيَ خُدْعَةٌ خُدِعَ بِهَا الْمُنَافِقُونَ، كَمَا قَالَ: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ [النِّسَاءِ: 142] فَيَرْجِعُونَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي قُسِّمَ فِيهِ النُّورُ فَلَا يَجِدُونَ شَيْئًا، فَيَنْصَرِفُونَ إِلَيْهِمْ فَيَجِدُونَ السُّورَ مَضْرُوبًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ: ارْجِعُوا مَنْعُ الْمُنَافِقِينَ عَنِ الِاسْتِضَاءَةِ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِمَنْ يُرِيدُ الْقُرْبَ مِنْهُ: وَرَاءَكَ أُوَسِّعُ لَكَ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: ارْجِعُوا أَنْ يَقْطَعُوا بِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى وِجْدَانِ هَذَا الْمَطْلُوبِ الْبَتَّةَ، لَا أَنَّهُ أمر لهم بالرجوع. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي السُّورِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْحِجَابُ وَالْحَيْلُولَةُ أَيِ/ الْمُنَافِقُونَ مُنِعُوا عَنْ طَلَبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ حَائِطٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ حِجَابُ الْأَعْرَافِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِسُورٍ صِلَةٌ وَهُوَ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّقْدِيرُ: ضُرِبَ بَيْنَهُمْ سُورٌ كَذَا، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، ثُمَّ قَالَ: لَهُ بابٌ أَيْ لِذَلِكَ السُّورِ بَابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ أَيْ فِي بَاطِنِ ذَلِكَ السُّورِ الرَّحْمَةُ، وَالْمُرَادُ من الرحمة الجنة التي فيها المؤمنين وَظاهِرُهُ يَعْنِي وَخَارِجَ السُّورِ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ أَيْ مِنْ قِبَلِهِ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا يَلِي الْمُؤْمِنِينَ فَفِيهِ الرَّحْمَةُ، وَمَا يَلِي الْكَافِرِينَ يَأْتِيهِمْ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَائِطٌ وَهُوَ السُّورُ، وَلِذَلِكَ السُّورِ بَابٌ، فَالْمُؤْمِنُونَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مِنْ بَابِ ذَلِكَ السُّورِ، وَالْكَافِرُونَ يَبْقَوْنَ فِي الْعَذَابِ وَالنَّارِ. ثم قال تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 14] يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) [في قوله تعالى يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ إلى قوله حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ] وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالثَّانِي: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمَسَاجِدِ وَالصَّلَوَاتِ وَالْغَزَوَاتِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْبُعْدُ بَيْنَ الْجَنَّةِ والنار كثير، لأن الجنة في أعلى السموات، وَالنَّارُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبُعْدَ الشَّدِيدَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِدْرَاكِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّه عَظَّمَ صَوْتَ الْكُفَّارِ بِحَيْثُ يَبْلُغُ مِنْ أَسْفَلِ السَّافِلِينَ إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الصَّوْتِ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْأَشِدَّاءِ الْأَقْوِيَاءِ جِدًّا، وَالْكُفَّارُ مَوْصُوفُونَ بِالضَّعْفِ وَخَفَاءِ الصَّوْتِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْبُعْدَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِدْرَاكِ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُنَا، ثُمَّ حَكَى تَعَالَى: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ

[سورة الحديد (57) : آية 15]

قَالُوا بَلَى كُنْتُمْ مَعَنَا إِلَّا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ أَشْيَاءَ بِسَبَبِهَا وَقَعْتُمْ فِي هَذَا الْعَذَابِ أَوَّلُهَا: وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أَيْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَكُلُّهَا فِتْنَةٌ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَتَرَبَّصْتُمْ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَرَبَّصْتُمْ بِالتَّوْبَةِ وَثَانِيهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: وَتَرَبَّصْتُمْ بِمُحَمَّدٍ الْمَوْتَ، قُلْتُمْ يُوشِكُ أَنْ يَمُوتَ فَنَسْتَرِيحَ مِنْهُ وَثَالِثُهَا: كُنْتُمْ تَتَرَبَّصُونَ دَائِرَةَ السَّوْءِ لِتَلْتَحِقُوا بِالْكُفَّارِ، وَتَتَخَلَّصُوا مِنَ النِّفَاقِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَارْتَبْتُمْ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: شَكَكْتُمْ فِي وَعِيدِ اللَّه وَثَانِيهَا: شَكَكْتُمْ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ وَثَالِثُهَا: شَكَكْتُمْ فِي الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْبَاطِلَ وَهُوَ مَا كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ مِنْ نُزُولِ الدَّوَائِرِ بِالْمُؤْمِنِينَ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ يَعْنِي الْمَوْتَ، وَالْمَعْنَى/ مَا زَالُوا فِي خُدَعِ الشَّيْطَانِ وَغُرُورِهِ حتى أماتهم اللَّه وألقاهم في النار. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ: الْغَرُورُ بِضَمِّ الْغَيْنِ، وَالْمَعْنَى وَغَرَّكُمْ باللَّه الِاغْتِرَارُ وَتَقْدِيرُهُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ غَرَّكُمْ باللَّه سَلَامَتُكُمْ مِنْهُ مَعَ الِاغْتِرَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْغَرُورُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ هُوَ الشَّيْطَانُ لِإِلْقَائِهِ إِلَيْكُمْ أَنْ لَا خوف عليكم من محاسبة ومجازاة. [سورة الحديد (57) : آية 15] فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْفِدْيَةُ مَا يُفْتَدَى بِهِ وَهُوَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ إِيمَانٌ وَلَا تَوْبَةٌ فَقَدْ زَالَ التَّكْلِيفُ وَحَصَلَ الْإِلْجَاءُ. الثَّانِي: بَلِ الْمُرَادُ لَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ تَدْفَعُونَ بِهَا الْعَذَابَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ [الْبَقَرَةِ: 123] ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْفِدْيَةَ مَا يُفْتَدَى بِهِ فَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْإِيمَانَ وَالتَّوْبَةَ وَالْمَالَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَقْلًا عَلَى مَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْفِدْيَةَ أَصْلًا وَالتَّوْبَةُ فِدْيَةٌ، فَتَكُونُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ أَصْلًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنِ التَّوْبَةُ وَاجِبَةَ الْقَبُولِ عَقْلًا أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَفِيهِ بَحْثٌ: وَهُوَ عَطْفُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُنَافِقِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الْمُنَافِقُ كَافِرًا لِوُجُوبِ حُصُولِ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ وَإِلَّا فَالْمُنَافِقُ كَافِرٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وفي لفظ المولى هاهنا أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَوْلاكُمْ أَيْ مَصِيرُكُمْ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمَوْلَى مَوْضِعُ الْوَلْيِ، وَهُوَ الْقُرْبُ، فَالْمَعْنَى أَنَّ النَّارَ هِيَ مَوْضِعُكُمُ الَّذِي تَقْرُبُونَ مِنْهُ وَتَصِلُونَ إِلَيْهِ، وَالثَّانِي: قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي أَوْلَى بِكُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَالْفِرَّاءِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالُوهُ معنى وليس بتفسير للفظ، لأن لَوْ كَانَ مَوْلًى وَأَوْلَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي اللُّغَةِ، لَصَحَّ اسْتِعْمَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَكَانِ الْآخَرِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ: هَذَا مَوْلَى مِنْ فُلَانٍ كَمَا يُقَالُ: هَذَا أَوْلَى مِنْ فُلَانٍ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: هَذَا أَوْلَى فُلَانٍ كَمَا يُقَالُ: هَذَا مَوْلَى فُلَانٍ، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الَّذِي قَالُوهُ مَعْنًى وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ، وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ لِأَنَّ الشَّرِيفَ الْمُرْتَضَى لَمَّا تَمَسَّكَ بِإِمَامَةِ عَلِيٍّ، بِقَوْلِهِ/ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» قَالَ: أَحَدُ مَعَانِي مَوْلَى أَنَّهُ أَوْلَى، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِأَقْوَالِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، بِأَنَّ مَوْلَى مَعْنَاهُ أَوْلَى، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لَهُ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَا عَدَاهُ إِمَّا بَيْنَ الثُّبُوتِ، كَكَوْنِهِ ابْنَ الْعَمِّ وَالنَّاصِرَ، أَوْ بَيْنَ الِانْتِفَاءِ،

[سورة الحديد (57) : آية 16]

كَالْمُعْتِقِ وَالْمُعْتَقِ، فَيَكُونُ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ عَبَثًا، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي كَذِبًا، وَأَمَّا نَحْنُ فَقَدَ بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنًى لَا تَفْسِيرٌ، وَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: هِيَ مَوْلاكُمْ أَيْ لَا مَوْلَى لَكُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ كَانَتِ النَّارُ مَوْلَاهُ فَلَا مَوْلَى لَهُ، كَمَا يُقَالُ: نَاصِرُهُ الْخِذْلَانُ وَمُعِينُهُ الْبُكَاءُ، أَيْ لَا نَاصِرَ لَهُ وَلَا مُعِينَ، وَهَذَا الْوَجْهُ مُتَأَكِّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّدٍ: 11] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ [الكهف: 29] . ثم قال تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 16] أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) [في قوله تَعَالَى أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ] وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْحَسَنُ: (أَلَمَّا يَأْنِ) ، قَالَ ابْنُ جِنِّي: أَصْلُ لَمَّا لَمْ، ثم زيد عليها ما فلم نَفْيٌ لِقَوْلِهِ أَفْعَلُ، وَلَمَّا نَفْيٌ لِقَوْلِهِ قَدْ يَفْعَلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا زِيدَ فِي الْإِثْبَاتِ قَدْ لَا جَرَمَ زِيدَ فِي نَفْيِهِ مَا، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا رَكَّبُوا لَمْ مَعَ مَا حَدَثَ لَهَا مَعْنًى وَلَفْظٌ، أَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّهَا صَارَتْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ظَرْفًا، فَقَالُوا: لَمَّا قُمْتَ قَامَ زَيْدٌ، أَيْ وَقْتَ قِيَامِكَ قَامَ زَيْدٌ، وَأَمَّا اللَّفْظُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَقِفَ عَلَيْهَا دُونَ مَجْزُومِهَا، فَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: جِئْتُ ولما، أي ولما يجيء، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: جِئْتُ وَلَمْ. وَأَمَّا الذين قرءوا: أَلَمْ يَأْنِ فَالْمَشْهُورُ أَلَمْ يَأْنِ مِنْ أَنَى الأمر يأني إذا جاء إناء أتاه أَيْ وَقْتُهُ. وَقُرِئَ: (أَلَمْ يَئِنْ) ، مِنْ أَنَّ يَئِينُ بِمَعْنَى أَنَى يَأْنِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَفِي قُلُوبِهِمُ النِّفَاقُ الْمُبَايِنُ لِلْخُشُوعِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ لَعَلَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا مَعَ خُشُوعِ الْقَلْبِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى ذَلِكَ إِلَّا لِمَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ مَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، / لَكِنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يَكُونُ لَهُ خُشُوعٌ وَخَشْيَةٌ، وَقَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَحْتَمِلُ الْآيَةُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: لَعَلَّ طَائِفَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ فِيهِمْ مَزِيدُ خُشُوعٍ وَلَا رِقَّةٍ، فَحُثُّوا عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَثَانِيهَا: لَعَلَّ قَوْمًا كَانَ فِيهِمْ خُشُوعٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ زَالَ مِنْهُمْ شِدَّةُ ذَلِكَ الْخُشُوعِ فَحُثُّوا عَلَى الْمُعَاوَدَةِ إِلَيْهَا، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: إِنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ أَصَابُوا لِينًا فِي الْعَيْشِ وَرَفَاهِيَةً، فَفَتَرُوا عَنْ بَعْضِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَعُوتِبُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قُرِئَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فَبَكَوْا بُكَاءً شَدِيدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: هَكَذَا كُنَّا حَتَّى قَسَتِ الْقُلُوبُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِذِكْرِ اللَّهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ، أَمَا حَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَرِقَّ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّه، أَيْ مَوَاعِظِ اللَّه الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْقُرْآنِ، وَعَلَى هَذَا الذِّكْرُ مُصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى الْفَاعِلِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الذِّكْرَ مُضَافٌ إِلَى المفعول، والمعنى لذكر هم اللَّه، أَيْ يَجِبُ أَنْ يُورِثَهُمُ الذِّكْرُ خُشُوعًا، وَلَا يَكُونُوا كَمَنْ ذِكْرُهُ بِالْغَفْلَةِ فَلَا يَخْشَعُ قَلْبُهُ لِلذِّكْرِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: (مَا) فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بِالْعَطْفِ عَلَى الذِّكْرِ وَهُوَ مَوْصُولٌ، وَالْعَائِدُ إِلَيْهِ مَحْذُوفٌ عَلَى تَقْدِيرِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ يَعْنِي الْقُرْآنَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ، وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ خَفِيفَةً، وَقَرَأَ

[سورة الحديد (57) : آية 17]

الْبَاقُونَ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَما نَزَلَ، مُشَدَّدَةً، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ مُرْتَفِعَةَ النُّونِ مَكْسُورَةَ الزَّايِ، وَالتَّقْدِيرُ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّه وَلِمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ، وَفِي الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ وَلِمَا نَزَّلَهُ اللَّه مِنَ الْحَقِّ، وَفِي الْقِرَاءَةِ الثَّالِثَةِ وَلِمَا نُزِّلَ مِنَ الْحَقِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحَقِّ هُوَ الْقُرْآنَ لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِلْوَصْفَيْنِ الذِّكْرِ وَالْمَوْعِظَةِ وَأَنَّهُ حَقٌّ نَازِلٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الذِّكْرِ هُوَ ذِكْرَ اللَّه مُطْلَقًا، وَالْمُرَادُ بِمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ هُوَ الْقُرْآنَ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْخُشُوعُ بِالذِّكْرِ عَلَى الْخُشُوعِ بِمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ الْخُشُوعَ وَالْخَوْفَ وَالْخَشْيَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ ذِكْرِ اللَّه، فَأَمَّا حُصُولُهَا عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ فَذَاكَ لِأَجْلِ اشْتِمَالِ الْقُرْآنِ عَلَى ذِكْرِ اللَّه، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَكُونُوا قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ مَعْنَاهُ: أَلَمْ يَأْنِ أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ، وَأَنْ لَا يَكُونُوا، قَالَ: وَلَوْ كَانَ جَزْمًا عَلَى النَّهْيِ كَانَ صَوَابًا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ، ثُمَّ قَالَ: كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ يُرِيدُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ طُولِ الْأَمَدِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: طَالَتِ الْمُدَّةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِمْ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَالُوا إِلَى الدُّنْيَا وَأَعْرَضُوا عَنْ مَوَاعِظِ اللَّه وَثَالِثُهَا: طَالَتْ أَعْمَارُهُمْ فِي الْغَفْلَةِ فَحَصَلَتِ الْقَسْوَةُ فِي قُلُوبِهِمْ بِذَلِكَ السَّبَبِ وَرَابِعُهَا: قَالَ: / ابن حبان: الأمد هاهنا الْأَمَلُ الْبَعِيدُ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ بِطُولِ الْأَمَلِ، أَيْ لَمَّا طَالَتْ آمَالُهُمْ لَا جَرَمَ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَخَامِسُهَا: قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: طَالَ عَلَيْهِمْ أَمَدُ خُرُوجِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَادِسُهَا: طَالَ عَهْدُهُمْ بِسَمَاعِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَزَالَ وَقْعُهُمَا عَنْ قُلُوبِهِمْ فَلَا جَرَمَ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ، قَالَهُ الْقُرَظِيُّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ (الْأَمَدُّ) بِالتَّشْدِيدِ، أَيِ الْوَقْتُ الْأَطْوَلُ، ثُمَّ قَالَ: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أَيْ خَارِجُونَ عَنْ دِينِهِمْ رَافِضُونَ لِمَا فِي الْكِتَابَيْنِ، وَكَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَدَمَ الْخُشُوعِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يفضي إلى الفسق في آخر الأمر. ثم قال تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 17] اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) وفيه ووجهان الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَمْثِيلٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقُلُوبَ الَّتِي مَاتَتْ بِسَبَبِ الْقَسَاوَةِ، فَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى الذِّكْرِ سَبَبٌ لِعَوْدِ حَيَاةِ الْخُشُوعِ إِلَيْهَا كَمَا يُحْيِي اللَّه الْأَرْضَ بِالْغَيْثِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها بَعَثَ الْأَمْوَاتَ فَذَكَرَ ذَلِكَ تَرْغِيبًا فِي الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ وَزَجْرًا عَنِ الْقَسَاوَةِ. ثم قال تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 18] إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ فِيهِمَا، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى يَكُونُ مَعْنَى الْمُصَدِّقِ الْمُؤْمِنَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات لِأَنَّ إِقْرَاضَ اللَّه مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، ثُمَّ قَالُوا: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ تَصَدَّقَ للَّه وَأَقْرَضَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْوَعْدِ، فَيَصِيرُ ظَاهِرُ الْآيَةِ مَتْرُوكًا عَلَى قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ، وَلَا يَصِيرُ

[سورة الحديد (57) : آية 19]

مَتْرُوكًا عَلَى قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُتَصَدِّقَ هُوَ الَّذِي يُقْرِضُ اللَّه، فَيَصِيرُ قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَقَوْلُهُ: وَأَقْرَضُوا اللَّهَ شَيْئًا وَاحِدًا وَهُوَ تَكْرَارٌ، أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ، وَحَجَّةُ مَنْ نَقَلَ وَجْهَانِ أحدهما: أن في قراءة أبي: إن المتصدقين وَالْمُتَصَدِّقَاتِ بِالتَّاءِ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَالِاعْتِرَاضُ بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ، فَهُوَ لِلصَّدَقَةِ أَشَدُّ مُلَازَمَةً/ مِنْهُ لِلتَّصْدِيقِ، وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ: بِأَنَّا لَا نَحْمِلُ قَوْلَهُ: وَأَقْرَضُوا عَلَى الِاعْتِرَاضِ، وَلَكِنَّا نَعْطِفُهُ عَلَى الْمَعْنَى، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ مَعْنَاهُ: إِنَّ الَّذِينَ صَدَّقُوا، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: إِنَّ الَّذِينَ صَدَّقُوا وَأَقْرَضُوا اللَّه. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ عَطْفَ الْفِعْلِ عَلَى الاسم قبيح فما الفائدة في التزامه هاهنا؟ قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ قَوْلُهُ: وَأَقْرَضُوا مَعْطُوفٌ عَلَى مَعْنَى الْفِعْلِ فِي الْمُصَّدِّقِينَ، لِأَنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى الَّذِينَ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى صَدَّقُوا، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الَّذِينَ صَدَّقُوا وَأَقْرَضُوا، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَا يُزِيلُ الْإِشْكَالَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ لِمَ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ إِلَى هَذَا اللَّفْظِ، وَالَّذِي عِنْدِي فِيهِ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ لِلْمَعْهُودِ، فَكَأَنَّهُ ذَكَرَ جَمَاعَةً مُعَيَّنِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ ثُمَّ قَبْلَ ذِكْرِ الْخَبَرِ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ أَتَوْا بِأَحْسَنِ أَنْوَاعِ الصَّدَقَةِ وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِالْقَرْضِ الْحَسَنِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْخَبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ: يُضاعَفُ لَهُمْ فَقَوْلُهُ: وَأَقْرَضُوا اللَّهَ هُوَ الْمُسَمَّى بِحَشْوِ اللَّوْزِنْجِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الثَّمَانِينَ وَبُلِّغْتَهَا ... [قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إِلَى تَرْجُمَانْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَنْ قَرَأَ: الْمُصَّدِّقِينَ بِالتَّشْدِيدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْوَاجِبُ أَوِ التَّطَوُّعُ أَوْ هُمَا جَمِيعًا، أَوِ الْمُرَادُ بِالتَّصَدُّقِ الْوَاجِبُ وَبِالْإِقْرَاضِ التَّطَوُّعُ لِأَنَّ تَسْمِيَتَهُ بِالْقَرْضِ كَالدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ فَكُلُّ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ مَذْكُورَةٌ، أَمَّا قَوْلُهُ: يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ فقد تقدم القول فيه. [سورة الحديد (57) : آية 19] وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَذَكَرَ الْآنَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَالَ الْكَافِرِينَ، ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الصديق نعت لمن كثر منه الصدق، وجمع صِدْقًا إِلَى صِدْقٍ فِي الْإِيمَانِ باللَّه تَعَالَى وَرُسُلِهِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ آمَنَ باللَّه وَرُسُلِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُلُّ مَنْ آمَنَ باللَّه وَرُسُلِهِ فَهُوَ صِدِّيقٌ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: هُمُ الصِّدِّيقُونَ أَيِ الْمُوَحِّدُونَ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ خَاصَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُقَاتِلِينَ: أَنَّ الصِّدِّيقِينَ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالرُّسُلِ حِينَ أَتَوْهُمْ وَلَمْ يُكَذِّبُوا سَاعَةً قَطُّ مِثْلَ آلِ يَاسِينَ، وَمِثْلَ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَأَمَّا فِي دِينِنَا فَهُمْ ثَمَانِيَةٌ سَبَقُوا أَهْلَ الْأَرْضِ إِلَى الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَحَمْزَةُ وَتَاسِعُهُمْ عُمَرُ أَلْحَقَهُ اللَّه بِهِمْ لِمَا عَرَفَ مِنْ صِدْقِ نِيَّتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَالشُّهَداءُ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الْآيَةِ الْأُولَى وَالتَّقْدِيرُ: إن الذين

[سورة الحديد (57) : آية 20]

آمَنُوا باللَّه وَرُسُلِهِ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَهُمُ الشُّهَدَاءُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ مُؤْمِنٍ فَهُوَ صِدِّيقٌ وَشَهِيدٌ وتلا هذه الآية، جذا الْقَوْلُ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ لِمَ سُمِّيَ كُلُّ مؤمن شهيد؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ عَلَى الْعِبَادِ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ عدول الآخرة الذي تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَقَالَ الْحَسَنُ: السَّبَبُ فِي هَذَا الِاسْمِ أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ كَرَامَةَ رَبِّهِ، وَقَالَ الْأَصَمُّ: كُلُّ مُؤْمِنٍ شَهِيدٌ لِأَنَّهُ قَائِمٌ للَّه تَعَالَى بِالشَّهَادَةِ فِيمَا تَعَبَّدَهُمْ بِهِ مِنْ وُجُوبِ الْإِيمَانِ وَوُجُوبِ الطَّاعَاتِ وَحُرْمَةِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصديق نعت لمن كثر منه الصدق وجمع صِدْقًا إِلَى صِدْقٍ فِي الْإِيمَانِ باللَّه تَعَالَى وَرُسُلِهِ فَصَارُوا بِذَلِكَ شُهَدَاءَ عَلَى غَيْرِهِمْ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَالشُّهَداءُ لَيْسَ عَطْفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَلْ هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ صِفَةً وَخَبَرُهُ هُوَ قَوْلُهُ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنَ الشُّهَدَاءِ، فَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاءِ: 41] وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: الشُّهَدَاءُ هُمُ الَّذِينَ اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّه، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا تَعُدُّونَ الشُّهَدَاءَ فِيكُمْ؟ قَالُوا: الْمَقْتُولُ، فَقَالَ: إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْمَقْتُولَ شَهِيدٌ، وَالْمَبْطُونَ شَهِيدٌ، وَالْمَطْعُونَ شَهِيدٌ» الْحَدِيثَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ حَالِ الْكَافِرِينَ فَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ ذَكَرَ بَعْدَهُ ما يدل على حقارة الدنيا وكما حال الآخرة فقال: [سورة الحديد (57) : آية 20] اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الْآيَةِ تَحْقِيرُ حَالِ الدُّنْيَا وَتَعْظِيمُ حَالِ الْآخِرَةِ فَقَالَ: / الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أُمُورٌ مُحَقَّرَةٌ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَهِيَ عَذَابٌ شَدِيدٌ دَائِمٌ أَوْ رِضْوَانُ اللَّه عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ عَظِيمٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ... قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: 30] وَلَوْلَا أَنَّهَا حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ لَمَا قَالَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْحَيَاةَ خَلْقُهُ، كَمَا قَالَ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: 2] وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ الْعَبَثَ عَلَى مَا قَالَ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [المؤمنين: 115] وَقَالَ: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا وَلِأَنَّ الْحَيَاةَ نِعْمَةٌ بَلْ هِيَ أَصْلٌ لِجَمِيعِ النِّعَمِ، وَحَقَائِقُ الْأَشْيَاءِ لَا تَخْتَلِفُ بِأَنْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى عَظَّمَ الْمِنَّةَ بِخَلْقِ الْحَيَاةِ فَقَالَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [الْبَقَرَةِ: 28] فَأَوَّلُ مَا ذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ نِعَمِهِ هُوَ الْحَيَاةُ، فَدَلَّ مَجْمُوعُ مَا ذَكَرْنَا عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا غَيْرُ مَذْمُومَةٍ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ صَرَفَ هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَا إِلَى طَاعَةِ اللَّه بَلْ إِلَى طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَمُتَابَعَةِ الْهَوَى، فَذَاكَ هُوَ الْمَذْمُومُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهَا بِأُمُورٍ:

[سورة الحديد (57) : آية 21]

أَوَّلُهَا: أَنَّهَا لَعِبٌ وَهُوَ فِعْلُ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ يُتْعِبُونَ أَنْفُسَهُمْ جِدًّا، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْمَتَاعِبَ تنقضي من غير فائدة وثانيها: أنها لَهْوٌ وَهُوَ فِعْلُ الشُّبَّانِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ بَعْدَ انْقِضَائِهِ لَا يَبْقَى إِلَّا الْحَسْرَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَاقِلَ بَعْدَ انْقِضَائِهِ يَرَى الْمَالَ ذَاهِبًا وَالْعُمُرَ ذَاهِبًا، وَاللَّذَّةَ مُنْقَضِيَةً، وَالنَّفْسَ ازْدَادَتْ شَوْقًا وَتَعَطُّشًا إِلَيْهِ مَعَ فِقْدَانِهَا، فَتَكُونُ الْمَضَارُّ مُجْتَمِعَةً مُتَوَالِيَةً وَثَالِثُهَا: أنها زِينَةٌ وَهَذَا دَأْبُ النِّسَاءِ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ الزِّينَةِ تَحْسِينُ الْقَبِيحِ، وَعِمَارَةُ الْبِنَاءِ الْمُشْرِفِ عَلَى أَنْ يَصِيرَ خَرَابًا، وَالِاجْتِهَادُ فِي تَكْمِيلِ النَّاقِصِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَرَضِيَّ لَا يُقَاوِمُ الذَّاتِيَّ، فَإِذَا كَانَتِ الدُّنْيَا مُنْقَضِيَةً لِذَاتِهَا، فَاسِدَةً لِذَاتِهَا، فَكَيْفَ يَتَّمَكَّنُ الْعَاقِلُ مِنْ إِزَالَةِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ عَنْهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى أَنَّ الْكَافِرَ يَشْتَغِلُ طُولَ حَيَاتِهِ بِطَلَبِ زِينَةِ الدُّنْيَا دُونَ الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ، وَهَذَا كَمَا قِيلَ: «حَيَاتُكَ يَا مَغْرُورُ سهو وغفلة» ورابعها: تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ بِالصِّفَاتِ الْفَانِيَةِ الزَّائِلَةِ، وَهُوَ إِمَّا التَّفَاخُرُ بِالنَّسَبِ، أَوِ التَّفَاخُرُ بِالْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْعَسَاكِرِ وَكُلُّهَا ذَاهِبَةٌ وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَجْمَعُ الْمَالَ فِي سَخَطِ اللَّه، وَيَتَبَاهَى بِهِ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّه وَيَصْرِفُهُ فِي مَسَاخِطِ اللَّه، فَهُوَ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَأَنَّهُ لَا وَجْهَ بِتَبَعِيَّةِ أَصْحَابِ الدُّنْيَا يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَبَيَّنَ أَنَّ حَالَ الدُّنْيَا إِذَا لَمْ يَخْلُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَيَجِبُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى مَا يُؤَدِّي إِلَى عِمَارَةِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى لِهَذِهِ الْحَيَاةِ مَثَلًا، فَقَالَ: كَمَثَلِ غَيْثٍ يَعْنِي الْمَطَرَ، ونظير قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ [الْكَهْفِ: 45] وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَمَثَلِ غَيْثٍ مَوْضِعُهُ رَفْعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ، وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَقَوْلُهُ: أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْمُرَادُ مِنَ الْكُفَّارِ الزُّرَّاعُ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلزَّارِعِ: كَافِرٌ، لِأَنَّهُ يَكْفُرُ الْبَذْرَ الَّذِي يَبْذُرُهُ بِتُرَابِ الأرض، وإذا أعجب الزراع نَبَاتُهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ فَهُوَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَفَّارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكُفَّارُ باللَّه وَهُمْ أَشَدُّ إِعْجَابًا بِزِينَةِ الدُّنْيَا وَحَرْثِهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ سَعَادَةً سِوَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ: نَباتُهُ أَيْ مَا نَبَتَ مِنْ ذَلِكَ الْغَيْثِ، وَبَاقِي الْآيَةِ مُفَسَّرٌ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَهُ حَالَ الْآخِرَةِ فَقَالَ: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ أَيْ لِمَنْ كَانَتْ حَيَاتُهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّه وَرِضْوَانٌ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَفَ الدُّنْيَا بِالْحَقَارَةِ وَسُرْعَةِ الِانْقِضَاءِ، بَيَّنَ أَنَّ الْآخِرَةَ إِمَّا عَذَابٌ شَدِيدٌ دَائِمٌ، وَإِمَّا رِضْوَانٌ، وَهُوَ أَعْظَمُ دَرَجَاتِ الثَّوَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ يَعْنِي لِمَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا، وَأَعْرَضَ بها من طَلَبِ الْآخِرَةِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الدُّنْيَا مَتَاعُ الْغُرُورِ إِذَا أَلْهَتْكَ عَنْ طَلَبِ الْآخِرَةِ، فَأَمَّا إِذَا دَعَتْكَ إِلَى طَلَبِ رِضْوَانِ اللَّه وطلب الآخرة فنعم الوسيلة. [سورة الحديد (57) : آية 21] سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَالْمُرَادُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لِتَكُنْ مُفَاخَرَتُكُمْ وَمُكَاثَرَتُكُمْ فِي غَيْرِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، بَلِ احْرِصُوا عَلَى أَنْ تَكُونَ مُسَابَقَتُكُمْ فِي طَلَبِ الْآخِرَةِ. وَاعْلَمْ أنه تعالى أمر بالمسارعة في قوله: سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ثم شرح هاهنا كيفية تلك

المسارعة، فقال: سارِعُوا مُسَارَعَةَ الْمُسَابِقِينَ لِأَقْرَانِهِمْ فِي الْمِضْمَارِ، وَقَوْلُهُ: إِلى مَغْفِرَةٍ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُسَارَعَةُ إِلَى مَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ، فَقَالَ قَوْمٌ الْمُرَادُ سَابِقُوا إِلَى التَّوْبَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ سَابِقُوا إِلَى سَائِرِ مَا كُلِّفْتُمْ بِهِ فَدَخَلَ فِيهِ التَّوْبَةُ، وَهَذَا أَصَحُّ لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ وَالْجَنَّةَ لَا يُنَالَانِ إِلَّا بِالِانْتِهَاءِ عَنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي وَالِاشْتِغَالِ بِكُلِّ الطَّاعَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ يُفِيدُ الْفَوْرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ الْمُسَارَعَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّرَاخِي مَحْظُورًا، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَقَالَ: فِي آلِ عِمْرَانَ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران: 133] ، فذكروا فيه وجوها أحدها: أن السموات السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ لَوْ جُعِلَتْ صَفَائِحَ وَأُلْزِقَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ لَكَانَتِ الْجَنَّةُ فِي عَرْضِهَا، هَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَثَانِيهَا: قَالَ عَطَاءٌ [عَنِ] ابْنِ عَبَّاسٍ يُرِيدُ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُطِيعِينَ جَنَّةً بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَثَالِثُهَا: قَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ اللَّه تعالى شبه عرض الجنة بعرض السموات السَّبْعِ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ طُولَهَا أَزْيَدُ مِنْ عَرْضِهَا، فَذَكَرَ الْعَرْضَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ طُولَهَا أَضْعَافُ ذَلِكَ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ لِلْعِبَادَةِ بِمَا يَعْقِلُونَهُ وَيَقَعُ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ، وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ فِي نُفُوسِهِمْ مِقْدَارُ السموات وَالْأَرْضِ وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ، وَخَامِسُهَا: / وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْجِنَانَ أَرْبَعَةٌ، قَالَ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَنِ: 46] وَقَالَ: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ [الرحمن: 62] فالمراد هاهنا تَشْبِيهُ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْجِنَانِ فِي الْعَرْضِ بالسموات السَّبْعِ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الْآيَةُ: لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أُكُلُها دائِمٌ [الرَّعْدِ: 35] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ صِفَتِهَا بَعْدَ وُجُودِهَا أَنْ لَا تَفْنَى، لَكِنَّهَا لَوْ كَانَتِ الْآنَ مَوْجُودَةً لَفَنِيَتْ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88] الثَّانِي: أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ وَهِيَ الْآنَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَلَا يَجُوزُ مَعَ أَنَّهَا فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَرْضُهَا كعرض كل السموات، قَالُوا: فَثَبَتَ بِهَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ قَادِرًا لَا يَصِحُّ الْمَنْعُ عَلَيْهِ، وَكَانَ حَكِيمًا لَا يَصِحُّ الْخُلْفُ فِي وعده، ثم إنه تعالى وعده عَلَى الطَّاعَةِ بِالْجَنَّةِ فَكَانَتِ الْجَنَّةُ كَالْمَعِدَةِ الْمُهَيَّأَةِ لَهُمْ تَشْبِيهًا لِمَا سَيَقَعُ قَطْعًا بِالْوَاقِعِ، وَقَدْ يقول المرء لصاحبه: (أعدت لَكَ الْمُكَافَأَةَ) إِذَا عَزَمَ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يُوجِدْهَا، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ إِذَا كَانَتِ الْآخِرَةُ أَعَدَّهَا اللَّه تَعَالَى لَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَافِ: 50] أَيْ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى الْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ عَامٌّ، وَقَوْلَهُ: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ مَعَ قَوْلِهِ: أُكُلُها دائِمٌ خَاصٌّ، وَالْخَاصٌّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ ثَانِيًا: الْجَنَّةُ مَخْلُوقَةٌ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ قُلْنَا: إِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ: «سَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ» وَأَيُّ اسْتِبْعَادٍ فِي أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ فَوْقَ الشَّيْءِ أَعْظَمَ مِنْهُ، أَلَيْسَ أَنَّ الْعَرْشَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ، مَعَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَوْقَ السَّمَاءِ السابعة. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فيه أعظم رجاء وأقوى أمل، إذا ذَكَرَ أَنَّ الْجَنَّةَ أُعِدَّتْ لِمَنْ آمَنَ باللَّه وَرُسُلِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَ الْإِيمَانِ شَيْئًا آخَرَ، وَالْمُعْتَزِلَةُ وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ يُفِيدُ جملة

[سورة الحديد (57) : آية 22]

الطَّاعَاتِ بِحُكْمِ تَصَرُّفِ الشَّرْعِ، لَكِنَّهُمُ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ إِذَا عُدِّيَ بِحَرْفِ الْبَاءِ، فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَى مَفْهُومِهِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ التَّصْدِيقُ، فَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَمِمَّا يَتَأَكَّدُ بِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يَعْنِي أَنَّ الْجَنَّةَ فَضْلٌ لَا مُعَامَلَةٌ، فَهُوَ يُؤْتِيهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ سَوَاءٌ أَطَاعَ أَوْ عَصَى، فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ تَقْطَعُوا بِحُصُولِ الْجَنَّةِ لِجَمِيعِ الْعُصَاةِ، وَأَنْ تَقْطَعُوا بِأَنَّهُ لَا عِقَابَ لَهُمْ؟ قُلْنَا: نَقْطَعُ بِحُصُولِ الْجَنَّةِ لَهُمْ، وَلَا نَقْطَعُ بِنَفْيِ الْعِقَابِ عَنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ إِذَا عُذِّبُوا مُدَّةً ثُمَّ نُقِلُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَبَقُوا فِيهَا أَبَدَ الْآبَادِ، فَقَدْ كَانَتِ الْجَنَّةُ مُعَدَّةً لَهُمْ، فَإِنْ قِيلَ: فَالْمُرْتَدُّ قَدْ آمَنُ باللَّه، فَوَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ الْآيَةِ قُلْتُ: خُصَّ مِنَ الْعُمُومِ، فَيَبْقَى العموم حجة فيما عداه. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ زَعَمَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ تَفَضُّلٌ مَحْضٌ لَا أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَمَلِ، وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ الْكَعْبِيِّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَذْهَبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ فَقَالَ: هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوِ امْتَنَعَ بَيْنَ كَوْنِ الْجَنَّةِ مُسْتَحَقَّةً وَبَيْنَ كَوْنِهَا فَضْلًا مِنَ اللَّه تَعَالَى، فَأَمَّا إِذَا صَحَّ اجْتِمَاعُ الصِّفَتَيْنِ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَفَضِّلُ بِالْأُمُورِ الَّتِي يَتَمَكَّنُ الْمُكَلَّفُ مَعَهَا مِنْ كَسْبِ هَذَا الِاسْتِحْقَاقِ، فَلَمَّا كَانَ تَعَالَى مُتَفَضِّلًا بِمَا يُكْسِبُ أَسْبَابَ هَذَا الِاسْتِحْقَاقِ كَانَ مُتَفَضِّلًا بِهَا، قَالَ: وَلَمَّا ثَبَتَ هَذَا، ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ لا بد وأن يكون مشروطا بمن يَسْتَحِقُّهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ مَعْنًى. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى مُتَفَضِّلًا بِأَسْبَابِ ذَلِكَ الْكَسْبِ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ تَعَالَى مُتَفَضِّلًا بِنَفْسِ الْجَنَّةِ، فَإِنَّ مَنْ وُهِبَ مِنْ إِنْسَانٍ كَاغِدًا وَدَوَاةً وَقَلَمًا، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ كَتَبَ بِذَلِكَ الْمِدَادِ عَلَى ذَلِكَ الْكَاغِدِ مُصْحَفًا وَبَاعَهُ مِنَ الْوَاهِبِ، لَا يُقَالُ: إِنَّ أَدَاءَ ذَلِكَ الثَّمَنِ تَفْضِيلٌ، بَلْ يُقَالُ: إنه مستحق، فكذا هاهنا، وَأَمَّا قَوْلُهُ أَوَّلًا إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مَعْنًى، فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا استدلال عَجِيبٌ، لِأَنَّ لِلْمُتَفَضِّلِ أَنْ يَشْرُطَ فِي تَفَضُّلِهِ أَيَّ شَرْطٍ شَاءَ، وَيَقُولُ: لَا أَتَفَضَّلُ إِلَّا مَعَ هَذَا الشَّرْطِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ حَالِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ إِذَا أَعْطَى عَطَاءً مَدَحَ بِهِ نَفْسَهُ وَأَثْنَى بِسَبَبِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وأن يكون ذلك العطاء عظيما. [سورة الحديد (57) : آية 22] مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) [في قَوْلُهُ تَعَالَى مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ] قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ [الحديد: 21] بَيَّنَ أَنَّ الْمُؤَدِّيَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ، فَقَالَ: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ وَالْمَعْنَى لَا تُوجَدُ مُصِيبَةٌ مِنْ هَذِهِ الْمَصَائِبِ إِلَّا وَهِيَ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ اللَّه، وَالْمُصِيبَةُ فِي الْأَرْضِ هِيَ قَحْطُ الْمَطَرِ، وَقِلَّةُ النَّبَاتِ، وَنَقْصُ الثِّمَارِ، وَغَلَاءُ الْأَسْعَارِ، وَتَتَابُعُ الْجُوعِ، وَالْمُصِيبَةُ فِي الْأَنْفُسِ فِيهَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا هِيَ: الْأَمْرَاضُ، وَالْفَقْرُ، وَذَهَابُ الْأَوْلَادِ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَيْهَا وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ الْخَيْرَ/ وَالشَّرَّ أَجْمَعَ لقوله بعد ذلك: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ [الْحَدِيدِ: 23] ثُمَّ قَالَ: إِلَّا فِي كِتابٍ يَعْنِي مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّه فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وفيه مسائل:

[سورة الحديد (57) : آية 23]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ الْأَرْضِيَّةِ قَبْلَ دُخُولِهَا فِي الْوُجُودِ مَكْتُوبَةٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: وَإِنَّمَا كَتَبَ كُلَّ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: تَسْتَدِلُّ الْمَلَائِكَةُ بِذَلِكَ الْمَكْتُوبِ عَلَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهَا وَثَانِيهَا: لِيَعْرِفُوا حِكْمَةَ اللَّه فَإِنَّهُ تَعَالَى مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى تِلْكَ الْمَعَاصِي خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ وَثَالِثُهَا: لِيَحْذَرُوا من أمثال تلك المعاصي ورابعها: ليشركوا اللَّه تَعَالَى عَلَى تَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى الطَّاعَاتِ وَعِصْمَتِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ الْمَعَاصِي. وَقَالَتِ الْحُكَمَاءُ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّه بِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُدَبِّرَاتُ أَمْرًا، وَهُمُ الْمُقَسِّمَاتُ أَمْرًا، إِنَّمَا هِيَ الْمَبَادِئُ لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ فِي هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ بِوَاسِطَةِ الْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةِ وَالِاتِّصَالَاتِ الْكَوْكَبِيَّةِ، فَتَصَوُّرَاتُهَا لِانْسِيَاقِ تِلْكَ الْأَسْبَابِ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا فِي كِتابٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّ جُمْهُورُ أَهْلِ التَّوْحِيدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهَا خِلَافًا لِهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَتَبَهَا فِي الْكِتَابِ قَبْلَ وُقُوعِهَا وَجَاءَتْ مُطَابِقَةً لِذَلِكَ الْكِتَابِ عَلِمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمًا بِهَا بِأَسْرِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَصَائِبِ الْأَنْفُسِ فَيَدْخُلُ فِيهَا كُفْرُهُمْ وَمَعَاصِيهِمْ، فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَعْمَالِهِمْ بِتَفَاصِيلِهَا مَكْتُوبَةٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَمُثْبَتَةٌ فِي عِلْمِ اللَّه تَعَالَى، فَكَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مُحَالًا، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّه بِوُجُودِهَا مُنَافٍ لِعَدَمِهَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ مُحَالٌ، فَلَمَّا حَصَلَ الْعِلْمُ بِوُجُودِهَا، وَهَذَا الْعِلْمُ مُمْتَنِعُ الزَّوَالِ كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ عَدَمِهَا وَبَيْنَ عِلْمِ اللَّه بِوُجُودِهَا مُحَالًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: إِنَّ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ مَكْتُوبَةٌ فِي الْكِتَابِ، لِأَنَّ حَرَكَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، فَإِثْبَاتُهَا فِي الْكِتَابِ مُحَالٌ، وَأَيْضًا خَصَّصَ ذَلِكَ بِالْأَرْضِ والأنفس وما أدخل فيها أحوال السموات، وَأَيْضًا خَصَّصَ ذَلِكَ بِمَصَائِبِ الْأَرْضِ وَالْأَنْفُسِ لَا بِسَعَادَاتِ الْأَرْضِ وَالْأَنْفُسِ، وَفِي كُلِّ هَذِهِ الرُّمُوزِ إِشَارَاتٌ وَأَسْرَارٌ، أَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَخْلُقَ هَذِهِ الْمَصَائِبَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْمُرَادُ الْأَنْفُسُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ نَفْسُ الْأَرْضِ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ لِأَنَّ ذِكْرَ الْكُلِّ قَدْ تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ الْأَقْرَبُ نَفْسَ الْمُصِيبَةِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودُ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَالْمَخْلُوقَاتُ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهَا إِلَّا أَنَّهَا لِظُهُورِهَا يَجُوزُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ [يوسف: 2] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ حِفْظَ ذَلِكَ عَلَى اللَّه هَيِّنٌ، وَالثَّانِي: إِنَّ إِثْبَاتَ ذَلِكَ عَلَى كَثْرَتِهِ فِي الْكِتَابِ يَسِيرٌ عَلَى اللَّه وَإِنْ كَانَ عَسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر: 11] . / ثم قال تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 23] لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ اللَّامُ تُفِيدُ جَعْلَ أَوَّلِ الْكَلَامِ سَبَبًا لِآخِرِهِ، كَمَا تَقُولُ: قُمْتُ لِأَضْرِبَكَ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ الْقِيَامَ سَبَبٌ للضرب، وهاهنا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ إِخْبَارَ اللَّه عَنْ كَوْنِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَاقِعَةً بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَمُثْبَتَةً فِي الْكِتَابِ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ يُوجِبُ أَنْ لَا يَشْتَدَّ فَرَحُ الْإِنْسَانِ بِمَا وَقَعَ، وَأَنْ لَا يَشْتَدَّ حُزْنُهُ بِمَا لَمْ يَقَعْ، وهذا

هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ عَرَفَ سِرَّ اللَّه فِي الْقَدَرِ هَانَتْ عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ» وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ وُقُوعَ كُلِّ مَا وَقَعَ وَاجِبٌ، وَعَدَمُ كُلِّ مَا لَمْ يَقَعْ وَاجِبٌ أَيْضًا لِأَسْبَابٍ أَرْبَعَةٍ أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَلِمَ وُقُوعَهُ، فَلَوْ لَمْ يَقَعِ انْقَلَبَ الْعِلْمُ جَهْلًا ثَانِيهَا: أَنَّ اللَّه أَرَادَ وُقُوعَهُ، فَلَوْ لَمْ يَقَعِ انْقَلَبَتِ الْإِرَادَةُ تَمَنِّيًا ثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَلَّقَتْ قُدْرَةُ اللَّه تَعَالَى بِإِيقَاعِهِ، فَلَوْ لَمْ يَقَعْ لَانْقَلَبَتْ تِلْكَ الْقُدْرَةُ عَجْزًا، رَابِعُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَكَمَ بِوُقُوعِهِ بِكَلَامِهِ الَّذِي هُوَ صِدْقٌ فَلَوْ لَمْ يَقَعْ لَانْقَلَبَ ذَلِكَ الْخَبَرُ الصِّدْقُ كذبا، فإن هَذَا الَّذِي وَقَعَ لَوْ لَمْ يَقَعْ لَتَغَيَّرَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ كَمَالِهَا إِلَى النَّقْصِ، وَمِنْ قِدَمِهَا إِلَى الْحُدُوثِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا دَافِعَ لِذَلِكَ الْوُقُوعِ، وَحِينَئِذٍ يَزُولُ الْغَمُّ وَالْحُزْنُ، عِنْدَ ظُهُورِ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ وَهَانَتْ عَلَيْهِ الْمِحَنُ وَالْمَصَائِبُ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهَبْ أَنَّهُمْ يُنَازِعُونَ فِي الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، وَلَكِنَّهُمْ يُوَافِقُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ، وَإِذَا كَانَ الْجَبْرُ لَازِمًا فِي هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَلْزَمَ الْجَبْرُ بِسَبَبِ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ وَبَيْنَ أَنْ يَلْزَمَ بِسَبَبِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعِ، وَأَمَّا الْفَلَاسِفَةُ فَالْجَبْرُ مَذْهَبُهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ رَبَطُوا حُدُوثَ الْأَفْعَالِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِالتَّصَوُّرَاتِ الذِّهْنِيَّةِ وَالتَّخَيُّلَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ، ثُمَّ رَبَطُوا تِلْكَ التَّصَوُّرَاتِ وَالتَّخَيُّلَاتِ بِالْأَدْوَارِ الْفَلَكِيَّةِ الَّتِي لَهَا مَنَاهِجُ مُقَدَّرَةٌ، وَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ مَا يُخَالِفُهَا، وَأَمَّا الدَّهْرِيَّةُ الَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ شَيْئًا مِنَ الْمُؤَثِّرَاتِ فَهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقُولُوا بِأَنَّ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ اتِّفَاقِيٌّ، وَإِذَا كَانَ اتِّفَاقِيًّا لَمْ يَكُنِ اخْتِيَارِيًّا، فَيَكُونُ الْجَبْرُ لَازِمًا، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا مَنْدُوحَةَ عَنْ هَذَا لِأَحَدٍ مِنْ فِرَقِ الْعُقَلَاءِ، سَوَاءٌ أَقَرُّوا بِهِ أَوْ أَنْكَرُوهُ، فَهَذَا بَيَانُ وَجْهِ اسْتِدْلَالِ أَهْلِ السُّنَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا فِي كون العيد مُتَمَكِّنًا مُخْتَارًا، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ قوله: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَخْبَرَهُمْ بِكَوْنِ تِلْكَ الْمَصَائِبِ مُثْبَتَةً فِي الْكِتَابِ لِأَجْلِ أَنْ يَحْتَرِزُوا عَنِ الْحُزْنِ وَالْفَرَحِ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى تِلْكَ الْأَفْعَالِ لَمَا بَقِيَ لِهَذِهِ اللَّامِ فَائِدَةٌ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تعالى لا يُرِيدُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمُ الْحُزْنُ وَالْفَرَحُ وَذَلِكَ خِلَافُ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى/ أَرَادَ كُلَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْإِرَادَةَ سَوَاءٌ، فَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ: إِنَّ كُلَّ وَاقِعٍ فَهُوَ مُرَادُ اللَّه تَعَالَى الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى أدخل لام التعليل على فعله بقوله: لِكَيْلا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ اللَّه تَعَالَى مُعَلَّلَةٌ بِالْغَرَضِ، وَأَقُولُ: الْعَاقِلُ يَتَعَجَّبُ جِدًّا مِنْ كَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالْجَبْرِ وَالْقَدَرِ وَتَعَلُّقِ كِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ بِأَكْثَرِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ: بِمَا أَتَاكُمْ قَصْرًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: آتاكُمْ مَمْدُودًا، حُجَّةُ أَبِي عَمْرٍو أَنَّ: أَتَاكُمْ مُعَادِلٌ لِقَوْلِهِ: فاتَكُمْ فَكَمَا أَنَّ الْفِعْلَ لِلْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: فاتَكُمْ كذلك يكون الفعل للآني فِي قَوْلِهِ: بِما آتاكُمْ وَالْعَائِدُ إِلَى الْمَوْصُولِ فِي الْكَلِمَتَيْنِ الذِّكْرُ الْمَرْفُوعُ بِأَنَّهُ فَاعِلٌ، وَحُجَّةُ الْبَاقِينَ أَنَّهُ إِذَا مُدَّ كَانَ ذَلِكَ مَنْسُوبًا إِلَى اللَّه تَعَالَى وَهُوَ الْمُعْطِي لِذَلِكَ، وَيَكُونُ فَاعِلُ الْفِعْلِ فِي: آتاكُمْ ضَمِيرًا عَائِدًا إِلَى اسْمِ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْهَاءُ مَحْذُوفَةٌ مِنَ الصِّلَةِ تَقْدِيرُهُ بِمَا آتَاكُمُوهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ المبرد: ليس المراد من قوله: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ نَفْيَ الْأَسَى وَالْفَرَحِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ مَعْنَاهُ لَا تَحْزَنُوا حُزْنًا يُخْرِجُكُمْ إِلَى أَنْ تُهْلِكُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَعْتَدُّوا بِثَوَابٍ عَلَى فَوَاتِ ما سلب منكم، ولا تفرحوا فرحا شديد يُطْغِيكُمْ حَتَّى تَأْشَرُوا فِيهِ وَتَبْطُرُوا، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ ذَمَّ الْفَرَحَ الَّذِي يَخْتَالُ فِيهِ صَاحِبُهُ وَيَبْطُرُ، وَأَمَّا الْفَرَحُ بِنِعْمَةِ اللَّه

[سورة الحديد (57) : آية 24]

وَالشُّكْرُ عَلَيْهَا فَغَيْرُ مَذْمُومٍ، وَهَذَا كُلُّهُ مَعْنَى مَا رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَفْرَحُ وَيَحْزَنُ وَلَكِنِ اجْعَلُوا لِلْمُصِيبَةِ صَبْرًا وَلِلْخَيْرِ شُكْرًا. وَاحْتَجَّ الْقَاضِي بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ فَقَالَ: الْمَحَبَّةُ إِرَادَةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَهِيَ إِرَادَةُ الثَّوَابِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ هَذِهِ الْإِرَادَةِ نَفْيُ مطلق الإرادة. ثم قال تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 24] الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [الحديد: 23] كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يُحِبُّ الْمُخْتَالَ وَلَا يُحِبُّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ الْفَرَحَ الْمُطْغِي فَإِذَا رُزِقُوا مَالًا وَحَظًّا مِنَ الدُّنْيَا فَلِحُبِّهِمْ لَهُ وَعِزَّتِهِ عِنْدَهُمْ يَبْخَلُونَ بِهِ وَلَا يَكْفِيهِمْ أَنَّهُمْ بَخِلُوا بِهِ بَلْ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ بِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ نَتِيجَةُ فَرَحِهِمْ عِنْدَ إِصَابَتِهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَمَنْ يَتَوَلَّ عَنْ أَوَامِرِ اللَّه وَنَوَاهِيهِ وَلَمْ يَنْتَهِ عَمَّا نَهَى عَنْهُ مِنَ الْأَسَى عَلَى الْفَائِتِ وَالْفَرِحِ بِالْآتِي فَإِنَّ اللَّه غَنِيٌّ عَنْهُ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: / الَّذِينَ يَبْخَلُونَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لَا تَعَلُّقَ له بما قبله، وهو في صفة اليهود الَّذِينَ كَتَمُوا صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم ويخلوا بِبَيَانِ نَعْتِهِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ وَحَذْفُ الْخَبَرِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرَّعْدِ: 31] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ فَإِنَّ اللَّه الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، وَحَذَفُوا لَفْظَ هُوَ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَنْبَغِي أَنَّ هُوَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَصْلًا لَا مُبْتَدَأً، لِأَنَّ الْفَصْلَ حَذْفُهُ أَسْهَلُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا مَوْضِعَ لِلْفَصْلِ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَقَدْ يُحْذَفُ فلا يخل بالمعنى كقوله: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَداً [الْكَهْفِ: 39] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّه غَنِيٌّ فَلَا يَعُودُ ضَرَرٌ عَلَيْهِ بِبُخْلِ ذَلِكَ الْبَخِيلِ، وَقَوْلُهُ: الْحَمِيدُ كَأَنَّهُ جواب عن السؤال يذكر هاهنا، فَإِنَّهُ يُقَالُ: لَمَّا كَانَ تَعَالَى عَالِمًا بِأَنَّهُ يَبْخَلُ بِذَلِكَ الْمَالِ وَلَا يَصْرِفُهُ إِلَى وُجُوهِ الطَّاعَاتِ، فَلِمَ أَعْطَاهُ ذَلِكَ الْمَالَ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ تَعَالَى حَمِيدٌ فِي ذَلِكَ الْإِعْطَاءِ، وَمُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ حَيْثُ فَتَحَ عَلَيْهِ أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ وَنِعْمَتِهِ، فَإِنْ قَصَّرَ الْعَبْدُ فِي الطَّاعَةِ فَإِنَّ وَبَالَهُ عَائِدٌ إليه. [سورة الحديد (57) : آية 25] لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَفِي تَفْسِيرِ الْبَيِّنَاتِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ مقاتل بن سليمان إنها هي المعجزات الظَّاهِرَةُ وَالدَّلَائِلُ الْقَاهِرَةُ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ: أَيْ أَرْسَلْنَاهُمْ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي تَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَةِ اللَّه وَإِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ غَيْرِ اللَّه، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ الصَّحِيحُ لِأَنَّ نُبُوَّتَهُمْ إِنَّمَا ثَبَتَتْ بِتِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ نَظِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ [الشُّورَى: 17] وَقَالَ: وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ [الرحمن: 7] وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ وَالْحَدِيدِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: وَهُوَ الَّذِي أَقُولُهُ أَنَّ مَدَارَ التَّكْلِيفِ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِعْلُ مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ وَالثَّانِي: تَرْكُ مَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ لَوْ كَانَ هُوَ التَّرْكُ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُخْلَقَ أَحَدٌ، لَأَنَّ التَّرْكَ كَانَ حَاصِلًا فِي الْأَزَلِ، وَأَمَّا فِعْلُ مَا يَنْبَغِي فعله، فإما أن يكون متعلقا بالنفس، وَهُوَ الْمَعَارِفُ، أَوْ بِالْبَدَنِ وَهُوَ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ، فَالْكِتَابُ هُوَ الَّذِي يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى فِعْلِ مَا يَنْبَغِي مِنَ/ الْأَفْعَالِ النَّفْسَانِيَّةِ، لِأَنْ يَتَمَيَّزَ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْحُجَّةُ مِنَ الشُّبْهَةِ، وَالْمِيزَانُ هُوَ الَّذِي يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى فِعْلِ مَا يَنْبَغِي مِنَ الْأَفْعَالِ الْبَدَنِيَّةِ، فَإِنَّ مُعْظَمَ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ فِي الْأَعْمَالِ هُوَ مَا يَرْجِعُ إِلَى مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ، وَالْمِيزَانُ هُوَ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ العدل عن الظلم والزائد عن الناقض، وأما الجديد فَفِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ، وَهُوَ زَاجِرٌ لِلْخَلْقِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكِتَابَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، وَالْمِيزَانَ إِلَى الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَالْحَدِيدَ إلى دفع مالا يَنْبَغِي، وَلَمَّا كَانَ أَشْرَفُ الْأَقْسَامِ رِعَايَةَ الْمَصَالِحِ الرُّوحَانِيَّةِ، ثُمَّ رِعَايَةَ الْمَصَالِحِ الْجُسْمَانِيَّةِ، ثُمَّ الزَّجْرَ عَمَّا لَا يَنْبَغِي، رُوعِيَ هَذَا التَّرْتِيبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَثَانِيهَا: الْمُعَامَلَةُ إِمَّا مَعَ الْخَالِقِ وَطَرِيقُهَا الْكِتَابُ أَوْ مَعَ الْخَلْقِ وَهُمْ: إِمَّا الْأَحْبَابُ وَالْمُعَامَلَةُ مَعَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَهِيَ بِالْمِيزَانِ، أَوْ مَعَ الْأَعْدَاءِ وَالْمُعَامَلَةُ مَعَهُمْ بِالسَّيْفِ وَالْحَدِيدِ وَثَالِثُهَا: الْأَقْوَامُ ثَلَاثَةٌ: إِمَّا السَّابِقُونَ وَهُمْ يُعَامِلُونَ الْخَلْقَ بِمُقْتَضَى الْكِتَابِ، فَيُنْصِفُونَ وَلَا يَنْتَصِفُونَ، وَيَحْتَرِزُونَ عَنْ مَوَاقِعِ الشُّبُهَاتِ، وَإِمَّا مُقْتَصِدُونَ وَهُمُ الَّذِينَ يُنْصِفُونَ وَيَنْتَصِفُونَ، فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْمِيزَانِ، وَإِمَّا ظَالِمُونَ وَهُمُ الَّذِينَ يَنْتَصِفُونَ وَلَا يُنْصِفُونَ وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْحَدِيدِ وَالزَّجْرِ وَرَابِعُهَا: الْإِنْسَانُ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَقَامِ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ مَقَامُ النَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ وَمَقَامُ الْمُقَرَّبِينَ، فَهَهُنَا لَا يَسْكُنُ إِلَّا إِلَى اللَّه، وَلَا يَعْمَلُ إِلَّا بِكِتَابِ اللَّه، كَمَا قَالَ: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْدِ: 28] وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَقَامِ الطَّرِيقَةِ وَهُوَ مَقَامُ النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، وَمَقَامُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْمِيزَانِ فِي مَعْرِفَةِ الْأَخْلَاقِ حَتَّى يَحْتَرِزَ عَنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَيَبْقَى عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَقَامِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ مَقَامُ النفس الأمارة، وهاهنا لا بد له من هاهنا لا بد له من حديد المجاهدة والرياضيات الشَّاقَّةِ وَخَامِسُهَا: الْإِنْسَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ الْمُكَاشَفَةِ وَالْوُصُولِ فَلَا أُنْسَ لَهُ إِلَّا بِالْكِتَابِ، أَوْ صَاحِبَ الطَّلَبِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مِيزَانِ الدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ أَوْ صَاحِبَ الْعِنَادِ وَاللِّجَاجِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ بِالْحَدِيدِ وَسَادِسُهَا: أَنَّ الدِّينَ هُوَ إِمَّا الْأُصُولُ وَإِمَّا الْفُرُوعُ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: إِمَّا الْمَعَارِفُ وَإِمَّا الْأَعْمَالُ، فَالْأُصُولُ مِنَ الْكِتَابِ، وَأَمَّا الْفُرُوعُ: فَالْمَقْصُودُ الْأَفْعَالُ الَّتِي فِيهَا عَدْلُهُمْ وَمَصْلَحَتُهُمْ وَذَلِكَ بِالْمِيزَانِ فَإِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى رِعَايَةِ الْعَدْلِ، وَالْحَدِيدُ لِتَأْدِيبِ مَنْ تَرَكَ ذَيْنِكَ الطَّرِيقَيْنِ وَسَابِعُهَا: الْكِتَابُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرَ اللَّه فِي كِتَابِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، وَالْمِيزَانُ إِشَارَةٌ إِلَى حَمْلِ النَّاسِ عَلَى تِلْكَ الْأَحْكَامِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَهُوَ شَأْنُ الْمُلُوكِ، وَالْحَدِيدُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَوْ تَمَرَّدُوا لَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلُوا عَلَيْهِمَا بِالسَّيْفِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَرْتَبَةَ الْعُلَمَاءِ وَهُمْ أَرْبَابُ الْكِتَابِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَرْتَبَةِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ هُمْ أَرْبَابُ السَّيْفِ، وَوُجُوهُ الْمُنَاسَبَاتِ كَثِيرَةٌ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ تَنْبِيهٌ عَلَى الْبَاقِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي: إِنْزَالِ الْمِيزَانِ وَإِنْزَالِ الْحَدِيدِ، قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَهُمَا مِنَ السَّمَاءِ، رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلَ بالميزان فدفعه إلى نوح، وقال: مرقومك يَزِنُوا بِهِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ

نَزَلَ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَعَهُ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ مِنَ الْحَدِيدِ السَّنَدَانُ وَالْكَلْبَتَانُ/ وَالْمِقْمَعَةُ وَالْمِطْرَقَةُ وَالْإِبْرَةُ، والمعمقة مَا يُحَدَّدُ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ أَرْبَعَ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ: أَنْزَلَ الْحَدِيدَ وَالنَّارَ وَالْمَاءَ وَالْمِلْحَ» . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى هَذَا الْإِنْزَالِ الْإِنْشَاءُ وَالتَّهْيِئَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزُّمَرِ: 6] قَالَ قطرب: أَنْزَلْناها [النور: 1] أَيْ هَيَّأْنَاهَا مِنَ النُّزُلِ، يُقَالُ: أُنْزِلَ الْأَمِيرُ عَلَى فُلَانٍ نُزُلًا حَسَنًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا، وَأَكَلْتُ خُبْزًا وَلَبَنًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذُكِرَ فِي مَنَافِعِ الْمِيزَانِ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَالْقِسْطُ وَالْإِقْسَاطُ هُوَ الْإِنْصَافُ وَهُوَ أَنْ تُعْطِيَ قِسْطَ غَيْرِكَ كَمَا تَأْخُذُ قِسْطَ نَفْسِكَ، وَالْعَادِلُ مُقْسِطٌ قَالَ اللَّه تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: 9] والقاسط الجائر قال تعالى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [الجن: 15] وَأَمَّا الْحَدِيدُ فَفِيهِ الْبَأْسُ الشَّدِيدُ فَإِنَّ آلَاتِ الْحُرُوبِ مُتَّخَذَةٌ مِنْهُ، وَفِيهِ أَيْضًا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: 80] وَمِنْهَا أَنَّ مَصَالِحَ الْعَالَمِ، إِمَّا أُصُولٌ، وَإِمَّا فُرُوعٌ، أَمَّا الْأُصُولُ فَأَرْبَعَةٌ: الزِّرَاعَةُ وَالْحِيَاكَةُ وَبِنَاءُ الْبُيُوتِ وَالسَّلْطَنَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مُضْطَرٌّ إِلَى طَعَامٍ يَأْكُلُهُ وَثَوْبٍ يَلْبَسُهُ وَبِنَاءٍ يَجْلِسُ فِيهِ، وَالْإِنْسَانُ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ فَلَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُ إِلَّا عِنْدَ اجْتِمَاعِ جَمْعٍ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ يَشْتَغِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمُهِمٍّ خَاصٍّ، فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ مِنَ الْكُلِّ مَصَالِحُ الْكُلِّ، وَذَلِكَ الِانْتِظَامُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُفْضِيَ إِلَى الْمُزَاحَمَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ شَخْصٍ يَدْفَعُ ضَرَرَ الْبَعْضِ عَنِ الْبَعْضِ، وَذَلِكَ هُوَ السُّلْطَانُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا تَنْتَظِمُ مَصْلَحَةُ الْعَالَمِ إِلَّا بِهَذِهِ الْحُرُوفِ الْأَرْبَعَةِ، أَمَّا الزِّرَاعَةُ فَمُحْتَاجَةٌ إِلَى الْحَدِيدِ، وَذَلِكَ فِي كُرَبِ الْأَرَاضِي وَحَفْرِهَا، ثُمَّ عِنْدَ تَكَوُّنِ هَذِهِ الْحُبُوبِ وَتَوَلُّدِهَا لَا بُدَّ مِنْ خَبْزِهَا وَتَنْقِيَتِهَا، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْحَدِيدِ، ثُمَّ الْحُبُوبُ لَا بُدَّ مِنْ طَحْنِهَا وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْحَدِيدِ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ خَبْزِهَا وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِالنَّارِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْمِقْدَحَةِ الْحَدِيدِيَّةِ، وَأَمَّا الْفَوَاكِهُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَنْظِيفِهَا عَنْ قُشُورِهَا، وَقَطْعِهَا عَلَى الْوُجُوهِ الْمُوَافِقَةِ لِلْأَكْلِ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَدِيدِ، وَأَمَّا الْحِيَاكَةُ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي آلَاتِ الْحِيَاكَةِ إِلَى الْحَدِيدِ ثُمَّ يَحْتَاجُ فِي قَطْعِ الثِّيَابِ وَخِيَاطَتِهَا إِلَى الْحَدِيدِ، وَأَمَّا الْبِنَاءُ فَمَعْلُومٌ أَنَّ كَمَالَ الْحَالِ فِيهِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْحَدِيدِ، وَأَمَّا أَسْبَابُ السَّلْطَنَةِ فَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَا تَتِمُّ وَلَا تَكْمُلُ إِلَّا بِالْحَدِيدِ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ أَكْثَرَ مَصَالِحِ الْعَالَمِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْحَدِيدِ، وَيَظْهَرُ أَيْضًا أَنَّ الذَّهَبَ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْحَدِيدِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَصَالِحِ فَلَوْ لَمْ يُوجَدِ الذَّهَبُ فِي الدُّنْيَا مَا كَانَ يَخْتَلُّ شَيْءٌ مِنْ مَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَلَوْ لَمْ يُوجَدِ الْحَدِيدُ لَاخْتَلَّ جَمِيعُ مَصَالِحِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّ الْحَدِيدَ لَمَّا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ شَدِيدَةً، جَعَلَهُ سَهْلَ الْوِجْدَانِ، كَثِيرَ الْوُجُودِ، وَالذَّهَبُ لَمَّا قَلَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ جَعَلَهُ عَزِيزَ الْوُجُودِ، وعند هذا يظهر أثر وجود اللَّه تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ عَلَى عَبِيدِهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا كَانَتْ حَاجَتُهُمْ إِلَيْهِ أَكْثَرَ، جَعَلَ وِجْدَانَهُ أَسْهَلَ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ إِنَّ أَعْظَمَ الْأُمُورِ حَاجَةً إِلَيْهِ هُوَ الْهَوَاءُ، فَإِنَّهُ لَوِ انْقَطَعَ وُصُولُهُ إِلَى الْقَلْبِ لَحْظَةً لَمَاتَ الْإِنْسَانُ فِي الْحَالِ، فَلَا جَرَمَ جَعَلَهُ اللَّه أَسْهَلَ الْأَشْيَاءِ وِجْدَانًا، وَهَيَّأَ أَسْبَابَ التَّنَفُّسِ وَآلَاتِهِ، حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ يَتَنَفَّسُ دَائِمًا بِمُقْتَضَى طَبْعِهِ مِنْ غَيْرِ/ حَاجَةٍ فِيهِ إِلَى تَكَلُّفِ عَمَلٍ، وَبَعْدَ الْهَوَاءِ الْمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْمَاءِ أَقَلَّ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الْهَوَاءِ جَعَلَ تَحْصِيلَ الْمَاءِ أَشَقَّ قَلِيلًا مِنْ تَحْصِيلِ الْهَوَاءِ، وَبَعْدَ الْمَاءِ الطَّعَامُ، وَلَمَّا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الطَّعَامِ أَقَلَّ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَاءِ، جَعَلَ تَحْصِيلَ الطَّعَامِ أَشَقَّ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَاءِ، ثُمَّ تَتَفَاوَتُ الْأَطْعِمَةُ فِي دَرَجَاتِ الْحَاجَةِ وَالْعِزَّةِ فَكُلُّ مَا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَشَدَّ، كَانَ وِجْدَانُهُ أَسْهَلَ، وَكُلُّ مَا كَانَ

[سورة الحديد (57) : آية 26]

وِجْدَانُهُ أَعْسَرَ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَقَلَّ، وَالْجَوَاهِرُ لَمَّا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا قَلِيلَةً جِدًّا، لَا جَرَمَ كَانَتْ عَزِيزَةً جِدًّا، فَعَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَكْثَرَ كَانَ وِجْدَانُهُ أَسْهَلَ، وَلَمَّا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّه تَعَالَى أَشَدَّ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ فَنَرْجُو مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يَجْعَلَهَا أَسْهَلَ الْأَشْيَاءِ وِجْدَانًا، قَالَ الشَّاعِرُ: سُبْحَانَ مَنْ خَصَّ الْعَزِيزَ بِعِزِّهِ ... وَالنَّاسُ مُسْتَغْنُونَ عَنْ أَجْنَاسِهِ وَأَذَلَّ أَنْفَاسَ الْهَوَاءِ وَكُلُّ ذِي ... نَفْسٍ فَمُحْتَاجٌ إِلَى أَنْفَاسِهِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى وَلِيَعْلَمَ اللَّه مَنْ يَنْصُرُهُ، أَيْ يَنْصُرُ دِينَهُ، وَيَنْصُرُ رُسُلَهُ بِاسْتِعْمَالِ السُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ وَسَائِرِ السِّلَاحِ فِي مُجَاهَدَةِ أَعْدَاءِ الدِّينِ بِالْغَيْبِ أَيْ غَائِبًا عَنْهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَنْصُرُونَهُ وَلَا يُبْصِرُونَهُ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [مُحَمَّدٍ: 7] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِحُدُوثِ عِلْمِ اللَّه بِقَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِالْعِلْمِ الْمَعْلُومَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلِتَقَعَ نُصْرَةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِمَّنْ يَنْصُرُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الْمِيزَانَ وَالْحَدِيدَ، وَمُرَادُهُ مِنَ الْعِبَادِ أَنْ يَقُومُوا بِالْقِسْطِ وَأَنْ يَنْصُرُوا الرَّسُولَ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مُرَادُهُ مِنَ الْكُلِّ فَقَدْ بَطَلَ قَوْلُ الْمُجْبِرَةِ أَنَّهُ أَرَادَ مِنْ بَعْضِهِمْ خِلَافَ ذَلِكَ جَوَابُهُ: أَنَّهُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ مِنَ الْكُلِّ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ ضِدَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ مُحَالٌ، وَأَنَّ الْمُحَالَ غَيْرُ مُرَادٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَمَّا كَانَتِ النُّصْرَةُ قَدْ تَكُونُ ظَاهِرَةً، كَمَا يَقَعُ مِنْ مُنَافِقٍ أَوْ مِمَّنْ مُرَادُهُ الْمَنَافِعُ فِي الدُّنْيَا، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي أَرَادَهُ النُّصْرَةُ بِالْغَيْبِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ تَقَعَ عَنْ إِخْلَاصٍ بِالْقَلْبِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ قَوِيٌّ عَلَى الْأُمُورِ عَزِيزٌ لَا يمانع. [سورة الحديد (57) : آية 26] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ، وَأَنَّهُ أَنْزَلَ الْمِيزَانَ وَالْحَدِيدَ، وَأَمَرَ الْخَلْقَ بِأَنْ/ يَقُومُوا بِنُصْرَتِهِمْ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَيَانِ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى شَرَّفَ نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِالرِّسَالَةِ، ثُمَّ جَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمَا جَاءَ بَعْدَهُمَا أَحَدٌ بِالنُّبُوَّةِ إِلَّا وَكَانَ مِنْ أَوْلَادِهِمَا، وَإِنَّمَا قَدَّمَ النُّبُوَّةَ عَلَى الْكِتَابِ، لِأَنَّ كَمَالَ حَالِ النَّبِيِّ أَنْ يَصِيرَ صَاحِبَ الْكِتَابِ وَالشَّرْعِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ أَيْ فَمِنَ الذُّرِّيَّةِ أَوْ مِنَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِمْ ذِكْرُ الْإِرْسَالِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَمِنْهُمْ فَاسِقٌ، وَالْغَلَبَةُ لِلْفُسَّاقِ، وفي الفاسق هاهنا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الَّذِي ارْتَكَبَ الْكَبِيرَةَ سَوَاءٌ كَانَ كَافِرًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ يُطْلَقُ عَلَى الْكَافِرِ وَعَلَى مَنْ لَا يَكُونُ، كَذَلِكَ إِذَا كَانَ

[سورة الحديد (57) : آية 27]

مرتكبا للكبيرة، والثاني: أن المراد بالفاسق هاهنا الْكَافِرُ، لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْفُسَّاقَ بِالضِّدِّ مِنَ الْمُهْتَدِينَ، فَكَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ قَبِلَ الدِّينَ وَاهْتَدَى، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ وَلَمْ يَهْتَدِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كَافِرًا، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي عَصَى قَدْ يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى وَجْهِ رُشْدِهِ وَدِينِهِ. [سورة الحديد (57) : آية 27] ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ. وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى قَفَّاهُ أَتْبَعَهُ بَعْدَ أَنْ مَضَى، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ بَعْضَهُمْ بَعْدَ بَعْضٍ إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَى أَيَّامِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَرْسَلَهُ اللَّه تَعَالَى بَعْدَهُمْ وَآتَاهُ الْإِنْجِيلَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ جِنِّي قَرَأَ الْحَسَنُ: وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا مِثَالٌ لَا نَظِيرَ لَهُ، لِأَنَّ أَفْعِيلَ وَهُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ نَجَلْتُ الشَّيْءَ إِذَا اسْتَخْرَجْتَهُ، لِأَنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ الْأَحْكَامُ، وَالتَّوْرَاةُ فَوْعَلَةٌ مِنْ وَرَى الزَّنْدُ يَرَى إِذَا أَخْرَجَ النَّارَ، وَمِثْلُهُ الْفُرْقَانُ وَهُوَ فُعْلَانٌ مِنْ فَرَّقْتُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ فَتْحُ الْهَمْزَةِ لِأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ، وَغَالِبُ الظَّنِّ أَنَّهُ مَا قَرَأَهُ إِلَّا عَنْ سَمَاعٍ وَلَهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَاذٌّ كَمَا حَكَى بَعْضُهُمْ فِي الْبَرْطِيلِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ ظَنَّ الْإِنْجِيلَ أَعْجَمِيًّا فَحَرَّفَ مِثَالَهُ تَنْبِيهًا عَلَى كَوْنِهِ أَعْجَمِيًّا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقٌ للَّه تَعَالَى وَكَسْبٌ لِلْعَبْدِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَجْعُولَةٌ للَّه تَعَالَى، وَحَكَمَ بِأَنَّهُمُ ابْتَدَعُوا تِلْكَ الرَّهْبَانِيَّةَ، قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَطَفَ بِهِمْ حَتَّى قَوِيَتْ دَوَاعِيهِمْ إِلَى الرَّهْبَانِيَّةِ، الَّتِي هِيَ تَحَمُّلُ الْكُلْفَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى مَا يَجِبُ مِنَ الْخَلْوَةِ وَاللِّبَاسِ الْخَشِنِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، عَلَى أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَهُوَ يُحَصِّلُ مَقْصُودَنَا أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَالَ الِاسْتِوَاءِ يَمْتَنِعُ حُصُولُ الرُّجْحَانِ وَإِلَّا فَقَدَ حَصَلَ الرُّجْحَانُ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَنَاقِضٌ، وَإِذَا كَانَ الْحُصُولُ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ مُمْتَنِعًا، كَانَ عِنْدَ الْمَرْجُوحِيَّةِ أَوْلَى أَنْ يَصِيرَ مُمْتَنِعًا، وَإِذَا امْتَنَعَ الْمَرْجُوحُ وَجَبَ الرَّاجِحُ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا خُرُوجَ عَنْ طَرَفَيِ النَّقِيضِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَوَادِّينَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، كَمَا وَصَفَ اللَّه أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الْفَتْحِ: 29] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: قُرِئَ (رَآفَةً) عَلَى فَعَالَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الرَّهْبَانِيَّةُ مَعْنَاهَا الْفِعْلَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى الرُّهْبَانِ وَهُوَ الْخَائِفُ فَعْلَانٌ مِنْ رَهَبَ، كَخَشْيَانَ مِنْ خَشِيَ، وَقُرِئَ: (وَرُهْبَانِيَّةً) بِالضَّمِّ كَأَنَّهَا نِسْبَةٌ إِلَى الرُّهْبَانِ، وَهُوَ جَمْعُ رَاهِبٍ كَرَاكِبٍ وَرُكْبَانٍ، وَالْمُرَادُ مِنَ الرَّهْبَانِيَّةِ تَرْهُّبُهُمْ فِي الْجِبَالِ فَارِّينَ مِنَ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ، مُخْلِصِينَ أَنْفُسَهُمْ لِلْعِبَادَةِ وَمُتَحَمِّلِينَ كُلَفًا زَائِدَةً عَلَى

الْعِبَادَاتِ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَلْوَةِ وَاللِّبَاسِ الْخَشِنِ، وَالِاعْتِزَالِ عَنِ النِّسَاءِ وَالتَّعَبُّدِ فِي الْغِيرَانِ وَالْكُهُوفِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ فِي أَيَّامِ الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ غَيَّرَ الْمُلُوكُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، فَسَاحَ قَوْمٌ فِي الْأَرْضِ وَلَبِسُوا الصُّوفَ، وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: «يَا ابْنَ مَسْعُودٍ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقُوا سَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا ثَلَاثَ فِرَقٍ، فِرْقَةٌ آمَنَتْ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَاتَلُوا أَعْدَاءَ اللَّه فِي نُصْرَتِهِ حَتَّى قُتِلُوا، وَفِرْقَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَاقَةٌ بِالْقِتَالِ، فَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَفِرْقَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَاقَةٌ بِالْأَمْرَيْنِ، فلبس الْعَبَاءَ، وَخَرَجُوا إِلَى الْقِفَارِ وَالْفَيَافِي وَهُوَ قَوْلُهُ: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً إِلَى آخِرِ الْآيَةِ» . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَمْ يَعْنِ اللَّه تَعَالَى بِابْتَدَعُوهَا طَرِيقَةَ الذَّمِّ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَحْدَثُوهَا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وَنَذَرُوهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ: مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: رَهْبانِيَّةً مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ، تَقْدِيرُهُ: ابْتَدَعُوا رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الرَّهْبَانِيَّةُ لَا يَسْتَقِيمُ حَمْلُهَا عَلَى جَعَلْنا، لِأَنَّ مَا يَبْتَدِعُونَهُ هُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْعُولًا للَّه تَعَالَى، وَأَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ ثَبَتَ امْتِنَاعُ مَقْدُورٍ بَيْنَ قَادِرَيْنِ، وَمِنْ أَيْنَ يَلِيقُ بِأَبِي عَلِيٍّ أَنْ يَخُوضَ فِي أمثال هذه الأشياء. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ أَيْ لَمْ نَفْرِضْهَا نَحْنُ عَلَيْهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. أَيْ وَلَكِنَّهُمُ ابْتَدَعُوهَا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّه الثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّا مَا تَعَبَّدْنَاهُمْ بِهَا إِلَّا عَلَى وَجْهِ ابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا لَيْسَتْ وَاجِبَةً، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ فِعْلِ الْوَاجِبِ، دَفْعُ الْعِقَابِ وَتَحْصِيلُ رِضَا اللَّه، أَمَّا الْمَنْدُوبُ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ فِعْلِهِ دَفْعُ الْعِقَابِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ لَيْسَ إِلَّا تَحْصِيلَ مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ فَفِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا هَذِهِ الرَّهْبَانِيَّةَ مَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، بَلْ ضَمُّوا إِلَيْهَا التَّثْلِيثَ وَالِاتِّحَادَ، وَأَقَامَ أُنَاسٌ مِنْهُمْ عَلَى دِينِ عِيسَى حَتَّى أَدْرَكُوا مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَآمَنُوا بِهِ فَهُوَ قَوْلُهُ: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ، وَثَانِيهَا: أَنَّا مَا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ تِلْكَ الرَّهْبَانِيَّةَ إِلَّا لِيَتَوَسَّلُوا بِهَا إِلَى مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَتَوْا بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ لَكِنْ لَا لِهَذَا الْوَجْهِ، بَلْ لِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ طَلَبُ الدُّنْيَا وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّا لَمَّا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ تَرَكُوهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ ذَمًّا لَهُمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ تَرَكُوا الْوَاجِبَ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَرْعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا هُمُ الَّذِينَ أَدْرَكُوا مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَقَوْلُهُ: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ يَعْنِي الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَنْ آمَنَ بِي وَصَدَّقَنِي وَاتَّبَعَنِي فَقَدْ رَعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِي فَأُولَئِكَ هُمُ الْهَالِكُونَ» وَخَامِسُهَا: أَنَّ الصَّالِحِينَ مِنْ قَوْمِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ وَانْقَرَضُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ اقْتَدَوْا بِهِمْ فِي اللِّسَانِ، وَمَا كَانُوا مُقْتَدِينَ بِهِمْ فِي الْعَمَلِ، فَهُمُ الَّذِينَ مَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، قَالَ عَطَاءٌ: لَمْ يَرْعَوْهَا كَمَا رَعَاهَا الْحَوَارِيُّونَ، ثُمَّ قَالَ: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ بَعْضَهُمْ قَامَ بِرِعَايَتِهَا وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ أَظْهَرَ الْفِسْقَ وَتَرَكَ تِلْكَ الطريقة ظاهرا وباطنا.

[سورة الحديد (57) : آية 28]

[سورة الحديد (57) : آية 28] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَيْ مِنْ قوم عيسى: أَجْرَهُمْ [الحديد: 27] قال في هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَالْمُرَادُ بِهِ أُولَئِكَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّقُوا اللَّه وَيُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثُمَّ قَالَ: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ أَيْ نَصِيبَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ لِإِيمَانِكُمْ أَوَّلًا بِعِيسَى، وَثَانِيًا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ [الْقَصَصِ: 54] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَزَلَ فِي قَوْمٍ جَاءُوا مِنَ الْيَمَنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الرَّسُولِ وَأَسْلَمُوا فَجَعَلَ اللَّه لهم أجرين، وهاهنا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْكِفْلُ فِي اللُّغَةِ؟ الْجَوَابُ: قَالَ الْمُؤَرِّجُ: الْكِفْلُ النَّصِيبُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ وَقَالَ غَيْرُهُ بَلْ هَذِهِ لُغَةُ الْحَبَشَةِ، وَقَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ مَسْلَمَةَ: الْكِفْلُ كِسَاءٌ يُدِيرُهُ الرَّاكِبُ حول السنام حتى يتمكن من العقود عَلَى الْبَعِيرِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا آتَاهُمْ كِفْلَيْنِ وَأَعْطَى الْمُؤْمِنِينَ كِفْلًا وَاحِدًا كَانَ حَالُهُمْ أَعْظَمَ وَالْجَوَابُ: رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ افْتَخَرُوا بِهَذَا السَّبَبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ النَّصِيبُ الْوَاحِدُ أَزْيَدَ قَدْرًا مِنَ النَّصِيبَيْنِ، فَإِنَّ الْمَالَ إِذَا قُسِّمَ بِنِصْفَيْنِ كَانَ الْكِفْلُ الْوَاحِدُ نِصْفًا، وَإِذَا قسم بمائة قسم كان الكفل الواحد جزء مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ، فَالنَّصِيبُ الْوَاحِدُ مِنَ الْقِسْمَةِ الْأُولَى أَزْيَدُ مِنْ عِشْرِينَ نَصِيبًا مِنَ الْقِسْمَةِ الثانية، فكذا هاهنا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَهُوَ النُّورُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ يَسْعى نُورُهُمْ [الْحَدِيدِ: 12] وَيَغْفِرْ لَكُمْ مَا أَسْلَفْتُمْ مِنَ الْمَعَاصِي وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. [سورة الحديد (57) : آية 29] لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ هذه الآية مُشْكِلَةٌ وَلَيْسَ لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهَا كَلَامٌ وَاضِحٌ فِي كَيْفِيَّةِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا. وَاعْلَمْ أن أكثر المفسرين على أن (لا) هاهنا صِلَةٌ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ وَجَمْعٌ آخَرُونَ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ ليس بِزَائِدَةٍ، وَنَحْنُ نُفَسِّرُ الْآيَةَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ بِعَوْنِ اللَّه تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ. أَمَّا الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ: وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ زَائِدَةٌ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا بد هاهنا مِنْ تَقْدِيمِ مُقَدِّمَةٍ وَهِيَ: أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ كَانُوا يَقُولُونَ: الْوَحْيُ وَالرِّسَالَةُ فِينَا، وَالْكِتَابُ وَالشَّرْعُ لَيْسَ إِلَّا لَنَا، واللَّه تَعَالَى خَصَّنَا بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْعَالَمِينَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام وعدهم/ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ أَتْبَعَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهَا أَنْ يُزِيلَ عَنْ قَلْبِهِمُ اعْتِقَادَهُمْ بِأَنَّ النُّبُوَّةَ مُخْتَصَّةٌ بِهِمْ وَغَيْرُ حَاصِلَةٍ إِلَّا فِي قَوْمِهِمْ، فَقَالَ: إِنَّمَا بَالَغْنَا فِي هَذَا الْبَيَانِ، وَأَطْنَبْنَا فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى تَخْصِيصِ فَضْلِ اللَّه بِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ حَصْرُ الرسالة

وَالنُّبُوَّةِ فِي قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَصْلًا أَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ لَفْظَةَ (لَا) غَيْرُ زَائِدَةٍ، فَاعْلَمْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: أَلَّا يَقْدِرُونَ عَائِدٌ إِلَى الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّه، وَأَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ أَيْ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّه، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: إِنَّا فَعَلْنَا كَذَا وَكَذَا لِئَلَّا يَعْتَقِدَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى حَصْرِ فَضْلِ اللَّه وَإِحْسَانِهِ فِي أَقْوَامٍ مُعَيَّنِينَ، وَلِيَعْتَقِدُوا أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّه، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّا أَضْمَرْنَا فِيهِ زِيَادَةً، فَقُلْنَا فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ تَقْدِيرُ وَلِيَعْتَقِدُوا أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ وَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فَقَدِ افْتَقَرْنَا فِيهِ إِلَى حَذْفِ شَيْءٍ مُوجَدٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِضْمَارَ أَوْلَى مِنَ الْحَذْفِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ إِذَا افْتَقَرَ إِلَى الْإِضْمَارِ لَمْ يُوهِمْ ظَاهِرُهُ بَاطِلًا أَصْلًا، أَمَّا إِذَا افْتَقَرَ إِلَى الْحَذْفِ كَانَ ظَاهِرُهُ مُوهِمًا لِلْبَاطِلِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى واللَّه أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ قُرِئَ: (لِكَيْ يَعْلَمَ) ، وَ (لِكَيْلَا يَعْلَمَ) ، وَ (لِيَعْلَمَ) ، وَ (لِأَنْ يَعْلَمَ) ، بِإِدْغَامِ النُّونِ فِي الْيَاءِ، وَحَكَى ابْنُ جِنِّي فِي «الْمُحْتَسَبِ» عَنْ قُطْرُبٍ: أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: (لِيلَا) ، بِكَسْرِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَحَكَى ابْنُ مُجَاهِدٍ عَنْهُ لَيْلَا بِفَتْحِ اللَّامِ وَجَزْمِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَمَا ذَكَرَ قُطْرُبٌ أَقْرَبُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْهَمْزَةَ إِذَا حُذِفَتْ بَقِيَ لنلا فيجب إدغام النون فِي اللَّامِ فَيَصِيرُ لِلَّا فَتَجْتَمِعُ اللَّامَاتُ فَتَجْعَلُ الْوُسْطَى لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا يَاءً فَيَصِيرُ لِيلَا، وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ مُجَاهِدٍ عَنْهُ، فَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ لَامَ الْجَرِّ إِذَا أَضَفْتَهُ إِلَى الْمُضْمَرِ فَتَحْتَهُ تَقُولُ لَهُ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَاسَ الْمُظْهَرَ عَلَيْهِ، حَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَرَأَ: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ [إِبْرَاهِيمَ: 46] . وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ أَيْ فِي مِلْكِهِ وَتَصَرُّفِهِ وَالْيَدُ مِثْلُ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ لِأَنَّهُ قَادِرٌ مُخْتَارٌ يَفْعَلُ بِحَسَبِ الِاخْتِيَارِ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَالْعَظِيمُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ إِحْسَانُهُ عَظِيمًا، وَالْمُرَادُ تَعْظِيمُ حَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نُبُوَّتِهِ وَشَرْعِهِ وَكِتَابِهِ، واللَّه أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، وَالْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّه عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة المجادلة

بسم الله الرحمن الرّحيم سورة المجادلة وهي عشرون وآيتان مدنية [سورة المجادلة (58) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) رُوِيَ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ ثَعْلَبَةَ امْرَأَةَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ أَخِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَآهَا زَوْجُهَا وَهِيَ تُصَلِّي، وَكَانَتْ حَسَنَةَ الْجِسْمِ، وَكَانَ بِالرَّجُلِ لَمَمٌ، فَلَمَّا سَلَّمَتْ رَاوَدَهَا، فَأَبَتْ، فَغَضِبَ، وَكَانَ بِهِ خِفَّةٌ فَظَاهَرَ مِنْهَا، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: إِنَّ أَوْسًا تَزَوَّجَنِي وَأَنَا شَابَّةٌ مَرْغُوبٌ فيَّ، فَلَمَّا خَلَا سِنِّي وَكَثُرَ وَلَدِي جَعَلَنِي كَأُمِّهِ، وَإِنَّ لِي صِبْيَةً صِغَارًا إِنْ ضَمَمْتُهُمْ إِلَيْهِ ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، ثم هاهنا رِوَايَتَانِ: يُرْوَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهَا: «مَا عِنْدِي فِي أَمْرِكِ شَيْءٌ» وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهَا: «حَرُمْتِ عَلَيْهِ» فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّه مَا ذَكَرَ طَلَاقًا، وَإِنَّمَا هُوَ أَبُو وَلَدِي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَقَالَ: «حَرُمْتِ عَلَيْهِ» فَقَالَتْ: أَشْكُو إِلَى اللَّه فَاقَتِي وَوَجْدِي، وَكُلَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَرُمْتِ عَلَيْهِ» هَتَفَتْ وَشَكَتْ إِلَى اللَّه، فَبَيْنَمَا هِيَ كَذَلِكَ إِذْ تَرَبَّدَ وَجْهُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَرْسَلَ إِلَى زَوْجِهَا، وَقَالَ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: الشَّيْطَانُ فَهَلْ مِنْ رُخْصَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْأَرْبَعَ آيَاتٍ، وَقَالَ لَهُ: هَلْ تَسْتَطِيعُ الْعِتْقَ؟ فَقَالَ: لَا واللَّه، فَقَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ الصَّوْمَ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنِّي آكُلُ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ لكلَّ بَصَرِي وَلَظَنَنْتُ أَنِّي أَمُوتُ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ فَقَالَ: لَا واللَّه يَا رَسُولَ اللَّه إِلَّا أَنْ تُعِينَنِي مِنْكَ بِصَدَقَةٍ، فَأَعَانَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، وَأَخْرَجَ أَوْسٌ مِنْ عِنْدِهِ مِثْلَهُ فَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا» وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذَا الْخَبَرِ مَبَاحِثَ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي هَذَا الْخَبَرِ: (وَكَانَ بِهِ لَمَمٌ) ، الْخَبَلَ وَالْجُنُونَ إِذْ لَوْ كَانَ بِهِ ذَلِكَ ثُمَّ ظَاهَرَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمْ يَكُنْ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، بَلْ مَعْنَى اللَّمَمِ هُنَا: الْإِلْمَامُ بِالنِّسَاءِ، وَشِدَّةُ الْحِرْصِ، وَالتَّوَقَانُ إِلَيْهِنَّ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ الظِّهَارَ كَانَ مِنْ أَشَدِّ طَلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ، لِأَنَّهُ فِي التَّحْرِيمِ أَوْكَدُ مَا يُمْكِنُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ صَارَ مُقَرَّرًا بِالشَّرْعِ كَانَتِ الْآيَةُ نَاسِخَةً لَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُعَدَّ نَسْخًا، لِأَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الشَّرَائِعِ لَا فِي عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَكِنَّ الَّذِي رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: «حَرُمْتِ» أَوْ قَالَ: «مَا أَرَاكِ إِلَّا قَدْ حَرُمْتِ» كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ شَرْعًا. وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي الْحُكْمِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.

[سورة المجادلة (58) : آية 2]

الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنِ انْقَطَعَ رَجَاؤُهُ عَنِ الْخَلْقِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ فِي مُهِمِّهِ أَحَدٌ سِوَى الْخَالِقِ كَفَاهُ اللَّه ذَلِكَ الْمُهِمَّ، وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ، أَمَّا قَوْلُهُ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: قَدْ مَعْنَاهُ التَّوَقُّعُ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّه وَالْمُجَادِلَةَ كَانَا يَتَوَقَّعَانِ أَنْ يَسْمَعَ اللَّه مُجَادَلَتَهَا وَشَكْوَاهَا، وَيُنَزِّلَ فِي ذَلِكَ مَا يُفَرِّجُ عَنْهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَ حَمْزَةُ يُدْغِمُ الدَّالَ فِي السِّينِ مِنْ: قَدْ سَمِعَ وَكَذَلِكَ فِي نَظَائِرِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَكَى عَنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ أَمْرَيْنِ أَوَّلُهُمَا: الْمُجَادَلَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها أَيْ تُجَادِلُكَ فِي شَأْنِ زَوْجِهَا، وَتِلْكَ الْمُجَادَلَةُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلَّمَا قَالَ لَهَا: «حَرُمْتِ عَلَيْهِ» قَالَتْ: واللَّه مَا ذَكَرَ طَلَاقًا وَثَانِيهِمَا: شَكْوَاهَا إِلَى اللَّه، وَهُوَ قَوْلُهَا: أَشْكُو إِلَى اللَّه فَاقَتِي وَوَجْدِي، وَقَوْلُهَا: إِنَّ لِي صِبْيَةً صِغَارًا، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما وَالْمُحَاوَرَةُ الْمُرَاجَعَةُ فِي الْكَلَامِ، مِنْ حَارَ الشَّيْءُ يَحُورُ حَوْرًا، أَيْ رَجَعَ يَرْجِعُ رُجُوعًا، وَمِنْهَا نَعُوذُ باللَّه مِنَ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ، وَمِنْهُ فَمَا أَحَارَ بِكَلِمَةٍ، أَيْ فَمَا أَجَابَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أَيْ يَسْمَعُ كَلَامَ مَنْ يناديه، ويبصر من يتضرع إليه. [سورة المجادلة (58) : آية 2] الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ فيه بحثان: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَبَاحِثِ اللُّغَوِيَّةِ وَالْفِقْهِيَّةِ، فَنَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَحْثَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الظِّهَارَ مَا هُوَ؟ الثَّانِي: أَنَّ الْمُظَاهِرَ مَنْ هُوَ؟ وَقَوْلُهُ: مِنْ نِسائِهِمْ فِيهِ بَحْثٌ: وَهُوَ أَنَّ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا مَنْ هِيَ؟. أَمَّا الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ الظِّهَارَ مَا هُوَ؟ فَفِيهِ مَقَامَانِ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فِي الْبَحْثِ عَنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الظَّهْرِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ صَاحِبُ «النَّظْمِ» ، أَنَّهُ لَيْسَ مَأْخُوذًا مِنَ الظَّهْرِ الَّذِي هُوَ عُضْوٌ مِنَ الْجَسَدِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الظَّهْرُ أَوْلَى بِالذِّكْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ الَّتِي هِيَ مَوَاضِعُ الْمُبَاضَعَةِ، والتلذذ، بل الظهر هاهنا مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُلُوِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ [الْكَهْفِ: 97] أَيْ يَعْلُوهُ، وَكُلُّ مَنْ عَلَا شَيْئًا فَقَدْ ظَهَرَهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمَرْكُوبُ ظَهْرًا، لِأَنَّ رَاكِبَهُ يَعْلُوهُ، وَكَذَلِكَ امْرَأَةُ الرَّجُلِ ظَهْرُهُ، لِأَنَّهُ يَعْلُوهَا بِمِلْكِ الْبُضْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ نَاحِيَةِ الظَّهْرِ، فَكَأَنَّ امْرَأَةَ الرَّجُلِ مَرْكَبٌ لِلرَّجُلِ وَظَهْرٌ لَهُ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ فِي الطَّلَاقِ: نَزَلْتُ عَنِ امْرَأَتِي أَيْ طَلَّقْتُهَا، وَفِي قَوْلِهِمْ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، حَذْفٌ وَإِضْمَارٌ، لِأَنَّ تَأْوِيلَهُ: ظَهْرُكِ عَلَيَّ، أَيْ مِلْكِي إِيَّاكِ، وَعُلُوِّي عَلَيْكِ حَرَامٌ، كَمَا أَنَّ عُلُوِّي عَلَى أُمِّي وَمِلْكَهَا حَرَامٌ عَلَيَّ. الْمَقَامُ الثَّانِي: فِي الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَعْمَلَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي عُرْفِ الشَّرِيعَةِ. الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: أَنْتِ

عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الظَّهْرِ، وَلَفْظُ الْأُمِّ مَذْكُورَيْنِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأُمِّ مَذْكُورًا دُونَ لَفْظِ الظَّهْرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الظَّهْرِ مَذْكُورًا دُونَ لَفْظِ الْأُمِّ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَذْكُورًا، فَهَذِهِ أَقْسَامٌ أَرْبَعَةٌ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إِذَا كَانَا مَذْكُورَيْنِ وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالِاتِّفَاقِ، ثُمَّ لَا مناقشة في الصلاة إِذَا انْتَظَمَ الْكَلَامُ، فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَوْ أَنْتِ مِنِّي كَظَهْرِ أُمِّي، فهذه الصلاة كُلُّهَا جَائِزَةٌ وَلَوْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ صِلَةً، وَقَالَ: أَنْتِ كَظَهْرِ أُمِّي، فَقِيلَ: إِنَّهُ صَرِيحٌ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهَا كَظَهْرِ أُمِّهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ بِذَلِكَ الْإِخْبَارَ عَنْ كَوْنِهَا طَالِقًا مِنْ جِهَةِ فُلَانٍ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ مَذْكُورَةً، وَلَا يَكُونَ الظَّهْرُ مَذْكُورًا، وَتَفْصِيلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ أَنَّ الْأَعْضَاءَ قِسْمَانِ، مِنْهَا مَا يَكُونُ التَّشْبِيهُ بِهَا غَيْرَ مُشْعِرٍ بِالْإِكْرَامِ، وَمِنْهَا مَا يكون التشبيه بها مشعر بِالْإِكْرَامِ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَرِجْلِ أُمِّي، أَوْ كَيَدِ أُمِّي، أَوْ كَبَطْنِ أُمِّي، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: الْجَدِيدُ أَنَّ الظِّهَارَ يَثْبُتُ، وَالْقَدِيمُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ، أَمَّا الْأَعْضَاءُ الَّتِي يَكُونُ التَّشْبِيهُ بِهَا سَبَبًا لِلْإِكْرَامِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَعَيْنِ أُمِّي، أَوْ رُوحِ أُمِّي، فَإِنْ أَرَادَ الظِّهَارَ كَانَ ظِهَارًا، وَإِنْ أَرَادَ الْكَرَامَةَ فَلَيْسَ بِظِهَارٍ، فَإِنَّ لَفْظَهُ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ، هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» : إِذَا شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِعُضْوٍ مِنَ الْأُمِّ يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَيَدِ أُمِّي أَوْ كَرَأْسِهَا، أَمَّا إذا شببها بِعُضْوٍ مِنَ الْأُمِّ يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظَرُ إِلَيْهِ كَانَ ظِهَارًا، كَمَا إِذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَبَطْنِ أُمِّي أَوْ فَخِذِهَا، وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي هُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الظِّهَارُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ حِلَّ الزَّوْجَةِ كَانَ ثَابِتًا، وَبَرَاءَةَ الذِّمَّةِ عَنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ كَانَتْ ثَابِتَةً، وَالْأَصْلُ فِي الثَّابِتِ الْبَقَاءُ عَلَى مَا كَانَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ فِيمَا إِذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ/ كَظَهْرِ أُمِّي لِمَعْنًى مَفْقُودٍ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمَعْهُودَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ هُوَ قَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ ظِهَارًا، فَكَانَ هَذَا اللَّفْظُ بِسَبَبِ الْعُرْفِ مُشْعِرًا بِالتَّحْرِيمِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ، فَوَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا إِذَا كَانَ الظَّهْرُ مَذْكُورًا وَلَمْ تَكُنِ الْأُمُّ مَذْكُورَةً، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ثَلَاثَةِ مَرَاتِبَ: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: أَنْ يَجْرِيَ التَّشْبِيهُ بِالْمُحَرَّمَاتِ مِنَ النَّسَبِ وَالرِّضَاعِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَدِيمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ ظِهَارًا، وَالْقَوْلُ الْجَدِيدُ أَنَّهُ يَكُونُ ظِهَارًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: تَشْبِيهُهَا بِالْمَرْأَةِ الْمُحَرَّمَةِ تَحْرِيمًا مُؤَقَّتًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ فُلَانَةَ، وَكَانَ طَلَّقَهَا وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذَا لَا يَكُونُ ظِهَارًا، وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّالِفَةِ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي حُصُولَ الظِّهَارِ بِكُلِّ مُحَرَّمٍ فَمَنْ قَصَرَهُ عَلَى الْأُمِّ فَقَدْ خَصَّ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ بَعْدَهُ: مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الظِّهَارُ بِذِكْرِ الْأُمِّ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْأُمِّ أَشَدُّ مِنْ حُرْمَةِ سَائِرِ الْمَحَارِمِ، فَنَقُولُ: الْمُقْتَضِي لِبَقَاءِ الْحِلِّ قَائِمٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَهَذَا الْفَارِقُ مَوْجُودٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْقِيَاسُ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا إِذَا لَمْ يَذْكُرْ لَا الظَّهْرَ وَلَا الْأُمَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَبَطْنِ أُخْتِي، وَعَلَى قِيَاسِ مَا تَقَدَّمَ يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ ظِهَارًا. الْبَحْثُ الثَّانِي: في المظاهر، وفيه مسائل:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ طَلَاقُهُ صَحَّ ظِهَارُهُ، فَعَلَى هَذَا ظِهَارُ الذِّمِّيِّ عِنْدَهُ صَحِيحٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ تَأْثِيرَ الظِّهَارِ فِي التَّحْرِيمِ وَالذِّمِّيُّ أَهْلٌ لِذَلِكَ، بِدَلِيلِ صِحَّةِ طَلَاقِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنْهُ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الثَّانِي: أَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُسْلِمِ زَجْرًا لَهُ عَنْ هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ وَزُورٌ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ، وَاحْتَجُّوا لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ وَذَلِكَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ مَخْصُوصٌ بِالْمُؤْمِنِينَ الثاني: مِنْ لَوَازِمِ الظِّهَارِ الصَّحِيحِ، وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَى الْعَائِدِ الْعَاجِزِ عَنِ الْإِعْتَاقِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا- إِلَى قَوْلِهِ- فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ [الْمُجَادِلَةِ: 3- 4] وَإِيجَابُ الصَّوْمِ عَلَى الذِّمِّيِّ مُمْتَنِعٌ، لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ، إِمَّا مَعَ الْكُفْرِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَهُوَ بَاطِلٌ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ/ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْكُمْ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْحَاضِرِينَ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ؟ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ تَخْصِيصَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَالَ غَيْرِهِمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، لَا سِيَّمَا وَمِنْ مَذْهَبِ هَذَا الْقَائِلِ: أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَالَ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ، سَلَّمْنَا بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، لَكِنَّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ أَضْعَفُ مِنْ دَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ، فَكَانَ التَّمَسُّكُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ أَوْلَى، سَلَّمْنَا الِاسْتِوَاءَ فِي الْقُوَّةِ، لَكِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَامَّ إِذَا وَرَدَ بَعْدَ الْخَاصِّ كَانَ نَاسِخًا لِلْخَاصِّ، وَالَّذِي تَمَسَّكْنَا بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ [الْمُجَادِلَةِ: 3] مُتَأَخِّرٌ فِي الذِّكْرِ عَنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي النُّزُولِ أَيْضًا لِأَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ حُكْمِ الظِّهَارِ، وَقَوْلَهُ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ فِيهِ بَيَانُ حُكْمِ الظِّهَارِ، وَكَوْنُ الْمُبَيَّنِ مُتَأَخِّرًا فِي النُّزُولِ عَنِ الْمُجْمَلِ أَوْلَى وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ لَوَازِمَهُ أَيْضًا أَنَّهُ مَتَى عَجَزَ عَنِ الصَّوْمِ اكْتُفِيَ مِنْهُ بِالْإِطْعَامِ فَهَهُنَا إِنْ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ وَجَبَ أَنْ يُكْتَفَى مِنْهُ بالإطعام وإن لم يتحقق العجز فَقَدْ زَالَ السُّؤَالُ، وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّوْمَ يَدُلُّ عَنِ الْإِعْتَاقِ، وَالْبَدَلَ أَضْعَفُ مِنَ الْمُبْدَلِ، ثُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ عَاجِزٌ عَنِ الْإِعْتَاقِ مَعَ أَنَّهُ يَصِحُّ ظِهَارُهُ، فَإِذَا كَانَ فَوَاتُ أَقْوَى اللَّازِمَيْنِ لَا يُوجِبُ الْمَنْعَ، مَعَ صِحَّةِ الظِّهَارِ، فَفَوَاتُ أَضْعَفِ اللَّازِمَيْنِ كَيْفَ يَمْنَعُ مِنَ الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الظِّهَارِ الثَّالِثُ: قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ يُقَالُ: إِنْ أَرَدْتَ الْخَلَاصَ مِنَ التَّحْرِيمِ، فأسلم وصم، أما قوله عليه وَالسَّلَامُ: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» قُلْنَا: إِنَّهُ عَامٌّ، وَالتَّكْلِيفُ بِالتَّكْفِيرِ خَاصٌّ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، وَأَيْضًا فَنَحْنُ لَا نُكَلِّفُهُ بِالصَّوْمِ بَلْ نَقُولُ: إِذَا أَرَدْتَ إِزَالَةَ التَّحْرِيمِ فَصُمْ، وَإِلَّا فَلَا تَصُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ رَحِمَهُمُ اللَّه: لَا يَصِحُّ ظِهَارُ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا وَهُوَ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: هُوَ يَمِينٌ تُكَفِّرُهَا، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَلْزَمُهُ بِذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ الْأَصْلُ فَكَيْفَ يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ ذَلِكَ؟ وَلِأَنَّ الظِّهَارَ يُوجِبُ تَحْرِيمًا بِالْقَوْلِ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَمْلِكُ ذَلِكَ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي الْيَوْمَ، بَطَلَ الظِّهَارُ بِمُضِيِّ الْيَوْمِ،

وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، هُوَ مُظَاهِرٌ أَبَدًا لَنَا أَنَّ التَّحْرِيمَ الْحَاصِلَ بِالظِّهَارِ قَابِلٌ للتوقيت وإلا لما انحل بالتفكير، وَإِذَا كَانَ قَابِلًا لِلتَّوْقِيتِ، فَإِذَا وَقَّتَهُ وَجَبَ أَنْ يَتَقَدَّرَ بِحَسَبِ ذَلِكَ التَّوْقِيتِ قِيَاسًا عَلَى الْيَمِينِ، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الْمَسَائِلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ نِسائِهِمْ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْمُظَاهَرِ مِنْهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ الظِّهَارُ عَنِ الْأَمَةِ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: يَصِحُّ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْحِلَّ كَانَ ثَابِتًا، وَالتَّكْفِيرَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، وَالْأَصْلُ فِي الثَّابِتِ الْبَقَاءُ، وَالْآيَةُ لَا تَتَنَاوَلُ هَذِهِ الصُّورَةَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ [المجادلة: 3] يَتَنَاوَلُ الْحَرَائِرَ دُونَ الْإِمَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَوْ نِسائِهِنَّ [النُّورِ: 31] وَالْمَفْهُومُ مِنْهُ الْحَرَائِرُ/ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا صَحَّ عَطْفُ قَوْلِهِ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعْطَفُ عَلَى نفسه، وقال تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ [النساء: 23] فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجَاتِ دُونَ مِلْكِ الْيَمِينِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ونافع وأبو عمر: والذين يُظَهِّرُونَ بِغَيْرِ الْأَلِفِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ: يُظاهِرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ الظَّاءِ وَالْأَلِفِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَظَّاهَرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَبِالْأَلِفِ مُشَدَّدَةَ الظَّاءِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ، ظَهَّرَ مِثْلُ ضَاعَفَ وَضَعَّفَ، وَتَدْخُلُ التَّاءُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَصِيرُ تَظَاهَرَ وَتَظَهَّرَ، وَيَدْخُلُ حرف المضارعة فيصير يتظاهر لِأَنَّهَا لِلْمُطَاوَعَةِ كَمَا يَفْتَحُهَا فِي يَتَدَحْرَجُ الَّذِي هُوَ مُطَاوِعُ، دَحْرَجْتُهُ فَتَدَحْرَجَ، وَإِنَّمَا فُتِحَ الْيَاءُ في يظاهر ويظهر، لِأَنَّهَا لِلْمُطَاوَعَةِ كَمَا يَفْتَحُهَا فِي يَتَدَحْرَجُ الَّذِي هُوَ مُطَاوِعُ، دَحْرَجْتُهُ فَتَدَحْرَجَ، وَإِنَّمَا فُتِحَ الْيَاءُ فِي يَظَّاهَرُ وَيَظَّهَّرُ لِأَنَّهُ الْمُطَاوِعُ كَمَا أَنَّ يَتَدَحْرَجُ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ عَلَى وَزْنِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا لِلْإِلْحَاقِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ، عَاصِمٍ يُظَاهِرُونَ فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ ظَاهَرَ يُظَاهِرُ إِذَا أَتَى بِمِثْلِ هَذَا التَّصَرُّفِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَفْظَةُ: مِنْكُمْ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ تَوْبِيخٌ لِلْعَرَبِ وَتَهْجِينٌ لِعَادَتِهِمْ فِي الظِّهَارِ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَيْمَانِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ الْمُفَضَّلِ: أُمَّهاتِهِمْ بِالرَّفْعِ وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى لَفْظِ الْخَفْضِ، وَجْهُ الرَّفْعِ أَنَّهُ لُغَةُ تَمِيمٍ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَهُوَ أَقْيَسُ الْوَجْهَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّفْيَ كَالِاسْتِفْهَامِ فَكَمَا لَا يُغَيِّرُ الِاسْتِفْهَامُ الْكَلَامَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، فَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُغَيِّرَ النَّفْيُ الْكَلَامَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، وَوَجْهُ النَّصْبِ أَنَّهُ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْأَخْذُ فِي التَّنْزِيلِ بِلُغَتِهِمْ أَوْلَى، وَعَلَيْهَا جَاءَ قَوْلُهُ: مَا هَذَا بَشَراً [يُوسُفَ: 31] وَوَجْهُهُ مِنَ الْقِيَاسِ أَنَّ مَا تُشْبِهُ لَيْسَ فِي أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ: (مَا) تَدْخُلُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، كَمَا أَنَّ (لَيْسَ) تَدْخُلُ عَلَيْهِمَا وَالثَّانِي: أَنَّ (مَا) تَنْفِي مَا فِي الْحَالِ، كَمَا أَنَّ (لَيْسَ) تَنْفِي مَا فِي الْحَالِ، وَإِذَا حَصَلَتِ الْمُشَابَهَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ وَجَبَ حُصُولُ الْمُسَاوَاةِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، إِلَّا مَا خُصَّ بالدليل قياسا على باب مالا يَنْصَرِفُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ: وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَهُوَ شَبَّهَ الزَّوْجَةَ بِالْأُمِّ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهَا أُمٌّ، فَكَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يُقَالَ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْطَالِ لِقَوْلِهِ: مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ وَكَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يُقَالَ: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَالْجَوَابُ: أَمَّا الْكَذِبُ إِنَّمَا لَزِمَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، إِمَّا أَنْ يَجْعَلَهُ إِخْبَارًا أَوْ إِنْشَاءً وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ كَذِبٌ، لِأَنَّ الزَّوْجَةَ مُحَلَّلَةٌ وَالْأُمُّ مُحَرَّمَةٌ، وَتَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ فِي وَصْفِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ كَذِبٌ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ إِنْشَاءً كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا كَذِبًا، لِأَنَّ كَوْنَهُ إِنْشَاءً مَعْنَاهُ أَنَّ

[سورة المجادلة (58) : آية 3]

الشَّرْعَ جَعَلَهُ سَبَبًا فِي حُصُولِ الْحُرْمَةِ، فَلَمَّا لَمْ يُرِدِ الشَّرْعُ بِهَذَا التَّشْبِيهَ، كَانَ جَعْلُهُ إِنْشَاءً فِي وُقُوعِ هَذَا الْحُكْمِ يَكُونُ كَذِبًا وَزُورًا، وَقَالَ/ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ: مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً لِأَنَّ الْأُمَّ مُحَرَّمَةٌ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، وَالزَّوْجَةُ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِهَذَا الْقَوْلِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، فَلَا جَرَمَ كَانَ ذَلِكَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ تَشْبِيهَ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَشْبِيهِ الزَّوْجَةِ بِالْأُمِّ فِي الْحُرْمَةِ تَشْبِيهُهَا بِهَا فِي كَوْنِ الْحُرْمَةِ مُؤَبَّدَةً، لِأَنَّ مُسَمَّى الْحُرْمَةِ أَعَمُّ مِنَ الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ وَالْمُؤَقَّتَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً أَمَّا الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ لَفْظَةِ اللَّائِي، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ [الأحزاب: 4] ثُمَّ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ: وَهُوَ أَنَّ ظَاهِرَهَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا أُمَّ إِلَّا الْوَالِدَةُ، وَهَذَا مشكل، لأنه قال في آية أخرى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النِّسَاءِ: 23] وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الْأَحْزَابِ: 6] وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْفَعَ هَذَا السُّؤَالُ بِأَنَّ الْمَعْنَى مِنْ كَوْنِ الْمُرْضِعَةِ أُمًّا، وَزَوْجَةِ الرَّسُولِ أُمًّا، حُرْمَةُ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ بِهَذَا الطَّرِيقِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْأُمُومَةِ الْحَقِيقِيَّةِ عَدَمُ الْحُرْمَةِ، فَإِذًا لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ كَوْنِ الزَّوْجَةِ أُمًّا عَدَمُ الْحُرْمَةِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يُوهِمُ أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِعَدَمِ الْأُمُومَةِ عَلَى عَدَمِ الْحُرْمَةِ، وَحِينَئِذٍ يَتَوَجَّهُ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ بَلْ تَقْدِيرُ الْآيَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: الزَّوْجَةُ لَيْسَتْ بِأُمٍّ، حَتَّى تَحْصُلَ الْحُرْمَةُ بِسَبَبِ الْأُمُومَةِ، وَلَمْ يُرِدِ الشَّرْعُ بِجَعْلِ هَذَا اللَّفْظِ سَبَبًا لِوُقُوعِ الْحُرْمَةِ حَتَّى تَحْصُلَ الْحُرْمَةُ، فَإِذًا لَا تَحْصُلُ الْحُرْمَةُ هُنَاكَ الْبَتَّةَ فَكَانَ وَصْفُهُمْ لَهَا بِالْحُرْمَةِ كَذِبًا وَزُورًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ إِمَّا مِنْ غَيْرِ التَّوْبَةِ لِمَنْ شَاءَ كَمَا قَالَ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ أَوْ بعد التوبة. [سورة المجادلة (58) : آية 3] وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا قَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِينَ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ فَعَلَيْهِمْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ دَلِيلًا عَلَيْهِ، وَإِنْ شِئْتَ أَضْمَرْتَ فَكَفَّارَتُهُمْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَاعْلَمْ أَنَّهُ كَثُرَ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَلَا بُدَّ أَوَّلًا مِنْ بَيَانِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَثَانِيًا مِنْ بَيَانِ أَقْوَالِ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ، وَفِيهَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا فَرْقَ فِي اللُّغَةِ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ: يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا: وَإِلَى مَا قَالُوا وَفِيمَا قَالُوا، أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: كَلِمَةُ إِلَى وَاللَّامُ يَتَعَاقَبَانِ، كَقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الْأَعْرَافِ: 43] وَقَالَ: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصَّافَّاتِ: 23] وَقَالَ تَعَالَى: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ [هُودَ: 36] وَقَالَ: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزَّلْزَلَةِ: 5] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَفْظُ مَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لفظ الظهار،

وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَعُودُونَ إِلَى ذَلِكَ اللَّفْظِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لِما قالُوا الْمَقُولَ فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِلَفْظِ الظِّهَارِ، تَنْزِيلًا لِلْقَوْلِ مَنْزِلَةَ الْمَقُولِ فِيهِ، وَنَظِيرُهُ قوله تعالى: وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ [مريم: 80] أَيْ وَنَرِثُهُ الْمَقُولَ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» وَإِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ فِي الْمَوْهُوبِ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَجَاؤُنَا، أَيْ مَرْجُوُّنَا، وَقَالَ تَعَالَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحِجْرِ: 99] أَيِ الْمُوقَنُ بِهِ، وَعَلَى هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا أَيْ يَعُودُونَ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي قَالُوا فِيهِ ذَلِكَ الْقَوْلَ، ثُمَّ إِذَا فَسَّرْنَا هَذَا اللَّفْظَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَنَقُولُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ، يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: عَادَ لِمَا فَعَلَ، أَيْ فَعَلَهُ مَرَّةً أُخْرَى، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: عَادَ لِمَا فَعَلَ، أَيْ نَقَضَ مَا فَعَلَ، وَهَذَا كَلَامٌ مَعْقُولٌ، لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُقَالَ مِثْلُهُ، فَقَدْ عَادَ إِلَى تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ لَا مَحَالَةَ أَيْضًا، وَأَيْضًا مَنْ فَعَلَ شَيْئًا ثُمَّ أَرَادَ إِبْطَالَهُ فَقَدْ عَادَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الشَّيْءِ بِالْإِعْدَامِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالْعَوْدِ إِلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَهَرَ مِمَّا قَدَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَيْهِ بِالنَّقْضِ وَالرَّفْعِ وَالْإِزَالَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون المراد منه، ثم يعودون إلى تكون مِثْلِهِ مَرَّةً أُخْرَى، أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ فَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُجْتَهِدِينَ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَعْنَى الْعَوْدِ لِمَا قَالُوا السُّكُوتُ عَنِ الطَّلَاقِ بَعْدَ الظِّهَارِ زَمَانًا يُمْكِنُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا ظَاهَرَ فَقَدْ قَصَدَ التَّحْرِيمَ، فَإِنْ وَصَلَ ذَلِكَ بِالطَّلَاقِ فَقَدْ تَمَّمَ مَا شَرَعَ مِنْهُ مِنْ إِيقَاعِ التَّحْرِيمِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، فَإِذَا سَكَتَ عَنِ الطَّلَاقِ، فَذَاكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ نَدِمَ عَلَى مَا ابْتَدَأَ بِهِ مِنَ التَّحْرِيمِ، فَحِينَئِذٍ تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تعالى قال: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا وثم تَقْتَضِي التَّرَاخِي، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْمُظَاهِرُ عَائِدًا عَقِيبَ الْقَوْلِ بِلَا تَرَاخٍ، وَذَلِكَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْآيَةِ الثَّانِي: أَنَّهُ شَبَّهَهَا بِالْأُمِّ وَالْأُمُّ لَا يَحْرُمُ إِمْسَاكُهَا، فَتَشْبِيهُ الزَّوْجَةِ بِالْأُمِّ لَا يَقْتَضِي حُرْمَةَ إِمْسَاكِ الزَّوْجَةِ، فَلَا يَكُونُ إِمْسَاكُ الزَّوْجَةِ نَقْضًا لِقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفَسَّرَ الْعَوْدُ بِهَذَا الْإِمْسَاكِ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ هَذَا أَيْضًا وَارِدٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ جَعَلَ تَفْسِيرَ الْعَوْدِ اسْتِبَاحَةَ الْوَطْءِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَمَكَّنَ الْمُظَاهِرُ مِنَ الْعَوْدِ إِلَيْهَا بِهَذَا التَّفْسِيرِ عَقِيبَ فَرَاغِهِ مِنَ التَّلَفُّظِ بِلَفْظِ الظِّهَارِ حَتَّى يَحْصُلَ التَّرَاخِي، مَعَ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ وَارِدٌ عَلَيْهِ أَيْضًا، ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّهُ مَا لَمْ يَنْقَضِ زَمَانٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيهِ، لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ عَائِدًا، فَقَدْ تَأَخَّرَ كَوْنُهُ عَائِدًا عَنْ/ كَوْنِهِ مُظَاهِرًا بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الزَّمَانِ، وَذَلِكَ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى كَلِمَةِ: ثُمَّ وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْأُمَّ يَحْرُمُ إِمْسَاكُهَا عَلَى سَبِيلِ الزَّوْجِيَّةِ وَيَحْرُمُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا، فَقَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ التَّشْبِيهَ وَقَعَ فِي إِمْسَاكِهَا عَلَى سَبِيلِ الزَّوْجِيَّةِ، أَوْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْكُلِّ، فَقَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، يَقْتَضِي تَشْبِيهَهَا بِالْأُمِّ فِي حُرْمَةِ إِمْسَاكِهَا عَلَى سَبِيلِ الزَّوْجِيَّةِ، فَإِذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا فَقَدْ أَمْسَكَهَا عَلَى سَبِيلِ الزَّوْجِيَّةِ، فَكَانَ هَذَا الْإِمْسَاكُ مُنَاقِضًا لِمُقْتَضَى قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَوَجَبَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ عَائِدًا، وَهَذَا كَلَامٌ مُلَخَّصٌ فِي تَقْرِيرِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْعَوْدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالنَّظَرِ إِلَيْهَا بِالشَّهْوَةِ، قَالُوا: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا شَبَّهَهَا بِالْأُمِّ فِي حُرْمَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ قَصَدَ اسْتِبَاحَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَانَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا شَبَّهَهَا بِالْأُمِّ، لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ فِي أَيِّ الْأَشْيَاءِ شَبَّهَهَا بِهَا، فَلَيْسَ صَرْفُ هَذَا التَّشْبِيهِ إِلَى حُرْمَةِ

الِاسْتِمْتَاعِ، وَحُرْمَةِ النَّظَرِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إِلَى حُرْمَةِ إِمْسَاكِهَا عَلَى سَبِيلِ الزَّوْجِيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا التَّشْبِيهُ عَلَى الْكُلِّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِذَا أَمْسَكَهَا عَلَى سَبِيلِ الزَّوْجِيَّةِ لَحْظَةً، فَقَدْ نَقَضَ حُكْمَ قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَوَجَبَ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْعَوْدُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ الْعَوْدِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ: أَنَّ الْعَوْدَ إِلَيْهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْعَزْمِ عَلَى جِمَاعِهَا وهذا ضعيف، لأن القصة إِلَى جِمَاعِهَا لَا يُنَاقِضُ كَوْنَهَا مُحَرَّمَةً إِنَّمَا الْمُنَاقِضُ لِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةً الْقَصْدُ إِلَى اسْتِحْلَالِ جِمَاعِهَا، وَحِينَئِذٍ نَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي تَفْسِيرِ الْعَوْدِ وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّ الْعَوْدَ إِلَيْهَا عِبَارَةٌ عَنْ جِمَاعِهَا، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فِي قَوْلِهِ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ يَقْتَضِي كَوْنَ التَّكْفِيرِ بَعْدَ الْعَوْدِ، وَيَقْتَضِي قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أَنْ يَكُونَ التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْجِمَاعِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ التَّكْفِيرُ بَعْدَ الْعَوْدِ، وَقَبْلَ الْجِمَاعِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَوْدُ غَيْرَ الْجِمَاعِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: الْعَوْدُ المذكور هاهنا، هَبْ أَنَّهُ صَالِحٌ لِلْجِمَاعِ، أَوْ لِلْعَزْمِ عَلَى الْجِمَاعِ، أَوْ لِاسْتِبَاحَةِ الْجِمَاعِ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه، هُوَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ فَيَجِبُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بِهِ يَتَحَقَّقُ مُسَمَّى الْعَوْدِ، وَأَمَّا الْبَاقِي فَزِيَادَةٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا الْبَتَّةَ. الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يَعُودُونَ أَيْ يَفْعَلُونَ مِثْلَ مَا فَعَلُوهُ، وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ فِي الْآيَةِ أَيْضًا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الثَّوْرِيُّ: الْعَوْدُ هُوَ الْإِتْيَانُ بِالظِّهَارِ فِي الْإِسْلَامِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُطَلِّقُونَ بِالظِّهَارِ، فَجَعَلَ اللَّه تَعَالَى حُكْمَ الظِّهَارِ فِي الْإِسْلَامِ خِلَافَ حُكْمِهِ عِنْدَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ يُرِيدُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا أَيْ فِي الْإِسْلَامِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلَ مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَفَّارَتُهُ كَذَا وَكَذَا، قَالَ أَصْحَابُنَا هَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الظِّهَارَ وَذَكَرَ الْعَوْدَ بَعْدَهُ بِكَلِمَةِ: ثُمَّ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَوْدِ شَيْئًا غَيْرَ الظِّهَارِ، فَإِنْ قَالُوا: الْمُرَادُ وَالَّذِينَ كَانُوا يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَالْعَرَبُ/ تُضْمِرُ لَفْظَ كان، كما في قوله: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ [البقرة: 102] أي ما كانت تتلوا الشَّيَاطِينُ، قُلْنَا: الْإِضْمَارُ خِلَافُ الْأَصْلِ الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: إِذَا كَرَّرَ لَفْظَ الظِّهَارِ فَقَدْ عَادَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُكَرَّرُ لَمْ يَكُنْ عَوْدًا، وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا يَدُلُّ عَلَى إِعَادَةِ مَا فَعَلُوهُ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّكْرِيرِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ هَذَا لَكَانَ يَقُولُ، ثُمَّ يُعِيدُونَ مَا قَالُوا الثَّانِي: حَدِيثُ أَوْسٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُكَرِّرِ الظِّهَارَ إِنَّمَا عَزَمَ عَلَى الْجِمَاعِ وَقَدْ أَلْزَمُهُ رَسُولُ اللَّه الْكَفَّارَةَ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرَةَ الْبَيَاضِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: كُنْتُ لَا أَصْبِرُ عَنِ الْجِمَاعِ فَلَمَّا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ ظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتِي مَخَافَةَ أَنْ لَا أَصْبِرَ عَنْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَظَاهَرْتُ مِنْهَا شَهْرَ رَمَضَانَ كُلِّهِ ثُمَّ لَمْ أَصْبِرْ فَوَاقَعْتُهَا فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّه فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ وَقُلْتُ: أَمْضِ فِيَّ حُكْمَ اللَّه، فَقَالَ: «أَعْتِقْ رَقَبَةً» فَأَوْجَبَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ تَكْرَارَ الظِّهَارِ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: مَعْنَى الْعَوْدِ، هُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَا قَالَ أَوَّلًا مِنْ لَفْظِ الظِّهَارِ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْلِفْ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ قَالَ فِي بَعْضِ الْأَطْعِمَةِ، إِنَّهُ حَرَامٌ عَلَيَّ كَلَحْمِ الْآدَمِيِّ، فَإِنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ قَدْ تَجِبُ بِالْإِجْمَاعِ فِي الْمَنَاسِكِ وَلَا يَمِينَ هُنَاكَ وَفِي قَتْلِ الْخَطَأِ وَلَا يَمِينَ هُنَاكَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِيمَا يُحَرِّمُهُ الظِّهَارُ، فَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُحَرِّمُ الْجِمَاعَ فَقَطْ الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُحَرِّمُ جَمِيعَ جِهَاتِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه وَدَلِيلُهُ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَكَانَ ذَلِكَ عَامًّا فِي جَمِيعِ ضُرُوبِ الْمَسِيسِ، مِنْ لَمْسٍ بِيَدٍ أَوْ غَيْرِهَا وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ أَلْزَمَهُ حُكْمَ التَّحْرِيمِ بِسَبَبِ أَنَّهُ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ الْأُمِّ، فَكَمَا أَنَّ مُبَاشَرَةَ ظَهْرِ الْأُمِّ وَمَسَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي الْمَرْأَةِ كَذَلِكَ الثَّالِثُ: رَوَى عِكْرِمَةُ: «أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ ثُمَّ وَاقَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ اعْتَزِلْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِيمَنْ ظَاهَرَ مِرَارًا، فقال الشافعي وأبو حنيفة: لكن ظاهر كَفَّارَةٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَأَرَادَ بِالتَّكْرَارِ التَّأْكِيدَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ مِائَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، دَلِيلُنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ... فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ يَقْتَضِي كَوْنَ الظِّهَارِ عِلَّةً لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ، فَإِذَا وُجِدَ الظِّهَارُ الثاني فقد وجدت علة وجوب الكفارة، والظاهر الثَّانِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْكَفَّارَةِ الْأُولَى، أَوْ لِكَفَّارَةٍ ثَانِيَةٍ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ بِالظِّهَارِ الْأَوَّلِ وَتَكْوِينُ الْكَائِنِ مُحَالٌ، وَلِأَنَّ تَأَخُّرَ الْعِلَّةِ عَنِ الْحُكْمِ مُحَالٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الظِّهَارَ الثَّانِيَ يُوجِبُ كَفَّارَةً/ ثَانِيَةً، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِأَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ يَتَنَاوَلُ مَنْ ظَاهَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمَنْ ظَاهَرَ مِرَارًا كَثِيرَةً، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِ تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ، فَعَلِمْنَا أَنَّ التَّكْفِيرَ الْوَاحِدَ كَافٍ فِي الظِّهَارِ، سَوَاءٌ كَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْ مِرَارًا كَثِيرَةً وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ [الْمَائِدَةِ: 89] فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ فِي الْأَيْمَانِ الْكَثِيرَةِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَمَّا كَانَ بَاطِلًا، فَكَذَا مَا قُلْتُمُوهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رَجُلٌ تَحْتَهُ أَرْبَعَةُ نِسْوَةٍ فَظَاهَرَ مِنْهُنَّ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَالَ: أَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ، نَظَرًا إِلَى عَدَدِ اللَّوَاتِي ظَاهَرَ مِنْهُنَّ، وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَا، أَنَّهُ ظَاهَرَ عَنْ هَذِهِ، فَلَزِمَهُ كَفَّارَةٌ بِسَبَبِ هَذَا الظِّهَارِ، وَظَاهَرَ أَيْضًا عَنْ تِلْكَ، فَالظِّهَارُ الثَّانِي لَا بُدَّ وَأَنْ يُوجِبَ كَفَّارَةً أُخْرَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْمُمَاسَّةِ، فَإِنْ جَامَعَ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَسُفْيَانَ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ رَحِمَهُمُ اللَّه، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا وَاقَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ دَلِيلُنَا أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُظَاهِرِ كَفَّارَةٌ قَبْلَ الْعَوْدِ، فَهَهُنَا فَاتَتْ صِفَةُ الْقَبْلِيَّةِ، فَيَبْقَى أَصْلُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ تَرْكَ التَّقْدِيمِ يُوجِبُ كَفَّارَةً أُخْرَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَدَعَهُ يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، فَإِنْ تَهَاوَنَ بِالتَّكْفِيرِ حَالَ الْإِمَامُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَيُجْبِرُهُ عَلَى التَّكْفِيرِ، وَإِنْ كَانَ بِالضَّرْبِ حَتَّى يُوَفِّيَهَا حَقَّهَا مِنَ الْجِمَاعِ، قَالَ الْفُقَهَاءُ: وَلَا شَيْءَ مِنَ الْكَفَّارَاتِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَيُحْبَسُ إِلَّا كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَحْدَهَا، لِأَنَّ تَرْكَ التَّكْفِيرِ إِضْرَارٌ بِالْمَرْأَةِ وَامْتِنَاعٌ مِنْ إِيفَاءِ حَقِّهَا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه هَذِهِ الرَّقَبَةُ تُجْزِئُ سَوَاءٌ كَانَتْ مُؤْمِنَةً أَوْ كَافِرَةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَهَذَا اللَّفْظُ يُفِيدُ الْعُمُومَ فِي جَمِيعِ الرِّقَابِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً وَدَلِيلُهُ وَجْهَانِ

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُشْرِكَ نَجَسٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التَّوْبَةِ: 28] وَكُلُّ نَجِسٍ خَبِيثٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ [الْبَقَرَةِ: 267] الثَّانِي: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الرَّقَبَةَ فِي كَفَّارَةِ القتل مقيدة بالإيمان، فكذا هاهنا، وَالْجَامِعُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إِنْعَامٌ، فَتَقْيِيدُهُ بِالْإِيمَانِ يَقْتَضِي صَرْفَ هَذَا الْإِنْعَامِ إِلَى أَوْلِيَاءِ اللَّه وَحِرْمَانَ أَعْدَاءِ اللَّه، وَعَدَمُ التَّقْيِيدِ بِالْإِيمَانِ قَدْ يُفْضِي إِلَى حِرْمَانِ أَوْلِيَاءِ اللَّه، فَوَجَبَ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِالْإِيمَانِ تَحْصِيلًا لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إِعْتَاقُ الْمُكَاتَبِ لَا يُجْزِئُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه إِنْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا جَازَ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَإِذَا أَعْتَقَهُ بَعْدَ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا، فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجْزِئُ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ رَقَبَةٌ/ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي الرِّقابِ [البقرة: 177] وَالرَّقَبَةُ مُجْزِئَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِبَقَاءِ التَّكَالِيفِ بِإِعْتَاقِ الرَّقَبَةِ قَائِمٌ، بَعْدَ إِعْتَاقِ الْمُكَاتَبِ، وَمَا لِأَجْلِهِ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي مَحَلِّ الرِّقَابِ غَيْرُ مَوْجُودٍ هاهنا، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، بَيَانُ الْمُقْتَضِي أَنَّ الْأَصْلَ فِي الثَّابِتِ الْبَقَاءُ عَلَى مَا كَانَ، بَيَانُ الْفَارِقِ أَنَّ الْمُكَاتَبَ كَالزَّائِلِ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِهِ، لَكِنَّهُ يُمْكِنُ نُقْصَانٌ فِي رِقِّهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ، وَيَمْتَنِعُ عَلَى الْمَوْلَى التَّصَرُّفَاتُ فِيهِ، وَلَوْ أَتْلَفَهُ الْمَوْلَى يَضْمَنُ قِيمَتَهُ، وَلَوْ وَطِئَ مُكَاتَبَتَهُ يُغَرَّمُ الْمَهْرَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ إِزَالَةَ الْمِلْكِ الْخَالِصِ عَنْ شَوَائِبِ الضَّعْفِ أَشَقُّ عَلَى الْمَالِكِ مِنْ إِزَالَةِ الْمِلْكِ الضَّعِيفِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ خُرُوجِ الرَّجُلِ عَنِ الْعُهْدَةِ بِإِعْتَاقِ الْعَبْدِ الْقِنِّ خُرُوجُهُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِإِعْتَاقِ الْمُكَاتَبِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ الْوَارِثُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يُجْزِئُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، فَكَذَا إِذَا أَعْتَقَهُ الْمُوَرِّثُ وَالْجَامِعُ كَوْنُ الْمِلْكِ ضَعِيفًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: لَوِ اشْتَرَى قَرِيبَهُ الَّذِي يعتق عليه بينة الْكَفَّارَةِ عَتَقَ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ لَا يَقَعُ عَنِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَقَعُ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ التَّمَسُّكُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ مَا تَقَدَّمَ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْإِطْعَامُ فِي الْكَفَّارَاتِ يَتَأَدَّى بِالتَّمْكِينِ مِنَ الطَّعَامِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَتَأَدَّى إِلَّا بِالتَّمْلِيكِ مِنَ الْفَقِيرِ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْإِطْعَامُ، وَحَقِيقَةُ الْإِطْعَامِ هُوَ التَّمْكِينُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [الْمَائِدَةِ: 89] وَذَلِكَ يَتَأَدَّى بِالتَّمْكِينِ والتمليك، فكذا هاهنا، وحجة الشافعي القياس على الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامِ بَلَدِهِ الَّذِي يَقْتَاتُ مِنْهُ حِنْطَةً أَوْ شَعِيرًا أَوْ أُرْزًا أَوْ تَمْرًا أَوْ أَقِطًا، وَذَلِكَ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُعْتَبَرُ مُدٌّ حَدَثَ بَعْدَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْطَى كُلُّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ دَقِيقٍ أَوْ سَوِيقٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ وَلَا يُجْزِئُهُ دُونَ ذَلِكَ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي الْإِطْعَامَ، ومراتب الإطعام مختلفة بالملكية وَالْكَيْفِيَّةِ، فَلَيْسَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْبَاقِي، فَلَا بُدَّ مِنْ حمله على أقل مالا بُدَّ مِنْهُ ظَاهِرًا، وَذَلِكَ هُوَ الْمُدُّ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ: «لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ» وَعَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ قَالَا: لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ مِنْ بُرٍّ، وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَاجَةُ الْيَوْمِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، فَيَكُونُ نَظِيرَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَلَا يَتَأَدَّى ذَلِكَ بِالْمُدِّ، بَلْ بِمَا قُلْنَا، فَكَذَلِكَ هُنَا. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: لَوْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا سِتِّينَ مَرَّةً لَا يُجْزِئُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُجْزِئُ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَوْجَبَ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، فَوَجَبَ رِعَايَةُ ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَحُجَّةُ أَبِي

[سورة المجادلة (58) : آية 4]

حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الْحَاجَةِ وَهُوَ حَاصِلٌ، وَلِلشَّافِعِيِّ أَنْ يَقُولَ: التَّحَكُّمَاتُ غَالِبَةٌ عَلَى هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ، فَوَجَبَ الِامْتِنَاعُ فِيهَا مِنَ الْقِيَاسِ، وَأَيْضًا فَلَعَلَّ إِدْخَالَ السُّرُورِ/ فِي قَلْبِ سِتِّينَ إِنْسَانًا، أَقْرَبُ إِلَى رِضَا اللَّه تَعَالَى مِنْ إِدْخَالِ السُّرُورِ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ: عَشْرَةَ: قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الرَّقَبَةِ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ وَقَالَ فِي الصَّوْمِ: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً فَذَكَرَ فِي الْأَوَّلِ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ وَفِي الثَّانِي: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَالُوا: مَنْ مَالُهُ غَائِبٌ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى الصَّوْمِ بِسَبَبِ عَجْزِهِ عَنِ الْإِعْتَاقِ فِي الْحَالِ أَمَّا مَنْ كَانَ مَرِيضًا فِي الْحَالِ، فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى الْإِطْعَامِ وَإِنْ كَانَ مَرَضُهُ بِحَيْثُ يُرْجَى زَوَالُهُ، قَالُوا: وَالْفَرْقُ أَنَّهُ قَالَ فِي الِانْتِقَالِ إِلَى الْإِطْعَامِ: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ وَهُوَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ النَّاجِزِ، وَالْعَجْزِ الْعَاجِلِ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ، وَقَالَ فِي الرَّقَبَةِ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ وَالْمُرَادُ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رَقَبَةً أَوْ مَالًا يَشْتَرِي بِهِ رَقَبَةً، وَمَنْ مَالُهُ غَائِبٌ لَا يُسَمَّى فَاقِدًا لِلْمَالِ، وَأَيْضًا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْفَرْقِ إِحْضَارُ الْمَالِ يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهِ وَأَمَّا إِزَالَةُ الْمَرَضِ فَلَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الشَّبَقُ الْمُفْرِطُ وَالْغُلْمَةُ الْهَائِجَةُ، عُذْرٌ فِي الِانْتِقَالِ إِلَى الْإِطْعَامِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَمَرَ الْأَعْرَابِيَّ بِالصَّوْمِ قَالَ لَهُ: وَهَلْ أُتِيتُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ الصَّوْمِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «أَطْعِمْ» دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الشَّبَقَ الشَّدِيدَ عُذْرٌ فِي الِانْتِقَالِ مِنَ الصَّوْمِ إِلَى الْإِطْعَامِ، وَأَيْضًا الِاسْتِطَاعَةُ فَوْقَ الْوُسْعِ، وَالْوُسْعُ فَوْقَ الطَّاقَةِ، فَالِاسْتِطَاعَةُ هُوَ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْإِنْسَانُ مِنَ الْفِعْلِ عَلَى سَبِيلِ السُّهُولَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَتِمُّ مَعَ شِدَّةِ الشَّبَقِ، فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُخْتَصَرَةٌ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِفِقْهِ الْقُرْآنِ في هذه الآية، واللَّه أعلم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قَالَ الزَّجَّاجُ: ذلِكُمْ لِلتَّغْلِيظِ فِي الْكَفَّارَةِ تُوعَظُونَ بِهِ أَيْ أَنَّ غِلَظَ الْكَفَّارَةِ وَعْظٌ لَكُمْ حَتَّى تَتْرُكُوا الظِّهَارَ وَلَا تُعَاوِدُوهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ أَيْ تُؤْمَرُونَ بِهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ من التكفير وتركه. [سورة المجادلة (58) : آية 4] فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى حُكْمَ الْعَاجِزِ عَنِ الرَّقَبَةِ فَقَالَ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ التَّتَابُعَ شَرْطٌ، وَذَكَرَ فِي تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ وَالصَّوْمِ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُوجَدَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ قَبْلَ الْمُمَاسَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ كَالْأَوَّلَيْنِ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، وَالْمَسَائِلُ الفقيهة الْمُفَرَّعَةُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ كَثِيرَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي كتاب الفقه. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ وَفِي قَوْلِهِ: ذلِكَ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، وَالْمَعْنَى الْفَرْضُ ذَلِكَ الَّذِي وَضَعْنَاهُ، الثَّانِي: فَعَلْنَا ذَلِكَ الْبَيَانَ وَالتَّعْلِيمَ لِلْأَحْكَامِ لِتُصَدِّقُوا باللَّه وَرَسُولِهِ فِي الْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ، وَلَا تَسْتَمِرُّوا عَلَى أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ جَعْلِ الظِّهَارِ أَقْوَى أَنْوَاعِ الطَّلَاقِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِتُؤْمِنُوا عَلَى أَنَّ فِعْلَ اللَّه مُعَلَّلٌ بِالْغَرَضِ وَعَلَى أن

[سورة المجادلة (58) : آية 5]

غَرَضَهُ أَنْ تُؤْمِنُوا باللَّه، وَلَا تَسْتَمِرُّوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْكُفْرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ وَعَدَمَ الْكُفْرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّ مَنْ أَدْخَلَ الْعَمَلَ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: أَمَرَهُمْ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِهَا لِيَصِيرُوا بِعَمَلِهَا مُؤْمِنِينَ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ مِنَ الْإِيمَانِ وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: (ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا باللَّه بِعَمَلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ) ، وَنَحْنُ نَقُولُ الْمَعْنَى ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا باللَّه بِالْإِقْرَارِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الطَّاعَةِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ لِمَنْ جَحَدَ هَذَا وكذب به. [سورة المجادلة (58) : آية 5] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمُحَادَّةِ قَوْلَانِ قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُ المحادة الممانعة، ومنه يقال للبواب: حداد، وللمنوع الرِّزْقِ مَحْدُودٌ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: الْمُحَادَّةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيدِ، وَالْمُرَادُ الْمُقَابَلَةُ بِالْحَدِيدِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ مُنَازَعَةً شَدِيدَةً شَبِيهَةً بِالْخُصُومَةِ بِالْحَدِيدِ، أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَقَالُوا: يُحَادُّونَ أَيْ يُعَادُونَ وَيُشَاقُّونَ، وَذَلِكَ تَارَةً بِالْمُحَارَبَةِ مَعَ أَوْلِيَاءِ اللَّه وَتَارَةً بِالتَّكْذِيبِ وَالصَّدِّ عَنْ دِينِ اللَّه. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: يُحَادُّونَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُوَادُّونَ الْكَافِرِينَ وَيُظَاهِرُونَ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَذَلَّهُمُ اللَّه تَعَالَى، وَيَحْتَمِلُ سَائِرَ الْكُفَّارِ فَأَعْلَمَ اللَّه رَسُولَهُ أَنَّهُمْ كُبِتُوا أَيْ خُذِلُوا، قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ: كَبَتَ اللَّه فُلَانًا إِذَا أَذَلَّهُ، وَالْمَرْدُودُ بِالذُّلِّ يُقَالُ لَهُ: مَكْبُوتٌ، ثُمَّ قَالَ: كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ: وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ/ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ: وَلِلْكافِرِينَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ: عَذابٌ مُهِينٌ يَذْهَبُ بِعِزِّهِمْ وَكِبْرِهِمْ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ عَذَابَ هَؤُلَاءِ الْمُحَادِّينَ فِي الدُّنْيَا الذُّلُّ وَالْهَوَانُ، وَفِي الْآخِرَةِ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا بِهِ يَتَكَامَلُ هَذَا الوعيد فقال: [سورة المجادلة (58) : آية 6] يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) يَوْمَ منصوب بينبئهم أو بمهين أَوْ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ، تَعْظِيمًا لِلْيَوْمِ، وَفِي قَوْلِهِ: جَمِيعاً قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: كُلَّهُمْ لَا يُتْرَكُ مِنْهُمْ أَحَدٌ غَيْرَ مَبْعُوثٍ وَالثَّانِي: مُجْتَمِعِينَ فِي حَالٍ واحدة، ثم قال: فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا تجليلا لَهُمْ، وَتَوْبِيخًا وَتَشْهِيرًا لِحَالِهِمُ، الَّذِي يَتَمَنَّوْنَ عِنْدَهُ الْمُسَارَعَةَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الخزي على رؤس الْأَشْهَادِ وَقَوْلُهُ: أَحْصاهُ اللَّهُ أَيْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ أحوال تلك الأعمال من المكية وَالْكَيْفِيَّةِ، وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْجُزْئِيَّاتِ، ثُمَّ قَالَ: وَنَسُوهُ لِأَنَّهُمُ اسْتَحْقَرُوهَا وَتَهَاوَنُوا بِهَا فَلَا جَرَمَ نَسُوهَا: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَيْ مُشَاهِدٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ ألبتة. [سورة المجادلة (58) : آية 7] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)

[في قوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ بَيَانَ كَوْنِهِ عَالِمًا بكل المعلومات فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَمْ تَرَ أَيْ أَلَمْ تَعْلَمْ وَأَقُولُ هَذَا، حَقٌّ لِأَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِالْأَشْيَاءِ لَا يُرَى، وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ بِوَاسِطَةِ الدَّلَائِلِ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ لَفْظُ الرُّؤْيَةِ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا، هُوَ أَنَّ أَفْعَالَهُ مُحْكَمَةٌ مُتْقَنَةٌ مُنْتَسِقَةٌ مُنْتَظِمَةٌ، وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ كَذَلِكَ فَهُوَ عَالِمٌ. أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: فَمَحْسُوسَةٌ مشاهدة في عجائب السموات وَالْأَرْضِ، وَتَرْكِيبَاتِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ. أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: فَبَدِيهِيَّةٌ، وَلَمَّا كَانَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى كَذَلِكَ ظَاهِرًا لَا جَرَمَ بَلَغَ هَذَا الْعِلْمُ وَالِاسْتِدْلَالُ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الظُّهُورِ وَالْجَلَاءِ، وصار جَارِيًا مَجْرَى الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ، فَلِذَلِكَ أَطْلَقَ لَفْظَ الرُّؤْيَةِ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ وَأَمَّا أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فَلِأَنَّ عِلْمَهُ عِلْمٌ قَدِيمٌ، فَلَوْ تَعَلَّقَ بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الْمَعْلُومَاتِ مُشْتَرِكَةٌ فِي صِحَّةِ الْمَعْلُومِيَّةِ لَافْتَقَرَ ذَلِكَ الْعِلْمُ فِي ذَلِكَ التَّخْصِيصِ إِلَى مُخَصِّصٍ، وَهُوَ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ فَلَا جَرَمَ وجب كونه تعايل عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يَقُلْ: يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْضِ وَمَا في السموات وَفِي رِعَايَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ سِرٌّ عَجِيبٌ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ مَا يَكُونُ مِنَ الْعِبَادِ مِنَ النَّجْوَى فَقَالَ: / مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ، وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ جِنِّي: قَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ مَا تَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ بِالتَّاءِ ثُمَّ قَالَ وَالتَّذْكِيرُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَامَّةُ هُوَ الْوَجْهُ، لِمَا هُنَاكَ مِنَ الشِّيَاعِ وَعُمُومِ الْجِنْسِيَّةِ، كَقَوْلِكَ: مَا جَاءَنِي مِنِ امْرَأَةٍ، وَمَا حَضَرَنِي مِنْ جَارِيَةٍ، وَلِأَنَّهُ وَقَعَ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، وَهُوَ كَلِمَةُ مِنْ، وَلِأَنَّ النَّجْوَى تَأْنِيثُهُ لَيْسَ تَأْنِيثًا حَقِيقِيًّا، وَأَمَّا التَّأْنِيثُ فَلِأَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: مَا تَكُونُ نَجْوَى، كَمَا يُقَالُ: مَا قَامَتِ امْرَأَةٌ وَمَا حَضَرَتْ جَارِيَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مَا يَكُونُ مِنْ كَانَ التَّامَّةِ، أَيْ مَا يُوجَدُ وَلَا يَحْصُلُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: النَّجْوَى التَّنَاجِي وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ [النساء: 114] وَقَالَ الزَّجَّاجُ: النَّجْوَى مُشْتَقٌّ مِنَ النَّجْوَةِ، وَهِيَ مَا ارْتَفَعَ وَنَجَا، فَالْكَلَامُ الْمَذْكُورُ سِرًّا لَمَّا خَلَا عَنِ اسْتِمَاعِ الْغَيْرِ صَارَ كَالْأَرْضِ الْمُرْتَفِعَةِ، فَإِنَّهَا لِارْتِفَاعِهَا خَلَتْ عَنِ اتِّصَالِ الْغَيْرِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ تُجْعَلَ النَّجْوَى وَصْفًا، فَيُقَالُ: قَوْمٌ نجوى، وقوله تعالى: وَإِذْ هُمْ نَجْوى [الإسراء: 47] وَالْمَعْنَى، هُمْ ذَوُو نَجْوَى، فَحُذِفَ الْمُضَافُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَصْدَرٍ وُصِفَ بِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: جَرُّ ثَلَاثَةٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا بِالْإِضَافَةِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ النَّجْوَى بِمَعْنَى الْمُتَنَاجِينَ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: مَا يَكُونُ مِنْ مُتَنَاجِينَ ثَلَاثَةً فَيَكُونُ صِفَةً. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ (ثَلَاثَةً) وَ (خَمْسَةً) بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، بِإِضْمَارِ يَتَنَاجَوْنَ لِأَنَّ نَجْوَى يَدُلُّ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الثَّلَاثَةَ وَالْخَمْسَةَ، وَأَهْمَلَ أَمْرَ الْأَرْبَعَةِ فِي الْبَيْنِ، وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الرَّحْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ إِذَا اجْتَمَعُوا، فَإِذَا أَخَذَ اثْنَانِ فِي التَّنَاجِي وَالْمُشَاوَرَةِ، بَقِيَ الْوَاحِدُ ضَائِعًا وَحِيدًا، فَيَضِيقُ قَلْبُهُ فَيَقُولُ اللَّه تَعَالَى: أَنَا جَلِيسُكَ وَأَنِيسُكَ، وَكَذَا الْخَمْسَةُ إِذَا اجْتَمَعُوا بَقِيَ الْخَامِسُ وَحِيدًا فَرِيدًا، أَمَّا إِذَا كَانُوا أَرْبَعَةً لَمْ يَبْقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَرِيدًا، / فَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَنِ انْقَطَعَ عَنِ الْخَلْقِ مَا يَتْرُكُهُ اللَّه تَعَالَى ضَائِعًا وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعَدَدَ الْفَرْدَ أَشْرَفُ مِنَ الزَّوْجِ، لِأَنَّ اللَّه وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، فَخَصَّ الْأَعْدَادَ الْفَرْدَ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَقَلَّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْمُشَاوَرَةِ الَّتِي يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهَا تَمْهِيدَ مَصْلَحَةِ ثَلَاثَةٍ، حَتَّى يَكُونَ الِاثْنَانِ كَالْمُتَنَازِعَيْنِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَالثَّالِثُ كَالْمُتَوَسِّطِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا، فَحِينَئِذٍ تَكْمُلُ تِلْكَ الْمَشُورَةُ وَيَتِمُّ ذَلِكَ الْغَرَضُ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ جَمْعٍ اجْتَمَعُوا لِلْمُشَاوَرَةِ، فَلَا بُدَّ فِيهِمْ مِنْ وَاحِدٍ يَكُونُ حَكَمًا مَقْبُولَ الْقَوْلِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ أَرْبَابُ الْمُشَاوَرَةِ عَدَدُهُمْ فَرْدًا، فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْفَرْدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَاكْتَفَى بِذِكْرِهِمَا تَنْبِيهًا عَلَى الْبَاقِي وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، اجْتَمَعُوا عَلَى التناجي مغايظة للمؤمنين، وكانوا على هذين العدين، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَبِيعَةَ وَحَبِيبٍ ابْنَيْ عَمْرٍو، وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، كَانُوا يَوْمًا يَتَحَدَّثُونَ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: هَلْ يَعْلَمُ اللَّه مَا تَقُولُ؟ وَقَالَ الثَّانِي: يَعْلَمُ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، وَقَالَ الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ يَعْلَمُ الْبَعْضَ فَيَعْلَمُ الْكُلَّ وَخَامِسُهَا: أَنَّ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّه: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا اللَّه رَابِعُهُمْ، وَلَا أَرْبَعَةٍ إِلَّا اللَّه خَامِسُهُمْ، وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا اللَّه سَادِسُهُمْ، وَلَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا اللَّه مَعَهُمْ إِذَا أَخَذُوا فِي التَّنَاجِي) . الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قُرِئَ: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ لَا لِنَفْيِ الْجِنْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَلا أَكْثَرَ بِالرَّفْعِ مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ (لَا) مَعَ (أَدْنَى) ، كَقَوْلِكَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةٌ إِلَّا باللَّه، بِفَتْحِ الْحَوْلِ وَرَفْعِ الْقُوَّةِ وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَرْفُوعَيْنِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، كَقَوْلِكَ: لَا حَوْلٌ وَلَا قُوَّةٌ إِلَّا باللَّه وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ ارْتِفَاعُهُمَا عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ مِنْ نَجْوى كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا يَكُونُ أَدْنَى وَلَا أَكْثَرُ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ، وَالْخَامِسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَجْرُورَيْنِ عَطْفًا عَلَى نَجْوى كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا يَكُونُ مِنْ أَدْنَى وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قُرِئَ: ولا أكبر بالباء المنقطعة مِنْ تَحْتُ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى رَابِعًا لَهُمْ، وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى مَعَهُمْ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِكَلَامِهِمْ وَضَمِيرِهِمْ وَسِرِّهِمْ وَعَلَنِهِمْ، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى حَاضِرٌ مَعَهُمْ وَمَشَاهِدٌ لَهُمْ، وَقَدْ تَعَالَى عَنِ الْمَكَانِ وَالْمُشَاهَدَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَرَأَ بَعْضُهُمْ: ثُمَّ يُنْبِئُهُمْ بِسُكُونِ النُّونِ، وَأَنْبَأَ وَنَبَّأَ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ أَيْ يُحَاسِبُ عَلَى ذَلِكَ وَيُجَازِي عَلَى قَدْرِ الِاسْتِحْقَاقِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ

[سورة المجادلة (58) : آية 8]

عَلِيمٌ وَهُوَ تَحْذِيرٌ مِنَ الْمَعَاصِي وَتَرْغِيبٌ فِي الطاعات. [سورة المجادلة (58) : آية 8] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) [فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ حَالَ أُولَئِكَ الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ/ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُمْ مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هُمُ الْيَهُودُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فَرِيقٌ مِنَ الْكُفَّارِ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ فقال: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ، وَهَذَا الْجِنْسُ فِيمَا رُوِيَ وَقَعَ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَدْ كَانُوا إِذَا سَلَّمُوا عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، يَعْنُونَ الْمَوْتَ، وَالْأَخْبَارُ فِي ذلك متظاهرة، وقصة عائشة فيها مشهورة. [في قوله تعالى وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ إلى قوله لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُ صَحَّ أَنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ كَانُوا يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيُوهِمُونَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا يَسُوءُهُمْ، فَيَحْزَنُونَ لِذَلِكَ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا ذَلِكَ شَكَا الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَتَنَاجَوْا دُونَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْ ذَلِكَ وَعَادُوا إِلَى مُنَاجَاتِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِثْمَ وَالْعُدْوَانَ هُوَ مُخَالَفَتُهُمْ لِلرُّسُلِ فِي النَّهْيِ عَنِ النَّجْوَى لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْمَنْهِيِّ يُوجِبُ الْإِثْمَ وَالْعُدْوَانَ، سِيَّمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْإِقْدَامُ لِأَجْلِ الْمُنَاصَبَةِ وَإِظْهَارِ التَّمَرُّدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِثْمَ وَالْعُدْوَانَ هُوَ ذَلِكَ السِّرُّ الَّذِي كَانَ يَجْرِي بَيْنَهُمْ، لِأَنَّهُ إِمَّا مَكْرٌ وَكَيْدٌ بِالْمُسْلِمِينَ أَوْ شَيْءٌ يسوءهم. المسألة الثانية: قرأ حمزة وحده، (ويتنجون) بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَالْبَاقُونَ: يَتَناجَوْنَ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَنْتَجُونَ يَفْتَعِلُونَ مِنَ النَّجْوَى، وَالنَّجْوَى مَصْدَرٌ كَالدَّعْوَى وَالْعَدْوَى، فَيَنْتَجُونَ وَيَتَنَاجَوْنَ وَاحِدٌ، فَإِنَّ يَفْتَعِلُونَ، وَيَتَفَاعَلُونَ، قد يجريان مجرى واحد، كَمَا يُقَالُ: ازْدَوِجُوا، وَاعْتَوِرُوا، وَتَزَاوَجُوا وَتَعَاوَرُوا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها [الْأَعْرَافِ: 38] وَادَّرَكُوا فأدركوا افتعلوا، وأدركوا تفاعلوا وحجة من قرأ: يَتَناجَوْنَ، قوله: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ [المجادلة: 12] وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى [المجادلة: 9] فَهَذَا مُطَاوِعُ نَاجَيْتُمْ، وَلَيْسَ فِي هَذَا رَدٌّ لِقِرَاءَةِ حَمْزَةَ: يَنْتَجُونَ، لِأَنَّ هَذَا مِثْلُهُ فِي الْجَوَازِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ قَالَ صَاحِبُ «الكشاف» : قرئ (ومعصيات الرسول) ، والقولان هاهنا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَقَوْلُهُ: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ يَعْنِي أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي تَحِيَّتِكَ، السَّامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ وَالسَّامُ الْمَوْتُ، واللَّه تَعَالَى يَقُولُ: وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل: 59] ويا أَيُّهَا الرَّسُولُ ويا أَيُّهَا النَّبِيُّ ثم ذكر تعالى أنهم يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ يَعْنِي أَنَّهُمْ/ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: إِنَّهُ لَوْ كَانَ رَسُولًا فَلِمَ لَا يُعَذِّبُنَا اللَّه بِهَذَا الاستخفاف. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَالْمَعْنَى أَنَّ تَقَدُّمَ الْعَذَابِ إِنَّمَا يَكُونُ بحسب

[سورة المجادلة (58) : آية 9]

الْمَشِيئَةِ، أَوْ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، فَإِذَا لَمْ تَقْتَضِ الْمَشِيئَةُ تَقْدِيمَ الْعَذَابِ، وَلَمْ يَقْتَضِ الصَّلَاحُ أَيْضًا ذَلِكَ، فَالْعَذَابُ فِي الْقِيَامَةِ كَافِيهِمْ فِي الرَّدْعِ عما هم عليه. [سورة المجادلة (58) : آية 9] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى. اعلم أن المخاطبين بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَوْلَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى [الْمُجَادِلَةِ: 8] عَلَى الْيَهُودِ حَمَلْنَا فِي هَذِهِ الآية قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى الْمُنَافِقِينَ، أَيْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَإِنْ حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْكُفَّارِ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ، حَمَلْنَا هَذَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَمَّ الْيَهُودَ وَالْمُنَافِقِينَ عَلَى التَّنَاجِي بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ، أَتْبَعَهُ بِأَنْ نَهَى أَصْحَابَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْلُكُوا مِثْلَ طَرِيقَتِهِمْ، فَقَالَ: فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَهُوَ مَا يَقْبُحُ مِمَّا يَخُصُّهُمْ وَالْعُدْوانِ وَهُوَ يُؤَدِّي إِلَى ظُلْمِ الْغَيْرِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَهُوَ مَا يَكُونُ خِلَافًا عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَنَاجَوْا بِالْبَرِّ الَّذِي يُضَادُّ الْعُدْوَانَ وَبِالتَّقْوَى وَهُوَ مَا يُتَّقَى بِهِ مِنَ النَّارِ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمَعَاصِي، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ مَتَى تَنَاجَوْا بِمَا هَذِهِ صِفَتُهُ قَلَّتْ: مُنَاجَاتُهُمْ، لِأَنَّ مَا يَدْعُو إِلَى مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ يَدْعُو إِظْهَارَهُ، وَذَلِكَ يَقْرُبُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النِّسَاءِ: 114] وَأَيْضًا فَمَتَى عَرَفْتَ طَرِيقَةَ الرَّجُلِ فِي هَذِهِ المناجاة لم يتأذ مِنْ مُنَاجَاتِهِ أَحَدٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أَيْ إِلَى حَيْثُ يُحَاسَبُ وَيُجَازَى وَإِلَّا فَالْمَكَانُ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّه تعالى. [سورة المجادلة (58) : آية 10] إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي لَفْظِ النَّجْوى لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، لِأَنَّ فِي النَّجْوَى مَا يَكُونُ مِنَ اللَّه وللَّه، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَعْهُودُ السَّابِقُ وَهُوَ النَّجْوَى بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى أَنْ يُقْدِمُوا عَلَى تِلْكَ النَّجْوَى الَّتِي/ هِيَ سَبَبٌ لِحُزْنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا رَأَوْهُمْ مُتَنَاجِينَ، قَالُوا: مَا نَرَاهُمْ إِلَّا وَقَدْ بَلَغَهُمْ عَنْ أَقْرِبَائِنَا وَإِخْوَانِنَا الَّذِينَ خَرَجُوا إِلَى الْغَزَوَاتِ أَنَّهُمْ قُتِلُوا وَهُزِمُوا، وَيَقَعُ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ ويحزنون له. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ يَضُرُّ التَّنَاجِي بِالْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا وَالثَّانِي: الشَّيْطَانُ لَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه، وَقَوْلُهُ: إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَقِيلَ: بِعِلْمِهِ وَقِيلَ: بِخَلْقِهِ، وَتَقْدِيرِهِ لِلْأَمْرَاضِ وَأَحْوَالِ الْقَلْبِ مِنَ الْحُزْنِ وَالْفَرَحِ، وَقِيلَ: بِأَنْ يُبَيِّنَ كَيْفِيَّةَ مُنَاجَاةِ الْكُفَّارِ حَتَّى يَزُولَ الْغَمُّ. ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ لَا يَخِيبُ أَمَلُهُ وَلَا يبطل سعيه.

[سورة المجادلة (58) : آية 11]

[سورة المجادلة (58) : آية 11] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا يَكُونُ سَبَبًا لِلتَّبَاغُضِ وَالتَّنَافُرِ، أَمَرَهُمُ الْآنَ بِمَا يَصِيرُ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْمَحَبَّةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَقَوْلُهُ: تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ تَوَسَّعُوا فِيهِ وَلْيُفْسِحْ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ، مِنْ قَوْلِهِمُ: افْسَحْ عَنِّي، أَيْ تَنَحَّ، وَلَا تَتَضَامُّوا، يُقَالُ: بَلْدَةٌ فَسِيحَةٌ، وَمَفَازَةٌ فَسِيحَةٌ، وَلَكَ فِيهِ فُسْحَةٌ، أَيْ سِعَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ: (تَفَاسَحُوا) ، قَالَ ابْنُ جِنِّي: هَذَا لَائِقٌ بِالْغَرَضِ لِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ: (تَفَسَّحُوا) ، فَمَعْنَاهُ لِيَكُنْ هُنَاكَ تَفَسُّحٌ، وَأَمَّا التَّفَاسُحُ فتفاعل، والمراد هاهنا الْمُفَاعَلَةُ، فَإِنَّهَا تَكُونُ لِمَا فَوْقَ الْوَاحِدِ كَالْمُقَاسَمَةِ وَالْمُكَايَلَةِ، وَقُرِئَ: فِي الْمَجْلِسِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْوَجْهُ التَّوْحِيدُ لِأَنَّ الْمُرَادَ مَجْلِسُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ وَاحِدٌ، وَوَجْهُ الْجَمْعِ أَنْ يُجْعَلَ لِكُلِّ جَالِسٍ مَجْلِسٌ عَلَى حِدَةٍ، أَيْ مَوْضِعُ جُلُوسٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي الْآيَةِ أَقْوَالًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَتَضَامُّونَ فِيهِ تَنَافُسًا عَلَى الْقُرْبِ مِنْهُ، وَحِرْصًا عَلَى اسْتِمَاعِ كَلَامِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الصُّفَّةِ، وَفِي الْمَكَانِ ضِيقٌ، وَكَانَ يُكْرِمُ أَهْلَ بَدْرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَجَاءَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَقَدْ سَبَقُوا إِلَى الْمَجْلِسِ، فَقَامُوا حِيَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَ أَنْ يُوَسَّعَ لَهُمْ، فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْقِيَامِ وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّسُولِ، فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنْ غير أهل بدر: قم يا فلان، قم يَا فُلَانُ، فَلَمْ يَزَلْ يُقِيمُ بِعِدَّةِ النَّفَرِ الَّذِينَ هُمْ قِيَامٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْ أُقِيمَ/ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَعُرِفَتِ الْكَرَاهِيَةُ فِي وُجُوهِهِمْ، وَطَعَنَ الْمُنَافِقُونَ فِي ذَلِكَ، وَقَالُوا: واللَّه مَا عَدَلَ عَلَى هَؤُلَاءِ، إِنَّ قَوْمًا أَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ، وَأَحَبُّوا الْقُرْبَ مِنْهُ فَأَقَامَهُمْ وَأَجْلَسَ مَنْ أَبْطَأَ عَنْهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّانِي: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَقَدْ أَخَذَ الْقَوْمُ مَجَالِسَهُمْ، وَكَانَ يُرِيدُ الْقُرْبَ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْوَقْرِ الَّذِي كَانَ فِي أُذُنَيْهِ فَوَسَّعُوا لَهُ حَتَّى قَرَّبَ، ثُمَّ ضَايَقَهُ بَعْضُهُمْ وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ كَلَامٌ، وَوَصَفَ لِلرَّسُولِ مَحَبَّةَ الْقُرْبِ مِنْهُ لِيَسْمَعَ كَلَامَهُ، وَإِنَّ فُلَانًا لَمْ يُفْسِحْ لَهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأُمِرَ الْقَوْمُ بِأَنْ يُوَسِّعُوا وَلَا يَقُومَ أَحَدٌ لِأَحَدٍ، الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُحِبُّونَ الْقُرْبَ مِنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَكْرَهُ أَنْ يُضَيَّقَ عَلَيْهِ فَرُبَّمَا سَأَلَهُ أَخُوهُ أَنْ يُفْسِحَ لَهُ فَيَأْبَى فَأَمَرَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِأَنْ يَتَعَاطَفُوا وَيَتَحَمَّلُوا الْمَكْرُوهَ وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَمَسَّهُ الْفُقَرَاءُ، وَكَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ يَلْبَسُونَ الصُّوفَ وَلَهُمْ رَوَائِحُ، الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْحَسَنِ أَنَّ الْمُرَادَ تَفَسَّحُوا فِي مَجَالِسِ الْقِتَالِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: مَقاعِدَ لِلْقِتالِ [آلِ عِمْرَانَ: 121] وَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي الصَّفَّ فَيَقُولُ تَفَسَّحُوا، فَيَأْبَوْنَ لِحِرْصِهِمْ عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ جَمِيعُ الْمَجَالِسِ وَالْمَجَامِعِ، قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ، مِنْهُ مَجْلِسُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْمَجْلِسَ عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مَعْهُودًا، وَالْمَعْهُودُ فِي زَمَانِ نُزُولِ الْآيَةِ لَيْسَ إِلَّا مَجْلِسُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَعْظُمُ التَّنَافُسُ عَلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِلْقُرْبِ مِنْهُ مَزِيَّةٌ عَظِيمَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ سَمَاعِ حَدِيثِهِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ المنزلة،

وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى» وَلِذَلِكَ كَانَ يُقَدِّمُ الْأَفَاضِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانُوا لِكَثْرَتِهِمْ يَتَضَايَقُونَ، فَأُمِرُوا بِالتَّفَسُّحِ إِذَا أَمْكَنَ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْخَلُ فِي التَّحَبُّبِ، وَفِي الِاشْتِرَاكِ فِي سَمَاعِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الدِّينِ، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ، فَحَالَ الْجِهَادُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ أَوْلَى، لِأَنَّ الشَّدِيدَ الْبَأْسِ قَدْ يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى تَقَدُّمِهِ مَاسَّةٌ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّفَسُّحِ، ثُمَّ يُقَاسُ عَلَى هَذَا سَائِرُ مَجَالِسِ الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ فَهُوَ مُطْلَقٌ فِي كُلِّ مَا يَطْلُبُ النَّاسُ الْفُسْحَةَ فِيهِ مِنَ الْمَكَانِ وَالرِّزْقِ وَالصَّدْرِ وَالْقَبْرِ وَالْجَنَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ وَسَّعَ عَلَى عِبَادِ اللَّه أَبْوَابَ الْخَيْرِ وَالرَّاحَةِ، وَسَّعَ اللَّه عَلَيْهِ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُقَيِّدَ الْآيَةَ بِالتَّفَسُّحِ فِي الْمَجْلِسِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ إِيصَالُ الْخَيْرِ إِلَى الْمُسْلِمِ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ فِي قَلْبِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَزَالُ اللَّه فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا زَالَ الْعَبْدُ فِي عون أخيه المسلم» . [في قوله تعالى وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا إلى قوله وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ/ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذا قيل لكم: ارفعوا فَارْتَفِعُوا، وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: إِذَا قِيلَ لَكُمْ: قُومُوا لِلتَّوْسِعَةِ عَلَى الدَّاخِلِ، فَقُومُوا وَثَانِيهَا: إِذَا قِيلَ: قُومُوا مِنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا تُطَوِّلُوا فِي الْكَلَامِ، فَقُومُوا وَلَا تَرْكُزُوا مَعَهُ، كَمَا قَالَ: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ [الْأَحْزَابِ: 53] وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَثَالِثُهَا: إِذَا قِيلَ لَكُمْ: قُومُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ وَأَعْمَالِ الْخَيْرِ وَتَأَهَّبُوا لَهُ، فَاشْتَغِلُوا بِهِ وَتَأَهَّبُوا لَهُ، وَلَا تَتَثَاقَلُوا فِيهِ، قَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ قَوْمًا تَثَاقَلُوا عَنِ الصَّلَاةِ، فَأُمِرُوا بِالْقِيَامِ لَهَا إِذَا نُودِيَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: انْشُزُوا بِكَسْرِ الشِّينِ وَبِضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ: يَعْكُفُونَ ويعكفون [الأعراف: 138] ، ويَعْرِشُونَ ويعرشون [الأعراف: 137] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَاهُمْ أَوَّلًا عَنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ ثَانِيًا بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَعَدَهُمْ عَلَى الطَّاعَاتِ، فَقَالَ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ أَيْ يَرْفَعُ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِ رَسُولِهِ، وَالْعَالِمِينَ مِنْهُمْ خَاصَّةً دَرَجَاتٍ، ثُمَّ فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذِهِ الرِّفْعَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْقَوْلُ النَّادِرُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرِّفْعَةُ فِي مَجْلِسِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالثَّانِي: وَهُوَ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الرِّفْعَةُ فِي دَرَجَاتِ الثَّوَابِ، وَمَرَاتِبِ الرِّضْوَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّا أَطْنَبْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَةِ: 31] فِي فَضِيلَةِ الْعِلْمِ، وَقَالَ الْقَاضِي: لَا شُبْهَةَ أَنَّ علم العالم يقتضي لطاعته من المنزلة مالا يحصل للمؤمن، ولذلك فإنه يقتدي بالعلم فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ، وَلَا يُقْتَدَى بِغَيْرِ الْعَالِمِ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ كَيْفِيَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنِ الْحَرَامِ والشبهات، ومحاسبة النفس مالا يَعْرِفُهُ الْغَيْرُ، وَيَعْلَمُ مِنْ كَيْفِيَّةِ الْخُشُوعِ وَالتَّذَلُّلِ في العبادة مالا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُ، وَيَعْلَمُ مِنْ كَيْفِيَّةِ التَّوْبَةِ وَأَوْقَاتِهَا وصفاتها مالا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُ، وَيَتَحَفَّظُ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْحُقُوقِ مالا يَتَحَفَّظُ مِنْهُ غَيْرُهُ، وَفِي الْوُجُوهِ كَثْرَةٌ، لَكِنَّهُ كما

[سورة المجادلة (58) : آية 12]

تَعْظُمُ مَنْزِلَةُ أَفْعَالِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ فِي دَرَجَةِ الثَّوَابِ، فَكَذَلِكَ يَعْظُمُ عِقَابُهُ فِيمَا يَأْتِيهِ مِنَ الذُّنُوبِ، لِمَكَانِ عِلْمِهِ حَتَّى لَا يَمْتَنِعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ صَغَائِرِ غَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ كَبِيرًا منه. [سورة المجادلة (58) : آية 12] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا التَّكْلِيفُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْفَوَائِدِ أَوَّلُهَا: إِعْظَامُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِعْظَامُ مُنَاجَاتِهِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا وَجَدَ الشَّيْءَ مَعَ الْمَشَقَّةِ اسْتَعْظَمَهُ، وَإِنْ وَجَدَهُ بِالسُّهُولَةِ، اسْتَحْقَرَهُ وَثَانِيهَا: نَفْعُ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَرَاءِ بِتِلْكَ الصَّدَقَةِ الْمُقَدَّمَةِ قَبْلَ الْمُنَاجَاةِ وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُوا الْمَسَائِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى شَقُّوا عَلَيْهِ، وَأَرَادَ اللَّه أَنْ يُخَفِّفَ عَنْ نَبِيِّهِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَحَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَكَفُّوا عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَرَابِعُهَا: قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: إِنَّ الْأَغْنِيَاءَ غَلَبُوا الْفُقَرَاءَ عَلَى مَجْلِسِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَكْثَرُوا مِنْ مُنَاجَاتِهِ حَتَّى كَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طُولَ جُلُوسِهِمْ، فَأَمَرَ اللَّه بِالصَّدَقَةِ عِنْدَ الْمُنَاجَاةِ، فَأَمَّا الْأَغْنِيَاءُ فَامْتَنَعُوا، وَأَمَّا الْفُقَرَاءُ فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا، وَاشْتَاقُوا إِلَى مَجْلِسِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَتَمَنَّوْا أَنْ لَوْ كَانُوا يَمْلِكُونَ شَيْئًا فَيُنْفِقُونَهُ وَيَصِلُونَ إِلَى مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعِنْدَ هَذَا التَّكْلِيفِ ازْدَادَتْ دَرَجَةُ الْفُقَرَاءِ عِنْدَ اللَّه، وَانْحَطَّتْ دَرَجَةُ الْأَغْنِيَاءِ وَخَامِسُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّخْفِيفَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ أَرْبَابَ الْحَاجَاتِ كَانُوا يُلِحُّونَ عَلَى الرَّسُولِ، وَيَشْغَلُونَ أَوْقَاتَهُ الَّتِي هِيَ مَقْسُومَةٌ عَلَى الْإِبْلَاغِ إِلَى الْأُمَّةِ وَعَلَى الْعِبَادَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ مَا يَشْغَلُ قَلْبَ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ، لِظَنِّهِ أَنَّ فُلَانًا إِنَّمَا نَاجَى رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَمْرٍ يَقْتَضِي شَغْلَ الْقَلْبِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ يَتَمَيَّزُ بِهِ مُحِبُّ الْآخِرَةِ عَنْ مُحِبِّ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْمَالَ مِحَكُّ الدَّوَاعِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الصَّدَقَةِ كَانَ وَاجِبًا، لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُقَالُ إِلَّا فِيمَا بِفَقْدِهِ يَزُولُ وُجُوبُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ مَا كَانَ وَاجِبًا، بَلْ كَانَ مَنْدُوبًا، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَهَذَا إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي التَّطَوُّعِ لَا فِي الْفَرْضِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا لَمَا أُزِيلَ وُجُوبُهُ بِكَلَامٍ مُتَّصِلٍ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا [المجادلة: 13] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمَنْدُوبَ كَمَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ خَيْرٌ وَأَطْهَرُ، فَالْوَاجِبُ أَيْضًا يُوصَفُ بِذَلِكَ وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْآيَتَيْنِ مُتَّصِلَتَيْنِ فِي التِّلَاوَةِ، كَوْنُهُمَا مُتَّصِلَتَيْنِ فِي النُّزُولِ، وَهَذَا كَمَا قُلْنَا فِي الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الِاعْتِدَادِ بأربعة أشهر وعشرا، إِنَّهَا نَاسِخَةٌ لِلِاعْتِدَادِ بِحَوْلٍ، وَإِنْ كَانَ النَّاسِخُ مُتَقَدِّمًا فِي التِّلَاوَةِ عَلَى الْمَنْسُوخِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ تَأَخُّرِ النَّاسِخِ عَنِ الْمَنْسُوخِ، فَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَا بَقِيَ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ ثُمَّ نُسِخَ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: بَقِيَ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ نُسِخَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ فِي كِتَابِ اللَّه لَآيَةً مَا عَمِلَ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي، وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي، كَانَ لِي دِينَارٌ فَاشْتَرَيْتُ بِهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَكُلَّمَا نَاجَيْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمْتُ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَايَ دِرْهَمًا، ثُمَّ نُسِخَتْ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَحَدٌ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَالْكَلْبِيِّ وَعَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ نُهُوا عَنِ

[سورة المجادلة (58) : آية 13]

الْمُنَاجَاةِ حَتَّى يَتَصَدَّقُوا فَلَمْ يُنَاجِهِ أَحَدٌ إِلَّا/ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَصَدَّقَ بِدِينَارٍ، ثُمَّ نَزَلَتِ الرُّخْصَةُ. قَالَ الْقَاضِي وَالْأَكْثَرُ فِي الرِّوَايَاتِ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَفَرَّدَ بِالتَّصَدُّقِ قَبْلَ مُنَاجَاتِهِ، ثُمَّ وَرَدَ النَّسْخُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ أَيْضًا أَنَّ أَفَاضِلَ الصَّحَابَةِ وَجَدُوا الْوَقْتَ وَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ، وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ اخْتَصَّ بِذَلِكَ فَلِأَنَّ الْوَقْتَ لَمْ يَتَّسِعْ لِهَذَا الْغَرَضِ، وَإِلَّا فَلَا شُبْهَةَ أَنَّ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ لَا يَقْعُدُونَ عَنْ مِثْلِهِ، وَأَقُولُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ أَفَاضِلَ الصَّحَابَةِ وَجَدُوا الْوَقْتَ وَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ، فَهَذَا لَا يَجُرُّ إِلَيْهِمْ طَعْنًا، وَذَلِكَ الْإِقْدَامُ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ مِمَّا يُضِيقُ قَلْبَ الْفَقِيرِ، فَإِنَّهُ لَا يقدر على مثله فيضيق قلبه، ويوحش قلب الْغَنِيَّ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَفْعَلِ الْغَنِيُّ ذَلِكَ وَفَعَلَهُ غَيْرُهُ صَارَ ذَلِكَ الْفِعْلُ سَبَبًا لِلطَّعْنِ فِيمَنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَهَذَا الْفِعْلُ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِحُزْنِ الْفُقَرَاءِ وَوَحْشَةِ الْأَغْنِيَاءِ، لَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِهِ كَبِيرُ مَضَرَّةٍ، لِأَنَّ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِلْأُلْفَةِ أَوْلَى مِمَّا يَكُونُ سَبَبًا لِلْوَحْشَةِ، وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْمُنَاجَاةُ لَيْسَتْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَلَا مِنَ الطَّاعَاتِ الْمَنْدُوبَةِ، بَلْ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ إِنَّمَا كُلِّفُوا بِهَذِهِ الصَّدَقَةِ لِيَتْرُكُوا هَذِهِ الْمُنَاجَاةَ، وَلَمَّا كَانَ الْأَوْلَى بِهَذِهِ الْمُنَاجَاةِ أَنْ تَكُونَ مَتْرُوكَةً لَمْ يَكُنْ تَرْكُهَا سَبَبًا لِلطَّعْنِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ دَعَانِي رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا تَقُولُ فِي دِينَارٍ؟ قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ، قَالَ: كَمْ؟ قُلْتُ: حَبَّةٌ أَوْ شَعِيرَةٌ، قَالَ: إِنَّكَ لَزَهِيدٌ» وَالْمَعْنَى إِنَّكَ قَلِيلُ الْمَالِ فَقَدَّرْتَ عَلَى حَسَبِ حَالِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ أي ذلك التقديم فِي دِينِكُمْ وَأَطْهَرُ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ طُهْرَةٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْفُقَرَاءُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ كَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْكَرَ أَبُو مُسْلِمٍ وُقُوعَ النَّسْخِ وَقَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَمْتَنِعُونَ مِنْ بَذْلِ الصَّدَقَاتِ، وَإِنَّ قَوْمًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ تَرَكُوا النِّفَاقَ وَآمَنُوا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إِيمَانًا حَقِيقِيًّا، فَأَرَادَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُمَيِّزَهُمْ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، فَأَمَرَ بِتَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى النَّجْوَى لِيَتَمَيَّزَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا حَقِيقِيًّا عَمَّنْ بَقِيَ عَلَى نِفَاقِهِ الْأَصْلِيِّ، وَإِذَا كَانَ هَذَا التَّكْلِيفُ لِأَجْلِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الْمُقَدَّرَةِ لِذَلِكَ الْوَقْتِ، لَا جَرَمَ يُقَدَّرُ هَذَا التَّكْلِيفُ بِذَلِكَ الْوَقْتِ، وَحَاصِلُ قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ: أَنَّ ذَلِكَ التَّكْلِيفَ كَانَ مُقَدَّرًا بِغَايَةٍ مَخْصُوصَةٍ، فَوَجَبَ انْتِهَاؤُهُ عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى الْغَايَةِ الْمَخْصُوصَةِ، فَلَا يَكُونُ هَذَا نَسْخًا، وَهَذَا الْكَلَامُ حَسَنٌ مَا بِهِ بَأْسٌ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: أَأَشْفَقْتُمْ وَمِنْهُمْ من قال: إنه منسوخ بوجوب الزكاة. [سورة المجادلة (58) : آية 13] أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) وَالْمَعْنَى أَخِفْتُمْ تَقْدِيمَ الصَّدَقَاتِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِنْفَاقِ الْمَالِ، فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَتَابَ اللَّه عَلَيْكُمْ وَرَخَّصَ لَكُمْ فِي أَنْ لَا تَفْعَلُوهُ، فَلَا تُفَرِّطُوا فِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَسَائِرِ الطَّاعَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى تَقْصِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ التَّكْلِيفِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى تَقْصِيرِهِمْ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قُلْنَا: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا كُلِّفُوا بِأَنْ يُقَدِّمُوا الصَّدَقَةَ وَيُشْغَلُوا بِالْمُنَاجَاةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ، فَمَنْ تَرَكَ الْمُنَاجَاةَ

[سورة المجادلة (58) : آية 14]

يَكُونُ مُقَصِّرًا، وَأَمَّا لَوْ قِيلَ بِأَنَّهُمْ نَاجَوْا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ، فَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ جَائِزٍ، لَأَنَّ الْمُنَاجَاةَ لَا تُمْكِنُ إِلَّا إِذَا مَكَّنَ الرَّسُولُ مِنَ الْمُنَاجَاةِ، فَإِذَا لَمْ يُمَكِّنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْمُنَاجَاةِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى صُدُورِ التَّقْصِيرِ مِنْهُمْ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: أَأَشْفَقْتُمْ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَلِمَ ضِيقَ صَدْرِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ عَنْ إِعْطَاءِ الصَّدَقَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَوْ دَامَ الْوُجُوبُ، فَقَالَ هَذَا الْقَوْلَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ تَابَ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا التَّقْصِيرِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنَّكُمْ إِذَا كُنْتُمْ تَائِبِينَ رَاجِعِينَ إِلَى اللَّه، وَأَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، فَقَدْ كَفَاكُمْ هَذَا التَّكْلِيفَ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يَعْنِي محيط بأعمالكم ونياتكم. [سورة المجادلة (58) : آية 14] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَتَوَلَّوْنَ الْيَهُودَ وَهُمُ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّه عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [المائدة: 60] وَيَنْقُلُونَ إِلَيْهِمْ أَسْرَارَ الْمُؤْمِنِينَ: مَا هُمْ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ وَلَا مِنَ الْيَهُودِ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَذِبِ إِمَّا ادِّعَاؤُهُمْ كَوْنَهُمْ مُسْلِمِينَ، وَإِمَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتُمُونَ اللَّه وَرَسُولَهُ وَيَكِيدُونَ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ خَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْقَتْلِ، فَيَحْلِفُونَ أَنَّا مَا قُلْنَا ذَلِكَ وَمَا فَعَلْنَاهُ، فَهَذَا هُوَ الْكَذِبُ الَّذِي يَحْلِفُونَ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْجَاحِظِ إِنَّ الْخَبَرَ الَّذِي يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ إِنَّمَا يَكُونُ كَذِبًا لَوْ عَلِمَ الْمُخْبِرُ كَوْنَ الْخَبَرِ مُخَالِفًا لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَذَلِكَ لَأَنَّ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لَكَانَ قَوْلُهُ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ تَكْرَارًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ، يُرْوَى أَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنَ نَبْتَلٍ الْمُنَافِقَ كَانَ/ يُجَالِسُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَرْفَعُ حَدِيثَهُ إِلَى الْيَهُودِ، فَبَيْنَا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حُجْرَتِهِ إِذْ قَالَ: يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ يَنْظُرُ بِعَيْنِ شَيْطَانٍ- أَوْ بِعَيْنَيْ شَيْطَانٍ- فَدَخَلَ رَجُلٌ عَيْنَاهُ زَرْقَاوَانِ فَقَالَ لَهُ: لِمَ تَسُبَّنِي فَجَعَلَ يَحْلِفُ فَنَزَلَ قَوْلُهُ: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. [سورة المجادلة (58) : آية 15] أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (15) وَالْمُرَادُ مِنْهُ عِنْدَ بَعْضِ المحققين عذاب القبر. ثم قال تعالى: [سورة المجادلة (58) : آية 16] اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْحَسَنُ: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، قَالَ ابْنُ جِنِّي: هَذَا عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيِ اتَّخَذُوا ظِهَارَ إِيمَانِهِمْ جُنَّةً عَنْ ظُهُورِ نِفَاقِهِمْ وَكَيْدِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ جُنَّةً عَنْ أَنْ يَقْتُلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَلَمَّا أَمِنُوا مِنَ الْقَتْلِ اشْتَغَلُوا بِصَدِّ النَّاسِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ بِإِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ فِي الْقُلُوبِ وَتَقْبِيحِ حَالِ الْإِسْلَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أَيْ عَذَابُ الآخر، وَإِنَّمَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً على عذاب القبر، وقوله هاهنا: فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ على عذاب الآخر، لِئَلَّا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنَ الْكُلِّ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ [النحل: 88] .

[سورة المجادلة (58) : آية 17]

[سورة المجادلة (58) : آية 17] لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) رُوِيَ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ قَالَ: لَنُنْصَرَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْفُسِنَا وَأَوْلَادِنَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. [سورة المجادلة (58) : آية 18] يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْمُنَافِقَ يَحْلِفُ للَّه يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذِبًا كَمَا يَحْلِفُ لِأَوْلِيَائِهِ فِي الدُّنْيَا كَذِبًا أَمَّا الْأَوَّلُ: فَكَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: 23] . وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ [البقرة: 56] وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لِشِدَّةِ تَوَغُّلِهِمْ فِي النِّفَاقِ ظَنُّوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ يُمْكِنُهُمْ تَرْوِيجُ/ كَذِبِهِمْ بِالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ عَلَى عَلَّامِ الْغُيُوبِ، فَكَانَ هَذَا الْحَلِفُ الذَّمِيمُ يَبْقَى مَعَهُمْ أَبَدًا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الْأَنْعَامِ: 28] قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي: إِنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ لَا يَكْذِبُونَ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ فِي الْآخِرَةِ أَنَّا مَا كُنَّا كَافِرِينَ عِنْدَ أَنْفُسِنَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ هَذَا الْحَلِفُ كَذِبًا، وَقَوْلُهُ: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ أَيْ فِي الدُّنْيَا، وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِهَذَا الْوَجْهِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَقْتَضِي رَكَاكَةً عَظِيمَةً فِي النَّظْمِ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] . [سورة المجادلة (58) : آية 19] اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) قَالَ الزَّجَّاجُ: اسْتَحْوَذَ فِي اللُّغَةِ اسْتَوْلَى، يقال: حاوزت الْإِبِلَ، وَحُذْتُهَا إِذَا اسْتَوْلَيْتَ عَلَيْهَا وَجَمَعْتَهَا، قَالَ الْمُبَرِّدُ: اسْتَحْوَذَ عَلَى الشَّيْءِ حَوَاهُ وَأَحَاطَ بِهِ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ فِي حَقِّ عُمَرَ: كَانَ أَحْوَذِيًّا، أَيْ سَائِسًا ضَابِطًا لِلْأُمُورِ، وَهُوَ أَحَدُ مَا جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ نَحْوَ: اسْتَصْوَبَ وَاسْتَنْوَقَ، أَيْ مَلَكَهُمُ الشَّيْطَانُ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ وَاحْتَجَّ الْقَاضِي بِهِ فِي خَلْقِ الْأَعْمَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: ذَلِكَ النِّسْيَانُ لَوْ حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّه لَكَانَتْ إِضَافَتُهَا إِلَى الشَّيْطَانِ كَذِبًا وَالثَّانِي: لَوْ حَصَلَ ذَلِكَ بِخَلْقِ اللَّه لَكَانُوا كَالْمُؤْمِنِينَ فِي كَوْنِهِمْ حِزْبَ اللَّه لَا حِزْبَ الشَّيْطَانِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: [سورة المجادلة (58) : الآيات 20 الى 21] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) أَيْ فِي جُمْلَةِ مَنْ هُوَ أَذَلُّ خَلْقِ اللَّه، لِأَنَّ ذُلَّ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى حَسَبِ عِزِّ الْخَصْمِ الثَّانِي، فَلَمَّا كَانَتْ عِزَّةُ اللَّه غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، كَانَتْ ذِلَّةُ مَنْ يُنَازِعُهُ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ أَيْضًا، وَلَمَّا شَرَحَ ذُلَّهُمْ، بَيَّنَ عِزَّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: أَنَا وَرُسُلِي بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ لَا يُحَرِّكُونَ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: التَّحْرِيكُ وَالْإِسْكَانُ جَمِيعًا جَائِزَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: غَلَبَةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ بِالْحُجَّةِ مُفَاضَلَةٌ، إِلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ ضَمَّ إِلَى الْغَلَبَةِ بِالْحُجَّةِ الْغَلَبَةَ بِالسَّيْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَلَى نُصْرَةِ أَنْبِيَائِهِ: عَزِيزٌ غَالِبٌ لَا يَدْفَعُهُ أَحَدٌ عَنْ مُرَادِهِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ يَكُونُ غَالِبًا لِلْمُمْكِنِ/ لِذَاتِهِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: إن

[سورة المجادلة (58) : آية 22]

الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ يُظْهِرَنَا اللَّه عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ أُبَيٍّ: أَتَظُنُّونَ أَنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ كَبَعْضِ الْقُرَى الَّتِي غَلَبْتُمُوهُمْ، كَلَّا واللَّه إِنَّهُمْ أَكْثَرُ جَمْعًا وعدة فأنزل اللَّه هذه الآية. [سورة المجادلة (58) : آية 22] لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ مَعَ وِدَادِ أَعْدَاءِ اللَّه، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ أحب أحدا امتنع أن يجب مَعَ ذَلِكَ عَدُوَّهُ وَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي الْقَلْبِ، فَإِذَا حَصَلَ فِي الْقَلْبِ وِدَادُ أَعْدَاءِ اللَّه، لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الْإِيمَانُ، فَيَكُونُ صَاحِبُهُ مُنَافِقًا وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا يجتمعان ولكنه معصية وكبيرة، وَكَبِيرَةٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ صَاحِبُ هَذَا الْوِدَادِ كَافِرًا بِسَبَبِ هَذَا الْوِدَادِ، بَلْ كَانَ عَاصِيًا فِي اللَّه، فَإِنْ قِيلَ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ تَجُوزُ مُخَالَطَتُهُمْ وَمُعَاشَرَتُهُمْ، فَمَا هَذِهِ الْمَوَدَّةُ الْمُحَرَّمَةُ الْمَحْظُورَةُ؟ قُلْنَا: الْمَوَدَّةُ الْمَحْظُورَةُ هِيَ إِرَادَةُ مُنَافِسِهِ دِينًا وَدُنْيَا مَعَ كَوْنِهِ كَافِرًا، فَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَلَا حَظْرَ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَالَغَ فِي الْمَنْعِ مِنْ هَذِهِ الْمَوَدَّةِ مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُهَا: مَا ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْمَوَدَّةَ مَعَ الْإِيمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَيْلَ إِلَى هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْمَيْلِ، وَمَعَ هَذَا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَيْلُ مَغْلُوبًا مَطْرُوحًا بِسَبَبِ الدِّينِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ قَتَلَ أَبَاهُ عَبْدَ اللَّه بْنَ الْجَرَّاحِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَتَلَ خَالَهُ الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَبِي بَكْرٍ دَعَا ابْنَهُ يَوْمَ بَدْرٍ إِلَى الْبِرَازِ، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَتِّعْنَا بِنَفْسِكَ» وَمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ قَتَلَ أَخَاهُ عُبَيْدَ بْنَ عمير، / وعلي بن أبي طالب وَعُبَيْدَةَ قَتَلُوا عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَخْبَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يُوَادُّوا أَقَارِبَهُمْ وَعَشَائِرَهُمْ غَضَبًا للَّه وَدِينِهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى عَدَّدَ نِعَمَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَبَدَأَ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ فِي قَلْبِهِ مَوَدَّةُ أَعْدَاءِ اللَّه، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: كَتَبَ أَمَّا الْقَاضِي فَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ عَلَى وَفْقِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَحَدُهَا: جَعَلَ فِي قُلُوبِهِمْ عَلَامَةً تَعْرِفُ بِهَا الْمَلَائِكَةُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ شَرَحَ صُدُورَهُمْ لِلْإِيمَانِ بِالْأَلْطَافِ وَالتَّوْفِيقِ وَثَالِثُهَا: قِيلَ فِي: كَتَبَ قَضَى أَنَّ قُلُوبَهُمْ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ نُسَلِّمُهَا لِلْقَاضِي وَنُفَرِّعُ عَلَيْهَا صِحَّةَ قَوْلِنَا، فَإِنَّ الَّذِي قَضَى اللَّه بِهِ أَخْبَرَ عَنْهُ وَكَتَبَهُ فِي اللوح المحفوظ، لو لم يقع لا نقلب خَبَرُ اللَّه الصِّدْقُ كَذِبًا وَهَذَا مُحَالٌ، وَالْمُؤَدِّي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ مَعْنَاهُ: جَمَعَ، وَالْكَتِيبَةُ: الْجَمْعُ مِنَ الْجَيْشِ، وَالتَّقْدِيرُ أُولَئِكَ الَّذِينَ جَمَعَ اللَّه فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ، أَيِ اسْتَكْمَلُوا فَلَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ [النِّسَاءِ: 150] وَمَتَى كَانُوا كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَحْصُلَ فِي قُلُوبِهِمْ مَوَدَّةُ الْكُفَّارِ، وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: كَتَبَ مَعْنَاهُ أَثْبَتَ وَخَلَقَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُمْكِنُ كَتْبُهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى الْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: كُتِبَ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالْبَاقُونَ: كَتَبَ على

إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْفَاعِلِ وَالنِّعْمَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَصَرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَسَمَّى تِلْكَ النُّصْرَةَ رُوحًا لِأَنَّ بِهَا يَحْيَا أَمْرُهُمْ وَالثَّانِي: قَالَ السُّدِّيُّ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْمَعْنَى أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنَ الْإِيمَانِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورة: 52] النِّعْمَةُ الثَّالِثَةُ: وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى نِعْمَةِ الْجَنَّةِ النِّعْمَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَهِيَ نِعْمَةُ الرِّضْوَانِ، وَهِيَ أَعْظَمُ النِّعَمِ وَأَجَلُّ الْمَرَاتِبِ، ثُمَّ لَمَّا عَدَّدَ هَذِهِ النِّعَمَ ذَكَرَ الْأَمْرَ الرَّابِعَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُوجِبُ تَرْكَ الْمُوَادَّةِ مَعَ أَعْدَاءِ اللَّه فَقَالَ: أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَهُوَ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ فِيهِمْ: أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ [المجادلة: 19] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَإِخْبَارِهِ أَهْلَ مَكَّةَ بمسير النبي صلى اللَّه عليه وسلم إليهم لَمَّا أَرَادَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَتِلْكَ الْقِصَّةُ مَعْرُوفَةٌ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْآيَةُ زَجْرٌ عَنِ التَّوَدُّدِ إِلَى الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ. عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ وَلَا لِفَاسِقٍ عِنْدِي نِعْمَةً فَإِنِّي وَجَدْتُ فِيمَا أو حيث لَا تَجِدُ قَوْماً إِلَى آخِرِهِ» واللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَالْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

سورة الحشر

بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم سُورَةُ الْحَشْرِ وَهِيَ عِشْرُونَ وَأَرْبَعُ آيَاتٍ مَدَنِيَّةٌ [سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ صَالَحَ بَنُو النَّضِيرِ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ لَا يَكُونُوا عَلَيْهِ وَلَا لَهُ، فَلَمَّا ظَهَرَ يَوْمَ بَدْرٍ قَالُوا: هُوَ النَّبِيُّ الْمَنْعُوتُ فِي التَّوْرَاةِ بالنصر، فلما هزم المسلمون يوم أحد تابوا وَنَكَثُوا، فَخَرَجَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا إِلَى مَكَّةَ وَحَالَفُوا أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّ، فَقَتَلَ كَعْبًا غِيلَةً، وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، ثُمَّ صَحِبَهُمْ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَتَائِبِ وَهُوَ عَلَى حِمَارٍ مَخْطُومٍ بِلِيفٍ، فَقَالَ لَهُمُ: اخْرُجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: الْمَوْتُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ فَتَنَادَوْا بِالْحَرْبِ، وَقِيلَ: اسْتَمْهَلُوا رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ لِيَتَجَهَّزُوا لِلْخُرُوجِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّه بْنَ أُبَيٍّ وَقَالَ: لَا تَخْرُجُوا مِنَ الْحِصْنِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَنَحْنُ مَعَكُمْ لَا نَخْذُلُكُمْ، وَلَئِنْ خَرَجْتُمْ لنخرجن معكم، فحصنوا الأزقة فحاصرهم إحدى وعشرون لَيْلَةً، فَلَمَّا قَذَفَ اللَّه فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَأَيِسُوا مِنْ نَصْرِ الْمُنَافِقِينَ طَلَبُوا الصُّلْحَ، فَأَبَى إِلَّا الْجَلَاءَ، عَلَى أَنْ يَحْمِلَ كُلُّ ثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ عَلَى بَعِيرٍ مَا شَاءُوا مِنْ مَتَاعِهِمْ، فجلوا إلى الشأم إلى أريحاء وأزرعات إِلَّا أَهْلَ بَيْتَيْنِ مِنْهُمْ آلُ أَبِي الْحَقِيقِ، وَآلُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، فَإِنَّهُمْ لَحِقُوا بِخَيْبَرَ، ولحقت طائفة بالحيرة. وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا مَعْنَى هَذِهِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ الْجَوَابُ: إِنَّهَا هِيَ اللَّامُ فِي قَوْلِكَ: جِئْتُ لِوَقْتِ كَذَا، وَالْمَعْنَى: أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا عِنْدَ أَوَّلِ الْحَشْرِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى أَوَّلِ الْحَشْرِ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ الْحَشْرَ هُوَ إِخْرَاجُ الْجَمْعِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَأَمَّا أَنَّهُ لِمَ سُمِّيَ هَذَا الْحَشْرُ بِأَوَّلِ الْحَشْرِ فَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْأَكْثَرِينَ أَنَّ هَذَا أَوَّلُ حشر أهل

الْكِتَابِ، أَيْ أَوَّلُ مَرَّةٍ حُشِرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ جَزِيرَةِ/ الْعَرَبِ لَمْ يُصِبْهُمْ هَذَا الذُّلُّ قَبْلَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ مَنْعَةٍ وَعِزٍّ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ إِخْرَاجَهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ حَشْرًا، وَجَعَلَهُ أَوَّلَ الْحَشْرِ مِنْ حَيْثُ يُحْشَرُ النَّاسُ لِلسَّاعَةِ إِلَى نَاحِيَةِ الشَّامِ، ثُمَّ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ هُنَاكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا أَوَّلُ حَشْرِهِمْ، وَأَمَّا آخِرُ حَشْرِهِمْ فَهُوَ إِجْلَاءُ عُمَرَ إِيَّاهُمْ مِنْ خَيْبَرَ إِلَى الشَّامِ وَرَابِعُهَا: مَعْنَاهُ أَخْرَجَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ مَا يَحْشُرُهُمْ لِقِتَالِهِمْ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ قتال قاتلهم رسول اللَّه وَخَامِسُهَا: قَالَ قَتَادَةُ هَذَا أَوَّلُ الْحَشْرِ، وَالْحَشْرُ الثَّانِي نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، تَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتُقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا: وَذَكَرُوا أَنَّ تِلْكَ النَّارَ تُرَى بالليل ولا ترى بالنهار. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ لِعِزَّتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ، فَإِنَّ النِّعْمَةَ إِذَا وَرَدَتْ عَلَى الْمَرْءِ وَالظَّنُّ بِخِلَافِهِ تَكُونُ أَعْظَمَ، فَالْمُسْلِمُونَ مَا ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَصِلُونَ إِلَى مُرَادِهِمْ فِي خُرُوجِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ، فَيَتَخَلَّصُونَ مِنْ ضَرَرِ مَكَايِدِهِمْ، فَلَمَّا تَيَسَّرَ لَهُمْ ذَلِكَ كَانَ تَوَقُّعُ هَذِهِ النِّعْمَةِ أَعْظَمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ قَالُوا كَانَتْ حُصُونُهُمْ مَنِيعَةً فَظَنُّوا أَنَّهَا تَمْنَعُهُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّه، وَفِي الْآيَةِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لِرَسُولِ اللَّه، فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُعَامَلَتَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّه هِيَ بِعَيْنِهَا نَفْسُ الْمُعَامَلَةِ مَعَ اللَّه، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِكَ: ظَنُّوا أَنَّ حُصُونَهُمْ تَمْنَعُهُمْ أَوْ مَانِعَتُهُمْ وَبَيْنَ النَّظْمِ الَّذِي جَاءَ عَلَيْهِ، قُلْنَا: فِي تَقْدِيمِ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ دَلِيلٌ عَلَى فَرْطِ وُثُوقِهِمْ بِحَصَانَتِهَا وَمَنْعِهَا إِيَّاهُمْ، وَفِي تَصْيِيرِ ضَمِيرِهِمُ اسْمًا، وَإِسْنَادِ الْجُمْلَةِ إِلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ فِي عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ لَا يُبَالُونَ بِأَحَدٍ يَطْمَعُ فِي مُنَازَعَتِهِمْ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي لَا تَحْصُلُ فِي قَوْلِكَ: وَظَنُّوا أَنَّ حُصُونَهُمْ تَمْنَعُهُمْ. قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَأَتاهُمُ عَائِدٌ إِلَى الْيَهُودِ، أَيْ فَأَتَاهُمْ عَذَابُ اللَّه وَأَخَذَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ أَيْ فَأَتَاهُمْ نَصْرُ اللَّه وَتَقْوِيَتُهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، وَمَعْنَى: لَمْ يَحْتَسِبُوا، أَيْ لَمْ يَظُنُّوا وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: قَتْلُ رَئِيسِهِمْ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ عَلَى يَدِ أَخِيهِ غِيلَةً، وَذَلِكَ مِمَّا أضعف قوتهم، وفتت عضدهم، وقل مِنْ شَوْكَتِهِمْ وَالثَّانِي: بِمَا قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَأَتاهُمُ اللَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بِاتِّفَاقِ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَابَ التَّأْوِيلِ مَفْتُوحٌ، وَأَنَّ صَرْفَ الْآيَاتِ عَنْ ظَوَاهِرِهَا بِمُقْتَضَى الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ جَائِزٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: قُرِئَ فَآتاهُمُ اللَّهُ أَيْ فَآتَاهُمُ الْهَلَاكُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لَا تَدْفَعُ مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لَا تَدْفَعُ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى، فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ بِالتَّوَاتُرِ، وَمَتَى كَانَتْ ثَابِتَةً بِالتَّوَاتُرِ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا، بَلْ لا بد فيها من التأويل.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الرُّعْبُ، الْخَوْفُ الَّذِي يَسْتَوْعِبُ الصَّدْرَ، أَيْ يَمْلَؤُهُ، وَقَذْفُهُ إِثْبَاتُهُ فِيهِ، وَفِيهِ قَالُوا فِي صِفَةِ الْأَسَدِ: مُقَذَّفٌ، كَأَنَّمَا قُذِّفَ بِاللَّحْمِ قَذْفًا لِاكْتِنَازِهِ وَتَدَاخُلِ أَجْزَائِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا مِنْ أَنَّ الْأُمُورَ كلها اللَّه، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ كَانَ مِنَ اللَّه وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الرُّعْبَ صَارَ سَبَبًا فِي إِقْدَامِهِمْ عَلَى بَعْضِ الْأَفْعَالِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْفِعْلُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ دَاعِيَةٍ مُتَأَكِّدَةٍ فِي الْقَلْبِ، وَحُصُولُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ اللَّه، فَكَانَتِ الْأَفْعَالُ بِأَسْرِهَا مُسْنَدَةً إِلَى اللَّه بِهَذَا الطَّرِيقِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ: يُخْرِبُونَ مُشَدَّدَةً، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: يُخْرِبُونَ خَفِيفَةً، وَكَانَ أَبُو عَمْرٍو يَقُولُ: الْإِخْرَابُ أَنْ يُتْرَكَ الشَّيْءُ خَرَابًا وَالتَّخْرِيبُ الْهَدْمُ، وَبَنُو النَّضِيرِ خُرِّبُوا وَمَا أُخْرِبُوا قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَلَا أَعْلَمُ لِهَذَا وجها، ويخربون هو الأصل خرب المنزل، فَإِنَّمَا هُوَ تَكْثِيرٌ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ بُيُوتًا تَصْلُحُ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَزَعَمَ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُمَا يَتَعَاقَبَانِ فِي الْكَلَامِ، فَيَجْرِي كُلُّ وَاحِدٍ مَجْرَى الْآخَرِ، نَحْوَ فرحته وأفرحته، وحسنه اللَّه وأحسنه، وقال الأعمش: «وَأَخْرَبْتُ مِنْ أَرْضِ قَوْمٍ دِيَارًا» وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يُخْرِبُونَ بِالتَّشْدِيدِ يَهْدِمُونَ، وَبِالتَّخْفِيفِ يُخْرِبُونَ مِنْهَا وَيَتْرُكُونَهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي بَيَانِ أَنَّهُمْ كَيْفَ كَانُوا يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا أَيْقَنُوا بِالْجَلَاءِ، حَسَدُوا الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْكُنُوا مَسَاكِنَهُمْ وَمَنَازِلَهُمْ، فَجَعَلُوا يُخْرِبُونَهَا مِنْ دَاخِلٍ، وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ خَارِجٍ وَثَانِيهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ دَسُّوا إِلَيْهِمْ أَنْ لَا يَخْرُجُوا، وَدَرِبُوا عَلَى الْأَزِقَّةِ وَحَصَّنُوهَا، فَنَقَضُوا بُيُوتَهُمْ وَجَعَلُوهَا كَالْحُصُونِ عَلَى أَبْوَابِ الْأَزِقَّةِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُخْرِبُونَ سَائِرَ الْجَوَانِبِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا ظَهَرُوا عَلَى دَرْبٍ مِنْ دُرُوبِهِمْ خَرَّبُوهُ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَتَأَخَّرُونَ إِلَى مَا وَرَاءِ بُيُوتِهِمْ، وَيُنَقِّبُونَهَا مِنْ أَدْبَارِهَا وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُخْرِبُونَ ظَوَاهِرَ الْبَلَدِ، وَالْيَهُودُ لَمَّا أَيْقَنُوا بِالْجَلَاءِ، وَكَانُوا يَنْظُرُونَ/ إِلَى الْخَشَبَةِ فِي مَنَازِلِهِمْ مِمَّا يَسْتَحْسِنُونَهُ أَوِ الْبَابِ فَيَهْدِمُونَ بُيُوتَهُمْ، وَيَنْزِعُونَهَا وَيَحْمِلُونَهَا عَلَى الْإِبِلِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى تَخْرِيبِهِمْ لَهَا بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ؟ قُلْنَا قَالَ الزَّجَّاجُ: لَمَّا عَرَّضُوهُمْ لِذَلِكَ وَكَانُوا السَّبَبَ فِيهِ فَكَأَنَّهُمْ أَمَرُوهُمْ بِهِ وكلفوه إياهم. قوله تعالى: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [المسألة الأولى] اعْلَمْ أَنَّا قَدْ تَمَسَّكْنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي كِتَابِ «الْمَحْصُولُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ» عَلَى أَنَّ القياس حجة فلا نذكره هاهنا، إلا أنه لا بد هاهنا مِنْ بَيَانِ الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَ اللَّه فِيهِ بِالِاعْتِبَارِ، وَفِيهِ احْتِمَالَاتٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ اعْتَمَدُوا عَلَى حُصُونِهِمْ، وَعَلَى قُوَّتِهِمْ وَشَوْكَتِهِمْ، فَأَبَادَ اللَّه شَوْكَتَهُمْ وأزال قوتهم، ثم قال: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ وَلَا تَعْتَمِدُوا عَلَى شَيْءٍ غَيْرِ اللَّه، فليس للزاهد أن يتعمد عَلَى زُهْدِهِ، فَإِنَّ زُهْدَهُ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ زُهْدِ بِلْعَامٍ، وَلَيْسَ لِلْعَالِمِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى عِلْمِهِ، انْظُرْ إِلَى ابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ مَعَ كَثْرَةِ مُمَارَسَتِهِ كَيْفَ صَارَ، بَلْ لَا اعْتِمَادَ لِأَحَدٍ فِي شَيْءٍ إِلَّا عَلَى فَضْلِ اللَّه وَرَحْمَتِهِ وَثَانِيهَا: قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ أَنْ يَعْرِفَ الْإِنْسَانُ عَاقِبَةَ الْغَدْرِ وَالْكُفْرِ وَالطَّعْنِ فِي النُّبُوَّةِ،

[سورة الحشر (59) : آية 3]

فَإِنَّ أُولَئِكَ الْيَهُودَ وَقَعُوا بِشُؤْمِ الْغَدْرِ، وَالْكُفْرِ في البلاء والجلاء، والمؤمنين أَيْضًا يَعْتَبِرُونَ بِهِ فَيَعْدِلُونَ عَنِ الْمَعَاصِي. فَإِنْ قيل: هذا الاعتبار إنما يصلح لَوْ قُلْنَا: إِنَّهُمْ غَدَرُوا وَكَفَرُوا فَعُذِّبُوا، وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ هُوَ الْكُفْرَ وَالْغَدْرَ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ فَاسِدٌ طَرْدًا وَعَكْسًا أَمَّا الطَّرْدُ فَلِأَنَّهُ رُبَّ شَخْصٍ غَدَرَ وَكَفَرَ، وَمَا عُذِّبَ فِي الدُّنْيَا وَأَمَّا الْعَكْسُ فَلِأَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمِحَنِ، بَلْ أَشَدَّ مِنْهَا وَقَعَتْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِأَصْحَابِهِ، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى سُوءِ أَدْيَانِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَإِذَا فَسَدَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ فَقَدْ بَطَلَ هَذَا الِاعْتِبَارُ، وَأَيْضًا فَالْحُكْمُ الثَّالِثُ فِي الْأَصْلِ هُوَ أَنَّهُمْ: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا عَلَّلْنَا ذَلِكَ بِالْكُفْرِ وَالْغَدْرِ يَلْزَمُ فِي كُلِّ مَنْ غَدَرَ وَكَفَرَ أَنْ يُخَرِّبَ بَيْتَهُ بِيَدِهِ وَبِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ فِي الْأَصْلِ لَهُ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ أَوَّلُهَا: كَوْنُهُ تَخْرِيبًا لِلْبَيْتِ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ وَثَانِيهَا: وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، كَوْنُهُ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا وَثَالِثُهَا: وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الثَّانِي، كَوْنُهُ مُطْلَقَ الْعَذَابِ، وَالْغَدْرُ وَالْكُفْرُ إِنَّمَا يُنَاسِبَانِ الْعَذَابَ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَذَابٌ، فَأَمَّا خُصُوصُ كَوْنِهِ تَخْرِيبًا أَوْ قَتْلًا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ فَذَاكَ عَدِيمُ الْأَثَرِ، فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْقِيَاسِ إِلَى أَنَّ الَّذِينَ غَدَرُوا وَكَفَرُوا وَكَذَّبُوا عُذِّبُوا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، وَالْغَدْرُ وَالْكُفْرُ يُنَاسِبَانِ الْعَذَابَ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْكُفْرَ وَالْغَدْرَ هُمَا السَّبَبَانِ فِي الْعَذَابِ، فَأَيْنَمَا حَصَلَا حَصَلَ الْعَذَابُ/ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، وَمَتَى قَرَّرْنَا الْقِيَاسَ وَالِاعْتِبَارَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ زَالَتِ الْمَطَاعِنُ وَالنُّقُوضُ وَتَمَّ الْقِيَاسُ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الِاعْتِبَارُ مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شَيْءٍ، وَلِهَذَا سُمِّيَتِ الْعَبْرَةُ عَبْرَةً لِأَنَّهَا تَنْتَقِلُ مِنَ الْعَيْنِ إِلَى الْخَدِّ، وَسُمِّيَ الْمَعْبَرُ مَعْبَرًا لِأَنَّ بِهِ تَحْصُلُ الْمُجَاوَزَةُ، وَسُمِّيَ الْعِلْمُ الْمَخْصُوصُ بِالتَّعْبِيرِ، لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَنْتَقِلُ مِنَ الْمُتَخَيَّلِ إِلَى الْمَعْقُولِ، وَسُمِّيَتِ الْأَلْفَاظُ عِبَارَاتٌ، لِأَنَّهَا تَنْقُلُ الْمَعَانِيَ مِنْ لِسَانِ الْقَائِلِ إِلَى عَقْلِ الْمُسْتَمِعِ، وَيُقَالُ: السَّعِيدُ مَنِ اعْتَبَرَ بِغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ عَقْلُهُ مَنْ حَالِ ذَلِكَ الْغَيْرِ إِلَى حَالِ نَفْسِهِ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الِاعْتِبَارُ هُوَ النَّظَرُ فِي حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَجِهَاتِ دَلَالَتِهَا لِيُعْرَفَ بِالنَّظَرِ فِيهَا شيء آخر من جنسها، وفي قوله: يا أُولِي الْأَبْصارِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ يَا أَهْلَ اللُّبِّ وَالْعَقْلِ وَالْبَصَائِرِ وَالثَّانِي: قَالَ الفراء: يا أُولِي الْأَبْصارِ يَا مَنْ عَايَنَ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ الْمَذْكُورَةَ. [سورة الحشر (59) : آية 3] وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) مَعْنَى الْجَلَاءِ فِي اللُّغَةِ، الْخُرُوجُ مِنَ الْوَطَنِ وَالتَّحَوُّلُ عَنْهُ، فَإِنْ قِيلَ: أَنَّ (لَوْلَا) تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِثُبُوتِ غَيْرِهِ فَيَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْجَلَاءِ عَدَمُ التَّعْذِيبِ فِي الدُّنْيَا، لَكِنَّ الْجَلَاءَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْذِيبِ، فَإِذًا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْجَلَاءِ عَدَمُهُ وَهُوَ مُحَالٌ، قُلْنَا مَعْنَاهُ: ولولا أن كتب اللَّه عليهم الْجَلَاءَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْذِيبِ، فَإِذًا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْجَلَاءِ عَدَمُهُ وَهُوَ مُحَالٌ، قُلْنَا مَعْنَاهُ: وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ كَمَا فُعِلَ بِإِخْوَانِهِمْ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ فَهُوَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ وَغَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلَى مَا قَبْلَهُ، إِذْ لَوْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ لَزِمَ أَنْ لَا يُوجَدَ لِمَا بَيَّنَّا، أَنَّ (لَوْلَا) تَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْجَزَاءِ لحصول الشرط. [سورة الحشر (59) : آية 4] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ عِلَّةَ ذَلِكَ التَّخْرِيبِ هُوَ مُشَاقَّةُ اللَّه

[سورة الحشر (59) : آية 5]

وَرَسُولِهِ، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتِ الْمُشَاقَّةُ عِلَّةً لِهَذَا التَّخْرِيبِ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: أَيْنَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْمُشَاقَّةُ حَصَلَ التَّخْرِيبُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، قُلْنَا: هَذَا أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّتِهَا. ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ والمقصود منه الزجر. [سورة الحشر (59) : آية 5] مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) فِيهِ مسائل: المسألة الأولى: مِنْ لِينَةٍ بيان ل ما قَطَعْتُمْ، ومحل (ما) نصب بقطعتم، كأنه قال: أي شيء قطعتم، وأنت الضَّمِيرَ الرَّاجِعَ إِلَى مَا فِي قَوْلِهِ: أَوْ تَرَكْتُمُوها لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى اللِّينَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: اللِّينَةُ النَّخْلَةُ مَا لَمْ تَكُنْ عَجْوَةً أَوْ بَرْنِيَّةً، وَأَصْلُ لِينَةٍ لِوْنَةٌ، فَذَهَبَتِ الْوَاوُ لِكَسْرَةِ اللَّامِ، وَجَمْعُهَا أَلْوَانٌ، وَهِيَ النَّخْلُ كُلُّهُ سِوَى الْبَرْنِيِّ وَالْعَجْوَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اللِّينَةُ النَّخْلَةُ الْكَرِيمَةُ، كَأَنَّهُمُ اشْتَقُّوهَا مِنَ اللِّينِ وَجَمْعُهَا لِينٌ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ خُصَّتِ اللِّينَةُ بِالْقَطْعِ؟ قُلْنَا: إِنْ كَانَتْ مِنَ الْأَلْوَانِ فَلْيَسْتَبْقُوا لِأَنْفُسِهِمُ الْعَجْوَةَ وَالْبَرْنِيَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ كِرَامِ النَّخْلِ فَلِيَكُونَ غَيْظُ الْيَهُودِ أَشَدَّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قال صاحب «الكاشف» : قُرِئَ قَوْمًا عَلَى أُصُلِهَا، وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَمْعُ أَصْلٍ كَرَهْنٍ وَرُهُنٍ، وَاكْتُفِيَ فِيهِ بالضمة عن الواو، وقرئ قائما على أصول، ذَهَابًا إِلَى لَفْظِ مَا، وَقَوْلُهُ: فَبِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ قَطْعُهَا بِإِذْنِ اللَّه وَبِأَمْرِهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ أَيْ وَلِأَجْلِ إِخْزَاءِ الْفَاسِقِينَ، أَيِ الْيَهُودِ أَذِنَ اللَّه فِي قَطْعِهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ أَمَرَ أَنْ يُقْطَعَ نَخْلُهُمْ وَيُحْرَقُ، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ قَدْ كُنْتَ تَنْهَى عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَمَا بَالُ قَطْعِ النَّخْلِ وَتَحْرِيقِهَا؟. وَكَانَ فِي أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّه إِنَّمَا أَذِنَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَزْدَادَ غَيْظُ الْكُفَّارِ، وَتَتَضَاعَفَ حَسْرَتُهُمْ بِسَبَبِ نَفَاذِ حُكْمِ أَعْدَائِهِمْ فِي أَعَزِّ أَمْوَالِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ حُصُونَ الْكَفَرَةِ وَدِيَارَهُمْ لَا بَأْسَ أَنْ تُهْدَمَ وَتُحْرَقَ وتغرق وترمى بالمجانيق، وكذلك أشجار هم لَا بَأْسَ بِقَلْعِهَا مُثْمِرَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُثْمِرَةٍ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَطَعُوا مِنْهَا مَا كَانَ مَوْضِعًا لِلْقِتَالِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: رُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ كَانَا يَقْطَعَانِ أَحَدُهُمَا الْعَجْوَةَ، وَالْآخَرُ اللَّوْنَ، فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ هَذَا: تَرَكْتُهَا لِرَسُولِ اللَّه، وَقَالَ هَذَا: قَطَعْتُهَا غَيْظًا لِلْكَفَّارِ، فَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى جَوَازِ الاجتهاد، وعلى جوازه بحضرة الرسول. [سورة الحشر (59) : آية 6] وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ فَاءَ يَفِيءُ إِذَا رَجَعَ، وَأَفَاءَهُ اللَّه إِذَا رَدَّهُ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْفَيْءُ مَا رَدَّهُ اللَّه عَلَى أَهْلِ دِينِهِ، مِنْ أَمْوَالِ مَنْ خَالَفَ أَهْلَ دِينِهِ بِلَا قِتَالٍ، إِمَّا بِأَنْ يُجْلَوْا عَنْ أَوْطَانِهِمْ وَيُخَلُّوهَا لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ يُصَالَحُوا عَلَى

[سورة الحشر (59) : آية 7]

جزية يؤدونها عن رؤوسهم، أَوْ مَالٍ غَيْرِ الْجِزْيَةِ يَفْتَدُونَ بِهِ مِنْ سَفْكِ دِمَائِهِمْ، كَمَا فَعَلَهُ بَنُو النَّضِيرِ حِينَ صَالَحُوا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ حِمْلَ بِعِيرٍ مِمَّا شَاءُوا سِوَى السِّلَاحِ، وَيَتْرُكُوا الْبَاقِيَ، فَهَذَا الْمَالُ هُوَ الْفَيْءُ، وَهُوَ مَا أَفَاءَ اللَّه عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَيْ رَدَّهُ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَوْلُهُ: مِنْهُمْ أَيْ مِنْ يَهُودِ بَنِي النضير، قوله: فَما أَوْجَفْتُمْ يُقَالُ: وَجَفَ الْفَرَسُ وَالْبَعِيرُ يَجِفُ وَجْفًا وَوَجِيفًا، وَهُوَ سُرْعَةُ السَّيْرِ، وَأَوْجَفَهُ صَاحِبُهُ، إِذَا حَمَلَهُ عَلَى السَّيْرِ السَّرِيعِ، وَقَوْلُهُ: عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مَا أَفَاءَ اللَّه، وَقَوْلُهُ: مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ الرِّكَابُ مَا يُرْكَبُ مِنَ الْإِبِلِ، وَاحِدَتُهَا رَاحِلَةٌ، وَلَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، وَالْعَرَبُ لَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الرَّاكِبِ إِلَّا عَلَى رَاكِبِ الْبَعِيرِ، وَيُسَمُّونَ رَاكِبَ الْفَرَسِ فَارِسًا، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ طَلَبُوا مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُقَسِّمَ الْفَيْءَ بَيْنَهُمْ كَمَا قَسَّمَ الْغَنِيمَةَ بَيْنَهُمْ، فَذَكَرَ اللَّه الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ الْغَنِيمَةَ مَا أَتْعَبْتُمْ أنفسكم في تحصيلها وأوجفتم عليه الْخَيْلَ وَالرِّكَابَ بِخِلَافِ الْفَيْءِ فَإِنَّكُمْ مَا تَحَمَّلْتُمْ فِي تَحْصِيلِهِ تَعَبًا، فَكَانَ الْأَمْرُ فِيهِ مُفَوَّضًا إلى الرسول يضعه حيث يشاء. ثم هاهنا سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ أُخِذَتْ بَعْدَ الْقِتَالِ لِأَنَّهُمْ حُوصِرُوا أَيَّامًا، وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا ثُمَّ صَالَحُوا عَلَى الْجَلَاءِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَمْوَالُ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ لَا مِنْ جُمْلَةِ الْفَيْءِ، وَلِأَجْلِ هَذَا السُّؤَالِ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ هاهنا وجهين الأول: أن هذا الْآيَةَ مَا نَزَلَتْ فِي قُرَى بَنِي النَّضِيرِ لِأَنَّهُمْ أَوْجَفُوا عَلَيْهِمْ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ وَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ بَلْ هُوَ فِي فَدَكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ فَدَكَ انْجَلَوْا عَنْهُ فَصَارَتْ تِلْكَ الْقُرَى وَالْأَمْوَالُ فِي يَدِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ فَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَأْخُذُ مِنْ غَلَّةِ فَدَكَ نَفَقَتَهُ وَنَفَقَةَ مَنْ يَعُولُهُ، وَيَجْعَلُ الْبَاقِيَ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، فَلَمَّا مَاتَ ادَّعَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام أنه كان ينحلها فدكا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنْتِ أَعَزُّ النَّاسِ عَلَيَّ فَقْرًا، وَأَحَبُّهُمْ إِلَيَّ غِنًى، لَكِنِّي لَا أَعْرِفُ صِحَّةَ قَوْلِكِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ أَحْكُمَ بِذَلِكَ، فَشَهِدَ لَهَا أَمُّ أَيْمَنَ وَمَوْلًى لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السلام، فطلب منها أبن بَكْرٍ الشَّاهِدَ الَّذِي يَجُوزُ قَبُولُ شَهَادَتُهُ فِي الشَّرْعِ فَلَمْ يَكُنْ، فَأَجْرَى أَبُو بَكْرٍ ذَلِكَ عَلَى مَا كَانَ يُجْرِيهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى مَنْ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ الرَّسُولُ، وَيَجْعَلُ مَا يَبْقَى فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ جَعَلَهُ فِي يَدِ عَلِيٍّ لِيُجْرِيَهُ عَلَى هَذَا الْمَجْرَى، وَرَدَّ ذَلِكَ فِي آخِرِ عَهْدِ عُمَرَ إِلَى عُمَرَ، وَقَالَ: إِنَّ بِنَا غِنًى وَبِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إِلَيْهِ، وَكَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يُجْرِيهِ كَذَلِكَ، ثُمَّ صَارَ. إِلَى عَلِيٍّ فَكَانَ يُجْرِيهِ هَذَا الْمَجْرَى/ فَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ وقراهم، وليس لمسلمين يَوْمَئِذٍ كَثِيرُ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، وَلَمْ يَقْطَعُوا إِلَيْهَا مَسَافَةً كَثِيرَةً، وَإِنَّمَا كَانُوا عَلَى مِيلَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ فَمَشَوْا إِلَيْهَا مَشْيًا، وَلَمْ يَرْكَبْ إِلَّا رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ رَاكِبَ جَمَلٍ، فَلَمَّا كَانَتِ الْمُقَاتَلَةُ قَلِيلَةً وَالْخَيْلُ وَالرَّكْبُ غَيْرَ حَاصِلٍ، أَجْرَاهُ اللَّه تَعَالَى مَجْرَى مَا لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الْمُقَاتَلَةُ أَصْلًا فَخَصَّ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلْكَ الْأَمْوَالِ، ثُمَّ رُوِيَ أَنَّهُ قَسَّمَهَا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ كَانَتْ بِهِمْ حَاجَةٌ وَهُمْ أَبُو دجانة وسهل بن حنيف والحرث بن الصمة. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَ الْفَيْءِ فَقَالَ: [سورة الحشر (59) : آية 7] مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)

[سورة الحشر (59) : آية 8]

قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : لَمْ يَدْخُلِ الْعَاطِفُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِأَنَّهَا بَيَانٌ لِلْأَوْلَى فَهِيَ مِنْهَا وَغَيْرُ أَجْنَبِيَّةٍ عَنْهَا، وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلِذِي الْقُرْبى بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: كَانَ الْفَيْءُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْسُومًا عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ أَرْبَعَةٌ مِنْهَا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً وَكَانَ الْخُمْسُ الْبَاقِي يُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، سَهْمٌ مِنْهَا لِرَسُولِ اللَّه أَيْضًا، وَالْأَسْهُمُ الْأَرْبَعَةُ لِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلِلشَّافِعِيِّ فِيمَا كَانَ مِنَ الْفَيْءِ لِرَسُولِ اللَّه قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ الْمُرْصَدِينَ لِلْقِتَالِ فِي الثُّغُورِ لِأَنَّهُمْ قَامُوا مَقَامَ رَسُولِ اللَّه فِي رِبَاطِ الثُّغُورِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ سَدِّ الثُّغُورِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ، يُبْدَأُ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، هَذَا فِي الْأَرْبَعَةِ أَخْمَاسٍ الَّتِي كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا السَّهْمُ الَّذِي كَانَ لَهُ مِنْ خُمْسِ الْفَيْءِ فَإِنَّهُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ بِلَا خِلَافٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأَوْلَى: قَالَ الْمُبَرِّدُ: الدُّولَةُ اسْمٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي يَتَدَاوَلُهُ الْقَوْمُ بَيْنَهُمْ يَكُونُ كَذَا مَرَّةً وَكَذَا مَرَّةً، وَالدَّوْلَةُ بِالْفَتْحِ انْتِقَالُ حَالٍ سَارَّةٍ إِلَى قَوْمٍ عَنْ قَوْمٍ، فَالدُّولَةُ بِالضَّمِّ اسْمُ مَا يُتَدَاوَلُ، وَبِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ مِنْ هَذَا، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْحَالَةِ السَّارَّةِ الَّتِي تَحْدُثُ لِلْإِنْسَانِ، فَيُقَالُ: هَذِهِ دُولَةُ فُلَانٍ/ أَيْ تَدَاوَلُهُ، فَالدُّولَةُ اسْمٌ لِمَا يُتَدَاوَلُ مِنَ الْمَالِ، وَالدُّولَةُ اسْمٌ لِمَا يَنْتَقِلُ مِنَ الْحَالِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ كَيْ لَا يَكُونَ الْفَيْءُ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ لِيَكُونَ لَهُمْ بُلْغَةً يَعِيشُونَ بِهَا وَاقِعًا فِي يَدِ الْأَغْنِيَاءِ وَدُولَةً لَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: (دُولَةً) وَ (دَوْلَةً) بِفَتْحِ الدَّالِ وَضَمِّهَا، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: دُولَةً مَرْفُوعَةُ الدَّالِ وَالْهَاءِ، قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: يَكُونَ هاهنا هِيَ التَّامَّةُ كَقَوْلِهِ: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ [الْبَقَرَةِ: 280] يَعْنِي كَيْ لَا يَقَعَ دُولَةً جَاهِلِيَّةً، ثُمَّ قَالَ: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا يَعْنِي مَا أَعْطَاكُمُ الرَّسُولُ مِنَ الْفَيْءِ فَخُذُوهُ فَهُوَ لَكُمْ حَلَالٌ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْ أَخْذِهِ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي أَمْرِ الْفَيْءِ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ عَلَى مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ الرَّسُولُ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةً فِي كُلِّ مَا آتَى رَسُولَ اللَّه وَنَهَى عَنْهُ وَأَمْرُ الْفَيْءِ داخل في عمومه. [سورة الحشر (59) : آية 8] لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الحشر: 7] كَأَنَّهُ قِيلَ: أَعْنِي بِأُولَئِكَ الْأَرْبَعَةِ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءَ وَالْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ مِنْ صِفَتِهِمْ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِأُمُورٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُمْ فُقَرَاءُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ مُهَاجِرُونَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَعْنِي أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ أَحْوَجُوهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ فَهُمُ الَّذِينَ أَخْرَجُوهُمْ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّه وَرِضْوَانًا، وَالْمُرَادُ بِالْفَضْلِ ثَوَابُ الْجَنَّةِ وَبِالرِّضْوَانِ قَوْلُهُ: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَةِ: 72] وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَيْ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمَّا هَجَرُوا لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَتَحَمَّلُوا شَدَائِدَهَا لِأَجْلِ الدِّينِ ظَهَرَ صِدْقُهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَتَمَسَّكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَانُوا يَقُولُونَ لِأَبِي بَكْرٍ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّه، واللَّه يشهد على

[سورة الحشر (59) : آية 9]

كَوْنِهِمْ صَادِقِينَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا صَادِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّه، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ الْجَزْمُ بِصِحَّةِ إِمَامَتِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْأَنْصَارَ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ حِينَ طَابَتْ أَنْفُسُهُمْ عَنِ الْفَيْءِ إِذْ لِلْمُهَاجِرِينَ دُونَهُمْ فقال: [سورة الحشر (59) : آية 9] وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالْمُرَادُ مِنَ الدَّارِ الْمَدِينَةُ وَهِيَ دَارُ الْهِجْرَةِ تَبَوَّأَهَا الْأَنْصَارُ قَبْلَ الْمُهَاجِرِينَ وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الْمَدِينَةَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَإِنْ قِيلَ: فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُقَالُ: تَبَوَّأَ الْإِيمَانَ وَالثَّانِي: بِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: ذَلِكَ لَكِنَّ الْأَنْصَارَ مَا تَبَوَّءُوا الْإِيمَانَ قَبْلَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَأَخْلَصُوا الْإِيمَانَ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ رَأَيْتُكَ فِي الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا وَثَانِيهَا: جَعَلُوا الْإِيمَانَ مُسْتَقِرًّا وَوَطَنًا لَهُمْ لِتَمَكُّنِهِمْ مِنْهُ وَاسْتِقَامَتِهِمْ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا سَلْمَانَ عَنْ نَسَبِهِ فَقَالَ: أَنَا ابْنُ الْإِسْلَامِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ سَمَّى الْمَدِينَةَ بِالْإِيمَانِ، لِأَنَّ فِيهَا ظَهَرَ الْإِيمَانُ وَقَوِيَ وَالْجَوَابُ: عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَالْإِيمَانَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَالتَّقْدِيرُ: تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِ هِجْرَتِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيْ حَسَدًا وَحَرَارَةً وَغَيْظًا مِمَّا أُوتِيَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ دُونِهِمْ، وَأَطْلَقَ لَفْظَ الْحَاجَةِ عَلَى الْحَسَدِ وَالْغَيْظِ وَالْحَرَارَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْحَاجَةِ، فَأَطْلَقَ اسْمَ اللَّامِ عَلَى الْمَلْزُومِ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ يُقَالُ: آثَرَهُ بِكَذَا إِذَا خَصَّهُ بِهِ، وَمَفْعُولُ الْإِيثَارِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيُؤْثِرُونَهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَنْصَارِ: «إِنْ شِئْتُمْ قَسَمْتُمْ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ دُورِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَقَسَمْتُ لَكُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ كَمَا قَسَمْتُ لَهُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ كَانَ لَهُمُ الْغَنِيمَةُ وَلَكُمْ دِيَارُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ فَقَالُوا: لَا بَلْ نَقْسِمُ لَهُمْ مِنْ دِيَارِنَا وَأَمْوَالِنَا وَلَا نُشَارِكُهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ» فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْإِيثَارَ لَيْسَ عَنْ غِنًى عَنِ الْمَالِ، وَلَكِنَّهُ عَنْ حَاجَةٍ وَخَصَاصَةٍ وَهِيَ الْفَقْرُ، وَأَصْلُهَا مِنَ الْخَصَاصِ وَهِيَ الْفُرَجُ، وَكُلُّ خَرْقٍ فِي مُنْخُلٍ أَوْ بَابٍ أَوْ سَحَابٍ أَوْ بُرْقُعٍ فَهِيَ خَصَاصٌ، الْوَاحِدُ خَصَاصَةٌ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنْوَاعًا مِنْ إِيثَارِ الْأَنْصَارِ لِلضَّيْفِ بِالطَّعَامِ وَتَعَلُّلِهِمْ عَنْهُ حَتَّى يُشْبِعَ الضَّيْفَ، ثُمَّ ذَكَرُوا أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ الْإِيثَارِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ إِيثَارِهِمُ الْمُهَاجِرِينَ بِالْفَيْءِ، ثُمَّ لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات، ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الشُّحُّ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ هُوَ أَنَّ الْبُخْلَ نَفْسُ الْمَنْعِ، وَالشُّحَّ هُوَ الْحَالَةُ النَّفْسَانِيَّةُ الَّتِي/ تَقْتَضِي ذَلِكَ الْمَنْعَ، فَلَمَّا كَانَ الشُّحُّ مِنْ صِفَاتِ النَّفْسِ، لَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الظَّافِرُونَ بِمَا أَرَادُوا، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَنْ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا نَهَاهُ اللَّه عَنْ أَخْذِهِ وَلَمْ يَمْنَعْ شَيْئًا أَمَرَهُ اللَّه بإعطائه فقد وقى شح نفسه.

[سورة الحشر (59) : آية 10]

[سورة الحشر (59) : آية 10] وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10) اعلم أن قوله: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ عَطْفٌ أَيْضًا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَهُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدُ، وَقِيلَ: التَّابِعُونَ بِإِحْسَانٍ وَهُمُ الَّذِينَ يَجِيئُونَ بَعْدَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَدْعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِمَنْ سَبَقَهُمْ بِالْإِيمَانِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيْ غِشًّا وَحَسَدًا وَبُغْضًا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ إِمَّا الْمُهَاجِرُونَ أالأنصار أَوِ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ، وَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ شَأْنِ مَنْ جَاءَ مِنْ بَعْدِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَنْ يَذْكُرَ السَّابِقِينَ وَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ بِالدُّعَاءِ وَالرَّحْمَةِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ ذَكَرَهُمْ بِسُوءٍ كَانَ خَارِجًا مِنْ جُمْلَةِ أَقْسَامِ المؤمنين بحسب نص هذه الآية. [سورة الحشر (59) : آية 11] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) قَالَ الْمُقَاتِلَانِ: يَعْنِي عَبْدَ اللَّه بْنَ أُبَيٍّ، وَعَبْدَ اللَّه بْنَ نَبْتَلَ، وَرِفَاعَةَ بْنَ زَيْدٍ، كَانُوا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَكِنَّهُمْ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمْ، وَهَذِهِ الْأُخُوَّةُ تَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: الْأُخُوَّةُ فِي الْكُفْرِ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالْمُنَافِقِينَ كَانُوا مُشْتَرِكِينَ فِي عُمُومِ الْكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَانِيهَا: الْأُخُوَّةُ بِسَبَبِ الْمُصَادَقَةِ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَاوَنَةِ وَثَالِثُهَا: الْأُخُوَّةُ بِسَبَبِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَخْبَرَ/ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لِلْيَهُودِ: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَيْ فِي خِذْلَانِكُمْ أَحَداً أَبَداً وَوَعَدُوهُمُ النَّصْرَ أَيْضًا بِقَوْلِهِمْ: وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى شَهِدَ عَلَى كَوْنِهِمْ كَاذِبِينَ فِي هَذَا الْقَوْلِ فَقَالَ: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. وَلَمَّا شَهِدَ عَلَى كَذِبِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ أتبعه بالتفصيل فقال: [سورة الحشر (59) : آية 12] لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَعَلِمَ الْمَوْجُودَاتِ فِي الْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ، وَالْمَعْدُومَاتِ فِي الْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ، وَعَلِمَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ السِّتَّةِ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى خِلَافِ مَا وَقَعَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ، فَهَهُنَا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ لَئِنْ أُخْرِجُوا فَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ، وَقَدْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ بَنِي النَّضِيرِ لَمَّا أُخْرِجُوا لَمْ يَخْرُجْ مَعَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَقُوتِلُوا أَيْضًا فَمَا نَصَرُوهُمْ، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ فَتَقْدِيرُهُ كَمَا يَقُولُ الْمُعْتَرِضُ الطَّاعِنُ فِي كَلَامِ الْغَيْرِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا تَقُولُ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا تَقُولُ، لَكِنَّهُ لا يفيد لك فائدة، فكذا هاهنا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا

[سورة الحشر (59) : آية 13]

يَنْصُرُونَهُمْ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَنْصُرُوا إِلَّا أَنَّهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتْرُكُوا تِلْكَ النُّصْرَةَ وَيَنْهَزِمُوا، وَيَتْرُكُوا أُولَئِكَ الْمَنْصُورِينَ فِي أَيْدِي الْأَعْدَاءِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الأول: أنه راجع إلى المنافقين يعني لينهز من الْمُنَافِقُونَ: ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ أَيْ يُهْلِكُهُمُ اللَّه، وَلَا يَنْفَعُهُمْ نِفَاقُهُمْ لِظُهُورِ كُفْرِهِمْ وَالثَّانِي: لَيَنْهَزِمَنَّ الْيَهُودُ ثُمَّ لَا يَنْفَعُهُمْ نُصْرَةُ الْمُنَافِقِينَ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ خَوْفَ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَشَدُّ مِنْ خَوْفِهِمْ مِنَ اللَّه تعالى فقال: [سورة الحشر (59) : آية 13] لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) أَيْ لَا يَعْلَمُونَ عَظَمَةَ اللَّه حَتَّى يَخْشَوْهُ حَقَّ خَشْيَتِهِ. [سورة الحشر (59) : آية 14] لَا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ يُرِيدُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ وَالْمُنَافِقِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى مُقَاتَلَتِكُمْ مُجْتَمِعِينَ إِلَّا إِذَا كَانُوا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ بِالْخَنَادِقِ وَالدُّرُوبِ/ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّه أَلْقَى فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَأَنَّ تَأْيِيدَ اللَّه وَنُصْرَتَهُ مَعَكُمْ، وَقُرِئَ جُدْرٍ بِالتَّخْفِيفِ وَجِدَارٍ وَجَدَرٍ وَجَدْرٍ وَهُمَا الجدار. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: يَعْنِي أَنَّ الْبَأْسَ الشَّدِيدَ الَّذِي يُوصَفُونَ بِهِ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، فَأَمَّا إِذَا قَاتَلُوكُمْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ ذَلِكَ الْبَأْسُ وَالشِّدَّةُ، لِأَنَّ الشُّجَاعَ يَجْبُنُ وَالْعِزَّ يَذِلُّ عِنْدَ مُحَارَبَةِ اللَّه وَرَسُولِهِ وَثَانِيهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا يَقُولُونَ: لَنَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا، فَهُمْ يهدون الْمُؤْمِنِينَ بِبَأْسٍ شَدِيدٍ مِنْ وَرَاءِ الْحِيطَانِ وَالْحُصُونِ، ثُمَّ يَحْتَرِزُونَ عَنِ الْخُرُوجِ لِلْقِتَالِ فَبَأْسُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ، لَا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ بَعْضُهُمْ عَدُوٌّ لِلْبَعْضِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى يَعْنِي تَحْسَبُهُمْ فِي صُورَتِهِمْ مُجْتَمِعِينَ عَلَى الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، أَمَّا قُلُوبُهُمْ فَشَتَّى لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى مَذْهَبٍ آخَرَ، وَبَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ شَدِيدَةٌ، وَهَذَا تَشْجِيعٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى قِتَالِهِمْ وَقَوْلُهُ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ مَا فِيهِ الْحَظُّ لَهُمْ وَالثَّانِي: لَا يَعْقِلُونَ أَنَّ تَشْتِيتَ القلوب مما يوهن قواهم. [سورة الحشر (59) : آية 15] كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) أَيْ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ أَهْلِ بَدْرٍ فِي زَمَانٍ قَرِيبٍ فَإِنْ قِيلَ: بم انتصب قَرِيباً، قلنا: بمثل، وَالتَّقْدِيرُ كَوُجُودِ مَثَلِ أَهْلِ بَدْرٍ. قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أَيْ سُوءَ عَاقِبَةِ كُفْرِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ لِرَسُولِ اللَّه مِنْ قَوْلِهِمْ: كَلَأٌ وَبِيلٌ أَيْ وَخِيمٌ سَيِّئُ الْعَاقِبَةِ يَعْنِي ذَاقُوا عَذَابَ الْقَتْلِ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ أَلِيمٌ. ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلا فقال:

[سورة الحشر (59) : آية 16]

[سورة الحشر (59) : آية 16] كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) أَيْ مَثَلُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ غَرُّوا بَنِي النَّضِيرَ بِقَوْلِهِمْ: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ [الشر: 11] ثُمَّ خَذَلُوهُمْ وَمَا وَفَّوْا بِعَهْدِهِمْ: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ/ ثُمَّ تَبَرَّأَ مِنْهُ فِي الْعَاقِبَةِ، وَالْمُرَادُ إِمَّا عُمُومُ دَعْوَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى الْكُفْرِ، وَإِمَّا إِغْوَاءُ الشَّيْطَانِ قُرَيْشًا يَوْمَ بَدْرٍ بِقَوْلِهِ: لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ [الأنفال: 48] . ثم قال: [سورة الحشر (59) : آية 17] فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأَوْلَى: قَالَ مُقَاتِلٌ: فَكَانَ عَاقِبَةُ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ مِثْلَ عَاقِبَةِ الشَّيْطَانِ وَالْإِنْسَانِ حَيْثُ صَارَا إِلَى النَّارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَرَأَ ابْنُ مسعود (خالدان فيها) ، على أنه خبران، وفِي النَّارِ لَغْوٌ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ الْخَبَرُ هُوَ الظرف وخالِدَيْنِ فِيها حَالٌ، وَقُرِئَ: عاقِبَتَهُما بِالرَّفْعِ، ثُمَّ قَالَ: وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ أَيِ الْمُشْرِكِينَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] . [سورة الحشر (59) : آية 18] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى رَجَعَ إِلَى مَوْعِظَةِ الْمُؤْمِنِينَ فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ. الْغَدُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ سَمَّاهُ بِالْيَوْمِ الَّذِي يَلِي يَوْمَكَ تَقْرِيبًا لَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ النَّفْسَ وَالْغَدَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ. أَمَّا الْفَائِدَةُ فِي تَنْكِيرِ النَّفْسِ فَاسْتِقْلَالُ الْأَنْفُسِ الَّتِي تَنْظُرُ فِيمَا قَدَّمَتْ لِلْآخِرَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: فَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا تَنْكِيرُ الْغَدِ فَلِتَعْظِيمِهِ وَإِبْهَامِ أَمْرِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: الْغَدُ لَا يُعْرَفُ كُنْهُهُ لِعِظَمِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ كَرَّرَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى تَأْكِيدًا أَوْ يُحْمَلُ الْأَوَّلُ: عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ والثاني: على ترك المعاصي. [سورة الحشر (59) : آية 19] وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْمُقَاتِلَانِ: نَسُوا حَقَّ اللَّه فَجَعَلَهُمْ نَاسِينَ حَقَّ أَنْفُسِهِمْ حَتَّى لَمْ يَسْعَوْا لَهَا بِمَا يَنْفَعُهُمْ عِنْدَهُ الثَّانِي: فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أَيْ أَرَاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَهْوَالِ مَا نَسُوا فِيهِ أَنْفُسَهُمْ، كقوله: لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ [إبراهيم: 43] وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى [الْحَجِّ: 2] . ثُمَّ قَالَ: أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الذَّمُّ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرْشَدَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا هُوَ

[سورة الحشر (59) : آية 20]

مَصْلَحَتُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الْحَشْرِ: 18] وَهَدَّدَ الْكَافِرِينَ بِقَوْلِهِ: كَالَّذِينَ/ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ بَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ الفريقين فقال: [سورة الحشر (59) : آية 20] لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) وَاعْلَمْ أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، فَذِكْرُ هَذَا الْفَرْقِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهَ عَلَى عِظَمِ ذَلِكَ الْفَرْقِ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأَوْلَى: الْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ وَأَصْحَابَ الْجَنَّةِ لَا يَسْتَوِيَانِ، فَلَوْ دَخَلَ صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ فِي الْجَنَّةِ لَكَانَ أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَسْتَوِيَانِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَجَوَابُهُ مَعْلُومٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يقتل بالذمي، وقد بينا وجه في الخلافيات. [سورة الحشر (59) : آية 21] لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ هَذِهِ الْبَيَانَاتِ عَظَّمَ أَمْرَ الْقُرْآنِ فَقَالَ: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ جُعِلَ فِي الْجَبَلِ عَقْلٌ كَمَا جُعِلَ فِيكُمْ، ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ لَخَشَعَ وَخَضَعَ وَتَشَقَّقَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّه. ثُمَّ قَالَ: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أَيِ الْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ التَّنْبِيهُ عَلَى قَسَاوَةِ قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، وَغِلَظِ طِبَاعِهِمْ، وَنَظِيرُ قَوْلِهِ: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [الْبَقَرَةِ: 74] وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا وَصَفَ الْقُرْآنَ بِالْعِظَمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عِظَمَ الصِّفَةِ تَابِعٌ لِعِظَمِ الْمَوْصُوفِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِشَرْحِ عَظَمَةِ اللَّه فَقَالَ: [سورة الحشر (59) : آية 22] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) وَقِيلَ: السِّرُّ وَالْعَلَانِيَةُ وَقِيلَ: الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ الْغَيْبَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي اللَّفْظِ وَفِيهِ سِرٌّ عَقْلِيٌّ، أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَذَكَرُوا أَقْوَالًا فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَقِيلَ: الْغَيْبُ الْمَعْدُومُ، وَالشَّهَادَةُ الْمَوْجُودُ مَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ وَمَا شَاهَدُوهُ. [سورة الحشر (59) : آية 23] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) ثُمَّ قَالَ: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. ثُمَّ قَالَ: الْقُدُّوسُ قُرِئَ: بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ، وهو البليغ في النزاهة في الذات والصافات، والأفعال

وَالْأَحْكَامِ وَالْأَسْمَاءِ، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَدِيدِ، وَمَضَى شَيْءٌ مِنْهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَنُقَدِّسُ لَكَ [الْبَقَرَةِ: 30] وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُ الَّذِي كثرت بركاته. وقوله: السَّلامُ فيه ووجهان الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بِمَعْنَى السَّلَامَةِ وَمِنْهُ دَارُ السَّلَامِ، وَسَلَامٌ عَلَيْكُمْ وُصِفَ بِهِ مُبَالَغَةً فِي كَوْنِهِ سليما من النقائض كَمَا يُقَالُ: رَجَاءٌ، وَغِيَاثٌ، وَعَدْلٌ فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لَا يَبْقَى بَيْنَ الْقُدُّوسِ، وَبَيْنَ السَّلَامِ فَرْقٌ، وَالتَّكْرَارُ خِلَافُ الْأَصْلِ، قُلْنَا: كَوْنُهُ قُدُّوسًا، إِشَارَةٌ إِلَى بَرَاءَتِهِ عَنْ جَمِيعِ العيوب في الماضي والحاضر، كونه: سَلِيمًا، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْعُيُوبِ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّ الَّذِي يَطْرَأُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْعُيُوبِ، فَإِنَّهُ تَزُولُ سَلَامَتُهُ وَلَا يَبْقَى سَلِيمًا الثَّانِي: أَنَّهُ سَلَامٌ بِمَعْنَى كَوْنِهِ مُوجِبًا لِلسَّلَامَةِ. وَقَوْلُهُ: الْمُؤْمِنُ فيه ووجهان الأول: أنه الذي آمن أولياء عَذَابَهُ، يُقَالُ: آمَنَهُ يُؤَمِّنُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْمُصَدِّقُ، إِمَّا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يُصَدِّقُ أَنْبِيَاءَهُ بِإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ لَهُمْ، أَوْ لِأَجْلِ أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْهَدُونَ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا قَالَ: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [الْبَقَرَةِ: 143] ثُمَّ إِنَّ اللَّه يَصْدُقُهُمْ فِي تِلْكَ الشَّهَادَةِ، وَقُرِئَ بِفَتْحِ الْمِيمِ، يَعْنِي الْمُؤْمِنَ بِهِ عَلَى حَذْفِ الْجَارِ كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الْأَعْرَافِ: 155] . وَقَوْلُهُ: الْمُهَيْمِنُ قَالُوا: مَعْنَاهُ الشَّاهِدُ الَّذِي لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ. ثُمَّ فِي أَصْلِهِ قَوْلَانِ، قَالَ الْخَلِيلُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ فَهُوَ مُهَيْمِنٌ إِذَا كان رقيب عَلَى الشَّيْءِ، وَقَالَ آخَرُونَ: مُهَيْمِنٌ أَصْلُهُ مُؤَيْمِنٌ، مِنْ آمَنَ يُؤْمِنُ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمُؤْمِنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ اسْتِقْصَاؤُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَةِ: 48] وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمُهَيْمِنُ الْقَائِمُ عَلَى خَلْقِهِ بِرِزْقِهِ وَأَنْشَدَ: أَلَا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّهِ ... مُهَيْمِنُهُ التَّالِيهِ فِي الْعُرْفِ وَالنُّكْرِ قَالَ مَعْنَاهُ: الْقَائِمُ عَلَى النَّاسِ بَعْدَهُ. وَأَمَّا الْعَزِيزُ فَهُوَ إِمَّا الَّذِي لَا يُوجَدُ لَهُ نَظِيرٌ، وَإِمَّا الْغَالِبُ الْقَاهِرُ. وَأَمَّا الْجَبَّارُ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ فَعَّالٌ مِنْ جَبَرَ إِذَا أَغْنَى الْفَقِيرَ، وَأَصْلَحَ الْكَسِيرَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَهُوَ لَعَمْرِي جَابِرُ كُلِّ كَسِيرٍ وَفَقِيرٍ، وَهُوَ جَابِرُ دِينِهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ، قَالَ الْعَجَّاجُ: «قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الْإِلَهُ فَجَبَرَ» . وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْجَبَّارُ مِنْ جَبَرَهُ عَلَى كَذَا إِذَا أَكْرَهَهُ عَلَى مَا أَرَادَهُ، قَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّهُ الَّذِي يَقْهَرُ النَّاسَ وَيُجْبِرُهُمْ عَلَى مَا أَرَادَهُ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْحِجَازِيِّينَ يَقُولُونَهَا، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: جَبَرَهُ السُّلْطَانُ عَلَى كَذَا بِغَيْرِ ألف. وجعل الفراء الجبار بهذا معنى/ مِنْ أَجْبَرَهُ، وَهِيَ اللُّغَةُ الْمَعْرُوفَةُ فِي الْإِكْرَاهِ، فَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْ فَعَّالًا مِنْ أَفْعَلَ إِلَّا فِي حَرْفَيْنِ، وَهُمَا جَبَّارٌ مِنْ أَجْبَرَ، وَدَرَّاكٌ مِنْ أَدْرَكَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْجَبَّارُ هُوَ الْقَهَّارُ الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْجَبَّارُ فِي صِفَةِ اللَّه الَّذِي لَا يُنَالُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلنَّخْلَةِ الَّتِي فَاتَتْ يَدَ الْمُتَنَاوِلِ: جَبَّارَةٌ الرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْجَبَّارُ، هُوَ الْمَلِكُ الْعَظِيمُ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَعَانِي الْجَبَّارِ فِي صِفَةِ اللَّه، وَلِلْجَبَّارِ مَعَانٍ فِي صِفَةِ الْخَلْقِ أَحَدُهَا: الْمُسَلَّطُ كَقَوْلِهِ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق: 45] ، وَالثَّانِي: الْعَظِيمُ الْجِسْمِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ [الْمَائِدَةِ: 22] وَالثَّالِثُ: الْمُتَمَرِّدُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّه، كَقَوْلِهِ: وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً [مريم: 32] ، «والرابع: القتال كقوله: بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء: 130]

[سورة الحشر (59) : آية 24]

وَقَوْلِهِ: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ [القصص: 19] . أَمَّا قَوْلُهُ: الْمُتَكَبِّرُ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الَّذِي تَكَبَّرَ بِرُبُوبِيَّتِهِ فَلَا شَيْءَ مِثْلُهُ وَثَانِيهَا: قَالَ قَتَادَةُ: الْمُتَعَظِّمُ عَنْ كُلِّ سُوءٍ وَثَالِثُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِي تَعَظَّمَ عَنْ ظلم العباد ورابعها: قال ابن الأنباري: المتكبرة ذُو الْكِبْرِيَاءِ، وَالْكِبْرِيَاءُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الْمُلْكُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ [يُونُسَ: 78] ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُتَكَبِّرَ فِي حَقِّ الْخَلْقِ اسْمُ ذَمٍّ، لِأَنَّ الْمُتَكَبِّرَ هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ مِنْ نَفْسِهِ الْكِبْرَ، وَذَلِكَ نَقْصٌ فِي حَقِّ الْخَلْقِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ كِبْرٌ وَلَا عُلُوٌّ، بَلْ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا الْحَقَارَةُ وَالذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، فَإِذَا أَظْهَرَ الْعُلُوَّ كَانَ كَاذِبًا، فَكَانَ ذَلِكَ مَذْمُومًا فِي حَقِّهِ أَمَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ فَلَهُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْعُلُوِّ وَالْكِبْرِيَاءِ، فَإِذَا أَظْهَرَهُ فَقَدْ أَرْشَدَ الْعِبَادَ إِلَى تَعْرِيفِ جَلَالِهِ وَعُلُوِّهِ، فَكَانَ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْمَدْحِ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ وَلِهَذَا السَّبَبِ لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الِاسْمَ: قَالَ: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الْمَخْلُوقِينَ قَدْ يَتَكَبَّرُونَ وَيَدَّعُونَ مُشَارَكَةَ اللَّه فِي هذا الوصف لكنه سبحانه منزله عَنِ التَّكَبُّرِ الَّذِي هُوَ حَاصِلٌ لِلْخَلْقِ لِأَنَّهُمْ نَاقِصُونَ بِحَسَبِ ذَوَاتِهِمْ، فَادِّعَاؤُهُمُ الْكِبْرَ يَكُونُ ضَمَّ نُقْصَانِ الْكَذِبِ إِلَى النُّقْصَانِ الذَّاتِيِّ، أَمَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ فَلَهُ الْعُلُوُّ وَالْعِزَّةُ، فَإِذَا أَظْهَرَهُ كَانَ ذَلِكَ ضَمَّ كَمَالٍ إِلَى كَمَالٍ، فَسُبْحَانَ اللَّه عَمَّا يُشْرِكُونَ فِي إِثْبَاتِ صِفَةِ الْمُتَكَبِّرِيَّةِ لِلْخَلْقِ. [سورة الحشر (59) : آية 24] هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) ثُمَّ قَالَ: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ وَالْخَلْقُ هُوَ التَّقْدِيرُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُقَدِّرُ أَفْعَالَهُ عَلَى وُجُوهٍ مَخْصُوصَةٍ، فَالْخَالِقِيَّةُ رَاجِعَةٌ إِلَى صِفَةِ الْإِرَادَةِ. ثُمَّ قَالَ: الْبارِئُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِنَا: صَانِعٌ وَمُوجِدٌ إِلَّا أَنَّهُ يُفِيدُ اخْتِرَاعَ الْأَجْسَامِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ فِي الْخَلْقِ: بَرِيَّةٌ وَلَا يُقَالُ فِي الْأَعْرَاضِ الَّتِي هِيَ كَاللَّوْنِ وَالطَّعْمِ. وَأَمَّا الْمُصَوِّرُ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَخْلُقُ صُوَرَ الْخَلْقِ عَلَى مَا يُرِيدُ، وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْخَالِقِ عَلَى الْبَارِئِ، / لِأَنَّ تَرْجِيحَ الْإِرَادَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى تَأْثِيرِ الْقُدْرَةِ وَقَدَّمَ الْبَارِئَ عَلَى الْمُصَوِّرِ، لِأَنَّ إِيجَادَ الذَّوَاتِ مُقَدَّمٌ عَلَى إِيجَادِ الصِّفَاتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَقَدْ فَسَّرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الأعراف: 180] . أَمَّا قَوْلُهُ: يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَدِيدِ واللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَالْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وسلم تسليما كثيرا.

سورة الممتحنة

بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ وَهِيَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً مَدَنِيَّةً [سورة الممتحنة (60) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ من جُمْلَةَ مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ التَّعَلُّقُ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي بَيَانِ حَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْحَاضِرِينَ فِي زَمَانِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ أَقْدَمُوا عَلَى الصُّلْحِ وَاعْتَرَفُوا بِصِدْقِهِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ بَنُو النَّضِيرِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: واللَّه إِنَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي وَجَدْنَا نَعْتَهُ وَصِفْتَهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَبَعْضُهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَأَقْدَمُوا عَلَى الْقِتَالِ، إِمَّا عَلَى التَّصْرِيحِ وَإِمَّا عَلَى الْإِخْفَاءِ، فَإِنَّهُمْ مَعَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ، وَمَعَ أَهْلِ الْكُفْرِ فِي الْبَاطِنِ، وَأَمَّا تَعَلُّقُ الْأَوَّلِ بِالْآخِرِ فَظَاهِرٌ، لِمَا أَنَّ آخِرَ تِلْكَ السُّورَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ لِحَضْرَةِ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَأَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى حُرْمَةِ الِاخْتِلَاطِ مَعَ مَنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا سَبَبُ النُّزُولِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، لَمَّا كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَهَّزُ لِلْفَتْحِ وَيُرِيدُ أَنْ يَغْزُوَكُمْ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ، ثُمَّ أَرْسَلَ ذَلِكَ الْكِتَابَ مَعَ امْرَأَةٍ مَوْلَاةٍ لِبَنِي هَاشِمٍ، يُقَالُ لَهَا سَارَّةُ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَمُسْلِمَةً جِئْتِ؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ: أَمُهَاجِرَةً جِئْتِ؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ: فَمَا جَاءَ بِكِ؟ قَالَتْ: قَدْ ذَهَبَ الْمَوَالِي يَوْمَ بَدْرٍ- أَيْ قُتِلُوا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ- فَاحْتَجْتُ حَاجَةً شَدِيدَةً فَحَثَّ عَلَيْهَا بَنِي الْمُطَّلِبِ فَكَسَوْهَا وَحَمَلُوهَا وَزَوَّدُوهَا، فَأَتَاهَا حَاطِبٌ وَأَعْطَاهَا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ وَكَسَاهَا بُرْدًا وَاسْتَحْمَلَهَا ذَلِكَ الْكِتَابَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَخَرَجَتْ سَائِرَةً، فَأَطْلَعَ اللَّه الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى ذَلِكَ، فَبَعَثَ عَلِيًّا وَعُمَرَ وَعَمَّارًا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ خَلْفَهَا وَهُمْ فُرْسَانٌ، فَأَدْرَكُوهَا وَسَأَلُوهَا عَنْ ذَلِكَ فَأَنْكَرَتْ وَحَلَفَتْ، فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: واللَّه مَا كَذَبْنَا، وَلَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّه، وَسَلَّ سَيْفَهُ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِ شَعْرِهَا، فَجَاءُوا بِالْكِتَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَهُ عَلَى حَاطِبٍ فَاعْتَرَفَ، وَقَالَ: إِنَّ لِي بِمَكَّةَ أَهْلًا وَمَالًا فَأَرَدْتُ

أَنْ أَتَقَرَّبَ مِنْهُمْ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّه/ تَعَالَى يُنْزِلُ بَأْسَهُ عَلَيْهِمْ، فَصَدَّقَهُ وَقَبِلَ عُذْرَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّه أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ لَعَلَّ اللَّه تَعَالَى قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ لَهُمْ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ، فَفَاضَتْ عَيْنَا عُمَرَ، وَقَالَ: اللَّه وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فنزلت، وأما تفسير الآية فالخطاب في: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ مَرَّ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ أَوْ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ وَهِيَ الطَّاعَاتُ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ فَاتَّخَذَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَهُمَا عَدُوِّي وَأَوْلِيَاءُ، وَالْعَدُوُّ فَعُولٌ مِنْ عَدَا، كَعَفُوٍّ مِنْ عَفَا، وَلِكَوْنِهِ عَلَى زِنَةِ الْمَصْدَرِ أُوقِعَ عَلَى الْجَمْعِ إِيقَاعَهُ عَلَى الْوَاحِدِ، وَالْعَدَاوَةُ ضِدُّ الصَّدَاقَةِ، وَهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، لَكِنَّهُمَا يَرْتَفِعَانِ فِي مَادَّةِ الْإِمْكَانِ، وَعَنِ الزَّجَّاجِ وَالْكَرَابِيسِيِّ عَدُوِّي أَيْ عَدُوُّ دِينِي، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبِي ذَرٍّ: «يا أبا ذر أي عرا الْإِيمَانِ أَوْثَقُ، فَقَالَ اللَّه وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ الْمُوَالَاةُ فِي اللَّه وَالْحُبُّ فِي اللَّه وَالْبُغْضُ فِي اللَّه» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: تُلْقُونَ بِمَاذَا يَتَعَلَّقُ، نَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ: هُوَ وَصْفُ النَّكِرَةِ الَّتِي هِيَ أَوْلِيَاءُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالثَّانِي: قَالَ فِي الْكَشَّافِ: يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِلَا تَتَّخِذُوا حَالًا مِنْ ضَمِيرِهِ، وَأَوْلِيَاءُ صِفَةٌ لَهُ الثَّالِثُ: قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا، فَلَا يَكُونُ صِلَةً لِأَوْلِيَاءَ، وَالْبَاءُ فِي الْمَوَدَّةِ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ [الحج: 25] وَالْمَعْنَى: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ أَخْبَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسِرَّهُ بِالْمَوَدَّةِ الَّتِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، ويدل عليه: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ الْأَوَّلُ: اتِّخَاذُ الْعَدُوِّ وَلِيًّا كَيْفَ يُمْكِنُ، وَقَدْ كَانَتِ الْعَدَاوَةُ منافية للمحبة والمودة، والمحبة المودة مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ الِاتِّخَاذِ، نَقُولُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الْعَدَاوَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَمْرٍ، وَالْمَحَبَّةُ وَالْمَوَدَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ [التَّغَابُنِ: 14] وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوْلَادُنَا أَكْبَادُنَا» الثَّانِي: لَمَّا قَالَ: عَدُوِّي فَلِمَ لَمْ يَكْتَفِ بِهِ حَتَّى قَالَ: وَعَدُوَّكُمْ لِأَنَّ عَدُوَّ اللَّه إِنَّمَا هُوَ عَدُوُّ الْمُؤْمِنِينَ؟ نَقُولُ: الْأَمْرُ لَازِمٌ مِنْ هَذَا التَّلَازُمِ، وَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ عَدُوًّا لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونَ عَدُوًّا للَّه، كَمَا قَالَ: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ، الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ: عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ وَلَمْ يَقُلْ بِالْعَكْسِ؟ فَنَقُولُ: الْعَدَاوَةُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ بِسَبَبِ مَحَبَّةِ اللَّه تَعَالَى وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ، فَتَكُونُ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ لِحَضْرَةِ اللَّه تَعَالَى لِعِلَّةٍ، وَمَحَبَّةُ حَضْرَةِ اللَّه تَعَالَى لِلْعَبْدِ لَا لِعِلَّةٍ، لِمَا أَنَّهُ غَنِيٌّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى الْغَيْرِ أَصْلًا، وَالَّذِي لَا لِعِلَّةٍ مُقَدَّمٌ عَلَى الَّذِي لِعِلَّةٍ، وَلِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ لَهُ نِسْبَةٌ إِلَى الطَّرَفَيْنِ، فَالطَّرَفُ الْأَعْلَى مُقَدَّمٌ عَلَى الطَّرَفِ الْأَدْنَى، الرَّابِعُ: قَالَ: أَوْلِياءَ وَلَمْ يَقُلْ: وَلِيًّا، وَالْعَدُوُّ وَالْوَلِيُّ بِلَفْظٍ، فَنَقُولُ: كَمَا أنا الْمُعَرَّفَ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ/ يَتَنَاوَلُ كُلَّ فَرْدٍ، فَكَذَلِكَ الْمُعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ الْخَامِسُ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْقُرْآنِ لَا تُمْكِنُ، وَالْبَاءُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْفَائِدَةِ، فَلَا تكون زائدة في الحقيقة. [قوله تَعَالَى وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ إلى قوله فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ.

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 2 إلى 3]

وَقَدْ كَفَرُوا الْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ وَحَالُهُمْ أَنَّهُمْ كَفَرُوا: بِما جاءَكُمْ مِنَ الدِّينِ الْحَقِّ، وَقِيلَ: مِنَ الْقُرْآنِ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ يَعْنِي مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَنْ تُؤْمِنُوا أَيْ لِأَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ شَرْطٌ جَوَابُهُ مُتَقَدِّمٌ وَهُوَ: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ، وَقَوْلُهُ: جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي مَنْصُوبَانِ لِأَنَّهُمَا مَفْعُولَانِ لَهُمَا، تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ عَنْ مُقَاتِلٍ بِالنَّصِيحَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ شَيْءٌ، فَقَالَ: وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ مِنَ الْمَوَدَّةِ لِلْكُفَّارِ وَما أَعْلَنْتُمْ أَيْ أَظْهَرْتُمْ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَامًّا فِي كُلِّ مَا يُخْفِي وَيُعْلِنُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَعْلَمُ بِسَرَائِرِ الْعَبْدِ وَخَفَايَاهُ وَظَاهِرِهِ، وَبَاطِنِهِ، مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْكِنَايَةُ رَاجِعَةً إِلَى الْإِسْرَارِ، وَإِلَى الْإِلْقَاءِ، وَإِلَى اتِّخَاذِ الْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ، لِمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مَذْكُورَةٌ مِنْ قَبْلُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ عَدَلَ عَنْ قَصْدِ الْإِيمَانِ فِي اعْتِقَادِهِ، وَعَنْ مُقَاتِلٍ: قَدْ أَخْطَأَ قَصْدَ الطَّرِيقِ عَنِ الْهُدَى، ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ مُتَعَلِّقٌ بِلَا تتخذوا، يعني لا تتلوا أعدائي إن كنتم أوليائي، وتُسِرُّونَ اسْتِئْنَافٌ، مَعْنَاهُ: أَيُّ طَائِلٍ لَكُمْ فِي إِسْرَارِكُمْ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الْإِخْفَاءَ وَالْإِعْلَانَ سِيَّانِ فِي عِلْمِي. الثَّانِي: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ الْآيَةَ، قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ وُجُودُ الشَّرْطِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ بِدُونِ ذَلِكَ النَّهْيِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يُمْكِنُ، فَنَقُولُ: هَذَا الْمَجْمُوعُ شَرْطٌ لِمُقْتَضَى ذَلِكَ النَّهْيِ، لَا لِلنَّهْيِ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ، وَلَا يُمْكِنُ وُجُودُ الْمَجْمُوعِ بِدُونِ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ دَائِمًا، فَالْفَائِدَةُ فِي ابْتِغَاءِ مَرْضَاتِي ظَاهِرَةٌ، إِذِ الْخُرُوجُ قَدْ يَكُونُ ابْتِغَاءً لِمَرْضَاةِ اللَّه وَقَدْ لَا يَكُونُ. الثَّالِثُ: قَالَ تَعَالَى: بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَلَمْ يَقُلْ: بِمَا أَسْرَرْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ، مَعَ أَنَّهُ أَلْيَقُ بِمَا سَبَقَ وَهُوَ تُسِرُّونَ، فَنَقُولُ فِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا لَيْسَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِخْفَاءَ أَبْلَغُ مِنَ الْإِسْرَارِ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى [طه: 7] أَيْ أَخْفَى مِنَ السِّرِّ. الرَّابِعُ: قَالَ: بِما أَخْفَيْتُمْ قَدَّمَ الْعِلْمَ بِالْإِخْفَاءِ عَلَى الْإِعْلَانِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِهَذَا مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ. فَنَقُولُ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِنَا، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِهِ تَعَالَى، إِذْ هُمَا سِيَّانِ فِي عِلْمِهِ كَمَا مَرَّ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ بَيَانُ مَا هُوَ الْأَخْفَى وَهُوَ الْكُفْرُ، فَيَكُونُ مُقَدَّمًا. الْخَامِسُ: قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: مِنْكُمْ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ نَقُولُ: إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ مِنْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ الْفِعْلَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا. ثُمَّ إِنَّهُ أَخْبَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِعَدَاوَةِ كُفَّارِ أَهْلِ مكة فقال: [سورة الممتحنة (60) : الآيات 2 الى 3] إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) يَثْقَفُوكُمْ يَظْفَرُوا بِكُمْ وَيَتَمَكَّنُوا مِنْكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ فِي غَايَةِ الْعَدَاوَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ

[سورة الممتحنة (60) : آية 4]

مُقَاتِلٌ: يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يُصَادِقُوكُمْ وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بِالضَّرْبِ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالشَّتْمِ وَوَدُّوا أَنْ تَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَعْدَاءَ اللَّه لَا يُخْلِصُونَ الْمَوَدَّةَ لِأَوْلِيَاءِ اللَّه لِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُبَايَنَةِ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ لَمَّا عُوتِبَ حَاطِبٌ عَلَى مَا فَعَلَ اعْتَذَرَ بِأَنَّ لَهُ أَرْحَامًا، وَهِيَ الْقَرَابَاتُ، وَالْأَوْلَادُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلَيْسَ لَهُ هُنَاكَ مَنْ يَمْنَعُ عَشِيرَتَهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا لِيُحْسِنُوا إِلَى مَنْ خَلَّفَهُمْ بِمَكَّةَ مِنْ عَشِيرَتِهِ، فَقَالَ: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ الذين توالون الكفار من أجلهم، وتقربون إِلَيْهِمْ مَخَافَةً عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَقَارِبِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ فَيَدْخُلُ أَهْلُ الْإِيمَانِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ الْكُفْرِ النَّارَ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أَيْ بِمَا عَمِلَ حَاطِبٌ، ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً كَيْفَ يُورِدُ جَوَابَ الشَّرْطِ مُضَارِعًا مِثْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَوَدُّوا بِلَفْظِ الْمَاضِي نَقُولُ: الْمَاضِي وَإِنْ كَانَ يَجْرِي فِي بَابِ الشَّرْطِ مَجْرَى الْمُضَارِعِ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ فَإِنَّ فِيهِ نُكْتَةٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَوَدُّوا قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ كُفْرَكُمْ وَارْتِدَادَكُمْ. الثَّانِي: يَوْمَ الْقِيامَةِ ظَرْفٌ لِأَيِّ شَيْءٍ، قُلْنَا لِقَوْلِهِ: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أو يكون ظرفا ليفصل وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: يُفْصَلُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ، ويَفْصِلُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَهُوَ اللَّه، و (نفصل) و (نفصل) بِالنُّونِ. الثَّالِثُ: قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَمْ يَقُلْ: خَبِيرٌ، مَعَ أَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْخَبِيرَ أَبْلَغُ فِي الْعِلْمِ وَالْبَصِيرَ أَظْهَرُ مِنْهُ فِيهِ، لِمَا أَنَّهُ يَجْعَلُ عَمَلَهُمْ كَالْمَحْسُوسِ بِحِسِّ الْبَصَرِ واللَّه أعلم. ثم قال تعالى: [سورة الممتحنة (60) : آية 4] قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) اعْلَمْ أَنَّ الْأُسْوَةَ مَا يُؤْتَسَى بِهِ مِثْلُ الْقُدْوَةِ لِمَا يُقْتَدَى بِهِ، يُقَالُ: هُوَ أُسْوَتُكَ، أَيْ أَنْتَ مِثْلُهُ وَهُوَ مِثْلُكُ، وَجَمْعُ الْأُسْوَةِ أُسًى، فَالْأُسْوَةُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُقْتَدَى بِهِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابَهُ تَبَرَّءُوا مِنْ قَوْمِهِمْ وعادوهم، وقالوا لهم: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ، وَأَمَرَ أَصْحَابِ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يأنسوا بِهِمْ وَبِقَوْلِهِمْ، قَالَ الْفَرَّاءُ: يَقُولُ أَفَلَا تَأَسَّيْتَ يا حاطب بإبراهيم في التبرئة من أهل فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَهُوَ مُشْرِكٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نُهُوا أَنْ يَتَأَسَّوْا بِاسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ فَيَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: ائْتَسُوا بِأَمْرِ إِبْرَاهِيمَ كُلِّهِ إِلَّا فِي اسْتِغْفَارِهِ لِأَبِيهِ، وَقِيلَ: تَبَرَّءُوا مِنْ كُفَّارِ قَوْمِكُمْ فَإِنَّ لَكُمْ أُسْوَةً حَسَنَةً فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْبَرَاءَةِ مِنْ قَوْمِهِمْ، لَا فِي الِاسْتِغْفَارِ لِأَبِيهِ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُرِيدُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَادَاهُمْ وَهَجَرَهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا فِي قَوْلِهِ لِأَبِيهِ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، بَلِ الْمَعْنَى قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَعَلَهُ، إِلَّا فِي قَوْلِهِ لِأَبِيهِ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ/ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ هَذَا مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ يَقُولُ لَهُ: مَا أُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا، وَلَا أَدْفَعُ عَنْكَ عَذَابَ اللَّه إِنْ أَشْرَكْتَ بِهِ، فَوَعَدَهُ الِاسْتِغْفَارَ رَجَاءَ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 5 إلى 7]

كَانَ مِنْ دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِهِ: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا الْآيَةَ، أَيْ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا رَجَعْنَا بِالتَّوْبَةِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ إِلَيْكَ إِذِ الْمَصِيرُ لَيْسَ إِلَّا إِلَى حَضْرَتِكَ، وَفِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: وَحْدَهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ اللَّوَازِمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [الْبَقَرَةِ: 285] فَنَقُولُ: الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ باللَّه وَحْدَهُ، إِذِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَحْدَهُ هُوَ وَحْدَهُ فِي الْأُلُوهِيَّةِ، وَلَا نَشُكُّ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ بِأُلُوهِيَّةِ غيره، لا يكون إيمانا باللَّه، إذا هُوَ الْإِشْرَاكُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَالْمُشْرِكُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا. الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ، هُوَ، نَقُولُ: مِنْ قَوْلِهِ: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَا أَنَّهُ أَرَادَ بِالْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ قَوْلَهُمُ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْتَسُوا بِهِ، وَيَتَّخِذُوهُ سُنَّةً يَسْتَنُّونَ بِهَا. الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ قَوْلُهُ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مُسْتَثْنًى مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي سَبَقَ وَهُوَ: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فَمَا بَالُ قَوْلِهِ: وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ غَيْرُ حَقِيقٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [الفتح: 11] نَقُولُ: أَرَادَ اللَّه تَعَالَى اسْتِثْنَاءَ جُمْلَةِ قَوْلِهِ لِأَبِيهِ، وَالْقَصْدُ إِلَى مَوْعِدِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ وَمَا بَعْدَهُ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ وَتَابِعٌ لَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَسْتَغْفِرُ لَكَ، وَمَا وُسْعِي إِلَّا الِاسْتِغْفَارُ. الرَّابِعُ: إِذَا قِيلَ: بِمَ اتَّصَلَ قَوْلُهُ: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا نَقُولُ: بِمَا قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى هُوَ الْأَمْرُ بِهَذَا الْقَوْلِ تَعْلِيمًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَتْمِيمًا لِمَا وَصَّاهُمْ بِهِ مِنْ قَطْعِ الْعَلَائِقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكَفَرَةِ، وَالِائْتِسَاءِ بِإِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ فِي الْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ تَنْبِيهًا عَلَى الْإِنَابَةِ إِلَى حَضْرَةِ اللَّه تَعَالَى، وَالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ. الْخَامِسُ: إِذَا قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ؟ فَنَقُولُ: فِيهِ من الفوائد مالا يُحِيطُ بِهِ إِلَّا هُوَ، وَالظَّاهِرُ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ أَنْ يُقَالَ: التَّوَكُّلُ لِأَجْلِ الْإِفَادَةِ، وَإِفَادَةُ التَّوَكُّلِ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى التَّقْوَى قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطَّلَاقِ: 2] وَالتَّقْوَى الْإِنَابَةُ، إِذِ التَّقْوَى الِاحْتِرَازُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْأُمُورِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْجِعَ وَالْمَصِيرَ لِلْخَلَائِقِ حَضْرَتُهُ الْمُقَدَّسَةُ لَيْسَ إِلَّا، فَكَأَنَّهُ ذَكَرَ الشَّيْءَ، وَذَكَرَ عَقِيبَهُ مَا يَكُونُ مِنَ اللَّوَازِمِ للإفادة ذلك كما ينبغي، والقراءة في بُرَآؤُا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: بُرَآءُ كَشُرَكَاءَ، وَبِرَاءٌ كَظِرَافٍ، وَبُرَاءُ عَلَى إِبْدَالِ الضَّمِّ مِنَ الْكَسْرِ كَرُخَالٍ، وَبَرَاءٌ عَلَى الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ وَالْبَرَاءُ وَالْبَرَاءَةُ، مِثْلُ الطماء والطماءة. / ثم قال تعالى: [سورة الممتحنة (60) : الآيات 5 الى 7] رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) قَوْلُهُ: رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً مِنْ دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا أَعْدَاءَنَا فَيَظُنُّوا أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تُعَذِّبْنَا بِأَيْدِيهِمْ وَلَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِكَ فَيَقُولُوا لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ عَلَى الْحَقِّ لَمَا أَصَابَهُمْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: لَا تَبْسُطْ عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ دُونَنَا، فَإِنَّ ذَلِكَ فِتْنَةٌ لَهُمْ، وَقِيلَ: قَوْلُهُ لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً، أَيْ عَذَابًا أَيْ سَبَبًا يُعَذَّبُ بِهِ الْكَفَرَةُ، وَعَلَى هَذَا لَيْسَتِ الْآيَةُ مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا الْآيَةَ، مِنْ جملة ما

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 8 إلى 9]

مَرَّ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَعَادَ ذِكْرَ الْأُسْوَةِ تَأْكِيدًا لِلْكَلَامِ، فَقَالَ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أَيْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، وَهَذَا هُوَ الْحَثُّ عَنِ الِائْتِسَاءِ بِإِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَبْغَضُونَ مَنْ خَالَفَ اللَّه وَيُحِبُّونَ مَنْ أَحَبَّ اللَّه، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لَكُمْ وَبَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْأُسْوَةَ لِمَنْ يَخَافُ اللَّه وَيَخَافُ عَذَابَ الْآخِرَةِ، وَمَنْ يَتَوَلَّ أَيْ يُعْرِضْ عَنِ الِائْتِسَاءِ بِهِمْ وَيَمِيلُ إِلَى مَوَدَّةِ الْكُفَّارِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عَنْ مُخَالَفَةِ أَعْدَائِهِ الْحَمِيدُ إِلَى أَوْلِيَائِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: عَسَى اللَّهُ فَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِعَدَاوَةِ الْكُفَّارِ شَدَّدُوا فِي عَدَاوَةِ آبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ وَجَمِيعِ أَقَارِبِهِمْ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى قَوْلَهُ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ أَيْ مِنْ كَفَّارِ مَكَّةَ مَوَدَّةً وَذَلِكَ بِمَيْلِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَمُخَالَطَتِهِمْ مَعَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَمُنَاكَحَتِهِمْ إِيَّاهُمْ. وَقِيلَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمُّ حَبِيبَةَ، فَلَانَتْ عِنْدَ ذَلِكَ عَرِيكَةُ أَبِي سُفْيَانَ، وَاسْتَرْخَتْ شَكِيمَتُهُ فِي الْعَدَاوَةِ، وَكَانَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ قَدْ أَسْلَمَتْ، وَهَاجَرَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُبَيْدِ اللَّه بْنِ جَحْشٍ إِلَى الْحَبَشَةِ، فَتَنَصَّرَ وَرَاوَدَهَا عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ فَأَبَتْ، وَصَبَرَتْ عَلَى دِينِهَا، وَمَاتَ زَوْجُهَا، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَخَطَبَهَا عَلَيْهِ، وَسَاقَ عَنْهُ إِلَيْهَا أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، وَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَاهَا فَقَالَ: ذَلِكَ الْفَحْلُ لَا يُفْدَغُ أنفه، / وعَسَى وَعْدٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى: وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً يُرِيدُ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ آمَنُوا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، مِنْهُمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ بن الحرث، والحرث بْنُ هِشَامٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، واللَّه تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى تَقْلِيبِ الْقُلُوبِ، وَتَغْيِيرِ الْأَحْوَالِ، وَتَسْهِيلِ أَسْبَابِ الْمَوَدَّةِ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ بِهِمْ إِذَا تَابُوا وَأَسْلَمُوا، وَرَجَعُوا إِلَى حَضْرَةِ اللَّه تَعَالَى، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَهْجُرُوا كُلَّ الْهَجْرِ، فَإِنَّ اللَّه مُطَّلِعٌ عَلَى الْخَفِيَّاتِ وَالسَّرَائِرِ. وَيُرْوَى: أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا. وَمِنَ الْمَبَاحِثِ فِي هَذِهِ الْحِكْمَةِ هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً إِذَا كَانَ تَأْوِيلُهُ: لَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا أَعْدَاءَنَا مَثَلًا، فَلِمَ تَرَكَ هَذَا، وَأَتَى بِذَلِكَ؟ فَنَقُولُ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِحَيْثُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ هَذَا، فَإِذَا أَتَى بِهِ فَكَأَنَّهُ أَتَى بِهَذَا وَذَلِكَ، وَفِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ مَا لَيْسَ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ. الثَّانِي: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا وَقَدْ كَانَ الْكَلَامُ مُرَتَّبًا إِذَا قِيلَ: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينِ كَفَرُوا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَنَقُولُ: إِنَّهُمْ طَلَبُوا الْبَرَاءَةَ عَنِ الْفِتْنَةِ، وَالْبَرَاءَةُ عَنِ الْفِتْنَةِ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهَا بِدُونِ الْمَغْفِرَةِ، إِذِ الْعَاصِي لَوْ لَمْ يَكُنْ مَغْفُورًا كَانَ مَقْهُورًا بِقَهْرِ الْعَذَابِ، وَذَلِكَ فِتْنَةٌ، إِذِ الْفِتْنَةُ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مقهوراً، والْحَمِيدُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْحَامِدِ، وَبِمَعْنَى الْمَحْمُودِ، فَالْمَحْمُودُ أَيْ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ مِنْ خَلْقِهِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ، وَالْحَامِدُ أَيْ يَحْمَدُ الْخَلْقَ، وَيَشْكُرُهُمْ حَيْثُ يَجْزِيهِمْ بِالْكَثِيرِ مِنَ الثَّوَابِ عَنِ الْقَلِيلِ مِنَ الْأَعْمَالِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ مَا ذَكَرَ مِنْ تَرْكِ انْقِطَاعِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْكُلِّيَّةِ عَنِ الْكُفَّارِ رَخَّصَ فِي صِلَةِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوهُمْ مِنَ الكفار فقال: [سورة الممتحنة (60) : الآيات 8 الى 9] لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)

[سورة الممتحنة (60) : آية 10]

اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ الْعَهْدِ الَّذِينَ عَاهَدُوا/ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ، وَالْمُظَاهَرَةِ فِي الْعَدَاوَةِ، وَهُمْ خُزَاعَةُ كَانُوا عَاهَدُوا الرَّسُولَ عَلَى أَنْ لَا يُقَاتِلُوهُ وَلَا يُخْرِجُوهُ، فَأَمَرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْبِرِّ وَالْوَفَاءِ إِلَى مُدَّةِ أَجَلِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمُقَاتِلَيْنِ وَالْكَلْبِيِّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الَّذِينَ آمَنُوا بِمَكَّةَ وَلَمْ يُهَاجِرُوا، وَقِيلَ: هُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَدِمَتْ أُمُّهَا فتيلة عَلَيْهَا وَهِيَ مُشْرِكَةٌ بِهَدَايَا، فَلَمْ تَقْبَلْهَا وَلَمْ تَأْذَنْ لَهَا بِالدُّخُولِ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُدْخِلَهَا وَتَقْبَلَ مِنْهَا وَتُكْرِمَهَا وَتَحْسُنَ إِلَيْهَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ قَوْمٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ مِنْهُمُ الْعَبَّاسُ أُخْرِجُوا يَوْمَ بَدْرٍ كُرْهًا، وَعَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ اسْتَأْمَرُوا رَسُولَ اللَّه فِي أَقْرِبَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَصِلُوهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَقِيلَ الْآيَةُ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ قَتَادَةُ نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ: وَقَوْلُهُ: أَنْ تَبَرُّوهُمْ بَدَلٌ مِنْ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَكَذَلِكَ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ بَدَلٌ مِنْ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ وَالْمَعْنَى: لَا يَنْهَاكُمْ عَنْ مَبَرَّةِ هَؤُلَاءِ، وَإِنَّمَا يَنْهَاكُمْ عَنْ تَوَلِّي هَؤُلَاءِ، وَهَذَا رَحْمَةٌ لَهُمْ لِشِدَّتِهِمْ فِي الْعَدَاوَةِ، وَقَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْبِرِّ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُوَالَاةُ مُنْقَطِعَةً، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ بِالصِّلَةِ وَغَيْرِهَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ يُرِيدُ أَهْلَ الْبِرِّ وَالتَّوَاصُلِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَنْ تُوفُوا لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَتَعْدِلُوا، ثُمَّ ذَكَرَ مَنِ الَّذِينَ يَنْهَاهُمْ عَنْ صِلَتِهِمْ فَقَالَ: إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ. .. أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّهُ يُؤَكِّدُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ. ثم قال تعالى: [سورة الممتحنة (60) : آية 10] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) فِي نَظْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَجْهٌ حَسَنٌ مَعْقُولٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُعَانِدَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَحْوَالٍ ثَلَاثَةٍ، إِمَّا أَنْ يَسْتَمِرَّ عِنَادُهُ، أَوْ يُرْجَى مِنْهُ أَنْ يَتْرُكَ الْعِنَادَ، أَوْ يَتْرُكَ الْعِنَادَ وَيَسْتَسْلِمَ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَحْوَالَهُمْ، وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعَامِلُوهُمْ فِي كُلِّ حَالَةٍ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ [الْمُمْتَحِنَةِ: 4] فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، ثُمَّ قَوْلُهُ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً [الْمُمْتَحِنَةِ: 7] إِشَارَةٌ إلى الحالة الثانية، ثم قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ فِيهِ لَطِيفَةٌ وَتَنْبِيهٌ وَحَثٌّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى مَا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مُقَابَلَةِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ بِالْجَزَاءِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَبِالْكَلَامِ إِلَّا بِالَّذِي هُوَ أَلْيَقُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ لِصُدُورِ مَا يَقْتَضِي الْإِيمَانَ وَهُوَ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ، مِنْهُنَّ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُنَّ مَا

هُوَ الْمُنَافِي لَهُ، أَوْ لِأَنَّهُنَّ مُشَارِفَاتٌ لِثَبَاتِ إيمانهن بالامتحان والامتحان وَهُوَ الِابْتِلَاءُ بِالْحَلِفِ، وَالْحَلِفُ لِأَجْلِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِإِيمَانِهِنَّ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِلْمُمْتَحِنَةِ: «باللَّه الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا خَرَجْتِ مِنْ بُغْضِ زَوْجٍ، باللَّه مَا خَرَجْتِ رَغْبَةً مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ، باللَّه مَا خَرَجْتِ الْتِمَاسَ دُنْيَا، باللَّه مَا خَرَجْتِ إِلَّا حُبًّا للَّه وَلِرَسُولِهِ» وَقَوْلُهُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ مِنْكُمْ واللَّه يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ الْعِلْمَ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الظَّنِّ الْغَالِبِ بِالْحَلِفِ وَغَيْرِهِ، فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ أَيْ تَرُدُّوهُنَّ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ الْمُشْرِكِينَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا أَيْ أَعْطُوا أَزْوَاجَهُنَّ مِثْلَ مَا دَفَعُوا إِلَيْهِنَّ مِنَ الْمُهُورِ، وَذَلِكَ أَنَّ الصُّلْحَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةَ كَانَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاكُمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُرَدُّ إِلَيْهِمْ، وَمَنْ أَتَى مَكَّةَ مِنْكُمْ لَمْ يُرَدَّ إِلَيْكُمْ، وَكَتَبُوا بِذَلِكَ الْعَهْدِ كِتَابًا وَخَتَمُوهُ، فَجَاءَتْ سُبَيْعَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةُ مُسْلِمَةً وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، فَأَقْبَلَ زَوْجُهَا مُسَافِرٌ الْمَخْزُومِيُّ، وَقِيلَ: صَيْفِيُّ بْنُ الرَّاهِبِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ ارْدُدْ عَلَيَّ امْرَأَتِي فَإِنَّكَ قَدْ شَرَطْتَ لَنَا شَرْطًا أَنْ تَرُدَّ عَلَيْنَا مَنْ أَتَاكَ مِنَّا، وَهَذِهِ طَيَّةُ الْكِتَابِ لَمْ تَجِفَّ، فَنَزَلَتْ بَيَانًا لِأَنَّ الشَّرْطَ إِنَّمَا كَانَ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ. وَعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا جَاءَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَهِيَ عَاتِقٌ، فَجَاءَ أَهْلُهَا يَطْلُبُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرْجِعَهَا إِلَيْهِمْ، وَكَانَتْ هَرَبَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمَعَهَا أَخَوَاهَا عُمَارَةُ وَالْوَلِيدُ، فَرَدَّ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَوَيْهَا وَحَبَسَهَا فَقَالُوا: ارْدُدْهَا عَلَيْنَا، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كَانَ الشَّرْطُ فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ» وَعَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّ الْعَهْدَ كَانَ إِنْ يَأْتِكَ مِنَّا امْرَأَةٌ لَيْسَتْ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهَا إِلَيْنَا، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي دِينِكَ وَلَهَا زَوْجٌ رُدَّتْ عَلَى زَوْجِهَا الَّذِي أَنْفَقَ عَلَيْهَا، وَلِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّرْطِ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْحُكْمُ وَهَذَا الْعَهْدُ، وَاسْتَحْلَفَهَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَحَلَفَتْ وَأَعْطَى زَوْجَهَا مَا أَنْفَقَ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عُمَرُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أَيْ مهورهن إذا الْمَهْرُ أَجْرُ الْبُضْعِ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَالْعِصْمَةُ مَا يُعْتَصَمُ بِهِ مِنْ عَهْدٍ/ وَغَيْرِهِ، وَلَا عِصْمَةَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُنَّ وَلَا عَلَقَةَ النِّكَاحِ كَذَلِكَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ يَقْطَعُ الْعِصْمَةَ، وَقِيلَ: لَا تَقْعُدُوا لِلْكَوَافِرِ، وَقُرِئَ: تُمْسِكُوا، بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ، وتُمْسِكُوا أَيْ وَلَا تَتَمَسَّكُوا، وقوله تعالى: وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَهُوَ إِذَا لَحِقَتِ امْرَأَةٌ مِنْكُمْ بِأَهْلِ الْعَهْدِ مِنَ الْكُفَّارِ مُرْتَدَّةً فَاسْأَلُوهُمْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنَ الْمَهْرِ إِذَا مَنَعُوهَا وَلَمْ يَدْفَعُوهَا إِلَيْكُمْ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَغْرَمُوا صَدَاقَهَا كَمَا يُغْرَمُ لهم وهو قوله تعالى: وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أَيْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ وَفِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: فَامْتَحِنُوهُنَّ أَمْرٌ بِمَعْنَى الْوُجُوبِ أَوْ بِمَعْنَى النَّدْبِ أَوْ بِغَيْرِ هَذَا وَذَلِكَ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِحْبَابِ. الثَّانِي: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ؟ نَقُولُ: فَائِدَتُهُ بَيَانُ أَنْ لَا سَبِيلَ إِلَى مَا تَطْمَئِنُّ بِهِ النَّفْسُ مِنَ الْإِحَاطَةِ بِحَقِيقَةِ إِيمَانِهِنَّ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ بِهِ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. الثَّالِثُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ؟ نَقُولُ: هَذَا بِاعْتِبَارِ الْإِيمَانِ مِنْ جَانِبِهِنَّ وَمِنْ جَانِبِهِمْ إِذِ الْإِيمَانُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ شَرْطٌ لِلْحِلِّ وَلِأَنَّ الذِّكْرَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مُؤَكَّدٌ لِارْتِفَاعِ الْحِلِّ، وفيه من الإفادة مالا يَكُونُ فِي غَيْرِهِ، فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَكِنْ يَكْفِي قَوْلُهُ: فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ وَالْمَقْصُودُ هَذَا لَا غَيْرُ، نَقُولُ: التَّلَفُّظُ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا يُفِيدُ ارْتِفَاعَ الْحِلِّ مِنَ الْجَانِبَيْنِ بِخِلَافِ التَّلَفُّظِ بِذَلِكَ اللَّفْظِ وَهَذَا ظَاهِرٌ.

[سورة الممتحنة (60) : آية 11]

الْبَحْثُ الرَّابِعُ: كَيْفَ سَمَّى الظَّنَّ عِلْمًا فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ؟ نَقُولُ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ أَنَّ الظَّنَّ الْغَالِبَ وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِ الِاجْتِهَادُ، وَالْقِيَاسُ جَارٍ مَجْرَى الْعِلْمِ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] . ثم قال تعالى: [سورة الممتحنة (60) : آية 11] وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَمَسْرُوقٍ أَنَّ مِنْ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَسْأَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْكُفَّارِ مَهْرَ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ إِذَا صَارَتْ إِلَيْهِمْ، وَيَسْأَلَ الْكُفَّارُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَهْرَ مَنْ صَارَتْ إِلَيْنَا مِنْ نِسَائِهِمْ مَسْلَمَةً، فَأَقَرَّ الْمُسْلِمُونَ بِحُكْمِ اللَّه وَأَبَى الْمُشْرِكُونَ فَنَزَلَتْ: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ أَيْ سَبَقَكُمْ وَانْفَلَتَ/ مِنْكُمْ، قَالَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ ارْتَدَّتْ وَتَرَكَتْ زَوْجَهَا عَبَّاسَ بْنَ تَمِيمٍ الْقُرَشِيَّ، وَلَمْ تَرْتَدَّ امْرَأَةٌ مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ غَيْرُهَا، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَعاقَبْتُمْ أَيْ فَغَنِمْتُمْ، عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٍ وَمُقَاتِلٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَصَبْتُمْ مِنْهُمْ عُقْبَى، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ فَعاقَبْتُمْ أَيْ فَعَلْتُمْ مَا فعل بكل يَعْنِي ظَفَرْتُمْ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: الْعُقْبَى لِفُلَانٍ، أَيِ الْعَاقِبَةُ، وَتَأْوِيلُ الْعَاقِبَةِ الْكَرَّةُ الْأَخِيرَةُ، وَمَعْنَى عَاقَبْتُمْ: غَزَوْتُمْ مُعَاقِبِينَ غَزْوًا بَعْدَ غَزْوٍ، وَقِيلَ: كَانَتِ الْعُقْبَى لَكُمْ وَالْغَلَبَةُ، فَأَعْطُوا الْأَزْوَاجَ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ مَا أَنْفَقُوا عَلَيْهِنَّ مِنَ الْمَهْرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا، وقرئ: (فأعقبتم) و (فعقبتم) بالتشديد، و (فعقبتم) بالتخفيف بفتح/ القاف وكسرها. [سورة الممتحنة (60) : آية 12] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ مِنْ بَيْعَةِ الرِّجَالِ أَخَذَ فِي بَيْعَةِ النِّسَاءِ وَهُوَ عَلَى الصَّفَا وَعُمَرُ أَسْفَلُ مِنْهُ يُبَايِعُ النِّسَاءَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُبَلِّغُهُنَّ عَنْهُ، وَهِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ مُتَقَنِّعَةٌ مُتَنَكِّرَةٌ خَوْفًا مِنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْرِفَهَا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أُبَايِعُكُنَّ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكْنَ باللَّه شَيْئًا، فَرَفَعَتْ هِنْدُ رَأَسَهَا وَقَالَتْ: واللَّه لَقَدْ عَبَدْنَا الْأَصْنَامَ وإنك لتأخذ علينا أمرا ما رأينا أَخَذْتَهُ عَلَى الرِّجَالِ، تُبَايِعُ الرِّجَالَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ فَقَطْ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَلَا تَسْرِقْنَ، فَقَالَتْ هِنْدُ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَإِنِّي أَصَبْتُ مِنْ مَالِهِ هَنَاةً فَمَا أَدْرِي أَتَحِلُّ لِي أَمْ لَا؟ فَقَالَ: أَبُو سُفْيَانَ مَا أَصَبْتِ مِنْ شَيْءٍ فِيمَا مَضَى وَفِيمَا غَبَرَ فَهُوَ لَكِ حَلَالٌ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَرَفَهَا، فَقَالَ لَهَا: وَإِنَّكِ لَهِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، قَالَتْ: نَعَمْ فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ يَا نَبِيَّ اللَّه عَفَا اللَّه عَنْكَ، فَقَالَ: وَلَا تَزْنِينَ، فَقَالَتْ: أَتَزْنِ الْحُرَّةُ، وَفِي رِوَايَةٍ مَا زَنَتْ مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ قَطُّ، فَقَالَ: وَلَا تَقْتُلْنَ أَوْلَادَكُنَّ، فَقَالَتْ: رَبَّيْنَاهُمْ صِغَارًا وَقَتَلْتَهُمْ كِبَارًا، فَأَنْتُمْ وَهُمْ أَعْلَمُ، وَكَانَ ابْنُهَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَضَحِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حَتَّى اسْتَلْقَى، وَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَلَا تَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ، وَهُوَ أَنْ تَقْذِفَ عَلَى زَوْجِهَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَقَالَتْ هِنْدُ: واللَّه/ إِنَّ الْبُهْتَانَ لَأَمْرٌ قَبِيحٌ وَمَا تَأْمُرُنَا إِلَّا بِالرُّشْدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فقال: ولا

تَعْصِينَنِي فِي مَعْرُوفٍ، فَقَالَتْ: واللَّه مَا جَلَسْنَا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصينك فِي شَيْءٍ» وَقَوْلُهُ: وَلا يَسْرِقْنَ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنِ الْخِيَانَةِ فِي الْأَمْوَالِ وَالنُّقْصَانِ مِنَ الْعِبَادَةِ، فإن يُقَالُ: أَسْرَقُ مِنَ السَّارِقِ مَنْ سَرَقَ مِنْ صِلَاتِهِ: وَلا يَزْنِينَ يَحْتَمِلُ حَقِيقَةَ الزِّنَا وَدَوَاعِيَهُ أَيْضًا عَلَى مَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْيَدَانِ تَزْنِيَانِ، وَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَالرِّجْلَانِ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ» وَقَوْلُهُ: وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ أَرَادَ وَأْدَ الْبَنَاتِ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ أهل والجاهلية ثُمَّ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ قَتْلِ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ نَهَى عَنِ النَّمِيمَةِ أَيْ لَا تَنِمُّ إِحْدَاهُنَّ عَلَى صَاحِبِهَا فَيُورِثُ الْقَطِيعَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَهْيًا عَنْ إِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِأَزْوَاجِهِنَّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تُلْحِقُ بِزَوْجِهَا وَلَدًا لَيْسَ مِنْهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلْتَقِطُ الْمَوْلُودَ فَتَقُولُ لِزَوْجِهَا: هَذَا وَلَدِي مِنْكَ فَذَلِكَ الْبُهْتَانُ الْمُفْتَرَى بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَذَلِكَ أَنَّ الْوَلَدَ إِذَا رضعته الْأُمُّ سَقَطَ بَيْنَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا، وَلَيْسَ الْمَعْنَى نَهْيَهُنَّ عَنِ الزِّنَا، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الزِّنَا قَدْ تَقَدَّمَ، وَقَوْلُهُ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ أَيْ كُلِّ أَمْرٍ وَافَقَ طَاعَةَ اللَّه، وَقِيلَ: فِي أَمْرِ بِرٍّ وَتَقْوًى، وَقِيلَ فِي كُلِّ أَمْرٍ فِيهِ رُشْدٌ، أَيْ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي جَمِيعِ أَمْرِكَ، وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْكَلْبِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ أَيْ مِمَّا تَأْمُرُهُنَّ بِهِ وَتَنْهَاهُنَّ عَنْهُ، كَالنَّوْحِ وَتَمْزِيقِ الثِّيَابِ، وَجَزِّ الشَّعْرِ وَنَتْفِهِ، وَشَقِّ الْجَيْبِ، وَخَمْشِ الْوَجْهِ، وَلَا تُحَدِّثُ الرِّجَالَ إِلَّا إِذَا كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَلَا تَخْلُو بِرَجُلٍ غَيْرِ مَحْرَمٍ، وَلَا تُسَافِرُ إِلَّا مَعَ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ هَذَا الْمَعْرُوفَ بِالنَّوْحِ، وَعَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالِاسْتِقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ» وَقَالَ: «النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ» وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» وَقَوْلُهُ: فَبايِعْهُنَّ جَوَابُ إِذا، أَيْ إِذَا بَايَعْنَكَ عَلَى هَذِهِ الشَّرَائِطِ فَبَايِعْهُنَّ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْمُبَايَعَةِ، فَقَالُوا: كَانَ يُبَايِعُهُنَّ وَبَيْنَ يده وأيديهن ثَوْبٌ، وَقِيلَ: كَانَ يَشْتَرِطُ عَلَيْهِنَّ الْبَيْعَةَ وَعُمْرُ يُصَافِحُهُنَّ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ، وَقِيلَ: بِالْكَلَامِ، وَقِيلَ: دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَغَمَسَ يَدَهُ فِيهِ، ثُمَّ غمس أَيْدِيَهُنَّ فِيهِ، وَمَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ، وَفِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ تَعَالَى: إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ وَلَمْ يَقُلْ: فَامْتَحِنُوهُنَّ، كَمَا قَالَ فِي الْمُهَاجِرَاتِ وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِامْتِحَانَ حَاصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ إِلَى آخِرِهِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمُهَاجِرَاتِ يَأْتِينَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَلَا اطِّلَاعَ لَهُنَّ عَلَى الشَّرَائِعِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِامْتِحَانِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنَاتُ فَهُنَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَعَلِمْنَ الشَّرَائِعَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الِامْتِحَانِ. الثَّانِي: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَمَا وَجْهُهُ؟ نَقُولُ: مَنْ قَالَ الْمَرْأَةُ إِذَا الْتَقَطَتْ وَلَدًا، فَإِنَّمَا الْتَقَطَتْ بِيَدِهَا، وَمَشَتْ إِلَى أَخْذِهِ برجلها، فإذا أضافته إلى زواجها فقد أتت/ ببهتان تفترينه بَيْنَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا، وَقِيلَ: يَفْتَرِينَهُ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ، حَيْثُ يَقُلْنَ: هَذَا وَلَدُنَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِذِ الْوَلَدُ وَلَدُ الزِّنَا، وَقِيلَ: الْوَلَدُ إِذَا وَضَعَتْهُ أُمُّهُ سَقَطَ بَيْنَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا. الثَّالِثُ: مَا وَجْهُ التَّرْتِيبِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ وَتَقْدِيمِ الْبَعْضِ مِنْهَا عَلَى الْبَعْضِ فِي الْآيَةِ؟ نَقُولُ: قَدَّمَ الْأَقْبَحَ عَلَى مَا هُوَ الْأَدْنَى مِنْهُ فِي الْقُبْحِ، ثُمَّ كَذَلِكَ إِلَى آخِرِهِ، وَقِيلَ: قَدَّمَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ مَا هُوَ الْأَظْهَرُ فِيمَا بينهم. ثم قال تعالى:

[سورة الممتحنة (60) : آية 13]

[سورة الممتحنة (60) : آية 13] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13) قَالَ ابن عباس: يريد حاطب ابن أَبِي بَلْتَعَةَ يَقُولُ: لَا تَتَوَلَّوُا الْيَهُودَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَمْعًا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُخْبِرُونَ الْيَهُودَ أَخْبَارَ الْمُسْلِمِينَ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِمْ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَيَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ، يَعْنِي أَنَّ الْيَهُودَ كَذَّبَتْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّه وَأَنَّهُمْ أَفْسَدُوا آخِرَتَهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ فَهُمْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ، وَالتَّقْيِيدُ بِهَذَا الْقَيْدِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ كَانَ الْعِلْمُ بِخِذْلَانِهِمْ وَعَدَمِ حَظِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ قَطْعِيًّا، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَجَمَاعَةٍ، يَعْنِي الْكُفَّارَ الَّذِينَ مَاتُوا يَئِسُوا مِنَ الْجَنَّةِ، وَمِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ، وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي الْأَحْيَاءَ مِنَ الْكُفَّارِ يَئِسُوا مِنَ الْأَمْوَاتِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَئِسَ الْيَهُودُ الَّذِينَ عَانَدُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ مِنْ مَوْتَاهُمْ. وَالْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّه عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة الصف

بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم سورة الصف أربع عشرة آية مكية [سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) وَجْهُ التَّعَلُّقِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ فِي تِلْكَ السُّورَةِ بَيَانَ الْخُرُوجِ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللَّه وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي [الْمُمْتَحِنَةِ: 1] وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانُ مَا يَحْمِلُ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ [الصف: 4] وَأَمَّا الْأَوَّلُ بِالْآخِرِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ الْكَفَرَةُ بِجَهْلِهِمْ يَصْفُونَ لِحَضْرَتِنَا الْمُقَدَّسَةِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِالْحَضْرَةِ، فَقَدْ كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُسَبِّحُونَ لِحَضْرَتِنَا، كَمَا قَالَ: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَيِ شَهِدَ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصفات الحميدة جميع ما في السموات والأرض والْعَزِيزُ مَنْ عَزَّ إِذَا غَلَبَ، وَهُوَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى غَيْرِهِ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ، ولا يمكن أن يغلب عليه غيره والْحَكِيمُ مَنْ حَكَمَ عَلَى الشَّيْءِ إِذَا قَضَى عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْكُمُ عَلَى غَيْرِهِ، أَيَّ شَيْءٍ كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَقَوْلُهُ: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ إِذَنْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي البعض من السور: سَبَّحَ لِلَّهِ [الحديد: 1، الحشر: 1] ، وفي البعض: يُسَبِّحُ [الجمعة: 1، التغاب: 1] ، وفي البعض: سَبِّحِ [الأعلى: 1] بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، لِيُعْلَمَ أَنَّ تَسْبِيحَ حَضْرَةِ اللَّه تَعَالَى دَائِمٌ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ لِمَا أَنَّ الْمَاضِيَ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي مِنَ الزَّمَانِ، وَالْمُسْتَقْبَلَ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الزَّمَانِ، وَالْأَمْرَ يدل عليه في الحال، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي حَقِّ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَحَبُّوا أَنْ يعلموا بِأَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّه، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ [الصف: 10] الآية وإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ [الصف: 4] فَأَحَبُّوا الْحَيَاةَ وَتَوَلَّوْا يَوْمَ أُحُدٍ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ وَقِيلَ في حق من يقول: قالت وَلَمْ يُقَاتِلْ، وَطَعَنْتُ وَلَمْ يَطْعَنْ، وَفَعَلْتُ وَلَمْ يَفْعَلْ، وَقِيلَ: / إِنَّهَا فِي حَقِّ أَهْلِ النِّفَاقِ فِي الْقِتَالِ، لِأَنَّهُمْ تَمَنَّوُا الْقِتَالَ، فَلَمَّا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِهِ قَالُوا: لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ [النِّسَاءِ: 77] وَقِيلَ: إِنَّهَا فِي حَقِّ كُلِّ مؤمن، لأنهم قد اعتقدوا والوفاء بِمَا وَعَدَهُمُ اللَّه بِهِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالِاسْتِسْلَامِ وَالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ فَإِذَا لَمْ

[سورة الصف (61) : آية 3]

يُوجَدِ الْوَفَاءُ بِمَا وَعَدَهُمْ خِيفَ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ زَلَّةٍ أَنْ يَدْخُلُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: قَالَ تَعَالَى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الحديد: 1، الحشر: 1] في أول هذه السورة، ثم قال تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةٍ أُخْرَى، وَهَذَا هُوَ التَّكْرَارُ، وَالتَّكْرَارُ عَيْبٌ، فَكَيْفَ هُوَ؟ فَنَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: كَرَّرَهُ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ غَيْرُ مُكَرَّرٍ لِأَنَّ مَا وُجِدَ مِنْهُ التَّسْبِيحُ عِنْدَ وُجُودِ الْعَالَمِ بِإِيجَادِ اللَّه تَعَالَى فَهُوَ غَيْرُ مَا وُجِدَ مِنْهُ التَّسْبِيحُ بَعْدَ وُجُودِ الْعَالَمِ، وَكَذَا عِنْدَ وُجُودِ آدَمَ وَبَعْدَ وُجُودِهِ. الثَّانِي: قَالَ: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يَقُلْ: سَبَّحَ للَّه السموات وَالْأَرْضُ وَمَا فِيهِمَا، مَعَ أَنَّ فِي هَذَا مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا لَيْسَ فِي ذَلِكَ؟ فَنَقُولُ: إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ التَّسْبِيحِ، التَّسْبِيحَ بِلِسَانِ الْحَالِ مُطْلَقًا، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ هُوَ التَّسْبِيحَ الْمَخْصُوصَ فَالْبَعْضُ يُوصَفُ كَذَا، فَلَا يَكُونُ كَمَا ذَكَرْتُمْ. الثَّالِثُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: لِمَ هِيَ لَامُ الْإِضَافَةِ دَاخِلَةٌ عَلَى مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ كَمَا دَخَلَ عَلَيْهَا غَيْرُهَا مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ فِي قَوْلِكَ: بِمَ وَفِيمَ وَعَمَّ وَمِمَّ، وَإِنَّمَا حُذِفَتِ الْأَلِفُ لِأَنَّ (مَا) وَالْحَرْفَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ وَقَعَ اسْتِعْمَالُهَا فِي كَلَامِ الْمُسْتَفْهِمِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ وَاقِعًا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ وَالِاسْتِفْهَامُ مِنَ اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ وَهُوَ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، فَنَقُولُ: هَذَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ طَلَبَ الْفَهْمِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ إِلْزَامَ مَنْ أَعْرَضَ عن الوفاء ما وَعَدَ أَوْ أَنْكَرَ الْحَقَّ وَأَصَرَّ عَلَى الْبَاطِلِ فلا. ثم قال تعالى: [سورة الصف (61) : آية 3] كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) وَالْمَقْتُ هُوَ الْبُغْضُ، وَمَنِ اسْتَوْجَبَ مَقْتَ اللَّه لَزِمَهُ الْعَذَابُ، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: الْمَقْتُ أَشَدُّ الْبُغْضِ وَأَبْلَغُهُ وَأَفْحَشُهُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَ: مَقْتاً مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَالْمَعْنَى: كَبُرَ قَوْلُكُمْ مَا لَا تَفْعَلُونَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّه، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَبُرَتْ كَلِمَةً [الكهف: 5] . [سورة الصف (61) : آية 4] إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) قَرَأَ زَيْدُ بْنُ علي: يُقاتِلُونَ بفتح التاء، وقرئ (يقتلون) أن يَصُفُّونَ صَفًّا، وَالْمَعْنَى يَصُفُّونَ أَنْفُسَهُمْ عِنْدَ الْقِتَالِ كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ: مَرْصُوصٌ بِالرَّصَاصِ، يقال: رصصت البناء إذا/ لا يمت بَيْنَهُ وَقَارَبْتُ حَتَّى يَصِيرَ كَقِطْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ: رَصَصْتُ الْبِنَاءَ إِذَا ضَمَمْتَهُ، وَالرَّصُّ انْضِمَامُ الْأَشْيَاءِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُوضَعُ الْحَجْرُ عَلَى الْحَجْرِ ثُمَّ يُرَصُّ بِأَحْجَارٍ صِغَارٍ ثُمَّ يُوضَعُ اللَّبِنُ عَلَيْهِ فَتُسَمِّيهِ أَهْلُ مَكَّةَ الْمَرْصُوصَ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَعْلَمَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ يُحِبُّ مَنْ يَثْبُتُ فِي الْجِهَادِ وَيَلْزَمُ مَكَانَهُ كَثُبُوتِ الْبَنَّاءِ الْمَرْصُوصِ، وَقَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَنْ يَسْتَوِيَ شَأْنُهُمْ فِي حَرْبِ عَدُوِّهِمْ حَتَّى يَكُونُوا فِي اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، وَمُوَالَاةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ، وَقِيلَ: ضَرَبَ هَذَا الْمَثَلَ لِلثَّبَاتِ: يَعْنِي إِذَا اصْطَفُّوا ثَبَتُوا كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ الثَّابِتِ الْمُسْتَقِرِّ، وَقِيلَ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى فَضْلِ الْقِتَالِ رَاجِلًا، لِأَنَّ الْعَرَبَ يَصْطَفُّونَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، ثُمَّ الْمَحَبَّةُ فِي الظَّاهِرِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: الرِّضَا عَنِ الْخَلْقِ وَثَانِيهَا: الثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ بِمَا يَفْعَلُونَ، ثُمَّ مَا وَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ نَقُولُ تِلْكَ الْآيَةُ مَذَمَّةُ الْمُخَالِفِينَ فِي الْقِتَالِ

[سورة الصف (61) : آية 5]

وَهُمُ الَّذِينَ وَعَدُوا بِالْقِتَالِ وَلَمْ يُقَاتِلُوا، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَحْمَدَةُ الْمُوَافِقِينَ فِي الْقِتَالِ وَهُمُ الَّذِينَ قاتلوا في سبيل اللَّه وبالغوا فيه. ثم قال تعالى: [سورة الصف (61) : آية 5] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) معناه اذكر لقومك هَذِهِ الْقِصَّةَ، وإِذْ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ أَيْ حِينِ قَالَ لَهُمْ: تُؤْذُونَنِي وَكَانُوا يُؤْذُونَهُ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى قَوْلًا وَفِعْلًا، فَقَالُوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: 153] ، لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [البقرة: 61] وَقِيلَ: قَدْ رَمَوْهُ بِالْأُدْرَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ تُؤْذُونَنِي عَالِمِينَ عِلْمًا قَطْعِيًّا أَنِّي رَسُولُ اللَّه وَقَضِيَّةُ عِلْمِكُمْ بِذَلِكَ مُوجِبَةٌ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّوْقِيرِ، وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا زاغُوا أَيْ مَالُوا إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أَيْ أَمَالَهَا عَنِ الْحَقِّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: زاغُوا أَيْ عَدَلُوا عَنِ الْحَقِّ بِأَبْدَانِهِمْ أَزاغَ اللَّهُ أَيْ أَمَالَ اللَّه قُلُوبَهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَأَضَلَّهُمْ جَزَاءَ مَا عَمِلُوا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ مَعْنَاهُ: واللَّه لَا يَهْدِي مَنْ سَبَقَ فِي عَمَلِهِ أَنَّهُ فَاسِقٌ، وَفِي هَذَا تنبيه على عظيم إِيذَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ وَزَيْغِ الْقُلُوبِ عَنِ الْهُدَى وَقَدْ مَعْنَاهُ التَّوْكِيدُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَتَعْلَمُونَ عِلْمًا يَقِينِيًّا لَا شُبْهَةَ لَكُمْ فِيهِ. ثُمَّ قال تعالى: [سورة الصف (61) : الآيات 6 الى 7] وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) قَوْلُهُ: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ أَيِ اذْكُرُوا أَنِّي رَسُولُ اللَّه أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَصْفِ الَّذِي وُصِفْتُ بِهِ في التوراة ومصداقا بِالتَّوْرَاةِ وَبِكُتُبِ اللَّه وَبِأَنْبِيَائِهِ جَمِيعًا مِمَّنْ تَقَدَّمَ وَتَأَخَّرَ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يُصَدِّقُ بِالتَّوْرَاةِ عَلَى مِثْلِ تَصْدِيقِي، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: مَا اسْمُهُ؟ فَقَالَ: اسمه احمد قلوله: يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ جُمْلَتَانِ فِي مَوْضِعِ الْجَرِّ لِأَنَّهُمَا صِفَتَانِ لِلنَّكِرَةِ الَّتِي هِيَ رَسُولٌ، وَفِي بَعْدِي اسْمُهُ قِرَاءَتَانِ تَحْرِيكُ الْيَاءِ بِالْفَتْحِ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ الِاخْتِيَارُ عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَذْهَبُ فِيهِ الْيَاءُ لِالْتِقَاءِ سَاكِنَيْنِ وَإِسْكَانُهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ [نُوحٍ: 28] فَمَنْ أَسْكَنَ فِي قوله: مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ حذف الياء من اللفظ لالتقاء الساكنين، وهما الْيَاءَ وَالسِّينَ مِنَ اسْمِهِ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ وَأَبُو عَلِيٍّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَحْمَدُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْمُبَالَغَةُ فِي الْفَاعِلِ، يَعْنِي أَنَّهُ أَكْثَرُ حَمْدًا للَّه مِنْ غَيْرِهِ وَثَانِيهِمَا: الْمُبَالَغَةُ مِنَ الْمَفْعُولِ، يَعْنِي أَنَّهُ يُحْمَدُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ أَكْثَرَ مَا يُحْمَدُ غَيْرُهُ. وَلْنَذْكُرِ الْآنَ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِمَقْدَمِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْإِنْجِيلِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ أَوَّلُهَا: فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا: «وَأَنَا أَطْلُبُ لَكُمْ إِلَيَّ أَبِي حَتَّى يَمْنَحَكُمْ، وَيُعْطِيَكُمُ الْفَارَقَلِيطَ حَتَّى يَكُونَ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ، وَالْفَارَقَلِيطُ هُوَ رُوحُ الْحَقِّ الْيَقِينِ» هَذَا لَفْظُ الْإِنْجِيلِ الْمَنْقُولِ إِلَى الْعَرَبِيِّ، وَذَكَرَ فِي الْإِصْحَاحِ الْخَامِسَ عَشَرَ هَذَا اللَّفْظَ: «وَأَمَّا الْفَارَقَلِيطُ رُوحُ الْقُدُسِ يُرْسِلُهُ أَبِي بَاسِمِي،

[سورة الصف (61) : الآيات 8 إلى 9]

وَيُعَلِّمُكُمْ وَيَمْنَحُكُمْ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ يُذَكِّرُكُمْ مَا قَلْتُ لَكُمْ» ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَلِيلٍ: «وَإِنِّي قَدْ خَبَّرْتُكُمْ بِهَذَا قَبْلَ أَنْ يَكُونَ حَتَّى إِذَا كَانَ ذَلِكَ تُؤْمِنُونَ» ، وَثَانِيهَا: ذَكَرَ فِي الْإِصْحَاحِ السَّادِسَ عَشَرَ هَكَذَا: «وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمُ الْآنَ حَقًّا يَقِينًا انْطِلَاقِي عَنْكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، فَإِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ عَنْكُمْ إِلَى أَبِي لَمْ يَأْتِكُمُ الْفَارَقِلِيطُ، وَإِنِ انْطَلَقْتُ أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ، فَإِذَا جَاءَ هُوَ يُفِيدُ أَهْلَ الْعَالَمِ، وَيُدِينُهُمْ وَيَمْنَحُهُمْ وَيُوقِفُهُمْ عَلَى الْخَطِيئَةِ وَالْبِرِّ وَالدِّينِ» وَثَالِثُهَا: ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَلِيلٍ هَكَذَا: «فَإِنَّ لِي كَلَامًا كَثِيرًا أُرِيدُ أَنْ أَقُولَهُ لَكُمْ، وَلَكِنْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى قَبُولِهِ وَالِاحْتِفَاظِ بِهِ، وَلَكِنْ إِذَا جَاءَ رُوحُ الْحَقِّ إِلَيْكُمْ يُلْهِمُكُمْ وَيُؤَيِّدُكُمْ بِجَمِيعِ الْحَقِّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَتَكَلَّمُ بِدْعَةً مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ» هَذَا مَا فِي الْإِنْجِيلِ، فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِفَارَقَلِيطَ إِذَا/ جَاءَ يُرْشِدُهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَيُعَلِّمُهُمُ الشَّرِيعَةَ، وَهُوَ عِيسَى يَجِيءُ بَعْدَ الصَّلْبِ؟ نَقُولُ: ذَكَرَ الْحَوَارِيُّونَ فِي آخِرِ الْإِنْجِيلِ أَنَّ عِيسَى لَمَّا جَاءَ بَعْدَ الصَّلْبِ مَا ذَكَرَ شَيْئًا مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَمَا عَلَّمَهُمْ شَيْئًا مِنَ الْأَحْكَامِ، وَمَا لَبِثَ عِنْدَهُمْ إِلَّا لَحْظَةً، وَمَا تَكَلَّمَ إِلَّا قَلِيلًا، مِثْلَ أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا الْمَسِيحُ فَلَا تَظُنُّونِي مَيِّتًا، بَلْ أَنَا نَاجٍ عِنْدَ اللَّه نَاظِرٌ إِلَيْكُمْ، وَإِنِّي مَا أُوحِي بَعْدَ ذَلِكَ إِلَيْكُمْ» فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قِيلَ: هُوَ عِيسَى، وَقِيلَ: هُوَ مُحَمَّدٌ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ جَاءَهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ الَّتِي تبين أن الذي جاء به إنما جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّه، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ أَيْ سَاحِرٌ مُبِينٌ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أَيْ مَنْ أَقْبَحُ ظُلْمًا مِمَّنْ بَلَغَ افْتِرَاؤُهُ الْمَبْلَغَ الَّذِي يَفْتَرِي عَلَى اللَّه الْكَذِبَ وَأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا نَالُوهُ مِنْ نِعْمَةٍ وَكَرَامَةٍ فَإِنَّمَا نَالُوهُ مِنَ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ كَفَرُوا بِهِ وَكَذَبُوا عَلَى اللَّه وَعَلَى رَسُولِهِ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أَيْ لَا يوافقهم اللَّه لِلطَّاعَةِ عُقُوبَةً لَهُمْ. وَفِي الْآيَةِ بَحْثٌ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: بِمَ انْتَصَبَ مُصَدِّقاً ومُبَشِّراً أَبِمَا فِي الرَّسُولِ مِنْ مَعْنَى الْإِرْسَالِ أَمْ إِلَيْكُمْ؟ نَقُولُ: بَلْ بِمَعْنَى الْإِرْسَالِ لِأَنَّ إِلَيْكُمْ صلة للرسول. ثم قال تعالى: [سورة الصف (61) : الآيات 8 الى 9] يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) لِيُطْفِؤُا أَيْ أَنْ يُطْفِئُوا وَكَأَنَّ هَذِهِ اللَّامَ زِيدَتْ مَعَ فِعْلِ الْإِرَادَةِ تَأْكِيدًا لَهُ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْإِرَادَةِ فِي قَوْلِكَ: جِئْتُكَ لِإِكْرَامِكَ، كَمَا زِيدَتِ اللَّامُ فِي لَا أَبَا لَكَ، تأكيدا لمعنى الإضافة في أياك، وَإِطْفَاءُ نُورِ اللَّه تَعَالَى بِأَفْوَاهِهِمْ، تَهَكُّمٌ بِهِمْ فِي إِرَادَتِهِمْ إِبْطَالَ الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِمْ فِي الْقُرْآنِ: هذا سِحْرٌ [الصف: 6] مُثِّلَتْ حَالُهُمْ بِحَالِ مَنْ يَنْفُخُ فِي نُورِ الشَّمْسِ بِفِيهِ لِيُطْفِئَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْكَشَّافِ، وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ قُرِئَ بِكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَالْأَصْلُ هُوَ التَّنْوِينُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُظْهِرُ دِينَهُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: مُتِمٌّ الْحَقَّ وَمُبَلِّغُهُ غَايَتَهُ، وَقِيلَ: دِينُ اللَّه، وَكِتَابُ اللَّه، وَرَسُولُ اللَّه، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْآثَارِ وَثَانِيهَا: أَنَّ نُورَ اللَّه سَاطِعٌ أَبَدًا وَطَالِعٌ مِنْ مَطْلَعٍ لَا يُمْكِنُ زَوَالُهُ أَصْلًا وَهُوَ الْحَضْرَةُ الْقُدْسِيَّةُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ كَذَلِكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ النُّورَ نَحْوَ الْعِلْمِ، وَالظُّلْمَةَ نَحْوَ الْجَهْلِ، أَوِ النُّورُ الْإِيمَانُ يُخْرِجُهُمْ مِنَ/ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، أَوِ الْإِسْلَامُ هُوَ النُّورُ، أَوْ يُقَالُ: الدِّينُ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ سَائِقٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ إِلَى الْخَيِّرَاتِ بِاخْتِيَارِهِمُ الْمَحْمُودِ وَذَلِكَ هُوَ النُّورُ، وَالْكِتَابُ هُوَ الْمُبِينُ قَالَ تَعَالَى: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ [الشعراء: 2] فَالْإِبَانَةُ وَالْكِتَابُ هُوَ النُّورُ، أَوْ يُقَالُ: الْكِتَابُ حُجَّةٌ لِكَوْنِهِ مُعْجِزًا، وَالْحُجَّةُ هُوَ النُّورُ، فَالْكِتَابُ كَذَلِكَ، أَوْ يُقَالُ فِي الرَّسُولِ: إِنَّهُ النُّورُ، وَإِلَّا لَمَا وُصِفَ بِصِفَةِ كَوْنِهِ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ، إِذِ الرَّحْمَةُ بِإِظْهَارِ مَا يَكُونُ مِنَ الْأَسْرَارِ وَذَلِكَ بِالنُّورِ، أَوْ

[سورة الصف (61) : الآيات 10 إلى 11]

نَقُولُ: إِنَّهُ هُوَ النُّورُ، لِأَنَّهُ بِوَاسِطَتِهِ اهْتَدَى، الْخَلْقُ، أَوْ هُوَ النُّورُ لِكَوْنِهِ مُبَيِّنًا لِلنَّاسِ مَا نَزَلَ إِلَيْهِمْ، وَالْمُبِينُ هُوَ النُّورُ، ثُمَّ الْفَوَائِدُ فِي كَوْنِهِ نُورًا وُجُوهٌ مِنْهَا: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ شَأْنِهِ وَعَظْمَةِ بُرْهَانِهِ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْوَصْفُ بِالنُّورِ وَثَانِيهِمَا: الْإِضَافَةُ إِلَى الْحَضْرَةِ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ إِذَا كَانَ نُورًا مِنْ أَنْوَارِ اللَّه تَعَالَى كَانَ مُشْرِقًا فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْعَالَمِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَخْصُوصًا بِبَعْضِ الْجَوَانِبِ، فَكَانَ رَسُولًا إِلَى جَمِيعِ الْخَلَائِقِ، لِمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ» فَلَا يُوجَدُ شَخْصٌ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِلَّا وَيَكُونُ مِنْ أُمَّتِهِ إِنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَهُوَ مِنْ أُمَّةِ الْمُتَابَعَةِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَهُوَ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ أَيِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَوْلُهُ: بِالْهُدى لِمَنِ اتَّبَعَهُ وَدِينِ الْحَقِّ قِيلَ: الْحَقُّ هُوَ اللَّه تَعَالَى، أَيْ دِينِ اللَّه: وَقِيلَ: نَعْتٌ لِلدِّينِ، أَيْ وَالدِّينُ هُوَ الْحَقُّ، وَقِيلَ: الَّذِي يَحِقُّ أَنْ يتبعه كل أحد ولِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ، وَقِيلَ: لِيَظْهَرَهُ، أَيِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَلَبَةِ وذلك بالحجة، وهاهنا مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَالتَّمَامُ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ النُّقْصَانِ، فَكَيْفَ نُقْصَانُ هَذَا النُّورِ؟ فَنَقُولُ إِتْمَامُهُ بِحَسَبِ النُّقْصَانِ فِي الْأَثَرِ، وَهُوَ الظُّهُورُ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ مِنَ الْمَشَارِقِ إِلَى الْمَغَارِبِ، إِذِ الظُّهُورُ لَا يَظْهَرُ إِلَّا بِالْإِظْهَارِ وَهُوَ الْإِتْمَامُ، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الْمَائِدَةِ: 3] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى مِنَ السَّمَاءِ، قال مجاهد. الثاني: قال هاهنا: مُتِمُّ نُورِهِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: مَثَلُ نُورِهِ [النُّورِ: 35] وَهَذَا عَيْنُ ذَلِكَ أَوْ غَيْرُهُ؟ نَقُولُ: هُوَ غَيْرُهُ، لِأَنَّ نُورَ اللَّه فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ هُوَ اللَّه تَعَالَى عِنْدَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ، وَهُنَا هُوَ الدِّينُ أَوِ الْكِتَابُ أَوِ الرَّسُولُ. الثَّالِثُ: قَالَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ وَقَالَ فِي الْمُتَأَخِّرَةِ: وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ فَنَقُولُ: إِنَّهُمْ أَنْكَرُوا الرَّسُولَ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَهُوَ الْكِتَابُ، وَذَلِكَ مِنْ نِعَمِ اللَّه، وَالْكَافِرُونَ كُلُّهُمْ فِي كُفْرَانِ النِّعَمِ، فَلِهَذَا قَالَ: وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ وَلِأَنَّ لَفْظَ الْكَافِرِ أَعَمُّ مِنْ لَفْظِ الْمُشْرِكِ، وَالْمُرَادُ من الكافرين هاهنا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكُونَ، وَهُنَا ذَكَرَ النُّورَ وَإِطْفَاءَهُ، واللائق به الْكُفْرُ لِأَنَّهُ السَّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ، لِأَنَّ مَنْ يُحَاوِلُ الْإِطْفَاءَ إِنَّمَا يُرِيدُ الزَّوَالَ، وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ ذَكَرَ الرَّسُولَ وَالْإِرْسَالَ وَدِينَ الْحَقِّ، وَذَلِكَ مَنْزِلَةٌ عَظِيمَةٌ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهِيَ اعْتِرَاضٌ عَلَى اللَّه تَعَالَى كَمَا قَالَ: أَلَا قُلْ لِمَنْ ظَلَّ لِي حَاسِدًا ... أَتَدْرِي عَلَى مَنْ أَسَأْتَ الْأَدَبَ أَسَأْتَ عَلَى اللَّه فِي فِعْلِهِ ... كَأَنَّهُ لم تعرض لِي مَا وَهَبَ وَالِاعْتِرَاضُ قَرِيبٌ مِنَ الشِّرْكِ، وَلِأَنَّ الْحَاسِدِينَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ أَكْثَرُهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَمَّا كَانَ النُّورُ أَعَمَّ مِنَ الدِّينِ وَالرَّسُولِ، لَا جَرَمَ قَابَلَهُ بِالْكَافِرِينَ الَّذِينَ هُمْ جَمِيعُ مُخَالِفِي الْإِسْلَامِ وَالْإِرْسَالِ، وَالرَّسُولُ وَالدِّينُ أَخَصُّ مِنَ النُّورِ قَابَلَهُ بِالْمُشْرِكِينَ الذين هم أخص من الكافرين. ثم قال تعالى: [سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 11] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)

[سورة الصف (61) : الآيات 12 إلى 13]

اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: هَلْ أَدُلُّكُمْ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ عِنْدَ الْفَرَّاءِ، يُقَالُ: هَلْ أَنْتَ سَاكِتٌ أَيِ اسْكُتْ وَبَيَانُهُ: أَنَّ هَلْ، بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، ثُمَّ يَتَدَرَّجُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ عَرْضًا وَحَثًّا، وَالْحَثُّ كَالْإِغْرَاءِ، وَالْإِغْرَاءُ أَمْرٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى تِجارَةٍ هِيَ التِّجَارَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَحَضْرَةِ اللَّه تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التَّوْبَةِ: 111] دَلَّ عَلَيْهِ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ والتجارة عبارة عن معاوضة الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، وَكَمَا أَنَّ التِّجَارَةَ تُنْجِي التَّاجِرَ من محنة الفقر، ورحمة الصير عَلَى مَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ التِّجَارَةُ وَهِيَ التَّصْدِيقُ بِالْجِنَانِ وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، كَمَا قِيلَ فِي تَعْرِيفِ الْإِيمَانِ فَلِهَذَا قَالَ: بِلَفْظِ التِّجَارَةِ، وَكَمَا أَنَّ التِّجَارَةَ فِي الرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ، فَكَذَلِكَ فِي هَذَا، فَإِنَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ الْأَجْرُ، وَالرِّبْحُ الْوَافِرُ، وَالْيَسَارُ الْمُبِينُ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَلَهُ التَّحَسُّرُ وَالْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ قرئ مخففا ومثقلا، وتُؤْمِنُونَ اسْتِئْنَافٌ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: كَيْفَ نَعْمَلُ؟ فَقَالَ: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهُوَ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، وَلِهَذَا أُجِيبَ بِقَوْلِهِ: يَغْفِرْ لَكُمْ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْجِهَادُ بَعْدَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ثَلَاثَةٌ، جِهَادٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، وَهُوَ قَهْرُ النَّفْسِ، وَمَنْعُهَا عَنِ اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَجِهَادٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ، وَهُوَ أَنْ يَدَعَ الطَّمَعَ مِنْهُمْ، وَيُشْفِقَ عَلَيْهِمْ وَيَرْحَمَهُمْ وَجِهَادٌ فيما بينه بين الدنيا وهو أن يتخذها زادا لمعاده فَتَكُونَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ يَعْنِي الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ باللَّه تَعَالَى وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَتَبَّعُوا أَهْوَاءَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ/ أي أن كنتم تنتفعون بما علمتم فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَفِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ: تُؤْمِنُونَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ؟ نَقُولُ: لِلْإِيذَانِ بِوُجُوبِ الِامْتِثَالِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّه تَعَالَى لَعَمِلْنَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَمَكَثُوا مَا شَاءَ اللَّه يَقُولُونَ: يَا لَيْتَنَا نَعْلَمُ مَا هِيَ؟ فَدَلَّهُمُ اللَّه عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. الثَّانِي: مَا مَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ نَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ كَانَ خَيْرًا لَكُمْ، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ لِلْكَشَّافِ، وَأَمَّا الْغَيْرُ فَقَالَ: الْخَوْفُ مِنْ نَفْسِ الْعَذَابِ لَا مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، إِذِ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ هُوَ نَفْسُ الْعَذَابِ مَعَ غَيْرِهِ، وَالْخَوْفُ مِنَ اللَّوَازِمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 175] وَمِنْهَا أَنَّ الأمر بالإيمان كيف هو بعد قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَنَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الظَّاهِرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَإِنَّهُمْ آمَنُوا بِالْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِالْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ آمِنُوا باللَّه وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّه، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَهْلَ الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ: فَزادَتْهُمْ إِيماناً [التَّوْبَةِ: 124] ، لِيَزْدادُوا إِيماناً [الْفَتْحِ: 4] وَهُوَ الْأَمْرُ بِالثَّبَاتِ كَقَوْلِهِ: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [إِبْرَاهِيمَ: 27] وَهُوَ الأمر بالتجدد كقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء: 136] وفي قوله: صلى اللَّه عليه وآله وسلم «من جدد وقد وُضُوءَهُ فَكَأَنَّمَا جَدَّدَ إِيمَانَهُ» ، وَمِنْهَا: أَنَّ رَجَاءَ النجاة كيف هو إذا آمن اللَّه وَرَسُولِهِ، وَلَمْ يُجَاهِدْ فِي سَبِيلِ اللَّه، وَقَدْ عُلِّقَ بِالْمَجْمُوعِ، وَمِنْهَا أَنَّ هَذَا الْمَجْمُوعَ وَهُوَ الْإِيمَانُ باللَّه وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ فِي سبيل اللَّه خبر في نفس الأمر. ثم قال تعالى: [سورة الصف (61) : الآيات 12 الى 13] يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)

[سورة الصف (61) : آية 14]

اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ جَوَابُ قَوْلِهِ: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الصف: 11] لِمَا أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، كَمَا مَرَّ فَكَأَنَّهُ قَالَ: آمِنُوا باللَّه وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّه يَغْفِرْ لَكُمْ، وَقِيلَ جَوَابُهُ: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [الصف: 11] وَجُزِمَ: يَغْفِرْ لَكُمْ لِمَا أَنَّهُ تَرْجَمَةُ: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ وَمَحَلُّهُ جَزْمٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ، فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ [الْمُنَافِقُونَ: 10] لِأَنَّ مَحَلَّ فَأَصَّدَّقَ جَزْمٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَوْلا أَخَّرْتَنِي وقيل: جُزِمَ يَغْفِرْ لَكُمْ بِهَلْ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي/ مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، مِنْ جُمْلَةِ مَا قُدِّمَ بَيَانُهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى رَغَّبَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مُفَارَقَةِ مَسَاكِنِهِمْ وَإِنْفَاقِ أَمْوَالِهِمْ وَالْجِهَادِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يَغْفِرْ لَكُمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَعْنِي ذَلِكَ الْجَزَاءُ الدَّائِمُ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَقَدْ مَرَّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُخْرى تُحِبُّونَها أَيْ تِجَارَةٌ أُخْرَى فِي الْعَاجِلِ مَعَ ثَوَابِ الْآجِلِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَخَصْلَةٌ أُخْرَى تُحِبُّونَهَا فِي الدُّنْيَا مَعَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ هُوَ مُفَسِّرٌ لِلْأُخْرَى، لِأَنَّهُ يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ مُفَسِّرًا لِلتِّجَارَةِ إِذِ النَّصْرُ لَا يَكُونُ تِجَارَةً لنا بل هو ريح لِلتِّجَارَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَفَتْحٌ قَرِيبٌ أَيْ عَاجِلٌ وَهُوَ فَتْحُ مَكَّةَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ فَتْحُ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَفِي تُحِبُّونَها شَيْءٌ مِنَ التَّوْبِيخِ عَلَى مَحَبَّةِ الْعَاجِلِ، ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عَطْفٌ عَلَى تُؤْمِنُونَ [الصف: 11] لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: آمِنُوا وَجَاهِدُوا يُثِبْكُمُ اللَّه وَيَنْصُرْكُمْ، وَبَشِّرْ يَا رَسُولَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ. وَيُقَالُ أَيْضًا: بِمَ نَصَبَ مَنْ قَرَأَ: نَصْرًا مِنَ اللَّه وَفَتْحًا قَرِيبًا [الصف: 11] ، فَيُقَالُ: عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَوْ عَلَى تُنْصَرُونَ نَصْرًا، وَيَفْتَحُ لَكُمْ فَتْحًا، أَوْ عَلَى يَغْفِرْ لَكُمْ، وَيُدْخِلْكُمْ وَيُؤْتِكُمْ خَيْرًا، وَيَرَى نَصْرًا وَفَتْحًا، هَكَذَا ذكر في «الكشاف» . [سورة الصف (61) : آية 14] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14) ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ. قوله: كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ أمر بِإِدَامَةِ النُّصْرَةِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ، أَيْ. وَدُومُوا عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ النُّصْرَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: كُونُوا أَنْتُمْ أَنْصَارَ اللَّه فأخير عَنْهُمْ بِذَلِكَ، أَيْ أَنْصَارُ دِينِ اللَّه وَقَوْلُهُ: كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ أَيِ انْصُرُوا دِينَ اللَّه مِثْلَ نُصْرَةِ الْحَوَارِيِّينَ لَمَّا قَالَ لَهُمْ: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ مُقَاتِلٌ، يَعْنِي مَنْ يَمْنَعُنِي مِنَ اللَّه، وَقَالَ عَطَاءٌ: مَنْ يَنْصُرُ دِينَ اللَّه، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَمَرَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَنْصُرُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا نَصَرَ الْحَوَارِيُّونَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النَّصْرَ بِالْجِهَادِ لَا يَكُونُ مَخْصُوصًا بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالْحَوَارِيُّونَ أَصْفِيَاؤُهُ، وَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، وَحِوَارِيُّ الرَّجُلِ صَفِيُّهُ وَخُلَصَاؤُهُ مِنَ الْحَوَرِ، وَهُوَ الْبَيَاضُ الْخَالِصُ، وَقِيلَ: كَانُوا قَصَّارِينَ يُحَوِّرُونَ الثِّيَابَ، أَيْ يُبَيِّضُونَهَا، وَأَمَّا الْأَنْصَارُ فَعَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ الْأَنْصَارَ كُلَّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ: وَعَلِيٌّ، وَحَمْزَةُ، وَجَعْفَرٌ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ،

وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَوْفٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّه، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: التَّشْبِيهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى وَالْمُرَادُ كُونُوا كَمَا كَانَ الْحَوَارِيُّونَ. الثَّانِي: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ نَقُولُ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مُطَابِقًا لِجَوَابِ الْحَوَارِيِّينَ وَالَّذِي يُطَابِقُهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَنْ عَسْكَرِيٍّ مُتَوَجِّهًا إِلَى نُصْرَةِ اللَّه، وَإِضَافَةُ أَنْصارِي خِلَافَ إِضَافَةِ أَنْصارَ اللَّهِ لِمَا أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْأَوَّلِ: الَّذِينَ يَنْصُرُونَ اللَّه، وَفِي الثَّانِي: الَّذِينَ يَخْتَصُّونَ بِي وَيَكُونُونَ مَعِي فِي نُصْرَةِ اللَّه. الثَّالِثُ: أَصْحَابُ عِيسَى قَالُوا: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ وَأَصْحَابُ مُحَمَّدٍ لَمْ يَقُولُوا هَكَذَا، نَقُولُ: خِطَابُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِطَرِيقِ السُّؤَالِ فَالْجَوَابُ لَازِمٌ، وَخِطَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقِ الْإِلْزَامِ، فَالْجَوَابُ غَيْرُ لَازِمٍ، بَلِ اللَّازِمُ هُوَ امْتِثَالُ هَذَا الْأَمْرِ، وَهُوَ قوله تعالى: كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَعْنِي الَّذِينَ آمَنُوا فِي زَمَنِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا كَذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ تَفَرَّقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ، فِرْقَةٌ قَالُوا: كَانَ اللَّه فَارْتَفَعَ، وَفِرْقَةٌ قَالُوا: كَانَ ابْنَ اللَّه فَرَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَفِرْقَةٌ قَالُوا: كَانَ عَبْدَ اللَّه وَرَسُولَهُ فَرَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَاتَّبَعَ كُلَّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَاجْتَمَعَتِ الطَّائِفَتَانِ الْكَافِرَتَانِ عَلَى الطَّائِفَةِ الْمُسْلِمَةِ فَقَتَلُوهُمْ وَطَرَدُوهُمْ فِي الْأَرْضِ، فَكَانَتِ الْحَالَةُ هَذِهِ حَتَّى بَعَثَ اللَّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَظَهَرَتِ الْمُؤْمِنَةُ عَلَى الْكَافِرَةِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ يَعْنِي مَنِ اتَّبَعَ عِيسَى، وَهُوَ قَوْلُ الْمُقَاتِلَيْنِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى ظَهَرُوا عَلَى مَنْ كَفَرُوا بِهِ فَأَصْبَحُوا غَالِبِينَ عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: أَصْبَحَتْ حُجَّةُ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى ظَاهِرَةً بِتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ عِيسَى كَلِمَةُ اللَّه وَرُوحُهُ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: ظَاهِرِينَ بِالْحُجَّةِ، وَالظُّهُورُ بِالْحُجَّةِ هُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، واللَّه أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَالْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أجمعين. انتهى الجزء التاسع والعشرون ويليه الجزء الثلاثون، وأوله تفسير سورة الجمعة.

الجزء الثلاثون

الجزء الثلاثون بسم الله الرّحمن الرّحيم سُورَةُ الْجُمُعَةِ وَهِيَ إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً مَدَنِيَّةً [سورة الجمعة (62) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) وَجْهُ تَعَلُّقِ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ تلك السورة: سَبَّحَ لِلَّهِ [الصف: 1] بِلَفْظِ الْمَاضِي وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّسْبِيحِ في المستقل، فَقَالَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ لِيَدُلَّ عَلَى التَّسْبِيحِ فِي زَمَانَيِ الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَأَمَّا تَعَلُّقُ الْأَوَّلِ بِالْآخِرِ، فَلِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي آخِرِ تِلْكَ السُّورَةِ أَنَّهُ كَانَ يُؤَيِّدُ أَهْلَ الْإِيمَانِ حَتَّى صَارُوا عَالِينَ عَلَى الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ لَا لِلْحَاجَةٍ إِلَيْهِ إِذْ هُوَ غَنِيٌّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمُنَزَّهٌ عَمَّا يَخْطُرُ بِبَالِ الْجَهَلَةِ فِي الْآفَاقِ، وَفِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُقَدَّسًا وَمُنَزَّهًا عَمَّا لَا يَلِيقُ بِحَضْرَتِهِ الْعَالِيَةِ بِالِاتِّفَاقِ، ثم إذا كان خلق السموات وَالْأَرْضِ بِأَجْمَعِهِمْ فِي تَسْبِيحِ حَضْرَةِ اللَّه تَعَالَى فَلَهُ الْمُلْكُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ [التغابن: 1] وَلَا مُلْكَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنَّهُ خَالِقُهُمْ وَمَالِكُهُمْ وَكُلُّهُمْ فِي قَبْضَةِ قُدْرَتِهِ وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ، يُسَبِّحُونَ لَهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ بَلْ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ، كَمَا مَرَّ فِي أَوَّلِ تِلْكَ السُّورَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُلْكُ كُلُّهُ لَهُ فَهُوَ الْمَلِكُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَمَّا كَانَ الْكُلُّ بِخَلْقِهِ فَهُوَ الْمَالِكُ، وَالْمَالِكُ وَالْمَلِكُ أَشْرَفُ مِنَ الْمَمْلُوكِ، فَيَكُونُ مُتَّصِفًا بِصِفَاتٍ يَحْصُلُ مِنْهَا الشَّرَفُ، فَلَا مَجَالَ لِمَا يُنَافِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ فَيَكُونُ قُدُّوسًا، فَلَفْظُ الْمَلِكِ إِشَارَةٌ إِلَى إِثْبَاتِ مَا يَكُونُ مِنَ الصِّفَاتِ الْعَالِيَةِ، وَلَفْظُ الْقُدُّوسِ هو إشارة إلى نفي مالا يَكُونُ مِنْهَا، وَعَنِ الْغَزَالِيِّ الْقُدُّوسِ الْمُنَزَّهُ عَمَّا يَخْطُرُ بِبَالِ أَوْلِيَائِهِ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ وَكَذَلِكَ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ثُمَّ الصِّفَاتُ الْمَذْكُورَةُ قُرِئَتْ بِالرَّفْعِ عَلَى الْمَدْحِ، أَيْ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ، وَلَوْ قُرِئَتْ بِالنَّصْبِ لَكَانَ وَجْهًا، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: الْحَمْدُ للَّه أَهْلَ الْحَمْدِ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» ، ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: قَالَ تَعَالَى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ وَلَمْ يَقُلْ: يُسَبِّحُ اللَّه، فَمَا الْفَائِدَةُ؟ نَقُولُ: هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا يَجْرِي فِيهِ اللَّفْظَانِ: كَشَكَرَهُ وَشَكَرَ لَهُ، وَنَصَحَهُ وَنَصَحَ لَهُ. الثَّانِي: الْقُدُّوسِ مِنَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْمُبَارَكُ. الثَّالِثُ: لَفْظُ الْحَكِيمِ يُطْلَقُ عَلَى الْغَيْرِ أَيْضًا، كَمَا قِيلَ فِي لُقْمَانَ: إِنَّهُ حَكِيمٌ، نَقُولُ: الْحَكِيمُ عِنْدَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ هُوَ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ [فِي] مَوَاضِعِهَا، واللَّه تَعَالَى حكيم بهذا المعنى. ثم إنه تعالى بعد ما فَرَغَ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ شَرَعَ فِي النُّبُوَّةِ فقال:

[سورة الجمعة (62) : آية 2]

[سورة الجمعة (62) : آية 2] هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) الْأُمِّيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى أُمَّةِ الْعَرَبِ، لِمَا أَنَّهُمْ أُمَّةٌ أُمِّيُّونَ لَا كِتَابَ لَهُمْ، وَلَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا وَلَا يَكْتُبُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ وَلَا نَبِيٌّ بُعِثَ فِيهِمْ، وَقِيلَ: الْأُمِّيُّونَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى مَا خُلِقُوا عَلَيْهِ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ، وَقُرِئَ الْأُمِّينَ بِحَذْفِ يَاءِ النَّسَبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: رَسُولًا مِنْهُمْ [المؤمنون: 32] يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسَبُهُ مِنْ نَسَبِهِمْ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَةِ: 128] قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: وَكَانَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا أُمِّيًّا مِثْلَ الْأُمَّةِ الَّتِي بُعِثَ فِيهِمْ، وَكَانَتِ الْبِشَارَةُ بِهِ فِي الْكُتُبِ قَدْ تَقَدَّمَتْ بِأَنَّهُ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ، وَكَوْنُهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَبْعَدَ مِنْ تَوَهُّمِ الِاسْتِعَانَةِ عَلَى مَا أَتَى بِهِ مِنَ الْحِكْمَةِ بِالْكِتَابَةِ، فَكَانَتْ حَالُهُ مُشَاكَلَةً لِحَالِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ، وَذَلِكَ أقرب إلى صدقة. وقوله تعالى: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أَيْ بَيِّنَاتِهِ الَّتِي تُبَيِّنُ رِسَالَتَهُ وَتُظْهِرُ نُبُوَّتَهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الْآيَاتُ هِيَ الْآيَاتِ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْهَا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، وَالَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهر هم مِنْ خَبَثِ الشِّرْكِ، وَخَبَثِ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ يُزَكِّيهِمْ أَيْ يُصْلِحُهُمْ، يعني يدعوهم إلى ابتاع مَا يَصِيرُونَ بِهِ أَزْكِيَاءَ أَتْقِيَاءَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالْكِتَابُ: مَا يُتْلَى مِنَ الْآيَاتِ، وَالْحِكْمَةُ: هِيَ الْفَرَائِضُ، وَقِيلَ: الْحِكْمَةَ السُّنَّةُ، لِأَنَّهُ كَانَ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُعَلِّمُهُمْ سُنَنَهُ، وَقِيلَ: الْكِتابَ الْآيَاتُ نَصًّا، وَالْحِكْمَةُ مَا أُودِعَ فِيهَا مِنَ الْمَعَانِي، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: الْكِتَابُ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةُ وَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَبَدَةَ الْأَصْنَامِ وَكَانُوا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَهُوَ الشِّرْكُ، فَدَعَاهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا كَانُوا فِيهِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَبَاحِثُ: أَحَدُهَا: احْتِجَاجُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِهَا قَالُوا قَوْلُهُ: بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ رَسُولًا إِلَى الْأُمِّيِّينَ وَهُمُ الْعَرَبُ خَاصَّةً، غَيْرَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ نَفْيُ مَا عَدَاهُ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [الْعَنْكَبُوتِ: 48] أَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ/ يَخُطُّهُ بِشِمَالِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رَسُولًا إِلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سَبَأٍ: 28] لَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ، وَلَا مَجَالَ لِهَذَا لِمَا اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ صِدْقُ الرِّسَالَةِ الْمَخْصُوصَةِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَافَّةً لِلنَّاسِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام كان رسولا إلى الكل. ثم قال تعالى: [سورة الجمعة (62) : الآيات 3 الى 4] وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) وَآخَرِينَ عَطْفٌ عَلَى الْأُمِّيِّينَ. يَعْنِي بَعَثَ فِي آخَرِينَ مِنْهُمْ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُمُ الْأَعَاجِمُ يَعْنُونَ بِهِمْ غَيْرَ الْعَرَبِ أَيَّ طَائِفَةٍ كَانَتْ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي التَّابِعِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِأَوَائِلِهِمْ، وَفِي الْجُمْلَةِ مَعْنَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ فِيهِ كُلُّ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَالْمُرَادُ

[سورة الجمعة (62) : آية 5]

بِالْأُمِّيِّينَ الْعَرَبُ. وَبِالْآخَرِينَ سِوَاهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَقَوْلُهُ: وَآخَرِينَ مَجْرُورٌ لِأَنَّهُ عُطِفَ عَلَى الْمَجْرُورِ يَعْنِي الْأُمِّيِّينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَطْفًا عَلَى الْمَنْصُوبِ في وَيُعَلِّمُهُمُ [الجمعة: 2] أَيْ وَيُعَلِّمُهُمْ وَيُعَلِّمُ آخَرِينَ مِنْهُمْ، أَيْ مِنَ الْأُمِّيِّينَ وَجَعَلَهُمْ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ إِذَا أَسْلَمُوا صَارُوا منهم، فالمسلمون كلهم أمة واحدة وإن اختلف أَجْنَاسُهُمْ، قَالَ تَعَالَى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التَّوْبَةِ: 71] وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي دِينِهِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا بِمَعْزِلٍ عَنِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ مَبْعُوثًا إِلَيْهِمْ بِالدَّعْوَةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة: 2] وَغَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يُعَلِّمُهُ الْكُتَّابَ وَالْحِكْمَةَ وَهُوَ الْعَزِيزُ مِنْ حَيْثُ جَعَلَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَشَرِ أَثَرَ الذُّلِّ لَهُ وَالْفَقْرِ إِلَيْهِ، وَالْحَكِيمُ حَيْثُ جَعَلَ فِي كُلِّ مَخْلُوقٍ مَا يَشْهَدُ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ حَيْثُ أَلْحَقَ الْعَجَمَ وَأَبْنَاءَهُمْ بِقُرَيْشٍ، يَعْنِي إِذَا آمَنُوا أُلْحِقُوا فِي دَرَجَةِ الْفَضْلِ بِمَنْ شَاهَدَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَشَارَكُوهُمْ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يَعْنِي الْإِسْلَامَ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: يَعْنِي النُّبُوَّةُ فَضْلُ اللَّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، فَاخْتَصَّ بِهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. واللَّه ذُو الْمَنِّ الْعَظِيمِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ فِي الدُّنْيَا بِتَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ كَمَا مَرَّ، وَفِي الْآخِرَةِ بِتَفْخِيمِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ضَرَبَ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الْعَمَلِ بِالتَّوْرَاةِ، وَالْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلا فقال: [سورة الجمعة (62) : آية 5] مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَثْبَتَ التَّوْحِيدَ وَالنُّبُوَّةَ، وَبَيَّنَ فِي النُّبُوَّةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بُعِثَ إِلَى الْأُمِّيِّينَ وَالْيَهُودِ لَمَّا أَوْرَدُوا تِلْكَ الشُّبْهَةَ، وَهِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بُعِثَ إِلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً، وَلَمْ يُبْعَثْ إِلَيْهِمْ بِمَفْهُومِ الْآيَةِ أَتْبَعَهُ اللَّه تَعَالَى بِضَرْبِ الْمَثَلِ لِلَّذِينِ أَعْرَضُوا عَنِ الْعَمَلِ بِالتَّوْرَاةِ، وَالْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَعْمَلُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ شُبِّهُوا بِالْحِمَارِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ عَمِلُوا بِمُقْتَضَاهَا لَانْتَفَعُوا بِهَا، وَلَمْ يُورِدُوا تِلْكَ الشُّبْهَةَ، وَذَلِكَ لَأَنَّ فِيهَا نَعْتَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْبِشَارَةَ بِمَقْدَمِهِ، وَالدُّخُولَ فِي دِينِهِ، وَقَوْلُهُ: حُمِّلُوا التَّوْراةَ أَيْ حُمِّلُوا الْعَمَلَ بِمَا فِيهَا، وَكُلِّفُوا الْقِيَامَ بِهَا، وَحُمِّلُوا وَقُرِئَ: بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ، وَقَالَ صَاحِبُ «النَّظْمِ» : لَيْسَ هُوَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الظَّهْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْحَمَالَةِ بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْكَفِيلِ: الْحَمِيلُ، وَالْمَعْنَى: ضُمِّنُوا أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ ثُمَّ لَمْ يَضْمَنُوهَا وَلَمْ يَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْحَمِيلُ، الْكَفِيلُ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: حَمَلْتُ لَهُ حَمَالَةً. أَيْ كَفَلْتُ بِهِ، وَالْأَسْفَارُ جَمْعُ سِفْرٍ وَهُوَ الْكِتَابُ الْكَبِيرُ، لِأَنَّهُ يُسْفِرُ عَنِ الْمَعْنَى إِذَا قُرِئَ، وَنَظِيرُهُ شبر وأشبار، شبه اليهود إذا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِمَارِ الَّذِي يَحْمِلُ الْكُتُبَ الْعِلْمِيَّةَ وَلَا يَدْرِي مَا فِيهَا. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: هَذَا الْمَثَلُ مَثَلُ مَنْ يَفْهَمُ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ إِعْرَاضَ مَنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ اتَّبِعُوا الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَتْبَعَكُمْ «1» ثم تلا هذه

_ (1) معنى اتباع القرآن لهم إذا أهملوا العمل به عاقبهم اللَّه على تضيع أحكامه وعدم الامتثال بأوامره وإسناد الاتباع إلى القرآن مجاز.

[سورة الجمعة (62) : الآيات 6 إلى 7]

الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَحْمِلُوها أَيْ لَمْ يُؤَدُّوا حَقَّهَا وَلَمْ يَحْمِلُوهَا حَقَّ حَمْلِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَشَبَّهَهُمْ وَالتَّوْرَاةُ فِي أَيْدِيهِمْ وَهُمْ لَا يَعْمَلُونَ بِهَا بِحِمَارٍ يَحْمِلُ كُتُبًا، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا ثِقَلُ الْحِمْلِ مِنْ غَيْرِ انْتِفَاعٍ مِمَّا يَحْمِلُهُ، كَذَلِكَ الْيَهُودُ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ كِتَابِهِمْ إِلَّا وَبَالُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ ذَمَّ الْمَثَلَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ ذَمُّهُمْ فَقَالَ: بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أَيْ بِئْسَ الْقَوْمُ مَثَلًا الَّذِينَ كَذَّبُوا، كَمَا قَالَ: ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ [الْأَعْرَافِ: 177] وَمَوْضِعُ الَّذِينَ رَفْعٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَرًّا، وَبِالْجُمْلَةِ لَمَّا بلغ كذبهم مبلغا وهم أَنَّهُمْ كَذَبُوا عَلَى اللَّه تَعَالَى كَانَ فِي غَايَةِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، فَلِهَذَا قَالَ: بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ والمراد بالآيات هاهنا الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٍ، وَقِيلَ: الْآيَاتُ التَّوْرَاةُ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِهَا حِينَ تَرَكُوا الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا أَشْبَهُ هُنَا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بتكذيب الأنبياء وهاهنا مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَعْيِينِ الْحِمَارِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ؟ نَقُولُ: لِوُجُوهٍ منها: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَالزِّينَةُ فِي الْخَيْلِ أَكْثَرُ وَأَظْهَرُ، بِالنِّسْبَةِ/ إِلَى الرُّكُوبِ، وَحَمْلِ الشَّيْءِ عَلَيْهِ، وَفِي الْبِغَالِ دُونَ، وَفِي الْحِمَارِ دُونَ الْبِغَالِ، فَالْبِغَالُ كَالْمُتَوَسِّطِ فِي الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْحِمَارُ فِي مَعْنَى الْحَمْلِ أَظْهَرَ وَأَغْلَبَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَمِنْهَا: أَنَّ هذا التمثل لِإِظْهَارِ الْجَهْلِ وَالْبَلَادَةِ، وَذَلِكَ فِي الْحِمَارِ أَظْهَرُ، وَمِنْهَا: أَنَّ فِي الْحِمَارِ مِنَ الذُّلِّ وَالْحَقَارَةِ مالا يَكُونُ فِي الْغَيْرِ، وَالْغَرَضُ مِنَ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَعْيِيرُ الْقَوْمِ بِذَلِكَ وَتَحْقِيرُهُمْ، فَيَكُونُ تَعْيِينُ الْحِمَارِ أَلْيَقَ وَأَوْلَى، وَمِنْهَا أَنَّ حَمْلَ الْأَسْفَارِ عَلَى الْحِمَارِ أَتَمُّ وَأَعَمُّ وَأَسْهَلُ وَأَسْلَمُ، لِكَوْنِهِ ذَلُولًا، سَلِسَ الْقِيَادِ، لَيِّنَ الِانْقِيَادِ، يَتَصَرَّفُ فِيهِ الصَّبِيُّ الْغَبِيُّ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ. وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا يُوجِبُ حُسْنَ الذِّكْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ وَمِنْهَا: أَنَّ رِعَايَةَ الْأَلْفَاظِ وَالْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهَا مِنَ اللَّوَازِمِ فِي الْكَلَامِ، وَبَيْنَ لفظي الأسفار والحمار مناسبة لَفْظِيَّةٌ لَا تُوجَدُ فِي الْغَيْرِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ أَوْلَى. الثَّانِي: يَحْمِلُ مَا مَحَلُّهُ؟ نَقُولُ: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَوِ الْجَرُّ عَلَى الْوَصْفِ كَمَا قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» إِذِ الْحِمَارُ كَاللَّئِيمِ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي ... [فَمَرَرْتُ ثَمَّةَ قُلْتُ لَا يَعْنِينِي] الثَّالِثُ: قَالَ تَعَالَى: بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ كَيْفَ وُصِفَ الْمَثَلُ بِهَذَا الْوَصْفِ؟ نَقُولُ: الْوَصْفُ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ لِلْمَثَلِ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمًا مَثَلُهُمْ هَكَذَا. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عليه وسلم بهذا الخطاب لهم وهو قوله تعالى: [سورة الجمعة (62) : الآيات 6 الى 7] قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ جُمْلَةِ مَا مَرَّ بَيَانُهُ، وَقُرِئَ: فتمنوا الموت بكسر الواو، وهادُوا أَيْ تَهَوَّدُوا، وَكَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُكُمْ حَقًّا وَأَنْتُمْ عَلَى ثِقَةٍ فَتَمَنَّوْا عَلَى اللَّه أَنْ يُمِيتَكُمْ وَيَنْقُلَكُمْ سريعا إلى

[سورة الجمعة (62) : آية 8]

دَارِ كَرَامَتِهِ الَّتِي أَعَدَّهَا لِأَوْلِيَائِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ: لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيِّتٍ ... إِنَّمَا الْمَيِّتُ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ فَهُمْ يَطْلُبُونَ الْمَوْتَ لَا مَحَالَةَ إِذَا كَانَتِ الْحَالَةُ هَذِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أَيْ بِسَبَبِ مَا قَدَّمُوا مِنَ الْكُفْرِ وَتَحْرِيفِ الْآيَاتِ، وَذُكِرَ مَرَّةً بِلَفْظِ التَّأْكِيدِ وَلَنْ/ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً وَمَرَّةً بِدُونِ لَفْظِ التَّأْكِيدِ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ وَقَوْلُهُ: أَبَداً ... وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أَيْ بِظُلْمِهِمْ مِنْ تَحْرِيفِ الآيات وعنادهم لها، ومكابرتهم إياها. ثم قال تعالى: [سورة الجمعة (62) : آية 8] قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَعْنِي أَنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ مِنْ تَحْرِيفِ الْآيَاتِ وَغَيْرِهِ مُلَاقِيكُمْ لَا مَحَالَةَ، وَلَا يَنْفَعُكُمُ الْفِرَارُ ثُمَّ تَرُدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ يَعْنِي مَا أَشْهَدْتُمُ الْخَلْقَ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَعَالِمٌ بِمَا غَيَّبْتُمْ عَنِ الْخَلْقِ مِنْ نَعْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَسْرَرْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِنْ تَكْذِيبِكُمْ رِسَالَتَهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِمَّا عِيَانًا مَقْرُونًا بِلِقَائِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ بِالْجَزَاءِ إِنْ كَانَ خَيْرًا فَخَيْرٌ. وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَشَرٌّ، فَقَوْلُهُ: إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى السَّعْيِ فِيمَا يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَقَوْلُهُ: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هُوَ الْوَعِيدُ الْبَلِيغُ وَالتَّهْدِيدُ الشَّدِيدُ. ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَدْخَلَ الْفَاءَ لِمَا أَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ مُلَاقِيكُمْ مِنْ غَيْرِ فَإِنَّهُ. الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: الْمَوْتُ مُلَاقِيهِمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَرُّوا أَوْ لَمْ يَفِرُّوا، فَمَا مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ؟ قِيلَ: إِنَّ هَذَا عَلَى جِهَةِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ إِذْ ظَنُّوا أَنَّ الْفِرَارَ يُنْجِيهِمْ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَأَفْصَحَ عَنْهُ بِالشَّرْطِ الْحَقِيقِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا تَنَالُهُ «1» ... وَلَوْ نَالَ أسباب السماء بسلم [سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 10] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَجْهُ التَّعَلُّقِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ الَّذِينَ هَادُوا يَفِرُّونَ مِنَ الْمَوْتِ لِمَتَاعِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا يَبِيعُونَ وَيَشْرُونَ لِمَتَاعِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا كَذَلِكَ، فَنَبَّهَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أَيْ إِلَى مَا ينفعكم في

_ (1) الرواية المحفوظة: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه.

الْآخِرَةِ، وَهُوَ حُضُورُ الْجُمُعَةِ، لِأَنَّ الدُّنْيَا وَمَتَاعَهَا فَانِيَةٌ وَالْآخِرَةَ وَمَا فِيهَا بَاقِيَةٌ، قَالَ تَعَالَى: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الْأَعْلَى: 17] وَوَجْهٌ آخَرُ فِي التَّعَلُّقِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ أَبْطَلَ اللَّه قَوْلَ الْيَهُودِ فِي ثَلَاثٍ، افْتَخَرُوا بِأَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ، فَكَذَّبَهُمْ بِقَوْلِهِ: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الجمعة: 6] وَبِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَالْعَرَبَ لَا كِتَابَ لَهُمْ، فَشَبَّهَهُمْ بِالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، وَبِالسَّبْتِ وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُ فَشَرَعَ اللَّه تَعَالَى لَهُمُ الْجُمُعَةَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا نُودِيَ يَعْنِي النِّدَاءَ إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ، وَأَنَّهُ كَمَا قَالَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِدَاءٌ سَوَاءٌ كَانَ إِذَا جَلَسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذَّنَ بِلَالٌ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، وَكَذَا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِلصَّلاةِ أَيْ لِوَقْتِ الصَّلَاةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَا تَكُونُ الصَّلَاةُ مِنَ الْيَوْمِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ وَقْتُهَا مِنَ الْيَوْمِ، قَالَ اللَّيْثُ: الْجُمُعَةُ يَوْمٌ خُصَّ به لاجتماع الناس في ذلك اليوم، وَيُجْمَعُ عَلَى الْجُمُعَاتِ وَالْجُمَعِ، وَعَنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُمِّيَتِ الْجُمُعَةُ جُمُعَةً لِأَنَّ آدم جمع فيها خَلْقُهُ» وَقِيلَ: لِمَا أَنَّهُ تَعَالَى فَرَغَ فِيهَا مِنْ خَلْقِ الْأَشْيَاءِ، فَاجْتَمَعَتْ فِيهَا الْمَخْلُوقَاتُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَفِيهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ التَّخْفِيفُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ وَالتَّثْقِيلُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ، وَلُغَةٌ لِبَنِي عُقَيْلٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أَيْ فَامْضُوا، وَقِيلَ: فَامْشُوا وَعَلَى هَذَا مَعْنَى، السَّعْيِ: الْمَشْيُ لَا الْعَدْوُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُضِيُّ وَالسَّعْيُ وَالذَّهَابُ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ: فَاسْعَوْا قَالَ مَنْ أَقْرَأَكَ هَذَا، قَالَ: أُبَيٌّ، قَالَ: لَا يَزَالُ يَقْرَأُ بِالْمَنْسُوخِ، لَوْ كَانَتْ فَاسْعَوْا لَسَعَيْتُ حَتَّى يَسْقُطَ رِدَائِي، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّعْيِ الْقَصْدُ دُونَ الْعَدْوِ، وَالسَّعْيُ التَّصَرُّفُ فِي كُلِّ عَمَلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ الْحَسَنُ: واللَّه مَا هُوَ سَعْيٌ عَلَى الْأَقْدَامِ وَلَكِنَّهُ سَعْيٌ بِالْقُلُوبِ، وَسَعْيٌ بِالنِّيَّةِ، وَسَعْيٌ بِالرَّغْبَةِ، ونحو هذا، والسعي هاهنا هُوَ الْعَمَلُ عِنْدَ قَوْمٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، إِذِ السَّعْيُ فِي كِتَابِ اللَّه الْعَمَلُ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ [البقرة: 205] وإِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [اللَّيْلِ: 4] أَيِ الْعَمَلُ، وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَلَكِنِ ائْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السكينة» واتفق الفقهاء على: «أن النبي [كَانَ] مَتَى أَتَى الْجُمُعَةَ أَتَى عَلَى هَيِّنَةٍ» وَقَوْلُهُ: إِلى ذِكْرِ اللَّهِ الذِّكْرُ هُوَ الْخُطْبَةُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، وَقِيلَ: هُوَ الصَّلَاةُ، وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهَا تُعْرَفُ مِنَ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَرُوا الْبَيْعَ قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَمْ يَحِلَّ الشِّرَاءُ وَالْبَيْعُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ حَرُمَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ، / وَقَالَ الْفَرَّاءُ إِنَّمَا حَرُمَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ لِمَكَانِ الِاجْتِمَاعِ وَلِنُدْرِكَ لَهُ كَافَّةَ الْحَسَنَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ فِي الْآخِرَةِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَصْلُحُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ أَيْ إِذَا صَلَّيْتُمُ الْفَرِيضَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ هَذَا صِيغَةُ الْأَمْرِ بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ لِمَا أَنَّ إِبَاحَةَ الِانْتِشَارِ زَائِلَةٌ بِفَرْضِيَّةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ عَادَتِ الْإِبَاحَةُ فَيُبَاحُ لَهُمْ أَنْ يَتَفَرَّقُوا فِي الْأَرْضِ وَيَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّه، وَهُوَ الرِّزْقُ، وَنَظِيرُهُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [الْبَقَرَةِ: 198] ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الصَّلَاةِ فَإِنْ شِئْتَ فَاخْرُجْ، وَإِنْ شِئْتَ فَصَلِّ إِلَى الْعَصْرِ، وَإِنْ شِئْتَ فَاقْعُدْ، كَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ صِيغَةُ أَمْرٍ بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ أَيْضًا لِجَلْبِ الرِّزْقِ بِالتِّجَارَةِ بَعْدَ الْمَنْعِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرُوا الْبَيْعَ وَعَنْ مُقَاتِلٍ: أَحَلَّ لَهُمُ ابْتِغَاءَ الرِّزْقِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَمَنْ شَاءَ خَرَجَ. وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَخْرُجْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنْ شَاءَ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ، وَقَالَ الضَّحَّاكٌ، هُوَ إِذْنٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى إِذَا فَرَغَ، فَإِنْ شَاءَ خَرَجَ، وَإِنْ شَاءَ قَعَدَ، وَالْأَفْضَلُ فِي الِابْتِغَاءِ مِنْ فَضْلِ اللَّه أَنْ يَطْلُبَ الرِّزْقَ، أَوِ الْوَلَدَ الصَّالِحَ أَوِ العلم النافع

وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْحَسَنَةِ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَعَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ [وَ] قَالَ: اللَّهُمَّ أَجَبْتُ دَعْوَتَكَ، وَصَلَّيْتُ فرضيتك، وَانْتَشَرْتُ كَمَا أَمَرْتَنِي، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً قَالَ مُقَاتِلٌ: بِاللِّسَانِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: بِالطَّاعَةِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَكُونُ مِنَ الذَّاكِرِينَ كَثِيرًا حَتَّى يَذْكُرَهُ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَمُضْطَجِعًا، وَالْمَعْنَى إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى التِّجَارَةِ وَانْصَرَفْتُمْ إِلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَرَّةً أُخْرَى فَاذْكُرُوا اللَّه كَثِيرًا، قَالَ تَعَالَى: رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَتَيْتُمُ السُّوقَ فَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَإِنَّ مَنْ قَالَهَا كَتَبَ اللَّه لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ وَحَطَّ عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ خَطِيئَةٍ وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ مِنْ جُمْلَةِ مَا قَدْ مَرَّ مِرَارًا، وَفِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنْ شَرَعَ اللَّه تَعَالَى فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ هَذَا التَّكْلِيفَ؟ فَنَقُولُ: قَالَ الْقَفَّالُ: هِيَ أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الْخَلْقَ فَأَخْرَجَهُمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ جَمَادًا وَنَامِيًا وَحَيَوَانًا، فَكَانَ مَا سِوَى الْجَمَادِ أَصْنَافًا، مِنْهَا بَهَائِمُ وَمَلَائِكَةٌ وَجِنٌّ وَإِنْسٌ، ثُمَّ هِيَ مُخْتَلِفَةُ الْمَسَاكِنِ مِنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ فَكَانَ أَشْرَفُ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ هُمُ النَّاسَ لِعَجِيبِ تَرْكِيبِهِمْ، وَلِمَا كَرَّمَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِهِ مِنَ النُّطْقِ، وَرَكَّبَ فِيهِمْ مِنَ الْعُقُولِ وَالطِّبَاعِ الَّتِي بِهَا غَايَةُ التَّعَبُّدِ بِالشَّرَائِعِ، وَلَمْ يُخْفِ مَوْضِعَ عِظَمِ الْمِنَّةِ وَجَلَالَةِ قَدْرِ الْمَوْهِبَةِ لَهُمْ فَأُمِرُوا بِالشُّكْرِ عَلَى هَذِهِ الْكَرَامَةِ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ الَّتِي فِيهَا أُنْشِئَتِ الْخَلَائِقُ وَتَمَّ وُجُودُهَا، لِيَكُونَ فِي اجْتِمَاعِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَنْبِيهٌ عَلَى عِظَمِ مَا أَنْعَمَ اللَّه تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا كَانَ شَأْنُهُمْ لَمْ يَخْلُ مِنْ حِينِ ابْتُدِئُوا مِنْ نِعْمَةٍ تَتَخَلَّلُهُمْ، وَإِنَّ مِنَّةَ اللَّه مُثْبَتَةٌ عَلَيْهِمْ/ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِمْ لَهَا، وَلِكُلِّ أَهْلِ مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَلِ الْمَعْرُوفَةِ يَوْمٌ مِنْهَا مُعَظَّمٌ، فَلِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ وَلِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ، وَلِلْمُسْلِمِينَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَوْمُ الْجُمُعَةِ هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّه لَهُ فَلِلْيَهُودِ غَدًا وَلِلنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ» وَلَمَّا جُعِلَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمَ شُكْرٍ وَإِظْهَارِ سُرُورٍ وَتَعْظِيمِ نِعْمَةٍ احْتِيجَ فِيهِ إِلَى الِاجْتِمَاعِ الَّذِي بِهِ تَقَعُ شُهْرَتُهُ فَجُمِعَتِ الْجَمَاعَاتُ لَهُ كَالسُّنَّةِ فِي الْأَعْيَادِ، وَاحْتِيجَ فِيهِ إِلَى الْخُطْبَةِ تَذْكِيرًا بِالنِّعْمَةِ وَحَثًّا عَلَى اسْتَدَامَتِهَا بِإِقَامَةِ مَا يَعُودُ بِآلَاءِ الشُّكْرِ، وَلَمَّا كَانَ مَدَارُ التَّعْظِيمِ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى الصَّلَاةِ جُعِلَتِ الصَّلَاةُ لِهَذَا الْيَوْمِ وَسَطَ النَّهَارِ لِيَتِمَّ الِاجْتِمَاعُ وَلَمْ تَجُزْ هَذِهِ الصَّلَاةُ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ لِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى الِاجْتِمَاعِ واللَّه أَعْلَمُ. الثَّانِي: كَيْفَ خُصَّ ذِكْرُ اللَّه بِالْخُطْبَةِ، وَفِيهَا ذِكْرُ اللَّه وَغَيْرِ اللَّه؟ نَقُولُ: الْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِ اللَّه الْخُطْبَةُ وَالصَّلَاةُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْرِ اللَّه، وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ الظَّلَمَةِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَالدُّعَاءِ لَهُمْ فَذَلِكَ ذِكْرُ الشَّيْطَانِ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَذَرُوا الْبَيْعَ لِمَ خَصَّ الْبَيْعَ مِنْ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ؟ نَقُولُ: لِأَنَّهُ مِنْ أَهَمِّ مَا يَشْتَغِلُ بِهِ الْمَرْءُ فِي النَّهَارِ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعَاشِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ التِّجَارَةِ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فِي الْأَسْوَاقِ غَالِبًا، وَالْغَفْلَةُ عَلَى أَهْلِ السُّوقِ أَغْلَبُ، فَقَوْلُهُ: وَذَرُوا الْبَيْعَ تَنْبِيهٌ لِلْغَافِلِينَ، فَالْبَيْعُ أَوْلَى بِالذِّكْرِ وَلَمْ يَحْرُمْ لِعَيْنِهِ، وَلَكِنْ لِمَا فِيهِ مِنَ الذُّهُولِ عَنِ الْوَاجِبِ فَهُوَ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ. الرَّابِعُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ ذِكْرِ اللَّه أَوَّلًا وَذِكْرِ اللَّه ثَانِيًا؟ فَنَقُولُ: الْأَوَّلُ مِنْ جملة مالا يَجْتَمِعُ مَعَ التِّجَارَةِ أَصْلًا إِذِ

[سورة الجمعة (62) : آية 11]

الْمُرَادُ مِنْهُ الْخُطْبَةُ وَالصَّلَاةُ كَمَا مَرَّ، وَالثَّانِي مَا يَجْتَمِعُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور: 37] . ثم قال تعالى: [سورة الجمعة (62) : آية 11] وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيَّ أَقْبَلَ بِتِجَارَةٍ مِنَ الشَّامِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وَكَانَ مَعَهُ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ، وَكَانَ يَتَلَقَّاهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِالطَّبْلِ وَالصَّفْقِ: وَكَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَتَرَكُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا أَوْ أَقَلُّ كَثَمَانِيَةٍ أَوْ أَكْثَرُ كَأَرْبَعِينَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَوْلَا هَؤُلَاءِ لَسَوَّمْتُ لَهُمُ الْحِجَارَةَ، وَنَزَلَتِ الْآيَةُ: وَكَانَ مِنَ الَّذِينَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَصَابَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ جُوعٌ وَغَلَاءُ/ سِعْرٍ فَقَدِمَتْ عِيرٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَسَمِعُوا بِهَا وَخَرَجُوا إِلَيْهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوِ اتَّبَعَ آخِرُهُمْ أَوَّلَهُمْ لَالْتَهَبَ الْوَادِي عَلَيْهِمْ نَارًا» قَالَ قَتَادَةُ: فَعَلُوا ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ لَهْواً وَهُوَ الطَّبْلُ، وَكَانُوا إِذَا أَنْكَحُوا الْجَوَارِيَ يَضْرِبُونَ الْمَزَامِيرَ، فَمَرُّوا يَضْرِبُونَ، فَتَرَكُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ: انْفَضُّوا إِلَيْها أَيْ تَفَرَّقُوا وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: مَالُوا إِلَيْهَا وَعَدَلُوا نَحْوَهَا، وَالضَّمِيرُ فِي (إِلَيْهَا) لِلتِّجَارَةِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: انْفَضُّوا إِلَيْهِ وَإِلَيْهَا، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [الْبَقَرَةِ: 45] وَاعْتُبِرَ هُنَا الرُّجُوعُ إِلَى التِّجَارَةِ لِمَا أَنَّهَا أَهَمُّ إِلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَكُوكَ قائِماً اتَّفَقُوا عَلَى أن هذا القيام كان في هُنَا الرُّجُوعُ إِلَى التِّجَارَةِ لِمَا أَنَّهَا أَهَمُّ إِلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَكُوكَ قائِماً اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الْقِيَامَ كَانَ فِي الْخُطْبَةِ لِلْجُمُعَةِ قال جابر: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في الْخُطْبَةِ إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ، وَسُئِلَ عَبْدُ اللَّه أَكَانَ النَّبِيُّ يَخْطُبُ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا فَقَرَأَ: وَتَرَكُوكَ قائِماً وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ أَيْ ثَوَابُ الصَّلَاةِ وَالثَّبَاتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ مِنَ اللَّهْوِ الَّذِي مَرَّ ذِكْرُهُ، وَالتِّجَارَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا دِحْيَةُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَأَحْسَنِ الْخَالِقِينَ، وَالْمَعْنَى إِنْ أَمْكَنَ وُجُودُ الرَّازِقِينَ فَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، وَقِيلَ: لَفْظُ الرَّازِقِ لَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَلَا يُرْتَابُ فِي أَنَّ الرَّازِقَ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ خَيْرٌ مِنَ الرَّازِقِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَفِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ التِّجَارَةَ وَاللَّهْوَ مِنْ قَبِيلِ مَا لَا يُرَى أَصْلًا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَيْفَ يَصِحُّ وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً نَقُولُ: لَيْسَ الْمُرَادُ إِلَّا مَا يَقْرُبُ مِنْهُ اللَّهْوُ وَالتِّجَارَةُ، وَمِثْلُهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّه، إِذِ الْكَلَامُ غَيْرُ مَسْمُوعٍ، بَلِ الْمَسْمُوعُ صَوْتٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ. الثَّانِي: كَيْفَ قَالَ: انْفَضُّوا إِلَيْها وَقَدْ ذَكَرَ شَيْئَيْنِ وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : تَقْدِيرُهُ إِذَا رَأَوْا تِجَارَةً انْفَضُّوا إِلَيْهَا، أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهِ، فَحُذِفَ أَحَدُهُمَا لِدَلَالَةِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ مُنَاسِبٌ لِلتِّجَارَةِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا لَا لِلَّهْوِ، نَقُولُ: بَلْ هُوَ مُنَاسِبٌ لِلْمَجْمُوعِ لِمَا أَنَّ اللَّهْوَ الَّذِي مَرَّ ذِكْرُهُ كَالتَّبَعِ لِلتِّجَارَةِ، لِمَا أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا ذَلِكَ فَرَحًا بِوُجُودِ التِّجَارَةِ كَمَا مَرَّ، واللَّه أعلم بالصواب، والحمد اللَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وآله وصحبه أجمعين.

سورة المنافقون

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة المنافقون إحدى عشرة آية مدنية [سورة المنافقون (63) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) وَجْهُ تَعَلُّقِ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا قَبْلَهَا، هُوَ أَنَّ تِلْكَ السُّورَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْرِ بِعْثَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذِكْرِ مَنْ كَانَ يُكَذِّبُهُ قَلْبًا وَلِسَانًا بِضَرْبِ الْمَثَلِ كَمَا قَالَ: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ [الْجُمُعَةِ: 5] وَهَذِهِ السُّورَةُ عَلَى ذِكْرِ مَنْ كَانَ يُكَذِّبُهُ قَلْبًا دُونَ اللِّسَانِ وَيُصَدِّقُهُ لِسَانًا دُونَ الْقَلْبِ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ بِالْآخِرِ، فَذَلِكَ أَنَّ فِي آخِرِ تِلْكَ السُّورَةِ تَنْبِيهًا لِأَهْلِ الْإِيمَانِ عَلَى تَعْظِيمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِعَايَةِ حَقِّهِ بَعْدَ النِّدَاءِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَتَقْدِيمِ مُتَابَعَتِهِ فِي الْأَدَاءِ عَلَى غَيْرِهِ وَأَنَّ تَرْكَ التَّعْظِيمِ وَالْمُتَابَعَةِ مِنْ شِيَمِ الْمُنَافِقِينَ، وَالْمُنَافِقُونَ هُمُ الْكَاذِبُونَ، كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ يَعْنِي عَبْدَ اللَّه بْنَ أُبَيِّ وَأَصْحَابَهُ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَتَمَّ الْخَبَرُ عَنْهُمْ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ أَيْ أَنَّهُ أَرْسَلَكَ فَهُوَ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ أَنَّهُمْ أَضْمَرُوا غَيْرَ مَا أَظْهَرُوا، وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ بِالْقَلْبِ، وَحَقِيقَةَ كُلِّ كَلَامٍ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ، وَاعْتَقَدَ بِخِلَافِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ، لِمَا أَنَّ الْكَذِبَ بِاعْتِبَارِ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْوُجُودِ اللَّفْظِيِّ وَالْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ، كَمَا أَنَّ الْجَهْلَ بِاعْتِبَارِ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ، وَالْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه، وَسَمَّاهُمُ اللَّه كَاذِبِينَ لِمَا أَنَّ قَوْلَهُمْ: يُخَالِفُ اعْتِقَادَهُمْ، وَقَالَ: قَوْمٌ لَمْ يُكَذِّبْهُمُ اللَّه تَعَالَى فِي قَوْلِهِمْ: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ إِنَّمَا كَذَّبَهُمْ بِغَيْرِ هَذَا مِنَ الْأَكَاذِيبِ الصَّادِرَةِ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا [التوبة: 74] الآية. ويَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ [التَّوْبَةِ: 56] وَجَوَابُ إِذَا قالُوا نَشْهَدُ أَيْ أَنَّهُمْ إِذَا أَتَوْكَ شَهِدُوا لَكَ بِالرِّسَالَةِ، فَهُمْ كَاذِبُونَ فِي تِلْكَ الشَّهَادَةِ، لِمَا مَرَّ أَنَّ قَوْلَهُمْ يُخَالِفُ اعْتِقَادَهُمْ، وَفِي الآية بحث: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه، فَلَوْ قَالُوا: نَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه، أَفَادَ مِثْلَ مَا أَفَادَ هَذَا، أَمْ لَا؟ نَقُولُ: مَا أَفَادَ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه، صَرِيحٌ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الرِّسَالَةِ، وَقَوْلَهُمْ: نَعْلَمُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي إِثْبَاتِ الْعِلْمِ، لِمَا أَنَّ عِلْمَهُمْ فِي الْغَيْبِ عِنْدَ غيرهم. ثم قال تعالى: [سورة المنافقون (63) : الآيات 2 الى 3] اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) قَوْلُهُ: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً أَيْ سِتْرًا لِيَسْتَتِرُوا بِهِ عَمَّا خَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْقَتْلِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :

[سورة المنافقون (63) : الآيات 4 إلى 6]

اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَنَّ قَوْلَهُمْ: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ يَمِينٌ مِنْ أَيْمَانِهِمُ الْكَاذِبَةِ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَجْرِي مَجْرَى الْحَلِفِ فِي التَّأْكِيدِ، يَقُولُ الرَّجُلُ: أَشْهَدُ وَأَشْهَدُ باللَّه، وَأَعْزِمُ وَأَعْزِمُ باللَّه فِي مَوْضِعِ أُقْسِمُ وَأُولِي: وَبِهِ اسْتَشْهَدَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ أَشْهَدُ يَمِينٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِلْمُنَافِقِينَ فِي اسْتِخْفَافِهِمْ بِالْأَيْمَانِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالُوا نَشْهَدُ، وَلَمْ يَقُولُوا: نَشْهَدُ باللَّه كَمَا قُلْتُمْ؟ أَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْحَلِفِ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ فِي الْمُتَعَارَفِ إِنَّمَا يَكُونُ باللَّه، فَلِذَلِكَ أَخْبَرَ بِقَوْلِهِ: نَشْهَدُ عَنْ قَوْلِهِ باللَّه. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ أَعْرَضُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَقِيلَ: صَدُّوا، أَيْ صَرَفُوا وَمَنَعُوا الضَّعَفَةَ عَنِ اتِّبَاعُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساءَ أَيْ بِئْسَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ حَيْثُ آثَرُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَأَظْهَرُوا خِلَافَ مَا أَضْمَرُوا مُشَاكَلَةً لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ مُقَاتِلٌ: ذَلِكَ الْكَذِبُ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا فِي الظَّاهِرِ، ثُمَّ كَفَرُوا فِي السِّرِّ، وَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: والله يشهد إنهم لكاذبون وَقَوْلُهُ: فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ لَا يَتَدَبَّرُونَ، وَلَا يَسْتَدِلُّونَ بِالدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خُتِمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِالْكُفْرِ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ الْقُرْآنَ، وَصِدْقَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ أَنَّهُ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَفْعَالَ الْكَفَرَةِ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يعملون، فلم قلنا هُنَا؟ نَقُولُ: إِنَّ أَفْعَالَهُمْ مَقْرُونَةٌ بِالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ الَّتِي جَعَلُوهَا جُنَّةً، أَيْ سُتْرَةً لِأَمْوَالِهِمْ وَدِمَائِهِمْ عَنْ أَنْ يَسْتَبِيحَهَا الْمُسْلِمُونَ كَمَا مَرَّ. الثَّانِي: الْمُنَافِقُونَ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا عَلَى الْكُفْرِ الثَّابِتِ الدَّائِمِ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا؟ نَقُولُ: قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: آمَنُوا نَطَقُوا بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ، وَفَعَلُوا كَمَا يَفْعَلُ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ظَهَرَ كُفْرُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَثَانِيهَا: آمَنُوا نَطَقُوا بِالْإِيمَانِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ كَفَرُوا نَطَقُوا بِالْكُفْرِ عِنْدَ شَيَاطِينِهِمِ اسْتِهْزَاءً بِالْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَثَالِثُهَا: أَنْ يُرَادَ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْهُمْ. الثَّالِثُ: الطَّبْعُ عَلَى الْقُلُوبِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَلَمَّا طَبَعَ اللَّه عَلَى قُلُوبِهِمْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَتَدَبَّرُوا وَيَسْتَدِلُّوا بِالدَّلَائِلِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ هَذَا حُجَّةً لَهُمْ عَلَى اللَّه تَعَالَى، فَيَقُولُونَ: إِعْرَاضُنَا عَنِ الْحَقِّ لِغَفْلَتِنَا، وَغَفْلَتُنَا بِسَبَبِ أَنَّهُ تَعَالَى طَبَعَ عَلَى قُلُوبِنَا، فَنَقُولُ: هَذَا الطَّبْعُ مِنَ اللَّه تَعَالَى لِسُوءِ أَفْعَالِهِمْ، وَقَصْدِهِمُ الْإِعْرَاضَ عَنِ الْحَقِّ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى تركهم في أنفسهم الجاهلة وأهوائهم الباطلة. ثم قال تعالى: [سورة المنافقون (63) : الآيات 4 الى 6] وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6)

اعلم أنه قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِذا رَأَيْتَهُمْ يَعْنِي عَبْدَ اللَّه بْنَ أُبَيٍّ، وَمُغِيثَ بْنَ قَيْسٍ، وَجَدَّ بْنَ قَيْسٍ، كَانَتْ لَهُمْ أَجْسَامٌ وَمَنْظَرٌ، تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ لِحُسْنِهَا وَجَمَالِهَا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّه بْنُ أُبَيٍّ جَسِيمًا صَبِيحًا فَصِيحًا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ أَيْ وَيَقُولُوا: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه تَسْمَعُ لِقَوْلِهِمْ، وَقُرِئَ يُسْمَعْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، ثُمَّ شَبَّهَهُمْ بِالْخُشُبِ الْمُسَنَّدَةِ، وَفِي الْخُشُبِ التَّخْفِيفُ كَبَدَنَةٍ وَبُدْنٍ وَأَسَدٍ وَأُسْدٍ، وَالتَّثْقِيلُ كَذَلِكَ كَثَمَرَةٍ، وَثُمُرٍ، وَخَشَبَةٍ/ وَخُشُبٍ، وَمَدَرَةٍ وَمُدُرٍ. وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالتَّثْقِيلُ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالْخُشُبُ لَا تَعْقِلُ وَلَا تَفْهَمُ، فَكَذَلِكَ أَهِلُ النِّفَاقِ كَأَنَّهُمْ فِي تَرْكِ التَّفَهُّمِ، وَالِاسْتِبْصَارِ بِمَنْزِلَةِ الْخُشُبِ. وَأَمَّا الْمُسَنَّدَةُ يُقَالُ: سَنَدَ إِلَى شَيْءٍ، أَيْ مَالَ إِلَيْهِ، وَأَسْنَدَهُ إِلَى الشَّيْءِ، أَيْ أَمَالَهُ فَهُوَ مُسْنَدٌ، وَالتَّشْدِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَإِنَّمَا وُصِفَ الْخُشُبُ بِهَا، لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْأَشْجَارَ الْقَائِمَةَ الَّتِي تَنْمُو وَتُثْمِرُ بِوَجْهٍ مَا، ثُمَّ نَسَبَهُمْ إِلَى الْجُبْنِ وَعَابَهُمْ بِهِ، فَقَالَ: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِذَا نَادَى مُنَادٍ فِي الْعَسْكَرِ، وَانْفَلَتَتْ دَابَّةٌ، أَوْ نُشِدَتْ ضَالَّةٌ مَثَلًا ظَنُّوا أَنَّهُمْ يُرَادُونَ بِذَلِكَ لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَلَى وَجَلٍ مِنْ أَنْ يَهْتِكَ اللَّه أَسْتَارَهُمْ، وَيَكْشِفَ أَسْرَارَهُمْ، يَتَوَقَّعُونَ الْإِيقَاعَ بِهِمْ سَاعَةً فَسَاعَةً، ثُمَّ أَعْلَمَ [اللَّه] رَسُولَهُ بِعَدَاوَتِهِمْ فَقَالَ: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ أَنْ تَأْمَنَهُمْ عَلَى السِّرِّ وَلَا تَلْتَفِتَ إِلَى ظَاهِرِهِمْ فَإِنَّهُمُ الْكَامِلُونَ فِي الْعَدَاوَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ مُفَسِّرٌ وَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ وَطَلَبٌ مِنْ ذَاتِهِ أَنْ يَلْعَنَهُمْ وَيُخْزِيَهُمْ وَتَعْلِيمٌ للمؤمنين أن يدعوا بذلك، وأَنَّى يُؤْفَكُونَ أَيْ يَعْدِلُونَ عَنِ الْحَقِّ تَعَجُّبًا مِنْ جَهْلِهِمْ وَضَلَالَتِهِمْ وَظَنِّهِمُ الْفَاسِدِ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَةِ الْمُنَافِقِينَ مَشَى إِلَيْهِ عَشَائِرُهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالُوا: لَهُمْ وَيَلْكُمُ افْتَضَحْتُمْ بِالنِّفَاقِ وَأَهْلَكْتُمْ أَنْفُسَكُمْ فَأْتُوا رَسُولَ اللَّه وَتُوبُوا إِلَيْهِ مِنَ النِّفَاقِ وَاسْأَلُوهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكُمْ، فَأَبَوْا ذَلِكَ وَزَهِدُوا فِي الِاسْتِغْفَارِ فَنَزَلَتْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا رَجَعَ عَبْدُ اللَّه بْنُ أُبَيٍّ مِنْ أُحُدٍ بِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مَقَتَهُ الْمُسْلِمُونَ وَعَنَّفُوهُ وَأَسْمَعُوهُ الْمَكْرُوهَ فَقَالَ لَهُ بَنُو أَبِيهِ: لَوْ أَتَيْتَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَسْتَغْفِرَ لَكَ وَيَرْضَى عَنْكَ، فَقَالَ: لَا أَذْهَبُ إِلَيْهِ، وَلَا أُرِيدُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي، وَجَعَلَ يَلْوِي رَأْسَهُ فَنَزَلَتْ. وَعِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، إِنَّمَا دُعِيَ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ لِأَنَّهُ قَالَ: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [الْمُنَافِقُونَ: 8] وَقَالَ: لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [المنافقون: 7] فَقِيلَ لَهُ: تَعَالَ يَسْتَغْفِرْ لَكَ رَسُولُ اللَّه فَقَالَ: مَاذَا قُلْتُ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَقُرِئَ: لَوَوْا بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ لِلْكَثْرَةِ وَالْكِنَايَةُ قَدْ تُجْعَلُ جَمْعًا وَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ قَالَ جَرِيرٌ: لَا بَارَكَ اللَّه فِيمَنْ كَانَ يَحْسَبُكُمْ ... إِلَّا عَلَى الْعَهْدِ حَتَّى كَانَ مَا كَانَا وَإِنَّمَا خَاطَبَ بِهَذَا امْرَأَةً وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ أَيْ عَنِ اسْتِغْفَارِ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ اسْتِغْفَارَهُ لَا يَنْفَعُهُمْ فقال: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ قَوْلِهِ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيَّرَنِي رَبِّي فَلَأَزِيدَنَّهُمْ على

[سورة المنافقون (63) : الآيات 7 إلى 8]

السَّبْعِينَ» فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُنَافِقِينَ، وَقَالَ قَوْمٌ: فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَمْلِكُ هِدَايَةً وَرَاءَ هِدَايَةِ الْبَيَانِ، وَهِيَ خَلْقُ فِعْلِ الِاهْتِدَاءِ فِيمَنْ عَلِمَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَهْدِيهِمْ لِفِسْقِهِمْ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يُسَمِّيهِمُ الْمُهْتَدِينَ إِذَا فَسَقُوا وَضَلُّوا وَفِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: لِمَ شَبَّهَهُمْ بِالْخُشُبِ الْمُسَنَّدَةِ لَا بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُنْتَفِعِ بِهَا؟ نَقُولُ لِاشْتِمَالِ هَذَا التَّشْبِيهِ عَلَى فَوَائِدَ كَثِيرَةٍ لَا تُوجَدُ فِي الْغَيْرِ الأولى: قال في «الشكاف» : شُبِّهُوا فِي اسْتِنَادِهِمْ وَمَا هُمْ إِلَّا أَجْرَامٌ خَالِيَةٌ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْخَيْرِ، بِالْخُشُبِ الْمُسَنَّدَةِ إِلَى الْحَائِطِ، وَلِأَنَّ الْخَشَبَ إِذَا انْتُفِعَ بِهِ كَانَ فِي سَقْفٍ أَوْ جِدَارٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ مَظَانِّ الِانْتِفَاعِ، وَمَا دَامَ مَتْرُوكًا فَارِغًا غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ أُسْنِدَ إِلَى الْحَائِطِ، فَشُبِّهُوا بِهِ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْأَصْنَامُ الْمَنْحُوتَةُ مِنَ الْخُشُبِ الْمُسَنَّدَةِ إِلَى الْحَائِطِ شُبِّهُوا بِهَا فِي حُسْنِ صُوَرِهِمْ، وَقِلَّةِ جَدْوَاهُمْ الثَّانِيَةُ: الْخُشُبُ الْمُسَنَّدَةُ فِي الْأَصْلِ كَانَتْ غُصْنًا طَرِيًّا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، ثُمَّ تَصِيرُ غَلِيظَةً يَابِسَةً، وَالْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ كَذَلِكَ كَانَ فِي الْأَصْلِ صَالِحًا لِكَذَا وَكَذَا، ثُمَّ يَخْرُجُ عَنْ تِلْكَ الصَّلَاحِيَّةِ الثَّالِثَةُ: الْكَفَرَةُ مِنْ جِنْسِ الْإِنْسِ حَطَبٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 98] وَالْخُشُبُ الْمُسَنَّدَةُ حَطَبٌ أَيْضًا الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْخُشُبَ الْمُسَنَّدَةَ إِلَى الْحَائِطِ أَحَدُ طَرَفَيْهَا إِلَى جِهَةٍ، وَالْآخَرُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى، وَالْمُنَافِقُونَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُنَافِقَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ وَهُوَ الْبَاطِنُ إِلَى جِهَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَالطَّرَفُ الْآخَرُ وَهُوَ الظَّاهِرُ إِلَى جِهَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْخَامِسَةُ: الْمُعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْخُشُبُ الْمُسَنَّدَةُ مَا يَكُونُ مِنَ الْجَمَادَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ، وَالْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ لِلْمُنَافِقِينَ كَذَلِكَ، وَإِذَا كَانُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذْ هُوَ الْأَصْنَامُ، إِنَّهَا مِنَ الْجَمَادَاتِ أَوِ النَّبَاتَاتِ. الثَّانِي: مِنَ الْمَبَاحِثِ أَنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَهُمْ بِالْخُشُبِ الْمُسَنَّدَةِ، ثُمَّ قَالَ مِنْ بَعْدُ مَا يُنَافِي هَذَا التَّشْبِيهَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ [المنافقون: 4] وَالْخُشُبُ الْمُسَنَّدَةُ لَا يَحْسَبُونَ أَصْلًا، نَقُولُ: لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَبَّهُ وَالْمُشَبَّهُ بِهِ يَشْتَرِكَانِ فِي جَمِيعِ الْأَوْصَافِ، فَهُمْ كَالْخُشُبِ الْمُسَنَّدَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الِانْتِفَاعِ وَعَدَمِ الِانْتِفَاعِ، وَلَيْسُوا كَالْخُشُبِ الْمُسَنَّدَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاسْتِمَاعِ وَعَدَمِ الِاسْتِمَاعِ لِلصَّيْحَةِ وَغَيْرِهَا. الثَّالِثُ: قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ وَلَمْ يَقُلْ: الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ أَوِ الْمُسْتَكْبِرِينَ مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ؟ نَقُولُ: كُلُّ أَحَدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَامِ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: الْفاسِقِينَ أَيِ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ وَهُمُ الكافرون والمنافقون والمستكبرون. ثم قال تعالى: [سورة المنافقون (63) : الآيات 7 الى 8] هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى بِشَنِيعِ مَقَالَتِهِمْ فقال: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ كذا وكذا: ويَنْفَضُّوا أَيْ يَتَفَرَّقُوا، وَقُرِئَ: يَنْفَضُّوا مِنْ أَنْفَضَ الْقَوْمُ إِذَا فَنِيَتْ أَزْوَادُهُمْ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: اقْتَتَلَ أَجِيرُ عُمَرَ مَعَ أَجِيرِ عَبْدِ اللَّه بْنِ أُبَيٍّ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ فَأَسْمَعَ أَجِيرُ عُمَرَ عَبْدَ اللَّه بْنَ أُبَيٍّ الْمَكْرُوهَ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ لِسَانُهُ، فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّه وَعِنْدَهُ رَهْطٌ

[سورة المنافقون (63) : الآيات 9 إلى 11]

مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ: أَمَا واللَّه لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لِيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، يَعْنِي بِالْأَعَزِّ نَفْسَهُ وَبِالْأَذَلِّ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: لَوْ أَمْسَكْتُمُ النَّفَقَةَ عَنْ هَؤُلَاءِ يَعْنِي الْمُهَاجِرِينَ لَأَوْشَكُوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا عَنْ دِيَارِكُمْ وَبِلَادِكُمْ فَلَا تُنْفِقُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِ مُحَمَّدٍ فَنَزَلَتْ، وَقُرِئَ: لَيَخْرُجَنَّ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي عَيْلَةَ: لَنَخْرُجَنَّ بِالنُّونِ وَنَصَبَ الْأَعَزَّ وَالْأَذَلَّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي مَفَاتِيحَ الرِّزْقِ وَالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ، والمعنى أن اللَّه هو الرازق: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [يُونُسَ: 31] وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: خَزَائِنُ اللَّه تَعَالَى مَقْدُورَاتُهُ لِأَنَّ فِيهَا كُلَّ مَا يَشَاءُ مِمَّا يُرِيدُ إِخْرَاجَهُ، وَقَالَ الْجُنَيْدُ: خَزَائِنُ اللَّه تَعَالَى فِي السموات الْغُيُوبُ وَفِي الْأَرْضِ الْقُلُوبُ وَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ وَمُقَلِّبُ الْقُلُوبِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ أَيْ لَا يَفْقَهُونَ أَنَّ: أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] وَقَوْلُهُ يَقُولُونَ: لَئِنْ رَجَعْنا أَيْ مِنْ تِلْكَ الْغَزْوَةِ وَهِيَ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَرَدَّ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَقَالَ: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ أَيِ الْغَلَبَةُ وَالْقُوَّةُ وَلِمَنْ أَعَزَّهُ اللَّه وَأَيَّدَهُ مِنْ رَسُولِهِ وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَعَزَّهُمْ بِنُصْرَتِهِ إِيَّاهُمْ وَإِظْهَارِ دِينِهِمْ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ وَأَعْلَمَ رَسُولَهُ بِذَلِكَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلَوْ عَلِمُوهُ مَا قَالُوا: مَقَالَتَهُمْ هَذِهِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَهُمُ الْأَخِصَّاءُ بِذَلِكَ كَمَا أَنَّ الْمَذَلَّةَ وَالْهَوَانَ لِلشَّيْطَانِ وَذَوِيهِ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَعَنْ بَعْضِ الصَّالِحَاتِ وَكَانَتْ فِي هَيْئَةٍ رَثَّةٍ أَلَسْتُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْعِزُّ الَّذِي لَا ذُلَّ مَعَهُ، وَالْغِنَى الَّذِي لَا فَقْرَ مَعَهُ، وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّ فِيكَ تِيهًا قَالَ: لَيْسَ بِتِيهٍ وَلَكِنَّهُ عِزَّةٌ فَإِنَّ هَذَا العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لَا فَقْرَ مَعَهُ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْمَعْنَى: الْعِزَّةُ غَيْرُ الْكِبْرِ وَلَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ، فَالْعِزَّةُ مَعْرِفَةُ الْإِنْسَانِ بِحَقِيقَةِ نَفْسِهِ وَإِكْرَامُهَا عَنْ أَنْ يَضَعَهَا لِأَقْسَامٍ عَاجِلَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ كَمَا أَنَّ الْكِبْرَ جَهْلُ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ وَإِنْزَالُهَا فَوْقَ مَنْزِلِهَا فَالْعِزَّةُ تُشْبِهُ الْكِبْرَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ، وَتَخْتَلِفُ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ كَاشْتِبَاهِ التَّوَاضُعِ بِالضِّعَةِ وَالتَّوَاضُعُ مَحْمُودٌ، وَالضِّعَةُ مَذْمُومَةٌ، وَالْكِبْرِ مَذْمُومٌ، وَالْعِزَّةُ مَحْمُودَةٌ، وَلَمَّا كَانَتْ غَيْرَ مَذْمُومَةٍ وَفِيهَا مُشَاكَلَةٌ لِلْكِبْرِ، قَالَ تَعَالَى: بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَفِيهِ إِشَارَةٌ/ خَفِيَّةٌ لِإِثْبَاتِ الْعِزَّةِ بِالْحَقِّ، وَالْوُقُوفُ عَلَى حَدِّ التَّوَاضُعِ مِنْ غَيْرِ انْحِرَافٍ إِلَى الضِّعَةِ وُقُوفٌ عَلَى صِرَاطِ الْعِزَّةِ الْمَنْصُوبِ عَلَى مَتْنِ نَارِ الْكِبْرِ، فَإِنْ قِيلَ: قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: لَا يَفْقَهُونَ وَفِي الْأُخْرَى لَا يَعْلَمُونَ فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ فَنَقُولُ: لِيُعْلَمَ بِالْأَوَّلِ قِلَّةُ كِيَاسَتِهِمْ وَفَهْمِهِمْ، وَبِالثَّانِي كَثْرَةُ حَمَاقَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ، وَلَا يَفْقَهُونَ مِنْ فَقِهَ يَفْقَهُ، كَعَلِمَ يَعْلَمُ، وَمِنْ فَقُهَ يَفْقُهُ: كَعَظُمَ يَعْظُمُ، وَالْأَوَّلُ لِحُصُولِ الْفِقْهِ بِالتَّكَلُّفِ وَالثَّانِي لَا بِالتَّكَلُّفِ، فَالْأَوَّلُ عِلَاجِيٌّ، والثاني مزاجي، ثم قال تعالى: [سورة المنافقون (63) : الآيات 9 الى 11] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11) لَا تُلْهِكُمْ لَا تَشْغَلْكُمْ كَمَا شَغَلَتِ الْمُنَافِقِينَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نَزَلَتْ فِي حَقِّ

الْمُنَافِقِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَوْلُهُ: عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَنْ فَرَائِضِ اللَّه تَعَالَى نَحْوَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ أَوْ عَنْ طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَعِنْدَ مُقَاتِلٍ: هَذِهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا خِطَابٌ للمنافقين الذين أفروا بِالْإِيمَانِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أَيْ أَلْهَاهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّه فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أَيْ فِي تِجَارَتِهِمْ حَيْثُ بَاعُوا الشَّرِيفَ الْبَاقِيَ بِالْخَسِيسِ الْفَانِي وَقِيلَ: هُمُ الْخَاسِرُونَ فِي إِنْكَارِ مَا قَالَ بِهِ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْجِهَادُ، وَقِيلَ: هُوَ الْقُرْآنُ وَقِيلَ: هُوَ النَّظَرُ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّفَكُّرُ وَالتَّأَمُّلُ فِيهِ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ زَكَاةَ الْمَالِ وَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ هُوَ الْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أَيْ دَلَائِلُ الْمَوْتِ وَعَلَامَاتُهُ فَيَسْأَلُ الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا وَهُوَ قَوْلُهُ: رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ وَقِيلَ حَضُّهُمْ عَلَى إِدَامَةِ الذِّكْرِ، وَأَنْ لَا يَضِنُّوا بِالْأَمْوَالِ، أَيْ هَلَّا أَمْهَلْتَنِي وَأَخَّرْتَ أَجْلِي إِلَى زَمَانٍ قَلِيلٍ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي أَجْلِهِ حَتَّى يَتَصَدَّقَ وَيَتَزَكَّى وَهُوَ/ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِذِ الْمُؤْمِنُ لَا يَسْأَلُ الرَّجْعَةَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا يَنْزِلُ بِأَحَدٍ لَمْ يَحُجَّ وَلَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ الْمَوْتُ إِلَّا وَسَأَلَ الرَّجْعَةَ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مِنْ قَبْلِ أَنْ يُعَايِنَ مَا يَيْأَسُ مَعَهُ مِنَ الْإِمْهَالِ وَيَضِيقَ بِهِ الْخِنَاقُ وَيَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ، وَيَفُوتَ وَقْتُ الْقَبُولِ فَيَتَحَسَّرَ عَلَى الْمَنْعِ وَيَعَضَّ أَنَامِلَهُ عَلَى فَقْدِ مَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَصَدَّقُوا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْكُمْ سُلْطَانُ الْمَوْتِ فَلَا تُقْبَلُ تَوْبَةٌ وَلَا يَنْفَعُ عَمَلٌ وَقَوْلُهُ: وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَحُجُّ وَقُرِئَ فَأَكُونَ وَهُوَ عَلَى لفظ فأصدق وأكون، قال المبرد: وأكون عَلَى مَا قَبْلَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَأَصَّدَّقَ جَوَابٌ لِلِاسْتِفْهَامِ الَّذِي فِيهِ التَّمَنِّي وَالْجَزْمُ عَلَى مَوْضِعِ الْفَاءِ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ فَأَتَصَدَّقَ عَلَى الْأَصْلِ وَأَكُنْ عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ فَأَصَدَّقَ: وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ أَبْيَاتًا كَثِيرَةً فِي الْحَمْلِ عَلَى الْمَوْضِعِ مِنْهَا: [مُعَاوِيَ إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ] ... فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا فَنَصَبَ الْحَدِيدَ عَطْفًا عَلَى الْمَحَلِّ وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْجِبَالِ، لِلتَّأْكِيدِ لَا لِمَعْنًى مُسْتَقْبَلٍ يَجُوزُ حَذْفُهُ وَعَكْسُهُ قَوْلُ ابْنِ أَبِي سُلْمَى: بَدَا لي أني لست مدرك ماضي ... ولا سابق شيئا إذا كان جاثيا تَوَهَّمَ أَنَّهُ قَالَ بِمُدْرِكٍ فَعَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ سَابِقٍ، عَطْفًا عَلَى الْمَفْهُومِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَأَكُونَ فَإِنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُؤَخِّرُ مَنِ انْقَضَتْ مُدَّتُهُ وَحَضَرَ أَجْلُهُ فَقَالَ: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً يَعْنِي عَنِ الْمَوْتِ إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : هَذَا نَفْيٌ لِلتَّأْخِيرِ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ الَّذِي مَعْنَاهُ مُنَافَاةُ الْمَنْفِيِّ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: لَا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ تَنْبِيهٌ عَلَى الذِّكْرِ قَبْلَ الْمَوْتِ: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ تَنْبِيهٌ عَلَى الشُّكْرِ لِذَلِكَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أَيْ لَوْ رُدَّ إِلَى الدُّنْيَا مَا زَكَّى وَلَا حَجَّ، وَيَكُونُ هَذَا كَقَوْلِهِ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الْأَنْعَامِ: 28] وَالْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا خَطَّابٌ جَامِعٌ لِكُلِّ عَمَلٍ خَيْرًا أَوْ شَرًّا وَقَرَأَ عَاصِمٌ يَعْمَلُونَ بِالْيَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً لِأَنَّ النَّفْسَ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فِي اللَّفْظِ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْكَثِيرُ فَحُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى واللَّه أَعْلَمُ وَصَلَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أجمعين.

سورة التغابن

بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم سورة التغابن (ثمان عشرة آية مكية) [سورة التغابن (64) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) وَجْهُ التَّعَلُّقِ بِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ لِمَا أَنَّ تِلْكَ السُّورَةَ لِلْمُنَافِقِينَ الْكَاذِبِينَ وَهَذِهِ السُّورَةُ لِلْمُنَافِقِينَ الصَّادِقِينَ، وَأَيْضًا تِلْكَ السُّورَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى بَطَالَةِ أَهْلِ النِّفَاقِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، وَهَذِهِ السُّورَةُ عَلَى مَا هُوَ التَّهْدِيدُ الْبَالِغُ لَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ وَأَمَّا الْأَوَّلُ بِالْآخِرِ فَلِأَنَّ فِي آخِرِ تِلْكَ السُّورَةِ التَّنْبِيهَ عَلَى الذِّكْرِ وَالشُّكْرِ كَمَا مَرَّ، وَفِي أَوَّلِ هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ إِنْ أَعْرَضُوا عَنِ الذِّكْرِ وَالشُّكْرِ، قُلْنَا: مِنَ الْخَلْقِ قَوْمٌ يُوَاظِبُونَ عَلَى الذِّكْرِ وَالشُّكْرِ دَائِمًا، وَهُمُ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ مَعْنَاهُ إذا سبح للَّه ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ فَلَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَلَمَّا كَانَ لَهُ الْمُلْكُ فَهُوَ مُتَصَرِّفٌ فِي مُلْكِهِ وَالتَّصَرُّفُ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْقُدْرَةِ فَقَالَ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : قُدِّمَ الظَّرْفَانِ لِيَدُلَّ بِتَقْدِيمِهِمَا عَلَى مَعْنَى اخْتِصَاصِ الْمُلْكِ وَالْحَمْدِ باللَّه تَعَالَى وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُلْكَ فِي الْحَقِيقَةِ لَهُ لِأَنَّهُ مُبْدِئٌ لِكُلِّ شَيْءٍ ومبدعه والقائم به والمهيمن عليه، وكذلك الْحَمْدُ فَإِنَّ أُصُولَ النِّعَمِ وَفُرُوعَهَا مِنْهُ، وَأَمَّا مُلْكُ غَيْرِهِ فَتَسْلِيطٌ مِنْهُ وَاسْتِرْعَاءٌ، وَحَمْدُهُ اعْتِدَادٌ بِأَنَّ نِعْمَةَ اللَّه جَرَتْ عَلَى يَدِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قِيلَ: مَعْنَاهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ أَرَادَهُ قَدِيرٌ، وَقِيلَ: قَدِيرٌ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ بِقَدْرِ مَا يَشَاءُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُصُ. وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ، وَفِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تعالى قال في الحديد: سَبَّحَ [الحديد: 1] وَالْحَشْرِ وَالصَّفِّ كَذَلِكَ، وَفِي الْجُمُعَةِ وَالتَّغَابُنِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ قَدْ تَقَدَّمَ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ فِي مَوْضِعٍ: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الْحَشْرِ: 1] وَفِي مَوْضِعٍ/ آخَرَ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الحديد: 1] فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ قُلْنَا: الْحِكْمَةُ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَلَا نَعْلَمُهَا كَمَا هِيَ، لَكِنْ نَقُولُ: ما يخطر بالبال، وهو أن مجموع السموات وَالْأَرْضِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ عَالَمٌ مُؤَلَّفٌ مِنَ الْأَجْسَامِ الْفَلَكِيَّةِ وَالْعُنْصُرِيَّةِ، ثُمَّ الْأَرْضُ مِنْ هَذَا الْمَجْمُوعِ شَيْءٌ وَالْبَاقِي مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الْجُزْءِ مِنَ الْمَجْمُوعِ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْجُزْءِ مِنْهُ كَذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ، قَالَ تَعَالَى فِي بَعْضِ السُّورِ كَذَا وَفِي الْبَعْضِ هَذَا لِيُعْلَمَ أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ الْجُسْمَانِيَّ مِنْ وَجْهٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَمِنْ وَجْهٍ شَيْئَانِ بَلْ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ، وَالْخَلْقُ فِي الْمَجْمُوعِ غَيْرُ مَا فِي هَذَا الْجُزْءِ، وَغَيْرُ مَا فِي

[سورة التغابن (64) : الآيات 2 إلى 4]

ذَلِكَ أَيْضًا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الشَّيْءِ فِي الْمَجْمُوعِ أَنْ يُوجَدَ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ لِمَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَسْبِيحِ مَا في السموات وَعَلَى تَسْبِيحِ مَا فِي الْأَرْضِ، كَذَلِكَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثم قال تعالى: [سورة التغابن (64) : الآيات 2 الى 4] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ بَنِي آدَمَ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا، ثُمَّ يُعِيدُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا خَلَقَهُمْ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا، وَقَالَ عطاء: إنه يرد فَمِنْكُمْ مُصَدِّقٌ، وَمِنْكُمْ جَاحِدٌ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مُؤْمِنٌ فِي الْعَلَانِيَةِ كَافِرٌ فِي السِّرِّ كَالْمُنَافِقِ، وَكَافِرٌ فِي الْعَلَانِيَةِ مُؤْمِنٌ فِي السِّرِّ كَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النَّحْلِ: 106] وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فَمِنْكُمْ كَافِرٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الطَّبَائِعِ وَالدَّهْرِيَّةِ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُ كَمَا قَالَ: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [عَبَسَ: 17، 18] وَقَالَ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ [الْكَهْفِ: 37] وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: خَلَقَكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ كُفَّارًا وَمُؤْمِنِينَ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ يحي خُلِقَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مُؤْمِنًا وَفِرْعَوْنَ خُلِقَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ كَافِرًا، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أَيْ عَالِمٌ بِكُفْرِكُمْ/ وَإِيمَانِكُمُ اللَّذَيْنِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى تَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ بِأَصْلِ النِّعَمِ الَّتِي هِيَ الْخَلْقُ فَانْظُرُوا النَّظَرَ الصَّحِيحَ وَكُونُوا بِأَجْمَعِكُمْ عِبَادًا شَاكِرِينَ، فَمَا فَعَلْتُمْ مَعَ تَمَكُّنِكُمْ بَلْ تَفَرَّقْتُمْ فِرَقًا فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أَيْ بِالْإِرَادَةِ الْقَدِيمَةِ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بِالْحَقِّ، أَيْ لِلْحَقِّ، وَهُوَ الْبَعْثُ، وَقَوْلُهُ: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَحْسَنَ أَيْ أَتْقَنَ وَأَحْكَمَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُوجَدُ بِذَلِكَ الْوَجْهِ فِي الْغَيْرِ، وَكَيْفَ يُوجَدُ وَقَدْ وُجِدَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْقُوَى الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّه تَعَالَى وَرُبُوبِيَّتِهِ دَلَالَةً مَخْصُوصَةً لِحُسْنِ هَذِهِ الصُّورَةِ وَثَانِيهِمَا: أَنْ نَصْرِفَ الْحُسْنَ إِلَى حُسْنِ الْمَنْظَرِ، فَإِنَّ مَنْ نَظَرَ فِي قَدِّ الْإِنْسَانِ وَقَامَتِهِ وَبِالنِّسْبَةِ بَيْنَ أَعْضَائِهِ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّ صُورَتَهُ أَحْسَنُ صُورَةٍ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أَيِ الْبَعْثُ وَإِنَّمَا أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ هُوَ النِّهَايَةُ فِي خَلْقِهِمْ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: تَعَالَى: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ خَلْقِ الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ مُصَوَّرًا بِالصُّورَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الصُّورَةِ أَنْ تَكُونَ عَلَى أَحْسَنِ الصُّوَرِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أَيِ الْمَرْجِعُ لَيْسَ إِلَّا لَهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ نبه بعلمه ما في السموات وَالْأَرْضِ، ثُمَّ بِعِلْمِهِ مَا يُسِرُّهُ الْعِبَادُ وَمَا يُعْلِنُونَهُ، ثُمَّ بِعِلْمِهِ مَا فِي الصُّدُورِ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ لِمَا أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ الْبَتَّةَ أَزَلًا وَأَبَدًا، وَفِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكِيمٌ، وَقَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ إِذَا خَلَقَهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا إِلَّا الْكُفْرَ، وَالْإِصْرَارَ عَلَيْهِ فَأَيُّ حِكْمَةٍ

[سورة التغابن (64) : الآيات 5 إلى 7]

دَعَتْهُ إِلَى خَلْقِهِمْ؟ نَقُولُ: إِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى حَكِيمٌ، عَلِمْنَا أَنَّ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ، وَخَلْقُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ فِعْلُهُ، فَيَكُونُ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ عِلْمِنَا بِذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ بَلِ اللَّازِمُ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُمْ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ. الثَّانِي: قَالَ: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَقَدْ كَانَ مِنْ أَفْرَادِ هَذَا النَّوْعِ مَنْ كَانَ مُشَوَّهَ الصُّورَةِ سَمِجَ الْخِلْقَةِ؟ نَقُولُ: لَا سَمَاجَةَ ثَمَّةَ لَكِنَّ الْحُسْنَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمَعَانِي عَلَى طَبَقَاتٍ ومراتب فلانحطاط بَعْضِ الصُّوَرِ عَنْ مَرَاتِبِ مَا فَوْقَهَا انْحِطَاطًا بَيِّنًا لَا يَظْهَرُ حُسْنُهُ، وَإِلَّا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الْحُسْنِ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ حَدِّهِ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يُوهِمُ الِانْتِقَالَ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّه فِي جَانِبٍ، فَكَيْفَ هُوَ؟ قُلْتُ: ذَلِكَ الْوَهْمُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا وَإِلَى زَمَانِنَا لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَكُونُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ نَفْسَ الْأَمْرِ بِمَعْزِلٍ عَنْ حَقِيقَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ إِذَا كَانَ الْمُنْتَقِلُ إِلَيْهِ مُنَزَّهًا عَنِ الْجَانِبِ وَعَنِ الجهة. ثم قال تعالى: [سورة التغابن (64) : الآيات 5 الى 7] أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا خِطَابٌ لِكُفَّارِ مَكَّةَ وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْوَيْلِ الَّذِي ذَاقُوهُ فِي الدُّنْيَا وَإِلَى مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. فَقَوْلُهُ: فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أَيْ شِدَّةَ أَمْرِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ وَقَوْلُهُ: ذلِكَ بِأَنَّهُ أَيْ بِأَنَّ الشَّأْنَ وَالْحَدِيثَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ بَشَرًا. وَلَمْ يُنْكِرُوا أَنْ يَكُونَ مَعْبُودُهُمْ حَجَرًا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا، وَكَفَرُوا بِالرُّسُلِ وَأَعْرَضُوا وَاسْتَغْنَى اللَّه عَنْ طَاعَتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ مِنَ الْأَزَلِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ مِنْ جُمْلَةِ مَا سَبَقَ، وَالْحَمِيدُ بِمَعْنَى الْمَحْمُودِ أَيِ الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ بِذَاتِهِ وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْحَامِدِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : الزَّعْمُ ادِّعَاءُ الْعِلْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زَعَمُوا مَطِيَّةَ الْكَذِبِ» وَعَنْ شُرَيْحٍ لِكُلِّ شَيْءٍ كُنْيَةٌ وَكُنْيَةُ الْكَذِبِ زَعَمُوا، وَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، تَعَدِّي، الْعِلْمِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَمْ أَزْعُمْكَ عَنْ ذَلِكَ مَعْزُولَا وَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ بَلى إِثْبَاتٌ لِمَا بَعْدَ أَنْ وَهُوَ الْبَعْثُ وَقِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ بَلى وَرَبِّي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ يُعَلِّمُهُ الْقَسَمَ تَأْكِيدًا لَمَّا كَانَ يُخْبِرُ عَنِ الْبَعْثِ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْقَسَمِ فِي الْقُرْآنِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أَيْ لَا يَصْرِفُهُ صَارِفٌ، وَقِيلَ: إِنَّ أَمْرَ الْبَعْثِ عَلَى اللَّه يَسِيرٌ، لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ بَعْدَ أَنْ صَارُوا تُرَابًا، فَأَخْبَرَ أَنَّ إِعَادَتَهُمْ أَهْوَنُ فِي الْعُقُولِ مِنْ إِنْشَائِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ. الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: فَكَفَرُوا يَتَضَمَّنُ قَوْلَهُ: وَتَوَلَّوْا فَمَا الْحَاجَةُ إِلَى ذِكْرِهِ؟ نَقُولُ: إِنَّهُمْ كَفَرُوا وَقَالُوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا وَهَذَا فِي مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَالْإِعْرَاضِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ هُوَ التَّوَلِّي، فَكَأَنَّهُمْ كَفَرُوا وَقَالُوا قَوْلًا يَدُلُّ عَلَى التَّوَلِّي، وَلِهَذَا قَالَ: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا.

[سورة التغابن (64) : الآيات 8 إلى 10]

الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ يُوهِمُ وُجُودَ التَّوَلِّي وَالِاسْتِغْنَاءِ مَعًا، واللَّه تَعَالَى لَمْ يَزَلْ غَنِيًّا، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : مَعْنَاهُ أَنَّهُ ظَهَرَ اسْتِغْنَاءُ اللَّه حَيْثُ لَمْ يُلْجِئْهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَضْطَرَّهُمْ إِلَيْهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ. الثَّالِثُ: كَيْفَ يُفِيدُ الْقَسَمُ فِي إِخْبَارِهِ عَنِ الْبَعْثِ وَهُمْ قَدْ أَنْكَرُوا رِسَالَتَهُ. نَقُولُ: إِنَّهُمْ/ وَإِنْ أَنْكَرُوا الرِّسَالَةَ لَكِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ رَبَّهُ اعْتِقَادًا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْقَسَمِ بِرَبِّهِ إِلَّا وَأَنْ يَكُونَ صِدْقُ هَذَا الْإِخْبَارِ أَظْهَرَ مِنَ الشَّمْسِ عِنْدَهُ وَفِي اعْتِقَادِهِ، وَالْفَائِدَةُ فِي الْإِخْبَارِ مَعَ الْقَسَمِ لَيْسَ إِلَّا هَذَا، ثُمَّ إِنَّهُ أَكَّدَ الْخَبَرَ بِاللَّامِ وَالنُّونِ فَكَأَنَّهُ قَسَمٌ بَعْدَ قَسَمٍ. وَلَمَّا بَالَغَ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْبَعْثِ وَالِاعْتِرَافُ بالعبث من لوازم الإيمان قال: [سورة التغابن (64) : الآيات 8 الى 10] فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) قَوْلُهُ: فَآمِنُوا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِلَةً لِمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا نَزَلَ مِنَ الْعُقُوبَةِ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَذَلِكَ لِكُفْرِهِمْ باللَّه وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ قَالَ: فَآمِنُوا أَنْتُمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لِئَلَّا يَنْزِلَ بِكُمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَهُوَ الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ يُهْتَدَى بِهِ فِي الشُّبَهَاتِ كَمَا يُهْتَدَى بِالنُّورِ فِي الظُّلُمَاتِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ النُّورَ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ لِمَا أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الدَّلَالَاتِ الظَّاهِرَةِ عَلَى الْبَعْثِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّهُ عَنَى بِرَسُولِهِ وَالنُّورِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنَ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أَيْ بِمَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ فَرَاقِبُوهُ وَخَافُوهُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ يُرِيدُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَمَعَ فِيهِ أَهْلَ السموات وأهل الأرض، وذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَالتَّغَابُنُ تَفَاعُلُ مِنَ الْغَبْنِ فِي الْمُجَازَاةِ وَالتِّجَارَاتِ، يُقَالُ: غَبَنَهُ يَغْبِنُهُ غَبْنًا إِذَا أَخَذَ الشَّيْءَ مِنْهُ بِدُونِ قِيمَتِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: إِنَّ قَوْمًا فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ وَقَوْمًا فِي الْجَنَّةِ يَتَنَعَّمُونَ، وَقِيلَ: هُوَ يَوْمٌ يَغْبِنُ فِيهِ أَهْلُ الْحَقِّ، أَهْلَ الْبَاطِلِ، وَأَهْلُ الْهُدَى أَهْلَ الضَّلَالَةِ، وَأَهْلُ الْإِيمَانِ. أَهْلَ الْكُفْرِ فَلَا غَبْنَ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا، وَفِي الْجُمْلَةِ فَالْغَبْنُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكَافِرِينَ أَنَّهُمُ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ/ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَاشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ مَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَدَلَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى تِجَارَةٍ رَابِحَةٍ، فَقَالَ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ [الصَّفِّ: 10] الْآيَةَ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْجَنَّةِ فَخَسِرَتْ صَفْقَةُ الْكُفَّارِ وَرَبِحَتْ صَفْقَةُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُؤْمِنُ باللَّه عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَعْمَلُ صَالِحًا أَيْ يَعْمَلُ فِي إِيمَانِهِ صَالِحًا إِلَى أَنْ يَمُوتَ، قُرِئَ يَجْمَعُكُمْ وَيُكَفِّرُ وَيُدْخِلُ بِالْيَاءِ وَالنُّونِ، وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّه تَعَالَى وَبِقُدْرَتِهِ وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أَيْ بِآيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى الْبَعْثِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: قَالَ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ، وَلَمْ يَقُلْ: وَنُورِهِ الَّذِي أَنْزَلْنَا بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ مع أن النور هاهنا هُوَ الْقُرْآنُ وَالْقُرْآنُ كَلَامُهُ وَمُضَافٌ إِلَيْهِ؟ نَقُولُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي النُّورِ بِمَعْنَى الْإِضَافَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَرَسُولِهِ وَنُورِهِ الَّذِي أَنْزَلْنَا.

[سورة التغابن (64) : الآيات 11 إلى 13]

الثَّانِي: بِمَ انْتَصَبَ الظَّرْفُ؟ نَقُولُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: بِقَوْلِهِ: لَتُبْعَثُنَّ وَفِي «الْكَشَّافِ» : بِقَوْلِهِ: لَتُنَبَّؤُنَّ أَوْ بِخَبِيرٍ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْوَعِيدِ. كَأَنَّهُ قِيلَ: واللَّه مُعَاقِبُكُمْ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ أَوْ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ. الثَّالِثُ: قَالَ تَعَالَى فِي الْإِيمَانِ: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَفِي الْكُفْرِ وَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِلَفْظِ الْمَاضِي، فَنَقُولُ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَمَنْ يُؤْمِنُ باللَّه مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ وَمَنْ لَمْ يُؤْمَنْ مِنْهُمْ أولئك أَصْحَابُ النَّارِ. الرَّابِعُ: قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بلفظ الواحد وخالِدِينَ فِيها بِلَفْظِ الْجَمْعِ، نَقُولُ: ذَلِكَ بِحَسَبِ اللَّفْظِ، وَهَذَا بِحَسَبِ الْمَعْنَى. الْخَامِسُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي قَوْلِهِ: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ بَعْدَ قَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها وَذَلِكَ بِئْسَ الْمَصِيرُ فَنَقُولُ: ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ فَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ التَّصْرِيحِ فالتصريح مما يؤكده ثم قال تعالى: [سورة التغابن (64) : الآيات 11 الى 13] مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ بِأَمْرِ اللَّه قَالَهُ الْحَسَنُ، وَقِيلَ: بِتَقْدِيرِ اللَّه وَقَضَائِهِ، وَقِيلَ: بِإِرَادَةِ/ اللَّه تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: بِعِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَهْدِ قَلْبَهُ أَيْ عِنْدِ الْمُصِيبَةِ أَوْ عِنْدَ الْمَوْتِ. أَوِ الْمَرَضِ أَوِ الْفَقْرِ أَوِ الْقَحْطِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنَ اللَّه تَعَالَى فَيُسَلِّمُ لِقَضَاءِ اللَّه تَعَالَى وَيَسْتَرْجِعُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَهْدِ قَلْبَهُ أَيْ لِلتَّسْلِيمِ لِأَمْرِ اللَّه، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ إلى قوله: أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 156، 157] ، قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: يَهْدِ قَلْبَهُ لِلشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلَاءِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا يَهْدِ قَلْبَهُ إِلَى مَا يُحِبُّ وَيَرْضَى وَقُرِئَ نَهْدِ قَلْبَهُ بِالنُّونِ وَعَنْ عِكْرِمَةَ يُهْدَ قَلْبُهُ بِفَتْحِ الدَّالِ وَضَمِّ الْيَاءِ، وَقُرِئَ يَهْدَأُ قَالَ الزَّجَّاجُ: هَدَأَ قَلْبُهُ يَهْدَأُ إِذَا سَكَنَ، وَالْقَلْبُ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَوَجْهُ النَّصْبِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة: 130] . وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَقِيلَ: عَلِيمٌ بِتَصْدِيقِ مَنْ صَدَّقَ رَسُولَهُ فَمَنْ صَدَّقَهُ فقد هدى قلبه: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّه يَعْنِي هَوِّنُوا الْمَصَائِبَ وَالنَّوَازِلَ وَاتَّبِعُوا الْأَوَامِرَ الصَّادِرَةَ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَمِنَ الرَّسُولِ فِيمَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَيْ عَنْ إجابة الرسول فيما دعاكم إليه فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ «1» الظَّاهِرُ وَالْبَيَانُ الْبَائِنُ، وَقَوْلُهُ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ لِحَضْرَةِ اللَّه تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التَّغَابُنِ: 1] فَإِنَّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَنَحْوِهَا: فَهُوَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَيْ لَا مَعْبُودَ إِلَّا هُوَ وَلَا مَقْصُودَ إِلَّا هو عليه التوكل في كل

_ (1) في تفسير الرازي المطبوع فما على الرسول إلا البلاغ وهو خطأ حسب الآية (12) السابقة.

[سورة التغابن (64) : الآيات 14 إلى 16]

بَابٍ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، وَقَوْلُهُ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ بَيَانُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَعْتَمِدُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَلَا يَتَقَوَّى إِلَّا بِهِ لِمَا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْقَادِرَ بِالْحَقِيقَةِ لَيْسَ إِلَّا هُوَ، وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : هَذَا بَعْثٌ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالتَّقَوِّي بِهِ فِي أَمْرِهِ حَتَّى يَنْصُرَهُ عَلَى مَنْ كَذَّبَهُ وَتَوَلَّى عَنْهُ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَتَعَلَّقُ مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ بِمَا قَبْلَهُ وَيَتَّصِلُ بِهِ؟ نَقُولُ: يتعلق بقوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [التغابن: 8] لِمَا أَنَّ مَنْ يُؤْمِنُ باللَّه فَيُصَدِّقُهُ يَعْلَمُ ألا تصيبه مصيبة إلا بإذن اللَّه. ثم قال تعالى: [سورة التغابن (64) : الآيات 14 الى 16] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ الْهِجْرَةَ تَعَلَّقَ بِهِ بَنُوهُ وَزَوْجَتُهُ فَقَالُوا: أَنْتَ تذهب وتذرنا ضائعين فمنهم من يطيع أهل وَيُقِيمُ فَحَذَّرَهُمُ اللَّه طَاعَةَ نِسَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُطِيعُ وَيَقُولُ: أَمَا واللَّه لَوْ لَمْ نُهَاجِرْ وَيَجْمَعِ اللَّه بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ لَا نَنْفَعُكُمْ شَيْئًا أَبَدًا، فَلَمَّا جَمَعَ اللَّه بَيْنَهُمْ أَمَرَهُمْ أَنْ يُنْفِقُوا وَيُحْسِنُوا وَيَتَفَضَّلُوا، وَقَالَ مُسْلِمٌ الْخُرَاسَانِيُّ: نَزَلَتْ فِي عَوْفِ بن مالك الأشجعي كان أهل وَوَلَدُهُ يُثَبِّطُونَهُ عَنِ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا وَأَرَادُوا أَنْ يَأْتُوا الْمَدِينَةَ فَلَمْ يَدَعْهُمْ أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ فَهُوَ قَوْلُهُ: عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ أَنْ تُطِيعُوا وَتَدَعُوا الْهِجْرَةَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا قَالَ هُوَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ هَؤُلَاءِ إِذَا هَاجَرَ وَرَأَى النَّاسَ قَدْ سَبَقُوا بِالْهِجْرَةِ وَفَقِهُوا فِي الدِّينِ هَمَّ أَنْ يُعَاقِبَ زَوْجَتَهُ وَوَلَدَهُ الَّذِينَ مَنَعُوهُ الْهِجْرَةَ وَإِنْ لَحِقُوا بِهِ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُصِبْهُمْ بِخَيْرٍ فَنَزَلَ: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا الْآيَةَ، يَعْنِي أَنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ، يَنْهَوْنَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَيُثَبِّطُونَ عَنْهُ وَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ فَاحْذَرُوهُمْ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْعَدَاوَةَ إِنَّمَا هِيَ لِلْكُفْرِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْإِيمَانِ، وَلَا تَكُونُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمُ الْمُؤْمِنُونَ لَا يَكُونُونَ عَدُوًّا لَهُمْ، وَفِي هَؤُلَاءِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ الذين منعوا عن الهجرة نزل: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لَا تُطِيعُوهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّه تعالى وفتنة أَيْ بَلَاءٌ وَشُغْلٌ عَنِ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: أَعْلَمَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ مِنْ جَمِيعِ مَا يَقَعُ بِهِمْ فِي الْفِتْنَةِ وَهَذَا عَامٌّ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَوْلَادِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَفْتُونٌ بِوَلَدِهِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا عَصَى اللَّه تَعَالَى بِسَبَبِهِ وَبَاشَرَ الْفِعْلَ الْحَرَامَ لِأَجْلِهِ، كَغَصْبِ مَالِ الْغَيْرِ وَغَيْرِهِ: اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ أَيْ جَزِيلٌ، وَهُوَ الْجَنَّةُ أَخْبَرَ أَنَّ عِنْدَهُ أَجْرًا عَظِيمًا لِيَتَحَمَّلُوا الْمَؤُونَةَ الْعَظِيمَةَ، وَالْمَعْنَى لَا تُبَاشِرُوا الْمَعَاصِيَ بِسَبَبِ الْأَوْلَادِ وَلَا تُؤْثِرُوهُمْ عَلَى مَا عِنْدَ اللَّه مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ قَالَ مُقَاتِلٌ: أَيْ مَا أَطَقْتُمْ يَجْتَهِدُ الْمُؤْمِنُ فِي تَقْوَى اللَّه مَا اسْتَطَاعَ، قَالَ قَتَادَةُ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَوْلَهُ تَعَالَى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آلِ عِمْرَانَ: 102] وَمِنْهُمْ مَنْ طَعَنَ فِيهِ وَقَالَ: لَا يَصِحُّ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ لَا يُرَادُ بِهِ الِاتِّقَاءُ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُونَ لِأَنَّهُ فَوْقَ الطاقة والاستطاعة، وقوله: اسْمَعُوا أَيْ للَّه وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَقِيلَ: لِمَا أَمَرَكُمُ اللَّه وَرَسُولُهُ بِهِ وَأَطِيعُوا اللَّه فِيمَا

[سورة التغابن (64) : الآيات 17 إلى 18]

يَأْمُرُكُمْ وَأَنْفِقُوا مِنْ أَمْوَالِكُمْ فِي حَقِّ اللَّه خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ، وَالنَّصْبُ بِقَوْلِهِ: وَأَنْفِقُوا كَأَنَّهُ قِيلَ: وَقَدِّمُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ، وَهُوَ/ كَقَوْلِهِ: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ [النساء: 170] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ الشُّحُّ هُوَ الْبُخْلُ، وَإِنَّهُ يَعُمُّ الْمَالَ وَغَيْرَهُ، يُقَالُ: فُلَانٌ شَحِيحٌ بِالْمَالِ وَشَحِيحٌ بِالْجَاهِ وَشَحِيحٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَقِيلَ: يُوقَ ظُلْمَ نَفْسِهِ فَالشُّحُّ هُوَ الظُّلْمُ، وَمَنْ كَانَ بِمَعْزِلٍ عَنِ الشُّحِّ فَذَلِكَ مِنْ أهل الفلاح فإن قيل: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْوَالَ والأولاد كلها من الأعداء وإِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ دُونَ الْبَعْضِ، فَنَقُولُ: هَذَا فِي حَيِّزِ الْمَنْعِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْبَعْضُ مِنَ الْمَجْمُوعُ الَّذِي مَرَّ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَوْلَادِ يَعْنِي مِنَ الْأَوْلَادِ مَنْ يَمْنَعُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَمْنَعُ، فَيَكُونُ الْبَعْضُ منهم عدوا دون البعض. ثم قال تعالى: [سورة التغابن (64) : الآيات 17 الى 18] إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أَيْ إِنْ تُنْفِقُوا فِي طَاعَةِ اللَّه مُتَقَارِبِينَ إِلَيْهِ يَجْزِكُمْ بِالضِّعْفِ لما أنه شكورا يُحِبُّ الْمُتَقَرِّبِينَ إِلَى حَضْرَتِهِ حَلِيمٌ لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ غَفُورٌ يَغْفِرُ لَكُمْ، وَالْقَرْضُ الْحَسَنُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ هُوَ التَّصَدُّقُ مِنَ الْحَلَالِ، وَقِيلَ: هُوَ التَّصَدُّقُ بِطِيبَةِ نَفْسِهِ، وَالْقَرْضُ هُوَ الَّذِي يُرْجَى مِثْلُهُ وَهُوَ الثَّوَابُ مِثْلُ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّه، وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : ذِكْرُ الْقَرْضِ تَلَطُّفٌ فِي الِاسْتِدْعَاءِ وَقَوْلُهُ: يُضاعِفْهُ لَكُمْ أَيْ يَكْتُبْ لَكُمْ بِالْوَاحِدَةِ عَشَرَةً وَسَبْعَمِائَةٍ إِلَى مَا شَاءَ مِنَ الزِّيَادَةِ وَقُرِئَ (يُضْعِفْهُ) شَكُورٌ مُجَازٍ أَيْ يَفْعَلُ بِكُمْ مَا يَفْعَلُ الْمُبَالِغُ فِي الشُّكْرِ مِنْ عَظِيمِ الثَّوَابِ وَكَذَلِكَ حَلِيمٌ يَفْعَلُ بِكُمْ مَا يَفْعَلُ مَنْ يَحْلُمُ عَنِ الْمُسِيءِ فَلَا يعاجلكم بالعذاب مع كثرة ذنوبكم، ثم لقاتل أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الْأَفْعَالُ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، واللَّه تَعَالَى ذَكَرَ الْعِلْمَ دُونَ الْقُدْرَةِ فَقَالَ: عالِمُ الْغَيْبِ، فَنَقُولُ قَوْلُهُ: الْعَزِيزُ يَدُلُّ على القدرة من عز إذا غلب والْحَكِيمُ عَلَى الْحِكْمَةِ، وَقِيلَ: الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَالْحَكِيمُ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ الْخَطَأُ فِي التَّدْبِيرِ، واللَّه تَعَالَى كَذَلِكَ فَيَكُونُ عَالِمًا قَادِرًا حَكِيمًا جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَعَظُمَ كِبْرِيَاؤُهُ، واللَّه أَعْلَمُ بالصوبا، وَالْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وسلم تسليما كثيرا.

سورة الطلاق

بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم سورة الطلاق اثنتا عشرة آية مدنية [سورة الطلاق (65) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أَمَّا التَّعَلُّقُ بِمَا قَبْلَهَا فَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ تِلْكَ السُّورَةِ: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التَّغَابُنِ: 1] وَالْمُلْكُ يَفْتَقِرُ إِلَى التَّصَرُّفِ عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ مِنْهُ نِظَامُ الْمُلْكِ، وَالْحَمْدُ يَفْتَقِرُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ بِطَرِيقِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ فِي حَقِّ الْمُتَصَرِّفِ فِيهِ وَبِالْقُدْرَةِ عَلَى مَنْ يَمْنَعُهُ عَنِ التَّصَرُّفِ وَتَقْرِيرُ الْأَحْكَامِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُتَضَمِّنٌ لِهَذِهِ الْأُمُورِ الْمُفْتَقَرَةِ إِلَيْهَا تَضَمُّنًا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى التَّأَمُّلِ فِيهِ، فَيَكُونُ لِهَذِهِ السُّورَةِ نِسْبَةً إِلَى تِلْكَ السُّورَةِ وَأَمَّا الْأَوَّلُ بِالْآخِرِ فَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَشَارَ فِي آخِرِ تِلْكَ السُّورَةِ إِلَى كَمَالِ عِلْمِهِ بِقَوْلِهِ: عالِمُ الْغَيْبِ [التَّغَابُنِ: 18] وَفِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إلى كمال علمه بمصالح النساء وبالأحكام الْمَخْصُوصَةِ بِطَلَاقِهِنَّ، فَكَأَنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ الْكُلِّيَّ بِهَذِهِ الجزئيات، وقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ حَفْصَةَ فَأَتَتْ إِلَى أَهْلِهَا فَنَزَلَتْ، وَقِيلَ: رَاجَعَهَا فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ وَعَلَى هَذَا إِنَّمَا نَزَلَتِ الْآيَةُ بِسَبَبِ خُرُوجِهَا إِلَى أَهْلِهَا لَمَّا طَلَّقَهَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّه فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَلا يَخْرُجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَضِبَ عَلَى حَفْصَةَ لَمَّا أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَأَظْهَرَتْهُ لِعَائِشَةَ فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً فَنَزَلَتْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا وَالْقِصَّةُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ رِجَالًا فَعَلُوا مِثْلَ مَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ، وَهُمْ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ فَنَزَلَتْ فيهم، وفي قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَادَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ خَاطَبَ أُمَّتَهُ لِمَا أَنَّهُ سَيِّدُهُمْ وَقُدْوَتُهُمْ، فَإِذَا خُوطِبَ خِطَابَ الْجَمْعِ كَانَتْ أُمَّتُهُ دَاخِلَةً فِي ذَلِكَ الْخِطَابِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: هَذَا خِطَابُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمُؤْمِنُونَ دَاخِلُونَ مَعَهُ فِي الْخِطَابِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمَعْنَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لَهُمْ: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَأَضْمَرَ الْقَوْلَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: خَاطَبَهُ وَجَعَلَ الْحُكْمَ لِلْجَمِيعِ، كَمَا تقول للرجل: ويحكم أما تتقون اللَّه أما تستحيون، تذهيب إليه وإلى أهل بيته وإِذا طَلَّقْتُمُ أَيْ إِذَا أَرَدْتُمُ التَّطْلِيقَ، كَقَوْلِهِ: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [الْمَائِدَةِ: 6] أَيْ إِذَا أَرَدْتُمُ/ الصَّلَاةَ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ قَالَ عَبْدُ اللَّه: إِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ، فَيُطَلِّقُهَا طَاهِرًا مِنْ

غَيْرِ جِمَاعٍ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَمُقَاتِلٍ وَالْحَسَنِ، قَالُوا: أَمَرَ اللَّه تَعَالَى الزَّوْجَ بِتَطْلِيقِ امْرَأَتِهِ إِذَا شَاءَ الطَّلَاقَ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِعِدَّتِهِنَّ أَيْ لِزَمَانِ عِدَّتِهِنَّ، وَهُوَ الطُّهْرُ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَقِيلَ: لِإِظْهَارِ عِدَّتِهِنَّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: الطَّلَاقُ لِلْعِدَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرَةً مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، وَبِالْجُمْلَةِ، فَالطَّلَاقُ فِي حَالِ الطُّهْرِ لَازِمٌ، وَإِلَّا لَا يَكُونُ الطَّلَاقُ سُنِّيًّا، وَالطَّلَاقُ فِي السُّنَّةِ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْبَالِغَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا غَيْرِ الآيسة والحامل، إذ لا سنة في الصغير وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَالْآيِسَةِ وَالْحَامِلِ، وَلَا بِدْعَةَ أَيْضًا لِعَدَمِ الْعِدَّةِ بِالْأَقْرَاءِ، وَلَيْسَ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ سُنَّةٌ وَبِدْعَةٌ، عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ صَحِيحٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا بِدْعِيًّا بِخِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: السُّنَّةُ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ أَنْ يُطَلِّقَ كُلَّ طَلْقَةٍ فِي طُهْرٍ صَحِيحٍ. وَقَالَ صَاحِبُ «النَّظْمِ» : فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ صِفَةٌ لِلطَّلَاقِ كَيْفَ يَكُونُ، وَهَذِهِ اللَّامُ تَجِيءُ لِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ لِلْإِضَافَةِ وَهِيَ أَصْلُهَا، وَلِبَيَانِ السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الْإِنْسَانِ: 9] وَبِمَنْزِلَةِ عِنْدَ مِثْلَ قَوْلِهِ: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاءِ: 78] أَيْ عِنْدَهُ، وَبِمَنْزِلَةِ فِي مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [الْحَشْرِ: 2] وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى فَطَلِّقُوهُنَّ فِي عِدَّتِهِنَّ، أَيْ فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَصْلُحُ لِعِدَّتِهِنَّ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فَطَلِّقُوهُنَّ مُسْتَقْبِلَاتٍ لِعِدَّتِهِنَّ كَقَوْلِهِ: أَتَيْتُهُ لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنَ الْمُحَرَّمِ أَيْ مُسْتَقْبِلًا لَهَا، وَفِي قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مِنْ قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ) فَإِذَا طُلِّقَتِ الْمَرْأَةُ فِي الطُّهْرِ الْمُتَقَدِّمِ لِلْقُرْءِ الْأَوَّلِ مِنْ أَقْرَائِهَا فَقَدْ طُلِّقَتْ مُسْتَقْبِلَةً الْعِدَّةَ، المراد أن يطلقن فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامَعْنَ فِيهِ، يُخَلَّيْنَ إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتَهُنَّ، وَهَذَا أَحْسَنُ الطَّلَاقِ وَأَدْخَلُهُ فِي السُّنَّةِ وَأَبْعَدُهُ مِنَ النَّدَمِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ «1» أَنْ لَا يُطَلِّقُوا أَزْوَاجَهُمْ لِلسُّنَّةِ إِلَّا وَاحِدَةً ثُمَّ لَا يُطَلِّقُوا غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تنقضي العدة وكان أحسن «2» عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: لَا أَعْرِفُ طَلَاقًا إِلَّا وَاحِدَةً، وَكَانَ يَكْرَهُ الثَّلَاثَ مَجْمُوعَةً كَانَتْ أَوْ مُتَفَرِّقَةً، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فَإِنَّمَا كَرِهُوا مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدَةِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِابْنِ عُمَرَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ: مَا هَكَذَا أَمَرَكَ اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا وَتُطَلِّقَهَا لِكُلِّ قُرْءٍ تَطْلِيقَةً وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا بَأْسَ بِإِرْسَالِ الثَّلَاثِ، وَقَالَ: لَا أَعْرِفُ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ سُنَّةً وَلَا بِدْعَةً وَهُوَ مُبَاحٌ فَمَالِكٌ يُرَاعِي فِي طَلَاقِ السُّنَّةِ الْوَاحِدَةَ وَالْوَقْتَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُرَاعِي التَّفْرِيقَ وَالْوَقْتَ، وَالشَّافِعِيُّ يُرَاعِي الْوَقْتَ وَحْدَهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أَيْ أَقَرَاءَهَا فَاحْتَفِظُوا لَهَا وَاحْفَظُوا الْحُقُوقَ وَالْأَحْكَامَ الَّتِي تَجِبُ فِي الْعِدَّةِ وَاحْفَظُوا نَفْسَ مَا تَعْتَدُّونَ بِهِ وَهُوَ عَدَدُ الْحَيْضِ، ثُمَّ جَعْلُ الْإِحْصَاءِ إِلَى الْأَزْوَاجِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يلزمهم الحقوق والمؤمن وثانيهما: ليقع/ تحصن الْأَوْلَادِ فِي الْعِدَّةِ، ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي إِطْلَاقِ السُّنَّةِ وَإِطْلَاقِ الْبِدْعَةِ؟ نَقُولُ: إِنَّمَا سُمِّيَ بِدْعَةً لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ حَائِضًا لَمْ تَعْتَدَّ بِأَيَّامِ حَيْضِهَا عَنْ عِدَّتِهَا بَلْ تَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ فَتَطُولُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا حَتَّى تَصِيرَ كَأَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَقْرَاءٍ وَهِيَ فِي الْحَيْضِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ فِي صُورَةِ الْمُعَلَّقَةِ الَّتِي لَا هِيَ مُعْتَدَّةٌ وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ وَالْعُقُولُ تَسْتَقْبِحُ الْإِضْرَارَ، وَإِذَا كَانَتْ طَاهِرَةً مُجَامَعَةً لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ قَدْ عَلَقَتْ مِنْ ذَلِكَ الْجَمْعِ بِوَلَدٍ وَلَوْ عَلِمَ الزَّوْجُ لَمْ يُطَلِّقْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَرْغَبُ في

_ (1) في مطبوع التفسير الكبير للرازي (يستحيون) والمثبت من الكشاف للزمخشري (4/ 118. ط. دار الفكر) . (2) في مطبوع التفسير الكبير للرازي (وما كان أخس) والمثبت من المرجع السابق.

طَلَاقِ امْرَأَتِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ وَلَا يَرْغَبُ فِي ذَلِكَ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْهُ بِوَلَدٍ، فَإِذَا طَلَّقَهَا وَهِيَ مُجَامَعَةٌ وَعِنْدَهُ أَنَّهَا حَائِلٌ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ ثُمَّ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ نَدِمَ عَلَى طَلَاقِهَا فَفِي طَلَاقِهِ إِيَّاهَا فِي الْحَيْضِ سُوءُ نَظَرٍ لِلْمَرْأَةِ، وَفِي الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ وَقَدْ حَمَلَتْ فِيهِ سُوءُ نَظَرٍ لِلزَّوْجِ، فَإِذَا طُلِّقَتْ وَهِيَ طَاهِرٌ غَيْرُ مُجَامَعَةٍ أُمِنَ هَذَانِ الْأَمْرَانِ، لِأَنَّهَا تَعْتَدُّ عَقِبَ طَلَاقِهِ إِيَّاهَا، فَتَجْرِي فِي الثَّلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَالرَّجُلُ أَيْضًا فِي الظَّاهِرِ عَلَى أَمَانٍ مِنِ اشْتِمَالِهَا عَلَى وَلَدٍ مِنْهُ. الثَّانِي: هَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ الْمُخَالِفُ لِلسُّنَّةِ؟ نَقُولُ: نَعَمْ، وَهُوَ آثِمٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثلاثا بين يديه، فقال له: «أو تلعبون بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ» . الثَّالِثُ: كَيْفَ تُطَلَّقُ لِلسُّنَّةِ الَّتِي لَا تَحِيضُ لِصِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؟ نَقُولُ: الصَّغِيرَةُ وَالْآيِسَةُ وَالْحَامِلُ كُلُّهُنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يُفَرَّقُ عَلَيْهِنَّ الثَّلَاثُ فِي الْأَشْهُرِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: لَا يُطَلِّقُ لِلسُّنَّةِ إِلَّا وَاحِدَةً، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا فَلَا تَطْلُقُ لِلسُّنَّةِ إِلَّا وَاحِدَةً، وَلَا يُرَاعَى الْوَقْتُ. الرَّابِعُ: هَلْ يُكْرَهُ أَنْ تُطَلَّقَ الْمَدْخُولُ بِهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً؟ نَقُولُ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِيهِ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَالظَّاهِرُ الْكَرَاهَةُ. الْخَامِسُ: إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْمَدْخُولَ بِهِنَّ، وَغَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، وَالْآيِسَاتِ وَالصِّغَارَ وَالْحَوَامِلَ، فَكَيْفَ يَصِحُّ تَخْصِيصُهُ بِذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، وَالْمَدْخُولِ بِهِنَّ؟ نَقُولُ: لَا عُمُومَ ثَمَّةَ وَلَا خُصُوصَ أَيْضًا، لَكِنَّ النِّسَاءَ اسْمُ جِنْسٍ لِلْإِنَاثِ مِنَ الْإِنْسِ، وَهَذِهِ الْجِنْسِيَّةُ مَعْنًى قَائِمٌ فِي كُلِّهِنَّ، وَفِي بِعَضِّهِنَّ، فَجَازَ أَنْ يُرَادَ بِالنِّسَاءِ هَذَا وَذَاكَ فَلَمَّا قِيلَ: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ عام أَنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى بَعْضِهِنَّ، وَهُنَّ الْمَدْخُولُ بِهِنَّ مِنَ الْمُعْتَدَّاتِ بِالْحَيْضِ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» :. [في قوله تعالى وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ إلى قوله يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً. قوله: اتَّقُوا اللَّهَ قَالَ مُقَاتِلٌ: اخْشَوُا اللَّه فَلَا تَعْصُوهُ فيما أمركم ولا تُخْرِجُوهُنَّ أَيْ لَا تُخْرِجُوا الْمُعْتَدَّاتِ مِنَ الْمَسَاكِنِ الَّتِي كُنْتُمْ تُسَاكِنُونَهُنَّ فِيهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمَسَاكِنُ عَارِيَةً فَارْتُجِعَتْ كَانَ عَلَى الْأَزْوَاجِ أَنْ يُعَيِّنُوا مَسَاكِنَ أُخْرَى بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ، أَوْ بِطَرِيقِ الْكِرَاءِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَعَلَى الزَّوْجَاتِ أيضا أن لا يخرجن حقا اللَّه تَعَالَى إِلَّا لِضَرُورَةٍ ظَاهِرَةٍ، فَإِنْ خَرَجَتْ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا كَانَ ذَلِكَ الْخُرُوجُ حَرَامًا، وَلَا تَنْقَطِعُ الْعِدَّةُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَنْ يَزْنِينَ فَيَخْرُجْنَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِنَّ، قَالَ الضَّحَّاكُ الأكثرون: فَالْفَاحِشَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ هِيَ الزِّنَا، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْفَاحِشَةُ خُرُوجُهُنَّ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، قَالَ السُّدِّيُّ وَالْبَاقُونَ: الْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ هِيَ الْعِصْيَانُ الْمُبِينُ، وَهُوَ النُّشُوزُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِلَّا أَنْ يَبْذُونَ فَيَحِلُّ إِخْرَاجُهُنَّ لِبَذَائِهِنَّ وَسُوءِ خُلُقِهِنَّ، فَيَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ إِخْرَاجُهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، وَفِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: هَلْ لِلزَّوْجَيْنِ التَّرَاضِي عَلَى إِسْقَاطِهَا؟ نَقُولُ: السُّكْنَى الْوَاجِبَةُ فِي حَالِ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ حَقٌّ لِلْمَرْأَةِ وَحْدَهَا فَلَهَا إِبْطَالُهَا، وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ الزَّوْجَيْنِ مَا دَامَا ثَابِتَيْنِ عَلَى النِّكَاحِ فَإِنَّمَا مَقْصُودُهُمَا الْمُعَاشَرَةُ

[سورة الطلاق (65) : الآيات 2 إلى 3]

وَالِاسْتِمْتَاعُ، ثُمَّ لَا بُدَّ فِي تَمَامِ ذَلِكَ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُسْتَعِدَّةً لَهُ لِأَوْقَاتِ حَاجَتِهِ إِلَيْهَا، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَنَّهُ يَكْفِيهَا فِي نَفَقَتِهَا، كَطَعَامِهَا وَشَرَابِهَا وَأُدْمِهَا وَلِبَاسِهَا وَسُكْنَاهَا، وَهَذِهِ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي إِحْصَاءِ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يَتِمُّ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ، ثُمَّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ حَقِّ صِيَانَةِ الْمَاءِ وَنَحْوِهَا، فَإِنْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ زَالَ الْأَصْلُ الَّذِي هُوَ الِانْتِفَاعُ وَزَوَالُهُ بِزَوَالِ الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَيْهَا، وَاحْتِيجَ إِلَى صِيَانَةِ الْمَاءِ فَصَارَتِ السُّكْنَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِوُجُوبِهَا الْإِحْصَاءَ لِأَسْبَابِهَا، لِأَنَّ أَصْلَهَا السُّكْنَى، لِأَنَّ بِهَا تَحْصِينَهَا، فَصَارَتِ السُّكْنَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِالزَّوْجِ، وَصِيَانَةُ الْمَاءِ مِنْ حُقُوقِ اللَّه، وَمِمَّا لَا يَجُوزُ التَّرَاضِي مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى إِسْقَاطِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا الْخُرُوجُ، وَإِنْ رَضِيَ الزَّوْجُ، وَلَا إِخْرَاجُهَا، وَإِنْ رَضِيَتْ إِلَّا عَنْ ضَرُورَةٍ مِثْلَ انْهِدَامِ الْمَنْزِلِ، وَإِخْرَاجِ غَاصِبٍ إِيَّاهَا أَوْ نُقْلَةٍ مِنْ دَارٍ بِكِرَاءٍ قَدِ انْقَضَتْ إِجَارَتُهَا أَوْ خَوْفِ فِتْنَةٍ أَوْ سَيْلٍ أَوْ حَرِيقٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ، فَإِذَا انْقَضَى مَا أُخْرِجَتْ لَهُ رَجَعَتْ إِلَى مَوْضِعِهَا حَيْثُ كَانَ الثَّانِي: قَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ وَلَمْ يَقُلْ: وَاتَّقُوا اللَّه مَقْصُورًا عَلَيْهِ فَنَقُولُ: فِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا لَيْسَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ لَفْظَ الرَّبِّ يُنَبِّهُهُمْ عَلَى أَنَّ التَّرْبِيَةَ الَّتِي هِيَ الْإِنْعَامُ وَالْإِكْرَامُ بِوُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ غَايَةُ التَّعْدَادِ فَيُبَالِغُونَ فِي التَّقْوَى حِينَئِذٍ خَوْفًا مِنْ فَوْتِ تِلْكَ التربية الثالث: مَا مَعْنَى الْجَمْعِ بَيْنَ إِخْرَاجِهِمْ وَخُرُوجِهِنَّ؟ نَقُولُ: مَعْنَى الْإِخْرَاجِ أَنْ لَا يُخْرِجَهُنَّ/ الْبُعُولَةُ غَضَبًا عَلَيْهِنَّ وَكَرَاهَةً لِمُسَاكَنَتِهِنَّ أَوْ لِحَاجَةٍ لَهُمْ إِلَى المساكن وأن لا تأذنوا لَهُنَّ فِي الْخُرُوجِ إِذَا طَلَبْنَ ذَلِكَ، إِيذَانًا بِأَنَّ إِذْنَهُمْ لَا أَثَرَ لَهُ فِي رَفْعِ الْحَظْرِ، وَلَا يَخْرُجْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ إِنْ أَرَدْنَ ذَلِكَ. الرابع: قرئ: بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ومبينة فَمَنْ قَرَأَ مُبَيِّنَةٍ بِالْخَفْضِ فَمَعْنَاهُ: أَنَّ نَفْسَ الْفَاحِشَةِ إِذَا تَفَكَّرَ فِيهَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا فَاحِشَةٌ، وَمَنْ قَرَأَ مُبَيَّنَةٍ بِالْفَتْحِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا مُبَرْهَنَةٌ بالبراهين، ومبينة بالحج، وَقَوْلُهُ: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَالْحُدُودُ هِيَ الْمَوَانِعُ عَنِ الْمُجَاوَزَةِ نَحْوَ النَّوَاهِي، وَالْحَدُّ فِي الْحَقِيقَةِ هي النِّهَايَةُ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا الشَّيْءُ، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعُودُ مَا ذُكِرَ مِنْ طَلَاقِ السُّنَّةِ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ وَهَذَا تَشْدِيدٌ فِيمَنْ يَتَعَدَّى طَلَاقَ السُّنَّةِ، وَمَنْ يُطَلِّقُ لِغَيْرِ الْعِدَّةِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أَيْ ضَرَّ نَفْسَهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَمَنْ يَتَجَاوَزِ الْحَدَّ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّه تَعَالَى فَقَدْ وَضَعَ نَفْسَهُ مَوْضِعًا لَمْ يَضَعْهُ فِيهِ رَبُّهُ، وَالظُّلْمُ هُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ النَّدَمَ عَلَى طَلَاقِهَا وَالْمَحَبَّةَ لَرَجْعَتِهَا فِي الْعِدَّةِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي التَّطْلِيقِ أَنْ يُوقَعَ مُتَفَرِّقًا، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: إِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَلَا مَعْنَى فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً. ثم قال تعالى: [سورة الطلاق (65) : الآيات 2 الى 3] فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أَيْ قَارَبْنَ انْقِضَاءَ أَجَلِ الْعِدَّةِ لَا انْقِضَاءَ أَجَلِهِنَّ، وَالْمُرَادُ مِنْ بُلُوغِ الْأَجَلِ هُنَا مُقَارَبَةُ الْبُلُوغِ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هُوَ آخِرُ العدة وشارفته «1» ، فأنتم بالخيار إن شئتم فالرجعة

_ (1) في مطبوع التفسير الكبير للرازي (ومشارفته) والمثبت من الكشاف للزمخشري (4/ 119. ط. دار الفكر) .

وَالْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَتَرْكُ الرَّجْعَةِ وَالْمُفَارَقَةُ، واتقاء «1» الضِّرَارِ/ وَهُوَ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي آخِرِ الْعِدَّةِ، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا تَطْوِيلًا لِلْعِدَّةِ وَتَعْذِيبًا لَهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أَيْ أُمِرُوا أَنْ يُشْهِدُوا عِنْدَ الطَّلَاقِ وَعِنْدَ الرَّجْعَةِ ذَوَيْ عَدْلٍ، وَهَذَا الْإِشْهَادُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ [الْبَقَرَةِ: 282] وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ وَاجِبٌ فِي الرَّجْعَةِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فِي الْفُرْقَةِ، وَقِيلَ: فَائِدَةُ الْإِشْهَادِ أَنْ لَا يَقَعَ بَيْنَهُمَا التَّجَاحُدُ، وَأَنْ لَا يُتَّهَمَ فِي إِمْسَاكِهَا وَلِئَلَّا يَمُوتَ أَحَدُهُمَا فَيَدَّعِيَ الْبَاقِي ثُبُوتَ الزَّوْجِيَّةِ لِيَرِثَ، وَقِيلَ: الْإِشْهَادُ إِنَّمَا أُمِرُوا بِهِ لِلِاحْتِيَاطِ مَخَافَةَ أَنْ تُنْكِرَ الْمَرْأَةُ الْمُرَاجَعَةَ فَتَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَتَنْكِحَ زَوْجًا. ثُمَّ خَاطَبَ الشُّهَدَاءَ فَقَالَ: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ وَهَذَا أَيْضًا مَرَّ تَفْسِيرُهُ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً قَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ يُطَلِّقْ لِلْعِدَّةِ يَجْعَلِ اللَّه لَهُ سَبِيلًا إِلَى الرَّجْعَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَخْرَجًا مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ضَاقَ عَلَى النَّاسِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَمَنْ يَصْبِرْ عَلَى الْمُصِيبَةِ يَجْعَلِ اللَّه لَهُ مَخْرَجًا مِنَ النَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَرَأَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَخْرَجًا مِنْ شُبُهَاتِ الدُّنْيَا وَمِنْ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ، وَمِنْ شَدَائِدِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: أُنْزِلَ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ فِي عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ أَسَرَ الْعَدُوُّ ابْنًا لَهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ وَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ فَقَالَ لَهُ: «اتَّقِ اللَّه وَاصْبِرْ وَأَكْثِرْ مِنْ قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّه» فَفَعَلَ الرَّجُلُ ذَلِكَ فَبَيْنَمَا هُوَ فِي بَيْتِهِ إِذْ أَتَاهُ ابْنُهُ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْهُ الْعَدُوُّ، فَأَصَابَ إِبِلًا وَجَاءَ بِهَا إِلَى أَبِيهِ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فَبَيْنَا هُوَ فِي بَيْتِهِ، إِذْ قَرَعَ ابْنُهُ الْبَابَ وَمَعَهُ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ غَفَلَ عَنْهَا الْعَدُوُّ فَاسْتَاقَهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَيَجُوزُ أَنَّهُ إِنِ اتَّقَى اللَّه وَآثَرَ الْحَلَالَ وَالصَّبْرَ عَلَى أَهْلِهِ فَتَحَ اللَّه عَلَيْهِ إِنْ كَانَ ذَا ضِيقٍ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ إِجْرَاءِ أَمْرِ الطَّلَاقِ عَلَى السُّنَّةِ كَمَا مَرَّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أَيْ مَنْ وَثِقَ بِهِ فِيمَا نَالَهُ كَفَاهُ اللَّه مَا أَهَمَّهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه» وَقُرِئَ: إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ بِالْإِضَافَةِ وبالِغُ أَمْرِهِ أَيْ نَافِذٌ أَمْرَهُ، وَقَرَأَ الْمُفَضَّلُ بَالِغًا أَمْرَهُ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ قَدْ جَعَلَ خبر إِنَّ، وبالغا حَالٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ فِي جَمِيعِ خَلْقِهِ وَالْمَعْنَى سَيُبْلِغُ اللَّه أَمْرَهُ فِيمَا يُرِيدُ منكم وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً أَيْ تَقْدِيرًا وَتَوْقِيتًا، وَهَذَا بَيَانٌ لِوُجُوبِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ أَجَلٌ يَنْتَهِي إِلَيْهِ قَدَّرَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يُقَدَّمُ وَلَا يُؤَخَّرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ قَدَّرْتُ مَا خَلَقْتُ بِمَشِيئَتِي، وَقَوْلُهُ: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ إِلَى قَوْلِهِ: مَخْرَجاً آيَةٌ وَمِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ: قَدْراً آيَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّ وَالْمَدَنِيِّ الْمَجْمُوعُ آيَةٌ وَاحِدَةٌ ثُمَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ التَّقْوَى فِي رِعَايَةِ أَحْوَالِ النِّسَاءِ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى الْمَالِ، فَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النُّورِ: 32] فَإِنْ قِيلَ: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ لِلْكَسْبِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: / فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الْجُمُعَةِ: 10] يَدُلُّ عَلَى الِاحْتِيَاجِ فَكَيْفَ هُوَ؟ نَقُولُ: لَا يَدُلُّ عَلَى الِاحْتِيَاجِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ لِلْإِبَاحَةِ كَمَا مَرَّ وَالْإِبَاحَةُ مِمَّا يُنَافِي الِاحْتِيَاجَ إِلَى الْكَسْبِ لِمَا أن الاحتياج مناف للتخيير. ثم قال تعالى:

_ (1) في مطبوع التفسير الكبير للرازي (وإبقاء) والمثبت من المرجع السابق.

[سورة الطلاق (65) : الآيات 4 إلى 5]

[سورة الطلاق (65) : الآيات 4 الى 5] وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) قَوْلُهُ: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ الْآيَةَ، ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِدَّةَ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَذَكَرَ عِدَّةَ سَائِرِ النِّسْوَةِ اللَّائِي لَمْ يُذْكَرْنَ هُنَاكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَرَفْنَا عِدَّةَ الَّتِي تَحِيضُ، فَمَا عِدَّةُ الَّتِي لَمْ تَحِضْ فَنَزَلَ: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ وَقَوْلُهُ: إِنِ ارْتَبْتُمْ أي إن أشكل عليكم حكمهن «1» فِي عِدَّةِ الَّتِي لَا تَحِيضُ، فَهَذَا حُكْمُهُنَّ، وَقِيلَ: إِنِ ارْتَبْتُمْ فِي دَمِ «2» الْبَالِغَاتِ مَبْلَغَ الْإِيَاسِ وَقَدْ قَدَّرُوهُ بِسِتِّينَ سَنَةً وَبِخَمْسٍ وَخَمْسِينَ أَهُوَ دَمُ حَيْضٍ أَوِ اسْتِحَاضَةٍ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا عِدَّةُ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ؟ فَنَزَلَ: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ أَيْ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْكَبِيرَةِ الَّتِي قَدْ يَئِسَتْ عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، فَقَامَ آخَرُ وَقَالَ، وَمَا عِدَّةُ الْحَوَامِلِ يَا رَسُولَ اللَّه؟ فَنَزَلَ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ مَعْنَاهُ أَجَلُهُنَّ فِي انْقِطَاعِ مَا بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْأَزْوَاجِ وَضْعُ الْحَمْلِ، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ حَامِلٍ، وَكَانَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْتَبِرُ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ، وَيَقُولُ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 234] لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي قَوْلِهِ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أُولَاتِ الْأَحْمَالِ إِنَّمَا هُوَ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَهِيَ لَا تَنْقُضُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ إِذَا كَانَتْ بِالْحَيْضِ، وَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ عِدَّةُ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ. وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ مُبْتَدَأَ خِطَابٍ لَيْسَ بِمَعْطُوفٍ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ وَلَمَّا كَانَ مُبْتَدَأً يَتَنَاوَلُ الْعِدَدَ كُلَّهَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ خبر سبيعة بنت الحرث أَنَّهَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَتَزَوَّجَ، فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ النِّكَاحِ/ قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ وَضَعَتْ أَحَدَ الْوَلَدَيْنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَلَمْ يَقُلْ: أَحْمَالَهُنَّ، لَكِنْ لَا يَصِحُّ، وَقُرِئَ (أَحْمَالَهُنَّ) ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً أَيْ يُيَسِّرِ اللَّه عَلَيْهِ فِي أَمْرِهِ، وَيُوَفِّقْهُ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يُسَهِّلُ اللَّه عَلَيْهِ أَمْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ: ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ يَعْنِي الَّذِي ذُكِرَ مِنَ الْأَحْكَامِ أَمْرُ اللَّه أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ بِطَاعَتِهِ، وَيَعْمَلْ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَمِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَيُعْظِمْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ أَجْرًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَإِنْ قِيلَ قَالَ تَعَالَى: أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَلَمْ يَقُلْ: أَنْ يَلِدْنَ، نَقُولُ: الْحَمْلُ اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا فِي بَطْنِهِنَّ، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَهُ، لَكَانَتْ عِدَّتُهُنَّ بِوَضْعِ بَعْضِ حَمْلِهِنَّ، وَلَيْسَ كذلك. ثم قال تعالى: [سورة الطلاق (65) : الآيات 6 الى 7] أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)

_ (1) في مطبوع التفسير الكبير للرازي (حملهن) والمثبت من الكشاف للرازي (4/ 121 ط. دار الفكر) . (2) في مطبوع التفسير الكبير للرازي (في البالغات) والمثبت من المرجع السابق.

قَوْلُهُ تَعَالَى: أَسْكِنُوهُنَّ وَمَا بَعْدَهُ بَيَانٌ لِمَا شَرَطَ مِنَ التَّقْوَى فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ [الطلاق: 4] كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ نَعْمَلُ بِالتَّقْوَى فِي شَأْنِ الْمُعْتَدَّاتِ، فَقِيلَ: أَسْكِنُوهُنَّ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : (مَنْ) صِلَةٌ، وَالْمَعْنَى أَسْكِنُوهُنَّ حَيْثُ سَكَنْتُمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مِنْ وُجْدِكُمْ أَيْ وُسْعِكُمْ وَسَعَتِكُمْ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: عَلَى قَدْرِ طَاقَتِكُمْ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يقال وجدت فيء الْمَالِ وُجْدًا، أَيْ صِرْتُ ذَا مَالٍ، وَقُرِئَ بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْضًا وَبِخَفْضِهَا، وَالْوُجْدُ الْوُسْعُ وَالطَّاقَةُ، وَقَوْلُهُ: وَلا تُضآرُّوهُنَّ نَهْيٌ عَنْ مُضَارَّتِهِنَّ بِالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِنَّ فِي السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ/ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَهَذَا بَيَانُ حُكْمِ الْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنَةِ، لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَامِلًا، وَإِنْ كَانَتْ مطلقة ثلاثا أو مختلفة فَلَا نَفَقَةَ لَهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، لَيْسَ لِلْمَبْتُوتَةِ إِلَّا السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَعَنِ الْحَسَنِ وَحَمَّادٍ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى، لِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ زَوْجَهَا بَتَّ طَلَاقَهَا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا سُكْنَى لَكِ وَلَا نَفَقَةَ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يَعْنِي حَقَّ الرَّضَاعِ وَأُجْرَتَهُ وَقَدْ مَرَّ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّبَنَ وَإِنْ خُلِقَ لِمَكَانِ الْوَلَدِ فَهُوَ مِلْكٌ لَهَا وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ الْأَجْرَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَقَّ الرَّضَاعِ وَالنَّفَقَةِ عَلَى الْأَزْوَاجِ فِي حَقِّ الْأَوْلَادِ وَحَقَّ الْإِمْسَاكِ وَالْحَضَانَةِ وَالْكَفَالَةِ عَلَى الزَّوْجَاتِ وَإِلَّا لَكَانَ لَهَا بَعْضُ الْأَجْرِ دُونَ الْكُلِّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ بِفَضْلٍ مَعْرُوفًا مِنْكَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بِتَرَاضِي الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: لِيَأْمُرْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِالْمَعْرُوفِ، وَالْخِطَابُ لِلْأَزْوَاجِ من النساء والرجال، والمعروف هاهنا أَنْ لَا يُقَصِّرَ الرَّجُلُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ وَنَفَقَتِهَا وَلَا هِيَ فِي حَقِّ الْوَلَدِ وَرَضَاعِهِ وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ الِائْتِمَارِ، وَقِيلَ: الِائْتِمَارُ التَّشَاوُرُ فِي إِرْضَاعِهِ إِذَا تَعَاسَرَتْ هِيَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ أَيْ فِي الْأُجْرَةِ: فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى غَيْرَ الْأُمِّ، ثُمَّ بَيَّنَ قَدْرَ الْإِنْفَاقِ بِقَوْلِهِ: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ أَمَرَ أَهْلَ التَّوْسِعَةِ أَنْ يُوَسِّعُوا عَلَى نِسَائِهِمُ الْمُرْضِعَاتِ عَلَى قَدْرِ سَعَتِهِمْ وَمَنْ كَانَ رِزْقُهُ بِمِقْدَارِ الْقُوتِ فَلْيُنْفِقْ عَلَى مِقْدَارِ ذَلِكَ، وَنَظِيرُهُ: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [الْبَقَرَةِ: 236] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا أَيْ مَا أَعْطَاهَا مِنَ الرِّزْقِ، قَالَ السُّدِّيُّ: لَا يُكَلَّفُ الْفَقِيرُ مِثْلَ مَا يُكَلَّفُ الْغَنِيُّ، وَقَوْلُهُ: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً أَيْ بَعْدِ ضِيقٍ وَشِدَّةٍ غِنًى وَسِعَةً وَرَخَاءً وَكَانَ الْغَالِبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْفَقْرَ وَالْفَاقَةَ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا وَهَذَا كَالْبِشَارَةِ لَهُمْ بِمَطْلُوبِهِمْ، ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: إِذَا قِيلَ: (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مَا هِيَ؟ نَقُولُ: هِيَ التَّبْعِيضِيَّةُ أَيْ بَعْضُ مَكَانِ سُكْنَاكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ [لَكُمْ] غَيْرُ بَيْتٍ وَاحِدٍ فَأَسْكِنُوهَا فِي بَعْضِ جَوَانِبِهِ. الثَّانِي: مَا مَوْقِعُ مِنْ وُجْدِكُمْ؟ نَقُولُ: عَطْفُ بَيَانٍ لِقَوْلِهِ: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَتَفْسِيرٌ لَهُ، أَيْ مَكَانًا مِنْ مَسْكَنِكُمْ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِكُمْ. الثَّالِثُ: فَإِذَا كَانَتْ كُلُّ مُطَلَّقَةٍ عِنْدَكُمْ يَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ، فَمَا فَائِدَةُ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ نَقُولُ: فَائِدَتُهُ أَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ رُبَّمَا طَالَ وَقْتُهَا، فَيُظَنُّ أَنَّ النَّفَقَةَ تَسْقُطُ إِذَا مَضَى

[سورة الطلاق (65) : الآيات 8 إلى 11]

مقدار مدة الحمل، فنفى ذلك الظن. ثم قال تعالى: [سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 11] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ الْكَلَامُ فِي كَأَيِّنْ قَدْ مَرَّ، وَقَوْلُهُ: عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَصَفَ الْقَرْيَةَ بالعتو والمراد أهلها، كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها أَيْ أَعْرَضَتْ عَنْهُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: خَالَفَتْ أَمْرَ رَبِّهَا، وَخَالَفَتْ رُسُلَهُ، فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا، فَحَاسَبَهَا اللَّه بِعَمَلِهَا فِي الدُّنْيَا فَجَازَاهَا الْعَذَابَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً أَيْ عَذَابًا مُنْكَرًا عَظِيمًا، فَسَّرَ الْمُحَاسَبَةَ بِالتَّعْذِيبِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هَذَا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، يَعْنِي فَعَذَّبْنَاهَا فِي الدُّنْيَا وَحَاسَبْنَاهَا فِي الْآخِرَةِ حِسَابًا شَدِيدًا، وَالْمُرَادُ حِسَابُ الْآخِرَةِ وَعَذَابُهَا فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها أَيْ شِدَّةَ أَمْرِهَا وَعُقُوبَةَ كُفْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَاقِبَةَ كُفْرِهَا وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً أَيْ عَاقِبَةُ عُتُوِّهَا خَسَارًا فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً يُخَوِّفُ كَفَّارَ مَكَّةَ أَنْ يُكَذِّبُوا مُحَمَّدًا فَيَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ خِطَابٌ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، أَيْ فَاتَّقُوا اللَّه عَنْ أَنْ تَكْفُرُوا بِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَقَوْلُهُ: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا هُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْزَلَ اللَّه إِلَيْكُمْ ذِكْرًا، هُوَ الرَّسُولُ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ ذِكْرًا لِأَنَّهُ يَذْكُرُ مَا يَرْجِعُ إِلَى دِينِهِمْ وَعُقْبَاهُمْ وَثَانِيهِمَا: أَنْزَلَ اللَّه إِلَيْكُمْ ذِكْرًا، وَأَرْسَلَ رَسُولًا. وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : رَسُولًا هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أُبْدِلَ مِنْ ذِكْراً لِأَنَّهُ وُصِفَ بِتِلَاوَةِ آيَاتِ اللَّهِ، فَكَانَ إِنْزَالُهُ فِي مَعْنَى إِنْزَالِ الذِّكْرِ، وَالذِّكْرُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الشَّرَفُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزُّخْرُفِ: 44] وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ [النَّحْلِ: 44] وَقُرِئَ (رَسُولٌ) عَلَى هُوَ رسول، ويَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ بِالْخَفْضِ وَالنَّصْبِ، وَالْآيَاتُ هي الحجج فبالخفض، لأنها تبين الأمر والنبي وَالْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَمَنْ نَصَبَ يُرِيدُ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْضَحَ آيَاتِهِ وَبَيَّنَهَا أَنَّهَا مِنْ عِنْدِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يَعْنِي مِنْ ظُلْمَةِ/ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَمِنْ ظُلْمَةِ الشُّبْهَةِ إِلَى نُورِ الْحُجَّةِ، وَمِنْ ظُلْمَةِ الْجَهْلِ إِلَى نُورِ الْعِلْمِ. وَفِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها أَمْ لَا؟ فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ يُؤَكِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلُهَا، لِمَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خِطَابَ اللَّه تَعَالَى لَا يَكُونُ إِلَّا لِذَوِي الْعُقُولِ فَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ فَلَا خِطَابَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ.

[سورة الطلاق (65) : آية 12]

الثاني: الإيمان هو التقوى في الحقيقة وأولوا الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا كَانُوا مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ بِالضَّرُورَةِ فَكَيْفَ يُقَالُ لَهُمْ: فَاتَّقُوا اللَّهَ؟ نَقُولُ: لِلتَّقْوَى دَرَجَاتٌ وَمَرَاتِبُ فَالدَّرَجَةُ الْأُولَى هِيَ التَّقْوَى مِنَ الشِّرْكِ وَالْبَوَاقِي هِيَ التَّقْوَى مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي هِيَ غَيْرُ الشِّرْكِ فَأَهْلُ الْإِيمَانِ إِذَا أُمِرُوا بِالتَّقْوَى كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشِّرْكِ. الثَّالِثُ: كُلُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَحَقُّ هَذَا الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يُقَالَ: لِيُخْرِجَ الَّذِينَ كَفَرُوا؟ نَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: لِيُخْرِجَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ عَلَى مَا جَازَ أَنْ يُرَادَ مِنَ الْمَاضِي الْمُسْتَقْبَلُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى [آل عمران: 55] أَيْ وَإِذْ يَقُولُ اللَّه، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ تَحْدُثُ لَهُمْ بعد إيمانهم. ثم قال تعالى: مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ، يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً. قَوْلُهُ: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ وَالتَّعْظِيمِ لِمَا رَزَقَ اللَّه الْمُؤْمِنَ مِنَ الثواب، وقرئ يُدْخِلْهُ بالياء والنون، وقَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً قَالَ الزَّجَّاجُ: رَزَقَهُ اللَّه الْجَنَّةَ الَّتِي لَا يَنْقَطِعُ نَعِيمُهَا، وَقِيلَ: رِزْقاً أَيْ طَاعَةً فِي الدُّنْيَا وَثَوَابًا فِي الْآخِرَةِ وَنَظِيرُهُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ [الْبَقَرَةِ: 201] . [سورة الطلاق (65) : آية 12] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) قال الكلبي: خلق سبع سموات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ مِثْلَ الْقُبَّةِ، وَمِنَ الْأَرْضِ/ مِثْلَهُنَّ فِي كَوْنِهَا طِبَاقًا مُتَلَاصِقَةً كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْأَرْضَ ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ طَبَقَةٌ أَرْضِيَّةٌ مَحْضَةٌ وَطَبَقَةٌ طِينِيَّةٌ، وَهِيَ غَيْرُ مَحْضَةٍ، وَطَبَقَةٌ مُنْكَشِفَةٌ بَعْضُهَا فِي الْبَحْرِ وَبَعْضُهَا فِي الْبَرِّ وَهِيَ الْمَعْمُورَةُ، وَلَا بَعُدَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ مِنْ كَوْنِهَا سَبْعَةَ أَقَالِيمَ عَلَى حسب سبع سموات، وَسَبْعِ كَوَاكِبَ فِيهَا وَهِيَ السَّيَّارَةُ فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ خَوَاصَّ تَظْهَرُ آثَارُ تِلْكَ الْخَوَاصِّ فِي كُلِّ إِقْلِيمٍ مِنْ أَقَالِيمِ الْأَرْضِ فَتَصِيرُ سَبْعَةً بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، فَهَذِهِ هِيَ الْوُجُوهُ الَّتِي لَا يَأْبَاهَا الْعَقْلُ، وَمَا عَدَاهَا مِنَ الْوُجُوهِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فَذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَأْبَاهَا الْعَقْلُ مِثْلَ مَا يقال: السموات السَّبْعُ أَوَّلُهَا: مَوْجٌ مَكْفُوفٌ وَثَانِيهَا: صَخْرٌ وَثَالِثُهَا: حَدِيدٌ وَرَابِعُهَا: نُحَاسٌ وَخَامِسُهَا: فِضَّةٌ وَسَادِسُهَا: ذَهَبٌ وَسَابِعُهَا: يَاقُوتٌ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: بَيْنَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ وَغِلَظُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا كَذَلِكَ، فَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نُقِلَ متواتر [1] ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ واللَّه أَعْلَمُ بِأَنَّهُ مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ. فَقَوْلُهُ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَقُرِئَ مِثْلَهُنَّ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى سَبْعَ سَماواتٍ وَبِالرَّفْعِ عَلَى الابتداء وخبره مِنَ الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ قَالَ عَطَاءٌ يُرِيدُ الْوَحْيَ بَيْنَهُنَّ إِلَى خَلْقِهِ فِي كُلِّ أَرْضٍ وَفِي كُلِّ سَمَاءٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْوَحْيَ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا إِلَى الْأَرْضِ السُّفْلَى، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ بِحَيَاةِ بَعْضٍ وَمَوْتِ بَعْضٍ وَسَلَامَةِ هَذَا وَهَلَاكِ ذَاكَ مثلا وقال

قَتَادَةُ: فِي كُلِّ سَمَاءٍ مِنْ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضٍ مِنْ أَرْضِهِ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ وَأَمْرٌ مِنْ أَمْرِهِ وَقَضَاءٌ مِنْ قَضَائِهِ، وَقُرِئَ يَنْزِلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قُرِئَ لِيَعْلَمُوا بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ أَيْ لِكَيْ تَعْلَمُوا إِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي خَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ، وَمَا جَرَى مِنَ التَّدْبِيرِ فِيهَا أَنَّ مَنْ بَلَغَتْ قُدْرَتُهُ هَذَا الْمَبْلَغَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ كَانَتْ قُدْرَتُهُ ذَاتِيَّةً لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ عَمَّا أَرَادَهُ وَقَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنْ قِبَلِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً يَعْنِي بِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَقَادِرٌ عَلَى الْإِنْشَاءِ بَعْدَ الْإِفْنَاءِ، فَتَبَارَكَ اللَّه رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّه الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سورة التحريم

بسم الله الرحمن الرحيم سورة التحريم اثنتا عشرة آية مدنية [سورة التحريم (66) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) أَمَّا التَّعَلُّقُ بِمَا قَبْلَهَا، فَذَلِكَ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْأَحْكَامِ الْمَخْصُوصَةِ بِالنِّسَاءِ، وَاشْتِرَاكُ الْخِطَابِ بِالطَّلَاقِ فِي أَوَّلِ تِلْكَ السُّورَةِ مَعَ الْخِطَابِ بِالتَّحْرِيمِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا كَانَ الطَّلَاقُ فِي الْأَكْثَرِ مِنَ الصُّوَرِ أَوْ فِي الْكُلِّ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْبَعْضِ مُشْتَمِلًا عَلَى تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ بِالْآخَرِ، فَلِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي آخِرِ تِلْكَ السُّورَةِ، يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ حَضْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَكَمَالِ علمه، لما كان خلق السموات وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْغَرَائِبِ وَالْعَجَائِبِ مُفْتَقِرًا إِلَيْهِمَا وَعَظَمَةُ الْحَضْرَةِ مِمَّا يُنَافِي الْقُدْرَةَ عَلَى تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ وَاخْتَلَفُوا فِي الَّذِي حَرَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفْسِهِ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَلَا بِمَارِيَةَ فِي يَوْمِ عَائِشَةَ وَعَلِمَتْ بِذَلِكَ حَفْصَةُ، فَقَالَ لَهَا: اكْتُمِي عَلَيَّ وَقَدْ حَرَّمْتُ مَارِيَةَ عَلَى نَفْسِي وَأُبَشِّرُكِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْلِكَانِ بَعْدِي أَمْرَ أُمَّتِي، فَأَخْبَرَتْ بِهِ عَائِشَةَ، وَكَانَتَا مُتَصَادِقَتَيْنِ، وَقِيلَ: خَلَا بِهَا فِي يَوْمِ حَفْصَةَ، فَأَرْضَاهَا بِذَلِكَ وَاسْتَكْتَمَهَا، فَلَمْ تَكْتُمْ فَطَلَّقَهَا وَاعْتَزَلَ نِسَاءَهُ، وَمَكَثَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً فِي بَيْتِ مَارِيَةَ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لَهَا لَوْ كَانَ فِي آلِ الْخَطَّابِ خَيْرٌ لَمَا طَلَّقَكِ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ: رَاجِعْهَا فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ وَإِنَّهَا مِنْ نِسَائِكَ فِي الْجَنَّةِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ مَا طَلَّقَهَا وَإِنَّمَا نَوَّهَ بِطَلَاقِهَا، وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَرِبَ عَسَلًا فِي بَيْتِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَتَوَاطَأَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، فَقَالَتَا لَهُ: إِنَّا نَشُمُّ مِنْكَ رِيحَ الْمَغَافِيرِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُ التَّفَلَ فَحَرَّمَ الْعَسَلَ، فَمَعْنَاهُ: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ أَوْ مِنَ الْعَسَلِ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَمَسْرُوقٍ وَرِوَايَةُ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ مَسْرُوقٌ: حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ وَلَدِهِ وَحَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا/ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا الْحَرَامُ فَحَلَالٌ، وَأَمَّا الْيَمِينُ الَّتِي حَلَفْتَ عَلَيْهَا، فَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ مَعَ الْحَرَامِ يَمِينٌ فَعُوتِبَ فِي الْحَرَامِ، وَإِنَّمَا يُكَفَّرُ الْيَمِينُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ الْآيَةَ قَالَ صَاحِبُ «النَّظْمِ» قَوْلُهُ: لِمَ تُحَرِّمُ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ وَالْإِنْكَارُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى نَهْيٌ، وَتَحْرِيمُ الْحَلَالِ مَكْرُوهٌ، وَالْحَلَالُ لَا يُحَرَّمُ إِلَّا بِتَحْرِيمِ اللَّهِ تعالى وقوله تعالى: تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وتَبْتَغِي حَالٌ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الْمُضَارِعِ وَالْمَعْنَى: لِمَ تُحَرِّمُ مُبْتَغِيًا مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : تَبْتَغِي، إما تفسير لتحرم، أَوْ حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافٌ، وَهَذَا زَلَّةٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الزَّلَّةِ، رَحِيمٌ قَدْ رَحِمَكَ لَمْ يُؤَاخِذْكَ بِهِ، ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ:

[سورة التحريم (66) : الآيات 2 إلى 3]

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ يُوهِمُ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ بِطَرِيقِ الْعِتَابِ وَخِطَابِ الْوَصْفِ، وَهُوَ النَّبِيُّ يُنَافِي ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْرِيفِ وَالتَّعْظِيمِ فَكَيْفَ هُوَ؟ نَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْعِتَابِ بَلْ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَا صَدَرَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ كَمَا يَنْبَغِي. الْبَحْثُ الثَّانِي: تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مُمْكِنٍ، لِمَا أَنَّ الْإِحْلَالَ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْحِلِّ وَالتَّحْرِيمَ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْحُرْمَةِ، وَلَا مَجَالَ لِلِاجْتِمَاعِ بَيْنَ التَّرْجِيحَيْنِ فَكَيْفَ يُقَالُ: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ؟ نَقُولُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّحْرِيمِ هُوَ الِامْتِنَاعُ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَزْوَاجِ لَا اعْتِقَادُ كَوْنِهِ حراما بعد ما أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْتَنَعَ عَنِ الِانْتِفَاعِ مَعَهَا مَعَ اعْتِقَادِهِ بِكَوْنِهِ حَلَالًا وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ هُوَ تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِعَيْنِهِ فَقَدْ كَفَرَ فَكَيْفَ يُضَافُ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ هَذَا. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: إِذَا قِيلَ: مَا حُكْمُ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ؟ نَقُولُ: اخْتَلَفَتِ الْأَئِمَّةُ فِيهِ فَأَبُو حَنِيفَةَ يَرَاهُ يَمِينًا فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَيَعْتَبِرُ الِانْتِفَاعَ الْمَقْصُودَ فِيمَا يُحَرِّمُهُ فَإِذَا حَرَّمَ طَعَامًا فَقَدْ حَلَفَ عَلَى أَكْلِهِ أَوْ أَمَةً فَعَلَى وَطْئِهَا أَوْ زَوْجَةً فَعَلَى الْإِيلَاءِ مِنْهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَإِنْ نَوَى الظِّهَارَ فَظِهَارٌ، وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَطَلَاقٌ بَائِنٌ وَكَذَلِكَ إِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَكَمَا نَوَى، فَإِنْ قَالَ: نويت الكذب دين فيما بنيه وَبَيْنَ رَبِّهِ وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ بِإِبْطَالِ الْإِيلَاءِ، وَإِنْ قَالَ: كُلُّ حَلَالٍ عَلَيْهِ حَرَامٌ فَعَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِذَا لَمْ يَنْوِ وَإِلَّا فَعَلَى مَا نَوَى وَلَا يَرَاهُ الشَّافِعِيُّ يَمِينًا، وَلَكِنْ سَبَبًا (فِي الْكَفَّارَةِ) «1» فِي النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ، وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَهُوَ رَجْعِيٌّ عِنْدَهُ، وَأَمَّا اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِيهِ فَكَمَا هُوَ فِي «الْكَشَّافِ» ، فلا حاجة بنا إلى ذكر ذلك. ثم قال تعالى: [سورة التحريم (66) : الآيات 2 الى 3] قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها [النُّورِ: 1] وَقَالَ الْبَاقُونَ: قَدْ أَوْجَبَ، قَالَ صَاحِبُ «النَّظْمِ» : إِذَا وَصَلَ بِعَلَى لَمْ يَحْتَمِلْ غَيْرَ الْإِيجَابِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ [الْأَحْزَابِ: 50] وَإِذَا وَصَلَ بِاللَّامِ احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ أَيْ تحليلها بالكفارة وتحلة عَلَى وَزْنِ تَفِعْلَةٍ وَأَصْلُهُ تَحْلِلَةٌ وَتَحِلَّةُ الْقَسَمِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: تَحْلِيلُهُ بِالْكَفَّارَةِ كَالَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يُسْتَعْمَلَ بِمَعْنَى الشَّيْءِ الْقَلِيلِ، وَهَذَا هُوَ الْأَكْثَرُ كَمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «لَنْ يَلِجَ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» يَعْنِي زَمَانًا يَسِيرًا، وَقُرِئَ (كَفَّارَةَ أَيْمَانِكُمْ) ، وَنَقَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَ جَارِيَتَهُ فَذَكَرَ اللَّهُ لَهُ مَا أَوْجَبَ مِنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْحَرَامَ يَمِينٌ، يَعْنِي إِذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَلَمْ يَنْوِ طَلَاقًا وَلَا ظِهَارًا كَانَ هَذَا اللَّفْظُ مُوجِبًا لِكَفَّارَةِ يَمِينٍ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ، أَيْ وَلِيُّكُمْ وَنَاصِرُكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ بِخَلْقِهِ الْحَكِيمُ فِيمَا فَرَضَ مِنْ حُكْمِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً يَعْنِي مَا أَسَرَّ إِلَى حَفْصَةَ مِنْ تَحْرِيمِ الْجَارِيَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَاسْتَكْتَمَهَا ذَلِكَ وَقِيلَ لَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَيْرَةَ فِي وَجْهِ حَفْصَةَ أَرَادَ أَنْ يَتَرَضَّاهَا فَأَسَرَّ إِلَيْهَا بِشَيْئَيْنِ تَحْرِيمُ الْأَمَةِ عَلَى نَفْسِهِ والبشارة بأن

_ (1) ما بين الهلالين زيادة من الكشاف (4/ 126 ط. دار الفكر) .

[سورة التحريم (66) : الآيات 4 إلى 5]

الْخِلَافَةَ بَعْدَهُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِيهَا عُمَرَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ أَيْ أَخْبَرَتْ بِهِ عَائِشَةَ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَطْلَعَ نَبِيَّهُ عَلَى قَوْلِ حَفْصَةَ لِعَائِشَةَ فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفْصَةَ عِنْدَ ذَلِكَ بِبَعْضِ مَا قَالَتْ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَرَّفَ بَعْضَهُ حَفْصَةَ: وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ لَمْ يُخْبِرْهَا أَنَّكِ أَخْبَرْتِ عَائِشَةَ عَلَى وَجْهِ التَّكَرُّمِ وَالْإِغْضَاءِ، وَالَّذِي أَعْرَضَ عَنْهُ ذِكْرُ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَقُرِئَ (عَرَفَ) مُخَفَّفًا أَيْ جَازَى عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِكَ لِلْمُسِيءِ لَأَعْرِفَنَّ لَكَ ذَلِكَ وَقَدْ عَرَفْتُ مَا صَنَعْتَ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ [النِّسَاءِ: 63] أَيْ يُجَازِيهِمْ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ حَفْصَةُ: مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ وصفه بكونه خبيرا بعد ما وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ عَلِيمًا لِمَا أَنَّ فِي الْخَبِيرِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا لَيْسَ فِي الْعَلِيمِ، وَفِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ يُنَاسِبُ قَوْلُهُ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ إِلَى قَوْلَهُ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التَّحْرِيمِ: 1] ؟ نَقُولُ: يُنَاسِبُهُ لِمَا كَانَ تَحْرِيمُ الْمَرْأَةِ يَمِينًا حَتَّى إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَهُوَ يَمِينٌ وَيَصِيرُ مُولِيًا بِذِكْرِهِ مِنْ بَعْدُ وَيُكَفِّرُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ أَنَّهُ كَانَتْ مِنْهُ يَمِينٌ/ فَهَلْ كَفَّرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِذَلِكَ؟ نَقُولُ: عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَمْ يُكَفِّرْ لِأَنَّهُ كَانَ مَغْفُورًا لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْلِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَعَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ رَقَبَةً في تحريم مارية. ثم قال تعالى: [سورة التحريم (66) : الآيات 4 الى 5] إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5) قَوْلُهُ: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ خِطَابٌ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي مُعَاتَبَتِهِمَا وَالتَّوْبَةِ مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِيذَاءِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما أَيْ عَدَلَتْ وَمَالَتْ عَنِ الْحَقِّ، وَهُوَ حَقُّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ حَقٌّ عَظِيمٌ يُوجَدُ فِيهِ اسْتِحْقَاقُ الْعِتَابِ بِأَدْنَى تَقْصِيرٍ وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ عَلَى تَقْدِيرِ: كَانَ خَيْرًا لَكُمَا، وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلُوبُكُما التَّثْنِيَةُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَإِنَّمَا اخْتِيرَ الْجَمْعُ عَلَى التَّثْنِيَةِ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ الْجَوَارِحُ اثْنَانِ اثْنَانِ فِي الْإِنْسَانِ كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ، فَلَمَّا جَرَى أكثره على ذلك ذهب الواحد مِنْهُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى اثْنَيْنِ مَذْهَبُ الِاثْنَيْنِ، وَقَدْ مَرَّ هَذَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ أَيْ وَإِنْ تَعَاوَنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِيذَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ أَيْ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ التَّظَاهُرُ مِنْكُمَا ومَوْلاهُ أَيْ وَلِيُّهُ وَنَاصِرُهُ وَجِبْرِيلُ رَأْسُ الْكَرُوبِيِّينَ، قَرَنَ ذِكْرَهُ بِذِكْرِهِ مُفْرِدًا لَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ تَعْظِيمًا له وإظهار لمكانته (عنده) «1» وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مُوَالِيَيْنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ عَادَاهُ، وَنَاصِرَيْنِ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُقَاتِلِينَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ خِيَارُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ مَنْ صَلَحَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ كُلُّ مَنْ آمن وعمل صالحا، وقيل: من برىء مِنْهُمْ مِنَ النِّفَاقِ، وَقِيلَ: الْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ، وَقِيلَ: الخلفاء وقيل:

_ (1) ما بين الهلالين زيادة من الكشاف (4/ 127 ط. دار الفكر) .

الصحابة، وصالح هاهنا يَنُوبُ عَنِ الْجَمْعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ أَيْ بَعْدَ حَضْرَةِ اللَّهِ وَجِبْرِيلَ وَصَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ ظَهِيرٌ أَيْ فَوْجٌ مَظَاهِرٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَعْوَانٌ لَهُ وَظَهِيرٌ فِي مَعْنَى الظُّهَرَاءِ، كَقَوْلِهِ: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النِّسَاءِ: 69] قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ نُصْرَةِ هَؤُلَاءِ ظَهِيرٌ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: / وَقَدْ جَاءَ فَعِيلٌ مُفْرَدًا يُرَادُ به الكثرة كقوله تعالى: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ [الْمَعَارِجِ: 10، 11] ثُمَّ خَوَّفَ نِسَاءَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ أَنْ يُبْدِلَهُ بِالتَّخْفِيفِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا أَنَّهُ لَا يُطَلِّقُهُنَّ لَكِنْ أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَتِهِ أنه إن طلقهن أبدله خيرا منهم تَخْوِيفًا لَهُنَّ، وَالْأَكْثَرُ فِي قَوْلِهِ: طَلَّقَكُنَّ الْإِظْهَارُ، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو إِدْغَامُ الْقَافِ فِي الْكَافِ، لِأَنَّهُمَا مِنْ حُرُوفِ الْفَمِ، ثُمَّ وَصَفَ الْأَزْوَاجَ اللَّاتِي كَانَ يُبْدِلُهُ فَقَالَ: مُسْلِماتٍ أَيْ خَاضِعَاتٍ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ مُؤْمِناتٍ مُصَدِّقَاتٍ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى مُخْلِصَاتٍ قانِتاتٍ طَائِعَاتٍ، وَقِيلَ: قَائِمَاتٍ بِاللَّيْلِ لِلصَّلَاةِ، وَهَذَا أَشْبَهُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ السَّائِحَاتِ بَعْدَ هَذَا وَالسَّائِحَاتُ الصَّائِمَاتُ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ قِيَامُ اللَّيْلِ مَعَ صِيَامِ النَّهَارِ، وَقُرِئَ (سَيِّحَاتٍ) ، وَهِيَ أَبْلَغُ وَقِيلَ لِلصَّائِمِ: سَائِحٌ لِأَنَّ السَّائِحَ لَا زَادَ مَعَهُ، فَلَا يَزَالُ مُمْسِكًا إِلَى أَنْ يَجِدَ مَنْ يُطْعِمُهُ فَشُبِّهَ بِالصَّائِمِ الَّذِي يُمْسِكُ إِلَى أَنْ يَجِيءَ وَقْتُ إِفْطَارِهِ، وَقِيلَ: سَائِحَاتٍ مُهَاجِرَاتٍ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً لِأَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بَعْضُهَا مِنَ الثَّيِّبِ وَبَعْضُهَا مِنَ الْأَبْكَارِ، فَالذِّكْرُ عَلَى حَسَبِ مَا وَقَعَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَزَوُّجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ عَلَى حَسَبِ الشَّهْوَةِ وَالرَّغْبَةِ، بَلْ عَلَى حَسَبِ ابْتِغَاءِ مَرْضَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ بَعْدَ ذلِكَ تعظيم للملائكة ومظاهرتهم، وقرئ تظاهرا وتتظاهرا وتظهرا. الْبَحْثُ الثَّانِي: كَيْفَ يَكُونُ الْمُبْدَلَاتُ خَيْرًا مِنْهُنَّ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ نِسَاءٌ خَيْرٌ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ؟ نَقُولُ: إِذَا طَلَّقَهُنَّ الرَّسُولُ لِعِصْيَانِهِنَّ لَهُ، وَإِيذَائِهِنَّ إِيَّاهُ لَمْ يَبْقِينَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، وَكَانَ غَيْرُهُنَّ «1» مِنَ الْمَوْصُوفَاتِ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ مَعَ الطَّاعَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ خَيْرًا مِنْهُنَّ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ يُوهِمُ التَّكْرَارَ، وَالْمُسْلِمَاتُ وَالْمُؤْمِنَاتُ عَلَى السَّوَاءِ؟ نَقُولُ: الْإِسْلَامُ هُوَ التَّصْدِيقُ بِاللِّسَانِ وَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، وَقَدْ لَا يَتَوَافَقَانِ فَقَوْلُهُ: مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ تَحْقِيقٌ لِلتَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَالَ تَعَالَى: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَلَمْ يَقُلْ: فِيمَا عَدَاهُمَا بِوَاوِ الْعَطْفِ، نَقُولُ: قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : إِنَّهَا صِفَتَانِ مُتَنَافِيَتَانِ، لَا يَجْتَمِعْنَ فِيهِمَا اجْتِمَاعَهُنَّ فِي سائر الصفات. (فلم يكن بد من الواو) «2» . الْبَحْثُ الْخَامِسُ: ذَكَرَ الثَّيِّبَاتِ فِي مَقَامِ الْمَدْحِ وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُقَلِّلُ «3» رَغْبَةَ الرِّجَالِ إِلَيْهِنَّ. نَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْبَعْضُ مِنَ الثَّيِّبِ خَيْرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَعْضِ مِنَ الْأَبْكَارِ عند الرسول لاختصاصهن بالمال والجمال، أو

_ (1) في الأصل (غيرهم) ولما كان ضميرا لجمع النسوة فقد صححناه إلى ما ترى. (2) ما بين الهلالين زيادة من الكشاف (4/ 128 ط. دار الفكر) . [.....] (3) في الأصل (ما يقل) وهو يحتاج إلى تقدير (معه) مما يدل على أن اللام ساقطة وقد أثبتناها.

[سورة التحريم (66) : الآيات 6 إلى 7]

النَّسَبِ، أَوِ الْمَجْمُوعِ مَثَلًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَقْدَحُ ذِكْرُ الثَّيِّبِ فِي الْمَدْحِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِثْلَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الثيب. / ثم قال تعالى: [سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 7] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) قُوا أَنْفُسَكُمْ أَيْ بِالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَاكُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَنْ يُؤَدِّبَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ، فَيَأْمُرَهُمْ بِالْخَيْرِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الشَّرِّ، وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : قُوا أَنْفُسَكُمْ بِتَرْكِ الْمَعَاصِي وَفِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَأَهْلِيكُمْ بِأَنْ تُؤَاخِذُوهُمْ بِمَا تُؤَاخِذُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ، وَقِيلَ: قُوا أَنْفُسَكُمْ مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ أَنْفُسُكُمْ إِذِ الْأَنْفُسُ تَأْمُرُهُمْ بِالشَّرِّ وَقُرِئَ: وَأَهْلُوكُمْ عَطْفًا عَلَى وَاوِ قُوا وَحَسُنَ الْعَطْفُ للفاصل، وناراً نَوْعًا مِنَ النَّارِ لَا يَتَّقِدُ «1» إِلَّا بِالنَّاسِ وَالْحِجَارَةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ حِجَارَةُ الْكِبْرِيتِ، لِأَنَّهَا أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ حَرًّا إِذَا أُوقِدَ عَلَيْهَا، وَقُرِئَ: وَقُودُهَا بِالضَّمِّ، وَقَوْلُهُ: عَلَيْها مَلائِكَةٌ يَعْنِي الزبانية تسعة عَشَرَ وَأَعْوَانَهُمْ غِلاظٌ شِدادٌ فِي أَجْرَامِهِمْ غِلْظَةٌ وَشِدَّةٌ أَيْ جَفَاءٌ وَقُوَّةٌ، أَوْ فِي أَفْعَالِهِمْ جَفَاءٌ وَخُشُونَةٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونُوا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فِي خَلْقِهِمْ، أَوْ فِي أَفْعَالِهِمْ بِأَنْ يَكُونُوا أَشِدَّاءَ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ، رُحَمَاءَ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الْفَتْحِ: 29] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ يَدُلُّ عَلَى اشْتِدَادِهِمْ لِمَكَانِ الْأَمْرِ، لَا تَأْخُذُهُمْ رَأْفَةٌ فِي تَنْفِيذِ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالِانْتِقَامِ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مُكَلَّفُونَ فِي الْآخِرَةِ بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَبِمَا يَنْهَاهُمْ عَنْهُ وَالْعِصْيَانُ منهم مخالفة للأمر والنهي. وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ لَمَّا ذَكَرَ شِدَّةَ الْعَذَابِ بِالنَّارِ، وَاشْتِدَادَ الْمَلَائِكَةِ فِي انْتِقَامِ الْأَعْدَاءِ، فَقَالَ: لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ أَيْ يُقَالُ لَهُمْ: لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِذِ الِاعْتِذَارُ هُوَ التَّوْبَةُ، وَالتَّوْبَةُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي النَّارِ، فَلَا يَنْفَعُكُمُ الِاعْتِذَارُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يَعْنِي إِنَّمَا أَعْمَالُكُمُ السَّيِّئَةُ أَلْزَمَتْكُمُ الْعَذَابَ فِي الْحِكْمَةِ، وَفِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ وَقَالَ: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [الْبَقَرَةِ: 24] جَعَلَهَا مُعَدَّةً لِلْكَافِرِينَ، فَمَا مَعْنَى مُخَاطَبَتِهِ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ؟ نَقُولُ: الْفُسَّاقُ وَإِنْ كَانَتْ دَرَكَاتُهُمْ فَوْقَ دَرَكَاتِ الْكُفَّارِ، فَإِنَّهُمْ مَعَ الْكُفَّارِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ فَقِيلَ للذين آمنوا: قُوا أَنْفُسَكُمْ باجتناب الفسق مجاورة الَّذِينَ أُعِدَّتْ لَهُمْ هَذِهِ النَّارُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالتَّوَقِّي مِنَ الِارْتِدَادِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: كَيْفَ تَكُونُ الْمَلَائِكَةُ غِلَاظًا شِدَادًا وَهُمْ مِنَ الْأَرْوَاحِ، فَنَقُولُ: الْغِلْظَةُ وَالشِّدَّةُ بِحَسَبِ الصِّفَاتِ لَمَّا كَانُوا مِنَ الْأَرْوَاحِ لَا بِحَسَبِ الذَّاتِ، وَهَذَا أَقْرَبُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغَيْرِ مِنَ الْأَقْوَالِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فما الفائدة في الذكر

_ (1) في مطبوع التفسير الكبير للرازي (يعقد) والمثبت من «الكشاف» (4/ 128 ط. دار الفكر) .

[سورة التحريم (66) : الآيات 8 إلى 9]

فَنَقُولُ: لَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَوَّلِ أَنَّهُمْ يَتَقَبَّلُونَ أَوَامِرَهُ وَيَلْتَزِمُونَهَا وَلَا يُنْكِرُونَهَا، وَمَعْنَى الثَّانِي أَنَّهُمْ (يُؤَدُّونَ) «1» مَا يُؤْمَرُونَ به كذا ذكره في «الكشاف» . ثم قال تعالى: [سورة التحريم (66) : الآيات 8 الى 9] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) قَوْلُهُ: تَوْبَةً نَصُوحاً أَيْ تَوْبَةً بَالِغَةً فِي النُّصْحِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: نَصُوحًا مِنْ صِفَةِ التَّوْبَةِ وَالْمَعْنَى تَوْبَةً تَنْصَحُ صَاحِبَهَا بِتَرْكِ الْعَوْدِ إِلَى مَا تَابَ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّهَا الصَّادِقَةُ النَّاصِحَةُ يَنْصَحُونَ بِهَا أَنْفُسَهُمْ، وَعَنْ عَاصِمٍ، نَصُوحاً بِضَمِّ النُّونِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ نَحْوَ الْعُقُودِ، يُقَالُ: نَصَحْتُ لَهُ نُصْحًا وَنَصَاحَةً وَنُصُوحًا، وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وُصِفَتِ التَّوْبَةُ بِالنُّصْحِ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ أَنْ يَتُوبُوا عَنِ الْقَبَائِحِ نَادِمِينَ عَلَيْهَا غَايَةَ النَّدَامَةِ لَا يَعُودُونَ، وَقِيلَ: من نصاحة الثوب، أي خياطته وعَسى رَبُّكُمْ إِطْمَاعٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ نُصِبَ بيدخلكم، ولا يُخْزِي تَعْرِيضٌ لِمَنْ أَخْزَاهُمُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ وَاسْتِحْمَادٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنَّهُ عَصَمَهُمْ مِنْ مِثْلِ حَالِهِمْ، ثُمَّ الْمُعْتَزِلَةُ تَعَلَّقُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَقَالُوا: الْإِخْزَاءُ يَقَعُ بِالْعَذَابِ، فَقَدْ وَعَدَ بِأَنْ لَا يُعَذِّبَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَلَوْ كَانَ أَصْحَابُ الْكَبَائِرِ مِنَ الْإِيمَانِ لَمْ نَخَفْ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ أَجَابُوا/ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِأَنْ لَا يُخْزِيَهُمْ، وَالَّذِينَ آمَنُوا ابْتِدَاءُ كلام، وخبره يَسْعى، أو لا يُخْزِي اللَّهُ، ثُمَّ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مَنْ يَقِفُ عَلَى قَوْلِهِ: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ أَيْ لَا يُخْزِيهِ فِي رَدِّ الشَّفَاعَةِ، وَالْإِخْزَاءُ الْفَضِيحَةُ، أَيْ لَا يَفْضَحُهُمْ بَيْنَ يَدَيِ الْكُفَّارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ الْكَفَرَةُ، وَقَوْلُهُ: بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أَيْ عِنْدَ الْمَشْيِ وَبِأَيْمانِهِمْ عِنْدَ الْحِسَابِ، لِأَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ الْكِتَابَ بِأَيْمَانِهِمْ وَفِيهِ نُورٌ وَخَيْرٌ، وَيَسْعَى النُّورُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فِي مَوْضِعِ وَضْعِ الْأَقْدَامِ وَبِأَيْمَانِهِمْ، لِأَنَّ خَلْفَهُمْ وَشِمَالَهُمْ طَرِيقُ الْكَفَرَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقُولُونَ ذَلِكَ عِنْدَ إِطْفَاءِ نُورِ الْمُنَافِقِينَ إِشْفَاقًا، وَعَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ تَعَالَى مُتَمِّمٌ لَهُمْ نُورَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَدْعُونَ تَقَرُّبًا إِلَى حَضْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [مُحَمَّدٍ: 19] وَهُوَ مَغْفُورٌ، وَقِيلَ: أَدْنَاهُمْ مَنْزِلَةً مَنْ نُورُهُ بِقَدْرِ مَا يُبْصِرُ مَوَاطِئَ قَدَمِهِ، لِأَنَّ النُّورَ عَلَى قَدْرِ الْأَعْمَالِ فَيَسْأَلُونَ إِتْمَامَهُ، وَقِيلَ: السَّابِقُونَ إِلَى الْجَنَّةِ يَمُرُّونَ مِثْلَ الْبَرْقِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَبَعْضُهُمْ كَالرِّيحِ، وَبَعْضُهُمْ حَبْوًا وَزَحْفًا، فَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا قاله في «الكشاف» ، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ مَعَ أَنَّ لَفْظَ الْكُفَّارِ يَتَنَاوَلُ الْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ أَيْ شَدِّدْ عَلَيْهِمْ، وَالْمُجَاهَدَةُ قَدْ تَكُونُ بِالْقِتَالِ، وَقَدْ تَكُونُ بِالْحُجَّةِ تَارَةً بِاللِّسَانِ، وَتَارَةً بِالسِّنَانِ، وَقِيلَ: جَاهِدْهُمْ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُرْتَكِبُونَ الْكَبَائِرَ، لِأَنَّ أَصْحَابَ الرَّسُولِ عُصِمُوا مِنْهَا وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ، وَفِي الْآيَةِ مباحث:

_ (1) ما بين الهلالين زيادة من الكشاف (4/ 129 ط. دار الفكر) .

[سورة التحريم (66) : الآيات 10 إلى 11]

البحث الأول: كيف تعلق يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بما سبق وهو قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا [التَّحْرِيمِ: 7] ؟ فَنَقُولُ: نَبَّهَهُمْ تَعَالَى عَلَى دَفْعِ الْعَذَابِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالتَّوْبَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، إِذْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا تُفِيدُ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ التَّنْبِيهَ عَلَى الدَّفْعِ بَعْدَ التَّرْهِيبِ فِيمَا مَضَى يُفِيدُ التَّرْغِيبَ بِذِكْرِ أَحْوَالِهِمْ وَالْإِنْعَامِ فِي حَقِّهِمْ وَإِكْرَامِهِمْ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُخْزِي النَّبِيَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا الَّذِينَ آمَنُوا، فَمَا الْحَاجَةُ إِلَى قَوْلِهِ مَعَهُ؟ فَنَقُولُ: هِيَ إِفَادَةُ الِاجْتِمَاعِ، يَعْنِي لَا يُخْزِي اللَّهُ الْمَجْمُوعَ الَّذِي يَسْعَى نُورُهُمْ وَهَذِهِ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ، إِذِ الِاجْتِمَاعُ بَيْنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَبَيْنَ نَبِيِّهِمْ تَشْرِيفٌ فِي حَقِّهِمْ وَتَعْظِيمٌ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَاغْفِرْ لَنا يُوهِمُ أَنَّ الذَّنْبَ لَازِمٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالذَّنْبُ لَا يَكُونُ لَازِمًا، فَنَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ لِمَا هُوَ اللَّازِمُ لِكُلِّ ذَنْبٍ، وَهُوَ التَّقْصِيرُ فِي الْخِدْمَةِ وَالتَّقْصِيرُ لَازِمٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَالَ تعالى في أول السورة: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ [التحريم: 1] ومن بعده يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ خَاطَبَهُ بِوَصْفِهِ وَهُوَ النَّبِيُّ لَا بِاسْمِهِ كَقَوْلِهِ لِآدَمَ يَا آدَمُ، وَلِمُوسَى يَا مُوسَى وَلِعِيسَى يَا عِيسَى، نَقُولُ: خَاطَبَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ، لِيَدُلُّ عَلَى فَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَهَذَا ظَاهِرٌ. الْبَحْثُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَصِيرَهُمْ بِئْسَ الْمَصِيرُ مُطْلَقًا إِذِ الْمُطْلَقُ يَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ، وَغَيْرُ الْمُطْلَقِ لَا يَدُلُّ لِمَا أَنَّهُ يُطَهِّرُهُمْ عَنِ الْآثَامِ. ثم قال تعالى: [سورة التحريم (66) : الآيات 10 الى 11] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) قَوْلُهُ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أَيْ بَيَّنَ حَالَهُمْ بِطَرِيقِ التَّمْثِيلِ أَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ مُعَاقَبَةَ مِثْلِهِمْ مِنْ غَيْرِ اتِّقَاءٍ وَلَا مُحَابَاةٍ، وَلَا يَنْفَعُهُمْ مَعَ عَدَاوَتِهِمْ لَهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْقَرَابَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نَبِيِّهِمْ وَإِنْكَارِهِمْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَيْهِ، وَقَطْعِ الْعَلَائِقِ، وَجَعَلَ الْأَقَارِبَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَجَانِبِ بَلْ أَبْعَدَ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَتَّصِلُ بِهِ الْكَافِرُ نَبِيًّا كَحَالِ امْرَأَةِ نُوحٍ وَلُوطٍ، لَمَّا خَانَتَاهُمَا لَمْ يُغْنِ هَذَانِ الرَّسُولَانِ وَقِيلَ لَهُمَا فِي الْيَوْمِ الْآخِرِ ادْخُلَا النَّارَ ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ وَصْلَةَ الْكَافِرِينَ لَا تَضُرُّهُمْ كَحَالِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ وَمَنْزِلَتِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ كَوْنِهَا زَوْجَةَ ظَالِمٍ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَرْيَمَ ابْنَةِ عِمْرَانَ وَمَا أُوتِيَتْ مِنْ كَرَامَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالِاصْطِفَاءِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَعَ أَنَّ قَوْمَهَا كَانُوا كَفَّارًا، وَفِي ضِمْنِ هَذَيْنِ التَّمْثِيلَيْنِ تَعْرِيضٌ بِأُمَّيِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمَا حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ لِمَا فَرَطَ مِنْهُمَا وَتَحْذِيرٌ لَهُمَا عَلَى أَغْلَظِ وَجْهٍ وَأَشُدِّهِ لِمَا فِي التَّمْثِيلِ مِنْ ذِكْرِ الْكُفْرِ، وَضَرَبَ مَثَلًا آخَرَ فِي امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمٍ، وَقِيلَ: هِيَ عَمَّةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ آمَنَتْ حِينَ سَمِعَتْ قِصَّةَ إِلْقَاءِ مُوسَى عَصَاهُ، وَتَلَقُّفِ الْعَصَا، فَعَذَّبَهَا فِرْعَوْنُ عَذَابًا شَدِيدًا بِسَبَبِ الْإِيمَانِ،

[سورة التحريم (66) : آية 12]

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ وَتَدَهَا بِأَرْبَعَةِ أَوْتَادٍ، وَاسْتَقْبَلَ بِهَا الشَّمْسَ، وَأَلْقَى عَلَيْهَا صَخْرَةً عَظِيمَةً، فَقَالَتْ: رَبِّ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ فَرَقَى بِرُوحِهَا إِلَى الْجَنَّةِ، فَأُلْقِيَتِ الصَّخْرَةُ عَلَى/ جَسَدٍ لَا رُوحَ فِيهِ، قَالَ الْحَسَنُ. رَفَعَهَا إِلَى الْجَنَّةِ تَأْكُلُ فِيهَا وَتَشْرَبُ، وَقِيلَ: لَمَّا قَالَتْ: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ رَأَتْ بَيْتَهَا فِي الْجَنَّةِ يُبْنَى لِأَجْلِهَا، وَهُوَ مِنْ دُرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ كَيْفَ هُوَ وَمَا هُوَ؟ وَفِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: مَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ عِبادِنا؟ نَقُولُ: هُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: تَعْظِيمًا لَهُمْ كَمَا مَرَّ الثَّانِي: إِظْهَارًا لِلْعَبْدِ بِأَنَّهُ لَا يَتَرَجَّحُ عَلَى الْآخَرِ عِنْدَهُ إِلَّا بِالصَّلَاحِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: مَا كَانَتْ خِيَانَتُهُمَا؟ نَقُولُ: نِفَاقُهُمَا وَإِخْفَاؤُهُمَا الْكُفْرَ، وَتَظَاهُرُهُمَا عَلَى الرَّسُولَيْنِ، فَامْرَأَةُ نُوحٍ قَالَتْ لِقَوْمِهِ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَامْرَأَةُ لُوطٍ كَانَتْ تُدِلُّ عَلَى نُزُولِ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خِيَانَتُهُمَا بِالْفُجُورِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ، وَقِيلَ: خِيَانَتُهُمَا فِي الدِّينِ. الْبَحْثُ الثالث: ما معنى الجمع بين عِنْدَكَ وفِي الْجَنَّةِ؟ نَقُولُ: طَلَبَتِ الْقُرْبَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ثُمَّ بَيَّنَتْ مَكَانَ الْقُرْبِ بِقَوْلِهَا: فِي الْجَنَّةِ أَوْ أَرَادَتِ ارْتِفَاعَ دَرَجَتِهَا فِي جَنَّةِ الْمَأْوَى التي هي أقرب إلى العرش. ثم قال تعالى: [سورة التحريم (66) : آية 12] وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) أَحْصَنَتْ أَيْ عَنِ الْفَوَاحِشِ لِأَنَّهَا قُذِفَتْ بِالزِّنَا. وَالْفَرْجُ حُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَفَخَ جِبْرِيلُ فِي جَيْبِ الدِّرْعِ وَمَدَّهُ بِأُصْبُعَيْهِ وَنَفَخَ فِيهِ، وَكُلُّ مَا فِي الدِّرْعِ مِنْ خَرْقٍ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْفَرْجِ، وَقِيلَ: أَحْصَنَتْ تَكَلَّفَتْ فِي عِفَّتِهَا، وَالْمُحْصَنَةُ الْعَفِيفَةُ: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا أَيْ فَرْجِ ثَوْبِهَا، وَقِيلَ: خَلَقْنَا فِيهِ مَا يَظْهَرُ بِهِ الْحَيَاةُ فِي الْأَبْدَانِ. وَقَوْلُهُ: فِيهِ أَيْ فِي عِيسَى، وَمَنْ قَرَأَ (فِيهَا) أَيْ فِي نَفْسِ عِيسَى وَالنَّفْثُ مُؤَنَّثٌ، وَأَمَّا التَّشْبِيهُ بِالنَّفْخِ فَذَلِكَ أَنَّ الرُّوحَ إِذَا خُلِقَ فِيهِ انْتَشَرَ فِي تَمَامِ الْجَسَدِ كَالرِّيحِ إِذَا نُفِخَتْ فِي شَيْءٍ، وَقِيلَ: بِالنَّفْخِ لِسُرْعَةِ دُخُولِهِ فِيهِ نَحْوَ الرِّيحِ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي بِعِيسَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ (بِكَلِمَةِ رَبِّهَا) وَسُمِّيَ عِيسَى (كَلِمَةَ اللَّهِ) فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَجُمِعَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ هُنَا، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْكَلِمَاتُ الشَّرَائِعُ الَّتِي شَرَعَ لَهَا دُونَ الْقَوْلِ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى صَدَّقَتِ الشَّرَائِعَ وَأَخَذَتْ بِهَا وَصَدَّقَتِ الْكُتُبَ فَلَمْ تُكَذِّبْ وَالشَّرَائِعُ سُمِّيَتْ بِكَلِمَاتٍ كَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ [الْبَقَرَةِ: 124] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: صَدَّقَتْ قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ عَلَى أَنَّهَا جَعَلَتِ الْكَلِمَاتِ وَالْكُتُبَ صَادِقَةً يَعْنِي وَصَفَتْهَا بِالصِّدْقِ، وَهُوَ مَعْنَى التَّصْدِيقِ بِعَيْنِهِ، وَقُرِئَ (كَلِمَةِ) وَ (كَلِمَاتِ) ، وَ (كُتُبِهِ) وَ (كِتَابِهِ) ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هُوَ الْكَثْرَةُ وَالشِّيَاعُ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ الطَّائِعِينَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ: مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَفِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ. الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: مَا كَلِمَاتُ اللَّهِ وَكُتُبُهُ؟ نَقُولُ: الْمُرَادُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ الصُّحُفُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى إِدْرِيسَ وَغَيْرِهِ، وَبِكُتُبِهِ الْكُتُبُ الْأَرْبَعَةُ، وَأَنْ يُرَادَ جَمِيعُ مَا كَلَّمَ الله تعالى (به) «1» مَلَائِكَتَهُ وَمَا كَتَبَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَغَيْرِهِ،

_ (1) ما بين الهلالين زيادة من الكشاف للزمخشري (4/ 132 ط. دار الفكر) .

وَقُرِئَ: بِكَلِمَةِ اللَّه وَكِتَابِهِ أَيْ بِعِيسَى وَكِتَابِهِ وهو الإنجيل، فإن قيل: (لم قِيلَ) «1» مِنَ الْقانِتِينَ عَلَى التَّذْكِيرِ، نَقُولُ: لِأَنَّ الْقُنُوتَ صِفَةٌ تَشْمَلُ مَنْ قَنَتَ مِنَ الْقَبِيلَيْنِ، فَغَلَبَ ذُكُورُهُ عَلَى إِنَاثِهِ، وَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ، قَالَهُ فِي «الْكَشَّافِ» ، وَقِيلَ: مِنَ الْقَانِتِينَ لِأَنَّ الْمُرَادَ هو القوم، وأنه عام، ك ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 43] أَيْ كُونِي مِنَ الْمُقِيمِينَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّهَا مِنْ أعقاب هارون أخي موسى عليهما السلام. [البحث الثاني] وَأَمَّا ضَرْبُ الْمَثَلِ بِامْرَأَةِ نُوحٍ الْمُسَمَّاةِ بِوَاعِلَةَ، وامرأة لوط المسماة بواعلة، فَمُشْتَمِلٌ عَلَى فَوَائِدَ مُتَعَدِّدَةٍ لَا يَعْرِفُهَا بِتَمَامِهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، مِنْهَا التَّنْبِيهُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى الثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَمِنْهَا الْعِلْمُ بِأَنَّ صَلَاحَ الْغَيْرِ لَا يَنْفَعُ الْمُفْسِدَ، وَفَسَادُ الْغَيْرِ لَا يَضُرُّ الْمُصْلِحَ، وَمِنْهَا أَنَّ الرَّجُلَ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الصَّلَاحِ فَلَا يَأْمَنُ الْمَرْأَةَ، وَلَا يَأْمَنُ نَفْسَهُ، كَالصَّادِرِ مِنِ امْرَأَتَيْ نُوحٍ وَلُوطٍ، وَمِنْهَا الْعِلْمُ بِأَنَّ إِحْصَانَ الْمَرْأَةِ وَعِفَّتَهَا مُفِيدَةٌ غَايَةَ الْإِفَادَةِ، كَمَا أَفَادَ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ [آلِ عِمْرَانَ: 42] وَمِنْهَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ التَّضَرُّعَ بِالصِّدْقِ فِي حَضْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَسِيلَةٌ إِلَى الْخَلَاصِ مِنَ الْعِقَابِ، وَإِلَى الثَّوَابِ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَأَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الْحَضْرَةِ الْأَزَلِيَّةِ لَازِمٌ فِي كُلِّ بَابٍ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَعَلَتْ كَلِمَتُهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وآله وصحبه وسلم.

_ (1) تعليقة المرجع السابق نفسها.

سورة الملك

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة الملك وهي ثلاثون آية مكية سُورَةُ الْمُلْكِ وَتُسَمَّى الْمُنْجِيَةُ: لِأَنَّهَا تُنْجِي قَارِئَهَا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُسَمِّيهَا الْمُجَادِلَةَ لِأَنَّهَا تُجَادِلُ عَنْ قَارِئِهَا في القبر، وهي ثلاثون آية مكية. [سورة الملك (67) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) أَمَّا قَوْلُهُ: تَبارَكَ فَقَدْ فَسَّرْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِيَدِهِ الْمُلْكُ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ إِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ لِتَأْكِيدِ كَوْنِهِ تَعَالَى مَلِكًا وَمَالِكًا، كَمَا يُقَالُ: بِيَدِ فُلَانٍ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْحَلُّ وَالْعَقْدُ وَلَا مَدْخَلَ لِلْجَارِحَةِ فِي ذَلِكَ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : بِيَدِهِ الْمُلْكُ عَلَى كُلِّ مَوْجُودٍ، وَهُوَ عَلى كُلِّ مَا لَمْ يُوجَدْ مِنَ الْمُمْكَنَاتِ قَدِيرٌ، وَقَوْلُهُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ احْتَجَّ بِهَا مَنْ زَعَمَ أَنَّ المعدوم شيء، فقال قوله: هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَقْتَضِي كَوْنَ مَقْدُورِهِ شَيْئًا، فَذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي هُوَ مَقْدُورُ اللَّهِ تَعَالَى، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا، لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْمَوْجُودِ، لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِهِ وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ إِيجَادَ الْمَوْجُودِ مُحَالٌ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِعْدَامِهِ وَهُوَ مُحَالٌ، لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ الْإِعْدَامِ بِالْفَاعِلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ صِفَةٌ مُؤَثِّرَةٌ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ تَأْثِيرٍ، وَالْعَدَمُ نَفْيٌ مَحْضٌ، فَيَسْتَحِيلُ جَعْلُ الْعَدَمِ أَثَرَ الْقُدْرَةِ، فَيَسْتَحِيلُ وُقُوعُ الْإِعْدَامِ بِالْفَاعِلِ فَثَبَتَ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي هُوَ مَقْدُورُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْدُومُ شَيْئًا، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا النَّافُونَ لِكَوْنِ الْمَعْدُومِ شَيْئًا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: لَا شَكَّ أَنَّ الْجَوْهَرَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جَوْهَرٌ شَيْءٌ وَالسَّوَادَ مِنْ حَيْثُ هُوَ سَوَادٌ شَيْءٌ، وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. فَبِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْجَوْهَرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جَوْهَرٌ، وَعَلَى السَّوَادِ مِنْ حَيْثُ هُوَ سَوَادٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كَوْنُ الْجَوْهَرِ جَوْهَرًا، وَالسَّوَادِ سَوَادًا وَاقِعًا بِالْفَاعِلِ، وَالْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى فِعْلِهِ، فَإِذًا وُجُودُ اللَّهِ وَذَاتِهِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى كَوْنِ الْجَوْهَرِ جَوْهَرًا، أَوِ السَّوَادِ سَوَادًا، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَعْدُومُ شَيْئًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، ثُمَّ أَجَابُوا عَنْ شُبْهَةِ/ الْخَصْمِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِعْدَامَ لَا يَقَعُ بِالْفَاعِلِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لَكِنْ لِمَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمَقْدُورُ الَّذِي هُوَ مَعْدُومٌ سُمِّيَ شَيْئًا، لِأَجْلِ أَنَّهُ سَيَصِيرُ شَيْئًا، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَجَازًا إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، لِقِيَامِ سَائِرِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: زَعَمَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَنَّ إِعْدَامَ الْأَجْسَامِ إِنَّمَا يَقَعُ بِالْفَاعِلِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْحَسَنِ الْخَيَّاطِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمَحْمُودٍ الْخَوَارِزْمِيِّ، وَزَعَمَ الْجُمْهُورُ مِنَّا وَمِنَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ وقوع الإعدام

بِالْفَاعِلِ، احْتَجَّ الْقَاضِي بِأَنَّ الْمَوْجُودَاتِ أَشْيَاءُ، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَهُوَ إِذًا قَادِرٌ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِهَا وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّ إِيجَادَ الْمَوْجُودِ مُحَالٌ، أَوْ عَلَى إِعْدَامِهَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي إِمْكَانَ وُقُوعِ الْإِعْدَامِ بِالْفَاعِلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: زَعَمَ الْكَعْبِيُّ أَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى مِثْلِ مَقْدُورِ الْعَبْدِ، وَزَعَمَ أَبُو عَلِيٍّ وَأَبُو هَاشِمٍ أَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى مَقْدُورِ الْعَبْدِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى مِثْلِ مَقْدُورِ الْعَبْدِ وَعَلَى غَيْرِ مَقْدُورِهِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ عَيْنَ مَقْدُورِ الْعَبْدِ وَمِثْلَ مَقْدُورِهِ شَيْءٌ، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَثَبَتَ بِهَذَا صِحَّةُ وُجُودِ مَقْدُورٍ وَاحِدٍ بَيْنَ قَادِرَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: زَعَمَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَا مُؤَثِّرَ إِلَّا قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَبْطَلُوا الْقَوْلَ بِالطَّبَائِعِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ، وَأَبْطَلُوا الْقَوْلَ بِالْمُتَوَلِّدَاتِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَأَبْطَلُوا الْقَوْلَ بِكَوْنِ الْعَبْدِ مُوجِدًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى الْكُلِّ بِأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فلوقوع شَيْءٌ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ لَا بِقُدْرَةِ اللَّهِ بَلْ بِشَيْءٍ آخَرَ، لَكَانَ ذَلِكَ الْآخَرُ قَدْ مَنَعَ قُدْرَةَ اللَّهِ عَنِ التَّأْثِيرِ فِيمَا كَانَ مَقْدُورًا لَهُ وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّ مَا سِوَى اللَّهِ مُمْكِنٌ مُحْدَثٌ، فَيَكُونُ أَضْعَفَ قُوَّةً مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ، وَالْأَضْعَفُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدْفَعَ الْأَقْوَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ تَعَالَى وَاحِدٌ، لِأَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا إِلَهًا ثَانِيًا، فَإِمَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى إِيجَادِ شَيْءٍ أَوْ لَا يَقْدِرَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ أَلْبَتَّةَ عَلَى إِيجَادِ شَيْءٍ أَصْلًا لَمْ يَكُنْ إِلَهًا، وَإِنْ قَدَرَ كَانَ مَقْدُورُ ذَلِكَ الْإِلَهِ الثَّانِي شَيْئًا، فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ مَقْدُورًا لِلْإِلَهِ الْأَوَّلِ لِقَوْلِهِ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَيَلْزَمُ وُقُوعُ مَخْلُوقٍ بَيْنَ خَالِقَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُسْتَقِلًّا بِالْإِيجَادِ، يَلْزَمُ أَنْ يَسْتَغْنِيَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِمَا، وَغَنِيًّا عَنْهُمَا، وَذَلِكَ مُحَالٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: احْتَجَّ جَهْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِشَيْءٍ فَقَالَ: لَوْ كَانَ شَيْئًا لَكَانَ قَادِرًا عَلَى نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَكِنَّ كَوْنَهُ قَادِرًا عَلَى نَفْسِهِ مُحَالٌ، فَيَمْتَنِعُ كَوْنُهُ شَيْئًا، وَقَالَ أَصْحَابُنَا لَمَّا دَلَّ قَوْلُهُ: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ [الْأَنْعَامِ: 19] عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى شَيْءٌ وَجَبَ تَخْصِيصُ هَذَا الْعُمُومِ، فَإِذًا هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ وَارِدٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ جَائِزٌ بَلْ وَاقِعٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: زَعَمَ جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْكَذِبِ وَالْجَهْلِ وَالْعَبَثِ وَالظُّلْمِ، وَزَعَمَ النَّظَّامُ أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْجَهْلَ وَالْكَذِبَ أَشْيَاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَيْهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: احْتَجَّ أَهْلُ التَّوْحِيدِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَوْ حَصَلَ فِي حَيِّزٍ دُونَ حَيِّزٍ لَكَانَ ذَلِكَ الْحَيِّزُ الَّذِي حَكَمَ بِحُصُولِهِ فِيهِ مُتَمَيِّزًا عَنِ الْحَيِّزِ الَّذِي حَكَمَ بِأَنَّهُ غَيْرُ حَاصِلٍ فِيهِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَتَمَيَّزْ أَحَدُ الْحَيِّزَيْنِ عَنِ الْآخَرِ لَاسْتَحَالَ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ تَعَالَى حَصَلَ فِيهِ وَلَمْ يَحْصُلْ فِي الْآخَرِ ثُمَّ إِنَّ امْتِيَازَ أَحَدِ الْحَيِّزَيْنِ عَنِ الْآخَرِ فِي نَفْسِهِ يَقْتَضِي كَوْنَ الْحَيِّزِ أَمْرًا مَوْجُودًا لِأَنَّ الْعَدَمَ الْمَحْضَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُشَارًا إِلَيْهِ بِالْحِسِّ وَأَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ مُتَمَيِّزًا عَنِ الْبَعْضِ فِي الْحِسِّ، وَأَنْ يَكُونَ مَقْصِدًا لِلْمُتَحَرِّكِ، فَإِذَنْ لَوْ كَانَ الله تعالى

[سورة الملك (67) : آية 2]

حَاصِلًا فِي حَيِّزٍ لَكَانَ ذَلِكَ الْحَيِّزُ مَوْجُودًا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْحَيِّزُ مَوْجُودًا لَكَانَ شَيْئًا ولكان مقدور الله لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَإِذَا كَانَ تَحَقُّقُ ذَلِكَ الْحَيِّزِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَبِإِيجَادِهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُتَقَدِّمًا فِي الْوُجُودِ عَلَى تَحَقُّقِ ذَلِكَ الْحَيِّزِ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ كَانَ وُجُودُ اللَّهِ فِي الْأَزَلِ مُحَقَّقًا مِنْ غَيْرِ حَيِّزٍ وَلَهُ جِهَةٌ أَصْلًا وَالْأَزَلِيُّ لَا يَزُولُ أَلْبَتَّةَ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَيِّزِ وَالْمَكَانِ أَزَلًا وَأَبَدًا. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَوَّلًا: بِيَدِهِ الْمُلْكُ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِيَدِهِ الْمُلْكُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا مِنْ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ مُرَادُ الْعَبْدِ وَلَا يَقَعُ مُرَادُ اللَّهِ، لَكَانَ ذَلِكَ مُشْعِرًا بِالْعَجْزِ وَالضَّعْفِ، وَبِأَنْ لَا يَكُونَ مَالِكَ الْمُلْكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَدَلَّ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَالِكَ الْمُلْكِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: الْقَدِيرُ مُبَالَغَةٌ فِي الْقَادِرِ، فَلَمَّا كَانَ قَدِيرًا عَلَى كُلِّ الْأَشْيَاءِ وَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَهُ أَلْبَتَّةَ مَانِعٌ عَنْ إِيجَادِ شَيْءٍ مِنْ مَقْدُورَاتِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ الْوُجُوبُ مَانِعًا لَهُ مِنَ التَّرْكِ وَأَنْ لَا يَقْبُحَ مِنْهُ شَيْءٌ وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ الْقُبْحُ مَانِعًا لَهُ مِنَ الْفِعْلِ، فَلَا يَكُونُ كَامِلًا فِي القدرة، فلا يكون قديرا والله أعلم. [سورة الملك (67) : آية 2] الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ فِيهِ مسائل: المسألة الْأُولَى: قَالُوا: الْحَيَاةُ هِيَ الصِّفَةُ الَّتِي يَكُونُ الْمَوْصُوفُ بِهَا بِحَيْثُ يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ وَيَقْدِرَ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ مُضَادَّةٌ لِلْحَيَاةِ وَاحْتَجُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْعَدَمُ لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ، وَرَوَى الْكَلْبِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمَوْتَ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ لَا يَمُرُّ بِشَيْءٍ، وَلَا يَجِدُ رَائِحَتَهُ شَيْءٌ إِلَّا مَاتَ وَخَلَقَ الْحَيَاةَ/ فِي صُورَةِ فَارِسٍ يَلْقَاهُ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ وَلَا يَجِدُ رِيحَتَهَا شَيْءٌ إِلَّا حَيِيَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَقُولًا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَالتَّصْوِيرِ، وَإِلَّا فَالتَّحْقِيقُ هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ الْمَوْتِ عَلَى ذِكْرِ الْحَيَاةِ مَعَ أَنَّ الْحَيَاةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَوْتِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي بِالْمَوْتِ نُطْفَةً وَعَلَقَةً وَمُضْغَةً وَالْحَيَاةُ نَفْخُ الرُّوحِ وَثَانِيهَا: رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُرِيدُ الْمَوْتَ فِي الدُّنْيَا وَالْحَيَاةَ فِي الْآخِرَةِ دَارِ الْحَيَوَانِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ مُنَادِيًا يُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا: نَعَمْ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ وَيُذْبَحُ ثُمَّ يُنَادَى يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ بِلَا مَوْتٍ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ بِلَا مَوْتٍ فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحٍ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنٍ» وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَوْتَ عَرَضٌ مِنَ الْأَعْرَاضِ كَالسُّكُونِ وَالْحَرَكَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ كَبْشًا بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّمْثِيلُ لِيُعْلَمَ أَنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ قَدِ انْقَضَى أَمْرُ الْمَوْتِ، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ أَيَّامَ الْمَوْتِ هِيَ أَيَّامُ الدُّنْيَا وَهِيَ مُنْقَضِيَةٌ، وَأَمَّا أَيَّامُ الْآخِرَةِ فَهِيَ أَيَّامُ الْحَيَاةِ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ فَلَمَّا كَانَتْ أَيَّامُ الْمَوْتِ مُتَقَدِّمَةً عَلَى أَيَّامِ الْحَيَاةِ لَا جَرَمَ قَدَّمَ اللَّهُ ذِكْرَ الْمَوْتِ عَلَى ذِكْرِ الْحَيَاةِ

وَرَابِعُهَا إِنَّمَا قَدَّمَ الْمَوْتَ عَلَى الْحَيَاةِ لِأَنَّ أَقْوَى النَّاسِ دَاعِيًا إِلَى الْعَمَلِ مَنْ نَصَبَ مَوْتَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَقُدِّمَ لِأَنَّهُ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْغَرَضِ لَهُ أَهَمُّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَيَاةَ هِيَ الْأَصْلُ فِي النِّعَمِ وَلَوْلَاهَا لَمْ يَتَنَعَّمْ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ الْأَصْلُ أَيْضًا فِي نِعَمِ الْآخِرَةِ وَلَوْلَاهَا لَمْ يَثْبُتِ الثَّوَابُ الدَّائِمُ، وَالْمَوْتُ أَيْضًا نِعْمَةٌ عَلَى مَا شَرَحْنَا الْحَالَ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَكَيْفَ لَا وَهُوَ الْفَاصِلُ بَيْنَ حَالِ التَّكْلِيفِ وَحَالِ الْمُجَازَاةِ وَهُوَ نِعْمَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَكْثِرُوا مِنْ ذكر هازم اللذات» وقال لقوم: «لو أكثرتم ذكر هازم اللَّذَّاتِ لَشَغَلَكُمْ عَمَّا أَرَى» وَسَأَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ رَجُلٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ، فَقَالَ: «كَيْفَ ذِكْرُهُ الْمَوْتَ؟ قَالُوا قَلِيلٌ، قَالَ فَلَيْسَ كَمَا تقولون» . قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الِابْتِلَاءُ هُوَ التَّجْرِبَةُ وَالِامْتِحَانُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ هَلْ يُطِيعُ أَوْ يَعْصِي وَذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ أَزَلًا وَأَبَدًا مُحَالٌ، إِلَّا أَنَّا قَدْ حَقَّقْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ [الْبَقَرَةِ: 124] وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِابْتِلَاءَ مِنَ اللَّهِ هُوَ أَنْ يُعَامِلَ عَبْدَهُ مُعَامَلَةً تُشْبِهُ [الِابْتِلَاءَ] عَلَى الْمُخْتَبَرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ الْفِعْلَ لِغَرَضٍ بِقَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ قَالُوا: هَذِهِ اللَّامُ لِلْغَرَضِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] وَجَوَابُهُ أَنَّ الْفِعْلَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِابْتِلَاءٍ إِلَّا أَنَّهُ/ لَمَّا أَشْبَهَ الابتلاء سمي مجازا، فكذا هاهنا، فَإِنَّهُ يُشْبِهُ الْغَرَضَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ غَرَضًا، فَذَكَرَ فِيهِ حَرْفَ الْغَرَضِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّا فَسَّرْنَا الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ بِالْمَوْتِ حَالَ كَوْنِهِ نُطْفَةً وَعَلَقَةً وَمُضْغَةً، وَالْحَيَاةُ بَعْدَ ذَلِكَ فَوَجْهُ الِابْتِلَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي نَقَلَهُ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ وَكَمَا فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَنْقُلَهُ مِنَ الْحَيَاةِ إِلَى الْمَوْتِ فَيَحْذَرُ مَجِيءَ الْمَوْتِ الَّذِي بِهِ يَنْقَطِعُ اسْتِدْرَاكُ مَا فَاتَ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْفَقِيرُ وَالْغَنِيُّ وَالْمَوْلَى وَالْعَبْدُ، وَأَمَّا إِنْ فَسَّرْنَاهُمَا بِالْمَوْتِ فِي الدُّنْيَا وَبِالْحَيَاةِ فِي الْقِيَامَةِ فَالِابْتِلَاءُ فِيهِمَا أَتَمُّ لِأَنَّ الْخَوْفَ مِنَ الْمَوْتِ فِي الدُّنْيَا حَاصِلٌ وَأَشَدُّ مِنْهُ الْخَوْفُ مِنْ تَبِعَاتِ الْحَيَاةِ فِي الْقِيَامَةِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الِابْتِلَاءِ أَنَّهُ هَلْ يَنْزَجِرُ عَنِ الْقَبَائِحِ بِسَبَبِ هَذَا الْخَوْفِ أَمْ لَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَعَلُّقِ قَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ بِقَوْلِهِ: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ: إِنَّ الْمُتَعَلِّقَ بأيكم مُضْمَرٌ وَالتَّقْدِيرُ لِيَبْلُوَكُمْ فَيَعْلَمَ أَوْ فَيَنْظُرَ أَيَّكُمْ أحسن عملا والثاني: قال صاحب «الكشاف» : لِيَبْلُوَكُمْ في معنى ليعلمكم والتقدير ليعلمكم أَيَّكُمْ أَحْسَنَ عَمَلًا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ارْتَفَعَتْ (أَيُّ) بالابتداء ولا يعمل فيها ما قبلها لأنه عَلَى أَصْلِ الِاسْتِفْهَامِ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لَا أَعْلَمُ أَيُّكُمْ أَفْضَلُ كَانَ الْمَعْنَى لَا أَعْلَمُ أزيد أفضل أم عمرو، واعلم أن مالا يَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَ الْأَلِفِ فَكَذَلِكَ لَا يَعْمَلُ فِي (أَيٍّ) لِأَنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ [الْقَلَمِ: 40] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ أَحْسَنُ عَمَلًا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ أَخْلَصَ الْأَعْمَالِ وَأَصْوَبَهَا لِأَنَّ الْعَمَلَ إِذَا كَانَ خَالِصًا غَيْرَ صَوَابٍ لَمْ يُقْبَلْ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ صَوَابًا غَيْرَ خَالِصٍ فَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِوَجْهِ اللَّهِ،

[سورة الملك (67) : آية 3]

وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ وَثَانِيهَا: قَالَ قَتَادَةُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَقُولُ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَقْلًا» ثُمَّ قَالَ: أَتَمُّكُمْ عَقْلًا أَشَدُّكُمْ لِلَّهِ خَوْفًا وَأَحْسَنُكُمْ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ نَظَرًا، وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يُفَسَّرَ حُسْنُ الْعَمَلِ بِتَمَامِ الْعَقْلِ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَقْلِ، فَمَنْ كَانَ أَتَمَّ عَقْلًا كَانَ أَحْسَنَ عَمَلًا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ قَتَادَةَ وَثَالِثُهَا: رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَيُّكُمْ أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَأَشَدُّ تَرْكًا لَهَا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ حَدِيثَ الِابْتِلَاءِ قَالَ بَعْدَهُ: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ أَيْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ مَنْ أَسَاءَ الْعَمَلَ، الْغَفُورُ لِمَنْ تَابَ مِنْ أَهْلِ الْإِسَاءَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَهُ عَزِيزًا غَفُورًا لَا يَتِمُّ إِلَّا بَعْدَ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ أَمَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ، فَلِأَجْلِ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ إِيصَالِ جَزَاءِ كُلِّ أَحَدٍ بِتَمَامِهِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ عِقَابًا أَوْ ثَوَابًا، وَأَمَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْعِلْمِ التَّامِّ فَلِأَجْلِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمُطِيعَ مَنْ هُوَ وَالْعَاصِيَ مَنْ هُوَ فَلَا يَقَعُ الْخَطَأُ فِي إِيصَالِ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ عَزِيزًا غَفُورًا لَا يُمْكِنُ ثُبُوتُهَا إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ/ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالْعِلْمِ التَّامِّ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ اللَّهُ الدَّلِيلَ عَلَى ثُبُوتِ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ عَالِمًا، لَا جَرَمَ ذَكَرَ أولا دلائل القدرة وثانيا دلائل العلم. [سورة الملك (67) : آية 3] الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) أَمَّا دَلِيلُ الْقُدْرَةِ فَهُوَ قَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي طِباقاً ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ أَوَّلُهَا: طِبَاقًا أَيْ مُطَابَقَةً بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ مِنْ طَابَقَ النَّعْلَ إِذَا خَصَفَهَا طَبَقًا عَلَى طَبَقٍ، وَهَذَا وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ ذَاتَ طِبَاقٍ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ طُوبِقَتْ طِبَاقًا. الْمَسْأَلَةُ الثانية: دلالة هذه السموات عَلَى الْقُدْرَةِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا بَقِيَتْ فِي جَوِّ الْهَوَاءِ مُعَلَّقَةً بِلَا عِمَادٍ وَلَا سِلْسِلَةٍ وَثَانِيهَا: مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا اخْتُصَّ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مَعَ جَوَازِ مَا هُوَ أَزْيَدُ مِنْهُ وَأَنْقَصُ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ اخْتَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِحَرَكَةٍ خَاصَّةٍ مُقَدَّرَةٍ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنَ السُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ إِلَى جهة مُعَيَّنَةٍ وَرَابِعُهَا: كَوْنُهَا فِي ذَوَاتِهَا مُحْدَثَةً وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اسْتِنَادِهَا إِلَى قَادِرٍ تَامِّ الْقُدْرَةِ. وَأَمَّا دَلِيلُ الْعِلْمِ فَهُوَ قَوْلُهُ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مِنْ تَفَوُّتٍ وَالْبَاقُونَ مِنْ تَفاوُتٍ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُمَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلُ تَظَهُّرٍ وَتَظَاهُرٍ، وَتَعَهُّدٍ وَتَعَاهُدٍ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: تَفاوُتٍ أَجْوَدُ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: تَفَاوَتَ الْأَمْرُ وَلَا يَكَادُونَ يَقُولُونَ: تَفَوَّتَ، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَفَوُّتٍ، وَقَالَ: يُقَالُ تَفَوَّتَ الشَّيْءُ إِذَا فَاتَ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا تَفَوَّتَ عَلَى أَبِيهِ فِي مَالِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَقِيقَةُ التَّفَاوُتِ عَدَمُ التَّنَاسُبِ كَأَنَّ بَعْضَ الشَّيْءِ يَفُوتُ بَعْضَهُ «1» وَلَا يُلَائِمُهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: (تَعَلَّقَ مُتَعَلِّقٌ مُتَفَاوِتٌ وَنَقِيضُهُ مُتَنَاسِبٌ) «2» ، وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْمُفَسِّرِينَ فَقَالَ السُّدِّيُّ: مِنْ تَفَاوُتٍ أَيْ مِنَ اخْتِلَافِ

_ (1) في الكشاف للزمخشري (بعضا) 4/ 134 ط. دار الفكر. (2) في الكشاف للزمخشري (خلق متفاوت وفي نقيضه متناصف) 4/ 134 ط. دار الفكر.

[سورة الملك (67) : آية 4]

عَيْبٍ، يَقُولُ النَّاظِرُ: لَوْ كَانَ كَذَا كَانَ أَحْسَنَ، وَقَالَ آخَرُونَ: التَّفَاوُتُ الْفُطُورُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ [ق: 6] قَالَ الْقَفَّالُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى حِكْمَةِ صَانِعِهَا وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْهَا عَبَثًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: مَا تَرى إِمَّا لِلرَّسُولِ أَوْ لِكُلِّ مُخَاطَبٍ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي/ قَوْلِهِ: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: طِباقاً صِفَةٌ لِلسَّمَوَاتِ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ صِفَةٌ أُخْرَى لِلسَّمَوَاتِ وَالتَّقْدِيرُ خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِيهِنَّ مِنْ تَفَاوُتٍ إِلَّا أَنَّهُ وَضَعَ مَكَانَ الضَّمِيرِ قَوْلَهُ: خَلْقِ الرَّحْمنِ تَعْظِيمًا لِخَلْقِهِنَّ وَتَنْبِيهًا عَلَى سَبَبِ سَلَامَتِهِنَّ مِنَ التَّفَاوُتِ، وَهُوَ أَنَّهُ خَلْقِ الرَّحْمَنِ وَأَنَّهُ بِبَاهِرِ قُدْرَتِهِ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ مِثْلَ ذَلِكَ الْخَلْقِ الْمُتَنَاسِبِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا عَلَى كَمَالِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ أَنَّ الحس دل أن هذه السموات السَّبْعَ، أَجْسَامٌ مَخْلُوقَةٌ عَلَى وَجْهِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ، وَكُلُّ فَاعِلٍ كَانَ فِعْلُهُ مُحْكَمًا مُتْقَنًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا، فَدَلَّ هَذِهِ الدَّلَالَةُ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِالْمَعْلُومَاتِ فَقَوْلُهُ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهَا مُحْكَمَةً مُتْقَنَةً. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: احْتَجَّ الْكَعْبِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ لَيْسَتْ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى نَفَى التَّفَاوُتَ فِي خَلْقِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ التَّفَاوُتِ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالنَّقْصِ وَالْعَيْبِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ التَّفَاوُتِ فِي خَلْقِهِ مِنْ حَيْثُ الْحِكْمَةِ، فَيَدُلُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَيْسَتْ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ التَّفَاوُتِ الَّذِي بَعْضُهُ جَهْلٌ وَبَعْضُهُ كَذِبٌ وَبَعْضُهُ سَفَهٌ، الْجَوَابُ: بَلْ نحن نحمله على أنه لا تفوت فيها بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْكُلَّ يَصِحُّ مِنْهُ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالدَّاعِيَةِ، وَإِنَّهُ لَا يُقَبَّحُ مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلًا، فَلِمَ كَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى التَّفَاوُتِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى نَفْيِ التَّفَاوُتِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ بَيَانَ كَوْنِهَا مُحْكَمَةً مُتْقَنَةً، وَقَالَ: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ كَأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: وَلَعَلَّكَ لَا تَحْكُمُ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ بِالْبَصَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ الْغَلَطُ فِي النَّظْرَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَكِنِ ارْجِعِ الْبَصَرَ وَارْدُدِ النَّظْرَةَ مَرَّةً أُخْرَى، حَتَّى تَتَيَقَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ أَلْبَتَّةَ. وَالْفُطُورُ جَمْعُ فَطْرٍ، وَهُوَ الشَّقُّ يُقَالُ: فَطَرَهُ فَانْفَطَرَ وَمِنْهُ فَطَرَ نَابُ الْبَعِيرِ، كَمَا يُقَالُ: شَقَّ وَمَعْنَاهُ شَقَّ اللَّحْمَ فَطَلَعَ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ أَيْ مِنْ فُرُوجٍ وَصُدُوعٍ وَشُقُوقٍ، وَفُتُوقٍ، وخروق، كل هذا ألفاظهم. ثم قال تعالى: [سورة الملك (67) : آية 4] ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) أُمِرَ بِتَكْرِيرِ الْبَصَرِ فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ عَلَى سَبِيلِ التَّصَفُّحِ وَالتَّتَبُّعِ، هَلْ يَجِدُ فِيهِ عَيْبًا وَخَلَلًا، يَعْنِي أَنَّكَ إِذَا كَرَّرْتَ نَظَرَكَ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْكَ بَصَرُكَ بِمَا طَلَبْتَهُ مِنْ وِجْدَانِ الْخَلَلِ وَالْعَيْبِ، بَلْ يَرْجِعُ إِلَيْكَ خَاسِئًا أَيْ مُبْعَدًا مِنْ قَوْلِكَ خَسَأْتُ الْكَلْبَ إِذَا بَاعَدْتَهُ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْخَاسِئُ الْمُبْعَدُ الْمُصَغَّرُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْخَاسِئُ الَّذِي لَمْ يَرَ مَا يَهْوَى، وَأَمَّا الْحَسِيرُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْكَلِيلُ، قَالَ اللَّيْثُ: / الْحَسْرُ وَالْحُسُورُ الإعياء، وذكر الواحدي

[سورة الملك (67) : آية 5]

هاهنا احْتِمَالَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْحَسِيرُ مَفْعُولًا مِنْ حَسَرَ الْعَيْنَ بُعْدُ الْمَرْئِيِّ، قَالَ رُؤْبَةُ: يَحْسُرُ طرف عيناه فضا الثَّانِي: قَوْلُ الْفَرَّاءِ: أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا مِنَ الْحُسُورِ الَّذِي هُوَ الْإِعْيَاءُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ وَإِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ وَأَعَادَهُ فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ عَيْبًا وَلَا فُطُورًا، بَلِ الْبَصَرُ يَرْجِعُ خَاسِئًا مِنَ الكلال والإعياء، وهاهنا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَنْقَلِبُ الْبَصَرُ خَاسِئًا حَسِيرًا بِرَجْعِهِ كَرَّتَيْنِ اثْنَتَيْنِ الْجَوَابُ: التَّثْنِيَةُ لِلتَّكْرَارِ بِكَثْرَةٍ كَقَوْلِهِمْ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يُرِيدُ إِجَابَاتٍ مُتَوَالِيَةً. السُّؤَالُ الثَّانِي: فَمَا مَعْنَى ثُمَّ ارْجِعِ الْجَوَابُ: أَمَرَهُ بِرَجْعِ الْبَصَرِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ لَا يَقْنَعَ بِالرَّجْعَةِ الْأُولَى، بَلْ أَنْ يَتَوَقَّفَ بَعْدَهَا وَيَجُمَّ بَصَرَهُ ثُمَّ يُعِيدَهُ وَيُعَاوِدَهُ إِلَى أَنْ يَحْسِرَ بَصَرُهُ مِنْ طُولِ الْمُعَاوَدَةِ فَإِنَّهُ لَا يعثر على شيء من فطور. [سورة الملك (67) : آية 5] وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الدَّلِيلُ الثَّانِي عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَالِمًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ وَمُخْتَصَّةٌ بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ، وَمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، وَسَيْرٍ مُعَيَّنٍ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَانِعَهَا قَادِرٌ وَنَظَرًا إِلَى كَوْنِهَا مُحْكَمَةً مُتْقَنَةً مُوَافِقَةً لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ مِنْ كَوْنِهَا زِينَةً لِأَهْلِ الدُّنْيَا، وَسَبَبًا لِانْتِفَاعِهِمْ بِهَا، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَانِعَهَا عالم، ونظير هذه الآية في سورة الصفات إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ [الصافات: 7] وهاهنا مسائل. المسألة الأولى: السَّماءَ الدُّنْيا السماء القربى، وذلك لأنها أقرب السموات إِلَى النَّاسِ وَمَعْنَاهَا السَّمَاءُ الدُّنْيَا مِنَ النَّاسِ، وَالْمَصَابِيحُ السُّرُجُ سُمِّيَتْ بِهَا الْكَوَاكِبُ، وَالنَّاسُ يُزَيِّنُونَ مَسَاجِدَهُمْ وَدُورَهُمْ بِالْمَصَابِيحِ، فَقِيلَ: وَلَقَدْ زَيَّنَّا سَقْفَ الدَّارِ الَّتِي اجْتَمَعْتُمْ فِيهَا بِمَصَابِيحَ أَيْ بِمَصَابِيحَ لَا تُوَازِيهَا مَصَابِيحُكُمْ إِضَاءَةً، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ فَاعْلَمْ أَنَّ الرُّجُومَ جَمْعُ رَجْمٍ، وَهُوَ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ مَا يُرْجَمُ بِهِ، وَذَكَرُوا فِي مَعْرِضِ هَذِهِ الْآيَةِ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ إِذَا أَرَادُوا اسْتِرَاقَ السَّمْعِ رُجِمُوا بِهَا، فَإِنْ قِيلَ: جَعْلُ الْكَوَاكِبِ زِينَةً لِلسَّمَاءِ يَقْتَضِي بَقَاءَهَا وَاسْتِمْرَارَهَا وَجَعْلُهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَرَمْيُهُمْ بِهَا يَقْتَضِي زَوَالَهَا وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَنَاقِضٌ، قُلْنَا: لَيْسَ مَعْنَى رَجْمِ الشَّيَاطِينِ هُوَ أَنَّهُمْ يُرْمَوْنَ بِأَجْرَامِ الْكَوَاكِبِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَصِلَ مِنَ الْكَوَاكِبِ شُعَلٌ تُرْمَى الشَّيَاطِينُ بِهَا، وَتِلْكَ الشُّعَلُ هِيَ الشُّهُبُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا قَبَسٌ يُؤْخَذُ مِنْ نَارٍ وَالنَّارُ/ بَاقِيَةٌ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ كَوْنِ الْكَوَاكِبِ رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ أَنَّا جَعَلْنَاهَا ظُنُونًا وَرُجُومًا بِالْغَيْبِ لِشَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَهُمُ الْأَحْكَامِيُّونَ مِنَ الْمُنَجِّمِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ مَرْكُوزَةٌ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وذلك لأن السموات إِذَا كَانَتْ شَفَّافَةً فَالْكَوَاكِبُ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا أَوْ كَانَتْ فِي سَمَوَاتٍ أُخْرَى فَوْقَهَا، فَهِيَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَظْهَرَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَتَلُوحُ مِنْهَا، فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ تَكُونُ السَّمَاءُ الدُّنْيَا مُزَيَّنَةً بِهَذِهِ الْمَصَابِيحِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَ الْهَيْئَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الثَّوَابِتَ مَرْكُوزَةٌ فِي الْفَلَكِ الثَّامِنِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ

كُرَاتِ «1» السَّيَّارَاتِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الثَّوَابِتِ فِي الْفَلَكِ الثَّامِنِ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا هُنَاكَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ بَعْضَهَا فِي الْفَلَكِ الثَّامِنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّوَابِتَ الَّتِي تَكُونُ قَرِيبَةً مِنَ الْمِنْطَقَةِ تَنْكَسِفُ بِهَذِهِ السَّيَّارَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الثَّوَابِتُ الْمُنْكَسِفَةُ فَوْقَ السَّيَّارَاتِ الْكَاسِفَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ الثَّوَابِتَ لَمَّا كَانَتْ فِي الْفَلَكِ الثَّامِنِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا هُنَاكَ، لِأَنَّهَا بِأَسْرِهَا مُتَحَرِّكَةٌ حَرَكَةً وَاحِدَةً بَطِيئَةً فِي كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ دَرَجَةً وَاحِدَةً، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَرْكُوزَةً فِي كُرَةٍ وَاحِدَةٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ بَعْضِ الثَّوَابِتِ فَوْقَ السَّيَّارَاتِ كَوْنُ كُلِّهَا هُنَاكَ، لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ وُجُودُ كُرَةٍ تَحْتَ الْقَمَرِ، وَتَكُونُ فِي الْبُطْءِ مُسَاوِيَةً لِكُرَةِ الثَّوَابِتِ، وَتَكُونُ الْكَوَاكِبُ الْمَرْكُوزَةُ فِيمَا يُقَارِنُ الْقُطْبَيْنِ مَرْكُوزَةً فِي هَذِهِ الْكُرَةِ السُّفْلِيَّةِ، إِذْ لَا يَبْعُدُ وُجُودُ كُرَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ مَعَ كَوْنِهِمَا مُتَشَابِهَتَيْنِ فِي الْحَرَكَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَصَابِيحُ مَرْكُوزَةً فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَثَبَتَ أَنَّ مَذْهَبَ الْفَلَاسِفَةِ فِي هَذَا الْبَابِ ضَعِيفٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنَافِعَ النُّجُومِ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَيَّنَ السَّمَاءَ بِهَا، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَحْصُلُ بِسَبَبِهَا فِي اللَّيْلِ قَدْرٌ مِنَ الضَّوْءِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ إِذَا تَكَاثَفَ السَّحَابُ فِي اللَّيْلِ عَظُمَتِ الظُّلْمَةُ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ السَّحَابَ يَحْجُبُ أَنْوَارَهَا، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَحْصُلُ بِسَبَبِهَا تَفَاوُتٌ فِي أَحْوَالِ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، فَإِنَّهَا أَجْسَامٌ عَظِيمَةٌ نُورَانِيَّةٌ، فَإِذَا قَارَنَتِ الشَّمْسُ كَوْكَبًا مُسَخَّنًا فِي الصَّيْفِ، صَارَ الصَّيْفُ أَقْوَى حَرًّا، وَهُوَ مِثْلُ نَارٍ تُضَمُّ إِلَى نَارٍ أُخْرَى، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنْ يَكُونَ الْأَثَرُ الْحَاصِلُ مِنَ الْمَجْمُوعِ أَقْوَى، وَمِنْهَا أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا عَلَامَاتٌ يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النَّحْلِ: 16] وَمِنْهَا أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يُخْرِجُونَ النَّاسَ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ إِلَى ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ، يُرْوَى أَنَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْجِنَّ كَانَتْ تَتَسَمَّعُ لِخَبَرِ السَّمَاءِ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُرِسَتِ السَّمَاءُ، وَرُصِدَتِ الشَّيَاطِينُ، فَمَنْ جَاءَ مِنْهُمْ مُسْتَرِقًا لِلسَّمْعِ رُمِيَ بِشِهَابٍ فَأَحْرَقَهُ لِئَلَّا يَنْزِلَ بِهِ إِلَى الْأَرْضِ فَيُلْقِيَهُ إِلَى النَّاسِ فَيَخْلِطَ عَلَى النَّبِيِّ أَمْرَهُ وَيَرْتَابَ النَّاسُ بِخَبَرِهِ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي انْقِضَاضِ الشُّهُبِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَمِنَ النَّاسِ/ مَنْ طَعَنَ فِي هَذَا مِنْ وُجُوهِ أَحَدُهَا: أَنَّ انْقِضَاضَ الْكَوَاكِبِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ قُدَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ، قَالُوا: إِنَّ الْأَرْضَ إِذَا سُخِّنَتْ بِالشَّمْسِ ارْتَفَعَ مِنْهَا بُخَارٌ يَابِسٌ، وَإِذَا بَلَغَ النَّارَ الَّتِي دُونَ الْفَلَكِ احْتَرَقَ بِهَا، فَتِلْكَ الشُّعْلَةُ هِيَ الشِّهَابُ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْجِنَّ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُشَاهِدُوا وَاحِدًا وَأَلْفًا مِنْ جِنْسِهِمْ يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ فَيَحْتَرِقُونَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَعُودُونَ لِمِثْلِ صَنِيعِهِمْ فَإِنَّ الْعَاقِلَ إِذَا رَأَى الْهَلَاكَ فِي شَيْءٍ مَرَّةً وَمِرَارًا وَأَلْفًا امْتَنَعَ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ يُقَالُ فِي ثِخَنِ السَّمَاءِ فَإِنَّهُ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، فَهَؤُلَاءِ الْجِنُّ إِنْ نَفَذُوا فِي جِرْمِ السَّمَاءِ وَخَرَقُوا اتِّصَالَهُ، فَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى نَفَى أَنْ يَكُونَ فِيهَا فُطُورٌ عَلَى مَا قَالَ: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الْمُلْكِ: 3] وَإِنْ كَانُوا لَا يَنْفُذُونَ فِي جِرْمِ السَّمَاءِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَسْمَعُوا أَسْرَارَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ ذَلِكَ الْبُعْدِ الْعَظِيمِ، ثُمَّ إِنْ جَازَ أَنْ يَسْمَعُوا كَلَامَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْبُعْدِ الْعَظِيمِ، فَلَا يَسْمَعُوا كَلَامَ الْمَلَائِكَةِ حَالَ كَوْنِهِمْ فِي الْأَرْضِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَّمَا اطَّلَعُوا عَلَى الْأَحْوَالِ الْمُسْتَقْبِلَةِ، إِمَّا لِأَنَّهُمْ طَالَعُوهَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ لِأَنَّهُمْ تَلَقَّفُوهَا مِنْ وَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلِمَ لَمْ يَسْكُتُوا عَنْ ذِكْرِهَا حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ الْجِنُّ مِنَ الْوُقُوفِ

_ (1) في الأصل «أكر» والصواب «كرات» لأنه جمع «كرة» لا «أكرة» .

عَلَيْهَا وَخَامِسُهَا: أَنَّ الشَّيَاطِينَ مَخْلُوقُونَ مِنَ النَّارِ، وَالنَّارُ لَا تَحْرِقُ النَّارَ بَلْ تُقَوِّيهَا، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الشَّيَاطِينَ زُجِرُوا عَنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ بِهَذِهِ الشُّهُبِ وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ كَانَ هَذَا الْحَذْفُ لِأَجْلِ النُّبُوَّةِ فَلِمَ دَامَ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَسَابِعُهَا: أَنَّ هَذِهِ الرُّجُومَ إِنَّمَا تَحْدُثُ بِالْقُرْبِ مِنَ الْأَرْضِ، بِدَلِيلِ أَنَّا نُشَاهِدُ حَرَكَتَهَا بِالْعَيْنِ وَلَوْ كَانَتْ قَرِيبَةً مِنَ الْفَلَكِ، لَمَا شَاهَدْنَا حَرَكَتَهَا كَمَا لَمْ نُشَاهِدْ حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الشُّهُبَ إِنَّمَا تَحْدُثُ بِالْقُرْبِ مِنَ الْأَرْضِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهَا تَمْنَعُ الشَّيَاطِينَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْفَلَكِ وَثَامِنُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الشَّيَاطِينَ لَوْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَنْقُلُوا أَخْبَارَ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ إِلَى الْكَهَنَةِ، فَلِمَ لَا يَنْقُلُونَ أَسْرَارَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْكُفَّارِ، حَتَّى يَتَوَصَّلَ الْكُفَّارُ بِوَاسِطَةِ وُقُوفِهِمْ عَلَى أَسْرَارِهِمْ إِلَى إِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِهِمْ؟ وَتَاسِعُهَا: لِمَ لَمْ يَمْنَعْهُمُ اللَّهُ ابْتِدَاءً مِنَ الصُّعُودِ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ فِي دَفْعِهِمْ عَنِ السَّمَاءِ إِلَى هَذِهِ الشُّهُبِ؟. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: أَنَّا لَا نُنْكِرُ أَنَّ هَذِهِ الشُّهُبَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَسْبَابٍ أُخَرَ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنَّهَا بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ تُوجَدُ بِسَبَبٍ آخَرَ وَهُوَ دَفْعُ الْجِنِّ وَزَجْرُهُمْ. يُرْوَى أَنَّهُ قِيلَ لِلزُّهْرِيِّ: أَكَانَ يُرْمَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الْجِنِّ: 9] قَالَ: غُلِّظَتْ وَشُدِّدَ أَمْرُهَا حِينَ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا جَاءَ الْقَدَرُ عَمِيَ الْبَصَرُ، فَإِذَا قَضَى اللَّهُ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْهَا الْحَرْقَ لِطُغْيَانِهَا وَضَلَالَتِهَا، قَيَّضَ لَهَا مِنَ الدَّوَاعِي الْمُطَمِّعَةِ فِي دَرْكِ الْمَقْصُودِ مَا عِنْدَهَا، تُقْدِمُ عَلَى الْعَمَلِ الْمُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ وَالْبَوَارِ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ: أَنَّ الْبُعْدَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، فَأَمَّا ثِخَنُ الْفَلَكِ فَلَعَلَّهُ لَا يَكُونُ عَظِيمًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الرَّابِعِ: مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذْ رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ، فَقَالَ: «مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا حَدَثَ مِثْلُ هَذَا، قَالُوا: كُنَّا نَقُولُ يُولَدُ عَظِيمٌ أَوْ يَمُوتُ عَظِيمٌ» قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَإِنَّهَا لَا تُرْمَى لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ رَبَّنَا تَعَالَى إِذَا قَضَى الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ سَبَّحَتْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَسَبَّحَ أَهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ التَّسْبِيحُ إِلَى هَذِهِ السَّمَاءِ، وَيَسْتَخْبِرُ أَهْلُ السَّمَاءِ حَمَلَةَ الْعَرْشِ، مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ، وَلَا يَزَالُ ذَلِكَ الْخَبَرُ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْخَبَرُ إِلَى هَذِهِ السَّمَاءِ، وَيَتَخَطَّفُ الْجِنُّ فَيُرْمَوْنَ، فَمَا جَاءُوا بِهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُمْ يَزِيدُونَ فِيهِ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْخَامِسِ: أَنَّ النَّارَ قَدْ تَكُونُ أَقْوَى مِنْ نَارٍ أُخْرَى، فَالْأَقْوَى يُبْطِلُ الْأَضْعَفَ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ السَّادِسِ: أَنَّهُ إِنَّمَا دَامَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْبَرَ بِبُطْلَانِ الْكَهَانَةِ، فَلَوْ لَمْ يَدُمْ هَذَا الْعَذَابُ لَعَادَتِ الْكَهَانَةُ، وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي خَبَرِ الرَّسُولِ عَنْ بُطْلَانِ الْكَهَانَةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ السَّابِعِ: أَنَّ الْبُعْدَ عَلَى مَذْهَبِنَا غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ السَّمَاعِ، فَلَعَلَّهُ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِأَنَّهُمْ إِذَا وَقَفُوا فِي تِلْكَ الْمَوْضِعِ سَمِعُوا كَلَامَ الْمَلَائِكَةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّامِنِ: لَعَلَّهُ تَعَالَى أَقْدَرَهُمْ عَلَى اسْتِمَاعِ الْغُيُوبِ عَنِ الْمَلَائِكَةِ وَأَعْجَزَهُمْ عَنْ إِيصَالِ أَسْرَارِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْكَافِرِينَ.

[سورة الملك (67) : آية 6]

وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ التَّاسِعِ: أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيُحْكِمُ مَا يُرِيدُ، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ وَاللَّهُ أعلم. واعلم أنه تعالى ما ذَكَرَ مَنَافِعَ الْكَوَاكِبِ وَذَكَرَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْمَنَافِعِ أَنَّهَا رُجُومٌ لِلشَّيَاطِينِ، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ أَيْ أَعْتَدْنَا لِلشَّيَاطِينِ بَعْدَ الْإِحْرَاقِ بِالشُّهُبِ فِي الدُّنْيَا عَذَابَ السَّعِيرِ فِي الْآخِرَةِ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: سُعِرَتِ النَّارُ فَهِيَ مَسْعُورَةٌ وَسَعِيرٌ كَقَوْلِكَ: مَقْبُولَةٌ وَقَبِيلٌ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ النَّارَ مَخْلُوقَةٌ الْآنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لأن قوله: وَأَعْتَدْنا إخبار عن الماضي. [سورة الملك (67) : آية 6] وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكَنَاتِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكُلِّ إِلَّا أَنَّهُ إِنَّمَا خَلَقَ مَا خَلَقَ لَا لِلْعَبَثِ وَالْبَاطِلِ بَلْ لِأَجْلِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ، وَبَيَّنَ/ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ الِابْتِلَاءِ أَنْ يَكُونَ عَزِيزًا فِي حَقِّ الْمُصِرِّينَ عَلَى الْإِسَاءَةِ غَفُورًا فِي حَقِّ التَّائِبِينَ وَمِنْ ذَلِكَ كَانَ كَوْنُهُ عَزِيزًا وَغَفُورًا لَا يَثْبُتَانِ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ تَعَالَى كَامِلًا فِي الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ بَيَّنَ ذَلِكَ بِالدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ، وَحِينَئِذٍ ثَبَتَ كَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى تَعْذِيبِ الْعُصَاةِ فَقَالَ: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ أَيْ وَلِكُلِّ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَغَيْرِهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ، لَيْسَ الشَّيَاطِينُ الْمَرْجُومُونَ مَخْصُوصِينَ بِذَلِكَ، وَقُرِئَ: عَذَابَ جَهَنَّمَ بِالنَّصْبِ عَطْفَ بَيَانٍ عَلَى قَوْلِهِ: عَذابَ السَّعِيرِ [الْحَجِّ: 4] ثم إنه تعالى وصف ذلك العذاب بصفاته كثيرة. قوله تعالى: [سورة الملك (67) : آية 7] إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً أُلْقُوا طُرِحُوا كَمَا يُطْرَحُ الْحَطَبُ فِي النَّارِ الْعَظِيمَةِ وَيُرْمَى بِهِ فِيهَا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاءِ: 98] وَفِي قَوْلِهِ: سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: سمعوا لجنهم شَهِيقًا، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُ صَوْتِ لَهَبِ النَّارِ بِالشَّهِيقِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: سَمِعَ الْكُفَّارُ لِلنَّارِ شَهِيقًا، وَهُوَ أَقْبَحُ الْأَصْوَاتِ، وَهُوَ كَصَوْتِ الْحِمَارِ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ تَنَفُّسٌ كَتَنَفُّسِ الْمُتَغَيِّظِ وَثَانِيهَا: قَالَ عَطَاءٌ: سَمِعُوا لِأَهْلِهَا مِمَّنْ تَقَدَّمَ طَرْحُهُمْ فِيهَا شَهِيقًا وَثَالِثُهَا: سَمِعُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ شَهِيقًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هُودٍ: 106] وَالْقَوْلُ هُوَ الْأَوَّلُ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَهِيَ تَفُورُ قَالَ اللَّيْثُ: كُلُّ شَيْءٍ جَاشَ فَقَدْ فَارَ، وَهُوَ فَوْرُ الْقِدْرِ وَالدُّخَانِ وَالْغَضَبِ وَالْمَاءِ مِنَ الْعَيْنِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَغْلِي بِهِمْ كَغَلْيِ الْمِرْجَلِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَفُورُ بِهِمْ كَمَا يَفُورُ الْمَاءُ الْكَثِيرُ بِالْحَبِّ الْقَلِيلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ فَوْرِ الْغَضَبِ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ تَرَكْتُ فَلَانًا يَفُورُ غَضَبًا، وَيَتَأَكَّدُ هذا القول بالآية الآتية. [سورة الملك (67) : آية 8] تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ يُقَالُ: فُلَانٌ يَتَمَيَّزُ غَيْظًا،

[سورة الملك (67) : آية 9]

وَيَتَعَصَّفُ «1» غَيْظًا وَغَضِبَ فَطَارَتْ مِنْهُ (شُعْلَةٌ فِي الْأَرْضِ وَشُعْلَةٌ) «2» فِي السَّمَاءِ إِذَا وَصَفُوهُ بِالْإِفْرَاطِ فِيهِ. وَأَقُولُ لَعَلَّ السَّبَبَ فِي هَذَا الْمَجَازِ أَنَّ الْغَضَبَ حَالَةٌ تَحْصُلُ عِنْدَ غَلَيَانِ دَمِ الْقَلْبِ وَالدَّمُ عِنْدَ الْغَلَيَانِ يَصِيرُ أَعْظَمَ حَجْمًا وَمِقْدَارًا فَتَتَمَدَّدُ تِلْكَ الْأَوْعِيَةُ عِنْدَ ازْدِيَادِ مَقَادِيرِ الرُّطُوبَاتِ فِي الْبَدَنِ، فَكُلَّمَا كَانَ الْغَضَبُ أَشَدَّ كَانَ الْغَلَيَانُ أَشَدَّ، فَكَانَ الِازْدِيَادُ أَكْثَرَ، وَكَانَ تَمَدُّدُ الْأَوْعِيَةِ وَانْشِقَاقُهَا وَتَمَيُّزُهَا أَكْثَرَ، فَجُعِلَ ذِكْرُ هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ كِنَايَةً عَنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ، فَإِنْ قِيلَ: النَّارُ لَيْسَتْ مِنَ الْأَحْيَاءِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ وَصْفُهَا بِالْغَيْظِ قُلْنَا الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْبِنْيَةَ عِنْدَنَا لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْحَيَاةِ فَلَعَلَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِيهَا وَهِيَ نَارٌ حَيَاةً وَثَانِيهَا: أَنَّهُ شَبَّهَ صَوْتَ لَهَبِهَا وَسُرْعَةِ تَبَادُرِهَا بِصَوْتِ الْغَضْبَانِ وَحَرَكَتِهِ وَثَالِثُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غيظ الزبانية. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ. الْفَوْجُ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ وَالْأَفْوَاجُ الْجَمَاعَاتُ فِي تَعَرُّفِهِ، ومنه قوله: فَتَأْتُونَ أَفْواجاً [النبأ: 18] وخَزَنَتُها مَالِكٌ وَأَعْوَانُهُ مِنَ الزَّبَانِيَةِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ وَهُوَ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا التَّوْبِيخُ زِيَادَةٌ لَهُمْ فِي الْعَذَابِ، وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّتِ الْمُرْجِئَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إِلَّا الْكُفَّارُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ كُلِّ مَنْ أُلْقِيَ فِي النَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا: كَذَّبْنَا النَّذِيرَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ لَمْ يُكَذِّبِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ، وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِأَنَّ الْفَاسِقَ الْمُصِرَّ لَا يَدْخُلُ النَّارَ، وَأَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ بِأَنَّ النَّذِيرَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا فِي الْعُقُولِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُحَذِّرَةِ الْمُخَوِّفَةِ، وَلَا أَحَدَ يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ غَيْرُ مُتَمَسِّكٍ بِمُوجَبِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَشُكْرَهُ لَا يَجِبَانِ إِلَّا بَعْدَ وُرُودِ السَّمْعِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا عَذَّبَهُمْ لِأَنَّهُ أَتَاهُمُ النَّذِيرُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْتِهِمُ النَّذِيرُ لَمَا عَذَّبَهُمْ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ جَوَابَهُمْ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ من وجهين: [سورة الملك (67) : آية 9] قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِعَدْلِ اللَّهِ، وَإِقْرَارٌ بِأَنَّ اللَّهَ أَزَاحَ عِلَلَهُمْ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَقَالُوا: مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِ الْكُفَّارِ وَخِطَابِهِمْ لِلْمُنْذِرِينَ الْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الْخَزَنَةِ لِلْكُفَّارِ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا قَالُوا ذَلِكَ الْكَلَامَ قَالَتِ الْخَزَنَةُ لَهُمْ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الضَّلَالِ الْكَبِيرِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ ضَلَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَيُحْتَمَلُ

_ (1) في الكشاف للزمخشري (ويتقصف) 4/ 136 ط. دار الفكر. (2) في الكشاف للزمخشري (شقة في الأرض وشقة) 4/ 136 ط. دار الفكر.

[سورة الملك (67) : آية 10]

أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالضَّلَالِ الْهَلَاكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون سمي عقاب الضلال باسمه. [سورة الملك (67) : آية 10] وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) هَذَا هُوَ الْكَلَامُ الثَّانِي مِمَّا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ جَوَابًا لِلْخَزَنَةِ حِينَ قَالُوا: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك: 8] وَالْمَعْنَى لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ الْإِنْذَارَ سَمَاعَ مَنْ كَانَ طَالِبًا لِلْحَقِّ أَوْ نَعْقِلُهُ عَقْلَ مَنْ كَانَ مُتَأَمِّلًا مُتَفَكِّرًا لَمَا كُنَّا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ، لِأَنَّ مَدَارَ التَّكْلِيفِ عَلَى أَدِلَّةِ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْهُدَى وَالْإِضْلَالِ بِأَنْ قَالُوا لَفْظَةُ لَوْ تُفِيدُ امْتِنَاعَ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ لَهُمْ سَمْعٌ وَلَا عَقْلٌ، لَكِنْ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا ذَوِي أَسْمَاعٍ وَعُقُولٍ صَحِيحَةٍ، وَأَنَّهُمْ مَا كَانُوا صُمَّ الْأَسْمَاعِ وَلَا مَجَانِينَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَا كَانَ لَهُمْ سَمْعُ الْهِدَايَةِ وَلَا عَقْلُ الْهِدَايَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَالَ: الدِّينُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالتَّعْلِيمِ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدَّمَ السَّمْعَ عَلَى الْعَقْلِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَوَّلًا مِنْ إِرْشَادِ الْمُرْشِدِ وَهِدَايَةِ الْهَادِي، ثُمَّ إِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَهْمُ الْمُسْتَجِيبِ وَتَأَمُّلُهُ فِيمَا يُلْقِيهِ الْمُعَلِّمُ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ إِنَّمَا قَدَّمَ السَّمْعَ لِأَنَّ الْمَدْعُوَّ إِذَا لَقِيَ الرَّسُولَ فَأَوَّلُ الْمَرَاتِبِ أَنَّهُ يَسْمَعُ كَلَامَهُ ثُمَّ إِنَّهُ يَتَفَكَّرُ فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ السَّمْعُ مُقَدَّمًا بِهَذَا السَّبَبِ عَلَى التَّعَقُّلِ وَالتَّفَهُّمِ لَا جَرَمَ قُدِّمَ عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَمِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ لَوْ كُنَّا عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَوْ عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، ثُمَّ قَالَ كَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ ظُهُورِ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ، وَكَأَنَّ سَائِرَ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ وَالْمُجْتَهِدِينَ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ وَعِيدَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ مَنْ فَضَّلَ السَّمْعَ عَلَى الْبَصَرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لِلسَّمْعِ مَدْخَلًا فِي الْخَلَاصِ عَنِ النَّارِ وَالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ، وَالْبَصَرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ السمع أفضل. [سورة الملك (67) : آية 11] فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ هَذَا الْقَوْلَ قَالَ: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي بِتَكْذِيبَهُمُ الرَّسُولَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الملك: 9] وَقَوْلُهُ: بِذَنْبِهِمْ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الذَّنْبَ هاهنا فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْفِعْلِ، كَمَا يُقَالُ: خَرَجَ عَطَاءُ النَّاسِ، أَيْ عَطِيَّاتِهِمْ هَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْوَاحِدِ الْمُضَافِ الشَّائِعَ، كَقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ [النحل: 34] . ثُمَّ قَالَ: فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فَبُعْدًا لَهُمُ اعْتَرَفُوا أَوْ جَحَدُوا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُمْ، وَالسُّحْقُ الْبُعْدُ، وَفِيهِ لُغَتَانِ: التَّخْفِيفُ وَالتَّثْقِيلُ، كَمَا تَقُولُ فِي الْعُنُقِ وَالطُّنُبِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: سُحْقًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالْمَعْنَى أَسْحَقَهُمُ اللَّهُ سُحْقًا، أَيْ بَاعَدَهُمُ اللَّهُ مِنْ رَحْمَتِهِ مُبَاعَدَةً، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: كَانَ الْقِيَاسُ سِحَاقًا، فَجَاءَ الْمَصْدَرُ عَلَى الْحَذْفِ كَقَوْلِهِمْ: عَمْرَكَ الله. / وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الْكُفَّارِ أتبعه بوعد المؤمنين فقال:

[سورة الملك (67) : آية 12]

[سورة الملك (67) : آية 12] إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَفِيهِ وَجْهَانِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَهُمْ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ وَالْمَعَارِفِ النَّظَرِيَّةِ وَبِهِمْ حَاجَةٌ إِلَى مُجَاهَدَةِ الشَّيْطَانِ وَدَفْعِ الشُّبَهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ مُتَّقِيًا مِنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي لِأَنَّ مَنْ يَتَّقِي مَعَاصِيَ اللَّهِ فِي الْخَلْوَةِ اتَّقَاهَا حَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ لَا مَحَالَةَ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى انْقِطَاعِ وَعِيدِ الْفُسَّاقِ فَقَالُوا: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الْخَشْيَةِ فَلَهُ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ، فَإِذَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الْفِسْقِ وَمَعَ هَذِهِ الْخَشْيَةِ، فَقَدْ حَصَلَ الْأَمْرَانِ فَإِمَّا أَنْ يُثَابَ ثُمَّ يُعَاقَبَ وَهُوَ بِالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ أَوْ يُعَاقَبَ ثُمَّ يُنْقَلَ إِلَى دَارِ الثَّوَابِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الْكُفَّارِ وَوَعْدَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَايَبَةِ رَجَعَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى خِطَابِ الْكُفَّارِ فقال: [سورة الملك (67) : آية 13] وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانُوا يَنَالُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ فَيُخْبِرُهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ لئلا يسمع إليه مُحَمَّدٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ قَوْلَكُمْ وَعَمَلَكُمْ عَلَى أَيِّ سَبِيلٍ وُجِدَ، فَالْحَالُ وَاحِدٌ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى بِهَذَا فَاحْذَرُوا مِنَ الْمَعَاصِي سِرًّا كَمَا تَحْتَرِزُونَ عَنْهَا جَهْرًا فَإِنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَمَا بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْجَهْرِ وَبِالسِّرِّ بَيَّنَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِخَوَاطِرِ الْقُلُوبِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ كَوْنَهُ عَالِمًا بِالْجَهْرِ وَبِالسِّرِّ وَبِمَا فِي الصُّدُورِ ذَكَرَ الدَّلِيلَ عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فقال: [سورة الملك (67) : آية 14] أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ مَنْ خَلَقَ شَيْئًا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَخْلُوقِهِ، وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ كَمَا أَنَّهَا مُقَرَّرَةٌ بِهَذَا النَّصِّ فَهِيَ أَيْضًا مُقَرَّرَةٌ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَلْقَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ عَلَى سَبِيلِ الْقَصْدِ، وَالْقَاصِدُ إِلَى الشَّيْءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فَإِنَّ الْغَافِلَ عَنِ الشَّيْءِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا إِلَيْهِ، وَكَمَا أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْخَالِقَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَاهِيَّةِ الْمَخْلُوقِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِكَمِّيَّتِهِ، لِأَنَّ وُقُوعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمِقْدَارِ دُونَ مَا هُوَ أَزْيَدُ مِنْهُ أَوْ/ أَنْقَصُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِقَصْدِ الْفَاعِلِ وَاخْتِيَارِهِ، وَالْقَصْدُ مَسْبُوقٌ بِالْعِلْمِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ وَأَرَادَ إِيجَادَ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ حَتَّى يَكُونَ وُقُوعُ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ أَوْلَى مِنْ وُقُوعِ مَا هُوَ أَزْيَدُ مِنْهُ أَوْ أَنْقَصُ مِنْهُ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ بِالْوُقُوعِ دُونَ الْأَزْيَدِ أَوِ الْأَنْقَصِ تَرْجِيحًا لِأَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ مَنْ خَلَقَ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ وَبِكَمِّيَّتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ، وَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فَنَقُولُ: تَمَسَّكَ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُوجِدٍ لِأَفْعَالِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ قَالُوا: لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُوجِدًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ لَكَانَ عَالِمًا

[سورة الملك (67) : آية 15]

بِتَفَاصِيلِهَا، لَكِنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِتَفَاصِيلِهَا فَهُوَ غَيْرُ مُوجِدٍ لَهَا، بَيَانُ الْمُلَازِمَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الثَّانِي: أَنَّ وُقُوعَ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنَ الْحَرَكَةِ مَثَلًا مُمْكِنٌ وَوُقُوعَ الْأَزْيَدِ مِنْهُ وَالْأَنْقَصِ مِنْهُ أَيْضًا مُمْكِنٌ، فَاخْتِصَاصُ الْعَشَرَةِ بِالْوُقُوعِ دُونَ الْأَزْيَدِ وَدُونَ الْأَنْقَصِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ أَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ خَصَّهُ بِالْإِيقَاعِ، وَإِلَّا لَكَانَ وُقُوعُهُ دُونَ الْأَزْيَدِ وَالْأَنْقَصِ وُقُوعًا لِلْمُمْكِنِ الْمُحْدَثِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، لِأَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ إِذَا خَصَّ تِلْكَ الْعَشَرَةَ بِالْإِيقَاعِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَنَّ الْوَاقِعَ عَشَرَةٌ لَا أَزْيَدَ وَلَا أَنْقَصَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ كَانَ مُوجِدًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ لَكَانَ عَالِمًا بِتَفَاصِيلِهَا وَأَمَّا أَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِتَفَاصِيلِهَا فَلِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْحَرَكَةِ السَّرِيعَةِ وَالْبَطِيئَةِ لِأَجْلِ تَخَلُّلِ السَّكَنَاتِ، فَالْفَاعِلُ لِلْحَرَكَةِ الْبَطِيئَةِ قَدْ فَعَلَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَازِ حَرَكَةً وَفِي بَعْضِهَا سُكُونًا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَخْطُرْ أَلْبَتَّةَ بِبَالِهِ أَنَّهُ فَعَلَ هاهنا حركة وهاهنا سُكُونًا وَثَانِيهَا: أَنَّ فَاعِلَ حَرَكَةٍ لَا يَعْرِفُ عَدَدَ أَجْزَاءِ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ إِلَّا إِذَا عَرَفَ عَدَدَ الْأَحْيَازِ الَّتِي بَيْنَ مَبْدَأِ الْمَسْكَنَةِ وَمُنْتَهَاهَا وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ بِأَنَّ الْجَوَاهِرَ الْفَرْدِيَّةَ الَّتِي تَتَّسِعُ لَهَا تِلْكَ الْمَسَافَةُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا كَمْ هِيَ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّ النَّائِمَ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ قَدْ يَتَحَرَّكُ مِنْ جَنْبٍ إِلَى جَنْبٍ مَعَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَاهِيَّةَ تِلْكَ الْحَرَكَةِ وَلَا كَمِّيَّتَهَا وَرَابِعُهَا: أَنَّ عِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ، وَأَبِي هَاشِمٍ، الْفَاعِلُ إِنَّمَا يَفْعَلُ مَعْنًى يَقْتَضِي الْحُصُولَ فِي الْحَيِّزِ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ مِمَّا لَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ، فَظَهَرَ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُوجِدٍ لِأَفْعَالِهِ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُوجِدٍ أَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِالسِّرِّ وَالْجَهْرِ وَبِكُلِّ مَا فِي الصُّدُورِ قَالَ بَعْدَهُ: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَتَّصِلُ بِمَا قَبْلَهُ لَوْ كَانَ تَعَالَى خَالِقًا لِكُلِّ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ، وَفِي الصُّدُورِ وَالْقُلُوبِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ خَالِقًا لَهَا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ مُقْتَضِيًا كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ وَمِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ الْأَجْسَامَ وَالْعَالِمُ الَّذِي خَلَقَ الْأَجْسَامَ هُوَ الْعَالِمُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ؟ قُلْنَا: إِنَّهُ لا يلزم من كونه خالقا لغيره هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَوْنُهُ عَالِمًا بِهَا، لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ فَاعِلًا لِشَيْءٍ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِشَيْءٍ آخَرَ، نَعَمْ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ خَالِقًا لَهَا كَوْنُهُ عَالِمًا بِهَا لِأَنَّ خَالِقَ الشَّيْءِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ تَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَنْ خَلَقَ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ وَالْمَنْصُوبُ يَكُونُ مُضْمَرًا وَالتَّقْدِيرُ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ مَخْلُوقَهُ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ مَنْ خَلَقَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ وَيَكُونُ الْمَرْفُوعُ مُضْمَرًا، وَالتَّقْدِيرُ أَلَا يَعْلَمُ اللَّهُ مَنْ خَلَقَ وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ يُفِيدُ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِذَاتِ مَنْ هُوَ مَخْلُوقُهُ، وَلَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ عَالِمًا بِأَحْوَالِ مَنْ هُوَ مَخْلُوقُهُ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ هَذَا لَا الْأَوَّلُ وَثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ (مَنْ) فِي تَقْدِيرِ مَا كَمَا تَكُونُ مَا فِي تَقْدِيرِ مَنْ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشَّمْسِ: 5] وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ مَا إِشَارَةً إِلَى مَا يُسِرُّهُ الْخَلْقُ وَمَا يَجْهَرُونَهُ وَيُضْمِرُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعَالَى. أَمَّا قَوْلُهُ: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فَاعْلَمْ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي اللَّطِيفُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ الْعَالِمُ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ مَنْ يَكُونُ فَاعِلًا لِلْأَشْيَاءِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي تَخْفَى كَيْفِيَّةُ عَمَلِهَا عَلَى أَكْثَرِ الْفَاعِلِينَ، وَلِهَذَا يُقَالُ: إِنَّ لُطْفَ اللَّهِ بِعِبَادِهِ عَجِيبٌ وَيُرَادُ بِهِ دَقَائِقُ تَدْبِيرِهِ لَهُمْ وَفِيهِمْ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْرَبُ وَإِلَّا لَكَانَ ذِكْرُ الْخَبِيرِ بَعْدَهُ تكرارا. [سورة الملك (67) : آية 15] هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)

فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بِالدَّلَائِلِ كَوْنَهُ عَالِمًا بِمَا يُسِرُّونَ وَمَا يعلنون، ثم ذكر بعد هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ، وَنَظِيرُهُ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ الَّذِي أَسَاءَ إِلَى مَوْلَاهُ فِي السِّرِّ: يَا فُلَانُ أَنَا أَعْرِفُ سِرَّكَ وَعَلَانِيَتَكَ فَاجْلِسْ فِي هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي وَهَبْتُهَا مِنْكَ، كُلُّ هَذَا الْخَيْرِ الَّذِي هَيَّأْتُهُ لَكَ وَلَا تَأْمَنُ تَأْدِيبِي، فَإِنِّي إِنْ شِئْتُ جَعَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ الَّتِي هِيَ مَنْزِلُ أَمْنِكَ وَمَرْكَزُ سَلَامَتِكَ مَنْشَأً لِلْآفَاتِ الَّتِي تَتَحَيَّرُ فِيهَا وَمَنْبَعًا لِلْمِحَنِ التي تهلك بسببها، فكذا هاهنا، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَيُّهَا الْكُفَّارُ اعْلَمُوا أَنِّي عَالِمٌ بِسِرِّكُمْ وَجَهْرِكُمْ، فَكُونُوا خَائِفِينَ مِنِّي مُحْتَرِزِينَ مِنْ عِقَابِي، فَهَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي تَمْشُونَ فِي مَنَاكِبِهَا، وَتَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنِ الْإِضْرَارِ بِكُمْ، أَنَا الَّذِي ذَلَّلْتُهَا إِلَيْكُمْ وَجَعَلْتُهَا سَبَبًا لِنَفْعِكُمْ، فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا، فَإِنَّنِي إِنْ شِئْتُ خَسَفْتُ بِكُمْ هَذِهِ الْأَرْضَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْهَا مِنَ السَّمَاءِ أَنْوَاعَ الْمِحَنِ، فَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الذَّلُولُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: الْمُنْقَادُ الَّذِي يَذِلُّ لَكَ، وَمَصْدَرُهُ الذُّلُّ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ وَاللِّينُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: دَابَّةٌ ذَلُولٌ، وَفِي وَصْفِ الْأَرْضِ بِالذَّلُولِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى مَا جَعَلَهَا صَخْرِيَّةً خَشِنَةً بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ الْمَشْيُ عَلَيْهَا، كَمَا يَمْتَنِعُ الْمَشْيُ عَلَى وُجُوهِ الصَّخْرَةِ الْخَشِنَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ/ تَعَالَى جَعَلَهَا لَيِّنَةً بِحَيْثُ يُمْكِنُ حَفْرُهَا، وَبِنَاءُ الْأَبْنِيَةِ مِنْهَا كَمَا يُرَادُ، وَلَوْ كَانَتْ حَجَرِيَّةً صُلْبَةً لَتَعَذَّرَ ذَلِكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَجَرِيَّةً، أَوْ كَانَتْ مِثْلَ الذَّهَبِ أَوِ الْحَدِيدِ، لَكَانَتْ تَسْخُنُ جِدًّا فِي الصَّيْفِ، وَكَانَتْ تَبْرُدُ جِدًّا فِي الشِّتَاءِ، وَلَكَانَتِ الزِّرَاعَةُ فِيهَا مُمْتَنِعَةً، وَالْغِرَاسَةُ فِيهَا مُتَعَذِّرَةً، وَلَمَا كَانَتْ كِفَاتًا لِلْأَمْوَاتِ وَالْأَحْيَاءِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى سَخَّرَهَا لَنَا بِأَنْ أَمْسَكَهَا فِي جَوِّ الْهَوَاءِ، وَلَوْ كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، أَوْ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ لَمْ تَكُنْ مُنْقَادَةً لَنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها أَمْرُ إِبَاحَةٍ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرُوا فِي مَنَاكِبِ الْأَرْضِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْمَشْيُ فِي مَنَاكِبِهَا مَثَلٌ لِفَرْطِ التَّذْلِيلِ، لِأَنَّ الْمَنْكِبَيْنِ وَمُلْتَقَاهُمَا مِنَ الْغَارِبِ أَرَقُّ شَيْءٍ مِنَ الْبَعِيرِ، وَأَبْعَدُهُ مِنْ إِمْكَانِ الْمَشْيِ عَلَيْهِ، فَإِذَا صَارَ الْبَعِيرُ بِحَيْثُ يُمْكِنُ الْمَشْيُ عَلَى مَنْكِبِهِ، فَقَدْ صَارَ نِهَايَةً فِي الِانْقِيَادِ وَالطَّاعَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهَا نِهَايَةً فِي الذُّلُولِيَّةِ وَثَانِيهَا: قَوْلُ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ مَنَاكِبَ الْأَرْضِ جِبَالُهَا وَآكَامُهَا، وَسُمِّيَتِ الْجِبَالُ مَنَاكِبَ، لِأَنَّ مَنَاكِبَ الْإِنْسَانِ شَاخِصَةٌ وَالْجِبَالُ أَيْضًا شَاخِصَةٌ، وَالْمَعْنَى أَنِّي سَهَّلْتُ عَلَيْكُمُ الْمَشْيَ فِي مَنَاكِبِهَا، وَهِيَ أَبْعَدُ أَجْزَائِهَا عَنِ التَّذْلِيلِ، فَكَيْفَ الْحَالُ فِي سَائِرِ أَجْزَائِهَا وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَنَاكِبَهَا هِيَ الطُّرُقُ، وَالْفِجَاجُ وَالْأَطْرَافُ وَالْجَوَانِبُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ، وَرِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ، وَابْنِ قُتَيْبَةَ قَالَ: مَنَاكِبُهَا جَوَانِبُهَا، وَمَنْكِبَا الرَّجُلِ جَانِبَاهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً [نُوحٍ: 19، 20] أَمَّا قَوْلُهُ: وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ أَيْ مِمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ رِزْقًا لَكُمْ فِي الْأَرْضِ: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ يَعْنِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُكْثُكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَأَكْلُكُمْ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ مُكْثَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ مَرْجِعَهُ إِلَى اللَّهِ، وَأَكْلَ مَنْ يَتَيَقَّنُ أَنَّ مَصِيرَهُ إِلَى اللَّهِ، وَالْمُرَادُ تَحْذِيرُهُمْ عَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ بَقَاءَهُمْ مَعَ هَذِهِ السَّلَامَةِ فِي الْأَرْضِ إِنَّمَا كَانَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَقَلَبَ الْأَمْرَ عَلَيْهِمْ، وَلَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ مِنْ سَحَابِ الْقَهْرِ مَطَرَ الْآفَاتِ. فقال تقريرا لهذا المعنى:

[سورة الملك (67) : آية 16]

[سورة الملك (67) : آية 16] أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الْأَنْعَامِ: 65] وَقَالَ: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ [الْقَصَصِ: 81] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُشَبِّهَةَ احْتَجُّوا عَلَى إِثْبَاتِ الْمَكَانِ لِلَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ كَوْنَهُ فِي السَّمَاءِ يَقْتَضِي كَوْنَ السَّمَاءِ مُحِيطًا بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ، فَيَكُونُ أَصْغَرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَالسَّمَاءُ أَصْغَرُ مِنَ الْعَرْشِ/ بِكَثِيرٍ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئًا حَقِيرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرْشِ، وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مُحَالٌ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الْأَنْعَامِ: 12] فَلَوْ كَانَ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِنَفْسِهِ وَهَذَا مُحَالٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ يَجِبُ صَرْفُهَا عَنْ ظَاهِرِهَا إِلَى التَّأْوِيلِ، ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ عَذَابُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى جَارِيَةٌ، بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَنْزِلُ الْبَلَاءُ عَلَى مَنْ يَكْفُرُ بِاللَّهِ وَيَعْصِيهِ مِنَ السَّمَاءِ فَالسَّمَاءُ مَوْضِعُ عَذَابِهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّهُ مَوْضِعُ نُزُولِ رَحْمَتِهِ وَنِعْمَتِهِ وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: كَانَتِ الْعَرَبُ مُقِرِّينَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ، لَكِنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ عَلَى وَفْقِ قَوْلِ الْمُشَبِّهَةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُمْ: أَتَأْمَنُونَ مَنْ قَدْ أَقْرَرْتُمْ بِأَنَّهُ فِي السَّمَاءِ، وَاعْتَرَفْتُمْ لَهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى مَا يَشَاءُ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ وَثَالِثُهَا: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: مَنْ فِي السَّمَاءِ سُلْطَانُهُ وَمُلْكُهُ وَقُدْرَتُهُ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ السَّمَاءِ تَفْخِيمُ سُلْطَانِ اللَّهِ وَتَعْظِيمُ قُدْرَتِهِ، كَمَا قَالَ: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ [الْأَنْعَامِ: 3] فَإِنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي مَكَانَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ كونه في السموات وَفِي الْأَرْضِ نَفَاذَ أَمْرِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَجَرَيَانَ مَشِيئَتِهِ في السموات وفي الأرض، فكذا هاهنا وَرَابِعُهَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَنْ فِي السَّماءِ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِالْعَذَابِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَعْنَى أَنْ يَخْسِفَ بِهِمُ الْأَرْضَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَإِذْنِهِ. وَقَوْلُهُ: فَإِذا هِيَ تَمُورُ قَالُوا مَعْنَاهُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحَرِّكُ الْأَرْضَ عِنْدَ الْخَسْفِ بِهِمْ حَتَّى تَضْطَرِبَ وَتَتَحَرَّكَ، فَتَعْلُوَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يُخْسَفُونَ فِيهَا، فَيَذْهَبُونَ وَالْأَرْضُ فَوْقَهُمْ تَمُورُ، فَتُلْقِيهِمْ إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ، وقد ذكرنا تفسير المور فيما تقدم. [سورة الملك (67) : آية 17] أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) ثُمَّ زَادَ فِي التَّخْوِيفِ فَقَالَ: أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَمَا أَرْسَلَ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ فَقَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً [الْقَمَرِ: 34] وَالْحَاصِبُ رِيحٌ فِيهَا حِجَارَةٌ وَحَصْبَاءُ، كَأَنَّهَا تَقْلَعُ الْحَصْبَاءَ لِشِدَّتِهَا، وَقِيلَ: هُوَ سَحَابٌ فِيهَا حِجَارَةٌ. ثُمَّ هَدَّدَ وَأَوْعَدَ فَقَالَ: فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ. قِيلَ فِي النذير هاهنا إِنَّهُ الْمُنْذِرُ، يَعْنِي مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ، وَالْمَعْنَى فَسَتَعْلَمُونَ رَسُولِي وَصِدْقَهُ، لَكِنْ حِينَ لَا يَنْفَعُكُمْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ، وَالْمَعْنَى فَسَتَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ إِنْذَارِي إِيَّاكُمْ بِالْكِتَابِ وَالرَّسُولِ، وَ (كَيْفَ) فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ نَذِيرِ يُنْبِئُ عَمَّا ذَكَرْنَا مِنْ صِدْقِ الرَّسُولِ وَعُقُوبَةِ الْإِنْذَارِ.

[سورة الملك (67) : آية 18]

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَوَّفَ الْكُفَّارَ بِهَذِهِ التَّخْوِيفَاتِ أَكَّدَ ذَلِكَ التَّخْوِيفَ بِالْمِثَالِ وَالْبُرْهَانِ أَمَّا الْمِثَالُ فَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ شَاهَدُوا أَمْثَالَ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ فَقَالَ: [سورة الملك (67) : آية 18] وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) يَعْنِي عَادًا وَثَمُودَ وَكُفَّارَ الْأُمَمِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أَيْ إِنْكَارِي وَتَغْيِيرِي، أَلَيْسَ وَجَدُوا الْعَذَابَ حَقًّا وَالثَّانِي: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: النَّكِيرُ عِقَابُ الْمُنْكِرِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا سَقَطَ الْيَاءُ مِنْ نَذِيرِي، ومن نكيري حتى تكون مشابهة لرؤوس الْآيِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهَا، وَالْمُتَأَخِّرَةِ عَنْهَا. وَأَمَّا الْبُرْهَانُ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَمَتَى ثَبَتَ ذَلِكَ ثَبَتَ كَوْنُهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى إِيصَالِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ إليهم، وذلك البرهان من وجوه: [سورة الملك (67) : آية 19] أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) الْبُرْهَانُ الْأَوَّلُ: هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ. صافَّاتٍ أَيْ بَاسِطَاتٍ أَجْنِحَتِهِنَّ فِي الْجَوِّ عِنْدَ طَيَرَانِهَا وَيَقْبِضْنَ وَيَضْمُمْنَهَا إِذَا ضَرَبْنَ بِهَا جُنُوبَهُنَّ. فَإِنْ قِيلَ لِمَ قَالَ: وَيَقْبِضْنَ وَلَمْ يَقُلْ وَقَابِضَاتٍ، قُلْنَا: لِأَنَّ الطَّيَرَانَ فِي الْهَوَاءِ كَالسِّبَاحَةِ فِي الْمَاءِ، وَالْأَصْلُ فِي السِّبَاحَةِ مَدُّ الْأَطْرَافِ وَبَسْطُهَا وَأَمَّا الْقَبْضُ فَطَارِئٌ عَلَى الْبَسْطِ لِلِاسْتِظْهَارِ بِهِ عَلَى التَّحَرُّكِ، فَجِيءَ بِمَا هُوَ طَارِئٌ غَيْرُ أَصْلِيٍّ بِلَفْظِ الْفِعْلِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُنَّ صَافَّاتٍ، وَيَكُونُ مِنْهُنَّ الْقَبْضُ تَارَةً بَعْدَ تَارَةٍ، كَمَا يَكُونُ مِنَ السَّابِحِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَعَ ثِقَلِهَا وَضَخَامَةِ أَجْسَامِهَا لَمْ يَكُنْ بَقَاؤُهَا فِي جَوِّ الْهَوَاءِ إلا بإمساك الله وحفظه، وهاهنا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ لِلْعَبْدِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ، قُلْنَا: نَعَمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اسْتِمْسَاكَ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ لِلطَّيْرِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى. السؤال الثاني: أنه تعالى قال في النحل [79] : أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ وقال هاهنا: مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ فَمَا الْفَرْقُ؟ قُلْنَا: ذَكَرَ فِي النَّحْلِ أَنَّ الطَّيْرَ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ فَلَا جَرَمَ كَانَ إِمْسَاكُهَا هُنَاكَ محض الإلهية، وذكر هاهنا أَنَّهَا صَافَّاتٌ وَقَابِضَاتٌ، فَكَانَ إِلْهَامُهَا إِلَى كَيْفِيَّةِ الْبَسْطِ، وَالْقَبْضِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُطَابِقِ لِلْمَنْفَعَةِ مِنْ رَحْمَةِ الرَّحْمَنِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ وَفِيهِ وَجْهَانِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنَ الْبَصِيرِ، كَوْنُهُ عَالِمًا بِالْأَشْيَاءِ الدَّقِيقَةِ، كَمَا يقال: فلا بَصُرَ فِي هَذَا الْأَمْرِ، أَيْ حَذَقَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نُجْرِيَ اللَّفْظَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَنَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى شَيْءٌ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ، فَيَكُونُ رَائِيًا لِنَفْسِهِ وَلِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَرْئِيًّا وَأَنَّ كُلَّ/ الْمَوْجُودَاتِ كَذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: الْبَصِيرُ إِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ يَكُونُ بِمَعْنَى الْعَالِمِ، يُقَالُ: فُلَانٌ بَصِيرٌ بِكَذَا إِنْ كَانَ عَالِمًا بِهِ، قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بِالْمَسْمُوعَاتِ، بَصِيرٌ بِالْمُبْصَرَاتِ.

[سورة الملك (67) : آية 20]

[سورة الملك (67) : آية 20] أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) اعلم أنه الْكَافِرِينَ كَانُوا يَمْتَنِعُونَ عَنِ الْإِيمَانِ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى دَعْوَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَانَ تَعْوِيلُهُمْ عَلَى شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْقُوَّةُ الَّتِي كَانَتْ حَاصِلَةً لَهُمْ بِسَبَبِ مَالِهِمْ وَجُنْدِهِمْ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: هَذِهِ الْأَوْثَانُ، تُوصِلُ إِلَيْنَا جَمِيعَ الْخَيْرَاتِ، وَتَدْفَعُ عَنَّا كُلَّ الْآفَاتِ وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَبِقَوْلِهِ: أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ وَهَذَا نَسَقٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ [الْمُلْكِ: 17] وَالْمَعْنَى أَمْ مَنْ يُشَارُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَجْمُوعِ، وَيُقَالُ: هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرْسَلَ عَذَابَهُ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ قَالَ: إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَيْ مِنَ الشَّيْطَانِ يَغُرُّهُمْ بِأَنَّ العذاب لا ينزل بهم. [سورة الملك (67) : آية 21] أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَمَّا الثَّانِي فَهُوَ قَوْلُهُ: أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ. وَالْمَعْنَى: مَنِ الَّذِي يَرْزُقُكُمْ مِنْ آلِهَتِكُمْ إِنْ أَمْسَكَ اللَّهُ الرِّزْقَ عَنْكُمْ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لَا يُنْكِرُهُ ذُو عَقْلٍ، وَهَذَا أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَمْسَكَ أَسْبَابَ الرِّزْقِ كَالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَغَيْرِهِمَا لَمَا وُجِدَ رَازِقٌ سِوَاهُ فَعِنْدَ وُضُوحِ هَذَا الْأَمْرِ قَالَ تَعَالَى: بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ وَالْمُرَادُ أَصَرُّوا وَتَشَدَّدُوا مَعَ وُضُوحِ الْحَقِّ، فِي عُتُوٍّ أَيْ فِي تَمَرُّدٍ وَتَكَبُّرٍ وَنُفُورٍ، أَيْ تَبَاعُدٍ عَنِ الْحَقِّ وَإِعْرَاضٍ عَنْهُ فَالْعُتُوُّ بِسَبَبِ حِرْصِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى فَسَادِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَالنُّفُورُ بِسَبَبِ جَهْلِهِمْ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى فَسَادِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَهُمْ بِالْعُتُوِّ وَالنُّفُورِ، نَبَّهَ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى قبح هذين الوصفين. فقال تعالى: [سورة الملك (67) : آية 22] أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَكَبَّ مُطَاوِعُ كَبَّهُ، يُقَالُ: كَبَبْتُهُ فَأَكَبَّ وَنَظِيرُهُ قَشَعَتِ/ الرِّيحُ السَّحَابَ فَأَقْشَعَ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، و (جاء) «1» شَيْءٌ مِنْ بِنَاءِ أَفْعَلَ مُطَاوِعًا، بَلْ قَوْلُكَ: أَكَبَّ مَعْنَاهُ دَخَلَ فِي الْكَبِّ وَصَارَ ذَا كَبٍّ، وَكَذَلِكَ أَقْشَعَ السَّحَابُ دَخَلَ فِي الْقَشْعِ، وَأَنْفَضَ أَيْ دَخَلَ فِي النَّفْضِ، وَهُوَ نَفْضُ الْوِعَاءِ فَصَارَ عِبَارَةً عَنِ الْفَقْرِ وَأَلَامَ دَخَلَ فِي اللَّوْمِ، وَأَمَّا مُطَاوِعُ كَبَّ وَقَشَعَ فَهُوَ انْكَبَّ وَانْقَشَعَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي يَمْشِي فِي مَكَانٍ غَيْرِ مُسْتَوٍ بَلْ فِيهِ ارْتِفَاعٌ وَانْخِفَاضٌ فَيَعْثُرُ كُلَّ سَاعَةٍ وَيَخِرُّ عَلَى وَجْهِهِ مُكِبًّا فَحَالُهُ نَقِيضُ حَالِ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا أَيْ قَائِمًا سَالِمًا مِنَ الْعُثُورِ وَالْخُرُورِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُتَعَسِّفَ الَّذِي يَمْشِي هَكَذَا وَهَكَذَا عَلَى الْجَهَالَةِ وَالْحَيْرَةِ لَا يَكُونُ كَمَنْ يَمْشِي إِلَى جِهَةٍ مَعْلُومَةٍ مَعَ الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأَعْمَى الَّذِي لَا يَهْتَدِي إِلَى الطَّرِيقِ فَيَتَعَسَّفُ وَلَا يَزَالُ يَنْكَبُّ عَلَى وَجْهِهِ لَا يَكُونُ كَالرَّجُلِ السَّوِيِّ الصَّحِيحِ الْبَصَرِ الْمَاشِي فِي الطَّرِيقِ الْمَعْلُومِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا

_ (1) ففي الكشاف للزمخشري (لا) 4/ 139 ط. دار الفكر.

[سورة الملك (67) : آية 23]

فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا حِكَايَةُ حَالِ الْكَافِرِ فِي الْآخِرَةِ، قَالَ قَتَادَةُ: الْكَافِرُ أَكَبَّ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ فَحَشَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجْهِهِ، وَالْمُؤْمِنُ كَانَ عَلَى الدِّينِ الْوَاضِحِ فَحَشَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الطَّرِيقِ السَّوِيِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هَذَا حِكَايَةُ حَالِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ فِي الدُّنْيَا، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا عَامٌّ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ، فَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ أَبُو جَهْلٍ وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ أَبُو جَهْلٍ وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَقَالَ عِكْرِمَةُ هُوَ أبو جهل وعمار بن ياسر. الْبُرْهَانُ الثَّانِي: عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: [سورة الملك (67) : آية 23] قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (23) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْرَدَ الْبُرْهَانَ أَوَّلًا مِنْ حَالِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَهُوَ وُقُوفُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، أَوْرَدَ الْبُرْهَانَ بَعْدَهُ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ وَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَذَكَرَ مِنْ عَجَائِبِ مَا فِيهِ حَالَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفُؤَادِ، وَلَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ أَحْوَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ في ذكرها هاهنا تَنْبِيهًا عَلَى دَقِيقَةٍ لَطِيفَةٍ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَعْطَيْتُكُمْ هَذِهِ الْإِعْطَاءَاتِ الثَّلَاثَةَ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْقُوَى الشَّرِيفَةِ، لَكِنَّكُمْ ضَيَّعْتُمُوهَا فَلَمْ تَقْبَلُوا مَا سَمِعْتُمُوهُ وَلَا اعْتَبَرْتُمْ بِمَا أَبْصَرْتُمُوهُ، وَلَا تَأَمَّلْتُمْ فِي عَاقِبَةِ مَا عَقَلْتُمُوهُ، فَكَأَنَّكُمْ ضَيَّعْتُمْ هَذِهِ النِّعَمَ وَأَفْسَدْتُمْ هَذِهِ الْمَوَاهِبَ، فَلِهَذَا قَالَ: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّ شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ أَنْ يَصْرِفَ تِلْكَ النِّعْمَةَ إِلَى وَجْهِ رِضَاهُ، / وَأَنْتُمْ لَمَّا صَرَفْتُمُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْعَقْلَ لَا إِلَى طَلَبِ مَرْضَاتِهِ فَأَنْتُمْ ما شكرتم نعمته ألبتة. البرهان الثالث: قوله تعالى: [سورة الملك (67) : آية 24] قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِأَحْوَالِ الْحَيَوَانَاتِ أَوَّلًا ثُمَّ بِصِفَاتِ الْإِنْسَانِ ثَانِيًا وَهِيَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْعَقْلُ، ثُمَّ بِحُدُوثِ ذَاتِهِ ثَالِثًا وَهُوَ قَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَاحْتَجَّ الْمُتَكَلِّمُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ هُوَ الْجَوْهَرُ الْمُجَرَّدُ عَنِ التَّحَيُّزِ وَالْكَمِّيَّةِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ قَالَ: قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَبَيَّنَ أَنَّهُ ذَرَأَ الْإِنْسَانَ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْإِنْسَانِ مُتَحَيِّزًا جِسْمًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي هَذِهِ الدَّلَائِلِ إِنَّمَا كَانَ لِبَيَانِ صِحَّةِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ لِيُثْبِتَ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الِابْتِلَاءِ فِي قَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الْمُلْكِ: 2] ثُمَّ لِأَجْلِ إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ، ذَكَرَ وُجُوهًا مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى قُدْرَتِهِ، ثُمَّ خَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَمَّا كَانَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْخَلْقِ ابْتِدَاءً تُوجِبُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْإِعَادَةِ لَا جَرَمَ قَالَ بَعْدَهُ: وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الدَّلَائِلِ إِنَّمَا كَانَ لِإِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُخَوِّفَهُمْ بِعَذَابِ اللَّهِ حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ طَالَبُوهُ بِتَعْيِينِ الْوَقْتِ. وهو قوله تعالى:

[سورة الملك (67) : آية 25]

[سورة الملك (67) : آية 25] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَقُولُ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ فَهَذَا يَحْتَمِلُ مَا يُوجَدُ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيَحْتَمِلُ الْمَاضِيَ، وَالتَّقْدِيرُ: فَكَانُوا يَقُولُونَ هَذَا الْوَعْدَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَعَلَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَهَا إِبْهَامًا لِلضَّعَفَةِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَعَجَّلْ فَلَا أَصْلَ لَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْوَعْدُ الْمَسْؤُولُ عَنْهُ مَا هُوَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْقِيَامَةُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُطْلَقُ الْعَذَابِ، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ أَجَابَ اللَّهُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ تعالى: [سورة الملك (67) : آية 26] قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) وَالْمُرَادُ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْوُقُوعِ غَيْرُ الْعِلْمِ بِوَقْتِ الْوُقُوعِ، فَالْعِلْمُ الْأَوَّلُ حَاصِلٌ عِنْدِي، وَهُوَ كَافٍ فِي الْإِنْذَارِ وَالتَّحْذِيرِ، أَمَّا الْعِلْمُ الثَّانِي فَلَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ، وَلَا حَاجَةَ فِي كوني نذيرا مبينا إليه. [سورة الملك (67) : آية 27] فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ حَالَهُمْ عِنْدَ نُزُولِ ذَلِكَ الْوَعْدِ فَقَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ فَلَمَّا رَأَوْهُ الضَّمِيرُ لِلْوَعْدِ، وَالزُّلْفَةُ الْقُرْبُ وَالتَّقْدِيرُ: فَلَمَّا رَأَوْهُ قُرْبًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمَّا اشْتَدَّ قُرْبُهُ، جَعَلَ كَأَنَّهُ فِي نَفْسِ الْقُرْبِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مُعَايَنَةً، وَهَذَا مَعْنًى وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا قَرُبَ مِنَ الْإِنْسَانِ رَآهُ مُعَايَنَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اسْوَدَّتْ وَعَلَتْهَا الْكَآبَةُ وَالْقَتَرَةُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: تَبَيَّنَ فِيهَا السُّوءُ، وَأَصْلُ السُّوءِ الْقُبْحُ، وَالسَّيِّئَةُ ضِدُّ الْحَسَنَةِ، يُقَالُ: سَاءَ الشيء يسوء فهو سيئ إذا قبح، وسيئ يُسَاءُ إِذَا قَبُحَ، وَهُوَ فِعْلٌ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ فَمَعْنَى سِيئَتْ وُجُوهُهُمْ قَبُحَتْ بِأَنْ عَلَتْهَا الْكَآبَةُ وَغَشِيَهَا الْكُسُوفُ وَالْقَتَرَةُ وَكَلَحُوا، وَصَارَتْ وُجُوهُهُمْ كَوَجْهِ مَنْ يُقَادُ إِلَى الْقَتْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً إِخْبَارٌ عَنِ الْمَاضِي، فَمَنْ حَمَلَ الْوَعْدَ فِي قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [الملك: 25] عَلَى مُطْلَقِ الْعَذَابِ سَهُلَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِهِ فَلِهَذَا قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُمْ عَذَابُ اللَّهِ الْمُهْلِكُ لَهُمْ كَالَّذِي نَزَلَ بِعَادٍ وَثَمُودَ سِيئَتْ وُجُوهُهُمْ: عِنْدَ قُرْبِهِ مِنْهُمْ، وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ ذَلِكَ الْوَعْدَ بِالْقِيَامَةِ كَانَ قَوْلُهُ: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً مَعْنَاهُ فَمَتَى مَا رَأَوْهُ زُلْفَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً إِخْبَارٌ عَنِ الْمَاضِي وَأَحْوَالُ الْقِيَامَةِ مُسْتَقْبِلَةٌ لَا مَاضِيَةٌ فَوَجَبَ تَفْسِيرُ اللَّفْظِ بِمَا قُلْنَاهُ، قَالَ مُقَاتِلٌ: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً أَيْ لَمَّا رَأَوُا العذاب في الآخر قَرِيبًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

[سورة الملك (67) : آية 28]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَائِلُونَ هُمُ الزَّبَانِيَةُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: تَدَّعُونَ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ تَدَّعُونَ مِنَ الدُّعَاءِ أَيْ تَطْلُبُونَ وَتَسْتَعْجِلُونَ بِهِ، وَتَدْعُونَ وَتَدَّعُونَ وَاحِدٌ فِي اللُّغَةِ مِثْلُ تَذْكُرُونَ وَتَذَّكَّرُونَ وَتَدْخَرُونَ وَتَدَّخِرُونَ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مِنَ الدَّعْوَى مَعْنَاهُ: هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ تُبْطِلُونَهُ أَيْ تَدَّعُونَ أَنَّهُ بَاطِلٌ لَا يَأْتِيكُمْ أو هذا الذي كنتم بسببه وتدعون أَنَّكُمْ لَا تُبْعَثُونَ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا اسْتِفْهَامًا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَالْمَعْنَى أَهَذَا الَّذِي تَدَّعُونَ، لَا بَلْ كُنْتُمْ تَدَّعُونَ عَدَمَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ يَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ تَدْعُونَ خَفِيفَةً مِنَ الدُّعَاءِ، وَقَرَأَ السَّبْعَةُ تَدَّعُونَ مُثَقَّلَةً مِنَ الِادِّعَاءِ. [سورة الملك (67) : آية 28] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ هُوَ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي مِمَّا قَالَهُ الْكُفَّارُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَوَّفَهُمْ بِعَذَابِ اللَّهِ، يُرْوَى أَنَّ كَفَّارَ مَكَّةَ كَانُوا يَدْعُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْهَلَاكِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطُّورِ: 30] وَقَالَ: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً [الْفَتْحِ: 12] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: هُوَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالْمَعْنَى قُلْ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَوَاءٌ أَهْلَكَنِي بِالْإِمَاتَةِ أَوْ رَحِمَنِي بِتَأْخِيرِ الْأَجَلِ، فَأَيُّ رَاحَةٍ لَكُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَيُّ مَنْفَعَةٍ لَكُمْ فِيهِ، وَمَنِ الَّذِي يُجِيرُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِذَا نَزَلَ بِكُمْ، أَتَظُنُّونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تُجِيرُكُمْ أَوْ غَيْرَهَا، فَإِذَا عَلِمْتُمْ أَنْ لَا مُجِيرَ لَكُمْ فَهَلَّا تَمَسَّكْتُمْ بِمَا يُخَلِّصُكُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: [سورة الملك (67) : آية 29] قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) وَالْمَعْنَى أَنَّهُ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ دُعَاءَكُمْ وَأَنْتُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ فِي حَقِّنَا، مَعَ أَنَّا آمَنَّا بِهِ وَلَمْ نَكْفُرْ بِهِ كَمَا كَفَرْتُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا لَا عَلَى غَيْرِهِ كَمَا فَعَلْتُمْ أَنْتُمْ حَيْثُ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى رِجَالِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَقُرِئَ فَسَتَعْلَمُونَ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ، وَقُرِئَ بِالْيَاءِ لِيَكُونَ عَلَى وفق قوله: فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ [الْكَافِرِينَ: 28] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يَجِبُ أن يتوكل عليه لا على غيره، ذكر الدليل عليه، فقال تعالى: [سورة الملك (67) : آية 30] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَجْعَلَهُمْ مُقِرِّينَ بِبَعْضِ نِعَمِهِ لِيُرِيَهُمْ قُبْحَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، أَيْ أَخْبِرُونِي إِنْ صَارَ مَاؤُكُمْ ذَاهِبًا فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَقُولُوا: هُوَ اللَّهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ حِينَئِذٍ: فَلِمَ تَجْعَلُونَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا شَرِيكًا لَهُ فِي الْمَعْبُودِيَّةِ؟ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [الْوَاقِعَةِ: 68، 69] وَقَوْلُهُ: غَوْراً أَيْ غَائِرًا ذَاهِبًا فِي الْأَرْضِ يُقَالُ: غَارَ الْمَاءُ يَغُورُ غَوْرًا، إِذَا نَضَبَ وذهب في الأرض، والغور هاهنا بِمَعْنَى الْغَائِرِ سُمِّيَ بِالْمَصْدَرِ كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ عَدْلٌ وَرِضًا، وَالْمَعِينُ الظَّاهِرُ الَّذِي تَرَاهُ الْعُيُونُ فَهُوَ مِنْ مَفْعُولِ الْعَيْنِ كَمَبِيعٍ، وَقِيلَ: الْمَعِينُ الْجَارِي مِنَ الْعُيُونِ مِنَ الْإِمْعَانِ فِي الْجَرْيِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مُمْعِنٌ فِي الْجَرْيِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة القلم

بسم الله الرحمن الرّحيم سُورَةُ الْقَلَمِ وَهِيَ اثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ آيَةً مَكِّيَّةٌ [سورة القلم (68) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ن فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأَقْوَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْجِنْسِ قَدْ شَرَحْنَاهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْوُجُوهُ الزَّائِدَةُ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا هَذَا الْمَوْضِعُ أَوَّلُهَا: أَنَّ النُّونَ هُوَ السَّمَكَةُ، وَمِنْهُ فِي ذِكْرِ يُونُسَ وَذَا النُّونِ [الْأَنْبِيَاءِ: 87] وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلٍ وَالسُّدِّيِّ ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ قَسَمٌ بِالْحُوتِ الَّذِي عَلَى ظَهْرِهِ الْأَرْضُ وَهُوَ فِي بَحْرٍ تَحْتَ الْأَرْضِ السُّفْلَى، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ قَسَمٌ بِالْحُوتِ الَّذِي احْتَبَسَ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَطْنِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ قَسَمٌ بِالْحُوتِ الَّذِي لُطِّخَ سَهْمُ نَمْرُوذَ بِدَمِهِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتِيَارُ الضَّحَّاكِ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّ النُّونَ هُوَ الدَّوَاةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِذَا مَا الشَّوْقُ يَرْجِعُ بِي إِلَيْهِمُ ... أَلْقَتِ النُّونُ بِالدَّمْعِ السَّجُومِ فَيَكُونُ هَذَا قَسَمًا بِالدَّوَاةِ وَالْقَلَمِ، فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ بِهِمَا بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ عَظِيمَةٌ، فَإِنَّ التَّفَاهُمَ تَارَةً يَحْصُلُ بِالنُّطْقِ وَ [تَارَةً] يُتَحَرَّى بِالْكِتَابَةِ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ النُّونَ لَوْحٌ تَكْتُبُ الْمَلَائِكَةُ مَا يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ بِهِ فِيهِ رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ مَرْفُوعًا وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ النُّونَ هُوَ الْمِدَادُ الَّذِي تَكْتُبُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّا إِذَا جَعَلْنَاهُ مُقْسَمًا بِهِ وَجَبَ إِنْ كَانَ جِنْسًا أَنْ نَجُرَّهُ وَنُنَوِّنَهُ، فَإِنَّ الْقَسَمَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ بِدَوَاةٍ مُنْكَرَةٍ أَوْ بِسَمَكَةٍ مُنْكَرَةٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَسَمَكَةٍ وَالْقَلَمِ، أَوْ قِيلَ: وَدَوَاةٍ وَالْقَلَمِ، وَإِنْ كَانَ عَلَمًا أَنْ نَصْرِفَهُ وَنَجُرَّهُ أَوْ لَا نَصْرِفَهُ وَنَفْتَحَهُ إِنْ جَعَلْنَاهُ غَيْرَ مُنْصَرِفٍ. وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ نُونَ هاهنا آخِرُ حُرُوفِ الرَّحْمَنِ فَإِنَّهُ يَجْتَمِعُ مِنَ الرَّحْمَنِ ن اسْمُ الرَّحْمَنِ فَذَكَرَ اللَّهُ هَذَا الْحَرْفَ الْأَخِيرَ مِنْ هَذَا الِاسْمِ، وَالْمَقْصُودُ الْقَسَمُ بِتَمَامِ هَذَا الِاسْمِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّ تَجْوِيزَهُ يَفْتَحُ بَابَ تُرَّهَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلسُّورَةِ أَوْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْهُ التَّحَدِّيَ أَوْ سَائِرَ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقُرَّاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي إِظْهَارِ النُّونِ وَإِخْفَائِهِ مِنْ قَوْلِهِ: ن وَالْقَلَمِ فَمَنْ أَظْهَرَهَا فَلِأَنَّهُ/ يَنْوِي بِهَا الْوَقْفَ بِدَلَالَةِ اجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ فِيهَا، وَإِذَا كَانَتْ مَوْقُوفَةً كَانَتْ فِي تَقْدِيرِ الِانْفِصَالِ مِمَّا بَعْدَهَا، وَإِذَا انْفَصَلَتْ مِمَّا بَعْدَهَا وَجَبَ التَّبْيِينُ، لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُخْفَى فِي حُرُوفِ الْفَمِ عِنْدَ الِاتِّصَالِ، وَوَجْهُ الْإِخْفَاءِ أَنَّ هَمْزَةَ الْوَصْلِ لَمْ تُقْطَعْ مَعَ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِي نَحْوِ الم اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: 1] وَقَوْلِهِمْ فِي الْعَدَدِ وَاحِدٌ اثْنَانِ فمن

[سورة القلم (68) : الآيات 2 إلى 4]

حَيْثُ لَمْ تُقْطَعِ الْهَمْزَةُ مَعَهَا عَلِمْنَا أَنَّهَا فِي تَقْدِيرِ الْوَصْلِ وَإِذَا وَصَلْتَهَا أَخْفَيْتَ النُّونَ وقد ذكرنا هذا في طس [النمل: 1] ويس، [يس: 1] وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَإِظْهَارُهَا أَعْجَبُ إِلَيَّ لِأَنَّهَا هجاء والهجاء كالموقوف عليه وإن اتصل. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْقَلَمِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَسَمَ بِهِ هُوَ الْجِنْسُ وَهُوَ وَاقِعٌ عَلَى كُلِّ قَلَمٍ يَكْتُبُ بِهِ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [الْعَلَقِ: 3- 5] فَمَنَّ بِتَيْسِيرِ الْكِتَابَةِ بِالْقَلَمِ كَمَا مَنَّ بِالنُّطْقِ فَقَالَ: خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرَّحْمَنِ: 3، 4] وَوَجْهُ الِانْتِفَاعِ بِهِ أَنْ يُنْزِلَ الْغَائِبَ مَنْزِلَةَ الْمُخَاطَبِ فَيَتَمَكَّنَ الْمَرْءُ مِنْ تَعْرِيفِ الْبَعِيدِ بِهِ مَا يَتَمَكَّنُ بِاللِّسَانِ مِنْ تَعْرِيفِ الْقَرِيبِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُقْسَمَ بِهِ هُوَ الْقَلَمُ الْمَعْهُودُ الَّذِي جَاءَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّه الْقَلَمَ ثُمَّ قَالَ لَهُ اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ مِنَ الْآجَالِ وَالْأَعْمَالِ، قَالَ: وَهُوَ قَلَمٌ مِنْ نُورٍ طُولُهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنْهُ قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّه الْقَلَمُ فَقَالَ: اكْتُبِ الْقَدَرَ فَكَتَبَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّمَا يَجْرِي النَّاسُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الْخَبَرُ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ، لِأَنَّ الْقَلَمَ الَّذِي هُوَ آلَةٌ مَخْصُوصَةٌ فِي الْكِتَابَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَيًّا عَاقِلًا فَيُؤْمَرُ وَيُنْهَى فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ كَوْنِهِ حيوانا مكلفا وبين كونه آلة للكتابة محالة، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَجْرَاهُ بِكُلِّ مَا يَكُونُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: 117] فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَمْرٌ وَلَا تَكْلِيفٌ، بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ نَفَاذِ الْقُدْرَةِ فِي الْمَقْدُورِ مِنْ غَيْرِ مُنَازَعَةٍ وَلَا مُدَافَعَةٍ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زعم أن القلم المذكور هاهنا هُوَ الْعَقْلُ، وَأَنَّهُ شَيْءٌ هُوَ كَالْأَصْلِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّه الْقَلَمُ، وَفِي خَبَرٍ آخَرَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّه تَعَالَى جَوْهَرَةٌ فَنَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الْهَيْبَةِ فَذَابَتْ وَتَسَخَّنَتْ فَارْتَفَعَ مِنْهَا دُخَانٌ وَزَبَدٌ فَخَلَقَ مِنَ الدخان السموات وَمِنَ الزَّبَدِ الْأَرْضَ، قَالُوا: فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ بِمَجْمُوعِهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَلَمَ وَالْعَقْلَ وَتِلْكَ الْجَوْهَرَةَ الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْمَخْلُوقَاتِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَإِلَّا حَصَلَ التَّنَاقُضُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَسْطُرُونَ. اعْلَمْ أَنَّ مَا مَعَ مَا بَعْدَهَا فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَسَطْرِهِمْ، فَيَكُونُ الْقَسَمُ وَاقِعًا بِنَفْسِ الْكِتَابَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمَسْطُورَ وَالْمَكْتُوبَ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَإِنْ حَمَلْنَا الْقَلَمَ عَلَى كُلِّ قَلَمٍ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّه كَانَ الْمَعْنَى ظَاهِرًا، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِكُلِّ قَلَمٍ، وَبِكُلِّ مَا يُكْتَبُ/ بِكُلِّ قَلَمٍ، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ مَا يَسْطُرُهُ الْحَفَظَةُ وَالْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْقَلَمِ أَصْحَابُهُ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي يَسْطُرُونَ لَهُمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَصْحَابِ الْقَلَمِ وَسَطْرِهِمْ، أَيْ وَمَسْطُورَاتِهِمْ. وَأَمَّا إِنْ حَمَلْنَا الْقَلَمَ عَلَى ذَلِكَ الْقَلَمِ الْمُعَيَّنِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَما يَسْطُرُونَ أَيْ وَمَا يَسْطُرُونَ فِيهِ وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَلَفْظُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: يَسْطُرُونَ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْجَمْعَ بَلِ التَّعْظِيمَ، أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الَّتِي سُطِرَتْ فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَعْمَارِ، وَجَمِيعِ الْأُمُورِ الكائنة إلى يوم القيامة. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمُقْسَمَ بِهِ أتبعه بذكر المقسم عليه فقال: [سورة القلم (68) : الآيات 2 الى 4] مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)

اعلم أَنَّ قَوْلَهُ: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَابَ عَنْ خَدِيجَةَ إِلَى حِرَاءٍ، فَطَلَبَتْهُ فَلَمْ تَجِدْهُ، فَإِذَا بِهِ وجهه متغير بلا غبار، فقالت له مالك؟ فَذَكَرَ نُزُولَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [الْعَلَقِ: 1] فَهُوَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ بِي إِلَى قَرَارِ الْأَرْضِ فَتَوَضَّأَ وَتَوَضَّأْتُ، ثُمَّ صَلَّى وَصَلَّيْتُ مَعَهُ رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: هَكَذَا الصَّلَاةُ يَا مُحَمَّدُ، فَذَكَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ لِخَدِيجَةَ، فَذَهَبَتْ خَدِيجَةُ إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا، وَكَانَ قَدْ خَالَفَ دِينَ قَوْمِهِ، وَدَخَلَ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، فَسَأَلَتْهُ فَقَالَ: أَرْسِلِي إِلَيَّ مُحَمَّدًا، فَأَرْسَلَتْهُ فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: هَلْ أمرك جبريل عليه السلام أن تدعوا إِلَى اللَّه أَحَدًا فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: واللَّه لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى دَعْوَتِكَ لَأَنْصُرَنَّكَ نَصْرًا عَزِيزًا، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ دُعَاءِ الرَّسُولِ، وَوَقَعَتْ تِلْكَ الْوَاقِعَةُ فِي أَلْسِنَةِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَقَالُوا: إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ، فَأَقْسَمَ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، وَهُوَ خَمْسُ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ قَوْلُهُ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ [الْأَعْلَى: 1] وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الثَّانِيَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: أَنْتَ هو اسم ما وبِمَجْنُونٍ الْخَبَرُ، وَقَوْلُهُ: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ كَلَامٌ وَقَعَ فِي الْبَيْنِ وَالْمَعْنَى انْتَفَى عَنْكَ الْجُنُونُ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ كَمَا يُقَالُ: أَنْتَ بِحَمْدِ اللَّه عَاقِلٌ، وَأَنْتَ بِحَمْدِ اللَّه لَسْتَ بِمَجْنُونٍ، وَأَنْتَ بِنِعْمَةِ اللَّه فَهِمٌ، وَأَنْتَ بِنِعْمَةِ اللَّه لَسْتَ بِفَقِيرٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ الْمَحْمُودَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ، وَالصِّفَةُ الْمَذْمُومَةُ إِنَّمَا زَالَتْ بِوَاسِطَةِ إِنْعَامِ اللَّه وَلُطْفِهِ وَإِكْرَامِهِ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ عَلَيْكَ بِالْإِيمَانِ وَالنُّبُوَّةِ، وَهُوَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحِجْرِ: 6] واعلم أنه تعالى وصفه هاهنا بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الصِّفَاتِ. الصِّفَةُ الْأُولَى: نَفْيُ الْجُنُونِ عَنْهُ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَرَنَ بِهَذِهِ الدَّعْوَى مَا يَكُونُ كَالدَّلَالَةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى صِحَّتِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِعَمَ اللَّه تَعَالَى كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي حَقِّهِ مِنَ الْفَصَاحَةِ التَّامَّةِ وَالْعَقْلِ الْكَامِلِ وَالسِّيرَةِ الْمَرْضِيَّةِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبِ، وَالِاتِّصَافِ بِكُلِّ مَكْرُمَةٍ وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ النِّعَمُ مَحْسُوسَةً ظَاهِرَةً فَوُجُودُهَا يُنَافِي حُصُولَ الْجُنُونِ، فاللَّه تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ لِتَكُونَ جَارِيَةً مَجْرَى الدَّلَالَةِ الْيَقِينِيَّةِ عَلَى كَوْنِهِمْ كَاذِبِينَ فِي قَوْلِهِمْ لَهُ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَفِي الْمَمْنُونِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، أَنَّ الْمَعْنَى غَيْرُ مَنْقُوصٍ وَلَا مَقْطُوعٍ يُقَالُ: مَنَّهُ السَّيْرُ أَيْ أَضْعَفَهُ، وَالْمَنِينُ الضَّعِيفُ وَمَنَّ الشَّيْءَ إِذَا قَطَعَهُ، وَمِنْهُ قول لبيد: غبش كَوَاسِبُ مَا يُمَنُّ طَعَامُهَا يَصِفُ كِلَابًا ضَارِيَةً، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هُودٍ: 108] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ، إِنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ عَلَيْكَ بِسَبَبِ الْمِنَّةِ، قَالَتِ المعتزلة في تقدير هَذَا الْوَجْهِ: إِنَّهُ غَيْرُ مَمْنُونٍ عَلَيْكَ لِأَنَّهُ ثَوَابٌ تَسْتَوْجِبُهُ عَلَى عَمَلِكَ، وَلَيْسَ بِتَفَضُّلٍ ابْتِدَاءً، والقول الأول

أَشْبَهُ لِأَنَّ وَصْفَهُ بِأَنَّهُ أَجْرٌ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا مِنَّةَ فِيهِ فَالْحَمْلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ كَالتَّكْرِيرِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الْأَجْرَ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ حَصَلَ؟ قَالَ قَوْمٌ مَعْنَاهُ: إِنَّ لَكَ عَلَى احْتِمَالِ هَذَا الطَّعْنِ وَالْقَوْلِ الْقَبِيحِ أَجْرًا عَظِيمًا دَائِمًا، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ إِنَّ لَكَ فِي إِظْهَارِ النُّبُوَّةِ وَالْمُعْجِزَاتِ، فِي دُعَاءِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّه، وَفِي بَيَانِ الشَّرْعِ لَهُمْ هَذَا الْأَجْرَ الْخَالِصَ الدَّائِمَ، فَلَا تَمْنَعْكَ نِسْبَتُهَا إِيَّاكَ إِلَى الْجُنُونِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِهَذَا الْمُهِمِّ الْعَظِيمِ، فَإِنَّ لَكَ بِسَبَبِهِ الْمَنْزِلَةَ الْعَالِيَةَ عِنْدَ اللَّه. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا كَالتَّفْسِيرِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ وَتَعْرِيفٌ لِمَنْ رَمَاهُ بِالْجُنُونِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ، وَخَطَأٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَخْلَاقَ الْحَمِيدَةَ وَالْأَفْعَالَ الْمَرْضِيَّةَ كَانَتْ ظَاهِرَةً مِنْهُ، وَمَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِتِلْكَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ لَمْ يَجُزْ إِضَافَةُ الْجُنُونِ إِلَيْهِ لِأَنَّ أَخْلَاقَ الْمَجَانِينِ سيئة، ولما كانت أخلاقه الحميد كَامِلَةً لَا جَرَمَ وَصَفَهَا اللَّه بِأَنَّهَا عَظِيمَةٌ ولهذا قال: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86] أَيْ لَسْتُ مُتَكَلِّفًا فِيمَا يَظْهَرُ لَكُمْ مِنْ أَخْلَاقِي لِأَنَّ الْمُتَكَلِّفَ لَا يَدُومُ أَمْرُهُ طَوِيلًا بَلْ يَرْجِعُ إِلَى الطَّبْعِ، وَقَالَ: آخَرُونَ: إِنَّمَا وَصَفَ خُلُقَهُ بِأَنَّهُ عَظِيمٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَامِ: 90] وَهَذَا الْهُدَى الَّذِي أَمَرَ اللَّه تَعَالَى مُحَمَّدًا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ لَيْسَ هُوَ مَعْرِفَةَ اللَّه لِأَنَّ ذَلِكَ تَقْلِيدٌ وَهُوَ غَيْرُ لَائِقٍ بِالرَّسُولِ، وَلَيْسَ هُوَ الشَّرَائِعَ لِأَنَّ شَرِيعَتَهُ مُخَالِفَةٌ لِشَرَائِعِهِمْ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أمر عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يَقْتَدِيَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيمَا اخْتُصَّ بِهِ مِنَ الْخُلُقِ الْكَرِيمِ، فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ مُخْتَصًّا بِنَوْعٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا أُمِرَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يَقْتَدِيَ بِالْكُلِّ فَكَأَنَّهُ أُمِرَ بِمَجْمُوعِ مَا كَانَ مُتَفَرِّقًا فِيهِمْ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ دَرَجَةً عَالِيَةً لَمْ تَتَيَسَّرْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، لَا جَرَمَ وَصَفَ اللَّه خُلُقَهُ بِأَنَّهُ عَظِيمٌ، وَفِيهِ دَقِيقَةٌ/ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ: لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وَكَلِمَةُ عَلَى لِلِاسْتِعْلَاءِ، فَدَلَّ اللفظ على أنه مستعمل عَلَى هَذِهِ الْأَخْلَاقِ وَمُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ كَالْمَوْلَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَبْدِ وَكَالْأَمِيرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَأْمُورِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْخُلُقُ مَلَكَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ يَسْهُلُ عَلَى الْمُتَّصِفِ بِهَا الْإِتْيَانُ بِالْأَفْعَالِ الْجَمِيلَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْأَفْعَالِ الْجَمِيلَةِ غَيْرٌ وَسُهُولَةَ الْإِتْيَانِ بِهَا غَيْرٌ، فَالْحَالَةُ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا تَحْصُلُ تِلْكَ السُّهُولَةُ هِيَ الْخُلُقُ وَيَدْخُلُ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ التَّحَرُّزُ مِنَ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ وَالْغَضَبِ، وَالتَّشْدِيدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالتَّحَبُّبُ إِلَى النَّاسِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَتَرْكُ التَّقَاطُعِ وَالْهِجْرَانِ وَالتَّسَاهُلُ في العقود كالبيع وغيره والتسمح بِمَا يَلْزَمُ مِنْ حُقُوقِ مَنْ لَهُ نَسَبٌ أَوْ كَانَ صِهْرًا لَهُ وَحَصَلَ لَهُ حَقٌّ آخَرُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ: وَإِنَّكَ لَعَلَى دِينٍ عَظِيمٍ، وَرُوِيَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ لَهُ: «لَمْ أَخْلُقْ دِينًا أَحَبَّ إِلَيَّ وَلَا أَرْضَى عِنْدِي مِنْ هَذَا الدِّينِ الَّذِي اصْطَفَيْتُهُ لَكَ وَلِأُمَّتِكَ» يَعْنِي الْإِسْلَامَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الإنسان له قوتان، قوة نظيرة وَقُوَّةٌ عَمَلِيَّةٌ، وَالدِّينُ يَرْجِعُ إِلَى كَمَالِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، وَالْخُلُقُ يَرْجِعُ إِلَى كَمَالِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَيُمْكِنُ أيضا أن يجاب عن هذ السُّؤَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخُلُقَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْعَادَةُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي إِدْرَاكٍ أَوْ فِي فِعْلٍ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْخُلُقَ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي بِاعْتِبَارِهِ يَكُونُ الْإِتْيَانُ بِالْأَفْعَالِ الْجَمِيلَةِ سَهْلًا، فَلَمَّا كَانَتِ الرُّوحُ الْقُدْسِيَّةُ الَّتِي لَهُ شَدِيدَةَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ الْحَقَّةِ وَعَدِيمَةَ الِاسْتِعْدَادِ لِقَبُولِ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ، كَانَتْ تِلْكَ السُّهُولَةُ حَاصِلَةً فِي قَبُولِ المعارف الحقة، فلا يبعد تسمية تلك السهول بالخلق.

[سورة القلم (68) : آية 5]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ: سَعِيدُ بْنُ هِشَامٍ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: «أَخْبِرِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّه، قَالَتْ ألست قرأ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَى قَالَتْ: فَإِنَّهُ كَانَ خُلُقَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ» وَسُئِلَتْ مَرَّةً أُخْرَى فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 1] إِلَى عَشَرَةِ آيَاتٍ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ كَانَتْ بِالطَّبْعِ مُنْجَذِبَةً إِلَى عَالَمِ الْغَيْبِ، وَإِلَى كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَكَانَتْ شَدِيدَةَ النَّفْرَةِ عَنِ اللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالسَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِالطَّبْعِ وَمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ، اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ. وَرَوَى هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «مَا كَانَ أَحَدٌ أَحْسَنَ خُلُقًا مِنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا دَعَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ إِلَّا قَالَ: لَبَّيْكَ» فَلِهَذَا قَالَ: تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وَقَالَ أَنَسٌ: «خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، فما قال لي في شي فَعَلْتُهُ لِمَ فَعَلْتَ، وَلَا فِي شَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ هَلَّا فَعَلْتَ» وَأَقُولُ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى وَصَفَ مَا يَرْجِعُ إِلَى قُوَّتِهِ النَّظَرِيَّةِ بِأَنَّهُ عَظِيمٌ، فَقَالَ: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النِّسَاءِ: 113] وَوَصَفَ ما يرجع إلى قوته العلمية بِأَنَّهُ عَظِيمٌ فَقَالَ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ فَلَمْ يَبْقَ لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ هَاتَيْنِ الْقُوَّتَيْنِ شَيْءٌ، فَدَلَّ/ مَجْمُوعُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى أَنَّ رُوحَهُ فِيمَا بَيْنَ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ كَانَتْ عَظِيمَةً عَالِيَةَ الدَّرَجَةِ، كَأَنَّهَا لِقُوَّتِهَا وَشَدَّةِ كَمَالِهَا كَانَتْ مِنْ جِنْسِ أَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وصفه بأنه على خلق عظيم قال: [سورة القلم (68) : آية 5] فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) أَيْ فَسَتَرَى يَا مُحَمَّدُ وَيَرَوْنَ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا، يَعْنِي فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ في الدُّنْيَا أَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ عَاقِبَةُ أَمْرِكَ وَعَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ، فَإِنَّكَ تَصِيرُ مُعَظَّمًا فِي الْقُلُوبِ، وَيَصِيرُونَ دليلين مَلْعُونِينَ، وَتَسْتَوْلِي عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ وَالنَّهْبِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: هَذَا وَعِيدٌ بِالْعَذَابِ بِبَدْرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى أَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ [الْقَمَرِ: 26] . وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: [سورة القلم (68) : آية 6] بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) ففيه وجوه: أحدها: وهو قول الأخفس وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَابْنِ قُتَيْبَةَ: أَنَّ الْبَاءَ صِلَةٌ زَائِدَةٌ وَالْمَعْنَى أَيُّكُمُ الْمَفْتُونُ وَهُوَ الَّذِي فُتِنَ بِالْجُنُونِ كَقَوْلِهِ: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [الْمُؤْمِنِينَ: 20] أَيْ تُنْبِتُ الدُّهْنَ وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ: نَضْرِبُ بِالسَّيْفِ وَنَرْجُو بِالْفَرَجْ وَالْفَرَّاءُ طَعَنَ فِي هَذَا الْجَوَابِ وَقَالَ: إِذَا أَمْكَنَ فِيهِ بَيَانُ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ مِنْ دُونِ طَرْحِ الْبَاءِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَأَمَّا الْبَيْتُ فَمَعْنَاهُ نَرْجُو كَشْفَ مَا نَحْنُ فِيهِ بِالْفَرَجِ أَوْ نَرْجُو النَّصْرَ بِالْفَرَجِ وَثَانِيهَا: وَهُوَ اختيار الفراء والمبرد أن المفتون هاهنا بمعنى الفتون وهو الجنون، ولا مصادر تجيء على المفعول نحو المقعود وَالْمَيْسُورِ بِمَعْنَى الْعَقْدِ وَالْيُسْرِ، يُقَالُ: لَيْسَ لَهُ مَعْقُودُ رَأْيٍ أَيْ عَقْدُ رَأْيٍ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَرِوَايَةُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْبَاءَ بِمَعْنَى فِي وَمَعْنَى الْآيَةِ: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ فِي أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ الْمَجْنُونُ، أَفِي فِرْقَةِ الْإِسْلَامِ أَمْ فِي فِرْقَةِ الْكُفَّارِ وَرَابِعُهَا: الْمَفْتُونُ هُوَ الشَّيْطَانُ إِذْ لَا شَكَّ أَنَّهُ مَفْتُونٌ فِي دِينِهِ وَهُمْ لَمَّا قَالُوا إِنَّهُ مَجْنُونٌ فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ بِهِ شَيْطَانًا فَقَالَ: تعالى: سيعملون غدا بِأَيِّهِمْ شَيْطَانٌ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْ مَسِّهِ الْجُنُونُ واختلاط العقل ثم قال تعالى:

[سورة القلم (68) : آية 7]

[سورة القلم (68) : آية 7] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: هو أن يكون المعين إن ربك هو أعلم بالمجانين عل الحقيقة، وهم الذي ضَلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْعُقَلَاءِ وَهُمُ الْمُهْتَدُونَ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِنَّهُمْ رَمَوْكَ بِالْجُنُونِ وَوَصَفُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْعَقْلِ وَهُمْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ مَوْصُوفُونَ بِالضَّلَالِ، وَأَنْتَ مَوْصُوفٌ بِالْهِدَايَةِ وَالِامْتِيَازُ الْحَاصِلُ بِالْهِدَايَةِ وَالضَّلَالِ أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ مِنَ الِامْتِيَازِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ الْعَقْلِ وَالْجُنُونِ، لِأَنَّ ذَاكَ/ ثَمَرَتُهُ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ [أ] وَالشَّقَاوَةُ، وَهَذَا ثَمَرَتُهُ السعادة [أ] والشقاوة في الدنيا. [سورة القلم (68) : آية 8] فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا عَلَيْهِ الْكُفَّارُ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ وَنِسْبَتِهِ إِلَى الْجُنُونِ مَعَ الَّذِي أَنْعَمَ اللَّه بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الْكَمَالِ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالْخُلُقِ، أَتْبَعَهُ بِمَا يَدْعُوهُ إِلَى التَّشَدُّدِ مَعَ قَوْمِهِ وَقَوَّى قَلْبَهُ بِذَلِكَ مَعَ قِلَّةِ الْعَدَدِ وَكَثْرَةِ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ فَقَالَ: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ يَعْنِي رُؤَسَاءَ أَهْلِ مَكَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ دَعَوْهُ إِلَى دِينِ آبَائِهِ فَنَهَاهُ اللَّه أَنْ يُطِيعَهُمْ، وَهَذَا من اللَّه إلهاب وتهييج التشدد في مخالفتهم. ثم قال: [سورة القلم (68) : الآيات 9 الى 13] وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) [في قوله تعالى وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ] وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ اللَّيْثُ: الْإِدْهَانُ اللِّينُ وَالْمُصَانَعَةُ وَالْمُقَارَبَةُ فِي الْكَلَامِ، قَالَ: الْمُبَرِّدُ: دَاهَنَ الرَّجُلُ فِي دِينِهِ وَدَاهَنَ فِي أَمْرِهِ إِذَا خَانَ فِيهِ وَأَظْهَرَ خِلَافَ مَا يُضْمِرُ، وَالْمَعْنَى تَتْرُكُ بَعْضَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَرْضَوْنَهُ مُصَانَعَةً لَهُمْ فَيَفْعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ وَيَتْرُكُوا بَعْضَ مَا لَا تَرْضَى فَتَلِينَ لَهُمْ وَيَلِينُونَ لَكَ، وَرَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَوْ تَكْفُرُ فَيَكْفُرُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا رُفِعَ فَيُدْهِنُونَ وَلَمْ يُنْصَبْ بِإِضْمَارِ أَنْ وَهُوَ جَوَابُ التَّمَنِّي لِأَنَّهُ قَدْ عُدِلَ بِهِ إِلَى طَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ جُعِلَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ فَهُمْ يُدْهِنُونَ كَقَوْلِهِ: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ [الْجِنِّ: 13] عَلَى مَعْنَى وَدُّوا لَوْ تدهن فهم يدهنون حينئذ، قال سيبويه: ومعم هَارُونُ وَكَانَ مِنَ الْقُرَّاءِ أَنَّهَا فِي بَعْضِ المصاحف: (ودوا لو تدهن فيدهنوا) . [البحث في الصفات المذمومة للكفار في هذه الآيات] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَاهُ عَنْ طَاعَةِ الْمُكَذِّبِينَ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ النَّهْيَ عَنْ طَاعَةِ جَمِيعِ الْكُفَّارِ إِلَّا أَنَّهُ أَعَادَ النَّهْيَ عَنْ طَاعَةِ من كان الكفا مَوْصُوفًا بِصِفَاتٍ مَذْمُومَةٍ وَرَاءَ الْكُفْرِ، وَتِلْكَ الصِّفَاتُ هِيَ هَذِهِ: الصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُ حَلَّافًا، وَالْحَلَّافُ مَنْ كَانَ كَثِيرَ الْحَلِفِ فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَكَفَى بِهِ مَزْجَرَةً لِمَنِ اعْتَادَ

الْحَلِفَ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 224] . الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُ مَهِينًا، قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ فَعِيلٌ مِنَ الْمَهَانَةِ، ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَهَانَةَ هِيَ الْقِلَّةُ وَالْحَقَارَةُ فِي الرَّأْيِ وَالتَّمْيِيزِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ مَهِينًا لِأَنَّ الْمُرَادَ الْحَلَّافُ/ فِي الْكَذِبِ، وَالْكَذَّابُ حَقِيرٌ عِنْدَ النَّاسِ. وَأَقُولُ: كَوْنُهُ حَلَّافًا يَدُلُّ على أنه يَعْرِفُ عَظَمَةَ اللَّه تَعَالَى وَجَلَالَهُ، إِذْ لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ لَمَا أَقْدَمَ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَوَانٍ بِسَبَبِ كُلِّ بَاطِلٍ عَلَى الِاسْتِشْهَادِ بِاسْمِهِ وَصِفَتِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِعَظَمَةِ اللَّه وَكَانَ مُتَعَلِّقَ الْقَلْبِ بِطَلَبِ الدُّنْيَا كَانَ مَهِينًا، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِزَّةَ النَّفْسِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَأَنَّ مَهَانَتَهَا لَا تَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ غَفَلَ عَنْ سِرِّ الْعُبُودِيَّةِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: كَوْنُهُ هَمَّازًا وَهُوَ العياب الطعان، قال المبرد: هو الَّذِي يَهْمِزُ النَّاسَ أَيْ يُذَكِّرُهُمْ بِالْمَكْرُوهِ وَأَثَرُ ذَلِكَ يُظْهِرُ الْعَيْبَ، وَعَنِ الْحَسَنِ يَلْوِي شِدْقَيْهِ فِي أَقْفِيَةِ النَّاسِ وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْقَوْلَ] فِيهِ فِي قَوْلِهِ: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ [الْهُمَزَةِ: 1] . الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: كَوْنُهُ مَشَّاءً بِنَمِيمٍ أَيْ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ بَيْنَ النَّاسِ لِيُفْسِدَ بَيْنَهُمْ، يُقَالُ: نَمَّ يَنِمُّ وَيَنُمُّ نَمًّا وَنَمِيمًا وَنَمِيمَةً. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: كَوْنُهُ مَنَّاعًا لِلْخَيْرِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ بَخِيلٌ وَالْخَيْرُ الْمَالُ وَالثَّانِي: كَانَ يَمْنَعُ أهل مِنَ الْخَيْرِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ لَهُ عَشَرَةٌ مِنَ الْبَنِينَ وَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ وَمَا قَارَبَهُمْ لَئِنْ تَبِعَ دِينَ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ أَحَدٌ لَا أَنْفَعُهُ بِشَيْءٍ أَبَدًا فَمَنَعَهُمُ الْإِسْلَامَ فَهُوَ الْخَيْرُ الَّذِي مَنَعَهُمْ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَبُو جَهْلٍ وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَعَنِ السُّدِّيِّ: الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ. الصِّفَةُ السَّادِسَةُ: كَوْنُهُ مُعْتَدِيًا، قَالَ: مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ ظَلُومٌ يَتَعَدَّى الْحَقَّ وَيَتَجَاوَزُهُ فَيَأْتِي بِالظُّلْمِ وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ يَعْنِي أَنَّهُ نِهَايَةٌ فِي جَمِيعِ الْقَبَائِحِ وَالْفَضَائِحِ. الصِّفَةُ السَّابِعَةُ: كَوْنُهُ أَثِيمًا، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الْإِثْمِ. الصِّفَةُ الثَّامِنَةُ: الْعُتُلُّ وَأَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ كَثِيرَةٌ، وَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ذَمٌّ فِي الْخَلْقِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ ذَمٌّ فِي الْخُلُقِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِكَ: عَتَلَهُ إِذَا قَادَهُ بِعُنْفٍ وَغِلْظَةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاعْتِلُوهُ [الدُّخَانِ: 47] أَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوهُ عَلَى ذَمِّ الْخَلْقِ فَقَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: يُرِيدُ قَوِيٌّ ضَخْمٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَاسِعُ الْبَطْنِ، وَثِيقُ الْخَلْقِ وَقَالَ الْحَسَنُ: الْفَاحِشُ الْخُلُقِ، اللَّئِيمُ النَّفْسِ وَقَالَ عُبَيْدَةُ بْنُ عُمَيْرٍ: هُوَ الْأَكُولُ الشَّرُوبُ، الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ الْغَلِيظُ الْجَافِي. أَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوهُ عَلَى ذَمِّ الْأَخْلَاقِ، فَقَالُوا: إِنَّهُ الشَّدِيدُ الْخُصُومَةِ، الْفَظُّ الْعَنِيفُ. الصِّفَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: زَنِيمٍ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الزَّنِيمِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قال الفراء: الزنيم هو الدعي الملصق بالقم وَلَيْسَ مِنْهُمْ، قَالَ حَسَّانٌ: وَأَنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ فِي آلِ هَاشِمٍ ... كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ القدح الفرد

[سورة القلم (68) : الآيات 14 إلى 15]

وَالزَّنَمَةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ الزِّيَادَةُ، وَزَنَمَتِ الشَّاةُ أَيْضًا إِذَا شُقَّتْ أُذُنُهَا فَاسْتَرْخَتْ وَيَبِسَتْ وَبَقِيَتْ/ كَالشَّيْءِ الْمُعَلَّقِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الزَّنِيمَ هُوَ وَلَدُ الزِّنَا الْمُلْحَقُ بِالْقَوْمِ فِي النَّسَبِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَكَانَ الْوَلِيدُ دَعِيًّا فِي قُرَيْشٍ وَلَيْسَ مِنْ سنخهم ادعاه بَعْدَ ثَمَانِ عَشْرَةَ [لَيْلَةً] مِنْ مَوْلِدِهِ. وَقِيلَ: بَغَتْ أُمُّهُ وَلَمْ يُعْرَفْ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ: الشَّعْبِيُّ هُوَ الرَّجُلُ يُعْرَفُ بِالشَّرِّ وَاللُّؤْمِ كَمَا تُعْرَفُ الشَّاةُ بِزَنَمَتِهَا والقول الثالث: روى عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَعْنَى كَوْنِهِ زَنِيمًا أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ زَنَمَةٌ فِي عُنُقِهِ يُعْرَفُ بِهَا، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ فِي أَصْلِ أُذُنِهِ مِثْلُ زَنَمَةِ الشَّاةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قول بَعْدَ ذلِكَ معناه أنه بعد ما عُدَّ لَهُ مِنَ الْمَثَالِبِ وَالنَّقَائِصِ فَهُوَ عُتُلٌّ زَنِيمٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَهُوَ كَوْنُهُ عُتُلًّا زَنِيمًا أَشَدُّ مَعَايِبِهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ جَافِيًا غَلِيظَ الطَّبْعِ قَسَا قَلْبُهُ وَاجْتَرَأَ عَلَى كُلِّ مَعْصِيَةٍ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ النُّطْفَةَ إِذَا خَبُثَتْ خَبُثَ الْوَلَدُ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ الزِّنَا وَلَا وَلَدُهُ وَلَا وَلَدُ وَلَدِهِ» وَقِيلَ: هاهنا بَعْدَ ذلِكَ نَظِيرُ ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَدِ: 17] وَقَرَأَ الْحَسَنُ (عتل) رفعا على الذم. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ تَعْدِيدِ هَذِهِ الصِّفَاتِ قال: [سورة القلم (68) : الآيات 14 الى 15] أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ كانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَا بَعْدَهُ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَتَقْدِيرُهُ: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ، أَيْ لَا تُطِعْهُ مَعَ هَذِهِ الْمَثَالِبِ لِيَسَارِهِ وَأَوْلَادِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَتَقْدِيرُهُ لِأَجْلِ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَالْمَعْنَى لِأَجْلِ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ جعل مجازاة هذه النعم التي خولها اليه له الكفر بآياته قال: أبو علي الفاسي: الْعَامِلُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ كانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ قَوْلَهُ: تُتْلى أَوْ قَوْلَهُ قالَ. أَوْ شَيْئًا ثَالِثًا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ تُتْلى قَدْ أُضِيفَتْ إِذا إِلَيْهِ وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهُ أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَا تَقُولُ: الْقِتَالُ زَيْدًا حِينَ يَأْتِي تُرِيدُ حِينَ يَأْتِي زَيْدًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ أَيْضًا قالَ لِأَنَّ قالَ جَوَابُ إِذا، وَحُكْمُ الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مَا هُوَ جَوَابٌ لَهُ وَلَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَانِ القسمان علمنا أن العالم فِيهِ شَيْءٌ ثَالِثٌ دَلَّ مَا فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ هُوَ يَجْحَدُ أَوْ يَكْفُرُ أَوْ يُمْسِكُ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يَعْمَلَ الْمَعْنَى فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ لِشَبَهِهِ بِالظَّرْفِ، وَالظَّرْفُ قَدْ تَعْمَلُ فِيهِ الْمَعَانِي وَإِنْ تَقَدَّمَ عَلَيْهَا، وَيَدُلُّكَ عَلَى مُشَابَهَتِهِ لِلظَّرْفِ تَقْدِيرُ اللَّامِ مَعَهُ، فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: لِأَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَإِذَا صار كالظرف لم يمتنع المعين مِنْ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ، كَمَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سَبَأٍ: 7] لَمَّا كَانَ ظَرْفًا، وَالْعَامِلُ فِيهِ الْقَسَمُ الدَّالُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ تَقْدِيرُهُ: أَنَّهُ جَحَدَ آيَاتِنَا، لِأَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ أَوْ كَفَرَ بِآيَاتِنَا، لِأَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: أَأَنْ كَانَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلِأَنْ كَانَ ذَا مَالٍ كَذَّبَ، أَوِ التَّقْدِيرُ:

[سورة القلم (68) : آية 16]

أَتُطِيعُهُ لِأَنْ كَانَ ذَا مَالٍ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ «1» عَنْ نَافِعٍ: إِنْ كَانَ بِالْكَسْرِ، وَالشَّرْطُ لِلْمُخَاطَبِ، أَيْ لَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ شَارِطًا يَسَارَهُ، لِأَنَّهُ إِذَا أَطَاعَ الْكَافِرَ لِغِنَاهُ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَطَ فِي الطَّاعَةِ الْغِنَى، وَنَظِيرُ صَرْفِ الشَّرْطِ إِلَى الْمُخَاطَبِ صَرْفُ التَّرَجِّي إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ [طه: 44] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُ قَبَائِحَ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ قَالَ مُتَوَعِّدًا لَهُ: [سورة القلم (68) : آية 16] سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَسْمُ أَثَرُ الْكَيَّةِ وَمَا يُشْبِهُهَا، يُقَالُ: وَسَمْتُهُ فَهُوَ مَوْسُومٌ بِسِمَةٍ يُعْرَفُ بِهَا إِمَّا كَيَّةٌ، وإما قطع في أذنه عَلَامَةً لَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْخُرْطُومُ هاهنا الْأَنْفُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا اللَّفْظَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ، لِأَنَّ التَّعْبِيرَ عَنْ أَعْضَاءِ النَّاسِ بِالْأَسْمَاءِ الْمَوْضُوعَةِ، لِأَشْبَاهِ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ يَكُونُ اسْتِخْفَافًا، كَمَا يُعَبَّرُ عَنْ شِفَاهِ النَّاسِ بِالْمَشَافِرِ، وَعَنْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ بِالْأَظْلَافِ وَالْحَوَافِرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْوَجْهُ أَكْرَمُ مَوْضِعٍ فِي الْجَسَدِ، وَالْأَنْفُ أَكْرَمُ مَوْضِعٍ مِنَ الْوَجْهِ لِارْتِفَاعِهِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ جَعَلُوهُ مَكَانَ الْعِزِّ وَالْحَمِيَّةِ، وَاشْتَقُّوا مِنْهُ الْأَنَفَةَ، وَقَالُوا: الْأَنَفُ فِي الْأَنْفِ وَحَمَى أَنْفَهُ، وَفُلَانٌ شَامِخُ الْعِرْنِينِ، وَقَالُوا فِي الذَّلِيلِ: جُدِعَ أَنْفُهُ، وَرَغِمَ أَنْفُهُ، فَعَبَّرَ بِالْوَسْمِ عَلَى الْخُرْطُومِ عَنْ غَايَةِ الْإِذْلَالِ وَالْإِهَانَةِ، لِأَنَّ السِّمَةَ عَلَى الْوَجْهِ شَيْنٌ، فَكَيْفَ عَلَى أَكْرَمِ مَوْضِعٍ مِنَ الْوَجْهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا الْوَسْمُ يَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: فَفِيهِ وُجُوهٌ أَوَّلُهَا: وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يُسَوَّدُ وَجْهُهُ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ، وَالْخُرْطُومُ وَإِنْ كَانَ قَدْ خُصَّ بِالسِّمَةِ فَإِنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّ بَعْضَ الْوَجْهِ يُؤَدِّي عَنْ بَعْضٍ وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى سَيَجْعَلُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ الْعَلَمَ الَّذِي يَعْرِفُ بِهِ أَهْلُ الْقِيَامَةِ، أَنَّهُ كَانَ غَالِيًا فِي عَدَاوَةِ الرَّسُولِ، وَفِي إِنْكَارِ الدِّينِ الْحَقِّ وَثَالِثُهَا: أَنَّ فِي الْآيَةِ احْتِمَالًا آخَرَ عِنْدِي، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الْكَافِرَ إِنَّمَا بَالَغَ فِي عَدَاوَةِ الرَّسُولِ وَفِي الطَّعْنِ فِي الدِّينِ الْحَقِّ بِسَبَبِ الْأَنَفَةِ وَالْحَمِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ مَنْشَأُ هَذَا الْإِنْكَارِ هُوَ الْأَنَفَةُ وَالْحَمِيَّةُ كَانَ مَنْشَأُ عَذَابِ الْآخِرَةِ هُوَ هَذِهِ الْأَنَفَةُ وَالْحَمِيَّةُ، فَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الِاخْتِصَاصِ بِقَوْلِهِ: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْوَسْمَ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ سَنَخْطِمُهُ بِالسَّيْفِ فَنَجْعَلُ ذلك علامة باقية على أنفسه مَا عَاشَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَاتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ فَخُطِمَ بِالسَّيْفِ فِي الْقِتَالِ وَثَانِيهَا: أَنَّ مَعْنَى هَذَا الْوَسْمِ أَنَّهُ يَصِيرُ مَشْهُورًا بِالذِّكْرِ الرَّدِيءِ وَالْوَصْفِ الْقَبِيحِ فِي الْعَالَمِ، وَالْمَعْنَى سَنُلْحِقُ بِهِ شَيْئًا لَا يُفَارِقُهُ وَنُبِينُ أَمْرَهُ بَيَانًا وَاضِحًا حَتَّى لَا يَخْفَى كَمَا لَا تَخْفَى السِّمَةُ عَلَى الْخَرَاطِيمِ، تَقُولُ الْعَرَبُ لِلرَّجُلِ الَّذِي تَسُبُّهُ فِي مَسَبَّةٍ قَبِيحَةٍ بَاقِيَةٍ فَاحِشَةٍ: قَدْ وَسَمَهُ مِيسَمَ سُوءٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَلْصَقَ بِهِ عَارًا لَا يُفَارِقُهُ كَمَا أَنَّ السِّمَةَ لَا تَنْمَحِي ولا تزول ألبتة، قال جرير:

_ (1) في الكشاف للزمخشري (الزبيري) 4/ 143 ط. دار الفكر.

[سورة القلم (68) : الآيات 17 إلى 18]

لَمَّا وَضَعْتُ عَلَى الْفَرَزْدَقِ مِيسَمِي ... وَعَلَى الْبَعِيثِ جَدَعْتُ أَنْفَ الْأَخْطَلِ يُرِيدُ أَنَّهُ وَسَمَ الْفَرَزْدَقَ [وَالْبَعِيثَ] وَجَدَعَ أَنْفَ الْأَخْطَلِ بِالْهِجَاءِ أَيْ أَلْقَى عَلَيْهِ عَارًا لَا يَزُولُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْمُبَالَغَةَ الْعَظِيمَةَ فِي مَذَمَّةِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بَقِيَتْ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ فَكَانَ ذَلِكَ كالموسم عَلَى الْخُرْطُومِ، وَمِمَّا يَشْهَدُ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي زَنِيمٍ إِنَّهُ يُعْرَفُ بِالشَّرِّ كَمَا تُعْرَفُ الشَّاةُ بِزَنَمَتِهَا وَثَالِثُهَا: يُرْوَى عَنِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ أَنَّ الْخُرْطُومَ هُوَ الْخَمْرُ وَأَنْشَدَ: تَظَلُّ يَوْمَكَ فِي لَهْوٍ وَفِي طَرَبٍ ... وَأَنْتَ بِاللَّيْلِ شَرَّابُ الْخَرَاطِيمِ فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ: سَنَحُدُّهُ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَهُوَ تَعَسُّفٌ، وَقِيلَ لِلْخَمْرِ الْخُرْطُومُ كَمَا يُقَالُ لَهَا السُّلَافَةُ، وَهِيَ مَا سَلَفَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ، أَوْ لأنها تطير في الخياشيم. [سورة القلم (68) : الآيات 17 الى 18] إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: لِأَجْلِ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ، جَحَدَ وَكَفَرَ وَعَصَى وَتَمَرَّدَ، وَكَانَ هَذَا اسْتِفْهَامًا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَعْطَاهُ الْمَالَ وَالْبَنِينَ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ، وَلِيَصْرِفَهُ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَلِيُوَاظِبَ عَلَى شُكْرِ نِعَمِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ تَعَالَى يَقْطَعُ عَنْهُ تِلْكَ النِّعَمَ، وَيَصُبُّ عَلَيْهِ أَنْوَاعَ الْبَلَاءِ وَالْآفَاتِ فَقَالَ: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَيْ كَلَّفْنَا هَؤُلَاءِ أَنْ يَشْكُرُوا عَلَى النِّعَمِ، كَمَا كَلَّفْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ذَاتِ الثِّمَارِ، أَنْ يَشْكُرُوا وَيُعْطُوا الْفُقَرَاءَ حُقُوقَهُمْ، رُوِيَ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ ثَقِيفٍ وَكَانَ مُسْلِمًا، كَانَ يَمْلِكُ ضَيْعَةً فِيهَا نَخْلٌ وَزَرْعٌ بِقُرْبِ صَنْعَاءَ، وَكَانَ يَجْعَلُ مِنْ كُلِّ مَا فِيهَا عِنْدَ الْحَصَادِ نَصِيبًا وَافِرًا لِلْفُقَرَاءِ، فَلَمَّا مَاتَ وَرِثَهَا مِنْهُ بَنُوهُ، ثُمَّ قَالُوا: عِيَالُنَا كَثِيرٌ، وَالْمَالُ قَلِيلٌ، وَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُعْطِيَ الْمَسَاكِينَ، مِثْلَ مَا كَانَ يَفْعَلُ أَبُونَا، فَأَحْرَقَ اللَّهُ جَنَّتَهُمْ، وَقِيلَ: كَانُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَوْلُهُ: إِذْ أَقْسَمُوا إِذْ حَلَفُوا: لَيَصْرِمُنَّها لَيَقْطَعَنَّ ثَمَرَ نَخِيلِهِمْ مُصْبِحِينَ، أَيْ فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ اغْدُوا سِرًّا إِلَى جَنَّتِكُمْ، فَاصْرِمُوهَا، وَلَا تُخْبِرُوا الْمَسَاكِينَ، وَكَانَ أَبُوهُمْ يُخْبِرُ الْمَسَاكِينَ، فَيَجْتَمِعُونَ عِنْدَ صِرَامِ جَنَّتِهِمْ، يُقَالُ: قَدْ صَرَمَ الْعِذْقَ عَنِ النَّخْلَةِ، وَأَصْرَمَ النَّخْلُ إِذَا حَانَ وَقْتُ صِرَامِهِ، وَقَوْلُهُ: وَلا يَسْتَثْنُونَ يَعْنِي وَلَمْ يَقُولُوا: إِنْ شَاءَ/ اللَّهُ، هَذَا قَوْلُ جَمَاعَةِ الْمُفَسِّرِينَ، يُقَالُ: حَلَفَ فُلَانٌ يَمِينًا لَيْسَ فِيهَا ثُنْيَا وَلَا ثَنْوَى، وَلَا ثَنِيَّةٌ وَلَا مَثْنَوِيَّةٌ وَلَا اسْتِثْنَاءٌ وَكُلُّهُ وَاحِدٌ، وَأَصْلُ هَذَا كُلِّهِ مِنَ الثَّنْيِ وَهُوَ الْكَفُّ وَالرَّدُّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَالِفَ إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ غَيْرَهُ، فَقَدْ رَدَّ انْعِقَادَ ذَلِكَ الْيَمِينِ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: وَلا يَسْتَثْنُونَ فَالْأَكْثَرُونَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا لَمْ يَسْتَثْنُوا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُمْ كَانُوا كَالْوَاثِقِينَ بِأَنَّهُمْ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَصْرِمُونَ كُلَّ ذَلِكَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ لِلْمَسَاكِينِ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي كَانَ يَدْفَعُهُ أَبُوهُمْ إِلَى المساكين. ثم قال تعالى: [سورة القلم (68) : الآيات 19 الى 20] فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ أَيْ عَذَابٌ مِنْ رَبِّكَ، وَالطَّائِفُ لَا يَكُونُ إِلَّا لَيْلًا أَيْ طَرَقَهَا طَارِقٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، قَالَ

[سورة القلم (68) : الآيات 21 إلى 22]

الْكَلْبِيُّ: أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا نَارًا مِنَ السَّمَاءِ فَاحْتَرَقَتْ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتِ الْجَنَّةُ كَالصَّرِيمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّرِيمَ فَعِيلٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى المفعول، وأن يكون بمعنى الفاعل وهاهنا احْتِمَالَاتٌ أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَمَّا احْتَرَقَتْ كَانَتْ شَبِيهَةً بِالْمَصْرُومَةِ فِي هَلَاكِ الثَّمَرِ وَإِنْ حَصَلَ الِاخْتِلَافُ فِي أُمُورٍ أُخَرَ، فَإِنَّ الْأَشْجَارَ إِذَا احْتَرَقَتْ فَإِنَّهَا لَا تُشْبِهُ الْأَشْجَارَ الَّتِي قُطِعَتْ ثِمَارُهَا، إِلَّا أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ وَإِنْ حَصَلَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لَكِنَّ الْمُشَابَهَةَ فِي هَلَاكِ الثَّمَرِ حَاصِلَةٌ وَثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ: أَيْ صُرِمَ عَنْهَا الْخَيْرُ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الصَّرِيمُ بِمَعْنَى الْمَصْرُومِ وَثَالِثُهَا: الصَّرِيمُ مِنَ الرَّمْلِ قِطْعَةٌ ضَخْمَةٌ تَنْصَرِمُ عَنْ سَائِرِ الرِّمَالِ، وَجَمْعُهُ الصَّرَائِمُ، وَعَلَى هَذَا شُبِّهَتِ الْجَنَّةُ وَهِيَ مُحْتَرِقَةٌ لَا ثَمَرَ فِيهَا وَلَا خَيْرَ بِالرَّمْلَةِ الْمُنْقَطِعَةِ عَنِ الرِّمَالِ، وَهِيَ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا يُنْتَفَعُ بِهِ وَرَابِعُهَا: الصُّبْحُ يُسَمَّى صَرِيمًا لِأَنَّهُ انْصَرَمَ مِنَ اللَّيْلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الْجَنَّةَ يَبِسَتْ وَذَهَبَتْ خُضْرَتُهَا وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا شَيْءٌ، مِنْ قَوْلِهِمْ: بَيَّضَ الْإِنَاءَ إِذَا فَرَّغَهُ وَخَامِسُهَا: أَنَّهَا لَمَّا احْتَرَقَتْ صَارَتْ سَوْدَاءَ كَاللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، وَاللَّيْلُ يُسَمَّى صَرِيمًا وَكَذَا النَّهَارُ يُسَمَّى أَيْضًا صَرِيمًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْصَرِمُ بِالْآخَرِ، وَعَلَى هَذَا الصَّرِيمِ بِمَعْنَى الصَّارِمِ، وَقَالَ قَوْمٌ: سُمِّيَ اللَّيْلُ صَرِيمًا، لِأَنَّهُ يَقْطَعُ بِظُلْمَتِهِ عَنِ التَّصَرُّفِ وَعَلَى هَذَا هُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: سُمِّيَتِ اللَّيْلَةُ بِالصَّرِيمِ، لِأَنَّهَا تَصْرُمُ نُورَ البصر وتقطعه. ثم قال تعالى: [سورة القلم (68) : الآيات 21 الى 22] فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ وَيَعْنِي بِالْحَرْثِ الثِّمَارَ وَالزُّرُوعَ وَالْأَعْنَابَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: صَارِمِينَ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا قَطْعَ الثِّمَارِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْجَارِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ/ يَقُلِ اغْدُوا إِلَى حَرْثِكُمْ، وَمَا مَعْنَى عَلَى؟ قُلْنَا: لَمَّا كَانَ الْغُدُوُّ إِلَيْهِ لِيَصْرِمُوهُ وَيَقْطَعُوهُ كَانَ غُدُوًّا عَلَيْهِ كَمَا تقول: غدا عليهم العدو، ويجوز أن يضمن الْغُدُوَّ مَعْنَى الْإِقْبَالِ، كَقَوْلِهِمْ: يُغْدَى عَلَيْهِمْ بِالْجَفْنَةِ ويراح، أي فأقبلوا على حرثكم باكرين. [سورة القلم (68) : آية 23] فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَيْ يَتَسَارُّونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَخَفِيَ وَخَفَتَ وَخَفَدَ ثَلَاثَتُهَا فِي مَعْنَى كَتَمَ وَمِنْهُ الْخُفْدُودُ لِلْخُفَّاشِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَدَوْا إليها بصدفة «1» يُسِرُّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْكَلَامَ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَحَدٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: [سورة القلم (68) : آية 24] أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) أَنْ مفسرة، وقرأ ابن مسعود بطرحها بإضمار القول أي يتخافتون يقولون لا يدخلها والنهي لِلْمِسْكِينِ عَنِ الدُّخُولِ نَهْيٌ لَهُمْ عَنْ تَمْكِينِهِ منه، أي لا تمكنوه من الدخول [حتى يدخل] «2» ، كقولك لا أرينك هاهنا. ثم قال:

_ (1) غير واضحة في الأصل. (2) زيادة من الكشاف. [.....]

[سورة القلم (68) : آية 25]

[سورة القلم (68) : آية 25] وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) وَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: الْحَرْدُ الْمَنْعُ يُقَالُ: حَارَدَتِ السَّنَةُ إِذَا قَلَّ مَطَرُهَا وَمَنَعَتْ رِيعَهَا، وَحَارَدَتِ النَّاقَةُ إِذَا مَنَعَتْ لَبَنَهَا فَقَلَّ اللَّبَنُ، وَالْحَرْدُ الْغَضَبُ، وَهُمَا لُغَتَانِ الْحَرَدُ وَالْحَرْدُ وَالتَّحْرِيكُ أَكْثَرُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْغَضَبُ بِالْحَرْدِ لِأَنَّهُ كَالْمَانِعِ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ الْمَغْضُوبُ مِنْهُ فِي الْوُجُودِ، وَالْمَعْنَى وَغَدَوْا وَكَانُوا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ وَفِي ظَنِّهِمْ قَادِرِينَ عَلَى مَنْعِ الْمَسَاكِينِ الثَّانِي: قِيلَ: الْحَرْدُ الْقَصْدُ وَالسُّرْعَةُ، يُقَالُ: حَرَدْتُ حَرْدَكَ قَالَ الشَّاعِرُ: أَقْبَلَ سَيْلٌ جَاءَ مِنْ أَمْرِ اللَّهْ ... يَحْرِدُ حَرْدَ الْجَنَّةِ الْمُغِلَّهْ وَقَطًا حِرَادٌ أَيْ سِرَاعٌ، يَعْنِي وَغَدَوْا قَاصِدِينَ إِلَى جَنَّتِهِمْ بِسُرْعَةٍ وَنَشَاطٍ قَادِرِينَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ نَقْدِرُ عَلَى صِرَامِهَا، وَمَنْعِ مَنْفَعَتِهَا عَنِ الْمَسَاكِينِ وَالثَّالِثُ: قِيلَ: حَرْدٌ عَلَمٌ لِتِلْكَ الْجَنَّةِ أَيْ غَدَوْا عَلَى تِلْكَ الْجَنَّةِ قَادِرِينَ عَلَى صِرَامِهَا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ، أَوْ مُقَدِّرِينَ أَنْ يَتِمَّ لهم مرادهم من الصرام والحرمان. [سورة القلم (68) : الآيات 26 الى 27] فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا جنتهم محترقة ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا الطَّرِيقَ فَقَالُوا: إِنَّا لَضَالُّونَ ثُمَّ لَمَّا تَأَمَّلُوا وَعَرَفُوا أَنَّهَا هِيَ قَالُوا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ حُرِمْنَا خَيْرُهَا بِشُؤْمِ عَزْمِنَا عَلَى الْبُخْلِ وَمَنْعِ الْفُقَرَاءِ وَثَانِيهَا: يَحْتَمِلُ/ أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا جَنَّتَهُمْ مُحْتَرِقَةً قَالُوا: إِنَّا لَضَالُّونَ حَيْثُ كُنَّا عَازِمِينَ عَلَى مَنْعِ الْفُقَرَاءِ، وَحَيْثُ كُنَّا نَعْتَقِدُ كَوْنَنَا قَادِرِينَ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهَا، بَلِ الْأَمْرُ انْقَلَبَ عَلَيْنَا فَصِرْنَا نَحْنُ المحرومين. [سورة القلم (68) : آية 28] قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ أَوْسَطُهُمْ يَعْنِي أَعْدَلُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ وَبَيَّنَّا وَجْهَهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] . أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ يَعْنِي هَلَّا تُسَبِّحُونَ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ مَعْنَاهُ هَلَّا تَسْتَثْنُونَ فَتَقُولُونَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا عَابَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَثْنُونَ، وَإِنَّمَا جَازَ تَسْمِيَةُ قَوْلِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِالتَّسْبِيحِ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ عِبَارَةٌ عَنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ كُلِّ سُوءٍ، فَلَوْ دَخَلَ شَيْءٌ فِي الْوُجُودِ عَلَى خِلَافِ إِرَادَةِ اللَّهِ، لَكَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ عَوْدَةَ نَقْصٍ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ، فَقَوْلُكَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، يُزِيلُ هَذَا النَّقْصَ، فَكَانَ ذَلِكَ تَسْبِيحًا. وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَحْلِفُونَ وَيَتْرُكُونَ الِاسْتِثْنَاءَ وَكَانَ أَوْسَطُهُمْ يَنْهَاهُمْ عَنْ تَرْكِ الِاسْتِثْنَاءِ وَيُخَوِّفُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَلِهَذَا حَكَى عَنْ ذَلِكَ الْأَوْسَطِ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ وُقُوعِ الْوَاقِعَةِ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ. الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْمَ حِينَ عَزَمُوا عَلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ وَاغْتَرُّوا بِمَالِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ قَالَ الْأَوْسَطُ لَهُمْ: تُوبُوا عَنْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ قَبْلَ نُزُولِ الْعَذَابِ، فَلَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ذَكَّرَهُمْ ذَلِكَ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ وَقَالَ: لَوْلا تُسَبِّحُونَ فَلَا جَرَمَ اشْتَغَلَ الْقَوْمُ فِي الْحَالِ بِالتَّوْبَةِ و: [سورة القلم (68) : آية 29] قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَتَكَلَّمُوا بِمَا كَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّكَلُّمِ بِهِ لَكِنْ بَعْدَ خَرَابِ الْبَصْرَةِ الثَّالِثُ: قَالَ الْحَسَنُ: هَذَا التسبيح هو

[سورة القلم (68) : آية 30]

الصَّلَاةُ كَأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَاسَلُونَ فِي الصَّلَاةِ وَإِلَّا لَكَانَتْ نَاهِيَةً لَهُمْ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَكَانَتْ دَاعِيَةً لَهُمْ إِلَى أَنْ يُوَاظِبُوا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَعَلَى قَوْلِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ ذَلِكَ الْأَوْسَطِ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالتَّوْبَةِ وَبِالتَّسْبِيحِ حَكَى عَنْهُمْ أَشْيَاءَ أَوَّلُهَا: أَنَّهُمُ اشْتَغَلُوا بِالتَّسْبِيحِ وَقَالُوا فِي الْحَالِ سُبْحَانَ رَبِّنَا عَنْ أَنْ يَجْرِيَ فِي مُلْكِهِ شَيْءٌ إِلَّا بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلَمَّا وَصَفُوا اللَّهَ تَعَالَى بِالتَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ اعْتَرَفُوا بِسُوءِ أَفْعَالِهِمْ وَقَالُوا إنا كنا ظالمين. وثانيها: [سورة القلم (68) : آية 30] فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) أَيْ يَلُومُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا يَقُولُ: هَذَا لِهَذَا أَنْتَ أَشَرْتَ عَلَيْنَا بِهَذَا الرَّأْيِ، وَيَقُولُ: ذَاكَ لِهَذَا أَنْتَ خَوَّفْتَنَا بِالْفَقْرِ، وَيَقُولُ الثَّالِثُ لِغَيْرِهِ: أَنْتَ الَّذِي رَغَّبْتَنِي فِي جَمْعِ الْمَالِ فَهَذَا هُوَ التَّلَاوُمُ. / ثم نادوا على أنفسهم بالويل: [سورة القلم (68) : آية 31] قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) وَالْمُرَادُ أَنَّهُمُ اسْتَعْظَمُوا جُرْمَهُمْ. ثم قالوا عند ذلك: [سورة القلم (68) : آية 32] عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها قُرِئَ يُبْدِلَنا بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ طَالِبُونَ مِنْهُ الْخَيْرَ رَاجُونَ لِعَفْوِهِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هاهنا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ تَوْبَةً مِنْهُمْ، وَتَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ قَالُوا: لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا قَالُوهُ رَغْبَةً منهم في الدنيا. [سورة القلم (68) : آية 33] كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ الْعَذابُ يَعْنِي كَمَا ذكرنا من إحراقها بالنار، وهاهنا تَمَّ الْكَلَامُ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مَنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْقَلَمِ: 14، 15] وَالْمَعْنَى: لِأَجْلِ أَنْ أَعْطَاهُ الْمَالَ وَالْبَنِينَ كَفَرَ بِاللَّهِ كَلَّا: بَلِ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَعْطَاهُ ذَلِكَ لِلِابْتِلَاءِ، فَإِذَا صَرَفَهُ إِلَى الْكُفْرِ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ لَمَّا أَتَوْا بِهَذَا الْقَدْرِ الْيَسِيرِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَى جَنَّتِهِمْ فَكَيْفَ يَكُونُ الْحَالُ فِي حَقِّ مَنْ عَانَدَ الرَّسُولَ وَأَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ خَرَجُوا لِيَنْتَفِعُوا بِالْجَنَّةِ وَيَمْنَعُوا الْفُقَرَاءَ عَنْهَا فَقَلَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَضِيَّةَ فَكَذَا أَهْلُ مَكَّةَ لَمَّا خَرَجُوا إِلَى بد حَلَفُوا عَلَى أَنْ يَقْتُلُوا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، وَإِذَا رَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ طَافُوا بِالْكَعْبَةِ وَشَرِبُوا الْخُمُورَ، فَأَخْلَفَ اللَّهُ ظَنَّهُمْ فَقُتِلُوا وَأُسِرُوا كَأَهْلِ هَذِهِ الْجَنَّةِ. ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا خَوَّفَ الْكُفَّارَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا قَالَ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وَهُوَ ظَاهِرٌ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى التَّفْسِيرِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أحوال السعداء، فقال:

[سورة القلم (68) : آية 34]

[سورة القلم (68) : آية 34] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) عِنْدَ رَبِّهِمْ أَيْ فِي الْآخِرَةِ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَيْ جنات ليس لهم فيه إِلَّا التَّنَعُّمُ الْخَالِصُ لَا يَشُوبُهُ مَا يُنَغِّصُهُ، كَمَا يَشُوبُ جَنَّاتِ الدُّنْيَا، قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ كُفَّارُ مَكَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَضَّلَنَا عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُفَضِّلَنَا عَلَيْكُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلِ التَّفْضِيلُ، فَلَا أَقَلَّ مِنَ المساواة. ثُمَّ إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذَا الكلام بقوله: [سورة القلم (68) : الآيات 35 الى 36] أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ وَصْفَ الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ مُسْلِمٌ وَمُجْرِمٌ كَالْمُتَنَافِي، فَالْفَاسِقُ لَمَّا كَانَ مُجْرِمًا وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْلِمًا وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْكَرَ جَعْلَ الْمُسْلِمِ مَثَلًا لِلْمُجْرِمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ إِنْكَارَ الْمُمَاثَلَةِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، فَإِنَّهُمَا يَتَمَاثَلَانِ فِي الْجَوْهَرِيَّةِ وَالْجِسْمِيَّةِ وَالْحُدُوثِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمُورِ الْكَثِيرَةِ، بَلِ الْمُرَادُ إِنْكَارُ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْإِسْلَامِ وَالْجُرْمِ، أَوْ فِي آثَارِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، أَوِ الْمُرَادُ إِنْكَارُ أَنْ يَكُونَ أَثَرُ إِسْلَامِ الْمُسْلِمِ مُسَاوِيًا لِأَثَرِ جُرْمِ الْمُجْرِمِ عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا مُسَلَّمٌ لَا نِزَاعَ فِيهِ، فَمِنْ أَيْنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ كَوْنُهُ مُسْلِمًا وَمُجْرِمًا؟. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُجْرِمَ لَا يَكُونُ أَلْبَتَّةَ فِي الْجَنَّةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَنْكَرَ حُصُولَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ حَصَلَا فِي الْجَنَّةِ، لَحَصَلَتِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الثَّوَابِ، بَلْ لَعَلَّهُ يَكُونُ ثَوَابُ الْمُجْرِمِ أَزْيَدَ مِنْ ثَوَابِ الْمُسْلِمِ إِذَا كَانَ الْمُجْرِمُ أَطْوَلَ عُمْرًا مِنَ الْمُسْلِمِ، وَكَانَتْ طَاعَاتُهُ غَيْرَ مُحْبَطَةٍ الْجَوَابُ: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْآيَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ التَّسْوِيَةِ فِي شَيْءٍ أَصْلًا بَلْ تَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ التَّسْوِيَةِ فِي دَرَجَةِ الثَّوَابِ، وَلَعَلَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِيهِ بَلْ يَكُونُ ثَوَابُ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَمْ يَعْصِ أَكْثَرَ مِنْ ثَوَابِ مَنْ عَصَى، عَلَى أَنَّا نَقُولَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمُجْرِمِينَ هُمُ الْكُفَّارَ الَّذِينَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَمْلَ الْجَمْعِ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ مَشْهُورٌ فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَنْكَرَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُجْرِمِينَ فِي الثَّوَابِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ يَقْبُحُ عَقْلًا مَا يُحْكَى عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ الْكُفَّارُ فِي الجنة والمطيعين فِي النَّارِ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَنْكَرَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، لَا أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ أَحَدًا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شَيْئًا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ قَرَّرَ هَذَا الِاسْتِبْعَادَ بِأَنْ قَالَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ: مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ هذا الحكم المعوج ثم قال: [سورة القلم (68) : الآيات 37 الى 38] أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38)

[سورة القلم (68) : آية 39]

وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ [الصَّافَّاتِ: 156] وَالْأَصْلُ تَدْرُسُونَ أَنَّ لَكُمْ مَا تَتَخَيَّرُونَ بِفَتْحِ أَنَّ لِأَنَّهُ مُدَرَّسٌ، فَلَمَّا/ جَاءَتِ اللَّامُ كُسِرَتْ، وَتَخَيَّرَ الشَّيْءَ وَاخْتَارَهُ، أَيْ أَخَذَ خَيْرَهُ وَنَحْوَهُ تَنَخَّلَهُ وَانْتَخَلَهُ إِذَا أَخَذَ منخوله. ثم قال تعالى: [سورة القلم (68) : آية 39] أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ يَمِينٌ بِكَذَا إذا ضمنته منه وخلقت له على الوقاء بِهِ يَعْنِي أَمْ ضِمْنًا مِنْكُمْ وَأَقْسَمْنَا لَكُمْ بِأَيْمَانٍ مُغَلَّظَةٍ مُتَنَاهِيَةٍ فِي التَّوْكِيدِ. فَإِنْ قِيلَ: إِلَى فِي قَوْلِهِ: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بِمَ يَتَعَلَّقُ؟ قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: بالِغَةٌ أَيْ هَذِهِ الْأَيْمَانُ فِي قُوَّتِهَا وَكَمَالِهَا بِحَيْثُ تَبْلُغُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ. أَيْمَانٌ ثَابِتَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَيَكُونُ مَعْنَى بَالِغَةٌ مُؤَكَّدَةً كَمَا تَقُولُ جَيِّدَةٌ بَالِغَةٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ مُتَنَاهٍ فِي الصِّحَّةِ وَالْجَوْدَةِ فَهُوَ بَالِغٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ فَهُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ لِأَنَّ مَعْنَى: أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا أَمْ أَقْسَمْنَا لَكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ بَالِغَةً بِالنَّصْبِ وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الظَّرْفِ. ثم قال للرسول عليه الصلاة والسلام: [سورة القلم (68) : آية 40] سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) وَالْمَعْنَى أَيُّهُمْ بِذَلِكَ الْحُكْمِ زَعِيمٌ، أَيْ قَائِمٌ بِهِ وَبِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّتِهِ، كَمَا يَقُومُ زَعِيمُ الْقَوْمِ بِإِصْلَاحِ أُمُورِهِمْ. ثم قال: [سورة القلم (68) : آية 41] أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) وَفِي تَفْسِيرِهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى أَمْ لهم أشياء يعتقدون أنها شركاء لله فَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ أُولَئِكَ الشُّرَكَاءَ يَجْعَلُونَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِثْلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الثَّوَابِ وَالْخَلَاصِ مِنَ الْعِقَابِ، وَإِنَّمَا أَضَافَ الشُّرَكَاءَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [الرُّومِ: 40] ، الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْمَعْنَى أَمْ لَهُمْ نَاسٌ يُشَارِكُونَهُمْ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُجْرِمِينَ، فَلْيَأْتُوا بِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي دَعْوَاهُمْ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ أَنَّهُ كَمَا لَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْمَذْهَبِ، وَلَا دَلِيلٌ نَقْلِيٌّ وَهُوَ كِتَابٌ يَدْرُسُونَهُ، فَلَيْسَ لَهُمْ مَنْ يُوَافِقُهُمْ مِنَ الْعُقَلَاءِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَبْطَلَ قَوْلَهُمْ، وَأَفْسَدَ مَقَالَتَهُمْ شَرَحَ بَعْدَ ذَلِكَ عَظَمَةَ يَوْمِ القيامة. [سورة القلم (68) : الآيات 42 الى 43] يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43) فَقَالَ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَوْمَ مَنْصُوبٌ بِمَاذَا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ، بِقَوْلِهِ: فَلْيَأْتُوا فِي قوله: فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ [القلم: 41] وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَوْمٌ شَدِيدٌ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: / إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي أَنَّهَا شركاء فليأتوا بها يوم القيامة، لتنفعهم ونشفع لَهُمْ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ، كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ فَحُذِفَ لِلتَّهْوِيلِ الْبَلِيغِ، وَأَنَّ ثم من الكوائن مالا يُوصَفُ لِعَظَمَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي يُكْشَفُ فِيهِ عَنْ سَاقٍ، أَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَوْ فِي الدُّنْيَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ فِي تَفْسِيرِ السَّاقِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الشِّدَّةُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: إِذَا خُفِيَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَابْتَغُوهُ فِي الشِّعْرِ، فَإِنَّهُ دِيوَانُ الْعَرَبِ، أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ الشَّاعِرِ: سَنَّ لَنَا قَوْمُكَ ضَرْبَ الْأَعْنَاقِ ... وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقِ ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ كَرْبٌ وَشِدَّةٌ وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنْهُ قَالَ: هُوَ أَشَدُّ سَاعَةٍ فِي الْقِيَامَةِ، وَأَنْشَدَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَبْيَاتًا كَثِيرَةً [مِنْهَا] : فَإِنْ شمرت لك عن ساقها ... فدنها رَبِيعَ وَلَا تَسْأَمِ وَمِنْهَا: كَشَفَتْ لَكُمْ عَنْ سَاقِهَا ... وَبَدَا مِنَ الشَّرِّ الصُّرَاحْ وَقَالَ جَرِيرٌ: أَلَا رُبَّ سَامِ الطَّرْفِ مِنْ آلِ مَازِنٍ ... إِذَا شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا الْحَرْبُ شَمَّرَا وَقَالَ آخَرُ: فِي سَنَةٍ قَدْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا ... حَمْرَاءُ تَبْرِي اللَّحْمَ عَنْ عُرَاقِهَا وَقَالَ آخَرُ: قَدْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا فَشُدُّوا ... وَجَدَّتِ الْحَرْبُ بِكُمْ فَجِدُّوا ثُمَّ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَصْلُ هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا وَقَعَ فِي أَمْرٍ عظيم يحتاج إلى الجد فيه، يشعر عَنْ سَاقِهِ، فَلَا جَرَمَ يُقَالُ فِي مَوْضِعِ الشِّدَّةِ: كَشَفَ عَنْ سَاقِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا اعْتِرَافٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ بِأَنَّ اسْتِعْمَالَ السَّاقِ فِي الشِّدَّةِ مَجَازٌ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُ الْكَلَامِ إِلَى الْمَجَازِ إِلَّا بَعْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَإِذَا أَقَمْنَا الدَّلَائِلَ الْقَاطِعَةَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى، يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ صَرْفُ اللَّفْظِ إِلَى الْمَجَازِ، وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» أَوْرَدَ هَذَا التَّأْوِيلَ فِي مَعْرِضٍ آخَرَ، فَقَالَ: الْكَشْفُ عَنِ السَّاقِ مَثَلٌ فِي شِدَّةِ الْأَمْرِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ يَوْمَ يَشْتَدُّ الْأَمْرُ وَيَتَفَاقَمُ، وَلَا كَشْفَ ثَمَّ، وَلَا سَاقَ، كَمَا تَقُولُ لِلْأَقْطَعِ الشَّحِيحِ: يَدُهُ مَغْلُولَةٌ، وَلَا يَدَ ثَمَّ وَلَا غُلَّ وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ فِي الْبُخْلِ، ثُمَّ أَخَذَ يُعَظِّمُ عِلْمَ الْبَيَانِ وَيَقُولُ لَوْلَاهُ: لَمَا وَقَفْنَا عَلَى هَذِهِ الْأَسْرَارِ وَأَقُولُ: إِمَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ صَرَفَ اللَّفْظَ عَنْ ظَاهِرِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، أَوْ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ امْتِنَاعِ حَمْلِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّا إِنْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ انْفَتَحَتْ أَبْوَابُ تَأْوِيلَاتِ الْفَلَاسِفَةِ فِي أَمْرِ الْمَعَادِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [البقرة: 25] لَيْسَ هُنَاكَ لَا أَنْهَارٌ وَلَا أَشْجَارٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ لِلَّذَّةِ وَالسَّعَادَةِ، وَيَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الْحَجِّ: 77] لَيْسَ هُنَاكَ لَا سُجُودٌ وَلَا رُكُوعٌ وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ لِلتَّعْظِيمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى رَفْعِ الشَّرَائِعِ وَفَسَادِ الدِّينِ، وَأَمَّا إِنْ قَالَ: بِأَنَّهُ لَا يُصَارُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى/ ظَاهِرِهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَمْ يَزَلْ كُلُّ أَحَدٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ [إِلَّا] قَالَ بِهِ وَعَوَّلَ عَلَيْهِ، فَأَيْنَ هَذِهِ الدَّقَائِقُ، الَّتِي اسْتَبَدَّ هُوَ بِمَعْرِفَتِهَا والاطلاع

عليها بواسطة علم البيان، فرحم الله امرأ عَرَفَ قَدْرَهُ، وَمَا تَجَاوَزَ طَوْرَهُ الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الضَّرِيرِ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ، أَيْ عَنْ أَصْلِ الْأَمْرِ، وَسَاقُ الشَّيْءِ أَصْلُهُ الَّذِي بِهِ قِوَامُهُ كَسَاقِ الشَّجَرِ، وَسَاقِ الْإِنْسَانِ، أَيْ يَظْهَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَقَائِقُ الْأَشْيَاءِ وَأُصُولُهَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقِ جَهَنَّمَ، أَوْ عَنْ سَاقِ الْعَرْشِ، أَوْ عَنْ سَاقِ مَلَكٍ مَهِيبٍ عَظِيمٍ، وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى سَاقٍ، فَإِمَّا أَنَّ ذَلِكَ السَّاقَ سَاقُ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُشَبِّهَةِ، أَنَّهُ سَاقُ اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَنَّهُ تَعَالَى يَتَمَثَّلُ لِلْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَمُرُّ الْمُسْلِمُونَ، فَيَقُولُ: مَنْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعْبُدُ اللَّهَ فَيُشْهِدُهُمْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ يَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ رَبَّكُمْ، فَيَقُولُونَ: سُبْحَانَهُ إِذَا عَرَّفَنَا نَفْسَهُ عَرَفْنَاهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ، فَلَا يَبْقَى مُؤْمِنٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا، وَيَبْقَى الْمُنَافِقُونَ ظُهُورُهُمْ كَالطَّبَقِ الْوَاحِدِ كَأَنَّمَا فِيهَا السَّفَافِيدُ» وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الدَّلَائِلَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ كُلَّ جِسْمٍ مُحْدَثٌ، لِأَنَّ كُلَّ جِسْمٍ مُتَنَاهٍ، وَكُلَّ مُتَنَاهٍ مُحْدَثٌ وَلِأَنَّ كُلَّ جِسْمٍ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَلِأَنَّ كُلَّ جِسْمٍ مُمْكِنٌ، وَكُلَّ مُمْكِنٍ مُحْدَثٌ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَكَانَ مِنْ حَقِّ السَّاقِ أَنْ يُعْرَفَ، لِأَنَّهَا سَاقٌ مَخْصُوصَةٌ مَعْهُودَةٌ عِنْدَهُ وَهِيَ سَاقُ الرَّحْمَنِ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الشِّدَّةِ، فَفَائِدَةُ التَّنْكِيرِ الدَّلَالَةُ عَلَى التَّعْظِيمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ شِدَّةٍ، وَأَيِّ شِدَّةٍ، لَا يُمْكِنُ وَصْفُهَا وَثَالِثُهَا: أَنَّ التَّعْرِيفَ لَا يَحْصُلُ بِالْكَشْفِ عَنِ السَّاقِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِكَشْفِ الْوَجْهِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَلْ هُوَ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي وَصْفِ هذا اليوم: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِيهِ تَعَبُّدٌ وَلَا تَكْلِيفٌ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ، إِمَّا آخِرُ أَيَّامِ الرَّجُلِ فِي دُنْيَاهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لَا بُشْرى [الْفَرْقَانِ: 22] ثُمَّ إِنَّهُ يَرَى النَّاسَ يُدْعَوْنَ إِلَى الصَّلَوَاتِ إِذَا حَضَرَتْ أَوْقَاتُهَا، وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ الصَّلَاةَ لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا، وَإِمَّا حَالُ الْهَرَمِ وَالْمَرَضِ وَالْعَجْزِ وَقَدْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ مِمَّا بِهِمُ الْآنَ، إِمَّا مِنَ الشِّدَّةِ النَّازِلَةِ بِهِمْ مِنْ هَوْلِ مَا عَايَنُوا عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ مِنَ الْعَجْزِ وَالْهَرَمِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الْوَاقِعَةِ: 83] وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْقِيَامَةِ بِسَبَبِ أَنَّ الْأَمْرَ بالسجود حاصل هاهنا، وَالتَّكَالِيفُ زَائِلَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَجَوَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ التَّكْلِيفِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ وَالتَّخْجِيلِ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ: يَوْمَ نَكْشِفُ بالنون وتكشف بِالتَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقٍ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ جَمِيعًا وَالْفِعْلُ لِلسَّاعَةِ أَوْ لِلْحَالِ، أَيْ يَوْمَ يَشْتَدُّ الْحَالُ أَوِ السَّاعَةُ، كَمَا تَقُولُ: / كَشَفَ الْحَرْبُ عَنْ سَاقِهَا عَلَى الْمَجَازِ. وَقُرِئَ (تُكْشِفُ) بِالتَّاءِ الْمَضْمُومَةِ وَكَسْرِ الشِّينِ مِنْ أَكْشَفَ إِذَا دَخَلَ فِي الْكَشَفِ، وَمِنْهُ أَكْشَفَ الرَّجُلُ فهو مكشف إذا انقلبت شفته العليا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ، خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ اعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ لَا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ تَعَبُّدًا وَتَكْلِيفًا، وَلَكِنْ تَوْبِيخًا وَتَعْنِيفًا عَلَى تَرْكِهِمُ السُّجُودَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَالَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَى السُّجُودِ يَسْلُبُ عَنْهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَى السُّجُودِ، وَيَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ

[سورة القلم (68) : آية 44]

الِاسْتِطَاعَةِ حَتَّى تَزْدَادَ حَسْرَتُهُمْ وَنَدَامَتُهُمْ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِيهِ، حِينَ دُعُوا إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالموا الْأَطْرَافِ وَالْمَفَاصِلِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ: لَمَّا خَصَّصَ عَدَمَ الِاسْتِطَاعَةِ بِالْآخِرَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ، فَبَطَلَ بِهَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْكَافِرُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَإِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْإِيمَانِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا حَالَ وُجُودِ الْإِيمَانِ وَالْجَوَابُ: عَنْهُ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ مُنَافٍ لِوُجُودِ الْإِيمَانِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ مُحَالٌ، فَالِاسْتِطَاعَةُ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا غَيْرُ حَاصِلَةٍ عَلَى قَوْلِ الْجُبَّائِيِّ. أَمَّا قَوْلُهُ: خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ فَهُوَ حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَلا يَسْتَطِيعُونَ ... تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ يَعْنِي يَلْحَقُهُمْ ذُلٌّ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُوَاظِبِينَ عَلَى خِدْمَةِ مَوْلَاهُمْ مِثْلُ الْعَبْدِ الَّذِي أَعْرَضَ عَنْهُ مَوْلَاهُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ ذَلِيلًا فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ، وَقَوْلُهُ: وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ يَعْنِي حِينَ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى الصَّلَوَاتِ بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَكَانُوا سَالِمِينَ قَادِرِينَ عَلَى الصَّلَاةِ، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ لِمَنْ قَعَدَ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَلَمْ يُجِبِ المؤذن إلى إقامة الصلاة في الجماعة. [سورة القلم (68) : آية 44] فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَوَّفَ الْكُفَّارَ بِعَظَمَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ زَادَ فِي التَّخْوِيفِ فَخَوَّفَهُمْ بِمَا عِنْدَهُ، وَفِي قُدْرَتِهِ مِنَ الْقَهْرِ، فَقَالَ: ذَرْنِي وَإِيَّاهُ، يُرِيدُ كِلْهُ إِلَيَّ، فَإِنِّي أَكْفِيكَهُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ حَسْبُكَ انْتِقَامًا مِنْهُ أَنْ تَكِلَ أَمْرَهُ إِلَيَّ، وَتُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَإِنِّي عَالِمٌ بِمَا يَجِبُ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ يُقَالُ: اسْتَدْرَجَهُ إِلَى كَذَا إِذَا اسْتَنْزَلَهُ إِلَيْهِ دَرَجَةً فَدَرَجَةً، حَتَّى يُوَرِّطَهُ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ قَالَ أَبُو رَوْقٍ: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ أَيْ كُلَّمَا أَذْنَبُوا ذَنْبًا جَدَّدْنَا لَهُمْ نِعْمَةً وَأَنْسَيْنَاهُمُ الِاسْتِغْفَارَ، فَالِاسْتِدْرَاجُ إِنَّمَا حَصَلَ فِي الِاغْتِنَاءِ الَّذِي لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُ اسْتِدْرَاجٌ، وَهُوَ الْإِنْعَامُ/ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَهُ تَفْضِيلًا لَهُمْ عَلَى المؤمنين، وهو في الحقيقة سبب لهلاكهم. ثم قال: [سورة القلم (68) : آية 45] وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَيْ أُمْهِلُهُمْ كَقَوْلِهِ: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آلِ عِمْرَانَ: 178] وَأُطِيلُ لَهُمُ الْمُدَّةَ وَالْمُلَاوَةُ الْمُدَّةُ مِنَ الدَّهْرِ، يُقَالُ: أَمْلَى اللَّهُ لَهُ أَيْ أَطَالَ اللَّهُ لَهُ الْمُلَاوَةَ وَالْمَلَوَانِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَالْمَلَا مَقْصُورًا الْأَرْضُ الْوَاسِعَةُ سُمِّيَتْ بِهِ لِامْتِدَادِهَا. وَقِيلَ: وَأُمْلِي لَهُمْ أَيْ بِالْمَوْتِ فَلَا أُعَاجِلُهُمْ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ إِنَّمَا سَمَّى إِحْسَانَهُ كَيْدًا كَمَا سماه استدراجا لكون فِي صُورَةِ الْكَيْدِ، وَوَصَفَهُ بِالْمَتَانَةِ لِقُوَّةِ أَثَرِ إِحْسَانِهِ فِي التَّسَبُّبِ لِلْهَلَاكِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْحَابَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةِ إِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ، فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي سَمَّاهُ بِالِاسْتِدْرَاجِ وَذَلِكَ الْكَيْدُ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَثَرٌ فِي تَرْجِيحِ جَانِبِ الْفِعْلِ عَلَى جَانِبِ التَّرْكِ، أَوْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ أَثَرٌ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَإِلَّا لَكَانَ هو سائر الْأَشْيَاءِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِمَثَابَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا يَكُونُ اسْتِدْرَاجًا أَلْبَتَّةَ وَلَا كَيْدًا، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَعَالَى مُرِيدًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ الَّذِي يَنْسَاقُ إِلَيْهِ ذَلِكَ الِاسْتِدْرَاجُ وَذَلِكَ الْكَيْدُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ تَعَالَى لَا يَزَالُ يُؤَكِّدُ هَذَا الْجَانِبَ، وَيُفَتِّرُ ذَلِكَ الْجَانِبَ الْآخَرَ، وَاعْلَمْ أَنَّ تَأْكِيدَ هَذَا الْجَانِبِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْسَاقَ بِالْآخِرَةِ إِلَى فِعْلِهِ وَدُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِدُخُولِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي الْوُجُودِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، أَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ فَقَالَ: الْمُرَادُ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ إِلَى الْمَوْتِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ فَإِنَّهُمْ لَوْ عَرَفُوا الْوَقْتَ الَّذِي يَمُوتُونَ فِيهِ لَصَارُوا

[سورة القلم (68) : آية 46]

آمِنِينَ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَأَقْدَمُوا عَلَى الْمَعَاصِي. وَفِي ذَلِكَ إِغْرَاءٌ بِالْمَعَاصِي، وَأَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ، فَقَالَ: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ إِلَى الْعَذَابِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ فِي الْآخِرَةِ، وَأُمْلِي لَهُمْ فِي الدُّنْيَا تَوْكِيدًا لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ فَأُمْهِلُهُ وَأُزِيحُ الْأَعْذَارَ عَنْهُ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةِ وَيَحْيَى مَنْ حي عن بينة فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْكَيْدِ الْمَتِينِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ [الْقَلَمِ: 44] وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا التَّهْدِيدَ إِنَّمَا وَقَعَ بِعِقَابِ الْآخِرَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِدْرَاجِ وَالْكَيْدِ الْمَذْكُورَيْنِ عَقِيبَهُ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، أَوِ الْعَذَابُ الْحَاصِلُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا الْحَرْفَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ: أَنَّ هَذَا الْإِمْهَالَ إِذَا كَانَ مُتَأَدِّيًا إِلَى الطُّغْيَانِ كَانَ الرَّاضِي بِالْإِمْهَالِ الْعَالِمِ بِتَأَدِّيهِ إِلَى الطُّغْيَانِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِذَلِكَ الطُّغْيَانِ، وَاعْلَمْ أن قولهم: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ مُفَسَّرٌ في سورة الأعراف [182] . ثم قال تعالى: [سورة القلم (68) : آية 46] أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) وَهَذِهِ الْآيَةُ مَعَ مَا بَعْدَهَا مُفَسَّرَةٌ فِي سُورَةِ الطُّورِ، [40] وَأَقُولُ: إِنَّهُ أَعَادَ الْكَلَامَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ [الْقَلَمِ: 41] وَالْمَغْرَمُ الْغَرَامَةُ أَيْ لَمْ يَطْلُبْ مِنْهُمْ عَلَى الْهِدَايَةِ وَالتَّعْلِيمِ أَجْرًا فَيَثْقُلَ عَلَيْهِمْ حَمْلُ الْغَرَامَاتِ فِي أموالهم فيثبطهم ذلك عن الإيمان. / ثم قال تعالى: [سورة القلم (68) : آية 47] أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ عِنْدَهُمُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ مِنْهُ ثَوَابَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، فَلِذَلِكَ أَصَرُّوا عَلَيْهِ، وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ الثَّانِي: أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْغَائِبَةَ كَأَنَّهَا حَضَرَتْ فِي عُقُولِهِمْ حَتَّى إِنَّهُمْ يَكْتُبُونَ عَلَى اللَّهِ أَيْ يَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِمَا شَاءُوا وَأَرَادُوا. [سورة القلم (68) : آية 48] فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) [في قوله تعالي فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي تَزْيِيفِ طَرِيقَةِ الْكُفَّارِ وَفِي زَجْرِهِمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ قال لمحمد صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فِي إِمْهَالِهِمْ وَتَأْخِيرِ نَصْرَتِكَ عَلَيْهِمْ وَالثَّانِي: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فِي أَنْ أَوْجَبَ عَلَيْكَ التَّبْلِيغَ وَالْوَحْيَ وَأَدَاءَ الرِّسَالَةِ، وَتَحَمَّلْ مَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنَ الْأَذَى وَالْمِحْنَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَامِلُ فِي إِذْ مَعْنَى قَوْلِهِ: كَصاحِبِ الْحُوتِ يُرِيدُ لَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ حَالَ نِدَائِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ مَكْظُومًا فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَكُنْ مَكْظُومًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: صَاحِبُ الْحُوتِ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذْ نَادَى فِي بَطْنِ الْحُوتِ بِقَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 87] ، وَهُوَ مَكْظُومٌ مَمْلُوءٌ غَيْظًا مِنْ كَظَمَ السِّقَاءَ إِذَا مَلَأَهُ، وَالْمَعْنَى لَا يُوجَدُ مِنْكَ مَا وُجِدَ مِنْهُ مِنَ الضَّجَرِ وَالْمُغَاضَبَةِ، فَتَبْلَى ببلائه ثم قال تعالى:

[سورة القلم (68) : آية 49]

[سورة القلم (68) : آية 49] لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) وَقُرِئَ (رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ، وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَتْهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ؟ الْجَوَابُ: إِنَّمَا حَسُنَ تَذْكِيرُ الْفِعْلِ لِفَصْلِ الضَّمِيرِ فِي تَدَارَكَهُ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ تَدَارَكَتْهُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تَدَارَكَهُ، أَيْ تَتَدَارَكُهُ عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ، بِمَعْنَى لَوْلَا أَنْ كَانَ، يُقَالُ: فِيهِ تَتَدَارَكُهُ، كَمَا يُقَالُ: كَانَ زَيْدٌ سَيَقُومُ فَمَنَعَهُ فُلَانٌ، أَيْ كَانَ يُقَالُ فِيهِ: سَيَقُومُ، وَالْمَعْنَى كَانَ مُتَوَقَّعًا مِنْهُ الْقِيَامُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ؟ الْجَوَابُ: الْمُرَادُ مِنْ تِلْكَ النِّعْمَةِ، هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالتَّوْفِيقِ لِلتَّوْبَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتِمُّ شَيْءٌ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَالطَّاعَاتِ إِلَّا بِتَوْفِيقِهِ وَهِدَايَتِهِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَيْنَ جَوَابُ لَوْلَا؟ الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَوْلَا هَذِهِ النِّعْمَةُ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ مَعَ وَصْفِ الْمَذْمُومِيَّةِ، فَلَمَّا حَصَلَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ لَا جَرَمَ لَمْ يُوجَدِ النَّبْذُ بِالْعَرَاءِ مَعَ هَذَا الْوَصْفِ، لِأَنَّهُ لَمَّا فَقَدَ هَذَا الْوَصْفَ فَقَدْ فَقَدَ ذَلِكَ الْمَجْمُوعَ الثَّانِي: لَوْلَا هَذِهِ النِّعْمَةُ لَبَقِيَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ نُبِذَ بِعَرَاءِ الْقِيَامَةِ مَذْمُومًا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصَّافَّاتِ: 143، 144] وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: عَرْصَةُ الْقِيَامَةِ وَعَرَاءُ الْقِيَامَةِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: هَلْ يَدُلُّ قَوْلُهُ: وَهُوَ مَذْمُومٌ عَلَى كَوْنِهِ فَاعِلًا لِلذَّنْبِ؟ الْجَوَابُ: مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ لَوْلَا: دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَذْمُومِيَّةَ لَمْ تَحْصُلْ الثَّانِي: لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَذْمُومِيَّةِ تَرْكُ الْأَفْضَلِ، فَإِنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ الثَّالِثُ: لَعَلَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ كَانَتْ قبل النبوة لقوله: فَاجْتَباهُ رَبُّهُ [القلم: 50] وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: مَا سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ؟ الْجَوَابُ: يُرْوَى أَنَّهَا نَزَلَتْ بِأُحُدٍ حِينَ حَلَّ بِرَسُولِ اللَّهِ مَا حَلَّ، فَأَرَادَ أن يدعوا عَلَى الَّذِينَ انْهَزَمُوا، وَقِيلَ: حِينَ أَرَادَ أَنْ يدعو على ثقيف. [سورة القلم (68) : آية 50] فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ الْوَحْيَ وَشَفَّعَهُ فِي قَوْمِهِ وَالثَّانِي: قَالَ قَوْمٌ: وَلَعَلَّهُ مَا كَانَ رَسُولًا صَاحِبَ وَحْيٍ قَبْلَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ جَعَلَهُ اللَّهُ رَسُولًا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاجْتَباهُ رَبُّهُ وَالَّذِينَ أَنْكَرُوا الْكَرَامَاتِ وَالْإِرْهَاصَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَخْتَارُوا الْقَوْلَ الْأَوَّلَ. لِأَنَّ احْتِبَاسَهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ وَعَدَمَ مَوْتِهِ هُنَاكَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ إِرْهَاصًا وَلَا كَرَامَةً فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُعْجِزَةً وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ رَسُولًا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الصَّلَاحَ إِنَّمَا حَصَلَ بِجَعْلِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ، قَالَ الْجُبَّائِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى جَعَلَهُ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَطَفَ بِهِ حَتَّى صَلَحَ إِذِ الْجَعْلُ يُسْتَعْمَلُ فِي اللُّغَةِ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي وَالْجَوَابُ: أَنَّ هذين

[سورة القلم (68) : آية 51]

الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْتُمْ مَجَازٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الحقيقة. [سورة القلم (68) : آية 51] وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاللَّامُ عَلَمُهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: لَيُزْلِقُونَكَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا، وَزَلَقَهُ وَأَزْلَقَهُ بِمَعْنًى وَيُقَالُ: زَلَقَ/ الرَّأْسَ وَأَزْلَقَهُ حَلَقَهُ، وَقُرِئَ لَيُزْهِقُونَكَ مِنْ زَهَقَتْ نَفْسُهُ وَأَزْهَقَهَا، ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ مِنْ شِدَّةِ تَحْدِيقِهِمْ وَنَظَرِهِمْ إِلَيْكَ شَزْرًا بِعُيُونِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ يَكَادُونَ يُزِلُّونَ قَدَمَكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَظَرَ إِلَيَّ نَظَرًا يَكَادُ يَصْرَعُنِي، وَيَكَادُ يَأْكُلُنِي، أَيْ لَوْ أَمْكَنَهُ بِنَظَرِهِ الصَّرْعُ أَوِ الْأَكْلُ لَفَعَلَهُ، قَالَ الشَّاعِرُ: يَتَقَارَضُونَ إِذَا الْتَقَوْا فِي مَوْطِنٍ ... نَظَرًا يزل مَوَاطِئَ الْأَقْدَامِ وَأَنْشَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا مَرَّ بِأَقْوَامٍ حَدَّدُوا النَّظَرَ إِلَيْهِ: نَظَرُوا إِلَيَّ بِأَعْيُنٍ مُحَمَّرَةٍ ... نَظَرَ التُّيُوسِ إِلَى شِفَارِ الْجَازِرِ وَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا النَّظَرَ كَانَ يَشْتَدُّ مِنْهُمْ فِي حَالِ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ لِلْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ الثَّانِي: مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ، وهاهنا مَقَامَانِ أَحَدُهُمَا: الْإِصَابَةُ بِالْعَيْنِ، هَلْ لَهَا فِي الْجُمْلَةِ حَقِيقَةٌ أَمْ لَا؟ الثَّانِي: أَنَّ بِتَقْدِيرِ كونها صحيحة، فهل الآية هاهنا مُفَسَّرَةٌ بِهَا أَمْ لَا؟. الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: تَأْثِيرُ الْجِسْمِ فِي الْجِسْمِ لَا يُعْقَلُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الْمُمَاسَّةِ، وهاهنا لَا مُمَاسَّةَ، فَامْتَنَعَ حُصُولُ التَّأْثِيرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى ضَعِيفَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنِ النَّفْسِ أَوْ عَنِ الْبَدَنِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَمْ يَمْتَنِعِ اخْتِلَافُ النُّفُوسِ فِي جَوَاهِرِهَا وَمَاهِيَّاتِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ أَيْضًا اخْتِلَافُهَا فِي لَوَازِمِهَا وَآثَارِهَا، فَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَكُونَ لِبَعْضِ النُّفُوسِ خَاصِّيَّةٌ فِي التَّأْثِيرِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَمْتَنِعْ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مِزَاجُ إِنْسَانٍ وَاقِعًا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ يَكُونُ لَهُ أَثَرٌ خَاصٌّ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالِاحْتِمَالُ الْعَقْلِيُّ قَائِمٌ، وَلَيْسَ فِي بُطْلَانِهِ شُبْهَةٌ فَضْلًا عَنْ حُجَّةٍ، وَالدَّلَائِلُ السَّمْعِيَّةُ نَاطِقَةٌ بِذَلِكَ، كَمَا يُرْوَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «الْعَيْنُ حَقٌّ» وَقَالَ: «الْعَيْنُ تُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ وَالْجَمَلَ الْقِدْرَ» . وَالْمَقَامُ الثَّانِي: مِنَ النَّاسِ مَنْ فَسَّرَ الْآيَةَ بِهَذَا الْمَعْنَى قَالُوا: كَانَتِ الْعَيْنُ فِي بَنِي أَسَدٍ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَتَجَوَّعُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَا يَمُرُّ بِهِ شَيْءٌ، فَيَقُولُ فِيهِ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مِثْلَهُ إِلَّا عَانَهُ، فَالْتَمَسَ الْكُفَّارُ مِنْ بَعْضِ مَنْ كَانَتْ لَهُ هَذِهِ الصِّفَةُ أَنْ يَقُولَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَطَعَنَ الْجُبَّائِيُّ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ وَقَالَ: الْإِصَابَةُ بِالْعَيْنِ تَنْشَأُ عَنِ اسْتِحْسَانِ الشَّيْءِ، وَالْقَوْمُ مَا كَانُوا يَنْظُرُونَ إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، بَلْ كَانُوا يَمْقُتُونَهُ وَيُبْغِضُونَهُ، وَالنَّظَرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَقْتَضِي الْإِصَابَةَ بِالْعَيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا يُبْغِضُونَهُ مِنْ حَيْثُ الدِّينِ لَعَلَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحْسِنُونَ فَصَاحَتَهُ، وَإِيرَادَهُ لِلدَّلَائِلِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: دَوَاءُ الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ قراءة هذه الآية.

[سورة القلم (68) : آية 52]

[سورة القلم (68) : آية 52] وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَهُوَ عَلَى مَا افْتُتِحَ بِهِ السُّورَةُ. وَما هُوَ أَيْ وَمَا هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ دَلَالَةُ جُنُونِهِ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ فَإِنَّهُ تَذْكِيرٌ لَهُمْ، وَبَيَانٌ لَهُمْ، وَأَدِلَّةٌ لَهُمْ، وَتَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى مَا فِي عُقُولِهِمْ مِنْ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ، وَفِيهِ مِنَ الآداب والحكم، وسائر العلوم مالا حَدَّ لَهُ وَلَا حَصْرَ، فَكَيْفَ يُدْعَى مَنْ يَتْلُوهُ مَجْنُونًا، وَنَظِيرَهُ مِمَّا يَذْكُرُونَ، مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَدِلَّةِ الْأُمُورِ عَلَى كَمَالِ الْفَضْلِ وَالْعَقْلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة الحاقة

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة الحاقة خمسون وآيتان مكية [سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَاقَّةَ هِيَ الْقِيَامَةُ وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْحَاقَّةِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الثَّابِتُ الْكَائِنُ، فَالْحَاقَّةُ السَّاعَةُ الْوَاجِبَةُ الْوُقُوعِ الثَّابِتَةُ الْمَجِيءِ الَّتِي هِيَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَثَانِيهَا: أَنَّهَا الَّتِي تَحُقُّ فِيهَا الْأُمُورُ أَيْ تُعْرَفُ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ قَوْلِكَ لَا أَحُقُّ هَذَا أَيْ لَا أَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ جُعِلَ الْفِعْلُ لَهَا وَهُوَ لِأَهْلِهَا وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا ذَوَاتُ الْحَوَاقِّ مِنَ الْأُمُورِ وَهِيَ الصَّادِقَةُ الْوَاجِبَةُ الصِّدْقِ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ أُمُورٌ وَاجِبَةُ الْوُقُوعِ وَالْوُجُودِ فَهِيَ كُلُّهَا حَوَاقُّ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْحَاقَّةُ بِمَعْنَى الْحَقَّةِ وَالْحَقَّةُ أَخَصُّ مِنَ الْحَقِّ وَأَوْجَبُ تَقُولُ: هَذِهِ حَقَّتِي أَيْ حَقِّي، وَعَلَى هَذَا الْحَاقَّةُ بِمَعْنَى الْحَقِّ، وَهَذَا الْوَجْهُ قَرِيبٌ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَخَامِسُهَا: قَالَ اللَّيْثُ: الْحَاقَّةُ النَّازِلَةُ الَّتِي حَقَّتْ بِالْجَارِيَةِ فَلَا كَاذِبَةَ لَهَا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ، [الْوَاقِعَةِ: 20] وَسَادِسُهَا: الْحَاقَّةُ السَّاعَةُ الَّتِي يَحِقُّ فِيهَا الْجَزَاءُ عَلَى كُلِّ ضَلَالٍ وَهُدًى وَهِيَ الْقِيَامَةُ وَسَابِعُهَا: الْحَاقَّةُ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَحِقُّ عَلَى الْقَوْمِ أَنْ يَقَعَ بِهِمْ وَثَامِنُهَا: أَنَّهَا الْحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ فِيهَا جَمِيعُ آثَارِ أَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَحْصُلُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَيَخْرُجُ عَنْ حَدِّ الِانْتِظَارِ وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَتَاسِعُهَا: قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَالَّذِي عِنْدِي فِي الْحَاقَّةُ أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَحُقُّ كُلَّ مُحَاقٍّ فِي دِينِ اللَّهِ بِالْبَاطِلِ أَيْ تُخَاصِمُ كُلَّ مُخَاصِمٍ وَتَغْلِبُهُ مِنْ قَوْلِكَ: حَاقَقْتُهُ فَحَقَقْتُهُ أَيْ غَالَبْتُهُ فَغَلَبْتُهُ وَفَلَجْتُ عَلَيْهِ وَعَاشِرُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْحَاقَّةُ الْفَاعِلَةُ مِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَاقَّةُ مَرْفُوعَةٌ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهَا مَا الْحَاقَّةُ وَالْأَصْلُ الْحَاقَّةُ مَا هِيَ أَيْ أَيُّ شَيْءٍ هِيَ؟ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهَا، وَتَعْظِيمًا لِهَوْلِهَا فَوُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِأَنَّهُ أَهْوَلُ لَهَا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ [الْقَارِعَةُ: 1، 2] وَقَوْلُهُ: وَما أَدْراكَ أَيْ وَأَيُّ شَيْءٍ أُعَلِّمُكَ مَا الْحَاقَّةُ يَعْنِي إِنَّكَ لَا عِلْمَ لَكَ بِكُنْهِهَا وَمَدَى عِظَمِهَا، يَعْنِي أَنَّهُ فِي الْعِظَمِ وَالشِّدَّةِ بِحَيْثُ لَا يَبْلُغُهُ دِرَايَةُ أَحَدٍ وَلَا وَهْمُهُ وَكَيْفَمَا قَدَّرْتَ حَالَهَا فَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَما فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ على الابتداء وأَدْراكَ معلق عنه لتضمنه معنى الاستفهام. [سورة الحاقة (69) : آية 4] كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4)

[سورة الحاقة (69) : آية 5]

الْقَارِعَةُ هِيَ الَّتِي تَقْرَعُ النَّاسَ بِالْأَفْزَاعِ وَالْأَهْوَالِ، وَالسَّمَاءَ بِالِانْشِقَاقِ وَالِانْفِطَارِ، وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ بِالدَّكِّ وَالنَّسْفِ، وَالنُّجُومَ بِالطَّمْسِ وَالِانْكِدَارِ، وَإِنَّمَا قَالَ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ وَلَمْ يَقُلْ: بِهَا، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْقَرْعِ حَاصِلٌ فِي الْحَاقَّةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى وَصْفِ شِدَّتِهَا. وَلَمَّا ذَكَرَهَا وَفَخَّمَهَا أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَنْ كَذَّبَ بِهَا، وَمَا حَلَّ بِهِمْ بِسَبَبِ التَّكْذِيبِ تَذْكِيرًا لِأَهْلِ مكة، وتخويفا لهم من عاقبة تكذيبهم. [سورة الحاقة (69) : آية 5] فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) اعْلَمْ أَنَّ فِي الطَّاغِيَةِ أَقْوَالًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الطَّاغِيَةَ هِيَ الْوَاقِعَةُ الْمُجَاوِزَةُ لِلْحَدِّ فِي الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ [الْحَاقَّةِ: 1] أَيْ جَاوَزَ الْحَدَّ، وَقَالَ: مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النَّجْمِ: 17] فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: الطَّاغِيَةُ نَعْتٌ مَحْذُوفٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا الصَّيْحَةُ الْمُجَاوِزَةُ فِي الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ لِلصَّيْحَاتِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ [الْقَمَرِ: 31] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا الرَّجْفَةُ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهَا الصَّاعِقَةُ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الطاغية هاهنا الطُّغْيَانُ، فَهِيَ مَصْدَرٌ كَالْكَاذِبَةِ وَالْبَاقِيَةِ وَالْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ، أَيْ أُهْلِكُوا بِطُغْيَانِهِمْ عَلَى اللَّهِ إِذْ كَذَّبُوا رُسُلَهُ وَكَفَرُوا بِهِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ طَعَنُوا فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ الزَّجَّاجُ: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ نَوْعَ الشَّيْءِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْعَذَابُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِرِيحٍ صَرْصَرٍ [الحاقة: 6] وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى كَذَلِكَ حَتَّى تَكُونَ الْمُنَاسِبَةُ حَاصِلَةً وَالثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي: وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا قَالُوهُ، لَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: أُهْلِكُوا لَهَا وَلِأَجْلِهَا وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: بِالطَّاغِيَةِ أَيْ بِالْفِرْقَةِ الَّتِي طَغَتْ مِنْ جُمْلَةِ ثَمُودَ، فَتَآمَرُوا بِعَقْرِ النَّاقَةِ فَعَقَرُوهَا، أَيْ أُهْلِكُوا بِشُؤْمِ فِرْقَتِهِمُ الطَّاغِيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالطَّاغِيَةِ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ الَّذِي أَقْدَمَ عَلَى عَقْرِ النَّاقَةِ وَأَهْلَكَ الْجَمِيعَ، لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِفِعْلِهِ وَقِيلَ لَهُ طَاغِيَةٌ، كَمَا يَقُولُ: فُلَانٌ رَاوِيَةُ الشعر، وداهية وعلامة ونسابة. [سورة الحاقة (69) : آية 6] وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) الصَّرْصَرُ الشَّدِيدَةُ الصَّوْتِ لَهَا صَرْصَرَةٌ وَقِيلَ: الْبَارِدَةُ مِنَ الصِّرِّ كَأَنَّهَا الَّتِي كُرِّرَ فِيهَا الْبَرْدُ وَكَثُرَ فَهِيَ تَحْرِقُ بِشِدَّةِ بَرْدِهَا، وَأَمَّا الْعَاتِيَةُ فَفِيهَا أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: عَتَتْ عَلَى خَزَنَتِهَا يَوْمَئِذٍ، فَلَمْ يَحْفَظُوا كَمْ خَرَجَ مِنْهَا، وَلَمْ يَخْرُجْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَا بَعْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: طَغَى الْمَاءُ عَلَى خُزَّانِهِ يَوْمَ/ نُوحٍ، وَعَتَتِ الرِّيحُ عَلَى خُزَّانِهَا يَوْمَ عَادٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَيْهَا سَبِيلٌ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: هِيَ عَاتِيَةٌ عَلَى الْخُزَّانِ الثَّانِي: قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الرِّيحَ عَتَتْ عَلَى عَادٍ فَمَا قَدَرُوا عَلَى رَدِّهَا بِحِيلَةٍ مِنَ اسْتِتَارٍ بِبِنَاءٍ أَوِ (اسْتِنَادٍ إِلَى جَبَلٍ) «1» ، فَإِنَّهَا كَانَتْ تَنْزِعُهُمْ مِنْ مَكَامِنِهِمْ وَتُهْلِكُهُمْ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْعُتُوِّ الَّذِي هُوَ عِصْيَانٌ، إِنَّمَا هُوَ بُلُوغُ الشَّيْءِ وَانْتِهَاؤُهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: عَتَا النَّبْتُ، أَيْ بَلَغَ مُنْتَهَاهُ وَجَفَّ، قَالَ تَعَالَى: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [مَرْيَمَ: 8] فَعَاتِيَةٌ أَيْ بَالِغَةٌ مُنْتَهَاهَا فِي الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ.

_ (1) في الكشاف للزمخشري (لياذ بجبل) 4/ 150 ط. دار الفكر.

[سورة الحاقة (69) : آية 7]

[سورة الحاقة (69) : آية 7] سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) قَوْلُهُ تَعَالَى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً قَالَ مُقَاتِلٌ: سَلَّطَهَا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَقْلَعَهَا عَلَيْهِمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: أَرْسَلَهَا عَلَيْهِمْ، هَذِهِ هِيَ الْأَلْفَاظُ الْمَنْقُولَةُ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ، وَعِنْدِي أَنَّ فِيهِ لَطِيفَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ تِلْكَ الرِّيَاحَ إِنَّمَا اشْتَدَّتْ، لِأَنَّ اتِّصَالًا فَلَكِيًّا نُجُومِيًّا اقْتَضَى ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ: سَخَّرَها فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، وَبَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا حَصَلَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا هَذِهِ الدَّقِيقَةُ لَمَا حَصَلَ مِنْهُ التَّخْوِيفُ وَالتَّحْذِيرُ عَنِ الْعِقَابِ. وَقَوْلُهُ: سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً الْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَمَا كَانَ مِقْدَارُ زَمَانِ هَذَا الْعَذَابِ مَعْلُومًا، فَلَمَّا قَالَ: سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ صَارَ مِقْدَارُ هَذَا الزَّمَانِ مَعْلُومًا، ثُمَّ لَمَّا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ كَانَ مُتَفَرِّقًا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ أَزَالَ هَذَا الظَّنَّ، بِقَوْلِهِ: حُسُوماً أَيْ مُتَتَابِعَةً مُتَوَالِيَةً، وَاخْتَلَفُوا فِي الْحُسُومِ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ (حُسُومًا) ، أَيْ مُتَتَابِعَةً، أَيْ هَذِهِ الْأَيَّامُ تَتَابَعَتْ عَلَيْهِمْ بِالرِّيحِ الْمُهْلِكَةِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا فُتُورٌ وَلَا انْقِطَاعٌ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: حُسُومٌ جَمْعُ حَاسِمٍ. كَشُهُودٍ وَقُعُودٍ، وَمَعْنَى هَذَا الْحَسْمِ فِي اللُّغَةِ الْقَطْعُ بِالِاسْتِئْصَالِ، وَسُمِّيَ السَّيْفُ حُسَامًا، لِأَنَّهُ يَحْسِمُ الْعَدُوُّ عَمَّا يُرِيدُ، مِنْ بُلُوغِ عَدَاوَتِهِ فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الرِّيَاحُ مُتَتَابِعَةً مَا سَكَنَتْ سَاعَةً حَتَّى أَتَتْ عَلَيْهِمْ أَشْبَهَ تَتَابُعُهَا عَلَيْهِمْ تَتَابُعَ فِعْلِ الْحَاسِمِ فِي إِعَادَةِ الْكَيِّ، عَلَى الدَّاءِ كَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، حَتَّى يَنْحَسِمَ وَثَانِيهَا: أَنَّ الرِّيَاحَ حَسَمَتْ كُلَّ خَيْرٍ، وَاسْتَأْصَلَتْ كُلَّ بَرَكَةٍ، فَكَانَتْ حُسُومًا أَوْ حَسَمَتْهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَالْحُسُومُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ جَمْعُ حَاسِمٍ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحُسُومُ مَصْدَرًا كَالشُّكُورِ وَالْكُفُورِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَإِمَّا أَنْ يَنْتَصِبَ بِفِعْلِهِ مُضْمَرًا، وَالتَّقْدِيرُ: يَحْسِمُ حُسُومًا، يَعْنِي اسْتَأْصَلَ اسْتِئْصَالًا، أَوْ يَكُونُ صِفَةً، كَقَوْلِكَ: ذَاتَ حُسُومٍ، أَوْ يَكُونُ مَفْعُولًا لَهُ، أَيْ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ لِلِاسْتِئْصَالِ، وَقَرَأَ السُّدِّيُّ: حُسُوماً بِالْفَتْحِ حَالًا مِنَ الرِّيحِ، أَيْ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ مُسْتَأْصِلَةً، وَقِيلَ: هِيَ أَيَّامُ الْعَجُوزِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِأَيَّامِ الْعَجُوزِ، لِأَنَّ عَجُوزًا مِنْ عَادٍ تَوَارَتْ فِي سِرْبٍ، فَانْتَزَعَتْهَا الرِّيحُ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ فَأَهْلَكَتْهَا، وَقِيلَ: هِيَ أَيَّامُ الْعَجُزِ وَهِيَ آخِرُ الشِّتَاءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى أَيْ فِي مَهَابِّهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: أَيْ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي/ وَالْأَيَّامِ صَرْعى جَمْعُ صَرِيعٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي مَوْتَى يُرِيدُ أَنَّهُمْ صُرِعُوا بِمَوْتِهِمْ، فَهُمْ مُصْرَعُونَ صَرْعَ الْمَوْتِ. ثُمَّ قَالَ: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ أَيْ كَأَنَّهُمْ أُصُولُ نَخْلٍ خَالِيَةِ الْأَجْوَافِ لَا شَيْءَ فِيهَا، وَالنَّخْلُ يُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [الْقَمَرِ: 20] وَقُرِئَ: (أَعْجَازُ نَخِيلٍ) ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ شُبِّهُوا بِالنَّخِيلِ الَّتِي قُلِعَتْ مِنْ أَصْلِهَا، وَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ عَظِيمِ خَلْقِهِمْ وَأَجْسَامِهِمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْأُصُولَ دُونَ الْجُذُوعِ، أَيْ أَنَّ الرِّيحَ قَدْ قَطَّعَتْهُمْ حَتَّى صَارُوا قِطَعًا ضِخَامًا كَأُصُولِ النَّخْلِ. وَأَمَّا وَصْفُ النَّخْلِ بِالْخَوَاءِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِلْقَوْمِ، فَإِنَّ الرِّيحَ كَانَتْ تَدْخُلُ أَجْوَافَهُمْ فَتَصْرَعُهُمْ كَالنَّخْلِ الْخَاوِيَةِ الْجَوْفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْخَالِيَةُ بِمَعْنَى الْبَالِيَةِ لِأَنَّهَا إِذَا بَلِيَتْ خَلَتْ أَجْوَافُهَا، فَشُبِّهُوا بَعْدَ أَنْ أهلكوا بالنخيل البالية ثم قال: [سورة الحاقة (69) : آية 8] فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

[سورة الحاقة (69) : آية 9]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْبَاقِيَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْبَقِيَّةُ وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ مِنْ نَفْسٍ بَاقِيَةٍ وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ بِالْبَاقِيَةِ الْبَقَاءَ، كَالطَّاغِيَةِ بِمَعْنَى الطُّغْيَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ نَسْلِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ أَحَدٌ، وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِهِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانُوا سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ أَحْيَاءً فِي عِقَابِ اللَّهِ مِنَ الرِّيحِ، فَلَمَّا أَمْسَوْا فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ مَاتُوا، فَاحْتَمَلَتْهُمُ الرِّيحُ فَأَلْقَتْهُمْ فِي الْبَحْرِ، فَذَاكَ هُوَ قَوْلُهُ: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ وَقَوْلُهُ: فَأَصْبَحُوا لَا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ [الْأَحْقَافِ: 25] . الْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ قِصَّةُ فرعون [سورة الحاقة (69) : آية 9] وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9) أَيْ وَمَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي كَفَرَتْ كَمَا كَفَرَ هُوَ، وَ (مَنْ) لَفْظٌ عَامٌّ وَمَعْنَاهُ خَاصٌّ فِي الْكُفَّارِ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ، وَمَنْ قِبَلِهِ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: قِبَلُ لِمَا وَلِيَ الشَّيْءَ تَقُولُ: ذَهَبَ قِبَلَ السُّوقِ، وَلِي قِبَلَكَ حَقٌّ، أَيْ فِيمَا يَلِيكَ، وَاتَّسَعَ فِيهِ حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةِ لِي عَلَيْكَ، فَمَعْنَى مَنْ قَبْلَهُ أَيْ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَجُنُودِهِ وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَأُبَيًّا وَأَبَا مُوسَى قَرَءُوا: وَمَنْ تِلْقَاءَهُ رُوِيَ عَنْ أُبَيٍّ وَحْدَهُ أَنَّهُ قَرَأَ: وَمَنْ مَعَهُ أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْمُؤْتَفِكاتُ فَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا، وَهُمُ الَّذِينَ أُهْلِكُوا مِنْ قَوْمِ لُوطٍ، عَلَى مَعْنَى وَالْجَمَاعَاتُ الْمُؤْتَفِكَاتُ، وَقَوْلُهُ: بِالْخاطِئَةِ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخَاطِئَةَ مَصْدَرٌ كَالْخَطَأِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفِعْلَةِ/ أَوِ الْأَفْعَالِ ذَاتِ الخطأ العظيم. [سورة الحاقة (69) : آية 10] فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) الضَّمِيرُ إِنْ كَانَ عَائِدًا إِلَى فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ [الحاقة: 9] ، فَرَسُولُ رَبِّهِمْ هُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنْ كَانَ عَائِدًا إِلَى أَهْلِ الْمُؤْتَفِكَاتِ فَرَسُولُ رَبِّهِمْ هُوَ لُوطٌ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالرَّسُولِ كِلَاهُمَا لِلْخَبَرِ عَنِ الْأُمَّتَيْنِ بَعْدَ ذكرهما بقوله، فَعَصَوْا فيكون كقوله: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 16] وَقَوْلُهُ: فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً يُقَالُ: رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو إِذَا زَادَ ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا كَانَتْ زَائِدَةً فِي الشِّدَّةِ عَلَى عُقُوبَاتِ سَائِرِ الْكُفَّارِ كَمَا أَنَّ أَفْعَالَهُمْ كَانَتْ زَائِدَةً فِي الْقُبْحِ عَلَى أَفْعَالِ سَائِرِ الْكُفَّارِ الثَّانِي: أَنَّ عُقُوبَةَ آلِ فِرْعَوْنَ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، لِقَوْلِهِ: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح: 25] وَعُقُوبَةُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا، فَتِلْكَ الْعُقُوبَةُ كَأَنَّهَا كَانَتْ تَنْمُو وَتَرْبُو. الْقِصَّةُ الثَّالِثَةُ قصة نوح عليه السلام [سورة الحاقة (69) : آية 11] إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) طَغَى الْمَاءُ عَلَى خُزَّانِهِ فَلَمْ يَدْرُوا كَمْ خَرَجَ وَلَيْسَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ قَطْرَةٌ قَبْلَ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ وَلَا بَعْدَهَا إِلَّا بِكَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَسَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: طَغَى الْماءُ أَيْ تَجَاوَزَ حَدَّهُ حَتَّى عَلَا كُلَّ شَيْءٍ وَارْتَفَعَ فَوْقَهُ، وحَمَلْناكُمْ أَيْ حَمَلْنَا آبَاءَكُمْ وَأَنْتُمْ فِي أَصْلَابِهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذَا هُمْ أَوْلَادُ الَّذِينَ كَانُوا فِي

[سورة الحاقة (69) : آية 12]

السَّفِينَةِ، وَقَوْلُهُ: فِي الْجارِيَةِ يَعْنِي فِي السَّفِينَةِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْمَاءِ، وَهِيَ سَفِينَةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْجَارِيَةُ مِنْ أَسْمَاءِ السَّفِينَةِ، وَمِنْهُ قوله: وَلَهُ الْجَوارِ [الرحمن: 24] . [سورة الحاقة (69) : آية 12] لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) قَوْلُهُ تَعَالَى: لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لِنَجْعَلَها إِلَى مَاذَا يَرْجِعُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْوَاقِعَةِ الَّتِي هي معلومة، وإن كانت هاهنا غَيْرَ مَذْكُورَةٍ، وَالتَّقْدِيرُ لِنَجْعَلَ نَجَاةَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِغْرَاقَ الْكَفَرَةِ عِظَةً وَعِبْرَةً الثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: لِنَجْعَلَ السَّفِينَةَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ قَوْلُهُ: وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَتَعِيَها عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ، لَكِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَتَعِيَها لَا يُمْكِنُ عَوْدُهُ إِلَى السَّفِينَةِ فَكَذَا الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: لِكُلِّ شَيْءٍ حَفِظْتَهُ فِي نَفْسِكَ وَعَيْتُهُ وَوَعَيْتُ الْعِلْمَ، وَوَعَيْتُ مَا قُلْتَ وَيُقَالُ: لِكُلِّ مَا حَفِظْتَهُ فِي غَيْرِ نَفْسِكَ: أَوْعَيْتُهُ يُقَالُ: أَوْعَيْتُ الْمَتَاعَ فِي الْوِعَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: / وَالشَّرُّ أَخْبَثُ مَا أَوْعَيْتَ مِنْ زَادِ وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ التَّذْكِيرِ فِي هَذَا أَنَّ نَجَاةَ قَوْمٍ مِنَ الْغَرَقِ بِالسَّفِينَةِ وَتَغْرِيقَ مَنْ سِوَاهُمْ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ مُدَبِّرِ الْعَالَمِ وَنَفَاذِ مَشِيئَتِهِ، وَنِهَايَةِ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَشِدَّةِ قَهْرِهِ وَسَطْوَتِهِ، وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: «سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَهَا أُذُنَكَ يَا عَلِيُّ، قَالَ عَلِيٌّ: فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَا كَانَ لِي أَنْ أَنْسَى» فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ أُذُنٌ واعِيَةٌ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّنْكِيرِ؟ قُلْنَا: لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْوُعَاةَ فِيهِمْ قِلَّةٌ، وَلِتَوْبِيخِ النَّاسِ بِقِلَّةِ مَنْ يَعِي مِنْهُمْ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأُذُنَ الْوَاحِدَةَ إِذَا وَعَتْ وَعَقَلَتْ عَنِ اللَّهِ فَهِيَ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّ مَا سواه لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِمْ، وَإِنِ امْتَلَأَ الْعَالَمُ مِنْهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ: وَتَعِيَها بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَتَعِيَها سَاكِنَةَ الْعَيْنِ كَأَنَّهُ جَعَلَ حَرْفَ الْمُضَارَعَةِ مَعَ مَا بَعْدَهُ بِمَنْزِلَةِ فَخْذٍ، فَأُسْكِنَ كَمَا أُسْكِنَ الْحَرْفُ الْمُتَوَسِّطُ مِنْ فَخْذٍ وَكَبْدٍ وَكَتْفٍ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّ حَرْفَ الْمُضَارَعَةِ لَا يَنْفَصِلُ مِنَ الْفِعْلِ، فَأَشْبَهَ مَا هُوَ مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ، وَصَارَ كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: وَهْوَ وَهْيَ وَمِثْلُ ذَلِكَ قوله: وَيَتَّقْهِ [النور: 52] فِي قِرَاءَةِ مَنْ سَكَّنَ الْقَافَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى هَذِهِ الْقِصَصَ الثَّلَاثَ وَنَبَّهَ بِهَا عَنْ ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ لِلصَّانِعِ فَحِينَئِذٍ ثَبَتَ بِثُبُوتِ الْقُدْرَةِ إِمْكَانُ الْقِيَامَةِ، وَثَبَتَ بِثُبُوتِ الْحِكْمَةِ إِمْكَانُ وُقُوعِ الْقِيَامَةِ. وَلَمَّا ثَبَتَ ذَلِكَ شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي تَفَاصِيلِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ فَذَكَرَ أولا مقدماتها. فقال: [سورة الحاقة (69) : آية 13] فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ نَفْخَةٌ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، وَجْهُ الرَّفْعِ أُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا حَسُنَ تَذْكِيرُ الْفِعْلِ لِلْفَصْلِ، وَوَجْهُ النَّصْبِ أَنَّ الْفِعْلَ مُسْنَدٌ إِلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ ثُمَّ نُصِبَ نَفْخَةٌ على المصدر.

[سورة الحاقة (69) : آية 14]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ النَّفْخَةِ الْوَاحِدَةِ هِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى لِأَنَّ عِنْدَهَا يَحْصُلُ خَرَابُ الْعَالَمِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ [الحاقة: 18] وَالْعَرْضُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ؟ قُلْنَا: جَعَلَ الْيَوْمَ اسْمًا لِلْحِينِ الْوَاسِعِ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ النَّفْخَتَانِ، وَالصَّعْقَةُ وَالنُّشُورُ، وَالْوُقُوفُ وَالْحِسَابُ، فَلِذَلِكَ قَالَ: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ كَمَا تَقُولُ: جِئْتُهُ عَامَ كَذَا، وَإِنَّمَا كَانَ مَجِيئُكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ من أوقاته. [سورة الحاقة (69) : آية 14] وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُفِعَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ، إِمَّا بِالزَّلْزَلَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْقِيَامَةِ، وَإِمَّا بِرِيحٍ بَلَغَتْ مِنْ قُوَّةِ عَصْفِهَا أَنَّهَا تَحْمِلُ الْأَرْضَ وَالْجِبَالَ، أَوْ بِمَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ/ سَبَبٍ فَدُكَّتَا، أَيْ فَدُكَّتِ الْجُمْلَتَانِ جُمْلَةُ الْأَرْضِ وَجُمْلَةُ الْجِبَالِ، فَضُرِبَ بَعْضُهَا ببعض، حتى تندق وتصير كثيبا مهيلا وهباء منبثا وَالدَّكُّ أَبْلَغُ مِنَ الدَّقِّ، وَقِيلَ: فَبُسِطَتَا بَسْطَةً وَاحِدَةً فَصَارَتَا أَرْضًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا ولا أمتا مِنْ قَوْلِكَ: انْدَكَّ السَّنَامُ إِذَا انْفَرَشَ، وَبَعِيرٌ أَدَكُّ وَنَاقَةٌ دَكَّاءُ وَمِنْهُ الدُّكَّانُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قال الفراء: لا يجوز في دكة هاهنا إِلَّا النَّصْبُ لِارْتِفَاعِ الضَّمِيرِ فِي دُكَّتَا، وَلَمْ يَقُلْ: فَدُكِكْنَ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْجِبَالَ كَالْوَاحِدَةِ وَالْأَرْضَ كَالْوَاحِدَةِ، كَمَا قَالَ: أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً [الأنبياء: 30] ولم يقل: كن ثم قال تعالى: [سورة الحاقة (69) : الآيات 15 الى 16] فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) أَيْ فَيَوْمَئِذٍ قَامَتِ الْقِيَامَةُ الْكُبْرَى وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ. فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ أَيْ مسترخية ساقطة القوة كالعهن المنفوش بعد ما كانت محكمة شديدة. [سورة الحاقة (69) : آية 17] وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَالْمَلَكُ لَمْ يُرِدْ بِهِ مَلَكًا وَاحِدًا، بَلْ أَرَادَ الْجِنْسَ وَالْجَمْعَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَرْجَاءُ فِي اللُّغَةِ النَّوَاحِي يُقَالُ: رَجًا وَرَجَوَانِ وَالْجَمْعُ الْأَرْجَاءُ، وَيُقَالُ ذَلِكَ لِحَرْفِ الْبِئْرِ وَحَرْفِ الْقَبْرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ السَّمَاءَ إِذَا انْشَقَّتْ عَدَلَتِ الْمَلَائِكَةُ عَنْ مَوَاضِعِ الشَّقِّ إِلَى جَوَانِبِ السَّمَاءِ، فَإِنْ قِيلَ: الْمَلَائِكَةُ يَمُوتُونَ فِي الصَّعْقَةِ الْأُولَى، لِقَوْلِهِ: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الزُّمَرِ: 68] فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُمْ يَقِفُونَ عَلَى أَرْجَاءِ السَّمَاءِ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ يَقِفُونَ لَحْظَةً عَلَى أَرْجَاءِ السَّمَاءِ ثُمَّ يَمُوتُونَ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزُّمَرِ: 68] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا الْعَرْشُ هُوَ الَّذِي أراده الله بقوله الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ [غافر: 7] وقوله:

[سورة الحاقة (69) : آية 18]

وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزُّمَرِ: 75] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَوْقَهُمْ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ فَوْقَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ عَلَى الْأَرْجَاءِ وَالْمَقْصُودُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ الثَّانِي: قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي أن الحملة يحملون العرش فوق رؤوسهم. وَ [مَجِيءُ] الضَّمِيرِ قَبْلَ الذِّكْرِ جَائِزٌ كَقَوْلِهِ: فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَدْرِي ثَمَانِيَةَ أَشْخَاصٍ أَوْ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ أَوْ ثَمَانِيَةَ صُفُوفٍ أَوْ ثَمَانِيَةَ آلَافِ صَفٍّ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَشْخَاصٍ أَوْلَى لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمُ الْيَوْمَ أَرْبَعَةٌ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَيَّدَهُمُ اللَّهُ بِأَرْبَعَةٍ آخَرِينَ فَيَكُونُونَ ثَمَانِيَةً» وَيُرْوَى: «ثَمَانِيَةُ أَمْلَاكٍ أَرْجُلُهُمْ فِي تخوم الأرض السابعة والعرش فوق رؤوسهم وَهُمْ مُطْرِقُونَ مُسَبِّحُونَ» [وَقِيلَ: بَعْضُهُمْ عَلَى صُورَةِ الإنسان] «1» وَقِيلَ: بَعْضُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْأَسَدِ وَبَعْضُهُمْ عَلَى صُورَةِ الثَّوْرِ وَبَعْضُهُمْ عَلَى صُورَةِ النَّسْرِ، وَرُوِيَ ثَمَانِيَةُ أَمْلَاكٍ فِي صُورَةِ الْأَوْعَالِ مَا بَيْنَ أَظْلَافِهَا إِلَى رُكَبِهَا مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عَامًا، وَعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ، وَأَرْبَعَةٌ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَشْخَاصٍ أَوْلَى مِنَ الْحَمْلِ عَلَى ثَمَانِيَةِ آلَافٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّمَانِيَةَ أَشْخَاصٍ لَا بُدَّ مِنْهُمْ فِي صِدْقِ اللَّفْظِ، وَلَا حَاجَةَ فِي صِدْقِ اللَّفْظِ إِلَى ثَمَانِيَةِ آلَافٍ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ اللَّفْظُ دَالًّا على ثمانية أشخاص، ولا دلالة فيه عَلَى ثَمَانِيَةِ آلَافٍ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْأَوَّلِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ التَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ، أَوْ ثَمَانِيَةَ صُفُوفٍ لَوَجَبَ ذِكْرُهُ لِيَزْدَادَ التَّعْظِيمُ وَالتَّهْوِيلُ، فَحَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ إِلَّا ثَمَانِيَةَ أَشْخَاصٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُشَبِّهَةُ: لَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ فِي الْعَرْشِ لَكَانَ حَمْلُ الْعَرْشِ عَبَثًا عَدِيمَ الْفَائِدَةِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ تَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ [الحاقة: 18] وَالْعَرْضُ إِنَّمَا يَكُونُ لَوْ كَانَ الْإِلَهُ حَاصِلًا فِي الْعَرْشِ، أَجَابَ أَهْلُ التَّوْحِيدِ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ جَالِسٌ فِي الْعَرْشِ وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ حَامِلًا لِلْعَرْشِ كَانَ حَامِلًا لِكُلِّ مَا كَانَ فِي الْعَرْشِ، فَلَوْ كَانَ الْإِلَهُ فِي الْعَرْشِ لَلَزِمَ الْمَلَائِكَةُ أَنْ يَكُونُوا حَامِلِينَ لِلَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي احْتِيَاجَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، وَأَنْ يَكُونُوا أَعْظَمَ قُدْرَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ ذَلِكَ كُفْرٌ صَرِيحٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ فَنَقُولُ: السَّبَبُ فِي هَذَا الْكَلَامِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَهُمْ بِمَا يَتَعَارَفُونَهُ، فَخَلَقَ لِنَفْسِهِ بَيْتًا يَزُورُونَهُ، وَلَيْسَ أَنَّهُ يَسْكُنُهُ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ وَجَعَلَ فِي رُكْنِ الْبَيْتِ حَجَرًا هُوَ يَمِينُهُ فِي الْأَرْضِ، إِذْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يُعَظِّمُوا رُؤَسَاءَهُمْ بِتَقْبِيلِ أَيْمَانِهِمْ، وَجَعَلَ عَلَى الْعِبَادِ حَفَظَةً لَيْسَ لِأَنَّ النِّسْيَانَ يَجُوزُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، لَكِنْ هَذَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمَلِكِ إِذَا أَرَادَ مُحَاسَبَةَ عُمَّالِهِ جَلَسَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَرِيرٍ وَوَقَفَ الْأَعْوَانُ حَوْلَهُ أَحْضَرَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَرْشًا وَحَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ وَحَفَّتْ بِهِ، لَا لِأَنَّهُ يَقْعُدُ عَلَيْهِ أَوْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بَلْ لِمِثْلِ مَا قُلْنَاهُ فِي الْبَيْتِ والطواف. [سورة الحاقة (69) : آية 18] يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18)

_ (1) زيادة من الكشاف 4/ 152 ط. دار الفكر.

[سورة الحاقة (69) : آية 19]

قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ الْعَرْضُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُحَاسَبَةِ وَالْمُسَاءَلَةِ، شَبَّهَ ذَلِكَ بِعَرْضِ السُّلْطَانِ الْعَسْكَرَ لتعرف أحواله، ونظيره قوله: عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا [الْكَهْفِ: 48] وَرُوِيَ: «أَنَّ فِي الْقِيَامَةِ/ ثَلَاثَ عَرْضَاتٍ، فَأَمَّا عَرْضَتَانِ فَاعْتِذَارٌ وَاحْتِجَاجٌ وَتَوْبِيخٌ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَفِيهَا تُنْثَرُ الْكُتُبُ فَيَأْخُذُ السعيد كتابه بيمينه والهالك كتابه بشماله» . ثُمَّ قَالَ: لَا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: تَقْرِيرُ الْآيَةِ: تُعْرَضُونَ لَا يَخْفَى أَمْرُكُمْ فَإِنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ [غَافِرٍ: 16] فَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّهْدِيدِ، يَعْنِي تُعْرَضُونَ عَلَى مَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ أَصْلًا الْوَجْهُ الثَّانِي: الْمُرَادُ لَا يَخْفَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كَانَ مَخْفِيًّا مِنْكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ تَظْهَرُ أَحْوَالُ الْمُؤْمِنِينَ فَيَتَكَامَلُ بِذَلِكَ سُرُورُهُمْ، وَتَظْهَرُ أَحْوَالُ أَهْلِ الْعَذَابِ فَيَظْهَرُ بِذَلِكَ حُزْنُهُمْ وَفَضِيحَتُهُمْ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ، فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ [الطَّارِقِ: 9، 10] وَفِي هَذَا أَعْظَمُ الزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ وَهُوَ خَوْفُ الْفَضِيحَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ لَا تَخْفى بِالتَّاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ فَوْقِهَا، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْيَاءَ وَهِيَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ قَالَ: لِأَنَّ الْيَاءَ تَجُوزُ لِلذَّكَرِ والأنثى والتاء لا تجوز إلا للأنثى، وهاهنا يَجُوزُ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الْمُذَكَّرِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْخَافِيَةِ شَيْءٌ ذُو خَفَاءٍ. وَأَيْضًا فقد وقع الفصل هاهنا بَيْنَ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ بِقَوْلِهِ: مِنْكُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا يَنْتَهِي هَذَا الْعَرْضُ إليه قال: [سورة الحاقة (69) : آية 19] فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَاءَ صَوْتٌ يُصَوَّتُ بِهِ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنَى خُذْ كَأُفٍّ وَحَسِّ، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيُّ وَفِيهِ لُغَاتٌ وَأَجْوَدُهَا مَا حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ عَنِ الْعَرَبِ فَقَالَ: ومما يؤمر به من المبنيات قَوْلُهُمْ: هَاءَ يَا فَتَى، وَمَعْنَاهُ تَنَاوَلْ وَيَفْتَحُونَ الهمزة ويجعلون فتحها على الْمُذَكَّرِ كَمَا قَالُوا: هَاكَ يَا فَتَى، فَتُجْعَلُ فَتْحَةُ الْكَافِ عَلَامَةَ الْمُذَكَّرِ وَيُقَالُ لِلِاثْنَيْنِ: هَاؤُمَا، وللجمع هاؤموا وَهَاؤُمُ وَالْمِيمُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَالْمِيمِ فِي أَنْتُمَا وَأَنْتُمْ وَهَذِهِ الضَّمَّةُ الَّتِي تَوَلَّدَتْ فِي هَمْزَةِ هَاؤُمُ إِنَّمَا هِيَ ضَمَّةُ مِيمِ الْجَمْعِ لأن الأصل فيه هاؤمو وأنتمو فَأَشْبَعُوا الضَّمَّةَ وَحَكَمُوا لِلِاثْنَيْنِ بِحُكْمِ الْجَمْعِ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ عِنْدَهُمْ فِي حُكْمِ الْجَمْعِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا اجْتَمَعَ عَامِلَانِ عَلَى مَعْمُولٍ وَاحِدٍ، فَإِعْمَالُ الْأَقْرَبِ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ وَإِعْمَالُ الْأَبْعَدِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ ذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى جَوَازِهِ وَالْبَصْرِيُّونَ مَنَعُوهُ، وَاحْتَجَّ الْبَصْرِيُّونَ عَلَى قَوْلِهِمْ: بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: هاؤُمُ ناصب، وقوله: اقْرَؤُا نَاصِبٌ أَيْضًا، فَلَوْ كَانَ/ النَّاصِبُ هُوَ الْأَبْعَدُ، لَكَانَ التَّقْدِيرُ: هَاؤُمُ كِتَابِيَهْ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ: اقْرَءُوهُ، وَنَظِيرُهُ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً [الْكَهْفِ: 96] وَاعْلَمْ: أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّ هذه الآية دلت على أن الواقع هاهنا إِعْمَالُ الْأَقْرَبِ وَذَلِكَ لَا نِزَاعَ فِيهِ إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ إِعْمَالُ الْأَبْعَدِ أَمْ لَا؟ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَعَرُّضٌ لِذَلِكَ، وَأَيْضًا قَدْ يُحْذَفُ الضَّمِيرُ لِأَنَّ ظُهُورَهُ يُغْنِي عَنِ التَّصْرِيحِ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:

[سورة الحاقة (69) : آية 20]

وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ [الْأَحْزَابِ: 35] فَلِمَ لَا يجوز أن يكون هاهنا كَذَلِكَ، ثُمَّ احْتَجَّ الْكُوفِيُّونَ بِأَنَّ الْعَامِلَ الْأَوَّلَ مُتَقَدِّمٌ فِي الْوُجُودِ عَلَى الْعَامِلِ الثَّانِي، وَالْعَامِلُ الْأَوَّلُ حِينَ وُجِدَ اقْتَضَى مَعْمُولًا لِامْتِنَاعِ حُصُولِ الْعِلَّةِ دُونَ الْمَعْمُولِ، فَصَيْرُورَةُ الْمَعْمُولِ مَعْمُولًا لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى وُجُودِ الْعَامِلِ الثَّانِي، وَالْعَامِلُ الثَّانِي إِنَّمَا وُجِدَ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَعْمُولًا لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَصِيرَ أَيْضًا مَعْمُولًا لِلْعَامِلِ الثَّانِي، لِامْتِنَاعِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ، وَلِامْتِنَاعِ تَعْلِيلِ مَا وُجِدَ قَبْلُ بِمَا يُوجَدُ بَعْدُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ لَطَائِفِ النَّحْوِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْهَاءُ لِلسَّكْتِ فِي كِتابِيَهْ وَكَذَا فِي حِسابِيَهْ [الحاقة: 20] ومالِيَهْ [الحاقة: 28] وسُلْطانِيَهْ [الحاقة: 29] وَحَقُّ هَذِهِ الْهَاءَاتِ أَنْ تَثْبُتَ فِي الْوَقْفِ وَتَسْقُطَ فِي الْوَصْلِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْهَاءَاتُ مُثْبَتَةً فِي الْمُصْحَفِ وَالْمُثْبَتَةُ فِي الْمُصْحَفِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مُثْبَتَةً فِي اللَّفْظِ، وَلَمْ يَحْسُنْ إِثْبَاتُهَا فِي اللَّفْظِ إِلَّا عِنْدَ الْوَقْفِ، لَا جَرَمَ اسْتَحَبُّوا الْوَقْفَ لِهَذَا السَّبَبِ. وَتَجَاسَرَ بَعْضُهُمْ فَأَسْقَطَ هَذِهِ الْهَاءَاتِ عِنْدَ الْوَصْلِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِإِسْكَانِ الْيَاءِ بِغَيْرِهَا. وَقَرَأَ جَمَاعَةٌ بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ جَمِيعًا لِاتِّبَاعِ الْمُصْحَفِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا أُوتِيَ كتابيه بيمينه، ثم إنه يقول: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي السُّرُورِ لِأَنَّهُ لَمَّا أُعْطِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ عَلِمَ أَنَّهُ مِنَ النَّاجِينَ وَمِنَ الْفَائِزِينَ بِالنَّعِيمِ، فَأَحَبَّ أَنْ يُظْهِرَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ حَتَّى يَفْرَحُوا بِمَا نَالَهُ. وَقِيلَ: يَقُولُ ذَلِكَ لِأَهْلِ بَيْتِهِ وقرابته. ثم إنه تعالى حكى عنه أنه يقول: [سورة الحاقة (69) : آية 20] إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْيَقِينُ الِاسْتِدْلَالِيُّ وَكُلُّ مَا ثَبَتَ بِالِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ مِنَ الْخَوَاطِرِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِالظَّنِّ الثَّانِي: التَّقْدِيرُ: إِنِّي كُنْتُ أَظُنُّ أَنِّي أُلَاقِي حِسَابِي فَيُؤَاخِذُنِي اللَّهُ بِسَيِّئَاتِي، فَقَدْ تَفَضَّلَ عَلَيَّ بِالْعَفْوِ وَلَمْ يؤاخذني بها فهاؤم اقرؤا كِتَابِيَهْ وَثَالِثُهَا: رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُؤْتَى كِتَابَهُ فَتَظْهَرُ حَسَنَاتُهُ فِي ظَهْرِ كَفِّهِ وَتُكْتَبُ سَيِّئَاتُهُ فِي بَطْنِ كَفِّهِ فَيَنْظُرُ إِلَى سَيِّئَاتِهِ فَيَحْزَنُ، فَيُقَالُ لَهُ: اقْلِبْ كَفَّكَ فَيَنْظُرُ فِيهِ فَيَرَى حَسَنَاتِهِ فَيَفْرَحُ، ثُمَّ يَقُولُ: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ- عِنْدَ النَّظْرَةِ الْأُولَى- أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ عَلَى سَبِيلِ الشِّدَّةِ، وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ فَرَّجَ اللَّهُ عَنِّي ذَلِكَ الْغَمَّ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْأَشْقِيَاءِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى الضِّدِّ مِمَّا ذَكَرْنَا وَرَابِعُهَا: ظَنَنْتُ: أَيْ عَلِمْتُ، وَإِنَّمَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْعِلْمِ. لِأَنَّ الظَّنَّ الْغَالِبَ يُقَامُ مَقَامَ الْعِلْمِ فِي/ الْعَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ، يُقَالُ: أَظُنُّ ظَنًّا كَالْيَقِينِ أَنَّ الْأَمْرَ كَيْتَ وَكَيْتَ وَخَامِسُهَا: الْمُرَادُ إِنِّي ظَنَنْتُ فِي الدُّنْيَا أَنَّ بِسَبَبِ الْأَعْمَالِ الَّتِي كُنْتُ أَعْمَلُهَا فِي الدُّنْيَا سَأَصِلُ فِي الْقِيَامَةِ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَاتِ وَقَدْ حَصَلَتِ الْآنَ عَلَى الْيَقِينِ فَيَكُونُ الظَّنُّ عَلَى ظَاهِرِهِ، لأن أهل الدنيا لا يقطعون بذلك. ثم بين تعالى عاقبة أمره فقال: [سورة الحاقة (69) : آية 21] فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَصْفُ الْعِيشَةِ بِأَنَّهَا رَاضِيَةٌ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى أَنَّهَا مَنْسُوبَةٌ إِلَى الرِّضَا كَالدَّارِعِ

[سورة الحاقة (69) : آية 22]

وَالنَّابِلِ، وَالنِّسْبَةُ نِسْبَتَانِ نِسْبَةٌ بِالْحُرُوفِ وَنِسْبَةٌ بِالصِّيغَةِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ الرِّضَا لِلْعِيشَةِ مَجَازًا مَعَ أَنَّهُ صَاحِبُ الْعِيشَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي حَدِّ الثَّوَابِ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَنْفَعَةً، وَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ خَالِصَةً عَنِ الشَّوَائِبِ، وَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ دَائِمَةً وَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَقْرُونَةً بِالتَّعْظِيمِ، فَالْمَعْنَى إِنَّمَا يَكُونُ مَرْضِيًّا بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ لَوْ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ فَقَوْلُهُ: عِيشَةٍ راضِيَةٍ كَلِمَةٌ حَاوِيَةٌ لِمَجْمُوعِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ الَّتِي ذكرناها. [سورة الحاقة (69) : آية 22] فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) ثُمَّ قَالَ: فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ وَهُوَ أَنَّ مَنْ صَارَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ أَيْ يَعِيشُ عَيْشًا مَرْضِيًّا فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، وَالْعُلُوُّ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْعُلُوُّ فِي الْمَكَانِ فَهُوَ حَاصِلٌ، لأن الجنة فوق السموات، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ مَنَازِلَ الْبَعْضِ فَوْقَ مَنَازِلِ الْآخَرِينَ، فَهَؤُلَاءِ السَّافِلُونَ لَا يَكُونُونَ فِي الْجَنَّةِ الْعَالِيَةِ، قُلْنَا: إِنَّ كَوْنَ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهَا عَالِيَةً وَفَوْقَ السموات، وَإِنْ أُرِيدَ الْعُلُوُّ فِي الدَّرَجَةِ وَالشَّرَفِ فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ كَوْنُ تِلْكَ الْأَبْنِيَةِ عَالِيَةً مُشْرِفَةً فَالْأَمْرُ أَيْضًا كَذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: [سورة الحاقة (69) : آية 23] قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) أَيْ ثِمَارُهَا قَرِيبَةُ التَّنَاوُلِ يَأْخُذُهَا الرَّجُلُ كَمَا يُرِيدُ إِنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَهَا بِيَدِهِ انْقَادَتْ لَهُ، قَائِمًا كَانَ أَوْ جَالِسًا أَوْ مُضْطَجِعًا وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ تَدْنُوَ إِلَى فِيهِ دَنَتْ، وَالْقُطُوفُ جَمْعُ قِطْفٍ وَهُوَ الْمَقْطُوفُ. ثم قال تعالى: [سورة الحاقة (69) : آية 24] كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَالْمَعْنَى يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ قَوْلُهُ: كُلُوا لَيْسَ بِأَمْرِ إِيجَابٍ وَلَا نَدْبٍ، لِأَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ دَارَ تَكْلِيفٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ نَدْبًا، إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ تَعْظِيمَ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ وَإِدْخَالَ السُّرُورِ فِي قَلْبِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا جَمَعَ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: كُلُوا بَعْدَ قَوْلِهِ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ [الحاقة: 21] لقوله: فَأَمَّا مَنْ/ أُوتِيَ [الحاقة: 19] وَمَنْ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الْجَمْعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: بِما أَسْلَفْتُمْ أَيْ قَدَّمْتُمْ مِنَ أَعْمَالِكُمُ الصَّالِحَةِ، وَمَعْنَى الْإِسْلَافِ فِي اللُّغَةِ تَقْدِيمُ مَا تَرْجُو أَنْ يَعُودَ عَلَيْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ كَالْإِقْرَاضِ. وَمِنْهُ يُقَالُ: أَسْلَفَ فِي كَذَا إِذَا قَدَّمَ فِيهِ مَالَهُ، وَالْمَعْنَى بِمَا عَمِلْتُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ والأيام الْخَالِيَةِ، الْمُرَادُ مِنْهَا أَيَّامُ الدُّنْيَا وَالْخَالِيَةُ الْمَاضِيَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي [الأحقاف: 17] وتِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [الْبَقَرَةِ: 134] وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: بِما أَسْلَفْتُمْ يَعْنِي الصَّوْمَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لِمَنِ امْتَنَعَ فِي الدُّنْيَا عَنْهُ بِالصَّوْمِ، طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: بِما أَسْلَفْتُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ الثَّوَابَ بِسَبَبِ عَمَلِهِمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ

[سورة الحاقة (69) : الآيات 25 إلى 26]

عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ مُوجِبٌ لِلثَّوَابِ، وَأَيْضًا لَوْ كانت الطاعات فعلا لِلَّهِ تَعَالَى لَكَانَ قَدْ أَعْطَى الْإِنْسَانَ ثَوَابًا لَا عَلَى فِعْلٍ فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ، وَذَلِكَ مُحَالٌ وجوابه معلوم. [سورة الحاقة (69) : الآيات 25 الى 26] وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ (26) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ لَمَّا نَظَرَ فِي كِتَابِهِ وَتَذَكَّرَ قَبَائِحَ أَفْعَالِهِ خَجَلَ مِنْهَا وَصَارَ الْعَذَابُ الْحَاصِلُ مِنْ تِلْكَ الْخَجَالَةِ أَزْيَدَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، فَقَالَ: لَيْتَهُمْ عَذَّبُونِي بِالنَّارِ، وَمَا عَرَضُوا هَذَا الْكِتَابَ الَّذِي ذَكَّرَنِي قَبَائِحَ أَفْعَالِي حَتَّى لَا أَقَعَ فِي هَذِهِ الْخَجَالَةِ، وَهَذَا يُنَبِّهُكَ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ الرُّوحَانِيَّ أَشَدُّ مِنَ الْعَذَابِ الْجُسْمَانِيِّ، وَقَوْلُهُ: وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ أَيْ وَلَمْ أَدْرِ أَيَّ شَيْءٍ حِسَابِيَهْ، لِأَنَّهُ حَاصِلٌ وَلَا طَائِلَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْحِسَابِ، وَإِنَّمَا كُلُّهُ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: [سورة الحاقة (69) : آية 27] يَا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) الضَّمِيرُ فِي يَا لَيْتَها إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: إِلَى الْمَوْتَةِ الْأُولَى، وَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مذكورة إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة والقاضية الْقَاطِعَةُ عَنِ الْحَيَاةِ. وَفِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى الِانْتِهَاءِ وَالْفَرَاغِ، قَالَ تَعَالَى: فَإِذا قُضِيَتِ [الْجُمُعَةِ: 10] وَيُقَالُ: قُضِيَ عَلَى فُلَانٍ، أَيْ مَاتَ فَالْمَعْنَى يَا لَيْتَ الْمَوْتَةَ الَّتِي مِتُّهَا كَانَتِ الْقَاطِعَةَ لِأَمْرِي، فَلَمْ أُبْعَثْ بَعْدَهَا، وَلَمْ أَلْقَ مَا وَصَلْتُ إِلَيْهِ، قَالَ قَتَادَةُ: تَمَنَّى الْمَوْتَ وَلَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا عِنْدَهُ شَيْءٌ أَكْرَهُ مِنَ الْمَوْتِ، وَشَرٌّ مِنَ الْمَوْتِ مَا يُطْلَبُ لَهُ الْمَوْتُ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَشَرٌّ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي إِنْ لَقِيتَهُ ... تَمَنَّيْتَ مِنْهُ الْمَوْتَ وَالْمَوْتُ أَعْظَمُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي شَاهَدَهَا عِنْدَ مُطَالَعَةِ الْكِتَابِ، وَالْمَعْنَى: يَا لَيْتَ هَذِهِ الْحَالَةَ كانت الموتة التي قضيت عَلَيَّ لِأَنَّهُ رَأَى تِلْكَ الْحَالَةَ أَبْشَعَ وَأَمَرَّ مِمَّا ذَاقَهُ مِنْ مَرَارَةِ الْمَوْتِ وَشِدَّتِهِ فَتَمَنَّاهُ عندها. / ثم قال: [سورة الحاقة (69) : الآيات 28 الى 32] مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) مَا أَغْنى نفي أو استفهام عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ أَيْ أَيُّ شَيْءٍ أَغْنَى عَنِّي مَا كَانَ لِي مِنَ الْيَسَارِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَيَأْتِينا فَرْداً [مَرْيَمَ: 80] وَقَوْلُهُ: هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ في المراد بسلطانية وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضَلَّتْ عَنِّي حُجَّتِي الَّتِي كُنْتُ أَحْتَجُّ بِهَا عَلَى مُحَمَّدٍ فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ضَلَّتْ عَنِّي حُجَّتِي يَعْنِي حِينَ شَهِدَتْ عَلَيْهِ الْجَوَارِحُ بِالشِّرْكِ وَالثَّانِي: ذَهَبَ مُلْكِي وَتَسَلُّطِي عَلَى النَّاسِ وَبَقِيتُ فَقِيرًا ذَلِيلًا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إِنَّنِي إِنَّمَا كُنْتُ أُنَازِعُ الْمُحِقِّينَ بِسَبَبِ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ، فَالْآنَ ذَهَبَ ذَلِكَ الْمُلْكُ وَبَقِيَ الْوَبَالُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ سُرُورَ السُّعَدَاءِ أَوَّلًا، ثُمَّ ذَكَرَ أَحْوَالَهُمْ فِي العيش الطيب وفي الأكل والشرب، كذا

[سورة الحاقة (69) : الآيات 33 إلى 34]

هاهنا ذَكَرَ غَمَّ الْأَشْقِيَاءِ وَحُزْنَهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ أَحْوَالَهُمْ فِي الْغُلِّ وَالْقَيْدِ وَطَعَامِ الْغِسْلِينِ، فَأَوَّلُهَا أَنْ تَقُولَ: خَزَنَةُ جَهَنَّمَ خُذُوهُ فَيَبْتَدِرُ إِلَيْهِ مِائَةُ أَلْفِ مَلَكٍ، وَتُجْمَعُ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ، فَذَاكَ قَوْلُهُ: فَغُلُّوهُ وَقَوْلُهُ: ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلَيْتُهُ النَّارَ إِذَا أَوْرَدْتُهُ إِيَّاهَا وَصَلَّيْتُهُ أَيْضًا كَمَا يُقَالُ: أَكْرَمْتُهُ وَكَرَّمْتُهُ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ معناه لا تصلوه إلى الْجَحِيمَ، وَهِيَ النَّارُ الْعُظْمَى لِأَنَّهُ كَانَ سُلْطَانًا يَتَعَظَّمُ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ وَهِيَ حِلَقٌ مُنْتَظِمَةٌ كُلُّ حَلْقَةٍ مِنْهَا فِي حَلْقَةٍ وَكُلُّ شَيْءٍ مُسْتَمِرٌّ بَعْدَ شَيْءٍ عَلَى الْوَلَاءِ وَالنِّظَامِ فَهُوَ مُسَلْسَلٌ، وَقَوْلُهُ: ذَرْعُها مَعْنَى الذَّرْعِ فِي اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ بِالذِّرَاعِ مِنَ الْيَدِ، يُقَالُ: ذَرَعَ الثَّوْبَ يَذْرَعُهُ ذَرْعًا إِذَا قَدَّرَهُ بِذِرَاعِهِ، وَقَوْلُهُ: سَبْعُونَ ذِراعاً فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ التَّقْدِيرَ بِهَذَا الْمِقْدَارِ بَلِ الْوَصْفُ بِالطُّولِ، كَمَا قَالَ: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً [التوبة: 80] يُرِيدُ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِهَذَا الْمِقْدَارِ ثُمَّ قَالُوا: كُلُّ ذِرَاعٍ سَبْعُونَ بَاعًا وَكُلُّ بَاعٍ أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَيِّ ذِرَاعٍ هُوَ، وَقَوْلُهُ: فَاسْلُكُوهُ قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ سَلَكَهُ فِي الطَّرِيقِ، وَفِي الْقَيْدِ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَأَسْلَكْتُهُ مَعْنَاهُ أَدْخَلْتُهُ وَلُغَةُ الْقُرْآنِ سَلَكْتُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [الْمُدَّثِّرِ: 42] وَقَالَ: سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ [الشُّعَرَاءِ: 200] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَدْخُلُ السِّلْسِلَةُ مِنْ دُبُرِهِ وَتَخْرُجُ مِنْ حَلْقِهِ، ثُمَّ يُجْمَعُ بَيْنَ نَاصِيَتِهِ وَقَدَمَيْهِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَمَا يُسْلَكُ الْخَيْطُ فِي اللُّؤْلُؤِ ثُمَّ يُجْعَلُ في عنقه سائرها، وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَطْوِيلِ هَذِهِ السِّلْسِلَةِ؟ الْجَوَابُ: قَالَ سُوَيْدُ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ: بَلَغَنِي أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ النَّارِ فِي تِلْكَ السِّلْسِلَةِ، وَإِذَا كَانَ الْجَمْعُ مِنَ النَّاسِ مقيدين بالسلسلة الْوَاحِدَةِ كَانَ الْعَذَابُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِذَلِكَ السَّبَبِ أَشَدَّ. السُّؤَالُ الثَّانِي: سَلْكُ السِّلْسِلَةِ فِيهِمْ مَعْقُولٌ، أَمَّا سَلْكُهُمْ فِي السِّلْسِلَةِ فَمَا مَعْنَاهُ؟ الْجَوَابُ: سَلْكُهُ فِي السِّلْسِلَةِ أَنْ تُلْوَى عَلَى جَسَدِهِ حَتَّى تَلْتَفَّ عَلَيْهِ أَجْزَاؤُهَا وَهُوَ فِيمَا بَيْنَهَا مُزْهَقٌ مُضَيَّقٌ عَلَيْهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَرَكَةٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى ثُمَّ اسْلُكُوا فِيهِ السِّلْسِلَةَ كَمَا يُقَالُ: أَدْخَلْتُ رَأْسِي فِي الْقَلَنْسُوَةِ وَأَدْخَلْتُهَا فِي رَأْسِي، وَيُقَالُ: الْخَاتَمُ لَا يَدْخُلُ فِي إِصْبَعِي، وَالْإِصْبَعُ هُوَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْخَاتَمِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ فِي سِلْسِلَةٍ ... فَاسْلُكُوهُ وَلَمْ يَقُلْ: فَاسْلُكُوهُ فِي سِلْسِلَةٍ؟ الْجَوَابُ: الْمَعْنَى فِي تَقْدِيمِ السِّلْسِلَةِ عَلَى السَّلْكِ هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي تَقْدِيمِ الْجَحِيمِ عَلَى التَّصْلِيَةِ، أَيْ لَا تَسْلُكُوهُ إِلَّا فِي هَذِهِ السِّلْسِلَةِ لِأَنَّهَا أَفْظَعُ مِنْ سَائِرِ السَّلَاسِلِ السُّؤَالُ الرَّابِعُ: ذَكَرَ الْأَغْلَالَ وَالتَّصْلِيَةَ بِالْفَاءِ وَذَكَرَ السَّلْكَ فِي هَذِهِ السَّلِسَةِ بِلَفْظِ ثُمَّ، فَمَا الْفَرْقُ؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ كَلِمَةِ ثُمَّ تَرَاخِيَ المدة بل التفاوت في مراتب العذاب. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ هَذَا الْعَذَابَ الشديد ذكر سببه فقال: [سورة الحاقة (69) : الآيات 33 الى 34] إِنَّهُ كانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَالْأَوَّلُ إِشَارَةٌ إِلَى فَسَادِ حَالِ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ. وَالثَّانِي إِشَارَةٌ إِلَى فساد حال القوة العملية، وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَلَا يَحُضُّ عَلَى بَذْلِ طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَالثَّانِي: أَنَّ الطَّعَامَ هاهنا اسْمٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْإِطْعَامِ كَمَا وُضِعَ الْعَطَاءُ مَقَامَ الْإِعْطَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرتاعا

[سورة الحاقة (69) : آية 35]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ قَوْلُهُ: وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ فِيهِ دَلِيلَانِ قَوِيَّانِ عَلَى عِظَمِ الْجُرْمِ فِي حِرْمَانِ الْمَسَاكِينِ أَحَدُهُمَا: عَطَفَهُ عَلَى الْكُفْرِ وَجَعَلَهُ قَرِينَةً لَهُ وَالثَّانِي: ذَكَرَ الْحَضَّ دُونَ الْفِعْلِ لِيُعْلَمَ أَنَّ تَارِكَ الْحَضِّ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَتْرُكُ الْفِعْلَ!. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا: إِنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ كَانَ يَحُضُّ امْرَأَتَهُ عَلَى تَكْثِيرِ الْمَرَقِ لِأَجْلِ الْمَسَاكِينِ، وَيَقُولُ: خَلَعْنَا نِصْفَ السِّلْسِلَةِ بِالْإِيمَانِ أَفَلَا نَخْلَعُ النِّصْفَ الْبَاقِيَ! وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ مَنْعُ الْكُفَّارِ وَقَوْلُهُمْ: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس: 47] . ثُمَّ قَالَ: [سورة الحاقة (69) : آية 35] فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) أَيْ لَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ حَمِيمٌ أَيْ قَرِيبٌ يَدْفَعُ عَنْهُ وَيَحْزَنُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ يَتَحَامَوْنَ وَيَفِرُّونَ مِنْهُ كقوله: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [الْمَعَارِجِ: 10] وَكَقَوْلِهِ: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ [غافر: 18] . / قوله تعالى: [سورة الحاقة (69) : آية 36] وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُرْوَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنِ الْغِسْلِينِ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا الْغِسْلِينُ. وقال الكلبي: وهو مَاءٌ يَسِيلُ مِنَ أَهْلِ النَّارِ مِنَ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ وَالدَّمِ إِذَا عُذِّبُوا فَهُوَ غِسْلِينٍ فِعْلِينٌ مِنَ الْغَسْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الطَّعَامُ مَا هُيِّءَ لِلْأَكْلِ، فَلَمَّا هُيِّءَ الصَّدِيدُ لِيَأْكُلَهُ أَهْلُ النَّارِ كَانَ طَعَامًا لَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ أُقِيمَ لَهُمْ مَقَامَ الطَّعَامِ فَسُمِّيَ طَعَامًا، كَمَا قَالَ: تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ وَالتَّحِيَّةُ لَا تَكُونُ ضَرْبًا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا أُقِيمَ مَقَامَهُ جَازَ أَنْ يُسَمَّى بِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ الْغِسْلِينَ أَكْلُ مَنْ هو؟ فقال: [سورة الحاقة (69) : آية 37] لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37) الآثمون أصحاب الخطايا وخطىء الرَّجُلُ إِذَا تَعَمَّدَ الذَّنْبَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَقُرِئَ الْخَاطِيُونَ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً وَالْخَاطُونَ بِطَرْحِهَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ طَعَنَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَقَالَ مَا الْخَاطِيُونَ كُلُّنَا نَخْطُو إِنَّمَا هُوَ الْخَاطِئُونَ، مَا الصَّابُونَ، إِنَّمَا هُوَ الصَّابِئُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ الَّذِينَ يَتَخَطَّوْنَ الْحَقَّ إِلَى الْبَاطِلِ وَيَتَعَدَّوْنَ حُدُودَ اللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى إِمْكَانِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ عَلَى وُقُوعِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَحْوَالَ السُّعَدَاءِ وَأَحْوَالَ الْأَشْقِيَاءِ، خَتَمَ الْكَلَامَ بِتَعْظِيمِ الْقُرْآنِ فقال.

[سورة الحاقة (69) : الآيات 38 إلى 39]

[سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 39] فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لَا تُبْصِرُونَ (39) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ أَقْسِمُ وَ (لَا) صِلَةٌ، أَوْ يَكُونُ رَدُّ الْكَلَامِ سَبَقَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا هاهنا نَافِيَةٌ لِلْقَسَمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أُقْسِمُ، عَلَى أن هذا القرآن قول رَسُولٍ كَرِيمٍ يَعْنِي أَنَّهُ لِوُضُوحِهِ يَسْتَغْنِي عَنِ الْقَسَمِ، وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سَنَذْكُرُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: 1] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: بِما تُبْصِرُونَ وَما لَا تُبْصِرُونَ يوم جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ عَلَى الشُّمُولِ، لِأَنَّهَا لَا تَخْرُجُ مِنْ قِسْمَيْنِ: مُبْصِرٍ وَغَيْرِ مُبْصِرٍ، فَشَمَلَ الْخَالِقَ وَالْخَلْقَ، وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَالْأَجْسَامَ وَالْأَرْوَاحَ، وَالْإِنْسَ وَالْجِنَّ، والنعم الظاهرة والباطنة. ثم قال تعالى: [سورة الحاقة (69) : آية 40] إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي سُورَةِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التَّكْوِيرِ: 1] مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ، وَالْأَكْثَرُونَ هُنَاكَ عَلَى أَنَّ المراد منه جبريل عليه السلام، والأكثرون هاهنا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، واحتجوا/ على الفرق بأن هاهنا لَمَّا قَالَ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذَكَرَ بَعْدَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ، وَلَا كَاهِنٍ، وَالْقَوْمُ مَا كَانُوا يَصِفُونَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالشِّعْرِ وَالْكِهَانَةِ، بَلْ كَانُوا يَصِفُونَ مُحَمَّدًا بِهَذَيْنَ الْوَصْفَيْنِ. وَأَمَّا فِي سُورَةِ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ لَمَّا قَالَ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ [التَّكْوِيرِ: 25] كَانَ الْمَعْنَى: إِنَّهُ قَوْلُ مَلَكٍ كَرِيمٍ، لَا قَوْلُ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ، فَصَحَّ أَنَّ الْمُرَادَ من الرسول الكريم هاهنا هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي تِلْكَ السُّورَةِ هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعِنْدَ هَذَا يَتَوَجَّهُ السُّؤَالُ: أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ كَلَامًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِجِبْرِيلَ وَلِمُحَمَّدٍ، وَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ يَكْفِي فِي صِدْقِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَظْهَرَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَهُوَ الَّذِي رَتَّبَهُ وَنَظَّمَهُ، وَهُوَ كَلَامُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بمعنى أنه هو الذي أنزله من السموات إِلَى الْأَرْضِ، وَهُوَ كَلَامُ مُحَمَّدٍ، بِمَعْنَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَظْهَرَهُ لِلْخَلْقِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى الإيمان به، وجعله حجة لنبوته. ثم قال تعالى: [سورة الحاقة (69) : الآيات 41 الى 42] وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُؤْمِنُونَ وَتَذَكَّرُونَ بِالتَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ عَلَى الْخِطَابِ إِلَّا ابْنَ كَثِيرٍ، فَإِنَّهُ

[سورة الحاقة (69) : آية 43]

قَرَأَهُمَا بِالْيَاءِ عَلَى الْمُغَايَبَةِ، فَمَنْ قَرَأَ عَلَى الْخِطَابِ، فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ [الحاقة: 38، 39] وَمَنْ قَرَأَ عَلَى الْمُغَايَبَةِ سَلَكَ فِيهِ مَسْلَكَ الِالْتِفَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا: لَفْظَةُ مَا فِي قَوْلِهِ: قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ... قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ لَغْوٌ وَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ، وَفِي قَوْلِهِ: قَلِيلًا وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي بِالْقَلِيلِ أَنَّهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مِنَ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى لَا يُؤْمِنُونَ أَصْلًا، وَالْعَرَبُ يَقُولُونَ: قَلَّمَا يَأْتِينَا يُرِيدُونَ لَا يَأْتِينَا الثَّانِي: أَنَّهُمْ قَدْ يُؤْمِنُونَ فِي قُلُوبِهِمْ، إِلَّا أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْهُ سَرِيعًا وَلَا يُتِمُّونَ الِاسْتِدْلَالَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ إِلَّا أَنَّهُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ قَالَ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [الْمُدَّثِّرِ: 24] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ فِي نَفْيِ الشَّاعِرِيَّةِ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَفِي نَفْيِ الْكَاهِنِيَّةِ مَا تَذَكَّرُونَ وَالسَّبَبُ فِيهِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَيْسَ هَذَا الْقُرْآنُ قَوْلًا مِنْ رَجُلٍ شَاعِرٍ، لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ مُبَايِنٌ لِصُنُوفِ الشِّعْرِ كُلِّهَا إِلَّا أَنَّكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ، أَيْ لَا تَقْصِدُونَ الْإِيمَانَ، فَلِذَلِكَ تُعْرِضُونَ عَنِ التَّدَبُّرِ، وَلَوْ قَصَدْتُمُ الْإِيمَانَ لَعَلِمْتُمْ كَذِبَ قَوْلِكُمْ: إِنَّهُ شَاعِرٌ، لِمُفَارَقَةِ هَذَا التَّرْكِيبِ ضُرُوبَ الشِّعْرِ، ولا/ أيضا بقول كاهن، لأنه وارد بسبب الشَّيَاطِينِ وَشَتْمِهِمْ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِإِلْهَامِ الشَّيَاطِينِ، إِلَّا أَنَّكُمْ لَا تَتَذَكَّرُونَ كَيْفِيَّةَ نَظْمِ الْقُرْآنِ، وَاشْتِمَالَهُ عَلَى شَتْمِ الشَّيَاطِينِ، فَلِهَذَا السبب تقولون: إنه من باب الكهانة. [سورة الحاقة (69) : آية 43] تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) اعْلَمْ أَنَّ نَظِيرَ هذه الآية قوله في الشعراء: إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشُّعَرَاءِ: 192- 194] فَهُوَ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِأَنَّهُ تَنْزِيلُهُ، وَهُوَ قَوْلُ جِبْرِيلَ لِأَنَّهُ نَزَلَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ أَنْذَرَ الْخَلْقَ بِهِ، فَهَهُنَا أَيْضًا لَمَّا قَالَ فِيمَا تَقَدَّمَ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة: 40] أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ حَتَّى يَزُولَ الْإِشْكَالُ، وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ: تَنْزِيلًا، أَيْ نزل تنزيلا. ثم قال تعالى: [سورة الحاقة (69) : آية 44] وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) قُرِئَ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، التَّقَوُّلُ افْتِعَالُ الْقَوْلِ، لِأَنَّ فِيهِ تَكَلُّفًا مِنَ الْمُفْتَعِلِ، وَسَمَّى الْأَقْوَالَ الْمَنْقُولَةَ أَقَاوِيلَ تَحْقِيرًا لَهَا، كَقَوْلِكَ الْأَعَاجِيبُ وَالْأَضَاحِيكُ، كَأَنَّهَا جَمْعُ أُفْعُولَةٍ مِنَ الْقَوْلِ، وَالْمَعْنَى وَلَوْ نَسَبَ إِلَيْنَا قَوْلًا لَمْ نَقُلْهُ. ثُمَّ قَالَ تعالى: [سورة الحاقة (69) : الآيات 45 الى 46] لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ لَأَخَذْنَا بِيَدِهِ، ثُمَّ لَضَرَبْنَا رَقَبَتَهُ، وَهَذَا ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ بِمَا يَفْعَلُهُ الْمُلُوكُ بِمَنْ يَتَكَذَّبُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَا يُمْهِلُونَهُ، بَلْ يَضْرِبُونَ رَقَبَتَهُ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْيَمِينَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ الْقَتَّالَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوقِعَ الضَّرْبَ فِي قَفَاهُ أَخَذَ بِيَسَارِهِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوقِعَهُ فِي جِيدِهِ وَأَنْ يُلْحِقَهُ

[سورة الحاقة (69) : آية 47]

بِالسَّيْفِ، وَهُوَ أَشَدُّ عَلَى الْمَعْمُولِ بِهِ ذَلِكَ الْعَمَلُ لِنَظَرِهِ إِلَى السَّيْفِ أَخَذَ بِيَمِينِهِ، وَمَعْنَاهُ: لَأَخَذْنَا بِيَمِينِهِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ لَقَطَعْنَا وَتِينَهُ وَهَذَا تَفْسِيرٌ بَيِّنٌ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْيَمِينَ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالْمُبَرِّدِ وَالزَّجَّاجِ، وَأَنْشَدُوا قَوْلَ الشَّمَّاخِ: إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ وَالْمَعْنَى لَأَخَذَ مِنْهُ الْيَمِينَ، أَيْ سَلَبْنَا عَنْهُ الْقُوَّةَ، وَالْبَاءُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ صِلَةٌ زَائِدَةٌ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَإِنَّمَا قَامَ الْيَمِينُ مَقَامَ الْقُوَّةِ، لِأَنَّ قُوَّةَ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَيَامِنِهِ وَالْقَوْلُ الثالث: قال مقاتل: لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ يَعْنِي انْتَقَمْنَا مِنْهُ بِالْحَقِّ، وَالْيَمِينُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِمَعْنَى الْحَقِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ [الصَّافَّاتِ: 28] أَيْ مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ. اعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَوْ نَسَبَ إِلَيْنَا قَوْلًا لَمْ نَقُلْهُ لَمَنَعْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ إِمَّا بِوَاسِطَةِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ فَإِنَّا كُنَّا نُقَيِّضُ لَهُ مَنْ يُعَارِضُهُ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ لِلنَّاسِ كَذِبُهُ فِيهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إِبْطَالًا لِدَعْوَاهُ وَهَدْمًا لِكَلَامِهِ، وَإِمَّا بِأَنْ نَسْلُبَ عِنْدَهُ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِئَلَّا يَشْتَبِهَ الصَّادِقُ بِالْكَاذِبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَتِينُ هُوَ الْعِرْقُ الْمُتَّصِلُ مِنَ الْقَلْبِ بِالرَّأْسِ الَّذِي إِذَا قُطِعَ مَاتَ الْحَيَوَانُ قَالَ أَبُو زَيْدٍ: وَجَمْعُهُ الْوُتْنُ وَ [يُقَالُ] ثَلَاثَةُ أَوْتِنَةٌ وَالْمَوْتُونُ الَّذِي قُطِعَ وَتِينُهُ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَلَمْ يُرِدْ أَنَّا نَقْطَعُهُ بِعَيْنِهِ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَوْ كَذَبَ لَأَمْتَنَاهُ، فَكَانَ كَمَنْ قُطِعَ وَتِينُهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي فهذا أو ان انْقِطَاعِ أَبْهَرِي» وَالْأَبْهَرُ عِرْقٌ يَتَّصِلُ بِالْقَلْبِ، فَإِذَا انْقَطَعَ مَاتَ صَاحِبُهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا أَوْ أَنْ يَقْتُلَنِي السُّمُّ وَحِينَئِذٍ صِرْتُ كَمَنِ انْقَطَعَ أبهره. ثم قال: [سورة الحاقة (69) : آية 47] فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ مَعْنَاهُ لَيْسَ مِنْكُمْ أَحَدٌ يَحْجُزُنَا عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: إِنَّمَا قَالَ حَاجِزِينَ فِي صِفَةِ أَحَدٍ لِأَنَّ أَحَدًا هُنَا فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ اسْمٌ يَقَعُ فِي النَّفْيِ الْعَامِّ مُسْتَوِيًا فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَمِنْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الْبَقَرَةِ: 285] وَقَوْلُهُ: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الْأَحْزَابِ: 32] وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: فَما مِنْكُمْ لِلنَّاسِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ تَنْزِيلٌ مِنَ اللَّهِ الْحَقِّ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ عَلَى مُحَمَّدٍ الَّذِي مِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَاعِرٍ وَلَا كَاهِنٍ، بَيَّنَ بَعْدِ ذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَا هُوَ؟ فقال: [سورة الحاقة (69) : آية 48] وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ سورة البقرة [2] في قوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ما فيه من البحث. ثم قال: [سورة الحاقة (69) : آية 49] وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) لَهُ بِسَبَبِ حُبِّ الدُّنْيَا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَمَّا مَنِ اتَّقَى حُبَّ الدُّنْيَا فَهُوَ يَتَذَكَّرُ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَيَنْتَفِعُ. وَأَمَّا مَنْ مَالَ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا يَقْرَبُهُ.

[سورة الحاقة (69) : آية 50]

وَأَقُولُ: لِلْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَصَفَ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ تَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَلَمْ يَقُلْ: بِأَنَّهُ إِضْلَالٌ لِلْمُكَذِّبِينَ، بَلْ ذَلِكَ الضَّلَالُ نَسَبَهُ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ [النَّحْلِ: 9] وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ. ثم قال تعالى: [سورة الحاقة (69) : آية 50] وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِنَّ الْقُرْآنَ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ. إِمَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ إِذَا رَأَوْا ثَوَابَ الْمُصَدِّقِينَ بِهِ، أَوْ فِي دَارِ الدُّنْيَا إِذَا رَأَوْا دَوْلَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَالثَّانِي: قَالَ مُقَاتِلٌ: وَإِنَّ تَكْذِيبَهُمْ بِالْقُرْآنِ لَحَسْرَةٌ عَلَيْهِمْ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ [الحاقة: 49] . ثم قال تعالى: [سورة الحاقة (69) : آية 51] وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) مَعْنَاهُ أَنَّهُ حَقٌّ يَقِينٌ، أَيْ حَقٌّ لَا بُطْلَانَ فِيهِ، وَيَقِينٌ لَا رَيْبَ فِيهِ، ثُمَّ أُضِيفَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ إِلَى الآخر للتأكيد. ثم قال: [سورة الحاقة (69) : آية 52] فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) إِمَّا شُكْرًا عَلَى مَا جَعَلَكَ أَهْلًا لِإِيحَائِهِ إِلَيْكَ، وَإِمَّا تَنْزِيهًا لَهُ عَنِ الرِّضَا بِأَنْ يَنْسِبَ إِلَيْهِ الْكَاذِبُ مِنَ الْوَحْيِ مَا هُوَ بَرِيءٌ عَنْهُ. وَأَمَّا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ فَمَذْكُورٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: 1] وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجمعين.

سورة المعارج

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة المعارج أربعون وأربع آيات [سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: سَأَلَ فِيهِ قِرَاءَتَانِ مِنْهُمْ مَنْ قَرَأَهُ بِالْهَمْزَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَهُ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ، أَمَّا الْأَوَّلُونَ وَهُمُ الْجُمْهُورُ فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَحْتَمِلُ وُجُوهًا مِنَ التَّفْسِيرِ: الأول: أن النضر بن الحرث لَمَّا قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَالِ: 32] فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: سَأَلَ سائِلٌ أَيْ دَعَا دَاعٍ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ مِنْ قَوْلِكَ دَعَا بِكَذَا إِذَا اسْتَدْعَاهُ وَطَلَبَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ [الدخان: 55] قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَقْدِيرُ الْبَاءِ الْإِسْقَاطُ، وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: سَأَلَ سَائِلٌ عَذَابًا وَاقِعًا، فَأَكَّدَ بِالْبَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مَرَيْمَ: 25] وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ لَمَّا كان سَأَلَ معناه هاهنا دَعَا لَا جَرَمَ عُدِّيَ تَعْدِيَتُهُ كَأَنَّهُ قَالَ دَعَا دَاعٍ بِعَذَابٍ مِنَ اللَّهِ الثَّانِي: قَالَ الحسن وقتادة لما بعث الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَوَّفَ الْمُشْرِكِينَ بِالْعَذَابِ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سَلُوا مُحَمَّدًا لِمَنْ هَذَا الْعَذَابُ وَبِمَنْ يَقَعُ فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَالتَّأْوِيلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: سَأَلَ سَائِلٌ عَنْ عَذَابٍ وَالْبَاءُ بِمَعْنَى عَنْ، كَقَوْلِهِ: فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي ... بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ وقال تعالى: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً [الْفُرْقَانِ: 59] وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : سَأَلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي تَقْدِيرِ عَنَى وَاهْتَمَّ كَأَنَّهُ قِيلَ: اهْتَمَّ مُهْتَمٌّ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا السَّائِلُ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ اسْتَعْجَلَ بِعَذَابِ الْكَافِرِينَ، فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ وَاقِعٌ بِهِمْ، فَلَا دَافِعَ لَهُ قَالُوا: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا [الْمَعَارِجِ: 5] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السَّائِلَ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ الْجَمِيلِ، أَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ (سَالَ) بِغَيْرِ هَمْزٍ فَلَهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ سَأَلَ بِالْهَمْزَةِ فَخَفَّفَ وَقَلَبَ قال: / سألت قريش رَسُولَ اللَّهِ فَاحِشَةً ... ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بِمَا سَأَلَتْ وَلَمْ تُصِبِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ السَّيَلَانِ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ سَالَ سَيْلٌ وَالسَّيْلُ مَصْدَرٌ فِي مَعْنَى

[سورة المعارج (70) : آية 4]

السائل، كالغور بمعنى الغائر، والمعنى اندفع عليهم وَادٍ بِعَذَابٍ، وَهَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ قَالَا: سَالَ وَادٍ مِنَ أَوْدِيَةِ جَهَنَّمَ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ. أَمَّا سائِلٌ، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ غَيْرُ الْهَمْزِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ سَأَلَ الْمَهْمُوزِ فَهُوَ بِالْهَمْزِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَهْمُوزِ كَانَ بِالْهَمْزِ أَيْضًا نَحْوَ قَائِلٍ وَخَائِفٍ إِلَّا أَنَّكَ إِنْ شِئْتَ خَفَّفْتَ الْهَمْزَةَ فَجَعَلْتَهَا بَيْنَ بَيْنَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ فِيهِ وَجْهَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنْ فَسَّرْنَا قَوْلَهُ: سَأَلَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ أَنَّ النَّضْرَ طَلَبَ الْعَذَابَ، كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ طَلَبَ طَالِبٌ عَذَابًا هُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ سَوَاءٌ طَلَبَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ نَازِلٌ لِلْكَافِرِينَ فِي الْآخِرَةِ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ أَحَدٌ، وَقَدْ وَقَعَ بِالنَّضْرِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَيْسَ لَهُ دافِعٌ وَأَمَّا إِذَا فَسَّرْنَاهُ بِالْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ بِمَنْ يَنْزِلُ فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِأَنَّهُ وَاقِعٌ لِلْكَافِرِينَ، وَالْقَوْلُ الأول وهو السَّدِيدُ، وَقَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ مِنَ اللَّهِ لِلْكَافِرِينَ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ، أَيْ لَيْسَ لِذَلِكَ الْعَذَابِ الصَّادِرِ مِنَ اللَّهِ دَافِعٌ مِنْ جِهَتِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَوْجَبَتِ الْحِكْمَةُ وُقُوعَهُ امْتَنَعَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ اللَّهُ وَقَوْلُهُ: ذِي الْمَعارِجِ الْمَعَارِجُ جَمْعُ مِعْرَجٍ وَهُوَ الْمَصْعَدُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ [الزُّخْرُفِ: 33] وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الكلبي: ذِي الْمَعارِجِ، أي ذي السموات، وَسَمَّاهَا مَعَارِجَ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَعْرُجُونَ فِيهَا وَثَانِيهَا: قَالَ قَتَادَةُ: ذِي الْفَوَاضِلِ وَالنِّعَمِ وَذَلِكَ لِأَنَّ لِأَيَادِيهِ وَوُجُوهِ إِنْعَامِهِ مَرَاتِبَ، وَهِيَ تَصِلُ إِلَى النَّاسِ عَلَى مَرَاتِبَ مُخْتَلِفَةٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَعَارِجَ هِيَ الدَّرَجَاتُ الَّتِي يُعْطِيهَا أَوْلِيَاءَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ السموات كَمَا أَنَّهَا مُتَفَاوِتَةٌ فِي الِارْتِفَاعِ وَالِانْخِفَاضِ وَالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ، فَكَذَا الْأَرْوَاحُ الْمَلَكِيَّةُ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَالْكَمَالِ وَالنَّقْصِ وَكَثْرَةِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَقُوَّتِهَا وَشِدَّةِ الْقُوَّةِ عَلَى تَدْبِيرِ هَذَا الْعَالَمِ وَضَعْفِ تِلْكَ الْقُوَّةِ، وَلَعَلَّ نُورَ إِنْعَامِ اللَّهِ وَأَثَرَ فَيْضِ رَحْمَتِهِ لَا يَصِلُ إِلَى هَذَا الْعَالَمِ إلا بِوَاسِطَةِ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ أَوْ لَا كَذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ: فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً [الذَّارِيَاتِ: 4] ، فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [النَّازِعَاتِ: 5] فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ الْإِشَارَةُ إِلَى تِلْكَ الْأَرْوَاحِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي هِيَ كَالْمَصَاعِدِ لِارْتِفَاعِ مَرَاتِبِ الْحَاجَاتِ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَيْهَا وَكَالْمَنَازِلِ لِنُزُولِ أثر الرحمة من ذلك العالم إلى ما هاهنا. [سورة المعارج (70) : آية 4] تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ عَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ مَتَى ذَكَرَ الْمَلَائِكَةَ فِي مَعْرِضِ التَّهْوِيلِ وَالتَّخْوِيفِ أَفْرَدَ الرُّوحَ بَعْدَهُمْ بِالذِّكْرِ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا [النَّبَأِ: 38] وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الرُّوحَ أَعْظَمُ [مِنَ] الْمَلَائِكَةِ قدرا، ثم هاهنا دَقِيقَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عِنْدَ الْعُرُوجِ الْمَلَائِكَةَ أَوَّلًا وَالرُّوحَ ثَانِيًا، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَكَرَ عِنْدَ الْقِيَامِ الرُّوحَ أَوَّلًا وَالْمَلَائِكَةَ ثَانِيًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ الرُّوحِ أَوَّلًا فِي دَرَجَةِ النُّزُولِ وَآخِرًا فِي دَرَجَةِ الصُّعُودِ، وَعِنْدَ هَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُكَاشِفِينَ: إِنَّ الرُّوحَ نُورٌ عَظِيمٌ هُوَ أَقْرَبُ الْأَنْوَارِ إِلَى جَلَالِ اللَّهِ، وَمِنْهُ تَتَشَعَّبُ أَرْوَاحُ سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ فِي آخِرِ دَرَجَاتِ مَنَازِلِ الْأَرْوَاحِ، وَبَيْنَ الطَّرَفَيْنِ مَعَارِجُ مَرَاتِبِ الْأَرْوَاحِ الْمَلَكِيَّةِ وَمَدَارِجُ مَنَازِلِ الْأَنْوَارِ الْقُدْسِيَّةِ، وَلَا يَعْلَمُ كَمِّيَّتَهَا إِلَّا اللَّهُ، وَأَمَّا ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَهُوَ أَنَّ الرُّوحَ هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ قَرَّرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ في

تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا [النَّبَأِ: 38] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ اللَّهَ فِي مَكَانٍ، إِمَّا فِي الْعَرْشِ أَوْ فَوْقَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ ذُو الْمَعَارِجِ وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي جِهَةِ فَوْقٍ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فَبَيَّنَ أَنَّ عُرُوجَ الْمَلَائِكَةِ وَصُعُودَهُمْ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَعَالَى فِي جِهَةِ فَوْقٍ وَالْجَوَابُ: لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى امْتِنَاعِ كَوْنِهِ فِي الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ، فَأَمَّا وَصْفُ اللَّهِ بِأَنَّهُ ذُو الْمَعَارِجِ فَقَدْ ذَكَرْنَا الْوُجُوهَ فِيهِ، وَأَمَّا حَرْفُ (إِلَى) فِي قَوْلِهِ: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَكَانَ بَلِ الْمُرَادُ انْتِهَاءُ الْأُمُورِ إِلَى مُرَادِهِ كَقَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [هُودٍ: 123] الْمُرَادُ الِانْتِهَاءُ إِلَى مَوْضِعِ الْعِزِّ وَالْكَرَامَةِ كَقَوْلِهِ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصَّافَّاتِ: 99] وَيَكُونُ هَذَا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ دَارَ الثَّوَابِ أَعْلَى الْأَمْكِنَةِ وَأَرْفَعُهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: فِي يَوْمٍ مِنْ صِلَةِ قوله تَعْرُجُ، أَيْ يَحْصُلُ الْعُرُوجُ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بَلْ هَذَا مِنْ صِلَةِ قوله: بِعَذابٍ واقِعٍ [المعارج: 1] وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَالتَّقْدِيرُ: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ، فَذَلِكَ الْيَوْمُ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِي الدُّنْيَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ، فَذَلِكَ الطُّولُ إِمَّا أن يكون واقعا، وإما أن يكون مقدارا فَهَذِهِ هِيَ الْوُجُوهُ الَّتِي تَحْمِلُهَا هَذِهِ الْآيَةُ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ تَفْصِيلَهَا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ الْعُرُوجَ يَقَعُ فِي يَوْمٍ مِنَ أَيَّامِ الْآخِرَةِ طُولُهُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ: قَالَ وَلَيْسَ يَعْنِي أَنَّ مِقْدَارَ طُولِهِ هَذَا فَقَطْ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَحَصَلَتْ لَهُ غَايَةٌ وَلَفَنِيَتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ عِنْدَ تِلْكَ الْغَايَةِ وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ مَوْقِفَهُمْ لِلْحِسَابِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ مِنْ سِنِيِّ الدُّنْيَا. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَسْتَقِرُّ أَهْلُ النَّارِ فِي دَرَكَاتِ النِّيرَانِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الطُّولَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، أَمَّا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ فَلَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْخَبَرُ، أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الْفُرْقَانِ: 24] وَاتَّفَقُوا عَلَى [أَنَّ] ذَلِكَ [الْمَقِيلَ وَالْمُسْتَقَرَّ] هُوَ/ الْجَنَّةُ وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قال: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا طُولُ هَذَا الْيَوْمِ؟ فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَنِ الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ عَلَيْهِ أَخَفَّ مِنْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا» وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ الْمَوْقِفَ وَإِنْ طَالَ فَهُوَ يَكُونُ سَبَبًا لِمَزِيدِ السُّرُورِ وَالرَّاحَةِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِمَزِيدِ الْحُزْنِ وَالْغَمِّ لِأَهْلِ النَّارِ الْجَوَابُ: عَنْهُ أَنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ فَلَا بُدَّ مِنَ أَنْ يُعَجَّلَ لِلْمُثَابِينَ ثَوَابُهُمْ، وَدَارُ الثَّوَابِ هِيَ الْجَنَّةُ لَا الْمَوْقِفُ، فَإِذَنْ لَا بُدَّ مِنْ تَخْصِيصِ طُولِ الْمَوْقِفِ بِالْكُفَّارِ الْقَوْلُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ وَاقِعَةٌ فِي الْآخِرَةِ، لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّحَقُّقِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَغَلَ بِذَلِكَ الْقَضَاءِ وَالْحُكُومَةِ أَعْقَلُ الْخَلْقِ وَأَذْكَاهُمْ لَبَقِيَ فِيهِ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُتَمِّمُ ذَلِكَ الْقَضَاءَ وَالْحُكُومَةَ فِي مِقْدَارِ نِصْفِ يَوْمٍ مِنَ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَأَيْضًا الْمَلَائِكَةُ يَعْرُجُونَ إِلَى مَوَاضِعَ لَوْ أَرَادَ وَاحِدٌ مِنَ أَهْلِ الدُّنْيَا أَنْ يَصْعَدَ إِلَيْهَا لَبَقِيَ فِي ذَلِكَ الصُّعُودِ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ إِنَّهُمْ يَصْعَدُونَ إِلَيْهَا فِي سَاعَةٍ قَلِيلَةٍ، وَهَذَا قَوْلُ وَهْبٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ: إِنَّ هَذَا الْيَوْمَ هُوَ يَوْمُ الدُّنْيَا كُلِّهَا مِنَ أَوَّلِ مَا خَلَقَ اللَّهُ إِلَى آخِرِ الْفَنَاءِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي يَوْمِ الدُّنْيَا مِنْ عُرُوجِ الْمَلَائِكَةِ وَنُزُولِهِمْ، وَهَذَا الْيَوْمُ مُقَدَّرٌ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَصِيرَ وَقْتُ الْقِيَامَةِ مَعْلُومًا، لِأَنَّا

[سورة المعارج (70) : آية 5]

لَا نَدْرِي كَمْ مَضَى وَكَمْ بَقِيَ الْقَوْلُ الرَّابِعُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ مِنَ اللَّهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ اسْتِطَالَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِشِدَّتِهِ عَلَى الْكُفَّارِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَقْدِيرَ مُدَّتِهِ، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ الْمُرَادُ تَقْدِيرَ الْعَذَابِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ، بَلِ الْمُرَادُ التَّنْبِيهُ عَلَى طُولِ مُدَّةِ الْعَذَابِ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي سَأَلَهُ ذَلِكَ السَّائِلُ يَكُونُ مُقَدَّرًا بِهَذِهِ الْمُدَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَنْقُلُهُ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْعَذَابِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: رَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَعَنْ قَوْلِهِ: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ [السَّجْدَةِ: 5] فَقَالَ: أَيَّامٌ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى هُوَ أَعْلَمُ بِهَا كَيْفَ تَكُونُ، وَأَكْرَهُ أن أقول فيها مالا أَعْلَمُ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا قَوْلُكُمْ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ؟ قُلْنَا: قَالَ وَهْبٌ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا مَا بَيْنَ أَسْفَلِ الْعَالَمِ إِلَى أَعْلَى شُرُفَاتِ الْعَرْشِ مَسِيرَةُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَمِنَ أَعْلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى الْأَرْضِ مَسِيرَةُ أَلْفِ سَنَةٍ، لِأَنَّ عَرْضَ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ، وَمَا بَيْنَ أَسْفَلِ السَّمَاءِ إِلَى قَرَارِ الْأَرْضِ خَمْسُمِائَةٌ أُخْرَى، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي يَوْمٍ يُرِيدُ مِنَ أَيَّامِ الدُّنْيَا وَهُوَ مِقْدَارُ أَلْفِ سَنَةٍ لَوْ صَعَدُوا فِيهِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَمِقْدَارُ أَلْفِ سَنَةٍ لَوْ صَعَدُوا إلى أعالي العرش. [سورة المعارج (70) : آية 5] فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعلم أن هذا متعلق بسأل سَائِلٌ، لِأَنَّ اسْتِعْجَالَ النَّضْرِ بِالْعَذَابِ إِنَّمَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهْزَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْوَحْيِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُضْجِرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ فَأُمِرَ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَسْأَلُ عَنِ الْعَذَابِ لِمَنْ هُوَ فَإِنَّمَا يَسْأَلُ عَلَى طَرِيقِ التَّعَنُّتِ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ، وَمَنْ قَرَأَ: سَأَلَ سائِلٌ فَمَعْنَاهُ جَاءَ الْعَذَابُ لِقُرْبِ وُقُوعِهِ فَاصْبِرْ فَقَدْ جَاءَ وَقْتُ الِانْتِقَامِ. المسألة الثانية: [في نزول الآية قبل أن يؤمر الرسول بالقتال.] قَالَ الْكَلْبِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ أَنْ يؤمر الرسول بالقتال. [سورة المعارج (70) : الآيات 6 الى 7] إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) الضَّمِيرُ فِي يَرَوْنَهُ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْعَذَابِ الْوَاقِعِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى: يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [الْمَعَارِجِ: 4] أَيْ يَسْتَبْعِدُونَهُ عَلَى جِهَةِ الْإِحَالَةِ وَنحن نَراهُ قَرِيباً هَيِّنًا فِي قُدْرَتِنَا غَيْرَ بَعِيدٍ عَلَيْنَا وَلَا مُتَعَذِّرٍ. فَالْمُرَادُ بِالْبَعِيدِ الْبَعِيدُ مِنَ الْإِمْكَانِ، وبالقريب القريب منه. [سورة المعارج (70) : الآيات 8 الى 10] يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَوْمَ تَكُونُ مَنْصُوبٌ بِمَاذَا؟ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: بِقَرِيبًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَنَرَاهُ قَرِيبًا، يَوْمَ

[سورة المعارج (70) : الآيات 11 إلى 12]

تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ، أَيْ يُمْكِنُ وَلَا يَتَعَذَّرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَثَانِيهَا: التَّقْدِيرُ: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَالثَّالِثُ: التَّقْدِيرُ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ كَانَ كَذَا وكذاو الرابع: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ يَوْمَ. وَالتَّقْدِيرُ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ ذَكَرَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ صِفَاتٍ: الصِّفَةُ الْأُولَى: أَنَّ السَّمَاءَ تَكُونُ فِيهِ كَالْمُهْلِ وَذَكَرْنَا تَفْسِيرَ الْمُهْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ: بِماءٍ كَالْمُهْلِ [الكهف: 29] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَدُرْدِيِّ الزَّيْتِ، وَرَوَى عَنْهُ عَطَاءٌ: كَعَكَرِ الْقَطْرَانِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: مِثْلُ الْفِضَّةِ إِذَا أُذِيبَتْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ الْجِبَالُ فِيهِ كَالْعِهْنِ، وَمَعْنَى الْعِهْنِ فِي اللُّغَةِ: الصُّوفُ الْمَصْبُوغُ أَلْوَانًا، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ بِهِ، لِأَنَّ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٍ فَإِذَا بُسَّتْ وَطُيِّرَتْ فِي الْجَوِّ أَشْبَهَتِ الْعِهْنَ الْمَنْفُوشَ إِذَا طيرته الريح. الصفة الثالثة: قوله: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْحَمِيمُ الْقَرِيبُ الَّذِي يَعْصِبُ لَهُ، وَعَدَمُ السُّؤَالِ إِنَّمَا كَانَ لِاشْتِغَالِ كُلِّ أَحَدٍ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [الْحَجِّ: 2] وَقَوْلُهُ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ إِلَى قَوْلِهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عَبَسَ: 37] ثُمَّ فِي الْآيَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ/ التَّقْدِيرُ: لَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ عَنْ حَمِيمِهِ فَحُذِفَ الْجَارُّ وَأُوصِلَ الْفِعْلُ الثَّانِي: لَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمَهُ كَيْفَ حَالُكَ وَلَا يُكَلِّمُهُ، لِأَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مَا يَشْغَلُهُ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ الثَّالِثُ: لَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا شَفَاعَةً، وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا إِحْسَانًا إِلَيْهِ وَلَا رِفْقًا بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: ولا يسئل بضم الياء، والمعنى لا يسأل حميم عَنْ حَمِيمِهِ لِيُتَعَرَّفَ شَأْنُهُ مِنْ جِهَتِهِ، كَمَا يُتَعَرَّفُ خَبَرُ الصَّدِيقِ مِنْ جِهَةِ صَدِيقِهِ، وَهَذَا أَيْضًا عَلَى حَذْفِ الْجَارِّ قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ لَا يُقَالُ لِحَمِيمٍ أَيْنَ حَمِيمُكَ وَلَسْتُ أُحِبُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ القراء. [سورة المعارج (70) : الآيات 11 الى 12] يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) قَوْلُهُ تَعَالَى: يُبَصَّرُونَهُمْ يُقَالُ: بَصُرْتُ بِهِ أُبْصِرُ، قَالَ تَعَالَى: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ [طه: 96] ويقال: بصرت زيد بِكَذَا فَإِذَا حَذَفْتَ الْجَارَّ قُلْتَ: بَصَّرَنِي زَيْدٌ كَذَا فَإِذَا أَثْبَتَ الْفِعْلَ لِلْمَفْعُولِ بِهِ وَقَدْ حَذَفْتَ الْجَارَّ قُلْتَ: بَصِّرْنِي زَيْدًا، فَهَذَا هُوَ مَعْنَى يُبَصَّرُونَهُمْ، وَإِنَّمَا جُمِعَ فَقِيلَ: يُبَصَّرُونَهُمْ لِأَنَّ الْحَمِيمَ وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا فِي اللَّفْظِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ وَالْجَمِيعُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ [الشُّعَرَاءِ: 100] وَمَعْنَى يُبَصَّرُونَهُمْ يُعَرَّفُونَهُمْ، أَيْ يُعَرَّفُ الْحَمِيمُ الْحَمِيمَ حَتَّى يَعْرِفَهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَسْأَلُهُ عَنْ شَأْنِهِ لِشُغْلِهِ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا مَوْضِعُ يُبَصَّرُونَهُمْ؟ قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قبله كأنه لما قال: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [المعارج: 10] قِيلَ: لَعَلَّهُ لَا يُبْصِرُهُ فَقِيلَ يُبَصَّرُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لِاشْتِغَالِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ تَسَاؤُلِهِمْ الثَّانِي: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُجْرِمِينَ يُبْصَّرُونَ الْمُؤْمِنِينَ حَالَ مَا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ أَنْ يفدي نفسه لكل ما

[سورة المعارج (70) : الآيات 13 إلى 14]

يملكه، فإن الإنسان إذا كان في البلاد الشَّدِيدِ ثُمَّ رَآهُ عَدُوُّهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ كَانَ ذَلِكَ فِي نِهَايَةِ الشِّدَّةِ عَلَيْهِ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُجْرِمُ هُوَ الْكَافِرُ، وَقِيلَ: يَتَنَاوَلُ كُلَّ مُذْنِبٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ يَوْمِئِذٍ بِالْجَرِّ وَالْفَتْحِ عَلَى الْبِنَاءِ لِسَبَبِ الْإِضَافَةِ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ، وَقُرِئَ أَيْضًا: مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِتَنْوِينِ عَذَابٍ وَنَصْبِ يَوْمَئِذٍ وَانْتِصَابُهُ بِعَذَابٍ لِأَنَّهُ فِي معنى تعذيب. [سورة المعارج (70) : الآيات 13 الى 14] وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) وقوله تعالى: وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَصِيلَةُ الرَّجُلِ، أَقَارِبُهُ الْأَقْرَبُونَ الَّذِينَ فُصِلَ عَنْهُمْ وَيَنْتَهِي إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْفَصِيلَةِ الْمَفْصُولَةُ، لِأَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ مُنْفَصِلًا مِنَ الْأَبَوَيْنِ. قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي» فَلَمَّا كَانَ هُوَ مَفْصُولًا مِنْهُمَا، كَانَا أَيْضًا مَفْصُولَيْنِ/ مِنْهُ، فَسُمِّيَا فَصِيلَةً لِهَذَا السَّبَبِ، وَكَانَ يُقَالُ لِلْعَبَّاسِ: فَصِيلَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ الْعَمَّ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: تُؤْوِيهِ فَالْمَعْنَى تَضُمُّهُ انْتِمَاءً إِلَيْهَا فِي النَّسَبِ أَوْ تمسكا بها في النوائب. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُنْجِيهِ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ معطوف على يَفْتَدِي [المعارج: 11] وَالْمَعْنَى: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ ثُمَّ يُنْجِيهِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالتَّقْدِيرُ: يَوَدُّ لَوْ يَفْتَدِي بِمَنْ في الأرض ثم ينجيه، وثُمَّ لِاسْتِبْعَادِ الْإِنْجَاءِ، يَعْنِي يَتَمَنَّى لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا تَحْتَ يَدِهِ وَبَذَلُهُمْ فِي فِدَاءِ نَفْسِهِ، ثم ينجيه ذلك، وهيهات أن ينجيه. [سورة المعارج (70) : الآيات 15 الى 16] كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) كَلَّا رَدْعٌ لِلْمُجْرِمِ عَنْ كَوْنِهِ بِحَيْثُ يَوَدُّ الِافْتِدَاءَ بِبَنِيهِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ الِافْتِدَاءُ، وَلَا يُنْجِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّها وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الضَّمِيرَ لِلنَّارِ، وَلَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ إِلَّا أَنَّ ذِكْرَ الْعَذَابِ دَلَّ عَلَيْهَا وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ الْقِصَّةِ، وَلَظَى مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ. قَالَ اللَّيْثُ: اللَّظَى، اللَّهَبُ الْخَالِصُ، يُقَالُ: لَظَّتِ النَّارُ تَلَظَّى لَظًى، وَتَلَظَّتْ تَلَظِّيًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: نَارًا تَلَظَّى [اللَّيْلِ: 14] وَلَظَى عَلَمٌ لِلنَّارِ مَنْقُولٌ مِنَ اللَّظَى، وَهُوَ مَعْرِفَةٌ لَا يَنْصَرِفُ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُنَوَّنْ، وَقَوْلُهُ: نَزَّاعَةً مَرْفُوعَةٌ، وَفِي سَبَبِ هَذَا الِارْتِفَاعِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنْ تَجْعَلَ الْهَاءَ فِي أَنَّهَا عِمَادٌ، أَوْ تَجْعَلَ لَظَى اسْمَ إِنَّ، وَنَزَّاعَةً خَبَرَ إِنَّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ لَظَى نَزَّاعَةٌ وَالثَّانِي: أَنْ تَجْعَلَ الْهَاءَ ضَمِيرَ الْقِصَّةِ، وَلَظَى مُبْتَدَأً، وَنَزَّاعَةً خَبَرًا، وَتَجْعَلَ الْجُمْلَةَ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ الْقِصَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الْقِصَّةَ لَظَى نَزَّاعَةٌ لِلشَّوَى وَالثَّالِثُ: أَنْ تَرْتَفِعَ عَلَى الذَّمِّ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّهَا لَظَى وَهِيَ نَزَّاعَةٌ لِلشَّوَى، وَهَذَا قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَالْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ النَّصْبِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهَا حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ، كَمَا قَالَ: هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً [فَاطِرٍ: 31] وَكَمَا يَقُولُ: أَنَا زَيْدٌ مَعْرُوفًا، اعْتَرَضَ أَبُو عَلِيِّ الْفَارِسِيُّ عَلَى هَذَا وَقَالَ: حَمْلُهُ عَلَى الْحَالِ بِعِيدٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَعْمَلُ فِي الْحَالِ، فَإِنْ قُلْتَ فِي قَوْلِهِ: لَظى مَعْنَى التَّلَظِّي وَالتَّلَهُّبِ، فَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ، لِأَنَّ لَظَى اسْمُ عَلَمٍ لِمَاهِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَالْمَاهِيَّةُ لَا يُمْكِنُ تَقْيِيدُهَا بِالْأَحْوَالِ، إِنَّمَا الَّذِي يُمْكِنُ تَقْيِيدُهُ بِالْأَحْوَالِ هُوَ

[سورة المعارج (70) : الآيات 17 إلى 18]

الْأَفْعَالُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: رَجُلًا حَالَ كَوْنِهِ عَالِمًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا حَالَ كَوْنِهِ عَالِمًا وَثَانِيهَا: أَنْ تَكُونَ لَظَى اسْمًا لِنَارٍ تَتَلَظَّى تَلَظِّيًا شَدِيدًا، فَيَكُونُ هَذَا الْفِعْلُ نَاصِبًا، لِقَوْلِهِ: نَزَّاعَةً وَثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّهَا لَظَى أَعْنِيهَا نزاعة للشوى، ولم تمنع. المسألة الثالثة: الشوى الْأَطْرَافُ، وَهِيَ الْيَدَانِ وَالرِّجْلَانِ، وَيُقَالُ لِلرَّامِي: إِذَا لَمْ يُصِبِ الْمَقْتَلَ أَشْوَى، أَيْ أَصَابَ الشَّوَى، وَالشَّوَى أَيْضًا جِلْدُ الرَّأْسِ، وَاحِدَتُهَا شَوَاةٌ وَمِنْهُ قول الأعشى: قالت قتيلة ماله ... قَدْ جُلِّلَتْ شَيْبًا شَوَاتُهُ هَذَا قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: تَنْزِعُ النَّارُ الْهَامَةَ وَالْأَطْرَافَ فَلَا تَتْرُكُ لَحْمًا وَلَا جِلْدًا إِلَّا أَحْرَقَتْهُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْعَصَبُ وَالْعَقِبُ وَلَحْمُ السَّاقَيْنِ وَالْيَدَيْنِ، وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: لِمَكَارِمِ وَجْهِ بَنِي آدَمَ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّارَ إِذَا أَفْنَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ، فَاللَّهُ تَعَالَى يُعِيدُهَا مَرَّةً أُخْرَى، كَمَا قَالَ: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [النساء: 56] . [سورة المعارج (70) : الآيات 17 الى 18] تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ لَظَى كَيْفَ تَدْعُو الْكَافِرَ، فَذَكَرُوا وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَدْعُوهُمْ بِلِسَانِ الْحَالِ كَمَا قِيلَ: سَلِ الْأَرْضَ من أشق أَنْهَارَكِ، وَغَرَسَ أَشْجَارَكِ؟ فَإِنْ لَمْ تُجِبْكَ جُؤَارًا، أَجَابَتْكَ اعْتِبَارًا فَهَهُنَا لَمَّا كَانَ مَرْجِعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَى زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا جَهَنَّمَ، كَأَنَّ تِلْكَ الْمَوَاضِعَ تَدْعُوهُمْ وَتُحْضِرُهُمْ وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ الْكَلَامَ فِي جِرْمِ النَّارِ حَتَّى تَقُولَ صَرِيحًا: إِلَيَّ يَا كَافِرُ، إِلَيَّ يَا مُنَافِقُ، ثُمَّ تَلْتَقِطُهُمُ الْتِقَاطَ الْحَبِّ وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ أَنَّ زَبَانِيَةَ النَّارِ يَدْعُونَ فَأُضِيفَ ذَلِكَ الدُّعَاءُ إِلَى النَّارِ بِحَذْفِ الْمُضَافِ وَرَابِعُهَا: تَدْعُو تُهْلِكُ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ دَعَاكَ اللَّهُ أَيْ أَهْلَكَكَ، وَقَوْلُهُ: مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى يَعْنِي مَنْ أَدْبَرَ عَنِ الطَّاعَةِ وَتَوَلَّى عَنِ الْإِيمَانِ وَجَمَعَ الْمَالَ فَأَوْعى أَيْ جَعَلَهُ فِي وِعَاءٍ وَكَنَزَهُ، وَلَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ وَالْحُقُوقَ الْوَاجِبَةَ فِيهَا فَقَوْلُهُ: أَدْبَرَ وَتَوَلَّى إِشَارَةٌ إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَقَوْلُهُ: وَجَمَعَ فَأَوْعى إِشَارَةٌ إِلَى حُبِّ الدُّنْيَا، فَجَمَعَ إِشَارَةٌ إِلَى الْحِرْصِ، وَأَوْعَى إِشَارَةٌ إِلَى الْأَمَلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مجامع آفات الدين ليست إلا هذه. [سورة المعارج (70) : آية 19] إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الأولى: قال بعضهم: المراد بالإنسان هاهنا الْكَافِرُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ عَلَى عُمُومِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْهُ إِلَّا الْمُصَلِّينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُقَالُ: هَلَعُ الرَّجُلُ يَهْلَعُ هَلَعًا وَهَلَاعًا فَهُوَ هَالِعٌ وَهَلُوعٌ، وَهُوَ شِدَّةُ الْحِرْصِ وَقِلَّةُ الصَّبْرِ، يُقَالُ: جَاعَ فَهَلَعَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْهَلُوعُ الضَّجُورُ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْهَلَعُ الضَّجَرُ، يُقَالُ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْهَلَعِ عِنْدَ مُنَازَلَةِ الْأَقْرَانِ، وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى، قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ: مَا الْهَلَعُ؟ فَقُلْتُ: قَدْ فَسَّرَهُ اللَّهُ، وَلَا

[سورة المعارج (70) : الآيات 20 إلى 21]

تَفْسِيرَ أَبْيَنُ مِنْ تَفْسِيرِهِ، هُوَ الَّذِي إِذَا نَالَهُ شَرٌّ أَظْهَرَ شِدَّةَ الْجَزَعِ، وَإِذَا نَالَهُ خَيْرٌ بَخِلَ وَمَنَعَهُ النَّاسَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً نَظِيرٌ لِقَوْلِهِ: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الْأَنْبِيَاءِ: 37] وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّهُ عَلَيْهِ وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَذُمُّ فِعْلَهُ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ جَاهَدُوا أَنْفُسَهُمْ فِي تَرْكِ هَذِهِ الْخَصْلَةِ/ الْمَذْمُومَةِ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْخَصْلَةُ ضَرُورِيَّةً حَاصِلَةً بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَمَا قَدَرُوا عَلَى تَرْكِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْهَلَعَ لَفْظٌ وَاقِعٌ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْحَالَةُ النَّفْسَانِيَّةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا يَقْدُمُ الْإِنْسَانُ عَلَى إِظْهَارِ الْجَزَعِ وَالتَّضَرُّعِ وَالثَّانِي: تِلْكَ الْأَفْعَالُ الظَّاهِرَةُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ الدَّالَّةُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ النَّفْسَانِيَّةِ، أَمَّا تِلْكَ الْحَالَةُ النَّفْسَانِيَّةُ فَلَا شَكَّ أَنَّهَا تَحْدُثُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ مَنْ خُلِقَتْ نَفْسُهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يُمْكِنُهُ إِزَالَةُ تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ نَفْسِهِ، وَمَنْ خُلِقَ شُجَاعًا بَطَلًا لَا يُمْكِنُهُ إِزَالَةُ تِلْكَ الْحَالَةِ عَنْ نَفْسِهِ بَلِ الْأَفْعَالُ الظَّاهِرَةُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ يُمْكِنُهُ تَرْكُهَا وَالْإِقْدَامُ عَلَيْهَا فَهِيَ أُمُورٌ اخْتِيَارِيَّةٌ، أَمَّا الْحَالَةُ النَّفْسَانِيَّةُ الَّتِي هِيَ الْهَلَعُ فِي الْحَقِيقَةِ فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ على سبيل الاضطرار. [سورة المعارج (70) : الآيات 20 الى 21] إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) الْمُرَادُ مِنَ الشَّرِّ وَالْخَيْرِ الْفَقْرُ وَالْغِنَى أَوِ الْمَرَضُ وَالصِّحَّةُ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا صَارَ فَقِيرًا أَوْ مَرِيضًا أَخَذَ فِي الْجَزَعِ وَالشِّكَايَةِ، وَإِذَا صَارَ غَنِيًّا أَوْ صَحِيحًا أَخَذَ فِي مَنْعِ الْمَعْرُوفِ وَشَحَّ بِمَالِهِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى النَّاسِ، فَإِنْ قِيلَ: حَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ نَفُورٌ عَنِ الْمَضَارِّ طَالِبٌ لِلرَّاحَةِ، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِالْعَقْلِ فَلِمَ ذَمَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِ؟ قُلْنَا: إِنَّمَا ذَمَّهُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَاصِرُ النَّظَرِ عَلَى الْأَحْوَالِ الْجُسْمَانِيَّةِ الْعَاجِلَةِ، وَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَشْغُولًا بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا وَقَعَ فِي مَرَضٍ أَوْ فَقْرٍ وَعَلِمَ أَنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ رَاضِيًا بِهِ، لِعِلْمِهِ أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَإِذَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصِّحَّةَ صَرَفَهُمَا إِلَى طَلَبِ السَّعَادَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ الْمَذْمُومَةِ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِثَمَانِيَةِ أشياء: [سورة المعارج (70) : الآيات 22 الى 23] إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) أَوَّلُهَا- قَوْلُهُ: إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ فَإِنْ قِيلَ: قَالَ: عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ثُمَّ: عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ [الْمَعَارِجِ: 34] قُلْنَا: مَعْنَى دَوَامِهِمْ عَلَيْهَا أَنْ لَا يَتْرُكُوهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَمُحَافَظَتُهُمْ عَلَيْهَا تَرْجِعُ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِحَالِهَا حَتَّى يُؤْتَى بِهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَهَذَا الِاهْتِمَامُ إِنَّمَا يَحْصُلُ تَارَةً بِأُمُورٍ سَابِقَةٍ عَلَى الصَّلَاةِ وَتَارَةً بِأُمُورٍ لَاحِقَةٍ بِهَا، وَتَارَةً بِأُمُورٍ مُتَرَاخِيَةٍ عَنْهَا، أَمَّا الْأُمُورُ السَّابِقَةُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا مُتَعَلِّقَ الْقَلْبِ بِدُخُولِ أَوْقَاتِهَا، وَمُتَعَلِّقٌ بِالْوُضُوءِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَطَلَبِ الْقِبْلَةِ، وَوِجْدَانِ الثَّوْبِ وَالْمَكَانِ الطَّاهِرَيْنِ، وَالْإِتْيَانِ بِالصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ، وَفِي الْمَسَاجِدِ الْمُبَارَكَةِ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ فِي تَفْرِيغِ الْقَلْبِ عَنِ الْوَسَاوِسِ وَالِالْتِفَاتِ إِلَى مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يُبَالِغَ فِي الِاحْتِرَازِ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَأَمَّا الْأُمُورُ الْمُقَارِنَةُ فَهُوَ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَأَنْ يَكُونَ حَاضِرَ الْقَلْبِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ، فَاهِمًا لِلْأَذْكَارِ، مُطَّلِعًا عَلَى حُكْمِ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا الْأُمُورُ الْمُتَرَاخِيَةُ فَهِيَ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بَعْدَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ بِاللَّغْوِ وَاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَأَنْ

[سورة المعارج (70) : الآيات 24 إلى 25]

يَحْتَرِزَ كُلَّ/ الِاحْتِرَازِ عَنِ الْإِتْيَانِ بَعْدَهَا بِشَيْءٍ من المعاصي. وثانيها: قوله تعالى: [سورة المعارج (70) : الآيات 24 الى 25] وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) اخْتَلَفُوا فِي الْحَقِّ الْمَعْلُومِ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ، إِنَّهُ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ أَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَصَدَّقَ قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَقَّ الْمَعْلُومَ الْمُقَدَّرَ هُوَ الزَّكَاةُ، أَمَّا الصَّدَقَةُ فَهِيَ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ مِمَّنْ ذَمَّهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الَّذِي لَا يُعْطِي هَذَا الْحَقَّ يَكُونُ مَذْمُومًا، وَلَا حَقَّ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ إِلَّا الزَّكَاةُ، وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا الْحَقُّ سِوَى الزَّكَاةِ، وَهُوَ يَكُونُ عَلَى طَرِيقِ النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ. وَقَوْلُهُ: لِلسَّائِلِ: يَعْنِي الَّذِي يَسْأَلُ وَالْمَحْرُومِ الَّذِي يَتَعَفَّفُ عَنِ السُّؤَالِ فَيُحْسَبُ غَنِيًّا فَيُحْرَمُ. وثالثها: قوله: [سورة المعارج (70) : آية 26] وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) أَيْ يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ والحشر. ورابعها: قوله تعالى: [سورة المعارج (70) : آية 27] وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) وَالْإِشْفَاقُ يَكُونُ مِنْ أَمْرَيْنِ، إِمَّا الْخَوْفُ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ أَوِ الْخَوْفُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَحْظُورَاتِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [الْمُؤْمِنُونَ: 60] وَكَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الْحَجِّ: 35] وَمَنْ يَدُومُ بِهِ الْخَوْفُ وَالْإِشْفَاقُ فِيمَا كُلِّفَ يَكُونُ حَذِرًا مِنَ التَّقْصِيرِ حَرِيصًا عَلَى الْقِيَامِ بِمَا كُلِّفَ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ ذلك الخوف فقال: [سورة المعارج (70) : آية 28] إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالْمُرَادُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَاتِ كَمَا يَنْبَغِي، وَاحْتَرَزَ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَقَعَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا جَرَمَ يَكُونُ خائفا أبدا. وخامسها: قوله تعالى: [سورة المعارج (70) : الآيات 29 الى 31] وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31)

[سورة المعارج (70) : آية 32]

وقد مر تفسيره في سورة المؤمنين. وسادسها: قوله: [سورة المعارج (70) : آية 32] وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَقَدْ تَقَدَّمَ تفسيره أيضا. وسابعها: قوله: [سورة المعارج (70) : آية 33] وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) قُرِئَ بِشَهَادَتِهِمْ وَبِشَهَادَاتِهِمْ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْإِفْرَادُ أَوْلَى لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فَيُفْرَدُ كَمَا تُفْرَدُ الْمُصَادِرُ وَإِنْ أُضِيفَ لِجَمْعٍ كَقَوْلِهِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان: 19] وَمَنْ جَمَعَ ذَهَبَ إِلَى اخْتِلَافِ الشَّهَادَاتِ، وَكَثُرَتْ ضُرُوبُهَا فَحَسُنَ الْجَمْعُ مِنْ جِهَةِ الِاخْتِلَافِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: يَعْنِي الشَّهَادَاتِ عِنْدَ الْحُكَّامِ يَقُومُونَ بِهَا بِالْحَقِّ، وَلَا يَكْتُمُونَهَا وَهَذِهِ الشَّهَادَاتُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمَانَاتِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّهَا مِنْ بَيْنِهَا إِبَانَةً لِفَضْلِهَا لِأَنَّ فِي إِقَامَتِهَا إِحْيَاءَ الْحُقُوقِ وَفِي تَرْكِهَا إِبْطَالَهَا وَتَضْيِيعَهَا، وَرَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُرِيدُ الشَّهَادَةَ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ: [سورة المعارج (70) : آية 34] وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) وَقَدْ تَقَدَّمَ تفسيره. ثم وعد هؤلاء وقال: [سورة المعارج (70) : آية 35] أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ ما يتعلق بالكفار فقال: [سورة المعارج (70) : آية 36] فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) الْمُهْطِعُ الْمُسْرِعُ وَقِيلَ: الْمَادُّ عُنُقَهُ، وَأَنْشَدُوا فِيهِ: بِمَكَّةَ أَهْلُهَا وَلَقَدْ أَرَاهُمْ ... بِمَكَّةَ مُهْطِعِينَ إِلَى السَّمَاعِ وَالْوَجْهَانِ مُتَقَارِبَانِ، رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَحْتَفُّونَ حَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِلَقًا حِلَقًا وَفِرَقًا فِرَقًا يَسْتَمِعُونَ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِكَلَامِهِ، وَيَقُولُونَ: إِذَا دَخَلَ هَؤُلَاءِ الْجَنَّةَ كَمَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ: فَلَنَدْخُلَنَّهَا قَبْلَهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَقَوْلُهُ: مُهْطِعِينَ أَيْ مُسْرِعِينَ نَحْوَكَ مَادِّينَ أَعْنَاقَهُمْ إِلَيْكَ مُقْبِلِينَ بِأَبْصَارِهِمْ عَلَيْكَ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، فَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا عِنْدَهُ وَإِسْرَاعُهُمُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْإِسْرَاعُ فِي الْكُفْرِ كَقَوْلِهِ: لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [الْمَائِدَةِ: 41] . ثم قال:

[سورة المعارج (70) : آية 37]

[سورة المعارج (70) : آية 37] عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ مُجْتَمِعِينَ، وَمَعْنَى عِزِينَ جَمَاعَاتٌ فِي تَفْرِقَةٍ، وَاحِدُهَا عِزَةٌ، وَهِيَ الْعُصْبَةُ مِنَ النَّاسِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَأَصْلُهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: عَزَا فُلَانٌ نَفْسَهُ إِلَى بَنِي فُلَانٍ يَعْزُوهَا عَزْوًا إِذَا انْتَهَى إِلَيْهِمْ، وَالِاسْمُ الْعِزْوَةُ وَكَانَ الْعِزَةُ/ كُلُّ جَمَاعَةٍ اعْتَزُّوهَا إِلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنَ الْمَنْقُوصِ الَّذِي جَازَ جَمْعُهُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ عِوَضًا مِنَ الْمَحْذُوفِ وَأَصْلُهَا عِزْوَةٌ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ كَالْكَلَامِ فِي عِضِينَ [الحجر: 91] وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَقِيلَ: كَانَ الْمُسْتَهْزِئُونَ خَمْسَةَ أَرْهُطٍ. ثم قال: [سورة المعارج (70) : آية 38] أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) وَالنَّعِيمُ ضِدُّ الْبُؤْسِ، وَالْمَعْنَى أَيَطْمَعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ يَدْخُلَ جَنَّتِي كَمَا يَدْخُلُهَا المسلمون. [سورة المعارج (70) : آية 39] كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) ثُمَّ قَالَ: كَلَّا وَهُوَ رَدْعٌ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الطَّمَعِ الْفَاسِدِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْغَرَضُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ الْبَعْثِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَمَّا قَدَرْتُ عَلَى أَنْ أَخْلُقَكُمْ مِنَ النُّطْفَةِ، وَجَبَ أَنْ أَكُونَ قَادِرًا عَلَى بَعْثِكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا احْتَجَّ عَلَى صِحَّةِ الْبَعْثِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ كَلَّا إِنَّكُمْ مُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ، فَمِنْ أَيْنَ تَطْمَعُونَ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُسْتَهْزِئِينَ كَانُوا يَسْتَحْقِرُونَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ الْمُسْتَهْزِئُونَ مَخْلُوقُونَ مِمَّا خُلِقُوا، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِمْ هَذَا الِاحْتِقَارُ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُسْتَقْذَرَةِ، فَلَوْ لَمْ يَتَّصِفُوا بِالْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ إِدْخَالُهُمُ الجنة. ثم قال: [سورة المعارج (70) : الآيات 40 الى 42] فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَعْنِي مَشْرِقَ كُلِّ يَوْمٍ مِنَ السَّنَةِ وَمَغْرِبَهُ أَوْ مَشْرِقَ كُلِّ كَوْكَبٍ وَمَغْرِبَهُ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْمَشْرِقِ ظُهُورُ دَعْوَةِ كُلِّ نَبِيٍّ وَبِالْمَغْرِبِ مَوْتُهُ أَوِ الْمُرَادُ أَنْوَاعُ الْهِدَايَاتِ وَالْخِذْلَانَاتِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ وَهُوَ مُفَسَّرٌ فِي قَوْلِهِ: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ [الواقعة: 60، 61] وَقَوْلُهُ: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا مُفَسَّرٌ فِي آخِرِ سُورَةِ وَالطُّورِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ هَلْ خَرَجَ إِلَى الْفِعْلِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَدَّلَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرِينَ/ فَإِنَّ حَالَتَهُمْ فِي نُصْرَةِ الرَّسُولِ مَشْهُورَةٌ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ بَدَّلَ اللَّهُ كُفْرَ بَعْضِهِمْ بِالْإِيمَانِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَقَعْ هَذَا التَّبْدِيلُ، فَإِنَّهُمْ أَوْ أَكْثَرَهُمْ بَقُوا عَلَى جُمْلَةِ كُفْرِهِمْ إِلَى أَنْ مَاتُوا، وَإِنَّمَا كَانَ يَصِحُّ وُقُوعُ التَّبْدِيلِ بِهِمْ لَوْ أُهْلِكُوا، لَأَنَّ مُرَادَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى

[سورة المعارج (70) : الآيات 43 إلى 44]

أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْإِهْلَاكِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ، وَإِنَّمَا هَدَّدَ تَعَالَى الْقَوْمَ بِذَلِكَ لكي يؤمنوا. [سورة المعارج (70) : الآيات 43 الى 44] يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44) ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى ذَلِكَ الْيَوْمَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَقَالَ: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: 51] . قَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ. اعْلَمْ أَنَّ فِي نُصُبٍ ثَلَاثَ قِرَاءَاتٍ إحداها: وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ نَصَبٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَالنَّصَبُ كُلُّ شَيْءٍ نُصِبَ وَالْمَعْنَى كَأَنَّهُمْ إِلَى عَلَمٍ لَهُمْ يَسْتَبِقُونَ وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ: نُصْبٍ بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: النَّصْبُ وَالنُّصْبُ لُغَتَانِ مِثْلُ الضَّعْفِ وَالضُّعْفِ وَثَانِيهُمَا: أَنْ يَكُونَ جَمْعَ نَصَبٍ كَشُقْفٍ جَمْعُ شَقَفٍ وَالْقِرَاءَةُ الثَّالِثَةُ: نُصُبٍ بِضَمِّ النُّونِ وَالصَّادِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ النُّصُبُ وَالنُّصْبُ كِلَاهُمَا يَكُونَانِ جَمْعَ نَصَبٍ كَأُسُدٍ وَأُسْدٍ جَمْعُ أَسَدٍ وَثَانِيهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ النُّصُبِ الْأَنْصَابَ وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي تُنْصَبُ فَتُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [الْمَائِدَةِ: 3] وَقَوْلُهُ: يُوفِضُونَ يُسْرِعُونَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُمْ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ يُسْرِعُونَ إِلَى الدَّاعِي مُسْتَبِقِينَ كَمَا كَانُوا يَسْتَبِقُونَ إِلَى أَنْصَارِهِمْ، وَبَقِيَّةُ السُّورَةِ مَعْلُومَةٌ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّهِ محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

سورة نوح عليه السلام

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة نوح عليه السلام عشرون وثمان آيات مكية [سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ فِي قَوْلِهِ: أَنْ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَصْلُهُ بِأَنْ أَنْذِرْ فَحُذِفَ الْجَارُّ وَأُوصِلَ الْفِعْلُ، وَالْمَعْنَى أَرْسَلْنَاهُ بِأَنْ قُلْنَا لَهُ: أَنْذِرْ أَيْ أَرْسَلْنَاهُ بالأمر بالإنذار الثَّانِي قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَيْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، أَنْذِرْ بِغَيْرِ أَنْ عَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ. ثُمَّ قَالَ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ قَالَ مُقَاتِلٌ يَعْنِي الْغَرَقَ بِالطُّوفَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لما أمره بذلك امتثل ذلك الأمر. وقال: قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ثم قال: [سورة نوح (71) : الآيات 3 الى 4] أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) أَنِ اعْبُدُوا هُوَ نَظِيرُ أَنْ أَنْذِرْ [نوح: 1] فِي الْوَجْهَيْنِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ الْقَوْمَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ وَطَاعَةِ نَفْسِهِ، فَالْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَأَفْعَالِ الْجَوَارِحِ، وَالْأَمْرُ بِتَقْوَاهُ يَتَنَاوَلُ الزَّجْرَ عَنْ جَمِيعِ الْمَحْظُورَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ، وَقَوْلُهُ: وَأَطِيعُونِ يَتَنَاوَلُ أَمْرَهُمْ بِطَاعَتِهِ وَجَمِيعَ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِي الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ، إِلَّا أَنَّهُ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ تَأْكِيدًا فِي ذَلِكَ التَّكْلِيفِ وَمُبَالَغَةً فِي تَقْرِيرِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَلَّفَهُمْ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ وَعَدَهُمْ عَلَيْهَا بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُزِيلَ مَضَارَّ الْآخِرَةِ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ الثَّانِي: يُزِيلُ عَنْهُمْ مَضَارَّ الدُّنْيَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَذَلِكَ بأن يؤخر أجلهم إلى أقصى الإمكان. وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا فَائِدَةُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهَا صِلَةٌ زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ يَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالثَّانِي: أَنَّ غُفْرَانَ الذَّنْبِ هُوَ أَنْ لَا يُؤَاخَذَ بِهِ، فَلَوْ قَالَ: يَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، لَكَانَ مَعْنَاهُ أَنْ لَا يُؤَاخِذَكُمْ بِمَجْمُوعِ ذُنُوبِكُمْ، وَعَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْمَجْمُوعِ لَا يُوجِبُ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ بِكُلِّ

[سورة نوح (71) : الآيات 5 إلى 6]

وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْمَجْمُوعِ، فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: لَا أُطَالِبُكَ بِمَجْمُوعِ ذُنُوبِكَ، وَلَكِنِّي أُطَالِبُكَ بِهَذَا الذَّنْبِ الْوَاحِدِ فَقَطْ، أَمَّا لَمَّا قَالَ: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ كَانَ تَقْدِيرُهُ يَغْفِرُ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، وَهَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى مَجْمُوعِ الذُّنُوبِ وَعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ أَيْضًا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَجْمُوعِ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ هَبْ أَنَّهُ يَقْتَضِي التَّبْعِيضَ لَكِنَّهُ حَتَّى لِأَنَّ مَنْ آمَنَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذُنُوبِهِ عَلَى إِيمَانِهِ مَغْفُورًا، أَمَّا مَا تَأَخَّرَ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ بِذَلِكَ السَّبَبِ مَغْفُورًا، فَثَبَتَ أنه لا بد هاهنا مِنْ حَرْفِ التَّبْعِيضِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ قَالَ: وَيُؤَخِّرْكُمْ مَعَ إِخْبَارِهِ بِامْتِنَاعِ تَأْخِيرِ الْأَجَلِ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا تَنَاقُضٌ؟ الْجَوَابُ: قَضَى اللَّهُ مَثَلًا أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ إِنْ آمَنُوا عَمَّرَهُمُ اللَّهُ ألف سنة، وإن بقوا على كفرهم أهلكم عَلَى رَأْسِ تِسْعِمِائَةِ سَنَةٍ، فَقِيلَ لَهُمْ: آمِنُوا يؤخركم إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَيْ إِلَى وَقْتٍ سَمَّاهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ غَايَةَ الطُّولِ فِي الْعُمْرِ، وَهُوَ تَمَامُ الْأَلْفِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ إِذَا انْقَضَى ذَلِكَ الْأَجَلُ الْأَطْوَلُ، لَا بُدَّ مِنَ الْمَوْتِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْجَوَابُ: الْغَرَضُ الزَّجْرُ عَنْ حُبِّ الدُّنْيَا، وَعَنِ التَّهَالُكِ عَلَيْهَا وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الدِّينِ بِسَبَبِ حُبِّهَا، يَعْنِي أَنَّ غُلُوَّهُمْ فِي حُبِّ الدُّنْيَا وَطَلَبِ لَذَّاتِهَا بَلَغَ إِلَى حَيْثُ يَدُلُّ على أنهم شاكون في الموت. [سورة نوح (71) : الآيات 5 الى 6] قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَرَى إِنْسَانَيْنِ يَسْمَعَانِ دَعْوَةَ الرَّسُولِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْكَلَامُ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا سَبَبًا لِحُصُولِ الْهِدَايَةِ، وَالْمَيْلِ وَالرَّغْبَةِ، وَفِي حَقِّ الثَّانِي سَبَبًا لِمَزِيدِ الْعُتُوِّ وَالتَّكَبُّرِ، وَنِهَايَةِ النَّفْرَةِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ تِلْكَ النَّفْرَةَ وَالرَّغْبَةَ حَصَلَتَا بِاخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ، فَإِنَّ هَذَا مُكَابَرَةٌ فِي الْمَحْسُوسِ، فَإِنَّ صَاحِبَ النَّفْرَةِ يَجِدُ قَلْبَهُ كَالْمُضْطَرِّ إِلَى تِلْكَ النَّفْرَةِ وَصَاحِبُ الرَّغْبَةِ يَجِدُ قَلْبَهُ كَالْمُضْطَرِّ إِلَى تِلْكَ الرَّغْبَةِ، وَمَتَى حَصَلَتْ تِلْكَ النَّفْرَةُ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ عَقِيبَهُ التَّمَرُّدُ وَالْإِعْرَاضُ، وَإِنْ حَصَلَتِ الرَّغْبَةُ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ عَقِيبَهُ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ إِفْضَاءَ سَمَاعِ تِلْكَ الدَّعْوَةِ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا إِلَى الرَّغْبَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِحُصُولِ الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ وَفِي حَقِّ الثَّانِي إِلَى النَّفْرَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِحُصُولِ التَّمَرُّدِ وَالْعِصْيَانِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّ حُصُولَ النَّفْرَةِ وَالرَّغْبَةِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ، لَكِنْ حُصُولُ/ الْعِصْيَانِ عِنْدَ النَّفْرَةِ يَكُونُ بِاخْتِيَارِهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ مُتَمَكِّنٌ مَعَ تِلْكَ النَّفْرَةِ أَنْ يَنْقَادَ وَيُطِيعَ، قُلْنَا: إِنَّهُ لَوْ حَصَلَتِ النَّفْرَةُ غَيْرَ مُعَارَضَةٍ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الرَّغْبَةِ بَلْ خَالِصَةً عَنْ جَمِيعِ شَوَائِبِ الرَّغْبَةِ امْتَنَعَ أن يحصل معه الفعل، وذلك لأنه عند ما تَحْصُلُ النَّفْرَةُ وَالرَّغْبَةُ لَمْ يَحْصُلِ الْفِعْلُ الْبَتَّةَ، فَعِنْدَ حُصُولِ النَّفْرَةِ انْضَمَّ إِلَى عَدَمِ الْمُقْتَضِي وُجُودُ الْمَانِعِ، فَبِأَنْ يَصِيرَ الْفِعْلُ مُمْتَنِعًا أَوْلَى، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى القضاء والقدر. [سورة نوح (71) : آية 7] وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ.

[سورة نوح (71) : الآيات 8 إلى 9]

اعْلَمْ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا دَعَاهُمْ إِلَى الْعِبَادَةِ وَالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ لِأَجْلِ أَنْ يُغْفَرَ لَهُمْ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ هُوَ حُصُولُ الْمَغْفِرَةِ، وَأَمَّا الطَّاعَةُ فَهِيَ إِنَّمَا طُلِبَتْ لِيُتَوَسَّلَ بِهَا إِلَى تَحْصِيلِ الْمَغْفِرَةِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ قال: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [نوح: 4] فَلَمَّا كَانَ الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ مِنَ الدَّعْوَةِ حُصُولَ الْمَغْفِرَةِ لَا جَرَمَ قَالَ: وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَعَاهُمْ عَامَلُوهُ بِأَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي التَّقْلِيدِ إِلَى حَيْثُ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ لِئَلَّا يَسْمَعُوا الْحُجَّةَ وَالْبَيِّنَةَ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ أَيْ تَغَطَّوْا بِهَا، إِمَّا لِأَجْلِ أَنْ لَا يُبْصِرُوا وَجْهَهُ كَأَنَّهُمْ لَمْ يُجَوِّزُوا أَنْ يَسْمَعُوا كَلَامَهُ، وَلَا أَنْ يَرَوْا وَجْهَهُ. وَإِمَّا لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ فِي أَنْ لَا يَسْمَعُوا، فَإِنَّهُمْ إِذَا جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ، ثُمَّ اسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ مَعَ ذَلِكَ، صَارَ الْمَانِعُ مِنَ السَّمَاعِ أَقْوَى. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَأَصَرُّوا وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى مَذْهَبِهِمْ، أَوْ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ عَنْ سَمَاعِ دَعْوَةِ الْحَقِّ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً أَيْ عَظِيمًا بَالِغًا إِلَى النِّهَايَةِ الْقُصْوَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: [سورة نوح (71) : الآيات 8 الى 9] ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9) وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَرَاتِبَ دَعْوَتِهِ كَانَتْ ثَلَاثَةً، فَبَدَأَ بِالْمُنَاصَحَةِ فِي السِّرِّ، فَعَامَلُوهُ بِالْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ، ثُمَّ ثَنَى بِالْمُجَاهَرَةِ، فَلَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ جَمَعَ بَيْنَ الْإِعْلَانِ وَالْإِسْرَارِ، وَكَلِمَةُ ثُمَّ دَالَّةٌ عَلَى تَرَاخِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ عَنْ بَعْضٍ إِمَّا بِحَسَبِ الزَّمَانِ، أَوْ بِحَسَبِ الرُّتْبَةِ، لِأَنَّ الْجِهَارَ أَغْلَظُ/ مِنَ الْإِسْرَارِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْإِسْرَارِ وَالْجِهَارِ أَغْلَظُ مِنَ الْجِهَارِ وَحْدَهُ، فَإِنْ قِيلَ: بِمَ انْتَصَبَ جِهاراً؟ قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِدَعْوَتِهِمْ نَصْبَ الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ الدُّعَاءَ أَحَدُ نَوْعَيْهِ الْجِهَارُ، فَنُصِبَ بِهِ نَصْبَ الْقُرْفُصَاءِ بِقَعَدَ لِكَوْنِهَا أَحَدَ أَنْوَاعِ الْقُعُودِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ أُرِيدَ بِدَعَوْتُهُمْ جَاهَرْتُهُمْ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَصْدَرِ دَعَا بِمَعْنَى دُعَاءً جِهَارًا، أَيْ مُجَاهِرًا بِهِ وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الحال أي مجاهرا. [سورة نوح (71) : آية 10] فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوهُ زَمَانًا طَوِيلًا حَبَسَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمَطَرَ، وَأَعْقَمَ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَرَجَعُوا فِيهِ إِلَى نُوحٍ، فَقَالَ نُوحٌ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ مِنَ الشِّرْكِ حَتَّى يَفْتَحَ عَلَيْكُمْ أَبْوَابَ نِعَمِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالطَّاعَةِ سَبَبٌ لِانْفِتَاحِ أَبْوَابِ الْخَيْرَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْكُفْرَ سَبَبٌ لِخَرَابِ الْعَالَمِ عَلَى مَا قَالَ فِي كُفْرِ النَّصَارَى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً [مَرْيَمَ: 90، 91] فَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ سَبَبًا لِخَرَابِ الْعَالَمِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ سَبَبًا لِعِمَارَةِ الْعَالَمِ وَثَانِيهَا: الْآيَاتُ مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ وَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ [الأعراف: 96] وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ [المائدة: 66] وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً [الجن: 16] وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ

[سورة نوح (71) : الآيات 11 إلى 12]

مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطَّلَاقِ: 2- 3] وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ [طه: 132] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] فَإِذَا اشْتَغَلُوا بِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ حَصَلَ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ يَسْتَسْقِي فَمَا زَادَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا رَأَيْنَاكَ اسْتَسْقَيْتَ، فَقَالَ: لَقَدِ اسْتَسْقَيْتُ بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ. الْمِجْدَحُ ثَلَاثَةُ كواكب مخصوصة، ونوأه يَكُونُ عَزِيزًا شَبَّهَ عُمَرُ (الِاسْتِغْفَارَ) بِالْأَنْوَاءِ الصَّادِقَةِ الَّتِي لَا تُخْطِئُ، وَعَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ ذُنُوبًا أَقَلُّهُمُ اسْتِغْفَارًا، وَأَكْثَرَهُمُ اسْتِغْفَارًا أَقَلُّهُمْ ذُنُوبًا، وَعَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَيْهِ الْجَدْبَ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ، وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة السل، وَآخَرُ قِلَّةَ رَيْعِ أَرْضِهِ، فَأَمَرَهُمْ كُلَّهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَتَاكَ رِجَالٌ يَشْكُونَ إِلَيْكَ أَنْوَاعًا مِنَ الْحَاجَةِ، فَأَمَرْتَهُمْ كُلَّهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ، فتلا له الآية، وهاهنا سُؤَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ الْكُفَّارَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْعِبَادَةِ وَالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي أَنْ أَمَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِالِاسْتِغْفَارِ؟ الْجَوَابُ: أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ قَالُوا لَهُ: إِنْ كَانَ الدِّينُ الْقَدِيمُ الَّذِي كُنَّا عَلَيْهِ حَقًّا فَلِمَ تَأْمُرُنَا بِتَرْكِهِ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فَكَيْفَ يَقْبَلُنَا بَعْدَ أَنْ/ عَصَيْنَاهُ، فَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ عَصَيْتُمُوهُ وَلَكِنِ اسْتَغْفِرُوهُ مِنْ تِلْكَ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَانَ غَفَّارًا. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ: إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ غَفَّارٌ؟ قُلْنَا الْمُرَادُ: أَنَّهُ كَانَ غَفَّارًا فِي حَقِّ كُلِّ مَنِ اسْتَغْفَرُوهُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَظُنُّوا أَنَّ غَفَّارِيَّتَهُ إِنَّمَا حَدَثَتِ الْآنَ، بَلْ هُوَ أَبَدًا هَكَذَا كَانَ، فَكَأَنَّ هَذَا هُوَ حِرْفَتُهُ وَصَنْعَتُهُ. وقوله تعالى: [سورة نوح (71) : الآيات 11 الى 12] يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَلْقَ مَجْبُولُونَ عَلَى مَحَبَّةِ الْخَيْرَاتِ الْعَاجِلَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصَّفِّ: 13] فَلَا جَرَمَ أَعْلَمَهُمُ الله تعالى هاهنا أَنَّ إِيمَانَهُمْ بِاللَّهِ يَجْمَعُ لَهُمْ مَعَ الْحَظِّ الْوَافِرِ فِي الْآخِرَةِ الْخِصْبَ وَالْغِنَى فِي الدُّنْيَا. وَالْأَشْيَاءُ الَّتِي وَعَدَهُمْ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَمْسَةٌ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَفِي السَّمَاءِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: (أَنَّ) «1» الْمَطَرَ مِنْهَا يَنْزِلُ إِلَى السَّحَابِ وَثَانِيهَا: أَنْ يُرَادَ بِالسَّمَاءِ السَّحَابُ وَثَالِثُهَا: أَنْ يُرَادَ بِالسَّمَاءِ الْمَطَرُ مِنْ قَوْلِهِ: إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... [رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا] وَالْمِدْرَارُ الْكَثِيرُ الدَّرُورُ، وَمِفْعَالٌ مِمَّا يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، كقولهم: رجل أو امرأة معطار ومتفال وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالِ بَلْ يَعُمُّ الْكُلَّ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَبَنِينَ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَمِيلُ الطَّبْعُ إِلَيْهِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ أَيْ بَسَاتِينَ وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً. ثم قال:

_ (1) في الكشاف للزمخشري: (والسماء: المظلة لأن المطر منها ... ) 4/ 162 ط. دار الفكر.

[سورة نوح (71) : آية 13]

[سورة نوح (71) : آية 13] مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَفِيهِ قولان: الأول: أن الرجاء هاهنا بِمَعْنَى الْخَوْفِ وَمِنْهُ قَوْلُ الْهُذَلِيُّ: إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا وَالْوَقَارُ الْعَظَمَةُ وَالتَّوْقِيرُ التعظيم، ومنه قوله تعالى: وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 9] بِمَعْنَى مَا بَالُكُمْ لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً. وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الرَّجَاءَ ضِدُّ الْخَوْفِ فِي اللُّغَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ الظَّاهِرَةِ، فَلَوْ قُلْنَا: إِنَّ لَفْظَةَ الرَّجَاءِ فِي اللُّغَةِ مَوْضُوعَةٌ بِمَعْنَى الْخَوْفِ لَكَانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لِلرِّوَايَةِ الثَّابِتَةِ بِالْآحَادِ عَلَى الرِّوَايَةِ/ الْمَنْقُولَةِ بِالتَّوَاتُرِ وَهَذَا يُفْضِي إِلَى الْقَدْحِ فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ لَا لَفْظَ فِيهِ إِلَّا وَيُمْكِنُ جَعْلُ نَفْيِهِ إِثْبَاتًا وَإِثْبَاتِهِ نَفْيًا بِهَذَا الطَّرِيقِ الْوَجْهُ الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى: مَا لَكُمْ لَا تَأْمَلُونَ لِلَّهِ تَوْقِيرًا أَيْ تَعْظِيمًا، وَالْمَعْنَى مالكم لا تكونوا عَلَى حَالٍ تَأْمَلُونَ فِيهَا تَعْظِيمَ اللَّهِ إِيَّاكُمْ ولِلَّهِ بَيَانٌ لِلْمُوَقَّرِ، وَلَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِلَةً لِلْوَقَارِ. [سورة نوح (71) : آية 14] وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَأَنَّهُ قَالَ: مَا لَكَمَ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَالْحَالُ هَذِهِ وَهِيَ حَالٌ مُوجِبَةٌ لِلْإِيمَانِ بِهِ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً أَيْ تَارَاتٍ خَلَقَكُمْ أَوَّلًا تُرَابًا، ثُمَّ خَلَقَكُمْ نُطَفًا، ثُمَّ خَلَقَكُمْ عَلَقًا، ثُمَّ خَلَقَكُمْ مُضَغًا، ثُمَّ خَلَقَكُمْ عِظَامًا وَلَحْمًا، ثُمَّ أَنْشَأَكُمْ خَلْقًا آخَرَ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يُبَالِغُونَ فِي الِاسْتِخْفَافِ بِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَوْقِيرِهِ وَتَرْكِ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ إِذَا وَقَّرْتُمْ نُوحًا وَتَرَكْتُمُ الِاسْتِخْفَافَ بِهِ كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ اللَّهِ، فَمَا لَكَمَ لَا تَرْجُونَ وَقَارًا وَتَأْتُونَ بِهِ لِأَجْلِ اللَّهِ وَلِأَجْلِ أَمْرِهِ وَطَاعَتِهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا يَأْتِي بِهِ الْإِنْسَانُ لِأَجْلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَرْجُو مِنْهُ خَيْرًا وَوَجْهٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّ الْوَقَارَ وَهُوَ الثَّبَاتُ مِنْ وَقَرَ إِذَا ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا لَكُمْ وَعِنْدَ هَذَا تَمَّ الْكَلَامُ، ثُمَّ قَالَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى الإنكار لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [الجن: 13] أَيْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ ثَبَاتًا وَبَقَاءً، فَإِنَّكُمْ لَوْ رَجَوْتُمْ ثَبَاتَهُ وَبَقَاءَهُ لَخِفْتُمُوهُ، وَلَمَا أَقْدَمْتُمْ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ بِرُسُلِهِ وَأَوَامِرِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: تَرْجُونَ أَيْ تَعْتَقِدُونَ لِأَنَّ الرَّاجِيَ لِلشَّيْءِ مُعْتَقِدٌ له. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ اسْتَدَلَّ عَلَى التَّوْحِيدِ بِوُجُوهٍ مِنَ الدَّلَائِلِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ اللَّيْثُ: الطَّوْرَةُ التَّارَةُ يَعْنِي حَالًا بَعْدَ حَالٍ كَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ كَانَ نُطْفَةً، ثُمَّ عَلَقَةً إِلَى آخِرِ التَّارَاتِ الثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الطَّوْرُ الْحَالُ، وَالْمَعْنَى خَلَقَكُمْ أَصْنَافًا مُخْتَلِفِينَ لَا يُشْبِهُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَمَّا ذَكَرَ هَذَا الدَّلِيلَ مِنَ الْأَنْفُسِ عَلَى التَّوْحِيدِ، أتبعه بذكر الدليل التَّوْحِيدِ مِنَ الْآفَاقِ عَلَى الْعَادَةِ الْمَعْهُودَةِ فِي كل القرآن.. [سورة نوح (71) : الآيات 15 الى 16] أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) الدليل الثاني: على التوحيد قوله تعالى:

[سورة نوح (71) : الآيات 17 إلى 18]

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى تَارَةً يَبْدَأُ بِدَلَائِلِ الْأَنْفُسِ، وَبَعْدَهَا بِدَلَائِلِ الْآفَاقِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْسَ الْإِنْسَانِ أَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ، فَلَا جَرَمَ بَدَأَ بِالْأَقْرَبِ، وَتَارَةً يَبْدَأُ بِدَلَائِلِ الْآفَاقِ، ثُمَّ بِدَلَائِلِ الْأَنْفُسِ إِمَّا لِأَنَّ دَلَائِلَ الْآفَاقِ أَبْهَرُ وَأَعْظَمُ، فَوَقَعَتِ الْبِدَايَةُ بِهَا لِهَذَا السَّبَبِ، أَوْ لِأَجْلِ/ أَنَّ دَلَائِلَ الْأَنْفُسِ حَاضِرَةٌ، لَا حَاجَةَ بِالْعَاقِلِ إِلَى التَّأَمُّلِ فِيهَا، إِنَّمَا الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى التَّأَمُّلِ فِيهِ دَلَائِلُ الْآفَاقِ، لِأَنَّ الشُّبَهَ فِيهَا أَكْثَرُ، فَلَا جَرَمَ تَقَعُ البداية بها، وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً يَقْتَضِي كَوْنَ بَعْضِهَا مُنْطَبِقًا عَلَى الْبَعْضِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهَا فُرَجٌ، فَالْمَلَائِكَةُ كَيْفَ يَسْكُنُونَ فِيهَا؟ الْجَوَابُ: الْمَلَائِكَةُ أَرْوَاحٌ فَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِهَا طِبَاقًا كَوْنُهَا مُتَوَازِيَةً لَا أَنَّهَا مُتَمَاسَّةٌ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ قَالَ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَالْقَمَرُ لَيْسَ فِيهَا بِأَسْرِهَا بَلْ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا؟ وَالْجَوَابُ: هَذَا كَمَا يُقَالُ السُّلْطَانُ فِي الْعِرَاقِ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَاتَهُ حَاصِلَةٌ فِي جَمِيعِ أَحْيَازِ الْعِرَاقِ بَلْ إِنَّ ذَاتَهُ فِي حَيِّزٍ مِنْ جُمْلَةِ أَحْيَازِ العراق فكذا هاهنا. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: السِّرَاجُ ضَوْءُهُ عَرَضِيٌّ وَضَوْءُ الْقَمَرِ عَرَضِيٌّ مُتَبَدِّلٌ فَتَشْبِيهُ الْقَمَرِ بِالسِّرَاجِ أَوْلَى مِنْ تَشْبِيهِ الشَّمْسِ بِهِ الْجَوَابُ: اللَّيْلُ عِبَارَةٌ عَنْ ظِلِّ الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا لِزَوَالِ ظِلِّ الْأَرْضِ كَانَتْ شَبِيهَةً بِالسِّرَاجِ، وَأَيْضًا فَالسِّرَاجُ لَهُ ضَوْءٌ وَالضَّوْءُ أَقْوَى مِنَ النُّورِ فَجَعَلَ الْأَضْعَفَ لِلْقَمَرِ وَالْأَقْوَى لِلشَّمْسِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يونس: 5] . [سورة نوح (71) : الآيات 17 الى 18] وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: عَلَى التَّوْحِيدِ قوله تعالى: واعلم أنه تعالى رجع هاهنا إِلَى دَلَائِلِ الْأَنْفُسِ وَهُوَ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ أَطْواراً [نوح: 14] فَإِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ ثُمَّ يَرُدُّهُمْ إِلَيْهَا ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا مَرَّةً أُخْرَى، أَمَّا قَوْلُهُ: أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أَيْ أَنْبَتْ أَبَاكُمْ مِنَ الْأَرْضِ كَمَا قَالَ: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آلِ عِمْرَانَ: 59] . وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْبَتَ الْكُلَّ مِنَ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَخْلُقُنَا مِنَ النُّطَفِ وَهِيَ مُتَوَلِّدَةٌ مِنَ الْأَغْذِيَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ النَّبَاتِ الْمُتَوَلِّدِ مِنَ الْأَرْضِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: أَنْبَتَكُمْ إِنْبَاتًا إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ بَلْ قَالَ: أَنْبَتَكُمْ نَبَاتًا، وَالتَّقْدِيرُ أَنْبَتَكُمْ فَنَبَتُّمْ نَبَاتًا، وَفِيهِ دَقِيقَةٌ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أنبتكم إنباتا كان المعنى أنبتكم إنباتا عجيبا غَرِيبًا، وَلَمَّا قَالَ: أَنْبَتْكُمْ نَبَاتًا كَانَ الْمَعْنَى أَنْبَتَكُمْ فَنَبَتُّمْ نَبَاتًا عَجِيبًا، وَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّ الْإِنْبَاتَ صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَصِفَةُ اللَّهِ غَيْرُ مَحْسُوسَةٍ لَنَا، فَلَا نَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْبَاتَ إِنْبَاتٌ عَجِيبٌ كَامِلٌ إِلَّا/ بِوَاسِطَةِ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْمَقَامُ مَقَامُ

[سورة نوح (71) : الآيات 19 إلى 20]

الِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ بِالسَّمْعِ، أَمَّا لَمَّا قَالَ: أَنْبَتَكُمْ ... نَباتاً عَلَى مَعْنَى أَنَبَتَكُمْ فَنَبَتُّمْ نَبَاتًا عَجِيبًا كَامِلًا كَانَ ذَلِكَ وَصْفًا لِلنَّبَاتِ بِكَوْنِهِ عَجِيبًا كَامِلًا، وَكَوْنُ النَّبَاتِ كَذَلِكَ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ، فَيُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ هَذَا مُوَافِقًا لِهَذَا الْمَقَامِ فَظَهَرَ أَنَّ الْعُدُولَ مِنْ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ إِلَى هَذَا الْمَجَازِ كَانَ لِهَذَا السِّرِّ اللَّطِيفِ، أَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الطَّرِيقَةِ الْمَعْهُودَةِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى الِابْتِدَاءِ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْإِعَادَةِ، وَقَوْلُهُ: وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً أَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ قال: يخرجكم حقا لا محالة. [سورة نوح (71) : الآيات 19 الى 20] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) الدليل الرابع: قوله تعالى: أَيْ طُرُقًا وَاسِعَةً وَاحِدُهَا فَجٌّ وَهُوَ مُفَسَّرٌ فيما تقدم. [سورة نوح (71) : آية 21] قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَاعْلَمْ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَنَبَّهَهُمْ عَلَى هَذِهِ الدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ حَكَى عَنْهُمْ أَنْوَاعَ قَبَائِحِهِمْ وَأَقْوَالَهُمْ وَأَفْعَالَهُمْ فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ: قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [نوح: 3] فَكَأَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لَهُمْ أَطِيعُونِ فَهُمْ عَصَوْنِي. الثَّانِي قَوْلُهُ: وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُمْ عَصَوْهُ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ ضَمُّوا إِلَى عِصْيَانِهِ مَعْصِيَةً أُخْرَى وَهِيَ طَاعَةُ رُؤَسَائِهِمُ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ، وَقَوْلُهُ: مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً يَعْنِي هَذَانِ وَإِنْ كَانَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَنَافِعِ فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَنَّهُمَا لَمَّا صارا سببا للخسار فِي الْآخِرَةِ فَكَأَنَّهُمَا صَارَا مَحْضَ الْخَسَارِ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ الْآخِرَةِ كَالْعَدَمِ فَإِذَا صَارَتِ الْمَنَافِعُ الدُّنْيَوِيَّةُ أَسْبَابًا للخسار فِي الْآخِرَةِ صَارَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى اللُّقْمَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْحُلْوِ إِذَا كَانَتْ مَسْمُومَةً سُمَّ الْوَقْتِ، وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ عَلَى الْكَافِرِ نِعْمَةٌ لِأَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ اسْتِدْرَاجَاتٌ وَوَسَائِلُ إِلَى الْعَذَابِ الْأَبَدِيِّ فَكَانَتْ كَالْعَدَمِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ وَوَلَدُهُ بِضَمِّ الْوَاوِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْوُلْدَ بِالضَّمِّ لُغَةٌ فِي الْوَلَدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا إِمَّا جَمْعُ ولد كالفلك، وهاهنا يجوز أن يكون واحدا وجمعا. [سورة نوح (71) : الآيات 22 الى 24] وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ قَبَائِحِ أفعالهم قوله تعالى:

فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَمَكَرُوا مَعْطُوفٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَزِدْهُ [نوح: 21] لِأَنَّ الْمَتْبُوعِينَ هُمُ الَّذِينَ مَكَرُوا وَقَالُوا لِلْأَتْبَاعِ: لَا تَذَرُنَّ، وَجَمْعُ الضَّمِيرِ وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قرئ كبارا وكُبَّاراً بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الْكَبِيرِ، فَأَوَّلُ الْمَرَاتِبِ الْكَبِيرُ، وَالْأَوْسَطُ الْكُبَارُ بِالتَّخْفِيفِ، وَالنِّهَايَةُ الْكُبَّارُ بِالتَّثْقِيلِ، وَنَظِيرُهُ: جَمِيلٌ وَجُمَالٌ وَجُمَّالٌ، وَعَظِيمٌ وَعُظَامٌ وَعُظَّامٌ، وَطَوِيلٌ وَطُوَالٌ وَطُوَّالٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَكْرُ الكبار هو أنهم قالوا لأتباعهم: لا تَذَرُنَّ وَدًّا فَهُمْ مَنَعُوا الْقَوْمَ عَنِ التَّوْحِيدِ، وَأَمَرُوهُمْ بِالشِّرْكِ، وَلَمَّا كَانَ التَّوْحِيدُ أَعْظَمَ الْمَرَاتِبِ، لَا جَرَمَ كَانَ الْمَنْعُ مِنْهُ أَعْظَمَ الْكَبَائِرِ فَلِهَذَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ كُبَّارٌ، وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ فَضَّلَ عِلْمَ الْكَلَامِ عَلَى سَائِرِ الْعُلُومِ، فَقَالَ: الْأَمْرُ بِالشِّرْكِ كُبَّارٌ فِي الْقُبْحِ وَالْخِزْيِ، فَالْأَمْرُ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِرْشَادِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُبَّارًا فِي الْخَيْرِ وَالدِّينِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تعالى إنما سماه مكرا لوجهين الأول: لِمَا فِي إِضَافَةِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَيْهِمْ مِنَ الْحِيلَةِ الْمُوجِبَةِ لِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى عِبَادَتِهَا، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: هَذِهِ الْأَصْنَامُ آلِهَةٌ لَكُمْ، وَكَانَتْ آلِهَةً لِآبَائِكُمْ، فَلَوْ قَبِلْتُمْ قَوْلَ نُوحٍ لَاعْتَرَفْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ جَاهِلِينَ ضَالِّينَ كَافِرِينَ، وَعَلَى آبَائِكُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا كَذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ اعْتِرَافُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى جَمِيعِ أَسْلَافِهِ بِالْقُصُورِ وَالنَّقْصِ وَالْجَهْلِ شَاقًّا شَدِيدًا، صَارَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذِهِ الْمَعَانِي بِلَفْظِ آلِهَتِكُمْ صَارِفًا لَهُمْ عَنِ الدِّينِ، فَلِأَجْلِ اشْتِمَالِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْحِيلَةِ الْخَفِيَّةِ سَمَّى اللَّهُ كَلَامَهُمْ مَكْرًا الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ أُولَئِكَ الْمَتْبُوعِينَ أَنَّهُمْ كَانَ لَهُمْ مَالٌ وَوَلَدٌ، فَلَعَلَّهُمْ قَالُوا لِأَتْبَاعِهِمْ: إِنَّ آلِهَتَكُمْ خَيْرٌ مِنْ إِلَهِ نُوحٍ، لِأَنَّ آلِهَتَكُمْ يُعْطُونَكُمُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ، وَإِلَهُ نُوحٍ لَا يُعْطِيهِ شَيْئًا لِأَنَّهُ فَقِيرٌ، فَبِهَذَا الْمَكْرِ صَرَفُوهُمْ عَنْ طَاعَةِ نُوحٍ، وَهَذَا مِثْلُ مَكْرِ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَ: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ [الزُّخْرُفِ: 51] وَقَالَ: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ [الزُّخْرُفِ: 52، 53] . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ذَكَرَ أَبُو زَيْدٍ الْبَلْخِيُّ فِي كِتَابِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ هَذِهِ الْخَشَبَةَ المنحوتة في هذه الساعة ليست خالقة للسموات وَالْأَرْضِ، وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ، وَالْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ الِاخْتِلَافِ فِيهَا بَيْنَ الْعُقَلَاءِ، وَعِبَادَةُ الْأَوْثَانِ دِينٌ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ مَجِيءِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدِ اسْتَمَرَّ ذَلِكَ الدِّينُ إِلَى هَذَا الزَّمَانِ، وَأَكْثَرُ سُكَّانِ أَطْرَافِ الْمَعْمُورَةِ عَلَى هَذَا الدِّينِ، فَوَجَبَ حَمْلُ هَذَا الدِّينِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُعْرَفُ فَسَادُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، وَإِلَّا لَمَا بَقِيَ هَذِهِ الْمُدَّةَ الْمُتَطَاوِلَةَ فِي أَكْثَرِ أَطْرَافِ الْعَالَمِ، فَإِذًا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِلذَّاهِبِينَ إِلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ تَأْوِيلَاتٌ أَحَدُهَا: قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُنَجِّمُ: هَذِهِ الْمَقَالَةُ إِنَّمَا تَوَلَّدَتْ مِنْ مَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ وَفِي مَكَانٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ نُورٌ هُوَ أَعْظَمُ الْأَنْوَارِ، وَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ حَافُّونَ حَوْلَ الْعَرْشِ الَّذِي هُوَ مَكَانُهُ، هُمْ أَنْوَارٌ صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ النُّورِ الْأَعْظَمِ، فَالَّذِينَ اعْتَقَدُوا هَذَا الْمَذْهَبَ اتَّخَذُوا صَنَمًا هُوَ أَعْظَمُ الْأَصْنَامِ عَلَى صُورَةِ إِلَهِهِمُ الَّذِي اعْتَقَدُوهُ، وَاتَّخَذُوا أَصْنَامًا مُتَفَاوِتَةً، بِالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ وَالشَّرَفِ وَالْخِسَّةِ عَلَى صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَاشْتَغَلُوا بِعِبَادَةِ تِلْكَ

الْأَصْنَامِ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْإِلَهَ وَالْمَلَائِكَةَ، فَدِينُ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ إِنَّمَا ظَهَرَ مِنَ اعْتِقَادِ التَّجْسِيمِ الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ جَمَاعَةَ الصَّابِئَةِ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِلَهَ الْأَعْظَمَ خَلَقَ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ الثَّابِتَةَ وَالسَّيَّارَةَ، وَفَوَّضَ تَدْبِيرَ هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ إِلَيْهَا، فَالْبَشَرُ عَبِيدُ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ، وَالْكَوَاكِبُ عَبِيدُ الْإِلَهِ الْأَعْظَمِ، فَالْبَشَرُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ عِبَادَةُ الْكَوَاكِبِ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ كَانَتْ تَطْلُعُ مَرَّةً وَتَغِيبُ أُخْرَى، فَاتَّخَذُوا أَصْنَامًا عَلَى صُوَرِهَا وَاشْتَغَلُوا بِعِبَادَتِهَا، وَغَرَضُهُمْ عِبَادَةُ الْكَوَاكِبِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ، كَانُوا مُنَجِّمِينَ عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِ الْأَحْكَامِ، فِي إِضَافَاتِ سَعَادَاتِ هَذَا الْعَالَمِ وَنُحُوسَاتِهَا إِلَى الْكَوَاكِبِ، فَإِذَا اتَّفَقَ فِي الْفَلَكِ شَكْلٌ عَجِيبٌ صَالِحٌ لِطَلْسَمٍ عَجِيبٍ، فَكَانُوا يَتَّخِذُونَ ذَلِكَ الطَّلْسَمَ، وَكَانَ يَظْهَرُ مِنْهُ أَحْوَالٌ عَجِيبَةٌ وَآثَارٌ عَظِيمَةٌ، وَكَانُوا يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ الطَّلْسَمَ وَيُكْرِمُونَهُ وَيَشْتَغِلُونَ بِعِبَادَتِهِ، وَكَانُوا يتخذون كل طلسم على شكل موافق لكواكب خاص عَلَى صُورَةِ فَرَسٍ، وَنَسْرٌ عَلَى صُورَةِ نَسْرٍ الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ كَانَ يَمُوتُ أَقْوَامٌ صَالِحُونَ فَكَانُوا يَتَّخِذُونَ تَمَاثِيلَ عَلَى صُوَرِهِمْ وَيَشْتَغِلُونَ بِتَعْظِيمِهَا، وَغَرَضُهُمْ تَعْظِيمُ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ مَاتُوا حَتَّى يَكُونُوا شَافِعِينَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزُّمَرِ: 3] الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ رُبَّمَا مَاتَ مَلِكٌ عَظِيمٌ، أَوْ شَخْصٌ عَظِيمٌ، فَكَانُوا يَتَّخِذُونَ تِمْثَالًا عَلَى صُورَتِهِ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَالَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ ذَلِكَ ظَنُّوا أَنَّ آبَاءَهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا فَاشْتَغَلُوا بِعِبَادَتِهَا لِتَقْلِيدِ الْآبَاءِ، أَوْ لَعَلَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الْخَمْسَةَ وَهِيَ: وَدٌّ، وَسُوَاعٌ، وَيَغُوثُ، وَيَعُوقُ، وَنَسْرٌ، أَسْمَاءُ خَمْسَةٍ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ، فَلَمَّا مَاتُوا قَالَ إِبْلِيسُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ: لَوْ صَوَّرْتُمْ صُوَرَهُمْ، فَكُنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ، فَفَعَلُوا فَلَمَّا مَاتَ أُولَئِكَ/ قَالَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ فَعَبَدُوهُمْ، وَلِهَذَا السَّبَبِ نَهَى الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَوَّلًا، ثُمَّ أَذِنَ فِيهَا عَلَى مَا يُرْوَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا فَإِنَّ فِي زِيَارَتِهَا تَذْكِرَةً» السَّادِسُ: الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّهُ تَعَالَى جِسْمٌ، وَإِنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ وَالْحُلُولُ، لَا يَسْتَبْعِدُونَ أَنْ يَحِلَّ تَعَالَى فِي شَخْصِ إِنْسَانٍ، أَوْ فِي شَخْصِ صَنَمٍ، فَإِذَا أَحَسُّوا مِنْ ذَلِكَ الصَّنَمِ الْمُتَّخَذِ عَلَى وَجْهِ الطَّلْسَمِ حَالَةً عَجِيبَةً، خَطَرَ بِبَالِهِمْ أَنَّ الْإِلَهَ حَصَلَ فِي ذَلِكَ الصَّنَمِ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ جَمْعًا مِنْ قُدَمَاءِ الرَّوَافِضِ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَلَعَ بَابَ خَيْبَرَ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَادِ قَالُوا: إِنَّ الْإِلَهَ حَلَّ فِي بَدَنِهِ وَإِنَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الْوَجْهُ السَّابِعُ: لَعَلَّهُمُ اتَّخَذُوا تِلْكَ الْأَصْنَامَ كَالْمِحْرَابِ وَمَقْصُودُهُمْ بِالْعِبَادَةِ هُوَ اللَّهُ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَبَعْضُهَا بَاطِلَةٌ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، فَإِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمٍ بَطَلَ اتِّخَاذُ الصَّنَمِ عَلَى صُورَةِ الْإِلَهِ، وَبَطَلَ الْقَوْلُ أَيْضًا بِالْحُلُولِ وَالنُّزُولِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ، بَطَلَ الْقَوْلُ بالوسائط وَالطَّلْسَمَاتِ، وَلَمَّا جَاءَ الشَّرْعُ بِالْمَنْعِ مِنَ اتِّخَاذِ الصَّنَمِ، بَطَلَ الْقَوْلُ بِاتِّخَاذِهَا مَحَارِيبَ وَشُفَعَاءَ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: هَذِهِ الْأَصْنَامُ الْخَمْسَةُ كَانَتْ أَكْبَرَ أَصْنَامِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهَا انْتَقَلَتْ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ إِلَى الْعَرَبِ، فَكَانَ وَدٌّ لِكَلْبٍ، وَسُوَاعٌ لِهَمْدَانَ، وَيَغُوثُ لِمَذْحِجٍ، وَيَعُوقُ لِمُرَادٍ، وَنَسْرٌ لِحِمْيَرَ وَلِذَلِكَ سَمَّتِ الْعَرَبُ بِعَبْدِ وَدٍّ، وَعَبْدِ يَغُوثَ، هَكَذَا قِيلَ فِي الْكُتُبِ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ الدُّنْيَا قَدْ خَرِبَتْ فِي زَمَانِ الطُّوفَانِ، فَكَيْفَ بَقِيَتْ تِلْكَ الْأَصْنَامُ، وَكَيْفَ انْتَقَلَتْ إِلَى الْعَرَبِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَضَعَهَا فِي السَّفِينَةِ وَأَمْسَكَهَا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا جَاءَ لِنَفْيِهَا وَكَسْرِهَا فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ وَضَعَهَا فِي السَّفِينَةِ سَعْيًا مِنْهُ فِي حِفْظِهَا. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قُرِئَ: لَا تَذَرُنَّ وَدًّا بِفَتْحِ الْوَاوِ وَبِضَمِّ الْوَاوِ، قَالَ اللَّيْثُ: وَدٌّ بِفَتْحِ الْوَاوِ صَنَمٌ كَانَ

[سورة نوح (71) : آية 25]

لِقَوْمِ نُوحٍ، وُدٌّ بِالضَّمِّ صَنَمٌ لِقُرَيْشٍ، وَبِهِ سُمِّيَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ، وَأَقُولُ: عَلَى قول الليث وجب أن لا يجوز هاهنا قِرَاءَةُ وُدٍّ بِالضَّمِّ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ لَا فِي أَحْوَالِ قُرَيْشٍ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَلَا يَغُوثًا وَيَعُوقًا بِالصَّرْفِ وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ مُشْكِلَةٌ لِأَنَّهُمَا إِنْ كَانَا عَرَبِيَّيْنِ أَوْ عَجَمِيَّيْنِ فَفِيهِمَا سَبَبَا مَنْعِ الصَّرْفِ، إِمَّا التَّعْرِيفُ وَوَزْنُ الْفِعْلِ، وَإِمَّا التَّعْرِيفُ وَالْعُجْمَةُ، فَلَعَلَّهُ صَرَفَهُمَا لِأَجْلِ أَنَّهُ وَجَدَ أَخَوَاتِهِمَا مُنْصَرِفَةً وَدًّا وَسُوَاعًا وَنَسْرًا. وَاعْلَمْ أَنَّ نُوحًا لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لِأَتْبَاعِهِمْ: لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ قَالَ: وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أُولَئِكَ الرُّؤَسَاءُ قد أضلوا كثيرا قبل هؤلاء الموصين [بأن يتمسكوا] «1» بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَلَيْسَ هَذَا أَوَّلَ مَرَّةٍ اشْتَغَلُوا بِالْإِضْلَالِ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْأَصْنَامِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إِبْرَاهِيمَ: 36] وَأَجْرَى الْأَصْنَامَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَجْرَى الْآدَمِيِّينَ كَقَوْلِهِ: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ [الْأَعْرَافِ: 195] ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا فَفِيهِ سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: كَيْفَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ؟ الْجَوَابُ: كَأَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا/ أَطْنَبَ فِي تَعْدِيدِ أَفْعَالِهِمُ الْمُنْكَرَةِ وَأَقْوَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ امْتَلَأَ قَلْبُهُ غَيْظًا وَغَضَبًا عَلَيْهِمْ فَخَتَمَ كَلَامَهُ بِأَنْ دَعَا عَلَيْهِمْ. السُّؤَالُ الثَّانِي: إِنَّمَا بُعِثَ لِيَصْرِفَهُمْ عَنِ الضَّلَالِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ فِي أَنْ يَزِيدَ فِي ضَلَالِهِمْ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَعَلَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الضَّلَالَ فِي أَمْرِ الدِّينِ، بَلِ الضَّلَالُ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ، وَفِي تَرْوِيجِ مَكْرِهِمْ وَحِيَلِهِمْ الثَّانِي: الضَّلَالُ الْعَذَابُ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ [القمر: 47] . [سورة نوح (71) : آية 25] مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) [في قوله تعالى مما خطاياهم أغرقوا فأدخلوا نارا] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى كَلَامَ نُوحٍ عليه السلام قال بعده: مما خطاياهم أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: (مَا) صِلَةٌ كَقَوْلِهِ: فَبِما نَقْضِهِمْ [النِّسَاءِ: 155] فَبِما رَحْمَةٍ [النساء: 159] وَالْمَعْنَى مِنْ خَطَايَاهُمْ أَيْ مِنْ أَجْلِهَا وَبِسَبَبِهَا، وقرأ ابن مسعود: من خطيئاتهم مَا أُغْرِقُوا فَأَخَّرَ كَلِمَةَ مَا، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَا تَكُونُ مَا صِلَةً زَائِدَةً لِأَنَّ مَا مَعَ مَا بَعْدَهُ فِي تَقْرِيرِ الْمَصْدَرِ. واعلم أن تقديم قوله: مما خطاياهم لبيان أنه لم يكن إغراقهم بالطوفان [فإدخالهم النار] «2» إِلَّا مِنْ أَجْلِ خَطِيئَاتِهِمْ، فَمَنْ قَالَ مِنَ الْمُنَجِّمِينَ: إِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ أَنَّهُ انْقَضَى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ نِصْفُ الدَّوْرِ الْأَعْظَمِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ كَانَ مُكَذِّبًا لِصَرِيحِ هَذِهِ الْآيَةِ فَيَجِبُ تَكْفِيرُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ خَطِيئاتِهِمْ بِالْهَمْزَةِ وَخَطِيَّاتِهِمْ بِقَلْبِهَا يَاءً وَإِدْغَامِهَا وَخَطَايَاهُمْ وَخَطِيئَتِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ عَلَى إِرَادَةِ الْجِنْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكُفْرُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَطَايَا وَالْخَطِيئَاتِ كِلَاهُمَا جَمْعُ خَطِيئَةٍ، إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ وَالثَّانِيَ جَمْعُ سَلَامَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا فِي الْبَقَرَةِ: [58] عِنْدَ قَوْلِهِ: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وفي الأعراف: [161] عند قوله: خَطِيئاتِكُمْ.

_ (1) زيادة من الكشاف 4/ 164 ط. دار الفكر. (2) زيادة من الكشاف 4/ 164 ط. دار الفكر.

[سورة نوح (71) : آية 26]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكَ أَصْحَابُنَا فِي إِثْبَاتِ عَذَابِ الْقَبْرِ بِقَوْلِهِ: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَأُدْخِلُوا نَارًا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ عَقِيبَ الْإِغْرَاقِ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَإِلَّا بَطَلَتْ دَلَالَةُ هَذِهِ الْفَاءِ الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: فَأُدْخِلُوا عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمَاضِي. وَهَذَا إِنَّمَا يَصْدُقُ لَوْ وَقَعَ ذَلِكَ، قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ سَيَدْخُلُونَ فِي الْآخِرَةِ نَارًا ثُمَّ عَبَّرَ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِصِحَّةِ كَوْنِهِ وَصِدْقِ الْوَعْدِ بِهِ كَقَوْلِهِ: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ [الْأَعْرَافِ: 50] وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَافِ: 44] وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي قَالُوهُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا تَرَكْنَا هَذَا الظَّاهِرَ لِدَلِيلٍ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ مَاتَ فِي الْمَاءِ فَإِنَّا نُشَاهِدُهُ هُنَاكَ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ أُدْخِلُوا نَارًا؟ وَالْجَوَابُ: هَذَا الْإِشْكَالُ إِنَّمَا جَاءَ لِاعْتِقَادِ أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ مَجْمُوعُ هَذَا الْهَيْكَلِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ هُوَ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا مِنْ أَوَّلِ عُمُرِهِ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ صَغِيرَ الْجُثَّةِ فِي أَوَّلِ عُمُرِهِ، ثُمَّ إِنَّ أَجْزَاءَهُ دَائِمًا فِي التَّحَلُّلِ وَالذَّوَبَانِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَاقِيَ غَيْرُ/ الْمُتَبَدِّلِ، فَهَذَا الْإِنْسَانُ عِبَارَةٌ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ بَاقٍ مِنَ أَوَّلِ عُمُرِهِ إِلَى الْآنِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ وَإِنْ بَقِيَتْ هَذِهِ الْجُثَّةُ فِي الْمَاءِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَقَلَ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ الْأَصْلِيَّةَ الْبَاقِيَةَ الَّتِي كَانَ الْإِنْسَانُ الْمُعَيَّنُ عِبَارَةً عَنْهَا إِلَى النَّارِ وَالْعَذَابِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا وَاظَبُوا عَلَى عِبَادَةِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ لِتَكُونَ دَافِعَةً لِلْآفَاتِ عَنْهُمْ جَالِبَةً لِلْمَنَافِعِ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ عَذَابُ اللَّهِ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِتِلْكَ الْأَصْنَامِ، وَمَا قَدَرَتْ تِلْكَ الْأَصْنَامُ عَلَى دَفْعِ عَذَابِ اللَّهِ عَنْهُمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا [الْأَنْبِيَاءِ: 43] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ حُجَّةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ عَوَّلَ عَلَى شَيْءٍ غير الله تعالى. [سورة نوح (71) : آية 26] وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) قَالَ الْمُبَرِّدُ: دَيَّاراً لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي النَّفْيِ الْعَامِّ، يُقَالُ: مَا بِالدَّارِ دَيَّارٌ وَلَا تُسْتَعْمَلُ فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ، قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ: هُوَ فَيْعَالٌ مِنَ الدَّوْرِ، وَأَصْلُهُ دَيْوَارٌ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى، قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مَا بِهَا دَيَّارٌ أَيْ نَازِلُ دَارٍ. ثم قال تعالى: [سورة نوح (71) : آية 27] إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ عَرَفَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ؟ قُلْنَا: لِلنَّصِّ وَالِاسْتِقْرَاءِ، أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هُودٍ: 35] وَأَمَّا الِاسْتِقْرَاءُ فَهُوَ أَنَّهُ لَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَعَرَفَ طِبَاعَهُمْ وَجَرَّبَهُمْ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَنْطَلِقُ بِابْنِهِ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: احْذَرْ هَذَا فَإِنَّهُ كَذَّابٌ، وَإِنَّ أَبِي أَوْصَانِي بِمِثْلِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، فَيَمُوتُ الْكَبِيرُ وَيَنْشَأُ الصَّغِيرُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي علمك كذلك والثاني: أنهم سيصيرون كذلك. [سورة نوح (71) : آية 28] رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28) وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَعَا عَلَى الْكُفَّارِ قَالَ بَعْدَهُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي أَيْ فِيمَا صَدَرَ عَنِّي مِنْ تَرْكِ

الْأَفْضَلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ حِينَ دَعَا عَلَى الْكُفَّارِ إِنَّمَا دَعَا عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ تَأَذِّيهِ مِنْهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ كَالِانْتِقَامِ فَاسْتَغْفَرَ عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ طَلَبِ حَظِّ النَّفْسِ. ثُمَّ قَالَ: وَلِوالِدَيَّ أَبُوهُ لَمْكُ بْنُ مَتُّوشَلَخَ وَأُمُّهُ شَمْخَاءُ بِنْتُ أَنُوشَ وَكَانَا مُؤْمِنَيْنِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: لَمْ يَكُنْ بَيْنَ نُوحٍ وَآدَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مِنْ آَبَائِهِ كَافِرٌ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ عَشَرَةُ آبَاءٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ (وَلِوَلِدَيَّ) يريد ساما وحاما. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً قِيلَ: مَسْجِدِي، وَقِيلَ: سَفِينَتِي، وَقِيلَ: لِمَنْ دَخَلَ فِي دِينِي، فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَصِيرُ قَوْلُهُ: مُؤْمِناً مُكَرَّرًا، قُلْنَا: إِنَّ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِ ظَاهِرًا قَدْ يَكُونُ مُؤْمِنًا بِقَلْبِهِ وَقَدْ لَا يَكُونُ، وَالْمَعْنَى وَلِمَنْ دَخَلَ فِي دِينِي دُخُولًا مَعَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ إِنَّمَا خَصَّ نَفْسَهُ أَوَّلًا بِالدُّعَاءِ ثُمَّ الْمُتَّصِلِينَ بِهِ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى وَأَحَقُّ بِدُعَائِهِ ثُمَّ عَمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ. ثُمَّ خَتَمَ الْكَلَامَ مَرَّةً أُخْرَى بِالدُّعَاءِ عَلَى الْكَافِرِينَ فَقَالَ: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً أَيْ هَلَاكًا وَدَمَارًا وَكُلُّ شَيْءِ أُهْلِكَ فَقَدْ تَبَرَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ [الْأَعْرَافِ: 139] وَقَوْلُهُ: وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً [الْإِسْرَاءِ: 7] فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فَأَهْلَكَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا جُرْمُ الصِّبْيَانِ حِينَ أُغْرِقُوا؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَيْبَسَ أَصْلَابَ آبَائِهِمْ وَأَعْقَمَ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ قَبْلَ الطُّوفَانِ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً أَوْ (تِسْعِينَ) «1» فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ صَبِيٌّ حِينَ أُغْرِقُوا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِلَى قَوْلِهِ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ [نُوحٍ: 10- 12] وَهَذَا يَدُلُّ بِحَسَبِ الْمَفْهُومِ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَسْتَغْفِرُوا فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يُمْدِدْهُمْ بِالْبَنِينَ الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ: عَلِمَ اللَّهُ بَرَاءَةَ الصِّبْيَانِ فَأَهْلَكَهُمْ بِغَيْرِ عَذَابٍ الثَّالِثُ: غَرِقُوا مَعَهُمْ لَا عَلَى وَجْهِ الْعِقَابِ بَلْ كَمَا يَمُوتُونَ بِالْغَرَقِ وَالْحَرْقِ وَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي عَذَابِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ إِذَا أَبْصَرُوا أَطْفَالَهُمْ يَغْرَقُونَ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

_ (1) في الكشاف للزمخشري (سبعين) 4/ 166 ط. دار الفكر.

سورة الجن

بسم الله الرّحمن الرّحيم سُورَةُ الْجِنِّ وَهِيَ عِشْرُونَ وَثَمَانِ آيَاتٍ مَكِّيَّةٍ [سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ النَّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي ثُبُوتِ الْجِنِّ وَنَفْيِهِ، فَالنَّقْلُ الظَّاهِرُ عَنْ أَكْثَرِ الْفَلَاسِفَةِ إِنْكَارُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَبَا عَلِيِّ بْنَ سِينَا قَالَ فِي رِسَالَتِهِ فِي حُدُودِ الْأَشْيَاءِ الْجِنُّ حَيَوَانٌ هَوَائِيٌّ مُتَشَكِّلٌ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا شَرْحٌ لِلِاسْمِ. فَقَوْلُهُ: وَهَذَا شَرْحٌ لِلِاسْمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدَّ شَرْحٌ لِلْمُرَادِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ، وَأَمَّا جُمْهُورُ أَرْبَابِ الْمِلَلِ وَالْمُصَدِّقِينَ لِلْأَنْبِيَاءِ فَقَدِ اعْتَرَفُوا بِوُجُودِ الْجِنِّ، وَاعْتَرَفَ بِهِ جَمْعٌ عَظِيمٌ مِنْ قُدَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ وَأَصْحَابِ الرُّوحَانِيَّاتِ وَيُسَمُّونَهَا بِالْأَرْوَاحِ السُّفْلِيَّةِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْأَرْوَاحَ السُّفْلِيَّةَ أَسْرَعُ إِجَابَةً إِلَّا أَنَّهَا أَضْعَفُ، وَأَمَّا الْأَرْوَاحُ الْفَلَكِيَّةُ فَهِيَ أَبْطَأُ إِجَابَةً إِلَّا أَنَّهَا أَقْوَى. وَاخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ أَجْسَامًا وَلَا حَالَّةً فِي الْأَجْسَامِ بَلْ هِيَ جَوَاهِرُ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا، قَالُوا: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا تَكُونُ مُسَاوِيَةً لِذَاتِ اللَّهِ لِأَنَّ كَوْنَهَا لَيْسَتْ أَجْسَامًا وَلَا جُسْمَانِيَّةَ سَلُوبٍ وَالْمُشَارَكَةُ فِي السَّلُوبِ لَا تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فِي الْمَاهِيَّةِ، قَالُوا: ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الذَّوَاتِ بَعْدَ اشْتِرَاكِهَا فِي هَذَا السَّلْبِ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ بِالْمَاهِيَّةِ كَاخْتِلَافِ مَاهِيَّاتِ الْأَعْرَاضِ بَعْدَ اسْتِوَائِهَا فِي الْحَاجَةِ إِلَى الْمَحَلِّ فَبَعْضُهَا خَيِّرَةٌ، وَبَعْضُهَا شِرِّيرَةٌ، وَبَعْضُهَا كَرِيمَةٌ مُحِبَّةٌ لِلْخَيْرَاتِ، وَبَعْضُهَا دَنِيئَةٌ خَسِيسَةٌ مُحِبَّةٌ لِلشُّرُورِ وَالْآفَاتِ، وَلَا يَعْرِفُ عَدَدَ أَنْوَاعِهِمْ وَأَصْنَافِهِمْ إِلَّا اللَّهُ، قَالُوا: وَكَوْنُهَا مَوْجُودَاتٍ مُجَرَّدَةً لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهَا عَالِمَةً بِالْخَبَرِيَّاتِ قَادِرَةً عَلَى الْأَفْعَالِ، فَهَذِهِ الْأَرْوَاحُ يُمْكِنُهَا أَنْ تَسْمَعَ وَتُبْصِرَ وَتَعْلَمَ الْأَحْوَالَ الْخَبَرِيَّةَ وَتَفْعَلَ الْأَفْعَالَ الْمَخْصُوصَةَ، وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ مَاهِيَّاتِهَا مُخْتَلِفَةٌ لَا جَرَمَ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ فِي أَنْوَاعِهَا مَا يَقْدِرُ على أفعال شاقة عظيمة تعجز عنها قدر الْبَشَرِ، وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا تَعَلُّقٌ بِنَوْعٍ مَخْصُوصٍ مِنْ أَجْسَامِ هَذَا الْعَالَمِ، وَكَمَا أَنَّهُ دَلَّتِ الدَّلَائِلُ الطِّبِّيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَلِّقَ الْأَوَّلَ لِلنَّفْسِ النَّاطِقَةِ الَّتِي لَيْسَ الْإِنْسَانُ إِلَّا هِيَ، هِيَ الْأَرْوَاحُ وَهِيَ أَجْسَامٌ بُخَارِيَّةٌ لَطِيفَةٌ/ تَتَوَلَّدُ مِنْ أَلْطَفِ أَجْزَاءِ الدَّمِ وَتَتَكَوَّنُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مِنَ الْقَلْبِ ثُمَّ بِوَاسِطَةِ تَعَلُّقِ النَّفْسِ بِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ تَصِيرُ مُتَعَلِّقَةً بِالْأَعْضَاءِ الَّتِي تَسْرِي فِيهَا هَذِهِ الْأَرْوَاحُ لَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْجِنِّ تَعَلُّقٌ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَوَاءِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْجُزْءُ مِنَ الْهَوَاءِ هُوَ الْمُتَعَلِّقَ الْأَوَّلَ لِذَلِكَ الرُّوحِ ثُمَّ بِوَاسِطَةِ سَيَرَانِ ذَلِكَ الْهَوَاءِ فِي جِسْمٍ آخَرَ كَثِيفٍ يَحْصُلُ لِتِلْكَ الْأَرْوَاحِ تَعَلُّقٌ وَتَصَرُّفٌ فِي تِلْكَ الْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ ذَكَرَ فِي الْجِنِّ طريقة أخرى

فَقَالَ: هَذِهِ الْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ وَالنُّفُوسُ النَّاطِقَةُ إِذَا فَارَقَتْ أَبْدَانَهَا وَازْدَادَتْ قُوَّةً وَكَمَالًا بِسَبَبِ مَا فِي ذَلِكَ الْعَالَمِ الرُّوحَانِيِّ مِنَ انْكِشَافِ الْأَسْرَارِ الرُّوحَانِيَّةِ فَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ حَدَثَ بَدَنٌ آخَرُ مُشَابِهٌ لِمَا كَانَ لِتِلْكَ النَّفْسِ الْمُفَارِقَةِ مِنَ البدن، فسبب تِلْكَ الْمُشَاكَلَةِ يَحْصُلُ لِتِلْكَ النَّفْسِ الْمُفَارِقَةِ تَعَلُّقٌ ما لهذا البدن، وتصير تلك النفس المفارقة كالمعاونة لنفس ذلك البدن في أفعالها وتدبيرها لذلك الْبَدَنِ، فَإِنَّ الْجِنْسِيَّةَ عِلَّةُ الضَّمِّ، فَإِنِ اتَّفَقَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ فِي النُّفُوسِ الْخَيِّرَةِ سُمِّيَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ مَلَكًا وَتِلْكَ الْإِعَانَةُ إِلْهَامًا، وَإِنِ اتَّفَقَتْ فِي النُّفُوسِ الشِّرِّيرَةِ سُمِّيَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ شَيْطَانًا وَتِلْكَ الْإِعَانَةُ وَسْوَسَةً. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْجِنِّ أَنَّهُمْ أَجْسَامٌ ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ، مِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُخْتَلِفَةٌ فِي مَاهِيَّاتِهَا، إِنَّمَا الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهَا صِفَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ كَوْنُهَا بِأَسْرِهَا حَاصِلَةً فِي الْحَيِّزِ وَالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ وَكَوْنُهَا مَوْصُوفَةً بِالطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْعُمْقِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا إِشَارَةٌ إِلَى الصِّفَاتِ، وَالِاشْتِرَاكُ فِي الصِّفَاتِ لَا يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ لَا يَمْتَنِعُ اشْتِرَاكُهَا فِي لَازِمٍ وَاحِدٍ. قَالُوا: وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ بِأَنْ يُقَالَ: الْجِسْمُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جِسْمٌ لَهُ حَدٌّ وَاحِدٌ، وَحَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَحْصُلَ التَّفَاوُتُ فِي مَاهِيَّةِ الْجِسْمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ جِسْمٌ، بَلْ إِنْ حَصَلَ التَّفَاوُتُ حَصَلَ فِي مَفْهُومٍ زَائِدٍ عَلَى ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُ يُمْكِنُنَا تَقْسِيمُ الْجِسْمِ إِلَى اللَّطِيفِ وَالْكَثِيفِ، وَالْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَمَوْرِدُ التَّقْسِيمِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَقْسَامِ، فَالْأَقْسَامُ كُلُّهَا مُشْتَرِكَةٌ فِي الْجِسْمِيَّةِ وَالتَّفَاوُتُ، إِنَّمَا يَحْصُلُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَهِيَ اللَّطَافَةُ وَالْكَثَافَةُ، وَكَوْنُهَا عُلْوِيَّةً وَسُفْلِيَّةً قَالُوا: وَهَاتَانِ الْحُجَّتَانِ ضَعِيفَتَانِ. أَمَّا الْحُجَّةُ الْأُولَى: فَلِأَنَّا نَقُولُ، كَمَا أَنَّ الجسم من حيث إنه جسم له حد وَاحِدٌ، وَحَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، فَكَذَا الْعَرَضُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عَرَضٌ لَهُ حَدٌّ وَاحِدٌ، وَحَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ الْأَعْرَاضُ كُلُّهَا مُتَسَاوِيَةً فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، بَلِ الْحَقُّ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَعْرَاضِ أَلْبَتَّةَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا مِنَ الذَّاتِيَّاتِ، إذ لَوْ حَصَلَ بَيْنَهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ، لَكَانَ ذَلِكَ الْمُشْتَرَكُ جِنْسًا لَهَا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا كَانَتِ التِّسْعَةُ أَجْنَاسًا عَالِيَةً بَلْ كَانَتْ أَنْوَاعَ جِنْسٍ وَاحِدٍ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْأَعْرَاضُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا أَعْرَاضٌ لَهَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهَا ذَاتِيٌّ مُشْتَرَكٌ أَصْلًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مُتَسَاوِيَةً فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي الْجِسْمِ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ الْأَعْرَاضَ مُخْتَلِفَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْمُخْتَلِفَاتِ مُتَسَاوِيَةٌ فِي وَصْفِ عَارِضٍ وَهُوَ كَوْنُهَا عَارِضَةً لِمَوْضُوعَاتِهَا، فَكَذَا مِنَ الْجَائِزِ أَنْ تَكُونَ مَاهِيَّاتُ الْأَجْسَامِ مُخْتَلِفَةً فِي تَمَامِ مَاهِيَّاتِهَا ثُمَّ إِنَّهَا تَكُونُ مُتَسَاوِيَةً فِي وَصْفٍ عَارِضٍ، وَهُوَ كَوْنُهَا مُشَارًا إِلَيْهَا بِالْحِسِّ وَحَاصِلَةً فِي الْحَيِّزِ وَالْمَكَانِ، وَمَوْصُوفَةً بِالْأَبْعَادِ الثَّلَاثَةِ، فَهَذَا الِاحْتِمَالُ لَا دَافِعَ لَهُ أَصْلًا. وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يُمْكِنُ تَقْسِيمُ الْجِسْمِ إِلَى اللَّطِيفِ وَالْكَثِيفِ فَهِيَ أَيْضًا مَنْقُوضَةٌ بِالْعَرَضِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ تَقْسِيمُ الْعَرَضِ إِلَى الْكَيْفِ وَالْكَمِّ وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ مِنَ الذَّاتِيِّ فَضْلًا عَنِ التَّسَاوِي فِي كُلِّ الذَّاتِيَّاتِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ هَاهُنَا أَيْضًا كَذَلِكَ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي كَوْنِ الْأَجْسَامِ مُخْتَلِفَةً وَلَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، فَحِينَئِذٍ قَالُوا: لَا يَمْتَنِعُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ اللَّطِيفَةِ الْهَوَائِيَّةِ أَنْ تَكُونَ مُخَالِفَةً لِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْهَوَاءِ فِي الْمَاهِيَّةِ ثُمَّ تَكُونَ تِلْكَ الْمَاهِيَّةُ تَقْتَضِي لِذَاتِهَا عِلْمًا مخصوصا وقدرة

مَخْصُوصَةً عَلَى أَفْعَالٍ عَجِيبَةٍ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْقَوْلُ بِالْجِنِّ ظَاهِرَ الِاحْتِمَالِ وَتَكُونُ قُدْرَتُهَا عَلَى التَّشَكُّلِ بِالْأَشْكَالِ الْمُخْتَلِفَةِ ظَاهِرَةَ الِاحْتِمَالِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْأَجْسَامُ مُتَسَاوِيَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ أَيْضًا فِرْقَتَانِ. الْفِرْقَةُ الْأُولَى: الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْبِنْيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْحَيَاةِ وَهَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَجُمْهُورِ أَتْبَاعِهِ وَأَدِلَّتُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ ظَاهِرَةٌ قَوِيَّةٌ، قَالُوا: وَلَوْ كَانَتِ الْبِنْيَةُ شَرْطًا لِلْحَيَاةِ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْحَيَاةَ الْوَاحِدَةَ قَامَتْ بِمَجْمُوعِ الْأَجْزَاءِ أَوْ يُقَالَ: قَامَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ حَيَاةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ لِأَنَّ حُلُولَ الْعَرَضِ الْوَاحِدِ فِي الْمَحَالِّ الْكَثِيرَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْأَجْزَاءَ الَّتِي مِنْهَا تَأَلَّفَ الْجِسْمُ مُتَسَاوِيَةٌ وَالْحَيَاةَ الْقَائِمَةَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُسَاوِيَةٌ لِلْحَيَاةِ الْقَائِمَةِ بِالْجُزْءِ الْآخَرِ وَحُكْمُ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ، فَلَوِ افْتَقَرَ قِيَامُ الْحَيَاةِ بِهَذَا الْجُزْءِ إِلَى قِيَامِ تِلْكَ الْحَيَاةِ بِذَلِكَ الْجُزْءِ لَحَصَلَ هَذَا الِافْتِقَارُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَلْزَمُ وُقُوعُ الدَّوْرِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الِافْتِقَارُ فَحِينَئِذٍ ثَبَتَ أَنَّ قِيَامَ الْحَيَاةِ بِهَذَا الْجُزْءِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قِيَامِ الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ بِذَلِكَ الْجُزْءِ الثَّانِي، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا التَّوَقُّفُ ثَبَتَ أَنَّهُ يَصِحُّ كَوْنُ الْجُزْءِ الْوَاحِدِ مَوْصُوفًا بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَبَطَلَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْبِنْيَةَ شَرْطٌ، قَالُوا: وَأَمَّا دَلِيلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْبِنْيَةِ فَلَيْسَ إِلَّا الِاسْتِقْرَاءَ وَهُوَ أَنَّا رَأَيْنَا أَنَّهُ مَتَى فَسَدَتِ الْبِنْيَةُ بَطَلَتِ الْحَيَاةُ وَمَتَى لَمْ تَفْسُدْ بَقِيَتِ الْحَيَاةُ فَوَجَبَ تَوَقُّفُ الْحَيَاةِ عَلَى حُصُولِ الْبِنْيَةِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا رَكِيكٌ، فَإِنَّ الِاسْتِقْرَاءَ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِالْوُجُوبِ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ حَالَ مَنْ لَمْ يُشَاهَدْ كَحَالِ مَا شُوهِدَ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُنْكِرُ خَرْقَ الْعَادَاتِ، أَمَّا مَنْ يُجَوِّزُهَا فَهَذَا لَا يَتَمَشَّى عَلَى مَذْهَبِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي جَعْلِ بَعْضِهَا عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ وَجَعْلِ بَعْضِهَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْبِنْيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْحَيَاةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ عِلْمًا بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَقُدْرَةً/ عَلَى أَشْيَاءَ شَاقَّةٍ شَدِيدَةٍ، وَعِنْدَ هَذَا ظَهَرَ الْقَوْلُ بِإِمْكَانِ وُجُودِ الْجِنِّ، سَوَاءٌ كَانَتْ أَجْسَامُهُمْ لَطِيفَةً أَوْ كَثِيفَةً، وَسَوَاءٌ كَانَتْ أَجَزَاؤُهُمْ كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبِنْيَةَ شَرْطُ الْحَيَاةِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ صَلَابَةٍ فِي الْبِنْيَةِ حَتَّى يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْأَفْعَالِ الشَّاقَّةِ فَهَهُنَا مَسْأَلَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْئِيُّ حَاضِرًا وَالْمَوَانِعُ مُرْتَفِعَةً وَالشَّرَائِطُ مِنَ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ حَاصِلَةً، وَتَكُونَ الْحَاسَّةُ سَلِيمَةً، ثُمَّ مَعَ هَذَا لَا يَحْصُلُ الْإِدْرَاكُ أَوْ يَكُونَ هَذَا مُمْتَنِعًا عَقْلًا؟ أَمَّا الْأَشْعَرِيُّ وَأَتْبَاعُهُ فَقَدْ جَوَّزُوهُ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ حَكَمُوا بِامْتِنَاعِهِ عَقْلًا، وَالْأَشْعَرِيُّ احْتَجَّ عَلَى قَوْلِهِ بِوُجُوهٍ عَقْلِيَّةٍ وَنَقْلِيَّةٍ، أَمَّا الْعَقْلِيَّةُ فَأَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا نَرَى الْكَبِيرَ مِنَ الْبُعْدِ صَغِيرًا وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّا نَرَى بَعْضَ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْبَعِيدِ دُونَ الْبَعْضِ مَعَ أَنَّ نِسْبَةَ الْحَاسَّةِ وَجَمِيعَ الشَّرَائِطِ إِلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْمَرْئِيَّةِ كَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَجْزَاءِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ فَعَلِمْنَا أَنَّ مَعَ حُصُولِ سَلَامَةِ الْحَاسَّةِ وَحُضُورِ الْمَرْئِيِّ وَحُصُولِ الشَّرَائِطِ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ لَا يَكُونُ الْإِدْرَاكُ وَاجِبًا الثَّانِي: أَنَّ الْجِسْمَ الْكَبِيرَ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا مَجْمُوعُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْمُتَأَلِّفَةِ، فَإِذَا رَأَيْنَا ذَلِكَ الْجِسْمَ الْكَبِيرَ عَلَى مِقْدَارٍ مِنَ الْبُعْدِ فَقَدْ رَأَيْنَا تِلْكَ الْأَجْزَاءَ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ هَذَا الْجُزْءِ مَشْرُوطَةً بِرُؤْيَةِ ذَلِكَ الْجُزْءِ الْآخَرِ أَوْ لَا تَكُونَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ يَلْزَمُ الدَّوْرُ لِأَنَّ الْأَجْزَاءَ مُتَسَاوِيَةٌ فَلَوِ افْتَقَرَتْ رُؤْيَةُ هَذَا الْجُزْءِ إِلَى رُؤْيَةِ ذَلِكَ الْجُزْءِ لَافْتَقَرَتْ أَيْضًا رُؤْيَةُ ذَلِكَ الْجُزْءِ إِلَى رُؤْيَةِ هَذَا الْجُزْءِ فَيَقَعُ الدَّوْرُ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الِافْتِقَارُ فَحِينَئِذٍ رُؤْيَةُ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْمَسَافَةِ تَكُونُ مُمْكِنَةً، ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ ذَلِكَ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ لَوْ حَصَلَ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ سَائِرُ

الْجَوَاهِرِ فَإِنَّهُ لَا يُرَى، فَعَلِمْنَا أَنَّ حُصُولَ الرُّؤْيَةِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الشَّرَائِطِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا بَلْ جَائِزًا، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ عَوَّلُوا عَلَى أَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَجَوَّزْنَا أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِنَا طَبْلَاتٌ وَبُوقَاتٌ وَلَا نَرَاهَا وَلَا نَسْمَعُهَا فَإِذَا عَارَضْنَاهُمْ بِسَائِرِ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ وَقُلْنَا لَهُمْ: فجوزوا أن يقال انقلبت مياه البحار ذهب وفضة، والجبال ياقوتا وزبر جدا، أَوْ حَصَلَتْ فِي السَّمَاءِ حَالُ مَا غَمَضَتِ العين ألف شمس وقمر، ثم كما فُتِحَتِ الْعَيْنُ أَعْدَمَهَا اللَّهُ عَجَزُوا عَنِ الْفَرْقِ، وَالسَّبَبُ فِي هَذَا التَّشَوُّشِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةَ نَظَرُوا إِلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُطَّرِدَةِ فِي مَنَاهِجِ الْعَادَاتِ، فَوَهِمُوا أَنَّ بَعْضَهَا وَاجِبَةٌ، وَبَعْضَهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَلَمْ يَجِدُوا قَانُونًا مُسْتَقِيمًا، وَمَأْخَذًا سَلِيمًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ، فَتَشَوَّشَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ الْكُلِّ، فَيُحْكَمَ عَلَى الْكُلِّ بِالْوُجُوبِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ، أَوْ عَلَى الْكُلِّ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ. فَأَمَّا التَّحَكُّمُ فِي الْفَرْقِ فَهُوَ بَعِيدٌ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ جَوَازُ الْقَوْلِ بِالْجِنِّ، فَإِنَّ أَجْسَامَهُمْ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيفَةً قَوِيَّةً إلا أنه لا يَمْتَنِعُ أَنْ لَا تَرَاهَا، وَإِنْ كَانُوا حَاضِرِينَ هَذَا عَلَى قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ فَهَذَا هُوَ تَفْصِيلُ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَأَنَا مُتَعَجِّبٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ كَيْفَ يُصَدِّقُونَ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ إِثْبَاتِ الْمَلَكِ وَالْجِنِّ مَعَ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْمَلَائِكَةِ قُوَّةً عَظِيمَةً عَلَى الْأَفْعَالِ الشَّاقَّةِ، وَالْجِنُّ أَيْضًا كَذَلِكَ، وَهَذِهِ الْقُدْرَةُ لَا تَثْبُتُ إِلَّا فِي الْأَعْضَاءِ الْكَثِيفَةِ الصُّلْبَةِ، / فَإِذًا يَجِبُ فِي الْمَلَكِ وَالْجِنِّ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ حَاضِرُونَ عِنْدَنَا أَبَدًا، وَهُمُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ وَالْحَفَظَةُ، وَيَحْضُرُونَ أَيْضًا عِنْدَ قَبْضِ الْأَرْوَاحِ، وَقَدْ كَانُوا يَحْضُرُونَ عِنْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْقَوْمِ مَا كَانَ يَرَاهُمْ، وَكَذَلِكَ النَّاسُ الْجَالِسُونَ عِنْدَ مَنْ يَكُونُ فِي النَّزْعِ لَا يَرَوْنَ أَحَدًا، فَإِنْ وَجَبَتْ رُؤْيَةُ الْكَثِيفِ عِنْدَ الْحُضُورِ فَلِمَ لَا نَرَاهَا وَإِنْ لَمْ تَجِبِ الرُّؤْيَةُ فَقَدْ بَطَلَ مذهبهم، وإن كانوا موصوفون بِالْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ مَعَ عَدَمِ الْكَثَافَةِ وَالصَّلَابَةِ فَقَدْ بَطَلَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْبِنْيَةَ شَرْطُ الْحَيَاةِ، وَإِنْ قَالُوا: إِنَّهَا أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ وَحَيَّةٌ، وَلَكِنَّهَا لِلَطَافَتِهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، فَهَذَا إِنْكَارٌ لِصَرِيحِ الْقُرْآنِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَحَالُهُمْ فِي الْإِقْرَارِ بِالْمَلَكِ وَالْجِنِّ مَعَ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ عَجِيبٌ، وَلَيْتَهُمْ ذَكَرُوا عَلَى صِحَّةِ مَذَاهِبِهِمْ شُبْهَةً مُخَيَّلَةً فَضْلًا عَنْ حُجَّةٍ مُبِينَةٍ، فَهَذَا هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الدَّقَائِقِ وَالْمُشْكِلَاتِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَلْ رَأَى الْجِنَّ أَمْ لَا؟ فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا رَآهُمْ، قَالَ: إِنَّ الْجِنَّ كَانُوا يَقْصِدُونَ السَّمَاءَ فِي الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ فَيَسْتَمِعُونَ أَخْبَارَ السَّمَاءِ وَيُلْقُونَهَا إِلَى الْكَهَنَةِ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ حُرِسَتِ السَّمَاءُ، وَحِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتِ الشُّهُبُ عَلَيْهِمْ فَرَجَعُوا إِلَى إِبْلِيسَ وَأَخْبَرُوهُ بِالْقِصَّةِ فَقَالَ: لَا بُدَّ لِهَذَا مِنْ سَبَبٍ فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا وَاطْلُبُوا السَّبَبَ فَوَصَلَ جَمْعٌ مِنَ أُولَئِكَ الطَّالِبِينَ إِلَى تِهَامَةَ فَرَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُوقِ عُكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ وَقَالُوا هَذَا وَاللَّهِ هُوَ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَهُنَاكَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ وَقَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ الْغَيْبِ وَقَالَ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ كَذَا وَكَذَا، قَالَ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَرَ الْجِنَّ إِذْ لَوْ رَآهُمْ لَمَا أَسْنَدَ مَعْرِفَةَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ إِلَى الْوَحْيِ فَإِنَّ مَا عُرِفَ وُجُودُهُ بِالْمُشَاهَدَةِ لَا يُسْنَدُ إِثْبَاتُهُ إِلَى الْوَحْيِ، فَإِنْ قِيلَ: الَّذِينَ رُمُوا بِالشُّهُبِ هُمُ الشَّيَاطِينُ وَالَّذِينَ سَمِعُوا الْقُرْآنَ هُمُ الْجِنُّ فَكَيْفَ وَجْهُ الْجَمْعِ؟ قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْجِنَّ كَانُوا مَعَ الشَّيَاطِينِ فَلَمَّا رُمِيَ الشَّيَاطِينُ أَخَذَ الْجِنُّ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُمْ

فِي تَجَسُّسِ الْخَبَرِ الثَّانِي: أَنَّ الَّذِينَ رُمُوا بِالشُّهُبِ كَانُوا مِنَ الْجِنِّ إِلَّا أَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: شَيَاطِينُ كَمَا قِيلَ: شَيَاطِينُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ كُلُّ مُتَمَرِّدٍ بَعِيدٍ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ أُولَئِكَ الْجِنَّ الَّذِينَ سَمِعُوا الْقُرْآنَ مَنْ هُمْ؟ فَرَوَى عَاصِمٌ عَنْ ذَرٍّ قَالَ: قَدِمَ رَهْطُ زَوْبَعَةَ وَأَصْحَابِهِ مَكَّةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعُوا قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ انْصَرَفُوا فَذَلِكَ قَوْلِهِ: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ [الْأَحْقَافِ: 29] وَقِيلَ: كَانُوا مِنَ الشَّيْصَبَانِ وَهُمْ أَكْثَرُ الْجِنِّ عَدَدًا وَعَامَّةُ جُنُودِ إِبْلِيسَ مِنْهُمْ. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ لِيَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَيْهِمْ وَيَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أُمِرْتُ أَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ عَلَى الْجِنِّ/ فَمَنْ يَذْهَبُ مَعِي؟ فَسَكَتُوا، ثُمَّ قَالَ الثَّانِيَةَ فَسَكَتُوا، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ قُلْتُ أَنَا أَذْهَبُ مَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا جَاءَ الْحَجُونَ عِنْدَ شِعْبِ ابْنِ أَبِي دُبٍّ، خَطَّ عَلَيَّ خَطًّا فَقَالَ: لَا تُجَاوِزْهُ، ثُمَّ مَضَى إِلَى الْحَجُونِ فَانْحَدَرُوا عَلَيْهِ أَمْثَالَ الْحَجَلِ كَأَنَّهُمْ رِجَالُ الزُّطِّ «1» يَقْرَعُونَ فِي دَفُوفِهِمْ كَمَا تَقْرَعُ النِّسْوَةُ فِي دَفُوفِهَا حَتَّى غَشَوْهُ، فَغَابَ عَنْ بَصَرِي فَقُمْتُ، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ بِيَدِهِ أَنِ اجْلِسْ، ثُمَّ تَلَا الْقُرْآنَ، فَلَمْ يَزَلْ صَوْتُهُ يَرْتَفِعُ، وَلَصِقُوا بِالْأَرْضِ حَتَّى صِرْتُ أَسْمَعُ صَوْتَهُمْ وَلَا أَرَاهُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا نَبِيُّ اللَّهِ، قَالُوا: فَمَنْ يَشْهَدُ لَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: هَذِهِ الشَّجَرَةُ، تَعَالِي يَا شَجَرَةُ، فَجَاءَتْ تَجُرُّ عُرُوقَهَا لَهَا قَعَاقِعُ حَتَّى انْصَبَّتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ عَلَى مَاذَا تَشْهَدِينَ لِي؟ قَالَتْ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: اذْهَبِي، فَرَجَعَتْ كَمَا جَاءَتْ حَتَّى صَارَتْ كَمَا كَانَتْ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَلَمَّا عَادَ إِلَيَّ، قَالَ: أَرَدْتَ أَنْ تَأْتِيَنِي؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: مَا كَانَ ذَلِكَ لَكَ، هَؤُلَاءِ الْجِنُّ أَتَوْا يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، فَسَأَلُونِي الزَّادَ فَزَوَّدْتُهُمُ الْعَظْمَ وَالْبَعْرَ، فَلَا يَسْتَطْيِبَنَّ أَحَدٌ بِعَظْمٍ وَلَا بَعْرٍ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى تَكْذِيبِ الرِّوَايَاتِ، وَطَرِيقُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ مَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَذْهَبِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: لَعَلَّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَعَ أَوَّلًا، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ بِهَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَثَانِيهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ وَاقِعَةُ الْجِنِّ مَرَّةً وَاحِدَةً، إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُمِرَ بِالذَّهَابِ إِلَيْهِمْ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ، إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا عَرَفَ أَنَّهُمْ مَاذَا قَالُوا، وَأَيُّ شَيْءٍ فَعَلُوا، فَاللَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ كَذَا وَقَالُوا كَذَا وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْوَاقِعَةَ كَانَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَآهُمْ وَسَمِعَ كَلَامَهُمْ، وَهُمْ آمَنُوا بِهِ، ثُمَّ لَمَّا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا وَكَانَ كَذَا وَكَذَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالُوهُ لِأَقْوَامِهِمْ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ مُحْتَمَلَةً فَلَا سَبِيلَ إِلَى التَّكْذِيبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْ أَمْرٌ مِنْهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ أَنْ يُظْهِرَ لِأَصْحَابِهِ مَا أَوْحَى اللَّهُ فِي وَاقِعَةِ الْجِنِّ، وَفِيهِ فَوَائِدُ إِحْدَاهَا: أَنْ يَعْرِفُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا بُعِثَ إِلَى الْإِنْسِ، فَقَدْ بُعِثَ إِلَى الْجِنِّ وَثَانِيهَا: أَنْ يَعْلَمَ قُرَيْشٌ أَنَّ الْجِنَّ مَعَ تَمَرُّدِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ عَرَفُوا إِعْجَازَهُ، فَآمَنُوا بِالرَّسُولِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَعْلَمَ الْقَوْمُ أَنَّ الْجِنَّ مُكَلَّفُونَ كَالْإِنْسِ وَرَابِعُهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْجِنَّ يَسْتَمِعُونَ كَلَامَنَا وَيَفْهَمُونَ لُغَاتِنَا وَخَامِسُهَا: أَنْ يُظْهِرَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ مِنْهُمْ يَدْعُو غَيْرَهُ مِنْ قَبِيلَتِهِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَفِي كُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ مصالح كثيرة إذا عرفها الناس.

_ (1) يروى الحديث هكذا: «أجسامهم كأجسام الزط ورؤسهم كرءوس المكاكي» . يعني عظام الأجسام صغار الرءوس والمكاكي جمع مكاء وهو طائر صغير.

[سورة الجن (72) : آية 3]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْإِيحَاءُ إِلْقَاءُ الْمَعْنَى إِلَى النَّفْسِ فِي خَفَاءٍ كَالْإِلْهَامِ وَإِنْزَالِ الْمَلَكِ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي سُرْعَةٍ مِنْ قَوْلِهِمْ: الْوَحْيُ الْوَحْيُ وَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ أُوحِيَ بِالْأَلِفِ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ/ وَهَارُونَ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو وُحِيَ بِضَمِّ الْوَاوِ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَهُمَا لُغَتَانِ يُقَالُ: وُحِيَ إِلَيْهِ وَأُوحِيَ إِلَيْهِ وَقُرِئَ أُحِيَ بِالْهَمْزِ مِنْ غَيْرِ وَاوٍ، وَأَصْلُهُ وُحِيَ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً كَمَا يُقَالُ: أعد وأزن وإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ [الْمُرْسَلَاتِ: 11] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّهُ اسْتَمَعَ بِالْفَتْحِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَائِبُ فَاعِلِ أُوحِيَ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ [الْأَنْعَامِ: 19] وَأَجْمَعُوا عَلَى كَسْرِ إِنَّا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا سَمِعْنا لأنه مبتدأ محكي بعد القول، ثم هاهنا قِرَاءَتَانِ إِحْدَاهُمَا: أَنْ نَحْمِلَ الْبَوَاقِيَ عَلَى الْمَوْضِعَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِمَا فَمَا كَانَ مِنَ الْوَحْيِ فُتِحَ، وَمَا كَانَ مِنْ قَوْلِ الْجِنِّ كُسِرَ، وَكُلُّهَا مِنْ قَوْلِ الْجِنِّ إِلَّا الْآخَرَيْنِ وَهُمَا قَوْلُهُ: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ [الْجِنِّ: 18] وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ [الْجِنِّ: 19] ، وَثَانِيهِمَا: فَتْحُ الْكُلِّ وَالتَّقْدِيرُ: فَآمَنَّا بِهِ وَآمَنَّا بِأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا وَبِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا وَكَذَا الْبَوَاقِي، فإن قيل: هاهنا إِشْكَالٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقْبُحُ إِضَافَةُ الْإِيمَانِ إِلَى بَعْضِ هَذِهِ السُّورَةِ فَإِنَّهُ يَقْبُحُ أَنْ يُقَالَ: وَآمَنَّا بِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُعْطَفُ عَلَى الْهَاءِ الْمَخْفُوضَةِ إِلَّا بِإِظْهَارِ الْخَافِضِ لَا يُقَالُ: آمَنَّا بِهِ وَزَيْدٍ، بَلْ يُقَالُ: آمَنَّا بِهِ وَبِزَيْدٍ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْإِشْكَالَيْنِ أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ: آمَنَّا عَلَى مَعْنَى صَدَّقْنَا وَشَهِدْنَا زَالَ الْإِشْكَالَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ رُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ النَّفَرَ كَانُوا يَهُودًا، وَذَكَرَ الْحَسَنُ أَنَّ فِيهِمْ يَهُودًا وَنَصَارَى وَمَجُوسًا وَمُشْرِكِينَ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْجِنَّ حَكَوْا أَشْيَاءَ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مِمَّا حَكَوْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً أَيْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ حِينَ رَجَعُوا إِلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الْأَحْقَافِ: 29] ، قُرْآناً عَجَباً أَيْ خَارِجًا عَنْ حَدِّ أَشْكَالِهِ وَنَظَائِرِهِ، وَ (عَجَبًا) مَصْدَرٌ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْعَجِيبِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَبْلَغُ مِنَ الْعَجِيبِ، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أَيْ إِلَى الصَّوَابِ، وَقِيلَ: إِلَى التَّوْحِيدِ فَآمَنَّا بِهِ أَيْ بِالْقُرْآنِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَآمَنَّا بِالرُّشْدِ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً أَيْ وَلَنْ نَعُودَ إِلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنَ الْإِشْرَاكِ بِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الْجِنَّ كَانُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِمَّا ذَكَرَهُ الْجِنُّ أَنَّهُمْ كَمَا نَفَوْا عَنْ أَنْفُسِهِمُ الشِّرْكَ نزهوا ربهم عن الصاحبة والولد فقالوا: [سورة الجن (72) : آية 3] وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْجَدِّ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْجَدُّ فِي اللُّغَةِ الْعَظَمَةُ يُقَالُ: جَدَّ فُلَانٌ أَيْ عَظُمَ/ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «كَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ جَدَّ فِينَا» أَيْ جَدَّ قَدْرُهُ وَعَظُمَ، لِأَنَّ الصَّاحِبَةَ تُتَّخَذُ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَالْوَلَدَ لِلتَّكَثُّرِ بِهِ وَالِاسْتِئْنَاسِ، وَهَذِهِ مِنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: الْجَدُّ الْغِنَى وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «لَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ لَا يَنْفَعُ ذَا الْغِنَى مِنْكَ غِنَاهُ، وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: «قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ يَدْخُلُهَا الْفُقَرَاءُ وَإِذَا أَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ»

[سورة الجن (72) : آية 4]

يَعْنِي أَصْحَابَ الْغِنَى فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى وَأَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الصَّاحِبَةِ وَالِاسْتِئْنَاسِ بِالْوَلَدِ. وَعِنْدِي فِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ جَدَّ الْإِنْسَانِ أَصْلُهُ الَّذِي مِنْهُ وُجُودُهُ فَجُعِلَ الْجَدُّ مَجَازًا عَنِ الْأَصْلِ، فَقَوْلُهُ: تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَعْنَاهُ تَعَالَى أَصْلُ رَبِّنَا وَأَصْلُهُ حَقِيقَتُهُ الْمَخْصُوصَةُ الَّتِي لِنَفْسِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا هِيَ تَكُونُ وَاجِبَةَ الْوُجُودِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى أَنَّ حَقِيقَتَهُ الْمَخْصُوصَةَ مُتَعَالِيَةٌ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ التَّعَلُّقِ بِالْغَيْرِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لِذَاتِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَاحِبَةٌ وَوَلَدٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ جَدًّا رَبُّنَا بِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيزِ وجَدُّ رَبِّنا بِالْكَسْرِ أَيْ صِدْقُ رُبُوبِيَّتِهِ وَحَقُّ إِلَهِيَّتِهِ عَنِ اتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ، وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْجِنَّ لَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ تَنَبَّهُوا لِفَسَادِ مَا عَلَيْهِ كَفَرَةُ الْجِنِّ فَرَجَعُوا أَوَّلًا عَنِ الشِّرْكِ وَثَانِيًا عَنْ دِينِ النَّصَارَى. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِمَّا ذَكَرَهُ الْجِنُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: [سورة الجن (72) : آية 4] وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) السَّفَهُ خِفَّةُ الْعَقْلِ وَالشَّطَطُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الظلم وغيره ومنه أشط في السوم إِذَا أَبْعَدَ فِيهِ أَيْ يَقُولُ قَوْلًا هُوَ فِي نَفْسِهِ شَطَطٌ لِفَرْطِ مَا أَشَطَّ فِيهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الشَّطَطُ هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي جَانِبِ النَّفْيِ أَوْ فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ، فَحِينَئِذٍ ظَهَرَ أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مَذْمُومٌ فَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي النَّفْيِ تُفْضِي إِلَى التَّعْطِيلِ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْإِثْبَاتِ تُفْضِي إِلَى التَّشْبِيهِ، وَإِثْبَاتِ الشَّرِيكِ وَالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ شَطَطٌ وَمَذْمُومٌ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تعالى: [سورة الجن (72) : آية 5] وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّا إِنَّمَا أَخَذْنَا قَوْلَ الْغَيْرِ لِأَنَّا ظَنَنَّا أَنَّهُ لَا يُقَالُ: الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ، فَلَمَّا سَمِعْنَا الْقُرْآنَ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ قَدْ يَكْذِبُونَ، وَهَذَا مِنْهُمْ إِقْرَارٌ بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا وَقَعُوا فِي تِلْكَ الْجَهَالَاتِ/ بِسَبَبِ التَّقْلِيدِ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا تَخَلَّصُوا عَنْ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ بِبَرَكَةِ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاحْتِجَاجِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: كَذِباً بِمَ نُصِبَ؟ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَصْفُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ قَوْلًا كَذِبًا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ نُصِبَ نَصْبَ الْمَصْدَرِ لِأَنَّ الْكَذِبَ نَوْعٌ مِنَ الْقَوْلِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَنْ قَرَأَ: أَنْ لَنْ تَقُولَ وَضَعَ كَذِباً مَوْضِعَ تَقَوُّلًا، وَلَمْ يَجْعَلْهُ صِفَةً، لِأَنَّ التَّقَوُّلَ لا يكون إلا كذبا. النوع الخامس: - قوله تعالى: [سورة الجن (72) : آية 6] وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الرَّجُلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا سَافَرَ فَأَمْسَى فِي قَفْرٍ مِنَ الْأَرْضِ

[سورة الجن (72) : آية 7]

قَالَ: أَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي أَوْ بِعَزِيزِ هَذَا الْمَكَانِ مِنْ شَرِّ سُفَهَاءِ قَوْمِهِ، فَيَبِيتُ فِي جِوَارٍ مِنْهُمْ حَتَّى يُصْبِحَ، وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا قُحِطُوا بَعَثُوا رَائِدَهُمْ، فَإِذَا وَجَدَ مَكَانًا فِيهِ كَلَأٌ وَمَاءٌ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ فَيُنَادِيهِمْ، فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَى تِلْكَ الْأَرْضِ نَادَوْا نَعُوذُ بِرَبِّ هَذَا الْوَادِي مِنَ أَنْ يُصِيبَنَا آفَةٌ يَعْنُونَ الْجِنَّ، فَإِنْ لَمْ يُفْزِعْهُمْ أَحَدٌ نَزَلُوا، وَرُبَّمَا تُفْزِعُهُمُ الْجِنُّ فَيَهْرُبُونَ الْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْإِنْسِ أَيْضًا، لَكِنْ مِنْ شَرِّ الْجِنِّ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: أَعُوذُ بِرَسُولِ اللَّهِ مِنْ شَرِّ جِنِّ هَذَا الْوَادِي، وَأَصْحَابُ هَذَا التَّأْوِيلِ إِنَّمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، لِأَنَّ الرَّجُلَ اسْمُ الْإِنْسِ لَا اسْمُ الْجِنِّ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الذَّكَرَ مِنَ الْجِنِّ لَا يُسَمَّى رَجُلًا، أَمَّا قَوْلُهُ: فَزادُوهُمْ رَهَقاً قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ زَادُوهُمْ إِثْمًا وَجُرْأَةً وَطُغْيَانًا وَخَطِيئَةً وَغَيًّا وَشَرًّا، كُلُّ هَذَا مِنْ أَلْفَاظِهِمْ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الرَّهَقُ غَشَيَانُ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ [يُونُسَ: 26] وَقَوْلُهُ: تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عَبَسَ: 41] وَرَجُلٌ مُرْهَقٌ أَيْ يَغْشَاهُ السَّائِلُونَ. وَيُقَالُ رَهَقَتْنَا الشَّمْسُ إِذَا قَرُبَتْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ رِجَالَ الْإِنْسِ إِنَّمَا اسْتَعَاذُوا بِالْجِنِّ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَغْشَاهُمُ الْجِنُّ، ثُمَّ إِنَّهُمْ زَادُوا فِي ذَلِكَ الْغَشَيَانِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا تَعَوَّذُوا بِهِمْ، وَلَمْ يَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ اسْتَذَلُّوهُمْ وَاجْتَرَءُوا عَلَيْهِمْ فَزَادُوهُمْ ظُلْمًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ عَطَاءٍ خَبَطُوهُمْ وَخَنَقُوهُمْ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ زَادُوا مِنْ فِعْلِ الْجِنِّ وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ زَادُوا مِنْ فِعْلِ الْإِنْسِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَ لَمَّا اسْتَعَاذُوا بِالْجِنِّ فَالْجِنُّ يَزْدَادُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّعَوُّذِ طُغْيَانًا فَيَقُولُونَ: سُدْنَا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ اللَّائِقُ بِمَسَاقِ الْآيَةِ وَالْمُوَافِقُ لِنَظْمِهَا. النَّوْعُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: [سورة الجن (72) : آية 7] وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَالَّتِي قَبْلَهَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا مِنْ جُمْلَةِ الْوَحْيِ فَإِنْ كَانَا مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، كَانَ التَّقْدِيرُ وَأَنَّ الْإِنْسَ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَيُّهَا الْجِنُّ، وَإِنْ كَانَا مِنَ الْوَحْيِ كَانَ التَّقْدِيرُ: وَأَنَّ الْجِنَّ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ يَا كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ كَمَا أَنَّهُمْ كَانَ فِيهِمْ مُشْرِكٌ وَيَهُودِيٌّ وَنَصْرَانِيٌّ فَفِيهِمْ مَنْ يُنْكِرُ الْبَعْثَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَبْعَثُ أَحَدًا لِلرِّسَالَةِ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ الْبَرَاهِمَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى كَلَامِ الْجِنِّ أَوْلَى لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ كَلَامُ الْجِنِّ فَإِلْقَاءُ كَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ عَنْ كَلَامِ الجن في البين غير لائق. النوع السابع: قوله تعالى: [سورة الجن (72) : آية 8] وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) اللمس: المس فاستعير للطالب لِأَنَّ الْمَاسَّ طَالِبٌ مُتَعَرِّفٌ يُقَالُ: لَمَسَهُ وَالْتَمَسَهُ، وَمِثْلُهُ الْجَسُّ يُقَالُ: جَسُّوهُ بِأَعْيُنِهِمْ وَتَجَسَّسُوهُ، وَالْمَعْنَى طَلَبْنَا بُلُوغَ السَّمَاءِ وَاسْتِمَاعَ كَلَامِ أَهْلِهَا، وَالْحَرَسُ اسْمٌ مُفْرَدٌ فِي مَعْنَى الْحُرَّاسِ كَالْخَدَمِ فِي مَعْنَى الْخُدَّامِ وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِشَدِيدٍ وَلَوْ ذَهَبَ إِلَى مَعْنَاهُ لَقِيلَ شِدَادًا «1» . النَّوْعُ الثَّامِنُ: قَوْلُهُ تعالى:

_ (1) في الأصل: يقل شدادا ولعل ما أثبته هو الصواب.

[سورة الجن (72) : آية 9]

[سورة الجن (72) : آية 9] وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) أَيْ كُنَّا نَسْتَمِعُ فَالْآنَ مَتَى حَاوَلْنَا الِاسْتِمَاعَ رُمِينَا بِالشُّهُبِ، وَفِي قَوْلِهِ: شِهاباً رَصَداً وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي رَمْيًا مِنَ الشُّهُبِ وَرَصَدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ شِهَابًا وَرَصَدًا لِأَنَّ الرَّصَدَ غَيْرُ الشِّهَابِ وَهُوَ جَمْعُ رَاصِدٍ وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ شِهَابًا قَدْ أُرْصِدَ لَهُ لِيُرْجَمَ بِهِ، وَعَلَى هَذَا الرَّصَدُ نَعْتٌ لِلشِّهَابِ، وَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَثَالِثُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَصَدًا أَيْ رَاصِدًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشِّهَابَ لَمَّا كَانَ مُعَدًّا لَهُ، فَكَأَنَّ الشِّهَابَ رَاصِدٌ لَهُ وَمُتَرَصِّدٌ لَهُ وَاعْلَمْ أَنَّا قَدِ اسْتَقْصَيْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الْمُلْكِ: 5] فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الشُّهُبُ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْمَبْعَثِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ أَحَدُهَا: أَنَّ جَمِيعَ الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ تَكَلَّمُوا فِي أَسْبَابِ انْقِضَاضِ هَذِهِ الشُّهُبِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْمَبْعَثِ وَثَانِيهَا: قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك: 5] ذَكَرَ فِي خَلْقِ الْكَوَاكِبِ فَائِدَتَيْنِ، التَّزْيِينُ وَرَجْمُ الشَّيَاطِينِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ وَصْفَ هَذَا الِانْقِضَاضِ جَاءَ فِي شِعْرِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ أَوْسُ بْنُ حجر: فانقض كالدريّ يتبعه ... نقع يثور تخاله طُنُبَا وَقَالَ عَوْفُ بْنُ الْخَرْعِ: يَرُدُّ عَلَيْنَا الْعِيرَ مِنْ دُونِ إِلْفِهِ ... أَوِ الثَّوْرَ كَالدَّرِّيِّ يَتْبَعُهُ الدَّمُ وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ جَالِسٌ فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ إِذْ رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ فَقَالَ: مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي مِثْلِ هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ فَقَالُوا كُنَّا نَقُولُ: يَمُوتُ عَظِيمٌ أَوْ يُولَدُ عَظِيمٌ» الْحَدِيثَ إِلَى آخِرِهِ ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ قَالُوا: فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ هَذِهِ الشُّهُبَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْمَبْعَثِ، فَمَا مَعْنَى تَخْصِيصِهَا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام؟ والجواب: مَبْنِيٌّ عَلَى مَقَامَيْنِ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الشُّهُبَ مَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْمَبْعَثِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَأُبَيِّ بن كعب، روي عن ابن عباس قَالَ: كَانَ الْجِنُّ يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاءِ فَيَسْتَمِعُونَ الْوَحْيَ فَإِذَا سَمِعُوا الْكَلِمَةَ زَادُوا فِيهَا تِسْعًا، أَمَّا الْكَلِمَةُ فَإِنَّهَا تَكُونُ حَقَّةً، وَأَمَّا الزِّيَادَاتُ فَتَكُونُ بَاطِلَةً فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنِعُوا مَقَاعِدَهُمْ، وَلَمْ تَكُنِ النُّجُومُ يُرَى بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ إِبْلِيسُ: مَا هَذَا إِلَّا لِأَمْرٍ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ، فبعث جنوده فوجد ورسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا يُصَلِّي، الْحَدِيثَ إِلَى آخِرِهِ، وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: لَمْ يُرْمَ بِنَجْمٍ مُنْذُ رُفِعَ عِيسَى حَتَّى بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ فَرُمِيَ بِهَا، فَرَأَتْ قُرَيْشٌ أَمْرًا مَا رَأَوْهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَجَعَلُوا يُسَيِّبُونَ أَنْعَامَهُمْ وَيَعْتِقُونَ رِقَابَهُمْ، يَظُنُّونَ أَنَّهُ الْفَنَاءُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ بَعْضَ أَكَابِرِهِمْ، فَقَالَ: لِمَ فَعَلْتُمْ مَا أَرَى؟ قَالُوا: رُمِيَ بِالنُّجُومِ فَرَأَيْنَاهَا تَتَهَافَتُ مِنَ السَّمَاءِ، فَقَالَ: اصْبِرُوا فَإِنْ تَكُنْ نُجُومًا مَعْرُوفَةً فَهُوَ وَقْتُ فَنَاءِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَتْ نُجُومًا لَا تُعْرَفُ فَهُوَ أَمْرٌ قَدْ حَدَثَ فَنَظَرُوا، فَإِذَا هِيَ لَا تُعْرَفُ، فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ: فِي الْأَمْرِ مُهْلَةٌ، وَهَذَا عِنْدَ ظُهُورِ نَبِيٍّ فَمَا مَكَثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى قَدِمَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى أَمْوَالِهِ وَأَخْبَرَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ بِأَنَّهُ ظَهَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَيَدَّعِي أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَهَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّ كُتُبَ الْأَوَائِلِ قَدْ تَوَالَتْ عَلَيْهَا التَّحْرِيفَاتُ فَلَعَلَّ الْمُتَأَخِّرِينَ أَلْحَقُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِهَا طَعْنًا مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ،

[سورة الجن (72) : آية 10]

وَكَذَا الْأَشْعَارُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لَعَلَّهَا مختلفة عَلَيْهِمْ وَمَنْحُولَةٌ. الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ أَنَّ هَذِهِ الشُّهُبَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْمَبْعَثِ إِلَّا أَنَّهَا زِيدَتْ بَعْدَ الْمَبْعَثِ وَجُعِلَتْ أَكْمَلَ وَأَقْوَى، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لفظ القرآن لأنه قال: فَوَجَدْناها مُلِئَتْ [الجن: 8] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَادِثَ هُوَ الْمَلْءُ وَالْكَثْرَةُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ أَيْ كُنَّا نَجِدُ فِيهَا بَعْضَ الْمَقَاعِدِ خَالِيَةً مِنَ الْحَرَسِ وَالشُّهُبِ وَالْآنَ مُلِئَتِ الْمَقَاعِدُ كُلُّهَا، فَعَلَى هَذَا الَّذِي حَمَلَ الْجِنَّ عَلَى الضَّرْبِ فِي الْبِلَادِ وَطَلَبِ السَّبَبِ، إِنَّمَا هُوَ كَثْرَةُ الرَّجْمِ ومنع الاستراق بالكلية. النوع التاسع: قوله تعالى: [سورة الجن (72) : آية 10] وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا لَا نَدْرِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمَنْعِ مِنَ الِاسْتِرَاقِ هُوَ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِأَهْلِ الْأَرْضِ أَمْ صَلَاحٌ وَخَيْرٌ وَالثَّانِي: لَا نَدْرِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِرْسَالِ مُحَمَّدٍ الَّذِي عِنْدَهُ مَنْعٌ مِنَ الِاسْتِرَاقِ هُوَ أَنْ يُكَذِّبُوهُ فَيَهْلَكُوا كَمَا هَلَكَ مَنْ كَذَّبَ مِنَ الْأُمَمِ، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا. النوع العاشر: قوله تعالى: [سورة الجن (72) : آية 11] وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) أَيْ مِنَّا الصَّالِحُونَ الْمُتَّقُونَ أَيْ وَمِنَّا قَوْمٌ دُونَ ذَلِكَ فَحُذِفَ الْمَوْصُوفِ كَقَوْلِهِ: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصَّافَّاتِ: 164] ثُمَّ الْمُرَادُ بِالَّذِينِ هُمْ دُونَ الصَّالِحِينَ مَنْ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمُ الْمُقْتَصِدُونَ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي الصَّلَاحِ غَيْرَ كَامِلَيْنِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ لَا يَكُونُ كَامِلًا فِي الصَّلَاحِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُقْتَصِدُونَ وَالْكَافِرُونَ، وَالْقِدَةُ مِنْ قَدَدَ، كَالْقِطْعَةِ مِنْ قَطَعَ. وَوُصِفَتِ الطَّرَائِقُ بِالْقِدَدِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى مَعْنَى التَّقَطُّعِ وَالتَّفَرُّقِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ كُنَّا ذَوِي طَرَائِقَ قِدَدًا أَيْ ذَوِي مَذَاهِبَ مُخْتَلِفَةٍ. قَالَ السُّدِّيُّ: الْجِنُّ أَمْثَالُكُمْ، فِيهِمْ مُرْجِئَةٌ وَقَدَرِيَّةٌ وَرَوَافِضُ وَخَوَارِجُ وَثَانِيهَا: كُنَّا فِي اخْتِلَافِ أَحْوَالِنَا مِثْلَ الطَّرَائِقِ الْمُخْتَلِفَةِ وَثَالِثُهَا: كانت طرائقنا طرائق قددا عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ الَّذِي هُوَ الطَّرَائِقُ، وَإِقَامَةِ الضَّمِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. النَّوْعُ الْحَادِيَ عَشَرَ: قوله تعالى: [سورة الجن (72) : آية 12] وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) الظَّنُّ بِمَعْنَى الْيَقِينِ، وفِي الْأَرْضِ وهَرَباً فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمَا حَالَانِ، أَيْ لَنْ نُعْجِزَهُ كَائِنِينَ فِي الْأَرْضِ أَيْنَمَا كُنَّا فِيهَا، وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَارِبِينَ مِنْهَا إِلَى السَّمَاءِ وَالثَّانِي: لَنْ نُعْجِزَهُ فِي الْأَرْضِ إِنْ أَرَادَ بِنَا أَمْرًا، وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا إِنْ طَلَبَنَا. النَّوْعُ الثاني عشر: قوله تعالى: [سورة الجن (72) : آية 13] وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى أَيِ الْقُرْآنُ، قَالَ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] آمَنَّا بِهِ أَيْ آمَنَّا بِالْقُرْآنِ

[سورة الجن (72) : آية 14]

فَلا يَخافُ فَهُوَ لَا يَخَافُ أَيْ فَهُوَ غَيْرُ خَائِفٍ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكَلَامُ فِي تقدير جملة من المبتدأ والخبر، أدخل الفاء عَلَيْهَا لِتَصِيرَ جَزَاءً لِلشَّرْطِ الَّذِي تَقَدَّمُهَا، وَلَوْلَا ذَاكَ لِقِيلَ: لَا يَخَفْ، فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ فَائِدَةٍ فِي رَفْعِ الْفِعْلِ، وَتَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ قَبْلَهُ حَتَّى يَقَعَ خَبَرًا لَهُ وَوُجُوبِ إِدْخَالِ الْفَاءِ، وكان ذلك كله مستغنى عنه بأن يُقَالَ: لَا يَخَفْ قُلْنَا: الْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَهُوَ لَا يَخَافُ، فَكَانَ دَالًّا عَلَى تَحْقِيقِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ نَاجٍ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ لِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَهُوَ لَا يَخَافُ مَعْنَاهُ أَنَّ غَيْرَهُ يَكُونُ خَائِفًا، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: فَلَا يَخَفْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بَخْساً وَلا رَهَقاً الْبَخْسُ النَّقْصُ، وَالرَّهَقُ الظُّلْمُ، ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: لَا يَخَافُ جَزَاءَ بَخْسٍ وَلَا رَهَقٍ، لأنه لم يبخس أحدا حقا، ولا [رهق] «1» ظَلَمَ أَحَدًا، فَلَا يَخَافُ جَزَاءَهُمَا الثَّانِي: لَا يَخَافُ أَنْ/ يُبْخَسَ، بَلْ يَقْطَعُ بِأَنَّهُ يُجْزَى الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، وَلَا يَخَافُ أَنْ تُرْهِقَهُ ذِلَّةٌ من قوله: تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [القلم: 43] . النوع الثالث عشر: قوله تعالى: [سورة الجن (72) : آية 14] وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) الْقَاسِطُ الْجَائِرُ، وَالْمُقْسِطُ الْعَادِلُ، وَذَكَرْنَا مَعْنَى قَسَطَ وَأَقْسَطَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ، فَالْقَاسِطُونَ الْكَافِرُونَ الْجَائِرُونَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لَهُ حِينَ أَرَادَ قَتْلَهُ: مَا تَقُولُ فِيَّ؟ قَالَ: قَاسِطٌ عَادِلٌ، فَقَالَ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ، حَسِبُوا أَنَّهُ يَصِفُهُ بِالْقِسْطِ وَالْعَدْلِ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: يَا جَهَلَةُ إِنَّهُ سَمَّانِي ظَالِمًا مشركا، وتلا لهم قوله: أَمَّا الْقاسِطُونَ [الجن: 15] وَقَوْلَهُ: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، [الْأَنْعَامِ: 1] تَحَرَّوْا رَشَداً أَيْ قَصَدُوا طَرِيقَ الْحَقِّ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَحَرَّوْا تَوَخَّوْا، قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُ التَّحَرِّي مِنْ قَوْلِهِمْ: ذَلِكَ أَحْرَى، أَيْ أَحَقُّ وَأَقْرَبُ، وَبِالْحَرِيِّ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، أَيْ يَجِبُ عَلَيْكَ. ثُمَّ إِنَّ الْجِنَّ ذَمُّوا الْكَافِرِينَ فَقَالُوا: [سورة الجن (72) : آية 15] وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَفِيهِ سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: لِمَ ذَكَرَ عِقَابَ الْقَاسِطِينَ وَلَمْ يَذْكُرْ ثَوَابَ الْمُسْلِمِينَ؟ الْجَوَابُ: بَلْ ذَكَرَ ثَوَابَ الْمُؤْمِنِينَ وهو قوله تعالى: تَحَرَّوْا رَشَداً [الجن: 14] أَيْ تَوَخَّوْا رَشَدًا عَظِيمًا لَا يَبْلُغُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلا في الثواب. السؤال الثاني: الجن مخلوقين مِنَ النَّارِ، فَكَيْفَ يَكُونُونَ حَطَبًا لِلنَّارِ؟ الْجَوَابُ: أَنَّهُمْ وَإِنْ خُلِقُوا مِنَ النَّارِ، لَكِنَّهُمْ تَغَيَّرُوا عَنْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ وَصَارُوا لَحْمًا وَدَمًا هَكَذَا، قيل وهاهنا آخر كلام الحسن. [سورة الجن (72) : الآيات 16 الى 17] وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17)

_ (1) زيادة من الكشاف 4/ 169 ط. دار الفكر.

هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُوحَى إِلَيْهِ وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ أوحي إلي أنه استمع نفر وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا فَيَكُونُ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثاني مما أوحي إليه، وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: (أَنْ) مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَالْمَعْنَى: وَأُوحِيَ، إِلَيَّ أَنَّ الشَّأْنَ وَالْحَدِيثَ لَوِ اسْتَقَامُوا لَكَانَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَفَصْلُ لو بينها وبين الفعل كفصل ولا السين فِي/ قَوْلِهِ: أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا [طه: 89] وعَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ [الْمُزَّمِّلِ: 20] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: اسْتَقامُوا إِلَى مَنْ يَرْجِعُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِلَى الْجِنِّ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ وَوَصْفُهُمْ، أَيْ هَؤُلَاءِ الْقَاسِطُونَ لَوْ آمَنَّا لَفَعَلْنَا بِهِمْ كَذَا وَكَذَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ الْإِنْسُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّرْغِيبَ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمَاءِ الْغَدَقِ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْإِنْسِ لَا بِالْجِنِّ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ بعد ما حَبَسَ اللَّهُ الْمَطَرَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ سِنِينَ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ الْإِنْسِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا جَرَى مَجْرَى قَوْلُهُ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: 1] وَقَالَ الْقَاضِي: الْأَقْرَبُ أَنَّ الْكُلَّ يَدْخُلُونَ فِيهِ. وَأَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُحْتَجَّ لِصِحَّةِ قَوْلِ الْقَاضِي بِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَثْبَتَ حُكْمًا مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ وَهُوَ الِاسْتِقَامَةُ، وَجَبَ أَنْ يُعَمَّ الْحُكْمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْغَدَقُ بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا: الْمَاءُ الْكَثِيرُ، وَقُرِئَ بِهِمَا يُقَالُ: غَدَقَتِ الْعَيْنُ بِالْكَسْرِ فَهِيَ غَدِقَةٌ، وَرَوْضَةٌ مُغْدِقَةٌ أَيْ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، وَمَطَرٌ مَغْدُوقٌ وَغَيْدَاقٌ وَغَيْدَقٌ إِذَا كَانَ كَثِيرَ الْمَاءِ، وَفِي الْمُرَادِ بِالْمَاءِ الْغَدَقِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْغَيْثُ وَالْمَطَرُ، وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [البقرة: 25] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ الْمَنَافِعُ وَالْخَيْرَاتُ جُعِلَ الْمَاءُ كِنَايَةً عَنْهَا، لِأَنَّ الْمَاءَ أَصْلُ الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا فِي الدُّنْيَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنْ قُلْنَا: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: اسْتَقامُوا رَاجِعٌ إِلَى الْجِنِّ كَانَ فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَوِ اسْتَقَامَ الْجِنُّ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى أَيْ لَوْ ثَبَتَ أَبُوهُمُ الْجَانُّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَلَمْ يَسْتَكْبِرْ عَنِ السُّجُودِ لِآدَمَ وَلَمْ يَكْفُرْ وَتَبِعَهُ وَلَدُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ لَأَنْعَمْنَا عَلَيْهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا [الْمَائِدَةِ: 65] وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا [الْمَائِدَةِ: 66] وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ [الطَّلَاقِ: 2، 3] وَقَوْلُهُ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِلَى قَوْلِهِ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ [نُوحٍ: 12] وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَاءَ كِنَايَةً عَنْ طِيبِ الْعَيْشِ وَكَثْرَةِ الْمَنَافِعِ، فَإِنَّ اللَّائِقَ بِالْجِنِّ هُوَ هَذَا الْمَاءُ الْمَشْرُوبُ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامَ الْجِنُّ الَّذِينَ سَمِعُوا الْقُرْآنَ عَلَى طَرِيقَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قَبْلَ الِاسْتِمَاعِ وَلَمْ يَنْتَقِلُوا عَنْهَا إِلَى الْإِسْلَامِ لَوَسَّعْنَا عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ [الزُّخْرُفِ: 33] وَاخْتَارَ الزَّجَّاجُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ قَالَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الطَّرِيقَةَ مُعَرَّفَةً بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَتَكُونُ رَاجِعَةً إِلَى الطَّرِيقَةِ الْمَعْرُوفَةِ الْمَشْهُورَةِ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْهُدَى وَالذَّاهِبُونَ إِلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي اسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آلِ عِمْرَانَ: 178] وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ مَنْ آمَنَ فَأَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ الْإِنْعَامُ أَيْضًا ابْتِلَاءً وَاخْتِبَارًا حَتَّى يَظْهَرَ أَنَّهُ هَلْ يَشْتَغِلُ بِالشُّكْرِ أَمْ لَا، وَهَلْ يُنْفِقُهُ فِي طَلَبِ مَرَاضِي اللَّهِ أَوْ فِي مَرَاضِي الشَّهْوَةِ وَالشَّيْطَانِ، وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إلى الإنس، فالوجهان عائدان فيه بعينه/ وهاهنا يكون

[سورة الجن (72) : آية 18]

إِجْرَاءُ قَوْلِهِ: لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْلَى لِأَنَّ انْتِفَاعَ الْإِنْسِ بِذَلِكَ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ: لِنَفْتِنَهُمْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُضِلُّ عِبَادَهُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ أَجَابُوا بِأَنَّ الْفِتْنَةَ هِيَ الِاخْتِبَارُ كَمَا يُقَالُ: فَتَنْتُ الذَّهَبَ بِالنَّارِ لَا خَلْقُ الضَّلَالِ، وَاسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ لِنَفْتِنَهُمْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَفْعَلُ لِغَرَضٍ، وَأَصْحَابُنَا أَجَابُوا أَنَّ الْفِتْنَةَ بِالِاتِّفَاقِ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ اللَّامَ لَيْسَتْ لِلْغَرَضِ فِي حَقِّ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ أَيْ عَنْ عِبَادَتِهِ أَوْ عَنْ مَوْعِظَتِهِ، أَوْ عَنْ وَحْيِهِ. يَسْلُكْهُ، وَقُرِئَ بِالنُّونِ مَفْتُوحَةً وَمَضْمُومَةً أَيْ نُدْخِلْهُ عَذَابًا، وَالْأَصْلُ نَسْلُكْهُ فِي عَذَابٍ كَقَوْلِهِ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [الْمُدَّثِّرِ: 42] إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ أَيْضًا مُسْتَقِيمَةٌ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ نَسْلُكْهُ فِي عَذَابٍ، ثُمَّ حُذِفَ الْجَارُّ وَأُوصِلَ الْفِعْلُ، كَقَوْلِهِ: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الْأَعْرَافِ: 155] وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى نَسْلُكْهُ أَيْ نُدْخِلْهُ، يُقَالُ: سَلَكَهُ وَأَسْلَكَهُ، وَالصَّعَدُ مَصْدَرُ صَعَدَ، يُقَالُ: صَعَدَ صَعَدًا وَصُعُودًا، فَوُصِفَ بِهِ الْعَذَابُ لِأَنَّهُ (يَصْعَدُ) «1» فَوْقَ طَاقَةِ الْمُعَذَّبِ أَيْ يَعْلُوهُ وَيَغْلِبُهُ فَلَا يُطِيقُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ: مَا تصعدني شيء ما تصعدتني خُطْبَةُ النِّكَاحِ، يُرِيدُ مَا شَقَّ عَلَيَّ وَلَا غَلَبَنِي، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ صَعَدًا جَبَلٌ فِي جَهَنَّمَ، وَهُوَ صَخْرَةٌ مَلْسَاءُ، فَيُكَلَّفُ الْكَافِرُ صُعُودَهَا ثُمَّ يُجْذَبُ مِنْ أَمَامِهِ بِسَلَاسِلَ وَيُضْرَبُ مِنْ خَلْفِهِ بِمَقَامِعَ حَتَّى يَبْلُغَ أَعْلَاهَا فِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَإِذَا بَلَغَ أَعْلَاهَا جُذِبَ إِلَى أَسْفَلِهَا، ثُمَّ يُكَلَّفُ الصُّعُودَ مَرَّةً أُخْرَى، فَهَذَا دَأْبُهُ أَبَدًا، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً [الْمُدَّثِّرِ: 17] . النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ جُمْلَةِ الْمُوحَى قَوْلُهُ تَعَالَى: [سورة الجن (72) : آية 18] وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّقْدِيرُ: قُلْ أُوحِي إِلَيَّ أَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ، وَمَذْهَبُ الْخَلِيلِ أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَلِأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا، فعلى هذا اللام متعلقة، [بلا تَدْعُوا، أَيْ] «2» فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا فِي الْمَسَاجِدِ لِأَنَّهَا لِلَّهِ خَاصَّةً، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ عَلَى مَعْنَى، وَلِأَنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، أَيْ لِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى فَاعْبُدُونِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمَسَاجِدِ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّهَا الْمَوَاضِعُ الَّتِي بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ وَذِكْرِ اللَّهِ وَيَدْخُلُ فِيهَا الْكَنَائِسُ وَالْبِيَعُ وَمَسَاجِدُ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُشْرِكُونَ فِي صَلَاتِهِمْ فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ وَثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ: أَرَادَ بِالْمَسَاجِدِ الْبِقَاعَ كُلَّهَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا» كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: الْأَرْضُ كُلُّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا تَسْجُدُوا عَلَيْهَا لِغَيْرِ خَالِقِهَا وَثَالِثُهَا: رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: الْمَسَاجِدُ هِيَ الصَّلَوَاتُ فَالْمَسَاجِدُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ جَمْعُ مَسْجَدٍ بِفَتْحِ/ الْجِيمِ وَالْمَسْجَدُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى السُّجُودِ وَرَابِعُهَا: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْمَسَاجِدُ الْأَعْضَاءُ الَّتِي يَسْجُدُ الْعَبْدُ عَلَيْهَا وَهِيَ سَبْعَةٌ الْقَدَمَانِ وَالرُّكْبَتَانِ وَالْيَدَانِ وَالْوَجْهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، قَالَ: لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ هِيَ الَّتِي يَقَعُ السُّجُودُ عَلَيْهَا وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ لله تعالى، فلا ينبغي أن يسجد

_ (1) في الكشاف للزمخشري (يتصعد) 4/ 170 ط. دار الفكر. (2) زيادة من الكشاف 4/ 170 ط. دار الفكر.

[سورة الجن (72) : آية 19]

الْعَاقِلُ عَلَيْهَا لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَعْنَى الْمَسَاجِدِ مَوَاضِعُ السُّجُودِ مِنَ الْجَسَدِ وَاحِدُهَا مَسْجَدٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَخَامِسُهَا: قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ بِالْمَسَاجِدِ مَكَّةَ بِجَمِيعِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَسَاجِدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَكَّةَ قِبْلَةُ الدُّنْيَا وَكُلُّ أَحَدٍ يَسْجُدُ إِلَيْهَا، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَوَاحِدُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْأَقْوَالِ كُلِّهَا مَسْجَدٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا الْمَوَاضِعُ الَّتِي بُنَيَتْ لِلصَّلَاةِ فَإِنَّ وَاحِدَهَا بِكَسْرِ الْجِيمِ لِأَنَّ الْمَوَاضِعَ وَالْمَصَادِرَ كُلَّهَا مِنْ هَذَا الْبَابِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ إِلَّا فِي أَحْرُفٍ مَعْدُودَةٍ وَهِيَ: الْمَسْجِدُ وَالْمَطْلِعُ وَالْمَنْسِكُ وَالْمَسْكِنُ وَالْمَنْبِتُ وَالْمَفْرِقُ وَالْمَسْقِطُ وَالْمَجْزِرُ وَالْمَحْشِرُ وَالْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِهَا الْفَتْحُ وَهُوَ الْمَنْسَكُ وَالْمَسْكَنُ وَالْمَفْرَقُ وَالْمَطْلَعُ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي كُلِّهَا وَإِنْ لَمْ يُسْمَعْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْحَسَنُ: مِنَ السُّنَّةِ إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ الْمَسْجِدَ أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً في ضمنه أمر بذكر الله وبدعائه. النَّوْعُ الرَّابِعُ: مِنْ جُمْلَةِ الْمُوحَى قَوْلُهُ تَعَالَى: [سورة الجن (72) : آية 19] وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) اعْلَمْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، ثُمَّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ لَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُوحَى، لِأَنَّ الرَّسُولَ لَا يَلِيقُ أَنْ يَحْكِيَ عَنْ نَفْسِهِ بِلَفْظِ الْمُغَايَبَةِ وَهَذَا غَيْرُ بَعِيدٍ، كَمَا في قوله: يوم يحشر الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا [مَرْيَمَ: 85] وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُوحَى، إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ لَكَانَ مَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ. وَفِي خَلَلِ مَا هُوَ كَلَامُ الْجِنِّ مُخْتَلًّا بَعِيدًا عَنْ سَلَامَةِ النَّظْمِ وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُوحَى فَتَحَ الْهَمْزَةَ فِي أَنَّ، وَمَنْ جَعَلَهُ مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ كَسَرَهَا، وَنَحْنُ نُفَسِّرُ الْآيَةَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُوحَى فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: كادُوا إِلَى مَنْ يَعُودُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: إِلَى الْجِنِّ، وَمَعْنَى قامَ ... يَدْعُوهُ أَيْ قَامَ يَعْبُدُهُ يُرِيدُ قِيَامَهُ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ حِينَ أَتَاهُ الْجِنُّ، فَاسْتَمَعُوا الْقِرَاءَةَ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً، أَيْ يَزْدَحِمُونَ عَلَيْهِ مُتَرَاكِمِينَ تَعَجُّبًا مِمَّا رَأَوْا مِنْ عِبَادَتِهِ، وَاقْتِدَاءِ أَصْحَابِهِ بِهِ قَائِمًا وَرَاكِعًا، وَسَاجِدًا وَإِعْجَابًا بِمَا تَلَا مِنَ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْا مَا لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ، وَسَمِعُوا مَا لَمْ يَسْمَعُوا مِثْلَهُ وَالثَّانِي: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ مُخَالِفًا لِلْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ، كَادَ الْمُشْرِكُونَ لِتَظَاهُرِهِمْ عَلَيْهِ وَتَعَاوُنِهِمْ عَلَى عَدَاوَتِهِ يَزْدَحِمُونَ عَلَيْهِ وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ: لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ تَلَبَّدَتِ/ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ، وَتَظَاهَرُوا عَلَيْهِ لِيُبْطِلُوا الْحَقَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَنْصُرَهُ وَيُظْهِرَهُ عَلَى مَنْ عَادَاهُ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ، فَالْوَجْهَانِ أَيْضًا عَائِدَانِ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: لِبَداً فَهُوَ جَمْعُ لِبْدَةٍ وَهُوَ مَا تَلَبَّدَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ وَارْتَكَمَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَلْصَقْتَهُ بِشَيْءٍ إِلْصَاقًا شَدِيدًا فَقَدْ لَبَّدْتَهُ، وَمِنْهُ اشْتِقَاقُ هَذِهِ اللُّبُودِ الَّتِي تُفْرَشُ وَيُقَالُ: لِبْدَةُ الْأَسَدِ لِمَا يَتَلَبَّدُ مِنَ الشَّعْرِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: [لَدَى أَسَدٍ شَاكِي السِّلَاحِ مُقَذَّفٍ] ... لَهُ لِبَدٌ أَظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ وَقُرِئَ: لُبَدًا بِضَمِّ اللَّامِ وَاللُّبْدَةُ فِي معنى اللبدة، وقرئ لبدا جمع لا بد كسجّد في ساجد. وَقُرِئَ أَيْضًا: لُبُدًا بِضَمِّ اللَّامِ وَالْبَاءِ جَمْعُ لَبُودٍ كَصُبُرٍ جَمْعِ صَبُورٍ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ سمي محمدا بِعَبْدِ اللَّهِ، وَمَا ذَكَرَهُ بِرَسُولِ اللَّهِ أَوْ نَبِيِّ اللَّهِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُوحَى، فَاللَّائِقُ بِتَوَاضُعِ الرَّسُولِ أَنْ يَذْكُرَ نَفْسَهُ

[سورة الجن (72) : آية 20]

بِالْعُبُودِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ لَمَّا اشْتَغَلَ بِعُبُودِيَّةِ اللَّهِ، فَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ لِمَ اجْتَمَعُوا وَلِمَ حَاوَلُوا مَنْعَهُ مِنْهُ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُوَافِقُ لقانون العقل؟. [سورة الجن (72) : آية 20] قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قَرَأَ الْعَامَّةُ (قَالَ) عَلَى الْغَيْبَةِ وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ، قُلْ حَتَّى يَكُونَ نَظِيرًا لِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ [الجن: 21] قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي [الجن: 22] قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكَ جِئْتَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ وَقَدْ عَادَيْتَ النَّاسَ كُلَّهُمْ، فَارْجِعْ عَنْ هذا» فأنزل الله: قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَهَذَا حُجَّةٌ لِعَاصِمٍ وَحَمْزَةَ، وَمَنْ قَرَأَ قَالَ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا قَالُوا ذَلِكَ، أَجَابَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بقوله: إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي فَحَكَى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ قَالَ أَوْ يَكُونُ ذَاكَ مِنْ بَقِيَّةِ حِكَايَةِ الْجِنِّ أحوال الرسول لقومهم. [سورة الجن (72) : آية 21] قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) إِمَّا أَنْ يُفَسَّرَ الرَّشَدُ بِالنَّفْعِ حَتَّى يَكُونَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَا أَمْلِكُ لَكُمْ غَيًّا وَلَا رَشَدًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ (غَيًّا وَلَا رَشَدًا) ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ النَّافِعَ وَالضَّارَّ، وَالْمُرْشِدَ وَالْمُغْوِيَ هُوَ اللَّهُ، وَإِنَّ أَحَدًا مِنَ الخلق لا قدرة له عليه. [سورة الجن (72) : آية 22] قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّهُمْ قَالُوا: اتْرُكْ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ وَنَحْنُ نُجِيرُكَ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أَيْ مَلْجَأً وَحِرْزًا، قَالَ الْمُبَرِّدُ: مُلْتَحَداً مِثْلُ قَوْلِكَ مُنْعَرَجًا، وَالْتَحَدَ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ مَالَ، فَالْمُلْتَحَدُ الْمَدْخَلُ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَ السِّرْبِ الذَّاهِبِ في الأرض. [سورة الجن (72) : آية 23] إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ ذَكَرُوا فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: لَا أَمْلِكُ [الجن: 21] أَيْ لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي [الجن: 22] جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ وَقَعَتْ فِي الْبَيْنِ لِتَأْكِيدِ نَفْيِ الِاسْتِطَاعَةِ عَنْهُ وَبَيَانِ عَجْزِهِ عَلَى مَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى إِنْ أَرَادَ بِهِ سُوءًا لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يُجِيرَهُ مِنْهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ. وَثَانِيهَا: وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى البدل من قوله: مُلْتَحَداً [الجن: 22] وَالْمَعْنَى: وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مَلْجَأً إِلَّا بَلَاغًا، أَيْ لَا يُنْجِينِي إِلَّا أَنْ أُبَلِّغَ عَنِ اللَّهِ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ، وَأَقُولُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا لَمْ يَقُلْ وَلَنْ أَجِدَ مُلْتَحَدًا بَلْ قَالَ: وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً، وَالْبَلَاغُ مِنَ اللَّهِ لَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ: مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً لِأَنَّ الْبَلَاغَ مِنَ اللَّهِ لَا يَكُونُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، بَلْ يَكُونُ مِنَ اللَّهِ وَبِإِعَانَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ ثَالِثُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: (إِلَّا) مَعْنَاهُ إِنْ [لا] «1» وَمَعْنَاهُ: إِنْ لَا أُبَلِّغْ بَلَاغًا كَقَوْلِكَ: (إِلَّا) «2» قِيَامًا فَقُعُودًا، وَالْمَعْنَى: إِنْ لَا أُبَلِّغْ لَمْ أَجِدْ مُلْتَحَدًا، فَإِنْ قِيلَ: الْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُقَالُ بلغ عنه قال

_ (1) زيادة من الكشاف 4/ 171 ط. دار الفكر. (2) في الكشاف (إن لا) 4/ 171 ط. دار الفكر.

عَلَيْهِ السَّلَامُ: «بَلِّغُوا عَنِّي، بَلِّغُوا عَنِّي» فَلِمَ قال هاهنا: بَلاغاً مِنَ اللَّهِ؟ قُلْنَا: (مِنْ) لَيْسَتْ (بِصِفَةٍ للتبليغ) «1» إِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 1] بِمَعْنَى بَلَاغًا كَائِنًا مِنَ اللَّهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرِسالاتِهِ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى بَلاغاً كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَمْلِكُ لَكُمْ إِلَّا التَّبْلِيغَ وَالرِّسَالَاتِ، وَالْمَعْنَى إِلَّا أَنْ أُبَلِّغَ عَنِ اللَّهِ فَأَقُولُ: قَالَ اللَّهُ كَذَا نَاسِبًا الْقَوْلَ إِلَيْهِ وَأَنْ أُبَلِّغَ رِسَالَاتِهِ الَّتِي أَرْسَلَنِي بِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ إِنَّ مَكْسُورَةُ الْهَمْزَةِ لِأَنَّ مَا بَعْدَ فَاءِ الْجَزَاءِ مَوْضِعُ ابْتِدَاءٍ وَلِذَلِكَ حَمَلَ سِيبَوَيْهِ قَوْلَهُ: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [المائدة: 95] وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ [البقرة: 126] فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ [الْجِنِّ: 13] عَلَى أَنَّ الْمُبْتَدَأَ فِيهَا مُضْمَرٌ وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَقُرِئَ: فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ عَلَى تَقْدِيرِ فَجَزَاؤُهُ أَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ كَقَوْلِكَ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الْأَنْفَالِ: 41] أَيْ فَحُكْمُهُ أَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً حَمْلًا عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِ فِي (مَنْ) وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اسْتَدَلَّ جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ فُسَّاقَ أَهْلِ الصَّلَاةِ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ وَأَنَّ هَذَا الْعُمُومَ يَشْمَلُهُمْ كَشُمُولِهِ الْكُفَّارَ، قَالُوا: وَهَذَا الْوَعِيدُ مَشْرُوطٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ تَوْبَةٌ وَلَا طَاعَةٌ أَعْظَمَ مِنْهَا، قَالُوا: وَهَذَا الْعُمُومُ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ مِنْ سَائِرِ الْعُمُومَاتِ لِأَنَّ سَائِرَ الْعُمُومَاتِ مَا جَاءَ فِيهَا قَوْلُهُ: أَبَداً فَالْمُخَالِفُ يَحْمِلُ الْخُلُودَ عَلَى الْمُكْثِ الطَّوِيلِ، أما هاهنا [فَقَدْ] جَاءَ لَفْظُ الْأَبَدِ فَيَكُونُ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي إِسْقَاطِ الِاحْتِمَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ وَالْجَوَابُ: أَنَّا بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وُجُوهَ الْأَجْوِبَةِ على التمسك بهذه العمومات، ونزيد هاهنا وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ تَخْصِيصَ/ الْعُمُومِ بِالْوَاقِعَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا وَرَدَ ذَلِكَ الْعُمُومُ عُرْفٌ مَشْهُورٌ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الدَّارِ سَاعَةً فَقَالَ الزَّوْجُ إِنْ خَرَجْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ يُفِيدُ ذَلِكَ الْيَمِينَ بِتِلْكَ السَّاعَةِ الْمُعَيَّنَةِ حَتَّى إِنَّهَا لَوْ خَرَجَتْ فِي يَوْمٍ آخَرَ لَمْ تُطَلَّقْ، فَهَهُنَا أَجْرَى الْحَدِيثَ فِي التَّبْلِيغِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَعْنِي جِبْرِيلَ: فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ أَيْ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ فِي تَبْلِيغِ رِسَالَاتِهِ وَأَدَاءِ وَحْيِهِ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ، وَإِذَا كَانَ مَا ذَكَرْنَا مُحْتَمَلًا سَقَطَ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَنَاوَلَ هَذِهِ الصُّورَةَ لِأَنَّ مِنَ الْقَبِيحِ أَنْ يَذْكُرَ عَقِيبَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ حُكْمًا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهَا، فَيَكُونُ هَذَا الْوَعِيدُ وَعِيدًا عَلَى تَرْكِ التَّبْلِيغِ مِنَ اللَّهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَرْكَ التَّبْلِيغِ مِنَ اللَّهِ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ، وَالْعُقُوبَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى أَعْظَمِ الذُّنُوبِ، لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُرَتَّبَةً عَلَى جَمِيعِ الذُّنُوبِ، لِأَنَّ الذُّنُوبَ الْمُتَفَاوِتَةَ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَسَاوِيَةً فِي الْعُقُوبَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ عَلَى هَذَا الذَّنْبِ، وَثَبَتَ أَنَّ مَا كَانَ عُقُوبَةً عَلَى هَذَا الذَّنْبِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً عَلَى سَائِرِ الذُّنُوبِ، عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الْحَكَمَ مُخْتَصٌّ بِهَذَا الذَّنْبِ وَغَيْرُ مُتَعَدٍّ إِلَى سَائِرِ الذُّنُوبِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عُمُومَاتِ الْوَعِيدِ فِي سَائِرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ بقيد الأبد، وذكرها هاهنا مقيدة بِقَيْدِ الْأَبَدِ، فَلَا بُدَّ فِي هَذَا التَّخْصِيصِ مِنْ سَبَبٍ، وَلَا سَبَبَ إِلَّا أَنَّ هَذَا الذَّنْبَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ، وَإِذَا كَانَ السَّبَبُ فِي هَذَا التَّخْصِيصِ هَذَا الْمَعْنَى، عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُخْتَصٌّ بِهَذَا الذَّنْبِ وَغَيْرُ مُتَعَدٍّ إِلَى جَمِيعِ الذُّنُوبِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُخْتَصٌّ بِفَاعِلِ هَذَا الذَّنْبِ، صَارَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ حَالَ سَائِرِ الْمُذْنِبِينَ بِخِلَافِ ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً مَعْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ لَهُ لا لغيره، وهذا كقوله: لَكُمْ دِينَكُمْ

_ (1) في الكشاف (بصلة للتبليغ) 4/ 172 ط. دار الفكر. [.....]

[سورة الجن (72) : آية 24]

أَيْ لَكُمْ لَا لِغَيْرِكُمْ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهُمْ هَذِهِ الْحَالَةَ لَا لِغَيْرِهِمْ، وَجَبَ فِي سَائِرِ الْمُذْنِبِينَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ حُجَّةٌ لَنَا عَلَيْهِمْ. وَعَلَى تَمَسُّكِهِمْ بِالْآيَةِ سُؤَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي، وَذَلِكَ هُوَ الْكَافِرُ وَنَحْنُ نَقُولُ: بِأَنَّ الْكَافِرَ يَبْقَى فِي النَّارِ مُؤَبَّدًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ عَصَى اللَّهَ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي عَنْهُ، مِثْلُ أَنْ يُقَالَ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ إِلَّا فِي الْكُفْرِ وَإِلَّا فِي الزِّنَا، وَإِلَّا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، وَمِنْ مَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِالْوَعِيدِ أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَكَانَ دَاخِلًا تَحْتَ اللَّفْظِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ مُتَنَاوِلًا لِمَنْ أَتَى بِكُلِّ الْمَعَاصِي، وَالَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ هُوَ الْكَافِرُ، فَالْآيَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْكَافِرِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، فَسَقَطَ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: كَوْنُ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ آتِيًا لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي مُحَالٌ، لأن من المحال أن يكون قائلا بالتجسم، وَأَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ قَائِلًا بِالتَّعْطِيلِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُحَالًا فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ غَيْرُ جَائِزٍ قُلْنَا: تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ جَائِزٌ، فَقَوْلُنَا: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ يُفِيدُ كَوْنَهُ آتِيًا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ/ الْمَعَاصِي، تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ فِي الْقَدْرِ الَّذِي امْتَنَعَ عَقْلًا حُصُولُهُ فَيَبْقَى مُتَنَاوِلًا لِلْآتِي بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ مُمْكِنٌ فَتَكُونُ الْآيَةُ مُخْتَصَّةً بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: تَارِكُ الْمَأْمُورِ بِهِ عَاصٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه: 93] ، لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم: 6] ، لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً [الْكَهْفِ: 69] وَالْعَاصِي مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ لِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً. [سورة الجن (72) : آية 24] حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) فَإِنْ قِيلَ: مَا الشَّيْءُ الَّذِي جَعَلَ مَا بَعْدَ حَتَّى غَايَةً لَهُ؟ قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بقوله: يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن: 19] وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُمْ يَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِ بِالْعَدَاوَةِ وَيَسْتَضْعِفُونَ أَنْصَارَهُ وَيَسْتَقِلُّونَ (عَدَدَهُ) «1» حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ مِنْ يَوْمِ بَدْرٍ وَإِظْهَارِ اللَّهِ لَهُ عَلَيْهِمْ أَوْ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَسَيَعْلَمُونَ أَيُّهُمْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا، الثَّانِي: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْحَالُ مِنَ اسْتِضْعَافِ الْكُفَّارِ لَهُ وَاسْتِقْلَالِهِمْ لِعَدَدِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: هَؤُلَاءِ لَا يَزَالُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ حَتَّى إِذَا كَانَ كَذَا كَانَ كَذَا، وَاعْلَمْ أَنَّ نَظِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي مَرْيَمَ: حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ [مَرْيَمَ: 75] وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَافِرَ لَا نَاصِرَ لَهُ وَلَا شَفِيعَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا قَالَ: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ [غَافِرٍ: 18] وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاءِ: 28] وَيَفِرُّ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُمْ مِنْ صَاحِبِهِ عَلَى مَا قَالَ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [عَبَسَ: 34] إِلَى آخِرِهِ: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [الْحَجِّ: 2] وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَلَهُمُ الْعِزَّةُ وَالْكَرَامَةُ وَالْكَثْرَةُ قَالَ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرَّعْدِ: 23، 24] وَالْمَلِكُ الْقُدُّوسُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ فَهُنَاكَ يَظْهَرُ أَنَّ الْقُوَّةَ وَالْعَدَدَ فِي جَانِبِ المؤمنين أو في جانب الكفار. [سورة الجن (72) : آية 25] قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25)

_ (1) في الكشاف (عددهم) 4/ 172 ط. دار الفكر.

[سورة الجن (72) : الآيات 26 إلى 27]

قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ: حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً [الجن: 24] قال النضر بن الحرث: مَتَى يَكُونُ هَذَا الَّذِي تُوعِدُنَا بِهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ إِلَى آخِرِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّ وُقُوعَهُ مُتَيَقَّنٌ، أَمَّا وَقْتُ وُقُوعِهِ فَغَيْرُ مَعْلُومٍ، وَقَوْلُهُ: أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً أَيْ غَايَةً وَبُعْدًا وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 109] فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ قَالَ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ» فَكَانَ عَالِمًا بقرب وقوع القيامة، فكيف قال: هاهنا لَا أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ؟ قُلْنَا: الْمُرَادُ بِقُرْبِ وُقُوعِهِ هُوَ أَنَّ مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا أَقَلُّ مِمَّا انْقَضَى، فَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْقُرْبِ مَعْلُومٌ، / وَأَمَّا مَعْنَى مَعْرِفَةِ الْقُرْبِ الْقَرِيبِ وعدم ذلك فغير معلوم. [سورة الجن (72) : الآيات 26 الى 27] عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ لَفْظَةُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَسُولٍ تَبْيِينٌ لِمَنِ ارْتَضَى يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَى الْغَيْبِ إِلَّا الْمُرْتَضَى الَّذِي يَكُونُ رَسُولًا، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، وَفِي هَذَا إِبْطَالُ الْكَرَامَاتِ لِأَنَّ الَّذِينَ تُضَافُ الْكَرَامَاتُ إِلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا أَوْلِيَاءَ مُرْتَضِينَ فَلَيْسُوا بِرُسُلٍ، وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ الرُّسُلَ مِنْ بَيْنِ الْمُرْتَضِينَ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ، وَفِيهَا أَيْضًا إِبْطَالُ الْكِهَانَةِ وَالسِّحْرِ وَالتَّنْجِيمِ لِأَنَّ أَصْحَابَهَا أَبْعَدُ شَيْءٍ مِنَ الِارْتِضَاءِ وَأَدْخَلُهُ فِي السَّخَطِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنِ ادَّعَى أَنَّ النُّجُومَ تَدُلُّهُ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ حَيَاةٍ أَوْ مَوْتٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاحِدِيَّ يُجَوِّزُ الْكَرَامَاتِ وَأَنْ يُلْهِمَ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ وُقُوعَ بَعْضِ الْوَقَائِعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَنِسْبَةُ الْآيَةِ إِلَى الصُّورَتَيْنِ وَاحِدَةٌ فَإِنْ جَعَلَ الْآيَةَ دَالَّةً عَلَى الْمَنْعِ مِنَ أَحْكَامِ النُّجُومِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَهَا دَالَّةً عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْكَرَامَاتِ عَلَى مَا قَالَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْإِلْهَامَاتِ الْحَاصِلَةِ لِلْأَوْلِيَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجْعَلَهَا دَالَّةً عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الدَّلَائِلِ النُّجُومِيَّةِ، فَأَمَّا التحكيم بِدَلَالَتِهَا عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْأَحْكَامِ النُّجُومِيَّةِ وَعَدَمِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْإِلْهَامَاتِ الْحَاصِلَةِ لِلْأَوْلِيَاءِ فَمُجَرَّدُ التَّشَهِّي، وَعِنْدِي أَنَّ الْآيَةَ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى شَيْءٍ مِمَّا قَالُوهُ وَالَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: عَلى غَيْبِهِ لَيْسَ فِيهِ صِيغَةُ عُمُومٍ فَيَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يُظْهِرَ تَعَالَى خَلْقَهُ عَلَى غَيْبٍ وَاحِدٍ مِنْ غُيُوبِهِ فَنَحْمِلَهُ عَلَى وَقْتِ وُقُوعِ الْقِيَامَةِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُظْهِرُ هَذَا الْغَيْبَ لِأَحَدٍ فَلَا يَبْقَى فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُظْهِرُ شَيْئًا مِنَ الْغُيُوبِ لِأَحَدٍ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ عَقِيبَ قَوْلِهِ: إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً [الجن: 25] يَعْنِي لَا أَدْرِي وَقْتَ وُقُوعِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً أَيْ وَقْتَ وُقُوعِ الْقِيَامَةِ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يُظْهِرُهُ اللَّهُ لِأَحَدٍ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: عَلى غَيْبِهِ لَفْظٌ مُفْرَدٌ مُضَافٌ، فَيَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِهِ حَمْلُهُ عَلَى غَيْبٍ وَاحِدٍ، فَأَمَّا الْعُمُومُ فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا حَمَلْتُمْ ذَلِكَ عَلَى الْقِيَامَةِ فَكَيْفَ قَالَ: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ مَعَ أَنَّهُ لَا يُظْهِرُ هَذَا الْغَيْبَ لِأَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ؟ قُلْنَا: بَلْ يُظْهِرُهُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ إِقَامَةِ الْقِيَامَةِ، وَكَيْفَ لَا وَقَدْ قَالَ: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الْفُرْقَانِ: 25] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَعْلَمُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قِيَامَ الْقِيَامَةِ، وَأَيْضًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا، كَأَنَّهُ قَالَ: عَالِمُ الغيب فلا

[سورة الجن (72) : آية 28]

يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ الْمَخْصُوصِ وَهُوَ قِيَامُ الْقِيَامَةِ أَحَدًا، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: لَكِنْ مَنِ ارْتَضَى من رسول الله فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ حَفَظَةً يَحْفَظُونَهُ مِنْ شَرِّ مَرَدَةِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ جَوَابًا لِسُؤَالِ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ وُقُوعِ/ الْقِيَامَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ، وَالِاسْتِحْقَارِ لِدِينِهِ وَمَقَالَتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُ اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ لَا يُطْلِعَ أَحَدًا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ إِلَّا الرُّسُلَ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ الْقَرِيبَةِ مِنَ التَّوَاتُرِ أَنَّ شَقًّا وَسَطِيحًا كَانَا كَاهِنَيْنِ يُخْبِرَانِ بِظُهُورِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ زَمَانِ ظُهُورِهِ، وَكَانَا فِي الْعَرَبِ مَشْهُورَيْنِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعِلْمِ، حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِمَا كِسْرَى فِي تَعَرُّفِ أَخْبَارِ رَسُولِنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُطْلِعُ غَيْرَ الرُّسُلِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْغَيْبِ وَثَانِيهَا: أَنَّ جَمِيعَ أَرْبَابِ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ مُطْبِقُونَ عَلَى صِحَّةِ عِلْمِ التَّعْبِيرِ، وَأَنَّ الْمُعَبِّرَ قَدْ يُخْبِرُ عَنْ وُقُوعِ الْوَقَائِعِ الْآتِيَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيَكُونُ صَادِقًا فِيهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْكَاهِنَةَ الْبَغْدَادِيَّةَ الَّتِي نَقَلَهَا السُّلْطَانُ سَنْجَرُ بْنُ مُلْكِ شَاهْ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَسَأَلَهَا عَنِ الْأَحْوَالِ الْآتِيَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَذَكَرَتْ أَشْيَاءَ، ثُمَّ إِنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى وَفْقِ كَلَامِهَا. قَالَ مُصَنِّفُ الْكِتَابِ خَتَمَ اللَّهُ لَهُ بِالْحُسْنَى: وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ أُنَاسًا مُحَقِّقِينَ فِي عُلُومِ الْكَلَامِ وَالْحِكْمَةِ، حَكَوْا عَنْهَا أَنَّهَا أَخْبَرَتْ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْغَائِبَةِ إِخْبَارًا عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَجَاءَتْ تِلْكَ الْوَقَائِعُ عَلَى وَفْقِ خَبَرِهَا، وَبَالَغَ أَبُو الْبَرَكَاتِ فِي كِتَابِ الْمُعْتَبَرِ فِي شَرْحِ حَالِهَا، وَقَالَ: لَقَدْ تَفَحَّصْتُ عَنْ حَالِهَا مُدَّةَ ثَلَاثِينَ سَنَةً حَتَّى تَيَقَّنْتُ أَنَّهَا كَانَتْ تُخْبِرُ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ إِخْبَارًا مُطَابِقًا. وَرَابِعُهَا: أَنَّا نُشَاهِدُ [ذَلِكَ] فِي أَصْحَابِ الْإِلْهَامَاتِ الصَّادِقَةِ، وَلَيْسَ هَذَا مُخْتَصًّا بِالْأَوْلِيَاءِ بَلْ قَدْ يُوجَدُ فِي السَّحَرَةِ أَيْضًا مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ نَرَى الْإِنْسَانَ الَّذِي يَكُونُ سَهْمُ الْغَيْبِ عَلَى دَرَجَةِ طَالِعِهِ يَكُونُ كَذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَخْبَارِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكْذِبُ أَيْضًا فِي أَكْثَرِ تِلْكَ الْأَخْبَارِ، وَنَرَى الْأَحْكَامَ النُّجُومِيَّةَ قَدْ تَكُونُ مُطَابِقَةً وَمُوَافِقَةً لِلْأُمُورِ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَكْذِبُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُشَاهَدًا مَحْسُوسًا، فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ مِمَّا يَجُرُّ الطَّعْنَ إِلَى الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَعَلِمْنَا أَنَّ التَّأْوِيلَ الصَّحِيحَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ مَنِ ارْتَضَى لِلرِّسَالَةِ، وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً أَيْ حَفَظَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ وَسَاوِسِ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَتَخَالِيطِهِمْ، حَتَّى يَبْلُغَ مَا أَوْحَى بِهِ إِلَيْهِ، وَمِنْ زَحْمَةِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ حَتَّى لَا يُؤْذُونَهُ وَلَا يَضُرُّونَهُ وَعَنِ الضَّحَّاكِ «مَا بُعِثَ نَبِيٌّ إِلَّا وَمَعَهُ مَلَائِكَةٌ يَحْرُسُونَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ (الَّذِينَ) «1» يَتَشَبَّهُونَ بِصُورَةِ الْمَلَكِ» . [سورة الجن (72) : آية 28] لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَحَّدَ الرَّسُولُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [الجن: 27] ثُمَّ جَمَعَ فِي قَوْلِهِ: أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَنَظِيرُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ [الجن: 23] .

_ (1) في الكشاف (أن) 4/ 173 ط. دار الفكر.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِحُدُوثِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ لِيَعْلَمَ اللَّهُ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا الرِّسَالَةَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ [مُحَمَّدٍ: 31] وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: لِيَعْلَمَ مُحَمَّدٌ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ أَبْلَغُوا الرِّسَالَةَ كَمَا بَلَّغَ هُوَ الرِّسَالَةَ، وَعَلَى هَذَا، اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَعْلَمَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَخْبَرْنَاهُ بِحِفْظِ الْوَحْيِ لِيَعْلَمَ أَنَّ الرُّسُلَ قَبْلَهُ كَانُوا عَلَى مِثْلِ حَالَتِهِ مِنَ التَّبْلِيغِ الْحَقِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لِيَعْلَمَ الرَّسُولُ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا أَيْ جِبْرِيلُ وَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يُبْعَثُونَ إِلَى الرُّسُلِ رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ، فَلَا يَشُكُّ فِيهَا وَيَعْلَمُ أَنَّهَا حَقٌّ مِنَ اللَّهِ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ الْمَعْنَى لِيَعْلَمَ اللَّهُ أَنْ قَدْ أَبْلَغَ الْأَنْبِيَاءُ رِسَالَاتِ ربهم، والعلم هاهنا مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 142] وَالْمَعْنَى لِيُبَلِّغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ فَيَعْلَمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ لِيُعْلَمَ عَلَى البناء للمفعول. أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِالْجُزْئِيَّاتِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، فَإِنْ قِيلَ: إِحْصَاءُ الْعَدَدِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمُتَنَاهِي، وَقَوْلُهُ: كُلَّ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مُتَنَاهٍ، فَلَزِمَ وُقُوعُ التَّنَاقُضِ فِي الْآيَةِ، قُلْنَا: لَا شَكَّ أَنَّ إِحْصَاءَ الْعَدَدِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمُتَنَاهِي، فَأَمَّا لَفْظَةُ كُلَّ شَيْءٍ فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مُتَنَاهٍ، لِأَنَّ الشَّيْءَ عِنْدَنَا هُوَ الْمَوْجُودَاتُ، وَالْمَوْجُودَاتُ مُتَنَاهِيَةٌ فِي الْعَدَدِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ أَحَدُ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَوْ كَانَ شَيْئًا، لَكَانَتِ الْأَشْيَاءُ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، وَقَوْلُهُ: وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً يَقْتَضِي كَوْنَ تِلْكَ الْمُحْصَيَاتِ مُتَنَاهِيَةً، فَيَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ كَوْنِهَا مُتَنَاهِيَةً وَغَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَنْدَفِعَ هَذَا التَّنَاقُضُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَخَاتَمِ النبيين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين.

سورة المزمل عليه السلام

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة المزمل عليه السلام وهي عشرون آية مكية [سورة المزمل (73) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُزَّمِّلِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَصْلُهُ الْمُتَزَمِّلُ بِالتَّاءِ وَهُوَ الَّذِي تَزَمَّلَ بِثِيَابِهِ أَيْ تَلَفَّفَ بِهَا، فَأُدْغِمَ التَّاءُ فِي الزَّايِ، وَنَحْوُهُ الْمُدَّثِّرُ فِي الْمُتَدَثِّرِ، وَاخْتَلَفُوا لِمَ تَزَمَّلَ بِثَوْبِهِ؟ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَافَهُ وَظَنَّ أَنَّ بِهِ مَسًّا مِنَ الْجِنِّ، فَرَجَعَ مِنَ الْجَبَلِ مُرْتَعِدًا وَقَالَ: زَمِّلُونِي، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ جِبْرِيلُ وَنَادَاهُ وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ وَثَانِيهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّمَا تَزَمَّلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِثِيَابِهِ لِلتَّهَيُّؤِ لِلصَّلَاةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ نَائِمًا بِاللَّيْلِ مُتَزَمِّلًا فِي قَطِيفَةٍ فَنُودِيَ بِمَا يُهْجِنُ تِلْكَ الْحَالَةَ، وَقِيلَ: يَا أَيُّهَا النَّائِمُ الْمُتَزَمِّلُ بِثَوْبِهِ قُمْ وَاشْتَغِلْ بِالْعُبُودِيَّةِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ كَانَ مُتَزَمِّلًا فِي مِرْطٍ لِخَدِيجَةَ مُسْتَأْنِسًا بِهَا فَقِيلَ لَهُ: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ كَأَنَّهُ قِيلَ: اتْرُكْ نَصِيبَ النَّفْسِ وَاشْتَغِلْ بِالْعُبُودِيَّةِ وَخَامِسُهَا: قَالَ عِكْرِمَةُ: يَا أَيُّهَا الَّذِي زُمِّلَ أَمْرًا عَظِيمًا أَيْ حَمَلَهُ وَالزَّمْلُ الْحَمْلُ، وَازْدَمَلَهُ احْتَمَلَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ عكرمة الْمُزَّمِّلُ والْمُدَّثِّرُ [المدثر: 1] بِتَخْفِيفِ الزَّايِ وَالدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَالثَّاءِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ أَوْ مَفْعُولٍ، فَإِنْ كَانَ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ كَانَ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا وَالتَّقْدِيرُ يَا أَيُّهَا الْمُزَمِّلُ نَفْسَهُ وَالْمُدَثِّرُ نَفْسَهُ وَحَذْفُ الْمَفْعُولِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ فَصِيحٌ قَالَ تَعَالَى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْلِ: 23] أَيْ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ الْمَفْعُولِ كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ زَمَّلَ نَفْسَهُ أَوْ زَمَّلَهُ غَيْرُهُ، وَقُرِئَ (يَا أيها المتزمل) على الأصل. [سورة المزمل (73) : الآيات 2 الى 4] قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُمِ اللَّيْلَ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ كَانَ فَرِيضَةً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ: قُمِ اللَّيْلَ وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ ثُمَّ نُسِخَ، وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ النَّسْخِ عَلَى وُجُوهٍ أَوَّلُهَا: أَنَّهُ كَانَ فَرْضًا قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ

الْخَمْسُ ثُمَّ نُسِخَ بِهَا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ/ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ فَكَانَ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى وَكَمْ بَقِيَ مِنَ اللَّيْلِ فَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ مَخَافَةَ أَنْ لَا يَحْفَظَ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ حَتَّى وَرِمَتْ أَقْدَامُهُمْ وَسُوقُهُمْ، فَنَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ هَذِهِ السورة: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [الْمُزَّمِّلِ: 20] وَذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِ هَذَا الْإِيجَابِ وَبَيْنَ نَسْخِهِ سَنَةً، وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إِنَّ إِيجَابَ هَذَا كَانَ بِمَكَّةَ وَنَسْخَهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْقَدْرُ أَيْضًا بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ فِي هَذَا القول نسخ وجوب التهجد بقوله: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20] ثُمَّ نُسِخَ هَذَا بِإِيجَابِ الصَّلَوَاتِ، وَفِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ نُسِخَ إِيجَابُ التَّهَجُّدِ بِإِيجَابِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ابْتِدَاءً، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: التَّهَجُّدُ مَا كَانَ وَاجِبًا قَطُّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الْإِسْرَاءِ: 79] فَبَيِّنَ أَنَّ التَّهَجُّدَ نَافِلَةٌ لَهُ لَا فَرْضٌ، وَأَجَابَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَعْنَى زِيَادَةُ وُجُوبٍ عَلَيْكَ وَثَانِيهَا: أَنَّ التَّهَجُّدَ لَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الرَّسُولِ لَوَجَبَ عَلَى أُمَّتِهِ لِقَوْلِهِ: وَاتَّبِعُوهُ [الْأَعْرَافِ: 158] وَوُرُودُ النَّسْخِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَثَالِثُهَا: اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ فَفَوَّضَ ذَلِكَ إِلَى رَأْيِ الْمُكَلَّفِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ وَاجِبًا وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَقُولَ: أَوْجَبْتُ عَلَيْكَ قِيَامَ اللَّيْلِ فَأَمَّا تَقْدِيرُهُ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ فَذَاكَ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِكَ، ثُمَّ إِنَّ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ أَجَابُوا عَنِ التَّمَسُّكِ بِقَوْلِهِ: قُمِ اللَّيْلَ وَقَالُوا ظَاهِرُ الْأَمْرِ يُفِيدُ النَّدْبَ، لِأَنَّا رَأَيْنَا أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى تَارَةً تُفِيدُ النَّدْبَ وَتَارَةً تُفِيدُ الْإِيجَابَ، فَلَا بُدَّ مِنْ جَعْلِهَا مُفِيدَةً لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا تَرْجِيحُ جَانِبِ الْفِعْلِ عَلَى جَانِبِ التَّرْكِ، وَأَمَّا جَوَازُ التَّرْكِ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِمُقْتَضَى الْأَصْلِ، فَلَمَّا حَصَلَ الرُّجْحَانُ بِمُقْتَضَى الْأَمْرِ وَحَصَلَ جَوَازُ التَّرْكِ بِمُقْتَضَى الْأَصْلِ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمَنْدُوبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ قُمِ اللَّيْلَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَغَيْرُهُ بِضَمِّ الْمِيمِ، قَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّيٍّ: الْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْحَرَكَةِ الْهَرَبُ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَأَيُّ الْحَرَكَاتِ تُحَرِّكُ فَقَدْ حَصَلَ الْغَرَضُ وَحَكَى قُطْرُبٌ عَنْهُمْ: قُمِ اللَّيْلَ وقُلِ الْحَقُّ [الكهف: 29] بِرَفْعِ الْمِيمِ وَاللَّامِ وَبِعُ الثَّوْبَ ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَسَرَ فَعَلَى أَصْلِ الْبَابِ وَمَنْ ضَمَّ أَتْبَعَ وَمَنْ فَتَحَ فَقَدْ مَالَ إِلَى خِفَّةِ الفتح. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ قَدْ أَكْثَرُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهَانِ مُلَخَّصَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: إِلَّا قَلِيلًا الثُّلُثُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ [المزمل: 20] فَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْمَقَادِيرِ الْوَاجِبَةِ الثُّلْثَانِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَوْمَ الثُّلُثِ جَائِزٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا/ قَلِيلًا هُوَ الثُّلُثُ، فَإِذًا قَوْلُهُ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا مَعْنَاهُ قُمْ ثُلْثَيِ اللَّيْلِ ثُمَّ قَالَ: نِصْفَهُ وَالْمَعْنَى أَوْ قُمْ نِصْفَهُ، كَمَا تَقُولُ: جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ، أَيْ جَالِسْ ذَا أَوْ ذَا أَيُّهُمَا شِئْتَ، فَتَحْذِفُ وَاوَ الْعَطْفِ فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: قُمِ الثُّلُثَيْنِ أَوْ قُمِ النِّصْفَ أَوِ انْقُصْ مِنَ النِّصْفِ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الثُّلُثَانِ أَقْصَى الزِّيَادَةِ، وَيَكُونُ الثُّلُثُ أَقْصَى النُّقْصَانِ، فَيَكُونُ الْوَاجِبُ هُوَ الثُّلُثُ، وَالزَّائِدُ عَلَيْهِ يَكُونُ مَنْدُوبًا، فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَلْزَمُكُمْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَرَكَ

[سورة المزمل (73) : آية 5]

الْوَاجِبَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ فَمَنْ قَرَأَ نِصْفِهِ وَثُلُثِهِ بِالْخَفْضِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّكَ تَقُومُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثَيْنِ، وَأَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ، وَأَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِذَا كَانَ الثُّلُثُ وَاجِبًا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ، قُلْنَا: إِنَّهُمْ كَانُوا يُقَدِّرُونَ الثُّلُثَ بِالِاجْتِهَادِ، فَرُبَّمَا أخطئوا فِي ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ وَنَقَصُوا مِنْهُ شَيْئًا قَلِيلًا فَيَكُونُ ذَلِكَ أَدْنَى مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ الْمَعْلُومِ بِتَحْدِيدِ الْأَجْزَاءِ عِنْدَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى لَهُمْ: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ [الْمُزَّمِّلِ: 20] ، الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: نِصْفَهُ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: قَلِيلًا وَهَذَا التَّفْسِيرُ جَائِزٌ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ نِصْفَ الشَّيْءِ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّهِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَاجِبَ إِذَا كَانَ هُوَ النِّصْفَ لَمْ يَخْرُجْ صَاحِبُهُ عَنْ عُهْدَةِ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ بِيَقِينٍ إِلَّا بِزِيَادَةِ شَيْءٍ قَلِيلٍ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ فِي الْحَقِيقَةِ نِصْفًا وَشَيْئًا، فَيَكُونُ الْبَاقِي بَعْدَ ذَلِكَ أَقَلَّ مِنْهُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا مَعْنَاهُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا نَصِفَهُ، فَيَكُونُ الْحَاصِلُ: قُمْ نِصْفَ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَالَ: أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا يَعْنِي أَوِ انْقُصْ مِنْ هَذَا النِّصْفِ نِصْفَهُ حَتَّى يَبْقَى الرُّبُعُ، ثُمَّ قَالَ: أَوْ زِدْ عَلَيْهِ يَعْنِي أَوْ زِدْ عَلَى هَذَا النِّصْفِ نِصْفَهُ حَتَّى يصير المجموع ثلاثة أرباعه، وَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ حَاصِلُ الْآيَةِ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَقُومَ تَمَامَ النِّصْفِ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُومَ رُبُعَ اللَّيْلِ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُومَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْوَاجِبُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ هُوَ قِيَامُ الرُّبُعِ، وَالزَّائِدُ عَلَيْهِ يَكُونُ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ وَالنَّوَافِلِ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ [المزمل: 20] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَقُمْ ثُلْثَيِ اللَّيْلِ، وَلَا نِصْفَهُ وَلَا ثُلُثَهُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَمَّا كَانَ هُوَ الرُّبُعُ فَقَطْ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ تَرْكِ قِيَامِ الثُّلُثِ تَرْكُ شَيْءٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، فَزَالَ السُّؤَالُ الْمَذْكُورُ، وَاللَّهُ أعلم. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا قَالَ الزَّجَّاجُ: رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، بَيِّنْهُ تَبْيِينًا، وَالتَّبْيِينُ لَا يَتِمُّ بِأَنْ يَعْجَلَ فِي الْقُرْآنِ، إِنَّمَا يَتِمُّ بِأَنْ يَتَبَيَّنَ جَمِيعَ الْحُرُوفِ، وَيُوَفِّيَ حَقَّهَا مِنَ الْإِشْبَاعِ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَغْرٌ رَتْلٌ إِذَا كَانَ بَيْنَ الثَّنَايَا افْتِرَاقٌ لَيْسَ بِالْكَثِيرِ، وَقَالَ اللَّيْثُ: التَّرْتِيلُ تَنْسِيقُ الشَّيْءِ، وَثَغْرٌ رَتْلٌ، حَسَنُ التَّنْضِيدِ، وَرَتَّلْتُ الْكَلَامَ تَرْتِيلًا، إِذَا تَمَهَّلْتُ فِيهِ وَأَحْسَنْتُ تَأْلِيفَهُ، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: تَرْتِيلًا تَأْكِيدٌ فِي إِيجَابِ الْأَمْرِ بِهِ، وَأَنَّهُ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْقَارِئِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ أَمَرَهُ بِتَرْتِيلِ الْقُرْآنِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْخَاطِرُ مِنَ التَّأَمُّلِ فِي حَقَائِقِ تِلْكَ الْآيَاتِ وَدَقَائِقِهَا، فَعِنْدَ الْوُصُولِ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ يَسْتَشْعِرُ عَظْمَتَهُ وَجَلَالَتَهُ، وَعِنْدَ الْوُصُولِ إِلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ يَحْصُلُ الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ، وَحِينَئِذٍ يَسْتَنِيرُ الْقَلْبُ بِنُورِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَالْإِسْرَاعُ فِي الْقِرَاءَةِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى الْمَعَانِي، لِأَنَّ النَّفْسَ تَبْتَهِجُ بِذِكْرِ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَمَنِ ابْتَهَجَ بِشَيْءٍ أَحَبَّ ذِكْرَهُ، وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا لَمْ يَمُرَّ عَلَيْهِ بِسُرْعَةٍ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَقْصُودَ من الترتيل إنما هو حضور القلب وكما المعرفة. [سورة المزمل (73) : آية 5] إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الثَّقِيلِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِهِ ثَقِيلًا عِظَمُ قَدْرِهِ وَجَلَالَةُ خَطَرِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ نَفَسَ وَعَظُمَ خَطَرُهُ، فَهُوَ ثُقْلٌ وَثَقِيلٌ وَثَاقِلٌ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: قَوْلًا ثَقِيلًا يَعْنِي كَلَامًا عَظِيمًا، وَوَجْهُ النَّظْمِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا أَمَرْتُكَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ لِأَنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا عَظِيمًا، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَسْعَى فِي صَيْرُورَةِ نَفْسِكَ مُسْتَعِدَّةً لِذَلِكَ الْقَوْلِ الْعَظِيمِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الِاسْتِعْدَادُ إِلَّا بِصَلَاةِ اللَّيْلِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ إِذَا اشْتَغَلَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَقْبَلَ عَلَى

[سورة المزمل (73) : آية 6]

ذِكْرِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَالتَّضَرُّعِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ مِنَ الشَّوَاغِلِ الْحِسِّيَّةِ وَالْعَوَائِقِ الْجُسْمَانِيَّةِ اسْتَعَدَّتِ النَّفْسُ هُنَالِكَ لِإِشْرَاقِ جَلَالِ اللَّهِ فِيهَا، وَتَهَيَّأَتْ لِلتَّجَرُّدِ التَّامِّ، وَالِانْكِشَافِ الْأَعْظَمِ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ أَثَرٌ فِي صَيْرُورَةِ النَّفْسِ مُسْتَعِدَّةً لِهَذَا الْمَعْنَى لَا جَرَمَ قَالَ: إِنِّي إِنَّمَا أَمَرْتُكَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ لِأَنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا، فَصَيِّرْ نَفْسَكَ مُسْتَعِدَّةً لِقَبُولِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَتَمَامُ هَذَا الْمَعْنَى مَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ أَلَا فَتَعَرَّضُوا لَهَا» وَثَانِيهَا: قَالُوا: الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الثَّقِيلِ الْقُرْآنُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي هِيَ تَكَالِيفُ شَاقَّةٌ ثَقِيلَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ عَامَّةً، وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُهَا بِنَفْسِهِ وَيُبَلِّغُهَا إِلَى أُمَّتِهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ ثِقَلَهُ رَاجِعٌ إِلَى ثِقَلِ الْعَمَلِ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلتَّكْلِيفِ إِلَّا إِلْزَامُ مَا فِي فِعْلِهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ وَثَالِثُهَا: رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ ثَقِيلٌ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَثْرَةِ مَنَافِعِهِ وَكَثْرَةِ الثَّوَابِ فِي الْعَمَلِ بِهِ وَرَابِعُهَا: الْمُرَادُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَثْقُلُ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ، رُوِيَ أَنَّ الْوَحْيَ نَزَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ فَثَقُلَ عَلَيْهَا، حَتَّى وضعت جرانها، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَتَحَرَّكَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ ثَقُلَ عَلَيْهِ وَتَرَبَّدَ وَجْهُهُ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ، وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَرْفُضُ عَرَقًا» وَخَامِسُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: قَوْلًا ثَقِيلًا أَيْ لَيْسَ بِالْخَفِيفِ وَلَا بِالسَّفْسَافِ، لِأَنَّهُ كَلَامُ رَبِّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَسَادِسُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَوْلٌ مَتِينٌ فِي صِحَّتِهِ وَبَيَانِهِ وَنَفْعِهِ، / كَمَا تَقُولُ: هَذَا كَلَامٌ رَزِينٌ وَهَذَا قَوْلٌ لَهُ وَزْنٌ إِذَا كُنْتَ تَسْتَجِيدُهُ وَتَعْلَمُ أَنَّهُ وَقَعَ مَوْقِعَ الْحِكْمَةِ وَالْبَيَانِ وَسَابِعُهَا: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: إِنَّهُ ثَقِيلٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَهْتِكُ أَسْرَارَهُمْ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُبْطِلُ أَدْيَانَهُمْ وَأَقْوَالَهُمْ وَثَامِنُهَا: أَنَّ الثَّقِيلَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَبْقَى فِي مَكَانِهِ وَلَا يَزُولَ، فَجُعِلَ الثَّقِيلُ كِنَايَةً عَنْ بَقَاءِ الْقُرْآنِ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ كَمَا قَالَ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحِجْرِ: 9] ، وَتَاسِعُهَا: أَنَّهُ ثَقِيلٌ بِمَعْنَى أَنَّ الْعَقْلَ الْوَاحِدَ لَا يَفِي بِإِدْرَاكِ فَوَائِدِهِ وَمَعَانِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَالْمُتَكَلِّمُونَ غَاصُوا فِي بِحَارِ مَعْقُولَاتِهِ، وَالْفُقَهَاءُ أَقْبَلُوا عَلَى الْبَحْثِ عَنْ أَحْكَامِهِ، وَكَذَا أَهْلُ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَأَرْبَابُ الْمَعَانِي، ثُمَّ لَا يَزَالُ كُلُّ مُتَأَخِّرٍ يَفُوزُ مِنْهُ فَوَائِدَ مَا وَصَلَ إِلَيْهَا الْمُتَقَدِّمُونَ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ الْوَاحِدَ لَا يَقْوَى عَلَى الِاسْتِقْلَالِ بِحَمْلِهِ، فَصَارَ كَالْحِمْلِ الثَّقِيلِ الَّذِي يَعْجَزُ الْخَلْقُ عَنْ حَمْلِهِ، وَعَاشِرُهَا: أَنَّهُ ثَقِيلٌ لِكَوْنِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابَهِ، وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا الْعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ، الْمُحِيطُونَ بِجَمِيعِ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْحُكْمِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ كَانَتِ الْإِحَاطَةُ بِهِ ثَقِيلَةً عَلَى أكثر الخلق. [سورة المزمل (73) : آية 6] إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ يُقَالُ: نَشَأَتْ تَنْشَأُ نَشْأً فَهِيَ نَاشِئَةٌ، وَالْإِنْشَاءُ الْإِحْدَاثُ، فَكُلُّ مَا حَدَثَ [فَهُوَ نَاشِئٌ] فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلذَّكَرِ نَاشِئٌ وَلِلْمُؤَنَّثِ نَاشِئَةٌ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي النَّاشِئَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالثَّانِي: أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْأُمُورِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ، أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: نَاشِئَةُ اللَّيْلِ سَاعَاتُهُ وَأَجْزَاؤُهُ الْمُتَتَالِيَةُ الْمُتَعَاقِبَةُ فَإِنَّهَا تَحْدُثُ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى، فَهِيَ نَاشِئَةٌ بَعْدَ نَاشِئَةٍ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ اللَّيْلُ كله ناشئة، روى ابن أبي ملكية، قَالَ سَأَلَتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ الزُّبَيْرِ عَنْ ناشئة الليل، فقال اللَّيْلُ كُلُّهُ نَاشِئَةٌ. وَقَالَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَاشِئَةُ اللَّيْلِ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْعِشَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ وَالْكِسَائِيِّ قَالُوا: لِأَنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ السَّاعَةُ الَّتِي مِنْهَا يَبْتَدِئُ سَوَادُ

اللَّيْلِ، الْقَوْلُ الثَّانِي: هُوَ تَفْسِيرُ النَّاشِئَةِ بِأُمُورٍ تَحْدُثُ فِي اللَّيْلِ، وَذَكَرُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالُوا: نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ النَّفْسُ النَّاشِئَةُ بِاللَّيْلِ الَّتِي تَنْشَأُ مِنْ مَضْجَعِهَا إِلَى الْعِبَادَةِ أَيْ تَنْهَضُ وَتَرْتَفِعُ مِنْ نَشَأَتِ السَّحَابَةُ إِذَا ارْتَفَعَتْ وَثَانِيهَا: نَاشِئَةُ اللَّيْلِ عِبَارَةٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ إِذَا نِمْتَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ نَوْمَةً ثُمَّ قُمْتَ فَتِلْكَ النَّشْأَةُ، وَمِنْهُ نَاشِئَةُ اللَّيْلِ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ فِي اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ فِي الْبَيْتِ الْمُظْلِمِ فِي مَوْضِعٍ لَا تَصِيرُ حَوَاسُّهُ مَشْغُولَةً بِشَيْءٍ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ أَلْبَتَّةَ، فَحِينَئِذٍ يُقْبِلُ الْقَلْبُ عَلَى الْخَوَاطِرِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْأَفْكَارِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَمَّا النَّهَارُ فَإِنَّ الْحَوَاسَّ تَكُونُ مَشْغُولَةً بِالْمَحْسُوسَاتِ فَتَصِيرُ النَّفْسُ مَشْغُولَةً بِالْمَحْسُوسَاتِ، فَلَا تَتَفَرَّغُ لِلْأَحْوَالِ الرُّوحَانِيَّةِ، فَالْمُرَادُ مِنْ نَاشِئَةِ اللَّيْلِ تِلْكَ الْوَارِدَاتُ الرُّوحَانِيَّةُ/ وَالْخَوَاطِرُ النُّورَانِيَّةُ، الَّتِي تَنْكَشِفُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ بِسَبَبِ فَرَاغِ الْحَوَاسِّ، وَسَمَّاهَا نَاشِئَةَ اللَّيْلِ لِأَنَّهَا لَا تَحْدُثُ إِلَّا فِي اللَّيْلِ بِسَبَبِ أَنَّ الْحَوَاسَّ الشَّاغِلَةَ لِلنَّفْسِ مُعَطَّلَةٌ فِي اللَّيْلِ وَمَشْغُولَةٌ فِي النَّهَارِ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ النَّاشِئَةَ مِنْهَا تَارَةً أَفْكَارٌ وَتَأَمُّلَاتٌ، وَتَارَةً أَنْوَارٌ وَمُكَاشَفَاتٌ، وَتَارَةً انْفِعَالَاتٌ نَفْسَانِيَّةٌ مِنَ الِابْتِهَاجِ بِعَالَمِ الْقُدُسِ أَوِ الْخَوْفِ مِنْهُ، أَوْ تَخَيُّلَاتُ أَحْوَالٍ عَجِيبَةٍ، فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ النَّاشِئَةُ أَجْنَاسًا كَثِيرَةً لَا يَجْمَعُهَا جَامِعٌ إِلَّا أَنَّهَا أُمُورٌ نَاشِئَةٌ حَادِثَةٌ لَا جَرَمَ لَمْ يَصِفْهَا إلا بأنها ناشئة الليل. أما قوله تعالى: هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً أي مواطأة وملاءمة وموافقة، وهي مَصْدَرٌ يُقَالُ: وَاطَأْتُ فُلَانًا عَلَى كَذَا مُوَاطَأَةً ووطأة ومنه لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ [التَّوْبَةِ: 37] أَيْ لِيُوَافِقُوا، فَإِنْ فَسَّرْنَا النَّاشِئَةَ بِالسَّاعَاتِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهَا أشد موافقة لما يرد مِنَ الْخُشُوعِ وَالْإِخْلَاصِ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهَا بِالنَّفْسِ النَّاشِئَةِ كَانَ الْمَعْنَى شِدَّةَ الْمُوَاطَأَةِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهَا بِقِيَامِ اللَّيْلِ كَانَ الْمَعْنَى مَا يُرَادُ مِنَ الْخُشُوعِ وَالْإِخْلَاصِ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهَا بِمَا ذَكَرْتُ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ إِفْضَاءَ تِلْكَ الْمُجَاهَدَاتِ إِلَى حُصُولِ الْمُكَاشَفَاتِ فِي اللَّيْلِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي النَّهَارِ، وَعَنِ الْحَسَنِ أَشَدُّ مُوَافَقَةً بَيْنَ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ لِانْقِطَاعِ رُؤْيَةِ الْخَلَائِقِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: أَشَدُّ وَطْئاً بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: أَشَدُّ ثَبَاتَ قَدَمٍ، لِأَنَّ النَّهَارَ يَضْطَرِبُ فِيهِ النَّاسُ وَيَتَقَلَّبُونَ فِيهِ لِلْمَعَاشِ وَالثَّانِي: أَثْقَلُ وَأَغْلَظُ عَلَى الْمُصَلِّي مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: اشْتَدَّتْ عَلَى الْقَوْمِ وَطْأَةُ سُلْطَانِهِمْ إِذَا ثَقُلَ عَلَيْهِمْ مُعَامَلَتُهُمْ مَعَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ» فَأَعْلَمَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنَّ الثَّوَابَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ عَلَى قَدْرِ شِدَّةِ الْوَطْأَةِ وَثِقَلِهَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ أَحَمَزُهَا» أَيْ أَشَقُّهَا. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى، قَالَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِقِيَامِ اللَّيْلِ ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا أَمَرْتُكَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ لِأَنَّ مُوَافَقَةَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فِيهِ أَكْمَلُ، وَأَيْضًا الْخَوَاطِرُ اللَّيْلِيَّةُ إِلَى الْمُكَاشَفَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ أتم. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقْوَمُ قِيلًا فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الأولى: أَقْوَمُ قِيلًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَحْسَنُ لَفْظًا، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لِأَنَّ اللَّيْلَ تَهْدَأُ فِيهِ الْأَصْوَاتُ وَتَنْقَطِعُ فِيهِ الْحَرَكَاتُ وَيَخْلُصُ الْقَوْلُ، وَلَا يَكُونُ دُونَ تَسَمُّعِهِ وَتَفَهُّمِهِ حَائِلٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَنَسٌ (وَأَصْوَبُ قِيلًا) ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ إِنَّمَا هِيَ: وَأَقْوَمُ قِيلًا فَقَالَ أَنَسٌ:

[سورة المزمل (73) : آية 7]

[إن أقوم] «1» وَأَصْوَبُ وَأَهْيَأُ وَاحِدٌ، قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَعْتَبِرُونَ الْمَعَانِيَ، فَإِذَا وَجَدُوهَا لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى الْأَلْفَاظِ وَنَظِيرُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا سَوَّارٍ الْغَنَوِيَّ كَانَ يَقْرَأُ: (فَحَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ) بِالْحَاءِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا هُوَ جَاسُوا، فَقَالَ: حَاسُوا وجاسوا واحد وأنا/ أقول: يجب أن نحمل ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلَفْظِ الْقُرْآنِ لَا عَلَى أَنَّهُ جَعَلَهُ نَفْسَ الْقُرْآنِ، إِذْ لَوْ ذَهَبْنَا إِلَى مَا قَالَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ لَارْتَفَعَ الِاعْتِمَادُ عَنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، وَلَجَوَّزْنَا أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ عَبَّرَ عَنِ الْمَعْنَى بِلَفْظٍ رَآهُ مُطَابِقًا لِذَلِكَ الْمَعْنَى، ثُمَّ رُبَّمَا أَصَابَ فِي ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ، وَرُبَّمَا أَخْطَأَ وَهَذَا يَجُرُّ إِلَى الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ حمل ذلك على ما ذكرناه. [سورة المزمل (73) : آية 7] إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْمُبَرِّدُ: سَبْحًا أَيْ تَقَلُّبًا فِيمَا يَجِبُ وَلِهَذَا سُمِّي السَّابِحُ سَابِحًا لِتَقَلُّبِهِ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ الْمَعْنَى وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ تَصَرُّفًا وَتَقَلُّبًا فِي مُهِمَّاتِكَ فَلَا تَتَفَرَّغْ لِخِدْمَةِ اللَّهِ إِلَّا بِاللَّيْلِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَمَرْتُكَ بِالصَّلَاةِ فِي اللَّيْلِ الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ إِنْ فَاتَكَ مِنَ اللَّيْلِ شَيْءٌ مِنَ النَّوْمِ وَالرَّاحَةِ فَلَكَ فِي النَّهَارِ فَرَاغُهُ فَاصْرِفْهُ إِلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ سَبْخًا بِالْخَاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ فَوْقُ، وَهُوَ استعارة من سبخ الصوف وهو نقشه وَنَشْرُ أَجْزَائِهِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ فِي النَّهَارِ يَتَفَرَّغُ بِسَبَبِ الشَّوَاغِلِ، وَتَخْتَلِفُ هُمُومُهُ بِسَبَبِ الْمُوجِبَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ أَوَّلًا بِقِيَامِ اللَّيْلِ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّبَبَ فِي أَنَّهُ لِمَ خَصَّ اللَّيْلَ بِذَلِكَ دُونَ النَّهَارِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ أَشْرَفَ الْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا عِنْدَ قِيَامِ الليل ما هو. [سورة المزمل (73) : آية 8] وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) [في قوله تعالى وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ] وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: الذِّكْرُ، وَالثَّانِي: التَّبَتُّلُ، أَمَّا الذِّكْرُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ هاهنا وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً [الْأَعْرَافِ: 205] لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مِنْ ذِكْرِ الِاسْمِ بِاللِّسَانِ مُدَّةً ثُمَّ يَزُولُ الِاسْمُ وَيَبْقَى الْمُسَمَّى، فَالدَّرَجَةُ الأولى هي المراد بقوله هاهنا: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ وَإِنَّمَا تَكُونُ مُشْتَغِلًا بِذِكْرِ الرَّبِّ، إِذَا كُنْتَ فِي مَقَامِ مُطَالَعَةِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَرُبُوبِيَّتُهُ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْوَاعِ تَرْبِيَتِهِ لَكَ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْكَ، فَمَا دُمْتَ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَكُونُ مَشْغُولَ الْقَلْبِ بِمُطَالَعَةِ آلَائِهِ وَنَعْمَائِهِ فَلَا تَكُونُ مُسْتَغْرِقَ الْقَلْبِ بِهِ، وَحِينَئِذٍ يَزْدَادُ التَّرَقِّي فَتَصِيرُ مُشْتَغِلًا بِذِكْرِ إِلَهِيَّتِهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 200] وَفِي هَذَا الْمَقَامِ يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِي مَقَامِ الْهَيْبَةِ وَالْخَشْيَةِ، لِأَنَّ الْإِلَهِيَّةَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَهَارِيَّةِ وَالْعِزَّةِ وَالْعُلُوِّ وَالصَّمَدِيَّةِ، وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَرْقَى فِي هَذَا الْمَقَامِ مُتَرَدِّدًا فِي مَقَامَاتِ الْجَلَالِ وَالتَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ إِلَى أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْهَا إِلَى مَقَامِ الْهَوِيَّةِ الْأَحَدِيَّةِ، الَّتِي كَلَّتِ الْعِبَارَاتُ عَنْ شَرْحِهَا، وَتَقَاصَرَتِ الْإِشَارَاتُ عَنِ الِانْتِهَاءِ إِلَيْهَا، وَهُنَاكَ الِانْتِهَاءُ إِلَى الْوَاحِدِ الْحَقِّ، ثُمَّ يَقِفُ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ نَظِيرٌ فِي الصِّفَاتِ، حَتَّى يَحْصُلَ الِانْتِقَالُ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ، ولا «2» تكون الهوية

_ (1) زيادة من الكشاف 4/ 176 ط. دار الفكر. (2) في الأصل (ولا أن تكون) وأن فيما يظهر لي زائدة فحذفتها وأنبهت إلى ذلك رعاية للأصل.

[سورة المزمل (73) : آية 9]

مُرَكَّبَةً حَتَّى/ يَنْتَقِلَ نَظَرُ الْعَقْلِ مِنْ جُزْءٍ إِلَى جُزْءٍ، وَلَا «1» مُنَاسِبَةً لِشَيْءٍ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُدْرَكَةِ عَنِ النَّفْسِ حَتَّى تُعْرَفَ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَايَسَةِ، فَهِيَ الظَّاهِرَةُ لِأَنَّهَا مَبْدَأُ ظُهُورِ كُلِّ ظَاهِرٍ، وَهِيَ الْبَاطِنَةُ لِأَنَّهَا فَوْقَ عُقُولِ كُلِّ الْمَخْلُوقَاتِ، فَسُبْحَانَ مَنِ احْتَجَبَ عَنِ الْعُقُولِ لِشِدَّةِ ظُهُورِهِ وَاخْتَفَى عَنْهَا بِكَمَالِ نُورِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ الْمُفَسِّرِينَ فَسَّرُوا التَّبَتُّلَ بِالْإِخْلَاصِ، وَأَصْلُ التَّبَتُّلِ فِي اللُّغَةِ الْقَطْعُ، وَقِيلَ لِمَرْيَمَ الْبَتُولُ لِأَنَّهَا انْقَطَعَتْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادَةِ، وَصَدَقَةٌ بَتْلَةٌ مُنْقَطِعَةٌ مِنْ مَالِ صَاحِبِهَا. وَقَالَ اللَّيْثُ: التَّبْتِيلُ تَمْيِيزُ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ، وَالْبَتُولُ كُلُّ امْرَأَةٍ تَنْقَبِضُ مِنَ الرِّجَالِ، لَا رَغْبَةَ لَهَا فِيهِمْ. إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ لِلْمُفَسِّرِينَ عِبَارَاتٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ لِلْعَابِدِ إِذَا تَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ قَدْ تَبَتَّلَ أَيِ انْقَطَعَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ التَّبَتُّلُ رَفْضُ الدُّنْيَا مَعَ كُلِّ مَا فِيهَا وَالْتِمَاسُ مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ فَوْقَ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الظَّاهِرِيُّونَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَتَبَتَّلْ أَيِ انْقَطِعْ عَنْ كل ما سواه إليه والمشغول بِطَلَبِ الْآخِرَةِ غَيْرُ مُتَبَتِّلٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، بل التبتل إلى الآخرة والمشغول بعبارة اللَّهِ مُتَبَتِّلٌ إِلَى الْعِبَادَةِ لَا إِلَى اللَّهِ، وَالطَّالِبُ لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ مُتَبَتِّلٌ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ لَا إِلَى اللَّهِ فَمَنْ آثَرَ الْعِبَادَةَ لِنَفْسِ الْعِبَادَةِ أَوْ لِطَلَبِ الثَّوَابِ أَوْ لِيَصِيرَ مُتَعَبِّدًا كَامِلًا بِتِلْكَ الْعُبُودِيَّةِ لِلْعُبُودِيَّةِ فَهُوَ مُتَبَتِّلٌ إِلَى غير الله، ومن آثر العرفان فَهُوَ مُتَبَتِّلٌ إِلَى الْعِرْفَانِ، وَمَنْ آثَرَ الْعُبُودِيَّةَ لَا لِلْعُبُودِيَّةِ بَلْ لِلْمَعْبُودِ وَآثَرَ الْعِرْفَانَ لَا لِلْعِرْفَانِ بَلْ لِلْمَعْرُوفِ، فَقَدْ خَاضَ لُجَّةَ الْوُصُولِ، وَهَذَا مَقَامٌ لَا يَشْرَحُهُ الْمَقَالُ وَلَا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْخَيَالُ، وَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَكُنْ مِنَ الْوَاصِلِينَ إِلَى الْعَيْنِ دُونَ السَّامِعِينَ لِلْأَثَرِ وَلَا يَجِدُ الْإِنْسَانُ لِهَذَا مِثَالًا إِلَّا عِنْدَ الْعِشْقِ الشَّدِيدِ إِذَا مَرِضَ الْبَدَنُ بِسَبَبِهِ وَانْحَبَسَتِ الْقُوَى وَعَمِيَتِ الْعَيْنَانِ وَزَالَتِ الْأَغْرَاضُ بِالْكُلِّيَّةِ وَانْقَطَعَتِ النَّفْسُ عَمَّا سِوَى الْمَعْشُوقِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَهُنَاكَ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ التَّبَتُّلِ إِلَى الْمَعْشُوقِ وَبَيْنَ التَّبَتُّلِ إِلَى رُؤْيَةِ الْمَعْشُوقِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبَتُّلًا أَوْ يُقَالُ: بَتِّلْ نَفْسَكَ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا، لَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْهُمَا وَاخْتَارَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ الدَّقِيقَةَ وَهِيَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ إِنَّمَا هُوَ التَّبَتُّلُ فَأَمَّا التَّبْتِيلُ فَهُوَ تَصَرُّفٌ وَالْمُشْتَغِلُ بِالتَّصَرُّفِ لَا يَكُونُ مُتَبَتِّلًا إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ الْمُشْتَغِلَ بِغَيْرِ اللَّهِ لَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا إِلَى اللَّهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَوَّلًا مِنَ التَّبْتِيلِ حَتَّى يَحْصُلَ التَّبَتُّلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [الْعَنْكَبُوتِ: 69] فَذَكَرَ التَّبَتُّلَ أَوَّلًا إِشْعَارًا بِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ وَذَكَرَ التَّبْتِيلَ ثَانِيًا إِشْعَارًا بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ ولكنه مقصود بالغرض. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِالذِّكْرِ أَوَّلًا ثُمَّ بِالتَّبَتُّلِ ثَانِيًا ذَكَرَ السَّبَبَ فِيهِ فَقَالَ تعالى: [سورة المزمل (73) : آية 9] رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) [في قوله تَعَالَى رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ التَّبَتُّلَ إِلَيْهِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ الْمَحَبَّةِ، وَالْمَحَبَّةُ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِاللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَبَبَ الْمَحَبَّةِ إِمَّا الْكَمَالُ وَإِمَّا التَّكْمِيلُ، أَمَّا الْكَمَالُ فَلِأَنَّ الْكَمَالَ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ شَيْءٍ إِنَّمَا كَانَ مَحْبُوبًا لِأَجْلِ شَيْءٍ آخَرَ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، فَإِذًا لَا بُدَّ مِنَ الانتهاء إلى ما يكون

_ (1) فيه أيضا (ولا إنها مناسبة) وهي كسابقتها.

[سورة المزمل (73) : آية 10]

مَحْبُوبًا لِذَاتِهِ، وَالْكَمَالُ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ، فَإِنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ فُلَانًا الَّذِي كَانَ قَبْلَ هَذَا بِأَلْفِ سَنَةٍ كَانَ مَوْصُوفًا بِعِلْمٍ أَزْيَدَ مِنْ عِلْمِ سَائِرِ النَّاسِ مَالَ طَبْعُهُ إِلَيْهِ وَأَحَبَّهُ شَاءَ أَمْ أَبَى، وَمَنِ اعْتَقَدَ فِي رُسْتُمَ أَنَّهُ كَانَ مَوْصُوفًا بِشَجَاعَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى شَجَاعَةِ سَائِرِ النَّاسِ أَحَبَّهُ شَاءَ أَمْ أَبَى، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْكَمَالَ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ وَكَمَالُ الْكَمَالِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَاللَّهُ تَعَالَى مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ، فَمَنْ لَمْ يَحْصُلْ فِي قَلْبِهِ مَحَبَّتُهُ كَانَ ذَلِكَ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِكَمَالِهِ، وَأَمَّا التَّكْمِيلُ فَهُوَ أَنَّ الْجَوَادَ مَحْبُوبٌ وَالْجَوَادُ الْمُطْلَقُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَالْمَحْبُوبُ الْمُطْلَقُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالتَّبَتُّلُ الْمُطْلَقُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ إِلَّا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْكَمَالَ الْمُطْلَقَ لَهُ وَالتَّكْمِيلَ الْمُطْلَقَ مِنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ التَّبَتُّلُ الْمُطْلَقُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّبَتُّلَ الْحَاصِلَ إِلَيْهِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ مَبْدَأً لِلتَّكْمِيلِ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّبَتُّلِ الْحَاصِلِ إِلَيْهِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي مَبْدَأِ السَّيْرِ يَكُونُ طَالِبًا لِلْحِصَّةِ فَيَكُونُ تَبَتُّلُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ كَوْنِهِ مَبْدَأً لِلتَّكْمِيلِ وَالْإِحْسَانِ، ثُمَّ فِي آخِرِ السَّيْرِ يَتَرَقَّى عَنْ طَلَبِ الْحِصَّةِ كَمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّهُ يَصِيرُ طَالِبًا لِلْمَعْرُوفِ لَا لِلْعِرْفَانِ، فَيَكُونُ تَبَتُّلُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ كَامِلًا فَقَوْلُهُ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى الَّتِي هِيَ أَوَّلُ دَرَجَاتِ الْمُتَبَتِّلِينَ وَقَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي هِيَ مُنْتَهَى دَرَجَاتِ الْمُتَبَتِّلِينَ وَمُنْتَهَى أَقْدَامِ الصِّدِّيقِينَ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَهُ تَحْتَ كُلِّ كَلِمَةٍ سِرٌّ مَخْفِيٌّ، ثُمَّ وَرَاءَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ مَقَامٌ آخَرُ، وَهُوَ مَقَامُ التَّفْوِيضِ، وَهُوَ أَنْ يَرْفَعَ الِاخْتِيَارَ مِنَ الْبَيْنِ، وَيُفَوِّضَ الْأَمْرَ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَيْهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْحَقَّ بِهِ أَنْ يَجْعَلَهُ متبتلا رضي بعدم التبتيل لا من حيث إنه عدم التبتيل، بل من حيث إنه مراد الحق، وهاهنا آخِرُ الدَّرَجَاتِ، وَقَوْلُهُ: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا إِشَارَةٌ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، فَهَذَا مَا جَرَى بِهِ الْقَلَمُ في تفسير في هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي الزَّوَايَا خَبَايَا، وَمِنْ أَسْرَارِ هَذِهِ الْآيَةِ بَقَايَا وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [لُقْمَانَ: 27] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَبُّ فِيهِ قِرَاءَتَانِ إِحْدَاهُمَا: الرَّفْعُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْمَدْحِ، وَالتَّقْدِيرُ هُوَ رَبُّ الْمَشْرِقِ، فَيَكُونُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، كَقَوْلِهِ: بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ [الْحَجِّ: 72] وَقَوْلِهِ: مَتاعٌ قَلِيلٌ [آلِ عِمْرَانَ: 197] أَيْ تَقَلُّبُهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَالثَّانِي: أَنْ تَرْفَعَهُ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ، لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وَالْعَائِدُ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ الْمُنْفَصِلُ، وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ: الْخَفْضُ، وَفِيهَا وَجْهَانِ: الأول: على البدل من رَبِّكَ [المزمل: 8] وَالثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى الْقَسَمِ بِإِضْمَارِ حَرْفِ الْقَسَمِ كَقَوْلِكَ. اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ وَجَوَابُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ كَمَا تَقُولُ وَاللَّهِ لَا أَحَدَ فِي الدَّارِ إِلَّا زِيدٌ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَبُّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَزِمَكَ أَنْ تَتَّخِذَهُ وَكِيلًا/ وأن تفوض كل أمورك إليه، وهاهنا مَقَامٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَتْ مَعْرِفَةُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ تُوجِبُ تَفْوِيضَ كُلِّ الْأُمُورِ إِلَيْهِ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يُفَوِّضُ كُلَّ الْأُمُورِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِحَقِيقَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ وَمُحْدَثٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ وَمُحْدَثٍ، فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَى الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ لَمْ يَجِبْ، وَلَمَّا كَانَ الْوَاجِبُ لِذَاتِهِ وَاحِدًا كَانَ جَمِيعُ الْمُمْكِنَاتِ مُسْتَنِدَةً إِلَيْهِ، مُنْتَهِيَةً إِلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَكِيلًا أَيْ كَفِيلًا بما وعدك من النصر والإظهار. [سورة المزمل (73) : آية 10] وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10)

[سورة المزمل (73) : آية 11]

الْمَعْنَى إِنَّكَ لَمَّا اتَّخَذْتَنِي وَكِيلًا فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَفَوِّضْ أَمْرَهُمْ إِلَيَّ فَإِنَّنِي لَمَّا كُنْتُ وَكِيلًا لَكَ أَقُومُ بِإِصْلَاحِ أَمْرِكَ أَحْسَنَ مِنْ قِيَامِكَ بِإِصْلَاحِ أُمُورِ نَفْسِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ مُهِمَّاتِ الْعِبَادِ مَحْصُورَةٌ فِي أَمْرَيْنِ كَيْفِيَّةِ مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ اللَّهِ، وَكَيْفِيَّةِ مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ الْخَلْقِ، وَالْأَوَّلُ أَهَمُّ مِنَ الثَّانِي، فَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَتْبَعَهُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ سُبْحَانَهُ جَمَعَ كَلَّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخَالِطًا لِلنَّاسِ أَوْ مُجَانِبًا عَنْهُمْ فَإِنْ خَالَطَهُمْ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْمُصَابَرَةِ عَلَى إِيذَائِهِمْ وَإِيحَاشِهِمْ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ يَطْمَعُ مِنْهُمْ فِي الْخَيْرِ وَالرَّاحَةِ لَمْ يَجِدْ فَيَقَعَ فِي الْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، فَثَبَتَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ مُخَالَطَةً مَعَ الْخَلْقِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الصَّبْرِ الْكَثِيرِ، فَأَمَّا إِنْ تَرَكَ الْمُخَالَطَةَ فَذَاكَ هُوَ الْهَجْرُ الْجَمِيلُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَالْهَجْرُ الْجَمِيلُ أَنْ يُجَانِبَهُمْ بِقَلْبِهِ وَهَوَاهُ وَيُخَالِفَهُمْ فِي الْأَفْعَالِ مَعَ الْمُدَارَاةِ وَالْإِغْضَاءِ وَتَرْكِ الْمُكَافَأَةِ، وَنَظِيرُهُ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ [النِّسَاءِ: 63] وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 199] فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا [النَّجْمِ: 29] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ قَبْلَ آيَةِ الْقِتَالِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِالْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ هُوَ الْأَخْذُ بِإِذْنِ اللَّهِ فِيمَا يَكُونُ أَدْعَى إِلَى الْقَبُولِ فَلَا يَرِدُ النَّسْخُ فِي مِثْلِهِ وهذا أصح. [سورة المزمل (73) : آية 11] وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا اهْتَمَّ إِنْسَانٌ بِمُهِمٍّ وَكَانَ غَيْرُهُ قَادِرًا عَلَى كِفَايَةِ ذَلِكَ الْمُهِمِّ عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ قَالَ لَهُ: ذَرْنِي أَنَا وَذَاكَ أَيْ لَا حَاجَةَ مَعَ اهْتِمَامِي بِذَاكَ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ [الْقَلَمِ: 44] وَقَوْلُهُ: أُولِي النَّعْمَةِ بِالْفَتْحِ التَّنَعُّمُ وَبِالْكَسْرِ الْإِنْعَامُ وَبِالضَّمِّ الْمَسَرَّةُ يُقَالُ: أَنْعَمَ بِكَ وَنَعِمَكَ عَيْنًا أَيْ أَسَرَّ عَيْنَكَ وَهُمْ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ وَكَانُوا أَهْلَ تَنَعُّمٍ وَتَرَفُّهٍ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ مِنَ الْقَلِيلِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَالثَّانِي: الْمُرَادُ مِنَ الْقَلِيلِ تِلْكَ الْمُدَّةُ الْقَلِيلَةُ الْبَاقِيَةُ إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ، فَإِنَّ اللَّهَ أَهْلَكَهُمْ في ذلك اليوم. ثُمَّ ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ عَذَابِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَ: [سورة المزمل (73) : الآيات 12 الى 13] إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) أَيْ إِنَّ لَدَيْنَا فِي الْآخِرَةِ مَا يُضَادُّ تَنَعُّمَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَذَكَرَ أُمُورًا أَرْبَعَةً أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: أَنْكالًا وَاحِدُهَا نِكْلٌ وَنُكْلٌ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: النِّكْلُ الْقَيْدُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: النِّكْلُ الْقَيْدُ الثَّقِيلُ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَجَحِيماً وَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى التَّفْسِيرِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ الْغُصَّةُ مَا يُغَصُّ بِهِ الْإِنْسَانُ، وَذَلِكَ الطَّعَامُ هُوَ الزَّقُّومُ وَالضَّرِيعُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ [الْغَاشِيَةِ: 6] قَالُوا: إِنَّهُ شَوْكٌ كَالْعَوْسَجِ يَأْخُذُ بِالْحَلْقِ يَدْخُلُ وَلَا يَخْرُجُ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَعَذاباً أَلِيماً وَالْمُرَادُ مِنْهُ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الْعُقُوبَةِ الرُّوحَانِيَّةِ، أَمَّا الْأَنْكَالُ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ بَقَاءِ النَّفْسِ فِي قَيْدِ التَّعَلُّقَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَاللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ، فَإِنَّهَا فِي الدُّنْيَا لَمَّا اكْتَسَبَتْ مَلَكَةَ تِلْكَ الْمَحَبَّةِ وَالرَّغْبَةِ، فَبَعْدَ الْبَدَنِ يَشْتَدُّ الْحَنِينُ، مَعَ أَنَّ آلَاتِ الْكَسْبِ قَدْ بَطَلَتْ فَصَارَتْ تِلْكَ كَالْأَنْكَالِ وَالْقُيُودِ الْمَانِعَةِ لَهُ مِنَ التَّخَلُّصِ إِلَى عَالَمِ الرُّوحِ وَالصَّفَاءِ، ثُمَّ يَتَوَلَّدُ مِنْ تِلْكَ الْقُيُودِ الرُّوحَانِيَّةِ نِيرَانٌ رُوحَانِيَّةٌ، فَإِنَّ شَدَّةَ مَيْلِهَا إِلَى الْأَحْوَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَعَدَمَ تَمَكُّنِهَا مِنَ الْوُصُولِ إليها، يوجب

[سورة المزمل (73) : آية 14]

حُرْقَةً شَدِيدَةً رُوحَانِيَّةً كَمَنْ تَشْتَدُّ رَغْبَتُهُ فِي وِجْدَانِ شَيْءٍ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَجِدُهُ فَإِنَّهُ يَحْتَرِقُ قَلْبُهُ عَلَيْهِ، فَذَاكَ هُوَ الْجَحِيمُ، ثُمَّ إِنَّهُ يَتَجَرَّعُ غُصَّةَ الْحِرْمَانِ وَأَلَمَ الْفِرَاقِ، فَذَاكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ ثُمَّ إِنَّهُ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ بَقِيَ مَحْرُومًا عَنْ تَجَلِّي نُورِ اللَّهِ وَالِانْخِرَاطِ فِي سِلْكِ الْمُقَدَّسِينَ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَعَذاباً أَلِيماً وَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَعَذاباً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ أَشَدُّ مِمَّا تَقَدَّمَ وَأَكْمَلُ، وَاعْلَمْ أَنِّي لَا أَقُولُ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ هُوَ مَا ذَكَرْتُهُ فَقَطْ، بَلْ أَقُولُ إِنَّهَا تُفِيدُ حُصُولَ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَحُصُولَ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعَةِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرَاتِبِ الْجُسْمَانِيَّةِ حَقِيقَةً، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرَاتِبِ الرُّوحَانِيَّةِ مَجَازًا مُتَعَارَفًا مَشْهُورًا. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْعَذَابَ، أَخْبَرَ أنه متى يكون ذلك فقال تعالى: [سورة المزمل (73) : آية 14] يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ: يَوْمَ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِ: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً [المزمل: 12] أَيْ نُنَكِّلُ بِالْكَافِرِينَ وَنُعَذِّبُهُمْ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الرَّجْفَةُ الزَّلْزَلَةُ وَالزَّعْزَعَةُ الشَّدِيدَةُ، وَالْكَثِيبُ الْقِطْعَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ الرَّمْلِ تَجْتَمِعُ مُحْدَوْدِبَةً وَجَمْعُهُ الْكُثْبَانُ، وَفِي كَيْفِيَّةِ الِاشْتِقَاقِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ كَثَبَ الشَّيْءَ/ إِذَا جَمَعَهُ كَأَنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَالثَّانِي: قَالَ اللَّيْثُ: الْكَثِيبُ نَثْرُ التُّرَابِ أَوِ الشَّيْءِ يُرْمَى بِهِ، وَالْفِعْلُ اللَّازِمُ انْكَثَبَ يَنْكَثِبُ انْكِثَابًا، وَسُمِّيَ الْكَثِيبُ كَثِيبًا، لِأَنَّ تُرَابَهُ دِقَاقٌ، كَأَنَّهُ مَكْثُوبٌ مَنْثُورٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ لِرَخَاوَتِهِ، وَقَوْلُهُ: مَهِيلًا أَيْ سَائِلًا قَدْ أُسِيلُ، يُقَالُ: تُرَابٌ مَهِيلٌ وَمَهْيُولٌ أَيْ مَصْبُوبٌ وَمَسِيلٌ الْأَكْثَرُ فِي اللُّغَةِ مَهِيلٌ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِكَ مَكِيلٌ وَمَكْيُولٌ، وَمَدِينٌ وَمَدْيُونٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَاءَ تُحْذَفُ مِنْهُ الضَّمَّةُ فَتَسْكُنُ، وَالْوَاوُ أَيْضًا سَاكِنَةٌ، فَتُحْذَفُ الْوَاوُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى يُفَرِّقُ تَرْكِيبَ أَجْزَاءِ الْجِبَالِ وَيَنْسِفُهَا نَسْفًا وَيَجْعَلُهَا كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَصِيرُ كَالْكَثِيبِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُحَرِّكُهَا عَلَى مَا قَالَ: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ [الْكَهْفِ: 47] وَقَالَ: وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النَّمْلِ: 88] وَقَالَ: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ [النَّبَأِ: 20] فَعِنْدَ ذَلِكَ تَصِيرُ مَهِيلًا، فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَمْ يَقُلْ: وَكَانَتِ الْجِبَالُ كُثْبَانًا مَهِيلَةً؟ قُلْنَا: لِأَنَّهَا بأسرها تجتمع فتصير كثيبا واحدا مهيلا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَوَّفَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ بِأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ خَوَّفَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَهْوَالِ الدنيا فقال تعالى: [سورة المزمل (73) : الآيات 15 الى 16] إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِطَابَ لِأَهْلِ مكة والمقصود تهديدهم بالأخذ الوبيل، وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ نُكِّرَ الرَّسُولُ ثُمَّ عُرِّفَ؟ الْجَوَابُ: التَّقْدِيرُ أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَاهُ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا، فَأَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ أَيْضًا رَسُولًا فَعَصَيْتُمْ ذَلِكَ الرَّسُولَ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ نَأْخُذَكُمْ أَخْذًا وَبِيلًا.

[سورة المزمل (73) : الآيات 17 إلى 18]

السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ؟ وَالْجَوَابُ: نَعَمْ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَنْتَظِمُ لَوْ قِسْنَا إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ حُجَّةٌ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ حُجَّةٌ، وَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ إِلَى قِيَاسِ سَائِرِ الْقِيَاسَاتِ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، فيكون ذلك إثباتا للقياس بالقيس، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ؟ قُلْنَا: لَا نُثْبِتُ سَائِرَ الْقِيَاسَاتِ بِالْقِيَاسِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ الْمَحْذُورُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ، بَلْ وَجْهُ الْتَمَسُّكِ هُوَ أَنْ نَقُولَ: لَوْلَا أَنَّهُ تَمَهَّدَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ يَشْتَرِكَانِ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ ظَنًّا يَجِبُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَإِلَّا لَمَا أَوْرَدَ هَذَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ احتمال الفرق المرجوح قائم هاهنا فَإِنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَعَلَّهُمْ إِنَّمَا اسْتَوْجَبُوا الْأَخْذَ الْوَبِيلَ بِخُصُوصِيَّةِ حَالَةِ الْعِصْيَانِ فِي تِلْكَ الصورة وتلك الخصوصية غير موجودة هاهنا، فلا يلزم حصول الأخذ الوبيل هاهنا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى مَعَ قِيَامِ هَذَا الِاحْتِمَالِ جَزَمَ/ بِالتَّسْوِيَةِ فِي الْحُكْمِ فَهَذَا الْجَزْمُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ مَسْبُوقًا بِتَقْرِيرِ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْمَنَاطِ الظَّاهِرِ وَجَبَ الْجَزْمُ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْحُكْمِ، وَإِنَّ مُجَرَّدَ احْتِمَالِ الْفَرْقِ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ كَوْنُهَا مُنَاسِبَةً لِلْحُكْمِ لَا يَكُونُ قَادِحًا فِي تِلْكَ التَّسْوِيَةِ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِنَا الْقِيَاسُ حُجَّةٌ إِلَّا هَذَا. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ ذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قِصَّةَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ عَلَى التَّعْيِينِ دُونَ سَائِرِ الرُّسُلِ وَالْأُمَمِ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ ازْدَرَوْا مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَاسْتَخَفُّوا بِهِ لِأَنَّهُ وُلِدَ فِيهِمْ، كَمَا أَنَّ فِرْعَوْنَ ازْدَرَى مُوسَى لِأَنَّهُ رَبَّاهُ وَوُلِدَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشُّعَرَاءِ: 18] . السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا مَعْنَى كَوْنِ الرَّسُولِ شَاهِدًا عَلَيْهِمْ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ الثَّانِي: الْمُرَادُ كَوْنُهُ مُبَيِّنًا لِلْحَقِّ فِي الدُّنْيَا، وَمُبَيِّنًا لِبُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، لِأَنَّ الشَّاهِدَ بِشَهَادَتِهِ يُبَيِّنُ الْحَقَّ، وَلِذَلِكَ وُصِفَتْ بِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُوصَفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بَيَّنَ الْحَقَّ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً أَيْ عُدُولًا خِيَارًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143] فَبَيَّنَ أَنَّهُ يَكُونُ شَاهِدًا عَلَيْهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الْآخِرَةِ حَقِيقَةٌ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْبَيَانِ مَجَازٌ وَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: مَا مَعْنَى الْوَبِيلِ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْوَبِيلُ: الثَّقِيلُ الْغَلِيظُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: صَارَ هَذَا وَبَالًا عَلَيْهِمْ، أَيْ أَفْضَى بِهِ إِلَى غَايَةِ الْمَكْرُوهِ، وَمِنْ هَذَا قِيلَ لِلْمَطَرِ الْعَظِيمِ: وَابِلٌ، وَالْوَبِيلُ: الْعَصَا الضَّخْمَةُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْوَبِيلُ الَّذِي لَا يُسْتَمْرَأُ، وَمَاءٌ وَبِيلٌ وَخِيمٌ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَرِيءٍ وَكَلَأٌ مُسْتَوْبَلٌ، إِذَا أَدَّتْ عَاقِبَتُهُ إِلَى مَكْرُوهٍ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ: فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا يَعْنِي الغرق، قاله الكلبي ومقاتل وقتادة. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَادَ إِلَى تَخْوِيفِهِمْ بِالْقِيَامَةِ مرة أخرى فقال تعالى: [سورة المزمل (73) : الآيات 17 الى 18] فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا إِنْ كَفَرْتُمْ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ: يَوْماً وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، أَيْ فكيف تتقون أنفسكم يوم القيامة وهو له إِنْ بَقِيتُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا أَيْ/ وَكَيْفَ لَكُمْ بِالتَّقْوَى فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنْ كَفَرْتُمْ فِي الدُّنْيَا وَالثَّالِثُ: أَنْ ينتصب بكفرتم عَلَى تَأْوِيلِ جَحَدْتُمْ، أَيْ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ اللَّهَ وَتَخْشَوْنَهُ إِنْ جَحَدْتُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْجَزَاءَ لِأَنَّ تَقْوَى اللَّهِ لَا مَعْنَى لَهَا إِلَّا خَوْفَ عِقَابِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَثَلٌ فِي الشِّدَّةِ يُقَالُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ: يَوْمَ يَشِيبُ نَوَاصِي الْأَطْفَالِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْهُمُومَ وَالْأَحْزَانَ، إِذَا تَفَاقَمَتْ عَلَى الْإِنْسَانِ، أَسْرَعَ فِيهِ الشَّيْبُ، لِأَنَّ كَثْرَةَ الْهُمُومِ تُوجِبُ انْقِصَارَ الرُّوحِ إِلَى دَاخِلِ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ الِانْقِصَارُ يُوجِبُ انْطِفَاءَ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَانْطِفَاءُ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَضَعْفُهَا، يُوجِبُ بَقَاءَ الْأَجْزَاءِ الْغِذَائِيَّةِ غَيْرَ تَامَّةِ النُّضْجِ وَذَلِكَ يُوجِبُ اسْتِيلَاءَ الْبَلْغَمِ عَلَى الْأَخْلَاطِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ ابْيِضَاضَ الشَّعَرِ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ حُصُولَ الشَّيْبِ مِنْ لَوَازِمِ كَثْرَةِ الْهُمُومِ، جَعَلُوا الشَّيْبَ كِنَايَةً عَنِ الشَّدَّةِ وَالْمِحْنَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ هَوْلَ ذلك اليوم يجعل الوالدان شِيبًا حَقِيقَةً، لِأَنَّ إِيصَالَ الْأَلَمِ وَالْخَوْفِ إِلَى الصِّبْيَانِ غَيْرُ جَائِزٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَصْفَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالطُّولِ، وَأَنَّ الْأَطْفَالَ يَبْلُغُونَ فِيهِ أَوَانَ الشَّيْخُوخَةِ وَالشَّيْبِ، وَلَقَدْ سَأَلَنِي بَعْضُ الْأُدَبَاءِ عَنْ قَوْلِ الْمَعَرِّي: وَظُلْمٌ يَمْلَأُ الْفَوْدَيْنِ شِيبًا «1» وَقَالَ: كَيْفَ يُفَضَّلُ هَذَا التَّشْبِيهُ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ عَلَى بَيْتِ الْمَعَرِّي؟ فَقُلْتُ: مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ امْتِلَاءَ الْفَوْدَيْنِ مِنَ الشَّيْبِ لَيْسَ بِعَجَبٍ، أَمَّا صَيْرُورَةُ الْوِلْدَانِ شِيبًا فَهُوَ عَجِيبٌ كَأَنَّ شِدَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَنْقُلُهُمْ مِنْ سِنِّ الطُّفُولِيَّةِ إِلَى سِنِّ الشَّيْخُوخَةِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمُرُّوا فِيمَا بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ بِسَنِّ الشَّبَابِ، وَهَذَا هُوَ الْمُبَالَغَةُ الْعَظِيمَةُ فِي وَصْفِ الْيَوْمِ بِالشِّدَّةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ امْتِلَاءَ الْفَوْدَيْنِ مِنَ الشَّيْبِ مَعْنَاهُ ابْيِضَاضُ الشَّعْرِ، وَقَدْ يَبْيَضُّ الشَّعْرُ لِعِلَّةٍ مَعَ أَنَّ قُوَّةَ الشَّبَابِ تَكُونُ بَاقِيَةً فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ مُبَالَغَةٌ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى صَيْرُورَةِ الْوِلْدَانِ شُيُوخًا فِي الضَّعْفِ وَالنَّحَافَةِ وَعَدَمِ طَرَاوَةِ الْوَجْهِ، وَذَلِكَ نِهَايَةٌ فِي شِدَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ امْتِلَاءَ الْفَوْدَيْنِ مِنَ الشَّيْبِ، لَيْسَ فِيهِ مُبَالَغَةٌ لِأَنَّ جَانِبَيِ الرَّأْسِ مَوْضِعٌ لِلرُّطُوبَاتِ الْكَثِيرَةِ الْبَلْغَمِيَّةِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ، فَإِنَّ الشَّيْبَ إِنَّمَا يَحْدُثُ أَوَّلًا فِي الصُّدْغَيْنِ، وَبَعْدَهُ فِي سَائِرِ جَوَانِبِ الرَّأْسِ، فَحُصُولُ الشَّيْبِ فِي الْفَوْدَيْنِ لَيْسَ بِمُبَالَغَةٍ إِنَّمَا الْمُبَالَغَةُ هُوَ اسْتِيلَاءُ الشَّيْبِ عَلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ الرَّأْسِ بَلْ عَلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْآيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَوْلُهُ: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ وَهَذَا وَصْفٌ لِلْيَوْمِ بِالشِّدَّةِ أَيْضًا، وَأَنَّ السَّمَاءَ عَلَى عِظَمِهَا وَقُوَّتِهَا تَنْفَطِرُ فِيهِ، فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهَا مِنَ الْخَلَائِقِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الِانْفِطَارِ: 1] وَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: مُنْفَطِرَةٌ؟ الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: رَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، إِنَّمَا قَالَ: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ وَلَمْ يَقُلْ: مُنْفَطِرَةٌ لِأَنَّ مَجَازَهَا مَجَازُ السَّقْفِ، تَقُولُ: هَذَا سَمَاءُ الْبَيْتِ وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: السماء تؤنث وتذكر، وهي هاهنا في وجوه التذكير/ وأنشد شعرا:

_ (1) الرواية. وجنح يملأ الفودين شيبا ... ولكن يجعل الصحراء خالا

[سورة المزمل (73) : آية 19]

فَلَوْ رَفَعَ السَّمَاءُ إِلَيْهِ قَوْمًا ... لَحِقْنَا بِالنُّجُومِ مَعَ السَّحَابِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ تَأْنِيثَ السَّمَاءِ لَيْسَ بِحَقِيقِيٍّ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ تَذْكِيرُهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَالْعَيْنُ بِالْإِثْمِدِ الْخَيْرِيِّ مَكْحُولُ وَقَالَ الْأَعْشَى: فَلَا مُزْنَةَ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ... وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ السَّمَاءُ ذَاتَ انْفِطَارٍ فَيَكُونَ مِنْ بَابِ الْجَرَادِ الْمُنْتَشِرِ «1» ، وَالشَّجَرِ الْأَخْضَرِ «2» ، وَأَعْجَازِ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ «3» ، وَكَقَوْلِهِمُ امْرَأَةٌ مُرْضِعٌ، أَيْ ذَاتُ رَضَاعٍ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى: مُنْفَطِرٌ بِهِ؟ الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى مُنْفَطِرٌ فِيهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْبَاءَ فِي (بِهِ) مِثْلُهَا فِي قَوْلِكَ فَطَرْتُ الْعُودَ بِالْقَدُومِ فَانْفَطَرَ بِهِ، يَعْنِي أَنَّهَا تَنْفَطِرُ لِشِدَّةِ ذَلِكَ اليوم وهو له، كَمَا يَنْفَطِرُ الشَّيْءُ بِمَا يَنْفَطِرُ بِهِ وَثَالِثُهَا: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ السَّمَاءُ مُثْقَلَةٌ بِهِ إِثْقَالًا يُؤَدِّي إِلَى انْفِطَارِهَا لِعِظَمِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ عَلَيْهَا وَخَشْيَتِهَا مِنْهَا كَقَوْلِهِ: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَعْرَافِ: 187] . أَمَّا قَوْلُهُ: كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا فَاعْلَمْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَعْدُهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمَفْعُولِ وَأَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْفَاعِلِ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَعْدُ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَفْعُولٌ أَيِ الْوَعْدُ الْمُضَافُ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ وَاجِبُ الْوُقُوعِ، لِأَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمَهُ يَقْتَضِيَانِ إِيقَاعَهُ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَعْدُ اللَّهِ وَاقِعٌ لَا محالة لأنه تعالى منزه عن الكذب وهاهنا وَإِنْ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنَّهُ حَسُنَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِشَرْحِ أَحْوَالِ السُّعَدَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحْوَالَهُمْ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ وَالطَّاعَةِ لِلْمَوْلَى فَقَدَّمَ ذَلِكَ وَالثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَلْقِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا [المزمل: 10] وَأَمَّا الْأَشْقِيَاءُ فَقَدْ بَدَأَ بِتَهْدِيدِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الإجمال، وهو قوله تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ [المزمل: 11] ثم ذكره بَعْدَهُ أَنْوَاعَ عَذَابِ الْآخِرَةِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ عَذَابَ الدُّنْيَا وَهُوَ الْأَخْذُ الْوَبِيلُ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ وَصَفَ بَعْدَهُ شِدَّةَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَعِنْدَ هَذَا تَمَّ الْبَيَانُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا جَرَمَ خَتَمَ ذلك الكلام بقوله: [سورة المزمل (73) : آية 19] إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) أَيْ هَذِهِ الْآيَاتُ تَذْكِرَاتٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا وَاتِّخَاذُ السَّبِيلِ عِبَارَةٌ عَنْ الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية. [سورة المزمل (73) : آية 20] إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

_ (1) يشير إلى قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ [القمر: 7] . (2) يشير إلى قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ [يس: 80] . (3) يشير إلى قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر: 20] .

قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ أَقَلُّ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا اسْتُعِيرَ الْأَدْنَى وَهُوَ الْأَقْرَبُ لِلْأَقَلِّ لِأَنَّ الْمَسَافَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِذَا دَنَتْ قَلَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَحْيَازِ وَإِذَا بَعُدَتْ كَثُرَ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بِالنَّصْبِ وَالْمَعْنَى أَنَّكَ تَقُومُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثَيْنِ وتقوم النصف [والثلث] «1» وَقُرِئَ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بِالْجَرِّ أَيْ تَقُومُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثَيْنِ وَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ، لَكِنَّا بَيَّنَّا فِي تفسير قوله: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: 2] أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَهُمْ أَصْحَابُكَ يَقُومُونَ مِنَ اللَّيْلِ هَذَا الْمِقْدَارَ الْمَذْكُورَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يَعْنِي أَنَّ الْعَالِمَ بِمَقَادِيرِ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ عَائِدٌ إِلَى مَصْدَرٍ مُقَدَّرٍ أَيْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُكُمْ إِحْصَاءُ مِقْدَارِ كَلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا يُمْكِنُكُمْ أَيْضًا تَحْصِيلُ تِلْكَ الْمَقَادِيرِ عَلَى سَبِيلِ الطَّعْنِ وَالِاحْتِيَاطِ إِلَّا مَعَ الْمَشَقَّةِ التَّامَّةِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ الرَّجُلُ يُصَلِّي اللَّيْلَ كُلَّهُ مَخَافَةَ أَنْ لَا يُصِيبَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ قِيَامِ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَنْ تُحْصُوهُ أَيْ لَنْ تُطِيقُوهُ، ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ قَدْ كَلَّفَهُمْ بِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ صُعُوبَتُهُ لَا أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَا أُطِيقُ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى فُلَانٍ إِذَا اسْتَثْقَلَ النَّظَرَ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَتابَ عَلَيْكُمْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّرْخِيصِ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ الْمُقَدَّرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ [الْبَقَرَةِ: 187] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ رَفَعَ التَّبِعَةَ عَنْكُمْ فِي تَرْكِ هَذَا الْعَمَلِ كَمَا رَفَعَ التَّبِعَةَ عَنِ التَّائِبِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ/ الصَّلَاةُ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ أَحَدُ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ، فَأُطْلِقَ اسْمُ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ، أَيْ فَصَلُّوا مَا تَيَسَّرَ عَلَيْكُمْ، ثم هاهنا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَسَخَ وُجُوبَ ذَلِكَ التَّهَجُّدِ وَاكْتَفَى بِمَا تَيَسَّرَ مِنْهُ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ أَيْضًا بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أن المراد من قوله: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِعَيْنِهَا وَالْغَرَضُ مِنْهُ دِرَاسَةُ الْقُرْآنِ لِيَحْصُلَ الْأَمْنُ مِنَ النِّسْيَانِ قِيلَ: يَقْرَأُ مِائَةَ آيَةٍ، وَقِيلَ: مَنْ قَرَأَ مِائَةَ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَقِيلَ: خَمْسِينَ آيَةً وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ السُّورَةُ الْقَصِيرَةُ كَافِيَةٌ، لِأَنَّ إِسْقَاطَ التَّهَجُّدِ إِنَّمَا كَانَ

_ (1) زيادة من الكشاف 4/ 178 ط. دار الفكر.

دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَفِي الْقِرَاءَةِ الْكَثِيرَةِ حَرَجٌ فَلَا يمكن اعتبارها. وهاهنا بَحْثٌ آخَرُ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: سَقَطَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَامُ اللَّيْلِ وَصَارَتْ تَطَوُّعًا وَبَقِيَ ذَلِكَ فَرْضًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى إلى قوله وَآتُوا الزَّكاةَ] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْحِكْمَةِ فِي هَذَا النَّسْخِ فَقَالَ تَعَالَى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: لِمَ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لِأَنَّهُ عَلِمَ كَذَا وَكَذَا وَالْمَعْنَى لِتَعَذُّرِ الْقِيَامِ عَلَى الْمَرْضَى وَالضَّارِبِينَ فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ وَالْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَمَّا الْمَرْضَى فَإِنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ الِاشْتِغَالَ بِالتَّهَجُّدِ لِمَرَضِهِمْ، وَأَمَّا الْمُسَافِرُونَ وَالْمُجَاهِدُونَ فَهُمْ مُشْتَغِلُونَ فِي النَّهَارِ بِالْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، فَلَوْ لَمْ يَنَامُوا فِي اللَّيْلِ لَتَوَالَتْ أَسْبَابُ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا السَّبَبُ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 7] فَلَا جَرَمَ مَا صَارَ وُجُوبُ التَّهَجُّدِ مَنْسُوخًا فِي حَقِّهِ. وَمِنْ لَطَائِفِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى سَوَّى بَيْنَ الْمُجَاهِدِينَ وَالْمُسَافِرِينَ لِلْكَسْبِ الْحَلَالِ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَيُّمَا رَجُلٍ جَلَبَ شَيْئًا إِلَى مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا فَبَاعَهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الشهداء» ثم أعاد مرة أخرى قوله: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَذَلِكَ لِلتَّأْكِيدِ ثُمَّ قَالَ: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يَعْنِي الْمَفْرُوضَةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أَيِ الْوَاجِبَةَ وَقِيلَ: زَكَاةُ الْفِطْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ زَكَاةٌ وَإِنَّمَا وَجَبَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَنْ فَسَّرَهَا بِالزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ جَعَلَ آخِرَ السُّورَةِ مَدَنِيًّا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُرِيدُ سَائِرَ الصَّدَقَاتِ وَثَانِيهَا: يُرِيدُ أَدَاءَ الزَّكَاةِ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ، وَهُوَ إِخْرَاجُهَا مِنْ أَطْيَبِ الْأَمْوَالِ وَأَكْثَرِهَا نَفْعًا لِلْفُقَرَاءِ وَمُرَاعَاةُ النِّيَّةِ وَابْتِغَاءُ وَجْهِ اللَّهِ وَالصَّرْفُ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ وَثَالِثُهَا: يُرِيدُ كُلَّ شَيْءٍ يُفْعَلُ من الخير مما يتعلق بالنفس والمال. [قوله تعالى وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ إلى قوله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى الْحِكْمَةَ فِي إِعْطَاءِ الْمَالِ فَقَالَ: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا مِنَ الَّذِي تُؤَخِّرُهُ إِلَى وَصِيَّتِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا لَكُمْ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَالْقَوْلُ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّكُمْ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: هُوَ خَيْرًا لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ، وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ هُوَ خَيْرٌ وَأَعْظَمُ أَجْرًا بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، ثُمَّ قَالَ: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ لِذُنُوبِكُمْ وَالتَّقْصِيرَاتِ الصَّادِرَةِ مِنْكُمْ خَاصَّةً فِي قِيَامِ اللَّيْلِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لِذُنُوبِ الْمُؤْمِنِينَ رَحِيمٌ بِهِمْ، وَفِي الْغَفُورِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ غَفُورٌ لِجَمِيعِ الذُّنُوبِ، وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَفُورٌ لِمَنْ يُصِرُّ عَلَى الذَّنْبِ، احْتَجَّ مُقَاتِلٌ عَلَى قَوْلِهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: غَفُورٌ رَحِيمٌ يَتَنَاوَلُ التَّائِبَ وَالْمُصِرَّ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحْدَهُ عَنْهُ وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ وَالثَّانِي: أَنَّ غُفْرَانَ التَّائِبِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْخَصْمِ وَلَا يَحْصُلُ الْمَدْحُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ، وَالْغَرَضُ مِنَ الْآيَةِ تَقْرِيرُ الْمَدْحِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْكُلِّ تَحْقِيقًا لِلْمَدْحِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

سورة المدثر

بسم الله الرّحمن الرّحيم سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ خَمْسُونَ وَسِتُّ آيَاتٍ مَكِّيَّةٌ، وَعِنْدَ بعضهم أنها أول ما نزل [سورة المدثر (74) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) فيه مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُدَّثِّرُ، أَصْلُهُ الْمُتَدَثِّرُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَدَثَّرُ بِثِيَابِهِ لِيَنَامَ، أَوْ لِيَسْتَدْفِئَ، يُقَالُ: تَدَثَّرَ بِثَوْبِهِ، وَالدِّثَارُ اسْمٌ لِمَا يُتَدَثَّرُ بِهِ، ثُمَّ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ لِتَقَارُبِ مَخْرَجِهِمَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُدَّثِّرَ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَ سُمِّيَ مُدَّثِّرًا، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ مُتَدَثِّرًا بِثَوْبِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ هَذَا الظَّاهِرَ، أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ لِأَيِّ سَبَبٍ تَدَثَّرَ بِثَوْبِهِ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، رَوَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «كُنْتُ عَلَى جَبَلِ حِرَاءٍ، فَنُودِيتُ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَيَسَارِي، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَنَظَرْتُ فَوْقِي، فَرَأَيْتُ الْمَلَكَ قَاعِدًا عَلَى عَرْشٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَخِفْتُ وَرَجَعْتُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي دَثِّرُونِي، وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وَثَانِيهَا: أَنَّ النَّفَرَ الَّذِينَ آذَوْا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ أَبُو جَهْلٍ وَأَبُو لَهَبٍ وَأَبُو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ اجْتَمَعُوا قالوا: إِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ يَجْتَمِعُونَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ وَيَسْأَلُونَنَا عَنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يُجِيبُ بِجَوَابٍ آخَرَ، فَوَاحِدٌ يَقُولُ: مَجْنُونٌ، وَآخَرُ يَقُولُ: كَاهِنٌ، وَآخَرُ يَقُولُ: شَاعِرٌ، فَالْعَرَبُ يَسْتَدِلُّونَ بِاخْتِلَافِ الْأَجْوِبَةِ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ بَاطِلَةً، فَتَعَالَوْا نَجْتَمِعُ عَلَى تَسْمِيَةِ مُحَمَّدٍ بَاسِمٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ وَاحِدٌ: إِنَّهُ شَاعِرٌ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: سَمِعْتُ كَلَامَ عُبَيْدِ بْنِ الْأَبْرَصِ، وَكَلَامَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَكَلَامُهُ مَا يَشْبِهُ كَلَامَهُمَا، وَقَالَ آخَرُونَ كَاهِنٌ، قَالَ الْوَلِيدُ: وَمَنِ الْكَاهِنُ؟ قَالُوا: الَّذِي يَصْدُقُ تَارَةً وَيَكْذِبُ أُخْرَى، قَالَ الْوَلِيدُ: مَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ قَطُّ، فَقَالَ آخَرُ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ فَقَالَ الْوَلِيدُ: وَمَنْ يَكُونُ الْمَجْنُونُ؟ قَالُوا: مُخِيفُ النَّاسِ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: مَا أُخِيفَ بِمُحَمَّدٍ أَحَدٌ قَطُّ، ثُمَّ قَامَ الْوَلِيدُ وَانْصَرَفَ إِلَى بَيْتِهِ، فَقَالَ النَّاسُ: صَبَأَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، / فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو جَهْلٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ؟ هَذِهِ قُرَيْشٌ تَجْمَعُ لَكَ شَيْئًا، زَعَمُوا أَنَّكَ احْتَجَجْتَ وَصَبَأْتَ، فَقَالَ: الْوَلِيدُ مالي إِلَيْهِ حَاجَةٌ، وَلَكِنِّي فَكَّرْتُ فِي مُحَمَّدٍ. فَقُلْتُ: إِنَّهُ سَاحِرٌ، لِأَنَّ السَّاحِرَ هُوَ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَبِ وَابْنِهِ وَبَيْنَ الْأَخَوَيْنِ، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى تَلْقِيبِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهَذَا اللَّقَبِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ خَرَجُوا فَصَرَخُوا بِمَكَّةَ وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ، فَقَالُوا: إِنَّ محمدا

[سورة المدثر (74) : آية 2]

لَسَاحِرٌ، فَوَقَعَتِ الضَّجَّةُ فِي النَّاسِ أَنَّ مُحَمَّدًا سَاحِرٌ، فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ اشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَرَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ مَحْزُونًا فَتَدَثَّرَ بِثَوْبِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ نَائِمًا مُتَدَثِّرًا بِثِيَابِهِ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام وأيقظه، وقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ كَأَنَّهُ قَالَ: لَهُ اتْرُكِ التَّدَثُّرَ بِالثِّيَابِ وَالنَّوْمَ، وَاشْتَغِلْ بِهَذَا الْمَنْصِبِ الَّذِي نَصَّبَكَ اللَّهُ لَهُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْمُدَّثِّرُ، الْمُتَدَثِّرَ بِالثِّيَابِ، وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ كَوْنُهُ مُتَدَثِّرًا بِدِثَارِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَلْبَسَهُ اللَّهُ لِبَاسَ التَّقْوَى وَزَيَّنَهُ بِرِدَاءِ الْعِلْمِ، وَيُقَالُ: تلبس فلان بأمر كذا، فالمراد يا أيها الْمُدَّثِّرُ بِدِثَارِ النُّبُوَّةِ قُمْ فَأَنْذِرْ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُتَدَثِّرَ بِالثَّوْبِ يَكُونُ كَالْمُخْتَفِي فِيهِ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي جَبَلِ حِرَاءٍ كَانَ كَالْمُخْتَفِي مِنَ النَّاسِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَا أَيُّهَا الْمُتَدَثِّرُ بِدِثَارِ الْخُمُولِ وَالِاخْتِفَاءِ، قُمْ بِهَذَا الْأَمْرِ وَاخْرُجْ مِنْ زَاوِيَةِ الْخُمُولِ، وَاشْتَغِلْ بِإِنْذَارِ الْخَلْقِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ بِأَثْوَابِ الْعِلْمِ الْعَظِيمِ، وَالْخُلُقِ الْكَرِيمِ، وَالرَّحْمَةِ الْكَامِلَةِ قُمْ فَأَنْذِرْ عَذَابَ رَبِّكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: عن عكرمة أنه قرئ عَلَى لَفْظِ اسْمِ الْمَفْعُولِ مِنْ دَثَّرَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: دَثَّرْتُ هَذَا الْأَمْرَ وَعَصَيْتُ بِهِ، وقد سبق نظيره في المزمل. [سورة المدثر (74) : آية 2] قُمْ فَأَنْذِرْ (2) في قوله: قُمْ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: قُمْ مِنْ مَضْجَعِكَ وَالثَّانِي: قُمْ قِيَامَ عَزْمٍ وَتَصْمِيمٍ، وَفِي قَوْلِهِ: فَأَنْذِرْ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: حَذِّرْ قَوْمَكَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قُمْ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ، احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ تعالى: وَأَنْذِرْ [الأنعام: 51] وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سَبَأٍ: 28] وهاهنا قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ فَاشْتَغِلْ بِفِعْلِ الْإِنْذَارِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُ تَهَيَّأْ لِهَذِهِ الْحِرْفَةِ، فَإِنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ تَعَلَّمْ صَنْعَةَ الْمُنَاظَرَةِ، وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ: نَاظِرْ زَيْدًا. [سورة المدثر (74) : آية 3] وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ التَّكْبِيرِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ: عَظِّمْ رَبَّكَ/ مِمَّا يَقُولُهُ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ وَثَانِيهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، رُوِي أَنَّهُ «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، فَكَبَّرَتْ خَدِيجَةُ وَفَرِحَتْ، وَعَلِمَتْ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ» وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ مِنْهُ التَّكْبِيرُ فِي الصَّلَوَاتِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ الْبَعْثِ وَمَا كَانَتِ الصَّلَاةُ وَاجِبَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قُلْنَا: لَا يَبْعُدُ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَوَاتٌ تَطَوُّعِيَّةٌ، فَأُمِرَ أَنْ يُكَبِّرَ رَبَّهُ فِيهَا وَرَابِعُهَا: يُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ: قُمْ فَأَنْذِرْ قِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ عَنِ اللَّغْوِ وَالْعَبَثِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَا أَمَرَكَ بِهَذَا الْإِنْذَارِ إِلَّا لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وَمُهِمَّاتٍ عَظِيمَةٍ، لَا يَجُوزُ لَكَ الْإِخْلَالُ بِهَا، فَقَوْلُهُ: وَرَبَّكَ كَالتَّأْكِيدِ فِي تَقْرِيرِ قَوْلِهِ: قُمْ فَأَنْذِرْ وَخَامِسُهَا: عِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بالإنذار، فكأن

[سورة المدثر (74) : آية 4]

سَائِلًا سَأَلَ وَقَالَ: بِمَاذَا يُنْذِرُ؟ فَقَالَ: أَنْ يُكَبِّرَ رَبَّهُ عَنِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ وَمُشَابَهَةِ الممكنات والمحدثات، ونظير قَوْلُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النَّحْلِ: 2] وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَعْرِفَةِ تَنْزِيهِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الدَّعَوَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَكَبِّرْ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْمَوْصِلِيُّ: يُقَالُ: زَيْدًا فَاضْرِبْ، وَعَمْرًا فَاشْكُرْ، وَتَقْدِيرُهُ زَيْدًا اضْرِبْ وَعَمْرًا اشْكُرْ، فَعِنْدَهُ أَنَّ الْفَاءَ زَائِدَةٌ وَثَانِيهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: دَخَلَتِ الْفَاءُ لِإِفَادَةِ مَعْنَى الْجَزَائِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: قُمْ فَكَبِّرْ رَبَّكَ وَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَثَالِثُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْفَاءُ لِإِفَادَةِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَيُّ شيء كان فلا تدع تكبيره. [سورة المدثر (74) : آية 4] وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) اعلم أَنَّ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَقَعُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يُتْرَكَ لَفْظُ الثِّيَابِ وَالتَّطْهِيرِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَالثَّانِي: أَنْ يُتْرَكَ لَفْظُ الثِّيَابِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَيُحْمَلُ لَفْظُ التَّطْهِيرِ عَلَى مَجَازِهِ الثَّالِثُ: أَنْ يُحْمَلَ لَفْظُ الثِّيَابِ عَلَى مَجَازِهِ، وَيُتْرَكَ لَفْظُ التَّطْهِيرِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَالرَّابِعُ: أَنْ يُحْمَلَ اللَّفْظَانِ عَلَى الْمَجَازِ أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يُتْرَكَ لَفْظُ الثِّيَابِ، وَلَفْظُ التَّطْهِيرِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَهُوَ أَنْ نَقُولَ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَمَرَ بِتَطْهِيرِ ثِيَابِهِ مِنَ الْأَنْجَاسِ وَالْأَقْذَارِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَظْهَرُ فِي الْآيَةِ ثَلَاثَةُ احْتِمَالَاتٍ أَحَدُهَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجُوزُ إِلَّا فِي ثِيَابٍ طَاهِرَةٍ مِنَ الْأَنْجَاسِ وَثَانِيهَا: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ مَا كَانُوا يَصُونُونَ ثِيَابَهُمْ عَنِ النَّجَاسَاتِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَصُونَ ثِيَابَهُ عَنِ النَّجَاسَاتِ وَثَالِثُهَا: رُوِيَ أَنَّهُمْ أَلْقَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَى شَاةٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِ وَرَجَعَ إِلَى/ بَيْتِهِ حَزِينًا وتدثر بثيابه، فقيل: يا أيها الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَلَا تَمْنَعْكَ تِلْكَ السَّفَاهَةُ عَنِ الْإِنْذَارِ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ عَنْ أَنْ لَا يَنْتَقِمَ مِنْهُمْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ عَنْ تِلْكَ النَّجَاسَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ، الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَبْقَى لَفْظُ الثِّيَابِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَيُجْعَلُ لَفْظُ التَّطْهِيرِ عَلَى مَجَازِهِ، فهنا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: فَطَهِّرْ أَيْ فَقَصِّرْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يُطَوِّلُونَ ثِيَابَهُمْ وَيَجُرُّونَ أَذْيَالَهُمْ فَكَانَتْ ثِيَابُهُمْ تَتَنَجَّسُ، وَلِأَنَّ تَطْوِيلَ الذَّيْلِ إِنَّمَا يُفْعَلُ لِلْخُيَلَاءِ وَالْكِبْرِ، فَنَهَى الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلُ الثَّانِي: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أَيْ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الثِّيَابُ الَّتِي تَلْبَسُهَا مُطَهَّرَةً عَنْ أَنْ تَكُونَ مَغْصُوبَةً أَوْ مُحَرَّمَةً، بَلْ تَكُونُ مُكْتَسَبَةً مِنْ وَجْهٍ حَلَالٍ، الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَبْقَى لَفْظُ التَّطْهِيرِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَيُحْمَلُ لَفْظُ الثِّيَابِ عَلَى مَجَازِهِ، وَذَلِكَ أَنْ يُحْمَلَ لَفْظُ الثِّيَابِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ مَا كَانُوا يَتَنَظَّفُونَ وَقْتَ الِاسْتِنْجَاءِ، فَأَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَلِكَ التَّنْظِيفِ وَقَدْ يُجْعَلُ لَفْظُ الثِّيَابِ كِنَايَةً عَنِ النَّفْسِ. قَالَ عَنْتَرَةُ: فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الْأَصَمِّ ثِيَابَهُ (أَيْ نَفْسَهُ) وَلِهَذَا قَالَ: لَيْسَ الْكَرِيمُ عَلَى الْقَنَا بِمُحَرَّمٍ الِاحْتِمَالُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ لَفْظُ الثِّيَابِ، وَلَفْظُ التَّطْهِيرِ عَلَى الْمَجَازِ، وَذَكَرُوا عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ: وَقَلْبَكَ فَطَهِّرْ عَنِ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ وَعَنِ الْحَسَنِ: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ

[سورة المدثر (74) : آية 5]

قَالَ: وَخُلُقَكَ فَحَسِّنْ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَهَذَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا لَقَّبُوهُ بِالسَّاحِرِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ جِدًّا، حَتَّى رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ وَتَدَثَّرَ بِثِيَابِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ إِظْهَارَ جَزَعٍ وَقِلَّةَ صَبْرٍ يَقْتَضِيهِ سُوءُ الْخُلُقِ، فَقِيلَ لَهُ: قُمْ فَأَنْذِرْ وَلَا تَحْمِلَنَّكَ سَفَاهَتُهُمْ عَلَى تَرْكِ إِنْذَارِهِمْ بَلْ حَسِّنْ خُلُقَكَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ زَجْرٌ عَنِ التَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهِمْ، فَقِيلَ لَهُ: طَهِّرْ ثِيَابَكَ أَيْ قَلْبَكَ عَنْ أَخْلَاقِهِمْ، فِي الِافْتِرَاءِ وَالتَّقَوُّلِ وَالْكَذِبِ وَقَطْعِ الرَّحِمِ وَالثَّالِثُ: فَطَهِّرْ نَفْسَكَ وَقَلْبَكَ عَنْ أَنْ تَعْزِمَ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ وَالْإِسَاءَةِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ إِذَا فَسَّرْنَا الْآيَةَ بِهَذَا الْوَجْهِ، فَفِي كَيْفِيَّةِ اتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَادَاهُ في أول السورة، فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [الْمُدَّثِّرُ: 1] وَكَانَ التَّدَثُّرُ لِبَاسًا، وَالدِّثَارُ مِنَ الثِّيَابِ، قِيلَ طَهِّرْ ثِيَابَكَ الَّتِي أَنْتَ مُتَدَثِّرٌ بِهَا عَنْ أَنْ تَلْبَسَهَا عَلَى هَذَا التَّفَكُّرِ وَالْجَزَعِ وَالضَّجَرِ مِنِ افْتِرَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُفَسَّرَ الْمُدَّثِّرُ بِكَوْنِهِ مُتَدَثِّرًا بِالنُّبُوَّةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَا أَيُّهَا الْمُتَدَثِّرُ بِالنُّبُوَّةِ طَهِّرْ مَا تَدَثَّرْتَ بِهِ عَنِ الْجَزَعِ وَقِلَّةِ الصَّبْرِ، وَالْغَضَبِ وَالْحِقْدِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الدِّثَارِ، ثُمَّ أوضح ذلك بقوله: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر: 7] وَاعْلَمْ أَنَّ حَمْلَ الْمُدَّثِّرِ عَلَى الْمُتَّصِفِ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ جَائِزٌ، يُقَالُ: فُلَانٌ طَاهِرُ الْجَيْبِ نَقِيُّ الذَّيْلِ، إِذَا وَصَفُوهُ بِالنَّقَاءِ مِنَ الْمَعَايِبِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ دَنِسُ الثِّيَابِ إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَا أَبَ وَابْنًا مِثْلُ مَرْوَانَ وَابْنِهِ ... إِذَا هُوَ بِالْمَجْدِ ارْتَدَى وَتَأَزَّرَا وَالسَّبَبُ فِي حُسْنِ هَذِهِ الْكِنَايَةِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الثَّوْبَ كَالشَّيْءِ الْمُلَازِمِ لِلْإِنْسَانِ، فَلِهَذَا/ السَّبَبِ جعلوا الثواب كِنَايَةً عَنِ الْإِنْسَانِ، يُقَالُ: الْمَجْدُ فِي ثَوْبِهِ وَالْعِفَّةُ فِي إِزَارِهِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ طَهُرَ بَاطِنُهُ، فَإِنَّهُ يَطْهُرُ ظَاهِرُهُ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أَمْرٌ لَهُ بِالِاحْتِرَازِ عَنِ الْآثَامِ وَالْأَوْزَارِ الَّتِي كَانَ يَقْدُمُ عَلَيْهَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَهَذَا عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ [الشرح: 2، 3] على أيام الجاهلية الوجه الثاني: في تأويل الْآيَةَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَرَفَةَ النَّحْوِيُّ مَعْنَاهُ: نِسَاءَكَ طَهِّرْهُنَّ، وَقَدْ يُكَنَّى عَنِ النِّسَاءِ بِالثِّيَابِ، قَالَ تَعَالَى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [الْبَقَرَةِ: 187] وَهَذَا التَّأْوِيلُ بَعِيدٌ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَحْسُنُ اتِّصَالُ الْآيَةِ بِمَا قبلها. [سورة المدثر (74) : آية 5] وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي الرُّجْزِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ الْعُتْبِيُّ: الرُّجْزُ الْعَذَابُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ [الْأَعْرَافِ: 134] أَيِ الْعَذَابَ ثُمَّ سُمِّيَ كَيْدُ الشَّيْطَانِ رِجْزًا لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْعَذَابِ، وَسُمِّيَتِ الْأَصْنَامُ رِجْزًا لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى وُجُوبِ الِاحْتِرَازِ عَنْ كُلِّ الْمَعَاصِي، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ احْتِمَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ يَعْنِي كُلَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى الرُّجْزِ فَاهْجُرْهُ، وَالتَّقْدِيرُ وَذَا الزجر فَاهْجُرْ أَيْ ذَا الْعَذَابِ فَيَكُونُ الْمُضَافُ مَحْذُوفًا والثاني: أنه سمي إلى مَا يُؤَدِّي إِلَى الْعَذَابِ عَذَابًا تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ، بِاسْمِ مَا يُجَاوِرُهُ وَيَتَّصِلُ بِهِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الرُّجْزَ اسْمٌ لِلْقَبِيحِ الْمُسْتَقْذَرِ وَهُوَ مَعْنَى الرِّجْسِ، فَقَوْلُهُ: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ كَلَامٌ جَامِعٌ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: اهْجُرِ الْجَفَاءَ وَالسَّفَهَ وَكُلَّ شَيْءٍ قَبِيحٍ، وَلَا تَتَخَلَّقْ بِأَخْلَاقِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُسْتَعْمِلِينَ لِلرُّجْزِ، وَهَذَا يُشَاكِلُ تَأْوِيلَ من فسر قوله: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: 4]

[سورة المدثر (74) : آية 6]

عَلَى تَحْسِينِ الْخُلُقِ وَتَطْهِيرِ النَّفْسِ عَنِ الْمَعَاصِي وَالْقَبَائِحِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ مَنْ جَوَّزَ الْمَعَاصِيَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ لَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مُشْتَغِلًا بِهَا وَإِلَّا لَمَا زُجِرَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَالْجَوَابُ الْمُرَادُ مِنْهُ الْأَمْرُ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذَلِكَ الْهُجْرَانِ، كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا قَالَ: اهْدِنَا فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّا لَسْنَا عَلَى الْهِدَايَةِ فَاهْدِنَا، بَلِ الْمُرَادُ ثَبِّتْنَا عَلَى هذه الهداية، فكذا هاهنا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ وَالرُّجْزَ بِضَمِّ الرَّاءِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي سَائِرِ الْقُرْآنِ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ بِالْكَسْرِ وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِالضَّمِّ، ثُمَّ قَالَ الْفَرَّاءُ: هُمَا لُغَتَانِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَفِي كِتَابِ الْخَلِيلِ الرُّجْزُ بِضَمِّ الرَّاءِ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ وَبِكَسْرِ الرَّاءِ الْعَذَابُ، وَوَسْوَاسُ الشَّيْطَانِ أَيْضًا رِجْزٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفْشَى اللُّغَتَيْنِ وأكثرهما الكسر. [سورة المدثر (74) : آية 6] وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ تَسْتَكْثِرُ بِرَفْعِ الرَّاءِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ/ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَلَا تَمْنُنْ لِتَسْتَكْثِرَ فَتُنْزَعُ اللَّامُ فَيَرْتَفِعُ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لَا تَمْنُنْ أَنْ تَسْتَكْثِرَ ثُمَّ تُحْذَفُ أَنِ النَّاصِبَةُ فَتَسْلَمُ الْكَلِمَةُ مِنَ النَّاصِبِ وَالْجَازِمِ فَتَرْتَفِعُ وَيَكُونُ مَجَازُ الْكَلَامِ لَا تُعْطِ لِأَنْ تَسْتَكْثِرَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ حَالٌ مُتَوَقَّعَةٌ أَيْ لَا تَمْنُنْ مُقَدِّرًا أَنْ تَسْتَكْثِرَ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هُوَ مِثْلُ قَوْلِكَ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مَعَهُ صَقْرٌ صَائِدًا بِهِ غَدًا أَيْ مُقَدِّرًا لِلصَّيْدِ فكذا هاهنا الْمَعْنَى مُقَدِّرًا الِاسْتِكْثَارَ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُحْكَى به حالا آيته، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ، ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: إِنْذَارِ الْقَوْمِ، وَتَكْبِيرِ الرَّبِّ، وَتَطْهِيرِ الثِّيَابِ، وَهَجْرِ الرِّجْزِ، ثُمَّ قَالَ: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أَيْ لَا تَمْنُنْ عَلَى رَبِّكَ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، كَالْمُسْتَكْثِرِ لِمَا تَفْعَلُهُ، بَلِ اصْبِرْ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ لِوَجْهِ رَبِّكَ مُتَقَرِّبًا بِذَلِكَ إِلَيْهِ غَيْرَ مُمْتَنٍّ بِهِ عَلَيْهِ. قَالَ الْحَسَنُ، لَا تَمْنُنْ عَلَى رَبِّكَ بِحَسَنَاتِكَ فَتَسْتَكْثِرُهَا وَثَانِيهَا: لَا تَمْنُنْ عَلَى النَّاسِ بِمَا تُعَلِّمُهُمْ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَالْوَحْيِ كَالْمُسْتَكْثِرِ لِذَلِكَ الْإِنْعَامِ، فَإِنَّكَ إِنَّمَا فَعَلْتَ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ، فَلَا مِنَّةَ لَكَ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر: 7] ، وَثَالِثُهَا: لَا تَمْنُنْ عَلَيْهِمْ بِنُبُوَّتِكَ لِتَسْتَكْثِرَ، أَيْ لِتَأْخُذَ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا تَسْتَكْثِرُ بِهِ مَالَكَ وَرَابِعُهَا: لَا تَمْنُنْ أَيْ لَا تَضْعُفْ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَبْلٌ مَنِينٌ أَيْ ضَعِيفٌ، يُقَالُ: مَنَّهُ السَّيْرُ أَيْ أَضْعَفَهُ. وَالتَّقْدِيرُ فَلَا تَضْعُفْ أَنْ تَسْتَكْثِرَ مِنْ هَذِهِ الطَّاعَاتِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي أُمِرْتَ بِهَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا قَالَ: هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ [الزُّمَرِ: 64] أَيْ أَنْ أَعْبُدَ فَحُذِفَتْ أَنْ وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ (وَلَا تَمْتَنَّ تَسْتَكْثِرُ) وَهَذَا يَشْهَدُ لِهَذَا التَّأْوِيلِ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ مُجَاهِدٍ وَخَامِسُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلا تَمْنُنْ أَيْ لَا تُعْطِ يُقَالُ: مَنَّنْتُ فُلَانًا كَذَا أَيْ أَعْطَيْتُهُ، قَالَ: هَذَا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ [ص: 39] أَيْ فَأَعْطِ، أَوْ أَمْسِكْ وَأَصْلُهُ أَنَّ مَنْ أَعْطَى فَقَدْ مَنَّ، فَسُمِّيَتِ الْعَطِيَّةُ بِالْمَنِّ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، فَالْمَعْنَى وَلَا تُعْطِ مَالَكَ لِأَجْلِ أَنْ تَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَهُ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ؟ الْجَوَابُ: الْحِكْمَةُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ عَطَايَاهُ لِأَجْلِ اللَّهِ لَا لِأَجْلِ طَلَبِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ نُهِيَ عَنْ طَلَبِ الدُّنْيَا فِي قَوْلِهِ: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ

[الْحِجْرِ: 88] وَذَلِكَ لِأَنَّ طَلَبَ الدُّنْيَا لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ الدُّنْيَا عِنْدَهُ عَزِيزَةً، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَصْلُحْ لِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ الثَّانِي: أَنَّ مَنْ أَعْطَى غَيْرَهُ الْقَلِيلَ مِنَ الدُّنْيَا لِيَأْخُذَ الْكَثِيرَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَوَاضَعَ لِذَلِكَ الْغَيْرِ وَيَتَضَرَّعَ لَهُ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ دَنَاءَةَ الْآخِذِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ حَرُمَتِ الصَّدَقَاتُ عَلَيْهِ، وَتَنْفِيرَ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ [الطُّورِ: 40] . السُّؤَالُ الثَّانِي: هَذَا النَّهْيُ مُخْتَصٌّ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَمْ يَتَنَاوَلُ الْأُمَّةَ؟ الْجَوَابُ: ظَاهِرُ اللَّفْظِ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ وَقَرِينَةُ الْحَالِ لَا تَقْتَضِي الْعُمُومَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ تَنْزِيهًا لِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأُمَّةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ/ هَذَا الْمَعْنَى فِي حَقِّ الْأُمَّةِ هُوَ الرِّيَاءُ، وَاللَّهُ تَعَالَى مَنَعَ الْكُلَّ مِنْ ذَلِكَ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّهْيُ مُخْتَصًّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ أَوْ نَهْيُ تَنْزِيهٍ؟ وَالْجَوَابُ: ظَاهِرُ النَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ الْوَجْهُ السَّادِسُ: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ قَالَ الْقَفَّالُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصِدُ مِنَ الْآيَةِ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْطِيَ لِأَحَدٍ شَيْئًا لِطَلَبِ عِوَضٍ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْعِوَضُ زَائِدًا أَوْ نَاقِصًا أَوْ مُسَاوِيًا، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: تَسْتَكْثِرُ أَيْ طَالِبًا لِلْكَثْرَةِ كَارِهًا أَنْ يَنْقُصَ الْمَالُ بسبب العطاء، فيكون الاستكثار هاهنا عِبَارَةً عَنْ طَلَبِ الْعِوَضِ كَيْفَ كَانَ، وَإِنَّمَا حَسُنَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الثَّوَابَ يَكُونُ زَائِدًا عَلَى الْعَطَاءِ، فَسُمِّيَ طَلَبُ الثَّوَابِ اسْتِكْثَارًا حَمْلًا لِلشَّيْءِ عَلَى أَغْلَبِ أَحْوَالِهِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِنَّمَا تَتَزَوَّجُ وَلَهَا وَلَدٌ لِلْحَاجَةِ إِلَى مَنْ يُرَبِّي وَلَدَهَا فَسُمِّيَ الْوَلَدُ رَبِيبًا، ثُمَّ اتَّسَعَ الْأَمْرُ فَسُمِّيَ رَبِيبًا وَإِنْ كَانَ حِينَ تَتَزَوَّجُ أُمُّهُ كَبِيرًا، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ قَالَ: السَّبَبُ فِيهِ أَنْ يَصِيرَ عَطَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِيًا عَنِ انْتِظَارِ الْعِوَضِ وَالْتِفَاتِ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ خَالِصًا مُخْلَصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَلَا تَمْنُنْ عَلَى النَّاسِ بِمَا تُنْعِمُ عَلَيْهِمْ وَتُعْطِيهِمُ اسْتِكْثَارًا مِنْكَ لِتِلْكَ الْعَطِيَّةِ، بَلْ يَنْبَغِي أن تستقلها وتستحقرها وتكون كالمتعذر مِنْ ذَلِكَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْإِنْعَامِ، فَإِنَّ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا قَلِيلَةٌ، فَكَيْفَ ذَلِكَ الْقَدْرُ الَّذِي هُوَ قَلِيلٌ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدُّنْيَا، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ الْأَخِيرَةُ كَالْمُرَتَّبَةِ فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ كَوْنُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَمْنُوعًا مِنْ طَلَبِ الزِّيَادَةِ فِي الْعِوَضِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مَعْنَاهُ كَوْنُهُ مَمْنُوعًا عَنْ طَلَبِ مُطْلَقِ الْعِوَضِ زَائِدًا كَانَ أَوْ مُسَاوِيًا أَوْ نَاقِصًا وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَعْنَاهُ أَنْ يُعْطِيَ وَيَنْسِبَ نَفْسَهُ إِلَى التَّقْصِيرِ وَيَجْعَلَ نَفْسَهُ تَحْتَ مِنَّةِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ حَيْثُ قَبِلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْإِنْعَامَ الْوَجْهُ الثَّامِنُ: مَعْنَاهُ إِذَا أَعْطَيْتَ شَيْئًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَمُنَّ عَلَيْهِ بِسَبَبِ أَنَّكَ تَسْتَكْثِرُ تِلْكَ الْعَطِيَّةَ، فَإِنَّ الْمَنَّ مُحْبِطٌ لِثَوَابِ الْعَمَلِ، قَالَ تَعَالَى: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ [الْبَقَرَةِ: 264] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ: تَسْتَكْثِرُ بِالْجَزْمِ وَأَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ أَبَوْا هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَهَا وَذَكَرُوا فِي صِحَّتِهَا ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَمْنُنْ لَا تَسْتَكْثِرْ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ أَرَادَ تَسْتَكْثِرُ فَأَسْكَنَ الرَّاءَ لِثِقَلِ الضَّمَّةِ مَعَ كَثْرَةِ الْحَرَكَاتِ، كَمَا حَكَاهُ أَبُو زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ بِإِسْكَانِ اللَّامِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْوَقْفِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: تَسْتَكْثِرُ بِالنَّصْبِ بِإِضْمَارِ أَنْ كَقَوْلِهِ: أَلَا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغَى ... [وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي] وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَلَا تمنن أن تستكثر.

[سورة المدثر (74) : آية 7]

[سورة المدثر (74) : آية 7] وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: إِذَا أَعْطَيْتَ الْمَالَ فَاصْبِرْ عَلَى تَرْكِ/ الْمَنِّ وَالِاسْتِكْثَارِ أَيِ اتْرُكْ هَذَا الْأَمْرَ لِأَجْلِ مَرْضَاةِ رَبِّكَ وَثَانِيهَا: إِذَا أَعْطَيْتَ الْمَالَ فَلَا تَطْلُبِ الْعِوَضَ، وَلْيَكُنْ هَذَا التَّرْكُ لِأَجْلِ رَبِّكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّا أَمَرْنَاكَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِأَشْيَاءَ وَنَهَيْنَاكَ عَنْ أَشْيَاءَ فَاشْتَغِلْ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ لِأَجْلِ أَمْرِ رَبِّكَ، فَكَأَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ تَكَالِيفُ بِالْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَّنَ مَا لِأَجْلِهِ يَجِبُ أَنْ يُؤْتَى بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ وَهُوَ طَلَبُ رِضَا الرَّبِّ وَرَابِعُهَا: أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا اجْتَمَعُوا وَبَحَثُوا عَنْ حَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ الْوَلِيدُ وَدَخَلَ دَارَهُ فَقَالَ الْقَوْمُ: إِنَّ الْوَلِيدَ قَدْ صَبَأَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو جَهْلٍ، وَقَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا جَمَعُوا لَكَ مَالًا حَتَّى لَا تَتْرُكَ دِينَ آبَائِكَ، فَهُوَ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْمَالِ بَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ، فَقِيلَ لِمُحَمَّدٍ: إِنَّهُ بَقِيَ عَلَى دِينِهِ الْبَاطِلِ لِأَجْلِ الْمَالِ، وَأَمَّا أَنْتَ فَاصْبِرْ عَلَى دِينِكَ الْحَقِّ لِأَجْلِ رِضَا الْحَقِّ لَا لِشَيْءٍ غَيْرِهِ وَخَامِسُهَا: أَنَّ هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ لَا الْأَوْثَانَ وثيابك فطهر ولا تكون كَالْمُشْرِكِينَ نَجِسَ الْبَدَنِ وَالثِّيَابِ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَقْرَبْهُ كَمَا تَقْرَبُهُ الْكُفَّارُ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ كَمَا أَرَادَ الْكُفَّارُ أَنْ يُعْطُوا الْوَلِيدَ قَدْرًا مِنَ الْمَالِ وَكَانُوا يَسْتَكْثِرُونَ ذَلِكَ الْقَلِيلَ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ عَلَى هَذِهِ الطَّاعَاتِ لَا لِلْأَغْرَاضِ الْعَاجِلَةِ من المال والجاه. [سورة المدثر (74) : آية 8] فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَمَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِإِرْشَادِ قُدْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَدَلَ عَنْهُ إِلَى شَرْحِ وَعِيدِ الْأَشْقِيَاءِ وَهُوَ هَذِهِ الآية، وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا نُقِرَ للسبب كأنه قال: اصبر على أذاهم فَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَوْمٌ عَسِيرٌ يَلْقَوْنَ فِيهِ عَاقِبَةَ أَذَاهُمْ، وَتَلْقَى أَنْتَ عَاقِبَةَ صَبْرِكَ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي يُنْقَرُ فِي النَّاقُورِ، أَهُوَ النَّفْخَةُ الْأُولَى أَمِ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ؟ فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ هُوَ النَّفْخَةُ الْأُولَى، قَالَ الْحَلِيمِيُّ فِي كِتَابِ «الْمِنْهَاجِ» : أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى الصُّورَ بِاسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا الصُّورُ وَالْآخَرُ النَّاقُورُ، وَقَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ النَّاقُورَ هُوَ الصُّورُ، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ الصُّورَ وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يُنْفَخُ فِيهِ النَّفْخَتَانِ مَعًا، فَإِنَّ نَفْخَةَ الْإِصْعَاقِ تُخَالِفُ نَفْخَةَ الْإِحْيَاءِ، وَجَاءَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ فِي الصُّورِ ثُقُبًا بِعَدَدِ الْأَرْوَاحِ كُلِّهَا، وَأَنَّهَا تُجْمَعُ فِي تِلْكَ الثُّقُبِ فِي النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ، فَيَخْرُجُ عِنْدَ النَّفْخِ مِنْ كُلِّ ثُقْبَةٍ رُوحٌ إِلَى الْجَسَدِ الَّذِي نُزِعَ مِنْهُ فَيَعُودُ الْجَسَدُ حَيًّا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الصُّورُ مُحْتَوِيًا عَلَى آلَتَيْنِ يُنْقَرُ فِي إِحْدَاهُمَا وَيُنْفَخُ فِي الْأُخْرَى فَإِذَا نُفِخَ فِيهِ لِلْإِصْعَاقِ، جُمِعَ بَيْنَ النَّقْرِ وَالنَّفْخِ، لِتَكُونَ الصَّيْحَةُ أَهَدَّ وَأَعْظَمَ، وَإِذَا نُفِخَ فِيهِ لِلْإِحْيَاءِ لَمْ يُنْقَرْ فِيهِ، وَاقْتُصِرَ عَلَى النَّفْخِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ إِرْسَالُ الْأَرْوَاحِ مِنْ ثُقُبِ الصُّورِ إِلَى أَجْسَادِهَا لَا تَنْقِيرُهَا مِنْ أَجْسَادِهَا، وَالنَّفْخَةُ الْأُولَى لِلتَّنْقِيرِ، وَهُوَ نَظِيرُ صَوْتِ الرَّعْدِ، فَإِنَّهُ إِذَا اشْتَدَّ فَرُبَّمَا مَاتَ سَامِعُهُ، وَالصَّيْحَةُ الشَّدِيدَةُ الَّتِي يَصِيحُهَا رَجُلٌ بِصَبِيٍّ فَيَفْزَعُ مِنْهُ فَيَمُوتُ، هَذَا آخَرُ كَلَامِ الْحَلِيمِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ/ وَلِي فِيهِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ النَّقْرُ إِنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ صَيْحَةِ الْإِصْعَاقِ، وَذَلِكَ الْيَوْمُ غَيْرُ شَدِيدٍ عَلَى الْكَافِرِينَ، لِأَنَّهُمْ يَمُوتُونَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ إِنَّمَا الْيَوْمُ الشَّدِيدُ عَلَى الْكَافِرِينَ عِنْدَ صَيْحَةِ الْإِحْيَاءِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ، أَيْ يَا لَيْتَنَا بَقِينَا عَلَى الْمَوْتَةِ الْأُولَى وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاقُورَ هُوَ الَّذِي يُنْقَرُ فِيهِ، أي

[سورة المدثر (74) : الآيات 9 إلى 10]

يُنْكَتُ، فَيَجُوزُ أَنَّهُ إِذَا أُرِيدَ أَنْ يُنْفَخَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، نُقِرَ أَوَّلًا، فَسُمِّيَ نَاقُورًا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَأَقُولُ فِي هَذَا اللَّفْظِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ النَّاقُورَ فَاعُولٌ مِنَ النَّقْرِ، كَالْهَاضُومِ مَا يُهْضَمُ بِهِ، وَالْحَاطُومُ مَا يُحْطَمُ بِهِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النَّاقُورُ مَا يُنْقَرُ بِهِ لَا مَا يُنْقَرُ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْعَامِلُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا نُقِرَ هُوَ الْمَعْنَى الذي دل عليه قوله: يَوْمٌ عَسِيرٌ [المدثر: 9] وَالتَّقْدِيرُ إِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ عَسُرَ الْأَمْرُ وصعب. [سورة المدثر (74) : الآيات 9 الى 10] فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) فيه مسائل: المسألة الأولى: قوله فذلك إشارة إلى اليوم الذي ينقر فيه في الناقور، والتقدير فذلك اليوم يوم عسير، وأما يَوْمَئِذٍ ففيه وجوه: الأول: أن يكون تفسيرا لقوله: فَذلِكَ لأن قوله: فَذلِكَ يحتمل أن يكون إشارة إلى النقر، وأن يكون إشارة إلى اليوم المضاف إلى النقر، فكأنه قال: فذلك أعني اليوم المضاف إلى النقر يوم عسير فيكون يَوْمَئِذٍ في محل النصب والثاني: أن يكون يَوْمَئِذٍ مرفوع المحل بدلا من فَذلِكَ ويَوْمٌ عَسِيرٌ خبر كأنه قيل: فيوم النقر يوم عسير فعلى هذا يومئذ في محل الرفع لكونه بدلا من ذلك إلا أنه لما أضيف اليوم إلى إذ وهو غير متمكن بني على الفتح الثالث: أن تقدير الآية فذلك النقر يومئذ نقر يوم عسير على أن يكون العامل في يَوْمَئِذٍ هو النقر. المسألة الثانية: عسر ذلك اليوم على الكافرين لأنهم يناقشون في الحساب ويعطون كتبهم بشمائلهم وتسود وجوههم ويحشرون زرقا وتتكلم جوارحهم فيفتضحون على رؤوس الأشهاد وأما المؤمنون فإنه عليهم يسير لأنهم لا يناقشون في الحساب ويحشرون بيض الوجوه ثقال الموازين، ويحتمل أن يكون إنما وصفه الله تعالى بالعسر لأنه في نفسه كذلك للجميع من المؤمنين والكافرين على ما روى أن الأنبياء يومئذ يفزعون، وأن الولدان يشيبون إلا أنه يكون هول الكفار فيه أشد، فعلى القول الأول لا يحسن الوقف على قوله: يَوْمٌ عَسِيرٌ فإن المعنى أنه: على الكافرين عسير وغير يسير، وعلى القول الثاني يحسب الوقف لأن المعنى أنه في نفسه عسير على الكل ثم الكافر مخصوص فيه بزيادة خاصة وهو أنه عليه غير يسير، فإن قيل: فما فائدة قوله: غَيْرُ يَسِيرٍ وعسير مغن عنه؟ الجواب: أما على القول الأول: فالتكرير للتأكيد كما/ تقول أنا لك محب غير مبغض وولي غير عدو، وأما على القول الثاني: فقوله: عَسِيرٌ يفيد أصل العسر الشامل للمؤمنين والكافرين وقوله: غَيْرُ يَسِيرٍ يفيد الزيادة التي يختص بها الكافر لأن العسر قد يكون عسرا، قليلا يسيرا، وقد يكون عسرا كثيرا فأثبت أصل العسر للكل وأثبت العسر بصفة الكثرة والقوة للكافرين. المسألة الثالثة: قال ابن عباس: لما قال إنه غير يسير على الكافرين، كان يسيرا على المؤمنين فبعض من قال بدليل الخطاب قال لولا أن دليل الخطاب حجة وإلا لما فهم ابن عباس من كونه غير يسير على الكافر كونه يسيرا على المؤمن.

[سورة المدثر (74) : آية 11]

[سورة المدثر (74) : آية 11] ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ المراد هاهنا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَفِي نَصْبِ قَوْلِهِ وَحِيدًا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْخَالِقِ وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَخْلُوقِ، وَكَوْنُهُ حَالًا مِنَ الْخَالِقِ عَلَى وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: ذَرْنِي وَحْدِي مَعَهُ فَإِنِّي كَافٍ فِي الِانْتِقَامِ مِنْهُ وَالثَّانِي: خَلَقْتُهُ وَحْدِي لَمْ يُشْرِكْنِي فِي خَلْقِهِ أَحَدٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُ حَالًا مِنَ الْمَخْلُوقِ، فَعَلَى مَعْنًى أَنِّي خَلَقْتُهُ حَالَ مَا كَانَ وَحِيدًا فَرِيدًا لَا مَالَ لَهُ، وَلَا وَلَدَ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الْأَنْعَامِ: 94] ، الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الذَّمِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ وَكَانَ يُلَقَّبُ بِالْوَحِيدِ، وكان يقول أنا الوحيد بن الْوَحِيدِ، لَيْسَ لِي فِي الْعَرَبِ نَظِيرٌ، وَلَا لِأَبِي نَظِيرٌ. فَالْمُرَادُ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ أَعْنِي وَحِيدًا. وَطَعَنَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَدِّقَهُ اللَّهُ فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ وَحِيدٌ لَا نَظِيرَ لَهُ، وَهَذَا السُّؤَالُ ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ وَصَاحِبُ الْكَشَّافِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّا لَمَّا جَعَلْنَا الْوَحِيدَ اسْمَ عَلَمٍ فَقَدْ زَالَ السُّؤَالُ لِأَنَّ اسْمَ الْعَلَمِ لَا يُفِيدُ فِي الْمُسَمَّى صِفَةً بَلْ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِشَارَةِ الثَّانِي: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى كَوْنِهِ وَحِيدًا فِي ظَنِّهِ وَاعْتِقَادِهِ؟ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدُّخَانِ: 49] الثَّالِثُ: أَنَّ لَفْظَ الْوَحِيدِ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ وَحِيدٌ فِي الْعُلُوِّ وَالشَّرَفِ، بَلْ هُوَ كَانَ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ أَنَّهُ وَحِيدٌ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ. فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: أَنْتَ وَحِيدٌ لَكِنَّ فِي الْكُفْرِ وَالْخُبْثِ وَالدَّنَاءَةِ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ وَحِيدًا مَفْعُولٌ ثَانٍ لخلق، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الضَّرِيرُ: الْوَحِيدُ الَّذِي لَا أَبَ لَهُ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الطَّعْنِ فِي نَسَبِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [القلم: 13] . [سورة المدثر (74) : آية 12] وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً (12) فِي تَفْسِيرِ الْمَالِ الْمَمْدُودِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: الْمَالُ الَّذِي يَكُونُ لَهُ مَدَدٌ يَأْتِي مِنَ الْجُزْءِ بَعْدَ الْجُزْءِ عَلَى الدَّوَامِ، فَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِغَلَّةِ شَهْرٍ شَهْرٍ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ الْمَالُ الَّذِي يُمَدُّ بِالزِّيَادَةِ، كَالضَّرْعِ وَالزَّرْعِ وَأَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ الْمَالُ الَّذِي امْتَدَّ مَكَانُهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ مَالُهُ مَمْدُودًا مَا بَيْنَ مَكَّةَ إِلَى الطَّائِفِ [مِنَ] الْإِبِلِ وَالْخَيْلِ وَالْغَنَمِ/ وَالْبَسَاتِينِ الْكَثِيرَةِ بِالطَّائِفِ وَالْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالنَّقْدِ الْكَثِيرِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ لَهُ بُسْتَانٌ لَا يَنْقَطِعُ نَفْعُهُ شِتَاءً وَلَا صَيْفًا، فَالْمَمْدُودُ هُنَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الْوَاقِعَةِ: 30] أَيْ لَا يَنْقَطِعُ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ الْمَالُ الْكَثِيرُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَالَ الْكَثِيرَ إِذَا عُدِّدَ فَإِنَّهُ يَمْتَدُّ تَعْدِيدُهُ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ قَدَّرَ الْمَالَ الْمَمْدُودَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلْفُ دِينَارٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَقَالَ آخَرُونَ: أَلْفُ أَلْفٍ، وَهَذِهِ التَّحَكُّمَاتُ مِمَّا لَا يَمِيلُ إليها الطبع السليم. [سورة المدثر (74) : آية 13] وَبَنِينَ شُهُوداً (13) فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: بَنِينَ حُضُورًا مَعَهُ بِمَكَّةَ لَا يُفَارِقُونَهُ الْبَتَّةَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ فَمَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى مُفَارَقَتِهِ لِطَلَبِ كَسْبٍ وَمَعِيشَةٍ وَكَانَ هُوَ مُسْتَأْنِسًا بِهِمْ طَيِّبَ الْقَلْبِ بِسَبَبِ حُضُورِهِمْ وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِمْ شُهُودًا أَنَّهُمْ رِجَالٌ يَشْهَدُونَ مَعَهُ الْمَجَامِعَ وَالْمَحَافِلَ وَعَنْ مُجَاهِدٍ: كَانُوا عَشَرَةً، وَقِيلَ: سَبْعَةٌ كُلُّهُمْ رِجَالٌ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَخَالِدٌ وَعِمَارَةُ وَهِشَامٌ وَالْعَاصُ وَقَيْسٌ وَعَبْدُ شَمْسٍ أسلم منهم ثلاثة خالد وعمارة وهشام.

[سورة المدثر (74) : آية 14]

[سورة المدثر (74) : آية 14] وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) أَيْ وَبَسَطْتُ لَهُ الْجَاهَ الْعَرِيضَ وَالرِّيَاسَةَ فِي قَوْمِهِ فَأَتْمَمْتُ عَلَيْهِ نِعْمَتَيِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، وَاجْتِمَاعُهُمَا هُوَ الْكَمَالُ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَلِهَذَا الْمَعْنَى يُدْعَى بِهَذَا فَيُقَالُ أَدَامَ اللَّهُ تَمْهِيدَهُ أَيْ بَسْطَتَهُ وَتَصَرُّفَهُ فِي الْأُمُورِ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ هَذَا التَّمْهِيدَ الْبَسْطَةَ فِي الْعَيْشِ وَطُولَ الْعُمُرِ، وَكَانَ الْوَلِيدُ مِنْ أَكَابِرِ قُرَيْشٍ وَلِذَلِكَ لُقِّبَ الْوَحِيدَ وَرَيْحَانَةَ قُرَيْشٍ. [سورة المدثر (74) : آية 15] ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) لفظ ثم هاهنا مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ كَمَا تَقُولُ لِصَاحِبِكَ: أَنْزَلْتُكَ دَارِي وَأَطْعَمْتُكَ وَأَسْقَيْتُكَ ثُمَّ أَنْتَ تَشْتُمُنِي، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام: 1] فمعنى (ثم) هاهنا لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ ثُمَّ تِلْكَ الزِّيَادَةُ الَّتِي كَانَ يَطْمَعُ فِيهَا هَلْ هِيَ زِيَادَةٌ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: ثُمَّ يَرْجُو أَنْ أَزِيدَ فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَقَدْ كَفَرَ بِي الثَّانِي: أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ فِي الْآخِرَةِ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فَمَا خُلِقَتِ الْجَنَّةُ إِلَّا لِي، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً [مريم: 77] . [سورة المدثر (74) : آية 16] كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَلَّا وَهُوَ رَدْعٌ لَهُ عَنْ ذَلِكَ الطَّمَعِ الْفَاسِدِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَلَمْ يَزَلِ الْوَلِيدُ فِي نُقْصَانَ بَعْدَ قَوْلِهِ: كَلَّا حَتَّى افْتَقَرَ وَمَاتَ فَقِيرًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً إِنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلرَّدْعِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْنَافِ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: لِمَ لَا يُزَادُ؟ فَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا وَالْعَنِيدُ فِي مَعْنَى الْمُعَانِدِ كَالْجَلِيسِ وَالْأَكِيلِ وَالْعَشِيرِ، وَفِي/ هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ مُعَانِدًا فِي جَمِيعِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالْقُدْرَةِ وَصِحَّةِ النُّبُوَّةِ وَصِحَّةِ الْبَعْثِ، وَكَانَ هُوَ مُنَازِعًا فِي الْكُلِّ مُنْكِرًا لِلْكُلِّ وَثَانِيهَا: أَنَّ كُفْرَهُ كَانَ كُفْرَ عِنَادٍ كَانَ يَعْرِفُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِقَلْبِهِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُهَا بِلِسَانِهِ وَكُفْرُ الْمُعَانِدِ أَفْحَشُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ كَانَ عَلَى هَذِهِ الْحِرْفَةِ وَالصَّنْعَةِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً يُفِيدُ أَنَّ تِلْكَ الْمُعَانَدَةَ كَانَتْ مِنْهُ مُخْتَصَّةً بِآيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيِّنَاتِهِ، فَإِنَّ تَقْدِيرَهُ: إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا لَا لِآيَاتِ غَيْرِنَا، فَتَخْصِيصُهُ هَذَا الْعِنَادَ بِآيَاتِ اللَّهِ مَعَ كَوْنِهِ تَارِكًا لِلْعِنَادِ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الخسران. [سورة المدثر (74) : آية 17] سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) أَيْ سَأُكَلِّفُهُ صَعُودًا وَفِي الصَّعُودِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَثَلٌ لِمَا يَلْقَى مِنَ الْعَذَابِ الشَّاقِّ الصَّعْبِ الَّذِي لَا يُطَاقُ مِثْلُ قَوْلِهِ: يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً [الْجِنِّ: 17] وَصَعُودٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَقَبَةٌ صَعُودٌ وَكَدُودٌ شَاقَّةُ الْمَصْعَدِ وَالثَّانِي: أَنَّ صَعُودًا اسْمٌ لِعَقَبَةٍ فِي النَّارِ كُلَّمَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا ذَابَتْ فَإِذَا رَفَعَهَا عَادَتْ وَإِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ ذَابَتْ وَإِذَا رَفَعَهَا عَادَتْ، وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الصَّعُودُ جَبَلٌ مِنْ نَارٍ يُصَّعَّدُ فِيهِ سَبْعِينَ خَرِيفًا ثُمَّ يَهْوِي كَذَلِكَ فِيهِ أَبَدًا» . ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى كيفية عناده فقال:

[سورة المدثر (74) : آية 18]

[سورة المدثر (74) : آية 18] إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) يُقَالُ: فَكَّرَ فِي الْأَمْرِ وَتَفَكَّرَ إِذَا نَظَرَ فِيهِ وَتَدَبَّرَ، ثُمَّ لَمَّا تَفَكَّرَ رَتَّبَ فِي قَلْبِهِ كَلَامًا وَهَيَّأَهُ وَهُوَ المراد من قوله: فَقَدَرَ. ثم قال تعالى: [سورة المدثر (74) : آية 19] فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) وَهَذَا إِنَّمَا يُذْكَرُ عِنْدَ التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِعْظَامِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ: قَتَلَهُ اللَّهُ مَا أَشْجَعَهُ، وَأَخْزَاهُ اللَّهُ مَا أَشْعَرَهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ الْمَبْلَغَ الَّذِي هُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُحْسَدَ وَيَدْعُوَ عَلَيْهِ حَاسِدُهُ بِذَلِكَ، وَإِذَا عَرَفْتَ ذلك فنقول إنه يحتمل هاهنا وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعْجِيبٌ مِنْ قُوَّةِ خَاطِرِهِ، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْقَدْحُ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِشُبْهَةٍ أَعْظَمَ وَلَا أَقْوَى مِمَّا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ وَالثَّانِي: الثَّنَاءُ عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِهْزَاءِ، يَعْنِي أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ وَالسُّقُوطِ. ثُمَّ قَالَ: [سورة المدثر (74) : آية 20] ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) وَالْمَقْصُودُ مِنْ كَلِمَةِ، ثُمَّ هاهنا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ فِي الْكَرَّةِ الثانية أبلغ من الأولى. ثم قال: [سورة المدثر (74) : آية 21] ثُمَّ نَظَرَ (21) وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَوَّلًا: فَكَّرَ وَثَانِيًا: قَدَّرَ وَثَالِثًا: نَظَرَ فِي ذَلِكَ الْمُقَدَّرِ، فَالنَّظَرُ السَّابِقُ لِلِاسْتِخْرَاجِ، وَالنَّظَرُ اللَّاحِقُ لِلتَّقْدِيرِ، وَهَذَا هُوَ الِاحْتِيَاطُ. فَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ الثَّلَاثَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَحْوَالِ قَلْبِهِ. / ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ بَعْدَ ذَلِكَ أَحْوَالَ وجهه، فقال: [سورة المدثر (74) : آية 22] ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: عَبَسَ وَبَسَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَارِفًا فِي قَلْبِهِ صِدْقَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَكْفُرُ بِهِ عِنَادًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ تَفَكَّرَ وَتَأَمَّلَ قَدَّرَ فِي نفسه كلاما عزم على أنه يظهره ظهرت العبوسة فِي وَجْهِهِ وَلَوْ كَانَ مُعْتَقِدًا صِحَّةَ ذَلِكَ الْكَلَامِ لَفَرِحَ بِاسْتِنْبَاطِهِ وَإِدْرَاكِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَفْرَحْ بِهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ ضَعْفَ تِلْكَ الشُّبْهَةِ، إِلَّا أَنَّهُ لِشِدَّةِ عِنَادِهِ مَا كَانَ يَجِدُ شُبْهَةً أَجْوَدَ مِنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ظَهَرَتِ الْعُبُوسَةُ فِي وَجْهِهِ الثَّانِي: مَا رُوِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ حم السَّجْدَةَ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فُصِّلَتْ: 13] أَنْشَدَهُ الْوَلِيدُ بِاللَّهِ وَبِالرَّحِمِ أَنْ يَسْكُتَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَقْبُولُ الدُّعَاءِ صَادِقُ اللَّهْجَةِ، وَلَمَّا رَجَعَ الْوَلِيدُ قَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ مُحَمَّدٍ آنِفًا كَلَامًا مَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْإِنْسِ وَلَا مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ، إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى عَلَيْهِ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: صَبَأَ الْوَلِيدُ وَلَوْ صَبَأَ لَتَصْبَأَنَّ قُرَيْشٌ كُلُّهَا. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَنَا أكفيكموه، ثم دخل عليه محزونا فقال مالك: يَا ابْنَ الْأَخِ؟ فَقَالَ: إِنَّكَ قَدْ صَبَوْتَ لِتُصِيبَ مِنْ طَعَامِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ وَهَذِهِ

[سورة المدثر (74) : الآيات 23 إلى 24]

قُرَيْشٌ تَجْمَعُ لَكَ مَالًا لِيَكُونَ ذَلِكَ عِوَضًا مِمَّا تَقْدِرُ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا يَشْبَعُونَ فَكَيْفَ أَقْدِرُ أَنْ آخُذَ مِنْهُمْ مَالًا، وَلَكِنِّي تَفَكَّرْتُ فِي أَمْرِهِ كَثِيرًا فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا يَلِيقُ بِهِ إِلَّا أَنَّهُ سَاحِرٌ، فَأَقُولُ اسْتِعْظَامُهُ لِلْقُرْآنِ وَاعْتِرَافُهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي ادِّعَاءِ السِّحْرِ مُعَانِدًا لِأَنَّ السِّحْرَ يَتَعَلَّقُ بِالْجِنِّ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ أَمْرَ السِّحْرِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَالْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ، وَكَانَ مِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ مُحَمَّدًا لَا يَدْعُو إِلَّا إِلَى اللَّهِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ السِّحْرُ؟ فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ إِنَّمَا عَبَسَ وَبَسَرَ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي يَقُولُهُ كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ اللَّيْثُ: عَبَسَ يَعْبَسُ فَهُوَ عَابِسٌ إِذَا قَطَبَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَإِنْ أَبْدَى عَنْ أَسْنَانِهِ فِي عُبُوسِهِ قِيلَ: كَلَحَ، فَإِنِ اهْتَمَّ لِذَلِكَ وَفَكَّرَ فِيهِ قِيلَ: بَسَرَ، فَإِنْ غَضِبَ مَعَ ذلك قيل: بسل. [سورة المدثر (74) : الآيات 23 الى 24] ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) أَدْبَرَ عَنْ سَائِرِ النَّاسِ إِلَى أَهْلِهِ وَاسْتَكْبَرَ أَيْ تَعَظَّمَ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَمَّا وَلَّى وَاسْتَكْبَرَ ذَكَرَ هَذِهِ الشُّبْهَةَ، وَفِي قَوْلِهِ: يُؤْثَرُ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ أَثَرْتُ الْحَدِيثَ آثَرَهُ أَثَرًا إِذَا حَدَّثْتَ بِهِ عَنْ قَوْمٍ فِي آثارهم، أي بعد ما مَاتُوا هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ صَارَ بِمَعْنَى/ الرِّوَايَةِ عَمَّنْ كَانَ وَالثَّانِي: يُؤْثَرُ عَلَى جَمِيعِ السِّحْرِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ هُوَ مِنَ الْإِيثَارِ. ثم قال: [سورة المدثر (74) : آية 25] إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْبَشَرِ، يُنْسَبُ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ مُلْتَقَطٌ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ لَتَمَكَّنُوا مِنْ مُعَارَضَتِهِ إِذْ طَرِيقَتُهُمْ فِي مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ مُتَقَارِبَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلِيدَ إِنَّمَا كَانَ يَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ عِنَادًا مِنْهُ، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حم السَّجْدَةَ) وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: سَمِعْتُ مِنْ مُحَمَّدٍ كَلَامًا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْإِنْسِ وَلَا مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ، وَإِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً وَأَنَّهُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَقَرَّ بِذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ علمنا أن الذي قاله هاهنا مِنْ أَنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ، إِنَّمَا ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الْعِنَادِ وَالتَّمَرُّدِ لَا عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِقَادِ. ثم قال: [سورة المدثر (74) : آية 26] سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَقَرَ اسْمٌ لِلطَّبَقَةِ السَّادِسَةِ مِنْ جَهَنَّمَ، وَلِذَلِكَ لَا يَنْصَرِفُ للتعريف والتأنيث. ثم قال: [سورة المدثر (74) : آية 27] وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) الغرض التهويل. ثم قال:

[سورة المدثر (74) : آية 28]

[سورة المدثر (74) : آية 28] لَا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) وَاخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُمَا لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَالْغَرَضُ مِنَ التَّكْرِيرِ التَّأْكِيدُ وَالْمُبَالَغَةُ كَمَا يُقَالُ: صَدَّ عَنِّي وَأَعْرَضَ عَنِّي. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا بُدَّ مِنَ الْفَرْقِ، ثُمَّ ذَكَرُوا وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَا تُبْقِي مِنَ الدَّمِ وَاللَّحْمِ وَالْعَظْمِ شيئا فإذا أعيدوا خلقا جديدا فلا تَذَرُ أَنْ تُعَاوِدَ إِحْرَاقَهُمْ بِأَشَدَّ مِمَّا كَانَتْ، وَهَكَذَا أَبَدًا، وَهَذَا رِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عباس وثانيها: لا تبقي مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْعَذَابِ إِلَّا عَذَّبَتْهُمْ، ثُمَّ لَا تَذَرُ مِنْ أَبْدَانِ أُولَئِكَ الْمُعَذَّبِينَ شَيْئًا إِلَّا أَحْرَقَتْهُ وَثَالِثُهَا: لَا تُبْقِي مِنْ أَبْدَانِ الْمُعَذَّبِينَ شَيْئًا، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ النِّيرَانَ لَا تَذَرُ مِنْ قُوَّتِهَا وَشِدَّتِهَا شَيْئًا إِلَّا وَتَسْتَعْمِلُ تِلْكَ القوة والشدة في تعذيبهم. ثم قال: [سورة المدثر (74) : آية 29] لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي اللَّوَّاحَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ اللَّيْثُ: لَاحَهُ الْعَطَشُ وَلَوَّحَهُ إِذَا غَيَّرَهُ، فَاللَّوَّاحَةُ هِيَ الْمُغَيِّرَةُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: تُسَوِّدُ الْبَشَرَةَ بِإِحْرَاقِهَا وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالْأَصَمِّ: أَنَّ مَعْنَى اللَّوَّاحَةِ أَنَّهَا تَلُوحُ لِلْبَشَرِ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى [النَّازِعَاتِ: 36] وَلَوَّاحَةٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: مِنْ لَاحَ الشَّيْءُ يَلُوحُ إِذَا لَمَعَ نَحْوَ الْبَرْقِ، وَطَعَنَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْوَجْهِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصِفَهَا بِتَسْوِيدِ الْبَشَرَةِ مَعَ قَوْلِهِ إِنَّهَا لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قرئ: لَوَّاحَةٌ نصبا على الاختصاص للتهويل. ثم قال: [سورة المدثر (74) : آية 30] عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى أَنَّهُ يَلِي أَمْرَ تِلْكَ النَّارِ، وَيَتَسَلَّطُ عَلَى أَهْلِهَا تِسْعَةَ عَشَرَ مَلَكًا، وَقِيلَ: تِسْعَةَ عَشَرَ صِنْفًا، وَقِيلَ: تِسْعَةَ عَشَرَ صَفًّا. وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ خَزَنَةَ النَّارِ تِسْعَةَ عَشَرَ مَالِكٌ، وَمَعَهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَعْيُنُهُمْ كَالْبَرْقِ، وَأَنْيَابُهُمْ كَالصَّيَاصِي، وَأَشْعَارُهُمْ تَمَسُّ أَقْدَامَهُمْ، يَخْرُجُ لَهَبُ النَّارِ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ، مَا بَيْنَ مَنْكِبَيْ أَحَدِهِمْ مَسِيرَةُ سَنَةٍ، يَسَعُ كَفَّ أَحَدِهِمْ مِثْلُ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، نُزِعَتْ مِنْهُمُ الرَّأْفَةُ وَالرَّحْمَةُ، يَأْخُذُ أَحَدُهُمْ سَبْعِينَ أَلْفًا فِي كَفِّهِ وَيَرْمِيهِمْ حَيْثُ أَرَادَ مِنْ جَهَنَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ أَرْبَابُ الْمَعَانِي فِي تَقْدِيرِ هَذَا الْعَدَدِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: وَهُوَ الْوَجْهُ الَّذِي تَقَوَّلَهُ أَرْبَابُ الْحِكْمَةِ أَنَّ سَبَبَ فَسَادِ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي قُوَّتِهَا النَّظَرِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ هُوَ الْقُوَى الْحَيَوَانِيَّةُ وَالطَّبِيعِيَّةُ. أَمَّا الْقُوَى الْحَيَوَانِيَّةُ فَهِيَ: الْخَمْسَةُ الظَّاهِرَةُ، وَالْخَمْسَةُ الْبَاطِنَةُ، وَالشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ، وَمَجْمُوعُهُمَا اثْنَتَا عَشْرَةَ. وَأَمَّا الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةُ فَهِيَ: الْجَاذِبَةُ وَالْمَاسِكَةُ وَالْهَاضِمَةُ وَالدَّافِعَةُ وَالْغَاذِيَةُ وَالنَّامِيَةُ وَالْمُوَلِّدَةُ، وَهَذِهِ سَبْعَةٌ، فَالْمَجْمُوعُ تِسْعَةَ عَشَرَ، فَلَمَّا كَانَ مَنْشَأُ الْآفَاتِ هُوَ هَذِهِ التِّسْعَةَ عَشَرَ، لَا جَرَمَ كَانَ عَدَدُ الزَّبَانِيَةِ هَكَذَا وَثَانِيهَا: أَنَّ

[سورة المدثر (74) : آية 31]

أَبْوَابَ جَهَنَّمَ سَبْعَةٌ، فَسِتَّةٌ مِنْهَا لِلْكُفَّارِ، وَوَاحِدٌ لِلْفُسَّاقِ، ثُمَّ إِنَّ الْكُفَّارَ يَدْخُلُونَ النَّارَ لِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: تَرْكِ الِاعْتِقَادِ وَتَرْكِ الْإِقْرَارِ وَتَرْكِ الْعَمَلِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ بَابٍ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ السِّتَّةِ ثَلَاثَةٌ وَالْمَجْمُوعُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَأَمَّا بَابُ الْفُسَّاقِ فَلَيْسَ هُنَاكَ زَبَانِيَةٌ بِسَبَبِ تَرْكِ الِاعْتِقَادِ وَلَا بِسَبَبِ تَرْكِ الْقَوْلِ، بَلْ لَيْسَ إِلَّا بِسَبَبِ تَرْكِ الْعَمَلِ، فَلَا يَكُونُ عَلَى بَابِهِمْ إِلَّا زَبَانِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَالْمَجْمُوعُ تِسْعَةَ عَشَرَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ السَّاعَاتِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ خَمْسَةٌ مِنْهَا مَشْغُولَةٌ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَيَبْقَى مِنْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ مَشْغُولَةٌ بِغَيْرِ الْعِبَادَةِ، فَلَا جَرَمَ صَارَ عَدَدُ الزَّبَانِيَةِ تِسْعَةَ عَشَرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ وَيَزِيدَ وَطَلْحَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ عَلَى تَقْطِيعِ فَاعِلَانِ، قَالَ ابْنُ جِنِّي فِي الْمُحْتَسَبِ: وَالسَّبَبُ أَنَّ الِاسْمَيْنِ كَاسْمٍ وَاحِدٍ، فَكَثُرَتِ الْحَرَكَاتُ، فَأُسْكِنَ أَوَّلُ الثَّانِي لِلتَّخْفِيفِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ أَمَارَةَ الْقُوَّةِ اتِّصَالَ أَحَدِ الِاسْمَيْنِ بِصَاحِبِهِ، وَقَرَأَ أَنَسُ بن مالك تِسْعَةَ عَشَرَ قال أبو حاتم: هذه القراءة لا تعرف لَهَا وَجْهًا، إِلَّا أَنْ يَعْنِيَ: تِسْعَةَ أَعْشُرٍ جَمْعَ عَشِيرٍ مِثْلَ يَمِينٍ وَأَيْمُنٍ، وَعَلَى هَذَا يكون المجموع تسعين. [سورة المدثر (74) : آية 31] وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 30] قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لِقُرَيْشٍ ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ، قَالَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ: إِنَّ خَزَنَةَ النَّارِ تِسْعَةَ عَشَرَ وَأَنْتُمُ الْجَمْعُ/ الْعَظِيمُ، أَيَعْجَزُ كُلُّ عَشَرَةٍ منكم أن يبطشوا برجل منهم! فَقَالَ أَبُو الْأَشَدِّ بْنُ أُسَيْدِ بْنِ كَلَدَةَ الْجُمَحِيُّ وَكَانَ شَدِيدَ الْبَطْشِ: أَنَا أَكْفِيكُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ وَاكْفُونِي أَنْتُمُ اثْنَيْنَ! فَلَمَّا قَالَ أَبُو الأشد بن أسيد ذَلِكَ، قَالَ الْمُسْلِمُونَ وَيْحَكُمْ لَا تُقَاسُ الْمَلَائِكَةُ بِالْحَدَّادِينَ! فَجَرَى هَذَا مَثَلًا فِي كُلِّ شَيْئَيْنِ لَا يُسَوَّى بَيْنَهُمَا، وَالْمَعْنَى لَا تُقَاسُ الْمَلَائِكَةُ بِالسَّجَّانِينَ وَالْحَدَّادُ، السَّجَّانُ الَّذِي يَحْبِسُ النَّارَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا جَعَلَهُمْ مَلَائِكَةً لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: لِيَكُونُوا بِخِلَافِ جِنْسِ الْمُعَذَّبِينَ، لِأَنَّ الْجِنْسِيَّةَ مَظَنَّةُ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَلِذَلِكَ بُعِثَ الرَّسُولُ الْمَبْعُوثُ إِلَيْنَا مِنْ جِنْسِنَا لِيَكُونَ لَهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً بِنَا وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ أَبْعَدُ الْخَلْقِ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَقْوَاهُمْ عَلَى الطَّاعَاتِ الشَّاقَّةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قُوَّتَهُمْ أَعْظَمُ مِنْ قُوَّةِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَإِنْ قِيلَ: ثَبَتَ فِي الْأَخْبَارِ، أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَخْلُوقُونَ مِنَ النُّورِ، وَالْمَخْلُوقُ مِنَ النُّورِ كَيْفَ يُطِيقُ الْمُكْثَ فِي النَّارِ؟ قُلْنَا: مَدَارُ الْقَوْلِ فِي إِثْبَاتِ الْقِيَامَةِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا اسْتِبْعَادَ فِي أَنْ يَبْقَى الْحَيُّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ أَبَدَ الْآبَادِ وَلَا يَمُوتُ، فَكَذَا لَا اسْتِبْعَادَ فِي بَقَاءِ الْمَلَائِكَةِ هُنَاكَ من غير ألم. [في قوله تعالى وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إلى قوله مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا الْعَدَدُ إِنَّمَا صَارَ سَبَبًا لِفِتْنَةِ الْكُفَّارِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكُفَّارَ يَسْتَهْزِئُونَ، يَقُولُونَ: لِمَ لَمْ يَكُونُوا عِشْرِينَ، وَمَا الْمُقْتَضَى لِتَخْصِيصِ هَذَا الْعَدَدِ بِالْوُجُودِ؟ الثَّانِي: أَنَّ الْكُفَّارَ يَقُولُونَ هَذَا الْعَدَدُ الْقَلِيلُ كَيْفَ يَكُونُونَ وَافِينَ بِتَعْذِيبِ أَكْثَرِ خَلْقِ الْعَالَمِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مِنْ أَوَّلِ مَا خَلَقَ اللَّهُ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ؟ وَأَمَّا أَهْلُ الْإِيمَانِ فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ. أَمَّا السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ جُمْلَةَ الْعَالَمِ مُتَنَاهِيَةٌ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِلْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ الَّتِي مِنْهَا تَأَلَّفَتْ جُمْلَةُ هَذَا الْعَالَمِ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَجِيءُ ذَلِكَ السُّؤَالُ، وَهُوَ أَنَّهُ لِمَ خَصَّصَ ذَلِكَ الْعَدَدَ بِالْإِيجَادِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ الْعَدَدِ جَوْهَرٌ آخَرُ وَلَمْ يُنْقِصْ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي إِيجَادِ الْعَالَمِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعَالَمُ مُحْدَثًا وَالْإِلَهُ قَدِيمًا، فَقَدْ تَأَخَّرَ الْعَالَمُ عَنِ الصَّانِعِ بِتَقْدِيرِ مُدَّةٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ، فَلِمَ لَمْ يَحْدُثِ/ الْعَالَمُ قَبْلَ أَنْ حَدَثَ بِتَقْدِيرِ لَحْظَةٍ أَوْ بَعْدَ أَنْ وُجِدَ بِتَقْدِيرِ لَحْظَةٍ؟ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي تقدير كل واحد من المحدثات بزمانه المعنى، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَجْسَامِ بِأَجْزَائِهِ الْمَحْدُودَةِ الْمَعْدُودَةِ، وَلَا جَوَابَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِأَنَّهُ قَادِرٌ مُخْتَارٌ، وَالْمُخْتَارُ لَهُ أَنْ يُرَجِّحَ الشَّيْءَ عَلَى مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْجَوَابُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي خَلْقِ جُمْلَةِ الْعَالَمِ، فَكَذَا فِي تَخْصِيصِ زَبَانِيَةِ النَّارِ بِهَذَا الْعَدَدِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُعْطِيَ هَذَا الْعَدَدَ مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ مَا يَصِيرُونَ بِهِ قَادِرِينَ عَلَى تَعْذِيبِ جُمْلَةِ الْخَلْقِ، وَمُتَمَكِّنِينَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ خَلَلٍ، وَبِالْجُمْلَةِ فَمَدَارُ هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ عَلَى الْقَدْحِ فِي كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ، فَأَمَّا مَنِ اعْتَرَفَ بِكَوْنِهِ تعالى قادرا على مالا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ الْمَقْدُورَاتِ، وَعَلِمَ أَنَّ أَحْوَالَ الْقِيَامَةِ عَلَى خِلَافِ أَحْوَالِ الدُّنْيَا زَالَ عَنْ قَلْبِهِ هَذِهِ الِاسْتِبْعَادَاتُ بِالْكُلِّيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَدْ يُرِيدُ الْإِضْلَالَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ إِنَّمَا هُوَ فِتْنَةُ الْكَافِرِينَ، أَجَابَتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْمُرَادُ مِنَ الْفِتْنَةِ تَشْدِيدُ التَّعَبُّدِ لِيَسْتَدِلُّوا وَيَعْرِفُوا أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يقوي هؤلاء التسعة عشر على مالا يَقْوَى عَلَيْهِ مِائَةُ أَلْفِ مَلَكٍ أَقْوِيَاءَ وَثَانِيهَا: قَالَ الْكَعْبِيُّ: الْمُرَادُ مِنَ الْفِتْنَةِ الِامْتِحَانُ حَتَّى يُفَوِّضَ الْمُؤْمِنُونَ حِكْمَةَ التَّخْصِيصِ بِالْعَدَدِ الْمُعَيَّنِ إِلَى عِلْمِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي أُمِرُوا بِالْإِيمَانِ بِهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْفِتْنَةِ مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ بِعَدَدِ الْخَزَنَةِ، وَالْمَعْنَى إِلَّا فِتْنَةً عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُكَذِّبُوا بِهِ، وَلِيَقُولُوا مَا قَالُوا، وَذَلِكَ عُقُوبَةٌ لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَحَاصِلُهُ رَاجِعٌ إِلَى تَرْكِ الْأَلْطَافِ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْتُمْ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: هَلْ لِإِنْزَالِ هَذِهِ الْمُتَشَابِهَاتِ أَثَرٌ فِي تَقْوِيَةِ دَاعِيَةِ الْكُفْرِ، أَمْ لَا؟ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ فِي تَقْوِيَةِ دَاعِيَةِ الْكُفْرِ، كَانَ إِنْزَالُهَا كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ إِنْزَالَ هَذِهِ الْمُتَشَابِهَاتِ فِتْنَةٌ لِلَّذِينِ كَفَرُوا وَجْهٌ الْبَتَّةَ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَثَرٌ فِي تَقْوِيَةِ دَاعِيَةِ الْكُفْرِ، فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، لِأَنَّهُ إِذَا تَرَجَّحَتْ دَاعِيَةُ الْفِعْلِ، صَارَتْ دَاعِيَةُ التَّرْكِ مَرْجُوحَةً، وَالْمَرْجُوحُ يَمْتَنِعُ أَنْ يُؤَثِّرَ، فَالتَّرْكُ يَكُونُ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، فَيَصِيرُ الْفِعْلُ وَاجِبَ الْوُقُوعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِنْزَالِ هَذَا الْمُتَشَابِهِ أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ. أَوَّلُهَا: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَثَانِيهَا: وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَثَالِثُهَا: وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَرَابِعُهَا: وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ

مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ لَا يَتَلَخَّصُ إِلَّا بِسُؤَالَاتٍ وَجَوَابَاتٍ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَفْظُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ افْتِتَانَ الْكُفَّارِ بِعَدَدِ الزَّبَانِيَةِ سَبَبًا لِهَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ، فَمَا الْوَجْهُ فِي ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ مَا جَعَلَ افْتِتَانَهُمْ بِالْعَدَدِ سَبَبًا لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ: وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَإِلَّا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ/ أُوتُوا الْكِتَابَ، كَمَا يُقَالُ: فَعَلْتُ كَذَا لِتَعْظِيمِكَ وَلِتَحْقِيرِ عَدُوِّكَ، قَالُوا: وَالْعَاطِفَةُ قَدْ تُذْكَرُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تَارَةً. وَقَدْ تُحْذَفُ أُخْرَى الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا هُوَ أَنَّهُ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا تِسْعَةَ عَشَرَ إِلَّا أَنَّهُ وَضَعَ فِتْنَةً لِلَّذِينِ كَفَرُوا مَوْضِعَ تِسْعَةَ عَشَرَ كَأَنَّهُ عَبَّرَ عَنِ الْمُؤَثِّرِ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْأَثَرِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَثَرَ مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ الْمُؤَثِّرِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا وَجْهُ تَأْثِيرِ إِنْزَالِ هَذَا الْمُتَشَابِهِ فِي اسْتِيقَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ لَمَّا كَانَ مَوْجُودًا فِي كِتَابِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ دِرَاسَةٍ وَتَعَلُّمٍ، فَظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ الْوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَزْدَادُونَ بِهِ إِيمَانًا وَثَانِيهَا: أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ كَانَا مُحَرَّفَيْنِ، فَأَهْلُ الْكِتَابِ كَانُوا يَقْرَءُونَ فِيهِمَا أَنَّ عَدَدَ الزَّبَانِيَةِ هُوَ هَذَا الْقَدْرُ، وَلَكِنَّهُمْ مَا كَانُوا يُعَوِّلُونَ عَلَى ذَلِكَ كُلَّ التَّعْوِيلِ لِعِلْمِهِمْ بِتَطَرُّقِ التَّحْرِيفِ إِلَى هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ، فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوِيَ إِيمَانُهُمْ بِذَلِكَ وَاسْتَيْقَنُوا أَنَّ ذَلِكَ الْعَدَدَ هُوَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْلَمُ مِنْ حَالِ قُرَيْشٍ أَنَّهُ مَتَى أَخْبَرَهُمْ بِهَذَا الْعَدَدِ الْعَجِيبِ، فَإِنَّهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَيَضْحَكُونَ مِنْهُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ، مَعَ أَنَّ تِلْكَ الْمَسَائِلَ أَوْضَحُ وَأَظْهَرُ فَكَيْفَ فِي ذِكْرِ هَذَا الْعَدَدِ الْعَجِيبِ؟ ثُمَّ إِنَّ اسْتِهْزَاءَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ وَشِدَّةَ سُخْرِيَتِهِمْ بِهِ مَا مَنَعَهُ مِنْ إِظْهَارِ هَذَا الْحَقِّ، فَعِنْدَ هَذَا يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَ غَرَضُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَبَ الدُّنْيَا وَالرِّيَاسَةَ لَاحْتَرَزَ عَنْ ذِكْرِ هَذَا الْعَدَدِ الْعَجِيبِ، فَلَمَّا ذَكَرَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ لَا بُدَّ وأن يستهزءوا بِهِ عَلِمَ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ تَبْلِيغُ الْوَحْيِ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ يُبَالِي فِي ذَلِكَ لَا بِتَصْدِيقِ الْمُصَدِّقِينَ وَلَا بِتَكْذِيبِ الْمُكَذِّبِينَ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا تَأْثِيرُ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ فِي ازْدِيَادِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ الْمُكَلَّفَ مَا لَمْ يَسْتَحْضِرْ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ غَنِيًّا عَنْ جَمِيعِ الْحَادِثَاتِ مُنَزَّهًا عن الكذب والحلف لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْقَادَ لِهَذِهِ الْعِدَّةِ وَيَعْتَرِفَ بِحَقِيقَتِهَا، فَإِذَا اشْتَغَلَ بِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الدَّلَائِلِ ثُمَّ جَعَلَ الْعِلْمَ الْإِجْمَالِيَّ بِأَنَّهُ صَادِقٌ لَا يَكْذِبُ حَكِيمٌ لَا يَجْهَلُ دَافِعًا لِلتَّعَجُّبِ الْحَاصِلِ فِي الطَّبْعِ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ الْعَجِيبِ فَحِينَئِذٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يُؤْمِنَ بِحَقِيقَةِ هَذَا الْعَدَدِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَصِيرُ عِنْدَ اعْتِبَارِ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ أشد استحضار لِلدَّلَائِلِ وَأَكْثَرَ انْقِيَادًا لِلدِّينِ، فَالْمُرَادُ بِازْدِيَادِ الْإِيمَانِ هَذَا. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ عِنْدَكُمْ لَا تَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ فَمَا قَوْلُكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؟ الْجَوَابُ: نَحْمِلُهُ عَلَى ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ وَعَلَى آثَارِهِ وَلَوَازِمِهِ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: لَمَّا أُثْبِتَ الِاسْتِيقَانُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَأُثْبِتَ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ لِلْمُؤْمِنِينَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ الْمَطْلُوبَ إِذَا كَانَ غَامِضًا دَقِيقَ الْحُجَّةِ كَثِيرَ

الشُّبْهَةِ، فَإِذَا اجْتَهَدَ الْإِنْسَانُ فِيهِ وَحَصَلَ لَهُ الْيَقِينُ فَرُبَّمَا غَفَلَ عَنْ/ مُقَدِّمَةٍ مِنْ مُقَدِّمَاتِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ الدَّقِيقِ، فَيَعُودُ الشَّكُّ وَالشُّبْهَةُ، فَإِثْبَاتُ الْيَقِينِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لَا يُنَافِي طَرَيَانِ الِارْتِيَابِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ إِعَادَةِ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُمْ يَقِينٌ جَازِمٌ، بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ عَقِيبَهُ الْبَتَّةَ شَكٌّ وَلَا رَيْبٌ. السُّؤَالُ السَّادِسُ: جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ إِنَّهُمُ الْكَافِرُونَ وَذَكَرَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَجَلِيُّ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ نِفَاقٌ، فَالْمَرَضُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ بِمَعْنَى النِّفَاقِ، وَالْجَوَابُ: قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ حَقٌّ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ فِي مَعْلُومِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ النِّفَاقَ سَيَحْدُثُ فَأَخْبَرَ عَمَّا سَيَكُونُ، وَعَلَى هَذَا تَصِيرُ هَذِهِ الْآيَةُ مُعْجِزَةً، لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ غَيْبٍ سَيَقَعُ، وَقَدْ وَقَعَ عَلَى وَفْقِ الْخَبَرِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُرَادَ بِالْمَرَضِ الشَّكُّ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانَ أَكْثَرُهُمْ شَاكِّينَ وَبَعْضُهُمْ كَانُوا قَاطِعِينَ بِالْكَذِبِ. السُّؤَالُ السَّابِعُ: هَبْ أَنَّ الِاسْتِيقَانَ وَانْتِفَاءَ الِارْتِيَابِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَا مَقْصُودَيْنِ مِنْ إِنْزَالِ هَذَا الْمُتَشَابِهِ، فَكَيْفَ صَحَّ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ مَقْصُودًا؟ الْجَوَابُ: أَمَّا عَلَى أَصْلِنَا فَلَا إِشْكَالَ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وسيأتي مريد تَقْرِيرٍ لِهَذَا فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ لَمَّا وَقَعَتْ أَشْبَهَتِ الْغَرَضَ فِي كَوْنِهِ وَاقِعًا، فَأُدْخِلَ عَلَيْهِ حَرْفُ اللَّامِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ [الْأَعْرَافِ: 179] . السُّؤَالُ الثَّامِنُ: لِمَ سَمَّوْهُ مَثَلًا؟ الْجَوَابُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا الْعَدَدُ عَدَدًا عَجِيبًا ظَنَّ الْقَوْمُ أَنَّهُ رُبَّمَا لَمْ يَكُنْ مُرَادُ اللَّهِ مِنْهُ مَا أَشْعَرَ بِهِ ظَاهِرُهُ بَلْ جَعَلَهُ مَثَلًا لِشَيْءٍ آخَرَ وَتَنْبِيهًا عَلَى مَقْصُودٍ آخَرَ، لَا جَرَمَ سَمَّوْهُ مَثَلًا. السُّؤَالُ التَّاسِعُ: الْقَوْمُ كَانُوا يُنْكِرُونَ كَوْنَ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَكَيْفَ قَالُوا: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا؟ الْجَوَابُ: أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ فَكَانُوا فِي الظَّاهِرِ مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَا جَرَمَ قَالُوا ذَلِكَ بِاللِّسَانِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَقَالُوهُ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَمَا قَالَ مِثْلَ هذا الكلام. قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ لِلْأَصْحَابِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ قوله: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ ذَكَرَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا ثُمَّ قَالَ: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ ذَكَرُوا الْوُجُوهَ الْمَشْهُورَةَ الَّتِي لَهُمْ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِضْلَالِ مَنْعُ الْأَلْطَافِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمَّا اهْتَدَى قَوْمٌ بِاخْتِيَارِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَضَلَّ قَوْمٌ بِاخْتِيَارِهِمْ عِنْدَ نُزُولِهَا أَشْبَهَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي ذَلِكَ الِاهْتِدَاءِ وَذَلِكَ الْإِضْلَالِ هُوَ/ هَذِهِ الْآيَاتُ، وَهُوَ كقوله: فَزادَتْهُمْ إِيماناً [التوبة: 124] وكقوله: فَزادَتْهُمْ رِجْساً [التوبة: 125] وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: يُضِلُّ وَمِنْ قوله: يَهْدِي حُكْمُ اللَّهُ بِكَوْنِهِ ضَالًّا وَبِكَوْنِهِ مُهْتَدِيًا وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يُضِلُّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ دَارِ الثَّوَابِ، وَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ مَعَ أَجْوِبَتِهَا تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [الْبَقَرَةِ: 26] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَوْلَى أَنَّ الْقَوْمَ اسْتَقْبَلُوا ذَلِكَ

[سورة المدثر (74) : الآيات 32 إلى 33]

الْعَدَدَ، فَقَالَ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ فَهَبْ أَنَّ هَؤُلَاءِ تِسْعَةَ عَشَرَ إِلَّا أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنَ الْأَعْوَانِ والجنود مالا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ وَثَانِيهَا: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ لِفَرْطِ كَثْرَتِهَا إِلَّا هُوَ، فَلَا يَعِزُّ عَلَيْهِ تَتْمِيمُ الْخَزَنَةِ عِشْرِينَ وَلَكِنَّ لَهُ فِي هَذَا الْعَدَدِ حِكْمَةً لَا يَعْلَمُهَا الْخَلْقُ وَهُوَ جَلَّ جَلَالُهُ يَعْلَمُهَا وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي تَعْذِيبِ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ إِلَى هَؤُلَاءِ الْخَزَنَةِ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُعَذِّبُهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَخْلُقُ الْآلَامَ فِيهِمْ، وَلَوْ أَنَّهُ تَعَالَى قَلَّبَ شَعْرَةً فِي عَيْنِ ابْنِ آدَمَ أَوْ سَلَّطَ الْأَلَمَ عَلَى عِرْقٍ وَاحِدٍ مِنْ عُرُوقِ بَدَنِهِ لَكَفَاهُ ذَلِكَ بَلَاءً وَمِحْنَةً، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَقْلِيلِ عَدَدِ الْخَزَنَةِ قِلَّةُ الْعَذَابِ، فَجُنُودُ اللَّهِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ لِأَنَّ مَقْدُورَاتِهِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَما هِيَ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى سَقَرَ، وَالْمَعْنَى وَمَا سَقَرُ وَصِفَتُهَا إِلَّا تَذْكِرَةٌ لِلْبَشَرِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى هَذِهِ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَهِيَ ذِكْرَى لِجَمِيعِ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ كَانَ الْمُنْتَفِعُ بها ليس إلا أهل الإيمان. [سورة المدثر (74) : الآيات 32 الى 33] كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَلَّا وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِنْكَارٌ بَعْدَ أَنْ جَعَلَهَا ذِكْرًى، أَنْ تَكُونَ لَهُمْ ذِكْرًى لِأَنَّهُمْ لَا يَتَذَكَّرُونَ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ رَدْعٌ لِمَنْ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ إِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيرًا وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ رَدْعٌ لِقَوْلِ أَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ: إِنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى مُقَاوَمَةِ خَزَنَةِ النَّارِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ رَدْعٌ لَهُمْ عَنِ الِاسْتِهْزَاءِ بِالْعُدَّةِ الْمَخْصُوصَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: دَبَرَ وَأَدْبَرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَقَبَلَ وَأَقْبَلَ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ إِذَا دَبَرَ، وَرُوِيَ أَنَّ مُجَاهِدًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عن قوله: أَدْبَرَ فَسَكَتَ حَتَّى إِذَا أَدْبَرَ اللَّيْلُ قَالَ: يَا مُجَاهِدُ هَذَا حِينَ دَبَرَ اللَّيْلُ، وَرَوَى أَبُو الضُّحَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَعِيبُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ وَيَقُولُ: إِنَّمَا يَدْبُرُ ظَهْرُ الْبَعِيرِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْقِرَاءَتَانِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ سَوَاءٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَأَنْشَدَ أَبُو عَلِيٍّ: وَأَبَى الَّذِي تَرَكَ الْمُلُوكَ وَجَمْعَهُمْ ... بِصِهَابِ هَامِدَةٍ كَأَمْسِ الدَّابِرِ الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: دَبَرَ أَيْ جَاءَ بَعْدَ النَّهَارِ، يُقَالُ: دَبَرَنِي أَيْ جَاءَ خَلْفِي وَدَبَرَ اللَّيْلُ أَيْ جَاءَ بَعْدَ النَّهَارِ، قَالَ قُطْرُبٌ: فَعَلَى هَذَا مَعْنَى إِذَا دَبَرَ إِذَا أَقْبَلَ بَعْدَ مُضِيِّ النَّهَارِ. [سورة المدثر (74) : آية 34] وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) أَيْ أَضَاءَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ» وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ [عبس: 38] أي مضيئة. ثم قال تعالى: [سورة المدثر (74) : آية 35] إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا الْكَلَامُ هُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ أَوْ تَعْلِيلٌ لِكَلَامٍ وَالْقَسَمُ مُعْتَرَضٌ لِلتَّوْكِيدِ.

[سورة المدثر (74) : آية 36]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَلِفُ إِحْدَى مَقْطُوعٌ وَلَا تَذْهَبُ فِي الْوَصْلِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كثير أنه قرأ إنها لإحدى الْكُبَرِ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ كَمَا يُقَالُ: وَيْلُمِّهِ، وَلَيْسَ هَذَا الْحَذْفُ بِقِيَاسٍ وَالْقِيَاسُ التَّخْفِيفُ وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ بَيْنَ بَيْنَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْكُبَرُ جَمْعُ الْكُبْرَى جُعِلَتْ أَلِفُ التَّأْنِيثِ كَتَاءِ التَّأْنِيثِ فَكَمَا جُمِعَتْ فُعْلَةٌ عَلَى فُعَلٍ جُمِعَتْ فُعْلَى عَلَيْهَا وَنَظِيرُ ذَلِكَ السَّوَافِي جَمْعُ السَّافِيَاءِ وَهُوَ التُّرَابُ الَّذِي سَفَتْهُ الرِّيحُ، وَالْقَوَاصِعُ فِي جَمْعِ الْقَاصِعَاءِ كَأَنَّهُمَا جَمْعُ فَاعِلَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ يَعْنِي أَنَّ سَقَرَ الَّتِي جَرَى ذِكْرُهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ وَالْمُرَادُ مِنَ الْكُبَرِ دَرَكَاتُ جَهَنَّمَ، وَهِيَ سَبْعَةٌ: جَهَنَّمُ، وَلَظَى، وَالْحُطَمَةُ، وَالسَّعِيرُ، وَسَقَرُ، وَالْجَحِيمُ وَالْهَاوِيَةُ، أَعَاذَنَا اللَّهُ منها. [سورة المدثر (74) : آية 36] نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) نَذِيرًا تَمْيِيزٌ مِنْ إِحْدَى عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا لَإِحْدَى الدَّوَاهِي إِنْذَارًا كَمَا تَقُولُ هِيَ إِحْدَى النِّسَاءِ عَفَافًا، وَقِيلَ: هُوَ حَالٌ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ نَذِيرٌ بِالرَّفْعِ خَبَرٌ أَوْ بحذف المبتدأ. ثم قال تعالى: [سورة المدثر (74) : آية 37] لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَتَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ بالابتداء ولِمَنْ شاءَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ كَقَوْلِكَ: لِمَنْ تَوَضَّأَ أَنْ يُصَلِّيَ، وَمَعْنَاهُ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ مُطْلَقَانِ لِمَنْ شَاءَهُمَا مِنْكُمْ، وَالْمُرَادُ بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ السَّبْقُ إِلَى الْخَيْرِ وَالتَّخَلُّفُ عَنْهُ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلُهُ: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الْكَهْفِ: 29] الثَّانِي: لِمَنْ شَاءَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ لِلْبَشَرِ وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّهَا نَذِيرٌ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ، نَظِيرُهُ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ [آلِ عِمْرَانَ: 97] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِ الْعَبْدِ مُتَمَكِّنًا مِنَ الْفِعْلِ غَيْرَ مَجْبُورٍ عَلَيْهِ وَجَوَابُهُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مُعَلَّقٌ عَلَى مَشِيئَتِهِ، لَكِنَّ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ مُعَلَّقَةٌ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْإِنْسَانِ: 30] وَحِينَئِذٍ تَصِيرُ هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةً لَنَا عَلَيْهِمْ، وَذَكَرَ الْأَصْحَابُ عَنْ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ جَوَابَيْنِ آخَرَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَى إِضَافَةِ الْمَشِيئَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ التَّهْدِيدُ، كَقَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الْكَهْفِ: 29] الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْمَشِيئَةَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْنَى لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أو يتأخر. [سورة المدثر (74) : الآيات 38 الى 39] كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : رَهِينَةٌ لَيْسَتْ بِتَأْنِيثِ رَهِينٍ فِي قَوْلِهِ: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:

[سورة المدثر (74) : الآيات 40 إلى 41]

21] لِتَأْنِيثِ النَّفْسِ لِأَنَّهُ لَوْ قُصِدَتِ الصِّيغَةُ لَقِيلَ: رَهِينٌ، لِأَنَّ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَإِنَّمَا هِيَ اسْمٌ بِمَعْنَى الرَّهْنِ كَالشَّتِيمَةِ بِمَعْنَى الشَّتْمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهْنٌ، وَمِنْهُ بَيْتُ الْحَمَاسَةِ: أَبَعْدَ الَّذِي بِالنَّعْفِ نَعْفِ كَوَاكِبِ ... رَهِينَةَ رَمْسٍ ذِي تُرَابٍ وَجَنْدَلِ كَأَنَّهُ قَالَ: رَهْنٌ رَمْسٌ، وَالْمَعْنَى كُلُّ نَفْسٍ رَهْنٌ بِكَسْبِهَا عِنْدَ اللَّهِ غَيْرُ مَفْكُوكٍ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ، فَإِنَّهُمْ فَكُّوا عَنْ رِقَابِ أَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمُ الْحَسَنَةِ، كَمَا يُخَلِّصُ الرَّاهِنُ رَهْنَهُ بِأَدَاءِ الْحَقِّ، ثُمَّ ذَكَرُوا وُجُوهًا فِي أَنَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ مَنْ هُمْ؟ أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَثَانِيهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمُ الَّذِينَ قَالَ [فِيهِمُ] اللَّهُ تَعَالَى: «هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي» وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى يَمِينِ آدَمَ وَثَالِثُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: هُمُ الَّذِينَ أُعْطُوا كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ لَا يُرْتَهَنُونَ بِذُنُوبِهِمْ فِي النَّارِ وَرَابِعُهَا: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنُ عُمَرَ: هُمْ أَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لِأَنَّ الْوِلْدَانَ لَمْ يَكْتَسِبُوا إِثْمًا يَرْتَهِنُونَ بِهِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي وَصْفِهِمْ، فَقَالَ: فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر: 40- 42] وَهَذَا إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْوِلْدَانِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا الذُّنُوبَ، فَسَأَلُوا مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ وَخَامِسُهَا: عن ابن عباس: هم الملائكة. [سورة المدثر (74) : الآيات 40 الى 41] فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي جَنَّاتٍ أَيْ هُمْ فِي جَنَّاتٍ لَا يُكْتَنَهُ وَصْفُهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ عَنْ صِلَةً زَائِدَةً، وَالتَّقْدِيرُ: يَتَسَاءَلُونَ الْمُجْرِمِينَ فَيَقُولُونَ لَهُمْ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ؟ فَإِنَّهُ يُقَالُ سَأَلْتُهُ كَذَا، وَيُقَالُ: سَأَلْتُهُ عَنْ كَذَا الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ أَحْوَالِ الْمُجْرِمِينَ، فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَقُولُوا: مَا سَلَكَهُمْ فِي سَقَرَ؟ قُلْنَا: أَجَابَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنْهُ فَقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَسْؤُولِينَ يُلْقُونَ إِلَى السَّائِلِينَ مَا جَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُجْرِمِينَ، / فَيَقُولُونَ قُلْنَا لَهُمْ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ كَانُوا يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ أَيْنَ هُمْ؟ فَلَمَّا رَأَوْهُمْ قَالُوا لَهُمْ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ وَالْإِضْمَارَاتُ كَثِيرَةٌ في القرآن. [سورة المدثر (74) : الآيات 42 الى 47] مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47)

[سورة المدثر (74) : آية 48]

الْمَقْصُودُ مِنَ السُّؤَالِ زِيَادَةُ التَّوْبِيخِ وَالتَّخْجِيلِ، وَالْمَعْنَى مَا حَبَسَكُمْ فِي هَذِهِ الدَّرَكَةِ مِنَ النَّارِ؟ فَأَجَابُوا بِأَنَّ هَذَا الْعَذَابَ لِأُمُورٍ أَرْبَعَةٍ: أَوَّلُهَا: قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وثانيها: لم نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَهَذَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَا مَحْمُولَيْنِ عَلَى الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ، وَالزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَذَّبُوا عَلَى تَرْكِهِ وَثَالِثُهَا: وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْأَبَاطِيلُ وَرَابِعُهَا: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ أَيْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ، أَيِ الْمَوْتُ قَالَ تَعَالَى: حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99] وَالْمَعْنَى أَنَّا بَقِينَا عَلَى إِنْكَارِ الْقِيَامَةِ إِلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، وَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الْخِصَالِ الْأَرْبَعَةِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يُعَذَّبُونَ بِتَرْكِ فُرُوعِ الشَّرَائِعِ، وَالِاسْتِقْصَاءُ فِيهِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي «الْمَحْصُولِ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ» ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ أَخَّرَ التَّكْذِيبَ، وَهُوَ أَفْحَشُ تِلْكَ الْخِصَالِ الْأَرْبَعَةِ، قُلْنَا أُرِيدَ أَنَّهُمْ بَعْدَ اتِّصَافِهِمْ بِتِلْكَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَالْغَرَضُ تَعْظِيمُ هَذَا الذَّنْبِ، كَقَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَدِ: 17] . ثم قال تعالى: [سورة المدثر (74) : آية 48] فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى ثُبُوتِ الشَّفَاعَةِ لِلْفُسَّاقِ بِمَفْهُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا: إِنَّ تَخْصِيصَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُمْ لَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين. ثم قال تعالى: [سورة المدثر (74) : آية 49] فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) أَيْ عَنِ الذِّكْرِ وَهُوَ الْعِظَةُ يُرِيدُ الْقُرْآنَ أَوْ غَيْرَهُ من المواعظ، ومعرضين نصب على الحال كقولهم مالك قائما. / ثُمَّ شَبَّهَهُمْ فِي نُفُورِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ بِحُمُرٍ نافرة فقال: [سورة المدثر (74) : الآيات 50 الى 51] كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْحُمُرَ الْوَحْشِيَّةَ، وَمُسْتَنْفِرَةٌ أَيْ نَافِرَةٌ. يُقَالُ: نَفَرَ وَاسْتَنْفَرَ مِثْلُ سَخِرَ، وَاسْتَسْخَرَ، وَعَجِبَ وَاسْتَعْجَبَ، وَقُرِئَ بِالْفَتْحِ، وَهِيَ الْمُنَفَّرَةُ الْمَحْمُولَةُ عَلَى النِّفَارِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْكَسْرُ فِي مُسْتَنْفِرَةٍ أَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا هِيَ اسْتَنْفَرَتْ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سَلَامٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَوَّارٍ الْغَنَوِيَّ، وَكَانَ أَعْرَابِيًّا فَصِيحًا، فَقُلْتُ: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مَاذَا؟ فَقَالَ: مُسْتَنْفِرَةٌ طَرَدَهَا قَسْوَرَةٌ، قُلْتُ: إِنَّمَا هُوَ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ، قَالَ أَفَرَّتْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ فَمُسْتَنْفِرَةٌ إِذًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَرَّتْ يَعْنِي الْحُمُرَ مِنْ قَسْوَرَةٍ. وَذَكَرُوا فِي الْقَسْوَرَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْأَسَدُ يُقَالُ: لُيُوثٌ قَسَاوِرُ، وَهِيَ فَعُولَةٌ مِنَ الْقَسْرِ وَهُوَ الْقَهْرُ، وَالْغَلَبَةُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقْهَرُ السِّبَاعَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحُمُرُ الْوَحْشِيَّةُ إِذَا عَايَنَتِ الْأَسَدَ هَرَبَتْ كَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِذَا رَأَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَرَبُوا مِنْهُ، كَمَا يَهْرُبُ الْحِمَارُ مِنَ الْأَسَدِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْقَسْوَرَةُ، هِيَ الْأَسَدُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ، وَخَالَفَ عِكْرِمَةُ فَقَالَ: الْأَسَدُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ، عَنْبَسَةُ وَثَانِيهَا: الْقَسْوَرَةُ، جَمَاعَةُ الرُّمَاةِ الَّذِينَ يَتَصَيَّدُونَهَا، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هُوَ اسْمُ جَمْعٍ لِلرُّمَاةِ لَا وَاحِدَ

[سورة المدثر (74) : آية 52]

لَهُ مِنْ جِنْسِهِ وَثَالِثُهَا: الْقَسْوَرَةُ: رِكْزُ النَّاسِ وَأَصْوَاتُهُمْ وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا ظُلْمَةُ اللَّيْلِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَفِي تَشْبِيهِهِمْ بِالْحُمُرِ شَهَادَةٌ عَلَيْهِمْ بِالْبَلَهِ، وَلَا تَرَى مِثْلَ نِفَارِ حَمِيرِ الْوَحْشِ، وَإِطْرَادِهَا فِي الْعَدْوِ إِذَا خَافَتْ مِنْ شَيْءٍ. ثُمَّ قال تعالى: [سورة المدثر (74) : آية 52] بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) أَنَّهُمْ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا نُؤْمِنُ بِكَ حَتَّى تَأْتِيَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا بِكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ عُنْوَانُهُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَى فُلَانِ بْنِ فلان، ونؤمر فيه باتباعك، ونظيره لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاءِ: 93] وَقَالَ: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ [الْأَنْعَامِ: 7] وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فَلْيُصْبِحْ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا صَحِيفَةٌ فِيهَا بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، وَقِيلَ: كَانُوا يَقُولُونَ بَلَغَنَا أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ يُصْبِحُ مَكْتُوبًا عَلَى رَأْسِهِ ذَنْبُهُ وَكَفَّارَتُهُ فَأْتِنَا بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنَ الصُّحُفِ الْمُنَشَّرَةِ بِمَعْزِلٍ، إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالصُّحُفِ الْمُنَشَّرَةِ، الْكِتَابَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمَكْشُوفَةِ، وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ صُحُفاً مُنَشَّرَةً بِتَخْفِيفِهِمَا عَلَى أَنَّ أَنْشَرَ الصُّحُفَ وَنَشَّرَهَا وَاحِدٌ، كَأَنْزَلَهُ وَنَزَّلَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: [سورة المدثر (74) : آية 53] كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا وَهُوَ رَدْعٌ لَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْإِرَادَةِ، وزجر عن اقتراح الآيات. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ لَا يَخافُونَ الْآخِرَةَ فَلِذَلِكَ أَعْرَضُوا عَنِ التَّأَمُّلِ، فَإِنَّهُ لَمَّا حَصَلَتِ الْمُعْجِزَاتُ الْكَثِيرَةُ، كَفَتْ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ فَطَلَبُ الزِّيَادَةِ يَكُونُ مِنْ بَابِ التَّعَنُّتِ. [سورة المدثر (74) : الآيات 54 الى 55] كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَلَّا وَهُوَ رَدْعٌ لَهُمْ عَنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ يَعْنِي تَذْكِرَةٌ بَلِيغَةٌ كَافِيَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أَيْ جَعَلَهُ نُصْبَ عَيْنِهِ، فَإِنَّ نَفْعَ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَيْهِ، وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ وذَكَرَهُ لِلتَّذْكِرَةِ فِي قَوْلِهِ: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [المدثر: 49] وإنما ذكر [ت] لأنها في معنى الذكر أو القرآن. [سورة المدثر (74) : آية 56] وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: يَعْنِي إِلَّا أَنْ يَقْسِرَهُمْ عَلَى الذِّكْرِ وَيُلْجِئَهُمْ إِلَيْهِ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى نَفَى الذِّكْرَ مُطْلَقًا، وَاسْتَثْنَى عَنْهُ حَالَ الْمَشِيئَةِ الْمُطْلَقَةِ، فَيَلْزَمُ أَنَّهُ مَتَى حَصَلَتِ الْمَشِيئَةُ أَنْ يَحْصُلَ الذِّكْرُ فَحَيْثُ لَمْ يَحْصُلِ الذِّكْرُ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ تَحْصُلِ الْمَشِيئَةُ، وَتَخْصِيصُ الْمَشِيئَةِ بِالْمَشِيئَةِ الْقَهْرِيَّةِ تَرْكٌ للظاهر، وقرئ يذكرون بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ أَيْ هُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يَتَّقِيَهُ عِبَادُهُ وَيَخَافُوا عِقَابَهُ فَيُؤْمِنُوا وَيُطِيعُوا وَحَقِيقٌ بِأَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ مَا سَلَفَ مِنْ كُفْرِهِمْ إِذَا آمَنُوا وَأَطَاعُوا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصحبه أجمعين.

سورة القيامة

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة القيامة أربعون آية مكية [سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِي لَفْظَةِ (لَا) فِي قَوْلِهِ: لَا أُقْسِمُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا صِلَةٌ زَائِدَةٌ وَالْمَعْنَى أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَنَظِيرُهُ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الْحَدِيدِ: 29] وقوله: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: 12] فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 159] وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّ تَجْوِيزَ هَذَا يُفْضِي إِلَى الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَجُوزُ جَعْلُ النَّفْيِ إِثْبَاتًا وَالْإِثْبَاتِ نَفْيًا وَتَجْوِيزُهُ يُفْضِي إِلَى أَنْ لَا يَبْقَى الِاعْتِمَادُ عَلَى إِثْبَاتِهِ وَلَا عَلَى نَفْيِهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ إِنَّمَا يُزَادُ فِي وَسَطِ الْكَلَامِ لَا فِي أَوَّلِهِ، فَإِنْ قيل: [فال] كلام عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا إِنَّمَا تُزَادُ فِي وَسَطِ الْكَلَامِ، أَلَا تَرَى إِلَى امْرِئِ الْقَيْسِ كَيْفَ زَادَهَا فِي مُسْتَهَلِّ قَصِيدَتِهِ وَهِيَ قَوْلُهُ: لَا وَأَبِيكِ ابْنَةَ الْعَامِرِيِّ ... لَا يَدَّعِي الْقَوْمُ أَنِّي أَفِرُّ الثَّانِي: هَبْ أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ لَا يُزَادُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ إِلَّا أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ لِاتِّصَالِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ يَذْكُرُ الشَّيْءَ فِي سُورَةٍ ثُمَّ يَجِيءُ جَوَابُهُ في سورة أخرى كقوله تعالى: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحِجْرِ: 6] ثُمَّ جَاءَ جَوَابُهُ فِي سُورَةٍ أُخْرَى وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [الْقَلَمِ: 2] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، كَانَ أَوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ جَارِيًا مَجْرَى وَسَطِ الْكَلَامِ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ قَوْلَهُ لَا وَأَبِيكِ قَسَمٌ عَنِ النَّفْيِ، وَقَوْلَهُ: لَا أُقْسِمُ نَفْيٌ لِلْقَسَمِ، فَتَشْبِيهُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ لَا أُقْسِمُ نَفْيٌ لِلْقَسَمِ، لِأَنَّهُ عَلَى وِزَانِ قَوْلِنَا لَا أَقْتُلُ لَا أَضْرِبُ، لَا أَنْصُرُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ النَّفْيَ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يُقْسِمُ كَانَ الْبِرُّ بِتَرْكِ الْقَسَمِ، وَالْحِنْثُ بِفِعْلِ الْقَسَمِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْبَيْتَ الْمَذْكُورَ، لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْقُرْآنَ كَالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ فِي عَدَمِ التناقض، فإما في أَنْ يُقْرَنَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا قُرِنَ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى فَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ يُلْزِمُ جَوَازَ أَنْ يُقْرَنَ بِكُلِّ إِثْبَاتٍ حَرْفُ النَّفْيِ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي انْقِلَابَ كُلِّ إِثْبَاتٍ نَفْيًا وَانْقِلَابَ كُلِّ نَفْيٍ إِثْبَاتًا، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِنَا: لَا صلة أنه لَغْوٌ بَاطِلٌ، يَجِبُ طَرْحُهُ وَإِسْقَاطُهُ حَتَّى يَنْتَظِمَ الْكَلَامُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَصْفَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ/ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ الثَّانِي:

لِلْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، مَا نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَ، لَأُقْسِمُ عَلَى أَنَّ اللَّامَ لِلِابْتِدَاءِ، وَأُقْسِمُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، مَعْنَاهُ لَأَنَا أُقْسِمُ وَيُعَضِّدُهُ أَنَّهُ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَاتَّفَقُوا فِي قَوْلِهِ، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ عَلَى لَا أُقْسِمُ، قَالَ الْحَسَنُ مَعْنَى الْآيَةِ أَنِّي أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ لِشَرَفِهَا، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ لِخَسَاسَتِهَا، وَطَعَنَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَقَالَ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ هَذَا لَقَالَ: لَأُقْسِمَنَّ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَقُولُ: لَأَفْعَلُ كَذَا، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، إِلَّا أَنَّ الْوَاحِدِيَّ حَكَى جَوَازَ ذَلِكَ عَنْ سِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ شَاذَّةٌ، فَهَبْ أَنَّ هَذَا الشَّاذَّ اسْتَمَرَّ، فَمَا الْوَجْهُ فِي الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ؟ وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِيمَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ، وَأَيْضًا فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ قَسَمٍ آخَرَ لِتَكُونَ هَذِهِ اللَّامُ جَوَابًا عَنْهُ، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَاللَّهِ لَأُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَسَمًا عَلَى قَسَمٍ، وَإِنَّهُ رَكِيكٌ وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى التَّسَلْسُلِ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أن لفظة لا وردت للنفي، ثم هاهنا احْتِمَالَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا وَرَدَتْ نَفْيًا لِكَلَامٍ ذُكِرَ قَبْلَ الْقَسَمِ، كَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ فَقِيلَ: لَا لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ، ثُمَّ قِيلَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّ إِعَادَةَ حَرْفِ النَّفْيِ مَرَّةً أُخْرَى فِي قَوْلِهِ: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرُوهُ تَقْدَحُ فِي فَصَاحَةِ الْكَلَامِ. الاحتمال الثاني: أن لا هاهنا لِنَفْيِ الْقَسَمِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أُقْسِمُ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَتِلْكَ النَّفْسِ وَلَكِنِّي أَسْأَلُكَ غَيْرَ مُقْسِمٍ أَتَحْسَبُ أَنَّا لَا نَجْمَعُ عِظَامَكَ إِذَا تَفَرَّقَتْ بِالْمَوْتِ فَإِنْ كُنْتَ تَحْسَبُ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّا قَادِرُونَ عَلَى أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَيُمْكِنُ تَقْدِيرُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى وُجُوهٍ أُخَرَ أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَا أُقْسِمُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ فَإِنَّ هَذَا الْمَطْلُوبَ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يُقْسَمَ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَعْظِيمَ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَتَفْخِيمَ شَأْنِهِ وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَا أُقْسِمُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ، فَإِنَّ إِثْبَاتَهُ أَظْهَرُ وَأَجْلَى وَأَقْوَى وَأَحْرَى، مِنْ أَنْ يُحَاوِلَ إِثْبَاتَهُ بِمِثْلِ هَذَا الْقَسَمِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [القيامة: 3] أَيْ كَيْفَ خَطَرَ بِبَالِهِ هَذَا الْخَاطِرُ الْفَاسِدُ مَعَ ظُهُورِ فَسَادِهِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْهُ الِاسْتِفْهَامَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَالتَّقْدِيرُ أَلَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. أَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ عَلَى أَنَّ الْحَشْرَ وَالنَّشْرَ حَقٌّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ كُلَّ نَفْسٍ فَإِنَّهَا تَلُومُ نَفْسَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ بَرَّةً أَوْ فاجرة، أما البرة فلأجل أنها لم لَمْ تَزِدْ عَلَى طَاعَتِهَا، وَأَمَّا الْفَاجِرَةُ فَلِأَجْلِ أَنَّهَا لِمَ لَمْ تَشْتَغِلْ بِالتَّقْوَى، وَطَعَنَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلُومَ نَفْسَهُ عَلَى تَرْكِ الزِّيَادَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ مِنْهُ لَوْمُ نَفْسِهِ عَلَى ذَلِكَ لَجَازَ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَلُومَهَا عَلَيْهِ الثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَلُومُ نَفْسَهُ عِنْدَ الضَّجَارَةِ وَضِيقِ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ حَالَ كَوْنِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، وَلِأَنَّ الْمُكَلَّفَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مِقْدَارَ مِنَ/ الطَّاعَةِ إِلَّا وَيُمْكِنُ الْإِتْيَانُ بِمَا هُوَ أَزْيَدُ مِنْهُ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلَّوْمِ لَامْتَنَعَ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ مَطْلُوبَ الْحُصُولِ، وَلَا يُلَامُ عَلَى تَرْكِ تَحْصِيلِهِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْكُلِّ أَنْ يُحْمَلَ اللَّوْمُ عَلَى تَمَنِّي الزِّيَادَةِ، وَحِينَئِذٍ تَسْقُطُ هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ وَثَانِيهَا: أَنَّ النَّفْسَ اللَّوَّامَةَ هِيَ النُّفُوسُ الْمُتَّقِيَةُ الَّتِي تَلُومُ النَّفْسَ الْعَاصِيَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِسَبَبِ أَنَّهَا تَرَكَتِ التَّقْوَى. ثَالِثُهَا: أَنَّهَا هِيَ النُّفُوسُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي لَا تَزَالُ تَلُومُ نَفْسَهَا وَإِنِ اجْتَهَدَتْ فِي الطَّاعَةِ، وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا تَرَاهُ إِلَّا لَائِمًا نَفْسَهُ، وَأَمَّا الْجَاهِلُ فَإِنَّهُ يَكُونُ رَاضِيًا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْأَحْوَالِ الْخَسِيسَةِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا

[سورة القيامة (75) : الآيات 3 إلى 4]

نَفْسُ آدَمَ لَمْ تَزَلْ تَلُومُ عَلَى فِعْلِهَا الَّذِي خَرَجَتْ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ وَخَامِسُهَا: الْمُرَادُ نُفُوسُ الْأَشْقِيَاءِ حِينَ شَاهَدَتْ أَحْوَالَ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالَهَا، فَإِنَّهَا تَلُومُ نَفْسَهَا عَلَى مَا صَدَرَ عَنْهَا مِنَ الْمَعَاصِي، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ [الزُّمَرِ: 56] وَسَادِسُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مَلُولًا، فَأَيَّ شَيْءٍ طَلَبَهُ إِذَا وَجَدَهُ مَلَّهُ، فَحِينَئِذٍ يَلُومُ نَفْسَهُ عَلَى أَنِّي لِمَ طَلَبْتُهُ، فَلِكَثْرَةِ هَذَا الْعَمَلِ سُمِّيَ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [الْمَعَارِجِ: 19- 21] وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ (لَوَّامَةِ) يُنْبِئُ عَنِ التَّكْرَارِ وَالْإِعَادَةِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي لَوَّامٍ وَعَذَّابٍ وَضَرَّارٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ إِشْكَالَاتٍ أَحَدُهَا: مَا الْمُنَاسِبَةُ بَيْنَ الْقِيَامَةِ وَبَيْنَ النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسَمِ؟ وَثَانِيهَا: الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، هُوَ وُقُوعُ الْقِيَامَةِ فَيَصِيرُ حَاصِلُهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِوُقُوعِ الْقِيَامَةِ وَثَالِثُهَا: لِمَ قَالَ: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلَمْ يَقُلْ: وَالْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ فِي سَائِرِ السُّوَرِ، وَالطَّوْرِ وَالذَّارِيَاتِ وَالضُّحَى؟ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ أَحْوَالَ الْقِيَامَةِ عَجِيبَةٌ جِدًّا، ثُمَّ الْمَقْصُودُ مِنْ إِقَامَةِ الْقِيَامَةِ إِظْهَارُ أَحْوَالِ النُّفُوسِ اللَّوَّامَةِ. أَعْنِي سَعَادَتَهَا وَشَقَاوَتَهَا، فَقَدْ حَصَلَ بَيْنَ الْقِيَامَةِ وَالنُّفُوسِ اللَّوَّامَةِ هَذِهِ المناسبة الشدية وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقَسَمَ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى عَجَائِبِ أَحْوَالِ النَّفْسِ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ» وَمِنْ أَحْوَالِهَا الْعَجِيبَةِ، قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] وَقَوْلُهُ: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ إِلَى قَوْلِهِ وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الْأَحْزَابِ: 72] وَقَالَ قَائِلُونَ: الْقَسَمُ وَقَعَ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ عَلَى مَعْنَى التَّعْظِيمِ لَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا أَبَدًا تَسْتَحْقِرُ فِعْلَهَا وَجِدَّهَا وَاجْتِهَادَهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِالْقِيَامَةِ، وَلَمْ يُقْسِمْ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، وَهَذَا عَلَى الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا عَنِ الْحَسَنِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ تَعْظِيمًا لَهَا، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ تَحْقِيرًا لَهَا، لِأَنَّ النَّفْسَ اللَّوَّامَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ كَافِرَةً بِالْقِيَامَةِ مَعَ عِظَمِ أَمْرِهَا، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فَاسِقَةً مُقَصِّرَةً فِي الْعَمَلِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَإِنَّهَا تَكُونُ مُسْتَحْقِرَةً. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ قَالُوا: الْقَسَمُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَسَمٌ بِرَبِّهَا وَخَالِقِهَا فِي الْحَقِيقَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أُقْسِمُ بِرَبِّ الْقِيَامَةِ عَلَى وُقُوعِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: فَجَوَابُهُ أَنَّهُ حَيْثُ أَقْسَمَ قَالَ: وَالطُّورِ [الطور: 1] وَالذَّارِياتِ [الذاريات: 1] وأما هاهنا فَإِنَّهُ نَفَى كَوْنَهُ تَعَالَى مُقْسِمًا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فزال السؤال والله تعالى أعلم. [سورة القيامة (75) : الآيات 3 الى 4] أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي جَوَابِ الْقَسَمِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ مَحْذُوفٌ عَلَى تَقْدِيرِ لَيُبْعَثَنَّ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ، وَثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ: وَقَعَ الْقَسَمُ عَلَى قَوْلِهِ: بَلى قادِرِينَ، وَثَالِثُهَا: وَهُوَ أَقْرَبُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَسَمٍ بَلْ هُوَ نَفْيٌ لِلْقَسَمِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْجَوَابِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَا أُقْسِمُ بِكَذَا وَكَذَا عَلَى شَيْءٍ، وَلَكِنِّي أَسْأَلُكَ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ.

[سورة القيامة (75) : آية 5]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِنْسَانِ إِنْسَانٌ مُعَيَّنٌ، رُوِيَ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ خَتَنَ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، وَهُمَا اللَّذَانِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِيهِمَا: «اللَّهُمَّ اكْفِنِي شَرَّ جَارَيِ السُّوءِ» قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ حَدِّثْنِي عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَتَى يَكُونُ وَكَيْفَ أَمْرُهُ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: لَوْ عَايَنْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَمْ أُصَدِّقْكَ يَا مُحَمَّدُ وَلَمْ أُؤْمِنْ بِكَ كَيْفَ يَجْمَعُ اللَّهُ الْعِظَامَ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية، وقال ابن عباس: يريد الإنسان هاهنا أَبَا جَهْلٍ، وَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ: بَلِ الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْمُكَذِّبُ بِالْبَعْثِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. الْمَسْأَلَةُ الثالثة: قرأ قتادة: أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكَافِرَ ظَنَّ أَنَّ الْعِظَامَ بَعْدَ تَفَرُّقِهَا وَصَيْرُورَتِهَا تُرَابًا واختلاط تلك الأجزاء بغيرها وبعد ما نَسَفَتْهَا الرِّيَاحُ وَطَيَّرَتْهَا فِي أَبَاعِدِ الْأَرْضِ لَا يُمْكِنُ جَمْعُهَا مَرَّةً أُخْرَى وَقَالَ تَعَالَى فِي جَوَابِهِ: بَلى فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ أَوْجَبَتْ مَا بَعْدَ النَّفْيِ وَهُوَ الْجَمْعُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: بَلْ يَجْمَعُهَا، وَفِي قَوْلِهِ: قادِرِينَ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي نَجْمَعُ أَيْ نَجْمَعُ الْعِظَامَ قَادِرِينَ عَلَى تَأْلِيفِهَا جَمِيعِهَا وَإِعَادَتِهَا إِلَى التَّرْكِيبِ الْأَوَّلِ وَهَذَا الْوَجْهُ عِنْدِي فِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ الْحَالَ إِنَّمَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ إِذَا أَمْكَنَ وُقُوعُ ذَلِكَ الْأَمْرِ لَا عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ تَقُولُ: رَأَيْتُ زَيْدًا رَاكِبًا لِأَنَّهُ يمكن أن نرى زيد غير راكب، وهاهنا كَوْنُهُ تَعَالَى جَامِعًا لِلْعِظَامِ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ إِلَّا مَعَ كَوْنِهِ قَادِرًا، فَكَانَ جَعْلُهُ حَالًا جَارِيًا مَجْرَى بَيَانِ الْوَاضِحَاتِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَالثَّانِي: أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ كُنَّا قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ فِي الِابْتِدَاءِ فَوَجَبَ أَنْ نَبْقَى قَادِرِينَ عَلَى تِلْكَ التَّسْوِيَةِ فِي الِانْتِهَاءِ، وَقُرِئَ قَادِرُونَ أَيْ وَنَحْنُ قَادِرُونَ، وَفِي قَوْلِهِ: عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ نَبَّهَ بِالْبَنَانِ عَلَى بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ، أَيْ نَقْدِرُ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ/ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ تُرَابًا كَمَا كَانَ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الشَّيْءِ فِي الِابْتِدَاءِ قَدَرَ أَيْضًا عَلَيْهِ فِي الْإِعَادَةِ وَإِنَّمَا خُصَّ الْبَنَانُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ آخِرُ مَا يَتِمُّ خَلْقُهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: نَقْدِرُ عَلَى ضَمِّ سُلَامَاتِهِ عَلَى صِغَرِهَا وَلَطَافَتِهَا بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ كَمَا كَانَتْ أَوَّلًا مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ وَلَا تَفَاوُتٍ، فَكَيْفَ الْقَوْلُ فِي كِبَارِ الْعِظَامِ وَثَانِيهَا: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ أَيْ نَجْعَلُهَا مَعَ كَفِّهِ صَفِيحَةً مُسْتَوِيَةً لَا شُقُوقَ فِيهَا كَخُفِّ الْبَعِيرِ، فَيُعْدَمُ الِارْتِفَاقُ بِالْأَعْمَالِ اللَّطِيفَةِ كَالْكِتَابَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي يُسْتَعَانُ عَلَيْهَا بِالْأَصَابِعِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ. [سورة القيامة (75) : آية 5] بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: بَلْ يُرِيدُ عَطْفٌ عَلَى أَيَحْسَبُ فَيَجُوزُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا اسْتِفْهَامًا كَأَنَّهُ اسْتَفْهَمَ عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ اسْتَفْهَمَ عَنْ شَيْءٍ آخَرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِيجَابًا كَأَنَّهُ اسْتَفْهَمَ أَوَّلًا ثُمَّ أَتَى بِهَذَا الْإِخْبَارِ ثَانِيًا. وَقَوْلُهُ: لِيَفْجُرَ أَمامَهُ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَيْ لِيَدُومَ عَلَى فُجُورِهِ فِيمَا يَسْتَقْبِلُهُ مِنَ الزَّمَانِ لَا يَنْزِعُ عَنْهُ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: يُقَدِّمُ الذَّنْبَ وَيُؤَخِّرُ التَّوْبَةَ، يَقُولُ: سَوْفَ أَتُوبُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ عَلَى شَرِّ أَحْوَالِهِ وَأَسْوَأِ أَعْمَالِهِ الْقَوْلُ الثَّانِي: لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ، أَيْ لِيَكْذِبَ بِمَا أَمَامَهُ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، لِأَنَّ مَنْ كَذَّبَ حَقًّا كان كاذبا وفاجرا، والدليل عليه قوله: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: 6] فَالْمَعْنَى يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ، أَيْ لِيُكَذِّبَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ أَمَامَهُ، فَهُوَ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ تَكْذِيبًا له. ثم قال تعالى: [سورة القيامة (75) : آية 6] يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6)

[سورة القيامة (75) : الآيات 7 إلى 10]

أَيْ يَسْأَلُ سُؤَالَ مُسْتَنْعِتٍ مُسْتَبْعِدٍ لِقِيَامِ السَّاعَةِ، فِي قَوْلِهِ: أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَنَظِيرُهُ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [يونس: 48] وَاعْلَمْ أَنَّ إِنْكَارَ الْبَعْثِ تَارَةً يَتَوَلَّدُ مِنَ الشُّبْهَةِ وَأُخْرَى مِنَ الشَّهْوَةِ، أَمَّا مِنَ الشُّبْهَةِ فَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [القيامة: 3] وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ هَذَا الْبَدَنُ فَإِذَا مَاتَ تَفَرَّقَتْ أَجْزَاءُ الْبَدَنِ وَاخْتَلَطَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ بِسَائِرِ أَجْزَاءِ التُّرَابِ وَتَفَرَّقَتْ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا فَكَانَ تَمْيِيزُهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهَا مُحَالًا فَكَانَ الْبَعْثُ مُحَالًا، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ سَاقِطَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ هَذَا الْبَدَنُ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ شَيْءٌ مُدَبِّرٌ لِهَذَا الْبَدَنِ فَإِذَا فَسَدَ هَذَا الْبَدَنُ بَقِيَ هُوَ حَيًّا كَمَا كَانَ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى أَيِّ بَدَنٍ شَاءَ وَأَرَادَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَسْقُطُ السُّؤَالُ، وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا لِأَنَّهُ أَقْسَمَ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، ثُمَّ قَالَ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ النَّفْسِ وَالْبَدَنِ الثَّانِي: إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ هَذَا الْبَدَنُ فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ بَعْدَ تَفْرِيقِ أَجْزَائِهِ لَا يُمْكِنُ جَمْعُهُ مَرَّةً أُخْرَى وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ فَيَكُونُ عَالِمًا بِالْجُزْءِ الَّذِي هُوَ بَدَنُ عَمْرٍو، وَهُوَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ وَذَلِكَ التَّرْكِيبُ مِنَ/ الْمُمْكِنَاتِ وَإِلَّا لَمَا وُجِدَ أَوَّلًا، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَرْكِيبِهَا. وَمَتَى ثَبَتَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ لَا يَبْقَى فِي الْمَسْأَلَةِ إِشْكَالٌ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ إِنْكَارُ مَنْ أَنْكَرَ الْمَعَادَ بِنَاءً عَلَى الشَّهْوَةِ فَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ [القيامة: 5] وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي يَمِيلُ طَبْعُهُ إِلَى الِاسْتِرْسَالِ فِي الشَّهَوَاتِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنَ اللَّذَّاتِ لَا يَكَادُ يُقِرُّ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَبَعْثِ الْأَمْوَاتِ لِئَلَّا تَتَنَغَّصَ عَلَيْهِ اللَّذَّاتُ الْجُسْمَانِيَّةُ فَيَكُونُ أَبَدًا مُنْكِرًا لذلك قائلا على سبيل الهزء والسخرية أيان يوم القيامة. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: [سورة القيامة (75) : الآيات 7 الى 10] فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) [قوله تعالى فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ] وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أُمُورًا ثَلَاثَةً أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ قُرِئَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا، قَالَ الْأَخْفَشُ: الْمَكْسُورَةُ فِي كَلَامِهِمْ أَكْثَرُ وَالْمَفْتُوحَةُ لُغَةٌ أَيْضًا، قَالَ الزَّجَّاجُ: بَرِقَ بَصَرُهُ بِكَسْرِ الرَّاءِ يَبْرُقُ بَرْقًا إِذَا تَحَيَّرَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُكْثِرَ الْإِنْسَانُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى لَمَعَانِ الْبَرْقِ، فَيُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي نَاظِرِهِ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ حَيْرَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَظَرٌ إِلَى الْبَرْقِ، كَمَا قَالُوا: قَمِرَ بَصَرُهُ إِذَا فَسَدَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْقَمَرِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ فِي الْحَيْرَةِ، وَكَذَلِكَ بَعِلَ الرَّجُلُ فِي أَمْرِهِ، أَيْ تَحَيَّرَ وَدَهِشَ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: بَعَلَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا فَاجَأَهَا زَوْجُهَا، فَنَظَرَتْ إِلَيْهِ وَتَحَيَّرَتْ، وَأَمَّا بَرَقَ بِفَتْحِ الرَّاءِ، فَهُوَ مِنَ الْبَرِيقِ، أَيْ لَمَعَ مِنْ شِدَّةِ شُخُوصِهِ، وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ بلق بمعنى انفتح، وانفتح يُقَالُ: بَلَقَ الْبَابُ وَأَبْلَقْتُهُ وَبَلَقْتُهُ فَتَحْتُهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ مَتَى تَحْصُلُ؟ فَقِيلَ: عِنْدَ الْمَوْتِ، وَقِيلَ: عِنْدَ الْبَعْثِ وَقِيلَ: عِنْدَ رُؤْيَةِ جَهَنَّمَ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا يَكُونُ عِنْدَ الْمَوْتِ، قَالَ: إِنَّ الْبَصَرَ يَبْرُقُ عَلَى مَعْنَى يَشْخَصُ عِنْدَ مُعَايَنَةِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ، وَالْمَلَائِكَةِ كَمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ إِذَا قَرُبَ مَوْتُهُ، وَمَنْ مَالَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، قَالَ: إِنَّهُمْ إِنَّمَا سَأَلُوهُ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَكِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْحَادِثَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالسَّبَبُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُنْكِرَ لَمَّا قَالَ: أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: 6] عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ فَقِيلَ لَهُ: إِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَقَرُبَ الْمَوْتُ زَالَتْ عَنْهُ الشُّكُوكُ، وَتَيَقَّنَ حِينَئِذٍ أَنَّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ خَطَأٌ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا قَرُبَ مَوْتُهُ وَبَرِقَ بَصَرُهُ تَيَقَّنَ أَنَّ إِنْكَارَ الْبَعْثِ لِأَجْلِ طَلَبِ اللَّذَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَانَ بَاطِلًا، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ، قَالَ: لِأَنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا كَانَ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ الْجَوَابُ بِمَا يَكُونُ مِنْ خَوَاصِّهِ/ وَآثَارِهِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إِبْرَاهِيمَ: 41] ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ خُسُوفِ الْقَمَرِ ذَهَابَ ضَوْئِهِ كَمَا نَعْقِلُهُ مِنْ حَالِهِ إِذَا خَسَفَ فِي الدُّنْيَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ذَهَابَهُ بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ [الْقَصَصِ: 81] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: وَخَسَفَ الْقَمَرُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْجَمْعِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ [يس: 40] فَإِذَا جَاءَ وَقْتُ الْقِيَامَةِ أَدْرَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَاجْتَمَعَا وَثَانِيهَا: جُمِعَا فِي ذَهَابِ الضَّوْءِ، فَهُوَ كَمَا يُقَالُ: الشَّافِعِيُّ يَجْمَعُ ما بين كذا وكذا في حكم كذاو ثالثها: يُجْمَعَانِ أَسْوَدَيْنِ مُكَوَّرَيْنِ كَأَنَّهُمَا ثَوْرَانِ عَقِيرَانِ فِي النَّارِ، وَقِيلَ: يُجْمَعَانِ ثُمَّ يُقْذَفَانِ فِي الْبَحْرِ، فَهُنَاكَ نَارُ اللَّهِ الْكُبْرَى وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي قَوْلِهِ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إِنَّمَا تَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَجْعَلُ بَرْقَ الْبَصَرِ مِنْ عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ، فَأَمَّا مَنْ يَجْعَلُ بَرْقَ الْبَصَرِ مِنْ عَلَامَاتِ الْمَوْتِ قَالَ مَعْنَى: وَخَسَفَ الْقَمَرُ أَيْ ذَهَبَ ضَوْءُ الْبَصَرِ عِنْدَ الْمَوْتِ، يُقَالُ عَيْنٌ خَاسِفَةٌ، إِذَا فُقِئَتْ حَتَّى غَابَتْ حَدَقَتُهَا فِي الرَّأْسِ، وَأَصْلُهَا مِنْ خَسَفَتِ الْأَرْضُ إِذَا سَاخَتْ بِمَا عَلَيْهَا، وَقَوْلُهُ: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ كِنَايَةٌ عَنْ ذَهَابِ الرُّوحِ إِلَى عَالَمِ الْآخِرَةِ، كَأَنَّ الْآخِرَةَ كَالشَّمْسِ، فَإِنَّهُ يَظْهَرُ فِيهَا الْمُغَيَّبَاتُ وَتَتَّضِحُ فِيهَا الْمُبْهَمَاتُ، وَالرُّوحُ كَالْقَمَرِ فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ الْقَمَرَ يَقْبَلُ النُّورَ مِنَ الشَّمْسِ، فَكَذَا الرُّوحُ تَقْبَلُ نُورَ الْمَعَارِفِ مِنْ عَالَمِ الْآخِرَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِعَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهَا بِعَلَامَاتِ الْمَوْتِ وَأَشَدُّ مُطَابَقَةً لَهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا قَالَ جَمَعَ، وَلَمْ يَقُلْ: جُمِعَتْ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ جُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي زَوَالِ النُّورِ وَذَهَابِ الضَّوْءِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ، الْمَعْنَى جُمِعَ النُّورَانِ أَوِ الضِّيَاءَانِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، الْقَمَرُ شَارَكَ الشَّمْسَ فِي الْجَمْعِ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ، فَلَا جَرَمَ غَلَبَ جَانِبُ التَّذْكِيرِ فِي اللَّفْظِ، قَالَ الْفَرَّاءُ، قُلْتُ: لِمَنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ: كَيْفَ تَقُولُونَ: الشَّمْسُ جُمِعَ وَالْقَمَرُ؟ فَقَالُوا: جُمِعَتْ، فَقُلْتُ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ؟ فَرَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: طَعَنَتِ الْمَلَاحِدَةُ فِي الْآيَةِ، وَقَالُوا: خُسُوفُ الْقَمَرِ لَا يَحْصُلُ حَالَ اجْتِمَاعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْجَوَابُ: اللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الْقَمَرَ مُنْخَسِفًا، سَوَاءٌ كَانَتِ الْأَرْضُ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّمْسِ، أو لم

[سورة القيامة (75) : آية 11]

تَكُنْ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ، فَيَصِحُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَا يَصِحُّ عَلَى الْآخَرِ، وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى إِزَالَةِ الضَّوْءِ عَنِ الْقَمَرِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ أَيْ يَقُولُ هَذَا الْإِنْسَانُ الْمُنْكِرُ لِلْقِيَامَةِ إِذَا/ عَايَنَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ أَيْنَ الْمَفَرُّ، وَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَقُرِئَ أَيْضًا بِكَسْرِ الْفَاءِ، وَالْمَفَرُّ بِفَتْحِ الْفَاءِ هُوَ الْفِرَارُ، قَالَ الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ: الْمَصْدَرُ مِنْ فَعَلَ يَفْعَلُ مَفْتُوحَ الْعَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَالْمَعْنَى أَيْنَ الْفِرَارُ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ: أَيْنَ الْفِرَارُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَرَى عَلَامَاتِ مُكْنَةِ الْفِرَارِ فَيَقُولُ حِينَئِذٍ: أَيْنَ الْفِرَارُ، كَمَا إِذَا أَيَسَ مِنْ وِجْدَانِ زَيْدٍ يَقُولُ: أَيْنَ زِيدٌ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِلَى أَيْنَ الْفِرَارُ، وَأَمَّا الْمَفِرُّ بِكَسْرِ الْفَاءِ فَهُوَ الْمَوْضِعُ، فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْمَفَرَّ بِفَتْحِ الْفَاءِ كَمَا يَكُونُ اسْمًا لِلْمَصْدَرِ، فَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا اسْمًا لِلْمَوْضِعِ وَالْمَفِرُّ بِكَسْرِ الْفَاءِ كَمَا يَكُونُ اسْمًا لِلْمَوْضِعِ، فَقَدْ يَكُونُ مَصْدَرًا وَنَظِيرُهُ المرجع. [سورة القيامة (75) : آية 11] كَلاَّ لا وَزَرَ (11) قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا وَهُوَ رَدْعٌ عَنْ طَلَبِ الْمَفَرِّ لَا وَزَرَ قَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: أَصْلُ الْوَزَرِ الْجَبَلُ الْمَنِيعُ، ثُمَّ يُقَالُ: لِكُلِّ مَا الْتَجَأْتَ إِلَيْهِ وَتَحَصَّنْتَ بِهِ وَزَرٌ، وَأَنْشَدَ الْمُبَرِّدُ قَوْلَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: النَّاسُ آلَتْ عَلَيْنَا فِيكَ لَيْسَ لَنَا ... إِلَّا السُّيُوفَ وَأَطْرَافَ الْقَنَا وَزَرُ وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ يُعْتَصَمُ بِهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: [سورة القيامة (75) : آية 12] إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَقَرُّ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَسْتَقِرُّوا إِلَى غَيْرِهِ، وَيَنْصَبُّوا إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا قَالَ: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى [العلق: 8] وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [النور: 42] أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشُّورَى: 53] وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النَّجْمِ: 12] الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِلَى رَبِّكَ مُسْتَقَرُّهُمْ، أَيْ مَوْضِعُ قَرَارِهِمْ مِنْ جَنَّةٍ أَوْ نَارٍ، أَيْ مُفَوَّضُ ذَلِكَ إِلَى مَشِيئَتِهِ مَنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ شاء أدخله النار. [سورة القيامة (75) : آية 13] يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بِمَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلٍ عَمِلَهُ، وَبِمَا أَخَّرَ مِنْ عَمَلٍ لَمْ يَعْمَلْهُ، أَوْ بِمَا قَدَّمَ مِنْ مَالِهِ فَتَصَدَّقَ بِهِ وَبِمَا أَخَّرَهُ فَخَلَّفَهُ، أَوْ بِمَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَبِمَا أَخَّرَ مِنْ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ مُفَسَّرٌ بِأَوَّلِ الْعَمَلِ وَآخِرِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [الْمُجَادَلَةِ: 6] وَقَالَ: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ [يس: 12] وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ هَذَا الْإِنْبَاءَ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ الْعَرْضِ، وَالْمُحَاسَبَةِ وَوَزْنِ الْأَعْمَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ بُيِّنَ لَهُ مَقْعَدُهُ من الجنة والنار. [سورة القيامة (75) : آية 14] بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)

[سورة القيامة (75) : آية 15]

اعلم أنه تعالى لما قال: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِأَعْمَالِهِ، قَالَ: بَلْ لَا يَحْتَاجُ إلى أن ينبئه غير غَيْرُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْسَهُ شَاهِدَةٌ بِكَوْنِهِ فَاعِلًا لِتِلْكَ الْأَفْعَالِ، مُقْدِمًا عَلَيْهَا، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: بَصِيرَةٌ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَخْفَشُ جَعَلَهُ فِي نَفْسِهِ بَصِيرَةً كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ جُودٌ وَكَرَمٌ، فَهَهُنَا/ أَيْضًا كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بِضَرُورَةِ عَقْلِهِ يَعْلَمُ أَنَّ مَا يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ وَيَشْغَلُهُ بِطَاعَتِهِ وَخِدْمَتِهِ فَهُوَ السَّعَادَةُ، وَمَا يُبْعِدُهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَيَشْغَلُهُ بِالدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا فَهُوَ الشَّقَاوَةُ، فَهَبْ أَنَّهُ بِلِسَانِهِ يُرَوِّجُ وَيُزَوِّرُ وَيَرَى الْحَقَّ فِي صُورَةِ الْبَاطِلِ وَالْبَاطِلَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ، لَكِنَّهُ بِعَقْلِهِ السَّلِيمِ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِهِ جَيِّدٌ أَوْ رَدِيءٌ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ جَوَارِحُهُ تَشْهَدُ عَلَيْهِ بِمَا عَمِلَ فَهُوَ شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ بِشَهَادَةِ جَوَارِحِهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٍ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ [النُّورِ: 24] وَقَوْلِهِ: وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ [يس: 36] وَقَوْلِهِ: شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ [فُصِّلَتْ: 20] فَأَمَّا تَأْنِيثُ الْبَصِيرَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لأن المراد بالإنسان هاهنا الْجَوَارِحُ كَأَنَّهُ قِيلَ: بَلْ جَوَارِحُ الْإِنْسَانِ، كَأَنَّهُ قِيلَ بَلْ جَوَارِحُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِ الْإِنْسَانِ بَصِيرَةٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ هَذِهِ الْهَاءُ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِ: رَجُلٌ رَاوِيَةٌ وَطَاغِيَةٌ وَعَلَّامَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يُخْبَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا عَمِلَ، فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ هَذَا يَكُونُ مِنَ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ مَا عَمِلُوا فَيَخْتِمُ اللَّهُ على أفواههم وينطق جوارحهم. [سورة القيامة (75) : آية 15] وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمَعَاذِيرُ جَمْعُ مَعْذِرَةٍ يُقَالُ: مَعْذِرَةٌ وَمَعَاذِرُ وَمَعَاذِيرُ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : جَمْعُ الْمَعْذِرَةِ مَعَاذِرُ وَالْمَعَاذِيرُ لَيْسَ جَمْعَ مَعْذِرَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَهَا، وَنَحْوُهُ الْمَنَاكِيرُ فِي الْمُنْكَرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنِ اعْتَذَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَجَادَلَ عَنْهَا وَأَتَى بِكُلِّ عُذْرٍ وَحُجَّةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ الْمَعَاذِيرُ السُّتُورُ، وَاحِدُهَا مِعْذَارٌ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: هِيَ لُغَةٌ يَمَانِيَّةٌ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَذَاكَ مَجَازٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ السِّتْرَ يَمْنَعُ رُؤْيَةَ الْمُحْتَجِبِ كَمَا تَمْنَعُ الْمَعْذِرَةُ عُقُوبَةَ الذَّنْبِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّهُ وَإِنْ أَسْبَلَ السِّتْرَ لِيُخْفِيَ مَا يَعْمَلُ، فإن نفسه شاهدة عليه. [سورة القيامة (75) : آية 16] لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: زَعَمَ قَوْمٌ مِنْ قُدَمَاءِ الرَّوَافِضِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ قَدْ غُيِّرَ وَبُدِّلَ وَزِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ عَنْهُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَلَوْ كَانَ هَذَا التَّرْتِيبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي بَيَانِ الْمُنَاسِبَةِ وُجُوهًا أَوَّلُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِعْجَالُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، إِنَّمَا اتَّفَقَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ إِنْزَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَيْهِ، فَلَا جَرَمَ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ الِاسْتِعْجَالِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَقِيلَ لَهُ: لَا تَحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمُدَرِّسَ إِذَا كَانَ يُلْقِي عَلَى تِلْمِيذِهِ/ شَيْئًا، فَأَخَذَ التِّلْمِيذُ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَقُولُ: الْمُدَرِّسُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ الدَّرْسِ لَا تَلْتَفِتْ يَمِينًا وَشِمَالًا ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الدَّرْسِ، فَإِذَا نَقَلَ ذَلِكَ الدرس مع

هَذَا الْكَلَامِ فِي أَثْنَائِهِ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ السَّبَبَ يَقُولُ: إِنَّ وُقُوعَ تِلْكَ الْكَلِمَةِ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ الدَّرْسِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ، لَكِنَّ مَنْ عَرَفَ الْوَاقِعَةَ عَلِمَ أَنَّهُ حَسُنَ التَّرْتِيبُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى نَقَلَ عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ السَّعَادَةَ الْعَاجِلَةَ، وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ [القيامة: 5] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ التَّعْجِيلَ مَذْمُومٌ مُطْلَقًا حَتَّى التَّعْجِيلَ فِي أُمُورِ الدِّينِ، فَقَالَ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ وَقَالَ فِي آخِرِ الآية: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ [القيامة: 20] ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ [القيامة: 14، 15] فَهَهُنَا كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُظْهِرُ التَّعْجِيلَ فِي الْقِرَاءَةِ مَعَ جِبْرِيلَ، وَكَانَ يَجْعَلُ الْعُذْرَ فِيهِ خَوْفَ النِّسْيَانِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ إِذَا أَتَيْتَ بِهَذَا الْعُذْرِ لَكِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْحِفْظَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَإِعَانَتِهِ فَاتْرُكْ هَذَا التَّعْجِيلَ وَاعْتَمِدْ عَلَى هِدَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [القيامة: 16، 17] وَرَابِعُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ غَرَضَكَ مِنْ هَذَا التَّعْجِيلِ أَنْ تَحْفَظَهُ وَتُبَلِّغَهُ إِلَيْهِمْ لَكِنْ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَهُمْ بِقُلُوبِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ مُنْكَرٌ بَاطِلٌ، فَإِذَا كَانَ غَرَضُكَ مِنْ هَذَا التَّعْجِيلِ أَنْ تُعَرِّفَهُمْ قُبْحَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ حَاصِلَةٌ عِنْدَهُمْ، فَحِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ لِهَذَا التَّعْجِيلِ فَائِدَةٌ، فَلَا جَرَمَ قَالَ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكَافِرِ أَنَّهُ يَقُولُ: أَيْنَ الْمَفَرُّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَلَّا لَا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [القيامة: 11، 12] فَالْكَافِرُ كَأَنَّهُ كَانَ يَفِرُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى غَيْرِهِ فَقِيلَ: لِمُحَمَّدٍ إِنَّكَ فِي طَلَبِ حِفْظِ الْقُرْآنِ، تَسْتَعِينُ بِالتَّكْرَارِ وَهَذَا اسْتِعَانَةٌ مِنْكَ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَاتْرُكْ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، وَاسْتَعِنْ فِي هَذَا الْأَمْرِ بِاللَّهِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الْكَافِرَ يَفِرُّ مِنَ اللَّهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا أَنْتَ فَكُنْ كَالْمُضَادِّ لَهُ فَيَجِبُ أَنْ تَفِرَّ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ وَأَنْ تَسْتَعِينَ فِي كُلِّ الْأُمُورِ بِاللَّهِ، حَتَّى يَحْصُلَ لَكَ الْمَقْصُودُ عَلَى مَا قَالَ: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [القيامة: 17] وَقَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] أَيْ لَا تَسْتَعِنْ فِي طَلَبِ الْحِفْظِ بِالتَّكْرَارِ بَلِ اطْلُبْهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَسَادِسُهَا: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لَيْسَ خِطَابًا مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلْ هُوَ خطاب مع الإنسان المذكور في قوله: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة: 13] فَكَانَ ذَلِكَ لِلْإِنْسَانِ حَالَ مَا يُنَبَّأُ بِقَبَائِحِ أَفْعَالِهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كِتَابُهُ فَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الْإِسْرَاءِ: 14] فَإِذَا أَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ تَلَجْلَجَ لِسَانُهُ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَسُرْعَةِ الْقِرَاءَةِ فَيُقَالُ لَهُ لَا تَحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا بِحُكْمِ الْوَعْدِ أَوْ بِحُكْمِ الْحِكْمَةِ أَنْ نَجْمَعَ أَعْمَالَكَ عَلَيْكَ وَأَنْ نَقْرَأَهَا عَلَيْكَ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ عَلَيْكَ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ بِالْإِقْرَارِ بِأَنَّكَ فَعَلْتَ تِلْكَ الْأَفْعَالَ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَ أَمْرِهِ وَشَرْحَ مَرَاتِبِ عُقُوبَتِهِ، وَحَاصِلُ الْأَمْرِ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَقْرَأُ عَلَى الْكَافِرِ جَمِيعَ أَعْمَالِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَفِيهِ أَشَدُّ الْوَعِيدِ فِي الدُّنْيَا وَأَشَدُّ التَّهْوِيلِ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ الْقَفَّالُ: فَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يَدْفَعُهُ وَإِنْ كَانَتِ الْآثَارُ غَيْرَ وَارِدَةٍ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ مَنْ جَوَّزَ الذَّنْبِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ الِاسْتِعْجَالَ إِنْ كَانَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ نَهَاهُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ لَا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ صَدَرَ الذَّنْبُ عَنْهُ الْجَوَابُ: لَعَلَّ ذَلِكَ الِاسْتِعْجَالَ كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ إِلَى وَقْتِ النَّهْيِ عَنْهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَأْذُونًا فِيهِ فِي وَقْتٍ ثُمَّ يَصِيرُ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قُلْنَا: يَجُوزُ النَّسْخُ.

[سورة القيامة (75) : آية 17]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ حِفْظُ التَّنْزِيلِ وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يُحَرِّكُ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ قَبْلَ فَرَاغِ جِبْرِيلَ مَخَافَةَ أَنْ لَا يَحْفَظَ، فَأَنْزَلَ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ أَيْ بِالْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا جَازَ هَذَا الْإِضْمَارُ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ، كَمَا أُضْمِرَ فِي قَوْلُهُ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: 1] وَنَظِيرُ قَوْلُهُ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه: 114] وَقَوْلِهِ: لِتَعْجَلَ بِهِ أَيْ لتعجل بأخذه. أما قوله تعالى: [سورة القيامة (75) : آية 17] إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَلِمَةُ عَلَى لِلْوُجُوبِ فَقَوْلُهُ: إِنَّ عَلَيْنا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَالْوَاجِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا فَذَلِكَ الْوُجُوبُ بِحُكْمِ الْوَعْدِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَعْثَةِ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَ الْوَحْيُ مَحْفُوظًا مُبَرَّأً عَنِ النِّسْيَانِ، فَكَانَ ذَلِكَ واجبا نظرا إلى الحكمة. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ مَعْنَاهُ عَلَيْنَا جَمْعُهُ فِي صَدْرِكَ وَحِفْظِكَ، وَقَوْلُهُ: وَقُرْآنَهُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْقُرْآنِ الْقِرَاءَةُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ احْتِمَالَانِ أَحَدُهُمَا: أن يكون المزاد جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، سَيُعِيدُهُ عَلَيْكَ حَتَّى تَحْفَظَهُ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنَّا سَنُقْرِئُكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَى أَنْ تَصِيرَ بِحَيْثُ لَا تَنْسَاهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الْأَعْلَى: 6] فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْقَارِئُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي الْقَارِئُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْقُرْآنِ الْجَمْعَ وَالتَّأْلِيفَ، مِنْ قولهم: ما قرأت الناقة سلاقط، أَيْ مَا جَمَعَتْ، وَبِنْتُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْقُرْءِ، فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الْجَمْعُ وَالْقُرْآنُ وَاحِدًا فَيَلْزَمُ التَّكْرَارُ، قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْجَمْعِ جَمْعَهُ في نفسه وجوده الْخَارِجِيَّ، وَمِنَ الْقُرْآنِ جَمْعَهُ فِي ذِهْنِهِ وَحِفْظَهُ، وحينئذ يندفع التكرار. [سورة القيامة (75) : آية 18] فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: جَعَلَ قِرَاءَةَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قِرَاءَتَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الشَّرَفِ الْعَظِيمِ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنَظِيرُهُ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النِّسَاءِ: 80] . المسألة الثالثة: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ فَإِذَا قَرَأَهُ جِبْرِيلُ فاتبع وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ قَتَادَةُ: فَاتَّبِعْ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ وَالثَّانِي: فَاتَّبِعْ قِرَاءَتَهُ، أَيْ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتُكَ مُقَارِنَةً لِقِرَاءَةِ جِبْرِيلَ، لَكِنْ يَجِبُ أَنْ تَسْكُتَ حَتَّى يُتِمَّ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْقِرَاءَةَ، فَإِذَا سَكَتَ جِبْرِيلُ فَخُذْ أَنْتَ فِي الْقِرَاءَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْلَى لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ أَنْ يَدَعَ الْقِرَاءَةَ وَيَسْتَمِعَ مِنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مَا فِيهِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ أَطْرَقَ واستمع فإذا ذهب قرأه.

[سورة القيامة (75) : آية 19]

[سورة القيامة (75) : آية 19] ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقْرَأُ مَعَ قِرَاءَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ يَسْأَلُ فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَتِهِ مُشْكِلَاتِهِ، وَمَعَانِيَهُ لِغَايَةِ حِرْصِهِ عَلَى الْعِلْمِ، فَنُهِيَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، أَمَّا عَنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ قِرَاءَةِ جِبْرِيلَ فَبِقَوْلِهِ: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة: 18] وَأَمَّا عَنْ إِلْقَاءِ الْأَسْئِلَةِ فِي الْبَيَانِ فَبِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ مَنْ جَوَّزَ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَأَجَابَ أَبُو الْحُسَيْنِ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ الثَّانِي: أَنَّ عِنْدَنَا الْوَاجِبَ أَنْ يُقْرَنَ بِاللَّفْظِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ اللَّفْظِ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ، فَأَمَّا الْبَيَانُ التَّفْصِيلِيُّ فَيَجُوزُ تَأْخِيرُهُ فَتُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَى تَأْخِيرِ الْبَيَانِ التَّفْصِيلِيِّ، وَذَكَرَ الْقَفَّالُ وَجْهًا ثَالِثًا: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أَيْ ثُمَّ إِنَّا نُخْبِرُكَ بِأَنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُّ رَقَبَةٍ إِلَى قَوْلِهِ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَدِ: 13- 17] وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ بَلْ يَقْتَضِي تَأْخِيرَ وُجُوبِ الْبَيَانِ، وَعِنْدَنَا الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ وُجُوبَ الْبَيَانِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ دَخَلَتْ مُطْلَقَ الْبَيَانِ فَيَتَنَاوَلُ الْبَيَانَ الْمُجْمَلَ وَالْمُفَصَّلَ، وَأَمَّا سُؤَالُ الْقَفَّالِ فَضَعِيفٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَيَانَ الْمُجْمَلِ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَمَّا عِنْدَنَا فَبِالْوَعْدِ وَالتَّفَضُّلِ. وَأَمَّا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فبالحكمة. [سورة القيامة (75) : الآيات 20 الى 21] كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : كَلَّا رَدْعٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَادَةِ الْعَجَلَةَ وَحَثٌّ عَلَى الْأَنَاةِ وَالتُّؤَدَةِ، وَقَدْ بَالَغَ فِي ذَلِكَ بِإِتْبَاعِهِ قَوْلَهُ: بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ كَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَا بَنِي آدَمَ لِأَنَّكُمْ خُلِقْتُمْ مِنْ عَجَلٍ وَطُبِعْتُمْ عَلَيْهِ تَعْجَلُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْ ثَمَّ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ/ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ، وَقَالَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ: كَلَّا مَعْنَاهُ حَقًّا أَيْ حَقًّا تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُوَنَ الْآخِرَةَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ الدُّنْيَا وَيَعْمَلُونَ لَهَا وَيَتْرُكُونَ الْآخِرَةَ وَيُعْرِضُونَ عَنْهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قرئ تحبون وتذرون بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْقُرْآنُ إِذَا نَزَلَ تَعْرِيفًا لِحَالِ قَوْمٍ، فَتَارَةً يَنْزِلُ عَلَى سَبِيلِ الْمُخَاطَبَةِ لَهُمْ. وَتَارَةً يَنْزِلُ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَايَبَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يُونُسَ: 22] الثَّانِي: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْيَاءُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ [القيامة: 3] وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْكَثْرَةُ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً [الْمَعَارِجِ: 19] وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ وَيَذَرُونَ، وَالتَّاءُ على قل لهم: بل تحبون وتذرون.

[سورة القيامة (75) : آية 22]

[سورة القيامة (75) : آية 22] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) قَالَ اللَّيْثُ: نَضَرَ اللَّوْنُ وَالشَّجَرُ وَالْوَرَقُ يَنْضُرُ نَضْرَةً، وَالنَّضْرَةُ النِّعْمَةُ، وَالنَّاضِرُ النَّاعِمُ، وَالنَّضِرُ الْحَسَنُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلَّوْنِ إِذَا كَانَ مُشْرِقًا: نَاضِرٌ، فَيُقَالُ: أَخْضَرُ نَاضِرٌ، وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَلْوَانِ، وَمَعْنَاهُ الَّذِي يَكُونُ لَهُ بَرْقٌ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ: شَجَرٌ نَاضِرٌ، وَرَوْضٌ نَاضِرٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَضَرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا» الْحَدِيثَ. أَكْثَرُ الرُّوَاةِ رَوَاهُ بِالتَّخْفِيفِ، وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ فِيهِ التَّشْدِيدَ، وَأَلْفَاظُ الْمُفَسِّرِينَ مُخْتَلِفَةٌ فِي تَفْسِيرِ النَّاضِرِ، وَمَعْنَاهَا وَاحِدٌ قَالُوا: مَسْرُورَةٌ، نَاعِمَةٌ، مضيئة، مسفرة، مُشْرِقَةٌ بَهِجَةٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: نَضَرَتْ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ، كَمَا قَالَ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: 24] . [سورة القيامة (75) : آية 23] إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ السُّنَّةِ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَمَّا المعتزلة فلهم هاهنا مَقَامَانِ أَحَدُهُمَا: بَيَانُ أَنَّ ظَاهِرَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّانِي: بَيَانُ التَّأْوِيلِ. أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَقَالُوا: النَّظَرُ الْمَقْرُونُ بِحَرْفِ إِلَى لَيْسَ اسْمًا لِلرُّؤْيَةِ، بَلْ لِمُقَدِّمَةِ الرُّؤْيَةِ وهي تقليب الحدقة نحو المرئي التماس لِرُؤْيَتِهِ، وَنَظَرُ الْعَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرُّؤْيَةِ كَنَظَرِ الْقَلْبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعْرِفَةِ، وَكَالْإِصْغَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّمَاعِ، فَكَمَا أَنَّ نَظَرَ الْقَلْبِ مُقَدِّمَةٌ لِلْمَعْرِفَةِ، وَالْإِصْغَاءَ مُقَدِّمَةٌ لِلسَّمَاعِ، فَكَذَا نَظَرُ الْعَيْنِ مُقَدِّمَةٌ لِلرُّؤْيَةِ، قَالُوا: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ لَيْسَ اسْمًا لِلرُّؤْيَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ [الْأَعْرَافِ: 198] أَثْبَتَ النَّظَرَ حَالَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ غَيْرُ الرُّؤْيَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ النَّظَرَ يُوصَفُ بِمَا لَا تُوصَفُ بِهِ الرُّؤْيَةُ، يُقَالُ: نَظَرَ إِلَيْهِ نَظَرًا شَزَرًا، وَنَظَرَ غَضْبَانَ، وَنَظَرَ رَاضٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّ حَرَكَةَ الْحَدَقَةِ تَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَلَا تُوصَفُ الرُّؤْيَةُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا يُقَالُ: رَآهُ شَزَرًا، وَرَآهُ رُؤْيَةَ غَضْبَانَ، أَوْ رُؤْيَةَ رَاضٍ الثَّالِثُ: يُقَالُ: انْظُرْ إِلَيْهِ حَتَّى تَرَاهُ، وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ فَرَأَيْتُهُ، وَهَذَا يُفِيدُ كَوْنَ الرُّؤْيَةِ/ غَايَةً لِلنَّظَرِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّظَرِ وَالرُّؤْيَةِ الرَّابِعُ: يقال: دور فُلَانٍ مُتَنَاظِرَةٌ، أَيْ مُتَقَابِلَةٌ، فَمُسَمَّى النَّظَرِ حَاصِلٌ هاهنا، ومسمى الرؤية غير حاصل الخامس: قوله الشَّاعِرِ: وُجُوهٌ نَاظِرَاتٌ يَوْمَ بَدْرٍ ... إِلَى الرَّحْمَنِ تَنْتَظِرُ الْخَلَاصَا أَثْبَتَ النَّظَرَ الْمَقْرُونَ بِحَرْفِ إِلَى مَعَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ مَا كَانَتْ حَاصِلَةً السَّادِسُ: احْتَجَّ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الرُّؤْيَةِ، الَّتِي هِيَ إِدْرَاكُ الْبَصَرِ، بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَقْلِيبِ الْحَدَقَةِ نَحْوَ الْجِهَةِ الَّتِي فِيهَا الشَّيْءُ الَّذِي يُرَادُ رُؤْيَتُهُ، لِقَوْلِ الشَّاعِرِ: فَيَا مَيُّ هَلْ يُجْزِي بكائي بمثله ... مرارا وأنفاسي إليك الزوافر وَإِنِّي مَتَّى أُشْرِفُ عَلَى الْجَانِبِ الَّذِي ... بِهِ أَنْتِ مِنْ بَيْنِ الْجَوَانِبِ نَاظِرَا قَالَ: فَلَوْ كَانَ النَّظَرُ عِبَارَةً عَنِ الرُّؤْيَةِ لَمَا طَلَبَ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُحِبَّ لَمْ يَطْلُبِ الثَّوَابَ عَلَى رُؤْيَةِ الْمَحْبُوبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ مَطَالِبِهِ، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ الْآخَرِ: وَنَظْرَةُ ذِي شَجَنٍ وَامِقٍ ... إِذَا مَا الرَّكَائِبُ جَاوَزْنَ مِيلًا

وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَقْلِيبُ الْحَدَقَةِ نَحْوَ الْجَانِبِ الَّذِي فِيهِ الْمَحْبُوبُ، فَعَلِمْنَا بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ النَّظَرَ الْمَقْرُونَ بِحَرْفِ إِلَى لَيْسَ اسْمًا لِلرُّؤْيَةِ السَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَنْظُرُ إِلَى رَبِّهَا خَاصَّةً وَلَا تَنْظُرُ إِلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا مَعْنَى تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [الْقِيَامَةِ: 12] إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ [الْقِيَامَةِ: 30] أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى: 53] وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 8] وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران: 28] عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [الشُّورَى: 10] كَيْفَ دَلَّ فِيهَا التَّقْدِيمُ عَلَى مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى أَشْيَاءَ لَا يُحِيطُ بِهَا الْحَصْرُ، وَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْعَدَدِ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ نَظَّارَةُ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِأَنَّهُمُ الْآمِنُونَ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ فَلَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ لَيْسَ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، وَدَلَّ الْعَقْلُ عَلَى أَنَّهُمْ يَرَوْنَ غَيْرَ اللَّهِ، عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى اللَّهِ لَيْسَ هُوَ الرُّؤْيَةُ الثَّامِنُ: قَالَ تَعَالَى: وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [آلِ عِمْرَانَ: 77] وَلَوْ قَالَ: لَا يَرَاهُمْ كَفَى «1» ، فَلَمَّا نَفَى النَّظَرَ، وَلَمْ يَنْفِ الرُّؤْيَةَ دَلَّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ، أَنَّ النَّظَرَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ هُوَ الرُّؤْيَةَ. الْمَقَامُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ التَّأْوِيلِ الْمُفَصَّلِ، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ النَّاظِرُ بِمَعْنَى الْمُنْتَظِرِ، أَيْ أُولَئِكَ الْأَقْوَامُ يَنْتَظِرُونَ ثَوَابَ اللَّهِ، وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ، إِنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى فُلَانٍ فِي حَاجَتِي وَالْمُرَادُ أَنْتَظِرُ نَجَاحَهَا مِنْ جِهَتِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النَّمْلِ: 35] وَقَالَ: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [الْبَقَرَةِ: 280] لَا يُقَالُ: النَّظَرُ الْمَقْرُونُ بِحَرْفِ إِلَى غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِي مَعْنَى الِانْتِظَارِ، وَلِأَنَّ الِانْتِظَارَ غَمٌّ وَأَلَمٌ، وَهُوَ لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ السَّعَادَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: النَّظَرُ الْمَقْرُونُ بِحَرْفِ إِلَى قَدْ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ، وَالتَّوَقُّعِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُقَالُ: أَنَا إِلَى فُلَانٍ نَاظِرٌ مَا يَصْنَعُ بِي، وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّوَقُّعُ وَالرَّجَاءُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَإِذَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ مِنْ مَلِكٍ ... وَالْبَحْرُ دُونَكَ زِدْتَنِي نِعَمَا وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ قَوْلَهُمْ فِي الِانْتِظَارِ نَظَرْتُ بِغَيْرِ صِلَةٍ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الِانْتِظَارِ لِمَجِيءِ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُنْتَظِرًا لِرِفْدِهِ وَمَعُونَتِهِ، فَقَدْ يُقَالُ فِيهِ: نَظَرْتُ إِلَيْهِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ، وَإِنَّمَا نَظَرِي إِلَى اللَّهِ ثُمَّ إِلَيْكَ، وَقَدْ يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ لَا يُبْصِرُ، وَيَقُولُ الْأَعْمَى فِي مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى: عَيْنِي شَاخِصَةٌ إِلَيْكَ، ثُمَّ إِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ المراد من (إلى) هاهنا حَرْفُ التَّعَدِّي بَلْ هُوَ وَاحِدُ الْآلَاءِ، وَالْمَعْنَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ نِعْمَةُ رَبِّهَا مُنْتَظِرَةٌ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الِانْتِظَارَ غَمٌّ وَأَلَمٌ، فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُنْتَظِرَ إِذَا كَانَ فِيمَا يَنْتَظِرُهُ عَلَى يَقِينٍ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي أَعْظَمِ اللَّذَّاتِ. التَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنْ يُضْمَرَ الْمُضَافُ، وَالْمَعْنَى إِلَى ثَوَابِ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، قَالُوا: وَإِنَّمَا صِرْنَا إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ السَّمْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى تَمْتَنِعُ رُؤْيَتُهُ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ النَّظَرَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ تَقْلِيبِ الْحَدَقَةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَيْسَ المراد أنه

_ (1) في المطبوعة التي ننقل منها (ولو قال لا يراهم كفر) وهو تحريف واضح.

تَعَالَى يُقَلِّبُ الْحَدَقَةَ إِلَى جَهَنَّمَ فَإِنْ قُلْتُمْ: الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ نَظَرَ الرَّحْمَةِ كَانَ ذَلِكَ جَوَابَنَا عَمَّا قَالُوهُ. التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ أَنَّهَا لَا تَسْأَلُ وَلَا تَرْغَبُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» فَأَهْلُ الْقِيَامَةِ لِشِدَّةِ تَضَرُّعِهِمْ إِلَيْهِ وَانْقِطَاعِ أَطْمَاعِهِمْ عَنْ غَيْرِهِ صَارُوا كَأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ الْجَوَابُ: قَوْلُهُ: لَيْسَ النَّظَرُ عبارة عن الرؤية، قلنا: هاهنا مَقَامَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ تُقِيمَ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ هُوَ الرُّؤْيَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الْأَعْرَافِ: 143] فَلَوْ كَانَ النَّظَرُ عِبَارَةً عَنْ تَقْلِيبِ الْحَدَقَةِ إِلَى جَانِبِ الْمَرْئِيِّ، لَاقْتَضَتِ الْآيَةُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَثْبَتَ لِلَّهِ تَعَالَى وِجْهَةً وَمَكَانًا وَذَلِكَ مُحَالٌ الثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ النَّظَرَ أَمْرًا مُرَتَّبًا عَلَى الْإِرَادَةِ فَيَكُونُ النَّظَرُ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْإِرَادَةِ، وَتَقْلِيبُ الْحَدَقَةِ غَيْرَ مُتَأَخِّرٍ عَنِ الْإِرَادَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ عِبَارَةً عَنْ تَقْلِيبِ الْحَدَقَةِ إِلَى جَانِبِ الْمَرْئِيِّ. الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ، سَلَّمْنَا أَنَّ النَّظَرَ عِبَارَةٌ عَنْ تَقْلِيبِ الْحَدَقَةِ نَحْوَ الْمَرْئِيِّ الْتِمَاسًا لِرُؤْيَتِهِ، لَكِنَّا نَقُولُ: لَمَّا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مُسَبِّبِهِ وَهُوَ الرُّؤْيَةُ، إِطْلَاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ، وَحَمْلُهُ عَلَى الرُّؤْيَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الِانْتِظَارِ، لِأَنَّ تَقْلِيبَ الْحَدَقَةِ كَالسَّبَبِ لِلرُّؤْيَةِ وَلَا تَعَلُّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِانْتِظَارِ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى الرُّؤْيَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الِانْتِظَارِ. أَمَّا قَوْلُهُ: النَّظَرُ جَاءَ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ، قُلْنَا: لَنَا فِي الْجَوَابِ مَقَامَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّظَرَ الْوَارِدَ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُقْرَنِ الْبَتَّةَ بِحَرْفِ إِلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الْحَدِيدِ: 13] وَقَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الْأَعْرَافِ: 53] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَةِ: 210] وَالَّذِي نَدَّعِيهِ أَنَّ النَّظَرَ الْمَقْرُونَ بِحَرْفِ إِلَى الْمُعَدَّى إِلَى الْوُجُوهِ لَيْسَ إِلَّا بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ/ أَوْ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَسْتَعْقِبُ الرُّؤْيَةَ ظَاهِرٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَرِدَ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ: وُجُوهٌ نَاظِرَاتٌ يَوْمَ بَدْرٍ ... إِلَى الرَّحْمَنِ تَنْتَظِرُ الْخَلَاصَا قُلْنَا: هَذَا الشِّعْرُ مَوْضُوعٌ وَالرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ: وُجُوهٌ نَاظِرَاتٌ يَوْمَ بَكْرٍ ... إِلَى الرَّحْمَنِ تَنْتَظِرُ الْخَلَاصَا وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الرَّحْمَنِ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهُ رَحْمَنَ الْيَمَامَةِ، فَأَصْحَابُهُ كَانُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَتَوَقَّعُونَ مِنْهُ التَّخَلُّصَ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَإِذَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ مِنْ مَلِكٍ فَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الِانْتِظَارَ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ الِانْتِظَارِ لَا يَسْتَعْقِبُ الْعَطِيَّةَ بَلِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ، وَإِذَا سَأَلَتُكَ لِأَنَّ النَّظَرَ إِلَى الْإِنْسَانِ مُقَدِّمَةُ الْمُكَالَمَةِ فَجَازَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِهِ، وَقَوْلُهُ: كَلِمَةُ إلى هاهنا لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ حَرْفَ التَّعَدِّي بَلْ وَاحِدُ الْآلَاءِ، قُلْنَا: إِنَّ إِلَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ اسْمًا لِلْمَاهِيَّةِ الَّتِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهَا نِعْمَةٌ، فَعَلَى هَذَا يَكْفِي فِي تَحَقُّقِ مُسَمَّى هَذِهِ اللَّفْظَةِ أَيُّ جُزْءٍ

[سورة القيامة (75) : الآيات 24 إلى 25]

فُرِضَ مِنْ أَجْزَاءِ النِّعْمَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ وَالْحَقَارَةِ، وَأَهْلُ الثَّوَابِ يَكُونُونَ فِي جَمِيعِ مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ فِي النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ الْمُتَكَامِلَةِ، وَمَنْ كَانَ حَالُهُ كَذَلِكَ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَشَّرَ بِأَنَّهُ يَكُونُ فِي تَوَقُّعِ الشَّيْءِ الَّذِي يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ النِّعْمَةِ، وَمِثَالُ هَذَا أَنْ يُبَشِّرَ سُلْطَانُ الْأَرْضِ بِأَنَّهُ سَيَصِيرُ حَالُكَ فِي الْعَظَمَةِ وَالْقُوَّةِ بَعْدَ سَنَةٍ، بِحَيْثُ تَكُونُ مُتَوَقِّعًا لِحُصُولِ اللُّقْمَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْخُبْزِ وَالْقَطْرَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْمَاءِ، وَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ فَاسِدٌ مِنَ الْقَوْلِ: فَكَذَا هَذَا. الْمَقَامُ الثَّانِي: هَبْ أَنَّ النَّظَرَ الْمُعَدَّى بِحَرْفِ إِلَى الْمَقْرُونَ بِالْوُجُوهِ جَاءَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ لَذَّةَ الِانْتِظَارِ مَعَ يَقِينِ الْوُقُوعِ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي الدُّنْيَا، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ فِي الْآخِرَةِ شَيْءٌ أَزْيَدُ مِنْهُ حَتَّى يَحْسُنَ ذِكْرُهُ فِي مَعْرِضِ التَّرْغِيبِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ قُرْبَ الْحُصُولِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ فَبَطَلَ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّأْوِيلِ. وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ إِلَى ثَوَابِ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، فَهَذَا تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّمَا صِرْنَا إِلَيْهِ لِقِيَامِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَرَى، قُلْنَا: بَيَّنَّا فِي الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ ضَعْفَ تِلْكَ الْوُجُوهِ، فَلَا حَاجَةَ هاهنا إلى ذكرها والله أعلم. وقوله تعالى: [سورة القيامة (75) : الآيات 24 الى 25] وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) الْبَاسِرُ: الشَّدِيدُ الْعَبُوسِ وَالْبَاسِلُ أَشَدُّ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ غَلَبَ فِي الشُّجَاعِ إِذَا اشْتَدَّ كُلُوحُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا عَابِسَةٌ كَالِحَةٌ قَدْ/ أَظْلَمَتْ أَلْوَانُهَا وَعَدِمَتْ آثَارُ السُّرُورِ وَالنِّعْمَةِ مِنْهَا، لِمَا أَدْرَكَهَا مِنَ الشَّقَاءِ وَالْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلِمَا سَوَّدَهَا اللَّهُ حِينَ مَيَّزَ اللَّهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ والنار، وقد تقدم تفسير السور عند قوله: عَبَسَ وَبَسَرَ [المدثر: 22] وَإِنَّمَا كَانَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، لِأَنَّهَا قَدْ أَيْقَنَتْ أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ والظن هاهنا بِمَعْنَى الْيَقِينِ، هَكَذَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَعِنْدِي أَنَّ الظن إنما ذكر هاهنا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِذَا شَاهَدُوا تِلْكَ الْأَحْوَالَ، حَصَلَ فِيهِمْ ظَنٌّ أَنَّ الْقِيَامَةَ حَقٌّ، وَأَمَّا الْفَاقِرَةُ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْفَاقِرَةُ الدَّاهِيَةُ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْوَسْمِ الَّذِي يُفْقَرُ بِهِ عَلَى الْأَنْفِ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْفَقْرُ أَنْ يُحَزَّ أَنْفُ الْبَعِيرِ حَتَّى يَخْلُصَ إِلَى الْعَظْمِ، أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ، ثُمَّ يُجْعَلَ فِيهِ خَشَبَةٌ يُجَرُّ الْبَعِيرُ بِهَا، وَمِنْهُ قِيلَ: عَمِلَتْ بِهِ الْفَاقِرَةُ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْفَاقِرَةُ دَاهِيَةٌ تَكْسِرُ الظَّهْرَ، وَأَصْلُهَا مِنَ الْفَقْرَةِ وَالْفَقَارَةِ كَأَنَّ الْفَاقِرَةَ دَاهِيَةٌ تَكْسِرُ فَقَارَ الظَّهْرِ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقَالُ فَقَرْتُ الرَّجُلَ، كَمَا يُقَالُ رَأَسْتُهُ وَبَطَنْتُهُ فَهُوَ مَفْقُورٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ الْفَاقِرَةَ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ فِي النَّارِ، وَفَسَّرَهَا الْكَلْبِيُّ فَقَالَ: الْفَاقِرَةُ هِيَ أَنْ تُحْجَبَ عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهَا ولا تنظر إليه. [سورة القيامة (75) : آية 26] كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا قَالَ الزَّجَّاجُ: كَلَّا رَدْعٌ عَنْ إِيثَارِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَمَّا عَرَفْتُمْ صِفَةَ سَعَادَةِ السُّعَدَاءِ وَشَقَاوَةِ الْأَشْقِيَاءِ فِي الْآخِرَةِ، وَعَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا نِسْبَةَ لَهَا إِلَى الدُّنْيَا، فَارْتَدِعُوا عَنْ إِيثَارِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ،

[سورة القيامة (75) : آية 27]

وَتَنَبَّهُوا عَلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي عِنْدَهُ تَنْقَطِعُ الْعَاجِلَةُ عَنْكُمْ، وَتَنْتَقِلُونَ إِلَى الْآجِلَةِ الَّتِي تَبْقُونَ فِيهَا مُخَلَّدِينَ، وَقَالَ آخَرُونَ: كَلَّا أَيْ حَقًّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ تَعْظِيمَ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ بَيَّنَ أَنَّ الدُّنْيَا لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الِانْتِهَاءِ وَالنَّفَادِ وَالْوُصُولِ إِلَى تَجَرُّعِ مَرَارَةِ الْمَوْتِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَلَّا أَيْ لَا يُؤْمِنُ الْكَافِرُ بِمَا ذُكِّرَ مِنْ أَمْرِ الْقِيَامَةِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدْفَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمَوْتِ، وَمِنْ تَجَرُّعِ آلَامِهَا، وَتَحَمُّلِ آفَاتِهَا. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ تِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي تُفَارِقُ الرُّوحُ فِيهَا الْجَسَدَ فَقَالَ: إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ إِذَا بَلَغَتِ النَّفْسُ أَوِ الرُّوحُ أَخْبَرَ عَمَّا لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ، كقوله: [الْقَدْرِ: 1] وَالتَّرَاقِي جَمْعُ تَرْقُوَةٍ. وَهِيَ عَظْمٌ وَصَلَ بَيْنَ ثُغْرَةِ النَّحْرِ، وَالْعَاتِقِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُكَنَّى بِبُلُوغِ النَّفْسِ التَّرَاقِيَ عَنِ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ، وَمِنْهُ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ: وَرُبَّ عَظِيمَةٍ دَافَعْتُ عَنْهَا ... وَقَدْ بَلَغَتْ نُفُوسُهُمُ التَّرَاقِي وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الْوَاقِعَةِ: 83] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُ الطَّاعِنِينَ: إِنَّ النَّفْسَ إِنَّمَا تَصِلُ إِلَى التَّرَاقِي بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا عَنِ الْقَلْبِ وَمَتَى فَارَقَتِ النَّفْسُ الْقَلْبَ حَصَلَ الْمَوْتُ لَا مَحَالَةَ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَ بُلُوغِهَا التَّرَاقِيَ، تَبْقَى الْحَيَاةُ حَتَّى يُقَالَ فِيهِ: مَنْ رَاقٍ، وَحَتَّى تَلْتَفَّ السَّاقُ بِالسَّاقِ وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ أَيْ إِذَا حَصَلَ الْقُرْبُ مِنْ تلك الحالة. [سورة القيامة (75) : آية 27] وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي رَاقٍ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مِنَ الرُّقْيَةِ يُقَالُ: رَقَاهُ يَرْقِيهِ رُقْيَةً إِذَا عَوَّذَهُ بِمَا يَشْفِيهِ، كَمَا يُقَالُ: بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ، وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، هُمُ الَّذِينَ يَكُونُونَ حَوْلَ الْإِنْسَانِ الْمُشْرِفِ عَلَى الْمَوْتِ، ثُمَّ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الطَّلَبِ كَأَنَّهُمْ طَلَبُوا لَهُ طَبِيبًا يَشْفِيهِ، وَرَاقِيًا يَرْقِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ عِنْدَ الْيَأْسِ: مَنِ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يَرْقِيَ هَذَا الْإِنْسَانَ الْمُشْرِفَ عَلَى الْمَوْتِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مَنْ راقٍ مِنْ رَقِيَ يَرْقِي رُقِيًّا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ [الْإِسْرَاءِ: 93] وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ هُمُ الْمَلَائِكَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَكْرَهُونَ الْقُرْبَ مِنَ الْكَافِرِ، فَيَقُولُ مَلَكُ الْمَوْتِ مَنْ يَرْقَى بِهَذَا الْكَافِرِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَحْضُرُ الْعَبْدَ عِنْدَ الْمَوْتِ سَبْعَةُ أَمْلَاكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ، وَسَبْعَةٌ مِنْ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ مَعَ مَلَكِ الْمَوْتِ، فَإِذَا بَلَغَتْ نَفْسُ الْعَبْدِ التَّرَاقِيَ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، أَيُّهُمْ يَرْقَى بِرُوحِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَهُوَ مَنْ راقٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ إِنَّ إِظْهَارَ النُّونِ عِنْدَ حُرُوفِ الْفَمِ لَحَسَنٌ، فَلَا يَجُوزُ إِظْهَارُ نُونِ مَنْ فِي قَوْلِهِ: مَنْ راقٍ وَرَوَى حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ إِظْهَارَ النُّونِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ راقٍ وَ «1» بَلْ رانَ [المطففين: 14] قال

_ (1) صوابه أن يقال واللام في (بل ران) .

[سورة القيامة (75) : آية 28]

أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، وَلَا أَعْرِفُ وَجْهَ ذَلِكَ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ، وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: قُصِدَ الْوَقْفُ على من وبل، فَأَظْهَرَهَا ثُمَّ ابْتَدَأَ بِمَا بَعْدَهُمَا، وَهَذَا غَيْرُ مرضي من القراءة. [سورة القيامة (75) : آية 28] وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ أَيْقَنَ بِمُفَارَقَتِهِ الدُّنْيَا، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ الْيَقِينُ هاهنا بِالظَّنِّ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ يَبْقَى رُوحُهُ مُتَعَلِّقًا بِبَدَنِهِ، فَإِنَّهُ يَطْمَعُ فِي الْحَيَاةِ لِشِدَّةِ حُبِّهِ «1» لِهَذِهِ الْحَيَاةِ الْعَاجِلَةِ عَلَى مَا قَالَ: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ [القيامة: 20] وَلَا يَنْقَطِعُ رَجَاؤُهُ عَنْهَا فَلَا يَحْصُلُ لَهُ يَقِينُ الْمَوْتِ، بَلِ الظَّنُّ الْغَالِبُ مَعَ رَجَاءِ الْحَيَاةِ، أَوْ لَعَلَّهُ سَمَّاهُ بِالظَّنِّ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ بَاقٍ بَعْدِ مَوْتِ البدن، لأنه تعالى سمى الموت فراقا، والفرق إِنَّمَا يَكُونُ لَوْ كَانَتِ الرُّوحُ بَاقِيَةً، فَإِنَّ الْفِرَاقَ وَالْوِصَالَ صِفَةٌ، وَالصِّفَةُ تَسْتَدْعِي وُجُودَ الْمَوْصُوفِ. ثم قال تعالى: [سورة القيامة (75) : آية 29] وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) الِالْتِفَافُ هُوَ الِاجْتِمَاعُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: جِئْنا بِكُمْ/ لَفِيفاً [الْإِسْرَاءِ: 104] وَفِي السَّاقِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْأَمْرُ الشَّدِيدُ، قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا دَهَمَتْهُ شِدَّةٌ شَمَّرَ لَهَا عَنْ سَاقِهِ، فَقِيلَ لِلْأَمْرِ الشَّدِيدِ: سَاقٌ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ، أَيِ اشْتَدَّتْ، قَالَ الْجَعْدِيُّ: أَخُو الْحَرْبِ إِنْ عَضَّتْ بِهِ الْحَرْبُ عَضَّهَا ... وَإِنْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا الْحَرْبُ شَمَّرَا ثُمَّ قَالَ: وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أَيِ الْتَفَّتْ شِدَّةُ مُفَارَقَةِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا وَشِدَّةُ الذَّهَابِ، أَوِ الْتَفَّتْ شِدَّةُ تَرْكِ الْأَهْلِ، وَتَرْكِ الْوَلَدِ، وَتَرْكِ الْمَالِ، وَتَرْكِ الْجَاهِ، وَشِدَّةُ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ، وَغَمِّ الْأَوْلِيَاءِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالشَّدَائِدُ هُنَاكَ كَثِيرَةٌ، كَشِدَّةِ الذَّهَابِ إِلَى الْآخِرَةِ وَالْقُدُومِ عَلَى اللَّهِ، أَوِ الْتَفَّتْ شِدَّةُ تَرْكِ الْأَحْبَابِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَشِدَّةُ الذَّهَابِ إِلَى دَارِ الْغُرْبَةِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ السَّاقِ هَذَا الْعُضْوُ الْمَخْصُوصُ، ثُمَّ ذَكَرُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ: هُمَا سَاقَاهُ عِنْدَ الْمَوْتِ أَمَا رَأَيْتَهُ فِي النَّزْعِ كَيْفَ يَضْرِبُ بِإِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى وَالثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: هُمَا سَاقَاهُ إِذَا الْتَفَّتَا فِي الْكَفَنِ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا مَاتَ يَبِسَتْ ساقاه، والتصقت إحداهما بالأخرى. ثم قال تعالى: [سورة القيامة (75) : آية 30] إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) الْمَسَاقُ مَصْدَرٌ مِنْ سَاقَ يَسُوقُ، كَالْمَقَالِ مِنْ قَالَ يَقُولُ، ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَسُوقَ إِلَيْهِ هُوَ الرَّبُّ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ السَّائِقَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ هُوَ الرب، أي سوق هؤلاء مفوض إليه.

_ (1) في الأصل المطبوع الذي ننقل عنه (حثه) .

[سورة القيامة (75) : الآيات 31 إلى 33]

[سورة القيامة (75) : الآيات 31 الى 33] فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى شَرَحَ كَيْفِيَّةَ عَمَلِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأُصُولِ الدِّينِ وَبِفُرُوعِهِ، وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِدُنْيَاهُ. أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِأُصُولِ الدِّينِ فَهُوَ أَنَّهُ مَا صَدَّقَ بِالدِّينِ، وَلَكِنَّهُ كَذَّبَ بِهِ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِفُرُوعِ الدِّينِ، فَهُوَ أَنَّهُ مَا صَلَّى وَلَكِنَّهُ تَوَلَّى وَأَعْرَضَ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِدُنْيَاهُ، فَهُوَ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى، وَيَتَبَخْتَرُ، وَيَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ كَمَا يَسْتَحِقُّهُمَا بِتَرْكِ الْإِيمَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَلا صَدَّقَ حِكَايَةٌ عَمَّنْ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَةِ: 3] أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً [الْقِيَامَةِ: 36] وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قوله: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: 6] وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي يَتَمَطَّى قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَصْلَهُ يَتَمَطَّطُ أَيْ يَتَمَدَّدُ، لِأَنَّ الْمُتَبَخْتِرَ يَمُدُّ خُطَاهُ، فَقُلِبَتِ الطَّاءُ فِيهِ يَاءً، كَمَا قِيلَ: فِي تَقَصَّى أَصْلُهُ تَقَصَّصَ وَالثَّانِي: من المطا وَهُوَ الظَّهْرُ لِأَنَّهُ يَلْوِيهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا مَشَتْ أُمَّتِي الْمُطَيْطَى» أَيْ مِشْيَةَ الْمُتَبَخْتِرِ. الْمَسْأَلَةُ الرابعة: قال أهل العربية: لا هاهنا فِي مَوْضِعِ لَمْ فَقَوْلُهُ: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى أَيْ لَمْ يُصَدِّقْ وَلَمْ يُصَلِّ، وَهُوَ كقوله: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد: 11] أَيْ لَمْ يَقْتَحِمْ، وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «أَرَأَيْتَ مَنْ لَا أَكَلَ وَلَا شَرَبَ، وَلَا اسْتَهَلَّ» قَالَ الْكِسَائِيُّ: لَمْ أَرَ الْعَرَبَ قَالَتْ فِي مِثْلِ هَذَا كَلِمَةً وَحْدَهَا حَتَّى تُتْبِعَهَا بِأُخْرَى، إِمَّا مُصَرَّحًا أَوْ مُقَدَّرًا، أَمَّا الْمُصَرَّحُ فَلَا يَقُولُونَ: لَا عَبْدُ اللَّهِ خَارِجٌ حتى يقولون، وَلَا فُلَانٌ، وَلَا يَقُولُونَ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ لَا يُحْسِنُ حَتَّى يَقُولُوا، وَلَا يُجْمِلُ، وَأَمَّا الْمُقَدَّرُ فهو كقوله: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ثُمَّ اعْتُرِضَ الْكَلَامُ، فَقَالَ: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ [الْبَلَدِ: 12، 14] وَكَانَ التَّقْدِيرُ لَا فَكَّ رَقَبَةً، وَلَا أَطْعَمَ مِسْكِينًا، فَاكْتَفَى بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَلَا اقْتَحَمَ أَيْ أَفَلَا اقتحم، وهلا اقتحم. [سورة القيامة (75) : الآيات 34 الى 35] أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) قَالَ قَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ أَبِي جَهْلٍ. ثُمَّ قَالَ: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى تَوَعَّدَهُ، فَقَالَ أبو جهل: بأي شيء تهددني؟ لا تستطع أَنْتَ وَلَا رَبُّكَ أَنْ تَفْعَلَا بِي شَيْئًا، وَإِنِّي لَأَعَزُّ أَهْلِ هَذَا الْوَادِي، ثُمَّ انْسَلَّ ذَاهِبًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ لَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَوْلى لَكَ بِمَعْنَى وَيْلٌ لَكَ، وَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِ، بِأَنْ يَلِيَهُ مَا يَكْرَهُهُ، قَالَ الْقَاضِي: الْمَعْنَى بَعْدَ ذَلِكَ، فَبُعْدًا [لَكَ] فِي أَمْرِ دُنْيَاكَ، وَبُعْدًا لَكَ، فِي

[سورة القيامة (75) : آية 36]

أَمْرِ أُخْرَاكَ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمَعْنَى الْوَيْلُ لَكَ مَرَّةً بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: هَذَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَعِيدٌ مُبْتَدَأٌ مِنَ اللَّهِ لِلْكَافِرِينَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ شَيْءٌ قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدُوِّهِ فَاسْتَنْكَرَهُ عَدُوُّ اللَّهِ لِعِزَّتِهِ عِنْدَ نَفْسِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلَ ذَلِكَ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَمْرًا مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ، بِأَنْ يَقُولَهَا لِعَدُوِّ اللَّهِ، فَيَكُونَ الْمَعْنَى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى [الْقِيَامَةِ: 33] فَقُلْ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أي احذر، فقد قرب منك مالا قبل لك به من المكروه. [سورة القيامة (75) : آية 36] أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَيْ مُهْمَلًا لَا يُؤْمَرُ، وَلَا يُنْهَى، وَلَا يُكَلَّفُ فِي الدُّنْيَا وَلَا يُحَاسَبُ بِعَمَلِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَالسُّدَى فِي اللُّغَةِ الْمُهْمَلُ يُقَالُ: أَسْدَيْتُ إِبِلِي إِسْدَاءً أَهْمَلْتُهَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، قَوْلَهُ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [القيامة: 3] أَعَادَ فِي آخِرِ السُّورَةِ ذَلِكَ، وَذَكَرَ فِي صِحَّةِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ دَلِيلَيْنِ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ/ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً [القيامة: 36] وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه: 15] وَقَوْلُهُ: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ إِعْطَاءَ الْقُدْرَةِ وَالْآلَةِ وَالْعَقْلِ بِدُونِ التَّكْلِيفِ وَالْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمَفَاسِدِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَعَالَى رَاضِيًا بِقَبَائِحِ الْأَفْعَالِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ، فَإِذًا لَا بُدَّ مِنَ التَّكْلِيفِ وَالتَّكْلِيفُ لَا يَحْسُنُ وَلَا يَلِيقُ بِالْكَرِيمِ الرَّحِيمِ إِلَّا إِذَا كَانَ هُنَاكَ دَارُ الثَّوَابِ وَالْبَعْثِ والقيامة. الدَّلِيلُ الثَّانِي: عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ الِاسْتِدْلَالُ بِالْخِلْقَةِ الْأُولَى عَلَى الْإِعَادَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قوله تعالى. [سورة القيامة (75) : آية 37] أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: النُّطْفَةُ هِيَ الْمَاءُ الْقَلِيلُ وَجَمْعُهَا نِطَافٌ وَنُطَفٌ، يَقُولُ: أَلَمْ يَكُ مَاءً قَلِيلًا فِي صُلْبِ الرَّجُلِ وَتَرَائِبِ الْمَرْأَةِ؟ وَقَوْلُهُ: مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى أَيْ يُصَبُّ فِي الرَّحِمِ، وَذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِي يُمْنَى عِنْدَ قَوْلِهِ: مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى [النجم: 46] وَقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ [الْوَاقِعَةِ: 58] فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي يُمْنَى فِي قَوْلِهِ: مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى؟ قُلْنَا: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى حَقَارَةِ حَالِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ الْمَنِيِّ الَّذِي جَرَى عَلَى مَخْرَجِ النَّجَاسَةِ، فَلَا يَلِيقُ بِمِثْلِ هَذَا الشَّيْءِ أَنْ يَتَمَرَّدَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، عَلَى سَبِيلِ الرَّمْزِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي عِيسَى وَمَرْيَمَ: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [الْمَائِدَةِ: 75] وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَضَاءُ الْحَاجَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي يُمْنَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ قِرَاءَتَانِ التَّاءُ وَالْيَاءُ، فَالتَّاءُ لِلنُّطْفَةِ، عَلَى تَقْدِيرِ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً تُمْنَى مِنَ الْمَنِيِّ، وَالْيَاءُ لِلْمَنِيِّ مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى، أَيْ يُقَدَّرُ خَلْقُ الْإِنْسَانِ مِنْهُ. [سورة القيامة (75) : آية 38] ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38)

[سورة القيامة (75) : الآيات 39 إلى 40]

قوله تعالى: ثُمَّ كانَ عَلَقَةً أي الإنسان كان علقة بعد النطفة. أما قَوْلُهُ تَعَالَى: فَخَلَقَ فَسَوَّى فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: فَخَلَقَ فَقَدَّرَ فَسَوَّى فَعَدَلَ الثَّانِي: فَخَلَقَ أَيْ فَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، فَسَوَّى فَكَمَّلَ أَعْضَاءَهُ، وَهُوَ قول ابن عباس ومقاتل. [سورة القيامة (75) : الآيات 39 الى 40] فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَجَعَلَ مِنْهُ أَيْ مِنَ الْإِنْسَانِ الزَّوْجَيْنِ يَعْنِي الصِّنْفَيْنِ. ثُمَّ فَسَّرَهُمَا فَقَالَ: الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى وَالْمَعْنَى أَلَيْسَ ذَلِكَ الَّذِي أَنْشَأَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِقَادِرٍ عَلَى الْإِعَادَةِ، رُوِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَرَأَهَا قَالَ: سُبْحَانَكَ بَلَى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَآلِهِ وصحبه وسلم.

سورة الإنسان

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة الإنسان إحدى وثلاثون آية مكية [سورة الإنسان (76) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) اتفقوا على أن (هل) هاهنا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ [الْغَاشِيَةِ: 1] بِمَعْنَى قَدْ، كَمَا تَقُولُ: هَلْ رَأَيْتَ صَنِيعَ فُلَانٍ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ قَدْ رَآهُ، وَتَقُولُ: هَلْ وَعَظْتُكَ هَلْ أَعْطَيْتُكَ، وَمَقْصُودُكَ أَنْ تُقَرِّرَهُ بِأَنَّكَ قَدْ أَعْطَيْتَهُ وَوَعَظْتَهُ، وَقَدْ تَجِيءُ بِمَعْنَى الْجَحْدِ، تَقُولُ: وَهَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى مِثْلِ هَذَا، وَأَمَّا أَنَّهَا تَجِيءُ بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ فظاهر، والدليل على أنها هاهنا لَيْسَتْ بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: مَا رُوِيَ أَنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: يَا لَيْتَهَا كَانَتْ تَمَّتْ فَلَا نُبْتَلَى، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ اسْتِفْهَامًا لَمَا قَالَ: لَيْتَهَا تَمَّتْ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ، إِنَّمَا يُجَابُ بلا أو بنعم، فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْخَبَرَ، فَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ ذَلِكَ الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْخَبَرِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ هاهنا فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يُرِيدُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ خَلْقَ آدَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ عَقَّبَ بِذِكْرِ وَلَدِهِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ [الإنسان: 2] ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْسَانِ بَنُو آدَمَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَالْإِنْسَانُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ نَظْمُ الْآيَةِ أَحْسَنَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حِينٌ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ طَائِفَةٌ مِنَ الزَّمَنِ الطَّوِيلِ الْمُمْتَدِّ وَغَيْرُ مُقَدَّرٍ فِي نَفْسِهِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْأَرْبَعِينَ، فَمَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُوَ آدَمُ قَالَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ مَكَثَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرْبَعِينَ سَنَةً طِينًا إِلَى أَنْ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بَقِيَ طِينًا أَرْبَعِينَ سَنَةً وَأَرْبَعِينَ مِنْ صَلْصَالٍ وَأَرْبَعِينَ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَتَمَّ خَلْقُهُ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةٍ، فَهُوَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مَا كَانَ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَقَالَ الْحَسَنُ: خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ الْأَشْيَاءِ مَا يُرَى وَمَا لَا يُرَى مِنْ دَوَابِّ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ في الأيام الستة التي خلق فيها السموات وَالْأَرْضَ وَآخِرُ مَا خَلَقَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الطِّينَ وَالصَّلْصَالَ وَالْحَمَأَ الْمَسْنُونَ قَبْلَ نَفْخِ/ الرُّوحِ فِيهِ مَا كَانَ إِنْسَانًا، وَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّهُ قَدْ مَضَى عَلَى الْإِنْسَانِ حَالَ كَوْنِهِ إِنْسَانًا حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ مَعَ أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْحِينِ مَا كَانَ شَيْئًا مَذْكُورًا، قُلْنَا: إِنَّ الطِّينَ وَالصَّلْصَالَ إِذَا كَانَ مُصَوَّرًا بِصُورَةِ الْإِنْسَانِ وَيَكُونُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ سَيُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ وَسَيَصِيرُ إِنْسَانًا صَحَّ تَسْمِيَتُهُ بِأَنَّهُ إِنْسَانٌ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ الْإِنْسَانُ هُوَ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ، وَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ قَبْلَ وُجُودِ الْأَبْدَانِ، فَالْإِشْكَالُ عَنْهُمْ زَائِلٌ وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مُحْدَثٌ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ مُحْدِثٍ قَادِرٍ.

[سورة الإنسان (76) : آية 2]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً مَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْإِنْسَانِ كَأَنَّهُ قِيلَ: هَلْ أَتَى عَلَيْهِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ غَيْرَ مذكور أو الرفع على الوصف لحين، تَقْدِيرُهُ: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ لَمْ يكن فيه شيئا. [سورة الإنسان (76) : آية 2] إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَشْجُ فِي اللُّغَةِ: الْخَلْطُ، يُقَالُ: مَشَجَ يَمْشُجُ مَشْجًا إِذَا خَلَطَ، وَالْأَمْشَاجُ الْأَخْلَاطُ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: وَاحِدُهَا مَشِجٍ وَمَشِيجٍ، وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ إِذَا خُلِطَ: مَشِيجٌ كَقَوْلِكَ: خَلِيطٌ وَمَمْشُوجٌ، كَقَوْلِكَ مَخْلُوطٌ. قَالَ الْهُذَلِيُّ: كَأَنَّ الرِّيشَ وَالْفُوقَيْنِ مِنْهُ ... خِلَافُ النَّصْلِ شَطَّ بِهِ مَشِيجُ يَصِفُ السَّهْمَ بِأَنَّهُ قَدْ بَعُدَ في الرمية فالتطخ ريشه وفرقاه بِدَمٍ يَسِيرٍ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْأَمْشَاجُ لَفْظٌ مُفْرَدٌ، وَلَيْسَ يُجْمَعُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمُفْرَدِ وَهُوَ قَوْلُهُ: نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ وَيُقَالُ أَيْضًا: نُطْفَةٌ مشيج، ولا يصح أن يكون أمشاجا جَمْعًا لِلْمَشْجِ بَلْ هُمَا مِثْلَانِ فِي الْإِفْرَادِ ونظيره برمة أعشار «1» أي قطع مسكرة، وَثَوْبٌ أَخْلَاقٌ وَأَرْضٌ سَبَاسِبُ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى كَوْنِ النُّطْفَةِ مُخْتَلِطَةً فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ اخْتِلَاطُ نُطْفَةِ الرَّجُلِ بِنُطْفَةِ الْمَرْأَةِ كَقَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ [الطَّارِقِ: 7] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ اخْتِلَاطُ مَاءِ الرَّجُلِ وَهُوَ أَبْيَضُ غَلِيظٌ وَمَاءِ الْمَرْأَةِ وَهُوَ أَصْفَرُ رَقِيقٌ فَيَخْتَلِطَانِ وَيُخْلَقُ الْوَلَدُ مِنْهُمَا، فَمَا كَانَ مِنْ عَصَبٍ وَعَظْمٍ وَقُوَّةٍ فَمِنْ نُطْفَةِ الرَّجُلِ، وَمَا كَانَ مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ فَمِنْ مَاءِ الْمَرْأَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ أَلْوَانُ النُّطْفَةِ فَنُطْفَةُ الرَّجُلِ بَيْضَاءُ وَنُطْفَةُ الْمَرْأَةِ صَفْرَاءُ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَمْشَاجُهَا عُرُوقُهَا، وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي مِنْ نُطْفَةٍ مُشِجَتْ بِدَمٍ وَهُوَ دَمُ الْحَيْضَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا تَلَقَّتْ مَاءَ الرَّجُلِ وَحَبَلَتْ أُمْسِكَ حَيْضُهَا فَاخْتَلَطَتِ النُّطْفَةُ بِالدَّمِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْأَمْشَاجُ هُوَ أَنَّهُ يَخْتَلِطُ الْمَاءُ وَالدَّمُ أَوَّلًا ثُمَّ يَصِيرُ عَلَقَةً ثُمَّ يَصِيرُ مُضْغَةً، وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ انْتِقَالِ ذَلِكَ الْجِسْمِ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ، وَمِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي النُّطْفَةِ أَخْلَاطًا مِنَ الطَّبَائِعِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْإِنْسَانِ مِنَ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ وَالرُّطُوبَةِ وَالْيُبُوسَةِ، وَالتَّقْدِيرُ مِنْ نُطْفَةٍ ذَاتِ أَمْشَاجٍ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَتَمَّ الْكَلَامُ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْأَوْلَى هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ اخْتِلَاطُ نُطْفَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ/ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ النُّطْفَةَ بِأَنَّهَا أَمْشَاجٌ، وَهِيَ إِذَا صَارَتْ عَلَقَةً فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا وَصْفٌ أَنَّهَا نُطْفَةٌ، وَلَكِنَّ هَذَا الدَّلِيلَ لَا يَقْدَحُ فِي أَنَّ الْمُرَادَ كَوْنُهَا أمشاجا من الأرض والماء والهواء والحار. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: نَبْتَلِيهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نَبْتَلِيهِ مَعْنَاهُ لِنَبْتَلِيَهُ، وَهُوَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ: جِئْتُكَ أَقْضِي حَقَّكَ، أَيْ لِأَقْضِيَ حَقَّكَ، وَأَتَيْتُكَ أَسْتَمْنِحُكَ، أَيْ لِأَسْتَمْنِحَكَ، كَذَا قَوْلُهُ: نَبْتَلِيهِ أَيْ لِنَبْتَلِيَهُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [الْمُدَّثِّرِ: 6] أَيْ لِتَسْتَكْثِرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَبْتَلِيهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ خَلَقْنَاهُ مُبْتَلِينَ لَهُ، يَعْنِي مُرِيدِينَ ابتلاءه.

_ (1) في المطبوعة التي ننقل عنها وبرمة أشعار، والذي أعرفه وذكره النحاة واللغويون (برمة أعشار) . [.....]

[سورة الإنسان (76) : آية 3]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِيهِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَالْمَعْنَى فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا لِنَبْتَلِيَهُ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّغْيِيرِ، وَالْمَعْنَى إِنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْأَمْشَاجِ لَا لِلْبَعْثِ، بَلْ لِلِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ مَا يَصِحُّ مَعَهُ الِابْتِلَاءُ وَهُوَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ، فَقَالَ: فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ كِنَايَتَانِ عَنِ الْفَهْمِ وَالتَّمْيِيزِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ [مَرْيَمَ: 42] وَأَيْضًا قَدْ يُرَادُ بِالسَّمِيعِ الْمُطِيعُ، كَقَوْلِهِ سَمْعًا وَطَاعَةً، وَبِالْبَصِيرِ الْعَالِمُ يُقَالُ: فُلَانٌ بَصِيرٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْمُرَادُ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ الْحَاسَّتَانِ الْمَعْرُوفَتَانِ وَاللَّهُ تَعَالَى خصهما بالذكر، لأنهما أعظم الحواس وأشرفها. [سورة الإنسان (76) : آية 3] إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ رَكَّبَهُ وَأَعْطَاهُ الْحَوَاسَّ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ بَيَّنَ لَهُ سَبِيلَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ إِعْطَاءَ الْحَوَاسِّ كَالْمُقَدَّمِ عَلَى إِعْطَاءِ الْعَقْلِ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانُ خُلِقَ فِي مَبْدَأِ الْفِطْرَةِ خَالِيًا عَنْ مَعْرِفَةِ الْأَشْيَاءِ، إِلَّا أَنَّهُ أَعْطَاهُ آلَاتٍ تُعِينُهُ عَلَى تَحْصِيلِ تِلْكَ الْمَعَارِفِ، وَهِيَ الْحَوَاسُّ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ، فَإِذَا أَحَسَّ بِالْمَحْسُوسَاتِ تَنَبَّهَ لِمُشَارَكَاتٍ بَيْنَهَا وَمُبَايَنَاتٍ، يُنْتَزَعُ مِنْهَا عَقَائِدُ صَادِقَةٌ أَوَّلِيَّةٌ، كَعِلْمِنَا بِأَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ وَأَنَّ الْكُلَّ أَعْظَمُ مِنَ الْجُزْءِ، وَهَذِهِ الْعُلُومُ الْأَوَّلِيَّةُ هِيَ آلَةُ الْعَقْلِ لِأَنَّ بِتَرْكِيبَاتِهَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إِلَى اسْتِعْلَامِ الْمَجْهُولَاتِ النَّظَرِيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحِسَّ مُقَدَّمٌ فِي الْوُجُودِ عَلَى الْعَقْلِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: مَنْ فَقَدَ حِسًّا فَقَدَ عِلْمًا، وَمَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ سَمِيعًا بَصِيرًا هُوَ الْعَقْلُ، قَالَ: أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ أَعْطَاهُ الْعَقْلَ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّهُ إِنَّمَا أَعْطَاهُ الْعَقْلَ لِيُبَيِّنَ لَهُ السَّبِيلَ وَيُظْهِرَ لَهُ أَنَّ الَّذِي يَجِبُ فِعْلُهُ مَا هُوَ وَالَّذِي لَا يَجُوزُ مَا هُوَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: السَّبِيلُ هُوَ الَّذِي يُسْلَكُ مِنَ الطَّرِيقِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المراد بالسبيل/ هاهنا سَبِيلَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالنَّجَاةِ وَالْهَلَاكِ، وَيَكُونُ مَعْنَى هَدَيْناهُ أَيْ عَرَّفْنَاهُ وَبَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [الْبَلَدِ: 10] وَيَكُونُ السَّبِيلُ اسْمًا لِلْجِنْسِ، فَلِهَذَا أُفْرِدَ لَفْظُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [الْعَصْرِ: 2] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسَّبِيلِ هُوَ سَبِيلَ الْهُدَى لِأَنَّهَا هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَعْرُوفَةُ الْمُسْتَحِقَّةُ لِهَذَا الِاسْمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَأَمَّا سَبِيلُ الضَّلَالَةِ فَإِنَّمَا هِيَ سَبِيلٌ بِالْإِضَافَةِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الْأَحْزَابِ: 67] وَإِنَّمَا أَضَلُّوهُمْ سَبِيلَ الْهُدَى، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا جَعَلَ مَعْنَى قَوْلِهِ: هَدَيْناهُ أَيْ أَرْشَدْنَاهُ، وَإِذَا أُرْشِدَ لِسَبِيلِ الْحَقِّ، فَقَدْ نُبِّهَ عَلَى تَجَنُّبِ مَا سِوَاهَا، فَكَانَ اللَّفْظُ دَلِيلًا عَلَى الطَّرِيقَيْنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ مِنْ هِدَايَةِ السَّبِيلِ خَلْقُ الدَّلَائِلِ، وَخَلْقُ الْعَقْلِ الْهَادِي وَبَعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنْزَالُ الْكُتُبِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: خَلَقْتُكَ لِلِابْتِلَاءِ ثُمَّ أَعْطَيْتُكَ كُلَّ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بينة وَلَيْسَ مَعْنَاهُ خَلَقْنَا الْهِدَايَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ السَّبِيلَ، فَقَالَ: هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أَيْ أَرَيْنَاهُ ذلك.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ، وَإِلَى السَّبِيلِ وَلِلسَّبِيلِ، كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ شَاكِرًا أَوْ كَفُورًا حَالَانِ مِنَ الْهَاءِ، فِي هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أَيْ هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ كَوْنَهُ شَاكِرًا وَكَفُورًا، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِدَايَةِ اللَّهِ وَإِرْشَادِهِ، فَقَدْ تَمَّ حَالَتَيِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ انْتُصِبَ قَوْلُهُ شاكِراً وكَفُوراً بِإِضْمَارِ كَانَ، وَالتَّقْدِيرُ سَوَاءٌ كَانَ شَاكِرًا أَوْ كَانَ كَفُورًا. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: مَعْنَاهُ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ، لِيَكُونَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا أَيْ لِيَتَمَيَّزَ شُكْرُهُ مِنْ كُفْرِهِ وَطَاعَتُهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ كَقَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هُودٍ: 7] وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا [الْعَنْكَبُوتِ: 3] وَقَوْلُهُ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [مُحَمَّدٍ: 31] قَالَ الْقَفَّالُ: وَمَجَازُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُ الْقَائِلِ، قَدْ نَصَحْتُ لَكَ إِنْ شِئْتَ فَاقْبَلْ، وَإِنْ شِئْتَ فَاتْرُكْ، أَيْ فَإِنْ شِئْتَ فَتُحْذَفُ الْفَاءُ فَكَذَا الْمَعْنَى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ فَإِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا، فَتُحْذَفُ الْفَاءُ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْوَعِيدِ أَيْ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ فَإِنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ وَإِنْ شَاءَ فَلْيَشْكُرْ، فَإِنَّا قَدْ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ كَذَا وَلِلشَّاكِرِينَ كَذَا، كَقَوْلِهِ: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الْكَهْفِ: 29] . الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَا حَالَيْنِ مِنَ السَّبِيلِ أَيْ عَرَّفْنَاهُ السَّبِيلَ، أَيْ إِمَّا سَبِيلًا شَاكِرًا، وَإِمَّا سَبِيلًا كَفُورًا، وَوَصْفُ السَّبِيلِ بِالشُّكْرِ وَالْكُفْرِ مَجَازٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا لَائِقَةٌ بِمَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَاخْتِيَارُ الفراء أن تكون إما هذه الآية كإما فِي قَوْلِهِ: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَةِ: 106] وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ تَارَةً شَاكِرًا أَوْ تَارَةً كَفُورًا وَيَتَأَكَّدُ هَذَا التَّأْوِيلُ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي أَمَّا، وَالْمَعْنَى أَمَّا شَاكِرًا فَبِتَوْفِيقِنَا وَأَمَّا كَفُورًا فَبِخِذْلَانِنَا، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذَا التَّأْوِيلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ تَهْدِيدَ الْكُفَّارِ فَقَالَ: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً [الإنسان: 4] وَلَوْ كَانَ كُفْرُ الْكَافِرِ مِنَ اللَّهِ وَبِخَلْقِهِ لَمَا جَازَ مِنْهُ أَنْ يُهَدِّدَهُ عَلَيْهِ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا التَّأْوِيلُ ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى هَدَى جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ سَوَاءٌ آمَنَ أَوْ كَفَرَ، وَبَطَلَ بِهَذَا قَوْلُ الْمُجْبِرَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَهْدِ الْكَافِرَ إِلَى الْإِيمَانِ، أَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ مِنَ الْكَافِرِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ ثُمَّ كَلَّفَهُ بِأَنْ يُؤْمِنَ فَقَدْ كَلَّفَهُ بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ وَوُجُودِ الْإِيمَانِ وَهَذَا تَكْلِيفٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَصِرْ هَذَا عُذْرًا فِي سُقُوطِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ جَازَ أَيْضًا أَنْ يَخْلُقَ الْكُفْرَ فِيهِ وَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ عُذْرًا فِي سُقُوطِ الْوَعِيدِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ التَّأْوِيلَ اللَّائِقَ بِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ لَيْسَ بِحَقٍّ، وَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ نِعَمَهُ عَلَى الْإِنْسَانِ فَابْتَدَأَ بِذِكْرِ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ النِّعَمَ الدِّينِيَّةَ، ثُمَّ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِسْمَةَ.

[سورة الإنسان (76) : الآيات 4 إلى 5]

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ الشَّاكِرِ وَالْكَفُورِ بِمَنْ يَكُونُ مُشْتَغِلًا بِفِعْلِ الشُّكْرِ وَفِعْلِ الْكُفْرَانِ وَإِلَّا لَمْ يَتَحَقَّقِ الْحَصْرُ، بَلِ الْمُرَادُ مِنَ الشَّاكِرِ الَّذِي يَكُونُ مُقِرًّا مُعْتَرِفًا بِوُجُوبِ شُكْرِ خَالِقِهِ عَلَيْهِ وَالْمُرَادُ مِنَ الْكُفُورِ الَّذِي لَا يُقِرُّ بِوُجُوبِ الشُّكْرِ عَلَيْهِ، إِمَّا لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْخَالِقَ أَوْ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يُثْبِتُهُ لَكِنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ الشُّكْرِ عَلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ الْحَصْرُ وَهُوَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَاكِرًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَفُورًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَوَارِجَ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْمُطِيعِ وَالْكَافِرِ، قَالُوا: لِأَنَّ الشَّاكِرَ هُوَ الْمُطِيعُ، وَالْكَفُورَ هُوَ الْكَافِرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى نَفَى الْوَاسِطَةَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ ذَنْبٍ كُفْرًا، وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ مُذْنِبٍ كَافِرًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَيَانَ الَّذِي لَخَّصْنَاهُ يَدْفَعُ هَذَا الْإِشْكَالَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الشَّاكِرِ الَّذِي يَكُونُ مُشْتَغِلًا بِفِعْلِ الشُّكْرِ فَإِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ طَرْدًا وَعَكْسًا، أَمَّا الطَّرْدُ فَلِأَنَّ الْيَهُودِيَّ قَدْ يَكُونُ شَاكِرًا لِرَبِّهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُطِيعًا لِرَبِّهِ، وَالْفَاسِقَ قَدْ يَكُونُ شَاكِرًا لِرَبِّهِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُطِيعًا لِرَبِّهِ، وَأَمَّا الْعَكْسُ فَلِأَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ لَا يَكُونُ مُشْتَغِلًا بِالشُّكْرِ وَلَا بِالْكُفْرَانِ، بَلْ يَكُونُ سَاكِنًا غَافِلًا عَنْهُمَا، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ الشَّاكِرِ بِذَلِكَ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يُفَسَّرَ الشَّاكِرُ بِمَنْ يُقِرُّ بِوُجُوبِ الشُّكْرِ وَالْكَفُورُ بِمَنْ لَا يُقِرُّ بِذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ الْحَصْرُ، وَيَسْقُطُ سُؤَالُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ والله أعلم. [سورة الإنسان (76) : الآيات 4 الى 5] إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْفَرِيقَيْنِ أَتْبَعَهُمَا بِالْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الِاعْتِدَادُ هُوَ إِعْدَادُ الشَّيْءِ حَتَّى يَكُونَ عَتِيدًا حَاضِرًا مَتَى احْتِيجَ إِلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق: 23] وَأَمَّا السَّلَاسِلُ فَتُشَدُّ بِهَا أَرْجُلُهُمْ، وَأَمَّا الْأَغْلَالُ فَتُشَدُّ بِهَا أَيْدِيهِمْ إِلَى رِقَابِهِمْ، وَأَمَّا السَّعِيرُ فَهُوَ النَّارُ الَّتِي تُسَعَّرُ عَلَيْهِمْ فَتُوقَدُ فَيَكُونُونَ حَطَبًا لَهَا، وَهَذَا مِنْ أَغْلَظِ أَنْوَاعِ التَّرْهِيبِ وَالتَّخْوِيفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْجَحِيمَ بِسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا مَخْلُوقَةٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَعْتَدْنا إِخْبَارٌ عَنِ الْمَاضِي، قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ لَمَّا تَوَعَّدَ بِذَلِكَ عَلَى التَّحْقِيقِ صَارَ كَأَنَّهُ مَوْجُودٌ، قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمْ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ (سلاسلا) بالتنوين، وكذلك قَوارِيرَا قَوارِيرَا [الإنسان: 15، 16] وَمِنْهُمْ مَنْ يَصِلُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَيَقِفُ بِالْأَلِفِ فَلِمَنْ نَوَّنَ وَصَرَفَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَخْفَشَ قَالَ: قَدْ سَمِعْنَا مِنَ الْعَرَبِ صَرْفَ جَمِيعِ مَا لَا يَنْصَرِفُ، قَالَ: وَهَذَا لُغَةُ الشُّعَرَاءِ لِأَنَّهُمُ اضْطُرُّوا إِلَيْهِ فِي الشِّعْرِ فَصَرَفُوهُ، فَجَرَتْ أَلْسِنَتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْجُمُوعَ أَشْبَهَتِ الْآحَادَ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا صَوَاحِبَاتُ يُوسُفَ، فَلَمَّا جَمَعُوهُ جَمْعَ الْآحَادِ الْمُنْصَرِفَةِ جَعَلُوهَا فِي حُكْمِهَا فَصَرَفُوهَا، وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ الصَّرْفَ فَإِنَّهُ جَعَلَهُ كَقَوْلِهِ: لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ [الْحَجِّ: 40] وَأَمَّا إِلْحَاقُ الْأَلْفِ فِي الْوَقْفِ فَهُوَ كَإِلْحَاقِهَا في قوله: الظُّنُونَا [الأحزاب: 10] والرَّسُولَا [الأحزاب: 66] والسَّبِيلَا [الأحزاب: 67] فيشبه ذلك بالإطلاق في القوافي. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَا أَعَدَّ لِلشَّاكِرِينَ الْمُوَحِّدِينَ فَقَالَ: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً الْأَبْرَارُ جَمْعُ بَرٍّ، كَالْأَرْبَابِ جَمْعُ رَبٍّ، وَالْقَوْلُ فِي حَقِيقَةِ الْبَرِّ قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ

[سورة الإنسان (76) : آية 6]

آمَنَ بِاللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 177] ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ أَنْوَاعِ نَعِيمِهِمْ صِفَةَ مَشْرُوبِهِمْ، فَقَالَ: يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ يَعْنِي مِنْ إِنَاءٍ فِيهِ الشَّرَابُ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: يُرِيدُ الْخَمْرَ، وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَزْجَ الْكَافُورِ بِالْمَشْرُوبِ لَا يَكُونُ لَذِيذًا، فَمَا السَّبَبُ فِي ذِكْرِهِ هاهنا؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْكَافُورَ اسْمُ عَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ مَاؤُهَا فِي بَيَاضِ الْكَافُورِ وَرَائِحَتِهِ وَبَرْدِهِ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ فِيهِ طَعْمُهُ وَلَا مَضَرَّتُهُ، فَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الشَّرَابَ يَكُونُ مَمْزُوجًا بِمَاءِ هَذِهِ الْعَيْنِ وَثَانِيهَا: أَنَّ رَائِحَةَ الْكَافُورِ عَرَضٌ فَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي جِسْمٍ، فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ تِلْكَ الرَّائِحَةَ فِي جِرْمِ ذَلِكَ الشَّرَابِ سُمِّيَ ذَلِكَ الْجِسْمُ كَافُورًا، وَإِنْ كَانَ طَعْمُهُ طَيِّبًا وَثَالِثُهَا: أَيُّ بَأْسٍ فِي أَنْ/ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَافُورَ فِي الْجَنَّةِ لَكِنْ مِنْ طَعْمٍ طَيِّبٍ لَذِيذٍ، وَيَسْلُبُ عَنْهُ مَا فِيهِ مِنَ الْمَضَرَّةِ؟ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَمْزُجُهُ بِذَلِكَ الْمَشْرُوبِ، كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى سَلَبَ عَنْ جَمِيعِ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ مَا مَعَهَا فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَضَارِّ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا فَائِدَةُ كَانَ فِي قَوْلِهِ: كانَ مِزاجُها كافُوراً؟ الْجَوَابُ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ مِنْ كَأْسٍ مِزَاجُهَا كَافُورًا، وَقِيلَ: بَلِ الْمَعْنَى كَانَ مزاجها في علم الله، وحكمه كافورا. [سورة الإنسان (76) : آية 6] عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) قَوْلُهُ تَعَالَى: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ فِيهِ مَسَائِلُ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنْ قُلْنَا: الْكَافُورُ اسْمُ النَّهْرِ كَانَ عَيْنًا بَدَلًا مِنْهُ، وَإِنْ شِئْتَ نَصَبْتَ عَلَى الْمَدْحِ، وَالتَّقْدِيرُ أَعْنِي عَيْنًا، أَمَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْكَافُورَ اسْمٌ لِهَذَا الشَّيْءِ الْمُسَمَّى بِالْكَافُورِ كَانَ عَيْنًا بَدَلًا مِنْ مَحَلِّ مِنْ كَأْسٍ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَشْرَبُونَ خَمْرًا خَمْرَ عَيْنٍ، ثُمَّ حُذِفَ الْمُضَافُ، وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ [الإنسان: 5] وقال هاهنا: يَشْرَبُ بِها فَذَكَرَ هُنَاكَ مِنْ وَهَهُنَا الْبَاءَ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْكَأْسَ مَبْدَأُ شُرْبِهِمْ وَأَوَّلُ غَايَتِهِ. وَأَمَّا الْعَيْنُ فَبِهَا يَمْزُجُونَ شَرَابَهُمْ فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: يَشْرَبُ عِبَادُ اللَّهِ بِهَا الْخَمْرَ، كَمَا تَقُولُ: شَرِبْتُ الْمَاءَ بِالْعَسَلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ عَامٌّ فَيُفِيدُ أَنَّ كُلَّ عِبَادِ اللَّهِ يَشْرَبُونَ مِنْهَا، وَالْكُفَّارُ بِالِاتِّفَاقِ لَا يَشْرَبُونَ مِنْهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ عِبَادِ اللَّهِ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [الزُّمَرِ: 7] لَا يَتَنَاوَلُ الْكُفَّارَ بَلْ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِالْمُؤْمِنِينَ، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْكُفْرَ، فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ كُفْرَ الْكَافِرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً مَعْنَاهُ يُفَجِّرُونَهَا حَيْثُ شَاءُوا مِنْ مَنَازِلِهِمْ تَفْجِيرًا سَهْلًا لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا وَصَفَ ثَوَابَ الْأَبْرَارِ فِي الْآخِرَةِ شَرَحَ أعمالهم التي بها استوجبوا ذلك الثواب. [سورة الإنسان (76) : آية 7] يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْإِيفَاءُ بِالشَّيْءِ هُوَ الْإِتْيَانُ بِهِ وَافِيًا، أَمَّا النَّذْرُ فَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: النَّذْرُ كَالْوَعْدِ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنَ الْعِبَادِ فَهُوَ نَذْرٌ، وَإِنْ كَانَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ وَعْدٌ، وَاخْتُصَّ هَذَا اللَّفْظُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ بِأَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا مِنَ الصَّدَقَةِ، أَوْ يُعَلِّقَ ذَلِكَ بِأَمْرٍ يَلْتَمِسُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، أَوْ رَدَّ غَائِبِي

فَعَلَيَّ كَذَا كَذَا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا عُلِّقَ ذَلِكَ بِمَا لَيْسَ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ، كَمَا إِذَا قَالَ: إِنْ دَخَلَ فُلَانٌ الدَّارَ فَعَلَيَّ كَذَا، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ جَعَلَهُ كَالْيَمِينِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ النَّذْرِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَنَقُولُ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ: أَوَّلُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النَّذْرِ هُوَ النَّذْرُ فَقَطْ، ثُمَّ قَالَ الْأَصَمُّ: هَذَا مُبَالَغَةٌ فِي وَصْفِهِمْ بِالتَّوَفُّرِ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ. لِأَنَّ مَنْ وَفَّى بِمَا أَوْجَبَهُ هُوَ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَوْفَى، وَهَذَا/ التَّفْسِيرُ في غاية الحسن وثانيها: المراد بالنذر هاهنا كُلُّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً أَوْ بِأَنْ أَوْجَبَهُ الْمُكَلَّفُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِيمَانُ وَجَمِيعُ الطَّاعَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّذْرَ مَعْنَاهُ الْإِيجَابُ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمُرَادُ مِنَ النَّذْرِ الْعَهْدُ وَالْعَقْدُ، وَنَظِيرُهُ قوله تعالى: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 40] فَسَمَّى فَرَائِضَهُ عَهْدًا، وَقَالَ: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [الْمَائِدَةِ: 1] سَمَّاهَا عُقُودًا لِأَنَّهُمْ عَقَدُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِاعْتِقَادِهِمُ الْإِيمَانَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ، لأنه تعالى عقبه بيخافون يَوْمًا وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ إِنَّمَا وَفَّوْا بِالنَّذْرِ خَوْفًا مِنْ شَرِّ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَالْخَوْفُ مِنْ شَرِّ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْوَفَاءُ بِهِ وَاجِبًا، وَتَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا [النَّحْلِ: 91] وَبِقَوْلِهِ: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [الْحَجِّ: 29] فَيُحْتَمَلُ لِيُوَفُّوا أَعْمَالَ نُسُكِهِمُ الَّتِي أَلْزَمُوهَا أَنْفُسَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَرْبَابِ الْمَعَانِي: كَانَ فِي قَوْلِهِ: كانَ مِزاجُها كافُوراً [الإنسان: 5] زائدة وأما هاهنا فكان مَحْذُوفَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ كَانُوا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ كَانَ فِي قَوْلِهِ: كانَ مِزاجُها [الإنسان: 5] لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِضْمَارِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الدُّنْيَا أَنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ أَيْ سَيَشْرَبُونَ، فَإِنَّ لَفْظَ الْمُضَارِعِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، ثُمَّ قَالَ: السَّبَبُ فِي ذَلِكَ الثَّوَابِ الَّذِي سيجدونه أنهم الآن يوفون بالنذر. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ أَعْمَالِ الْأَبْرَارِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً. وَاعْلَمْ أَنَّ تَمَامَ الطَّاعَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا كَانَتِ النِّيَّةُ مَقْرُونَةً بِالْعَمَلِ، فَلَمَّا حَكَى عَنْهُمُ الْعَمَلَ وَهُوَ قَوْلُهُ: يُوفُونَ حَكَى عَنْهُمُ النِّيَّةَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيَخافُونَ يَوْماً وَتَحْقِيقُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَبِمَجْمُوعِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ سَمَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأَبْرَارِ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَحْوَالُ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالُهَا كُلُّهَا فِعْلُ اللَّهِ، وَكُلُّ مَا كَانَ فِعْلًا لِلَّهِ فَهُوَ يَكُونُ حِكْمَةً وَصَوَابًا، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ شَرًّا، فَكَيْفَ وَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهَا شَرٌّ؟ الْجَوَابُ: أَنَّهَا إِنَّمَا سُمِّيَتْ شَرًّا لِكَوْنِهَا مُضِرَّةً بِمَنْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ وَصَعْبَةً عَلَيْهِ، كَمَا تُسَمَّى الْأَمْرَاضُ وَسَائِرُ الْأُمُورِ الْمَكْرُوهَةِ شُرُورًا. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى الْمُسْتَطِيرِ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الَّذِي يَكُونُ فَاشِيًا مُنْتَشِرًا بَالِغًا أَقْصَى الْمَبَالِغِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: اسْتَطَارَ الْحَرِيقُ، وَاسْتَطَارَ الْفَجْرُ وَهُوَ مِنْ طَارَ بِمَنْزِلَةِ اسْتَنْفَرَ مِنْ نَفَرَ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: شَرُّ ذَلِكَ الْيَوْمِ مُسْتَطِيرٌ مُنْتَشِرٌ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ أَوْلِيَائِهِ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ؟ [الْأَنْبِيَاءِ: 103] ، قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَوْلَ القيامة شديد، ألا ترى أن السموات تَنْشَقُّ وَتَنْفَطِرُ وَتَصِيرُ كَالْمُهْلِ، وَتَتَنَاثَرُ الْكَوَاكِبُ، وَتَتَكَوَّرُ/ الشمس والقمر، وتفرغ الْمَلَائِكَةُ، وَتُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ،

[سورة الإنسان (76) : الآيات 8 إلى 10]

وَتُنْسَفُ الْجِبَالُ، وَتُسْجَرُ الْبِحَارُ وَهَذَا الْهَوْلُ عَامٌّ يَصِلُ إِلَى كُلِّ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [الْحَجِّ: 2] وَقَالَ: يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً [المزمل: 17] إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ يُؤَمِّنُ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ ذَلِكَ الْفَزَعِ وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ مُسْتَطِيرًا فِي الْعُصَاةِ وَالْفُجَّارِ وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَهُمْ آمِنُونَ، كَمَا قَالَ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الْأَنْبِيَاءِ: 103] لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الزُّخْرُفِ: 68] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فَاطِرٍ: 44] إِلَّا أَنَّ أَهْلَ الْعِقَابِ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الثَّوَابِ، فَأُجْرِيَ الْغَالِبُ مَجْرَى الْكُلِّ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْمُسْتَطِيرِ أَنَّهُ الَّذِي يَكُونُ سَرِيعَ الْوُصُولِ إِلَى أَهْلِهِ، وَكَأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الطَّيَرَانَ إِسْرَاعٌ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ: كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَلَمْ يَقُلْ: وَسَيَكُونُ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا؟ الْجَوَابُ: اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ لِلْمَاضِي، إِلَّا أَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا [الْأَحْزَابِ: 15] وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا فِي عِلْمِ اللَّهِ وَفِي حِكْمَتِهِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَعْتَذِرُ وَيَقُولُ: إِيصَالُ هَذَا الضَّرَرِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ تَقْتَضِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نِظَامَ الْعَالَمِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَهُمَا يُوجِبَانِ الْوَفَاءَ بِهِ، لِاسْتِحَالَةِ الْكَذِبِ فِي كَلَامِي، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: كَانَ ذَلِكَ فِي الحكمة لازما، فلهذا السبب فعلته. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ أَعْمَالِ الْأَبْرَارِ قَوْلُهُ تَعَالَى: [سورة الإنسان (76) : الآيات 8 الى 10] وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) [في قوله تعالى وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ إلى قوله وَلا شُكُوراً] اعْلَمْ أَنَّ مَجَامِعَ الطَّاعَاتِ مَحْصُورَةٌ فِي أَمْرَيْنِ التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان: 7] وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ وهاهنا مَسَائِلُ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ أكابر المعتزلة، [أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي حَقِّ عَلِيِّ بن أبي طالب عليه السلام] كَأَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ وَأَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ وَأَبِي الْقَاسِمِ الْكَعْبِيِّ، وَأَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ فِي تَفْسِيرِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي حَقِّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْوَاحِدِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ «الْبَسِيطِ» أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَقِّ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مَرِضَا فَعَادَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُنَاسٍ مَعَهُ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْحَسَنِ لَوْ نَذَرْتَ عَلَى وَلَدِكَ، فَنَذَرَ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَفِضَّةُ جَارِيَةٌ لَهُمَا، إِنْ شَفَاهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَصُومُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَشُفِيَا وَمَا مَعَهُمْ شَيْءٌ فَاسْتَقْرَضَ عَلِيٌّ مِنْ شَمْعُونَ الْخَيْبَرِيِّ الْيَهُودِيِّ ثَلَاثَةَ أَصْوُعٍ مِنْ شَعِيرٍ فَطَحَنَتْ فَاطِمَةُ صَاعًا وَاخْتَبَزَتْ خَمْسَةَ أَقْرَاصٍ عَلَى عَدَدِهِمْ وَوَضَعُوهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ لِيُفْطِرُوا، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ سَائِلٌ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ بَيْتِ مُحَمَّدٍ، مِسْكِينٌ مِنْ مَسَاكِينِ الْمُسْلِمِينَ أَطْعِمُونِي أَطْعَمَكُمُ اللَّهُ مِنْ مَوَائِدِ الْجَنَّةِ فَآثَرُوهُ وَبَاتُوا وَلَمْ يَذُوقُوا إِلَّا الْمَاءَ وَأَصْبَحُوا صَائِمِينَ، فَلَمَّا أَمْسَوْا وَوَضَعُوا الطَّعَامَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَقَفَ عَلَيْهِمْ يَتِيمٌ فَآثَرُوهُ وَجَاءَهُمْ أَسِيرٌ فِي الثَّالِثَةِ، فَفَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَخَذَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِيَدِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَدَخَلُوا عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فلما أبصرهم

وَهُمْ يَرْتَعِشُونَ كَالْفِرَاخِ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ قَالَ: مَا أَشَدَّ مَا يَسُوءُنِي مَا أَرَى بِكُمْ وَقَامَ فَانْطَلَقَ مَعَهُمْ فَرَأَى فَاطِمَةَ فِي مِحْرَابِهَا قَدِ الْتَصَقَ بَطْنُهَا بِظَهْرِهَا وَغَارَتْ عَيْنَاهَا فَسَاءَهُ ذَلِكَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: خُذْهَا يَا مُحَمَّدُ هَنَّاكَ اللَّهُ فِي أَهْلِ بَيْتِكَ فَأَقْرَأَهَا السُّورَةَ» وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنَّهُ إِنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِلِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ هَدَى الْكُلَّ وَأَزَاحَ عِلَلَهُمْ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمُ انْقَسَمُوا إِلَى شَاكِرٍ وَإِلَى كَافِرٍ ثُمَّ ذَكَرَ وَعِيدَ الْكَافِرِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ وَعْدِ الشَّاكِرِ فَقَالَ: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ [الْإِنْسَانِ: 5] وَهَذِهِ صِيغَةُ جَمْعٍ فَتَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الشَّاكِرِينَ وَالْأَبْرَارِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُمْكِنُ تَخْصِيصُهُ بِالشَّخْصِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ نَظْمَ السُّورَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَذَا بَيَانًا لِحَالِ كُلِّ مَنْ كَانَ مِنَ الْأَبْرَارِ وَالْمُطِيعِينَ، فَلَوْ جَعَلْنَاهُ مُخْتَصًّا بِشَخْصٍ وَاحِدٍ لَفَسَدَ نَظْمُ السُّورَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مَذْكُورُونَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ ... يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ ... وَيُطْعِمُونَ [الإنسان: 5، 7، 8] وهكذا إلى آخر الآيات فتخصيصه بجمع معنيين خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلَا يُنْكَرُ دُخُولُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ أَيْضًا دَاخِلٌ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى شَرْحِ أَحْوَالِ الْمُطِيعِينَ، فَكَمَا أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهَا فَكَذَا غَيْرُهُ مِنْ أَتْقِيَاءِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ دَاخِلٌ فِيهَا، فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِلتَّخْصِيصِ مَعْنًى أَلْبَتَّةَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: السُّورَةُ نَزَلَتْ عِنْدَ صُدُورِ طَاعَةٍ مَخْصُوصَةٍ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الَّذِينَ يَقُولُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُخْتَصَّةٌ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالُوا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً هُوَ مَا رُوِّينَاهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَطْعَمَ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَالْأَسِيرَ، وَأَمَّا الَّذِينَ يَقُولُونَ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْأَبْرَارِ [فَإِنَّهُمْ] قَالُوا: إِطْعَامُ الطَّعَامِ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْمُحْتَاجِينَ وَالْمُوَاسَاةِ مَعَهُمْ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِالطَّعَامِ بِعَيْنِهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ أَشْرَفَ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ هُوَ الْإِحْسَانُ بِالطَّعَامِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قِوَامَ الْأَبْدَانِ/ بِالطَّعَامِ وَلَا حَيَاةَ إِلَّا بِهِ، وَقَدْ يُتَوَهَّمُ إِمْكَانُ الْحَيَاةِ مَعَ فَقْدِ مَا سِوَاهُ، فَلَمَّا كَانَ الْإِحْسَانُ لَا جَرَمَ عَبَّرَ بِهِ عَنْ جَمِيعِ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ وَالَّذِي يُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّهُ يُعَبَّرُ بِالْأَكْلِ عَنْ جَمِيعِ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ، فَيُقَالُ: أَكَلَ فُلَانٌ مَالَهُ إِذَا أَتْلَفَهُ فِي سَائِرِ وُجُوهِ الْإِتْلَافِ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النِّسَاءِ: 10] وَقَالَ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [الْبَقَرَةِ: 188] إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْأَبْرَارَ بِأَنَّهُمْ يُوَاسُونَ بِأَمْوَالِهِمْ أَهْلَ الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى حُبِّهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلطَّعَامِ أَيْ مَعَ اشْتِهَائِهِ وَالْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَنَظِيرُهُ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [الْبَقَرَةِ: 177] لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] فقد وصفهم الله تعالى بأنهم يؤثرون غيرهم على أنفسهم على ما قَالَ: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: 9] وَالثَّانِي: قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَلَى حُبِّ اللَّهِ أَيْ لِحُبِّهِمْ لِلَّهِ: وَاللَّامُ قَدْ تُقَامُ مَقَامَ عَلَى، وَكَذَلِكَ تُقَامُ عَلَى مَقَامِ اللَّامِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَصْنَافَ مَنْ تَجِبُ مُوَاسَاتُهُمْ، وَهُمْ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهُمُ: الْمِسْكِينُ وَهُوَ الْعَاجِزُ عَنِ الِاكْتِسَابِ بِنَفْسِهِ وَالثَّانِي: الْيَتِيمُ وَهُوَ الَّذِي مَاتَ كَاسِبُهُ فَيَبْقَى عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ لِصِغَرِهِ مع أنه مات كسبه وَالثَّالِثُ: الْأَسِيرُ وَهُوَ الْمَأْخُوذُ مِنْ قَوْمِهِ الْمَمْلُوكَ [- ةُـ] رَقَبَتُهُ الَّذِي لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَصْرًا وَلَا حِيلَةً، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى هاهنا هُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ فِي قَوْلِهِ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ [الْبَلَدِ: 11- 16] وقد ذكرنا

اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي الْمِسْكِينِ قَبْلَ هَذَا، أَمَّا الْأَسِيرُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: إِنَّهُ الْأَسِيرُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَبْعَثُ الْأَسَارَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِيُحْفَظُوا وَلِيُقَامَ بِحَقِّهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجِبُ إِطْعَامُهُمْ إِلَى أَنْ يَرَى الْإِمَامُ رَأْيَهُ فِيهِمْ مِنْ قَتْلٍ أَوْ فِدَاءٍ أَوِ اسْتِرْقَاقٍ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْأَسِيرَ كَافِرًا كَانَ أَوْ مُسْلِمًا، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَ الْكُفْرِ يَجِبُ إِطْعَامُهُ فَمَعَ الْإِسْلَامِ أَوْلَى، فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا وَجَبَ قَتْلُهُ فَكَيْفَ يَجِبُ إِطْعَامُهُ؟ قُلْنَا: الْقَتْلُ فِي حَالٍ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِطْعَامِ فِي حَالٍ أُخْرَى، وَلَا يَجِبُ إِذَا عُوقِبَ بِوَجْهٍ أَنْ يُعَاقَبَ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَلِذَلِكَ لَا يَحْسُنُ فِيمَنْ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ مَا هُوَ دُونَ الْقَتْلِ ثُمَّ هَذَا الْإِطْعَامُ عَلَى مَنْ يَجِبُ؟ فَنَقُولُ: الْإِمَامُ يُطْعِمُهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ الْإِمَامُ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَثَانِيهَا: قَالَ السُّدِّيُّ: الْأَسِيرُ هُوَ الْمَمْلُوكُ وَثَالِثُهَا: الْأَسِيرُ هُوَ الْغَرِيمُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «غَرِيمُكَ أَسِيرُكَ فَأَحْسِنْ إِلَى أَسِيرِكَ» وَرَابِعُهَا: الْأَسِيرُ هُوَ الْمَسْجُونُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا مِنْ طَرِيقِ الْخِدْرِيِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: مِسْكِيناً فَقِيرًا وَيَتِيماً لَا أَبَ لَهُ وَأَسِيراً قَالَ الْمَمْلُوكُ: الْمَسْجُونُ وَخَامِسُهَا: الْأَسِيرُ هُوَ الزَّوْجَةُ لِأَنَّهُنَّ أُسَرَاءُ عِنْدَ الْأَزْوَاجِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اتَّقُوا الله في النساء فإنهن عندكم أعوان» قَالَ الْقَفَّالُ: وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُ كُلَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الأصل الأسر هو الشد بالقد، وَكَانَ الْأَسِيرُ يُفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ حَبْسًا لَهُ، ثُمَّ سُمِّيَ بِالْأَسِيرِ مَنْ شُدَّ وَمَنْ لَمْ يشد فعاد المعنى إلى الحبس. [قوله تعالى إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْأَبْرَارَ يُحْسِنُونَ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُحْتَاجِينَ بَيَّنَ أَنَّ لَهُمْ فِيهِ غَرَضَيْنِ أَحَدُهُمَا: تَحْصِيلُ رِضَا اللَّهِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ وَالثَّانِي: الِاحْتِرَازُ مِنْ خَوْفِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: قَمْطَرِيراً يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الْأَبْرَارُ قَدْ قَالُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِاللِّسَانِ، إِمَّا لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مَنْعًا لِأُولَئِكَ الْمُحْتَاجِينَ عَنِ الْمُجَازَاةِ بِمِثْلِهِ أَوْ بِالشُّكْرِ، لِأَنَّ إِحْسَانَهُمْ مَفْعُولٌ لِأَجْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا مَعْنَى لِمُكَافَأَةِ الْخَلْقِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ الْقَوْلُ تَفْقِيهًا وَتَنْبِيهًا عَلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ حَتَّى يَقْتَدِيَ غَيْرُهُمْ بِهِمْ فِي تِلْكَ الطَّرِيقَةِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَيَانًا وَكَشْفًا عَنِ اعْتِقَادِهِمْ وَصِحَّةِ نِيَّتِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا شَيْئًا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُمْ مَا تَكَلَّمُوا بِهِ وَلَكِنْ عَلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْإِحْسَانَ مِنَ الْغَيْرِ تَارَةً يَكُونُ لِأَجْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَارَةً يَكُونُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا طَلَبًا لِمُكَافَأَةٍ أَوْ طَلَبًا لِحَمْدٍ وَثَنَاءٍ وَتَارَةً يَكُونُ لَهُمَا وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَقْبُولُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الْقِسْمَانِ الْبَاقِيَانِ فَمَرْدُودَانِ قَالَ تَعَالَى: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ [الْبَقَرَةِ: 264] وقال: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الرُّومِ: 39] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْتِمَاسَ الشُّكْرِ مِنْ جِنْسِ الْمَنِّ وَالْأَذَى. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْقَوْمُ لَمَّا قَالُوا: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ بَقِيَ فِيهِ احْتِمَالُ أَنَّهُ أَطْعَمَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ وَلِسَائِرِ الْأَغْرَاضِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيكِ، فَلَا جَرَمَ نَفَى هَذَا الِاحْتِمَالَ بِقَوْلِهِ: لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الشُّكُورُ وَالْكُفُورُ مَصْدَرَانِ كَالشُّكْرِ وَالْكُفْرِ، وَهُوَ عَلَى وَزْنِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، هَذَا قَوْلُ جَمَاعَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الشُّكُورَ جَمَاعَةَ الشُّكْرِ وجعلت الكفور جماعة الكفر لقول:

[سورة الإنسان (76) : آية 11]

فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً [الْإِسْرَاءِ: 99] مِثْلَ بُرْدٍ وَبُرُودٍ وَإِنْ شِئْتَ مَصْدَرًا وَاحِدًا فِي مَعْنَى جَمْعٍ مِثْلُ قَعَدَ قُعُودًا وَخَرَجَ خُرُوجًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِحْسَانَنَا إِلَيْكُمْ لِلْخَوْفِ مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا لِإِرَادَةِ مُكَافَأَتِكُمْ وَالثَّانِي: أَنَّا لَا نُرِيدُ مِنْكُمُ الْمُكَافَأَةَ لِخَوْفِ عِقَابِ اللَّهِ عَلَى طَلَبِ الْمُكَافَأَةِ بِالصَّدَقَةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمُ الْإِيفَاءَ بِالنَّذْرِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِخَوْفِ الْقِيَامَةِ فَقَطْ، وَلَمَّا حَكَى عَنْهُمُ الْإِطْعَامَ عَلَّلَ ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ بِطَلَبِ رِضَاءِ اللَّهِ وَبِالْخَوْفِ عَنِ الْقِيَامَةِ فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟ قُلْنَا: الْإِيفَاءُ بِالنَّذْرِ دَخَلَ فِي حَقِيقَةِ طَلَبِ رِضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّذْرَ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ لِأَجْلِ اللَّهِ فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ ضَمَّ إِلَيْهِ خَوْفَ الْقِيَامَةِ فَقَطْ، أَمَّا الْإِطْعَامُ، فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي حَقِيقَةِ طَلَبِ رِضَا اللَّهِ، فَلَا جَرَمَ ضَمَّ إِلَيْهِ طَلَبَ رِضَا اللَّهِ وَطَلَبَ الْحَذَرِ مِنْ خَوْفِ الْقِيَامَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَصَفَ الْيَوْمَ بِالْعُبُوسِ مَجَازًا عَلَى طَرِيقَتَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوصَفَ بِصِفَةِ أَهْلِهِ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ كَقَوْلِهِمْ: نَهَارُكَ صَائِمٌ، رُوِيَ أَنَّ الْكَافِرَ يُحْبَسُ حَتَّى يَسِيلَ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْهِ عَرَقٌ مِثْلُ الْقَطِرَانِ وَالثَّانِي: أَنْ يُشَبَّهَ فِي شِدَّتِهِ وَضَرَاوَتِهِ بِالْأَسَدِ الْعَبُوسِ أَوْ بِالشُّجَاعِ الْبَاسِلِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الزَّجَّاجَ: جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ قَمْطَرِيرًا مَعْنَاهُ تَعْبِيسُ الْوَجْهِ، فَيَجْتَمِعُ مَا بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ، قَالَ: وَهَذَا سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ: اقْمَطَرَّتِ النَّاقَةُ إِذَا رَفَعَتْ ذَنَبَهَا وَجَمَعَتْ قُطْرَيْهَا وَرَمَتْ بِأَنْفِهَا يَعْنِي أَنَّ مَعْنَى اقْمَطَرَّ فِي اللُّغَةِ جَمَعَ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَمْطَرِيرًا يَعْنِي شَدِيدًا وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَالْمُبَرِّدِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ، قَالُوا: يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ، وَقُمَاطِرٌ إِذَا كَانَ صَعْبًا شَدِيدًا أَشَدَّ مَا يَكُونُ مِنَ الْأَيَّامِ وَأَطْوَلَهُ فِي الْبَلَاءِ، قَالَ الواحدي: هذا معنى والتفسير هو الأول. [سورة الإنسان (76) : آية 11] فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِالطَّاعَاتِ لِغَرَضَيْنِ طَلَبِ رِضَا اللَّهِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْقِيَامَةِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ هَذَيْنِ الْغَرَضَيْنِ، أَمَّا الْحِفْظُ مِنْ هَوْلِ الْقِيَامَةِ، فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَسَمَّى شَدَائِدَهَا شَرًّا تَوَسُّعًا عَلَى مَا عَلِمْتَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةُ أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَدَائِدَ الْآخِرَةِ لَا تَصِلُ إِلَّا إِلَى أَهْلِ الْعَذَابِ، وَأَمَّا طَلَبُ رِضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَعْطَاهُمْ بِسَبَبِهِ نَضْرَةً فِي الْوَجْهِ وَسُرُورًا فِي الْقَلْبِ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ وَلَقَّاهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً [الْفُرْقَانِ: 75] وَتَفْسِيرُ النَّضْرَةِ فِي قَوْلِهِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ [القيامة: 23] والتنكير في سُرُوراً: للتعظيم والتفخيم. [سورة الإنسان (76) : الآيات 12 الى 13] وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وقوله تَعَالَى: وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً وَالْمَعْنَى وَجَزَاهُمْ بِصَبْرِهِمْ عَلَى الْإِيثَارِ وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنَ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ، بُسْتَانًا فِيهِ مَأْكَلٌ هَنِيءٌ وَحَرِيرًا فِيهِ مَلْبَسٌ بَهِيٌّ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ [الحج: 23] أَقُولُ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ [الإنسان: 9] لَيْسَ هُوَ الْإِطْعَامَ فَقَطْ

[سورة الإنسان (76) : آية 14]

بَلْ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْمُوَاسَاةِ مِنَ الطَّعَامِ وَالْكُسْوَةِ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى طَعَامَهُمْ وَلِبَاسَهُمْ، وَصَفَ مَسَاكِنَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْمَسَاكِنِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: الْمَوْضِعُ الَّذِي يُجْلَسُ فِيهِ فَوَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ وَهِيَ السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ، وَلَا تَكُونُ أَرِيكَةً إِلَّا إِذَا اجْتَمَعَتْ، وَفِي نَصْبِ مُتَّكِئِينَ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى وَجَزَاهُمْ جَنَّةً فِي حَالِ اتِّكَائِهِمْ كَمَا تَقُولُ: جَزَاهُمْ ذَلِكَ قِيَامًا، وَالثَّانِي: قَالَ الْأَخْفَشُ: وَقَدْ يَكُونُ عَلَى الْمَدْحِ. وَالثَّانِي: هُوَ الْمَسْكَنُ فَوَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَوَاءَهَا مُعْتَدِلٌ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالثَّانِي: أن الزمهرير هو القمر في لغة طيء هَكَذَا رَوَاهُ ثَعْلَبٌ وَأَنْشَدَ: وَلَيْلَةٍ ظَلَامُهَا قَدِ اعْتَكَرْ ... قَطَعْتُهَا وَالزَّمْهَرِيرُ مَا زَهَرْ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْجَنَّةَ ضِيَاءٌ فَلَا يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى شَمْسٍ وقمر. [سورة الإنسان (76) : آية 14] وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَالثَّالِثُ: كَوْنُهُ بُسْتَانًا نَزِهًا، فَوَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ الْأَوَّلُ: مَا السَّبَبُ فِي نَصْبِ وَدانِيَةً؟ الْجَوَابُ: ذَكَرَ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ فِيهِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْحَالُ بِالْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: مُتَّكِئِينَ كَمَا تَقُولُ فِي الدَّارِ: عَبْدُ اللَّهِ مُتَّكِئًا وَمُرْسَلَةً عَلَيْهِ الْحِجَالُ، لِأَنَّهُ حَيْثُ قَالَ: عَلَيْهِمْ رَجَعَ إِلَى ذِكْرِهِمْ وَالثَّانِي: الْحَالُ بِالْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ: يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً [الإنسان: 13] وَالتَّقْدِيرُ غَيْرَ رَائِينَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَدَخَلَتِ الْوَاوُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَيْنِ يَجْتَمِعَانِ لَهُمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَجَزَاهُمْ جَنَّةً جَامِعِينَ فِيهَا بَيْنَ الْبُعْدِ عَنِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَدُنُوِّ الظِّلَالِ عَلَيْهِمْ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ دَانِيَةً نَعْتًا لِلْجَنَّةِ، وَالْمَعْنَى: وَجَزَاهُمْ جَنَّةً دَانِيَةً، وَعَلَى هَذَا الْجَوَابِ تَكُونُ دَانِيَةً صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا، وَجَنَّةً أُخْرَى دَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ وُعِدُوا جَنَّتَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ خَافُوا بِدَلِيلِ قوله: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا [الإنسان: 10] وَكُلُّ مَنْ خَافَ فَلَهُ جَنَّتَانِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَنِ: 46] وَقُرِئَ: وَدانِيَةً بالرفع على أن ظِلالُها مبتدأ وَدانِيَةً خَبَرٌ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا وَالْحَالُ أَنَّ ظلالها دانية عليهم. السؤال الثاني: الظلل إِنَّمَا يُوجَدُ حَيْثُ تُوجَدُ الشَّمْسُ، فَإِنْ كَانَ لَا شَمْسَ فِي الْجَنَّةِ فَكَيْفَ يَحْصُلُ الظِّلُّ هُنَاكَ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ أَشْجَارَ الْجَنَّةِ تَكُونُ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ شَمْسٌ لَكَانَتْ تِلْكَ الْأَشْجَارُ مُظَلِّلَةً مِنْهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا ذَكَرُوا فِي ذُلِّلَتْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ذُلِّلَتْ أُدْنِيَتْ مِنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَائِطٌ ذَلِيلٌ إِذَا كَانَ قَصِيرَ السَّمْكِ والثاني: ظللت أَيْ جُعِلَتْ مُنْقَادَةً وَلَا تَمْتَنِعُ عَلَى قُطَّافِهَا كَيْفَ شَاءُوا. قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: ذُلِّلَتْ لَهُمْ فَهُمْ يَتَنَاوَلُونَ مِنْهَا كَيْفَ شَاءُوا، فَمَنْ أَكَلَ قَائِمًا لَمْ يُؤْذِهِ وَمَنْ أَكَلَ جَالِسًا لم يؤده ومن أكل مضطجعا لم يؤذه. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ طَعَامَهُمْ وَلِبَاسَهُمْ وَمَسْكَنَهُمْ وَصَفَ بَعْدَ ذَلِكَ شَرَابَهُمْ وَقَدَّمَ عَلَيْهِ/ وَصْفَ تِلْكَ الْأَوَانِي الَّتِي فِيهَا يَشْرَبُونَ فَقَالَ:

[سورة الإنسان (76) : الآيات 15 إلى 16]

[سورة الإنسان (76) : الآيات 15 الى 16] وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَالَ تَعَالَى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ [الزُّخْرُفِ: 71] وَالصِّحَافُ هِيَ الْقِصَاعُ، وَالْغَالِبُ فِيهَا الْأَكْلُ فَإِذَا كَانَ مَا يَأْكُلُونَ فِيهِ ذَهَبًا فَمَا يَشْرَبُونَ فِيهِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ ذَهَبًا لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنْ يُتَنَوَّقَ فِي إناء الشرب مالا يُتَنَوَّقُ «1» فِي إِنَاءِ الْأَكْلِ وَإِذَا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ إِنَاءَ شُرْبِهِمْ يَكُونُ مِنَ الذهب فكيف ذكر هاهنا أَنَّهُ مِنَ الْفِضَّةِ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَتَارَةً يُسْقَوْنَ بِهَذَا وَتَارَةً بِذَاكَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْآنِيَةِ وَالْأَكْوَابِ؟ الْجَوَابُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْأَكْوَابُ الْكِيزَانُ الَّتِي لَا عُرَى لَهَا، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْإِنَاءَ يَقَعُ فِيهِ الشُّرْبُ كَالْقَدَحِ، وَالْكُوبُ مَا صُبَّ مِنْهُ فِي الْإِنَاءِ كَالْإِبْرِيقِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا مَعْنَى كانَتْ الْجَوَابُ: هُوَ من يكون في قوله: كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: 117] أَيْ تَكَوَّنَتْ قَوَارِيرَ بِتَكْوِينِ اللَّهِ تَفْخِيمًا لِتِلْكَ الْخِلْقَةِ الْعَجِيبَةِ الشَّأْنِ الْجَامِعَةِ بَيْنَ صِفَتَيِ الْجَوْهَرَيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: كَيْفَ تَكُونُ هَذِهِ الْأَكْوَابُ مِنْ فِضَّةٍ وَمِنْ قَوَارِيرَ؟ الْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ أَصْلَ الْقَوَارِيرِ فِي الدُّنْيَا الرَّمْلُ وَأَصْلُ قَوَارِيرِ الْجَنَّةِ هُوَ فِضَّةُ الْجَنَّةِ فَكَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَقْلِبَ الرَّمْلَ الْكَثِيفَ زُجَاجَةً صَافِيَةً، فَكَذَلِكَ هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَقْلِبَ فِضَّةَ الْجَنَّةِ قَارُورَةً لَطِيفَةً، فَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ نِسْبَةَ قَارُورَةِ الْجَنَّةِ إِلَى قَارُورَةِ الدُّنْيَا كَنِسْبَةِ فِضَّةِ الْجَنَّةِ إِلَى رَمْلِ الدُّنْيَا، فَكَمَا أَنَّهُ لَا نِسْبَةَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، فَكَذَا بَيْنَ الْقَارُورَتَيْنِ فِي الصَّفَاءِ وَاللَّطَافَةِ وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إِلَّا الْأَسْمَاءُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَمَالُ الْفِضَّةِ فِي بَقَائِهَا وَنَقَائِهَا وَشَرَفِهَا إِلَّا أَنَّهُ كَثِيفُ الْجَوْهَرِ، وَكَمَالُ الْقَارُورَةِ فِي شَفَافِيَّتِهَا وَصَفَائِهَا إِلَّا أَنَّهُ سَرِيعُ الِانْكِسَارِ، فَآنِيَةُ الْجَنَّةِ آنِيَةٌ يَحْصُلُ فِيهَا مِنَ الْفِضَّةِ بَقَاؤُهَا وَنَقَاؤُهَا، وَشَرَفُ جَوْهَرِهَا، وَمِنَ الْقَارُورَةِ، صَفَاؤُهَا وَشَفَافِيَّتُهَا وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا تَكُونُ فِضَّةً وَلَكِنْ لَهَا صَفَاءُ الْقَارُورَةِ، وَلَا يُسْتَبْعَدُ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوَارِيرِ فِي الْآيَةِ لَيْسَ هُوَ الزُّجَاجَ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّيَ مَا اسْتَدَارَ مِنَ الْأَوَانِي الَّتِي تُجْعَلُ فِيهَا الْأَشْرِبَةُ وَرَقَّ وَصَفَا قَارُورَةً، فَمَعْنَى الْآيَةِ وَأَكْوَابٍ مِنْ فِضَّةٍ مُسْتَدِيرَةٍ صَافِيَةٍ رَقِيقَةٍ. السؤال الخامس: كيف القراءة في قَوارِيرَا قَوارِيرَا؟ الْجَوَابُ: قُرِئَا غَيْرَ مُنَوَّنَيْنِ وَبِتَنْوِينِ الْأَوَّلِ وَبِتَنْوِينِهِمَا، وَهَذَا التَّنْوِينُ بَدَلٌ عَنْ أَلْفِ الْإِطْلَاقِ لِأَنَّهُ فَاصِلَةٌ، وَفِي الثَّانِي لِإِتْبَاعِهِ الْأَوَّلَ لِأَنَّ الثَّانِيَ بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ فَيَتْبَعُ الْبَدَلُ الْمُبْدَلَ، وَقُرِئَ: قَوَارِيرُ مِنْ فِضَّةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى هِيَ قَوَارِيرُ، وقدروها صفة لقوارير مِنْ فِضَّةٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدَّرُوها تَقْدِيراً فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مَعْنَاهُ: قَدَّرُوها تَقْدِيراً عَلَى قَدْرِ رِيِّهِمْ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ مِنَ الرِّيِّ لِيَكُونَ أَلَذَّ لِشُرْبِهِمْ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: إِنَّ تِلْكَ الْأَوَانِيَ تَكُونُ بِمِقْدَارِ مِلْءِ الْكَفِّ لَمْ تَعْظُمْ فَيَثْقُلَ حملها.

_ (1) يتنوق مثل يتأنق وزنا ومعنى.

[سورة الإنسان (76) : آية 17]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ مُنْتَهَى مُرَادِ الرَّجُلِ فِي الْآنِيَةِ الَّتِي يَشْرَبُ مِنْهَا الصَّفَاءُ وَالنَّقَاءُ وَالشَّكْلُ. أَمَّا الصَّفَاءُ فَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: كانَتْ قَوارِيرَا وَأَمَّا النَّقَاءُ فَقَدْ ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: مِنْ فِضَّةٍ وَأَمَّا الشَّكْلُ فَقَدْ ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: قَدَّرُوها تَقْدِيراً. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُقَدِّرُ لِهَذَا التَّقْدِيرِ مَنْ هُوَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ هُمُ الطَّائِفُونَ الَّذِينَ دَلَّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَدَّرُوا شَرَابَهَا عَلَى قَدْرِ رِيِّ الشَّارِبِ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ هُمُ الشَّارِبُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِذَا اشْتَهَوْا مِقْدَارًا مِنَ الْمَشْرُوبِ جَاءَهُمْ عَلَى ذَلِكَ القدر. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ أَوَانِيَ مَشْرُوبِهِمْ ذكر بعد ذلك وصف مشروبهم، فقال: [سورة الإنسان (76) : آية 17] وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) الْعَرَبُ كَانُوا يُحِبُّونَ جَعْلَ الزَّنْجَبِيلِ فِي الْمَشْرُوبِ، لِأَنَّهُ يُحْدِثُ فِيهِ ضَرْبًا مِنَ اللَّذْعِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ شَرَابَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِذَلِكَ، وَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ فِي الطِّيبِ عَلَى أَقْصَى الْوُجُوهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكُلُّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ، فَلَيْسَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا الِاسْمُ، وتمام القول هاهنا مِثْلُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: كانَ مِزاجُها كافُوراً [الإنسان: 5] . [سورة الإنسان (76) : آية 18] عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: لَمْ أَسْمَعِ السَّلْسَبِيلَ إِلَّا فِي الْقُرْآنِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُعْرَفُ لَهُ اشْتِقَاقٌ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يُقَالُ شَرَابٌ سَلْسَلٌ وَسَلْسَالٌ وَسَلْسَبِيلٌ أَيْ عَذْبٌ سَهْلُ الْمَسَاغِ، وَقَدْ زِيدَتِ الْبَاءُ فِي التَّرْكِيبِ حَتَّى صَارَتِ الْكَلِمَةُ خُمَاسِيَّةً «1» ، وَدَلَّتْ عَلَى غَايَةِ السَّلَاسَةِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: السَّلْسَبِيلُ فِي اللُّغَةِ صِفَةٌ لِمَا كَانَ فِي غَايَةِ السَّلَاسَةِ، وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ السَّلْسَبِيلِ هُوَ أَنَّ ذَلِكَ الشَّرَابَ يَكُونُ فِي طَعْمِ الزَّنْجَبِيلِ، وَلَيْسَ فِيهِ لَذْعَةٌ لِأَنَّ نَقِيضَ اللَّذْعِ هُوَ السَّلَاسَةُ، وَقَدْ عَزَوْا إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ مَعْنَاهُ: سَلْ سَبِيلًا إِلَيْهَا، وَهُوَ بَعِيدٌ إِلَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّ جملة قول/ القائل: سلسبيلا جُعِلَتْ عَلَمًا لِلْعَيْنِ، كَمَا قِيلَ: تَأَبَّطَ شَرًّا، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَشْرَبُ مِنْهَا إِلَّا مَنْ سَأَلَ إِلَيْهَا سَبِيلًا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي نَصْبِ عَيْنًا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ زَنْجَبِيلًا وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: سَلْسَبِيلًا صُرِفَ لِأَنَّهُ رَأْسُ آية، فصار كقوله الظُّنُونَا [الأحزاب: 10] والسَّبِيلَا [الأحزاب: 67] وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانُ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ يكون خادما في تلك المجالس. [سورة الإنسان (76) : آية 19] وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) فَقَالَ: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَالْأَقْرَبُ أن

_ (1) هكذا الأصل الذي ننقل منه، ولكن الكلمة سداسية كما ترى وهو الصواب.

[سورة الإنسان (76) : آية 20]

الْمُرَادَ بِهِ دَوَامُ كَوْنِهِمْ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ الَّتِي لَا يُرَادُ فِي الْخَدَمِ أَبْلَغُ مِنْهَا، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ دَوَامَ حَيَاتِهِمْ وَحُسْنِهِمْ وَمُوَاظَبَتِهِمْ عَلَى الْخِدْمَةِ الْحَسَنَةِ الْمُوَافِقَةِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ مُخَلَّدُونَ مُسَوَّرُونَ وَيُقَالُ: مُقَرَّطُونَ. وَرَوَى نَفْطَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ مُخَلَّدُونَ مُحَلَّوْنَ. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً وَفِي كَيْفِيَّةِ التَّشْبِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: شُبِّهُوا فِي حُسْنِهِمْ وَصَفَاءِ أَلْوَانِهِمْ وَانْتِشَارِهِمْ فِي مَجَالِسِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ عِنْدَ اشْتِغَالِهِمْ بِأَنْوَاعِ الْخِدْمَةِ بِاللُّؤْلُؤِ الْمَنْثُورِ، وَلَوْ كَانَ صَفًّا لَشُبِّهُوا بِاللُّؤْلُؤِ الْمَنْظُومِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ فَإِذَا كَانُوا يَطُوفُونَ كَانُوا مُتَنَاثِرِينَ وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ شُبِّهُوا بِاللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ إِذَا انْتَثَرَ مِنْ صَدَفِهِ لِأَنَّهُ أَحْسَنُ وَأَكْثَرُ مَاءً وَثَالِثُهَا: قَالَ الْقَاضِي: هَذَا مِنَ التَّشْبِيهِ الْعَجِيبِ لِأَنَّ اللُّؤْلُؤَ إِذَا كَانَ مُتَفَرِّقًا يَكُونُ أَحْسَنَ فِي الْمَنْظَرِ لِوُقُوعِ شُعَاعِ بَعْضِهِ عَلَى الْبَعْضِ فيكون مخالفا للمجتمع منه. واعلم أن تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ تَفْصِيلَ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَتْبَعَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ أُمُورًا أَعْلَى وَأَعْظَمَ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ فَقَالَ: [سورة الإنسان (76) : آية 20] وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَأَيْتَ هَلْ لَهُ مَفْعُولٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى وَإِذَا رَأَيْتَ مَا ثَمَّ وَصَلُحَ إِضْمَارُ مَا كَمَا قَالَ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الْأَنْعَامِ: 94] يُرِيدُ مَا بَيْنَكُمْ، قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا يَجُوزُ إِضْمَارُ ما لأن ثم صلة وما مَوْصُولُهَا، وَلَا يَجُوزُ إِسْقَاطُ الْمَوْصُولِ وَتَرْكُ الصِّلَةِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَفْعُولٌ ظَاهِرٌ وَلَا مُقَدَّرٌ وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنْ يَشِيعَ وَيَعُمَّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِذَا وَجَدْتَ الرُّؤْيَةَ ثَمَّ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ بَصَرَ الرَّائِي أَيْنَمَا وَقَعَ لَمْ يَتَعَلَّقْ إِدْرَاكُهُ إلا بنعيم كثير وملك كثير، وثَمَّ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِ يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّذَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةَ مَحْصُورَةٌ فِي أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: قَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَإِمْضَاءِ/ الْغَضَبِ، وَاللَّذَّةِ الْخَيَالِيَّةِ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِحُبِّ الْمَالِ وَالْجَاهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُسْتَحْقَرٌ فَإِنَّ الْحَيَوَانَاتِ الْخَسِيسَةَ قَدْ تُشَارِكُ الْإِنْسَانَ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا، فالملك الكبير الذي ذكره الله هاهنا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِتِلْكَ اللَّذَّاتِ الْحَقِيرَةِ، وَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ تَصِيرَ نَفْسُهُ منقشة بِقُدْسِ الْمَلَكُوتِ مُتَحَلِّيَةً بِجَلَالِ حَضْرَةِ اللَّاهُوتِ، وَأَمَّا مَا هُوَ عَلَى أُصُولِ الْمُتَكَلِّمِينَ، فَالْوَجْهُ فِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ الثَّوَابُ وَالْمَنْفَعَةُ الْمَقْرُونَةُ بِالتَّعْظِيمِ فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ تَفْصِيلَ تِلْكَ الْمَنَافِعِ وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُصُولَ التَّعْظِيمِ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَكُونُ كَالْمَلِكِ الْعَظِيمِ، وَأَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ هَذَا الْمُلْكَ الْكَبِيرَ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَنَافِعَ أَزْيَدَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَقْدِرُ وَاصِفٌ يَصِفُ حُسْنَهُ وَلَا طِيبَهُ. وَيُقَالُ: إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ عَامٍ وَيَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أدناه، وقيل: لا زوال له وقيل: إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ عَامٍ وَيَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أَدْنَاهُ، وَقِيلَ: لَا زَوَالَ لَهُ وَقِيلَ: إِذَا أَرَادُوا شَيْئًا حَصَلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى التَّعْظِيمِ. فَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ أَنْ يَأْتِيَ الرَّسُولُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِكَرَامَةٍ مِنَ الْكُسْوَةِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْتُحَفِ إِلَى وَلِيِّ اللَّهِ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ فَيَسْتَأْذِنَ عَلَيْهِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ رَسُولُ رَبِّ الْعِزَّةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ الْمُطَهَّرِينَ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ قَوْلُهُ: وَإِذا رَأَيْتَ خِطَابٌ لِمُحَمَّدٍ خَاصَّةً، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ

[سورة الإنسان (76) : آية 21]

لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ أَتَرَى عَيْنَايَ مَا تَرَى عَيْنَاكَ؟ فَقَالَ نَعَمْ، فَبَكَى حَتَّى مَاتَ، وَقَالَ آخرون: بل هو خطاب لكل أحد. [سورة الإنسان (76) : آية 21] عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) قَوْلُهُ تَعَالَى: عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ عَالِيهِمْ بِإِسْكَانِ الْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ أَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى: فَالْوَجْهُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ عَالِيهِمْ مبتدأ، وثياب سُنْدُسٍ خَبَرَهُ، وَالْمَعْنَى مَا يَعْلُوهُمْ مِنْ لِبَاسِهِمْ ثياب سندس، فإن قيل: عاليهم مفرد، وثياب سُنْدُسٍ جَمَاعَةٌ، وَالْمُبْتَدَأُ إِذَا كَانَ مُفْرَدًا لَا يَكُونُ خَبَرُهُ جَمْعًا، قُلْنَا: الْمُبْتَدَأُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: عالِيَهُمْ وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا فِي اللَّفْظِ، فَهُوَ جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ، ... فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ [المؤمنون: 67] كَأَنَّهُ أُفْرِدَ مِنْ حَيْثُ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ أَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ فَتْحُ الْيَاءِ، فَذَكَرُوا فِي هَذَا النَّصْبِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَالِي بِمَعْنَى فَوْقُ أُجْرِيَ مَجْرَاهُ فِي هَذَا الْإِعْرَابِ، كَمَا كَانَ قَوْلُهُ: وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الْأَنْفَالِ: 42] كَذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَالثَّانِي: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، ثُمَّ هَذَا أَيْضًا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: التَّقْدِيرُ: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا حَالَ مَا يَكُونُ عَالِيهِمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ وَثَانِيهَا: التَّقْدِيرُ: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا حَالَ مَا يَكُونُ عَالِيهِمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَيَطُوفُ عَلَى الْأَبْرَارِ وِلْدَانٌ، حَالَ مَا يَكُونُ الْأَبْرَارُ عَالِيهِمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ وَرَابِعُهَا: حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا، حَالَ مَا يَكُونُ/ عَالِيهِمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ، فَعَلَى الاحتمالات الثلاثة الأول: تكون الثياب الْأَبْرَارِ، وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الرَّابِعِ تَكُونُ الثِّيَابُ ثِيَابَ الْوِلْدَانِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي سَبَبِ هَذَا النَّصْبِ، أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: رَأَيْتَ أَهْلَ نَعِيمٍ وَمُلْكٍ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ: خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ، كِلَاهُمَا بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحَمْزَةُ: كِلَاهُمَا بِالْخَفْضِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: خُضْرٍ بالخفض، وإستبرق بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عامر: خضر بالرفع، وإستبرق بِالْخَفْضِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ خُضْرًا يَجُوزُ فِيهِ الْخَفْضُ وَالرَّفْعُ، أَمَّا الرَّفْعُ فَإِذَا جَعَلْتَهَا صِفَةً لِثِيَابٍ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ لِأَنَّهَا صِفَةُ مَجْمُوعَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَجْمُوعَةٍ، وَأَمَّا الْخَفْضُ فَإِذَا جَعَلْتَهَا صِفَةَ سُنْدُسٍ، لِأَنَّ سُنْدُسٍ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَأَجَازَ الْأَخْفَشُ وَصْفَ اللَّفْظِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ بِالْجَمْعِ، كَمَا يُقَالُ: أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الصُّفْرُ وَالدِّرْهَمُ الْبِيضُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ قَبِيحٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى قُبْحِهِ أَنَّ الْعَرَبَ تَجِيءُ بِالْجَمْعِ الَّذِي هُوَ فِي لَفْظِ الْوَاحِدِ فَيُجْرُونَهُ مُجْرَى الْوَاحِدِ وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: حَصًى أَبْيَضُ وَفِي التَّنْزِيلِ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ [يس: 80] وأَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [الْقَمَرِ: 20] إِذْ كَانُوا قَدْ أَفْرَدُوا صِفَاتِ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْجَمْعِ، فَالْوَاحِدُ الَّذِي فِي مَعْنَى الْجَمْعِ أَوْلَى أَنْ تُفْرَدَ صِفَتُهُ، وَأَمَّا إِسْتَبْرَقٌ فَيَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ وَالْخَفْضُ أَيْضًا مَعًا، أَمَّا الرَّفْعُ فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْعَطْفُ عَلَى الثِّيَابِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: ثِيَابُ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٌ وَأَمَّا الْخَفْضُ فَإِذَا أُرِيدَ إِضَافَةُ الثِّيَابِ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: ثِيَابُ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ، وَالْمَعْنَى ثِيَابُهُمَا فَأَضَافَ الثِّيَابَ إِلَى الْجِنْسَيْنِ كَمَا يُقَالُ: ثِيَابُ خَزٍّ وَكَتَّانٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ [الكهف: 31] وَاعْلَمْ أَنَّ حَقَائِقَ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: السُّنْدُسُ مَا رَقَّ مِنَ الدِّيبَاجِ، وَالْإِسْتَبْرَقُ مَا غَلُظَ مِنْهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي اسْمِ الْحَرِيرِ قَالَ

تعالى: وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ [الحج: 23] ثُمَّ قِيلَ: إِنَّ الَّذِينَ هَذَا لِبَاسُهُمْ هُمُ الولدان المخلدون، وقيل: بل هَذَا لِبَاسُ الْأَبْرَارِ، وَكَأَنَّهُمْ يَلْبَسُونَ عِدَّةً مِنَ الثِّيَابِ فَيَكُونُ الَّذِي يَعْلُوهَا أَفْضَلَهَا، وَلِهَذَا قَالَ: عالِيَهُمْ وَقِيلَ هَذَا مِنْ تَمَامِ قَوْلِهِ: مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ وَمَعْنَى عالِيَهُمْ أَيْ فَوْقَ حِجَالِهِمُ الْمَضْرُوبَةِ عَلَيْهِمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّ حجالهم من الحرير والديباج. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الكهف: 31] فكيف جعل تلك الأساور هاهنا مِنْ فِضَّةٍ؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَلَعَلَّهُمْ يُسَوَّرُونَ بِالْجِنْسَيْنِ إِمَّا عَلَى الْمُعَاقَبَةِ أَوْ عَلَى الْجَمْعِ كَمَا تَفْعَلُ النِّسَاءُ فِي الدُّنْيَا وَثَانِيهَا: أَنَّ الطِّبَاعَ مُخْتَلِفَةٌ فَرُبَّ إِنْسَانٍ يَكُونُ اسْتِحْسَانُهُ لِبَيَاضِ الْفِضَّةِ فَوْقَ اسْتِحْسَانِهِ لِصُفْرَةِ الذَّهَبِ، فَاللَّهُ تَعَالَى يُعْطِي كُلَّ أَحَدٍ مَا تَكُونُ رَغْبَتُهُ فِيهِ أتم، وميله إليه/ أشدو ثالثها: أَنَّ هَذِهِ الْأَسْوِرَةَ مِنَ الْفِضَّةِ إِنَّمَا تَكُونُ لَلْوِلْدَانِ الَّذِينَ هُمُ الْخَدَمُ وَأَسْوِرَةُ الذَّهَبِ لِلنَّاسِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: السُّوَارُ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالنِّسَاءِ وَهُوَ عَيْبٌ لِلرِّجَالِ، فَكَيْفَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ التَّرْغِيبِ؟ الْجَوَابُ: أَهْلُ الْجَنَّةِ جُرْدٌ مُرْدٌ شَبَابٌ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُحَلَّوْا ذَهَبًا وَفِضَّةً وَإِنْ كَانُوا رِجَالًا، وَقِيلَ: هَذِهِ الْأَسْوِرَةُ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ إِنَّمَا تَكُونُ لِنِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلِلصِّبْيَانِ فَقَطْ، ثُمَّ غَلَبَ فِي اللَّفْظِ جَانِبُ التَّذْكِيرِ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ آلَةَ أَكْثَرِ الْأَعْمَالِ هِيَ الْيَدُ وَتِلْكَ الْأَعْمَالُ وَالْمُجَاهَدَاتُ هِيَ الَّتِي يُتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى تَحْصِيلِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَنْوَارِ الصَّمَدِيَّةِ، فَتَكُونُ تِلْكَ الْأَعْمَالُ جَارِيَةً مَجْرَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّتِي يُتَوَسَّلُ بِهِمَا إِلَى تَحْصِيلِ الْمَطَالِبِ، فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْأَعْمَالُ صَادِرَةً مِنَ الْيَدِ كَانَتْ تِلْكَ الْأَعْمَالُ جَارِيَةً مَجْرَى سِوَارِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَسُمِّيَتِ الْأَعْمَالُ وَالْمُجَاهَدَاتُ بِسِوَارِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَعَبَّرَ عَنْ تِلْكَ الْأَنْوَارِ الْفَائِضَةِ عَنِ الْحَضْرَةِ الصَّمَدِيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا وَقَوْلُهُ: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [الْعَنْكَبُوتِ: 69] فَهَذَا احْتِمَالٌ خَطَرَ بالبال، والله أعلم بمراده. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً الطَّهُورُ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُبَالَغَةُ فِي كَوْنِهِ طَاهِرًا، ثُمَّ فِيهِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ احْتِمَالَاتٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَكُونُ نَجِسًا كَخَمْرِ الدُّنْيَا وَثَانِيهَا: الْمُبَالَغَةُ فِي الْبُعْدِ عَنِ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْذَرَةِ يَعْنِي مَا مَسَّتْهُ الْأَيْدِي الْوَضِرَةُ، وَمَا دَاسَتْهُ الْأَقْدَامُ الدنسة وثالثها: أنها لا تؤول إِلَى النَّجَاسَةِ لِأَنَّهَا تَرْشَحُ عَرَقًا مِنْ أَبْدَانِهِمْ لَهُ رِيحٌ كَرِيحِ الْمِسْكِ الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الطَّهُورِ أَنَّهُ الْمُطَهِّرُ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَيْضًا فِي الْآيَةِ احْتِمَالَانِ أَحَدُهُمَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ عَيْنُ مَاءٍ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ تَنْبُعُ مِنْ سَاقِ شَجَرَةٍ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا نَزَعَ اللَّهُ مَا كَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ غِلٍّ وَغِشٍّ وَحَسَدٍ، وَمَا كَانَ فِي جَوْفِهِ مِنْ قَذَرٍ وَأَذًى وَثَانِيهِمَا: قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: يُؤْتَوْنَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فَإِذَا كَانَ فِي آخِرِ ذَلِكَ أُتُوا بِالشَّرَابِ الطَّهُورِ، فَيَشْرَبُونَ فَتَطْهُرُ بِذَلِكَ بُطُونُهُمْ، وَيَفِيضُ عَرَقٌ مِنْ جُلُودِهِمْ مِثْلُ رِيحِ الْمِسْكِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ الطَّهُورُ، مُطَهِّرًا لِأَنَّهُ يُطَهِّرُ بَاطِنَهُمْ عَنِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَالْأَشْيَاءِ الْمُؤْذِيَةِ، فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ هُوَ عَيْنُ مَا ذَكَرَ تَعَالَى قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَ مِنْ عَيْنِ الْكَافُورِ، وَالزَّنْجَبِيلِ، وَالسَّلْسَبِيلِ أَوْ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ؟ قُلْنَا: بَلْ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: دَفْعُ

[سورة الإنسان (76) : آية 22]

التَّكْرَارِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ هَذَا الشَّرَابَ إِلَى نَفْسِهِ، فَقَالَ: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَضْلٍ فِي هَذَا دُونَ غَيْرِهِ وَثَالِثُهَا: مَا رُوِّينَا أَنَّهُ تُقَدَّمُ إِلَيْهِمُ الْأَطْعِمَةُ وَالْأَشْرِبَةُ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْهَا أُتُوا بِالشَّرَابِ الطَّهُورِ فَيَشْرَبُونَ، / فيطهر ذلك بطونهم، ويفيض عرقا مِنْ جُلُودِهِمْ مِثْلُ رِيحِ الْمِسْكِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الشَّرَابَ مُغَايِرٌ لِتِلْكَ الْأَشْرِبَةِ، وَلِأَنَّ هَذَا الشَّرَابَ يَهْضِمُ سَائِرَ الْأَشْرِبَةِ، ثُمَّ لَهُ مَعَ هَذَا الْهَضْمِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجْعَلُ سَائِرَ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ عَرَقًا يَفُوحُ مِنْهُ رِيحٌ كَرِيحِ الْمِسْكِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ وَرَابِعُهَا: وَهُوَ أَنَّ الرُّوحَ مِنْ عَالَمِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْأَنْوَارُ الْفَائِضَةُ مِنْ جَوَاهِرِ أَكَابِرِ الْمَلَائِكَةِ، وَعُظَمَائِهِمْ عَلَى هَذِهِ الْأَرْوَاحِ مُشَبَّهَةٌ بِالْمَاءِ الْعَذْبِ الَّذِي يُزِيلُ الْعَطَشَ وَيُقَوِّي الْبَدَنَ، وَكَمَا أَنَّ الْعُيُونَ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الصَّفَاءِ وَالْكَثْرَةِ وَالْقُوَّةِ، فَكَذَا يَنَابِيعُ الْأَنْوَارِ الْعُلْوِيَّةِ مُخْتَلِفَةٌ، فَبَعْضُهَا تَكُونُ كَافُورِيَّةً عَلَى طَبْعِ الْبَرْدِ وَالْيُبْسِ، وَيَكُونُ صَاحِبُهَا فِي الدُّنْيَا فِي مَقَامِ الْخَوْفِ وَالْبُكَاءِ وَالِانْقِبَاضِ، وَبَعْضُهَا تَكُونُ زَنْجَبِيلِيَّةً عَلَى طَبْعِ الْحَرِّ وَالْيُبْسِ، فَيَكُونُ صَاحِبُ هَذِهِ الْحَالَةِ قَلِيلَ الِالْتِفَاتِ إِلَى مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى قَلِيلَ الْمُبَالَاةِ بِالْأَجْسَامِ وَالْجُسْمَانِيَّاتِ، ثُمَّ لَا تَزَالُ الرُّوحُ الْبَشَرِيَّةُ مُنْتَقِلَةً مِنْ يَنْبُوعٍ إِلَى يَنْبُوعٍ، وَمِنْ نُورٍ إِلَى نُورٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَسْبَابَ وَالْمُسَبَّبَاتِ مُتَنَاهِيَةٌ فِي ارْتِقَائِهَا إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ الَّذِي هُوَ النُّورُ الْمُطْلَقُ جَلَّ جَلَالُهُ وَعَزَّ كَمَالُهُ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى ذَلِكَ الْمَقَامِ وَشَرِبَ مِنْ ذَلِكَ الشَّرَابِ انْهَضَمَتْ تِلْكَ الْأَشْرِبَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ، بَلْ فَنِيَتْ، لِأَنَّ نُورَ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى يَضْمَحِلُّ فِي مُقَابَلَةِ نُورِ اللَّهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَذَلِكَ هُوَ آخِرُ سَيْرِ الصِّدِّيقِينَ، وَمُنْتَهَى دَرَجَاتِهِمْ فِي الِارْتِقَاءِ وَالْكَمَالِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَتَمَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَ ثَوَابِ الْأَبْرَارِ عَلَى قَوْلِهِ: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَمَّمَ شَرْحَ أَحْوَالِ السعداء، قال تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 22] إِنَّ هَذَا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمَعْنَى أَنَّهُ يُقَالُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِيهَا، وَمُشَاهَدَتِهِمْ لِنَعِيمِهَا: إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً قَدْ أَعَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لَكُمْ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ، فَهُوَ كُلُّهُ لَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ عَلَى قِلَّةِ أَعْمَالِكُمْ، كَمَا قَالَ حَاكِيًا عَنِ الْمَلَائِكَةِ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْدِ: 24] وَقَالَ: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [الْحَاقَّةِ: 24] وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يَزْدَادَ سُرُورُهُمْ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْمُعَاقَبِ: هَذَا بِعَمَلِكَ الرَّدِيءِ فَيَزْدَادُ غَمُّهُ وَأَلَمُ قَلْبِهِ، وَيُقَالُ لِلْمُثَابِ: هَذَا بِطَاعَتِكَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَهْنِئَةً لَهُ وَزِيَادَةً فِي سُرُورِهِ، وَالْقَائِلُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ جَعَلَ الْقَوْلَ مُضْمَرًا، أَيْ وَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا الْكَلَامُ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى شَرَحَ جَوَابَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَنَّ هَذَا كَانَ فِي عِلْمِي وَحُكْمِي جَزَاءً لَكُمْ يَا مَعَاشِرَ عِبَادِي، لَكُمْ خَلَقْتُهَا، وَلِأَجْلِكُمْ أَعْدَدْتُهَا، وَبَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: إِذَا كَانَ فِعْلُ الْعَبْدِ خَلْقًا لِلَّهِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ اللَّهِ جَزَاءً عَلَى فِعْلِ اللَّهِ؟ الْجَوَابُ: الْجُزْءُ هُوَ الْكَافِي، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَوْنُ سَعْيِ الْعَبْدِ مَشْكُورًا لِلَّهِ يَقْتَضِي كَوْنَ اللَّهِ شَاكِرًا لَهُ وَالْجَوَابُ: كَوْنُ اللَّهِ تَعَالَى شَاكِرًا لِلْعَبْدِ مُحَالٌ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، وَهُوَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّ الثَّوَابَ مُقَابِلٌ لِعِلْمِهِمْ، كَمَا أَنَّ

[سورة الإنسان (76) : آية 23]

الشُّكْرَ مُقَابِلٌ لِلنِّعَمِ الثَّانِي: قَالَ الْقَفَّالُ: إِنَّهُ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ النَّاسِ، أَنْ يَقُولُوا: لِلرَّاضِي بِالْقَلِيلِ وَالْمُثْنِي بِهِ إِنَّهُ شَكُورٌ، فَيُحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ شُكْرُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ هُوَ رِضَاهُ عَنْهُمْ بالقليل من الطاعات، وإعطاؤه إِيَّاهُمْ عَلَيْهِ ثَوَابًا كَثِيرًا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ مُنْتَهَى دَرَجَةِ الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا مِنْ ربه مرضيا لربه على ما قال: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً [الْفَجْرِ: 27، 28] وَكَوْنُهَا رَاضِيَةً مِنْ رَبِّهِ، أَقَلُّ دَرَجَةً مِنْ كَوْنِهَا مَرْضِيَّةً لِرَبِّهِ، فَقَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا كانَ لَكُمْ جَزاءً إِشَارَةٌ إِلَى الْأَمْرِ الَّذِي بِهِ تَصِيرُ النَّفْسُ رَاضِيَةً مِنْ رَبِّهِ وَقَوْلُهُ: وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهَا مَرْضِيَّةً لِرَبِّهِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْحَالُ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ وَآخِرَ الدَّرَجَاتِ لَا جَرَمَ وَقَعَ الْخَتْمُ عَلَيْهَا فِي ذِكْرِ مَرَاتِبِ أَحْوَالِ الْأَبْرَارِ والصديقين. [سورة الإنسان (76) : آية 23] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ وُجِدَ بَعْدَ الْعَدَمِ بِقَوْلِهِ: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الْإِنْسَانِ: 1] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَهُ مِنْ أَمْشَاجٍ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ إِمَّا كَوْنُهُ مَخْلُوقًا مِنَ الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ مِنَ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَوْ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَرْوَاحِ أَوْ مِنَ الْبَدَنِ وَالنَّفْسِ أَوْ مِنْ أَحْوَالٍ مُتَعَاقِبَةٍ عَلَى ذَلِكَ الْجِسْمِ مِثْلُ كَوْنِهِ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ عِظَامًا، وَعَلَى أَيِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ تُحْمَلُ هَذِهِ الْآيَةُ، فَلِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ جَلَّ جَلَالُهُ وَعَظُمَ كِبْرِيَاؤُهُ. ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنِّي مَا خَلَقْتُهُ ضَائِعًا عَاطِلًا بَاطِلًا، بَلْ خَلَقْتُهُ لِأَجْلِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: نَبْتَلِيهِ [الْإِنْسَانِ: 2] وهاهنا مَوْضِعُ الْخُصُومَةِ الْعَظِيمَةِ الْقَائِمَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنِّي أَعْطَيْتُهُ جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ، وَهُوَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْعَقْلُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الْإِنْسَانِ: 2] وَلَمَّا كَانَ الْعَقْلُ أَشْرَفَ الْأُمُورِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا فِي هَذَا الْبَابِ أَفْرَدَهُ عَنِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، فَقَالَ: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ [الْإِنْسَانِ: 3] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْخَلْقَ بَعْدَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ صَارُوا قِسْمَيْنِ: مِنْهُمْ شَاكِرٌ، وَمِنْهُمْ كُفُورٌ، وَهَذَا الِانْقِسَامُ بِاخْتِيَارِهِمْ كَمَا هُوَ تَأْوِيلُ الْقَدَرِيَّةِ، أَوْ مِنَ اللَّهِ عَلَى مَا هُوَ تَأْوِيلُ الْجَبْرِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَذَابَ الْكُفَّارِ عَلَى الِاخْتِصَارِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَوَابَ الْمُطِيعِينَ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ، وَهُوَ إِلَى قَوْلِهِ: وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً [الإنسان: 22] وَاعْلَمْ أَنَّ الِاخْتِصَارَ فِي ذِكْرِ الْعِقَابِ مَعَ الْإِطْنَابِ فِي شَرْحِ الثَّوَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَانِبَ/ الرَّحْمَةِ أَغْلَبُ وَأَقْوَى، فَظَهَرَ مِمَّا بَيَّنَّا أَنَّ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى شَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَقَدَّمَ شَرْحَ أَحْوَالِ الْمُطِيعِينَ عَلَى شَرْحِ أَحْوَالِ الْمُتَمَرِّدِينَ. أَمَّا الْمُطِيعُونَ فَهُمُ الرَّسُولُ وَأُمَّتُهُ، وَالرَّسُولُ هُوَ الرَّأْسُ وَالرَّئِيسُ، فَلِهَذَا خُصَّ الرَّسُولُ بِالْخِطَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِطَابَ إِمَّا النَّهْيُ وَإِمَّا الْأَمْرُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَبْلَ الْخَوْضِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّسُولِ مِنَ النَّهْيِ وَالْأَمْرِ، قَدَّمَ مُقَدِّمَةً فِي تَقْوِيَةُ قَلْبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِزَالَةِ الْغَمِّ وَالْوَحْشَةِ عَنْ خَاطِرِهِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالطَّاعَةِ وَالْقِيَامَ بِعُهْدَةِ التَّكْلِيفِ لَا يَتِمُّ إِلَّا مَعَ فَرَاغِ الْقَلْبِ ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ ذَكَرَ نَهْيَهُ عَنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ عَنِ النَّهْيِ، ذَكَرَ أَمْرَهُ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ النَّهْيَ عَلَى الْأَمْرِ، لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ أَهَمُّ مِنْ جَلْبِ النَّفْعِ، وإزالة مالا يَنْبَغِي مُقَدَّمٌ عَلَى تَحْصِيلِ مَا يَنْبَغِي، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَحْوَالَ الْمُتَمَرِّدِينَ وَالْكُفَّارِ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ بَيَانِهِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ، وَقَعَتْ عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِ التَّرْتِيبِ وَالنِّظَامِ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَوَّرَ عَقْلَ هَذَا الْمِسْكِينِ الضَّعِيفِ بِهَذِهِ الْأَنْوَارِ، وَلَهُ الشُّكْرُ عَلَيْهِ أَبَدَ الْآبَادِ.

[سورة الإنسان (76) : آية 24]

وَلِنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ فَنَقُولُ: أَمَّا تِلْكَ الْمُقَدِّمَةُ فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَثْبِيتُ الرَّسُولِ وَشَرْحُ صَدْرِهِ فِيمَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ مِنْ كِهَانَةٍ وَسِحْرٍ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ، فَلَا جَرَمَ بَالَغَ وَكَرَّرَ الضَّمِيرَ بَعْدَ إِيقَاعِهِ اسْمًا، لِأَنَّ تَأْكِيدًا عَلَى تَأْكِيدٍ أَبْلَغُ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ يَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ كِهَانَةٌ، فَأَنَا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ أَقُولُ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ إِنَّ ذَلِكَ وَحْيٌ حَقٌّ وَتَنْزِيلٌ صِدْقٌ مِنْ عِنْدِي، وَهَذَا فِيهِ فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: إِزَالَةُ الْوَحْشَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ طَعْنِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ بَعْضَ الْجُهَّالِ وَإِنْ طَعَنُوا فيه إلا أن جبار السموات عَظَّمَهُ وَصَدَّقَهُ. وَالثَّانِيَةُ: تَقْوِيَتُهُ عَلَى تَحَمُّلِ التَّكْلِيفِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُبَالِغُونَ فِي إِيذَائِهِ، وَهُوَ كَانَ يُرِيدُ مُقَاتَلَتَهُمْ فَلَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ الْإِيذَاءِ وَتَرْكِ الْمُقَاتَلَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ شَاقًّا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: إِنِّي مَا نَزَّلْتُ عَلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا إِلَّا لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ تَقْتَضِي تَخْصِيصَ كُلِّ شَيْءٍ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَلَقَدِ اقْتَضَتْ تِلْكَ الْحِكْمَةُ تَأْخِيرَ الْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ الصَّادِرِ عَنِ الْحِكْمَةِ الْمَحْضَةِ الْمُبَرَّأِ عَنِ الْعَيْبِ وَالْعَبَثِ وَالْبَاطِلِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَّمَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ ذَكَرَ النَّهْيَ فَقَالَ تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 24] فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فِي تَأْخِيرِ الْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ وَنَظِيرُهُ فَاصْبِرُوا حَتَّى/ يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ [الْأَعْرَافِ: 87] أَوْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَامًّا فِي جَمِيعِ التَّكَالِيفِ، أَيْ فَاصْبِرْ فِي كُلِّ مَا حَكَمَ بِهِ رَبُّكَ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا خَاصًّا بِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ أَوْ مُتَعَلِّقًا بِالْغَيْرِ وَهُوَ التَّبْلِيغُ وَأَدَاءُ الرِّسَالَةِ، وَتَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ النَّاشِئَةِ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ دَخَلَ فِيهِ أن لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً فَكَانَ ذِكْرُهُ بَعْدَ هَذَا تَكْرِيرًا. الْجَوَابُ: الْأَوَّلُ أَمْرٌ بِالْمَأْمُورَاتِ، وَالثَّانِي نَهْيٌ عَنِ الْمَنْهِيَّاتِ وَدَلَالَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخرة بِالِالْتِزَامِ لَا بِالتَّصْرِيحِ فَيَكُونُ التَّصْرِيحُ بِهِ مُفِيدًا. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يُطِيعُ أَحَدًا مِنْهُمْ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا النَّهْيِ؟ الْجَوَابُ: الْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ النَّاسَ مُحْتَاجُونَ إِلَى مُوَاصَلَةِ التَّنْبِيهِ وَالْإِرْشَادِ، لِأَجْلِ مَا تَرَكَّبَ فِيهِمْ مِنَ الشَّهَوَاتِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الْفَسَادِ، وَأَنَّ أَحَدًا لَوِ اسْتَغْنَى عَنْ تَوْفِيقِ اللَّهِ وَإِمْدَادِهِ وَإِرْشَادِهِ، لَكَانَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ هُوَ الرَّسُولَ الْمَعْصُومَ، وَمَتَى ظَهَرَ ذَلِكَ عَرَفَ كُلُّ مُسْلِمٍ، لأنه لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الرَّغْبَةِ إِلَى اللَّهِ والتضرع إليه في أنه يَصُونَهُ عَنِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْآثِمِ وَالْكَفُورِ؟ الْجَوَابُ: الْآثِمُ هُوَ الْمُقْدِمُ عَلَى الْمَعَاصِي أَيَّ مَعْصِيَةٍ كَانَتْ، وَالْكَفُورُ هو الجاحد للنعمة، فكل كفور آثم، أما ليس كُلُّ آثِمٍ كَفُورًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْآثِمَ عَامٌّ فِي الْمَعَاصِي كُلِّهَا لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً [النِّسَاءِ: 48] فَسَمَّى الشِّرْكَ إِثْمًا، وَقَالَ: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [الْبَقَرَةِ: 283] وَقَالَ: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ [الْأَنْعَامِ: 120] وَقَالَ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ [الْبَقَرَةِ: 219] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ هَذَا الإثم

[سورة الإنسان (76) : الآيات 25 إلى 26]

شَامِلٌ لِكُلِّ الْمَعَاصِي، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ فَقَدِ اجْتَمَعَ فِي حَقِّهِ هَذَانِ الْوَصْفَانِ، لِأَنَّهُ لَمَّا عَبَدَ غَيْرَهُ، فَقَدْ عَصَاهُ وَجَحَدَ إِنْعَامَهُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْآثِمُ، وَالْكَفُورُ هُوَ شَخْصٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَبُو جَهْلٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْآثِمُ هُوَ الْوَلِيدُ وَالْكَفُورُ هُوَ عُتْبَةُ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى الْوَلِيدَ أَثِيمًا فِي قَوْلِهِ: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ إِلَى قَوْلِهِ: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ [الْقَلَمِ: 10- 12] وَرَوَى صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنَّ الْآثِمَ هُوَ عُتْبَةُ وَالْكَفُورَ هُوَ الْوَلِيدُ لِأَنَّ عُتْبَةَ كَانَ رَكَّابًا لِلْمَآثِمِ مُتَعَاطِيًا لِأَنْوَاعِ الْفُسُوقِ وَالْوَلِيدَ كَانَ غَالِيًا فِي الْكُفْرِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُتَأَيِّدٌ بِالْقُرْآنِ، يُرْوَى أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْجِعْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ حَتَّى أُزَوِّجَكَ وَلَدِي فَإِنِّي مِنْ أَجْمَلِ قُرَيْشٍ وَلَدًا وَقَالَ الْوَلِيدُ: أَنَا أُعْطِيكَ مِنَ الْمَالِ حَتَّى تَرْضَى، فَإِنِّي مِنْ أَكْثَرِهِمْ مَالًا، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ حم السَّجْدَةِ إِلَى قَوْلِهِ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فُصِّلَتْ: 1- 13] فَانْصَرَفَا عَنْهُ وَقَالَ أَحَدُهُمَا ظَنَنْتُ أَنَّ الْكَعْبَةَ سَتَقَعُ عَلَيَّ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْآثِمَ وَالْكَفُورَ مُطْلَقَانِ غَيْرُ مُخْتَصَّيْنِ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى الظَّاهِرِ، ثُمَّ قَالَ الْحَسَنُ الْآثِمُ هُوَ الْمُنَافِقُ وَالْكَفُورُ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ بَلِ الْحَقُّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْآثِمَ عَامٌّ وَالْكُفُورَ خَاصٌّ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: كَانُوا كُلُّهُمْ كَفَرَةً، فَمَا مَعْنَى الْقِسْمَةِ فِي قَوْلِهِ: آثِماً أَوْ كَفُوراً؟ الْجَوَابُ: الْكَفُورُ أَخْبَثُ أَنْوَاعِ الْآثِمِ، فَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى غَايَةِ خُبْثِهِ وَنِهَايَةِ بُعْدِهِ عَنِ اللَّهِ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: كَلِمَةُ أَوْ تَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ طَاعَةِ أَحَدِهِمَا فَلِمَ لَمْ يَذْكُرِ الْوَاوَ حَتَّى يَكُونَ نَهْيًا عَنْ طَاعَتِهِمَا جَمِيعًا؟ الْجَوَابُ: ذَكَرُوا فِيهِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ وَاخْتَارَهُ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: وَلَا تُطِعْهُمَا لَجَازَ أَنْ يُطِيعَ أَحَدَهُمَا لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ طَاعَةِ مَجْمُوعِ شَخْصَيْنِ لَا يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ طَاعَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحْدَهُ، أَمَّا النَّهْيُ عَنْ طَاعَةِ أَحَدِهِمَا فَيَكُونُ نَهْيًا عَنْ طَاعَةِ مَجْمُوعِهِمَا لِأَنَّ الْوَاحِدَ دَاخِلٌ فِي الْمَجْمُوعِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا تُطِعْ هَذَا وَهَذَا مَعْنَاهُ كُنْ مُخَالِفًا لِأَحَدِهِمَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِيجَابِ مُخَالَفَةِ أَحَدِهِمَا إِيجَابُ مُخَالَفَتِهِمَا مَعًا، فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: إِذَا أَمَرَكَ أَحَدُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فَخَالِفْهُ، أَمَّا إِذَا تَوَافَقَا فَلَا تُخَالِفْهُمَا. وَالثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ لَا تُطِعْ مِنْهُمْ أَحَدًا سَوَاءٌ كَانَ آثِمًا أَوْ كَفُورًا كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِمَنْ يَسْأَلُهُ شَيْئًا: لا أعطيك سواء سألت أو سكت. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا النَّهْيَ عقبه بالأمر، فقال: [سورة الإنسان (76) : الآيات 25 الى 26] وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الصَّلَاةُ قَالُوا: لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْبُكْرَةِ وَالْأَصِيلِ يَدُلُّ عَلَى أن المراد من قوله: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ الصَّلَوَاتُ. ثُمَّ قَالُوا: الْبُكْرَةُ هِيَ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَالْأَصِيلُ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ جَامِعَةً الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَقَوْلُهُ: وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا الْمُرَادُ مِنْهُ التَّهَجُّدُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ نُسِخَ كَمَا ذَكَرْنَا فِي

[سورة الإنسان (76) : آية 27]

سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ أَمْرٌ وَهُوَ لِلْوُجُوبِ لَا سِيَّمَا إِذَا تَكَرَّرَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ التَّطَوُّعُ وَحُكْمُهُ ثَابِتٌ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أن المراد من قوله: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ لَيْسَ هُوَ الصَّلَاةَ بَلِ الْمُرَادُ التَّسْبِيحُ الَّذِي هُوَ الْقَوْلُ وَالِاعْتِقَادُ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِلَّهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ لَيْلًا وَنَهَارًا بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْأَحْزَابِ: 41] . وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ لَطِيفَةً أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا [الإنسان: 23] أَيْ/ هَدَيْنَاكَ إِلَى هَذِهِ الْأَسْرَارِ، وَشَرَحْنَا صَدْرَكَ بِهَذِهِ الْأَنْوَارِ، وَإِذْ قَدْ فَعَلْنَا بِكَ ذَلِكَ فَكُنْ مُنْقَادًا مُطِيعًا لِأَمْرِنَا، وَإِيَّاكَ وَأَنْ تَكُونَ مُنْقَادًا مُطِيعًا لِغَيْرِنَا، ثُمَّ لَمَّا أَمَرَهُ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَاهُ عَنْ طَاعَةِ غَيْرِهِ قَالَ: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعُقُولَ الْبَشَرِيَّةَ لَيْسَ عِنْدَهَا إِلَّا مَعْرِفَةُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، أَمَّا مَعْرِفَةُ الْحَقِيقَةِ فَلَا، فَتَارَةً يُقَالُ لَهُ: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ، وَتَارَةً يُقَالُ لَهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ [الْأَعْرَافِ: 205] وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَقَامِ الصِّفَاتِ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْحَقِيقَةِ الْمَخْصُوصَةِ الَّتِي هِيَ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِسَائِرِ اللَّوَازِمِ السَّلْبِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ، فَلَا سَبِيلَ لِشَيْءٍ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ وَالْمُحْدَثَاتِ، إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهَا وَالِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا، فَسُبْحَانَ مَنِ اخْتَفَى عَنِ الْعُقُولِ لِشِدَّةِ ظُهُورِهِ واحتجب عنها بكمال نوره. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَاطَبَ رَسُولَهُ بِالتَّعْظِيمِ وَالنَّهْيِ وَالْأَمْرِ عَدَلَ إِلَى شَرْحِ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ والمتمردين، فقال تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 27] إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) وَالْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي حَمَلَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ عَلَى الْكُفْرِ، وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ لَيْسَ هُوَ الشُّبْهَةَ حَتَّى يَنْتَفِعُوا بِالدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، بَلِ الشَّهْوَةُ وَالْمَحَبَّةُ لِهَذِهِ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ وَالرَّاحَاتِ الدِّينِيَّةِ، وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ: وَراءَهُمْ وَلَمْ يَقُلْ: قُدَّامَهُمْ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: لَمَّا لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، وَأَعْرَضُوا عَنْهُ فَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ مَصَالِحَ يَوْمٍ ثَقِيلٍ فَأَسْقَطَ الْمُضَافَ وَثَالِثُهَا: أن تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى قُدَّامٍ كَقَوْلِهِ: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ [إِبْرَاهِيمَ: 16] وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ [الْكَهْفِ: 79] . السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا السَّبَبُ فِي وَصْفِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِأَنَّهُ يَوْمٌ ثَقِيلٌ؟ الْجَوَابُ: اسْتُعِيرَ الثِّقَلُ لِشِدَّتِهِ وَهَوْلِهِ، مِنَ الشَّيْءِ الثَّقِيلِ الَّذِي يَتْعَبُ حَامِلُهُ وَنَحْوُهُ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَعْرَافِ: 187] . ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الدَّاعِيَ لَهُمْ إِلَى هذا الكفر حب العاجل، قال: [سورة الإنسان (76) : آية 28] نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) وَالْمُرَادُ أَنَّ حُبَّهُمْ لِلْعَاجِلَةِ يُوجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَةَ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ الرَّغْبَةُ وَمِنْ حَيْثُ الرَّهْبَةُ، أَمَّا مِنْ حَيْثُ الرَّغْبَةُ فَلِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَأَعْطَاهُمُ الْأَعْضَاءَ السَّلِيمَةَ الَّتِي بِهَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِاللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ، وَخَلَقَ جَمِيعَ ما يمكن

[سورة الإنسان (76) : الآيات 29 إلى 30]

الِانْتِفَاعُ بِهِ، فَإِذَا أَحَبُّوا اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةَ، وَتِلْكَ اللَّذَّاتُ لَا تَحْصُلُ/ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الْمُنْتَفِعِ وَحُصُولِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ، وَهَذَانَ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا بِتَكْوِينِ اللَّهِ وَإِيجَادِهِ، فَهَذَا مِمَّا يُوجِبُ عَلَيْهِمُ الِانْقِيَادَ لِلَّهِ وَلِتَكَالِيفِهِ وَتَرْكَ التَّمَرُّدِ وَالْإِعْرَاضِ، وَأَمَّا من حيث الرهبة فلأنه قدر عَلَى أَنْ يُمِيتَهُمْ، وَعَلَى أَنْ يَسْلُبَ النِّعْمَةَ عَنْهُمْ، وَعَلَى أَنْ يُلْقِيَهُمْ فِي كُلِّ مِحْنَةٍ وَبَلِيَّةٍ، فَلِأَجْلِ مِنْ فَوْتِ هَذِهِ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْقَادُوا لِلَّهِ، وَأَنْ يَتْرُكُوا هَذَا التَّمَرُّدَ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: هَبْ أَنَّ حُبَّكُمْ لِهَذِهِ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ طَرِيقَةٌ مُسْتَحْسَنَةٌ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ عَلَيْكُمُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَالِانْقِيَادَ لَهُ، فَلَوْ أَنَّكُمْ تَوَسَّلْتُمْ بِهِ إِلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ حُكْمِهِ، لَكُنْتُمْ قَدْ تَمَرَّدْتُمْ، وَهَذَا تَرْتِيبٌ حَسَنٌ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ وَطَرِيقَةٌ لَطِيفَةٌ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْأَسْرُ الرَّبْطُ وَالتَّوْثِيقُ، وَمِنْهُ أُسِرَ الرَّجُلُ إِذَا وُثِّقَ بِالْقَدِّ وَفَرَسٌ مَأْسُورُ الْخَلْقِ وَفَرَسٌ مَأْسُورٌ بِالْعَقِبِ، وَالْمَعْنَى شَدَدْنَا تَوْصِيلَ أَعْضَائِهِمْ بَعْضًا بِبَعْضٍ وَتَوْثِيقَ مَفَاصِلِهِمْ بِالْأَعْصَابِ. المسألة الثانية: وَإِذا ... بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ أَيْ إِذَا شِئْنَا أَهْلَكْنَاهُمْ وَأَتَيْنَا بِأَشْبَاهِهِمْ فَجَعَلْنَاهُمْ بَدَلًا مِنْهُمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ [الواقعة: 61] وَالْغَرَضُ مِنْهُ بَيَانُ الِاسْتِغْنَاءِ التَّامِّ عَنْهُمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ أَلْبَتَّةَ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَثْبُتَ الْحَاجَةُ فَلَا حَاجَةَ إِلَى هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ، فَإِنَّا قَادِرُونَ عَلَى إِفْنَائِهِمْ، وَعَلَى إِيجَادِ أَمْثَالِهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً [النِّسَاءِ: 133] وَقَالَ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إِبْرَاهِيمَ: 19، 20] ثُمَّ قِيلَ: بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ أَيْ فِي الْخِلْقَةِ، وَإِنْ كَانُوا أَضْدَادَهُمْ فِي الْعَمَلِ، وَقِيلَ: أَمْثَالُهُمْ فِي الْكُفْرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: فِي قَوْلِهِ: وَإِذا شِئْنا إن حقه أن يجيء بأن لا بإذا كَقَوْلِهِ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [مُحَمَّدٍ: 38] إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ [النساء: 133] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ كَأَنَّهُ طَعْنٌ فِي لَفْظِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من إن وإذا حرف الشرط، إِلَّا أَنَّ حَرْفَ إِنْ لَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَكُونُ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ، فَلَا يُقَالُ: إِنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ أَكْرَمْتُكَ، أَمَّا حَرْفُ إِذَا فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا كَانَ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ، تَقُولُ: آتِيكَ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَهَهُنَا لَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى عَالِمًا بِأَنَّهُ سَيَجِيءُ وَقْتٌ يُبَدِّلُ اللَّهُ فِيهِ أُولَئِكَ الْكَفَرَةَ بِأَمْثَالِهِمْ فِي الْخِلْقَةِ وَأَضْدَادِهِمْ فِي الطَّاعَةِ، لَا جَرَمَ حَسُنَ اسْتِعْمَالُ حَرْفِ إِذَا. [سورة الإنسان (76) : الآيات 29 الى 30] إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ السُّعَدَاءِ وَأَحْوَالَ الْأَشْقِيَاءِ قَالَ بَعْدَهُ: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ بِمَا فِيهَا مِنَ/ التَّرْتِيبِ الْعَجِيبِ وَالنَّسَقِ الْبَعِيدِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، تَذْكِرَةٌ لِلْمُتَأَمِّلِينَ وَتَبْصِرَةٌ لِلْمُسْتَبْصِرِينَ، فَمَنْ شَاءَ الْخِيرَةَ لِنَفْسِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا. وَاتِّخَاذُ السَّبِيلِ إِلَى اللَّهِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَاتِ الَّتِي تَلَاطَمَتْ فِيهَا أَمْوَاجُ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، فَالْقَدَرِيُّ يَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا وَيَقُولُ: إِنَّهُ صَرِيحُ مَذْهَبِي وَنَظِيرُهُ: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الْكَهْفِ: 29] وَالْجَبْرِيُّ يَقُولُ: مَتَى ضُمَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا خَرَجَ مِنْهُ صَرِيحُ مَذْهَبِ الْجَبْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا يَقْتَضِي

[سورة الإنسان (76) : آية 31]

أَنْ تَكُونَ مَشِيئَةُ الْعَبْدِ مَتَى كَانَتْ خَالِصَةً فَإِنَّهَا تَكُونُ مُسْتَلْزِمَةً لِلْفِعْلِ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَشِيئَةَ الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد ومستلزمة الْمُسْتَلْزِمِ مُسْتَلْزِمٌ، فَإِذًا مَشِيئَةُ اللَّهِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ هُوَ الْجَبْرُ، وَهَكَذَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْجَبْرِ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَيْضًا تَقْتَضِي كَوْنَ الْمَشِيئَةِ مُسْتَلْزِمَةً لِلْفِعْلِ ثُمَّ التَّقْرِيرُ مَا تَقَدَّمَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي لَخَّصْنَاهُ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ كَلَامُ الْقَاضِي إِلَّا أَنَّا نَذْكُرُهُ وَنُنَبِّهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الضَّعْفِ، قَالَ الْقَاضِي: الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اتِّخَاذُ السَّبِيلِ إِلَى اللَّهِ، وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَهُ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِهِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ شَاءَهُ. وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ الْعَبْدُ: لَا يَشَاءُ إِلَّا مَا قَدْ شَاءَهُ اللَّهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، إِذِ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْأَمْرُ الْمَخْصُوصُ الَّذِي قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَرَادَهُ وَشَاءَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَأَيْضًا فَحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي تَخْصِيصُ هَذَا الْعَامِّ بِالصُّورَةِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ خُصُوصَ مَا قَبْلَ الْآيَةِ لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذَا الْعَامِّ بِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَارِدًا بِحَيْثُ يَعُمُّ تِلْكَ الصُّورَةَ وَسَائِرَ الصُّوَرِ، بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ يَتَعَلَّقُ بِالْإِعْرَابِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا مَحَلُّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ؟ وَجَوَابُهُ النَّصْبُ عَلَى الظَّرْفِ، وَأَصْلُهُ إِلَّا وَقْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: «إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ» لِأَنَّ مَا مع الفعل كأن معه، وقرئ أيضا يشاءون بالياء. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً أَيْ عَلِيمًا بِأَحْوَالِهِمْ وَمَا يَكُونُ مِنْهُمْ حَيْثُ خَلَقَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ. ثُمَّ خَتَمَ السورة فقال: [سورة الإنسان (76) : آية 31] يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) اعْلَمْ أَنَّ خَاتِمَةَ هَذِهِ السورة عجيبة، وذلك لأن قوله: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْإِنْسَانِ: 30] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ/ مَا يَصْدُرُ عَنِ الْعَبْدِ فَبِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَيْسَ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، فَخَرَجَ مِنْ آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَّا اللَّهَ وَمَا هُوَ مِنَ اللَّهِ، وَذَلِكَ هُوَ التَّوْحِيدُ الْمُطْلَقُ الَّذِي هُوَ آخِرُ سَيْرِ الصِّدِّيقِينَ وَمُنْتَهَى مَعَارِجِهِمْ فِي أَفْلَاكِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ إِنْ فَسَّرْنَا الرحمة الإيمان، فَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ مِنَ اللَّهِ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهَا بِالْجَنَّةِ كَانَ دُخُولُ الْجَنَّةِ بِسَبَبِ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ لَا بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ لَكَانَ تَرْكُهُ يُفْضِي إِلَى الْجَهْلِ وَالْحَاجَةِ الْمُحَالَيْنِ عَلَى اللَّهِ، وَالْمُفْضِي إِلَى الْمَحَالِ مُحَالٌ فَتَرْكُهُ مُحَالٌ فَوُجُودُهُ وَاجِبٌ عَقْلًا وَعَدَمُهُ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ مُعَلَّقًا عَلَى الْمَشِيئَةِ أَلْبَتَّةَ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ مَنْ كَانَ مَدْيُونًا مِنْ إِنْسَانٍ فَأَدَّى ذَلِكَ الدَّيْنَ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ لَا يُقَالُ: بِأَنَّهُ إِنَّمَا دَفَعَ ذَلِكَ الْقَدْرَ إِلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الرَّحْمَةِ وَالتَّفَضُّلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، لِأَنَّ مَعْنَى

أَعَدَّ أَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ وَقَضَى بِهِ، وَأَخْبَرَ عَنْهُ وَكَتَبَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّغْيِيرَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُحَالٌ، فَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَقُلْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: نَصْبُ الظَّالِمِينَ لِأَنَّ قَبْلَهُ مَنْصُوبًا، وَالْمَعْنَى يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَيُعَذِّبُ الظَّالِمِينَ وَقَوْلُهُ: أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً كَالتَّفْسِيرِ لِذَلِكَ الْمُضْمَرِ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: وَالظَّالِمُونَ، وَهَذَا لَيْسَ بِاخْتِيَارٍ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ وَعَطْفُ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ غَيْرُ حَسَنٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي حم عسق: يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ فَإِنَّمَا ارْتَفَعَ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ بَعْدَهُ فِعْلٌ يَقَعُ عَلَيْهِ فَيَنْصِبَهُ فِي الْمَعْنَى، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى الْمَنْصُوبِ قَبْلَهُ، فَارْتَفَعَ بِالِابْتِدَاءِ، وهاهنا قَوْلُهُ: أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ النَّاصِبِ الْمُضْمَرِ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة المرسلات

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة المرسلات وهي خمسون آية مكية [سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) [في قوله تعالى وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً إلى قوله فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا بِأَسْرِهَا الْمَلَائِكَةُ فَالْمُرْسَلَاتُ هُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ إِمَّا بِإِيصَالِ النِّعْمَةِ إِلَى قَوْمٍ أَوْ لِإِيصَالِ النِّقْمَةِ إِلَى آخَرِينَ، وَقَوْلُهُ: عُرْفاً فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مُتَتَابِعَةٌ كَشَعْرِ الْعُرْفِ يُقَالُ: جَاءُوا عُرْفًا وَاحِدًا وَهُمْ عَلَيْهِ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِذَا تَأَلَّبُوا عَلَيْهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْعُرْفِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ النَّكِرَةِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ إِنْ كَانُوا بُعِثُوا لِلرَّحْمَةِ، فَهَذَا الْمَعْنَى فِيهِمْ ظَاهِرٌ وَإِنْ كَانُوا لِأَجْلِ الْعَذَابِ فَذَلِكَ الْعَذَابُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا لِلْكُفَّارِ، فَإِنَّهُ مَعْرُوفٌ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ انْتَقَمَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْهُمْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَأَنَّهُ قِيلَ: وَالْمُرْسَلَاتِ إِرْسَالًا أَيْ مُتَتَابِعَةً وَانْتِصَابُ عُرْفًا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَلَى الْحَالِ، وَعَلَى الثَّانِي لِكَوْنِهِ مَفْعُولًا أَيْ أُرْسِلَتْ لِلْإِحْسَانِ وَالْمَعْرُوفِ وَقَوْلُهُ: فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَرْسَلَ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةَ فَهُمْ عَصَفُوا فِي طَيَرَانِهِمْ كَمَا تَعْصِفُ الرِّيَاحُ وَالثَّانِي: أن هؤلاء أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ يَعْصِفُونَ بِرُوحِ الْكَافِرِ يُقَالُ: عَصَفَ بِالشَّيْءِ إِذَا أَبَادَهُ وَأَهْلَكَهُ، يُقَالُ: نَاقَةٌ عَصُوفٌ، أَيْ تَعْصِفُ بِرَاكِبِهَا فَتَمْضِي كَأَنَّهَا رِيحٌ فِي السُّرْعَةِ، وَعَصَفَتِ الْحَرْبُ بِالْقَوْمِ، أَيْ ذَهَبَتْ بِهِمْ، قَالَ الشَّاعِرُ: فِي فَيْلَقٍ شَهْبَاءُ مَلْمُومَةٌ ... تَعْصِفُ بِالْمُقْبِلِ وَالْمُدْبِرِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالنَّاشِراتِ نَشْراً مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ نَشَرُوا أَجْنِحَتَهُمْ عِنْدَ انْحِطَاطِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ، أَوْ نَشَرُوا الشَّرَائِعَ فِي الْأَرْضِ، أَوْ نَشَرُوا الرَّحْمَةَ أَوِ الْعَذَابَ، أَوِ الْمُرَادُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَنْشُرُونَ/ الْكُتُبَ يَوْمَ الْحِسَابِ، وَهِيَ الْكُتُبُ الَّتِي فِيهَا أَعْمَالُ بَنِي آدَمَ، قَالَ تَعَالَى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً [الْإِسْرَاءِ: 13] وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ

نَشَرُوا الشَّيْءَ الَّذِي أُمِرُوا بِإِيصَالِهِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَنَشْرِهِ فِيهِمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْفارِقاتِ فَرْقاً مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَفْرِقُونَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَقَوْلُهُ: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُلْقُونَ الذِّكْرَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنَ الذِّكْرِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، كَمَا قَالَ: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [النَّحْلِ: 2] وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هو القرآن خاصة، وهو قوله: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا [الْقَمَرِ: 25] وَقَوْلُهُ: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ [الْقَصَصِ: 86] وَهَذَا الْمُلْقِي وَإِنْ كَانَ هُوَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحْدَهُ، إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الْوَاحِدُ بِاسْمِ الْجَمَاعَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ. وَاعْلَمْ أَنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقَسَمِ التَّنْبِيهُ عَلَى جَلَالَةِ الْمُقْسَمِ بِهِ، وَشَرَفُ الْمَلَائِكَةِ وَعُلُوُّ رُتْبَتِهِمْ أَمْرٌ ظَاهِرٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: شِدَّةُ مُوَاظَبَتِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [النحل: 50] ولا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 27] وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ أَقْسَامٌ: فَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لِإِنْزَالِ الْوَحْيِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لِلُزُومِ بَنِي آدَمَ لِكِتَابَةِ أَعْمَالِهِمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِالنَّهَارِ وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِاللَّيْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لِقَبْضِ أَرْوَاحِ بَنِي آدَمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ بِالْوَحْيِ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى أُخْرَى، إِلَى أَنْ يَنْزِلَ بِذَلِكَ الْوَحْيِ مَلَكُ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَمِنْهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَنْزِلُونَ كُلَّ يَوْمٍ مِنَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ إِلَى الْكَعْبَةِ عَلَى مَا رُوِيَ ذَلِكَ فِي الْأَخْبَارِ، فَهَذَا مِمَّا يَنْتَظِمُهُ قَوْلُهُ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ثُمَّ مَا فِيهَا مِنْ سُرْعَةِ السَّيْرِ، وَقَطْعِ الْمَسَافَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، كَقَوْلِهِ: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [الْمَعَارِجِ: 4] ثُمَّ مَا فِيهَا مِنْ نَشْرِ أَجْنِحَتِهِمُ الْعَظِيمَةِ عِنْدَ الطَّيَرَانِ، وَنَشْرِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ وَالْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ، وَإِظْهَارِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِسَبَبِ إِنْزَالِ ذَلِكَ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ، وَإِلْقَاءِ الذِّكْرِ فِي الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْوَحْيِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَلَائِكَةُ هُمُ الْوَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَيْنَ عِبَادِهِ فِي الفوز فجميع السَّعَادَاتِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ وَالْخَيْرَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالرُّوحَانِيَّةِ، فَلِذَلِكَ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِمْ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسِ بِأَسْرِهَا الرِّيَاحُ، أَقْسَمَ اللَّهُ بِرِيَاحِ عَذَابٍ أَرْسَلَهَا عُرْفًا، أَيْ مُتَتَابِعَةً كشعر العرف، كما قال: يُرْسِلُ الرِّياحَ [الروم: 46] وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ [الْحِجْرِ: 22] ثُمَّ إِنَّهَا تَشْتَدُّ حَتَّى تَصِيرَ عَوَاصِفَ وَرِيَاحَ رَحْمَةٍ نَشَرَتِ السَّحَابَ فِي الْجَوِّ، كَمَا قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [النمل: 63] وَقَالَ: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ [الرُّومِ: 48] وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: الرِّيَاحُ تُعِينُ النَّبَاتَ وَالزَّرْعَ وَالشَّجَرَ عَلَى النُّشُورِ وَالْإِنْبَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تُلَقِّحُ فَيَبْرُزُ النَّبَاتُ بِذَلِكَ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الْحِجْرِ: 22] فَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَكُونُ الرِّيَاحُ نَاشِرَةً لِلنَّبَاتِ وَفِي كَوْنِ الرِّيَاحِ فَارِقَةً وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الرِّيَاحَ تُفَرِّقُ بَعْضَ أَجْزَاءِ السَّحَابِ عَنْ بَعْضٍ وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَرَّبَ بَعْضَ الْقُرَى بِتَسْلِيطِ الرِّيَاحِ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا/ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ [الْحَاقَّةِ: 6] وَذَلِكَ سَبَبٌ لِظُهُورِ الْفَرْقِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ عِنْدَ حُدُوثِ الرِّيَاحِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَتَرْتِيبِ الْآثَارِ الْعَجِيبَةِ عَلَيْهَا مِنْ تَمَوُّجِ السَّحَابِ وَتَخْرِيبِ الدِّيَارِ تَصِيرُ الْخَلْقُ مُضْطَرِّينَ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ وَالتَّضَرُّعِ عَلَى بَابِ رَحْمَتِهِ، فَيَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُقِرِّ وَالْمُنْكِرِ وَالْمُوَحِّدِ وَالْمُلْحِدِ، وَقَوْلُهُ: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَاقِلَ إِذَا شَاهَدَ هُبُوبَ الرِّيَاحِ الَّتِي تَقْلِعُ الْقِلَاعَ، وَتَهْدِمُ الصُّخُورَ وَالْجِبَالَ، وَتَرْفَعُ الْأَمْوَاجَ تَمَسَّكَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالْتَجَأَ إِلَى إِعَانَةِ اللَّهِ، فَصَارَتْ تِلْكَ الرِّيَاحُ كَأَنَّهَا أَلْقَتِ الذِّكْرَ وَالْإِيمَانَ وَالْعُبُودِيَّةَ فِي الْقَلْبِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ تَكُونُ عَلَى

سَبِيلِ الْمَجَازِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الذِّكْرَ حَصَلَ عِنْدَ حُدُوثِ هَذِهِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ بَعْضَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسَةِ عَلَى الْقُرْآنِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ جَمِيعِهَا عَلَى الْقُرْآنِ، فَقَوْلُهُ: وَالْمُرْسَلاتِ الْمُرَادُ مِنْهَا الْآيَاتُ الْمُتَتَابِعَةُ الْمُرْسَلَةُ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ: عُرْفاً أَيْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بِكُلِّ عُرْفٍ وَخَيْرٍ وَكَيْفَ لَا وَهِيَ الْهَادِيَةُ إِلَى سَبِيلِ النَّجَاةِ والموصلة إلى مجامع الخيرات وفَالْعاصِفاتِ عَصْفاً فَالْمُرَادُ أَنَّ دَوْلَةَ الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ كَانَتْ ضَعِيفَةً فِي الْأَوَّلِ، ثُمَّ عَظُمَتْ وَقَهَرَتْ سَائِرَ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ، فَكَأَنَّ دَوْلَةَ الْقُرْآنِ عَصَفَتْ بِسَائِرِ الدُّوَلِ وَالْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ وَقَهَرَتْهَا، وَجَعَلَتْهَا بَاطِلَةً دَائِرَةً، وَقَوْلُهُ: وَالنَّاشِراتِ نَشْراً الْمُرَادُ أَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ نَشَرَتْ آثَارَ الْحِكْمَةِ وَالْهِدَايَةِ فِي قُلُوبِ الْعَالَمِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَقَوْلُهُ: فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَذَلِكَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ هِيَ الَّتِي تَفْرِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَلِذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ فُرْقَانًا، وَقَوْلُهُ: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً فَالْأَمْرُ فِيهِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ ذِكْرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: 1] وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزُّخْرُفِ: 44] وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ، [الأنبياء: 50] وتذكرة كَمَا قَالَ: وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [الْحَاقَّةِ: 48] وَذِكْرَى كَمَا قَالَ: ذِكْرى لِلْعالَمِينَ [الْأَنْعَامِ: 90] فَظَهَرَ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسَةِ بِالْقُرْآنِ، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ فَإِنَّهُ مُحْتَمَلٌ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: يُمْكِنُ حَمْلُهَا أَيْضًا عَلَى بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً هُمُ الْأَشْخَاصُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا بِالْوَحْيِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ وَمَعْرُوفٍ، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ أُرْسِلُوا بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ مِفْتَاحُ كُلِّ خَيْرٍ وَمَعْرُوفٍ فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً مَعْنَاهُ أَنَّ أَمْرَ كُلِّ رَسُولٍ يَكُونُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حَقِيرًا ضَعِيفًا، ثُمَّ يَشْتَدُّ وَيَعْظُمُ وَيَصِيرُ فِي الْقُوَّةِ كَعَصْفِ الرِّيَاحِ وَالنَّاشِراتِ نَشْراً الْمُرَادُ مِنْهُ انْتِشَارُ دِينِهِمْ وَمَذْهَبِهِمْ وَمَقَالَتِهِمْ فَالْفارِقاتِ فَرْقاً الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَفْرِقُونَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْإِلْحَادِ فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ الْخَلْقَ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَيَأْمُرُونَهُمْ بِهِ وَيَحُثُّونَهُمْ عَلَيْهِ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ مُشْتَغِلًا بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا مُسْتَغْرِقًا فِي طَلَبِ لَذَّاتِهَا وَرَاحَاتِهَا، فَفِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ يَرِدُ فِي قَلْبِهِ دَاعِيَةُ الْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةِ فِي خِدْمَةِ الْمَوْلَى، فَتِلْكَ الدَّوَاعِي هِيَ الْمُرْسَلَاتُ عُرْفًا، ثُمَّ هَذِهِ الْمُرْسَلَاتُ لَهَا أَثَرَانِ أَحَدُهُمَا: إِزَالَةُ حُبِّ/ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْقَلْبِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَالثَّانِي: ظُهُورُ أَثَرِ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ فِي جَمِيعِ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ حَتَّى لَا يَسْمَعَ إِلَّا اللَّهَ، وَلَا يُبْصِرَ إِلَّا اللَّهَ، وَلَا يَنْظُرَ إِلَّا اللَّهَ، فَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ: وَالنَّاشِراتِ نَشْراً ثُمَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَنْكَشِفُ لَهُ نُورُ جَلَالِ اللَّهِ فَيَرَاهُ مَوْجُودًا، وَيَرَى كُلَّ مَا سِوَاهُ مَعْدُومًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَالْفارِقاتِ فَرْقاً ثُمَّ يَصِيرُ الْعَبْدُ كَالْمُشْتَهِرِ فِي مَحَبَّتِهِ، وَلَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ إِلَّا ذِكْرُهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ الْأَخِيرَةَ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَذْكُورَةٍ إِلَّا أَنَّهَا مُحْتَمَلَةٌ جِدًّا. وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسِ شَيْئًا وَاحِدًا، فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي، وَهُوَ أَنَّ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ هِيَ الرِّيَاحُ، فَقَوْلُهُ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً هِيَ الرِّيَاحُ التي تتصل على العرف المعتاد وفَالْعاصِفاتِ مَا يَشْتَدُّ مِنْهُ، وَالنَّاشِراتِ مَا يَنْشُرُ السَّحَابَ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْحَلَّالِ وَالْحَرَامِ، بِمَا يَتَحَمَّلُونَهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:

فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ الْمُتَحَمِّلَةُ لِلذِّكْرِ الْمُلْقِيَةُ ذَلِكَ إِلَى الرُّسُلِ، فَإِنْ قِيلَ: وَمَا الْمُجَانَسَةُ بَيْنَ الرِّيَاحِ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسَمِ؟ قُلْنَا: الْمَلَائِكَةُ رُوحَانِيُّونَ، فَهُمْ بِسَبَبِ لَطَافَتِهِمْ وَسُرْعَةِ حَرَكَاتِهِمْ كَالرِّيَاحِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الِاثْنَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ هُمَا الرِّيَاحُ، فَقَوْلُهُ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً هُمَا الرِّيَاحُ، وَالثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ الْمَلَائِكَةُ، لِأَنَّهَا تَنْشُرُ الْوَحْيَ وَالدِّينَ، ثُمَّ لِذَلِكَ الْوَحْيِ أَثَرَانِ أَحَدُهُمَا: حُصُولُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ وَالثَّانِي: ظُهُورُ ذِكْرِ اللَّهِ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَلْسِنَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَا رَأَيْتُهُ لِأَحَدٍ، وَلَكِنَّهُ ظَاهِرُ الِاحْتِمَالِ أَيْضًا، وَالَّذِي يُؤَكِّدُهُ أَنَّهُ قَالَ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً، فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً عَطَفَ الثَّانِيَ عَلَى الْأَوَّلِ بِحَرْفِ الْفَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْوَاوَ فَقَالَ: وَالنَّاشِراتِ نَشْراً وَعَطَفَ الِاثْنَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ عَلَيْهِ بِحَرْفِ الْفَاءِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلَانِ مُمْتَازَيْنِ عَنِ الثلاثة الأخيرة القول الثالث: يمكن أيضا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالْأَوَّلَيْنِ الْمَلَائِكَةُ، فَقَوْلُهُ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ، وَقَوْلُهُ: فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، وَالثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ آيَاتُ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهَا تَنْشُرُ الْحَقَّ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ، وَتُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَتُلْقِي الذِّكْرَ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَلْسِنَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا مَا رَأَيْتُهُ لِأَحَدٍ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، وَمَنْ وَقَفَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَمْكَنَهُ أَنْ يذكر فيه وجوها، والله أعلم بمراده. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: الْوَجْهُ فِي دُخُولِ الْفَاءِ فِي بَعْضِ مَا وَقَعَ بِهِ الْقَسَمُ، وَالْوَاوِ فِي بَعْضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ أَنَّ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ الْفَاءُ تَقْتَضِي الْوَصْلَ وَالتَّعَلُّقَ، فَإِذَا قِيلَ: قَامَ زَيْدٌ فَذَهَبَ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَامَ لِيَذْهَبَ فَكَانَ قِيَامُهُ سَبَبًا لِذَهَابِهِ وَمُتَّصِلًا بِهِ، وَإِذَا قِيلَ: قَامَ وَذَهَبَ فَهُمَا خَبَرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخَرِ، ثُمَّ إِنَّ الْقَفَّالَ لَمَّا مَهَّدَ هَذَا الْأَصْلَ فَرَّعَ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِوُجُوهٍ لَا يَمِيلُ قَلْبِي إِلَيْهَا، وَأَنَا أُفَرِّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَأَقُولُ: أَمَّا مَنْ/ جَعَلَ الْأَوَّلَيْنِ صِفَتَيْنِ لِشَيْءٍ وَالثَّلَاثَةَ الْأَخِيرَةَ صِفَاتٍ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَالْإِشْكَالُ عَنْهُ زَائِلٌ، وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْكُلَّ صِفَاتٍ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَنَقُولُ: إِنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الْمَلَائِكَةِ، فَالْمَلَائِكَةُ إِذَا أُرْسِلَتْ طَارَتْ سَرِيعًا، وَذَلِكَ الطَّيَرَانُ هُوَ الْعَصْفُ، فَالْعَصْفُ مُرَتَّبٌ عَلَى الْإِرْسَالِ فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ الْفَاءَ، أَمَّا النَّشْرُ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِرْسَالِ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ أَوَّلَ مَا يُبَلِّغُونَ الْوَحْيَ إِلَى الرُّسُلِ لَا يَصِيرُ فِي الْحَالِ ذَلِكَ الدِّينُ مَشْهُورًا مُنْتَشِرًا، بَلِ الْخَلْقُ يُؤْذُونَ الْأَنْبِيَاءَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَيَنْسُبُونَهُمْ إِلَى الْكَذِبِ وَالسِّحْرِ وَالْجُنُونِ، فَلَا جَرَمَ لم يذكر الفاء التي تفيد بل ذكر الواو، بلى إِذَا حَصَلَ النَّشْرُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُصُولُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِّ، وَالْبَاطِلِ وَظُهُورُ ذِكْرِ الْحَقِّ عَلَى الْأَلْسِنَةِ فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِحَرْفِ الْفَاءِ، فَكَأَنَّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قِيلَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَرْسَلْتُ الْمَلَكَ إِلَيْكَ بِالْوَحْيِ الَّذِي هُوَ عُنْوَانُ كُلِّ سَعَادَةٍ، وَفَاتِحَةُ كُلِّ خَيْرٍ، وَلَكِنْ لَا تَطْمَعْ فِي أَنْ نَنْشُرَ ذَلِكَ الْأَمْرَ في الحالة، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ الصَّبْرِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ، ثُمَّ إِذَا جَاءَ وَقْتُ النُّصْرَةِ أَجْعَلُ دِينَكَ ظَاهِرًا مُنْتَشِرًا فِي شَرْقِ الْعَالَمِ وَغَرْبِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ الِانْتِشَارِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ فَتَصِيرُ الْأَدْيَانُ الْبَاطِلَةُ ضَعِيفَةً سَاقِطَةً، وَدِينُكَ هُوَ الدِّينَ الْحَقَّ ظَاهِرًا غَالِبًا، وَهُنَالِكَ يُظْهِرُ ذَلِكَ اللَّهُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، وفي المحاريب وعلى المنابر ويصير العالم مملوا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَهَذَا إِذَا حَمَلْنَا هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَمَنْ عَرَفَ هَذَا الْوَجْهَ أَمْكَنَهُ ذِكْرُ مَا شَابَهَهُ فِي الرِّيَاحِ وَسَائِرِ الْوُجُوهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ: عُذْراً أَوْ نُذْراً فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِيهِمَا قِرَاءَتَانِ التَّخْفِيفُ وَهُوَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ مِنْ رِوَايَةِ حَفْصٍ وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا

[سورة المرسلات (77) : آية 7]

بِالتَّثْقِيلِ، أَمَّا التَّخْفِيفُ فَلَا نِزَاعَ فِي كَوْنِهِ مَصْدَرًا، وَالْمَعْنَى إِعْذَارًا وَإِنْذَارًا، وَأَمَّا التَّثْقِيلُ فَزَعَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ جَمْعٌ وَلَيْسَ بِمَصْدَرٍ، وَأَمَّا الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ فَزَعَمَا أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَالتَّثْقِيلُ وَالتَّخْفِيفُ لُغَتَانِ، وَقَرَّرَ أَبُو عَلِيٍّ قَوْلَ الْأَخْفَشِ وَالزَّجَّاجِ، وَقَالَ: الْعُذُرُ وَالْعَذِيرُ وَالنُّذُرُ وَالنَّذِيرُ مِثْلُ النُّكُرِ وَالنَّكِيرِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَيَجُوزُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ ثَقَّلَ أَنْ يَكُونَ عُذُرًا جَمْعَ عَاذِرٍ كَشُرُفٍ وَشَارِفٍ، وَكَذَلِكَ النُّذُرُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ نَذِيرٍ، قَالَ تَعَالَى: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى [النَّجْمِ: 56] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي النَّصْبِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَصْدَرًا فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: ذِكْرًا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، وَالْمَعْنَى وَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا لِلْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ، وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ جَمْعًا، فَنُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْإِلْقَاءِ وَالتَّقْدِيرُ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا حَالَ كونهم عاذرين ومنذرين. [سورة المرسلات (77) : آية 7] إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) جَوَابُ الْقَسَمِ وَالْمَعْنَى، إِنَّ الَّذِي تُوعَدُونَ بِهِ مِنْ مَجِيءِ/ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَكَائِنٌ نَازِلٌ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مَا تُوعَدُونَ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لَوَاقِعٌ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَاتِ، عَلَامَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْقِيَامَةُ فَقَطْ، ثُمَّ إِنَّهُ ذَكَرَ عَلَامَاتِ وُقُوعِ هذا اليوم. أولها: قوله تعالى: [سورة المرسلات (77) : آية 8] فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَذَكَرْنَا تَفْسِيرَ الطَّمْسِ عِنْدَ قَوْلِهِ: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ [يُونُسَ: 88] وَبِالْجُمْلَةِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُحِقَتْ ذَوَاتُهَا، وَهُوَ موافق لقوله: انْتَثَرَتْ [الإنفطار: 2] وانْكَدَرَتْ [التكوير: 2] وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُحِقَتْ أَنْوَارُهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى الْإِضْمَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُمْحَقَ نُورُهَا ثُمَّ تَنْتَثِرَ مَمْحُوقَةَ النُّورِ. وثانيها: [سورة المرسلات (77) : آية 9] وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) الْفَرْجُ الشَّقُّ يُقَالُ: فَرَّجَهُ اللَّهُ فَانْفَرَجَ، وَكُلُّ مَشْقُوقٍ فَرْجٌ، فَهَهُنَا قَوْلُهُ: فرجت أي شقت نظيره وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الِانْشِقَاقِ: 1] ويَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الْفُرْقَانِ: 25] وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مَعْنَاهُ فُتِحَتْ، نَظِيرُهُ وَفُتِحَتِ السَّماءُ [النبأ: 19] قَالَ الشَّاعِرُ: الْفَارِجِي بَابَ الْأَمِيرِ الْمُبْهَمِ وَثَالِثُهَا: قوله: [سورة المرسلات (77) : آية 10] وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: نُسِفَتْ كَالْحَبِّ الْمُغَلَّثِ إِذَا نُسِفَ بِالْمِنْسَفِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ [طه: 97] وَنَظِيرُهُ وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا [الْوَاقِعَةِ: 5] وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 14] فَقُلْ

[سورة المرسلات (77) : آية 11]

يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه: 105] وَالثَّانِي: اقْتُلِعَتْ بِسُرْعَةٍ مِنْ أَمَاكِنِهَا مِنِ انْتَسَفْتُ الشَّيْءَ إِذَا اخْتَطَفْتَهُ، وقرئ طُمِسَتْ وفُرِجَتْ ونُسِفَتْ مشددة. ورابعها: قوله تعالى: [سورة المرسلات (77) : آية 11] وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أُقِّتَتْ أَصْلُهَا وُقِّتَتْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وُقِّتَتْ بِالْوَاوِ وَثَانِيهَا: أَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ مِنَ الْوَقْتِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ كُلَّ وَاوٍ انْضَمَّتْ وَكَانَتْ ضَمَّتُهَا لَازِمَةً فَإِنَّهَا تُبْدَلُ عَلَى الِاطِّرَادِ هَمْزَةً أَوَّلًا وَحَشْوًا، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ: صَلَّى الْقَوْمُ إِحْدَانًا، وَهَذِهِ أُجُوهٌ حِسَانٌ وَأَدْؤُرٌ فِي جَمْعِ دَارٍ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أن الضمة من جنس الواو، فالجمع بينهما يَجْرِي مَجْرَى جَمْعِ الْمِثْلَيْنِ فَيَكُونُ ثَقِيلًا، وَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ كَسْرُ الْيَاءِ ثَقِيلًا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 237] فَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْبَدَلُ لِأَنَّ الضَّمَّةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسُوغُ فِي نَحْوِ قولك: هذا وعد أَنْ تُبْدِلَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي التَّأْقِيتِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالزَّجَّاجِ أَنَّهُ تَبْيِينُ الْوَقْتِ الَّذِي فِيهِ يَحْضُرُونَ لِلشَّهَادَةِ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ جُعِلَتْ عَلَامَاتٍ/ لِقِيَامِ الْقِيَامَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا كَانَتِ الْقِيَامَةُ، وَلَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ يُقَالَ: وَإِذَا بَيَّنَ لَهُمُ الْوَقْتَ الَّذِي يَحْضُرُونَ فِيهِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى أُمَمِهِمْ قَامَتِ الْقِيَامَةُ لِأَنَّ ذَلِكَ الْبَيَانَ كَانَ حَاصِلًا فِي الدنيا ولأن الثلاثة المتقدمة هي الطَّمْسُ وَالْفَرْجُ وَالنَّسْفُ مُخْتَصَّةٌ بِوَقْتِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ، فَكَذَا هَذَا التَّوْقِيتُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِوَقْتِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا التَّأْقِيتِ تَحْصِيلُ الْوَقْتِ وَتَكْوِينُهُ، وَهَذَا أَقْرَبُ أَيْضًا إِلَى مُطَابَقَةِ اللَّفْظِ، لِأَنَّ بِنَاءَ التَّفْعِيلَاتِ عَلَى تَحْصِيلِ تِلْكَ الْمَاهِيَّاتِ، فَالتَّسْوِيدُ تَحْصِيلُ السَّوَادِ وَالتَّحْرِيكُ تَحْصِيلُ الْحَرَكَةِ، فَكَذَا التَّأْقِيتُ تَحْصِيلُ الْوَقْتِ ثُمَّ إِنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ بَيَانُ أَنَّهُ تَحْصِيلٌ لِوَقْتِ أَيِّ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُعَيِّنْ لِأَجْلِ أَنْ يَذْهَبَ الْوَهْمُ إِلَى كُلِّ جَانِبٍ فَيَكُونُ التَّهْوِيلُ فِيهِ أَشَدَّ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَكْوِينَ الْوَقْتِ الَّذِي يَحْضُرُونَ فِيهِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى أُمَمِهِمْ وَأَنْ يَكُونَ هُوَ الْوَقْتَ الَّذِي يَجْتَمِعُونَ فِيهِ لِلْفَوْزِ بِالثَّوَابِ، وَأَنْ يَكُونَ هُوَ وَقْتَ سُؤَالِ الرُّسُلِ عَمَّا أُجِيبُوا بِهِ وَسُؤَالِ الْأُمَمِ عَمَّا أَجَابُوهُمْ، كَمَا قال: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الْأَعْرَافِ: 6] وَأَنْ يَكُونَ هُوَ الْوَقْتَ الَّذِي يُشَاهِدُونَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَالْعَرْضَ وَالْحِسَابَ وَالْوَزْنَ وَسَائِرَ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: 60] . [سورة المرسلات (77) : آية 12] لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) أَيْ أُخِّرَتْ كَأَنَّهُ تَعَالَى يُعَجِّبُ الْعِبَادَ مِنْ تَعْظِيمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَالَ: لِأَيِّ يَوْمٍ أُخِّرَتِ الْأُمُورُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَؤُلَاءِ. وَهِيَ تَعْذِيبُ مَنْ كَذَّبَهُمْ وَتَعْظِيمُ مَنْ آمَنَ بِهِمْ وَظُهُورُ مَا كَانُوا يَدْعُونَ الْخَلْقَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَالْعَرْضِ وَالْحِسَابِ وَنَشْرِ الدَّوَاوِينِ وَوَضْعِ الْمَوَازِينِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ ذَلِكَ فقال:

[سورة المرسلات (77) : آية 13]

[سورة المرسلات (77) : آية 13] لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَوْمُ يَفْصِلُ الرَّحْمَنُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدُّخَانِ: 40] . ثم أتبع ذلك تعظيما ثانيا فقال: [سورة المرسلات (77) : آية 14] وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) أَيْ وَمَا عِلْمُكَ بِيَوْمِ الْفَصْلِ وَشِدَّتِهِ وَمَهَابَتِهِ. ثُمَّ أَتْبَعَهُ بتهويل ثالث فقال: [سورة المرسلات (77) : آية 15] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَيْ لِلْمُكَذِّبِينَ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَبِكُلِّ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السلام وأخبروا عنه، بقي هاهنا سُؤَالَانِ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ وَقَعَ النَّكِرَةُ مُبْتَدَأً فِي قَوْلِهِ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ؟ الْجَوَابُ: هُوَ فِي أَصْلِهِ مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ سَادٌّ مَسَدَّ فِعْلِهِ، وَلَكِنَّهُ عُدِلَ بِهِ إِلَى الرَّفْعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى ثَبَاتِ الْهَلَاكِ/ وَدَوَامِهِ لِلْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ، وَنَحْوُهُ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الزمر: 73] وَيَجُوزُ وَيْلًا بِالنَّصْبِ، وَلَكِنْ لَمْ يُقْرَأْ بِهِ. السؤال الثاني: أين جوابه قَوْلِهِ: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: التَّقْدِيرُ: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ، إِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ يَقَعُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ، الثَّانِي: أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا وَإِذَا، فَحِينَئِذٍ تقع المجازاة بالأعمال وتقوم القيامة. [سورة المرسلات (77) : الآيات 16 الى 19] أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الصُّورَةِ تَخْوِيفُ الْكُفَّارِ وَتَحْذِيرُهُمْ عَنِ الْكُفْرِ. فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ: مِنَ التَّخْوِيفِ أَنَّهُ أَقْسَمَ عَلَى أَنَّ الْيَوْمَ الَّذِي يُوعَدُونَ بِهِ، وَهُوَ يَوْمُ الْفَصْلِ وَاقِعٌ ثُمَّ هَوَّلَ فَقَالَ: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ [المرسلات: 14] ثُمَّ زَادَ فِي التَّهْوِيلِ فَقَالَ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 15] . وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنَ التَّخْوِيفِ: مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَهْلَكَ الْكَفَرَةَ الْمُتَقَدِّمِينَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، فَإِذَا كَانَ الْكُفْرُ حَاصِلًا فِي هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُهْلِكَهُمْ أَيْضًا ثُمَّ قَالَ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ كَأَنَّهُ يَقُولُ، أَمَّا الدُّنْيَا فَحَاصِلُهُمُ الْهَلَاكُ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الْحَجِّ: 11] وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ الْأَوَّلُ: مَا الْمُرَادُ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ

[سورة المرسلات (77) : الآيات 20 إلى 24]

أَهْلَكَ الْأَوَّلِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ثُمَّ أَتْبَعَهُمُ الْآخِرِينَ قَوْمَ شُعَيْبٍ وَلُوطٍ وَمُوسَى كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ فَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ وَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَاضِيَ أَلْبَتَّةَ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِينَ جَمِيعُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ عَلَى مَعْنَى سَنَفْعَلُ ذَلِكَ وَنُتْبِعُ الْأَوَّلَ الْآخِرَ، وَيَدُلُّ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ سَنُتْبِعُهُمُ، فَإِنْ قِيلَ: قَرَأَ الْأَعْرَجُ ثُمَّ نُتْبِعْهُمُ بِالْجَزْمِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي أَلَمْ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الْمَاضِيَ لَا الْمُسْتَقْبَلَ، قُلْنَا: الْقِرَاءَةُ الثَّابِتَةُ بِالتَّوَاتُرِ نُتْبِعُهُمُ بِحَرَكَةِ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُسْتَقْبَلَ، فَلَوِ اقْتَضَتِ الْقِرَاءَةُ بِالْجَزْمِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْمَاضِيَ لَوَقَعَ التَّنَافِي بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. فَعَلِمْنَا أن تسكين العين ليس للجزم لِلتَّخْفِيفِ كَمَا رُوِيَ فِي بَيْتِ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَالْيَوْمَ أُشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ بِأُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِينَ قَالَ: كَذلِكَ/ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أَيْ هَذَا الْإِهْلَاكُ إِنَّمَا نَفْعَلُهُ بِهِمْ لكونهم مجرمين، فلا جرم فِي جَمِيعِ الْمُجْرِمِينَ، لِأَنَّ عُمُومَ الْعِلَّةِ يَقْتَضِي عُمُومَ الْحُكْمِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَيْ هَؤُلَاءِ وَإِنْ أُهْلِكُوا وَعُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا، فَالْمُصِيبَةُ الْعُظْمَى وَالطَّامَّةُ الْكُبْرَى مُعَدَّةٌ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنَ الْإِهْلَاكِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ هُوَ مُطْلَقُ الْإِمَاتَةِ أَوِ الْإِمَاتَةُ بِالْعَذَابِ؟ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ تَخْوِيفًا لِلْكُفَّارِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ حَاصِلٌ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَلَا يَصْلُحُ تَحْذِيرًا لِلْكَافِرِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الثَّانِيَ وَهُوَ الْإِمَاتَةُ بِالْعَذَابِ، فَقَوْلُهُ: ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ فَعَلَ بِكُفَّارِ قُرَيْشٍ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَالِ: 33] الْجَوَابُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِمَاتَةَ بِالتَّعْذِيبِ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي حَقِّ قُرَيْشٍ وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ؟ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْإِهْلَاكِ مَعْنًى ثَالِثًا مُغَايِرًا لِلْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرُوهُمَا وَهُوَ الْإِمَاتَةُ الْمُسْتَعْقِبَةُ لِلذَّمِّ وَاللَّعْنِ؟ فكأنه قيل: إن أولئك المتقدمين لحصرهم عَلَى الدُّنْيَا عَانَدُوا الْأَنْبِيَاءَ وَخَاصَمُوهُمْ، ثُمَّ مَاتُوا فَقَدْ فَاتَتْهُمُ الدُّنْيَا وَبَقِيَ اللَّعْنُ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقُوبَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ دَائِمًا سَرْمَدًا، فَهَكَذَا يَكُونُ حَالُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْمَوْجُودِينَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هذا الكلام من أعظم وجوه الزجر. [سورة المرسلات (77) : الآيات 20 الى 24] أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ وَوَجْهُ التَّخْوِيفِ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى

[سورة المرسلات (77) : الآيات 25 إلى 28]

ذَكَّرَهُمْ عَظِيمَ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ، وَكُلَّمَا كَانَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ كَانَتْ جِنَايَتُهُمْ فِي حَقِّهِ أَقْبَحَ وَأَفْحَشَ، وَكُلَّمَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْعِقَابُ أَعْظَمَ، فَلِهَذَا قَالَ عَقِيبَ ذِكْرِ هَذَا الْإِنْعَامِ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَّرَهُمْ كَوْنَهُ قَادِرًا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَظَاهِرٌ فِي الْعَقْلِ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الِابْتِدَاءِ قَادِرٌ عَلَى الْإِعَادَةِ، فَلَمَّا أَنْكَرُوا هَذِهِ الدَّلَالَةَ الظَّاهِرَةَ، لَا جَرَمَ قَالَ فِي حَقِّهِمْ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَأَمَّا التَّفْسِيرُ فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أَيْ مِنَ النُّطْفَةِ، كَقَوْلِهِ: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السَّجْدَةِ: 8] فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ وَهُوَ الرَّحِمُ، لِأَنَّ مَا يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَثْبُتَ فِي الرَّحِمِ وَيَتَمَكَّنَ بِخِلَافِ مالا يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ، ثُمَّ قَالَ: إِلى / قَدَرٍ مَعْلُومٍ وَالْمُرَادُ كَوْنُهُ فِي الرَّحِمِ إِلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ، وَذَلِكَ الْوَقْتُ مَعْلُومٌ لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِغَيْرِهِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إِلَى قَوْلِهِ: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ [لُقْمَانَ: 34] فَقَدَرْنا قَرَأَ نَافِعٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ، أَمَّا التَّشْدِيدُ فَالْمَعْنَى إِنَّا قَدَّرْنَا ذَلِكَ تَقْدِيرًا فَنِعْمَ الْمُقَدِّرُونَ لَهُ نَحْنُ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الْوَجْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ وَلِأَنَّ إِيقَاعَ الْخَلْقِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَالتَّحْدِيدِ نِعْمَةٌ مِنَ الْمُقَدِّرِ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَحَسُنَ ذِكْرُهُ فِي مَوْضِعِ ذِكْرِ الْمِنَّةِ وَالنِّعْمَةِ، وَمَنْ طَعَنَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَالَ: لَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: فَقَدَّرْنَا فَنَعِمَ الْمُقَدِّرُونَ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَجْمَعُ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ، قَالَ تَعَالَى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطَّارِقِ: 17] وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالتَّخْفِيفِ فَفِيهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنَ الْقُدْرَةِ أَيْ فَقَدَرْنَا عَلَى خَلْقِهِ وَتَصْوِيرِهِ كَيْفَ شِئْنَا وَأَرَدْنَا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ حَيْثُ خَلَقْنَاهُ فِي أَحْسَنِ الصُّوَرِ وَالْهَيْئَاتِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُقَالُ: قَدَرْتُ الشَّيْءَ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى مَعْنَى قَدَّرْتُهُ، قَالَ: الْفَرَّاءُ الْعَرَبُ تَقُولُ: قَدَرَ عَلَيْهِ الْمَوْتَ، وَقَدَّرَ عَلَيْهِ الْمَوْتَ، وَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ وَقَدَّرَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ، قَالَ تَعَالَى: فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر: 16] . [سورة المرسلات (77) : الآيات 25 الى 28] أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ مَاءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنَ تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ذَكَّرَهُمْ بِالنِّعَمِ الَّتِي لَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْأَنْفُسِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَّرَهُمْ بِالنِّعَمِ الَّتِي لَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْآفَاقِ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَالسَّبَبُ فِيهِ مَا قَدَّمْنَا أَنَّ النِّعَمَ كُلَّمَا كَانَتْ أَكْثَرَ كَانَتِ الْجِنَايَةُ أَقْبَحَ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ الذَّمِّ عَاجِلًا وَالْعِقَابِ آجِلًا أَشَدَّ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ تِلْكَ الْآيَةَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ النِّعَمَ الَّتِي فِي الْأَنْفُسِ كَالْأَصْلِ لِلنِّعَمِ الَّتِي فِي الْآفَاقِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا الْحَيَاةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْأَعْضَاءُ السَّلِيمَةُ لَمَا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقِ مُمْكِنًا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذكر هاهنا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ أَوَّلُهَا: الْأَرْضُ، وَإِنَّمَا قَدَّمَهَا لِأَنَّ أَقْرَبَ الْأَشْيَاءِ إِلَيْنَا مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ هُوَ الْأَرْضُ، وَمَعْنَى الْكِفَاتِ فِي اللُّغَةِ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ يُقَالُ: كَفَتُّ الشَّيْءَ أَيْ ضَمَمْتُهُ، وَيُقَالُ: جِرَابٌ كَفِيتٌ وَكِفْتٌ إِذَا كَانَ لَا يُضَيِّعُ شَيْئًا مِمَّا يُجْعَلُ فِيهِ، وَيُقَالُ: لِلْقِدْرِ: كِفْتٌ. قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: هُوَ اسْمُ مَا يَكْفِتُ، كَقَوْلِهِمْ الضِّمَامُ وَالْجِمَاعُ لِمَا يَضُمُّ وَيَجْمَعُ، وَيُقَالُ: هَذَا الْبَابُ جِمَاعُ الْأَبْوَابِ، وَتَقُولُ: شَدَدْتُ الشَّيْءَ ثُمَّ تسمي الخيط الذي تشد بِهِ الشَّيْءَ شِدَادًا، وَبِهِ انْتَصَبَ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا كَأَنَّهُ قِيلَ: كَافِتَةً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، أَوْ بِفِعْلٍ

[سورة المرسلات (77) : الآيات 29 إلى 34]

مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ نَكْفِتُ وَيَكُونُ الْمَعْنَى نَكْفِتُكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، فَيُنْصَبَانِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ هَذَا هُوَ اللُّغَةُ، ثُمَّ فِي الْمَعْنَى/ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَكْفِتُ أَحْيَاءً عَلَى ظَهْرِهَا وَأَمْوَاتًا فِي بَطْنِهَا وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَحْيَاءَ يَسْكُنُونَ فِي مَنَازِلِهِمْ وَالْأَمْوَاتَ يُدْفَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ، وَلِهَذَا كَانُوا يُسَمُّونَ الْأَرْضَ أُمًّا لِأَنَّهَا فِي ضَمِّهَا لِلنَّاسِ كَالْأُمِّ الَّتِي تَضُمُّ وَلَدَهَا وَتَكْفُلُهُ، وَلَمَّا كَانُوا يُضَمُّونَ إِلَيْهَا جُعِلَتْ كَأَنَّهَا تَضُمُّهُمْ وَثَانِيهَا: أَنَّهَا كِفَاتُ الْأَحْيَاءِ بِمَعْنَى أَنَّهَا تَكْفِتُ مَا ينفصل الْأَحْيَاءِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْذَرَةِ، فَأَمَّا أَنَّهَا تَكْفِتُ [الْأَحْيَاءَ] حَالَ كَوْنِهِمْ عَلَى ظَهْرِهَا فَلَا وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا كِفَاتُ الْأَحْيَاءِ بِمَعْنَى أَنَّهَا جَامِعَةٌ لِمَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَيْهِ فِي حَاجَاتِهِ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ وَالْأَبْنِيَةُ الْجَامِعَةُ لِلْمَصَالِحِ الدَّافِعَةُ لِلْمَضَارِّ مَبْنِيَّةٌ مِنْهَا وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: أَحْياءً وَأَمْواتاً مَعْنَاهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْحَيُّ مَا أُنْبِتَ وَالْمَيِّتُ مَا لَمْ يُنْبَتْ، بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: لِمَ قِيلَ: أَحْياءً وَأَمْواتاً عَلَى التَّنْكِيرِ وَهِيَ كِفَاتُ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ جَمِيعًا؟ الْجَوَابُ: هُوَ مِنْ تَنْكِيرِ التَّفْخِيمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: تَكْفِتُ أَحْيَاءً لَا يُعَدُّونَ، وَأَمْوَاتًا لَا يُحْصَرُونَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ قَطْعِ النَّبَّاشِ؟ الْجَوَابُ: نَقَلَ الْقَفَّالُ أَنَّ رَبِيعَةَ قَالَ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ كِفَاتُ الْمَيِّتِ فَتَكُونُ حِرْزًا لَهُ، وَالسَّارِقُ مِنَ الْحِرْزِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ النِّعَمِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ فَقَوْلُهُ: رَواسِيَ أَيْ ثَوَابِتَ عَلَى ظَهْرِ الأرض لا تزول شامِخاتٍ أَيْ عَالِيَاتٍ، وَكُلُّ عَالٍ فَهُوَ شَامِخٌ، وَيُقَالُ: لِلْمُتَكَبِّرِ شَامِخٌ بِأَنْفِهِ، وَمَنَافِعُ خِلْقَةِ الْجِبَالِ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي هَذَا الْكِتَابِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ النِّعَمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَسْقَيْناكُمْ مَاءً فُراتاً الْفُرَاتُ هُوَ الْغَايَةُ فِي الْعُذُوبَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ [الْفُرْقَانِ: 53] . [سورة المرسلات (77) : الآيات 29 الى 34] انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الْخَامِسُ: مِنْ وُجُوهِ تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ وَهُوَ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ عَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَأَمَّا قَوْلُهُ: انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ مِنَ الْعَذَابِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ القائلين هم خزنة النار وانطلقوا الثَّانِي تَكْرِيرٌ، وَقَرَأَ/ يَعْقُوبُ انْطَلَقُوا عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمُ انْقَادُوا لِلْأَمْرِ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ إِلَيْهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ امْتِنَاعًا مِنْهُ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: فَانْطَلَقُوا بِالْفَاءِ، لِيَرْتَبِطَ آخِرُ الْكَلَامِ بِأَوَّلِهِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إن الشمس تقرب يوم القيامة من رؤوس الْخَلَائِقِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ يَوْمَئِذٍ لِبَاسٌ وَلَا كِنَانٌ، فتلفحهم الشمس وتسفعهم وتأخذ بأنفسهم وَيَمْتَدُّ ذَلِكَ الْيَوْمُ، ثُمَّ

يُنْجِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ إِلَى ظِلٍّ مِنْ ظِلِّهِ فَهُنَاكَ يَقُولُونَ: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ [الطُّورِ: 27] وَيُقَالُ لِلْمُكَذِّبِينَ: انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ، وَقَوْلُهُ: إِلى ظِلٍّ يَعْنِي دُخَانَ جَهَنَّمَ كَقَوْلِهِ: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ [الْوَاقِعَةِ: 43] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذَا الظِّلَّ بِصِفَاتٍ: الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا الظِّلُّ، وَلَا سَمِعْتُ فِيهِ شَيْئًا وَثَانِيهَا: قَالَ قَوْمٌ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ كَوْنُ النَّارِ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَمُحِيطَةً بِهِمْ، وَتَسْمِيَةُ النَّارِ بِالظِّلِّ مَجَازٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُحِيطَةٌ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَقَوْلِهِ: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزُّمَرِ: 16] وَقَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: 55] وَثَالِثُهَا: قَالَ قَتَادَةُ: بَلِ الْمُرَادُ الدُّخَانُ وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها [الْكَهْفِ: 29] وَسُرَادِقُ النَّارِ هُوَ الدُّخَانُ، ثُمَّ إِنَّ شُعْبَةً مِنْ ذَلِكَ الدُّخَانِ عَلَى يَمِينِهِ وَشُعْبَةً أُخْرَى عَلَى يَسَارِهِ، وَشُعْبَةً ثَالِثَةً مِنْ فَوْقِهِ. وَأَقُولُ هَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ لِأَنَّ الْغَضَبَ عَنْ يَمِينِهِ وَالشَّهْوَةَ عَنْ شِمَالِهِ، وَالْقُوَّةَ الشَّيْطَانِيَّةَ فِي دماغه، ومنبع جميع الآفاق الصَّادِرَةِ عَنِ الْإِنْسَانِ فِي عَقَائِدِهِ، وَفِي أَعْمَالِهِ، لَيْسَ إِلَّا هَذِهِ الثَّلَاثَةُ، فَتَوَلَّدَتْ مِنْ هَذِهِ الْيَنَابِيعِ الثَّلَاثَةِ أَنْوَاعٌ مِنَ الظُّلُمَاتِ، وَيُمْكِنُ أَيْضًا أن يقال: هاهنا درجات ثلاث، وَهِيَ الْحِسُّ وَالْخَيَالُ، وَالْوَهْمُ، وَهِيَ مَانِعَةٌ لِلرُّوحِ عَنِ الِاسْتِنَارَةِ بِأَنْوَارِ عَالَمِ الْقُدْسِ وَالطَّهَارَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنَ الظُّلْمَةِ وَرَابِعُهَا: قَالَ قَوْمٌ: هَذَا كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ ذَلِكَ الدُّخَانِ عَظِيمًا، فَإِنَّ الدُّخَانَ الْعَظِيمَ يَنْقَسِمُ إِلَى شُعَبٍ كَثِيرَةٍ وَخَامِسُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ وَيَحْتَمِلُ فِي ثَلاثِ شُعَبٍ مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ: غَيْرُ ظَلِيلٍ وَأَنَّهُ لَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ وَبِأَنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: لِذَلِكَ الظِّلِّ قَوْلُهُ: لَا ظَلِيلٍ وَهَذَا تَهَكُّمٌ بِهِمْ وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّ ظللهم غير ظلل الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الظِّلَّ لَا يَمْنَعُ حَرَّ الشَّمْسِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ يُقَالُ: أَغْنِ عَنِّي وَجْهَكَ، أَيْ أَبْعِدْهُ لِأَنَّ الْغَنِيَّ عَنِ الشَّيْءِ يُبَاعِدُهُ، كَمَا أَنَّ الْمُحْتَاجَ يُقَارِبُهُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّهُ فِي مَحَلِّ الْجَرِّ، أَيْ وَغَيْرُهُ مُغْنٍ عَنْهُمْ، مِنْ حَرِّ اللَّهَبِ شَيْئًا، قَالَ الْقَفَّالُ: وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الظِّلَّ إِنَّمَا يَكُونُ فِي جَهَنَّمَ، فَلَا يُظِلُّهُمْ مِنْ حَرِّهَا، وَلَا يَسْتُرُهُمْ مِنْ لَهِيبِهَا، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ الظِّلَّ فَقَالَ: فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الْوَاقِعَةِ: 42- 44] وَهَذَا كَأَنَّهُ فِي جَهَنَّمَ إِذَا دَخَلُوهَا، ثُمَّ قَالَ: لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَا ظَلِيلٍ فِي مَعْنَى: لَا بارِدٍ وَقَوْلُهُ: وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ/ فِي مَعْنَى: وَلا كَرِيمٍ أَيْ لَا رَوْحَ لَهُ يَلْجَأُ إِلَيْهِ مِنْ لَهَبِ النَّارِ وَالثَّانِي: أَنَّ تَكَوُّنَ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ ان يدخلوا جهنم بل عند ما يُحْبَسُونَ لِلْحِسَابِ وَالْعَرْضِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا الظِّلَّ لَا يُظِلُّكُمْ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ وَلَا يَدْفَعُ لَهَبَ النَّارِ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ ثَانٍ «1» : وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ قُطْرُبٌ: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَبَ هاهنا هُوَ الْعَطَشُ يُقَالُ: لَهِبَ لَهَبًا وَرَجُلٌ لَهْبَانُ وَامْرَأَةٌ لَهْبَى. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُقَالُ شَرَرَةٌ وَشَرَرٌ وَشَرَارَةٌ وَشَرَارٌ، وَهُوَ مَا تَطَايَرَ مِنَ النَّارِ مُتَبَدِّدًا فِي كُلِّ جِهَةٍ وَأَصْلُهُ مِنْ شَرَرْتُ الثَّوْبَ إِذَا أَظْهَرْتَهُ وَبَسَطْتَهُ لِلشَّمْسِ وَالشَّرَارُ يَنْبَسِطُ مُتَبَدِّدًا، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ النَّارَ الَّتِي كَانَ ذَلِكَ الظِّلُّ دُخَانًا لَهَا بِأَنَّهَا ترمي بالشرارة العظيمة، والمقصود منه بيان

_ (1) الصواب أن يقال: وفي الآية وجه ثالث. لأن الذي تقدم وجهان.

أَنَّ تِلْكَ النَّارَ عَظِيمَةٌ جِدًّا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ ذَلِكَ الشَّرَرَ بِشَيْئَيْنِ الْأَوَّلُ: بِالْقَصْرِ وَفِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْبِنَاءُ الْمُسَمَّى بِالْقَصْرِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْقُصُورَ الْعِظَامَ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ، ثُمَّ عَلَى التَّقْدِيرِ فَفِي التَّفْسِيرِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهَا جَمْعُ قَصْرَةٍ سَاكِنَةَ الصَّادِ كَتَمْرَةٍ وَتَمْرٍ وَجَمْرَةٍ وَجَمْرٍ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ لِلْوَاحِدِ مِنَ الْحَطَبِ الْجَزْلِ الْغَلِيظِ قَصْرَةٌ وَالْجَمْعُ قَصْرٌ، قَالَ عبد الرحمن بن عباس: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْقَصْرِ فَقَالَ: هُوَ خَشَبٌ كُنَّا نَدَّخِرُهُ لِلشِّتَاءِ نَقْطَعُهُ وَكُنَّا نُسَمِّيهِ الْقَصْرَ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٍ والضحاك، وإلا أَنَّهُمْ قَالُوا: هِيَ أُصُولُ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ الْعِظَامِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ كَالْقَصَرِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهِيَ أَعْنَاقُ الْإِبِلِ أَوْ أَعْنَاقُ النَّخْلِ نَحْوُ شَجَرَةٍ وَشَجَرٍ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَالْقُصُرِ بِمَعْنَى الْقَصْرِ كَرَهْنٍ وَرُهُنٍ، وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ كَالْقِصَرِ فِي جَمْعِ قَصْرَةٍ كَحَاجَةٍ وَحِوَجٍ. التَّشْبِيهُ الثَّانِي: قوله تعالى: كأنه جمالات صُفْرٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: جِمَالَاتٌ جَمْعُ جمال كقوهم: رِجَالَاتٌ وَرِجَالٌ وَبُيُوتَاتٌ وَبُيُوتٌ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ حمالات بِضَمِّ الْجِيمِ وَهُوَ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ وَذَكَرُوا وُجُوهًا أَحَدُهَا: قِيلَ: الْجُمَالَاتُ بِالضَّمِّ الْحِبَالُ الْغِلَاظُ وَهِيَ حِبَالُ السُّفُنِ، وَيُقَالُ لَهَا: الْقُلُوسُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ: الْمَعْرُوفُ فِي الْحِبَالِ إِنَّمَا هُوَ الْجُمَّلُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَقُرِئَ: حتى يلوج الجمل [الأعراف: 40] وَثَانِيهَا: قِيلَ هِيَ قِطَعُ النُّحَاسِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعْظَمُ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا يَعْرِفُونَهُ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجُمَالَاتُ بِالضَّمِّ مِنَ الشَّيْءِ الْمُجْمَلِ، يُقَالُ: أَجْمَلْتُ الْحِسَابَ، وَجَاءَ الْقَوْمُ جُمْلَةً أَيْ مُجْتَمِعِينِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الشَّرَرَةَ تَرْتَفِعُ كَأَنَّهَا شَيْءٌ مَجْمُوعٌ غَلِيظٌ أَصْفَرُ، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَرَابِعُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: جُمَالَاتٌ بِضَمِّ الْجِيمِ جَمْعَ جُمَالٍ بِضَمِّ الْجِيمِ وَجُمَالٌ بِضَمِّ الْجِيمِ يَكُونُ جَمْعَ جَمَلٍ، كَمَا يُقَالُ: رِخْلٌ وَرُخَالٌ وَرِخَالٌ. القراءة الثاني: جِمَالَةٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ هِيَ جَمْعُ جَمَلٍ مِثْلُ حَجَرٍ وَحِجَارَةٍ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَالتَّاءُ إِنَّمَا لَحِقَتْ جِمَالًا لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ، كَمَا لَحِقَتْ فِي فَحْلٍ وَفِحَالَةٍ. الْقِرَاءَةُ الرَّابِعَةُ: جُمْلَةٌ بِضَمِّ الْجِيمِ وَهِيَ الْقَلْسُ، وَقِيلَ: صُفْرٌ لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ، أَمَّا قَوْلُهُ: صُفْرٌ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ سُودٌ تَضْرِبُ إِلَى الصُّفْرَةِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا تَرَى أَسْوَدَ مِنَ الْإِبِلِ إِلَّا وَهُوَ مَشُوبٌ صُفْرَةً، وَالشَّرَرُ إِذَا تَطَايَرَ فَسَقَطَ وَفِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ لَوْنِ النَّارِ كَانَ أَشْبَهَ بِالْجَمَلِ الْأَسْوَدِ الَّذِي يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنَ الصُّفْرَةِ. وَزَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الصُّفْرَةُ لَا السَّوَادُ، لِأَنَّ الشَّرَرَ إِنَّمَا يُسَمَّى شَرَرًا، مَا دَامَ يَكُونُ نَارًا، وَمَتَى كَانَ نَارًا كَانَ أَصْفَرَ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ أَسْوَدَ إِذَا انْطَفَأَ، وَهُنَاكَ لَا يُسَمَّى شَرَرًا، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي هُوَ الصَّوَابُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ الشَّرَرَ فِي الْعِظَمِ بِالْقَصْرِ، وَفِي اللَّوْنِ وَالْكَثْرَةِ وَالتَّتَابُعِ وَسُرْعَةِ الْحَرَكَةِ بِالْجِمَالَاتِ الصُّفْرِ، وَقِيلَ: أَيْضًا إِنَّ ابْتِدَاءَ الشَّرَرِ يَعْظُمُ فَيَكُونُ كَالْقَصْرِ ثُمَّ يَفْتَرِقُ فَتَكُونُ تِلْكَ الْقِطَعُ الْمُتَفَرِّقَةُ الْمُتَتَابِعَةُ كَالْجِمَالَاتِ الصُّفْرِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ إِنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَقُصُورُهُمْ قَصِيرَةُ السَّمْكِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْخَيْمَةِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ، فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيُّ بِهَذَا تَصَرَّفَ فِيهِ وَشَبَّهَهُ بِالْخَيْمَةِ مِنَ الْأَدِيمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: حَمْرَاءَ سَاطِعَةَ الذَّوَائِبِ فِي الدُّجَى ... تَرْمِي بِكُلِّ شرارة كطراف

ثُمَّ زَعَمَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ مُعَارَضَةً لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَقُولُ: كَانَ الْأَوْلَى لِصَاحِبِ الْكَشَّافِ أَنْ لَا يَذْكُرَ ذَلِكَ، وَإِذْ قَدْ ذَكَرَهُ فَلَا بُدَّ لَنَا مِنْ تَحْقِيقِ الْكَلَامِ فِيهِ، فَنَقُولُ: تَشْبِيهُ الشَّرَارَةِ بِالطِّرَافِ يُفِيدُ التَّشْبِيهَ فِي الشَّكْلِ وَالْعِظَمِ، أَمَّا الشَّكْلُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الشَّرَارَةَ تَكُونُ قَبْلَ انْشِعَابِهَا كَالنُّقْطَةِ مِنَ النَّارِ، فَإِذَا انْشَعَبَتِ اتَّسَعَتْ فَهِيَ كَالنُّقْطَةِ الَّتِي تَتَّسِعُ فَهِيَ تُشْبِهُ الْخَيْمَةَ فَإِنَّ رَأْسَهَا كَالنُّقْطَةِ ثُمَّ إِنَّهَا لَا تَزَالُ تَتَّسِعُ شَيْئًا فَشَيْئًا الثَّانِي: أَنَّ الشَّرَارَةَ كَالْكُرَةِ أَوِ الْأُسْطُوَانَةِ فَهِيَ شَدِيدَةُ الشَّبَهِ بِالْخَيْمَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ وَأَمَّا التَّشْبِيهُ بِالْخَيْمَةِ فِي النَّظْمِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، هَذَا مُنْتَهَى هَذَا التَّشْبِيهِ. وَأَمَّا وَجْهُ الْقَدْحِ فِيهِ فَمِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ لَوْنَ الشَّرَارَةِ أَصْفَرُ يَشُوبُهَا شَيْءٌ مِنَ السَّوَادِ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ فِي الْجِمَالَاتِ الصُّفْرِ وَغَيْرُ حَاصِلٍ فِي الْخَيْمَةِ مِنَ الْأَدِيمِ الثَّانِي: أَنَّ الْجِمَالَاتِ مُتَحَرِّكَةً وَالْخَيْمَةُ لَا تَكُونُ مُتَحَرِّكَةً فَتَشْبِيهُ الشَّرَارِ الْمُتَحَرِّكِ بِالْجِمَالَاتِ الْمُتَحَرِّكَةِ أولى والثالث: أن الشرارات متتابعة يجيء بَعْضُهَا خَلْفَ الْبَعْضِ وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ فِي الْجِمَالَاتِ الصُّفْرِ وَغَيْرُ حَاصِلٍ فِي الطِّرَافِ الرَّابِعُ: أَنَّ الْقَصْرَ مَأْمَنُ الرَّجُلِ وَمَوْضِعُ سَلَامَتِهِ فَتَشْبِيهُ الشَّرَرِ بِالْقَصْرِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا تَوَلَّدَتْ آفَتُهُ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي تَوَقَّعَ مِنْهُ الْأَمْنَ وَالسَّلَامَةَ، وَحَالُ الْكَافِرِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ كَانَ يَتَوَقَّعُ الْخَيْرَ وَالسَّلَامَةَ مِنْ دِينِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَا ظَهَرَتْ لَهُ آفَةٌ وَلَا مِحْنَةٌ إِلَّا مِنْ ذَلِكَ الدِّينِ، وَالْخَيْمَةُ لَيْسَتْ مِمَّا يُتَوَقَّعُ مِنْهَا الْأَمْنُ الْكُلِّيُّ الْخَامِسُ: أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ الْجَمَالِ فِي مِلْكِ الْجِمَالِ وَتَمَامَ النِّعَمِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِمِلْكِ النَّعَمِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْلِ: 6] فَتَشْبِيهُ الشَّرَرِ بِالْجِمَالِ السُّودِ كَالتَّهَكُّمِ بِهِمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: كُنْتُمْ تَتَوَقَّعُونَ مِنْ دِينِكُمْ كَرَامَةً وَنِعْمَةً وَجَمَالًا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْجَمَالَ هُوَ هَذِهِ الشَّرَارَاتُ الَّتِي هِيَ كَالْجِمَالِ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ حَاصِلٍ فِي/ الطِّرَافِ السَّادِسُ: أَنَّ الْجِمَالَ إِذَا انْفَرَدَتْ وَاخْتَلَطَ بَعْضُهَا بِالْبَعْضِ فَكُلُّ مَنْ وَقَعَ فِيمَا بَيْنَ أَيْدِيهَا وَأَرْجُلِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ نَالَ بَلَاءً شَدِيدًا وَأَلَمًا عَظِيمًا، فَتَشْبِيهُ الشَّرَارَاتِ بِهَا حَالَ تَتَابُعِهَا يُفِيدُ حُصُولَ كَمَالِ الضَّرَرِ، وَالطِّرَافُ لَيْسَ كَذَلِكَ السَّابِعُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَصْرَ يَكُونُ فِي الْمِقْدَارِ أَعْظَمَ مِنَ الطِّرَافِ وَالْجِمَالَاتُ الصُّفْرُ تَكُونُ أَكْثَرَ فِي الْعَدَدِ مِنَ الطِّرَافِ فَتَشْبِيهُ هَذِهِ الشَّرَارَاتِ بِالْقَصْرِ وَبِالْجِمَالَاتِ يَقْتَضِي الزِّيَادَةَ فِي الْمِقْدَارِ وَفِي الْعَدَدِ وَتَشْبِيهُهَا بِالطِّرَافِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ التَّهْوِيلَ وَالتَّخْوِيفَ كَانَ التَّشْبِيهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى الثَّامِنُ: أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالشَّيْئَيْنِ فِي إِثْبَاتِ وَصْفَيْنِ أَقْوَى فِي ثُبُوتِ ذَيْنِكَ الْوَصْفَيْنِ مِنَ التَّشْبِيهِ بِالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي إِثْبَاتِ ذَيْنِكَ الْوَصْفَيْنِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ مَنْ سَمِعَ قَوْلَهُ: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ تَسَارَعَ ذِهْنُهُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِثْبَاتُ عِظَمِ تِلْكَ الشَّرَارَاتِ، ثُمَّ إذا سمع بعد ذلك قوله: كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ تَسَارَعَ ذِهْنُهُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ كَثْرَةُ تِلْكَ الشَّرَارَاتِ وَتَتَابُعُهَا وَلَوْنُهَا. أَمَّا مَنْ سَمِعَ أَنَّ الشَّرَارَ كَالطِّرَافِ يَبْقَى ذِهْنُهُ مُتَوَقِّفًا فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّشْبِيهِ إِثْبَاتُ الْعِظَمِ أَوْ إِثْبَاتُ اللَّوْنِ، فَالتَّشْبِيهُ بِالطِّرَافِ كَالْمُجْمَلِ، وَالتَّشْبِيهُ بِالْقَصْرِ وَبِالْجِمَالَاتِ الصُّفْرِ، كَالْبَيَانِ الْمُفَصَّلِ الْمُكَرَّرِ الْمُؤَكِّدِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ هُوَ التَّهْوِيلَ وَالتَّخْوِيفَ، فَكُلَّمَا كَانَ بَيَانُ وُجُوهِ الْعَذَابِ أَتَمَّ وَأَبْيَنَ كَانَ الْخَوْفُ أَشَدَّ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ أَتَمُّ. التَّاسِعُ: أَنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ وَالْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَكُونُ طَيِّبَ الْعَيْشِ وَقْتَ الِانْطِلَاقِ، وَالذَّهَابِ إِذَا كَانَ رَاكِبًا، وَإِنَّمَا يَجِدُ الظِّلَّ الطَّيِّبَ إِذَا كَانَ فِي قَصْرِهِ، فَوَقَعَ تَشْبِيهُ الشَّرَارَةِ بِالْقَصْرِ وَالْجِمَالَاتِ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: مَرْكُوبُكَ هَذِهِ الْجِمَالَاتُ، وَظِلُّكَ فِي مِثْلِ هَذَا الْقَصْرِ، وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّهَكُّمِ بِهِمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ حَاصِلٍ فِي الطِّرَافِ الْعَاشِرُ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ تَطَايُرَ الْقَصْرِ إِلَى الْهَوَاءِ أَدْخَلُ فِي التَّعَجُّبِ مِنْ تَطَايُرِ الْخَيْمَةِ، لِأَنَّ الْقَصْرَ يَكُونُ مُرَكَّبًا مِنَ اللَّبَنِ وَالْحَجَرِ وَالْخَشَبِ. وَهَذِهِ الْأَجْسَامُ أَدْخَلُ فِي الثِّقَلِ وَالِاكْتِنَازِ من

[سورة المرسلات (77) : الآيات 35 إلى 37]

الْخَيْمَةِ الْمُتَّخَذَةِ إِمَّا مِنَ الْكِرْبَاسِ أَوْ مِنَ الْأَدِيمِ، وَالشَّيْءُ كُلَّمَا كَانَ أَثْقَلَ وَأَشَدَّ اكْتِنَازًا كَانَ تَطَايُرُهُ فِي الْهَوَاءِ أَبْعَدَ، فَكَانَتِ النَّارُ الَّتِي تُطَيِّرُ الْقَصْرَ إِلَى الْهَوَاءِ أَقْوَى مِنَ النَّارِ الَّتِي تُطَيِّرُ الطِّرَافَ فِي الْهَوَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ أَمْرِ النَّارِ فِي الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ، فَكَانَ التَّشْبِيهُ بِالْقَصْرِ أَوْلَى الْحَادِيَ عَشَرَ: وَهُوَ أَنَّ سُقُوطَ الْقَصْرِ عَلَى الْإِنْسَانِ أَدْخَلُ فِي الْإِيلَامِ وَالْإِيجَاعِ مِنْ سُقُوطِ الطِّرَافِ عَلَيْهِ، فَتَشْبِيهُ تِلْكَ الشَّرَارَاتِ بِالْقَصْرِ يُفِيدُ أَنَّ تِلْكَ الشَّرَارَاتِ إِذَا ارْتَفَعَتْ فِي الْهَوَاءِ ثُمَّ سَقَطَتْ عَلَى الْكَافِرِ فَإِنَّهَا تُؤْلِمُهُ إِيلَامًا شَدِيدًا، فَصَارَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَزَالُ يَسْقُطُ عَلَيْهِ مِنَ الْهَوَاءِ شَرَارَاتٌ كَالْقُصُورِ بِخِلَافِ وُقُوعِ الطِّرَافِ عَلَى الْإِنْسَانِ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْلِمُ فِي الْغَايَةِ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ الْجِمَالَ فِي أَكْثَرِ الْأُمُورِ تَكُونُ مُوَقَّرَةً، فَتَشْبِيهُ الشَّرَارَاتِ بِالْجِمَالِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الشَّرَارَاتِ أَنْوَاعًا مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ لَا يُحْصِي عَدَدَهَا إِلَّا اللَّهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: تِلْكَ الشَّرَارَاتُ كَالْجِمَالَاتِ الْمُوَقَّرَةِ بِأَنْوَاعِ الْمِحْنَةِ وَالْبَلَاءِ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ حَاصِلٍ فِي الطِّرَافِ فَكَانَ التَّشْبِيهُ بِالْجِمَالَاتِ أَتَمَّ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ تَوَالَتْ عَلَى الْخَاطِرِ فِي اللَّحْظَةِ الْوَاحِدَةِ وَلَوْ تَضَرَّعْنَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي طَلَبِ الْأَزْيَدِ/ لَأَعْطَانَا أَيَّ قَدْرٍ شِئْنَا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ كَافِيَةٌ فِي بَيَانِ التَّرْجِيحِ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا تُعَدُّ من الإطناب والله أعلم. [سورة المرسلات (77) : الآيات 35 الى 37] هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) نَصَبَ الْأَعْمَشُ (يَوْمَ) أَيْ هَذَا الَّذِي قَصَّ عَلَيْكُمْ وَاقِعٌ يَوْمَئِذٍ، اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ السَّادِسُ: مِنَ أَنْوَاعِ تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ وَتَشْدِيدِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ وَلَا حُجَّةٌ فِيمَا أَتَوْا بِهِ مِنَ الْقَبَائِحِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى دَفْعِ الْعَذَابِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَيَجْتَمِعُ فِي حَقِّهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْعَذَابِ أَحَدُهَا: عَذَابُ الْخَجَالَةِ، فَإِنَّهُ يَفْتَضِحُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَيَظْهَرُ لِكُلٍّ قُصُورُهُ وَتَقْصِيرُهُ وَكُلُّ مَنْ لَهُ عَقْلٌ سَلِيمٌ، عَلِمَ أَنَّ عَذَابَ الْخَجَالَةِ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ وَالِاحْتِرَاقِ بِالنَّارِ وَثَانِيهَا: وُقُوفُ الْعَبْدِ الْآبِقِ عَلَى بَابِ الْمَوْلَى وَوُقُوعُهُ فِي يَدِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ الصَّادِقُ الَّذِي يَسْتَحِيلُ الْكَذِبُ عَلَيْهِ، عَلَى مَا قَالَ: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: 29] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ يَرَى فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ خُصَمَاءَهُ الَّذِينَ كَانَ يَسْتَخِفُّ بِهِمْ وَيَسْتَحْقِرُهُمْ فَائِزِينَ بِالثَّوَابِ وَالتَّعْظِيمِ، وَيَرَى نَفْسَهُ فَائِزًا بِالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَهَذِهِ الثلاثة أَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ الرُّوحَانِيِّ وَرَابِعُهَا: الْعَذَابُ الْجُسْمَانِيُّ وَهُوَ مُشَاهَدَةُ النَّارِ وَأَهْوَالِهَا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ فِي حَقِّهِ هَذِهِ الْوُجُوهُ مِنَ الْعَذَابِ بَلْ مَا هُوَ مِمَّا لَا يَصِفُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهُ، لَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: كَيْفَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَقَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزُّمَرِ: 31] وَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: 23] وَقَوْلِهِ: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النِّسَاءِ: 42] وَيُرْوَى أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: فِيهِ إِضْمَارٌ، وَالتَّقْدِيرُ: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ فِيهِ بِحُجَّةٍ، وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ فِيمَا عَمِلُوهُ عُذْرٌ صحيح وجواب مستقيم، فإذا لم ينطلقوا بِحُجَّةٍ سَلِيمَةٍ وَكَلَامٍ مُسْتَقِيمٍ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَنْطِقُوا، لِأَنَّ مَنْ نَطَقَ بِمَا لَا يُفِيدُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ، وَنَظِيرُهُ مَا يُقَالُ

لِمَنْ ذَكَرَ كَلَامًا غَيْرَ مُفِيدٍ: مَا قُلْتَ شَيْئًا وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ تِلْكَ السَّاعَةَ وَذَلِكَ الْقَدْرَ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي لَا يَنْطِقُونَ فِيهِ، كَمَا يَقُولُ: آتِيكَ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ، وَالْمَعْنَى سَاعَةَ يَقْدَمُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْيَوْمِ كُلَّهُ، لِأَنَّ الْقُدُومَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي سَاعَةٍ يَسِيرَةٍ، وَلَا يَمْتَدُّ فِي كُلِّ الْيَوْمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَنْطِقُونَ لَفْظٌ مُطْلَقٌ، وَالْمُطْلَقُ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ لَا فِي الْأَنْوَاعِ وَلَا فِي الْأَوْقَاتِ، بِدَلِيلِ أَنَّكَ تَقُولُ: فُلَانٌ لَا يَنْطِقُ بِالشَّرِّ وَلَكِنَّهُ يَنْطِقُ بِالْخَيْرِ، وَتَارَةً تَقُولُ: فُلَانٌ لَا يَنْطِقُ بِشَيْءٍ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ لَا يَنْطِقُ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ/ بَيْنَ أَنْ لَا يَنْطِقَ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَنْطِقَ بِكُلِّ الْأَشْيَاءِ، وَكَذَلِكَ تَقُولُ: فُلَانٌ لَا يَنْطِقُ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ، وَتَقُولُ: فُلَانٌ لَا يَنْطِقُ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ لَا يَنْطِقُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الدَّائِمِ وَالْمُوَقَّتِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَفْهُومُ لَا يَنْطِقُ يَكْفِي فِي صِدْقِهِ عَدَمُ النُّطْقِ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَفِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي حُصُولَ النُّطْقِ بِشَيْءٍ آخَرَ فِي وَقْتٍ آخَرَ، فَيَكْفِي فِي صِدْقِ قَوْلِهِ: لَا يَنْطِقُونَ أَنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ بِعُذْرٍ وَعِلَّةٍ فِي وَقْتِ السُّؤَالِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إِشَارَةٌ إِلَى صِحَّةِ الْجَوَابَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِحَسَبِ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ حَلَفَ لَا يَنْطِقُ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَنَطَقَ فِي جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْيَوْمِ يَحْنَثُ؟ قُلْنَا: مَبْنِيُّ الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ، وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ بَحْثٌ عَنْ مَفْهُومِ اللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ عَقِيبَ قَوْلِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ لَهُمْ انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ فَيَنْقَادُونَ وَيَذْهَبُونَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمَرُونَ فِي الدُّنْيَا بِالطَّاعَاتِ فَمَا كَانُوا يَلْتَفِتُونَ. أَمَّا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ [فقد] صاروا منقادين مطيعين فِي مِثْلِ هَذَا التَّكْلِيفِ الَّذِي هُوَ أَشَقُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا الْخُصُومَةَ فِي الدُّنْيَا لَمَا احْتَاجُوا فِي هَذَا الْوَقْتِ إِلَى هَذَا الِانْقِيَادِ الشَّاقِّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ مُتَقَيِّدٌ بِهَذَا الْوَقْتِ فِي هَذَا الْعَمَلِ، وَتَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِسَبَبِ مُقَدِّمَةِ الْكَلَامِ مَشْهُورٌ فِي الْعُرْفِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا قَالَتْ: أَخْرُجُ هَذِهِ السَّاعَةَ مِنَ الدَّارِ، فَقَالَ الزَّوْجُ: لَوْ خَرَجْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ يَتَقَيَّدُ هَذَا الْمُطْلَقُ بِتِلْكَ الْخَرْجَةِ، فكذا هاهنا. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ يُوهِمُ أَنَّ لَهُمْ عُذْرًا وَقَدْ مُنِعُوا مِنْ ذِكْرِهِ، وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ عُذْرٌ وَلَكِنْ رُبَّمَا تَخَيَّلُوا خَيَالًا فَاسِدًا أَنَّ لَهُمْ فِيهِ عُذْرًا، فهم لا يؤذن لهم في ذلك ذكر الْعُذْرِ الْفَاسِدِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ الْعُذْرَ الْفَاسِدَ هُوَ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا كَانَ الْكُلُّ بِقَضَائِكَ وَعِلْمِكَ وَمَشِيئَتِكَ وَخَلْقِكَ فَلِمَ تُعَذِّبُنِي عَلَيْهِ، فَإِنَّ هَذَا عُذْرٌ فَاسِدٌ إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ الْمَالِكَ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ قَالَ: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النِّسَاءِ: 165] وَقَالَ: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا [طه: 134] وَالْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ أَنْ لَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ، أَنَّ لَهُ عُذْرًا، فَهَبْ أَنَّ عُذْرَهُ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ فَاسِدٌ فَلِمَ لَا يُؤْذَنُ لَهُ فِي ذِكْرِهِ حَتَّى يَذْكُرَهُ، ثُمَّ يُبَيَّنُ لَهُ فَسَادَهُ؟ قُلْنَا: لَمَّا تَقَدَّمَ الْإِعْذَارُ وَالْإِنْذَارُ فِي الدُّنْيَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً، عُذْراً أَوْ نُذْراً [المرسلات: 6] كَانَ إِعَادَتُهَا غَيْرَ مُفِيدَةٍ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ؟ كَمَا قَالَ: لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا [فَاطِرٍ: 36] الْجَوَابُ: الفاء هاهنا لِلنَّسَقِ فَقَطْ، وَلَا يُفِيدُ كَوْنَهُ جَزَاءً أَلْبَتَّةَ وَمِثْلُهُ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ [الْبَقَرَةِ: 245] بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، وَإِنَّمَا رُفِعَ يَعْتَذِرُونَ بِالْعَطْفِ لِأَنَّهُ لَوْ نُصِبَ لَكَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّهُمْ مَا يَعْتَذِرُونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْذَنُوا فِي الِاعْتِذَارِ، وَذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّ لَهُمْ فِيهِ عُذْرًا مُنِعُوا عَنْ ذِكْرِهِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. أَمَّا لَمَّا رُفِعَ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْذَنُوا فِي الْعُذْرِ وَهُمْ أَيْضًا لَمْ يَعْتَذِرُوا لَا لِأَجْلِ عَدَمِ الْإِذْنِ بَلْ لِأَجْلِ عَدَمِ الْعُذْرِ فِي نَفْسِهِ،

[سورة المرسلات (77) : الآيات 38 إلى 40]

ثُمَّ إِنَّ فِيهِ فَائِدَةً أُخْرَى وَهِيَ حُصُولُ الْمُوَافَقَةِ فِي رُءُوسِ الْآيَاتِ/ لِأَنَّ الْآيَاتِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، وَلَوْ قِيلَ: فَيَعْتَذِرُوا لَمْ تَتَوَافَقِ الْآيَاتُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ: إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ [الْقَمَرِ: 6] فَثَقَّلَ لِأَنَّ آيَاتِهَا مُثَقَّلَةٌ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً [الطَّلَاقِ: 8] وَأَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى تَثْقِيلِ الْأَوَّلِ وَتَخْفِيفِ الثَّانِي لِيُوَافِقَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا قبله. [سورة المرسلات (77) : الآيات 38 الى 40] هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ السَّابِعُ: مِنْ أَنْوَاعِ تَهْدِيدِ الْكُفَّارِ، وَهَذَا الْقِسْمُ مِنْ بَابِ التَّعْذِيبِ بِالتَّقْرِيعِ وَالتَّخْجِيلِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَقَعُ فِيهِ نَوْعَانِ مِنَ الْحُكُومَةِ أَحَدُهُمَا: مَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ وَفِي هَذَا الْقِسْمِ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّبِّ فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى الْفَصْلِ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّوَابِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْمَرْءُ عَلَى عَمَلِهِ وَكَذَا فِي الْعِقَابِ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى الْفَصْلِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِجَانِبِ الْعَبْدِ وَهُوَ أَنْ تُقَرَّرَ عَلَيْهِمْ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي عَمِلُوهَا حَتَّى يَعْتَرِفُوا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَكُونُ بَيْنَ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، فَإِنَّ هَذَا يَدَّعِي عَلَى ذَاكَ أَنَّهُ ظَلَمَنِي وَذَاكَ يَدَّعِي عَلَى هَذَا أَنَّهُ قَتَلَنِي فَهَهُنَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْفَصْلِ وَقَوْلُهُ: جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ كَلَامٌ مُوَضِّحٌ لِقَوْلِهِ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ يَوْمَ فَصْلِ حُكُومَاتِ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ فَلَا بُدَّ مِنْ إِحْضَارِ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ لَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ لَا يُجَوِّزُ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ يُشِيرُ بِهِ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْفَعُونَ الْحُقُوقَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِضُرُوبِ الْحِيَلِ وَالْكَيْدِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَهَهُنَا إِنْ أَمْكَنَكُمْ أَنْ تَفْعَلُوا مِثْلَ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ مِنَ الْكَيْدِ وَالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَالتَّلْبِيسِ فَافْعَلُوا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَةِ: 23] ثُمَّ إِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْحِيَلَ مُنْقَطِعَةٌ وَالتَّلْبِيسَاتِ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ، فَخِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ نِهَايَةٌ فِي التَّخْجِيلِ وَالتَّقْرِيعِ، وَهَذَا مِنْ جِنْسِ الْعَذَابِ الرُّوحَانِيِّ، فَلِهَذَا قَالَ عَقِيبَهُ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. [سورة المرسلات (77) : الآيات 41 الى 45] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّامِنُ: مِنْ أَنْوَاعِ تَهْدِيدِ الْكُفَّارِ وَتَعْذِيبِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ الشَّدِيدَةَ وَالنَّفْرَةَ الْعَظِيمَةَ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا قَائِمَةً بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَصَارَتْ تِلْكَ النَّفْرَةُ بِحَيْثُ إِنَّ الْمَوْتَ كَانَ أَسْهَلَ عَلَى الْكَافِرِ مِنْ أَنْ يَرَى لِلْمُؤْمِنِ دَوْلَةً وَقُوَّةً، فَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ اجْتِمَاعَ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ عَلَى الْكُفَّارِ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اجْتِمَاعَ أَنْوَاعِ السَّعَادَةِ وَالْكَرَامَةِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ، حَتَّى إِنَّ الْكَافِرَ حَالَ مَا يرى نفسه في غاية الذال وَالْهَوَانِ وَالْخِزْيِ وَالْخُسْرَانِ، وَيَرَى خَصْمَهُ فِي نِهَايَةِ الْعِزِّ وَالْكَرَامَةِ وَالرِّفْعَةِ وَالْمَنْقَبَةِ، تَتَضَاعَفُ

حَسْرَتُهُ وَتَتَزَايَدُ غُمُومُهُ وَهُمُومُهُ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ جِنْسِ الْعَذَابِ الرُّوحَانِيِّ، فَلِهَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ بِاللَّهِ، وَأَقُولُ هَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا مَعْدِلَ عَنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُتَّقِيَ عَنِ الشِّرْكِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُتَّقٍ، لِأَنَّ الْمُتَّقِيَ عَنِ الشِّرْكِ مَاهِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ قَيْدَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُتَّقٍ وَالثَّانِي: خُصُوصُ كَوْنِهِ عَنِ الشِّرْكِ، وَمَتَى وُجِدَ الْمُرَكَّبُ، فَقَدْ وُجِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ لَا مَحَالَةَ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُتَّقٍ عَنِ الشِّرْكِ، فَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُتَّقٍ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ مُتَّقِيًا لِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ كَوْنُهُ كَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِيمَا قُلْنَاهُ، لِأَنَّهُ خَصَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّقِيًا عَنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ فَيَبْقَى فِيمَا عداه حجة لأن العام الَّذِي دَخَلَ التَّخْصِيصَ يَبْقَى حُجَّةً فِيمَا عَدَاهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا مُرَتَّبَةٌ فِي تَقْرِيعِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَتَخْوِيفِهِمْ عَلَيْهِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَذْكُورَةً لِهَذَا الْغَرَضِ، وَإِلَّا لَتَفَكَّكَتِ السُّورَةُ فِي نَظْمِهَا وَتَرْتِيبِهَا، وَالنَّظْمُ إِنَّمَا يَبْقَى لَوْ كَانَ هَذَا الْوَعْدُ حَاصِلًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ وَعِيدُ الْكَافِرِ بِسَبَبِ كُفْرِهِ، وَجَبَ أَنْ يُقْرَنَ ذَلِكَ بِوَعْدِ الْمُؤْمِنِ بِسَبَبِ إِيمَانِهِ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي الزَّجْرِ عَنِ الْكُفْرِ، فَأَمَّا أَنْ يُقْرَنَ بِهِ وَعْدُ الْمُؤْمِنِ بِسَبَبِ طَاعَتِهِ، فَذَلِكَ غَيْرُ لَائِقٍ بِهَذَا النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ كُلُّ مَنْ كَانَ مُتَّقِيًا عَنِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى الْمُسَمَّى الْكَامِلِ أَوْلَى، وَأَكْمَلُ أَنْوَاعِ التَّقْوَى هُوَ التَّقْوَى عَنِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، فَكَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَ الْكُفَّارَ إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ أَعَدَّ فِي مُقَابَلَتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ النِّعْمَةِ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: ظِلَالُهُمْ مَا كَانَتْ ظَلِيلَةً، وَمَا كَانَتْ مُغْنِيَةً عَنِ اللَّهَبِ وَالْعَطَشِ أَمَّا الْمُتَّقُونَ فَظِلَالُهُمْ ظَلِيلَةٌ، وَفِيهَا عُيُونٌ عَذْبَةٌ مُغْنِيَةٌ لَهُمْ عَنِ الْعَطَشِ وَحَاجِزَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهَبِ وَمَعَهُمُ الْفَوَاكِهُ الَّتِي يَشْتَهُونَهَا وَيَتَمَنَّوْنَهَا، وَلَمَّا قَالَ لِلْكُفَّارِ: انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ قَالَ لِلْمُتَّقِينَ: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْإِذْنُ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِوَاسِطَةٍ، وَمَا أَعْظَمَهَا، أَوْ مِنْ جِهَةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَامِ، وَمَعْنَى هَنِيئاً أَيْ خَالِصَ اللَّذَّةِ لَا يَشُوبُهُ سَقَمٌ وَلَا تَنْغِيصٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: كُلُوا وَاشْرَبُوا أَمْرٌ أَوْ إِذْنٌ قَالَ أَبُو هَاشِمٍ: هُوَ أَمْرٌ، وَأَرَادَ اللَّهُ مِنْهُمُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ، لِأَنَّ سُرُورَهُمْ يَعْظُمُ بِذَلِكَ، وَإِذَا عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ أَرَادَهُ مِنْهُمْ جَزَاءً عَلَى عَمَلِهِمْ فَكَمَا يَزِيدُ إِجْلَالُهُمْ وَإِعْظَامُهُمْ بِذَلِكَ، فَكَذَلِكَ يُرِيدُ نَفْسَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مَعَهُمْ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: ذَلِكَ لَيْسَ بِأَمْرٍ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَامِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ إِنَّمَا يَحْصُلَانِ فِي زَمَانِ التَّكْلِيفِ، وَلَيْسَ هَذَا صِفَةَ الْآخِرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَمَسَّكَ مَنْ قَالَ الْعَمَلُ يُوجِبُ الثَّوَابَ بِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِضَافَةِ، وَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْعَمَلَ عَلَامَةً لِهَذَا الثَّوَابِ كَانَ الْإِتْيَانُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ كَالْآلَةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الثَّوَابِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ يُذَكِّرَ الْكُفَّارَ مَا فَاتَهُمْ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ، لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ الْمُحْسِنِينَ لَفَازُوا بِمِثْلِ تِلْكَ الْخَيْرَاتِ، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لَا جرم وقعوا فيما وقعوا فيه.

[سورة المرسلات (77) : الآيات 46 إلى 47]

[سورة المرسلات (77) : الآيات 46 الى 47] كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ التَّاسِعُ: مِنْ أَنْوَاعِ تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ للكفار حَالَ كَوْنِهِ فِي الدُّنْيَا إِنَّكَ إِنَّمَا عَرَّضْتَ نَفْسَكَ لِهَذِهِ الْآفَاتِ الَّتِي وَصَفْنَاهَا وَلِهَذِهِ الْمِحَنِ الَّتِي شَرَحْنَاهَا لِأَجْلِ حُبِّكَ لِلدُّنْيَا وَرَغْبَتِكَ فِي طَيِّبَاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الطَّيِّبَاتِ قَلِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الْآفَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالْمُشْتَغِلُ بِتَحْصِيلِهَا يَجْرِي مَجْرَى لُقْمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحَلْوَاءِ، وَفِيهَا السلم الْمُهْلِكُ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ يُرِيدُ أَكْلَهَا وَلَا يَتْرُكُهَا بِسَبَبِ نَصِيحَةِ النَّاصِحِينَ وَتَذْكِيرِ الْمُذَكِّرِينَ: كُلْ هَذَا وَوَيْلٌ لَكَ مِنْهُ بَعْدَ هَذَا فَإِنَّكَ مِنَ الْهَالِكِينَ بِسَبَبِهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ أَمْرًا إِلَّا أَنَّهُ فِي الْمَعْنَى نَهْيٌ بَلِيغٌ وَزَجْرٌ عَظِيمٌ وَمَنْعٌ فِي غَايَةِ الْمُبَالَغَةِ. ثم قال تعالى: [سورة المرسلات (77) : الآيات 48 الى 49] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الْعَاشِرُ: مِنْ أَنْوَاعِ تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: هَبْ أَنَّكُمْ تُحِبُّونَ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا وَلَكِنْ لَا تُعْرِضُوا بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ خِدْمَةِ خَالِقِكُمْ بَلْ تَوَاضَعُوا لَهُ فَإِنَّكُمْ إِنْ آمَنْتُمْ ثُمَّ ضَمَمْتُمْ إِلَيْهِ طَلَبَ اللَّذَّاتِ وَأَنْوَاعِ الْمَعَاصِي حَصَلَ لَكُمْ رَجَاءُ الْخَلَاصِ عَنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَالْفَوْزِ بِالثَّوَابِ، كَمَا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] ثم إن هؤلاء الكفار لا يفعلوا ذَلِكَ وَلَا يَنْقَادُونَ لِطَاعَتِهِ، وَيَبْقَوْنَ مُصِرِّينَ عَلَى جَهْلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَتَعْرِيضِهِمْ أَنْفُسَهُمْ لِلْعِقَابِ الْعَظِيمِ، فَلِهَذَا قَالَ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَيِ الْوَيْلُ لِمَنْ يُكَذِّبُ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ يُرْشِدُونَهُمْ إِلَى هَذِهِ المصالح الجامعة بين خيرات الدنيا والآخرة، وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَوْلُهُ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ الْمُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ الرُّكُوعَ مِنْ أَرْكَانِهَا، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ مِنْ صِفَتِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلَى الصَّلَاةِ لَا يُصَلُّونَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ، وَأَنَّهُمْ حَالَ كَفْرِهِمْ كَمَا يَسْتَحِقُّونَ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ، فَكَذَلِكَ يَسْتَحِقُّونَ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّهُمْ حَالَ كَفْرِهِمْ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ قَوْمٌ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِالرُّكُوعِ الْخُضُوعُ وَالْخُشُوعُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ لَا يُعْبَدَ سِوَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّهُمْ بِمُجَرَّدِ تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ كُفَّارٌ فَلِكُفْرِهِمْ ذَمَّهُمْ؟ قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى ذَمَّهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَمَّهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْمَأْمُورَ بِهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ تَرْكَ الْمَأْمُورِ بِهِ غَيْرُ جائز. [سورة المرسلات (77) : آية 50] فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي زَجْرِ الْكُفَّارِ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى آخِرِهَا بِالْوُجُوهِ الْعَشَرَةِ الَّتِي شرحناها،

وَحَثَّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالِانْقِيَادِ لِلدِّينِ الْحَقِّ خَتَمَ السُّورَةَ بِالتَّعَجُّبِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ اللَّطِيفَةِ مَعَ تَجَلِّيهَا وَوُضُوحِهَا فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأَنَّهُ حَدِيثٌ، وَالْحَدِيثُ ضِدُّ الْقَدِيمِ وَالضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، فَإِذَا كَانَ حَدِيثًا وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ قَدِيمًا، وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سيد المرسلين محمد وآله أجمعين. تم الجزء الثلاثون ويليه الجزء الحادي والثلاثون وأوله سورة النبأ

الجزء الواحد والثلاثون

الجزء الواحد والثلاثون بسم الله الرحمن الرحيم سورة النبأ أربعون آية مكية [سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) [في قوله تعالى عَمَّ يَتَساءَلُونَ] فِيهِ مَسَائِلٌ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: عَمَّ أَصْلُهُ حَرْفُ جَرٍّ دَخَلَ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةَ، قَالَ حَسَّانُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ ... كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ وَالِاسْتِعْمَالُ الْكَثِيرُ عَلَى الْحَذْفِ وَالْأَصْلُ قَلِيلٌ، ذَكَرُوا فِي سَبَبِ الْحَذْفِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ لِأَنَّ الْمِيمَ تَشْرَكُ الْغُنَّةَ فِي الْأَلِفِ فَصَارَا كَالْحَرْفَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَثَانِيهَا: قَالَ الْجُرْجَانِيُّ إِنَّهُمْ إِذَا وَصَفُوا مَا فِي اسْتِفْهَامٍ حَذَفُوا أَلِفَهَا تَفْرِقَةً بَيْنِهَا وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ اسْمًا كَقَوْلِهِمْ: فِيمَ وَبِمَ وَلِمَ وَعَلَامَ وَحَتَّامَ وَثَالِثُهَا: قَالُوا حُذِفَتِ الْأَلِفُ لِاتِّصَالِ مَا بِحَرْفِ الْجَرِّ حَتَّى صَارَتْ كَجُزْءٍ مِنْهُ لِتُنْبِئَ عَنْ شِدَّةِ الِاتِّصَالِ وَرَابِعُهَا: السَّبَبُ فِي هَذَا الْحَذْفِ التَّخْفِيفُ فِي الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَفْظٌ كَثِيرُ التَّدَاوُلِ عَلَى اللِّسَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ عَمَّ يَتَساءَلُونَ أَنَّهُ سُؤَالٌ، وَقَوْلُهُ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ جَوَابُ السَّائِلِ وَالْمُجِيبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِ بِالْغَيْبِ، بَلْ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ. فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَائِدَةُ فِي أَنْ يَذْكُرَ الْجَوَابَ مَعَهُ؟ قُلْنَا لِأَنَّ إِيرَادَ الْكَلَامِ فِي مَعْرِضِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ أَقْرَبُ إِلَى التَّفْهِيمِ وَالْإِيضَاحِ وَنَظِيرُهُ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غَافِرٍ: 16] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ عِكْرِمَةُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ (عَمَّا) وَهُوَ الْأَصْلُ، وَعَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَرَأَ عَمَّهْ بِهَاءِ السَّكْتِ، وَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُجْرِيَ الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَإِمَّا أَنْ يَقِفَ وَيَبْتَدِئَ بِ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ عَلَى أَنْ يُضْمِرَ يَتَسَاءَلُونَ لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ يُفَسِّرُهُ كَشَيْءٍ مُبْهَمٍ ثُمَّ يُفَسِّرُهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: (مَا) لَفْظَةٌ وُضِعَتْ لِطَلَبِ مَاهِيَّاتِ الْأَشْيَاءِ وَحَقَائِقِهَا، تَقُولُ مَا الْمُلْكُ؟ وَمَا الرُّوحُ؟ وَمَا الْجِنُّ؟ وَالْمُرَادُ طَلَبُ مَاهِيَّاتِهَا وَشَرْحُ حَقَائِقِهَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ مَجْهُولًا. ثُمَّ إِنَّ الشَّيْءَ الْعَظِيمَ الَّذِي يَكُونُ لِعِظَمِهِ وَتَفَاقُمِ مَرْتَبَتِهِ وَيُعْجِزُ الْعَقْلَ عَنْ أَنْ يُحِيطَ بِكُنْهِهِ يَبْقَى مَجْهُولًا، فَحَصَلَ بَيْنَ الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ

بِلَفْظِ مَا وَبَيْنَ الشَّيْءِ الْعَظِيمِ مُشَابَهَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالْمُشَابَهَةُ إِحْدَى أَسْبَابِ الْمَجَازِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ جَعَلَ (مَا) دَلِيلًا عَلَى عَظَمَةِ حَالِ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ وَعُلُوِّ رُتْبَتِهِ/ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ [الْمُطَفِّفِينَ: 8] ، وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ [الْبَلَدِ: 12] وَتَقُولُ زَيْدٌ وَمَا زَيْدٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: التَّسَاؤُلُ هُوَ أَنْ يَسْأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَالتَّقَابُلِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ أَيْضًا فِي أَنْ يَتَحَدَّثُوا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَعْضِهِمْ لبعض سؤال، قَالَ تَعَالَى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الطور: 25] قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ [الصافات: 51، 52] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى التَّحَدُّثِ فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ عَمَّ يَتَحَدَّثُونَ، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَسَاءَلُونَ مَنْ هُمْ، فيه احتمالات: الاحتمال الأول: أَنَّهُمْ هُمُ الْكُفَّارُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ [النبأ: 4، 5] الضمير في يتساءلون، وهم فيه مختلفون وسيعلمون، رَاجِعٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَقَوْلُهُ: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ تَهْدِيدٌ وَالتَّهْدِيدُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْكُفَّارِ، فَثَبَتَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: يَتَساءَلُونَ عَائِدٌ إِلَى الْكُفَّارِ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ: هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ مَعَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا مُتَّفِقِينَ فِي إِنْكَارِ الْحَشْرِ؟ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ فِي إِنْكَارِ الْحَشْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُثْبِتُ الْمَعَادَ الرُّوحَانِيَّ، وَهُمْ جُمْهُورُ النَّصَارَى، وَأَمَّا الْمَعَادُ الْجُسْمَانِيُّ فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ شَاكًّا فِيهِ كَقَوْلِهِ: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فُصِّلَتْ: 50] وَمِنْهُمْ مَنْ أَصَرَّ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَيَقُولُ: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 37] وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ مُقِرًّا بِهِ، لَكِنَّهُ كَانَ مُنْكِرًا لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ حَصَلَ اخْتِلَافُهُمْ فِيهِ، وَأَيْضًا هَبْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لَهُ لَكِنْ لَعَلَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ إِنْكَارِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُنْكِرُهُ لِأَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ الصَّانِعَ الْمُخْتَارَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُنْكِرُهُ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ إِعَادَةَ الْمَعْدُومِ مُمْتَنِعَةٌ لِذَاتِهَا وَالْقَادِرُ الْمُخْتَارُ إِنَّمَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى مَا يَكُونُ مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ. وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَتَسَاءَلُونَ هُمُ الْكُفَّارُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَكَانُوا جَمِيعًا يَتَسَاءَلُونَ عَنْهُ، أَمَّا الْمُسْلِمُ فَلِيَزْدَادَ بَصِيرَةً وَيَقِينًا فِي دِينِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَعَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ إِيرَادِ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ. وَالِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَ الرَّسُولَ، وَيَقُولُونَ مَا هَذَا الَّذِي تَعِدُنَا بِهِ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ فَفِيهِ مَسَائِلُ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ هُوَ الْقِيَامَةُ وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: سَيَعْلَمُونَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ هَذَا الَّذِي يَتَسَاءَلُونَ عَنْهُ حِينَ لَا تَنْفَعُهُمْ تِلْكَ الْمَعْرِفَةُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْقِيَامَةُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كَوْنَهُ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً إِلَى قَوْلِهِ: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [طه: 102] وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا قَدَّمَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ لِبَيَانِ كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا/ عَلَى إِقَامَةِ الْقِيَامَةِ، وَلَمَّا كَانَ الَّذِي أَثْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ هُوَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ثَبَتَ أَنَّ النَّبَأَ الْعَظِيمَ الَّذِي كَانُوا يَتَسَاءَلُونَ عَنْهُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْعَظِيمَ اسْمٌ لِهَذَا الْيَوْمِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ

[سورة النبإ (78) : الآيات 4 إلى 5]

الْعالَمِينَ [الْمُطَفِّفِينَ: 4، 6] وَقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [ص: 67، 68] وَلِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى فَزَعِ الْخَلْقِ وَخَوْفِهِمْ مِنْهُ فَكَانَ تَخْصِيصُ اسْمِ الْعَظِيمِ بِهِ لائقا والقول الثاني: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ [الواقعة: 77] وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْوَجْهِ بِأَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبَأَ الْعَظِيمَ هُوَ الَّذِي كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَذَلِكَ هُوَ الْقُرْآنُ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ جَعَلَهُ سِحْرًا وَبَعْضَهُمْ شِعْرًا، وَبَعْضَهُمْ قَالَ إِنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، فَأَمَّا الْبَعْثُ وَنُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى إِنْكَارِهِمَا وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الِاخْتِلَافَ كَانَ حَاصِلًا فِي الْبَعْثِ الثَّانِي: أَنَّ النَّبَأَ اسْمُ الْخَبَرِ لَا اسْمَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ فَتَفْسِيرُ النَّبَإِ بِالْقُرْآنِ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهِ بِالْبَعْثِ أَوِ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِنَبَأٍ بَلْ مُنْبَأٍ عَنْهُ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ سُمِّيَ ذِكْرًا وَتَذْكِرَةً وَذِكْرَى وَهِدَايَةً وَحَدِيثًا، فَكَانَ اسْمُ النَّبَأِ بِهِ أَلْيَقَ مِنْهُ بِالْبَعْثِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْجَوَابُ: عَنْهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ اسْمُ النَّبَأِ أَلْيَقَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ فَاسْمُ الْعَظِيمِ أَلْيَقُ بِالْقِيَامَةِ وَبِالنُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ لا عظمة في الألفاظ إِنَّمَا الْعَظَمَةُ فِي الْمَعَانِي، وَلِلْأَوَّلِينَ أَنْ يَقُولُوا إِنَّهَا عَظِيمَةٌ أَيْضًا فِي الْفَصَاحَةِ وَالِاحْتِوَاءِ عَلَى الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ أَنَّ الْعَظِيمَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْسَامِ مَجَازٌ فِي غَيْرِهَا وَإِذَا ثَبَتَ التَّعَارُضُ بَقِيَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ سَلِيمًا الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبَأَ الْعَظِيمَ هُوَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا بُعِثَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلُوا يَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ مَاذَا الَّذِي حَدَثَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ إِرْسَالِ اللَّهِ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ [ق: 2] وَعَجِبُوا أَيْضًا أَنْ جَاءَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ كَمَا قَالَ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] فَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مُسَاءَلَةَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ بِقَوْلِهِ: عَمَّ يَتَساءَلُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ قَوْلَهُ: عَمَّ يَتَساءَلُونَ كَلَامٌ تَامٌّ، ثُمَّ قَالَ: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ وَالتَّقْدِيرُ: يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ يَتَسَاءَلُونَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ حُصُولَهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى يَدُلُّ عَلَيْهِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ اسْتِفْهَامًا متصلا بما قبله، والتقدير: عم يتساءلون أعن النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ، إِلَّا أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ إِذْ هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ، وَكَالتَّرْجَمَةِ وَالْبَيَانِ لَهُ كما قرئ في قوله: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الصَّافَّاتِ: 16] بِكَسْرِ الْأَلِفِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ لِأَنَّ إِنْكَارَهُمْ إِنَّمَا كَانَ لِلْبَعْثِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ الِاسْتِفْهَامُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ اقْتُصِرَ عَلَيْهِ، فَكَذَا هَاهُنَا وَثَالِثُهَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ مُتَّصِلَةٌ بِالْأُولَى عَلَى تَقْدِيرِ، لِأَيِّ شَيْءٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ، وَعَمَّ كَأَنَّهَا فِي الْمَعْنَى لِأَيِّ شَيْءٍ، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ. [سورة النبإ (78) : الآيات 4 الى 5] كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) قَالَ الْقَفَّالُ: كَلَّا لَفْظَةٌ وُضِعَتْ لِرَدِّ شَيْءٍ قَدْ تَقَدَّمَ، هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ مِنْهَا فِي الْكَلَامِ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ فِي النَّبَإِ الْعَظِيمِ إِنَّهُ بَاطِلٌ أَوْ إِنَّهُ لَا يَكُونُ، وَقَالَ قَائِلُونَ كَلَّا مَعْنَاهُ حَقًّا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَرَّرَ ذَلِكَ الرَّدْعَ وَالتَّهْدِيدَ، فَقَالَ: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ وَهُوَ وَعِيدٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ سَوْفَ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا يَتَسَاءَلُونَ عَنْهُ وَيَضْحَكُونَ مِنْهُ حَقٌّ لَا دَافِعَ لَهُ، وَاقِعٌ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَأَمَّا تَكْرِيرُ الرَّدْعِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْغَرَضَ مِنَ التَّكْرِيرِ التَّأْكِيدُ

[سورة النبإ (78) : آية 6]

وَالتَّشْدِيدُ، وَمَعْنَى ثُمَّ الْإِشْعَارُ بِأَنَّ الْوَعِيدَ الثَّانِيَ أبلغ من الوعيد الأول وأشدو الثاني: أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَكْرِيرٍ، ثُمَّ ذَكَرُوا وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الضَّحَّاكُ الْآيَةُ الْأُولَى لِلْكُفَّارِ وَالثَّانِيَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ عَاقِبَةَ تَكْذِيبِهِمْ وَسَيَعْلَمُ الْمُؤْمِنُونَ عَاقِبَةَ تَصْدِيقِهِمْ وَثَانِيهَا: قَالَ الْقَاضِي: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَوَّلِ سَيَعْلَمُونَ نَفْسَ الْحَشْرِ وَالْمُحَاسَبَةِ، وَيُرِيدُ بِالثَّانِي سَيَعْلَمُونَ نَفْسَ الْعَذَابِ إِذَا شَاهَدُوهُ وَثَالِثُهَا: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ مَا اللَّهُ فَاعِلٌ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَمَا كَانُوا يَتَوَهَّمُونَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ بَاعِثٍ لَهُمْ وَرَابِعُهَا: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ مَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَكَمَا جَرَى عَلَى كَفَّارِ قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ بِمَا يَنَالُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ قَرَءُوا بِالْيَاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ تَحْتُ فِي (سَيَعْلَمُونَ) وَرُوِيَ بِالتَّاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ فَوْقُ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ: 3] عَلَى لَفْظِ الْغِيبَةِ، وَالتَّاءُ عَلَى قُلْ لَهُمْ: سَتَعْلَمُونَ، وَأَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ، وَهُوَ هَاهُنَا مُتَمَكِّنٌ حَسَنٌ، كَمَنْ يَقُولُ: إِنَّ عَبْدِي يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ يَقُولُ لِعَبْدِهِ: إِنَّكَ سَتَعْرِفُ وَبَالَ هَذَا الْكَلَامِ. [سورة النبإ (78) : آية 6] أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ إِنْكَارَ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ، وَأَرَادَ إِقَامَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ الْحَشْرِ قَدَّمَ لِذَلِكَ مُقَدِّمَةً فِي بَيَانِ كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَهْمَا ثَبَتَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ ثَبَتَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ الْبَعْثِ، وَإِنَّمَا أَثْبَتَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ بِأَنْ عَدَّدَ أَنْوَاعًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الْوَاقِعَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ، فَإِنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ مِنْ جِهَةِ حُدُوثِهَا تَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَمِنْ جِهَةِ إِحْكَامِهَا وَإِتْقَانِهَا تَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ، وَمَتَى ثَبَتَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ وَثَبَتَ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي قَبُولِ الصِّفَاتِ وَالْأَعْرَاضِ، ثَبَتَ لَا مَحَالَةَ كَوْنُهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى تَخْرِيبِ الدُّنْيَا بِسَمَاوَاتِهَا وَكَوَاكِبِهَا وَأَرْضِهَا، وَعَلَى إِيجَادِ عَالَمِ الْآخِرَةِ، فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَاهُنَا مِنْ عَجَائِبِ مَخْلُوقَاتِهِ أُمُورًا فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْمِهَادُ مَصْدَرٌ، ثُمَّ هَاهُنَا احْتِمَالَاتٌ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ مِنْهُ هَاهُنَا الْمَمْهُودُ، أَيْ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مَمْهُودَةً/ وَهَذَا مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ، كَقَوْلِكَ هَذَا ضَرْبُ الْأَمِيرِ وَثَانِيهَا: أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وُصِفَتْ بِهَذَا الْمَصْدَرِ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ جُودٌ وَكَرَمٌ وَفَضْلٌ، كَأَنَّهُ لِكَمَالِهِ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ صَارَ عَيْنَ تِلْكَ الصِّفَةِ وَثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى ذَاتِ مِهَادٍ، وَقُرِئَ مَهْدًا، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَرْضَ لِلْخَلْقِ كَالْمَهْدِ لِلصَّبِيِّ، وَهُوَ الَّذِي مُهِّدَ لَهُ فَيُنَوَّمُ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً [الْبَقَرَةِ: 22] كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الْحَقَائِقِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وثانيها: قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : آية 7] وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) أَيْ لِلْأَرْضِ [كَيْ] لَا تَمِيدَ بِأَهْلِهَا، فَيَكْمُلُ كَوْنُ الْأَرْضِ مِهَادًا بِسَبَبِ ذَلِكَ قد تقدم أيضا. وثالثها: قوله تعالى:

[سورة النبإ (78) : آية 8]

[سورة النبإ (78) : آية 8] وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى كَمَا قَالَ: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [النَّجْمِ: 45] ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كُلُّ زَوْجَيْنِ وَ [كُلُّ] مُتَقَابِلَيْنِ مِنَ الْقَبِيحِ وَالْحَسَنِ وَالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ وَجَمِيعُ الْمُتَقَابِلَاتِ وَالْأَضْدَادِ، كَمَا قَالَ: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ [الذَّارِيَاتِ: 49] وَهَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَنِهَايَةِ الْحِكْمَةِ حَتَّى يَصِحَّ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ، فَيَتَعَبَّدَ الْفَاضِلُ بِالشُّكْرِ وَالْمَفْضُولُ بِالصَّبْرِ وَيُتَعَرَّفَ حَقِيقَةُ كُلِّ شَيْءٍ بِضِدِّهِ، فَالْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَعْرِفُ قَدْرَ الشَّبَابِ عِنْدَ الشَّيْبِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ قَدْرَ الْأَمْنِ عِنْدَ الْخَوْفِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي تَعْرِيفِ النِّعَمِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تعالى: [سورة النبإ (78) : آية 9] وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) طَعَنَ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: السُّبَاتُ هُوَ النَّوْمُ، وَالْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ نَوْمًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا فِي التَّأْوِيلِ وُجُوهًا أَوَّلُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: سُباتاً مَوْتًا وَالْمَسْبُوتُ الْمَيِّتُ مِنَ السَّبْتِ وَهُوَ الْقَطْعُ لأنه مقطوع عن الحركة ودليله أمران أحداهما: قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ [الْأَنْعَامِ: 60] وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ النَّوْمَ مَوْتًا جَعَلَ الْيَقَظَةَ مَعَاشًا، أَيْ حَيَاةً فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النبأ: 11] وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَلَائِلُ النِّعَمِ، فَلَا يَلِيقُ الْمَوْتُ بِهَذَا الْمَكَانِ وَأَيْضًا لَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ مَوْتًا، أَنَّ الرُّوحَ انْقَطَعَ عَنِ الْبَدَنِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ انْقِطَاعُ أَثَرِ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ، وَهَذَا هُوَ النَّوْمُ، وَيَصِيرُ حَاصِلُ الْكَلَامِ إِلَى: إِنَّا جَعَلْنَا نَوْمَكُمْ نَوْمًا وَثَانِيهَا: قَالَ اللَّيْثُ: السُّبَاتُ النَّوْمُ شِبْهُ الْغَشْيِ يُقَالُ سُبِتَ. الْمَرِيضُ فَهُوَ مَسْبُوتٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: السُّبَاتُ الْغَشْيَةُ الَّتِي تَغْشَى الْإِنْسَانَ شِبْهَ الْمَوْتِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْغَشْيَ هَاهُنَا إِنْ كَانَ النَّوْمَ فَيَعُودُ الْإِشْكَالُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالسُّبَاتِ شِدَّةَ ذَلِكَ الْغَشْيِ فَهُوَ. بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ نَوْمٍ كَذَلِكَ وَلِأَنَّهُ مَرَضٌ فَلَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ فِي أَثْنَاءِ تَعْدِيدِ النِّعَمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ السَّبْتَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ الْقَطْعُ يُقَالُ سَبَتَ الرَّجُلُ رَأْسَهُ يَسْبُتُهُ سَبْتًا إِذَا حَلَقَ شَعْرَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ فِي قَوْلِهِ: سُباتاً أَيْ قَطْعًا/ ثُمَّ عِنْدَ هَذَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ نَوْمًا مُتَقَطِّعًا لَا دَائِمًا، فَإِنَّ النَّوْمَ بِمِقْدَارِ الْحَاجَةِ مِنْ أَنْفَعِ الْأَشْيَاءِ. أَمَّا دَوَامُهُ فَمِنْ أَضَرِّ الْأَشْيَاءِ، فَلَمَّا كَانَ انْقِطَاعُهُ نِعْمَةً عَظِيمَةً لَا جَرَمَ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ الْإِنْعَامِ الثَّانِي. أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَعِبَ ثُمَّ نَامَ، فَذَلِكَ النَّوْمُ يُزِيلُ عَنْهُ ذَلِكَ التَّعَبَ، فَسُمِّيَتْ تِلْكَ الْإِزَالَةُ سَبْتًا وَقَطْعًا، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ قُتَيْبَةَ: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً أَيْ رَاحَةً، وَلَيْسَ غَرَضُهُ مِنْهُ أَنَّ السُّبَاتَ اسْمٌ لِلرَّاحَةِ، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّ النَّوْمَ يَقْطَعُ التَّعَبَ وَيُزِيلُهُ، فَحِينَئِذٍ تَحْصُلُ الرَّاحَةُ الثَّالِثُ: قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً أَيْ جَعَلْنَاهُ نَوْمًا خَفِيفًا يُمْكِنُكُمْ دَفْعُهُ وَقَطْعُهُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: رَجُلٌ مَسْبُوتٌ إِذَا كَانَ النَّوْمُ يُغَالِبُهُ وَهُوَ يُدَافِعُهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ نَوْمًا لَطِيفًا يُمْكِنُكُمْ دَفْعُهُ، وَمَا جَعَلْنَاهُ غَشْيًا مُسْتَوْلِيًا عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرَاضِ الشَّدِيدَةِ، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ. وخامسها: قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : آية 10] وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) قَالَ الْقَفَّالُ: أَصْلُ اللِّبَاسِ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَلْبَسُهُ الْإِنْسَانُ وَيَتَغَطَّى بِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُغَطِّيًا لَهُ، فَلَمَّا كَانَ

[سورة النبإ (78) : آية 11]

اللَّيْلُ يَغْشَى النَّاسَ بِظُلْمَتِهِ فَيُغَطِّيهِمْ جُعِلَ لِبَاسًا لَهُمْ، وَهَذَا السَّبْتُ سُمِّيَ اللَّيْلُ لِبَاسًا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، وَالْمُرَادُ كَوْنُ اللَّيْلِ سَاتِرًا لَهُمْ. وَأَمَّا وَجْهُ النِّعْمَةِ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ أَنَّ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ تَسْتُرُ الْإِنْسَانَ عَنِ الْعُيُونِ إِذَا أَرَادَ هَرَبًا مِنْ عَدُوٍّ، أَوْ بَيَاتًا لَهُ، أَوْ إِخْفَاءَ مَا لَا يُحِبُّ الْإِنْسَانُ إِطْلَاعَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، قَالَ الْمُتَنَبِّي: وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدِي مِنْ يَدٍ ... تُخَبِّرُ أَنَّ الْمَانَوِيَّةَ تَكْذِبُ وَأَيْضًا فَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ بِسَبَبِ اللِّبَاسِ يَزْدَادُ جَمَالُهُ وَتَتَكَامَلُ قُوَّتُهُ وَيَنْدَفِعُ عَنْهُ أَذَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، فَكَذَا لِبَاسُ اللَّيْلِ بِسَبَبِ مَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنَ النَّوْمِ يَزِيدُ فِي جَمَالِ الْإِنْسَانِ، وَفِي طَرَاوَةِ أَعْضَائِهِ وَفِي تَكَامُلِ قُوَاهُ الْحِسِّيَّةِ وَالْحَرَكِيَّةِ، وَيَنْدَفِعُ عَنْهُ أَذَى التَّعَبِ الْجُسْمَانِيِّ، وَأَذَى الْأَفْكَارِ الْمُوحِشَةِ النَّفْسَانِيَّةِ، فَإِنَّ الْمَرِيضَ إِذَا نَامَ بِاللَّيْلِ وَجَدَ الْخِفَّةَ الْعَظِيمَةَ. وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: [سورة النبإ (78) : آية 11] وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) في المعاش وجهان أَنَّهُ مَصْدَرٌ يُقَالُ: عَاشَ يَعِيشُ عَيْشًا وَمَعَاشًا وَمَعِيشَةً وَعِيشَةً، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِضْمَارٍ، وَالْمَعْنَى وَجَعْلِنَا النَّهَارَ وَقْتَ معاش وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعَاشًا مَفْعَلًا وَظَرْفًا لِلتَّعَيُّشِ، وَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إِلَى الْإِضْمَارِ، وَمَعْنَى كَوْنِ النَّهَارِ مَعَاشًا أَنَّ الْخَلْقَ إِنَّمَا يُمْكِنُهُمُ التَّقَلُّبُ فِي حَوَائِجِهِمْ وَمَكَاسِبِهِمْ فِي النَّهَارِ لَا في الليل. وسابعها: قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : آية 12] وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) أي سبع سموات شِدَادًا جَمْعُ شَدِيدَةٍ/ يَعْنِي مُحْكَمَةً قَوِيَّةَ الْخَلْقِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا مُرُورُ الزَّمَانِ، لَا فُطُورَ فِيهَا وَلَا فُرُوجَ، وَنَظِيرُهُ وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً [الْأَنْبِيَاءِ: 32] فَإِنْ قِيلَ لَفْظُ الْبِنَاءِ يُسْتَعْمَلُ فِي أَسَافِلِ الْبَيْتِ وَالسَّقْفِ فِي أَعْلَاهُ فَكَيْفَ قَالَ: وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً؟ قُلْنَا الْبِنَاءُ يَكُونُ أَبْعَدَ مِنَ الْآفَةِ وَالِانْحِلَالِ مِنَ السَّقْفِ، فَذِكْرُ قَوْلِهِ: وَبَنَيْنا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ سَقْفًا لَكِنَّهُ فِي الْبُعْدِ عَنِ الِانْحِلَالِ كَالْبِنَاءِ، فَالْغَرَضُ مِنَ اخْتِيَارِ هَذَا اللَّفْظِ هَذِهِ الدَّقِيقَةُ. وثامنها: قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : آية 13] وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) كَلَامُ أَهْلِ اللُّغَةِ مُضْطَرِبٌ فِي تَفْسِيرِ الْوَهَّاجِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْوَهَجُ مَجْمَعُ النُّورِ وَالْحَرَارَةِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الشَّمْسَ بَالِغَةٌ إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ فِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهَا وَهَّاجًا، وَرَوَى الْكَلْبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْوَهَّاجَ مُبَالَغَةٌ فِي النُّورِ فَقَطْ، يُقَالُ لِلْجَوْهَرِ إِذَا تَلَأْلَأَ تَوَهَّجَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَهَّاجَ يُفِيدُ الْكَمَالَ فِي النُّورِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ يَصِفُ النُّورَ: نُوَّارُهَا مُتَبَاهِجٌ يَتَوَهَّجُ وَفِي كِتَابِ الْخَلِيلِ: الْوَهَجُ، حَرُّ النَّارِ وَالشَّمْسِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْوَهَّاجَ هُوَ الْبَالِغُ فِي الْحَرِّ وَاعْلَمْ أَنَّ أَيَّ هذه الوجود إذا ثبت فالمقصود حاصل. تاسعها: قوله: [سورة النبإ (78) : آية 14] وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ مَاءً ثَجَّاجاً (14)

[سورة النبإ (78) : الآيات 15 إلى 16]

أَمَّا الْمُعْصِرَاتُ فَفِيهَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَمُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ وَقَتَادَةَ إِنَّهَا الرِّيَاحُ الَّتِي تُثِيرُ السَّحَابَ وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [الرُّومِ: 48] فَإِنْ قِيلَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ وَأَنْزَلْنَا بِالْمُعْصِرَاتِ، قُلْنَا: الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَطَرَ إِنَّمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّحَابِ، وَالسَّحَابُ إِنَّمَا يُثِيرُهُ الرِّيَاحُ، فَصَحَّ أَنْ يُقَالَ هَذَا الْمَطَرُ إِنَّمَا حَصَلَ مِنْ تِلْكَ الرِّيَاحِ، كَمَا يُقَالُ هَذَا مِنْ فُلَانٍ، أَيْ مِنْ جِهَتِهِ وَبِسَبَبِهِ الثَّانِي: أَنَّ مِنْ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْبَاءِ وَالتَّقْدِيرُ، وَأَنْزَلْنَا بِالْمُعْصِرَاتِ أَيْ بِالرِّيَاحِ الْمُثِيرَةِ لِلسَّحَابِ وَيُرْوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعِكْرِمَةَ أَنَّهُمْ قَرَءُوا (وَأَنْزَلْنَا بِالْمُعْصِرَاتِ) وَطَعَنَ الْأَزْهَرِيُّ فِي هَذَا الْقَوْلِ، وَقَالَ الْأَعَاصِيرُ مِنَ الرِّيَاحِ لَيْسَتْ مِنْ رِيَاحِ الْمَطَرِ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُعْصِرَاتِ بِالْمَاءِ الثَّجَّاجِ وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْإِعْصَارَ لَيْسَتْ مِنْ رِيَاحِ الْمَطَرِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُعْصِرَاتُ مِنْ رِيَاحِ الْمَطَرِ؟ الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتِيَارُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ وَالضَّحَّاكِ أَنَّهَا السَّحَابُ، وَذَكَرُوا فِي تَسْمِيَةِ السَّحَابِ بِالْمُعْصِرَاتِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الْمُؤَرِّجُ: الْمُعْصِرَاتُ السَّحَائِبُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَثَانِيهَا: قَالَ الْمَازِنِيُّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُعْصِرَاتُ هِيَ السَّحَائِبَ ذَوَاتِ الْأَعَاصِيرِ فَإِنَّ السَّحَائِبَ إِذَا عَصَرَتْهَا الْأَعَاصِيرُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْزِلَ الْمَطَرُ مِنْهَا وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُعْصِرَاتِ هِيَ السَّحَائِبُ الَّتِي شَارَفَتْ أَنْ تَعْصِرَهَا الرِّيَاحُ فَتُمْطِرُ كَقَوْلِكَ: أَجُزُّ الزَّرْعَ إِذَا حَانَ لَهُ أَنْ يُجَزَّ، / وَمِنْهُ أَعْصَرَتِ الْجَارِيَةُ إِذَا دَنَتْ أَنْ تَحِيضَ، وَأَمَّا الثَّجَّاجُ فَاعْلَمْ أَنَّ الثَّجَّ شِدَّةُ الِانْصِبَابِ يُقَالُ: مَطَرٌ ثَجَّاجٌ وَدَمٌ ثَجَّاجٌ أَيْ شَدِيدُ الِانْصِبَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الثَّجَّ قَدْ يَكُونُ لَازِمًا، وَهُوَ بِمَعْنَى الِانْصِبَابِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِمَعْنَى الصَّبِّ وَفِي الْحَدِيثِ «أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ» أَيْ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ وَصَبُّ دِمَاءِ الْهَدْيِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثَجًّا أَيْ يَثُجُّ الْكَلَامَ ثَجًّا فِي خُطْبَتِهِ وَقَدْ فَسَّرُوا الثَّجَّاجَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ الثَّجَّاجُ هَاهُنَا الْمُتَدَفِّقُ الْمُنْصَبُّ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ مَعْنَاهُ الصَّبَّابُ كَأَنَّهُ يَثُجُّ نَفْسَهُ أَيْ يَصُبُّ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُرَادُ تَتَابُعُ الْقَطْرِ حَتَّى يَكْثُرَ الماء فيعظم النفع به. [سورة النبإ (78) : الآيات 15 الى 16] لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) وفي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كُلُّ شَيْءٍ نَبَتَ مِنَ الْأَرْضِ فَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ سَاقٌ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَاقٌ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَكْمَامٌ وَهُوَ الْحَبُّ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ أَكْمَامٌ وَهُوَ الْحَشِيشُ وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ: وَنَباتاً وَإِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ [طه: 54] وَأَمَّا الَّذِي لَهُ سَاقٌ فَهُوَ الشَّجَرُ فَإِذَا اجْتَمَعَ مِنْهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ سُمِّيَتْ جَنَّةً، فَثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ انْحِصَارُ مَا يَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَبَّ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْغِذَاءِ، وَإِنَّمَا ثَنَّى بِالنَّبَاتِ لِاحْتِيَاجِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَخَّرَ الْجَنَّاتِ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْفَوَاكِهِ لَيْسَتْ ضَرُورِيَّةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَلْفَافًا، فَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ لَا وَاحِدَ لَهُ كَالْأَوْزَاعِ وَالْأَخْيَافِ، وَالْأَوْزَاعُ الْجَمَاعَاتُ الْمُتَفَرِّقَةُ وَالْأَخْيَافُ الْجَمَاعَاتُ الْمُخْتَلَطَةُ. وَكَثِيرٌ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ أَثْبَتُوا لَهُ وَاحِدًا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فيه، فقال

[سورة النبإ (78) : آية 17]

الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ: وَاحِدُهَا لِفٌّ بِالْكَسْرِ، وَزَادَ الْكِسَائِيُّ: لُفٌّ بِالضَّمِّ، وَأَنْكَرَ الْمُبَرِّدُ الضَّمَّ، وَقَالَ: بَلْ وَاحِدُهَا لَفَّاءُ. وَجَمْعُهَا لُفٌّ، وَجَمْعُ لِفٍّ أَلْفَافٌ، وَقِيلَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ لَفِيفٍ كَشَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ نَقَلَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ: وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً أَيْ مُلْتَفَّةً، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ جَنَّةٍ فَإِنَّ مَا فِيهَا مِنَ الشَّجَرِ تَكُونُ مُجْتَمِعَةً مُتَقَارِبَةً، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ امْرَأَةٌ لَفَّاءُ إِذَا كَانَتْ غَلِيظَةَ السَّاقِ مُجْتَمِعَةَ اللَّحْمِ يَبْلُغُ مِنْ تَقَارُبِهِ أَنْ يَتَلَاصَقَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَانَ الْكَعْبِيُّ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالطَّبَائِعِ، فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَقَالَ: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ شَيْئًا بواسطة شيء آخر. [سورة النبإ (78) : آية 17] إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) اعْلَمْ أَنَّ التِّسْعَةَ الَّتِي عَدَّدَهَا اللَّهُ تَعَالَى نَظَرًا إِلَى حُدُوثِهَا فِي ذَوَاتِهَا وَصِفَاتِهَا، وَنَظَرًا إِلَى إِمْكَانِهَا فِي ذَوَاتِهَا وَصِفَاتِهَا تَدُلُّ عَلَى الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ، وَنَظَرًا إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهَا عَالِمٌ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْفَاعِلَ الْقَدِيمَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَاجِبَيْنِ، إِذْ لَوْ كَانَا جَائِزَيْنِ لَافْتَقَرَ إِلَى فَاعِلٍ آخَرَ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَاجِبَيْنِ وَجَبَ تَعَلُّقُهُمَا بِكُلِّ مَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا وَمَعْلُومًا وَإِلَّا لَافْتَقَرَ إِلَى الْمُخَصَّصِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَقَدْ ثَبَتَ الْإِمْكَانُ وَثَبَتَ عُمُومُ الْقُدْرَةِ فِي الْجِسْمِيَّةِ فَكُلُّ مَا صَحَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا صَحَّ عَلَى الْآخَرِ، فَكَمَا يَصِحُّ عَلَى الْأَجْسَامِ السَّلَفِيَّةِ الِانْشِقَاقُ وَالِانْفِطَارُ وَالظُّلْمَةُ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَلَى الْأَجْسَامِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْإِمْكَانُ وَثَبَتَ عُمُومُ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ، ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى تَخْرِيبِ الدنيا، وقادر إِيجَادِ عَالَمٍ آخَرَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِقِيَامِ الْقِيَامَةِ مُمْكِنٌ عَقْلًا وَإِلَى هَاهُنَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ بِالْعَقْلِ، فَأَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ وَقْتِ حُدُوثِهَا وَكَيْفِيَّةِ حُدُوثِهَا فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِالسَّمْعِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْضَ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ كَانَ فِي تَقْدِيرِ اللَّهِ، وَحُكْمِهِ حَدًّا تُؤَقَّتُ بِهِ الدُّنْيَا، أَوْ حَدًّا لِلْخَلَائِقِ يَنْتَهُونَ إِلَيْهِ، أَوْ كَانَ مِيقَاتًا لِمَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، أَوْ كَانَ مِيقَاتًا لِاجْتِمَاعِ كُلِّ الْخَلَائِقِ في فصل الحكومات وقطع الخصومات. وثانيها: قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : آية 18] يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) اعْلَمْ أَنَّ يَوْمَ يُنْفَخُ بَدَلٌ مِنْ يَوْمِ الْفَصْلِ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَهَذَا النَّفْخُ هُوَ النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ الَّتِي عِنْدَهَا يَكُونُ الْحَشْرُ، وَالنَّفْخُ فِي الصُّورِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصُّورَ جَمْعُ الصور، فالنفخ في الصور عِبَارَةٌ عَنْ نَفْخِ الْأَرْوَاحِ فِي الْأَجْسَادِ وَالثَّانِي: أن الصور عِبَارَةٌ عَنْ قَرْنٍ يُنْفَخُ فِيهِ. وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي الصُّورِ وَمَا قِيلَ فِيهِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ، وَقَوْلُهُ: فَتَأْتُونَ أَفْواجاً مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ ذَلِكَ الْمَقَامَ فَوْجًا فَوْجًا حَتَّى يَتَكَامَلَ اجْتِمَاعُهُمْ. قَالَ عَطَاءٌ كُلُّ نَبِيٍّ يَأْتِي مَعَ أُمَّتِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الْإِسْرَاءِ: 71] وَقِيلَ جَمَاعَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، روى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا مُعَاذُ سَأَلْتَ عَنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ مِنَ الْأُمُورِ، ثُمَّ أَرْسَلَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: يُحْشَرُ عَشَرَةُ أَصْنَافٍ مِنْ أُمَّتِي بَعْضُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقِرَدَةِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى

[سورة النبإ (78) : آية 19]

صُورَةِ الْخَنَازِيرِ، وَبَعْضُهُمْ مُنَكِّسُونَ أَرْجُلُهُمْ فَوْقَ وُجُوهِهِمْ يُسْحَبُونَ عَلَيْهَا، وَبَعْضُهُمْ عُمْيٌ، وَبَعْضُهُمْ صُمٌّ بُكْمٌ، وَبَعْضُهُمْ يَمْضُغُونَ أَلْسِنَتَهُمْ وَهِيَ مُدَلَّاةٌ عَلَى صُدُورِهِمْ يَسِيلُ الْقِيحُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ يَتَقَذَّرُهُمْ أَهْلُ الْجَمْعِ، وَبَعْضُهُمْ مُقَطَّعَةٌ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، وَبَعْضُهُمْ مُصَلَّبُونَ عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَارٍ، وَبَعْضُهُمْ/ أَشَدُّ نَتْنًا مِنَ الْجِيَفِ، وَبَعْضُهُمْ مُلْبَسُونَ جِبَابًا سَابِغَةً مِنْ قَطْرَانٍ لَازِقَةٍ بِجُلُودِهِمْ. فَأَمَّا الَّذِينَ عَلَى صُورَةِ الْقِرَدَةِ فَالْقَتَّاتُ مِنَ النَّاسِ. وَأَمَّا الَّذِينَ عَلَى صُورَةِ الْخَنَازِيرِ فَأَهَّلُ السُّحْتِ. وَأَمَّا الْمُنَكَّسُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فَأَكَلَةُ الرِّبَا، وَأَمَّا الْعُمْيُ فَالَّذِينَ يَجُورُونَ فِي الْحُكْمِ، وَأَمَّا الصُّمُّ وَالْبُكْمُ فَالْمُعْجَبُونَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ يَمْضُغُونَ أَلْسِنَتَهُمْ فَالْعُلَمَاءُ وَالْقُصَّاصُ الَّذِينَ يُخَالِفُ قَوْلُهُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ فَهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْجِيرَانَ وَأَمَّا الْمُصَلَّبُونَ عَلَى جُذُوعٍ مِنَ النَّارِ فَالسُّعَاةُ بِالنَّاسِ إِلَى السُّلْطَانِ، وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ أَشَدُّ نَتْنًا مِنَ الْجِيَفِ فَالَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَمَنَعُوا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ يَلْبَسُونَ الْجِبَابَ فأهل الكبر والفخر والخيلاء. وثالثها: قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : آية 19] وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فُتِحَتِ خَفِيفَةً وَالْبَاقُونَ بِالتَّثْقِيلِ وَالْمَعْنَى كَثُرَتْ أَبْوَابُهَا الْمُفَتَّحَةُ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا الْفَتْحُ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الإنشقاق: 1] وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الِانْفِطَارِ: 1] إِذِ الْفَتْحُ وَالتَّشَقُّقُ وَالتَّفَطُّرُ، تَتَقَارَبُ، وَأَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ فَتْحِ الْبَابِ غَيْرُ الْمَفْهُومِ مِنَ التَّشَقُّقِ وَالتَّفَطُّرِ، فَرُبَّمَا كَانَتِ السَّمَاءُ أَبْوَابًا، ثُمَّ تُفَتَّحُ تِلْكَ الْأَبْوَابُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ فِي جِرْمِ السَّمَاءِ تَشَقُّقٌ وَلَا تَفَطُّرٌ، بَلِ الدَّلَائِلُ السَّمْعِيَّةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ فَتْحِ هَذِهِ الْأَبْوَابِ يَحْصُلُ التَّشَقُّقُ وَالتَّفَطُّرُ وَالْفَنَاءُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً يُفِيدُ أَنَّ السَّمَاءَ بِكُلِّيَّتِهَا تَصِيرُ أَبْوَابًا، فَكَيْفَ يُعْقَلُ ذَلِكَ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ تِلْكَ الْأَبْوَابَ لَمَّا كَثُرَتْ جِدًّا صَارَتْ كَأَنَّهَا لَيْسَتْ إِلَّا أَبْوَابًا مُفَتَّحَةً كَقَوْلِهِ: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [الْقَمَرِ: 12] أَيْ كَأَنَّ كُلَّهَا صَارَتْ عُيُونًا تَتَفَجَّرُ وَثَانِيهَا: قَالَ الْوَاحِدِيُّ هَذَا مِنْ بَابِ تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَالتَّقْدِيرُ فَكَانَتْ ذَاتَ أَبْوَابٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فَكانَتْ أَبْواباً عَائِدٌ إِلَى مُضْمَرٍ وَالتَّقْدِيرُ فَكَانَتْ تِلْكَ الْمَوَاضِعُ الْمَفْتُوحَةُ أَبْوَابًا لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الْفَجْرِ: 22] . وَرَابِعُهَا: قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : آية 20] وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ أَحْوَالَ هَذِهِ الْجِبَالِ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي نَقُولُهُ: وَهُوَ أَنَّ أَوَّلَ أَحْوَالِهَا الِانْدِكَاكُ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [الْحَاقَّةِ: 14] . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ لَهَا: أَنْ تَصِيرَ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [الْقَارِعَةِ: 5] وَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [الْقَارِعَةِ: 4، 5] وَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَكُونُ

[سورة النبإ (78) : آية 21]

السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ [المعارج: 8، 9] . والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ تَصِيرَ كَالْهَبَاءِ وَذَلِكَ أَنْ تَتَقَطَّعَ وَتَتَبَدَّدَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ كَالْعِهْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: / إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الْوَاقِعَةِ: 4- 6] . والحالة المسألة الرَّابِعَةُ: أَنْ تُنْسَفَ لِأَنَّهَا مَعَ الْأَحْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَارَّةٌ فِي مَوَاضِعِهَا وَالْأَرْضُ تَحْتَهَا غَيْرُ بَارِزَةٍ فَتُنْسَفُ عَنْهَا بِإِرْسَالِ الرِّيَاحِ عَلَيْهَا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه: 105] . وَالْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ الرِّيَاحَ تَرْفَعُهَا عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ فَتُطَيِّرُهَا شُعَاعًا فِي الْهَوَاءِ كَأَنَّهَا غُبَارٌ فَمَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا مِنْ بُعْدٍ حَسِبَهَا لِتَكَاثُفِهَا أجساما جامدة وهي الْحَقِيقَةِ مَارَّةٌ إِلَّا أَنَّ مُرُورَهَا بِسَبَبِ مُرُورِ الرياح بها [صيرها] مندكة متفتتة، وهي قوله: تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النحل: 88] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْحَرَكَةَ حَصَلَتْ بِقَهْرِهِ وتسخيره، فقال: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ [الطور: 10] وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الْكَهْفِ: 47] . الْحَالَةُ السَّادِسَةُ: أَنْ تَصِيرَ سَرَابًا، بِمَعْنَى لَا شَيْءَ، فَمَنْ نَظَرَ إِلَى مَوَاضِعِهَا لَمْ يَجِدْ فِيهَا شَيْئًا، كَمَا أَنَّ مَنْ يَرَى السَّرَابَ مِنْ بُعْدٍ إِذَا جَاءَ الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ يَرَاهُ فِيهِ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَحْوَالَ الْمَذْكُورَةَ إِلَى هَاهُنَا هِيَ: أَحْوَالٌ عَامَّةٌ، وَمِنْ هاهنا يصف أهوال جهنم وأحوالها. فأولها: قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : آية 21] إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ يَعْمُرَ: أَنَّ جَهَنَّمَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى تَعْلِيلِ قِيَامِ السَّاعَةِ، بِأَنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلطَّاغِينَ، كَأَنَّهُ قِيلَ كَانَ كَذَلِكَ لِإِقَامَةِ الْجَزَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَتْ مِرْصَادًا، أَيْ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ صَارَتْ، وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ نَقَلَهُمَا الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ ذَكَرَهُ الْقَاضِي، فَإِنَّا إِذَا فَسَّرْنَا الْمِرْصَادَ بِالْمُرْتَقِبِ، أَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ كالمنتظرة لمقدومهم مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَكَالْمُسْتَدْعِيَةِ وَالطَّالِبَةِ لَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْمِرْصَادِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمِرْصَادَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي يُرْصَدُ فِيهِ، كَالْمِضْمَارِ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي يُضْمَرُ فِيهِ الْخَيْلُ، وَالْمِنْهَاجُ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي يُنْهَجُ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِيهِ احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ خَزَنَةَ جَهَنَّمَ يَرْصُدُونَ الْكُفَّارَ وَالثَّانِي: أَنَّ مَجَازَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَمَرَّهُمْ كَانَ عَلَى جَهَنَّمَ، لِقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مَرْيَمَ: 71] فَخَزَنَةُ الْجَنَّةِ يَسْتَقْبِلُونَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ جَهَنَّمَ، وَيَرْصُدُونَهُمْ عِنْدَهَا. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمِرْصَادَ مِفْعَالٌ مِنَ الرَّصْدِ، وَهُوَ التَّرَقُّبُ، بِمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ يكثر منه، والمفعال من أبنية المبالغة كالمعطار وَالْمِعْمَارِ وَالْمِطْعَانِ، قِيلَ إِنَّهَا تَرْصُدُ أَعْدَاءَ اللَّهِ وَتَشُقُّ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [الْمُلْكِ: 8] قِيلَ تَرْصُدُ كُلَّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ، وَالْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ. اسْتَدَلُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الْفَجْرِ: 14] وَلَوْ كَانَ الْمِرْصَادُ نَعْتًا لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ لَمِرْصَادٌ.

[سورة النبإ (78) : آية 22]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ جَهَنَّمَ كانت مخلوفة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً أَيْ مُعَدَّةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْجَنَّةُ أَيْضًا كذلك، لأنه لا قائل بالفرق. وثانيها: قوله: [سورة النبإ (78) : آية 22] لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) وَفِيهِ وَجْهَانِ: إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ مِرْصَادٌ لِلْكُفَّارِ فَقَطْ كَانَ قَوْلُهُ: لِلطَّاغِينَ مِنْ تَمَامِ مَا قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلطَّاغِينَ، ثُمَّ قَوْلُهُ: مَآباً بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِرْصاداً وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّهَا كَانَتْ مِرْصَادًا مُطْلَقًا لِلْكُفَّارِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، كَانَ قَوْلُهُ: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً [النبأ: 21] كَلَامًا تَامًّا، وَقَوْلُهُ: لِلطَّاغِينَ مَآباً كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ كَأَنَّهُ قِيلَ إِنَّ جَهَنَّمَ مِرْصَادٌ لِلْكُلِّ، وَمَآبٌ لِلطَّاغِينَ خَاصَّةً، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَمْ يَقِفْ عَلَى قَوْلِهِ مِرْصَادًا أَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَقَفَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ الْمُرَادُ بِالطَّاغِينَ مَنْ تَكَبَّرَ عَلَى رَبِّهِ وَطَغَى فِي مُخَالَفَتِهِ وَمُعَارَضَتِهِ، وَقَوْلُهُ: مَآباً أَيْ مصيرا ومقرا. وثالثها: [سورة النبإ (78) : آية 23] لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنْ جَهَنَّمَ مَآبٌ لِلطَّاغِينَ، وَبَيَّنَ كَمِّيَّةَ اسْتِقْرَارِهِمْ هُنَاكَ، فَقَالَ: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لابِثِينَ وَقَرَأَ حَمْزَةُ لَبِثِينَ وَفِيهِ وَجْهَانِ قَالَ الْفَرَّاءُ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ يُقَالُ لَابِثٌ وَلَبِثٌ، مِثْلُ طَامِعٌ. وَطَمِعٌ، وَفَارِهٌ، وَفَرِهٌ، وَهُوَ كَثِيرٌ، وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَاللَّبِثُ أَقْوَى لِأَنَّ اللَّابِثَ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ اللَّبْثُ، وَلَا يُقَالُ: لَبِثٌ إِلَّا لِمَنْ شَأْنُهُ اللَّبْثُ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَقِرَّ فِي الْمَكَانِ، وَلَا يَكَادُ يَنْفَكُّ عَنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ أَصْلُ الْحِقَبِ مِنَ التَّرَادُفِ، وَالتَّتَابُعِ يُقَالُ أَحْقَبَ، إِذَا أَرْدَفَ وَمِنْهُ الْحَقِيبَةُ وَمِنْهُ كُلُّ مَنْ حَمَلَ وِزْرًا، فَقَدِ احْتَقَبَ، فَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً أَيْ دُهُورًا مُتَتَابِعَةً يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً [الْكَهْفِ: 60] يَحْتَمِلُ سِنِينَ مُتَتَابِعَةً إِلَى أَنْ أَبْلُغَ أَوْ آنَسَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَحْقَابَ، وَاحِدُهَا حُقْبٌ وَهُوَ ثَمَانُونَ سَنَةً عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَالْحِقَبُ السُّنُونَ وَاحِدَتُهَا حِقْبَةٌ وَهِيَ زَمَانٌ مِنَ الدَّهْرِ لَا وَقْتَ لَهُ ثُمَّ نُقِلَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَالَ عَطَاءٌ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَحْقاباً الْحُقْبُ الْوَاحِدُ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَالسَّنَةُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا، وَالْيَوْمُ أَلْفُ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَنَحْوَ هَذَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ مَرْفُوعًا وَثَانِيهَا: سَأَلَ هِلَالٌ الْهَجَرِيُّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَقَالَ الْحُقْبُ مِائَةُ سَنَةٍ، وَالسَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، وَالشَّهْرُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَالْيَوْمُ أَلْفُ سَنَةٍ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْحَسَنُ الْأَحْقَابُ لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا هِيَ، وَلَكِنَّ الْحُقْبَ الْوَاحِدَ سَبْعُونَ أَلْفَ سَنَةٍ الْيَوْمُ مِنْهَا كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ: فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ أَحْقَابًا وَإِنْ طَالَتْ إِلَّا أَنَّهَا مُتَنَاهِيَةٌ، وَعَذَابُ أَهْلِ النَّارِ غَيْرُ مُتَنَاهٍ، بَلْ لَوْ قَالَ لَابِثِينَ فِيهَا الْأَحْقَابَ لَمْ يَكُنْ هَذَا السُّؤَالُ وَارِدًا، وَنَظِيرُ هَذَا السُّؤَالِ قَوْلُهُ/ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ الْأَحْقَابِ لَا يَدُلُّ عَلَى مُضِيِّ حُقْبٍ لَهُ نِهَايَةٌ وَإِنَّمَا الْحُقْبُ الْوَاحِدُ مُتَنَاهٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ

[سورة النبإ (78) : الآيات 24 إلى 26]

يَلْبَثُونَ فِيهَا أَحْقَابًا كُلَّمَا مَضَى حُقْبٌ تَبِعَهُ حُقْبٌ آخَرُ، وَهَكَذَا إِلَى الْأَبَدِ وَالثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَلْبَثُونَ فِيهَا أَحْقَابًا لَا يَذُوقُونَ فِي الْأَحْقَابِ بَرْدًا وَلَا شَرَابًا، فَهَذِهِ الْأَحْقَابُ تَوْقِيتٌ لِنَوْعٍ مِنَ الْعَذَابِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَذُوقُوا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا، ثُمَّ يُبَدَّلُونَ بَعْدَ الْأَحْقَابِ عَنِ الْحَمِيمِ وَالْغَسَّاقِ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ مِنَ الْعَذَابِ وَثَالِثُهَا: هَبْ أَنَّ قَوْلَهُ: أَحْقاباً يُفِيدُ التَّنَاهِيَ، لَكِنَّ دَلَالَةَ هَذَا عَلَى الْخُرُوجِ دَلَالَةُ الْمَفْهُومِ، وَالْمَنْطُوقُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ. قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ [الْمَائِدَةِ: 37] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَنْطُوقَ رَاجِحٌ، وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي الْآيَةِ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحْقَابًا مِنْ حَقِبَ عَامُنَا إِذَا قَلَّ مَطَرُهُ وَخَيْرُهُ، وَحَقِبَ فُلَانٌ إِذَا أَخْطَأَهُ الرِّزْقُ فَهُوَ حَقِبٌ وَجَمْعُهُ أَحْقَابٌ. فَيَنْتَصِبُ حَالًا عَنْهُمْ بِمَعْنَى لَابِثِينَ فِيهَا حَقِبِينَ مُجْدِبِينَ، وَقَوْلُهُ: لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً [النبأ: 24] تفسير له. ورابعها: قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : الآيات 24 الى 26] لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنِ اخْتَرْنَا قَوْلَ الزَّجَّاجِ كَانَ قَوْلُهُ: لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فِيها عَائِدًا إِلَى الْأَحْقَابِ، وَإِنْ لَمْ نَقُلْ بِهِ كَانَ هَذَا كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا مُبْتَدَأً، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ عَائِدًا إِلَى جَهَنَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: بَرْداً وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْبَرْدُ الْمَعْرُوفُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَذُوقُونَ مَعَ شِدَّةِ الْحَرِّ مَا يَكُونُ فِيهِ رَاحَةٌ مِنْ رِيحٍ بَارِدَةٍ، أَوْ ظِلٌّ يَمْنَعُ مِنْ نَارٍ، وَلَا يَجِدُونَ شَرَابًا يُسْكِنُ عَطَشَهُمْ، وَيُزِيلُ الْحُرْقَةَ عَنْ بَوَاطِنِهِمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ هَوَاءً بَارِدًا، وَلَا مَاءً بَارِدًا وَالثَّانِي: الْبَرْدُ هَاهُنَا النَّوْمُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَالْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَقُطْرُبٍ وَالْعُتْبِيِّ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ النَّوْمُ بَرْدًا لِأَنَّهُ يُبَرِّدُ صَاحِبَهُ، فَإِنَّ الْعَطْشَانَ يَنَامُ فَيَبْرُدُ بِالنَّوْمِ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْمُبَرِّدُ فِي بَيَانِ أَنَّ الْمُرَادَ النَّوْمُ قَوْلَ الشَّاعِرِ: بَرُدَتْ مَرَاشِفُهَا عَلَيَّ فَصَدَّنِي ... عَنْهَا وَعَنْ رَشَفَاتِهَا الْبَرْدُ يَعْنِي النَّوْمَ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ: مَنَعَ الْبَرْدُ الْبَرْدَ أَيْ أَصَابَنِي مِنَ الْبَرْدِ مَا مَنَعَنِي مِنَ النَّوْمِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِأَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْمَشْهُورَةِ، فَلَا مَعْنَى لِحَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ النَّادِرِ الْغَرِيبِ، وَالْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي تَمَسَّكُوا فِي إِثْبَاتِهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يُقَالُ ذُقْتُ الْبَرْدَ وَيُقَالُ ذُقْتُ النَّوْمَ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَذُوقُونَ بَرْدَ الزَّمْهَرِيرِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ مَا ذَاقُوا/ بَرْدًا، وَهَبْ أَنَّ ذَلِكَ الْبَرْدَ بَرْدٌ تَأَذَّوْا بِهِ، وَلَكِنْ كَيْفَ كَانَ، فَقَدْ ذَاقُوا الْبَرْدَ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: كَمَا أَنَّ ذَوْقَ الْبَرْدِ مَجَازٌ فَكَذَا ذَوْقُ النَّوْمِ أَيْضًا مَجَازٌ، وَلِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً أَيْ لَا يَسْتَنْشِقُونَ فِيهَا نَفَسًا بَارِدًا، وَلَا هَوَاءً باردا، والهواء المستنشق ممره الفم والألف فَجَازَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الذَّوْقِ عَلَيْهِ وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا البرد

بَلْ قَالَ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَاحِدًا، وَهُوَ الْبَرْدُ الَّذِي يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَيَسْتَرِيحُونَ إِلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي الْحَمِيمِ أَنَّهُ الصُّفْرُ الْمُذَابُ وَهُوَ بَاطِلٌ بَلِ الْحَمِيمُ الْمَاءُ الْحَارُّ الْمَغْلِيُّ جِدًّا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرُوا فِي الْغَسَّاقِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: قَالَ أَبُو مُعَاذٍ كُنْتُ أَسْمَعُ مَشَايِخَنَا يَقُولُونَ الْغَسَّاقُ فَارِسِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ يَقُولُونَ لِلشَّيْءِ الَّذِي يَتَقَذَّرُونَهُ خاشاك «1» وَثَانِيهَا: أَنَّ الْغَسَّاقُ هُوَ الشَّيْءُ الْبَارِدُ الَّذِي لَا يُطَاقُ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بِالزَّمْهَرِيرِ وَثَالِثُهَا: الْغَسَّاقُ مَا يَسِيلُ مِنْ أَعْيُنِ أَهْلِ النَّارِ وَجُلُودِهِمْ مِنَ الصَّدِيدِ وَالْقَيْحِ وَالْعَرَقِ وَسَائِرِ الرُّطُوبَاتِ الْمُسْتَقْذَرَةِ، وَفِي كِتَابِ الْخَلِيلِ غسقت عينه، تغسق غسقا وغساقا وَرَابِعُهَا: الْغَسَّاقُ هُوَ الْمُنْتِنُ، وَدَلِيلُهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لَوْ أَنَّ دَلْوًا مِنَ الْغَسَّاقِ يُهْرَاقُ عَلَى الدُّنْيَا لَأَنْتَنَ أَهْلُ الدُّنْيَا وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْغَاسِقَ هُوَ الْمُظْلِمُ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ [الْفَلَقِ: 3] فَيَكُونُ الْغَسَّاقُ شَرَابًا أَسْوَدَ مَكْرُوهًا يُسْتَوْحَشُ كَمَا يُسْتَوْحَشُ الشَّيْءُ الْمُظْلِمُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنْ فَسَّرْنَا الْغَسَّاقَ بِالْبَارِدِ كَانَ التَّقْدِيرُ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا إِلَّا غَسَّاقًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا، إِلَّا أَنَّهُمَا جُمِعَا لِأَجْلِ انْتِظَامِ الْآيِ، وَمِثْلُهُ مِنَ الشِّعْرِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْبًا وَيَابِسًا ... لَدَى وَكْرِهَا الْعُنَّابُ وَالْحَشَفُ الْبَالِي وَالْمَعْنَى كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْبًا الْعُنَّابُ وَيَابِسًا الْحَشَفُ الْبَالِي. أَمَّا إِنْ فَسَّرْنَا الْغَسَّاقَ بِالصَّدِيدِ أَوْ بِالنَّتْنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْحَمِيمِ وَالْغَسَّاقِ رَاجِعًا إِلَى الْبَرْدِ وَالشَّرَابِ مَعًا، وَأَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالشَّرَابِ فَقَطْ. أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا شَرَابًا إِلَّا الْحَمِيمَ الْبَالِغَ فِي الْحَمِيمِ وَالصَّدِيدَ الْمُنْتِنَ. وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا شَرَابًا إِلَّا الْحَمِيمَ الْبَالِغَ فِي السُّخُونَةِ أَوِ الصَّدِيدَ الْمُنْتِنَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ، فَإِنْ قِيلَ الصَّدِيدُ لَا يُشْرَبُ فَكَيْفَ اسْتُثْنِيَ مِنَ الشَّرَابِ؟ قُلْنَا: إِنَّهُ مَائِعٌ فَأُمْكِنَ أَنْ يُشْرَبَ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ كَانَ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ وَوَجْهُهُ مَعْلُومٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ مِنْ رِوَايَةِ حَفْصٍ عَنْهُ غَسَّاقًا بِالتَّشْدِيدِ فَكَأَنَّهُ فَعَّالٌ بمعنى سيال، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ مِثْلُ شَرَابٍ وَالْأَوَّلُ نَعْتٌ وَالثَّانِي اسْمٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَنْوَاعَ عُقُوبَةِ الْكُفَّارِ بَيَّنَ فِيمَا بَعْدَهُ أَنَّهُ: جَزاءً وِفاقاً وَفِي الْمَعْنَى/ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ بِهِمْ عُقُوبَةً شَدِيدَةً بِسَبَبِ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِمَعْصِيَةٍ شَدِيدَةٍ فَيَكُونُ الْعِقَابُ وِفاقاً لِلذَّنْبِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] وَالثَّانِي: أَنَّهُ وِفاقاً مِنْ حَيْثُ لَمْ يَزِدْ عَلَى قَدْرِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَمْ يَنْقُصْ عَنْهُ وَذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْوِفَاقُ وَالْمُوَافِقُ وَاحِدًا فِي اللُّغَةِ وَالتَّقْدِيرُ جَزَاءً مُوَافِقًا وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى الْمَصْدَرِ وَالتَّقْدِيرُ جَزَاءً وَافَقَ أَعْمَالَهُمْ وِفاقاً وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ وُصِفَ بِالْمَصْدَرِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ فَضْلٌ وَكَرَمٌ لِكَوْنِهِ كَامِلًا فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى، كَذَلِكَ هَاهُنَا لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْجَزَاءُ كَامِلًا فِي كَوْنِهِ عَلَى وَفْقِ الِاسْتِحْقَاقِ وَصَفَ الْجَزَاءَ بِكَوْنِهِ وِفاقاً وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ بِحَذْفِ الْمُضَافِ وَالتَّقْدِيرُ

_ (1) وجه الدلالة على هذا خفي ولعل الكلمة مصحفة وصوابها «غاساك» بالغين المعجمة والسين المهملة أو «غاساق» ثم عربت إلى «غساق» .

[سورة النبإ (78) : آية 27]

جَزَاءً ذَا وِفَاقٍ وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وِفاقاً فعال مِنَ الْوَفْقِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْعَذَابُ الْبَالِغُ فِي الشِّدَّةِ الْغَيْرُ الْمُتَنَاهِي بِحَسَبِ الْمُدَّةِ وِفاقاً لِلْإِتْيَانِ بِالْكُفْرِ لَحْظَةً وَاحِدَةً، وَأَيْضًا فَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِذَا كَانَ الْكُفْرُ وَاقِعًا بِخَلْقِ اللَّهِ وَإِيجَادِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا وِفَاقًا لَهُ؟ وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَكَانَ عِلْمُ اللَّهِ بِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ حَاصِلًا وَوُجُودُ إِيمَانِهِمْ مُنَافٍ بِالذَّاتِ لِذَلِكَ الْعِلْمِ فَمَعَ قِيَامِ أَحَدِ الْمُتَنَافِيَيْنِ كَانَ التَّكْلِيفُ بِإِدْخَالِ الْمُنَافِي الثَّانِي فِي الْوُجُودِ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ وَعَيْنِهِ، وَيَكُونُ تَكْلِيفًا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مِثْلُ هَذَا الْعَذَابِ الشَّدِيدِ الدَّائِمِ وِفَاقًا لِمِثْلِ هَذَا الْجُرْمِ؟ قُلْنَا يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ عَلَى الْإِجْمَالِ أَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ كَانَ عَلَى وَفْقِ جُرْمِهِمْ شَرَحَ أَنْوَاعَ جَرَائِمِهِمْ، وَهِيَ بَعْدَ ذَلِكَ نَوْعَانِ: أولهما: قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : آية 27] إِنَّهُمْ كانُوا لَا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَفِيهِ سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ الْحِسَابَ شَيْءٌ شَاقٌّ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَالشَّيْءُ الشَّاقُّ لَا يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُ يُرْجَى بَلْ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَخْشَوْنَ حِسَابًا وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلُهُ لَا يَرْجُونَ مَعْنَاهُ لَا يَخَافُونَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [نُوحٍ: 13] وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَرْجُوَ رَحْمَةَ اللَّهِ لِأَنَّهُ قَاطِعٌ بِأَنَّ ثَوَابَ إِيمَانِهِ زَائِدٌ عَلَى عِقَابِ جَمِيعِ الْمَعَاصِي سِوَى الْكُفْرِ، فَقَوْلُهُ: إِنَّهُمْ كانُوا لَا يَرْجُونَ حِساباً إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الرَّجَاءَ هَاهُنَا بِمَعْنَى التَّوَقُّعِ لِأَنَّ الرَّاجِيَ لِلشَّيْءِ مُتَوَقِّعٌ لَهُ إِلَّا أَنَّ أَشْرَفَ أَقْسَامِ التَّوَقُّعِ هُوَ الرَّجَاءُ فَسُمِّيَ الْجِنْسُ بِاسْمِ أَشْرَفِ أَنْوَاعِهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْحِسَابَ مَعَ اللَّهِ جَانِبُ الرَّجَاءِ فِيهِ أَغْلَبُ مِنْ جَانِبِ الْخَوْفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ لِلْعَبْدِ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِحُكْمِ الْوَعْدِ فِي جَانِبِ الثَّوَابِ وَلِلَّهِ تَعَالَى حَقٌّ عَلَى الْعَبْدِ فِي جَانِبِ الْعِقَابِ، وَالْكَرِيمُ قَدْ يُسْقِطُ حَقَّ نَفْسِهِ، وَلَا يُسْقِطُ مَا كَانَ حَقًّا لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ جَانِبُ الرَّجَاءِ أَقْوَى فِي/ الْحِسَابِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذُكِرَ الرَّجَاءُ، وَلَمْ يُذْكَرِ الْخَوْفُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا قَدْ أَتَوْا بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْقَبَائِحِ وَالْكَبَائِرِ، فَمَا السَّبَبُ فِي أَنْ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْكُفْرِ بِالذِّكْرِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ رَغْبَةَ الْإِنْسَانِ فِي فِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَفِي تَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ، إِنَّمَا تَكُونُ بِسَبَبِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ. فَمَنْ أَنْكَرَ الْآخِرَةَ، لَمْ يُقْدِمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمُسْتَحْسَنَاتِ، وَلَمْ يُحْجِمْ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، فَقَوْلُهُ: إِنَّهُمْ كانُوا لَا يَرْجُونَ حِساباً تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا كُلَّ شَرٍّ وَتَرَكُوا كل خير. والنوع الثاني: من قبائح أفعالهم قوله: [سورة النبإ (78) : آية 28] وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) اعْلَمْ أَنَّ لِلنَّفْسِ النَّاطِقَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ قُوَّتَيْنِ نَظَرِيَّةً وَعَمَلِيَّةً، وَكَمَالُ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ وَالْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ إِبْرَاهِيمَ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشُّعَرَاءِ: 83] هَبْ لِي

[سورة النبإ (78) : آية 29]

حُكْماً [الشعراء: 83] إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُوَّةِ، النَّظَرِيَّةِ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ إشارة إلى كمال القوة العملية، فههنا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى رَدَاءَةَ حَالِهِمْ فِي الْأَمْرَيْنِ، أَمَّا فِي الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ فَنَبَّهَ عَلَى فَسَادِهَا بقوله: إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً [النبأ: 27] أَيْ كَانُوا مُقْدِمِينَ عَلَى جَمِيعِ الْقَبَائِحِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَغَيْرَ رَاغِبِينَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْخَيْرَاتِ. وَأَمَّا فِي الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ فَنَبَّهَ عَلَى فَسَادِهَا بِقَوْلِهِ: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً أَيْ كَانُوا مُنْكِرِينَ بِقُلُوبِهِمْ لِلْحَقِّ وَمُصِرِّينَ عَلَى الْبَاطِلِ، وَإِذَا عَرَفْتَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّفْسِيرِ ظَهَرَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ بَلَغُوا فِي الرَّدَاءَةِ وَالْفَسَادِ إِلَى حَيْثُ يَسْتَحِيلُ عَقْلًا وُجُودُ مَا هُوَ أَزْيَدُ مِنْهُ، فَلَمَّا كَانَتْ أَفْعَالُهُمْ كَذَلِكَ كَانَ اللَّائِقُ بِهَا هُوَ الْعُقُوبَةَ الْعَظِيمَةَ. فَثَبَتَ بِهَذَا صِحَّةُ مَا قَدَّمَهُ فِي قَوْلِهِ: جَزاءً وِفاقاً [النبأ: 26] فَمَا أَعْظَمَ لَطَائِفَ الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّ الْأَدْوَارَ الْعَظِيمَةَ قَدِ اسْتَمَرَّتْ، وَلَمْ يَنْتَبِهْ لَهَا أَحَدٌ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يَلِيقُ بِعُلُوِّ شَأْنِهِ وَبُرْهَانِهِ عَلَى مَا خَصَّ هَذَا الضَّعِيفَ بِمَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَسْرَارِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِجَمِيعِ دَلَائِلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَالشَّرَائِعِ وَالْقُرْآنِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ حَالِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ فِي الرَّدَاءَةِ وَالْفَسَادِ وَالْبُعْدِ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَقَوْلُهُ: كِذَّاباً أَيْ تَكْذِيبًا وَفِعَّالٌ مِنْ مصادر التفعيل وَأَنْشَدَ الزَّجَّاجُ: لَقَدْ طَالَ مَا رَيَّثْتَنِي عَنْ صجابتي ... وَعَنْ حِوَجٍ قِضَّاؤُهَا مِنْ شِفَائِنَا مِنْ قَضَّيْتُ قضاء قال الفراء هي لُغَةٌ فَصِيحَةٌ يَمَانِيَّةٌ وَنَظِيرُهُ خَرَّقْتُ الْقَمِيصَ خِرَّاقًا، وَقَالَ لِي أَعْرَابِيٌّ مِنْهُمْ عَلَى الْمَرْوَةِ يَسْتَفْتِينِي: الحلو أحب إليك أم العصّار؟ وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» كُنْتُ أُفَسِّرُ آيَةً فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ فَسَّرْتَهَا فِسَّارًا مَا سُمِعَ بِهِ، وَقُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَصْدَرُ كَذَّبَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَصَدَقْتُهَا أَوْ كَذَبْتُهَا ... وَالْمَرْءُ يَنْفَعُهُ كِذَّابُهُ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نُوحٍ: 17] يَعْنِي وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فكذبوا كذابا وثانيها: أن ينصبه بكذبوا لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى كَذَّبُوا لِأَنَّ كُلَّ مُكَذِّبٍ بِالْحَقِّ كَاذِبٌ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَجْعَلَ الْكِذَّابَ بِمَعْنَى الْمُكَاذَبَةِ، فَمَعْنَاهُ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَكَاذَبُوا مُكَاذَبَةً. أَوْ كَذَّبُوا بِهَا مُكَاذِبِينَ. لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ كَاذِبِينَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَهُمْ كَاذِبِينَ فَبَيْنَهُمْ مُكَاذَبَةٌ وَقُرِئَ أَيْضًا كَذَلِكَ وَهُوَ جَمْعُ كَاذِبٍ، أَيْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كَاذِبِينَ، وَقَدْ يَكُونُ الْكَذَّابُ بِمَعْنَى الْوَاحِدِ الْبَلِيغِ فِي الْكَذِبِ، يُقَالُ رَجُلٌ كَذَّابٌ كَقَوْلِكَ حَسَّانٌ وَبَخَّالٌ، فَيُجْعَلُ صِفَةً لِمَصْدَرِ كذبوا أي تكذيبا كذابا مفرطا كذبه. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ فَسَادَ حَالِهِمْ فِي الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ وَفِي الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ بَلَغَ إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ وَأَعْظَمِ النِّهَايَاتِ بَيَّنَ أَنَّ تَفَاصِيلَ تِلْكَ الْأَحْوَالِ فِي كَمِّيَّتِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا معلومة له، وقدر له مَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ مَعْلُومٌ لَهُ، فقال: [سورة النبإ (78) : آية 29] وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) وَفِيهِ مَسَائِلُ:

[سورة النبإ (78) : آية 30]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلَّ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ أَحْصَيْناهُ وَالْمَعْنَى: وَأَحْصَيْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ، وَكُلُّ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ أَيْ عَلِمْنَا كُلَّ شَيْءٍ كَمَا هُوَ عِلْمًا لَا يَزُولُ وَلَا يَتَبَدَّلُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [الْمُجَادَلَةِ: 6] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِالْجُزْئِيَّاتِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْآيَةِ لَا تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا تَقْرِيرًا لِمَا ادعاه من قوله: جَزاءً وِفاقاً [النبأ: 26] كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: أَنَا عَالِمٌ بِجَمِيعِ مَا فَعَلُوهُ، وَعَالِمٌ بِجِهَاتِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ وَأَحْوَالِهَا وَاعْتِبَارَاتِهَا الَّتِي لِأَجْلِهَا يَحْصُلُ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَلَا جَرَمَ لَا أُوصِلُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا قَدْرَ مَا يَكُونُ وِفَاقًا لِأَعْمَالِهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ ثَبَتَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِالْجُزْئِيَّاتِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَنْكَرَهُ كَانَ كَافِرًا قَطْعًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: أَحْصَيْناهُ كِتاباً فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَقْدِيرُهُ أَحْصَيْنَاهُ إِحْصَاءً، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ تِلْكَ اللَّفْظَةِ إِلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ هِيَ النِّهَايَةُ فِي قُوَّةِ الْعِلْمِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابَةِ» فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ إِحْصَاءً مُسَاوِيًا فِي الْقُوَّةِ وَالثَّبَاتِ وَالتَّأْكِيدِ لِلْمَكْتُوبِ، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ كِتَابًا تَأْكِيدُ ذَلِكَ الْإِحْصَاءِ وَالْعِلْمِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّأْكِيدَ إِنَّمَا وَرَدَ عَلَى حَسَبِ مَا يَلِيقُ بِأَفْهَامِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، فَإِنَّ الْمَكْتُوبَ يَقْبَلُ الزَّوَالَ، وَعِلْمُ اللَّهِ بِالْأَشْيَاءِ لَا يَقْبَلُ الزَّوَالَ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ لِذَاتِهِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ كِتَابًا حَالًا فِي مَعْنَى مَكْتُوبًا وَالْمَعْنَى وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ حَالَ كَوْنِهِ مَكْتُوبًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، كَقَوْلِهِ: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ أو في صحف الحفظة. ثم قال تعالى: [سورة النبإ (78) : آية 30] فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ الْعِقَابِ أَوَّلًا، ثُمَّ ادعى كونه جَزاءً وِفاقاً [النبأ: 26] ثُمَّ بَيَّنَ تَفَاصِيلَ أَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، وَظَهَرَ صِحَّةُ مَا ادَّعَاهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ الْعِقَابَ كَانَ جَزاءً وِفاقاً لَا جَرَمَ أَعَادَ ذِكْرَ الْعِقَابِ، وَقَوْلُهُ: فَذُوقُوا وَالْفَاءُ لِلْجَزَاءِ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالذَّوْقِ مُعَلَّلٌ بِمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مِنْ قَبَائِحِ أَفْعَالِهِمْ، فَهَذَا الْفَاءُ أَفَادَ عَيْنَ فَائِدَةِ قَوْلِهِ: جَزاءً وِفاقاً. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّعْذِيبِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ وَكَلِمَةُ لَنْ لِلتَّأْكِيدِ فِي النَّفْيِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ فِي قَوْلِهِ: كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً [النبأ: 27] ذَكَرَهُمْ بِالْمُغَايَبَةِ وَفِي قَوْلِهِ: فَذُوقُوا ذَكَرَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَافَهَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْغَضَبِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى عَدَّدَ وُجُوهَ الْعِقَابِ ثُمَّ حَكَمَ بِأَنَّهُ جَزَاءٌ مُوَافِقٌ لِأَعْمَالِهِمْ ثُمَّ عَدَّدَ فَضَائِحَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: فَذُوقُوا فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَفْتَى وَأَقَامَ الدَّلَائِلَ، ثُمَّ أَعَادَ تِلْكَ الْفَتْوَى بِعَيْنِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّعْذِيبِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «هَذِهِ الْآيَةُ أَشَدُّ مَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَهْلِ النَّارِ، كُلَّمَا اسْتَغَاثُوا مِنْ نَوْعٍ مِنَ الْعَذَابِ أُغِيثُوا بِأَشَدَّ مِنْهُ» بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 77] فَهُنَا لَمَّا قَالَ لَهُمْ: فَذُوقُوا فَقَدْ كَلَّمَهُمْ؟ الْجَوَابُ: قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ فَيُقَالُ لهم: فذوقوا،

[سورة النبإ (78) : آية 31]

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَلِيقُ بِذَلِكَ الْقَائِلِ أَنْ يَقُولَ: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً بَلْ هَذَا الْكَلَامُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِاللَّهِ، وَالْأَقْرَبُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: وَلا يُكَلِّمُهُمُ أَيْ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ بِالْكَلَامِ الطَّيِّبِ النَّافِعِ، فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ غَيْرُ بَعِيدٍ لَا سِيَّمَا عِنْدَ حُصُولِ الْقَرِينَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَلا يُكَلِّمُهُمُ إِنَّمَا ذَكَرَهُ لِبَيَانِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يُقِيمُ لَهُمْ وَزْنًا، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنَ الْكَلَامِ الطَّيِّبِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَزِيدُ فِي عَذَابِ الْكَافِرِ أَبَدًا، فَتِلْكَ الزِّيَادَةُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً لَهُمْ أَوْ غَيْرَ مُسْتَحَقَّةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً لَهُمْ كَانَ تَرْكُهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ إِحْسَانًا، وَالْكَرِيمُ إِذَا أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَلِيقُ به أن يسترجعه بعد ذلك، وأما إن كَانَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُسْتَحَقَّةٍ كَانَ إِيصَالُهَا إِلَيْهِمْ ظُلْمًا وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ الْجَوَابُ: كَمَا أَنَّ الشَّيْءَ يُؤَثِّرُ بِحَسَبِ خَاصِّيَّةِ ذَاتِهِ، فَكَذَا إِذَا دَامَ ازْدَادَ تَأْثِيرُهُ بِحَسَبِ ذَلِكَ الدَّوَامِ، فَلَا جَرَمَ كُلَّمَا كَانَ الدَّوَامُ أَكْثَرَ كَانَ الْإِيلَامُ أَكْثَرَ، وَأَيْضًا فَتِلْكَ الزِّيَادَةُ مُسْتَحَقَّةٌ، وَتَرْكُهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لَا يُوجِبُ الإبراء والإسقاط، والله علم بِمَا أَرَادَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الْكُفَّارِ أَتْبَعَهُ بِوَعْدِ الْأَخْيَارِ وَهُوَ أُمُورٌ: أولها: قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : آية 31] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) أَمَّا الْمُتَّقِي فَقَدْ تَقَدَّمَ تفسيره في مواضع كثيرة ومَفازاً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى فَوْزًا وَظَفَرًا بِالْبُغْيَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَ فَوْزٍ وَالْفَوْزُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ فَوْزًا بِالْمَطْلُوبِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ فَوْزًا بِالنَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَجْمُوعَ الْأَمْرَيْنِ، وَعِنْدِي أَنَّ تَفْسِيرَهُ بِالْفَوْزِ بِالْمَطْلُوبِ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهِ بِالْفَوْزِ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ، وَمِنْ تَفْسِيرِهِ بِالْفَوْزِ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي النَّجَاةَ مِنَ الْهَلَاكِ وَالْوُصُولَ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى فَسَّرَ الْمَفَازَ بما بعده وهو قوله: حَدائِقَ وَأَعْناباً [النبأ: 32] فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَفَازِ هَذَا الْقَدْرُ. فَإِنْ قِيلَ الْخَلَاصُ مِنَ الْهَلَاكِ أَهَمُّ مِنْ حُصُولِ اللَّذَّةِ، فَلِمَ أُهْمِلَ الْأَهَمُّ وَذُكِرَ غَيْرُ الْأَهَمِّ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْخَلَاصَ مِنَ الْهَلَاكِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْفَوْزَ بِاللَّذَّةِ وَالْخَيْرِ، أَمَّا الْفَوْزُ بِاللَّذَّةِ وَالْخَيْرِ فَيَسْتَلْزِمُ الْخَلَاصَ مِنَ الْهَلَاكِ، فَكَانَ ذكر هذا أولى. وثانيها: قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : آية 32] حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَالْحَدَائِقُ جَمْعُ حَدِيقَةٍ، وَهِيَ بُسْتَانٌ مَحُوطٌ عَلَيْهِ. مِنْ قَوْلِهِمْ: أَحْدَقُوا بِهِ أَيْ أَحَاطُوا بِهِ، وَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَأَعْناباً يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ حَالِ تِلْكَ الْأَعْنَابِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تعالى: [سورة النبإ (78) : آية 33] وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) كَوَاعِبُ جَمْعُ كَاعِبٍ وَهِيَ النَّوَاهِدُ الَّتِي تَكَعَّبَتْ ثُدِيُّهُنَّ وَتَفَلَّكَتْ أَيْ يَكُونُ الثَّدْيُ فِي النُّتُوءِ كَالْكَعْبِ وَالْفَلْكَةِ.

[سورة النبإ (78) : آية 34]

ورابعها: قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : آية 34] وَكَأْساً دِهاقاً (34) وَفِي الدِّهَاقِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ كَأَبِي عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجِ والكسائي والمبرد، ودِهاقاً أَيْ مُمْتَلِئَةً، دَعَا ابْنُ عَبَّاسٍ غُلَامًا لَهُ فَقَالَ: اسْقِنَا دِهَاقًا، فَجَاءَ الْغُلَامُ بِهَا مَلْأَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا هُوَ الدِّهَاقُ قَالَ عِكْرِمَةُ، رُبَّمَا سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: اسْقِنَا وَأَدْهِقْ لَنَا الْقَوْلُ الثَّانِي: دِهَاقًا أَيْ مُتَتَابِعَةً وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: ادَّهَقَتِ الْحِجَارَةُ ادِّهَاقًا وَهُوَ شِدَّةُ تَلَازُمِهَا وَدُخُولُ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ، ذَكَرَهَا اللَّيْثُ وَالْمُتَتَابِعُ كَالْمُتَدَاخِلِ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: يُرْوَى عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: دِهاقاً أَيْ صَافِيَةً، وَالدِّهَاقُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ دَاهِقٍ، وَهُوَ خَشَبَتَانِ يُعْصَرُ بِهِمَا، وَالْمُرَادُ بِالْكَأْسِ الْخَمْرُ، قَالَ الضَّحَّاكُ: كُلُّ كَأْسٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ خَمْرٌ، التَّقْدِيرُ. وَخَمْرًا ذَاتَ دِهَاقٍ، أَيْ عُصِرَتْ وصفيت بالدهاق. وخامسها: قوله: [سورة النبإ (78) : آية 35] لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فِيها إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ الْجَوَابُ فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْكَأْسِ، أَيْ لَا يَجْرِي بَيْنَهُمْ لَغْوٌ فِي الْكَأْسِ الَّتِي يَشْرَبُونَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الشَّرَابِ/ فِي الدُّنْيَا يَتَكَلَّمُونَ بِالْبَاطِلِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ إِذَا شَرِبُوا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَقْلُهُمْ، وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا بِلَغْوٍ وَالثَّانِي: أَنَّ الْكِنَايَةَ تَرْجِعُ إِلَى الْجَنَّةِ، أَيْ لَا يَسْمَعُونَ فِي الْجَنَّةِ شَيْئًا يَكْرَهُونَهُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: الْكَذَّابُ بِالتَّشْدِيدِ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ، فَوُرُودُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً [النبأ: 28] مُنَاسِبٌ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِهِمْ بِالْكَذِبِ، أَمَّا وُرُودُهُ هَاهُنَا فَغَيْرُ لَائِقٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً يُفِيدُ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ الْكَذِبَ الْعَظِيمَ وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ الْكَذِبَ الْقَلِيلَ، وَلَيْسَ مَقْصُودُ الْآيَةِ ذَلِكَ بَلِ الْمَقْصُودُ الْمُبَالَغَةُ فِي أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ الْكَذِبَ الْبَتَّةَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُفِيدُ نَفْيَ الْمُبَالَغَةِ وَاللَّائِقُ بِالْآيَةِ الْمُبَالَغَةُ فِي النَّفْيِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْكِسَائِيَّ قَرَأَ الْأَوَّلَ بِالتَّشْدِيدِ وَالثَّانِيَ بِالتَّخْفِيفِ، وَلَعَلَّ غَرَضَهُ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي هَذَا السُّؤَالِ، لِأَنَّ قِرَاءَةَ التَّخْفِيفِ هَاهُنَا تُفِيدُ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ الْكَذِبَ أَصْلًا، لِأَنَّ الْكِذَابَ بِالتَّخْفِيفِ وَالْكَذِبَ وَاحِدٌ لِأَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْفَارِسِيَّ قَالَ: كِذَابٌ مَصْدَرُ كَذَبَ كَكِتَابٍ مَصْدَرُ كَتَبَ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ بِالتَّخْفِيفِ تُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي النَّفْيِ، وَقِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ فِي الْأَوَّلِ تُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي الثُّبُوتِ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، فَإِنْ أَخَذْنَا بِقِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ فَقَدْ زَالَ السُّؤَالُ، وَإِنْ أَخَذْنَا بِقِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ، فَالْعُذْرُ عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً وَالْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ السُّعَدَاءَ لَا يَسْمَعُونَ كَلَامَهُمُ الْمُشَوَّشَ الْبَاطِلَ الْفَاسِدَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ النِّعَمَ الْوَاصِلَةَ إِلَيْهِمْ تَكُونُ خَالِيَةً عَنْ زَحْمَةِ أَعْدَائِهِمْ وَعَنْ سَمَاعِ كَلَامِهِمُ الْفَاسِدِ وَأَقْوَالِهِمُ الْكَاذِبَةِ الْبَاطِلَةِ.

[سورة النبإ (78) : آية 36]

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَدَّدَ أَقْسَامَ نَعِيمِ أهل الجنة قال: [سورة النبإ (78) : آية 36] جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى جَازَاهُمْ بِذَلِكَ جَزَاءً، وَكَذَلِكَ عَطَاءً لِأَنَّ مَعْنَى جَازَاهُمْ وَأَعْطَاهُمْ وَاحِدٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ جَزَاءً وَعَطَاءً، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ كَوْنَهُ جَزَاءً يَسْتَدْعِي ثُبُوتَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَكَوْنَهُ عَطَاءً يَسْتَدْعِي عَدَمَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَنَافٍ وَالْجَوَابُ عَنْهُ: لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى قَوْلِنَا: وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقَ إِنَّمَا ثَبَتَ بِحُكْمِ الْوَعْدِ، لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الفعل يوجب الثواب على الله، فذلك نَظَرًا إِلَى الْوَعْدِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ يَكُونُ جَزَاءً، وَنَظَرًا إِلَى إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ لِأَحَدٍ شَيْءٌ يَكُونُ عَطَاءً. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: حِساباً فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى كَافِيًا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَعْطَانِي مَا أَحْسَبَنِي أَيْ مَا كَفَانِي، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي، أَيْ كَفَانِي من سؤالي، ومنه قوله: فما حَلَلْتُ بِهِ ضَمَّنِي ... فَأَوْلَى جَمِيلًا وَأَعْطَى حِسَابًا أَيْ أَعْطَى مَا كَفَى وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: حِسَابًا مَأْخُوذٌ مِنْ حَسَبْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَعْدَدْتَهُ وَقَدَّرْتَهُ فَقَوْلُهُ: عَطاءً حِساباً أَيْ بِقَدْرِ مَا وَجَبَ لَهُ فِيمَا وَعَدَهُ مِنَ الْإِضْعَافِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ الْجَزَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، وَجْهٌ مِنْهَا عَلَى عَشَرَةِ أَضْعَافٍ، وَوَجْهٌ عَلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَوَجْهٌ عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، كَمَا قَالَ: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزُّمَرِ: 10] ، الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ: عَطاءً حِساباً أَيْ كَثِيرًا وَأَحْسَبْتَ فُلَانًا أَيْ أَكْثَرْتَ لَهُ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَنُقْفِي وَلِيدَ الْحَيِّ إِنْ كَانَ جَائِعًا ... وَنُحْسِبُهُ إِنْ كَانَ لَيْسَ بِجَائِعِ الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُوصِلُ الثَّوَابَ الَّذِي هُوَ الْجَزَاءُ إِلَيْهِمْ وَيُوصِلُ التفضل الذي يكون زائدا على الجزء إِلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: حِساباً ثُمَّ يَتَمَيَّزُ الْجَزَاءُ عَنِ الْعَطَاءِ حَالَ الْحِسَابِ الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي وَعِيدِ أَهْلِ النَّارِ: جَزاءً وِفاقاً ذَكَرَ فِي وَعْدِ أَهْلِ الْجَنَّةِ جَزَاءً عَطَاءً حِسَابًا أَيْ رَاعَيْتُ فِي ثَوَابِ أَعْمَالِكُمُ الْحِسَابَ، لِئَلَّا يَقَعَ فِي ثَوَابِ أَعْمَالِكُمْ بَخْسٌ وَنُقْصَانٌ وَتَقْصِيرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ ابْنُ قُطَيْبٍ: حَسَّابًا بِالتَّشْدِيدِ عَلَى أَنَّ الْحَسَّابَ بِمَعْنَى الْمُحْسِبِ كَالدَّرَّاكِ بِمَعْنَى الْمُدْرِكِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ صاحب «الكشاف» . وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي وَصْفِ وَعِيدِ الْكُفَّارِ وَوَعْدِ الْمُتَّقِينَ، خَتَمَ الْكَلَامَ فِي ذلك بقوله: [سورة النبإ (78) : آية 37] رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) وَفِيهِ مَسَائِلُ:

[سورة النبإ (78) : آية 38]

المسألة الأولى: رب السموات وَالرَّحْمَنِ، فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجَهٍ مِنَ الْقِرَاءَةِ الرَّفْعُ فِيهِمَا وَهُوَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ وَنَافِعٍ وَأَبِي عَمْرٍو، وَالْجَرُّ فِيهِمَا وَهُوَ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، وَالْجَرُّ فِي الْأَوَّلِ مَعَ الرَّفْعِ فِي الثَّانِي، وَهُوَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، وَفِي الرَّفْعِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ رَبُّ السموات مبتدأ، والرحمن خَبَرَهُ، ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا وثانيها: رب السموات مبتدأ، والرحمن صفة ولا يَمْلِكُونَ خَبَرَهُ وَثَالِثُهَا: أَنْ يُضْمَرَ الْمُبْتَدَأُ وَالتَّقْدِيرُ هُوَ: رَبِّ السَّماواتِ هُوَ الرَّحْمنِ ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ: لا يَمْلِكُونَ ورابعها: أن يكون الرَّحْمنِ ولا يَمْلِكُونَ خَبَرَيْنِ وَأَمَّا وَجْهُ الْجَرِّ فَعَلَى الْبَدَلِ مِنْ رَبِّكَ، وَأَمَّا وَجْهُ جَرِّ الْأَوَّلِ، وَرَفْعِ الثَّانِي فَجَرُّ الْأَوَّلِ بِالْبَدَلِ مِنْ رَبِّكَ، وَالثَّانِي مَرْفُوعٌ بِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ لَا يَمْلِكُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثانية: الضمير في قوله: لا يَمْلِكُونَ إِلَى مَنْ يَرْجِعُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: نَقَلَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ يُرِيدُ لَا يُخَاطَبُ الْمُشْرِكُونَ أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيَشْفَعُونَ يَقْبَلُ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَالثَّانِي: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَمْلِكُونَ/ أَنْ يُخَاطِبُوا اللَّهَ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ عَدْلٌ لَا يَجُورُ، ثَبَتَ أَنَّ الْعِقَابَ الَّذِي أَوْصَلَهُ إِلَى الْكُفَّارِ عَدْلٌ، وَأَنَّ الثواب الذي أوصله الْمُؤْمِنِينَ عَدْلٌ، وَأَنَّهُ مَا يُخْسِرُ حَقَّهُمْ، فَبِأَيِّ سَبَبٍ يُخَاطِبُونَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبُ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الَّذِي جَرَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ لَا ذِكْرُ الْكُفَّارِ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ ضَمِيرٌ لأهل السموات وَالْأَرْضِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، فَإِنَّ أَحَدًا مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَا يَمْلِكُ مُخَاطَبَةَ اللَّهِ وَمُكَالَمَتَهُ. وَأَمَّا الشَّفَاعَاتُ الْوَاقِعَةُ بِإِذْنِهِ فَغَيْرُ وَارِدَةٍ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ لِأَنَّهُ نَفَى الْمِلْكَ وَالَّذِي يَحْصُلُ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَهُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ غَيْرُ لَازِمٍ، وَالَّذِي يَدُلُّ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَا يَمْلِكُ خِطَابَ اللَّهُ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ كل ما سواء فَهُوَ مَمْلُوكُهُ وَالْمَمْلُوكُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى مَالِكِهِ شَيْئًا وَثَانِيهَا: أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ، هُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَاسْتَحَقَّ الذَّمَّ. وَلَوْ فَعَلَهُ لَاسْتَحَقَّ الْمَدْحَ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ نَاقِصًا فِي ذَاتِهِ، مُسْتَكْمَلًا بِغَيْرِهِ وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَالِمٌ بِقُبْحِ الْقَبِيحِ، عَالِمٌ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَفْعَلِ الْقَبِيحَ، وَكُلُّ مَنِ امْتَنَعَ كَوْنُهُ فَاعِلًا لِلْقَبِيحِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُطَالِبَهُ بِشَيْءٍ، وَأَنْ يَقُولَ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ. وَالْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ مُفَرَّعَانِ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ يَتَفَرَّعُ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَثَبَتَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُخَاطِبَ ربه ويطالب إلهه. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُخَاطِبَ اللَّهَ فِي شَيْءٍ أَوْ يُطَالِبَهُ بِشَيْءٍ قَرَّرَ هَذَا المعنى، وأكده فقال تعالى: [سورة النبإ (78) : آية 38] يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ قَدْرًا وَرُتْبَةً، وَأَكْثَرُ قُدْرَةً وَمَكَانَةً، فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَتَكَلَّمُونَ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ إِجْلَالًا لِرَبِّهِمْ وَخَوْفًا مِنْهُ وَخُضُوعًا لَهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ غَيْرِهِمْ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِمَنْ يَقُولُ بِتَفْضِيلِ الْمَلَكِ عَلَى الْبَشَرِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا بَقُوا خَائِفِينَ خَاضِعِينَ وَجِلِينَ مُتَحَيِّرِينَ فِي مَوْقِفِ جَلَالِ اللَّهِ، وَظُهُورِ عِزَّتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ غَيْرِهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانُوا أَشْرَفَ الْمَخْلُوقَاتِ.

[سورة النبإ (78) : آية 39]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الرُّوحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ مَلَكٌ أَعْظَمُ من السموات وَالْجِبَالِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ مَلَكٌ مِنْ أَعْظَمِ الْمَلَائِكَةِ خَلْقًا، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: خَلْقٌ عَلَى/ صورة بني آدم يأكلون ويشربون، وليس بِنَاسٍ، وَعَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ هُمْ بَنُو آدَمَ، وَعَلَى هَذَا مَعْنَاهُ ذُو الرُّوحِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَرْوَاحُ النَّاسِ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ وَالشَّعْبِيِّ هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْقَاضِي. قَالَ: لِأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْمَ اسْمُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَثَبَتَ أَنَّ الْقِيَامَ صَحِيحٌ مِنْ جِبْرِيلَ وَالْكَلَامَ صَحِيحٌ مِنْهُ، وَيَصِحُّ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فَكَيْفَ يُصْرَفُ هَذَا الِاسْمُ عَنْهُ إِلَى خَلْقٍ لَا نَعْرِفُهُ، أَوْ إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِالْقِيَامِ. أَمَّا قَوْلُهُ: صَفًّا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ الرُّوحَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذكرناه، وَجَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ يَقُومُونَ صَفًّا وَاحِدًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَقُومُونَ صَفَّيْنِ، وَيَجُوزُ صُفُوفًا، وَالصَّفُّ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ فَيُنْبِئُ عَنِ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَظَاهِرُ قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ يَقُومُونَ صَفَّيْنِ، فَيَقُومُ الرُّوحُ وَحْدَهُ صَفًّا، وَتَقُومُ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ صَفًّا وَاحِدًا، فَيَكُونُ عِظَمُ خَلْقِهِ مِثْلَ صُفُوفِهِمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ يَقُومُونَ صُفُوفًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الْفَجْرِ: 22] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى مَنْ يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِلَى الرُّوحِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ وَالْمَلَائِكَةَ لَا يَتَكَلَّمُونَ إلا عند حصول شرطين إحداها: حُصُولُ الْإِذْنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَةِ: 255] وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: صَوَابًا، فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ، عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ صَوَابٌ لا محالة، فما القائدة فِي قَوْلِهِ: وَقالَ صَواباً؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّحْمَنَ أَذِنَ لَهُ فِي مُطْلَقِ الْقَوْلِ ثُمَّ إِنَّهُمْ عِنْدَ حُصُولِ ذَلِكَ الْإِذْنِ لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا بِالصَّوَابِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُمْ لا ينطلقون إِلَّا بَعْدَ وُرُودِ الْإِذْنِ فِي الْكَلَامِ، ثُمَّ بَعْدَ وُرُودِ ذَلِكَ الْإِذْنِ يَجْتَهِدُونَ، وَلَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا بِالْكَلَامِ الَّذِي يَعْلَمُونَ أَنَّهُ صِدْقٌ وَصَوَابٌ، وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي وَصْفِهِمْ بِالطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَقْدِيرَهُ: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً وَالْمَعْنَى لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا فِي حَقِّ شَخْصٍ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ فِي شَفَاعَتِهِ وَذَلِكَ الشَّخْصُ كَانَ مِمَّنْ قَالَ صَوَابًا، وَاحْتَجَّ صَاحِبُ هَذَا التَّأْوِيلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ لِلْمُذْنِبِينَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا صَوَابًا وَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَقالَ صَواباً يَكْفِي فِي صِدْقِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ صَوَابًا وَاحِدًا، فَكَيْفَ بِالشَّخْصِ الَّذِي قَالَ الْقَوْلَ الَّذِي هُوَ أَصْوَبُ الْأَقْوَالِ وَتَكَلَّمَ بِالْكَلَامِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْكَلِمَاتِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ غَيْرُ عَائِدٍ إِلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَطْ بَلْ إِلَى جميع أهل السموات وَالْأَرْضِ، وَالْمَقُولُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى الْأَقْرَبِ أَوْلَى. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ أَحْوَالَ الْمُكَلَّفِينَ فِي دَرَجَاتِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وقرر عظمة يوم القيامة قال بعده: [سورة النبإ (78) : آية 39] ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى تَقَدُّمِ ذِكْرِهِ، وَفِي وَصْفِ الْيَوْمِ بِأَنَّهُ حَقٌّ وُجُوهٌ أحدها: أنه

[سورة النبإ (78) : آية 40]

يَحْصُلُ فِيهِ كُلُّ الْحَقِّ، وَيَنْدَمِغُ كُلُّ بَاطِلٍ، فَلَمَّا كَانَ كَامِلًا فِي هَذَا الْمَعْنَى قِيلَ: إِنَّهُ حَقٌّ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ خَيْرٌ كُلُّهُ إِذَا وُصِفَ بِأَنَّ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا، وَقَوْلُهُ: ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ يُفِيدُ أَنَّهُ هُوَ الْيَوْمُ الْحَقُّ وَمَا عَدَاهُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ أَيَّامَ الدُّنْيَا بَاطِلُهَا أَكْثَرُ مِنْ حَقِّهَا وَثَانِيهَا: أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الثَّابِتُ الْكَائِنُ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ إِنَّ اللَّهَ حَقٌّ، أَيْ هُوَ ثَابِتٌ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ فَيَكُونُ حَقًّا وَثَالِثُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ يَوْمٌ، لِأَنَّ فِيهِ تُبْلَى السَّرَائِرُ وَتَنْكَشِفُ الضَّمَائِرُ، وَأَمَّا أَيَّامُ الدُّنْيَا فأحوال الخلف فِيهَا مَكْتُومَةٌ، وَالْأَحْوَالُ فِيهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً أَيْ مَرْجِعًا، وَالْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا بِهِ عَلَى الِاخْتِيَارِ وَالْمَشِيئَةِ، وَأَصْحَابُنَا رَوَوْا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمُرَادُ فَمَنْ شَاءَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا هداه حتى يتخذ إلى ربه مآبا. [سورة النبإ (78) : آية 40] إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40) [في قوله تعالى نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً ] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى زَادَ فِي تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ فقال: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَعْنِي الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَ [هُوَ] كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات: 46] وَإِنَّمَا سَمَّاهُ إِنْذَارًا، لِأَنَّهُ تَعَالَى بِهَذَا الْوَصْفِ قَدْ خَوَّفَ مِنْهُ نِهَايَةَ التَّخْوِيفِ وَهُوَ مَعْنَى الإنذار. ثم قال تعالى: وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: المسألة الْأُولَى: مَا فِي قَوْلِهِ: اقَدَّمَتْ يَداهُ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ مَنْصُوبَةٌ بقدمت، أَيْ يَنْظُرُ أَيَّ شَيْءٍ قَدَّمَتْ يَدَاهُ الثَّانِي: أن تكون بمعنى الذي وتكون منصوبة ينتظر، وَالتَّقْدِيرُ: يَنْظُرُ إِلَى الَّذِي قَدَّمَتْ يَدَاهُ، إِلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ حَصَلَ فِيهِ حَذْفَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: قَدَّمَتْهُ، بَلْ قَالَ: دَّمَتْ فَحَذَفَ الضَّمِيرَ الرَّاجِعَ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: يَنْظُرُ إِلَى مَا قَدَّمَتْ، بَلْ قَالَ: يَنْظُرُ ما قدمت، يقام نَظَرْتُهُ بِمَعْنَى نَظَرْتُ إِلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَرْءَ عَامٌّ فِي كُلِّ أَحَدٍ، لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ إِنْ كَانَ قَدَّمَ عَمَلَ الْمُتَّقِينَ، فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الثَّوَابُ الْعَظِيمُ، وَإِنْ كَانَ قَدَّمَ عَمَلَ الْكَافِرِينَ، فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الْعِقَابُ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا رَجَاءَ لِمَنْ وَرَدَ الْقِيَامَةَ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فِي أَمْرٍ سِوَى هَذَيْنِ، فَهَذَا هو المراد بقوله: وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ فَطُوبَى لَهُ إِنْ قَدَّمَ عَمَلَ الْأَبْرَارِ، وَوَيْلٌ لَهُ إِنْ قَدَّمَ عَمَلَ الْفُجَّارِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ عطاء: أن المر هَاهُنَا هُوَ الْكَافِرُ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ كَمَا يَنْظُرُ إِلَى مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، فَكَذَلِكَ يَنْظُرُ إِلَى عَفْوِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ/ وَأَمَّا الْكَافِرُ الَّذِي لَا يَرَى إِلَّا الْعَذَابَ، فَهُوَ لَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، لِأَنَّ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ لَيْسَ إِلَّا مِنْ شُؤْمِ مُعَامَلَتِهِ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ أَنَّ الْمَرْءَ هَاهُنَا هُوَ الْمُؤْمِنُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً فَلَمَّا كَانَ هَذَا بَيَانًا لِحَالِ الْكَافِرِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ بَيَانًا لِحَالِ الْمُؤْمِنِ وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَمَّا قَدَّمَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ فَهُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَوْفٍ وَرَجَاءٍ، فَيَنْتَظِرُ كَيْفَ يَحْدُثُ الْحَالُ، أَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ قَاطِعٌ بِالْعِقَابِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ انْتِظَارٌ أَنَّهُ كَيْفَ يَحْدُثُ الْأَمْرُ، فَإِنَّ مَعَ الْقَطْعِ لَا يَحْصُلُ الِانْتِظَارُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَائِلُونَ: بِأَنَّ الْخَيْرَ يُوجِبُ الثَّوَابَ وَالشَّرَّ يُوجِبُ الْعِقَابَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالُوا:

لَوْلَا أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ نَظَرُ الرَّجُلِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى عَمَلِهِ بَلْ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْعَمَلَ يُوجِبُ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، لَكِنْ بِحُكْمِ الْوَعْدِ وَالْجَعْلِ لَا بِحُكْمِ الذَّاتِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا أَنْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَنْظُرُ الْمَرْءُ أَيَّ شَيْءٍ قَدَّمَتْ يَدَاهُ، أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَإِنَّهُ يَجِدُ الْإِيمَانَ وَالْعَفْوَ عَنْ سَائِرِ الْمَعَاصِي عَلَى مَا قَالَ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَا يَتَوَقَّعُ الْعَفْوَ عَلَى مَا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48] فعند ذلك يقول الكافر: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً أَيْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا مُكَلَّفًا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْبَعْثِ تُرَابًا، فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا. يَا لَيْتَنِي لَمْ أُبْعَثْ لِلْحِسَابِ، وَبَقِيتُ كَمَا كُنْتُ تُرَابًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ [الْحَاقَّةِ: 27] وَقَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ [النِّسَاءِ: 42] وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْبَهَائِمَ تُحْشَرُ فَيُقْتَصُّ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ ثُمَّ يُقَالُ لَهَا بَعْدَ الْمُحَاسَبَةِ: كُونِي تُرَابًا فَيَتَمَنَّى الْكَافِرُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ مِثْلَ تِلْكَ الْبَهَائِمِ فِي أَنْ يَصِيرَ تُرَابًا، وَيَتَخَلَّصَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَأَنْكَرَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ ذَلِكَ. وَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَعَادَهَا فَهِيَ بَيْنَ مُعَوَّضٍ وَبَيْنَ مُتَفَضَّلٍ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْطَعَهَا عَنِ الْمَنَافِعِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَالْإِضْرَارِ بِهَا، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ إِذَا انْتَهَتْ مُدَّةُ أَعْوَاضِهَا جَعَلَ اللَّهُ كُلَّ مَا كَانَ مِنْهَا حَسَنَ الصُّورَةِ ثَوَابًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَا كَانَ قَبِيحَ الصُّورَةِ عِقَابًا لِأَهْلِ النَّارِ، قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا إِذَا وَفَّرَ اللَّهُ أَعْوَاضَهَا وَهِيَ غَيْرُ كَامِلَةِ الْعَقْلِ أَنْ يُزِيلَ اللَّهُ حَيَاتَهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْصُلُ لَهَا شُعُورٌ بِالْأَلَمِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ ضَرَرًا وَرَابِعُهَا: ما ذكره بعض الصوفية فقال قوله: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً مَعْنَاهُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مُتَوَاضِعًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَلَمْ أَكُنْ مُتَكَبِّرًا مُتَمَرِّدًا وَخَامِسُهَا: الْكَافِرُ إِبْلِيسُ يَرَى آدَمَ وَوَلَدَهُ وَثَوَابَهُمْ، فَيَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ الشَّيْءَ الَّذِي احْتَقَرَهُ حِينَ قَالَ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص: 76] وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ وَأَسْرَارِ كِتَابِهِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه.

سورة النازعات

بسم الله الرّحمن الرّحيم سُورَةُ النَّازِعَاتِ (وَهِيَ أَرْبَعُونَ وَسِتُّ آيَاتٍ مَكِّيَّةٌ) [سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسَ، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ صِفَاتٍ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَكُونَ كَذَلِكَ، أَمَّا عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فَقَدْ ذَكَرُوا فِي الْآيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهَا بِأَسْرِهَا صِفَاتُ الْمَلَائِكَةِ، فَقَوْلُهُ: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً هِيَ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَنْزِعُونَ نُفُوسَ بَنِي آدَمَ فَإِذَا نَزَعُوا نَفْسَ الْكُفَّارِ نَزَعُوهَا بِشِدَّةٍ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ نَزَعَ فِي الْقَوْسِ فَأَغْرَقَ يُقَالُ: أَغْرَقَ النَّازِعُ فِي الْقَوْسِ إِذَا بَلَغَ غَايَةَ الْمَدَى حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى النَّصْلِ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَالنَّازِعَاتِ إِغْرَاقًا، وَالْغَرْقُ وَالْإِغْرَاقُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَوْلُهُ: وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً النَّشْطُ هُوَ الْجَذْبُ يُقَالُ: نَشَطْتُ الدَّلْوَ أَنْشِطُهَا وَأَنْشَطْتُهَا نَشْطًا نَزَعْتُهَا بِرِفْقٍ، وَالْمُرَادُ هِيَ الْمَلَائِكَةُ الَّتِي تَنْشِطُ رُوحَ الْمُؤْمِنِ فَتَقْبِضُهَا، وَإِنَّمَا خَصَصْنَا هَذَا بِالْمُؤْمِنِ وَالْأَوَّلَ بِالْكَافِرِ لِمَا بَيْنَ النَّزْعِ والنشط من الفرق فالنزاع جَذْبٌ بِشِدَّةٍ، وَالنَّشْطُ جَذْبٌ بِرِفْقٍ وَلِينٍ فَالْمَلَائِكَةُ، تَنْشِطُ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تُنْشَطُ الدَّلْوُ مِنَ الْبِئْرِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً قَسَمٌ بِمَلَكِ الْمَوْتِ وَأَعْوَانِهِ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ إِشَارَةٌ إِلَى كَيْفِيَّةِ قَبْضِ أَرْوَاحِ الْكُفَّارِ، وَالثَّانِيَ إِشَارَةٌ إِلَى كَيْفِيَّةِ قَبْضِ أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَهُ أَيْضًا بِمَلَائِكَةِ قَبْضِ الْأَرْوَاحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى سَائِرِ طَوَائِفِ الْمَلَائِكَةِ، أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَنُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٍ، أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَسُلُّونَ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ سَلًّا رَفِيقًا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً ثُمَّ يَتْرُكُونَهَا حَتَّى تَسْتَرِيحَ رُوَيْدًا، ثُمَّ يَسْتَخْرِجُونَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِرِفْقٍ وَلَطَافَةٍ كَالَّذِي يَسْبَحُ فِي الْمَاءِ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّكُ بِرِفْقٍ وَلَطَافَةٍ لِئَلَّا يَغْرَقَ، فَكَذَا هَاهُنَا يَرْفُقُونَ فِي ذَلِكَ الِاسْتِخْرَاجِ، لِئَلَّا يَصِلَ إِلَيْهِ أَلَمٌ وَشِدَّةٌ

فَذَاكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً وَأَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوهُ عَلَى سَائِرِ طَوَائِفِ الْمَلَائِكَةِ فَقَالُوا: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَنْزِلُونَ مِنَ السَّمَاءِ مُسْرِعِينَ، فَجَعَلَ نُزُولَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ كَالسِّبَاحَةِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلْفَرَسِ الْجَوَادِ، إِنَّهُ السَّابِحُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَلَائِكَةِ قَبْضِ الْأَرْوَاحِ يَسْبِقُونَ بِأَرْوَاحِ الْكُفَّارِ إِلَى النَّارِ، وَبِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِسَائِرِ طَوَائِفِ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِي هَذَا السَّبْقِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو رَوْقٍ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ سَبَقَتِ ابْنَ آدَمَ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسَابَقَةَ فِي الْخَيْرَاتِ دَرَجَةٌ عَظِيمَةٌ قَالَ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الْوَاقِعَةِ: 10] وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسْبِقُ الشَّيَاطِينَ بِالْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ كَانَتْ تَسْتَرِقُ السَّمْعَ وَثَالِثُهَا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ فَقَالَ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ [الْأَنْبِيَاءِ: 27] يَعْنِي قَبْلَ الْإِذْنِ لَا يَتَحَرَّكُونَ وَلَا يَنْطِقُونَ تَعْظِيمًا لِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَوْفًا مِنْ هَيْبَتِهِ، وَهَاهُنَا وَصَفَهُمْ بِالسَّبْقِ يَعْنِي إِذَا جَاءَهُمُ الْأَمْرُ، فَإِنَّهُمْ يَتَسَارَعُونَ إِلَى امْتِثَالِهِ وَيَتَبَادَرُونَ إِلَى إِظْهَارِ طَاعَتِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمْ هُمُ الْمَلَائِكَةُ: قَالَ مُقَاتِلٌ يَعْنِي جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ وَعِزْرَائِيلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يُدَبِّرُونَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْأَرْضِ، وَهُمُ الْمُقَسِّمَاتُ أَمْرًا، أَمَّا جِبْرِيلُ فَوُكِّلَ بِالرِّيَاحِ وَالْجُنُودِ، وَأَمَّا مِيكَائِيلُ فَوُكِّلَ بِالْقَطْرِ وَالنَّبَاتِ، وَأَمَّا مَلَكُ الْمَوْتِ فَوُكِّلَ بِقَبْضِ الْأَنْفُسِ، وَأَمَّا إِسْرَافِيلُ فَهُوَ يَنْزِلُ بِالْأَمْرِ عَلَيْهِمْ، وَقَوْمٌ مِنْهُمْ مُوَكَّلُونَ بِحِفْظِ بَنِي آدَمَ، وَقَوْمٌ آخَرُونَ بِكِتَابَةِ أَعْمَالِهِمْ وَقَوْمٌ آخَرُونَ بِالْخَسْفِ وَالْمَسْخِ وَالرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ وَالْأَمْطَارِ، بَقِيَ عَلَى الْآيَةِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً، وَلَمْ يَقُلْ: أُمُورًا فَإِنَّهُمْ يُدَبِّرُونَ أُمُورًا كَثِيرَةً لَا أَمْرًا وَاحِدًا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ قَامَ مَقَامَ الْجَمْعِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ فَكَيْفَ أَثْبَتَ لَهُمْ هَاهُنَا تَدْبِيرَ الْأَمْرِ. وَالْجَوَابُ: لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْإِتْيَانُ بِهِ كَانَ الْأَمْرُ كَأَنَّهُ «1» لَهُ، فَهَذَا تَلْخِيصُ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَهَا صِفَاتٌ سَلْبِيَّةٌ وَصِفَاتٌ إِضَافِيَّةٌ، أَمَّا الصِّفَاتُ السَّلْبِيَّةُ فَهِيَ أَنَّهَا مُبَرَّأَةٌ عَنِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَالْمَوْتِ وَالْهِرَمِ وَالسَّقَمِ وَالتَّرْكِيبِ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَخْلَاطِ وَالْأَرْكَانِ، بَلْ هِيَ جَوَاهِرُ رُوحَانِيَّةٌ مُبَرَّأَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَقَوْلُهُ: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهَا مَنْزُوعَةً عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ نَزْعًا كُلِّيًّا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ: النَّازِعاتِ هِيَ ذَوَاتُ النَّزْعِ كَاللَّابِنِ وَالتَّامِرِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: النَّاشِطاتِ نَشْطاً إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ خُرُوجَهَا عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ التَّكْلِيفِ وَالْمَشَقَّةِ كَمَا فِي حَقِّ الْبَشَرِ، بَلْ هُمْ بِمُقْتَضَى مَاهِيَّاتِهِمْ خَرَجُوا عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَتَنَزَّهُوا عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَهَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ إِشَارَتَانِ إِلَى تَعْرِيفِ أَحْوَالِهِمُ السَّلْبِيَّةِ، وَأَمَّا صِفَاتُهُمُ الْإِضَافِيَّةُ فَهِيَ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا: شَرْحُ قُوَّتِهِمُ الْعَاقِلَةِ أَيْ كَيْفَ حَالُهُمْ فِي مَعْرِفَةِ مُلْكِ اللَّهِ وَمَلَكُوتِهِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى نُورِ جَلَالِهِ فَوَصَفَهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِوَصْفَيْنِ/ أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَهُمْ يَسْبَحُونَ مِنْ أَوَّلِ فِطْرَتِهِمْ فِي بِحَارِ جَلَالِ اللَّهِ ثُمَّ لَا مُنْتَهَى لِسِبَاحَتِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا مُنْتَهَى لِعَظَمَةِ اللَّهِ وَعُلُوِّ صَمَدِيَّتِهِ وَنُورِ جَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، فَهُمْ أَبَدًا فِي تِلْكَ السِّبَاحَةِ وَثَانِيهُمَا: قَوْلُهُ: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَرَاتِبِ الْمَلَائِكَةِ فِي تِلْكَ السِّبَاحَةِ فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ مَرَاتِبَ مَعَارِفِ الْبَهَائِمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَرَاتِبِ مَعَارِفِ الْبَشَرِ نَاقِصَةٌ، وَمَرَاتِبَ

_ (1) في الأصل الذي أراجع عليه (كان الأمر كله له) و (قولهم) ولعل ما ذكرته هو الصواب في الموضعين.

مَعَارِفِ الْبَشَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَرَاتِبِ مَعَارِفِ الْمَلَائِكَةِ نَاقِصَةٌ، فَكَذَلِكَ مَعَارِفُ بَعْضِ تِلْكَ الْمَلَائِكَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَرَاتِبِ مَعَارِفِ الْبَاقِينَ مُتَفَاوِتَةٌ، وَكَمَا أَنَّ الْمُخَالَفَةَ بَيْنَ نَوْعِ الْفَرَسِ وَنَوْعِ الْإِنْسَانِ بِالْمَاهِيَّةِ لَا بِالْعَوَارِضِ فَكَذَا الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ شَخْصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَ شَخْصِ الْآخَرِ بِالْمَاهِيَّةِ فَإِذَا كَانَتْ أَشْخَاصُهَا مُتَفَاوِتَةً بِالْمَاهِيَّةِ لَا بِالْعَوَارِضِ كَانَتْ لَا مَحَالَةَ مُتَفَاوِتَةً فِي دَرَجَاتِ الْمَعْرِفَةِ وَفِي مَرَاتِبِ التَّجَلِّي فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَهَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ الْمُرَادُ مِنْهُمَا شَرْحُ أَحْوَالِ قُوَّتِهِمُ الْعَاقِلَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى شَرْحِ حَالِ قُوَّتِهِمُ الْعَامِلَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ مُفَوَّضٌ إِلَى تَدْبِيرِ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ عُمَّارُ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَسُكَّانُ بقاع السموات، وَلَمَّا كَانَ التَّدْبِيرُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ، لَا جَرَمَ قَدَّمَ شَرْحَ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ الَّتِي لَهُمْ عَلَى شَرْحِ الْقُوَّةِ الْعَامِلَةِ الَّتِي لَهُمْ، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ احْتِمَالٌ ظَاهِرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ مِنْ كَلَامِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ بْنَ بَحْرٍ الْأَصْفَهَانِيَّ طَعَنَ فِي حَمْلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ: وَاحِدُ النَّازِعَاتِ نَازِعَةٌ وَهُوَ مِنْ لَفْظِ الْإِنَاثِ، وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ عَنِ التَّأْنِيثِ، وَعَابَ قَوْلَ الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالَ: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزُّخْرُفِ: 19] . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا طَعْنٌ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى تَفْسِيرِنَا، لِأَنَّ الْمُرَادَ الْأَشْيَاءُ ذَوَاتُ النَّزْعِ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَقْتَضِي مَا ذُكِرَ مِنَ التَّأْنِيثِ. الْوَجْهُ الثَّانِي فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ: أَنَّهَا هِيَ النُّجُومُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَوَصْفُ النُّجُومِ بِالنَّازِعَاتِ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: كَأَنَّهَا تُنْزَعُ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ فَتَنْجَذِبُ إِلَى مَا فَوْقَ الْأَرْضِ، فَإِذَا كَانَتْ مَنْزُوعَةً كَانَتْ ذَوَاتِ نَزْعٍ، فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا نَازِعَةٌ عَلَى قِيَاسِ اللَّابِنِ وَالتَّامِرِ وَثَانِيهَا: أَنَّ النَّازِعَاتِ مِنْ قَوْلِهِمْ نَزَعَ إِلَيْهِ أَيْ ذَهَبَ نُزُوعًا، هَكَذَا قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ: فَكَأَنَّهَا تَطْلُعُ وَتَغْرُبُ بِالنَّزْعِ وَالسَّوْقِ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَزَعَتِ الْخَيْلُ إِذَا جَرَتْ، فَمَعْنَى: وَالنَّازِعاتِ أَيْ وَالْجَارِيَاتِ عَلَى السَّيْرِ الْمُقَدَّرِ وَالْحَدِّ الْمُعَيَّنِ وَقَوْلُهُ: غَرْقاً يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ النَّازِعَاتِ أَيْ هَذِهِ الْكَوَاكِبُ كَالْغَرْقَى فِي ذَلِكَ النَّزْعِ وَالْإِرَادَةِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ حَالِهَا فِي تِلْكَ الْإِرَادَةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا لَمْ تَكُنِ الْأَفْلَاكُ وَالْكَوَاكِبُ أَحْيَاءً نَاطِقَةً، فَمَا مَعْنَى وَصْفِهَا بِذَلِكَ قُلْنَا: هَذَا يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 33] فَإِنَّ الْجَمْعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ يَكُونُ لِلْعُقَلَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ ذُكِرَ فِي الْكَوَاكِبِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى غَرْقِهَا/ غَيْبُوبَتَهَا فِي أفق الغرب، فالنازعات إشارة إلى طلوعها وغرقا إِشَارَةٌ إِلَى غُرُوبِهَا أَيْ تَنْزِعُ، ثُمَّ تُغْرَقُ إِغْرَاقًا، وَهَذَا الْوَجْهُ ذَكَرَهُ قَوْمٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ بُرْجٍ إِلَى بُرْجٍ مِنْ قَوْلِكَ: ثَوْرٌ نَاشِطٌ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ. وَأَقُولُ يَرْجِعُ حَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً إِشَارَةٌ إِلَى حَرَكَتِهَا الْيَوْمِيَّةِ وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً إِشَارَةٌ إِلَى انْتِقَالِهَا مِنْ بُرْجٍ إِلَى بُرْجٍ وَهُوَ حَرَكَتُهَا الْمَخْصُوصَةُ بِهَا فِي أَفْلَاكِهَا الْخَاصَّةِ، وَالْعَجَبُ أَنَّ حَرَكَاتِهَا الْيَوْمِيَّةَ قَسْرِيَّةٌ، وَحَرَكَتَهَا مِنْ بُرْجٍ إِلَى بُرْجٍ لَيْسَتْ قَسْرِيَّةً، بَلْ مُلَائِمَةً لِذَوَاتِهَا، فَلَا جَرَمَ عَبَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ بِالنَّزْعِ وَعَنِ الثَّانِي بِالنَّشْطِ، فَتَأَمَّلْ أَيُّهَا الْمِسْكِينُ فِي هَذِهِ الْأَسْرَارِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: هِيَ النُّجُومُ تَسْبَحُ فِي الْفَلَكِ، لِأَنَّ مُرُورَهَا فِي الْجَوِّ كَالسَّبْحِ، وَلِهَذَا قال: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 33] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو عبيدة: وهي النُّجُومُ يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي السَّيْرِ بِسَبَبِ كَوْنِ بَعْضِهَا أَسْرَعَ حَرَكَةً مِنَ الْبَعْضِ، أَوْ بِسَبَبِ رُجُوعِهَا أَوِ اسْتِقَامَتِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ بِسَبَبِ سَيْرِهَا وَحَرَكَتِهَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُ الْأَوْقَاتِ عَنْ بَعْضٍ، فَتَظْهَرُ أَوْقَاتُ الْعِبَادَاتِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ [الروم: 17، 18] وقال: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [الْبَقَرَةِ: 189] وَقَالَ: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يُونُسَ: 5] وَلِأَنَّ بِسَبَبِ حَرَكَةِ الشَّمْسِ تَخْتَلِفُ الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ، ويخلف بِسَبَبِ اخْتِلَافِهَا أَحْوَالُ النَّاسِ فِي الْمَعَاشِ، فَلَا جَرَمَ أُضِيفَتْ إِلَيْهَا هَذِهِ التَّدْبِيرَاتُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ كُلَّ جِسْمٍ مُحْدَثٌ ثَبَتَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ مُحْدَثَةٌ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى مُوجِدٍ يُوجِدُهَا، وَإِلَى صَانِعٍ يَخْلُقُهَا، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ صَانِعَهَا أَوْدَعَ فِيهَا قُوًى مُؤَثِّرَةً فِي أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ، فَهَذَا يَطْعَنُ فِي الدِّينِ الْبَتَّةَ، وَإِنْ لَمْ نَقُلْ بِثُبُوتِ هَذِهِ الْقُوَى أَيْضًا، لَكِنَّا نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِأَنْ جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَحْوَالِهَا الْمَخْصُوصَةِ سَبَبًا لِحُدُوثِ حَادِثٍ مَخْصُوصٍ فِي هَذَا الْعَالَمِ، كَمَا جَعَلَ الْأَكْلَ سَبَبًا لِلشِّبَعِ، وَالشُّرْبَ سَبَبًا لِلرِّيِّ، وَمُمَاسَّةَ النَّارِ سَبَبًا لِلِاحْتِرَاقِ، فَالْقَوْلُ بِهَذَا الْمَذْهَبِ لَا يَضُرُّ الْإِسْلَامَ الْبَتَّةَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسَةِ أَنَّهَا هِيَ الْأَرْوَاحُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْسَ الْمَيِّتِ تَنْزِعُ، يُقَالُ فُلَانٌ فِي النَّزْعِ، وَفُلَانٌ يَنْزِعُ إِذَا كَانَ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ، وَالْأَنْفُسُ نَازِعَاتٌ عِنْدَ السِّيَاقِ، وَمَعْنَى غَرْقاً أَيْ نَزْعًا شَدِيدًا أَبْلَغَ مَا يَكُونُ وَأَشَدَّ مِنْ إِغْرَاقِ النَّازِعِ فِي الْقَوْسِ وَكَذَلِكَ تَنْشِطُ لِأَنَّ النَّشْطَ مَعْنَاهُ الْخُرُوجُ، ثُمَّ الْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ الْخَالِيَةُ عَنِ الْعَلَائِقِ الْجُسْمَانِيَّةِ الْمُشْتَاقَةُ إِلَى الِاتِّصَالِ الْعُلْوِيِّ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ ظُلْمَةِ الْأَجْسَادِ تَذْهَبُ إِلَى عَالَمِ الْمَلَائِكَةِ، وَمَنَازِلِ الْقُدْسِ عَلَى أَسْرَعِ الْوُجُوهِ فِي رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَهَابِهَا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ بِالسِّبَاحَةِ، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ مَرَاتِبَ الْأَرْوَاحِ/ فِي النَّفْرَةِ عَنِ الدُّنْيَا وَمَحَبَّةِ الِاتِّصَالِ بِالْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ مُخْتَلِفَةٌ فَكُلَّمَا كَانَتْ أَتَمَّ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كَانَ سَيْرُهَا إِلَى هُنَاكَ أَسْبَقَ، وَكُلَّمَا كَانَتْ أَضْعَفَ كَانَ سَيْرُهَا إِلَى هُنَاكَ أَثْقَلَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَرْوَاحَ السَّابِقَةَ إِلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَشْرَفُ فَلَا جَرَمَ وَقَعَ الْقَسَمُ بِهَا، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْأَرْوَاحَ الشَّرِيفَةَ الْعَالِيَةَ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَا يَكُونُ لِقُوَّتِهَا وَشَرَفِهَا يَظْهَرُ مِنْهَا آثَارٌ فِي أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ فَهِيَ فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً أَلَيْسَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَرَى أُسْتَاذَهُ فِي الْمَنَامِ وَيَسْأَلُهُ عَنْ مُشْكِلَةٍ فَيُرْشِدُهُ إِلَيْهَا؟ أَلَيْسَ أَنَّ الِابْنَ قَدْ يَرَى أَبَاهُ فِي الْمَنَامِ فَيَهْدِيهِ إِلَى كَنْزٍ مَدْفُونٍ؟ أَلَيْسَ أَنَّ جَالِينُوسَ قَالَ: كُنْتُ مَرِيضًا فَعَجَزْتُ عَنْ عِلَاجِ نَفْسِي فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ وَاحِدًا أَرْشَدَنِي إِلَى كَيْفِيَّةِ الْعِلَاجِ؟ أَلَيْسَ أَنَّ الْغَزَالِيَّ قَالَ: إِنَّ الْأَرْوَاحَ الشَّرِيفَةَ إِذَا فَارَقَتْ أَبْدَانَهَا، ثُمَّ اتَّفَقَ إِنْسَانٌ مُشَابِهٌ لِلْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ فِي الرُّوحِ وَالْبَدَنِ، فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ لِلنَّفْسِ الْمُفَارِقَةِ تَعَلُّقٌ بِهَذَا الْبَدَنِ حَتَّى تَصِيرَ كَالْمُعَاوِنَةِ لِلنَّفْسِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ الْبَدَنِ عَلَى أَعْمَالِ الْخَيْرِ فَتُسَمَّى تِلْكَ الْمُعَاوَنَةُ إِلْهَامًا؟ وَنَظِيرُهُ فِي جَانِبِ النُّفُوسِ الشِّرِّيرَةِ وَسْوَسَةٌ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْقُولَةً عَنِ الْمُفَسِّرِينَ إِلَّا أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لَهَا جِدًّا. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسِ أَنَّهَا صِفَاتُ خَيْلِ الْغُزَاةِ فَهِيَ نَازِعَاتٌ لِأَنَّهَا تَنْزِعُ فِي أَعِنَّتِهَا نَزْعًا تَغْرَقُ فِيهِ الْأَعِنَّةُ لِطُولِ أَعْنَاقِهَا لِأَنَّهَا عِرَابٌ وَهِيَ نَاشِطَاتٌ لِأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ،

مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَوْرٌ نَاشِطٌ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَهِيَ سَابِحَاتٌ لِأَنَّهَا تَسْبَحُ فِي جَرْيِهَا وَهِيَ سَابِقَاتٌ، لِأَنَّهَا تَسْبِقُ إِلَى الْغَايَةِ، وَهِيَ مُدَبِّرَاتٌ لِأَمْرِ الْغَلَبَةِ وَالظَّفَرِ، وَإِسْنَادُ التَّدْبِيرِ إِلَيْهَا مَجَازٌ لِأَنَّهَا مِنْ أَسْبَابِهِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أن هذه صفاة الْغُزَاةِ فَالنَّازِعَاتُ أَيْدِي الْغُزَاةِ يُقَالُ: لِلرَّامِي نَزَعَ فِي قَوْسِهِ، وَيُقَالُ: أَغْرَقَ فِي النَّزْعِ إِذَا اسْتَوْفَى مَدَّ الْقَوْسِ، وَالنَّاشِطَاتُ السِّهَامُ وَهِيَ خُرُوجُهَا عَنْ أَيْدِي الرُّمَاةِ وَنُفُوذُهَا، وَكُلُّ شَيْءٍ حَلَلْتَهُ فَقَدْ نَشَّطْتَهُ، وَمِنْهُ نَشَاطُ الرَّجُلِ وَهُوَ انْبِسَاطُهُ وَخِفَّتُهُ، وَالسَّابِحَاتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْخَيْلُ وَسَبْحُهَا الْعَدْوُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْنِيَ بِهِ الْإِبِلَ أَيْضًا، وَالْمُدَبِّرَاتُ مِثْلُ الْمُعَقِّبَاتِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَأْتِي فِي أَدْبَارِ هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ نَزْعُ السِّهَامِ وَسَبْحُ الْخَيْلِ وَسَبْقُهَا الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ النَّصْرُ، وَلَفْظُ التَّأْنِيثِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ جَمَاعَاتٌ، كَمَا قِيلَ: الْمُدَبِّرَاتُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْآلَةَ مِنَ الْقَوْسِ وَالْأَوْهَاقِ، عَلَى مَعْنَى الْمَنْزُوعِ فِيهَا وَالْمَنْشُوطِ بِهَا. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ يُمْكِنُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ بِالْمَرَاتِبِ الْوَاقِعَةِ فِي رُجُوعِ الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى اللَّهِ ف النَّازِعاتِ غَرْقاً هِيَ الْأَرْوَاحُ الَّتِي تَنْزِعُ إِلَى اعْتِلَاقِ الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، أَوِ الْمَنْزُوعَةُ عَنْ مَحَبَّةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى: وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً هِيَ أَنَّهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ عَنِ الْجُسْمَانِيَّاتِ تَأْخُذُ فِي الْمُجَاهَدَةِ، وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِنَشَاطٍ تَامٍّ، وَقُوَّةٍ قَوِيَّةٍ: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً ثُمَّ إِنَّهَا بَعْدَ الْمُجَاهَدَةِ تَسْرَحُ فِي أَمْرِ الْمَلَكُوتِ فَتَقْطَعُ فِي تِلْكَ الْبِحَارِ فَتَسْبَحُ فِيهَا: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً إِشَارَةٌ إِلَى تَفَاوُتِ الْأَرْوَاحِ فِي دَرَجَاتِ سَيْرِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ آخِرَ مَرَاتِبِ/ الْبَشَرِيَّةِ مُتَّصِلَةٌ بِأَوَّلِ دَرَجَاتِ الْمَلَكِيَّةِ، فَلَمَّا انْتَهَتِ الْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ إِلَى أَقْصَى غَايَاتِهَا وَهِيَ مَرْتَبَةُ السَّبْقِ اتَّصَلَتْ بِعَالَمِ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً فَالْأَرْبَعَةُ الْأُوَلُ هِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ [النُّورِ: 35] والخامسة: هِيَ النَّارُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ [النُّورِ: 35] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْوُجُوهَ الْمَنْقُولَةَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ غَيْرُ مَنْقُولَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصًّا، حَتَّى لَا يُمْكِنَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، بَلْ إِنَّمَا ذَكَرُوهَا لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُحْتَمِلًا لَهَا، فَإِذَا كَانَ احْتِمَالُ اللَّفْظِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ لَيْسَ دُونَ احْتِمَالِهِ لِلْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرُوهَا لَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرُوهُ أَوْلَى مِمَّا ذَكَرْنَاهُ إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ هَاهُنَا مِنْ دَقِيقَةٍ، وَهُوَ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمَلٌ لِلْكُلِّ، فَإِنْ وَجَدْنَا بَيْنَ هَذِهِ الْمَعَانِي مَفْهُومًا وَاحِدًا مُشْتَرَكًا حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى ذَلِكَ الْمُشْتَرَكِ: وَحِينَئِذٍ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ جَمِيعُ هَذِهِ الْوُجُوهِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ هَذِهِ الْمَفْهُومَاتِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ تَعَذَّرَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْكُلِّ، لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِإِفَادَةِ مَفْهُومَيْهِ مَعًا، فَحِينَئِذٍ لَا نَقُولُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا، بَلْ نَقُولُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ، أَمَّا الْجَزْمُ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ هَاهُنَا. الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وهو أن لا تكون الْأَلْفَاظُ الْخَمْسَةُ صِفَاتٍ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، بَلْ لِأَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ، فَفِيهِ أَيْضًا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: النَّازِعَاتُ غَرْقًا، هِيَ: الْقِسِيُّ، وَالنَّاشِطَاتُ نَشْطًا هِيَ الْأَوْهَاقُ، وَالسَّابِحَاتُ السُّفُنُ، وَالسَّابِقَاتُ الْخَيْلُ، وَالْمُدَبِّرَاتُ الْمَلَائِكَةُ، رَوَاهُ وَاصِلُ بْنُ السَّائِبِ: عَنْ عَطَاءٍ الثَّانِي: نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ: فِي النَّازِعَاتِ، وَالنَّاشِطَاتِ، وَالسَّابِحَاتِ أَنَّهَا الْمَوْتُ، وَفِي السَّابِقَاتِ، وَالْمُدَبِّرَاتِ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ، وَإِضَافَةُ النَّزْعِ، وَالنَّشْطِ، وَالسَّبْحِ إِلَى الْمَوْتِ مَجَازٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا حَصَلَتْ عِنْدَ حُصُولِهِ الثَّالِثُ: قَالَ قَتَادَةُ: الْجَمِيعُ هِيَ النُّجُومُ إِلَّا الْمُدَبِّرَاتِ، فَإِنَّهَا هِيَ الْمَلَائِكَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ فَالسَّابِقَاتِ بِالْفَاءِ، وَالَّتِي قَبْلَهَا بِالْوَاوِ، وَفِي عِلَّتِهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الكشاف» : إن هذه مسيبة عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَاللَّاتِي سَبَحْنَ، فَسَبَقْنَ كَمَا تَقُولُ: قَامَ فَذَهَبَ أَوْجَبَ الْفَاءُ

[سورة النازعات (79) : الآيات 6 إلى 11]

أَنَّ الْقِيَامَ كَانَ سَبَبًا لِلذَّهَابِ، وَلَوْ قُلْتَ: قَامَ وَذَهَبَ لَمْ تَجْعَلِ الْقِيَامَ سَبَبًا لِلذَّهَابِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَوْلُ صَاحِبِ «النَّظْمِ» غَيْرُ مُطَّرِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَجْعَلَ السَّبْقَ سَبَبًا لِلتَّدْبِيرِ، وَأَقُولُ: يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنِ اعْتِرَاضِ الْوَاحِدِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا لَمَّا أُمِرَتْ سَبَحَتْ فَسَبَقَتْ فَدَبَّرَتْ مَا أُمِرَتْ بِتَدْبِيرِهَا وَإِصْلَاحِهَا، فَتَكُونُ هَذِهِ أَفْعَالًا يَتَّصِلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، كَقَوْلِكَ قَامَ زَيْدٌ، فَذَهَبَ، فَضَرَبَ عَمْرًا، الثَّانِي: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا سَابِقِينَ فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ مُتَسَارِعِينَ إِلَيْهَا ظَهَرَتْ أَمَانَتُهُمْ، فَلِهَذَا السَّبَبِ فَوَّضَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ تَدْبِيرَ بَعْضِ الْعَالَمِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قِسْمَانِ، الرُّؤَسَاءُ وَالتَّلَامِذَةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السَّجْدَةِ: 11] ثُمَّ قَالَ: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا [الْأَنْعَامِ: 61] فَقُلْنَا فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ: إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ هُوَ الرَّأْسُ، وَالرَّئِيسُ وَسَائِرُ الملائكة هم التلامذة، إذا عرفت هذا فتقول: النَّازِعَاتُ، وَالنَّاشِطَاتُ/ وَالسَّابِحَاتُ، مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّلَامِذَةِ الَّذِينَ هُمْ يُبَاشِرُونَ الْعَمَلَ بِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالسَّابِقاتِ ... فَالْمُدَبِّراتِ إِشَارَةٌ إِلَى الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ هُمُ السَّابِقُونَ، فِي الدَّرَجَةِ وَالشَّرَفِ، وَهُمُ الْمُدَبِّرُونَ لِتِلْكَ الأحوال والأعمال. [سورة النازعات (79) : الآيات 6 الى 11] يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) [في قَوْلُهُ تَعَالَى يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ] فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: جَوَابُ الْقَسَمِ الْمُتَقَدِّمِ مَحْذُوفٌ أَوْ مَذْكُورٌ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَحْذُوفٌ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي الْآيَةِ احْتِمَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ التَّقْدِيرُ: لَتُبْعَثُنَّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، أَنَّهُمْ قَالُوا: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً [النازعات: 11] أَيْ أَنُبْعَثُ إِذَا صِرْنَا عِظَامًا نَخِرَةً الثَّانِي: قَالَ الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ: لَنَنْفُخَنَّ فِي الصُّورِ نَفْخَتَيْنِ وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ ذِكْرُ الرَّاجِفَةِ وَالرَّادِفَةِ وَهُمَا النَّفْخَتَانِ الثَّالِثُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ: الْجَوَابُ الْمُضْمَرُ هُوَ أَنَّ الْقِيَامَةَ وَاقِعَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى قال: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً [الذاريات: 1] ثُمَّ قَالَ: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ [الذَّارِيَاتِ: 5] وَقَالَ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ... إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ [الْمُرْسَلَاتِ: 1، 7] فَكَذَلِكَ هَاهُنَا فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْجَوَابَ مَذْكُورٌ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ احْتِمَالَاتٌ الْأَوَّلُ: الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ هُوَ قَوْلُهُ: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أَبْصارُها خاشِعَةٌ وَالتَّقْدِيرُ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا إِنَّ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَحْصُلُ قُلُوبٌ وَاجِفَةٌ وَأَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ الثَّانِي: جَوَابُ الْقَسَمِ هُوَ قَوْلُهُ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى [النَّازِعَاتِ: 15] فَإِنَّ هَلْ هَاهُنَا بِمَعْنَى قَدْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ [الْغَاشِيَةِ: 1] أَيْ قَدْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ الثَّالِثُ: جَوَابُ الْقَسَمِ هُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [النَّازِعَاتِ: 26] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي نَاصِبِ يَوْمَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِالْجَوَابِ الْمُضْمَرِ وَالتَّقْدِيرُ لَتُبْعَثُنَّ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا مَعَ أَنَّهُمْ لَا يُبْعَثُونَ عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى وَالرَّاجِفَةُ هِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى؟ قُلْنَا الْمَعْنَى لَتُبْعَثُنَّ فِي الْوَقْتِ الْوَاسِعِ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ النَّفْخَتَانِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ الْوَقْتِ الْوَاسِعِ وَهُوَ وَقْتُ النَّفْخَةِ الْأُخْرَى، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ أَنَّ قَوْلَهُ: تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جُعِلَ حَالًا عَنِ الرَّاجِفَةِ وَالثَّانِي: أَنْ يُنْصَبَ يَوْمَ تَرْجُفُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أَيْ يَوْمَ تَرْجُفُ وَجَفَتِ الْقُلُوبُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الرَّجْفَةُ فِي اللُّغَةِ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْحَرَكَةُ لِقَوْلِهِ: يَوْمَ تَرْجُفُ/ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ [الْمُزَّمِّلِ: 14] . الثَّانِي: الْهَدَّةُ الْمُنْكَرَةُ وَالصَّوْتُ الْهَائِلُ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَجَفَ الرَّعْدُ يَرْجُفُ رَجْفًا وَرَجِيفًا، وَذَلِكَ تَرَدُّدُ أَصْوَاتِهِ الْمُنْكَرَةِ وَهَدْهَدَتُهُ فِي السَّحَابِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [الأعراف: 91] فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الرَّاجِفَةُ صَيْحَةٌ عَظِيمَةٌ فِيهَا هَوْلٌ وَشِدَّةٌ كَالرَّعْدِ، وَأَمَّا الرَّادِفَةُ فَكُلُّ شَيْءٍ جَاءَ بَعْدَ شَيْءٍ آخَرَ يُقَالُ رَدِفَهُ، أَيْ جَاءَ بَعْدَهُ، وَأَمَّا الْقُلُوبُ الْوَاجِفَةُ فَهِيَ الْمُضْطَرِبَةُ الْخَائِفَةُ، يُقَالُ: وَجَفَ قَلْبُهُ يَجِفُ وِجَافًا إِذَا اضْطَرَبَ، وَمِنْهُ إِيجَافُ الدَّابَّةِ، وَحَمْلُهَا عَلَى السَّيْرِ الشَّدِيدِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ عِبَارَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي تَفْسِيرِ الْوَاجِفَةِ وَمَعْنَاهَا وَاحِدٌ، قَالُوا: خَائِفَةٌ وَجِلَةٌ زَائِدَةٌ عَنْ أَمَاكِنِهَا قَلِقَةٌ مُسْتَوْفِزَةٌ مُرْتَكِضَةٌ شَدِيدَةُ الِاضْطِرَابِ غَيْرُ سَاكِنَةٍ، أَبْصَارُ أَهْلِهَا خَاشِعَةٌ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشُّورَى: 45] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ، اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ أَحْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَزَعَمَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَنَحْنُ نَذْكُرُ تَفَاسِيرَ الْمُفَسِّرِينَ ثُمَّ نَشْرَحُ قَوْلَ أَبِي مُسْلِمٍ. أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْجُمْهُورِ، أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ أَحْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَهَؤُلَاءِ ذَكَرُوا وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّاجِفَةَ هِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى، وَسُمِّيَتْ بِهِ إِمَّا لِأَنَّ الدُّنْيَا تَتَزَلْزَلُ وَتَضْطَرِبُ عِنْدَهَا، وَإِمَّا لِأَنَّ صَوْتَ تِلْكَ النَّفْخَةِ هِيَ الرَّاجِفَةُ، كَمَا بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِيهِ، وَالرَّاجِفَةُ رَجْفَةٌ أُخْرَى تَتْبَعُ الْأُولَى فَتَضْطَرِبُ الْأَرْضُ لِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى كَمَا اضْطَرَبَتْ فِي الْأُولَى لِمَوْتِ الْأَحْيَاءِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ، ثُمَّ يُرْوَى عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعِينَ عَامًا، وَيُرْوَى فِي هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ يُمْطِرُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَصِيرُ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَيْهَا كَالنُّطَفِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَالسَّبَبِ لِلْأَحْيَاءِ، وَهَذَا مِمَّا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي الْإِعَادَةِ، وَلِلَّهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمَ مَا يُرِيدُ وَثَانِيهَا: الرَّاجِفَةُ هِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى وَالرَّادِفَةُ هِيَ قِيَامُ السَّاعَةِ مِنْ قَوْلِهِ: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ [النَّمْلِ: 72] أَيِ الْقِيَامَةُ الَّتِي يَسْتَعْجِلُهَا الْكَفَرَةُ اسْتِبْعَادًا لَهَا فَهِيَ رَادِفَةٌ لَهُمْ لِاقْتِرَابِهَا وَثَالِثُهَا: الرَّاجِفَةُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَالرَّادِفَةُ السَّمَاءُ وَالْكَوَاكِبُ لِأَنَّهَا تَنْشَقُّ وَتَنْتَثِرُ كَوَاكِبُهَا عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ وَرَابِعُهَا: الرَّاجِفَةُ هِيَ الْأَرْضُ تَتَحَرَّكُ وَتَتَزَلْزَلُ وَالرَّادِفَةُ زَلْزَلَةٌ ثَانِيَةٌ تَتْبَعُ الْأُولَى حَتَّى تَنْقَطِعَ الْأَرْضُ وَتَفْنَى الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ لَيْسَتْ أَحْوَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقَلْنَا عَنْهُ أَنَّهُ فَسَّرَ النَّازِعَاتِ بِنَزْعِ الْقَوْسِ وَالنَّاشِطَاتِ بِخُرُوجِ السَّهْمِ، وَالسَّابِحَاتِ بِعَدْوِ الْفَرَسِ، وَالسَّابِقَاتِ بِسَبْقِهَا، وَالْمُدَبِّرَاتِ بِالْأُمُورِ الَّتِي تَحْصُلُ أَدْبَارَ ذَلِكَ الرَّمْيِ وَالْعَدْوِ، ثُمَّ بَنَى عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ الرَّاجِفَةُ هِيَ خَيْلُ الْمُشْرِكِينَ وَكَذَلِكَ الرَّادِفَةُ وَيُرَادُ بِذَلِكَ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ غَزَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، وَالْقُلُوبُ الْوَاجِفَةُ هِيَ الْقَلِقَةُ، وَالْأَبْصَارُ الْخَاشِعَةُ هِيَ أَبْصَارُ الْمُنَافِقِينَ كَقَوْلِهِ: الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [مُحَمَّدٍ: 20] كَأَنَّهُ قِيلَ لَمَّا جَاءَ خَيْلُ العدو يرجف، وَرَدَفَتْهَا أُخْتُهَا اضْطَرَبَ قُلُوبُ الْمُنَافِقِينَ خَوْفًا،

وخشعت أبصارهم جبنا وضعفا، ثم قالوا: / أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ [النازعات: 10] أَيْ نَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا حَتَّى نَتَحَمَّلَ هَذَا الْخَوْفَ لِأَجْلِهَا وَقَالُوا أَيْضًا: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ [النَّازِعَاتِ: 12] فَأَوَّلُ هَذَا الْكَلَامِ حِكَايَةٌ لِحَالِ مَنْ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَوْسَطُهُ حِكَايَةٌ لِحَالِ الْمُنَافِقِينَ وَآخِرُهُ حِكَايَةٌ لِكَلَامِ الْمُنَافِقِينَ فِي إِنْكَارِ الْحَشْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَجَابَ عَنْ كَلَامِهِمْ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات: 13، 14] وَهَذَا كَلَامُ أَبِي مُسْلِمٍ وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لَهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أَبْصارُها خاشِعَةٌ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلِ: الْقُلُوبُ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ لَا يَخَافُونَ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ قُلُوبُ الْكُفَّارِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يقولون: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ [النازعات: 10] وَهَذَا كَلَامُ الْكُفَّارِ لَا كَلَامُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَوْلُهُ: أَبْصارُها خاشِعَةٌ لِأَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ حَالِ الْمُضْطَرِبِ الْخَائِفِ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ نَظَرَ خَاشِعٍ ذَلِيلٍ خَاضِعٍ يَتَرَقَّبُ مَا يَنْزِلُ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ جَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ؟ الْجَوَابُ: قُلُوبٌ مَرْفُوعَةٌ بِالِابْتِدَاءِ وواجفة صفتها وأبصارها خاشعة خبرها فهو كقوله: لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ [الْبَقَرَةِ: 221] . السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ صَحَّتْ إِضَافَةُ الْأَبْصَارِ إِلَى الْقُلُوبِ؟ الْجَوَابُ: مَعْنَاهُ أَبْصَارُ أَصْحَابِهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ يَقُولُونَ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى هَاهُنَا عَنْ مُنْكِرِي البعث أقوالا ثلاثة: أولها: قوله تعالى: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ يُقَالُ رَجَعَ فُلَانٌ فِي حَافِرَتِهِ أَيْ فِي طَرِيقِهِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا فَحَفَرَهَا أَيْ أَثَّرَ فِيهَا بِمَشْيِهِ فِيهَا جَعَلَ أَثَرَ قَدَمَيْهِ حَفْرًا فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مَحْفُورَةٌ إِلَّا أَنَّهَا سُمِّيَتْ حَافِرَةٌ، كَمَا قِيلَ: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21] وماءٍ دافِقٍ [الطَّارِقِ: 6] أَيْ مَنْسُوبَةٍ إِلَى الْحَفْرِ وَالرِّضَا وَالدَّفْقِ أَوْ كَقَوْلِهِمْ نَهَارُكَ صَائِمٌ، ثُمَّ قِيلَ لِمَنْ كَانَ فِي أَمْرٍ فَخَرَجَ مِنْهُ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ رَجَعَ إِلَى حَافِرَتِهِ، أَيْ إِلَى طَرِيقَتِهِ وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يُتْرَكُ عَلَى حَالِهِ حَتَّى يُرَدَّ عَلَى حَافِرَتِهِ» أَيْ عَلَى أَوَّلِ تَأْسِيسِهِ وَحَالَتِهِ الْأُولَى وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ فِي الْحُفْرَةِ، وَالْحُفْرَةُ بِمَعْنَى الْمَحْفُورَةِ يُقَالُ: حَفَرَتْ أَسْنَانُهُ، فَحَفَرَتْ حَفْرًا، وَهِيَ حُفْرَةٌ، هَذِهِ الْقِرَاءَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَافِرَةَ فِي أَصْلِ الْكَلِمَةِ بِمَعْنَى الْمَحْفُورِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنُرَدُّ إِلَى أَوَّلِ حَالِنَا وَابْتِدَاءِ أَمْرِنَا فَنَصِيرُ أَحْيَاءً كَمَا كُنَّا. وثانيها: قوله تعالى: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ نَاخِرَةً بِأَلِفٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ نَخِرَةً بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الْكِسَائِيِّ فَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ لَا يُبَالِي كَيْفَ قَرَأَهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا بِغَيْرِ أَلِفٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْأَلِفِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ اخْتَارَ نَخِرَةً، وَقَالَ: نَظَرْنَا فِي الْآثَارِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْعِظَامِ الَّتِي قَدْ نَخِرَتْ، فَوَجَدْنَاهَا كُلَّهَا الْعِظَامَ النَّخِرَةَ، وَلَمْ نَسْمَعْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا النَّاخِرَةَ، وَأَمَّا مَنْ سِوَاهُ، فَقَدِ اتَّفَقُوا/ عَلَى أَنَّ النَّاخِرَةَ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنِ النَّاخِرَةَ وَالنَّخِرَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ قَالَ الْأَخْفَشُ هُمَا جَمِيعًا لُغَتَانِ أَيَّهُمَا قَرَأْتَ فَحَسَنٌ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: النَّاخِرُ وَالنَّخِرُ سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى بِمَنْزِلَةِ الطَّامِعِ وَالطَّمِعِ، وَالْبَاخِلِ وَالْبَخِلِ، وَفِي كِتَابِ «الْخَلِيلِ» نَخِرَتِ الْخَشَبَةُ إِذَا بَلِيَتْ فَاسْتَرْخَتْ حَتَّى تَتَفَتَّتَ إِذَا مُسَّتْ، وَكَذَلِكَ الْعَظْمُ النَّاخِرُ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا: هُمَا

لُغَتَانِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ اخْتَلَفُوا فَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ: النَّاخِرَةُ أَشْبَهُ الْوَجْهَيْنِ بِالْآيَةِ لِأَنَّهَا تُشْبِهُ أَوَاخِرَ سَائِرِ الْآيِ نَحْوَ الْحَافِرَةِ وَالسَّاهِرَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: النَّاخِرَةُ وَالنَّخِرُ كَالطَّامِعِ وَالطَّمِعِ، وَاللَّابِثِ وَاللَّبِثِ وَفَعِلٌ أَبْلَغُ مِنْ فَاعِلٍ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ النَّخِرَةَ غَيْرٌ وَالنَّاخِرَةَ غَيْرٌ، أَمَّا النَّخِرَةُ فَهُوَ مِنْ نَخِرَ الْعَظْمُ يَنْخَرُ فَهُوَ نَخِرٌ مِثْلُ عَفِنَ يَعْفَنُ فَهُوَ عَفِنٌ، وَذَلِكَ إِذَا بَلِيَ وَصَارَ بِحَيْثُ لَوْ لَمَسْتَهُ لَتَفَتَّتَ، وَأَمَّا النَّاخِرَةُ فَهِيَ الْعِظَامُ الْفَارِغَةُ الَّتِي يَحْصُلُ مِنْ هُبُوبِ الرِّيحِ فِيهَا صَوْتٌ كَالنَّخِيرِ، وَعَلَى هَذَا النَّاخِرَةُ مِنَ النَّخِيرِ بِمَعْنَى الصَّوْتِ كَنَخِيرِ النَّائِمِ وَالْمَخْنُوقِ لَا مِنَ النَّخَرِ الَّذِي هُوَ الْبِلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذا منصوب بمحذوف تقدير إِذَا كُنَّا عِظَامًا نُرَدُّ وَنُبْعَثُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ أَنَّ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ إِلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: أَنَا هُوَ هَذَا الْجِسْمُ الْمَبْنِيُّ بِهَذِهِ الْبِنْيَةِ الْمَخْصُوصَةِ، فَإِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ فَقَدْ بَطَلَ مِزَاجُهُ وَفَسَدَ تَرْكِيبُهُ فَتَمْتَنِعُ إِعَادَتُهُ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ الْعَائِدُ هُوَ الْإِنْسَانُ الْأَوَّلُ إِلَّا إِذَا دَخَلَ التَّرْكِيبُ الْأَوَّلُ فِي الْوُجُودِ مَرَّةً أُخْرَى، وَذَلِكَ قَوْلٌ بِإِعَادَةِ عَيْنِ مَا عُدِمَ أَوَّلًا، وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّ الَّذِي عُدِمَ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَيْنٌ وَلَا ذَاتٌ وَلَا خُصُوصِيَّةٌ، فَإِذَا دَخَلَ شَيْءٌ آخَرُ فِي الْوُجُودِ استحال أيقال بِأَنَّ الْعَائِدَ هُوَ عَيْنُ مَا فَنِيَ أَوَّلًا وَثَانِيهَا: أَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ تَصِيرُ تُرَابًا وَتَتَفَرَّقُ وَتَخْتَلِطُ بِأَجْزَاءِ كُلِّ الْأَرْضِ وَكُلِّ الْمِيَاهِ وَكُلِّ الْهَوَاءِ فَتَمَيُّزُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ بِأَعْيَانِهَا عَنْ كُلِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُحَالٌ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأَجْزَاءَ التُّرَابِيَّةَ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ قَشِفَةٌ فَتَوَلُّدُ الْإِنْسَانِ الَّذِي لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ حَارًّا رَطْبًا فِي مِزَاجِهِ عَنْهَا مُحَالٌ، هَذَا تَمَامُ تَقْرِيرِ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الذين احتجوا على إنكار البعث بقولهم: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً وَالْجَوَابُ: عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُهَا: وَهُوَ الْأَقْوَى: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ لِكُلِّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ: أَنَا هُوَ هَذَا الْهَيْكَلُ، ثُمَّ إِنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَجْزَاءَ هَذَا الهيكل في الزوبان وَالتَّبَدُّلِ، وَالَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ إِلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ أَنَا لَيْسَ فِي التَّبَدُّلِ وَالْمُتَبَدِّلُ مُغَايِرٌ لِمَا هُوَ غَيْرُ مُتَبَدِّلٍ وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْرِفُ أَنَّهُ هُوَ حَالَ كَوْنِهِ غَافِلًا عَنْ أَعْضَائِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَالْمَشْعُورُ بِهِ مُغَايِرٌ لِمَا هُوَ غَيْرُ مَشْعُورٍ بِهِ وَإِلَّا لَاجْتَمَعَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ لِكُلِّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ: أَنَا لَيْسَ هُوَ هَذَا الْهَيْكَلَ، ثُمَّ هاهنا ثلاث احْتِمَالَاتٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَوْجُودًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا بِجُسْمَانِيٍّ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ جِسْمًا مُخَالِفًا بِالْمَاهِيَّةِ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ الْقَابِلَةِ لِلِانْحِلَالِ وَالْفَسَادِ سَارِيَةً فِيهَا سَرَيَانَ النَّارِ فِي الْفَحْمِ وَسَرَيَانَ الدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ وَسَرَيَانَ مَاءِ الْوَرْدِ/ فِي جِرْمِ الْوَرْدِ فَإِذَا فَسَدَ هَذَا الْهَيْكَلُ تَقَلَّصَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ وَبَقِيَتْ حَيَّةً مُدْرِكَةً عَاقِلَةً، إِمَّا فِي الشَّقَاوَةِ أَوْ فِي السَّعَادَةِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ جِسْمٌ مُسَاوٍ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ فِي الْمَاهِيَّةِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهَا بِالْبَقَاءِ وَالِاسْتِمْرَارِ مِنْ أَوَّلِ حَالِ تَكَوُّنِ شَخْصٍ فِي الْوُجُودِ إِلَى آخِرِ عُمْرِهِ، وَأَمَّا سَائِرُ الْأَجْزَاءِ الْمُتَبَدِّلَةِ تَارَةً بِالزِّيَادَةِ وَأُخْرَى بِالنُّقْصَانِ فَهِيَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ أَنَا فَعِنْدَ الْمَوْتِ تَنْفَصِلُ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ. وَتَبْقَى حَيَّةً، إِمَّا فِي السَّعَادَةِ أَوْ فِي الشَّقَاوَةِ، وَإِذَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَسَادِ الْبَدَنِ وَتَفَرُّقِ أَجْزَائِهِ فَسَادُ مَا هُوَ الْإِنْسَانُ حَقِيقَةً، وَهَذَا مَقَامٌ حَسَنٌ مَتِينٌ تَنْقَطِعُ بِهِ جَمِيعُ شُبُهَاتِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ لِصَيْرُورَةِ الْعِظَامِ نَخِرَةً بَالِيَةً مُتَفَرِّقَةً تَأْثِيرٌ فِي دَفْعِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ الْبَتَّةَ، سَلَّمْنَا عَلَى سَبِيلِ الْمُسَامَحَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ مَجْمُوعُ هَذَا الْهَيْكَلِ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ الْإِعَادَةَ مُمْتَنِعَةٌ؟ [أَوَّلًا] : الْمَعْدُومُ لَا يُعَادُ: قُلْنَا: أَلَيْسَ أَنَّ حَالَ عَدَمِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ عِنْدَكُمْ صِحَّةُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَوْدُهُ،

[سورة النازعات (79) : آية 12]

فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ عَلَى قولنا أيضا صحة الحكم عليه بالعود، قول: ثَانِيًا: الْأَجْزَاءُ الْقَلِيلَةُ مُخْتَلِطَةٌ بِأَجْزَاءِ الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ، قُلْنَا لَكِنْ ثَبَتَ أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ، وَقَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ فَيَصِحُّ مِنْهُ جَمْعُهَا بِأَعْيَانِهَا. وَإِعَادَةُ الْحَيَاةِ إِلَيْهَا. قَوْلُهُ: ثَالِثًا: الْأَجْسَامُ الْقَشِفَةُ الْيَابِسَةُ لَا تَقْبَلُ الْحَيَاةَ. قُلْنَا: نَرَى السَّمَنْدَلَ، يَعِيشُ فِي النَّارِ، وَالنَّعَامَةَ تَبْتَلِعُ الْحَدِيدَةَ الْمُحْمَاةَ، وَالْحَيَّاتِ الْكِبَارَ الْعِظَامَ مُتَوَلِّدَةً فِي الثُّلُوجِ، فَبَطَلَ الِاعْتِمَادُ عَلَى الِاسْتِقْرَاءِ، وَاللَّهُ الهادي إلى الصدق والصواب. [سورة النازعات (79) : آية 12] قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُنْكِرِي الْبَعْثِ قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ وَالْمَعْنَى كَرَّةٌ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْخُسْرَانِ، كَقَوْلِكَ تِجَارَةٌ رَابِحَةٌ، أَوْ خَاسِرٌ أَصْحَابُهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا إِنْ صَحَّتْ فَنَحْنُ إِذًا خَاسِرُونَ لِتَكْذِيبِنَا، وَهَذَا مِنْهُمُ اسْتِهْزَاءٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ هَذِهِ الكلمات قال: [سورة النازعات (79) : الآيات 13 الى 14] فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا هُمْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ مَعْنَاهُ لَا تَسْتَصْعِبُوهَا فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، يَعْنِي لَا تَحْسَبُوا تِلْكَ الْكَرَّةَ صَعْبَةً عَلَى اللَّهِ فَإِنَّهَا سَهْلَةٌ هَيِّنَةٌ فِي قُدْرَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُقَالُ: زَجَرَ الْبَعِيرَ إِذَا صَاحَ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الصَّيْحَةِ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ صَيْحَةُ إِسْرَافِيلَ، قَالَ المفسرون: يحيهم اللَّهُ فِي بُطُونِ الْأَرْضِ فَيَسْمَعُونَهَا فَيَقُومُونَ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً مَا لَها مِنْ فَواقٍ [ص: 15] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: السَّاهِرَةُ الْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ الْمُسْتَوِيَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ/ سَالِكَهَا لَا يَنَامُ خَوْفًا مِنْهَا الثَّانِي: أَنَّ السَّرَابَ يَجْرِي فِيهَا مِنْ قَوْلِهِمْ عَيْنٌ سَاهِرَةٌ جَارِيَةُ الْمَاءِ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهِيَ أَنَّ الْأَرْضَ إِنَّمَا تُسَمَّى سَاهِرَةً لِأَنَّ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ فيها يطير النوم عن الْإِنْسَانِ، فَتِلْكَ الْأَرْضُ الَّتِي يَجْتَمِعُ الْكُفَّارُ فِيهَا فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ يَكُونُونَ فِيهَا فِي أَشَدِّ الْخَوْفِ، فَسُمِّيَتْ تِلْكَ الْأَرْضُ سَاهِرَةً لِهَذَا السَّبَبِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ أَرْضُ الدُّنْيَا، وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ أَرْضُ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ عِنْدَ الزَّجْرَةِ وَالصَّيْحَةِ يُنْقَلُونَ أَفْوَاجًا إِلَى أَرْضِ الْآخِرَةِ وَلَعَلَّ هَذَا الْوَجْهَ أَقْرَبُ. [سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 17] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فيه مسائل:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ الْكُفَّارِ إِصْرَارَهُمْ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ حَتَّى انْتَهَوْا فِي ذَلِكَ الْإِنْكَارِ إِلَى حَدِّ الِاسْتِهْزَاءِ فِي قَوْلِهِمْ: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ [النازعات: 12] وَكَانَ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ الْكَثِيرَةَ فِي دَعْوَةِ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ ذَلِكَ كَالتَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّانِي: أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ أَقْوَى مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَأَكْثَرَ جَمْعًا وَأَشَدَّ شَوْكَةً، فَلَمَّا تَمَرَّدَ عَلَى مُوسَى أَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فِي تَمَرُّدِهِمْ عَلَيْكَ إِنْ أَصَرُّوا أَخَذَهُمُ اللَّهُ وَجَعَلَهُمْ نَكَالًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: هَلْ أَتاكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَلَيْسَ قَدْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى هَذَا إِنْ كَانَ قَدْ أَتَاهُ ذَلِكَ قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ، أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَتَاهُ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَلْ أَتاكَ كَذَا، أَمْ أَنَا أُخْبِرُكَ بِهِ فَإِنَّ فِيهِ عِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْوَادِي الْمُقَدَّسُ الْمُبَارَكُ الْمُطَهَّرُ، وَفِي قَوْلِهِ: طُوىً وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أنه اسم وادي بِالشَّامِ وَهُوَ عِنْدَ الطُّورِ الَّذِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ [الطُّورِ: 1، 2] وَقَوْلِهِ: وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [مَرْيَمَ: 52] وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِمَعْنَى يَا رَجُلُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا رَجُلُ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: طُوىً أَيْ نَادَاهُ طُوىً مِنَ اللَّيْلَةِ اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ لِأَنَّكَ تَقُولُ جِئْتُكَ بَعْدَ طُوىً أَيْ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ الَّذِي طُوِيَ أَيْ بُورِكَ فِيهِ مَرَّتَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو طُوَى بِضَمِّ الطَّاءِ غَيْرَ مُنَوَّنٍ، وَقَرَأَ/ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الطَّاءِ مُنَوَّنًا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. طِوَى بِكَسْرِ الطَّاءِ، وَطَوَى مِثْلُ ثَنَى، وَهُمَا اسْمَانِ لِلشَّيْءِ الْمَثْنِيِّ، وَالطَّيُّ بِمَعْنَى الثَّنْيِ، أَيْ ثَنَّيْتُ فِي الْبَرَكَةِ وَالتَّقْدِيسِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: طُوىً وَادٍ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَمِصْرَ، فَمَنْ صَرَفَهُ قَالَ: هُوَ ذَكَرٌ سَمَّيْنَا بِهِ ذَكَرًا، وَمَنْ لَمْ يَصْرِفْهُ جَعَلَهُ مَعْدُولًا عَنْ جِهَتِهِ كَعُمَرَ وَزُفَرَ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّرْفُ أَحَبُّ إِلَيَّ إِذْ لَمْ أَجِدْ فِي الْمَعْدُولِ نَظِيرًا، أَيْ لَمْ أَجِدِ اسْمًا مِنَ الْوَاوِ وَالْيَاءِ عُدِلَ عَنْ فَاعِلِهِ إِلَى فِعْلٍ غَيْرَ طُوىً. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ وَقَالَ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ أَنِ اذْهَبْ، لِأَنَّ فِي النِّدَاءِ مَعْنَى الْقَوْلِ. وَأَمَّا أَنَّ ذَلِكَ النِّدَاءَ كَانَ بِإِسْمَاعِ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ، أَوْ بِإِسْمَاعِ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَكَيْفَ عَرَفَ مُوسَى أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. فَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طه. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ سَائِرَ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ مَا نَادَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ لَهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ طه: نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ إِلَى قَوْلِهِ: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه: 23، 24] فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ هَاهُنَا: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى مِنْ جُمْلَةِ مَا نَادَاهُ بِهِ رَبُّهُ، لَا أَنَّهُ كُلُّ مَا نَادَاهُ بِهِ، وَأَيْضًا لَيْسَ الْغَرَضُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى فِرْعَوْنَ فَقَطْ، بَلْ إِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الطَّرَفِ، إِلَّا أَنَّهُ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ دَعْوَتَهُ جَارِيَةٌ مَجْرَى دَعْوَةِ كُلِّ ذَلِكَ الْقَوْمِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الطُّغْيَانُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ تَعَدَّى فِي أَيِّ شَيْءٍ، فَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ وَكَفَرَ بِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ طَغَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْأَوْلَى عِنْدِي الْجَمْعُ

[سورة النازعات (79) : آية 18]

بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ طَغَى عَلَى الْخَالِقِ بِأَنْ كَفَرَ بِهِ، وَطَغَى عَلَى الْخَلْقِ بِأَنْ تَكَبَّرَ عَلَيْهِمْ وَاسْتَعْبَدَهُمْ، وَكَمَا أَنَّ كَمَالَ الْعُبُودِيَّةِ لَيْسَ إِلَّا صِدْقَ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَالِقِ وَمَعَ الْخَلْقِ، فَكَذَا كَمَالُ الطُّغْيَانِ لَيْسَ إِلَّا الْجَمْعُ بَيْنَ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَالِقِ وَمَعَ الْخَلْقِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ لقنه كلامين ليخاطبه بهما: فالأول: قوله تعالى: [سورة النازعات (79) : آية 18] فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ هَلْ لَكَ فِي كَذَا، وَهَلْ لَكَ إِلَى كَذَا، كَمَا تَقُولُ: هَلْ تَرْغَبُ فِيهِ، وَهَلْ تَرْغَبُ إِلَيْهِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ فِي اللَّفْظِ مُرَادٌ فِي المعنى، والتقدير: هل لك إلى تَزَكَّى حَاجَةٌ أَوْ إِرْبَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَهَلْ لَكُمْ فِيهَا إِلَيَّ فَإِنَّنِي ... بَصِيرٌ بِمَا أَعْيَا النِّطَاسِيَّ حِذْيَمَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: هَلْ لَكَ سَبِيلٌ إِلَى أَنْ تَزَكَّى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الزَّكِيُّ الطَّاهِرُ مِنَ الْعُيُوبِ كُلِّهَا، قَالَ: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً [الْكَهْفِ: 74] وَقَالَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشَّمْسِ: 9] وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يَدْعُوهُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَفْعَلَ مَا تَصِيرُ بِهِ زَاكِيًا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي، وَذَلِكَ بِجَمْعِ كَلِّ مَا يَتَّصِلُ بِالتَّوْحِيدِ وَالشَّرَائِعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِيهِ قِرَاءَتَانِ: التَّشْدِيدُ عَلَى إِدْغَامِ تَاءِ التَّفَعُّلِ فِي الزَّايِ لِتَقَارُبِهِمَا وَالتَّخْفِيفُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ تَمَسَّكُوا بِهِ فِي إِبْطَالِ كَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى خَالِقًا لِفِعْلِ الْعَبْدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ هَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ، أَيْ لَكَ سَبِيلٌ إِلَى أَنْ تَزَكَّى، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِفِعْلِ اللَّهِ تعالى لا نقلب الْكَلَامُ عَلَى مُوسَى، وَالْجَوَابُ عَنْ أَمْثَالِهِ تَقَدَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُمَا: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه: 44] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ لَهُمَا ذَلِكَ الْكَلَامَ اللَّيِّنَ الرَّقِيقَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ مِنَ اللِّينِ وَالرِّفْقِ وَتَرْكِ الْغِلْظَةِ، وَلِهَذَا قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آلِ عِمْرَانَ: 159] وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ يُخَاشِنُونَ النَّاسَ وَيُبَالِغُونَ فِي التَّعَصُّبِ، كَأَنَّهُمْ عَلَى ضِدِّ ما أمر الله به أنبياءه ورسله. ثم قال تعالى: [سورة النازعات (79) : آية 19] وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ لَا تُسْتَفَادُ إِلَّا مِنَ الْهَادِي تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا: إِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ يَهْدِيهِ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالُوا: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنْ بِعْثَةِ الرُّسُلِ أَمْرَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْمَبْعُوثِ إِلَيْهِ مِنْهَا، فَيَدْخُلُ فِيهِ هَذِهِ الْهِدَايَةُ فَلَمَّا أَعَادَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْبَعْثَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ مُوسَى خَتَمَ كَلَامَهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ

[سورة النازعات (79) : آية 20]

يُنَبِّهُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ أَشْرَفُ الْمَقَاصِدِ مِنَ الْبَعْثَةِ وَالْجَوَابُ: أَنَّا لَا نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّنْبِيهِ وَالْإِشَارَةِ مَعُونَةً فِي الْكَشْفِ عَنِ الْحَقِّ إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: يَسْتَحِيلُ حُصُولُهُ إِلَّا مِنَ الْمُعْلِمِ وَنَحْنُ لَا نُحِلُّ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى طَاعَتِهِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْهِدَايَةَ وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ مُؤَخَّرَةً عَنْهَا وَمُفَرَّعَةً عَلَيْهَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ النَّحْلِ: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النَّحْلِ: 2] وَفِي طه: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه: 14] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْمَعْرِفَةِ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: 28] أَيِ الْعُلَمَاءُ بِهِ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ مِلَاكُ الْخَيْرَاتِ، لِأَنَّ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ أَتَى مِنْهُ كُلُّ خَيْرٍ، وَمَنْ أَمِنَ اجْتَرَأَ عَلَى كُلِّ شَرٍّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أدلج بلغ المنزل» . [سورة النازعات (79) : آية 20] فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفَاءُ فِي فَأَراهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ مَعْلُومٍ، يَعْنِي فَذَهَبَ فَأَرَاهُ، كَقَوْلِهِ: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ [الْبَقَرَةِ: 60] أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْآيَةِ الْكُبْرَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: هِيَ الْيَدُ، لِقَوْلِهِ فِي النمل: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [النمل: 12] آيَةٌ أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى [طه: 23] الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ عَطَاءٌ: هِيَ الْعَصَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْيَدِ إِلَّا انْقِلَابُ لَوْنِهِ إِلَى لَوْنٍ آخَرَ، وَهَذَا الْمَعْنَى كَانَ حَاصِلًا فِي الْعَصَا، لِأَنَّهَا لَمَّا انْقَلَبَتْ حَيَّةً فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَيَّرَ اللَّوْنُ الْأَوَّلُ، فَإِذًا كَلُّ مَا فِي الْيَدِ فَهُوَ حَاصِلٌ فِي الْعَصَا، ثُمَّ حَصَلَ فِي الْعَصَا أُمُورٌ أُخْرَى أَزْيَدُ مِنْ ذَلِكَ، مِنْهَا حُصُولُ الْحَيَاةِ فِي الْجِرْمِ الْجَمَادِيِّ، وَمِنْهَا تَزَايُدُ أَجْزَائِهِ وَأَجْسَامِهِ، وَمِنْهَا حُصُولُ الْقُدْرَةِ الْكَبِيرَةِ وَالْقُوَّةِ الشَّدِيدَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهَا كَانَتِ ابْتَلَعَتْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً وَكَأَنَّهَا فَنِيَتْ، وَمِنْهَا زَوَالُ الْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ عَنْهَا، وَفَنَاءُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي حَصَلَ عِظَمُهَا، وَزَوَالُ ذَلِكَ اللَّوْنِ وَالشَّكْلِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا صَارَتِ الْعَصَا حَيَّةً، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ كَانَ مُعْجِزًا مُسْتَقِلًّا فِي نَفْسِهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْآيَةَ الْكُبْرَى هِيَ الْعَصَا وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُ مُجَاهِدٍ: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الْكُبْرَى مَجْمُوعُ الْيَدِ وَالْعَصَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَائِرَ الْآيَاتِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا أَظْهَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفِرْعَوْنَ هُوَ الْعَصَا، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالْيَدِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْكُبْرَى مجموعهما. أحدها: قوله تعالى: [سورة النازعات (79) : آية 21] فَكَذَّبَ وَعَصى (21) وفيه مسائل: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى قَوْلِهِ: فَكَذَّبَ أَنَّهُ كَذَّبَ بِدَلَالَةِ ذَلِكَ الْمُعْجِزِ عَلَى صِدْقِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَدْحَ فِي دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ إِمَّا لِاعْتِقَادِ أَنَّهُ يُمْكِنُ مُعَارَضَتُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ وَإِنِ امْتَنَعَتْ مُعَارَضَتُهُ لَكِنَّهُ لَيْسَ فِعْلًا لِلَّهِ بَلْ لِغَيْرِهِ، إِمَّا فِعْلُ جِنِّيٍّ أَوْ فِعْلُ مَلَكٍ، أَوْ إِنْ كَانَ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى لَكِنَّهُ مَا فَعَلَهُ لِغَرَضِ التَّصْدِيقِ، أَوْ إِنْ كَانَ فَعَلَهُ لِغَرَضِ التَّصْدِيقِ لَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُ صِدْقُ الْمُدَّعِي، فَإِنَّهُ لَا يَقْبُحُ مِنَ اللَّهِ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، فَهَذِهِ مَجَامِعُ الطَّعْنِ فِي دَلَالَةِ

[سورة النازعات (79) : آية 22]

الْمُعْجِزِ عَلَى الصِّدْقِ، وَمَا بَعْدَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ إِنَّمَا مُنِعَ مِنْ دَلَالَتِهِ عَنِ الصِّدْقِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ يُمْكِنُ مُعَارَضَتُهُ بِدَلِيلِ قوله: فَحَشَرَ فَنادى [النازعات: 23] وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ [الشعرا: 53] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَذَّبَ اللَّهَ فَقَدْ عَصَى، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: فَكَذَّبَ وَعَصى؟ وَالْجَوَابُ: كَذَّبَ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَصَى بِأَنْ أَظْهَرَ التَّمَرُّدَ وَالتَّجَبُّرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذَا الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالْمَعْصِيَةِ مُغَايِرٌ لِمَا كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ ذَلِكَ، لأن تكذيبه لموسى عليها لسلام وَقَدْ دَعَاهُ وَأَظْهَرَ هَذِهِ الْمُعْجِزَةَ. يُوفِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّكْذِيبِ وَمَعْصِيَتُهُ بِتَرْكِ الْقَبُولِ مِنْهُ، وَالْحَالُ هَذِهِ مُخَالِفَةٌ لِمَعْصِيَتِهِ مِنْ قَبْلِ ذلك. [سورة النازعات (79) : آية 22] ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا رَأَى الثُّعْبَانَ أَدْبَرَ مَرْعُوبًا يَسْعَى يُسْرِعُ فِي مَشْيِهِ، قَالَ الْحَسَنُ كَانَ رَجُلًا طَيَّاشًا خَفِيفًا وَثَانِيهَا: تَوَلَّى عَنْ مُوسَى يَسْعَى وَيَجْتَهِدُ فِي مُكَايَدَتِهِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى، ثُمَّ أَقْبَلَ يَسْعَى، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ أَقْبَلَ يَفْعَلُ كَذَا، بِمَعْنَى أَنْشَأَ يَفْعَلُ، فَوُضِعَ أدبر فوضع أقبل لئلا يوصف بالإقبال. وثالثها: قوله: [سورة النازعات (79) : الآيات 23 الى 24] فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) فَحَشَرَ فَجَمَعَ السَّحَرَةَ كَقَوْلِهِ: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ فَنَادَى فِي الْمَقَامِ الَّذِي اجْتَمَعُوا فِيهِ مَعَهُ، أَوْ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى فِي النَّاسِ بِذَلِكَ، وَقِيلَ قَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَقَالَ تِلْكَ الْكَلِمَةَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَلِمَتُهُ الْأُولَى: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَصِ: 38] وَالْآخِرَةُ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا فِي سُورَةِ (طه) أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ الإنسان في نفسه كونه خالقا للسموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِفَسَادِ ذَلِكَ ضَرُورِيٌّ، فَمَنْ تَشَكَّكَ فِيهِ كَانَ مَجْنُونًا، وَلَوْ كَانَ مَجْنُونًا لَمَا جَازَ مِنَ اللَّهِ بَعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ إِلَيْهِ، بَلِ الرَّجُلُ كَانَ دَهْرِيًّا مُنْكِرًا لِلصَّانِعِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَكَانَ يَقُولُ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْكُمْ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ إِلَّا لِي، فَأَنَا رَبُّكُمْ بِمَعْنَى مُرَبِّيكُمْ وَالْمُحْسِنِ إِلَيْكُمْ، وَلَيْسَ لِلْعَالَمِ إِلَهٌ حَتَّى يَكُونَ لَهُ عَلَيْكُمْ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، أَوْ يَبْعَثَ إِلَيْكُمْ رَسُولًا، قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ كَانَ الْأَلْيَقُ بِهِ بَعْدَ ظُهُورِ خِزْيِهِ عِنْدَ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً، أَنْ لَا يَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ. لِأَنَّ عِنْدَ ظُهُورِ الذِّلَّةِ وَالْعَجْزِ، كَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يَقُولَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ صَارَ كَالْمَعْتُوهِ الَّذِي لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُ أَفْعَالَهُ وَأَقْوَالَهُ أَتْبَعَهُ بِمَا عَامَلَهُ به وهو قوله تعالى: [سورة النازعات (79) : آية 25] فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

[سورة النازعات (79) : آية 26]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي نَصْبِ نَكَالَ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ لِأَنَّ معنى أخذه الله، نكل الله به، نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى. لِأَنَّ أَخَذَهُ وَنَكَلَهُ مُتَقَارِبَانِ، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: أَدَعُهُ تَرْكًا شَدِيدًا لِأَنَّ أَدَعُهُ وَأَتْرُكُهُ سَوَاءٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هُودٍ: 102] ، الثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ أَخَذَهُ اللَّهُ أَخْذًا نَكَالًا لِلْآخِرَةِ وَالْأُولَى، وَالنَّكَالُ بِمَعْنَى التَّنْكِيلِ كَالسَّلَامِ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ الْآخِرَةَ وَالْأُولَى صِفَةٌ لِكَلِمَتَيْ فِرْعَوْنَ إِحْدَاهُمَا قَوْلُهُ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَصِ: 38] والأخرى قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 24] قَالُوا: وَكَانَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٍ، وَرِوَايَةُ عَطَاءٍ وَالْكَلْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ مَا أَخَذَهُ بِكَلِمَتِهِ الْأُولَى فِي الْحَالِ، بَلْ أَمْهَلَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا ذَكَرَ الثَّانِيَةَ أُخِذَ بِهِمَا، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ تعالى يمهل ولا يمهل الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ: نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أَيْ عَذَّبَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَأَغْرَقَهُ فِي الدُّنْيَا الثَّالِثُ: الْآخِرَةُ هِيَ قَوْلُهُ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وَالْأُولَى هِيَ تَكْذِيبُهُ مُوسَى حِينَ أَرَاهُ الْآيَةَ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَهَذَا كَأَنَّهُ هُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 20، 24] فَذَكَرَ الْمَعْصِيَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ عَاتَبَهُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ اللَّيْثُ: (النكال) اسم لمن جعل نكالا لعيره، وَهُوَ الَّذِي إِذَا رَآهُ أَوْ بَلَغَهُ خَافَ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَهُ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الِامْتِنَاعِ، وَمِنْهُ النُّكُولُ عَنِ الْيَمِينِ، وَقِيلَ لِلْقَيْدِ نِكْلٌ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ، فَالنَّكَالُ مِنَ الْعُقُوبَةِ هُوَ أَعْظَمُ حَتَّى يَمْتَنِعَ مَنْ سَمِعَ بِهِ عَنِ ارْتِكَابِ مِثْلِ ذَلِكَ الذَّنْبِ الَّذِي وَقَعَ التَّنْكِيلُ بِهِ، وَهُوَ فِي الْعُرْفِ يَقَعُ عَلَى مَا يَفْتَضِحُ بِهِ صَاحِبُهُ وَيَعْتَبِرُ بِهِ غَيْرُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِقَوْلِهِ تعالى: [سورة النازعات (79) : آية 26] إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) وَالْمَعْنَى أَنَّ فِيمَا اقْتَصَصْنَاهُ مِنْ أَمْرِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ، وَمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ بِفِرْعَوْنَ مِنَ الْخِزْيِ، وَرَزَقَ مُوسَى مِنَ الْعُلُوِّ وَالنَّصْرِ عِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى وَذَلِكَ أَنْ يَدَعَ التَّمَرُّدَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّكْذِيبَ لِأَنْبِيَائِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ مَا نَزَلَ بِفِرْعَوْنَ، وَعِلْمًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْصُرُ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ، فَاعْتَبِرُوا مَعَاشِرَ الْمُكَذِّبِينَ لِمُحَمَّدٍ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، أَيِ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِنْ شَارَكْتُمُوهُمْ فِي الْمَعْنَى الْجَالِبِ لِلْعِقَابِ، شَارَكْتُمُوهُمْ فِي حُلُولِ العقاب بكم. [سورة النازعات (79) : الآيات 27 الى 28] أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) [في قَوْلُهُ تَعَالَى أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها] ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَتَمَ هَذِهِ الْقِصَّةَ رَجَعَ إِلَى مُخَاطَبَةِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ، فَقَالَ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمَقْصُودِ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ فَقَالَ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ فَنَبَّهَهُمْ عَلَى أَمْرٍ يُعْلَمُ بِالْمُشَاهَدَةِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ خِلْقَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى صِغَرِهِ وَضَعْفِهِ، إِذَا

أُضِيفَ إِلَى خَلْقِ السَّمَاءِ عَلَى عِظَمِهَا وَعِظَمِ أَحْوَالِهَا يَسِيرٌ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ خَلْقَ السَّمَاءِ أَعْظَمُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَخَلْقُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِعَادَةِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا لِلَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ؟ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى / أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: 81] وَقَوْلُهُ: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غَافِرٍ: 57] وَالْمَعْنَى أَخَلْقُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ أَشَدُّ أَمْ خَلْقُ السَّمَاءِ أَيْ عِنْدَكُمْ، وَفِي تَقْدِيرِكُمْ، فَإِنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَاحِدٌ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بَيَانُ كَوْنِهِمْ مَخْلُوقِينَ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ كَوْنَ الإنسان مخلوقا فبأن ينكر [هـ] في السماء كان أولى أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ كَانَ فِي بَيَانِ مَسْأَلَةِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، فَحَمْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَيْهِ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: هَذَا الْكَلَامُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَمِ السَّماءُ. ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَناها ابْتِدَاءُ كَلَامٍ آخَرَ، وَعِنْدَ أَبِي حَاتِمٍ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: بَناها قَالَ: لِأَنَّهُ مِنْ صِلَةِ السَّمَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَمِ السَّمَاءُ الَّتِي بَنَاهَا، فَحَذَفَ الَّتِي، وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ جَائِزٌ، قَالَ الْقَفَّالُ: يُقَالُ: الرَّجُلُ جَاءَكَ عَاقِلٌ، أَيِ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَكَ عَاقِلٌ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ فَنَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: بَناها صِلَةٌ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ صِلَةً لَكَانَ صِفَةً، فَقَوْلُهُ: بَناها صِفَةٌ، ثُمَّ قَوْلُهُ: رَفَعَ سَمْكَها صِفَةٌ، فَقَدْ تَوَالَتْ صِفَتَانِ لَا تَعَلُّقَ لِإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، فَكَانَ يَجِبُ إِدْخَالُ الْعَاطِفِ فِيمَا بَيْنَهُمَا، كما في قوله: وَأَغْطَشَ لَيْلَها [النازعات: 29] فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: بَناها صِلَةٌ لِلسَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: رَفَعَ سَمْكَها ابْتِدَاءٌ بِذِكْرِ صِفَتِهِ، وَلِلْفَرَّاءِ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى قَوْلِهِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ: بَناها صِلَةً لِلسَّمَاءِ لَكَانَ التَّقْدِيرُ: أَمِ السَّمَاءُ [الَّتِي] «1» بَنَاهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُودَ سَمَاءٍ مَا بَنَاهَا اللَّهُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي بَنَى السَّمَاءَ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ السَّمَاءَ جِسْمٌ، وَكُلُّ جِسْمٍ مُحْدَثٌ، لِأَنَّ الْجِسْمَ لَوْ كَانَ أَزَلِيًّا لَكَانَ فِي الْأَزَلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّكًا أَوْ سَاكِنًا، وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ، فَالْقَوْلُ بِكَوْنِ الْجِسْمِ أَزَلِيًّا بَاطِلٌ. أَمَّا الْحَصْرُ فَلِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِرًّا حَيْثُ هُوَ فَيَكُونَ سَاكِنًا، أَوْ لَا يَكُونَ مُسْتَقِرًّا حَيْثُ هُوَ فَيَكُونَ مُتَحَرِّكًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّكًا، لِأَنَّ مَاهِيَّةَ الْحَرَكَةِ تَقْتَضِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ، وَمَاهِيَّةَ الْأَزَلِ تُنَافِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ سَاكِنًا، لِأَنَّ السُّكُونَ وَصْفٌ ثُبُوتِيٌّ وَهُوَ مُمْكِنُ الزَّوَالِ، وَكُلُّ مُمْكِنِ الزَّوَالِ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ، فَكُلُّ سُكُونٍ مُحْدَثٌ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَزَلِيًّا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ السُّكُونَ وَصْفٌ ثُبُوتِيٌّ، لِأَنَّهُ يَتَبَدَّلُ كَوْنُ الْجِسْمِ مُتَحَرِّكًا بِكَوْنِهِ سَاكِنًا مَعَ بَقَاءِ ذَاتِهِ، فَأَحَدُهُمَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا، فَإِنْ كَانَ الثُّبُوتِيُّ هُوَ السُّكُونَ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ كَانَ الثُّبُوتِيُّ هُوَ الْحَرَكَةَ وَجَبَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ السُّكُونُ ثُبُوتِيًّا، لِأَنَّ الْحَرَكَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْحُصُولِ فِي الْمَكَانِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ، وَالسُّكُونُ عِبَارَةٌ عَنِ الْحُصُولِ فِي الْمَكَانِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِيهِ بِعَيْنِهِ، فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ لَيْسَ فِي/ الْمَاهِيَّةِ، بَلْ فِي الْمَسْبُوقِيَّةِ بِالْغَيْرِ وَعَدَمِ الْمَسْبُوقِيَّةِ بِالْغَيْرِ، وَذَلِكَ وَصْفٌ عَارِضِيٌّ خَارِجِيٌّ عَنِ الْمَاهِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الْمَاهِيَّةَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ فِي إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ كذلك في سورة أُخْرَى، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ سُكُونَ السَّمَاءِ جَائِزُ الزَّوَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ لَامْتَنَعَ زَوَالُهُ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا تَتَحَرَّكَ السَّمَاءُ لَكِنَّا نَرَاهَا الْآنَ مُتَحَرِّكَةً، فَعَلِمْنَا أَنَّهَا لَوْ كانت ساكنة في الأزل،

_ (1) ما بين القوسين المربعين زيادة اقتضاها الكلام إذ لا معنى له بدونها (عبد الله الصاوي) .

لَكَانَ ذَلِكَ السُّكُونُ جَائِزَ الزَّوَالِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ السُّكُونَ لَمَّا كَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ، افْتَقَرَ إِلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُؤَثِّرٍ، وَذَلِكَ الْمُؤَثِّرُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُوجِبَ إِنْ كَانَ وَاجِبًا، وَكَانَ غَنِيًّا فِي إِيجَابِهِ لِذَلِكَ الْمَعْلُولِ عَنْ شَرْطٍ لَزِمَ مِنْ دَوَامِهِ دَوَامُ ذَلِكَ الْأَثَرِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَزُولَ لِلسُّكُونِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا وَمُفْتَقِرًا فِي إِيجَابِهِ لِذَلِكَ الْمَعْلُولِ إِلَى شَرْطٍ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ، لَزِمَ مِنْ دَوَامِ الْعِلَّةِ وَدَوَامِ الشَّرْطِ دَوَامُ الْمَعْلُولِ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْمُوجِبُ غَيْرَ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ، أَوْ كَانَ شَرْطُ إِيجَابِهِ غَيْرَ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ كَانَ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ، فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَهُوَ مُحَالٌ أَوِ الِانْتِهَاءُ إِلَى مُوجِبٍ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ، وَإِلَى شَرْطٍ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْإِلْزَامُ الْأَوَّلُ، فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ الْمُؤَثِّرَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فَاعِلًا مُخْتَارًا، فَإِذًا كَلُّ سُكُونٍ، فَهُوَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ، لِأَنَّ الْمُخْتَارَ إِنَّمَا يَفْعَلُ بِوَاسِطَةِ الْقَصْدِ، وَالْقَصْدُ إِلَى تَكْوِينِ الْكَائِنِ، وَتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ سُكُونٍ فَهُوَ مُحْدَثٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْجِسْمُ فِي الْأَزَلِ لَا مُتَحَرِّكًا وَلَا سَاكِنًا، فَهُوَ إِذًا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأَزَلِ، فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَإِذَا كَانَ مُحْدَثًا افْتَقَرَ فِي ذَاتِهِ، وَفِي تَرْكِيبِ أَجْزَائِهِ إِلَى مُوجِدٍ، وَذَلِكَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَثَبَتَ بِالْعَقْلِ أَنَّ بَانِيَ السَّمَاءِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: كُلُّ مَا سِوَى الْوَاجِبِ فَهُوَ مُمْكِنٌ وَكُلُّ مُمْكِنٍ مُحْدَثٌ وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَهُ صَانِعٌ، إِنَّمَا قُلْنَا: كُلُّ مَا سِوَى الْوَاجِبِ مُمْكِنٌ، لِأَنَّا لَوْ فَرَضْنَا مَوْجُودَيْنِ وَاجِبَيْنِ لِذَاتَيْهِمَا لَاشْتَرَكَا فِي الْوُجُودِ وَلَتَبَايَنَا بِالتَّعْيِينِ، فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُرَكَّبًا مِمَّا بِهِ الْمُشَارَكَةُ، وَمِمَّا بِهِ الْمُمَايَزَةُ، وَكُلُّ مُرَكَّبٍ مُفْتَقِرٌ إِلَى جُزْئِهِ وَجُزْؤُهُ غَيْرُهُ فَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ، وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ إِلَى غَيْرِهِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَاجِبَيْنِ بِالذَّاتِ مُمْكِنٌ بِالذَّاتِ هَذَا خَلْفٌ، ثُمَّ يَنْقُلُ الْكَلَامَ إِلَى ذَيْنِكَ الجز أين، فَإِنْ كَانَا وَاجِبَيْنِ، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ مُرَكَّبًا وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا وَاجِبَيْنِ كَانَ الْمُفْتَقِرُ إِلَيْهِمَا أَوْلَى بِعَدَمِ الْوُجُودِ فَثَبَتَ أَنَّ مَا عَدَا الْوَاجِبَ مُمْكِنٌ وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَلَهُ مُؤَثِّرٌ وَكُلُّ مَا افْتَقَرَ إِلَى الْمُؤَثِّرِ مُحْدَثٌ، لِأَنَّ الِافْتِقَارَ إِلَى الْمُؤَثِّرِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَقَّقَ حَالَ الْبَقَاءِ لِاسْتِحَالَةِ إِيجَادِ الْمُوجِدِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ إِمَّا حَالَ الْحُدُوثِ أَوْ حَالَ الْعَدَمِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْحُدُوثُ لَازِمٌ فَثَبَتَ أَنَّ مَا سِوَى الْوَاجِبِ مُحْدَثٌ وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ، فَلَا بُدَّ لِلسَّمَاءِ مِنْ بَانٍ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: صَرِيحُ الْعَقْلِ يَشْهَدُ بِأَنَّ جِرْمَ السَّمَاءِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ مِمَّا هُوَ الْآنَ بِمِقْدَارِ خَرْدَلَةٍ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَصْغَرَ بِمِقْدَارِ خَرْدَلَةٍ، فَاخْتِصَاصُ هَذَا الْمِقْدَارِ بِالْوُقُوعِ دُونَ/ الْأَزْيَدِ وَالْأَنْقَصِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِمُخَصِّصٍ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلسَّمَاءِ مِنْ بَانٍ: فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ شَيْئًا وَأَعْطَاهُ قُدْرَةً يَتَمَكَّنُ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ بِتِلْكَ الْقُدْرَةِ مِنْ خَلْقِ الْأَجْسَامِ فَيَكُونُ خَالِقُ السَّمَاءِ وَبَانِيهَا هُوَ ذَلِكَ الشَّيْءَ؟ الْجَوَابُ: مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: الْمَعْلُومُ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلسَّمَاءِ مِنْ مُحْدِثٍ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ آخِرِ الْأَمْرِ إِلَى قَدِيمٍ وَالْإِلَهُ قَدِيمٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَأَمَّا نَفْيُ الْوَاسِطَةِ فَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالسَّمْعِ فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: بَناها يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَانِيَ السَّمَاءِ هُوَ اللَّهُ لَا غَيْرُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلِ الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ مُحْدَثٌ ثَبَتَ أَنَّهُ قَادِرٌ لَا مُوجَبٌ، وَالَّذِي كَانَ مَقْدُورًا لَهُ إِنَّمَا صَحَّ كَوْنُهُ مَقْدُورًا لَهُ بِكَوْنِهِ مُمْكِنًا، فَإِنَّكَ لَوْ رَفَعْتَ الْإِمْكَانَ بَقِيَ الْوُجُوبُ أَوِ الِامْتِنَاعُ وَهُمَا يُحِيلَانِ الْمَقْدُورِيَّةَ، وَإِذَا كَانَ مَا لِأَجْلِهِ صَحَّ فِي الْبَعْضِ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا لِلَّهِ وَهُوَ الْإِمْكَانُ وَالْإِمْكَانُ عَامٌّ فِي الْمُمْكِنَاتِ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ فِي كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ صِحَّةُ أَنْ تَكُونَ مَقْدُورَةً لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَنِسْبَةُ قُدْرَتِهِ إِلَى الْكُلِّ عَلَى السَّوِيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْكُلِّ، وإذا ثبت

[سورة النازعات (79) : آية 29]

أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الْمُمْكِنَاتِ فَلَوْ قَدَّرْنَا قَادِرًا آخَرَ قَدَرَ عَلَى بَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ، لَزِمَ وُقُوعُ مَقْدُورٍ وَاحِدٍ بَيْنَ قَادِرَيْنِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَقَعَ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا مُسْتَقِلَّيْنِ بِالِاقْتِضَاءِ فَلَيْسَ وُقُوعُهُ بِهَذَا أَوْلَى مِنْ وُقُوعِهِ بِذَاكَ أَوْ بِهِمَا مَعًا، وَهُوَ أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّهُ يَسْتَغْنِيَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِمَا مَعًا وَغَنِيًّا عَنْهُمَا مَعًا وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُ مُمْكِنٍ آخَرَ بِسَبَبٍ آخَرَ سِوَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْكَلَامُ جَيِّدٌ، لَكِنْ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُثْبِتُ فِي الْوُجُودِ مُؤَثِّرًا سِوَى الْوَاحِدِ، فَهَذَا جملة ما في هذا الباب. [في قوله تعالى رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي السَّمَاءِ أَنَّهُ بَنَاهَا، بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَيْفَ بَنَاهَا، وَشَرَحَ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةَ مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَكَانِ، فَقَالَ تَعَالَى: رَفَعَ سَمْكَها. وَاعْلَمْ أَنَّ امْتِدَادَ الشَّيْءِ إِذَا أُخِذَ مِنْ أَعْلَاهُ إِلَى أَسْفَلِهِ سُمِّيَ عُمْقًا، وَإِذَا أُخِذَ مِنْ أَسْفَلِهِ إِلَى أَعْلَاهُ سُمِّيَ سَمْكًا، فَالْمُرَادُ بِرَفْعِ سَمْكِهَا شِدَّةُ عُلُوِّهَا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّ مَا بَيْنَ الْأَرْضِ وَبَيْنَهَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَ [قَدْ] بَيَّنَ أَصْحَابُ الْهَيْئَةِ مَقَادِيرَ الْأَجْرَامِ الْفَلَكِيَّةِ وَأَبْعَادَ مَا بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَبَيْنَ الْأَرْضِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ: رَفْعُ سَمْكِهَا مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ. وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَوَّاها وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ تَسْوِيَةُ تَأْلِيفِهَا، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ نَفْيُ الشُّقُوقِ عَنْهَا، كَقَوْلِهِ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الْمُلْكِ: 3] وَالْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالُوا: فَسَوَّاها عَامٌّ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالتَّسْوِيَةِ فِي بعض الأشياء، ثم قال هَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ/ السَّمَاءِ كُرَةً، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كُرَةً لَكَانَ بَعْضُ جَوَانِبِهِ سَطْحًا، وَالْبَعْضُ زَاوِيَةً، وَالْبَعْضُ خَطًّا، وَلَكَانَ بَعْضُ أَجْزَائِهِ أَقْرَبَ إِلَيْنَا، وَالْبَعْضُ أَبْعَدَ، فَلَا تَكُونُ التَّسْوِيَةُ الْحَقِيقَةُ حَاصِلَةً، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُرَةً حَتَّى تَكُونَ التَّسْوِيَةُ الْحَقِيقَةُ حَاصِلَةً، ثُمَّ قَالُوا لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، فَأَيُّ ضَرَرٍ فِي الدِّينِ يَنْشَأُ مِنْ كونها كرة؟. [سورة النازعات (79) : آية 29] وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَغْطَشَ قَدْ يَجِيءُ لَازِمًا، يُقَالُ: أَغْطَشَ اللَّيْلُ إِذَا صَارَ مُظْلِمًا وَيَجِيءُ مُتَعَدِّيًا يُقَالُ: أَغَطَشَهُ اللَّهُ إِذَا جَعَلَهُ مُظْلِمًا، وَالْغَطَشُ الظُّلْمَةُ، وَالْأَغْطَشُ شِبْهُ الْأَعْمَشِ، ثُمَّ هَاهُنَا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ اللَّيْلَ اسْمٌ لِزَمَانِ الظُّلْمَةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَوْلُهُ: وَأَغْطَشَ لَيْلَها يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى أَنَّهُ جَعَلَ الْمُظْلِمَ مُظْلِمًا، وَهُوَ بَعِيدٌ وَالْجَوَابُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الظُّلْمَةَ الْحَاصِلَةَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِتَدْبِيرِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ: وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى الْإِشْكَالُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَأَخْرَجَ ضُحاها أَيْ أَخْرَجَ نهارا، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ النَّهَارِ بِالضُّحَى، لِأَنَّ الضُّحَى أَكْمَلُ أَجْزَاءِ النَّهَارِ فِي النُّورِ وَالضَّوْءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا أَضَافَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِلَى السَّمَاءِ، لِأَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّمَا يَحْدُثَانِ بِسَبَبِ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَطُلُوعِهَا، ثُمَّ غُرُوبُهَا وَطُلُوعُهَا إِنَّمَا يَحْصُلَانِ بِسَبَبِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَضَافَ اللَّيْلَ والنهار إلى

[سورة النازعات (79) : آية 30]

السَّمَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ كَيْفِيَّةَ خَلْقِ السَّمَاءِ أَتْبَعَهُ بِكَيْفِيَّةِ خَلْقِ الْأَرْضِ وَذَلِكَ من وجوه: الصفة الأولى: قوله تعالى: [سورة النازعات (79) : آية 30] وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: دَحَاهَا بَسَطَهَا، قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: دَحَاهَا فَلَمَّا رَآهَا اسْتَوَتْ ... عَلَى الْمَاءِ أَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَا وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ: دَحَوْتَ الْبِلَادَ فَسَوَّيْتَهَا ... وَأَنْتَ عَلَى طَيِّهَا قَادِرٌ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ لُغَتَانِ دَحَوْتُ أَدْحُو، وَدَحَيْتُ أَدْحَى، وَمِثْلُهُ صَفَوْتُ وَصَفَيْتُ وَلَحَوْتُ الْعُودَ وَلَحَيْتُهُ وَسَأَوْتُ الرَّجُلَ وَسَأَيْتُهُ وَبَأَوْتُ عَلَيْهِ وَبَأَيْتُ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ «اللَّهُمَّ دَاحِيَ الْمَدْحِيَّاتِ» أَيْ بَاسِطَ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ وَهُوَ الْمَدْحُوَّاتُ أَيْضًا، وَقِيلَ: أَصْلُ الدَّحْوِ الْإِزَالَةُ لِلشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَمِنْهُ يُقَالُ: إِنَّ الصَّبِيَّ يَدْحُو بِالْكُرَةِ أَيْ يَقْذِفُهَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَأَدْحَى النَّعَامَةُ مَوْضِعَهُ الذي يكون فيه أي بسطته وأزلت مَا فِيهِ مِنْ حَصَى، حَتَّى يَتَمَهَّدَ لَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الدَّحْوِ يَرْجِعُ إِلَى الْإِزَالَةِ وَالتَّمْهِيدِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي كَوْنَ الْأَرْضِ بَعْدَ السَّمَاءِ، وَقَوْلُهُ: فِي حم السَّجْدَةِ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [فُصِّلَتْ: 11] يَقْتَضِي كَوْنَ السَّمَاءِ بَعْدَ الْأَرْضِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [البقرة: 29] وَلَا بَأْسَ بِأَنْ نُعِيدَ بَعْضَ تِلْكَ الْوُجُوهِ أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْأَرْضَ أَوَّلًا ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ ثَانِيًا ثُمَّ دَحَى الْأَرْضَ أَيْ بَسَطَهَا ثَالِثًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَوَّلًا كَالْكُرَةِ الْمُجْتَمِعَةِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَّهَا وَبَسَطَهَا، فَإِنْ قِيلَ الدَّلَائِلُ الِاعْتِبَارِيَّةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ الْآنَ كُرَةٌ أَيْضًا، وَإِشْكَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْجِسْمَ الْعَظِيمَ يَكُونُ ظَاهِرُهُ كَالسَّطْحِ الْمُسْتَوِي، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجِسْمُ مَخْلُوقًا وَلَا يَكُونُ ظَاهِرُهُ مَدْحُوًّا مَبْسُوطًا وَثَانِيهَا: أَنْ لَا يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ دَحاها: مُجَرَّدَ الْبَسْطِ، بَلْ يَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّهُ بَسَطَهَا بَسْطًا مُهَيَّأً لِنَبَاتِ الْأَقْوَاتِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها [النازعات: 31] وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِعْدَادَ لَا يَحْصُلُ لِلْأَرْضِ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ السَّمَاءِ فَإِنَّ الْأَرْضَ كَالْأُمِّ وَالسَّمَاءَ كَالْأَبِ، وَمَا لَمْ يَحْصُلَا لَمْ تَتَوَلَّدْ أَوَّلًا الْمَعَادِنُ وَالنَّبَاتَاتُ وَالْحَيَوَانَاتُ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ أَيْ مَعَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [الْقَلَمِ: 13] أَيْ مَعَ ذَلِكَ، وَقَوْلُكَ لِلرَّجُلِ أَنْتَ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ أَنْتَ بَعْدَهَا كَذَا لَا تُرِيدُ بِهِ التَّرْتِيبَ، وَقَالَ تَعَالَى: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَدِ: 17] وَالْمَعْنَى وَكَانَ مَعَ هَذَا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَيْ مَعَ ذَلِكَ دَحَاهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْأَرْضَ أَوَّلًا ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ ثَانِيًا، ثُمَّ دَحَى الْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَالِثًا، ذَكَرُوا فِي تَقْدِيرِ تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ وُجُوهًا. رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «خَلَقَ اللَّهُ الْبَيْتَ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ سنة،

[سورة النازعات (79) : آية 31]

وَمِنْهُ دُحِيَتِ الْأَرْضُ» وَاعْلَمْ أَنَّ الرُّجُوعَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِلَى كُتُبِ الْحَدِيثِ أَوْلَى. [سورة النازعات (79) : آية 31] أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَاؤُهَا عُيُونُهَا الْمُتَفَجِّرَةُ بِالْمَاءِ وَمَرْعَاهَا رَعْيُهَا، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَوْضِعُ الرَّعْيِ، وَنَصْبُ الْأَرْضِ وَالْجِبَالِ بِإِضْمَارِ دَحَا وَأَرْسَى عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ، وَقَرَأَهُمَا الْحَسَنُ مَرْفُوعَيْنِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا أَدْخَلَ حَرْفَ الْعَطْفِ عَلَى أَخْرَجَ قُلْنَا لِوَجْهَيْنِ؟ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى دَحَاهَا بَسَطَهَا وَمَهَّدَهَا لِلسُّكْنَى، ثُمَّ فَسَّرَ التَّمْهِيدَ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي تَأَتِّي سُكْنَاهَا مِنْ تَسْوِيَةِ أَمْرِ الْمَشَارِبِ وَالْمَآكِلِ وَإِمْكَانِ الْقَرَارِ عَلَيْهَا بِإِخْرَاجِ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى وَإِرْسَاءِ الْجِبَالِ وَإِثْبَاتِهَا أَوْتَادًا لَهَا حَتَّى تَسْتَقِرَّ وَيُسْتَقَرَّ عَلَيْهَا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَخْرَجَ حَالًا، وَالتَّقْدِيرُ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا حَالَ مَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَرَادَ بِمَرْعَاهَا مَا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي النَّحْلِ: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النَّحْلِ: 10] وَقَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا إلى قوله: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [عبس: 25- 32] فَكَذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَاسْتُعِيرَ الرَّعْيُ لِلْإِنْسَانِ كَمَا اسْتُعِيرَ الرَّتْعُ فِي قَوْلِهِ: يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ [يُوسُفَ: 12] وَقُرِئَ نَرْتَعْ مِنَ الرَّعْيِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الْأَنْبِيَاءِ: 30] فَانْظُرْ كَيْفَ دَلَّ بِقَوْلِهِ: ماءَها وَمَرْعاها عَلَى جَمِيعِ مَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْأَرْضِ قُوتًا وَمَتَاعًا لِلْأَنَامِ مِنَ الْعُشْبِ وَالشَّجَرِ، وَالْحَبِّ وَالثَّمَرِ وَالْعَصْفِ وَالْحَطَبِ، وَاللِّبَاسِ وَالدَّوَاءِ حَتَّى النَّارِ وَالْمِلْحِ، أَمَّا النَّارُ فَلَا شَكَّ أَنَّهَا مِنَ الْعِيدَانِ قَالَ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ [الْوَاقِعَةِ: 71، 72] وَأَمَّا الْمِلْحُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الْمَاءِ، وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ عَلِمْتَ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَتَنَزَّهُ بِهِ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا وَيَتَلَذَّذُونَ بِهِ، فَأَصْلُهُ الْمَاءُ وَالنَّبَاتُ، وَلِهَذَا السَّبَبِ تَرَدَّدَ فِي وَصْفِ الْجَنَّةِ ذِكْرُهُمَا، فَقَالَ: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [البقرة: 25] ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِالْمَرْعَى كُلَّ مَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ قَوْلُهُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [النازعات: 33] . [سورة النازعات (79) : الآيات 32 الى 33] وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْجِبالَ أَرْساها وَالْكَلَامُ فِي شَرْحِ مَنَافِعِ الْجِبَالِ قَدْ تَقَدَّمَ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ خَلْقِهِ الْأَرْضَ وَكَمِّيَّةَ مَنَافِعِهَا قَالَ: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّا إِنَّمَا خَلَقْنَا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُتْعَةً وَمَنْفَعَةً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ، وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ: أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ وَأَحْكَامَهُ مُعَلَّلَةٌ بِالْأَغْرَاضِ وَالْمَصَالِحِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ قَدْ مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ خَلْقِهِ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ لِيُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، فَلَمَّا قَرَّرَ ذَلِكَ وَبَيَّنَ إِمْكَانَ الْحَشْرِ عَقْلًا أَخْبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ وقوعه. فقال تعالى: [سورة النازعات (79) : آية 34] فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34)

[سورة النازعات (79) : الآيات 35 إلى 36]

وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الطَّامَّةُ عِنْدَ الْعَرَبِ الدَّاهِيَةُ الَّتِي لَا تُسْتَطَاعُ وَفِي اشْتِقَاقِهَا وُجُوهٌ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: أُخِذَتْ فِيمَا أَحْسَبُ مِنْ قَوْلِهِمْ: طَمَّ الْفَرَسُ طَمِيمًا، إِذَا اسْتَفْرَغَ جُهْدَهُ فِي الْجَرْيِ، وَطَمَّ الْمَاءُ إِذَا مَلَأَ النَّهْرَ كُلَّهُ، وَقَالَ اللَّيْثُ: الْطَّمُ طَمُّ الْبِئْرِ بِالتُّرَابِ، وَهُوَ الْكَبْسُ، وَيُقَالُ: طَمَّ السَّيْلُ الرَّكِيَّةَ إِذَا دَفَنَهَا حَتَّى يُسَوِّيَهَا، وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ الَّذِي يَكْبُرُ حَتَّى يَعْلُوَ قَدْ طَمَّ، وَالطَّامَّةُ الْحَادِثَةُ الَّتِي تَطِمُّ عَلَى مَا سِوَاهَا وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: فَوْقَ كُلِّ طَامَّةٍ طَامَّةٌ، قَالَ الْقَفَّالُ: أَصْلُ الْطَّمِّ الدَّفْنُ وَالْعُلُوُّ، وَكُلُّ مَا غَلَبَ شَيْئًا وَقَهَرَهُ وَأَخْفَاهُ فَقَدْ طَمَّهُ، وَمِنْهُ الْمَاءُ الطَّامِي وَهُوَ الْكَثِيرُ الزَّائِدُ، وَالطَّاغِي وَالْعَاتِي وَالْعَادِيُّ سَوَاءٌ وَهُوَ الْخَارِجُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَكَبِّرُ، فَالطَّامَّةُ اسْمٌ لِكُلِّ دَاهِيَةٍ عَظِيمَةٍ يُنْسَى مَا قَبْلَهَا في جنبها. [سورة النازعات (79) : الآيات 35 الى 36] يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى الطَّامَّةِ الْكُبْرَى الدَّاهِيَةُ الْكُبْرَى، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا أَيُّ شَيْءٍ هِيَ، فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ يُشَاهَدُ فِيهِ مِنَ النَّارِ، وَمِنَ الْمَوْقِفِ الْهَائِلِ، وَمِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْعَادَةِ مَا يُنْسَى مَعَهُ كُلُّ هَائِلٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهَا هِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي عِنْدَهَا تُحْشَرُ الْخَلَائِقُ إِلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى فَسَّرَ الطَّامَّةَ الْكُبْرَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى فَالطَّامَّةُ تَكُونُ اسْمًا لِذَلِكَ الْوَقْتِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَقْتُ وقت قراءة الكتاب على ما قَالَ تَعَالَى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً [الْإِسْرَاءِ: 13] وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ السَّاعَةُ هِيَ السَّاعَةَ الَّتِي يُسَاقُ فِيهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِوَصْفَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى يَعْنِي إِذَا رَأَى أَعْمَالَهُ مُدَوَّنَةً فِي كِتَابِهِ تَذَكَّرَهَا، وَكَانَ قَدْ نَسِيَهَا، كَقَوْلِهِ: أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [الْمُجَادَلَةِ: 6] . الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِمَنْ يَرى أَيْ أَنَّهَا تَظْهَرُ إِظْهَارًا مَكْشُوفًا لِكُلِّ نَاظِرٍ ذِي بَصَرٍ ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ فِي كَوْنِهِ مُنْكَشِفًا ظَاهِرًا كَقَوْلِهِمْ: تَبَيَّنَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ «1» . وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لَا يَجِبُ أَنْ يَرَاهُ كُلُّ أَحَدٍ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهَا بُرِّزَتْ لِيَرَاهَا كُلُّ مَنْ لَهُ عَيْنٌ وَبَصَرٌ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ كُلَّ النَّاسِ يَرَوْنَهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، إِلَّا أَنَّهَا مَكَانُ الْكُفَّارِ وَمَأْوَاهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُتَأَكِّدٌ بقوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مَرْيَمَ: 71، 72] فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [الشعراء: 90، 91] فخص الغاوين بتبريرها لَهُمْ، قُلْنَا: إِنَّهَا بُرِّزَتْ لِلْغَاوِينَ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَهَا أَيْضًا فِي الْمَمَرِّ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.

_ (1) هذا شطر بيت حرف لفظه وبقي معناه وصوابه: قد وضح الصبح لذي عينين.

[سورة النازعات (79) : الآيات 37 إلى 39]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَبُو نَهِيكٍ وَبَرَزَتْ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لِمَنْ رَأَى، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: لِمَنْ تَرَى، وَالضَّمِيرُ لِلْجَحِيمِ، كَقَوْلِهِ: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [الْفُرْقَانِ: 12] وَقِيلَ: لِمَنْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُؤْذُونَكَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ حَالَ الْقِيَامَةِ فِي الْجُمْلَةِ قَسَّمَ الْمُكَلَّفِينَ قِسْمَيْنِ: الْأَشْقِيَاءُ وَالسُّعَدَاءُ، فَذَكَرَ حَالَ الأشقياء. فقال تعالى: [سورة النازعات (79) : الآيات 37 الى 39] فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي جَوَابِ قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى [النازعات: 34] وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّهُ مَحْذُوفٌ عَلَى تَقْدِيرِ إِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ دَخَلَ أَهْلُ النَّارِ النار، وأهل الجنة الجنة، ودلى عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ، مَا ذُكِرَ فِي بَيَانِ مَأْوَى الْفَرِيقَيْنِ، وَلِهَذَا كَانَ يَقُولُ مَالِكُ بْنُ معول فِي تَفْسِيرِ الطَّامَّةِ الْكُبْرَى، قَالَ: إِنَّهَا إِذَا سَبَقَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ وَالثَّانِي: أَنَّ جَوَابَهُ قَوْلُهُ: فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى وَكَأَنَّهُ جَزَاءٌ مُرَكَّبٌ عَلَى شَرْطَيْنِ نَظِيرُهُ إِذَا جَاءَ الْغَدُ، فَمَنْ جَاءَنِي سَائِلًا أَعْطَيْتُهُ، كَذَا هَاهُنَا أَيْ إِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى فَمَنْ جَاءَ طَاغِيًا فَإِنَّ الْجَحِيمَ مَأْوَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا النَّضْرُ وَأَبُوهُ الْحَارِثُ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عِنْدَ صُدُورِ بَعْضِ الْمُنْكِرَاتِ مِنْهُ فَجَيِّدٌ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ تَخْصِيصُهَا بِهِ، فَبَعِيدٌ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، لَا سِيَّمَا إِذَا عُرِفَ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الْمُوجِبَ لِذَلِكَ الْحُكْمِ هُوَ الْوَصْفُ الْمَذْكُورُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قوله صغى، إِشَارَةٌ إِلَى فَسَادِ حَالِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ عَرَفَ حَقَارَةَ نَفْسِهِ، وَعَرَفَ اسْتِيلَاءَ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ طُغْيَانٌ وَتَكَبُّرٌ، وَقَوْلُهُ: وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا إِشَارَةٌ إِلَى فَسَادِ حَالِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ» وَمَتَى كَانَ الْإِنْسَانُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ مَوْصُوفًا بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، كَانَ بَالِغًا فِي الْفَسَادِ إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ، وَهُوَ الْكَافِرُ الَّذِي يَكُونُ عِقَابُهُ مُخَلَّدًا، وَتَخْصِيصُهُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ الَّذِي لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، لَا تَكُونُ الْجَحِيمُ مَأْوًى لَهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى لَهُ، ثُمَّ حُذِفَتِ الصِّلَةُ لِوُضُوحِ الْمَعْنَى كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ غُضَّ الطَّرْفَ أَيْ غُضَّ طَرْفَكَ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، اللَّائِقُ بِمَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ والأخلاق. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ السُّعَدَاءِ فَقَالَ تَعَالَى: [سورة النازعات (79) : الآيات 40 الى 41] وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)

[سورة النازعات (79) : الآيات 42 إلى 44]

واعلم أن هذين الوصفين مضادات لِلْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفَ اللَّهُ أَهْلَ النَّارِ بِهِمَا فَقَوْلُهُ: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ ضِدُّ قوله: فَأَمَّا مَنْ طَغى [النازعات: 17] وقوله: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ضد ققوله: وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا [النازعات: 38] وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَوْفَ مِنَ اللَّهِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالْعِلْمِ بِاللَّهِ عَلَى مَا قَالَ: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: 28] وَلَمَّا كَانَ الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ هُوَ السَّبَبَ الْمُعِينَ لِدَفْعِ الْهَوَى، لَا جَرَمَ قَدَّمَ العلة على المعلول، وَكَمَا دَخَلَ فِي ذَيْنِكَ الصِّفَتَيْنِ جَمِيعُ الْقَبَائِحِ دَخَلَ/ فِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ وَالْحَسَنَاتِ، وَقِيلَ: الْآيَتَانِ نَزَلَتَا فِي أَبِي عَزِيزِ بْنِ عُمَيْرٍ وَمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَقَدْ قَتَلَ مُصْعَبٌ أَخَاهُ أَبَا عَزِيزٍ يَوْمَ أُحُدٍ، وَوَقَى رَسُولَ اللَّهِ بِنَفْسِهِ حَتَّى نَفَذَتِ الْمَشَاقِصُ فِي جَوْفِهِ. [سورة النازعات (79) : الآيات 42 الى 44] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ إِمْكَانَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ وُقُوعِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَحْوَالَهَا الْعَامَّةَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَحْوَالَ الْأَشْقِيَاءِ والسعداء فيها، قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَسْمَعُونَ إِثْبَاتَ «1» الْقِيَامَةِ، وَوَصْفَهَا بِالْأَوْصَافِ الْهَائِلَةِ، مِثْلُ أَنَّهَا طَامَّةٌ وَصَاخَّةٌ وَقَارِعَةٌ، فَقَالُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ: أَيَّانَ مُرْساها فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِيهَامِ لِأَتْبَاعِهِمْ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَ الرَّسُولَ عَنْ وَقْتِ الْقِيَامَةِ اسْتِعْجَالًا، كَقَوْلِهِ: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها [الشُّورَى: 18] ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: مُرْساها قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: مَتَى إِرْسَاؤُهَا، أَيْ إِقَامَتُهَا أَرَادُوا مَتَى يُقِيمُهَا اللَّهُ وَيُوجِدُهَا وَيُكَوِّنُهَا وَالثَّانِي: أَيَّانَ مُنْتَهَاهَا وَمُسْتَقَرُّهَا، كَمَا أَنَّ مَرْسَى السَّفِينَةِ مُسْتَقَرُّهَا حَيْثُ تَنْتَهِي إِلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ فِي أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ عَنْ تَذَكُّرِ وَقْتِهَا لَهُمْ، وَتَبَيُّنِ ذَلِكَ الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ لَهُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: إِذَا سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ شَيْءٍ لَا يَلِيقُ بِهِ مَا أَنْتَ وَهَذَا، وَأَيُّ شَيْءٍ لَكَ فِي هَذَا، وَعَنْ عَائِشَةَ «لَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ السَّاعَةَ وَيَسْأَلُ عَنْهَا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ» فَهُوَ عَلَى هَذَا تَعْجِيبٌ مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِهِ لَهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: فِي أَيِّ شُغُلٍ وَاهْتِمَامٍ أَنْتَ مِنْ ذِكْرِهَا وَالسُّؤَالِ عَنْهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا، فَلِحِرْصِكَ عَلَى جَوَابِهِمْ لَا تَزَالُ تَذْكُرُهَا وَتَسْأَلُ عَنْهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أَيْ مُنْتَهَى عِلْمِهَا لَمْ يُؤْتِهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: فِيمَ إِنْكَارٌ لِسُؤَالِهِمْ، أَيْ فِيمَ هَذَا السُّؤَالُ، ثُمَّ قِيلَ: أَنْتَ مِنْ ذِكْراها أَيْ أرسلك «2» وأنت خاتم الأنبياء وآخر الرسل ذاكرا مِنْ أَنْوَاعِ عَلَامَاتِهَا، وَوَاحِدًا مِنْ أَقْسَامِ أَشْرَاطِهَا، فَكَفَاهُمْ بِذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى دُنُوِّهَا وَوُجُوبِ الِاسْتِعْدَادِ لها، ولا فائدة في سؤالهم عنها.

_ (1) لعل (إثبات) محرفة عن (أنباء) بمعنى أخبار. (2) لعل (أرسلك) محرفة عن (إرسالك) .

[سورة النازعات (79) : آية 45]

ثم قال تعالى: [سورة النازعات (79) : آية 45] إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّكَ إِنَّمَا بُعِثْتَ لِلْإِنْذَارِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِكَ/ بِوَقْتِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ، بَلْ لَوْ أَنْصَفْنَا لَقُلْنَا: بِأَنَّ الْإِنْذَارَ وَالتَّخْوِيفَ إِنَّمَا يَتِمَّانِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعِلْمُ بِوَقْتِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ حَاصِلًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُنْذِرٌ لِلْكُلِّ إِلَّا أَنَّهُ خُصَّ بِمَنْ يَخْشَى، لِأَنَّهُ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ الْإِنْذَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ مُنْذِرٌ بِالتَّنْوِينِ وَهُوَ الْأَصْلُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: مُفْعِلٌ وَفَاعِلٌ إِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَا يُسْتَقْبَلُ أَوْ لِلْحَالِ يُنَوَّنُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ بَدَلًا مِنَ الْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا نَكِرَةً وَيَجُوزُ حَذْفُ التَّنْوِينِ لِأَجْلِ التَّخْفِيفِ وَكِلَاهُمَا يَصْلُحُ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، فَإِذَا أُرِيدَ الْمَاضِي فَلَا يَجُوزُ إِلَّا الإضافة كقوله هو منذر زيد أمس. ثم قال تعالى: [سورة النازعات (79) : آية 46] كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46) وَتَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ مَضَى ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ [الْأَحْقَافِ: 35] وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا أَنْكَرُوهُ سَيَرَوْنَهُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ أَبَدًا فِيهِ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ مَضَتْ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: أَوْ ضُحاها مَعْنَاهُ ضُحَى الْعَشِيَّةِ وَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَشِيَّةِ ضُحًى: قُلْنَا الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْهَاءُ وَالْأَلِفُ صِلَةٌ لِلْكَلَامِ يُرِيدُ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحًى وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ بِإِضَافَةِ الضُّحَى إِلَى الْعَشِيَّةِ إِضَافَتُهَا إِلَى يَوْمِ الْعَشِيَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَّا عَشِيَّةَ أَوْ ضُحَى يَوْمِهَا، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: آتِيكَ الْعَشِيَّةَ أَوْ غَدَاتَهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَثَالِثُهَا: أَنَّ النَّحْوِيِّينَ قَالُوا يَكْفِي فِي حُسْنِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، فَالضُّحَى الْمُتَقَدِّمُ عَلَى عَشِيَّةٍ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ ضُحَى تِلْكَ الْعَشِيَّةِ، وَزَمَانُ الْمِحْنَةِ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعَشِيَّةِ وَزَمَانُ الرَّاحَةِ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالضُّحَى، فَالَّذِينَ يُحْضَرُونَ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ يُعَبِّرُونَ عَنْ زَمَانِ مِحْنَتِهِمْ بِالْعَشِيَّةِ وَعَنْ زَمَانِ رَاحَتِهِمْ بِضُحَى تِلْكَ الْعَشِيَّةِ فَيَقُولُونَ: كَأَنَّ عُمْرَنَا فِي الدُّنْيَا مَا كَانَ إِلَّا هَاتَيْنِ السَّاعَتَيْنِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة عبس

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة عبس وهي أربعون وآيتان مكية [سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ - وَأُمُّ مَكْتُومٍ أُمُّ أَبِيهِ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُرَيْحِ بْنِ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ الْفِهْرِيُّ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ- وَعِنْدَهُ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، رَجَاءَ أَنْ يُسْلِمَ بِإِسْلَامِهِمْ غَيْرُهُمْ، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرِئْنِي وَعَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطْعَهُ لِكَلَامِهِ، وَعَبَسَ وَأَعْرَضَ عَنْهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْرِمُهُ، وَيَقُولُ: إِذَا رَآهُ «مَرْحَبًا بِمَنْ عَاتَبَنِي فِيهِ رَبِّي» وَيَقُولُ: هَلْ لَكَ مِنْ حَاجَةٍ، وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ مَرَّتَيْنِ، وَفِي الْمَوْضِعِ سُؤَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ يَسْتَحِقُّ التَّأْدِيبَ وَالزَّجْرَ، فَكَيْفَ عَاتَبَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى أَنْ أَدَّبَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ وَزَجَرَهُ؟ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ كَانَ يَسْتَحِقُّ التَّأْدِيبَ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لِفَقْدِ بَصَرِهِ لَا يَرَى الْقَوْمَ، لَكِنَّهُ لِصِحَّةِ سَمْعِهِ كَانَ يَسْمَعُ مُخَاطَبَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ، وَكَانَ يَسْمَعُ أَصْوَاتَهُمْ أَيْضًا، وَكَانَ يَعْرِفُ بِوَاسِطَةِ اسْتِمَاعِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ شِدَّةَ اهْتِمَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَأْنِهِمْ، فَكَانَ إِقْدَامُهُ عَلَى قَطْعِ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلْقَاءِ غَرَضِ نَفْسِهِ فِي الْبَيْنِ قَبْلَ تَمَامِ غَرَضِ النَّبِيِّ إِيذَاءً لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ مَعْصِيَةٌ عَظِيمَةٌ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَهَمَّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُهِمِّ، وَهُوَ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَتَعَلَّمَ، مَا كَانَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، أَمَّا أُولَئِكَ الْكُفَّارُ فَمَا كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا، وَهُوَ إِسْلَامُهُمْ سَبَبًا لِإِسْلَامِ جَمْعٍ عَظِيمٍ، فَإِلْقَاءُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، ذَلِكَ الْكَلَامَ فِي الْبَيْنِ كَالسَّبَبِ فِي قَطْعِ ذَلِكَ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ، لِغَرَضٍ قَلِيلٍ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الْحُجُرَاتِ: 4] فَنَهَاهُمْ عَنْ مجرد النداء إلا في الوقت، فههنا هَذَا النِّدَاءُ الَّذِي صَارَ كَالصَّارِفِ لِلْكُفَّارِ عَنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ وَكَالْقَاطِعِ/ عَلَى الرَّسُولِ أَعْظَمَ مُهِمَّاتِهِ، أَوْلَى أَنْ يَكُونَ ذَنْبًا وَمَعْصِيَةً، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ ذَنْبًا وَمَعْصِيَةً، وَأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ الرَّسُولُ كَانَ هُوَ الْوَاجِبُ، وَعِنْدَ هَذَا يَتَوَجَّهُ السُّؤَالُ فِي أَنَّهُ كَيْفَ عَاتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ الفعل؟.

[سورة عبس (80) : الآيات 3 إلى 4]

السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَاتَبَهُ عَلَى مُجَرَّدِ أَنَّهُ عَبَسَ فِي وَجْهِهِ، كَانَ تَعْظِيمًا عَظِيمًا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِمِثْلِ هَذَا التَّعْظِيمِ أَنْ يَذْكُرَهُ بِاسْمِ الْأَعْمَى مَعَ أَنَّ ذِكْرَ الْإِنْسَانِ بِهَذَا الْوَصْفِ يَقْتَضِي تَحْقِيرَ شَأْنِهِ جِدًّا؟. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مَأْذُونًا فِي أَنْ يُعَامِلَ أَصْحَابَهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَثِيرًا مَا كَانَ يُؤَدِّبُ أَصْحَابَهُ وَيَزْجُرُهُمْ عَنْ أَشْيَاءَ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا بُعِثَ لِيُؤَدِّبَهُمْ وَلِيُعَلِّمَهُمْ مَحَاسِنَ الْآدَابِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ التَّعْبِيسُ دَاخِلًا فِي إِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ فِي تَأْدِيبِ أَصْحَابِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَأْذُونًا فِيهِ، فَكَيْفَ وَقَعَتِ الْمُعَاتَبَةُ عَلَيْهِ؟ فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَ الْوَاقِعَةِ يُوهِمُ تَقْدِيمَ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَانْكِسَارَ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ حَصَلَتِ الْمُعَاتَبَةُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ [الأنعام: 52] ، والوجه الثَّانِي: لَعَلَّ هَذَا الْعِتَابَ لَمْ يَقَعْ عَلَى مَا صَدَرَ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْفِعْلِ الظَّاهِرِ، بَلْ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فِي قَلْبِهِ، وَهُوَ أَنَّ قَلْبَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ قَدْ مَالَ إِلَيْهِمْ بِسَبَبِ قَرَابَتِهِمْ وَشَرَفِهِمْ وَعُلُوِّ مَنْصِبِهِمْ، وَكَانَ يَنْفِرُ طَبْعُهُ عَنِ الْأَعْمَى بِسَبَبِ عَمَاهُ وَعَدَمِ قَرَابَتِهِ وَقِلَّةِ شَرَفِهِ، فَلَمَّا وَقَعَ التَّعْبِيسُ وَالتَّوَلِّي لِهَذِهِ الدَّاعِيَةِ وَقَعَتِ الْمُعَاتَبَةُ، لَا عَلَى التَّأْدِيبِ بَلْ عَلَى التَّأْدِيبِ لِأَجْلِ هَذِهِ الدَّاعِيَةِ وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي أَنَّ ذِكْرَهُ بِلَفْظِ الْأَعْمَى لَيْسَ لِتَحْقِيرِ شَأْنِهِ، بَلْ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ بِسَبَبِ عَمَاهُ اسْتَحَقَّ مَزِيدَ الرِّفْقِ وَالرَّأْفَةِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِكَ يَا مُحَمَّدُ أَنْ تَخُصَّهُ بِالْغِلْظَةِ وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ أَنَّهُ كَانَ مَأْذُونًا فِي تَأْدِيبِ أَصْحَابِهِ لَكِنْ هَاهُنَا لَمَّا أُوهِمَ تَقْدِيمُ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُوهِمُ تَرْجِيحَ الدُّنْيَا عَلَى الدِّينِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ جَاءَتْ هَذِهِ الْمُعَاتَبَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَائِلُونَ بِصُدُورِ الذَّنْبِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: لَمَّا عَاتَبَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ كَانَ مَعْصِيَةً، وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ هُوَ الْوَاجِبُ الْمُتَعَيَّنُ لَا بِحَسَبِ هَذَا الِاعْتِبَارِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُوهِمُ تَقْدِيمَ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَذَلِكَ غَيْرُ لَائِقٍ بِصَلَابَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، كَانَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى تَرْكِ الِاحْتِيَاطِ، وَتَرْكِ الْأَفْضَلِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ذَنْبًا الْبَتَّةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الَّذِي عَبَسَ وَتَوَلَّى، هُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَجْمَعُوا [عَلَى] أَنَّ الْأَعْمَى هُوَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَقُرِئَ عَبَّسَ بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ وَنَحْوُهُ كَلَّحَ فِي/ كَلَحَ، أَنْ جَاءَهُ مَنْصُوبٌ بِتَوَلَّى أَوْ بِعَبَسَ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ فِي إِعْمَالِ الْأَقْرَبِ أَوِ الْأَبْعَدِ وَمَعْنَاهُ عَبَسَ، لِأَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَأَعْرَضَ لِذَلِكَ، وَقُرِئَ أَنْ جَاءَهُ بِهَمْزَتَيْنِ، وَبِأَلِفٍ بَيْنَهُمَا وُقِفَ عَلَى عَبَسَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ابْتُدِأَ عَلَى مَعْنَى أَلِأَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْإِخْبَارِ عَمَّا فَرَطَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ثُمَّ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِالْخِطَابِ دَلِيلٌ عَلَى زِيَادَةِ الْإِنْكَارِ، كَمَنْ يَشْكُو إِلَى النَّاسِ جَانِيًا جَنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى الْجَانِي إِذَا حَمِيَ فِي الشِّكَايَةِ مُوَاجِهًا بِالتَّوْبِيخِ وَإِلْزَامِ الْحُجَّةِ. [سورة عبس (80) : الآيات 3 الى 4] وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)

[سورة عبس (80) : آية 5]

فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَيُّ شَيْءٍ يَجْعَلُكَ دَارِيًا بِحَالِ هَذَا الْأَعْمَى لَعَلَّهُ يَتَطَهَّرُ بِمَا يَتَلَقَّنُ مِنْكَ، مِنَ الْجَهْلِ أَوِ الْإِثْمِ، أَوْ يَتَّعِظُ فَتَنْفَعَهُ ذِكْرَاكَ أَيْ مَوْعِظَتُكَ، فَتَكُونَ لَهُ لُطْفًا فِي بَعْضِ الطَّاعَاتِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَعَلَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ الَّذِي يَتَلَقَّفُهُ عَنْكَ يُطَهِّرُهُ عَنْ بَعْضِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَهُوَ الْجَهْلُ وَالْمَعْصِيَةُ، أَوْ يَشْغَلُهُ ببعض ما ينبغي وهو الطاعة أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَعَلَّهُ لِلْكَافِرِ، بِمَعْنَى أَنْتَ طَمِعْتَ فِي أَنْ يَزَّكَّى الْكَافِرُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ يَذَّكَّرَ فَتُقَرِّبَهُ الذِّكْرَى إِلَى قَبُولِ الْحَقِّ: وَما يُدْرِيكَ أَنَّ مَا طَمِعْتَ فِيهِ كَائِنٌ، وَقُرِئَ فَتَنْفَعُهُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى يَذَّكَّرُ، وَبِالنَّصْبِ جَوَابًا لِلَعَلَّ، كَقَوْلِهِ: فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى [غَافِرٍ: 37] وقد مر. ثم قال: [سورة عبس (80) : آية 5] أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ عَنِ الْإِيمَانِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: اسْتَغْنَى عَنِ اللَّهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اسْتَغْنَى أَثْرَى وَهُوَ فَاسِدٌ هَاهُنَا، لِأَنَّ إِقْبَالَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَكُنْ لِثَرْوَتِهِمْ وَمَالِهِمْ حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَمَّا مَنْ أَثْرَى، فَأَنْتَ تُقْبِلُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ قَالَ: وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى [عبس: 8، 9] ولم يقل: وهو فقير عديم، وَمَنْ قَالَ: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى بِمَالِهِ فَهُوَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ اسْتَغْنَى عَنِ الْإِيمَانِ والقرآن، بماله من المال. وقوله تعالى: [سورة عبس (80) : آية 6] فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ أَنْتَ تُقْبِلُ عَلَيْهِ وَتَتَعَرَّضُ لَهُ وَتَمِيلُ إِلَيْهِ، يُقَالُ تَصَدَّى فُلَانٌ لِفُلَانٍ، يَتَصَدَّى إِذَا تَعَرَّضَ لَهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ تَصَدَّدَ يَتَصَدَّى مِنَ الصَّدَدِ، وَهُوَ مَا اسْتَقْبَلَكَ وَصَارَ قُبَالَتَكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِثْلَ هَذَا فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الْأَنْفَالِ: 35] وَقُرِئَ: (تَصَّدَّى) بِالتَّشْدِيدِ بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الصَّادِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: تُصْدِي، بِضَمِّ التَّاءِ، أَيْ تُعْرِضُ، وَمَعْنَاهُ يَدْعُوكَ دَاعٍ إِلَى التَّصَدِّي لَهُ مِنَ الْحِرْصِ، وَالتَّهَالُكِ عَلَى إِسْلَامِهِ. ثُمَّ قَالَ تعالى: [سورة عبس (80) : آية 7] وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) الْمَعْنَى لَا شَيْءَ عَلَيْكَ فِي أَنْ لَا يُسْلِمَ مَنْ تَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ، أَيْ لَا يَبْلُغَنَّ بِكَ الْحِرْصُ عَلَى إِسْلَامِهِمْ إِلَى أَنْ تُعْرِضَ عَمَّنْ أَسْلَمَ لِلِاشْتِغَالِ بِدَعْوَتِهِمْ. / ثم قال: [سورة عبس (80) : الآيات 8 الى 9] وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) أَنْ يُسْرِعَ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ، كَقَوْلِهِ: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الْجُمُعَةِ: 9] . وَقَوْلُهُ: وَهُوَ يَخْشى فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ يَخْشَى اللَّهَ وَيَخَافُهُ فِي أَنْ لَا يَهْتَمَّ بِأَدَاءِ تَكَالِيفِهِ، أَوْ يَخْشَى الْكُفَّارَ وَأَذَاهُمْ فِي إِتْيَانِكَ، أَوْ يَخْشَى الْكَبْوَةَ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْمَى، وَمَا كَانَ لَهُ قَائِدٌ. [ثم قال] : [سورة عبس (80) : آية 10] فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) أَيْ تَتَشَاغَلُ مِنْ لَهِيَ عَنِ الشَّيْءِ وَالْتَهَى وَتَلَهَّى، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ. تَتَلَهَّى، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ تَلَهَّى أَيْ يُلْهِيكَ شَأْنُ الصَّنَادِيدِ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ... فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَانَ فِيهِ اخْتِصَاصًا، قُلْنَا نَعَمْ،

[سورة عبس (80) : آية 11]

وَمَعْنَاهُ إِنْكَارُ التَّصَدِّي وَالتَّلَهِّي عَنْهُ، أَيْ مِثْلُكَ، خُصُوصًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَصَدَّى لِلْغَنِيِّ، وَيَتَلَهَّى عن الفقير. [سورة عبس (80) : آية 11] كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) ثُمَّ قَالَ: كَلَّا وَهُوَ رَدْعٌ عَنِ الْمُعَاتَبِ عَلَيْهِ وَعَنْ مُعَاوَدَةِ مِثْلِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا تلا جبريل عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَاتِ عَادَ وَجْهُهُ، كَأَنَّمَا أُسِفَّ الرَّمَادَ فِيهِ يَنْتَظِرُ مَاذَا يَحْكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَالَ: كَلَّا سُرِّيَ مِنْهُ، أَيْ لَا تَفْعَلْ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَحْنُ أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى. ثُمَّ قَالَ: إِنَّها تَذْكِرَةٌ وَفِيهِ سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: إِنَّها ضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ، وَقَوْلُهُ: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ [عبس: 12] ضَمِيرُ الْمُذَكَّرِ، وَالضَّمِيرَانِ عَائِدَانِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَكَيْفَ الْقَوْلُ فِيهِ؟ الْجَوَابُ: وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّها ضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي هَذِهِ السُّورَةَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ عَائِدٌ إِلَى التَّذْكِرَةِ أَيْضًا، لِأَنَّ التَّذْكِرَةَ فِي مَعْنَى الذِّكْرِ وَالْوَعْظِ الثَّانِي: قال صاحب «النظم» : إِنَّها تَذْكِرَةٌ يعني به الْقُرْآنَ وَالْقُرْآنُ مُذَكَّرٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْقُرْآنَ تَذْكِرَةً أَخْرَجَهُ عَلَى لَفْظِ التَّذْكِرَةِ، وَلَوْ ذَكَرَهُ لَجَازَ كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ «1» [المدثر: 54] وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّها تَذْكِرَةٌ الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ قَوْلُهُ: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ اتِّصَالُ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا؟ الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: كَأَنَّهُ قِيلَ: هَذَا التَّأْدِيبُ الَّذِي أَوْحَيْتُهُ إِلَيْكَ وَعَرَّفْتُهُ لَكَ فِي إِجْلَالِ الْفُقَرَاءِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَهْلِ الدُّنْيَا أُثْبِتَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ الَّذِي قَدْ وُكِّلَ بِحِفْظِهِ أَكَابِرُ الْمَلَائِكَةِ الثَّانِي: كَأَنَّهُ قِيلَ: هَذَا الْقُرْآنُ قَدْ بَلَغَ فِي الْعَظَمَةِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ الْعَظِيمِ، فَأَيُّ حَاجَةٍ بِهِ إِلَى أَنْ يَقْبَلَهُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ، فَسَوَاءٌ قَبِلُوهُ أَوْ لَمْ يَقْبَلُوهُ فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ وَلَا تَشْغَلْ قَلْبَكَ بِهِمْ، وَإِيَّاكَ وَأَنْ تُعْرِضَ عَمَّنْ آمَنَ بِهِ تطييبا لقلب أرباب الدنيا. [سورة عبس (80) : الآيات 12 الى 14] فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ تِلْكَ التَّذْكِرَةَ بِأَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أَيْ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ بَيِّنَةٌ ظَاهِرَةٌ بِحَيْثُ لَوْ أَرَادُوا فَهْمَهَا وَالِاتِّعَاظَ بِهَا وَالْعَمَلَ بِمُوجِبِهَا لَقَدَرُوا عَلَيْهِ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ أَيْ تِلْكَ التَّذْكِرَةُ مُعَدَّةٌ «2» فِي هَذِهِ الصُّحُفِ الْمُكَرَّمَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ تَعْظِيمُ حَالِ الْقُرْآنِ وَالتَّنْوِيهُ بِذِكْرِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ التَّذْكِرَةَ مُثْبَتَةٌ فِي صُحُفٍ، وَالْمُرَادُ مِنَ الصُّحُفِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا صُحُفٌ مُنْتَسَخَةٌ مِنَ اللَّوْحِ مُكَرَّمَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَرْفُوعَةٌ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ أَوْ مَرْفُوعَةُ الْمِقْدَارِ مطهر عَنْ أَيْدِي الشَّيَاطِينِ، أَوِ الْمُرَادُ مُطَهَّرَةٌ بِسَبَبِ أَنَّهَا لَا يَمَسُّهَا إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ. ثم قال تعالى:

_ (1) في الأصل (كلا إنها) وحينئذ فلا معنى للاستشهاد بها. (2) في الأصل (موعدة) وهو تحريف واضح ولعل ما ذكرته الصواب ويحتمل أن يكون موجودة.

[سورة عبس (80) : الآيات 15 إلى 16]

[سورة عبس (80) : الآيات 15 الى 16] بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْمَلَائِكَةَ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الصِّفَاتِ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُمْ سَفَرَةٌ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ: هُمُ الْكَتَبَةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: السَّفَرَةُ الْكَتَبَةُ وَاحِدُهَا سَافِرٌ مِثْلُ كَتَبَةٌ وَكَاتِبٌ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْكَتَبَةِ: سَفَرَةٌ وَلِلْكَاتِبِ سَافِرٌ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ الَّذِي يُبَيِّنُ الشَّيْءَ وَيُوَضِّحُهُ يُقَالُ: سَفَرَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا كَشَفَتْ عَنْ وَجْهِهَا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ أَنَّ السَّفَرَةَ هَاهُنَا هُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَسْفَرُونَ بِالْوَحْيِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ رُسُلِهِ، وَاحِدُهَا سَافِرٌ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: سَفَرْتُ بَيْنَ الْقَوْمِ إِذَا أَصْلَحْتُ بَيْنَهُمْ، فَجُعِلَتِ الْمَلَائِكَةُ إِذَا نَزَلَتْ بِوَحْيِ اللَّهِ وَتَأْدِيَتِهِ، كَالسَّفِيرِ الَّذِي يُصْلَحُ بِهِ بَيْنَ الْقَوْمِ، وَأَنْشَدُوا: وَمَا أَدَعُ السِّفَارَةَ بَيْنَ قَوْمِي ... وَمَا أَمْشِي بِغِشٍّ إِنْ مَشَيْتُ وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ السِّفَارَةِ مِنَ الْكَشْفِ، وَالْكَاتِبُ إِنَّمَا يُسَمَّى سَافِرًا لِأَنَّهُ يَكْشِفُ، وَالسَّفِيرُ إِنَّمَا سُمِّيَ سَفِيرًا أَيْضًا لِأَنَّهُ يَكْشِفُ، وَهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةُ لَمَّا كَانُوا وَسَائِطَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْبَشَرِ فِي الْبَيَانِ وَالْهِدَايَةِ وَالْعِلْمِ، لَا جَرَمَ سُمُّوا سَفَرَةً. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: لِهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ: أَنَّهُمْ كِرَامٌ قَالَ مُقَاتِلٌ: كِرَامٌ عَلَى رَبِّهِمْ، وَقَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ أَنَّهُمْ يَتَكَرَّمُونَ أَنْ يَكُونُوا مَعَ ابْنِ آدَمَ إِذَا خَلَا مَعَ زَوْجَتِهِ لِلْجِمَاعِ وعند قضاء الحاجة. الصفة الثالثة: أَنَّهُمْ: بَرَرَةٍ قَالَ مُقَاتِلٌ: مُطِيعِينَ، وَبَرَرَةٌ جَمْعُ بار، قال الْفَرَّاءُ: لَا يَقُولُونَ فَعَلَةٌ لِلْجَمْعِ إِلَّا وَالْوَاحِدُ مِنْهُ فَاعِلٌ مِثْلُ كَافِرٌ وَكَفَرَةٌ، وَفَاجِرٌ وَفَجَرَةٌ الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الصُّحُفِ: أَنَّهَا هِيَ صُحُفُ الْأَنْبِيَاءِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى [الْأَعْلَى: 18] يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ التَّذْكِرَةَ مُثْبَتَةٌ فِي صُحُفِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالسَّفَرَةُ الْكِرَامُ الْبَرَرَةُ هُمْ أَصْحَابِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ هُمُ الْقُرَّاءُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ يَقْتَضِي أَنَّ طَهَارَةَ تِلْكَ الصُّحُفِ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِأَيْدِي هَؤُلَاءِ السَّفَرَةِ، فَقَالَ الْقَفَّالُ فِي تَقْرِيرِهِ: لَمَّا كَانَ لَا يَمَسُّهَا إِلَّا الْمَلَائِكَةُ الْمُطَهَّرُونَ أُضِيفَ التَّطْهِيرُ إِلَيْهَا لطهارة من يمسها. قوله تعالى: [سورة عبس (80) : آية 17] قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَدَأَ بِذِكْرِ الْقِصَّةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى تَرَفُّعِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ عَلَى فقراء المسلمين، عجب عباده المؤمنين مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَيُّ سَبَبٍ فِي هَذَا الْعَجَبِ وَالتَّرَفُّعِ مَعَ أَنَّ أَوَّلَهُ نُطْفَةٌ

[سورة عبس (80) : آية 18]

قذوة وَآخِرَهُ جِيفَةٌ مَذِرَةٌ، وَفِيهَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ حَمَّالُ عَذِرَةٍ، فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَاجًا لِعَجَبِهِمْ، وَمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَاجًا لِكُفْرِهِمْ، فَإِنَّ خِلْقَةَ الْإِنْسَانِ تَصْلُحُ لِأَنْ يُسْتَدُلَّ بِهَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَلِأَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى الْقَوْلِ بِالْبَعْثِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الَّذِينَ أَقْبَلَ الرَّسُولُ عَلَيْهِمْ وَتَرَكَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ بِسَبَبِهِمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ ذَمُّ كُلِّ غَنِيٍّ تَرَفَّعَ عَلَى فَقِيرٍ بِسَبَبِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّهُمْ لِتَرَفُّعِهُمْ فَوَجَبَ أَنْ يَعُمَّ الْحُكْمُ بِسَبَبِ عُمُومِ الْعِلَّةِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى زَيَّفَ طَرِيقَتَهُمْ بِسَبَبِ حَقَارَةِ حَالِ الْإِنْسَانِ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ عَلَى مَا قَالَ: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ ... ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس: 19- 21] وَعُمُومُ هَذَا الزَّجْرِ يَقْتَضِي عُمُومَ الْحُكْمِ وَثَالِثُهَا: وَهُوَ أَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَكْثَرُ فَائِدَةً، وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لَهُ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُتِلَ الْإِنْسانُ دُعَاءٌ عَلَيْهِ وَهِيَ مِنْ أَشْنَعِ دَعَوَاتِهِمْ، لِأَنَّ الْقَتْلَ غَايَةُ شَدَائِدِ الدُّنْيَا وَمَا أَكْفَرَهُ تَعَجُّبٌ مِنْ إِفْرَاطِهِ فِي كُفْرَانِ نِعْمَةِ اللَّهِ، فَقَوْلُهُ: قُتِلَ الْإِنْسانُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ، وَقَوْلُهُ: مَا أَكْفَرَهُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنْوَاعِ الْقَبَائِحِ وَالْمُنْكَرَاتِ، فَإِنْ قِيلَ الدُّعَاءُ عَلَى الْإِنْسَانِ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْعَاجِزِ وَالْقَادِرُ عَلَى الْكُلِّ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ ذَاكَ؟ وَالتَّعَجُّبُ أَيْضًا إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْجَاهِلِ بِسَبَبِ الشَّيْءِ، فَالْعَالِمُ بِالْكُلِّ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ ذَاكَ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ عَلَى أُسْلُوبِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَتَحْقِيقُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْقَبَائِحِ، وَاعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ مُحْدَثٍ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ أَوَّلَهُ وَوَسَطَهُ وَآخِرَهُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الثَّلَاثَةَ لِلْإِنْسَانِ. أَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: فَهِيَ قَوْلُهُ: [سورة عبس (80) : آية 18] مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ وَغَرَضُهُ زيادة التقرير في التحقير. [سورة عبس (80) : آية 19] مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ الِاسْتِفْهَامِ بِقَوْلِهِ: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ النُّطْفَةَ شَيْءٌ حَقِيرٌ مَهِينٌ/ وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ كَانَ أَصْلُهُ [مِنْ] مِثْلِ هَذَا الشَّيْءِ الْحَقِيرِ، فَالنَّكِيرُ وَالتَّجَبُّرُ لَا يَكُونُ لَائِقًا بِهِ. ثُمَّ قَالَ: فَقَدَّرَهُ وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: قَدَّرَهُ أَطْوَارًا نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً إِلَى آخِرِ خَلْقِهِ وَذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَسَعِيدًا أَوْ شَقِيًّا وَثَانِيهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى قَدَّرَهُ عَلَى الِاسْتِوَاءِ كَمَا قَالَ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الْكَهْفِ: 37] ، وَثَالِثُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَقَدَّرَ كُلَّ عُضْوٍ فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ بِالْقَدْرِ اللَّائِقِ بِمَصْلَحَتِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الْفُرْقَانِ: 2] . وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ فَهِيَ قوله تعالى: [سورة عبس (80) : آية 20] ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نُصِبَ السَّبِيلَ بِإِضْمَارِ يَسَّرَهُ، وَفَسَّرَهُ بِيَسَّرَهُ.

[سورة عبس (80) : الآيات 21 إلى 22]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِهِ أَقْوَالًا أَحَدُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ تَسْهِيلُ خُرُوجِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، قَالُوا: إِنَّهُ كَانَ رَأْسُ الْمَوْلُودِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِنْ فَوْقُ وَرِجْلَاهُ مِنْ تَحْتُ، فَإِذَا جَاءَ وَقْتُ الْخُرُوجِ انْقَلَبَ، فَمَنِ الَّذِي أَعْطَاهُ ذَلِكَ الْإِلْهَامَ إِلَّا اللَّهُ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ أَنَّ خُرُوجَهُ حَيًّا مِنْ ذَلِكَ الْمَنْفَذِ الضَّيِّقِ مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَائِبِ وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [الْبَلَدِ: 10] فَهُوَ يَتَنَاوَلُ التَّمْيِيزَ بَيْنَ كُلِّ خَيْرٍ وَشَرٍّ يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَبَيْنَ كُلِّ خَيْرٍ وَشَرٍّ يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ أَيْ جَعَلْنَاهُ مُتَمَكِّنًا مِنْ سُلُوكِ سَبِيلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالتَّيْسِيرُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِقْدَارُ وَالتَّعْرِيفُ وَالْعَقْلُ وَبَعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْزَالُ الْكُتُبِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا مَخْصُوصٌ بِأَمْرِ الدِّينِ، لِأَنَّ لَفْظَ السَّبِيلِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَحْوَالُ الدُّنْيَا [لَا] أُمُورٌ تَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ. وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الأخيرة، فهي قوله تعالى: [سورة عبس (80) : الآيات 21 الى 22] ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ الثَّالِثَةَ مُشْتَمِلَةٌ أَيْضًا عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ، الْإِمَاتَةُ، وَالْإِقْبَارُ، وَالْإِنْشَارُ، أَمَّا الْإِمَاتَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا مَنَافِعَهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا هِيَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ حَالِ التَّكْلِيفِ وَالْمُجَازَاةِ، وَأَمَّا الْإِقْبَارُ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: جَعَلَهُ اللَّهُ مَقْبُورًا وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِمَّنْ يُلْقَى لِلطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ، لِأَنَّ الْقَبْرَ مِمَّا أُكْرِمَ بِهِ الْمُسْلِمَ «1» قَالَ: وَلَمْ يَقُلْ فَقَبَرَهُ، لِأَنَّ الْقَابِرَ هُوَ الدَّافِنُ بِيَدِهِ، وَالْمُقْبِرُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، يُقَالُ قَبَرَ الْمَيِّتَ إِذَا دَفَنَهُ وَأَقْبَرَ الْمَيِّتَ، إِذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ فِي الْقَبْرِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: بَتَرْتُ ذَنَبَ الْبَعِيرِ، وَاللَّهُ أَبْتَرَهُ وَعَضَبْتُ قَرْنَ الثَّوْرِ، وَاللَّهُ أَعْضَبَهُ، وَطَرَدْتُ فُلَانًا عَنِّي، وَاللَّهُ أَطْرَدَهُ. أَيْ صَيَّرَهُ طَرِيدًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِحْيَاءُ [وَ] الْبَعْثُ، وَإِنَّمَا قَالَ: إِذَا شَاءَ إِشْعَارًا بِأَنَّ وَقْتَهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا، فَتَقْدِيمُهُ وَتَأْخِيرُهُ مَوْكُولٌ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا سَائِرُ الْأَحْوَالِ/ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ أَوْقَاتُهَا من بعض الوجوه، إذا الْمَوْتُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْإِنْسَانُ وَقْتَهُ فَفِي الْجُمْلَةِ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ فِيهِ إِلَّا حدا معلوما. [سورة عبس (80) : آية 23] كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: كَلَّا رَدْعٌ لِلْإِنْسَانِ عَنْ تَكَبُّرِهِ وَتَرَفُّعِهِ، أَوْ عَنْ كُفْرِهِ وَإِصْرَارِهِ عَلَى إِنْكَارِ التَّوْحِيدِ، وَعَلَى إِنْكَارِهِ الْبَعْثَ وَالْحَشْرَ وَالنَّشْرَ، وَفِي قَوْلِهِ: لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ لَا يَقْضِي أَحَدٌ جَمِيعَ مَا كَانَ مَفْرُوضًا عَلَيْهِ أَبَدًا، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ تَقْصِيرٍ الْبَتَّةَ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَمَّا يَقْضِ الضَّمِيرُ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ السَّابِقِ، وَهُوَ الْإِنْسَانُ فِي قَوْلِهِ: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس: 17] وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِنْسَانِ هَاهُنَا جَمِيعَ النَّاسِ بَلِ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ فَقَوْلُهُ: لَمَّا يَقْضِ كَيْفَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ الْمُتَرَفِّعَ الْمُتَكَبِّرَ لَمْ يَقْضِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ تَرْكِ التَّكَبُّرِ، إذ المعنى أن ذلك الإنسان الكافر لما يَقْضِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ التَّأَمُّلِ فِي دَلَائِلِ اللَّهِ، وَالتَّدَبُّرِ فِي عَجَائِبِ خَلْقِهِ وَبَيِّنَاتِ حِكْمَتِهِ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ: كَلَّا لَمْ يَقْضِ اللَّهُ لِهَذَا الْكَافِرِ ما أمره به من الإيمان وترك التكبر،

_ (1) الأولى أن يقال: (ربما أكرم به الإنسان) لأن الإقبار ليس خاصا بالمسلم بل هو عام يشمل المسلم والكافر. لا سيما والإنسان المتحدث عنه في صدر الآية المراد به الكافر فقط.

[سورة عبس (80) : آية 24]

بَلْ أَمَرَهُ بِمَا لَمْ يَقْضِ لَهُ بِهِ. وأعم أَنَّ عَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى جَارِيَةٌ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ كُلَّمَا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْأَنْفُسِ، فَإِنَّهُ يَذْكُرُ عَقِيبَهَا الدَّلَائِلَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْآفَاقِ فَجَرَى هَاهُنَا عَلَى تِلْكَ الْعَادَةِ وَذَكَرَ دَلَائِلَ الْآفَاقِ وَبَدَأَ بِمَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَيْهِ. فَقَالَ: [سورة عبس (80) : آية 24] فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) الَّذِي يَعِيشُ بِهِ كَيْفَ دَبَّرْنَا أَمْرَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَوْضِعُ الاعتبار، فإن الطعام الذي يتناول الْإِنْسَانُ لَهُ حَالَتَانِ إِحْدَاهُمَا: مُتَقَدِّمَةٌ وَهِيَ الْأُمُورُ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا حَتَّى يَدْخُلَ ذَلِكَ الطَّعَامُ فِي الْوُجُودِ وَالثَّانِيَةُ: مُتَأَخِّرَةٌ، وَهِيَ الْأُمُورُ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِذَلِكَ الطَّعَامِ الْمَأْكُولِ، وَلَمَّا كَانَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ أَظْهَرَ لِلْحُسْنِ «1» وَأَبْعَدَ عَنِ الشُّبْهَةِ، لَا جَرَمَ اكْتَفَى اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِهِ، لِأَنَّ دَلَائِلَ الْقُرْآنِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بِهَا كُلُّ الْخَلْقِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ أَبْعَدَ عَنِ اللَّبْسِ وَالشُّبْهَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ النَّبْتَ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنَ الْقَطْرِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ الْوَاقِعِ فِي الْأَرْضِ، فَالسَّمَاءُ كَالذَّكَرِ، وَالْأَرْضُ كَالْأُنْثَى فَذُكِرَ في بيان نزل القطر. قوله: [سورة عبس (80) : آية 25] أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: صَبَبْنَا الْمُرَادُ مِنْهُ الْغَيْثُ، ثُمَّ انْظُرْ فِي أَنَّهُ كَيْفَ حَدَثَ الْغَيْثُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الْمِيَاهِ الْعَظِيمَةِ، وَكَيْفَ بَقِيَ مُعَلَّقًا فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَعَ غَايَةِ ثِقَلِهِ، وَتَأَمَّلْ فِي أَسْبَابِهِ الْقَرِيبَةِ وَالْبَعِيدَةِ، حَتَّى يَلُوحَ لَكَ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ نُورِ اللَّهِ وَعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفِي تَدْبِيرِ خِلْقَةِ هَذَا الْعَالَمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ (إِنَّا) بِالْكَسْرِ، وَهُوَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَأَنَّا بِالْفَتْحِ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الطَّعَامِ وَالتَّقْدِيرُ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى أَنَّا كَيْفَ صَبَبْنَا الْمَاءَ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ إِنَّا كَانَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلنَّظَرِ إِلَى طَعَامِهِ كَمَا أن قوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ [الأنفال: 74] تَفْسِيرٌ لِلْوَعْدِ، وَمَنْ فَتَحَ فَعَلَى مَعْنَى الْبَدَلِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَشْتَمِلُ عَلَى كون الطعام وحدوثه، فهو كقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ [الْبَقَرَةِ: 217] وَقَوْلُهُ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ [البروج: 4، 5] . قوله تعالى: [سورة عبس (80) : آية 26] ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) وَالْمُرَادُ شَقُّ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى ثَمَانِيَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ النَّبَاتِ: أَوَّلُهَا: الْحَبُّ: وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: [سورة عبس (80) : آية 27] فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَهُوَ كُلُّ مَا حُصِدَ مِنْ نَحْوِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذلك لأنه كالأصل في الأغذية. [سورة عبس (80) : آية 28] وَعِنَباً وَقَضْباً (28)

_ (1) في الأصل (أظهر للجنس) ولعل ما ذكرته هو الصواب ولا سيما إذا قورن بما يأتي في السطر التالي.

[سورة عبس (80) : آية 29]

وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِنَباً وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بَعْدَ الْحَبِّ لِأَنَّهُ غِذَاءٌ مِنْ وَجْهٍ وَفَاكِهَةٌ مِنْ وَجْهٍ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضْباً وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الرُّطَبَةُ وَهِيَ الَّتِي إِذَا يَبِسَتْ سُمِّيَتْ بِالْقَتِّ، وَأَهْلُ مَكَّةَ يُسَمُّونَهَا بِالْقَضْبِ وَأَصْلُهُ مِنَ الْقَطْعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقْضَبُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَكَذَلِكَ الْقَضِيبُ لِأَنَّهُ يُقْضَبُ أَيْ يُقْطَعُ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضِّحَاكِ. وَمُقَاتِلٍ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيِّ. وَالثَّانِي: قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْقَضْبُ هُوَ الْعَلَفُ بِعَيْنِهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ أَنَّهُ يُقْضَبُ أَيْ يُقْطَعُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَالرَّابِعُ والخامس: قوله تعالى: [سورة عبس (80) : آية 29] وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَمَنَافِعُهُمَا قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي هَذَا الكتاب. وسادسها: قوله تعالى: [سورة عبس (80) : آية 30] وَحَدائِقَ غُلْباً (30) الْأَصْلُ فِي الْوَصْفِ بِالْغُلْبِ الرِّقَابُ فَالْغُلْبُ الْغِلَاظُ الْأَعْنَاقُ الْوَاحِدُ أَغْلَبُ يُقَالُ أَسَدٌ أَغْلَبُ، ثُمَّ هَاهُنَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَصْفَ كُلِّ حَدِيقَةٍ بِأَنَّ أَشْجَارَهَا مُتَكَاثِفَةٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلٍ قَالَا: الْغُلْبُ الملتفة الشجر بعضه في بَعْضٍ، يُقَالُ اغْلَوْلَبَ الْعُشْبُ وَاغْلَوْلَبَتِ الْأَرْضُ إِذَا الْتَفَّ عُشْبُهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَصْفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَشْجَارِ بِالْغِلَظِ وَالْعِظَمِ، قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الشَّجَرَ الْعِظَامَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْغُلْبُ مَا غَلُظَ مِنَ النَّخْلِ. [سورة عبس (80) : الآيات 31 الى 32] وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَفاكِهَةً وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْفَاكِهَةَ مَعْطُوفَةً عَلَى الْعِنَبِ وَالزَّيْتُونِ وَالنَّخْلِ وَجَبَ أَنْ لَا تَدْخُلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي الْفَاكِهَةِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ جِهَةِ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَبًّا وَالْأَبُّ هُوَ الْمَرْعَى، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لِأَنَّهُ يُؤَبُّ أَيْ يُؤَمُّ وَيُنْتَجَعُ، وَالْأَبُّ وَالْأَمُّ أَخَوَانِ قَالَ الشَّاعِرُ: جِذْمُنَا قَيْسٌ وَنَجْدٌ دَارُنَا ... لَنَا الْأَبُّ بِهِ وَالْمَكْرَعُ وقيل الأب الفاكهة اليابسة لأنها تؤدب لِلشِّتَاءِ أَيْ تُعَدُّ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَغْتَذِي بِهِ النَّاسُ وَالْحَيَوَانُ. قَالَ: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: خَلَقْنَاهُ مَنْفَعَةً وَمُتْعَةً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَنْصُوبٌ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ: فَأَنْبَتْنا لِأَنَّ إِنْبَاتَهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِمْتَاعٌ لِجَمِيعِ الْحَيَوَانِ.

[سورة عبس (80) : آية 33]

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا أُمُورًا ثَلَاثَةً: أَوَّلُهَا: الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّوْحِيدِ وَثَانِيهَا: الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى القدرة على المعادو ثالثها: أَنَّ هَذَا الْإِلَهَ الَّذِي أَحْسَنَ إِلَى عَبِيدِهِ بِهَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الْإِحْسَانِ، لَا يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَتَمَرَّدَ عَنْ طَاعَتِهِ وَأَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَى عَبِيدِهِ أَتْبَعَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بِمَا يَكُونُ مُؤَكِّدًا لِهَذِهِ الْأَغْرَاضِ وَهُوَ شَرْحُ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا سَمِعَهَا خَافَ فَيَدْعُوهُ ذَلِكَ الْخَوْفُ إِلَى التَّأَمُّلِ فِي الدَّلَائِلِ وَالْإِيمَانِ بِهَا وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْكُفْرِ، وَيَدْعُوهُ ذَلِكَ أَيْضًا إِلَى تَرْكِ التَّكَبُّرِ عَلَى النَّاسِ، وَإِلَى إِظْهَارِ التَّوَاضُعِ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ الْقِيَامَةَ: فقال: [سورة عبس (80) : آية 33] فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ يَعْنِي صَيْحَةَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُ الصَّخِّ فِي اللُّغَةِ الطَّعْنُ وَالصَّكُّ، يُقَالُ صَخَّ رَأْسَهُ بِحَجَرٍ أَيْ شَدَخَهُ وَالْغُرَابُ يَصُخُّ بِمِنْقَارِهِ فِي دُبُرِ الْبَعِيرِ أَيْ يَطْعَنُ، فَمَعْنَى الصَّاخَّةِ الصَّاكَّةِ بِشِدَّةِ صَوْتِهَا لِلْآذَانِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَجْهًا آخَرَ فَقَالَ: يُقَالُ صَخَّ لِحَدِيثِهِ مِثْلُ أَصَاخَ لَهُ، فَوُصِفَتِ النَّفْخَةُ بِالصَّاخَّةِ مَجَازًا لِأَنَّ النَّاسَ يَصِخُّونَ لَهَا أَيْ يَسْتَمِعُونَ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَوْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: [سورة عبس (80) : الآيات 34 الى 36] يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْفِرَارِ مَا يُشْعِرُ بِهِ ظَاهَرُهُ وَهُوَ التَّبَاعُدُ وَالِاحْتِرَازُ وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ الْفِرَارِ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّبِعَاتِ. يَقُولُ الْأَخُ: مَا وَاسَيْتَنِي بِمَالِكَ، وَالْأَبَوَانِ يَقُولَانِ قَصَّرْتَ فِي بِرِّنَا، وَالصَّاحِبَةُ تَقُولُ أَطْعَمْتَنِي الْحَرَامَ، وَفَعَلْتَ وَصَنَعْتَ، وَالْبَنُونَ يَقُولُونَ: مَا عَلَّمْتَنَا وَمَا أَرْشَدْتَنَا، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ يَفِرُّ مِنْ أَخِيهِ هَابِيلُ، وَمِنْ أَبَوَيْهِ إِبْرَاهِيمُ، وَمِنْ صَاحَبَتِهِ نُوحٌ وَلُوطٌ، وَمِنِ ابْنِهِ نُوحٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْفِرَارِ لَيْسَ هُوَ التَّبَاعُدُ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ مُوَالَاةِ أَخِيهِ لِاهْتِمَامِهِ بِشَأْنِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [الْبَقَرَةِ: 166] وَأَمَّا الْفِرَارُ مِنْ نُصْرَتِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً [الدُّخَانِ: 41] وَأَمَّا تَرْكُ السُّؤَالِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [الْمَعَارِجِ: 10] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِينَ كَانَ الْمَرْءُ فِي دَارِ الدُّنْيَا يَفِرُّ إِلَيْهِمْ وَيَسْتَجِيرُ بِهِمْ، فَإِنَّهُ يَفِرُّ مِنْهُمْ فِي دَارِ الْآخِرَةِ، ذَكَرُوا فِي فَائِدَةِ التَّرْتِيبِ كَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ بَلْ مِنْ أَبَوَيْهِ فَإِنَّهُمَا أَقْرَبُ مِنَ الْأَخَوَيْنِ بَلْ مِنَ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ، لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِهِمَا أشد من تعلقه بالأبوين. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْفِرَارَ أتبعه بذكر سببه فقال تعالى: [سورة عبس (80) : آية 37] لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)

[سورة عبس (80) : الآيات 38 إلى 39]

وَفِي قَوْلِهِ: يُغْنِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُغْنِيهِ أَيْ يَصْرِفُهُ وَيَصُدُّهُ عَنْ قَرَابَتِهِ وَأَنْشَدَ: سَيُغْنِيكَ حَرْبُ بَنِي مَالِكٍ ... عَنِ الْفُحْشِ وَالْجَهْلِ فِي الْمَحْفِلِ أَيْ سَيَشْغَلُكَ، وَيُقَالُ أَغْنِ عَنِّي وَجْهَكَ أَيِ اصْرِفْهُ الثَّانِي: قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: يُغْنِيهِ أَيْ ذَلِكَ الْهَمُّ الَّذِي بِسَبَبِ خَاصَّةِ نَفْسِهِ قَدْ مَلَأَ صَدْرَهُ، فَلَمْ يَبْقَ فيه متسع لهم آخر، فصارت شَبِيهًا بِالْغَنِيِّ فِي أَنَّهُ حَصَلَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَمْلُوكِ شَيْءٌ كَثِيرٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي الْهَوْلِ، بَيَّنَ أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُمُ السُّعَدَاءُ، وَمِنْهُمُ الْأَشْقِيَاءُ فَوَصَفَ السُّعَدَاءَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: [سورة عبس (80) : الآيات 38 الى 39] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) مُسْفِرَةٌ مُضِيئَةٌ مُتَهَلِّلَةٌ، مِنْ أَسْفَرَ الصُّبْحُ إِذَا أَضَاءَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ لِمَا رُوِيَ مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ، حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ، مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، وَقِيلَ: مِنْ طُولِ مَا اغْبَرَّتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ بِسَبَبِ الْخَلَاصِ مِنْ عَلَائِقِ الدُّنْيَا وَالِاتِّصَالِ بِعَالَمِ الْقُدْسِ وَمَنَازِلِ الرِّضْوَانِ وَالرَّحْمَةِ ضَاحِكَةٌ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي بِالْفَرَاغِ مِنَ الْحِسَابِ مُسْتَبْشِرَةٌ فَرِحَةٌ بِمَا نَالَتْ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: مُسْفِرَةٌ إِشَارَةٌ إِلَى الْخَلَاصِ عَنْ هَذَا الْعَالَمِ وَتَبِعَاتِهِ/ وَأَمَّا الضَّاحِكَةُ وَالْمُسْتَبْشِرَةُ، فَهُمَا مَحْمُولَتَانِ عَلَى الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، أَوْ عَلَى وجدان المنفعة ووجدان التعظيم. [سورة عبس (80) : الآيات 40 الى 42] وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْغَبَرَةُ مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْغُبَارِ، وَقَوْلُهُ: تَرْهَقُها أَيْ تُدْرِكُهَا عَنْ قُرْبٍ، كَقَوْلِكَ رَهِقْتُ الْجَبَلَ إِذَا لَحِقْتُهُ بِسُرْعَةٍ، وَالرَّهَقُ عَجَلَةُ الْهَلَاكِ، وَالْقَتَرَةُ سَوَادٌ كَالدُّخَانِ، وَلَا يُرَى أَوْحَشُ مِنَ اجْتِمَاعِ الْغَبَرَةِ وَالسَّوَادِ فِي الْوَجْهِ، كَمَا تَرَى وُجُوهَ الزُّنُوجِ إِذَا اغْبَرَّتْ، وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَمَعَ فِي وُجُوهِهِمْ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْغَبَرَةِ، كَمَا جَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْفُجُورِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرْجِئَةَ وَالْخَوَارِجَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، أَمَّا الْمُرْجِئَةُ فَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ قِسْمَانِ: أَهْلُ الثَّوَابِ، وَأَهْلُ الْعِقَابِ، وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ أَهِلَ الْعِقَابِ هُمُ الْكَفَرَةُ، وَثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْفُسَّاقَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ لَيْسُوا بِكَفَرَةٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْكَفَرَةِ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ لَيْسَ لَهُ عِقَابٌ، وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: دَلَّتْ سَائِرُ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ يُعَاقَبُ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ يُعَاقَبُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ، فَيَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ مُذْنِبٍ فَإِنَّهُ كَافِرٌ وَالْجَوَابُ: أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْمَذْكُورَ هَاهُنَا هُوَ هَذَا الْفَرِيقَانِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْفَرِيقِ الثَّالِثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ محمد النبي وآله وصحبه أجمعين.

سورة التكوير

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة التكوير عشرون وتسع آيات مكية [سورة التكوير (81) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ اثْنَيْ عَشَرَ شَيْئًا، وَقَالَ: إِذَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فَهُنَالِكَ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التَّكْوِيرِ: 14] فَالْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَفِي التَّكْوِيرِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: التَّلْفِيفُ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِدَارَةِ كَتَكْوِيرِ الْعِمَامَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ «نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ» أَيْ مِنَ التَّشَتُّتِ بَعْدَ الْأُلْفَةِ وَالطَّيُّ وَاللَّفُّ، وَالْكَوْرُ وَالتَّكْوِيرُ وَاحِدٌ، وَسُمِّيَتْ كَارَةُ الْقَصَّارِ كَارَةً لِأَنَّهُ يَجْمَعُ ثِيَابَهُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ إِنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يُلَفُّ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَصِيرُ مُخْتَفِيًا عَنِ الْأَعْيُنِ، فَعَبَّرَ عَنْ إِزَالَةِ النُّورِ عَنْ جِرْمِ الشَّمْسِ وَتَصْيِيرهَا غَائِبَةً عَنِ الْأَعْيُنِ بِالتَّكْوِيرِ، فَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: كُوِّرَتْ أَيْ طُمِسَتْ، وَقَالَ آخَرُونَ: انْكَسَفَتْ، وَقَالَ الْحَسَنُ: مُحِيَ ضَوْؤُهَا وَقَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ: كُوِّرَتْ أَيْ ذَهَبَ ضَوْؤُهَا، كَأَنَّهَا اسْتَتَرَتْ فِي كَارَةٍ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّكْوِيرِ يُقَالُ: كَوَّرْتُ الْحَائِطَ وَدَهْوَرْتُهُ إِذَا طَرَحْتَهُ حَتَّى يَسْقُطَ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ طَعَنَهُ فَكَوَّرَهُ إِذَا صَرَعَهُ، فَقَوْلُهُ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ أَيْ أُلْقِيَتْ وَرُمِيَتْ عَنِ الْفَلَكِ وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: يُرْوَى عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ لَفْظَةٌ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْفَارِسِيَّةِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْأَعْمَى كُورٌ، وَهَاهُنَا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: ارْتِفَاعُ الشَّمْسِ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَوِ الْفَاعِلِيَّةِ الْجَوَابُ: بَلْ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ رَافِعُهَا فِعْلٌ مُضْمَرٌ، يُفَسِّرُهُ كُوِّرَتْ لِأَنَّ إِذَا، يُطْلَبُ الْفِعْلُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ جَلَسَ بِالْبَصْرَةِ إِلَى أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَحَدَّثَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ثَوْرَانِ مُكَوَّرَانِ فِي النَّارِ يوم القيامة، فقال الْحَسَنُ، وَمَا ذَنْبُهُمَا؟ قَالَ: إِنِّي أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ» فَسَكَتَ الْحَسَنُ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ سُؤَالَ الْحَسَنِ سَاقِطٌ، لِأَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ جَمَادَانِ فَإِلْقَاؤُهُمَا فِي النَّارِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِمَضَرَّتِهِمَا، وَلَعَلَّ ذَلِكَ يَصِيرُ سَبَبًا لِازْدِيَادِ الْحَرِّ فِي جَهَنَّمَ، فَلَا يَكُونُ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى خِلَافِ الْعَقْلِ «1» / الثاني: قوله تعالى: [سورة التكوير (81) : آية 2] وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) أَيْ تَنَاثَرَتْ وَتَسَاقَطَتْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ [الِانْفِطَارِ: 2] وَالْأَصْلُ فِي الِانْكِدَارِ الِانْصِبَابُ، قَالَ الْخَلِيلُ: يُقَالُ انْكَدَرَ عَلَيْهِمُ الْقَوْمُ إِذَا جَاءُوا أَرْسَالًا فَانْصَبُّوا عَلَيْهِمْ، قال الكلبي: تمطر السماء

_ (1) لعل الصواب: فيكون هذا الخبر على خلاف العقل. [.....]

[سورة التكوير (81) : آية 3]

يَوْمَئِذٍ نُجُومًا فَلَا يَبْقَى نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ إِلَّا وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، قَالَ عَطَاءٌ: وَذَلِكَ أَنَّهَا فِي قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِسَلَاسِلَ مِنَ النُّورِ، وَتِلْكَ السَّلَاسِلُ فِي أَيْدِي الْمَلَائِكَةِ، فَإِذَا مَاتَ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ تَسَاقَطَتْ تِلْكَ السَّلَاسِلُ مِنْ أَيْدِي الْمَلَائِكَةِ. الثالث: قوله تعالى: [سورة التكوير (81) : آية 3] وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) أَيْ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ كَقَوْلِهِ: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً [النَّبَإِ: 20] أَوْ فِي الْهَوَاءِ كَقَوْلِهِ: تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النَّمْلِ: 88] . الرابع: قوله: [سورة التكوير (81) : آية 4] وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) فِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: المشهور أن الْعِشارُ جميع عُشَرَاءَ كَالنِّفَاسِ فِي جَمْعِ نُفَسَاءَ، وَهِيَ الَّتِي أَتَى عَلَى حَمْلِهَا عَشْرَةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ هُوَ اسْمُهَا إِلَى أَنْ تَضَعَ لِتَمَامِ السَّنَّةِ، وَهِيَ أَنْفَسُ مَا يَكُونُ عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَعَزُّهَا عَلَيْهِمْ، وعُطِّلَتْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَهْمَلَهَا أَهْلُهَا لِمَا جَاءَهُمْ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى الْعَرَبِ مِنَ النُّوقِ الْحَوَامِلِ، وَخُوطِبَ الْعَرَبُ بِأَمْرِ الْعِشَارِ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَالِهَا وَعَيْشِهَا مِنَ الْإِبِلِ. وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ ذَهَابُ الْأَمْوَالِ وَبُطْلَانُ الْأَمْلَاكِ، وَاشْتِغَالُ النَّاسِ بِأَنْفُسِهِمْ كَمَا قَالَ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشُّعَرَاءِ: 88، 89] وَقَالَ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الْأَنْعَامِ: 94] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْعِشَارَ كِنَايَةٌ عَنِ السَّحَابِ تَعَطَّلَتْ عَمَّا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَجَازًا إِلَّا أَنَّهُ أَشْبَهُ بِسَائِرِ مَا قَبْلَهُ، وَأَيْضًا فَالْعَرَبُ تُشَبِّهُ السَّحَابَ بِالْحَامِلِ، قَالَ تَعَالَى: فَالْحامِلاتِ وِقْراً [الذَّارِيَاتِ: 2] . الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: [سورة التكوير (81) : آية 5] وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) كُلُّ شَيْءٍ مِنْ دَوَابِّ الْبَرِّ مِمَّا لَا يُسْتَأْنَسُ فَهُوَ وَحْشٌ، وَالْجَمْعُ الوحوش، وحُشِرَتْ جُمِعَتْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، قَالَ قَتَادَةُ: يُحْشَرُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الذُّبَابُ لِلْقَصَّاصِ، قَالَ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْشُرُ الْحَيَوَانَاتِ كُلَّهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِيُعَوِّضَهَا عَلَى آلَامِهَا الَّتِي وَصَلَتْ إِلَيْهَا فِي الدُّنْيَا بِالْمَوْتِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا عُوِّضَتْ عَلَى تِلْكَ الْآلَامِ، فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُبْقِيَ بَعْضَهَا فِي الْجَنَّةِ إِذَا كَانَ مُسْتَحْسَنًا فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُفْنِيَهُ أَفْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ، وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ بِحُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يَحْشُرُ الْوُحُوشَ كُلَّهَا فَيَقْتَصُّ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهَا مُوتِي فَتَمُوتُ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ هَاهُنَا وُجُوهٌ أَحَدُهَا: / أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا كَانَ [يَوْمُ الْقِيَامَةِ] يَحْشُرُ كُلَّ الْحَيَوَانَاتِ إِظْهَارًا لِلْعَدْلِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ هَذَا أَنْ لَا يَحْشُرَ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ؟ الثَّانِي: أَنَّهَا تَجْتَمِعُ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ مَعَ شِدَّةِ نَفْرَتِهَا عَنِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَتَبَدُّدِهَا فِي الصَّحَارِي، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ اجْتِمَاعَهَا إِلَى النَّاسِ لَيْسَ إِلَّا مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ بَعْضُهَا غِذَاءٌ لِلْبَعْضِ، ثُمَّ إِنَّهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَجْتَمِعُ وَلَا يَتَعَرَّضُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِشِدَّةِ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ آخَرُ: لِابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ أَنَّ حَشْرَ الْوُحُوشِ عِبَارَةٌ عَنْ مَوْتِهَا، يُقَالُ- إِذَا أَجْحَفَتِ السَّنَةُ بِالنَّاسِ وَأَمْوَالِهِمْ-

[سورة التكوير (81) : آية 6]

حشرتهم السنة، وقرئ حشرت بالتشديد. السادس: قوله تعالى: [سورة التكوير (81) : آية 6] وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ مِنْ سَجَرْتُ التَّنُّورَ إِذَا أَوْقَدْتَهَا، وَالشَّيْءُ إِذَا وُقِدَ فِيهِ نَشَفَ مَا فِيهِ مِنَ الرُّطُوبَةِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى فِي الْبِحَارِ شَيْءٌ مِنَ الْمِيَاهِ الْبَتَّةَ، ثُمَّ إِنَّ الْجِبَالَ قَدْ سُيِّرَتْ عَلَى مَا قال: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ [النبأ: 20] وَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الْبِحَارُ وَالْأَرْضُ شَيْئًا وَاحِدًا فِي غَايَةِ الْحَرَارَةِ وَالْإِحْرَاقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ لَمَّا نَشَفَتْ مِيَاهُ الْبِحَارِ رَبَتْ فَارْتَفَعَتْ فَاسْتَوَتْ بِرُءُوسِ الْجِبَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْجِبَالَ لَمَّا انْدَكَّتْ وَتَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهَا وَصَارَتْ كَالتُّرَابِ وَقَعَ ذَلِكَ التُّرَابُ فِي أَسْفَلِ الْجِبَالِ، فَصَارَ وَجْهُ الْأَرْضِ مُسْتَوِيًا مَعَ الْبِحَارِ، وَيَصِيرُ الْكُلُّ بَحْرًا مَسْجُورًا وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ سُجِّرَتْ بِمَعْنَى فُجِّرَتْ وَذَلِكَ لِأَنَّ بَيْنَ الْبِحَارِ حَاجِزًا عَلَى مَا قَالَ: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ [الرَّحْمَنِ: 19، 20] فَإِذَا رَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ الْحَاجِزَ فَاضَ الْبَعْضُ فِي الْبَعْضِ، وَصَارَتِ الْبِحَارُ بَحْرًا وَاحِدًا، وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ: وَثَالِثُهَا: سُجِّرَتْ أُوقِدَتْ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ جَهَنَّمُ فِي قُعُورِ الْبِحَارِ، فَهِيَ الْآنَ غَيْرُ مَسْجُورَةٍ لِقِيَامِ الدُّنْيَا، فَإِذَا انْتَهَتْ مُدَّةُ الدُّنْيَا أَوْصَلَ اللَّهُ تَأْثِيرَ تِلْكَ النِّيرَانِ إِلَى الْبِحَارِ، فَصَارَتْ بِالْكُلِّيَّةِ مَسْجُورَةً بِسَبَبِ ذَلِكَ وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُلْقِي الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ فِي الْبِحَارِ، فَتَصِيرُ الْبِحَارُ مَسْجُورَةً بِسَبَبِ ذَلِكَ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْبِحَارِ نِيرَانًا عَظِيمَةً حَتَّى تَتَسَخَّنَ تِلْكَ الْمِيَاهُ، وَأَقُولُ هَذِهِ الْوُجُوهُ مُتَكَلَّفَةٌ لَا حَاجَةَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى تَخْرِيبِ الدُّنْيَا وَإِقَامَةِ الْقِيَامَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَفْعَلَ بِالْبِحَارِ مَا شَاءَ مِنْ تَسْخِينٍ، وَمِنْ قَلْبِ مِيَاهِهَا نِيرَانًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى أن يلقى فيها الشمس والقمر، أو يَكُونَ تَحْتَهَا نَارُ جَهَنَّمَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ السِّتَّ يُمْكِنُ وُقُوعُهَا فِي أَوَّلِ زَمَانِ تَخْرِيبِ الدُّنْيَا، وَيُمْكِنُ وُقُوعُهَا أَيْضًا بَعْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ، أَمَّا السِّتَّةُ الْبَاقِيَةُ فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بالقيامة. / السابع: قوله تعالى: [سورة التكوير (81) : آية 7] وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قُرِنَتِ الْأَرْوَاحُ بِالْأَجْسَادِ وَثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ: يَصِيرُونَ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَزْوَاجٍ كَمَا قَالَ: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الْوَاقِعَةِ: 7، 10] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ يُضَمُّ إِلَى كُلِّ صِنْفٍ مَنْ كَانَ فِي طَبَقَتِهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَيُضَمُّ الْمُبْرَزُ فِي الطَّاعَاتِ إِلَى مِثْلِهِ، وَالْمُتَوَسِّطُ إِلَى مِثْلِهِ وَأَهْلُ الْمَعْصِيَةِ إِلَى مِثْلِهِ، فَالتَّزْوِيجُ أَنْ يُقْرَنَ الشَّيْءُ بِمِثْلِهِ، وَالْمَعْنَى أَنْ يُضَمَّ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَبَقَتِهِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَرَابِعُهَا: يُضَمُّ كُلُّ رَجُلٍ إِلَى مَنْ كَانَ يَلْزَمُهُ مِنْ مَلِكٍ وَسُلْطَانٍ كَمَا قَالَ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصَّافَّاتِ: 22] قِيلَ فَزِدْنَاهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَخَامِسُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ زُوِّجَتْ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحُورِ الْعِينِ وَقُرِنَتْ نُفُوسُ الْكَافِرِينَ بِالشَّيَاطِينِ وَسَادِسُهَا: قُرِنَ كُلُّ امْرِئٍ بِشِيعَتِهِ الْيَهُودِيُّ بِالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيُّ بِالنَّصْرَانِيِّ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ خَبَرٌ مَرْفُوعٌ وَسَابِعُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: قُرِنَتِ النُّفُوسُ بِأَعْمَالِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ فِي الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَمْكَنَكَ أَنْ تَزِيدَ عَلَيْهَا مَا شئت.

[سورة التكوير (81) : الآيات 8 إلى 9]

الثامن: قوله تعالى: [سورة التكوير (81) : الآيات 8 الى 9] وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَأَدَ يَئِدُ مَقْلُوبٌ مِنْ آدَ يَئُودُ أودا ثقل قال تعالى: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما [الْبَقَرَةِ: 255] أَيْ يُثْقِلُهُ لِأَنَّهُ إِثْقَالٌ بِالتُّرَابِ كَانَ الرَّجُلُ إِذَا وُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ فَأَرَادَ بَقَاءَ حَيَاتِهَا أَلْبَسَهَا جُبَّةً مِنْ صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ لِتَرْعَى لَهُ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فِي الْبَادِيَةِ، وَإِنْ أَرَادَ قَتْلَهَا تَرَكَهَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ قَامَتُهَا سِتَّةَ أَشْبَارٍ فَيَقُولُ لِأُمِّهَا طَيِّبِيهَا وَزَيِّنِيهَا حَتَّى أَذْهَبَ بِهَا إِلَى أَقَارِبِهَا وَقَدْ حَفَرَ لَهَا بِئْرًا فِي الصَّحْرَاءِ فَيَبْلُغُ بِهَا إِلَى الْبِئْرِ فَيَقُولُ لَهَا انْظُرِي فِيهَا ثُمَّ يَدْفَعُهَا مِنْ خَلْفِهَا وَيُهِيلُ عَلَيْهَا التُّرَابَ حَتَّى يَسْتَوِيَ الْبِئْرُ بِالْأَرْضِ، وَقِيلَ: كَانَتِ الْحَامِلُ إِذَا قَرَّبَتْ حَفَرَتْ حُفْرَةً فَتَمَخَّضَتْ عَلَى رَأْسِ الْحُفْرَةِ فَإِذَا ولدت بنت رَمَتْهَا فِي الْحُفْرَةِ، وَإِذَا وَلَدَتِ ابْنًا أَمْسَكَتْهُ، وَهَاهُنَا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى وَأْدِ الْبَنَاتِ؟ الْجَوَابُ: الْخَوْفُ مِنْ لُحُوقِ الْعَارِ بِهِمْ مِنْ أَجْلِهِمْ أَوِ الْخَوْفُ مِنَ الْإِمْلَاقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاءِ: 31] وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ فَأَلْحَقُوا الْبَنَاتَ بِالْمَلَائِكَةِ، وَكَانَ صَعْصَعَةُ بْنُ نَاجِيَةَ مِمَّنْ مَنَعَ الْوَأْدَ فَافْتَخَرَ الْفَرَزْدَقُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَّا الَّذِي مَنَعَ الْوَائِدَاتِ ... فَأَحْيَا الْوَئِيدَ فَلَمْ تُوأَدِ السُّؤَالُ الثَّانِي: فَمَا معنى سؤال الموؤدة عَنْ ذَنْبِهَا الَّذِي قُتِلَتْ بِهِ، وَهَلَّا سُئِلَ الْوَائِدُ عَنْ مُوجِبِ قَتْلِهِ لَهَا؟ الْجَوَابُ: سُؤَالُهَا وَجَوَابُهَا تَبْكِيتٌ لِقَاتِلِهَا، وَهُوَ كَتَبْكِيتِ النَّصَارَى فِي قَوْلِهِ/ لِعِيسَى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [الْمَائِدَةِ: 116] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ سَأَلَتْ، أَيْ خَاصَمَتْ عَنْ نَفْسِهَا، وَسَأَلَتِ اللَّهَ أَوْ قَاتِلَهَا، وَقُرِئَ قُتِّلَتْ بِالتَّشْدِيدِ، فَإِنْ قِيلَ: اللَّفْظُ الْمُطَابِقُ أَنْ يُقَالَ: سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَمَنْ قَرَأَ سَأَلَتْ فَالْمُطَابِقُ أَنْ يَقْرَأَ: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ فَمَا الْوَجْهُ فِي الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَإِذَا الموؤودة سُئِلَتْ [أَيْ سُئِلَ] الْوَائِدُونَ عَنْ أَحْوَالِهَا بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُسْأَلُ عَنْ حَالِ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ بِلَفْظِ الْمُغَايَبَةِ، كَمَا إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَسْأَلَ زَيْدًا عَنْ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ، فَتَقُولُ: مَاذَا فَعَلَ زَيْدٌ في ذلك المعنى؟ ويكون زيد هو المسئول، وهو المسئول عنه، فكذا هاهنا. التاسع: قوله تعالى: [سورة التكوير (81) : آية 10] وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ يُرِيدُ صُحُفَ الْأَعْمَالِ تَطْوِي صَحِيفَةَ الْإِنْسَانِ عِنْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ تُنْشَرُ إِذَا حُوسِبَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ نُشِرَتْ بَيْنَ أَصْحَابِهَا، أَيْ فُرِّقَتْ بَيْنَهُمْ. الْعَاشِرُ: قوله تعالى: [سورة التكوير (81) : آية 11] وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11)

[سورة التكوير (81) : آية 12]

أَيْ كُشِفَتْ وَأُزِيلَتْ عَمَّا فَوْقَهَا، وَهُوَ الْجَنَّةُ وَعَرْشُ اللَّهِ، كَمَا يُكْشَطُ الْإِهَابُ عَنِ الذَّبِيحَةِ، وَالْغِطَاءُ عَنِ الشَّيْءِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: قُشِطَتْ، وَاعْتِقَابُ الْقَافِ وَالْكَافِ كَثِيرٌ، يُقَالُ لَبَّكْتُ الثَّرِيدَ وَلَبَّقْتُهُ، وَالْكَافُورُ وَالْقَافُورُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: نُزِعَتْ فَطُوِيَتْ. الحادي عشر: قوله تعالى: [سورة التكوير (81) : آية 12] وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) أُوقِدَتْ إِيقَادًا شَدِيدًا، وَقُرِئَ سُعِّرَتْ بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ، قِيلَ: سَعَّرَهَا غَضَبُ اللَّهِ، وَخَطَايَا بَنِي آدَمَ، وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَالَ: النَّارُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ الْآنَ، قَالُوا: لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَسْعِيرَهَا مُعَلَّقٌ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. الثاني عشر: قوله تعالى: [سورة التكوير (81) : آية 13] وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) أَيْ أُدْنِيَتْ مِنَ الْمُتَّقِينَ، كقوله: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ. وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمُورَ الِاثْنَيْ عَشَرَ ذَكَرَ الْجَزَاءَ الْمُرَتَّبَ عَلَى الشُّرُوطِ الَّذِي هو مجموع هذه الأشياء فقال: [سورة التكوير (81) : آية 14] عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَمَلَ لَا يُمْكِنُ إِحْضَارُهُ، فَالْمُرَادُ إِذَنْ مَا أَحْضَرَتْهُ فِي صَحَائِفِهَا، وَمَا أَحْضَرَتْهُ عِنْدَ الْمُحَاسَبَةِ، وَعِنْدَ الْمِيزَانِ مِنْ آثَارِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَالْمُرَادُ: مَا أَحْضَرَتْ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَإِنْ قِيلَ كُلُّ نَفْسٍ تَعْلَمُ مَا أَحْضَرَتْ، لِقَوْلِهِ/: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [آلِ عِمْرَانَ: 30] فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: عَلِمَتْ نَفْسٌ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا هُوَ مِنْ عَكْسِ كَلَامِهِمُ الَّذِي يَقْصِدُونَ بِهِ الْإِفْرَاطَ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِلْقَلِيلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْحِجْرِ: 2] كَمَنْ يَسْأَلُ فَاضِلًا مَسْأَلَةً ظَاهِرَةً وَيَقُولُ: هَلْ عِنْدَكَ فِيهَا شَيْءٌ؟ فَيَقُولُ: رُبَّمَا حَضَرَ شَيْءٌ وَغَرَضُهُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ عِنْدَهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مَا لَا يَقُولُ بِهِ غَيْرُهُ. فَكَذَا هَاهُنَا الثَّانِي: لَعَلَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُتْعِبُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَعْتَقِدُونَهَا طَاعَاتٍ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِلَافُ ذَلِكَ فهو المراد من هذه الآية. قوله تعالى: [سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 16] فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) الكلام في قوله: فَلا أُقْسِمُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ [القيامة: 1] ، وبِالْخُنَّسِ والْجَوارِ الْكُنَّسِ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ الظَّاهِرَةُ أَنَّهَا النُّجُومُ الْخُنَّسُ جَمْعُ خَانِسٍ، وَالْخُنُوسُ وَالِانْقِبَاضُ وَالِاسْتِخْفَاءُ تَقُولُ: خَنَسَ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ وَانْخَنَسَ، وَفِي الْحَدِيثِ «الشَّيْطَانُ يُوَسْوِسُ إِلَى الْعَبْدِ فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ» أَيِ انْقَبَضَ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الخناس والْكُنَّسِ جَمْعُ كَانِسٍ وَكَانِسَةٍ يُقَالُ: كَنَسَ إِذَا دَخَلَ الْكِنَاسَ وَهُوَ مَقَرُّ الْوَحْشِ يُقَالُ كَنَسَ الظِّبَاءُ فِي كُنُسِهَا، وَتَكَنَّسَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا دَخَلَتْ هَوْدَجَهَا تَشَبَّهُ بِالظَّبْيِ إِذَا دَخَلَ الْكِنَاسُ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي خُنُوسِ النُّجُومِ وَكُنُوسِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فَالْقَوْلُ الْأَظْهَرُ: أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى رُجُوعِ الكواكب الخمسة

[سورة التكوير (81) : آية 17]

السَّيَّارَةِ وَاسْتِقَامَتِهَا فَرُجُوعُهَا هُوَ الْخُنُوسُ وَكُنُوسُهَا اخْتِفَاؤُهَا تَحْتَ ضَوْءِ الشَّمْسِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ حَالَةٌ عَجِيبَةٌ وَفِيهَا أَسْرَارٌ عَظِيمَةٌ بَاهِرَةٌ الْقَوْلُ الثَّانِي: مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَطَاءٍ وَمُقَاتِلٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهَا هِيَ جَمِيعُ الْكَوَاكِبِ وَخُنُوسُهَا عِبَارَةٌ عَنْ غَيْبُوبَتِهَا عَنِ الْبَصَرِ فِي النَّهَارِ وَكُنُوسُهَا عِبَارَةٌ عَنْ ظُهُورِهَا لِلْبَصَرِ فِي اللَّيْلِ أَيْ تَظْهَرُ فِي أَمَاكِنِهَا كَالْوَحْشِ فِي كُنُسِهَا وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ السَّبْعَةَ السَّيَّارَةَ تَخْتَلِفُ مَطَالِعُهَا وَمَغَارِبُهَا عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [الْمَعَارِجِ: 40] وَلَا شَكَّ أَنَّ فِيهَا مَطْلَعًا وَاحِدًا وَمَغْرِبًا وَاحِدًا هُمَا أَقْرَبُ الْمَطَالِعِ والمغارب إلى سمت رؤوسنا، ثُمَّ إِنَّهَا تَأْخُذُ فِي التَّبَاعُدِ مِنْ ذَلِكَ الْمَطْلَعِ إِلَى سَائِرِ الْمَطَالِعِ طُولَ السَّنَةِ، ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَيْهِ فَخُنُوسُهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَبَاعُدِهَا عَنْ ذَلِكَ الْمَطْلَعِ، وَكُنُوسُهَا عِبَارَةٌ عَنْ عَوْدِهَا إِلَيْهِ، فَهَذَا مُحْتَمَلٌ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْقَسَمُ وَاقِعًا بِالْخَمْسَةِ الْمُتَحَيِّرَةِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَكُونُ الْقَسَمُ وَاقِعًا بِجَمِيعِ الْكَوَاكِبِ وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ يَكُونُ الْقَسَمُ وَاقِعًا بِالسَّبْعَةِ السَّيَّارَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّهَا بَقَرُ الْوَحْشِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ الظِّبَاءُ، وَعَلَى هَذَا الْخَنَسُ مِنَ الْخَنَسِ فِي الألف وَهُوَ تَقْعِيرٌ فِي الْأَنْفِ فَإِنَّ الْبَقَرَ وَالظِّبَاءَ أنوفها على هذه الصفة والْكُنَّسِ جَمْعُ كَانِسٍ وَهِيَ الَّتِي تَدْخُلُ الْكِنَاسَ وَالْقَوْلُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: / الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قال بعد ذلك: [سورة التكوير (81) : آية 17] وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَهَذَا بِالنُّجُومِ أَلْيَقُ مِنْهُ بِبَقَرِ الْوَحْشِ. الثَّانِي: أَنَّ مَحَلَّ قَسَمِ اللَّهِ كُلَّمَا كَانَ أَعْظَمَ وَأَعْلَى رُتْبَةً كَانَ أَوْلَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَوَاكِبَ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْ بَقَرِ الْوَحْشِ. الثَّالِثُ: أَنْ (الْخُنَّسِ) جَمْعُ خَانِسٍ مِنَ الْخُنُوسِ، وَأَمَّا جَمْعُ خَنْسَاءَ وَأَخْنَسَ مِنَ الْخَنَسِ خُنْسَ بِالسُّكُونِ وَالتَّخْفِيفِ، وَلَا يُقَالُ: الْخُنَّسُ فِيهِ بِالتَّشْدِيدِ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ الْخُنَّسَ فِي الْوَحْشِيَّةِ أَيْضًا مِنَ الْخُنُوسِ وَهُوَ اخْتِفَاؤُهَا فِي الْكِنَاسِ إِذَا غَابَتْ عَنِ الْأَعْيُنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ ذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ عَسْعَسَ مِنَ الْأَضْدَادِ، يُقَالُ: عَسْعَسَ اللَّيْلُ إِذَا أَقْبَلَ، وَعَسْعَسَ إِذَا أَدْبَرَ، وَأَنْشَدُوا فِي وُرُودِهَا بِمَعْنَى أَدْبَرَ قَوْلَ الْعَجَّاجِ: حَتَّى إِذَا الصُّبْحُ لَهَا تَنَفَّسَا ... وَانْجَابَ عَنْهَا لَيْلُهَا وَعَسْعَسَا وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي مَعْنَى أَقْبَلَ: مُدَرَّجَاتُ اللَّيْلِ لما عسعسا [سورة التكوير (81) : آية 18] وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ هَاهُنَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْقَسَمُ وَاقِعًا بِإِقْبَالِ اللَّيْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذا عَسْعَسَ وَبِإِدْبَارِهِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْمُرَادُ أَدْبَرَ وَقَوْلُهُ: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أَيِ امْتَدَّ ضَوْءُهُ وَتَكَامَلَ فقوله: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ [التكوير: 17] إِشَارَةٌ إِلَى أَوَّلِ طُلُوعِ الصُّبْحِ،

[سورة التكوير (81) : آية 19]

وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ [المدثر: 33، 34] وَقَوْلُهُ: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ إِشَارَةٌ إِلَى تَكَامُلِ طُلُوعِ الصُّبْحِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ تَكْرَارٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أَيْ إِذَا أسفر كقوله: وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ [المدثر: 34] ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ الْمَجَازِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا أَقْبَلَ الصُّبْحُ أَقْبَلَ بِإِقْبَالِهِ رَوْحٌ وَنَسِيمٌ، فَجَعَلَ ذَلِكَ نَفَسًا لَهُ عَلَى الْمَجَازِ، وَقِيلَ تَنَفَّسَ الصُّبْحُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ شَبَّهَ اللَّيْلَ الْمُظْلِمَ بِالْمَكْرُوبِ الْمَحْزُونِ الَّذِي جَلَسَ بِحَيْثُ لَا يَتَحَرَّكُ، وَاجْتَمَعَ الْحُزْنُ فِي قَلْبِهِ، فَإِذَا تَنَفَّسَ وَجَدَ راحة. فههنا لَمَّا طَلَعَ الصُّبْحُ فَكَأَنَّهُ تَخَلَّصَ مِنْ ذَلِكَ الْحُزْنِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالتَّنَفُّسِ وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ لَطِيفَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمُقْسَمَ بِهِ أتبعه بذكر المقسم عليه فقال: [سورة التكوير (81) : آية 19] إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ: فَإِنْ قِيلَ: هَاهُنَا إِشْكَالٌ قَوِيٌّ وَهُوَ أَنَّهُ حَلَفَ أَنَّهُ قَوْلُ جِبْرِيلَ، فَوَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ نَقْطَعْ بِوُجُوبِ حَمْلِ/ اللَّفْظِ عَلَى الظَّاهِرِ، فَلَا أَقَلَّ مِنَ الِاحْتِمَالِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ جِبْرِيلَ لَا كَلَامَ اللَّهِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ جِبْرِيلَ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُعْجِزًا، لِاحْتِمَالِ أَنَّ جِبْرِيلَ أَلْقَاهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيلِ الْإِضْلَالِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ جِبْرِيلَ مَعْصُومٌ لَا يَفْعَلُ الْإِضْلَالَ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِعِصْمَةِ جِبْرِيلَ، مُسْتَفَادٌ مِنْ صِدْقِ النَّبِيِّ، وَصِدْقَ النَّبِيِّ مُفَرَّعٌ عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا، وَكَوْنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا يَتَفَرَّعُ عَلَى عِصْمَةِ جِبْرِيلَ، فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ وَهُوَ مُحَالٌ وَالْجَوَابُ: الَّذِينَ قَالُوا: بِأَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا كَانَ مُعْجِزًا لِلصِّرْفَةِ، إِنَّمَا ذَهَبُوا إِلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ فِرَارًا مِنْ هَذَا السُّؤَالِ، لِأَنَّ الْإِعْجَازَ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ لَيْسَ فِي الْفَصَاحَةِ، بَلْ فِي سَلْبِ تِلْكَ الْعُلُومِ وَالدَّوَاعِي عَنِ الْقُلُوبِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الَّذِي أَخْبَرَكُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لَيْسَ بِكَهَانَةٍ وَلَا ظَنٍّ وَلَا افْتِعَالٍ، إِنَّمَا هُوَ قَوْلُ جِبْرِيلَ أَتَاهُ بِهِ وَحْيًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ جِبْرِيلَ هَاهُنَا بِصِفَاتٍ سِتٍّ أَوَّلُهَا: أَنَّهُ رَسُولٌ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ فَهُوَ رَسُولٌ وَجَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ أُمَّتُهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [النَّحْلِ: 2] وَقَالَ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: 193، 194] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ كَرِيمٌ، وَمِنْ كَرَمِهِ أَنَّهُ يُعْطِي أَفْضَلَ الْعَطَايَا، وهو المعرفة والهداية والإرشاد. [سورة التكوير (81) : آية 20] ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: ذِي قُوَّةٍ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الشِّدَّةِ، رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِجِبْرِيلَ «ذَكَرَ اللَّهُ قُوَّتَكَ، فَمَاذَا بَلَغْتَ؟ قَالَ رَفَعْتُ قُرَيَّاتِ قَوْمِ لُوطٍ الْأَرْبَعَ عَلَى قَوَادِمِ جَنَاحِي حَتَّى إِذَا سَمِعَ أَهْلُ السماء

[سورة التكوير (81) : آية 21]

نُبَاحَ الْكِلَابِ وَأَصْوَاتَ الدَّجَاجِ قَلَبْتُهَا» وَذَكَرَ مُقَاتِلٌ أَنَّ شَيْطَانًا يُقَالُ لَهُ الْأَبْيَضُ صَاحِبُ الْأَنْبِيَاءِ قَصَدَ أَنْ يَفْتِنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَفَعَهُ جِبْرِيلُ دَفْعَةً رَقِيقَةً وَقَعَ بِهَا مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَقْصَى الْهِنْدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْقُوَّةِ فِي أَدَاءِ طَاعَةِ اللَّهِ وَتَرْكِ الْإِخْلَالِ بِهَا مِنْ أَوَّلِ الْخَلْقِ إِلَى آخِرِ زَمَانِ التَّكْلِيفِ، وَعَلَى الْقُوَّةِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَفِي مُطَالَعَةِ جَلَالِ اللَّهِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ وَهَذِهِ الْعِنْدِيَّةُ لَيْسَتْ عِنْدِيَّةَ الْمَكَانِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 19] وَلَيْسَتْ عِنْدِيَّةُ الْجِهَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ «أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ» بَلْ عِنْدِيَّةُ الْإِكْرَامِ وَالتَّشْرِيفِ وَالتَّعْظِيمِ. وَأَمَّا مَكِينٍ فَقَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ قَدْ مَكُنَ فُلَانٌ عِنْدَ فُلَانٍ بِضَمِّ الْكَافِ مَكْنًا وَمَكَانَةً، فَعَلَى هَذَا الْمَكِينُ هُوَ ذو الجاه الذي يعطي ما يسأل. [سورة التكوير (81) : آية 21] مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: مُطاعٍ ثَمَّ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: ثَمَّ إِشَارَةٌ إِلَى الظَّرْفِ الْمَذْكُورِ أَعْنِي عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ [التكوير: 20] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ مُطَاعٌ فِي مَلَائِكَتِهِ الْمُقَرَّبِينَ يُصْدِرُونَ عَنْ أَمْرِهِ وَيَرْجِعُونَ إِلَى رَأْيِهِ، وَقُرِئَ ثُمَّ تَعْظِيمًا لِلْأَمَانَةِ وَبَيَانًا لِأَنَّهَا أَفْضَلُ صِفَاتِهِ الْمَعْدُودَةِ. وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ: أَمِينٍ أَيْ هُوَ أَمِينٌ عَلَى وَحْيِ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ، قَدْ عَصَمَهُ الله من الخيانة والزلل. [سورة التكوير (81) : الآيات 22 الى 24] وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ فَضَّلَ جِبْرِيلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّكَ إِذَا وَازَنْتَ بَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التَّكْوِيرِ: 19- 21] وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ظَهَرَ التَّفَاوُتُ الْعَظِيمُ: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ يَعْنِي حَيْثُ تَطْلُعُ الشَّمْسُ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَهَذَا مُفَسَّرٌ فِي سُورَةِ النَّجْمِ وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ أَيْ: وَمَا مُحَمَّدٌ عَلَى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ وَالْغَيْبُ هَاهُنَا الْقُرْآنُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَنْبَاءِ وَالْقَصَصِ وَالظَّنِينُ الْمُتَّهَمُ يُقَالُ: ظَنَنْتُ زَيْدًا فِي مَعْنَى اتَّهَمْتُهُ، وَلَيْسَ مِنَ الظَّنِّ الَّذِي يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَالْمَعْنَى مَا مُحَمَّدٌ عَلَى الْقُرْآنِ بِمُتَّهَمٍ أَيْ هُوَ ثِقَةٌ فِيمَا يُؤَدِّي عَنِ اللَّهِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالضَّادِ فَهُوَ مِنَ الْبُخْلِ يُقَالُ ضَنَنْتُ بِهِ أَضِنُّ أَيْ بَخِلْتُ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ بِبَخِيلٍ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: يَأْتِيهِ غَيْبُ السَّمَاءِ، وَهُوَ شَيْءٌ نَفِيسٌ فَلَا يَبْخَلُ بِهِ عَلَيْكُمْ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّهُ يُخْبَرُ بِالْغَيْبِ فَيُبَيِّنُهُ وَلَا يَكْتُمُهُ كَمَا يَكْتُمُ الْكَاهِنُ ذَلِكَ وَيَمْتَنِعُ مِنْ إِعْلَامِهِ حَتَّى يَأْخُذَ عَلَيْهِ حُلْوَانًا، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يُبَخِّلُوهُ، وَإِنَّمَا اتَّهَمُوهُ فَنَفْيُ التُّهْمَةِ أَوْلَى مِنْ نَفْيِ الْبُخْلِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: عَلَى الْغَيْبِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْبُخْلَ لَقَالَ بِالْغَيْبِ لِأَنَّهُ يُقَالُ: فُلَانٌ ضَنِينٌ بِكَذَا وَقَلَّمَا يُقَالُ عَلَى كَذَا. ثم قال تعالى: [سورة التكوير (81) : آية 25] وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَجِيءُ بِهِ شَيْطَانٌ فَيُلْقِيهِ عَلَى لِسَانِهِ، فَنَفَى اللَّهُ ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ مَوْقُوفٌ عَلَى نَفْيِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ نَفْيُ هَذَا الِاحْتِمَالِ بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ؟ قُلْنَا بَيَّنَّا أَنَّ

[سورة التكوير (81) : آية 26]

عَلَى الْقَوْلِ بِالصِّرْفَةِ لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ النُّبُوَّةِ عَلَى نَفْيِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، فَلَا جَرَمَ يُمْكِنُ نَفْيُ هَذَا الِاحْتِمَالِ بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ. ثُمَّ قَالَ تعالى: [سورة التكوير (81) : آية 26] فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) وَهَذَا اسْتِضْلَالٌ لَهُمْ يُقَالُ لِتَارِكِ الْجَادَّةِ اعْتِسَافًا، أَيْنَ تَذْهَبُ؟ مُثِّلَتْ حَالُهُمْ بِحَالِهِ في تركهم الحق وعدو لهم عَنْهُ إِلَى الْبَاطِلِ، وَالْمَعْنَى أَيُّ طَرِيقٍ تَسْلُكُونَ أَبَيْنُ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي قَدْ بَيَّنْتُ لَكُمْ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَقُولُ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ وَأَيْنَ تَذْهَبُ، وَتَقُولُ ذَهَبْتُ الشَّامَ وَانْطَلَقْتُ السوق، واحتج أهل الاعتزال بهذه الآية وجهه ظَاهِرٌ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَا هُوَ، فقال: [سورة التكوير (81) : آية 27] إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) أَيْ هُوَ بيان وهداية للخلق أجمعين. [سورة التكوير (81) : آية 28] لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) ثُمَّ قَالَ: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، وفائدة هذا الإبدال أن الذين شاؤوا الِاسْتِقَامَةَ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِالذِّكْرِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يُوعَظْ بِهِ غَيْرُهُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ شَاءَ أَنْ يَسْتَقِيمَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَشِيئَةَ الِاسْتِقَامَةِ مَوْقُوفَةٌ على مشيئة الله فقال تعالى: [سورة التكوير (81) : آية 29] وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) أَيْ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُعْطِيَهُ تِلْكَ الْمَشِيئَةَ، لِأَنَّ فِعْلَ تِلْكَ الْمَشِيئَةِ صِفَةٌ مُحْدَثَةٌ فَلَا بُدَّ فِي حُدُوثِهَا مِنْ مَشِيئَةٍ أُخْرَى فَيَظْهَرُ مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ فِعْلَ الِاسْتِقَامَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى إِرَادَةِ الِاسْتِقَامَةِ. وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ مَوْقُوفَةُ الْحُصُولِ عَلَى أَنْ يُرِيدَ اللَّهُ أَنْ يُعْطِيَهُ تِلْكَ الْإِرَادَةَ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَى الشَّيْءِ مَوْقُوفٌ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَأَفْعَالُ الْعِبَادِ فِي طَرَفَيْ ثُبُوتِهَا وَانْتِفَائِهَا، مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ وَهَذَا هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَقَوْلُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِمَشِيئَةِ الْقَهْرِ وَالْإِلْجَاءِ ضَعِيفٌ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَشِيئَةَ الِاخْتِيَارِيَّةَ شَيْءٌ حَادِثٌ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ فَيَتَوَقَّفُ حُدُوثُهَا عَلَى أَنْ يَشَاءَ مُحْدِثُهَا إِيجَادَهَا، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْإِلْزَامُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

سورة الانفطار

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة الانفطار تسع عشرة آية مكية [سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي هِيَ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ، فَهُنَاكَ يَحْصُلُ الْحَشْرُ وَالنَّشْرُ، وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَقَامَاتٌ الْأَوَّلُ: فِي تَفْسِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ وَهِيَ هَاهُنَا أَرْبَعَةٌ، اثْنَانِ مِنْهَا تَتَعَلَّقُ بِالْعُلْوِيَّاتِ، وَاثْنَانِ آخَرَانِ تَتَعَلَّقُ بِالسُّفْلِيَّاتِ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أَيِ انْشَقَّتْ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الْفُرْقَانِ: 25] ، إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الِانْشِقَاقِ: 1] ، فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرَّحْمَنِ: 37] ، وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ: 19] والسَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [الْمُزَّمِّلِ: 18] قَالَ الْخَلِيلُ: وَلَمْ يَأْتِ هَذَا عَلَى الْفِعْلِ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِمْ: مُرْضِعٌ وَحَائِضٌ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْفِعْلِ لَكَانَ مُنْفَطِرَةً كَمَا قَالَ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أَمَّا الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ فَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ لِأَنَّ عِنْدَ انْتِقَاضِ تَرْكِيبِ السَّمَاءِ لَا بُدَّ مِنَ انْتِثَارِ الْكَوَاكِبِ عَلَى الْأَرْضِ. وَاعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا فِي بَعْضِ السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ يُنْكِرُونَ إِمْكَانَ الْخَرْقِ وَالِالْتِئَامِ عَلَى الْأَفْلَاكِ، وَدَلِيلُنَا عَلَى إِمْكَانِ ذَلِكَ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ فِي كَوْنِهَا أَجْسَامًا، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَا يَصِحُّ عَلَى الْآخَرِ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ لِأَنَّهُ يَصِحُّ تَقْسِيمُهَا إِلَى السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ وَمَوْرِدُ التَّقْسِيمِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، فَالْعُلْوِيَّاتُ وَالسُّفْلِيَّاتُ مُشْتَرِكَةٌ فِي أَنَّهَا أَجْسَامٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ مَتَى كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ عَلَى الْعُلْوِيَّاتِ مَا يَصِحُّ عَلَى السُّفْلِيَّاتِ، لِأَنَّ الْمُتَمَاثِلَاتِ حُكْمُهَا وَاحِدٌ فَمَتَى يَصِحُّ حُكْمٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا، وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ عَلَى الْبَاقِي، وَأَمَّا الِاثْنَانِ السُّفْلِيَّانِ: فَأَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ وفيه وجوه أحدهما: أَنَّهُ يَنْفُذُ بَعْضُ الْبَحَّارِ فِي الْبَعْضِ بِارْتِفَاعِ الْحَاجِزِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ بَرْزَخًا، وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الْكُلُّ بَحْرًا وَاحِدًا، وَإِنَّمَا يَرْتَفِعُ ذَلِكَ

الْحَاجِزُ لِتَزَلْزُلِ الْأَرْضِ وَتَصَدُّعِهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّ مِيَاهَ الْبِحَارِ الْآنَ رَاكِدَةٌ مُجْتَمِعَةٌ، فَإِذَا فُجِّرَتْ تَفَرَّقَتْ وَذَهَبَ مَاؤُهَا وَثَالِثُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: فُجِّرَتْ أَيْ يَبَسَتْ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَتَغَيَّرُ الْبِحَارُ عَنْ صُورَتِهَا الْأَصْلِيَّةِ وَصِفَتِهَا، وَهُوَ كَمَا ذُكِرَ أَنَّهُ تَغَيَّرُ الْأَرْضِ عَنْ صِفَتِهَا فِي قَوْلُهُ: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إِبْرَاهِيمَ: 48] وَتَغَيُّرُ الْجِبَالِ عَنْ صِفَتِهَا فِي قَوْلِهِ: فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً [طه: 105، 106] وَرَابِعُهَا: قَرَأَ بَعْضُهُمْ: فُجِرَتْ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: فَجَرَتْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَالتَّخْفِيفِ، بِمَعْنَى بَغَتْ لِزَوَالِ الْبَرْزَخِ نَظَرًا إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَبْغِيانِ [الرَّحْمَنِ: 20] لِأَنَّ الْبَغْيَ وَالْفُجُورَ أَخَوَانِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَقَوْلُهُ: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ فَاعْلَمْ أَنْ بُعْثِرَ وَبُحْثِرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَمُرَكَّبَانِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْبَحْثِ مَعَ رَاءٍ مَضْمُومَةٍ إِلَيْهِمَا، وَالْمَعْنَى أُثِيرَتْ وَقُلِبَ أَسْفَلُهَا أَعْلَاهَا وَبَاطِنُهَا ظَاهِرُهَا، ثُمَّ هَاهُنَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقُبُورَ تُبَعْثَرُ بِأَنْ يَخْرُجَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَوْتَى أَحْيَاءً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [الزَّلْزَلَةِ: 2] وَالثَّانِي: أَنَّهَا تُبَعْثَرُ لِإِخْرَاجِ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُخْرِجَ الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا مِنْ ذَهَبِهَا وَفِضَّتِهَا، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ خُرُوجُ الْمَوْتَى، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْقُبُورِ عَلَى الْأَوَّلِ أَتَمُّ. الْمَقَامُ الثَّانِي: فِي فَائِدَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ بَيَانُ تَخْرِيبِ الْعَالَمِ وَفَنَاءِ الدُّنْيَا، وَانْقِطَاعِ التَّكَالِيفِ، وَالسَّمَاءُ كَالسَّقْفِ، وَالْأَرْضُ كَالْبِنَاءِ، وَمَنْ أَرَادَ تَخْرِيبَ دَارٍ، فَإِنَّهُ يَبْدَأُ أَوَّلًا بِتَخْرِيبِ السَّقْفِ، وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ثُمَّ يَلْزَمُ مِنْ تَخْرِيبِ السَّمَاءِ انْتِثَارُ الْكَوَاكِبِ، وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ: وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ تَخْرِيبِ السَّمَاءِ وَالْكَوَاكِبِ يُخَرِّبُ كُلَّ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُخَرِّبُ آخِرَ الْأَمْرِ الْأَرْضَ الَّتِي هِيَ الْبِنَاءُ، وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ فَإِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى قَلْبِ الْأَرْضِ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، وَبَطْنًا لِظَهْرٍ. الْمَقَامُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ وَفِيهِ احْتِمَالَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ ذِكْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الزَّجْرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَالتَّرْغِيبُ فِي الطَّاعَةِ، أَيْ يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَا قَدَّمَ، فَلَمْ يُقَصِّرْ فِيهِ وَمَا أَخَّرَ فَقَصَّرَ فِيهِ، لِأَنَّ قوله: ما قَدَّمَتْ يقتضي فعلا وما أَخَّرَتْ يَقْتَضِي تَرْكًا، فَهَذَا الْكَلَامُ يَقْتَضِي فِعْلًا وَتَرْكًا وَتَقْصِيرًا وَتَوْفِيرًا، فَإِنْ كَانَ قَدَّمَ الْكَبَائِرَ وَأَخَّرَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فَمَأْوَاهُ النَّارُ، وَإِنْ كَانَ قَدَّمَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَأَخَّرَ الْكَبَائِرَ فَمَأْوَاهُ الْجَنَّةُ وَثَانِيهَا: مَا قَدَّمَتْ مِنْ عَمَلٍ أَدْخَلَهُ فِي الْوُجُودِ وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ يَسْتَنُّ بِهَا مَنْ بَعْدَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَثَالِثُهَا: قَالَ الضَّحَّاكُ: مَا قَدَّمَتْ مِنَ الْفَرَائِضِ وَمَا أَخَّرَتْ أَيْ مَا ضَيَّعَتْ وَرَابِعُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: مَا قَدَّمَتْ مِنَ الْأَعْمَالِ فِي أَوَّلِ عُمُرِهَا وَمَا أَخَّرَتْ فِي آخِرِ عُمُرِهَا، فَإِنْ قِيلَ: وَفِي أَيِّ مَوْقِفٍ مِنْ مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ يَحْصُلُ هَذَا الْعِلْمُ؟ قُلْنَا: أَمَّا/ الْعِلْمُ الْإِجْمَالِيُّ فَيَحْصُلُ فِي أَوَّلِ زَمَانِ الْحَشْرِ، لِأَنَّ الْمُطِيعَ يَرَى آثَارَ السَّعَادَةِ، وَالْعَاصِيَ يَرَى آثَارَ الشَّقَاوَةِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ. وَأَمَّا الْعِلْمُ التَّفْصِيلُ، فَإِنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْكُتُبِ وَالْمُحَاسَبَةِ. الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قِيلَ: قِيَامُ الْقِيَامَةِ بَلْ عِنْدَ ظُهُورِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَانْقِطَاعِ التَّكَالِيفِ، وَحِينَ لَا يَنْفَعُ الْعَمَلُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ: لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً

[سورة الانفطار (82) : الآيات 6 إلى 8]

[الْأَنْعَامِ: 158] فَيَكُونُ مَا عَمِلَهُ الْإِنْسَانُ إِلَى تِلْكَ الْغَايَةِ، هُوَ أَوَّلُ أَعْمَالِهِ وَآخِرُهَا، لِأَنَّهُ لَا عَمَلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا الْقَوْلُ ذَكَرَهُ القفال. قوله تعالى: [سورة الانفطار (82) : الآيات 6 الى 8] يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) [في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَخْبَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَنْ وُقُوعِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَقْلًا عَلَى إِمْكَانِهِ أَوْ عَلَى وُقُوعِهِ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِلَهَ الْكَرِيمَ الَّذِي لَا يَجُوزُ مِنْ كَرَمِهِ أَنْ يَقْطَعَ مَوَائِدَ نِعَمِهِ عَنِ الْمُذْنِبِينَ، كَيْفَ يَجُوزُ فِي كَرَمِهِ أَنْ لَا يَنْتَقِمَ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ؟ الثَّانِي: أَنَّ الْقَادِرَ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الْبِنْيَةَ الْإِنْسَانِيَّةَ ثُمَّ سَوَّاهَا وَعَدَّلَهَا، إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ خَلَقَهَا لَا لِحِكْمَةٍ أَوْ لِحِكْمَةٍ، فَإِنْ خَلَقَهَا لَا لِحِكْمَةٍ كَانَ ذَلِكَ عَبَثًا، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى الْحَكِيمِ، وَإِنْ خَلَقَهَا لِحِكْمَةٍ، فَتِلْكَ الْحِكْمَةُ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إِلَى الْعَبْدِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَعَالٍ عَنِ الِاسْتِكْمَالِ وَالِانْتِفَاعِ. فَتَعَيَّنَ الثَّانِيَ، وَهُوَ أَنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِحِكْمَةٍ عَائِدَةٍ إِلَى الْعَبْدِ، وَتِلْكَ الْحِكْمَةُ إِمَّا أَنْ تَظْهَرَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي دَارٍ سِوَى الدُّنْيَا. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الدُّنْيَا دَارُ بَلَاءٍ وَامْتِحَانٍ، لَا دَارَ الِانْتِفَاعِ وَالْجَزَاءِ، وَلَمَّا بَطَلَ كُلُّ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ بَعْدَ هَذِهِ الدَّارِ مِنْ دَارٍ أُخْرَى، فَثَبَتَ أَنَّ الِاعْتِرَافَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْكَرِيمِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْخَلْقِ وَالتَّسْوِيَةِ وَالتَّعْدِيلِ يُوجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَقْطَعَ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَبْعَثُ الْأَمْوَاتَ وَيَحْشُرُهُمْ، وَذَلِكَ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِعَدَمِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ هُوَ الَّذِي ذُكِرَ بِعَيْنِهِ فِي سُورَةِ التِّينِ حَيْثُ قَالَ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ إِلَى أَنْ قَالَ: فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ [التِّينِ: 4- 7] وَهَذِهِ الْمُحَاجَّةُ تَصْلُحُ مَعَ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ وَيُنْكِرُونَ الْإِعَادَةَ، وَتَصْلُحُ أَيْضًا مَعَ مَنْ يَنْفِي الِابْتِدَاءَ وَالْإِعَادَةَ مَعًا، لِأَنَّ الْخَلْقَ الْمُعَدَّلَ يَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ وَبِوَاسِطَتِهِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، فَإِنْ قِيلَ: بِنَاءُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى حَكِيمٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي سُورَةِ التِّينِ بَعْدَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ [التِّينِ: 8] فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْحَكِيمِ الْجَوَابُ: أَنَّ الْكَرِيمَ/ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَكِيمًا، لِأَنَّ إِيصَالَ النِّعْمَةِ إِلَى الْغَيْرِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَبْنِيًّا عَلَى دَاعِيَةِ الْحِكْمَةِ لَكَانَ ذَلِكَ تَبْذِيرًا لَا كَرَمًا. أَمَّا إِذَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى دَاعِيَةِ الْحِكْمَةِ فَحِينَئِذٍ يُسَمَّى كَرَمًا، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: كَوْنُهُ كَرِيمًا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْحَشْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ، أَمَّا كَوْنُهُ حَكِيمًا فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْحَشْرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي، فَكَانَ ذِكْرُ الْكَرِيمِ هَاهُنَا أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ الْحَكِيمِ، هَذَا هُوَ تَمَامُ الْكَلَامِ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ، وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ. أَمَّا قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْكَافِرُ، لِقَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ [الإنفطار: 9] وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ الْأَسَدِ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ أُسَيْدٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ ضَرَبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَاقِبْهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْعُصَاةِ وَهُوَ الْأَقْرَبُ، لِأَنَّ خُصُوصَ السَّبَبِ لَا يَقْدَحُ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ. أَمَّا قَوْلُهُ: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ فَالْمُرَادُ الَّذِي خَدَعَكَ وَسَوَّلَ لَكَ الْبَاطِلَ حَتَّى تَرَكْتَ الْوَاجِبَاتِ وَأَتَيْتَ بِالْمُحَرَّمَاتِ، وَالْمَعْنَى مَا الَّذِي أَمَّنَكَ مِنْ عِقَابِهِ، يُقَالُ: غَرَّهُ بِفُلَانٍ إِذَا أَمَّنَهُ الْمَحْذُورَ مِنْ جِهَتِهِ مَعَ أنه غير مأمون، وهو كقوله: لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لُقْمَانَ: 33] هَذَا إِذَا حَمَلْنَا قوله: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ عَلَى جَمِيعِ الْعُصَاةِ، وَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْكَافِرِ، فَالْمَعْنَى مَا الَّذِي دَعَاكَ

إِلَى الْكُفْرِ وَالْجَحْدِ بِالرُّسُلِ، وَإِنْكَارِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَوْنَهُ كَرِيمًا يَقْتَضِي أَنْ يَغْتَرَّ الْإِنْسَانُ بِكَرَمِهِ بِدَلِيلِ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، أَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْجُودَ إِفَادَةُ مَا يَنْبَغِي لَا لِعِوَضٍ، فَلَمَّا كَانَ الْحَقُّ تَعَالَى جَوَادًا مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ مُسْتَعِيضًا، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ اسْتَوَى عِنْدَهُ طَاعَةُ الْمُطِيعِينَ، وَعِصْيَانُ الْمُذْنِبِينَ، وَهَذَا يُوجِبُ الِاغْتِرَارَ لِأَنَّهُ مِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يُقْدِمَ الْغَنِيُّ عَلَى إِيلَامِ الضَّعِيفِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ أَصْلًا، وَأَمَّا الْمَنْقُولُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ دَعَا غُلَامَهُ مَرَّاتٍ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَنَظَرَ فَإِذَا هُوَ بِالْبَابِ، فَقَالَ لَهُ: لِمَ لَمْ تُجِبْنِي؟ فَقَالَ: لِثِقَتِي بِحِلْمِكَ، وَأَمْنِي مِنْ عُقُوبَتِكَ، فَاسْتَحْسَنَ جَوَابَهُ، وَأَعْتَقَهُ، وَقَالُوا أَيْضًا: مِنْ كَرَمِ الرَّجُلِ سُوءُ أَدَبِ غِلْمَانِهِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ كَرَمَهُ يَقْتَضِي الِاغْتِرَارَ بِهِ، فَكَيْفَ جَعَلَهُ هَاهُنَا مَانِعًا مِنَ الِاغْتِرَارِ بِهِ؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّكَ لَمَّا كُنْتَ تَرَى حِلْمَ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ ظَنَنْتَ أَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا حِسَابَ وَلَا دَارَ إِلَّا هَذِهِ الدَّارَ، فَمَا الَّذِي دَعَاكَ إِلَى هَذَا الِاغْتِرَارِ، وَجَرَّأَكَ عَلَى إِنْكَارِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ؟ فَإِنَّ رَبَّكَ كَرِيمٌ، فَهُوَ لِكَرَمِهِ لَا يُعَاجِلُ بِالْعُقُوبَةِ بَسْطًا فِي مُدَّةِ التَّوْبَةِ، وَتَأْخِيرًا لِلْجَزَاءِ إِلَى أَنْ يَجْمَعَ النَّاسَ فِي الدَّارِ الَّتِي جَعَلَهَا لَهُمْ لِلْجَزَاءِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ تَرْكَ الْمُعَاجَلَةِ بِالْعُقُوبَةِ لِأَجْلِ الْكَرَمِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الِاغْتِرَارَ بِأَنَّهُ لَا دَارَ بَعْدَ هَذِهِ الدارو ثانيها: أَنَّ كَرَمَهُ لَمَّا بَلَغَ إِلَى حَيْثُ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْعَاصِي مَوَائِدَ لُطْفِهِ، فَبِأَنْ يَنْتَقِمَ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ، كَانَ أَوْلَى فَإِذَنْ كَوْنُهُ كِرِيمًا يَقْتَضِي الْخَوْفَ الشَّدِيدَ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ، وَتَرْكَ الْجَرَاءَةِ وَالِاغْتِرَارِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ كَثْرَةَ الْكَرَمِ تُوجِبُ الْجِدَّ وَالِاجْتِهَادَ فِي الْخِدْمَةِ وَالِاسْتِحْيَاءَ مِنَ الِاغْتِرَارِ وَالتَّوَانِي وَرَابِعُهَا: قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: / إِنَّمَا قَالَ: بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ لِيَكُونَ ذَلِكَ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ حَتَّى يَقُولَ غَرَّنِي كَرَمُكَ، وَلَوْلَا كَرَمُكَ لَمَا فَعَلْتُ لِأَنَّكَ رَأَيْتَ فَسَتَرْتَ، وَقَدَرْتَ فَأَمْهَلْتَ، وَهَذَا الْجَوَابُ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ المراد من قوله: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ لَيْسَ الْكَافِرَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ هَذَا الِاغْتِرَارِ؟ قُلْنَا وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَالَ قَتَادَةُ: سَبَبُ غُرُورِ ابْنِ آدَمَ تَسْوِيلُ الشَّيْطَانِ لَهُ وَثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ: غَرَّهُ حُمْقُهُ وَجَهْلُهُ وَثَالِثُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: غَرَّهُ عَفْوُ اللَّهِ عَنْهُ حِينَ لَمْ يُعَاقِبْهُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ، وَقِيلَ: لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ إِذَا أَقَامَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ لَكَ: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ مَاذَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ غَرَّتْنِي سُتُورُكَ الْمُرْخَاةُ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا مَعْنَى قِرَاءَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَا أَغَرَّكَ؟ قُلْنَا: هُوَ إِمَّا عَلَى التَّعَجُّبِ وَإِمَّا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ مِنْ قَوْلِكَ غَرَّ الرَّجُلُ فَهُوَ غَارٌّ إِذَا غَفَلَ، وَمِنْ قَوْلِكَ بَيَّتَهُمُ الْعَدُوُّ وَهُمْ غَارُّونَ، وأغره غيره جعله غارا، [في قوله تعالى الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ] أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْكَرَمِ ذَكَرَ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ كَالدَّلَالَةِ عَلَى تَحَقُّقِ ذَلِكَ الْكَرَمِ أَوَّلُهَا: الْخَلْقُ وَهُوَ قَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَكَ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَرَمُ وَجُودٍ لِأَنَّ الْوُجُودَ خَيْرٌ مِنَ الْعَدَمِ، وَالْحَيَاةَ خَيْرٌ مِنَ الْمَوْتِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [الْبَقَرَةِ: 28] ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: فَسَوَّاكَ أَيْ جَعَلَكَ سَوِيًّا سَالِمَ الْأَعْضَاءِ تَسْمَعُ وَتُبْصِرُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الْكَهْفِ: 37] قَالَ ذُو النُّونِ: سَوَّاكَ أَيْ سَخَّرَ لَكَ الْمُكَوِّنَاتِ أَجْمَعَ، وَمَا جَعَلَكَ مُسَخَّرًا لِشَيْءٍ مِنْهَا، ثُمَّ أَنْطَقَ لِسَانَكَ بِالذِّكْرِ، وَقَلْبَكَ بِالْعَقْلِ، وَرُوحَكَ بِالْمَعْرِفَةِ، وَسَرَّكَ بِالْإِيمَانِ، وَشَرَّفَكَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَفَضَّلَكَ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: فَعَدَلَكَ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: يُرِيدُ عَدَلَ خَلْقَكَ فِي الْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَلَمْ يجعل إحدى

الْيَدَيْنِ أَطْوَلَ وَلَا إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ أَوْسَعَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [الْقِيَامَةِ: 4] وَتَقْرِيرُهُ مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ التَّشْرِيحِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَكَّبَ جَانِبَيْ هَذِهِ الْجُثَّةِ عَلَى التَّسَوِّي حَتَّى إِنَّهُ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ نِصْفَيْهِ لَا فِي الْعِظَامِ وَلَا فِي أَشْكَالِهَا وَلَا فِي ثُقْبِهَا وَلَا فِي الْأَوْرِدَةِ وَالشَّرَايِينِ وَالْأَعْصَابِ النَّافِذَةِ فِيهَا وَالْخَارِجَةِ مِنْهَا، وَاسْتِقْصَاءُ الْقَوْلِ فِيهِ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْعِلْمِ، وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَعَلَكَ قَائِمًا مُعْتَدِلًا حَسَنَ الصُّورَةِ لَا كَالْبَهِيمَةِ الْمُنْحَنِيَةِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: عَدَلَ خَلْقَكَ فَأَخْرَجَكَ فِي أَحْسَنِ التَّقْوِيمِ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ الِاعْتِدَالِ جَعَلَكَ مُسْتَعِدًّا لِقَبُولِ الْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ وَالْفِكْرِ، وَصَيَّرَكَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُسْتَوْلِيًا عَلَى جَمِيعِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، وَوَاصِلًا بِالْكَمَالِ إِلَى مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَجْسَامِ هَذَا الْعَالَمِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ فَعَدَلَكَ بِالتَّخْفِيفِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَدَلَ بَعْضَ أَعْضَائِكَ بِبَعْضٍ حَتَّى اعْتَدَلَتْ وَالثَّانِي. قَالَ الْفَرَّاءُ: فَعَدَلَكَ أَيْ فَصَرَّفَكَ إِلَى أَيِّ صُورَةٍ شَاءَ، ثُمَّ قَالَ: وَالتَّشْدِيدُ أَحْسَنُ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّكَ تَقُولُ: عَدَّلْتُكَ إِلَى كَذَا/ كَمَا تَقُولُ صَرَّفْتُكَ إِلَى كَذَا، وَلَا يَحْسُنُ عَدَلْتُكَ فِيهِ وَلَا صَرَفْتُكَ فِيهِ، فَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُولَى جُعِلَ فِي مِنْ قَوْلِهِ: فِي أَيِّ صُورَةٍ صِلَةً لِلتَّرْكِيبِ، وَهُوَ حَسَنٌ، وَفِي الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ جَعَلَهُ صِلَةً لِقَوْلِهِ: فَعَدَلَكَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ اعْتِرَاضَ الْقُرَّاءِ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي، فَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فَغَيْرُ مُتَوَجِّهٍ وَالثَّالِثُ: نَقَلَ الْقَفَّالُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَمَّا قَوْلُهُ: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ فَفِيهِ مَبَاحِثُ الْأَوَّلُ: مَا هَلْ هِيَ مَزِيدَةٌ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لَيْسَتْ مَزِيدَةً، بَلْ هِيَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ أَنْ يُرَكِّبَكَ فِيهَا رَكَّبَكَ، وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، قَالَ أَبُو صَالِحٍ وَمُقَاتِلٌ: الْمَعْنَى إِنْ شَاءَ رَكَّبَكَ فِي غَيْرِ صُورَةِ الْإِنْسَانِ مِنْ صُورَةِ كَلْبٍ أَوْ صُورَةِ حِمَارٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ قِرْدٍ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا صِلَةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَالْمَعْنَى فِي أَيِّ صُورَةٍ تَقْتَضِيهَا مَشِيئَتُهُ وَحِكْمَتُهُ مِنَ الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُرَكِّبُكَ عَلَى مِثْلِهَا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَحْتَمِلُ الْآيَةُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ شَبَهُ الْأَبِ وَالْأُمِّ، أَوْ أَقَارِبِ الْأَبِ أَوْ أَقَارِبِ الْأُمِّ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُرَكِّبُكَ عَلَى مِثْلِ صُوَرِ هَؤُلَاءِ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ في هذا الْآيَةِ: «إِذَا اسْتَقَرَّتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ، أَحْضَرَهَا اللَّهُ كُلَّ نَسَبٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ آدَمَ» ، وَالثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ الِاخْتِلَافُ بِحَسَبِ الطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، وَدَلَالَةُ هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى الصَّانِعِ الْقَادِرِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، لِأَنَّ النُّطْفَةَ جِسْمٌ مُتَشَابِهُ الْأَجْزَاءِ وَتَأْثِيرُ طَبْعِ الْأَبَوَيْنِ فِيهِ عَلَى السَّوِيَّةِ، فَالْفَاعِلُ الْمُؤَثِّرُ بِالطَّبِيعَةِ فِي الْقَابِلِ الْمُتَشَابِهِ لَا يَفْعَلُ إِلَّا فِعْلًا وَاحِدًا، فَلَمَّا اخْتَلَفَتِ الْآثَارُ وَالصِّفَاتُ دَلَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ عَلَى أَنَّ الْمُدَبِّرَ هُوَ الْقَادِرُ الْمُخْتَارُ، قَالَ الْقَفَّالُ: اخْتِلَافُ الْخَلْقِ وَالْأَلْوَانِ كَاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ وَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ، فَكَمَا أَنَّا نَقْطَعُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا مَيَّزَ الْبَعْضَ عَنِ الْبَعْضِ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَطُولِ الْعُمُرِ وَقِصَرِهِ، بِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ لَا يُحِيطُ بِكُنْهِهَا إِلَّا هُوَ، فَكَذَلِكَ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَ الْبَعْضَ مُخَالِفًا لِلْبَعْضِ، فِي الْخَلْقِ وَالْأَلْوَانِ بِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بِسَبَبِ هَذَا الِاخْتِلَافِ يَتَمَيَّزُ الْمُحْسِنُ عَنِ الْمُسِيءِ وَالْقَرِيبُ عَنِ الْأَجْنَبِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَنَحْنُ نَشْهَدُ شَهَادَةً لَا شَكَّ فِيهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمَنَاظِرِ وَالْهَيْئَاتِ إِلَّا لَمَّا عَلِمَ مِنْ صَلَاحِ عِبَادِهِ فِيهِ وَإِنْ كُنَّا جَاهِلِينَ بِعَيْنِ الصَّلَاحِ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ الْوَاسِطِيُّ: الْمُرَادُ صُورَةُ الْمُطِيعِينَ وَالْعُصَاةِ فَلَيْسَ مَنْ رَكَّبَهُ عَلَى صُورَةِ الْوَلَايَةِ كَمَنْ رَكَّبَهُ عَلَى صُورَةِ الْعَدَاوَةِ، قَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى صَفَاءِ الْأَرْوَاحِ وَظُلْمَتِهَا، وَقَالَ الْحَسَنُ: مِنْهُمْ مَنْ صَوَّرَهُ لِيَسْتَخْلِصَهُ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَوَّرَهُ لِيَشْغَلَهُ بِغَيْرِهِ مِثَالُ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ لِيَخُصَّهُ بِأَلْطَافِ بِرِّهِ

[سورة الانفطار (82) : آية 9]

وَإِعْلَاءِ قَدْرِهِ وَأَظْهَرَ رُوحَهُ مِنْ بَيْنِ جَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَتَوَّجَهُ بِتَاجِ الْكَرَامَةِ وَزَيَّنَهُ بِرِدَاءِ الْجَلَالِ والهيبة. قوله تعالى: [سورة الانفطار (82) : آية 9] كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ/ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَرَّعَ عَلَيْهَا شَرْحَ تَفَاصِيلِ الْأَحْوَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ زَجَرَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الِاغْتِرَارِ بقوله: كَلَّا وبَلْ حَرْفٌ وُضِعَ فِي اللُّغَةِ لِنَفْيِ شَيْءٍ قَدْ تَقَدَّمَ وَتَحَقَّقَ غَيْرُهُ، فَلَا جَرَمَ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ كَلَّا وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ أَنَّكُمْ لَا تَسْتَقِيمُونَ عَلَى تَوْجِيهِ نِعَمِي عَلَيْكُمْ وَإِرْشَادِي لَكُمْ، بَلْ تُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ الثَّانِي: كَلَّا أَيِ ارْتَدِعُوا عَنِ الِاغْتِرَارِ بِكَرَمِ اللَّهِ، ثُمَّ كَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّكُمْ لَا تَرْتَدِعُونَ عَنْ ذَلِكَ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ أَصْلًا الثَّالِثُ: قَالَ الْقَفَّالُ: كَلَّا أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ مِنْ أَنَّهُ لَا بَعْثَ وَلَا نُشُورَ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ عَبَثًا وَسُدًى، وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ كَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّكُمْ لَا تَنْتَفِعُونَ بِهَذَا الْبَيَانِ بَلْ تُكَذِّبُونَ، وَفِي قَوْلِهِ: تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الدِّينِ الْإِسْلَامَ، وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ بِالْجَزَاءِ عَلَى الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الدِّينِ الْحِسَابَ، وَالْمَعْنَى أنكم تكذبون بيوم الحساب. النوع الثاني: قوله تعالى: [سورة الانفطار (82) : الآيات 10 الى 12] وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) وَالْمَعْنَى التَّعَجُّبُ مِنْ حَالِهِمْ، كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: إِنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَهُوَ يَوْمُ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَمَلَائِكَةُ اللَّهِ مُوَكَّلُونَ بِكُمْ يَكْتُبُونَ أَعْمَالَكُمْ حَتَّى تُحَاسَبُوا بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 17، 18] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً [الْأَنْعَامِ: 61] ثُمَّ هَاهُنَا مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ طَعَنَ فِي حُضُورِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ، إِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُرَكَّبِينَ مِنَ الْأَجْسَامِ اللَّطِيفَةِ كَالْهَوَاءِ وَالنَّسِيمِ وَالنَّارِ، أَوْ مِنَ الْأَجْسَامِ الْغَلِيظَةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَزِمَ أَنْ تَنْتَقِضَ بِنْيَتُهُمْ بِأَدْنَى سَبَبٍ مِنْ هُبُوبِ الرِّيَاحِ الشَّدِيدَةِ وَإِمْرَارِ الْيَدِ وَالْكُمِّ وَالسَّوْطِ فِي الْهَوَاءِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ وَجَبَ أَنْ نَرَاهُمْ إِذْ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونُوا حَاضِرِينَ وَلَا نَرَاهُمْ، لَجَازَ أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِنَا شُمُوسٌ وَأَقْمَارٌ وَفِيَلَاتٌ وَبُوقَاتٌ، وَنَحْنُ لَا نَرَاهَا وَلَا نَسْمَعُهَا وَذَلِكَ دُخُولٌ فِي التَّجَاهُلِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي إِنْكَارِ صَحَائِفِهِمْ وَذَوَاتِهِمْ وَقَلَمِهِمْ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا الِاسْتِكْتَابَ إِنْ كَانَ خَالِيًا عَنِ الْفَوَائِدِ فَهُوَ عَبَثٌ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَائِدَةٌ فَتِلْكَ الْفَائِدَةُ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إِلَى الْعَبْدِ وَالْأَوَّلُ: مُحَالٌ لِأَنَّهُ مُتَعَالٍ عَنِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا اسْتَكْتَبَهَا خَوْفًا مِنَ النِّسْيَانِ الغلط وَالثَّانِي: أَيْضًا مُحَالٌ، لِأَنَّ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: فَائِدَةُ هَذَا الِاسْتِكْتَابِ أَنْ يكونوا شهودا عَلَى النَّاسِ وَحُجَّةً عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْفَائِدَةَ ضَعِيفَةٌ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجُورُ وَلَا يَظْلِمُ، لَا يَحْتَاجُ فِي حَقِّهِ إِلَى إِثْبَاتِ هذه

[سورة الانفطار (82) : الآيات 13 إلى 16]

الْحُجَّةِ، وَالَّذِي لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ لَا يَنْتَفِعُ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ لِاحْتِمَالِ/ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَكْتُبُوا تِلْكَ الْأَشْيَاءَ عَلَيْهِ ظُلْمًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَفْعَالَ الْقُلُوبِ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ وَلَا مَحْسُوسَةٍ فَتَكُونُ هِيَ مِنْ بَابِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَالْغَيْبُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَا قَالَ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَامِ: 59] وَإِذَا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ مَعْلُومَةً لِلْمَلَائِكَةِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكْتُبُوهَا وَالْآيَةُ تَقْضِي أَنْ يَكُونُوا كَاتِبِينَ عَلَيْنَا كُلَّ مَا نَفْعَلُهُ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ أَمْ لَا؟ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ لَا تَزَالُ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِنَا بِنَاءً عَلَى أَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبِنْيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْحَيَاةِ عِنْدَنَا وَالثَّانِي: أَيْ عِنْدَ سَلَامَةِ الْحَاسَّةِ وَحُضُورِ الْمَرْئِيِّ وَحُصُولِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ لَا يَجِبُ الْإِدْرَاكُ، فَعَلَى الْأَصْلِ الْأَوَّلِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَلَائِكَةُ أَجْرَامًا لَطِيفَةً تَتَمَزَّقُ وَتَتَفَرَّقُ وَلَكِنْ تَبْقَى حَيَاتُهَا مَعَ ذَلِكَ، وَعَلَى الْأَصْلِ الثَّانِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَجْسَامًا كَثِيفَةً لَكِنَّا لَا نَرَاهَا وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّانِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَجْرَى أُمُورَهُ مَعَ عِبَادِهِ عَلَى مَا يَتَعَامَلُونَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي تَقْرِيرِ الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ، وَلَمَّا كَانَ الْأَبْلَغُ عِنْدَهُمْ فِي الْمُحَاسَبَةِ إِخْرَاجَ كِتَابٍ بِشُهُودٍ خُوطِبُوا بِمِثْلِ هَذَا فِيمَا يُحَاسَبُونَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُخْرَجُ لَهُمْ كُتُبٌ مَنْشُورَةٌ، وَيَحْضُرُ هُنَاكَ مَلَائِكَةٌ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِمْ كَمَا يَشْهَدُ عُدُولُ السُّلْطَانِ عَلَى مَنْ يَعْصِيهِ وَيُخَالِفُ أَمْرَهُ، فَيَقُولُونَ لَهُ: أَعْطَاكَ الْمَلِكُ كَذَا وَكَذَا، وَفَعَلَ بِكَ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ قَدْ خَلَفْتَهُ وَفَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا، فَكَذَا هَاهُنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ الْجَوَابُ: عَنِ الثَّالِثِ أَنَّ غَايَةَ مَا فِي الْبَابِ تَخْصِيصُ هَذَا الْعُمُومِ بِأَفْعَالِ الْجَوَارِحِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ. الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ وَإِنْ كَانَ خِطَابَ مُشَافَهَةٍ إِلَّا أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ الْمُكَلَّفِينَ، ثُمَّ هَاهُنَا احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ جَمْعٌ مِنَ الْحَافِظِينَ، وَذَلِكَ الْجَمْعُ يَكُونُونَ حَافِظِينَ لِجَمِيعِ بَنِي آدَمَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْتَصَّ وَاحِدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِوَاحِدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُوَكَّلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غير الموكل بالآخرة، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكَّلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ وَاحِدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَابَلَ الْجَمْعَ بِالْجَمْعِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي مُقَابَلَةَ الْفَرْدِ بِالْفَرْدِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكَّلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمْعًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَمَا قِيلَ: اثْنَانِ بِاللَّيْلِ، وَاثْنَانِ بِالنَّهَارِ، أَوْ كَمَا قِيلَ: إِنَّهُمْ خَمْسَةٌ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ بِصِفَاتٍ أَوَّلُهَا: كَوْنُهُمْ حَافِظِينَ وَثَانِيهَا: كَوْنُهُمْ كِرَامًا وَثَالِثُهَا: كَوْنُهُمْ كَاتِبِينَ وَرَابِعُهَا: كَوْنُهُمْ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ، وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ تِلْكَ الْأَفْعَالَ حَتَّى يُمْكِنَهُمْ أَنْ يَكْتُبُوهَا، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ الشَّهَادَةُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَهَا حَتَّى يَكُونُوا عَالِمِينَ بِهَا عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْخَمْسَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَيْهِمْ وَعَظَّمَ شَأْنَهُمْ، وَفِي تَعْظِيمِهِمْ تَعْظِيمٌ لِأَمْرِ الْجَزَاءِ، وَأَنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جَلَائِلِ الْأُمُورِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا وَكَّلَ/ بِضَبْطِ مَا يُحَاسِبُ عَلَيْهِ، هَؤُلَاءِ الْعُظَمَاءَ الْأَكَابِرَ، قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: مَنْ يَزْجُرُهُ مِنَ الْمَعَاصِي مُرَاقَبَةُ اللَّهِ إِيَّاهُ، كَيْفَ يَرُدُّهُ عَنْهَا كِتَابَةُ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ تَفَارِيعِ مَسْأَلَةِ الْحَشْرِ قَوْلُهُ تعالى: [سورة الانفطار (82) : الآيات 13 الى 16] إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16)

اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْكِرَامَ الْكَاتِبِينَ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ ذَكَرَ أَحْوَالَ الْعَامِلِينَ فَقَالَ: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَهُوَ نَعِيمُ الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ وَهُوَ النَّارُ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْقَاطِعِينَ بِوَعِيدِ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالُوا: صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ فَاجِرٌ، وَالْفُجَّارُ كُلُّهُمْ فِي الْجَحِيمِ، لِأَنَّ لَفْظَ الْجَحِيمِ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ أَفَادَ الِاسْتِغْرَاقَ وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَدِ اسْتَقْصَيْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهَاهُنَا نُكَتٌ زَائِدَةٌ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا: قَالَتِ الْوَعِيدِيَّةُ حَصَلَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ دَالَّةٌ عَلَى دَوَامِ الْوَعِيدِ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ وَيَوْمُ الدِّينِ يَوْمُ الْجَزَاءِ وَلَا وَقْتَ إِلَّا وَيَدْخُلُ فِيهِ، كَمَا تَقُولُ يَوْمُ الدُّنْيَا وَيَوْمُ الْآخِرَةِ الثَّانِي: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: لَوْ خَصَصْنَا قَوْلَهُ: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ لَكَانَ بَعْضُ الْفُجَّارِ يَصِيرُونَ إِلَى الْجَنَّةِ وَلَوْ صَارُوا إِلَيْهَا لَكَانُوا مِنَ الْأَبْرَارِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَتَمَيَّزَ الْفُجَّارُ عَنِ الْأَبْرَارِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَيَّزَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَإِذَنْ يَجِبُ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْفُجَّارُ الْجَنَّةَ كَمَا لَا يَدْخُلُ الْأَبْرَارُ النَّارَ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها [الْمَائِدَةِ: 37] وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَوْتٌ وَلَا غَيْبَةٌ فَلَيْسَ بَعْدَهُمَا إِلَّا الْخُلُودُ فِي النَّارِ أَبَدَ الْآبِدِينَ، وَلَمَّا كَانَ اسْمُ الْفَاجِرِ يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ وَالْمُسْلِمَ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ ثَبَتَ بَقَاءُ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ أَبَدًا فِي النَّارِ، وَثَبَتَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلْمُطِيعِينَ لَا لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ دَلَالَةَ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ دَلَالَةٌ ظَنِّيَّةٌ ضَعِيفَةٌ وَالْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةٌ. وَالتَّمَسُّكُ بِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ فِي الْمَطْلُوبِ الْقَطْعِيِّ غَيْرُ جَائِزٍ، بَلْ هَاهُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا: لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الْمَعْهُودِ السَّابِقِ شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ هَاهُنَا عَائِدًا إِلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ، سَلَّمْنَا أَنَّ الْعُمُومَ يُفِيدُ الْقَطْعَ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ فَاجِرٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ: أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عَبَسَ: 42] فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الَّذِينَ يَكُونُونَ مِنْ جِنْسِ الْفَجَرَةِ أَوِ الْمُرَادُ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ وَهُمُ الْفَجَرَةُ وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّ كُلَّ كَافِرٍ فَهُوَ فَاجِرٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَتَقْيِيدُ الْكَافِرِ بِالْكَافِرِ/ الَّذِي يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْفَجَرَةِ عَبَثٌ، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ بَقِيَ الثَّانِي، وَذَلِكَ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَإِذَا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ هُمُ الْفَجَرَةُ لَا غَيْرُهُمْ، ثَبَتَ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ بِفَاجِرٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، سَلَّمْنَا أَنَّ الْفُجَّارَ يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْكَافِرُ وَالْمُسْلِمُ، لَكِنَّ قَوْلَهُ: وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ مَعْنَاهُ أَنَّ مَجْمُوعَ الْفُجَّارِ لَا يَكُونُونَ غَائِبِينَ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ: فَإِنَّ أَحَدَ نَوْعَيِ الْفُجَّارِ وَهُمُ الْكُفَّارُ لَا يَغِيبُونَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ صِدْقَ قَوْلِنَا إِنِ الْفُجَّارَ بِأَسْرِهِمْ لَا يَغِيبُونَ، يَكْفِي فِيهِ أَنْ لَا يَغِيبَ الْكُفَّارُ، فَلَا حَاجَةَ فِي صِدْقِهِ إِلَى أَنْ لَا يَغِيبَ الْمُسْلِمُونَ، سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنَّ قَوْلَهُ: وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ فِي الْحَالِ فِي الْجَحِيمِ وَذَلِكَ كَذِبٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهِ عَنِ الظَّاهِرِ، فَهُمْ يَحْمِلُونَهُ عَلَى أَنَّهُمْ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْجَحِيمِ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ: وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ وَنَحْنُ نَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ فِي الْحَالِ لَيْسُوا غَائِبِينَ عَنِ اسْتِحْقَاقِ الْكَوْنِ فِي الْجَحِيمِ، إِلَّا أَنَّ ثُبُوتَ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يُنَافِي الْعَفْوَ، سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَفْوِ وَعَلَى ثُبُوتِ الشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ

[سورة الانفطار (82) : الآيات 17 إلى 19]

الْكَبَائِرِ، وَالتَّرْجِيحُ لِهَذَا الْجَانِبِ، لِأَنَّ دَلِيلَهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَنَاوَلَ جَمِيعَ الْفُجَّارِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُمْ، وَدَلِيلُنَا يَكْفِي فِي صِحَّتِهِ تَنَاوُلُهُ لِبَعْضِ الْفُجَّارِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَدَلِيلُهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَامًّا، وَدَلِيلُنَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ خَاصًّا وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِيهِ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ لِلْعُصَاةِ حُكِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ مَرَّ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يُرِيدُ مَكَّةَ، فَقَالَ لِأَبِي حَازِمٍ: كَيْفَ الْقُدُومُ عَلَى اللَّهِ غَدًا؟ قَالَ: أَمَّا الْمُحْسِنُ فَكَالْغَائِبِ يَقْدُمُ مِنْ سَفَرِهِ عَلَى أَهْلِهِ، وَأَمَّا الْمُسِيءُ فَكَالْآبِقِ يَقْدُمُ عَلَى مَوْلَاهُ، قَالَ: فَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: لَيْتَ شِعْرِي مَا لَنَا عِنْدَ اللَّهِ! فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: اعْرِضْ عَمَلَكَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فِي أَيِّ مَكَانٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: النَّعِيمُ الْمَعْرِفَةُ وَالْمُشَاهَدَةُ، وَالْجَحِيمُ ظُلُمَاتُ الشَّهَوَاتِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: النَّعِيمُ الْقَنَاعَةُ، وَالْجَحِيمُ الطَّمَعُ، وَقِيلَ: النَّعِيمُ التَّوَكُّلُ، وَالْجَحِيمُ الْحِرْصُ، وَقِيلَ: النَّعِيمُ الِاشْتِغَالُ بِاللَّهِ، والجحيم الاشتغال بغير الله تعالى. النَّوْعُ الرَّابِعُ: مِنْ تَفَارِيعِ الْحَشْرِ تَعْظِيمُ يَوْمِ القيامة، وهو قوله تعالى: [سورة الانفطار (82) : الآيات 17 الى 19] وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ خِطَابٌ لِلْكَافِرِ عَلَى وَجْهِ الزَّجْرِ لَهُ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّهُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ، وَإِنَّمَا خَاطَبَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ قَبْلَ الْوَحْيِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ التَّكْرِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ لِتَعْظِيمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: بَلْ هُوَ لِفَائِدَةٍ مُجَدَّدَةٍ، إِذِ الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ أَهْلُ النَّارِ، وَالْمُرَادُ بِالثَّانِي أَهْلُ الْجَنَّةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يُعَامَلُ بِهِ الْفُجَّارُ فِي يَوْمِ الدِّينِ؟ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يُعَامَلُ بِهِ الْأَبْرَارُ فِي يَوْمِ الدِّينِ؟ وَكَرَّرَ يَوْمَ الدِّينِ تَعْظِيمًا لِمَا يَفْعَلُهُ تَعَالَى مِنَ الْأَمْرَيْنِ بِهَذَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ قِرَاءَتَانِ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ، أَمَّا الرَّفْعُ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: عَلَى الْبَدَلِ مِنْ يَوْمِ الدِّينِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِإِضْمَارِ هُوَ فَيَكُونُ الْمَعْنَى هُوَ يَوْمٌ لَا تَمْلِكُ، وَأَمَّا النَّصْبُ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: بِإِضْمَارِ يُدَانُونَ لِأَنَّ الدِّينَ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَثَانِيهَا: بِإِضْمَارِ اذْكُرُوا وَثَالِثُهَا: مَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ إِلَّا أَنَّهُ يُبْنَى عَلَى الْفَتْحِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى قَوْلِهِ: لَا تَمْلِكُ وَمَا أُضِيفَ إِلَى غَيْرِ الْمُتَمَكِّنِ قَدْ يُبْنَى عَلَى الْفَتْحِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ أَوْ جَرٍّ كَمَا قَالَ: لَمْ يَمْنَعِ الشُّرْبَ مِنْهُمْ غَيْرَ أَنْ نَطَقَتْ ... حَمَامَةٌ فِي غُصُونٍ ذَاتِ أو قال فَبُنِيَ غَيْرُ عَلَى الْفَتْحِ لَمَّا أُضِيفَ إِلَى قَوْلِهِ أَنْ نَطَقَتْ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالَّذِي ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ مِنَ الْبِنَاءِ عَلَى الْفَتْحِ إِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ، إِذَا كَانَتِ الْإِضَافَةُ إِلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي، نَحْوَ قَوْلِكَ عَلَى حِينِ عَاتَبْتُ، أَمَّا مَعَ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ عِنْدَهُمْ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عِنْدَ قَوْلِهِ: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [الْمَائِدَةِ: 119] وَرَابِعُهَا: مَا ذَكَرَهُ أبو علي وهو أن اليوم لما جرا في أكثر

الْأَمْرِ ظَرْفًا تُرِكَ عَلَى حَالَةِ الْأَكْثَرِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْقُرَّاءِ وَالْعَرَبِ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ [الْأَعْرَافِ: 168] وَلَا يَرْفَعُ ذَلِكَ أَحَدٌ. وَمِمَّا يُقَوِّي النَّصْبَ قَوْلُهُ: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ [الْقَارِعَةِ: 3، 4] وقوله: يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذَّارِيَاتِ: 12، 13] فَالنَّصْبُ فِي يَوْمَ لَا تَمْلِكُ مِثْلُ هَذَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَمَسَّكُوا فِي نَفْيِ الشَّفَاعَةِ لِلْعُصَاةِ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [الْبَقَرَةِ: 48] وَالْجَوَابُ: عَنْهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا كَانُوا يَتَغَلَّبُونَ عَلَى الْمُلْكِ وَيُعِينُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي أُمُورٍ، وَيَحْمِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بطل ملك بنى الدنيا وزالت رئاستهم، فَلَا يَحْمِي أَحَدٌ أَحَدًا، وَلَا يُغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَتَغَلَّبُ أَحَدٌ عَلَى مُلْكٍ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ وَقَوْلُهُ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَةِ: 4] وَهُوَ وَعِيدٌ عَظِيمٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عَرَّفَهُمْ أَنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ إِلَّا الْبِرُّ وَالطَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ دُونَ سَائِرِ مَا كَانَ قَدْ يُغْنِي عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ وَأَعْوَانٍ وَشُفَعَاءَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُمَلِّكْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَحَدًا شَيْئًا مِنَ الْأُمُورِ، كَمَا مَلَّكَهُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا. قَالَ الْوَاسِطِيُّ: فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً إِشَارَةٌ إِلَى فَنَاءِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُنَاكَ تَذْهَبُ الرِّسَالَاتُ وَالْكَلِمَاتُ وَالْغَايَاتُ، فَمَنْ كَانَتْ صِفَتُهُ فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ كَانَتْ دُنْيَاهُ أُخْرَاهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْبَقَاءَ وَالْوُجُودَ لِلَّهِ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْأَزَلِ وَفِي الْيَوْمِ وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، فَالتَّفَاوُتُ عَائِدٌ إِلَى أَحْوَالِ النَّاظِرِ، لَا إِلَى أَحْوَالِ الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ، فَالْكَامِلُونَ لَا تَتَفَاوَتُ أَحْوَالُهُمْ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْأَوْقَاتِ، كَمَا قَالَ: لَوْ كُشِفَ/ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا، وَكَحَارِثَةَ لَمَّا أُخْبِرَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ وَكَأَنِّي وَكَأَنِّي» وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالمين.

سورة المطففين

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة المطففين ثلاثون وست آيات مكية [سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) اعْلَمْ أَنَّ اتِّصَالَ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِآخِرِ السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي آخِرِ تِلْكَ السُّورَةِ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ مِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَهْدِيدًا عَظِيمًا لِلْعُصَاةِ، فَلِهَذَا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ وَالْمُرَادُ الزَّجْرُ عَنِ التَّطْفِيفِ، وَهُوَ الْبَخْسُ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ بِالشَّيْءِ الْقَلِيلِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَثِيرَ يَظْهَرُ فَيُمْنَعُ مِنْهُ، وَذَلِكَ الْقَلِيلُ إِنْ ظَهَرَ أَيْضًا مُنِعَ مِنْهُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ التَّطْفِيفَ هُوَ الْبَخْسُ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ بِالشَّيْءِ الْقَلِيلِ عَلَى سَبِيلِ الخفية، وهاهنا مسائل: المسألة الأول: الْوَيْلُ، كَلِمَةٌ تُذْكَرُ عِنْدَ وُقُوعِ الْبَلَاءِ، يُقَالُ: وَيْلٌ لَكَ، وَوَيْلٌ عَلَيْكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي اشْتِقَاقِ لَفْظِ الْمُطَفِّفِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ طَفَّ الشَّيْءِ هُوَ جَانِبُهُ وَحَرْفُهُ، يُقَالُ: طَفَّ الْوَادِي وَالْإِنَاءُ، إِذَا بَلَغَ الشَّيْءُ الَّذِي فِيهِ حَرْفَهُ وَلَمْ يَمْتَلِئْ فَهُوَ طِفَافُهُ وَطَفَافُهُ وَطَفَفُهُ، وَيُقَالُ: هَذَا طَفُّ الْمِكْيَالِ وَطَفَافُهُ، إِذَا قَارَبَ مَلْأُهُ لكنه بعد لم يمتلئ، ولهذا قيل: الذي يُسِيءُ الْكَيْلَ وَلَا يُوَفِّيهِ مُطَفِّفٌ، يَعْنِي أَنَّهُ إِنَّمَا يَبْلُغُ الطِّفَافَ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ: أَنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ لِلَّذِي يَنْقُصُ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ مُطَفِّفٌ، لِأَنَّهُ يَكُونُ الَّذِي لَا يَسْرِقُ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ إِلَّا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ الطَّفِيفَ، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ الِاكْتِيَالَ الْأَخْذُ بِالْكَيْلِ، كَالِاتِّزَانِ الْأَخْذُ بِالْوَزْنِ، ثُمَّ إِنَّ اللُّغَةَ الْمُعْتَادَةَ أَنْ يُقَالَ: اكْتَلْتُ مِنْ فُلَانٍ، وَلَا يُقَالُ: اكْتَلْتُ عَلَى فُلَانٍ، فَمَا الْوَجْهُ فِيهِ هَاهُنَا؟ الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: لَمَّا كَانَ اكْتِيَالُهُمْ مِنَ النَّاسِ اكْتِيَالًا فِيهِ إِضْرَارٌ بِهِمْ وَتَحَامُلٌ عَلَيْهِمْ، أُقِيمَ عَلَى مُقَامٍ مِنَ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ الثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُرَادُ اكْتَالُوا مِنَ النَّاسِ، وَعَلَى وَمِنْ/ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَعْتَقِبَانِ لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ، فَإِذَا قَالَ اكْتَلْتُ عَلَيْكَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ أَخَذْتُ مَا عَلَيْكَ، وَإِذَا قَالَ اكتلت منك، فهو كقوله استوفيت

السُّؤَالُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ اللُّغَةَ الْمُعْتَادَةَ أَنْ يُقَالَ كَالُوا لَهُمْ، أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ، وَلَا يُقَالُ كِلْتُهُ وَوَزَنْتُهُ فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ قَوْلِهِ (كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ، فَحُذِفَ الْجَارُّ وَأُوصِلَ الْفِعْلُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: وَهَذَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَمَنْ جَاوَرَهُمْ يَقُولُونَ: زِنِي كَذَا، كِلِي كَذَا، وَيَقُولُونَ صِدْتُكَ وَصِدْتُ لَكَ، وَكَسَبْتُكَ وَكَسَبْتُ لَكَ، فَعَلَى هَذَا الْكِنَايَةُ فِي كَالُوهُمْ وَوَزَنُوهُمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذَا كَالُوا مَكِيلَهُمْ، أَوْ وَزَنُوا مَوْزُونَهُمْ الثَّالِثُ: يُرْوَى عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَرَ، وَحَمْزَةَ أَنَّهُمَا كَانَا يَجْعَلَانِ الضَّمِيرَيْنِ تَوْكِيدًا لِمَا فِي كَالُوا وَيَقِفَانِ عِنْدَ الْوَاوَيْنِ وُقَيْفَةً يُبَيِّنَانِ بِهَا مَا أَرَادَا، وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِمَعْنَى كَالُوهُمْ لَكَانَ فِي الْمُصْحَفِ أَلِفٌ مُثْبَتَةٌ قَبْلَ هُمْ، وَاعْتَرَضَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَلَى هَذِهِ الْحُجَّةِ، فَقَالَ إِنَّ خَطَّ الْمُصْحَفِ لَمْ يُرَاعِ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ حَدَّ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي عِلْمِ الحظ وَالْجَوَابُ أَنَّ إِثْبَاتَ هَذِهِ الْأَلِفِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَادًا فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ فَكَانَ يَجِبُ إِثْبَاتُهَا فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ، لِمَا أَنَّا نَعْلَمُ مُبَالَغَتَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ إِثْبَاتَ هَذِهِ الْأَلِفِ كَانَ مُعْتَادًا فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ فَكَانَ يَجِبُ إِثْبَاتُهُ هَاهُنَا. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا السَّبَبُ فِي أَنَّهُ قَالَ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا وَلَمْ يَقُلْ إِذَا اتَّزَنُوا، ثُمَّ قَالَ: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ فجمع بينهما؟ الجواب: أَنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ بِهِمَا الشِّرَاءُ وَالْبَيْعُ فَأَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْآخَرِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: اللُّغَةُ الْمُعْتَادَةُ أَنْ يُقَالَ خَسَرْتُهُ، فَمَا الْوَجْهُ فِي أَخْسَرْتُهُ؟ الْجَوَابُ قَالَ الزَّجَّاجُ: أَخْسَرْتُ الْمِيزَانَ وَخَسَرْتُهُ سَوَاءٌ أَيْ نَقَصْتُهُ، وَعَنِ الْمُؤَرِّجِ يُخْسِرُونَ يَنْقُصُونَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ نَبِيُّ اللَّهِ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَبْخَسِ النَّاسِ كَيْلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقِيلَ كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ تُجَّارًا يُطَفِّفُونَ وَكَانَتْ بِيَاعَاتُهُمُ الْمُنَابَذَةَ وَالْمُلَامَسَةَ وَالْمُخَاطَرَةَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ، وَقَالَ «خَمْسٌ بِخَمْسٍ» قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا خَمْسٌ بِخَمْسٍ؟ قَالَ مَا نقص قَوْمٌ الْعَهْدَ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ، وَمَا حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الْفَقْرُ، وَمَا ظَهَرَتْ فِيهِمُ الْفَاحِشَةُ إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الْمَوْتُ، وَلَا طَفَّفُوا الْكَيْلَ إِلَّا مُنِعُوا النَّبَاتَ وَأُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَلَا مَنَعُوا الزَّكَاةَ إِلَّا حُبِسَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ» . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الذَّمُّ إِنَّمَا لَحِقَهُمْ بِمَجْمُوعِ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ زَائِدًا، وَيَدْفَعُونَ نَاقِصًا، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى الْوَعِيدِ، فَلَا تَتَنَاوَلُ إِلَّا إِذَا بَلَغَ التَّطْفِيفُ حَدَّ الْكَثِيرِ، وَهُوَ نِصَابُ السَّرِقَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ مَا يَصْغُرُ وَيَكْبُرُ دَخَلَ تَحْتَ الْوَعِيدِ، لَكِنْ بِشَرْطِ/ أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُ تَوْبَةٌ وَلَا طَاعَةٌ أَعْظَمُ مِنْهَا، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُ الْوَعِيدِ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، قَالُوا: وَهَذِهِ الْآيَةُ وَارِدَةٌ فِي أَهْلِ الصَّلَاةِ لَا فِي الْكُفَّارِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ الْأَوَلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَافِرًا لَكَانَ ذَلِكَ الْكُفْرُ أَوْلَى بِاقْتِضَاءِ هَذَا الْوَيْلِ مِنَ التَّطَفِيفِ، فَلَمْ يَكُنْ حِينَئْذٍ لِلتَّطْفِيفِ أَثَرٌ فِي هَذَا الْوَيْلِ، لَكِنَّ الْآيَةَ دَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِهَذَا الْوَيْلِ هُوَ التَّطْفِيفُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لِلْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ [الْمُطَفِّفِينَ: 4، 5] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى هَدَّدَ الْمُطَّفِفِينَ بِعَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالتَّهْدِيدُ بِهَذَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْمُؤْمِنِ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ هذا

[سورة المطففين (83) : الآيات 4 إلى 6]

الْوَعِيدَ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الصَّلَاةِ وَالْجَوَابُ: عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَمِنْ لَوَاحِقِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ يَتَنَاوَلُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَمَنْ يَعْزِمُ عَلَيْهِ إِذِ الْعَزْمُ عَلَيْهِ أَيْضًا مِنَ الْكَبَائِرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَمْرَ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ عَظِيمٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَامَّةَ الْخَلْقِ يَحْتَاجُونَ إِلَى الْمُعَامَلَاتِ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَمْرِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ عَظَّمَ اللَّهُ أَمْرَهُ فَقَالَ: وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ [الرَّحْمَنِ: 7- 9] وَقَالَ: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الْحَدِيدِ: 25] وَعَنْ قَتَادَةَ: «أَوْفِ يَا ابْنَ آدَمَ الْكَيْلَ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُوَفَّى لَكَ، وَاعْدِلْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُعْدَلَ لَكَ» وَعَنِ الْفُضَيْلِ: بَخْسُ الْمِيزَانِ سَوَادُ الْوَجْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: قَدْ سَمِعْتَ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُطَفِّفِينَ! أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُطَفِّفَ قَدْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ الْعَظِيمُ فِي أَخْذِ الْقَلِيلِ، فَمَا ظَنُّكَ بِنَفْسِكَ وَأَنْتَ تَأْخُذُ الْكَثِيرَ، وَتَأْخُذُ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِلَا كَيْلٍ وَلَا وزن. [سورة المطففين (83) : الآيات 4 الى 6] أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَبَخَّ هَؤُلَاءِ الْمُطَفِّفِينَ فَقَالَ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ الَّذِينَ يُطَفِّفُونَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَفِي الظَّنِّ هَاهُنَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْعِلْمُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُونَ بِهَذَا الْخِطَابِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُصَدِّقِينَ بِالْبَعْثِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونُوا كَذَلِكَ أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُمُ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ كَانُوا كَذَلِكَ، وَحِينَ وَرَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ ذَلِكَ شَائِعًا فِيهِمْ، وَكَانُوا مُصَدِّقِينَ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، فَلَا جَرَمَ ذُكِّرُوا بِهِ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: بِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِالْبَعْثِ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، لِمَا فِي الْعُقُولِ مِنْ إِيصَالِ الْجَزَاءِ إِلَى الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ، أَوْ/ إِمْكَانِ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ وُجُوبُهُ، وَهَذَا مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُخَاطَبَ بِهِ مَنْ يُنْكِرُ الْبَعْثَ، وَالْمَعْنَى أَلَا يَتَفَكَّرُونَ حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لَكِنَّهُمْ قَدْ أَعْرَضُوا عَنِ التَّفَكُّرِ، وَأَرَاحُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ مَتَاعِبِهِ وَمَشَاقِّهِ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُ الْعِلْمُ الِاسْتِدْلَالَ ظَنًّا، لِأَنَّ أَكْثَرَ الْعُلُومِ الِاسْتِدْلَالِيَّةِ رَاجِعٌ إِلَى الْأَغْلَبِ فِي الرَّأْيِ، وَلَمْ يَكُنْ كَالشَّكِّ الَّذِي يَعْتَدِلُ الْوَجْهَانِ فِيهِ لَا جَرَمَ سُمِّيَ ذَلِكَ ظَنًّا الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الظَّنِّ هَاهُنَا هُوَ الظَّنُّ نَفْسُهُ لَا الْعِلْمُ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُطَفِّفِينَ هَبْ أَنَّهُمْ لَا يَجْزِمُونَ بِالْبَعْثِ وَلَكِنْ لَا أَقَلَّ مِنَ الظَّنِّ، فَإِنَّ الْأَلْيَقَ بِحِكْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَرِعَايَتِهِ مَصَالِحَ خَلْقِهِ أَنْ لَا يُهْمِلَ أَمْرَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ حَشْرٌ وَنَشْرٌ، وَأَنَّ هَذَا الظَّنَّ كَافٍ فِي حُصُولِ الْخَوْفِ، كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ: هَبْ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَقْطَعُونَ بِهِ أَفَلَا يَظُنُّونَهُ أَيْضًا، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ يَوْمَ بِالنَّصْبِ وَالْجَرِّ، أَمَّا النَّصْبُ فَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَوْمَ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ مَبْعُوثُونَ وَالْمَعْنَى أَلَا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَقَدْ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ إِلَّا أَنَّهُ أُضِيفُ إِلَى يَفْعُلَ فَنُصِبَ، وَهَذَا كَمَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ وَأَمَّا الْجَرُّ فَلِكَوْنِهِ بدلا من لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا الْقِيَامُ لَهُ صِفَاتٌ:

[سورة المطففين (83) : الآيات 7 إلى 17]

الصِّفَةُ الْأُولَى: سَبَبُهُ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ النَّاسَ يَقُومُونَ لِمُحَاسَبَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَيَظْهَرُ هُنَاكَ هَذَا التَّطْفِيفُ الَّذِي يُظَنُّ أَنَّهُ حَقِيرٌ، فَيَعْرِفُ هُنَاكَ كَثْرَتَهُ وَاجْتِمَاعَهُ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَنِ: 46] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَرُدُّ الْأَرْوَاحَ إِلَى أَجْسَادِهَا فَتَقُومُ تِلْكَ الْأَجْسَادُ مِنْ مَرَاقِدِهَا، فَذَاكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ مَعْنَى: يَقُومُ النَّاسُ هُوَ كَقَوْلِهِ: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [الْبَقَرَةِ: 238] أَيْ لِعِبَادَتِهِ فَقَوْلُهُ: يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أَيْ لِمَحْضِ أَمْرِهِ وَطَاعَتِهِ لَا لِشَيْءٍ آخَرَ، عَلَى مَا قَرَّرَهُ فِي قَوْلِهِ: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الِانْفِطَارِ: 19] . الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ الْقِيَامِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ: «يَقُومُ أَحَدُكُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ» وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ قَوْلَهُ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ بَكَى نَحِيبًا حَتَّى عَجَزَ عَنْ قِرَاءَةِ مَا بَعْدَهُ» . الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: كِمِّيَّةُ ذَلِكَ الْقِيَامِ، رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «يَقُومُ النَّاسُ مِقْدَارَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ مِنَ الدُّنْيَا لَا يُؤْمَرُ فِيهِمْ بِأَمْرٍ» وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «يَمْكُثُونَ أَرْبَعِينَ عَامًا ثُمَّ يُخَاطَبُونَ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ كَقَدْرِ انْصِرَافِهِمْ مِنَ الصَّلَاةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْوَاعًا من التهديد، فقال أولا: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: 1] وَهَذِهِ/ الْكَلِمَةُ تُذْكَرُ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ، ثُمَّ قَالَ ثَانِيًا: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، ثُمَّ قَالَ ثَالِثًا: لِيَوْمٍ عَظِيمٍ وَالشَّيْءُ الَّذِي يَسْتَعْظِمُهُ اللَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ، ثُمَّ قَالَ رَابِعًا: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَفِيهِ نَوْعَانِ مِنَ التَّهْدِيدِ أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُمْ قَائِمِينَ مَعَ غَايَةِ الْخُشُوعِ وَنِهَايَةِ الذِّلَّةِ وَالِانْكِسَارِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ، ثُمَّ هَاهُنَا سُؤَالٌ وَهُوَ كَأَنَّهُ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَلِيقُ بِكَ مَعَ غاية عظمتك أي تهيء هذا المحفل العظيم الذي هو محفل القيلة لِأَجْلِ الشَّيْءِ الْحَقِيرِ الطَّفِيفِ؟ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُجِيبُ، فَيَقُولُ عَظَمَةُ الْإِلَهِيَّةِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْعَظَمَةِ فِي الْقُدْرَةِ وَالْعَظَمَةِ فِي الْحِكْمَةِ، فَعَظَمَةُ الْقُدْرَةِ ظَهَرَتْ بِكَوْنِي رَبًّا لِلْعَالَمِينَ، لَكِنَّ عَظَمَةَ الْحِكْمَةِ لَا تَظْهَرُ إِلَّا بِأَنْ أَنْتَصَفَ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقَدْرِ الْحَقِيرِ الطَّفِيفِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا كَانَ أَحْقَرَ وَأَصْغَرَ كَانَ الْعِلْمُ الْوَاصِلُ إِلَيْهِ أَعْظَمَ وَأَتَمَّ، فَلِأَجْلِ إِظْهَارِ الْعَظَمَةِ فِي الْحِكْمَةِ أَحْضَرْتُ خَلْقَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي مَحْفَلِ الْقِيَامَةِ، وَحَاسَبْتُ الْمُطَفِّفَ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْقَدْرِ الطَّفِيفِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ: لَفْظُ الْمُطَفِّفِ يَتَنَاوَلُ التَّطْفِيفَ فِي الْوَزْنِ وَالْكَيْلِ، وَفِي إِظْهَارِ الْعَيْبِ وَإِخْفَائِهِ، وَفِي طَلَبِ الْإِنْصَافِ وَالِانْتِصَافِ، وَيُقَالُ: مَنْ لَمْ يَرْضَ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ، فَلَيْسَ بِمُنْصِفٍ وَالْمُعَاشَرَةُ وَالصُّحْبَةُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَالَّذِي يَرَى عَيْبَ النَّاسِ، وَلَا يَرَى عَيْبَ نَفْسِهِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَمَنْ طَلَبَ حَقَّ نَفْسِهِ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يُعْطِيهِمْ حُقُوقَهُمْ كَمَا يَطْلُبُهُ لِنَفْسِهِ، فَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَالْفَتَى مَنْ يَقْضِي حُقُوقَ النَّاسِ وَلَا يطلب من أحد لنفسه حقا. [سورة المطففين (83) : الآيات 7 الى 17] كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)

وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ عِظَمَ هَذَا الذَّنْبِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ لَوَاحِقِهِ وَأَحْكَامِهِ فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: كَلَّا وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رَدْعٌ وَتَنْبِيهٌ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّطْفِيفِ وَالْغَفْلَةِ، عَنْ ذِكْرِ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ فَلْيَرْتَدِعُوا، وَتَمَامُ الْكَلَامِ هَاهُنَا الثَّانِي: قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كَلَّا ابْتِدَاءٌ يَتَّصِلُ بِمَا بَعْدَهُ عَلَى مَعْنَى حَقًّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. النَّوْعُ الثَّانِي: أنه تعالى وصف كتاب الفجار بالخيبة وَالْحَقَارَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَافِ بِهِمْ، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: السِّجِّينُ اسْمُ عَلَمٍ لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ أَوِ اسْمٌ مُشْتَقٌّ عَنْ مَعْنًى؟ قُلْنَا فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ الْأَرْضُ السَّابِعَةُ السُّفْلَى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ زَيْدٍ، وَرَوَى الْبَرَاءُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «سِجِّينٌ أَسْفَلُ سَبْعِ أَرَضِينَ» قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: وَفِيهَا إِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «سِجِّينٌ جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ» وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ: سِجِّينٌ صَخْرَةٌ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُشْتَقٌّ وَسُمِّيَ سِجِّينًا فِعِّيلًا مِنَ السِّجْنِ، وَهُوَ الْحَبْسُ وَالتَّضْيِيقُ كَمَا يُقَالُ: فِسِّيقٌ مِنَ الْفِسْقِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالْمُبَرِّدِ وَالزَّجَّاجِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا ضَعِيفٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ سِجِّينًا لَيْسَ مِمَّا كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُهُ قَوْلُهُ: وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا كُنْتَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَقَوْمُكَ. وَلَا أَقُولُ هَذَا ضَعِيفٌ، فَلَعَلَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ سِجِّينٍ. كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ [الإنفطار: 17] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَالصَّحِيحُ أَنَّ السِّجِّينَ فِعِّيلٌ مَأْخُوذٌ مِنَ السِّجْنِ، ثُمَّ إِنَّهُ هَاهُنَا اسْمُ علم منقول من صف كَحَاتِمٍ وَهُوَ مُنْصَرِفٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا سَبَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ التَّعْرِيفُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَنَقُولُ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى أُمُورًا مَعَ عِبَادِهِ عَلَى مَا تَعَارَفُوهُ مِنَ التَّعَامُلِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عُظَمَائِهِمْ. فَالْجَنَّةُ مَوْصُوفَةٌ بِالْعُلُوِّ وَالصَّفَاءِ وَالْفُسْحَةِ وَحُضُورِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَالسِّجِّينُ مَوْصُوفٌ بِالتَّسَفُّلِ وَالظُّلْمَةِ وَالضِّيقِ وَحُضُورِ الشَّيَاطِينِ الْمَلْعُونِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعُلُوَّ وَالصَّفَاءَ وَالْفُسْحَةَ وَحُضُورَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْعِزَّةِ، وَأَضْدَادُهَا مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَالذِّلَّةِ، فَلَمَّا أُرِيدَ وَصْفُ الْكَفَرَةِ وَكِتَابِهِمْ بِالذِّلَّةِ وَالْحَقَارَةِ، قِيلَ: إنه في

مَوْضِعِ التَّسَفُّلِ وَالظُّلْمَةِ وَالضِّيقِ، وَحُضُورِ الشَّيَاطِينِ، وَلَمَّا وَصَفَ كِتَابَ الْأَبْرَارِ بِالْعِزَّةِ قِيلَ: إِنَّهُ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: 18] . ويَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ. [الْمُطَفِّفِينَ: 21] . السُّؤَالُ الثَّانِي: قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ كِتَابِ الْفُجَّارِ بِأَنَّهُ لَفِي سِجِّينٍ ثُمَّ فَسَّرَ سِجِّينًا بِ كِتابٌ مَرْقُومٌ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ كِتَابَهُمْ فِي كِتَابٍ مَرْقُومٍ فَمَا مَعْنَاهُ؟ أَجَابَ الْقَفَّالُ: فَقَالَ قَوْلُهُ: كِتابٌ مَرْقُومٌ لَيْسَ تَفْسِيرًا لِسِجِّينٍ، بَلِ التَّقْدِيرُ: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ، وَإِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ كِتَابٌ مَرْقُومٌ، فَيَكُونُ هَذَا وَصْفًا لِكِتَابِ الْفُجَّارِ بِوَصْفَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي سِجِّينٍ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَرْقُومٌ، وَوَقَعَ قَوْلُهُ: وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ فِيمَا بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ مُعْتَرِضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: وَأَيُّ اسْتِبْعَادٍ فِي كَوْنِ أَحَدِ الْكِتَابَيْنِ فِي الْآخَرِ، إِمَّا بِأَنْ يُوضَعَ كِتَابُ الْفُجَّارِ في الكتاب الذي هو الأصل المرجوع إلى فِي تَفْصِيلِ أَحْوَالِ الْأَشْقِيَاءِ، أَوْ بِأَنْ يُنْقَلَ مَا فِي كِتَابِ الْفُجَّارِ إِلَى ذَلِكَ الْكِتَابِ الْمُسَمَّى بِالسِّجِّينِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ، الْكِتَابَةَ فَيَكُونُ فِي الْمَعْنَى: كِتَابَةُ الْفُجَّارِ فِي سِجِّينٍ، أَيْ كِتَابَةُ أَعْمَالِهِمْ فِي سِجِّينٍ، ثُمَّ وُصِفَ السِّجِّينُ بِأَنَّهُ كِتابٌ مَرْقُومٌ فِيهِ جَمِيعُ أَعْمَالِ الْفُجَّارِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: كِتابٌ مَرْقُومٌ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مَرْقُومٌ أَيْ مَكْتُوبَةٌ أَعْمَالُهُمْ فِيهِ وَثَانِيهَا: قَالَ قَتَادَةُ: رُقِمَ لَهُمْ بِسُوءٍ أَيْ كُتِبَ لَهُمْ بِإِيجَابِ النَّارِ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْقَفَّالُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ الْكِتَابَ مَرْقُومًا، كَمَا يَرْقُمُ التَّاجِرُ ثَوْبَهُ عَلَامَةً لِقِيمَتِهِ، فَكَذَلِكَ كِتَابُ الْفَاجِرِ جُعِلَ مَرْقُومًا بِرَقْمٍ دَالٍّ عَلَى شَقَاوَتِهِ وَرَابِعُهَا: الْمَرْقُومُ: هَاهُنَا الْمَخْتُومُ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْخَتْمَ عَلَامَةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الْمَرْقُومُ مَخْتُومًا وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى كِتَابٌ مُثْبَتٌ عَلَيْهِمْ كَالرَّقْمِ فِي الثَّوْبِ لَا يَنْمَحِي، أَمَّا قَوْلُهُ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ أَيْ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين: 83] وَيْلٌ لِمَنْ كَذَّبَ بِأَخْبَارِ اللَّهِ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: مَرْقُومٌ مَعْنَاهُ رُقِمَ بِرَقْمٍ يَدُلُّ عَلَى الشَّقَاوَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ صِفَةِ مَنْ يُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ فَقَالَ: وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ إِلَّا مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ فَأَوَّلُهَا: كَوْنُهُ مُعْتَدِيًا، وَالِاعْتِدَاءُ هُوَ التَّجَاوُزُ عَنِ الْمَنْهَجِ الْحَقِّ وَثَانِيهَا: الْأَثِيمُ وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي ارْتِكَابِ الْإِثْمِ وَالْمَعَاصِي. وَأَقُولُ الْإِنْسَانَ لَهُ قُوَّتَانِ قُوَّةٌ نَظَرِيَّةٌ وَكَمَالُهَا فِي أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ، وَقُوَّةٌ عَمَلِيَّةٌ وَكَمَالُهَا فِي أَنْ يَعْرِفَ الْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَضِدُّ الْأَوَّلِ أَنْ يَصِفَ اللَّهَ تَعَالَى بِمَا لَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ إِنَّمَا مَنَعَ إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ تَعَلُّقَ عِلْمِ اللَّهِ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ تَعَلُّقَ قُدْرَةِ اللَّهِ بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ. فَهَذَا الِاعْتِدَاءُ ضِدُّ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، هُوَ الِاشْتِغَالُ بِالشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَصَاحِبُهُ هُوَ الْأَثِيمُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْتَغِلَ بِالشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ قَلَّمَا يَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، وَرُبَّمَا صَارَ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْقِيَامَةِ. وَأَمَّا الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: لِلْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ فَهُوَ قَوْلُهُ: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ/ الْأَوَّلِينَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ النُّبُوَّةَ، وَالْمَعْنَى إِذَا تُلِيَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَكَاذِيبُ الْأَوَّلِينَ وَالثَّانِي: أَخْبَارُ الْأَوَّلِينَ وَأَنَّهُ عَنْهُمْ أُخِذَ أَيْ يَقْدَحُ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَهَاهُنَا بَحْثٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةَ هَلِ الْمُرَادُ مِنْهَا شَخْصٌ مُعَيَّنٌ أولا؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ: أَنَّ

الْمُرَادَ مِنْهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ الْوَلِيدُ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ ن: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ إِلَى قَوْلِهِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِلَى قَوْلِهِ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [ن: 10- 15] فَقِيلَ إِنَّهُ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمَعْنَى: وَمَا يُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، وَهَذَا هُوَ الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ فَالْمَعْنَى لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، بَلْ أَفْعَالُهُمُ الْمَاضِيَةُ صَارَتْ سَبَبًا لِحُصُولِ الرَّيْنِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَلِأَهْلِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ لَفْظَةِ الرَّيْنِ وُجُوهٌ، وَلِأَهْلِ التَّفْسِيرِ وُجُوهٌ أُخَرُ، أَمَّا أَهْلُ اللُّغَةِ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ غَلَبَ عَلَيْهَا وَالْخَمْرُ تَرِينُ عَلَى عَقْلِ السَّكْرَانِ، وَالْمَوْتُ يَرِينُ عَلَى الْمَيِّتِ فَيَذْهَبُ بِهِ، قَالَ اللَّيْثُ: رَانَ النُّعَاسُ وَالْخَمْرُ في الرأس إذا رسخ فيه، وهو يريد رَيْنًا، وَرُيُونًا، وَمِنْ هَذَا حَدِيثُ عُمَرَ فِي أُسَيْفِعِ جُهَيْنَةَ لَمَّا رَكِبَهُ الدِّينُ «أَصْبَحَ قَدْ رِينَ بِهِ» قَالَ أَبُو زَيْدٍ: يُقَالُ: رِينَ بِالرَّجُلِ يُرَانُ بِهِ رَيْنًا إِذَا وَقَعَ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ مِنْهُ. قَالَ أَبُو مُعَاذٍ النَّحْوِيُّ: الرَّيْنُ أَنْ يَسْوَدَّ الْقَلْبُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالطَّبْعُ أَنْ يُطْبَعَ عَلَى الْقَلْبِ وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الرَّيْنِ، وَالْإِقْفَالُ أَشَدُّ مِنَ الطَّبْعِ، وَهُوَ أَنْ يُقْفَلَ عَلَى الْقَلْبِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِمَعْنَى غَطَّى عَلَى قُلُوبِهِمْ، يُقَالُ: رَانَ عَلَى قَلْبِهِ الذَّنْبُ يَرِينُ رَيْنًا أَيْ غَشِيَهُ، وَالرَّيْنُ كَالصَّدَأِ يَغْشَى الْقَلْبَ وَمِثْلُهُ الْعَيْنُ، أَمَّا أَهْلُ التَّفْسِيرِ، فَلَهُمْ وُجُوهٌ: قَالَ الْحَسَنُ: وَمُجَاهِدٌ هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ، حَتَّى تُحِيطَ الذُّنُوبُ بِالْقَلْبِ، وَتَغْشَاهُ فَيَمُوتُ الْقَلْبُ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالْمُحَقَّرَاتُ مِنَ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ الذَّنْبَ عَلَى الذَّنْبِ يُوقِدُ عَلَى صَاحِبِهِ جَحِيمًا ضَخْمَةً» وَعَنْ مُجَاهِدٍ الْقَلْبُ كَالْكَفِّ، فَإِذَا أَذْنَبَ الذَّنْبَ انْقَبَضَ، وَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ انْقَبَضَ ثُمَّ يُطْبَعُ عَلَيْهِ وَهُوَ الرَّيْنُ، وَقَالَ آخَرُونَ: كُلَّمَا أذنب الإنسان حصلت في قلبه نكتة سوداء حَتَّى يَسْوَدَّ الْقَلْبُ كُلُّهُ، وَرُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قُلْتُ: لَا شَكَّ أَنَّ تَكَرُّرَ الْأَفْعَالِ سَبَبٌ لِحُصُولِ مَلَكَةٍ نَفْسَانِيَّةٍ، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ تَعَلُّمَ الْكِتَابَةِ فَكُلَّمَا كَانَ إِتْيَانُهُ بِعَمَلِ الْكِتَابَةِ أَكْثَرَ كَانَ اقْتِدَارُهُ عَلَى عَمَلِ الْكِتَابَةِ أَتَمَّ، إِلَى أَنْ يَصِيرَ بِحَيْثُ يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْكِتَابَةِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَلَا فِكْرَةٍ، فَهَذِهِ الْهَيْئَةُ النَّفْسَانِيَّةُ، لَمَّا تَوَلَّدَتْ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الْكَثِيرَةِ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ أَثَرٌ فِي حُصُولِ تِلْكَ الْهَيْئَةِ النَّفْسَانِيَّةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا وَاظَبَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الذُّنُوبِ، حَصَلَتْ فِي قَلْبِهِ مَلَكَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِذَلِكَ الذَّنْبِ، وَلَا مَعْنَى لِلذَّنْبِ إِلَّا مَا يَشْغَلُكَ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَكُلُّ مَا يَشْغَلُكَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ/ ظُلْمَةٌ، فَإِذَنِ الذُّنُوبُ كُلُّهَا ظُلُمَاتٌ وَسَوَادٌ، وَلُكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْمَالِ السَّالِفَةِ الَّتِي أَوْرَثَ مَجْمُوعُهَا حُصُولَ تِلْكَ الْمَلَكَةِ أَثَرٌ فِي حُصُولِهَا، فَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ: كلما أذنب الإنسان حصلت في قلبه نكتة سَوْدَاءُ حَتَى يَسْوَدَّ الْقَلْبُ، وَلَمَّا كَانَتْ مَرَاتِبُ الْمَلَكَاتِ فِي الشِّدَّةِ وَالضَّعْفِ مُخْتَلِفَةً، لَا جَرَمَ كَانَتْ مَرَاتِبُ هَذَا السَّوَادِ وَالظُّلْمَةِ مُخْتَلِفَةً، فَبَعْضُهَا يَكُونُ رَيْنًا وَبَعْضُهَا طَبْعًا وَبَعْضُهَا إِقْفَالًا، قَالَ الْقَاضِي لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الرَّيْنِ أَنَّ قَلْبَهُمْ قَدْ تَغَيَّرَ وَحَصَلَ فِيهِ مَنْعٌ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ صَارُوا لِإِيقَاعِ الذَّنْبِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ مُتَجَرِّئِينَ عَلَيْهِ وَقَوِيَتْ دَوَاعِيهِمْ إِلَى تَرْكِ التَّوْبَةِ وَتَرْكِ الْإِقْلَاعِ، فَاسْتَمَرُّوا وَصَعُبَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ بَيَّنَ أَنَّ عِلَّةَ الرَّيْنِ كَسْبُهُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِكْثَارَهُمْ مِنَ اكْتِسَابِ الذُّنُوبِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِقْلَاعِ وَالتَّوْبَةِ، وَأَقُولُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ صُدُورَ الْفِعْلِ حَالَ اسْتِوَاءِ الدَّاعِي إِلَى الْفِعْلِ، وَالدَّاعِي إِلَى التَّرْكِ مُحَالٌ لِامْتِنَاعِ تَرْجِيحِ الْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، فَبِأَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا حَالَ الْمَرْجُوحِيَّةِ كَانَ أَوْلَى، وَلَمَّا سَلَّمَ الْقَاضِي أَنَّهُمْ صَارُوا بِسَبَبِ الْأَفْعَالِ السَّالِفَةِ رَاجِحًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِقْلَاعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُمْتَنِعًا، وَتَمَامُ الْكَلَامِ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا فِي هَذَا الْكِتَابِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي كَلَّا وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : كَلَّا رَدْعٌ عَنِ الْكَسْبِ الرَّائِنِ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَثَانِيهَا: قَالَ الْقَفَّالُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى فِي سَائِرِ السُّوَرِ عَنْ هَذَا الْمُعْتَدِي الْأَثِيمِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ حَقًّا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِيهِ مَالًا وَوَلَدًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَذَّبَهُ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ فَقَالَ: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً [مريم: 78] وقال: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فُصِّلَتْ: 50] وَلَمَّا كَانَ هَذَا مِمَّا قَدْ تَرَدَّدَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ تَرَكَ اللَّهُ ذِكْرَهُ هَاهُنَا وَقَالَ: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ: مِنْ أَنَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ حُسْنَى بَلْ هُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَكْرِيرًا وَتَكُونُ كَلَّا هَذِهِ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: كَلَّا بَلْ رانَ أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ فَقَدِ احْتَجَّ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهُ قَالُوا: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ، وَفِيهِ تَقْرِيرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا الْحِجَابَ فِي مَعْرِضِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ لِلْكُفَّارِ، وَمَا يَكُونُ وَعِيدًا وَتَهْدِيدًا لِلْكُفَّارِ لَا يَجُوزُ حُصُولُهُ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ هَذَا الْحِجَابُ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ أَجَابَتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ عَنْ رَحْمَةِ رَبِّهِمْ مَحْجُوبُونَ أَيْ مَمْنُوعُونَ، كَمَا يُقَالُ فِي الْفَرَائِضِ: الْإِخْوَةُ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ عَلَى الثُّلُثِ، وَمِنْ ذَلِكَ يُقَالُ: لِمَنْ يَمْنَعُ عَنِ الدُّخُولِ هُوَ حَاجِبٌ، لِأَنَّهُ «1» يَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَتِهِ وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: لَمَحْجُوبُونَ أَيْ غَيْرُ مُقَرَّبِينَ، وَالْحِجَابُ الرَّدُّ وَهُوَ ضِدُّ الْقَبُولِ، وَالْمَعْنَى هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ غَيْرُ مَقْبُولِينَ عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 77] ، وَثَالِثُهَا: قَالَ الْقَاضِي: الْحِجَابُ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ: حُجِبَ فُلَانٌ عَنِ الْأَمِيرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَآهُ/ مِنَ الْبُعْدِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْحِجَابُ عِبَارَةً عَنْ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى صَيْرُورَتِهِ مَمْنُوعًا عَنْ وُجْدَانِ رَحْمَتِهِ تَعَالَى وَرَابِعُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : كَوْنُهُمْ مَحْجُوبِينَ عَنْهُ تَمْثِيلٌ لِلِاسْتِخْفَافِ بِهِمْ وَإِهَانَتِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْذَنُ عَلَى الْمُلُوكِ إِلَّا لِلْمُكَرَّمِينَ لَدَيْهِمْ، وَلَا يُحْجَبُ عَنْهُمْ إِلَّا الْمُهَانُونَ عِنْدَهُمْ والجواب: لا شك أن من منع مِنْ رُؤْيَةِ شَيْءٍ يُقَالُ: إِنَّهُ حُجِبَ عَنْهُ، وَأَيْضًا مَنْ مُنِعَ مِنَ الدُّخُولِ عَلَى الْأَمِيرِ يُقَالُ: إِنَّهُ حُجِبَ عَنْهُ، وَأَيْضًا يُقَالُ الْأُمُّ حُجِبَتْ عَنِ الثُّلُثِ بِسَبَبِ الْإِخْوَةِ، وَإِذَا وَجَدْنَا هَذِهِ الِاسْتِعْمَالَاتِ وَجَبَ جَعْلُ اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي مَفْهُومٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ فِي اللَّفْظِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَنْعُ. فَفِي الصُّورَةِ الأولى حصل المنع من الرؤية، وفي الثانية حَصَلَ الْمَنْعُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى قُرْبِهِ، وَفِي الثَّالِثَةِ: حَصَلَ الْمَنْعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثِ، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَمْنُوعُونَ، وَالْمَنْعُ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ إِمَّا الْعِلْمُ، وَإِمَّا الرُّؤْيَةُ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالِاتِّفَاقِ لِلْكُفَّارِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الرُّؤْيَةِ. أَمَّا صَرْفُهُ إِلَى الرَّحْمَةِ فَهُوَ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَكَذَا مَا قَالَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، ثُمَّ الَّذِي يُؤَكِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ بَعْدَ الْعَرْضِ وَالْحِسَابِ، لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَقُولُ إِنَّهُمْ عَنِ النَّظَرِ إِلَى رُؤْيَةِ رَبِّهِمْ لَمَحْجُوبُونَ، وَالْمُؤْمِنِ لَا يُحْجَبُ عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِ، وَسُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: لَمَّا حَجَبَ أَعْدَاءَهُ فَلَمْ يَرَوْهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَجَلَّى لِأَوْلِيَائِهِ حَتَّى يَرَوْهُ، وَعَنِ الشافعي لما حجب قوما

_ (1) في الأصل: لا أنه، ولعل ما أثبته هو الصواب.

[سورة المطففين (83) : الآيات 18 إلى 21]

بِالسُّخْطِ دَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْمًا يَرَوْنَهُ بِالرِّضَا، أما قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ فَالْمَعْنَى لَمَّا صَارُوا مَحْجُوبِينَ فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ إِمَّا عَنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ عَلَى قَوْلِنَا، أَوْ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ ثُمَّ إِذَا دَخَلُوا النَّارَ، وُبِّخُوا بِتَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، فَقِيلَ لَهُمْ: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا، وَالْآنَ قَدْ عَايَنْتُمُوهُ فَذُوقُوهُ. [سورة المطففين (83) : الآيات 18 الى 21] كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْفُجَّارِ الْمُطَفِّفِينَ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ حَالِ الْأَبْرَارِ الَّذِينَ لَا يُطَفِّفُونَ، فَقَالَ: كَلَّا أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَوَهَّمَهُ أُولَئِكَ الْفُجَّارُ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَمِنْ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِأَهْلِ اللُّغَةِ فِي لَفْظِ عِلِّيِّينَ أَقْوَالًا، وَلِأَهْلِ التَّفْسِيرِ أَيْضًا أَقْوَالًا، أَمَّا أَهْلُ اللُّغَةِ قَالَ/ أَبُو الْفَتْحِ الْمَوْصِلِيُّ: عِلِّيِّينَ جَمْعُ عِلِّيٍّ وَهُوَ فِعِّيلٌ مِنَ الْعُلُوِّ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِعْرَابُ هَذَا الِاسْمِ كَإِعْرَابِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ، كَمَا تَقُولُ: هَذِهِ قِنِّسْرُونَ وَرَأَيْتُ قِنِّسْرِينَ، وَأَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا السَّمَاءُ الرَّابِعَةُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهَا السَّمَاءُ السَّابِعَةُ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: هِيَ قَائِمَةُ الْعَرْشِ الْيُمْنَى فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَعْنِي ارْتِفَاعًا بَعْدَ ارْتِفَاعٍ لَا غَايَةَ لَهُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَى الْأَمْكِنَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ مَرَاتِبُ عَالِيَةٌ مَحْفُوظَةٌ بِالْجَلَالَةِ قَدْ عَظَّمَهَا اللَّهُ وَأَعْلَى شَأْنَهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: عِنْدَ كِتَابِ أَعْمَالِ الْمَلَائِكَةِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِرَسُولِهِ: وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ تَنْبِيهًا لَهُ عَلَى أَنَّهُ مَعْلُومٌ لَهُ، وَأَنَّهُ سَيَعْرِفُهُ ثُمَّ قَالَ: كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ فَبَيَّنَ أَنَّ كِتَابَهُمْ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمَرْقُومِ الَّذِي يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى كَمَا وَكَّلَهُمْ بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَكَذَلِكَ يُوَكِّلُهُمْ بِحِفْظِ كُتُبِ الْأَبْرَارِ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ أُمُّ الْكِتَابِ عَلَى وَجْهِ الْإِعْظَامِ لَهُ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنَّ الْحَفَظَةَ إِذَا صَعَدَتْ بِكُتُبِ الْأَبْرَارِ فَإِنَّهُمْ يُسَلِّمُونَهَا إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُقَرَّبِينَ فَيَحْفَظُونَهَا كَمَا يَحْفَظُونَ كُتُبَ أَنْفُسِهِمْ أَوْ يَنْقُلُونَ مَا فِي تِلْكَ الصَّحَائِفِ إِلَى ذَلِكَ الْكِتَابِ الَّذِي وُكِّلُوا بِحِفْظِهِ وَيَصِيرُ عِلْمُهُمْ شَهَادَةً لِهَؤُلَاءِ الْأَبْرَارِ، فَلِذَلِكَ يُحَاسَبُونَ حِسَابًا يَسِيرًا، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُقَرَّبِينَ يَشْهَدُونَ لَهُمْ بِمَا حَفِظُوهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْكِتَابُ فِي السَّمَاءِ صَحَّ قَوْلُ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ الْعَالِيَةِ، فَتَتَقَارَبُ الْأَقْوَالُ فِي ذَلِكَ، وَإِذًا كَانَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعُلُوَّ وَالْفُسْحَةَ وَالضِّيَاءَ وَالطَّهَارَةَ مِنْ عَلَامَاتِ السَّعَادَةِ، وَالسُّفْلَ وَالضِّيقَ وَالظُّلْمَةَ مِنْ عَلَامَاتِ الشَّقَاوَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ وَضْعِ كِتَابِ الْفُجَّارِ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ، وَفِي أَضْيَقِ الْمَوَاضِعِ إِذْلَالَ الْفُجَّارِ وَتَحْقِيرَ شَأْنِهِمْ، كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ وَضْعِ كِتَابِ الْأَبْرَارِ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَشَهَادَةِ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ بِذَلِكَ إِجْلَالَهُمْ وَتَعْظِيمَ شَأْنِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْكِتَابِ الْكِتَابَةُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ كِتَابَةَ أَعْمَالِ الْأَبْرَارِ فِي عِلِّيِّينَ، ثُمَّ وَصَفَ عِلِّيِّينَ بِأَنَّهُ كِتَابٌ مَرْقُومٌ فِيهِ جَمِيعُ أَعْمَالِ الْأَبْرَارِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ.

[سورة المطففين (83) : الآيات 22 إلى 28]

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كِتابٌ مَرْقُومٌ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ الْمَرْقُومِ كِتَابُ أَعْمَالِهِمْ وَالثَّانِي: أَنَّهُ كِتَابٌ مَوْضُوعٌ فِي عِلِّيِّينَ كُتِبَ فِيهِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالثَّوَابِ، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ، فَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ مَكْتُوبَةٌ لَهُمْ فِي سَاقِ الْعَرْشِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي لَوْحٍ مِنْ زَبَرْجَدٍ مُعَلَّقٍ تَحْتَ الْعَرْشِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ بِمَا يُوجِبُ سُرُورَهُمْ، وَذَلِكَ بِالضِّدِّ مِنْ رَقْمِ كِتَابِ الْفُجَّارِ بِمَا يَسُوءُهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ يعني الملائكة الذي هُمْ فِي عِلِّيِّينَ يَشْهَدُونَ وَيَحْضُرُونَ ذَلِكَ الْمَكْتُوبَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ كِتَابُ الْأَعْمَالِ، قَالَ: يَشْهَدُ ذَلِكَ الْكِتَابَ إِذَا صُعِدَ بِهِ إِلَى عِلِّيِّينَ المقربون من الملائكة كرامة للمؤمن. [سورة المطففين (83) : الآيات 22 الى 28] إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا عَظَّمَ كِتَابَهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَظَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْزِلَتَهُمْ، فَقَالَ: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ثُمَّ وَصَفَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ النَّعِيمِ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ قَالَ الْقَفَّالُ: الْأَرَائِكُ الْأَسِرَّةُ فِي الْحِجَالِ، وَلَا تُسَمَّى أَرِيكَةً فِيمَا زَعَمُوا إِلَّا إِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ، وَعَنِ الْحَسَنِ: كُنَّا لَا نَدْرِي مَا الْأَرِيكَةُ حَتَّى لَقِينَا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أَخْبَرَنَا أَنَّ الْأَرِيكَةَ عِنْدَهُمْ ذَلِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ: يَنْظُرُونَ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: يَنْظُرُونَ إِلَى أَنْوَاعِ نِعَمِهِمْ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَالْوِلْدَانِ، وَأَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَرَاكِبِ وَغَيْرِهَا، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَلْحَظُ الْمُؤْمِنُ فَيُحِيطُ بِكُلِّ مَا آتَاهُ اللَّهُ وَإِنَّ أَدْنَاهُمْ يَتَرَاءَى لَهُ مِثْلُ سَعَةِ الدُّنْيَا» وَالثَّانِي: قَالَ مُقَاتِلٌ: يَنْظُرُونَ إِلَى عَدُوِّهِمْ حِينَ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ وَالثَّالِثُ: إِذَا اشْتَهَوْا شَيْئًا نَظَرُوا إِلَيْهِ فَيَحْضُرُهُمْ ذَلِكَ الشَّيْءُ فِي الْحَالِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ مِنْ بَابِ أَنْوَاعِ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْكُلِّ، وَيَخْطُرُ بِبَالِي تَفْسِيرٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَشْرَفُ مِنَ الْكُلِّ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ وَيَتَأَكَّدُ هَذَا التَّأْوِيلُ بِمَا إِنَّهُ قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ وَالنَّظَرُ الْمَقْرُونُ بِالنَّضْرَةِ هُوَ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا قَالَ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [الْقِيَامَةِ: 22، 23] وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا التَّأْوِيلُ أَنَّهُ يَجِبُ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ أَعْظَمِ اللَّذَّاتِ، وَمَا هُوَ إِلَّا رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى إِذَا رَأَيْتَهُمْ عَرَفْتَ أَنَّهُمْ أَهْلُ النِّعْمَةِ بِسَبَبِ مَا تَرَى فِي وُجُوهِهِمْ مِنَ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ فِي تِلْكَ الْقَرَائِنِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَا يُشَاهَدُ فِي وُجُوهِهِمْ مِنَ الضَّحِكِ وَالِاسْتِبْشَارِ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس: 38، 39] . الثاني: قَالَ عَطَاءٌ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُزِيدُ فِي وُجُوهِهِمْ مِنَ النُّورِ وَالْحُسْنِ وَالْبَيَاضِ مَا لَا يَصِفُهُ وَاصِفٌ، وَتَفْسِيرُ النَّضْرَةِ: قَدْ سَبَقَ عِنْدَ قَوْلِهِ: ناضِرَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: تُعْرَفُ عَلَى البناء للمفعول ونضرة النَّعِيمِ بِالرَّفْعِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي بَيَانِ أَنَّ الرَّحِيقَ مَا هُوَ؟ قَالَ اللَّيْثُ: الرَّحِيقُ الْخَمْرُ. وَأَنْشَدَ لِحَسَّانَ. بَرَدَى يُصَفِّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ: الرَّحِيقُ مِنَ الْخَمْرِ مَا لَا غِشَّ فِيهِ وَلَا شَيْءَ يُفْسِدُهُ، وَلَعَلَّهُ هُوَ الْخَمْرُ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: لَا فِيها غَوْلٌ [الصَّافَّاتِ: 47] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لِهَذَا: الرَّحِيقِ صِفَاتٍ: الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: مَخْتُومٍ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَفَّالُ: يَحْتَمِلُ أَنْ هَؤُلَاءِ يُسْقَوْنَ مِنْ شَرَابٍ مَخْتُومٍ قَدْ خُتِمَ عَلَيْهِ تَكْرِيمًا لَهُ بِالصِّيَانَةِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ خَتْمِ مَا يُكْرَمُ وَيُصَانُ، وَهُنَاكَ خَمْرٌ آخَرُ تَجْرِي مِنْهَا أَنْهَارٌ كَمَا قَالَ: وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [مُحَمَّدٍ: 15] إِلَّا أَنَّ هَذَا الْمَخْتُومَ أَشْرَفُ فِي الْجَارِي الثَّانِي: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: الْمَخْتُومُ الَّذِي لَهُ خِتَامٌ أَيْ عَاقِبَةٌ وَالثَّالِثُ: رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي مَخْتُومٍ أَنَّهُ مَمْزُوجٌ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ لِأَنَّ الْخَتْمَ لَا يَكُونُ تَفْسِيرُهُ الْمَزْجَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ لَهُ عَاقِبَةٌ هِيَ رِيحُ الْمِسْكِ فَسَّرَهُ بِالْمَمْزُوجِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَمْتَزِجْ بِالْمِسْكِ لَمَا حَصَلَ فِيهِ رِيحُ الْمِسْكِ الرَّابِعُ: قَالَ مُجَاهِدٌ مَخْتُومٌ مُطَيَّنٌ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: كَأَنَّ مُرَادَهُ مِنَ الْخَتْمِ بِالطِّينِ، هُوَ أَنْ لَا تَمَسَّهُ يَدٌ إِلَى أَنْ يَفُكَّ خَتْمَهُ الْأَبْرَارُ، وَالْأَقْرَبُ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: لِهَذَا الرَّحِيقِ قَوْلُهُ: خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَفَّالُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ رَأَسُ قَارُورَةِ ذَلِكَ الرَّحِيقِ هُوَ الْمِسْكُ، كَالطِّينِ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ رؤوس القوارير، فكان ذلك المسك رطب ينطبع ذلك المسك رطب يَنْطَبِعُ فِيهِ الْخَاتَمُ، وَهَذَا الْوَجْهُ مُطَابِقٌ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنِ الْقَفَّالِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: مَخْتُومٍ، الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: خِتامُهُ مِسْكٌ أَيْ عَاقِبَتُهُ الْمِسْكُ أَيْ يُخْتَمُ لَهُ آخِرُهُ بِرِيحِ الْمِسْكِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مُطَابِقٌ لِلْوَجْهِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: مَخْتُومٍ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مِنْ رَحِيقٍ لَهُ عَاقِبَةٌ، ثُمَّ فَسَّرَ تِلْكَ الْعَاقِبَةَ فَقَالَ: تِلْكَ الْعَاقِبَةُ مِسْكٌ أَيْ مَنْ شَرِبَهُ كَانَ خَتْمُ شُرْبِهِ عَلَى رِيحِ الْمِسْكِ، وَهَذَا قَوْلُ عَلْقَمَةَ وَالضَّحَّاكِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُقَاتِلٍ وَقَتَادَةَ قَالُوا: إِذَا رَفَعَ الشَّارِبُ فَاهُ مِنْ آخِرِ شَرَابِهِ وَجَدَ رِيحَهُ كَرِيحِ الْمِسْكِ، وَالْمَعْنَى لَذَاذَةُ الْمَقْطَعِ وَذَكَاءُ الرَّائِحَةِ وَأَرَجُهَا، مَعَ طِيبِ الطَّعْمِ، وَالْخِتَامُ آخِرُ كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْهُ يُقَالُ: خَتَمْتُ الْقُرْآنَ، وَالْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا وَيُؤَكِّدُهُ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاخْتِيَارُ الْكِسَائِيِّ فَإِنَّهُ يَقْرَأُ: (خَاتَمُهُ مِسْكٌ) أَيْ آخِرُهُ كَمَا يُقَالُ: خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى إِلَّا أَنَّ الْخَاتَمَ اسْمٌ وَالْخِتَامَ مَصْدَرٌ كَقَوْلِهِمْ: هُوَ كَرِيمُ الطِّبَاعِ وَالطَّابَعِ الثَّالِثُ: مَعْنَاهُ خَلَطَهُ مِسْكٌ، وَذَكَرُوا أن فيه تطيبا لِطَعْمِهِ. وَقِيلَ: بَلْ لِرِيحِهِ وَأَقُولُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْخَمْرَ الْمَمْزُوجَ بِهَذِهِ الْأَفَاوِيهِ الْحَارَّةِ مِمَّا يُعِينُ عَلَى الْهَضْمِ وَتَقْوِيَةِ/ الشَّهْوَةِ،

[سورة المطففين (83) : الآيات 29 إلى 36]

فَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْإِشَارَةُ إِلَى قُوَّةِ شَهْوَتِهِمْ وَصِحَّةِ أَبْدَانِهِمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ تَقُولُ الْمَرْأَةُ لَقَدْ أَخَذْتُ خَتْمَ طِينِيٍّ، أَيْ لَقَدْ أَخَذْتُ أَخْلَاطَ طِينِيٍّ، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ هُوَ شَرَابٌ أبيض مثل الفضة، يحتمون بِهِ آخِرَ شُرْبِهِمْ، لَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا أَدْخَلَ فِيهِ يَدَهُ ثُمَّ أَخْرَجَهَا لَمْ يَبْقَ ذُو رُوحٍ إِلَّا وَجَدَ طِيبَ رِيحِهِ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُقَالُ: نَفَسْتُ عَلَيْهِ الشَّيْءَ أَنْفَسُهُ نَفَاسَةً إِذَا ضَنَنْتَ بِهِ وَلَمْ تُحِبَّ أَنْ يَصِيرَ إِلَيْهِ، وَالتَّنَافُسُ تَفَاعُلٌ مِنْهُ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّخْصَيْنِ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهِ، وَالْمَعْنَى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَرْغَبِ الرَّاغِبُونَ بالمبادرة إلى طاعة الله. وأعم أَنَّ مُبَالَغَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ تَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ شَأْنِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّنَافُسَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ النَّعِيمِ الْعَظِيمِ الدَّائِمِ، لَا فِي النَّعِيمِ الَّذِي هُوَ مُكَدَّرٌ سَرِيعُ الْفَنَاءِ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَسْنِيمٌ عَلَمٌ لَعَيْنٍ بِعَيْنِهَا فِي الْجَنَّةِ سُمِّيَتْ بِالتَّسْنِيمِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ سَنَّمَهُ إِذَا رَفَعَهُ، إِمَّا لِأَنَّهَا أَرْفَعُ شَرَابٍ فِي الْجَنَّةِ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا تَأْتِيهِمْ مِنْ فَوْقُ، عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهَا تَجْرِي فِي الْهَوَاءِ مُسَنَّمَةً فَتَنْصَبُّ فِي أَوَانِيهِمْ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا لِأَجْلِ كَثْرَةِ مَلْئِهَا وَسُرْعَتِهِ تَعْلُو عَلَى كُلِّ شَيْءٍ تَمُرُّ بِهِ وَهُوَ تَسْنِيمُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْجَرْيِ يُرَى فِيهِ ارْتِفَاعٌ وَانْخِفَاضٌ، فَهُوَ التَّسْنِيمُ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ لِلْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ، وَمِنْهُ سَنَامُ الْبَعِيرِ وَتَسَنَّمْتُ الْحَائِطَ إِذَا عَلَوْتُهُ، وَأَمَّا قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ: فَرَوَى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ أن ابن عباس سأل عَنْ تَسْنِيمَ، فَقَالَ هَذَا مِمَّا يَقُولُ اللَّهُ: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السَّجْدَةِ: 17] وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا قَالَ الْحَسَنُ: وَهُوَ أَنَّهُ أَمْرٌ أَخْفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَعَلَى هَذَا لَا يُعْرَفُ لَهُ اشْتِقَاقٌ وَهُوَ اسْمٌ مَعْرِفَةٌ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ: مِنْ تَسْنِيمٍ مِنْ تَشْرِيفٍ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ تَسْنِيمَ عَيْنٌ يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَشْرَفُ شَرَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ هُوَ تَسْنِيمُ، لِأَنَّهُ يَشْرَبُهُ الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا، وَيُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَسَّمَ الْمُكَلَّفِينَ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْمُقَرَّبُونَ، وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ كَرَامَةَ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِأَنَّهُ يُمْزَجُ شَرَابُهُمْ مِنْ عَيْنٍ يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ عَلِمْنَا أَنَّ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ، وَأَقُولُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَنْهَارَ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْفَضِيلَةِ، فَتَسْنِيمُ أَفْضَلُ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، وَالْمُقَرَّبُونَ أَفْضَلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَالتَّسْنِيمُ فِي الْجَنَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ هُوَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَلَذَّةُ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَالرَّحِيقُ هُوَ الِابْتِهَاجُ بِمُطَالَعَةِ عَالَمِ الْمَوْجُودَاتِ، فَالْمُقَرَّبُونَ لَا يَشْرَبُونَ إِلَّا مِنَ التَّسْنِيمِ، أَيْ لَا يَشْتَغِلُونَ إِلَّا بِمُطَالَعَةِ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ يَكُونُ شَرَابُهُمْ مَمْزُوجًا، فَتَارَةً يَكُونُ نَظَرُهُمْ إِلَيْهِ وَتَارَةً إِلَى مَخْلُوقَاتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: عَيْنًا نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَقَوْلُهُ: يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ كَقَوْلِهِ: يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الْإِنْسَانِ: 6] وَقَدْ مَرَّ. [سورة المطففين (83) : الآيات 29 الى 36] إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ (36)

[قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إلى قوله إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا وَصَفَ كَرَامَةَ الْأَبْرَارِ فِي الْآخِرَةِ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ قُبْحَ مُعَامَلَةِ الْكُفَّارِ مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا فِي اسْتِهْزَائِهِمْ وَضَحِكِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ سَيَنْقَلِبُ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَسْلِيَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَقْوِيَةُ قُلُوبِهِمْ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أَكَابِرُ الْمُشْرِكِينَ كَأَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ كَانُوا يَضْحَكُونَ مِنْ عَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ وَبِلَالٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ الثَّانِي: جَاءَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَسَخِرَ مِنْهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَضَحِكُوا وَتَغَامَزُوا ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى أَصْحَابِهِمْ فَقَالُوا: رَأَيْنَا الْيَوْمَ الْأَصْلَعَ فَضَحِكُوا مِنْهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ عَلِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الْقَبِيحَةِ فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ أَيْ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ وَبِدِينِهِمْ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ أَيْ يَتَفَاعَلُونَ مِنَ الْغَمْزِ، وَهُوَ الْإِشَارَةُ بِالْجَفْنِ وَالْحَاجِبِ وَيَكُونُ الْغَمْزُ أَيْضًا بِمَعْنَى الْعَيْبِ وَغَمَزَهُ إِذَا عَابَهُ، وَمَا فِي فُلَانٍ غَمِيزَةٌ أَيْ مَا يُعَابُ بِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُشِيرُونَ إِلَيْهِمْ بِالْأَعْيُنِ اسْتِهْزَاءً وَيَعِيبُونَهُمْ، وَيَقُولُونَ: انْظُرُوا إِلَى هَؤُلَاءِ يُتْعِبُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَحْرِمُونَهَا لَذَّاتِهَا وَيُخَاطِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ فِي طَلَبِ ثَوَابٍ لَا يَتَيَقَّنُونَهُ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا انْقَلَبُوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين مُعْجَبِينَ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالتَّنَعُّمِ بِالدُّنْيَا، أَوْ يَتَفَكَّهُونَ بِذِكْرِ الْمُسْلِمِينَ بِالسُّوءِ، قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ عَنْهُ: فَكِهِينَ بِغَيْرِ أَلِفٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَحْدَهُ، وَفِي/ سَائِرِ الْقُرْآنِ فاكِهِينَ بِالْأَلِفِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ فَاكِهِينَ بِالْأَلِفِ، فَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ، وَقِيلَ: فَاكِهِينَ أَيْ مُتَنَعِّمِينَ مَشْغُولِينَ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّنَعُّمِ بِالدُّنْيَا وَفَكِهِينَ مُعْجَبِينَ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ أَيْ هُمْ عَلَى ضَلَالٍ فِي تَرْكِهِمُ التَّنَعُّمَ الْحَاضِرَ بِسَبَبِ طَلَبِ ثَوَابٍ لَا يُدْرَى هَلْ لَهُ وُجُودٌ أَمْ لَا، وَهَذَا آخِرُ مَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ رُقَبَاءَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، يَحْفَظُونَ عَلَيْهِمْ أَحْوَالَهُمْ وَيَتَفَقَّدُونَ مَا يَصْنَعُونَهُ مِنْ حق أو باطل، فيعبون عَلَيْهِمْ مَا يَعْتَقِدُونَهُ ضَلَالًا، بَلْ إِنَّمَا أُمِرُوا بإصلاح أنفسهم.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى أَنَّ فِي هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ يَوْمُ تَصْقَعُ الْأَعْمَالُ وَالْمُحَاسَبَةُ يَضْحَكُ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ، وَفِي سَبَبِ هَذَا الضَّحِكِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَضْحَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضُّرِّ وَالْبُؤْسِ، وَفِي الْآخِرَةِ يَضْحَكُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى الْكَافِرِينَ بِسَبَبِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَالْبَلَاءِ، وَلِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ، وَأَنَّهُمْ قَدْ بَاعُوا بَاقِيًا بِفَانٍ وَيَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ قَدْ فَازُوا بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَنَالُوا بِالتَّعَبِ الْيَسِيرِ رَاحَةَ الْأَبَدِ، وَدَخَلُوا الْجَنَّةَ فَأُجْلِسُوا عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ كَيْفَ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ وَكَيْفَ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا وَيَدْعُونَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا الثَّانِي: قَالَ أَبُو صَالِحٍ: يُقَالُ لِأَهْلِ النَّارِ وَهُمْ فِيهَا اخْرُجُوا وَتُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُهَا، فَإِذَا رَأَوْهَا قَدْ فُتِحَتْ أَقْبَلُوا إِلَيْهَا يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ عَلَى الْأَرَائِكِ، فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَى أَبْوَابِهَا غُلِّقَتْ دُونَهُمْ، فَذَاكَ هُوَ سَبَبُ الضَّحِكِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ حَالٌ مِنْ يَضْحَكُونَ أَيْ يَضْحَكُونَ مِنْهُمْ نَاظِرِينَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْهَوَانِ وَالصَّغَارِ بَعْدَ الْعِزَّةِ وَالْكِبْرِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ ثُوِّبَ بِمَعْنَى أُثِيبَ أَيِ اللَّهُ الْمُثِيبُ، قَالَ أَوْسٌ: سَأَجْزِيكِ أَوْ يَجْزِيكِ عَنِّي مُثَوِّبٌ ... وَحَسْبُكِ أَنْ يُثْنَى عَلَيْكِ وَتُحْمَدِي قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَهُوَ فُعِّلَ مِنَ الثَّوَابِ، وَهُوَ مَا يَثُوبُ أَيْ يَرْجِعُ إِلَى فَاعِلِهِ جَزَاءَ مَا عَمِلَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَالثَّوَابُ يُسْتَعْمَلُ في المكافأة بالشر، ونشد أَبُو عُبَيْدَةَ: أَلَا أَبْلِغْ أَبَا حَسَنٍ رَسُولًا ... فَمَا لَكَ لَا تَجِيءُ إِلَى الثَّوَابِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ كَقَوْلِهِ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدُّخَانِ: 49] وَالْمَعْنَى كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ: هَلْ جَازَيْنَا الْكُفَّارَ عَلَى عَمَلِهِمُ الَّذِي كَانَ مِنْ جُمْلَتِهِ ضَحِكُهُمْ بِكُمْ وَاسْتِهْزَاؤُهُمْ بِطَرِيقَتِكُمْ، كَمَا جَازَيْنَاكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمُ الصَّالِحَةِ؟ فَيَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ زَائِدًا فِي سُرُورِهِمْ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي زِيَادَةً فِي تَعْظِيمِهِمْ وَالِاسْتِخْفَافَ بِأَعْدَائِهِمْ، والمقصود منها أحوال القيامة. والله أعلم.

سورة الانشقاق

بسم الله الرّحمن الرّحيم سُورَةُ الِانْشِقَاقِ وَهِيَ عِشْرُونَ وَخَمْسُ آيَاتٍ مَكِّيَّةٍ [سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) أَمَّا انْشِقَاقُ السَّمَاءِ فَقَدْ مَرَّ شَرْحُهُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَعَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهَا تَنْشَقُّ مِنَ الْمَجَرَّةِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَمَعْنَى أَذِنَ لَهُ اسْتَمَعَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ» وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ قَوْلَ قَعْنَبٍ: صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ ... وَإِنْ ذُكِرْتُ بِشَرٍّ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي جِرْمِ السَّمَاءِ مَا يَمْنَعُ مِنْ تَأْثِيرِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي شَقِّهَا وَتَفْرِيقِ أَجْزَائِهَا، فَكَانَتْ فِي قَبُولِ ذَلِكَ التَّأْثِيرِ كَالْعَبْدِ الطَّائِعِ الَّذِي إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ أَنْصَتَ لَهُ وَأَذْعَنَ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ فَقَوْلُهُ: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فُصِّلَتْ: 11] يَدُلُّ عَلَى نَفَاذِ الْقُدْرَةِ فِي الْإِيجَادِ وَالْإِبْدَاعِ مِنْ غَيْرِ مُمَانِعَةٍ أَصْلًا، وَقَوْلُهُ هَاهُنَا: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها يَدُلُّ عَلَى نُفُوذِ الْقُدْرَةِ فِي التَّفْرِيقِ وَالْإِعْدَامِ وَالْإِفْنَاءِ مِنْ غَيْرِ مُمَانِعَةٍ أَصْلًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَحُقَّتْ فَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ هُوَ مَحْقُوقٌ بِكَذَا، وَحَقِيقٌ بِهِ. يَعْنِي وَهِيَ حَقِيقَةٌ بِأَنْ تَنْقَادَ وَلَا تَمْتَنِعَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جِسْمٌ، وَكُلُّ جِسْمٍ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَكُلُّ مُمْكِنٍ لِذَاتِهِ فَإِنَّ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ عَلَى السَّوِيَّةِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ، كَانَ تَرْجِيحُ وَجُودِهِ عَلَى عَدَمِهِ أَوْ تَرْجِيحُ عَدَمِهِ عَلَى وُجُودِهِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَأْثِيرِ وَاجِبِ الْوُجُودِ وَتَرْجِيحِهِ فَيَكُونُ تَأْثِيرُ قُدْرَتِهِ فِي إِيجَادِهِ، وَإِعْدَامِهِ، نَافِذًا سَارِيًا مِنْ غَيْرِ مُمَانِعَةٍ أَصْلًا، وَأَمَّا الْمُمْكِنُ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الْقَبُولُ وَالِاسْتِعْدَادُ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّيْءِ حَقِيقٌ بِهِ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلْوُجُودِ تَارَةً، وَلِلْعَدَمِ أُخْرَى مِنْ وَاجِبِ الْوُجُودِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ مَدَّ الشَّيْءَ فامتد، وهو أن تزال حبالها بالنسف كما قال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه: 105] يُسَوِّي ظَهْرَهَا، كَمَا قَالَ: قَاعًا صَفْصَفاً لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه: 106، 107] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُدَّتْ مَدَّ الْأَدِيمِ/ الْكَاظِمِيِّ، لِأَنَّ

[سورة الانشقاق (84) : آية 6]

الْأَدِيمَ إِذَا مُدَّ زَالَ كُلُّ انْثِنَاءٍ فِيهِ وَاسْتَوَى وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ مَدَّهُ بِمَعْنَى أَمَدَّهُ أَيْ يُزَادُ فِي سَعَتِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِوُقُوفِ الْخَلَائِقِ عَلَيْهَا لِلْحِسَابِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي وَجْهِ الْأَرْضِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِتَمْدِيدِهَا أَوْ بِإِمْدَادِهَا، لِأَنَّ خَلْقَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ لَمَّا كَانُوا وَاقِفِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ظَهْرِهَا، فَلَا بُدَّ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي طُولِهَا وَعَرْضِهَا، أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَلْقَتْ مَا فِيها فَالْمَعْنَى أَنَّهَا لَمَّا مُدَّتْ رَمَتْ بِمَا فِي جَوْفِهَا مِنَ الْمَوْتَى وَالْكُنُوزِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [الزَّلْزَلَةِ: 2] وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [الِانْفِطَارِ: 4] وبُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ [الْعَادِيَاتِ: 9] وَكَقَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً [الْمُرْسَلَاتِ: 25، 26] وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَتَخَلَّتْ فَالْمَعْنَى وَخَلَتْ غَايَةَ الْخُلُوِّ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِي بَاطِنِهَا شَيْءٌ كَأَنَّهَا تَكَلَّفَتْ أَقْصَى جَهْدِهَا فِي الْخُلُوِّ، كَمَا يُقَالُ: تَكَرَّمَ الْكَرِيمُ، وَتَرَحَّمَ الرَّحِيمُ. إِذَا بَلَغَا جَهْدَهُمَا فِي الْكَرَمِ الرحمة وَتَكَلَّفَا فَوْقَ مَا فِي طَبْعِهِمَا، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ مِنْ بَطْنِ الْأَرْضِ إِلَى ظَهْرِهَا، لَكِنَّ الْأَرْضَ وُصِفَتْ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ فَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ فِي السَّمَاءِ وَهَذَا فِي الْأَرْضِ، وَإِذَا اخْتَلَفَ وَجْهُ الْكَلَامِ لَمْ يكن تكرارا. [سورة الانشقاق (84) : آية 6] يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ إلى قوله: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ [الإنشقاق: 1- 6] شَرْطٌ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ جَزَاءٍ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : حُذِفَ جَوَابُ إِذَا لِيَذْهَبَ الْوَهْمُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ فَيَكُونُ أَدْخَلَ فِي التَّهْوِيلِ وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا تُرِكَ الْجَوَابُ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ قَدْ تَرَدَّدَ فِي الْقُرْآنِ مَعْنَاهُ فَعُرِفَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: 1] تُرِكَ ذِكْرُ الْقُرْآنِ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِهِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ وَثَالِثُهَا: قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الْجَوَابُ هُوَ قَوْلُهُ: فَمُلاقِيهِ وَقَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً [الإنشقاق: 6] مُعْتَرِضٌ، وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ إِذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ تَرَى عِنْدَ ذَلِكَ مَا عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَكَذَا هَاهُنَا. وَالتَّقْدِيرُ إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَقِيَ الْإِنْسَانُ عَمَلَهُ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى مَحْمُولٌ عَلَى التقديم والتأخير فكأنه قيل: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كادحا فَمُلَاقِيهِ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَقَامَتِ الْقِيَامَةُ وَخَامِسُهَا: قَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّ الْجَوَابَ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ [الإنشقاق: 7] واعترض في الكلام قوله: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ وَالْمَعْنَى إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، وكان كذا وكذا من أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَهُوَ كَذَا وَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَهُوَ كَذَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [الْبَقَرَةِ: 38] ، وَسَادِسُهَا: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّ الْجَوَابَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنَّكَ كادِحٌ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ تَرَى مَا عَمِلْتَ فَاكْدَحْ لِذَلِكَ الْيَوْمِ أيها الإنسان لتفوز بالنعيم/ أَمَّا قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ النَّاسِ كَمَا يُقَالُ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، وَكُلُّكُمْ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَكَذَا هَاهُنَا. وَكَأَنَّهُ خِطَابٌ خُصَّ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْعُمُومِ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ التَّخْصِيصِ عَلَى مُخَاطَبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى التَّعْيِينِ بِخِلَافِ اللَّفْظِ الْعَامِّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ رَجُلٌ بِعَيْنِهِ، وَهَاهُنَا فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَعْنَى أَنَّكَ تَكْدَحُ فِي إِبْلَاغِ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَإِرْشَادِ عِبَادِهِ وَتَحَمُّلِ الضَّرَرِ مِنَ الْكُفَّارِ، فَأَبْشِرْ فَإِنَّكَ تَلْقَى اللَّهَ بِهَذَا الْعَمَلِ وَهُوَ غَيْرُ ضَائِعٍ عِنْدَهُ الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَكَدْحُهُ جِدُّهُ وَاجْتِهَادُهُ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا، وَإِيذَاءِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْإِصْرَارُ عَلَى الْكُفْرِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى

[سورة الانشقاق (84) : الآيات 7 إلى 9]

الْجِنْسِ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ فَائِدَةً، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ [الإنشقاق: 7] وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ [الِانْشِقَاقِ: 10] كَالنَّوْعَيْنِ لَهُ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَ جِنْسًا، أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّكَ كادِحٌ فَاعْلَمْ أَنَّ الْكَدْحَ جُهْدُ النَّاسِ فِي الْعَمَلِ وَالْكَدْحِ فِيهِ حَتَّى يُؤَثِّرَ فِيهَا مِنْ كَدَحَ جِلْدَهُ إِذَا خَدَشَهُ، أَمَّا قَوْلُهُ: إِلى رَبِّكَ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى لِقَاءِ رَبِّكَ وَهُوَ الْمَوْتُ أَيْ هَذَا الْكَدْحُ يَسْتَمِرُّ وَيَبْقَى إِلَى هَذَا الزَّمَانِ، وَأَقُولُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْفَكُّ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا عَنِ الْكَدْحِ وَالْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ، وَلَمَّا كَانَتْ كَلِمَةُ إِلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ انْتِهَاءِ الْكَدْحِ وَالْمَشَقَّةِ بِانْتِهَاءِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَأَنْ يَكُونَ الْحَاصِلُ بَعْدَ هَذِهِ الدُّنْيَا مَحْضَ السَّعَادَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَذَلِكَ مَعْقُولٌ، فَإِنَّ نِسْبَةَ الْآخِرَةِ إِلَى الدُّنْيَا كَنِسْبَةِ الدُّنْيَا إِلَى رَحِمِ الْأُمِّ، فَكَمَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ: يَا أَيُّهَا الْجَنِينُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى أَنْ تَنْفَصِلَ مِنَ الرَّحِمِ، فَكَانَ مَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ عَنِ الرَّحِمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا قَبْلَهُ خَالِصًا عن الكدح والظلمة فنرجوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِيمَا بعد الموت كذلك وثانيهما: قَالَ الْقَفَّالُ: التَّقْدِيرُ إِنَّكَ كَادِحٌ فِي دُنْيَاكَ كَدْحًا تَصِيرُ بِهِ إِلَى رَبِّكَ فَبِهَذَا التَّأْوِيلِ حَسُنَ اسْتِعْمَالُ حَرْفِ إِلَى هَاهُنَا وَثَالِثُهَا: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ دُخُولُ إِلَى عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْكَدْحَ هُوَ السَّعْيُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: سَاعٍ بِعَمَلِكَ إِلى رَبِّكَ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمُلاقِيهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: فَمُلَاقٍ رَبَّكَ أَيْ مُلَاقٍ حُكْمَهُ لَا مَفَرَّ لَكَ مِنْهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْكَدْحِ، إِلَّا أَنَّ الْكَدْحَ عَمَلٌ وَهُوَ عَرَضٌ لَا يَبْقَى فَمُلَاقَاتُهُ مُمْتَنِعَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُلَاقَاةَ الْكِتَابِ الَّذِي فِيهِ بَيَانُ تِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا التَّأْوِيلُ بِقَوْلِهِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ. أما قوله تعالى: [سورة الانشقاق (84) : الآيات 7 الى 9] فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) فَالْمَعْنَى فَأَمَّا مَنْ أُعْطِيَ كِتَابَ أَعْمَالِهِ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَسَوْفَ مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: اتَّبِعْنِي فَسَوْفَ نَجِدُ خَيْرًا، فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ بِهِ الشَّكَّ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ تَرْقِيقَ الْكَلَامِ. وَالْحِسَابُ الْيَسِيرُ هُوَ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ أَعْمَالُهُ، وَيَعْرِفَ أَنَّ الطَّاعَةَ مِنْهَا هَذِهِ، وَالْمَعْصِيَةَ هَذِهِ، ثُمَّ يُثَابُ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُتَجَاوَزُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَهَذَا هُوَ الْحِسَابُ الْيَسِيرُ لِأَنَّهُ لَا شِدَّةَ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَا مُنَاقَشَةَ، وَلَا يُقَالُ لَهُ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا وَلَا يُطَالَبُ بِالْعُذْرِ فِيهِ وَلَا بِالْحُجَّةِ عَلَيْهِ. فَإِنَّهُ مَتَى طُولِبَ بِذَلِكَ لَمْ يَجِدْ عُذْرًا وَلَا حُجَّةً فَيُفْتَضَحُ، ثُمَّ إِنَّهُ عِنْدَ هَذَا الْحِسَابِ الْيَسِيرِ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا فَائِزًا بِالثَّوَابِ آمِنًا مِنَ الْعَذَابِ، وَالْمُرَادُ مِنْ أَهْلِهِ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ أَوْ مِنْ زَوْجَاتِهِ وَذُرِّيَّاتِهِ إِذَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعَدَّ لَهُ وَلِأَهْلِهِ فِي الْجَنَّةِ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا، قُلْتُ وَمَا الْحِسَابُ الْيَسِيرُ؟ قَالَ: يَنْظُرُ فِي كِتَابِهِ وَيُتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِ، فَأَمَّا مَنْ نُوقِشَ فِي الْحِسَابِ فَقَدْ هَلَكَ» وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ فَقَدْ هَلَكَ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً قَالَ: «ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَلَكِنَّ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ» وَفِي قَوْلِهِ:

[سورة الانشقاق (84) : آية 10]

يُحَاسَبُ إِشْكَالٌ لِأَنَّ الْمُحَاسَبَةَ تَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَلَيْسَ فِي الْقِيَامَةِ لِأَحَدٍ قِبَلَ رَبِّهِ مُطَالَبَةٌ فَيُحَاسِبَهُ وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: إِلَهِي فَعَلْتُ الْمَعْصِيَةَ الْفُلَانِيَّةَ، فَكَأَنَّ ذَلِكَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ مُحَاسِبَةٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْكُفَّارَ بِأَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُكَلِّمُ الْمُطِيعِينَ وَالْعَبْدُ يُكَلِّمُهُ فَكَانَتِ الْمُكَالَمَةُ مُحَاسَبَةً. أما قوله: [سورة الانشقاق (84) : آية 10] وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ: السَّبَبُ فِيهِ لِأَنَّ يَمِينَهُ مَغْلُولَةٌ إِلَى عُنُقِهِ وَيَدَهُ الْيُسْرَى خَلْفَ ظَهْرِهِ وَثَانِيهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ: تُخْلَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى فَتُجْعَلُ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ وَثَالِثُهَا: قَالَ قَوْمٌ: يَتَحَوَّلُ وَجْهُهُ فِي قَفَاهُ، فَيَقْرَأُ كِتَابَهُ كَذَلِكَ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ يُؤْتَى كِتَابُهُ بِشِمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ لِأَنَّهُ إِذَا حَاوَلَ أَخْذَهُ بِيَمِينِهِ كَالْمُؤْمِنِينَ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَأُوتِيَ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ بِشِمَالِهِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ [الْحَاقَّةِ: 25] وَلَمْ يَذْكُرِ الظَّهْرَ وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: يَحْتَمِلُ أَنْ يُؤْتَى بِشِمَالِهِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ عَلَى مَا حَكَيْنَاهُ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُعْطَى بِشِمَالِهِ، وَبَعْضُهُمْ مِنْ وراء ظهره. أما قوله: [سورة الانشقاق (84) : آية 11] فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) فَاعْلَمْ أَنَّ الثُّبُورَ هُوَ الْهَلَاكُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا أُوتِيَ كِتَابَهُ مِنْ غَيْرِ يَمِينِهِ علم أنه من أهل النار فيقول: وا ثبوراه، قال الفراء: العرب تقول فلان يدعوا لهفه، إذا قال: وا لهفاه، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ، فَقَالَ: الثُّبُورُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمُثَابَرَةِ عَلَى شَيْءٍ، وَهِيَ الْمُوَاظَبَةُ عليه فسمي هلاك الآخرة ثبور لِأَنَّهُ لَازِمٌ لَا يَزُولُ، كَمَا قَالَ: إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً [الْفُرْقَانِ: 65] وَأَصْلُ الْغَرَامِ اللُّزُومُ والولوع. أما قوله تعالى: [سورة الانشقاق (84) : آية 12] وَيَصْلى سَعِيراً (12) فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: صَلَى الْكَافِرُ النَّارَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النِّسَاءِ: 10] وَقَالَ: وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ [آلِ عِمْرَانَ: 115] وقال: إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ [الصَّافَّاتِ: 1] وَقَالَ: لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [اللَّيْلِ: 15، 16] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا أُعْطِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ فَإِنَّهُ يَدْعُو الثُّبُورَ ثُمَّ يَدْخُلُ النَّارَ، وَهُوَ فِي النَّارِ أَيْضًا يَدْعُو ثُبُورًا، كَمَا قَالَ: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً [الْفُرْقَانِ: 13] وَأَحَدُهُمَا لَا يَنْفِي الْآخَرَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اجْتِمَاعِهِمَا قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ وَبَعْدَ دُخُولِهَا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا وَمِمَّا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَأَبُو عَمْرٍو وَيُصْلَى بِضَمِّ الياء والتخفيف كقوله: نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُطَابِقَةٌ لِلْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ لِأَنَّهُ يُصْلَى فَيَصْلَى أَيْ يَدْخُلُ النَّارَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّ الْيَاءِ مُثَقَّلَةً كَقَوْلِهِ: (وَتَصْلِيَةُ جحيم) وَقَوْلِهِ: ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ [الْحَاقَّةِ: 31] .

[سورة الانشقاق (84) : آية 13]

أما قوله تعالى: [سورة الانشقاق (84) : آية 13] إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) فَقَدْ ذَكَرَ الْقَفَّالُ فِيهِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا أَيْ مُنَعَّمًا مُسْتَرِيحًا مِنَ التَّعَبِ بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ وَاحْتِمَالِ مَشَقَّةِ الْفَرَائِضِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْجِهَادِ مُقَدَّمًا عَلَى الْمَعَاصِي آمِنًا مِنَ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَا يَخَافُ اللَّهَ وَلَا يَرْجُوهُ فَأَبْدَلَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ السُّرُورِ الْفَانِي غَمًّا بَاقِيًا لَا يَنْقَطِعُ، وَكَانَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ مُتَّقِيًا مِنَ الْمَعَاصِي غَيْرَ آمِنٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَمْ يَكُنْ فِي دُنْيَاهُ مَسْرُورًا فِي أَهْلِهِ فَجَعَلَهُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ مَسْرُورًا فَأَبْدَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْغَمِّ الْفَانِي سُرُورًا دَائِمًا لَا يَنْفَذُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً كَقَوْلِهِ: وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ [الْمُطَفِّفِينَ: 31] أَيْ مُتَنَعِّمِينَ فِي الدُّنْيَا مُعْجَبِينَ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْبَعْثِ يَضْحَكُ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَ بِالْحِسَابِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» . أَمَّا قَوْلُهُ: [سورة الانشقاق (84) : آية 14] إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) فَاعْلَمْ أَنَّ الْحَوْرَ هُوَ الرُّجُوعُ وَالْمَحَارُ الْمَرْجِعُ وَالْمَصِيرُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. مَا كُنْتُ أَدْرِي مَا مَعْنَى يحور، حتى سمعت إعرابية تقول لا بنتها حُورِي أَيِ ارْجِعِي، وَنَقَلَ الْقَفَّالُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْحَوْرَ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى خِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمَرْءُ كَمَا قَالُوا: «نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ» فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْآخِرَةِ أَيْ لَنْ يُبْعَثَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ: حَسِبَ أَنْ لَا يَرْجِعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَرْجِعَ إِلَى خِلَافِ مَا هُوَ عليه في الدنيا من السرور والتنعم. [سورة الانشقاق (84) : آية 15] بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلى أَيْ لَيُبْعَثُنَّ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَدِّلُ سُرُورَهُ بِغَمٍّ لَا يَنْقَطِعُ وَتَنَعُّمَهُ بِبَلَاءٍ لَا يَنْتَهِي وَلَا يَزُولُ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً فَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ بَصِيرًا بِهِ مِنْ يَوْمِ خَلَقَهُ إِلَى أَنْ بَعَثَهُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: بَصِيرًا بِمَا سَبَقَ عَلَيْهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ مِنَ الشَّقَاءِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بَصِيرًا مَتَى بَعَثَهُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ مَرْجِعَهُ إِلَيْهِ وَلَا فَائِدَةَ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ، إِنَّمَا الْفَائِدَةُ فِي وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْقَفَّالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ رَبَّهُ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ سَيَجْزِيهِ وَالثَّانِي: أَنَّ رَبَّهُ كَانَ عَالِمًا بِمَا يَعْمَلُهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي فَلَمْ يَكُنْ يَجُوزُ فِي حِكْمَتِهِ أَنْ يُهْمِلَهُ فَلَا يُعَاقِبَهُ عَلَى سُوءِ أَعْمَالِهِ، وَهَذَا زَجْرٌ لِكُلِّ الْمُكَلَّفِينَ عَنْ جَمِيعِ المعاصي. [سورة الانشقاق (84) : الآيات 16 الى 20] فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)

اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ هَذَا قَسَمٌ، وَأَمَّا حَرْفُ لَا فَقْدَ تَكَلَّمْنَا فِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: 1] وَمِنْ جُمْلَةِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ هُنَاكَ أَنْ لَا نَفْيَ وَرَدَ لِكَلَامٍ قَبْلَ الْقَسَمِ وَتَوْجِيهُ هَذَا الوجه هاهنا ظاهر، لأنه تعالى حكى هاهنا عَنِ الْمُشْرِكِ أَنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ فَقَوْلُهُ لَا رَدٌّ لِذَلِكَ الْقَوْلِ وَإِبْطَالٌ لِذَلِكَ الظَّنِّ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ عَرَفْتَ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْقَسَمَ وَاقِعٌ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَوْ يُخَالِفُهَا، وَعَرَفْتَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْقَسَمَ وَاقِعٌ بِرَبِّ الشَّفَقِ وَإِنْ كَانَ مَحْذُوفًا، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ حَيْثُ وَرَدَ الْحَظْرُ بِأَنْ يُقْسِمَ الْإِنْسَانُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَرْكِيبُ لَفْظِ الشَّفَقِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِرِقَّةِ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: ثَوْبٌ شَفَقٌ كَأَنَّهُ لَا تَمَاسُكَ لِرِقَّتِهِ، وَيُقَالُ: لِلرَّدِيءِ مِنَ الْأَشْيَاءِ شَفَقٌ، وَأَشْفَقَ عَلَيْهِ إِذَا رَقَّ قَلْبُهُ عَلَيْهِ وَالشَّفَقَةُ رِقَّةُ الْقَلْبِ ثُمَّ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلْأَثَرِ الْبَاقِي مِنَ الشَّمْسِ فِي الْأُفُقِ بَعْدَ غُرُوبِهَا إِلَّا مَا يُحْكَى عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: الشَّفَقُ هُوَ النَّهَارُ، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى هَذَا لِأَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ عَلَيْهِ اللَّيْلَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا هُوَ النَّهَارَ فَالْقَسَمُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَاقِعٌ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا مَعَاشٌ وَالثَّانِي سَكَنٌ وَبِهِمَا قِوَامُ أُمُورِ الْعَالَمِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَذَهَبَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الْحُمْرَةُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ، وَمِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ قَوْلُ اللَّيْثِ وَالْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ الْبَيَاضُ وَرَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ. وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْعَرَبِ يَقُولُ عَلَيْهِ ثَوْبٌ مَصْبُوغٌ كَأَنَّهُ الشَّفَقُ وَكَانَ أَحْمَرَ، قَالَ: فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الشَّفَقَ هُوَ الْحُمْرَةُ/ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ جَعْلَ الشَّفَقَ وَقْتًا لِلْعِشَاءِ الْأَخِيرَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْحُمْرَةَ لَا الْبَيَاضَ لِأَنَّ الْبَيَاضَ يَمْتَدُّ وَقْتُهُ وَيَطُولُ لُبْثُهُ، وَالْحُمْرَةُ لَمَّا كَانَتْ بَقِيَّةَ ضَوْءِ الشَّمْسِ ثُمَّ بَعُدَتِ الشَّمْسُ عَنِ الْأُفُقِ ذَهَبَتِ الْحُمْرَةُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ اشْتِقَاقَ الشَّفَقِ لَمَّا كَانَ مِنَ الرِّقَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الضَّوْءَ يَأْخُذُ فِي الرِّقَّةِ وَالضَّعْفِ مِنْ عِنْدِ غَيْبَةِ الشَّمْسِ فَتَكُونُ الْحُمْرَةُ شَفَقًا. أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ فَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: وَسَقَ أَيْ جَمَعَ وَمِنْهُ الْوَسْقُ وَهُوَ الطَّعَامُ الْمُجْتَمِعُ الَّذِي يُكَالُ وَيُوزَنُ ثُمَّ صَارَ اسْمًا لِلْحِمْلِ وَاسْتَوْسَقَتِ الْإِبِلُ إِذَا اجْتَمَعَتْ وَانْضَمَّتْ وَالرَّاعِي يَسُقْهَا أَيْ يَجْمَعُهَا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يُقَالُ وَسَقَهُ فَاتَّسَقَ وَاسْتَوْسَقَ وَنَظِيرُهُ فِي وُقُوعِ افْتَعَلَ وَاسْتَفْعَلَ مُطَاوِعَيْنِ اتَّسَعَ وَاسْتَوْسَعَ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَقَالَ الْقَفَّالُ: مَجْمُوعُ أَقَاوِيلِ الْمُفَسِّرِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فَسَّرُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما وَسَقَ عَلَى جَمِيعِ مَا يَجْمَعُهُ اللَّيْلُ مِنَ النُّجُومِ وَرُجُوعِ الْحَيَوَانِ عَنِ الِانْتِشَارِ وَتَحَرُّكِ مَا يَتَحَرَّكُ فِيهِ الْهَوَامُّ، ثُمَّ هَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إلى الأشياء كلها الاشتمال اللَّيْلِ عَلَيْهَا فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا قَالَ: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لَا تُبْصِرُونَ [الْحَاقَّةِ: 38] وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مَا عُمِلَ فِيهِ، قَالَ الْقَفَّالُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ تَهَجُّدُ الْعِبَادِ فَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ فَيَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ بِهِمْ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ اللَّيْلَ جَمَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِأَنَّ ظُلْمَتَهُ كَأَنَّهَا تُجَلِّلُ الْجِبَالَ وَالْبِحَارَ وَالشَّجَرَ وَالْحَيَوَانَاتِ، فَلَا جَرَمَ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: وَسَقَ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ فَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ مِنَ الِاجْتِمَاعِ يُقَالُ: وَسَقْتُهُ فَاتَّسَقَ كَمَا يقال: وصلته

فَاتَّصَلَ، أَيْ جَمَعْتُهُ فَاجْتَمَعَ وَيُقَالُ: أُمُورُ فُلَانٍ مُتَّسِقَةٌ أَيْ مُجْتَمِعَةٌ عَلَى الصَّلَاحِ كَمَا يُقَالُ: مُنْتَظِمَةٌ، وَأَمَّا أَهْلُ الْمَعَانِي فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا اتَّسَقَ أَيِ اسْتَوَى وَاجْتَمَعَ وَتَكَامَلَ وَتَمَّ وَاسْتَدَارَ وَذَلِكَ لَيْلَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ إِلَى سِتَّةَ عَشَرَ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا بِهِ أَقْسَمَ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَا عليه أقسم فقال: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ: لَتَرْكَبُنَّ عَلَى خِطَابِ الْإِنْسَانِ فِي يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ: وَلَتَرْكَبُنَّ بِالضَّمِّ عَلَى خِطَابِ الجنس لأن النداء في قوله: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ [الإنشقاق: 6] لِلْجِنْسِ وَلَتَرْكَبِنَّ بِالْكَسْرِ عَلَى خِطَابِ النَّفْسِ، وَلَيَرْكَبَنَّ بِالْيَاءِ عَلَى الْمُغَايَبَةِ أَيْ لَيَرْكَبَنَّ الْإِنْسَانُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الطَّبَقُ مَا طَابَقَ غَيْرَهُ يُقَالُ: مَا هَذَا يَطْبُقُ كَذَا أَيْ لَا يُطَابِقُهُ، وَمِنْهُ قِيلَ: لِلْغِطَاءِ الطَّبَقُ وَطِبَاقُ الثَّرَى مَا يُطَابِقُ مِنْهُ، قِيلَ: لِلْحَالِ الْمُطَابِقَةِ لِغَيْرِهَا طَبَقٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ أَيْ حَالًا بَعْدَ حَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مُطَابِقَةٍ لِأُخْتِهَا فِي الشِّدَّةِ وَالْهَوْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ طَبَقَةٍ وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ هُوَ عَلَى طَبَقَاتٍ وَالْمَعْنَى لَتَرْكَبُنَّ أَحْوَالًا بَعْدَ أَحْوَالٍ هِيَ طَبَقَاتٌ فِي الشِّدَّةِ بَعْضُهَا أَرْفَعُ مِنْ بَعْضٍ وَهِيَ الْمَوْتُ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ، وَلْنَذْكُرِ الْآنَ وُجُوهَ الْمُفَسِّرِينَ فَنَقُولُ: أَمَّا الْقِرَاءَةُ بِرَفْعِ الياء وَهُوَ خِطَابُ الْجَمْعِ فَتَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَتَرْكَبَنَّ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ أُمُورًا وَأَحْوَالًا أَمْرًا بَعْدَ أَمْرٍ وَحَالًا بَعْدَ حَالٍ وَمَنْزِلًا بَعْدَ مَنْزِلٍ إِلَى أَنْ يَسْتَقِرَّ الْأَمْرُ عَلَى ما يقضي به على الإنسان أول مِنْ جَنَّةٍ أَوْ نَارٍ فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الدَّوَامُ وَالْخُلُودُ، إِمَّا فِي دَارِ الثَّوَابِ أَوْ فِي دَارِ الْعِقَابِ/ وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَحْوَالُ الْإِنْسَانِ مَنْ يَكُونُ نُطْفَةً إِلَى أَنْ يَصِيرَ شَخْصًا ثُمَّ يَمُوتُ فَيَكُونُ فِي الْبَرْزَخِ، ثُمَّ يُحْشَرُ ثُمَّ يُنْقَلُ، إِمَّا إِلَى جَنَّةٍ وَإِمَّا إِلَى نَارٍ وَثَانِيهَا: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ النَّاسَ يَلْقَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحْوَالًا وَشَدَائِدَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ وَشِدَّةً بَعْدَ شِدَّةٍ كَأَنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا الْبَعْثَ أَقْسَمَ اللَّهُ أَنَّ الْبَعْثَ كَائِنٌ وَأَنَّ النَّاسَ يَلْقَوْنَ فِيهَا الشَّدَائِدَ وَالْأَهْوَالَ إِلَى أَنْ يَفْرَغَ مِنْ حِسَابِهِمْ فَيَصِيرَ كُلُّ أَحَدٍ إلى أعدله مِنْ جَنَّةٍ أَوْ نَارٍ وَهُوَ نَحْوَ قَوْلِهِ: بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ [التَّغَابُنِ: 7] وَقَوْلِهِ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [الْقَلَمِ: 42] وَقَوْلِهِ: يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً [الْمُزَّمِّلِ: 17] ، وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ النَّاسَ تَنْتَقِلُ أَحْوَالُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَمِنْ وَضِيعٍ فِي الدُّنْيَا يَصِيرُ رَفِيعًا فِي الْآخِرَةِ، وَمِنْ رَفِيعٍ يَتَّضِعُ، وَمِنْ مُتَنَعِّمٍ يَشْقَى، وَمِنْ شَقِيٍّ يَتَنَعَّمُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: خافِضَةٌ رافِعَةٌ [الْوَاقِعَةِ: 3] وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُنَاسِبٌ لِمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ مَنْ يُؤْتَى كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، أَنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا، وَكَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يَحُورُ، ثُمَّ أَقْسَمَ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُمْ يَرْكَبُونَ فِي الْآخِرَةِ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ أَيْ حَالًا بَعْدَ حَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فِي التَّكْذِيبِ بِالنُّبُوَّةِ وَالْقِيَامَةِ، وأما القراءة بنصب الياء فَفِيهَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ خِطَابٌ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ذَكَرُوا وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِشَارَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالظَّفَرِ وَالْغَلَبَةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ، كأنه يقول: أقسم يا محمد لنركبن حَالًا بَعْدَ حَالٍ حَتَّى يُخْتَمَ لَكَ بِجَمِيلِ الْعَافِيَةِ فَلَا يَحْزُنْكَ تَكْذِيبُهُمْ وَتَمَادِيهِمْ فِي كُفْرِهِمْ. وَفِي هَذَا الْوَجْهِ احْتِمَالٌ آخَرُ يَقْرُبُ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَرْكَبُ حَالَ ظَفَرٍ وَغَلَبَةٍ بَعْدَ حَالِ خَوْفٍ وَشِدَّةٍ. وَاحْتِمَالٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبْدِلُهُ بِالْمُشْرِكِينَ أَنْصَارًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَكُونُ مَجَازُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ طَبَقَاتُ النَّاسِ، وَقَدْ

يَصْلُحُ هَذَا التَّأْوِيلُ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِضَمِّ الْبَاءِ، كَأَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِتَعْرِيفِ تَنَقُّلِ الأحوال بهم وتصييرهم إلى الظفر بعد وهم بَعْدَ الشِّدَّةِ الَّتِي يَلْقَوْنَهَا مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 186] الْآيَةَ وثانيهما: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِشَارَةً لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصُعُودِهِ إِلَى السَّمَاءِ لِمُشَاهَدَةِ مَلَكُوتِهَا، وَإِجْلَالِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ فِيهَا، وَالْمَعْنَى لَتَرْكَبَنَّ يَا محمد السموات طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً [الْمُلْكِ: 3] وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَثَالِثُهَا: لَتَرْكَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ دَرَجَةً وَرُتْبَةً بَعْدَ رُتْبَةٍ فِي الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي السَّمَاءِ وَتَغَيُّرِهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَالْمَعْنَى لَتَرْكَبَنَّ السَّمَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَالَةً بَعْدِ حَالَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا أَوَّلًا تنشق كما قال: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الإنشقاق: 1] ثُمَّ تَنْفَطِرُ كَمَا قَالَ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الِانْفِطَارِ: 1] ثُمَّ تَصِيرُ: وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرَّحْمَنِ: 37] وَتَارَةً: كَالْمُهْلِ [الْمَعَارِجِ: 8] عَلَى مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فِي آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنَّهَا تَنْشَقُّ أَقْسَمَ فِي آخِرِ السُّورَةِ أَنَّهَا تَنْتَقِلُ مِنْ أَحْوَالٍ إِلَى أَحْوَالٍ، وَهَذَا الْوَجْهُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: عَنْ طَبَقٍ أَيْ بَعْدَ طَبَقٍ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: مَا زِلْتُ أَقْطَعُ مَنْهَلًا عَنْ مَنْهَلٍ ... حَتَّى أَنَخْتُ بِبَابِ عَبْدِ الْوَاحِدِ وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا صَارَ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ فَقَدْ صَارَ إِلَى الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ فَصَلُحَتْ بَعْدُ وَعَنْ مُعَاقَبَةً، وَأَيْضًا فَلَفْظَةُ عَنْ تُفِيدُ الْبُعْدَ وَالْمُجَاوَزَةَ فَكَانَتْ مُشَابِهَةً لِلَفْظَةِ بَعْدُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِصِحَّةِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكَافِرِ: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ [الإنشقاق: 14] ثُمَّ أَفْتَى سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ يَحُورُ فَلَمَّا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَحْسُنُ عِنْدَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ وَزَوَالِ الشُّبُهَاتِ، الْأَمْرُ هَاهُنَا كَذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَقْسَمَ بِتَغْيِيرَاتٍ وَاقِعَةٍ فِي الْأَفْلَاكِ وَالْعَنَاصِرِ، فَإِنَّ الشَّفَقَ حَالَةٌ مُخَالِفَةٌ لِمَا قَبْلَهَا وَهُوَ ضَوْءُ النَّهَارِ، وَلِمَا بَعْدَهَا وَهُوَ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ ظُلْمَةٍ بَعْدَ نُورٍ، وَعَلَى تَغَيُّرِ أَحْوَالِ الْحَيَوَانَاتِ مِنَ الْيَقَظَةِ إِلَى النَّوْمِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ كَمَالِ القمر بعد أن كان ناقصا، إنه تَعَالَى أَقْسَمَ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ الْمُتَغَيِّرَةِ عَلَى تَغَيُّرِ أَحْوَالِ الْخَلْقِ، وَهَذَا يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْبَعْثِ، لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى تَغْيِيرِ الْأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَصِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهِ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ. وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ لَا مَحَالَةَ قَادِرًا عَلَى الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، فَلَمَّا كَانَ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ كَالدَّلَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى صِحَّةِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ لَا جَرَمَ قَالَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ: فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الْحَكِيمُ فِيمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْإِيمَانِ فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ

[سورة الانشقاق (84) : آية 21]

فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى كَوْنِهِمْ قَادِرِينَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الِاسْتِطَاعَةُ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَأَنْ يَكُونُوا مُوجِدِينَ لِأَفْعَالِهِمْ، وَأَنْ لَا يَكُونَ تَعَالَى خَالِقًا لِلْكُفْرِ فِيهِمْ. فَهَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْمُحْكَمَاتِ الَّتِي لَا احْتِمَالَ فِيهَا الْبَتَّةَ، وَجَوَابُهُ قَدْ مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: [سورة الانشقاق (84) : آية 21] وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُمْ أَرْبَابُ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ فَعِنْدَ سَمَاعِهِمُ الْقُرْآنَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَعْلَمُوا كَوْنَهُ مُعْجِزًا، وَإِذَا عَلِمُوا صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُجُوبَ طَاعَتِهِ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، فَلَا جَرَمَ اسْتَبْعَدَ اللَّهُ مِنْهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ تَرْكَ السُّجُودِ وَالطَّاعَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ مِنَ السُّجُودِ الصَّلَاةُ وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْخُضُوعُ وَالِاسْتِكَانَةُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ نَفْسُ السُّجُودِ عِنْدَ آيَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «قَرَأَ ذَاتَ يَوْمٍ: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [الْعَلَقِ: 19] فَسَجَدَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقُرَيْشٌ تُصَفِّقُ فوق رؤوسهم وَتُصَفِّرُ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى وُجُوبِ السَّجْدَةِ بِهَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ فِعْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتَضِي الوجوب لقوله تعالى: وَاتَّبِعُوهُ وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ مَنْ يَسْمَعُهُ فَلَا يَسْجُدُ، وَحُصُولُ الذَّمِّ عِنْدَ التَّرْكِ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ سَجْدَةٌ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَجَدَ هَاهُنَا، وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا سَجَدْتُ فِيهَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِيهَا، وَعَنْ أَنَسٍ صَلَّيْتُ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَسَجَدُوا وَعَنِ الْحَسَنِ هِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ. [سورة الانشقاق (84) : آية 22] بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) أما قوله: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يكذبوا فَالْمَعْنَى أَنَّ الدَّلَائِلَ الْمُوجِبَةَ لِلْإِيمَانِ، وَإِنْ كَانَتْ جَلِيَّةً ظَاهِرَةً لَكِنَّ الْكُفَّارَ يُكَذِّبُونَ بِهَا إِمَّا لِتَقْلِيدِ الْأَسْلَافِ، وَإِمَّا لِلْحَسَدِ وَإِمَّا لِلْخَوْفِ مِنْ أَنَّهُمْ لَوْ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ لَفَاتَتْهُمْ مَنَاصِبُ الدُّنْيَا ومنافعها. أما قوله تعالى: [سورة الانشقاق (84) : آية 23] وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْوِعَاءِ، فَيُقَالُ: أَوْعَيْتُ الشَّيْءَ أَيْ جَعَلْتُهُ فِي وعاء كما قال: وَجَمَعَ فَأَوْعى [المعارج: 18] وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَجْمَعُونَ فِي صُدُورِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّكْذِيبِ فَهُوَ مُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا والآخرة. ثم قال تعالى: [سورة الانشقاق (84) : آية 24] فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) اسْتَحَقُّوهُ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ. أما قوله:

[سورة الانشقاق (84) : آية 25]

[سورة الانشقاق (84) : آية 25] إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) فَفِيهِ قَوْلَانِ قَالَ: صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، وَقَالَ: الْأَكْثَرُونَ مَعْنَاهُ إِلَّا مَنْ تَابَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا فِي الْحَالِ كُفَّارًا إِلَّا أَنَّهُمْ مَتَى تَابُوا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ وَهُوَ الثَّوَابُ الْعَظِيمُ. وَفِي مَعْنَى: غَيْرُ مَمْنُونٍ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الثَّوَابَ يَصِلُ إِلَيْهِمْ بِلَا مَنٍّ وَلَا أَذًى وَثَانِيهَا: مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ وَثَالِثُهَا: مِنْ غَيْرِ تَنْغِيصٍ وَرَابِعُهَا: مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ اللَّفْظُ عَلَى الْكُلِّ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الثَّوَابِ حُصُولَ الْكُلِّ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَهُمْ بِأَجْرٍ خَالِصٍ مِنَ الشَّوَائِبِ دَائِمٍ لَا انْقِطَاعَ فِيهِ وَلَا نَقْصَ وَلَا بَخْسَ، وَهَذَا نِهَايَةُ الْوَعْدِ فَصَارَ ذَلِكَ تَرْغِيبًا فِي الْعِبَادَاتِ، كَمَا أَنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ هُوَ زَجْرٌ عَنِ الْمَعَاصِي وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

سورة البروج

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة البروج عشرون وآيتان مكية اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ تَسْلِيَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ عَنْ إِيذَاءِ الْكُفَّارِ وَكَيْفِيَّةُ تِلْكَ التَّسْلِيَةِ هِيَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ سَائِرَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ كَانُوا كَذَلِكَ مِثْلَ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ وَمِثْلَ فِرْعَوْنَ وَمِثْلَ ثَمُودَ، وَخَتَمَ ذَلِكَ بِأَنْ بَيَّنَ أَنَّ كُلَّ الْكُفَّارِ كَانُوا فِي التَّكْذِيبِ، ثُمَّ عَقَّبَ هَذَا الْوَجْهَ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ [الْبُرُوجِ: 20] ذَكَرَ وَجْهًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنَّ هَذَا شَيْءٌ مُثْبَتٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مُمْتَنِعُ التَّغْيِيرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ [لبروج: 21] فهذا ترتيب السورة. [سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) اعْلَمْ أَنَّ فِي الْبُرُوجِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا هِيَ الْبُرُوجُ الِاثْنَا عَشَرَ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ وَإِنَّمَا حَسُنَ الْقَسَمُ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ عَجِيبِ الْحِكْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَيْرَ الشَّمْسِ فِيهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ مَصَالِحَ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ مُرْتَبِطَةٌ بِسَيْرِ الشَّمْسِ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لَهَا صَانِعًا حَكِيمًا، قَالَ الْجُبَّائِيُّ: وَهَذِهِ الْيَمِينُ وَاقِعَةٌ عَلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لِأَنَّ الْبُرُوجَ فِيهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ وَتَحْقِيقُهُ ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ [الصافات: 6] ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْبُرُوجَ هِيَ مَنَازِلُ الْقَمَرِ، وَإِنَّمَا حَسُنَ الْقَسَمُ بِهَا لِمَا فِي سَيْرِ الْقَمَرِ وَحَرَكَتِهِ مِنَ الْآثَارِ الْعَجِيبَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْبُرُوجَ هِيَ عِظَامُ الْكَوَاكِبِ سُمِّيَتْ بُرُوجًا لِظُهُورِهَا. وَأَمَّا الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ فَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ الْقَفَّالُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ لِانْشِقَاقِ السَّمَاءِ وَفَنَائِهَا وَبُطْلَانِ بُرُوجِهَا. وَأَمَّا الشاهد والمشهود، فقد اضطرب أَقَاوِيلُ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ، وَالْقَفَّالُ أَحْسَنُ النَّاسِ كَلَامًا فِيهِ، قَالَ: إِنَّ الشَّاهِدَ يَقَعُ عَلَى شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: الشَّاهِدُ الَّذِي تَثْبُتُ بِهِ الدَّعَاوَى وَالْحُقُوقُ وَالثَّانِي: الشَّاهِدُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْحَاضِرِ، كَقَوْلِهِ: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [الْأَنْعَامِ: 73] وَيُقَالُ: فُلَانٌ شَاهِدٌ وَفُلَانٌ غَائِبٌ، وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ الثَّانِي أَوْلَى، إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْأَوَّلَ لَمَا خَلَا لَفْظُ الْمَشْهُودِ عَنْ حَرْفِ الصِّلَةِ، فَيُقَالُ: مَشْهُودٌ عَلَيْهِ، أَوْ مَشْهُودٌ لَهُ. هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ/ مَعْنَاهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَحُذِفَتِ الصِّلَةُ، كَمَا في قوله: إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا [الْإِسْرَاءِ: 34] أَيْ مَسْئُولًا عَنْهُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: إِنْ حَمَلْنَا

الشُّهُودَ عَلَى الْحُضُورِ احْتَمَلَتِ الْآيَةُ وُجُوهًا مِنَ التَّأْوِيلِ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَشْهُودَ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالشَّاهِدَ هُوَ الْجَمْعُ الَّذِي يَحْضُرُونَ فِيهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الِاحْتِمَالِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا حُضُورَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الْحُضُورِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْمَعُ فِيهِ خَلْقَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَصَرْفُ اللَّفْظِ إِلَى الْمُسَمَّى الْأَكْمَلِ أَوْلَى وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْيَوْمَ الْمَوْعُودَ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ: وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ وَهَذَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشَّاهِدِ مَنْ يَحْضُرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْخَلَائِقِ، وَبِالْمَشْهُودِ مَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْعَجَائِبِ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِكَوْنِهِ مَشْهُودًا فِي قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [مَرْيَمَ: 37] وَقَالَ: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هُودٍ: 103] وَقَالَ: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 52] وَقَالَ: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس: 53] وَطَرِيقُ تَنْكِيرِهِمَا إِمَّا مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التَّكْوِيرِ: 14] كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا أَفْرَطَتْ كَثْرَتُهُ مِنْ شَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ، وَإِمَّا الْإِبْهَامُ فِي الْوَصْفِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَشَاهِدٌ وَمَشْهُودٌ لَا يُكْتَنَهُ وَصْفُهُمَا، وَإِنَّمَا حَسُنَ الْقَسَمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْقُدْرَةِ إِذْ كَانَ هُوَ يَوْمُ الْفَصْلِ وَالْجَزَاءِ وَيَوْمُ تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ بِالْمُلْكِ وَالْحُكْمِ، وَهَذَا الْوَجْهُ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالضَّحَّاكِ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَثَانِيهَا: أَنْ يُفَسَّرَ الْمَشْهُودُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَوْمٌ يَشْهَدُهُ الْمُسْلِمُونَ لِلصَّلَاةِ وَلِذِكْرِ اللَّهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ هَذَا الْيَوْمِ مُسَمًّى بِالْمَشْهُودِ خَبَرَانِ الْأَوَّلُ: مَا رَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْثِرُوا الصَّلَاةَ عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ يَوْمٌ مَشْهُودٌ تَشْهَدُهُ الْمَلَائِكَةُ» وَالثَّانِي: مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَحْضُرُ الْمَلَائِكَةُ أَبْوَابَ الْمَسْجِدِ فَيَكْتُبُونَ النَّاسَ فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طُوِيَتِ الصُّحُفُ» وَهَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ إِلَّا فِي هَذَا الْيَوْمِ فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى مشهودا لهذا المعنى، قال الله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الْإِسْرَاءِ: 78] وَرُوِيَ: «أَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَحْضُرُونَ وَقْتَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَسُمِّيَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ مَشْهُودَةً لِشَهَادَةِ الْمَلَائِكَةِ» فَكَذَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يُفَسَّرَ الْمَشْهُودُ بِيَوْمِ عَرَفَةَ وَالشَّاهِدُ مَنْ يَحْضُرُهُ مِنَ الْحَاجِّ وَحَسُنَ الْقَسَمُ بِهِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الْحَجِّ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ: «انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا أَتَوْنِي مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ وَأَنَّ إِبْلِيسَ يَصْرُخُ وَيَضَعُ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ لِمَا يَرَى مِنْ ذَلِكَ» وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ مُسَمًّى بِأَنَّهُ مَشْهُودٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ [الْحَجِّ: 27، 28] ، وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ يَوْمَ النَّحْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَشَاهِدِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَجْتَمِعُ أَهْلُ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمِنًى وَالْمُزْدَلِفَةِ وَهُوَ عِيدُ الْمُسْلِمِينَ، وَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنَ الْقَسَمِ بِهِ تَعْظِيمَ أَمْرِ الْحَجِّ وَخَامِسُهَا: حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى يَوْمِ/ الْجُمُعَةِ وَيَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ النَّحْرِ جَمِيعًا لِأَنَّهَا أَيَّامٌ عِظَامٌ فَأَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا كَمَا أَقْسَمَ بِاللَّيَالِي الْعَشْرِ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَلَعَلَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ لِكُلِّ يَوْمٍ عَظِيمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا وَلِكُلِّ مَقَامٍ جَلِيلٍ مِنْ مَقَامَاتِهَا وَلِيَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَوْمٌ عَظِيمٌ كَمَا قَالَ: لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْمُطَفِّفِينَ: 5، 6] وَقَالَ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [مَرْيَمَ: 37] وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ خُرُوجُ اللَّفْظِ فِي الشَّاهِدِ وَالْمَشْهُودِ عَلَى النَّكِرَةِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْقَصْدَ لَمْ يَقَعْ فِيهِ إِلَى يَوْمٍ بِعَيْنِهِ فَيَكُونَ مُعَرَّفًا أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ الشَّاهِدُ عَلَى مَنْ تَثْبُتُ الدَّعْوَى بِقَوْلِهِ، فَقَدْ ذَكَرُوا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وُجُوهًا كَثِيرَةً أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آلِ عِمْرَانَ: 18] وَقَوْلِهِ: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ

[سورة البروج (85) : الآيات 4 إلى 7]

[الْأَنْعَامِ: 19] وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فُصِّلَتْ: 53] وَالْمَشْهُودُ هُوَ التَّوْحِيدُ، لِقَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران: 18] والنبوة: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَثَانِيهَا: أَنَّ الشَّاهِدَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاءِ: 41] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً [الفتح: 8] وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ هُوَ الْأَنْبِيَاءُ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ هُوَ الْأُمَمُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ هُوَ جَمِيعُ الْمُمْكِنَاتِ وَالْمُحْدَثَاتِ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَاجِبُ الْوُجُودِ، وَهَذَا احْتِمَالٌ ذَكَرْتُهُ أَنَا وَأَخَذْتُهُ مِنْ قَوْلِ الْأُصُولِيِّينَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْقَسَمُ وَاقِعًا بِالْخَلْقِ وَالْخَالِقِ، وَالصُّنْعِ وَالصَّانِعِ وَخَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ هُوَ الْمَلَكُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ هُمُ الْمُكَلَّفُونَ وَسَادِسُهَا: أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ هُوَ الْمَلَكُ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ هُوَ الْإِنْسَانُ الَّذِي تَشْهَدُ عَلَيْهِ جَوَارِحُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ [النُّورِ: 24] وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا [فُصِّلَتْ: 21] وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَقْوَالٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الرِّوَايَاتِ لَا عَلَى الِاشْتِقَاقِ فَأَحَدُهَا: أَنَّ الشَّاهِدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُودَ يَوْمُ عَرَفَةَ، رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ ذَخِيرَةُ اللَّهِ لَنَا» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا قَالَ: «الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى أَفْضَلِ مِنْهُ فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللَّهَ بِخَيْرٍ إِلَّا اسْتَجَابَ لَهُ، وَلَا يَسْتَعِيذُ مِنْ شَرٍّ إِلَّا أَعَاذَهُ مِنْهُ» وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «سَيِّدُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَهُوَ الشَّاهِدُ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ» وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ قَتَادَةُ: شَاهِدٌ وَمَشْهُودٌ، يَوْمَانِ عَظَّمَهُمَا اللَّهُ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، كَمَا يُحَدِّثُ أَنَّ الشَّاهِدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَالْمَشْهُودَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَثَانِيهَا: أَنَّ الشَّاهِدَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالْمَشْهُودَ يَوْمُ النَّحْرِ/ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا يَوْمَانِ عَظَّمَهُمَا اللَّهُ وَجَعَلَهُمَا مِنْ أَيَّامِ أَرْكَانِ أَيَّامِ الْحَجِّ، فَهَذَانِ الْيَوْمَانِ يَشْهَدَانِ لِمَنْ يَحْضُرُ فِيهِمَا بِالْإِيمَانِ وَاسْتِحْقَاقِ الرَّحْمَةِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَبَحَ كَبْشَيْنِ، وَقَالَ فِي أَحَدِهِمَا: «هَذَا عَمَّنْ يَشْهَدُ لِي بِالْبَلَاغِ» فَيَحْتَمِلُ لِهَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ يَوْمُ النَّحْرِ شَاهِدًا لِمَنْ حَضَرَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ لِهَذَا الْخَبَرِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ عِيسَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً [الْمَائِدَةِ: 117] ، وَرَابِعُهَا: الشَّاهِدُ هُوَ اللَّهُ وَالْمَشْهُودُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، قَالَ تَعَالَى: يَا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس: 52] وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا [الْمُجَادَلَةِ: 7] ، وَخَامِسُهَا: أَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الْإِنْسَانُ، وَالْمَشْهُودَ هُوَ التَّوْحِيدُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَافِ: 172] وَسَادِسُهَا: أَنَّ الشَّاهِدَ الْإِنْسَانُ وَالْمَشْهُودَ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَمَّا كَوْنُ الْإِنْسَانِ شَاهِدًا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا بَلى شَهِدْنا [الْأَعْرَافِ: 172] وَأَمَّا كَوْنُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَشْهُودًا فَلِقَوْلِهِ: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ [الْأَعْرَافِ: 172] فَهَذِهِ هِيَ الْوُجُوهُ الْمُلَخَّصَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْقُرْآنِ. [سورة البروج (85) : الآيات 4 الى 7] قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)

اعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْقَسَمِ مِنْ جَوَابٍ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: مَا ذَكَرَهُ الْأَخْفَشُ وَهُوَ أَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ قَوْلُهُ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ وَاللَّامُ مُضْمَرَةٌ فِيهِ، كَمَا قَالَ: وَالشَّمْسِ وَضُحاها [الشَّمْسِ: 1] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشَّمْسِ: 9] يُرِيدُ. لَقَدْ أَفْلَحَ، قَالَ: وَإِنْ شِئْتَ عَلَى التَّقْدِيمِ كَأَنَّهُ قِيلَ: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَثَانِيهَا: مَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ، وَهُوَ أَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَتَادَةَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ جواب القسم قوله: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا [البروج: 10] الْآيَةَ كَمَا تَقُولُ: وَاللَّهِ إِنَّ زَيْدًا لَقَائِمٌ، إِلَّا أَنَّهُ اعْتَرَضَ بَيْنَ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ، قَوْلُهُ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا [البروج: 4- 10] وَرَابِعُهَا: مَا ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ مَحْذُوفٌ، وَهَذَا اخْتِيَارُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» إِلَّا أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ، قَالُوا: ذَلِكَ الْمَحْذُوفُ هُوَ أَنَّ الْأَمْرَ حَقٌّ فِي الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : جَوَابُ الْقَسَمِ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَقْسَمَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ مَلْعُونُونَ كَمَا لُعِنَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السُّورَةَ وَرَدَتْ فِي تَثْبِيتِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَصْبِيرِهِمْ عَلَى أَذَى أَهْلِ مَكَّةَ وَتَذْكِيرِهِمْ بِمَا جَرَى عَلَى مَنْ تَقَدَّمُهُمْ مِنَ التَّعْذِيبِ عَلَى الْإِيمَانِ حَتَّى يَقْتَدُوا بِهِمْ وَيَصْبِرُوا عَلَى أَذَى قَوْمِهِمْ، وَيَعْلَمُوا أَنَّ كَفَّارَ مَكَّةَ عِنْدَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ يَحْرِقُونَ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِالنَّارِ، وَأَحِقَّاءُ بِأَنْ يُقَالَ فِيهِمْ: قُتِلَتْ قُرَيْشٌ كَمَا: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا قِصَّةَ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ عَلَى طُرُقٍ مُتَبَايِنَةٍ وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْهَا ثَلَاثَةً: أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ لِبَعْضِ الْمُلُوكِ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبُرَ ضُمَّ إِلَيْهِ غُلَامٌ لِيُعَلِّمَهُ السِّحْرَ، وَكَانَ فِي طَرِيقِ الْغُلَامِ رَاهِبٌ، فَمَالَ قَلْبُ الْغُلَامِ إِلَى ذَلِكَ الرَّاهِبِ ثُمَّ رَأَى الْغُلَامُ فِي طَرِيقِهِ ذَاتَ يَوْمٍ حَيَّةً قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَأَخَذَ حَجَرًا، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ الرَّاهِبُ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنَ السَّاحِرِ فَقَوِّنِي عَلَى قَتْلِهَا بِوَاسِطَةِ رَمْيِ الْحَجَرِ إِلَيْهَا، ثُمَّ رَمَى فَقَتَلَهَا، فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِعْرَاضِ الْغُلَامِ عَنِ السِّحْرِ وَاشْتِغَالِهِ بِطَرِيقَةِ الرَّاهِبِ، ثُمَّ صَارَ إِلَى حَيْثُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيَشْفِي مِنَ الْأَدْوَاءِ، فَاتَّفَقَ أَنْ عَمِيَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ فَأَبْرَأَهُ فَلَمَّا رَآهُ الْمَلِكُ قَالَ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ نَظَرَكَ؟ فَقَالَ رَبِّي فَغَضِبَ فَعَذَّبَهُ فَدَلَّ عَلَى الْغُلَامِ فَعَذَّبَهُ فَدَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَأَحْضَرَ الرَّاهِبَ وَزَجَرَهُ عَنْ دِينِهِ فَلَمْ يَقْبَلِ الرَّاهِبُ قَوْلَهُ فَقُدَّ بِالْمِنْشَارِ، ثُمَّ أَتَوْا بِالْغُلَامِ إِلَى جَبَلٍ لِيُطْرَحَ مِنْ ذُرْوَتِهِ فَدَعَا اللَّهَ، فَرَجَفَ بِالْقَوْمِ فَهَلَكُوا وَنَجَا، فَذَهَبُوا بِهِ إِلَى سَفِينَةٍ لَجَّجُوا بِهَا لِيُغْرِقُوهُ، فَدَعَا اللَّهَ فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَنَجَا، فَقَالَ لِلْمَلِكِ: لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَجْمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَتَصْلُبَنِي عَلَى جِذْعٍ وَتَأْخُذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، وَتَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ ثُمَّ تَرْمِينِي بِهِ، فَرَمَاهُ فَوَقَعَ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ. فَقِيلَ لِلْمَلِكِ: نَزَلَ بِكَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ، فأمر بأخاديد في أفواه السكك، وأو قدت فِيهَا النِّيرَانُ، فَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ مِنْهُمْ طَرَحَهُ فِيهَا، حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا صَبِيٌّ فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ الصَّبِيُّ: يَا أُمَّاهُ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ، فَصَبَرَتْ عَلَى ذَلِكَ. الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ حِينَ اخْتَلَفُوا فِي أَحْكَامِ الْمَجُوسِ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ

وَكَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِكِتَابِهِمْ وَكَانَتِ الْخَمْرُ قَدْ أُحِلِّتْ لَهُمْ فَتَنَاوَلَهَا بَعْضُ مُلُوكِهَا فَسَكِرَ فَوَقَعَ عَلَى أُخْتِهِ فَلَمَّا صَحَا نَدِمَ وَطَلَبَ الْمَخْرَجَ فَقَالَتْ لَهُ: الْمَخْرَجُ أَنْ تَخْطُبَ النَّاسَ فَتَقُولُ: إِنِ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحَلَّ نِكَاحَ الْأَخَوَاتِ ثُمَّ تَخْطُبُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَتَقُولُ: بَعْدَ ذَلِكَ حَرَّمَهُ، فَخَطَبَ فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ ذَلِكَ فَقَالَتْ لَهُ: ابْسُطْ فِيهِمُ السَّوْطَ فَلَمْ يَقْبَلُوا، فَقَالَتِ: ابْسُطْ فِيهِمُ السَّيْفَ فَلَمْ يَقْبَلُوا، فَأَمَرَتْهُ بِالْأَخَادِيدِ وَإِيقَادِ النِّيرَانِ وَطَرْحِ مَنْ أَتَى فِيهَا الَّذِينَ أَرَادَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ. الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ وَقَعَ إِلَى نَجْرَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ عَلَى دِينِ عِيسَى فَدَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ فَصَارَ إِلَيْهِمْ ذُو نُوَاسٍ الْيَهُودِيُّ بِجُنُودٍ مِنْ حِمْيَرَ فَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ النَّارِ وَالْيَهُودِيَّةِ فَأَبَوْا، فَأَحْرَقَ مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا فِي الْأَخَادِيدِ، وَقِيلَ سَبْعِينَ أَلْفًا، وَذُكِرَ أَنَّ طُولَ الْأُخْدُودِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا وَعَرْضَهُ اثْنَا عَشَرَ ذِرَاعًا، وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ كَانَ إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ تَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ» فَإِنْ قِيلَ: تَعَارُضُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهَا، قُلْنَا: لَا تَعَارُضَ فَقِيلَ: إِنَّ هَذَا كَانَ فِي ثَلَاثِ طَوَائِفَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مَرَّةً بِالْيَمَنِ، وَمَرَّةً بِالْعِرَاقِ، وَمَرَّةً بِالشَّامِ، وَلَفْظُ الْأُخْدُودِ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْجَمْعُ وَهُوَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: ذَكَرُوا فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ رِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةً وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَا يَصِحُّ إِلَّا أَنَّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي أَنَّهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ خَالَفُوا قَوْمَهُمْ أَوْ مَلِكًا كَافِرًا/ كَانَ حَاكِمًا عَلَيْهِمْ فَأَلْقَاهُمْ فِي أُخْدُودٍ وَحَفَرَ لَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَأَظُنُّ أَنَّ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ كَانَتْ مَشْهُورَةً عِنْدَ قُرَيْشٍ فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِأَصْحَابِ رَسُولِهِ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى مَا يَلْزَمُهُمْ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى دِينِهِمْ وَاحْتِمَالِ الْمَكَارِهِ فِيهِ فَقَدْ كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى حَسَبِ مَا اشْتَهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ مِنْ مُبَالَغَتِهِمْ فِي إِيذَاءِ عَمَّارٍ وَبِلَالٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأُخْدُودُ: الشَّقُّ فِي الْأَرْضِ يُحْفَرُ مُسْتَطِيلًا وَجَمْعُهُ الْأَخَادِيدُ وَمَصْدَرُهُ الْخَدُّ وَهُوَ الشَّقُّ يُقَالُ: خَدَّ فِي الْأَرْضِ خَدًّا وَتَخَدَّدَ لَحْمُهُ إِذَا صَارَ طَرَائِقَ كَالشُّقُوقِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِأَصْحَابِ الْأُخْدُودِ الْقَاتِلِينَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِمُ الْمَقْتُولِينَ، وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ أَنَّ الْمَقْتُولِينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ الْمَقْتُولِينَ هُمُ الْجَبَابِرَةُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَلْقَوُا الْمُؤْمِنِينَ فِي النَّارِ عَادَتِ النَّارُ عَلَى الْكَفَرَةِ فَأَحْرَقَتْهُمْ وَنَجَّى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا سَالِمِينَ، وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالْوَاقِدِيُّ وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ [البروج: 10] أَيْ لَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ فِي الدُّنْيَا. إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ وُجُوهًا ثَلَاثَةً وَذَلِكَ لِأَنَّا إِمَّا أَنْ نُفَسِّرَ أَصْحَابَ الْأُخْدُودِ بِالْقَاتِلِينَ أَوْ بِالْمَقْتُولِينَ. أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ تَفْسِيرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ أَيْ لُعِنَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ [عَبَسَ: 17] قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [الذَّارِيَاتِ: 10] وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ أُولَئِكَ الْقَاتِلِينَ قُتِلُوا بِالنَّارِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْجَبَابِرَةَ لَمَّا أَرَادُوا قَتْلَ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّارِ عَادَتِ النَّارُ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَتْهُمْ، وَأَمَّا إِذَا فَسَّرْنَا، أَصْحَابَ الْأُخْدُودِ بِالْمَقْتُولِينَ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ قُتِلُوا بِالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ خَبَرًا لَا دُعَاءً. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُرِئَ قُتِّلَ بِالتَّشْدِيدِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: النَّارُ إِنَّمَا تَكُونُ عَظِيمَةً إِذَا كَانَ هُنَاكَ شَيْءٌ يَحْتَرِقُ بِهَا إِمَّا حَطَبٌ أَوْ غَيْرُهُ، فَالْوَقُودُ اسْمٌ

لِذَلِكَ الشَّيْءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [البقرة: 24] وَفِي: ذاتِ الْوَقُودِ تَعْظِيمُ أَمْرِ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْأُخْدُودِ مِنَ الْحَطَبِ الْكَثِيرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا بَدَلُ الِاشْتِمَالِ كَقَوْلِكَ: سُلِبَ زَيْدٌ ثَوْبُهُ فَإِنَّ الْأُخْدُودَ مُشْتَمِلٌ عَلَى النَّارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ الْوُقُودِ بِالضَّمِّ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَامِلُ فِي إِذْ قُتِلَ وَالْمَعْنَى لُعِنُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي هُمْ فِيهِ قُعُودٌ عِنْدَ الْأُخْدُودِ يُعَذِّبُونَ الْمُؤْمِنِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: هُمْ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْها عَائِدٌ إِلَى النَّارِ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَصْحَابَ الْأُخْدُودِ كَانُوا قَاعِدِينَ عَلَى النَّارِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي هُمْ عَائِدٌ إِلَى أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا مِنْ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ الْمَقْتُولُونَ لَا الْقَاتِلُونَ/ فَيَكُونُ الْمَعْنَى إذ المؤمنين قُعُودٌ عَلَى النَّارِ يَحْتَرِقُونَ مُطَّرِحُونَ عَلَى النَّارِ وثانيها: أن يجعل الضمير في عَلَيْها عائد إِلَى طَرَفِ النَّارِ وَشَفِيرِهَا وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي يُمْكِنُ الْجُلُوسُ فِيهَا، وَلَفْظُ، عَلَى مَشْعِرٌ بِذَلِكَ تَقُولُ مَرَرْتُ عَلَيْهَا تُرِيدُ مُسْتَعْلِيًا بِمَكَانٍ يَقْرُبُ مِنْهُ، فَالْقَائِلُونَ كَانُوا جَالِسِينَ فِيهَا وَكَانُوا يَعْرِضُونَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى النَّارِ، فَمَنْ كَانَ يَتْرُكُ دِينَهُ تَرَكُوهُ وَمَنْ كَانَ يَصْبِرُ عَلَى دِينِهِ أَلْقَوْهُ فِي النَّارِ وَثَالِثُهَا: هَبْ أَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ الضَّمِيرَ فِي هُمْ عَائِدٌ إِلَى أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ بِمَعْنَى الْقَاتِلِينَ، وَالضَّمِيرَ فِي عَلَيْهَا عَائِدٌ إِلَى النَّارِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أُولَئِكَ الْقَاتِلِينَ كَانُوا قَاعِدِينَ عَلَى النَّارِ، فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ لَمَّا أَلْقَوُا الْمُؤْمِنِينَ فِي النَّارِ ارْتَفَعَتِ النَّارُ إِلَيْهِمْ فَهَلَكُوا بِنَفْسِ مَا فَعَلُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لِأَجْلِ إِهْلَاكِ غَيْرِهِمْ، فَكَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَانُوا مَلْعُونِينَ أَيْضًا، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ خَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَرَابِعُهَا: أَنْ تَكُونَ عَلَى بِمَعْنَى عِنْدَ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ [الشُّعَرَاءِ: 14] أَيْ عِنْدِي. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: شُهُودٌ يحتمل أن يكون المراد منه حضور، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الشُّهُودَ الَّذِينَ تَثْبُتُ الدَّعْوَى بِشَهَادَتِهِمْ، أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَالْمَعْنَى إِنَّ أُولَئِكَ الْجَبَابِرَةَ الْقَاتِلِينَ كَانُوا حَاضِرِينَ عِنْدَ ذَلِكَ الْعَمَلِ يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ فَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ ذَلِكَ أَحَدَ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: إِمَّا وَصْفُهُمْ بِقَسْوَةِ الْقَلْبِ إِذْ كَانُوا عِنْدَ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ حَاضِرِينَ مُشَاهِدِينَ لَهُ، وَإِمَّا وَصْفُهُمْ بِالْجِدِّ فِي تَقْرِيرِ كُفْرِهِمْ وَبَاطِلِهِمْ حَيْثُ حَضَرُوا فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ الْمُنَفِّرَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمُوحِشَةِ، وَأَمَّا وَصْفُ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَقْتُولِينَ بِالْجِدِّ دِينُهُمْ وَالْإِصْرَارِ عَلَى حَقِّهِمْ، فَإِنَّ الْكُفَّارَ إِنَّمَا حَضَرُوا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ طَمَعًا فِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا نَظَرُوا إِلَيْهِمْ هَابُوا حُضُورَهُمْ وَاحْتَشَمُوا مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ وَبَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى دِينِهِمُ الْحَقِّ، فَإِنْ قُلْتَ الْمُرَادُ مِنَ الشُّهُودِ إِنْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: وَهُمْ لِمَا يَفْعَلُونَ شُهُودٌ وَلَا يُقَالُ: وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ شُهُودٌ؟ قُلْنَا: إِنَّمَا ذَكَرَ لَفْظَةَ عَلَى بِمَعْنَى أَنَّهُمْ عَلَى قُبْحِ فِعْلِهِمْ بِهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ إِحْرَاقُهُمْ بِالنَّارِ كَانُوا حَاضِرِينَ مُشَاهِدِينَ لِتِلْكَ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ. أَمَّا الِاحْتِمَالِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الشُّهُودِ الشَّهَادَةَ الَّتِي تَثْبُتُ الدَّعْوَى بِهَا فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ جُعِلُوا شُهُودًا يَشْهَدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عِنْدِ الْمَلِكِ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يُفَرِّطْ فِيمَا أُمِرَ بِهِ، وَفُوِّضَ إِلَيْهِ مِنَ التَّعْذِيبِ

[سورة البروج (85) : الآيات 8 إلى 9]

وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ شُهُودٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ يُؤَدُّونَ شَهَادَتَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النُّورِ: 24] ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ مُشَاهِدُونَ لِمَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ حَتَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ لَكَانُوا شُهُودًا عَلَيْهِ، ثُمَّ مَعَ هَذَا لَمْ تَأْخُذْهُمْ بِهِمْ رَأْفَةٌ، وَلَا حصل في قلوبهم ميل ولا شفقة. [سورة البروج (85) : الآيات 8 الى 9] وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) الْمَعْنَى وَمَا عَابُوا مِنْهُمْ وَمَا أَنْكَرُوا الْإِيمَانَ، كَقَوْلِهِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ [الْمَائِدَةِ: 59] وَإِنَّمَا قَالَ: إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا لِأَنَّ التَّعْذِيبَ إِنَّمَا كَانَ وَاقِعًا عَلَى الْإِيمَانِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَوْ كَفَرُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَمْ يُعَذَّبُوا عَلَى مَا مَضَى، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَّا أَنْ يَدُومُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: نَقَمُوا بِالْكَسْرِ، وَالْفَصِيحُ هُوَ الْفَتْحُ، ثُمَّ إِنَّهُ ذَكَرَ الْأَوْصَافَ الَّتِي بِهَا يَسْتَحِقُّ الْإِلَهُ أَنْ يُؤْمَنَ بِهِ وَيُعْبَدَ فَأَوَّلُهَا: الْعَزِيزُ وَهُوَ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يُغْلَبُ، وَالْقَاهِرُ الَّذِي لَا يُدْفَعُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَثَانِيهَا: الْحَمِيدُ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ عَلَى أَلْسِنَةِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ لَا يَحْمَدُهُ بِلِسَانِهِ فَنَفْسُهُ شَاهِدَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَحْمُودَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ هُوَ، كَمَا قَالَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 44] وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعِلْمِ لِأَنَّ مَنْ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِعَوَاقِبِ الْأَشْيَاءِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ الْأَفْعَالَ الْحَمِيدَةَ، فَالْحَمِيدُ يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ التَّامِّ مِنْ هذا الوجه وثالثها: الذي له ملك السموات وَالْأَرْضِ وَهُوَ مَالِكُهَا وَالْقَيِّمُ بِهِمَا وَلَوْ شَاءَ لَأَفْنَاهُمَا، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُلْكِ التَّامِّ وَإِنَّمَا أَخَّرَ هَذِهِ الصِّفَةَ عَنِ الْأَوَّلَيْنِ لِأَنَّ الْمُلْكَ التَّامَّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الْكَمَالِ فِي الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ، فَثَبَتَ أَنَّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ كَانَ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِلْإِيمَانِ بِهِ وَغَيْرُهُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الْبَتَّةَ، فَكَيْفَ حكم أولئك الكفار الجهال يكون مِثْلِ هَذَا الْإِيمَانِ ذَنْبًا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَشَارَ بِقَوْلِهِ: الْعَزِيزِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَمَنَعَ أُولَئِكَ الْجَبَابِرَةَ مِنْ تَعْذِيبِ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَأَطْفَأَ نِيرَانَهُمْ وَلَأَمَاتَهُمْ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: الْحَمِيدِ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الْأَفْعَالِ عَوَاقِبُهَا فَهُوَ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَمْهَلَ لَكِنَّهُ مَا أَهْمَلَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يُوصِلُ ثَوَابَ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِمْ، وَعِقَابَ أُولَئِكَ الْكَفَرَةِ إِلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لم يعاجلهم بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ إِلَّا عَلَى حَسَبِ الْمَشِيئَةِ أَوِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فَهُوَ وَعْدٌ عَظِيمٌ لِلْمُطِيعِينَ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِلْمُجْرِمِينَ. [سورة البروج (85) : آية 10] إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، أَتْبَعَهَا بِمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا مِنْ أَحْكَامِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَصْحَابَ الْأُخْدُودِ فَقَطْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كُلَّ مَنْ

[سورة البروج (85) : آية 11]

فَعَلَ ذَلِكَ وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَالْحُكْمَ عَامٌّ فَالتَّخْصِيصُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَصْلُ الْفِتْنَةِ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ امْتَحَنُوا أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَعَرَضُوهُمْ عَلَى النَّارِ وَأَحْرَقُوهُمْ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْفِتْنَةُ هِيَ الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ حَرَّقُوهُمْ بِالنَّارِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ فَتَنْتُ الشَّيْءَ أَحْرَقْتُهُ وَالْفَتْنُ أَحْجَارٌ سُودٌ كَأَنَّهَا مُحْتَرِقَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذَّارِيَاتِ: 13] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ تَابُوا لَخَرَجُوا عَنْ هَذَا الْوَعِيدِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْقَطْعِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوْبَةَ الْقَاتِلِ عَمْدًا مَقْبُولَةٌ خِلَافَ مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ: فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كِلَا الْعَذَابَيْنِ يَحْصُلَانِ فِي الْآخِرَةِ، إِلَّا أَنَّ عَذَابَ جَهَنَّمَ وَهُوَ الْعَذَابُ الْحَاصِلُ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَعَذَابُ الْحَرِيقُ هُوَ الْعَذَابُ الزَّائِدُ عَلَى عَذَابِ الْكُفْرِ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ أَحْرَقُوا الْمُؤْمِنِينَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ الْأَوَّلُ عَذَابَ بَرْدٍ وَالثَّانِي عَذَابَ إِحْرَاقٍ وَأَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ عَذَابَ إِحْرَاقٍ وَالزَّائِدُ عَلَى الْإِحْرَاقِ أَيْضًا إِحْرَاقٌ، إِلَّا أَنَّ الْعَذَابَ الْأَوَّلَ كَأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ أَنْ يُسَمَّى إِحْرَاقًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّانِي، لِأَنَّ الثَّانِي قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ نَوْعَا الْإِحْرَاقِ فَتَكَامَلَ جِدًّا فَكَانَ الْأَوَّلُ ضَعِيفًا، فَلَا جَرَمَ لَمْ يُسَمَّ إِحْرَاقًا. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ إِشَارَةٌ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ: وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ ارْتَفَعَتْ عَلَيْهِمْ نار الأخدود فاحترقوا بها. [سورة البروج (85) : آية 11] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الْمُجْرِمِينَ ذَكَرَ وَعْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا قَالَ: ذلِكَ الْفَوْزُ وَلَمْ يَقُلْ تِلْكَ لِدَقِيقَةٍ لَطِيفَةٍ وَهِيَ أَنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى بِحُصُولِ هَذِهِ الْجَنَّاتِ، وَقَوْلَهُ: تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْجَنَّاتِ وَإِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ رَاضِيًا وَالْفَوْزُ الْكَبِيرُ هُوَ رِضَا اللَّهِ لَا حُصُولَ الْجَنَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قِصَّةُ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ وَلَا سِيَّمَا هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى/ الْكُفْرِ بِالْإِهْلَاكِ الْعَظِيمِ الْأَوْلَى له أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا خُوِّفَ مِنْهُ، وَأَنَّ إِظْهَارَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ كَالرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ رَوَى الْحَسَنُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ أَخَذَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا: تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: نَعَمْ فَتَرَكَهُ، وَقَالَ لِلْآخَرِ مِثْلَهُ فَقَالَ: لَا بَلْ أَنْتَ كَذَّابٌ فَقَتَلَهُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَمَّا الَّذِي تُرِكَ فَأَخَذَ بِالرُّخْصَةِ فَلَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الذي قتل فأخذ بالفضل فهنيئا له» . [سورة البروج (85) : الآيات 12 الى 16] إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ أَوَّلًا وَذَكَرَ وَعْدَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثَانِيًا أَرْدَفَ ذَلِكَ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ بِالتَّأْكِيدِ فَقَالَ لِتَأْكِيدِ الْوَعِيدِ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ وَالْبَطْشُ هُوَ الْأَخْذُ بِالْعُنْفِ فَإِذَا وُصِفَ بِالشِّدَّةِ فَقَدْ تَضَاعَفَ وَتَفَاقَمَ وَنَظِيرُهُ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هُودٍ: 102] ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْقَادِرَ لَا يَكُونُ إِمْهَالُهُ لِأَجْلِ الْإِهْمَالِ، لَكِنْ لِأَجْلِ أَنَّهُ حَكِيمٌ إِمَّا بِحُكْمِ الْمَشِيئَةِ أَوْ بِحُكْمِ الْمَصْلَحَةِ، وَتَأْخِيرُ هَذَا الْأَمْرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلِهَذَا قَالَ: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ أَيْ إِنَّهُ يَخْلُقُ خَلْقَهُ ثُمَّ يُفْنِيهِمْ ثُمَّ يُعِيدُهُمْ أَحْيَاءً لِيُجَازِيَهُمْ فِي الْقِيَامَةِ، فَذَلِكَ الْإِمْهَالُ لِهَذَا السَّبَبِ لَا لِأَجْلِ الْإِهْمَالِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَهْلَ جَهَنَّمَ تَأْكُلُهُمُ النَّارُ حَتَّى يَصِيرُوا فَحْمًا ثُمَّ يُعِيدُهُمْ خَلْقًا جَدِيدًا، فَذَاكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ. [في قوله تعالى وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ إلى قوله فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ] ثُمَّ قَالَ لِتَأْكِيدِ الْوَعْدِ: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ فَذَكَرَ مِنْ صِفَاتِ جَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ خَمْسَةً: أَوَّلُهَا: الْغَفُورُ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هُوَ الْغَفُورُ لِمَنْ تَابَ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ غَفُورٌ مُطْلَقًا لِمَنْ تَابَ وَلِمَنْ لَمْ يَتُبْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] وَلِأَنَّ غُفْرَانَ التَّائِبِ وَاجِبٌ وَأَدَاءَ الْوَاجِبِ لَا يُوجِبُ التَّمَدُّحَ وَالْآيَةُ مَذْكُورَةٌ فِي مَعْرِضِ التَّمَدُّحِ وَثَانِيهَا: الْوَدُودُ وَفِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: الْمُحِبُّ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِلدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، فَإِنَّ الْخَيْرَ مُقْتَضًى بِالذَّاتِ وَالشَّرَّ بِالْعَرَضِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشَّرُّ أَقَلَّ مِنَ الْخَيْرِ فَالْغَالِبُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ خَيْرًا فَيَكُونَ مَحْبُوبًا بِالذَّاتِ وَثَانِيهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْوَدُودُ هُوَ الْمُتَوَدِّدُ إِلَى أَوْلِيَائِهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْجَزَاءِ، وَالْقَوْلُ هُوَ الْأَوَّلُ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ يَجُوزُ أن يكون ودود فعولا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَرَكُوبٍ وَحَلُوبٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ يَوَدُّونَهُ وَيُحِبُّونَهُ لِمَا عَرَفُوا مِنْ كَمَالِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، قَالَ: وَكِلْتَا الصِّفَتَيْنِ مَدْحٌ لِأَنَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ إِذَا أَحَبَّ عِبَادَهُ الْمُطِيعِينَ فَهُوَ فَضْلٌ مِنْهُ، وَإِنْ أَحَبَّهُ عِبَادُهُ الْعَارِفُونَ فَلِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ كَرِيمِ إِحْسَانِهِ. / وَرَابِعُهَا: قَالَ الْقَفَّالُ: قِيلَ الْوَدُودُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْحَلِيمِ مِنْ قَوْلِهِمْ: دَابَّةٌ وَدُودٌ وَهِيَ الْمُطِيعَةُ الْقِيَادِ الَّتِي كَيْفَ عَطَفْتَهَا انْعَطَفَتْ وَأَنْشَدَ قُطْرُبٌ: وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ خَيْفَانَةً ... ذَلُولَ الْقِيَادِ وَقَاحًا وَدُودًا وَثَالِثُهَا: ذُو الْعَرْشِ، قَالَ الْقَفَّالُ: ذُو الْعَرْشِ أَيْ ذُو الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى السَّرِيرِ، وَكَمَا يُقَالُ: ثُلَّ عَرْشُ فُلَانٍ إِذَا ذَهَبَ سُلْطَانُهُ، وَهَذَا مَعْنًى مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعَرْشِ السَّرِيرَ، وَيَكُونُ جَلَّ جَلَالُهُ خَلَقَ سَرِيرًا فِي سَمَائِهِ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالَةِ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ عَظَمَتَهُ إِلَّا هُوَ وَمَنْ يُطْلِعُهُ عَلَيْهِ وَرَابِعُهَا: الْمَجِيدُ، وَفِيهِ قِرَاءَتَانِ إِحْدَاهُمَا: الرَّفْعُ فَيَكُونُ ذلك صفة الله سُبْحَانَهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْقُرَّاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ لِأَنَّ الْمَجْدَ مِنْ صِفَاتِ التَّعَالِي وَالْجَلَالِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْفَصْلُ وَالِاعْتِرَاضُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ فِي هَذَا النَّحْوِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ: بِالْخَفْضِ وَهِيَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ صِفَةَ الْعَرْشِ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: الْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ وَصْفُ غَيْرِ اللَّهِ بِالْمَجِيدِ حَيْثُ قَالَ: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ [البروج: 21] وَرَأَيْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْعَرْشَ بِأَنَّهُ كَرِيمٌ فَلَا يَبْعُدُ

[سورة البروج (85) : الآيات 17 إلى 22]

أَيْضًا أَنْ يَصِفَهُ بِأَنَّهُ مَجِيدٌ، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّ مَجْدَ اللَّهِ عَظَمَتُهُ بِحَسَبِ الْوُجُوبِ الذَّاتِيِّ وَكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ، وَعَظَمَةَ الْعَرْشِ عُلُوُّهُ فِي الْجِهَةِ وَعَظَمَةُ مِقْدَارِهِ وَحُسْنُ صُورَتِهِ وَتَرْكِيبِهِ، فَإِنَّهُ قِيلَ: الْعَرْشُ أَحْسَنُ الْأَجْسَامِ تَرْكِيبًا وَصُورَةً وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَعَّالٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ قَالَ: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ خَبَرَانِ لِمُبْتَدَأٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِسْنَادِ إِلَى الْمُبْتَدَأِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعَهَا أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ الْخَبَرُ وَاحِدَ الْآخَرِينَ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَانَتِ الْقَضِيَّةُ لَا وَاحِدَ قَبْلَ قَضِيَّتَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ فَقَالُوا: لَا شَكَّ أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْإِيمَانَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِلْإِيمَانِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ وَإِذَا كَانَ فَاعِلًا لِلْإِيمَانِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِلْكُفْرِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ طَاعَةِ الْخَلْقِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقَعَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا مَا إِذَا وَقَعَ كَانَ فِعْلُهُ دُونَ مَا إِذَا وَقَعَ لَمْ يَكُنْ فِعْلًا لَهُ هَذِهِ أَلْفَاظُ الْقَاضِي وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَجِبُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ عَلَيْهِ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ لَا يُعْطِيَ الثَّوَابَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ عَلَى مَا يَرَاهُ لَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ مُعْتَرِضٌ وَلَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ، فَهُوَ يُدْخِلُ أَوْلِيَاءَهُ الْجَنَّةَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ مَانِعٌ، وَيُدْخِلُ أَعْدَاءَهُ النَّارَ لَا يَنْصُرُهُمْ مِنْهُ نَاصِرٌ، وَيُمْهِلُ الْعُصَاةَ عَلَى مَا يَشَاءُ إلى أن يجازيهم ويعاجل بعضهم العقوبة إِذَا شَاءَ وَيُعَذِّبُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ/ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ يَفْعَلُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ومن غيرهما ما يريد. [سورة البروج (85) : الآيات 17 الى 22] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) [قَوْلُهُ تَعَالَى هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ إلى قوله وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ فِي تَأَذِّي الْمُؤْمِنِينَ بِالْكُفَّارِ، بَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ كَانُوا أَيْضًا كَذَلِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَدَلٌ مِنَ الْجُنُودِ، وَأَرَادَ بِفِرْعَوْنَ إِيَّاهُ وَقَوْمَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ [يونس: 83] وَثَمُودُ، كَانُوا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَقِصَّتُهُمْ عِنْدَهُمْ مَشْهُورَةٌ فَذَكَرَ تَعَالَى مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِرْعَوْنَ، وَمِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ ثَمُودَ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الْكُفَّارِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ مُسْتَمِرَّةٌ عَلَى هَذَا النَّهْجِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَلَمَّا طَيَّبَ قَلْبَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِحِكَايَةِ

أَحْوَالِ الْأَوَّلِينَ فِي هَذَا الْبَابِ سَلَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ وَصْفُ اقْتِدَارِهِ عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ فِي قَبْضَتِهِ وَحَوْزَتِهِ، كَالْمُحَاطِ إِذَا أُحِيطَ بِهِ مِنْ وَرَائِهِ فَسُدَّ عَلَيْهِ مَسْلَكُهُ، فَلَا يَجِدُ مَهْرَبًا يَقُولُ تَعَالَى: فَهُوَ كَذَا فِي قَبْضَتِي وَأَنَا قَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ وَمُعَاجَلَتِهِمْ بِالْعَذَابِ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ فَلَا تَجْزَعْ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ، فَلَيْسُوا يَفُوتُونَنِي إِذَا أَرَدْتُ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ المراد من هذه الإحاطة قرب هلاكهم كقول تَعَالَى: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها [الْفَتْحِ: 21] وَقَوْلِهِ: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ [الْإِسْرَاءِ: 60] وَقَوْلِهِ: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ [يُونُسَ: 22] فَهَذَا كُلُّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مُشَارَفَةِ الْهَلَاكِ، يَقُولُ: فَهَؤُلَاءِ فِي تَكْذِيبِكَ قَدْ شَارَفُوا الْهَلَاكَ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِأَعْمَالِهِمْ، أَيْ عَالِمٌ بِهَا، فَهُوَ مُرْصِدٌ بِعِقَابِهِمْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى سَلَّى رَسُولَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَجْهٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَعَلُّقُ هَذَا بِمَا قَبْلَهُ، هُوَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَجِيدٌ مَصُونٌ عَنِ التَّغَيُّرِ وَالتَّبَدُّلِ، فَلَمَّا حَكَمَ فِيهِ بِسَعَادَةِ قَوْمٍ وَشَقَاوَةِ قَوْمٍ، وَبِتَأَذِّي قَوْمٍ مِنْ قَوْمٍ، امْتَنَعَ تَغَيُّرُهُ وَتَبَدُّلُهُ، فَوَجَبَ الرِّضَا بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ مُوجِبَاتِ التَّسْلِيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: قُرْآنٌ مَجِيدٌ بِالْإِضَافَةِ، أَيْ قُرْآنُ رَبٍّ مَجِيدٍ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ (فِي لَوْحٍ) وَاللَّوْحُ الْهَوَاءُ يَعْنِي اللَّوْحَ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ الَّذِي فِيهِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَقُرِئَ (مَحْفُوظٌ) / بِالرَّفْعِ صِفَةً لِلْقُرْآنِ كَمَا قُلْنَا: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحِجْرِ: 9] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ هَاهُنَا: فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ [الْوَاقِعَةِ: 77، 78] فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ الْمَكْنُونُ وَاللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ وَاحِدًا ثُمَّ كَوْنُهُ مَحْفُوظًا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَوْنَهُ مَحْفُوظًا عَنْ أَنْ يَمَسَّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الْوَاقِعَةِ: 79] وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَوْنَهُ مَحْفُوظًا مِنَ اطِّلَاعِ الْخَلْقِ عَلَيْهِ سِوَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ لَا يَجْرِيَ عَلَيْهِ تَغْيِيرٌ وَتَبْدِيلٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إِنِّ اللَّوْحَ شَيْءٌ يَلُوحُ لِلْمَلَائِكَةِ فَيَقْرَءُونَهُ وَلَمَّا كَانَتِ الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ وَارِدَةً بِذَلِكَ وَجَبَ التَّصْدِيقُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة الطارق

بسم الله الرّحمن الرّحيم سُورَةُ الطَّارِقِ سَبْعَ عَشْرَةَ آيَةً مَكِّيَّةً وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ [سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) [قوله تعالى وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ إلى قوله النَّجْمُ الثَّاقِبُ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَكْثَرَ فِي كِتَابِهِ ذِكْرَ السَّمَاءِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لِأَنَّ أَحْوَالَهَا فِي أَشْكَالِهَا وَسَيْرِهَا وَمَطَالِعِهَا وَمَغَارِبِهَا عَجِيبَةٌ، وَأَمَّا الطَّارِقُ فَهُوَ كُلُّ مَا أَتَاكَ لَيْلًا سَوَاءً كَانَ كَوْكَبًا أَوْ غَيْرَهُ فَلَا يَكُونُ الطَّارِقُ نَهَارًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ فِي دُعَائِهِمْ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ طَوَارِقِ اللَّيْلِ وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَهَى عَنْ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا» وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ الطُّرُوقُ فِي صِفَةِ الْخَيَالِ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ فِي الْأَكْثَرِ فِي اللَّيْلِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَالطَّارِقِ كَانَ هَذَا مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي سَامِعُهُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ مِنْهُ، فَقَالَ: وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مَا أَدْرَاكَ فَقَدْ أَخْبَرَ الرَّسُولُ بِهِ وَكُلُّ شَيْءٍ فِيهِ مَا يُدْرِيكَ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ كَقَوْلِهِ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشُّورَى: 17] ثُمَّ قَالَ: النَّجْمُ الثَّاقِبُ أَيْ هُوَ طَارِقٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ، رَفِيعُ الْقَدْرِ وَهُوَ النَّجْمُ الَّذِي يُهْتَدَى بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَيُوقَفُ بِهِ عَلَى أَوْقَاتِ الْأَمْطَارِ، وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا وُصِفَ النَّجْمُ بِكَوْنِهِ ثَاقِبًا لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَثْقُبُ الظَّلَامَ بِضَوْئِهِ فينفذ فيه كما قيل: دريء لِأَنَّهُ يَدْرَؤُهُ أَيْ يَدْفَعُهُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَطْلُعُ مِنَ الْمَشْرِقِ نَافِذًا فِي الْهَوَاءِ كَالشَّيْءِ الَّذِي يَثْقُبُ الشَّيْءَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ الَّذِي يُرَى بِهِ الشَّيْطَانُ فَيَثْقُبُهُ أَيْ يَنْفُذُ فِيهِ وَيَحْرِقُهُ وَرَابِعُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: النَّجْمُ الثَّاقِبُ هُوَ النَّجْمُ الْمُرْتَفِعُ عَلَى النُّجُومِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلطَّائِرِ إِذَا لَحِقَ بِبَطْنِ السَّمَاءِ ارْتِفَاعًا: قَدْ ثَقَبَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا وُصِفَ النَّجْمُ بِكَوْنِهِ طَارِقًا، لِأَنَّهُ يَبْدُو بِاللَّيْلِ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى طَارِقًا، أو لأنه يطرق الجني، أي صكه. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: النَّجْمُ الثَّاقِبُ قَالَ بَعْضُهُمْ: أُشِيرَ بِهِ إِلَى جَمَاعَةِ النَّحْوِ/ فَقِيلَ الطَّارِقُ، كَمَا قِيلَ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [الْعَصْرِ: 2] وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ نَجْمٌ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهُ

الثُّرَيَّا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ زُحَلُ، لِأَنَّهُ يَثْقُبُ بنوره سمك سبع سموات، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ الشُّهُبُ الَّتِي يُرْجَمُ بِهَا الشَّيَاطِينُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [الصَّافَّاتِ: 10] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: رُوِيَ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتْحَفَهُ بِخُبْزٍ وَلَبَنٍ، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ يَأْكُلُ إِذِ انْحَطَّ نَجْمٌ فَامْتَلَأَ مَاءً ثُمَّ نَارًا، فَفَزِعَ أَبُو طَالِبٍ، وَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا نَجْمٌ رُمِيَ بِهِ، وَهُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الله، فعجب أبو طالب، ونزلت السورة. [في قوله تَعَالَى إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمُقْسَمَ بِهِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: لَمَّا قِرَاءَتَانِ إِحْدَاهُمَا: قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَنَافِعٍ وَالْكِسَائِيِّ، وَهِيَ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَالثَّانِيَةُ: قِرَاءَةُ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ وَالنَّخَعِيِّ بِتَشْدِيدِ الميم. قال أبو علي الفاسي: مَنْ خَفَّفَ كَانَتْ إِنْ عِنْدَهُ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ فِي لَمَّا هِيَ الَّتِي تَدْخُلُ مَعَ هَذِهِ الْمُخَفَّفَةِ لِتُخَلِّصَهَا مِنْ إِنِ النَّافِيَةِ، وَمَا صِلَةٌ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران: 159] وعَمَّا قَلِيلٍ [المؤمنون: 40] وَتَكُونُ إِنْ مُتَلَقِّيَةً لِلْقَسَمِ، كَمَا تَتَلَقَّاهُ مُثَقَّلَةً. وَأَمَّا مَنْ ثَقَّلَ فَتَكُونُ إِنْ عِنْدَهُ النَّافِيَةَ، كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ: فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ [الْأَحْقَافِ: 26] ولَمَّا فِي مَعْنَى أَلَّا، قَالَ: وَتُسْتَعْمَلُ لَمَّا بِمَعْنَى أَلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: هَذَا وَالْآخَرُ: فِي بَابِ الْقَسَمِ، تَقُولُ: سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ لَمَّا فَعَلْتَ، بِمَعْنَى أَلَّا فَعَلْتَ. وَرُوِيَ عَنِ الْأَخْفَشِ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمْ تُوجَدْ لَمَّا بِمَعْنَى أَلَّا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: قَرَأْتُ عِنْدَ ابْنِ سِيرِينَ لَمَّا بِالتَّشْدِيدِ، فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ، وَزَعَمَ الْعُتْبِيُّ أَنَّ لَمَّا بِمَعْنَى أَلَّا، مَعَ أَنَّ الْخَفِيفَةَ الَّتِي تَكُونُ بِمَعْنَى مَا مَوْجُودَةٌ فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْحَافِظَ مَنْ هُوَ، وَلَيْسَ فِيهَا أَيْضًا بَيَانُ أَنَّ الْحَافِظَ يَحْفَظُ النَّفْسَ عما ذا. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ ذَلِكَ الْحَافِظَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. أَمَّا فِي التَّحْقِيقِ فَلِأَنَّ كُلَّ وُجُودٍ سِوَى اللَّهِ مُمْكِنٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٌ فَإِنَّهُ لَا يَتَرَجَّحُ وَجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ وَيَنْتَهِي ذَلِكَ إِلَى الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ الْقَيُّومُ الَّذِي بِحِفْظِهِ وَإِبْقَائِهِ تَبْقَى الْمَوْجُودَاتُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بين هذا المعنى في السموات وَالْأَرْضِ عَلَى الْعُمُومِ فِي قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فَاطِرٍ: 41] وَبَيَّنَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ عَلَى الْخُصُوصِ وَحَقِيقَةُ الْكَلَامِ تَرْجِعُ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ، فَإِنَّهُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ مُحْدَثٌ مُحْتَاجٌ مَخْلُوقٌ مَرْبُوبٌ هَذَا إِذَا حَمَلْنَا النَّفْسَ عَلَى مُطْلَقِ الذَّاتِ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهَا عَلَى النَّفْسِ الْمُتَنَفِّسَةِ وَهِيَ النَّفْسُ الْحَيَوَانِيَّةُ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى حَافِظًا لَهَا كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِأَحْوَالِهَا وَمُوَصِّلًا إليها جميع مناقعها وَدَافِعًا عَنْهَا جَمِيعَ مَضَارِّهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْحَافِظَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ كَمَا قَالَ: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً [الْأَنْعَامِ: 61] وَقَالَ: عَنِ/ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 17، 18] وَقَالَ: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ [الِانْفِطَارِ: 10، 11] وَقَالَ: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرَّعْدِ: 11] .

[سورة الطارق (86) : الآيات 6 إلى 7]

وَأَمَّا الْبَحْثُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ مَا الَّذِي يَحْفَظُهُ هَذَا الْحَافِظُ؟ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْحَفَظَةَ يَكْتُبُونَ عَلَيْهِ أَعْمَالَهُ دَقِيقَهَا وَجَلِيلَهَا حَتَّى تَخْرُجَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا وَثَانِيهَا: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ يَحْفَظُ عَمَلَهَا وَرِزْقَهَا وَأَجَلَهَا، فَإِذَا اسْتَوْفَى الْإِنْسَانُ أَجَلَهُ وَرِزْقَهُ قَبَضَهُ إِلَى رَبِّهِ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى وَعِيدِ الْكُفَّارِ وَتَسْلِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مَرْيَمَ: 84] ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ عَنْ قَرِيبٍ إِلَى الْآخِرَةِ فَيُجَازَوْنَ بِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ وَثَالِثُهَا: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ ، يَحْفَظُهَا مِنَ الْمَعَاطِبِ وَالْمَهَالِكِ فَلَا يُصِيبُهَا إِلَّا مَا قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيْهَا وَرَابِعُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ يَحْفَظُهَا حَتَّى يُسَلِّمَهَا إِلَى الْمَقَابِرِ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقْسَمَ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ حَافِظًا يُرَاقِبُهَا وَيَعُدُّ عَلَيْهَا أَعْمَالَهَا، فَحِينَئِذٍ يَحِقُّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَسْعَى فِي تَحْصِيلِ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ، وَقَدْ تَطَابَقَتِ الشَّرَائِعُ وَالْعُقُولُ عَلَى أَنَّ أَهَمَّ الْمُهِمَّاتِ مَعْرِفَةُ الْمَبْدَأِ وَمَعْرِفَةُ الْمَعَادِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الْمَبْدَأِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَعَادِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى المبدأ. فقال: [سورة الطارق (86) : الآيات 6 الى 7] خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الدَّفْقُ صَبُّ الْمَاءِ، يُقَالُ: دَفَقْتُ الْمَاءَ، أَيْ صَبَبْتُهُ وَهُوَ مَدْفُوقٌ، أَيْ مَصْبُوبٌ، وَمُنْدَفِقٌ أَيْ مُنْصَبٌّ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَاءُ مَدْفُوقًا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ لِمَ وُصِفَ بِأَنَّهُ دَافِقٌ عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ ذُو انْدِفَاقٍ، كَمَا يقال: دراع وَفَارِسٌ وَنَابِلٌ وَلَابِنٌ وَتَامِرٌ، أَيْ دَرَعَ وَفَرَسَ وَنَبَلَ وَلَبَنَ وَتَمَرَ، وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الْمَفْعُولَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَأَهْلُ الْحِجَازِ أَفْعَلُ لِهَذَا مِنْ غَيْرِهِمْ، يَجْعَلُونَ الْمَفْعُولَ فَاعِلًا إِذَا كَانَ فِي مَذْهَبِ النَّعْتِ، كَقَوْلِهِ سِرٌّ كَاتِمٌ، وَهَمٌّ نَاصِبٌ، وَلَيْلٌ نَائِمٌ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [القارعة: 7] ي مَرْضِيَّةٍ الثَّالِثُ: ذَكَرَ الْخَلِيلُ فِي الْكِتَابِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ دَفَقَ الْمَاءُ دَفْقًا وَدُفُوقًا إِذَا انْصَبَّ بِمَرَّةٍ، وَانْدَفَقَ الْكُوزُ إِذَا انْصَبَّ بِمَرَّةٍ، وَيُقَالُ فِي الطِّيَرَةِ عِنْدَ انْصِبَابِ الْكُوزِ وَنَحْوِهِ: دَافِقُ خَيْرٍ، وَفِي كِتَابِ قُطْرُبٍ: دَفَقَ الْمَاءُ يَدْفُقُ إِذَا انْصَبَّ الرَّابِعُ: صَاحِبُ الْمَاءِ لَمَّا كَانَ دَافِقًا أُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَى الْمَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ الصَّلَبِ بِفَتْحَتَيْنِ، وَالصُّلُبِ بِضَمَّتَيْنِ، وَفِيهِ أَرْبَعُ لُغَاتٍ: صُلْبٌ وَصَلَبٌ وَصُلُبٌ وَصَالِبٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَرَائِبُ الْمَرْأَةِ عِظَامُ صَدْرِهَا حَيْثُ تَكُونُ الْقِلَادَةُ، وَكُلُّ عَظْمٍ مِنْ ذَلِكَ تربة، وَهَذَا قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: تَرَائِبُهَا مَصْقُولَةٌ كَالسَّجَنْجَلِ

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ وَتَرَائِبِ الْمَرْأَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ وَتَرَائِبِهِ، وَاحْتَجَّ صَاحِبُ الْقَوْلِ الثَّانِي عَلَى مَذْهَبِهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ خَارِجٌ مِنَ الصُّلْبِ فَقَطْ، وَمَاءَ الْمَرْأَةِ خَارِجٌ مِنَ التَّرَائِبِ فَقَطْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَحْصُلُ هُنَاكَ مَاءٌ خَارِجٌ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْآيَةِ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ وَالَّذِي يُوصَفُ بِذَلِكَ هُوَ مَاءُ الرَّجُلِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ بِأَنْ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ، يَعْنِي هَذَا الدَّافِقَ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ فَقَطْ أَجَابَ: الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَنِ الْحُجَّةِ الْأُولَى: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلشَّيْئَيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ: أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ هَذَيْنِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَلِأَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا يَصِيرَانِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، فَحَسُنَ هَذَا اللَّفْظُ هُنَاكَ، وَأَجَابُوا عَنِ الْحُجَّةِ الثَّانِيَةِ: بِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ، فَلَمَّا كَانَ أَحَدُ قِسْمَيِ الْمَنِيِّ دَافِقًا أُطْلِقَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْمَجْمُوعِ، ثُمَّ قَالُوا: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَجْمُوعِ الْمَاءَيْنِ أَنَّ مَنِيَّ الرَّجُلِ وَحْدَهُ صَغِيرٌ فَلَا يَكْفِي، وَلِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِذَا غَلَبَ مَاءُ الرَّجُلِ يَكُونُ الْوَلَدُ ذَكَرًا وَيَعُودُ شبه إِلَيْهِ وَإِلَى أَقَارِبِهِ، وَإِذَا غَلَبَ مَاءُ الْمَرْأَةِ فَإِلَيْهَا وَإِلَى أَقَارِبِهَا يَعُودُ الشَّبَهُ» وَذَلِكَ يَقْتَضِي صِحَّةَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُلْحِدِينَ طَعَنُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ أَنَّ الْمَنِيَّ إِنَّمَا يَنْفَصِلُ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ فَضْلَةِ الْهَضْمِ الرَّابِعِ، وَيَنْفَصِلُ عَنْ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ عُضْوٍ طَبِيعَتَهُ وَخَاصِّيَّتَهُ، فَيَصِيرُ مُسْتَعِدًّا لِأَنْ يَتَوَلَّدَ مِنْهُ مِثْلُ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْمُفْرِطَ فِي الْجِمَاعِ يَسْتَوْلِي الضَّعْفُ عَلَى جَمِيعِ أَعْضَائِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ مُعْظَمَ أَجْزَاءِ الْمَنِيِّ يَتَوَلَّدُ هُنَاكَ فَهُوَ ضَعِيفٌ، بَلْ مُعْظَمُ أَجْزَائِهِ إِنَّمَا يَتَرَبَّى فِي الدِّمَاغِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ صُورَتَهُ يُشْبِهُ الدِّمَاغَ، وَلِأَنَّ الْمُكْثِرَ مِنْهُ يَظْهَرُ الضَّعْفُ أَوَّلًا فِي عَيْنَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ مُسْتَقَرَّ الْمَنِيِّ هُنَاكَ فَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مُسْتَقَرَّ الْمَنِيِّ هُوَ أَوْعِيَةُ الْمَنِيِّ، وَهِيَ عُرُوقٌ مُلْتَفٌّ بَعْضُهَا بِالْبَعْضِ عِنْدَ الْبَيْضَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ مَخْرَجَ الْمَنِيِّ هُنَاكَ فَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْحِسَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ الْجَوَابُ: لَا شَكَّ أَنَّ أَعْظَمَ الْأَعْضَاءِ مَعُونَةً فِي تَوْلِيدِ الْمَنِيِّ هُوَ الدِّمَاغُ، وَالدِّمَاغُ خَلِيفَةٌ وَهِيَ النُّخَاعُ وَهُوَ فِي الصُّلْبِ، وَلَهُ شُعَبٌ كَثِيرَةٌ نَازِلَةٌ/ إِلَى مُقَدَّمِ الْبَدَنِ وَهُوَ التَّرِيبَةُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ بِالذِّكْرِ، عَلَى أَنَّ كَلَامَكُمْ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَلُّدِ الْمَنِيِّ، وَكَيْفِيَّةِ تَوَلُّدِ الْأَعْضَاءِ مِنَ الْمَنِيِّ مَحْضُ الْوَهْمِ وَالظَّنِّ الضَّعِيفِ، وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى بِالْقَبُولِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ دَلَالَةَ تَوَلُّدِ الْإِنْسَانِ عَنِ النُّطْفَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ مِنْ أَظْهَرِ الدَّلَائِلِ، لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ التَّرْكِيبَاتِ الْعَجِيبَةَ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ أَكْثَرُ، فَيَكُونُ تَوَلُّدُهُ عَنِ الْمَادَّةِ الْبَسِيطَةِ أَدَلَّ عَلَى الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ وَثَانِيهَا: أَنَّ اطِّلَاعَ الْإِنْسَانِ عَلَى أَحْوَالِ نَفْسِهِ أَكْثَرُ مِنَ اطِّلَاعِهِ عَلَى أَحْوَالِ غَيْرِهِ، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ أَتَمَّ وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُشَاهَدَةَ الْإِنْسَانِ لِهَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ دَائِمَةٌ، فَكَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ أَقْوَى وَرَابِعُهَا: وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْبَابِ، كَمَا أَنَّهُ يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ الْحَكِيمِ، فَكَذَلِكَ يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى صِحَّةِ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حُدُوثَ الْإِنْسَانِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ اجْتِمَاعِ أَجْزَاءٍ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي بَدَنِ الْوَالِدَيْنِ، بَلْ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ، فَلَمَّا قَدَرَ الصَّانِعُ عَلَى جَمْعِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ حَتَّى خَلَقَ مِنْهَا إِنْسَانًا سَوِيًّا، وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَتَفَرُّقِ أَجْزَائِهِ لَا بد

[سورة الطارق (86) : آية 8]

وَأَنْ يَقْدِرَ الصَّانِعُ عَلَى جَمْعِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ وَجَعْلِهَا خَلْقًا سَوِيًّا، كَمَا كَانَ أَوَّلًا وَلِهَذَا السِّرِّ لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى دَلَالَتَهُ عَلَى الْمَبْدَأِ، فَرَّعَ عَلَيْهِ أَيْضًا دَلَالَتَهُ عَلَى صِحَّةِ الْمَعَادِ فقال: [سورة الطارق (86) : آية 8] إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي أَنَّهُ لِلْخَالِقِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ، وَالسَّبَبُ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: دَلَالَةُ خُلِقَ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي خَلَقَ قَادِرٌ عَلَى رَجْعِهِ الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ لَفْظًا، وَلَكِنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي بَدَاءَةِ الْعُقُولِ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ كَانَ كَالْمَذْكُورِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الرَّجْعُ مَصْدَرُ رَجَعْتُ الشَّيْءَ إِذَا رَدَدْتَهُ، وَالْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ عَلى رَجْعِهِ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ تَرْجِعُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَوَّلُهُمَا: وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ ابْتِدَاءً وَجَبَ أَنْ يَقْدِرَ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى رَدِّهِ حَيًّا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس: 79] وَقَوْلِهِ: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: 27] وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الضَّمِيرَ غَيْرُ عَائِدٍ إِلَى الْإِنْسَانِ، ثُمَّ قَالَ مُجَاهِدٌ: قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرُدَّ الْمَاءَ فِي الْإِحْلِيلِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: عَلَى أَنْ يَرُدَّ الْمَاءَ فِي الصُّلْبِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى رَدِّ الْإِنْسَانِ مَاءً كَمَا كَانَ قَبْلُ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: إِنْ شِئْتُ رَدَدْتُهُ مِنَ الْكِبَرِ إِلَى الشَّبَابِ، وَمِنَ الشَّبَابِ إِلَى الصِّبَا، وَمِنَ الصِّبَا/ إِلَى النُّطْفَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَصَحُّ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ أَيْ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى بَعْثِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَصَفَ حَالَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فقال: [سورة الطارق (86) : الآيات 9 الى 10] يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَوْمَ مَنْصُوبٌ بِرَجْعِهِ وَمَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي رَجْعِهِ لِلْمَاءِ وَفَسَّرَهُ بِرَجْعِهِ إِلَى مَخْرَجِهِ مِنَ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ أَوْ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى نَصَبَ الظَّرْفَ بِقَوْلِهِ: فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ أَيْ مَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ ذَلِكَ الْيَوْمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تُبْلَى أَيْ تُخْتَبَرُ، وَالسَّرَائِرُ مَا أُسِرَّ فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالنِّيَّاتِ، وَمَا أُخْفِيَ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ هَاهُنَا أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ مَعْنَى الِاخْتِبَارِ هَاهُنَا أَنَّ أَعْمَالَ الْإِنْسَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُعْرَضُ عَلَيْهِ وَيَنْظُرُ أَيْضًا فِي الصَّحِيفَةِ الَّتِي كَتَبَتِ الْمَلَائِكَةُ فِيهَا تَفَاصِيلَ أَعْمَالِهِمْ لِيَعْلَمَ أَنَّ الْمَذْكُورَ هَلْ هُوَ مُطَابِقٌ لِلْمَكْتُوبِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمُحَاسَبَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاقِعَةً عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَازَ أَنْ يُسَمَّى هَذَا الْمَعْنَى ابْتِلَاءً، وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ غَيْرُ بَعِيدَةٍ لِعِبَادِهِ لِأَنَّهَا ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِتَفَاصِيلِ مَا عَمِلُوهُ وَمَا لَمْ يَعْمَلُوهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَفْعَالَ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ لِوُجُوهِهَا، فَرُبَّ فِعْلٍ يَكُونُ ظَاهِرُهُ حسنا

[سورة الطارق (86) : الآيات 11 إلى 17]

وَبَاطِنُهُ قَبِيحًا، وَرُبَّمَا كَانَ بِالْعَكْسِ. فَاخْتِبَارُهَا مَا يُعْتَبَرُ بَيْنَ تِلْكَ الْوُجُوهِ الْمُتَعَارِضَةِ مِنَ الْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْجِيحِ، حَتَّى يَظْهَرَ أَنَّ الْوَجْهَ الرَّاجِحَ مَا هُوَ، وَالْمَرْجُوحَ مَا هُوَ. الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: بَلَوْتُ يَقَعُ عَلَى إِظْهَارِ الشَّيْءِ وَيَقَعُ على امتحانه كقوله: وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [محمد: 31] وقوله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ [البقرة: 155] ثُمَّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: السَّرَائِرُ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ تُخْتَبَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَظْهَرَ خَبَرُهَا مِنْ سِرِّهَا وَمُؤَدِّيهَا مِنْ مُضَيِّعِهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُبْدِي اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كُلَّ سِرٍّ مِنْهَا، فَيَكُونُ زَيْنًا فِي الْوُجُوهِ وَشَيْنًا فِي الْوُجُوهِ، يَعْنِي مَنْ أَدَّاهَا كَانَ وَجْهُهُ مُشْرِقًا وَمَنْ ضَيَّعَهَا كَانَ وَجْهُهُ أَغْبَرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا قُوَّةَ لِلْعَبْدِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، لِأَنَّ قُوَّةَ الْإِنْسَانِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ لِذَاتِهِ أَوْ مُسْتَفَادَةً مِنْ غَيْرِهِ، فَالْأَوَّلُ مَنْفِيٌّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَالثَّانِي مَنْفِيٌّ بِقَوْلِهِ: وَلا ناصِرٍ وَالْمَعْنَى مَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مَا حَلَّ مِنَ الْعَذَابِ وَلَا نَاصِرٍ يَنْصُرُهُ فِي دَفْعِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ زَجْرٌ وتحدير، وَمَعْنَى دُخُولِ مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قُوَّةٍ عَلَى وَجْهِ النَّفْيِ لِقَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا لَهُ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْقُوَّةِ وَلَا أَحَدٍ مِنَ الْأَنْصَارِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يُمْكِنُ أَنْ يُتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي نَفْيِ الشَّفَاعَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً إِلَى قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [الْبَقَرَةِ: 48] ، الْجَوَابُ: ما تقدم. [سورة الطارق (86) : الآيات 11 الى 17] وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا فَرَغَ مِنْ دَلِيلِ التَّوْحِيدِ، وَالْمَعَادِ أَقْسَمَ قَسَمًا آخَرَ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ فَنَقُولُ: قَالَ الزَّجَّاجُ الرَّجْعُ الْمَطَرُ لِأَنَّهُ يَجِيءُ وَيَتَكَرَّرُ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الزَّجَّاجِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الرَّجْعَ لَيْسَ اسْمًا مَوْضُوعًا لِلْمَطَرِ بَلْ سُمِّيَ رَجْعًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَلِحُسْنِ هَذَا الْمَجَازِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ الْقَفَّالُ: كَأَنَّهُ مِنْ تَرْجِيعِ الصَّوْتِ وَهُوَ إِعَادَتُهُ وَوَصْلُ الْحُرُوفِ بِهِ، فَكَذَا الْمَطَرُ لِكَوْنِهِ عَائِدًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى سُمِّيَ رَجْعًا وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ السَّحَابَ يَحْمِلُ الْمَاءَ مِنْ بِحَارِ الْأَرْضِ ثُمَّ يُرْجِعُهُ إِلَى الْأَرْضِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ أَرَادُوا التَّفَاؤُلَ فَسَمَّوْهُ رَجْعًا لِيَرْجِعَ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمَطَرَ يَرْجِعُ فِي كُلِّ عَامٍ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ لِلْمُفَسِّرِينَ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ أَيْ ذَاتِ الْمَطَرِ يَرْجِعُ لِمَطَرٍ بَعْدَ مَطَرٍ وَثَانِيهَا: رَجْعُ السَّمَاءِ إِعْطَاءُ الْخَيْرِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ جِهَتِهَا حَالًا بَعْدَ حَالٍ عَلَى مُرُورِ الْأَزْمَانِ تُرْجِعُهُ رَجْعًا، أَيْ

تُعْطِيهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ أَنَّهَا تَرُدُّ وَتُرْجِعُ شَمْسَهَا وَقَمَرَهَا بَعْدَ مَغِيبِهِمَا، وَالْقَوْلُ هُوَ الْأَوَّلُ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ فَاعْلَمْ أَنَّ الصَّدْعَ هُوَ الشَّقُّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الرُّومِ: 43] أَيْ يَتَفَرَّقُونَ وَلِلْمُفَسِّرِينَ أَقْوَالٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَنْشَقُّ عَنِ النَّبَاتِ وَالْأَشْجَارِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْجَبَلَانِ بَيْنَهُمَا شَقٌّ وَطَرِيقٌ نَافِذٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا [الْأَنْبِيَاءِ: 31] وَقَالَ اللَّيْثُ: الصَّدْعُ نَبَاتُ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ يَصْدَعُ الْأَرْضَ فَتَنْصَدِعُ بِهِ، وَعَلَى هَذَا سُمِّيَ النَّبَاتُ صَدْعًا لِأَنَّهُ صَادِعٌ لِلْأَرْضِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ كَمَا جَعَلَ، كَيْفِيَّةَ خِلْقَةِ الْحَيَوَانِ دَلِيلًا عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، ذَكَرَ فِي هَذَا الْقِسْمِ كَيْفِيَّةَ خِلْقَةِ النَّبَاتِ، فَالسَّمَاءُ ذَاتُ الرَّجْعِ كَالْأَبِ، وَالْأَرْضُ ذَاتُ الصَّدْعِ كَالْأُمِّ وَكِلَاهُمَا مِنَ النِّعَمِ الْعِظَامِ لِأَنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنَ الْمَطَرِ مُتَكَرِّرًا، وَعَلَى مَا يَنْبُتُ مِنَ الْأَرْضِ كَذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَرْدَفَ هَذَا الْقَسَمَ بِالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ فَقَالَ: [في قوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ] إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذَا الضَّمِيرِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: مَا قَالَ الْقَفَّالُ وَهُوَ: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ مَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ قُدْرَتِي عَلَى إِحْيَائِكُمْ فِي الْيَوْمِ/ الَّذِي تُبْلَى فِيهِ سَرَائِرُكُمْ قَوْلٌ فَصْلٌ وَحَقٌّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ أَيِ الْقُرْآنُ فَاصِلٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَمَا قِيلَ: لَهُ فُرْقَانٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَذْكُورِ السَّالِفِ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَقَوْلٌ فَصْلٌ أَيْ حُكْمٌ يَنْفَصِلُ بِهِ الْحَقُّ عَنِ الْبَاطِلِ، وَمِنْهُ فَصْلُ الْخُصُومَاتِ وَهُوَ قَطْعُهَا بِالْحُكْمِ، وَيُقَالُ: هذا فَصْلٌ أَيْ قَاطِعٌ لِلْمِرَاءِ وَالنِّزَاعِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَدٌّ حَقٌّ لِقَوْلِهِ: وَما هُوَ بِالْهَزْلِ أَيْ بِاللَّعِبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بِالْجَدِّ، وَلَمْ يَنْزِلْ بِاللَّعِبِ، ثُمَّ قَالَ: وَما هُوَ بِالْهَزْلِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْبَيَانَ الْفَصْلَ قَدْ يُذْكَرُ عَلَى سَبِيلِ الْجَدِّ وَالِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ وَقَدْ يَكُونُ عَلَى غَيْرِ سَبِيلِ الْجَدِّ وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَذَلِكَ الْكَيْدُ عَلَى وُجُوهٍ. مِنْهَا بِإِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ كَقَوْلِهِمْ: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الأنعام: 29] مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 78] أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: 5] لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزُّخْرُفِ: 31] فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْفُرْقَانِ: 5] وَمِنْهَا بِالطَّعْنِ فِيهِ بِكَوْنِهِ سَاحِرًا وَشَاعِرًا وَمَجْنُونًا، وَمِنْهَا بِقَصْدِ قَتْلِهِ عَلَى مَا قَالَهُ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ [الْأَنْفَالِ: 30] ثُمَّ قَالَ: وَأَكِيدُ كَيْداً. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَيْدَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَحْمُولٌ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: دَفْعُهُ تَعَالَى كَيْدَ الْكَفَرَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيُقَابِلُ ذَلِكَ الْكَيْدَ بِنُصْرَتِهِ وَإِعْلَاءِ دِينِهِ تسمية لأحد المتقابلين باسم كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلُ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر: 19] يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ [النِّسَاءِ: 142] وَثَانِيهَا: أَنَّ كَيْدَهُ تَعَالَى بِهِمْ هُوَ إِمْهَالُهُ إِيَّاهُمْ عَلَى كفرهم حتى يأخذهم على غرة، [في قوله تعالى فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً] ثُمَّ قَالَ: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَيْ لَا تَدْعُ بِهَلَاكِهِمْ وَلَا تَسْتَعْجِلْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِإِمْهَالِهِمْ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْإِمْهَالَ الْمَأْمُورَ به

قَلِيلٌ، فَقَالَ: أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً فَكَرَّرَ وَخَالَفَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ لِزِيَادَةِ التَّسْكِينِ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالتَّصَبُّرُ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّ تَكْبِيرَ رُوَيْدٍ رَوْدٌ، وَأَنْشَدَ: يَمْشِي وَلَا تُكَلِّمُ الْبَطْحَاءُ مِشْيَتَهُ ... كَأَنَّهُ ثَمِلٌ يمشي على ورد أَيْ عَلَى مَهْلَةٍ وَرِفْقٍ وَتُؤَدَةٍ، وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ فِي بَابِ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ رُوَيْدًا زَيْدًا يُرِيدُ أَرْوِدْ زَيْدًا، وَمَعْنَاهُ أَمْهِلْهُ وَارْفُقْ بِهِ، قَالَ النَّحْوِيُّونَ: رُوَيْدٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْأَمْرِ كقولك: رويد زيدا تريد أرود زيد أَيْ خَلِّهِ وَدَعْهُ وَأَرْفِقْ بِهِ وَلَا تَنْصَرِفُ رُوَيْدَ فِي هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَمَكِّنَةٍ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْمَصَادِرِ فَيُضَافُ إِلَى مَا بَعْدَهُ كَمَا تُضَافُ الْمَصَادِرُ تَقُولُ: رُوَيْدَ زَيْدٍ، كَمَا تَقُولُ: ضَرْبُ زَيْدٍ قَالَ تَعَالَى: فَضَرْبَ الرِّقابِ [مُحَمَّدٍ: 4] ، وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ نَعْتًا مَنْصُوبًا كَقَوْلِكَ: سَارُوا سَيْرًا رُوَيْدًا، وَيَقُولُونَ أَيْضًا: سَارُوا رُوَيْدًا، يَحْذِفُونَ الْمَنْعُوتَ/ وَيُقِيمُونَ رُوَيْدًا مَقَامَهُ كَمَا يَفْعَلُونَ بِسَائِرِ النُّعُوتِ الْمُتَمَكِّنَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ: ضَعْهُ رُوَيْدًا أَيْ وَضْعًا رويدا، وتقول للرجل: يعالج الشيء الشَّيْءَ رُوَيْدًا، أَيْ عِلَاجًا رُوَيْدًا، وَيَجُوزُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ رُوَيْدًا حَالًا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَعْتًا فَإِنْ أَظْهَرْتَ الْمَنْعُوتَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِلْحَالِ، وَالَّذِي فِي الْآيَةِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِلْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِمْهَالًا رُوَيْدًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْحَالِ أَيْ أَمْهِلْهُمْ غَيْرَ مُسْتَعْجِلٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّمَا صُغِّرَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ الَّذِي جَرَى يَوْمَ بَدْرٍ وَفِي سَائِرِ الْغَزَوَاتِ لَا يَعُمُّ الْكُلَّ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ عَمَّ الْكُلَّ، وَلَا يَمْتَنِعُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَدْخُلَ فِي جُمْلَتِهِ أَمْرُ الدُّنْيَا، مِمَّا نَالَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَغَيْرَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ زَجْرٌ وَتَحْذِيرٌ لِلْقَوْمِ، وَكَمَا أَنَّهُ تَحْذِيرٌ لَهُمْ فَهُوَ تَرْغِيبٌ فِي خِلَافِ طَرِيقِهِمْ فِي الطَّاعَاتِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة الأعلى

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة الأعلى تسع عشر آية مكية [سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: اسْمَ رَبِّكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ الْأَمْرُ بِتَنْزِيهِ اسْمِ اللَّهِ وَتَقْدِيسِهِ وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْمَ صِلَةٌ وَالْمُرَادُ الْأَمْرُ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى. أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَفِي اللَّفْظِ احْتِمَالَاتٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ نَزِّهِ اسْمَ رَبِّكَ عَنْ أَنْ تُسَمِّيَ بِهِ غَيْرَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ نَهْيًا عَلَى أَنْ يُدْعَى غَيْرُهُ بِاسْمِهِ، كَمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُسَمُّونَ الصَّنَمَ بِاللَّاتِ، وَمُسَيْلِمَةَ بِرَحْمَانِ الْيَمَامَةِ وَثَانِيهَا: أَنْ لا يفسر أسماءه بِمَا لَا يَصِحُّ ثُبُوتُهُ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ نَحْوَ أَنْ يُفَسَّرَ الْأَعْلَى بِالْعُلُوِّ فِي الْمَكَانِ والاستواء بالاستقرار بل يفسر العلو بالقهر والاقتداء وَالِاسْتِوَاءُ بِالِاسْتِيلَاءِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يُصَانَ عَنِ الِابْتِذَالِ وَالذِّكْرِ لَا عَلَى وَجْهِ الْخُشُوعِ وَالتَّعْظِيمِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَنْ يَذْكُرَ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ عِنْدَ الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى مَعَانِيهَا وَحَقَائِقِهَا وَرَابِعُهَا: أَنْ يكون المراد بسبح باسم رَبِّكَ، أَيْ مَجِّدْهُ بِأَسْمَائِهِ الَّتِي أَنْزَلْتُهَا عَلَيْكَ وَعَرَّفْتُكَ أَنَّهَا أَسْمَاؤُهُ كَقَوْلِهِ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الْإِسْرَاءِ: 110] وَنَظِيرُ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الْوَاقِعَةِ: 74] وَمَقْصُودُ الْكَلَامِ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، أَيْ صَلِّ بِاسْمِ رَبِّكَ، لَا كَمَا يُصَلِّي الْمُشْرِكُونَ بِالْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَذْكُرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ إِلَّا بأسماء الَّتِي وَرَدَ التَّوْقِيفُ بِهَا، قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا فرق بين سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ وبين فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ لِأَنَّ معنى فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ نَزِّهِ اللَّهَ تَعَالَى بِذِكْرِ اسْمِهِ الْمُنْبِئِ عَنْ تَنْزِيهِهِ وَعُلُوِّهِ عَمَّا يَقُولُ الْمُبْطِلُونَ، وسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ أَيْ نَزِّهِ الِاسْمَ مِنَ السُّوءِ وَخَامِسُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ مِنَ الِاسْمِ هَاهُنَا الصِّفَةُ، وَكَذَا فِي/ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الْأَعْرَافِ: 180]

أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ صِلَةً وَيَكُونُ الْمَعْنَى سَبِّحْ رَبَّكَ وَهُوَ اخْتِيَارُ جَمْعٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، قَالُوا: لِأَنَّ الِاسْمَ فِي الْحَقِيقَةِ لَفْظَةٌ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ حُرُوفٍ وَلَا يَجِبُ تَنْزِيهُهَا كَمَا يَجِبُ فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ الْمَذْكُورَ إِذَا كَانَ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ لَا يُذْكَرُ هُوَ بَلْ يُذْكَرُ اسْمُهُ فَيُقَالُ: سَبِّحِ اسْمَهُ، وَمَجِّدْ ذِكْرَهُ، كَمَا يُقَالُ: سَلَامٌ عَلَى الْمَجْلِسِ الْعَالِي، وَقَالَ لَبِيدٌ: إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمِ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا أَيِ السَّلَامُ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي اللُّغَةِ، وَنَقُولُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: تَسْبِيحُ اللَّهِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يُعَامِلَ الْكُفَّارَ مُعَامَلَةً يُقْدِمُونَ بِسَبَبِهَا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، بِمَا لَا يَنْبَغِي عَلَى مَا قَالَ: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَامِ: 108] ، الثَّانِي: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، فِي ذَاتِهِ وَفِي صِفَاتِهِ وَفِي أَفْعَالِهِ، وَفِي أَسْمَائِهِ وَفِي أَحْكَامِهِ، أَمَّا فِي ذَاتِهِ فَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ، وَأَمَّا فِي صِفَاتِهِ، فَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُحْدَثَةً وَلَا مُتَنَاهِيَةً وَلَا نَاقِصَةً، وَأَمَّا فِي أَفْعَالِهِ فَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ مَالِكٌ مُطْلَقٌ، فَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ فَهُوَ صَوَابٌ حَسَنٌ، وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ الْقَبِيحَ وَلَا يَرْضَى بِهِ، وَأَمَّا فِي أَسْمَائِهِ فَأَنْ لَا يُذْكَرَ سُبْحَانَهُ إِلَّا بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي وَرَدَ التَّوْقِيفُ بِهَا، هَذَا عِنْدَنَا وَأَمَّا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَهُوَ أَنْ لَا يُذْكَرَ إِلَّا بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي لَا تُوهِمُ نَقْصًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ سَوَاءً وَرَدَ الْإِذْنُ بِهَا أَوْ لَمْ يَرِدْ، وَأَمَّا فِي أَحْكَامِهِ فَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مَا كَلَّفَنَا لِنَفْعٍ يَعُودُ إِلَيْهِ. بَلْ إِمَّا لِمَحْضِ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُنَا، أَوْ لِرِعَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ عَلَى مَا [هُوَ] قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ الِاسْمَ نَفْسُ الْمُسَمَّى، فَأَقُولُ: إِنَّ الْخَوْضَ فِي الِاسْتِدْلَالِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ تَلْخِيصِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَلَا بُدَّ هَاهُنَا مِنْ بَيَانِ أَنَّ الِاسْمَ مَا هُوَ وَالْمُسَمَّى مَا هُوَ حَتَّى يُمْكِنَنَا أَنْ نَخُوضَ فِي الِاسْمِ هَلْ هُوَ نَفْسُ الْمُسَمَّى أَمْ لَا، فَنَقُولُ: وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْمِ هُوَ هَذَا اللَّفْظُ، وَبِالْمُسَمَّى تِلْكَ الذَّاتُ، فَالْعَاقِلُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ، مِنَ الِاسْمِ هُوَ تِلْكَ الذَّاتُ، وَبِالْمُسَمَّى أَيْضًا تِلْكَ الذَّاتَ كَانَ قَوْلُنَا الِاسْمُ نَفْسُ الْمُسَمَّى، هُوَ أَنَّ تِلْكَ الذَّاتِ نَفْسُ تِلْكَ الذَّاتِ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنَازِعَ فِيهِ عَاقِلٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي وَصْفِهَا رَكِيكَةٌ. وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْخَوْضُ فِي ذِكْرِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ أَرَكَّ وَأَبْعَدَ بَلْ هَاهُنَا دَقِيقَةٌ، وَهِيَ أَنَّ قَوْلَنَا: اسْمٌ لَفْظَةٌ جَعَلْنَاهَا اسْمًا لِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ مُقْتَرِنٍ بِزَمَانٍ، وَالِاسْمُ كَذَلِكَ فَيَلْزَمُ أَنْ يكون الاسم اسما لنفسه فههنا الِاسْمُ نَفْسُ الْمُسَمَّى فَلَعَلَّ الْعُلَمَاءَ الْأَوَّلِينَ ذَكَرُوا ذَلِكَ فَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ عَلَى الْمُتَأَخِّرِينَ، وَظَنُّوا أَنَّ الِاسْمَ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ نَفْسُ الْمُسَمَّى، هَذَا حَاصِلُ التَّحْقِيقِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلْنَرْجِعْ إِلَى الْكَلَامِ الْمَأْلُوفِ، قَالُوا: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ نَفْسُ الْمُسَمَّى أَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ سُبْحَانَ اسْمِ اللَّهِ وَسُبْحَانَ اسْمِ رَبِّنَا فَمَعْنَى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ سَبِّحْ رَبَّكَ، وَالرَّبُّ أَيْضًا اسْمٌ فَلَوْ كَانَ غَيْرَ الْمُسَمَّى لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ التَّسْبِيحُ عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ ضَعِيفٌ لِمَا بَيَّنَّا/ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ وَارِدًا بِتَسْبِيحِ الِاسْمِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَسْبِيحَ الْمُسَمَّى وَذُكِرَ الِاسْمُ صِلَةً فِيهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ سَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ كَمَا يُقَالُ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة: 74] وَيَكُونُ الْمَعْنَى سَبِّحْ رَبَّكَ بِذِكْرِ أَسْمَائِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلْ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قَالَ لَنَا رَسُولُ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ» وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قَالَ: «اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ» ثُمَّ رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقُولُ: فِي رُكُوعِهِ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ» وَفِي سُجُودِهِ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى» ثُمَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ أَيْ صَلِّ بِاسْمِ رَبِّكَ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِإِطْبَاقِ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الرُّومِ: 17] وَرَدَ فِي بَيَانِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنُ عُمَرَ: (سُبْحَانَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) وَلَعَلَّ الْوَجْهَ فِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ: سَبِّحِ أَمْرٌ بِالتَّسْبِيحِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُذْكَرَ ذَلِكَ التَّسْبِيحُ وَمَا هُوَ إِلَّا قَوْلُهُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: تَمَسَّكَتِ الْمُجَسِّمَةُ فِي إِثْبَاتِ الْعُلُوِّ بِالْمَكَانِ بِقَوْلِهِ: رَبِّكَ الْأَعْلَى وَالْحَقُّ أَنَّ الْعُلُوَّ بِالْجِهَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيًا أَوْ غَيْرَ مُتَنَاهٍ، فَإِنْ كَانَ مُتَنَاهِيًا كَانَ طَرَفُهُ الْفَوْقَانِيُّ مُتَنَاهِيًا، فَكَانَ فَوْقَهُ جِهَةً فَلَا يَكُونُ هُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَى مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ فَالْقَوْلُ: بِوُجُودِ أَبْعَادٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ مُحَالٌ وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ ذَاتُهُ تَعَالَى مُخْتَلِطَةً بِالْقَاذُورَاتِ تَعَالَى اللَّهَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ وَمُتَنَاهِيًا مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ كَانَ الْجَانِبُ الْمُتَنَاهِي مُغَايِرًا لِلْجَانِبِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِي فَيَكُونُ مُرَكَّبًا مِنْ جُزْأَيْنِ، وَكُلُّ مُرَكَّبٍ مُمْكِنٌ، فَوَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ مُمْكِنُ الْوُجُودِ، هذا مُحَالٌ. فَثَبَتَ أَنَّ الْعُلُوَّ هَاهُنَا لَيْسَ بِمَعْنَى الْعُلُوِّ فِي الْجِهَةِ، مِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْعُلُوُّ بِالْجِهَةِ، أَمَّا مَا قَبْلَ الْآيَةِ فَلِأَنَّ الْعُلُوَّ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ الْعَالَمِ، وَهَذَا لَا يُنَاسِبُ اسْتِحْقَاقَ التَّسْبِيحِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ، أَمَّا الْعُلُوُّ بِمَعْنَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالتَّفَرُّدِ بِالتَّخْلِيقِ وَالْإِبْدَاعِ فَيُنَاسِبُ ذَلِكَ وَالسُّورَةُ هَاهُنَا مَذْكُورَةٌ لِبَيَانِ وَصْفِهِ تَعَالَى بِمَا لِأَجْلِهِ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ وَالتَّعْظِيمَ، وَأَمَّا مَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَلِأَنَّهُ أَرْدَفَ قَوْلَهُ: الْأَعْلَى بِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالْخَالِقِيَّةُ تُنَاسِبُ الْعُلُوَّ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ لَا الْعُلُوَّ بِحَسَبِ الْجِهَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مِنَ الْمُلْحِدِينَ مَنْ قَالَ: بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ رَبَّيْنِ أَحَدُهُمَا عَظِيمٌ وَالْآخَرُ أَعْلَى مِنْهُ، أَمَّا الْعَظِيمُ فَقَوْلُهُ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ وَأَمَّا الْأَعْلَى مِنْهُ فَقَوْلُهُ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فَهَذَا يَقْتَضِي وجود رَبٍّ آخَرَ يَكُونُ هَذَا أَعْلَى بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّ الصَّانِعَ تَعَالَى وَاحِدٌ سَقَطَ هَذَا السُّؤَالُ، ثُمَّ نَقُولُ لَيْسَ فِي/ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَى مِنْ رَبٍّ آخَرَ، بَلْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ أَعْلَى، ثُمَّ لَنَا فِيهِ تَأْوِيلَاتٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَى وَأَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَا يَصِفُهُ بِهِ الْوَاصِفُونَ، وَمِنْ كُلِّ ذِكْرٍ يَذْكُرُهُ بِهِ الذَّاكِرُونَ، فَجَلَالُ كِبْرِيَائِهِ أَعْلَى مِنْ مَعَارِفِنَا وَإِدْرَاكَاتِنَا، وَأَصْنَافُ آلَائِهِ وَنَعْمَائِهِ أَعْلَى مِنْ حَمْدِنَا وَشُكْرِنَا، وَأَنْوَاعُ حُقُوقِهِ أَعْلَى مِنْ طَاعَاتِنَا وَأَعْمَالِنَا. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: الْأَعْلَى تَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِ اللَّهِ التَّنْزِيهَ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ: الْأَعْلَى أَيْ فَإِنَّهُ الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِمُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَهُوَ كَمَا تَقُولُ: اجْتَنَبْتُ الْخَمْرَ الْمُزِيلَةَ لِلْعَقْلِ أَيِ اجْتَنَبْتُهَا بِسَبَبِ كَوْنِهَا مُزِيلَةً لِلْعَقْلِ.

وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَعْلَى الْعَالِيَ كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَكْبَرِ الْكَبِيرُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ وَيَقُولُ: «لَوْ عَلِمَ النَّاسُ عِلْمَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى لَرَدَّدَهَا أَحَدُهُمْ سِتَّ عَشْرَةَ مَرَّةً» وَرُوِيَ: «أَنَّ عَائِشَةَ مَرَّتْ بِأَعْرَابِيٍّ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ فَقَرَأَ: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي يُسِرُّ عَلَى الْحُبْلَى، فَأَخْرَجَ مِنْهَا نَسَمَةً تَسْعَى، مِنْ بَيْنِ صِفَاقٍ وَحَشَا، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى، أَلَا بَلَى أَلَا بَلَى) فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَا آبَ غَائِبُكُمْ، وَلَا زَالَتْ نِسَاؤُكُمْ فِي لَزْبَةٍ» وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى فَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالتَّسْبِيحِ، فَكَأَنَّ سَائِلًا قَالَ: الِاشْتِغَالُ بِالتَّسْبِيحِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ؟ فَقَالَ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْخَلْقِ وَالْهِدَايَةِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُعْتَمَدَةُ عِنْدَ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشُّعَرَاءِ: 78] وَحَكَى عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لِمُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى [طه: 49] ؟ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] وَأَمَّا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ هُوَ قَوْلُهُ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ [الْعَلَقِ: 1، 2] هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْخَلْقِ، ثُمَّ قَالَ: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [الْعَلَقِ: 3، 4] وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْهِدَايَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَعَادَ ذِكْرَ تِلْكَ الْحُجَّةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَالَ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ كَثِيرًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَجَائِبَ وَالْغَرَائِبَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَكْثَرُ، وَمُشَاهَدَةَ الْإِنْسَانِ لَهَا، وَاطِّلَاعَهُ عَلَيْهَا أَتَمُّ، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ، ثُمَّ هَاهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: خَلَقَ فَسَوَّى يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ النَّاسَ خَاصَّةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الْحَيَوَانَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْإِنْسَانِ ذَكَرَ لِلتَّسْوِيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَعَلَ قَامَتَهُ مُسْتَوِيَةً مُعْتَدِلَةً وَخِلْقَتَهُ حَسَنَةً، عَلَى مَا قَالَ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التِّينِ: 4] وَأَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ خَلْقِهِ إِيَّاهُ، فَقَالَ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ، وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ/ فَإِنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لِنَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْمَالِ فَقَطْ، وَغَيْرُ مُسْتَعِدٍّ لِسَائِرِ الْأَعْمَالِ، أَمَّا الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ خُلِقَ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِ أَفْعَالِ الْحَيَوَانَاتِ بِوَاسِطَةِ آلَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَالتَّسْوِيَةُ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ هيأ لِلتَّكْلِيفِ وَالْقِيَامِ بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ، وَأَمَّا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ. قَالَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ أَعْطَى كُلَّ حَيَوَانٍ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَعْضَاءٍ وَآلَاتٍ وَحَوَاسٍّ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَأَمَّا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، قَالَ: الْمُرَادُ مِنَ التَّسْوِيَةِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، خَلَقَ مَا أَرَادَ عَلَى وَفْقِ مَا أَرَادَ مَوْصُوفًا بِوَصْفِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ، مُبَرَّأً عَنِ الْفَسْخِ وَالِاضْطِرَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَدَّرَ مُشَدَّدَةً وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ عَلَى التَّخْفِيفِ، أَمَّا قِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَدَّرَ كُلَّ شَيْءٍ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ، وَأَمَّا التَّخْفِيفُ فَقَالَ الْقَفَّالُ: مَعْنَاهُ مَلَكَ فَهَدَى وَتَأْوِيلُهُ: أَنَّهُ خَلَقَ فَسَوَّى، وَمَلَكَ مَا خَلَقَ، أَيْ تَصَرَّفَ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ، وَهَذَا هُوَ الْمِلْكُ فَهَدَاهُ لِمَنَافِعِهِ وَمَصَالِحِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ [الْمُرْسَلَاتِ: 23] بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ: قَدَّرَ يَتَنَاوَلُ الْمَخْلُوقَاتِ فِي ذَوَاتِهَا وَصِفَاتِهَا كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حَسَبِهِ فقدر السموات وَالْكَوَاكِبَ وَالْعَنَاصِرَ وَالْمَعَادِنَ وَالنَّبَاتَ وَالْحَيَوَانَ وَالْإِنْسَانَ بِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الْجُثَّةِ وَالْعِظَمِ، وَقَدَّرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنَ الْبَقَاءِ مُدَّةً مَعْلُومَةً وَمِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَلْوَانِ وَالطَّعُومِ وَالرَّوَائِحِ وَالْأُيُونِ وَالْأَوْضَاعِ وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَالْهِدَايَةِ وَالضَّلَالَةِ مِقْدَارًا مَعْلُومًا عَلَى مَا قَالَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ، وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الْحِجْرِ: 21] وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِمَّا لَا يَفِي بِشَرْحِهِ الْمُجَلَّدَاتُ، بَلِ الْعَالَمُ كُلُّهُ مِنْ أَعْلَى عِلِّيِّينَ إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ، تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ. وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَهَدى فَالْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مِزَاجٍ فَإِنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لِقُوَّةٍ خَاصَّةٍ وَكُلَّ قُوَّةٍ فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ، فَالتَّسْوِيَةُ وَالتَّقْدِيرُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي الْأَجْزَاءِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَتَرْكِيبِهَا عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ لِأَجْلِهِ تَسْتَعِدُّ لِقَبُولِ تِلْكَ الْقُوَى، وَقَوْلُهُ: فَهَدى عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ تِلْكَ الْقُوَى فِي تِلْكَ الْأَعْضَاءِ بِحَيْثُ تَكُونُ كُلُّ قُوَّةٍ مَصْدَرًا لِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ، وَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِهَا تَمَامُ الْمَصْلَحَةِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ وُجُوهٌ، قَالَ مُقَاتِلٌ: هَدَى الذَّكَرَ لِلْأُنْثَى كَيْفَ يَأْتِيهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: هَدَاهُ لِلْمَعِيشَةِ وَرَعَاهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: هَدَى الْإِنْسَانَ لِسُبُلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ حَسَّاسًا دَرَّاكًا مُتَمَكِّنًا مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا يَسُرُّهُ وَالْإِحْجَامِ عَمَّا يَسُوءُهُ كَمَا قَالَ: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الْإِنْسَانِ: 3] وَقَالَ: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشَّمْسِ: 7، 8] وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَدَّرَ مُدَّةَ الْجَنِينِ فِي الرَّحِمِ ثُمَّ هَدَاهُ لِلْخُرُوجِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَدَّرَ فَهَدَى وَأَضَلَّ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ إِحْدَاهُمَا: كَقَوْلِهِ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْلِ: 81] وَقَالَ آخَرُونَ: الْهِدَايَةُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي [الشُّورَى: 52] أَيْ تَدْعُو، وَقَدْ دُعِيَ الْكُلُّ إِلَى الْإِيمَانِ، وَقَالَ/ آخَرُونَ: هَدَى أَيْ دَلَّهُمْ بِأَفْعَالِهِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَجَلَالِ كِبْرِيَائِهِ، وَنُعُوتِ صَمَدِيَّتِهِ، وَفَرْدَانِيَّتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَرَى فِي العالم أفعال مُحْكَمَةً مُتْقَنَةً مُنْتَسِقَةً مُنْتَظِمَةً، فَهِيَ لَا مَحَالَةَ تَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ الْقَدِيمِ، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: فَهَدى إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَكْرَهَ عَبْدًا عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَلَا عَلَى ضَلَالَةٍ، وَلَا رَضِيَهَا لَهُ وَلَا أَمَرَهُ بِهَا، وَلَكِنْ رَضِيَ لكم الطاعة، وَأَمَرَكُمْ بِهَا، وَنَهَاكُمْ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ عَلَى كَثْرَتِهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ قِسْمَيْنِ، فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: فَهَدى عَلَى ما يتعلق بالدين كقوله: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَا يَرْجِعُ إِلَى مصالح الدنيا، والأول أقوى، لأن قوله: خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ يَرْجِعُ إِلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَيَدْخُلُ فِيهِ إِكْمَالُ الْعَقْلِ وَالْقُوَى، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: فَهَدى أَيْ كَلَّفَهُ وَدَلَّهُ عَلَى الدِّينِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ مَا يَخْتَصُّ بِهِ النَّاسُ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ غَيْرُ النَّاسِ مِنَ النَّعَمِ: فَقَالَ: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى أَيْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِنْبَاتِ الْعُشْبِ لَا الْأَصْنَامُ الَّتِي عَبَدَتْهَا الْكَفَرَةُ، وَالْمَرْعَى مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ مِنَ النَّبَاتِ وَمِنَ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ وَالْحَشِيشِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَرْعَى الْكَلَأُ الْأَخْضَرُ، ثُمَّ قَالَ: فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْغُثَاءُ مَا يَبُسَ مِنَ النَّبْتِ فَحَمَلَتْهُ الْأَوْدِيَةُ وَالْمِيَاهُ وَأَلْوَتْ بِهِ الرِّيَاحُ، وَقَالَ قُطْرُبٌ وَاحِدُ الْغُثَاءِ غُثَاءَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَوَّةُ السَّوَادُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَحْوَى هُوَ الَّذِي يَضْرِبُ إِلَى السَّوَادِ إِذَا أَصَابَتْهُ رُطُوبَةٌ، وَفِي أَحْوَى قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَعْتُ الْغُثَاءِ أَيْ صَارَ بَعْدَ الْخُضْرَةِ يَابِسًا فَتَغَيَّرَ إِلَى السَّوَادِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ السَّوَادِ أُمُورٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْعُشْبَ إِنَّمَا يَجِفُّ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْبَرْدِ عَلَى الْهَوَاءِ، وَمِنْ شَأْنِ الْبُرُودَةِ أَنَّهَا تُبَيِّضُ الرطب وتسود

[سورة الأعلى (87) : الآيات 6 إلى 7]

الْيَابِسَ وَثَانِيهَا: أَنْ يَحْمِلَهَا السَّيْلُ فَيَلْصَقُ بِهَا أَجْزَاءٌ كَدِرَةٌ فَتَسْوَدُّ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَحْمِلَهَا الرِّيحُ فَتَلْصَقُ بِهَا الْغُبَارُ الْكَثِيرُ فَتَسْوَدُّ الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْأَحْوَى هُوَ الْأَسْوَدُ لِشِدَّةِ خُضْرَتِهِ، كَمَا قيل: مُدْهامَّتانِ [الرحمن: 64] أَيْ سَوْدَاوَانِ لِشِدَّةِ خُضْرَتِهِمَا، وَالتَّقْدِيرُ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى أَحْوَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً، كَقَوْلِهِ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً [الْكَهْفِ: 1، 2] أَيْ أُنْزِلَ قَيِّمًا ولم يجعل له عوجا. [سورة الأعلى (87) : الآيات 6 الى 7] سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مُحَمَّدًا بِالتَّسْبِيحِ فَقَالَ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: 1] وَعَلَّمَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ ذَلِكَ التَّسْبِيحَ لَا يَتِمُّ وَلَا يَكْمُلُ إِلَّا بِقِرَاءَةِ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّسْبِيحَ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ هُوَ الَّذِي يَرْتَضِيهِ لِنَفْسِهِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ يَتَذَكَّرُ الْقُرْآنَ فِي نَفْسِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَنْسَى فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْخَوْفَ عَنْ قَلْبِهِ بِقَوْلِهِ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: سَنُقْرِئُكَ أَيْ سَنَجْعَلُكَ قَارِئًا بِأَنْ نُلْهِمَكَ الْقِرَاءَةَ فَلَا تَنْسَى مَا تَقْرَؤُهُ، وَالْمَعْنَى نَجْعَلُكَ قَارِئًا لِلْقُرْآنِ تَقْرَؤُهُ فَلَا تَنْسَاهُ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَكْثَرَ تَحْرِيكَ لِسَانِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَنْسَى، وَكَانَ جِبْرِيلُ لَا يَفْرَغُ مِنْ آخِرِ الْوَحْيِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ هُوَ بِأَوَّلِهِ مَخَافَةَ النِّسْيَانِ، فَقَالَ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى أَيْ سَنُعَلِّمُكَ هَذَا الْقُرْآنَ حَتَّى تَحْفَظَهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه: 114] وَقَوْلُهُ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [الْقِيَامَةِ: 16] ثُمَّ ذَكَرُوا فِي كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ الِاسْتِقْرَاءِ وَالتَّعْلِيمِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَيَقْرَأُ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ مَرَّاتٍ حَتَّى تَحْفَظَهُ حِفْظًا لَا تَنْسَاهُ وَثَانِيهَا: أَنَّا نَشْرَحُ صَدْرَكَ وَنُقَوِّي خَاطِرَكَ حَتَّى تَحْفَظَ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ حِفْظًا لَا تَنْسَاهُ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِالتَّسْبِيحِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَاظِبْ عَلَى ذَلِكَ وَدُمْ عَلَيْهِ فَإِنَّا سَنُقْرِئُكَ الْقُرْآنَ الْجَامِعَ لِعُلُومِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ وَيَكُونُ فِيهِ ذِكْرُكَ وَذِكْرُ قَوْمِكَ وَنَجْمَعُهُ فِي قَلْبِكَ، وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى وَهُوَ الْعَمَلُ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى الْمُعْجِزَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا أُمِّيًّا فَحِفْظُهُ لِهَذَا الْكِتَابِ الْمُطَوَّلِ مِنْ غَيْرِ دِرَاسَةٍ وَلَا تَكْرَارٍ وَلَا كَتَبَةٍ، خَارِقٌ لِلْعَادَةِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ، فَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ عَجِيبٍ غَرِيبٍ مُخَالِفٍ لِلْعَادَةِ سَيَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَقَدْ وَقَعَ فَكَانَ هَذَا إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا، أَمَّا قَوْلُهُ: فَلا تَنْسى فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلا تَنْسى مَعْنَاهُ النَّهْيُ، وَالْأَلِفُ مَزِيدَةٌ للفاصلة، كقوله: السَّبِيلَا [الْأَحْزَابِ: 67] يَعْنِي فَلَا تُغْفِلْ قِرَاءَتَهُ وَتَكْرِيرَهُ فَتَنْسَاهُ إلا ما شاء الله أن ينسيكه، وَالْقَوْلُ الْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَالْمَعْنَى سَنُقْرِئُكَ إِلَى أَنْ تَصِيرَ بِحَيْثُ لَا تَنْسَى وَتَأْمَنُ النِّسْيَانَ، كَقَوْلِكَ سَأَكْسُوكَ فَلَا تَعْرَى أَيْ فَتَأْمَنُ الْعُرْيَ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى ضَعْفِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ لَا يَتِمُّ إِلَّا عِنْدَ الْتِزَامِ مَجَازَاتٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْهَا أَنَّ النِّسْيَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا يَصِحُّ وُرُودُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِهِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُنَافِي النِّسْيَانَ مِثْلَ الدِّرَاسَةِ وَكَثْرَةِ التَّذَكُّرِ. وَكُلُّ ذَلِكَ عُدُولٌ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ. وَمِنْهَا أَنْ تُجْعَلَ الْأَلِفُ مَزِيدَةً لِلْفَاصِلَةِ وَهُوَ أَيْضًا خِلَافُ الْأَصْلِ وَمِنْهَا أَنَّا إِذَا جَعَلْنَاهُ خَبَرًا كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ بِشَارَةَ اللَّهِ إِيَّاهُ بِأَنِّي أَجْعَلُكَ بِحَيْثُ لَا تَنْسَاهُ، وَإِذَا جَعَلْنَاهُ نَهْيًا كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِأَنْ يُوَاظِبَ عَلَى الْأَسْبَابِ

[سورة الأعلى (87) : آية 8]

الْمَانِعَةِ مِنَ النِّسْيَانِ وَهِيَ الدِّرَاسَةُ وَالْقِرَاءَةُ، وَهَذَا لَيْسَ فِي الْبِشَارَةِ وَتَعْظِيمُ حَالِهِ مِثْلُ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [الْقِيَامَةِ: 16] . أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ فَفِيهِ احْتِمَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ غَيْرُ حَاصِلٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَنْسَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا، قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَنْسَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ شَيْئًا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ أَحَدَ أُمُورٍ أَحَدُهَا: التَّبَرُّكُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْكَهْفِ: 23، 24] وَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: أَنَا مَعَ أَنِّي عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَعَالِمٌ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ عَلَى التَّفْصِيلِ لَا أُخْبِرُ عَنْ/ وُقُوعِ شَيْءٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلَّا مَعَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَأَنْتَ وَأُمَّتُكَ يَا مُحَمَّدُ أَوْلَى بِهَا وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ أَنْ يَنْسَى مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَيْئًا، إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ بَيَانُ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ نَاسِيًا لِذَلِكَ لَقَدَرَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الْإِسْرَاءِ: 86] ثُمَّ إِنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ ذَلِكَ وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] مَعَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا أَشْرَكَ الْبَتَّةَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَفَائِدَةُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَرِّفُهُ قُدْرَةَ رَبِّهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ عَدَمَ النِّسْيَانِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ لَا مِنْ قُوَّتِهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ جَوَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْوَحْيِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ الْمُسْتَثْنَى، فَلَا جَرَمَ كَانَ يُبَالِغُ فِي التَّثَبُّتِ وَالتَّحَفُّظِ وَالتَّيَقُّظِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ بَقَاءَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى التَّيَقُّظِ، فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ نَفْيَ النِّسْيَانِ رَأْسًا، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: أَنْتَ سَهِيمِي فِيمَا أَمْلِكُ إِلَّا فِيمَا شَاءَ [اللَّهُ] ، وَلَا يَقْصِدُ اسْتِثْنَاءَ شَيْءٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَحْتَمِلُ الْآيَةُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَنْسَى، فَإِنَّهُ يَنْسَى ثُمَّ يَتَذَكَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذًا قَدْ يَنْسَى وَلَكِنَّهُ يَتَذَكَّرُ فَلَا يَنْسَى نِسْيَانًا كُلِّيًّا دَائِمًا، رُوِيَ أَنَّهُ أَسْقَطَ آيَةً فِي قِرَاءَتِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَحَسِبَ أُبَيٌّ أَنَّهَا نُسِخَتْ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: نَسِيتُهَا. وَثَانِيهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُنْسِيَهُ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ من الإنساء هاهنا نُسْخَةً، كَمَا قَالَ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها [الْبَقَرَةِ: 106] فَيَكُونُ الْمَعْنَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَنْسَاهُ عَلَى الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا، فَيَأْمُرُكَ أَنْ لَا تَقْرَأَهُ وَلَا تُصَلِّيَ بِهِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِنِسْيَانِهِ، وَزَوَالِهِ عَنِ الصُّدُورِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ الْقِلَّةَ وَالنُّدْرَةَ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الْقَلِيلُ مِنْ وَاجِبَاتِ الشَّرْعِ، بَلْ مِنَ الْآدَابِ وَالسُّنَنِ، فَإِنَّهُ لَوْ نَسِيَ شَيْئًا مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَلَمْ يَتَذَكَّرْهُ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْخَلَلِ فِي الشَّرْعِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِجَهْرِكَ فِي الْقِرَاءَةِ مَعَ قِرَاءَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَالِمٌ بِالسِّرِّ الَّذِي فِي قَلْبِكَ وَهُوَ أَنَّكَ تَخَافُ النِّسْيَانَ، فَلَا تَخَفْ فَأَنَا أَكْفِيكَ مَا تَخَافُهُ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَنْسَخَ، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ الْعَبِيدِ، فَيَنْسَخُ حَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي النسخ. أما قوله: [سورة الأعلى (87) : آية 8] وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْيُسْرَى هِيَ أَعْمَالُ الْخَيْرِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْيُسْرِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ

[سورة الأعلى (87) : آية 9]

وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَنُيَسِّرُكَ مَعْطُوفٌ عَلَى سَنُقْرِئُكَ وَقَوْلَهُ: إِنَّهُ يَعْلَمُ/ الْجَهْرَ وَما يَخْفى اعْتِرَاضٌ، وَالتَّقْدِيرُ: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى، وَنُوَفِّقُكَ لِلطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَسْهَلُ وَأَيْسَرُ، يَعْنِي فِي حِفْظِ الْقُرْآنِ وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْيُسْرَى الْجَنَّةُ، وَالْمَعْنَى نُيَسِّرُكَ لِلْعَمَلِ الْمُؤَدِّي إِلَيْهَا وَثَالِثُهَا: نُهَوِّنُ عَلَيْكَ الْوَحْيَ حَتَّى تَحْفَظَهُ وَتَعْلَمَهُ وَتَعْمَلَ بِهِ وَرَابِعُهَا: نُوَفِّقُكَ لِلشَّرِيعَةِ وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّهْلَةُ السَّمْحَةُ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ فَيَقُولَ الْعِبَارَةَ الْمُعْتَادَةَ أَنْ يُقَالَ: جُعِلَ الْفِعْلُ الْفُلَانِيُّ مُيَسَّرًا لِفُلَانٍ، وَلَا يُقَالُ: جُعِلَ فُلَانٌ مُيَسَّرًا لِلْفِعْلِ الْفُلَانِيِّ فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟ هاهنا الْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ كَمَا أَنَّهَا اخْتِيَارُ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَفِي سُورَةِ اللَّيْلِ أَيْضًا، فَكَذَا هِيَ اخْتِيَارُ الرَّسُولِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» وَفِيهِ لَطِيفَةٌ عِلْمِيَّةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ فِي نَفْسِهِ مَاهِيَّةٌ مُمْكِنَةٌ قَابِلَةٌ لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ عَلَى السَّوِيَّةِ، فَمَا دَامَ الْقَادِرُ يَبْقَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا عَلَى السَّوِيَّةِ امْتَنَعَ صدور الفعل عنه، فإذا نرجح جَانِبُ الْفَاعِلِيَّةِ عَلَى جَانِبِ التَّارِكِيَّةِ، فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الْفِعْلُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْفِعْلَ مَا لَمْ يَجِبْ لَمْ يُوجَدْ، وَذَلِكَ الرُّجْحَانُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالتَّيْسِيرِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّحْقِيقِ هُوَ أَنَّ الْفَاعِلَ يَصِيرُ مُيَسَّرًا لِلْفِعْلِ، لَا أَنَّ الْفِعْلَ يَصِيرُ مُيَسَّرًا لِلْفَاعِلِ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَهُ تَحْتَ كُلِّ كَلِمَةٍ حِكْمَةٌ خَفِيَّةٌ وَسِرٌّ عَجِيبٌ يُبْهِرُ الْعُقُولَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَالَ: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى بِنُونِ التَّعْظِيمِ لِتَكُونَ عَظَمَةُ الْمُعْطِي دَالَّةً عَلَى عَظَمَةِ العطاء، نظيره قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ [يوسف: 2] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الْحِجْرِ: 9] إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الْكَوْثَرِ: 1] دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَتَحَ عَلَيْهِ مِنْ أَبْوَابِ التَّيْسِيرِ وَالتَّسْهِيلِ مَا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ غَيْرِهِ، وَكَيْفَ لَا وَقَدْ كَانَ صَبِيًّا لَا أَبَ لَهُ وَلَا أُمَّ لَهُ نَشَأَ فِي قَوْمٍ جُهَّالٍ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ قدوة للعالمين، وهديا للخلق أجمعين. أما قوله تعالى: [سورة الأعلى (87) : آية 9] فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لما تكمل «1» بِتَيْسِيرِ جَمِيعِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَمَرَ بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ، لِأَنَّ كَمَالَ حَالِ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَامًّا وَفَوْقَ التَّمَامِ، فَلَمَّا صَارَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام تاما بمقتضى قوله: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى [الأعلى: 8] أمر بِأَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ فَوْقَ التَّمَامِ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ: فَذَكِّرْ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ يَقْتَضِي تَكْمِيلَ النَّاقِصِينَ وَهِدَايَةَ الْجَاهِلِينَ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فَيَّاضًا لِلْكَمَالِ، فكان تاما وفوق التمام، وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْكُلِّ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُذَكِّرَهُمْ سَوَاءٌ نَفَعَتْهُمُ الذِّكْرَى أَوْ لَمْ تَنْفَعْهُمْ، فَمَا الْمُرَادُ مِنْ تَعْلِيقِهِ عَلَى الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى؟ الجواب: أن المعلق بأن عَلَى الشَّيْءِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَدَمًا عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ وَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً [النُّورِ: 33] وَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ/ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [الْبَقَرَةِ: 172] وَمِنْهَا قَوْلُهُ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ [النِّسَاءِ: 101] فَإِنَّ الْقَصْرَ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْخَوْفُ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ [الْبَقَرَةِ: 283] وَالرَّهْنُ جَائِزٌ مَعَ الْكِتَابَةِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 230] وَالْمُرَاجَعَةُ جَائِزَةٌ بِدُونِ هذا الظن، إذا

_ (1) في الأصل (تكمل) والمعنى عليها ظاهر كما في سياق الكلام ولعل (تكفل) أنسب هنا.

[سورة الأعلى (87) : آية 10]

عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ ذَكَرُوا لِذِكْرِ هَذَا الشَّرْطِ فَوَائِدَ إِحْدَاهَا: أَنَّ مَنْ بَاشَرَ فِعْلًا لِغَرَضٍ فَلَا شَكَّ أَنَّ الصُّورَةَ الَّتِي عُلِمَ فِيهَا إِفْضَاءُ تِلْكَ الْوَسِيلَةِ إِلَى ذَلِكَ الْغَرَضِ، كَانَ إِلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْجَبَ مِنَ الصُّورَةِ الَّتِي عُلِمَ فِيهَا عَدَمُ ذَلِكَ الْإِفْضَاءِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَشْرَفَ الْحَالَتَيْنِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْأُخْرَى كَقَوْلِهِ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] وَالتَّقْدِيرُ: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى أَوْ لَمْ تَنْفَعْ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْبَعْثُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِالذِّكْرَى، كَمَا يَقُولُ الْمَرْءُ لِغَيْرِهِ إِذَا بَيَّنَ لَهُ الْحَقَّ: قَدْ أَوْضَحْتُ لَكَ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ فَيَكُونُ مُرَادُهُ الْبَعْثَ عَلَى الْقَبُولِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا يَجْرِي مَجْرَى تَنْبِيهِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا تَنْفَعُهُمُ الذِّكْرَى كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ: ادْعُ فُلَانًا إِنْ أَجَابَكَ، وَالْمَعْنَى وَمَا أَرَاهُ يُجِيبُكَ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ كَثِيرًا، وَكُلَّمَا كَانَتْ دَعْوَتُهُ أَكْثَرَ كَانَ عُتُوُّهُمْ أكثر، وكان عليه السلام يحترق «1» حَسْرَةً عَلَى ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق: 45] إِذِ التَّذْكِيرُ الْعَامُّ وَاجِبٌ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَأَمَّا التَّكْرِيرُ فَلَعَلَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ رَجَاءِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَيَّدَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ إِنَّمَا يَحْسُنُ فِي حَقِّ مَنْ يَكُونُ جَاهِلًا بِالْعَوَاقِبِ، أَمَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: رُوِيَ فِي الْكُتُبِ أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ يَقُولُ لِمُوسَى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ لَا يَتَذَكَّرُ وَلَا يَخْشَى. فَأَمْرُ الدَّعْوَةِ وَالْبَعْثَةِ شَيْءٌ وعلمه تعالى بالمغيبات وعواقب الأمور غير وَلَا يُمْكِنُ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: التَّذْكِيرُ الْمَأْمُورُ بِهِ هَلْ مَضْبُوطٌ مِثْلُ أن يذكرهم عشرات مرات، أَوْ غَيْرُ مَضْبُوطٍ، وَحِينَئِذٍ كَيْفَ يَكُونُ الْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الضَّابِطَ فِيهِ هو العرف والله أعلم. أما قوله تعالى: [سورة الأعلى (87) : آية 10] سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ فِي أَمْرِ الْمَعَادِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِصِحَّتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ وُجُودَهُ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ قَاطِعٍ فِيهِ لا بالنفي ولا بالإثبات، وَمِنْهُمْ مَنْ أَصَرَّ عَلَى إِنْكَارِهِ وَقَطَعَ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ فَالْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ تَكُونُ الْخَشْيَةُ حَاصِلَةً لَهُمَا، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَلَا خَشْيَةَ لَهُ وَلَا خَوْفَ إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ الْآيَةَ تَحْتَمِلُ تَفْسِيرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: الَّذِي يَخْشَى هُوَ الَّذِي يَكُونُ عَارِفًا بِاللَّهِ وَعَارِفًا بِكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ قَاطِعًا بِصِحَّةِ الْمَعَادِ/ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: 28] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الَّذِي تَنْفَعُهُ الذِّكْرَى مَنْ هُوَ، وَلَمَّا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِالذِّكْرَى مَبْنِيًّا عَلَى حُصُولِ الْخَشْيَةِ فِي الْقَلْبِ، وَصِفَاتُ الْقُلُوبِ مِمَّا لَا اطِّلَاعَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَجَبَ عَلَى الرَّسُولِ تَعْمِيمُ الدَّعْوَةِ تَحْصِيلًا لِلْمَقْصُودِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ تَذْكِيرُ مَنْ يَنْتَفِعُ بِالتَّذْكِيرِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِتَعْمِيمِ التَّذْكِيرِ. الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْخَشْيَةَ حَاصِلَةٌ لِلْعَامِلِينَ وَلِلْمُتَوَقِّفِينَ غَيْرِ الْمُعَانِدِينَ وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ مُتَوَقِّفُونَ غَيْرُ مُعَانِدِينَ وَالْمُعَانِدُ فِيهِمْ قَلِيلٌ، فَإِذَا ضُمَّ إِلَى الْمُتَوَقِّفِينَ الَّذِينَ لَهُمُ الْغَلَبَةُ الْعَارِفُونَ كَانَتِ الْغَلَبَةُ الْعَظِيمَةُ لِغَيْرِ الْمُعَانِدِينَ، ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُعَانِدِينَ، إِنَّمَا يُعَانِدُونَ بِاللِّسَانِ، فَأَمَّا الْمُعَانِدُ فِي قلبه بينه وبين نفسه

_ (1) في الأصل (يحترق) والمناسب يتحرق لاشتياق وهو من تحريف النساخ (الصاوي) .

[سورة الأعلى (87) : الآيات 11 إلى 12]

فَذَلِكَ مِمَّا لَا يَكُونُ أَوْ إِنْ كَانَ فَهُوَ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ وَالْقِلَّةِ، ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا سَمِعَ التَّخْوِيفَ بِأَنَّهُ يَصْلَى النَّارَ الكبرى وأنه لا يموت فيها ولا يحيى انْكَسَرَ قَلْبُهُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَسْتَمِعَ وَيَنْتَفِعَ أَغْلَبُ الْخَلْقِ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ، وَأَمَّا ذَلِكَ الْمُعْرِضُ فَنَادِرٌ، وَتَرْكُ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ لِأَجْلِ الشَّرِّ الْقَلِيلِ شَرٌّ كَثِيرٌ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَانَ قَوْلُهُ: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى يُوجِبُ تَعْمِيمَ التذكير. المسألة الثانية: السِّينُ فِي قَوْلِهِ: سَيَذَّكَّرُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى سَوْفَ يَذَّكَّرُ وَسَوْفَ مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ كقوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى: 6] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ فَإِنَّهُ يَتَذَكَّرُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ حِينٍ بِمَا يَسْتَعْمِلُهُ مِنَ التَّدَبُّرِ وَالنَّظَرِ فَهُوَ بَعْدَ طول المدة يذكر، والله أعلم. المسألة الثالثة: الْعِلْمُ إِنَّمَا يُسَمَّى تَذَكُّرًا إِذَا كَانَ قَدْ حَصَلَ الْعِلْمُ أَوَّلًا ثُمَّ نَسِيَهُ وَهَذِهِ الْحَالَةُ غَيْرُ حَاصِلَةٍ لِلْكَفَّارِ فَكَيْفَ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِالتَّذَكُّرِ؟ وَجَوَابُهُ: أَنَّ لِقُوَّةِ الدَّلَائِلِ وَظُهُورِهَا كَأَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ كَانَ حَاصِلًا، ثُمَّ إِنَّهُ زَالَ بِسَبَبِ التَّقْلِيدِ وَالْعِنَادِ. فَلِهَذَا أَسْمَاهُ اللَّهُ تعالى بالتذكر. المسألة الرابعة: قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ. أما قوله تعالى: [سورة الأعلى (87) : الآيات 11 الى 12] وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) فَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ أَقْسَامَ الْخَلْقِ ثَلَاثَةٌ الْعَارِفُونَ وَالْمُتَوَقِّفُونَ وَالْمُعَانِدُونَ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُمَا خَوْفٌ وَخَشْيَةٌ، وَصَاحِبُ الْخَشْيَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَسْتَمِعَ إِلَى الدَّعْوَةِ وَيَنْتَفِعَ بِهَا، فَيَكُونُ الْأَشْقَى هُوَ الْمُعَانِدُ الَّذِي لَا يَسْتَمِعُ إِلَى الدَّعْوَةِ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى وفيه مسائل: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ النَّارَ الْكُبْرى وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: الْكُبْرَى نَارُ جَهَنَّمَ، وَالصُّغْرَى نَارُ الدُّنْيَا وَثَانِيهَا: أَنَّ فِي الْآخِرَةِ نِيرَانًا وَدَرَكَاتٍ مُتَفَاضِلَةً كَمَا أَنَّ فِي الدُّنْيَا ذُنُوبًا وَمَعَاصِيَ مُتَفَاضِلَةً، وَكَمَا أَنَّ الْكَافِرَ أَشْقَى الْعُصَاةِ كَذَلِكَ يَصْلَى أَعْظَمَ النِّيرَانِ وَثَالِثُهَا: / أَنَّ النَّارَ الْكُبْرَى هِيَ النَّارُ السُّفْلَى، وَهِيَ تُصِيبُ الْكُفَّارَ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاءِ: 145] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْوَلِيدِ وَعَتَبَةَ وَأُبَيٍّ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ بَيَّنَّا صِحَّةَ هَذَا التَّرْتِيبِ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذكر هاهنا قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا: الَّذِي يَذَّكَّرُ وَيَخْشَى وَالثَّانِي: الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى، لَكِنَّ وُجُودَ الْأَشْقَى يَسْتَدْعِي وُجُودَ الشَّقِيِّ فَكَيْفَ حَالُ هَذَا الْقِسْمِ؟ وَجَوَابُهُ: أَنَّ لَفْظَةَ الْأَشْقَى لَا تَقْتَضِي وُجُودَ الشَّقِيِّ إِذْ قَدْ يَجْرِي مِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ مُشَارِكَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الْفُرْقَانِ: 24] وَقِيلَ: الْمَعْنَى، وَيَتَجَنَّبُهَا الشَّقِيُّ الَّذِي يَصْلَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: 27] أَيْ هَيِّنٌ عَلَيْهِ، وَمِثْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ:

[سورة الأعلى (87) : آية 13]

إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ هَذَا مَا قِيلَ لَكِنَّ التَّحْقِيقَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفِرَقَ الثَّلَاثَةَ، الْعَارِفُ وَالْمُتَوَقِّفُ وَالْمُعَانِدُ فَالسَّعِيدُ هُوَ الْعَارِفُ، وَالْمُتَوَقِّفُ لَهُ بَعْضُ الشَّقَاءِ وَالْأَشْقَى هُوَ الْمُعَانِدُ الَّذِي بَيَّنَا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الدَّعْوَةِ ولا يصغى إليها ويتجنبها. أما قوله تعالى: [سورة الأعلى (87) : آية 13] ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَمُوتُ فَيَسْتَرِيحُ وَلَا يَحْيَا حَيَاةً تَنْفَعُهُ، كَمَا قَالَ: لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها [فَاطِرٍ: 36] وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْعَرَبِ تَقُولُ لِلْمُبْتَلَى بِالْبَلَاءِ الشَّدِيدِ لَا هُوَ حَيٌّ وَلَا هُوَ مَيِّتٌ وَثَانِيهِمَا: مَعْنَاهُ أَنَّ نَفْسَ أَحَدِهِمْ فِي النَّارِ تَصِيرُ فِي حَلْقِهِ فَلَا تَخْرُجُ فَيَمُوتُ، وَلَا تَرْجِعُ إِلَى مَوْضِعِهَا مِنَ الْجِسْمِ فَيَحْيَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قِيلَ: ثُمَّ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ أَفْظَعُ وَأَعْظَمُ مِنَ الصَّلَى فَهُوَ مُتَرَاخٍ عَنْهُ فِي مراتب الشدة. أما قوله تعالى: [سورة الأعلى (87) : آية 14] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي دَلَائِلِ اللَّهِ تَعَالَى، أتبعه بالوعد لمن تزكى ويطهر مِنْ دَنَسِ الشِّرْكِ وَثَانِيهِمَا: وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ: تُكْثِرُ مِنَ التَّقْوَى لِأَنَّ مَعْنَى الزَّاكِي النَّامِي الْكَثِيرُ، وَهَذَا الْوَجْهُ مُعْتَضِدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 1، 2] أَثْبَتَ الْفَلَاحَ لِلْمُسْتَجْمِعِينَ لِتِلْكَ الْخِصَالِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَةِ: 5] وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ مُعْتَضِدٌ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَةِ مَا يَجِبُ التَّزَكِّي عَنْهُ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ التَّزَكِّي عَمَّا مَرَّ ذِكْرُهُ قَبْلَ الْآيَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْكُفْرُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ المراد هاهنا: قَدْ/ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى عَنِ الْكُفْرِ الَّذِي مَرَّ ذِكْرُهُ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْمَ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُسَمَّى الْكَامِلِ، وَأَكْمَلُ أَنْوَاعِ التَّزْكِيَةِ هُوَ تَزْكِيَةُ الْقَلْبِ عَنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ فَوَجَبَ صَرْفُ هَذَا الْمُطْلَقِ إِلَيْهِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا التَّأْوِيلُ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ مَعْنَى: تَزَكَّى قَوْلُ: لَا إِلَهَ إلا الله. أما قوله تعالى: [سورة الأعلى (87) : آية 15] وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَكَرَ مَعَادَهُ وَمَوْقِفَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ فَصَلَّى لَهُ. وَأَقُولُ: هَذَا التَّفْسِيرُ مُتَعَيِّنٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَرَاتِبَ أَعْمَالِ الْمُكَلَّفِ ثَلَاثَةٌ أَوَّلُهَا: إِزَالَةُ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ عَنِ الْقَلْبِ وَثَانِيهَا: اسْتِحْضَارُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَثَالِثُهَا: الِاشْتِغَالُ بِخِدْمَتِهِ. فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: هِيَ الْمُرَادُ بِالتَّزْكِيَةِ في قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى: 14] .

[سورة الأعلى (87) : آية 16]

وَثَانِيهَا: هِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَإِنَّ الذِّكْرَ بِالْقَلْبِ لَيْسَ إِلَّا الْمَعْرِفَةَ. وَثَالِثُهَا: الْخِدْمَةُ وَهِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَصَلَّى فَإِنَّ الصَّلَاةَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّوَاضُعِ وَالْخُشُوعِ فَمَنِ اسْتَنَارَ قَلْبُهُ بِمَعْرِفَةِ جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَكِبْرِيَائِهِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَظْهَرَ فِي جَوَارِحِهِ وَأَعْضَائِهِ أَثَرُ الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ. وَثَانِيهَا: قَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلُهُ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى يَعْنِي مَنْ تَصَدَّقَ قَبْلَ مُرُورِهِ إِلَى الْعِيدِ: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى يَعْنِي ثُمَّ صَلَّى صَلَاةَ الْعِيدِ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ الْإِمَامِ. وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَابْنِ سِيرِينَ وَابْنِ عُمَرَ وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ فِيهِ إِشْكَالٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ عَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ تَقْدِيمُ ذِكْرِ الصَّلَاةِ عَلَى ذِكْرِ الزَّكَاةِ لَا تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالثَّانِي: قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ عِيدٌ وَلَا زَكَاةُ فِطْرٍ. أَجَابَ الْوَاحِدِيُّ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا كَانَ فِي مَعْلُومِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ أَثْنَى عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَثَالِثُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى: 14] أَيْ تَصَدَّقَ مِنْ مَالِهِ وَذَكَرَ رَبَّهُ بِالتَّوْحِيدِ فِي الصَّلَاةِ فَصَلَّى لَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ وَمَا قَبْلَهُ أَنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ الزَّكَاةَ وَالصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَتَيْنِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَرَابِعُهَا: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ زَكَاةَ الْمَالِ بَلْ زَكَاةَ الْأَعْمَالِ أَيْ مَنْ تَطَهَّرَ فِي أَعْمَالِهِ مِنَ الرِّيَاءِ وَالتَّقْصِيرِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُعْتَادَ أَنْ يُقَالَ: فِي الْمَالِ زَكَّى وَلَا يُقَالُ تَزَكَّى قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ [فَاطِرٍ: 18] ، وَخَامِسُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ أَيْ كَبَّرَ فِي خُرُوجِهِ إِلَى الْعِيدِ وَصَلَّى صَلَاةَ الْعِيدِ وَسَادِسُهَا: الْمَعْنَى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فِي صِلَاتِهِ وَلَا تَكُونُ صِلَاتُهُ كَصَلَاةِ الْمُنَافِقِينَ حَيْثُ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفُقَهَاءُ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَا عَلَى أَنَّ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ لَيْسَتْ مِنَ الصَّلَاةِ، قَالَ: لِأَنَّ الصَّلَاةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا وَالْعَطْفَ يَسْتَدْعِي الْمُغَايَرَةَ، وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الِافْتِتَاحَ جَائِزٌ بِكُلِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ، وَصَلَّى فَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَقُولَ أَكْرَمْتَنِي فَزُرْتَنِي وَبَيْنَ أَنْ تَقُولَ زُرْتَنِي فَأَكْرَمْتَنِي، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَقُولَ: تَرْكُ الْعَمَلِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى مَدْحِ كُلِّ مَنْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ فَصَلَّى عَقِيبَهُ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ الذِّكْرَ هُوَ تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ. فَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ اللَّهَ بِقَلْبِهِ وَذَكَرَ ثَوَابَهُ وَعِقَابَهُ دَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ، فَحِينَئِذٍ يَأْتِي بِالصَّلَاةِ الَّتِي أَحَدُ أَجْزَائِهَا التَّكْبِيرُ، وَحِينَئِذٍ يَنْدَفِعُ الاستدلال. ثم قال تعالى: [سورة الأعلى (87) : آية 16] بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَفِيهِ قِرَاءَتَانِ: قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالتَّاءِ وَيُؤَكِّدُهُ حَرْفُ أُبَيٍّ، أَيْ بَلْ أَنْتُمْ تُؤْثِرُونَ عَمَلَ الدُّنْيَا عَلَى عَمَلِ الْآخِرَةِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ الدُّنْيَا أُحْضِرَتْ، وَعُجِّلَ لَنَا طَعَامُهَا وَشَرَابُهَا وَنِسَاؤُهَا وَلَذَّاتُهَا وَبَهْجَتُهَا، وَإِنَّ الْآخِرَةَ لَغَيْبٌ لَنَا وَزُوِيَتْ عَنَّا، فَأَخَذْنَا بِالْعَاجِلِ وَتَرَكْنَا الْآجِلَ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: يُؤْثِرُونَ بِالْيَاءِ يعني الأشقى. ثم قال تعالى: [سورة الأعلى (87) : آية 17] وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) وَتَمَامُهُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ خَيْرًا وَأَبْقَى فَهُوَ آثَرُ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْآخِرَةُ آثَرَ مِنَ الدُّنْيَا وَهُمْ كَانُوا يؤثرون الدنيا،

[سورة الأعلى (87) : آية 18]

وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْآخِرَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى السَّعَادَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالرُّوحَانِيَّةِ، وَالدُّنْيَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَالْآخِرَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَثَانِيهَا: أَنَّ الدُّنْيَا لَذَّاتُهَا مَخْلُوطَةٌ بِالْآلَامِ، وَالْآخِرَةَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الدُّنْيَا فَانِيَةٌ، وَالْآخِرَةَ بَاقِيَةٌ، وَالْبَاقِيَ خَيْرٌ مِنَ الْفَانِي. ثُمَّ قَالَ: [سورة الأعلى (87) : آية 18] إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِلَفْظِ (هَذَا) مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: جَمِيعُ السُّورَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السُّورَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْوَعِيدِ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَالْوَعْدِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْإِشَارَةِ هُوَ مِنْ قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى: 14] إِشَارَةً إِلَى تَطْهِيرِ النَّفْسِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي. أَمَّا الْقُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ فَعَنْ جَمِيعِ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ، وَأَمَّا فِي الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ فَعَنْ جميع الأخلاق الذمية. وأما قوله: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ [الأعلى: 15] فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَكْمِيلِ الرُّوحِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تعالى، وأما قوله: فَصَلَّى [الأعلى: 15] فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَكْمِيلِ الْجَوَارِحِ وَتَزْيِينِهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا [الأعلى: 16] فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الزَّجْرِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الدنيا. وأما قوله: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الأعلى: 17] فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّرْغِيبِ فِي الْآخِرَةِ وَفِي ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ أُمُورٌ لَا يَجُوزُ أَنْ تَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى وَهَذَا الْوَجْهُ كما تأكد بالعقل فَالْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ هَلْ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى؟ فَقَالَ: اقْرَأْ يَا أبا ذر قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى: 14] وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ قَوْلَهُ (هَذَا) إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ وَذَلِكَ هُوَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى فَهُوَ نَظِيرٌ لِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشُّعَرَاءِ: 196] وَقَوْلِهِ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: 13] . وقوله تعالى: [سورة الأعلى (87) : آية 19] صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19) فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بيان لقوله: لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى [الأعلى: 18] وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي صُحُفِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي مِنْهَا صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ؟ فَقَالَ: مِائَةً وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ، عَلَى آدَمَ عَشْرَ صُحُفٍ وَعَلَى شِيثٍ خَمْسِينَ صَحِيفَةً وَعَلَى إِدْرِيسَ ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً وَعَلَى إِبْرَاهِيمَ عَشْرَ صَحَائِفَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْفَرْقَانَ، وَقِيلَ: إِنَّ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ: يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِلِسَانِهِ عَارِفًا بِزَمَانِهِ مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة الغاشية

بسم الله الرّحمن الرّحيم سُورَةُ الْغَاشِيَةِ وَهِيَ عِشْرُونَ وَسِتُّ آيَاتٍ مَكِّيَّةٌ [سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ مَسْأَلَتَيْنِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي الْغَاشِيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْقِيَامَةُ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ [الْعَنْكَبُوتِ: 55] إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْقِيَامَةُ بِهَذَا الِاسْمِ، لِأَنَّ مَا أَحَاطَ بِالشَّيْءِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ فَهُوَ غَاشٍ لَهُ، وَالْقِيَامَةُ كَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تَرِدُ عَلَى الْخَلْقِ بَغْتَةً وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ [يُوسُفَ: 107] ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَغْشَى النَّاسَ جَمِيعًا مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا تَغْشَى النَّاسَ بِالْأَهْوَالِ وَالشَّدَائِدِ الْقَوْلُ الثَّانِي: الْغَاشِيَةُ هِيَ النَّارُ أَيْ تَغْشَى وُجُوهَ الْكَفَرَةِ وَأَهْلِ النَّارِ قَالَ تَعَالَى: وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إِبْرَاهِيمَ: 50] وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الْأَعْرَافِ: 41] وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٍ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْغَاشِيَةُ أَهْلُ النَّارِ يَغْشَوْنَهَا وَيَقَعُونَ فِيهَا وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ الْمَعْنَى أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ بَعْضُ النَّاسِ فِي الشَّقَاوَةِ، وَبَعْضُهُمْ فِي السَّعَادَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قَالَ: هَلْ أَتاكَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَرَّفَ رَسُولَ اللَّهِ مِنْ حَالِهَا، وَحَالِ النَّاسِ فِيهَا مَا لَمْ يَكُنْ هُوَ وَلَا قَوْمُهُ عَارِفًا بِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ، لِأَنَّ الْعَقْلَ إِنْ دَلَّ فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّ حَالَ الْعُصَاةِ مُخَالِفَةٌ لِحَالِ الْمُطِيعِينَ. فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ تِلْكَ التَّفَاصِيلِ فَلَا سَبِيلَ لِلْعَقْلِ إِلَيْهَا، فَلَمَّا عَرَّفَهُ اللَّهُ تَفْصِيلَ تِلْكَ الْأَحْوَالِ، لَا جَرَمَ قَالَ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ فَاعْلَمْ أَنَّهُ وَصْفٌ لِأَهْلِ الشَّقَاوَةِ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ بِالْوُجُوهِ أَصْحَابُ الْوُجُوهِ وَهُمُ الْكُفَّارُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْوُجُوهَ بِأَنَّهَا خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمُكَلَّفِ، لَكِنَّ الْخُشُوعَ يَظْهَرُ فِي الْوَجْهِ فَعَلَّقَهُ بِالْوَجْهِ لِذَلِكَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ [الْقِيَامَةِ: 22] وَقَوْلُهُ: خاشِعَةٌ أَيْ ذَلِيلَةٌ قَدْ عَرَاهُمُ الْخِزْيُ وَالْهَوَانُ، كَمَا قَالَ: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ [السَّجْدَةِ: 12] وَقَالَ: وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ/ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ

[سورة الغاشية (88) : آية 4]

يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ [الشُّورَى: 45] وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الذُّلُّ فِي الْوَجْهِ، لِأَنَّهُ ضِدُّ الْكِبْرِ الَّذِي مَحَلُّهُ الرَّأْسُ وَالدِّمَاغُ. وَأَمَّا الْعَامِلَةُ فَهِيَ الَّتِي تَعْمَلُ الْأَعْمَالَ، وَمَعْنَى النَّصَبِ الدَّؤُوبُ فِي الْعَمَلِ مَعَ التَّعَبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوُجُوهُ الْمُمْكِنَةُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ لَا تَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةٍ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الصِّفَاتُ بِأَسْرِهَا حَاصِلَةٌ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ هِيَ بِأَسْرِهَا حَاصِلَةٌ فِي الدُّنْيَا، أَوْ بَعْضُهَا فِي الْآخِرَةِ وَبَعْضُهَا فِي الدُّنْيَا أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهَا بِأَسْرِهَا حَاصِلَةٌ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَاشِعِينَ أَيْ ذَلِيلِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا فِي الدُّنْيَا تَكَبَّرَتْ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَعَامِلِينَ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ فِي النَّارِ عَمَلًا تَتْعَبُ فِيهِ وَهُوَ جَرُّهَا السَّلَاسِلَ وَالْأَغْلَالَ الثَّقِيلَةَ، عَلَى مَا قَالَ: فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً [الْحَاقَّةِ: 32] وَخَوْضُهَا فِي النَّارِ كَمَا تَخُوضُ الْإِبِلُ فِي الْوَحْلِ بِحَيْثُ تَرْتَقِي عَنْهُ تَارَةً وَتَغُوصُ فِيهِ أُخْرَى وَالتَّقَحُّمُ فِي حَرِّ جَهَنَّمَ وَالْوُقُوفُ عُرَاةً حُفَاةً جِيَاعًا عِطَاشًا فِي الْعَرَصَاتِ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَنَاصِبِينَ لِأَنَّهُمْ دَائِمًا يَكُونُونَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ قَالَ الْحَسَنُ: هَذِهِ الصِّفَاتُ كَانَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ حَاصِلَةً فِي الدُّنْيَا لِأَجْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ سَلَّطَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى سَبِيلِ الْعِقَابِ وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهَا بِأَسْرِهَا حَاصِلَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْمَجُوسِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا خَشَعَتْ لِلَّهِ وَعَمِلَتْ وَنَصِبَتْ فِي أَعْمَالِهَا مِنَ الصَّوْمِ الدَّائِبِ وَالتَّهَجُّدِ الْوَاصِبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَقَدُوا فِي اللَّهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، فَكَأَنَّهُمْ أَطَاعُوا ذَاتًا مَوْصُوفَةً بِالصِّفَاتِ الَّتِي تَخَيَّلُوهَا فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مَا عَبَدُوا اللَّهَ وَإِنَّمَا عَبَدُوا ذَلِكَ الْمُتَخَيَّلَ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ، فَلَا جَرَمَ لَا تَنْفَعُهُمْ تِلْكَ الْعِبَادَةُ أَصْلًا وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ تِلْكَ الصِّفَاتِ حَاصِلٌ فِي الْآخِرَةِ وَبَعْضَهَا فِي الدُّنْيَا فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهَا خَاشِعَةٌ فِي الْآخِرَةِ، مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الدُّنْيَا عَامِلَةً نَاصِبَةً، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا لَمْ تَنْتَفِعْ بِعَمَلِهَا وَنَصَبِهَا فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَمْتَنِعُ وَصْفُهُمْ بِبَعْضِ أَوْصَافِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ يُذْكَرُ بَعْضُ أَوْصَافِ الدُّنْيَا ثُمَّ يُعَادُ ذِكْرُ الْآخِرَةِ، إِذَا كَانَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ مَفْهُومًا فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وُجُوهٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَاشِعَةٌ، لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي الدُّنْيَا عَامِلَةً نَاصِبَةً فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ، فَهِيَ إِذَنْ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً فِي الْآخِرَةِ ثَانِيهَا: أَنَّهَا خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنَّهَا نَاصِبَةٌ فِي الْآخِرَةِ، فَخُشُوعُهَا فِي الدُّنْيَا خَوْفُهَا الدَّاعِي لَهَا إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ لَذَائِذِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا، وَعَمَلُهَا هُوَ صَلَاتُهَا وَصَوْمُهَا وَنَصَبُهَا فِي الْآخِرَةِ هُوَ مُقَاسَاةُ الْعَذَابِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزُّمَرِ: 47] وَقُرِئَ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ عَلَى الشَّتْمِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ وَصَفَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ شَرَحَ بَعْدَ ذَلِكَ كَيْفِيَّةَ مَكَانِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَمَطْعَمِهِمْ نَعُوذُ بالله منها. أما مكانهم فقوله تعالى: [سورة الغاشية (88) : آية 4] تَصْلى نَارًا حامِيَةً (4) يُقَالُ: صَلَى بِالنَّارِ يَصْلَى أَيْ لَزِمَهَا وَاحْتَرَقَ بِهَا/ وَقُرِئَ بِنَصْبِ التَّاءِ وحجته قوله: إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ [الصَّافَّاتِ: 163] وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ بِرَفْعِ التَّاءِ مِنْ أَصْلَيْتُهُ النَّارَ لِقَوْلِهِ: ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ [الحاقة: 31] وقوله: وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ «1» وصلوه مِثْلُ أَصْلُوهُ، وَقَرَأَ قَوْمٌ تَصَلَّى بِالتَّشْدِيدِ، وَقِيلَ: الْمَصْلَى عِنْدَ الْعَرَبِ، أَنْ يَحْفِرُوا حَفِيرًا فَيَجْمَعُوا فِيهِ جَمْرًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَعْمِدُوا إِلَى شَاةٍ فَيَدُسُّوهَا وَسَطَهُ، فَأَمَّا مَا يُشْوَى فَوْقَ الْجَمْرِ أَوْ عَلَى الْمِقْلَاةِ أَوْ فِي التَّنُّورِ، فَلَا يُسَمَّى مَصْلَى. وَقَوْلُهُ: حامِيَةً أَيْ قَدْ أُوقِدَتْ، وأحميت المدة

_ (1) هكذا بالنسخ وهي غير موجودة في المصحف ولعله يريد وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ [النساء: 115]

[سورة الغاشية (88) : آية 5]

الطَّوِيلَةَ، فَلَا حَرَّ يَعْدِلُ حَرَّهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ حَمِيَتْ فَهِيَ تَتَلَظَّى عَلَى أَعْدَاءِ الله. وأما مشروبهم قوله تعالى: [سورة الغاشية (88) : آية 5] تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) الْآنِي الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ مِنَ الْإِينَاءِ بِمَعْنَى التَّأْخِيرِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ رَجُلًا أَخَّرَ حُضُورَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آنَيْتَ وَآذَيْتَ» وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرَّحْمَنِ: 44] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ حَرَّهَا بَلَغَ إِلَى حَيْثُ لَوْ وَقَعَتْ مِنْهَا قَطْرَةٌ عَلَى جِبَالِ الدنيا لذابت. وأما مطعومهم فقوله تعالى: [سورة الغاشية (88) : آية 6] لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الضَّرِيعَ مَا هُوَ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: لَا أَدْرِي مَا الضَّرِيعُ وَلَمْ أَسْمَعْ فِيهِ مِنَ الصَّحَابَةِ شَيْئًا وَثَانِيهَا: رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: الضَّرِيعُ بِمَعْنَى الْمُضْرِعِ كَالْأَلِيمِ وَالسَّمِيعِ وَالْبَدِيعِ بِمَعْنَى الْمُؤْلِمِ وَالْمُسْمِعِ وَالْمُبْدِعِ، وَمَعْنَاهُ إِلَّا مِنْ طَعَامٍ يَحْمِلُهُمْ عَلَى أَنْ يَضْرَعُوا وَيَذِلُّوا عِنْدَ تَنَاوُلِهِ لِمَا فيه من الخشونة والمرارة والحرار وَثَالِثُهَا: أَنَّ الضَّرِيعَ مَا يَبِسَ مِنَ الشِّبْرِقِ، وَهُوَ جِنْسٌ مِنَ الشَّوْكِ تَرْعَاهُ الْإِبِلُ مَا دَامَ رَطْبًا، فَإِذَا يَبِسَ تَحَامَتْهُ وَهُوَ سُمٌّ قاتل، قال أبو ذويب: رَعَى الشِّبْرِقَ الرَّيَّانَ حَتَّى إِذَا ذَوَى ... وَعَادَ ضَرِيعًا عَادَ عَنْهُ النَّحَائِصُ جَمْعُ نُحُوصٍ وَهِيَ الْحَائِلُ مِنَ الْإِبِلِ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَأَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَرَابِعُهَا: قَالَ الْخَلِيلُ فِي كِتَابِهِ: وَيُقَالُ لِلْجِلْدَةِ الَّتِي عَلَى الْعَظْمِ تَحْتَ اللَّحْمِ هِيَ الضَّرِيعُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِالْقِلَّةِ، فَلَا جَرَمَ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ وَخَامِسُهَا: قَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ: الضَّرِيعُ السَّلَا، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ شَجَرَةٌ ذَاتُ شَوْكٍ، ثُمَّ قَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ: وَكَيْفَ يَسْمَنُ مَنْ كَانَ يَأْكُلُ الشَّوْكَ! وَفِي الْخَبَرِ الضَّرِيعُ شَيْءٌ يَكُونُ فِي النَّارِ شَبِيهُ الشَّوْكِ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ، وَأَنْتَنُ مِنَ الْجِيفَةِ وَأَشَدُّ حَرًّا مِنَ النَّارِ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَالْمَقْصِدُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الشَّرَابِ وَهَذَا الطَّعَامِ، بَيَانُ نِهَايَةِ ذُلِّهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا أَقَامُوا فِي تِلْكَ السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ تِلْكَ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ عِطَاشًا جِيَاعًا، ثُمَّ أُلْقُوا فِي النَّارِ فَرَأَوْا فِيهَا مَاءً وَشَيْئًا مِنَ النَّبَاتِ، فَأَحَبَّ أُولَئِكَ الْقَوْمُ تَسْكِينَ مَا بِهِمْ مِنَ الْعَطَشِ وَالْجُوعِ فَوَجَدُوا الْمَاءَ حَمِيمًا لَا يَرْوِي بَلْ يَشْوِي، وَوَجَدُوا النَّبَاتَ مِمَّا لَا يُشْبِعُ وَلَا يُغْنِي مَنْ جُوعٍ، فَأَيِسُوا وَانْقَطَعَتْ أَطْمَاعُهُمْ فِي إِزَالَةِ مَا بِهِمْ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، كَمَا قَالَ: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ [الْكَهْفِ: 29] / وَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ لَا تَزُولُ ولا تنقطع، نعوذ بالله منها وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة: 35، 36] وقال هاهنا: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ وَالضَّرِيعُ غَيْرُ الْغِسْلِينِ وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّارَ دَرَكَاتٌ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ مَنْ طَعَامُهُ الزَّقُّومُ، وَمِنْهُمْ مَنْ طَعَامُهُ الْغِسْلِينُ، وَمِنْهُمْ مَنْ طَعَامُهُ الضَّرِيعُ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَابُهُ الْحَمِيمُ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَابُهُ الصَّدِيدُ، لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْغِسْلِينُ من الضريع ويكون ذلك كقوله: ما لي طعام إلا من الشاه، ثم يقول: ما لي طَعَامٌ إِلَّا مِنَ اللَّبَنِ، وَلَا تَنَاقُضَ لِأَنَّ اللَّبَنَ مِنَ الشَّاةِ.

[سورة الغاشية (88) : آية 7]

السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ يُوجَدُ النَّبْتُ فِي النَّارِ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الضَّرِيعَ نَبْتٌ فِي النَّارِ يَأْكُلُونَهُ، وَلَكِنَّهُ ضَرْبٌ مِثْلُهُ، أَيْ أَنَّهُمْ يَقْتَاتُونَ بِمَا لَا يُشْبِعُهُمْ أَوْ يُعَذَّبُونَ بِالْجُوعِ كَمَا يُعَذَّبُ مَنْ قُوتُهُ الضَّرِيعُ الثَّانِي: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّبْتَ يُوجَدُ فِي النَّارِ؟ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُسْتَبْعَدْ بَقَاءُ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مَعَ كَوْنِهِ لَحْمًا وَدَمًا فِي النَّارِ أَبَدَ الْآبَادِ، فَكَذَا هاهنا وَكَذَا الْقَوْلُ فِي سَلَاسِلِ النَّارِ وَأَغْلَالِهَا وَعَقَارِبِهَا وحياتها. أما قوله تعالى: [سورة الغاشية (88) : آية 7] لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) فَهُوَ مَرْفُوعُ الْمَحَلِّ أَوْ مَجْرُورُهُ عَلَى وَصْفِ طَعَامٍ أَوْ ضَرِيعٍ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ طَعَامَهُمْ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَطَاعِمِ الْإِنْسِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّوْكِ وَالشَّوْكُ مِمَّا يَرْعَاهُ الْإِبِلُ، وَهَذَا النَّوْعُ مِمَّا يَنْفِرُ عَنْهُ الْإِبِلُ، فَإِذَنْ مَنْفَعَتَا الْغِذَاءِ مُنْتَفِيَتَانِ عَنْهُ، وَهُمَا إِمَاطَةُ الْجُوعِ وَإِفَادَةُ الْقُوَّةِ وَالسِّمَنِ فِي الْبَدَنِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَا طَعَامَ لَهُمْ أَصْلًا لِأَنَّ الضَّرِيعَ لَيْسَ بِطَعَامٍ لِلْبَهَائِمِ فَضْلًا عَنِ الْإِنْسِ لِأَنَّ الطَّعَامَ مَا أَشْبَعَ وَأَسْمَنَ وَهُوَ مِنْهُمَا بِمَعْزِلٍ، كَمَا تَقُولُ: لَيْسَ لِفُلَانٍ ظِلٌّ إِلَّا الشَّمْسَ تُرِيدُ نَفْيَ الظِّلِّ عَلَى التَّوْكِيدِ وَثَالِثُهَا: رُوِيَ أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالَتْ: إِنَّ الضَّرِيعَ لَتَسْمَنُ عَلَيْهِ إِبِلُنَا، فَنَزَلَتْ: لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَتَعَنَّتُوا بِذَلِكَ الْكَلَامِ كَذِبًا فَيُرَدُّ قَوْلُهُمْ بِنَفْيِ السِّمَنِ وَالشِّبَعِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْدُقُوا فَيَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ طَعَامَهُمْ مِنْ ضَرِيعٍ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ ضَرِيعِكُمْ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ ضَرِيعٍ غَيْرِ مُسْمِنٍ وَلَا مُغْنٍ مِنْ جُوعٍ، قَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ فِي كُلِّ طَعَامِهِمْ أَنْ لَا يُغْنِيَ مِنْ جُوعٍ لِأَنَّ ذَلِكَ نَفْعٌ وَرَأْفَةٌ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي العقاب. [سورة الغاشية (88) : آية 8] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الْكُفَّارِ، أَتْبَعَهُ بِشَرْحِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ، فَذَكَرَ وَصْفَ أَهْلِ الثَّوَابِ أَوَّلًا، ثُمَّ وَصَفَ دَارَ الثَّوَابِ ثَانِيًا أَمَّا وَصْفُ أَهْلِ الثَّوَابِ فَبِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: فِي ظَاهِرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ناعِمَةٌ أَيْ ذَاتُ بَهْجَةٍ وَحُسْنٍ، كَقَوْلِهِ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: 24] أو متنعمة. / والثاني: في باطنهم وهو قوله تعالى: [سورة الغاشية (88) : آية 9] لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ حَمِدُوا سَعْيَهُمْ وَاجْتِهَادَهُمْ فِي الْعَمَلِ لِلَّهِ. لِمَا فَازُوا بِسَبَبِهِ مِنَ الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ كَالرَّجُلِ يَعْمَلُ الْعَمَلَ فَيُجْزَى عَلَيْهِ بِالْجَمِيلِ، وَيُظْهِرُ لَهُ مِنْهُ عَاقِبَةً مَحْمُودَةً فَيَقُولُ، مَا أَحْسَنَ مَا عَمِلْتُ، وَلَقَدْ وُفِّقْتُ لِلصَّوَابِ فِيمَا صَنَعْتُ فَيُثَنِي عَلَى عَمَلِ نَفْسِهِ وَيَرْضَاهُ وَالثَّانِي: الْمُرَادُ لِثَوَابِ سَعْيِهَا فِي الدُّنْيَا رَاضِيَةٌ إِذَا شَاهَدُوا ذَلِكَ الثَّوَابَ، وَهَذَا أَوْلَى إِذِ الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي يُشَاهِدُونَهُ مِنَ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ يَبْلُغُ حَدَّ الرِّضَا حَتَّى لَا يُرِيدُوا أَكْثَرَ مِنْهُ، وَأَمَّا وَصْفُ دَارِ الثَّوَابِ، فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهَا بِأُمُورٍ سَبْعَةٍ: أحدها قوله: [سورة الغاشية (88) : آية 10] فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10)

[سورة الغاشية (88) : آية 11]

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْعُلُوُّ فِي الْمَكَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْعُلُوُّ فِي الدَّرَجَةِ وَالشَّرَفِ وَالْمَنْقَبَةِ، أَمَّا الْعُلُوُّ فِي الْمَكَانِ فَذَاكَ لِأَنَّ الْجَنَّةَ دَرَجَاتٌ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ، قَالَ عَطَاءٌ: الدَّرَجَةُ مِثْلُ مَا بين السماء والأرض. وثانيها: قوله: [سورة الغاشية (88) : آية 11] لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: لَا تَسْمَعُ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ أَحَدُهَا: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ لَاغِيَةً بِالنَّصْبِ وَالْمُخَاطَبُ بِهَذَا الْخِطَابِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يَكُونَ لَا تَسْمَعُ يَا مُخَاطَبَ فِيهَا لَاغِيَةً، وَهَذَا يُفِيدُ السَّمَاعَ فِي الْخِطَابِ كَقَوْلِهِ: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ [الْإِنْسَانِ: 20] وَقَوْلِهِ: إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ [الْإِنْسَانِ: 19] وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هذه التاء عائدة إلى وُجُوهٌ [الغاشية: 8] ، وَالْمَعْنَى لَا تَسْمَعُ الْوُجُوهُ فِيهَا لَاغِيَةً وَثَانِيهَا: قَرَأَ نَافِعٌ بِالتَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ مَرْفُوعَةً عَلَى التَّأْنِيثِ لَاغِيَةٌ بِالرَّفْعِ وَثَالِثُهَا: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو لَا يُسْمَعُ بِالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتُ مَضْمُومَةً عَلَى التَّذْكِيرِ لَاغِيَةٌ بِالرَّفْعِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الْمُؤَنَّثِ إِذَا تَقَدَّمَ فِعْلُهُ. وَكَانَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالِاسْمِ حَائِلٌ حَسُنَ التَّذْكِيرُ، قَالَ الشَّاعِرُ: إن امرءا غَرَّهُ مِنْكُنَّ وَاحِدَةٌ ... بَعْدِي وَبَعْدَكِ فِي الدُّنْيَا لَمَغْرُورُ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّاغِيَةِ اللَّغْوُ فَالتَّأْنِيثُ عَلَى اللَّفْظِ وَالتَّذْكِيرُ عَلَى الْمَعْنَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِأَهْلِ اللُّغَةِ فِي قَوْلِهِ: لاغِيَةً ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُقَالُ: لَغَا يَلْغُو لَغْوًا وَلَاغِيَةً، فَاللَّاغِيَةُ وَاللَّغْوُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الْوَجْهُ بقوله سبحانه: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً [مريم: 62] ، وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ صِفَةً وَالْمَعْنَى لَا يَسْمَعُ كَلِمَةً لَاغِيَةً وَثَالِثُهَا: قَالَ الْأَخْفَشُ: لَاغِيَةً أَيْ كلمة ذات لغو كما تقول: فارس ودارس لِصَاحِبِ الْفَرَسِ وَالدِّرْعِ، وَأَمَّا أَهْلُ التَّفْسِيرِ فَلَهُمْ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْجَنَّةَ مُنَزَّهَةٌ عَنِ اللَّغْوِ لِأَنَّهَا مَنْزِلُ جِيرَانِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا نَالُوهَا بِالْجِدِّ وَالْحَقِّ لَا بِاللَّغْوِ وَالْبَاطِلِ، وَهَكَذَا كُلُّ مَجْلِسٍ فِي الدُّنْيَا شَرِيفٌ مُكَرَّمٌ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُبَرَّأً عَنِ اللَّغْوِ وَكُلُّ مَا كَانَ أَبْلَغَ فِي هَذَا كَانَ أَكْثَرَ جَلَالَةً، هَذَا مَا قَرَّرَهُ الْقَفَّالُ وَالثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ لَا يَتَكَلَّمُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَّا بِالْحِكْمَةِ/ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ الدَّائِمِ وَالثَّالِثُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُرِيدُ لَا تَسْمَعُ فِيهَا كَذِبًا وَلَا بُهْتَانًا وَلَا كُفْرًا بِاللَّهِ وَلَا شَتْمًا وَالرَّابِعُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: لَا يَسْمَعُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ الْحَلِفَ عِنْدَ شَرَابٍ كَمَا يَحْلِفُ أَهْلُ الدُّنْيَا إِذَا شَرِبُوا الْخَمْرَ وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ مَا قَرَّرَهُ الْقَفَّالُ الْخَامِسُ: قَالَ الْقَاضِي: اللَّغْوُ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى نَفَى عَنْهُمْ ذَلِكَ وَيَنْدَرِجُ فِيهِ مَا يُؤْذِي سامعه على طريق الأولى. الصفة الثالثة للجنة: قوله تعالى: [سورة الغاشية (88) : آية 12] فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: يُرِيدُ عُيُونًا فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ كَقَوْلِهِ: عَلِمَتْ نَفْسٌ [التكوير: 14] قَالَ الْقَفَّالُ: فِيهَا عَيْنُ شَرَابٍ جَارِيَةٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فِي غَيْرِ أُخْدُودٍ وَتَجْرِي لَهُمْ كَمَا أَرَادُوا، قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا أَدْرِي بِمَاءٍ أو غيره. الصفة الرابعة: قوله تعالى:

[سورة الغاشية (88) : آية 13]

[سورة الغاشية (88) : آية 13] فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) أَيْ عَالِيَةٌ فِي الْهَوَاءِ وَذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ يَرَى الْمُؤْمِنَ إِذَا جَلَسَ عَلَيْهَا جَمِيعَ مَا أَعْطَاهُ رَبُّهُ فِي الْجَنَّةِ مِنَ النَّعِيمِ وَالْمُلْكِ، وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ: بَلَغَنَا أَنَّهَا بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ فَيَرْتَفِعُ مَا شَاءَ اللَّهُ فَإِذَا جَاءَ وَلِيُّ اللَّهِ لِيَجْلِسَ عَلَيْهَا تَطَامَنَتْ لَهُ فَإِذَا اسْتَوَى عَلَيْهَا ارْتَفَعَتْ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَيْضًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَا كَانَ أَعْظَمَ فِي سُرُورِ الْمُكَلَّفِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ سُرُرٌ أَلْوَاحُهَا مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٌ بِالزَّبَرْجَدِ وَالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ مُرْتَفِعَةٌ فِي السَّمَاءِ. الصفة الخامسة: قوله تعالى: [سورة الغاشية (88) : آية 14] وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) الْأَكْوَابُ الْكِيزَانُ الَّتِي لَا عُرَى لَهَا قَالَ قَتَادَةُ: فَهِيَ دُونُ الْأَبَارِيقِ. وَفِي قَوْلِهِ: مَوْضُوعَةٌ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِأَهْلِهَا كَالرَّجُلِ يَلْتَمِسُ مِنَ الرَّجُلِ شَيْئًا فَيَقُولُ هُوَ هاهنا مَوْضُوعٌ بِمَعْنَى مُعَدٍّ وَثَانِيهَا: مَوْضُوعَةٌ عَلَى حَافَّاتِ الْعُيُونِ الْجَارِيَةِ كُلَّمَا أَرَادُوا الشُّرْبَ وَجَدُوهَا مَمْلُوءَةً من الشرب وَثَالِثُهَا: مَوْضُوعَةٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ لِاسْتِحْسَانِهِمْ إِيَّاهَا بِسَبَبِ كَوْنِهَا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ مِنْ جَوْهَرٍ، وَتَلَذُّذِهِمْ بِالشَّرَابِ مِنْهَا وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَوْضُوعَةً عَنْ حَدِّ الْكِبَرِ أَيْ هِيَ أَوْسَاطٌ بَيْنَ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ كَقَوْلِهِ: قَدَّرُوها تَقْدِيراً. [الإنسان: 16] . الصفة السادسة: قوله تعالى: [سورة الغاشية (88) : آية 15] وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) النَّمَارِقُ هِيَ الْوَسَائِدُ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ وَاحِدُهَا نُمْرُقَةٌ بِضَمِّ النُّونِ، وَزَادَ الْفَرَّاءُ سَمَاعًا عَنِ الْعَرَبِ نِمْرِقَةً بِكَسْرِ النُّونِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَسَائِدُ مَصْفُوفَةٌ بَعْضُهَا إِلَى جَانِبِ بَعْضٍ أَيْنَمَا أَرَادَ أَنْ يَجْلِسَ جَلَسَ عَلَى وَاحِدَةٍ وَاسْتَنَدَ إِلَى أُخْرَى. الصِّفَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: [سورة الغاشية (88) : آية 16] وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) يَعْنِي الْبُسُطَ وَالطَّنَافِسَ وَاحِدُهَا زِرْبِيَّةٌ وَزِرْبِيٌّ بِكَسْرِ الزَّايِ فِي قَوْلِ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَتَفْسِيرُ مَبْثُوثَةٌ مَبْسُوطَةٌ مَنْشُورَةٌ أَوْ مُفَرَّقَةٌ في المجالس. [سورة الغاشية (88) : آية 17] أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ بِمَجِيءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَسَّمَ أَهْلَ الْقِيَامَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ الْأَشْقِيَاءِ وَالسُّعَدَاءِ وَوَصَفَ أَحْوَالَ الْفَرِيقَيْنِ وَعُلِمَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِ ذَلِكَ إِلَّا بِوَاسِطَةِ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ، لَا جَرَمَ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ فَقَالَ: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ الْمَعَادِ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ، وَمَتَى ثَبَتَ ذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ الْمَعَادِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْجِسْمِيَّةِ فَاخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِالْوَصْفِ الَّذِي لِأَجْلِهِ امْتَازَ عَلَى الْآخَرِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وَإِيجَادِ قَادِرٍ، وَلَمَّا رَأَيْنَا هَذِهِ الْأَجْسَامَ مَخْلُوقَةً عَلَى وَجْهِ الْإِتْقَانِ وَالْإِحْكَامِ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الصَّانِعَ عَالِمٌ، وَلَمَّا عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الصَّانِعَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِخَلْقِهِ فِي نَعْتِ الْحَاجَةِ وَالْحُدُوثِ وَالْإِمْكَانِ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَنِيٌّ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى

أَنَّ لِلْعَالَمِ صَانِعًا قَادِرًا عَالِمًا غَنِيًّا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي غَايَةِ الْحِكْمَةِ، ثُمَّ إِنَّا نَرَى النَّاسَ بَعْضَهُمْ مُحْتَاجًا إِلَى الْبَعْضِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْوَاحِدَ لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِمُهِمَّاتِ نَفْسِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بَلْدَةٍ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا مَشْغُولًا بِمُهِمٍّ آخَرَ «1» حَتَّى يتنظم مِنْ مَجْمُوعِهِمْ مَصْلَحَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ الِانْتِظَامُ لَا يَحْسُنُ إِلَّا مَعَ التَّكْلِيفِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَخَلْقِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَثَبَتَ أَنَّ إِقَامَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى الصَّانِعِ الْحَكِيمِ تُوجِبُ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ اللَّهُ دَلَالَةَ التَّوْحِيدِ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ مُجَانَسَةٍ بَيْنَ الْإِبِلِ وَالسَّمَاءِ وَالْجِبَالِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ لِمَ بَدَأَ بِذِكْرِ الْإِبِلِ؟ قُلْنَا فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ مُتَسَاوِيَةٌ فِي هَذِهِ الدَّلَالَةِ وَذِكْرَ جَمِيعِهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ لِكَثْرَتِهَا وَأَيُّ وَاحِدٍ مِنْهَا ذُكِرَ دُونَ غَيْرِهِ كَانَ هَذَا السُّؤَالُ عَائِدًا، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِسُقُوطِ هَذَا السُّؤَالِ عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ، وَأَيْضًا فَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُتَنَاسِبَةٍ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي الْكُلِّ عَلَى مَا قَالَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 44] وَلَوْ ذَكَرَ غَيْرَهَا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أُمُورًا غَيْرَ مُتَنَاسِبَةٍ بَلْ مُتَبَاعِدَةً جِدًّا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَجْسَامِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا حَسَنِهَا وَقَبِيحِهَا مُتَسَاوِيَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصَّانِعِ الْحَكِيمِ، فَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ مَعْقُولٌ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ نُبَيِّنَ مَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْخَوَاصِّ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَاجَةِ إِلَى الصَّانِعِ الْمُدَبِّرِ، ثُمَّ نُبَيِّنَ أَنَّهُ كَيْفَ يُجَانِسُ بَعْضُهَا بَعْضًا. أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ الْإِبِلُ لَهُ خَوَاصٌّ مِنْهَا أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْحَيَوَانَ الَّذِي يُقْتَنَى أَصْنَافًا شَتَّى فَتَارَةً يُقْتَنَى لِيُؤْكَلَ لَحْمُهُ وَتَارَةً لِيُشْرَبَ لَبَنُهُ وَتَارَةً لِيَحْمِلَ الْإِنْسَانَ فِي الْأَسْفَارِ وَتَارَةً/ لِيَنْقُلَ أَمْتِعَةَ الْإِنْسَانِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَتَارَةً لِيَكُونَ لَهُ بِهِ زِينَةٌ وَجَمَالٌ وَهَذِهِ الْمَنَافِعُ بِأَسْرِهَا حَاصِلَةٌ فِي الْإِبِلِ، وَقَدْ أَبَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ [يس: 71، 72] ، قال: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [النَّحْلِ: 5- 7] وَإِنَّ شَيْئًا مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ لَا يَجْتَمِعُ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ فَكَانَ اجْتِمَاعُ هَذِهِ الْخِصَالِ فِيهِ مِنَ الْعَجَائِبِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ أَفْضَلُ مِنَ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يُوجَدُ فِيهِ إِلَّا تِلْكَ الْخَصْلَةُ لِأَنَّهَا إِنْ جُعِلَتْ حَلُوبَةً سَقَتْ فَأَرْوَتِ الْكَثِيرَ، وَإِنْ جُعِلَتْ أَكُولَةً أَطْعَمَتْ وَأَشْبَعَتِ الْكَثِيرَ، وَإِنْ جُعِلَتْ رَكُوبَةً أَمْكَنَ أَنْ يُقْطَعَ بِهَا مِنَ الْمَسَافَاتِ الْمَدِيدَةِ مَا لَا يُمْكِنُ قَطْعُهُ بِحَيَوَانٍ آخَرَ، وَذَلِكَ لِمَا رُكِّبَ فِيهَا مِنْ قُوَّةِ احْتِمَالِ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى السَّيْرِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْعَطَشِ وَالِاجْتِزَاءِ مِنَ الْعُلُوفَاتِ بِمَا لَا يَجْتَزِئُ حَيَوَانٌ آخَرُ، وَإِنْ جُعِلَتْ حَمَلَةً اسْتُغِلَّتْ بِحَمْلِ الْأَحْمَالِ الثَّقِيلَةِ الَّتِي لَا يَسْتَقِلُّ بِهَا سِوَاهَا، وَمِنْهَا أَنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ كَانَ أَعْظَمَ الْحَيَوَانَاتِ وَقْعًا فِي قَلْبِ الْعَرَبِ وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا دِيَةَ قَتْلِ الْإِنْسَانِ إِبِلًا، وَكَانَ الْوَاحِدُ مِنْ مُلُوكِهِمْ إِذَا أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي إِعْطَاءِ الشَّاعِرِ الَّذِي جَاءَهُ مِنَ الْمَكَانِ الْبَعِيدِ أَعْطَاهُ مِائَةَ بَعِيرٍ، لِأَنَّ امْتِلَاءَ الْعَيْنِ مِنْهُ أَشَدُّ مِنِ امْتِلَاءِ الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْلِ: 6] وَمِنْهَا أَنِّي كُنْتُ مَعَ جَمَاعَةٍ فِي مَفَازَةٍ فَضَلَلْنَا الطَّرِيقَ فقدموا جملا وتبعوه فكان

_ (1) هكذا في الأصل، ولعله سقط شيء وصوابه: بل لا بد في كل بلدة أن يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا مَشْغُولًا بِمُهِمٍّ وغيره مشغولا بمهم آخر.

[سورة الغاشية (88) : آية 18]

ذَلِكَ الْجَمَلُ يَنْعَطِفُ مِنْ تَلٍّ إِلَى تَلٍّ وَمِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ وَالْجَمِيعُ كَانُوا يَتْبَعُونَهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الطَّرِيقِ بَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ فَتَعَجَّبْنَا مِنْ قُوَّةِ تَخَيُّلِ ذَلِكَ بِالْحَيَوَانِ أَنَّهُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ كَيْفَ انْحَفَظَتْ فِي خَيَالِهِ صُورَةُ تلك المعاطف حتى أن الذين عَجَزَ جَمْعٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ إِلَى الِاهْتِدَاءِ إِلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْحَيَوَانَ اهْتَدَى إِلَيْهِ، وَمِنْهَا أَنَّهَا مَعَ كَوْنِهَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ عَلَى الْعَمَلِ مُبَايِنَةٌ لِغَيْرِهَا فِي الِانْقِيَادِ وَالطَّاعَةِ لِأَضْعَفِ الْحَيَوَانَاتِ كَالصَّبِيِّ الصَّغِيرِ، وَمُبَايَنَةٌ لِغَيْرِهَا أَيْضًا فِي أَنَّهَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا وَهِيَ بَارِكَةٌ ثُمَّ تَقُومُ، فَهَذِهِ الصِّفَاتُ الْكَثِيرَةُ الْمَوْجُودَةُ فِيهَا تُوجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَنْظُرَ فِي خِلْقَتِهَا وَتَرْكِيبِهَا وَيَسْتَدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ إِنَّ الْعَرَبَ مِنْ أَعْرِفِ النَّاسِ بِأَحْوَالِ الْإِبِلِ فِي صِحَّتِهَا وَسَقَمِهَا وَمَنَافِعِهَا وَمَضَارِّهَا فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ حَسُنَ مِنَ الْحَكِيمِ تَعَالَى أَنْ يَأْمُرَ بِالتَّأَمُّلِ فِي خلقتها. ثم قال تعالى: [سورة الغاشية (88) : آية 18] وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) أَيْ رَفْعًا بَعِيدَ المدى بلا إمساك وبغير عمد. [سورة الغاشية (88) : آية 19] وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) نَصْبًا ثَابِتًا فَهِيَ راسخة لا تميل ولا تزول. [سورة الغاشية (88) : آية 20] وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) سَطْحًا بِتَمْهِيدٍ وَتَوْطِئَةٍ، فَهِيَ مِهَادٌ لِلْمُتَقَلِّبِ عَلَيْهَا، وَمِنَ/ النَّاسِ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ بِكُرَةٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْكُرَةَ إِذَا كَانَتْ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ يَكُونُ كُلُّ قِطْعَةٍ مِنْهَا كَالسَّطْحِ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَيْفَ خَلَقْتُ وَرَفَعْتُ وَنَصَبْتُ وَسَطَحْتُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَتَاءُ الضَّمِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ فَعَلْتُهَا، فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ. الْمَقَامُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ مَا بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ اعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ فَسَّرَ الْإِبِلَ بِالسَّحَابِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَلَعَلَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ الْإِبِلَ مِنْ أَسْمَاءِ السَّحَابِ، كَالْغَمَامِ وَالْمُزْنِ وَالرَّبَابِ وَالْغَيْمِ وَالْغَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا رَأَى السَّحَابَ مُشَبَّهًا بِالْإِبِلِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَشْعَارِهِمْ، فَجَوَّزَ أَنْ يُرَادَ بِهَا السَّحَابُ عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ وَالْمَجَازِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمُنَاسِبَةُ ظَاهِرَةٌ. أَمَّا إِذَا حَمَلْنَا الْإِبِلَ عَلَى مَفْهُومِهِ الْمَشْهُورِ، فَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّمَاءِ وَالْجِبَالِ وَالْأَرْضِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ وَكَانُوا يُسَافِرُونَ كَثِيرًا، لِأَنَّ بَلْدَتَهُمْ بَلْدَةٌ خَالِيَةٌ مِنَ الزَّرْعِ، وَكَانَتْ أَسْفَارُهُمْ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ عَلَى الْإِبِلِ، فَكَانُوا كَثِيرًا مَا يَسِيرُونَ عَلَيْهَا فِي الْمَهَامِهِ وَالْقِفَارِ مُسْتَوْحِشِينَ مُنْفَرِدِينَ عَنِ النَّاسِ، وَمِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ إِذَا انْفَرَدَ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى التَّفَكُّرِ فِي الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ مَنْ يُحَادِثُهُ، وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ يُشْغِلُ بِهِ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ أَنْ يُشْغِلَ بَالَهُ بِالْفِكْرَةِ، فَإِذَا فَكَّرَ فِي ذَلِكَ الْحَالِ وَقَعَ بَصَرُهُ أَوَّلَ الْأَمْرِ عَلَى الْجَمَلِ الَّذِي رَكِبَهُ، فَيَرَى مَنْظَرًا عَجِيبًا، وَإِذَا نَظَرَ إِلَى فَوْقُ لَمْ يَرَ غَيْرَ السَّمَاءِ، وَإِذَا نَظَرَ يَمِينًا وَشِمَالًا لَمْ يَرَ غَيْرَ الْجِبَالِ، وَإِذَا نَظَرَ إِلَى مَا تَحْتُ لَمْ يَرَ غَيْرَ الْأَرْضِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِالنَّظَرِ وَقْتَ الْخَلْوَةِ وَالِانْفِرَادِ عَنِ الْغَيْرِ حَتَّى لَا تَحْمِلَهُ دَاعِيَةُ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ عَلَى تَرْكِ النَّظَرِ، ثُمَّ إِنَّهُ فِي وَقْتِ الْخَلْوَةِ فِي الْمَفَازَةِ الْبَعِيدَةِ لَا يَرَى شَيْئًا سِوَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَلَا جَرَمَ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ دَالَّةٌ عَلَى الصَّانِعِ إِلَّا أَنَّهَا عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهَا مَا يَكُونُ للحكمة

[سورة الغاشية (88) : آية 21]

وَلِلشَّهْوَةِ فِيهَا نَصِيبٌ مَعًا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ لِلْحِكْمَةِ فِيهَا نَصِيبٌ، وَلَيْسَ لِلشَّهْوَةِ فِيهَا نَصِيبٌ. والقسم الأول: كالإنسان الحسن الوجه، والبساتين النُّزْهَةِ، وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهَا، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى الصَّانِعِ الْحَكِيمِ، إِلَّا أَنَّهَا مُتَعَلَّقُ الشَّهْوَةِ وَمَطْلُوبَةٌ لِلنَّفْسِ، فَلَمْ يَأْمُرْ تَعَالَى بِالنَّظَرِ فِيهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ عِنْدَ النَّظَرِ إِلَيْهَا وَفِيهَا أَنْ تَصِيرَ دَاعِيَةُ الشَّهْوَةِ غَالِبَةً عَلَى دَاعِيَةِ الْحِكْمَةِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ مَانِعًا عَنْ إِتْمَامِ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ وَسَبَبًا لِاسْتِغْرَاقِ النَّفْسِ فِي مَحَبَّتِهِ. أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَهُوَ كَالْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا يَكُونُ فِي صُورَتِهَا حُسْنٌ، وَلَكِنْ يَكُونُ داعية تركيبها حكم باللغة وَهِيَ مِثْلُ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا، إِلَّا أَنَّ ذِكْرَ الإبل هاهنا أَوْلَى لِأَنَّ إِلْفَ الْعَرَبِ بِهَا أَكْثَرُ وَكَذَا السَّمَاءُ وَالْجِبَالُ وَالْأَرْضُ، فَإِنَّ دَلَائِلَ الْحُدُوثِ وَالْحَاجَةِ فِيهَا ظَاهِرَةٌ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَكُونُ نَصِيبًا لِلشَّهْوَةِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْقِسْمُ بِحَيْثُ يَكْمُلُ نَصِيبُ الْحِكْمَةِ فِيهِ مَعَ الْأَمْنِ مِنْ زَحْمَةِ الشَّهْوَةِ لَا جَرَمَ أَمَرَ اللَّهُ بِالتَّدَبُّرِ فِيهَا فَهَذَا مَا يَحْضُرُنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَبِاللَّهِ التوفيق. [سورة الغاشية (88) : آية 21] فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الدَّلَائِلَ عَلَى صِحَّةِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ، قَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ وَتَذْكِيرُ الرَّسُولِ إِنَّمَا يَكُونُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ وَأَمْثَالِهَا وَالْبَعْثِ عَلَى النَّظَرِ فِيهَا وَالتَّحْذِيرِ مِنْ تَرْكِ تِلْكَ، وَذَلِكَ بَعْثٌ مِنْهُ تَعَالَى لِلرَّسُولِ عَلَى التَّذْكِيرِ وَالصَّبْرِ عَلَى كُلِّ عَارِضٍ مَعَهُ، وَبَيَانِ أَنَّهُ إِنَّمَا بُعِثَ لِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، فَلِهَذَا قَالَ: إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. [سورة الغاشية (88) : آية 22] لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) قال صاحب «الكشاف» : بِمُصَيْطِرٍ بِمُسَلَّطٍ، كَقَوْلِهِ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق: 45] وَقَوْلِهِ: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يُونُسَ: 99] وَقِيلَ: هُوَ فِي لُغَةِ تَمِيمٍ مَفْتُوحُ الطَّاءِ عَلَى أَنَّ سَيْطَرَ مُتَعَدٍّ عِنْدَهُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّكَ مَا أُمِرْتَ إِلَّا بِالتَّذْكِيرِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُسَلَّطًا عَلَيْهِمْ حَتَّى تَقْتُلَهُمْ، أَوْ تُكْرِهَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ فَلَا، قَالُوا: ثُمَّ نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ، هَذَا قَوْلُ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَالْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَرْفِ قَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطور: 37] . أما قوله تعالى: [سورة الغاشية (88) : الآيات 23 الى 24] إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) فَفِيهِ مَسَائِلُ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ، وَعَلَى هَذَا التقدير هذا الاستثناء، استثناء عما ذا؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ التَّقْدِيرُ: فَذَكِّرْ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ عن الضمير في عَلَيْهِمْ [الغاشية: 22] وَالتَّقْدِيرُ: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ حِينَئِذٍ مَأْمُورًا بِالْقِتَالِ وَجَوَابُهُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّكَ لا تصبر مُسَلَّطًا إِلَّا عَلَى مَنْ تَوَلَّى الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، كَمَا تَقُولُ في الكلام: قعدنا نتذكر الْعِلْمَ، إِلَّا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَا يرغب، فكذا هاهنا التقدير لست

[سورة الغاشية (88) : الآيات 25 إلى 26]

بِمَسْئُولٍ عَلَيْهِمْ، لَكِنَّ مَنْ تَوَلَّى مِنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ الَّذِي هُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ، قَالُوا وَعَلَامَةُ كَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا حُسْنُ دُخُولِ أَنَّ فِي الْمُسْتَثْنَى، وَإِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا لَمْ يَحْسُنْ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: عِنْدِي مِائَتَانِ إِلَّا دِرْهُمًا، فَلَا تَدْخُلُ عليه أن، وهاهنا يَحْسُنُ أَنَّ، فَإِنَّكَ تَقُولُ: إِلَّا أَنَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: (أَلَا مَنْ تَوَلَّى) عَلَى التَّنْبِيهِ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (فَإِنَّهُ يُعَذِّبُهُ) . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا سَمَّاهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ حَدَّ عَذَابِ الْكُفْرِ وَهُوَ الْأَكْبَرُ، لِأَنَّ مَا عَدَاهُ مِنْ عَذَابِ الْفِسْقِ دُونَهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ [السَّجْدَةِ: 21] ، وَثَانِيهَا: هُوَ الْعَذَابُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ فِي النَّارِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَدْ/ يَكُونُ الْعَذَابُ الْأَكْبَرُ حَاصِلًا فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ بالقتل وسبي الذرية وغنيمة الأموال والقول الأول أولى وأقرب. ثم قال تعالى: [سورة الغاشية (88) : الآيات 25 الى 26] إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) وَهَذَا كَأَنَّهُ مِنْ صِلَةِ قَوْلِهِ: فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ [الغاشية: 24] وَإِنَّمَا ذَكَرَ تَعَالَى ذَلِكَ لِيُزِيلَ بِهِ عَنْ قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُزْنَهُ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَقَالَ: طِبْ نَفْسًا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ عَانَدُوا وَكَذَّبُوا وَجَحَدُوا فَإِنَّ مَرْجِعَهُمْ إِلَى الْمَوْعِدِ الَّذِي وَعَدْنَا، فَإِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ مُحَاسَبَةَ الْكُفَّارِ إِنَّمَا تَكُونُ لِإِيصَالِ الْعِقَابِ إِلَيْهِمْ وَذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّ نَفْسِهِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ إِمَّا بِحُكْمِ الْوَعْدِ الَّذِي يَمْتَنِعُ وُقُوعُ الْخُلْفِ فِيهِ، وَإِمَّا فِي الْحِكْمَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْتَقِمْ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ لَكَانَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِكَوْنِهِ تَعَالَى رَاضِيًا بِذَلِكَ الظُّلْمِ وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ، فَلِهَذَا السبب كانت المحاسبة واجبة وهاهنا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ: إِيابَهُمْ بِالتَّشْدِيدِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَجْهُهُ أَنْ يكون فيعالا مصدره أَيَّبَ فَيْعَلَ مِنَ الْإِيَابِ، أَوْ يَكُونُ أَصْلُهُ أَوَّابًا فَعَّالًا مِنْ أَوَّبَ، ثُمَّ قِيلَ: إِيوَابًا كَدِيوَانٍ فِي دَوَنَ، ثُمَّ فُعِلَ بِهِ مَا فُعِلَ بِأَصْلِ سَيَدَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَائِدَةُ تَقْدِيمِ الظَّرْفِ التَّشْدِيدُ بِالْوَعِيدِ، فَإِنَّ إِيابَهُمْ لَيْسَ إِلَّا إِلَى الْجَبَّارِ الْمُقْتَدِرِ عَلَى الِانْتِقَامِ، وَأَنَّ حِسَابَهُمْ لَيْسَ بِوَاجِبٍ إِلَّا عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي يُحَاسِبُ عَلَى النَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة الفجر

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة الفجر ثلاثون آية مكية [سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِيهَا إِمَّا فَائِدَةٌ دِينِيَّةٌ مِثْلُ كَوْنِهَا دَلَائِلَ بَاهِرَةً عَلَى التَّوْحِيدِ، أَوْ فَائِدَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ تُوجِبُ بَعْثًا عَلَى الشُّكْرِ، أَوْ مَجْمُوعُهُمَا، وَلِأَجْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ اخْتِلَافًا شَدِيدًا، فَكُلُّ أَحَدٍ فَسَّرَهُ بِمَا رَآهُ أَعْظَمَ دَرَجَةً فِي الدِّينِ، وَأَكْثَرَ مَنْفَعَةً فِي الدُّنْيَا. أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْفَجْرِ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْفَجْرَ هُوَ الصُّبْحُ الْمَعْرُوفُ، فَهُوَ انْفِجَارُ الصُّبْحِ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ، أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنِ انْقِضَاءِ اللَّيْلِ وَظُهُورِ الضَّوْءِ، وَانْتِشَارِ النَّاسِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ مِنَ الطَّيْرِ وَالْوُحُوشِ فِي طَلَبِ الْأَرْزَاقِ، وَذَلِكَ مُشَاكِلٌ لِنُشُورِ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ، وَفِيهِ عِبْرَةٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ [الْمُدَّثِّرِ: 34] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التكوير: 18] وتمدح فِي آيَةٍ أُخْرَى بِكَوْنِهِ خَالَقًا لَهُ، فَقَالَ: فالِقُ الْإِصْباحِ [الْأَنْعَامِ: 96] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِهِ جَمِيعُ النَّهَارِ إِلَّا أَنَّهُ دَلَّ بِالِابْتِدَاءِ عَلَى الْجَمِيعِ، نَظِيرُهُ: وَالضُّحى [الضُّحَى: 1] وَقَوْلُهُ: وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [الليل: 2] وثانيها: أن المراد نفسه صَلَاةِ الْفَجْرِ وَإِنَّمَا أَقْسَمَ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ فِي مُفْتَتَحِ النَّهَارِ وَتَجْتَمِعُ لَهَا مَلَائِكَةُ النَّهَارِ وَمَلَائِكَةُ اللَّيْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الْإِسْرَاءِ: 78] أي تشهده مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ الْقِرَاءَةَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ فَجْرُ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّهُ فَجْرُ يَوْمِ النَّحْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَمْرَ الْمَنَاسِكِ مِنْ خَصَائِصِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ لَا تَدَعُ الْحَجَّ وَهُوَ يَوْمٌ عَظِيمٌ يَأْتِي الْإِنْسَانُ فِيهِ بِالْقُرْبَانِ كَأَنَّ الْحَاجَّ يُرِيدُ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِذَبْحِ نَفْسِهِ، فَلَمَّا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَدَى نَفْسَهُ بِذَلِكَ الْقُرْبَانِ، / كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصَّافَّاتِ: 107] الثَّانِي: أَرَادَ فَجْرَ ذِي الْحِجَّةِ

لِأَنَّهُ قَرَنَ بِهِ قَوْلَهُ: وَلَيالٍ عَشْرٍ وَلِأَنَّهُ أَوَّلُ شَهْرِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْمُعَظَّمَةِ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ فَجْرُ الْمُحَرَّمِ، أَقْسَمَ بِهِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ وَعِنْدَ ذَلِكَ يُحْدِثُ أُمُورًا كَثِيرَةً مِمَّا يَتَكَرَّرُ بِالسِّنِينَ كَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَاسْتِئْنَافِ الْحِسَابِ بِشُهُورِ الْأَهِلَّةِ، وَفِي الْخَبَرِ «أَنَّ أَعْظَمَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ» ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: فَجْرُ السَّنَةِ هُوَ الْمُحَرَّمُ فَجَعَلَ جُمْلَةَ الْمُحَرَّمِ فَجْرًا وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ عَنَى بِالْفَجْرِ الْعُيُونَ الَّتِي تَنْفَجِرُ مِنْهَا الْمِيَاهُ، وَفِيهَا حَيَاةُ الْخَلْقِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَيالٍ عَشْرٍ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا جَاءَتْ مُنْكَّرَةً مِنْ بَيْنِ مَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ لِأَنَّهَا لَيَالٍ مَخْصُوصَةٌ بِفَضَائِلَ لَا تَحْصُلُ فِي غَيْرِهَا وَالتَّنْكِيرُ دَالٌّ عَلَى الْفَضِيلَةِ الْعَظِيمَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهَا عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ لِأَنَّهَا أَيَّامُ الِاشْتِغَالِ بِهَذَا النُّسْكِ فِي الْجُمْلَةِ، وَفِي الْخَبَرِ مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ وَثَانِيهَا: أَنَّهَا عَشْرُ الْمُحَرَّمِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، وَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى شَرَفِ تِلْكَ الْأَيَّامِ، وَفِيهَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلِصَوْمِهِ مِنَ الْفَضْلِ مَا وَرَدَ بِهِ الْأَخْبَارُ وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا لِشَرَفِهَا وَفِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، إِذْ فِي الْخَبَرِ «اطْلُبُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ» ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ مِنْ رَمَضَانَ شَدَّ الْمِئْزَرَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ أَيْ كَفَّ عَنِ الْجِمَاعِ وَأَمَرَ أَهْلَهُ بِالتَّهَجُّدِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الشَّفْعُ وَالْوَتْرُ، هُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الْخَسَا وَالزَّكَا وَالْعَامَّةُ الزَّوْجَ وَالْفَرْدَ، قَالَ يُونُسُ: أَهِلُ الْعَالِيَةِ يَقُولُونَ الْوَتْرُ بِالْفَتْحِ فِي الْعَدَدِ وَالْوِتْرُ بِالْكَسْرِ فِي الذَّحْلِ وَتَمِيمٌ تَقُولُ وِتَرٌ بِالْكَسْرِ فِيهِمَا مَعًا، وَتَقُولُ أَوْتَرْتُهُ أُوتِرُهُ إِيتَارًا أَيْ جَعَلْتُهُ وَتْرًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ» وَالْكَسْرُ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَالْأَعْمَشِ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْفَتْحُ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهِيَ لُغَةٌ حِجَازِيَّةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اضْطَرَبَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَأَكْثَرُوا فِيهِ، وَنَحْنُ نَرَى مَا هُوَ الْأَقْرَبُ أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّفْعَ يَوْمُ النَّحْرِ وَالْوَتْرَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَإِنَّمَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِمَا لِشَرَفِهِمَا أَمَّا يَوْمُ عَرَفَةَ فَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ يَدُورُ أَمْرُ الْحَجِّ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «الْحَجُّ عَرَفَةُ» ، وَأَمَّا يَوْمُ النَّحْرِ فَيَقَعُ فِيهِ الْقُرْبَانُ وَأَكْثَرُ أُمُورِ الْحَجِّ مِنَ الطَّوَافِ الْمَفْرُوضِ، وَالْحَلْقِ وَالرَّمْيِ، وَيُرْوَى «يَوْمُ النَّحْرِ هُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ» فَلَمَّا اخْتُصَّ هَذَانِ الْيَوْمَانِ بِهَذِهِ الْفَضَائِلِ لَا جَرَمَ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِمَا وَثَانِيهَا: أَنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ بَقِيَّةِ أَعْمَالِ الْحَجِّ فَهِيَ أَيَّامٌ شَرِيفَةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [الْبَقَرَةِ: 203] وَالشَّفْعُ هُوَ يَوْمَانِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، الْوَتْرُ هُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ قَالَ: حَمْلُ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ عَلَى هَذَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِمَا عَلَى الْعِيدِ وَعَرَفَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعِيدَ وَعَرَفَةَ دَخَلَا فِي الْعَشْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ غَيْرَهُمَا الثَّانِي: أَنَّ بَعْضَ أَعْمَالِ الْحَجِّ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا يُفِيدُ الْقَسَمَ بِجَمِيعِ أَيَّامِ أَعْمَالِ الْمَنَاسِكِ وَثَالِثُهَا: الْوَتْرُ آدَمُ شُفِّعَ بِزَوْجَتِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى الشَّفْعُ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَالْوَتْرُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَابِعُهَا: الْوَتْرُ مَا كَانَ وَتْرًا مِنَ الصَّلَوَاتِ كَالْمَغْرِبِ وَالشَّفْعُ مَا كَانَ شَفْعًا مِنْهَا، رَوَى عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «هِيَ الصَّلَوَاتُ مِنْهَا شَفْعٌ وَمِنْهَا وَتْرٌ» وَإِنَّمَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَالِيَةٌ لِلْإِيمَانِ، وَلَا يَخْفَى قَدْرُهَا وَمَحَلُّهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ وَخَامِسُهَا: الشَّفْعُ هُوَ الْخَلْقُ كُلُّهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ [الذَّارِيَاتِ: 49] وَقَوْلِهِ: وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً [النَّبَإِ: 8] وَالْوَتْرُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ

الْوَتْرُ هُوَ اللَّهُ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ تَقْدِيرُهُ وَرَبِّ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، فَيَجِبُ أَنْ يُرَادَ بِالْوَتْرِ الْمَرْبُوبُ فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُذْكَرُ مَعَ غَيْرِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَلْ يُعَظَّمُ ذِكْرُهُ حَتَّى يَتَمَيَّزَ مِنْ غَيْرِهِ، وَرُوِيَ أَنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَمِعَ مَنْ يَقُولُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَنَهَاهُ، وَقَالَ: «قُلِ اللَّهُ ثُمَّ رَسُولُهُ» قَالُوا: وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ» لَيْسَ بِمَقْطُوعٍ بِهِ وَسَادِسُهَا: أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ كَوْنِهِ شَفْعًا وَوَتْرًا فَكَأَنَّهُ يُقَالُ: أُقْسِمُ بِرَبِّ الْفَرْدِ وَالزَّوْجِ مِنْ خَلْقٍ فَدَخَلَ كُلُّ الْخَلْقِ تَحْتَهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لَا تُبْصِرُونَ [الْحَاقَّةِ: 38، 39] وَسَابِعُهَا: الشَّفْعُ دَرَجَاتُ الْجَنَّةِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ، وَالْوَتْرُ دَرَكَاتُ النَّارِ وَهِيَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهَا: الشَّفْعُ صِفَاتُ الْخَلْقِ كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهِيَةِ وَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، أَمَّا الْوَتْرُ فَهُوَ صِفَةُ الْحَقِّ وُجُودٌ بِلَا عَدَمٍ، حَيَاةٌ بِلَا مَوْتٍ، عِلْمٌ بِلَا جَهْلٍ، قُدْرَةٌ بِلَا عَجْزٍ، عِزٌّ بِلَا ذُلٍّ وَتَاسِعُهَا: الْمُرَادُ بِالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، نَفْسُ الْعَدَدِ فَكَأَنَّهُ أَقْسَمَ بِالْحِسَابِ الَّذِي لَا بُدَّ لِلْخَلْقِ مِنْهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابِ وَالْبَيَانِ الَّذِي مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْعِبَادِ إِذْ قَالَ: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [الْعَلَقِ: 4، 5] ، وَقَالَ: عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرَّحْمَنِ: 4] . وَكَذَلِكَ بِالْحِسَابِ، يُعْرَفُ مَوَاقِيتُ الْعِبَادَاتِ وَالْأَيَّامُ وَالشُّهُورُ، قَالَ تَعَالَى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ [الرَّحْمَنِ: 5] وَقَالَ: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ [يُونُسَ: 5] وَعَاشِرُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ الشَّفْعُ هُوَ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي وَالْوَتْرُ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي لَا لَيْلَ بَعْدَهُ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الْحَادِيَ عَشَرَ: الشَّفْعُ كُلُّ نَبِيٍّ لَهُ اسْمَانِ مِثْلُ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَالْمَسِيحِ وَعِيسَى وَيُونُسَ وَذِي النُّونِ وَالْوَتْرُ كُلُّ نَبِيٍّ لَهُ اسْمٌ وَاحِدٌ مِثْلُ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ الثَّانِيَ عَشَرَ: الشَّفْعُ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَالْوَتْرُ مَرْيَمُ الثَّالِثَ عَشَرَ: الشَّفْعُ الْعُيُونُ الِاثْنَتَا عَشْرَةَ، الَّتِي فَجَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْوَتْرُ الْآيَاتُ التِّسْعُ الَّتِي أُوتِيَ مُوسَى فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [الْإِسْرَاءِ: 101] ، الرَّابِعَ عَشَرَ: الشَّفْعُ أَيَّامُ عَادٍ وَالْوَتْرُ لَيَالِيهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الْحَاقَّةِ: 7] الْخَامِسَ عَشَرَ: الشَّفْعُ الْبُرُوجُ الِاثْنَا عَشَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الْفُرْقَانِ: 61] وَالْوَتْرُ الْكَوَاكِبُ السَّبْعَةُ السَّادِسَ عَشَرَ: الشَّفْعُ الشَّهْرُ الَّذِي يَتِمُّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَالْوَتْرُ الشَّهْرُ الَّذِي يَتِمُّ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا السَّابِعَ عَشَرَ: الشَّفْعُ الْأَعْضَاءُ وَالْوَتْرُ الْقَلْبُ، قَالَ تَعَالَى: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب: 4] ، الثَّامِنَ عَشَرَ: الشَّفْعُ الشَّفَتَانِ/ وَالْوَتْرُ اللِّسَانُ قَالَ تَعَالَى: وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ [الْبَلَدِ: 9] التَّاسِعَ عَشَرَ: الشَّفْعُ السَّجْدَتَانِ وَالْوَتْرُ الرُّكُوعُ الْعِشْرُونَ: الشَّفْعُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ لِأَنَّهَا ثَمَانِيَةٌ وَالْوَتْرُ أَبْوَابُ النَّارِ لِأَنَّهَا سَبْعَةٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ، أَنَّ الشَّفْعَ وَالْوَتْرَ أَمْرَانِ شَرِيفَانِ، أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمَا، وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مُحْتَمَلٌ، وَالظَّاهِرُ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى التَّعْيِينِ، فَإِنْ ثَبَتَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا خَبَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ إِجْمَاعٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ حُكِمَ بِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقَةِ الْجَوَازِ لَا عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ أَيْضًا: إِنِّي أَحْمِلُ الْكَلَامَ عَلَى الْكُلِّ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ تُفِيدُ الْعُمُومَ، أما قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ففيه مسائل: المسألة الأولى: إِذا يَسْرِ إِذَا يَمْضِي كَمَا قَالَ: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [الْمُدَّثِّرِ: 33] وَقَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ [التَّكْوِيرِ: 17] وَسُرَاهَا ومضيها وَانْقِضَاؤُهَا أَوْ يُقَالُ: سُرَاهَا هُوَ السَّيْرُ فِيهَا، وقال قتادة: إِذا يَسْرِ أَيْ إِذَا جَاءَ وَأَقْبَلَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ لَيْلَةً مَخْصُوصَةً بَلِ الْعُمُومَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذْ

[سورة الفجر (89) : الآيات 6 إلى 14]

أَدْبَرَ «1» وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَلِأَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ بِتَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَاخْتِلَافِ مَقَادِيرِهِمَا عَلَى الْخَلْقِ عَظِيمَةٌ، فَصَحَّ أَنْ يُقْسِمَ بِهِ لِأَنَّ فِيهِ تنبيها على أن تعاقبهما بتدبيره مُدَبِّرٍ حَكِيمٍ عَالِمٍ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هي ليلة المزدلفة فقوله: إِذا يَسْرِ أَيْ إِذَا يُسَارُ فِيهِ كَمَا يُقَالُ: لَيْلٌ نَائِمٌ لِوُقُوعِ النَّوْمِ فِيهِ، وَلَيْلٌ سَاهِرٌ لِوُقُوعِ السَّهَرِ فِيهِ، وَهِيَ لَيْلَةٌ يَقَعُ السُّرَى فِي أَوَّلِهَا عِنْدَ الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، وَفِي آخِرِهَا كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُقَدِّمُ ضَعْفَةَ أَهْلِهِ فِي هَذِهِ الليل، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: قرئ إِذا يَسْرِ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، ثُمَّ قَالَ: وَحَذْفُهَا أَحَبُّ إِلَيَّ لِأَنَّهَا فَاصِلَةٌ وَالْفَوَاصِلُ تُحْذَفُ مِنْهَا الْيَاءَاتُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهَا الْكَسْرَاتُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْعَرَبُ قَدْ تَحْذِفُ الْيَاءَ وَتَكْتَفِي بِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، وَأَنْشَدَ: كَفَّاكَ كَفٌّ مَا يُبْقِي دِرْهَمًا ... جُودًا وَأُخْرَى تُعْطِ بِالسَّيْفِ الْدَّمَا فَإِذَا جَازَ هَذَا فِي غَيْرِ الفاضلة فَهُوَ فِي الْفَاصِلَةِ أَوْلَى، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ كَانَ الِاخْتِيَارُ أَنْ تُحْذَفَ الْيَاءُ إِذَا كَانَ فِي فَاصِلَةٍ أَوْ قَافِيَةٍ، وَالْحَرْفُ مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ كَمَا أُثْبِتَ سَائِرُ الْحُرُوفِ وَلَمْ يُحْذَفْ؟ أَجَابَ أَبُو عَلِيٍّ فَقَالَ: الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفَوَاصِلَ وَالْقَوَافِيَ مَوْضِعُ وَقْفٍ وَالْوَقْفُ مَوْضِعُ تَغْيِيرٍ فَلَمَّا كَانَ الْوَقْفُ تَغَيَّرَ فِيهِ الْحُرُوفُ الصَّحِيحَةُ بِالتَّضْعِيفِ وَالْإِسْكَانِ وَرَوْمُ الْحَرَكَةِ فِيهَا غَيَّرَتْ هَذِهِ الْحُرُوفَ الْمُشَابِهَةَ لِلزِّيَادَةِ بِالْحَذْفِ، وَأَمَّا مَنْ أَثْبَتَ الْيَاءَ فِي يَسْرِي فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ فَإِنَّهُ يَقُولُ: الْفِعْلُ لَا يُحْذَفُ مِنْهُ فِي الْوَقْفِ كَمَا يُحْذَفُ فِي الْأَسْمَاءِ نَحْوَ قَاضٍ وَغَازٍ، تَقُولُ: هُوَ يَقْضِي وَأَنَا أَقْضِي فَتَثْبُتُ الْيَاءُ وَلَا تُحْذَفُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْحِجْرُ الْعَقْلُ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي كَمَا سُمِّيَ عَقْلًا وَنُهْيَةً/ لِأَنَّهُ يَعْقِلُ وَيَمْنَعُ وَحَصَاةً مِنَ الْإِحْصَاءِ وَهُوَ الضَّبْطُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ إِنَّهُ لَذُو حِجْرٍ إِذَا كَانَ قَاهِرًا لِنَفْسِهِ ضَابِطًا لَهَا كَأَنَّهُ أَخَذَ مِنْ قَوْلِهِمْ حَجَرْتُ عَلَى الرَّجُلِ، وَعَلَى هَذَا سُمِّيَ الْعَقْلُ حِجْرًا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْقَبِيحِ مِنَ الْحَجْرِ وَهُوَ الْمَنْعُ مِنَ الشَّيْءِ بِالتَّضْيِيقِ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ اسْتِفْهَامٌ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ كَمَنْ ذَكَرَ حُجَّةً بَاهِرَةً، ثُمَّ قَالَ: هَلْ فِيمَا ذَكَرْتُهُ حُجَّةٌ؟ وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ كَانَ ذَا لُبٍّ عَلِمَ أَنَّ مَا أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِيهِ عَجَائِبُ وَدَلَائِلُ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، فَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُقْسِمَ بِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى خَالِقِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا: أَنَّ الْقَسَمَ وَاقِعٌ بِرَبِّ هَذِهِ الْأُمُورِ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا مُبَالَغَةٌ فِي الْقَسَمِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الْقَسَمِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي الْقَسَمِ بِاللَّهِ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ قَدْ وَرَدَ بأن يحلف العاقل بهذه الأمور. [سورة الفجر (89) : الآيات 6 الى 14] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)

_ (1) في المطبوعة (والليل إذا أسفر) وهي خطأ والصواب ما أثبتناه.

وَاعْلَمْ أَنَّ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ هُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ وَمَا بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ مُعْتَرِضٌ بَيْنَهُمَا الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ وَهُوَ لَنُعَذِّبَنَّ الْكَافِرِينَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى قَوْلِهِ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنِ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ ذَهَبَ الْوَهْمُ إِلَى كُلِّ مَذْهَبٍ، فَكَانَ أَدْخَلَ فِي التَّخْوِيفِ، فَلَمَّا جَاءَ بَعْدَهُ بَيَانُ عَذَابِ الْكَافِرِينَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ أَوَّلًا هُوَ ذَلِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَلَمْ تَرَ، أَلَمْ تَعْلَمْ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَصِحُّ أَنْ يَرَاهُ الرَّسُولُ وإنما أطلق لفظ الرؤية هاهنا عَلَى الْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَخْبَارَ عَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ كَانَتْ مَنْقُولَةً بِالتَّوَاتُرِ! أَمَّا عَادٌ وَثَمُودُ فَقَدْ كَانَا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَأَمَّا فِرْعَوْنُ فَقَدْ كَانُوا يَسْمَعُونَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبِلَادُ فِرْعَوْنَ أَيْضًا/ مُتَّصِلَةٌ بِأَرْضِ الْعَرَبِ وَخَبَرُ التَّوَاتُرِ يُفِيدُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ، وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ جَارٍ مَجْرَى الرُّؤْيَةِ فِي الْقُوَّةِ وَالْجَلَاءِ وَالْبُعْدِ عَنِ الشُّبْهَةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: أَلَمْ تَرَ بِمَعْنَى أَلَمْ تَعْلَمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّهُ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى حِكَايَتَهُمْ أَنْ يَكُونَ زَجْرًا لِلْكُفَّارِ عَنِ الْإِقَامَةِ عَلَى مِثْلِ مَا أَدَّى إِلَى هَلَاكِ عَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَلِيَكُونَ بَعْثًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هاهنا قِصَّةَ ثَلَاثِ فِرَقٍ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَهِيَ عَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ فِرْعَوْنَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ حَيْثُ قَالَ: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الْعَذَابِ، وَذَكَرَ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ بَيَانَ مَا أُبْهِمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَقَالَ: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ، وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ إِلَى قَوْلِهِ وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ [الْحَاقَّةِ: 5- 9] الْآيَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عَادٌ هُوَ عَادُ بْنُ عَوْصُ بْنُ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، ثُمَّ إِنَّهُمْ جَعَلُوا لَفْظَةَ عَادٍ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ كَمَا يُقَالُ لِبَنِي هَاشِمٍ هَاشِمٌ وَلِبَنِي تَمِيمٍ تَمِيمٌ، ثُمَّ قَالُوا لِلْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ هَذِهِ الْقَبِيلَةِ عَادٌ الْأُولَى قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى [النَّجْمِ: 50] وَلِلْمُتَأَخِّرِينَ عَادٌ الْأَخِيرَةُ، وَأَمَّا إِرَمُ فَهُوَ اسْمٌ لِجَدِّ عَادٍ، وَفِي الْمُرَادِ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ قَبِيلَةِ عَادٍ كَانُوا يُسَمَّوْنَ بِعَادٍ الْأَوْلَى فَلِذَلِكَ يُسَمَّوْنَ بِإِرَمَ تَسْمِيَةً لَهُمْ بِاسْمِ جَدِّهِمْ وَالثَّانِي: أَنَّ إِرَمَ اسْمٌ لِبَلْدَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا ثم قبل تِلْكَ الْمَدِينَةُ هِيَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ وَقِيلَ دِمَشْقُ وَالثَّالِثُ: أن إرم

أَعْلَامُ قَوْمِ عَادٍ كَانُوا يَبْنُونَهَا عَلَى هَيْئَةِ الْمَنَارَةِ وَعَلَى هَيْئَةِ الْقُبُورِ، قَالَ أَبُو الدُّقَيْشِ: الْأُرُومُ قُبُورُ عَادٍ، وَأَنْشَدَ: بِهَا أُرُومُ كَهَوَادِي الْبُخْتِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ طَعَنَ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ إِرَمَ هِيَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ أَوْ دِمَشْقُ، قَالَ: لِأَنَّ مَنَازِلَ عَادٍ كَانَتْ بَيْنَ عمان إلى حضر موت وَهِيَ بِلَادُ الرِّمَالِ وَالْأَحْقَافِ، كَمَا قَالَ: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ [الأحقاق: 21] وَأَمَّا الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ وَدِمَشْقُ فَلَيْسَتَا مِنْ بِلَادِ الرِّمَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِرَمُ لَا تَنْصَرِفُ قَبِيلَةً كَانَتْ أَوْ أَرْضًا لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّأْنِيثِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ: إِرَمَ وَجْهَانِ وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنْ جَعَلْنَاهُ اسْمَ الْقَبِيلَةِ كَانَ قَوْلُهُ: إِرَمَ عَطْفَ بَيَانٍ لِعَادٍ وَإِيذَانًا بِأَنَّهُمْ عَادٌ الْأُولَى الْقَدِيمَةُ وَإِنْ جَعَلْنَاهُ اسْمَ الْبَلْدَةِ أَوِ الْأَعْلَامِ كَانَ التَّقْدِيرُ بِعَادٍ أَهْلِ إِرَمَ ثُمَّ حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، كما في قوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِعَادِ إِرَمَ عَلَى الْإِضَافَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ: بِعادٍ إِرَمَ مَفْتُوحَيْنِ وَقُرِئَ: بِعادٍ إِرَمَ بِسُكُونِ الرَّاءِ عَلَى/ التَّخْفِيفِ كَمَا قُرِئَ: بِوَرِقِكُمْ [الكهف: 19] وَقُرِئَ: بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ بِإِضَافَةِ إِرَمَ إِلَى ذاتِ الْعِمادِ وَقُرِئَ: بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ بَدَلًا مِنْ فَعَلَ رَبُّكَ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ جَعَلَ ذَاتَ الْعِمَادِ رَمِيمًا، أَمَّا قَوْلُهُ: ذاتِ الْعِمادِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي إِعْرَابِهِ وَجْهَانِ وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنْ جَعَلْنَا: إِرَمَ اسْمَ الْقَبِيلَةِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا بَدَوِيِّينَ يَسْكُنُونَ الْأَخْبِيَةَ وَالْخِيَامَ وَالْخِبَاءَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْعِمَادِ، وَالْعِمَادُ بِمَعْنَى الْعَمُودِ. وَقَدْ يَكُونُ جَمْعَ الْعَمَدِ أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِذَاتِ الْعِمَادِ أَنَّهُمْ طُوَالُ الْأَجْسَامِ عَلَى تَشْبِيهِ قُدُودِهِمْ بِالْأَعْمِدَةِ وَقِيلَ: ذَاتُ الْبَنَّاءِ الرَّفِيعِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ اسْمَ الْبَلَدِ فَالْمَعْنَى أَنَّهَا ذَاتُ أَسَاطِينَ أَيْ ذَاتُ أَبْنِيَةٍ مَرْفُوعَةٍ عَلَى الْعُمُدِ وَكَانُوا يُعَالِجُونَ الْأَعْمِدَةَ فَيَنْصِبُونَهَا وَيَبْنُونَ فَوْقَهَا الْقُصُورَ، قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِهِمْ: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ [الشُّعَرَاءِ: 128] أَيْ عَلَامَةً وَبِنَاءً رَفِيعًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لِعَادٍ ابْنَانِ شَدَّادٌ وَشَدِيدٌ فَمَلَكَا وَقَهَرَا ثُمَّ مَاتَ شَدِيدٌ وَخَلَصَ الْأَمْرُ لِشَدَّادٍ فَمَلَكَ الدُّنْيَا وَدَانَتْ لَهُ مُلُوكُهَا. فَسَمِعَ بِذِكْرِ الْجَنَّةِ فَقَالَ: أَبْنِي مِثْلَهَا، فَبَنَى إِرَمَ فِي بَعْضِ صَحَارِي عَدَنَ فِي ثلاثمائة سَنَةٍ وَكَانَ عُمْرُهُ تِسْعَمِائَةِ سَنَةٍ وَهِيَ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ قُصُورُهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَسَاطِينُهَا مِنَ الزَّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ وَفِيهَا أَصْنَافُ الْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ، فَلَمَّا تَمَّ بِنَاؤُهَا سَارَ إِلَيْهَا بِأَهْلِ مَمْلَكَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ مِنْهَا عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ صَيْحَةً مِنَ السَّمَاءِ فَهَلَكُوا، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قِلَابَةَ أَنَّهُ خَرَجَ فِي طَلَبِ إِبِلٍ لَهُ فَوَصَلَ إِلَى جَنَّةِ شَدَّادٍ فَحَمَلَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِمَّا كَانَ هُنَاكَ وَبَلَغَ خَبَرُهُ مُعَاوِيَةَ فَاسْتَحْضَرَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ، فَبَعَثَ إِلَى كَعْبٍ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: هِيَ إِرَمُ ذَاتُ الْعِمَادِ، وَسَيَدْخُلُهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِكَ أَحْمَرُ أَشْقَرُ قَصِيرٌ عَلَى حَاجِبِهِ خَالٍ وَعَلَى عُنُقِهِ خَالٍ، يَخْرُجُ فِي طَلَبِ إِبِلٍ لَهُ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَأَبْصَرَ ابْنَ [أَبِي] قِلَابَةَ فَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ هُوَ ذَلِكَ الرَّجُلُ. أَمَّا قَوْلُهُ: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ فَالضَّمِيرُ فِي (مِثْلِهَا) إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها أَيْ مِثْلُ عَادٍ فِي الْبِلَادِ فِي عِظَمِ الْجُثَّةِ وَشِدَّةِ الْقُوَّةِ، كَانَ طُولُ الرَّجُلِ مِنْهُمْ أَرْبَعَمِائَةِ ذِرَاعٍ وَكَانَ يَحْمِلُ الصَّخْرَةَ الْعَظِيمَةَ فَيُلْقِيهَا عَلَى الْجَمْعِ فَيَهْلَكُوا الثَّانِي: لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُ مَدِينَةِ شَدَّادٍ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الدُّنْيَا، وَقَرَأَ

ابْنُ الزُّبَيْرِ لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها أَيْ لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ مِثْلَهَا الثَّالِثُ: أَنَّ الْكِنَايَةَ عَائِدَةٌ إلى العماد أي لم يحلق مِثْلُ تِلْكَ الْأَسَاطِينِ فِي الْبِلَادِ، وَعَلَى هَذَا فَالْعِمَادُ جَمْعُ عَمَدٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْحِكَايَةِ زجر الكفار فإنه تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَهْلَكَهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ، مَعَ الَّذِي اخْتَصُّوا بِهِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَلَأَنْ تَكُونُوا خَائِفِينَ مِنْ مَثَلِ ذَلِكَ أَيُّهَا الْكُفَّارُ إِذَا أَقَمْتُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ مَعَ ضَعْفِكُمْ كَانَ أَوْلَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ فقال الليث: الجواب قَطْعُكَ الشَّيْءَ كَمَا يُجَابُ الْجَيْبُ يُقَالُ جَابَ يَجُوبُ جَوْبًا. وَزَادَ الْفَرَّاءُ يُجِيبُ جَيْبًا وَيُقَالُ: جُبْتُ الْبِلَادَ جَوْبًا أَيْ جُلْتُ فِيهَا وَقَطَعْتُهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَجُوبُونَ الْبِلَادَ فَيَجْعَلُونَ مِنْهَا بُيُوتًا وَأَحْوَاضًا وَمَا أَرَادُوا مِنَ الْأَبْنِيَةِ، كما قال: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [الأعراف: 74] قِيلَ: أَوَّلُ مَنْ نَحَتَ الْجِبَالَ وَالصُّخُورَ وَالرُّخَامَ/ ثَمُودُ، وَبَنَوْا أَلْفًا وَسَبْعَمِائَةِ مَدِينَةٍ كُلُّهَا مِنَ الحجارة، وقوله: بِالْوادِ قَالَ مُقَاتِلٌ: بِوَادِي الْقُرَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ فَالِاسْتِقْصَاءُ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ ص، وَنَقُولُ: الْآنَ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُمِّيَ ذَا الْأَوْتَادِ لِكَثْرَةِ جُنُودِهِ وَمَضَارِبِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَضْرِبُونَهَا إِذَا نَزَلُوا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ كَانَ يُعَذِّبُ النَّاسَ وَيَشُدُّهُمْ بِهَا إِلَى أَنْ يَمُوتُوا، رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ فِرْعَوْنَ وَتَّدَ لِامْرَأَتِهِ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ وَجَعَلَ عَلَى صَدْرِهَا رَحَا وَاسْتَقْبَلَ بِهَا عَيْنَ الشَّمْسِ فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْ بَيْتِهَا فِي الْجَنَّةِ فَرَأَتْهُ وَثَالِثُهَا: ذِي الْأَوْتَادِ، أَيْ ذِي الْمُلْكِ وَالرِّجَالِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فِي ظِلِّ مَلِكٍ رَاسِخِ الْأَوْتَادِ وَرَابِعُهَا: رَوَى قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ تِلْكَ الْأَوْتَادَ كَانَتْ مُلَاعِبَ يَلْعَبُونَ تَحْتَهَا لِأَجْلِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ ذَلِكَ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا تَعْظُمُ بِهِ الشِّدَّةُ وَالْقَوْلُ وَالْكَثْرَةُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُرُودِ هَلَاكٍ عَظِيمٍ بِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إِلَى فِرْعَوْنَ خَاصَّةً لِأَنَّهُ يَلِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى جَمِيعِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَحْسَنُ الْوُجُوهِ فِي إِعْرَابِهِ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الذَّمِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى [الْإِخْبَارِ، أَيْ] هُمُ الَّذِينَ طَغَوْا أَوْ مَجْرُورًا عَلَى وَصْفِ الْمَذْكُورِينَ عَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: طَغَوْا فِي الْبِلادِ أَيْ عَمِلُوا الْمَعَاصِيَ وَتَجَبَّرُوا عَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ فَسَّرَ طُغْيَانَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ ضِدَّ الصَّلَاحِ فَكَمَا أَنَّ الصَّلَاحَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَقْسَامِ الْبِرِّ، فَالْفَسَادُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَقْسَامِ الْإِثْمِ، فَمَنْ عَمِلِ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ وَحَكَمَ فِي عِبَادِهِ بِالظُّلْمِ فَهُوَ مُفْسِدٌ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُقَالُ: صَبَّ عَلَيْهِ السَّوْطَ وَغَشَّاهُ وَقَنَّعَهُ، وَذِكْرُ السَّوْطِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا أَحَلَّهُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ بِالْقِيَاسِ إِلَى مَا أَعَدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، كَالسَّوْطِ إِذَا قِيسَ إِلَى سَائِرِ مَا يُعَذَّبُ بِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَشَبَّهَهُ بِصَبِّ السَّوْطِ الَّذِي يَتَوَاتَرُ عَلَى الْمَضْرُوبِ فَيُهْلِكُهُ، وَكَانَ الْحَسَنُ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: إِنَّ عِنْدَ اللَّهِ أَسْوَاطًا كَثِيرَةً فَأَخَذَهُمْ بِسَوْطٍ مِنْهَا، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا «1» مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فَاطِرٍ: 45] يَقْتَضِي تَأْخِيرَ الْعَذَابِ إِلَى الْآخِرَةِ فَكَيْفَ الْجَمْعُ بين هاتين الآيتين؟ قلنا:

_ (1) في المطبوعة (بظلمهم) .

[سورة الفجر (89) : الآيات 15 إلى 16]

هَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي تَأْخِيرَ تَمَامِ الْجَزَاءِ إِلَى الْآخِرَةِ وَالْوَاقِعُ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَمُقَدِّمَةٌ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: كانَتْ مِرْصاداً [النَّبَإِ: 21] وَنَقُولُ: الْمِرْصَادُ الْمَكَانُ الَّذِي يَتَرَقَّبُ فِيهِ الرَّاصِدُ مِفْعَالٌ مِنْ رَصَدَهُ كَالْمِيقَاتِ مِنْ وَقَتَهُ، وَهَذَا مَثَلٌ لِإِرْصَادِهِ الْعُصَاةَ بِالْعِقَابِ وَأَنَّهُمْ لَا يَفُوتُونَهُ، وَعَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَيْنَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: بِالْمِرْصَادِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: / قَالَ الْحَسَنُ: يَرْصُدُ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِلَيْهِ الْمَصِيرُ، وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ عَامَّانِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَخُصُّ هَذِهِ الْآيَةَ إِمَّا بِوَعِيدِ الْكُفَّارِ، أَوْ بِوَعِيدِ الْعُصَاةِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَرْصُدُ مَنْ كَفَرَ بِهِ وَعَدَلَ عَنْ طَاعَتِهِ بِالْعَذَابِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَرْصُدُ لِأَهْلِ الظُّلْمِ وَالْمَعْصِيَةِ، وهذه الوجوه متقاربة. [سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 16] فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) اعلم أن قوله: فَأَمَّا الْإِنْسانُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: 14] كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَبِالْمِرْصَادِ فِي الْآخِرَةِ، فَلَا يُرِيدُ إِلَّا السَّعْيَ لِلْآخِرَةِ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ لَا يُهِمُّهُ إِلَّا الدُّنْيَا وَلَذَّاتُهَا وَشَهَوَاتُهَا، فَإِنْ وَجَدَ الرَّاحَةَ فِي الدُّنْيَا يَقُولُ: رَبِّي أَكْرَمَنِي، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ هَذِهِ الرَّاحَةَ يَقُولُ: رَبِّي أَهَانَنِي، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الرُّومِ: 7] وَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ [الْحَجِّ: 11] وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَشَقَاوَتَهَا فِي مُقَابَلَةِ مَا فِي الْآخِرَةِ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ كَالْقَطْرَةِ فِي الْبَحْرِ، فَالْمُتَنَعِّمُ فِي الدُّنْيَا لَوْ كَانَ شَقِيًّا فِي الْآخِرَةِ فَذَاكَ التَّنَعُّمُ لَيْسَ بِسَعَادَةٍ، وَالْمُتَأَلِّمُ الْمُحْتَاجُ فِي الدُّنْيَا لَوْ كَانَ سَعِيدًا فِي الْآخِرَةِ فَذَاكَ لَيْسَ بِإِهَانَةٍ وَلَا شَقَاوَةٍ، إِذِ الْمُتَنَعِّمُ فِي الدُّنْيَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى نَفْسِهِ بِالسَّعَادَةِ وَالْكَرَامَةِ، وَالْمُتَأَلِّمُ فِي الدُّنْيَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى نَفْسِهِ بِالشَّقَاوَةِ وَالْهَوَانِ وَثَانِيهَا: أَنَّ حُصُولَ النِّعْمَةِ فِي الدُّنْيَا وَحُصُولَ الْآلَامِ فِي الدُّنْيَا لَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنَّهُ تَعَالَى كَثِيرًا مَا يُوَسِّعُ عَلَى الْعُصَاةِ وَالْكَفَرَةِ، إِمَّا لِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وإما يحكم الْمَصْلَحَةِ، وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْرَاجِ وَالْمَكْرِ، وَقَدْ يُضَيِّقُ عَلَى الصِّدِّيقِينَ لِأَضْدَادِ مَا ذَكَرْنَا، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ ذَلِكَ لِمُجَازَاةٍ وثالثها: أن المتنعم لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْفُلَ عَنِ الْعَاقِبَةِ، فَالْأُمُورُ بِخَوَاتِيمِهَا، وَالْفَقِيرُ وَالْمُحْتَاجُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْفُلَ عَمَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا مِنْ سَلَامَةِ الْبَدَنِ وَالْعَقْلِ وَالدِّينِ وَدَفْعِ الْآفَاتِ وَالْآلَامِ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا وَلَا حَصْرَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْإِهَانَةِ مُطْلَقًا وَرَابِعُهَا: أَنَّ النَّفْسَ قَدْ أَلِفَتْ هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ، فَمَتَى حَصَلَتْ هَذِهِ الْمُشْتَهَيَاتُ وَاللَّذَّاتُ صَعُبَ عَلَيْهَا الِانْقِطَاعُ عَنْهَا وَعَدَمُ الِاسْتِغْرَاقِ فِيهَا، أَمَّا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ لِلْإِنْسَانِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ رَجَعَتْ شَاءَتْ أَمْ أَبَتْ إِلَى اللَّهِ، وَاشْتَغَلَتْ بِعُبُودِيَّةِ اللَّهِ فَكَانَ وِجْدَانُ الدُّنْيَا سَبَبًا لِلْحِرْمَانِ مِنَ اللَّهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِالشَّقَاوَةِ وَالْإِهَانَةِ عِنْدَ عَدَمِ الدُّنْيَا، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ/ أَعْظَمُ الْوَسَائِلِ إِلَى أَعْظَمِ السِّعَادَاتِ وَخَامِسُهَا: أَنَّ كَثْرَةَ الْمُمَارَسَةِ سَبَبٌ لِتَأَكُّدِ الْمَحَبَّةِ، وَتَأَكُّدَ الْمَحَبَّةِ سَبَبٌ لِتَأَكُّدِ الْأَلَمِ عِنْدَ الْفِرَاقِ، فكل من كان وجدانه للدنيا أَكْثَرَ وَأَدْوَمَ كَانَتْ مَحَبَّتُهُ لَهَا أَشَدَّ، فَكَانَ تَأَلُّمُهُ بِمُفَارَقَتِهَا عِنْدَ الْمَوْتِ أَشَدَّ، وَالَّذِي بِالضِّدِّ فَبِالضِّدِّ، فَإِذَنْ حُصُولُ لَذَّاتِ الدُّنْيَا سَبَبٌ لِلْأَلَمِ الشَّدِيدِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَعَدَمُ حُصُولِهَا سَبَبٌ لِلسَّعَادَةِ الشَّدِيدَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ وِجْدَانَ الدُّنْيَا سَعَادَةٌ وَفِقْدَانَهَا شَقَاوَةٌ؟. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ إِنَّمَا تَصِحُّ مَعَ الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ رُوحَانِيًّا كَانَ أَوْ جُسْمَانِيًّا، فَأَمَّا مَنْ يُنْكِرُ البعث من

جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ، بَلْ يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ بِأَنَّ وِجْدَانَ الدُّنْيَا هُوَ السَّعَادَةُ وَفِقْدَانَهَا هُوَ الشَّقَاوَةُ، وَلَكِنَّ فِيهِ دَقِيقَةً أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ وِجْدَانُ الدُّنْيَا الْكَثِيرَةِ سَبَبًا لِلْقَتْلِ وَالنَّهْبِ وَالْوُقُوعِ فِي أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، فَرُبَّمَا كَانَ الْحِرْمَانُ سَبَبًا لِبَقَاءِ السَّلَامَةِ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِمُنْكِرِ الْبَعْثِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ أَنْ يَقْضِيَ عَلَى صَاحِبِ الدُّنْيَا بِالسَّعَادَةِ، وَعَلَى فَاقِدِهَا بِالْهَوَانِ، فَرُبَّمَا يَنْكَشِفُ لَهُ أَنَّ الْحَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالضِّدِّ، وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الأول: قوله: فَأَمَّا الْإِنْسانُ المراد منه شخصين مُعَيَّنٌ أَوِ الْجِنْسُ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أن المراد منه شخصين مُعَيَّنٌ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عُتْبَةُ بن ربيعة، وأبو حذيفة ابن الْمُغِيرَةِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذَا الْوَصْفِ وَهُوَ الْكَافِرُ الْجَاحِدُ لِيَوْمِ الْجَزَاءِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ سَمَّى بَسْطَ الرِّزْقِ وَتَقْدِيرَهُ ابْتِلَاءً؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اخْتِبَارٌ لِلْعَبْدِ، فَإِذَا بُسِطَ لَهُ فَقَدِ اخْتُبِرَ حَالُهُ أَيَشْكُرُ أَمْ يَكْفُرُ، وَإِذَا قُدِرَ عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتُبِرَ حَالُهُ أَيَصْبِرُ أَمْ يَجْزَعُ، فَالْحِكْمَةُ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الْأَنْبِيَاءِ: 35] . السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لَمَّا قَالَ: فَأَكْرَمَهُ فقد صحح أَنَّهُ أَكْرَمَهُ. وَأَثْبَتَ ذَلِكَ ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: رَبِّي أَكْرَمَنِ ذَمَّهُ عَلَيْهِ فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ وَالْجَوَابُ: لِأَنَّ كَلِمَةَ الْإِنْكَارِ هِيَ قَوْلُهُ: كَلَّا فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِقَوْلِهِ: رَبِّي أَهانَنِ سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِنْكَارَ عَائِدٌ إِلَيْهِمَا مَعًا وَلَكِنْ فِيهِ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ اعْتَقَدَ حُصُولَ الِاسْتِحْقَاقِ فِي ذَلِكَ الْإِكْرَامِ الثَّانِي: أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَتْ حَاصِلَةً قَبْلَ وِجْدَانِ الْمَالِ، وَهِيَ نِعْمَةُ سَلَامَةِ الْبَدَنِ وَالْعَقْلِ وَالدِّينِ، فَلَمَّا لَمْ يَعْتَرِفْ بِالنِّعْمَةِ إِلَّا عِنْدَ وِجْدَانِ الْمَالِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ غَرَضُهُ مِنْ ذَلِكَ شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ، بَلِ التَّصَلُّفُ بِالدُّنْيَا وَالتَّكَثُّرُ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ الثَّالِثُ: أَنَّ تَصَلُّفَهُ بِنِعْمَةِ الدُّنْيَا وَإِعْرَاضَهُ عَنْ ذِكْرِ نِعْمَةِ الْآخِرَةِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُنْكِرًا لِلْبَعْثِ، فَلَا جَرَمَ اسْتَحَقَّ الذَّمَّ عَلَى مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ، فَقَالَ: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً إِلَى قَوْلِهِ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ [الْكَهْفِ: 35- 37] . السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لِمَ قَالَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي: وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَذَكَرَ الْأَوَّلَ بِالْفَاءِ وَالثَّانِيَ بِالْوَاوِ؟ وَالْجَوَابُ: لِأَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ سَابِقَةٌ عَلَى غَضَبِهِ وَابْتِلَاءَهُ بِالنِّعَمِ سَابِقٌ عَلَى ابْتِلَائِهِ بِإِنْزَالِ الْآلَامِ، فَالْفَاءُ تَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ ذَلِكَ الْقِسْمِ وَقَبِلَهُ الثَّانِي عَلَى مَا قَالَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [النحل: 18] . السُّؤَالُ الْخَامِسُ: لَمَّا قَالَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: فَأَكْرَمَهُ ... فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي: فَأَهَانَهُ فَيَقُولُ: رَبِّي أَهانَنِ لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَالْجَوَابُ: لِأَنَّهُ فِي قَوْلِهِ: أَكْرَمَنِ صَادِقٌ وَفِي قَوْلِهِ: أَهانَنِ غَيْرُ صَادِقٍ فَهُوَ ظَنَّ قِلَّةَ الدُّنْيَا وَتَقْتِيرَهَا إِهَانَةً، وَهَذَا جَهْلٌ وَاعْتِقَادٌ فَاسِدٌ، فَكَيْفَ يَحْكِي اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ عَنْهُ. السُّؤَالُ السَّادِسُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ؟ الْجَوَابُ: ضَيَّقَ عَلَيْهِ بِأَنْ جَعَلَهُ عَلَى مِقْدَارِ الْبُلْغَةِ،

[سورة الفجر (89) : الآيات 17 إلى 20]

وَقُرِئَ فَقَدَرَ عَلَى التَّخْفِيفِ وَبِالتَّشْدِيدِ أَيْ قَتَّرَ، وَأَكْرَمَنْ وَأَهَانَنْ بِسُكُونِ النُّونِ فِي الْوَقْفِ فِيمَنْ تَرَكَ الْيَاءَ فِي الدَّرَجِ مُكْتَفِيًا مِنْهَا بِالْكَسْرَةِ. [سورة الفجر (89) : الآيات 17 الى 20] كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ تِلْكَ. الشُّبْهَةَ قَالَ: كَلَّا وَهُوَ رَدْعٌ لِلْإِنْسَانِ عَنْ تِلْكَ الْمَقَالَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى لَمْ أَبْتَلِهِ بِالْغِنَى لِكَرَامَتِهِ عَلَيَّ، وَلَمْ أَبْتَلِهِ بِالْفَقْرِ لِهَوَانِهِ عَلَيَّ، بَلْ ذَلِكَ إِمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَمِنْ مَحْضِ الْقَضَاءِ أَوِ الْقَدَرِ وَالْمَشِيئَةِ، وَالْحُكْمُ الَّذِي تَنَزَّهَ عَنِ التَّعْلِيلِ بِالْعِلَلِ، وَإِمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَبِسَبَبِ مَصَالِحٍ خَفِيَّةٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا هُوَ، فَقَدْ يُوَسِّعُ عَلَى الْكَافِرِ لَا لِكَرَامَتِهِ، وَيُقَتِّرُ عَلَى الْمُؤْمِنِ لَا لِهَوَانِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى مِنْ أَقْوَالِهِمْ تِلْكَ الشُّبْهَةَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ لَهُمْ فِعْلٌ هُوَ شَرٌّ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُكْرِمُهُمْ بِكَثْرَةِ الْمَالِ، فَلَا يُؤَدُّونَ مَا يَلْزَمُهُمْ فِيهِ مِنْ إِكْرَامِ الْيَتِيمِ، فَقَالَ: بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: يُكْرِمُونَ وَمَا بَعْدَهُ بِالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْإِنْسَانِ، وَكَانَ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ وَالْكَثْرَةُ، وهو على لفظة الغيبة حمل يكرمون ويحبون عَلَيْهِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَالتَّقْدِيرُ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ يَتِيمًا فِي حَجْرِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَكَانَ يَدْفَعُهُ عَنْ حَقِّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْكَ إِكْرَامِ الْيَتِيمِ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: تَرْكُ بِرِّهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وَالثَّانِي: دَفْعُهُ عَنْ حَقِّهِ الثَّابِتِ لَهُ فِي الْمِيرَاثِ وَأَكْلُ مَالِهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا وَالثَّالِثُ: أَخْذُ مَالِهِ مِنْهُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا أَيْ تَأْخُذُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَتَضُمُّونَهَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ قَالَ مُقَاتِلٌ: وَلَا تُطْعِمُونَ مِسْكِينًا، وَالْمَعْنَى لَا تَأْمُرُونَ بِإِطْعَامِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ كانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الْحَاقَّةِ: 33، 34] وَمَنْ قَرَأَ وَلَا تَحَاضُّونَ أَرَادَ تَتَحَاضُّونَ فَحُذِفَ تاء تتفاعلون، والمعنى: لا يَحُضُّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَلا تَحَاضُّونَ بِضَمِّ التَّاءِ مِنَ الْمُحَاضَّةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالُوا: أَصْلُ التُّرَاثِ وُرَاثٌ، وَالتَّاءُ تُبَدَّلُ مِنَ الْوَاوِ الْمَضْمُومَةِ نَحْوَ تُجَاهٍ وَوُجَاهٍ مِنْ وَاجَهْتُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ اللَّيْثُ: اللَّمُّ الْجَمْعُ الشَّدِيدُ، وَمِنْهُ كَتِيبَةٌ مَلْمُومَةٌ وَحَجَرٌ مَلْمُومٌ، وَالْآكِلُ يَلُمُّ الثَّرِيدَ فَيَجْعَلُهُ لُقَمًا ثُمَّ يَأْكُلُهُ وَيُقَالُ لَمَمْتُ مَا عَلَى الْخُوَانِ أَلُمُّهُ أَيْ أَكَلْتُهُ أَجْمَعَ، فَمَعْنَى اللَّمِّ فِي اللُّغَةِ الْجَمْعُ، وَأَمَّا التَّفْسِيرُ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَالْمُفَسِّرُونَ: يَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ: أَكْلًا لَمًّا أَيْ شَدِيدًا وَهُوَ حَلُّ مَعْنًى

[سورة الفجر (89) : الآيات 21 إلى 23]

وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ، وَتَفْسِيرُهُ أَنَّ اللَّمَّ مَصْدَرٌ جُعِلَ نَعْتًا لِلْأَكْلِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْفَاعِلُ أَيْ آكِلًا لَامًا أَيْ جَائِعًا كَأَنَّهُمْ يَسْتَوْعِبُونَهُ بِالْأَكْلِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: كَانُوا يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى إِسْرَافًا وَبِدَارًا، فَقَالَ اللَّهُ: وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا أَيْ تُرَاثَ الْيَتَامَى لَمًّا أَيْ تَلُمُّونَ جَمِيعَهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيْ يَأْكُلُونَ نَصِيبَهُمْ وَنَصِيبَ صَاحِبِهِمْ، فَيَجْمَعُونَ نَصِيبَ غَيْرِهِمْ إِلَى نَصِيبِهِمْ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَالَ الَّذِي يَبْقَى مِنَ الْمَيِّتِ بَعْضُهُ حَلَالٌ، وَبَعْضُهُ شُبْهَةٌ وَبَعْضُهُ حَرَامٌ، فَالْوَارِثُ يَلُمُّ الْكُلَّ أَيْ يَضُمُّ الْبَعْضَ إِلَى الْبَعْضِ وَيَأْخُذُ الْكُلَّ وَيَأْكُلُهُ وَثَالِثُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الذَّمُّ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْوَارِثِ الَّذِي ظَفِرَ بِالْمَالِ سَهْلًا مَهْلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرَقَ فِيهِ جَبِينُهُ فَيُسْرِفَ فِي إِنْفَاقِهِ وَيَأْكُلَهُ أَكْلًا لَمًّا وَاسِعًا، جَامِعًا بَيْنَ أَلْوَانِ الْمُشْتَهَيَاتِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ والأشربة والفواكه، كما يفعله الوراث البطالون. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا فَاعْلَمْ أَنَّ الْجَمَّ هُوَ الْكَثْرَةُ يُقَالُ: جَمَّ الشَّيْءُ يَجُمُّ جُمُومًا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْمَالِ وَغَيْرِهِ فَهُوَ شَيْءٌ جَمٌّ وَجَامٌّ وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو جَمَّ يَجُمُ أَيْ يَكْثُرُ، وَالْمَعْنَى: وَيُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا كَثِيرًا شَدِيدًا، فَبَيَّنَ أَنَّ حِرْصَهُمْ عَلَى الدُّنْيَا فَقَطْ وَأَنَّهُمْ عَادِلُونَ عَنْ أَمْرِ الآخرة. [سورة الفجر (89) : الآيات 21 الى 23] كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: كَلَّا رَدْعٌ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَإِنْكَارٌ لِفِعْلِهِمْ أَيْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ هَكَذَا فِي الْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا وَقَصْرِ الْهِمَّةِ وَالْجِهَادِ عَلَى تَحْصِيلِهَا وَالِاتِّكَالِ عَلَيْهَا وَتَرْكِ الْمُوَاسَاةِ مِنْهَا وَجَمْعِهَا مِنْ حَيْثُ تَتَهَيَّأُ مِنْ حِلٍّ أَوْ حَرَامٍ، وَتَوَهَّمَ أَنْ لَا حِسَابَ وَلَا جَزَاءَ. فَإِنَّ مَنْ كَانَ هَذَا حَالَهُ يَنْدَمُ حِينَ لَا تَنْفَعُهُ النَّدَامَةُ وَيَتَمَنَّى أَنْ لَوْ كَانَ أَفْنَى عُمْرَهُ فِي التَّقَرُّبِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْمُوَاسَاةِ مِنَ الْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ إِذَا جَاءَ يَوْمٌ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ ذَلِكَ التَّمَنِّي وَتِلْكَ النَّدَامَةُ. الصِّفَةُ الْأُولَى: مِنْ صِفَاتِ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَوْلُهُ: إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا قَالَ الْخَلِيلُ: الدَّكُّ كَسْرُ الْحَائِطِ وَالْجَبَلِ وَالدَّكْدَاكُ رَمْلٌ مُتَلَبِّدٌ، وَرَجُلٌ مِدَكٌّ شَدِيدُ الْوَطْءِ عَلَى الْأَرْضِ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الدَّكُّ حَطُّ الْمُرْتَفِعِ بِالْبَسْطِ وَانْدَكَّ سَنَامُ الْبَعِيرِ إِذَا انْفَرَشَ فِي ظَهْرِهِ، وَنَاقَةٌ دَكَّاءُ إِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ وَمِنْهُ الدُّكَّانُ لِاسْتِوَائِهِ فِي الِانْفِرَاشِ، فَمَعْنَى الدَّكِّ عَلَى قَوْلِ الْخَلِيلِ: كَسْرُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ جَبَلٍ أَوْ شَجَرٍ حِينَ زُلْزِلَتْ فَلَمْ يَبْقَ عَلَى ظَهْرِهَا شَيْءٌ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُبَرِّدِ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا اسْتَوَتْ فِي الِانْفِرَاشِ فَذَهَبَتْ دُورُهَا وَقُصُورُهَا وسائر أبنيتها حتى تصير كالصحرة الْمَلْسَاءِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تُمَدُّ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّكْرَارَ فِي قَوْلِهِ: دَكًّا دَكًّا مَعْنَاهُ دَكًّا بَعْدَ دَكٍّ كَقَوْلِكَ حَسِبْتُهُ بَابًا بَابًا وَعَلِمْتُهُ حَرْفًا حَرْفًا أَيْ كُرِّرَ عَلَيْهَا الدَّكُّ حَتَّى صَارَتْ هَبَاءً مَنْثُورًا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّدَكْدُكَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنِ الزَّلْزَلَةِ، فَإِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زَلْزَلَةً بَعْدَ زَلْزَلَةٍ وَحُرِّكَتْ تَحْرِيكًا بَعْدَ تَحْرِيكٍ انْكَسَرَتِ الْجِبَالُ الَّتِي عَلَيْهَا وَانْهَدَمَتِ التِّلَالُ وَامْتَلَأَتِ الْأَغْوَارُ وَصَارَتْ مَلْسَاءَ، وَذَلِكَ عِنْدَ انْقِضَاضِ الدُّنْيَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ [النَّازِعَاتِ: 6، 7] وَقَالَ: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [الْحَاقَّةِ: 14] وَقَالَ: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا، وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا [الْوَاقِعَةِ: 5] .

الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ صِفَاتِ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَوْلُهُ: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ الْحَرَكَةَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ جِسْمًا وَالْجِسْمُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ أَزَلِيًّا فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمُضَافُ مَا هُوَ؟ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: وَجَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بِالْمُحَاسَبَةِ وَالْمُجَازَاةِ وَثَانِيهَا: وَجَاءَ قَهْرُ رَبِّكَ كَمَا يُقَالُ جَاءَتْنَا بَنُو أُمَيَّةَ أَيْ قَهْرُهُمْ وَثَالِثُهَا: وَجَاءَ جَلَائِلُ آيَاتِ رَبِّكَ لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَظْهَرُ الْعَظَائِمُ وَجَلَائِلُ الْآيَاتِ، فَجُعِلَ مَجِيئُهَا مَجِيئًا لَهُ تَفْخِيمًا لِشَأْنِ تِلْكَ الْآيَاتِ وَرَابِعُهَا: وَجَاءَ ظُهُورُ رَبِّكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَصِيرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ضَرُورِيَّةً فَصَارَ ذَلِكَ كَظُهُورِهِ وَتَجَلِّيهِ لِلْخَلْقِ، فَقِيلَ: وَجاءَ رَبُّكَ أَيْ زَالَتِ الشُّبْهَةُ وَارْتَفَعَتِ/ الشُّكُوكُ خَامِسُهَا: أَنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ لِظُهُورِ آيَاتِ اللَّهِ وَتَبْيِينِ آثَارِ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ، مُثِّلَتْ حَالُهُ فِي ذَلِكَ بِحَالِ الْمَلِكِ إِذَا حَضَرَ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ يَظْهَرُ بِمُجَرَّدِ حُضُورِهِ مِنْ آثَارِ الْهَيْبَةِ وَالسِّيَاسَةِ مَا لَا يَظْهَرُ بِحُضُورِ عَسَاكِرِهِ كُلِّهَا وَسَادِسُهَا: أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الْمُرَبِّي، وَلَعَلَّ مَلَكًا هُوَ أَعْظَمُ الْمَلَائِكَةِ هُوَ مُرَبِّي لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ فَكَانَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَجاءَ رَبُّكَ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَنَزَّلَ مَلَائِكَةُ كُلِّ سَمَاءٍ فَيَصْطَفُّونَ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ مُحَدِّقِينَ بِالْجِنِّ وَالْإِنْسِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ صِفَاتِ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [الشُّعَرَاءِ: 91] قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: جِيءَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَزْمُومَةً بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا حَتَّى تَنْصَبَّ عَنْ يَسَارِ الْعَرْشِ فَتَشْرُدُ شَرْدَةً لَوْ تُرِكَتْ لَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْجَمْعِ، قَالَ الْأُصُولِيُّونَ: وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْ مَكَانِهَا، فَالْمُرَادُ وَبُرِّزَتِ أَيْ ظَهَرَتْ حَتَّى رَآهَا الْخَلْقُ، وَعَلِمَ الْكَافِرُ أَنَّ مَصِيرَهُ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ: إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ، وَحَصَلَ كَذَا وَكَذَا فَيَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ، وَفِي تَذَكُّرِهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَتَذَكَّرُ مَا فَرَّطَ فِيهِ لِأَنَّهُ حِينَ كَانَ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ هِمَّتُهُ تَحْصِيلَ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ يَتَذَكَّرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ ضَلَالًا، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ هِمَّتُهُ تَحْصِيلَ الْآخِرَةِ الثَّانِي: يَتَذَكَّرُ أَيْ يَتَّعِظُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَا كَانَ يَتَّعِظُ فِي الدُّنْيَا فيصير في الآخرة متعظا فيقول: يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا [الْأَنْعَامِ: 27] ، الثَّالِثُ: يَتَذَكَّرُ يَتُوبُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ، ثُمَّ قال تعالى: وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى وقد جاءهم رسول مبين. وَاعْلَمْ أَنَّ بَيْنَ قَوْلِهِ: يَتَذَكَّرُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى تَنَاقُضًا فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ الْمُضَافِ وَالْمَعْنَى وَمِنْ أَيْنَ لَهُ مَنْفَعَةُ الذِّكْرَى. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّهٌ، وَهِيَ أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ عِنْدَنَا غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى اللَّهِ عَقْلًا، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هُوَ وَاجِبٌ فَنَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى قَوْلِنَا أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ هاهنا عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْلَمُ فِي الْآخِرَةِ أَنَّ الَّذِي يَعْمَلُهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ أَصْلَحَ لَهُ وَإِنَّ الَّذِي تَرَكَهُ كَانَ أَصْلَحَ لَهُ، وَمَهْمَا عَرَفَ ذَلِكَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْدَمَ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَصَلَ النَّدَمُ فَقَدْ حَصَلَتِ التَّوْبَةُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَفَى كَوْنَ تِلْكَ التَّوْبَةِ نَافِعَةً بِقَوْلِهِ: وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى فَعَلِمْنَا أَنَّ التَّوْبَةَ لَا يَجِبُ عَقْلًا قَبُولُهَا، فَإِنْ قِيلَ: الْقَوْمُ إِنَّمَا نَدِمُوا عَلَى أَفْعَالِهِمْ لَا لِوَجْهِ قُبْحِهَا بَلْ لِتُرَتِّبِ الْعِقَابِ عَلَيْهَا، فَلَا

[سورة الفجر (89) : آية 24]

جَرَمَ مَا كَانَتِ التَّوْبَةُ صَحِيحَةً؟ قُلْنَا: الْقَوْمُ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ النَّدَمَ عَلَى الْقَبِيحِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِوَجْهِ قُبْحِهِ حَتَّى يَكُونَ نَافِعًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَدَمُهُمْ وَاقِعًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُونَ آتِينَ بِالتَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ مع عدم القبول فصح قولنا. ثُمَّ شَرَحَ تَعَالَى مَا يَقُولُهُ هَذَا الْإِنْسَانُ فقال تعالى: [سورة الفجر (89) : آية 24] يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِلْآيَةِ تأويلات: أحدهما: يا ليتني قَدَّمْتُ فِي الدُّنْيَا الَّتِي كَانَتْ حَيَاتِي فِيهَا مُنْقَطِعَةً، لِحَيَاتِي هَذِهِ الَّتِي هِيَ دَائِمَةٌ غَيْرُ مُنْقَطِعَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: لِحَياتِي وَلَمْ يَقُلْ: لِهَذِهِ الْحَيَاةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْحَيَاةَ كَأَنَّهَا لَيْسَتْ إِلَّا الْحَيَاةَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ [الْعَنْكَبُوتِ: 64] أَيْ لَهِيَ الْحَيَاةُ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ [إِبْرَاهِيمَ: 17] وَقَالَ: فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [طه: 74] وَقَالَ: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [الْأَعْلَى: 11- 13] فَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ أَهْلَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ كَأَنَّهُ لَا حَيَاةَ لَهُمْ، وَالْمَعْنَى فَيَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ عَمَلًا يُوجِبُ نَجَاتِي مِنَ النَّارِ حَتَّى أَكُونَ مِنَ الْأَحْيَاءِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَيَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ وَقْتَ حَيَاتِي فِي الدُّنْيَا، كَقَوْلِكَ جِئْتُهُ لِعَشْرِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ رَجَبٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الِاخْتِيَارَ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ وَمُعَلَّقًا بِقَصْدِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ وَأَنَّهُمْ مَا كَانُوا مَحْجُوبِينَ عَنِ الطَّاعَاتِ مُجْتَرِئِينَ عَلَى الْمَعَاصِي وَجَوَابُهُ: أَنَّ فِعْلَهُمْ كَانَ مُعَلَّقًا بِقَصْدِهِمْ، فَقَصْدُهُمْ إِنْ كَانَ مُعَلَّقًا بِقَصْدٍ آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا بِقَصْدِ اللَّهِ فَقَدْ بَطَلَ الِاعْتِزَالُ. ثم قال تعالى: [سورة الفجر (89) : الآيات 25 الى 26] فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قِرَاءَةُ العامة يعذب ويوثق بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِيهِمَا «1» قَالَ مُقَاتِلٌ مَعْنَاهُ: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَ اللَّهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَ اللَّهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ، وَالْمَعْنَى لَا يَبْلُغُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ كَبَلَاغِ اللَّهِ فِي الْعَذَابِ وَالْوَثَاقِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذَا التَّفْسِيرُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُعَذِّبٌ سِوَى اللَّهِ فَكَيْفَ يُقَالُ: لَا يُعَذِّبُ أَحَدٌ فِي مِثْلِ عَذَابِهِ، وَأُجِيبُ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّقْدِيرَ لَا يُعَذِّبُ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا عَذَابَ اللَّهِ الْكَافِرَ يَوْمَئِذٍ، وَلَا يُوثِقُ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا وَثَاقَ اللَّهِ الْكَافِرَ يَوْمَئِذٍ، وَالْمَعْنَى مِثْلَ عَذَابِهِ وَوَثَاقِهِ فِي الشِّدَّةِ وَالْمُبَالَغَةِ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَتَوَلَّى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ اللَّهِ أَحَدٌ. أَيِ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ أَمْرُهُ وَلَا أَمْرَ لِغَيْرِهِ الثَّالِثُ: وهو قول أبي علي

_ (1) يريد بالعين هنا الذال والثاء فهما عين الفعل، يريد يعذب ويوثق بالبناء للفاعل لا للمفعول (الصاوي) .

[سورة الفجر (89) : الآيات 27 إلى 28]

الْفَارِسِيِّ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدٌ مِنَ الزَّبَانِيَةِ مِثْلَ مَا يُعَذِّبُونَهُ، فَالضَّمِيرُ فِي عَذَابِهِ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ لَا يُعَذَّبُ وَلَا يَوْثَقُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِيهَا وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ رَجَعَ إِلَيْهَا فِي آخِرِ عُمْرِهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَهُمَا بِالْفَتْحِ وَالضَّمِيرُ لِلْإِنْسَانِ الْمَوْصُوفِ، وَقِيلَ: هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَلِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَفْسِيرَانِ أَحَدُهُمَا: لَا يُعَذِّبُ أَحَدٌ مِثْلَ عَذَابِهِ وَلَا يُوثِقُ بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ مِثْلَ وَثَاقِهِ، لِتَنَاهِيهِ فِي كُفْرِهِ وَفَسَادِهِ وَالثَّانِي: / أَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ عَذَابَ الْكَافِرِ، كَقَوْلِهِ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [فاطر: 18] قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَهَذِهِ أَوْلَى الْأَقْوَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعَذَابُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ بِمَعْنَى التَّعْذِيبِ وَالْوَثَاقُ بِمَعْنَى الْإِيثَاقِ، كَالْعَطَاءِ بِمَعْنَى الْإِعْطَاءِ فِي قَوْلِهِ: [أَكُفْرًا بعد رد الموت عن] ... وبعد عدائك المائة الرتاعا [سورة الفجر (89) : الآيات 27 الى 28] يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ حَالَ مَنِ اطْمَأَنَّ إِلَى الدُّنْيَا، وَصَفَ حَالَ من اطمأن إلى معرفته وعبوديته، فقال: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَقْدِيرُ هَذَا الكلام. يقول الله للمؤمن: يا أيتها النَّفْسَ فَإِمَّا أَنْ يُكَلِّمَهُ إِكْرَامًا لَهُ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: هَذَا وَإِنْ كَانَ أَمْرًا فِي الظَّاهِرِ لَكِنَّهُ خَبَرٌ فِي الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ النَّفْسَ إِذَا كَانَتْ مُطْمَئِنَّةً رَجَعَتْ إِلَى اللَّهِ، وَقَالَ اللَّهُ لَهَا: فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر: 29، 30] قَالَ: وَمَجِيءُ الْأَمْرِ بِمَعْنَى الْخَبَرِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ، كَقَوْلِهِمْ: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الِاطْمِئْنَانُ هُوَ الِاسْتِقْرَارُ وَالثَّبَاتُ، وَفِي كَيْفِيَّةِ هَذَا الِاسْتِقْرَارِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مُتَيَقِّنَةً بِالْحَقِّ، فَلَا يُخَالِجُهَا شَكٌّ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَةِ: 260] وَثَانِيهَا: النَّفْسُ الْآمِنَةُ الَّتِي لَا يَسْتَفِزُّهَا خَوْفٌ وَلَا حَزَنٌ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّفْسِيرِ قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْآمِنَةُ الْمُطْمَئِنَّةُ، وَهَذِهِ الْخَاصَّةُ قَدْ تَحْصُلُ عِنْدَ الْمَوْتِ عِنْدَ سَمَاعِ قَوْلِهِ: أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ [فُصِّلَتْ: 30] وَتَحْصُلُ عِنْدَ الْبَعْثِ، وَعِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ لَا مَحَالَةَ وَثَالِثُهَا: وَهُوَ تَأْوِيلٌ مُطَابِقٌ لِلْحَقَائِقِ الْعَقْلِيَّةِ، فَنَقُولُ: الْقُرْآنُ وَالْبُرْهَانُ تَطَابَقَا عَلَى أَنَّ هَذَا الِاطْمِئْنَانَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْدِ: 28] وَإِمَّا الْبُرْهَانُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُوَّةَ الْعَاقِلَةَ إِذَا أَخَذَتْ تَتَرَقَّى فِي سِلْسِلَةِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، فَكُلَّمَا وَصَلَ إِلَى سَبَبٍ يَكُونُ هُوَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ طَلَبَ الْعَقْلُ لَهُ سَبَبًا آخَرَ، فَلَمْ يَقِفِ الْعَقْلُ عِنْدَهُ، بَلْ لَا يَزَالُ يَنْتَقِلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، حَتَّى يَنْتَهِيَ فِي ذَلِكَ التَّرَقِّي إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ مَقْطَعُ الْحَاجَاتِ. وَمُنْتَهَى الضَّرُورَاتِ، فَلَمَّا وَقَفَتِ الْحَاجَةُ دُونَهُ وَقَفَ الْعَقْلُ عِنْدَهُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِذًا كُلَّمَا كَانَتِ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ نَاظِرَةً إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ مُلْتِفَةً إِلَيْهِ اسْتَحَالَ أَنْ تَسْتَقِرَّ عِنْدَهُ، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى جَلَالِ وَاجِبِ الْوُجُودِ، وَعَرَفْتَ أَنَّ الْكُلَّ مِنْهُ اسْتَحَالَ أَنْ تَنْتَقِلَ عَنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الِاطْمِئْنَانَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِذِكْرِ وَاجِبِ الْوُجُودِ الثَّانِي: أَنَّ حَاجَاتِ الْعَبْدِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُتَنَاهِي الْبَقَاءِ وَالْقُوَّةِ إِلَّا بِإِمْدَادِ

اللَّهِ، وَغَيْرُ الْمُتَنَاهِي لَا يَصِيرُ مَجْبُورًا/ بِالْمُتَنَاهِي، فَلَا بُدَّ فِي مُقَابَلَةِ حَاجَةِ الْعَبْدِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا مِنْ كَمَالِ اللَّهِ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ، حَتَّى يَحْصُلَ الِاسْتِقْرَارُ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ آثَرَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ لَا لِشَيْءٍ غَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ غَيْرُ مُطْمَئِنٍّ، وَلَيْسَتْ نَفْسُهُ نَفْسًا مُطْمَئِنَّةً، أَمَّا مَنْ آثَرَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ لِشَيْءٍ سِوَاهُ فَنَفْسُهُ هِيَ النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أُنْسُهُ بِاللَّهِ وَشَوْقُهُ إِلَى اللَّهِ وَبَقَاؤُهُ بِاللَّهِ وَكَلَامُهُ مَعَ اللَّهِ، فَلَا جَرَمَ يُخَاطِبُ عِنْدَ مُفَارَقَتِهِ الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً وَهَذَا كَلَامٌ لَا يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ بِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ كَامِلًا فِي الْقُوَّةِ الْفِكْرِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ أَوْ فِي التَّجْرِيدِ وَالتَّفْرِيدِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ مُطْلَقَ النَّفْسِ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها [الشَّمْسِ: 7] وَقَالَ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [الْمَائِدَةِ: 116] وَقَالَ: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السَّجْدَةِ: 17] وَتَارَةً وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا أَمَّارَةً بِالسُّوءِ، فَقَالَ: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يُوسُفَ: 53] وَتَارَةً بِكَوْنِهَا لَوَّامَةً، فَقَالَ: بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [الْقِيَامَةِ: 2] وَتَارَةً بِكَوْنِهَا مُطْمَئِنَّةً كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ نَفْسَ ذَاتِكَ وَحَقِيقَتِكَ وَهِيَ الَّتِي تُشِيرُ إِلَيْهَا بِقَوْلِكَ: (أَنَا) حِينَ تُخْبِرُ عَنْ نَفْسِكَ بِقَوْلِكَ فَعَلْتُ وَرَأَيْتُ وَسَمِعْتُ وَغَضِبْتُ وَاشْتَهَيْتُ وَتَخَيَّلْتُ وَتَذَكَّرْتُ، إِلَّا أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْإِشَارَةِ لَيْسَ هُوَ هَذِهِ الْبِنْيَةَ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِكَ: (أَنَا) قَدْ يَكُونُ مَعْلُومًا حَالَ مَا تَكُونُ هَذِهِ الْبِنْيَةُ الْمَخْصُوصَةُ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ، وَالْمَعْلُومُ غَيْرُ مَا هُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْبِنْيَةَ مُتَبَدِّلَةُ الْأَجْزَاءِ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِكَ: (أَنَا) غَيْرُ مُتَبَدِّلٍ، فَإِنِّي أَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنِّي أَنَا الَّذِي كُنْتُ مَوْجُودًا قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ بِعِشْرِينَ سَنَةً، وَالْمُتَبَدِّلُ غَيْرُ مَا هُوَ غَيْرُ مُتَبَدِّلٍ، فَإِذًا لَيْسَتِ النَّفْسُ عِبَارَةً عَنْ هَذِهِ الْبِنْيَةِ، وَتَقُولُ: قَالَ قَوْمٌ إِنَّ النَّفْسَ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ لِأَنَّا قَدْ نَعْقِلُ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (أَنَا) حَالَ مَا أَكُونُ غَافِلًا عَنِ الْجِسْمِ الَّذِي حَقِيقَتُهُ الْمُخْتَصُّ بِالْحَيِّزِ الذَّاهِبِ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْعُمْقِ. وَالْمَعْلُومُ مُغَايِرٌ لِمَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ، وَجَوَابُ الْمُعَارَضَةِ بِالنَّفْسِ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى بِلُبَابِ الْإِشَارَاتِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ جَوْهَرٌ جُسْمَانِيٌّ لَطِيفٌ صَافٍ بَعِيدٌ عَنْ مُشَابَهَةِ الْأَجْرَامِ الْعُنْصُرِيَّةِ نُورَانِيٌّ سَمَاوِيٌّ مُخَالِفٌ بِالْمَاهِيَّةِ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ السُّفْلِيَّةِ، فَإِذَا صَارَتْ مُشَابِكَةً لِهَذَا الْبَدَنِ الْكَثِيفِ صَارَ الْبَدَنُ حَيًّا وَإِنْ فَارَقَتْهُ صَارَ الْبَدَنُ مَيِّتًا، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ وَصْفُهَا بِالْمَجِيءِ وَالرُّجُوعِ بِمَعْنَى التَّدْبِيرِ وَتَرْكِهِ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي يَكُونُ ذَلِكَ الْوَصْفُ حَقِيقًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنَ الْقُدَمَاءِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ النُّفُوسَ أَزَلِيَّةٌ، وَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يُقَالُ: لِمَا كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ هَذَا الْبَدَنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَتَفَرَّعُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ مَتَى يُوجَدُ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِنَّمَا يُوجَدُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وهاهنا تَقْوَى حُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِتَقَدُّمِ الْأَرْوَاحِ عَلَى الْأَجْسَادِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَقَدُّمِهَا عَلَيْهَا قِدَمُهَا الثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا يُوجَدُ عِنْدَ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَالْمَعْنَى: ارْجِعِي إِلَى ثَوَابِ رَبِّكِ، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، أَيِ ادْخُلِي فِي الْجَسَدِ الَّذِي خَرَجْتِ مِنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمُجَسِّمَةُ تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ: إِلى رَبِّكِ وَكَلِمَةُ إِلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ وَجَوَابُهُ: إِلَى حُكْمِ رَبِّكِ، أَوْ إِلَى ثَوَابِ رَبِّكِ أَوْ إِلَى إِحْسَانِ رَبِّكِ وَالْجَوَابُ: الْحَقِيقِيُّ الْمُفَرَّعُ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي قَرَّرْنَاهَا، أَنَّ الْقُوَّةَ الْعَقْلِيَّةَ بِسَيْرِهَا الْعَقْلِيِّ تَتَرَقَّى مِنْ مَوْجُودٍ إِلَى مَوْجُودٍ آخَرَ، وَمِنْ سَبَبٍ إِلَى سَبَبٍ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى حَضْرَةِ وَاجِبِ الْوُجُودِ، فَهُنَاكَ انْتِهَاءُ الْغَايَاتِ وَانْقِطَاعُ الْحَرَكَاتِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَالْمَعْنَى رَاضِيَةً

[سورة الفجر (89) : الآيات 29 إلى 30]

بِالثَّوَابِ مَرْضِيَّةً عَنْكِ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي عَمِلْتِهَا فِي الدُّنْيَا، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّفْسِيرِ، مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَرَأَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَحْسَنَ هَذَا! فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَمَا إِنَّ الْمَلَكَ سَيَقُولُهَا لَكَ» . ثم قوله تعالى: [سورة الفجر (89) : الآيات 29 الى 30] فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قِيلَ: نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقِيلَ: فِي خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ الَّذِي صَلَبَهُ أَهْلُ مَكَّةَ، وَجَعَلُوا وَجْهَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ لِي عِنْدَكَ خَيْرٌ فَحَوِّلْ وَجْهِي نَحْوَ بَلْدَتِكَ، فَحَوَّلَ اللَّهُ وَجْهَهُ نَحْوَهَا، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يُحَوِّلَهُ، وَأَنْتَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَادْخُلِي فِي عِبادِي أَيِ انْضَمِّي إِلَى عِبَادِي الْمُقَرَّبِينَ، وَهَذِهِ حَالَةٌ شَرِيفَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ الشَّرِيفَةَ الْقُدْسِيَّةَ تَكُونُ كَالْمَرَايَا الْمَصْقُولَةِ، فَإِذَا انْضَمَّ بَعْضُهَا إِلَى الْبَعْضِ حَصَلَتْ فِيمَا بَيْنَهَا حَالَةٌ شَبِيهَةٌ بِالْحَالَةِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَ تَقَابُلِ الْمَرَايَا الْمَصْقُولَةِ مِنِ انْعِكَاسِ الْأَشِعَّةِ مِنْ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، فَيَظْهَرُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا كُلُّ مَا ظَهَرَ فِي كُلِّهَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الِانْضِمَامُ سَبَبًا لِتَكَامُلِ تِلْكَ السَّعَادَاتِ، وَتَعَاظُمِ تِلْكَ الدَّرَجَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الْوَاقِعَةِ: 90، 91] وَذَلِكَ هُوَ السَّعَادَةُ الرُّوحَانِيَّةُ، ثُمَّ قَالَ: وَادْخُلِي جَنَّتِي وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى السَّعَادَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْجَنَّةُ الرُّوحَانِيَّةُ غَيْرَ مُتَرَاخِيَةٍ عَنِ الْمَوْتِ فِي حَقِّ السُّعَدَاءِ، لَا جَرَمَ قَالَ: فَادْخُلِي فِي عِبادِي فَذُكِرَ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْجَنَّةُ الْجُسْمَانِيَّةُ لَا يَحْصُلُ الْفَوْزُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى، لَا جَرَمَ قَالَ: وَادْخُلِي جَنَّتِي فَذَكَرَهُ بِالْوَاوِ لَا بِالْفَاءِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة البلد

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة البلد عشرون آية مكية [سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) [في قوله تعالى لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ] أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْبَلَدَ هِيَ مَكَّةُ، وَاعْلَمْ أَنَّ فَضْلَ مَكَّةَ مَعْرُوفٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهَا حَرَمًا آمِنًا، فَقَالَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي فِيهَا وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آلِ عِمْرَانَ: 97] وَجَعَلَ ذَلِكَ الْمَسْجِدَ قِبْلَةً لِأَهْلِ المشرق والمغرب، فقال: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [الْبَقَرَةِ: 144] وَشَرَّفَ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ بِقَوْلِهِ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [الْبَقَرَةِ: 125] وَأَمَرَ النَّاسَ بِحَجِّ ذَلِكَ الْبَيْتِ فَقَالَ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آلِ عِمْرَانَ: 97] وَقَالَ فِي الْبَيْتِ: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [الْبَقَرَةِ: 125] وَقَالَ: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً [الْحَجِّ: 26] وَقَالَ: وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الْحَجِّ: 27] وَحَرَّمَ فِيهِ الصَّيْدَ، وَجَعَلَ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ بِإِزَائِهِ، وَدُحِيَتِ الدُّنْيَا مِنْ تَحْتِهِ، فَهَذِهِ الْفَضَائِلُ وَأَكْثَرُ مِنْهَا لَمَّا اجْتَمَعَتْ فِي مَكَّةَ لَا جَرَمَ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا، فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ أُمُورٌ أَحَدُهَا: وَأَنْتَ مُقِيمٌ بِهَذَا الْبَلَدِ نَازِلٌ فِيهِ حَالٌّ بِهِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى عَظَّمَ مَكَّةَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُقِيمٌ بِهَا وَثَانِيهَا: الْحِلُّ بِمَعْنَى الْحَلَالِ، أَيْ أَنَّ الْكُفَّارَ يَحْتَرِمُونَ هَذَا الْبَلَدَ وَلَا يَنْتَهِكُونَ فِيهِ الْمُحَرَّمَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ وَمَعَ إِكْرَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاكَ بِالنُّبُوَّةِ يَسْتَحِلُّونَ إِيذَاءَكَ وَلَوْ تَمَكَّنُوا مِنْكَ لَقَتَلُوكَ، فَأَنْتَ حِلٌّ لَهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ لَا يَرَوْنَ لَكَ مِنَ الْحُرْمَةِ مَا يَرَوْنَهُ لِغَيْرِكَ، عَنْ شُرَحْبِيلَ: يُحَرِّمُونَ أن يقتلوا بها صيدا أو يعضوا بِهَا شَجَرَةً وَيَسْتَحِلُّونَ إِخْرَاجَكَ وَقَتْلَكَ، وَفِيهِ تَثْبِيتٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْثٌ عَلَى احْتِمَالِ مَا كَانَ يُكَابِدُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَتَعْجِيبٌ لَهُ مِنْ حَالِهِمْ فِي عُدْوَانِهِمْ لَهُ وَثَالِثُهَا: قَالَ قَتَادَةُ: وَأَنْتَ حِلٌّ أَيْ لَسْتَ بِآثِمٍ، وَحَلَالٌ لَكَ أَنْ تَقْتُلَ بِمَكَّةَ مَنْ شِئْتَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَتَحَ عَلَيْهِ مَكَّةَ وَأَحَلَّهَا لَهُ، وَمَا فُتِحَتْ عَلَى أَحَدٍ قَبْلَهُ، فَأَحَلَّ مَا شَاءَ وَحَرَّمَ مَا شَاءَ وَفَعَلَ مَا شَاءَ، فَقَتَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَطَلٍ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَمَقِيسَ بْنَ صُبَابَةَ وَغَيْرَهُمَا، وَحَرَّمَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ، ثُمَّ/ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خلق السموات وَالْأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَنْ

تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحِلَّ إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُخْتَلَى خلالها، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تَحِلُّ لُقْطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُ لِبُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا، فَقَالَ إِلَّا الْإِذْخِرَ» . فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: وَأَنْتَ حِلٌّ إِخْبَارٌ عَنِ الْحَالِ، وَالْوَاقِعَةُ الَّتِي ذَكَرْتُمْ إِنَّمَا حَدَثَتْ فِي آخِرِ مُدَّةِ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؟ قُلْنَا: قَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ لِلْحَالِ وَالْمَعْنَى مُسْتَقْبَلًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ مَيِّتٌ [الزُّمَرِ: 30] وَكَمَا إِذَا قُلْتَ لِمَنْ تَعِدُهُ الْإِكْرَامَ وَالْحِبَاءَ: أَنْتَ مُكْرَمٌ مَحْبُوٌّ، وَهَذَا مِنَ اللَّهِ أَحْسَنُ، لِأَنَّ الْمُسْتَقْبَلَ عِنْدَهُ كَالْحَاضِرِ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُهُ عَنْ وَعْدِهِ مَانِعٌ وَرَابِعُهَا: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ أَيْ وَأَنْتَ غَيْرُ مُرْتَكِبٍ فِي هَذَا الْبَلَدِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْكَ ارْتِكَابُهُ تَعْظِيمًا مِنْكَ لِهَذَا الْبَيْتِ، لَا كَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَرْتَكِبُونَ فِيهِ الْكُفْرَ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبَ الرُّسُلِ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقْسَمَ بِهَذَا الْبَلَدِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى غَايَةِ فَضْلِ هَذَا الْبَلَدِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ أَيْ وَأَنْتَ مِنْ حِلِّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الْمُعَظَّمَةِ الْمُكَرَّمَةِ، وَأَهْلُ هَذَا الْبَلَدِ يَعْرِفُونَ أَصْلَكَ وَنَسَبَكَ وَطَهَارَتَكَ وَبَرَاءَتَكَ طُولَ عُمْرِكَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْجُمُعَةِ: 2] وَقَالَ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَةِ: 128] وَقَوْلُهُ: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ [يُونُسَ: 16] فَيَكُونُ الْغَرَضُ شَرْحَ مَنْصِبِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَوْنِهِ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَوالِدٍ وَما وَلَدَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَقَوْلُهُ: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْوَلَدُ آدَمُ وَمَا وَلَدَ ذُرِّيَّتُهُ، أَقْسَمَ بِهِمْ إِذْ هُمْ مِنْ أَعْجَبِ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْبَيَانِ وَالنُّطْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَاسْتِخْرَاجِ الْعُلُومِ وَفِيهِمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالدُّعَاةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَنْصَارُ لِدِينِهِ، وَكُلُّ مَا فِي الْأَرْضِ مَخْلُوقٌ لَهُمْ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَعَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الْإِسْرَاءِ: 70] فَيَكُونُ الْقَسَمُ بِجَمِيعِ الْآدَمِيِّينَ صَالِحِهِمْ وَطَالِحِهِمْ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ظُهُورِ الْعَجَائِبِ فِي هَذِهِ الْبِنْيَةِ وَالتَّرْكِيبِ، وَقِيلَ: هُوَ قَسَمٌ بِآدَمَ وَالصَّالِحِينَ مِنْ أَوْلَادِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الطَّالِحِينَ كَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَوْلَادِهِ وَكَأَنَّهُمْ بَهَائِمُ. كَمَا قَالَ: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الْفُرْقَانِ: 44] ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الْبَقَرَةِ: 18] وَثَانِيهَا: أَنَّ الْوَلَدَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ وَمَا وَلَدَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَقْسَمَ بِمَكَّةَ وَإِبْرَاهِيمَ بَانِيهَا وَإِسْمَاعِيلَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ سُكَّانِهَا، وَفَائِدَةُ التَّنْكِيرِ الْإِبْهَامُ الْمُسْتَقِلُّ بِالْمَدْحِ وَالتَّعَجُّبِ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَما وَلَدَ وَلَمْ يَقُلْ وَمَنْ وَلَدَ، لِلْفَائِدَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آلِ عِمْرَانَ: 36] أَيْ بِأَيِّ شَيْءٍ وَضَعَتْ يَعْنِي مَوْضُوعًا عَجِيبَ الشَّأْنِ وَثَالِثُهَا: الْوَلَدُ إِبْرَاهِيمُ وَمَا وَلَدَ جَمِيعُ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ بِحَيْثُ يَحْتَمِلُ الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ. فَإِنَّ جُمْلَةَ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ هُمْ سُكَّانُ الْبِقَاعِ الْفَاضِلَةِ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَمِصْرَ، وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَرْضِ الْعَرَبِ وَمِنْهُمُ الرُّومُ لِأَنَّهُمْ وَلَدُ عَيْصُو بْنِ إِسْحَاقَ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ ذَلِكَ بِوَلَدِ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْعَرَبِ/ وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ ذَلِكَ بِالْعَرَبِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا الْقَسَمَ وَاقِعٌ بِوَلَدِ إِبْرَاهِيمَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ قَدْ شُرِّعَ فِي التَّشَهُّدِ أَنْ يُقَالَ: «كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ» وهم المؤمنون وَرَابِعُهَا: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْوَلَدُ الَّذِي يَلِدُ، وَمَا وَلَدَ الَّذِي لَا يلد، فما هاهنا يَكُونُ لِلنَّفْيِ، وَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ عَنْ إِضْمَارِ الْمَوْصُولِ أَيْ وَوَالِدٍ، وَالَّذِي مَا وَلَدَ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ وَخَامِسُهَا: يَعْنِي كُلَّ وَالِدٍ وَمَوْلُودٍ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْكَلَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ ففيه مسائل:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْكَبَدِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّ الْكَبَدَ أَصْلُهُ مِنْ قَوْلِكَ كَبَدَ الرَّجُلُ كَبَدًا فَهُوَ كَبِدٌ إِذَا وُجِعَتْ كَبِدُهُ وَانْتَفَخَتْ، فَاتُّسِعَ فِيهِ حَتَّى اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ تَعَبٍ وَمَشَقَّةٍ، وَمِنْهُ اشْتُقَّتِ الْمُكَابَدَةُ وَأَصْلُهُ كَبَدَهُ إِذَا أَصَابَ كَبِدَهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْكَبَدُ شِدَّةُ الْأَمْرِ وَمِنْهُ تَكَبَّدَ اللَّبَنُ إِذَا غَلُظَ وَاشْتَدَّ، وَمِنْهُ الْكَبِدُ لِأَنَّهُ دَمٌ يَغْلُظُ وَيَشْتَدُّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْأَوَّلَ جَعَلَ اسْمَ الْكَبَدِ مَوْضُوعًا لِلْكَبِدِ، ثُمَّ اشْتُقَّتْ مِنْهُ الشِّدَّةُ. وَفِي الثَّانِي جُعِلَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِلشِّدَّةِ وَالْغِلَظِ، ثُمَّ اشْتُقَّ مِنْهُ اسْمُ الْعُضْوِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْكَبَدَ هُوَ الِاسْتِوَاءُ وَالِاسْتِقَامَةُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْكَبَدَ شِدَّةُ الْخَلْقِ وَالْقُوَّةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ شَدَائِدَ الدُّنْيَا فَقَطْ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ شَدَائِدَ التَّكَالِيفِ فَقَطْ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ شَدَائِدَ الْآخِرَةِ فَقَطْ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كُلَّ ذَلِكَ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَوْلُهُ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أَيْ خَلَقْنَاهُ أَطْوَارًا كُلُّهَا شِدَّةٌ وَمَشَقَّةٌ، تَارَةً فِي بَطْنِ الْأُمِّ، ثُمَّ زَمَانَ الْإِرْضَاعِ، ثُمَّ إِذَا بَلَغَ فَفِي الْكَدِّ فِي تَحْصِيلِ الْمَعَاشِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَوْتُ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ الْكَبَدُ فِي الدِّينِ، فَقَالَ الْحَسَنُ: يُكَابِدُ الشُّكْرَ عَلَى السَّرَّاءِ، وَالصَّبْرَ عَلَى الضَّرَّاءِ، وَيُكَابِدُ الْمِحَنَ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ الْآخِرَةُ، فَالْمَوْتُ وَمُسَاءَلَةُ الْمَلَكِ وَظُلْمَةُ الْقَبْرِ، ثُمَّ الْبَعْثُ وَالْعَرْضُ عَلَى اللَّهِ إِلَى أَنْ يَسْتَقِرَّ بِهِ الْقَرَارُ إِمَّا فِي الْجَنَّةِ وَإِمَّا فِي النَّارِ. وَأَمَّا الرَّابِعُ: وَهُوَ يَكُونُ اللَّفْظُ مَحْمُولًا عَلَى الْكُلِّ فَهُوَ الْحَقُّ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَذَّةٌ الْبَتَّةَ، بَلْ ذَاكَ يُظَنُّ أَنَّهُ لَذَّةٌ فَهُوَ خَلَاصٌ عَنِ الْأَلَمِ، فَإِنَّ مَا يُتَخَيَّلُ مِنَ اللَّذَّةِ عِنْدَ الْأَكْلِ فَهُوَ خَلَاصٌ عِنْدَ أَلَمِ الْجُوعِ، وَمَا يُتَخَيَّلُ مِنَ اللَّذَّاتِ عِنْدَ اللُّبْسِ فَهُوَ خَلَاصٌ عَنْ أَلَمِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ، إِلَّا أَلَمٌ أَوْ خَلَاصٌ عَنْ أَلَمٍ وَانْتِقَالٌ إِلَى آخَرَ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ ويطهر مِنْهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، لِأَنَّ الْحَكِيمَ الَّذِي دَبَّرَ خِلْقَةَ الْإِنْسَانِ إِنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ مِنْهُ أَنْ يَتَأَلَّمَ، فَهَذَا لَا يَلِيقُ بِالرَّحْمَةِ، وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ أَنْ لَا يَتَأَلَّمَ وَلَا يَلْتَذَّ، فَفِي تَرْكِهِ عَلَى الْعَدَمِ كِفَايَةٌ فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ، وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ أَنْ يَلْتَذَّ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ لَذَّةٌ، وَأَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا فِي كَبَدٍ وَمَشَقَّةٍ وَمِحْنَةٍ، فَإِذًا لَا بُدَّ/ بَعْدَ هَذِهِ الدَّارِ مِنْ دَارٍ أُخْرَى، لِتَكُونَ تِلْكَ الدَّارُ دَارَ السَّعَادَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَالْكَرَامَاتِ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُفَسَّرَ الْكَبَدُ بِالِاسْتِوَاءِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي كَبَدٍ، أَيْ قَائِمًا مُنْتَصِبًا، وَالْحَيَوَانَاتُ الْأُخَرُ تَمْشِي مُنَكَّسَةً، فَهَذَا امْتِنَانٌ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْخِلْقَةِ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ: وَهُوَ أَنْ يُفَسَّرَ الْكَبَدُ بِشِدَّةِ الْخِلْقَةِ، فَقَدْ قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ مِنْ بَنِي جُمَحٍ يُكْنَى أَبَا الْأَشَدِّ، وَكَانَ يَجْعَلُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ الْأَدِيمَ الْعُكَاظِيَّ، فَيَجْتَذِبُونَهُ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ فَيَتَمَزَّقُ الْأَدِيمُ وَلَمْ تَزَلْ قَدَمَاهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّائِقَ بِالْآيَةِ هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَرْفُ فِي وَاللَّامُ مُتَقَارِبَانِ، تَقُولُ: إِنَّمَا أَنْتَ لِلْعَنَاءِ وَالنَّصَبِ، وَإِنَّمَا أَنْتَ فِي الْعَنَاءِ وَالنَّصَبِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: فِي كَبَدٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَبَدَ قَدْ أَحَاطَ بِهِ إِحَاطَةَ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا الْكَدُّ والمحنة.

[سورة البلد (90) : آية 5]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ إِنْسَانٌ مُعَيَّنٌ، وَهُوَ الَّذِي وَصَفْنَاهُ بِالْقُوَّةِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ أَحَدٍ وَإِنْ كُنَّا لَا نَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ورد عند فعل فعله ذلك الرجل. [سورة البلد (90) : آية 5] أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) اعْلَمْ أَنَّا إِنْ فَسَّرْنَا الْكَبَدَ بِالشِّدَّةِ فِي الْقُوَّةِ، فَالْمَعْنَى أَيَحْسَبُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ الشَّدِيدُ أَنَّهُ لِشِدَّتِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَإِنْ فَسَّرْنَا الْمِحْنَةَ وَالْبَلَاءَ كَانَ الْمَعْنَى تَسْهِيلَ ذَلِكَ عَلَى الْقَلْبِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَهَبْ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَانَ فِي النِّعْمَةِ وَالْقُدْرَةِ، أَفَيَظُنُّ أَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ: بَعْضُهُمْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَى بَعْثِهِ وَمُجَازَاتِهِ فَكَأَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ لَنْ يَقْدِرَ عَلَى تَغْيِيرِ أَحْوَالِهِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ قَوِيٌّ عَلَى الْأُمُورِ لَا يُدَافِعُ عَنْ مُرَادِهِ، وَقَوْلُهُ: أَيَحْسَبُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الإنكار. [سورة البلد (90) : آية 6] يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَداً (6) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَبَدَ، فِعْلٌ مِنَ التَّلْبِيدِ وَهُوَ الْمَالُ الْكَثِيرُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ: فِعْلٌ لِلْكَثْرَةِ يُقَالُ رَجُلٌ حُطَمٌ إِذَا كَانَ كَثِيرَ الْحَطْمِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَاحِدَتُهُ لُبْدَةٌ وَلُبَدٌ جَمْعٌ وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ وَاحِدًا، وَنَظِيرُهُ قُسَمٌ وَحُطَمٌ وَهُوَ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا الْكَثِيرُ، قَالَ اللَّيْثَ: مَالٌ لُبَدٌ لَا يُخَافُ فَنَاؤُهُ مِنْ كَثْرَتِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ هَذَا الْحَرْفِ عِنْدَ قَوْلِهِ: يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الْجِنِّ: 19] وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْكَافِرَ يَقُولُ: أَهْلَكْتُ فِي عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ مَالًا كَثِيرًا، وَالْمُرَادُ كَثْرَةُ مَا أَنْفَقَهُ فِيمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُسَمُّونَهُ مَكَارِمَ، وَيَدَّعُونَهُ مَعَالِيَ وَمَفَاخِرَ. ثُمَّ قَالَ تعالى: [سورة البلد (90) : آية 7] أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ قَتَادَةُ: أَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ/ يَرَهُ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ الثَّانِي: قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ كَاذِبًا لَمْ يُنْفِقْ شَيْئًا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُ، فَعَلَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ، أَنْفَقَ أَوْ لَمْ يُنْفِقْ، بَلْ رَآهُ وَعَلِمَ مِنْهُ خِلَافَ مَا قَالَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ ذَلِكَ الْكَافِرِ قَوْلَهُ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ [البلد: 5] أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ فَقَالَ تَعَالَى: [سورة البلد (90) : الآيات 8 الى 10] أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) وَعَجَائِبُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ التَّشْرِيحِ، قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ: النَّجْدُ الطَّرِيقُ فِي ارْتِفَاعٍ فَكَأَنَّهُ لَمَّا وَضَحَتِ الدَّلَائِلُ جُعِلَتْ كَالطَّرِيقِ الْمُرْتَفِعَةِ الْعَالِيَةِ بِسَبَبِ أَنَّهَا وَاضِحَةٌ لِلْعُقُولِ كَوُضُوحِ الطَّرِيقِ الْعَالِي لِلْأَبْصَارِ، وَإِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ذَهَبَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ فِي النَّجْدَيْنِ وَهُوَ أَنَّهُمَا سَبِيلَا الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: إِنَّمَا هُمَا النَّجْدَانِ، نَجْدُ الْخَيْرِ وَنَجْدُ الشَّرِّ، وَلَا يَكُونُ نَجْدُ الشَّرِّ، أَحَبَّ إِلَى أَحَدِكُمْ مَنْ نَجْدِ الْخَيْرِ» وَهَذِهِ الْآيَةُ كالآية في: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ إِلَى قَوْلِهِ: فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً

[سورة البلد (90) : آية 11]

وَإِمَّا كَفُوراً [الْإِنْسَانِ: 1- 3] وَقَالَ الْحَسَنُ: قَالَ: أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَداً فَمَنِ الَّذِي يُحَاسِبُنِي عَلَيْهِ؟ فَقِيلَ: الَّذِي قَدَرَ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ لَكَ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ قَادِرٌ عَلَى مُحَاسَبَتِكَ، وَرُوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُمَا الثَّدْيَانِ، وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمَا كَالطَّرِيقَيْنِ لِحَيَاةِ الْوَلَدِ وَرِزْقِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى هَدَى الطِّفْلَ الصَّغِيرَ حَتَّى ارْتَضَعَهَا، قَالَ الْقَفَّالُ: وَالتَّأْوِيلُ هُوَ الْأَوَّلُ، ثُمَّ قَرَّرَ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ، فَقَالَ: إِنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِنَ الْمَاءِ المهين قلبا عقولا ولسانا قولا، فَهُوَ عَلَى إِهْلَاكِ مَا خَلَقَ قَادِرٌ، وَبِمَا يُخْفِيهِ الْمَخْلُوقُ عَالِمٌ، فَمَا الْعُذْرُ فِي الذَّهَابِ عَنْ هَذَا مَعَ وُضُوحِهِ وَمَا الْحُجَّةُ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ مِنْ تَظَاهُرِ نِعَمِهِ، وَمَا الْعِلَّةُ فِي التَّعْزِيزِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى أَنْصَارِ دِينِهِ بِالْمَالِ وَهُوَ الْمُعْطِي لَهُ، وَهُوَ الْمُمْكِنُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دَلَّ عِبَادَهُ عَلَى الْوُجُوهِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي تُنْفَقُ فِيهَا الْأَمْوَالُ، وَعَرَّفَ هَذَا الْكَافِرَ أَنَّ إِنْفَاقَهُ كَانَ فاسدا وغير مفيد، فقال تعالى: [سورة البلد (90) : آية 11] فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الِاقْتِحَامُ الدُّخُولُ فِي الْأَمْرِ الشَّدِيدِ يُقَالُ: قَحَمَ يَقْحَمُ قُحُومًا، وَاقْتَحَمَ اقْتِحَامًا وَتَقَحَّمَ تَقَحُّمًا إِذَا رَكِبَ الْقُحَمَ، وَهِيَ الْمَهَالِكُ وَالْأُمُورُ الْعِظَامُ وَالْعَقَبَةُ طَرِيقٌ فِي الْجَبَلِ وَعْرٌ، الْجَمْعُ الْعُقَبُ وَالْعُقَابُ، ثم ذكر المفسرون في العقبة هاهنا وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا فِي الْآخِرَةِ وَقَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ عَقَبَةَ جَهَنَّمَ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هِيَ عَقَبَةٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ هِيَ: جبل زلال في جهنم وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضِّحَاكُ: هِيَ الصِّرَاطُ يُضْرَبُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْكَلْبِيِّ: إِنَّهَا عَقَبَةُ الْجَنَّةِ/ وَالنَّارِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا تَفْسِيرٌ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ [بَنِي] هَذَا الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ لَمْ يَقْتَحِمُوا عَقَبَةَ جَهَنَّمَ وَلَا جَاوَزُوهَا فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ يَكُونُ إِيضَاحًا لِلْوَاضِحَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ [البلد: 12] فَسَّرَهُ بِفَكِّ الرَّقَبَةِ وَبِالْإِطْعَامِ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تفسير العقبة هو أن ذكر العقبة هاهنا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ فِي أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُقَاتِلٍ: قَالَ الْحَسَنُ عَقَبَةُ اللَّهِ شَدِيدَةٌ وَهِيَ مُجَاهَدَةُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ وَهَوَاهُ وَعَدُوَّهُ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَأَقُولُ هَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ الْحَقُّ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَرَقَّى مِنْ عَالَمِ الْحِسِّ وَالْخَيَالِ إِلَى يَفَاعِ عَالَمِ الْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا عَقَبَاتٍ سَامِيَةً دُونَهَا صَوَاعِقُ حَامِيَةٌ، وَمُجَاوَزَتُهَا صَعْبَةٌ وَالتَّرَقِّي إِلَيْهَا شَدِيدٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ فِي الْآيَةِ إِشْكَالًا وَهُوَ أَنَّهُ قَلَّمَا تُوجَدُ لَا الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمُضِيِّ إِلَّا مُكَرَّرَةً، تَقُولُ: لَا جَنَّبَنِي وَلَا بَعَّدَنِيِّ قَالَ تَعَالَى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [الْقِيَامَةِ: 31] وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا جَاءَ التَّكْرِيرُ فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟ أُجِيبَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهَا مُتَكَرِّرَةٌ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ مَعْنَى فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ فَلَا فَكَّ رَقَبَةً وَلَا أَطْعَمَ مِسْكِينًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ فَسَّرَ اقْتِحَامَ الْعَقَبَةِ بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد: 17] يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى مَعْنَى فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَلَا آمَنَ الثَّانِي: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: مَعْنَى فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ لَمْ يَقْتَحِمْهَا، وَإِذَا كَانَتْ لَا بِمَعْنَى لَمْ كَانَ التَّكْرِيرُ غَيْرَ وَاجِبٍ كَمَا لَا يَجِبُ التَّكْرِيرُ مَعَ لَمْ، فَإِنْ تَكَرَّرَتْ فِي مَوْضِعٍ نَحْوَ فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى فَهُوَ كَتَكَرُّرِ وَلَمْ: نَحْوَ لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الْفُرْقَانِ: 67] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: قَوْلُهُ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أَيْ هَلَّا أَنْفَقَ مَالَهُ فِيمَا فِيهِ اقْتِحَامُ الْعَقَبَةِ؟ وَأَمَّا

[سورة البلد (90) : آية 12]

الْبَاقُونَ فَإِنَّهُمْ أَجْرَوُا اللَّفْظَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ الإخبار بأنه ما اقتحم العقبة. ثم قال تعالى: [سورة البلد (90) : آية 12] وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، لِأَنَّ الْعَقَبَةَ لَا تَكُونُ فَكَّ رَقَبَةٍ، فَالْمُرَادُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا اقْتِحَامُ الْعَقَبَةِ، وَهَذَا تَعْظِيمٌ لِأَمْرِ الْتِزَامِ الدِّينِ. ثُمَّ قَالَ تعالى: [سورة البلد (90) : آية 13] فَكُّ رَقَبَةٍ (13) وَالْمَعْنَى أَنَّ اقْتِحَامَ الْعَقَبَةِ هُوَ الْفَكُّ أَوِ الْإِطْعَامُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفَكُّ فَرْقٌ يُزِيلُ الْمَنْعَ كَفَكِّ الْقَيْدِ وَالْغُلِّ، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ فَرْقٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صِفَةِ الرِّقِّ بِإِيجَابِ الْحُرِّيَّةِ وَإِبْطَالِ الْعُبُودِيَّةِ، وَمِنْهُ فَكُّ الرَّهْنِ وَهُوَ إِزَالَةُ غَلْقِ الرَّهْنِ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَطْلَقْتَهُ فَقَدْ فَكَكْتَهُ، وَمِنْهُ فَكُّ الْكِتَابِ، قَالَ الْفَرَّاءُ فِي «الْمَصَادِرِ» فَكَّهَا يَفُكُّهَا فَكَاكًا بِفَتْحِ الْفَاءِ فِي الْمَصْدَرِ وَلَا تَقُلْ بِكَسْرِهَا، وَيُقَالُ: كَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي الْأُسَارَى شَدَّ رِقَابِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ فَجَرَى ذَلِكَ فِيهِمْ وَإِنْ لَمْ يَشْدُدْ، ثُمَّ سُمِّيَ إِطْلَاقُ الْأَسِيرِ فَكَاكًا، قَالَ الْأَخْطَلُ: أَبَنِي كُلَيْبٍ إِنَّ عَمَّيَّ اللَّذَا ... قَتَلَا الْمُلُوكَ وَفَكَّكَا الْأَغْلَالَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَكُّ الرَّقَبَةِ قَدْ يَكُونُ بِأَنْ يُعْتِقَ الرَّجُلُ رَقَبَةً مِنَ الرِّقِّ، وَقَدْ يَكُونُ بِأَنْ يُعْطِيَ مُكَاتِبًا مَا يَصْرِفُهُ إِلَى جِهَةِ فَكَاكِ نَفْسِهِ، رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، قَالَ: عِتْقُ النَّسَمَةِ وَفَكُّ الرَّقَبَةِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أو ليسا وَاحِدًا؟ قَالَ: لَا، عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ، أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا» وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ يَفُكَّ الْمَرْءُ رَقَبَةَ نَفْسِهِ بِمَا يَتَكَلَّفُهُ مِنَ الْعِبَادَةِ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا إِلَى الْجَنَّةِ فَهِيَ الْحُرِّيَّةُ الْكُبْرَى، وَيَتَخَلَّصُ بِهَا مِنَ النَّارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ، وَالتَّقْدِيرُ هِيَ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ وَقُرِئَ: (فَكَّ رَقَبَةً أَوْ أَطْعَمَ) عَلَى الْإِبْدَالِ مِنِ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَقَوْلُهُ: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ اعْتِرَاضٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُوَ أَشْبَهُ الْوَجْهَيْنِ بِصَحِيحِ العربية لقوله: ثُمَّ كانَ [البلد: 16] لِأَنَّ فَكَّ وَأَطْعَمَ فِعْلٌ، وَقَوْلُهُ: كانَ فِعْلٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الَّذِي يُعْطَفُ عَلَيْهِ الْفِعْلُ فِعْلًا، أَمَّا لَوْ قِيلَ: ثُمَّ إِنْ كَانَ «1» كَانَ ذَلِكَ مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِ: فَكُّ رَقَبَةٍ بِالرَّفْعِ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَطْفًا لِلِاسْمِ عَلَى الِاسْمِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْعِتْقُ أَفْضَلُ أَنْوَاعِ الصَّدَقَاتِ، وَعِنْدَ صَاحِبَيْهِ الصَّدَقَةُ أَفْضَلُ، وَالْآيَةُ أَدَلُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: لِتَقَدُّمِ الْعِتْقِ عَلَى الصدقة فيها. [سورة البلد (90) : آية 14] أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: سَغَبَ سَغَبًا إِذَا جَاعَ فَهُوَ سَاغِبٌ وَسَغْبَانُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : المسغبة

_ (1) أي يكون المعطوف (إن كان) وهي جملة اسمية شرطية.

[سورة البلد (90) : آية 15]

وَالْمَقْرَبَةُ وَالْمَتْرَبَةُ مَفْعَلَاتٌ مِنْ سَغَبَ إِذَا جَاعَ وَقَرُبَ فِي النَّسَبِ، يُقَالُ: فُلَانٌ ذُو قَرَابَتِي وَذُو مَقْرَبَتِي وَتَرِبَ إِذَا افْتَقَرَ وَمَعْنَاهُ الْتَصَقَ بِالتُّرَابِ، وَأَمَّا أَتْرَبَ فَاسْتَغْنَى، أَيْ صَارَ ذَا مَالٍ كَالتُّرَابِ فِي الْكَثْرَةِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمَتْرَبَةُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِهِمْ تَرِبَ يُتْرِبُ تَرَبًا وَمَتْرَبَةٌ مِثْلُ مَسْغَبَةٍ إِذَا افْتَقَرَ حَتَّى لَصِقَ بِالتُّرَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَاصِلُ الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِ: يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ مَا قَالَهُ الْحَسَنُ: وَهُوَ نَائِمٌ يَوْمٌ مَحْرُوصٌ فِيهِ عَلَى الطَّعَامِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَمَعْنَاهُ مَا يَقُولُ النَّحْوِيُّونَ فِي قَوْلِهِمْ: لَيْلٌ نَائِمٌ وَنَهَارٌ صَائِمٌ أَيْ ذُو نَوْمٍ وَصَوْمٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ إِخْرَاجَ الْمَالِ فِي وَقْتِ الْقَحْطِ وَالضَّرُورَةِ أَثْقَلُ عَلَى النَّفْسِ وَأَوْجَبُ لِلْأَجْرِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [الْبَقَرَةِ: 177] وَقَالَ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً [الْإِنْسَانِ: 8] وَقَرَأَ الْحَسَنُ: (ذَا مَسْغَبَةٍ) نَصَبَهُ بِإِطْعَامٍ وَمَعْنَاهُ أَوْ إِطْعَامٍ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ ذَا مسغبة. أما قوله تعالى: [سورة البلد (90) : آية 15] يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (15) قَالَ الزَّجَّاجُ: ذَا قَرَابَةٍ تقول زيد ذو قرابتي وذو مقربتي، وزيد/ قَرَابَتِي قَبِيحٌ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ مَصْدَرٌ، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي يَتِيمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ، فَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ حَقَّانِ يُتْمٌ وَقَرَابَةٌ، فَإِطْعَامُهُ أَفْضَلُ، وَقِيلَ: يَدْخُلُ فِيهِ الْقُرْبُ بِالْجِوَارِ، كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ القرب بالنسب. أما قوله تعالى: [سورة البلد (90) : آية 16] أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (16) أَيْ مِسْكِينًا قَدْ لَصِقَ بِالتُّرَابِ مِنْ فَقْرِهِ وَضُرِّهِ، فَلَيْسَ فَوْقَهُ مَا يَسْتُرُهُ وَلَا تَحْتَهُ مَا يُوَطِّئُهُ، رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ مَرَّ بِمِسْكِينٍ لَاصِقٍ بِالتُّرَابِ فَقَالَ: هَذَا الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [فِيهِ] : أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يَمْلِكُ شَيْئًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَفْظُ الْمِسْكِينِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا الْبَتَّةَ، لَكَانَ تَقْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ: ذَا مَتْرَبَةٍ تَكْرِيرًا وَهُوَ غير جائز. [سورة البلد (90) : آية 17] ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أَمَّا قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ كَانَ مُقْتَحِمُ الْعَقَبَةِ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الطَّاعَاتِ، وَلَا مُقْتَحِمًا لِلْعَقَبَةِ فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ شَرْطًا لِلِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الطَّاعَاتِ وَجَبَ كَوْنُهُ مُقَدَّمًا عَلَيْهَا، فَمَا السَّبَبُ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخَّرَهُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا التَّرَاخِيَ فِي الذِّكْرِ لَا فِي الْوُجُودِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ... ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ التَّأَخُّرَ فِي الْوُجُودِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى، ثُمَّ اذْكُرْ أَنَّهُ سَادَ أَبُوهُ. كَذَلِكَ فِي الْآيَةِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ، ثُمَّ كَانَ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ عَلَى الْإِيمَانِ فَإِنَّ الْمُوَافَاةَ شَرْطُ الِانْتِفَاعِ بِالطَّاعَاتِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَنْ أَتَى بِهَذِهِ الْقُرَبِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ إِيمَانِهِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ آمَنَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَعِنْدَ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى تِلْكَ الطَّاعَاتِ، قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ: «أَنَّ حَكِيمَ بن حزام بعد ما أَسْلَمَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا كُنَّا نَأْتِي بِأَعْمَالِ الْخَيْرِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهَلْ لَنَا مِنْهَا شَيْءٌ؟ فَقَالَ

[سورة البلد (90) : آية 18]

عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَسْلَمْتَ عَلَى مَا قَدَّمْتَ مِنَ الْخَيْرِ» وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا تَرَاخِي الْإِيمَانِ وَتَبَاعُدُهُ فِي الرُّتْبَةِ وَالْفَضِيلَةِ عَنِ الْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ لِأَنَّ دَرَجَةَ ثَوَابِ الْإِيمَانِ أَعْظَمُ بِكَثِيرٍ مِنْ دَرَجَةِ ثَوَابِ سَائِرِ الْأَعْمَالِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يُوصِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالصَّبْرِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ أَوِ الصَّبْرِ عَلَى الْمَعَاصِي وَعَلَى الطَّاعَاتِ وَالْمِحَنِ الَّتِي يُبْتَلَى بِهَا الْمُؤْمِنُ ثُمَّ ضَمَّ إِلَيْهِ التَّوَاصِيَ بِالْمَرْحَمَةِ وَهُوَ أَنْ يَحُثَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى أَنْ يَرْحَمَ الْمَظْلُومَ أَوِ الْفَقِيرَ، أَوْ يَرْحَمَ الْمُقْدِمَ عَلَى مُنْكَرٍ فَيَمْنَعَهُ مِنْهُ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الرَّحْمَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ/ يَدُلَّ غَيْرَهُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ وَيَمْنَعَهُ مِنْ سُلُوكِ طَرِيقِ الشَّرِّ وَالْبَاطِلِ مَا أَمْكَنَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ يَعْنِي يَكُونُ مُقْتَحِمُ الْعَقَبَةِ مِنْ هَذِهِ الزُّمْرَةِ وَالطَّائِفَةِ، وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ هُمْ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُبَالِغِينَ فِي الصَّبْرِ عَلَى شَدَائِدِ الدِّينِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى الْخَلْقِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَمَدَارُ أَمْرِ الطَّاعَاتِ لَيْسَ إِلَّا عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ، إِنَّ الْأَصْلَ فِي التَّصَوُّفِ أَمْرَانِ: صِدْقٌ مَعَ الْحَقِّ وَخُلُقٌ مع الخلق. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بَيَّنَ أَنَّهُمْ مَنْ هُمْ فِي الْقِيَامَةِ فَقَالَ: [سورة البلد (90) : آية 18] أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ حَالَهُمْ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَأَنَّهُمْ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ [الْوَاقِعَةِ: 28، 29] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْمَيْمَنَةُ وَالْمَشْأَمَةُ، الْيَمِينُ وَالشِّمَالُ، أَوِ الْيَمِينُ وَالشُّؤْمُ، أَيِ الْمَيَامِينُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَالْمَشَائِيمُ عليها. ثم قال تعالى: [سورة البلد (90) : آية 19] وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) فَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ يُؤْتَى كِتَابَهُ بِشَمَالِهِ أَوْ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَصْفُ اللَّهِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ: فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ [الْوَاقِعَةِ: 42] إلى غير ذلك. ثم قال تعالى: [سورة البلد (90) : آية 20] عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَالْمُبَرِّدُ: يُقَالُ آصَدْتُ الْبَابَ وأو صدته إِذَا أَغْلَقْتَهُ، فَمَنْ قَرَأَ مُؤْصَدَةٌ بِالْهَمْزَةِ أَخَذَهَا مَنْ آصَدْتُ فَهُمِزَ اسْمُ الْمَفْعُولِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوْصَدْتُ وَلَكِنَّهُ هُمِزَ عَلَى لُغَةِ من يهمز الواو وإذا كَانَ قَبْلَهَا ضَمَّةٌ نَحْوَ مُؤْسَى، وَمَنْ لَمْ يَهْمِزِ احْتَمَلَ أَيْضًا أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ لُغَةِ مَنْ قَالَ: أَوْصَدْتُ فَلَمْ يَهْمِزِ اسْمَ الْمَفْعُولِ كَمَا يُقَالُ: مِنْ أَوْعَدْتُ مَوْعِدٌ. الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ آصَدَ مِثْلَ آمَنَ وَلَكِنَّهُ خُفِّفَ كَمَا فِي تَخْفِيفِ جُؤْنَةٍ وَبُؤْسٍ جُونَةٍ وَبُوسٍ فَيَقْلِبُهَا فِي

التَّخْفِيفِ وَاوًا، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيُقَالُ مِنْ هَذَا الْأَصِيدِ وَالْوَصِيدِ وَهُوَ الْبَابُ الْمُطْبَقُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ مُقَاتِلٌ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ يَعْنِي أَبْوَابُهَا مُطْبَقَةٌ فَلَا يُفْتَحُ لَهُمْ بَابٌ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا غَمٌّ وَلَا يَدْخُلُ فِيهَا رُوحٌ أَبَدَ الْآبَادِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِحَاطَةُ النِّيرَانِ بِهِمْ، كَقَوْلِهِ: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها [الْكَهْفِ: 29] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُؤْصَدَةُ هِيَ الْأَبْوَابُ، وَقَدْ جَرَتْ صِفَةٌ لِلنَّارِ عَلَى تَقْدِيرِ: عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةُ الْأَبْوَابِ، فَكُلَّمَا تُرِكَتِ الْإِضَافَةُ عَادَ التَّنْوِينُ لِأَنَّهُمَا يَتَعَاقَبَانِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة الشمس

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة الشمس خمس عشرة آية مكية [سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) قَبْلَ الْخَوْضِ فِي التَّفْسِيرِ لَا بُدَّ مِنْ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ التَّرْغِيبُ فِي الطَّاعَاتِ وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْمَعَاصِي. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى يُنَبِّهُ عِبَادَهُ دَائِمًا بِأَنْ يَذْكُرَ فِي الْقَسَمِ أَنْوَاعَ مَخْلُوقَاتِهِ الْمُتَضَمِّنَةَ لِلْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ حَتَّى يَتَأَمَّلَ الْمُكَلَّفُ فِيهَا وَيَشْكُرَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الَّذِي يُقْسِمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ يَحْصُلُ لَهُ وَقْعٌ فِي الْقَلْبِ، فَتَكُونُ الدَّوَاعِي إِلَى تَأَمُّلِهِ أَقْوَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ قَالُوا: التَّقْدِيرُ وَرَبِّ الشَّمْسِ وَرَبِّ سَائِرِ مَا ذَكَرَهُ إِلَى تمام القسم، واحتج قوم على بطلان هذا المذهب، فَقَالُوا: إِنَّ فِي جُمْلَةِ هَذَا الْقَسَمِ قَوْلَهُ: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس: 5] وَذَلِكَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ، وَرَبِّ السَّمَاءِ وَرَبِّهَا وَذَلِكَ كَالْمُتَنَاقِضِ، أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: وَما بَناها لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّ (مَا) لَا تُسْتَعْمَلُ فِي خَالِقِ السَّمَاءِ إِلَّا عَلَى ضَرْبٍ مِنَ الْمَجَازِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْهُ تَعَالَى أَنْ يُقَدِّمَ قَسَمَهُ بِغَيْرِهِ عَلَى قَسَمِهِ بِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَكَادُ يُذْكَرُ مَعَ غَيْرِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَإِذًا لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ أَنَّ مَا مَعَ مَا بَعْدَهُ فِي حُكْمِ الْمَصْدَرِ فيكون التقدير: والسماء وبنائها، اعترض صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَلَيْهِ فَقَالَ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَزِمَ مِنْ عَطْفِ قَوْلِهِ: فَأَلْهَمَها [الشمس: 8] عَلَيْهِ فَسَادُ النَّظْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقُرَّاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي فَوَاصِلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا نَحْوَ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى، وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى فقرءوها تَارَةً بِالْإِمَالَةِ وَتَارَةً بِالتَّفْخِيمِ وَتَارَةً بَعْضَهَا بِالْإِمَالَةِ وَبَعْضَهَا بِالتَّفْخِيمِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: بِكَسْرِ ضُحَاهَا، وَالْآيَاتُ الَّتِي بَعْدَهَا وَإِنْ كَانَ أَصْلُ بَعْضِهَا الْوَاوَ نَحْوَ: تَلَاهَا، وَطَحَاهَا وَدَحَاهَا، فَكَذَلِكَ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا ابْتُدِئَتِ السُّورَةُ بِحَرْفِ الْيَاءِ أَتْبَعَهَا بِمَا هُوَ مِنَ الْوَاوِ لِأَنَّ الْأَلِفَ الْمُنْقَلِبَةَ عَنِ الْوَاوِ قَدْ تُوَافِقُ الْمُنْقَلِبَةَ عَنِ الْيَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَلَوْتُ وَطَحَوْتُ وَنَحْوَهُمَا قَدْ يَجُوزُ فِي أَفْعَالِهَا أَنْ تَنْقَلِبَ إِلَى الْيَاءِ نَحْوَ: تَلِيَ وَدَحِيَ، فَلَمَّا

[سورة الشمس (91) : آية 3]

حَصَلَتْ هَذِهِ الْمُوَافَقَةُ اسْتَجَازُوا إِمَالَتَهُ/ كَمَا اسْتَجَازُوا إِمَالَةَ مَا كَانَ مِنَ الْيَاءِ، وَأَمَّا وَجْهُ مَنْ تَرَكَ الْإِمَالَةَ مُطْلَقًا فَهُوَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعَرَبِ لَا يُمِيلُونَ هَذِهِ الْأَلِفَاتِ وَلَا يَنْحُونَ فِيهَا نَحْوَ الْيَاءِ، وَيُقَوِّي تَرْكَ الْإِمَالَةِ لِلْأَلِفِ أَنَّ الْوَاوَ فِي مُوسَرٍ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْيَاءِ، وَالْيَاءَ فِي مِيقَاتٍ وَمِيزَانٍ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْصُلَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الِانْقِلَابِ، فَكَذَا هاهنا يَنْبَغِي أَنْ تُتْرَكَ الْأَلِفُ غَيْرَ مُمَالَةٍ وَلَا يُنْحَى بِهَا نَحْوُ الْيَاءِ، وَأَمَّا إِمَالَةُ الْبَعْضِ وَتَرْكُ إِمَالَةِ الْبَعْضِ، كَمَا فَعَلَهُ حَمْزَةُ فَحَسَنٌ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَلِفَ إِنَّمَا تُمَالُ نَحْوَ الْيَاءِ لِتَدُلَّ عَلَى الْيَاءِ إِذَا كَانَ انْقِلَابُهَا عن الياء ولم يكن في تلاها وطحاها ودحاها أَلِفٌ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْيَاءِ إِنَّمَا هِيَ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ بِدَلَالَةِ تَلَوْتُ وَدَحَوْتُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَقْسَمَ بِسَبْعَةِ أَشْيَاءَ إلى قوله: قَدْ أَفْلَحَ [الشمس: 9] وَهُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لَقَدْ أَفْلَحَ، لَكِنَّ اللَّامَ حُذِفَتْ لِأَنَّ الْكَلَامَ طَالَ فَصَارَ طُولُهُ عِوَضًا مِنْهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالشَّمْسِ وَضُحاها ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ضُحَاهَا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ: ضَوْؤُهَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ النَّهَارُ كُلُّهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ حَرُّ الشَّمْسِ، وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ أَنْ نَقُولَ: قَالَ اللَّيْثُ: الضَّحْوُ ارْتِفَاعُ النَّهَارِ، وَالضُّحَى فُوَيْقَ ذَلِكَ، وَالضَّحَاءُ مَمْدُودًا امْتَدَّ النَّهَارُ، وَقَرُبَ أَنْ يَنْتَصِفَ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: الضِّحُّ نَقِيضُ الظِّلِّ وَهُوَ نُورُ الشَّمْسِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَأَصْلُهُ الضُّحَى، فَاسْتَثْقَلُوا الْيَاءَ مَعَ سُكُونِ الْحَاءِ فَقَلَبُوهَا وَقَالَ: ضَحٌّ، فَالضُّحَى هُوَ ضَوْءُ الشَّمْسِ وَنُورُهَا ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ الْوَقْتُ الَّذِي تُشْرِقُ فِيهِ الشَّمْسُ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النَّازِعَاتِ: 46] فَمَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: فِي ضُحَاهَا ضَوْؤُهَا فَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ، وَكَذَا مَنْ قَالَ: هُوَ النَّهَارُ كُلُّهُ، لِأَنَّ جَمِيعَ النَّهَارِ هُوَ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ، وَمَنْ قَالَ: فِي الضُّحَى إِنَّهُ حَرُّ الشَّمْسِ فَلِأَنَّ حَرَّهَا وَنُورُهَا مُتَلَازِمَانِ، فمتى اشتد حرها فقد اشتد ضؤوها وَبِالْعَكْسِ، وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَقْسَمَ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا لِكَثْرَةِ مَا تَعَلَّقَ بها من المصالح، فإن أهل العالم كَانُوا كَالْأَمْوَاتِ فِي اللَّيْلِ، فَلَمَّا ظَهَرَ أَثَرُ الصُّبْحِ فِي الْمَشْرِقِ صَارَ ذَلِكَ كَالصُّورِ الَّذِي يَنْفُخُ قُوَّةَ الْحَيَاةِ، فَصَارَتِ الْأَمْوَاتُ أَحْيَاءً، وَلَا تَزَالُ تِلْكَ الْحَيَاةُ فِي الِازْدِيَادِ وَالْقُوَّةِ وَالتَّكَامُلِ، وَيَكُونُ غَايَةُ كَمَالِهَا وَقْتَ الضَّحْوَةِ، فَهَذِهِ الْحَالَةُ تُشْبِهُ أَحْوَالَ الْقِيَامَةِ، وَوَقْتُ الضُّحَى يُشْبِهُ اسْتِقْرَارَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيهَا، وَقَوْلُهُ: وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها قال الليل: تَلَا يَتْلُو إِذَا تَبِعَ شَيْئًا وَفِي كَوْنِ الْقَمَرِ تَالِيًا وُجُوهٌ أَحَدُهَا: بَقَاءُ الْقَمَرِ طَالِعًا عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَإِذَا الْقَمَرُ يَتْبَعُهَا فِي الْإِضَاءَةِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَثَانِيهَا: أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا غَرَبَتْ فَالْقَمَرُ يَتْبَعُهَا لَيْلَةَ الْهِلَالِ فِي الْغُرُوبِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَالْكَلْبِيِّ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا التُّلُوِّ هُوَ أَنَّ الْقَمَرَ يَأْخُذُ الضَّوْءَ مِنَ الشَّمْسِ يُقَالُ: فُلَانٌ يَتْبَعُ فُلَانًا فِي كَذَا أَيْ يَأْخُذُ مِنْهُ وَرَابِعُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: تَلَاهَا حِينَ اسْتَدَارَ وَكَمُلَ، فَكَأَنَّهُ يَتْلُو الشَّمْسَ فِي الضِّيَاءِ وَالنُّورِ يَعْنِي إِذَا كَمُلَ ضَوْؤُهُ فَصَارَ كَالْقَائِمِ مَقَامَ الشَّمْسِ فِي الْإِنَارَةِ، وَذَلِكَ فِي اللَّيَالِي/ الْبِيضِ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ يَتْلُوهَا فِي كِبَرِ الْجِرْمِ بِحَسَبِ الْحِسِّ، وَفِي ارْتِبَاطِ مَصَالِحِ هَذَا الْعَالِمِ بِحَرَكَتِهِ، وَلَقَدْ ظَهَرَ فِي عِلْمِ النُّجُومِ أَنَّ بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ مَا لَيْسَ بَيْنَ الشَّمْسِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا. [سورة الشمس (91) : آية 3] وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) مَعْنَى التَّجْلِيَةِ الْإِظْهَارُ، وَالْكَشْفُ وَالضَّمِيرُ فِي جَلَّاهَا إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الشَّمْسِ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّهَارَ عِبَارَةٌ عَنْ نُورِ الشَّمْسِ. فَكُلَّمَا كَانَ النَّهَارُ أَجْلَى ظُهُورًا كانت

[سورة الشمس (91) : آية 4]

الشَّمْسُ أَجْلَى ظُهُورًا، لِأَنَّ قُوَّةَ الْأَثَرِ وَكَمَالَهُ تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْمُؤَثِّرِ، فَكَانَ النَّهَارُ يُبْرِزُ الشَّمْسَ وَيَظْهِرُهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الْأَعْرَافِ: 187] أَيْ لَا يُخْرِجُهَا الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ- أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الظُّلْمَةِ، أَوْ إِلَى الدُّنْيَا، أَوْ إِلَى الْأَرْضِ. وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ، يَقُولُونَ: أَصْبَحَتْ بَارِدَةً يريدون الغداة، وأرسلت يريدون السماء. [سورة الشمس (91) : آية 4] وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) يَعْنِي يَغْشَى اللَّيْلُ الشَّمْسَ فَيُزِيلُ ضَوْءَهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ تُقَوِّي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: إِنَّهُ لَمَّا جَعَلَ اللَّيْلَ يَغْشَى الشَّمْسَ وَيُزِيلُ ضَوْءَهَا حَسُنَ أَنْ يُقَالَ: النَّهَارُ يُجَلِّيهَا، عَلَى ضِدِّ مَا ذُكِرَ فِي اللَّيْلِ وَالثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي يَغْشَاهَا لِلشَّمْسِ بِلَا خِلَافٍ، فَكَذَا فِي جَلَّاهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّمْسِ حَتَّى يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي الْفَوَاصِلِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إلى هاهنا لِلشَّمْسِ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ لَيْسَتْ إِلَّا بِالشَّمْسِ فِي الْحَقِيقَةِ لَكِنْ بِحَسَبِ أَوْصَافٍ أَرْبَعَةٍ أَوَّلُهَا: الضَّوْءُ الْحَاصِلُ مِنْهَا عِنْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ. وَذَلِكَ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَكْمُلُ فِيهِ انْتِشَارُ الْحَيَوَانِ وَاضْطِرَابُ النَّاسِ لِلْمَعَاشِ، وَمِنْهَا تُلُوُّ الْقَمَرِ لَهَا وَأَخْذُهُ الضَّوْءَ عَنْهَا، وَمِنْهَا تَكَامُلُ طُلُوعِهَا وَبُرُوزِهَا بِمَجِيءِ النَّهَارِ، وَمِنْهَا وُجُودُ خِلَافِ ذَلِكَ بِمَجِيءِ اللَّيْلِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ قَلِيلًا فِي عَظَمَةِ الشَّمْسِ ثُمَّ شَاهَدَ بِعَيْنِ عَقْلِهِ فِيهَا أَثَرَ الْمَصْنُوعِيَّةِ وَالْمَخْلُوقِيَّةِ مِنَ الْمِقْدَارِ الْمُتَنَاهِي، وَالتَّرَكُّبِ مِنَ الْأَجْزَاءِ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا، فسبحانه ما أعظم شأنه. [سورة الشمس (91) : آية 5] وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) فِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مِنْ أَنَّ ما هاهنا لَوْ كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً لَكَانَ عَطْفُ فَأَلْهَمَها عَلَيْهِ يوجب فساد النظم حق، وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي مِنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا قَسَمًا بِخَالِقِ السَّمَاءِ، لَمَا كَانَ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ ذِكْرِ الشَّمْسِ، فَهُوَ إِشْكَالٌ جَيِّدٌ، وَالَّذِي يَخْطُرُ بِبَالِي فِي الْجَوَابِ عَنْهُ: أَنَّ أَعْظَمَ الْمَحْسُوسَاتِ هُوَ الشَّمْسُ، فَذَكَرَهَا سُبْحَانَهُ مَعَ أَوْصَافِهَا الْأَرْبَعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ ذَاتَهُ الْمُقَدَّسَةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَوَصَفَهَا بِصِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ وَهِيَ تَدْبِيرُهُ سُبْحَانَهُ لِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلِلْمُرَكَّبَاتِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْمُرَكَّبَاتِ بِذِكْرِ أَشْرَفِهَا وَهِيَ النَّفْسُ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّرْتِيبِ هُوَ أَنْ يَتَوَافَقَ الْعَقْلُ وَالْحِسُّ عَلَى عَظَمَةِ جِرْمِ الشَّمْسِ ثُمَّ يَحْتَجُّ الْعَقْلُ السَّاذِجُ بِالشَّمْسِ، بَلْ بِجَمِيعِ السَّمَاوِيَّاتِ وَالْأَرْضِيَّاتِ وَالْمُرَكَّبَاتِ عَلَى إِثْبَاتِ مُبْدِئٍ لَهَا، فَحِينَئِذٍ يَحْظَى العقل هاهنا بِإِدْرَاكِ/ جَلَالِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ، وَالْحِسُّ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ. فَكَانَ ذَلِكَ كَالطَّرِيقِ إِلَى جَذْبِ الْعَقْلِ مِنْ حَضِيضِ عَالَمِ الْمَحْسُوسَاتِ إِلَى يَفَاعِ عَالَمِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَبَيْدَاءِ كِبْرِيَاءِ الصَّمَدِيَّةِ، فَسُبْحَانَ مَنْ عَظُمَتْ حَكَمَتُهُ وَكَمُلَتْ كَلِمَتُهُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّماءِ وَما بَناها؟ الْجَوَابُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا وَصَفَ الشَّمْسَ بِالصِّفَاتِ الْأَرْبَعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهَا، أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ مَا يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهَا وَحُدُوثِ جَمِيعِ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ، فَنَبَّهَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تِلْكَ الدَّلَالَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّمْسَ وَالسَّمَاءَ مُتَنَاهِيَةٌ، وَكُلُّ مُتَنَاهٍ فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ. مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ وُجُودُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَمَا هُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ، فَاخْتِصَاصُ الشَّمْسِ وَسَائِرِ السَّمَاوِيَّاتِ بِالْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِتَقْدِيرِ مُقَدِّرٍ وَتَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ، وَكَمَا أَنَّ بَانِيَ الْبَيْتِ يَبْنِيهِ بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ، فَكَذَا مدبر الشمس

[سورة الشمس (91) : آية 6]

وَسَائِرِ السَّمَاوِيَّاتِ قَدْرُهَا بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ، فَقَوْلُهُ: وَما بَناها كَالتَّنْبِيهِ عَلَى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ الدَّالَّةِ عَلَى حُدُوثِ الشَّمْسِ وَسَائِرِ السَّمَاوِيَّاتِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ: وَما بَناها وَلَمْ يَقُلْ: وَمَنْ بَنَاهَا؟ الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْوَصْفِيَّةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَالسَّمَاءِ وَذَلِكَ الشَّيْءِ الْعَظِيمِ الْقَادِرِ الَّذِي بَنَاهَا، وَنَفْسٍ وَالْحَكِيمِ الْبَاهِرِ الْحِكْمَةِ الَّذِي سَوَّاهَا وَالثَّانِي: أَنَّ مَا تُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ مَنْ كَقَوْلِهِ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ: 22] وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الْأَوَّلِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لِمَ ذَكَرَ فِي تَعْرِيفِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ وَهِيَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَالنَّفْسُ؟ وَالْجَوَابُ: لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالشَّاهِدِ، وَالشَّاهِدُ لَيْسَ إِلَّا الْعَالَمَ الْجُسْمَانِيَّ وَهُوَ قِسْمَانِ بَسِيطٌ وَمُرَكَّبٌ، وَالْبَسِيطُ قِسْمَانِ: الْعُلْوِيَّةُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَالسَّماءِ والسفلية وإليه الإشارة بقوله: وَالْأَرْضِ [الشمس: 6] وَالْمُرَكَّبُ هُوَ أَقْسَامٌ، وَأَشْرَفُهَا ذَوَاتُ الْأَنْفُسِ وَإِلَيْهِ الإشارة بقوله: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها [الشمس: 7] . أما قوله تعالى: [سورة الشمس (91) : آية 6] وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا أَخَّرَ هَذَا عَنْ قَوْلِهِ: وَالسَّماءِ وَما بَناها لِقَوْلِهِ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النَّازِعَاتِ: 30] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ اللَّيْثُ: الطَّحْوُ كَالدَّحْوِ وَهُوَ الْبَسْطُ، وَإِبْدَالُ الطَّاءِ مِنَ الدَّالِ جَائِزٌ، وَالْمَعْنَى وَسَّعَهَا. قَالَ عَطَاءٌ وَالْكَلْبِيُّ: بَسَطَهَا عَلَى الْمَاءِ. أما قوله تعالى: [سورة الشمس (91) : آية 7] وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) إِنْ حَمَلْنَا النَّفْسَ عَلَى الْجَسَدِ، فَتَسْوِيَتُهَا تَعْدِيلُ أَعْضَائِهَا عَلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ عِلْمُ التَّشْرِيحِ، وَإِنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الْقُوَّةِ الْمُدَبِّرَةِ، فَتَسْوِيَتُهَا إِعْطَاؤُهَا الْقُوَى الْكَثِيرَةَ/ كَالْقُوَّةِ السَّامِعَةِ وَالْبَاصِرَةِ وَالْمُخَيِّلَةِ وَالْمُفَكِّرَةِ وَالْمَذْكُورَةِ، عَلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ عِلْمُ النَّفْسِ «1» فَإِنْ قِيلَ: لِمَ نُكِّرَتِ النَّفْسُ؟ قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرِيدَ بِهِ نَفْسًا خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ النُّفُوسِ، وَهِيَ النَّفْسُ الْقُدْسِيَّةُ النَّبَوِيَّةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ كَثْرَةٍ، فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنَ وَاحِدٍ يَكُونُ هُوَ الرَّئِيسُ، فَالْمُرَكَّبَاتُ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ وَرَئِيسُهَا الْحَيَوَانُ، وَالْحَيَوَانُ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ وَرَئِيسُهَا الْإِنْسَانُ، وَالْإِنْسَانُ أَنْوَاعٌ وَأَصْنَافٌ وَرَئِيسُهَا النَّبِيُّ. وَالْأَنْبِيَاءُ كَانُوا كَثِيرِينَ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ هُنَاكَ وَاحِدٌ يَكُونُ هُوَ الرَّئِيسُ الْمُطْلَقُ، فَقَوْلُهُ: وَنَفْسٍ إِشَارَةٌ إِلَى تِلْكَ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ رَئِيسَةٌ لِعَالَمِ الْمُرَكَّبَاتِ رئاسة بِالذَّاتِ الثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ كُلَّ نَفْسٍ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ التَّنْكِيرِ التَّكْثِيرَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ في قوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ أَنْوَاعٌ لَا يُحْصِي عَدَدَهَا إِلَّا اللَّهُ عَلَى مَا قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ: وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [النَّحْلِ: 8] وَلِكُلِّ نَوْعٍ نَفْسٌ مَخْصُوصَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ عَنْ سَائِرِهَا بالفضل الْمُقَوِّمِ لِمَاهِيَّتِهِ، وَالْخَوَاصِّ اللَّازِمَةِ لِذَلِكَ الْفَصْلِ، فَمِنَ الذي

_ (1) يريد بعلم النفس هاهنا: علم التشريح، لا علم النفس بالمعنى الذي نعرفه الآن وإن كان يتناول ما ذكره.

[سورة الشمس (91) : آية 8]

يُحِيطُ عَقْلُهُ بِالْقَلِيلِ مِنْ خَوَاصِّ نَفْسِ الْبَقِّ وَالْبَعُوضِ، فَضْلًا عَنِ التَّوَغُّلِ فِي بِحَارِ أَسْرَارِ الله سبحانه. أما قوله تعالى: [سورة الشمس (91) : آية 8] فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) فَالْمَعْنَى الْمُحَصَّلُ فِيهِ وَجْهَانِ الأول: أن إلهام الفجور والتقوى، إفهامها وَإِعْقَالُهُمَا، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا حَسَنٌ وَالْآخَرَ قَبِيحٌ وَتَمْكِينُهُ مِنِ اخْتِيَارِ مَا شَاءَ مِنْهُمَا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [الْبَلَدِ: 10] وَهَذَا تَأْوِيلٌ مُطَابِقٌ لِمَذَاهِبِ الْمُعْتَزِلَةِ، قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس: 9، 10] وَهَذَا الْوَجْهُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ جَمْعٍ مِنْ أَكَابِرِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَلْهَمَ الْمُؤْمِنَ الْمُتَّقِيَ تَقْوَاهُ وَأَلْهَمَ الْكَافِرَ فُجُورَهُ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَلْزَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: جَعَلَ فِيهَا ذَلِكَ بِتَوْفِيقِهِ إِيَّاهَا لِلتَّقْوَى وَخِذْلَانِهِ إِيَّاهَا بِالْفُجُورِ، وَاخْتَارَ الزَّجَّاجُ وَالْوَاحِدِيُّ ذَلِكَ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: التَّعْلِيمُ وَالتَّعْرِيفُ وَالتَّبْيِينُ، غَيْرُ وَالْإِلْهَامُ غَيْرُ، فَإِنَّ الْإِلْهَامَ هُوَ أَنْ يُوقِعَ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ شَيْئًا، وَإِذَا أَوْقَعَ فِي قَلْبِهِ شَيْئًا فَقَدْ أَلْزَمَهُ إِيَّاهُ. وَأَصْلُ مَعْنَى الْإِلْهَامِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَهِمَ الشَّيْءَ، وَالْتَهَمَهُ إِذَا ابْتَلَعَهُ، وَأَلْهَمْتُهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ أَيْ أَبْلَغْتُهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ ذَلِكَ فِيمَا يَقْذِفُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، لِأَنَّهُ كَالْإِبْلَاغِ، فَالتَّفْسِيرُ الْمُوَافِقُ لِهَذَا الْأَصْلِ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي الْمُؤْمِنِ تَقْوَاهُ، وَفِي الْكَافِرِ فُجُورَهُ، وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها فَضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَمُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ أَنَّ الْمَعْنَى قَدْ أَفْلَحَتْ وَسَعِدَتْ نَفْسٌ زَكَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَصْلَحَهَا وَطَهَّرَهَا، وَالْمَعْنَى وَفَّقَهَا لِلطَّاعَةِ، هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْوَاحِدِيِّ وَهُوَ تَامٌّ. وَأَقُولُ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْآيَاتِ الثَّلَاثَةَ ذُكِرَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ مُدَبِّرًا لِلْأَجْسَامِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ الْبَسِيطَةِ وَالْمُرَكَّبَةِ، فَهَهُنَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِمَّا فِي عَالَمِ الْمَحْسُوسَاتِ إِلَّا وَقَدْ ثَبَتَ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ التَّنْبِيهِ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِتَخْلِيقِهِ وَتَدْبِيرِهِ، بَقِيَ شَيْءٌ/ وَاحِدٌ يَخْتَلِجُ فِي الْقَلْبِ أَنَّهُ هَلْ هُوَ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَهُوَ الْأَفْعَالُ الْحَيَوَانِيَّةُ الِاخْتِيَارِيَّةُ، فَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْهُ وَبِهِ وَبِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَحِينَئِذٍ ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ فَهُوَ وَاقِعٌ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. وَدَاخِلٌ تَحْتَ إِيجَادِهِ وَتَصَرُّفِهِ. ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَقْلًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها هُوَ الْخِذْلَانُ وَالتَّوْفِيقُ مَا ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى حُصُولِ الِاخْتِيَارَاتِ، فَحُصُولُهَا إِنْ كَانَ لَا عَنْ فَاعِلٍ فَقَدِ اسْتَغْنَى الْمُحَدِّثُ عَنِ الْفَاعِلِ، وَفِيهِ نَفْيُ الصَّانِعِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ فَاعِلٍ هُوَ الْعَبْدُ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ كَانَ عَنِ اللَّهِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَأَيْضًا فَلْيُجَرِّبِ الْعَاقِلُ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ الْإِنْسَانُ غَافِلًا عَنْ شَيْءٍ فَتَقَعُ صُورَتُهُ فِي قَلْبِهِ دُفْعَةً، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى وُقُوعِ تِلْكَ الصُّورَةِ فِي الْقَلْبِ مَيْلٌ إِلَيْهِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ الْمَيْلِ حَرَكَةُ الْأَعْضَاءِ وَصُدُورُ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ الْقَطْعَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَلْهَمَها مَا ذَكَرْنَاهُ لَا مَا ذكره المعتزلة. أما قوله تعالى: [سورة الشمس (91) : آية 9] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) فَاعْلَمْ أَنَّ التَّزْكِيَةَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّطْهِيرِ أَوْ عَنِ الْإِنْمَاءِ، وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ مَطْلُوبَهُ مِنْ زَكَّى نَفْسَهُ بِأَنْ طَهَّرَهَا مِنَ الذُّنُوبِ بِفِعْلِ الطَّاعَةِ وَمُجَانَبَةِ الْمَعْصِيَةِ وَالثَّانِي: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا اللَّهُ، وَقَبِلَ الْقَاضِي هَذَا التَّأْوِيلَ، وَقَالَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ حَكَمَ بِتَزْكِيَتِهَا وَسَمَّاهَا بِذَلِكَ، كَمَا يُقَالُ فِي الْعُرْفِ: إِنَّ فُلَانًا يُزَكِّي فُلَانًا، ثُمَّ

[سورة الشمس (91) : آية 10]

قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، لِأَنَّ ذِكْرَ النَّفْسِ قَدْ تَقَدَّمَ ظَاهِرًا، فَرَدُّ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ عَلَى مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَذْكُورِ لَا أَنَّهُ مَذْكُورٌ. وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا بالبرهان القاطع أن المراد، بألهمها مَا ذَكَرْنَاهُ فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ بِأَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْحُكْمِ وَالتَّسْمِيَةِ فَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ بِنَاءَ التَّفْعِيلَاتِ عَلَى التَّكْوِينِ، ثُمَّ إِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ مَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ يَمْتَنِعُ تَغَيُّرُهُ، لِأَنَّ تَغَيُّرَ الْمَحْكُومِ بِهِ يَسْتَلْزِمُ تَغَيُّرَ الْحُكْمِ مِنَ الصِّدْقِ إِلَى الْكَذِبِ، وَتَغَيُّرَ الْعِلْمِ إِلَى الْجَهْلِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَالْمُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ. أَمَّا قَوْلُهُ ذِكْرُ النَّفْسِ قَدْ تَقَدَّمَ، قُلْنَا: هَذَا بِالْعَكْسِ أَوْلَى، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى الْأَقْرَبِ أَوْلَى مِنْ عُودِهِ إِلَى الْأَبْعَدِ، وَقَوْلُهُ: فَأَلْهَمَها أَقْرَبُ إِلَى قَوْلِهِ: (مَا) مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ: وَنَفْسٍ فَكَانَ التَّرْجِيحُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا رَوَاهُ الواحدي في البسيط عن سعيد ابن أَبِي هِلَالٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا قَرَأَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَفَ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَأَنْتَ مَوْلَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا» . أَمَّا قوله تعالى: [سورة الشمس (91) : آية 10] وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) فَقَالُوا: دَسَّاها أَصْلُهُ دَسَّسَهَا مِنَ التَّدْسِيسِ، وَهُوَ إِخْفَاءُ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ، فَأُبْدِلَتْ إِحْدَى السِّينَاتِ يَاءً، فَأَصْلُ دَسَّى دَسَّسَ، كَمَا أَنَّ أَصْلَ تَقَضَّى الْبَازِيُّ تَقَضَّضَ البازي، وكما قالوا: ألببت وَالْأَصْلُ لَبَّبْتُ، وَمُلَبِّي وَالْأَصْلُ مُلَبِّبُ، ثُمَّ نَقُولُ: أَمَّا/ الْمُعْتَزِلَةُ فَذَكَرُوا وُجُوهًا تُوَافِقُ قَوْلَهُمْ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَهْلَ الصَّلَاحِ يُظْهِرُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَأَهْلَ الْفِسْقِ يُخْفُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَدُسُّونَهَا فِي الْمَوَاضِعِ الْخَفِيَّةِ، كَمَا أَنَّ أَجْوَادَ الْعَرَبِ يَنْزِلُونَ الرُّبَا حَتَّى تَشْتَهِرَ أَمَاكِنُهُمْ وَيَقْصِدُهُمُ الْمُحْتَاجُونَ، وَيُوقِدُونَ النِّيرَانَ بِاللَّيْلِ لِلطَّارِقِينَ. وَأَمَّا اللِّئَامُ فَإِنَّهُمْ يُخْفُونَ أَمَاكِنَهُمْ عَنِ الطَّالِبِينَ وَثَانِيهَا: خابَ مَنْ دَسَّاها أَيْ دَسَّ نَفْسَهُ فِي جُمْلَةِ الصَّالِحِينَ وَلَيْسَ مِنْهُمْ وَثَالِثُهَا: مَنْ دَسَّاها فِي الْمَعَاصِي حَتَّى انْغَمَسَ فِيهَا وَرَابِعُهَا: مَنْ دَسَّاها مَنْ دَسَّ فِي نَفْسِهِ الْفُجُورَ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ مُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهَا وَمُجَالَسَتِهِ مَعَ أَهْلِهَا وَخَامِسُهَا: أَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الطَّاعَاتِ وَاشْتَغَلَ بِالْمَعَاصِي صَارَ خَامِلًا مَتْرُوكًا مَنْسِيًّا، فَصَارَ كَالشَّيْءِ الْمَدْسُوسِ فِي الِاخْتِفَاءِ وَالْخُمُولِ. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَقَالُوا: الْمَعْنَى خَابَتْ وَخَسِرَتْ نَفْسٌ أَضَلَّهَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَغْوَاهَا وَأَفْجَرَهَا وَأَبْطَلَهَا وَأَهْلَكَهَا، هَذِهِ أَلْفَاظُهُمْ فِي تَفْسِيرِ دَسَّاها قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَقْسَمَ بِأَشْرَفِ مَخْلُوقَاتِهِ عَلَى فَلَاحِ مَنْ طَهَّرَهُ وَخَسَارِ مَنْ خَذَلَهُ حَتَّى لَا يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى تَطْهِيرَ نَفْسِهِ أَوْ إِهْلَاكَهَا بِالْمَعْصِيَةِ مِنْ غَيْرِ قَدَرٍ مُتَقَدِّمٍ وقضاء سابق. أما قوله تعالى: [سورة الشمس (91) : آية 11] كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) قَالَ الْفَرَّاءُ: الطُّغْيَانُ وَالطَّغْوَى مصدران إلا أن الطغوى أشبه برءوس الْآيَاتِ فَاخْتِيرَ لِذَلِكَ وَهُوَ كَالدَّعْوَى مِنَ الدُّعَاءِ وَفِي التَّفْسِيرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فَعَلَتِ التَّكْذِيبَ بِطُغْيَانِهَا، كَمَا تَقُولُ: ظَلَمَنِي بِجَرَاءَتِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَعْنَى أَنَّ طُغْيَانَهُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ بِهِ هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ وَالثَّانِي: أَنَّ الطَّغْوَى اسْمٌ لِعَذَابِهِمُ الَّذِي أُهْلِكُوا بِهِ، وَالْمَعْنَى كَذَّبَتْ بِعَذَابِهَا أَيْ لَمْ يُصَدِّقُوا رَسُولَهُمْ فِيمَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَهَذَا لَا يَبْعُدُ لِأَنَّ مَعْنَى الطُّغْيَانِ فِي اللُّغَةِ مُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ الْمُعْتَادِ فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الْعَذَابُ الَّذِي جَاءَهُمْ طَغْوَى لِأَنَّهُ كَانَ صَيْحَةً مُجَاوِزَةً لِلْقَدْرِ الْمُعْتَادِ أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ كَذَّبَتْ بِمَا أُوعِدَتْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ ذِي الطَّغْوَى وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التأويل قوله

[سورة الشمس (91) : آية 12]

تَعَالَى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ [الْحَاقَّةِ: 4] أَيْ بِالْعَذَابِ الَّذِي حَلَّ بِهَا، ثُمَّ قَالَ: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الْحَاقَّةِ: 5] فَسَمَّى مَا أُهْلِكُوا به من العذاب طاغية. [سورة الشمس (91) : آية 12] إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) انْبَعَثَ مُطَاوِعُ بَعَثَ يُقَالُ: بَعَثْتُ فُلَانًا عَلَى الْأَمْرِ فَانْبَعَثَ لَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِسَبَبِ طُغْيَانِهِمْ حِينَ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا وَهُوَ عَاقِرُ النَّاقَةِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ وَاسْمُهُ قُدَارُ بْنُ سَالِفٍ وَيُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ يُقَالُ: أَشْأَمُ مِنْ قُدَارٍ، وَهُوَ أَشْقَى الْأَوَّلِينَ بِفَتْوَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا جَمَاعَةً، وَإِنَّمَا جَاءَ عَلَى لَفْظِ الْوُحْدَانِ لِتَسْوِيَتِكَ فِي أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ إِذَا أَضَفْتَهُ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ تَقُولُ: هَذَانِ أَفْضَلُ النَّاسِ وَهَؤُلَاءِ أَفْضَلُهُمْ، وَهَذَا يَتَأَكَّدُ بِقَوْلِهِ: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها [الشمس: 14] وَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَشْقَوْهَا كَمَا يُقَالُ أفاضلهم. / أما قوله تعالى: [سورة الشمس (91) : آية 13] فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ مِنَ الرَّسُولِ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ ناقَةَ اللَّهِ أَيْ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَيْهِ لَمَّا هَمُّوا بِعُقْرِهَا وَبَلَغَهُ مَا عَزَمُوا عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُمْ هِيَ: نَاقَةُ اللَّهِ وَآيَتُهُ الدَّالَّةُ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَعَلَى نُبُوَّتِي، فَاحْذَرُوا أَنْ تَقُومُوا عَلَيْهَا بِسُوءٍ، وَاحْذَرُوا أَيْضًا أَنْ تمنعوها مِنْ سُقِيَاهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ كَانَ لَهَا شِرْبُ يَوْمٍ وَلَهُمْ وَلِمَوَاشِيهِمْ شِرْبُ يَوْمٍ، وَكَانُوا يَسْتَضِرُّونَ بِذَلِكَ فِي أَمْرِ مَوَاشِيهِمْ، فَهَمُّوا بِعَقْرِهَا، وَكَانَ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُحَذِّرُهُمْ حَالًا بَعْدَ حَالٍ مِنْ عَذَابٍ يَنْزِلُ بِهِمْ إِنْ أَقْدَمُوا عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ مُتَصَوَّرَةً فِي نُفُوسِهِمْ، فَاقْتَصَرَ عَلَى أَنْ قَالَ لَهُمْ: ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها لِأَنَّ هَذِهِ الْإِشَارَةَ كَافِيَةٌ مَعَ الْأُمُورِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ناقَةَ اللَّهِ نُصِبَ عَلَى التَّحْذِيرِ، كَقَوْلِكِ الْأَسَدَ الْأَسَدَ، وَالصَّبِيَّ الصَّبِيَّ بِإِضْمَارِ ذَرُوا عَقْرَهَا وَاحْذَرُوا سُقْيَاهَا، فَلَا تَمْنَعُوهَا عنها، ولا تستأثروا بها عليها. [سورة الشمس (91) : آية 14] فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَمْتَنِعُوا عَنْ تَكْذِيبِ صَالِحٍ، وَعَنْ عَقْرِ النَّاقَةِ بِسَبَبِ الْعَذَابِ الَّذِي أَنْذَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُبَاشِرُ لِلْعَقْرِ وَاحِدًا وَهُوَ قُدَارٌ، فَيُضَافُ الْفِعْلُ إِلَيْهِ بِالْمُبَاشَرَةِ، كَمَا قَالَ: فَتَعَاطَى فَعَقَرَ وَيُضَافُ الْفِعْلُ إِلَى الْجَمَاعَةِ لِرِضَاهُمْ بِمَا فَعَلَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ. قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ أَبَى أَنْ يَعْقِرَهَا حَتَّى بَايَعَهُ صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ وَذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قِيلَ إِنَّهُمَا كَانَا اثْنَيْنِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها فَاعْلَمْ أَنَّ فِي الدَّمْدَمَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى دَمْدَمَ أَطْبَقَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ، يُقَالُ: دَمْدَمْتُ عَلَى الشَّيْءِ إِذَا أَطْبَقْتَ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: نَاقَةٌ مَدْمُومَةٌ، أَيْ قَدْ أَلْبَسَهَا الشَّحْمَ، فَإِذَا كَرَّرْتَ الْإِطْبَاقَ قُلْتَ دَمْدَمْتُ عَلَيْهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الدَّمُّ فِي اللُّغَةِ اللَّطْخُ، وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ السَّمِينِ: كَأَنَّمَا دُمَّ بِالشَّحْمِ دَمًّا، فَجَعَلَ الزَّجَّاجُ دَمْدَمَ مِنْ هَذَا الْحَرْفِ عَلَى التَّضْعِيفِ نَحْوَ كُبْكِبُوا وَبَابِهِ،

[سورة الشمس (91) : آية 15]

فَعَلَى هَذَا مَعْنَى دَمْدَمَ عَلَيْهِمْ، أَطْبَقَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ وَعَمَّهُمْ كَالشَّيْءِ الَّذِي يُلَطَّخُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ الْوَجْهُ الثَّانِي: تَقُولُ لِلشَّيْءِ: يُدْفَنُ دَمْدَمْتُ عَلَيْهِ، أَيْ سَوَّيْتَ عَلَيْهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ، فَسَوَّى عَلَيْهِمُ الْأَرْضَ بِأَنْ أَهْلَكَهُمْ فَجَعَلَهُمْ تَحْتَ التُّرَابِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: دَمْدَمَ غَضِبَ، وَالدَّمْدَمَةُ الْكَلَامُ الَّذِي يُزْعِجُ الرَّجُلَ وَرَابِعُهَا: دَمْدَمَ عَلَيْهِمْ أَرْجَفَ الْأَرْضَ بِهِمْ رَوَاهُ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَسَوَّاها يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنْ فَسَّرْنَا الدَّمْدَمَةَ بِالْإِطْبَاقِ وَالْعُمُومِ، كَانَ مَعْنَى فَسَوَّى/ الدَّمْدَمَةَ عَلَيْهِمْ وَعَمَّهُمْ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ هَلَاكَهُمْ كَانَ بِصَيْحَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتِلْكَ الصَّيْحَةُ أَهْلَكَتْهُمْ جَمِيعًا، فَاسْتَوَتْ عَلَى صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهَا بِالتَّسْوِيَةِ، كَانَ المراد فسوى عليهم الأرض. أما قوله تعالى: [سورة الشمس (91) : آية 15] وَلا يَخافُ عُقْباها (15) فَفِيهِ وُجُوهٌ أَوَّلُهَا: أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الرَّبِّ تَعَالَى إِذْ هُوَ أَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَخَافُ تَبِعَةً فِي الْعَاقِبَةِ إِذِ الْعُقْبَى وَالْعَاقِبَةُ سَوَاءٌ، كَأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ ذَلِكَ بِحَقٍّ. وَكُلُّ مَا فَعَلَ مَا يَكُونُ حِكْمَةً وَحَقًّا فَإِنَّهُ لَا يَخَافُ عَاقِبَةَ فِعْلِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَكَرَ ذَلِكَ لَا عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ لَكِنْ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيرِ لِهَذَا الْفِعْلِ، أَيْ هُوَ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْشَى فِيهِ عَاقِبَةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَجِلُّ أَنْ يُوصَفَ بِذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ بَالِغٌ فِي التَّعْذِيبِ، فَإِنَّ كُلَّ مَلِكٍ يَخْشَى عَاقِبَةً، فَإِنَّهُ يَتَّقِي بَعْضَ الِاتِّقَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا لَمْ يَخَفْ شَيْئًا مِنَ الْعَوَاقِبِ، لَا جَرَمَ مَا اتَّقَى شَيْئًا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ صَالِحٍ الَّذِي هُوَ الرَّسُولُ أَيْ وَلَا يَخَافُ صَالِحٌ عُقْبَى هَذَا الْعَذَابِ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِمْ وَذَلِكَ كَالْوَعْدِ لِنُصْرَتِهِ وَدَفْعِ الْمَكَارِهِ عَنْهُ لَوْ حَاوَلَ مُحَاوِلٌ أَنْ يُؤْذِيَهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الْأَشْقَى الَّذِي هُوَ أُحَيْمِرُ ثَمُودَ فِيمَا أَقْدَمَ مِنْ عَقْرِ النَّاقَةِ وَلا يَخافُ عُقْباها وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً لَكِنَّهَا عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فِي حُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا، وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى عَقْرِهَا وَهُوَ كَالْآمَنِ مِنْ نُزُولِ الْهَلَاكِ بِهِ وَبِقَوْمِهِ ففعل مع هذا الْخَوْفِ الشَّدِيدِ فِعْلُ مَنْ لَا يَخَافُ الْبَتَّةَ، فَنُسِبَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْجَهْلِ وَالْحُمْقِ، وَفِي قِرَاءَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَلَمْ يَخَفْ) وَفِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ فَلَا يَخَافُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، رُوِيَ أَنَّ صَالِحًا لَمَّا وَعَدَهُمُ الْعَذَابَ بَعْدَ ثَلَاثٍ، قَالَ التِّسْعَةُ الَّذِينَ عَقَرُوا النَّاقَةَ: هَلُمُّوا فَلْنَقْتُلْ صَالِحًا، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَأَعْجَلْنَاهُ قَبْلَنَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا أَلْحَقْنَاهُ بِنَاقَتِهِ. فَأَتَوْهُ ليبيتوه فدمغتهم الملائكة بالحجار، فلما أبطئوا عَلَى أَصْحَابِهِمْ أَتَوْا مَنْزِلَ صَالِحٍ، فَوَجَدُوهُمْ قَدْ رُضِخُوا بِالْحِجَارَةِ فَقَالُوا لِصَالِحٍ: أَنْتَ قَتَلْتَهُمْ ثُمَّ هَمُّوا بِهِ فَقَامَتْ عَشِيرَتُهُ دُونَهُ لَبِسُوا السِّلَاحَ وَقَالُوا لَهُمْ: وَاللَّهِ لَا تَقْتُلُونَهُ قَدْ وَعَدَكُمْ أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِكُمْ فِي ثَلَاثٍ، فَإِنْ كان صادقا زدتم ربكم عليكم غَضَبًا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَأَنْتُمْ مِنْ وَرَاءِ مَا تُرِيدُونَ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَأَصْبَحُوا وُجُوهَهُمْ مُصْفَرَّةً فَأَيْقَنُوا بِالْعَذَابِ فَطَلَبُوا صَالِحًا لِيَقْتُلُوهُ فَهَرَبَ صَالِحٌ وَالْتَجَأَ إِلَى سَيِّدِ بَعْضِ بُطُونِ ثَمُودَ وَكَانَ مُشْرِكًا فَغَيَّبَهُ عَنْهُمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ ثُمَّ شَغَلَهُمْ عَنْهُ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ، فَهَذَا هُوَ قَوْلُهُ: وَلا يَخافُ عُقْباها وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة الليل

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة الليل إحدى وعشرون آية مكية (سُورَةُ اللَّيْلِ) قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَإِنْفَاقِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَفِي أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَبُخْلِهِ وَكُفْرِهِ بِاللَّهِ، إِلَّا أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَكِنَّ مَعَانِيَهَا عَامَّةٌ لِلنَّاسِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تعالى قال: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل: 4] ، وقال: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى [الليل: 14] وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةٍ فَقَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ مَكَانَهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ فَقَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى [الليل: 5- 7] فبان بهذا الحديث عموم هذه السورة. [سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِاللَّيْلِ الَّذِي يَأْوِي فِيهِ كُلُّ حَيَوَانٍ إِلَى مَأْوَاهُ وَيَسْكُنُ الْخَلْقُ عَنِ الِاضْطِرَابِ وَيَغْشَاهُمُ النَّوْمُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ رَاحَةً لِأَبْدَانِهِمْ وَغِذَاءً لِأَرْوَاحِهِمْ، ثُمَّ أَقْسَمَ بِالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، لِأَنَّ النَّهَارَ إِذَا جَاءَ انْكَشَفَ بِضَوْئِهِ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الظُّلْمَةِ، وَجَاءَ الْوَقْتُ الَّذِي يَتَحَرَّكُ فيه الناس لمعاشهم وتتحرك الطير من أو كارها وَالْهَوَامُّ مِنْ مَكَامِنِهَا، فَلَوْ كَانَ الدَّهْرُ كُلُّهُ لَيْلًا لَتَعَذَّرَ الْمَعَاشُ وَلَوْ كَانَ كُلُّهُ نَهَارًا لَبَطَلَتِ الرَّاحَةُ، لَكِنَّ الْمَصْلَحَةَ كَانَتْ فِي تَعَاقُبِهِمَا عَلَى مَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً [الْفُرْقَانِ: 62] ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ [إبراهيم: 33] أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ مَفْعُولَ يَغْشَى، فَهُوَ إِمَّا الشَّمْسُ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها [الشَّمْسِ: 4] وإما النهار من قوم: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الرعد: 3] وَإِمَّا كُلُّ شَيْءٍ يُوَارِيهِ بِظَلَامِهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا وَقَبَ [الْفَلَقِ: 3] وَقَوْلُهُ: وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى أَيْ ظَهَرَ بِزَوَالِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، أَوْ ظَهَرَ وانكشف بطلوع الشمس. وقوله تعالى: [سورة الليل (92) : آية 3] وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) وَفِيهِ مَسَائِلُ:

[سورة الليل (92) : آية 4]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَيْ وَالْقَادِرِ الْعَظِيمِ الْقُدْرَةِ الَّذِي قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، وَقِيلَ: هُمَا آدَمُ وَحَوَّاءُ وَثَانِيهَا: أَيْ وَخَلْقِهِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَثَالِثُهَا: مَا بِمَعْنَى مَنْ أَيْ وَمَنْ خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، أَيْ وَالَّذِي خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (وَالَّذِي خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) وَعَنِ الْكِسَائِيِّ: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى بِالْجَرِّ، وَوَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: وَما خَلَقَ أَيْ وَمَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أي مخلوق اللَّهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى بَدَلًا مِنْهُ، أي ومخلوق الله الذكر والأنثى، وجاز إضمار اسْمِ اللَّهِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا هُوَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَسَمُ بِالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى يَتَنَاوَلُ الْقَسَمَ بِجَمِيعِ ذَوِي الْأَرْوَاحِ الَّذِينَ هُمْ أَشْرَفُ الْمَخْلُوقَاتِ، لِأَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ فَهُوَ إِمَّا ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى وَالْخُنْثَى فَهُوَ فِي نَفْسِهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ إِمَّا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ، أَنَّهُ لَمْ يَلْقَ فِي هَذَا الْيَوْمِ لَا ذَكَرًا وَلَا أُنْثَى، وَكَانَ قَدْ لَقِيَ خُنْثَى فَإِنَّهُ يخنث في يمينه. [سورة الليل (92) : آية 4] إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) هذا الجواب الْقَسَمِ، فَأَقْسَمَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، أَنَّ أَعْمَالَ عباده لشتى أي مختلفة في الجزاء وشتى جَمْعُ شَتِيتٍ مِثْلُ مَرْضَى وَمَرِيضٍ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْمُخْتَلِفِ: شَتَّى، لِتَبَاعُدِ مَا بَيْنَ بَعْضِهِ وَبَعْضِهِ، وَالشَّتَاتُ هُوَ التَّبَاعُدُ وَالِافْتِرَاقُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ عَمَلَكُمْ لِمُتَبَاعِدٍ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ، لِأَنَّ بَعْضَهُ ضَلَالٌ وَبَعْضَهُ هُدًى، وَبَعْضَهُ يُوجِبُ الْجِنَانَ، وَبَعْضَهُ يُوجِبُ النِّيرَانَ، فَشَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ [الْحَشْرِ: 20] وَقَوْلُهُ: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ [السَّجْدَةِ: 18] وَقَوْلُهُ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ [الْجَاثِيَةِ: 21] وَقَالَ: وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ [فَاطِرٍ: 21] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي سُفْيَانَ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ مَعْنَى اخْتِلَافِ الْأَعْمَالِ فِيمَا قُلْنَاهُ مِنَ الْعَاقِبَةِ الْمَحْمُودَةِ وَالْمَذْمُومَةِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فقال: [سورة الليل (92) : الآيات 5 الى 10] فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) [في قوله تعالى فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى] وَفِي قَوْلِهِ أَعْطى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنْفَاقَ الْمَالِ فِي جَمِيعِ وُجُوهِ الْخَيْرِ مِنْ عِتْقِ الرِّقَابِ

وَفَكِّ الْأُسَارَى وَتَقْوِيَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَبُو بَكْرٍ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا أَوْ نَفْلًا، وَإِطْلَاقُ هَذَا كَالْإِطْلَاقِ فِي قوله: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [الأنفال: 3] فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كُلُّ ذَلِكَ إِنْفَاقًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا أَوْ نَفْلًا، وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ قَوْمًا فَقَالَ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى / حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الْإِنْسَانِ: 8] وَقَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى [اللَّيْلِ: 17- 20] ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: أَعْطى يَتَنَاوَلُ إِعْطَاءَ حُقُوقِ الْمَالِ وَإِعْطَاءَ حُقُوقِ النَّفْسِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، يُقَالُ: فُلَانٌ أَعْطَى الطَّاعَةَ وَأَعْطَى السَّعَةَ وَقَوْلُهُ: وَاتَّقى فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ هَلْ مِنْ شَرْطِ كَوْنِهِ مُتَّقِيًا أَنْ يَكُونَ مُحْتَرِزًا عَنِ الصَّغَائِرِ أَمْ لَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: 2] وَقَوْلُهُ: وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَالْحُسْنَى فِيهَا وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْمَعْنَى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ حَصَلَتْ لَهُ الْحُسْنَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ إِعْطَاءُ مَالٍ وَلَا اتِّقَاءُ مَحَارِمَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَدِ: 14- 17] وَثَانِيهَا: أَنَّ الْحُسْنَى عِبَارَةٌ عَمَّا فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْعِبَادَاتِ عَلَى الْأَبْدَانِ وَفِي الْأَمْوَالِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَعْطَى فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاتَّقَى الْمَحَارِمَ وَصَدَّقَ بِالشَّرَائِعِ، فَعَلِمَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُشَرِّعْهَا إِلَّا لِمَا فِيهَا مِنْ وُجُوهِ الصَّلَاحِ وَالْحُسْنِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْحُسْنَى هُوَ الْخَلَفُ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سَبَأٍ: 39] وَالْمَعْنَى: أَعْطَى مِنْ مَالِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ مُصَدِّقًا بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ مِنَ الْخَلَفِ الْحَسَنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 261] فَكَانَ الْخَلَفُ لَمَّا كَانَ زَائِدًا صَحَّ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْحُسْنَى عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى: وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى أَيْ لَمْ يُصَدِّقْ بِالْخَلَفِ، فَبَخِلَ بِمَالِهِ لِسُوءِ ظَنِّهِ بِالْمَعْبُودِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنَعَ الْمَوْجُودَ، سُوءُ ظَنٍّ بِالْمَعْبُودِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ غَرَبَتْ فِيهِ الشَّمْسُ إِلَّا وَمَلَكَانِ يُنَادِيَانِ يَسْمَعُهُمَا خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ إِلَّا الثِّقْلَيْنِ. اللَّهُمَّ أَعْطِ كُلَّ مُنْفِقٍ خَلَفًا وَكُلَّ مُمْسِكٍ تَلَفًا» وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْحُسْنَى هُوَ الثَّوَابُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الْجَنَّةُ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، قَالَ قَتَادَةُ: صَدَقَ بِمَوْعُودِ اللَّهِ فَعَمِلَ لِذَلِكَ الْمَوْعُودِ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَبِالْجُمْلَةِ أن الْحُسْنَى لَفْظَةٌ تَسَعُ كُلَّ خَصْلَةٍ حَسَنَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التَّوْبَةِ: 52] يَعْنِي النَّصْرَ أَوِ الشَّهَادَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً [الشُّورَى: 23] فَسَمَّى مُضَاعَفَةَ الْأَجْرِ حُسْنَى، وَقَالَ: إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فُصِّلَتْ: 50] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْجَنَّةُ وَثَانِيهَا: أَنَّهَا الْخَيْرُ وَقَالُوا فِي الْعُسْرَى: أَنَّهَا الشِّرْكُ وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَسْهُلَ عَلَيْهِ كُلُّ مَا كُلِّفَ بِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْعُسْرَى تَعْسِيرُ كُلِّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَرَابِعُهَا: الْيُسْرَى هِيَ الْعَوْدُ إِلَى الطَّاعَةِ الَّتِي أَتَى بِهَا أَوَّلًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ فَسَنُيَسِّرُهُ لِأَنْ يَعُودَ إِلَى الْإِعْطَاءِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَالُوا: فِي الْعُسْرَى ضِدُّ ذَلِكَ أَيْ نُيَسِّرُهُ لِأَنْ يَعُودَ إِلَى الْبُخْلِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَلِكُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ مَجَازٌ مِنَ اللُّغَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالْعَوَاقِبِ، فَكُلُّ مَا أَدَّتْ عَاقِبَتُهُ إِلَى يُسْرٍ وَرَاحَةٍ وَأُمُورٍ مَحْمُودَةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْيُسْرَى، وَذَلِكَ وَصْفُ كُلِّ الطَّاعَاتِ، وَكُلُّ مَا أَدَّتْ عَاقِبَتُهُ إِلَى عُسْرٍ/ وَتَعَبٍ فَهُوَ مِنَ الْعُسْرَى، وَذَلِكَ وَصْفُ كُلِّ الْمَعَاصِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: التَّأْنِيثُ فِي لَفْظِ الْيُسْرَى، وَلَفْظِ الْعُسْرَى فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْيُسْرَى

وَالْعُسْرَى إِنْ كَانَ جَمَاعَةَ الْأَعْمَالِ، فَوَجْهُ التَّأْنِيثِ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ عَمَلًا وَاحِدًا رَجَعَ التَّأْنِيثُ إِلَى الْخَلَّةِ أَوِ الْفَعْلَةِ، وَعَلَى هَذَا مَنْ جَعَلَ يُسْرَى هُوَ تَيْسِيرُ الْعَوْدَ [ةِ] إِلَى مَا فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الطَّاعَةِ رَجَّعَ التَّأْنِيثَ إِلَى الْعَوْدَ [ةِ] ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: فَسَنُيَسِّرُهُ للعود [ة] التي هي كذاو ثانيها: أَنْ يَكُونَ مَرْجِعُ التَّأْنِيثِ إِلَى الطَّرِيقَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لِلطَّرِيقَةِ الْيُسْرَى وَالْعُسْرَى وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْعِبَادَاتِ أُمُورٌ شَاقَّةٌ عَلَى الْبَدَنِ، فَإِذَا عَلِمَ الْمُكَلَّفُ أَنَّهَا تُفْضِي إِلَى الْجَنَّةِ سَهُلَتْ تِلْكَ الْأَفْعَالُ الشَّاقَّةُ عَلَيْهِ، بِسَبَبِ تَوَقُّعِهِ لِلْجَنَّةِ، فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْجَنَّةَ يُسْرَى، ثُمَّ عَلَّلَ حُصُولَ الْيُسْرَى فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ بِهَذِهِ الْيُسْرَى وَقَوْلُهُ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي مَعْنَى التَّيْسِيرِ لِلْيُسْرَى وَالْعُسْرَى وُجُوهٌ: وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ فَسَّرَ الْيُسْرَى بِالْجَنَّةِ فَسَّرَ التَّيْسِيرَ لِلْيُسْرَى بِإِدْخَالِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ فِي الْجَنَّةِ بِسُهُولَةٍ وَإِكْرَامٍ، عَلَى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرَّعْدِ: 23، 24] وَقَوْلِهِ: طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزُّمَرِ: 73] وَقَوْلِهِ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْدِ: 24] وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ الْيُسْرَى بِأَعْمَالِ الْخَيْرِ فَالتَّيْسِيرُ لَهَا هُوَ تَسْهِيلُهَا عَلَى مَنْ أَرَادَ حَتَّى لَا يَعْتَرِيَهُ مِنَ التَّثَاقُلِ مَا يَعْتَرِي الْمُرَائِينَ وَالْمُنَافِقِينَ مِنَ الْكَسَلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ [الْبَقَرَةِ: 45] وَقَالَ: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى [النسار: 142] وَقَالَ: مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التَّوْبَةِ: 38] فَكَانَ التَّيْسِيرُ هُوَ التَّنْشِيطُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اسْتَدَلَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فِي التَّوْفِيقِ وَالْخِذْلَانِ، فَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْمُؤْمِنَ بِهَذَا التَّوْفِيقِ، وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ الطَّاعَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَرْجَحَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَقَوْلُهُ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَصَّ الْكَافِرَ بِهَذَا الْخِذْلَانِ، وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَعْصِيَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَرْجَحَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَإِذَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى حُصُولِ الرجحان لزم القوم بِالْوُجُوبِ لِأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَالَ الِاسْتِوَاءِ يَمْتَنِعُ الرُّجْحَانُ، فَحَالُ الْمَرْجُوحِيَّةِ أَوْلَى بِالِامْتِنَاعِ، وَإِذَا امْتَنَعَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ وَجَبَ حُصُولُ الطَّرَفِ الْآخَرِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا خُرُوجَ عَنْ طَرَفَيِ النَّقِيضِ. أَجَابَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ وَجْهِ التَّمَسُّكِ بِالْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ تَسْمِيَةَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ بِاسْمِ الْآخَرِ مَجَازٌ مَشْهُورُ، قَالَ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] وَقَالَ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الإنشقاق: 24] فَلَمَّا سَمَّى اللَّهُ فِعْلَ الْأَلْطَافِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الطَّاعَاتِ تَيْسِيرًا لِلْيُسْرَى، سَمَّى تَرْكَ هَذِهِ الْأَلْطَافِ تَيْسِيرًا لِلْعُسْرَى وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ إِضَافَةِ الْفِعْلِ إِلَى الْمُسَبِّبِ لَهُ دُونَ الْفَاعِلِ. كَمَا قِيلَ فِي الْأَصْنَامَ: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إِبْرَاهِيمَ: 36] وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْحُكْمِ بِهِ وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْكُلِّ أَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لَا سِيَّمَا أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ جَانِبِنَا مُتَأَكَّدٌ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْقَاطِعِ، ثُمَّ/ إِنَّ أَصْحَابَنَا أَكَّدُوا ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ مَكَانَهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، قُلْنَا: أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: لَا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» أَجَابَ الْقَفَّالُ عَنْهُ بِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ خُلِقُوا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ، كَمَا قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ، يَعْنِي اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا وَافَقَ مَعْلُومَ اللَّهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا: أَنَّ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلِمَهُ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُمْتَنِعُ التَّغْيِيرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة الليل (92) : آية 11]

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي دُخُولِ السِّينِ فِي قَوْلِهِ: فَسَنُيَسِّرُهُ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّرْفِيقِ وَالتَّلْطِيفِ وَهُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَطْعٌ وَيَقِينٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ إِلَى قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَةِ: 21] وَثَانِيهَا: أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُطِيعَ قَدْ يَصِيرُ عَاصِيًا، وَالْعَاصِيَ قَدْ يَصِيرُ بِالتَّوْبَةِ مُطِيعًا، فَهَذَا السَّبَبُ كَانَ التَّغْيِيرُ فِيهِ مُحَالًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ الثَّوَابَ لَمَّا كَانَ أَكْثَرُهُ وَاقِعًا فِي الْآخِرَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَأْتِ وَقْتُهُ، وَلَا يَقِفْ أَحَدٌ عَلَى وَقْتِهِ إِلَّا اللَّهُ، لَا جَرَمَ دَخَلَهُ تَرَاخٍ، فَأُدْخِلَتِ السِّينُ لِأَنَّهَا حَرْفُ التَّرَاخِي لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوَعْدَ آجِلٌ غَيْرُ حَاضِرٍ، والله أعلم. أما قوله تعالى: [سورة الليل (92) : آية 11] وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) فَاعْلَمْ أَنَّ (مَا) هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا. وَأَمَّا تَرَدَّى فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنْ قَوْلِكَ: تَرَدَّى مِنَ الْجَبَلِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ [الْمَائِدَةِ: 3] فَيَكُونُ الْمَعْنَى: تَرَدَّى فِي الْحُفْرَةِ إِذَا قَبُرَ، أَوْ تَرَدَّى فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ، وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: إِنَّا إِذَا يَسَّرْنَاهُ لِلْعُسْرَى، وَهِيَ النَّارُ تَرَدَّى فِي جَهَنَّمَ، فَمَاذَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ الَّذِي بَخِلَ بِهِ وتركه لوارثه، ولم يصحبه مِنْهُ إِلَى آخِرَتِهِ، الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ فَقْرِهِ وحاجته شيء، كَمَا قَالَ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [الْأَنْعَامِ: 94] وَقَالَ: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً [مَرْيَمَ: 80] أَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ بِهِ هُوَ مَا يُقَدِّمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَإِعْطَاءِ الْأَمْوَالِ فِي حُقُوقِهَا، دُونَ الْمَالِ الَّذِي يَخْلُفُهُ عَلَى وَرَثَتِهِ الثَّانِي: أَنَّ تَرَدَّى تَفَعَّلَ مِنَ الرَّدَى وَهُوَ الْهَلَاكُ يُرِيدُ الْمَوْتَ. أَمَّا قوله تعالى: [سورة الليل (92) : آية 12] إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَرَّفَهُمْ أَنَّ سَعْيَهُمْ شَتَّى فِي الْعَوَاقِبِ وَبَيَّنَ مَا لِلْمُحْسِنِ مِنَ الْيُسْرَى وَلِلْمُسِيءِ مِنَ الْعُسْرَى، أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ قَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ مِنَ الْبَيَانِ وَالدَّلَالَةِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْإِرْشَادِ وَالْهِدَايَةِ فَقَالَ: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى أَيْ إِنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْنَا فِي الْحِكْمَةِ إِذَا خَلَقْنَا الْخَلْقَ لِلْعِبَادَةِ أَنْ نُبَيِّنَ لَهُمْ وُجُوهَ التَّعَبُّدِ وَشَرْحَ مَا يَكُونُ الْمُتَعَبِّدُ بِهِ مُطِيعًا مِمَّا يَكُونُ بِهِ عَاصِيًا، إِذْ كُنَّا إِنَّمَا خَلَقْنَاهُمْ لِنَنْفَعَهُمْ وَنَرْحَمَهُمْ وَنُعَرِّضَهُمْ لِلنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَدْ فَعَلْنَا مَا كَانَ/ فِعْلُهُ وَاجِبًا عَلَيْنَا فِي الْحِكْمَةِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ فِي مَسَائِلَ إِحْدَاهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ الْأَعْذَارَ وَمَا كَلَّفَ الْمُكَلَّفَ إِلَّا مَا فِي وُسْعِهِ وَطَاقَتِهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ بِمَا لَا يُطَاقُ وَثَانِيهَا: أَنَّ كَلِمَةَ عَلَى لِلْوُجُوبِ، فَتَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَجِبُ لِلْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ مُسْتَقِلًّا بِالْإِيجَادِ لَمَا كَانَ فِي وَضْعِ الدَّلَائِلِ فَائِدَةٌ، وَأَجْوِبَةُ أَصْحَابِنَا عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْوُجُوهِ مَشْهُورَةٌ، وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ وَجْهًا آخَرَ نَقَلَهُ عَنِ الْفَرَّاءِ فَقَالَ الْمَعْنَى: إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَالْإِضْلَالَ، فَتَرَكَ الْإِضْلَالَ كَمَا قَالَ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْلِ: 81] وَهِيَ تَقِي الْحَرَّ وَالْبَرْدَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءِ، قَالَ: يُرِيدُ أُرْشِدُ أَوْلِيَائِي إِلَى الْعَمَلِ بِطَاعَتِي، وَأَحُولُ بَيْنَ أَعْدَائِي أَنْ يَعْمَلُوا بِطَاعَتِي فَذَكَرَ مَعْنَى الْإِضْلَالِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذَا التَّأْوِيلُ سَاقِطٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ [النَّحْلِ: 9] فَبَيَّنَ أَنَّ قَصْدَ السَّبِيلِ عَلَى اللَّهِ، وَأَمَّا جَوْرُ السَّبِيلِ فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى اللَّهِ وَلَا مِنْهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِقْصَاءَ قَدْ سَبَقَ في تلك الآية. أما قوله تعالى:

[سورة الليل (92) : آية 13]

[سورة الليل (92) : آية 13] وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ لَنَا كُلَّ مَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلَيْسَ يَضُرُّنَا تَرْكُكُمُ الِاهْتِدَاءَ بِهُدَانَا، وَلَا يَزِيدُ فِي مُلْكِنَا اهْتِدَاؤُكُمْ، بَلْ نَفْعُ ذَلِكَ وَضَرُّهُ عَائِدَانِ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شِئْنَا لَمَنَعْنَاكُمْ مِنَ الْمَعَاصِي قَهْرًا، إِذْ لَنَا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ وَلَكِنَّنَا لَا نَمْنَعُكُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لِأَنَّ هَذَا الْوَجْهَ يُخَلُّ بِالتَّكْلِيفِ، بَلْ نَمْنَعُكُمْ بِالْبَيَانِ وَالتَّعْرِيفِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الثَّانِي: أَنَّ لَنَا مُلْكَ الدَّارَيْنِ نُعْطِي مَا نَشَاءُ مَنْ نَشَاءُ، فَيُطْلَبُ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ مِنَّا، وَالْأَوَّلُ أَوْفَقُ لِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالثَّانِي أَوْفَقُ لقولنا. أما قوله تعالى: [سورة الليل (92) : الآيات 14 الى 16] فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) تَلَظَّى أَيْ تَتَوَقَّدُ وَتَتَلَهَّبُ وَتَتَوَهَّجُ، يُقَالُ: تَلَظَّتِ النَّارُ تَلَظِّيًا، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ جَهَنَّمُ لَظَى، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهَا لِمَنْ هِيَ بِقَوْلِهِ: لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَأَمْثَالِهِ الَّذِينَ كَذَّبُوا مُحَمَّدًا وَالْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْأَشْقَى بِمَعْنَى الشَّقِيِّ كَمَا يُقَالُ: لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدٍ أَيْ بِوَاحِدٍ، فَالْمَعْنَى لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا الْكَافِرُ الَّذِي هُوَ شَقِيٌّ لِأَنَّهُ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَتَوَلَّى أَيْ أَعْرَضَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرْجِئَةَ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّهُ لَا وَعِيدَ إِلَّا عَلَى الْكُفَّارِ، قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى فَوَجَبَ فِي الْكَافِرِ الَّذِي لَمْ يُكَذِّبْ وَلَمْ يَتَوَلَّ أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا إِغْرَاءٌ بِالْمَعَاصِي، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ تَعَالَى: لِمَنْ صَدَّقَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَمْ/ يُكَذِّبْ وَلَمْ يَتَوَلَّ: أَيُّ مَعْصِيَةٍ أَقْدَمْتَ عَلَيْهَا، فَلَنْ تَضُرَّكَ، وَهَذَا يَتَجَاوَزُ حَدَّ الْإِغْرَاءِ إِلَى أَنْ تَصِيرَ كَالْإِبَاحَةِ، وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تعالى: من بعد وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [الليل: 17] يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ هَذَا الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِ الْفَاسِقِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِأَتْقَى، لِأَنَّ ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي التَّقْوَى، وَمَنْ يَرْتَكِبْ عَظَائِمَ الْكَبَائِرِ لَا يُوصَفْ بِأَنَّهُ أَتْقَى، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَدْخُلُ النَّارَ، فَهَذَا الثَّانِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لا يجنب النار، وكل مكلف لا يجنب النَّارَ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ، فَنَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: نَارًا تَلَظَّى نَارًا مَخْصُوصَةً مِنَ النِّيرَانِ، لِأَنَّهَا دَرَكَاتٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاءِ: 145] فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ النَّارَ الْمَخْصُوصَةَ لَا يَصْلَاهَا سِوَى هَذَا الْأَشْقَى، وَلَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ وَغَيْرَ مَنْ هَذَا صِفَتُهُ مِنَ الْكُفَّارِ لَا يَدْخُلُ سَائِرَ النِّيرَانِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: نَارًا تَلَظَّى النِّيرَانُ أَجْمَعُ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى أَيْ هَذَا الْأَشْقَى بِهِ أَحَقُّ، وَثُبُوتُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ غَيْرُ حَاصِلٍ إِلَّا لِهَذَا الْأَشْقَى. وَاعْلَمْ أَنَّ وُجُوهَ الْقَاضِي ضَعِيفَةٌ. أَمَّا قَوْلُهُ أَوَّلًا: يَلْزَمُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكَافِرِ أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ فَجَوَابُهُ: أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُكَذِّبًا لِلنَّبِيِّ فِي دَعْوَاهُ، وَيَكُونُ مُتَوَلِّيًا عَنِ النَّظَرِ فِي دَلَالَةِ صِدْقِ ذَلِكَ النَّبِيِّ، فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَشْقَى مِنْ سَائِرِ الْعُصَاةِ، وَأَنَّهُ كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَإِذَا كَانَ كُلُّ كَافِرٍ دَاخِلًا فِي الْآيَةِ سَقَطَ مَا قاله القاضي.

[سورة الليل (92) : الآيات 17 إلى 19]

وَأَمَّا قَوْلُهُ ثَانِيًا: إِنَّ هَذَا إِغْرَاءٌ بِالْمَعْصِيَةِ فَضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّهُ يَكْفِي فِي الزَّجْرِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ حُصُولُ الذَّمِّ فِي الْعَاجِلِ وَحُصُولُ غَضَبِ اللَّهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُكْرِمُهُ وَلَا يُعَظِّمُهُ وَلَا يُعْطِيهِ الثَّوَابَ، وَلَعَلَّهُ يُعَذِّبُهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ، فَلَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى انْحِصَارِ طَرِيقِ التَّعْذِيبِ فِي إِدْخَالِ النَّارِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ ثَالِثًا: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى حَالِ غَيْرِ الْأَتْقَى إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَفْهُومِ، وَالتَّمَسُّكُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وَهُوَ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَكَيْفَ تُمْسِكُ بِهِ؟ وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي فِيمَنْ لَيْسَ بِأَتْقَى دُخُولَ النَّارِ، فَيَلْزَمُ فِي الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ أَنْ يَدْخُلُوا النَّارَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ رَابِعًا: الْمُرَادُ مِنْهُ نَارٌ مَخْصُوصَةٌ، وَهِيَ النَّارُ الَّتِي تَتَلَظَّى فَضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: نَارًا تَلَظَّى يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صِفَةً لِكُلِّ النِّيرَانِ، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِنَارٍ مَخْصُوصَةٍ، لَكِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ كُلَّ نَارِ جَهَنَّمَ بِهَذَا الْوَصْفِ فِي آيَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى. [الْمَعَارِجِ: 15] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْمُرَادُ إِنَّ هَذَا الْأَشْقَى أَحَقُّ بِهِ فَضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَثَبَتَ ضَعْفُ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْقَاضِي، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْجَوَابُ عَنْهُ عَلَى قَوْلِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَقْطَعُونَ بِعَدَمِ وَعِيدِ الْفُسَّاقِ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى: لَا يَصْلاها لَا يَلْزَمُهَا فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ، يُقَالُ: صَلَى الْكَافِرُ النَّارَ إِذَا لَزِمَهَا مُقَاسِيًا شِدَّتَهَا وَحَرَّهَا، وَعِنْدَنَا أَنَّ هَذِهِ الْمُلَازَمَةَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا لِلْكَافِرِ، أَمَّا الْفَاسِقُ فَإِمَّا أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَوْ إِنْ دَخَلَهَا تَخَلَّصَ مِنْهَا الثَّانِي: أَنْ يُخَصَّ عُمُومُ هَذَا الظَّاهِرِ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ على وعيد الفساق، والله أعلم. قوله تعالى: [سورة الليل (92) : الآيات 17 الى 19] وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) مَعْنَى سَيُجَنَّبُهَا أَيْ سَيُبْعَدُهَا وَيُجْعَلُ مِنْهَا عَلَى جَانِبٍ يُقَالُ: جَنَّبْتُهُ الشَّيْءَ أَيْ بَعَّدْتُهُ وَجَنَّبْتُهُ عَنْهُ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ مِنَّا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشِّيعَةَ بِأَسْرِهِمْ يُنْكِرُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَقِّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ [الْمَائِدَةِ: 55] فَقَوْلُهُ: الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ وَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فِي مَحْضَرِي قُلْتُ: أُقِيمَ الدَّلَالَةُ الْعَقْلِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَبُو بَكْرٍ وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْأَتْقَى هُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ أَبُو بَكْرٍ، فَهَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ مَتَى صَحَّتَا صَحَّ الْمَقْصُودُ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْأَتْقَى أَفْضَلُ الْخَلْقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] وَالْأَكْرَمُ هُوَ الْأَفْضَلُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَتْقَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ، فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَكْرَمَ كَانَ أَتْقَى، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَتْقَى كَانَ أَكْرَمَ، قُلْنَا وَصْفُ كَوْنِ الْإِنْسَانِ أَتْقَى مَعْلُومٌ مُشَاهَدٌ، وَوَصْفُ كَوْنِهِ

[سورة الليل (92) : الآيات 20 إلى 21]

أَفْضَلَ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَا مُشَاهَدٌ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْمَعْلُومِ بِغَيْرِ الْمَعْلُومِ هُوَ الطَّرِيقُ الْحَسَنُ، أَمَّا عَكْسُهُ فَغَيْرُ مُفِيدٍ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ كَأَنَّهُ وَقَعَتِ الشُّبْهَةُ فِي أَنَّ الْأَكْرَمَ عِنْدَ اللَّهِ مَنْ هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ الْأَتْقَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ التَّقْدِيرُ أَتْقَاكُمْ أَكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، فَثَبَتَ أن الأتقى المذكور هاهنا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ، فَنَقُولُ: لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَبَا بَكْرٍ لِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ الْخَلْقِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ، إِمَّا أَبُو بَكْرٍ أَوْ عَلِيٌّ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَتَعَيَّنَ حَمْلُهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِأَنَّهُ قَالَ فِي صِفَةِ هَذَا الْأَتْقَى: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَصْدُقُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي تَرْبِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ أَبِيهِ وَكَانَ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ، وَيَكْسُوهُ، وَيُرَبِّيهِ، وَكَانَ الرَّسُولُ مُنْعِمًا عَلَيْهِ نِعْمَةً يَجِبُ جَزَاؤُهَا، أَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ نِعْمَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ، بَلْ أَبُو بَكْرٍ كَانَ يُنْفِقُ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلْ كَانَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ نِعْمَةُ الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى الدِّينِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا لَا يجزى، لقوله تعالى: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان: 57] والمذكور هاهنا لَيْسَ مُطْلَقَ النِّعْمَةِ بَلْ نِعْمَةٌ تُجْزَى، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَصْلُحُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ كَانَ أَفْضَلَ الْخَلْقِ وَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَفْضَلَ مِنَ الْأُمَّةِ، إِمَّا أَبُو بَكْرٍ أَوْ عَلِيٍّ، وَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ غَيْرُ صَالِحَةٍ لِعَلِيٍّ، تَعَيَّنَ/ حَمْلُهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَثَبَتَ دَلَالَةُ الْآيَةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ فهي أنه كان بلال [عَبْدًا] لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ، فَسَلَحَ عَلَى الْأَصْنَامِ فَشَكَا إِلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ فِعْلَهُ، فَوَهَبَهُ لَهُمْ، وَمِائَةً مِنَ الْإِبِلِ يَنْحَرُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ، فَأَخَذُوهُ وَجَعَلُوا يُعَذِّبُونَهُ فِي الرَّمْضَاءِ وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، فَمَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ، وَقَالَ: يُنْجِيكَ أَحَدٌ أَحَدٌ. ثُمَّ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ أَبَا بَكْرٍ أَنَّ بِلَالًا يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ: فَحَمَلَ أَبُو بَكْرٍ رِطْلًا مِنْ ذَهَبٍ فَابْتَاعَهُ بِهِ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ إِلَّا لِيَدٍ كَانَتْ لِبِلَالٍ عِنْدَهُ، فَنَزَلَ: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَشْتَرِي الضَّعَفَةَ مِنَ الْعَبِيدِ فَيُعْتِقُهُمْ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ لَوْ كُنْتَ تَبْتَاعُ مَنْ يَمْنَعُ ظَهْرَكَ، فَقَالَ: مَنْعُ ظَهْرِي أُرِيدُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي مَحَلِّ: يَتَزَكَّى وجهان: إن جعلت بَدَلًا مِنْ يُؤْتِي فَلَا مَحَلَّ لَهُ، لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الصِّلَةِ، وَالصِّلَاتُ لَا مَحَلَّ لَهَا وَإِنْ جَعَلْتَهُ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُؤْتِي فمحله النصب. [سورة الليل (92) : الآيات 20 الى 21] إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) [قَوْلُهُ تَعَالَى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى] فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ مُسْتَثْنَى مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَهُوَ النِّعْمَةُ أَيْ مَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ نِعْمَةٌ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ ربه كقولك ما في الدار أحدا إِلَّا حِمَارًا، وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يُضْمَرَ الْإِنْفَاقُ عَلَى تَقْدِيرِ: مَا يُنْفِقُ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، كَقَوْلِهِ: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 272] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى لَا يُؤْتِيهِ مُكَافَأَةً عَلَى هَدِيَّةٍ أَوْ نِعْمَةٍ سَالِفَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى أَدَاءِ الدَّيْنِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ دَخْلٌ فِي اسْتِحْقَاقِ مَزِيدِ الثَّوَابِ بَلْ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ إِذَا فَعَلَهُ، لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِهِ وَحَثَّهُ عَلَيْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُجَسِّمَةُ تَمَسَّكُوا بِلَفْظَةِ الْوَجْهِ وَالْمُلْحِدَةُ تمسكوا بلفظة رَبِّهِ الْأَعْلى وإن ذلك يقضي وُجُودَ رَبٍّ آخَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي كِتَابِ «الْإِمَامَةِ» ، فَقَالَ: الْآيَةُ الْوَارِدَةُ فِي حَقِّ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً [الْإِنْسَانِ: 9، 10] وَالْآيَةُ الْوَارِدَةُ فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ: إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى فَدَلَّتِ الْآيَتَانِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنَّمَا فَعَلَ مَا فَعَلَ لِوَجْهِ اللَّهِ إِلَّا أَنَّ آيَةَ عَلِيٍّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ لِوَجْهِ اللَّهِ، وَلِلْخَوْفِ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا قَالَ: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً وَأَمَّا آيَةُ أَبِي بَكْرٍ فَإِنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ لِمَحْضِ وَجْهِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشُوبَهُ طَمَعٌ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى رَغْبَةً فِي ثَوَابٍ/ أَوْ رَهْبَةً مِنْ عِقَابٍ، فَكَانَ مَقَامُ أَبِي بَكْرٍ أَعْلَى وَأَجَلَّ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: ابْتِغَاءُ اللَّهِ بِمَعْنَى ابْتِغَاءِ ذَاتِهِ وَهِيَ مُحَالٌ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ابْتِغَاءَ ثَوَابِهِ وَكَرَامَتِهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ، وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُحِبَّ الْعَبْدُ ذَاتَ اللَّهِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ مَحَبَّةُ ثَوَابِهِ وَكَرَامَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [الْبَقَرَةِ: 165] . الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ بِالرَّفْعِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يقول: ما في الدار أحد إلا حمارا وَأَنْشَدَ فِي اللُّغَتَيْنِ، قَوْلَهُ: وَبَلْدَةٌ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ ... إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ «1» أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَسَوْفَ يَرْضى فَالْمَعْنَى أَنَّهُ وَعَدَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُرْضِيَهُ فِي الْآخِرَةِ بِثَوَابِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضُّحَى: 5] وَفِيهِ عِنْدِي وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ مَا أَنْفَقَ إِلَّا لِطَلَبِ رِضْوَانِ اللَّهِ، وَلَسَوْفَ يَرْضَى اللَّهُ عَنْهُ، وَهَذَا عِنْدِي أَعْظَمُ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ رِضَا اللَّهِ عَنْ عَبْدِهِ أَكْمَلُ لِلْعَبْدِ مِنْ رِضَاهُ عَنْ رَبِّهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى مَا قَالَ: راضِيَةً مَرْضِيَّةً [الْفَجْرِ: 28] وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

_ (1) الرواية التي أحفظها هي: يا ليتني وأنت يا لميس ... في بلد ليس به أنيس إلا اليعافير وإلا للعيس

سورة الضحى

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة الضحى إحدى عشرة آية مكية وَأَنَا عَلَى عَزْمٍ أَنْ أَضُمَّ إِلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا فِيهَا مِنَ اللَّطَائِفِ التِّذْكَارِيَّةِ. [سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) لِأَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَالضُّحى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالضُّحَى وَقْتُ الضُّحَى وَهُوَ صَدْرُ النَّهَارِ حِينَ تَرْتَفِعُ الشَّمْسُ وَتُلْقِي شُعَاعَهَا وَثَانِيهَا: الضُّحَى هُوَ النَّهَارُ كُلُّهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ جُعِلَ فِي مُقَابَلَةِ اللَّيْلِ كُلِّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّيْلِ إِذا سَجى فَذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي سَجى ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ مُتَقَارِبَةٍ: سَكَنَ وَأَظْلَمَ وَغَطَّى أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: سَجَى أَيْ سَكَنَ يُقَالُ: لَيْلَةٌ سَاجِيَةٌ أَيْ سَاكِنَةُ الرِّيحِ، وَعَيْنٌ سَاجِيَةٌ أَيْ فَاتِرَةُ الطَّرْفِ. وَسَجَى الْبَحْرُ إِذَا سَكَنَتْ أَمْوَاجُهُ، وَقَالَ فِي الدُّعَاءِ: يَا مَالِكَ الْبَحْرِ إِذَا الْبَحْرُ سَجَى وأما الثاني: وهو تفسير سجى بأظلم فَقَالَ الْفَرَّاءُ: سَجَى أَيْ أَظْلَمَ وَرَكَدَ فِي طُولِهِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ تَفْسِيرُ سَجَى بِغَطَّى، فَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ سَجَى اللَّيْلُ تَغْطِيَتُهُ النَّهَارَ، مِثْلَ مَا يُسَجَّى الرَّجُلُ بِالثَّوْبِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ غَيْرُ خَارِجَةٍ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَطَّى الدُّنْيَا بِالظُّلْمَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أُلْبِسَ النَّاسُ ظَلَامَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ غَطَّى كُلَّ شَيْءٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: سَكَنَ بِالنَّاسِ وَلِسُكُونِهِ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا: سُكُونُ النَّاسِ فَنُسِبَ إِلَيْهِ كَمَا يُقَالُ لَيْلٌ نَائِمٌ وَنَهَارٌ صَائِمٌ وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ سُكُونَهُ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِقْرَارِ ظَلَامِهِ واستوائه فلا يزداد بعد ذلك، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى فِي السُّورَةِ الْمَاضِيَةِ قَدَّمَ ذِكْرَ اللَّيْلِ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ أَخَّرَهُ؟ قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَنْتَظِمُ مَصَالِحُ الْمُكَلَّفِينَ، وَاللَّيْلُ لَهُ فَضِيلَةُ السَّبْقِ لِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: 1] وَلِلنَّهَارِ فَضِيلَةُ النُّورِ، بَلِ اللَّيْلُ كَالدُّنْيَا وَالنَّهَارُ كَالْآخِرَةِ، فَلَمَّا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ فَضِيلَةٌ لَيْسَتْ لِلْآخَرِ، لَا جَرَمَ قُدِّمَ هَذَا عَلَى ذَاكَ تَارَةً وَذَاكَ، عَلَى هَذَا أُخْرَى، / وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ في

قَوْلِهِ: وَاسْجُدِي وَارْكَعِي [آلِ عِمْرَانَ: 43] ثُمَّ قَدَّمَ الرُّكُوعَ عَلَى السُّجُودِ فِي قَوْلِهِ: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الْحَجِّ: 77] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ فِي سُورَةِ أَبِي بَكْرٍ لِأَنَّ أَبَا بكر سبقه كفر، وهاهنا قَدَّمَ الضُّحَى لِأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا سَبَقَهُ ذَنْبٌ وَثَالِثُهَا: سُورَةُ وَاللَّيْلِ سُورَةُ أَبِي بَكْرٍ، وَسُورَةُ الضُّحَى سُورَةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثُمَّ مَا جُعِلَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَأَبِي بَكْرٍ، فَإِذَا ذَكَرْتَ اللَّيْلَ أَوَّلًا وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ صَعَدْتَ وَجَدْتَ بَعْدَهُ النَّهَارَ وَهُوَ مُحَمَّدٌ، وَإِنْ ذَكَرْتَ وَالضُّحَى أَوَّلًا وَهُوَ مُحَمَّدٌ، ثم نزلت وجدت بعده، والليل وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ، لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بينهما. السؤال الثاني: ما الحكمة هاهنا فِي الْحَلِفِ بِالضُّحَى وَاللَّيْلِ فَقَطْ؟ وَالْجَوَابُ: لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الزَّمَانُ سَاعَةٌ، فَسَاعَةٌ سَاعَةُ لَيْلٍ، وَسَاعَةُ نَهَارٍ، ثُمَّ يَزْدَادُ فَمَرَّةً تَزْدَادُ سَاعَاتُ اللَّيْلِ وَتَنْقُصُ سَاعَاتُ النَّهَارِ، وَمَرَّةً بِالْعَكْسِ فَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ لِهَوًى وَلَا النُّقْصَانُ لِقِلًى بَلْ لِلْحِكْمَةِ، كَذَا الرِّسَالَةُ وَإِنْزَالُ الْوَحْيِ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ فَمَرَّةً إِنْزَالٌ وَمَرَّةً حَبْسٌ، فَلَا كَانَ الْإِنْزَالُ عَنْ هَوًى، وَلَا كَانَ الْحَبْسُ عَنْ قِلًى وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعَالِمَ لَا يُؤَثِّرُ كَلَامُهُ حَتَّى يَعْمَلَ بِهِ، فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، فَالْكُفَّارُ لَمَّا ادَّعَوْا أَنَّ رَبَّهُ وَدَّعَهُ وَقَلَاهُ، قَالَ: هَاتُوا الْحُجَّةَ فَعَجَزُوا فَلَزِمَهُ اليمين بأنه ما ودعه ربه وما قَلَاهُ وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى جِوَارِ اللَّيْلِ مَعَ النَّهَارِ لَا يَسْلَمُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ بَلِ اللَّيْلُ تَارَةً يَغْلِبُ وَتَارَةً يُغْلَبُ فَكَيْفَ تَطْمَعُ أَنْ تَسْلَمَ عَلَى الْخَلْقِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ خُصَّ وَقْتُ الضُّحَى بِالذِّكْرِ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَقْتُ اجْتِمَاعِ النَّاسِ وَكَمَالِ الْأُنْسِ بَعْدَ الِاسْتِيحَاشِ فِي زَمَانِ اللَّيْلِ، فَبَشَّرُوهُ أَنَّ بَعْدَ اسْتِيحَاشِكَ بِسَبَبِ احْتِبَاسِ الْوَحْيِ يَظْهَرُ ضُحَى نُزُولِ الْوَحْيِ وَثَانِيهَا: أَنَّهَا السَّاعَةُ الَّتِي كَلَّمَ فِيهَا مُوسَى رَبَّهُ، وَأُلْقِي فِيهَا السَّحَرَةُ سُجَّدًا، فَاكْتَسَى الزَّمَانُ صِفَةَ الْفَضِيلَةِ لِكَوْنِهِ ظَرْفًا، فَكَيْفَ فَاعِلُ الطَّاعَةِ! وَأَفَادَ أَيْضًا أَنَّ الَّذِي أَكْرَمَ مُوسَى لَا يَدَعُ إِكْرَامَكَ، وَالَّذِي قَلَبَ قُلُوبَ السَّحَرَةِ حَتَّى سَجَدُوا يَقْلِبُ قُلُوبَ أَعْدَائِكَ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا السَّبَبُ فِي أَنَّهُ ذَكَرَ الضُّحَى وَهُوَ سَاعَةٌ مِنَ النَّهَارِ، وذكر الليل بكليته؟ الجواب: فيه وجوه أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ تَوَازِي جَمِيعَ اللَّيْلِ كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا إِذَا وُزِنَ يُوَازِي جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالثَّانِي: أَنَّ النَّهَارَ وَقْتُ السُّرُورِ وَالرَّاحَةِ، وَاللَّيْلَ وَقْتُ الْوَحْشَةِ وَالْغَمِّ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هُمُومَ الدُّنْيَا أَدْوَمُ من سرورها، فإن الضحى ساعة والليل كذا سَاعَاتٌ، يُرْوَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْعَرْشَ أَظَلَّتْ غَمَامَةٌ سَوْدَاءُ عَنْ يَسَارِهِ وَنَادَتْ مَاذَا أُمْطِرُ؟ فَأُجِيبَتْ أَنْ أَمْطِرِي الْهُمُومَ وَالْأَحْزَانَ مِائَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ انْكَشَفَتْ فَأُمِرَتْ مَرَّةً أُخْرَى بِذَلِكَ وَهَكَذَا إِلَى تَمَامِ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَظَلَّتْ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ غَمَامَةٌ بَيْضَاءُ وَنَادَتْ: مَاذَا أُمْطِرُ؟ فَأُجِيبَتْ أَنْ أَمْطِرِي السُّرُورَ سَاعَةً، فَلِهَذَا السَّبَبِ تَرَى الْغُمُومَ وَالْأَحْزَانَ دَائِمَةً، وَالسُّرُورَ قَلِيلًا/ وَنَادِرًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ وَقْتَ الضُّحَى وَقْتَ حَرَكَةِ النَّاسِ وَتَعَارُفِهِمْ فَصَارَتْ نَظِيرَ وَقْتِ الْحَشْرِ، وَاللَّيْلُ إِذَا سَكَنَ نَظِيرُ سُكُونِ النَّاسِ فِي ظُلْمَةِ الْقُبُورِ، فَكِلَاهُمَا حِكْمَةٌ وَنِعْمَةٌ لَكِنَّ الْفَضِيلَةَ لِلْحَيَاةِ عَلَى الْمَوْتِ، وَلَمَّا بَعُدَ الْمَوْتُ عَلَى مَا قَبْلَهُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ ذكر الضحى على ذكر الليل ورابعها: ذكروا الضُّحَى حَتَّى لَا يَحْصُلَ الْيَأْسُ مِنْ رُوحِهِ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِاللَّيْلِ حَتَّى لَا يَحْصُلَ الْأَمْنُ مِنْ مَكْرِهِ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: هَلْ أَحَدٌ مِنَ المذكرين فَسَّرَ الضُّحَى بِوَجْهِ مُحَمَّدٍ وَاللَّيْلَ بِشَعْرِهِ؟ وَالْجَوَابُ: نعم ولا

[سورة الضحى (93) : آية 3]

اسْتِبْعَادَ فِيهِ وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَالضُّحَى ذُكُورُ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَاللَّيْلِ إِنَاثُهُمْ، وَيُحْتَمَلُ الضُّحَى رِسَالَتُهُ وَاللَّيْلُ زَمَانُ احْتِبَاسِ الْوَحْيِ، لِأَنَّ فِي حَالِ النُّزُولِ حَصَلَ الِاسْتِئْنَاسُ وَفِي زَمَنِ الِاحْتِبَاسِ حَصَلَ الِاسْتِيحَاشُ، وَيُحْتَمَلُ وَالضُّحَى نُورُ عِلْمِهِ الَّذِي بِهِ يُعْرَفُ الْمَسْتُورُ مِنَ الْغُيُوبِ: وَاللَّيْلِ عفوه الذي به يستر جميع الغيوب. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الضُّحَى إِقْبَالُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنْ كَانَ غَرِيبًا وَاللَّيْلِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ سَيَعُودُ غَرِيبًا، وَيُحْتَمَلُ وَالضُّحَى كَمَالُ الْعَقْلِ، وَاللَّيْلِ حَالُ الْمَوْتِ، وَيُحْتَمَلُ أُقْسِمُ بِعَلَانِيَتِكَ الَّتِي لَا يَرَى عَلَيْهَا الْخَلْقُ عَيْبًا، وَبِسِرِّكَ الَّذِي لَا يَعْلَمُ عليه عالم الغيب عيبا. [سورة الضحى (93) : آية 3] مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْمُبَرِّدُ: وَدَّعَكَ مِنَ التَّوْدِيعِ كَمَا يُودَّعُ الْمُفَارِقُ، وَقُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ مَا تَرَكَكَ، وَالتَّوْدِيعُ مُبَالَغَةٌ فِي الْوَدَاعِ، لِأَنَّ مَنْ وَدَّعَكَ مُفَارِقًا فَقَدْ بَالَغَ فِي تَرْكِكَ وَالْقِلَى الْبُغْضُ. يُقَالُ: قَلَاهُ يَقْلِيهِ قِلًى وَمَقْلِيَةً إِذَا أَبْغَضَهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ وَمَا قَلَاكَ، وَفِي حَذْفِ الْكَافِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: حُذِفَتِ الْكَافُ اكْتِفَاءً بِالْكَافِ الْأُولَى فِي وَدَّعَكَ، وَلِأَنَّ رؤس الْآيَاتِ بِالْيَاءِ، فَأَوْجَبَ اتِّفَاقُ الْفَوَاصِلِ حَذْفَ الْكَافِ وَثَانِيهَا: فَائِدَةُ الْإِطْلَاقِ أَنَّهُ مَا قَلَاكَ وَلَا [قلا] أحد مِنْ أَصْحَابِكَ وَلَا أَحَدًا مِمَّنْ أَحَبَّكَ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ، تَقْرِيرًا لِقَوْلِهِ: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَبْطَأَ جِبْرِيلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَدْ قَلَاهُ اللَّهُ وَوَدَّعَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَبْطَأَ عَلَيْهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى خَدِيجَةَ، فَقَالَتْ: لَعَلَّ رَبَّكَ نَسِيَكَ أَوْ قَلَاكَ، وَقِيلَ: إِنَّ أُمَّ جَمِيلٍ امْرَأَةَ أَبِي لَهَبٍ قَالَتْ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ مَا أَرَى شَيْطَانَكَ إِلَّا قَدْ تَرَكَكَ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: أَبْطَأَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ: «إِنَّ رَبِّي وَدَّعَنِي وَقَلَانِي، يَشْكُو إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: كَلَّا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا ابْتَدَأَكَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ إِلَّا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُتِمَّهَا لَكَ» فَنَزَلَ: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى وَطَعَنَ الْأُصُولِيُّونَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَدَّعَهُ وَقَلَاهُ، بَلْ يَعْلَمُ أَنَّ عَزْلَ النَّبِيِّ عَنِ النُّبُوَّةِ غَيْرُ جَائِزٍ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَعْلَمُ أَنَّ نُزُولَ الْوَحْيِ يَكُونُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَرُبَّمَا كَانَ الصَّلَاحُ تَأْخِيرَهُ، وَرُبَّمَا كَانَ خِلَافَ ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا/ الْكَلَامَ غَيْرُ لَائِقٍ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثُمَّ إِنْ صَحَّ ذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَقْصُودُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُجَرِّبَهَا لِيَعْرِفَ قَدْرَ عِلْمِهَا، أَوْ لِيَعْرِفَ النَّاسُ قَدْرَ عِلْمِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مُدَّةِ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ، فَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: اثْنَا عَشَرَ يَوْمًا، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ احْتِبَاسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَذَكَرَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّوحِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ وَأَصْحَابِ الْكَهْفِ، فَقَالَ: «سَأُخْبِرُكُمْ غَدًا وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» فَاحْتَبَسَ عَنْهُ الْوَحْيُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: السَّبَبُ فِيهِ كَوْنُ جَرْوٍ فِي بَيْتِهِ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، فَلَمَّا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَاتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ» وَقَالَ جُنْدُبُ بْنُ سُفْيَانَ: رُمِيَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ بِحَجَرٍ فِي إِصْبَعِهِ، فَقَالَ:

[سورة الضحى (93) : آية 4]

هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ ... وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ فَأَبْطَأَ عَنْهُ الْوَحْيُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يُقَلِّمُ الْأَظْفَارَ وهاهنا سُؤَالَانِ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الرِّوَايَاتُ الَّتِي ذَكَرْتُمْ تَدَلُّ عَلَى أَنَّ احْتِبَاسَ الْوَحْيِ كَانَ عَنْ قِلًى: قُلْنَا أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ تَرْكًا لِلْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى، وَصَاحِبُهُ لَا يَكُونُ مَمْقُوتًا وَلَا مُبْغَضًا، وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِجِبْرِيلَ: «مَا جِئْتَنِي حَتَّى اشْتَقْتُ إِلَيْكَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: كُنْتُ إِلَيْكَ أَشْوَقَ وَلَكِنِّي عبدا مأمورا» وَتَلَا: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مَرْيَمَ: 64] . السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ يَحْسُنُ مِنَ السُّلْطَانِ أَنْ يَقُولَ لِأَعْظَمِ الْخَلْقِ قُرْبَةً عِنْدَهُ: إِنِّي لَا أُبْغِضُكَ تَشْرِيفًا لَهُ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْسُنُ ابْتِدَاءً، لَكِنَّ الْأَعْدَاءَ إِذَا أَلْقَوْا فِي الْأَلْسِنَةِ أَنَّ السُّلْطَانَ يُبْغِضُهُ، ثُمَّ تَأَسَّفَ ذَلِكَ الْمُقَرَّبُ فَلَا لَفْظَ أَقْرَبُ إِلَى تَشْرِيفِهِ مِنْ أَنْ يَقُولَ لَهُ: إِنِّي لَا أُبْغِضُكَ وَلَا أَدَعَكَ، وَسَوْفَ تَرَى مَنْزِلَتَكَ عِنْدِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْوَاقِعَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِهِ لما امتنع. [سورة الضحى (93) : آية 4] وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَاعْلَمْ أَنَّ فِي اتِّصَالِهِ بِمَا تَقَدَّمَ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ انْقِطَاعَ الْوَحْيِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُ عَزْلٌ عَنِ النُّبُوَّةِ، بَلْ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ، أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ حَصَلَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الرِّسَالَةِ، وَذَلِكَ أَمَارَةُ الْمَوْتِ فَكَأَنَّهُ يُقَالُ: انْقِطَاعُ الْوَحْيِ مَتَى حَصَلَ دَلَّ عَلَى الْمَوْتِ، لَكِنَّ الْمَوْتَ خَيْرٌ لَكَ. فَإِنَّ مَا لَكَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَأَفْضَلُ مِمَّا لَكَ فِي الدُّنْيَا وَثَانِيهَا: لما نزل: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ [الضحى: 3] حَصَلَ لَهُ بِهَذَا تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ، فَكَأَنَّهُ اسْتَعْظَمَ هَذَا التَّشْرِيفَ فَقِيلَ لَهُ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى أَيْ هَذَا التَّشْرِيفُ وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا إِلَّا أَنَّ مَا لَكَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَأَعْظَمُ وَثَالِثُهَا: مَا يَخْطُرُ/ بِبَالِي، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَلَلْأَحْوَالُ الْآتِيَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْمَاضِيَةِ كَأَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَهُ بِأَنَّهُ سَيَزِيدُهُ كُلَّ يَوْمٍ عِزًّا إِلَى عِزٍّ، وَمَنْصِبًا إِلَى مَنْصِبٍ، فَيَقُولُ: لَا تَظُنُّ أَنِّي قَلَيْتُكَ بَلْ تَكُونُ كُلَّ يَوْمٍ يَأْتِي فَإِنِّي أزيدك منصبا وجلالا، وهاهنا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: بِأَيِّ طَرِيقٍ يُعْرَفُ أَنَّ الْآخِرَةَ كَانَتْ لَهُ خَيْرًا مِنَ الْأُولَى؟ الْجَوَابُ: لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُ إِنَّكَ فِي الدُّنْيَا عَلَى خَيْرٍ لِأَنَّكَ تَفْعَلُ فِيهَا مَا تُرِيدُ، وَلَكِنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لَكَ لِأَنَّا نَفْعَلُ فِيهَا مَا نُرِيدُ وَثَانِيهَا: الْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ يَجْتَمِعُ عِنْدَكَ أُمَّتُكَ إِذِ الْأُمَّةُ لَهُ كَالْأَوْلَادِ قَالَ تَعَالَى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الْأَحْزَابِ: 6] وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ، وَأُمَّتُهُ فِي الْجَنَّةِ فَيَكُونُ كَأَنَّ أَوْلَادَهُ فِي الْجَنَّةِ، ثُمَّ سَمَّى الْوَلَدَ قُرَّةَ أَعْيُنٍ، حَيْثُ حَكَى عَنْهُمْ: هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الْفُرْقَانِ: 74] وَثَالِثُهَا: الْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ لِأَنَّكَ اشْتَرَيْتَهَا، أَمَّا هَذِهِ لَيْسَتْ لَكَ، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَوْ كَانَتِ الْآخِرَةُ أَقَلَّ مِنَ الدُّنْيَا لَكَانَتِ الْآخِرَةُ خَيْرًا لَكَ، لَأَنَّ مَمْلُوكَكَ خَيْرٌ لَكَ مِمَّا لَا يَكُونُ مَمْلُوكًا لَكَ، فَكَيْفَ وَلَا نِسْبَةَ لِلْآخِرَةِ إِلَى الدُّنْيَا فِي الْفَضْلِ وَرَابِعُهَا: الْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى لِأَنَّ فِي الدُّنْيَا الْكُفَّارَ يَطْعَنُونَ فِيكَ أَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَأَجْعَلُ أُمَّتَكَ شُهَدَاءَ عَلَى الْأُمَمِ، وَأَجْعَلُكَ شَهِيدًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ أَجْعَلُ ذَاتِي شَهِيدًا لَكَ كَمَا قَالَ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الْفَتْحِ: 28، 29] وَخَامِسُهَا: أَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا قَلِيلَةٌ مَشُوبَةٌ مُنْقَطِعَةٌ، وَلَذَّاتِ الْآخِرَةِ كَثِيرَةٌ خَالِصَةٌ دَائِمَةٌ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ وَلَمْ يُقَلْ خَيْرٌ لَكُمْ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّهُ كَانَ فِي جَمَاعَتِهِ مَنْ

[سورة الضحى (93) : آية 5]

كَانَتِ الْآخِرَةُ شَرًّا لَهُ، فَلَوْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَمَّمَ لَكَانَ كَذِبًا، وَلَوْ خَصَّصَ الْمُطِيعِينَ بِالذِّكْرِ لَافْتُضِحَ الْمُذْنِبُونَ وَالْمُنَافِقُونَ. وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62] وَأَمَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالَّذِي كَانَ مَعَهُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ قَطْعًا، لَا جَرَمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التَّوْبَةِ: 40] إِذْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ إِلَّا نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ، وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ لِلِاسْتِسْقَاءِ، وَمَعَهُ الْأُلُوفُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَمْ يَجِدُوا الْإِجَابَةَ، فَسَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِعَدَمِ الْإِجَابَةِ فَقَالَ: لَا أُجِيبُكُمْ مَا دَامَ مَعَكُمْ سَاعٍ بِالنَّمِيمَةِ، فَسَأَلَ مُوسَى مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ: [إِنِّي] أَبْغُضُهُ فَكَيْفَ أَعْمَلُ عَمَلَهُ، فَمَا مَضَتْ مُدَّةٌ قَلِيلَةٌ حَتَّى نَزَلَ الْوَحْيُ بِأَنَّ ذَلِكَ النَّمَّامَ قَدْ مَاتَ، وَهَذِهِ جِنَازَتُهُ فِي مُصَلَّى، كَذَا فَذَهَبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى تِلْكَ الْمُصَلَّى، فَإِذَا فِيهَا سَبْعُونَ مِنَ الْجَنَائِزِ، فَهَذَا سَتْرُهُ عَلَى أَعْدَائِهِ فَكَيْفَ عَلَى أَوْلِيَائِهِ. ثُمَّ تَأَمَّلْ فَإِنَّ فِيهِ دَقِيقَةً لَطِيفَةً، وَهِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «لَوْلَا شُيُوخٌ رُكَّعٌ» وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى زِيَادَةِ فَضِيلَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى كَانَ يَرُدُّ الْأُلُوفَ لِمُذْنِبٍ واحد، وهاهنا يرحم المذنبين لمطيع واحد. [سورة الضحى (93) : آية 5] وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) وَاعْلَمِ اتِّصَالَهُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْآخِرَةَ: خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْأُولَى وَلَكِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ ذَلِكَ التَّفَاوُتَ إِلَى أَيِّ حَدٍّ/ يَكُونُ فَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِقْدَارَ ذَلِكَ التَّفَاوُتِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَنْتَهِي إِلَى غَايَةِ مَا يَتَمَنَّاهُ الرَّسُولُ وَيَرْتَضِيهِ الْوَجْهُ الثَّانِي: كَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى [الضحى: 4] فَقِيلَ وَلِمَ قُلْتَ إِنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، فَقَالَ: لِأَنَّهُ يُعْطِيهِ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ وَذَلِكَ مِمَّا لَا تَتَّسِعُ الدُّنْيَا لَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْأُولَى، وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ حَمَلْنَا هَذَا الْوَعْدَ عَلَى الْآخِرَةِ فَقَدْ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَقَدْ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّعْظِيمِ، أَمَّا الْمَنَافِعُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلْفُ قصر في الجنة من لؤلؤ أبيض ترابه الْمِسْكُ وَفِيهَا مَا يَلِيقُ بِهَا، وَأَمَّا التَّعْظِيمُ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ هَذَا هُوَ الشَّفَاعَةُ فِي الْأُمَّةِ، يُرْوَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ: إِذًا لَا أَرْضَى وَوَاحِدٌ مِنْ أُمَّتِي فِي النَّارِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الشَّفَاعَةِ مُتَعَيِّنٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ فِي الدُّنْيَا بِالِاسْتِغْفَارِ فقال: اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [مُحَمَّدٍ: 19] فَأَمَرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالِاسْتِغْفَارُ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَمَنْ طَلَبَ شَيْئًا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الرَّدَّ وَلَا يَرْضَى بِهِ وَإِنَّمَا يَرْضَى بِالْإِجَابَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الَّذِي يَرْضَاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْإِجَابَةُ لَا الرَّدُّ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِ كُلَّ مَا يَرْتَضِيهِ. عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ فِي حَقِّ الْمُذْنِبِينَ وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ مقدمة الآية مناسبة لذلك كأنه تعالى يَقُولُ لَا أُوَدِّعُكَ وَلَا أَبْغُضُكَ بَلْ لَا أَغْضَبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِكَ وَأَتْبَاعِكَ وَأَشْيَاعِكَ طلبا لمرضاتك وتطييبا لقلبك، فهذا التفسير أَوْفَقُ لِمُقَدِّمَةِ الْآيَةِ وَالثَّالِثُ: الْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ الْوَارِدَةُ فِي الشَّفَاعَةِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ رِضَا الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْمُذْنِبِينَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ كُلَّ مَا يَرْضَاهُ الرَّسُولُ فَتَحَصَّلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ حُصُولُ الشَّفَاعَةِ، وَعَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: رِضَاءُ جَدِّي أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ مُوَحِّدٌ، وَعَنِ الْبَاقِرِ، أَهْلُ القرآن يقولون: أرجى آية قوله: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزُّمَرِ: 53] وَإِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ نَقُولُ: أَرْجَى آيَةٍ قَوْلُهُ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى وَاللَّهِ إِنَّهَا الشَّفَاعَةُ لَيُعْطَاهَا فِي أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى يَقُولَ رَضِيتُ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى أَحْوَالِ الْآخِرَةِ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَا هَذَا الْوَعْدَ عَلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الظَّفَرِ بِأَعْدَائِهِ يَوْمَ بدر

[سورة الضحى (93) : آية 6]

وَيَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَدُخُولِ النَّاسِ فِي الدِّينِ أَفْوَاجًا، وَالْغَلَبَةِ عَلَى قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَإِجْلَائِهِمْ وَبَثِّ عَسَاكِرِهِ وَسَرَايَاهُ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَمَا فَتَحَ عَلَى خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَدَائِنِ، وَ [مَا] هَدَمَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ مَمَالِكِ الْجَبَابِرَةِ، وَأَنْهَبَهُمْ مِنْ كُنُوزِ الْأَكَاسِرَةِ، وَمَا قَذَفَ فِي أَهْلِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ مِنَ الرُّعْبِ وَتَهْيِيبِ الْإِسْلَامِ وَفُشُوِّ الدَّعْوَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَوْلَى حَمْلُ الآية على خيرات الدنيا والآخرة، وهاهنا سُؤَالَاتٌ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: يُعْطِيكُمْ مَعَ أَنَّ هَذِهِ السَّعَادَاتِ حَصَلَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا؟ الْجَوَابُ: لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْمَقْصُودُ وَهُمْ أَتْبَاعٌ وَثَانِيهَا: أَنِّي إِذَا أَكْرَمْتُ أَصْحَابَكَ فَذَاكَ فِي الْحَقِيقَةِ إِكْرَامٌ لَكَ، لِأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ بَلَغْتَ فِي الشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ إِلَى حَيْثُ تَفْرَحُ بِإِكْرَامِهِمْ فَوْقَ/ مَا تَفْرَحُ بِإِكْرَامِ نَفْسِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ حَيْثُ تَقُولُ الْأَنْبِيَاءُ: نَفْسِي نَفْسِي، أَيِ ابْدَأْ بِجَزَائِي وَثَوَابِي قَبْلَ أُمَّتِي، لِأَنَّ طَاعَتِي كَانَتْ قَبْلَ طَاعَةِ أُمَّتِي، وَأَنْتَ تَقُولُ: أُمَّتِي أُمَّتِي، أَيِ ابْدَأْ بِهِمْ، فَإِنَّ سُرُورِي أَنْ أَرَاهُمْ فَائِزِينَ بِثَوَابِهِمْ وَثَالِثُهَا: أَنَّكَ عَامَلْتَنِي مُعَامَلَةً حَسَنَةً، فَإِنَّهُمْ حِينَ شَجُّوا وَجْهَكَ، قُلْتَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» وَحِينَ شَغَلُوكَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنِ الصَّلَاةِ، قُلْتَ: «اللَّهُمَّ امْلَأْ بُطُونَهُمْ نَارًا» فَتَحَمَّلْتَ الشَّجَّةَ الْحَاصِلَةَ فِي وَجْهِ جَسَدِكَ، وَمَا تَحَمَّلْتَ الشَّجَّةَ الْحَاصِلَةَ فِي وَجْهِ دِينِكَ، فَإِنَّ وَجْهَ الدِّينِ هُوَ الصَّلَاةُ، فَرَجَّحْتَ حَقِّي عَلَى حَقِّكَ، لَا جَرَمَ فَضَّلْتُكَ، فَقُلْتُ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ سِنِينَ، أَوْ حَبَسَ غَيْرَهُ عَنِ الصَّلَاةِ سِنِينَ لَا أُكَفِّرُهُ، وَمَنْ آذَى شَعْرَةً من شعراتك، أو جزء مِنْ نَعْلِكَ أُكَفِّرُهُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: وَلَسَوْفَ وَلِمَ لَمْ يَقُلْ: وَسَيُعْطِيكَ رَبُّكَ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ فَوَائِدُ إِحْدَاهَا: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا قَرُبَ أَجَلُهُ، بَلْ يَعِيشُ بَعْدَ ذَلِكَ زَمَانًا وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا قَالُوا: وَدَّعَهُ رَبُّهُ وَقَلَاهُ فَاللَّهُ تَعَالَى رَدَّ عَلَيْهِمْ بِعَيْنِ تِلْكَ اللَّفْظَةِ، فَقَالَ: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [الضحى: 3] ثُمَّ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: سَوْفَ يَمُوتُ مُحَمَّدٌ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ فَقَالَ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ يَقُولُ اللَّهُ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى؟ الْجَوَابُ: هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا كَلَامٌ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ شَدِيدَ الِاشْتِيَاقِ إِلَيْهِ وَإِلَى كَلَامِهِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُخَاطِبَ لَهُ بِهَذِهِ الْبِشَارَاتِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا هَذِهِ اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى سَوْفَ؟ الْجَوَابُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هِيَ لَامُ الِابْتِدَاءِ الْمُؤَكِّدَةُ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَالْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَأَنْتَ سَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ لَامَ الْقَسَمِ، أَوْ لَامَ الِابْتِدَاءِ، وَلَامُ الْقَسَمِ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ إِلَّا مَعَ نُونِ التَّوْكِيدِ، فَبَقِيَ أَنْ تَكُونَ لَامَ ابْتِدَاءٍ، وَلَامُ الِابْتِدَاءِ لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى الْجُمْلَةِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَأَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ: وَلَأَنْتَ سَوْفَ يُعْطِيكَ، فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى الْجَمْعِ بَيْنَ حَرْفَيِ التَّوْكِيدِ وَالتَّأْخِيرِ؟ قُلْنَا مَعْنَاهُ: أَنَّ الْعَطَاءَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ تَأَخَّرَ لِمَا فِي التَّأْخِيرِ مِنَ المصلحة. [سورة الضحى (93) : آية 6] أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ اتِّصَالَهُ بِمَا تَقَدَّمَ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَقَالَ الرَّسُولُ: بَلَى يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: انْظُرْ [أَ] كَانَتْ طَاعَاتُكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَكْرَمَ أَمِ السَّاعَةَ؟ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُقَالَ: بَلِ السَّاعَةَ فَيَقُولُ اللَّهُ: حِينَ

كُنْتَ صَبِيًّا ضَعِيفًا مَا تَرَكْنَاكَ بَلْ رَبَّيْنَاكَ وَرَقَّيْنَاكَ إِلَى حَيْثُ صِرْتَ مُشْرِفًا عَلَى/ شُرُفَاتِ العرش وقلنا لك: لو لاك مَا خَلَقْنَا الْأَفْلَاكَ، أَتَظُنُّ أَنَّا بَعْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ نَهْجُرُكَ وَنَتْرُكُكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَلَمْ يَجِدْكَ مِنَ الْوُجُودِ الَّذِي بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَالْمَنْصُوبَانِ مَفْعُولَا وَجَدَ وَالْوُجُودُ مِنَ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى أَلَمْ يَعْلَمْكَ اللَّهُ يَتِيمًا فَآوَى، وَذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْيَتِيمِ أَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِيمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْأَخْبَارِ تُوُفِّيَ وَأُمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَامِلٌ بِهِ، ثُمَّ وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ فَكَانَ مَعَ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمَعَ أُمِّهِ آمِنَةَ، فَهَلَكَتْ أُمُّهُ آمِنَةُ وَهُوَ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ فَكَانَ مَعَ جَدِّهِ، ثُمَّ هَلَكَ جَدُّهُ بَعْدَ أُمِّهِ بِسَنَتَيْنِ وَرَسُولُ اللَّهِ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ. وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يُوصِي أَبَا طَالِبٍ بِهِ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَأَبَا طَالِبٍ كَانَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ، فَكَانَ أَبُو طَالِبٍ هُوَ الَّذِي يَكْفُلُ رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ جَدِّهِ إِلَى أَنَّ بَعَثَهُ اللَّهُ لِلنُّبُوَّةِ، فَقَامَ بِنُصْرَتِهِ مُدَّةً مَدِيدَةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ يُتْمٌ الْبَتَّةَ فَأَذْكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ النِّعْمَةَ، رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ أَبُو طَالِبٍ يَوْمًا لِأَخِيهِ الْعَبَّاسِ: أَلَا أُخْبِرُكَ عَنْ مُحَمَّدٍ بِمَا رَأَيْتُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: بَلَى فَقَالَ: إِنِّي ضَمَمْتُهُ إِلَيَّ فَكَيْفَ لَا أُفَارِقُهُ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ وَلَا أَأْتَمِنُ عَلَيْهِ أَحَدًا حَتَّى أَنِّي كُنْتُ أُنَوِّمُهُ فِي فِرَاشِي، فَأَمَرْتُهُ لَيْلَةً أَنْ يَخْلَعَ ثِيَابَهُ وَيَنَامَ مَعِي، فَرَأَيْتُ الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهِ لَكِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُخَالِفَنِي، وَقَالَ: يَا عَمَّاهُ اصْرِفْ بِوَجْهِكَ عَنِّي حَتَّى أَخْلَعَ ثِيَابِي إِذْ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى جَسَدِي، فَتَعَجَّبْتُ مِنْ قَوْلِهِ وَصَرَفْتُ بَصَرِي حَتَّى دَخَلَ الْفِرَاشَ فَلَمَّا دَخَلْتُ مَعَهُ الْفِرَاشَ إِذَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ ثَوْبٌ وَاللَّهِ مَا أَدْخَلْتُهُ فِرَاشِي فَإِذَا هُوَ فِي غَايَةِ اللِّينِ وَطِيبِ الرَّائِحَةِ كَأَنَّهُ غُمِسَ فِي الْمِسْكِ، فَجَهِدْتُ لِأَنْظُرَ إِلَى جَسَدِهِ فَمَا كُنْتُ أَرَى شَيْئًا وَكَثِيرًا مَا كُنْتُ أَفْتَقِدُهُ مِنْ فِرَاشِي فَإِذَا قُمْتُ لِأَطْلُبَهُ نَادَانِي هَا أَنَا يَا عَمُّ فَارْجِعْ، وَلَقَدْ كُنْتُ كَثِيرًا مَا أَسْمَعُ مِنْهُ كَلَامًا يُعْجِبُنِي وَذَلِكَ عِنْدَ مُضِيِّ اللَّيْلِ وَكُنَّا لَا نُسَمِّي عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلَا نَحْمَدُهُ بَعْدَهُ، وَكَانَ يَقُولُ فِي أَوَّلِ الطَّعَامِ: بِسْمِ اللَّهِ الْأَحَدِ. فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَتَعَجَّبْتُ مِنْهُ، ثُمَّ لَمْ أَرَ مِنْهُ كِذْبَةً وَلَا ضَحِكًا وَلَا جَاهِلِيَّةً وَلَا وَقَفَ مَعَ صِبْيَانٍ يَلْعَبُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَجَائِبَ الْمَرْوِيَّةَ فِي حَقِّهِ مِنْ حَدِيثِ بَحِيرَى الرَّاهِبِ وَغَيْرِهِ مَشْهُورَةٌ. التَّفْسِيرُ الثَّانِي لِلْيَتِيمِ: أَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ دُرَّةٌ يَتِيمَةٌ، وَالْمَعْنَى أَلَمْ يَجِدْكَ وَاحِدًا فِي قُرَيْشٍ عَدِيمَ النَّظِيرِ فَآوَاكَ؟ أَيْ جَعَلَ لَكَ مَنْ تَأْوِي إِلَيْهِ وَهُوَ أَبُو طَالِبٍ، وَقُرِئَ فَآوَى وَهُوَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا مِنْ أَوَاهُ بِمَعْنَى آوَاهُ، وَإِمَّا مِنْ أَوَى له إذا رحمه، وهاهنا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَحْسُنُ مِنَ الْجُودِ أَنْ يَمُنَّ بِنِعْمَةٍ، فَيَقُولَ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى؟ وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا السُّؤَالَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ قَالَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشُّعَرَاءِ: 18] فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لِفِرْعَوْنَ، فَمَا كَانَ مَذْمُومًا مِنْ فِرْعَوْنَ كَيْفَ يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ يَحْسُنُ إِذَا قَصَدَ بِذَلِكَ أَنَّ يُقَوِّيَ قَلْبَهُ وَيَعِدَهُ بِدَوَامِ النِّعْمَةِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الِامْتِنَانِ وَبَيْنَ امْتِنَانِ فِرْعَوْنَ، لِأَنَّ امْتِنَانَ فِرْعَوْنَ مُحْبِطٌ، لِأَنَّ الْغَرَضَ فَمَا بَالُكَ لَا تَخْدُمُنِي، وامتنان الله بزيادة نعمه، كأنه يقول: مالك تَقْطَعُ عَنِّي رَجَاءَكَ أَلَسْتُ شَرَعْتُ فِي تَرْبِيَتِكَ، أَتَظُنُّنِي تَارِكًا لِمَا صَنَعْتُ، بَلْ لَا بُدَّ/ وَأَنْ أُتَمِّمَ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ النِّعْمَةَ، كَمَا قَالَ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 150] أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْحَامِلَ الَّتِي تُسْقِطُ الْوَلَدَ قَبْلَ التَّمَامِ مَعِيبَةٌ تُرَدُّ، وَلَوْ أَسْقَطَتْ أَوِ الرَّجُلُ أَسْقَطَ عَنْهَا بِعِلَاجٍ تَجِبُ الْغِرَّةُ وَتَسْتَحِقُّ الذَّمَّ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ ذَلِكَ مِنَ الْحَيِّ الْقَيُّومِ، فَمَا أَعْظَمَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَانٍّ هُوَ اللَّهُ، وَبَيْنَ مَانٍّ هُوَ فِرْعَوْنُ، وَنَظِيرُهُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ: ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ [الْكَهْفِ: 22] فِي تِلْكَ الْأُمَّةِ، وَفِي

[سورة الضحى (93) : آية 7]

أُمَّةِ مُحَمَّدٍ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [الْمُجَادَلَةِ: 7] فَشَتَّانَ بَيْنَ أُمَّةٍ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَبَيْنَ أُمَّةٍ رَابِعُهُمْ رَبُّهُمْ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى مَنَّ عَلَيْهِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ يَذْكُرَ نِعْمَةَ رَبِّهِ، فَمَا وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؟ الْجَوَابُ: وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ أَنْ نَقُولَ: قَضَاءُ الدَّيْنِ وَاجِبٌ، ثُمَّ الدَّيْنُ نَوْعَانِ مَالِيٌّ وَإِنْعَامِيٌّ وَالثَّانِي: أَقْوَى وُجُوبًا، لِأَنَّ الْمَالِيَّ قَدْ يَسْقُطُ بِالْإِبْرَاءِ وَالثَّانِي: يَتَأَكَّدُ بِالْإِبْرَاءِ، وَالْمَالِيُّ يُقْضَى مَرَّةً فَيَنْجُو الْإِنْسَانُ مِنْهُ وَالثَّانِي: يَجِبُ عَلَيْكَ قَضَاؤُهُ طُولَ عُمُرِكَ، ثُمَّ إِذَا تَعَذَّرَ قَضَاءُ النِّعْمَةِ الْقَلِيلَةِ مِنْ مُنْعِمٍ هُوَ مَمْلُوكٌ، فَكَيْفَ حَالُ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الْمُنْعِمِ الْعَظِيمِ، فَكَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: إِلَهِي أَخْرَجْتَنِي مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ بَشَرًا سَوِيًّا، طَاهِرَ الظَّاهِرِ نَجِسَ الْبَاطِنِ، بِشَارَةٌ مِنْكَ أَنْ تَسْتُرَ عَلَيَّ ذُنُوبِي بِسِتْرِ عَفْوِكَ، كَمَا سَتَرْتَ نَجَاسَتِي بِالْجِلْدِ الظَّاهِرِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُنِي قَضَاءُ نِعْمَتِكَ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا وَلَا حَصْرَ؟ فَيَقُولُ تَعَالَى الطَّرِيقُ إِلَى ذَلِكَ أَنْ تَفْعَلَ فِي حَقِّ عَبِيدِي مَا فَعَلْتُهُ فِي حَقِّكَ، كُنْتَ يَتِيمًا فَآوَيْتُكَ فَافْعَلْ فِي حَقِّ الْأَيْتَامِ ذَلِكَ، وَكُنْتَ ضَالًّا فَهَدَيْتُكَ فَافْعَلْ فِي حَقِّ عَبِيدِي ذَلِكَ، وَكُنْتَ عَائِلًا فَأَغْنَيْتُكَ فَافْعَلْ فِي حَقِّ عَبِيدِي ذَلِكَ ثُمَّ إِنْ فَعَلْتَ كُلَّ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا فَعَلْتَهَا بِتَوْفِيقِي لَكَ وَلُطْفِي وَإِرْشَادِي، فكن أبدا ذاكرا لهذه النعم والألطاف. أما قوله تعالى: [سورة الضحى (93) : آية 7] وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) فَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، ثُمَّ هَدَاهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ نَبِيًّا، قَالَ الكلبي: وَجَدَكَ ضَالًّا يَعْنِي كَافِرًا فِي قَوْمٍ ضُلَّالٍ فَهَدَاكَ لِلتَّوْحِيدِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ أربعين سنة، وقال مجاهد: وجدك ضَالًّا عَنِ الْهُدَى لِدِينِهِ وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِآيَاتٍ أُخَرَ مِنْهَا قَوْلُهُ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشُّورَى: 52] وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ [يُوسُفَ: 3] وَقَوْلُهُ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: 65] فَهَذَا يَقْتَضِي صِحَّةَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِذَا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الصِّحَّةِ وَجَبَ حَمْلُ قَوْلِهِ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَفَرَ بِاللَّهِ لَحْظَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ عَقْلًا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْفِيرِ، وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا هَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَقْلًا لِأَنَّهُ جَائِزٌ فِي الْعُقُولِ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ كَافِرًا فَيَرْزُقَهُ اللَّهُ الْإِيمَانَ وَيُكْرِمَهُ بِالنُّبُوَّةِ، إِلَّا أَنَّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ قَامَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْجَائِزَ لَمْ يَقَعْ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى [النَّجْمِ: 2] ثُمَّ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا كَثِيرَةً أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَشَهْرِ بْنِ حوشب: وجدك ضَالًّا عَنْ مَعَالِمِ النِّعْمَةِ/ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ غَافِلًا عَنْهَا فَهَدَاكَ إِلَيْهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشُّورَى: 52] وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ [يوسف: 3] وَثَانِيهَا: ضَلَّ عَنْ مُرْضِعَتِهِ حَلِيمَةَ حِينَ أَرَادَتْ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَى جَدِّهِ حَتَّى دَخَلَتْ إِلَى هُبَلَ وَشَكَتْ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَتَسَاقَطَتِ الْأَصْنَامُ، وَسَمِعَتْ صَوْتًا يَقُولُ: إِنَّمَا هَلَاكُنَا بِيَدِ هَذَا الصَّبِيِّ، وَفِيهِ حِكَايَةٌ طَوِيلَةٌ وَثَالِثُهَا: مَا رُوِيَ مَرْفُوعًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «ضَلَلْتُ عَنْ جَدِّي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَنَا صَبِيٌّ ضَائِعٌ، كَادَ الْجُوعُ يَقْتُلُنِي، فَهَدَانِي اللَّهُ» ذَكَرَهُ الضَّحَّاكُ، وَذَكَرَ تَعَلُّقَهُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَقَوْلُهُ: يَا رَبِّ رُدَّ وَلَدِي مُحَمَّدَا ... ارْدُدْهُ رَبِّي وَاصْطَنِعْ عِنْدِي يَدَا

فَمَا زَالَ يُرَدِّدُ هَذَا عِنْدَ الْبَيْتِ حَتَّى أَتَاهُ أَبُو جَهْلٍ عَلَى نَاقَةٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ مُحَمَّدٌ وَهُوَ يَقُولُ: لَا نَدْرِي مَاذَا نَرَى مِنِ ابْنِكَ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَلِمَ؟ قَالَ: إِنِّي أَنَخْتُ النَّاقَةَ وَأَرْكَبْتُهُ مِنْ خَلْفِي فَأَبَتِ النَّاقَةُ أَنْ تَقُومَ، فَلَمَّا أَرْكَبْتُهُ أَمَامِي قَامَتِ النَّاقَةُ، كَأَنَّ النَّاقَةَ تَقُولُ: يَا أَحْمَقُ هُوَ الْإِمَامُ فَكَيْفَ يَقُومُ خَلْفَ الْمُقْتَدِي! وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَدَّهُ اللَّهُ إِلَى جَدِّهِ بِيَدِ عَدُوِّهِ كَمَا فَعَلَ بِمُوسَى حِينَ حَفِظَهُ عَلَى يَدِ عَدُوِّهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا خَرَجَ مَعَ غُلَامِ خَدِيجَةَ مَيْسَرَةَ أَخَذَ كَافِرٌ بِزِمَامِ بَعِيرِهِ حَتَّى ضَلَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَهَدَاهُ إِلَى الْقَافِلَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا طَالِبٍ خَرَجَ بِهِ إِلَى الشَّأْمِ فَضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ فَهَدَاهُ اللَّهُ تعالى وخامسها: يقال: ضل الماء في الليل إِذَا صَارَ مَغْمُورًا، فَمَعْنَى الْآيَةِ كُنْتَ مَغْمُورًا بَيْنَ الْكُفَّارِ بِمَكَّةَ فَقَوَّاكَ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى أَظْهَرْتَ دِينَهُ وَسَادِسُهَا: الْعَرَبُ تُسَمِّي الشَّجَرَةَ الْفَرِيدَةَ فِي الْفَلَاةِ ضَالَّةً، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: كَانَتْ تِلْكَ الْبِلَادُ كَالْمَفَازَةِ لَيْسَ فِيهَا شَجَرَةٌ تَحْمِلُ ثَمَرَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَعْرِفَتَهُ إِلَّا أَنْتَ، فَأَنْتَ، شَجَرَةٌ فَرِيدَةٌ فِي مَفَازَةِ الْجَهْلِ فَوَجَدْتُكَ ضَالًّا فهديت بك الخلق، ونظيره قوله عليه السلام: «الحكمة ضالة المؤمن» وسابعها: ووجدك ضَالًّا عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى حِينَ كُنْتَ طِفْلًا صَبِيًّا، كَمَا قَالَ: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [النَّحْلِ: 78] فَخَلَقَ فِيكَ الْعَقْلَ وَالْهِدَايَةَ وَالْمَعْرِفَةَ، وَالْمُرَادُ مِنَ الضَّالِّ الْخَالِي عَنِ الْعِلْمِ لَا الْمَوْصُوفُ بِالِاعْتِقَادِ الْخَطَأِ وَثَامِنُهَا: كُنْتَ ضَالًّا عَنِ النُّبُوَّةِ مَا كُنْتَ تَطْمَعُ فِي ذَلِكَ وَلَا خَطَرَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي قَلْبِكَ، فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ النُّبُوَّةَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَهَدَيْتُكَ إِلَى النُّبُوَّةِ الَّتِي مَا كُنْتَ تَطْمَعُ فِيهَا الْبَتَّةَ وَتَاسِعُهَا: أَنَّهُ قَدْ يُخَاطَبُ السَّيِّدُ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ قَوْمَهُ فَقَوْلُهُ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا أَيْ وَجَدَ قَوْمَكَ ضُلَّالًا، فَهَدَاهُمْ بِكَ وَبِشَرْعِكَ وَعَاشِرُهَا: وَجَدَكَ ضَالًّا عَنِ الضَّالِّينَ مُنْفَرِدًا عَنْهُمْ مُجَانِبًا لِدِينِهِمْ، فَكُلَّمَا كَانَ بُعْدُكَ عَنْهُمْ أَشَدَّ كَانَ ضَلَالُهُمْ أَشَدَّ، فَهَدَاكَ إِلَى أَنِ اخْتَلَطْتَ بِهِمْ وَدَعَوْتَهُمْ إِلَى الدِّينِ الْمُبِينِ الْحَادِي عَشَرَ: وَجَدَكَ ضَالًّا عَنِ الْهِجْرَةِ، مُتَحَيِّرًا فِي يَدِ قُرَيْشٍ مُتَمَنِّيًا فِرَاقَهُمْ وَكَانَ لَا يُمْكِنُكَ الْخُرُوجُ بِدُونِ إِذْنِهِ تَعَالَى، فَلَمَّا أَذِنَ لَهُ وَوَافَقَهُ الصِّدِّيقُ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ إِلَى خَيْمَةِ أُمِّ مَعْبَدٍ، وَكَانَ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ سُرَاقَةَ، وَظُهُورِ الْقُوَّةِ فِي الدِّينِ كَانَ ذَلِكَ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَهَدى، الثَّانِي عَشَرَ: ضَالًّا عَنِ الْقِبْلَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَتَمَنَّى أَنْ تُجْعَلَ الْكَعْبَةُ قِبْلَةً لَهُ/ وَمَا كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ هَلْ يَحْصُلُ لَهُ أَمْ لَا، فَهَدَاهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها [الْبَقَرَةِ: 144] فَكَأَنَّهُ سُمِّيَ ذَلِكَ التَّحَيُّرُ بِالضَّلَالِ الثَّالِثَ عشر: أنه حين ظهرها لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ مَا كَانَ يَعْرِفُ أَهُوَ جِبْرِيلُ أَمْ لَا، وَكَانَ يَخَافُهُ خَوْفًا شَدِيدًا، وَرُبَّمَا أَرَادَ أَنْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ مِنَ الْجَبَلِ فَهَدَاهُ اللَّهُ حَتَّى عَرَفَ أَنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الرَّابِعَ عَشَرَ: الضَّلَالُ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [يُوسُفَ: 95] أَيْ مَحَبَّتِكَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّكَ مُحِبٌّ فَهَدَيْتُكَ إِلَى الشَّرَائِعِ الَّتِي بِهَا تَتَقَرَّبُ إِلَى خِدْمَةِ مَحْبُوبِكَ الْخَامِسَ عَشَرَ: ضَالًّا عَنْ أُمُورِ الدُّنْيَا لَا تَعْرِفُ التِّجَارَةَ وَنَحْوَهَا، ثم هديتك حتى ربحت تجارتك، وعظم ربحت حَتَّى رَغِبَتْ خَدِيجَةُ فِيكَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَا كَانَ لَكَ وُقُوفٌ عَلَى الدُّنْيَا، وَمَا كُنْتَ تَعْرِفُ سِوَى الدِّينِ، فَهَدَيْتُكَ إِلَى مَصَالِحِ الدُّنْيَا بَعْدَ ذَلِكَ السَّادِسَ عَشَرَ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا أَيْ ضَائِعًا فِي قَوْمِكَ كَانُوا يُؤْذُونَكَ، وَلَا يَرْضَوْنَ بِكَ رَعِيَّةً، فَقَوَّى أَمْرَكَ وَهَدَاكَ إِلَى أَنْ صِرْتَ آمِرًا وَالِيًا عَلَيْهِمْ السَّابِعَ عَشَرَ: كُنْتَ ضالا ما كنت تهتدي على طريق السموات فهديتك إذ عرجت بك إلى السموات لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ الثَّامِنَ عَشَرَ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا أَيْ نَاسِيًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما [الْبَقَرَةِ: 282] فَهَدَيْتُكَ أَيْ ذَكَّرْتُكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ نَسِيَ مَا يَجِبُ أَنْ يُقَالَ بِسَبَبِ الْهَيْبَةِ، فَهَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى كَيْفِيَّةِ الثَّنَاءِ حَتَّى قَالَ: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ» التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَارِفًا بِاللَّهِ

[سورة الضحى (93) : آية 8]

بِقَلْبِهِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فِي الظَّاهِرِ لَا يُظْهِرُ لَهُمْ خِلَافًا، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالضَّلَالِ الْعِشْرُونَ: رَوَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا هَمَمْتُ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْمَلُونَ بِهِ غَيْرَ مَرَّتَيْنِ، كُلُّ ذَلِكَ يَحُولُ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَا أُرِيدُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ مَا هَمَمْتُ بَعْدَهُمَا بِسُوءٍ حَتَّى أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ، فَإِنِّي قُلْتُ لَيْلَةً لِغُلَامٍ مِنْ قُرَيْشٍ، كَانَ يَرْعَى مَعِي بِأَعْلَى مَكَّةَ، لَوْ حَفِظْتَ لِي غَنَمِي حَتَّى أَدْخُلَ مَكَّةَ، فَأَسْمُرَ بِهَا كَمَا يَسْمُرُ الشُّبَّانُ، فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ذَلِكَ حَتَّى أَتَيْتُ أَوَّلَ دَارٍ مِنْ دُورِ مَكَّةَ، فَسَمِعْتُ عَزْفًا بِالدُّفُوفِ وَالْمَزَامِيرِ، فَقَالُوا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ يُزَوَّجُ بِفُلَانَةَ، فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أُذُنِي فَنِمْتُ فَمَا أَيْقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسِ، قَالَ فَجِئْتُ صَاحِبِي، فَقَالَ مَا فَعَلْتَ؟ فَقُلْتُ مَا صَنَعْتُ شَيْئًا، ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُ لَيْلَةً أُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أُذُنِي فَمَا أَيْقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسِ، ثُمَّ مَا هَمَمْتُ بَعْدَهُمَا بسوء حتى أكرمني الله تعالى برسالته» . أما قوله تعالى: [سورة الضحى (93) : آية 8] وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَائِلُ هُوَ ذُو الْعَيْلَةِ، وَذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَلَّا تَعُولُوا [النِّسَاءِ: 3] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً [التَّوْبَةِ: 28] ثُمَّ أَطْلَقَ الْعَائِلَ عَلَى الْفَقِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عيال، وهاهنا فِي تَفْسِيرِ الْعَائِلِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْفَقِيرُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: / (وَوَجَدَكَ عَدِيمًا) وَقُرِئَ عَيِّلًا كَمَا قُرِئَ سَيِّحَاتٍ «1» ، ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِغْنَاءِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْنَاهُ بِتَرْبِيَةِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَمَّا اخْتَلَّتْ أَحْوَالُ أَبِي طَالِبٍ أَغْنَاهُ [اللَّهُ] بِمَالِ خَدِيجَةَ، وَلَمَّا اخْتَلَّ ذَلِكَ أَغْنَاهُ [اللَّهُ] بِمَالِ أَبِي بَكْرٍ، وَلَمَّا اخْتَلَّ ذَلِكَ أَمَرَهُ بِالْهِجْرَةِ وَأَغْنَاهُ بِإِعَانَةِ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْجِهَادِ، وَأَغْنَاهُ بِالْغَنَائِمِ، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا حَصَلَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ كَانَ كَالْوَاقِعِ، رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «دَخَلَ على خديجة وهو مغموم، فقالت له مالك، فَقَالَ: الزَّمَانُ زَمَانُ قَحْطٍ فَإِنْ أَنَا بَذَلْتُ الْمَالَ يَنْفُذُ مَالُكِ فَأَسْتَحِي مِنْكِ، وَإِنْ لَمْ أَبْذُلْ أَخَافُ اللَّهَ، فَدَعَتْ قُرَيْشًا وَفِيهِمُ الصِّدِّيقُ، قَالَ الصِّدِّيقُ: فَأَخْرَجَتْ دَنَانِيرَ وَصَبَّتْهَا حَتَّى بَلَغَتْ مَبْلَغًا لَمْ يَقَعْ بَصَرِي عَلَى مَنْ كَانَ جَالِسًا قُدَّامِي لِكَثْرَةِ الْمَالِ، ثُمَّ قَالَتْ: اشْهَدُوا أَنَّ هَذَا الْمَالَ مَالُهُ إِنْ شَاءَ فَرَّقَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ» الثَّانِي: أَغْنَاهُ بِأَصْحَابِهِ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ سِرًّا حَتَّى قَالَ عُمَرُ حِينَ أَسْلَمَ: ابْرُزْ أَتُعْبَدُ اللَّاتُ جَهْرًا وَنَعْبُدُ اللَّهَ سِرًّا! فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: حَتَّى تَكْثُرَ الْأَصْحَابُ، فَقَالَ حَسْبُكَ اللَّهُ وَأَنَا فَقَالَ تَعَالَى: حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَالِ: 64] فَأَغْنَاهُ اللَّهُ بِمَالِ أَبِي بَكْرٍ، وَبِهَيْبَةِ عُمَرَ» الثَّالِثُ: أَغْنَاكَ بِالْقَنَاعَةِ فَصِرْتَ بِحَالٍ يَسْتَوِي عِنْدَكَ الْحَجَرُ وَالذَّهَبُ، لَا تَجِدُ فِي قَلْبِكَ سِوَى رَبِّكَ، فَرَبُّكَ غَنِيٌّ عَنِ الْأَشْيَاءِ لَا بِهَا، وَأَنْتَ بِقَنَاعَتِكَ اسْتَغْنَيْتَ عَنِ الْأَشْيَاءِ، وَإِنَّ الْغِنَى الْأَعْلَى الْغِنَى عَنِ الشَّيْءِ لَا بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خُيِّرَ بَيْنَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، فَاخْتَارَ الْفَقْرَ الرَّابِعُ: كُنْتَ عَائِلًا عَنِ الْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ، وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ فَأَغْنَاكَ. الْقَوْلُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ الْعَائِلِ: أَنْتَ كَنْتَ كَثِيرَ الْعِيَالِ وَهُمُ الْأُمَّةُ، فَكَفَاكَ. وَقِيلَ فَأَغْنَاهُمْ بِكَ لِأَنَّهُمْ فُقَرَاءُ

_ (1) هكذا في الأصل ولعله يعني قرئ: ووجدك عيلا تشديد لياء مع كسرها كما قرئ: سيحات كذلك في قوله تعالى: سائِحاتٍ [التحريم: 5] . والله أعلم الصاوي.

[سورة الضحى (93) : آية 9]

بِسَبَبِ جَهْلِهِمْ، وَأَنْتَ صَاحِبُ الْعِلْمِ، فَهَدَاهُمْ عَلَى يدك، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى اخْتَارَ لَهُ الْيُتْمَ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ الْيَتَامَى فَيَقُومَ بِحَقِّهِمْ وَصَلَاحِ أَمْرِهِمْ، وَمِنْ ذَلِكَ كَانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَشْبَعُ. فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ: فَقَالَ أَخَافُ إِنْ أَشْبَعَ فَأَنْسَى الْجِيَاعَ وَثَانِيهَا: لِيَكُونَ الْيَتِيمُ مُشَارِكًا لَهُ فِي الِاسْمِ فَيُكْرَمَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا سَمَّيْتُمُ الْوَلَدَ مُحَمَّدًا فَأَكْرِمُوهُ، وَوَسِّعُوا لَهُ فِي الْمَجْلِسِ» وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ أَبٌ أَوْ أُمٌّ كَانَ اعْتِمَادُهُ عَلَيْهِمَا، فَسَلَبَ عنه الولدان حَتَّى لَا يَعْتَمِدَ مِنْ أَوَّلِ صِبَاهُ إِلَى آخِرِ عُمُرِهِ عَلَى أَحَدٍ سِوَى اللَّهِ، فَيَصِيرُ فِي طُفُولِيَّتِهِ مُتَشَبِّهًا بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي، عِلْمُهُ بِحَالِي، وَكَجَوَابِ مَرْيَمُ: أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 37] . وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّ الْيَتِيمَ لَا تُخْفَى عُيُوبُهُ بَلْ تَظْهَرُ، وَرُبَّمَا زَادُوا عَلَى الْمَوْجُودِ فَاخْتَارَ تَعَالَى له اليتيم، لِيَتَأَمَّلَ كُلُّ أَحَدٍ فِي أَحْوَالِهِ، ثُمَّ لَا يَجِدُوا عَلَيْهِ عَيْبًا فَيَتَّفِقُونَ عَلَى نَزَاهَتِهِ، فَإِذَا اخْتَارَهُ اللَّهُ لِلرِّسَالَةِ لَمْ يَجِدُوا عَلَيْهِ مَطْعَنًا وَخَامِسُهَا: جَعَلَهُ يَتِيمًا لِيَعْلَمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ فَضِيلَتَهُ مِنَ اللَّهِ ابْتِدَاءً لِأَنَّ الَّذِي لَهُ أَبٌ، فَإِنَّ أَبَاهُ يَسْعَى فِي تَعْلِيمِهِ وَتَأْدِيبِهِ وَسَادِسُهَا: أَنَّ الْيُتْمَ وَالْفَقْرَ نَقْصٌ فِي حَقِّ/ الْخَلْقِ، فَلَمَّا صَارَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مَعَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ أَكْرَمَ الْخَلْقِ، كَانَ ذَلِكَ قَلْبًا لِلْعَادَةِ، فَكَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُعْجِزَاتِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ؟ الْجَوَابُ: الْحِكْمَةُ أَنْ لَا يَنْسَى نَفْسَهُ فَيَقَعَ فِي الْعُجْبِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «سَأَلْتُ رَبِّي مَسْأَلَةً وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَسْأَلْهَا، قُلْتُ: اتَّخَذْتَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَكَلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَسَخَّرْتَ مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ، وَأَعْطَيْتَ سُلَيْمَانَ كَذَا وَكَذَا، وَأَعْطَيْتَ فَلَانًا كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: أَلَمْ أَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَيْتُكَ؟ أَلَمْ أَجِدْكَ ضَالًّا فَهَدَيْتُكَ؟ أَلَمْ أَجِدْكَ عَائِلًا فَأَغْنَيْتُكَ؟ قُلْتُ: بَلَى. فَقَالَ: أَلَمْ أَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: أَلَمْ أَرْفَعْ لَكَ ذِكْرَكَ؟ قُلْتُ: بَلَى! قَالَ: أَلَمْ أَصْرِفْ عَنْكَ وِزْرَكَ؟ قُلْتُ: بَلَى، أَلَمْ أُوتِكَ مَا لَمْ أُوتِ نَبِيًّا قبلك وهي خواتيم سورة البقرة؟ أم أَتَّخِذْكَ خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذْتُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا؟» فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْحَدِيثُ قُلْنَا: طَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْخَبَرِ فَقَالَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَا يَسْأَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ إِذْنٍ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنَّ يَقَعَ مِنَ الرَّسُولِ مِثْلُ هَذَا السُّؤَالِ. وَيَكُونُ مِنْهُ تَعَالَى مَا يَجْرِي مجرى المعاتبة. [سورة الضحى (93) : آية 9] فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَقُرِئَ فَلَا تَكْهَرْ، أَيْ لَا تَعْبَسْ وَجْهَكَ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى عَامِلْهُ بمثل ما عاملتك بِهِ، وَنَظِيرُهُ مِنْ وَجْهٍ: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [الْقَصَصِ: 77] وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اللَّهَ اللَّهَ فِيمَنْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا اللَّهُ» وَرُوِيَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ صَاحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَلَدِ خَدِيجَةَ وَمِنْهُ حَدِيثُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ: «قَالَ: إِلَهِي بِمَ نِلْتُ مَا نِلْتُ؟ قَالَ: أَتَذْكُرُ حِينَ هَرَبَتْ مِنْكَ السَّخْلَةُ، فَلَمَّا قَدَرْتَ عَلَيْهَا قُلْتَ: أَتْعَبْتِ نَفْسَكِ ثُمَّ حَمَلْتَهَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ جَعَلْتُكَ وَلِيًّا عَلَى الْخَلْقِ، فَلَمَّا نَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ النُّبُوَّةَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الشَّاةِ فَكَيْفَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْيَتِيمِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْعِتَابُ بِمُجَرَّدِ الصِّيَاحِ أَوِ الْعُبُوسِيَّةِ فِي الْوَجْهِ، فَكَيْفَ إِذَا أَذَلَّهُ أَوْ أَكَلَ مَالَهُ، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا بَكَى الْيَتِيمُ وَقَعَتْ دُمُوعُهُ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ، وَيَقُولُ تَعَالَى: مَنْ أَبْكَى هَذَا الْيَتِيمَ الَّذِي وَارَيْتُ وَالِدَهُ التراب، من أسكته فله الجنة» . ثم قال تعالى: [سورة الضحى (93) : آية 10] وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10)

[سورة الضحى (93) : آية 11]

يُقَالُ: نَهَرَهُ وَانْتَهَرَهُ إِذَا اسْتَقْبَلَهُ بِكَلَامٍ يَزْجُرُهُ، وَفِي الْمُرَادِ مِنَ السَّائِلِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْحَسَنِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَنْ يَسْأَلُ الْعِلْمَ وَنَظِيرُهُ مِنْ وَجْهٍ: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى [عَبَسَ: 1، 2] وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ التَّرْتِيبُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ أَوَّلًا: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى [الضُّحَى: 6- 8] ثُمَّ اعْتَبَرَ هَذَا التَّرْتِيبَ، فَأَوْصَاهُ بِرِعَايَةِ حَقِّ الْيَتِيمِ، ثُمَّ بِرِعَايَةِ حَقِّ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنِ الْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ، ثُمَّ أَوْصَاهُ بِشُكْرِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ/ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مُطْلَقُ السَّائِلِ وَلَقَدْ عَاتَبَ اللَّهُ رَسُولَهُ فِي الْقُرْآنِ فِي شَأْنِ الْفُقَرَاءِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا وَحَوْلَهُ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ، إِذْ جَاءَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الضَّرِيرُ، فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: عَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَعَبَسَ وَجْهُهُ فنزل عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس: 1] ، وَالثَّانِي: حِينَ قَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: لَوْ جَعَلْتَ لَنَا مَجْلِسًا وَلِلْفُقَرَاءِ مَجْلِسًا آخَرَ فَهَمَّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَنَزَلَ قَوْلُهُ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الْكَهْفِ: 28] وَالثَّالِثُ: كَانَ جَالِسًا فجاءه عثمان بعذق من ثمر فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ فَوَقَفَ سَائِلٌ بِالْبَابِ، فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا يَرْحَمُنَا، فَأَمَرَ بِدَفْعِهِ إِلَى السَّائِلِ فَكَرِهَ عُثْمَانُ ذَلِكَ، وَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَخَرَجَ وَاشْتَرَاهُ مِنَ السَّائِلِ، ثُمَّ رَجَعَ السَّائِلُ فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَكَانَ يُعْطِيهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسَائِلٌ أَنْتَ أَمْ بَائِعٌ؟ فنزل: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ. ثم قوله تعالى: [سورة الضحى (93) : آية 11] وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ: تِلْكَ النِّعْمَةُ هِيَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ أَعْظَمُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالتَّحْدِيثُ بِهِ أَنْ يَقْرَأَهُ وَيُقْرِئَ غَيْرَهُ وَيُبَيِّنَ حَقَائِقَهُ لَهُمْ وَثَانِيهَا: رُوِيَ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ هِيَ النُّبُوَّةُ، أَيْ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَثَالِثُهَا: إِذَا وَفَّقَكَ اللَّهُ فَرَاعَيْتَ حَقَّ الْيَتِيمِ وَالسَّائِلِ، وَذَلِكَ التَّوْفِيقُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْكَ فَحَدِّثْ بِهَا لِيَقْتَدِيَ بِكَ غَيْرُكَ، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السلام أنه قال: إذا عملت خَيْرًا فَحَدِّثْ إِخْوَانَكَ لِيَقْتَدُوا بِكَ، إِلَّا أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ رِيَاءً، وَظَنَّ أَنَّ غَيْرَهُ يَقْتَدِي بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ لَمَّا سُئِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الصَّحَابَةِ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ وَذَكَرَ خِصَالَهُمْ، فَقَالُوا لَهُ: فَحَدِّثْنَا عَنْ نَفْسِكَ فَقَالَ: مَهْلًا، فَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنِ التَّزْكِيَةِ فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ فَقَالَ: فَإِنِّي أُحَدِّثُ، كُنْتُ إِذَا سُئِلْتُ أَعْطَيْتُ وَإِذَا سَكَتُّ ابْتَدَيْتُ، وَبَيْنَ الْجَوَانِحِ عِلْمٌ جَمٌّ فَاسْأَلُونِي، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْحِكْمَةُ فِي أَنْ أَخَّرَ اللَّهُ تَعَالَى حَقَّ نَفْسِهِ عَنْ حَقِّ الْيَتِيمِ وَالْعَائِلِ؟ قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ يَقُولُ أَنَا غَنِيٌّ وَهُمَا مُحْتَاجَانِ وَتَقْدِيمُ حَقِّ الْمُحْتَاجِ أَوْلَى وَثَانِيهَا: أَنَّهُ وَضَعَ فِي حَظِّهِمَا الْفِعْلَ وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْقَوْلِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ اسْتِغْرَاقُ الْقَلْبِ فِي ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَجَعَلَ خَاتِمَةَ هَذِهِ الطَّاعَاتِ تَحَدُّثَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى تَكُونَ خَتْمُ الطَّاعَاتِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَاخْتَارَ قَوْلَهُ: فَحَدِّثْ عَلَى قَوْلِهِ فَخَبِّرْ، لِيَكُونَ ذَلِكَ حَدِيثًا عند لَا يَنْسَاهُ، وَيُعِيدَهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم. تم الجزء الحادي والثلاثون ويتلوه الجزء الثاني والثلاثون. وأوله تفسير سورة الإنشراح.

الجزء الثاني والثلاثون

الجزء الثاني والثلاثون بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة ألم نشرح ثمان آيات مكية يروى عن طاوس وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ هَذِهِ السُّورَةُ وَسُورَةُ الضُّحَى سُورَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَانَا يقرءانهما فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ وَمَا كَانَا يَفْصِلَانِ بَيْنَهُمَا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالَّذِي دَعَاهُمَا إِلَى ذَلِكَ هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ كَالْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً [الضُّحَى: 6] وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَوَّلَ: كَانَ نُزُولُهُ حَالَ اغْتِمَامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِيذَاءِ الْكُفَّارِ فَكَانَتْ حَالَ مِحْنَةٍ وَضِيقِ صَدْرٍ وَالثَّانِيَ: يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَالَ النُّزُولِ منشرح الصدر طيب القلب، فأنى يجتمعان. [سورة الشرح (94) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) اسْتَفْهَمَ عَنِ انْتِفَاءِ الشَّرْحِ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ، فَأَفَادَ إِثْبَاتَ الشَّرْحِ وَإِيجَابَهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: شَرَحْنَا لَكَ صَدْرَكَ، وَفِي شَرْحِ الصَّدْرِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: مَا رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَاهُ وَشَقَّ صَدْرَهُ وَأَخْرَجَ قَلْبَهُ وَغَسَلَهُ وَأَنْقَاهُ مِنَ الْمَعَاصِي ثُمَّ مَلَأَهُ عِلْمًا وَإِيمَانًا وَوَضَعَهُ فِي صَدْرِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ طَعَنَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الرِّوَايَةَ أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ فِي حَالِ صِغَرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَقَدَّمَ نُبُوَّتُهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ تَأْثِيرَ الْغَسْلِ فِي إِزَالَةِ الْأَجْسَامِ، وَالْمَعَاصِي لَيْسَتْ بِأَجْسَامٍ فَلَا يَكُونُ لِلْغَسْلِ فِيهَا أَثَرٌ ثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلَأَ الْقَلْبَ عِلْمًا، بَلِ اللَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ فِيهِ الْعُلُومَ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ تَقْوِيمَ الْمُعْجِزِ عَلَى زَمَانِ الْبِعْثَةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَذَلِكَ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْإِرْهَاصِ، وَمِثْلُهُ فِي حَقِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَثِيرٌ. وَأَمَّا الثَّانِي وَالثَّالِثُ: فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ حُصُولُ ذَلِكَ الدَّمِ الْأَسْوَدِ الَّذِي غَسَلُوهُ مِنْ قَلْبِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَامَةً لِلْقَلْبِ الَّذِي يَمِيلُ إِلَى الْمَعَاصِي، وَيُحْجِمُ عَنِ الطَّاعَاتِ، فَإِذَا أَزَالُوهُ عَنْهُ كَانَ ذَلِكَ عَلَامَةً لِكَوْنِ صَاحِبِهِ مُوَاظِبًا عَلَى الطَّاعَاتِ مُحْتَرِزًا عَنِ السَّيِّئَاتِ، فَكَانَ ذَلِكَ كَالْعَلَامَةِ لِلْمَلَائِكَةِ عَلَى كَوْنِ صَاحِبِهِ مَعْصُومًا، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيُحْكِمُ مَا يُرِيدُ.

[سورة الشرح (94) : الآيات 2 إلى 3]

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: (أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ شَرْحِ الصَّدْرِ مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمَعْرِفَةِ وَالطَّاعَةِ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بُعِثَ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَكَانَ يَضِيقُ صَدْرُهُ عَنْ مُنَازَعَةِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَابِدٍ وَمَعْبُودٍ سِوَى اللَّهِ، فَآتَاهُ اللَّهُ مِنْ آيَاتِهِ مَا اتَّسَعَ لِكُلِّ مَا حَمَلَهُ وَصَغَّرَهُ عِنْدَهُ كُلَّ شَيْءٍ احْتَمَلَهُ مِنَ الْمَشَاقِّ، وَذَلِكَ بِأَنْ أَخْرَجَ عَنْ قَلْبِهِ جَمِيعَ الْهُمُومِ وَمَا تَرَكَ فِيهِ إِلَّا هَذَا الْهَمَّ الْوَاحِدَ، فَمَا كَانَ يَخْطُرُ بِبَالِهِ هَمُّ النَّفَقَةِ وَالْعِيَالِ، وَلَا يُبَالِي بِمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنْ إِيذَائِهِمْ، حَتَّى صَارُوا فِي عَيْنِهِ دُونَ الذُّبَابِ لَمْ يَجْبُنْ خوفا من وعيدهم، ولم يمل إلى مالهم، وَبِالْجُمْلَةِ فَشَرْحُ الصَّدْرِ عِبَارَةٌ عَنْ عِلْمِهِ بِحَقَارَةِ الدُّنْيَا وَكَمَالِ الْآخِرَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الْأَنْعَامِ: 125] وَرُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَنْشَرِحُ الصَّدْرُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «التَّجَافِي عَنِ الْغُرُورِ، وَالْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالْإِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ» وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ صِدْقَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ يُوجِبُ لِلْإِنْسَانِ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةَ فِي الْآخِرَةِ وَالِاسْتِعْدَادَ لِلْمَوْتِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ انْفَتَحَ صَدْرُهُ حَتَّى أَنَّهُ كَانَ يَتَّسِعُ لِجَمِيعِ الْمُهِمَّاتِ لَا يَقْلَقُ وَلَا يَضْجَرُ وَلَا يَتَغَيَّرُ، بَلْ هُوَ فِي حَالَتَيِ الْبُؤْسِ وَالْفَرَحِ مُنْشَرِحُ الصَّدْرِ مُشْتَغِلٌ بِأَدَاءِ مَا كُلِّفَ بِهِ، وَالشَّرْحُ التَّوْسِعَةُ، وَمَعْنَاهُ الْإِرَاحَةُ مِنَ الْهُمُومِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْغَمَّ وَالْهَمَّ ضِيقَ صَدْرٍ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ [الحجر: 97] وهاهنا سُؤَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: لِمَ ذَكَرَ الصَّدْرَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْقَلْبَ؟ وَالْجَوَابُ: لِأَنَّ مَحَلَّ الْوَسْوَسَةِ هُوَ الصَّدْرُ عَلَى مَا قَالَ: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [النَّاسِ: 5] فَإِزَالَةُ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ وَإِبْدَالُهَا بِدَوَاعِي الْخَيْرِ هِيَ الشَّرْحُ، فَلَا جَرَمَ خُصَّ ذَلِكَ الشَّرْحُ بِالصَّدْرِ دُونَ الْقَلْبِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ: الْقَلْبُ مَحَلُّ الْعَقْلِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ الشَّيْطَانُ، فَالشَّيْطَانُ يَجِيءُ إِلَى الصَّدْرِ الَّذِي هُوَ حِصْنُ الْقَلْبِ، فَإِذَا وَجَدَ مَسْلَكًا أَغَارَ فِيهِ وَنَزَلَ جُنْدُهُ فِيهِ، وَبَثَّ فِيهِ مِنَ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْحِرْصِ فَيَضِيقُ الْقَلْبُ حِينَئِذٍ وَلَا يَجِدُ لِلطَّاعَةِ لَذَّةً وَلَا لِلْإِسْلَامِ حَلَاوَةً، وَإِذَا طُرِدَ الْعَدُوُّ فِي الِابْتِدَاءِ مُنِعَ وَحَصَلَ الْأَمْنُ وَيَزُولُ الضِّيقُ وَيَنْشَرِحُ الصَّدْرُ وَيَتَيَسَّرُ لَهُ الْقِيَامُ بِأَدَاءِ الْعُبُودِيَّةِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَلَمْ يَقُلْ أَلَمْ نَشْرَحْ صَدْرَكَ؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَامٌ بِلَامٍ، فَأَنْتَ إِنَّمَا تَفْعَلُ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ لِأَجْلِي كَمَا قَالَ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] ، أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] فَأَنَا أَيْضًا جَمِيعُ مَا أَفْعَلُهُ لِأَجْلِكَ وَثَانِيهَا: أَنَّ فِيهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنَافِعَ الرِّسَالَةِ عَائِدَةٌ إِلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّمَا شَرَحْنَا صَدْرَكَ لِأَجْلِكَ لَا لِأَجْلِي. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ: أَلَمْ نَشْرَحْ وَلَمْ يَقُلْ أَلَمْ أَشْرَحْ؟ وَالْجَوَابُ: إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى نُونِ التَّعْظِيمِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ عَظَمَةَ الْمُنْعِمِ تَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ النِّعْمَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الشَّرْحَ نِعْمَةٌ لَا تَصِلُ الْعُقُولُ إِلَى كُنْهِ جَلَالَتِهَا، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى نُونِ الْجَمِيعِ، فَالْمَعْنَى كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَمْ أَشْرَحْهُ وَحْدِي بَلْ أَعْمَلْتُ فِيهِ مَلَائِكَتِي، فَكُنْتَ تَرَى الْمَلَائِكَةَ حَوَالَيْكَ وَبَيْنَ يَدَيْكَ حَتَّى يَقْوَى قَلْبُكَ، فَأَدَّيْتَ/ الرِّسَالَةَ وَأَنْتَ قَوِيُّ الْقَلْبِ وَلَحِقَتْهُمْ هَيْبَةٌ، فَلَمْ يُجِيبُوا لَكَ جَوَابًا، فَلَوْ كُنْتَ ضَيِّقَ الْقَلْبِ لَضَحِكُوا مِنْكَ، فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ قُوَّةَ قَلْبِكَ جُبْنًا فِيهِمْ، وَانْشِرَاحَ صَدْرِكَ ضِيقًا فيهم. ثم قال تعالى: [سورة الشرح (94) : الآيات 2 الى 3] وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)

وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْمُبَرِّدُ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى أَلَمْ نَشْرَحْ لَا عَلَى لَفْظِهِ، لِأَنَّكَ لَا تَقُولُ أَلَمْ وَضَعْنَا وَلَكِنْ مَعْنَى أَلَمْ نَشْرَحْ قَدْ شَرَحْنَا، فَحُمِلَ الثَّانِي عَلَى مَعْنَى الْأَوَّلِ لَا عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى ظَاهِرِهِ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: وَنَضَعُ عَنْكَ وِزْرَكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الْوِزْرِ ثُقْلُ الذَّنْبِ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ عند قوله: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ [الأنعام: 31] وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] . المسألة الثالثة وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنْقَضَ ظَهْرَكَ فَقَالَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ: الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الظَّهْرَ إِذَا أُثْقِلَ الْحِمْلَ سُمِعَ لَهُ نَقِيضٌ أَيْ صَوْتٌ خَفِيٌّ، وَهُوَ صَوْتُ الْمَحَامِلِ وَالرِّحَالِ وَالْأَضْلَاعِ، أَوِ الْبَعِيرُ إِذَا أَثْقَلَهُ الْحِمْلُ فَهُوَ مَثَلٌ لِمَا كَانَ يَثْقُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَوْزَارِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ أَثْبَتَ الْمَعْصِيَةَ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ الصَّغَائِرَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ حَمَلُوا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَيْهَا، لَا يُقَالُ: إِنَّ قَوْلَهُ: الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ عَظِيمًا فَكَيْفَ يَلِيقُ ذَلِكَ بِالصَّغَائِرِ، لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّمَا وُصِفَ ذَلِكَ بِإِنْقَاضِ الظَّهْرِ مَعَ كَوْنِهَا مَغْفُورَةً لِشِدَّةِ اغْتِمَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوُقُوعِهِ مِنْهُ وَتَحَسُّرِهِ مَعَ نَدَمِهِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِنَّمَا وَصَفَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ تَأْثِيرَهُ فِيمَا يَزُولُ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ عَظِيمٌ، فَيَجُوزُ لِذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى. هَذَا تَقْرِيرُ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَفِيهِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الصَّغِيرَةِ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْقَاضِي، وَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الِامْتِنَانَ بِفِعْلِ الْوَاجِبِ غَيْرُ جَائِزٍ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الذَّنْبِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُنُوبٌ سَلَفَتْ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ أَثْقَلَتْهُ فَغَفَرَهَا لَهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ تَخْفِيفُ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ الَّتِي تُثْقِلُ الظَّهْرَ مِنَ الْقِيَامِ بِأَمْرِهَا وَحِفْظِ مُوجِبَاتِهَا وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى حُقُوقِهَا، فَسَهَّلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَحَطَّ عَنْهُ ثِقَلَهَا بِأَنْ يَسَّرَهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَيَسَّرَتْ لَهُ وَثَالِثُهَا: الْوِزْرُ مَا كَانَ يَكْرَهُهُ مِنْ تَغْيِيرِهِمْ لِسُنَّةِ الْخَلِيلِ وَكَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِهِمْ إِلَى أَنْ قَوَّاهُ اللَّهُ، وَقَالَ لَهُ: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [النَّحْلِ: 123] . وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا ذُنُوبُ أُمَّتِهِ صَارَتْ كَالْوِزْرِ عَلَيْهِ، مَاذَا يَصْنَعُ فِي حَقِّهِمْ إِلَى أَنْ قَالَ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَالِ: 33] فَأَمَّنَهُ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْعَاجِلِ، وَوَعَدَ لَهُ الشَّفَاعَةَ فِي الْآجِلِ وَخَامِسُهَا: مَعْنَاهُ عَصَمْنَاكَ عَنِ الْوِزْرِ الَّذِي يَنْقُضُ ظَهْرَكَ، لَوْ كَانَ ذَلِكَ الذَّنْبُ حَاصِلًا، فَسَمَّى الْعِصْمَةَ وَضْعًا مَجَازًا، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ حَضَرَ وَلِيمَةً/ فِيهَا دُفٌّ وَمَزَامِيرُ قَبْلَ الْبِعْثَةِ لِيَسْمَعَ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أُذُنِهِ فَلَمْ يُوقِظْهُ إِلَّا حَرُّ الشَّمْسِ مِنَ الْغَدِ وَسَادِسُهَا: الْوِزْرُ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْهَيْبَةِ وَالْفَزَعِ فِي أَوَّلِ مُلَاقَاةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ أَخَذَتْهُ الرِّعْدَةُ، وَكَادَ يَرْمِي نَفْسَهُ مِنَ الْجَبَلِ، ثُمَّ تَقَوَّى حَتَّى أَلِفَهُ وَصَارَ بِحَالَةٍ كَادَ يَرْمِي بِنَفْسِهِ مِنَ الْجَبَلِ لِشِدَّةِ اشْتِيَاقِهِ وَسَابِعُهَا: الْوِزْرُ مَا كَانَ يَلْحَقُهُ مِنَ الْأَذَى وَالشَّتْمِ حَتَّى كَادَ يَنْقُضَ ظَهْرَهُ وَتَأْخُذَهُ الرِّعْدَةُ، ثُمَّ قَوَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى صَارَ بِحَيْثُ كَانُوا يُدْمُونَ وَجْهَهُ، وَ [هُوَ] يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي» وَثَامِنُهَا: لَئِنْ كَانَ نُزُولُ السُّورَةِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ وَخَدِيجَةَ، فَلَقَدْ كَانَ فِرَاقُهُمَا عَلَيْهِ وِزْرًا عَظِيمًا، فَوَضَعَ عَنْهُ الْوِزْرَ بِرَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى لَقِيَهُ كُلُّ مَلَكٍ وَحَيَّاهُ فَارْتَفَعَ لَهُ الذِّكْرُ، فَلِذَلِكَ قَالَ: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ وَتَاسِعُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْوِزْرِ وَالثِّقَلِ الْحَيْرَةُ الَّتِي كَانَتْ لَهُ قَبْلَ الْبِعْثَةِ، وَذَلِكَ

[سورة الشرح (94) : آية 4]

أَنَّهُ بِكَمَالِ عَقْلِهِ لَمَّا نَظَرَ إِلَى عَظِيمِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، حَيْثُ أَخْرَجَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَأَعْطَاهُ الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ وَأَنْوَاعَ النِّعَمِ، ثَقُلَ عَلَيْهِ نِعَمُ اللَّهِ وَكَادَ يَنْقُضُ ظَهْرُهُ مِنَ الْحَيَاءِ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَرَى أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ لَا تَنْقَطِعُ، وَمَا كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُ كَيْفَ كَانَ يُطِيعُ رَبَّهُ، فَلَمَّا جَاءَتْهُ النُّبُوَّةُ وَالتَّكْلِيفُ وَعَرَفَ أَنَّهُ كَيْفَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُطِيعَ رَبَّهُ، فَحِينَئِذٍ قَلَّ حَيَاؤُهُ وَسَهُلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَحْوَالُ، فَإِنَّ اللَّئِيمَ لَا يَسْتَحِي مِنْ زِيَادَةِ النِّعَمِ بِدُونِ مُقَابَلَتِهَا بِالْخِدْمَةِ، وَالْإِنْسَانُ الْكَرِيمُ النَّفْسِ إِذَا كَثُرَ الْإِنْعَامُ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يُقَابِلُهَا بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْخِدْمَةِ، فَإِنَّهُ يَثْقُلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ جِدًّا، بِحَيْثُ يُمِيتُهُ الْحَيَاءُ، فَإِذَا كَلَّفَهُ الْمُنْعِمُ بِنَوْعِ خدمة سهل ذلك عليه وطاب قلبه. ثم قال تعالى: [سورة الشرح (94) : آية 4] وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَشُهْرَتُهُ فِي الأرض والسموات، اسْمُهُ مَكْتُوبٌ عَلَى الْعَرْشِ، وَأَنَّهُ يُذْكَرُ مَعَهُ فِي الشَّهَادَةِ وَالتَّشَهُّدِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَانْتِشَارُ ذِكْرِهِ فِي الْآفَاقِ، وَأَنَّهُ خُتِمَتْ بِهِ النُّبُوَّةُ، وَأَنَّهُ يُذْكَرُ فِي الْخُطَبِ وَالْأَذَانِ وَمَفَاتِيحِ الرَّسَائِلِ، وَعِنْدَ الْخَتْمِ وَجَعَلَ ذِكْرَهُ فِي الْقُرْآنِ مَقْرُونًا بِذِكْرِهِ: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التَّوْبَةِ: 62] ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء: 13] وأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النور: 54] وَيُنَادِيهِ بِاسْمِ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ، حِينَ يُنَادِي غَيْرَهُ بِالِاسْمِ يَا مُوسَى يَا عِيسَى، وَأَيْضًا جَعَلَهُ فِي الْقُلُوبِ بِحَيْثُ يَسْتَطِيبُونَ ذِكْرَهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا [مَرْيَمَ: 96] كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: أَمْلَأُ الْعَالَمَ مِنْ أَتْبَاعِكَ كُلُّهُمْ يُثْنُونَ عَلَيْكَ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكَ وَيَحْفَظُونَ سُنَّتَكَ، بَلْ مَا مِنْ فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ إِلَّا وَمَعَهُ سُنَّةٌ فَهُمْ يَمْتَثِلُونَ فِي الْفَرِيضَةِ أَمْرِي، وَفِي السُّنَّةِ أَمْرَكَ وَجَعَلْتُ طَاعَتَكَ طَاعَتِي وَبَيْعَتَكَ بَيْعَتِي مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النِّسَاءِ: 80] إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْحِ: 10] لَا تَأْنَفُ السَّلَاطِينَ مِنْ أَتْبَاعِكَ، بَلْ جَرَاءَةٌ لِأَجْهَلِ الْمُلُوكِ أَنْ يُنَصِّبَ خَلِيفَةً مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكَ، فَالْقُرَّاءُ يَحْفَظُونَ أَلْفَاظَ مَنْشُورِكَ، وَالْمُفَسِّرُونَ يُفَسِّرُونَ مَعَانِيَ فُرْقَانِكَ، وَالْوُعَّاظُ يُبَلِّغُونَ وَعْظَكَ/ بَلِ الْعُلَمَاءُ وَالسَّلَاطِينُ يَصِلُونَ إِلَى خِدْمَتِكَ، وَيُسَلِّمُونَ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ عَلَيْكَ، وَيَمْسَحُونَ وُجُوهَهُمْ بِتُرَابِ رَوْضَتِكَ، وَيَرْجُونَ شَفَاعَتَكَ، فَشَرَفُكَ بَاقٍ إِلَى يَوْمِ القيامة. [سورة الشرح (94) : الآيات 5 الى 6] فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَجْهُ تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُعَيِّرُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَقْرِ، وَيَقُولُونَ: إِنْ كَانَ غَرَضُكَ مِنْ هَذَا الَّذِي تَدَّعِيهِ طَلَبَ الْغِنَى جَمَعْنَا لَكَ مَالًا حَتَّى تَكُونَ كَأَيْسَرِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَبَقَ إِلَى وَهْمِهِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا رَغِبُوا عَنِ الْإِسْلَامِ لِكَوْنِهِ فَقِيرًا حَقِيرًا عِنْدَهُمْ، فَعَدَّدَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَنَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَالَ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ [الشرح: 1، 2] أَيْ مَا كُنْتَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ وَعَدَهُ بِالْغِنَى فِي الدُّنْيَا لِيُزِيلَ عَنْ قَلْبِهِ مَا حَصَلَ فِيهِ مِنَ التَّأَذِّي بِسَبَبِ أَنَّهُمْ عَيَّرُوهُ بِالْفَقْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ دُخُولُ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَا يَحْزُنْكَ مَا يَقُولُ وَمَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ الْقِلَّةِ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا يُسْرٌ كَامِلٌ.

[سورة الشرح (94) : آية 7]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: خَلَقْتُ عُسْرًا وَاحِدًا بَيْنَ يُسْرَيْنِ، فَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ، وَرَوَى مُقَاتِلٌ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَفِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: الْعُسْرُ مَذْكُورٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَعْهُودٌ سَابِقٌ فَيَنْصَرِفُ إِلَى الْحَقِيقَةِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْعُسْرِ فِي اللَّفْظَيْنِ شَيْئًا وَاحِدًا. وَأَمَّا الْيُسْرُ فَإِنَّهُ مَذْكُورٌ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا غَيْرَ الْآخَرِ، وَزَيَّفَ الْجُرْجَانِيُّ هَذَا وَقَالَ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: إِنَّ مَعَ الْفَارِسِ سَيْفًا، إِنَّ مَعَ الْفَارِسِ سَيْفًا، يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ فَارِسٌ وَاحِدٌ وَمَعَهُ سَيْفَانِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ وَضْعِ الْعَرَبِيَّةِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ تَكْرِيرًا لِلْأُولَى، كَمَا كَرَّرَ قوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المطففين: 10] وَيَكُونُ الْغَرَضُ تَقْرِيرَ مَعْنَاهَا فِي النُّفُوسِ وَتَمْكِينَهَا فِي الْقُلُوبِ، كَمَا يُكَرَّرُ الْمُفْرَدُ فِي قَوْلِكَ: جَاءَنِي زَيْدٌ زَيْدٌ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْيُسْرَيْنِ: يُسْرُ الدُّنْيَا وَهُوَ مَا تَيَسَّرَ مِنِ اسْتِفْتَاحِ الْبِلَادِ، وَيُسْرُ الْآخِرَةِ وَهُوَ ثَوَابُ الْجَنَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التَّوْبَةِ: 52] وَهُمَا حُسْنُ الظَّفَرِ وَحُسْنُ الثَّوَابِ، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» هَذَا، وذلك لأن عسر الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى يُسْرِ الدُّنْيَا وَيُسْرِ الْآخِرَةِ كالمغمور القليل، وهاهنا سُؤَالَانِ. الْأَوَّلُ: مَا مَعْنَى التَّنْكِيرِ فِي الْيُسْرِ؟ جَوَابُهُ: التَّفْخِيمُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ مَعَ الْيُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا عَظِيمًا، وَأَيُّ يُسْرٍ. السُّؤَالُ الثَّانِي: الْيُسْرُ لَا يَكُونُ مَعَ الْعُسْرِ، لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ الْجَوَابُ: لَمَّا/ كَانَ وُقُوعُ الْيُسْرِ بَعْدَ الْعُسْرِ بِزَمَانٍ قَلِيلٍ، كان مقطوعا به فجعل كالمقارن له. ثم قال تعالى: [سورة الشرح (94) : آية 7] فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَجْهُ تَعَلُّقِ هَذَا بِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَدَّدَ عَلَيْهِ نِعَمَهُ السَّالِفَةَ، وَوَعَدَهُمْ بِالنِّعَمِ الْآتِيَةِ، لَا جَرَمَ بَعَثَهُ عَلَى الشُّكْرِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ، فَقَالَ: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ أَيْ فَاتْعَبْ يُقَالُ: نَصَبَ يَنْصِبُ، قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك فِي الدُّعَاءِ وَارْغَبْ إِلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ يُعْطِكَ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ التَّشَهُّدِ فَادْعُ لِدُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا فَرَغْتَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكَ فَانْصَبْ وَصَلِّ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْفَرَائِضِ فَانْصَبْ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْغَزْوِ فَاجْتَهِدْ فِي الْعِبَادَةِ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ: إِذَا كُنْتَ صَحِيحًا فَانْصَبْ، يَعْنِي اجْعَلْ فَرَاغَكَ نَصَبًا فِي الْعِبَادَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنْ شُرَيْحًا مَرَّ بِرَجُلَيْنِ يَتَصَارَعَانِ، فَقَالَ: الْفَارِغُ مَا أُمِرَ بِهَذَا إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَعْنَى أَنْ يُوَاصِلَ بَيْنَ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ وَبَعْضٍ، وَأَنْ لَا يُخَلِّيَ وَقْتًا مِنْ أَوْقَاتِهِ مِنْهَا، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ عبادة أتبعها بأخرى. وأما قوله تعالى: [سورة الشرح (94) : آية 8] وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: اجْعَلْ رَغْبَتَكَ إِلَيْهِ خُصُوصًا وَلَا تَسْأَلْ إِلَّا فَضْلَهُ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ وَثَانِيهَا: ارْغَبْ فِي سَائِرِ مَا تَلْتَمِسُهُ دِينًا وَدُنْيَا وَنُصْرَةً عَلَى الْأَعْدَاءِ إِلَى رَبِّكَ، وَقُرِئَ فَرَغِّبْ أَيْ رَغِّبِ النَّاسَ إِلَى طَلَبِ مَا عِنْدَهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة التين

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة التين (وهي ثمان آيات مكية) [سورة التين (95) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) [قوله تعالى والتين والزيتون] اعْلَمْ أَنَّ الْإِشْكَالَ هُوَ أَنَّ التِّينَ وَالزَّيْتُونَ لَيْسَا مِنَ الْأُمُورِ الشَّرِيفَةِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يُقْسِمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمَا؟ فَلِأَجْلِ هَذَا السُّؤَالِ حَصَلَ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ هَذَانِ الشَّيْئَانِ الْمَشْهُورَانِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ تِينُكُمْ وَزَيْتُونُكُمْ هَذَا، ثُمَّ ذَكَرُوا مِنْ خَوَاصِّ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ أَشْيَاءَ. أَمَّا التِّينُ فَقَالُوا إِنَّهُ غِذَاءٌ وَفَاكِهَةٌ وَدَوَاءٌ، أَمَّا كَوْنُهُ غِذَاءً فَالْأَطِبَّاءُ زَعَمُوا أَنَّهُ طَعَامٌ لَطِيفٌ سَرِيعُ الْهَضْمِ لَا يَمْكُثُ فِي الْمَعِدَةِ يُلَيِّنُ الطَّبْعَ ويخرج بطريق التَّرَشُّحَ وَيُقَلِّلُ الْبَلْغَمَ وَيُطَهِّرُ الْكُلْيَتَيْنِ وَيُزِيلُ مَا فِي الْمَثَانَةِ مِنَ الرَّمْلِ وَيُسَمِّنُ الْبَدَنَ وَيَفْتَحُ مَسَامَّ الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ وَهُوَ خَيْرُ الْفَوَاكِهِ وَأَحْمَدُهَا، وَرُوِيَ أَنَّهُ أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَبَقٌ مِنْ تِينٍ فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «كُلُوا فَلَوْ قُلْتُ إِنَّ فَاكِهَةً نَزَلَتْ مِنَ الْجَنَّةِ لَقُلْتُ هَذِهِ لِأَنَّ فَاكِهَةَ الْجَنَّةِ بِلَا عَجَمٍ فَكُلُوهَا فَإِنَّهَا تَقْطَعُ الْبَوَاسِيرَ وَتَنْفَعُ مِنَ النِّقْرِسِ» وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: التِّينُ يُزِيلُ نَكْهَةَ الْفَمِ وَيُطَوِّلُ الشَّعْرَ وَهُوَ أَمَانٌ مِنَ الْفَالِجِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ دَوَاءً، فَلِأَنَّهُ يُتَدَاوَى بِهِ فِي إخراج فضول البدن. واعلم أن لها بعد ما ذَكَرْنَا خَوَاصَّ: أَحَدُهَا: أَنَّ ظَاهِرَهَا كَبَاطِنِهَا لَيْسَتْ كَالْجَوْزِ ظَاهِرُهُ قِشْرٌ وَلَا كَالتَّمْرِ بَاطِنُهُ قِشْرٌ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ مِنَ الثِّمَارِ مَا يَخْبُثُ ظَاهِرُهُ وَيَطِيبُ بَاطِنُهُ، كَالْجَوْزِ وَالْبِطِّيخِ وَمِنْهُ مَا يَطِيبُ ظَاهِرُهُ دُونَ بَاطِنِهِ كَالتَّمْرِ وَالْإِجَّاصِ. أَمَّا التِّينُ فَإِنَّهُ طَيِّبُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَشْجَارَ ثَلَاثَةٌ: شَجَرَةٌ تَعِدُ وَتُخْلِفُ وَهِيَ شَجَرَةُ الْخِلَافِ، وَثَانِيَةٌ تَعِدُ وَتَفِي وَهِيَ الَّتِي تَأْتِي بالنور أولا بعده بالثمرة كَالتُّفَّاحِ وَغَيْرِهِ، وَشَجَرَةٌ تَبْذُلُ قَبْلَ الْوَعْدِ، وَهِيَ التِّينُ لِأَنَّهَا تُخْرِجُ الثَّمَرَةَ قَبْلَ أَنْ تَعِدَ بِالْوَرْدِ، بَلْ لَوْ غَيَّرْتَ الْعِبَارَةَ لَقُلْتَ هِيَ شَجَرَةٌ تُظْهِرُ الْمَعْنَى قَبْلَ الدَّعْوَى، بَلْ لَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّهَا شَجَرَةٌ تُخْرِجُ الثَّمَرَةَ قَبْلَ أَنْ تُلْبِسَ نَفْسَهَا بِوَرْدٍ أَوْ بِوَرَقٍ، وَالتُّفَّاحُ وَالْمِشْمِشُ وَغَيْرُهُمَا تَبْدَأُ بِنَفْسِهَا ثُمَّ بِغَيْرِهَا، أَمَّا شَجَرَةُ التِّينِ فَإِنَّهَا تَهْتَمُّ بِغَيْرِهَا/ قَبْلَ اهْتِمَامِهَا بِنَفْسِهَا، فَسَائِرُ الْأَشْجَارِ كَأَرْبَابِ الْمُعَامَلَةِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكِ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» وَشَجَرَةُ التِّينِ كَالْمُصْطَفَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَبْدَأُ بِغَيْرِهِ فَإِنْ فَضَلَ صَرَفَهُ إِلَى

نَفْسِهِ، بَلْ مِنَ الَّذِينَ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الْحَشْرِ: 9] ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ مِنْ خَوَاصِّ هَذِهِ الشَّجَرَةِ أَنَّ سَائِرَ الْأَشْجَارِ إِذَا أَسْقَطَتِ الثَّمَرَةَ مِنْ مَوْضِعِهَا لَمْ تَعُدْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، إِلَّا التِّينَ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الْبَذْرَ وَرُبَّمَا سَقَطَ ثُمَّ يَعُودُ مَرَّةً أُخْرَى وَرَابِعُهَا: أَنَّ التِّينَ فِي النَّوْمِ رَجُلٌ خَيِّرٌ غَنِيٌّ فَمَنْ نَالَهَا فِي الْمَنَامِ نَالَ مَالًا وَسَعَةً، وَمَنْ أَكَلَهَا رَزَقَهُ اللَّهُ أَوْلَادًا وَخَامِسُهَا: رُوِيَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا عَصَى وَفَارَقَتْهُ ثِيَابُهُ تَسَتَّرَ بِوَرَقِ التِّينِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ وَكَانَ مُتَّزِرًا بِوَرَقِ التِّينِ اسْتَوْحَشَ فَطَافَ الظِّبَاءُ حَوْلَهُ فَاسْتَأْنَسَ بِهَا فَأَطْعَمَهَا بَعْضَ وَرَقِ التِّينِ، فَرَزَقَهَا اللَّهُ الْجَمَالَ صُورَةً وَالْمَلَاحَةَ مَعْنًى وَغَيَّرَ دَمَهَا مِسْكًا، فَلَمَّا تَفَرَّقَتِ الظِّبَاءُ إِلَى مَسَاكِنِهَا رَأَى غَيْرَهَا عَلَيْهَا مِنَ الْجَمَالِ مَا أَعْجَبَهَا، فَلَمَّا كَانَتْ مِنَ الْغَدِ جَاءَتِ الظِّبَاءُ عَلَى أَثَرِ الْأُولَى إِلَى آدَمَ فَأَطْعَمَهَا مِنَ الْوَرَقِ فَغَيَّرَ اللَّهُ حَالَهَا إِلَى الْجَمَالِ دُونَ الْمِسْكِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُولَى جَاءَتْ لِآدَمَ لَا لِأَجْلِ الطَّمَعِ وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى جَاءَتْ لِلطَّمَعِ سِرًّا وَإِلَى آدَمَ ظَاهِرَةً، فَلَا جَرَمَ غَيَّرَ الظَّاهِرَ دُونَ الْبَاطِنِ، وَأَمَّا الزَّيْتُونُ فَشَجَرَتُهُ هِيَ الشَّجَرَةُ الْمُبَارَكَةُ فَاكِهَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِدَامٌ مِنْ وَجْهٍ وَدَوَاءٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهِيَ فِي أَغْلَبِ الْبِلَادِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَرْبِيَةِ النَّاسِ، ثُمَّ لَا تَقْتَصِرُ مَنْفَعَتُهَا غِذَاءَ بَدَنِكَ، بَلْ هِيَ غِذَاءُ السِّرَاجِ أَيْضًا وَتَوَلُّدُهَا فِي الْجِبَالِ الَّتِي لَا تُوجَدُ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الدُّهْنِيَّةِ الْبَتَّةَ، وَقِيلَ: مَنْ أَخَذَ وَرَقَ الزَّيْتُونِ فِي الْمَنَامِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَقَالَ مَرِيضٌ لِابْنِ سِيرِينَ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّهُ قِيلَ لِي: كُلِ اللَّامَيْنِ تُشْفَ، فَقَالَ: كُلِ الزَّيْتُونَ فَإِنَّهُ لَا شَرْقِيَّةٌ وَلَا غَرْبِيَّةٌ، ثُمَّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: التِّينُ وَالزَّيْتُونُ اسْمٌ لِهَذَيْنِ الْمَأْكُولَيْنِ وَفِيهِمَا هَذِهِ الْمَنَافِعُ الْجَلِيلَةُ، فَوَجَبَ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالْجَزْمُ بِأَنَّ اللَّهَ تعالى أقسم بهما لما فيهما هَذِهِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ هَاتَيْنِ الثَّمَرَتَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرُوا وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا جَبَلَانِ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، يُقَالُ لَهُمَا: بِالسُّرْيَانِيَّةِ طُورَ تِينَا، وَطُورَ زِيتَا، لِأَنَّهُمَا مَنْبَتَا التِّينِ وَالزَّيْتُونِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِمَنَابِتِ الْأَنْبِيَاءِ، فَالْجَبَلُ الْمُخْتَصُّ بِالتِّينِ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالزَّيْتُونُ الشَّأْمُ مَبْعَثُ أَكْثَرِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالطُّورُ مَبْعَثُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْبَلَدُ الْأَمِينُ مَبْعَثُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْقَسَمِ فِي الْحَقِيقَةِ تَعْظِيمَ الْأَنْبِيَاءِ وَإِعْلَاءَ دَرَجَاتِهِمْ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ مَسْجِدَانِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: التِّينُ مَسْجِدُ دِمَشْقَ وَالزَّيْتُونُ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ آخَرُونَ: التِّينُ مَسْجِدُ أَصْحَابِ أَهْلِ الْكَهْفِ، وَالزَّيْتُونُ مَسْجِدُ إِيلِيَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ التِّينُ مَسْجِدُ نُوحٍ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْجُودِيِّ، وَالزَّيْتُونُ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ إِنَّمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ لِأَنَّ الْقَسَمَ بِالْمَسْجِدِ أَحْسَنُ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَسَاجِدُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا التِّينُ وَالزَّيْتُونُ، لَا جَرَمَ اكْتَفَى بِذِكْرِ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَثَالِثُهَا: / الْمُرَادُ مِنَ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ بَلَدَانِ، فَقَالَ كَعْبٌ: التِّينُ دِمَشْقُ وَالزَّيْتُونُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: التِّينُ الْكُوفَةُ، وَالزَّيْتُونُ الشَّامُ، وَعَنِ الرَّبِيعِ هُمَا جَبَلَانِ بَيْنَ هَمْدَانَ وَحُلْوَانَ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ، إِنَّمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ وَمُشْرِكِي قُرَيْشٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُعَظِّمُ بَلْدَةً مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِهَذِهِ الْبِلَادِ بِأَسْرِهَا، أَوْ يُقَالُ: إِنْ دِمَشْقَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ فِيهِمَا نِعَمُ الدُّنْيَا، وَالطُّورَ وَمَكَّةَ فِيهِمَا نِعَمُ الدِّينِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَطُورِ سِينِينَ فَالْمُرَادُ مِنْ الطُّورِ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي سِينِينَ وَالْأَوْلَى عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ أَنْ يَكُونَ سِينِينَ وَسِينَا اسْمَيْنِ لِلْمَكَانِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ الْجَبَلُ أُضِيفَا إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَأَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ: الطُّورُ الْجَبَلُ وَسِينِينَ الْحَسَنُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ،

[سورة التين (95) : آية 4]

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سِينِينَ الْمُبَارَكُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ الْجَبَلُ الْمُشَجَّرُ ذُو الشَّجَرِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كُلُّ جَبَلٍ فِيهِ شَجَرٌ مُثْمِرٌ فَهُوَ سِينِينَ وَسِينَا بِلُغَةِ النَّبَطِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ سِينِينَ اسْمًا لِلْمَكَانِ الَّذِي بِهِ الْجَبَلُ، ثُمَّ لِذَلِكَ سُمِّيَ سِينِينَ أَوْ سِينَا لِحُسْنِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ مُبَارَكًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سِينِينَ نَعْتًا لِلطُّورِ لِإِضَافَتِهِ إِلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ فَالْمُرَادُ مَكَّةُ وَالْأَمِينُ: الْآمِنُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مِنْ أَمِنَ الرَّجُلَ أَمَانَةً فَهُوَ أَمِينٌ وَأَمَانَتُهُ أَنْ يَحْفَظَ مَنْ دَخَلَهُ كَمَا يَحْفَظُ الْأَمِينُ مَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ أَمِنَهُ لِأَنَّهُ مَأْمُونُ الْغَوَائِلِ، كَمَا وُصِفَ بِالْأَمْنِ فِي قوله: حَرَماً آمِناً [العنكبوت: 67] يَعْنِي ذَا أَمْنٍ، وَذَكَرُوا فِي كَوْنِهِ أَمِينًا وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَفِظَهُ عَنِ الْفِيلِ عَلَى مَا يَأْتِيكَ شَرْحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَثَانِيهَا: أَنَّهَا تَحْفَظُ لَكَ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ فَمُبَاحُ الدَّمِ عِنْدَ الِالْتِجَاءِ إِلَيْهَا آمِنٌ مِنَ السِّبَاعِ وَالصُّيُودُ تَسْتَفِيدُ مِنْهَا الْحِفْظَ عِنْدَ الِالْتِجَاءِ إِلَيْهَا وَثَالِثُهَا: مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ، وَيَقُولُ: أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَمَا إِنَّهُ يَضُرُّ وَيَنْفُعُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخَذَ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ الْمِيثَاقَ كَتَبَهُ فِي رِقٍّ أَبْيَضَ، وَكَانَ لِهَذَا الرُّكْنِ يَوْمَئِذٍ لِسَانٌ وَشَفَتَانِ وَعَيْنَانِ، فَقَالَ: افْتَحْ فَاكَ فَأَلْقَمَهُ ذَلِكَ الرِّقَّ وَقَالَ: تَشْهَدُ لِمَنْ وَافَاكَ بِالْمُوَافَاةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: لَا بَقِيتُ فِي قوم لست فيهم يا أبا الحسن. ثم قال تعالى: [سورة التين (95) : آية 4] لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) الْمُرَادُ من الإنسان هذه الماهية والتقويم تصبير الشَّيْءِ عَلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي التَّأْلِيفِ وَالتَّعْدِيلِ، يُقَالُ: قَوَّمْتُهُ تَقْوِيمًا فَاسْتَقَامَ وَتَقَوَّمَ، وَذَكَرُوا فِي شَرْحِ ذَلِكَ الْحُسْنِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ ذِي رُوحٍ مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ إِلَّا الْإِنْسَانَ فَإِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُ مَدِيدَ الْقَامَةِ يَتَنَاوَلُ مَأْكُولَهُ بِيَدِهِ وَقَالَ الْأَصَمُّ: فِي أَكْمَلِ عَقْلٍ وَفَهْمٍ وَأَدَبٍ وَعِلْمٍ وَبَيَانٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ رَاجِعٌ إِلَى الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَالثَّانِي إِلَى/ السِّيرَةِ الْبَاطِنَةِ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ الْقَاضِي أَنَّهُ فَسَّرَ التَّقْوِيمَ بِحُسْنِ الصُّورَةِ، فَإِنَّهُ حَكَى أَنَّ مَلِكَ زَمَانِهِ خَلَا بِزَوْجَتِهِ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، فَقَالَ: إِنْ لَمْ تَكُونِي أَحْسَنَ مِنَ الْقَمَرِ فَأَنْتِ كَذَا، فَأَفْتَى الْكُلُّ بِالْحِنْثِ إِلَّا يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَحْنَثُ، فَقِيلَ لَهُ: خَالَفْتَ شُيُوخَكَ، فَقَالَ: الْفَتْوَى بِالْعِلْمِ وَلَقَدْ أَفْتَى مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنَّا وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَكَانَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ يَقُولُ: إِلَهَنَا أَعْطَيْتَنَا فِي الْأُولَى أَحْسَنَ الْأَشْكَالِ، فَأَعْطِنَا فِي الْآخِرَةِ أَحْسَنَ الْفِعَالِ، وَهُوَ الْعَفْوُ عَنِ الذُّنُوبِ، وَالتَّجَاوُزُ عَنِ الْعُيُوبِ. أما قوله تعالى: [سورة التين (95) : آية 5] ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَرْذَلَ الْعُمُرِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: السَّافِلُونَ هُمُ الضُّعَفَاءُ وَالزَّمْنَى، وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ حِيلَةً وَلَا يَجِدُ سَبِيلًا، يُقَالُ: سَفَلَ يَسْفُلُ فَهُوَ سَافِلٌ وَهُمْ سَافِلُونَ، كَمَا يُقَالُ: عَلَا يَعْلُو فَهُوَ عَالٍ وَهُمْ عَالُونَ، أَرَادَ أَنَّ الْهَرِمَ يُخَرِّفُ وَيَضْعُفُ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَعَقْلُهُ وَتَقِلُّ حِيلَتُهُ وَيَعْجِزُ عَنْ عَمَلِ الصَّالِحَاتِ، فَيَكُونُ أَسْفَلَ الْجَمِيعِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوْ كَانَتْ أَسْفَلَ سَافِلٍ لَكَانَ صَوَابًا، لِأَنَّ لَفْظَ الْإِنْسَانِ وَاحِدٌ، وَأَنْتَ تَقُولُ: هَذَا أَفْضَلُ قَائِمٍ وَلَا تَقُولُ: أَفْضَلُ قَائِمِينَ، إِلَّا أَنَّهُ قِيلَ: سَافِلِينَ عَلَى الْجَمْعِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي مَعْنَى جَمْعٍ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزُّمَرِ:

[سورة التين (95) : آية 6]

33] وَقَالَ: وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ [الشُّورَى: 48] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ إِلَى النَّارِ، قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَضَعَ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ بَعْضَهَا أَسْفَلَ مِنْ بَعْضٍ فَيَبْدَأُ بِالْأَسْفَلِ فَيَمْلَأُ وَهُوَ أَسْفَلُ سَافِلِينَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمَعْنَى ثُمَّ رَدَدْنَاهُ إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ إِلَى النار. [سورة التين (95) : آية 6] إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) أَمَّا قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى وَلَكِنِ الَّذِينَ كَانُوا صَالِحِينَ مِنَ الْهَرْمَى فَلَهُمْ ثَوَابٌ دَائِمٌ عَلَى طَاعَتِهِمْ وَصَبْرِهِمْ عَلَى ابْتِلَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِالشَّيْخُوخَةِ وَالْهَرَمِ، وَعَلَى مُقَاسَاةِ الْمَشَاقِّ وَالْقِيَامِ بِالْعِبَادَةِ وَعَلَى تَخَاذُلِ نُهُوضِهِمْ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ ظَاهِرُ الِاتِّصَالِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: غَيْرُ مَنْقُوصٍ وَلَا مَقْطُوعٍ وَثَانِيهِمَا: أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أَيْ لَا يَمُنُّ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الثَّوَابِ، لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ وَأَنْ لَا يَكُونَ مُنَغَّصًا بالمنة. ثم قال تعالى: [سورة التين (95) : آية 7] فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) وَفِيهِ سُؤَالَانِ: الْأُولَى: مَنِ الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: فَما يُكَذِّبُكَ؟ الْجَوَابُ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْإِنْسَانِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَما يُكَذِّبُكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنِ الْوَاقِعِ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ فَهُوَ كَاذِبٌ، وَالْمَعْنَى فَمَا الَّذِي يُلْجِئُكَ إِلَى هَذَا الْكَذِبِ وَالثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ إنه خِطَابٌ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى فَمَنْ يُكَذِّبُكَ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَعْدَ ظُهُورِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ بِالدِّينِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا وَجْهُ التَّعَجُّبِ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنَ النُّطْفَةِ وَتَقْوِيمَهُ بَشَرًا سَوِيًّا وَتَدْرِيجَهُ فِي مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي، تم تَنْكِيسَهُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ أَرْذَلَ الْعُمُرِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ عَلَى الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، فَمَنْ شَاهَدَ هَذِهِ الْحَالَةَ ثُمَّ بَقِيَ مُصِرًّا عَلَى إِنْكَارِ الْحَشْرِ فَلَا شَيْءَ أَعْجَبُ مِنْهُ. ثم قال تعالى: [سورة التين (95) : آية 8] أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِهِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا تَحْقِيقٌ لِمَا ذُكِرَ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ ثُمَّ رَدِّهِ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَلَيْسَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ صُنْعًا وَتَدْبِيرًا، وَإِذَا ثَبَتَتِ الْقُدْرَةُ وَالْحِكْمَةُ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ صَحَّ الْقَوْلُ بِإِمْكَانِ الْحَشْرِ وَوُقُوعِهِ، أَمَّا الْإِمْكَانُ فَبِالنَّظَرِ إِلَى الْقُدْرَةِ، وَأَمَّا الْوُقُوعُ فَبِالنَّظَرِ إِلَى الْحِكْمَةِ لِأَنَّ عَدَمَ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي الْحِكْمَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ

ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص: 27] . وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا تَنْبِيهٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خُصُومِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْعَدْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ الْقَبِيحَ وَلَا يَخْلُقُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ السَّفَهِ وَالظُّلْمِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْفَاعِلُ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى لَكَانَ كُلُّ سَفَهٍ وَكُلُّ أَمْرٍ بِسَفَهٍ وَكُلُّ تَرْغِيبٍ فِي سَفَهٍ فَهُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ أَسْفَهُ السُّفَهَاءِ، كَمَا أَنَّهُ لَا حِكْمَةٌ وَلَا أَمْرٌ بِالْحِكْمَةِ وَلَا تَرْغِيبٌ فِي الْحِكْمَةِ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ أَحْكَمُ الْحُكَمَاءِ، وَلَمَّا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى الْأَمْرَانِ لَمْ يَكُنْ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ أَحْكَمُ الْحُكَمَاءِ أَوْلَى مِنْ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ أَسْفَهُ السُّفَهَاءِ. وَلَمَّا امْتَنَعَ هَذَا الْوَصْفُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ خَالِقًا لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَالْجَوَابُ: الْمُعَارَضَةُ بِالْعِلْمِ وَالدَّاعِي، ثُمَّ نَقُولُ: السَّفِيهُ مَنْ قَامَتِ السَّفَاهَةُ بِهِ لَا مَنْ خَلَقَ السَّفَاهَةَ، كَمَا أَنَّ الْمُتَحَرِّكَ وَالسَّاكِنَ مَنْ قَامَتِ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ بِهِ لَا مَنْ خَلَقَهُمَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة العلق

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة العلق (تسع عشرة آية مكية) زَعَمَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَقَالَ آخَرُونَ: الْفَاتِحَةُ أَوَّلُ ما نزل ثم سورة العلق. [سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اعْلَمْ أَنَّ فِي الْبَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: بِاسْمِ رَبِّكَ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: اقْرَأِ اسْمَ رَبِّكَ، كَمَا قَالَ الْأَخْطَلُ: هُنَّ الْحَرَائِرُ لَا رَبَّاتُ أَخْمِرَةٍ ... سُودُ الْمَحَاجِرِ لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ وَمَعْنَى اقْرَأِ اسْمَ رَبِّكَ، أَيِ اذْكُرِ اسْمَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ مَا حَسُنَ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، أَيْ لَا أَذْكُرُ اسْمَ رَبِّي وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَلِيقُ بِالرَّسُولِ، لِأَنَّهُ مَا كَانَ لَهُ شُغْلٌ سِوَى ذِكْرِ اللَّهِ، فَكَيْفَ يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَشْتَغِلَ بِمَا كَانَ مَشْغُولًا بِهِ أَبَدًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ فِيهِ تَضْيِيعَ الْبَاءِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: اقْرَأْ أَيِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ، إِذِ الْقِرَاءَةُ لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِيهِ قَالَ تَعَالَى: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [الْقِيَامَةِ: 18] وَقَالَ: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ [الْإِسْرَاءِ: 106] وَقَوْلُهُ: بِاسْمِ رَبِّكَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ بَاسْمِ رَبِّكَ النَّصْبَ عَلَى الْحَالِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: اقْرَأِ الْقُرْآنَ مُفْتَتِحًا بِاسْمِ رَبِّكَ أَيْ قُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ ثُمَّ اقْرَأْ، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ قِرَاءَةُ التَّسْمِيَةِ فِي ابْتِدَاءِ كُلِّ سُورَةٍ كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَرَ بِهِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ وَاجِبًا وَلَا يَبْتَدِئُ بِهَا وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى اقْرَأِ الْقُرْآنَ مُسْتَعِينًا بِاسْمِ رَبِّكَ كَأَنَّهُ يَجْعَلُ الِاسْمَ آلَةً فِيمَا يُحَاوِلُهُ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَنَظِيرُهُ كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ: اقْرَأْ فَقَالَ لَهُ: لَسْتُ بِقَارِئٍ، فَقَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ أَيِ اسْتَعِنْ بِاسْمِ رَبِّكَ وَاتَّخِذْهُ آلَةً فِي تَحْصِيلِ هَذَا الَّذِي عَسُرَ عَلَيْكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ أَيِ اجْعَلْ هَذَا الْفِعْلَ لِلَّهِ وَافْعَلْهُ لِأَجْلِهِ كَمَا تَقُولُ: بَنَيْتُ هَذِهِ الدَّارَ بِاسْمِ الْأَمِيرِ وَصَنَعْتُ هَذَا الْكِتَابَ بِاسْمِ الْوَزِيرِ وَلِأَجْلِهِ، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ/ إِذَا صَارَتْ لِلَّهِ تَعَالَى، فَكَيْفَ يَجْتَرِئُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى؟ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَمِرُّ هَذَا

التَّأْوِيلُ فِي قَوْلِكَ قَبْلَ الْأَكْلِ بِسْمِ اللَّهِ وَكَذَا قَبْلَ كُلِّ فِعْلٍ مُبَاحٍ؟ قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ إِضَافَةٌ مَجَازِيَّةٌ كَمَا تُضِيفُ ضَيْعَتَكَ إِلَى بَعْضِ الْكِبَارِ لِتَدْفَعَ بِذَلِكَ ظُلْمَ الظَّلَمَةِ، كَذَا تُضِيفُ فِعْلَكَ إِلَى اللَّهِ لِيَقْطَعَ الشَّيْطَانُ طَمَعَهُ عَنْ مُشَارَكَتِكَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ شَارَكَهُ الشَّيْطَانُ فِي ذَلِكَ الطَّعَامِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ رُبَّمَا اسْتَعَانَ بِذَلِكَ الْمُبَاحِ عَلَى التَّقْوَى عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَيَصِيرُ الْمُبَاحُ طَاعَةً فَيَصِحُّ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ فِيهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: رَبِّكَ فَفِيهِ سُؤَالَانِ: أَحَدُهَا: وَهُوَ أَنَّ الرَّبَّ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، وَاللَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ الذَّاتِ وَأَسْمَاءُ الذَّاتِ أَشْرَفُ مِنْ أَسْمَاءِ الْفِعْلِ، وَلِأَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا بِالْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ عَلَى أَنَّ اسْمَ اللَّهِ أَشْرَفُ مِنَ اسْمِ الرب، ثم إنه تعالى قال هاهنا: بِاسْمِ رَبِّكَ وَلَمْ يَقُلْ: اقْرَأْ بِاسْمِ اللَّهِ كَمَا قَالَ فِي التَّسْمِيَةِ الْمَعْرُوفَةِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ أَمَرَ بِالْعِبَادَةِ، وَبِصِفَاتِ الذَّاتِ، وَهُوَ لَا يَسْتَوْجِبُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْعِبَادَةَ بِصِفَاتِ الْفِعْلِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْحَثِّ عَلَى الطَّاعَةِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ كَانَتْ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ عَلَى مَا كَانَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ فَزِعَ فَاسْتَمَالَهُ لِيَزُولَ الْفَزَعُ، فَقَالَ: هُوَ الَّذِي رَبَّاكَ فَكَيْفَ يُفْزِعُكَ؟ فَأَفَادَ هَذَا الْحَرْفُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: رَبَّيْتُكَ فَلَزِمَكَ الْقَضَاءُ فَلَا تَتَكَاسَلُ وَالثَّانِي: أَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ لِلْإِتْمَامِ، وَقَدْ رَبَّيْتُكَ مُنْذُ كَذَا فَكَيْفَ أُضَيِّعُكَ؟ أَيْ حِينَ كُنْتَ عَلَقًا لَمْ أَدَعْ تَرْبِيَتَكَ فَبَعْدَ أَنْ صِرْتَ خَلْقًا نَفِيسًا مُوَحِّدًا عَارِفًا بِي كَيْفَ أُضَيِّعُكَ؟. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ أَضَافَ ذَاتَهُ إِلَيْهِ فَقَالَ: بِاسْمِ رَبِّكَ؟ الْجَوَابُ: تَارَةً يُضِيفُ ذَاتَهُ إِلَيْهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ كما هاهنا، وَتَارَةً يُضِيفُهُ إِلَى نَفْسِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ، أَسْرَى بِعَبْدِهِ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «عَلِيٌّ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ» كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هُوَ لِي وَأَنَا لَهُ، يُقَرِّرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النِّسَاءِ: 80] أَوْ نَقُولُ: إِضَافَةُ ذَاتِهِ إِلَى عَبْدِهِ أَحْسَنُ مِنْ إِضَافَةِ الْعَبْدِ إِلَيْهِ، إِذْ قَدْ عُلِمَ فِي الشَّاهِدِ أَنَّ مَنْ لَهُ ابْنَانِ يَنْفَعُهُ أَكْبَرُهُمَا دُونَ الْأَصْغَرِ، يَقُولُ: هُوَ ابْنِي فَحَسْبُ لِمَا أَنَّهُ يَنَالُ مِنْهُ الْمَنْفَعَةَ، فَيَقُولُ الرَّبُّ تَعَالَى: الْمَنْفَعَةُ تَصِلُ مِنِّي إِلَيْكَ، وَلَمْ تَصِلْ مِنْكَ إِلَيَّ خِدْمَةٌ وَلَا طَاعَةٌ إِلَى الْآنَ، فَأَقُولُ: أَنَا لَكَ وَلَا أَقُولُ أَنْتَ لِي، ثُمَّ إِذَا أَتَيْتَ بِمَا طَلَبْتُهُ مِنْكَ مِنْ طَاعَةٍ أَوْ تَوْبَةٍ أَضَفْتُكَ إِلَى نَفْسِي فَقُلْتُ: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا [الزُّمَرِ: 53] . السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ ذَكَرَ عَقِيبَ قَوْلِهِ: رَبِّكَ قَوْلَهُ: الَّذِي خَلَقَ؟ الْجَوَابُ: كَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّكَ رَبِّي؟ فَيَقُولُ: لِأَنَّكَ كُنْتَ بِذَاتِكَ وَصِفَاتِكَ مَعْدُومًا ثُمَّ صِرْتَ مَوْجُودًا فَلَا بُدَّ لَكَ فِي ذَاتِكَ وَصِفَاتِكَ مِنْ خَالِقٍ، وَهَذَا الْخَلْقُ وَالْإِيجَادُ تَرْبِيَةٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنِّي رَبُّكَ وَأَنْتَ مربوبي. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَ لَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ الَّذِي حَصَلَ مِنْهُ الْخَلْقُ وَاسْتَأْثَرَ بِهِ لَا خَالِقَ سِوَاهُ وَالثَّانِي: أَنْ يُقَدَّرَ لَهُ مَفْعُولٌ وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَخْلُوقٍ، لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ، فَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْبَاقِي، كَقَوْلِنَا: اللَّهُ أَكْبَرُ، أَيْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ تَخْصِيصٌ لِلْإِنْسَانِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ جُمْلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، إِمَّا لِأَنَّ التَّنْزِيلَ إِلَيْهِ أَوْ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ مُبْهَمًا ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ تَفْخِيمًا لِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَدَلَالَةً عَلَى عَجِيبِ فِطْرَتِهِ.

[سورة العلق (96) : الآيات 3 إلى 4]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا خَالِقَ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، قَالُوا: لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْخَالِقِيَّةَ صِفَةً مُمَيِّزَةً لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ سَائِرِ الذَّوَاتِ، وَكُلُّ صِفَةٍ هَذَا شَأْنُهَا فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُ الشَّرِكَةِ فِيهَا، قَالُوا: وَبِهَذَا الطَّرِيقِ عَرَفْنَا أَنَّ خَاصِّيَّةَ الْإِلَهِيَّةِ هِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا طَلَبَ حَقِيقَةَ الْإِلَهِ، فَقَالَ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: 23] قَالَ مُوسَى: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشُّعَرَاءِ: 26] وَالرُّبُوبِيَّةُ إِشَارَةٌ إِلَى الخالقية التي ذكرها هاهنا، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ الْوَاجِبَاتِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى، أَوِ النَّظَرُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ أَوِ الْقَصْدُ إِلَى ذَلِكَ النَّظَرِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَشْهُورِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ الْحَكِيمَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَهُ رَسُولًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ، لَوْ قَالَ لَهُ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ، لَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ منه، لكنه تعالى قدم ذلك مُقَدِّمَةً تُلْجِئُهُمْ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِهِ كَمَا يُحْكَى أَنَّ زُفَرَ لَمَّا بَعَثَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى الْبَصْرَةِ لِتَقْرِيرِ مَذْهَبِهِ، فَلَمَّا ذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ زَيَّفُوهُ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، فَرَجَعَ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ إِنَّكَ لَمْ تَعْرِفْ طَرِيقَ التَّبْلِيغِ، لَكِنِ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ، وَاذْكُرْ فِي الْمَسْأَلَةِ أَقَاوِيلَ أَئِمَّتِهِمْ ثُمَّ بَيِّنْ ضَعْفَهَا، ثُمَّ قل بعد ذلك: هاهنا قَوْلٌ آخَرُ، وَاذْكُرْ قَوْلِي وَحُجَّتِي، فَإِذَا تَمَكَّنَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِمْ، فَقُلْ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ يَسْتَحْيُونَ فَلَا يَرُدُّونَ، فَكَذَا هاهنا أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ عُبَّادُ الْأَوْثَانِ، فَلَوْ أَثْنَيْتَ عَلَيَّ وَأَعْرَضْتَ عَنِ الْأَوْثَانِ لَأَبَوْا ذَلِكَ، لَكِنِ اذْكُرْ لَهُمْ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ خُلِقُوا مِنَ الْعَلَقَةِ فَلَا يُمْكِنُهُمْ إِنْكَارُهُ، ثُمَّ قُلْ: وَلَا بُدَّ لِلْفِعْلِ مِنْ فَاعِلٍ فَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُضِيفُوا ذَلِكَ إِلَى الْوَثَنِ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ نَحَتُوهُ، فَبِهَذَا التَّدْرِيجِ يُقِرُّونَ بِأَنِّي أَنَا الْمُسْتَحِقُّ لِلثَّنَاءِ دُونَ الْأَوْثَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزُّخْرُفِ: 87] ثُمَّ لَمَّا صَارَتِ الْإِلَهِيَّةُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْخَالِقِيَّةِ وَحَصَلَ الْقَطْعُ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يَخْلُقْ لَمْ يَكُنْ إِلَهًا، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [النَّحْلِ: 17] وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالطَّبْعِ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِيهِ إِنْ كَانَ حَادِثًا افْتَقَرَ إِلَى مُؤَثِّرٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا/ أَوْ قَادِرًا، فَإِنْ كَانَ مُوجِبًا لَزِمَ أَنْ يُقَارِنَهُ الْأَثَرُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ مُخْتَارٌ وَهُوَ عَالِمٌ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ حَصَلَ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمُوَافِقِ لِلْمَصْلَحَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا قَالَ: مِنْ عَلَقٍ عَلَى الْجَمْعِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر: 2] . أما قوله تعالى: [سورة العلق (96) : الآيات 3 الى 4] اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ: اقْرَأْ أَوَّلًا لِنَفْسِكَ، وَالثَّانِيَ لِلتَّبْلِيغِ أَوِ الْأَوَّلَ لِلتَّعَلُّمِ مِنْ جِبْرِيلَ وَالثَّانِيَ لِلتَّعْلِيمِ أَوِ اقْرَأْ فِي صَلَاتِكَ، وَالثَّانِيَ خَارِجَ صَلَاتِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْكَرَمُ إِفَادَةُ مَا يَنْبَغِي لَا لِعِوَضٍ، فَمَنْ يَهَبُ السِّكِّينَ مِمَّنْ يَقْتُلُ بِهِ نَفْسَهُ فَهُوَ لَيْسَ بِكَرِيمٍ، وَمَنْ أَعْطَى ثُمَّ طَلَبَ عِوَضًا فَهُوَ لَيْسَ بِكَرِيمٍ، وَلَيْسَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ عَيْنًا بَلِ الْمَدْحُ وَالثَّوَابُ وَالتَّخَلُّصُ

عَنِ الْمَذَمَّةِ كُلُّهُ عِوَضٌ، وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ تَعَالَى يَسْتَحِيلُ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ لَكَانَ حُصُولُ ذَلِكَ الْغَرَضِ أَوْلَى لَهُ مِنْ لَا حُصُولِهِ، فَحِينَئِذٍ يَسْتَفِيدُ بِفِعْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ حُصُولَ تِلْكَ الْأَوْلَوِيَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ الْفِعْلَ لَمَا كَانَ يَحْصُلُ لَهُ تِلْكَ الْأَوْلَوِيَّةُ، فَيَكُونُ نَاقِصًا بِذَاتِهِ مُسْتَكْمِلًا بِغَيْرِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِي بَيَانِ أَكْرَمِيَّتِهِ تَعَالَى وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَمْ مِنْ كَرِيمٍ يَحْلُمُ وَقْتَ الْجِنَايَةِ، لَكِنَّهُ لَا يَبْقَى إِحْسَانُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْجِنَايَةِ، وَهُوَ تَعَالَى أَكْرَمُ لِأَنَّهُ يَزِيدُ بِإِحْسَانِهِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: مَتَى زِدْتُ تَقْصِيرًا تَزِدْ لِي تَفَضُّلَا ... كَأَنِّي بِالتَّقْصِيرِ أَسْتَوْجِبُ الْفَضْلَا وَثَانِيهَا: إِنَّكَ كَرِيمٌ لَكِنَّ رَبَّكَ أَكْرَمُ وَكَيْفَ لَا وَكُلُّ كَرِيمٍ يَنَالُ بِكَرَمِهِ نَفْعًا إِمَّا مَدْحًا أَوْ ثَوَابًا أَوْ يَدْفَعُ ضَرَرًا، أَمَّا أَنَا فَالْأَكْرَمُ إِذْ لَا أَفْعَلُهُ إِلَّا لِمَحْضِ الْكَرَمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ الْأَكْرَمُ لِأَنَّ لَهُ الِابْتِدَاءَ فِي كُلِّ كَرَمٍ وَإِحْسَانٍ وَكَرَمُهُ غَيْرُ مَشُوبٍ بِالتَّقْصِيرِ وَرَابِعُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا حَثًّا عَلَى الْقِرَاءَةِ أَيْ هَذَا الْأَكْرَمُ لِأَنَّهُ يُجَازِيكَ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرًا أَوْ حَثًّا عَلَى الْإِخْلَاصِ، أَيْ لَا تَقْرَأْ لِطَمَعٍ وَلَكِنْ لِأَجْلِي وَدَعْ عَلَيَّ أَمْرَكَ فَأَنَا أَكْرَمُ مِنْ أَنْ لَا أُعْطِيَكَ مَا لَا يُخْطَرُ بِبَالِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى تَجَرَّدْ لِدَعْوَةِ الْخَلْقِ وَلَا تَخَفْ أَحَدًا فَأَنَا أَكْرَمُ مِنْ أَنْ آمُرَكَ بِهَذَا التَّكْلِيفِ الشَّاقِّ ثُمَّ لَا أَنْصُرُكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ وَثَانِيًا بِأَنَّهُ عَلَقَةٌ وَهِيَ بِالْقَلَمِ، وَلَا مُنَاسَبَةَ فِي الظَّاهِرِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، لَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ أَوَّلَ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ كَوْنُهُ عَلَقَةً وَهِيَ أَخَسُّ الْأَشْيَاءِ وَآخِرُ أَمْرِهِ هُوَ صَيْرُورَتُهُ عَالِمًا بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ أَشْرَفُ مَرَاتِبِ الْمَخْلُوقَاتِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: انْتَقَلْتَ مِنْ أَخَسِّ الْمَرَاتِبِ إِلَى أَعْلَى الْمَرَاتِبِ فَلَا بُدَّ لَكَ مِنْ مُدَبِّرٍ مُقَدِّرٍ يَنْقُلُكَ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ الْخَسِيسَةِ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الشَّرِيفَةِ، ثُمَّ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ الصِّفَاتِ/ الْإِنْسَانِيَّةِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الْإِيجَادُ وَالْإِحْيَاءُ وَالْإِقْدَارُ وَالرِّزْقُ كَرَمٌ وَرُبُوبِيَّةٌ، أَمَّا الْأَكْرَمُ هُوَ الَّذِي أَعْطَاكَ الْعِلْمَ لِأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ النِّهَايَةُ فِي الشَّرَفِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ إِشَارَةٌ إِلَى الدَّلَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ وَالرَّحْمَةِ، وَقَوْلُهُ: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَكْتُوبَةِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهَا إِلَّا بِالسَّمْعِ، فَالْأَوَّلُ كَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالثَّانِي إِلَى النُّبُوَّةِ، وَقُدِّمَ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الرُّبُوبِيَّةِ غَنِيَّةٌ عَنِ النُّبُوَّةِ، وَأَمَّا النُّبُوَّةُ فَإِنَّهَا مُحْتَاجَةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قَوْلِهِ: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْقَلَمِ الْكِتَابَةُ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا الْأُمُورُ الْغَائِبَةُ، وَجُعِلَ الْقَلَمُ كِنَايَةً عَنْهَا وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ الْكِتَابَةَ بِالْقَلَمِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مُتَقَارِبٌ، إِذِ الْمُرَادُ التَّنْبِيهُ عَلَى فَضِيلَةِ الْكِتَابَةِ، يُرْوَى أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ عِفْرِيتًا عَنِ الْكَلَامِ، فَقَالَ: رِيحٌ لَا يَبْقَى، قَالَ: فَمَا قَيْدُهُ، قَالَ: الْكِتَابَةُ، فَالْقَلَمُ صَيَّادٌ يَصِيدُ الْعُلُومَ يَبْكِي وَيَضْحَكُ، بِرُكُوعِهِ تَسْجُدُ الْأَنَامُ، وَبِحَرَكَتِهِ تَبْقَى الْعُلُومُ عَلَى مَرِّ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، نَظِيرُهُ قَوْلُ زَكَرِيَّا: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مَرْيَمَ: 3] أَخْفَى وَأَسْمَعَ فَكَذَا الْقَلَمُ لَا يَنْطِقُ ثُمَّ يُسْمِعُ الشَّرْقَ وَالْغَرْبَ، فَسُبْحَانَهُ مِنْ قَادِرٍ بِسَوَادِهَا جَعَلَ الدِّينَ مُنَوَّرًا، كَمَا أَنَّهُ جَعَلَكَ بِالسَّوَادِ مُبْصِرًا، فَالْقَلَمُ قَوَامُ الْإِنْسَانِ وَالْإِنْسَانُ قَوَامُ الْعَيْنِ، وَلَا تَقُلْ الْقَلَمُ نَائِبُ اللِّسَانِ، فَإِنَّ الْقَلَمَ يَنُوبُ عَنِ اللِّسَانِ وَاللِّسَانُ لَا يَنُوبُ عَنِ الْقَلَمِ، التُّرَابُ طَهُورٌ، وَلَوْ إِلَى عَشْرِ حِجَجٍ، وَالْقَلَمُ بَدَلٌ [عَنِ اللِّسَانِ] وَلَوْ [بُعِثَ] إِلَى الْمَشْرِقِ والمغرب «1» . أما قوله تعالى:

_ (1) هذه العبارة كما هي في الأصل، وهي مضطربة، قوله التراب طهور إلخ أي إنه يغني عن الماء في التيمم به، وما بين الأقواس المعكفة لزيادة الإيضاح، وهو يقصد إلى أن المقارنة بين الماء والتراب كالمقارنة بين القلم واللسان والله أعلم.

[سورة العلق (96) : آية 5]

[سورة العلق (96) : آية 5] عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عَلَّمَهُ بِالْقَلَمِ وَعَلَّمَهُ أَيْضًا غَيْرَ ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْ وَاوَ النَّسَقِ، وَقَدْ يَجْرِي مِثْلُ هَذَا فِي الْكَلَامِ تَقُولُ: أَكْرَمْتُكَ أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ مَلَّكْتُكَ الْأَمْوَالَ وَلَّيْتُكَ الْوِلَايَاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ اللَّفْظَيْنِ وَاحِدًا وَيَكُونُ الْمَعْنَى: عَلَّمَ الْإِنْسَانَ بِالْقَلَمِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ بَيَانًا لقوله: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [العلق: 4] . [سورة العلق (96) : آية 6] كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الإنسان هاهنا إِنْسَانٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَبُو جَهْلٍ، ثُمَّ مِنْهُمْ من قال: نزلت السورة من هاهنا إِلَى آخِرِهَا فِي أَبِي جَهْلٍ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ مِنْ قَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً [الْعَلَقِ: 9] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فِي أَبِي جَهْلٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فَجَاءَ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ هَذَا؟ فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ/ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنِّي أَكْثَرُ أَهْلِ الْوَادِي نَادِيًا، فَأَنْزَلَ الله تعالى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: 17، 18] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ زَبَانِيَةُ اللَّهِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَرَّفَهُ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ عَلَقٍ فَلَا يَلِيقُ بِهِ التَّكَبُّرُ، فَهُوَ عِنْدَ ذَلِكَ ازْدَادَ طُغْيَانًا وَتَعَزُّزًا بماله ورئاسته فِي مَكَّةَ. وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِمَكَّةَ أَكْرَمُ مِنِّي. وَلَعَلَّهُ لَعَنَهُ اللَّهُ قَالَ ذَلِكَ ردا لقوله: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ [العلق: 3] ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَمْسُ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ نَزَلَتْ أَوَّلًا، ثُمَّ نَزَلَتِ الْبَقِيَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي شَأْنِ أَبِي جَهْلٍ، ثُمَّ أَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَمِّ ذَلِكَ إِلَى أَوَّلِ السُّورَةِ، لأن تأليف الآيات إنما كان يأمر اللَّهِ تَعَالَى، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 281] آخِرُ مَا نَزَلَ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ ثُمَّ هُوَ مَضْمُومٌ إِلَى مَا نَزَلَ قَبْلَهُ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جُمْلَةُ الْإِنْسَانِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ أَظْهَرَ بِحَسَبِ الرِّوَايَاتِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْرَبُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَعَ أَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ عَلَقَةٍ، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالنِّعَمِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا، إِذْ أَغْنَاهُ، وَزَادَ فِي النِّعْمَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَطْغَى وَيَتَجَاوَزُ الْحَدَّ فِي الْمَعَاصِي وَاتِّبَاعِ هَوَى النَّفْسِ، وَذَلِكَ وَعِيدٌ وَزَجْرٌ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ هَذَا الزَّجْرَ بقوله: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى [العلق: 8] أَيْ إِلَى حَيْثُ لَا مَالِكَ سِوَاهُ، فَتَقَعُ الْمُحَاسَبَةُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ مِنَ الْعَمَلِ وَالْمُؤَاخَذَةُ بِحَسَبِ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: كَلَّا فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ رَدْعٌ وَزَجْرٌ لِمَنْ كَفَرَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ بِطُغْيَانِهِ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَثَانِيهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: كَلَّا لَا يَعْلَمُ الْإِنْسَانُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ مِنَ الْعَلَقَةِ وَعَلَّمَهُ بَعْدَ الْجَهْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عِنْدَ صَيْرُورَتِهِ غَنِيًّا يَطْغَى وَيَتَكَبَّرُ، وَيَصِيرُ مُسْتَغْرِقَ الْقَلْبِ فِي حُبِّ الدُّنْيَا فَلَا يَتَفَكَّرُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَلَا يَتَأَمَّلُ فِيهَا وَثَالِثُهَا: ذكر الجرجاني صاحب «النظم» أن كلا هاهنا بِمَعْنَى حَقًّا لِأَنَّهُ لَيْسَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ شيء

[سورة العلق (96) : آية 7]

تَكُونُ كَلَّا رَدًّا لَهُ، وَهَذَا كَمَا قَالُوهُ فِي: كَلَّا وَالْقَمَرِ [الْمُدَّثِّرِ: 32] فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُ بِمَعْنَى: إِي وَالْقَمَرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الطُّغْيَانُ هُوَ التَّكَبُّرُ وَالتَّمَرُّدُ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي مُقَدِّمَةِ السُّورَةِ دَلَائِلَ ظَاهِرَةً عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ بِحَيْثُ يَبْعُدُ مِنَ الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَطَّلِعَ عَلَيْهَا وَلَا يَقِفَ عَلَى حَقَائِقِهَا أَتْبَعَهَا بِمَا هُوَ السَّبَبُ الْأَصْلِيُّ فِي الْغَفْلَةِ عَنْهَا وَهُوَ حُبُّ الدُّنْيَا وَالِاشْتِغَالُ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ وَالثَّرْوَةِ وَالْقُدْرَةِ، فَإِنَّهُ لَا سَبَبَ لِعَمَى الْقَلْبِ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِ: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه: 24] وهاهنا ذَكَرَ فِي أَبِي جَهْلٍ: لَيَطْغى فَأَكَّدَهُ بِهَذِهِ اللَّامِ، فَمَا السَّبَبُ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ؟ قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ لِمُوسَى: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَلْقَاهُ مُوسَى، وَقَبْلَ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةَ، وقبل أن يدعي الربوبية وأما هاهنا فَإِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ تَسْلِيَةً لِرَسُولِهِ حِينَ رَدَّ عَلَيْهِ أَقْبَحَ الرَّدِّ وَثَانِيهَا: أَنَّ فِرْعَوْنَ مَعَ كَمَالِ سُلْطَتِهِ مَا كَانَ يَزِيدُ كُفْرُهُ عَلَى الْقَوْلِ، وَمَا كَانَ لِيَتَعَرَّضَ لِقَتْلِ موسى عليها السَّلَامُ وَلَا لِإِيذَائِهِ وَأَمَّا أَبُو جَهْلٍ فَهُوَ مَعَ قِلَّةِ جَاهِهِ كَانَ/ يَقْصِدُ قَتْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيذَاءَهُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ فِرْعَوْنَ أَحْسَنَ إِلَى مُوسَى أَوَّلًا، وَقَالَ آخِرًا: آمَنْتُ [يُونُسَ: 90] . وَأَمَّا أَبُو جَهْلٍ فَكَانَ يَحْسُدُ النَّبِيَّ فِي صِبَاهُ، وَقَالَ فِي آخِرِ رَمَقِهِ: بَلِّغُوا عَنِّي مُحَمَّدًا أَنِّي أَمُوتُ وَلَا أَحَدَ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْهُ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا رَسُولَيْنِ لَكِنَّ الْحَبِيبَ فِي مُقَابَلَةِ الْكَلِيمِ كَالْيَدِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَيْنِ، وَالْعَاقِلُ يَصُونُ عَيْنَهُ فَوْقَ مَا يَصُونُ يَدَهُ، بَلْ يَصُونُ عَيْنَهُ بِالْيَدِ، فلهذا السبب كانت المبالغة هاهنا أكثر. أما قوله تعالى: [سورة العلق (96) : آية 7] أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْأَخْفَشُ: لِأَنْ رَآهُ فَحَذَفَ اللَّامَ، كَمَا يُقَالُ: إِنَّكُمْ لَتَطْغُونَ إِنْ رَأَيْتُمْ غِنَاكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ إِنَّمَا قَالَ: أَنْ رَآهُ وَلَمْ يَقُلْ: رَأَى نَفْسَهُ كَمَا يُقَالُ: قَتَلَ نَفْسَهُ لِأَنَّ رَأَى مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَسْتَدْعِي اسْمًا وَخَبَرًا نَحْوَ الظَّنِّ وَالْحِسْبَانِ، وَالْعَرَبُ تَطْرَحُ النفس من هذا الجنس فنقول: رَأَيْتُنِي وَظَنَنْتُنِي وَحَسِبْتُنِي فَقَوْلُهُ: أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى مِنْ هَذَا الْبَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: اسْتَغْنى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: اسْتَغْنَى بِمَالِهِ عَنْ رَبِّهِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ لَيْسَ هُوَ الْأَوَّلَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَنَالُ الثَّرْوَةَ فَلَا يَزِيدُ إِلَّا تَوَاضُعًا كَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُجَالِسُ الْمَسَاكِينَ وَيَقُولُ: «مِسْكِينٌ جَالَسَ مِسْكِينًا» وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ مَا طَغَى مَعَ كَثْرَةِ أَمْوَالِهِ، بَلِ الْعَاقِلُ يَعْلَمُ أَنَّهُ عِنْدَ الْغِنَى يَكُونُ أَكْثَرَ حَاجَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ حَالَ فَقْرِهِ، لِأَنَّهُ فِي حَالِ فَقْرِهِ لَا يَتَمَنَّى إِلَّا سَلَامَةَ نَفْسِهِ، وَأَمَّا حَالَ الْغِنَى فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى سَلَامَةَ نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَمَمَالِيكِهِ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: «1» وَهُوَ أَنَّ سِينَ اسْتَغْنى سِينُ الطَّالِبِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ رَأَى أَنَّ نَفْسَهُ إِنَّمَا نَالَتِ الْغِنَى لِأَنَّهَا طَلَبَتْهُ وَبَذَلَتِ الْجُهْدَ فِي الطَّلَبِ فَنَالَتِ الثَّرْوَةَ وَالْغِنَى بِسَبَبِ ذَلِكَ الْجُهْدِ، لَا أَنَّهُ نَالَهَا بِإِعْطَاءِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَهَذَا جَهْلٌ وَحُمْقٌ فَكَمْ مِنْ بَاذِلٍ وُسْعَهُ فِي الْحِرْصِ وَالطَّلَبِ وَهُوَ يَمُوتُ جُوعًا، ثُمَّ تَرَى أَكْثَرَ الْأَغْنِيَاءِ فِي الْآخِرَةِ يَصِيرُونَ مُدْبِرِينَ خَائِفِينَ، يُرِيهِمُ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ الْغِنَى مَا كان بفعلهم وقوتهم.

_ (1) لم يذكر الوجه الثاني كما ترى ولعله سقط من الناسخ. [.....]

[سورة العلق (96) : آية 8]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَوَّلُ السُّورَةِ يَدُلُّ عَلَى مَدْحِ الْعِلْمِ وَآخِرُهَا عَلَى مَذَمَّةِ الْمَالِ، وَكَفَى بِذَلِكَ مُرَغِّبًا فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَمُنَفِّرًا عَنِ الدُّنْيَا والمال. ثم قال تعالى: [سورة العلق (96) : آية 8] إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا الْكَلَامُ وَاقِعٌ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْإِنْسَانِ تَهْدِيدًا لَهُ وَتَحْذِيرًا مِنْ عَاقِبَةِ الطُّغْيَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الرُّجْعى الْمَرْجِعُ وَالرُّجُوعُ وَهِيَ بِأَجْمَعِهَا مَصَادِرُ، يُقَالُ: رَجَعَ إِلَيْهِ رُجُوعًا/ وَمَرْجِعًا وَرُجْعَى عَلَى وَزْنِ فُعْلَى، وَفِي مَعْنَى الْآيَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَرَى ثَوَابَ طَاعَتِهِ وَعِقَابَ تَمَرُّدِهِ وَتَكَبُّرِهِ وَطُغْيَانِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إِبْرَاهِيمَ: 42] وَهَذِهِ الْمَوْعِظَةُ لَا تُؤَثِّرُ إِلَّا فِي قَلْبِ مَنْ لَهُ قَدَمُ صِدْقٍ، أَمَّا الْجَاهِلُ فَيَغْضَبُ وَلَا يَعْتَقِدُ إِلَّا الْفَرَحَ الْعَاجِلَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى يَرُدُّهُ وَيُرْجِعُهُ إِلَى النُّقْصَانِ وَالْفَقْرِ وَالْمَوْتِ، كَمَا رَدَّهُ مِنَ النُّقْصَانِ إِلَى الْكَمَالِ، حَيْثُ نَقَلَهُ مِنَ الْجَمَادِيَّةِ إِلَى الْحَيَاةِ، وَمِنَ الْفَقْرِ إِلَى الْغِنَى، وَمِنَ الذُّلِّ إِلَى الْعِزِّ، فَمَا هَذَا التَّعَزُّزُ وَالْقُوَّةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رُوِيَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَتَزْعُمُ أَنَّ مَنِ اسْتَغْنَى طَغَى، فَاجْعَلْ لَنَا جِبَالَ مَكَّةَ ذَهَبًا وَفِضَّةً لَعَلَّنَا نَأْخُذُ مِنْهَا فَنَطْغَى، فَنَدَعُ دِينَنَا وَنَتَّبِعُ دِينَكَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَقَالَ: إِنْ شِئْتَ فَعَلْنَا ذَلِكَ، ثُمَّ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا فَعَلْنَا بِهِمْ مِثْلَ مَا فَعَلْنَا بِأَصْحَابِ الْمَائِدَةِ، فَكَفَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدُّعَاءِ إبقاء عليهم. [سورة العلق (96) : الآيات 9 الى 10] أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ عَنْ أَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَوَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَأَطَأَنَّ عُنُقَهُ، ثُمَّ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ فَنَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، فَقَالُوا له: مالك يَا أَبَا الْحَكَمِ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لخندقا من نار وهو لا شَدِيدًا. وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَانَ يَنْهَى سَلْمَانَ عَنِ الصَّلَاةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ ظاهر الْآيَةِ هُوَ الْإِنْسَانُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ، فَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّهُ وَرَدَ فِي أَبِي جَهْلٍ، وَذَكَرُوا مَا كَانَ مِنْهُ مِنَ التَّوَعُّدِ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ رَآهُ يُصَلِّي، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا فِي أَبِي جَهْلٍ، ثُمَّ يَعُمُّ فِي الْكُلِّ، لَكِنْ مَا بَعْدَهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ خِطَابٌ مَعَ الرَّسُولِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ، وَوَجْهُ التَّعَجُّبِ فِيهِ أُمُورٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامِ إِمَّا بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ أَوْ بِعُمَرَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ: كُنْتَ تَظُنُّ أَنَّهُ يَعِزُّ بِهِ الْإِسْلَامُ، أَمِثْلُهُ يَعِزُّ بِهِ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى وَثَانِيهَا: أَنَّهُ كَانَ يُلَقَّبُ بِأَبِي الْحَكَمِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ هَذَا اللَّقَبُ وَهُوَ يَنْهَى الْعَبْدَ عَنْ خِدْمَةِ رَبِّهِ، أَيُوصَفُ بِالْحِكْمَةِ مَنْ يَمْنَعُ عَنْ طَاعَةِ الرَّحْمَنِ وَيَسْجُدُ لِلْأَوْثَانِ! وَثَالِثُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْأَحْمَقَ يَأْمُرُ وَيَنْهَى، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْغَيْرِ طَاعَتُهُ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ

[سورة العلق (96) : الآيات 11 إلى 12]

بِخَالِقٍ وَلَا رَبٍّ، ثُمَّ إِنَّهُ يَنْهَى عَنْ طَاعَةِ الرَّبِّ وَالْخَالِقِ، أَلَا يَكُونُ هَذَا غَايَةَ الْحَمَاقَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ: يَنْهى عَبْداً وَلَمْ يَقُلْ: يَنْهَاكَ، وَفِيهِ فَوَائِدُ أَحَدُهَا: أَنَّ التَّنْكِيرَ فِي عَبْدًا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَامِلًا فِي الْعُبُودِيَّةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّهُ عَبْدٌ لَا يَفِي الْعَالِمُ بِشَرْحِ بَيَانِهِ وَصِفَةِ إِخْلَاصِهِ فِي/ عُبُودِيَّتِهِ يُرْوَى: فِي هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ يَهُودِيًّا مِنْ فُصَحَاءِ الْيَهُودِ جَاءَ إِلَى عُمَرَ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ أَخْلَاقِ رَسُولِكُمْ، فَقَالَ عُمَرُ: اطْلُبْهُ مِنْ بِلَالٍ فَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي. ثُمَّ إِنَّ بِلَالًا دَلَّهُ عَلَى فَاطِمَةَ ثُمَّ فَاطِمَةُ دَلَّتْهُ عَلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا سَأَلَ عَلِيًّا عَنْهُ قَالَ: صِفْ لِي مَتَاعَ الدُّنْيَا حَتَّى أَصِفَ لَكَ أَخْلَاقَهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: هَذَا لَا يَتَيَسَّرُ لِي، فَقَالَ عَلِيٌّ: عَجَزْتَ عَنْ وَصْفِ مَتَاعِ الدُّنْيَا وَقَدْ شَهِدَ اللَّهُ عَلَى قِلَّتِهِ حَيْثُ قَالَ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ [النِّسَاءِ: 77] فَكَيْفَ أَصِفُ أَخْلَاقَ النَّبِيِّ وَقَدْ شَهِدَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ عَظِيمٌ حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [الْقَلَمِ: 4] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَنْهَى أَشَدَّ الْخَلْقِ عُبُودِيَّةً عَنِ الْعُبُودِيَّةِ وَذَلِكَ عَيْنُ الْجَهْلِ وَالْحُمْقِ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا دَأْبُهُ وَعَادَتُهُ فَيَنْهَى كُلَّ مَنْ يَرَى وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا تَخْوِيفٌ لِكُلِّ مَنْ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ، رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمُصَلَّى أَقْوَامًا يُصَلُّونَ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَنْهَاهُمْ؟ فَقَالَ: أَخْشَى أَنْ أَدْخُلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى فَلَمْ يُصَرِّحْ بِالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ، وَأَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْهُ هَذَا الْأَدَبَ الْجَمِيلَ حَيْثُ قَالَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ: أَيَقُولُ الْمُصَلِّي حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي؟ قَالَ: يَقُولُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ وَيَسْجُدُ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالنَّهْيِ وَرَابِعُهَا: أَيَظُنُّ أَبُو جَهْلٍ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْجُدْ مُحَمَّدٌ لِي لَا أَجِدُ سَاجِدًا غَيْرَهُ، إِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدٌ وَاحِدٌ، وَلِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ مَا لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا أَنَا وَهُمْ دَائِمًا فِي الصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَفْخِيمٌ لِشَأْنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: إِنَّهُ مَعَ التَّنْكِيرِ مُعَرَّفٌ، نَظِيرُهُ الْكِنَايَةُ فِي سُورَةِ الْقَدْرِ حُمِلَتْ عَلَى الْقُرْآنِ وَلَمْ يَسْبِقْ لَهُ ذِكْرٌ أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 1] أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ [الْكَهْفِ: 1] وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ [الجن: 19] . ثم قال تعالى: [سورة العلق (96) : الآيات 11 الى 12] أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ خِطَابٌ لِمَنْ؟ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَوَّلَ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّالِثُ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [العلق: 13] لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَوْ جَعَلْنَا الْوَسَطَ لِغَيْرِ النَّبِيِّ لَخَرَجَ الْكَلَامُ عَنِ النَّظْمِ الْحَسَنِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَا مُحَمَّدُ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ هَذَا الْكَافِرُ، وَلَمْ يَقُلْ: لَوْ كَانَ إِشَارَةً إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَرَأَيْتَ إِنْ صَارَ عَلَى الْهُدَى، وَاشْتَغَلَ بِأَمْرِ نَفْسِهِ، أَمَا كَانَ يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ إِذْ هُوَ رَجُلٌ عَاقِلٌ ذُو ثَرْوَةٍ، فَلَوِ اخْتَارَ الدِّينَ وَالْهُدَى وَالْأَمْرَ بِالتَّقْوَى، أَمَا كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالنَّهْيِ عَنْ خِدْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: تَلَهَّفْ عَلَيْهِ كَيْفَ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ الْمَرَاتِبَ الْعَالِيَةَ وَقَنِعَ بِالْمَرَاتِبِ الدَّنِيئَةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْكَافِرِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَالْمُشَاهِدِ لِلظَّالِمِ وَالْمَظْلُومِ، وَكَالْمَوْلَى الَّذِي قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَبْدَانِ، وَكَالْحَاكِمِ الَّذِي حَضَرَ عِنْدَهُ الْمُدَّعِي، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَخَاطَبَ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا/ مَرَّةً. فَلَمَّا قَالَ لِلنَّبِيِّ:

[سورة العلق (96) : آية 13]

أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى [الْعَلَقِ: 9] الْتَفَتَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْكَافِرِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ يَا كَافِرُ إِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ هُدًى وَدُعَاؤُهُ إِلَى اللَّهِ أَمْرًا بِالتَّقْوَى أَتَنْهَاهُ مَعَ ذَلِكَ. المسألة الثانية: هاهنا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ هُوَ الصَّلَاةُ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى والمذكور هاهنا أَمْرَانِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى فِي فِعْلِ الصَّلَاةِ، فَلِمَ ضَمَّ إِلَيْهِ شَيْئًا ثَانِيًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى؟ جَوَابُهُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الَّذِي شَقَّ عَلَى أَبِي جَهْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ هَذَانِ الْأَمْرَانِ الصَّلَاةُ وَالدُّعَاءُ إلى الله، فلا جرم ذكرهما هاهنا وَثَانِيهَا: أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا فِي إِصْلَاحِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي إِصْلَاحِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي صَلَاتِهِ عَلَى الْهُدَى وَآمِرًا بِالتَّقْوَى، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رَآهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ كَانَ يَرِقُّ قَلْبُهُ فَيَمِيلُ إِلَى الْإِيمَانِ، فَكَانَ فِعْلُ الصَّلَاةِ دَعْوَةً بِلِسَانِ الْفِعْلِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنَ الدَّعْوَةِ بِلِسَانِ الْقَوْلِ. ثم قال تعالى: [سورة العلق (96) : آية 13] أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ جَلِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِبَدِيهَةِ عَقْلِهِ، أَنَّ مَنْعَ الْعَبْدِ مِنْ خِدْمَةِ مَوْلَاهُ فِعْلٌ بَاطِلٌ وَسَفَهٌ ظَاهِرٌ، فَإِذَنْ كُلُّ مَنْ كَذَّبَ بِتِلْكَ الدَّلَائِلِ وَتَوَلَّى عَنْ خِدْمَةِ مَوْلَاهُ بَلْ مَنَعَ غَيْرَهُ عَنْ خِدْمَةِ مَوْلَاهُ يَعْلَمُ بِعَقْلِهِ السَّلِيمِ أَنَّهُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا عِنَادًا، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ: أَرَأَيْتَ يَا مُحَمَّدُ إِنْ كَذَّبَ هَذَا الْكَافِرُ بِتِلْكَ الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ، وَتَوَلَّى عَنْ خِدْمَةِ خَالِقِهِ، أَلَمْ يَعْلَمْ بِعَقْلِهِ أَنَّ اللَّهَ يَرَى مِنْهُ هَذِهِ الْأَعْمَالَ الْقَبِيحَةَ وَيَعْلَمُهَا، أَفَلَا يَزْجُرُهُ ذَلِكَ عَنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْكَافِرِ، وَالْمَعْنَى إِنْ كَانَ يَا كَافِرُ مُحَمَّدٌ كَاذِبًا أَوْ مُتَوَلِّيًا، أَلَا يَعْلَمُ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى حَتَّى يَنْتَهِيَ بَلِ احتاج إلى نهيك. أما قوله: [سورة العلق (96) : آية 14] أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ التَّهْدِيدُ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ حَكِيمٌ لَا يُهْمِلُ، عَالِمٌ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، فَلَا بُدَّ وَأَنَّ يُوصِلَ جَزَاءَ كُلِّ أَحَدٍ إِلَيْهِ بِتَمَامِهِ فَيَكُونُ هَذَا تَخْوِيفًا شَدِيدًا لِلْعُصَاةِ، وَتَرْغِيبًا عَظِيمًا لِأَهْلِ الطَّاعَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي حَقِّ أَبِي جَهْلٍ فَكُلُّ مَنْ نَهَى عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ شَرِيكُ أَبِي جَهْلٍ فِي هَذَا الْوَعِيدِ، وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ الْمَنْعُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ غَيْرُ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْمَعْصِيَةُ، وَلَا يَرُدُّ الْمَوْلَى بِمَنْعِ عَبْدِهِ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ/ وَصَوْمِ التَّطَوُّعِ وَزَوْجَتِهِ عَنِ الِاعْتِكَافِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لِاسْتِيفَاءِ مَصْلَحَتِهِ بإذن ربه لا بغضا لعبادة ربه. [سورة العلق (96) : الآيات 15 الى 16] كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16)

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَلَّا وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ رَدْعٌ لِأَبِي جَهْلٍ وَمَنْعٌ لَهُ عَنْ نَهْيِهِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِهِ بِعِبَادَةِ اللَّاتِ وَثَانِيهَا: كَلَّا لَنْ يَصِلَ أَبُو جَهْلٍ إِلَى مَا يَقُولُ إِنَّهُ يَقْتُلُ مُحَمَّدًا أَوْ يَطَأُ عُنُقَهُ، بَلْ تِلْمِيذُ مُحَمَّدٍ هُوَ الَّذِي يَقْتُلُهُ وَيَطَأُ صَدْرَهُ وَثَالِثُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: كَلَّا لَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ يَرَى وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ لَكِنْ إِذَا كَانَ لَا يَنْتَفِعُ بِمَا يَعْلَمُ فَكَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ أَيْ عَمَّا هُوَ فِيهِ: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الأولى: في قوله: لَنَسْفَعاً وُجُوهٌ أَحَدُهَا: لَنَأْخُذَنَّ بِنَاصِيَتِهِ وَلَنَسْحَبَنَّهُ بِهَا إِلَى النَّارِ، وَالسَّفْعُ الْقَبْضُ عَلَى الشَّيْءِ، وَجَذْبُهُ بِشِدَّةٍ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ [الرَّحْمَنِ: 41] وَثَانِيهَا: السَّفْعُ الضَّرْبُ، أَيْ لَنَلْطِمَنَّ وَجْهَهُ وَثَالِثُهَا: لَنُسَوِّدَنَّ وَجْهَهُ، قَالَ الْخَلِيلُ: تَقُولُ لِلشَّيْءِ إِذَا لَفَحَتْهُ النَّارُ لَفْحًا يَسِيرًا يُغَيِّرُ لَوْنَ الْبَشَرَةِ قَدْ سَفَعَتْهُ النَّارُ، قَالَ: وَالسَّفْعُ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ يُوضَعُ عَلَيْهَا الْقِدْرُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِسَوَادِهَا، قَالَ: وَالسَّفْعَةُ سَوَادٌ فِي الْخَدَّيْنِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَتَسْوِيدُ الْوَجْهِ عَلَامَةُ الْإِذْلَالِ وَالْإِهَانَةِ وَرَابِعُهَا: لَنَسِمَنَّهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [الْقَلَمِ: 16] إِنَّهُ أبو جهل خامسها: لنذلنه. المسألة الثانية: قرى لَنَسْفَعَنَّ بِالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيِ الْفَاعِلُ لِهَذَا الْفِعْلِ هُوَ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ، كَمَا قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ [التَّحْرِيمِ: 4] وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَأَسْعَفَنَّ، أَيْ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَا مُحَمَّدُ أَنَا الَّذِي أَتَوَلَّى إِهَانَتَهُ، نَظِيرُهُ: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ [الْأَنْفَالِ: 62] ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ [الْفَتْحِ: 4] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذَا السَّفْعُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِلَى النَّارِ فِي الْآخِرَةِ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا أَيْضًا عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ لَمَّا قَالَ: إِنْ رَأَيْتُهُ يُصَلِّي لَأَطَأَنَّ عُنُقَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ، وَأَمَرَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يَقْرَأَ عَلَى أَبِي جَهْلٍ وَيَخِرَّ لِلَّهِ سَاجِدًا فِي آخِرِهَا فَفَعَلَ، فَعَدَا إِلَيْهِ أَبُو جَهْلٍ لِيَطَأَ عُنُقَهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ رَاجِعًا، فقيل له مالك؟ قَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَحْلًا فَاغِرًا فَاهُ لَوْ مَشَيْتُ إِلَيْهِ لَالْتَقَمَنِي، وَقِيلَ: كَانَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَلَى كَتِفَيْهِ فِي صُورَةِ الْأَسَدِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يَوْمَ بَدْرٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِشَارَةً بِأَنَّهُ تَعَالَى يُمَكِّنُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ نَاصِيَتِهِ حَتَّى يَجُرُّونَهُ إِلَى الْقَتْلِ إِذَا عَادَ إِلَى النَّهْيِ، فَلَمَّا عَادَ لَا جَرَمَ مَكَّنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ نَاصِيَتِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الرَّحْمَنِ عَلَّمَ القرآن قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَصْحَابِهِ مَنْ يَقْرَؤُهَا مِنْكُمْ عَلَى رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ، فَتَثَاقَلُوا مَخَافَةَ أَذِيَّتِهِمْ، فَقَامَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَجْلَسَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَقُمْ إِلَّا ابْنُ مَسْعُودٍ، ثُمَّ ثَالِثًا كَذَلِكَ إِلَى أَنَّ أَذِنَ لَهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُبْقِي عَلَيْهِ لِمَا كَانَ يَعْلَمُ مِنْ ضَعْفِهِ وَصِغَرِ/ جُثَّتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِمْ فَرَآهُمْ مُجْتَمِعِينَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، فَافْتَتَحَ قِرَاءَةَ السُّورَةِ، فَقَامَ أَبُو جَهْلٍ فَلَطَمَهُ فَشَقَّ أُذُنَهُ وَأَدْمَاهُ، فَانْصَرَفَ وَعَيْنَاهُ تَدْمَعُ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَقَّ قَلْبُهُ وَأَطْرَقَ رَأْسَهُ مَغْمُومًا، فَإِذَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَجِيءُ ضَاحِكًا مُسْتَبْشِرًا، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ تَضْحَكُ وَابْنُ مَسْعُودٍ يَبْكِي! فَقَالَ: سَتَعْلَمُ، فَلَمَّا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ الْتَمَسَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَظٌّ فِي الْمُجَاهِدِينَ، فَأَخَذَ يُطَالِعُ الْقَتْلَى فَإِذَا أَبُو جَهْلٍ مَصْرُوعٌ يَخُورُ، فَخَافَ أَنَّ تَكُونَ بِهِ قُوَّةٌ فَيُؤْذِيَهُ فَوَضَعَ الرُّمْحَ عَلَى مِنْخَرِهِ مِنْ بعيد

[سورة العلق (96) : الآيات 17 إلى 18]

فَطَعَنَهُ، وَلَعَلَّ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ثُمَّ لَمَّا عَرَفَ عَجْزَهُ وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَصْعَدَ عَلَى صَدْرِهِ لِضَعْفِهِ فَارْتَقَى إِلَيْهِ بِحِيلَةٍ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو جَهْلٍ قَالَ: يَا رُوَيْعِيَّ الْغَنَمِ لَقَدِ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: بَلِّغْ صَاحِبَكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْهُ فِي حَيَاتِي ولا أحد أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْهُ فِي حَالِ مَمَاتِي، فَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ قَالَ: «فِرْعَوْنِي أَشَدُّ مِنْ فِرْعَوْنِ مُوسَى فَإِنَّهُ قَالَ آمَنْتُ [يونس: 90] وَهُوَ قَدْ زَادَ عُتُوًّا» ثُمَّ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: اقْطَعْ رَأْسِي بِسَيْفِي هَذَا لِأَنَّهُ أَحَدُّ وَأَقْطَعُ، فَلَمَّا قَطَعَ رَأْسَهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى حَمْلِهِ، وَلَعَلَّ الْحَكِيمَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا خَلَقَهُ ضَعِيفًا لِأَجْلِ أَنْ لَا يَقْوَى عَلَى الْحَمْلِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَلْبٌ وَالْكَلْبُ يُجَرُّ وَالثَّانِي: لِشَقِّ الْأُذُنِ فَيَقْتَصُّ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالثَّالِثُ: لِتَحْقِيقِ الْوَعِيدِ المذكور بقوله: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ فَتُجَرُّ تِلْكَ الرَّأْسُ عَلَى مُقَدَّمِهَا، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمَّا لَمْ يُطِقْهُ شَقَّ أُذُنَهُ وَجَعَلَ الْخَيْطَ فِيهِ وَجَعَلَ يَجُرُّهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجِبْرِيلُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَضْحَكُ، وَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ أُذُنٌ بأذن لكن الرأس هاهنا مَعَ الْأُذُنِ، فَهَذَا مَا رُوِيَ فِي مَقْتَلِ أَبِي جَهْلٍ نَقَلْتُهُ مَعْنًى لَا لَفْظًا، الْخَاطِئُ معنى قوله: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: النَّاصِيَةُ شَعْرُ الْجَبْهَةِ وَقَدْ يُسَمَّى مَكَانُ الشَّعْرِ النَّاصِيَةَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كنى هاهنا عَنِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ بِالنَّاصِيَةِ، وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِيهِ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ كَانَ شَدِيدَ الِاهْتِمَامِ بِتَرْجِيلِ تِلْكَ النَّاصِيَةِ وَتَطْيِيبِهَا، وَرُبَّمَا كَانَ يَهْتَمُّ أَيْضًا بِتَسْوِيدِهَا فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُسَوِّدُهَا مَعَ الْوَجْهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى عَرَّفَ النَّاصِيَةَ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: النَّاصِيَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَكُمْ ذَاتُهَا لَكِنَّهَا مَجْهُولَةٌ عِنْدَكُمْ صِفَاتُهَا نَاصِيَةٌ وَأَيُّ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٌ قَوْلًا خَاطِئَةٌ فِعْلًا، وَإِنَّمَا وُصِفَ بِالْكَذِبِ لِأَنَّهُ كَانَ كَاذِبًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ مُحَمَّدًا وَكَاذِبًا عَلَى رَسُولِهِ فِي أَنَّهُ سَاحِرٌ أَوْ كَذَّابٌ أَوْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ، وَقِيلَ: كَذَّبَهُ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَكْثَرُ أَهْلِ هَذَا الْوَادِي نَادِيًا، وَوَصَفَ النَّاصِيَةَ بِأَنَّهَا خَاطِئَةٌ لِأَنَّ صَاحِبَهَا مُتَمَرِّدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ [الْحَاقَّةِ: 37] وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَاطِئِ وَالْمُخْطِئِ أَنَّ الْخَاطِئَ مُعَاقَبٌ مُؤَاخَذٌ وَالْمُخْطِئَ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ، وَوَصَفَ النَّاصِيَةَ بِالْخَاطِئَةِ الْكَاذِبَةِ كَمَا وَصَفَ الْوُجُوهَ بِأَنَّهَا نَاظِرَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [الْقِيَامَةِ: 23] . الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ناصِيَةٍ بَدَلٌ مِنَ النَّاصِيَةِ، وَجَازَ إِبْدَالُهَا مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَهِيَ نَكِرَةٌ، لِأَنَّهَا وُصِفَتْ فاستقلت بفائدة. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قُرِئَ نَاصِيَةٌ بِالرَّفْعِ وَالتَّقْدِيرُ هِيَ نَاصِيَةٌ، وَنَاصِيَةً بِالنَّصْبِ وَكِلَاهُمَا عَلَى الشَّتْمِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَغْلَظَ فِي الْقَوْلِ لِأَبِي جَهْلٍ وَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتِ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ بِمَنْ تُهَدِّدُنِي وَإِنِّي لَأَكْثَرُ هَذَا الْوَادِي نَادِيًا، فَافْتَخَرَ بِجَمَاعَتِهِ الَّذِينَ كَانُوا يأكلون حطامه، فنزل قوله تعالى: [سورة العلق (96) : الآيات 17 الى 18] فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ النَّادِي عِنْدَ قَوْلِهِ: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [الْعَنْكَبُوتِ: 29] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: نَادِيَهُ أَيْ أَهْلَ مَجْلِسِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُرَادُ مِنَ النَّادِي أَهْلُ النَّادِي، وَلَا يُسَمَّى الْمَكَانُ نَادِيًا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ

[سورة العلق (96) : آية 19]

أَهْلُهُ، وَسُمِّيَ نَادِيًا لِأَنَّ الْقَوْمَ يَنِدُّونَ إِلَيْهِ نَدًّا وَنَدْوَةً، وَمِنْهُ دَارُ النَّدْوَةِ بِمَكَّةَ، وَكَانُوا يَجْتَمِعُونَ فِيهَا لِلتَّشَاوُرِ، وَقِيلَ: سُمِّيَ نَادِيًا لِأَنَّهُ مَجْلِسُ النَّدَى وَالْجُودِ، ذُكِرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ أَيْ: اجْمَعْ أَهْلَ الْكَرَمِ وَالدِّفَاعِ فِي زَعْمِكَ لِيَنْصُرُوكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ والمبرد: واحد الزبانية زبنية وأصله من زبنية إِذَا دَفَعْتُهُ وَهُوَ مُتَمَرِّدٌ مِنْ إِنْسٍ أَوْ جِنٍّ، وَمِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى وَالتَّقْدِيرِ عِفْرِيَةٌ يُقَالُ: فُلَانٌ زِبْنِيَةٌ عِفْرِيَةٌ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: قَالَ بَعْضُهُمْ وَاحِدُهُ الزَّبَانِيُّ، وَقَالَ آخَرُونَ: الزَّابِنُ، وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا مِنَ الْجَمْعِ الَّذِي لَا وَاحِدَ لَهُ من لفظه في لغة الغرب مِثْلُ أَبَابِيلَ وَعَبَادِيدَ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُرَادُ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ مَخْصُوصُونَ بِقُوَّةٍ شَدِيدَةٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ أَرْجُلُهُمْ فِي الْأَرْضِ ورؤسهم فِي السَّمَاءِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الزَّبَانِيَةُ هُمُ الشُّرَطُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْغِلَاظُ الشِّدَادُ، وَمَلَائِكَةُ النَّارِ سُمُّوا الزَّبَانِيَةَ لِأَنَّهُمْ يَزْبِنُونَ الْكُفَّارَ أَيْ يَدْفَعُونَهُمْ فِي جَهَنَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَيْ فَلْيَفْعَلْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ يَدْعُو أَنْصَارَهُ وَيَسْتَعِينُ بِهِمْ فِي مُبَاطَلَةِ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فَنَحْنُ نَدْعُو الزَّبَانِيَةَ الَّذِينَ لَا طَاقَةَ لِنَادِيهِ وَقَوْمِهِ بِهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ الزَّبَانِيَةُ مِنْ سَاعَتِهِ مُعَايَنَةً، وَقِيلَ: هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ يُجَرُّ فِي الدُّنْيَا كَالْكَلْبِ وَقَدْ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقِيلَ: بَلْ هَذَا إِخْبَارٌ بِأَنَّ الزَّبَانِيَةَ يَجُرُّونَهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَى النَّارِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا أَيْ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ وَسَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ فِي الْآخِرَةِ، فَلْيَدْعُ هُوَ نَادِيَهُ حِينَئِذٍ فَلْيَمْنَعُوهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ تَدُلُّ عَلَى الْمُعْجِزِ، لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ تَحْرِيضًا لِلْكَافِرِ عَلَى دَعْوَةِ نَادِيهِ وَقَوْمِهِ، وَمَتَى فَعَلَ الْكَافِرُ ذَلِكَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ دَعْوَةُ الزَّبَانِيَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَجْتَرِئِ الْكَافِرُ عَلَى ذَلِكَ دَلَّ عَلَى ظُهُورِ مُعْجِزَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قُرِئَ: سَتُدْعَى على المجهول، وهذه السين ليست للشك «1» فإن عَسَى/ مِنَ اللَّهِ وَاجِبُ الْوُقُوعِ، وَخُصُوصًا عِنْدَ بِشَارَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَنْتَقِمَ لَهُ مِنْ عَدُوِّهِ، وَلَعَلَّ فَائِدَةَ السِّينِ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَأَنْصُرَنَّكَ ولو بعد حين» . [سورة العلق (96) : آية 19] كَلاَّ لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) ثُمَّ قَالَ: كَلَّا وَهُوَ رَدْعٌ لِأَبِي جَهْلٍ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَنْ يَصِلَ إِلَى مَا يَتَصَلَّفُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ يَدْعُو نَادِيَهُ وَلَئِنْ دَعَاهُمْ لَنْ يَنْفَعُوهُ وَلَنْ يَنْصُرُوهُ، وَهُوَ أَذَلُّ وَأَحْقَرُ مِنْ أَنْ يُقَاوِمَكَ، وَيُحْتَمَلُ: لَنْ يَنَالَ مَا يَتَمَنَّى مِنْ طَاعَتِكَ لَهُ حِينَ نَهَاكَ عَنِ الصَّلَاةِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَلَا لَا تُطِعْهُ. ثُمَّ قَالَ: لَا تُطِعْهُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [الْقَلَمِ: 8] ، وَاسْجُدْ وَعِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أَرَادَ بِهِ صَلِّ وَتَوَفَّرْ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِعْلًا وَإِبْلَاغًا، وَلْيَقِلَّ فِكْرُكَ فِي هَذَا الْعَدُوِّ فَإِنَّ اللَّهَ مُقَوِّيكَ وَنَاصِرُكَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْمُرَادُ الْخُضُوعُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ نَفْسُ السُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ. ثُمَّ قَالَ: وَاقْتَرِبْ وَالْمُرَادُ وَابْتَغِ بِسُجُودِكَ قُرْبَ الْمَنْزِلَةِ مِنْ رَبِّكَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «أقرب ما يكون العبد

_ (1) السين من معانيها التأكيد للوعد والوعيد، نحو قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ونحو سأنتقم منك، ولم أقل على أنها للشك ولعل الإمام أراد التأكيد بنفي مقابله وهو الشك. لأن أبا جهل كان شاكا في الآخرة.

مِنْ رَبِّهِ إِذَا سَجَدَ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ: اسْجُدْ يَا مُحَمَّدُ، وَاقْتَرِبْ يَا أَبَا جَهْلٍ مِنْهُ حَتَّى تُبْصِرَ مَا يَنَالُكَ مِنْ أَخْذِ الزَّبَانِيَةِ إِيَّاكَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لِيَزْدَادَ غَيْظُ الْكَافِرِ، كَقَوْلِهِ: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الْفَتْحِ: 29] والسبب الموجب لازدياد الغيظ هو أن الكفار كَانَ يَمْنَعُهُ مِنَ الْقِيَامِ، فَيَكُونُ غَيْظُهُ وَغَضَبُهُ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ السُّجُودِ أَتَمَّ، ثُمَّ قَالَ عِنْدَ ذَلِكَ وَاقْتَرِبْ مِنْهُ يَا أَبَا جَهْلٍ وَضَعْ قَدَمَكَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ سَاجِدٌ مَشْغُولٌ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا تَهَكُّمٌ بِهِ وَاسْتِحْقَارٌ لِشَأْنِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة القدر

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة القدر (خمس آيات مكية) [سورة القدر (97) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: إِنَّا أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى تَرَكَ التَّصْرِيحَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ الْقُرْآنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَسْنَدَ إِنْزَالَهُ إِلَيْهِ وَجَعَلَهُ مُخْتَصًّا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَاءَ بِضَمِيرِهِ دُونَ اسْمِهِ الظَّاهِرِ شَهَادَةً لَهُ بِالنَّبَاهَةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّصْرِيحِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ أَبِي جَهْلٍ وَلَمْ يَخْفَ عَلَى أَحَدٍ لِاشْتِهَارِهِ، وَقَوْلُهُ: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الْوَاقِعَةِ: 83] لم يذكر الموت لشهرته، فكذا هاهنا وَالثَّالِثُ: تَعْظِيمُ الْوَقْتِ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ: إِنِّي كَقَوْلِهِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَةِ: 30] وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ إِنَّا كَقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الْحِجْرِ: 9] ، إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً [نُوحٍ: 1] ، إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الْكَوْثَرِ: 1] . وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا تَارَةً يُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْجَمْعِ مُحَالٌ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ دَلَّتْ عَلَى وَحْدَةِ الصَّانِعِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْآلِهَةِ كَثْرَةٌ لَانْحَطَّتْ رُتْبَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنِ الْإِلَهِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَادِرًا عَلَى الْكَمَالِ لَاسْتَغْنَى بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَكَوْنُهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ نَقْصٌ فِي حَقِّهِ فَيَكُونُ الْكُلُّ نَاقِصًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَادِرًا عَلَى الْكَمَالِ كَانَ نَاقِصًا، فَعَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا مَحْمُولٌ عَلَى التَّعْظِيمِ لَا عَلَى الْجَمْعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى أَنَّهُ أُنْزِلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ أُنْزِلَ نُجُومًا؟ قُلْنَا فيه وجوه: أحدهما: قال الشعبي: ابتدأ إنزاله لَيْلَةَ الْقَدْرِ لِأَنَّ الْبَعْثَ كَانَ فِي رَمَضَانَ وَالثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُنْزِلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ إِلَى الْأَرْضِ نُجُومًا، كَمَا قَالَ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الْوَاقِعَةِ: 75] وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي قَوْلِهِ: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [الْبَقَرَةِ: 185] لَا يُقَالُ: فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِمَ لَمْ يَقُلْ: أَنْزَلْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ؟ لِأَنَّ إِطْلَاقَهُ يُوهِمُ الْإِنْزَالَ إِلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ إِنْزَالَهُ إِلَى السَّمَاءِ كَإِنْزَالِهِ إِلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَشْرَعَ فِي أَمْرٍ ثُمَّ لَا يُتِمُّهُ، وَهُوَ كَغَائِبٍ جَاءَ إِلَى نَوَاحِي الْبَلَدِ/ يُقَالُ: جَاءَ فُلَانٌ، أَوْ يُقَالُ الْغَرَضُ مِنْ تَقْرِيبِهِ وَإِنْزَالِهِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا أَنْ يُشَوِّقَهُمْ إِلَى نُزُولِهِ كَمَنْ يَسْمَعُ الْخَبَرَ بِمَجِيءِ مَنْشُورٍ لِوَالِدِهِ أَوْ أُمِّهِ، فَإِنَّهُ يَزْدَادُ شَوْقُهُ إِلَى مُطَالَعَتِهِ كما قال:

وَأَبْرَحُ مَا يَكُونُ الشَّوْقُ يَوْمًا ... إِذَا دَنَتِ الدِّيَارُ مِنَ الدِّيَارِ وَهَذَا لِأَنَّ السَّمَاءَ كَالْمُشْتَرِكِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ، فَهِيَ لَهُمْ مَسْكَنٌ وَلَنَا سَقْفٌ وَزِينَةٌ، كَمَا قَالَ: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً [الأنبياء: 32] فإنزاله القرآن هناك كإنزاله هاهنا وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّ التَّقْدِيرَ أَنْزَلْنَا هَذَا الذِّكْرَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَيْ فِي فَضِيلَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَبَيَانِ شَرَفِهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْقَدْرُ مَصْدَرُ قَدَرْتُ أَقْدِرُ قَدْرًا، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يُمْضِيهِ اللَّهُ مِنَ الْأُمُورِ، قَالَ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَرِ: 49] وَالْقَدَرُ، وَالْقَدْرُ وَاحِدٌ إِلَّا أَنَّهُ بِالتَّسْكِينِ مَصْدَرٌ وَبِالْفَتْحِ اسْمٌ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْقَدْرُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ، وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ عَلَى مُسَاوَاةِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ لِمَ سُمِّيَتْ هَذِهِ اللَّيْلَةُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، عَلَى وجوه أحدهما: أَنَّهَا لَيْلَةُ تَقْدِيرِ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ، قَالَ عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَا يَكُونُ فِي كُلِّ تِلْكَ السَّنَةِ مِنْ مَطَرٍ وَرِزْقٍ وَإِحْيَاءٍ وَإِمَاتَةٍ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ مِنَ السَّنَةِ الْآتِيَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدُّخَانِ: 4] وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ اللَّهِ لَا يَحْدُثُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السموات وَالْأَرْضَ فِي الْأَزَلِ، بَلِ الْمُرَادُ إِظْهَارُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْمَقَادِيرَ لِلْمَلَائِكَةِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ بِأَنْ يَكْتُبَهَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ الثَّانِي: نُقِلَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْعَظَمَةِ وَالشَّرَفِ مِنْ قَوْلِهِمْ لِفُلَانٍ قَدْرٌ عِنْدَ فُلَانٍ، أَيْ مَنْزِلَةٌ وَشَرَفٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر: 3] ثُمَّ هَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْجِعَ ذَلِكَ إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ مَنْ أَتَى فِيهَا بِالطَّاعَاتِ صَارَ ذَا قَدْرٍ وَشَرَفٍ وَثَانِيهِمَا: إِلَى الْفِعْلِ أَيِ الطَّاعَاتُ لَهَا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ قَدْرٌ زَائِدٌ وَشَرَفٌ زَائِدٌ، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الْوَرَّاقِ سُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لِأَنَّهُ نَزَلَ فِيهَا كِتَابٌ ذُو قَدْرٍ، عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ ذِي قَدْرٍ، عَلَى أُمَّةٍ لَهَا قَدْرٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ لَفْظَةَ الْقَدْرِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِهَذَا السَّبَبِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ، أَيِ الضِّيقِ فَإِنَّ الْأَرْضَ تَضِيقُ عَنِ الْمَلَائِكَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْفَى هَذِهِ اللَّيْلَةَ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْفَاهَا، كَمَا أَخْفَى سَائِرَ الْأَشْيَاءِ، فَإِنَّهُ أَخْفَى رِضَاهُ فِي الطَّاعَاتِ، حَتَّى يَرْغَبُوا فِي الْكُلِّ، وَأَخْفَى غَضَبَهُ فِي الْمَعَاصِي لِيَحْتَرِزُوا عَنِ الْكُلِّ، وَأَخْفَى وَلِيَّهُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى يُعَظِّمُوا الْكُلَّ، وَأَخْفَى الْإِجَابَةَ فِي الدُّعَاءِ لِيُبَالِغُوا فِي كُلِّ الدَّعَوَاتِ، وَأَخْفَى الِاسْمَ الْأَعْظَمَ لِيُعَظِّمُوا كُلَّ الْأَسْمَاءِ، وأخفى في الصَّلَاةَ الْوُسْطَى لِيُحَافِظُوا عَلَى الْكُلِّ، وَأَخْفَى قَبُولَ التَّوْبَةِ لِيُوَاظِبَ الْمُكَلَّفُ عَلَى جَمِيعِ أَقْسَامِ التَّوْبَةِ، وَأَخْفَى وَقْتَ الْمَوْتِ لِيَخَافَ الْمُكَلَّفُ، فَكَذَا أَخْفَى هَذِهِ اللَّيْلَةَ لِيُعَظِّمُوا جَمِيعَ لَيَالِي رَمَضَانَ وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَوْ عَيَّنْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَأَنَا عَالِمٌ بِتَجَاسُرِكُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَرُبَّمَا دَعَتْكَ الشَّهْوَةُ فِي/ تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، فَوَقَعْتَ فِي الذَّنْبِ، فَكَانَتْ مَعْصِيَتُكَ مَعَ عِلْمِكَ أَشَدَّ مِنْ مَعْصِيَتِكَ لَا مَعَ عِلْمِكَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَخْفَيْتُهَا عَلَيْكَ، رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى نَائِمًا، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ نَبِّهْهُ لِيَتَوَضَّأَ، فَأَيْقَظَهُ عَلِيٌّ، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ سَبَّاقٌ إِلَى الْخَيْرَاتِ، فَلِمَ لَمْ تُنَبِّهْهُ؟ قَالَ: لِأَنَّ رَدَّهُ عَلَيْكَ لَيْسَ بِكُفْرٍ، فَفَعَلْتُ ذَلِكَ لِتَخِفَّ جِنَايَتُهُ لَوْ أَبَى، فَإِذَا كَانَ هَذَا رَحْمَةَ الرَّسُولِ، فَقِسْ عَلَيْهِ رَحْمَةَ الرَّبِّ تَعَالَى، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِذَا عَلِمْتَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَإِنْ أَطَعْتَ فِيهَا اكْتَسَبْتَ ثواب ألف شهر، وإن عصيت فيها اكتسب عِقَابَ أَلْفِ شَهْرٍ، وَدَفْعُ الْعِقَابِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الثَّوَابِ وَثَالِثُهَا: أَنِّي أَخْفَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ حَتَّى يَجْتَهِدَ الْمُكَلَّفُ فِي طَلَبِهَا، فَيَكْتَسِبَ ثَوَابَ الِاجْتِهَادِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَإِنَّهُ يَجْتَهِدُ فِي الطَّاعَةِ فِي جميع ليالي

رَمَضَانَ، عَلَى رَجَاءِ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَتْ هَذِهِ اللَّيْلَةُ هِيَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَيُبَاهِي اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ مَلَائِكَتَهُ، وَيَقُولُ: كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِيهِمْ يُفْسِدُونَ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ فَهَذَا جِدُّهُ وَاجْتِهَادُهُ فِي اللَّيْلَةِ الْمَظْنُونَةِ، فَكَيْفَ لَوْ جَعَلْتُهَا مَعْلُومَةً لَهُ! فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ سِرُّ قَوْلِهِ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: 30] . الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ هَلْ تَسْتَتْبِعُ الْيَوْمَ؟ قَالَ الشَّعْبِيُّ: نَعَمْ يَوْمُهَا كَلَيْلَتِهَا، وَلَعَلَّ الْوَجْهَ فِيهِ أَنَّ ذِكْرَ اللَّيَالِي يَسْتَتْبِعُ الْأَيَّامَ، وَمِنْهُ إِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَتَيْنِ أَلْزَمْنَاهُ بِيَوْمَيْهِمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً [الْفُرْقَانِ: 62] أَيِ الْيَوْمُ يَخْلُفُ لَيْلَتَهُ وَبِالضِّدِّ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: هَذِهِ اللَّيْلَةُ هَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ؟ قَالَ الْخَلِيلُ: مَنْ قَالَ إِنَّ فَضْلَهَا لِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهَا يَقُولُ انْقَطَعَتْ وَكَانَتْ مَرَّةً، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا بَاقِيَةٌ، وَعَلَى هَذَا هَلْ هِيَ مُخْتَصَّةٌ بِرَمَضَانَ أَمْ لَا؟ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ يَقُمِ الْحَوْلَ يُصِبْهَا، وَفَسَّرَهَا عِكْرِمَةُ بِلَيْلَةِ الْبَرَاءَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدُّخَانِ: 3] وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِرَمَضَانَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [الْبَقَرَةِ: 185] وَقَالَ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَوَجَبَ أَنَّ تَكُونَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّنَاقُضُ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهَا عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْوَالٍ، فَقَالَ ابْنُ رَزِينٍ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ هِيَ اللَّيْلَةُ الْأُولَى مِنْ رَمَضَانَ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: السَّابِعَةَ عَشْرَةَ، وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقٍ: الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ، وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ: الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ، وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ. أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهَا اللَّيْلَةُ الْأُولَى [فَقَدْ] قَالُوا: رَوَى وَهْبٌ أَنَّ صُحُفَ إِبْرَاهِيمَ أُنْزِلَتْ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى مِنْ رَمَضَانَ وَالتَّوْرَاةَ لِسِتِّ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ بَعْدَ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ بِسَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ، وَأُنْزِلَ الزَّبُورُ عَلَى دَاوُدَ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ بَعْدَ التَّوْرَاةِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ وَأُنْزِلَ الْإِنْجِيلُ على عيسى لثمان عشرة ليلة خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ بَعْدَ الزَّبُورِ بِسِتِّمِائَةِ عَامٍ وَعِشْرِينَ عَامًا، وَكَانَ الْقُرْآنُ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ لَيْلَةِ قَدْرٍ مِنَ السَّنَةِ إِلَى السَّنَةِ كَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْعِزَّةِ مِنَ السَّمَاءِ/ السَّابِعَةِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ فِي عِشْرِينَ شَهْرًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الشَّهْرُ هُوَ الشَّهْرَ الَّذِي حَصَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخَيْرَاتُ الْعَظِيمَةُ، لَا جَرَمَ كَانَ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ وَالْقَدْرِ وَالرُّتْبَةِ فَكَانَتِ اللَّيْلَةُ الْأُولَى مِنْهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَأَمَّا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: هِيَ لَيْلَةُ سَبْعَةَ عَشَرَ، لِأَنَّهَا لَيْلَةٌ كَانَتْ صَبِيحَتُهَا وَقْعَةَ بَدْرٍ، وَأَمَّا التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ فَقَدْ رَوَى أَنَسٌ فِيهَا خَبَرًا، وَأَمَّا لَيْلَةُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ فَقَدْ مَالَ الشَّافِعِيُّ إِلَيْهِ لِحَدِيثِ الْمَاءِ وَالطِّينِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُعْظَمُ أَنَّهَا لَيْلَةُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ، وَذَكَرُوا فِيهِ أَمَارَاتٍ ضَعِيفَةً أَحَدُهَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ السُّورَةَ ثَلَاثُونَ كَلِمَةً، وَقَوْلُهُ: هِيَ هِيَ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ مِنْهَا وَثَانِيهَا: رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ الصَّحَابَةَ ثُمَّ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: غُصْ يَا غَوَّاصُ فَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: أَحْضَرْتَ أَوْلَادَ الْمُهَاجِرِينَ وَمَا أَحْضَرْتَ أَوْلَادَنَا فَقَالَ عُمَرُ: لَعَلَّكَ تَقُولُ: إِنَّ هَذَا غُلَامٌ، وَلَكِنَّ عِنْدَهُ مَا لَيْسَ عِنْدَكُمْ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَحَبُّ الأعداد إلى الله تعالى الوتر أحب الوتر إليه السبعة، فذكر السموات السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ وَالْأُسْبُوعَ وَدَرَكَاتِ النَّارِ وَعَدَدَ الطَّوَافِ وَالْأَعْضَاءَ السَّبْعَةَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ وَثَالِثُهَا: نُقِلَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَيْلَةِ الْقَدْرِ تِسْعَةُ أَحْرُفٍ، وَهُوَ مَذْكُورٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَتَكُونُ السَّابِعَةَ وَالْعِشْرِينَ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ كَانَ لِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ غُلَامٌ، فَقَالَ: يَا مَوْلَايَ إِنَّ الْبَحْرَ يَعْذُبُ مَاؤُهُ لَيْلَةً مِنَ الشَّهْرِ،

[سورة القدر (97) : آية 2]

قَالَ: إِذَا كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ، فَأَعْلِمْنِي فَإِذَا هِيَ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ رَمَضَانَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهَا اللَّيْلَةُ الْأَخِيرَةُ قَالَ: لِأَنَّهَا هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي تَتِمُّ فِيهَا طَاعَاتُ هَذَا الشَّهْرِ، بَلْ أَوَّلُ رَمَضَانَ كَآدَمَ وَآخِرُهُ كَمُحَمَّدٍ، وَلِذَلِكَ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «يُعْتَقُ فِي آخِرِ رَمَضَانَ بِعَدَدِ مَا أُعْتِقَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ» ، بَلِ اللَّيْلَةُ الْأُولَى كَمَنْ وُلِدَ لَهُ ذَكَرٌ، فَهِيَ لَيْلَةُ شُكْرٍ، وَالْأَخِيرَةُ لَيْلَةُ الْفِرَاقِ، كَمَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ، فَهِيَ لَيْلَةُ صَبْرٍ، وَقَدْ عَلِمْتَ فرق ما بين الصبر والشكر. ثم قال تعالى: [سورة القدر (97) : آية 2] وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) يَعْنِي وَلَمْ تَبْلُغْ دِرَايَتُكَ غَايَةَ فَضْلِهَا وَمُنْتَهَى عُلُوِّ قَدْرِهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فَضِيلَتَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أوجه: الأول: قوله تعالى: [سورة القدر (97) : آية 3] لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا هَذِهِ اللَّيْلَةُ، لِأَنَّهُ كَالْمُسْتَحِيلِ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا: خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فِيهَا هَذِهِ اللَّيْلَةُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِمَا يَزِيدُ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْأَرْزَاقِ وَأَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَثَانِيهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى يُصْبِحَ ثُمَّ يُجَاهِدُ حَتَّى يُمْسِيَ فَعَلَ ذَلِكَ أَلْفَ شَهْرٍ، فَتَعَجَّبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، أَيْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ لِأُمَّتِكَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لِذَلِكَ الْإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي حَمَلَ السِّلَاحَ أَلْفَ شَهْرٍ وَثَالِثُهَا: قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: أُرِيَ/ رسول الله صلى الله عليه وو سلّم أَعْمَارَ النَّاسِ، فَاسْتَقْصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ، وَخَافَ أَنْ لَا يَبْلُغُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مِثْلَ مَا بَلَغَهُ سَائِرُ الْأُمَمِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَهِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لِسَائِرِ الْأُمَمِ وَرَابِعُهَا: رَوَى الْقَاسِمُ بْنُ فَضْلٍ عَنْ عِيسَى بْنِ مَازِنٍ، قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ عَمَدْتَ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَبَايَعْتَ لَهُ يَعْنِي مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رأى في منامه بني أمية يطؤن مِنْبَرَهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَفِي رِوَايَةٍ يَنْزُونَ عَلَى مِنْبَرِهِ نَزْوَ الْقِرَدَةِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَى قَوْلِهِ: خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ يَعْنِي مُلْكَ بَنِي أُمَيَّةَ قَالَ الْقَاسِمُ فَحَسَبْنَا مُلْكَ بَنِي أُمَيَّةَ، فَإِذَا هُوَ أَلْفُ شَهْرٍ. طَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ فَقَالَ: مَا ذُكِرَ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فِي أَيَّامِ بَنِي أُمَيَّةَ بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَذْكُرُ فَضْلَهَا بِذِكْرِ أَلْفِ شَهْرٍ مَذْمُومَةٍ، وَأَيَّامُ بَنِي أُمَيَّةَ كَانَتْ مَذْمُومَةً. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الطَّعْنَ ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَيَّامَ بَنِي أُمَيَّةَ كَانَتْ أَيَّامًا عَظِيمَةً بِحَسَبِ السَّعَادَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يقول الله تعالى إِنِّي: أَعْطَيْتُكَ لَيْلَةً هِيَ فِي السَّعَادَاتِ الدِّينِيَّةِ أَفْضَلُ مِنْ تِلْكَ السَّعَادَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ وَفِيهَا تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ، أَمَّا الْبِشَارَةُ فَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ خَيْرٌ، وَلَمْ يُبَيِّنْ قَدْرَ الْخَيْرِيَّةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمُبَارَزَةُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ وُدٍّ [الْعَامِرِيِّ] «أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِ أُمَّتِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ، فَلَمْ يَقُلْ مِثْلُ عَمَلِهِ بَلْ قَالَ: أَفْضَلُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: حَسْبُكَ هَذَا مِنَ الْوَزْنِ والباقي جزاف.

[سورة القدر (97) : آية 4]

وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا عَبَدَ اللَّهَ تَعَالَى نَيِّفًا وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَمَنْ أَحْيَاهَا كُلَّ سَنَةٍ فَكَأَنَّهُ رُزِقَ أَعْمَارًا كَثِيرَةً، وَمَنْ أَحْيَا الشَّهْرَ لِيَنَالَهَا بِيَقِينٍ فَكَأَنَّهُ أَحْيَا ثَلَاثِينَ قَدْرًا، يُرْوَى أَنَّهُ يُجَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي عَبَدَ اللَّهَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ، وَيُجَاءُ بِرَجُلٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ عَبَدَ اللَّهَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَيَكُونُ ثَوَابُهُ أَكْثَرَ، فَيَقُولُ الْإِسْرَائِيلِيُّ: أَنْتَ الْعَدْلُ، وَأَرَى ثَوَابَهُ أَكْثَرَ، فَيَقُولُ: لِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخَافُونَ الْعُقُوبَةَ الْمُعَجَّلَةَ فَتَعْبُدُونَ، وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ كَانُوا آمِنِينَ لِقَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَالِ: 33] ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَتْ عِبَادَتُهُمْ أَكْثَرَ ثَوَابًا، وَأَمَّا التَّهْدِيدُ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى تَوَعَّدَ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ بِالدُّخُولِ فِي النَّارِ، وَإِنَّ إِحْيَاءَ مِائَةِ لَيْلَةٍ مِنَ الْقَدْرِ لَا يُخَلِّصُهُ عَنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ الْمُسْتَحَقِّ بِتَطْفِيفِ حَبَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَلِهَذَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِ حَالِ الذَّنْبِ وَالْمَعْصِيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَجْرُكَ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكَ» وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الطَّاعَةَ فِي أَلْفِ شَهْرٍ أَشَقُّ مِنَ الطَّاعَةِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ اسْتِوَاؤُهُمَا؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ قَدْ يَخْتَلِفُ حَالُهُ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْوُجُوهِ الْمُنْضَمَّةِ إِلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِكَذَا دَرَجَةٍ، مَعَ أَنَّ الصُّورَةَ قَدْ تُنْتَقَضُ فَإِنَّ الْمَسْبُوقَ سَقَطَتْ عَنْهُ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَيْضًا/ فَأَنْتَ تَقُولُ لِمَنْ يُرْجَمُ: إِنَّهُ إِنَّمَا يُرْجَمُ لِأَنَّهُ زَانٍ فَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ، ولو قلته للنصراني فقذف يوجب التعزيز، وَلَوْ قُلْتَهُ لِلْمُحْصَنِ فَهُوَ يُوجِبُ الْحَدَّ، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأَحْكَامُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، مَعَ أَنَّ الصُّورَةَ وَاحِدَةٌ فِي الْكُلِّ، بَلْ لَوْ قُلْتَهُ فِي حَقِّ عَائِشَةَ كَانَ كُفْرًا، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النُّورِ: 15] وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا طَعْنٌ فِي حَقِّ عَائِشَةَ الَّتِي كَانَتْ رُحْلَةً فِي الْعِلْمِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «خُذُوا ثُلُثَيْ دِينِكُمْ مِنْ هَذِهِ الْحُمَيْرَاءِ» وَطَعْنٌ فِي صَفْوَانَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا بَدْرِيًّا، وَطَعْنٌ فِي كَافَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِلْوَلَدِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِقَذْفِ الْأُمِّ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، بَلْ طَعْنٌ فِي النَّبِيِّ الَّذِي كَانَ أَشَدَّ خَلْقِ اللَّهِ غَيْرَةً، بَلْ طَعْنٌ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَهُ حَتَّى يَتَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ زَانِيَةٍ، ثُمَّ الْقَائِلُ بِقَوْلِهِ: هَذَا زَانٍ، فَقَدْ ظَنَّ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ سَهْلَةٌ مَعَ أَنَّهَا أَثْقَلُ مِنَ الْجِبَالِ، فَقَدْ ثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْأَفْعَالَ تَخْتَلِفُ آثَارُهَا فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لِاخْتِلَافِ وُجُوهِهَا، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الطَّاعَةُ الْقَلِيلَةُ فِي الصُّورَةِ مُسَاوِيَةً فِي الثَّوَابِ لِلطَّاعَاتِ الْكَثِيرَةِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ مَقْصُودَ الْحَكِيمِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجُرَّ الْخَلْقَ إِلَى الطَّاعَاتِ فَتَارَةً يَجْعَلُ ثَمَنَ الطَّاعَةِ ضِعْفَيْنِ، فَقَالَ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشَّرْحِ: 5، 6] وَمَرَّةً عَشْرًا، وَمَرَّةً سَبْعَمِائَةٍ، وَتَارَةً بِحَسَبِ الْأَزْمِنَةِ، وَتَارَةً بِحَسَبِ الْأَمْكِنَةِ، وَالْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الْكُلِّ جَرُّ الْمُكَلَّفِ إِلَى الطَّاعَةِ وَصَرْفُهُ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالدُّنْيَا، فَتَارَةً يُرَجِّحُ الْبَيْتَ وَزَمْزَمَ عَلَى سَائِرِ الْبِلَادِ، وَتَارَةً يُفَضِّلُ رَمَضَانَ عَلَى سَائِرِ الشُّهُورِ، وَتَارَةً يُفَضِّلُ الْجُمُعَةَ عَلَى سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَتَارَةً يُفَضِّلُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عَلَى سَائِرِ اللَّيَالِي، وَالْمَقْصُودُ مَا ذَكَرْنَاهُ الْوَجْهُ الثاني: من فضائل هذه الليلة. [سورة القدر (97) : آية 4] تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) قَوْلُهُ تَعَالَى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ نَظَرَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَرْوَاحِ، وَنَظَرَ الْبَشَرِ عَلَى الْأَشْبَاحِ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا رَأَوْا رُوحَكَ مَحَلًّا لِلصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ مِنَ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ مَا قَبِلُوكَ فَقَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ، وَأَبَوَاكَ لَمَّا رَأَوْا قُبْحَ صُورَتِكَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حِينَ كُنْتَ مَنِيًّا وَعَلَقَةً مَا قَبِلُوكَ أَيْضًا، بَلْ أَظْهَرُوا النُّفْرَةَ، وَاسْتَقْذَرُوا

ذَلِكَ الْمَنِيَّ وَالْعَلَقَةَ، وَغَسَلُوا ثِيَابَهُمْ عَنْهُ، ثُمَّ كَمِ احْتَالُوا لِلْإِسْقَاطِ وَالْإِبْطَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَعْطَاكَ الصُّورَةَ الْحَسَنَةَ فَالْأَبَوَانِ لَمَّا رَأَوْا تِلْكَ الصُّورَةَ الْحَسَنَةَ قَبِلُوكَ وَمَالُوا إِلَيْكَ، فَكَذَا الْمَلَائِكَةُ لَمَّا رَأَوْا فِي رُوحِكَ الصُّورَةَ الْحَسَنَةَ وَهِيَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَطَاعَتُهُ أَحَبُّوكَ فَنَزَلُوا إِلَيْكَ مُعْتَذِرِينَ عَمَّا قَالُوهُ أَوَّلًا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ فَإِذَا نَزَلُوا إِلَيْكَ رَأَوْا رُوحَكَ فِي ظُلْمَةِ لَيْلِ الْبَدَنِ، وَظُلْمَةِ الْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةِ فَحِينَئِذٍ يَعْتَذِرُونَ عَمَّا تَقَدَّمَ وَيَسْتَغْفِرُونَ للذين آمنوا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ نُزُولَ كُلِّ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ كَثْرَةٌ عَظِيمَةٌ لَا تَحْتَمِلُ كُلَّهُمُ الْأَرْضُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا تَنْزِلُ بِأَسْرِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنْ قِيلَ الْإِشْكَالُ بَعْدُ بَاقٍ لِأَنَّ السَّمَاءَ مَمْلُوءَةٌ بِحَيْثُ لَا يوجد فِيهَا مَوْضِعُ إِهَابٍ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ، فَكَيْفَ تَسَعُ الْجَمِيعَ سَمَاءٌ وَاحِدَةٌ؟ قُلْنَا: يُقْضَى بِعُمُومِ الْكِتَابِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، كَيْفَ وَالْمَرْوِيُّ أَنَّهُمْ يَنْزِلُونَ فَوْجًا فَوْجًا فَمِنْ نَازِلٍ وَصَاعِدٍ كَأَهْلِ الْحَجِّ فَإِنَّهُمْ عَلَى كَثْرَتِهِمْ يَدْخُلُونَ الْكَعْبَةَ بِالْكُلِّيَّةِ لَكِنَّ النَّاسَ بَيْنَ دَاخِلٍ وَخَارِجٍ، وَلِهَذَا السَّبَبِ مُدَّتْ إِلَى غَايَةِ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلِذَلِكَ ذُكِرَ بِلَفْظِ: تَنَزَّلُ الَّذِي يُفِيدُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُمْ يَنْزِلُونَ إِلَى الْأَرْضِ وَهُوَ الْأَوْجَهُ، لِأَنَّ الْغَرَضَ هُوَ التَّرْغِيبُ فِي إِحْيَاءِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَلِأَنَّهُ دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَنْزِلُونَ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ إِلَى مَجَالِسِ الذِّكْرِ وَالدِّينِ، فَلِأَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ مَعَ عُلُوِّ شَأْنِهَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ النُّزُولَ الْمُطْلَقَ لَا يُفِيدُ إِلَّا النُّزُولَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ: يَنْزِلُونَ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْزِلُونَ لِيَرَوْا عِبَادَةَ الْبَشَرِ وَجِدَّهُمْ وَاجْتِهَادَهُمْ فِي الطَّاعَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مَرْيَمَ: 64] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ النزولى فلا يدل على غاية المحبة. وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ وَهُوَ قَوْلُهُ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَأْذَنُوا أَوَّلًا فَأُذِنُوا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الْمَحَبَّةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْغَبُونَ إِلَيْنَا وَيَتَمَنَّوْنَ لِقَاءَنَا لَكِنْ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ الْإِذْنَ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ [الصَّافَّاتِ: 165] يُنَافِي قَوْلَهُ: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ قُلْنَا نَصْرِفُ الْحَالَتَيْنِ إِلَى زَمَانَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ فِي الْآخِرَةِ أَنَّ الْمَلَائِكَةُ: يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرَّعْدِ: 23، 24] فَهَهُنَا فِي الدُّنْيَا إِنِ اشْتَغَلْتَ بِعِبَادَتِي نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْكَ حَتَّى يَدْخُلُوا عَلَيْكَ لِلتَّسَلُّمِ وَالزِّيَارَةِ، رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَنَّهُمْ يَنْزِلُونَ لِيُسَلِّمُوا عَلَيْنَا وَلِيَشْفَعُوا لَنَا فَمَنْ أَصَابَتْهُ التَّسْلِيمَةُ غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ» وَرَابِعُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فَضِيلَةَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ فِي الِاشْتِغَالِ بِطَاعَتِهِ فِي الْأَرْضِ فَهُمْ يَنْزِلُونَ إِلَى الْأَرْضِ لِتَصِيرَ طَاعَاتُهُمْ أَكْثَرَ ثَوَابًا، كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ يَذْهَبُ إِلَى مَكَّةَ لِتَصِيرَ طَاعَتُهُ هُنَاكَ أَكْثَرَ ثَوَابًا، وَكُلُّ ذَلِكَ تَرْغِيبٌ لِلْإِنْسَانِ فِي الطَّاعَةِ وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْتِي بِالطَّاعَاتِ وَالْخَيْرَاتِ عِنْدَ حُضُورِ الْأَكَابِرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ أَحْسَنَ مِمَّا يَكُونُ فِي الْخَلْوَةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ حَتَّى أَنَّ الْمُكَلَّفَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَأْتِي بِالطَّاعَاتِ فِي حُضُورِ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ الْعُبَّادِ الزُّهَّادِ فَيَكُونُ أَتَمَّ وَعَنِ النُّقْصَانِ أَبْعَدَ وَسَادِسُهَا: أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ خَصَّ لَفْظَ الْمَلَائِكَةِ بِبَعْضِ فِرَقِ الْمَلَائِكَةِ، عَنْ كَعْبٍ أَنَّ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى عَلَى حَدِّ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ مِمَّا يَلِي الْجَنَّةَ، فَهِيَ عَلَى حَدِّ هَوَاءِ الدُّنْيَا وَهَوَاءِ الْآخِرَةِ، وَسَاقُهَا فِي الْجَنَّةِ وَأَغْصَانُهَا تَحْتَ الْكُرْسِيِّ فِيهَا مَلَائِكَةٌ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَمَقَامُ جِبْرِيلَ فِي وَسَطِهَا، لَيْسَ فِيهَا مَلَكٌ إِلَّا وَقَدْ أَعْطَى الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَنْزِلُونَ مَعَ جِبْرِيلَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَلَا تَبْقَى بُقْعَةٌ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا وَعَلَيْهَا مَلَكٌ

سَاجِدٌ أَوْ قَائِمٌ يَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَجِبْرِيلُ لَا يَدَعُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ إِلَّا صَافَحَهُمْ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ مَنِ اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ/ وَرَقَّ قَلْبُهُ وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مُصَافَحَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَنْ قَالَ فِيهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ غُفِرَ لَهُ بِوَاحِدَةٍ، وَنَجَّاهُ مِنَ النَّارِ بِوَاحِدَةٍ، وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِوَاحِدَةٍ، وَأَوَّلُ مَنْ يَصْعَدُ جِبْرِيلُ حَتَّى يَصِيرَ أَمَامَ الشَّمْسِ فَيَبْسُطُ جَنَاحَيْنِ أَخْضَرَيْنِ لَا يَنْشُرُهُمَا إِلَّا تلك الساعة من يوم تِلْكَ اللَّيْلَةِ ثُمَّ يَدْعُو مَلَكًا مَلَكًا، فَيَصْعَدُ الْكُلُّ وَيَجْتَمِعُ نُورُ الْمَلَائِكَةِ وَنُورُ جَنَاحِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيُقِيمُ جِبْرِيلُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بَيْنَ الشَّمْسِ وَسَمَاءِ الدُّنْيَا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ مَشْغُولِينَ بِالدُّعَاءِ وَالرَّحْمَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلِمَنْ صَامَ رَمَضَانَ احْتِسَابًا، فَإِذَا أَمْسَوْا دَخَلُوا سَمَاءَ الدُّنْيَا فَيَجْلِسُونَ حِلَقًا حِلَقًا فَتُجْمَعُ إِلَيْهِمْ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ فَيَسْأَلُونَهُمْ عَنْ رَجُلٍ رَجُلٍ وَعَنِ امْرَأَةٍ امْرَأَةٍ، حَتَّى يَقُولُوا: مَا فَعَلَ فُلَانٌ وَكَيْفَ وَجَدْتُمُوهُ؟ فَيَقُولُونَ: وَجَدْنَاهُ عَامَ أَوَّلٍ مُتَعَبِّدًا، وَفِي هَذَا الْعَامِ مُبْتَدِعًا، وَفُلَانٌ كَانَ عَامَ أَوَّلٍ مُبْتَدِعًا، وَهَذَا الْعَامَ مُتَعَبِّدًا، فَيَكُفُّونَ عَنِ الدُّعَاءِ لِلْأَوَّلِ، وَيَشْتَغِلُونَ بِالدُّعَاءِ لِلثَّانِي، وَوَجَدْنَا فُلَانًا تَالِيًا، وَفُلَانًا رَاكِعًا، وَفُلَانًا سَاجِدًا، فَهُمْ كَذَلِكَ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ حَتَّى يَصْعَدُوا السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ وَهَكَذَا يَفْعَلُونَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى السِّدْرَةِ فَتَقُولُ لَهُمُ السِّدْرَةُ: يَا سُكَّانِي حَدِّثُونِي عَنِ النَّاسِ فَإِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقًّا، وَإِنِّي أُحِبُّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ، فَذَكَرَ كَعْبٌ أَنَّهُمْ يَعُدُّونَ لَهَا الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ، ثُمَّ يَصِلُ ذَلِكَ الْخَبَرُ إِلَى الْجَنَّةِ، فَتَقُولُ الْجَنَّةُ: اللَّهُمَّ عِجِّلْهُمْ إِلَيَّ، وَالْمَلَائِكَةُ، وَأَهْلُ السِّدْرَةِ يَقُولُونَ: آمِينَ آمِينَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ، كُلَّمَا كَانَ الْجَمْعُ أَعْظَمَ، كَانَ نُزُولُ الرَّحْمَةِ هُنَاكَ أَكْثَرَ، ولذلك فإن أعظم الجموع في موقف الْحَجِّ، لَا جَرَمَ كَانَ نُزُولُ الرَّحْمَةِ هُنَاكَ أَكْثَرَ، فَكَذَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يَحْصُلُ مَجْمَعُ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، فَلَا جَرَمَ كَانَ نُزُولُ الرَّحْمَةِ أَكْثَرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي الرُّوحِ أَقْوَالًا أحدها: أنه ملك عظيم، لو التقم السموات وَالْأَرَضِينَ كَانَ ذَلِكَ لَهُ لُقْمَةً وَاحِدَةً وَثَانِيهَا: طَائِفَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا تَرَاهُمُ الْمَلَائِكَةُ إِلَّا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، كَالزُّهَّادِ الَّذِينَ لَا نَرَاهُمْ إِلَّا يَوْمَ الْعِيدِ وَثَالِثُهَا: خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَأْكُلُونَ وَيَلْبَسُونَ لَيْسُوا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا مِنَ الْإِنْسِ، وَلَعَلَّهُمْ خَدَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَرَابِعُهَا: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ اسْمُهُ، ثُمَّ إِنَّهُ يَنْزِلُ فِي مُوَاقَفَةِ الْمَلَائِكَةِ لِيَطَّلِعَ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ الْقُرْآنِ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشُّورَى: 52] وَسَادِسُهَا: الرَّحْمَةُ قرئ: لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يُوسُفَ: 87] بِالرَّفْعِ كَأَنَّهُ تعالى يقول: الملائكة ينزلون رحمتي تَنْزِلُ فِي أَثَرِهِمْ فَيَجِدُونَ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَسَعَادَةَ الْآخِرَةِ وَسَابِعُهَا: الرُّوحُ أَشْرَفُ الْمَلَائِكَةِ وَثَامِنُهَا: عَنْ أَبِي نَجِيحٍ الرُّوحُ هُمُ الْحَفَظَةُ وَالْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ فَصَاحِبُ الْيَمِينِ يَكْتُبُ إِتْيَانَهُ بِالْوَاجِبِ، وَصَاحِبُ الشِّمَالِ يكتب تركه للقبيح، والأصح أن الروح هاهنا جِبْرِيلُ وَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ لِزِيَادَةِ شَرَفِهِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الْمَلَائِكَةُ فِي كِفَّةٍ وَالرُّوحُ فِي كِفَّةٍ. أما قوله تعالى: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [المسألة الأولى] فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُشْتَاقِينَ إِلَيْنَا، فَإِنْ/ قِيلَ: كَيْفَ يَرْغَبُونَ إِلَيْنَا مَعَ عِلْمِهِمْ بِكَثْرَةِ مَعَاصِينَا؟ قُلْنَا: إِنَّهُمْ لَا يَقِفُونَ عَلَى تَفْصِيلِ الْمَعَاصِي رُوِيَ أَنَّهُمْ يُطَالِعُونَ اللَّوْحَ، فَيَرَوْنَ فِيهِ طَاعَةَ الْمُكَلَّفِ مُفَصَّلَةً، فَإِذَا وَصَلُوا إِلَى مَعَاصِيهِ أُرْخِيَ السِّتْرُ فَلَا تَرَوْنَهَا، فَحِينَئِذٍ يَقُولُ: سُبْحَانَ مَنْ أَظْهَرَ الْجَمِيلَ، وَسَتَرَ عَلَى الْقَبِيحِ، ثُمَّ قَدْ ذَكَرْنَا فَوَائِدَ فِي نُزُولِهِمْ وَنَذْكُرُ الْآنَ فَوَائِدَ أُخْرَى وَحَاصِلُهَا أَنَّهُمْ يَرَوْنَ فِي الْأَرْضِ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ أَشْيَاءَ مَا رَأَوْهَا فِي عَالَمِ السَّمَاوَاتِ أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَغْنِيَاءَ يَجِيئُونَ بِالطَّعَامِ مِنْ بُيُوتِهِمْ فَيَجْعَلُونَهُ ضِيَافَةً لِلْفُقَرَاءِ وَالْفُقَرَاءُ يَأْكُلُونَ طَعَامَ الْأَغْنِيَاءِ وَيَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الطَّاعَةِ لَا يُوجَدُ في السموات وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ أَنِينَ الْعُصَاةِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: «لَأَنِينُ الْمُذْنِبِينَ أَحَبُّ

[سورة القدر (97) : آية 5]

إِلَيَّ مِنْ زَجَلِ الْمُسَبِّحِينَ» فَقَالُوا: تَعَالَوْا نَذْهَبْ إِلَى الْأَرْضِ فَنَسْمَعْ صَوْتًا هُوَ أَحَبُّ إِلَى رَبِّنَا مِنْ صَوْتِ تَسْبِيحِنَا، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ أَحَبَّ وَزَجَلُ الْمُسَبِّحِينَ إِظْهَارٌ لِكَمَالِ حَالِ الْمُطِيعِينَ، وأنين العصاة إظهار لغفارية رب الأرض والسموات [وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى] «1» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مَرْيَمَ: 64] وَقَوْلُهُ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ [الْأَنْبِيَاءِ: 27] وَفِيهَا دَقِيقَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: مَأْذُونِينَ بَلْ قَالَ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَتَصَرَّفُونَ تَصَرُّفًا مَا إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ إِنْ خَرَجْتِ إِلَّا بِإِذْنِي، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ الْإِذْنُ فِي كُلِّ خَرْجَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: رَبِّهِمْ يُفِيدُ تَعْظِيمًا لِلْمَلَائِكَةِ وَتَحْقِيرًا لِلْعُصَاةِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: كَانُوا لِي فَكُنْتُ لَهُمْ، وَنَظِيرُهُ فِي حَقِّنَا: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأعراف: 54] وقال لمحمد عليه السلام: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ [البقرة: 30] وَنَظِيرُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ دَاوُدَ لَمَّا مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ قَالَ: إِلَهِي كُنْ لِسُلَيْمَانَ كَمَا كُنْتَ لِي، فَنَزَلَ الْوَحْيُ وَقَالَ: قُلْ لِسُلَيْمَانَ فَلْيَكُنْ لِي كَمَا كُنْتَ لِي، وَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ فَقَدَ الضَّيْفَ أَيَّامًا فَخَرَجَ بِالسُّفْرَةِ لِيَلْتَمِسَ ضَيْفًا فَإِذَا بِخَيْمَةٍ، فَنَادَى أَتُرِيدُونَ الضَّيْفَ؟ فَقِيلَ: نَعَمْ، فَقَالَ لِلْمُضِيفِ: أَيُوجَدُ عِنْدَكَ إِدَامُ لَبَنٍ أَوْ عَسَلٍ؟ فَرَفَعَ الرَّجُلُ صَخْرَتَيْنِ فَضَرَبَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى فَانْشَقَّا فَخَرَجَ مِنْ إِحْدَاهُمَا اللَّبَنُ وَمِنَ الْأُخْرَى الْعَسَلُ، فَتَعَجَّبَ إِبْرَاهِيمُ وَقَالَ: إِلَهِي أَنَا خَلِيلُكَ وَلَمْ أَجِدْ مثل ذلك الإكرام، فماله؟ فَنَزَلَ الْوَحْيُ يَا خَلِيلِي كَانَ لَنَا فَكُنَّا له. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ فَمَعْنَاهُ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا مِنْ أَجْلِ كُلِّ أَمْرٍ، وَالْمَعْنَى أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِنَّمَا نَزَلَ لِمُهِمٍّ آخَرَ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَشْغَالٍ كَثِيرَةٍ فَبَعْضُهُمْ لِلرُّكُوعِ وَبَعْضُهُمْ لِلسُّجُودِ، وَبَعْضُهُمْ بِالدُّعَاءِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي التَّفَكُّرِ وَالتَّعْلِيمِ، وَإِبْلَاغِ الْوَحْيِ، وَبَعْضُهُمْ لِإِدْرَاكِ فَضِيلَةِ اللَّيْلَةِ أَوْ لِيُسَلِّمُوا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَثَانِيهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ/ مِنْ أَجْلِ كُلِّ أَمْرٍ قُدِّرَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نُزُولَهُمْ إِنَّمَا كَانَ عِبَادَةً، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَا نَزَلْنَا إِلَى الْأَرْضِ لِهَوَى أَنْفُسِنَا، لَكِنْ لِأَجْلِ كُلِّ أَمْرٍ فِيهِ مَصْلَحَةُ الْمُكَلَّفِينَ، وَعَمَّ لَفْظُ الْأَمْرِ لِيَعُمَّ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بَيَانًا مِنْهُ أَنَّهُمْ يَنْزِلُونَ بِمَا هُوَ صَلَاحُ الْمُكَلَّفِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ كَأَنَّ السَّائِلَ يَقُولُ: مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ فَيَقُولُ: مالك وَهَذَا الْفُضُولُ، وَلَكِنْ قُلْ: لِأَيِّ أَمْرٍ جِئْتَ لِأَنَّهُ حَظُّكَ وَثَالِثُهَا: قَرَأَ بَعْضُهُمْ: مِنْ كُلِّ امرى أَيْ مِنْ أَجْلِ كُلِّ إِنْسَانٍ، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ لَا يَلْقَوْنَ مُؤْمِنًا وَلَا مُؤْمِنَةً إِلَّا سَلَّمُوا عَلَيْهِ، قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ تُقَسَّمُ الْآجَالُ وَالْأَرْزَاقُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَالْآنَ تَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ؟ قُلْنَا: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُقَدِّرُ الْمَقَادِيرَ فِي لَيْلَةِ الْبَرَاءَةِ، فَإِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ يُسَلِّمُهَا إِلَى أَرْبَابِهَا» وَقِيلَ: يُقَدِّرُ لَيْلَةَ الْبَرَاءَةِ الْآجَالَ وَالْأَرْزَاقَ، وَلَيْلَةَ الْقَدْرِ يُقَدِّرُ الْأُمُورَ الَّتِي فِيهَا الْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ وَالسَّلَامَةُ، وَقِيلَ: يُقَدِّرُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إِعْزَازُ الدِّينِ، وَمَا فِيهِ النَّفْعُ الْعَظِيمُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا لَيْلَةَ الْبَرَاءَةِ فَيُكْتَبُ فِيهَا أَسْمَاءُ مَنْ يَمُوتُ وَيُسَلَّمُ إِلَى ملك الموت. من فضائل هذه الليلة قوله تعالى: [سورة القدر (97) : آية 5] سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

_ (1) ما بين القوسين المربعين زيادة دعا إليها عدم ترجمة المؤلف المسألة الأولى، أو لعلها قد سقطت من الناسخ.

وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ سَلَامٌ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ سَلَامٌ أَيْ تُسَلِّمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى الْمُطِيعِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَنْزِلُونَ فَوْجًا فَوْجًا مِنِ ابْتِدَاءِ اللَّيْلِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فَتَرَادَفَ النُّزُولُ لِكَثْرَةِ السَّلَامِ وَثَانِيهَا: وُصِفَتِ اللَّيْلَةُ بِأَنَّهَا سَلَامٌ، ثُمَّ يَجِبُ أَنْ لَا يُسْتَحْقَرَ هَذَا السَّلَامُ لِأَنَّ سَبْعَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ سَلَّمُوا عَلَى الْخَلِيلِ فِي قِصَّةِ الْعِجْلِ الْحَنِيذِ، فَازْدَادَ فَرَحُهُ بِذَلِكَ عَلَى فَرَحِهِ بِمُلْكِ الدُّنْيَا، بَلِ الْخَلِيلُ لَمَّا سَلَّمَ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِ صَارَ نَارُ نُمْرُوذَ عَلَيْهِ بردا وسلاما أَفَلَا تَصِيرُ نَارُهُ تَعَالَى بِبَرَكَةِ تَسْلِيمِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْنَا بَرْدًا وَسَلَامًا لَكِنَّ ضِيَافَةَ الْخَلِيلِ لَهُمْ كَانَتْ عِجْلًا مَشْوِيًّا وَهُمْ يُرِيدُونَ مِنَّا قَلْبًا مَشْوِيًّا، بَلْ فِيهِ دَقِيقَةٌ، وَهِيَ إِظْهَارُ فَضْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَإِنَّ هُنَاكَ الْمَلَائِكَةَ، نَزَلُوا عَلَى الخليل، وهاهنا نَزَلُوا عَلَى أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ سَلَامٌ مِنَ الشُّرُورِ وَالْآفَاتِ، أَيْ سَلَامَةٌ وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: إِنَّمَا فُلَانٌ حَجٌّ وَغَزْوٌ أَيْ هُوَ أَبَدًا مَشْغُولٌ بِهِمَا، وَمِثْلُهُ: «فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ» . وَقَالُوا تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِالْخَيْرَاتِ وَالسَّعَادَاتِ وَلَا يَنْزِلُ فِيهَا مِنْ تَقْدِيرِ الْمَضَارِّ شَيْءٌ فَمَا يَنْزِلُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَهُوَ سَلَامٌ، أَيْ سَلَامَةٌ وَنَفْعٌ وَخَيْرٌ وَرَابِعُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: سَلَامٌ أَيِ اللَّيْلَةُ سَالِمَةٌ عَنِ الرِّيَاحِ وَالْأَذَى وَالصَّوَاعِقِ إِلَى مَا شَابَهَ ذَلِكَ وَخَامِسُهَا: سَلَامٌ لَا يَسْتَطِيعُ الشَّيْطَانُ فِيهَا سُوءًا وَسَادِسُهَا: أَنَّ الْوَقْفَ عِنْدَ قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ فَيَتَّصِلُ السَّلَامُ بِمَا قَبْلَهُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ تَقْدِيرَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَالسَّلَامَةِ يَدُومُ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ وَسَابِعُهَا: / أَنَّهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى مَطْلَعِ الْفَجْرِ سَالِمَةٌ فِي أَنَّ الْعِبَادَةَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَتْ كَسَائِرِ اللَّيَالِي فِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْفَرْضِ الثُّلُثُ الْأَوَّلُ وَلِلْعِبَادَةِ النِّصْفُ وَلِلدُّعَاءِ السَّحَرُ بَلْ هِيَ مُتَسَاوِيَةُ الْأَوْقَاتِ وَالْأَجْزَاءِ وَثَامِنُهَا: سَلامٌ هِيَ، أَيْ جَنَّةٌ هِيَ لِأَنَّ مِنْ أَسْمَاءِ الْجَنَّةِ دَارَ السَّلَامِ أَيِ الْجَنَّةُ الْمَصُوغَةُ مِنَ السَّلَامَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَطْلَعُ الطُّلُوعُ يُقَالُ: طَلَعَ الْفَجْرُ طُلُوعًا وَمَطْلَعًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَدُومُ ذَلِكَ السَّلَامُ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَمَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ اللَّامِ فَهُوَ اسْمٌ لِوَقْتِ الطُّلُوعِ وَكَذَا مَكَانُ الطُّلُوعِ مَطْلَعٌ قَالَهُ الزَّجَّاجُ: أَمَّا أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُمَا فَإِنَّهُمُ اخْتَارُوا فَتْحَ اللَّامِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَقَالُوا: الْكَسْرُ اسْمٌ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَلَا مَعْنَى لِاسْمِ مَوْضِعِ الطُّلُوعِ هاهنا بَلْ إِنْ حُمِلَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ مِنَ اسْمِ وَقْتِ الطُّلُوعِ صَحَّ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْضًا، لِأَنَّ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَلَى الْمَفْعِلِ مَا قَدْ كُسِرَ كَقَوْلِهِمْ عَلَاءُ الْمَكْبِرِ والمعجز، قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [الْبَقَرَةِ: 222] فَكَذَلِكَ كَسْرُ الْمَطْلِعِ جَاءَ شَاذًّا عَمًّا عَلَيْهِ بَابُهُ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة البينة

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة البينة (وهي ثمانية آيات مدنية) [سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) [قوله تعالى لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ إلى قوله رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي كِتَابِ «الْبَسِيطِ» : هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَصْعَبِ مَا فِي الْقُرْآنِ نَظْمًا وَتَفْسِيرًا، وَقَدْ تَخَبَّطَ فِيهَا الْكِبَارُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُلَخِّصْ كَيْفِيَّةَ الْإِشْكَالِ فِيهَا وَأَنَا أَقُولُ: وَجْهُ الْإِشْكَالِ أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ الَّتِي هِيَ الرَّسُولُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُمْ مُنْفَكُّونَ عَنْ مَاذَا لَكِنَّهُ مَعْلُومٌ، إِذِ الْمُرَادُ هُوَ الْكُفْرُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ الَّتِي هِيَ الرَّسُولُ، ثُمَّ إِنَّ كَلِمَةَ حَتَّى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ فَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّهُمْ صَارُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ عِنْدَ إِتْيَانِ الرَّسُولِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُفْرَهُمْ قَدِ ازْدَادَ عِنْدَ مَجِيءِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ بَيْنَ الْآيَةِ الْأُولَى وَالْآيَةِ الثَّانِيَةِ مُنَاقَضَةٌ فِي الظَّاهِرِ، هَذَا مُنْتَهَى الْإِشْكَالِ فِيمَا أَظُنُّ وَالْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُهَا: وَأَحْسَنُهَا الْوَجْهُ الَّذِي لَخَّصَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، كَانُوا يَقُولُونَ قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا نَنْفَكُّ عَمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ دِينِنَا، وَلَا نَتْرُكُهُ حَتَّى يُبْعَثَ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ الَّذِي هُوَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَعْنِي/ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ اجْتِمَاعَ الْكَلِمَةِ وَالِاتِّفَاقَ عَلَى الْحَقِّ إِذَا جَاءَهُمُ الرَّسُولُ، ثُمَّ مَا فَرَّقَهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَلَا أَقَرَّهُمْ عَلَى الْكُفْرِ إِلَّا مَجِيءُ الرَّسُولِ، وَنَظِيرُهُ فِي الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ الْفَقِيرُ الْفَاسِقُ لِمَنْ يَعِظُهُ: لَسْتُ أَمْتَنِعُ مِمَّا أَنَا فِيهِ مِنَ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ حَتَّى يَرْزُقَنِي اللَّهُ الْغِنَى، فَلَمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ الْغِنَى ازْدَادَ فِسْقًا فَيَقُولُ وَاعِظُهُ: لَمْ تَكُنْ مُنْفَكًّا عَنِ الْفِسْقِ حَتَّى تُوسِرَ، وَمَا غَمَسْتَ رأسك في الفسق إلا بعد اليسار بذكره مَا كَانَ يَقُولُهُ تَوْبِيخًا وَإِلْزَامًا، وَحَاصِلُ هَذَا الْجَوَابِ يَرْجِعُ إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ

الْبَيِّنَةُ مَذْكُورَةٌ حِكَايَةً عَنْهُمْ، وَقَوْلَهُ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ هُوَ إِخْبَارٌ عَنِ الْوَاقِعِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي وَقَعَ كَانَ عَلَى خِلَافِ مَا ادَّعَوْا وَثَانِيهَا: أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ، لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ وَإِنْ جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي إِلَّا أَنَّ تَفْسِيرَ لَفْظَةِ حَتَّى بِهَذَا لَيْسَ مِنَ اللُّغَةِ فِي شَيْءٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّا لَا نَحْمِلُ قَوْلَهُ: مُنْفَكِّينَ عَلَى الْكُفْرِ بَلْ عَلَى كَوْنِهِمْ مُنْفَكِّينَ عَنْ ذِكْرِ مُحَمَّدٍ بِالْمَنَاقِبِ وَالْفَضَائِلِ وَالْمَعْنَى لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ ذِكْرِ مُحَمَّدٍ بِالْمَنَاقِبِ وَالْفَضَائِلِ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: أَيْ حَتَّى أَتَتْهُمْ، فَاللَّفْظُ لَفْظُ الْمُضَارِعِ وَمَعْنَاهُ الْمَاضِي، وهو كقوله تعالى: ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ [الْبَقَرَةِ: 102] أَيْ مَا تَلَتْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ ذِكْرِ مَنَاقِبِهِ، ثُمَّ لَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ تَفَرَّقُوا فِيهِ، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ فِيهِ قَوْلًا آخَرَ رَدِيًّا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [الْبَقَرَةِ: 89] وَالْقَوْلُ الْمُخْتَارُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ رَابِعٌ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ إِلَى وَقْتِ مَجِيءِ الرَّسُولِ، وَكَلِمَةُ حَتَّى تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْحَالُ بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْأَمْرُ هَكَذَا كَانَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَجْمُوعَ مَا بَقُوا عَلَى الْكُفْرِ بَلْ تَفَرَّقُوا فَمِنْهُمْ مَنْ صَارَ مُؤْمِنًا، وَمِنْهُمْ مَنْ صَارَ كَافِرًا، وَلَمَّا لَمْ يَبْقَ حَالُ أُولَئِكَ الْجَمْعِ بَعْدَ مَجِيءِ الرَّسُولِ كَمَا كَانَ قَبْلَ مَجِيئِهِ، كَفَى ذَلِكَ فِي الْعَمَلِ بِمَدْلُولِ لَفْظِ حَتَّى، وَفِيهَا وَجْهٌ خَامِسٌ: وَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا قَبْلَ مَبْعَثِ الرَّسُولِ مُنْفَكِّينَ عَنِ التَّرَدُّدِ فِي كُفْرِهِمْ بَلْ كَانُوا جَازِمِينَ بِهِ مُعْتَقِدِينَ حَقِيقَتَهُ، ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ الْجَزْمُ بَعْدَ مَبْعَثِ الرَّسُولِ، بَلْ بَقُوا شَاكِّينَ مُتَحَيِّرِينَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ وَفِي سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [الْبَقَرَةِ: 213] وَالْمَعْنَى أَنَّ الدِّينَ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ صَارَ كَأَنَّهُ اخْتَلَطَ بِلَحْمِهِمْ وَدَمِهِمْ فَالْيَهُودِيُّ كَانَ جَازِمًا فِي يَهُودِيَّتِهِ وَكَذَا النَّصْرَانِيُّ وَعَابِدُ الْوَثَنِ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: اضْطَرَبَتِ الْخَوَاطِرُ وَالْأَفْكَارُ وَتَشَكَّكَ كُلُّ أَحَدٍ فِي دِينِهِ وَمَذْهَبِهِ وَمَقَالَتِهِ، وَقَوْلُهُ: مُنْفَكِّينَ مُشْعِرٌ بِهَذَا لِأَنَّ انْفِكَاكَ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ هُوَ انْفِصَالُهُ عَنْهُ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ قُلُوبَهُمْ مَا خَلَتْ عَنْ تِلْكَ الْعَقَائِدِ وَمَا انْفَصَلَتْ عَنِ الْجَزْمِ بِصِحَّتِهَا، ثُمَّ إِنَّ بَعْدَ الْمَبْعَثِ لَمْ يَبْقَ الْأَمْرُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْكُفَّارُ كَانُوا جِنْسَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَهْلُ الْكِتَابِ كَفِرَقِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَكَانُوا كُفَّارًا بِإِحْدَاثِهِمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَفَرُوا بِهِ كَقَوْلِهِمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 30] وَ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] وَتَحْرِيفِهِمْ/ كِتَابَ اللَّهِ وَدِينَهُ وَالثَّانِي: الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ كَانُوا لَا يُنْسَبُونَ إِلَى كِتَابٍ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْجِنْسَيْنِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى الْإِجْمَالِ ثم أردف ذلك الإجمال بالتفضل، وهو قوله: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ وهاهنا سؤالات: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْهُمْ كَافِرٌ وَمِنْهُمْ لَيْسَ بِكَافِرٍ، وَهَذَا حَقٌّ، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ كَافِرٌ وَمِنْهُمْ لَيْسَ بِكَافِرٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِحَقٍّ وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: كَلِمَةُ من هاهنا لَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ بَلْ لِلتَّبْيِينِ كَقَوْلِهِ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الْحَجِّ: 30] وَثَانِيهَا: أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بَعْضُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَعْضُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَإِدْخَالُ كَلِمَةِ مِنْ لِهَذَا السَّبَبِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَالْمُشْرِكِينَ أَيْضًا وَصْفًا لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّصَارَى مُثَلِّثَةٌ وَالْيَهُودَ عَامَّتُهُمْ مُشَبِّهَةٌ، وَهَذَا كُلُّهُ شِرْكٌ، وَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ: جَاءَنِي الْعُقَلَاءُ

وَالظُّرَفَاءُ يُرِيدُ بِذَلِكَ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ يَصِفُهُمْ بِالْأَمْرَيْنِ وَقَالَ تَعَالَى: الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ [التَّوْبَةِ: 112] وَهَذَا وَصْفٌ لِطَائِفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ، وَهُوَ أَنْ يُنْعَتَ قَوْمٌ بِنُعُوتٍ شَتَّى، يُعْطَفُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِوَاوِ الْعَطْفِ وَيَكُونُ الْكُلُّ وَصْفًا لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ. السُّؤَالُ الثَّانِي: الْمَجُوسُ هَلْ يَدْخُلُونَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ؟ قُلْنَا: ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ في أَهْلِ الْكِتَابِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُونَ قَالَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ كَانَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا [الْأَنْعَامِ: 156] وَالطَّائِفَتَانِ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَقْدِيمِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْكُفْرِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ؟ حَيْثُ قَالَ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ الْوَاوَ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ، وَمَعَ هَذَا فَفِيهِ فَوَائِدُ أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ فَكَأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ هُمُ الْمَقْصُودُونَ بِالذِّكْرِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا عُلَمَاءَ بِالْكُتُبِ فَكَانَتْ قُدْرَتُهُمْ عَلَى مَعْرِفَةِ صِدْقِ مُحَمَّدٍ أَتَمَّ، فَكَانَ إِصْرَارُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ أَقْبَحَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ عُلَمَاءَ يَقْتَدِي غَيْرُهُمْ بِهِمْ فَكَانَ كُفْرُهُمْ أَصْلًا لِكُفْرِ غَيْرِهِمْ، فَلِهَذَا قُدِّمُوا فِي الذِّكْرِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ عُلَمَاءَ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهِمْ فَقُدِّمُوا فِي الذِّكْرِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لِمَ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَمْ يَقُلْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ عُلَمَاءَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي إِمَّا مَزِيدَ تَعْظِيمٍ، فَلَا جَرَمَ ذُكِرُوا بِهَذَا اللَّقَبِ دُونَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ لِأَنَّ كَوْنَهُ عَالِمًا يَقْتَضِي مَزِيدَ قُبْحٍ فِي كُفْرِهِ، فَذُكِرُوا بِهَذَا الْوَصْفِ تَنْبِيهًا عَلَى تِلْكَ الزِّيَادَةِ مِنَ الْعِقَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالشَّرْعِ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى فَسَّرَ قَوْلَهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَبِالْمُشْرِكِينَ، فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْكُلِّ وَاحِدًا فِي الْكُفْرِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْكُفْرُ كُلُّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَالْمُشْرِكُ يَرِثُ الْيَهُودِيَّ وَبِالْعَكْسِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَطْفَ أَوْجَبَ الْمُغَايَرَةَ، فَلِذَلِكَ نَقُولُ: الذِّمِّيُّ لَيْسَ بِمُشْرِكٍ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ» فأثبت التفرقة بين الكتابي والمشرك نَبَّهَ بِذِكْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاغْتِرَارُ بِأَهْلِ الْعِلْمِ إِذْ قَدْ حَدَثَ فِي أَهْلِ الْقُرْآنِ مِثْلُ مَا حَدَثَ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: الِانْفِكَاكُ هُوَ انْفِرَاجُ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَكِّ وَهُوَ الْفَتْحُ وَالزَّوَالُ، وَمِنْهُ فَكَكْتُ الْكِتَابَ إِذَا أَزَلْتُ خَتْمَهُ فَفَتَحْتُهُ، وَمِنْهُ فِكَاكُ الرَّهْنِ وَهُوَ زَوَالُ الِانْغِلَاقِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ ضِدَّ قَوْلِهِ: انْفَكَّ الرَّهْنُ، وَمِنْهُ فِكَاكُ الْأَسِيرِ وَفَكُّهُ، فَثَبَتَ أَنَّ انْفِكَاكَ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ هُوَ أَنْ يُزِيلَهُ بَعْدَ الْتِحَامِهِ بِهِ، كَالْعَظْمِ إِذَا انْفَكَّ مِنْ مَفْصِلِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مُتَشَبِّثُونَ بِدِينِهِمْ تَشَبُّثًا قَوِيًّا لَا يُزِيلُونَهُ إِلَّا عِنْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَةِ، أَمَّا الْبَيِّنَةُ فَهِيَ الْحُجَّةُ الظَّاهِرَةُ الَّتِي بِهَا يَتَمَيَّزُ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ فَهِيَ مِنَ الْبَيَانِ أَوِ الْبَيْنُونَةِ لِأَنَّهَا تُبَيِّنُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَفِي الْمُرَادِ مِنَ الْبَيِّنَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا هِيَ الرَّسُولُ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِي أَنَّهُ لِمَ سُمِّيَ الرَّسُولُ بِالْبَيِّنَةِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَاتَهُ كَانَتْ بينة على

نُبُوَّتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي نِهَايَةِ الْجِدِّ فِي تَقْرِيرِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَمَنْ كَانَ كَذَّابًا مُتَصَنِّعًا فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ ذَلِكَ الْجِدُّ الْمُتَنَاهِي، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَادِقًا أَوْ مَعْتُوهًا وَالثَّانِي: مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي غَايَةِ كَمَالِ الْعَقْلِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ صَادِقًا الثَّانِي: أَنَّ مَجْمُوعَ الْأَخْلَاقِ الْحَاصِلَةِ فِيهِ كَانَ بَالِغًا إِلَى حَدِّ كَمَالِ الْإِعْجَازِ، وَالْجَاحِظُ قَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى، وَالْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ نَصَرَهُ فِي كِتَابِ «الْمُنْقِذِ» ، فَإِذًا لِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ سُمِّيَ هُوَ فِي نَفْسِهِ بِأَنَّهُ بَيِّنَةٌ الثَّالِثُ: أَنَّ مُعْجِزَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَتْ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَكَانَتْ أَيْضًا فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ فَلِاجْتِمَاعِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ جُعِلَ كَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي نَفْسِهِ بَيِّنَةٌ وَحُجَّةٌ، ولذلك سماه الله تعالى سراجا منيرا. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْبَيِّنَةِ هُوَ الرَّسُولُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ فَهُوَ رَفْعٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْبَيِّنَةِ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: رَسُولًا حَالٌ مِنَ الْبَيِّنَةِ قَالُوا: وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: الْبَيِّنَةُ لِلتَّعْرِيفِ أَيْ هُوَ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى لِسَانِ مُوسَى وَعِيسَى، أَوْ يُقَالُ: إِنَّهَا لِلتَّفْخِيمِ أَيْ هُوَ الْبَيِّنَةُ الَّتِي لَا مَزِيدَ عَلَيْهَا أَوِ الْبَيِّنَةُ كُلُّ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ قَدْ يَكُونُ لِلتَّفْخِيمِ وَكَذَا التَّنْكِيرُ وقد جمعهما الله هاهنا فِي حَقِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَبَدَأَ بِالتَّعْرِيفِ وَهُوَ لَفْظُ الْبَيِّنَةِ ثُمَّ ثَنَّى بِالتَّنْكِيرِ فَقَالَ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ أَيْ هُوَ رَسُولٌ، وَأَيُّ رَسُولٍ، وَنَظِيرُهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الثَّنَاءِ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج: 15] ثم قال: فَعَّالٌ [البروج: 16] فَنَكَّرَ بَعْدَ التَّعْرِيفِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْبَيِّنَةُ مُطْلَقُ الرُّسُلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: / حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ أَيْ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ رُسُلٌ مِنْ مَلَائِكَةِ الله تتلوا عليهم صحفا مطهرة وهو كقوله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ [النِّسَاءِ: 153] وَكَقَوْلِهِ: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [الْمُدَّثِّرِ: 52] . الْقَوْلُ الثالث: وهو قَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ: الْبَيِّنَةُ هِيَ الْقُرْآنُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى [طه: 133] ثُمَّ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ: وَتِلْكَ الْبَيِّنَةُ وَحْيٌ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ فَاعْلَمْ أَنَّ الصُّحُفَ جَمْعُ صَحِيفَةٍ وَهِيَ ظَرْفٌ لِلْمَكْتُوبِ، وَفِي: الْمُطَهَّرَةِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مُطَهَّرَةً عَنِ الْبَاطِلِ وَهِيَ كَقَوْلِهِ: لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فُصِّلَتْ: 42] وَقَوْلِهِ: مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ [عَبَسَ: 14] ، وَثَانِيهَا: مُطَهَّرَةً عَنِ الذِّكْرِ الْقَبِيحِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ يُذْكَرُ بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ وَيُثْنَى عَلَيْهِ أَحْسَنَ الثَّنَاءِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يُقَالَ: مُطَهَّرَةً أَيْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمَسَّهَا إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الْوَاقِعَةِ: 78، 79] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُطَهَّرَةَ وَإِنْ جَرَتْ نَعْتًا لِلصُّحُفِ فِي الظَّاهِرِ فَهِيَ نَعْتٌ لِمَا فِي الصُّحُفِ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَقَوْلُهُ: كُتُبٌ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا الْمُرَادُ مِنَ الْكُتُبِ الْآيَاتُ الْمَكْتُوبَةُ فِي الصُّحُفِ وَالثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «النَّظْمِ» : الْكُتُبُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْحُكْمِ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ [الْمُجَادَلَةِ: 21] وَمِنْهُ حَدِيثُ الْعَسِيفِ: «لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ» أَيْ بِحُكْمِ اللَّهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: كُتُبٌ قَيِّمَةٌ أَيْ أَحْكَامٌ قَيِّمَةٌ أَمَّا الْقَيِّمَةُ فَفِيهَا قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: مُسْتَقِيمَةٌ لَا عِوَجَ فِيهَا تُبَيِّنُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ مِنْ قَامَ يَقُومُ كَالسَّيِّدِ وَالْمَيِّتِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى كَذَا إِذَا ظَهَرَ وَاسْتَقَامَ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْقَيِّمَةُ بِمَعْنَى الْقَائِمَةِ أَيْ هِيَ قَائِمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ

[سورة البينة (98) : آية 5]

بِالْحُجَّةِ وَالدَّلَالَةِ، مِنْ قَوْلِهِمْ قَامَ فُلَانٌ بِالْأَمْرِ يَقُومُ بِهِ إِذَا أَجْرَاهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْقَائِمِ بِأَمْرِ الْقَوْمِ الْقَيِّمُ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ نَسَبَ تِلَاوَةَ الصُّحُفِ الْمُطَهَّرَةِ إِلَى الرَّسُولِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا؟ قُلْنَا: إِذَا تَلَا مَثَلًا الْمَسْطُورَ فِي تِلْكَ الصُّحُفِ كَانَ تَالِيًا مَا فِيهَا وَقَدْ جَاءَ فِي كِتَابٍ مَنْسُوبٍ إِلَى جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقْرَأُ مِنَ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَكْتُبُ، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ في أول السورة، أهل الكتاب والمشركين، وهاهنا ذَكَرَ أَهْلَ الْكِتَابِ فَقَطْ، فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟ وَجَوَابُهُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُقَرُّوا عَلَى دِينِهِمْ فَمَنْ آمَنَ فَهُوَ الْمُرَادُ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ قُتِلَ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يُقَرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا عَالِمِينَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ وَجَدُوهَا فِي كُتُبِهِمْ، فَإِذَا وُصِفُوا بِالتَّفَرُّقِ مَعَ الْعِلْمِ كَانَ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ أَدْخَلَ فِي هَذَا الْوَصْفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تُبْطِلُ قَوْلَ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ النَّاسَ تَفَرَّقُوا فِي الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا رَكِيكٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِذَلِكَ وَإِرَادَتَهُ لَهُ حَاصِلٌ فِي الْأَزَلِ، أما ظهروه مِنَ الْمُكَلَّفِ فَإِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ الْحَالَةِ الْمَخْصُوصَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أن الكفر والتفرق فعلمهم لَا أَنَّهُ مُقَدَّرٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، ثُمَّ قَالَ: أُوتُوا الْكِتابَ أَيْ أَنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ آتَاهُمْ ذَلِكَ فَالْخَيْرُ وَالتَّوْفِيقُ مُضَافٌ إِلَى اللَّهِ، وَالشَّرُّ وَالتَّفَرُّقُ وَالْكُفْرُ مُضَافٌ إِلَيْهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ لَا يَغُمَّنَّكَ تَفَرُّقُهُمْ فَلَيْسَ ذَلِكَ لِقُصُورٍ فِي الْحُجَّةِ بَلْ لِعِنَادِهِمْ، فَسَلَفُهُمْ هَكَذَا كَانُوا لَمْ يَتَفَرَّقُوا فِي السَّبْتِ وَعِبَادَةِ الْعِجْلِ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ فهي عادة قديمة لهم. أما قوله تعالى: [سورة البينة (98) : آية 5] وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) [قَوْلُهُ تَعَالَى وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: وَمَا أُمِرُوا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَما أُمِرُوا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إِلَّا بِالدِّينِ الْحَنِيفِيِّ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ كَمَا أَنَّهُ كَانَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّهِمْ فَهُوَ مَشْرُوعٌ فِي حقنا وثانيها: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَمَا أُمِرَ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَهَذَا أَوْلَى لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْآيَةَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تُفِيدُ شَرْعًا جَدِيدًا وَحَمْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى مَا يَكُونُ أَكْثَرَ فَائِدَةً أَوْلَى وَثَانِيهَا: وَهُوَ أَنَّ ذكر محمد عليه السلام قد مر هاهنا وهو قوله: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةُ: 1] وَذِكْرَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَمْ يَتَقَدَّمْ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ فَحَكَمَ بِكَوْنِ مَا هُوَ مُتَعَلِّقُ هَذِهِ الْآيَةِ دِينًا قَيِّمًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْعًا فِي حَقِّنَا سَوَاءٌ قُلْنَا بِأَنَّهُ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا أَوْ شَرْعٌ جَدِيدٌ يَكُونُ هَذَا بَيَانًا لِشَرْعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ دَقِيقَةٌ وَهِيَ أَنَّ هَذِهِ اللَّامَ لَامُ الْغَرَضِ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ فَهُوَ نَاقِصٌ لِذَاتِهِ مُسْتَكْمِلٌ بِذَلِكَ الْغَرَضِ، فَلَوْ فَعَلَ اللَّهُ فِعْلًا لَكَانَ نَاقِصًا لِذَاتِهِ مُسْتَكْمِلًا بِالْغَيْرِ وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْغَرَضَ إِنْ كَانَ قَدِيمًا/ لَزِمَ مِنْ قِدَمَهِ قِدَمُ الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ مُحْدَثًا افْتَقَرَ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ فَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ وَلِأَنَّهُ إِنْ عَجَزَ عَنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْغَرَضِ إِلَّا بِتِلْكَ الْوَاسِطَةِ فَهُوَ عَاجِزٌ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ كَانَ تَوْسِيطُ تِلْكَ الْوَاسِطَةِ عَبَثًا، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ. ثُمَّ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَجْعَلُ اللَّامَ فِي مَوْضِعِ أَنْ فِي الْأَمْرِ وَالْإِرَادَةِ كَثِيرًا، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النِّسَاءِ: 26] يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا [الصِّفِّ: 8] وَقَالَ فِي الْأَمْرِ: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ [الْأَنْعَامِ: 71] وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَالْإِخْلَاصُ عِبَارَةٌ عَنِ النِّيَّةِ الْخَالِصَةِ، وَالنِّيَّةُ الْخَالِصَةُ لَمَّا كَانَتْ مُعْتَبَرَةً كَانَتِ النِّيَّةُ مُعْتَبَرَةً، فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَأْمُورٍ بِهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَنْوِيًّا، ثُمَّ قَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: الْوُضُوءُ مَأْمُورٌ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَةِ: 6] وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَأْمُورٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنْوِيًّا، فَيَلْزَمُ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ وُجُوبُ كَوْنِ الْوُضُوءِ مَنْوِيًّا، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ تَعْلِيلَ أَفْعَالِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ بِالْأَغْرَاضِ، لَا جَرَمَ أَجْرَوُا الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا فَقَالُوا مَعْنَى الْآيَةِ: وَمَا أُمِرُوا بِشَيْءٍ إِلَّا لِأَجْلِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَيْضًا قَوِيٌّ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ وَمَا أُمِرُوا بِشَيْءٍ إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَهَذَا أَيْضًا يَقْتَضِي اعْتِبَارَ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: النَّظَرُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ مَأْمُورٌ بِهِ وَيَسْتَحِيلُ اعْتِبَارُ النِّيَّةِ فِيهِ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا إِلَّا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ، فَمَا كَانَ قَبْلَ الْمَعْرِفَةِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ النِّيَّةِ فِيهِ. قُلْنَا: هَبْ أَنَّهُ خَصَّ عُمُومَ الْآيَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِحُكْمِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي ذَكَرْتُمْ فَيَبْقَى فِي الْبَاقِي حُجَّةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: أُمِرُوا مَذْكُورٌ بِلَفْظِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَهُوَ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَةِ: 183] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [الْبَقَرَةِ: 178] قَالُوا: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الْعِبَادَةُ شَاقَّةٌ وَلَا أُرِيدُ مَشَقَّتَكَ إِرَادَةً أَصْلِيَّةً بَلْ إِرَادَتِي لِعِبَادَتِكَ كَإِرَادَةِ الْوَالِدَةِ لِحِجَامَتِكَ، وَلِهَذَا لَمَّا آلَ الْأَمْرُ إِلَى الرَّحْمَةِ قَالَ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الْأَنْعَامِ: 54] ، كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [الْمُجَادَلَةِ: 22] وَذُكِرَ فِي الْوَاقِعَاتِ إِذَا أَرَادَ الْأَبُ مِنِ ابْنِهِ عَمَلًا يَقُولُ لَهُ أَوَّلًا: يَنْبَغِي أَنَّ تَفْعَلَ هَذَا وَلَا يَأْمُرَهُ صَرِيحًا، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَرُدُّ عَلَيْهِ فَتَعْظُمُ جِنَايَتُهُ، فَهَهُنَا أَيْضًا لَمْ يُصَرِّحْ بِالْأَمْرِ لِتَخِفَّ جِنَايَةُ الرَّادِّ وَثَانِيهَا: أَنَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، نَقُولُ: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَسْتُ أَنَا الْآمِرَ لِلْعِبَادَةِ فَقَطْ، بَلْ عَقْلُكَ أَيْضًا يَأْمُرُكَ لِأَنَّ النِّهَايَةَ فِي التَّعْظِيمِ لِمَنْ أَوْصَلَ إِلَيْكَ [أَنَّ] نِهَايَةَ الْإِنْعَامِ وَاجِبَةٌ فِي الْعُقُولِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ تَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ حَيْثُ قَالُوا: الْعِبَادَةُ مَا وَجَبَتْ لِكَوْنِهَا مُفْضِيَةً إِلَى ثَوَابِ الْجَنَّةِ، أَوْ إِلَى الْبُعْدِ عَنْ عِقَابِ النَّارِ، بَلْ لِأَجْلِ أَنَّكَ عَبْدٌ وَهُوَ رَبٌّ، فَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ فِي الدِّينِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ الْبَتَّةَ، ثُمَّ أَمَرَكَ بِالْعِبَادَةِ وَجَبَتْ لِمَحْضِ الْعُبُودِيَّةِ، وَفِيهَا أَيْضًا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَالْمَعْبُودُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَالْحَقُّ وَاسِطَةٌ، وَنِعْمَ مَا قِيلَ: مَنْ آثَرَ الْعِرْفَانَ لِلْعِرْفَانِ فَقَدْ قَالَ بِالثَّانِي «1» / وَمَنْ آثَرَ الْعِرْفَانَ لَا لِلْعِرْفَانِ، بَلْ لِلْمَعْرُوفِ، فَقَدْ خَاضَ لُجَّةَ الْوُصُولِ.

_ (1) قوله بالثاني لا معنى له، ولعلها مصحفة عن الفاني.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْعِبَادَةُ هِيَ التَّذَلُّلُ، وَمِنْهُ طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ أَيْ مُذَلَّلٌ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا الطَّاعَةُ فَقَدْ أَخْطَأَ، لِأَنَّ جَمَاعَةً عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْمَسِيحَ وَالْأَصْنَامَ، وَمَا أَطَاعُوهُمْ وَلَكِنْ فِي الشَّرْعِ صَارَتِ اسما لكل طاعة الله، أُدِّيَتْ لَهُ عَلَى وَجْهِ التَّذَلُّلِ وَالنِّهَايَةِ فِي التَّعْظِيمِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَةَ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَسْتَحِقُّهَا إِلَّا مَنْ يَكُونُ وَاحِدًا فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ مِثْلٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصْرَفَ إِلَيْهِ النِّهَايَةُ فِي التَّعْظِيمِ، ثُمَّ نَقُولُ: لَا بُدَّ فِي كَوْنِ الْفِعْلِ عِبَادَةً مِنْ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: غَايَةُ التَّعْظِيمِ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّ صَلَاةَ الصَّبِيِّ لَيْسَتْ بِعِبَادَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ عَظَمَةَ اللَّهِ، فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ فِي غَايَةِ التَّعْظِيمِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ، فَفِعْلُ الْيَهُودِيِّ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ، وَإِنْ تَضَمَّنَ نِهَايَةَ التَّعْظِيمِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، وَالنُّكْتَةُ الْوَعْظِيَّةُ فِيهِ، أَنَّ فِعْلَ الصَّبِيِّ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ لِفَقْدِ التَّعْظِيمِ وَفِعْلَ الْيَهُودِيِّ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ لِفَقْدِ الْأَمْرِ، فَكَيْفَ يَكُونُ رُكُوعُكَ النَّاقِصُ عِبَادَةً وَلَا أَمْرٌ وَلَا تَعْظِيمٌ؟. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْإِخْلَاصُ هُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفِعْلِ خَالِصًا لِدَاعِيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَكُونُ لِغَيْرِهَا مِنَ الدَّوَاعِي تَأْثِيرٌ فِي الدُّعَاءِ إِلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَالنُّكَتُ الْوَعْظِيَّةُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ عَبْدِي لَا تَسْعَ فِي إِكْثَارِ الطَّاعَةِ بَلْ فِي إِخْلَاصِهَا لِأَنِّي مَا بَذَلْتُ كُلَّ مَقْدُورِي لَكَ حَتَّى أَطْلُبَ مِنْكَ كُلَّ مَقْدُورِكَ، بَلْ بَذَلْتُ لَكَ الْبَعْضَ، فَأَطْلُبُ مِنْكَ الْبَعْضَ نِصْفًا مِنَ الْعِشْرِينَ، وَشَاةً مِنَ الْأَرْبَعِينَ، لَكِنَّ الْقَدْرَ الَّذِي فَعَلْتُهُ لَمْ أُرِدْ بِفِعْلِهِ سِوَاكَ، فَلَا تُرِدْ بِطَاعَتِكَ سِوَايَ، فَلَا تَسْتَثْنِ مِنْ طَاعَتِكَ لِنَفْسِكَ فَضْلًا مِنْ أَنْ تَسْتَثْنِيَهُ لِغَيْرِكَ، فَمِنْ ذَلِكَ الْمُبَاحُ الَّذِي يُوجَدُ مِنْكَ فِي الصَّلَاةِ كَالْحَكَّةِ وَالتَّنَحْنُحِ فَهُوَ حَظٌّ اسْتَثْنَيْتَهُ لِنَفْسِكَ فَانْتَفَى الْإِخْلَاصُ، وَأَمَّا الِالْتِفَاتُ الْمَكْرُوهُ فَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا عَقْلُ أَنْتَ حَكِيمٌ لَا تَمِيلُ إِلَى الْجَهْلِ وَالسَّفَهِ وَأَنَا حَكِيمٌ لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ الْبَتَّةَ، فَإِذًا لَا تُرِيدُ إِلَّا مَا أُرِيدُ وَلَا أُرِيدُ إِلَّا مَا تُرِيدُ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ مَلِكُ الْعَالَمِينَ وَالْعَقْلُ مَلِكٌ لِهَذَا الْبَدَنِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ قَالَ: الْمَلِكُ لَا يَخْدُمُ الْمَلِكَ لَكِنْ [لِكَيْ] نَصْطَلِحَ أَجْعَلُ جَمِيعَ مَا أَفْعَلُهُ لِأَجْلِكَ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَةِ: 29] فَاجْعَلْ أَنْتَ أَيْضًا جَمِيعَ مَا تَفْعَلُهُ لِأَجْلِي: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: 5] . وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: مُخْلِصِينَ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ فَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا يَجِبُ مِنْ تَحْصِيلِ الْإِخْلَاصِ مِنِ ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ إِلَى انْتِهَائِهِ، وَالْمُخْلِصُ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالْحَسَنِ لِحُسْنِهِ، وَالْوَاجِبِ لِوُجُوبِهِ، فَيَأْتِي بِالْفِعْلِ لِوَجْهِهِ مُخْلِصًا لِرَبِّهِ، لَا يُرِيدُ رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً وَلَا غَرَضًا آخَرَ، بَلْ قَالُوا: لَا يُجْعَلُ طَلَبُ الْجَنَّةِ مَقْصُودًا وَلَا النَّجَاةُ عَنِ النَّارِ مَطْلُوبًا وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي التَّوْرَاةِ: مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهِي فَقَلِيلُهُ كَثِيرٌ وَمَا أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ وَجْهِي فَكَثِيرُهُ قَلِيلٌ. وَقَالُوا مِنَ الْإِخْلَاصِ أَنْ لَا يَزِيدَ فِي الْعِبَادَاتِ عِبَادَةً أُخْرَى لِأَجْلِ الْغَيْرِ، مِثْلَ الْوَاجِبُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ شَاةٌ، فَإِذَا ذَبَحْتَ اثْنَتَيْنِ وَاحِدَةً لِلَّهِ وَوَاحِدَةً لِلْأَمِيرِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ شِرْكٌ، وَإِنْ زِدْتَ فِي الْخُشُوعِ، لِأَنَّ النَّاسَ يَرَوْنَهُ لَمْ يَجُزْ، فَهَذَا إِذَا خَلَطْتَ بِالْعِبَادَةِ عِبَادَةً/ أُخْرَى، فَكَيْفَ وَلَوْ خَلَطْتَ بِهَا مَحْظُورًا مِثْلَ أَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَى إِمَامِكَ، بَلْ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ وَلَا إِلَى الْعَبِيدِ وَلَا الْإِمَاءِ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْلِصْ، فَإِذَا طَلَبْتَ بِذَلِكَ سُرُورَ وَالِدِكَ أَوْ وَلَدِكَ يَزُولُ الْإِخْلَاصُ، فَكَيْفَ إِذَا طَلَبْتَ مَسَرَّةَ شَهْوَتِكَ كَيْفَ يَبْقَى الْإِخْلَاصُ؟ وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ السَّلَفِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: مُخْلِصِينَ قَالَ بَعْضُهُمْ: مُقِرِّينَ لَهُ بِالْعِبَادَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: قَاصِدِينَ بِقُلُوبِهِمْ رِضَا اللَّهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ يَعْبُدُونَهُ مُوَحِّدِينَ لَهُ لَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً [التَّوْبَةِ: 21] .

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ فَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: مُتَّبِعِينَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً/ وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النَّحْلِ: 123] وَهَذَا التَّفْسِيرُ فِيهِ لَطِيفَةٌ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ التقليد مسئول عَلَى الطِّبَاعِ لَمْ يَسْتَجِزْ مَنْعَهُ عَنِ التَّقْلِيدِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَمْ يَسْتَجِزِ التَّعْوِيلَ عَلَى التَّقْلِيدِ أَيْضًا بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ قَوْمًا أَجْمَعَ الْخَلْقُ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى تَزْكِيَتِهِمْ، وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ وَمَنْ مَعَهُ، فَقَالَ: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الْمُمْتَحِنَةِ: 4] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنْ كُنْتَ تُقَلِّدُ أَحَدًا فِي دِينِكَ، فَكُنْ مُقَلِّدًا إِبْرَاهِيمَ، حَيْثُ تَبَرَّأَ مِنَ الْأَصْنَامِ وَهَذَا غَيْرُ عَجِيبٍ فَإِنَّهُ قَدْ تَبَرَّأَ مِنْ نَفْسِهِ حين سلمها إلى النيران، ومن ما حِينَ بَذَلَهُ لِلضِّيفَانِ، وَمِنْ وَلَدِهِ حِينَ بَذَلَهُ لِلْقُرْبَانِ، بَلْ رُوِيَ أَنَّهُ سَمِعَ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ فَاسْتَطَابَهُ، وَلَمْ يَرَ شَخْصًا فَاسْتَعَادَهُ، فَقَالَ: أَمَّا بِغَيْرِ أَجْرٍ فَلَا، فَبَذَلَ كُلَّ مَا مَلَكَهُ فَظَهَرَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ: حُقَّ لَكَ حَيْثُ سَمَّاكَ خَلِيلًا فَخُذْ مَالَكَ، فَإِنَّ الْقَائِلَ: كُنْتُ أَنَا، بَلِ انْقَطَعَ إِلَى اللَّهِ حَتَّى عَنْ جِبْرِيلَ حِينَ قَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا، فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ كُنْتَ عَابِدًا فَاعْبُدْ كَعِبَادَتِهِ، فَإِذَا لَمْ تَتْرُكِ الْحَلَالَ وَأَبْوَابَ السَّلَاطِينِ، أَمَا تَتْرُكُ الْحَرَامَ وَمُوَافَقَةَ الشَّيَاطِينِ، فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى مُتَابَعَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَاجْتَهِدْ فِي مُتَابَعَةِ وَلَدِهِ الصَّبِيِّ، كَيْفَ انْقَادَ لِحُكْمِ رَبِّهِ مَعَ صِغَرِهِ، فَمَدَّ عُنُقَهُ لِحُكْمِ الرُّؤْيَا، وَإِنْ كُنْتَ دُونَ الرَّجُلِ فَاتَّبِعِ الْمَوْسُومَ بِنُقْصَانِ الْعَقْلِ، وَهُوَ أُمُّ الذَّبِيحِ، كَيْفَ تَجَرَّعَتْ تِلْكَ الْغُصَّةَ، ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الْحُرَّةَ نِصْفُ الرَّجُلِ فإن الاثنتين يقومان مَقَامَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ فِي الشَّهَادَةِ وَالْإِرْثِ، وَالرَّقِيقَةُ نِصْفُ الْحُرَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّ لِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ مِنَ الْقَسْمِ فَهَاجَرُ كَانَتْ رُبُعَ الرَّجُلِ، ثُمَّ انْظُرْ كيف أطاعت ربها فتحملت المحنة في ولادها ثُمَّ صَبَرَتْ حِينَ تَرَكَهَا الْخَلِيلُ وَحِيدَةً فَرِيدَةً فِي جِبَالِ مَكَّةَ بِلَا مَاءٍ وَلَا زَادٍ وَانْصَرَفَ، لَا يُكَلِّمُهَا وَلَا يَعْطِفُ عَلَيْهَا، قَالَتْ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ نَعَمْ، فَرَضِيَتْ بِذَلِكَ وَصَبَرَتْ عَلَى تِلْكَ الْمَشَاقِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: حُنَفاءَ أَيْ مُسْتَقِيمِينَ وَالْحَنَفُ هُوَ الِاسْتِقَامَةُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ مَائِلُ الْقَدَمِ أَحْنَفَ عَلَى سَبِيلِ التَّفَاؤُلِ، كَقَوْلِنَا: لِلْأَعْمَى بَصِيرٌ وَلِلْمَهْلَكَةِ مَفَازَةٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فُصِّلَتْ: 30] اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَةِ: 6] . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حُجَّاجًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْعِبَادَ أَوَّلًا ثُمَّ قَالَ: حُنَفَاءَ وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْحَجَّ عَلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّ فِي الْحَجِّ صَلَاةً وَإِنْفَاقَ مَالٍ الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو قِلَابَةَ/ الْحَنِيفُ الَّذِي آمَنَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ أَحَدًا مِنْهُمْ، فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِأَفْضَلِ الْأَنْبِيَاءِ كَيْفَ يَكُونُ حَنِيفًا الْخَامِسُ: حُنَفَاءَ أَيْ جَامِعِينَ لِكُلِّ الدِّينِ إِذِ الْحَنِيفِيَّةُ كُلُّ الدِّينِ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ» السَّادِسُ: قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الْخِتَانُ وَتَحْرِيمُ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ أَيْ مَخْتُونِينَ مُحَرِّمِينَ لِنِكَاحِ الْأُمِّ وَالْمَحَارِمِ، فَقَوْلُهُ: حُنَفاءَ إِشَارَةٌ إِلَى النَّفْيِ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِالْإِثْبَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ السَّابِعُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: أَصْلُهُ مِنَ الْحَنَفِ في الرجل، وهو إدبار إبهامها عن أخواتها حَتَّى يُقْبِلَ عَلَى إِبْهَامِ الْأُخْرَى، فَيَكُونُ الْحَنِيفُ هُوَ الَّذِي يَعْدِلُ عَنِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا إِلَى الإسلام الثامن: قال الربيع بن أنس: الْحَنِيفُ الَّذِي يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ بِصَلَاتِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عِنْدَ التَّكْبِيرِ يَقُولُ: وَجَّهْتُ وَجْهِي للذي فطر السموات وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ فَقَدْ مَرَّ مِرَارًا كَثِيرَةً، ثُمَّ قَالَ: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: ذَلِكَ دِينُ الْمِلَّةِ الْقَيِّمَةِ، فَالْقَيِّمَةُ نَعْتٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، وَالْمُرَادُ

مِنَ الْقَيِّمَةِ إِمَّا الْمُسْتَقِيمَةُ أَوِ الْقَائِمَةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا مِنْ إِضَافَةِ النَّعْتِ إِلَى الْمَنْعُوتِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ [الْوَاقِعَةِ: 95] وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: كُتُبٌ قَيِّمَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَطَائِفُ إِحْدَاهَا: أَنَّ الْكَمَالَ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا حَصَلَ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ مَعًا، فَقَوْمٌ أَطْنَبُوا فِي الْأَعْمَالِ مِنْ غَيْرِ إِحْكَامِ الْأُصُولِ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ، فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا أَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الطَّاعَاتِ، وَلَكِنَّهُمْ مَا حَصَّلُوا الدِّينَ الْحَقَّ، وَقَوْمٌ حَصَّلُوا الْأُصُولَ وَأَهْمَلُوا الْفُرُوعَ، وَهُمُ الْمُرْجِئَةُ الَّذِينَ قَالُوا: لَا يَضُرُّ الذَّنْبُ مَعَ الْإِيمَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى خَطَّأَ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِخْلَاصِ فِي قَوْلِهِ: مُخْلِصِينَ وَمِنَ الْعَمَلِ فِي قَوْلِهِ: وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ قَالَ: وَذلِكَ الْمَجْمُوعُ كُلُّهُ هُوَ دِينُ الْقَيِّمَةِ أَيِ البينة المستقيمة المعتدلة، فكمال أن مجموع الأعضاء بدن واحد كذا هذا الْمَجْمُوعُ دِينٌ وَاحِدٌ فَقَلْبُ دِينِكَ الِاعْتِقَادُ وَوَجْهُهُ الصَّلَاةُ وَلِسَانُهُ الْوَاصِفُ لِحَقِيقَتِهِ الزَّكَاةُ لِأَنَّ بِاللِّسَانِ يَظْهَرُ قَدْرُ فَضْلِكَ وَبِالصَّدَقَةِ يَظْهَرُ قَدْرُ دِينِكَ، ثُمَّ إِنَّ الْقَيِّمَ مَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ إِقَامَةِ مَصَالِحِ نَفْسِهِ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: الْقَائِمُ بِتَحْصِيلِ مَصَالِحِكَ عَاجِلًا وَآجِلًا هُوَ هَذَا الْمَجْمُوعُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: دِيناً قِيَماً [الأنعام: 161] وَقَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ: قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً [الكهف: 2] لِأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْقَيِّمُ بِالْإِرْشَادِ إِلَى الْحَقِّ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ كَانَ فِي عَمَلِ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ فِي عَمَلِهِ» وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَا دُنْيَا مَنْ خَدَمَكِ فَاسْتَخْدِمِيهِ، وَمَنْ خَدَمَنِي فَاخْدِمِيهِ» ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُحْسِنِينَ فِي أَفْعَالِهِمْ هُمْ مِثْلُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى عَبِيدِهِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اشْتَغَلُوا بِالتَّسْبِيحِ لِخَالِقِهِمْ فَالْإِحْسَانُ مِنَ اللَّهِ لَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالتَّعْظِيمُ وَالْعُبُودِيَّةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا مِنَ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا حَضَرَ عَرْصَةَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ مُبَاهِيًا بِهِمْ: مَلَائِكَتِي هَؤُلَاءِ أَمْثَالُكُمْ سَبَّحُوا وَهَلَّلُوا، بَلْ فِي بَعْضِ الْأَفْعَالِ أَمْثَالِي أَحْسَنُوا/ وَتَصَدَّقُوا، ثُمَّ إِنِّي أُكْرِمُكُمْ يَا مَلَائِكَتِي بِمُجَرَّدِ مَا أَتَيْتُمْ بِهِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَأَنْتُمْ تُعَظِّمُونِي بِمُجَرَّدِ مَا فَعَلْتُ مِنَ الْإِحْسَانِ، فَأَنْتُمْ صَبَرْتُمْ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، أَقَامُوا الصَّلَاةَ أَتَوْا بِالْعُبُودِيَّةِ وَآتَوُا الزَّكَاةَ أَتَوْا بِالْإِحْسَانِ، فَأَنْتُمْ صَبَرْتُمْ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَهُمْ صَبَرُوا عَلَى الْأَمْرَيْنِ، فَتَتَعَجَّبُ الْمَلَائِكَةُ مِنْهُمْ وَيَنْصِبُونَ إِلَيْهِمُ النَّظَّارَةَ، فَلِهَذَا قَالَ: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ [الرَّعْدِ: 23، 24] أَفَلَا يَكُونُ هَذَا الدِّينُ قَيِّمًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ الدِّينَ كَالنَّفْسِ فَحَيَاةُ الدِّينِ بِالْمَعْرِفَةِ ثُمَّ النَّفْسُ الْعَالِمَةُ بِلَا قُدْرَةٍ كَالزَّمِنِ الْعَاجِزِ، وَالْقَادِرَةُ بِلَا عِلْمٍ مَجْنُونَةٌ فَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ كَانَتِ النَّفْسُ كَامِلَةً فَكَذَا الصَّلَاةُ لِلدِّينِ كَالْعِلْمِ وَالزَّكَاةُ كَالْقُدْرَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعَتَا سُمِّيَ الدِّينُ قَيِّمَةً وَرَابِعُهَا: وَهُوَ فَائِدَةُ التَّرْتِيبِ أَنَّ الْحَكِيمَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى أَسْهَلِ شَيْءٍ، وَهُوَ الْقَوْلُ وَالِاعْتِقَادُ فَقَالَ: مُخْلِصِينَ ثُمَّ لَمَّا أَجَابُوهُ زَادَهُ، فَسَأَلَهُمُ الصَّلَاةَ الَّتِي بَعْدَ أَدَائِهَا تَبْقَى النَّفْسُ سَالِمَةً كَمَا كَانَتْ، ثُمَّ لَمَّا أَجَابُوهُ وَأَرَادَ مِنْهُمُ الصَّدَقَةَ وَعَلِمَ أَنَّهَا تَشُقُّ عَلَيْهِمْ قَالَ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ الْكُلَّ قَالَ: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ من قال: الإيمان عبادة عَنْ مَجْمُوعِ الْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ، بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: مَجْمُوعُ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْعَمَلِ هُوَ الدِّينُ وَالدِّينُ هُوَ الْإِسْلَامُ وَالْإِسْلَامُ هُوَ الْإِيمَانُ فَإِذًا مَجْمُوعُ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْعَمَلِ هُوَ الْإِيمَانُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَجْمُوعَ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ قَالَ: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ أَيْ وَذَلِكَ

[سورة البينة (98) : آية 6]

الْمَذْكُورُ هُوَ دِينُ الْقَيِّمَةِ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الدِّينَ هُوَ الْإِسْلَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آلِ عِمْرَانَ: 19] وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْإِيمَانُ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِيمَانَ لَوْ كَانَ غَيْرَ الْإِسْلَامِ لَمَا كَانَ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آلِ عِمْرَانَ: 85] لَكِنَّ الْإِيمَانَ بِالْإِجْمَاعِ مَقْبُولٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَهُوَ إِذًا عَيْنُ الْإِسْلَامِ وَالثَّانِي: قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذَّارِيَاتِ: 35، 36] فَاسْتِثْنَاءُ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمُؤْمِنِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ، ظَهَرَ أَنَّ مَجْمُوعَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَعْنِي الْقَوْلَ وَالْفِعْلَ وَالْعَمَلَ هُوَ الْإِيمَانُ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ اسْمٌ لِمُجَرَّدِ الْمَعْرِفَةِ، أو لمجرد الإقرار أولهما معاو الجواب: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَذلِكَ إِلَى الْإِخْلَاصِ فَقَطْ؟ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا نَحْتَاجُ إِلَى الْإِضْمَارِ أَوْلَى، وَأَنْتُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى الْإِضْمَارِ فَتَقُولُونَ: الْمُرَادُ وَذَلِكَ الْمَذْكُورُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَدَمَ الْإِضْمَارِ أَوْلَى، سَلَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: وَذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَ لَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَجْمُوعَ هُوَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ ذَلِكَ الْمَجْمُوعَ هُوَ الدِّينُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدين غير، والدين القيم، فالدين هو الدين الكامل المستقبل بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ الدِّينُ حَاصِلًا، وَكَانَتْ آثَارُهُ وَنَتَائِجُهُ مَعَهُ حَاصِلَةً أَيْضًا، وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَجْمُوعُ، لَمْ يَكُنِ الدِّينُ الْقَيِّمُ حَاصِلًا، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ أَصْلَ الدِّينِ لَا يَكُونُ حَاصِلًا وَالنِّزَاعُ مَا وَقَعَ إِلَّا فِيهِ؟ وَاللَّهُ أعلم. [سورة البينة (98) : آية 6] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْكُفَّارِ أَوَّلًا فِي قَوْلُهُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ [الْبَيِّنَةِ: 1] ثُمَّ ذَكَرَ ثَانِيًا حَالَ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ [البينة: 5] أَعَادَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ ذِكْرَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ، فَبَدَأَ أَيْضًا بِحَالِ الْكُفَّارِ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْخُلُودُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ والثاني: أنهم شر الخلق، وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَدَّمَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي الذِّكْرِ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ يُقَدِّمُ حَقَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا كَسَرُوا رَبَاعِيَّتُهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» وَلَمَّا فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ قَالَ: «اللَّهُمَّ امْلَأْ بُطُونَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا» فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: كَانَتِ الضَّرْبَةُ ثَمَّ عَلَى، وَجْهِ الصُّورَةِ، وَفِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ عَلَى وَجْهِ السِّيرَةِ الَّتِي هِيَ الصَّلَاةُ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَضَاهُ ذَلِكَ فَقَالَ: كَمَا قَدَّمْتَ حَقِّي عَلَى حَقِّكَ فَأَنَا أَيْضًا أُقَدِّمُ حَقَّكَ عَلَى حَقِّ نَفْسِي، فَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ طُولَ عُمُرِهِ لَا يَكْفُرُ وَمَنْ طَعَنَ فِي شَعْرَةٍ مِنْ شَعَرَاتِكَ يَكْفُرُ. إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَنَقُولُ: أَهْلُ الْكِتَابِ مَا كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي اللَّهِ بَلْ فِي الرَّسُولِ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي اللَّهِ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَذْكُرَ سُوءَ حَالِهِمْ بَدَأَ أَوَّلًا فِي النِّكَايَةِ بِذِكْرِ مَنْ طَعَنَ فِي مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، ثُمَّ ثَانِيًا بِذِكْرِ مَنْ طَعَنَ فِيهِ تَعَالَى وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَثَانِيهَا: أَنَّ جِنَايَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي حَقِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ أَعْظَمَ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ رَأَوْهُ صَغِيرًا وَنَشَأَ فِيمَا «1» بَيْنَهُمْ، ثُمَّ سَفَّهَ أَحْلَامَهُمْ وَأَبْطَلَ أَدْيَانَهُمْ، وَهَذَا أَمْرٌ شَاقٌّ، أَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَقَدْ كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِرِسَالَتِهِ وَيُقِرُّونَ بِمَبْعَثِهِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ أَنْكَرُوهُ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ فَكَانَتْ جنايتهم أشد.

_ (1) لعل الأولى أن يقال: ونشأ يتيما بينهم، ولعل فيما صحفت عن يتيما.

السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ ذَكَرَ: كَفَرُوا بِلَفْظِ الْفِعْلِ: وَالْمُشْرِكِينَ بَاسْمِ الْفَاعِلِ؟ وَالْجَوَابُ: تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مَا كَانُوا كَافِرِينَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُصَدِّقِينَ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَمُقِرِّينَ بِمَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِذَلِكَ بَعْدَ مَبْعَثِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ وُلِدُوا عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَإِنْكَارِ الْحَشْرِ وَالْقِيَامَةِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ وَيُنْكِرُونَ النُّبُوَّةَ وَيُنْكِرُونَ/ الْقِيَامَةَ، أَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَكَانُوا مُقِرِّينَ بِكُلِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ كُفْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَخَفَّ مِنْ كُفْرِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَجُوزُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْعَذَابِ؟ وَالْجَوَابُ: يُقَالُ: بِئْرٌ جَهَنَّامٌ إِذَا كَانَ بَعِيدَ الْقَعْرِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ تَكَبَّرُوا طَلَبًا لِلرِّفْعَةِ فَصَارُوا إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ، ثُمَّ إِنَّ الْفَرِيقَيْنِ وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي ذَلِكَ لَكِنَّهُ لَا يُنَافِي اشْتِرَاكَهُمْ فِي هَذَا الْقَدْرِ تَفَاوُتُهُمْ فِي مَرَاتِبِ الْعَذَابِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ فِي حُسْنِ هَذَا الْعَذَابِ أَنَّ الْإِسَاءَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ إِسَاءَةٌ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ وَإِسَاءَةٌ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ، وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي هُوَ أَقْبَحُ الْقِسْمَيْنِ وَالْإِحْسَانُ أَيْضًا عَلَى قِسْمَيْنِ إِحْسَانٌ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ، وَإِحْسَانٌ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْقِسْمَيْنِ، فَكَانَ إِحْسَانُ اللَّهِ إِلَى هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ وَإِسَاءَتُهُمْ وَكُفْرُهُمْ أَقْبَحَ أَنْوَاعِ الْإِسَاءَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعُقُوبَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ، فَبِالشَّتْمِ تَعْزِيرٌ وَبِالْقَذْفِ حَدٌّ وَبِالسَّرِقَةِ قَطْعٌ، وَبِالزِّنَا رَجْمٌ، وَبِالْقَتْلِ قِصَاصٌ، بَلْ شَتْمُ الْمُمَاثِلِ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ، وَالنَّظَرُ الشَّزْرُ إِلَى الرَّسُولِ يُوجِبُ الْقَتْلَ، فَلَمَّا كَانَتْ جِنَايَةُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ أَعْظَمَ الْجِنَايَاتِ، لَا جَرَمَ اسْتَحَقُّوا أَعْظَمَ الْعُقُوبَاتِ، وَهُوَ نَارُ جَهَنَّمَ، فَإِنَّهَا نَارٌ فِي مَوْضِعٍ عَمِيقٍ مُظْلِمٍ هَائِلٍ لَا مَفَرَّ عَنْهُ الْبَتَّةَ، ثُمَّ كَأَنَّهُ قَالَ قَائِلٌ: هَبْ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ رَجَاءُ الْفِرَارِ، فَهَلْ هُنَاكَ رَجَاءُ الْإِخْرَاجِ؟ فَقَالَ: لَا بَلْ يَبْقَوْنَ خَالِدِينَ فِيهَا، ثُمَّ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَهَلْ هُنَاكَ أَحَدٌ يَرِقُّ قَلْبُهُ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ: لَا بَلْ يَذُمُّونَهُمْ، وَيَلْعَنُونَهُمْ لِأَنَّهُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا السبب في أنه لم يقل هاهنا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا، وَقَالَ فِي صِفَةِ أَهْلِ الثواب: خالِدِينَ فِيها أَبَداً [البينة: 8] ؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ أَزْيَدُ مِنْ غَضَبِهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعُقُوبَاتِ وَالْحُدُودَ وَالْكَفَّارَاتِ تَتَدَاخَلُ، أَمَّا الثَّوَابُ فَأَقْسَامُهُ لَا تَتَدَاخَلُ وَثَالِثُهَا: رُوِيَ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: يَا دَاوُدُ حَبِّبْنِي إِلَى خَلْقِي، قَالَ: وَكَيْفَ أَفْعَلُ ذَلِكَ؟ قَالَ: اذْكُرْ لَهُمْ سَعَةَ رَحْمَتِي، فَكَانَ هَذَا مِنْ هَذَا الْبَابِ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: كَيْفَ الْقِرَاءَةُ فِي لَفْظِ الْبَرِيَّةِ؟ الْجَوَابُ: قَرَأَ نَافِعٌ الْبَرِيئَةِ بِالْهَمْزِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِغَيْرِ هَمْزٍ وَهُوَ مِنْ بَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ، وَالْقِيَاسُ فِيهَا الْهَمْزُ إِلَّا أَنَّهُ تَرَكَ هَمْزَهُ، كَالنَّبِيِّ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْخَابِيَةِ، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ كَالرَّدِّ إِلَى الْأَصْلِ الْمَتْرُوكِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، كَمَا أَنَّ مَنْ هَمَزَ النَّبِيَّ كَانَ كَذَلِكَ وَتَرْكُ الْهَمْزِ فِيهِ أَجْوَدُ، وَإِنْ كَانَ الْهَمْزُ هُوَ الْأَصْلَ، لِأَنَّ ذَلِكَ صَارَ كَالشَّيْءِ الْمَرْفُوضِ الْمَتْرُوكِ وَهَمْزُ مَنْ هَمَزَ الْبَرِّيَّةَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مِنَ الْبَرَا الَّذِي هُوَ التُّرَابُ. السُّؤَالُ السَّادِسُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ؟ الْجَوَابُ: أَنَّهُ يُفِيدُ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ أَيْ هُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَّ الْبَرِيَّةِ جُمْلَةٌ يَطُولُ تَفْصِيلُهَا، شَرٌّ مِنَ السُّرَّاقِ، لِأَنَّهُمْ سَرَقُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرٌّ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، لِأَنَّهُمْ قَطَعُوا طَرِيقَ الْحَقِّ عَلَى الْخَلْقِ، وَشَرٌّ مِنَ الْجُهَّالِ الْأَجْلَافِ، لِأَنَّ الْكِبْرَ مَعَ الْعِلْمِ يَكُونُ كُفْرَ عِنَادٍ فَيَكُونُ أَقْبَحَ.

[سورة البينة (98) : آية 7]

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ وَعِيدَ عُلَمَاءِ السُّوءِ أَعْظَمُ مِنْ وَعِيدِ كُلِّ أَحَدٍ. السُّؤَالُ السَّابِعُ: هَذِهِ الْآيَةُ هَلْ هِيَ مُجْرَاةٌ عَلَى عُمُومِهَا؟ الْجَوَابُ: لَا بَلْ هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِصُورَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: أَنَّ مَنْ تَابَ مِنْهُمْ وَأَسْلَمَ خَرَجَ عَنِ الْوَعِيدِ وَالثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْآيَةِ مَنْ مَضَى مِنَ الْكُفَّارِ، لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ شَرًّا مِنْهُمْ، فَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ الْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى ثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ فَعَامَّةٌ فِيمَنْ تَقَدَّمَ وَتَأَخَّرَ، لِأَنَّهُمْ أفضل الأمم. [سورة البينة (98) : آية 7] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَجْهُ فِي حُسْنِ تَقْدِيمِ الْوَعِيدِ عَلَى الْوَعْدِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَعِيدَ كَالدَّوَاءِ، وَالْوَعْدَ كَالْغِذَاءِ، وَيَجِبُ تَقْدِيمُ الدَّوَاءِ حَتَّى إِذَا صَارَ الْبَدَنُ نَقِيًّا انْتَفَعَ بِالْغِذَاءِ، فَإِنَّ الْبَدَنَ غَيْرَ النَّقِيِّ كُلَّمَا غَذَوْتَهُ زِدْتَهُ شَرًّا، هَكَذَا قَالَهُ بُقْرَاطُ فِي كِتَابِ «الْفُصُولِ» وَثَانِيهَا: أَنَّ الْجِلْدَ بَعْدَ الدَّبْغِ يَصِيرُ صَالِحًا لِلْمَدَارِسِ وَالْخُفِّ، أَمَّا قَبْلَهُ فَلَا، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَتَى وَقَعَ فِي مِحْنَةٍ أَوْ شَدَّةٍ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ، فَإِذَا نَالَ الدُّنْيَا أَعْرَضَ، عَلَى مَا قَالَ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: 65] وَثَالِثُهَا: أَنَّ فِيهِ بِشَارَةً، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ خَتَمْتُ بِالْوَعْدِ الَّذِي هُوَ بِشَارَةٌ مِنِّي فِي أَنِّي أَخْتِمُ أَمْرَكَ بِالْخَيْرِ، أَلَسْتَ كُنْتَ نَجِسًا فِي مَكَانٍ نَجِسٍ، ثُمَّ أَخْرَجْتُكَ إِلَى الدُّنْيَا طَاهِرًا، أَفَلَا أُخْرِجُكَ إِلَى الْجَنَّةِ طَاهِرًا!. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الطَّاعَاتِ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ بِأَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ مَعْطُوفَةٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ أَقَامُوا سُوقَ الْإِسْلَامِ حَالَ كَسَادِهِ، وَبَذَلُوا الْأَمْوَالَ وَالْمُهَجَ لِأَجْلِهِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ اسْتَحَقُّوا الْفَضِيلَةَ الْعُظْمَى كَمَا قَالَ: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ [الْحَدِيدِ: 10] وَلَفْظَةُ: آمَنُوا أَيْ فَعَلُوا الْإِيمَانَ مَرَّةً. وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ الْمُوَافَاةَ يَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَهُ هَذَا الثَّوَابُ، وَالَّذِي يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ لَا يَكُونُ لَهُ هَذَا الثَّوَابُ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ مَا صَدَرَ الْإِيمَانُ عَنْهُ فِي الْحَقِيقَةِ قَبْلَ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، فَلَا يُكَلَّفُ الْوَاحِدُ بِجَمِيعِ الصَّالِحَاتِ، بَلْ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ حَظٌّ فَحَظُّ الْغَنِيِّ الْإِعْطَاءُ، وَحَظُّ الْفَقِيرِ الْأَخْذُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي تَفْضِيلِ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَكِ، قَالُوا: رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ مَنْزِلَةِ الْمَلَائِكَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَنْزِلَةُ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمُ من ذلك، واقرؤا إِنْ شِئْتُمْ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا/ الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ أَنَّ الْبَرِّيَّةَ بَنُو آدَمَ مِنَ الْبَرَا وَهُوَ التُّرَابُ فَلَا يَدْخُلُ الْمَلَكُ فِيهِ الْبَتَّةَ وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْبَشَرِ بَلْ

[سورة البينة (98) : آية 8]

يَدْخُلُ فِيهِ الْمَلَكُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَلَكَ خَرَجَ عَنِ النَّصِّ بِسَائِرِ الدَّلَائِلِ، قَالُوا: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفَضِيلَةَ إِمَّا مُكْتَسَبَةٌ أَوْ مَوْهُوبَةٌ، فَإِنْ نَظَرْتَ إِلَى الْمَوْهُوبَةِ فَأَصْلُهُمْ مِنْ نُورٍ وَأَصْلُكَ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، وَمَسْكَنُهُمْ دَارٌ لَمْ يُتْرَكْ فِيهَا أَبُوكَ مَعَ الزَّلَّةِ وَمَسْكَنُكُمْ أَرْضٌ هِيَ مَسْكَنُ الشَّيَاطِينِ، وَأَيْضًا فَمَصَالِحُنَا مُنْتَظِمَةٌ بِهِمْ وَرِزْقُنَا فِي يَدِ الْبَعْضِ وَرُوحُنَا فِي يَدِ الْبَعْضِ، ثُمَّ هُمُ الْعُلَمَاءُ وَنَحْنُ الْمُتَعَلِّمُونَ، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى عَظِيمِ هِمَّتِهِمْ لَا يَمِيلُونَ إِلَى مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، وَمِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَحْكِ عَنْهُمْ سِوَى دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ حِينَ قَالَ: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ [الأنبياء: 29] أَيْ لَوْ أَقْدَمُوا عَلَى ذَنْبٍ فَهِمَّتُهُمْ بَلَغَتْ غَايَةً لَا يَلِيقُ بِهَا إِلَّا دَعْوَى الرُّبُوبِيَّةِ، وَأَنْتَ أَبَدًا عَبْدُ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ، وَأَمَّا الْعِبَادَةُ فَهُمْ أَكْثَرُ عِبَادَةً مِنَ النَّبِيِّ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَ النَّبِيِّ بِإِحْيَاءِ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَقَالَ فِيهِمْ: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 20] وَمَرَّةً: لَا يَسْأَمُونَ [فُصِّلَتْ: 38] وَتَمَامُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ البقرة. [سورة البينة (98) : آية 8] جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) [في قَوْلُهُ تَعَالَى جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ] اعْلَمْ أَنَّ التَّفْسِيرَ ظَاهِرٌ وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا فِيهَا مِنَ اللَّطَائِفِ فِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَمَّا تَأَمَّلَ وَجَدَ نَفْسَهُ مَخْلُوقًا مِنَ الْمِحَنِ وَالْآفَاتِ، فَصَاغَهُ مِنْ أَنْجَسِ شَيْءٍ فِي أَضْيَقِ مَكَانٍ إِلَى أَنْ خَرَجَ بَاكِيًا لَا لِلْفِرَاقِ وَلَكِنْ مُشْتَكِيًا مِنْ وَحْشَةِ الْحَبْسِ لِيُرْحَمَ، كَالَّذِي يُطْلَقُ مِنَ الْحَبْسِ يَغْلِبُهُ الْبُكَاءُ لِيُرْحَمَ، ثُمَّ لَمْ يُرْحَمْ بَلْ شَدَّتْهُ الْقَابِلَةُ وَلَمْ يَكُنْ مَشْدُودًا فِي الرَّحِمِ ثُمَّ لم يمض قليل مدة حتى ألقوا فِي الْمَهْدِ وَشَدُّوهُ بِالْقِمَاطِ، ثُمَّ لَمْ يَمْضِ قَلِيلٌ حَتَّى أَسْلَمُوهُ إِلَى أُسْتَاذٍ يَحْبِسُهُ فِي الْمَكْتَبِ وَيَضْرِبُهُ عَلَى التَّعْلِيمِ وَهَكَذَا إِلَى أَنْ بلغ الحلم، ثم بعد ذلك شذ بِمَسَامِيرِ الْعَقْلِ وَالتَّكْلِيفِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُكَلَّفَ يَصِيرُ كَالْمُتَحَيِّرِ، يَقُولُ: مَنِ الَّذِي يَفْعَلُ فِيَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مَعَ أَنَّهُ مَا صَدَرَتْ عَنِّي جِنَايَةٌ؟ فَلَمْ يَزَلْ يَتَفَكَّرُ حَتَّى ظَفِرَ بِالْفَاعِلِ، فَوَجَدَهُ عَالِمًا لَا يُشْبِهُ الْعَالِمِينَ، وَقَادِرًا لَا يُشْبِهُ الْقَادِرِينَ، وَعَرَفَ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ صُورَتُهُ صُورَةَ الْمِحْنَةِ، لَكِنَّ حَقِيقَتَهُ مَحْضُ الْكَرَمِ وَالرَّحْمَةِ، فَتَرَكَ الشِّكَايَةَ وَأَقْبَلَ عَلَى الشُّكْرِ، ثُمَّ وَقَعَ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ أَنْ يُقَابِلَ إِحْسَانَهُ بِالْخِدْمَةِ لَهُ وَالطَّاعَةِ، فَجَعَلَ قَلْبَهُ مَسْكَنًا لِسُلْطَانِ عِرْفَانِهِ، فَكَأَنَّ الْحَقَّ قَالَ: عَبْدِي أَنْزِلْ مَعْرِفَتِي فِي قَلْبِكَ حَتَّى/ لَا يُخْرِجَهَا مِنْهُ شَيْءٌ أَوْ يَسْبِقَهَا هُنَاكَ فَيَقُولُ الْعَبْدُ: يَا رَبِّ أَنْزَلْتَ حُبَّ الثَّدْيِ فِي قَلْبِي ثُمَّ أَخْرَجْتَهُ، وَكَذَا حُبُّ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَحُبُّ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا وَأَخْرَجْتَ الْكُلَّ. أَمَّا حُبُّكَ وَعِرْفَانُكَ فَلَا أُخْرِجُهُمَا مِنْ قَلْبِي، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا بَقِيَتِ الْمَعْرِفَةُ وَالْمَحَبَّةُ فِي أَرْضِ الْقَلْبِ انْفَجَرَ مِنْ هَذَا الْيَنْبُوعِ أَنْهَارٌ وَجَدَاوِلُ، فَالْجَدْوَلُ الَّذِي وَصَلَ إِلَى الْعَيْنِ حَصَلَ مِنْهُ الِاعْتِبَارُ، وَالَّذِي وَصَلَ إِلَى الْأُذُنِ حَصَلَ مِنْهُ اسْتِمَاعُ مُنَاجَاةِ الْمَوْجُودَاتِ وَتَسْبِيحَاتِهِمْ، وَهَكَذَا فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ، فَيَقُولُ اللَّهُ: عَبْدِي جَعَلْتُ قَلْبَكَ كَالْجَنَّةِ لِي وَأَجْرَيْتُ فِيهِ تِلْكَ الْأَنْهَارَ دَائِمَةً مُخَلَّدَةً، فَأَنْتَ مَعَ عَجْزِكَ وَقُصُورِكَ فَعَلْتَ هَذَا، فَأَنَا أَوْلَى بِالْجُودِ وَالْكَرَمِ وَالرَّحْمَةِ فَجَنَّةٌ بِجَنَّةٍ، فَلِهَذَا قَالَ: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ بَلْ كَأَنَّ الْكَرِيمَ الرَّحِيمَ يَقُولُ: عَبْدِي أَعْطَانِي كُلَّ مَا مَلَكَهُ، وَأَنَا أَعْطَيْتُهُ بَعْضَ مَا فِي مِلْكِي، وَأَنَا أَوْلَى مِنْهُ بِالْكَرَمِ وَالْجُودِ، فَلَا جَرَمَ جَعَلْتُ هَذَا الْبَعْضَ مِنْهُ مَوْهُوبًا دَائِمًا مُخَلَّدًا، حَتَّى يَكُونَ دَوَامُهُ وَخُلُودُهُ جَابِرًا لِمَا فِيهِ مِنَ النُّقْصَانِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ الْبَعْضِيَّةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْجَزَاءُ اسْمٌ لِمَا يَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ، وَمِنْهُ اجْتَزَتِ الْمَاشِيَةُ بِالْحَشِيشِ الرَّطْبِ عَنِ الْمَاءِ، فَهَذَا يُفِيدُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُعْطِيهِ الْجَزَاءَ الْوَافِرَ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِ مَا يَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ، فَلَا يَبْقَى فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ إِلَّا وَالْمَطْلُوبُ يَكُونُ حَاصِلًا عَلَى مَا قَالَ: وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ [فصلت: 31] . المسألة الثالثة: قَالَ: جَزاؤُهُمْ فَأَضَافَ الْجَزَاءَ إِلَيْهِمْ، وَالْإِضَافَةُ الْمُطْلَقَةُ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِيَّةِ فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ [فَاطِرٍ: 35] وَالْجَوَابُ: أَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَوْ قَالَ الْمَلِكُ الْكَرِيمُ: مَنْ حَرَّكَ أُصْبُعَهُ أَعْطَيْتُهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَهَذَا شَرْطٌ وَجَزَاءٌ بِحَسَبِ اللُّغَةِ وَبِحَسَبِ الْوَضْعِ لَا بِحَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ الذَّاتِيِّ، فَقَوْلُهُ: جَزاؤُهُمْ يَكْفِي فِي صِدْقِهِ هَذَا الْمَعْنَى وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ هَذِهِ الْجِنَانِ، إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ فَضْلِكَ السَّابِقِ فَإِنَّكَ لَوْلَا أَنَّكَ خَلَقْتَنَا وَأَعْطَيْتَنَا الْقُدْرَةَ وَالْعَقْلَ وَأَزَلْتَ الْأَعْذَارَ وَأَعْطَيْتَ الْأَلْطَافَ وَإِلَّا لَمَا وَصَلْنَا إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي مَذْهَبِكُمْ، فَمَا السَّبَبُ فِي الْتِزَامِ مِثْلِ هَذَا الْإِنْعَامِ؟ قُلْنَا: أَتَسْأَلُ عَنْ إِنْعَامِهِ الْأَمْسِيِّ حَالَ عَدَمِنَا؟ أَوْ عَنْ إِنْعَامِهِ الْيَوْمِيِّ حَالَ التَّكْلِيفِ؟ أَوْ عَنْ إِنْعَامِهِ فِي غَدِ الْقِيَامَةِ؟ فَإِنْ سَأَلْتَ عَنِ الْأَمْسِيِّ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: أَنَا مُنَزَّهٌ عَنِ الِانْتِفَاعِ وَالْمَائِدَةُ مَمْلُوءَةٌ مِنَ الْمَنَافِعِ فَلَوْ لَمْ أَخْلُقِ الْخَلْقَ لَضَاعَتْ هَذِهِ الْمَنَافِعُ، فَكَمَا أَنَّ مَنْ لَهُ مَالٌ وَلَا عِيَالَ لَهُ فَإِنَّهُ يَشْتَرِي الْعَبِيدَ وَالْجَوَارِيَ لِيَنْتَفِعُوا بِمَالِهِ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ اشْتَرَى مِنْ دَارِ الْعَدَمِ هَذَا الْخَلْقَ لِيَنْتَفِعُوا بِمُلْكِهِ، كَمَا رُوِيَ: «الْخَلْقُ عِيَالُ اللَّهِ» وَأَمَّا الْيَوْمِيُّ فَالنُّعْمَانُ «1» يُوجِبُ الْإِتْمَامَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فَالرَّحْمَنُ أَوْلَى وَأَمَّا الْغَدُ فَأَنَا مَدْيُونُهُمْ بِحُكْمِ الْوَعْدِ وَالْإِخْبَارِ فَكَيْفَ لَا أَفِي بِذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّهِمْ لَطَائِفُ: أَحَدُهَا: قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: لَوْ قَالَ: لَا شَيْءَ لِي عَلَى فُلَانٍ، فَهَذَا يَخْتَصُّ بِالدُّيُونِ وَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَ الْوَدِيعَةَ، وَلَوْ قَالَ: لَا شَيْءَ لِي عِنْدَ فُلَانٍ انْصَرَفَ إِلَى الْوَدِيعَةِ دُونَ الدَّيْنِ، وَلَوْ قَالَ: لَا شَيْءَ لِي قِبَلَ فُلَانٍ انْصَرَفَ إِلَى الدَّيْنِ وَالْوَدِيعَةِ مَعًا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُفِيدُ أَنَّهُ وَدِيعَةٌ وَالْوَدِيعَةُ عَيْنٌ، وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ فَهُوَ إِقْرَارٌ بِالدَّيْنِ، وَالْعَيْنُ أَشْرَفُ مِنَ الدَّيْنِ فَقَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُفِيدُ أَنَّهُ كَالْمَالِ الْمُعَيَّنِ الْحَاضِرِ الْعَتِيدِ، فَإِنْ قِيلَ: الْوَدِيعَةُ أَمَانَةٌ وَغَيْرُ مَضْمُونَةٍ وَالدَّيْنُ مَضْمُونٌ وَالْمَضْمُونُ خَيْرٌ مِمَّا كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ، قُلْنَا: الْمَضْمُونُ خَيْرٌ إِذَا تُصُوِّرَ الْهَلَاكُ فِيهِ وَهَذَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، فَلَا جَرَمَ قُلْنَا: الْوَدِيعَةُ هُنَاكَ خَيْرٌ مِنَ الْمَضْمُونِ. وَثَانِيهَا: إِذَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ فِي الْبَلْدَةِ، فَوَضَعْتَ مَالَكَ عِنْدَ إِمَامِ الْمَحَلَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْوَدِيعَةِ صِرْتَ فَارِغَ الْقَلْبِ، فَهَهُنَا سَتَقَعُ الْفِتْنَةُ في بلدة بدنك، وحينئذ تخاف الشيطان مِنْ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهَا، فَضَعْ وَدِيعَةَ أَمَانَتِكَ عِنْدِي فَإِنِّي أَكْتُبُ لَكَ بِهِ كِتَابًا يُتْلَى فِي الْمَحَارِيبِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ حَتَّى أُسَلِّمَهُ إِلَيْكَ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ: عِنْدَ رَبِّهِمْ وَفِيهِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: أَنَا الَّذِي رَبَّيْتُكَ أَوَّلًا حِينَ كُنْتَ مَعْدُومًا صِفْرَ الْيَدِ مِنَ الْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ، فَخَلَقْتُكَ وَأَعْطَيْتُكَ كُلَّ هذه الأشياء فحين كنت مطلقا

_ (1) يراد بالنعمان الوصفية من الإنعام، أو الاسمية والاسمية نص الأولى يقصد النعمان بن المنذر بن ماء السماء، وهو.

أَعْطَيْتُكَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَمَا ضَيَّعْتُكَ أَتَرَى أَنَّكَ إِذَا اكْتَسَبْتَ شَيْئًا وَجَعَلْتَهُ وَدِيعَةً عِنْدِي فَأَنَا أُضَيِّعُهَا، كَلَّا إِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَكُونُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَابَلَ الْجَمْعَ بِالْجَمْعِ «1» ، وَهُوَ يَقْتَضِي مُقَابَلَةَ الْفَرْدِ بِالْفَرْدِ، كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ أَوْ عَبْدَيْهِ: إِنْ دَخَلْتُمَا هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ فَأَنْتُمَا كَذَا فَيُحْمَلُ هَذَا عَلَى أَنْ يَدْخُلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَارًا عَلَى حِدَةٍ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَدْخُلَا الدَّارَيْنِ، وَعَلَى هَذَا إِنْ مَلَكْتُمَا هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ، وَدَلِيلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ [نُوحٍ: 7] فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بَيْنَ أَنَّ الْجَزَاءَ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ، لَكِنَّ أَدْنَى تِلْكَ الْجَنَّاتِ مِثْلُ الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ كَذَا رُوِيَ مَرْفُوعًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمُلْكاً كَبِيراً [الْإِنْسَانِ: 20] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ جَنَّاتٌ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْقُرْآنُ، لِأَنَّهُ قَالَ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَنِ: 26] ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ [الرَّحْمَنِ: 62] فَذَكَرَ أَرْبَعًا لِلْوَاحِدِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ بَكَى مِنْ خَوْفِ اللَّهِ، وَذَلِكَ الْبُكَاءُ إِنَّمَا نَزَلَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَجْفَانٍ اثْنَانِ دُونَ الِاثْنَيْنِ، فَاسْتَحَقَّ جَنَّتَيْنِ دُونَ الْجَنَّتَيْنِ، فَحَصَلَتْ لَهُ أَرْبَعُ جَنَّاتٍ، لِسَكْبِهِ الْبُكَاءَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَجْفَانٍ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ الْخَوْفَ فِي قَوْلِهِ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ وَأَخَّرَ الْخَوْفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ خَتَمَ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ/ دَوَامِ الْخَوْفِ، أَمَّا قَبْلَ الْعَمَلِ فَالْحَاصِلُ خَوْفُ الاختلال، وأما بعد العمل فالحاصل خوف الخلاف، إِذْ هَذِهِ الْعِبَادَةُ لَا تَلِيقُ بِتِلْكَ الْحَضْرَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: عَدْنٍ يُفِيدُ الْإِقَامَةَ: لَا يُخْرَجُونَ مِنْها [الْجَاثِيَةِ: 45] وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ [الْحِجْرِ: 48] لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا [الْكَهْفِ: 108] يُقَالُ: عَدَنَ بِالْمَكَانِ أَقَامَ، وَرُوِيَ أَنَّ جَنَّاتِ عَدْنٍ وَسَطُ الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: عَدْنٌ مِنَ الْمَعْدِنِ أَيْ هِيَ مَعْدِنُ النَّعِيمِ وَالْأَمْنِ وَالسَّلَامَةِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا سُمِّيَتْ جَنَّةً إِمَّا مِنَ الْجِنِّ أَوِ الْجُنُونِ أَوِ الْجُنَّةِ أَوِ الْجَنِينِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْجِنِّ فَهُمُ الْمَخْصُوصُونَ بِسُرْعَةِ الْحَرَكَةِ يَطُوفُونَ الْعَالَمَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّهَا فِي إِيصَالِ الْمُكَلَّفِ إِلَى مُشْتَهَيَاتِهِ فِي غَايَةِ الْإِسْرَاعِ مِثْلَ حَرَكَةِ الْجِنِّ، مَعَ أَنَّهَا دَارُ إِقَامَةٍ وَعَدْنٍ، وَإِمَّا مِنَ الْجُنُونِ فَهُوَ أَنَّ الْجَنَّةَ، بِحَيْثُ لَوْ رَآهَا الْعَاقِلُ يَصِيرُ كَالْمَجْنُونِ، لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ بِفَضْلِهِ يُثَبِّتُهُ، وَإِمَّا مِنَ الْجُنَّةِ فَلِأَنَّهَا جُنَّةٌ وَاقِيَةٌ تَقِيكَ مِنَ النَّارِ، أَوْ مِنَ الْجَنِينِ، فَلِأَنَّ الْمُكَلَّفَ يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ فِي غَايَةِ التَّنَعُّمِ، وَيَكُونُ كَالْجَنِينِ لَا يَمَسُّهُ بَرْدٌ وَلَا حَرٌّ لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً [الْإِنْسَانِ: 13] . الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: تَجْرِي إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ أَلْطَفُ مِنَ الرَّاكِدِ، وَمِنْ ذَلِكَ النَّظَرُ إِلَى الْمَاءِ الْجَارِي، يَزِيدُ نُورًا فِي الْبَصَرِ بَلْ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: طَاعَتُكَ كَانَتْ جَارِيَةً مَا دُمْتَ حَيًّا عَلَى مَا قَالَ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحِجْرِ: 99] فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَنْهَارُ إِكْرَامِي جَارِيَةً إِلَى الْأَبَدِ، ثُمَّ قَالَ: مِنْ تَحْتِهَا إِشَارَةً إِلَى عَدَمِ التَّنْغِيصِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّنْغِيصَ فِي الْبُسْتَانِ، إِمَّا بِسَبَبِ عَدَمِ الْمَاءِ الْجَارِي فَذَكَرَ الْجَرْيَ الدَّائِمَ، وَإِمَّا بِسَبَبِ الْغَرَقِ وَالْكَثْرَةِ، فَذَكَرَ مِنْ تَحْتِهَا، ثُمَّ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْأَنْهَارِ لِلتَّعْرِيفِ فَتَكُونُ مُنْصَرِفَةً إِلَى الْأَنْهَارِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَهِيَ نَهْرُ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَالْعَسَلِ وَالْخَمْرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّهَارَ وَالْأَنْهَارَ مِنَ السَّعَةِ وَالضِّيَاءِ، فَلَا تُسَمَّى السَّاقِيَةُ نَهَرًا، بَلِ الْعَظِيمُ هُوَ الَّذِي يُسَمَّى نَهَرًا بِدَلِيلِ قَوْلُهُ: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ

_ (1) الصواب أن يقال: قابل المفرد بالجمع فالمفرد هنا لفظ جزاء والجمع لفظ جنات.

[إِبْرَاهِيمَ: 32] فَعَطَفَ ذَلِكَ عَلَى الْبَحْرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْجَنَّةَ أَتْبَعَهُ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْجَنَّةِ وَهُوَ الْخُلُودُ أَوَّلًا وَالرِّضَا ثَانِيًا، وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِنَّ الْخُلُودَ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الْجَنَّةِ وَرِضَا اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الْجَنَّةِ» . أَمَّا الصِّفَةُ الْأُولَى: وَهِيَ الْخُلُودُ، فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ الْجَنَّةَ مَرَّةً بِجَنَّاتِ عَدْنٍ وَمَرَّةً بِجَنَّاتِ النَّعِيمِ وَمَرَّةً بِدَارِ السَّلَامِ، وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ إِنَّمَا حَصَلَتْ لِأَنَّكَ رَكَّبْتَ إِيمَانَكَ مِنْ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ اعْتِقَادٍ وَقَوْلٍ وَعَمَلٍ. وَأَمَّا الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ الرِّضَا، فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ مَخْلُوقٌ مِنْ جَسَدٍ وَرُوحٍ، فَجَنَّةُ الْجَسَدِ هِيَ الْجَنَّةُ الْمَوْصُوفَةُ وَجَنَّةُ الرُّوحِ هِيَ رِضَا الرَّبِّ، وَالْإِنْسَانُ مُبْتَدَأُ أَمْرِهِ مِنْ عَالَمِ الْجَسَدِ وَمُنْتَهَى أَمْرِهِ مِنْ عَالَمِ الْعَقْلِ وَالرُّوحِ، فَلَا جَرَمَ ابْتَدَأَ بِالْجَنَّةِ وَجَعَلَ الْمُنْتَهَى هُوَ رِضَا اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّهُ قَدَّمَ رِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ عَلَى قَوْلِهِ: وَرَضُوا عَنْهُ لِأَنَّ الْأَزَلِيَّ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْمُحْدَثِ، وَالْمُحْدَثُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَزَلِيِّ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إِنَّمَا قَالَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يَقُلْ رَضِيَ الرَّبُّ عَنْهُمْ وَلَا سَائِرَ الْأَسْمَاءِ لِأَنَّ أَشَدَّ الْأَسْمَاءِ هَيْبَةً وَجَلَالَةً لَفْظُ اللَّهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الِاسْمُ الدَّالُّ عَلَى الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ بِأَسْرِهَا أَعْنِي صِفَاتِ الْجَلَالِ وَصِفَاتِ الْإِكْرَامِ، فَلَوْ قَالَ: رَضِيَ الرَّبُّ عَنْهُمْ لَمْ يُشْعِرْ ذَلِكَ بِكَمَالِ طَاعَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْمُرَبِّيَ قَدْ يَكْتَفِي بِالْقَلِيلِ، أَمَّا لَفْظُ اللَّهِ فَيُفِيدُ غَايَةَ الْجَلَالَةِ وَالْهَيْبَةِ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَضْرَةِ لَا يَحْصُلُ الرِّضَا إِلَّا بِالْفِعْلِ الْكَامِلِ وَالْخِدْمَةِ التَّامَّةِ، فَقَوْلُهُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُفِيدُ تَطْرِيَةَ فِعْلِ الْعَبْدِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ رَضِيَ أَعْمَالَهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ رَضِيَ بِأَنْ يَمْدَحَهُمْ وَيُعَظِّمَهُمْ، قَالَ: لِأَنَّ الرِّضَا عَنِ الْفَاعِلِ غَيْرُ الرِّضَا بِفِعْلِهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَرَضُوا عَنْهُ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ رَضُوا بِمَا جَازَاهُمْ مِنَ النَّعِيمِ وَالثَّوَابِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْخَوْفُ فِي الطَّاعَةِ حَالٌ حَسَنَةٌ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [الْمُؤْمِنُونَ: 60] وَلَعَلَّ الْخَشْيَةَ أَشَدُّ مِنَ الْخَوْفِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ فِي صِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ مَقْرُونًا بِالْإِشْفَاقِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ الْخَوْفِ فَقَالَ: هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المؤمنون: 57] وَالْكَلَامُ فِي الْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ مَشْهُورٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ إِذَا ضُمَّ إِلَيْهَا آيَةٌ أُخْرَى صَارَ الْمَجْمُوعُ دَلِيلًا عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: 28] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ يَكُونُ صَاحِبَ الْخَشْيَةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْخَشْيَةِ تَكُونُ لَهُ الْجَنَّةُ فَيَتَوَلَّدُ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ الْجَنَّةَ حَقُّ الْعُلَمَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَنْتَهِي إِلَى حَدٍّ يَصِيرُ مَعَهُ آمِنًا بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَجَعَلَ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةً عَلَيْهِ وَهَذَا الْمَذْهَبُ غَيْرُ قَوِيٍّ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَشَدِّ الْعِبَادِ خَشْيَةً لِلَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَعْرَفُكُمْ بِاللَّهِ أَخْوَفُكُمْ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَا أَخْوَفُكُمْ مِنْهُ» وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة الزلزلة

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة الزلزلة وهي ثمان آيات مكية [سورة الزلزلة (99) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) هاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَآخِرِ السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الْبَيِّنَةِ: 8] فَكَأَنَّ الْمُكَلَّفَ قَالَ: وَمَتَى يَكُونُ ذَلِكَ يَا رَبِّ فَقَالَ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها فَالْعَالَمُونَ كُلُّهُمْ يَكُونُونَ فِي الْخَوْفِ، وَأَنْتَ في ذلك الوقت تنال جزاؤك وَتَكُونُ آمِنًا فِيهِ، كَمَا قَالَ: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النَّمْلِ: 89] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَعِيدَ الْكَافِرِ وَوَعْدَ الْمُؤْمِنِ أَرَادَ أَنْ يَزِيدَ فِي وَعِيدِ الْكَافِرِ، فَقَالَ: أُجَازِيهِ حِينَ يَقُولُ الْكَافِرُ السَّابِقُ ذكره: ما للأرض تزلزل، نظيره قَوْلِهِ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آلِ عِمْرَانَ: 106] ثُمَّ ذَكَرَ الطَّائِفَتَيْنِ فَقَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 106] وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ [آل عمران: 107] ثم جمع بينهما فِي آخِرِ السُّورَةِ فَذَكَرَ الذَّرَّةَ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: إِذا بَحْثَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذا لِلْوَقْتِ فَكَيْفَ وَجْهُ الْبِدَايَةِ بِهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ؟ وَجَوَابُهُ: مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: كَانُوا يَسْأَلُونَهُ مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَالَ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا سَبِيلَ إِلَى تَعْيِينِهِ بِحَسَبِ وَقْتِهِ وَلَكِنِّي أُعَيِّنُهُ بِحَسَبِ عَلَامَاتِهِ، الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُخْبِرَ الْمُكَلَّفَ أَنَّ الْأَرْضَ تُحَدِّثُ وَتَشْهَدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ أَنَّهَا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ جَمَادٌ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ. الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالُوا كلمة: (إن) في المجوز، وإذا فِي الْمَقْطُوعِ بِهِ، تَقُولُ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لِأَنَّ الدُّخُولَ يَجُوزُ، أَمَّا إِذَا أَرَدْتَ التَّعْلِيقَ بِمَا يُوجَدُ قَطْعًا لَا تَقُولُ: إِنْ بَلْ تَقُولُ: إِذَا [نَحْوَ إِذَا] جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ لِأَنَّهُ يُوجَدُ لَا مَحَالَةَ هذا هو الأصل، فإن استعمل عَلَى خِلَافِهِ فَمَجَازٌ، فَلَمَّا كَانَ الزِّلْزَالُ مَقْطُوعًا بِهِ قَالَ: إِذا زُلْزِلَتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الزِّلْزَالُ بِالْكَسْرِ الْمَصْدَرُ وَالزَّلْزَالِ بِالْفَتْحِ الِاسْمُ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا، وَكَذَلِكَ الْوَسْوَاسُ هُوَ الِاسْمُ أَيِ اسْمُ الشَّيْطَانِ الَّذِي يُوَسْوِسُ إِلَيْكَ، وَالْوِسْوَاسُ بِالْكَسْرِ/ الْمَصْدَرُ، وَالْمَعْنَى:

[سورة الزلزلة (99) : آية 2]

حُرِّكَتْ حَرَكَةً شَدِيدَةً، كَمَا قَالَ: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا [الْوَاقِعَةِ: 4] وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ زُلْزِلَتْ حُرِّكَتْ، بَلِ الْمُرَادُ: تَحَرَّكَتْ وَاضْطَرَبَتْ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى يُخْبِرُ عَنْهَا فِي جَمِيعِ السُّورَةِ كَمَا يُخْبِرُ عَنِ الْمُخْتَارِ الْقَادِرِ، وَلِأَنَّ هَذَا أَدْخَلُ فِي التَّهْوِيلِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ الْجَمَادَ لَيَضْطَرِبُ لِأَوَائِلِ الْقِيَامَةِ، أَمَا آنَ لَكَ أَنْ تَضْطَرِبَ وَتَتَيَقَّظَ مِنْ غَفْلَتِكَ وَيَقْرُبُ مِنْهُ: لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الْحَشْرِ: 21] وَاعْلَمْ أَنْ زَلَّ لِلْحَرَكَةِ الْمُعْتَادَةِ، وَزَلْزَلَ لِلْحَرَكَةِ الشَّدِيدَةِ الْعَظِيمَةِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّكْرِيرِ، وَهُوَ كَالصَّرْصَرِ فِي الرِّيحِ، وَلِأَجْلِ شِدَّةِ هَذِهِ الْحَرَكَةِ وَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْعِظَمِ فَقَالَ: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُرَادُ مِنَ الزَّلْزَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ النَّفْخَةُ الْأُولَى كَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ [النَّازِعَاتِ: 6] أَيْ تُزَلْزَلُ فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى، ثُمَّ تُزَلْزَلُ ثَانِيًا فَتُخْرِجُ مَوْتَاهَا وَهِيَ الْأَثْقَالُ، وَقَالَ آخَرُونَ: هَذِهِ الزَّلْزَلَةُ هِيَ الثَّانِيَةُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مِنْ لَوَازِمِهَا أَنَّهَا تُخْرِجُ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الزَّلْزَلَةِ الثَّانِيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قَوْلِهِ: زِلْزالَها بِالْإِضَافَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْقَدْرُ اللَّائِقُ بِهَا فِي الْحِكْمَةِ، كَقَوْلِكَ: أَكْرِمِ التَّقِيَّ إِكْرَامَهُ وَأَهِنِ الْفَاسِقَ إِهَانَتَهُ، تُرِيدُ مَا يَسْتَوْجِبَانِهِ مِنَ الْإِكْرَامِ وَالْإِهَانَةِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى زِلْزَالَهَا كُلَّهُ وَجَمِيعَ مَا هُوَ مُمْكِنٌ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ وُجِدَ مِنَ الزَّلْزَلَةِ كُلُّ مَا يَحْتَمِلُهُ الْمَحَلُّ وَالثَّالِثُ: زِلْزَالَهَا الْمَوْعُودَ أَوِ الْمَكْتُوبَ عَلَيْهَا إِذَا قُدِّرَتْ تَقْدِيرَ الْحَيِّ، تَقْرِيرُهُ مَا رُوِيَ أَنَّهَا تُزَلْزِلُ مِنْ شِدَّةِ صَوْتِ إِسْرَافِيلَ لما أنها قدرت تقدير الحي. أما قوله: [سورة الزلزلة (99) : آية 2] وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْأَثْقَالِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَمْعُ ثَقَلٍ وَهُوَ مَتَاعُ الْبَيْتِ: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ [النَّحْلِ: 7] جَعَلَ مَا فِي جَوْفِهَا مِنَ الدَّفَائِنِ أَثْقَالًا لَهَا، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ فِي بَطْنِ الْأَرْضِ فَهُوَ ثِقْلٌ لَهَا، وَإِذَا كَانَ فَوْقَهَا فَهُوَ ثِقْلٌ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: سُمِّيَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ بِالثَّقَلَيْنِ لِأَنَّ الْأَرْضَ تَثْقُلُ بِهِمْ إِذَا كَانُوا فِي بَطْنِهَا وَيَثْقُلُونَ عَلَيْهَا إِذَا كَانُوا فَوْقَهَا، ثُمَّ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الزَّلْزَلَةِ الزَّلْزَلَةُ الْأُولَى يَقُولُ: أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا، يَعْنِي الْكُنُوزَ فَيَمْتَلِئُ ظَهْرُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَا أَحَدَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، كَأَنَّ الذَّهَبَ يَصِيحُ وَيَقُولُ: أَمَا كُنْتَ تُخَرِّبُ دِينَكَ وَدُنْيَاكَ لِأَجْلِي! أَوْ تَكُونُ الْفَائِدَةُ فِي إِخْرَاجِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ [التَّوْبَةِ: 35] وَمَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الزَّلْزَلَةِ الثَّانِيَةُ وَهِيَ بَعْدَ الْقِيَامَةِ قَالَ: تُخْرِجُ الْأَثْقَالَ يَعْنِي الْمَوْتَى أَحْيَاءً كَالْأُمِّ تَلِدُهُ حَيًّا، وَقِيلَ: تَلْفِظُهُ الْأَرْضُ مَيِّتًا، كَمَا دُفِنَ ثُمَّ يُحْيِيهِ اللَّهُ تَعَالَى وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَثْقَالَهَا: أَسْرَارَهَا فَيَوْمَئِذَ تُكْشَفُ الْأَسْرَارُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها فَتَشْهَدُ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ الْأَرْضِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً [الْمُرْسَلَاتِ: 25] ثُمَّ صَارَتْ بِحَالٍ تَرْمِيكَ وَهُوَ تَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [الحج: 2] وقوله: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ [عبس: 34] أما قوله تعالى:

[سورة الزلزلة (99) : آية 3]

[سورة الزلزلة (99) : آية 3] وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) ففيه مسائل: المسألة الأولى: مالها تُزَلْزَلُ هَذِهِ الزَّلْزَلَةَ الشَّدِيدَةَ وَلَفَظَتْ مَا فِي بَطْنِهَا، وَذَلِكَ إِمَّا عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى حِينَ تَلْفِظُ مَا فِيهَا مِنَ الْكُنُوزِ وَالدَّفَائِنِ، أَوْ عِنْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ حِينَ تَلْفِظُ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قِيلَ: هَذَا قَوْلُ الْكَافِرِ وَهُوَ كَمَا يَقُولُونَ: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس: 52] فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس: 52] وَقِيلَ: بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ أَيِ الْإِنْسَانُ الَّذِي هُوَ كَنُودٌ جَزُوعٌ ظَلُومٌ الَّذِي من شأنه الغفلة والجهالة يقول: مالها وَهُوَ لَيْسَ بِسُؤَالٍ بَلْ هُوَ لِلتَّعَجُّبِ لِمَا يَرَى مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي لَمْ تَسْمَعْ بِهَا الْآذَانُ وَلَا تَطَلَّقَ بِهَا لِسَانٌ، وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُ لِلْكَافِرِ وَالْفَاجِرِ مَعًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَالَ: مَا لَها عَلَى غَيْرِ الْمُوَاجَهَةِ لِأَنَّهُ يُعَاتِبُ بِهَذَا الْكَلَامِ نَفْسَهُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا نَفْسُ مَا لِلْأَرْضِ تَفْعَلُ ذَلِكَ يَعْنِي يَا نَفْسُ أَنْتِ السَّبَبُ فِيهِ فَإِنَّهُ لَوْلَا مَعَاصِيكِ لَمَا صَارَتِ الْأَرْضُ كَذَلِكَ فَالْكُفَّارُ يَقُولُونَ: هذا الكلام والمؤمنون يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فَاطِرٍ: 34] أما قوله تعالى: [سورة الزلزلة (99) : آية 4] يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) فَاعْلَمْ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ: تُنْبِئُ أَخْبَارَهَا وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ تُنَبِّئُ «1» ثُمَّ فِيهِ سُؤَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَيْنَ مَفْعُولَا تُحَدِّثُ؟ الْجَوَابُ: قَدْ حُذِفَ أَوَّلُهُمَا وَالثَّانِي أَخْبَارَهَا وَأَصْلُهُ تُحَدِّثُ الْخَلْقَ أَخْبَارَهَا إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ تَحْدِيثِهَا الْأَخْبَارَ لَا ذِكْرُ الْخَلْقِ تَعْظِيمًا. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى تَحْدِيثِ الْأَرْضِ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ يَوْمَئِذٍ يَتَبَيَّنُ لِكُلِّ أَحَدٍ جَزَاءُ عَمَلِهِ فَكَأَنَّهَا حَدَّثَتْ بِذَلِكَ، كَقَوْلِكَ الدَّارُ تُحَدِّثُنَا بِأَنَّهَا كَانَتْ مَسْكُونَةً فَكَذَا انْتِقَاضُ الْأَرْضِ بِسَبَبِ الزَّلْزَلَةِ تُحَدِّثُ أَنَّ الدُّنْيَا قَدِ انْقَضَتْ وَأَنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يجعل الأرض حيوانا عاقلا ناطفا وَيُعَرِّفُهَا جَمِيعَ مَا عَمِلَ أَهْلُهَا فَحِينَئِذٍ تَشْهَدُ لِمَنْ أَطَاعَ وَعَلَى مَنْ عَصَى، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ الْأَرْضَ لَتُخْبِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِكُلِّ عَمَلٍ عُمِلَ عَلَيْهَا» ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِنَا غَيْرُ بَعِيدٍ لِأَنَّ الْبِنْيَةَ عِنْدَنَا لَيْسَتْ شَرْطًا لِقَبُولِ الْحَيَاةِ، فَالْأَرْضُ مَعَ بَقَائِهَا عَلَى شَكْلِهَا وَيُبْسِهَا وَقَشَفِهَا يَخْلُقُ اللَّهُ فِيهَا الْحَيَاةَ وَالنُّطْقَ، وَالْمَقْصُودُ كَأَنَّ الْأَرْضَ تَشْكُو من العصاة/ وتشكر من أطاع الله، فنقول: إِنَّ فُلَانًا صَلَّى وَزَكَّى وَصَامَ وَحَجَّ فِيَّ، وَإِنَّ فُلَانًا كَفَرَ وَزَنَى وَسَرَقَ وَجَارَ، حَتَّى يَوَدَّ الْكَافِرُ أَنْ يُسَاقَ إِلَى النَّارِ، وَكَانَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا فَرَغَ بَيْتُ الْمَالِ صَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَيَقُولُ: لَتَشْهَدَنَّ أَنِّي مَلَأْتُكَ بِحَقٍّ وَفَرَّغْتُكَ بِحَقٍّ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ: أَنَّ الْكَلَامَ يَجُوزُ خَلْقُهُ فِي الْجَمَادِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ حَالَ كَوْنِهَا جَمَادًا أَصْوَاتًا مُقَطَّعَةً مَخْصُوصَةً فَيَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ وَالشَّاهِدُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: (إِذَا) وَ (يَوْمَئِذٍ) مَا نَاصِبُهُمَا؟ الْجَوَابُ: (يَوْمَئِذٍ) بَدَلٌ مِنْ إِذَا وناصبهما تُحَدِّثُ.

_ (1) رسمت في الموضعين تنبئ، وهي قراءة بالمعنى ويظهر أن الخلاف بين القراءتين ليس في الرسم وإنما في القراءة فإحدى القراءتين بكسر الباء مخففة والثانية بتشديدها.

[سورة الزلزلة (99) : آية 5]

السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لَفْظُ التَّحْدِيثِ يُفِيدُ الِاسْتِئْنَاسَ وَهُنَاكَ لَا اسْتِئْنَاسَ فَمَا وَجْهُ هَذَا اللَّفْظِ الْجَوَابُ: أَنَّ الْأَرْضَ كَأَنَّهَا تَبُثُّ شَكْوَاهَا إِلَى أَوْلِيَاءِ الله وملائكته. أما قوله تعالى: [سورة الزلزلة (99) : آية 5] بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) فَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: بِمَ تَعَلَّقَتِ الْبَاءُ في قوله: بِأَنَّ رَبَّكَ؟ الجواب: بتحدث، وَمَعْنَاهُ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِسَبَبِ إِيحَاءِ رَبِّكَ لَهَا. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ لَمْ يَقُلْ أَوْحَى إِلَيْهَا؟ الْجَوَابُ: فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَوْحى لَها أَيْ أَوْحَى إِلَيْهَا وَأَنْشَدَ الْعَجَّاجُ: «أَوْحَى لَهَا الْقَرَارَ فَاسْتَقَرَّتِ» الثَّانِي: لَعَلَّهُ إِنَّمَا قَالَ لَهَا: أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ لِأَجْلِهَا حَتَّى تَتَوَسَّلَ الْأَرْضُ بِذَلِكَ إِلَى التَّشَفِّي مِنَ الْعُصَاةِ. [سورة الزلزلة (99) : آية 6] يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) الصُّدُورُ ضد الورد فَالْوَارِدُ الْجَائِي وَالصَّادِرُ الْمُنْصَرِفُ وَأَشْتَاتًا مُتَفَرِّقِينَ، فَيُحْتَمَلُ أن يردوا الأرض، ثم يصدرون عنها الْأَرْضِ إِلَى عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرِدُوا عَرْصَةَ الْقِيَامَةِ لِلْمُحَاسَبَةِ ثُمَّ يَصْدُرُونَ عَنْهَا إِلَى مَوْضِعِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: أَشْتاتاً أَقْرَبُ إِلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَلَفْظَةُ الصَّدْرِ أَقْرَبُ إِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَقَوْلُهُ: لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ رُؤْيَةَ أَعْمَالِهِمْ مَكْتُوبَةً فِي الصَّحَائِفِ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ رُؤْيَةِ جَزَاءِ الْأَعْمَالِ، وَإِنْ صَحَّ أَيْضًا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى رُؤْيَةِ جَزَاءِ الْأَعْمَالِ، وَقَوْلُهُ: أَشْتاتاً فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ بَعْضَهُمْ يَذْهَبُ إِلَى الْمَوْقِفِ رَاكِبًا مَعَ الثِّيَابِ الْحَسَنَةِ وَبَيَاضِ الْوَجْهِ وَالْمُنَادِي يُنَادِي بَيْنَ يَدَيْهِ: هَذَا وَلِيُّ اللَّهِ، وَآخَرُونَ يُذْهَبُ بِهِمْ سُودَ الْوُجُوهِ حُفَاةً عُرَاةً مَعَ السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ وَالْمُنَادِي يُنَادِي بَيْنَ يَدَيْهِ هَذَا عَدُوُّ اللَّهِ وَثَانِيهَا: أَشْتاتاً أَيْ كُلُّ فَرِيقٍ مَعَ شَكْلِهِ، الْيَهُودِيُّ مَعَ الْيَهُودِيِّ، وَالنَّصْرَانِيُّ مَعَ النَّصْرَانِيِّ وَثَالِثُهَا: أَشْتَاتًا مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الْمَقْصُودَ وَقَالَ: لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ قَالَ بَعْضُهُمْ: لِيُرَوْا صَحَائِفَ أَعْمَالِهِمْ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ يُوضَعُ بَيْنَ يَدَيِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: هَذَا طَلَاقُكَ وَبَيْعُكَ هَلْ تَرَاهُ وَالْمَرْئِيُّ وَهُوَ الْكِتَابُ وَقَالَ آخَرُونَ: لِيَرَوْا جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ، وَهُوَ الْجَنَّةُ أَوِ النَّارُ، وَإِنَّمَا أَوْقَعَ اسْمَ الْعَمَلِ عَلَى الْجَزَاءِ لِأَنَّهُ الْجَزَاءُ وِفَاقٌ، فَكَأَنَّهُ/ نَفْسُ الْعَمَلِ بَلِ الْمَجَازُ فِي ذَلِكَ أَدْخَلُ مِنَ الْحَقِيقَةِ، وَفِي قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِيُرَوْا بالفتح. ثم قال تعالى: [سورة الزلزلة (99) : الآيات 7 الى 8] فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مِثْقالَ ذَرَّةٍ أَيْ زِنَةَ ذَرَّةٍ قَالَ الْكَلْبِيُّ: الذَّرَّةُ أَصْغَرُ النَّمْلِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا وَضَعْتَ رَاحَتَكَ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ رَفَعْتَهَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِمَّا لَزِقَ بِهِ مِنَ التُّرَابِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ عَمِلَ خيرا أو شرا،

قليلا كان أَوْ كَثِيرًا إِلَّا أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إِيَّاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي رِوَايَةٍ عَنْ عَاصِمٍ: يُرَهُ بِرَفْعِ الْيَاءِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: يَرَهُ بِفَتْحِهَا وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: يَرَهْ بِالْجَزْمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ حَسَنَاتِ الْكَافِرِ مُحْبَطَةٌ بِكُفْرِهِ وَسَيِّئَاتِ الْمُؤْمِنِ مَغْفُورَةٌ، إِمَّا ابْتِدَاءً وَإِمَّا بِسَبَبِ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، فَمَا مَعْنَى الْجَزَاءِ بِمَثَاقِيلِ الذَّرَّةِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ؟. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجَابُوا عنه من وجوه: أحدها: قال أحمد بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ وَهُوَ كَافِرٌ فَإِنَّهُ يَرَى ثَوَابَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَلْقَى الْآخِرَةَ، وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا شَيْءٌ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا رَأَيْتَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا تَكْرَهُ فَبِمَثَاقِيلِ ذَرِّ الشَّرِّ وَيَدَّخِرُ اللَّهُ لَكَ مَثَاقِيلَ الْخَيْرِ حَتَّى تُوَفَّاهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ مِنْ مُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ عَمِلَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا إِلَّا أَرَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَغْفِرُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُثِيبُهُ بِحَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَتُرَدُّ حَسَنَاتُهُ وَيُعَذَّبُ بِسَيِّئَاتِهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ حَسَنَاتِ الْكَافِرِ وَإِنْ كَانَتْ مُحْبَطَةً بِكُفْرِهِ وَلَكِنَّ الْمُوَازَنَةَ مُعْتَبَرَةٌ فَتُقَدَّرُ تِلْكَ الْحَسَنَاتُ انْحَبَطَتْ مِنْ عِقَابِ كُفْرِهِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَادِحًا فِي عُمُومِ الْآيَةِ وَرَابِعُهَا: أَنْ تخصص عُمُومَ قَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَنَقُولَ: الْمُرَادُ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ السُّعَدَاءِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَأَيْنَ الْكَرَمُ؟ وَالْجَوَابُ: هَذَا هُوَ الْكَرَمُ، لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ وَإِنْ قَلَّتْ فَفِيهَا اسْتِخْفَافٌ، وَالْكَرِيمُ لَا يَحْتَمِلُهُ وَفِي الطَّاعَةِ تَعْظِيمٌ، وَإِنْ قَلَّ فَالْكَرِيمُ لَا يُضَيِّعُهُ، وَكَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ لَا تَحْسَبْ مِثْقَالَ الذَّرَّةِ مِنَ الْخَيْرِ صَغِيرًا، فَإِنَّكَ مَعَ لُؤْمِكَ وَضَعْفِكَ لَمْ تُضَيِّعْ مِنِّي الذَّرَّةَ، بَلِ اعْتَبَرْتَهَا وَنَظَرْتَ فِيهَا، وَاسْتَدْلَلْتَ بِهَا عَلَى ذَاتِي وَصِفَاتِي وَاتَّخَذْتَهَا مَرْكَبًا بِهِ وَصَلْتَ إِلَيَّ، فَإِذَا لَمْ تُضَيِّعْ ذَرَّتِي أَفَأُضَيِّعُ ذَرَّتَكَ! ثُمَّ التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ النِّيَّةُ وَالْقَصْدُ، فَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ قَلِيلًا لَكِنَّ النِّيَّةَ خَالِصَةٌ فَقَدْ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ كَثِيرًا وَالنِّيَّةَ دَائِرَةٌ فَالْمَقْصُودُ فَائِتٌ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ كَعْبٍ: لَا تُحَقِّرُوا شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ، فَإِنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْجَنَّةَ بِإِعَارَةِ إِبْرَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنَّ امْرَأَةً أَعَانَتْ بِحَبَّةٍ فِي بِنَاءِ بَيْتِ/ الْمَقْدِسِ فَدَخَلَتِ الْجَنَّةَ. وعن عائشة: «كان بَيْنَ يَدَيْهَا عِنَبٌ فَقَدَّمَتْهُ إِلَى نِسْوَةٍ بِحَضْرَتِهَا، فَجَاءَ سَائِلٌ فَأَمَرَتْ لَهُ بِحَبَّةٍ مِنْ ذَلِكَ الْعِنَبِ فَضَحِكَ بَعْضُ مَنْ كَانَ عِنْدَهَا، فَقَالَتْ: إِنَّ فِيمَا تَرَوْنَ مَثَاقِيلَ الذَّرَّةِ وَتَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ» وَلَعَلَّهَا كَانَ غَرَضُهَا التَّعْلِيمَ، وَإِلَّا فَهِيَ كَانَتْ فِي غَايَةِ السَّخَاوَةِ. رُوِيَ «أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ بَعَثَ إِلَيْهَا بِمِائَةِ أَلْفٍ وَثَمَانِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي غِرَارَتَيْنِ، فَدَعَتْ بِطَبَقٍ وَجَعَلَتْ تَقْسِمُهُ بَيْنَ النَّاسِ، فَلَمَّا أَمْسَتْ قَالَتْ: يَا جَارِيَةُ فُطُورِي هَلُمِّي فَجَاءَتْ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ، فَقِيلَ لَهَا: أَمَا أَمْسَكْتِ لَنَا دِرْهَمًا نَشْتَرِي بِهِ لَحْمًا نُفْطِرُ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: لَوْ ذَكَّرْتِينِي لَفَعَلْتُ ذَلِكَ» وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلَيْنِ كَانَ أَحَدُهُمَا يَأْتِيهِ السَّائِلُ فَيَسْتَقِلُّ أَنْ يُعْطِيَهُ التَّمْرَةَ وَالْكِسْرَةَ وَالْجَوْزَةَ وَيَقُولَ مَا هَذَا بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا نُؤْجَرُ عَلَى مَا نُعْطِي! وَكَانَ الْآخَرُ يَتَهَاوَنُ بِالذَّنْبِ الْيَسِيرِ وَيَقُولُ: لَا شَيْءَ عَلَيَّ مِنْ هَذَا إِنَّمَا الْوَعِيدُ بِالنَّارِ عَلَى الْكَبَائِرِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَرْغِيبًا فِي الْقَلِيلِ مِنَ الْخَيْرِ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكْثُرَ، وَتَحْذِيرًا مِنَ الْيَسِيرِ مِنَ الذَّنْبِ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكْبُرَ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة العاديات

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة العاديات إحدى عشرة آية مكية [سورة العاديات (100) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) اعْلَمْ أَنَّ الضَّبْحَ أَصْوَاتُ أَنْفَاسِ الْخَيْلِ إِذَا عَدَتْ، وَهُوَ صَوْتٌ لَيْسَ بِصَهِيلٍ وَلَا حَمْحَمَةٍ، وَلَكِنَّهُ صَوْتُ نَفَسٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْعَادِيَاتِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا رُوِيَ عَنْ عَلَيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا الْإِبِلُ، وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ وَالْقُرَظِيِّ رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ فِي الْحِجْرِ إِذْ أَتَانِي رَجُلٌ فَسَأَلَنِي عَنِ الْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، فَفَسَّرْتُهَا بِالْخَيْلِ فَذَهَبَ إِلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ تَحْتَ سِقَايَةِ زَمْزَمَ فَسَأَلَهُ وَذَكَرَ لَهُ مَا قُلْتُ، فَقَالَ: ادْعُهُ لِي فَلَمَّا وَقَفْتُ عَلَى رَأْسِهِ قَالَ: تُفْتِي النَّاسَ بِمَا لَا عِلْمَ لَكَ بِهِ، وَاللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَأَوَّلَ غَزْوَةٍ فِي الْإِسْلَامِ بَدْرٌ وَمَا كَانَ مَعَنَا إِلَّا فَرَسَانِ، فَرَسٌ لِلزُّبَيْرِ وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا الْإِبِلُ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى مُزْدَلِفَةَ، وَمِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، يَعْنِي إِبِلَ الْحَاجِّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرَجَعْتُ عَنْ قَوْلِي إِلَى قَوْلِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ» وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الْقَوْلُ بِمَا رَوَى أُبَيٌّ فِي فَضْلِ السُّورَةِ مَرْفُوعًا: «مَنْ قَرَأَهَا أُعْطِيَ مِنَ الْأَجْرِ بِعَدَدِ مَنْ بَاتَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَشَهِدَ جَمْعًا» وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَالْمُورِياتِ قَدْحاً أَنَّ الْحَوَافِرَ تَرْمِي بِالْحَجَرِ مِنْ شِدَّةِ الْعَدْوِ فَتَضْرِبُ بِهِ حَجَرًا آخَرَ فَتُورِي النَّارَ أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِينَ يَرْكَبُونَ الْإِبِلَ وَهُمُ الْحَجِيجُ إِذَا أَوْقَدُوا نِيرَانَهُمْ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَالْمُغِيراتِ الْإِغَارَةُ سُرْعَةُ السَّيْرِ وَهُمْ يَنْدَفِعُونَ صَبِيحَةَ يَوْمِ النَّحْرِ مُسْرِعِينَ إِلَى مِنًى فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً يَعْنِي غُبَارًا بِالْعَدْوِ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ النَّقْعُ مَا بَيْنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً يَعْنِي مُزْدَلِفَةَ لِأَنَّهَا تُسَمَّى الْجَمْعَ لِاجْتِمَاعِ الْحَاجِّ بِهَا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، فَوَجْهُ الْقَسَمِ بِهِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَنَافِعِ الْكَثِيرَةِ فِيهِ فِي قَوْلِهِ: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ [الْغَاشِيَةِ: 17] وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ تَعْرِيضٌ بِالْآدَمِيِّ الْكَنُودِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنِّي سَخَّرْتُ مِثْلَ هَذَا لَكَ وَأَنْتَ مُتَمَرِّدٌ عَنْ طَاعَتِي وَثَالِثُهَا: الْغَرَضُ بِذِكْرِ إِبِلِ الْحَجِّ التَّرْغِيبُ فِي الْحَجِّ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: جَعَلْتُ ذَلِكَ الْإِبِلَ مُقْسَمًا بِهِ، فَكَيْفَ أضيع/ عملك! وفيه تعريض لمن يرغب الْحَجِّ، فَإِنَّ الْكَنُودَ هُوَ الْكَفُورُ، وَالَّذِي لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ الْوُجُوبِ مَوْصُوفٌ بِذَلِكَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ كَفَرَ آلِ عِمْرَانَ:

[سورة العاديات (100) : آية 2]

الْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَعَطَاءٍ وَأَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ: أَنَّهُ الْخَيْلُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا. قَالَ الْكَلْبِيُّ. بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إِلَى أُنَاسٍ مِنْ كِنَانَةَ فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ لَا يَأْتِيهِ مِنْهُمْ خَبَرٌ فَتَخَوَّفَ عَلَيْهَا فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِخَبَرِ مَسِيرِهَا فَإِنْ جَعَلْنَا الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي: وَالْعادِياتِ لِلْمَعْهُودِ السَّابِقِ كَانَ مَحَلُّ الْقَسَمِ خَيْلَ تِلْكَ السَّرِيَّةِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُمَا لِلْجِنْسِ كَانَ ذَلِكَ قَسَمًا بِكُلِّ خَيْلٍ عَدَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَلْفَاظَ هَذِهِ الْآيَاتِ تُنَادِي أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْخَيْلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الضَّبْحَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْفَرَسِ، وَاسْتِعْمَالُ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْإِبِلِ يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، كَمَا اسْتُعِيرَ الْمَشَافِرُ وَالْحَافِرُ لِلْإِنْسَانِ، وَالشَّفَتَانِ لِلْمُهْرِ، وَالْعُدُولُ مِنَ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ لَا يَجُوزُ، وَأَيْضًا فَالْقَدْحُ يَظْهَرُ بِالْحَافِرِ مَا لَا يَظْهَرُ بِخُفِّ الْإِبِلِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً لِأَنَّهُ بِالْخَيْلِ أَسْهَلُ مِنْهُ بِغَيْرِهِ، وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ السَّرَايَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَقْرَبُ أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ، لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْقِتَالِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ الْكَلْبِيُّ: إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَهَهُنَا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَقْسَمَ بِالْخَيْلِ لِأَنَّ لَهَا فِي الْعَدْوِ مِنَ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ مَا لَيْسَ لِسَائِرِ الدَّوَابِّ، فَإِنَّهَا تَصْلُحُ لِلطَّلَبِ وَالْهَرَبِ وَالْكَرِّ وَالْفَرِّ، فَإِذَا ظَنَنْتَ أَنَّ النَّفْعَ فِي الطَّلَبِ عَدَوْتَ إِلَى الْخَصْمِ لِتَفُوزَ بِالْغَنِيمَةِ، وَإِذَا ظَنَنْتَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي الْهَرَبِ قَدَرْتَ عَلَى أَشَدِّ الْعَدْوِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّلَامَةَ إِحْدَى الْغَنِيمَتَيْنِ، فَأَقْسَمَ تَعَالَى بِفَرَسِ الْغَازِي لِمَا فِيهِ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَهُ لَا لِلزِّينَةِ وَالتَّفَاخُرِ، بَلْ لِهَذِهِ الْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلُهُ: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [النَّحْلِ: 8] فَأَدْخَلَ لَامَ التَّعْلِيلِ عَلَى الرُّكُوبِ وَمَا أَدْخَلَهُ على الزينة وإنما قال: صُبْحاً لِأَنَّهُ أَمَارَةٌ يُظْهِرُ بِهِ التَّعَبَ وَأَنَّهُ يَبْذُلُ كُلَّ الْوُسْعِ وَلَا يَقِفُ عِنْدَ التَّعَبِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّهُ مَعَ ضَعْفِهِ لَا يَتْرُكُ طَاعَتَكَ، فَلْيَكُنِ الْعَبْدُ فِي طَاعَةِ مَوْلَاهُ أَيْضًا كَذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي انْتِصَابِ ضَبْحاً وجوها أحدها: قال الزجاج: والعاديات تضبح ضبحاو ثانيها: أَنْ يَكُونَ وَالْعادِياتِ فِي مَعْنَى وَالضَّابِحَاتِ، لِأَنَّ الضَّبْحَ يَكُونُ مَعَ الْعَدْوِ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْبَصْرِيُّونَ: التَّقْدِيرُ: وَالْعَادِيَاتِ ضَابِحَةً، فَقَوْلُهُ: ضَبْحاً نصب على الحال. أما قوله تعالى: [سورة العاديات (100) : آية 2] فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَاعْلَمْ أَنَّ الْإِيرَاءَ إِخْرَاجُ النَّارِ، والقدح الصك تقول: قدح فأورى وقدح فَأَصْلَدَ، ثُمَّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ ضَرْبَ الْخَيْلِ بِحَوَافِرِهَا الْجَبَلَ فَأَوْرَتْ مِنْهُ النَّارَ مِثْلَ الزَّنْدِ إِذَا قُدِحَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْخَيْلَ تَقْدَحْنَ بِحَوَافِرِهِنَّ فِي الْحِجَارَةِ نَارًا كَنَارِ الْحُبَاحِبِ «1» وَالْحُبَاحِبُ اسْمُ رَجُلٍ كَانَ بَخِيلًا لَا يُوقِدُ النَّارَ إِلَّا إِذَا نَامَ النَّاسُ، فَإِذَا انْتَبَهَ أَحَدٌ أَطْفَأَ نَارَهُ لِئَلَّا يَنْتَفِعَ بِهَا أَحَدٌ فَشُبِّهَتْ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي تَنْقَدِحُ مِنْ حَوَافِرِ الْخَيْلِ بِتِلْكَ النَّارِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَفْعٌ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا نَعْلُ الْحَدِيدِ يَصُكُّ الحجر فتخرج النار، والأول أبلغ لأن

_ (1) ويقال: الحباحب طائر صغير كالذبابة تضيء ليلا فيظنه الرائي نارا.

[سورة العاديات (100) : آية 3]

عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ تَكُونُ السَّنَابِكُ نَفْسُهَا كَالْحَدِيدِ قَالَ قَوْمٌ: هَذِهِ الْآيَاتُ فِي الْخَيْلِ، وَلَكِنْ إبراؤها أَنْ تُهِيجَ الْحَرْبَ بَيْنَ أَصْحَابِهَا وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [الْمَائِدَةِ: 64] وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْحَرْبِ إِذَا الْتَحَمَتْ: حَمِيَ الْوَطِيسُ وَثَالِثُهَا: هُمُ الَّذِينَ يَغْزُونَ فَيُورُونَ بِاللَّيْلِ نِيرَانَهُمْ لِحَاجَتِهِمْ وَطَعَامِهِمْ فَالْمُورِياتِ هُمُ الْجَمَاعَةُ مِنَ الْغُزَاةِ وَرَابِعُهَا: إِنَّهَا هِيَ الْأَلْسِنَةُ تُورِي نَارَ الْعَدَاوَةِ لِعِظَمِ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ وَخَامِسُهَا: هِيَ أَفْكَارُ الرِّجَالِ تُورِي نَارَ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيُقَالُ: لَأَقْدَحَنَّ لَكَ ثُمَّ لَأُورِيَنَّ لَكَ، أَيْ لَأُهَيِّجَنَّ عَلَيْكَ شَرًّا وَحَرْبًا، وَقِيلَ: هُوَ الْمَكْرُ إِلَّا أَنَّهُ مَكْرٌ بِإِيقَادِ النَّارِ لِيَرَاهُمُ الْعَدُوُّ كَثِيرًا، وَمِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ عِنْدَ الْغَزْوِ إِذَا قَرُبُوا مِنَ الْعَدُوِّ أَنْ يُوقِدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً لِكَيْ إِذَا نَظَرَ الْعَدُوُّ إِلَيْهِمْ ظَنَّهُمْ كَثِيرًا وَسَادِسُهَا: قَالَ عِكْرِمَةُ: الْمُورِيَاتِ قَدْحًا الْأَسِنَّةُ وَسَابِعُهَا: فَالْمُورِياتِ قَدْحاً أَيْ فَالْمُنْجِحَاتِ أَمْرًا، يَعْنِي الَّذِينَ وَجَدُوا مَقْصُودَهُمْ وَفَازُوا بِمَطْلُوبِهِمْ مِنَ الْغَزْوِ وَالْحَجِّ، وَيُقَالُ لِلْمُنْجِحِ فِي حَاجَتِهِ: وَرَى زَنْدَهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ هَذَا إِلَى الْجَمَاعَةِ الْمُنْجِحَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْخَيْلِ يَنْجَحُ رُكْبَانُهَا قَالَ جَرِيرٌ: وَجَدْنَا الْأَزْدَ أَكْرَمَهُمْ جَوَادَا ... وَأَوْرَاهُمْ إِذَا قَدَحُوا زِنَادَا وَيُقَالُ: فُلَانٌ إِذَا قَدَحَ أَوْرَى، وَإِذَا مَنَحَ أورى، وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَقْرَبُ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِيرَاءِ حَقِيقَةٌ فِي إِيرَاءِ النَّارِ، وَفِي غَيْرِهِ مَجَازٌ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْحَقِيقَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. أما قوله تعالى: [سورة العاديات (100) : آية 3] فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) يَعْنِي الْخَيْلَ تُغِيرُ عَلَى الْعَدُوِّ وَقْتَ الصُّبْحِ، وَكَانُوا يُغِيرُونَ صَبَاحًا لِأَنَّهُمْ فِي اللَّيْلِ يَكُونُونَ فِي الظُّلْمَةِ فَلَا يُبْصِرُونَ شَيْئًا، وَأَمَّا النَّهَارُ فَالنَّاسُ يَكُونُونَ فِيهِ كَالْمُسْتَعِدِّينَ لِلْمُدَافَعَةِ وَالْمُحَارَبَةِ، أَمَّا هَذَا الْوَقْتُ فَالنَّاسُ يَكُونُونَ فِيهِ فِي الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ الِاسْتِعْدَادِ. وَأَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوا هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى الْإِبِلِ قَالُوا: الْمُرَادُ هُوَ الْإِبِلُ تَدْفَعُ بِرُكْبَانِهَا يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ جَمْعٍ إِلَى مِنًى، وَالسُّنَّةُ أَنْ لَا تُغِيرَ حَتَّى تُصْبِحَ، وَمَعْنَى الْإِغَارَةِ فِي اللُّغَةِ الْإِسْرَاعُ، يُقَالُ: أَغَارَ إِذَا أَسْرَعَ وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَقُولُ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرُ أَيْ نُسْرِعُ في الإفاضة. أما قوله: [سورة العاديات (100) : آية 4] فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: في النقع قولان: أحدهما: أنا هُوَ الْغُبَارُ وَقِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ نَقْعِ الصَّوْتِ إِذَا ارْتَفَعَ، فَالْغُبَارُ يُسَمَّى نَقْعًا لِارْتِفَاعِهِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ النَّقْعِ فِي الْمَاءِ، فَكَأَنَّ صَاحِبَ الْغُبَارِ غَاصَ فِيهِ، كَمَا يَغُوصُ الرَّجُلُ في الماء والثاني: النقع الصباح مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ وَلَا لَقَلَقَةٌ» أَيْ فَهَيَّجْنَ فِي الْمُغَارِ عَلَيْهِمْ صِيَاحَ النَّوَائِحِ، وَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُنَّ، وَيُقَالُ: ثَارَ الْغُبَارُ وَالدُّخَانُ، أَيِ ارْتَفَعَ وَثَارَ الْقَطَا عَنْ مِفْحَصِهِ، وَأَثَرْنَ الْغُبَارَ أَيْ هَيَّجْنَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْخَيْلَ أَثَرْنَ الْغُبَارَ لِشِدَّةِ الْعَدْوِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَغَرْنَ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: بِهِ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ، وَالْمَوْضِعِ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ الْإِغَارَةُ، لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْإِغَارَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ وَضْعٍ، وَإِذَا عُلِمَ الْمَعْنَى جَازَ أَنْ يُكَنَّى عَمَّا لَمْ يَجُزْ ذِكْرُهُ بِالتَّصْرِيحِ كَقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي

[سورة العاديات (100) : آية 5]

لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: 1] وَثَانِيهَا: إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى ذَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ الْإِغَارَةُ، أَيْ فَأَثَرْنَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ نَقْعًا وَثَالِثُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْعَدْوِ، أَيْ فَأَثَرْنَ بِالْعَدْوِ نَقْعًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْعَدْوِ فِي قَوْلِهِ: وَالْعادِياتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَإِنْ قِيلَ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ عُطِفَ قَوْلُهُ: فَأَثَرْنَ قُلْنَا: عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي وُضِعَ اسْمُ الْفَاعِلِ مَوْضِعَهُ، وَالتَّقْدِيرُ وَاللَّائِي عَدَوْنَ فَأَوْرَيْنَ، وَأَغَرْنَ فَأَثَرْنَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: فَأَثَرْنَ بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنَى فَأَظْهَرْنَ بِهِ غُبَارًا، لِأَنَّ التَّأْثِيرَ فِيهِ مَعْنَى الْإِظْهَارِ، أَوْ قَلَبَ ثَوَّرْنَ إِلَى وَثَّرْنَ وَقَلَبَ الواو همزة. أما قوله تعالى: [سورة العاديات (100) : آية 5] فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قال الليث: وسطت النهر والمفازة أسطها وَسَطًا وَسِطَةً، أَيْ صِرْتُ فِي وَسَطِهَا، وَكَذَلِكَ وَسَّطْتُهَا وَتَوَسَّطْتُهَا، وَنَحْوُ هَذَا، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بِهِ إِلَى مَاذَا يَرْجِعُ فِيهِ؟ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: أَيْ بِالْعَدْوِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَادِيَاتِ تَدُلُّ عَلَى الْعَدْوِ، فَجَازَتِ الْكِنَايَةُ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: جَمْعاً يَعْنِي جَمْعَ الْعَدُوِّ، وَالْمَعْنَى صرن بعدوهن وَسَطَ جَمْعِ الْعَدُوِّ، وَمَنْ حَمَلَ الْآيَاتِ عَلَى الْإِبِلِ، قَالَ: يَعْنِي جَمْعَ مِنًى وَثَانِيهَا: أَنَّ الضمير عائد إلى النقع أي: وسطن بِالنَّقْعِ الْجَمْعَ وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ أَنَّ الْعَادِيَاتِ وَسَطْنَ مُلَبَّسًا بِالنَّقْعِ جَمْعًا مِنْ جُمُوعِ الْأَعْدَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: فَوَسَطْنَ بِالتَّشْدِيدِ لِلتَّعْدِيَةِ، وَالْبَاءُ مَزِيدَةٌ للتوكيد كقوله: وَأُتُوا بِهِ [البقرة: 25] وَهِيَ مُبَالَغَةٌ فِي وَسَطْنَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ أَكْثَرُوا فِي صِفَةِ الْفَرَسِ، وَهَذَا الْقَدْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ أَحْسَنُ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ» ، وَقَالَ أَيْضًا: «ظَهْرُهَا حِرْزٌ/ وَبَطْنُهَا كَنْزٌ» وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمُقْسَمَ بِهِ، ذَكَرَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ وَهُوَ أمور ثلاثة: أحدها: قوله: [سورة العاديات (100) : آية 6] إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَصْلُ الْكُنُودِ مَنْعُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالْكَنُودُ الَّذِي يَمْنَعُ مَا عَلَيْهِ، وَالْأَرْضُ الْكَنُودُ هِيَ الَّتِي لَا تُنْبِتُ شَيْئًا ثُمَّ لِلْمُفَسِّرِينَ عِبَارَاتٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: الْكَنُودُ هُوَ الْكَفُورُ قَالُوا: وَمِنْهُ سُمِّيَ الرَّجُلُ الْمَشْهُورُ كِنْدَةَ لِأَنَّهُ كَنَدَ أَبَاهُ فَفَارَقَهُ، وَعَنِ الْكَلْبِيِّ الْكَنُودُ بِلِسَانِ كِنْدَةَ الْعَاصِي وَبِلِسَانِ بَنِي مَالِكٍ الْبَخِيلُ، وَبِلِسَانِ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ الْكَفُورُ، وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْكَنُودَ هُوَ الْكَفُورُ الَّذِي يَمْنَعُ رِفْدَهُ، وَيَأْكُلُ وَحْدَهُ، وَيَضْرِبُ عَبْدَهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْكَنُودُ اللَّوَّامُ لِرَبِّهِ يَعُدُّ الْمِحَنَ وَالْمَصَائِبَ، وَيَنْسَى النِّعَمَ وَالرَّاحَاتِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ [الْفَجْرِ: 16] . وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى الْكَنُودِ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا أَوْ فِسْقًا، وَكَيْفَمَا كَانَ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى كُلِّ النَّاسِ، فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهِ إِلَى كَافِرٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْكُلِّ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ طَبْعَ الْإِنْسَانِ يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا إِذَا

[سورة العاديات (100) : آية 7]

عصمه الله بلطفه وتوفيقيه مِنْ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ قَالُوا: لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي قُرْطِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلٍ الْقُرَشِيِّ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ [العاديات: 9] لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْكَافِرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ الْأَمْرِ. الثَّانِي: مِنَ الأمور التي أقسم الله عليها قوله: [سورة العاديات (100) : آية 7] وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ عَلَى ذَلِكَ أَيْ عَلَى كُنُودِهِ لَشَهِيدٌ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ، إِمَّا لِأَنَّهُ أَمْرٌ ظَاهِرٌ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْحَدَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ وَيَعْتَرِفُ بِذُنُوبِهِ الْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ قَالُوا: وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الضمير عائد إلى أقرب المذكورات والأقرب هاهنا هُوَ لَفْظُ الرَّبِّ تَعَالَى وَيَكُونُ ذَلِكَ كَالْوَعِيدِ والزجر له عين الْمَعَاصِي مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُحْصِي عَلَيْهِ أَعْمَالَهُ، وَأَمَّا النَّاصِرُونَ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ الضَّمِيرُ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهُ عَائِدًا إِلَى الْإِنْسَانِ لِيَكُونَ النَّظْمُ أَحْسَنَ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: مِمَّا أقسم الله عليه قوله: [سورة العاديات (100) : آية 8] وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) الْخَيْرُ الْمَالُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً [الْبَقَرَةِ: 180] وَقَوْلِهِ: وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [الْمَعَارِجِ: 21] وَهَذَا لِأَنَّ النَّاسَ يَعُدُّونَ الْمَالَ فِيمَا بَيْنَهُمْ خَيْرًا كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى مَا يَنَالُ الْمُجَاهِدَ مِنَ الْجِرَاحِ وَأَذَى الْحَرْبِ سُوءًا فِي قَوْلِهِ: لَمْ يَمْسَسْهُمْ/ سُوءٌ [آلِ عِمْرَانَ: 174] وَالشَّدِيدُ الْبَخِيلُ الْمُمْسِكُ، يقال: فلان شديدة وَمُتَشَدِّدٌ، قَالَ طَرَفَةُ: أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ ثُمَّ فِي التَّفْسِيرِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لِأَجْلِ حُبِّ الْمَالِ لَبَخِيلٌ مُمْسِكٌ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الشديدة القرى، وَيَكُونُ الْمَعْنَى وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْمَالِ وَإِيثَارِ الدُّنْيَا وَطَلَبِهَا قَوِيٌّ مُطِيقٌ، وَهُوَ لِحُبِّ عِبَادَةِ اللَّهِ وَشُكْرِ نِعَمِهِ ضَعِيفٌ، تَقُولُ: هُوَ شَدِيدٌ لِهَذَا الأمر وقوي له، وإذا كَانَ مُطِيقًا لَهُ ضَابِطًا وَثَالِثُهَا: أَرَادَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرَاتِ غَيْرُ هَنِيٍّ مُنْبَسِطٍ وَلَكِنَّهُ شَدِيدٌ مُنْقَبِضٌ وَرَابِعُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدُ الْحُبِّ يَعْنِي أَنَّهُ يُحِبُّ الْمَالَ، وَيُحِبُّ كَوْنَهُ مُحِبًّا لَهُ، إِلَّا أَنَّهُ اكْتَفَى بِالْحُبِّ الْأَوَّلِ عَنِ الثَّانِي، كَمَا قَالَ: اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ [إِبْرَاهِيمَ: 18] أَيْ فِي يَوْمٍ عَاصِفِ الرِّيحِ فَاكْتَفَى بِالْأُولَى عَنِ الثَّانِيَةِ وَخَامِسُهَا: قَالَ قُطْرُبٌ: أَيْ إِنَّهُ شَدِيدُ حُبِّ الْخَيْرِ، كَقَوْلِكَ إِنَّهُ لزيد ضروب أي أنه ضروب زيد. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَدَّ عَلَيْهِ قَبَائِحَ أفعاله خوفه فقال: [سورة العاديات (100) : آية 9] أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)

[سورة العاديات (100) : آية 10]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَوْلُ فِي: بُعْثِرَ مَضَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [الِانْفِطَارِ: 4] وَذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى: بُعْثِرَتْ بُعِثَ وَأُثِيرَ وَأُخْرِجَ، وَقُرِئَ (بُحْثِرَ) . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ لِمَ قَالَ: بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَلَمْ يَقُلْ: بُعْثِرَ مَنْ فِي الْقُبُورِ؟ ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا قَالَ: مَا فِي الْقُبُورِ، فَلِمَ قَالَ: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ رَبَّهَا بِهَا يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ؟ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: هُوَ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ الْمُكَلَّفِينَ أَكْثَرُ فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ عَلَى الْأَغْلَبِ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُمْ حَالَ مَا يُبْعَثُونَ لَا يَكُونُونَ أَحْيَاءً عُقَلَاءَ بَلْ بَعْدَ الْبَعْثِ يَصِيرُونَ كَذَلِكَ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ ضَمِيرَ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، وَالضَّمِيرُ الثَّانِي ضَمِيرَ الْعُقَلَاءِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: [سورة العاديات (100) : آية 10] وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ مُيِّزَ مَا فِي الصُّدُورِ، وَقَالَ اللَّيْثُ: الْحَاصِلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَا بَقِيَ وَثَبَتَ وَذَهَبَ سِوَاهُ، وَالتَّحْصِيلُ تَمْيِيزُ مَا يَحْصُلُ وَالِاسْمُ الْحَصِيلَةُ قَالَ لَبِيدٌ: وَكُلُّ امْرِئٍ يَوْمًا سَيَعْلَمُ سَعْيَهُ ... إِذَا حَصَلَتْ عِنْدَ الْإِلَهِ الْحَصَائِلُ وَفِي التَّفْسِيرِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: مَعْنَى حُصِّلَ جُمِعَ فِي الصُّحُفِ، أَيْ أُظْهِرَتْ مُحَصَّلًا مَجْمُوعًا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمَحْظُورِ، فَإِنَّ لِكُلٍّ وَاحِدٌ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمُنْخُلِ: الْمُحَصِّلُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ كَثِيرًا مَا يَكُونُ بَاطِنُ الْإِنْسَانِ بِخِلَافِ ظَاهِرِهِ، أَمَّا فِي يوم القيامة فإنه تنكشف الْأَسْرَارُ وَتُنْتَهَكُ الْأَسْتَارُ، وَيَظْهَرُ مَا فِي الْبَوَاطِنِ، كَمَا قَالَ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطَّارِقِ: 9] . وَاعْلَمْ أَنَّ حَظَّ الْوَعْظِ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّكَ تَسْتَعِدُّ فِيمَا لَا فَائِدَةَ لَكَ فِيهِ، فَتَبْنِي الْمَقْبَرَةَ وَتَشْتَرِي/ التَّابُوتَ، وَتُفَصِّلُ الْكَفَنَ وَتَغْزِلُ الْعَجُوزُ الْكَفَنَ، فَيُقَالُ: هَذَا كُلُّهُ لِلدِّيدَانِ، فَأَيْنَ حَظُّ الرَّحْمَنِ! بَلِ الْمَرْأَةُ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا فَإِنَّهَا تُعِدُّ لِلطِّفْلِ ثِيَابًا، فَإِذَا قُلْتَ لَهَا: لَا طِفْلَ لَكِ فَمَا هَذَا الِاسْتِعْدَادُ؟ فَتَقُولُ: أَلَيْسَ يُبَعْثَرُ مَا فِي بَطْنِي؟ فَيَقُولُ الرَّبُّ لَكَ: أَلَا يُبَعْثَرُ مَا فِي بَطْنِ الْأَرْضِ فَأَيْنَ الِاسْتِعْدَادُ، وَقُرِئَ (وَحَصَلَ) بِالْفَتْحِ وَالتَّخْفِيفِ بِمَعْنَى ظَهَرَ. ثم قال: [سورة العاديات (100) : آية 11] إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) اعْلَمْ أَنَّ فِيهِ سُؤَالَاتٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ عِلْمَهُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ الْخِبْرَةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي سَبْقَ الْجَهْلِ وَهُوَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا، فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِسَبَبِ الِاخْتِبَارِ عَالِمًا، فَمَنْ كَانَ لَمْ يَزَلْ عَالِمًا أَنْ يَكُونَ خَبِيرًا بِأَحْوَالِكَ! وَثَانِيهِمَا: أَنَّ فَائِدَةَ تَخْصِيصِ ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ مَعَ كَوْنِهِ عَالِمًا لَمْ يَزَلْ أَنَّهُ وَقْتَ الْجَزَاءِ، وَتَقْرِيرُهُ لِمَنِ الْمُلْكُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا حَاكِمَ يَرُوجُ حُكْمُهُ وَلَا عَالِمَ تَرُوجُ فَتْوَاهُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا هُوَ، وَكَمْ عَالِمٍ لَا يَعْرِفُ الْجَوَابَ وَقْتَ الْوَاقِعَةِ ثُمَّ يَتَذَكَّرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَسْتُ كَذَلِكَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ خَصَّ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ وَأَهْمَلَ ذِكْرَ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ؟

الْجَوَابُ: لِأَنَّ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ تَابِعَةٌ لِأَعْمَالِ الْقَلْبِ فَإِنَّهُ لَوْلَا الْبَوَاعِثُ وَالْإِرَادَاتُ فِي الْقُلُوبِ لَمَا حَصَلَتْ أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ، وَلِذَلِكَ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا الْأَصْلَ فِي الذَّمِّ فَقَالَ: آثِمٌ قَلْبُهُ [الْبَقَرَةِ: 283] وَالْأَصْلُ فِي الْمَدْحِ، فَقَالَ: وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الْأَنْفَالِ: 2] . السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ: وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ وَلَمْ يَقُلْ: وَحُصِّلَ مَا فِي الْقُلُوبِ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ الْقَلْبَ مَطِيَّةُ الرُّوحِ وَهُوَ بِالطَّبْعِ مُحِبٌّ لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَخِدْمَتِهِ، إِنَّمَا الْمُنَازِعُ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ النَّفْسُ وَمَحِلُّهَا مَا يَقْرُبُ مِنَ الصَّدْرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [النَّاسِ: 5] وَقَالَ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الزُّمَرِ: 22] فَجَعَلَ الصَّدْرَ مَوْضِعًا لِلْإِسْلَامِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ وَهُوَ وَاحِدٌ وَالْجَوَابُ: الْإِنْسَانُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [الْعَصْرِ: 2] ثُمَّ قَالَ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [الْعَصْرِ: 3] وَلَوْلَا أَنَّهُ لِلْجَمْعِ وَإِلَّا لَمَا صَحَّ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ بَقِيَ مِنْ مَبَاحِثِ هَذِهِ الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِالْجُزْئِيَّاتِ الزَّمَانِيَّاتِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِكَيْفِيَّةِ أَحْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَيَكُونُ مُنْكِرُهُ كَافِرًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نُقِلَ أَنَّ الْحَجَّاجَ سَبَقَ عَلَى لِسَانِهِ أَنَّ بِالنَّصْبِ، فَأَسْقَطَ اللَّامَ مِنْ قَوْلِهِ: لَخَبِيرٌ حَتَّى لَا يَكُونَ الْكَلَامُ لَحْنًا، وَهَذَا يُذْكَرُ فِي تَقْرِيرِ فَصَاحَتِهِ، فَزَعَمَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّ هَذَا كُفْرٌ لِأَنَّهُ قَصْدٌ لِتَغْيِيرِ الْمُنْزَلِ. ونقل عن أبي السماءل أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة القارعة

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة القارعة إحدى عشرة آية مكية (سورة القارعة إحدى عشرة آية مكية) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا خَتَمَ السُّورَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ [العاديات: 11] فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا ذَلِكَ الْيَوْمُ؟ فَقِيلَ هِيَ القارعة. [سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) اعْلَمْ أَنَّ فِيهِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَرْعُ الضَّرْبُ بِشِدَّةٍ وَاعْتِمَادٍ، ثُمَّ سُمِّيَتِ الْحَادِثَةُ الْعَظِيمَةُ مِنْ حَوَادِثِ الدَّهْرِ قَارِعَةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ [الرَّعْدِ: 31] وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: الْعَبْدُ يُقْرَعُ بِالْعَصَا، وَمِنْهُ الْمِقْرَعَةُ وَقَوَارِعُ الْقُرْآنِ وَقَرَعَ الْبَابَ، وَتَقَارَعُوا تَضَارَبُوا بِالسُّيُوفِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقَارِعَةَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقِيَامَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي لِمِّيَّةِ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ هُوَ الصَّيْحَةُ الَّتِي تَمُوتُ مِنْهَا الْخَلَائِقُ، لِأَنَّ فِي الصَّيْحَةِ الْأُولَى تَذْهَبُ الْعُقُولُ، قَالَ تَعَالَى: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الزُّمَرِ: 68] وَفِي الثَّانِيَةِ تَمُوتُ الْخَلَائِقُ سِوَى إِسْرَافِيلَ، ثُمَّ يُمِيتُهُ اللَّهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ، فَيَنْفُخُ الثَّالِثَةَ فَيَقُومُونَ. وَرُوِيَ أَنَّ الصُّورَ لَهُ ثُقْبٌ عَلَى عَدَدِ الْأَمْوَاتِ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثُقْبَةٌ مَعْلُومَةٌ، فَيُحْيِي اللَّهُ كُلَّ جَسَدٍ بِتِلْكَ النَّفْخَةِ الْوَاصِلَةِ إِلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الثُّقْبَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: 49] فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ [الصافات: 19] وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَجْرَامَ الْعُلْوِيَّةَ وَالسُّفْلِيَّةَ يَصْطَكَّانِ اصْطِكَاكًا شَدِيدًا عِنْدَ تَخْرِيبِ الْعَالَمِ، فَبِسَبَبِ تِلْكَ الْقَرْعَةِ سُمِّيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِالْقَارِعَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقَارِعَةَ هِيَ الَّتِي تَقْرَعُ النَّاسَ بِالْأَهْوَالِ وَالْإِفْزَاعِ، وَذَلِكَ في السموات بِالِانْشِقَاقِ وَالِانْفِطَارِ، وَفِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِالتَّكَوُّرِ، وَفِي الْكَوَاكِبِ بِالِانْتِثَارِ، وَفِي الْجِبَالِ بِالدَّكِّ وَالنَّسْفِ، وَفِي الْأَرْضِ بِالطَّيِّ وَالتَّبْدِيلِ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا تَقْرَعُ أَعْدَاءَ اللَّهِ بِالْعَذَابِ وَالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ، قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْكَلْبِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النَّمْلِ: 89] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ: الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَحْذِيرٌ وَقَدْ/ جَاءَ التَّحْذِيرُ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ تَقُولُ: الْأَسَدُ الْأَسَدُ، فَيَجُوزُ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ وثانيها: وفيه إِضْمَارٌ أَيْ سَتَأْتِيكُمُ الْقَارِعَةُ عَلَى مَا

[سورة القارعة (101) : الآيات 4 إلى 5]

أَخْبَرْتُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِذا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ [الْعَادِيَاتِ: 9] وَثَالِثُهَا: رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ: مَا الْقارِعَةُ وَعَلَى قَوْلِ قُطْرُبٍ الْخَبَرُ. وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ فَإِنْ قِيلَ: إِذَا أَخْبَرْتَ عَنْ شَيْءٍ بِشَيْءٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَسْتَفِيدَ مِنْهُ عِلْمًا زَائِدًا، وَقَوْلُهُ: وَما أَدْراكَ يُفِيدُ كَوْنَهُ جَاهِلًا بِهِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا خَبَرًا؟ قُلْنَا: قَدْ حَصَلَ لَنَا بِهَذَا الْخَبَرِ عِلْمٌ زَائِدٌ، لِأَنَّا كُنَّا نَظُنُّ أَنَّهَا قَارِعَةٌ كَسَائِرِ الْقَوَارِعِ، فَبِهَذَا التَّجْهِيلِ عَلِمْنَا أَنَّهَا قَارِعَةٌ فَاقَتِ الْقَوَارِعَ فِي الْهَوْلِ وَالشِّدَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: مَعْنَاهُ لَا عِلْمَ لَكَ بِكُنْهِهَا، لِأَنَّهَا فِي الشِّدَّةِ بِحَيْثُ لَا يَبْلُغُهَا وَهْمُ أَحَدٍ وَلَا فَهْمُهُ، وَكَيْفَمَا قَدَّرْتَهُ فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ تَقْدِيرِكَ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: قَوَارِعُ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ تِلْكَ الْقَارِعَةِ كَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِقَوَارِعَ، وَنَارُ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ نَارِ الْآخِرَةِ كَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَارٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: نارٌ حامِيَةٌ [القارعة: 11] تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ نَارَ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ تِلْكَ لَيْسَتْ بِحَامِيَةٍ، وَصَارَ آخِرُ السُّورَةِ مُطَابِقًا لأولها من هذا الوجه. فإن قيل: هاهنا قَالَ: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ وَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ [القارعة: 9، 10] وَلَمْ يَقُلْ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا هَاوِيَةٌ فَمَا الْفَرْقُ؟ قُلْنَا: الْفَرْقُ أَنَّ كَوْنَهَا قَارِعَةً أَمْرٌ مَحْسُوسٌ، أَمَّا كَوْنُهَا هَاوِيَةً فَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ وَثَانِيهَا: أَنَّ ذَلِكَ التَّفْصِيلَ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ إِلَّا بِإِخْبَارِ اللَّهِ وَبَيَانِهِ، لِأَنَّهُ بَحْثٌ عَنْ وُقُوعِ الْوَقَعَاتِ لَا عَنْ وُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ، فَلَا يَكُونُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ دَلِيلٌ إِلَّا بِالسَّمْعِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةِ: 1- 3] ثُمَّ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ قَوْلُهُ: الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ أَشَدُّ مِنْ قَوْلِهِ: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ لِأَنَّ النَّازِلَ آخِرًا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ زِيَادَةُ التَّنْبِيهِ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ أَقْوَى، وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَعْنَى، فَالْحَاقَّةُ أَشَدُّ لِكَوْنِهِ رَاجِعًا إِلَى مَعْنَى الْعَدْلِ، وَالْقَارِعَةُ أَشَدُّ لِمَا أَنَّهَا تَهْجُمُ عَلَى القلوب بالأمر الهائل. ثم قال تعالى: [سورة القارعة (101) : الآيات 4 الى 5] يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الظَّرْفُ نُصِبَ بِمُضْمَرٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَارِعَةُ، أَيْ تَقْرَعُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَذَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِأَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ: كَوْنُ النَّاسِ فِيهِ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْفَرَاشُ هُوَ الْحَيَوَانُ الَّذِي يَتَهَافَتُ فِي النَّارِ، وَسُمِّيَ فَرَاشًا لِتَفَرُّشِهِ وَانْتِشَارِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ/ تَعَالَى شَبَّهَ الْخَلْقَ وَقْتَ البعث هاهنا بِالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى بِالْجَرَادِ الْمُنْتَشِرِ. أَمَّا وَجْهُ التَّشْبِيهِ بِالْفَرَاشِ، فَلِأَنَّ الْفَرَاشَ إِذَا ثَارَ لَمْ يَتَّجِهْ لِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تَذْهَبُ إِلَى غَيْرِ جِهَةِ الْأُخْرَى، يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا بُعِثُوا فَزِعُوا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَقَاصِدِ عَلَى جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ، وَالْمَبْثُوثُ الْمُفَرَّقُ، يُقَالُ: بَثَّهُ إِذَا فَرَّقَهُ. وَأَمَّا وَجْهُ التَّشْبِيهِ بِالْجَرَادِ فَهُوَ فِي الْكَثْرَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَغَوْغَاءِ الْجَرَادِ يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَبِالْجُمْلَةِ فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَبَّهَ النَّاسَ فِي وَقْتِ الْبَعْثِ بِالْجَرَادِ الْمُنْتَشِرِ، وَبِالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا بُعِثُوا يَمُوجُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ كَالْجَرَادِ والفراش، ويأكد مَا ذَكَرْنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَأْتُونَ أَفْواجاً [النَّبَأِ: 18] وَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْمُطَفِّفِينَ: 6] وَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الْكَهْفِ: 99] فَإِنْ قِيلَ: الجراد

[سورة القارعة (101) : آية 6]

بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَرَاشِ كِبَارٌ، فَكَيْفَ شَبَّهَ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ بِالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مَعًا؟ قُلْنَا: شَبَّهَ الْوَاحِدَ بِالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ لَكِنْ فِي وَصْفَيْنِ. أَمَّا التَّشْبِيهُ بِالْفَرَاشِ فَبِذَهَابِ كُلِّ وَاحِدَةٍ إِلَى غَيْرِ جِهَةِ الْأُخْرَى وَأَمَّا بِالْجَرَادِ فَبِالْكَثْرَةِ وَالتَّتَابُعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا تَكُونُ كِبَارًا أَوَّلًا كَالْجَرَادِ، ثُمَّ تَصِيرُ صِغَارًا كَالْفَرَاشِ بِسَبَبِ احْتِرَاقِهِمْ بِحَرِّ الشَّمْسِ، وَذَكَرُوا فِي التَّشْبِيهِ بِالْفَرَاشِ وُجُوهًا أُخْرَى أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «النَّاسُ عَالِمٌ وَمُتَعَلِّمٌ، وَسَائِرُ النَّاسِ هَمَجٌ رَعَاعٌ» فَجَعَلَهُمُ الله في الأخرى كذلك جزاء وفاقا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَدْخَلَ حَرْفَ التَّشْبِيهِ، فَقَالَ: كَالْفَراشِ لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَذَلَّ مِنَ الْفَرَاشِ، لِأَنَّ الْفَرَاشَ لَا يُعَذَّبُ وَهَؤُلَاءِ يُعَذَّبُونَ، وَنَظِيرُهُ: كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان: 44] . الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ صِفَاتِ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ الْعِهْنُ الصُّوفُ ذُو الْأَلْوَانِ، وَقَدْ مَرَّ تَحْقِيقُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ [المعارج: 9] وَالنَّفْشُ فَكُّ الصُّوفِ حَتَّى يَنْتَفِشَ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (كَالصُّوفِ الْمَنْفُوشِ) . وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ الْجِبَالَ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ عَلَى مَا قَالَ: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ [فَاطِرٍ: 27] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُفَرِّقُ أَجْزَاءَهَا وَيُزِيلُ التَّأْلِيفَ وَالتَّرْكِيبَ عَنْهَا فَيَصِيرُ ذَلِكَ مُشَابِهًا لِلصُّوفِ الملون بالألوان المختلفة إذا جعل منفوشا، وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا ضَمَّ بَيْنَ حَالِ النَّاسِ وَبَيْنَ حَالِ الْجِبَالِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى أَنَّ تَأْثِيرَ تِلْكَ الْقَرْعَةِ فِي الْجِبَالِ هُوَ أَنَّهَا صَارَتْ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ الْإِنْسَانِ عِنْدَ سَمَاعِهَا! فَالْوَيْلُ ثُمَّ الْوَيْلُ لا بن آدَمَ إِنْ لَمْ تَتَدَارَكْهُ رَحْمَةُ رَبِّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ جِبَالَ النَّارِ تَصِيرُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ لِشِدَّةِ حُمْرَتِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى تَغَيُّرَ الْأَحْوَالِ عَلَى الْجِبَالِ مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُهَا: أَنْ تَصِيرَ قِطَعًا، كَمَا قال: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً «1» [الْحَاقَّةِ: 14] ، وَثَانِيهَا: أَنْ تَصِيرَ كَثِيبًا مَهِيلًا، كَمَا قَالَ: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النَّمْلِ: 88] ثُمَّ تَصِيرُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، وَهِيَ أَجْزَاءٌ كَالذَّرِّ تَدْخُلُ/ مِنْ كُوَّةِ الْبَيْتِ لَا تَمَسُّهَا الْأَيْدِي، ثُمَّ قَالَ: فِي الرَّابِعِ تَصِيرُ سَرَابًا، كَمَا قَالَ وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً [النَّبَأِ: 20] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمْ يَقُلْ: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَالْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ بَلْ قَالَ: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ لِأَنَّ التَّكْرِيرَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ أَبْلَغُ فِي التَّحْذِيرِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قسم الناس فيه إلى قسمين فقال: [سورة القارعة (101) : آية 6] فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الموازين قولين: أَنَّهُ جَمْعُ مَوْزُونٍ وَهُوَ الْعَمَلُ الَّذِي لَهُ وَزْنٌ وَخَطَرٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ قَالَ: وَنَظِيرُهُ يُقَالُ: عِنْدِي دِرْهَمٌ بِمِيزَانِ دِرْهَمِكَ وَوَزْنِ دِرْهَمِكَ وَدَارِي بِمِيزَانِ دَارِكَ وَوَزْنِ دَارِكَ أَيْ بِحِذَائِهَا وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَمْعُ مِيزَانٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمِيزَانُ لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ لَا يُوزَنُ فِيهِ إِلَّا الْأَعْمَالُ فَيُؤْتَى بِحَسَنَاتِ الْمُطِيعِ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، فَإِذَا رَجَحَ فَالْجَنَّةُ لَهُ وَيُؤْتَى بِسَيِّئَاتِ الْكَافِرِ فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ فَيَخِفُّ وَزْنُهُ فَيَدْخُلُ النَّارَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي الْمِيزَانِ لَهُ كِفَّتَانِ وَلَا يُوصَفُ، قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: إِنَّ نفس الحسنات والسيئات لا يصح

_ (1) في تفسير الرازي المطبوع (ودكت الجبال دكا) وهي ليست بآية، وما أثبتناه هو الصواب الموافق لمقصود المصنف.

[سورة القارعة (101) : آية 7]

وزنهما، خصوصا وقد نقضيا، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الصُّحُفَ الْمَكْتُوبَ فِيهَا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ تُوزَنُ، أَوْ يُجْعَلُ النُّورُ عَلَامَةَ الْحَسَنَاتِ وَالظُّلْمَةُ عَلَامَةَ السَّيِّئَاتِ، أَوْ تُصَوَّرُ صَحِيفَةُ الْحَسَنَاتِ بِالصُّورَةِ الْحَسَنَةِ وَصَحِيفَةُ السَّيِّئَاتِ بِالصُّورَةِ الْقَبِيحَةِ فَيَظْهَرُ بِذَلِكَ الثِّقَلُ وَالْخِفَّةُ، وَتَكُونُ الْفَائِدَةُ فِي ذَلِكَ ظُهُورَ حَالِ صَاحِبِ الْحَسَنَاتِ فِي الْجَمْعِ الْعَظِيمِ فَيَزْدَادُ سُرُورًا، وَظُهُورَ حَالِ صَاحِبِ السَّيِّئَاتِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالْفَضِيحَةِ لَهُ عِنْدَ الْخَلَائِقِ. أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: [سورة القارعة (101) : آية 7] فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) فَالْعِيشَةُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْعَيْشِ، كَالْخِيفَةِ بِمَعْنَى الْخَوْفِ، وَأَمَّا الرَّاضِيَةُ فَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ أَيْ عِيشَةٍ ذَاتِ رِضًا يَرْضَاهَا صاحبها وهي كقولهم لا بن وَتَامِرٌ بِمَعْنَى ذُو لَبَنٍ وَذُو تَمْرٍ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: تَفْسِيرُهَا مَرْضِيَّةٌ عَلَى مَعْنَى يَرْضَاهَا صاحبها. ثم قال تعالى: [سورة القارعة (101) : آية 8] وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) أَيْ قَلَّتْ حَسَنَاتُهُ فَرَجَحَتِ السَّيِّئَاتُ عَلَى الْحَسَنَاتِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ بِاتِّبَاعِهِمُ الْحَقَّ فِي الدُّنْيَا وَثِقَلِهِ عَلَيْهِمْ، وَحُقَّ لِمِيزَانٍ لَا يُوضَعُ فِيهِ إِلَّا الْحَقُّ أَنْ يَكُونَ ثَقِيلًا، وَإِنَّمَا خَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ بِاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ فِي الدُّنْيَا وَخِفَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَحُقَّ لِمِيزَانٍ يُوضَعُ فِيهِ الْبَاطِلُ أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّمَا كَانَ كذلك لأن الحق ثقيل والباطل خفيف. / أما قوله تعالى: [سورة القارعة (101) : آية 9] فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْهَاوِيَةَ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ وَكَأَنَّهَا النَّارُ الْعَمِيقَةُ يَهْوِي أَهْلُ النَّارِ فِيهَا مَهْوًى بَعِيدًا، وَالْمَعْنَى فَمَأْوَاهُ النَّارُ، وَقِيلَ: لِلْمَأْوَى أُمٌّ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ بِالْأُمِّ الَّتِي لَا يَقَعُ الْفَزَعُ مِنَ الْوَلَدِ إِلَّا إِلَيْهَا وَثَانِيهَا: فَأُمُّ رَأْسِهِ هَاوِيَةٌ فِي النَّارِ ذَكَرَهُ الْأَخْفَشُ وَالْكَلْبِيُّ وَقَتَادَةُ قَالَ: لِأَنَّهُمْ يهوون في النار على رؤوسهم وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ إِذَا دَعَوْا عَلَى الرَّجُلِ بِالْهَلَاكِ قَالُوا: هَوَتْ أُمُّهُ لِأَنَّهُ إِذَا هَوَى أَيْ سَقَطَ وَهَلَكَ فَقَدْ هَوَتْ أُمُّهُ حُزْنًا وَثُكْلًا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَقَدْ هلك. ثم قال تعالى: [سورة القارعة (101) : آية 10] وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) قال صاحب (هِيَهْ) ضَمِيرُ الدَّاهِيَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ فِي التَّفْسِيرِ الثَّالِثِ: أَوْ ضَمِيرُ (هَاوِيَةٌ) : وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ فَإِذَا وَصَلَ جَازَ حَذْفُهَا والاختيار الوقف بالهاء لا تباع الْمُصْحَفِ وَالْهَاءُ ثَابِتَةٌ فِيهِ، وَذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْهَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ: لَمْ يَتَسَنَّهْ [الْبَقَرَةِ: 259] فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَامِ: 90] مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ [الحاقة: 28] . ثم قال تعالى: [سورة القارعة (101) : آية 11] نارٌ حامِيَةٌ (11) وَالْمَعْنَى أَنَّ سَائِرَ النِّيرَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا كَأَنَّهَا لَيْسَتْ حَامِيَةً، وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى قُوَّةِ سُخُونَتِهَا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا وَمِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَنَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ وَحُسْنَ الْمَآبِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ.

سورة التكاثر

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة التكاثر ثمان آيات مكية [سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْإِلْهَاءُ الصَّرْفُ إِلَى اللَّهْوِ وَاللَّهْوُ الِانْصِرَافُ إِلَى مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْهَوَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِانْصِرَافَ إِلَى الشَّيْءِ يَقْتَضِي الْإِعْرَاضَ عَنْ غَيْرِهِ، فَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَلْهَانِي فُلَانٌ عَنْ كَذَا أَيْ أَنْسَانِي وَشَغَلَنِي، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «أَنَّ الزُّبَيْرَ كَانَ سمع صوت الرعد لهى عن حديثه» أن تَرَكَهُ وَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ تَرَكْتَهُ فَقَدْ لَهَيْتَ عَنْهُ، وَالتَّكَاثُرُ التَّبَاهِي بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْمَنَاقِبِ يُقَالُ: تَكَاثَرَ الْقَوْمُ تَكَاثُرًا إِذَا تَعَادَلُوا مَا لَهُمْ مِنْ كَثْرَةِ الْمَنَاقِبِ، وَقَالَ أَبُو مسلم: التكاثر تفاعل من الْكَثْرَةِ وَالتَّفَاعُلُ يَقَعُ عَلَى أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ فَيَكُونُ مُفَاعَلَةً، وَيَحْتَمِلُ تَكَلُّفَ الْفِعْلِ تَقُولُ: تَكَارَهْتُ عَلَى كَذَا إِذَا فَعَلْتَهُ وَأَنْتَ كَارِهٌ، وَتَقُولُ: تَبَاعَدْتُ عَنِ الْأَمْرِ إِذَا تَكَلَّفْتَ الْعَمَى عَنْهُ وَتَقُولُ: تَغَافَلْتُ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا الْفِعْلَ بِنَفْسِهِ كَمَا تَقُولُ: تَبَاعَدْتُ عَنِ الْأَمْرِ أَيْ بَعُدْتُ عَنْهُ، وَلَفْظُ التَّكَاثُرِ في هذه الآية ويحتمل الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلِينَ، فَيَحْتَمِلُ التَّكَاثُرَ بِمَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ لِأَنَّهُ كَمْ مِنِ اثْنَيْنِ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً [الكهف: 34] وَيَحْتَمِلُ تَكَلُّفَ الْكَثْرَةِ فَإِنَّ الْحَرِيصَ يَتَكَلَّفُ جَمِيعَ عُمُرِهِ تَكْثِيرَ مَالِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّفَاخُرَ وَالتَّكَاثُرَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ [الْحَدِيدِ: 20] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّفَاخُرَ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِثْبَاتِ الْإِنْسَانِ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ السَّعَادَةِ لِنَفْسِهِ، وَأَجْنَاسُ السَّعَادَةِ ثَلَاثَةٌ: فَأَحَدُهَا: فِي النَّفْسِ وَالثَّانِيَةُ: فِي الْبَدَنِ وَالثَّالِثَةُ: فِيمَا يُطِيفُ بِالْبَدَنِ مِنْ خَارِجٍ، أَمَّا الَّتِي فِي النَّفْسِ فَهِيَ الْعُلُومُ وَالْأَخْلَاقُ الْفَاضِلَةُ وَهُمَا الْمُرَادَانِ بِقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشُّعَرَاءِ: 83] وَبِهِمَا يُنَالُ الْبَقَاءُ الْأَبَدِيُّ وَالسَّعَادَةُ السَّرْمَدِيَّةُ. وَأَمَّا الَّتِي فِي الْبَدَنِ فَهِيَ الصِّحَّةُ وَالْجَمَالُ وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ، وَأَمَّا الَّتِي تُطِيفُ بِالْبَدَنِ مِنْ خَارِجٍ فَقِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: ضَرُورِيٌّ وَهُوَ الْمَالُ وَالْجَاهُ وَالْآخَرُ غَيْرُ ضَرُورِيٍّ وَهُوَ الْأَقْرِبَاءُ وَالْأَصْدِقَاءُ/ وَهَذَا الَّذِي عَدَدْنَاهُ فِي

الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ إِنَّمَا يُرَادُ كُلُّهُ لِلْبَدَنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إِذَا تَأَلَّمَ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْمَالَ وَالْجَاهَ فِدَاءً لَهُ. وَأَمَّا السَّعَادَةُ الْبَدَنِيَّةُ فَالْفُضَلَاءُ مِنَ النَّاسِ إِنَّمَا يُرِيدُونَهَا لِلسَّعَادَةِ النَّفْسَانِيَّةِ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ صَحِيحَ الْبَدَنِ لَمْ يَتَفَرَّغْ لِاكْتِسَابِ السَّعَادَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ الْبَاقِيَةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْعَاقِلُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَعْيُهُ فِي تَقْدِيمِ الْأَهَمِّ عَلَى الْمُهِمِّ، فَالتَّفَاخُرُ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْأَعْوَانِ وَالْأَقْرِبَاءِ تَفَاخُرٌ بِأَخَسِّ الْمَرَاتِبِ مِنْ أَسْبَابِ السَّعَادَاتِ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ تَحْصِيلِ السَّعَادَةِ النَّفْسَانِيَّةِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لِأَخَسِّ الْمَرَاتِبِ فِي السَّعَادَاتِ عَلَى أَشْرَفِ الْمَرَاتِبِ فِيهَا، وَذَلِكَ يَكُونُ عَكْسَ الْوَاجِبِ وَنَقِيضَ الْحَقِّ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَمَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ وَيَدْخُلُ فِيهِ التَّكَاثُرُ بِالْعَدَدِ وَبِالْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْأَقْرِبَاءِ وَالْأَنْصَارِ وَالْجَيْشِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَيَدْخُلُ فِيهِ التَّكَاثُرُ بِكُلِّ مَا يَكُونُ مِنَ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: أَلْهاكُمُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا عَنْهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا بِمَعْنَى التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ أَيْ أَأَلْهَاكُمْ، كَمَا قرئ أنذرتهم وأَ أَنْذَرْتَهُمْ [البقرة: 6] ، وإِذا كُنَّا عِظاماً وأَ إِذا كُنَّا عِظاماً [الإسراء: 49] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ التَّكَاثُرَ وَالتَّفَاخُرَ مَذْمُومٌ وَالْعَقْلُ دَلَّ عَلَى أَنَّ التَّكَاثُرَ وَالتَّفَاخُرَ فِي السَّعَادَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ غَيْرُ مَذْمُومٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ مِنْ تَفَاخُرِ الْعَبَّاسِ بِأَنَّ السِّقَايَةَ بِيَدِهِ، وَتَفَاخُرِ شَيْبَةَ بِأَنَّ الْمِفْتَاحَ بِيَدِهِ إِلَى أَنْ قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَأَنَا قَطَعْتُ خُرْطُومَ الْكُفْرِ بِسَيْفِي فَصَارَ الْكُفْرُ مُثْلَةً فَأَسْلَمْتُمْ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ [التَّوْبَةِ: 19] الْآيَةَ وَذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضُّحَى: 11] أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَفْتَخِرَ بِطَاعَاتِهِ وَمَحَاسِنِ أَخْلَاقِهِ إِذَا كَانَ يَظُنُّ أَنَّ غَيْرَهُ يَقْتَدِي بِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُطْلَقَ التَّكَاثُرِ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ، بَلِ التَّكَاثُرُ فِي الْعِلْمِ وَالطَّاعَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ هُوَ الْمَحْمُودُ، وَهُوَ أَصْلُ الْخَيْرَاتِ، فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي التَّكَاثُرِ لَيْسَا لِلِاسْتِغْرَاقِ، بَلْ لِلْمَعْهُودِ السَّابِقِ، وَهُوَ التَّكَاثُرُ فِي الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا وَعَلَائِقِهَا، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعُبُودِيَّتِهِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُقَرَّرًا فِي الْعُقُولِ وَمُتَّفَقًا عَلَيْهِ فِي الْأَدْيَانِ، لَا جَرَمَ حَسُنَ إِدْخَالُ حَرْفِ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ بِالْعَدَدِ. رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَنِي سَهْمٍ وَبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ تَفَاخَرُوا أَيُّهُمْ أَكْثَرُ فَكَانَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ أَكْثَرَ فَقَالَ بَنُو سَهْمٍ عُدُّوا مَجْمُوعَ أَحْيَائِنَا وَأَمْوَاتِنَا مَعَ مَجْمُوعِ أَحْيَائِكُمْ وَأَمْوَاتِكُمْ، فَفَعَلُوا فَزَادَ بَنُو سَهْمٍ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُطَابِقَةٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ مَضَى فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يُعَجِّبُهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَيَقُولُ هَبْ أَنَّكُمْ أَكْثَرُ مِنْهُمْ عَدَدًا فَمَاذَا يَنْفَعُ، وَالزِّيَارَةُ إِتْيَانُ الْمَوْضِعِ، وَذَلِكَ يَكُونُ لِأَغْرَاضٍ كَثِيرَةٍ، وَأَهَمُّهَا وَأَوْلَاهَا بِالرِّعَايَةِ تَرْقِيقُ الْقَلْبِ وَإِزَالَةُ حُبِّ الدُّنْيَا/ فَإِنَّ مُشَاهَدَةَ الْقُبُورِ تُورِثُ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا فَإِنَّ فِي زِيَارَتِهَا تَذْكِرَةً» ثُمَّ إِنَّكُمْ زُرْتُمُ الْقُبُورَ بِسَبَبِ قَسَاوَةِ الْقَلْبِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي حُبِّ الدُّنْيَا فَلَمَّا انْعَكَسَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ، لَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ التَّعْجِيبِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ التَّكَاثُرُ بِالْمَالِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِمَا رَوَى مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقْرَأُ: أَلْهاكُمُ وَقَالَ ابْنُ آدَمَ: يَقُولُ مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أَيْ حَتَّى مُتُّمْ وَزِيَارَةُ الْقَبْرِ عِبَارَةٌ

[سورة التكاثر (102) : الآيات 3 إلى 4]

عَنِ الْمَوْتِ يُقَالُ لِمَنْ مَاتَ: زَارَ قَبْرَهُ وَزَارَ رَمْسَهُ، قَالَ جَرِيرٌ لِلْأَخْطَلِ: زَارَ الْقُبُورَ أَبُو مَالِكٍ ... فَأَصْبَحَ أَلْأَمَ زُوَّارِهَا أَيْ مَاتَ فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَلْهَاكُمْ حِرْصُكُمْ عَلَى تَكْثِيرِ أَمْوَالِكُمْ عَنْ طَاعَةِ رَبِّكُمْ حَتَّى أَتَاكُمُ الْمَوْتُ، وَأَنْتُمْ عَلَى ذَلِكَ، يُقَالُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُشْكِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الزَّائِرَ هُوَ الَّذِي يَزُورُ سَاعَةً ثُمَّ يَنْصَرِفُ، وَالْمَيِّتُ يَبْقَى فِي قَبْرِهِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ زَارَ الْقَبْرَ؟ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ إِخْبَارٌ عَنِ الْمَاضِي، فَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ؟ وَالْجَوَابُ: عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ قَدْ يَمْكُثُ الزَّائِرُ، لَكِنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الرَّحِيلِ، وَكَذَا أَهْلُ الْقُبُورِ يَرْحَلُونَ عَنْهَا إِلَى مَكَانِ الْحِسَابِ وَالْجَوَابُ: عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ كَانَ مُشْرِفًا عَلَى الْمَوْتِ بِسَبَبِ الْكِبَرِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْخَبَرَ عَمَّنْ تَقَدَّمَهُمْ وَعْظًا لَهُمْ، فَهُوَ كَالْخَبَرِ عَنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ [آل عمران: 21] وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ بِهَذِهِ السُّورَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَعْيِيرًا لِلْكُفَّارِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَدْ تَقَدَّمَتْ مِنْهُمْ زِيَارَةُ الْقُبُورِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَلْهَاكُمُ الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ وَطَلَبُ تَكْثِيرِهِ حَتَّى مَنَعْتُمُ الْحُقُوقَ الْمَالِيَّةَ إِلَى حِينِ الْمَوْتِ، ثُمَّ تَقُولُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ: أَوْصَيْتُ لِأَجْلِ الزَّكَاةِ بِكَذَا، وَلِأَجْلِ الْحَجِّ بِكَذَا. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ فَلَا تَلْتَفِتُونَ إِلَى الدِّينِ، بَلْ قُلُوبُكُمْ كَأَنَّهَا أَحْجَارٌ لَا تَنْكَسِرُ الْبَتَّةَ إِلَّا إِذَا زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ حَالُكُمْ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَظُّكُمْ مِنْ دِينِكُمْ ذَلِكَ الْقَدْرَ الْقَلِيلَ مِنَ الِانْكِسَارِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [الملك: 23] أَيْ لَا أَقْنَعُ مِنْكُمْ بِهَذَا الْقَدْرِ الْقَلِيلِ مِنَ الشُّكْرِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ عَنْ كَذَا وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ، لِأَنَّ الْمُطْلَقَ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ الْوَهْمُ فِيهِ كُلَّ مَذْهَبٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ مَا يَحْتَمِلُهُ الْمَوْضِعُ، أَيْ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالطَّاعَةِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ، أَوْ نَقُولُ: إِنْ نَظَرْنَا إِلَى مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ فَالْمَعْنَى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي أَمْرِ الْقَارِعَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهَا قَبْلَ الْمَوْتِ، وَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى الْأَسْفَلِ فَالْمَعْنَى أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ فَنَسِيتُمُ الْقَبْرَ حَتَّى زرتموه. أما قوله تعالى: [سورة التكاثر (102) : الآيات 3 الى 4] كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) فَهُوَ يَتَّصِلُ بِمَا قَبْلَهُ وَبِمَا بَعْدَهُ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَعَلَى وَجْهِ الرَّدِّ وَالتَّكْذِيبِ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنَّ السَّعَادَةَ الحقيقية بكثرة العدد والأموال وَالْأَوْلَادِ، وَأَمَّا اتِّصَالُهُ بِمَا بَعْدَهُ، فَعَلَى مَعْنَى الْقَسَمِ أَيْ حَقًّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ لَكِنْ حِينَ يَصِيرُ الْفَاسِقُ تَائِبًا، وَالْكَافِرُ مُسْلِمًا، وَالْحَرِيصُ زَاهِدًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَسَنِ: لَا يَغُرَّنَّكَ كَثْرَةُ مَنْ ترى حولك فإنك تموت وحدك، وتبعث وَحْدَكَ وَتُحَاسَبُ وَحْدَكَ، وَتَقْرِيرُهُ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ [عَبَسَ: 34] ويَأْتِينا فَرْداً [مَرْيَمَ: 80] ولَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى إِلَى أَنْ قَالَ: وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ [الْأَنْعَامِ: 94] وَهَذَا يَمْنَعُكَ عَنِ التَّكَاثُرِ، وَذَكَرُوا فِي التَّكْرِيرِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ لِلتَّأْكِيدِ، وَأَنَّهُ وَعِيدٌ بَعْدَ وَعِيدٍ كَمَا تَقُولُ: لِلْمَنْصُوحِ أَقُولُ لَكَ، ثُمَّ أَقُولُ لَكَ لَا تَفْعَلْ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَوَّلَ عند الموت حين يُقَالُ لَهُ: لَا بُشْرَى وَالثَّانِي فِي سُؤَالِ القبر:

[سورة التكاثر (102) : الآيات 5 إلى 7]

مَنْ رَبُّكَ؟ وَالثَّالِثُ عِنْدَ النُّشُورِ حِينَ يُنَادِي الْمُنَادِي، فُلَانٌ شَقِيٌّ شَقَاوَةً لَا سَعَادَةَ بَعْدَهَا أَبَدًا وَحِينَ يُقَالُ: وَامْتازُوا الْيَوْمَ [يس: 59] وَثَالِثُهَا: عَنِ الضَّحَّاكِ سَوْفَ تَعْلَمُونَ أَيُّهَا الْكُفَّارُ: ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَكَانَ يَقْرَؤُهَا كذلك، فالأول وعيد والثاني وعدو رابعها: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ قُبْحَ الظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَحُسْنَ الْعَدْلِ وَالصِّدْقِ لَكِنْ لَا يَعْرِفُ قَدْرَ آثَارِهَا وَنَتَائِجِهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: سَوْفَ تعلم العلم المفضل لكن التفضيل يَحْتَمِلُ الزَّائِدَ فَمَهْمَا حَصَلَتْ زِيَادَةُ لَذَّةٍ، ازْدَادَ عِلْمًا، وَكَذَا فِي جَانِبِ الْعُقُوبَةِ فَقَسَّمَ ذَلِكَ عَلَى الْأَحْوَالِ، فَعِنْدَ الْمُعَايَنَةِ يَزْدَادُ، ثُمَّ عِنْدَ الْبَعْثِ، ثُمَّ عِنْدَ الْحِسَابِ، ثُمَّ عِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ التَّكْرِيرُ وَخَامِسُهَا: أَنَّ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ عَذَابُ الْقَبْرِ وَالْأُخْرَى عَذَابُ الْقِيَامَةِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَشُكُّ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ، حَتَّى سَمِعْتُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ، وَإِنَّمَا قَالَ: ثُمَّ لِأَنَّ بَيْنَ الْعَالَمَيْنِ وَالْحَيَاتَيْنِ موتا. ثم قال تعالى: [سورة التكاثر (102) : الآيات 5 الى 7] كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ جَوَابَ (لَوْ) مَحْذُوفٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ قَوْلُهُ: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ جَوَابَ (لَوْ) وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا كَانَ جَوَابَ لَوْ فَنَفْيُهُ إِثْبَاتٌ وَإِثْبَاتُهُ نَفْيٌ، فَلَوْ كان قوله: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ جوابا للو لَوَجَبَ أَنْ لَا تَحْصُلَ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ وَاقِعَةٌ قَطْعًا، فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ رُؤْيَتُهَا بِالْقَلْبِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ غَيْرُ وَاقِعَةٍ قُلْنَا: تَرْكُ الظَّاهِرِ خِلَافُ الْأَصْلِ وَالثَّانِي: أن قوله: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر: 8] إِخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ سَيَقَعُ قَطْعًا، فَعَطْفُهُ عَلَى مَا لَا يُوجَدُ وَلَا يَقَعُ قَبِيحٌ فِي النَّظْمِ، وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْكَ الْجَوَابِ/ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَكَانِ أَحْسَنُ، يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: لَوْ فَعَلْتَ هَذَا أَيْ لَكَانَ كَذَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ [الأنبياء: 39] ولم يجيء لَهُ جَوَابٌ وَقَالَ: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ [الْأَنْعَامِ: 30] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: ذَكَرُوا فِي جَوَابِ لَوْ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الْأَخْفَشُ: لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ مَا أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ لَوْ عَلِمْتُمْ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْكُمْ لَتَمَسَّكْتُمْ بِهِ أَوْ لَوْ عَلِمْتُمْ لِأَيِّ أَمْرٍ خُلِقْتُمْ لَاشْتَغَلْتُمْ بِهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ حَذَفَ الْجَوَابَ لِيَذْهَبَ الْوَهْمُ كُلَّ مَذْهَبٍ فَيَكُونُ التَّهْوِيلُ أَعْظَمَ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ عَلِمْتُمْ عِلْمَ الْيَقِينِ لَفَعَلْتُمْ مَا لَا يُوصَفُ وَلَا يُكْتَنَهُ، وَلَكِنَّكُمْ ضُلَّالٌ وَجَهَلَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ فَاللَّامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَالْقَسَمُ لِتَوْكِيدِ الْوَعِيدِ، وَأَنَّ مَا أُوعَدَا بِهِ مِمَّا لَا مَدْخَلَ فِيهِ لِلرَّيْبِ وَكَرَّرَهُ معطوفا بثم تَغْلِيظًا لِلتَّهْدِيدِ وَزِيَادَةً فِي التَّهْوِيلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَعَادَ لَفْظَ (كَلَّا) وَهُوَ لِلزَّجْرِ، وَإِنَّمَا حَسُنَتِ الْإِعَادَةُ لِأَنَّهُ عَقَّبَهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِغَيْرِ مَا عَقَّبَ بِهِ الْمَوْضِعَ الْآخَرَ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا تَفْعَلُوا هَذَا فَإِنَّكُمْ تَسْتَحِقُّونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ كَذَا لَا تَفْعَلُوا هَذَا فَإِنَّكُمْ تَسْتَوْجِبُونَ بِهِ ضَرَرًا آخَرَ، وَهَذَا التَّكْرِيرُ لَيْسَ بِالْمَكْرُوهِ بَلْ هُوَ مَرْضِيٌّ عِنْدَهُمْ، وَكَانَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجْعَلُ مَعْنَى كَلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى حَقًّا كَأَنَّهُ قِيلَ حَقًّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي قَوْلِهِ: عِلْمَ الْيَقِينِ وَجْهَانِ أَنَّ مَعْنَاهُ عِلْمًا يَقِينًا فَأُضِيفَ الْمَوْصُوفُ إِلَى الصفحة، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَدارُ الْآخِرَةِ [يُوسُفَ: 109] وَكَمَّا يُقَالُ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ وَعَامُ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْيَقِينَ هاهنا هُوَ الْمَوْتُ وَالْبَعْثُ وَالْقِيَامَةُ، وَقَدْ سُمِّيَ الْمَوْتُ يَقِينًا فِي قَوْلِهِ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحِجْرِ: 99] وَلِأَنَّهُمَا إِذَا وَقَعَا جَاءَ الْيَقِينُ، وَزَالَ الشَّكُّ فَالْمَعْنَى لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْمَوْتِ وَمَا يَلْقَى الْإِنْسَانُ مَعَهُ وَبَعْدَهُ فِي الْقَبْرِ وَفِي الْآخِرَةِ لَمْ يُلْهِكُمُ التَّكَاثُرُ وَالتَّفَاخُرُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَقَدْ يَقُولُ الْإِنْسَانُ: أَنَا أَعْلَمُ عِلْمَ كَذَا أَيْ أَتَحَقَّقُهُ، وَفُلَانٌ يَعْلَمُ عِلْمَ الطِّبِّ وَعِلْمَ الْحِسَابِ، لِأَنَّ الْعُلُومَ أَنْوَاعٌ فَيَصْلُحُ لِذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: عَلِمْتُ عِلْمَ كَذَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْعِلْمُ مِنْ أَشَدِّ الْبَوَاعِثِ عَلَى الْعَمَلِ، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ الْعَمَلِ أَمَامَهُ كَانَ وَعْدًا وَعِظَةً، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ وَفَاةِ وَقْتِ الْعَمَلِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ حَسْرَةً وَنَدَامَةً، كَمَا ذُكِرَ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ لَمَّا دَخَلَ الظُّلُمَاتِ [وَجَدَ خَرَزًا] ، فَالَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَخَذُوا مِنْ تِلْكَ الْخَرَزِ فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الظُّلُمَاتِ وَجَدُوهَا جَوَاهِرَ، ثُمَّ الْآخِذُونَ كَانُوا فِي الْغَمِّ أَيْ لَمَّا لَمْ يَأْخُذُوا أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذُوا، وَالَّذِينَ لَمْ يَأْخُذُوا كَانُوا أَيْضًا فِي الْغَمِّ، فَهَكَذَا يَكُونُ أَحْوَالُ أَهْلِ الْقِيَامَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي الْآيَةِ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ لِلْعُلَمَاءِ فَإِنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الْيَقِينُ بِمَا فِي التَّكَاثُرِ وَالتَّفَاخُرِ مِنَ الْآفَةِ لَتَرَكُوا التَّكَاثُرَ وَالتَّفَاخُرَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ لَمْ يَتْرُكِ التَّكَاثُرَ وَالتَّفَاخُرَ لَا يَكُونُ الْيَقِينُ حَاصِلًا لَهُ فَالْوَيْلُ لِلْعَالِمِ الَّذِي لَا يَكُونُ عَامِلًا ثُمَّ الْوَيْلُ لَهُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي تَكْرَارِ الرُّؤْيَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لِتَأْكِيدِ الْوَعِيدِ أَيْضًا لَعَلَّ الْقَوْمَ/ كَانُوا يَكْرَهُونَ سَمَاعَ الْوَعِيدِ فَكَرَّرَ لِذَلِكَ وَنُونُ التَّأْكِيدِ تَقْتَضِي كَوْنَ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ اضْطِرَارِيَّةً، يَعْنِي لَوْ خُلِّيتُمْ وَرَأْيَكُمْ مَا رَأَيْتُمُوهَا لَكِنَّكُمْ تُحْمَلُونَ عَلَى رُؤْيَتِهَا شِئْتُمْ أَمْ أَبَيْتُمْ وَثَانِيهَا: أَنَّ أَوَّلَهُمَا الرُّؤْيَةُ مِنَ الْبَعِيدِ: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً [الْفُرْقَانِ: 12] وَقَوْلُهُ: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى [النَّازِعَاتِ: 36] وَالرُّؤْيَةُ الثَّانِيَةُ إِذَا صَارُوا إِلَى شَفِيرِ النَّارِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الرُّؤْيَةَ الْأُولَى عِنْدَ الورود والثانية عند الدخول فيها، قيل: هَذَا التَّفْسِيرُ لَيْسَ بِحَسَنٍ لِأَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ وَالسُّؤَالُ يَكُونُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَرَابِعُهَا: الرُّؤْيَةُ الْأُولَى للوعد وَالثَّانِيَةُ الْمُشَاهَدَةُ وَخَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ غَيْرَ مَرَّةٍ فَيَكُونُ ذِكْرُ الرُّؤْيَةِ مَرَّتَيْنِ عِبَارَةً عَنْ تَتَابُعِ الرُّؤْيَةِ وَاتِّصَالِهَا لِأَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فِي الْجَحِيمِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: عَلَى جِهَةِ الْوَعِيدِ، لَئِنْ كُنْتُمُ الْيَوْمَ شَاكِّينَ فِيهَا غَيْرَ مُصَدِّقِينَ بِهَا فَسَتَرَوْنَهَا رُؤْيَةً دَائِمَةً مُتَّصِلَةً فَتَزُولُ عَنْكُمُ الشُّكُوكُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ- إلى قوله- ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الْمُلْكِ: 3، 4] بِمَعْنَى لَوْ أَعَدْتَ النَّظَرَ فِيهَا مَا شِئْتَ لَمْ تَجِدْ فُطُورًا ولم يرد مرتين فقط، فكذا هاهنا، إِنْ قِيلَ: مَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الرُّؤْيَةِ الثَّانِيَةِ بِالْيَقِينِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى رَأَوْا لَهَبًا لَا غَيْرُ، وَفِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ رَأَوْا نَفْسَ الْحُفْرَةِ وَكَيْفِيَّةَ السُّقُوطِ فِيهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُؤْذِيَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ أَجْلَى، وَالْحِكْمَةُ فِي النَّقْلِ مِنَ الْعِلْمِ الْأَخْفَى إِلَى الْأَجْلَى التَّفْرِيعُ عَلَى تَرْكِ النَّظَرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَصِرُونَ عَلَى الظَّنِّ وَلَا يَطْلُبُونَ الزِّيَادَةَ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ (لَتَرَوُنَّ) بِفَتْحِ التَّاءِ، وَقُرِئَ بِضَمِّهَا مِنْ رَأَيْتُهُ الشَّيْءَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ إِلَيْهَا فَيَرَوْنَهَا، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُرْوَى عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيِّ كَأَنَّهُمَا أَرَادَا لَتُرَوُنَّهَا فَتَرَوْنَهَا، وَلِذَلِكَ قَرَأَ الثَّانِيَةَ: ثُمَّ لَتَرَوُنَّها بِالْفَتْحِ، وَفِي هَذِهِ الثَّانِيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا أروها وَفِي قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ الثَّانِيَةُ تَكْرِيرٌ لِلتَّأْكِيدِ وَلِسَائِرِ الْفَوَائِدِ الَّتِي عَدَدْنَاهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ قِرَاءَةَ الْعَامَّةِ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ أَشْبَهُ بِكَلَامِ الْعَرَبِ

[سورة التكاثر (102) : آية 8]

لِأَنَّهُ تَغْلِيظٌ، فَلَا يَنْبَغِي أَنَّ الْجَحِيمَ لَفْظُهُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْمَعْنَى فِي: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ لَتَرَوُنَّ عَذَابَ الْجَحِيمِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَحِيمَ يَرَاهَا الْمُؤْمِنُونَ أَيْضًا بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مَرْيَمَ: 71] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْوَعِيدُ فِي رُؤْيَةِ عَذَابِهَا لَا فِي رُؤْيَةِ نَفْسِهَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ [الْبَقَرَةِ: 165] وَقَوْلُهُ: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ [النَّحْلِ: 85] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ (لترون) أرجح من (لترون) . [سورة التكاثر (102) : آية 8] ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) فِيهِ قَوْلَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي أَنَّ الَّذِي يُسْأَلُ عَنِ النَّعِيمِ مَنْ هُوَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُمُ الْكُفَّارُ، قَالَ الْحَسَنُ: لَا يُسْأَلُ عَنِ النَّعِيمِ إِلَّا أَهْلُ النَّارِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ/ أَكْلَةً أَكَلْتُهَا مَعَكَ فِي بَيْتِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيِّهَانِ مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ وَلَحْمٍ وَبُسْرٍ وَمَاءٍ عَذْبٍ أَنْ تَكُونَ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي نُسْأَلُ عَنْهُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّمَا ذَلِكَ لِلْكُفَّارِ، ثُمَّ قَرَأَ: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سَبَأٍ: 17] وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وذلك لأن الكفار ألهاكم التَّكَاثُرُ بِالدُّنْيَا وَالتَّفَاخُرُ بِلَذَّاتِهَا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالِاشْتِغَالِ بِشُكْرِهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى يَسْأَلُهُمْ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُظْهِرَ لَهُمْ أَنَّ الَّذِي ظَنُّوهُ سَبَبًا لِسَعَادَتِهِمْ هُوَ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الشَّقَاءِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَاحْتَجُّوا بِأَحَادِيثَ، رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَوَّلُ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنِ النَّعِيمِ فَيُقَالُ لَهُ: أَلَمْ نُصَحِّحْ لَكَ جِسْمَكَ وَنَرْوِكَ من المار الْبَارِدِ» وَقَالَ مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ أَيِّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ؟ إِنَّمَا هُمَا الْمَاءُ وَالتَّمْرُ وَسُيُوفُنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا وَالْعَدُوُّ حَاضِرٌ، فَعَنْ أَيِّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ؟ قَالَ: «إِنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ» وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَمْوَالِنَا؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ظلال المساكن والأشجار والأخبية التي تقيكم من الحر والبرد والماء البارد في اليوم الحار» وقريب منه: «مَنْ أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي بَدَنِهِ وَعِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا» وَرُوِيَ أَنَّ شَابًّا أَسْلَمَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ سُورَةَ أَلْهَاكُمْ ثُمَّ زَوَّجَهُ رَسُولُ اللَّهِ امْرَأَةً فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا وَرَأَى الْجَهَازَ الْعَظِيمَ وَالنَّعِيمَ الْكَثِيرَ خَرَجَ وَقَالَ: لَا أُرِيدُ ذَلِكَ فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عنه فقال: ألست علمتني: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ وَأَنَا لَا أُطِيقُ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ. وَعَنْ أَنَسٍ لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ قَامَ مُحْتَاجٌ فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ مِنَ النِّعْمَةِ شَيْءٌ؟ قَالَ: الظِّلُّ وَالنَّعْلَانِ وَالْمَاءُ الْبَارِدُ. وَأَشْهَرُ الْأَخْبَارِ فِي هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: مَا أَخْرَجَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ: الْجُوعُ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَخْرَجَنِي إِلَّا الَّذِي أَخْرَجَكَ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: قُومُوا بِنَا إِلَى مَنْزِلِ أَبِي الْهَيْثَمِ، فَدَقَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَابَ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يُجِبْ أَحَدٌ فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَتِ امْرَأَتُهُ تَصِيحُ كُنَّا نَسْمَعُ صَوْتَكَ لَكِنْ أَرَدْنَا أَنْ تَزِيدَ مِنْ سَلَامِكَ فَقَالَ لَهَا: خَيْرًا، ثُمَّ قَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إِنَّ أَبَا الْهَيْثَمِ خَرَجَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا الْمَاءَ، ثُمَّ عَمَدَتْ إِلَى صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ فَطَحَنَتْهُ وَخَبَزَتْهُ وَرَجَعَ أَبُو الْهَيْثَمِ فَذَبَحَ عَنَاقًا وَأَتَاهُمْ بِالرُّطَبِ فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «هَذَا مِنَ

النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ» وَرُوِيَ أَيْضًا: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ عُمُرِهِ وَمَالِهِ وَشَبَابِهِ وَعَمَلِهِ» وَعَنْ مُعَاذٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ الْعَبْدَ لَيُسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى عَنْ كُحْلِ عَيْنَيْهِ، وَعَنْ فُتَاتِ الطِّينَةِ بِأُصْبُعِهِ وَعَنْ لَمْسِ ثَوْبِ أَخِيهِ» وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: السُّؤَالُ يَعُمُّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، لَكِنَّ سُؤَالَ الْكَافِرِ تَوْبِيخٌ لِأَنَّهُ تَرَكَ الشُّكْرَ، وَسُؤَالُ الْمُؤْمِنِ سُؤَالُ تَشْرِيفٍ لِأَنَّهُ شَكَرَ وَأَطَاعَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي النَّعِيمِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ أَنَّهُ خَمْسٌ: شِبَعُ/ الْبُطُونِ وَبَارِدُ الشَّرَابِ وَلَذَّةُ النَّوْمِ وَإِظْلَالُ الْمَسَاكِنِ وَاعْتِدَالُ الْخَلْقِ وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّهُ الْأَمْنُ وَالصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ الصِّحَّةُ وَسَائِرُ مَلَاذِّ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَرَابِعُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: الِانْتِفَاعُ بِإِدْرَاكِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَخَامِسُهَا: قَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: تَخْفِيفُ الشَّرَائِعِ وَتَيْسِيرُ الْقُرْآنِ وَسَادِسُهَا: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّهُ الْمَاءُ الْبَارِدُ وَسَابِعُهَا: قَالَ الْبَاقِرُ: إِنَّهُ الْعَافِيَةُ، وَيُرْوَى أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْبَاقِرِ فَقَالَ: مَا تَقُولُ أرباب التأويل في قوله: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ؟ فَقُلْتُ: يَقُولُونَ الظِّلُّ وَالْمَاءُ الْبَارِدُ فَقَالَ: لَوْ أَنَّكَ أَدْخَلْتَ بَيْتَكَ أَحَدًا وَأَقْعَدْتَهُ فِي ظِلٍّ وَأَسْقَيْتَهُ مَاءً بَارِدًا أَتَمُنُّ عَلَيْهِ؟ فَقُلْتُ: لَا، قَالَ: فَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُطْعِمَ عَبْدَهُ وَيَسْقِيَهُ ثُمَّ يَسْأَلُهُ عَنْهُ، فَقُلْتُ: مَا تَأْوِيلُهُ؟ قَالَ: النَّعِيمُ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى هَذَا الْعَالَمِ فَاسْتَنْقَذَهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا [آلِ عِمْرَانَ: 164] الْآيَةَ الْقَوْلُ الثَّامِنُ: إِنَّمَا يُسْأَلُونَ عَنِ الزَّائِدِ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَلْبَسٍ وَمَسْكَنٍ. وَالتَّاسِعُ: وَهُوَ الْأَوْلَى أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى جَمِيعِ النِّعَمِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ يُفِيدَانِ الِاسْتِغْرَاقَ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَيْسَ صَرْفُ اللَّفْظِ إِلَى الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إِلَى الْبَاقِي لَا سِيَّمَا وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الدُّنْيَا اشْتِغَالُ الْعَبْدِ بِعُبُودِيَّةِ اللَّهِ تعالى وثالثها: أنه تعالى قال: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 40] وَالْمُرَادُ مِنْهُ جَمِيعُ النِّعَمِ مِنْ فَلْقِ الْبَحْرِ وَالْإِنْجَاءِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى فَكَذَا هاهنا وَرَابِعُهَا: أَنَّ النَّعِيمَ التَّامَّ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ الَّذِي لَهُ أَبْعَاضٌ وَأَعْضَاءٌ فَإِذَا أُشِيرَ إِلَى النَّعِيمِ فَقَدْ دَخَلَ فِيهِ الْكُلُّ، كَمَا أَنَّ التِّرْيَاقَ اسْمٌ لِلْمَعْجُونِ الْمُرَكَّبِ مِنَ الْأَدْوِيَةِ الْكَثِيرَةِ فَإِذَا ذُكِرَ التِّرْيَاقُ فَقَدْ دَخَلَ الْكُلُّ فِيهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ النِّعَمَ أَقْسَامٌ فَمِنْهَا ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ، وَمِنْهَا مُتَّصِلَةٌ وَمُنْفَصِلَةٌ، وَمِنْهَا دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَقْسَامَ السَّعَادَاتِ بِحَسَبِ الْجِنْسِ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَمَّا تَعْدِيدُهَا بِحَسَبِ النَّوْعِ وَالشَّخْصِ فَغَيْرُ مُمْكِنٍ عَلَى مَا قَالَهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: 34] وَاسْتَعِنْ فِي مَعْرِفَةِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْكَ فِي صِحَّةِ بَدَنِكَ بِالْأَطِبَّاءِ، ثُمَّ هُمْ أَشَدُّ الْخَلْقِ غَفْلَةً، وفي معرفة نعم الله عليك بخلق السموات وَالْكَوَاكِبِ بِالْمُنَجِّمِينَ، وَهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ جَهْلًا بِالصَّانِعِ، وَفِي مَعْرِفَةِ سُلْطَانِ اللَّهِ بِالْمُلُوكِ، ثُمَّ هُمْ أَجْهَلُ الْخَلْقِ، وَأَمَّا الَّذِي يُرْوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ الْمَاءُ الْبَارِدُ فَمَعْنَاهُ هَذَا مِنْ جُمْلَتِهِ، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَهْوَنُ مَوْجُودٍ وَأَعَزُّ مَفْقُودٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ السَّمَّاكِ لِلرَّشِيدِ: أَرَأَيْتَ لَوِ احْتَجْتَ إِلَى شَرْبَةِ مَاءٍ فِي فَلَاةٍ أَكُنْتَ تَبْذُلُ فِيهِ نِصْفَ الْمُلْكِ؟ وَإِذَا شَرِقْتَ بِهَا أَكُنْتَ تَبْذُلُ نِصْفَ الْمُلْكِ؟ وَإِنِ احْتَبَسَ بَوْلُكَ أَكُنْتَ تَبْذُلُ كُلَّ الْمُلْكِ؟ فَلَا تَغْتَرَّ بِمُلْكٍ كَانَتِ الشَّرْبَةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْمَاءِ قِيمَتَهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ لِأَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَطْلُبُونَ الْمَاءَ أَشَدَّ مِنْ طَلَبِهِمْ لِغَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ [الْأَعْرَافِ: 5] أَوْ لِأَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُتْرَفِينَ، وَهُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ وَالظِّلِّ، وَالْحَقُّ أَنَّ السُّؤَالَ يَعُمُّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ عَنْ جَمِيعِ النَّعِيمِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ [أَوْ لَا] ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يكون

مَصْرُوفًا إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ لَا إِلَى مَعْصِيَتِهِ، فَيَكُونُ السُّؤَالُ وَاقِعًا عَنِ الْكُلِّ، وَيُؤَكِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ بِهِ» فَكُلُّ النَّعِيمِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى دَاخِلٌ فِيمَا ذَكَرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ أَيْنَ يَكُونُ؟ فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ مُشَاهَدَةِ جَهَنَّمَ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ وَمَوْقِفُ السُّؤَالِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى مُشَاهَدَةِ جَهَنَّمَ؟ قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ أَيْ ثُمَّ أُخْبِرُكُمْ أَنَّكُمْ تُسْأَلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَدِ: 13- 17] . الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا النَّارَ سُئِلُوا عَنِ النَّعِيمِ تَوْبِيخًا لَهُمْ، كَمَا قَالَ: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها [الْمُلْكِ: 8] وَقَالَ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [الْمُدَّثِّرِ: 42] وَلَا شَكَّ أَنَّ مَجِيءَ الرَّسُولِ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ، فَقَدْ سُئِلُوا عَنْهُ بَعْدَ دُخُولِهِمُ النَّارَ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُمْ إِذَا صَارُوا فِي الْجَحِيمِ وَشَاهَدُوهَا، يُقَالُ لَهُمْ: إِنَّمَا حَلَّ بِكُمْ هَذَا الْعَذَابُ لِأَنَّكُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا اشْتَغَلْتُمْ بِالنَّعِيمِ عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ النَّارِ، وَلَوْ صَرَفْتُمْ عُمُرَكُمْ إِلَى طَاعَةِ رَبِّكُمْ لَكُنْتُمُ الْيَوْمَ مِنْ أَهْلِ النَّجَاةِ الْفَائِزِينَ بِالدَّرَجَاتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ سُؤَالًا عَنْ نَعِيمِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة العصر

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة العصر ثلاث آيات مكية [سورة العصر (103) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) اعْلَمْ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْعَصْرِ أَقْوَالًا. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الدَّهْرُ، وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِلُ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَقْسَمَ بِالدَّهْرِ، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقْرَأُ: وَالْعَصْرِ وَنَوَائِبِ الدَّهْرِ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: هَذَا مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ، فَلَا نَقُولُ: إِنَّهُ قَرَأَهُ قُرْآنًا بَلْ تَفْسِيرًا، وَلَعَلَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرِ الدَّهْرَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْمُلْحِدَ مُولَعٌ بِذِكْرِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَمِنْ ذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي: هَلْ أَتى [الْإِنْسَانِ: 1] رَدًّا عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ بِالطَّبْعِ وَالدَّهْرِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الدَّهْرَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَعَاجِيبِ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ فِيهِ السَّرَّاءُ وَالضَّرَّاءُ، وَالصِّحَّةُ وَالسُّقْمُ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرُ، بَلْ فِيهِ مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ كُلِّ عَجَبٍ، وَهُوَ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يَقْوَى عَلَى أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِالْعَدَمِ، فَإِنَّهُ مُجَزَّأٌ مُقَسَّمٌ بِالسَّنَةِ وَالشَّهْرِ وَالْيَوْمِ وَالسَّاعَةِ وَمَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالْمُطَابَقَةِ، وَكَوْنِهِ مَاضِيًا وَمُسْتَقْبَلًا، فَكَيْفَ يَكُونُ مَعْدُومًا؟ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِالْوُجُودِ لِأَنَّ الْحَاضِرَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْقِسْمَةِ وَالْمَاضِيَ وَالْمُسْتَقْبَلَ مَعْدُومَانِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالْوُجُودِ؟ وَثَالِثُهَا: أَنَّ بَقِيَّةَ عُمُرِ الْمَرْءِ لَا قِيمَةَ لَهُ، فَلَوْ ضيعت ألف سنة، ثم تبث فِي اللَّمْحَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الْعُمُرِ بَقِيتَ فِي الْجَنَّةِ أَبَدَ الْآبَادِ فَعَلِمْتَ حِينَئِذٍ أَنَّ أَشْرَفَ الْأَشْيَاءِ حَيَاتُكَ فِي تِلْكَ اللَّمْحَةِ، فَكَأَنَّ الدَّهْرَ وَالزَّمَانَ مِنْ جُمْلَةِ أُصُولِ النِّعَمِ، فَلِذَلِكَ أَقْسَمَ بِهِ وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ فُرْصَةٌ يُضَيِّعُهَا الْمُكَلَّفُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً [الْفُرْقَانِ: 62] وَرَابِعُهَا: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [12] : قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَكَانِ وَالْمَكَانِيَّاتِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الزَّمَانِ وَالزَّمَانِيَّاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هناك أن الزمان أعلم وَأَشْرَفُ مِنَ الْمَكَانِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْقَسَمُ بِالْعَصْرِ قَسَمًا بِأَشْرَفِ النِّصْفَيْنِ مِنْ مُلْكِ اللَّهِ وَمَلَكُوتِهِ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يُضِيفُونَ الْخُسْرَانَ إِلَى نَوَائِبِ الدَّهْرِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ عَلَى أَنَّ الدَّهْرَ وَالْعَصْرَ نِعْمَةٌ حَاصِلَةٌ لَا عَيْبَ فِيهَا، إِنَّمَا الْخَاسِرُ الْمَعِيبُ هُوَ الْإِنْسَانُ وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْعَصْرَ الَّذِي بِمُضِيِّهِ يَنْتَقِصُ عُمُرُكُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مُقَابَلَتِهِ/ كَسْبٌ صار ذلك النقصان عن الْخُسْرَانِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: لَفِي خُسْرٍ وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: إِنَّا لَنَفْرَحُ بِالْأَيَّامِ نَقْطَعُهَا ... وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى نَقْصٌ مِنَ الْأَجَلِ فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: وَالْعَصْرِ الْعَجِيبِ أَمْرُهُ حَيْثُ يَفْرَحُ الْإِنْسَانُ بِمُضِيِّهِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ وَجَدَ الرِّبْحَ مَعَ أَنَّهُ هَدْمٌ لِعُمُرِهِ

وإنه لفي خسر القول الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ بِالْعَصْرِ أَحَدُ طَرَفَيِ النَّهَارِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَقْسَمَ تَعَالَى بِالْعَصْرِ كَمَا أَقْسَمَ بِالضُّحَى لِمَا فِيهِمَا جَمِيعًا مِنْ دَلَائِلِ الْقُدْرَةِ فَإِنَّ كُلَّ بَكْرَةٍ كَأَنَّهَا الْقِيَامَةُ يَخْرُجُونَ مِنَ الْقُبُورِ وَتَصِيرُ الْأَمْوَاتُ أَحْيَاءً وَيُقَامُ الْمَوَازِينُ وَكُلَّ عَشِيَّةٍ تُشْبِهُ تَخْرِيبَ الدُّنْيَا بِالصَّعْقِ وَالْمَوْتِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ شَاهِدُ عَدْلٍ ثُمَّ إِذَا لَمْ يَحْكُمِ الْحَاكِمُ عَقِيبَ الشَّاهِدَيْنِ عُدَّ خَاسِرًا فكذا الإنسان الغافل عنهما في خسرو ثانيها: قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا أَقْسَمَ بِهَذَا الْوَقْتِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْأَسْوَاقَ قَدْ دَنَا وَقْتُ انْقِطَاعِهَا وَانْتِهَاءُ التِّجَارَةِ وَالْكَسْبِ فِيهَا، فَإِذَا لَمْ تَكْتَسِبْ وَدَخَلْتَ الدَّارَ وَطَافَ الْعِيَالُ عَلَيْكَ يَسْأَلُكَ كُلُّ أَحَدٍ مَا هُوَ حَقُّهُ فَحِينَئِذٍ تَخْجَلُ فَتَكُونُ مِنَ الْخَاسِرِينَ، فَكَذَا نَقُولُ: وَالْعَصْرِ أَيْ عَصْرِ الدُّنْيَا قَدْ دَنَتِ الْقِيَامَةُ وَ [أَنْتَ] بَعْدُ لَمْ تَسْتَعِدَّ وَتَعْلَمْ أَنَّكَ تُسْأَلُ غَدًا عَنِ النَّعِيمِ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ فِي دُنْيَاكَ، وَتُسْأَلُ فِي مُعَامَلَتِكَ مَعَ الْخَلْقِ وَكُلُّ أَحَدٍ مِنَ الْمَظْلُومِينَ يَدَّعِي مَا عَلَيْكَ فَإِذًا أَنْتَ خَاسِرٌ، وَنَظِيرُهُ: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 1] ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ مُعَظَّمٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ حَلَفَ بَعْدَ الْعَصْرِ كَاذِبًا لَا يُكَلِّمُهُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَكَمَا أَقْسَمَ فِي حَقِّ الرَّابِحِ بِالضُّحَى فَكَذَا أَقْسَمَ فِي حَقِّ الْخَاسِرِ بِالْعَصْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَقْسَمَ بالضحى في حق الربح وبشر الرسول أن أمره إلى الإقبال وهاهنا فِي حَقِّ الْخَاسِرِ تَوَعَّدَهُ أَنْ أَمْرَهُ إِلَى الْإِدْبَارِ، ثُمَّ كَأَنَّهُ يَقُولُ بَعْضُ النَّهَارِ بَاقٍ فَيَحُثُّهُ عَلَى التَّدَارُكِ فِي الْبَقِيَّةِ بِالتَّوْبَةِ، وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: تَعَلَّمْتُ مَعْنَى السُّورَةِ مِنْ بَائِعِ الثَّلْجِ كَانَ يَصِيحُ وَيَقُولُ: ارْحَمُوا مَنْ يَذُوبُ رَأْسُ مَالِهِ، ارْحَمُوا مَنْ يَذُوبُ رَأْسُ مَالِهِ فَقُلْتُ: هَذَا مَعْنَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ يَمُرُّ بِهِ الْعَصْرُ فَيَمْضِي عُمُرُهُ وَلَا يَكْتَسِبُ فَإِذًا هُوَ خَاسِرٌ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ: أَرَادَ صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ لِفَضْلِهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [الْبَقَرَةِ: 238] صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي مُصْحَفِ حَفْصَةَ وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ [الْمَائِدَةِ: 106] إِنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» وَثَالِثُهَا: أَنَّ التَّكْلِيفَ فِي أَدَائِهَا أَشَقُّ لِتَهَافُتِ النَّاسِ فِي تِجَارَاتِهِمْ وَمَكَاسِبِهِمْ آخِرَ النَّهَارِ وَاشْتِغَالِهِمْ بِمَعَايِشِهِمْ وَرَابِعُهَا: رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَصِيحُ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ وَتَقُولُ: دُلُّونِي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهَا مَاذَا حَدَثَ؟ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ زَوْجِي غَابَ عَنِّي فَزَنَيْتُ فَجَاءَنِي وَلَدٌ مِنَ الزِّنَا فَأَلْقَيْتُ الْوَلَدَ فِي دَنٍّ مِنَ الْخَلِّ حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ بِعْنَا ذَلِكَ الْخَلَّ فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَمَّا الزِّنَا فَعَلَيْكِ الرَّجْمُ، أَمَّا قَتْلُ الْوَلَدِ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ، وَأَمَّا بَيْعُ الْخَلِّ فَقَدِ ارْتَكَبْتِ كَبِيرًا، لَكِنْ ظَنَنْتُ أنك تركت صلاة/ صَلَاةَ الْعَصْرِ» فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى تَفْخِيمِ أَمْرِ هَذِهِ الصَّلَاةِ «1» وَخَامِسُهَا: أَنَّ صَلَاةَ الْعَصْرِ بِهَا يَحْصُلُ خَتْمُ طَاعَاتِ النَّهَارِ، فَهِيَ كَالتَّوْبَةِ بِهَا يُخْتَمُ الْأَعْمَالُ، فَكَمَا تَجِبُ الْوَصِيَّةُ بِالتَّوْبَةِ كَذَا بِصَلَاةِ الْعَصْرِ لِأَنَّ الْأُمُورَ بِخَوَاتِيمِهَا، فَأَقْسَمَ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهَا، وَزِيَادَةَ تَوْصِيَةِ الْمُكَلَّفِ عَلَى أَدَائِهَا وَإِشَارَةً مِنْهُ أَنَّكَ إِنْ أَدَّيْتَهَا عَلَى وَجْهِهَا عَادَ خُسْرَانُكَ رِبْحًا، كَمَا قال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [الشعراء: 227] وَسَادِسُهَا: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ -[عُدَّ] مِنْهُمْ- رَجُلٌ حَلَفَ بَعْدَ الْعَصْرِ كَاذِبًا» فَإِنْ قِيلَ صَلَاةُ الْعَصْرِ فِعْلُنَا، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَقْسَمَ الله تعالى به؟ والجواب: أنه ليس

_ (1) دلالة الحديث على أهمية صلاة العصر واضحة، أي أن اهتمام المرأة العظيم الذي بدا بالبحث والسؤال عن رسول الله جعل الرسول يظن أنها تسأله عن أعظم الأشياء وهو صلاة العصر لا هذه الأشياء المعلومة أحكامها من الدين، ولعل هذه الحادثة كانت بقرب نزول سورة النصر، أو قول الرسول تبكيت للمرأة على سؤالها عن المعاصي لا عن الطاعات.

[سورة العصر (103) : آية 2]

قِسْمًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا فِعْلُنَا، بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا أَمْرٌ شَرِيفٌ تَعَبَّدَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَسَمٌ بِزَمَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مَثَلُ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ مِنَ الْفَجْرِ إِلَى الظُّهْرِ بِقِيرَاطٍ، فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ مِنَ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ بِقِيرَاطٍ، فَعَمِلَتِ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ بِقِيرَاطَيْنِ، فَعَمِلْتُمْ أَنْتُمْ، فَغَضِبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ أَجْرًا! فَقَالَ اللَّهُ: وَهَلْ نَقَصْتُ مِنْ أَجْرِكُمْ شَيْئًا، قَالُوا: لَا، قَالَ: فَهَذَا فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ، فَكُنْتُمْ أَقَلَّ عَمَلًا وَأَكْثَرَ أَجْرًا» فَهَذَا الْخَبَرُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَصْرَ هُوَ الزَّمَانُ الْمُخْتَصُّ بِهِ وَبِأُمَّتِهِ، فَلَا جَرَمَ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، فَقَوْلُهُ: وَالْعَصْرِ أَيْ وَالْعَصْرِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ فَهُوَ تَعَالَى أَقْسَمَ بِزَمَانِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبِمَكَانِهِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ [الْبَلَدِ: 2] وَبِعُمُرِهِ فِي قَوْلِهِ: لَعَمْرُكَ [الْحِجْرِ: 72] فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَعَصْرِكَ وَبَلَدِكَ وَعُمُرِكَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ كَالظَّرْفِ لَهُ، فَإِذَا وَجَبَ تَعْظِيمُ حَالِ الظَّرْفِ فَقِسْ حَالَ الْمَظْرُوفِ، ثُمَّ وَجَّهَ الْقَسَمَ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ حَضَرْتَهُمْ وَدَعَوْتَهُمْ، وَهُمْ أَعْرَضُوا عَنْكَ وَمَا الْتَفَتُوا إِلَيْكَ، فَمَا أَعْظَمَ خُسْرَانَهُمْ وَمَا أَجَلَّ خِذْلَانَهُمْ. [سورة العصر (103) : آية 2] إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْإِنْسَانِ، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ، وَأَنْ تَكُونَ لِلْمَعْهُودِ السَّابِقِ، فَلِهَذَا ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ قَوْلَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجِنْسُ وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: كَثُرَ الدِّرْهَمُ فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ اسْتِثْنَاءُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهُ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ جَمَاعَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَالْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي لَهَبٍ، وَفِي خَبَرٍ مَرْفُوعٍ/ إِنَّهُ أَبُو جَهْلٍ، وَرُوِيَ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَفِي خُسْرٍ، فَأَقْسَمَ تعالى أن الأمر بالضد مما توهمون. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْخُسْرُ الْخُسْرَانُ، كَمَا قِيلَ: الْكُفْرُ فِي الْكُفْرَانِ، وَمَعْنَاهُ النُّقْصَانُ وَذَهَابُ رَأْسِ الْمَالِ، ثُمَّ فِيهِ تَفْسِيرَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا حَمَلْنَا الْإِنْسَانَ عَلَى الْجِنْسِ كَانَ مَعْنَى الْخُسْرِ هَلَاكَ نَفْسِهِ وَعُمُرِهِ، إِلَّا الْمُؤْمِنَ الْعَامِلَ فَإِنَّهُ مَا هَلَكَ عُمُرُهُ وَمَالُهُ، لِأَنَّهُ اكْتَسَبَ بِهِمَا سَعَادَةً أَبَدِيَّةً، وَإِنْ حَمَلْنَا لَفْظَ الْإِنْسَانِ عَلَى الْكَافِرِ كَانَ الْمُرَادُ كَوْنَهُ فِي الضَّلَالَةِ وَالْكُفْرِ إِلَّا مَنْ آمَنَ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَحِينَئِذٍ يَتَخَلَّصُ مِنْ ذَلِكَ الْخَسَارِ إِلَى الرِّبْحِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَالَ: لَفِي خُسْرٍ وَلَمْ يَقُلْ: لَفِي الْخُسْرِ، لِأَنَّ التَّنْكِيرَ يُفِيدُ التَّهْوِيلَ تَارَةً وَالتَّحْقِيرَ أُخْرَى، فَإِنْ حَمَلْنَا عَلَى الْأَوَّلِ كَانَ الْمَعْنَى إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ عَظِيمٍ لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الذَّنْبَ يَعْظُمُ بِعِظَمِ مَنْ فِي حَقِّهِ الذَّنْبُ، أَوْ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي مُقَابَلَةِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ، وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ حَاصِلَانِ فِي ذَنْبِ الْعَبْدِ فِي حَقِّ رَبِّهِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ ذَلِكَ الذَّنْبُ فِي غَايَةِ الْعِظَمِ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الثَّانِي كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ خُسْرَانَ الْإِنْسَانِ دُونَ خُسْرَانِ الشَّيْطَانِ، وَفِيهِ بِشَارَةٌ أَنَّ فِي خَلْقِي مَنْ هُوَ أَعْصَى مِنْكَ، وَالتَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ: أَنْ يَقُولَ قَوْلُهُ: لَفِي خُسْرٍ يُفِيدُ التَّوْحِيدَ، مَعَ أَنَّهُ فِي أَنْوَاعٍ مِنَ الْخُسْرِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْخُسْرَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ حِرْمَانُهُ عَنْ خِدْمَةِ رَبِّهِ، وَأَمَّا الْبَوَاقِي وَهُوَ الْحِرْمَانُ عَنِ الْجَنَّةِ، والوقوع في

[سورة العصر (103) : آية 3]

النَّارِ، فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوَّلِ كَالْعَدَمِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي وُجُودِهِ فَوَائِدُ، ثُمَّ قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] أَيْ لَمَّا كَانَ هَذَا الْمَقْصُودُ أَجَلَّ الْمَقَاصِدِ كَانَ سَائِرُ الْمَقَاصِدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَالْعَدَمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَرَائِنَ تَدُلُّ عَلَى مُبَالَغَتِهِ تَعَالَى فِي بَيَانِ كَوْنِ الْإِنْسَانِ فِي خُسْرٍ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: لَفِي خُسْرٍ يُفِيدُ أَنَّهُ كَالْمَغْمُورِ فِي الْخُسْرَانِ، وَأَنَّهُ أَحَاطَ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَثَانِيهَا: كَلِمَةُ إِنَّ، فَإِنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ وَثَالِثُهَا: حَرْفُ اللَّامِ فِي لَفِي خُسْرٍ، وهاهنا احْتِمَالَانِ: الْأَوَّلُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَفِي خُسْرٍ أَيْ فِي طَرِيقِ الْخُسْرِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النِّسَاءِ: 10] لَمَّا كَانَتْ عَاقِبَتُهُ النَّارَ. الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ خُسْرٍ، لِأَنَّ الْخُسْرَ هُوَ تَضْيِيعُ رَأْسِ الْمَالِ، وَرَأْسُ مَالِهِ هُوَ عُمُرُهُ، وَهُوَ قَلَّمَا يَنْفَكُّ عَنْ تَضْيِيعِ عُمُرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ سَاعَةٍ تَمُرُّ بِالْإِنْسَانِ فَإِنْ كَانَتْ مَصْرُوفَةً إِلَى الْمَعْصِيَةِ فَلَا شَكَّ فِي الْخُسْرَانِ، وَإِنْ كَانَتْ مَشْغُولَةً بِالْمُبَاحَاتِ فَالْخُسْرَانُ أَيْضًا حَاصِلٌ، لِأَنَّهُ كَمَا ذَهَبَ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ أَثَرٌ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ عَمَلًا يَبْقَى أَثَرُهُ دَائِمًا، وَإِنْ كَانَتْ مَشْغُولَةً بِالطَّاعَاتِ فَلَا طَاعَةَ إِلَّا وَيُمْكِنُ الْإِتْيَانُ بِهَا، أَوْ بِغَيْرِهَا عَلَى وَجْهٍ أَحْسَنَ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَرَاتِبَ الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ لِلَّهِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، فَإِنَّ مَرَاتِبَ جَلَالِ اللَّهِ وَقَهْرِهِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَكُلَّمَا كَانَ عِلْمُ الْإِنْسَانِ بِهَا أَكْثَرَ كَانَ خَوْفُهُ مِنْهُ تَعَالَى أَكْثَرَ، فَكَانَ تَعْظِيمُهُ/ عِنْدَ الْإِتْيَانِ بِالطَّاعَاتِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، وَتَرْكُ الْأَعْلَى وَالِاقْتِصَارُ بِالْأَدْنَى نَوْعُ خُسْرَانٍ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْفَكُّ الْبَتَّةَ عَنْ نَوْعِ خُسْرَانٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ فِي الْخُسْرَانِ وَالْخَيْبَةِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ سَعَادَةَ الْإِنْسَانِ فِي حُبِّ الْآخِرَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّ الْأَسْبَابَ الدَّاعِيَةَ إِلَى الْآخِرَةِ خَفِيَّةٌ، وَالْأَسْبَابَ الداعية إلى حب الدنيا ظاهرها، وَهِيَ الْحَوَاسُّ الْخَمْسُ وَالشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ صَارَ أَكْثَرُ الْخَلْقِ مُشْتَغِلِينَ بِحُبِّ الدُّنْيَا مُسْتَغْرِقِينَ فِي طَلَبِهَا، فَكَانُوا فِي الْخُسْرَانِ وَالْبَوَارِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ التِّينِ [4، 5] : لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ فَهُنَاكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِابْتِدَاءَ مِنَ الْكَمَالِ والانتهاء إلى النقصان، وهاهنا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِابْتِدَاءَ مِنَ النُّقْصَانِ وَالِانْتِهَاءَ إِلَى الْكَمَالِ، فَكَيْفَ وَجْهُ الْجَمْعِ؟ قُلْنَا: الْمَذْكُورُ في سورة التين أحوال البدن، وهاهنا أحوال النفس فلا تناقض بين القولين. [سورة العصر (103) : آية 3] إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. اعْلَمْ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ قد تقدم تفسيرهما مرارا، ثم هاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ مَنْ قَالَ: الْعَمَلُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ، بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ عَمَلَ الصَّالِحَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلَوْ كَانَ عَمَلُ الصَّالِحَاتِ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ لَكَانَ ذَلِكَ تَكْرِيرًا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا التَّكْرِيرُ وَاقِعٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الْأَحْزَابِ: 7] وَقَوْلِهِ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: 98] لِأَنَّا نَقُولُ هُنَاكَ: إِنَّمَا حَسُنَ لِأَنَّ إِعَادَتَهُ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ أَشْرَفَ أَنْوَاعِ ذَلِكَ الْكُلِّيِّ، وَعَمَلُ الصَّالِحَاتِ لَيْسَ أَشْرَفَ أَنْوَاعِ الْأُمُورِ المسماة بالإيمان،

فَبَطَلَ هَذَا التَّأْوِيلُ. قَالَ الْحَلِيمِيُّ: هَذَا التَّكْرِيرُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَإِنْ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى عَمَلِ الصَّالِحَاتِ لَكِنَّ قَوْلَهُ: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَشْتَمِلُ عَلَى الْإِيمَانِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَشْتَمِلُ عَلَى قَوْلِهِ: وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَكْرَارًا، أَجَابَ الْأَوَّلُونَ وَقَالُوا: إِنَّا لَا نَمْنَعُ وُرُودَ التَّكْرِيرِ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ، لَكِنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي فِي الِاسْتِدْلَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْقَاطِعُونَ بِوَعِيدِ الْفُسَّاقِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالُوا: الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْخَسَارَةِ مُطْلَقًا، ثُمَّ اسْتَثْنَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطَيْنِ مَفْقُودٌ عِنْدَ فَقْدِ أَحَدِهِمَا، فَعَلِمْنَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْإِيمَانُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِي الْخَسَارِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُسْتَجْمِعُ لِهَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ، وَكَانَ الْخَسَارُ/ لَازِمًا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَجْمِعًا لَهُمَا كَانَ النَّاجِي أَقَلَّ مِنَ الْهَالِكِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ النَّاجِي أَكْثَرَ كَانَ الْخَوْفُ عَظِيمًا حَتَّى لَا تَكُونَ أَنْتَ مِنَ الْقَلِيلِ، كَيْفَ وَالنَّاجِي أَقَلُّ؟ أَفَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ أَشَدَّ!. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِ مَنْ فَوْتِ عُمُرِهِ وَشَبَابِهِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ قَدْ أَوْصَلَهُ إِلَى خَيْرٍ مِنْ عُمُرِهِ وَشَبَابِهِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا دَعَاكَ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ الصَّلَاحُ، وَكُلَّ مَا شَغَلَكَ عَنِ اللَّهِ بِغَيْرِهِ فَهُوَ الْفَسَادُ وَثَالِثُهَا: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: تَسْمِيَةُ الْأَعْمَالِ بِالصَّالِحَاتِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ وَجْهَ حُسْنِهَا لَيْسَ هُوَ الْأَمْرَ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْأَشْعَرِيَّةُ، لَكِنَّ الْأَمْرَ إِنَّمَا وَرَدَ لِكَوْنِهَا فِي أَنْفُسِهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى وُجُوهِ الصَّلَاحِ، وَأَجَابَتِ الْأَشْعَرِيَّةُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا صَالِحَةً، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهَا صَالِحَةٌ بِسَبَبِ وُجُوهٍ عَائِدَةٍ إِلَيْهَا أَوْ بِسَبَبِ الْأَمْرِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ فَيَقُولَ: إِنَّهُ فِي جَانِبِ الْخُسْرِ ذَكَرَ الْحُكْمَ وَلَمْ يَذْكُرِ السَّبَبَ وَفِي جَانِبِ الرِّبْحِ ذَكَرَ السَّبَبَ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْحُكْمَ فَمَا الْفَرْقُ قُلْنَا: إِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ سَبَبَ الْخُسْرِ لِأَنَّ الْخُسْرَ كَمَا يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ يَحْصُلُ بِالتَّرْكِ، وَهُوَ عَدَمُ الْإِقْدَامِ عَلَى الطَّاعَةِ، أَمَّا الرِّبْحُ فَلَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْفِعْلِ، فَلِهَذَا ذَكَرَ سَبَبَ الرِّبْحِ وَهُوَ الْعَمَلُ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى فِي جَانِبِ الْخُسْرِ أَبْهَمَ وَلَمْ يُفَصِّلْ، وَفِي جَانِبِ الرِّبْحِ فَصَّلَ وَبَيَّنَ، وهذا هو اللائق بالكرم. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ. فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي أَهْلِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ خَرَجُوا عَنْ أَنْ يَكُونُوا فِي خُسْرٍ وَصَارُوا أَرْبَابَ السَّعَادَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِمَا يُؤَدِّيهِمْ إِلَى الْفَوْزِ بِالثَّوَابِ وَالنَّجَاةِ مِنَ الْعِقَابِ وَصَفَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا لِشِدَّةِ مَحَبَّتِهِمْ لِلطَّاعَةِ لَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى مَا يَخُصُّهُمْ بَلْ يُوصُونَ غَيْرَهُمْ بِمِثْلِ طَرِيقَتِهِمْ لِيَكُونُوا أَيْضًا سَبَبًا لِطَاعَاتِ الْغَيْرِ كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ أَهْلُ الدين وعلى هذا الوجه قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التَّحْرِيمِ: 6] فَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ يَدْخُلُ فِيهِ سَائِرُ الدِّينِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ، وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ يَدْخُلُ فِيهِ حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى مَشَقَّةِ التَّكْلِيفِ فِي الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ، وَفِي اجْتِنَابِهِمْ مَا يَحْرُمُ إِذِ الْإِقْدَامُ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَالْإِحْجَامُ عَنِ الْمُرَادِ كِلَاهُمَا شَاقٌّ شديد، وهاهنا مسائل:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِالْخَسَارِ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ إِلَّا مَنْ كَانَ آتِيًا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَهِيَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّجَاةَ مُعَلَّقَةٌ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَإِنَّهُ كَمَا يَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ تَحْصِيلُ مَا يَخُصُّ نَفْسَهُ فَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ فِي غَيْرِهِ أُمُورٌ، مِنْهَا الدُّعَاءُ إِلَى الدِّينِ وَالنَّصِيحَةُ وَالْأَمْرُ/ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَنْ يُحِبَّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ كَرَّرَ التَّوَاصِيَ لِيُضَمِّنَ الْأَوَّلَ الدُّعَاءَ إِلَى اللَّهِ، وَالثَّانِيَ الثَّبَاتَ عَلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالثَّانِي النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ [لُقْمَانَ: 17] وَقَالَ عُمَرُ: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَهْدَى إليَّ عُيُوبِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ ثَقِيلٌ، وَأَنَّ الْمِحَنَ تُلَازِمُهُ، فَلِذَلِكَ قَرَنَ بِهِ التَّوَاصِيَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَالَ: وَتَواصَوْا وَلَمْ يَقُلْ: وَيَتَوَاصَوْنَ لِئَلَّا يَقَعَ أَمْرًا بَلِ الْغَرَضُ مَدْحُهُمْ بِمَا صَدَرَ عَنْهُمْ فِي الْمَاضِي، وَذَلِكَ يُفِيدُ رَغْبَتَهُمْ فِي الثَّبَاتِ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: بِالصَّبْرِ بِشَمِّ الْبَاءِ شَيْئًا مِنَ الْحَرْفِ، لَا يُشْبَعُ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَهَذَا مِمَّا يَجُوزُ فِي الْوَقْفِ، وَلَا يَكُونُ فِي الْوَصْلِ إِلَّا عَلَى إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَهَذَا لَا يَكَادُ يَكُونُ فِي الْقِرَاءَةِ، وَعَلَى هَذَا مَا يُرْوَى عَنْ سَلَّامِ بْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ قَرَأَ، (وَالْعَصِرْ) بِكَسْرِ الصَّادِ وَلَعَلَّهُ وَقَفَ لِانْقِطَاعِ نَفَسٍ أَوْ لِعَارِضٍ مَنَعَهُ مِنْ إِدْرَاجِ الْقِرَاءَةِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ لَا عَلَى إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة الهمزة

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة الهمزة تسع آيات مكية [سورة الهمزة (104) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَيْلُ لَفْظَةُ الذَّمِّ وَالسُّخْطِ، وَهِيَ كَلِمَةُ كُلِّ مَكْرُوبٍ يَتَوَلَّوْنَ فَيَدْعُو بِالْوَيْلِ وَأَصْلُهُ وَيْ لِفُلَانٍ ثُمَّ كَثُرَتْ فِي كَلَامِهِمْ فَوُصِلَتْ بِاللَّامِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ جَبَلٌ في جهنم إن قيل: لم قال: هاهنا: وَيْلٌ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَلَكُمُ الْوَيْلُ [الْأَنْبِيَاءِ: 18] ؟ قلنا: لأن ثمة قالوا: يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 14] فَقَالَ: وَلَكُمُ الْوَيْلُ وهاهنا نَكَّرَ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَقِيلَ: فِي وَيْلٍ إِنَّهَا كَلِمَةُ تَقْبِيحٍ، وَوَيْسٌ اسْتِصْغَارٌ وَوَيْحٌ تَرَحُّمٌ، فَنَبَّهَ بِهَذَا عَلَى قُبْحِ هَذَا الْفِعْلِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَعِيدِ الَّذِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ هَلْ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِي الْأَفْعَالِ الرَّدِيئَةِ أَوْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِأَقْوَامٍ مُعَيَّنِينَ، أَمَّا الْمُحَقِّقُونَ فَقَالُوا: إِنَّهُ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ كَائِنًا مَنْ كَانَ وَذَلِكَ لِأَنَّ خُصُوصَ السَّبَبِ لَا يَقْدَحُ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِأُنَاسٍ مُعَيَّنِينَ، ثُمَّ قَالَ عَطَاءٌ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ كَانَ يَلْمِزُ النَّاسَ وَيَغْتَابُهُمْ وَخَاصَّةً رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ كَانَ يَغْتَابُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرَائِهِ وَيَطْعَنُ عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: مَا زِلْنَا نَسْمَعُ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ فِي أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَكَوْنُ اللَّفْظِ عَامًّا لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ شَخْصًا مُعَيَّنًا، كَمَا أَنَّ إِنْسَانًا لَوْ قَالَ لَكَ لَا أَزُورُكَ أَبَدًا فَتَقُولُ: أَنْتَ كُلُّ مَنْ لَمْ يَزُرْنِي لَا أَزُورُهُ وَأَنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُهُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْعَامَّةِ «1» وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِتَخْصِيصِ الْعَامِّ بِقَرِينَةِ الْعُرْفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْهَمْزُ الْكَسْرُ قَالَ تَعَالَى: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ [الْقَلَمِ: 11] وَاللَّمْزُ الطَّعْنُ وَالْمُرَادُ الْكَسْرُ مِنْ أَعْرَاضِ النَّاسِ وَالْغَضُّ مِنْهُمْ وَالطَّعْنُ فِيهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 11] وَبِنَاءُ فِعْلِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عَادَةٌ مِنْهُ قَدْ ضَرِيَ بِهَا وَنَحْوُهُمَا اللُّعَنَةُ وَالضُّحَكَةُ، وَقُرِئَ: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ بِسُكُونِ الْمِيمِ وَهِيَ الْمَسْخَرَةُ الَّتِي تَأْتِي بِالْأَوَابِدِ وَالْأَضَاحِيكِ فَيُضْحَكُ مِنْهُ وَيُشْتَمُ وَلِلْمُفَسِّرِينَ أَلْفَاظًا أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْهُمَزَةُ الْمُغْتَابُ، وَاللُّمَزَةُ الْعَيَّابُ وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْهُمَزَةُ بِالْيَدِ وَاللُّمَزَةُ/ بِاللِّسَانِ وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْهُمَزَةُ بِالْمُوَاجَهَةِ وَاللُّمَزَةُ بِظَهْرِ الْغَيْبِ وَرَابِعُهَا: الْهُمَزَةُ جَهْرًا وَاللُّمَزَةُ سِرًّا بِالْحَاجِبِ وَالْعَيْنِ وَخَامِسُهَا: الْهُمَزَةُ وَاللُّمَزَةُ الَّذِي يُلَقِّبُ النَّاسَ بِمَا يَكْرَهُونَ وَكَانَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ يَفْعَلُ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ لَا يليق بمنصب الرياسة إنما

_ (1) في الأصل بهذه العامة وبالجملة هذا إلخ، ولعل العبارة محرفة عما أصلحناه به.

[سورة الهمزة (104) : آية 2]

ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ السُّقَّاطِ وَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يُحَاكِي النَّاسَ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ لِيَضْحَكُوا. وَقَدْ حَكَى الْحَكَمُ بْنُ الْعَاصِ مِشْيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَفَاهُ عَنِ الْمَدِينَةِ وَلَعَنَهُ وَسَادِسُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: الْهُمَزَةُ الَّذِي يَهْمِزُ جَلِيسَهُ يَكْسِرُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ وَاللُّمَزَةُ الَّذِي يَذْكُرُ أَخَاهُ بِالسُّوءِ وَيَعِيبُهُ وَسَابِعُهَا: عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ قَالَ: قلت لا بن عَبَّاسٍ: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ مَنْ هَؤُلَاءِ الذين يذمهم الله بالويل فقال: هم المشاؤون بِالنَّمِيمَةِ الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ النَّاعِتُونَ لِلنَّاسِ بِالْعَيْبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْوُجُوهِ مُتَقَارِبَةٌ رَاجِعَةٌ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الطَّعْنُ وَإِظْهَارُ الْعَيْبِ، ثُمَّ هَذَا عَلَى قِسْمَيْنِ فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْجِدِّ كَمَا يَكُونُ عِنْدَ الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْهَزْلِ كَمَا يَكُونُ عِنْدَ السُّخْرِيَةِ وَالْإِضْحَاكِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالصُّورَةِ أَوِ الْمَشْيِ، أَوِ الْجُلُوسِ وَأَنْوَاعُهُ كَثِيرَةٌ وَهِيَ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ، ثُمَّ إِظْهَارُ الْعَيْبِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ قَدْ يَكُونُ لِحَاضِرٍ، وَقَدْ يَكُونُ لِغَائِبٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَقَدْ يَكُونُ بِاللَّفْظِ، وَقَدْ يَكُونُ بِإِشَارَةِ الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ النَّهْيِ وَالزَّجْرِ، إِنَّمَا الْبَحْثُ فِي أَنَّ اللَّفْظَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ مَوْضُوعٌ لِمَاذَا، فَمَا كَانَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لَهُ كَانَ مَنْهِيًّا بِحَسَبِ اللَّفْظِ، وَمَا لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لَهُ كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ النَّهْيِ بِحَسَبِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، وَلَمَّا كَانَ الرَّسُولُ أَعْظَمَ النَّاسِ مَنْصِبًا فِي الدِّينِ كَانَ الطَّعْنُ فِيهِ عَظِيمًا عِنْدَ اللَّهِ، فَلَا جَرَمَ قَالَ: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ. ثم قال تعالى: [سورة الهمزة (104) : آية 2] الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الَّذِي بَدَلٌ مِنْ كُلٍّ أَوْ نَصْبٌ عَلَى ذَمٍّ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا الْوَصْفِ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ فِي الْهَمْزِ وَاللَّمْزِ وَهُوَ إِعْجَابُهُ بِمَا جَمَعَ مِنَ الْمَالِ، وَظَنُّهُ أَنَّ الْفَضْلَ فِيهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَيَسْتَنْقِصُ غَيْرَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ جَمَّعَ بِالتَّشْدِيدِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَالْمَعْنَى فِي جَمَّعَ وَجَمَعَ وَاحِدٌ مُتَقَارِبٌ، وَالْفَرْقُ أَنَّ جَمَعَ بالتشديد يفيد أنه جمعه من هاهنا وهاهنا، وَأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَلَا فِي يَوْمَيْنِ، وَلَا فِي شَهْرٍ وَلَا فِي شَهْرَيْنِ، يُقَالُ: فُلَانٌ يُجَمِّعُ الْأَمْوَالَ أَيْ يَجْمَعُهَا من هاهنا وهاهنا، وَأَمَّا جَمَعَ بِالتَّخْفِيفِ، فَلَا يُفِيدُ ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَالًا فَالتَّنْكِيرُ فِيهِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: الْمَالُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الْكَهْفِ: 46] فَمَالُ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَالِ كُلِّ الدُّنْيَا حَقِيرٌ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَفْتَخِرَ بِذَلِكَ/ الْقَلِيلِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّعْظِيمَ أَيْ مَالٌ بَلَغَ فِي الْخُبْثِ وَالْفَسَادِ أَقْصَى النِّهَايَاتِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَفْتَخِرَ بِهِ؟ أَمَّا قَوْلُهُ: وَعَدَّدَهُ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُدَّةِ وَهِيَ الذَّخِيرَةُ يُقَالُ: أَعْدَدْتُ الشَّيْءَ لِكَذَا وَعَدَدْتُهُ إِذَا أَمْسَكْتَهُ لَهُ وَجَعَلْتَهُ عُدَّةً وَذَخِيرَةً لِحَوَادِثِ الدَّهْرِ وَثَانِيهَا: عَدَّدَهُ أَيْ أَحْصَاهُ وَجَاءَ التَّشْدِيدُ لِكَثْرَةِ الْمَعْدُودِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يُعَدِّدُ فَضَائِلَ فُلَانٍ، وَلِهَذَا قَالَ السُّدِّيُّ: وَعَدَّدَهُ أَيْ أَحْصَاهُ يَقُولُ: هَذَا لِي وَهَذَا لِي يُلْهِيهِ مَالُهُ بِالنَّهَارِ فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ كَانَ يُخْفِيهِ وَثَالِثُهَا: عَدَّدَهُ أَيْ كَثَّرَهُ يُقَالُ: فِي بَنِي فُلَانٍ عَدَدٌ أَيْ كَثْرَةٌ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ الْأَخِيرَانِ رَاجِعَانِ إِلَى مَعْنَى الْعَدَدِ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ إِلَى

[سورة الهمزة (104) : آية 3]

مَعْنَى الْعُدَّةِ، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ وَعَدَدَهُ بِالتَّخْفِيفِ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى جَمَعَ الْمَالَ وَضَبَطَ عَدَدَهُ وَأَحْصَاهُ وَثَانِيهِمَا: جَمَعَ مَالَهُ وَعَدَدَ قَوْمِهِ الَّذِينَ يَنْصُرُونَهُ مِنْ قَوْلِكَ فُلَانٌ ذُو عَدَدٍ وَعُدَدٍ إِذَا كَانَ لَهُ عَدَدٌ وَافِرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَالرَّجُلُ مَتَى كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أدخل في التفاخر. ثُمَّ وَصَفَهُ تَعَالَى بِضَرْبٍ آخَرَ مِنَ الْجَهْلِ فقال: [سورة الهمزة (104) : آية 3] يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) وَاعْلَمْ أَنْ أَخْلَدَهُ وَخَلَّدَهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ثُمَّ فِي التَّفْسِيرِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى طُولَ الْمَالِ أَمَّلَهُ، حَتَّى أَصْبَحَ لِفَرْطِ غَفْلَتِهِ وَطُولِ أَمَلِهِ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ تَرَكَهُ خَالِدًا فِي الدُّنْيَا لَا يَمُوتُ وَإِنَّمَا قَالَ: أَخْلَدَهُ وَلَمْ يَقُلْ: يُخَلِّدُهُ لِأَنَّ الْمُرَادَ يَحْسَبُ هَذَا الْإِنْسَانُ أَنَّ الْمَالَ ضَمِنَ لَهُ الْخُلُودَ وَأَعْطَاهُ الْأَمَانَ مِنَ الْمَوْتِ وَكَأَنَّهُ حُكْمٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ عَلَى الْمَاضِي. قَالَ الْحَسَنُ: مَا رَأَيْتُ يَقِينًا لَا شَكَّ فِيهِ أَشْبَهَ بِشَكٍّ لَا يَقِينَ فِيهِ كَالْمَوْتِ وَثَانِيهَا: يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الْمُحْكَمَةَ كَتَشْيِيدِ الْبُنْيَانِ بِالْآجُرِّ وَالْجِصِّ، عَمَلَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَبْقَى حَيًّا أَوْ لِأَجْلِ أَنْ يُذْكَرَ بِسَبَبِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَثَالِثُهَا: أَحَبَّ الْمَالَ حُبًّا شَدِيدًا حَتَّى اعْتَقَدَ أَنَّهُ إِنِ انْتَقَصَ مَالِي أَمُوتُ، فَلِذَلِكَ يَحْفَظُهُ مِنَ النُّقْصَانِ لِيَبْقَى حَيًّا، وَهَذَا غَيْرُ بَعِيدٍ مِنِ اعْتِقَادِ الْبَخِيلِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُخَلِّدُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا بِالذِّكْرِ الْجَمِيلِ وفي الآخر فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَدْعٌ لَهُ عَنْ حُسْبَانِهِ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَظُنُّ أَنَّ الْمَالَ يُخَلِّدُهُ بَلِ الْعِلْمُ وَالصَّلَاحُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَاتَ خُزَّانُ الْمَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي مَعْنَاهُ: حَقًّا لَيُنْبَذَنَّ وَاللَّامُ فِي: لَيُنْبَذَنَّ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمُقَدَّرِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى حُصُولِ مَعْنَى الْقَسَمِ فِي كَلَّا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: [سورة الهمزة (104) : الآيات 4 الى 5] كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) فَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِ النَّبْذِ الدَّالِّ عَلَى الْإِهَانَةِ، لِأَنَّ الْكَافِرَ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكَرَامَةِ، وَقُرِئَ (لَيُنْبَذَانِ) أَيْ هُوَ وَمَالُهُ وَ (لَيُنْبَذُنَّ) بِضَمِّ الذَّالِ أَيْ هُوَ وَأَنْصَارُهُ، وَأَمَّا: الْحُطَمَةِ فَقَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّهَا النَّارُ الَّتِي تَحْطِمُ كُلَّ مَنْ وَقَعَ/ فِيهَا وَرَجُلٌ حُطَمَةٌ أَيْ شَدِيدُ الْأَكْلِ يَأْتِي عَلَى زَادِ الْقَوْمِ، وَأَصْلُ الْحَطْمِ فِي اللُّغَةِ الْكَسْرُ، وَيُقَالُ: شَرُّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ يُقَالُ: رَاعٍ حُطَمَةٌ وَحُطَمٌ بِغَيْرِ هَاءٍ كَأَنَّهُ يَحْطِمُ الْمَاشِيَةَ أَيْ يَكْسِرُهَا عِنْدَ سَوْقِهَا لِعُنْفِهِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْحُطَمَةُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ وَهِيَ الدَّرَكَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ دَرَكَاتِ النَّارِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ تَحْطِمُ الْعِظَامَ وَتَأْكُلُ اللُّحُومَ حَتَّى تَهْجُمَ عَلَى الْقُلُوبِ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إن الْمَلَكَ لَيَأْخُذُ الْكَافِرَ فَيَكْسِرُهُ عَلَى صُلْبِهِ كَمَا تُوضَعُ الْخَشَبَةُ عَلَى الرُّكْبَةِ فَتُكْسَرُ ثُمَّ يُرْمَى به في النار» . وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي ذِكْرِ جَهَنَّمَ بِهَذَا الاسم هاهنا وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: الِاتِّحَادُ فِي الصُّورَةِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنْ كُنْتَ هُمَزَةً لُمَزَةً فَوَرَاءَكَ الْحُطَمَةُ وَالثَّانِي: أَنَّ الْهَامِزَ بِكَسْرِ عَيْنٍ لَيَضَعُ قَدْرَهُ فَيُلْقِيهِ فِي الْحَضِيضِ فَيَقُولُ تَعَالَى: وَرَاءَكَ الْحُطَمَةُ، وَفِي الْحَطْمِ كَسْرٌ فَالْحُطَمَةُ تَكْسِرُكَ وَتُلْقِيكَ فِي حَضِيضِ جَهَنَّمَ لَكِنَّ الْهُمَزَةَ لَيْسَ إِلَّا الْكَسْرَ بِالْحَاجِبِ، أَمَّا الْحُطَمَةُ فَإِنَّهَا تَكْسِرُ كَسْرًا لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْهَمَّازَ اللَّمَّازَ يَأْكُلُ لَحْمَ النَّاسِ وَالْحُطَمَةُ أَيْضًا اسْمٌ لِلنَّارِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَأْكُلُ الْجِلْدَ وَاللَّحْمَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: ذَكَرَ وَصْفَيْنِ الْهَمْزَ وَاللَّمْزَ، ثُمَّ قابلهما باسم

[سورة الهمزة (104) : آية 6]

وَاحِدٍ وَقَالَ: خُذْ وَاحِدًا مِنِّي بِالِاثْنَيْنِ مِنْكَ فَإِنَّهُ يَفِي وَيَكْفِي، فَكَأَنَّ السَّائِلَ يَقُولُ: كَيْفَ يَفِي الْوَاحِدُ بِالِاثْنَيْنِ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا تَقُولُ هَذَا لِأَنَّكَ لَا تَعْرِفُ هَذَا الْوَاحِدَ فَلِذَلِكَ قَالَ: وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ. [سورة الهمزة (104) : آية 6] نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: نارُ اللَّهِ فَالْإِضَافَةُ لِلتَّفْخِيمِ أَيْ هِيَ نَارٌ لَا كَسَائِرِ النِّيرَانِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي لَا تَخْمَدُ أَبَدًا أَوْ الْمُوقَدَةُ بِأَمْرِهِ أَوْ بِقُدْرَتِهِ وَمِنْهُ قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: عَجَبًا مِمَّنْ يَعْصِي اللَّهَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَالنَّارُ تُسَعَّرُ مِنْ تَحْتِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، ثُمَّ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ فَهِيَ الْآنَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ» أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: [سورة الهمزة (104) : آية 7] الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) فَاعْلَمْ أَنَّهُ يُقَالُ: طَلَعَ الْجَبَلَ وَاطَّلَعَ عَلَيْهِ إِذَا عَلَاهُ، ثُمَّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّارَ تَدْخُلُ فِي أَجْوَافِهِمْ حَتَّى تَصِلَ إِلَى صُدُورِهِمْ وَتَطَّلِعَ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ، وَلَا شَيْءَ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ أَلْطَفُ مِنَ الْفُؤَادِ، وَلَا أَشَدُّ تَأَلُّمًا مِنْهُ بِأَدْنَى أَذًى يُمَاسُّهُ، فَكَيْفَ إِذَا اطَّلَعَتْ نَارُ جَهَنَّمَ وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّ الْفُؤَادَ مَعَ اسْتِيلَاءِ النَّارِ عَلَيْهِ لَا يَحْتَرِقُ إِذْ لَوِ احْتَرَقَ لَمَاتَ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قوله: لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [الْأَعْلَى: 13] وَمَعْنَى الِاطِّلَاعِ هُوَ أَنَّ النَّارَ تَنْزِلُ مِنَ اللَّحْمِ إِلَى الْفُؤَادِ وَالثَّانِي: أَنَّ سَبَبَ تَخْصِيصِ الْأَفْئِدَةِ بِذَلِكَ هُوَ أَنَّهَا مَوَاطِنُ الْكُفْرِ وَالْعَقَائِدِ الْخَبِيثَةِ وَالنِّيَّاتِ الْفَاسِدَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن النَّارَ تَأْكُلُ أَهْلَهَا حَتَّى إِذَا اطَّلَعَتْ عَلَى أَفْئِدَتِهِمُ انْتَهَتْ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعِيدُ لَحْمَهُمْ وَعَظْمَهُمْ مَرَّةً أُخْرَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: [سورة الهمزة (104) : آية 8] إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فَقَالَ الْحَسَنُ: مُؤْصَدَةٌ أَيْ مُطْبَقَةٌ مِنْ أَصَدْتُ الْبَابَ/ وَأَوْصَدْتُهُ لُغَتَانِ، وَلَمْ يَقُلْ: مُطْبَقَةٌ لِأَنَّ الْمُؤْصَدَةَ هِيَ الْأَبْوَابُ الْمُغْلَقَةُ، وَالْإِطْبَاقُ لَا يُفِيدُ مَعْنَى الْبَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ تُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي الْعَذَابِ مِنْ وُجُوهٍ أحدها: أن قوله: لَيُنْبَذَنَّ [الهمزة: 4] يَقْتَضِي أَنَّهُ مَوْضِعٌ لَهُ قَعْرٌ عَمِيقٌ جِدًّا كَالْبِئْرِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ شَاءَ يَجْعَلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُ بَابٌ لَكِنَّهُ بِالْبَابِ يُذَكِّرُهُمُ الْخُرُوجَ، فَيَزِيدُ فِي حَسْرَتِهِمْ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ: عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ وَلَمْ يَقُلْ: مُؤْصَدَةٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ يُفِيدُ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَوَّلًا كَوْنُهُمْ بِهَذِهِ الْحَالَةِ، وَقَوْلُهُ مُؤْصَدَةٌ عَلَيْهِمْ لَا يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ. أما قوله تعالى: [سورة الهمزة (104) : آية 9] فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قرئ (في عمد) بضمتين وعمد بسكون الميم وعمد بِفَتْحَتَيْنِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: عُمُدٌ وَعُمْدٌ وَعَمَدٌ مِثْلُ الْأَدِيمِ وَالْأُدْمِ وَالْأَدَمِ وَالْإِهَابِ وَالْأُهْبِ وَالْأَهَبِ، وَالْعَقِيمِ وَالْعُقْمِ وَالْعَقَمِ وَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَأَبُو عَلِيٍّ: الْعُمْدُ جَمْعُ عَمُودٍ عَلَى غَيْرِ وَاحِدٍ أَمَّا الْجَمْعُ عَلَى وَاحِدٍ فَهُوَ الْعُمُدُ مِثْلُ زَبُورٍ وَزُبُرٍ ورسول ورسل.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعَمُودُ كُلُّ مُسْتَطِيلٍ مِنْ خَشَبٍ أَوْ حَدِيدٍ، وَهُوَ أَصْلٌ لِلْبِنَاءِ، يُقَالُ: عَمُودُ الْبَيْتِ لِلَّذِي يَقُومُ بِهِ الْبَيْتُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا عَمَدٌ أُغْلِقَتْ بِهَا تِلْكَ الْأَبْوَابُ كَنَحْوِ مَا تُغْلَقُ بِهِ الدُّرُوبُ، وَ (فِي) بِمَعْنَى الْبَاءِ أَيْ أَنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ بِعَمَدٍ مُدَّتْ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَقُلْ: بِعَمَدٍ لِأَنَّهَا لِكَثْرَتِهَا صَارَتْ كَأَنَّ الْبَابَ فِيهَا وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ حَالَ كَوْنِهِمْ مُوَثَّقِينَ فِي عَمَدٍ ممدة مِثْلِ الْمَقَاطِرِ الَّتِي تُقْطَرُ فِيهَا اللُّصُوصُ، اللَّهُمَّ أجرنا منها يا أكرم الأكرمين.

سورة الفيل

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة الفيل خمس آيات مكية [سورة الفيل (105) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) رُوِيَ أَنَّ أَبْرَهَةَ بْنَ الصَّبَّاحِ الْأَشْرَمِ مَلِكَ الْيَمَنِ مِنْ قِبَلِ أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ بَنَى كَنِيسَةً بِصَنْعَاءَ وَسَمَّاهَا الْقُلَّيْسَ وَأَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ إِلَيْهَا الْحَاجَّ فَخَرَجَ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ رَجُلٌ وَتَغَوَّطَ فِيهَا لَيْلًا فَأَغْضَبَهُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: أَجَّجَتْ رُفْقَةٌ مِنَ الْعَرَبِ نَارًا فَحَمَلَتْهَا الرِّيحُ فَأَحْرَقَتْهَا فَحَلَفَ لَيَهْدِمَنَّ الْكَعْبَةَ فَخَرَجَ بِالْحَبَشَةِ وَمَعَهُ فِيلٌ اسْمُهُ مَحْمُودٌ وَكَانَ قَوِيًّا عَظِيمًا، وَثَمَانِيَةٌ أُخْرَى، وَقِيلَ: اثْنَا عَشَرَ، وَقِيلَ: أَلْفٌ، فَلَمَّا بَلَغَ قَرِيبًا مِنْ مَكَّةَ خَرَجَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَعَرَضَ عَلَيْهِ ثُلُثَ أَمْوَالِ تِهَامَةَ لِيَرْجِعَ فَأَبَى وَعَبَّأَ جَيْشَهُ، وَقَدَّمَ الْفِيلَ فَكَانُوا كُلَّمَا وَجَّهُوهُ إِلَى جِهَةِ الْحَرَمِ بَرَكَ وَلَمْ يَبْرَحْ، وَإِذَا وَجَّهُوهُ إِلَى جِهَةِ الْيَمَنِ أَوْ إِلَى سَائِرِ الْجِهَاتِ هَرْوَلَ، ثُمَّ إِنَّ أَبْرَهَةَ أَخَذَ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِائَتَيْ بَعِيرٍ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فِيهَا فَعَظُمَ فِي عَيْنِ أَبْرَهَةَ وَكَانَ رَجُلًا جَسِيمًا وَسِيمًا، وَقِيلَ: هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ، وَصَاحِبُ عِيرِ مَكَّةَ فَلَمَّا ذَكَرَ حَاجَتَهُ، قَالَ: سَقَطْتَ مِنْ عَيْنِي جِئْتُ لِأَهْدِمَ الْبَيْتَ الَّذِي هُوَ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ فَأَلْهَاكَ عَنْهُ ذَوْدٌ أخذلك، فَقَالَ أَنَا رَبُّ الْإِبِلِ وَلِلْبَيْتِ رَبٌّ سَيَمْنَعُكَ عَنْهُ، ثُمَّ رَجَعَ وَأَتَى الْبَيْتَ وَأَخَذَ بِحَلْقَتِهِ وهو يقول: لا هم إِنَّ الْمَرْءَ يَمْ ... نَعُ حِلَّهُ فَامْنَعْ حَلَالَكْ «1» وانصر على آل الصليب ... وَعَابِدِيهِ الْيَوْمَ آلَكْ لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ ... وَمِحَالُهُمْ عدوا محالك «2» إن كنت تاركهم وكعبتنا ... فَأْمُرْ مَا بَدَا لَكْ وَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا أَرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا ... يَا رَبِّ فَامْنَعْ عَنْهُمْ حِمَاكَا فَالْتَفَتَ وَهُوَ يَدْعُو، فَإِذَا هُوَ بِطَيْرٍ مِنْ نَحْوِ الْيَمَنِ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهَا لَطَيْرٌ غَرِيبَةٌ مَا هِيَ بِنَجْدِيَّةٍ وَلَا تِهَامِيَّةٍ،

_ (1) يروى: لا هم إن المرء يم ... نع رحله فامنع رحالك (2) الرواية الجيدة: لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم أبدا محالك

وَكَانَ مَعَ كُلِّ طَائِرٍ حَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ أَكْبَرَ مِنَ الْعَدَسَةِ وَأَصْغَرَ مِنَ الْحِمِّصَةِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَأَى مِنْهَا عِنْدَ أُمِّ هَانِئٍ نَحْوَ قَفِيزٍ مُخَطَّطَةٍ بِحُمْرَةٍ كَالْجَزَعِ الظَّفَارِيِّ، فَكَانَ الْحَجَرُ يَقَعُ عَلَى رَأْسِ الرَّجُلِ فَيَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ، وَعَلَى كُلِّ حَجَرٍ اسْمُ مَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ فَهَلَكُوا فِي كُلِّ طَرِيقٍ وَمَنْهَلٍ، وَدَوَّى أَبْرَهَةُ فَتَسَاقَطَتْ أَنَامِلُهُ، وَمَا مَاتَ حَتَّى انْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ، وَانْفَلَتَ وَزِيرُهُ أَبُو يَكْسُومَ وَطَائِرٌ يُحَلِّقُ فَوْقَهُ، حَتَّى بَلَغَ النَّجَاشِيَّ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَلَمَّا أَتَمَّهَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْحَجَرُ وَخَرَّ مَيِّتًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: رَأَيْتُ قَائِدَ الْفِيلِ وَسَائِسَهُ أَعْمَيَيْنِ مُقْعَدَيْنِ يَسْتَطْعِمَانِ، ثُمَّ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ. الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ: أَلَمْ تَرَ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ وَقَعَتْ قَبْلَ الْمَبْعَثِ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ؟ الْجَوَابُ: الْمُرَادُ مِنَ الرُّؤْيَةِ الْعِلْمُ وَالتَّذْكِيرُ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْخَبَرَ بِهِ مُتَوَاتِرٌ فَكَانَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِهِ ضَرُورِيًّا مُسَاوِيًا فِي الْقُوَّةِ وَالْجَلَاءِ لِلرُّؤْيَةِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ لِغَيْرِهِ عَلَى سَبِيلِ الذَّمِّ: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ [يس: 31] لَا يُقَالُ: فَلِمَ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الْبَقَرَةِ: 106] لِأَنَّا نَقُولُ: الْفَرْقُ أَنَّ مَا لَا يُتَصَوَّرُ إِدْرَاكُهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ إِلَّا الْعِلْمُ لِكَوْنِهِ قَادِرًا، وَأَمَّا الَّذِي يُتَصَوَّرُ إِدْرَاكُهُ كَفِرَارِ الْفِيلِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِيهِ الرُّؤْيَةُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ وَلَمْ يَقُلْ: أَلَمْ تَرَ مَا فَعَلَ رَبُّكَ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ لَهَا ذَوَاتٌ، وَلَهَا كَيْفِيَّاتٌ بِاعْتِبَارِهَا يَدُلُّ عَلَى مُدَاوَمَتِهَا وَهَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ هِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْمُتَكَلِّمُونَ وَجْهَ الدَّلِيلِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْمَدْحِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِرُؤْيَةِ هَذِهِ الْكَيْفِيَّاتِ لَا بِرُؤْيَةِ الذَّوَاتِ وَلِهَذَا قَالَ: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها [ق: 6] وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ كَانَتْ دَالَّةً عَلَى قُدْرَةِ الصَّانِعِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَكَانَتْ دَالَّةً عَلَى شَرَفِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى زَمَانِ الْبَعْثَةِ تَأْسِيسًا لِنُبُوَّتِهِمْ وَإِرْهَاصًا لَهَا، وَلِذَلِكَ قَالُوا: كَانَتِ الْغَمَامَةُ تُظِلُّهُ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَلَا جَرَمَ زَعَمُوا أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُقَالَ: كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ نَبِيٌّ [أَوْ خَطِيبٌ] كَخَالِدِ بْنِ سِنَانٍ أَوْ قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ، ثُمَّ قَالُوا: وَلَا يَجِبُ أَنْ يَشْتَهِرَ وُجُودُهُمَا، وَيَبْلُغَ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى جَمْعٍ قَلِيلِينَ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَشْتَهِرْ خَبَرُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ قِصَّةَ الْفِيلِ وَاقِعَةٌ عَلَى الْمُلْحِدِينَ جِدًّا، لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي الزَّلَازِلِ وَالرِّيَاحِ وَالصَّوَاعِقِ وَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي عَذَّبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا الْأُمَمَ أَعْذَارًا ضَعِيفَةً، أَمَّا هَذِهِ الْوَاقِعَةُ فَلَا تَجْرِي فِيهَا تِلْكَ الْأَعْذَارُ، لِأَنَّهَا لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطَّبَائِعِ وَالْحِيَلِ أَنْ يُقْبِلَ طَيْرٌ مَعَهَا حِجَارَةٌ، فَتَقْصِدُ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ فَتَقْتُلُهُمْ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَسَائِرِ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ عَامِ الْفِيلِ وَمَبْعَثِ الرَّسُولِ إِلَّا نَيِّفٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً «1» وَيَوْمَ تَلَا الرَّسُولُ هَذِهِ السُّورَةَ كَانَ قَدْ بَقِيَ بِمَكَّةَ جَمْعٌ شَاهَدُوا تِلْكَ الْوَاقِعَةَ، وَلَوْ كَانَ النَّقْلُ ضَعِيفًا لَشَافَهُوهُ بِالتَّكْذِيبِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا سَبَبَ لِلطَّعْنِ فِيهِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ: فَعَلَ وَلَمْ يَقُلْ: جَعَلَ وَلَا خَلَقَ وَلَا عَمِلَ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ خَلَقَ يُسْتَعْمَلُ لِابْتِدَاءِ الْفِعْلِ، وَجَعَلَ لِلْكَيْفِيَّاتِ قَالَ تَعَالَى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: 1] وَعَمِلَ بَعْدَ الطَّلَبِ وَفَعَلَ عَامٌّ فَكَانَ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الطُّيُورَ وَجَعَلَ طَبْعَ الْفِيلِ عَلَى خِلَافِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ،

_ (1) كيف يقول: إلا نيف وأربعون، والرسول ولد عام الفيل فلا معنى لذكر النيف. [.....]

وَسَأَلُوهُ أَنْ يَحْفَظَ الْبَيْتَ، وَلَعَلَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْإِجَابَةَ، فَلَوْ ذَكَرَ الْأَلْفَاظَ الثَّلَاثَةَ لَطَالَ الْكَلَامُ فَذَكَرَ لَفْظًا يَشْمَلُ الْكُلَّ. السُّؤَالُ الرابع: لما قَالَ: رَبُّكَ، وَلَمْ يَقُلْ: الرَّبُّ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّهُمْ لَمَّا شَاهَدُوا هَذَا الِانْتِقَامَ ثُمَّ لَمْ يَتْرُكُوا عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ مَا شَاهَدْتَهُ ثُمَّ اعْتَرَفْتَ بِالشُّكْرِ وَالطَّاعَةِ، فَكَأَنَّكَ أَنْتَ الَّذِي رَأَيْتَ ذَلِكَ الِانْتِقَامَ، فَلَا جَرَمَ تَبَرَّأْتُ عَنْهُمْ وَاخْتَرْتُكَ مِنَ الْكُلِّ، فَأَقُولُ: رَبُّكَ، أَيْ أَنَا لَكَ وَلَسْتُ لَهُمْ بَلْ عَلَيْهِمْ وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّمَا فَعَلْتُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لَكَ وَتَشْرِيفًا لِمَقْدَمِكَ، فَأَنَا كُنْتُ مُرَبِّيًا لَكَ قَبْلَ قَوْمِكِ، فَكَيْفَ أَتْرُكُ تَرْبِيَتَكَ بَعْدَ ظُهُورِكَ، فَفِيهِ بِشَارَةٌ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ سَيَظْفَرُ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ مَذْكُورٌ فِي مَعْرِضِ التَّعَجُّبِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ عَجِيبَةً، فَمَا السَّبَبُ لِهَذَا التَّعَجُّبِ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْكَعْبَةَ تَبَعٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ يُؤَدَّى بِدُونِ الْمَسْجِدِ أَمَّا لَا مَسْجِدَ بِدُونِ الْعَالِمِ فَالْعَالِمُ هُوَ الدُّرُّ وَالْمَسْجِدُ هُوَ الصَّدَفُ، ثُمَّ الرَّسُولُ الَّذِي هُوَ الدُّرُّ هَمَزَهُ الْوَلِيدُ وَلَمَزَهُ حَتَّى ضَاقَ قَلْبُهُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ الْمَلِكَ الْعَظِيمَ لَمَّا طَعَنَ فِي الْمَسْجِدِ هَزَمْتُهُ وَأَفْنَيْتُهُ، فَمَنْ طَعَنَ فِيكَ وَأَنْتَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكُلِّ أَلَا أُفْنِيهِ وَأُعْدِمُهُ! إِنَّ هَذَا لَعَجِيبٌ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْكَعْبَةَ قِبْلَةُ صَلَاتِكَ وَقَلْبُكَ قِبْلَةُ مَعْرِفَتِكَ، ثُمَّ أَنَا حَفِظْتُ قِبْلَةَ عَمَلِكَ عَنِ الْأَعْدَاءِ، أفلا تسعى فِي حِفْظِ قِبْلَةِ دِينِكَ عَنِ الْآثَامِ وَالْمَعَاصِي!. السُّؤَالُ السَّادِسُ: لِمَ قَالَ: بِأَصْحابِ الْفِيلِ وَلَمْ يَقُلْ: أَرْبَابُ الْفِيلِ أَوْ مُلَّاكُ الْفِيلِ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ الصَّاحِبَ يَكُونُ مِنَ الْجِنْسِ، فَقَوْلُهُ: بِأَصْحابِ الْفِيلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ كَانُوا مِنْ جِنْسِ الْفِيلِ فِي الْبَهِيمِيَّةِ وَعَدَمِ الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ، بَلْ فِيهِ دَقِيقَةٌ وَهِيَ: أَنَّهُ إِذَا حَصَلَتِ الْمُصَاحَبَةُ بَيْنَ شَخْصَيْنِ فَيُقَالُ: لِلْأَدْوَنِ إِنَّهُ صَاحِبُ الْأَعْلَى، وَلَا يُقَالُ لِلْأَعْلَى إِنَّهُ صَاحِبُ الْأَدْوَنِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: لِمَنْ صَحِبَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهُمُ الصَّحَابَةُ، فَقَوْلُهُ: بِأَصْحابِ الْفِيلِ يَدُلُّ على أن أولئك الأقوام كانوا أقل حال وَأَدْوَنَ مَنْزِلَةً مِنَ الْفِيلِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الْأَعْرَافِ: 179] وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كُلَّمَا وَجَّهُوا الْفِيلَ إِلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ كَانَ يَتَحَوَّلُ عَنْهُ وَيَفِرُّ عَنْهُ، كَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ عَزْمِي حَمِيدٌ فَلَا أَتْرُكُهُ «1» وَهُمْ مَا كَانُوا يَتْرُكُونَ تِلْكَ الْعَزِيمَةَ الرَّدِيَّةَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْفِيلَ كَانَ أَحْسَنَ حَالًا مِنْهُمْ. السُّؤَالُ السَّابِعُ: أَلَيْسَ أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَانُوا مَلَأُوا الْكَعْبَةَ مِنَ الْأَوْثَانِ مِنْ قَدِيمِ الدَّهْرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَقْبَحَ مِنْ تَخْرِيبِ جُدْرَانِ الْكَعْبَةِ، فَلِمَ سَلَّطَ اللَّهُ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ قَصَدَ التَّخْرِيبَ، وَلَمْ يُسَلِّطِ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ مَلَأَهَا مِنَ الْأَوْثَانِ؟ وَالْجَوَابُ: لِأَنَّ وَضْعَ الْأَوْثَانِ فِيهَا تَعَدٍّ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَخْرِيبَهَا تَعَدٍّ عَلَى حَقِّ الْخَلْقِ، وَنَظِيرُهُ قَاطِعُ الطَّرِيقِ، وَالْبَاغِي وَالْقَاتِلُ يُقْتَلُونَ مَعَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَلَا يُقْتَلُ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْأَعْمَى وَصَاحِبُ الصَّوْمَعَةِ وَالْمَرْأَةُ، وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى ضَرَرُهُمْ إِلَى الْخَلْقِ. السُّؤَالُ الثَّامِنُ: كَيْفَ الْقَوْلُ فِي إِعْرَابِ هَذِهِ الْآيَةِ؟ الْجَوَابُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: كَيْفَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفِعْلٍ لَا بِقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ لِأَنَّ كَيْفَ مِنْ حروف الاستفهام.

_ (1) هذه حكاية لسان الفيل والعزم بمعنى العزيمة، يقال: بين عزمه وعزيمتهم.

[سورة الفيل (105) : آية 2]

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَا فَعَلَ بِهِمْ فقال: [سورة الفيل (105) : آية 2] أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْكَيْدَ هُوَ إِرَادَةٌ مُضِرَّةٌ بِالْغَيْرِ عَلَى الْخُفْيَةِ، إِنْ قِيلَ: فَلِمَ سَمَّاهُ كَيْدًا وَأَمْرُهُ كَانَ ظَاهِرًا، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَرِّحُ أَنَّهُ يَهْدِمُ الْبَيْتَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنَّ الَّذِي كَانَ فِي قَلْبِهِ شَرٌّ مِمَّا أَظْهَرَ، لِأَنَّهُ كَانَ يُضْمِرُ الْحَسَدَ لِلْعَرَبِ، وَكَانَ يُرِيدُ صَرْفَ الشَّرَفِ الْحَاصِلِ لَهُمْ بِسَبَبِ الْكَعْبَةِ مِنْهُمْ وَمِنْ بَلَدِهِمْ إِلَى نَفْسِهِ وَإِلَى بَلْدَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِضَافَةُ الْكَيْدِ إِلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَرْضَى بِالْقَبِيحِ، إِذْ لَوْ رَضِيَ لَأَضَافَهُ إِلَى ذَاتِهِ، كَقَوْلِهِ: الصَّوْمُ لِي وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّهُ يَكْفِي فِي حُسْنِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، فَلِمَ لَا يَكْفِي فِي حُسْنِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ وُقُوعُهُ مُطَابِقًا لِإِرَادَتِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ؟. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَضْلِيلٍ أَيْ فِي تَضْيِيعٍ وَإِبْطَالٍ يُقَالُ: ضَلَّلَ كَيْدَهُ إِذَا جَعَلَهُ ضَالًّا ضَائِعًا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [الرعد: 14] وَقِيلَ لِامْرِئِ الْقَيْسِ الْمَلِكُ الضَّلِيلُ، لِأَنَّهُ ضَلَّلَ مُلْكَ أَبِيهِ أَيْ ضَيَّعَهُ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ كَادُوا الْبَيْتَ أَوَّلًا بِبِنَاءِ الْقُلَّيْسِ وَأَرَادُوا أَنْ يَفْتَتِحُوا أَمْرَهُ بِصَرْفِ وُجُوهِ الْحَاجِّ إِلَيْهِ، فَضَلَّلَ كَيْدَهُمْ بِإِيقَاعِ الْحَرِيقِ فِيهِ، ثُمَّ كَادُوهُ ثَانِيًا بِإِرَادَةِ هَدْمِهِ فَضَلَّلَ بِإِرْسَالِ الطَّيْرِ عَلَيْهِمْ، وَمَعْنَى حَرْفِ الظَّرْفِ كَمَا يُقَالُ: سَعْيُ فُلَانٍ فِي ضَلَالٍ، أَيْ سَعْيُهُمْ كَانَ قَدْ ظَهَرَ لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنَّهُ كَانَ ضَلَالٌ وَخَطَأٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: [سورة الفيل (105) : آية 3] وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ: طَيْراً عَلَى التَّنْكِيرِ؟ وَالْجَوَابُ: إِمَّا لِلتَّحْقِيرِ فَإِنَّهُ مَهْمَا كَانَ أَحْقَرَ كَانَ صُنْعُ اللَّهِ أَعْجَبَ وَأَكْبَرَ، أَوْ لِلتَّفْخِيمِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: طَيْرًا وَأَيُّ طَيْرٍ تَرْمِي بِحِجَارَةٍ صَغِيرَةٍ فَلَا تُخْطِئُ الْمَقْتَلَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْأَبَابِيلُ الْجَوَابُ: أَمَّا أَهْلُ اللُّغَةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَبَابِيلُ جَمَاعَةٌ فِي تَفْرِقَةٍ، يُقَالُ: جَاءَتْ الْخَيْلُ أبابيل أبابيل من هاهنا وهاهنا، وَهَلْ لِهَذِهِ اللَّفْظَةِ وَاحِدٌ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَالْفَرَّاءِ أَنَّهُ لَا وَاحِدَ لَهَا وَهُوَ مِثْلُ الشَّمَاطِيطِ وَالْعَبَادِيدِ، لَا وَاحِدَ لَهَا وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَهُ وَاحِدٌ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: زَعَمَ أَبُو جَعْفَرٍ الرُّؤَاسِيُّ وَكَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا أَنَّهُ سَمِعَ وَاحِدَهَا إِبَّالَةٌ، وَفِي أَمْثَالِهِمْ: ضِغْثٌ عَلَى إِبَّالَةٍ، وَهِيَ الْحُزْمَةُ الْكَبِيرَةُ سُمِّيَتِ الْجَمَاعَةُ مِنَ الطَّيْرِ فِي نِظَامِهَا بِالْإِبَّالَةِ وَثَانِيهَا: قَالَ الْكِسَائِيُّ: كُنْتُ أَسْمَعُ النَّحْوِيِّينَ يَقُولُونَ: إِبُولٌ وَأَبَابِيلُ كَعُجُولٍ وَعَجَاجِيلَ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: وَاحِدُ الْأَبَابِيلِ إِيبَالَةٌ كَانَ صَوَابًا كَمَا قَالَ: دِينَارٌ وَدَنَانِيرُ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا صِفَةُ تِلْكَ الطَّيْرِ؟ الْجَوَابُ: رَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ طَيْرًا لَهَا خَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الْفِيلِ وَأَكُفٌّ كَأَكُفِّ الْكِلَابِ، وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْهُ قَالَ: طَيْرٌ سُودٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْبَحْرِ فَوْجًا فَوْجًا، وَلَعَلَّ السَّبَبَ أَنَّهَا أُرْسِلَتْ إِلَى قَوْمٍ كَانَ فِي صُورَتِهِمْ سَوَادُ اللَّوْنِ وَفِي سِرِّهِمْ سَوَادُ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهَا بِيضٌ صِغَارٌ وَلَعَلَّ السَّبَبَ أَنَّ ظُلْمَةَ الْكُفْرِ انْهَزَمَتْ بِهَا، وَالْبَيَاضُ ضد السواد، وقيل: كانت

[سورة الفيل (105) : آية 4]

خضرا ولها رءوس مثل رءوس السِّبَاعِ، وَأَقُولُ: إِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أَفْوَاجًا، فَلَعَلَّ كُلَّ فَوْجٍ مِنْهَا كَانَ عَلَى شَكْلٍ آخَرَ فَكُلُّ أَحَدٍ وَصَفَ مَا رَأَى، وَقِيلَ: كَانَتْ بلقاء كالخطاطيف. ثم قال تعالى: [سورة الفيل (105) : آية 4] تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: (يَرْمِيهِمْ) أَيِ اللَّهُ أَوِ الطَّيْرُ لِأَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ مُذَكَّرٌ، وَإِنَّمَا يُؤَنَّثُ عَلَى الْمَعْنَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي كَيْفِيَّةِ الرَّمْيِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ كُلُّ طَائِرٍ يَحْمِلُ ثَلَاثَةَ أَحْجَارٍ، وَاحِدٌ فِي مِنْقَارِهِ وَاثْنَانِ فِي رِجْلَيْهِ يَقْتُلُ كُلُّ وَاحِدٍ رَجُلًا، مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ حَجَرٍ اسْمُ صَاحِبِهِ مَا وَقَعَ مِنْهَا حَجَرٌ عَلَى مَوْضِعٍ إِلَّا خَرَجَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَإِنْ وَقَعَ عَلَى رَأْسِهِ خَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ وَثَانِيهَا: رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا أَرْسَلَ اللَّهُ الْحِجَارَةَ عَلَى أَصْحَابِ الْفِيلِ لَمْ يَقَعْ حَجَرٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا نَفِطَ جِلْدُهُ وَثَارَ بِهِ الْجُدَرِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْأَحْجَارُ أَصْغَرُهَا مِثْلُ الْعَدَسَةِ، وَأَكْبَرُهَا مِثْلُ الْحِمِّصَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ: لَوْ جَوَّزْنَا أَنْ يَكُونَ فِي الْحِجَارَةِ الَّتِي تَكُونُ مِثْلَ الْعَدَسَةِ مِنَ الثِّقَلِ مَا يَقْوَى بِهِ عَلَى أَنْ يَنْفُذَ مِنْ رَأْسِ الْإِنْسَانِ وَيَخْرُجَ مِنْ أَسْفَلِهِ، لَجَوَّزْنَا أَنْ يَكُونَ الْجَبَلُ الْعَظِيمُ خَالِيًا عَنِ الثِّقَلِ وَأَنْ يَكُونَ فِي وَزْنِ التِّبْنَةِ، وَذَلِكَ يَرْفَعُ الْأَمَانَ عَنِ الْمُشَاهَدَاتِ، فَإِنَّهُ مَتَى جَازَ ذَلِكَ فَلْيَجُزْ أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِنَا شُمُوسٌ وَأَقْمَارٌ وَلَا نَرَاهَا، وَأَنْ يَحْصُلَ الْإِدْرَاكُ فِي عَيْنِ الضَّرِيرِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ بِالْمُشْرِقِ وَيَرَى بُقْعَةً فِي الْأَنْدَلُسِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى مَذْهَبِنَا إِلَّا أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّهَا لَا تَقَعُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي السِّجِّيلِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ السِّجِّيلَ كَأَنَّهُ عَلَمٌ لِلدِّيوَانِ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ عَذَابُ الْكُفَّارِ، كَمَا أَنَّ سِجِّينًا عَلَمٌ لِدِيوَانِ أَعْمَالِهِمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: بِحِجَارَةٍ مِنْ جُمْلَةِ الْعَذَابِ الْمَكْتُوبِ الْمُدَوَّنِ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْإِسْجَالِ وَهُوَ الْإِرْسَالُ، وَمِنْهُ السِّجِلُّ الدَّلْوُ الْمَمْلُوءُ مَاءً، وَإِنَّمَا سُمِّيَ ذَلِكَ الْكِتَابُ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّهُ كُتِبَ فِيهِ الْعَذَابُ، وَالْعَذَابُ مَوْصُوفٌ بِالْإِرْسَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ [الفيل: 3] وَقَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ [الْأَعْرَافِ: 133] فَقَوْلُهُ: مِنْ سِجِّيلٍ أَيْ مِمَّا كَتَبَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سِجِّيلٌ مَعْنَاهُ سَنْكِ وَكِلْ، يَعْنِي بَعْضُهُ حَجَرٌ وَبَعْضُهُ طِينٌ وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: السِّجِّيلُ الشَّدِيدُ وَرَابِعُهَا: السِّجِّيلُ اسْمٌ لِسَمَاءِ الدُّنْيَا وَخَامِسُهَا: السِّجِّيلُ حِجَارَةٌ مِنْ جَهَنَّمَ، فَإِنَّ سِجِّيلَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جهنم فأبدلت النون باللام. أما قوله تعالى: [سورة الفيل (105) : آية 5] فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْعَصْفِ وُجُوهًا ذَكَرْنَاهَا فِي قوله: وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ [الرحمن: 12] وذكروا هاهنا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَرَقُ الزَّرْعِ الَّذِي يَبْقَى فِي الْأَرْضِ بَعْدَ الْحَصَادِ وَتَعْصِفُهُ الرِّيَاحُ فَتَأْكُلُهُ الْمَوَاشِي وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْعَصْفُ التِّبْنُ لِقَوْلِهِ: ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ [الرَّحْمَنِ: 12] لِأَنَّهُ تَعْصِفُ بِهِ الرِّيحُ عِنْدَ الذَّرِّ فَتُفَرِّقُهُ عَنِ الْحَبِّ، وَهُوَ إِذَا كَانَ مَأْكُولًا فَقَدْ بَطَلَ وَلَا رَجْعَةَ لَهُ وَلَا مَنَعَةَ فِيهِ وَثَالِثُهَا:

قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ أَطْرَافُ الزَّرْعِ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ السُّنْبُلَ وَرَابِعُهَا: هُوَ الْحَبُّ الَّذِي أُكِلَ لُبُّهُ وَبَقِيَ قِشْرُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْمَأْكُولِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ الَّذِي أُكِلَ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَفِيهِ احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى كَزَرْعٍ وَتِبْنٍ قَدْ أَكَلَتْهُ الدَّوَابُّ ثم يجف وتتفرق أجزاءه، شَبَّهَ تَقَطُّعَ أَوْصَالِهِمْ بِتَفَرُّقِ أَجْزَاءِ الرَّوْثِ، إِلَّا أَنَّ الْعِبَارَةَ عَنْهُ جَاءَتْ عَلَى مَا عَلَيْهِ آدَابُ الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [الْمَائِدَةِ: 75] وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ، وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ وَاقِعًا بِوَرَقِ الزَّرْعِ إِذَا وَقَعَ فِيهِ الْأَكَّالُ، وَهُوَ أَنْ يَأْكُلَهُ الدُّودُ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: مَأْكُولٍ هُوَ أَنَّهُ جَعَلَهُمْ كَزَرْعٍ قَدْ أُكِلَ حَبُّهُ وَبَقِيَ تِبْنُهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمَعْنَى: كَعَصْفٍ مَأْكُولِ الْحَبِّ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ حَسَنٌ أَيْ حَسَنُ الْوَجْهِ، فَأَجْرَى مَأْكُولٍ عَلَى الْعَصْفِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أُكِلَ حَبُّهُ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مَعْلُومٌ وَهَذَا/ قَوْلُ الْحَسَنِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي التَّفْسِيرِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: مَأْكُولٍ أَنَّهُ مِمَّا يُؤْكَلُ، يَعْنِي تَأْكُلُهُ الدَّوَابُّ يُقَالُ: لِكُلِّ شَيْءٍ يَصْلُحُ لِلْأَكْلِ هُوَ مَأْكُولٌ وَالْمَعْنَى جَعَلَهُمْ كَتِبْنٍ تَأْكُلُهُ الدَّوَابُّ وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْحَجَّاجَ خَرَّبَ الْكَعْبَةَ، وَلَمْ يَحْدُثْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قِصَّةَ الْفِيلِ مَا كَانَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ كَانَتْ هَكَذَا إِلَّا أَنَّ السَّبَبَ لِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ أَمْرٌ آخَرُ سِوَى تَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ وَالْجَوَابُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ إِرْهَاصًا لِأَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْإِرْهَاصُ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ قَبْلَ قُدُومِهِ، أَمَّا بَعْدَ قُدُومِهِ وَتَأَكُّدِ نُبُوَّتِهِ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة قريش

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة قريش وهي أربع آيات مكية [سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ اعلم أن هاهنا مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِإِيلافِ تَحْتَمِلُ وُجُوهًا ثَلَاثَةً، فَإِنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِالسُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا أَوْ بِالْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، أَوْ لَا تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً لَا بِمَا قَبْلَهَا، وَلَا بِمَا بَعْدَهَا أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِمَا قَبْلَهَا، فَفِيهِ احْتِمَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ التَّقْدِيرَ: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ لِإِلْفِ قُرَيْشٍ أَيْ أَهْلَكَ اللَّهُ أَصْحَابَ الْفِيلِ لِتَبْقَى قُرَيْشٌ، وَمَا قَدْ أَلِفُوا مِنْ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا جُعِلُوا كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ لِكُفْرِهِمْ وَلَمْ يُجْعَلُوا كَذَلِكَ لِتَأْلِيفِ قُرَيْشٍ، قُلْنَا هَذَا السُّؤَالُ ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ لِكُفْرِهِمْ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْكُفْرِ مُؤَخَّرٌ لِلْقِيَامَةِ، قَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [غَافِرٍ: 17] وَقَالَ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فَاطِرٍ: 45] وَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ لِكُفْرِهِمْ، لَكَانَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِجَمِيعِ الْكُفَّارِ، بَلْ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ وَلِتَعْظِيمِ مَنْصِبِهِمْ وَإِظْهَارِ قَدْرِهِمْ وَثَانِيهَا: هَبْ أَنَّ زَجْرَهُمْ عَنِ الْكُفْرِ مَقْصُودٌ لَكِنْ لَا يُنَافِي كَوْنَ شَيْءٍ آخَرَ مَقْصُودٍ حَتَّى يَكُونَ الْحُكْمُ وَاقِعًا بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ معاو ثالثها: هَبْ أَنَّهُمْ أُهْلِكُوا لِكُفْرِهِمْ فَقَطْ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْإِهْلَاكَ لَمَّا أَدَّى إِلَى إِيلَافِ قُرَيْشٍ جَازَ أَنْ يُقَالَ: أُهْلِكُوا لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَصِ: 8] وَهُمْ لَمْ يَلْتَقِطُوهُ لِذَلِكَ، لَكِنْ لَمَّا آلَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ حَسُنَ أَنْ يُمَهِّدَ عَلَيْهِ الِالْتِقَاطَ. الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: كُلُّ مَا فَعَلْنَا بِهِمْ فَقَدْ فَعَلْنَاهُ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، حَتَّى صَارُوا كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ إِيلَافِ قُرَيْشٍ. الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِإِيلافِ بِمَعْنَى إِلَى كَأَنَّهُ قَالَ: فَعَلْنَا كُلَّ مَا فَعَلْنَا فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِلَى نِعْمَةٍ أُخْرَى عَلَيْهِمْ وَهِيَ إِيلَافُهُمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ تَقُولُ: نِعْمَةُ اللَّهِ نِعْمَةٌ ونعمة لنعمة

سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى، هَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ، فَهَذِهِ احْتِمَالَاتٌ ثَلَاثَةٌ تَوَجَّهَتْ عَلَى تَقْدِيرِ تَعْلِيقِ اللَّامِ بِالسُّورَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ، وَبَقِيَ مِنْ مَبَاحِثِ هَذَا الْقَوْلِ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لِلنَّاسِ فِي تَعْلِيقِ هَذِهِ اللَّامِ بِالسُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ جَعَلُوا السُّورَتَيْنِ سُورَةً وَاحِدَةً وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ السُّورَتَيْنِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا، وَمَطْلَعُ هَذِهِ السُّورَةِ لَمَّا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالسُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ سُورَةً مُسْتَقِلَّةً وَثَانِيهَا: أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ جَعَلَهُمَا فِي مُصْحَفِهِ سُورَةً وَاحِدَةً وَثَالِثُهَا: مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَالتِّينِ وَفِي الثَّانِيَةِ أَلَمْ تَرَ ولِإِيلافِ قُرَيْشٍ مَعًا، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَهُمَا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْمُسْتَفِيضُ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ سُورَةِ الْفِيلِ، وَأَمَّا تَعَلُّقُ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا قَبْلَهَا فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَا قَالُوهُ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ وَكَالْآيَةِ الْوَاحِدَةِ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُبَيِّنُ بَعْضُهَا مَعْنَى بَعْضٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى الْوَعِيدِ مُطْلَقَةٌ، ثُمَّ إنها متعلقة بآيات التوبة وبآيات العفو عنه مَنْ يَقُولُ بِهِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ [الْقَدْرِ: 1] مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ أُبَيًّا لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مُعَارَضٌ بِإِطْبَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا قِرَاءَةُ عُمَرَ فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْإِمَامَ قَدْ يَقْرَأُ سُورَتَيْنِ. الْبَحْثُ الثَّانِي: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْقَوْلِ بَيَانُ أَنَّهُ لِمَ صَارَ مَا فَعَلَهُ اللَّهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ سَبَبًا لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ؟ فَنَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ مَكَّةَ كَانَتْ خَالِيَةً عَنِ الزَّرْعِ وَالضَّرْعِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ [إِبْرَاهِيمَ: 37] فَكَانَ أَشْرَافُ أَهْلِ مَكَّةَ يَرْتَحِلُونَ لِلتِّجَارَةِ هَاتَيْنِ الرِّحْلَتَيْنِ، وَيَأْتُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِأَهْلِ بَلَدِهِمْ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَالثِّيَابِ، وَهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يَرْبَحُونَ فِي أَسْفَارِهِمْ، وَلِأَنَّ مُلُوكَ النَّوَاحِي كَانُوا يُعَظِّمُونَ أَهْلَ مَكَّةَ، وَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ جِيرَانُ بَيْتِ اللَّهِ وَسُكَّانُ حَرَمِهِ وَوُلَاةُ الْكَعْبَةِ حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ أَهْلَ مَكَّةَ أَهْلَ اللَّهِ، فَلَوْ تَمَّ لِلْحَبَشَةِ مَا عَزَمُوا عَلَيْهِ مِنْ هَدْمِ الْكَعْبَةِ، لَزَالَ عَنْهُمْ هَذَا الْعِزُّ وَلَبَطَلَتْ تِلْكَ الْمَزَايَا فِي التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ وَلَصَارَ سُكَّانُ مَكَّةَ كَسُكَّانِ سَائِرِ النَّوَاحِي يُتَخَطَّفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَيُتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلَمَّا أَهْلَكَ اللَّهُ أَصْحَابَ الْفِيلِ وَرَدَّ كَيْدَهُمْ فِي نَحْرِهِمُ ازْدَادَ وَقْعُ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الْقُلُوبِ، وَازْدَادَ تَعْظِيمُ مُلُوكِ الْأَطْرَافِ لَهُمْ فَازْدَادَتْ تِلْكَ الْمَنَافِعُ وَالْمَتَاجِرُ، فَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ... رِحْلَةَ «1» الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِيمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ/ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي [قريش: 3، 4] إِشَارَةٌ إِلَى أَوَّلِ سُورَةِ الْفِيلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي قَصَدَهُ أَصْحَابُ الْفِيلِ، ثُمَّ إِنَّ رَبَّ الْبَيْتِ دَفَعَهُمْ عَنْ مَقْصُودِهِمْ لِأَجْلِ إِيلَافِكُمْ وَنَفْعِكُمْ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ إِنَّمَا يَحْسُنُ مُرَتَّبًا عَلَى إِيصَالِ الْمَنْفَعَةِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِالسُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ اللَّامَ فِي: لِإِيلافِ متعلقة بقوله: لْيَعْبُدُوا وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَالتَّقْدِيرُ: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ أَيْ: لِيَجْعَلُوا عِبَادَتَهُمْ شُكْرًا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَاعْتِرَافًا بِهَا، فَإِنْ قِيلَ: فلم دخلت الفاء في قوله: لْيَعْبُدُوا ؟ قُلْنَا: لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ، وذلك لأن نعم الله عليهم

_ (1) في الأصل: (رحلتي الشتاء) ولعلها قراءة ولكن القراءة المشهورة رحلة بالإفراد لا بالتثنية، وهو مفرد مضاف فيعم الواحد والإثنين.

لَا تُحْصَى، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ لَمْ يَعْبُدُوهُ لسائر نعمه فليعبده لِهَذِهِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي هِيَ نِعْمَةٌ ظَاهِرَةٌ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّامُ غَيْرَ مُتَعَلِّقَةٍ، لَا بِمَا قَبْلَهَا وَلَا بِمَا بَعْدَهَا، قَالَ الزَّجَّاجُ: قَالَ قَوْمٌ: هَذِهِ اللَّامُ لَامُ التَّعَجُّبِ، كَأَنَّ الْمَعْنَى: اعْجَبُوا لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كُلَّ يَوْمٍ يَزْدَادُونَ غَيًّا وَجَهْلًا وَانْغِمَاسًا فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُؤَلِّفُ شَمْلَهُمْ وَيَدْفَعُ الْآفَاتِ عَنْهُمْ، وَيُنَظِّمُ أَسْبَابَ مَعَايِشِهِمْ، وَذَلِكَ لَا شَكَّ أَنَّهُ فِي غَايَةِ التَّعَجُّبِ مِنْ عَظِيمِ حِلْمِ اللَّهِ وَكَرَمِهِ، وَنَظِيرُهُ فِي اللُّغَةِ قَوْلُكَ لِزَيْدٍ وَمَا صَنَعْنَا بِهِ وَلِزَيْدٍ وَكَرَامَتِنَا إِيَّاهُ وَهَذَا اخْتِيَارُ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ وَالْفَرَّاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي الْإِيلَافِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِيلَافَ هُوَ الْإِلْفُ قَالَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ: أَلِفْتُ الشَّيْءَ وَأَلَفْتُهُ إِلْفًا وَإِلَافًا وَإِيلَافًا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ لَزِمْتُهُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى لِإِلْفِ قُرَيْشٍ هَاتَيْنِ الرِّحْلَتَيْنِ فَتَتَّصِلَا وَلَا تَنْقَطِعَا، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: (لِإِلْفِ قُرَيْشٍ) وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (لِإِلَافِ قُرَيْشٍ) ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ (لِيلَافِ قُرَيْشٍ) وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ قَوْلِكَ: لَزِمْتُ مَوْضِعَ كَذَا وَأَلْزَمَنِيهِ اللَّهُ، كَذَا تَقُولُ: أَلِفْتُ كَذَا، وَأَلَفَنِيهِ اللَّهُ وَيَكُونُ الْمَعْنَى إِثْبَاتَ الْأُلْفَةِ بِالتَّدْبِيرِ الَّذِي فِيهِ لُطْفٌ أَلِفَ بِنَفْسِهِ إِلْفًا وَآلَفَهُ غَيْرُهُ إِيلَافًا، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْإِلْفَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ فِي قُرَيْشٍ بِتَدْبِيرِ اللَّهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الْأَنْفَالِ: 63] وَقَالَ: فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً [آلِ عِمْرَانَ: 103] وَقَدْ تَكُونُ الْمَسَرَّةُ سَبَبًا لِلْمُؤَانَسَةِ وَالِاتِّفَاقِ، كَمَا وَقَعَتْ عِنْدَ انْهِزَامِ أصحاب الفيل لقريش، فيكون المصدر هاهنا مُضَافًا إِلَى الْمَفْعُولِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى لِأَجْلِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ قُرَيْشًا مُلَازِمِينَ لِرِحْلَتَيْهِمْ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْإِيلَافُ هُوَ التَّهْيِئَةُ وَالتَّجْهِيزُ وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَابْنِ الْأَعْرَابِيِّ فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ، وَالْمَعْنَى لِتَجْهِيزِ قُرَيْشٍ رِحْلَتَيْهَا حَتَّى تَتَّصِلَا وَلَا تَنْقَطِعَا، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ (لِيلَافِ) بِغَيْرِ هَمْزٍ فَحَذَفَ هَمْزَةَ الْإِفْعَالِ حذفا كليا وهو كمذهبه في يَسْتَهْزِؤُنَ [الأنعام: 5] وَقَدْ مَرَّ تَقْرِيرُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: التَّكْرِيرُ فِي قَوْلِهِ: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ هُوَ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْإِيلَافَ أَوَّلًا ثُمَّ جَعَلَ الْمُقَيَّدَ بَدَلًا لِذَلِكَ الْمُطْلَقِ تَفْخِيمًا لِأَمْرِ الْإِيلَافِ وَتَذْكِيرًا لِعَظِيمِ الْمِنَّةِ فِيهِ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ عَامًّا يَجْمَعُ كُلَّ مُؤَانَسَةٍ وَمُوَافَقَةٍ كَانَ بَيْنَهُمْ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مَقَامُهُمْ/ وَسِيَرُهُمْ وَجَمِيعُ أَحْوَالِهِمْ، ثُمَّ خَصَّ إِيلَافِ الرِّحْلَتَيْنِ بِالذِّكْرِ لِسَبَبِ أَنَّهُ قِوَامُ مَعَاشِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: 98] وَفَائِدَةُ تَرْكِ وَاوِ الْعَطْفِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ كُلُّ النِّعْمَةِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَلِفْتُ كَذَا أَيْ لَزِمْتُهُ، وَالْإِلْزَامُ ضَرْبَانِ إِلْزَامٌ بِالتَّكْلِيفِ وَالْأَمْرِ، وَإِلْزَامٌ بِالْمَوَدَّةِ وَالْمُؤَانَسَةِ فَإِنَّهُ إِذَا أَحَبَّ الْمَرْءُ شَيْئًا لزمه، ومنه: أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [الْفَتْحِ: 26] كَمَا أَنَّ الْإِلْجَاءَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا: لِدَفْعِ الضَّرَرِ كَالْهَرَبِ مِنَ السَّبُعِ وَالثَّانِي: لِطَلَبِ النَّفْعِ الْعَظِيمِ، كَمَنْ يَجِدُ مَالًا عَظِيمًا وَلَا مَانِعَ مِنْ أَخْذِهِ لَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وَلَا حِسًّا فَإِنَّهُ يَكُونُ كَالْمُلْجَأِ إِلَى الْأَخْذِ، وَكَذَا الدَّوَاعِي الَّتِي تَكُونُ دُونَ الْإِلْجَاءِ، مَرَّةً تَكُونُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَأُخْرَى لِجَلْبِ النَّفْعِ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ: إِيلافِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قُرَيْشًا وَلَدُ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّا بَنِي النضر بن كنانة لا نفقوا أُمَّنَا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا» وَذَكَرُوا فِي سَبَبِ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَصْغِيرُ الْقِرْشِ وَهُوَ دَابَّةٌ عَظِيمَةٌ فِي الْبَحْرِ تَعْبَثُ بِالسُّفُنِ، وَلَا تَنْطَلِقُ إِلَّا بِالنَّارِ وَعَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: بِمَ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ؟ قال: بدابة في البحر تأكل ولا تأكل، تَعْلُو وَلَا تُعْلَى، وَأَنْشَدَ: وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تسكن البحر ... بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا

وَالتَّصْغِيرُ لِلتَّعْظِيمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قُرَيْشًا مَوْصُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لِأَنَّهَا تَلِي أَمْرَ الْأُمَّةِ، فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقِرْشِ وَهُوَ الْكَسْبُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا كَاسِبِينَ بِتِجَارَاتِهِمْ وَضَرْبِهِمْ فِي الْبِلَادِ وَثَالِثُهَا: قَالَ اللَّيْثُ: كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، فَجَمَعَهُمْ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ في الحرم حتى اتخذوها مسكنا، فسموا قُرَيْشًا لِأَنَّ التَّقَرُّشَ هُوَ التَّجَمُّعُ، يُقَالُ: تَقَرَّشَ الْقَوْمُ إِذَا اجْتَمَعُوا، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ قُصَيٌّ مُجَمِّعًا، قَالَ الشَّاعِرُ: أَبُوكُمْ قُصَيٌّ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا ... بِهِ جَمَّعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسُدُّونَ خَلَّةَ مَحَاوِيجِ الْحَاجِّ، فَسُمُّوا بِذَلِكَ قُرَيْشًا، لِأَنَّ الْقِرْشَ التَّفْتِيشُ قَالَ ابْنُ حُرَّةَ: أَيُّهَا الشَّامِتُ الْمُقَرِّشُ عَنَّا ... عِنْدَ عَمْرٍو وَهَلْ لِذَاكَ بَقَاءُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ اللَّيْثُ: الرِّحْلَةُ اسْمُ الِارْتِحَالِ مِنَ الْقَوْمِ لِلْمَسِيرِ، وَفِي الْمُرَادِ مِنْ هَذِهِ الرِّحْلَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَتْ لِقُرَيْشٍ رِحْلَتَانِ رِحْلَةٌ بِالشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ لِأَنَّ الْيَمَنَ أَدْفَأُ وَبِالصَّيْفِ إِلَى الشَّأْمِ، وَذَكَرَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ هُوَ أَنَّ قُرَيْشًا إِذَا أَصَابَ وَاحِدًا مِنْهُمْ مَخْمَصَةٌ خَرَجَ هُوَ وعياله إلى موضع وضربوا على أنفس خِبَاءً حَتَّى يَمُوتُوا، / إِلَى أَنْ جَاءَ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ، وَكَانَ لَهُ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ: أَسَدٌ، وَكَانَ لَهُ تِرْبٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ يُحِبُّهُ وَيَلْعَبُ مَعَهُ فَشَكَا إِلَيْهِ الضَّرَرَ وَالْمَجَاعَةَ فَدَخَلَ أَسَدٌ عَلَى أُمِّهِ يَبْكِي فَأَرْسَلَتْ إِلَى أُولَئِكَ بِدَقِيقٍ وَشَحْمٍ فَعَاشُوا فِيهِ أَيَّامًا، ثُمَّ أَتَى تِرْبُ أَسَدٍ إِلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى وَشَكَا إِلَيْهِ مِنَ الْجُوعِ فَقَامَ هَاشِمٌ خَطِيبًا فِي قُرَيْشٍ فَقَالَ: إِنَّكُمْ أَجْدَبْتُمْ جَدْبًا تُقِلُّونَ فِيهِ وَتَذِلُّونَ، وَأَنْتُمْ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ وَأَشْرَافُ وَلَدِ آدَمَ وَالنَّاسُ لَكُمْ تَبَعٌ قَالُوا: نَحْنُ تَبَعٌ لَكَ فَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنَّا خِلَافٌ فَجَمَعَ كُلَّ بَنِي أَبٍ عَلَى الرِّحْلَتَيْنِ فِي الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ وَفِي الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ لِلتِّجَارَاتِ، فَمَا رَبِحَ الْغَنِيُّ قَسَمَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَقِيرِ حَتَّى كَانَ فَقِيرُهُمْ كَغَنِيِّهِمْ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَرَبِ بَنُو أَبٍ أَكْثَرَ مَالًا وَلَا أَعَزَّ مِنْ قُرَيْشٍ، قَالَ الشَّاعِرُ فِيهِمْ: الْخَالِطِينَ فَقِيرَهُمْ بِغَنِيِّهِمْ ... حَتَّى يَكُونَ فَقِيرُهُمْ كَالْكَافِي وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ النِّعْمَةِ وَالْمِنَّةِ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ تَمَّ لِأَصْحَابِ الْفِيلِ مَا أَرَادُوا، لَتَرَكَ أَهْلُ الْأَقْطَارِ تَعْظِيمَهُمْ وَأَيْضًا لَتَفَرَّقُوا وَصَارَ حَالُهُمْ كَحَالِ اليهود المذكور فِي قَوْلِهِ: وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً [الْأَعْرَافِ: 168] وَاجْتِمَاعُ الْقَبِيلَةِ الْوَاحِدَةِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ أَدْخَلُ فِي النِّعْمَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الِاجْتِمَاعُ مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى، وَنَبَّهَ تَعَالَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ السَّفَرِ الْمُؤَانَسَةَ وَالْأُلْفَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [الحج: 197] وَالسَّفَرُ أَحْوَجُ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنَ الْإِقَامَةِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ رِحْلَةُ النَّاسِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَرِحْلَةُ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ عُمْرَةُ رَجَبٍ وَحَجُّ ذِي الْحِجَّةِ لِأَنَّهُ كَانَ أَحَدُهُمَا شِتَاءً وَالْآخَرُ صَيْفًا وَمَوْسِمُ مَنَافِعِ مَكَّةَ يَكُونُ بِهِمَا، وَلَوْ كَانَ يَتِمُّ لِأَصْحَابِ الْفِيلِ مَا أَرَادُوا لَتَعَطَّلَتْ هَذِهِ الْمَنْفَعَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَصْبُ الرِّحْلَةِ بلإيلافهم مَفْعُولًا، بِهِ، وَأَرَادَ رِحْلَتَيِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَأَفْرَدَ لِأَمْنِ الْإِلْبَاسِ كَقَوْلِهِ: كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ رِحْلَةُ الشِّتَاءِ وَرِحْلَةُ الصَّيْفِ، وَقُرِئَ (رحلة) بضم الراء وهي

[سورة قريش (106) : آية 3]

[سورة قريش (106) : آية 3] فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) اعْلَمْ أَنَّ الْإِنْعَامَ عَلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا: دَفْعُ الضَّرَرِ وَالثَّانِي: جَلْبُ النَّفْعِ وَالْأَوَّلُ أَهَمُّ وَأَقْدَمُ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ وَاجِبٌ أَمَّا جَلْبُ النَّفْعِ [فَإِنَّهُ] غَيْرُ وَاجِبٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ بَيَّنَ تَعَالَى نِعْمَةَ دَفْعِ الضَّرَرِ فِي سُورَةِ الْفِيلِ وَنِعْمَةَ جَلْبِ النَّفْعِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَلَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الْإِنْعَامَ لَا بُدَّ وَأَنْ يُقَابَلَ بِالشُّكْرِ وَالْعُبُودِيَّةِ، لَا جَرَمَ أَتْبَعَ ذِكْرَ النِّعْمَةِ بِطَلَبِ العبودية فقال: لْيَعْبُدُوا وهاهنا مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ لِلْمَعْبُودِ عَلَى غَايَةِ مَا يَكُونُ ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ فَلْيُوَحِّدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَفِظَ الْبَيْتَ دُونَ الْأَوْثَانِ، وَلِأَنَّ التَّوْحِيدَ مِفْتَاحُ الْعِبَادَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ الْعِبَادَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ/ ثُمَّ ذَكَرَ كُلَّ قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِ الْعِبَادَاتِ، وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْكُلِّ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُتَنَاوِلٌ لِلْكُلِّ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ الدَّلِيلُ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ معنى لْيَعْبُدُوا أَيْ فَلْيَتْرُكُوا رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَلْيَشْتَغِلُوا بِعِبَادَةِ رَبِّ هَذَا الْبَيْتِ فَإِنَّهُ يُطْعِمُهُمْ مِنْ جُوعٍ وَيُؤَمِّنُهُمْ مِنْ خَوْفٍ، وَلَعَلَّ تَخْصِيصَ لَفْظِ الرَّبِّ تَقْرِيرٌ لِمَا قَالُوهُ لِأَبْرَهَةَ: إِنَّ لِلْبَيْتِ رَبًّا سَيَحْفَظُهُ، وَلَمْ يُعَوِّلُوا فِي ذَلِكَ عَلَى الْأَصْنَامِ فَلَزِمَهُمْ لِإِقْرَارِهِمْ أَنْ لَا يَعْبُدُوا سِوَاهُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَمَّا عَوَّلْتُمْ فِي الْحِفْظِ عَلَيَّ فَاصْرِفُوا الْعِبَادَةَ وَالْخِدْمَةَ إِلَيَّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْبَيْتِ فِي هَذَا النَّظْمِ تُفِيدُ التَّعْظِيمَ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ تَارَةً أَضَافَ الْعَبْدَ إِلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ: يا عِبادِيَ [العنكبوت: 56] وَتَارَةً يُضِيفُ نَفْسَهُ إِلَى الْعَبْدِ فَيَقُولُ: وَإِلهُكُمْ [البقرة: 163] كَذَا فِي الْبَيْتِ [تَارَةً] يُضِيفُ نَفْسَهُ إِلَى البيت وهو قوله: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ وَتَارَةً يُضِيفُ الْبَيْتَ إِلَى نفسه فيقول: طَهِّرا بَيْتِيَ [البقرة: 125] . [سورة قريش (106) : آية 4] الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وفي هذه الْإِطْعَامِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا آمَنَهُمْ بِالْحَرَمِ حَتَّى لَا يَتَعَرَّضَ لَهُمْ فِي رِحْلَتَيْهِمْ كان ذلك سبب إطعامهم بعد ما كَانُوا فِيهِ مِنَ الْجُوعِ ثَانِيهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: شَقَّ عَلَيْهِمُ الذَّهَابُ إِلَى الْيَمَنِ وَالشَّامِ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ، فَقَذَفَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِ الْحَبَشَةِ أَنْ يَحْمِلُوا الطَّعَامَ فِي السُّفُنِ إِلَى مَكَّةَ فَحَمَلُوهُ، وَجَعَلَ أَهْلُ مَكَّةَ يَخْرُجُونَ إِلَيْهِمْ بِالْإِبِلِ وَالْخَمْرِ، وَيَشْتَرُونَ طَعَامَهُمْ مِنْ جُدَّةَ عَلَى مَسِيرَةِ لَيْلَتَيْنِ وَتَتَابَعَ ذَلِكَ، فَكَفَاهُمُ اللَّهُ مَؤُونَةَ الرِّحْلَتَيْنِ ثَالِثُهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ مَعْنَاهَا أَنَّهُمْ لَمَّا كَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» فَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْقَحْطُ وَأَصَابَهُمُ الْجَهْدُ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ ادْعُ اللَّهَ فَإِنَّا مُؤْمِنُونَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْصَبَتِ الْبِلَادُ وَأَخْصَبَ أَهْلُ مَكَّةَ بَعْدَ الْقَحْطِ، فَذَاكَ قَوْلُهُ: أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ ثُمَّ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْعِبَادَةُ إِنَّمَا وَجَبَتْ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى أُصُولَ النعم، والإطعام ليس من أصول النعم، فلما عَلَّلَ وُجُوبَ الْعِبَادَةِ بِالْإِطْعَامِ؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ إِنْعَامَهُ عَلَيْهِمْ بِحَبْسِ الْفِيلِ وَإِرْسَالِ الطَّيْرِ وَإِهْلَاكِ الْحَبَشَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَ ذَلِكَ لِإِيلَافِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ، فَكَأَنَّ السَّائِلَ يَقُولُ: لَكِنْ نَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَى كَسْبِ الطَّعَامِ وَالذَّبِّ عَنِ النَّفْسِ، فَلَوِ اشتغلنا بالعبادة فمن ذا الذي أيطعمنا، فقال: الذي

أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ قَبْلَ أَنْ يَعْبُدُوهُ، أَلَا يُطْعِمُهُمْ إِذَا عَبَدُوهُ! وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَعْطَى الْعَبْدَ أُصُولَ النِّعَمِ أَسَاءَ الْعَبْدُ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يُطْعِمُهُمْ مَعَ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ مِنْ أُصُولِ النِّعَمِ أَلَا تَسْتَحِي مِنْ إِحْسَانِي إِلَيْكَ بَعْدَ إِسَاءَتِكَ وَثَالِثُهَا: إِنَّمَا ذَكَرَ الْإِنْعَامَ لِأَنَّ الْبَهِيمَةَ تُطِيعُ مَنْ يَعْلِفُهَا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَسْتُ دُونَ الْبَهِيمَةِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَلَيْسَ أَنَّهُ جَعَلَ الدُّنْيَا مِلْكًا لَنَا بِقَوْلِهِ: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَةِ: 29] فَكَيْفَ تَحْسُنُ الْمِنَّةُ عَلَيْنَا بِأَنْ أَعْطَانَا مِلْكَنَا؟ الْجَوَابُ: انْظُرْ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا قَبْلَ الْأَكْلِ حَتَّى يَتِمَّ الطَّعَامُ وَيَتَهَيَّأَ، وَفِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا بَعْدَ الْأَكْلِ حَتَّى يَتِمَّ الِانْتِفَاعُ بِالطَّعَامِ الْمَأْكُولِ، فَإِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ حَتَّى يَتِمَّ ذَلِكَ الطَّعَامُ، وَلَا بُدَّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْضَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ أَشْكَالِهَا وَصُوَرِهَا حَتَّى يَتِمَّ الِانْتِفَاعُ بِالطَّعَامِ، وَحِينَئِذٍ تَعْلَمُ أَنَّ الْإِطْعَامَ يُنَاسِبُ الْأَمْرَ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: الْمِنَّةُ بِالْإِطْعَامِ لَا تَلِيقُ بِمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْكَرَمِ، فَكَيْفَ بِأَكْرَمِ الْأَكْرَمِينَ؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ الْغَرَضُ مِنْهُ الْمِنَّةَ، بَلِ الْإِرْشَادَ إِلَى الْأَصْلَحِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْأَكْلِ تَقْوِيَةَ الشَّهْوَةِ الْمَانِعَةِ عَنِ الطَّاعَةِ، بَلْ تَقْوِيَةَ الْبِنْيَةِ عَلَى أَدَاءِ الطَّاعَاتِ، فَكَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ ذَلِكَ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ جُوعٍ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ فَوَائِدُ أَحَدُهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الْجُوعِ شَدِيدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [الشُّورَى: 28] وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ» الْحَدِيثَ وَثَانِيهَا: تَذْكِيرُهُمُ الْحَالَةَ الْأُولَى الرَّدِيئَةَ الْمُؤْلِمَةَ وَهِيَ الْجُوعُ حَتَّى يَعْرِفُوا قَدْرَ النِّعْمَةِ الْحَاضِرَةِ وَثَالِثُهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ خَيْرَ الطَّعَامِ مَا سَدَّ الْجَوْعَةَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: وَأَشْبَعَهُمْ لِأَنَّ الطَّعَامَ يُزِيلُ الْجُوعَ، أَمَّا الْإِشْبَاعُ فَإِنَّهُ يُورِثُ البطنة. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ فَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَافِرُونَ آمِنِينَ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ أَحَدٌ، وَلَا يُغِيرُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ لَا فِي سَفَرِهِمْ وَلَا فِي حَضَرِهِمْ، وَكَانَ غَيْرُهُمْ لَا يَأْمَنُونَ مِنَ الْغَارَةِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً [الْعَنْكَبُوتِ: 67] ثَانِيهَا: أَنَّهُ آمَنَهُمْ مِنْ زَحْمَةِ أَصْحَابِ الْفِيلِ وَثَالِثُهَا: قَالَ الضحاك والربيع: وآمنهم من خوف الجزام، فَلَا يُصِيبُهُمْ بِبَلْدَتِهِمْ الْجُذَامُ، وَرَابِعُهَا: آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفِ أَنْ تَكُونَ الْخِلَافَةُ فِي غَيْرِهِمْ «1» وَخَامِسُهَا: آمَنَهُمْ بِالْإِسْلَامِ، فَقَدْ كَانُوا فِي الْكُفْرِ يَتَفَكَّرُونَ، فَيَعْلَمُونَ أَنَّ الدِّينَ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الدِّينَ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ وَسَادِسُهَا: أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعِ الْجَهْلِ بِطَعَامِ الْوَحْيِ، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفِ الضَّلَالِ بِبَيَانِ الْهُدَى، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ كُنْتُمْ قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ تُسَمَّوْنَ جُهَّالَ الْعَرَبِ وَأَجْلَافَهُمْ، وَمَنْ كَانَ يُنَازِعُكُمْ كَانُوا يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الْكِتَابِ، ثُمَّ أَنْزَلْتُ الْوَحْيَ عَلَى نَبِيِّكُمْ، وَعَلَّمْتُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ حتى صرتم الآن تسمون/ أهل العلم

_ (1) أقول والأسف يملأ الفؤاد ويقض الجوانح ويمزق الأكباد: إن هذا الوجه الرابع لا محل لذكره الآن، فقد أصبحت الخلافة الإسلامية أثرا بعد عين، وانقرض ظلها وزوى، فلم يعد للمسلمين خليفة من قريش ولا من غيرهم، والأمل معقود في الجامعة العربية أن توفق إلى رد هذا الحق المسلوب، وإعادة هذا السلطان الضائع الذي قضى عليه الاستعمار والمستعمرون، ليشيع التفكك والاضطراب، وتعم الفوضى بين المسلمين والعياذ بالله (عبد الله الصاوي) .

وَالْقُرْآنِ، وَأُولَئِكَ يُسَمَّوْنَ جُهَّالَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، ثُمَّ إِطْعَامُ الطَّعَامِ الَّذِي يَكُونُ غِذَاءَ الْجَسَدِ يُوجِبُ الشُّكْرَ، فَإِطْعَامُ الطَّعَامِ الَّذِي هُوَ غِذَاءُ الرُّوحِ، أَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلشُّكْرِ! وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: عَنْ جُوعٍ وَعَنْ خَوْفٍ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ مَعْنَى عَنْ أَنَّهُ جَعَلَ الْجُوعَ بَعِيدًا عَنْهُمْ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّبْعِيدُ مَسْبُوقًا بِمُقَاسَاةِ الْجُوعِ زَمَانًا، ثُمَّ يَصْرِفُهُ عَنْهُ، وَ (مِنْ) لَا تَقْتَضِي ذلك، بل معناه أنهم عند ما يَجُوعُونَ يُطْعَمُونَ، وَحِينَ مَا يَخَافُونَ يُؤَمَّنُونَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ: مِنْ جُوعٍ مِنْ خَوْفٍ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ؟ الْجَوَابُ: الْمُرَادُ مِنَ التَّنْكِيرِ التَّعْظِيمُ. أَمَّا الْجُوعُ فَلِمَا رَوَيْنَا: أَنَّهُ أَصَابَتْهُمْ شِدَّةٌ حَتَّى أَكَلُوا الْجِيَفَ وَالْعِظَامَ الْمُحْرَقَةَ وَأَمَّا الْخَوْفُ، فَهُوَ الْخَوْفُ الشَّدِيدُ الْحَاصِلُ مِنْ أَصْحَابِ الْفِيلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ التَّنْكِيرِ التَّحْقِيرَ، يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا لَمْ يُجَوِّزْ لِغَايَةِ كَرَمِهِ إِبْقَاءَهُمْ فِي ذَلِكَ الْجُوعِ الْقَلِيلِ وَالْخَوْفِ الْقَلِيلِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ فِي كَرَمِهِ لَوْ عَبَدُوهُ أَنْ يُهْمِلَ أَمْرَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ دُونَ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ دُونَ خَوْفٍ، لِيَكُونَ الْجُوعُ الثَّانِي وَالْخَوْفُ الثَّانِي مُذَكِّرًا مَا كَانُوا فِيهِ أَوَّلًا مِنْ أَنْوَاعِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، حَتَّى يَكُونُوا شَاكِرِينَ مِنْ وَجْهٍ، وَصَابِرِينَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَيَسْتَحِقُّوا ثَوَابَ الْخَصْلَتَيْنِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَطْعَمَهُمْ وَآمَنَهُمْ إِجَابَةً لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَّا فِي الْإِطْعَامِ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَارْزُقْ أَهْلَهُ [الْبَقَرَةِ: 126] وَأَمَّا الْأَمَانُ فَهُوَ قَوْلُهُ: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً [إِبْرَاهِيمَ: 35] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ مِنَّةً عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَيْفَ جَعَلَهُ مِنَّةً عَلَى أُولَئِكَ الْحَاضِرِينَ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قال إبراهيم: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: 124] فَنَادَى إِبْرَاهِيمُ بِهَذَا الْأَدَبِ، فَحِينَ قَالَ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ قيده بقوله: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ فقال الله: لا حاجة إلى هذا التقيد، بَلْ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَمَّا نِعْمَةُ الْأَمَانِ فَهِيَ دِينِيَّةٌ فَلَا تَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ كَانَ تَقِيًّا، وَأَمَّا نِعْمَةُ الدُّنْيَا فَهِيَ تَصِلُ إِلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَالصَّالِحِ وَالطَّالِحِ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ إِطْعَامُ الْكَافِرِ مِنَ الْجُوعِ، وَأَمَانُهُ مِنَ الْخَوْفِ إِنْعَامًا مِنَ اللَّهِ ابْتِدَاءً عَلَيْهِ لَا بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَزَالَ السُّؤَالُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة الماعون

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الماعون سبع آيات مكية [سورة الماعون (107) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ بَعْضُهُمْ (أَرَيْتَ) بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا لَيْسَ بِالِاخْتِيَارِ، لِأَنَّ الْهَمْزَةَ إِنَّمَا طُرِحَتْ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ نَحْوَ يَرَى وَأَرَى وَتَرَى، فَأَمَّا رَأَيْتُ فَلَيْسَ يَصِحُّ عَنِ الْعَرَبِ فِيهَا رَيْتُ، وَلَكِنَّ حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ لَمَّا كَانَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ سَهَّلَ إِلْغَاءَ الْهَمْزَةِ وَنَظِيرُهُ: صَاحَ هَلْ رَيْتَ أَوْ سَمِعْتَ بِرَاعٍ ... رَدَّ فِي الضَّرْعِ مَا قَرَى فِي الْعِلَابِ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ (أَرَأَيْتَكَ) بِزِيَادَةِ حَرْفِ الْخِطَابِ كَقَوْلِهِ: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الْإِسْرَاءِ: 62] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ مَعْنَاهُ هَلْ عَرَفْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالْجَزَاءِ مَنْ هُوَ، فَإِنْ لَمْ تَعْرِفْهُ فَهُوَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ، لَكِنَّ الْغَرَضَ بِمِثْلِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَجُّبِ كَقَوْلِكَ: أَرَأَيْتَ فُلَانًا مَاذَا ارْتَكَبَ وَلِمَاذَا عَرَّضَ نَفْسَهُ؟ ثُمَّ قِيلَ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: بَلْ خِطَابٌ لِكُلِّ عَاقِلٍ أَيْ أَرَأَيْتَ يَا عَاقِلُ هَذَا الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ بَعْدَ ظُهُورِ دَلَائِلِهِ وَوُضُوحِ تبيانه أيفعل ذلك لا لغرض، فيكف يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ جَرُّ الْعُقُوبَةِ الْأَبَدِيَّةِ إِلَى نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ غَرَضٍ أَوْ لِأَجْلِ الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَبِيعَ الْكَثِيرَ الْبَاقِيَ بِالْقَلِيلِ الْفَانِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا أَشْخَاصًا، فَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ كَانَ يَنْحَرُ جَزُورَيْنِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ، فَأَتَاهُ يَتِيمٌ فَسَأَلَهُ لَحْمًا فَقَرَعَهُ بِعَصَاهُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَكَانَ مِنْ صِفَتِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّكْذِيبِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْإِتْيَانِ بِالْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ وَصِيًّا لِيَتِيمٍ، فَجَاءَهُ وَهُوَ عُرْيَانٌ يَسْأَلُهُ شَيْئًا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَدَفَعَهُ وَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ فَأَيِسَ الصَّبِيُّ، فَقَالَ لَهُ أَكَابِرُ قُرَيْشٍ: قُلْ لِمُحَمَّدٍ يَشْفَعْ لَكَ، وَكَانَ/ غَرَضُهُمُ الِاسْتِهْزَاءَ وَلَمْ يَعْرِفِ الْيَتِيمُ ذَلِكَ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْتَمَسَ

[سورة الماعون (107) : الآيات 2 إلى 3]

مِنْهُ ذَلِكَ، وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا كَانَ يَرُدُّ مُحْتَاجًا فَذَهَبَ مَعَهُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ فَرَحَّبَ بِهِ وَبَذَلَ الْمَالَ لِلْيَتِيمِ فَعَيَّرَهُ قُرَيْشٌ فَقَالُوا: صَبَوْتَ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا صَبَوْتُ، لَكِنْ رَأَيْتُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ حَرْبَةً خِفْتُ إِنْ لَمْ أُجِبْهُ يَطْعَنْهَا فِيَّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُنَافِقٍ جَمَعَ بَيْنَ الْبُخْلِ وَالْمُرَاءَاةِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ كَانَ مُكَذِّبًا بِيَوْمِ الدِّينِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِقْدَامَ الْإِنْسَانِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَإِحْجَامَهُ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ إِنَّمَا يَكُونُ لِلرَّغْبَةِ فِي الثَّوَابِ وَالرَّهْبَةِ عَنِ الْعِقَابِ، فَإِذَا كَانَ مُنْكِرًا لِلْقِيَامَةِ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِنَ الْمُشْتَهَيَاتِ وَاللَّذَّاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ إِنْكَارَ الْقِيَامَةِ كَالْأَصْلِ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَفْسِيرِ الدِّينِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ يُكَذِّبُ بِنَفْسِ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ إِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ مُنْكِرًا لِلصَّانِعِ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ مُنْكِرًا لِلنُّبُوَّةِ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ مُنْكِرًا لِلْمَعَادِ أَوْ لِشَيْءٍ مِنَ الشَّرَائِعِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِكُلِّ أَحَدٍ دِينٌ وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الدِّينَ الْمُطْلَقَ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ هُوَ الْإِسْلَامُ قَالَ: اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آلِ عِمْرَانَ: 19] أَمَّا سَائِرُ الْمَذَاهِبِ فَلَا تُسَمَّى دِينًا إِلَّا بِضَرْبٍ مِنَ التَّقْيِيدِ كَدِينِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَثَانِيهَا: أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْمَقَالَاتُ الْبَاطِلَةُ لَيْسَتْ بِدِينٍ، لِأَنَّ الدِّينَ هُوَ الْخُضُوعُ لِلَّهِ وَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ إِنَّمَا هِيَ خُضُوعٌ لِلشَّهْوَةِ أَوْ لِلشُّبْهَةِ وَثَالِثُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، قَالُوا: وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى لِأَنَّ مَنْ يُنْكِرُ الْإِسْلَامَ قَدْ يَأْتِي بِالْأَفْعَالِ الْحَمِيدَةِ وَيَحْتَرِزُ عَنْ مَقَابِحِهَا إِذَا كَانَ مُقِرًّا بِالْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ، أَمَّا الْمُقْدِمُ عَلَى كُلِّ قَبِيحٍ مِنْ غَيْرِ مُبَالَاةٍ فَلَيْسَ هُوَ إِلَّا المنكر للبعث والقيامة. ثم قال تعالى: [سورة الماعون (107) : الآيات 2 الى 3] فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) [قوله تعالى فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي تَعْرِيفِ مَنْ يكذب الدين وَصْفَيْنِ أَحَدُهُمَا: مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَالثَّانِي: مِنْ بَابِ التُّرُوكِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَذلِكَ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ لَمَّا كَانَ كَافِرًا مُكَذِّبًا كَانَ كُفْرُهُ سَبَبًا لِدَعِّ الْيَتِيمِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِمَا عَلَى مَعْنَى أَنَّ الصَّادِرَ عَمَّنْ يُكَذِّبُ بِالدِّينِ لَيْسَ إِلَّا ذَلِكَ، لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْمُكَذِّبَ بِالدِّينِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى هَذَيْنِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ مِثَالًا وَاحِدًا تَنْبِيهًا بِذِكْرِهِ عَلَى سَائِرِ الْقَبَائِحِ، أَوْ لِأَجْلِ أَنَّ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ، كَمَا أَنَّهُمَا قَبِيحَانِ مُنْكَرَانِ بِحَسَبِ الشَّرْعِ فَهُمَا أَيْضًا مُسْتَنْكَرَانِ بِحَسَبِ الْمُرُوءَةِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ، أَمَّا قَوْلُهُ: يَدُعُّ الْيَتِيمَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَدْفَعُهُ بِعُنْفٍ وَجَفْوَةٍ كَقَوْلِهِ: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطُّورِ: 13] وَحَاصِلُ الْأَمْرِ فِي دَعِّ الْيَتِيمِ أُمُورٌ أَحَدُهَا: دَفْعُهُ/ عَنْ حَقِّهِ وَمَالِهِ بِالظُّلْمِ وَالثَّانِي: تَرْكُ الْمُوَاسَاةِ مَعَهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْمُوَاسَاةُ وَاجِبَةً. وَقَدْ يُذَمُّ الْمَرْءُ بِتَرْكِ النَّوَافِلِ لَا سِيَّمَا إِذَا أُسْنِدَ إِلَى النِّفَاقِ وَعَدَمِ الدِّينِ وَالثَّالِثُ: يَزْجُرُهُ وَيَضْرِبُهُ وَيَسْتَخِفُّ بِهِ، وَقُرِئَ (يَدَعُ) أَيْ يَتْرُكُهُ، وَلَا يَدْعُوهُ بِدَعْوَةٍ، أَيْ يَدْعُوا جَمِيعَ الْأَجَانِبِ وَيَتْرُكُ الْيَتِيمَ مَعَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَا مِنْ مَائِدَةٍ أَعْظَمُ مِنْ مَائِدَةٍ عَلَيْهَا يَتِيمٌ» وَقُرِئَ (يَدْعُو الْيَتِيمَ) أَيْ يَدْعُوهُ رِيَاءً ثُمَّ لَا يُطْعِمُهُ وَإِنَّمَا يَدْعُوهُ اسْتِخْدَامًا أَوْ قَهْرًا أَوِ اسْتِطَالَةً. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: يَدُعُّ بِالتَّشْدِيدِ فَائِدَةً، وَهِيَ أَنَّ يَدُعُّ بِالتَّشْدِيدِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَعْتَادُ ذَلِكَ فَلَا يتناول الوعيد

[سورة الماعون (107) : الآيات 4 إلى 5]

مَنْ وُجِدَ مِنْهُ ذَلِكَ وَنَدِمَ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النَّجْمِ: 32] سُمِّيَ ذَنْبُ الْمُؤْمِنِ لَمَمًا لِأَنَّهُ كَالطَّيْفِ وَالْخَيَالِ يَطْرَأُ وَلَا يَبْقَى، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ كَمَا يَفْرُغُ مِنَ الذَّنْبِ يَنْدَمُ، إِنَّمَا الْمُكَذِّبُ هُوَ الَّذِي يُصِرُّ عَلَى الذَّنْبِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَحُضُّ نَفْسَهُ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَإِضَافَةُ الطَّعَامِ إِلَى الْمِسْكِينِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الطَّعَامَ حَقُّ الْمِسْكِينِ، فَكَأَنَّهُ مَنَعَ الْمِسْكِينَ مِمَّا هُوَ حَقُّهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ بُخْلِهِ وَقَسَاوَةِ قَلْبِهِ وَخَسَاسَةِ طَبْعِهِ وَالثَّانِي: لَا يَحُضُّ غَيْرَهُ عَلَى إِطْعَامِ ذَلِكَ الْمِسْكِينِ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ ثَوَابًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ عِلْمَ التَّكْذِيبِ بِالْقِيَامَةِ الْإِقْدَامَ عَلَى إِيذَاءِ الضَّعِيفِ وَمَنْعَ الْمَعْرُوفِ، يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ آمَنَ بِالْجَزَاءِ وَأَيْقَنَ بِالْوَعِيدِ لَمَا صَدَرَ عَنْهُ ذَلِكَ، فَمَوْضِعُ الذَّنْبِ هو التكذيب بالقيامة، وهاهنا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَلَيْسَ قَدْ لَا يَحُضُّ الْمَرْءُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلَا يَكُونُ آثِمًا؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ غَيْرَهُ يَنُوبُ مَنَابَهُ أَوْ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَوْ لِمَفْسَدَةٍ أُخْرَى يتوقعها، أما هاهنا فَذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ [إِلَّا] لِمَا أَنَّهُ مُكَذِّبٌ بِالدِّينِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ لَمْ يَقُلْ: وَلَا يُطْعِمُ الْمِسْكِينَ؟ وَالْجَوَابُ: إِذَا مَنَعَ الْيَتِيمَ حَقَّهُ فَكَيْفَ يُطْعِمُ الْمِسْكِينَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، بَلْ هُوَ بَخِيلٌ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي الْخِسَّةِ، فَلِأَنْ يَكُونَ بَخِيلًا بِمَالِ نَفْسِهِ أَوْلَى، وَضِدُّهُ فِي مَدْحِ المؤمنين: وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [البلد: 17] وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 3] . ثم قال تعالى: [سورة الماعون (107) : الآيات 4 الى 5] فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إِيذَاءَ الْيَتِيمِ وَالْمَنْعَ مِنَ الْإِطْعَامِ دَلِيلًا عَلَى النِّفَاقِ فَالصَّلَاةُ لَا مَعَ الْخُضُوعِ وَالْخُضُوعُ أَوْلَى أَنْ تَدُلَّ عَلَى النِّفَاقِ، لِأَنَّ الْإِيذَاءَ وَالْمَنْعَ مِنَ النَّفْعِ مُعَامَلَةٌ مَعَ الْمَخْلُوقِ، أَمَّا الصَّلَاةُ فَإِنَّهَا خِدْمَةٌ لِلْخَالِقِ، وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ إِيذَاءَ الْيَتِيمِ وَتَرْكَهُ لِلْحَضِّ كَأَنَّ سَائِلًا قَالَ: أَلَيْسَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ؟ فَقَالَ لَهُ: الصَّلَاةُ كَيْفَ تَنْهَاهُ عَنْ هَذَا الْفِعْلِ الْمُنْكَرِ وَهِيَ مَصْنُوعَةٌ مِنْ عَيْنِ الرِّيَاءِ/ وَالسَّهْوِ وَثَالِثُهَا: كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِقْدَامُهُ عَلَى إِيذَاءِ الْيَتِيمِ وَتَرْكُهُ لِلْحَضِّ، تَقْصِيرٌ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَسَهْوُهُ فِي الصَّلَاةِ تَقْصِيرٌ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَلَمَّا وَقَعَ التَّقْصِيرُ فِي الْأَمْرَيْنِ فَقَدْ كَمُلَتْ شَقَاوَتُهُ، فَلِهَذَا قَالَ: فَوَيْلٌ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْجَرِيمَةِ الشَّدِيدَةِ كَقَوْلِهِ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [الْمُطَفِّفِينَ: 1] فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ [الْبَقَرَةِ: 79] وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الْهُمَزَةِ: 1] وَيُرْوَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَنُوحُ فِي النَّارِ بِحَسَبِ جَرِيمَتِهِ، فَقَائِلٌ يَقُولُ: وَيْلِي مِنْ حُبِّ الشَّرَفِ، وَآخَرُ يَقُولُ: وَيْلِي مِنَ الْحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَآخَرُ يَقُولُ: وَيْلِي مِنْ صَلَاتِي، فلهذا يستحب عند سماع مثل الْآيَةِ أَنْ يَقُولَ الْمَرْءُ: وَيْلِي إِنْ لَمْ يُغْفَرْ لِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى حُصُولِ التَّهْدِيدِ الْعَظِيمِ بِفِعْلِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ أَحَدُهَا: السَّهْوُ عَنِ الصَّلَاةِ وَثَانِيهَا:

[سورة الماعون (107) : آية 6]

فِعْلُ الْمُرَاءَاةِ وَثَالِثُهَا: مَنْعُ الْمَاعُونِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الذُّنُوبِ، وَلَا يَصِيرُ الْمَرْءُ بِهِ مُنَافِقًا فَلِمَ حَكَمَ اللَّهُ بِمِثْلِ هَذَا الْوَعِيدِ عَلَى فَاعِلِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ؟ وَلِأَجْلِ هَذَا الْإِشْكَالِ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ أَيْ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَهُ مَزِيدُ عُقُوبَةٍ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِ عَلَى مَحْظُورَاتِ الشَّرْعِ وَتَرْكِهِ لِوَاجِبَاتِ الشَّرْعِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ، وَهَذَا الْجَوَابُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَثَانِيهَا: مَا رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَوْ قَالَ اللَّهُ: فِي صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، لَكَانَ هَذَا الْوَعِيدُ فِي الْمُؤْمِنِينَ لَكِنَّهُ قَالَ: عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ وَالسَّاهِي عَنِ الصَّلَاةِ هُوَ الَّذِي لَا يَتَذَكَّرُهَا وَيَكُونُ فَارِغًا عَنْهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ السَّهْوَ عَنِ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُفَسَّرًا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ بِقَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ وَأَيْضًا فَالسَّهْوُ عَنِ الصَّلَاةِ بِمَعْنَى التَّرْكِ لَا يَكُونُ نِفَاقًا وَلَا كُفْرًا فَيَعُودُ الْإِشْكَالُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنِ الِاعْتِرَاضِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِكَوْنِهِمْ مُصَلِّينَ نَظَرًا إِلَى الصُّورَةِ وَبِأَنَّهُمْ نَسُوا الصَّلَاةَ بِالْكُلِّيَّةِ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى كَمَا قَالَ: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النِّسَاءِ: 142] وَيُجَابُ عَنِ الِاعْتِرَاضِ الثَّانِي بِأَنَّ النِّسْيَانَ عَنِ الصَّلَاةِ هُوَ أَنْ يَبْقَى نَاسِيًا لِذِكْرِ اللَّهِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ وَهَذَا لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنِ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الصَّلَاةِ، أَمَّا الْمُسْلِمُ الَّذِي يَعْتَقِدُ فِيهَا فَائِدَةً عَيْنِيَّةً يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَتَذَكَّرَ أَمْرَ الدِّينِ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ، بَلْ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ السَّهْوُ فِي الصَّلَاةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَصِيرُ سَاهِيًا فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ، فَثَبَتَ أَنَّ السَّهْوَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ أَفْعَالِ الْمُؤْمِنِ وَالسَّهْوَ عَنِ الصَّلَاةِ من أفعال الكافر وثالثها: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: ساهُونَ أَيْ لَا يَتَعَهَّدُونَ أَوْقَاتَ صَلَوَاتِهِمْ وَلَا شَرَائِطَهَا، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُبَالِي سَوَاءٌ صَلَّى أَوْ لَمْ يُصَلِّ، وَهُوَ قَوْلُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَمَسْرُوقٍ وَالْحَسَنِ وَمُقَاتِلٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي سَهْوِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي صَلَاتِهِ، فَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا سَهَا، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ حَتَّى يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ/ السَّاهِي فَيَصِيرَ ذَلِكَ بَيَانًا لِذَلِكَ الشَّرْعِ بِالْفِعْلِ، وَالْبَيَانُ بِالْفِعْلِ أَقْوَى، ثُمَّ بِتَقْدِيرِ وُقُوعِ السَّهْوِ مِنْهُ فَالسَّهْوُ عَلَى أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: سَهْوُ الرَّسُولِ وَالصَّحَابَةِ وَذَلِكَ مُنْجَبِرٌ تَارَةً بِسُجُودِ السَّهْوِ وَتَارَةً بِالسُّنَنِ وَالنَّوَافِلِ وَالثَّانِي: مَا يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ اسْتِحْضَارِ الْمَعَارِفِ وَالنِّيَّاتِ وَالثَّالِثُ: التَّرْكُ لَا إِلَى قَضَاءٍ وَالْإِخْرَاجُ عَنِ الْوَقْتِ، وَمِنْ ذَلِكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ وَهِيَ شَرٌّ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِالدِّينِ بِتِلْكَ الصَّلَاةِ. أَمَّا قوله تعالى: [سورة الماعون (107) : آية 6] الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) فَاعْلَمْ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُنَافِقِ وَالْمُرَائِي أَنَّ الْمُنَافِقَ هُوَ الْمُظْهِرُ لِلْإِيمَانِ الْمُبْطِنُ لِلْكُفْرِ، وَالْمُرَائِي الْمُظْهِرُ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ مِنْ زِيَادَةِ خُشُوعٍ لِيَعْتَقِدَ فِيهِ مَنْ يَرَاهُ أَنَّهُ مُتَدَيِّنٌ، أَوْ تَقُولُ: الْمُنَافِقُ لَا يُصَلِّي سِرًّا وَالْمُرَائِي تَكُونُ صَلَاتُهُ عِنْدَ النَّاسِ أَحْسَنَ. اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ إِظْهَارُ الْفَرَائِضِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لِأَنَّهَا شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ وَتَارِكُهَا مُسْتَحِقٌّ لِلَّعْنِ فَيَجِبُ نَفْيُ التُّهْمَةِ بِالْإِظْهَارِ إِنَّمَا الْإِخْفَاءُ فِي النَّوَافِلِ إِلَّا أَظْهَرَ النَّوَافِلَ لِيُقْتَدَى بِهِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمَسْجِدِ رَجُلًا يَسْجُدُ لِلشُّكْرِ وَأَطَالَهَا، فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا لَوْ كَانَ فِي بَيْتِكَ! لَكِنَّ مَعَ هَذَا قَالُوا: لَا يَتْرُكُ النَّوَافِلَ حَيَاءً وَلَا يَأْتِي بِهَا رِيَاءً، وَقَلَّمَا يَتَيَسَّرُ اجْتِنَابُ الرِّيَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الرِّيَاءُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ في

[سورة الماعون (107) : آية 7]

اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ عَلَى الْمَسْحِ الْأَسْوَدِ» فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى الْمُرَاءَاةِ؟ قُلْنَا هِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْإِرَاءَةِ لِأَنَّ الْمُرَائِيَ يُرِي النَّاسَ عَمَلَهُ، وَهُمْ يرونه الثناء عليه والإعجاب به. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ يُفِيدُ أَمْرَيْنِ: إِخْرَاجَهَا عَنِ الْوَقْتِ، وَكَوْنَ الْإِنْسَانِ غَافِلًا فيها، قوله: الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ يُفِيدُ الْمُرَاءَاةَ، فَظَهَرَ أَنَّ الصَّلَاةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ خَالِيَةً عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ. ثُمَّ لما شرح أمر الصلاة أعقبه بذكر الصلاة فقال: [سورة الماعون (107) : آية 7] وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) وَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وابن عمر وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ: هُوَ الزَّكَاةُ، وَفِي حَدِيثِ أُبَيٍّ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ أَرَأَيْتَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ إِنْ كَانَ لِلزَّكَاةِ مُؤَدِّيًا» وَذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّ الْمَاعُونَ هُوَ الزَّكَاةُ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ الزَّكَاةَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، أَنَّ الْمَاعُونَ اسْمٌ لِمَا لَا يُمْنَعُ فِي الْعَادَةِ وَيَسْأَلُهُ الْفَقِيرُ وَالْغَنِيُّ، يُنْسَبُ مَانِعُهُ إِلَى سُوءِ الْخُلُقِ وَلُؤْمِ الطَّبِيعَةِ كَالْفَأْسِ وَالْقِدْرِ وَالدَّلْوِ وَالْمِقْدَحَةِ وَالْغِرْبَالِ وَالْقَدُّومِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمِلْحُ وَالْمَاءُ وَالنَّارُ. فَإِنَّهُ رُوِيَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَحِلُّ مَنْعُهَا، الْمَاءُ وَالنَّارُ وَالْمِلْحُ» وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَلْتَمِسَ جَارُكَ أَنْ يَخْبِزَ فِي تَنُّورِكَ، أَوْ يَضَعَ مَتَاعَهُ عِنْدَكَ يَوْمًا أَوْ نِصْفَ يَوْمٍ، وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ قَالُوا: الْمَاعُونُ فَاعُولٌ مِنَ الْمَعَنِ وَهُوَ الشَّيْءُ القليل ومنه ماله سعته وَلَا مَعْنَةٌ أَيْ كَثِيرٌ وَ [لَا] قَلِيلٌ، وَسُمِّيَتِ الزَّكَاةُ مَاعُونًا، لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنَ الْمَالِ رُبُعُ الْعُشْرِ، فَهُوَ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ، وَيُسَمَّى مَا يُسْتَعَارُ فِي الْعُرْفِ كَالْفَأْسِ وَالشَّفْرَةِ مَاعُونًا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ الزَّجْرَ عَنِ الْبُخْلِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْقَلِيلَةِ، فَإِنَّ الْبُخْلَ بِهَا يَكُونُ فِي نِهَايَةِ الدَّنَاءَةِ وَالرَّكَاكَةِ، وَالْمُنَافِقُونَ كَانُوا كَذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء: 37] وَقَالَ: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ [الْقَلَمِ: 12] قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَمِنَ الْفَضَائِلِ أَنْ يَسْتَكْثِرَ الرَّجُلُ فِي مَنْزِلِهِ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْجِيرَانُ، فَيُعِيرُهُمْ ذَلِكَ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْعَرَبِ يَقُولُ: الْمَاعُونُ هُوَ الْمَاءُ وَأَنْشَدَنِي فِيهِ: يَمُجُّ بَعِيرُهُ الْمَاعُونَ مَجًّا ولعله خصه بذلك لأن أَعَزُّ مَفْقُودٍ وَأَرْخَصُ مَوْجُودٍ، وَأَوَّلُ شَيْءٍ يَسْأَلُهُ أَهْلُ النَّارِ الْمَاءُ، كَمَا قَالَ: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ [الْأَعْرَافِ: 50] وَأَوَّلُ لَذَّةٍ يَجِدُهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ هُوَ الْمَاءُ، كَمَا قَالَ: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ [الْإِنْسَانِ: 21] الْقَوْلُ الرَّابِعُ: الْمَاعُونَ حُسْنُ الِانْقِيَادِ، يُقَالُ: رَضِّ بَعِيرَكَ حَتَّى يُعْطِيَكَ الْمَاعُونَ، أَيْ حَتَّى يُعْطِيَكَ الطَّاعَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى كُلِّ طَاعَةٍ يَخِفُّ فِعْلُهَا لِأَنَّهُ أَكْثَرُ فَائِدَةً، ثُمَّ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ فِي الْمُلَاءَمَةِ بين قوله: يُراؤُنَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الصَّلَاةُ لِي وَالْمَاعُونُ لِلْخَلْقِ، فَمَا يَجِبُ جَعْلُهُ لِي يَعْرِضُونَهُ عَلَى الْخَلْقِ وَمَا هُوَ حَقُّ الْخَلْقِ يَسْتُرُونَهُ عَنْهُمْ فَكَأَنَّهُ لَا يُعَامِلُ الْخَلْقَ وَالرَّبَّ إِلَّا عَلَى الْعَكْسِ فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ اسْمَ الْكَافِرِ بِعَيْنِهِ؟ فَإِنْ قُلْتَ لِلسَّتْرِ عَلَيْهِ، قُلْتُ لِمَ لَمْ يَسْتُرْ عَلَى آدَمَ بَلْ قَالَ: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ [طه: 121] ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ زَلَّةَ آدَمَ لَكِنْ بَعْدَ مَوْتِهِ مَقْرُونًا بِالتَّوْبَةِ لِيَكُونَ لُطْفًا لِأَوْلَادِهِ، أَنَّهُ أُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ بِسَبَبِ الصَّغِيرَةِ فَكَيْفَ يَطْمَعُونَ فِي الدُّخُولِ مَعَ الْكَبِيرَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ وَصْفَ تِلْكَ الزَّلَّةِ رِفْعَةٌ لَهُ فَإِنَّهُ

رَجُلٌ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ إِلَّا تَلْكَ الزَّلَّةُ الْوَاحِدَةُ ثُمَّ تَابَ عَنْهَا مِثْلَ هَذِهِ التَّوْبَةِ. وَلْنَخْتِمْ تَفْسِيرَ هَذِهِ السُّورَةِ بِالدُّعَاءِ: إِلَهَنَا، هَذِهِ السُّورَةُ فِي ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وَالسُّورَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فِي صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَحْنُ وَإِنْ لَمْ نَصِلْ فِي الطَّاعَةِ إِلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِلَى أَصْحَابِهِ، لَمْ نَصِلْ فِي الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ، فَاعْفُ عَنَّا بِفَضْلِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة الكوثر

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الكوثر ثلاث آيات مكية [سورة الكوثر (108) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ عَلَى اخْتِصَارِهَا فِيهَا لِطَائِفُ: إِحْدَاهَا: أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ كَالْمُقَابِلَةِ لِلسُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُنَافِقَ بِأُمُورٍ أَرْبَعَةٍ: أَوَّلُهَا: الْبُخْلُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الْمَاعُونِ: 2، 3] الثَّانِي: تَرْكُ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ [الماعون: 5] والثالث: المراءاة في الصلاة هو المراد من قوله: الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ [الْمَاعُونِ: 6] وَالرَّابِعُ: الْمَنْعُ مِنَ الزَّكَاةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ [الْمَاعُونِ: 7] فَذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي مُقَابَلَةِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعِ صِفَاتٍ أَرْبَعَةً، فَذَكَرَ فِي مُقَابَلَةِ الْبُخْلِ قَوْلَهُ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أَيْ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَثِيرَ، فَأَعْطِ أَنْتَ الْكَثِيرَ وَلَا تَبْخَلْ، وَذَكَرَ فِي مقابلة: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ قَوْلَهُ: فَصَلِّ أَيْ دُمْ عَلَى الصَّلَاةِ، وَذَكَرَ في مقابلة: الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ قَوْلَهُ: لِرَبِّكَ أَيِ ائْتِ بِالصَّلَاةِ لِرِضَا رَبِّكَ، لَا لِمُرَاءَاةِ النَّاسِ، وَذَكَرَ فِي مُقَابَلَةِ: وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ قَوْلَهُ: وَانْحَرْ وَأَرَادَ بِهِ التَّصَدُّقَ بِلَحْمِ الْأَضَاحِيِّ، فَاعْتَبِرْ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةَ الْعَجِيبَةَ، ثُمَّ خَتَمَ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ أَيِ الْمُنَافِقُ الَّذِي يَأْتِي بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي تِلْكَ السُّورَةِ سَيَمُوتُ وَلَا يَبْقَى مِنْ دُنْيَاهُ أَثَرٌ وَلَا خَبَرٌ، وَأَمَّا أَنْتَ فَيَبْقَى لَكَ فِي الدُّنْيَا الذِّكْرُ الْجَمِيلُ، وَفِي الْآخِرَةِ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي لَطَائِفِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ السَّالِكِينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ: أَعْلَاهَا أَنْ يَكُونُوا مُسْتَغْرِقِينَ بِقُلُوبِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ فِي نُورِ جَلَالِ اللَّهِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونُوا مُشْتَغِلِينَ بِالطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونُوا فِي مَقَامِ مَنْعِ النَّفْسِ عَنِ الِانْصِبَابِ إِلَى اللَّذَّاتِ الْمَحْسُوسَةِ وَالشَّهَوَاتِ الْعَاجِلَةِ فَقَوْلُهُ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَقَامِ الْأَوَّلِ/ وَهُوَ كَوْنُ رُوحِهِ الْقُدُسِيَّةِ مُتَمَيِّزَةً عَنْ سَائِرِ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ بِالْكَمِّ وَالْكَيْفِ. أَمَّا بِالْكَمِّ فَلِأَنَّهَا أَكْثَرُ مُقَدِّمَاتٍ، وَأَمَّا بِالْكَيْفِ فَلِأَنَّهَا أَسْرَعُ انْتِقَالًا مِنْ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ إِلَى النَّتَائِجِ مِنْ سَائِرِ الْأَرْوَاحِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ، وَقَوْلُهُ: وَانْحَرْ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ، فَإِنَّ مَنْعَ النَّفْسِ عَنِ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ جَارٍ مُجْرَى النَّحْرِ وَالذَّبْحِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ النَّفْسَ الَّتِي تَدْعُوكَ إِلَى طَلَبِ هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ وَالشَّهَوَاتِ الْعَاجِلَةِ، أَنَّهَا دَائِرَةٌ فَانِيَةٌ، وَإِنَّمَا الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عند

رَبِّكَ، وَهِيَ السَّعَادَاتُ الرُّوحَانِيَّةُ وَالْمَعَارِفُ الرَّبَّانِيَّةُ الَّتِي هِيَ بَاقِيَةٌ أَبَدِيَّةٌ. وَلْنَشْرَعِ الْآنَ فِي التَّفْسِيرِ قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [في قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْناكَ] اعْلَمْ أَنَّ فِيهِ فَوَائِدَ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ هذه السورة كالتتمة لما قبلها من السور، وَكَالْأَصْلِ لِمَا بَعْدَهَا مِنَ السُّوَرِ. أَمَّا أَنَّهَا كَالتَّتِمَّةِ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ السُّوَرِ، فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ سُورَةَ وَالضُّحَى فِي مَدْحِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَفْصِيلِ أَحْوَالِهِ، فَذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ تَتَعَلَّقُ بِنُبُوَّتِهِ أَوَّلُهَا: قوله: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى [الضُّحَى: 4] وثالثها: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ثُمَّ خَتَمَ هَذِهِ السُّورَةَ بِذِكْرِ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا وَهِيَ قَوْلُهُ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى [الضُّحَى: 6- 8] . ثُمَّ ذَكَرَ فِي سُورَةِ: أَلَمْ نَشْرَحْ أَنَّهُ شَرَّفَهُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَوَّلُهَا: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَثَانِيهَا: وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ، وثالثها: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى شَرَّفَهُ فِي سُورَةِ التِّينِ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ التَّشْرِيفِ أَوَّلُهَا: أَنَّهُ أَقْسَمَ ببلده وهو قوله: وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ خَلَاصِ أُمَّتِهِ عَنِ النار وهو قوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا، وَثَالِثُهَا: وُصُولُهُمْ إِلَى الثَّوَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ. ثُمَّ شَرَّفَهُ فِي سُورَةِ اقْرَأْ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ من التشريفات أولها: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ أَيِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى الْحَقِّ مُسْتَعِينًا بِاسْمِ رَبِّكَ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قَهَرَ خَصْمَهُ بِقَوْلِهِ: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ خَصَّهُ بِالْقُرْبَةِ التَّامَّةِ وَهُوَ: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ. وَشَرَّفَهُ فِي سُورَةِ الْقَدْرِ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتِي لَهَا ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْفَضِيلَةِ أَوَّلُهَا: كَوْنُهَا خيرا من ألف شهر، وثانيها: نزول الملائكة والروح فيها وثالثها: كونها: سلاما حتى مطلع الفجر. وَشَرَّفَهُ فِي سُورَةِ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ شَرَّفَ أُمَّتَهُ بِثَلَاثَةِ تَشْرِيفَاتٍ أَوَّلُهَا: أَنَّهُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ وثانيها: أن جزاؤهم عند ربهم جنات، وثالثها: رضا اللَّهُ عَنْهُمْ. وَشَرَّفَهُ فِي سُورَةِ إِذَا زُلْزِلَتْ بِثَلَاثِ تَشْرِيفَاتٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَرْضَ تَشْهَدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأُمَّتِهِ بِالطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تُعْرَضُ عَلَيْهِمْ طَاعَاتُهُمْ فَيَحْصُلُ لَهُمُ الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ، وَثَالِثُهَا: قَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَعْرِفَةُ اللَّهِ لَا شَكَّ أَنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ عَظِيمٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَصِلُوا إِلَى ثَوَابِهَا ثُمَّ شَرَّفَهُ فِي سُورَةِ الْعَادِيَاتِ بِأَنْ أَقْسَمَ بِخَيْلِ الْغُزَاةِ مِنْ أُمَّتِهِ فَوَصَفَ/ تِلْكَ الْخَيْلَ بِصِفَاتٍ ثَلَاثٍ: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً، فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً. ثُمَّ شَرَّفَ أُمَّتَهُ فِي سُورَةِ الْقَارِعَةِ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَوَّلُهَا: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَعْدَاءَهُمْ في نار حامية. في شَرَّفَهُ فِي سُورَةِ أَلْهَاكُمْ بِأَنْ بَيَّنَ أَنَّ الْمُعْرِضِينَ عَنْ دِينِهِ وَشَرْعِهِ يَصِيرُونَ مُعَذَّبِينَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَوَّلُهَا: أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْجَحِيمَ وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ يَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ يُسْأَلُونَ عن النعيم.

ثُمَّ شَرَّفَ أُمَّتَهُ فِي سُورَةِ وَالْعَصْرِ بِأُمُورٍ ثلاثة أولها: الإيمان: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا، وَثَانِيهَا: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَثَالِثُهَا: إِرْشَادُ الْخَلْقِ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهُوَ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ. ثُمَّ شَرَّفَهُ فِي سُورَةِ الْهُمَزَةِ بِأَنْ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ هَمَزَ وَلَمَزَ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ أَوَّلُهَا: أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِدُنْيَاهُ الْبَتَّةَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يُنْبَذُ فِي الْحُطَمَةِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ يُغْلَقُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَبْوَابُ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ رَجَاءٌ فِي الْخُرُوجِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ. ثُمَّ شَرَّفَهُ فِي سُورَةِ الْفِيلِ بِأَنْ رَدَّ كَيْدَ أَعْدَائِهِ فِي نَحْرِهِمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَوَّلُهَا: جَعَلَ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَثَانِيهَا: أَرْسَلَ عليهم طيرا أبابيل وثالثها: جعلهم كعصب مَأْكُولٍ. ثُمَّ شَرَّفَهُ فِي سُورَةِ قُرَيْشٍ بِأَنَّهُ رَاعَى مَصْلَحَةَ أَسْلَافِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَوَّلُهَا: جَعَلَهُمْ مُؤْتَلِفِينَ مُتَوَافِقِينَ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ وَثَانِيهَا: أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ. وَشَرَّفَهُ فِي سُورَةِ الْمَاعُونِ بِأَنْ وَصَفَ الْمُكَذِّبِينَ بِدِينِهِ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ أَوَّلُهَا: الدَّنَاءَةُ وَاللُّؤْمُ وَهُوَ قَوْلُهُ: يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وَثَانِيهَا: تَرْكُ تَعْظِيمِ الْخَالِقِ وَهُوَ قَوْلُهُ: عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَثَالِثُهَا: تَرْكُ انْتِفَاعِ الْخَلْقِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا شَرَّفَهُ فِي هَذِهِ السُّوَرِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْعَظِيمَةِ قَالَ بَعْدَهَا: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أَيْ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ هَذِهِ الْمَنَاقِبَ الْمُتَكَاثِرَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي السُّوَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَعْظَمُ مِنْ ملك الدنيا بحذافيرها، فاشتغل أنت بعبادة هذه الرَّبِّ وَبِإِرْشَادِ عِبَادِهِ إِلَى مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُمْ، أَمَّا عِبَادَةُ الرَّبِّ فَإِمَّا بِالنَّفْسِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَإِمَّا بِالْمَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَانْحَرْ وَأَمَّا إِرْشَادُ عِبَادِهِ إِلَى مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فَهُوَ قَوْلُهُ: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ كَالتَّتِمَّةِ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ السُّورِ، وَأَمَّا أَنَّهَا كَالْأَصْلِ لِمَا بَعْدَهَا فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُهُ بَعْدَ هَذِهِ السُّورَةِ بأن يكفر جميع أهل الدنيا بقوله: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَسْفَ النَّاسِ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ أَشَدُّ مِنْ عَسْفِهِمْ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ وَأَرْوَاحَهُمْ فِي نُصْرَةِ أَدْيَانِهِمْ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الطَّعْنُ فِي مَذَاهِبِ النَّاسِ يُثِيرُ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْغَضَبِ مَا لَا يُثِيرُ سَائِرُ الْمَطَاعِنِ، فَلَمَّا أَمَرَهُ بِأَنْ يُكَفِّرَ جَمِيعَ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَيُبْطِلَ أَدْيَانَهُمْ لَزِمَ أَنْ يَصِيرَ جَمِيعُ أَهْلِ الدُّنْيَا فِي غَايَةِ الْعَدَاوَةِ لَهُ، وَذَلِكَ مِمَّا يَحْتَرِفُ عَنْهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ فَلَا يَكَادُ يُقْدِمُ عَلَيْهِ، وَانْظُرْ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَيْفَ/ كَانَ يَخَافُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَسْكَرِهِ. وأما هاهنا فَإِنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى جَمِيعِ أَهْلِ الدُّنْيَا، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَلْقِ، كَفِرْعَوْنَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَدَبَّرَ تَعَالَى فِي إِزَالَةِ هَذَا الْخَوْفِ الشَّدِيدِ تَدْبِيرًا لَطِيفًا، وَهُوَ أَنَّهُ قَدَّمَ عَلَى تِلْكَ السُّورَةِ هَذِهِ السُّورَةَ فَإِنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ يُزِيلُ عَنْهُ ذَلِكَ الْخَوْفَ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أَيِ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ وَعْدًا مِنَ الله إياه بالنصرة والحفظ وهو كقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ [الْأَنْفَالِ: 64] وَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [الْمَائِدَةِ: 67] وَقَوْلِهِ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التَّوْبَةِ: 40] وَمَنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى ضَامِنًا لِحِفْظِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْشَى أَحَدًا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ وَهَذَا اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَخَيْرَاتِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا مَا كَانَتْ وَاصِلَةً إِلَيْهِ حِينَ كَانَ بِمَكَّةَ، وَالْخُلْفُ فِي كَلَامِ اللَّهِ تعالى

مُحَالٌ، فَوَجَبَ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِبْقَاؤُهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا إِلَى حَيْثُ يَصِلُ إِلَيْهِ تِلْكَ الْخَيْرَاتُ، فَكَانَ ذَلِكَ كَالْبِشَارَةِ لَهُ وَالْوَعْدِ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْتُلُونَهُ وَلَا يَقْهَرُونَهُ، وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ مَكْرُهُمْ بَلْ يَصِيرُ أَمْرُهُ كُلَّ يَوْمٍ فِي الِازْدِيَادِ وَالْقُوَّةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لما كفروا وَزَيَّفَ أَدْيَانَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ اجْتَمَعُوا عِنْدَهُ وَقَالُوا: إِنْ كُنْتَ تَفْعَلُ هَذَا طَلَبًا لِلْمَالِ فَنُعْطِيكَ مِنَ الْمَالِ مَا تَصِيرُ بِهِ أَغْنَى النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبُكَ الزَّوْجَةَ نُزَوِّجُكَ أَكْرَمَ نِسَائِنَا، وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبُكَ الرِّيَاسَةَ فَنَحْنُ نَجْعَلُكَ رَئِيسًا عَلَى أَنْفُسِنَا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي لما أعطاك خالق السموات وَالْأَرْضِ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَا تَغْتَرَّ بِمَالِهِمْ وَمُرَاعَاتِهِمْ وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ يُفِيدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ مَعَهُ لَا بِوَاسِطَةٍ، فَهَذَا يَقُومُ مَقَامَ قَوْلِهِ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النِّسَاءِ: 164] بَلْ هَذَا أَشْرَفُ لِأَنَّ الْمَوْلَى إِذَا شَافَهَ عَبْدَهُ بِالْتِزَامِ التَّرْبِيَةِ وَالْإِحْسَانِ كَانَ ذَلِكَ أَعْلَى مِمَّا إِذَا شَافَهَهُ في غير هذا المعنى، بل يفيده قُوَّةً فِي الْقَلْبِ وَيُزِيلُ الْجُبْنَ عَنِ النَّفْسِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُخَاطَبَةَ اللَّهِ إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ مِمَّا يُزِيلُ الْخَوْفَ عَنِ الْقَلْبِ وَالْجُبْنَ عَنِ النَّفْسِ، فَقَدَّمَ هَذِهِ السُّورَةَ عَلَى سورة: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ حَتَّى يُمْكِنَهُ الِاشْتِغَالُ بِذَلِكَ التَّكْلِيفِ الشَّاقِّ وَالْإِقْدَامِ عَلَى تَكْفِيرِ جَمِيعِ الْعَالَمِ، وَإِظْهَارِ الْبَرَاءَةِ عَنْ مَعْبُودِهِمْ فَلَمَّا امْتَثَلْتَ أَمْرِي، فَانْظُرْ كَيْفَ أَنْجَزْتُ لَكَ الْوَعْدَ، وَأَعْطَيْتُكَ كَثْرَةَ الْأَتْبَاعِ وَالْأَشْيَاعِ، إِنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا تَمَّ أَمْرُ الدَّعْوَةِ وَإِظْهَارِ الشَّرِيعَةِ، شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْقَلْبِ وَالْبَاطِنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّالِبَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ طَلَبُهُ مَقْصُورًا عَلَى الدُّنْيَا، أَوْ يَكُونَ طَالِبًا لِلْآخِرَةِ، أَمَّا طَالِبُ الدُّنْيَا فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الْخَسَارُ وَالذُّلُّ وَالْهَوَانُ، ثُمَّ يَكُونُ مَصِيرُهُ إِلَى النَّارِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ سُورَةِ تَبَّتْ، وَأَمَّا طَالِبُ الْآخِرَةِ فَأَعْظَمُ أَحْوَالِهِ أَنْ تَصِيرَ نَفْسُهُ كَالْمِرْآةِ الَّتِي تَنْتَقِشُ فِيهَا صُوَرُ الْمَوْجُودَاتِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ طَرِيقَ الْخَلْقِ فِي مَعْرِفَةِ الصَّانِعِ عَلَى وَجْهَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ عَرَفَ الصَّانِعَ، ثُمَّ تَوَسَّلَ بِمَعْرِفَتِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الْأَشْرَفُ الْأَعْلَى، وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ وَهُوَ طَرِيقُ الْجُمْهُورِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَتَمَ كِتَابَهُ الْكَرِيمَ بِتِلْكَ الطَّرِيقِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الطَّرِيقَيْنِ، فَبَدَأَ بِذِكْرِ صِفَاتِ/ اللَّهِ وَشَرْحِ جَلَالِهِ، وَهُوَ سُورَةُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَرَاتِبِ مَخْلُوقَاتِهِ فِي سُورَةِ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ثم ختم بِذِكْرِ مَرَاتِبِ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ خَتَمَ الْكِتَابَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ إِنَّمَا يَتَّضِحُ تَفْصِيلُهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ، فَسُبْحَانَ مَنْ أَرْشَدَ الْعُقُولَ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَسْرَارِ الشَّرِيفَةِ الْمُودَعَةِ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ هِيَ أَنَّ كَلِمَةَ: إِنَّا تَارَةً يُرَادُ بِهَا الْجَمْعُ وَتَارَةً يُرَادُ بها التعظيم. أما الأول: فقد دل الدليل عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْجَمْعِ، إِلَّا إِذَا أُرِيدَ أَنَّ هَذِهِ الْعَطِيَّةَ مِمَّا سَعَى فِي تَحْصِيلِهَا الْمَلَائِكَةُ وَجِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَالْأَنْبِيَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ، حِينَ سَأَلَ إِبْرَاهِيمُ إِرْسَالَكَ، فَقَالَ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْبَقَرَةِ: 129] وَقَالَ مُوسَى: رَبِّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ أَحْمَدَ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ [الْقَصَصِ: 44] وَبَشَّرَ بِكَ الْمَسِيحُ فِي قَوْلِهِ: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصَّفِّ: 6] . وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى التَّعْظِيمِ، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى عَظَمَةِ الْعَطِيَّةِ لِأَنَّ الواهب هو جبار السموات وَالْأَرْضِ وَالْمَوْهُوبَ مِنْهُ، هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِكَافِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ وَالْهِبَةُ هي

الشَّيْءُ الْمُسَمَّى بِالْكَوْثَرِ، وَهُوَ مَا يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي الْكَثْرَةِ، وَلَمَّا أَشْعَرَ اللَّفْظُ بِعِظَمِ الْوَاهِبِ وَالْمَوْهُوبِ مِنْهُ وَالْمَوْهُوبِ، فَيَا لَهَا مِنْ نِعْمَةٍ مَا أَعْظَمَهَا وَمَا أَجَلَّهَا، وَيَا لَهُ مِنْ تشريف ما أعلاه. الفائدة الثالثة: أن الهداية وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً لَكِنَّهَا بِسَبَبِ كَوْنِهَا وَاصِلَةً مِنَ الْمُهْدِي الْعَظِيمِ تَصِيرُ عَظِيمَةً، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْمَلِكَ الْعَظِيمَ إِذَا رَمَى تُفَّاحَةً لِبَعْضِ عَبِيدِهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ يُعَدُّ ذَلِكَ إِكْرَامًا عَظِيمًا، لَا لِأَنَّ لَذَّةَ الْهَدِيَّةِ فِي نَفْسِهَا، بَلْ لِأَنَّ صُدُورَهَا مِنَ الْمُهْدِي الْعَظِيمِ يُوجِبُ كَوْنَهَا عَظِيمَةً، فَهَهُنَا الْكَوْثَرُ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، لَكِنَّهُ بِسَبَبِ صُدُورِهِ مِنْ مَلِكِ الْخَلَائِقِ يَزْدَادُ عَظْمَةً وَكَمَالًا. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَعْطَيْناكَ قَرَنَ بِهِ قَرِينَةً دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَرْجِعُهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مَوْهُوبَهُ، فَإِنْ أَخَذَ عِوَضًا وَإِنْ قَلَّ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ الرُّجُوعُ، لِأَنَّ مَنْ وَهَبَ شَيْئًا يُسَاوِي أَلْفَ دِينَارٍ إِنْسَانًا، ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُ مُشْطًا يُسَاوِي فَلْسًا فَأَعْطَاهُ، سَقَطَ حَقُّ الرُّجُوعِ فَهَهُنَا لَمَّا قَالَ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ طَلَبَ مِنْهُ الصَّلَاةَ وَالنَّحْرَ وَفَائِدَتُهُ إِسْقَاطُ حَقِّ الرُّجُوعِ. الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ بَنَى الْفِعْلَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ التَّأْكِيدَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّكَ لَمَّا ذَكَرْتَ الِاسْمَ الْمُحَدَّثَ عَنْهُ عَرَفَ الْعَقْلُ أَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْهُ بِأَمْرٍ فَيَصْبِرُ مُشْتَاقًا إِلَى مَعْرِفَةِ أَنَّهُ بِمَاذَا يُخْبِرُ عَنْهُ، فَإِذَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْخَبَرَ قَبِلَهُ قَبُولَ الْعَاشِقِ لِمَعْشُوقِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي التَّحْقِيقِ وَنَفْيِ الشبهة/ ومن هاهنا تَعْرِفُ الْفَخَامَةَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ [الْحَجِّ: 46] فَإِنَّهُ أَكْثَرُ فَخَامَةً مِمَّا لَوْ قَالَ: فَإِنَّ الْأَبْصَارَ لَا تَعْمَى، وَمِمَّا يُحَقِّقُ قَوْلَنَا قَوْلُ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ لِمَنْ يَعِدُهُ وَيَضْمَنُ لَهُ: أَنَا أُعْطِيكَ، أَنَا أَكْفِيكَ، أَنَا أَقُومُ بِأَمْرِكَ وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَوْعُودُ بِهِ أَمْرًا عَظِيمًا قَلَّمَا تَقَعُ الْمُسَامَحَةُ بِهِ فَعِظَمُهُ يُورِثُ الشَّكَّ فِي الْوَفَاءِ بِهِ، فَإِذَا أُسْنِدَ إِلَى الْمُتَكَفِّلِ الْعَظِيمِ، فَحِينَئِذٍ يَزُولُ ذَلِكَ الشَّكُّ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِأَنَّ الْكَوْثَرَ شَيْءٌ عَظِيمٌ، قَلَّمَا تَقَعُ الْمُسَامَحَةُ بِهِ فَلَمَّا قَدَّمَ الْمُبْتَدَأَ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّا صَارَ ذَلِكَ الْإِسْنَادُ مُزِيلًا لِذَلِكَ الشَّكِّ وَدَافِعًا لِتِلْكَ الشُّبْهَةِ. الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى صَدَّرَ الْجُمْلَةَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ الْجَارِي مُجْرَى الْقَسَمِ، وَكَلَامُ الصَّادِقِ مَصُونٌ عَنِ الْخُلْفِ، فَكَيْفَ إِذَا بَالَغَ فِي التَّأْكِيدِ. الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ: أَعْطَيْناكَ وَلَمْ يَقُلْ: سَنُعْطِيكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَعْطَيْناكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِعْطَاءَ كَانَ حَاصِلًا فِي الْمَاضِي، وَهَذَا فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْفَوَائِدِ إِحْدَاهَا: أَنَّ مَنْ كَانَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي أَبَدًا عَزِيزًا مَرْعِيَّ الْجَانِبِ مَقْضِيَّ الْحَاجَّةِ أَشْرَفُ مِمَّنْ سَيَصِيرُ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كُنْتُ نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ» وَثَانِيهَا: أَنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ بِالْإِسْعَادِ وَالْإِشْقَاءِ وَالْإِغْنَاءِ وَالْإِفْقَارِ، لَيْسَ أَمْرًا يَحْدُثُ الْآنَ، بَلْ كَانَ حَاصِلًا فِي الْأَزَلِ وَثَالِثُهَا: كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّا قَدْ هَيَّأْنَا أَسْبَابَ سَعَادَتِكَ قَبْلَ دُخُولِكَ فِي الْوُجُودِ فَكَيْفَ نُهْمِلُ أَمْرَكَ بَعْدَ وُجُودِكَ وَاشْتِغَالِكَ بِالْعُبُودِيَّةِ! وَرَابِعُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: نَحْنُ مَا اخْتَرْنَاكَ وَمَا فَضَّلْنَاكَ لِأَجْلِ طَاعَتِكَ، وَإِلَّا كَانَ يَجِبُ أَنْ لَا نُعْطِيَكَ إِلَّا بَعْدَ إِقْدَامِكَ عَلَى الطَّاعَةِ، بَلْ إِنَّمَا اخْتَرْنَاكَ بِمُجَرَّدِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ مِنَّا إِلَيْكَ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قَبِلَ مَنْ قَبِلَ لَا لِعِلَّةٍ، وَرَدَّ مَنْ رَدَّ لَا لِعِلَّةٍ» . الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ: أَعْطَيْناكَ وَلَمْ يَقُلْ أَعْطَيْنَا الرَّسُولَ أَوِ النَّبِيَّ أَوِ الْعَالِمَ أَوِ الْمُطِيعَ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ ذَلِكَ لَأَشْعَرَ أَنَّ تِلْكَ الْعَطِيَّةَ وَقَعَتْ مُعَلَّلَةً بِذَلِكَ الْوَصْفِ، فَلَمَّا قَالَ: أَعْطَيْناكَ عُلِمَ أَنَّ تِلْكَ الْعَطِيَّةَ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ بِعِلَّةٍ

أَصْلًا بَلْ هِيَ مَحْضُ الِاخْتِيَارِ وَالْمَشِيئَةِ، كَمَا قَالَ: نَحْنُ قَسَمْنا [الزُّخْرُفِ: 32] اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الْحَجِّ: 75] . الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ أَوَّلًا: إِنَّا أَعْطَيْناكَ ثُمَّ قَالَ ثَانِيًا: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إعطاؤه لِلتَّوْفِيقِ وَالْإِرْشَادِ سَابِقٌ عَلَى طَاعَاتِنَا، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَإِعْطَاؤُهُ إِيَّانَا صِفَتُهُ وَطَاعَتُنَا لَهُ صِفَتُنَا، وَصِفَةُ الْخَلْقِ لَا تَكُونُ مُؤَثِّرَةً فِي صِفَةِ الْخَالِقِ إِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ هُوَ صِفَةُ الْخَالِقِ فِي صِفَةِ الْخَلْقِ، وَلِهَذَا نُقِلَ عَنِ الْوَاسِطِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَعْبُدُ رَبًّا يُرْضِيهِ طَاعَتِي وَيُسْخِطُهُ مَعْصِيَتِي وَمَعْنَاهُ أَنَّ رِضَاهُ وَسُخْطَهُ قَدِيمَانِ وَطَاعَتِي وَمَعْصِيَتِي مُحْدَثَتَانِ وَالْمُحْدَثُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي قَدِيمٍ، بَلْ رِضَاهُ عَنِ الْعَبْدِ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى طَاعَتِهِ فِيمَا لَا يَزَالُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي السُّخْطِ وَالْمَعْصِيَةِ. الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ: أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ وَلَمْ يَقُلْ: آتَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَمْرَانِ/ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِيتَاءَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وَأَنْ يَكُونَ تَفَضُّلًا، وَأَمَّا الْإِعْطَاءُ فَإِنَّهُ بِالتَّفَضُّلِ أَشْبَهُ فَقَوْلُهُ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ يَعْنِي هَذِهِ الْخَيْرَاتُ الْكَثِيرَةُ وَهِيَ الْإِسْلَامُ وَالْقُرْآنُ وَالنُّبُوَّةُ وَالذِّكْرُ الْجَمِيلُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مَحْضُ التَّفَضُّلِ مِنَّا إِلَيْكَ وَلَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْوُجُوبِ، وَفِيهِ بِشَارَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَرِيمَ إِذَا شَرَعَ فِي التَّرْبِيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُبْطِلُهَا، بَلْ كَانَ كُلَّ يَوْمٍ يَزِيدُ فِيهَا الثَّانِي: أَنَّ مَا يَكُونُ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِنَّهُ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَفِعْلُ الْعَبْدِ مُتَنَاهٍ، فَيَكُونُ الِاسْتِحْقَاقُ الْحَاصِلُ بِسَبَبِهِ مُتَنَاهِيًا، أَمَّا التَّفَضُّلُ فَإِنَّهُ نتيجة كرم الله وكرم اللَّهِ غَيْرُ مُتَنَاهٍ، فَيَكُونُ تَفَضُّلُهُ أَيْضًا غَيْرَ مُتَنَاهٍ، فَلَمَّا دَلَّ قَوْلُهُ: أَعْطَيْناكَ عَلَى أَنَّهُ تَفَضُّلٌ لَا اسْتِحْقَاقٌ أَشْعَرَ ذَلِكَ بِالدَّوَامِ وَالتَّزَايُدِ أبدا. فإن قيل: أليس قال: آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الْحِجْرِ: 87] ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِعْطَاءَ يُوجِبُ التَّمْلِيكَ، وَالْمِلْكُ سَبَبُ الِاخْتِصَاصِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ سُلَيْمَانُ: هَبْ لِي مُلْكاً [ص: 35] فَقَالَ: هَذَا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ [ص: 39] وَلِهَذَا السَّبَبِ مَنْ حَمَلَ الْكَوْثَرَ عَلَى الْحَوْضِ قَالَ: الْأُمَّةُ تَكُونُ أَضْيَافًا لَهُ، أَمَّا الْإِيتَاءُ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ، فَلِهَذَا قال في القرآن: آتَيْناكَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَكْتُمَ شَيْئًا مِنْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْقُرْآنِ شَرِكَةٌ فِي الْعُلُومِ وَلَا عَيْبَ فِيهَا، أَمَّا الشَّرِكَةُ فِي النَّهْرِ، فَهِيَ شَرِكَةٌ فِي الْأَعْيَانِ وَهِيَ عَيْبٌ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ الْإِعْطَاءَ أَلْيَقُ بِهَذَا الْمَقَامِ مِنَ الْإِيتَاءِ، هُوَ أَنَّ الْإِعْطَاءَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى [النَّجْمِ: 34] أَمَّا الْإِيتَاءُ، فَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الشَّيْءِ الْعَظِيمِ، قَالَ الله تعالى: وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [البقرة: 251] لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا [سَبَأٍ: 10] وَالْأَتِيُّ السَّيْلُ الْمُنْصَبُّ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ يُفِيدُ تَعْظِيمُ حَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: يَعْنِي هَذَا الْحَوْضُ كَالشَّيْءِ الْقَلِيلِ الْحَقِيرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ مُدَّخَرٌ لَكَ مِنَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ وَالْمَرَاتِبِ الشَّرِيفَةِ، فَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْبِشَارَةَ بِأَشْيَاءَ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا الْمَذْكُورِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْكَوْثَرَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَاءِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الْمَاءُ فِي الدُّنْيَا دُونَ الطَّعَامِ، فَإِذَا كَانَ نَعِيمُ الْمَاءِ كَوْثَرًا، فَكَيْفَ سَائِرُ النَّعِيمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ نَعِيمَ الْمَاءِ إِعْطَاءٌ وَنَعِيمَ الْجَنَّةِ إِيتَاءٌ وَرَابِعُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هَذَا الَّذِي أَعْطَيْتُكَ، وَإِنْ كَانَ كَوْثَرًا لَكِنَّهُ فِي حَقِّكَ إِعْطَاءٌ لَا إِيتَاءٌ لِأَنَّهُ دُونَ حَقِّكَ، وَفِي الْعَادَةِ أَنَّ الْمُهْدِي إِذَا كَانَ عَظِيمًا فَالْهَدِيَّةُ وَإِنْ كَانَتْ عَظِيمَةً، إِلَّا أَنَّهُ يُقَالُ: إِنَّهَا حَقِيرَةٌ أَيْ هِيَ حَقِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَظَمَةِ الْمُهْدَى لَهُ فَكَذَا هاهنا وَخَامِسُهَا: أَنْ نَقُولَ: إِنَّمَا قَالَ فِيمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْكَوْثَرِ أَعْطَيْنَاكَ لِأَنَّهُ دُنْيَا، وَالْقُرْآنُ إِيتَاءٌ لِأَنَّهُ دِينٌ وَسَادِسُهَا: كَأَنَّهُ

يَقُولُ: جَمِيعُ مَا نِلْتَ مِنِّي عَطِيَّةٌ وَإِنْ كَانَتْ كَوْثَرًا إِلَّا أَنَّ الْأَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ الْكَوْثَرِ أَنْ تَبْقَى مُظَفَّرًا وَخَصْمُكَ أَبْتَرُ، فَإِنَّا أَعْطَيْنَاكَ بِالتَّقْدِمَةِ هَذَا الْكَوْثَرَ، أَمَّا الذِّكْرُ الْبَاقِي وَالظَّفَرُ عَلَى الْعَدُوِّ فَلَا يَحْسُنُ إِعْطَاؤُهُ إِلَّا بَعْدَ التَّقْدِمَةِ بِطَاعَةٍ تَحْصُلُ مِنْكَ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ أَيْ فَاعْبُدْ لِي وَسَلِ الظَّفَرَ بَعْدَ الْعِبَادَةِ فَإِنِّي أَوْجَبْتُ عَلَى كَرَمِي أَنَّ بَعْدَ كُلِّ فَرِيضَةٍ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً، كَذَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الْمُسْنَدِ، فَحِينَئِذٍ أَسْتَجِيبُ فَيَصِيرُ/ خَصْمُكَ أَبْتَرَ وَهُوَ الْإِيتَاءُ، فَهَذَا مَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ أَمَّا الْكَوْثَرَ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ فَوَعْلٌ مِنَ الْكَثْرَةِ وَهُوَ الْمُفْرِطُ فِي الْكَثْرَةِ، قِيلَ لِأَعْرَابِيَّةٍ رَجَعَ ابْنُهَا من السفر، بم آب ابنك؟ قَالَتْ: آبَ بِكَوْثَرٍ، أَيْ بِالْعَدَدِ الْكَثِيرِ، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ الْكَثِيرِ الْعَطَاءِ: كَوْثَرٌ، قَالَ الْكُمَيْتُ: وَأَنْتَ كَثِيرٌ يَا ابْنَ مَرْوَانَ طَيِّبُ ... وَكَانَ أَبُوكَ ابْنُ الْفَضَائِلِ كَوْثَرَا وَيُقَالُ لِلْغُبَارِ إِذَا سَطَعَ وَكَثُرَ كَوْثَرٌ هَذَا مَعْنَى الْكَوْثَرِ فِي اللُّغَةِ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَالْمُسْتَفِيضُ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، رَوَى أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَأَيْتُ نَهْرًا فِي الْجَنَّةِ حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ الْمُجَوَّفِ فَضَرَبْتُ بِيَدِي إِلَى مَجْرَى الْمَاءِ فَإِذَا أَنَا بِمِسْكٍ أَذْفَرَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ» وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ: «أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، فِيهِ طُيُورٌ خُضْرٌ لَهَا أَعْنَاقٌ كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ مَنْ أَكَلَ مِنْ ذَلِكَ الطَّيْرِ وَشَرِبَ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فَازَ بِالرِّضْوَانِ» وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ ذَلِكَ النَّهْرُ كَوْثَرًا إِمَّا لِأَنَّهُ أَكْثَرُ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ مَاءً وَخَيْرًا أَوْ لِأَنَّهُ انْفَجَرَ مِنْهُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ مَا فِي الْجَنَّةِ بُسْتَانٌ إِلَّا وَفِيهِ مِنَ الْكَوْثَرِ نَهْرٌ جَارٍ، أَوْ لِكَثْرَةِ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ مِنْهَا، أَوْ لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ» الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ حَوْضٌ وَالْأَخْبَارُ فِيهِ مَشْهُورَةٌ وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ، وَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّ النَّهْرَ يَنْصَبُّ فِي الْحَوْضِ أَوْ لَعَلَّ الْأَنْهَارَ إِنَّمَا تَسِيلُ مِنْ ذَلِكَ الْحَوْضِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْحَوْضُ كَالْمَنْبَعِ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْكَوْثَرُ أَوْلَادُهُ قَالُوا: لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ رَدًّا عَلَى مَنْ عَابَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعَدَمِ الْأَوْلَادِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُعْطِيهِ نَسْلًا يَبْقَوْنَ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ، فَانْظُرْ كَمْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، ثُمَّ الْعَالَمُ مُمْتَلِئٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ فِي الدُّنْيَا أَحَدٌ يُعْبَأُ بِهِ، ثُمَّ انْظُرْ كَمْ كَانَ فِيهِمْ مِنَ الْأَكَابِرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَالْبَاقِرِ وَالصَّادِقِ وَالْكَاظِمِ وَالرِّضَا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالنَّفْسُ الزَّكِيَّةُ وَأَمْثَالُهُمْ الْقَوْلُ الرَّابِعُ: الْكَوْثَرُ عُلَمَاءُ أُمَّتِهِ وَهُوَ لَعَمْرِي الْخَيْرُ الْكَثِيرِ لِأَنَّهُمْ كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ يُحِبُّونَ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْشُرُونَ آثَارَ دِينِهِ وَأَعْلَامَ شَرْعِهِ، وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى أُصُولِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ مُخْتَلِفِينَ فِي الشَّرِيعَةِ رَحْمَةً عَلَى الْخَلْقِ لِيَصِلَ كُلُّ أَحَدٍ إِلَى مَا هُوَ صَلَاحُهُ، كَذَا عُلَمَاءُ أُمَّتِهِ مُتَّفِقُونَ بِأَسْرِهِمْ عَلَى أُصُولِ شَرْعِهِ، لَكِنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ رَحْمَةً عَلَى الْخَلْقِ، ثُمَّ الْفَضِيلَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُرْوَى أَنَّهُ يُجَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِكُلِّ نَبِيٍّ وَيَتْبَعُهُ أُمَّتُهُ فَرُبَّمَا يَجِيءُ الرَّسُولُ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَيُجَاءُ بِكُلِّ عَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ أُمَّتِهِ وَمَعَهُ الْأُلُوفُ الْكَثِيرَةُ فَيَجْتَمِعُونَ عِنْدَ الرَّسُولِ فَرُبَّمَا يَزِيدُ عَدَدُ مُتَّبِعِي بَعْضِ الْعُلَمَاءِ عَلَى عَدَدِ مُتَّبِعِي أَلْفٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا مُصِيبِينَ لِاتِّبَاعِهِمُ النُّصُوصَ الْمَأْخُوذَةَ مِنَ الْوَحْيِ، وَعُلَمَاءُ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَكُونُونَ مُصِيبِينَ مَعَ كَدِّ الِاسْتِنْبَاطِ وَالِاجْتِهَادِ، أَوْ عَلَى قَوْلِ الْبَعْضِ: إِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُخْطِئًا لَكِنَّ الْمُخْطِئَ يَكُونُ أيضا مأجورا القول الخامس: الكوثر هو النُّبُوَّةُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا الْخَيْرُ الْكَثِيرُ لِأَنَّهَا الْمَنْزِلَةُ الَّتِي هِيَ ثَانِيَةُ الرُّبُوبِيَّةِ/ وَلِهَذَا قَالَ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النِّسَاءِ: 80] وَهُوَ شَطْرُ الْإِيمَانِ بَلْ هِيَ كَالْغُصْنِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ مَعْرِفَةَ النُّبُوَّةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَقَدَّمَهَا مَعْرِفَةُ ذَاتِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ

وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، ثُمَّ إِذَا حَصَلَتْ مَعْرِفَةُ النُّبُوَّةِ فَحِينَئِذٍ يُسْتَفَادُ مِنْهَا مَعْرِفَةُ بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالصِّفَاتِ الْخَيْرِيَّةِ وَالْوِجْدَانِيَّةِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ، ثم لِرَسُولِنَا الْحَظُّ الْأَوْفَرُ مِنْ هَذِهِ الْمَنْقَبَةِ، لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ قَبْلَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَبْعُوثُ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ هُوَ مَبْعُوثٌ إِلَى الثَّقَلَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي يُحْشَرُ قَبْلَ كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ عَلَى نَسْخِهِ وَفَضَائِلُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُعَدَّ وتحصى. ولنذكر هاهنا قَلِيلًا مِنْهَا، فَنَقُولُ: إِنَّ كِتَابَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ كَلِمَاتٍ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [الْبَقَرَةِ: 37] وَكِتَابَ إِبْرَاهِيمَ أَيْضًا كَانَ كَلِمَاتٍ عَلَى مَا قَالَ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ [الْبَقَرَةِ: 124] وَكِتَابَ مُوسَى كَانَ صُحُفًا كَمَا قَالَ: صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الْأَعْلَى: 19] أَمَّا كِتَابُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ هُوَ الْكِتَابُ الْمُهَيْمِنُ عَلَى الْكُلِّ، قَالَ: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَةِ: 48] وَأَيْضًا فَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا تَحَدَّى بِالْأَسْمَاءِ الْمَنْثُورَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ [الْبَقَرَةِ: 31] وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا تَحَدَّى بِالْمَنْظُومِ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الْإِسْرَاءِ: 88] وَأَمَّا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ بِأَنْ أَمْسَكَ سَفِينَتَهُ عَلَى الْمَاءِ، وَفَعَلَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ عَلَى شَطِّ مَاءٍ وَمَعَهُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَادْعُ ذَلِكَ الْحَجَرَ الَّذِي هُوَ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ فَلْيَسْبَحْ وَلَا يَغْرَقْ، فَأَشَارَ الرَّسُولُ إِلَيْهِ، فَانْقَلَعَ الْحَجَرُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ مَكَانِهِ وَسَبَحَ حَتَّى صَارَ بَيْنَ يَدَيِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَشَهِدَ لَهُ بِالرِّسَالَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْفِيكَ هَذَا؟ قَالَ: حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَكَانِهِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَرَجَعَ إِلَى مَكَانِهِ» ، وَأَكْرَمَ إِبْرَاهِيمَ فَجَعَلَ النَّارَ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَفَعَلَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ قَالَ: «كُنْتُ طِفْلًا فَانْصَبَّ الْقِدْرُ عَلَيَّ مِنَ النَّارِ، فَاحْتَرَقَ جِلْدِي كُلُّهُ فَحَمَلَتْنِي أُمِّي إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: هَذَا ابْنُ حَاطِبٍ احْتَرَقَ كَمَا تَرَى فَتَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِلْدِي وَمَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى الْمُحْتَرِقِ مِنْهُ، وَقَالَ: أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، فَصِرْتُ صَحِيحًا لَا بَأْسَ بِي» وَأَكْرَمَ موسى ففلق له البحر في الأرض، وكرم مُحَمَّدًا فَفَلَقَ لَهُ الْقَمَرَ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى فَرْقِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَفَجَّرَ لَهُ الْمَاءَ مِنَ الْحَجَرِ، وَفَجَّرَ لِمُحَمَّدٍ أَصَابِعَهُ عُيُونًا، وَأَكْرَمَ مُوسَى بِأَنْ ظَلَّلَ عَلَيْهِ الْغَمَامَ، وَكَذَا أَكْرَمَ مُحَمَّدًا بِذَلِكَ فَكَانَ الْغَمَامُ يُظَلِّلُهُ، وَأَكْرَمَ مُوسَى بِالْيَدِ الْبَيْضَاءِ، وَأَكْرَمَ مُحَمَّدًا بِأَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، الَّذِي وَصَلَ نُورُهُ إِلَى الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَقَلَبَ اللَّهُ عَصَا مُوسَى ثُعْبَانًا، وَلَمَّا أَرَادَ أَبُو جَهْلٍ أَنْ يَرْمِيَهُ بِالْحَجَرِ رَأَى عَلَى كَتِفَيْهِ ثُعْبَانَيْنِ، فَانْصَرَفَ مَرْعُوبًا، وَسَبَّحَتِ الْجِبَالُ مَعَ دَاوُدَ وَسَبَّحَتِ الْأَحْجَارُ فِي يَدِهِ وَيَدِ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ دَاوُدُ إِذَا مَسَكَ الْحَدِيدَ لَانَ، وَكَانَ هُوَ لَمَّا مَسَحَ الشَّاةَ الْجَرْبَاءَ دَرَّتْ، وَأَكْرَمَ دَاوُدَ بِالطَّيْرِ الْمَحْشُورَةِ وَمُحَمَّدًا بِالْبُرَاقِ، وَأَكْرَمَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَأَكْرَمَهُ بِجِنْسِ ذَلِكَ حِينَ أَضَافَهُ الْيَهُودُ بِالشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ، فَلَمَّا وَضَعَ اللُّقْمَةَ فِي فَمِهِ أَخْبَرَتْهُ، وَأَبْرَأَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، رُوِيَ/ أَنَّ امْرَأَةَ مُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ أَتَتْهُ وَكَانَتْ بَرْصَاءَ، وَشَكَتْ ذَلِكَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ بِغُصْنٍ فَأَذْهَبَ اللَّهُ الْبَرَصَ، وَحِينَ سَقَطَتْ حَدَقَةُ الرَّجُلِ يَوْمَ أحد فرفعها وَجَاءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَدَّهَا إِلَى مَكَانِهَا، وَكَانَ عِيسَى يَعْرِفُ مَا يُخْفِيهِ النَّاسُ فِي بُيُوتِهِمْ، وَالرَّسُولُ عَرَفَ مَا أَخَفَاهُ عَمُّهُ مَعَ أُمِّ الْفَضْلِ، فَأَخْبَرَهُ فَأَسْلَمَ الْعَبَّاسُ لِذَلِكَ، وَأَمَّا سُلَيْمَانُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَدَّ لَهُ الشَّمْسَ مَرَّةً، وَفَعَلَ ذَلِكَ أَيْضًا لِلرَّسُولِ حِينَ نَامَ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ عَلِيٍّ فَانْتَبَهَ وَقَدْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَرَدَّهَا حَتَّى صَلَّى، وَرَدَّهَا مَرَّةً أُخْرَى لِعَلِيٍّ فَصَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهِ، وَعَلَّمَ سُلَيْمَانَ مَنْطِقَ الطَّيْرِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ، رُوِيَ أَنَّ طَيْرًا فُجِعَ بِوَلَدِهِ فَجَعَلَ يُرَفْرِفُ عَلَى رَأْسِهِ

وَيُكَلِّمُهُ فَقَالَ: أَيُّكُمْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، فَقَالَ: ارْدُدْ إِلَيْهَا وَلَدَهَا! وَكَلَامُ الذِّئْبِ مَعَهُ مَشْهُورٌ، وَأَكْرَمَ سُلَيْمَانَ بِمَسِيرِهِ غُدْوَةً شَهْرًا وَأَكْرَمَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي سَاعَةٍ، وَكَانَ حِمَارُهُ يَعْفُورُ يُرْسِلُهُ إِلَى مَنْ، يُرِيدُ فَيَجِيءُ بِهِ، وَقَدْ شَكَوْا إِلَيْهِ مِنْ نَاقَةٍ أَنَّهَا أُغِيلَتْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهَا فَذَهَبَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا رَأَتْهُ خَضَعَتْ لَهُ، وَأَرْسَلَ مُعَاذًا إِلَى بَعْضِ النَّوَاحِي، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْمَفَازَةِ، فَإِذَا أَسَدٌ جَاثِمٌ فَهَالَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يستجر [ىء] أَنْ يَرْجِعَ، فَتَقَدَّمَ وَقَالَ: إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ فَتَبَصْبَصَ، وَكَمَا انْقَادَ الْجِنُّ لِسُلَيْمَانَ، فَكَذَلِكَ انْقَادُوا لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَحِينَ جَاءَ الْأَعْرَابِيُّ بِالضَّبِّ، وَقَالَ لَا أُؤْمِنُ بِكَ حَتَّى يُؤْمِنَ بِكَ هَذَا الضَّبُّ، فَتَكَلَّمَ الضَّبُّ مُعْتَرِفًا بِرِسَالَتِهِ، وَحِينَ كَفَلَ الظَّبْيَةَ حِينَ أَرْسَلَهَا الْأَعْرَابِيُّ رَجَعَتْ تَعْدُو حَتَّى أَخْرَجَتْهُ مِنَ الْكَفَالَةِ وَحَنَّتِ الحنانة لِفِرَاقِهِ، وَحِينَ لَسَعَتِ الْحَيَّةُ عَقِبَ الصِّدِّيقِ فِي الْغَارِ قَالَتْ: كُنْتُ مُشْتَاقَةً إِلَيْهِ مُنْذُ كَذَا سِنِينَ فَلِمَ حَجَبْتَنِي عَنْهُ! وَأَطْعَمَ الْخَلْقَ الْكَثِيرَ، مِنَ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ وَمُعْجِزَاتُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى وَتُعَدَّ، فَلِهَذَا قَدَّمَهُ اللَّهُ عَلَى الَّذِينَ اصْطَفَاهُمْ، فَقَالَ: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الْأَحْزَابِ: 7] فَلَمَّا كَانَتْ رِسَالَتُهُ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يُسَمِّيَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَوْثَرًا، فَقَالَ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ الْقَوْلُ السَّادِسُ: الْكَوْثَرُ هُوَ الْقُرْآنُ، وَفَضَائِلُهُ لَا تُحْصَى، وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لُقْمَانَ: 27] قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي [الْكَهْفِ: 109] الْقَوْلُ السَّابِعُ: الْكَوْثَرُ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ لَعَمْرِي الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، فَإِنَّ بِهِ يَحْصُلُ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَبِفَوَاتِهِ يَفُوتُ خَيْرُ الدُّنْيَا وَخَيْرُ الْآخِرَةِ، وَكَيْفَ لَا وَالْإِسْلَامُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَعْرِفَةِ، أَوْ مَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، قَالَ: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَةِ: 269] وَإِذَا كَانَ الْإِسْلَامُ خَيْرًا كَثِيرًا فَهُوَ الْكَوْثَرُ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ خَصَّهُ بِالْإِسْلَامِ، مَعَ أَنَّ نِعَمَهُ عَمَّتِ الْكُلَّ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَصَلَ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَالْأَصْلِ فِيهِ الْقَوْلُ الثَّامِنُ: الْكَوْثَرُ كَثْرَةُ الْأَتْبَاعِ وَالْأَشْيَاعِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لَهُ مِنَ الْأَتْبَاعِ مَا لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَالَ: «أَنَا دَعْوَةُ خَلِيلِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَا بُشْرَى عِيسَى، وَأَنَا مَقْبُولُ الشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَبَيْنَا أَكُونُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ، إِذْ تَظْهَرُ لَنَا أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ فَنَبْتَدِرُهُمْ بِأَبْصَارِنَا مَا مِنَّا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَهُوَ يَرْجُو أَنْ تَكُونَ أُمَّتَهُ، فَإِذَا هُمْ غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَأَقُولُ: أُمَّتِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ثُمَّ يَظْهَرُ لَنَا مِثْلُ مَا ظَهَرَ أَوَّلًا/ فَنَبْتَدِرُهُمْ بِأَبْصَارِنَا مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَيَرْجُو أَنْ تَكُونَ أُمَّتَهُ فَإِذَا هُمْ غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ فَأَقُولُ: أُمَّتِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، ثُمَّ يُرْفَعُ لَنَا ثَلَاثَةُ أَمْثَالِ مَا قَدْ رُفِعَ فَنَبْتَدِرُهُمْ، وَذَكَرَ كَمَا ذَكَرَ فِي المرة الأولى والثانية، ثم قال: ليدخلن ثَلَاثُ فِرَقٍ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ» وَلَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا تَكْثُرُوا، فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَوْ بِالسِّقْطِ» فَإِذَا كَانَ يُبَاهِي بِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ التَّكْلِيفِ، فَكَيْفَ بِمِثْلِ هَذَا الْجَمِّ الْغَفِيرِ، فَلَا جَرَمَ حَسُنَ مِنْهُ تَعَالَى أَنْ يُذَكِّرَهُ هَذِهِ النِّعْمَةَ الْجَسِيمَةَ فَقَالَ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ الْقَوْلُ التَّاسِعُ: الْكَوْثَرَ الْفَضَائِلُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي فِيهِ، فَإِنَّهُ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، قَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ: يُقَالُ رَجُلٌ كَوْثَرٌ إِذَا كَانَ سَخِيًّا كَثِيرَ الْخَيْرِ، وَفِي «صِحَاحِ اللُّغَةِ» : الْكَوْثَرُ السَّيِّدُ الْكَثِيرُ الْخَيْرِ، فَلَمَّا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا هَذِهِ الْفَضَائِلَ الْعَظِيمَةَ حَسُنَ مِنْهُ تَعَالَى أَنْ يُذَكِّرَهُ تِلْكَ النِّعْمَةَ الْجَسِيمَةَ فَيَقُولَ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ الْقَوْلُ الْعَاشِرُ: الْكَوْثَرُ رِفْعَةُ الذِّكْرِ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح: 4] الْقَوْلُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّهُ الْعِلْمُ قَالُوا: وَحَمْلُ الْكَوْثَرِ عَلَى هَذَا أَوْلَى لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ قَالَ: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النِّسَاءِ: 113] وَأَمَرَهُ بِطَلَبِ الْعِلْمِ، فَقَالَ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] وَسَمَّى الْحِكْمَةَ خَيْرًا كَثِيرًا، فَقَالَ: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ

خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَةِ: 269] وَثَانِيهَا: أَنَّا إِمَّا أَنْ نَحْمِلَ الْكَوْثَرَ عَلَى نِعَمِ الْآخِرَةِ، أَوْ عَلَى نِعَمِ الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ قَالَ: أَعْطَيْنَا، وَنِعَمُ الْجَنَّةِ سَيُعْطِيهَا لَا أَنَّهُ أَعْطَاهَا، فَوَجَبَ حَمْلُ الْكَوْثَرِ عَلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَأَشْرَفُ الْأُمُورِ الْوَاصِلَةِ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا هُوَ الْعِلْمُ وَالنُّبُوَّةُ دَاخِلَةٌ فِي الْعِلْمِ، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْعِلْمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ قَالَ عَقِيبَهُ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ وَالشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعِبَادَةِ هُوَ الْمَعْرِفَةُ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [2] : أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ وَقَالَ فِي طه [14] : إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي فَقَدَّمَ فِي السُّورَتَيْنِ الْمَعْرِفَةَ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَلِأَنَّ فَاءَ التَّعْقِيبِ فِي قَوْلِهِ: فَصَلِّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِعْطَاءَ الْكَوْثَرِ كَالْمُوجِبِ لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْعِبَادَةِ لَيْسَ إِلَّا الْعِلْمَ، الْقَوْلُ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ الْكَوْثَرَ هُوَ الْخُلُقُ الْحَسَنُ، قَالُوا: الِانْتِفَاعُ بِالْخُلُقِ الْحَسَنِ عَامٌّ يَنْتَفِعُ بِهِ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ وَالْبَهِيمَةُ وَالْعَاقِلُ، فَأَمَّا الِانْتِفَاعُ بِالْعِلْمِ، فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْعُقَلَاءِ، فَكَانَ نَفْعُ الْخُلُقِ الْحَسَنِ أَعَمَّ، فَوَجَبَ حَمْلُ الْكَوْثَرِ عَلَيْهِ، وَلَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَلِكَ كَانَ لِلْأَجَانِبِ كَالْوَالِدِ يَحُلُّ عُقَدَهُمْ وَيَكْفِي مُهِمَّهَمُ، وَبَلَغَ حُسْنُ خُلُقِهِ إِلَى أَنَّهُمْ لَمَّا كَسَرُوا سِنَّهُ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» الْقَوْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ: الْكَوْثَرُ هُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي هُوَ الشَّفَاعَةُ، فَقَالَ فِي الدُّنْيَا: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَالِ: 33] وَقَالَ فِي الْآخِرَةِ: «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً وَإِنِّي خَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» الْقَوْلُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكَوْثَرِ هُوَ هَذِهِ السُّورَةُ، قَالَ: وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَعَ/ قِصَرِهَا وَافِيَةٌ بِجَمِيعِ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْمُعْجِزِ مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُهَا: أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا الْكَوْثَرَ عَلَى كَثْرَةِ الْأَتْبَاعِ، أَوْ عَلَى كَثْرَةِ الْأَوْلَادِ، وَعَدَمِ انْقِطَاعِ النَّسْلِ كَانَ هَذَا إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ، وَقَدْ وَقَعَ مُطَابِقًا لَهُ، فَكَانَ مُعْجِزًا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قَالَ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى زَوَالِ الْفَقْرِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى النَّحْرِ، وَقَدْ وَقَعَ فَيَكُونُ هَذَا أَيْضًا إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ وَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا أَخْبَرَ فَكَانَ مُعْجِزًا وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهَا مَعَ صِغَرِهَا، فَثَبَتَ أَنَّ وَجْهَ الْإِعْجَازِ فِي كَمَالِ الْقُرْآنِ، إِنَّمَا تَقَرَّرَ بِهَا لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهَا مَعَ صِغَرِهَا فَبِأَنْ يَعْجِزُوا عَنْ مُعَارَضَةِ كُلِّ الْقُرْآنِ أَوْلَى، وَلَمَّا ظَهَرَ وَجْهُ الْإِعْجَازِ فِيهَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَقَدْ تَقَرَّرَتِ النُّبُوَّةُ وَإِذَا تَقَرَّرَتِ النُّبُوَّةُ فَقَدْ تَقَرَّرَ التَّوْحِيدُ وَمَعْرِفَةُ الصَّانِعِ، وَتَقَرَّرَ الدَّيْنُ وَالْإِسْلَامُ، وَتَقَرَّرَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَقَرَّرَ جَمِيعُ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَهَذِهِ السُّورَةُ جَارِيَةٌ مُجْرَى النُّكْتَةِ الْمُخْتَصَرَةِ الْقَوِيَّةِ الْوَافِيَةِ بِإِثْبَاتِ جَمِيعِ الْمَقَاصِدِ فَكَانَتْ صَغِيرَةً فِي الصُّورَةِ كَبِيرَةً فِي الْمَعْنَى، ثُمَّ لَهَا خَاصِّيَّةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا وَهِيَ أَنَّهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مُعْجِزٌ فَهِيَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ آيَاتِهَا مُعْجِزٌ وَبِمَجْمُوعِهَا مُعْجِزٌ وَهَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ لَا تُوجَدُ فِي سَائِرِ السُّوَرِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْكَوْثَرِ هُوَ هَذِهِ السُّورَةُ الْقَوْلُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكَوْثَرِ جَمِيعُ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّ لَفْظَ الْكَوْثَرِ يَتَنَاوَلُ الْكَثْرَةَ الْكَثِيرَةَ، فَلَيْسَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ النِّعَمِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْبَاقِي فَوَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى الْكُلِّ، وَرُوِيَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ لَمَّا رَوَى هَذَا الْقَوْلَ عَنِ ابن عباس قال له بعضهم: إنا نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهْرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَعْطَاهُ ذَلِكَ الْكَوْثَرَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَقْرَبُ حَمْلَهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ وَالنُّصْرَةِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَأَمَّا الْحَوْضُ وَسَائِرُ مَا أُعِدَّ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ فَهُوَ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِحُكْمِ وَعْدِ اللَّهِ فَهُوَ كَالْوَاقِعِ إِلَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ مَا قَدَّمْنَاهُ لِأَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ أُعِدَّ لَهُ فَلَا

[سورة الكوثر (108) : آية 2]

يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِنَّهُ أَعْطَاهُ فِي حَالِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَكَّةَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ مَنْ أَقَرَّ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ بِضَيْعَةٍ لَهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَعْطَاهُ تِلْكَ الضَّيْعَةَ مَعَ أَنَّ الصَّبِيَّ فِي تِلْكَ الْحَالِ لَا يَكُونُ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ وَاللَّهُ أعلم. [سورة الكوثر (108) : آية 2] فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: فَصَلِّ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ، فَإِنْ قِيلَ: اللَّائِقُ عِنْدَ النِّعْمَةِ الشُّكْرُ، فَلِمَ قَالَ: فَصَلِّ وَلَمْ يَقُلْ: فَاشْكُرْ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: / أَنَّ الشُّكْرَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّعْظِيمِ وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ أَحَدُهَا: يَتَعَلَّقُ بِالْقَلْبِ وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ وَالثَّانِي: بِاللِّسَانِ وَهُوَ أَنْ يَمْدَحَهُ وَالثَّالِثُ: بِالْعَمَلِ وَهُوَ أَنْ يَخْدِمَهُ وَيَتَوَاضَعَ لَهُ، وَالصَّلَاةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي، وَعَلَى مَا هُوَ أَزْيَدُ مِنْهَا فَالْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ أَمْرٌ بِالشُّكْرِ وَزِيَادَةٌ فَكَانَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ أَحْسَنَ وَثَانِيهَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ فَاشْكُرْ لَكَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّهُ مَا كَانَ شَاكِرًا لَكِنَّهُ كَانَ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِ عَارِفًا بِرَبِّهِ مُطِيعًا لَهُ شَاكِرًا لِنِعَمِهِ، أَمَّا الصَّلَاةُ فَإِنَّهُ إِنَّمَا عَرَفَهَا بِالْوَحْيِ، قَالَ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشُّورَى: 52] الثَّالِثُ: أَنَّهُ فِي أَوَّلِ مَا أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ قَالَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: كَيْفَ أُصَلِّي وَلَسْتُ عَلَى الوضوء، فقال الله: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ثُمَّ ضَرَبَ جِبْرِيلُ بِجَنَاحِهِ عَلَى الْأَرْضِ فَنَبَعَ مَاءُ الْكَوْثَرِ فَتَوَضَّأَ فَقِيلَ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ: فَصَلِّ، فَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَا الْكَوْثَرَ عَلَى الرِّسَالَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَعْطَيْتُكَ الرِّسَالَةَ لِتَأْمُرَ نَفْسَكَ وَسَائِرَ الْخَلْقِ بِالطَّاعَاتِ وَأَشْرَفُهَا الصَّلَاةُ فَصَلِّ لِرَبِّكَ الْقَوْلُ الثَّانِي: فَصَلِّ لِرَبِّكَ أَيْ فَاشْكُرْ لِرَبِّكَ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا فِي فَائِدَةِ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَصَلِّ وُجُوهًا أَحَدُهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ لَا عَلَى التَّرَاخِي وَثَانِيهَا: أن المراد من فاء التعقيب هاهنا الْإِشَارَةُ إِلَى مَا قَرَّرَهُ بِقَوْلِهِ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] ثُمَّ إِنَّهُ خَصَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ بِمَزِيدِ مُبَالَغَةٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحِجْرِ: 99] وَلِأَنَّهُ قَالَ له: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ أَيْ فَعَلَيْكَ بِأُخْرَى عَقِيبَ الْأُولَى فَكَيْفَ بَعْدَ وُصُولِ نِعْمَتِي إِلَيْكَ، أَلَا يَجِبَ عَلَيْكَ أَنْ تَشْرَعَ فِي الشُّكْرِ عَقِيبَ ذَلِكَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: فَصَلِّ أَيْ فَادْعُ اللَّهَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ هِيَ الدُّعَاءُ، وَفَائِدَةُ الْفَاءِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: «قَبْلَ سُؤَالِكَ وَدُعَائِكَ مَا بَخِلْنَا عَلَيْكَ بِالْكَوْثَرِ فَكَيْفَ بَعْدَ سُؤَالِكَ لَكِنْ سَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ» وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ أَبَدًا فِي هَمِّ أُمَّتِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى عُرْفِ الشَّرْعِ. الْمَسْأَلَةُ الثانية: في قوله: وَانْحَرْ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ نَحْرُ الْبُدْنِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَانْحَرْ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ، إِمَّا قَبْلَهَا أَوْ فِيهَا أَوْ بَعْدَهَا، ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهَا اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَثَانِيهَا: رَوَى الْأَصْبَغُ بْنُ نُبَاتَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِجِبْرِيلَ: «مَا هَذِهِ النَّحِيرَةُ الَّتِي أَمَرَنِي بِهَا رَبِّي؟ قَالَ لَيْسَتْ بِنَحِيرَةٍ وَلَكِنَّهُ يَأْمُرُكَ إِذَا تَحَرَّمْتَ لِلصَّلَاةِ أَنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ إِذَا كَبَّرْتَ وَإِذَا رَكَعْتَ وَإِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ وَإِذَا سَجَدْتَ فَإِنَّهُ صَلَاتُنَا، وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ في السموات السَّبْعِ وَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ زِينَةً، وَزِينَةُ الصَّلَاةِ رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ» وَثَالِثُهَا: رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي

طَالِبٍ أَنَّهُ فَسَّرَ هَذَا النَّحْرَ بِوَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى النَّحْرِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ: رَفْعُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَادَةُ الْمُسْتَجِيرِ الْعَائِذِ، وَوَضْعُهَا عَلَى النَّحْرِ عَادَةُ الْخَاضِعِ الْخَاشِعِ وَرَابِعُهَا: قَالَ عَطَاءٌ: مَعْنَاهُ اقْعُدْ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى يَبْدُوَ نَحْرُكَ وَخَامِسُهَا: رُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ أَنَّهُمَا قالا: وَانْحَرْ/ مَعْنَاهُ ارْفَعْ يَدَيْكَ عَقِيبَ الدُّعَاءِ إِلَى نَحْرِكَ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَأَصْلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا مِنَ النَّحْرِ الَّذِي هُوَ الصَّدْرُ يُقَالُ لِمَذْبَحِ الْبَعِيرِ النَّحْرُ لِأَنَّ مَنْحَرَهُ فِي صَدْرِهِ حَيْثُ يَبْدُو الْحُلْقُومُ مِنْ أَعْلَى الصَّدْرِ فَمَعْنَى النَّحْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ إِصَابَةُ النَّحْرِ كَمَا يُقَالُ: رَأْسُهُ وَبَطْنُهُ إِذَا أَصَابَ ذَلِكَ مِنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُ الْفَرَّاءِ إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: النَّحْرُ انْتِصَابُ الرَّجُلِ فِي الصَّلَاةِ بِإِزَاءِ الْمِحْرَابِ وَهُوَ أَنْ يَنْصِبَ نَحْرَهُ بِإِزَاءِ الْقِبْلَةِ، وَلَا يَلْتَفِتَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَنَازِلُهُمْ تَتَنَاحَرُ أَيْ تَتَقَابَلُ وَأَنْشَدَ: أَبَا حَكَمٍ هَلْ أَنْتَ عَمُّ مُجَالِدٍ ... وَسَيِّدُ أَهْلِ الْأَبْطَحِ الْمُتَنَاحِرِ وَالنُّكْتَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ فِيهِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الْكَعْبَةُ بَيْتِي وَهِيَ قِبْلَةُ صَلَاتِكَ وَقَلْبِكَ وَقِبْلَةُ رَحْمَتِي وَنَظَرُ عِنَايَتِي فَلْتَكُنِ الْقِبْلَتَانِ مُتَنَاحِرَتَيْنِ قَالَ: الْأَكْثَرُونَ حَمْلُهُ عَلَى نَحْرِ الْبُدْنِ أَوْلَى لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كُلَّمَا ذَكَرَ الصَّلَاةَ فِي كِتَابِهِ ذَكَرَ الزَّكَاةَ بَعْدَهَا وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يُصَلُّونَ وَيَنْحَرُونَ لِلْأَوْثَانِ فَقِيلَ لَهُ: فَصَلٍّ وَانْحَرْ لِرَبِّكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ آدَابُ الصَّلَاةِ وَأَبْعَاضُهَا فَكَانَتْ دَاخِلَةً تَحْتَ قَوْلِهِ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ النَّحْرِ غَيْرَهَا لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يُعْطَفَ بَعْضُ الشَّيْءِ عَلَى جَمِيعِهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: فَصَلِّ إِشَارَةٌ إِلَى التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: وَانْحَرْ إِشَارَةٌ إِلَى الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ وَجُمْلَةُ الْعُبُودِيَّةِ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ وَخَامِسُهَا: أَنَّ اسْتِعْمَالَ لَفْظَةِ النَّحْرِ عَلَى نَحْرِ الْبُدْنِ أَشْهَرُ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي سَائِرِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ، فَيَجِبُ حَمْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ اسْتَدَلَّتِ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ بِالنَّحْرِ، وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ فَعَلَهُ، لِأَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِذَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَجَبَ عَلَيْنَا مِثْلُهُ لِقَوْلِهِ: وَاتَّبِعُوهُ [الْأَعْرَافِ: 158] وَلِقَوْلِهِ: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: 31] وَأَصْحَابُنَا قَالُوا: الْأَمْرُ بِالْمُتَابَعَةِ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ: «ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمُ الضُّحَى وَالْأَضْحَى وَالْوِتْرُ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ مَنْ فَسَّرَ قَوْلَهُ: فَصَلِّ بِالصَّلَاةِ عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَرَادَ بِالصَّلَاةِ جِنْسَ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَيَنْحَرُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَأَمَرَهُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ وَلَا يَنْحَرَ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَاحْتَجَّ مَنْ جَوَّزَ تَأْخِيرَ بَيَانِ الْمُجْمَلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهُ مَا بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ هَذِهِ الصَّلَاةِ، أَجَابَ أَبُو مُسْلِمٍ وَقَالَ: أَرَادَ بِهِ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ أَعْنِي الْخَمْسَ وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ الْكَيْفِيَّةَ، لِأَنَّ الْكَيْفِيَّةَ كَانَتْ مَعْلُومَةً مِنْ قَبْلُ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَرَادَ صَلَاةَ الْعِيدِ وَالْأُضْحِيَّةَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقَدِّمُونَ الْأُضْحِيَّةَ عَلَى الصَّلَاةِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: هَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ بِالْوَاوِ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ صَلِّ الْفَجْرَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَانْحَرْ بِمِنَى، وَالْأَقْرَبُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ إِذَا قُرِنَ ذِكْرُ النَّحْرِ بِالصَّلَاةِ أَنْ تُحْمَلَ الصَّلَاةُ عَلَى مَا يَقَعُ يَوْمَ النَّحْرِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِرَبِّكَ فِيهَا فَوَائِدُ الْفَائِدَةُ الْأُولَى: هَذِهِ اللَّامُ لِلصَّلَاةِ كَالرُّوحِ لِلْبَدَنِ، فَكَمَا أَنَّ الْبَدَنَ مِنَ الْفَرْقِ إِلَى الْقَدَمِ إِنَّمَا يَكُونُ حَسَنًا مَمْدُوحًا إِذَا كَانَ فِيهِ رُوحٌ أَمَّا إِذَا كَانَ مَيِّتًا فَيَكُونُ مَرْمِيًّا، كَذَا الصَّلَاةُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَإِنْ حَسُنَتْ فِي الصُّورَةِ وَطَالَتْ، لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا لَامُ لِرَبِّكَ كَانَتْ مَيْتَةً مرمية،

وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَتْ صَلَاتُهُمْ وَنَحْرُهُمْ لِلصَّنَمِ فَقِيلَ لَهُ: لِتَكُنْ صَلَاتُكَ وَنَحْرُكَ لِلَّهِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: ذَكَرَ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ لِلْمُرَاءَاةِ فَصَلِّ أَنْتَ لَا لِلرِّيَاءِ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَصَلِّ تُفِيدُ سَبَبِيَّةَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: سَبَبِيَّةُ الْعِبَادَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: تَكْثِيرُ الْإِنْعَامِ عَلَيْكَ يُوجِبُ عَلَيْكَ الِاشْتِغَالَ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالثَّانِي: سَبَبِيَّةُ تَرْكِ الْمُبَالَاةِ كَأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لَهُ: إِنَّكَ أَبْتَرُ فَقِيلَ لَهُ: كَمَا أَنْعَمْنَا عَلَيْكَ بِهَذِهِ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ، فَاشْتَغِلْ أَنْتَ بِطَاعَتِكَ وَلَا تُبَالِ بِقَوْلِهِمْ وَهَذَيَانِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ النِّعَمُ الْكَثِيرَةُ مَحْبُوبَةً وَلَازِمُ الْمَحْبُوبِ مَحْبُوبٌ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَصَلِّ اقْتَضَتْ كَوْنَ الصَّلَاةِ مِنْ لَوَازِمِ تِلْكَ النِّعَمِ، لَا جَرَمَ صَارَتِ الصَّلَاةُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» وَلَقَدْ صلى حتى تورمت قدماه، فقيل له: أو ليس قَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» فَقَوْلُهُ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيَّ الِاشْتِغَالُ بِالطَّاعَةِ بِمُقْتَضَى الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَصَلِّ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: كَانَ الْأَلْيَقُ في الظاهر أن يقول: إن أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لَنَا وَانْحَرْ لَكِنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ لِفَوَائِدَ إِحْدَاهَا: أَنَّ وُرُودَهُ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ مِنْ أُمَّهَاتِ أَبْوَابِ الْفَصَاحَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ صَرْفَ الْكَلَامِ مِنَ الْمُضْمَرِ إِلَى الْمُظْهَرِ يُوجِبُ نَوْعَ عَظَمَةٍ وَمَهَابَةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخُلَفَاءِ لِمَنْ يُخَاطِبُونَهُمْ: يَأْمُرُكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَنْهَاكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ لَيْسَ فِي صَرِيحِ لَفْظِهِ أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ هُوَ اللَّهُ أَوْ غَيْرُهُ، وَأَيْضًا كَلِمَةُ إِنَّا تَحْتَمِلُ الْجَمْعَ كَمَا تَحْتَمِلُ الْوَاحِدَ الْمُعَظِّمَ نَفْسَهُ، فَلَوْ قَالَ: صَلِّ لَنَا، لَنُفِيَ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ وَهُوَ أَنَّهُ مَا كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ أَمْ لَهُ وَلِغَيْرِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيكِ، فَلِهَذَا تَرَكَ اللَّفْظَ، وَقَالَ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ لِيَكُونَ ذَلِكَ إِزَالَةً لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ وَتَصْرِيحًا بِالتَّوْحِيدِ فِي الطَّاعَةِ وَالْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ: فَصَلِّ لِلَّهِ لِأَنَّ لَفْظَ الرَّبِّ يُفِيدُ التَّرْبِيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ الْمُشَارَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ وَيُفِيدُ الْوَعْدَ الْجَمِيلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَنَّهُ يُرَبِّيهِ وَلَا يَتْرُكُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَذْكُورَ عَقِبَ الصَّلَاةِ هو الزكاة، فلم كان المذكور هاهنا هو النحر؟ والثاني: لما لَمْ يَقُلْ: ضَحِّ حَتَّى يَشْمَلَ جَمِيعَ أَنْوَاعِ/ الضَّحَايَا؟ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْعِيدِ، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ فِيهِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى مُطْلَقِ الصَّلَاةِ، فَلِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانَتْ صَلَوَاتُهُمْ وَقَرَابِينُهُمْ لِلْأَوْثَانِ، فَقِيلَ لَهُ: اجْعَلْهُمَا لِلَّهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا، بَلْ كَانَ يَمْلِكُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، فَلَا جَرَمَ لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ، أَمَّا النَّحْرُ فَقَدْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ: «ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَى أُمَّتِي الضُّحَى وَالْأَضْحَى وَالْوِتْرُ» وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَعَزَّ الْأَمْوَالِ عِنْدَ الْعَرَبِ هُوَ الْإِبِلُ فَأَمَرَهُ بِنَحْرِهَا وَصَرَفَهَا إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى تَنْبِيهًا عَلَى قَطْعِ الْعَلَائِقِ النَّفْسَانِيَّةِ عَنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا، رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَهْدَى مِائَةَ بَدَنَةٍ فِيهَا جَمَلٌ لِأَبِي جَهْلٍ فِي أَنْفِهِ بُرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ فَنَحَرَ هُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى أَعْيَا، ثُمَّ أَمَرَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ، وَكَانَتِ النُّوقُ يَزْدَحِمْنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ،

[سورة الكوثر (108) : آية 3]

فَلَمَّا أَخَذَ عَلِيٌّ السِّكِّينَ تَبَاعَدَتْ مِنْهُ وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ الصَّلَاةَ أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ فَقَرَنَ بِهَا أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الضَّحَايَا، وَأَيْضًا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّكَ بَعْدَ فَقْرِكَ تَصِيرُ بِحَيْثُ تَنْحَرُ الْمِائَةَ مِنَ الْإِبِلِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّحْرِ، لَا لِأَنَّ الْوَاوَ تُوجِبُ التَّرْتِيبَ، بَلْ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» . الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: السُّورَةُ مَكِّيَّةُ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ، وَكَانَ الْأَمْرُ بِالنَّحْرِ جَارِيًا مُجْرَى الْبِشَارَةِ بِحُصُولِ الدولة، وزوال الفقر والخوف. [سورة الكوثر (108) : آية 3] إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ يَدْخُلُ فَالْتَقَيَا فَتَحَدَّثَا، وَصَنَادِيدُ قُرَيْشٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمَّا دَخَلَ قَالُوا مَنِ الَّذِي كُنْتَ تَتَحَدَّثُ مَعَهُ؟ فَقَالَ: ذَلِكَ الْأَبْتَرُ، وَأَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ إِسْرَارِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَظْهَرَهُ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذَلِكَ مُعْجِزًا، وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا أَبْتَرُ لَا ابْنَ لَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ بعده، فإذا مات انقطع ذكره واسترحم مِنْهُ، وَكَانَ قَدْ مَاتَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ خَدِيجَةَ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ وَعَامَّةِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ الْقَوْلُ الثَّانِي: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا قَدِمَ كَعْبُ بْنُ الأشرف مكة أتاه جمامة قُرَيْشٍ فَقَالُوا: نَحْنُ أَهْلُ السِّقَايَةِ وَالسَّدَانَةِ وَأَنْتَ سَيِّدُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَنَحْنُ خَيْرٌ أَمْ هَذَا الْأَبْتَرُ مِنْ قَوْمِهِ، يَزْعُمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَّا؟ فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ خَيْرٌ مِنْهُ فَنَزَلَ: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ وَنَزَلَ أَيْضًا: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النِّسَاءِ: 51] ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ عِكْرِمَةُ وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: لَمَّا أَوْحَى اللَّهُ إِلَى رَسُولِهِ وَدَعَا قُرَيْشًا إِلَى الْإِسْلَامِ، قَالُوا: بَتَرَ مُحَمَّدٌ أَيْ خَالَفَنَا وَانْقَطَعَ/ عَنَّا، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ هُمُ الْمَبْتُورُونَ الْقَوْلُ الرَّابِعُ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ فَإِنَّهُ لَمَّا مَاتَ ابْنُ رَسُولِ الله قال أبو جهل: إن أُبْغِضُهُ لِأَنَّهُ أَبْتَرُ، وَهَذَا مِنْهُ حَمَاقَةٌ حَيْثُ أَبْغَضَهُ بِأَمْرٍ لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِهِ فَإِنَّ مَوْتَ الِابْنِ لَمْ يَكُنْ مُرَادَهُ الْقَوْلُ الْخَامِسُ: نَزَلَتْ فِي عَمِّهِ أَبِي لَهَبٍ فَإِنَّهُ لَمَّا شَافَهَهُ بِقَوْلِهِ: تَبًّا لَكَ كَانَ يَقُولُ فِي غَيْبَتِهِ: إِنَّهُ أَبْتَرُ وَالْقَوْلُ السَّادِسُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ فِي كُلِّ أُولَئِكَ الْكَفَرَةِ أَنْ يَقُولُوا مِثْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ مَا هُوَ أَسْوَأُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَعَلَّ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ كَانَ أَكْثَرَهُمْ مُوَاظَبَةً عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلِذَلِكَ اشْتَهَرَتِ الرِّوَايَاتُ بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الشَّنَآنُ هُوَ الْبُغْضُ وَالشَّانِئُ هُوَ الْمُبْغِضُ، وَأَمَّا الْبَتْرُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ اسْتِئْصَالُ الْقَطْعِ يُقَالُ: بَتَرْتُهُ أَبْتُرُهُ بَتْرًا وَبُتِرَ أَيْ صَارَ أَبْتَرَ وَهُوَ مَقْطُوعُ الذَّنَبِ، وَيُقَالُ: لِلَّذِي لَا عَقِبَ لَهُ أَبْتَرُ، وَمِنْهُ الْحِمَارُ الْأَبْتَرُ الَّذِي لَا ذَنَبَ لَهُ، وَكَذَلِكَ لِمَنِ انْقَطَعَ عَنْهُ الْخَيْرُ. ثُمَّ إِنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا وَصَفُوهُ بِذَلِكَ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ هُوَ ذَلِكَ الْمُبَغِضُ عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ فِيهِ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ هُوَ الْعَالِمُ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا عَالِمَ غَيْرُهُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُ الْكُفَّارِ فِيهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّهُ أَبْتَرُ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ انْقَطَعَ الْخَيْرُ عَنْهُ.

ثُمَّ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى خَيْرٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ عَلَى جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَيَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَتْ قُرَيْشٌ يَقُولُونَ لِمَنْ مَاتَ الذُّكُورُ مِنْ أَوْلَادِهِ بُتِرَ، فَلَمَّا مَاتَ ابْنُهُ الْقَاسِمُ وَعَبْدُ اللَّهِ بِمَكَّةَ وَإِبْرَاهِيمُ بِالْمَدِينَةِ قَالُوا: بُتِرَ فَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ عَدُوَّهُ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنَّا نَرَى أَنَّ نَسْلَ أُولَئِكَ الْكَفَرَةِ قَدِ انْقَطَعَ، وَنَسْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلَّ يَوْمٍ يَزْدَادُ وَيَنْمُو وَهَكَذَا يَكُونُ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ وَثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ: عَنَوْا بِكَوْنِهِ أَبْتَرَ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ عَنِ الْمَقْصُودِ قَبْلَ بُلُوغِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ خَصْمَهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ صَارُوا مُدْبِرِينَ مَغْلُوبِينَ مَقْهُورِينَ، وَصَارَتْ رَايَاتُ الْإِسْلَامِ عَالِيَةً، وَأَهْلُ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ لَهَا مُتَوَاضِعَةٌ وَثَالِثُهَا: زَعَمُوا أَنَّهُ أَبْتَرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نَاصِرٌ وَمُعِينٌ، وَقَدْ كَذَّبُوا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ مَوْلَاهُ، وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا الْكَفَرَةُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ نَاصِرٌ وَلَا حَبِيبٌ وَرَابِعُهَا: الْأَبْتَرُ هُوَ الْحَقِيرُ الذَّلِيلُ، رُوِيَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ اتَّخَذَ ضِيَافَةً لِقَوْمٍ، ثُمَّ إِنَّهُ وَصَفَ رَسُولَ اللَّهِ بِهَذَا الْوَصْفِ، ثُمَّ قَالَ: قُومُوا حَتَّى نَذْهَبَ إِلَى مُحَمَّدٍ وَأُصَارِعَهُ وَأَجْعَلَهُ ذَلِيلًا حَقِيرًا، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى دَارِ خَدِيجَةَ وَتَوَافَقُوا عَلَى ذَلِكَ أَخْرَجَتْ خَدِيجَةُ بِسَاطًا، فَلَمَّا تَصَارَعَا جَعَلَ أَبُو جَهْلٍ يَجْتَهِدُ فِي أَنْ يَصْرَعَهُ، وَبَقِيَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاقِفًا كَالْجَبَلِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ رَمَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَقْبَحِ وَجْهٍ، فَلَمَّا رَجَعَ أَخَذَهُ بِالْيَدِ الْيُسْرَى، لِأَنَّ الْيُسْرَى لِلِاسْتِنْجَاءِ، فَكَانَ نَجِسًا فَصَرَعَهُ عَلَى الْأَرْضِ مَرَّةً أُخْرَى وَوَضَعَ قَدَمَهُ عَلَى صَدْرِهِ، فَذَكَرَ بَعْضُ الْقُصَّاصِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْكَفَرَةَ لَمَّا وَصَفُوهُ بِهَذَا الْوَصْفِ، قِيلَ: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ/ الْأَبْتَرُ أَيِ الَّذِي قَالُوهُ فِيكَ كَلَامٌ فَاسِدٌ يَضْمَحِلُّ وَيَفْنَى، وَأَمَّا الْمَدْحُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِيكَ، فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ وَسَادِسُهَا: أَنَّ رَجُلًا قَامَ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَالَ: سَوَّدْتَ وُجُوهَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ تَرَكْتَ الْإِمَامَةَ لِمُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: لا تؤذيني يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَأَى بَنِي أُمَيَّةَ فِي الْمَنَامِ يَصْعَدُونَ مِنْبَرَهُ رَجُلًا فَرَجُلًا فَسَاءَهُ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَكَانَ مُلْكُ بَنِي أُمَيَّةَ كَذَلِكَ، ثُمَّ انْقَطَعُوا وَصَارُوا مَبْتُورِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْكُفَّارُ لَمَّا شَتَمُوهُ، فَهُوَ تَعَالَى أَجَابَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ فَقَالَ: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ وَهَكَذَا سُنَّةُ الْأَحْبَابِ، فَإِنَّ الْحَبِيبَ إِذَا سَمِعَ مَنْ يَشْتُمُ حَبِيبَهُ تَوَلَّى بِنَفْسِهِ جَوَابَهُ، فَهَهُنَا تَوَلَّى الْحَقُّ سُبْحَانَهُ جَوَابَهُمْ، وَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ حِينَ قَالُوا: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سَبَأٍ: 7، 8] فَقَالَ سُبْحَانَهُ: بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ [سَبَأٍ: 8] وَحِينَ قَالُوا: هُوَ مَجْنُونٌ أَقْسَمَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [الْقَلَمِ: 2] وَلَمَّا قَالُوا: لَسْتَ مُرْسَلًا [الرَّعْدِ: 43] أَجَابَ فَقَالَ: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس: 1- 3] وَحِينَ قَالُوا: أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصَّافَّاتِ: 36] رَدَّ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [الصَّافَّاتِ: 37] فَصَدَّقَهُ، ثم ذكر وعيد خصمائه، وقال: إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ [الصَّافَّاتِ: 38] وَحِينَ قَالَ حَاكِيًا: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ [الطُّورِ: 30] قَالَ: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ [يس: 69] ولما حكى عنهم قوله: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الْفُرْقَانِ: 4] سَمَّاهُمْ كَاذِبِينَ بِقَوْلِهِ: فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً [الْفُرْقَانِ: 4] وَلَمَّا قَالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفُرْقَانِ: 7] أَجَابَهُمْ فَقَالَ: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الْفُرْقَانِ: 20] فَمَا أَجَلَّ هَذِهِ الْكَرَامَةَ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَشَّرَهُ بِالنِّعَمِ الْعَظِيمَةِ، وَعَلِمَ تَعَالَى أَنَّ النِّعْمَةَ لَا تَهْنَأُ إِلَّا إِذَا صَارَ الْعَدُوُّ مَقْهُورًا، لَا جَرَمَ وَعَدَهُ بِقَهْرِ الْعَدُوِّ فَقَالَ: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ وَفِيهِ لَطَائِفُ إِحْدَاهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَا أَفْعَلُهُ لِكَيْ يَرَى بَعْضَ أَسْبَابِ دَوْلَتِكَ، وَبَعْضَ أَسْبَابِ مِحْنَةِ نَفْسِهِ فَيَقْتُلَهُ الْغَيْظُ وَثَانِيهَا: وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ شَانِئًا، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هَذَا الَّذِي يُبْغِضُكَ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ سِوَى أَنَّهُ يُبْغِضُكَ، وَالْمُبْغِضُ إِذَا عَجَزَ عَنِ الْإِيذَاءِ، فَحِينَئِذٍ يَحْتَرِقُ قَلْبُهُ غَيْظًا وَحَسَدًا، فَتَصِيرُ تِلْكَ الْعَدَاوَةُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ حُصُولِ الْمِحْنَةِ لِذَلِكَ الْعَدُوِّ وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا صَارَ أَبْتَرَ، لِأَنَّهُ كَانَ شَانِئًا لَهُ وَمُبْغِضًا، وَالْأَمْرُ بِالْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مَنْ عَادَى مَحْسُودًا فَقَدْ عَادَى اللَّهَ تعالى، لا سيما من تكفل بإعلان شَأْنِهِ وَتَعْظِيمِ مَرْتَبَتِهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْعَدُوَّ وَصَفَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَنَفْسَهُ بِالْكَثْرَةِ وَالدَّوْلَةِ، فَقَلَبَ اللَّهُ الْأَمْرَ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْعَزِيزُ مَنْ أَعَزَّهُ اللَّهُ، وَالذَّلِيلُ مَنْ أَذَلَّهُ اللَّهُ، فَالْكَثْرَةُ وَالْكَوْثَرُ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْأَبْتَرِيَّةُ وَالدَّنَاءَةُ وَالذِّلَّةُ لِلْعَدُوِّ، فَحَصَلَ بَيْنَ أَوَّلِ السُّورَةِ وَآخِرِهَا نَوْعٌ مِنَ الْمُطَابَقَةِ لِطَيْفٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ تَأَمَّلَ فِي مَطَالِعِ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَقَاطِعِهَا عَرَفَ أَنَّ الْفَوَائِدَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ مِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ السُّورَةِ كَالْقَطْرَةِ فِي الْبَحْرِ. رُوِيَ عَنْ مُسَيْلِمَةَ أَنَّهُ عَارَضَهَا فَقَالَ: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْجَمَاهِرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَجَاهِرْ، إِنَّ مُبْغَضَكَ رَجُلٌ كَافِرٌ، وَلَمْ يَعْرِفِ الْمَخْذُولُ أَنَّهُ مَحْرُومٌ عَنِ الْمَطْلُوبِ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَلْفَاظَ وَالتَّرْتِيبَ مَأْخُوذَانِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ مُعَارَضَةً وَثَانِيهَا: أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ كَالتَّتِمَّةِ لِمَا قَبْلَهَا، وَكَالْأَصْلِ لِمَا بَعْدَهَا، فَذِكْرُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَحْدَهَا يَكُونُ إِهْمَالًا لِأَكْثَرِ لِطَائِفِ هَذِهِ السُّورَةِ وَثَالِثُهَا: التَّفَاوُتُ الْعَظِيمُ الَّذِي يُقِرُّ بِهِ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ سَلِيمٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّ مُبْغِضَكَ رَجُلٌ كَافِرٌ، وَمِنْ لَطَائِفِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ الْكُفَّارِ وَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفٍ آخَرَ، فَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ لَا وَلَدَ لَهُ، وَآخَرُ بِأَنَّهُ لَا مُعِينَ لَهُ وَلَا نَاصِرَ لَهُ، وَآخَرُ بِأَنَّهُ لَا يَبْقَى مِنْهُ ذِكْرٌ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مَدَحَهُ مَدْحًا أَدْخَلَ فِيهِ كُلَّ الْفَضَائِلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقَيِّدُ ذَلِكَ الْكَوْثَرَ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ، لَا جَرَمَ تَنَاوَلَ جَمِيعَ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ أَمَرَهُ حَالَ حَيَاتِهِ بِمَجْمُوعِ الطَّاعَاتِ، لِأَنَّ الطَّاعَاتِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ طَاعَةَ الْبَدَنِ أَوْ طَاعَةَ الْقَلْبِ، أَمَّا طَاعَةُ الْبَدَنِ فَأَفْضَلُهُ شَيْئَانِ، لِأَنَّ طَاعَةَ الْبَدَنِ هِيَ الصَّلَاةُ، وَطَاعَةَ الْمَالِ هِيَ الزَّكَاةُ، وَأَمَّا طَاعَةُ الْقَلْبِ فَهُوَ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِشَيْءٍ إِلَّا لِأَجْلِ اللَّهِ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِرَبِّكَ يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، ثُمَّ كَأَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ الْقَلْبِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ طَاعَةِ الْبَدَنِ، فَقَدَّمَ طَاعَةَ الْبَدَنِ فِي الذِّكْرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَصَلِّ وَأَخَّرَ اللَّامَ الدَّالَّةَ عَلَى طَاعَةِ الْقَلْبِ تَنْبِيهًا عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ أَهْلِ الْإِبَاحَةِ فِي أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَسْتَغْنِي بِطَاعَةِ قَلْبِهِ عَنْ طَاعَةِ جَوَارِحِهِ، فَهَذِهِ اللَّامُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْإِبَاحَةِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِخْلَاصِ، ثُمَّ نَبَّهَ بِلَفْظِ الرَّبِّ عَلَى عُلُوِّ حَالِهِ فِي الْمَعَادِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: كُنْتُ رَبَّيْتُكَ قَبْلَ وُجُودِكَ، أَفَأَتْرُكُ تَرْبِيَتَكَ بَعْدَ مُوَاظَبَتِكَ عَلَى هَذِهِ الطَّاعَاتِ، ثُمَّ كَمَا تَكَفَّلَ أَوَّلًا بِإِفَاضَةِ النِّعَمِ عَلَيْهِ تَكَفَّلَ فِي آخِرِ السُّورَةِ بِالذَّبِّ عَنْهُ وَإِبْطَالِ قَوْلِ أَعْدَائِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْأَوَّلُ بِإِفَاضَةِ النِّعَمِ، وَالْآخِرُ بِتَكْمِيلِ النِّعَمِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

سورة الكافرون

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الكافرون ست آيات مكية اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ تُسَمَّى سُورَةَ الْمُنَابِذَةِ وَسُورَةَ الْإِخْلَاصِ وَالْمُقَشْقِشَةَ، وَرُوِيَ أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا فَكَأَنَّمَا قَرَأَ رُبْعَ الْقُرْآنِ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَأْمُورَاتِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُلُوبِ وَإِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَوَارِحِ وَهَذِهِ السُّورَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ فَتَكُونُ رُبْعًا لِلْقُرْآنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سورة الكافرون (109) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) اعلم أن قوله تعالى: فِيهِ فَوَائِدُ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَأْمُورًا بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ كَمَا قال: قُلْ فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] «1» بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ثُمَّ كَانَ مَأْمُورًا بِأَنْ يَدْعُوَ إِلَى اللَّهِ بِالْوَجْهِ الْأَحْسَنِ: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْلِ: 125] وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ خَاطَبَهُمْ بيا أيها الْكَافِرُونَ فَكَانُوا يَقُولُونَ: كَيْفَ يَلِيقُ هَذَا التَّغْلِيظُ بِذَلِكَ الرِّفْقِ فَأَجَابَ بِأَنِّي مَأْمُورٌ بِهَذَا الْكَلَامِ لَا أَنِّي ذَكَرْتُهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِي فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ تَقْرِيرَ هَذَا الْمَعْنَى وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاءِ: 214] وَهُوَ كَانَ يُحِبُّ أَقْرِبَاءَهُ لِقَوْلِهِ: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشُّورَى: 23] فَكَانَتِ الْقَرَابَةُ وَوَحْدَةُ النَّسَبِ كَالْمَانِعِ مِنْ إِظْهَارِ الْخُشُونَةِ فَأُمِرَ بِالتَّصْرِيحِ بِتِلْكَ الْخُشُونَةِ وَالتَّغْلِيظِ فَقِيلَ لَهُ: قُلْ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [الْمَائِدَةِ: 67] فَأُمِرَ بِتَبْلِيغِ كُلِّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَلَمَّا قال الله تعالى له: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ نَقَلَ هُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا الْكَلَامَ بِجُمْلَتِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَنِي بِتَبْلِيغِ كُلِّ مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ وَالَّذِي أُنْزِلَ عَلَيَّ هو مجموع قوله: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ فَأَنَا أَيْضًا أُبَلِّغُهُ إِلَى الْخَلْقِ هَكَذَا وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِوُجُودِ الصَّانِعِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ، عَلَى مَا قَالَ/ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: 25] وَالْعَبْدُ يَتَحَمَّلُ مِنْ مَوْلَاهُ مَا لَا يَتَحَمَّلُهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَوْ أنه عليه السلام قال ابتداء: (يا أيها الْكَافِرُونَ) لَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامَ مُحَمَّدٍ، فَلَعَلَّهُمْ مَا كَانُوا يَتَحَمَّلُونَهُ مِنْهُ وَكَانُوا يُؤْذُونَهُ. أَمَّا لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ: قُلْ عَلِمُوا أَنَّهُ ينقل هذا التغليظ عن خالق السموات وَالْأَرْضِ، فَكَانُوا يَتَحَمَّلُونَهُ وَلَا يَعْظُمُ تَأَذِّيهِمْ بِهِ وخامسها: أن

_ (1) في المطبوعة: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) وهو خطأ لا يتفق حسب الآية المذكورة في سورة آل عمران.

قَوْلَهُ: قُلْ يُوجِبُ كَوْنَهُ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ الله، فكلما قِيلَ لَهُ: قُلْ كَانَ ذَلِكَ كَالْمَنْشُورِ الْجَدِيدِ فِي ثُبُوتِ رِسَالَتِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُبَالَغَةَ فِي تَعْظِيمِ الرَّسُولِ، فَإِنَّ الْمَلِكَ إِذَا فَوَّضَ مَمْلَكَتَهُ إِلَى بَعْضِ عَبِيدِهِ، فَإِذَا كَانَ يَكْتُبُ لَهُ كُلَّ شَهْرٍ وَسَنَةٍ مَنْشُورًا جَدِيدًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى غَايَةِ اعْتِنَائِهِ بِشَأْنِهِ، وَأَنَّهُ عَلَى عَزْمٍ أَنْ يَزِيدَهُ كُلَّ يَوْمٍ تَعْظِيمًا وَتَشْرِيفًا وَسَادِسُهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا قَالُوا: نَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً، وتعب د آلِهَتَنَا سَنَةً، فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: اسْتَأْمَرْتُ إليه فيه. فقال: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَسَابِعُهَا: الْكُفَّارُ قَالُوا فِيهِ السُّوءَ، فَهُوَ تَعَالَى زَجَرَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَأَجَابَهُمْ وَقَالَ: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الْكَوْثَرِ: 3] وَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: حِينَ ذَكَرُوكَ بِسُوءٍ، فَأَنَا كُنْتُ الْمُجِيبَ بِنَفْسِي، فَحِينَ ذَكَرُونِي بِالسُّوءِ وَأَثْبَتُوا لِيَ الشُّرَكَاءَ، فَكُنْ أَنْتَ الْمُجِيبَ: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَثَامِنُهَا: أَنَّهُمْ سَمَّوْكَ أَبْتَرَ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَسْتَوْفِيَ مِنْهُمُ الْقِصَاصَ، فَاذْكُرْهُمْ بِوَصْفِ ذَمٍّ بِحَيْثُ تَكُونُ صَادِقًا فيه: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لَكِنَّ الْفَرْقَ أَنَّهُمْ عَابُوكَ بِمَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِكَ وَأَنْتَ تَعِيبُهُمْ بِمَا هُوَ فِعْلُهُمْ وَتَاسِعُهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَقُولَ: يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَهُ، وَالْكُفَّارُ يَقُولُونَ: هَذَا كَلَامُ رَبِّكَ أَمْ كَلَامُكَ، فَإِنْ كَانَ كَلَامَ رَبِّكَ فَرَبُّكَ يَقُولُ: أَنَا لَا أَعْبُدُ هَذِهِ الْأَصْنَامَ، وَنَحْنُ لَا نَطْلُبُ هَذِهِ الْعِبَادَةَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّمَا نَطْلُبُهَا مِنْكَ، وَإِنْ كَانَ هَذَا كَلَامَكَ فَأَنْتَ قُلْتَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِكَ إِنِّي لَا أَعْبُدُ هَذِهِ الْأَصْنَامَ، فَلِمَ قُلْتَ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الَّذِي أَمَرَكَ بِذَلِكَ، أَمَّا لِمَا قَالَ: قُلْ، سَقَطَ هَذَا الِاعْتِرَاضُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ لَا يَعْبُدَهَا وَيَتَبَرَّأَ منها وعاشرها: أنه لو أنزل قوله: يا أيها الْكَافِرُونَ لَكَانَ يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِمْ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخُونَ فِي الْوَحْيِ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: قُلْ كَانَ ذَلِكَ كَالتَّأْكِيدِ فِي إِيجَابِ تَبْلِيغِ هَذَا الْوَحْيِ إِلَيْهِمْ، وَالتَّأْكِيدُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَمْرٌ عَظِيمٌ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَدُلُّ هَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَى أَنَّ الَّذِي قَالُوهُ وَطَلَبُوهُ مِنَ الرَّسُولِ أَمْرٌ مُنْكَرٌ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ وَنِهَايَةِ الْفُحْشِ الْحَادِيَ عَشَرَ: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ كَانَتِ التَّقِيَّةُ جَائِزَةً عِنْدَ الْخَوْفِ، أَمَّا الْآنَ لَمَّا قَوَّيْنَا قَلْبَكَ بِقَوْلِنَا: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ وَبِقَوْلِنَا: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ فَلَا تبال بهم ولا تلتفت إليهم وقل يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ خِطَابَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ يُوجِبُ التَّعْظِيمَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ أَقْسَامِ إِهَانَةِ الْكُفَّارِ أَنَّهُ تعالى لا يكلمهم، فلو قال: (يا أيها الْكَافِرُونَ) لَكَانَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ يُوجِبُ التَّعْظِيمَ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ وَصْفٌ لَهُمْ بِالْكُفْرِ يُوجِبُ الْإِيذَاءَ فَيَنْجَبِرُ الْإِيذَاءُ بِالْإِكْرَامِ، أما لما قال: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ تَشْرِيفُ/ الْمُخَاطَبَةِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَرْجِعُ الْإِهَانَةُ الْحَاصِلَةُ لَهُمْ بِسَبَبِ وَصْفِهِمْ بِالْكُفْرِ إِلَى الْكُفَّارِ، فَيَحْصُلُ فِيهِ تَعْظِيمُ الْأَوْلِيَاءِ، وَإِهَانَةُ الْأَعْدَاءِ، وَذَلِكَ هُوَ النِّهَايَةُ فِي الْحُسْنِ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنْهُمْ، وَكَانَ فِي غَايَةِ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ، وَكَانُوا يَعْلَمُونَ مِنْهُ أَنَّهُ شَدِيدُ الِاحْتِرَازِ عَنِ الْكَذِبِ، وَالْأَبُ الَّذِي يَكُونُ فِي غَايَةِ الشَّفَقَةِ بِوَلَدِهِ، وَيَكُونُ فِي نِهَايَةِ الصِّدْقِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْكَذِبِ ثُمَّ إِنَّهُ يَصِفُ وَلَدَهُ بِعَيْبٍ عَظِيمٍ فَالْوَلَدُ إِنْ كَانَ عَاقِلًا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَا وَصَفَهُ بِذَلِكَ مَعَ غَايَةِ شَفَقَتِهِ عَلَيْهِ إِلَّا لِصِدْقِهِ فِي ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ بَلَغَ مَبْلَغًا لَا يَقْدِرُ عَلَى إِخْفَائِهِ، فَقَالَ تَعَالَى قُلْ يَا مُحَمَّدُ لَهُمْ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لِيَعْلَمُوا أَنَّكَ لَمَّا وَصَفْتَهُمْ بِذَلِكَ مَعَ غَايَةِ شَفَقَتِكَ عَلَيْهِمْ وَغَايَةِ احْتِرَازِكَ عَنِ الْكَذِبِ فَهُمْ مَوْصُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الْقَبِيحَةِ، فَرُبَّمَا يَصِيرُ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْهَا الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ الْإِيذَاءَ وَالْإِيحَاشَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى أَشَدُّ وَأَصْعَبُ مِنَ الْغَيْرِ فَأَنْتَ مِنْ قَبِيلَتِهِمْ، وَنَشَأْتَ فِيمَا بَيْنَ أظهرهم فقل لهم: يا أيها الْكَافِرُونَ فَلَعَلَّهُ يَصْعُبُ ذَلِكَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى الْبَحْثِ وَالنَّظَرِ وَالْبَرَاءَةِ عَنِ الْكُفْرِ الْخَامِسَ عَشَرَ: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: أَلَسْنَا بَيَّنَّا فِي سُورَةِ: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا

بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَفِي سُورَةِ الْكَوْثَرِ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ وَأَتَيْتَ بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ بِمُقْتَضَى قَوْلِنَا: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ بَقِيَ عَلَيْكَ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، وَذَلِكَ هُوَ أَنْ تَمْنَعَهُمْ بِلِسَانِكَ وَبُرْهَانِكَ عَنْ عِبَادَةِ غير الله، فقل: يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ السَّادِسَ عَشَرَ: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ أَنَسِيتَ أَنَّنِي لَمَّا أَخَّرْتُ الْوَحْيَ عَلَيْكَ مُدَّةً قَلِيلَةً، قَالَ الْكَافِرُونَ: إِنَّهُ وَدَّعَهُ رَبُّهُ وَقَلَاهُ، فَشَقَّ عَلَيْكَ ذَلِكَ غَايَةَ الْمَشَقَّةِ، حَتَّى أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ السُّورَةَ، وأقسمت بالضحى والليل إذا سجى أنه ما ودعك ربك وما قلى فَلَمَّا لَمْ تَسْتَجِزْ أَنْ أَتْرُكَكَ شَهْرًا وَلَمْ يَطِبْ قَلْبُكَ حَتَّى نَادَيْتُ فِي الْعَالَمِ بِأَنَّهُ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى أَفَتَسْتَجِيزُ أَنْ تَتْرُكَنِي شَهْرًا وَتَشْتَغِلَ بِعِبَادَةِ آلِهَتِهِمْ فَلَمَّا نَادَيْتُ بِنَفْيِ تِلْكَ التُّهْمَةِ، فَنَادِ أَنْتَ أَيْضًا فِي العالم بنفي هذه التهمة وقل يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، السَّابِعَ عَشَرَ: لَمَّا سَأَلُوا مِنْهُ أَنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ سَنَةً وَيَعْبُدُوا إِلَهَهُ سَنَةً، فَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَكَتَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، لَا لِأَنَّهُ جَوَّزَ فِي قَلْبِهِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي قَالُوهُ حَقًّا، فَإِنَّهُ كَانَ قَاطِعًا بِفَسَادِ مَا قَالُوهُ لَكِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، تَوَقَّفَ فِي أَنَّهُ بِمَاذَا يُجِيبُهُمْ؟ أَبِأَنْ يُقِيمَ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ أَوْ بِأَنْ يَزْجُرَهُمْ بِالسَّيْفِ أَوْ بِأَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَذَابًا، فَاغْتَنَمَ الْكُفَّارُ ذَلِكَ السُّكُوتَ وَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا مَالَ إِلَى دِينِنَا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ تَوَقُّفَكَ عَنِ الْجَوَابِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَقٌّ وَلَكِنَّهُ أَوْهَمَ بَاطِلًا، فَتَدَارَكْ إِزَالَةَ ذَلِكَ الْبَاطِلِ، وَصَرِّحْ بِمَا هُوَ الحق وقل يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ لَهُ رَبُّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ: أَثْنِ عَلَيَّ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ هَيْبَةُ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فَقَالَ: لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، فَوَقَعَ ذَلِكَ السُّكُوتُ مِنْهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فَكَأَنَّهُ/ قِيلَ لَهُ: إِنْ سَكَتَّ عَنِ الثَّنَاءِ رِعَايَةً لِهَيْبَةِ الْحَضْرَةِ فَأَطْلِقْ لِسَانَكَ فِي مَذَمَّةِ الأعداء وقل يا أيها الكافرون حتى يكون سكوتك الله وكلامك الله، وَفِيهِ تَقْرِيرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ هَيْبَةَ الْحَضْرَةِ سلبت عنك قدرة القول فقل: هاهنا حَتَّى إِنَّ هَيْبَةَ قَوْلِكَ تَسْلُبُ قُدْرَةَ الْقَوْلِ عَنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ التَّاسِعَ عَشَرَ: لَوْ قَالَ لَهُ: لَا تَعْبُدْ مَا يَعْبُدُونَ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ أَمَّا لَمَّا أَمَرَهُ بِأَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَعْبُدَ مَا يَعْبُدُونَ إِذْ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَصَارَ كَلَامُهُ كَذِبًا، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ قُلْ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ فَلَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ مُنْكِرًا لِذَلِكَ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ. وَلَوْ قَالَ لَهُ: لَا تَعْبُدْ مَا يَعْبُدُونَ لَزِمَهُ تَرْكُهُ، أَمَّا «1» لَا يَلْزَمُهُ إِظْهَارُ إِنْكَارِهِ بِاللِّسَانِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ غَايَةَ الْإِنْكَارِ إِنَّمَا تَحْصُلُ إِذَا تَرَكَهُ فِي نَفْسِهِ وَأَنْكَرَهُ بِلِسَانِهِ فَقَوْلُهُ لَهُ: قُلْ يَقْتَضِي الْمُبَالَغَةَ فِي الْإِنْكَارِ، فَلِهَذَا قَالَ: قُلْ ... لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، الْعِشْرُونَ: ذِكْرُ التَّوْحِيدِ وَنَفْيُ الْأَنْدَادِ جَنَّةٌ لِلْعَارِفِينَ وَنَارٌ لِلْمُشْرِكِينَ فَاجْعَلْ لَفْظَكَ جَنَّةً لِلْمُوَحِّدِينَ وَنَارًا للمشركين وقل يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً، وَتَعْبُدُ آلِهَتَنَا سَنَةً سَكَتَ مُحَمَّدٌ فَقَالَ: إِنْ شَافَهْتُهُمْ بِالرَّدِّ تَأَذَّوْا، وَحَصَلَتِ النَّفْرَةُ عَنِ الْإِسْلَامِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ لِمَ سَكَتَّ عَنِ الرَّدِّ، أَمَّا الطَّمَعُ فِيمَا يَعِدُونَكَ مِنْ قَبُولِ دِينِكَ، فَلَا حَاجَةَ بك في هذا المعنى إليهم فإنا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ وَأَمَّا الْخَوْفُ مِنْهُمْ فَقَدْ أَزَلْنَا عَنْكَ الْخَوْفَ بِقَوْلِنَا: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ فلا تلتفت إليهم، ولا تبال بكلامهم وقل يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَسِيتَ يَا مُحَمَّدُ أَنِّي قَدَّمْتُ حَقَّكَ عَلَى حَقِّ نَفْسِي، فَقُلْتُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ [الْبَيِّنَةِ: 1] فَقَدَّمْتُ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي الْكُفْرِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ طَعْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيكَ وَطَعْنَ الْمُشْرِكِينَ فِيَّ، فَقَدَّمْتُ حَقَّكَ عَلَى حَقِّ نَفْسِي وَقَدَّمْتُ أَهْلَ الْكِتَابِ في الذم على المشركين، وأنت

_ (1) الكلام يقتضي (إذ) أو (لكن) ولعل (أما) محرفة عن كلمة أخرى.

أَيْضًا هَكَذَا كُنْتَ تَفْعَلُ فَإِنَّهُمْ لَمَّا كَسَرُوا سِنَّكَ قُلْتَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي» وَلَمَّا شَغَلُوكَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنِ الصَّلَاةِ قُلْتَ: «اللَّهُمَّ امْلَأْ بُطُونَهُمْ نَارًا» فَهَهُنَا أَيْضًا قَدِّمْ حَقِّي عَلَى حَقِّ نَفْسِكَ وَسَوَاءٌ كُنْتَ خَائِفًا مِنْهُمْ، أَوْ لست خائفا منهم فأظهر إنكار قولهم وقل يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: قِصَّةُ امْرَأَةِ زَيْدٍ وَاقِعَةٌ حَقِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، ثُمَّ إِنَّنِي هُنَاكَ مَا رَضِيتُ مِنْكَ أَنْ تُضْمِرَ فِي قَلْبِكَ شَيْئًا وَلَا تُظْهِرَهُ بِلِسَانِكَ، بَلْ قُلْتُ لَكَ عَلَى سَبِيلِ الْعِتَابِ: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الْأَحْزَابِ: 37] فَإِذَا كُنْتُ لَمْ أَرْضَ مِنْكَ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ الْحَقِيرَةِ إِلَّا بِالْإِظْهَارِ، وَتَرْكِ الْمُبَالَاةِ بِأَقْوَالِ النَّاسِ فَكَيْفَ أَرْضَى مِنْكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهِيَ أَعْظَمُ الْمَسَائِلِ خَطَرًا بالسكوت، قل بصريح لسانك يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَلَسْتُ قُلْتُ لَكَ: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً [الْفُرْقَانِ: 51] ثُمَّ إني مع هَذِهِ الْقُدْرَةِ رَاعَيْتُ جَانِبَكَ وَطَيَّبْتُ قَلْبَكَ وَنَادَيْتُ فِي الْعَالَمِينَ بِأَنِّي لَا أَجْعَلُ الرِّسَالَةَ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، بَلِ الرِّسَالَةُ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ حَيْثُ قُلْتُ: وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [الْأَحْزَابِ: 40] / فَأَنْتَ مَعَ عِلْمِكَ بِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَقْلًا أَنْ يُشَارِكَنِي غَيْرِي فِي الْمَعْبُودِيَّةِ أَوْلَى أَنْ تُنَادِيَ فِي الْعَالَمِينَ بِنَفْيِ هَذِهِ الشَّرِكَةِ. فقل يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: كأنه تعالى يقول: القوم جاؤك وَأَطْمَعُوكَ فِي مُتَابَعَتِهِمْ لَكَ وَمُتَابَعَتِكَ لِدِينِهِمْ فَسَكَتَّ عَنِ الْإِنْكَارِ وَالرَّدِّ، أَلَسْتُ أَنَا جَعَلْتُ الْبَيْعَةَ مَعَكَ بَيْعَةً مَعِي حَيْثُ قُلْتُ: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْحِ: 10] وَجَعَلْتُ مُتَابَعَتَكَ مُتَابَعَةً لِي حَيْثُ قُلْتُ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: 31] ثُمَّ إِنِّي نَادَيْتُ فِي الْعَالَمِينَ وَقُلْتُ: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التَّوْبَةِ: 3] فَصَرِّحْ أنت أيضا بذلك وقل يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: أَلَسْتُ أَرْأَفُ بِكَ مِنَ الولد بِوَلَدِهِ، ثُمَّ الْعُرْيُ وَالْجُوعُ مَعَ الْوَالِدِ أَحْسَنُ مِنَ الشِّبَعِ مَعَ الْأَجَانِبِ، كَيْفَ وَالْجُوعُ لَهُمْ لِأَنَّ أَصْنَامَهُمْ جَائِعَةٌ عَنِ الْحَيَاةِ عَارِيَةٌ عَنِ الصِّفَاتِ وَهُمْ جَائِعُونَ عَنِ الْعِلْمِ عَارُونَ عَنِ التَّقْوَى، فَقَدْ جَرَّبْتَنِي، أَلَمْ أَجِدْكَ يَتِيمًا وَضَالًّا وَعَائِلًا، أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، أَلَمْ أُعْطِكَ بِالصِّدِّيقِ خَزِينَةً وَبِالْفَارُوقِ هَيْبَةً وَبِعُثْمَانَ مَعُونَةً، وَبِعَلِيٍّ عِلْمًا، أَلَمْ أَكْفِ أَصْحَابَ الْفِيلِ حِينَ حَاوَلُوا تَخْرِيبَ بَلْدَتِكَ، أَلَمْ أَكْفِ أَسْلَافَكَ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، أَلَمْ أُعْطِكَ الْكَوْثَرَ، أَلَمْ أَضْمَنْ أَنَّ خَصْمَكَ أَبْتَرُ، أَلَمْ يَقُلْ جَدُّكَ فِي هَذِهِ الْأَصْنَامِ بَعْدَ تَخْرِيبِهَا: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مريم: 42] فصرح بالبراءة عنها وقل يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ أَلَسْتُ قَدْ أنزلت عَلَيْكَ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [الْبَقَرَةِ: 200] ثُمَّ إِنَّ وَاحِدًا لَوْ نَسَبَكَ إِلَى وَالِدَيْنِ لَغَضِبْتَ وَلَأَظْهَرْتَ الْإِنْكَارَ وَلَبَالَغْتَ فِيهِ، حَتَّى قُلْتَ: «وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أُولَدْ مِنْ سِفَاحٍ» فَإِذَا لَمْ تَسْكُتْ عِنْدَ التَّشْرِيكِ فِي الْوِلَادَةِ، فَكَيْفَ سَكَتَّ عِنْدَ التَّشْرِيكِ فِي الْعِبَادَةِ! بَلْ أَظْهِرِ الْإِنْكَارَ، وَبَالِغْ فِي التَّصْرِيحِ به وقل يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ يَا مُحَمَّدُ أَلَسْتُ قَدْ أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْلِ: 17] فَحَكَمْتُ بِأَنَّ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْإِلَهِ الْخَالِقِ وَبَيْنَ الْوَثَنِ الْجَمَادِ فِي الْمَعْبُودِيَّةِ لَا يَكُونُ عَاقِلًا بَلْ يَكُونُ مَجْنُونًا، ثُمَّ إِنِّي أَقْسَمْتُ وَقُلْتُ: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [الْقَلَمِ: 1، 2] وَالْكُفَّارُ يَقُولُونَ: إِنَّكَ مَجْنُونٌ، فَصَرِّحْ بِرَدِّ مَقَالَتِهِمْ فَإِنَّهَا تُفِيدُ بَرَاءَتِي عَنْ عَيْبِ الشِّرْكِ، وَبَرَاءَتِكَ عن عيب الجنون وقل يا أيها الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ سَمَّوُا الْأَوْثَانَ آلِهَةً، وَالْمُشَارَكَةُ فِي الِاسْمِ لَا تُوجِبُ الْمُشَارَكَةَ فِي الْمَعْنَى، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ

يَشْتَرِكَانِ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ حَقِيقَةً، ثُمَّ الْقَيِّمِيَّةُ كُلُّهَا حَظُّ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ وَأَقْدَرُ، ثُمَّ مَنْ كَانَ أَعْلَمَ وَأَقْدَرَ كَانَ لَهُ كُلُّ الْحَقِّ فِي الْقَيِّمِيَّةِ، فَمَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ وَلَا عِلْمَ الْبَتَّةَ كَيْفَ يَكُونُ لَهُ حَقٌّ فِي القيومية، بل هاهنا شَيْءٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ امْرَأَةً لَوِ ادَّعَاهَا رَجُلَانِ فَاصْطَلَحَا عَلَيْهَا لَا يَجُوزُ، وَلَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهَا زَوْجَتُهُ لَمْ يُقْضَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْجَارِيَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ لَا تَحِلُّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ حُصُولُ زَوْجَةٍ لِزَوْجَيْنِ، وَلَا أَمَةٍ بَيْنَ مَوْلَيَيْنِ فِي حِلِّ الْوَطْءِ/ فَكَيْفَ يُعْقَلُ عَابِدٌ وَاحِدٌ بَيْنَ مَعْبُودِينَ! بَلْ مَنْ جَوَّزَ أَنْ يَصْطَلِحَ الزَّوْجَانِ عَلَى أَنْ تَحِلَّ الزَّوْجَةُ لِأَحَدِهِمَا شَهْرًا، ثُمَّ الثَّانِي شَهْرًا آخَرَ كَانَ كَافِرًا، فَمَنْ جَوَّزَ الصُّلْحَ بَيْنَ الْإِلَهِ وَالصَّنَمِ أَلَا يَكُونَ كَافِرًا فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِرَسُولِهِ: إِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ فَصَرِّحْ بِالْإِنْكَارِ وَقُلْ يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثَّلَاثُونَ: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ أَنَسِيتَ أَنِّي لَمَّا خَيَّرْتُ نِسَاءَكَ حِينَ أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ: قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها إِلَى قَوْلِهِ: أَجْراً عَظِيماً [الْأَحْزَابِ: 28، 29] ثُمَّ خَشِيتَ مِنْ عَائِشَةَ أَنْ تَخْتَارَ الدُّنْيَا، فَقُلْتَ لَهَا: لَا تَقُولِي شَيْئًا حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ، فَقَالَتْ: أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ! فَنَاقِصَةُ الْعَقْلِ مَا تَوَقَّفَتْ فِيمَا يُخَالِفُ رِضَايَ أَتَتَوَقَّفُ فِيمَا يُخَالِفُ رِضَايَ وأمري مع أني جبار السموات والأرض: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ أَلَسْتَ أَنْتَ الَّذِي قُلْتَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُوقَفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ» ، وَحَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ قَالَ لِمُرِيدِهِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يفارقه: لا تخاف السُّلْطَانَ قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ يُوقِعُ النَّاسَ فِي أَحَدِ الْخَطَأَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ السُّلْطَانَ مُتَدَيِّنٌ، لِأَنَّهُ يُخَالِطُهُ الْعَالِمُ الزَّاهِدُ، أَوْ يَعْتَقِدُوا أَنَّكَ فَاسِقٌ مِثْلُهُ، وَكِلَاهُمَا خَطَأٌ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَجِبُ الْبَرَاءَةُ عَنْ مَوْقِفِ التُّهَمِ فَسُكُوتُكَ يَا مُحَمَّدُ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ يَجُرُّ إِلَيْكَ تُهْمَةَ الرِّضَا بِذَلِكَ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى فِيمَا بَيْنَ قِرَاءَتِكَ تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى مِنْهَا الشَّفَاعَةُ تُرْتَجَى، فَأَزِلْ عن نفسك هذه التهمة وقل يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: الْحُقُوقُ فِي الشَّاهِدِ نَوْعَانِ حَقُّ مَنْ أَنْتَ تَحْتَ يَدِهِ، وَهُوَ مَوْلَاكَ، وَحَقُّ مَنْ هُوَ تَحْتَ يَدِكَ وَهُوَ الْوَلَدُ، ثُمَّ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ خِدْمَةَ الْمَوْلَى مُقَدَّمَةٌ عَلَى تَرْبِيَةِ الْوَلَدِ، فَإِذَا كَانَ حَقُّ الْمَوْلَى الْمَجَازِيِّ مُقَدَّمًا، فَبِأَنْ يَكُونَ حَقُّ الْمَوْلَى الْحَقِيقِيِّ مُقَدَّمًا كَانَ أَوْلَى، ثُمَّ رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَأْذَنَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّزَوُّجِ بِابْنَةِ أَبِي جَهْلٍ فَضَجِرَ وَقَالَ: لَا آذَنُ لَا آذَنُ لَا آذَنُ إِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي يُؤْذِينِي مَا يُؤْذِيهَا وَيَسُرُّنِي مَا يَسُرُّهَا وَاللَّهِ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ بِنْتِ عَدُوِّ اللَّهِ، وَبِنْتِ حَبِيبِ اللَّهِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: صَرَّحْتَ هُنَاكَ بِالرَّدِّ وَكَرَّرْتَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ رِعَايَةً لِحَقِّ الْوَلَدِ، فَهَهُنَا أَوْلَى أَنْ تُصَرِّحَ بِالرَّدِّ، وتكرره رعاية لحق المولى فقل يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَجْمَعُ فِي الْقَلْبِ بَيْنَ طَاعَةِ الْحَبِيبِ وَطَاعَةِ الْعَدُوِّ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَلَسْتَ قُلْتَ لِعُمَرَ: رَأَيْتُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ، فَقُلْتُ: لِمَنْ؟ فَقِيلَ: لِفَتًى مِنْ قُرَيْشٍ، فَقُلْتَ: مَنْ هُوَ، فَقَالُوا: عُمَرُ فَخَشِيتُ غَيْرَتَكَ فَلَمْ أَدْخُلْهَا حَتَّى قَالَ عمر: أو أغار عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: خَشِيتَ غَيْرَةَ عُمَرَ فَمَا دَخَلْتَ قَصْرَهُ أَفَمَا تَخْشَى غَيْرَتِي فِي أَنْ تُدْخِلَ قَلْبَكَ طَاعَةَ غَيْرِي، ثُمَّ هُنَاكَ أَظْهَرْتَ الِامْتِنَاعَ فَهَهُنَا أَيْضًا أظهر الامتناع وقل يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَتَرَى أَنَّ نِعْمَتِي عَلَيْكَ دُونَ نِعْمَةِ الْوَالِدَةِ، أَلَمْ أُرَبِّكَ؟ أَلَمْ أَخْلُقْكَ؟ أَلَمْ أُرْزَقْكَ؟ أَلَمْ أُعْطِكَ الْحَيَاةَ وَالْقُدْرَةَ وَالْعَقْلَ وَالْهِدَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ؟ ثُمَّ حِينَ كُنْتَ طِفْلًا عَدِيمَ الْعَقْلِ وَعَرَفْتَ تَرْبِيَةَ الْأُمِّ فَلَوْ أَخَذَتْكَ امْرَأَةٌ أَجْمَلُ وَأَحْسَنُ وَأَكْرَمُ مِنْ أُمِّكَ لَأَظْهَرْتَ النَّفْرَةَ وَلَبَكَيْتَ/ وَلَوْ أَعْطَتْكَ الثَّدْيَ لَسَدَدْتَ فَمَكَ تَقُولُ لَا أُرِيدُ غَيْرَ الْأُمِّ لِأَنَّهَا أَوَّلُ الْمُنْعِمِ عَلَيَّ، فَهَهُنَا أَوْلَى أَنْ تُظْهِرَ النَّفْرَةَ فَتَقُولَ: لَا أَعْبُدُ سِوَى ربي لأنه أول منعم علي فقل: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: نِعْمَةُ الْإِطْعَامِ دُونَ

نِعْمَةِ الْعَقْلِ وَالنُّبُوَّةِ، ثُمَّ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الشَّاةَ وَالْكَلْبَ لَا يَنْسَيَانِ نِعْمَةَ الْإِطْعَامِ وَلَا يَمِيلَانِ إِلَى غَيْرِ مَنْ أَطْعَمَهُمَا فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَنْسَى نِعْمَةَ الْإِيجَادِ وَالْإِحْسَانِ فَكَيْفَ في حق أفضل الخلق: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَثْبُتُ حَقُّ الْفُرْقَةِ بِوَاسِطَةِ الْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ فَإِذَا لَمْ تَجِدْ مِنَ الْأَنْصَارِ تَرْبِيَةً حَصَّلْتُ لَكَ حَقَّ الْفُرْقَةِ لَوْ كُنْتَ مُتَّصِلًا بِهَا، لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ كُنْتَ مُتَّصِلًا بِهَا، كَانَ يَجِبُ أَنْ تَنْفَصِلَ عَنْهَا وَتَتْرُكَهَا، فَكَيْفَ وَمَا كُنْتَ مُتَّصِلًا بِهَا أَيَلِيقُ بِكَ أَنْ تُقَرِّبَ الِاتِّصَالَ بِهَا قل يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ لِفَرْطِ حَمَاقَتِهِمْ ظَنُّوا أَنَّ الْكَثْرَةَ فِي الْإِلَهِيَّةِ كَالْكَثْرَةِ فِي الْمَالِ يَزِيدُ بِهِ الْغِنَى وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ كَالْكَثْرَةِ فِي الْعِيَالِ تَزِيدُ بِهِ الْحَاجَةُ فَقُلْ: يَا محمد لي إليه وَاحِدٌ أَقُومُ لَهُ فِي اللَّيْلِ وَأَصُومُ لَهُ فِي النَّهَارِ، ثُمَّ بَعْدُ لَمْ أَتَفَرَّغْ مِنْ قَضَاءِ حَقِّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ نِعَمِهِ، فَكَيْفَ ألتزم عبادة آلهة كثيرة قل يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ لَمَّا تَمَثَّلَ لَهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا [مَرْيَمَ: 18] فَاسْتَعَاذَتْ أَنْ تَمِيلَ إِلَى جِبْرِيلَ دُونَ اللَّهِ أَفَتَسْتَجِيزُ مَعَ كَمَالِ رُجُولِيَّتِكَ أَنْ تَمِيلَ إِلَى الْأَصْنَامِ قُلْ يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُثْبِتُ حَقَّ الْفُرْقَةِ بِالْعَجْزِ عَنِ النَّفَقَةِ وَلَا بِالْعُنَّةِ الطَّارِئَةِ يَقُولُ: لِأَنَّهُ كَانَ قَيِّمًا فَلَا يَحْسُنُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ تَعَيَّبَ فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: كُنْتُ قَيِّمًا وَلَمْ أَتَعَيَّبْ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الْإِعْرَاضُ عني قل يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الْأَرْبَعُونَ: هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: 25] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ [فَاطِرٍ: 40] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هَذِهِ الشَّرِكَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُزَارَعَةً وَذَلِكَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْبَذْرَ مِنِّي وَالتَّرْبِيَةَ وَالسَّقْيَ مِنِّي، وَالْحِفْظَ مِنِّي، فَأَيُّ شَيْءٍ لِلصَّنَمِ، أَوْ شَرِكَةَ الْوُجُوهِ وَذَلِكَ أَيْضًا بَاطِلٌ أَتُرَى أَنَّ الصَّنَمَ أَكْثَرُ شُهْرَةً وَظُهُورًا مِنِّي، أَوْ شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ وَذَلِكَ أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي الْجِنْسِيَّةَ، أَوْ شَرِكَةَ الْعِنَانِ، وَذَلِكَ أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نِصَابٍ فَمَا نِصَابُ الْأَصْنَامِ، أَوْ يَقُولُ لَيْسَ هَذِهِ مِنْ بَابِ الشَّرِكَةِ لَكِنَّ الصَّنَمَ يَأْخُذُ بِالتَّغَلُّبِ نَصِيبًا مِنَ الْمُلْكِ، فَكَأَنَّ الرَّبَّ يَقُولُ: مَا أَشَدَّ جَهْلَكُمْ إِنَّ هَذَا الصَّنَمَ أَكْثَرُ عَجْزًا مِنَ الذُّبَابَةِ: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً [الْحَجِّ: 73] فَأَنَا أَخْلُقُ الْبَذْرَ ثُمَّ أُلْقِيهِ فِي الْأَرْضِ، فَالتَّرْبِيَةُ وَالسَّقْيُ وَالْحِفْظُ مِنِّي. ثُمَّ إِنَّ مَنْ هُوَ أَعْجَزُ مِنَ الذُّبَابَةِ يَأْخُذُ بِالْقَهْرِ وَالتَّغَلُّبِ نَصِيبًا مِنِّي مَا هَذَا بقول يليق بالعقلاء قل يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّهُ لَا ذَرَّةَ فِي عَالَمِ الْمُحْدَثَاتِ إِلَّا وَهِيَ تَدْعُو الْعُقُولَ إِلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ/ وَأَمَّا الدُّعَاةُ إِلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ اللَّهِ فَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَمَّا كَانَ كُلُّ بَقٍّ وَبَعُوضَةٍ دَاعِيًا إِلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها [الْبَقَرَةِ: 26] ، ذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْبَعُوضَةَ بِحَسَبِ حُدُوثِ ذَاتِهَا وَصِفَاتِهَا تَدْعُو إلى قدرة الله بحسب تَرْكِيبِهَا الْعَجِيبِ تَدْعُو إِلَى عِلْمِ اللَّهِ وَبِحَسَبِ تَخْصِيصِ ذَاتِهَا وَصِفَاتِهَا بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ تَدْعُو إِلَى إِرَادَةِ اللَّهِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: مِثْلُ هَذَا الشيء كيف يتسحيا مِنْهُ، رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ دَخَلَ السُّوقَ فَاشْتَرَى كَرِشًا وَحَمَلَهُ بِنَفْسِهِ فَرَآهُ عَلِيٌّ مِنْ بَعِيدٍ فَتَنَكَّبَ عَلِيٌّ عَنِ الطَّرِيقِ فَاسْتَقْبَلَهُ عُمَرُ وَقَالَ لَهُ: لِمَ تَنَكَّبْتَ عَنِ الطَّرِيقِ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: حتى لا تستحي، فقال: وكيف أستحي مِنْ حَمْلِ مَا هُوَ غِذَائِي! فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يقول: إذا كان عمر لا يستحي مِنَ الْكَرِشِ الَّذِي هُوَ غِذَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا فكيف أستحي عَنْ ذِكْرِ الْبَعُوضِ الَّذِي يُعْطِيكَ غِذَاءَ دِينِكَ، ثُمَّ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ نمروذ لما ادعى الربوبية صالح عَلَيْهِ الْبَعُوضُ بِالْإِنْكَارِ، فَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ لَمَّا دَعَوْكَ إِلَى الشِّرْكَ أَفَلَا تَصِيحُ عَلَيْهِمْ أَفَلَا

تصرح بالرد عليهم قل يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ فَجِبْرِيلُ مَلَأَ فَاهُ مِنَ الطِّينِ فَإِنْ كُنْتَ ضَعِيفًا فَلَسْتَ أَضْعَفَ مِنْ بَعُوضَةِ نُمْرُوذَ، وَإِنْ كُنْتَ قَوِيًّا فَلَسْتَ أَقْوَى من جبريل، فأظهر الإنكار عليهم وقل يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ يَا مُحَمَّدُ قُلْ بِلِسَانِكَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَاتْرُكْهُ قَرْضًا عَلَيَّ فَإِنِّي أَقْضِيكَ هَذَا الْقَرْضَ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّصْرَانِيَّ إِذَا قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَأَقُولُ أَنَا لَا أَكْتَفِي بِهَذَا مَا لَمْ تُصَرِّحْ بِالْبَرَاءَةِ عَنِ النَّصْرَانِيَّةِ، فَلَمَّا أَوْجَبْتُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَتَبَرَّأَ بِصَرِيحِ لِسَانِهِ عَنْ كُلِّ دِينٍ يُخَالِفُ دِينَكَ فَأَنْتَ أَيْضًا أَوْجِبْ عَلَى نَفْسِكَ أَنْ تصرح برد كل معبود غيري فقل يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي طَبْعِهِ الْخُشُونَةُ فَلَمَّا أُرْسِلَ إِلَى فِرْعَوْنَ قِيلَ لَهُ: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه: 44] وَأَمَّا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا أُرْسِلَ إِلَى الْخَلْقِ أُمِرَ بِإِظْهَارِ الْخُشُونَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ فِي غَايَةِ الرحمة، فقيل له: قل يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَا أَيُّهَا، قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ، وَالَّذِي نزيده هاهنا، أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: يا نداء النفس وأي نِدَاءُ الْقَلْبِ، وَهَا نِدَاءُ الرُّوحِ، وَقِيلَ: يَا نِدَاءُ الْغَائِبِ وَأَيُّ لِلْحَاضِرِ، وَهَا لِلتَّنْبِيهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَدْعُوكَ ثَلَاثًا وَلَا تُجِيبُنِي مَرَّةً مَا هَذَا إِلَّا لِجَهْلِكَ الْخَفِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ بَيْنَ يَا الَّذِي هُوَ لِلْبَعِيدِ، وَأَيِّ الَّذِي هُوَ لِلْقَرِيبِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: مُعَامَلَتُكَ مَعِي وَفِرَارُكَ عَنِّي يُوجِبُ الْبُعْدَ الْبَعِيدَ، لَكِنَّ إِحْسَانِي إِلَيْكَ، وَوُصُولَ نِعْمَتِي إِلَيْكَ تُوجِبُ الْقُرْبَ الْقَرِيبَ: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] وَإِنَّمَا قَدَّمَ يَا الَّذِي يُوجِبُ الْبُعْدَ عَلَى أَيِّ الَّذِي يُوجِبُ الْقُرْبَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: التَّقْصِيرُ مِنْكَ وَالتَّوْفِيقُ مِنِّي، ثُمَّ ذكرها بعد ذلك لأن/ ما يوجب البعد الذي هو كالموت وأي يُوجِبُ الْقُرْبَ الَّذِي هُوَ كَالْحَيَاةِ، فَلَمَّا حَصَلَا حَصَلَتْ حَالَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَتِلْكَ الْحَالَةُ هِيَ النَّوْمُ، وَالنَّائِمُ لَا بُدَّ وَأَنْ ينبه وها كَلِمَةُ تَنْبِيهٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خُتِمَتْ حُرُوفُ النِّدَاءِ بِهَذَا الْحَرْفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، قالوا لرسول الله تعالى: حَتَّى نَعْبُدَ إِلَهَكَ مُدَّةً، وَتَعْبُدَ آلِهَتَنَا مُدَّةً، فيحصل مصلح بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، وَتَزُولَ الْعَدَاوَةُ مِنْ بَيْنِنَا، فَإِنْ كَانَ أَمْرُكَ رَشِيدًا أَخَذْنَا مِنْهُ حَظًّا، وَإِنْ كَانَ أَمْرُنَا رَشِيدًا أَخَذْتَ مِنْهُ حَظًّا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ وَنَزَلَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزُّمَرِ: 64] فَتَارَةً وَصَفَهُمْ بِالْجَهْلِ وَتَارَةً بِالْكُفْرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَهْلَ كَالشَّجَرَةِ، وَالْكُفْرَ كَالثَّمَرَةِ، فَلَمَّا نَزَلَتِ السُّورَةُ وقرأها على رؤوسهم شتموه وأيسوا منه، وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ ذَكَرَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِالْكَافِرِينَ، وَفِي الْأُخْرَى بِالْجَاهِلِينَ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ بِتَمَامِهَا نَازِلَةٌ فِيهِمْ، فَلَا بُدَّ وأن تكون المبالغة هاهنا أَشَدَّ، وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا لَفْظٌ أَشْنَعَ وَلَا أَبْشَعَ مِنْ لَفْظِ الْكَافِرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صِفَةُ ذَمٍّ عِنْدَ جَمِيعِ الْخَلْقِ سَوَاءٌ كَانَ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا، أَمَّا لَفْظُ الْجَهْلِ فَإِنَّهُ عِنْدَ التَّقْيِيدِ قَدْ لَا يُذَمُّ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي عِلْمِ الْأَنْسَابِ: «عِلْمٌ لَا يَنْفَعُ وَجَهْلٌ لَا يَضُرُّ» . السُّؤَالُ الثَّانِي: لَمَّا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ (لِمَ تُحَرِّمُ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا [التحريم: 7] ولم يذكر قل، وهاهنا ذَكَرَ قُلْ، وَذَكَرَهُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَالْجَوَابُ: الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ لِمَ تُحَرِّمُ إِنَّمَا تُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَثَمَّةَ

[سورة الكافرون (109) : الآيات 2 إلى 5]

لَا يَكُونُ الرَّسُولُ رَسُولًا إِلَيْهِمْ فَأَزَالَ الْوَاسِطَةَ وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَكُونُونَ مُطِيعِينَ لَا كَافِرِينَ فلذلك ذكره بلفظ الماضي، وأما هاهنا فَهُمْ كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِالْكُفْرِ، وَكَانَ الرَّسُولُ رَسُولًا إليهم، فلا جرم قال: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. السؤال الثالث: قوله هاهنا: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ خِطَابٌ مَعَ الْكُلِّ أَوْ مَعَ الْبَعْضِ؟ الْجَوَابُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ خِطَابًا مَعَ الْكُلِّ، لِأَنَّ فِي الْكُفَّارِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ خِطَابًا مَعَ الْكُلِّ، لِأَنَّ فِي الْكُفَّارِ مَنْ آمَنَ وَصَارَ بِحَيْثُ يَعْبُدُ اللَّهَ، فَإِذَنْ وَجَبَ أَنْ يقال: إن قوله: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ مَعَ أَقْوَامٍ مَخْصُوصِينَ وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً وَتَعْبُدُ آلِهَتَنَا سَنَةً، وَالْحَاصِلُ أَنَّا لَوْ حَمَلْنَا الْخِطَابَ عَلَى الْعُمُومِ دَخَلَ التَّخْصِيصُ، وَلَوْ حَمَلْنَا عَلَى أَنَّهُ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ لَمْ يَلْزَمْنَا ذَلِكَ، فَكَانَ حَمْلُ الآية على هذا المحمل أولى. أما قوله تعالى: [سورة الكافرون (109) : الآيات 2 الى 5] لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا تِكْرَارَ فِيهَا وَالثَّانِي: أَنَّ فِيهَا تِكْرَارًا أَمَّا الْأَوَّلُ: فَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَوَّلَ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَالثَّانِيَ لِلْحَالِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أن الأول للمستقبل أن لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى مُضَارِعٍ فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، أَنْ تَرَى أَنَّ لَنْ تَأْكِيدٌ فِيمَا يَنْفِيهِ لَا، وَقَالَ الْخَلِيلُ فِي لَنْ أَصْلُهُ لَا أَنْ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ أَيْ لَا أَفْعَلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا تَطْلُبُونَهُ مِنِّي مِنْ عِبَادَةِ آلِهَتِكُمْ وَلَا أَنْتُمْ فَاعِلُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا أَطْلُبُهُ مِنْكُمْ مِنْ عِبَادَةِ إِلَهِي، ثُمَّ قَالَ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ أَيْ وَلَسْتُ فِي الْحَالِ بِعَابِدٍ مَعْبُودَكُمْ وَلَا أَنْتُمْ فِي الْحَالِ بِعَابِدِينَ لِمَعْبُودِي الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَقْلِبَ الْأَمْرَ فَتَجْعَلَ الْأَوَّلَ لِلْحَالِ وَالثَّانِيَ لِلِاسْتِقْبَالِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قَوْلَ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ لِلِاسْتِقْبَالِ أَنَّهُ رُفِعَ لِمَفْهُومِ قَوْلِنَا: أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لِلِاسْتِقْبَالِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنَا قَاتِلٌ زَيْدًا فُهِمَ مِنْهُ الِاسْتِقْبَالُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْلُحُ لِلْحَالِ وَلِلِاسْتِقْبَالِ، وَلَكِنَّا نخص إحداها بِالْحَالِ، وَالثَّانِي بِالِاسْتِقْبَالِ دَفْعًا لِلتِّكْرَارِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ الْحَالِ، ثُمَّ عَنِ الِاسْتِقْبَالِ، فَهُوَ التَّرْتِيبُ، وَإِنْ قُلْنَا: أَخْبَرَ أَوَّلًا عَنِ الِاسْتِقْبَالِ، فَلِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي دَعَوْهُ إِلَيْهِ، فَهُوَ الْأَهَمُّ فَبَدَأَ بِهِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا فَائِدَةُ الْإِخْبَارِ عَنِ الْحَالِ وَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ مَا كَانَ يَعْبُدُ الصَّنَمَ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَكَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ؟ قُلْنَا: أَمَّا الْحِكَايَةُ عَنْ نَفْسِهِ فَلِئَلَّا يَتَوَهَّمَ الْجَاهِلُ أَنَّهُ يَعْبُدُهَا سِرًّا خَوْفًا مِنْهَا أَوْ طَمَعًا إِلَيْهَا وَأَمَّا نَفْيُهُ عِبَادَتَهُمْ فَلِأَنَّ فِعْلَ الْكَافِرِ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ أَصْلًا. الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَوَّلَيْنِ الْمَعْبُودُ وَمَا بِمَعْنَى الَّذِي، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَلَا تَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَأَمَّا فِي الْأَخِيرَيْنِ فَمَا مَعَ الْفِعْلِ فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ أَيْ لَا أَعْبُدُ عِبَادَتَكُمُ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى الشِّرْكَ وَتَرْكِ النَّظَرِ، وَلَا أَنْتُمْ تَعْبُدُونَ عِبَادَتِي

الْمَبْنِيَّةَ عَلَى الْيَقِينِ، فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تَعْبُدُونَ إِلَهِي، كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا لِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِعْلٌ مَأْمُورٌ بِهِ وَمَا تَفْعَلُونَهُ أَنْتُمْ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَغَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ تُحْمَلَ الْأُولَى عَلَى نَفْيِ الِاعْتِبَارِ الَّذِي ذَكَرُوهُ، وَالثَّانِيَةُ عَلَى النَّفْيِ الْعَامِّ الْمُتَنَاوِلِ لِجَمِيعِ الْجِهَاتِ فكأنه أولا قال لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ رَجَاءَ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ، وَلَا أَنْتُمْ تَعْبُدُونَ اللَّهَ رَجَاءَ أَنْ أَعْبُدَ أَصْنَامَكُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا أَنَا عَابِدٌ صَنَمَكُمْ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ، وَمَقْصُودٍ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْبَتَّةَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَاعْتِبَارٍ مِنَ الِاعْتِبَارَاتِ، وَمِثَالُهُ مَنْ يَدْعُو غَيْرَهُ إِلَى الظُّلْمِ لِغَرَضِ التَّنْعِيمِ، فَيَقُولُ: لَا أَظْلِمُ لِغَرَضِ التَّنَعُّمِ، بَلْ لَا أَظْلِمُ أَصْلًا لَا لِهَذَا الْغَرَضِ وَلَا لِسَائِرِ الْأَغْرَاضِ الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ نُسَلِّمَ حُصُولَ التِّكْرَارِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْعُذْرُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّكْرِيرَ يُفِيدُ التَّوْكِيدَ وَكُلَّمَا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّأْكِيدِ أَشَدَّ كَانَ التَّكْرِيرُ/ أَحْسَنَ، وَلَا مَوْضِعَ أَحْوَجُ إِلَى التَّأْكِيدِ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِرَارًا، وَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ عَنِ الْجَوَابِ، فَوَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ مَالَ إِلَى دِينِهِمْ بَعْضَ الْمَيْلِ، فَلَا جَرَمَ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّأْكِيدِ وَالتَّكْرِيرِ فِي هَذَا النَّفْيِ وَالْإِبْطَالِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ الْقُرْآنُ يَنْزِلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَآيَةً بَعْدَ آيَةٍ جَوَابًا عَمَّا يَسْأَلُونَ فَالْمُشْرِكُونَ قَالُوا: اسْتَلِمْ بَعْدُ آلِهَتَنَا حَتَّى نُؤْمِنَ بِإِلَهِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ثُمَّ قَالُوا بَعْدَ مُدَّةٍ تَعْبُدُ آلِهَتَنَا شَهْرًا وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ شَهْرًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَمَّا كَانَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مُحْتَمَلًا لَمْ يَكُنِ التِّكْرَارُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُضِرًّا الْبَتَّةَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْكُفَّارَ ذَكَرُوا تِلْكَ الْكَلِمَةَ مَرَّتَيْنِ تَعْبُدُ آلِهَتَنَا شَهْرًا وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ شَهْرًا وَتَعْبُدُ آلِهَتَنَا سَنَةً وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً. فَأَتَى الْجَوَابُ عَلَى التَّكْرِيرِ عَلَى وَفْقِ قَوْلِهِمْ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ التَّهَكُّمِ فَإِنَّ مَنْ كَرَّرَ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ لِغَرَضٍ فَاسِدٍ يُجَازَى بِدَفْعِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ عَلَى سَبِيلِ التِّكْرَارِ اسْتِخْفَافًا بِهِ وَاسْتِحْقَارًا لِقَوْلِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ كَلِمَةَ: مَا لَا تَتَنَاوَلُ مَنْ يَعْلَمُ فَهَبْ أَنَّ مَعْبُودَهُمْ كَانَ كَذَلِكَ فَصَحَّ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِلَفْظِ مَا لَكِنَّ مَعْبُودَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ أَعْلَمُ الْعَالَمِينَ فَكَيْفَ قَالَ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الصِّفَةُ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَعْبُدُ الْبَاطِلَ وَأَنْتُمْ لَا تَعْبُدُونَ الحق وثانيها: أن مَصْدَرِيَّةٌ فِي الْجُمْلَتَيْنِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَعْبُدُ عِبَادَتَكُمْ وَلَا تَعْبُدُونَ عِبَادَتِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ، ثُمَّ قَالَ ثَانِيًا لَا أَعْبُدُ عِبَادَتَكُمْ وَلَا تَعْبُدُونَ عِبَادَتِي فِي الْحَالِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مَا بِمَعْنَى الَّذِي وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ الْكَلَامُ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ أَوَّلًا: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ حُمِلَ الثَّانِي عَلَيْهِ لِيَتَّسِقَ الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَهْلُ الْجَبْرِ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ مَرَّتَيْنِ بِقَوْلِهِ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَالْخَبَرُ الصِّدْقُ عَنْ عَدَمِ الشَّيْءِ يُضَادُّ وُجُودَ ذَلِكَ الشيء فَالتَّكْلِيفُ بِتَحْصِيلِ الْعِبَادَةِ مَعَ وُجُودِ الْخَبَرِ الصِّدْقِ بِعَدَمِ الْعِبَادَةِ تَكْلِيفٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَلَيْسَ أَنَّ ذِكْرَ الْوَجْهِ الَّذِي لِأَجْلِهِ تُقَبَّحُ عِبَادَةُ غَيْرِ اللَّهِ كَانَ أَوْلَى مِنْ هَذَا التَّكْرِيرِ؟ الْجَوَابُ بَلْ قَدْ يَكُونُ التَّأْكِيدُ وَالتَّكْرِيرُ أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ الْحُجَّةِ، إِمَّا لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بَلِيدٌ يَنْتَفِعُ بِالْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْرِيرِ وَلَا يَنْتَفِعُ بِذِكْرِ الْحُجَّةِ أَوْ لِأَجْلِ أَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ يَكُونُ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ فَالْمُنَاظَرَةُ فِي مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ حَسَنَةٌ، أَمَّا الْقَائِلُ بِالصَّنَمِ فَهُوَ إِمَّا مَجْنُونٌ يَجِبُ شَدُّهُ أَوْ عَاقِلٌ مُعَانِدٌ فَيَجِبُ قَتْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يُقْدَرْ عَلَى قَتْلِهِ فَيَجِبُ شَتْمُهُ، وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ كَمَا فِي هذه الآية.

[سورة الكافرون (109) : آية 6]

السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ اشْتَمَلَ عَلَى التَّشْدِيدِ، وَهُوَ النِّدَاءُ بِالْكُفْرِ وَالتَّكْرِيرُ وَآخِرَهَا عَلَى اللُّطْفِ وَالتَّسَاهُلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ فَكَيْفَ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؟ / الْجَوَابُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنِّي قَدْ بَالَغْتُ فِي تَحْذِيرِكُمْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْقَبِيحِ، وَمَا قَصَّرْتُ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ تَقْبَلُوا قَوْلِي، فَاتْرُكُونِي سَوَاءً بِسَوَاءٍ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لَمَّا كَانَ التِّكْرَارُ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: لَنْ أَعْبُدَ مَا تَعْبُدُونَ، لِأَنَّ هَذَا أَبْلَغُ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ لَمَّا بَالَغُوا قَالُوا: لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً [الْكَهْفِ: 14] وَالْجَوَابُ: الْمُبَالَغَةُ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي مَوْضِعِ التُّهْمَةِ، وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ مَا كَانَ يَعْبُدُ الصَّنَمَ قَبْلَ الشَّرْعِ، فَكَيْفَ يَعْبُدُهُ بَعْدَ ظُهُورِ الشَّرْعِ، بِخِلَافِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ فإنه وجد منهم ذلك فيما قبل. أما قوله تعالى: [سورة الكافرون (109) : آية 6] لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَكُمْ كُفْرُكُمْ بِاللَّهِ وَلِيَ التَّوْحِيدُ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يُقَالُ: إِنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ فِي الْكُفْرِ قُلْنَا: كَلَّا فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا بُعِثَ إِلَّا لِلْمَنْعِ مِنَ الْكُفْرِ فَكَيْفَ يَأْذَنُ فِيهِ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ أَحَدُ أُمُورٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ منه التهديد، كقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: 40] وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنِّي نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ إِلَيْكُمْ لِأَدْعُوَكُمْ إِلَى الْحَقِّ وَالنَّجَاةِ، فَإِذَا لَمْ تَقْبَلُوا مِنِّي وَلَمْ تَتْبَعُونِي فَاتْرُكُونِي وَلَا تَدْعُونِي إِلَى الشِّرْكِ وَثَالِثُهَا: لَكُمْ دِينُكُمْ فَكُونُوا عَلَيْهِ إِنْ كَانَ الْهَلَاكُ خَيْرًا لَكُمْ وَلِيَ دِينِ لِأَنِّي لَا أَرْفُضُهُ الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ الدِّينَ هُوَ الْحِسَابُ أَيْ لَكُمْ حِسَابُكُمْ وَلِي حِسَابِي، وَلَا يَرْجِعُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا مِنْ عَمَلِ صَاحِبِهِ أَثَرٌ الْبَتَّةَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ لَكُمْ جَزَاءُ دِينِكُمْ وَلِي جَزَاءُ دِينِي وَحَسْبُهُمْ جَزَاءُ دِينِهِمْ وَبَالًا وَعِقَابًا كَمَا حَسْبُكَ جَزَاءُ دِينِكَ تَعْظِيمًا وَثَوَابًا الْقَوْلُ الرَّابِعُ: الدِّينُ الْعُقُوبَةُ: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النُّورِ: 2] يَعْنِي الْحَدَّ، فَلَكُمُ الْعُقُوبَةُ مِنْ رَبِّي، وَلِيَ الْعُقُوبَةُ مِنْ أَصْنَامِكُمْ، لَكِنَّ أَصْنَامَكُمْ جمادات، فأنا لا أخشى عقوبة الأصنام، وأما أَنْتُمْ فَيَحِقُّ لَكُمْ عَقْلًا أَنْ تَخَافُوا عُقُوبَةَ جبار السموات وَالْأَرْضِ الْقَوْلُ الْخَامِسُ: الدِّينُ الدُّعَاءُ، فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، أَيْ لَكُمْ دُعَاؤُكُمْ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [الرعد: 14] وإِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ [فَاطِرٍ: 14] ثُمَّ لَيْتَهَا تَبْقَى عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا يَضُرُّونَكُمْ، بَلْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجِدُونَ لِسَانًا فَيَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ، وَأَمَّا رَبِّي فَيَقُولُ: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا [الشُّورَى: 26] ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: 60] أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [الْبَقَرَةِ: 186] الْقَوْلُ السَّادِسُ: الدِّينُ الْعَادَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ: يَقُولُ لَهَا وَقَدْ دَارَتْ وَضِينِي ... أَهَذَا دِينُهَا أَبَدًا وَدِينِي مَعْنَاهُ لَكُمْ عَادَتُكُمُ الْمَأْخُوذَةُ مِنْ أَسْلَافِكُمْ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ، وَلِي عَادَتِي الْمَأْخُوذَةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْوَحْيِ، ثُمَّ يَبْقَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا عَلَى عَادَتِهِ، حَتَّى تَلْقَوُا الشَّيَاطِينَ وَالنَّارَ، وَأَلْقَى الْمَلَائِكَةَ وَالْجَنَّةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: لَكُمْ دِينُكُمْ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَمَعْنَاهُ لَكُمْ دِينُكُمْ لَا لِغَيْرِكُمْ، وَلِي دِينِي لَا لِغَيْرِي،

وهو إشارة إلى قوله: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى [النَّجْمِ: 38، 39] «1» أَيْ أَنَا مَأْمُورٌ بِالْوَحْيِ وَالتَّبْلِيغِ، وَأَنْتُمْ مَأْمُورُونَ بالامتثال والقبول، فأنا لما فعلت ما كفلت بِهِ خَرَجْتُ مِنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ، وَأَمَّا إِصْرَارُكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ، فَذَلِكَ مِمَّا لَا يَرْجِعُ إِلَيَّ منه ضرر ألبتة. المسألة الثالثة: جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ بِأَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ الْمُتَارَكَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لِيُتَمَثَّلَ بِهِ بَلْ لِيُتَدَبَّرَ فِيهِ، ثُمَّ يُعْمَلَ بِمُوجَبِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم وأحكم، وصلى الله على سيدنا، وعلى آله وصحبه وسلم.

_ (1) في المطبوعة (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ولا تزر وازرة وزر أخرى) وما أثبتناه هو الصحيح المطابق لما نقلناه من سورة النجم. والله أعلم.

سورة النصر

بسم الله الرحمن الرحيم سورة النصر وهي ثلاث آيات مدنية [سورة النصر (110) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) [في قوله تعالى إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ] [في الوجوه الكلية المتعلقة بهذه السورة] إِحْدَاهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ مُحَمَّدًا بِالتَّرْبِيَةِ الْعَظِيمَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضُّحَى: 5] وَقَوْلِهِ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الْكَوْثَرِ: 1] لَا جَرَمَ كَانَ يَزْدَادُ كُلَّ يَوْمٍ أَمْرُهُ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ لِمَ يَضِيقُ قَلْبُكَ؟ أَلَسْتَ حِينَ لَمْ تَكُنْ مَبْعُوثًا لَمْ أُضَيِّعْكَ بَلْ نَصَرْتُكَ بِالطَّيْرِ الْأَبَابِيلِ؟ وَفِي أَوَّلِ الرِّسَالَةِ زِدْتُ فَجَعَلْتُ الطَّيْرَ مَلَائِكَةً أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ ربكم بخمسة آلاف ثُمَّ الْآنَ أَزِيدُ فَأَقُولُ إِنِّي أَكُونُ نَاصِرًا لَكَ بِذَاتِي إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ فَقَالَ: إِلَهِي إِنَّمَا تَتِمُّ النِّعْمَةُ إِذَا فَتَحْتَ لِي دَارَ مَوْلِدِي وَمَسْكَنِي فَقَالَ وَالْفَتْحُ فَقَالَ: إِلَهِي لَكِنَّ الْقَوْمَ إِذَا خَرَجُوا، فَأَيُّ لَذَّةٍ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً ثُمَّ كَأَنَّهُ قَالَ: هَلْ تَعْلَمُ يَا مُحَمَّدُ بِأَيِّ سَبَبٍ وَجَدْتَ هَذِهِ التَّشْرِيفَاتِ الثَّلَاثَةَ إِنَّمَا وَجَدْتَهَا لِأَنَّكَ قُلْتَ فِي السُّورَةِ المتقدمة: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الْكَافِرُونَ: 1] وَهَذَا يَشْتَمِلُ عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَوَّلُهَا: نَصَرْتَنِي بِلِسَانِكَ فَكَانَ جَزَاؤُهُ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَثَانِيهَا: فَتَحَتْ مَكَّةُ قَلْبَكَ بِعَسْكَرِ التَّوْحِيدِ فَأَعْطَيْنَاكَ فَتْحَ مَكَّةَ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْفَتْحُ وَالثَّالِثُ: أَدْخَلْتَ رَعِيَّةَ جَوَارِحِكَ وَأَعْضَائِكَ فِي طَاعَتِي وَعُبُودِيَّتِي فَأَنَا أَيْضًا أَدْخَلْتُ عِبَادِي فِي طَاعَتِكَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً ثُمَّ إِنَّكَ بَعْدَ أَنْ وَجَدْتَ هَذِهِ الخلع الثلاثة فابعث إلى حضرتي بثلاث أَنْوَاعٍ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ تَهَادَوْا تَحَابُّوا، إِنْ نَصَرْتُكَ فَسَبِّحْ، وَإِنْ فَتَحْتَ مَكَّةَ فَاحْمَدْ وَإِنْ أَسْلَمُوا فَاسْتَغْفِرْ، وَإِنَّمَا وَضَعَ فِي مُقَابَلَةِ نَصْرُ اللَّهِ تَسْبِيحَهُ، لِأَنَّ التَّسْبِيحَ هُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمُحْدَثَاتِ، يَعْنِي تُشَاهِدُ أَنَّهُ نَصَرَكَ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَظُنَّ أَنَّهُ إِنَّمَا نَصَرَكَ لِأَنَّكَ تَسْتَحِقُّ مِنْهُ ذَلِكَ النَّصْرَ، بَلِ اعْتَقِدْ كَوْنَهُ مُنَزَّهًا عَنْ أَنْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ شَيْئًا، ثُمَّ جَعَلَ فِي مُقَابِلِ فَتْحِ مَكَّةَ الْحَمْدَ لِأَنَّ النِّعْمَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُقَابَلَ إِلَّا بِالْحَمْدِ، ثُمَّ جَعَلَ فِي مُقَابَلَةِ دُخُولِ النَّاسِ فِي الدِّينِ الِاسْتِغْفَارَ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [مُحَمَّدٍ: 19] أَيْ كَثْرَةُ الْأَتْبَاعِ مِمَّا يَشْغَلُ/ الْقَلْبَ بِلَذَّةِ الْجَاهِ وَالْقَبُولِ، فَاسْتَغْفِرْ لِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ ذَنْبِكَ، وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِهِمْ فَإِنَّهُمْ كُلَّمَا كَانُوا أَكْثَرَ كَانَتْ ذُنُوبُهُمْ أَكْثَرَ فَكَانَ احْتِيَاجُهُمْ إِلَى اسْتِغْفَارِكَ أَكْثَرَ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا تَبَرَّأَ عَنِ الكفر وواجههم بالسوء في قوله: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ كَأَنَّهُ خَافَ بَعْضَ الْقَوْمِ فَقَلَّلَ مِنْ تِلْكَ الْخُشُونَةِ فَقَالَ: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ فَقِيلَ: يَا مُحَمَّدُ لَا تَخَفْ فَإِنِّي لَا أَذْهَبُ بِكَ إِلَى النَّصْرِ بَلْ أَجِيءُ بِالنَّصْرِ إِلَيْكَ: إِذا جاءَ

نَصْرُ اللَّهِ نَظِيرُهُ: «زُوِيَتْ لِيَ الْأَرْضُ» يَعْنِي لَا تَذْهَبْ إِلَى الْأَرْضِ بَلْ تَجِيءُ الْأَرْضُ إِلَيْكَ، فَإِنْ سَئِمْتَ الْمُقَامَ وَأَرَدْتَ الرِّحْلَةَ، فَمِثْلُكَ لَا يَرْتَحِلُ إِلَّا إِلَى قَابِ قَوْسَيْنِ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 1] بَلْ أَزِيدُ عَلَى هَذَا فَأُفَضِّلُ فُقَرَاءَ أُمَّتِكَ عَلَى أَغْنِيَائِهِمْ ثُمَّ آمُرُ الْأَغْنِيَاءَ بِالضَّحَايَا لِيَتَّخِذُوهَا مَطَايَا فَإِذَا بَقِيَ الْفَقِيرُ مِنْ غَيْرِ مَطِيَّةٍ أَسُوقُ الْجَنَّةَ إِلَيْهِ: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [الشُّعَرَاءِ: 90] الْوَجْهُ الثَّالِثُ: كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الدُّنْيَا لَا يَصْفُو كَدَرُهَا وَلَا تَدُومُ مِحَنُهَا وَلَا نَعِيمُهَا فَرِحْتَ بِالْكَوْثَرِ فَتَحَمَّلْ مَشَقَّةَ سَفَاهَةِ السُّفَهَاءِ حَيْثُ قَالُوا: اعْبُدْ آلِهَتَنَا حَتَّى نَعْبُدَ إِلَهَكَ فَلَمَّا تَبَرَّأَ عَنْهُمْ وَضَاقَ قَلْبُهُ مِنْ جِهَتِهِمْ قَالَ: أَبْشِرْ فَقَدْ جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ فَلَمَّا اسْتَبْشَرَ قَالَ الرَّحِيلَ الرَّحِيلَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ بَعْدَ الْكَمَالِ مِنَ الزَّوَالِ، فَاسْتَغْفِرْهُ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ لَا تَحْزَنْ مِنْ جُوعِ الرَّبِيعِ فَعَقِيبَهُ غِنَى الْخَرِيفِ وَلَا تَفْرَحْ بِغِنَى الْخَرِيفِ فَعَقِيبَهُ وَحْشَةُ الشِّتَاءِ، فَكَذَا مَنْ تَمَّ إِقْبَالُهُ لَا يَبْقَى لَهُ إِلَّا الْغِيَرُ وَمِنْهُ: إِذَا تَمَّ أَمْرٌ دَنَا نَقْصُهُ ... تَوَقَّعْ زَوَالًا إِذَا قِيلَ تَمَّ إِلَهِي لِمَ فَعَلْتَ كَذَلِكَ قَالَ: حَتَّى لَا نَضَعَ قَلْبَكَ عَلَى الدُّنْيَا بَلْ تَكُونُ أَبَدًا عَلَى جَنَاحِ الِارْتِحَالِ وَالسَّفَرِ الْوَجْهُ الرَّابِعُ: لَمَّا قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِلَهِي وَمَا جَزَائِي فَقَالَ: نَصْرُ اللَّهِ فَيَقُولُ: وَمَا جَزَاءُ عَمِّي حِينَ دَعَانِي إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَقَالَ: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [الْمَسَدِ: 1] فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ بَدَأَ بِالْوَعْدِ قَبْلَ الْوَعِيدِ، قُلْنَا: لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: لِأَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ وَالثَّانِي: لِيَكُونَ الْجِنْسُ مُتَّصِلًا بِالْجِنْسِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَلِيَ دِينِ وَهُوَ النَّصْرُ كَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 106] ، وَثَالِثُهَا: الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ أَهَمُّ فِي الْكَرَمِ مِنَ الْوَفَاءِ بِالِانْتِقَامِ، فَتَأَمَّلْ فِي هَذِهِ الْمُجَانَسَاتِ الْحَاصِلَةِ بَيْنَ هَذِهِ السُّوَرِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ وَتِلْكَ السُّورَةُ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ لِيُعْلَمَ أَنَّ تَرْتِيبَ هَذِهِ السُّوَرِ مِنَ اللَّهِ وَبِأَمْرِهِ الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ بَلْ قَالَ: مَا أَعْبُدُ بِلَفْظٍ مَا، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ حَتَّى لَا يَسْتَخِفُّوا فَتَزْدَادَ عُقُوبَتُهُمْ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ ذَكَرَ أَعْظَمَ أَسَامِيهِ لِأَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ عَلَى الْأَحْبَابِ لِيَكُونَ ثَوَابُهُمْ بِقِرَاءَتِهِ أَعْظَمَ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ لَا تَذْكُرِ اسْمِي مَعَ الْكَافِرِينَ حَتَّى لَا يُهِينُوهُ وَاذْكُرْهُ مَعَ الْأَوْلِيَاءِ حَتَّى يُكْرِمُوهُ الْوَجْهُ السَّادِسُ: قَالَ النَّحْوِيُّونَ: إِذا مَنْصُوبٌ بِسَبِّحْ، وَالتَّقْدِيرُ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ، كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: جَعَلْتُ الْوَقْتَ ظَرْفًا لِمَا تُرِيدُهُ وَهُوَ النَّصْرُ وَالْفَتْحُ وَالظَّفَرُ وَمَلَأْتُ ذَلِكَ الظَّرْفَ مِنْ هَذِهِ/ الْأَشْيَاءِ، وَبَعَثْتُهُ إِلَيْكَ فَلَا تردده عَلَيَّ فَارِغًا، بَلِ امْلَأْهُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى: «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» فَكَأَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْلَأُ ظَرْفَ هَدِيَّتِكَ وَأَنَا فَقِيرٌ، فَيَقُولُ اللَّهُ فِي الْمَعْنَى: إِنْ لَمْ تَجِدْ شَيْئًا آخَرَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ تَحْرِيكِ اللِّسَانِ بِالتَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ وَالِاسْتِغْفَارِ، فَلَمَّا فَعَلَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ حَصَلَ مَعْنَى تَهَادَوْا، لَا جَرَمَ حَصَلَتِ الْمَحَبَّةُ، فَلِهَذَا كَانَ مُحَمَّدٌ حَبِيبَ اللَّهِ الْوَجْهُ السَّابِعُ: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِذَا جَاءَكَ النَّصْرُ وَالْفَتْحُ وَدُخُولُ النَّاسِ فِي دِينِكَ، فَاشْتَغِلْ أَنْتَ أَيْضًا بِالتَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ وَالِاسْتِغْفَارِ، فإني قلت: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7] فَيَصِيرُ اشْتِغَالُكَ بِهَذِهِ الطَّاعَاتِ سَبَبًا لِمَزِيدِ دَرَجَاتِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا تَزَالُ تَكُونُ فِي الترقي حتى يصير الوعد بقولي: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ الْإِيمَانَ إِنَّمَا يَتِمُّ بِأَمْرَيْنِ: بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَبِالْبَرَاءَةِ وَالْوِلَايَةِ، فَالنَّفْيُ وَالْبَرَاءَةُ قَوْلُهُ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَالْإِثْبَاتُ وَالْوِلَايَةُ قَوْلُهُ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ فَهَذِهِ هِيَ الْوُجُوهُ الْكُلِّيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَذِهِ السُّورَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ أَسْرَارًا، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ بَيَانُهَا فِي مَعْرِضِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ.

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ حَتَّى عَطَفَ الْفَتْحَ عَلَى النَّصْرِ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: النَّصْرُ هُوَ الْإِعَانَةُ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ، وَالْفَتْحُ هُوَ تَحْصِيلُ الْمَطْلُوبِ الَّذِي كَانَ متعلقا، وظاهر أن النصر كالسبب الفتح، فَلِهَذَا بَدَأَ بِذِكْرِ النَّصْرِ وَعَطَفَ الْفَتْحَ عَلَيْهِ وَثَانِيهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: النَّصْرُ كَمَالُ الدِّينِ، وَالْفَتْحُ الْإِقْبَالُ الدُّنْيَوِيُّ الَّذِي هُوَ تَمَامُ النِّعْمَةِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [الْمَائِدَةِ: 3] وَثَالِثُهَا: النَّصْرُ هُوَ الظَّفَرُ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْمُنَى، وَالْفَتْحُ بِالْجَنَّةِ، كَمَا قَالَ: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزُّمَرِ: 73] وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي النَّصْرِ أَنَّهُ الْغَلَبَةُ عَلَى قُرَيْشٍ أَوْ عَلَى جَمِيعِ الْعَرَبِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَبَدًا مَنْصُورًا بِالدَّلَائِلِ وَالْمُعْجِزَاتِ، فَمَا الْمَعْنَى مِنْ تَخْصِيصِ لَفْظِ النَّصْرِ بِفَتْحِ مَكَّةَ؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا النَّصْرِ هُوَ النَّصْرُ الْمُوَافِقُ لِلطَّبْعِ، إِنَّمَا جُعِلَ لَفْظُ النَّصْرِ الْمُطْلَقِ دَالًّا عَلَى هَذَا النَّصْرِ الْمَخْصُوصِ، لِأَنَّ هَذَا النَّصْرَ لِعِظَمِ مَوْقِعِهِ مِنْ قُلُوبِ أَهْلِ الدُّنْيَا جُعِلَ مَا قَبْلَهُ كَالْمَعْدُومِ، كَمَا أَنَّ الْمُثَابَ عِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ يُتَصَوَّرُ كَأَنَّهُ لَمْ يَذُقْ نِعْمَةً قَطُّ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 214] ، وَثَانِيهِمَا: لَعَلَّ الْمُرَادَ نَصْرُ اللَّهِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا الَّذِي حَكَمَ بِهِ لِأَنْبِيَائِهِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ [نُوحٍ: 4] . السُّؤَالُ الثَّالِثُ: النَّصْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 126] فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّقْيِيدِ وَهُوَ قَوْلُهُ: نَصْرُ اللَّهِ؟ وَالْجَوَابُ مَعْنَاهُ نَصْرٌ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا يَلِيقُ أَنْ يَفْعَلَهُ إِلَّا اللَّهُ أَوْ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِحِكْمَتِهِ وَيُقَالُ: هَذَا صَنْعَةُ زَيْدٍ إِذَا كَانَ زَيْدٌ مَشْهُورًا بِإِحْكَامِ الصَّنْعَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ تعظيم حال تلك الصنعة، فكذا هاهنا، أَوْ نَصْرُ اللَّهِ لِأَنَّهُ إِجَابَةٌ لِدُعَائِهِمْ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ فَيَقُولُ هَذَا الَّذِي سَأَلْتُمُوهُ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: وَصْفُ النَّصْرِ بِالْمَجِيءِ مَجَازٌ وَحَقِيقَتُهُ إِذَا وَقَعَ نَصْرُ اللَّهِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَرْكِ الْحَقِيقَةِ وَذِكْرِ الْمَجَازِ؟ الْجَوَابُ فِيهِ إِشَارَاتٌ: إِحْدَاهَا: أَنَّ الْأُمُورَ مَرْبُوطَةٌ بِأَوْقَاتِهَا وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدَّرَ لِحُدُوثِ كُلِّ حَادِثٍ أَسْبَابًا مُعَيَّنَةً وَأَوْقَاتًا مُقَدَّرَةً يَسْتَحِيلُ فِيهَا التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ وَالتَّغَيُّرُ وَالتَّبَدُّلُ فَإِذَا حَضَرَ ذَلِكَ الْوَقْتُ وَجَاءَ ذَلِكَ الزَّمَانُ حَضَرَ مَعَهُ ذَلِكَ الْأَثَرُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الْحِجْرِ: 21] ، وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّفْظَ دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّصْرَ كَانَ كَالْمُشْتَاقِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ النَّصْرَ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ بِحُكْمِ، الْوَعْدِ فَالْمُقْتَضَى كَانَ مَوْجُودًا إِلَّا أَنَّ تَخَلُّفَ الْأَثَرِ كَانَ لِفُقْدَانِ الشَّرْطِ فَكَانَ كَالثَّقِيلِ الْمُعَلَّقِ فَإِنَّ ثِقَلَهُ يُوجِبُ الْهُوِيَّ إِلَّا أَنَّ الْعَلَاقَةَ مَانِعَةٌ فالثقيل يكون كالمشتاق إلى الهوى، فكذا هاهنا النصر كان كالمشتاق إلى محمد صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ عَالَمَ الْعَدَمِ عَالَمٌ لَا نِهَايَةَ لَهُ وَهُوَ عَالَمُ الظُّلُمَاتِ إِلَّا أَنَّ فِي قَعْرِهَا يَنْبُوعَ الْجُودِ وَالرَّحْمَةِ وَهُوَ يَنْبُوعُ جُودِ اللَّهِ وَإِيجَادِهِ، ثُمَّ انْشَعَبَتْ بِحَارُ الْجُودِ وَالْأَنْوَارِ وَأَخَذَتْ فِي السَّيَلَانِ، وَسَيَلَانُهَا يَقْتَضِي فِي كُلِّ حِينٍ وُصُولَهَا إِلَى مَوْضِعٍ وَمَكَانٍ مُعَيَّنٍ فَبِحَارُ رَحْمَةِ اللَّهِ وَنُصْرَتِهِ كَانَتْ آخِذَةً فِي السَّيَلَانِ مِنَ الْأَزَلِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَا مُحَمَّدُ قَرُبَ وُصُولُهَا إِلَيْكَ وَمَجِيئُهَا إِلَيْكَ فَإِذَا جَاءَتْكَ أَمْوَاجُ هَذَا الْبَحْرِ فَاشْتَغِلْ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ السَّفِينَةُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ الْخَلَاصُ مِنْ بِحَارِ الرُّبُوبِيَّةِ إِلَّا بِهَا، وَلِهَذَا السَّبَبِ لَمَّا رَكِبَ أَبُوكَ نُوحُ بَحْرَ الْقَهْرِ وَالْكِبْرِيَاءِ اسْتَعَانَ بِقَوْلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هُودٍ: 41] . السُّؤَالُ الْخَامِسُ: لَا شَكَّ أَنَّ الَّذِينَ أَعَانُوا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ هُمُ الصَّحَابَةُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، ثُمَّ إِنَّهُ سَمَّى نُصْرَتَهُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ: نَصْرُ اللَّهِ فَمَا السَّبَبُ فِي أَنْ صَارَ الْفِعْلُ الصَّادِرُ عَنْهُمْ مُضَافًا إِلَى

اللَّهِ؟ الْجَوَابُ: هَذَا بَحْرٌ يَتَفَجَّرُ مِنْهُ بَحْرُ سِرِّ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِعْلَهُمْ فِعْلُ اللَّهِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ أَفْعَالَهُمْ مُسْنَدَةٌ إِلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ، وَتِلْكَ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفُ أُمُورٌ حَادِثَةٌ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُحْدِثٍ وَلَيْسَ هُوَ الْعَبْدَ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهَ تَعَالَى، فَيَكُونُ الْمَبْدَأُ الْأَوَّلُ وَالْمُؤَثِّرُ الْأَبْعَدُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَكُونُ الْمَبْدَأُ الْأَقْرَبُ هُوَ الْعَبْدُ. فَمِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ صَارَتِ النُّصْرَةُ الْمُضَافَةُ إِلَى الصَّحَابَةِ بِعَيْنِهَا مُضَافَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ يَكُونُ فِعْلُ الْعَبْدِ مُفَرَّعًا عَلَى فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا يُخَالِفُ النص، لِأَنَّهُ قَالَ: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [مُحَمَّدٍ: 7] فَجَعَلَ نَصْرَنَا لَهُ مُقَدَّمًا عَلَى نَصْرِهِ لَنَا وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي أَنْ يَصْدُرَ عَنِ الْحَقِّ فِعْلٌ، فَيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِصُدُورِ فِعْلٍ عَنَّا، ثُمَّ الْفِعْلُ عَنَّا يَنْسَاقُ إِلَى فِعْلٍ آخَرَ يَصْدُرُ عَنِ الرَّبِّ، فَإِنَّ أَسْبَابَ الْحَوَادِثِ وَمُسَبَّبَاتِهَا مُتَسَلْسِلَةٌ عَلَى تَرْتِيبٍ عَجِيبٍ يَعْجِزُ عَنْ إِدْرَاكِ كَيْفِيَّتِهِ أَكْثَرُ الْعُقُولِ الْبَشَرِيَّةِ. السُّؤَالُ السَّادِسُ: كَلِمَةُ: إِذا لِلْمُسْتَقْبَلِ، فَهَهُنَا لَمَّا ذَكَرَ وَعْدًا مُسْتَقْبَلًا بِالنَّصْرِ، قَالَ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ فَذَكَرَ ذَاتَهُ بِاسْمِ اللَّهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ النَّصْرَ الْمَاضِيَ حِينَ قَالَ: وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ/ لَيَقُولُنَّ [الْعَنْكَبُوتِ: 10] فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الرَّبِّ، فَمَا السَّبَبُ فِي ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ وُجُودِ الْفِعْلِ صَارَ رَبًّا، وَقَبْلَهُ مَا كَانَ رَبًّا لَكِنْ كَانَ إِلَهًا. السُّؤَالُ السَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [محمد: 7] وَإِنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ نَصَرَ اللَّهَ حِينَ قال: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ فَكَانَ وَاجِبًا بِحُكْمِ هَذَا الْوَعْدِ أَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ، فَلَا جَرَمَ قَالَ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ فَهَلْ تَقُولُ بِأَنَّ هَذَا النَّصْرَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ قَدْ يَصِيرُ وَاجِبًا بِالْوَعْدِ، وَلِهَذَا قِيلَ: وَعْدُ الْكَرِيمِ أَلْزَمُ مِنْ دَيْنِ الْغَرِيمِ، كَيْفَ وَيَجِبُ عَلَى الْوَالِدِ نُصْرَةُ وَلَدِهِ، وَعَلَى الْمَوْلَى نُصْرَةُ عَبْدِهِ، بَلْ يَجِبُ النَّصْرُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ إِذَا تَعَيَّنَ بِأَنْ كَانَ وَاحِدًا اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ مَشْغُولًا بِصَلَاةِ نَفْسِهِ، ثُمَّ اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى فَوَعَدَهُ مَعَ الْكَرَمِ وَهُوَ أَرْأَفُ بِعَبْدِهِ مِنَ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ وَالْمَوْلَى بِعَبْدِهِ وَهُوَ وَلِيٌّ بِحَسَبِ الْمُلْكِ وَمَوْلًى بِحَسَبِ السَّلْطَنَةِ، وَقَيُّومٌ لِلتَّدْبِيرِ وَوَاحِدٌ فَرْدٌ لَا ثَانِيَ لَهُ فَوَجَبَ عَلَيْهِ وُجُوبَ الْكَرَمِ نُصْرَةُ عَبْدِهِ فَلِهَذَا قَالَ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْفَتْحُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْفَتْحَ هُوَ فَتْحُ مَكَّةَ وَهُوَ الْفَتْحُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: فَتْحُ الْفُتُوحِ. رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَغَارَ بَعْضُ مَنْ كَانَ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ عَلَى خُزَاعَةَ وَكَانُوا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ سَفِيرُ ذَلِكَ الْقَوْمِ وَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَا إِنَّ هَذَا الْعَارِضَ لَيُخْبِرُنِي أَنَّ الظَّفَرَ يَجِيءُ مِنَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: انْظُرُوا فَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ يَجِيءُ وَيَلْتَمِسُ أَنْ يُجَدِّدَ الْعَهْدَ فَلَمْ تَمْضِ سَاعَةٌ أَنْ جَاءَ الرَّجُلُ مُلْتَمِسًا لِذَلِكَ فَلَمْ يُجِبْهُ الرَّسُولُ وَلَا أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ فَالْتَجَأَ إِلَى فَاطِمَةَ فَلَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ وَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ آيِسًا وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسِيرِ لِمَكَّةَ، ثُمَّ يُرْوَى أَنَّ سَارَّةَ مُوَلَّاةُ بَعْضِ بَنِي هَاشِمٍ أَتَتِ الْمَدِينَةَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهَا: جِئْتِ مُسْلِمَةً؟ قَالَتْ: لَا لَكِنْ كُنْتُمُ الْمَوَالِيَ وَبِي حَاجَةٌ، فَحَثَّ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَكَسَوْهَا وَحَمَلُوهَا وَزَوَّدُوهَا فَأَتَاهَا حَاطِبٌ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَاسْتَحْمَلَهَا كِتَابًا إِلَى مَكَّةَ نُسْخَتُهُ: اعْلَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ يُرِيدُكُمْ فَخُذُوا حذركم، فخرجت سارة ونزلت جِبْرِيلُ بِالْخَبَرِ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ

وَعَمَّارًا فِي جَمَاعَةٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا الْكِتَابَ وَإِلَّا فَاضْرِبُوا عُنُقَهَا، فَلَمَّا أَدْرَكُوهَا جَحَدَتْ وَحَلَفَتْ فسل علي عليه السلام سيفه وقال: الله مَا كُذِبْنَا فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عَقِيصَةِ شَعْرِهَا، وَاسْتَحْضَرَ النَّبِيُّ حَاطِبًا وَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كَفَرْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلَا أَحْبَبْتُهُمْ مُنْذُ فَارَقْتُهُمْ، لَكِنْ كُنْتُ غَرِيبًا فِي قُرَيْشٍ وَكُلُّ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ أَهَالِيَهُمْ فَخَشِيتُ عَلَى أَهْلِي فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا، فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ/ فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ فَفَاضَتْ عَيْنَا عُمَرَ، ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى أَنْ نَزَلَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، وَقَدِمَ الْعَبَّاسُ وَأَبُو سُفْيَانَ إِلَيْهِ فَاسْتَأْذَنَا فَأَذِنَ لِعَمِّهِ خَاصَّةً فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إِمَّا أَنْ تَأْذَنَ لِي وَإِلَّا أَذْهَبُ بِوَلَدِي إِلَى الْمَفَازَةِ فَيَمُوتَ جُوعًا وَعَطَشًا فَرَقَّ قَلْبُهُ، فَأَذِنَ لَهُ وَقَالَ لَهُ: أَلَمْ يَأْنِ أَنْ تُسْلِمَ وَتُوَحِّدَ؟ فقال: أظن أنه واحد، ولو كان هاهنا غير الله لنصرنا، فقال: ألم بأن أَنْ تَعْرِفَ أَنِّي رَسُولُهُ؟ فَقَالَ: إِنَّ لِي شَكًّا فِي ذَلِكَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَسْلِمْ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَكَ عُمَرُ، فَقَالَ: وَمَاذَا أَصْنَعُ بِالْعُزَّى، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْلَا أَنَّكَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَلَيْسَ الْأَوْلَى أَنْ تَتْرُكَ هَؤُلَاءِ الْأَوْبَاشَ وَتُصَالِحَ قَوْمَكَ وعشيرتك، فسكان مكة عشيرتك وأقارب، وَ [لَا] تَعَرِّضْهُمْ لِلشَّنِّ وَالْغَارَةِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَؤُلَاءِ نَصَرُونِي وَأَعَانُونِي وَذَبُّوا عَنْ حَرِيمِي، وَأَهْلُ مَكَّةَ أَخْرَجُونِي وَظَلَمُونِي، فَإِنْ هُمْ أُسِرُوا فَبِسُوءِ صَنِيعِهِمْ، وَأَمَرَ الْعَبَّاسَ بِأَنْ يَذْهَبَ بِهِ وَيُوقِفَهُ عَلَى الْمِرْصَادِ لِيُطَالِعَ الْعَسْكَرَ، فَكَانَتِ الْكَتِيبَةُ تَمُرُّ عَلَيْهِ فَيَقُولُ مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ الْعَبَّاسُ هُوَ فُلَانٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْجُنْدِ إِلَى أَنْ جَاءَتِ الْكَتِيبَةُ الْخَضْرَاءُ الَّتِي لَا يُرَى مِنْهَا إِلَّا الْحَدَقُ فَسَأَلَ عَنْهُمْ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: لَقَدْ أُوتِيَ ابْنُ أَخِيكَ مُلْكًا عَظِيمًا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: هُوَ النُّبُوَّةُ، فَقَالَ هَيْهَاتَ النُّبُوَّةُ، ثُمَّ تَقَدَّمَ وَدَخَلَ مَكَّةَ، وَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا جَاءَ بِعَسْكَرٍ لَا يُطِيقُهُ أَحَدٌ، فَصَاحَتْ هِنْدٌ وَقَالَتْ: اقْتُلُوا هَذَا الْمُبَشِّرَ، وَأَخَذَتْ بِلِحْيَتِهِ فَصَاحَ الرَّجُلُ وَدَفَعَهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمَّا سَمِعَ أَبُو سُفْيَانَ أَذَانَ الْقَوْمِ لِلْفَجْرِ، وَكَانُوا عَشَرَةَ آلَافِ فَزِعَ لِذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا وَسَأَلَ الْعَبَّاسَ، فَأَخْبَرَهُ بِأَمْرِ الصَّلَاةِ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ مَكَّةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَلِحْيَتُهُ عَلَى قُرْبُوسِ سَرْجِهِ كَالسَّاجِدِ تَوَاضُعًا وَشُكْرًا، ثُمَّ الْتَمَسَ أَبُو سُفْيَانَ الْأَمَانَ، فَقَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ فَقَالَ: وَمَنْ تَسَعُ دَارِي؟ فَقَالَ: وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ فَقَالَ: وَمَنْ يَسَعُ الْمَسْجِدُ؟ فَقَالَ: مَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، ثُمَّ وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ، فَقَالُوا: خَيْرًا أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، فَقَالَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ فَأَعْتَقَهُمْ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَهْلُ مَكَّةَ الطُّلَقَاءَ وَمِنْ ذَلِكَ كَانَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ لِمُعَاوِيَةَ: أَنَّى يَسْتَوِي الْمَوْلَى وَالْمُعْتَقُ يَعْنِي أَعْتَقْنَاكُمْ حِينَ مَكَّنَنَا اللَّهُ مِنْ رِقَابِكُمْ وَلَمْ يَقُلِ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ مُعْتَقُونَ، بَلْ قَالَ: الطُّلَقَاءُ، لِأَنَّ الْمُعْتَقَ يَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ إِلَى الرِّقِّ، وَالْمُطَلَّقَةُ يَجُوزُ أَنْ تُعَادَ إِلَى رِقِّ النِّكَاحِ وَكَانُوا بَعْدُ عَلَى الْكُفْرِ، فَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يَخُونُوا فَيُسْتَبَاحَ رِقُّهُمْ مَرَّةً أُخْرَى وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ يَخُصُّ النِّسْوَانَ، وَقَدْ أَلْقَوُا السِّلَاحَ وَأَخَذُوا الْمَسَاكِنَ كَالنِّسْوَانِ، وَلِأَنَّ الْمُعْتَقَ يُخْلَى سَبِيلُهُ يَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَ، وَالْمُطَلَّقَةُ تَجْلِسُ فِي الْبَيْتِ لِلْعِدَّةِ، وَهُمْ أُمِرُوا بِالْجُلُوسِ بِمَكَّةَ كَالنِّسْوَانِ، ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ بَايَعُوا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَصَارُوا يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَّى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ: أَرْبَعَةٌ صَلَاةُ الضُّحَى، وَأَرْبَعَةٌ أُخْرَى شُكْرًا لِلَّهِ نَافِلَةً، فَهَذِهِ هِيَ/ قِصَّةُ فَتْحِ مَكَّةَ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْفَتْحِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ هُوَ فَتْحُ مَكَّةَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَتْحِ فَتْحُ مَكَّةَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ مَقْرُونًا بِالنَّصْرِ وَقَدْ كَانَ يَجِدُ النَّصْرَ دُونَ الْفَتْحِ كَبَدْرٍ، وَالْفَتْحَ دُونَ النَّصْرِ كَإِجْلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ، فَإِنَّهُ فَتَحَ الْبَلَدَ لَكِنْ لَمْ يَأْخُذِ الْقَوْمَ، أَمَّا يَوْمُ فَتْحِ مكة اجتمع

[سورة النصر (110) : آية 2]

لَهُ الْأَمْرَانِ النَّصْرُ وَالْفَتْحُ، وَصَارَ الْخَلْقُ لَهُ كَالْأَرِقَّاءِ حَتَّى أَعْتَقَهُمْ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ فَتْحُ خَيْبَرَ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى يَدِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ، رُوِيَ أَنَّهُ اسْتَصْحَبَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَكَانَ يُسَامِيهِ فِي الشَّجَاعَةِ، فَلَمَّا نُصِبَ السُّلَّمُ قَالَ لِخَالِدٍ: أَتَتَقَدَّمُ؟ قَالَ: لَا، فَلَمَّا تَقَدَّمَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَهُ كَمْ صَعِدْتَ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي لِشِدَّةِ الْخَوْفِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَلَا تُصَارِعَنِي فَقَالَ: أَلَسْتُ صَرَعْتُكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ لَكِنَّ ذَاكَ قَبْلَ إِسْلَامِي، وَلَعَلَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا امْتَنَعَ عَنْ مُصَارَعَتِهِ لِيَقَعَ صِيتُهُ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّهُ رَجُلٌ يَمْتَنِعُ عَنْهُ عَلِيٌّ، أَوْ كَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ صَرَعْتُكَ حِينَ كُنْتَ كَافِرًا، أَمَّا الْآنَ وَأَنْتَ مُسْلِمٌ فَلَا يَحْسُنُ أَنْ أَصْرَعَكَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ فَتَحَ الطَّائِفَ وَقِصَّتُهُ طَوِيلَةٌ وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: الْمُرَادُ النَّصْرُ عَلَى الْكُفَّارِ، وَفَتْحُ بِلَادِ الشِّرْكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَرَادَ بِالْفَتْحِ مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُلُومِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] لَكِنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِانْشِرَاحِ الصَّدْرِ وَصَفَاءِ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِنَصْرِ اللَّهِ إِعَانَتَهُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْخَيْرَاتِ، وَالْفَتْحُ هُوَ انْتِفَاعُ عَالَمِ الْمَعْقُولَاتِ وَالرُّوحَانِيَّاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا حَمَلْنَا الْفَتْحَ عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ، فَلِلنَّاسِ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ كَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ سَنَةَ عَشْرٍ، وَرُوِيَ أَنَّهُ عَاشَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ سَبْعِينَ يَوْمًا، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ سُورَةَ التَّوْدِيعِ وَالْقَوْلُ الثَّانِيَ: أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَهُوَ وَعْدٌ لِرَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَنْصُرَهُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَنْ يَفْتَحَهَا عَلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [الْقَصَصِ: 85] وَقَوْلُهُ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ يَقْتَضِي الِاسْتِقْبَالَ، إِذْ لَا يُقَالُ فِيمَا وَقَعَ: إِذَا جَاءَ وَإِذَا وَقَعَ، وَإِذَا صَحَّ هَذَا الْقَوْلُ صَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُعْجِزَاتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ خَبَرٌ وُجِدَ مُخْبَرُهُ بَعْدَ حِينٍ مُطَابِقًا لَهُ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْغَيْبِ مُعْجِزٌ فَإِنْ قِيلَ: لِمَ ذُكِرَ النَّصْرُ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَذُكِرَ الْفَتْحُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ؟ الْجَوَابُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْمَعْهُودِ السَّابِقِ، فَيَنْصَرِفُ إلى فتح مكة. [سورة النصر (110) : آية 2] وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: (رَأَيْتَ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَبْصَرْتَ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ عَلِمْتَ، فَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ أَبْصَرْتَ كَانَ يَدْخُلُونَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَرَأَيْتَ النَّاسَ حَالَ دُخُولِهِمْ/ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ عَلِمْتَ كَانَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ مَفْعُولًا ثَانِيًا لَعَلِمْتَ، وَالتَّقْدِيرُ: عَلِمْتَ النَّاسَ دَاخِلِينَ فِي دِينِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ لَفْظِ النَّاسِ لِلْعُمُومِ، فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ النَّاسِ كَانُوا قَدْ دَخَلُوا فِي الْوُجُودِ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ مَا كَانَ كَذَلِكَ الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْعَقْلِ، إِنَّمَا هُوَ الدِّينُ وَالطَّاعَةُ، عَلَى مَا قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] فَمَنْ أَعْرَضَ عَنِ الدِّينِ الْحَقِّ وَبَقِيَ عَلَى الْكُفْرِ، فَكَأَنَّهُ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف: 179] وقال: آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ [الْبَقَرَةِ: 13] وَسُئِلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنِ النَّاسُ؟ فَقَالَ: نَحْنُ النَّاسُ، وَأَشْيَاعُنَا أَشْبَاهُ النَّاسِ، وَأَعْدَاؤُنَا النَّسْنَاسُ، فَقَبَّلَهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ

رِسَالَتَهُ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ إِنَّمَا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَتَقْصِيرٍ كَثِيرٍ، فَكَيْفَ اسْتَحَقُّوا هَذَا الْمَدْحَ الْعَظِيمَ؟ قُلْنَا: هَذَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى سِعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ بَعْدَ أَنْ أَتَى بِالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ طُولَ عُمْرِهِ، فَإِذَا أَتَى بِالْإِيمَانِ فِي آخِرِ عُمْرِهِ يَقْبَلُ إِيمَانَهُ، وَيَمْدَحُهُ هَذَا الْمَدْحَ الْعَظِيمَ، وَيُرْوَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَقُولُونَ لِمِثْلِ هَذَا الْإِنْسَانِ: أَتَيْتَ وَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَبَيْتَ. وَيُرْوَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ مِنَ الضَّالِّ الْوَاجِدِ، وَالظَّمْآنِ الْوَارِدِ» وَالْمَعْنَى كَانَ الرَّبُّ تَعَالَى يَقُولُ: رَبَّيْتُهُ سَبْعِينَ سَنَةً، فَإِنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ أَبْعَثَهُ إِلَى النَّارِ، فَحِينَئِذٍ يَضِيعُ إِحْسَانِي إِلَيْهِ فِي سَبْعِينَ سَنَةً، فَكُلَّمَا كَانَتْ مُدَّةُ الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ أَكْثَرَ كَانَتِ التَّوْبَةُ عَنْهَا أَشَدَّ قَبُولًا الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ، رُوِيَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ أَهْلُ الْيَمَنِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَجَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ قَوْمٌ رَقِيقَةٌ قُلُوبُهُمُ الْإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْفِقْهُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ، وَقَالَ: أَجِدُ نَفَسَ رَبِّكُمْ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ جمهور الفقهاء وكثير من المتكلمون: إِنَّ إِيمَانَ الْمُقَلِّدِ صَحِيحٌ، وَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِصِحَّةِ إِيمَانِ أُولَئِكَ الْأَفْوَاجِ وَجَعَلَهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمِنَنِ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِيمَانُهُمْ صَحِيحًا لَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْمَعْرِضِ، ثُمَّ إِنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا عَالِمِينَ حُدُوثَ الْأَجْسَادِ بِالدَّلِيلِ وَلَا إِثْبَاتَ كَوْنِهِ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ وَلَا إِثْبَاتَ كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا وَلَا إِثْبَاتَ قِيَامِ الْمُعْجِزِ التَّامِّ عَلَى يَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا إِثْبَاتَ أَنَّ قِيَامَ الْمُعْجِزِ كَيْفَ يَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ وَالْعِلْمُ بِأَنَّ أُولَئِكَ الْأَعْرَابَ مَا كَانُوا عَالِمِينَ بِهَذِهِ الدَّقَائِقِ ضَرُورِيٌّ، فَعَلِمْنَا أَنَّ إِيمَانَ الْمُقَلِّدِ صَحِيحٌ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِأُصُولِ دَلَائِلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لِأَنَّ أُصُولَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ ظَاهِرَةٌ، بَلْ إِنَّمَا كَانُوا جَاهِلِينَ بِالتَّفَاصِيلِ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِ الْإِنْسَانِ مُسْتَدِلًّا كَوْنُهُ عَالِمًا بِهَذِهِ التَّفَاصِيلِ، لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ الدَّلِيلَ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ إِذَا كَانَ مَثَلًا مُرَكَّبًا مِنْ عَشْرِ مُقَدِّمَاتٍ، فَمَنْ عَلِمَ تِسْعَةً/ مِنْهَا، وَكَانَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ مُقَلِّدًا كَانَ فِي النَّتِيجَةِ مُقَلِّدًا لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ فَرْعَ التَّقْلِيدِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ تَقْلِيدًا وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِمَجْمُوعِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ الْعَشْرَةِ اسْتَحَالَ كَوْنُ غَيْرِهِ أَعْرَفَ مِنْهُ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ، لِأَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ إِنْ كَانَتْ جزأ مُعْتَبَرًا فِي دَلَالَةِ هَذَا الدَّلِيلِ لَمْ تَكُنِ الْمُقْدِمَاتُ الْعَشَرَةُ الْأُولَى تَمَامَ الدَّلِيلِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مَعَهَا مِنْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ الزَّائِدَةِ، وَقَدْ كُنَّا فَرَضْنَا تِلْكَ الْعَشَرَةَ كَافِيَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الزِّيَادَةُ مُعْتَبَرَةً فِي دَلَالَةِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا مُنْفَصِلًا عَنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فِي كَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ الْمَدْلُولِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الدَّلِيلِ دَلِيلًا لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أُولَئِكَ الْأَعْرَابَ كَانُوا عَالِمِينَ بِجَمِيعِ مُقَدِّمَاتِ دَلَائِلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِحَيْثُ مَا شَذَّ عَنْهُمْ مِنْ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ وَاحِدَةٌ، وَذَلِكَ مُكَابَرَةٌ أَوْ مَا كَانُوا كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ ثَبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُقَلِّدِينَ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ مَا ذَكَرْنَا مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ مَكَّةَ أَقْبَلَتِ الْعَرَبُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَقَالُوا: إِذَا ظَفِرَ بِأَهْلِ الْحَرَمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْحَقِّ، وَقَدْ كَانَ اللَّهُ أَجَارَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْفِيلِ، وَكُلِّ مَنْ أَرَادَهُمْ بِسُوءٍ ثُمَّ أَخَذُوا يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ أَفْوَاجًا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، هَذَا مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِأَنَّهُ لَمَّا ظَفِرَ بِأَهْلِ مَكَّةَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْحَقِّ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُسْتَدِلِّينَ بَلْ مُقَلِّدِينَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دِينُ اللَّهِ هُوَ الْإِسْلَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آلِ عِمْرَانَ: 19] وَلِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آلِ عِمْرَانَ: 85] وَلِلدِّينِ أَسْمَاءٌ أُخْرَى، مِنْهَا الْإِيمَانُ قَالَ

[سورة النصر (110) : آية 3]

اللَّهُ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذَّارِيَاتِ: 35، 36] وَمِنْهَا الصِّرَاطُ قَالَ تَعَالَى: صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الشُّورَى: 53] وَمِنْهَا كَلِمَةُ اللَّهِ، وَمِنْهَا النور: لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ [الصَّفِّ: 8] وَمِنْهَا الْهُدَى لِقَوْلِهِ: يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ [الأنعام: 88] وَمِنْهَا الْعُرْوَةُ: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى [لُقْمَانَ: 22] وَمِنْهَا الْحَبْلُ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 103] ومنها صِبْغَةَ اللَّهِ، وفِطْرَتَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: فِي دِينِ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ: فِي دِينِ الرَّبِّ، وَلَا سَائِرَ الْأَسْمَاءِ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الِاسْمَ أَعْظَمُ الْأَسْمَاءِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: هَذَا الدِّينُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَصْلَةٌ سِوَى أَنَّهُ دِينُ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ وَاجِبَ الْقَبُولِ وَالثَّانِي: لَوْ قَالَ: دِينُ الرَّبِّ لَكَانَ يُشْعِرُ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا الدِّينَ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْكَ قَبُولُهُ لِأَنَّهُ رَبَّاكَ، وَأَحْسَنَ إِلَيْكَ وَحِينَئِذٍ تَكُنْ طَاعَتُكَ لَهُ مُعَلَّلَةً بِطَلَبِ النَّفْعِ، فَلَا يَكُونُ الْإِخْلَاصُ حَاصِلًا، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ أَخْلِصِ الْخِدْمَةَ بِمُجَرَّدِ أَنِّي إِلَهٌ لَا لِنَفْعٍ يَعُودُ إِلَيْكَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْفَوْجُ: الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ كَانَتْ تَدْخُلُ فِيهِ القبيلة بأسرها بعد ما كَانُوا يَدْخُلُونَ فِيهِ وَاحِدًا وَاحِدًا وَاثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ بَكَى ذَاتَ يَوْمٍ فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَسَيَخْرُجُونَ مِنْهُ أَفْوَاجًا» نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ السَّلْبِ بعد العطاء. [سورة النصر (110) : آية 3] فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِالتَّسْبِيحِ ثُمَّ بِالْحَمْدِ ثُمَّ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَلِهَذَا التَّرْتِيبِ فَوَائِدُ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ تَأْخِيرَ النَّصْرِ سِنِينَ مَعَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ عَلَى الْحَقِّ مِمَّا يَثْقُلُ عَلَى الْقَلْبِ وَيَقَعُ فِي الْقَلْبِ أَنِّي إِذَا كُنْتُ عَلَى الْحَقِّ فَلِمَ لَا تَنْصُرُنِي وَلِمَ سَلَّطْتَ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةَ عَلَيَّ فَلِأَجْلِ الِاعْتِذَارِ عَنْ هَذَا الْخَاطِرِ أُمِرَ بِالتَّسْبِيحِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا: فَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّنْزِيهِ أَنَّكَ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَسْتَحِقَّ أَحَدٌ عَلَيْكَ شَيْئًا بَلْ كُلُّ مَا تَفْعَلُهُ فَإِنَّمَا تَفْعَلُهُ بِحُكْمِ الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ فَلَكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا تَشَاءُ كَمَا تَشَاءُ فَفَائِدَةُ التَّسْبِيحِ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْ أَنْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ شَيْئًا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: مَا فَائِدَةُ التَّنْزِيهِ هُوَ أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ ذَلِكَ التَّأْخِيرَ كَانَ بِسَبَبِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ لَا بِسَبَبِ الْبُخْلِ وَتَرْجِيحِ الْبَاطِلِ عَلَى الْحَقِّ، ثُمَّ إِذَا فَرَغَ الْعَبْدُ عَنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي فَحِينَئِذٍ يَشْتَغِلُ بِحَمْدِهِ عَلَى مَا أَعْطَى مِنَ الْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ، ثُمَّ حِينَئِذٍ يَشْتَغِلُ بِالِاسْتِغْفَارِ لِذُنُوبِ نَفْسِهِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لِلسَّائِرِينَ طَرِيقَيْنِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا إِلَّا وَرَأَيْتُ اللَّهَ بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا إِلَّا وَرَأَيْتُ اللَّهَ قَبْلَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ أَكْمَلُ، أَمَّا بِحَسَبِ الْمَعَالِمِ الْحِكْمِيَّةِ، فَلِأَنَّ النُّزُولَ مِنَ الْمُؤَثِّرِ إِلَى الْأَثَرِ أَجَلُّ مَرْتَبَةً مِنَ الصُّعُودِ مِنَ الْأَثَرِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، وَأَمَّا بِحَسَبِ أَفْكَارِ أَرْبَابِ الرِّيَاضَاتِ فَلِأَنَّ يَنْبُوعَ النُّورِ هُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ وَيَنْبُوعَ الظُّلْمَةِ مُمْكِنُ الْوُجُودِ، فَالِاسْتِغْرَاقُ فِي الْأَوَّلِ يَكُونُ أَشْرَفَ لَا مَحَالَةَ، وَلِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْأَصْلِ عَلَى التَّبَعِ يَكُونُ أَقْوَى مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالتَّبَعِ عَلَى الْأَصْلِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الطَّرِيقَيْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدَّمَ الِاشْتِغَالَ بِالْخَالِقِ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالنَّفْسِ فَذَكَرَ أَوَّلًا مِنَ الْخَالِقِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: التَّسْبِيحُ وَالثَّانِي: التَّحْمِيدُ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ الِاسْتِغْفَارَ وَهُوَ حَالَةٌ مَمْزُوجَةٌ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْخَالِقِ وَإِلَى الخلق.

وَاعْلَمْ أَنَّ صِفَاتِ الْحَقِّ مَحْصُورَةٌ فِي السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَالسُّلُوبُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْإِيجَابَاتِ فَالتَّسْبِيحُ إِشَارَةٌ إِلَى التَّعَرُّضِ لِلصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي لِوَاجِبِ الْوُجُودِ وَهِيَ صِفَاتُ الْجَلَالِ، وَالتَّحْمِيدُ إِشَارَةٌ إِلَى الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ لَهُ، وَهِيَ صِفَاتُ الْإِكْرَامِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْجَلَالِ عَلَى الْإِكْرَامِ، وَلَمَّا أَشَارَ إِلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ بِمَعْرِفَةِ وَاجِبِ الْوُجُودِ نَزَلَ مِنْهُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ لِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ فِيهِ رُؤْيَةُ قُصُورِ النَّفْسِ، وَفِيهِ رُؤْيَةُ جُودِ الْحَقِّ، وَفِيهِ طَلَبٌ لِمَا هُوَ الْأَصْلَحُ وَالْأَكْمَلُ لِلنَّفْسِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ بِقَدْرِ اشْتِغَالِ الْعَبْدِ بِمُطَالَعَةِ غَيْرِ اللَّهِ يَبْقَى مَحْرُومًا عَنْ مُطَالَعَةِ حَضْرَةِ جَلَالِ اللَّهِ، فَلِهَذِهِ الدَّقِيقَةِ أَخَّرَ ذِكْرَ الِاسْتِغْفَارِ عَنِ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِرْشَادٌ لِلْبَشَرِ إِلَى التَّشَبُّهِ بِالْمَلَكِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَعْلَى كُلِّ نَوْعٍ أَسْفَلُ/ مُتَّصِلٌ بِأَسْفَلِ النَّوْعِ الْأَعْلَى وَلِهَذَا قِيلَ: آخِرُ مَرَاتِبِ الْإِنْسَانِيَّةِ أَوَّلُ مَرَاتِبِ الْمَلَكِيَّةِ ثُمَّ الْمَلَائِكَةُ ذَكَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة: 30] فقوله هاهنا: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّشَبُّهِ بِالْمَلَائِكَةِ في قولهم: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وقوله هاهنا: وَاسْتَغْفِرْهُ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقَدِّسُ لَكَ لِأَنَّهُمْ فَسَّرُوا قَوْلَهُ: وَنُقَدِّسُ لَكَ أَيْ نَجْعَلُ أَنْفُسَنَا مُقَدِّسَةً لِأَجْلِ رِضَاكَ وَالِاسْتِغْفَارُ يَرْجِعُ مَعْنَاهُ أَيْضًا إِلَى تَقْدِيسِ النَّفْسِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمُ ادَّعَوْا لِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ سَبَّحُوا بِحَمْدِي وَرَأَوْا ذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَمَّا أَنْتَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِي وَاسْتَغْفِرْ مِنْ أَنْ تَرَى تِلْكَ الطَّاعَةَ مِنْ نَفْسِكَ بَلْ يَجِبُ أَنْ تَرَاهَا مِنْ تَوْفِيقِي وَإِحْسَانِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمَلَائِكَةُ كَمَا قَالُوا فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّهِمْ: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غَافِرٍ: 7] فَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ اسْتَغْفِرْ لِلَّذِينِ جَاءُوا أَفْوَاجًا كَالْمَلَائِكَةِ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينِ آمَنُوا وَيَقُولُونَ: رَبَّنا ... فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [غَافِرٍ: 7] الْوَجْهُ الرَّابِعُ: التَّسْبِيحُ هُوَ التَّطْهِيرُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ طَهِّرِ الْكَعْبَةَ مِنَ الْأَصْنَامِ وكسرها ثم قال: بِحَمْدِ رَبِّكَ أن يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِقْدَامُكَ عَلَى ذَلِكَ التَّطْهِيرِ بِوَاسِطَةِ الِاسْتِغْفَارِ بِحَمْدِ رَبِّكَ، وَإِعَانَتِهِ وَتَقْوِيَتِهِ، ثُمَّ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَرَى نَفْسَكَ آتِيًا بِالطَّاعَةِ اللَّائِقَةِ بِهِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ تَرَى نَفْسَكَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُقَصِّرَةً، فَاطْلُبِ الِاسْتِغْفَارَ عَنْ تَقْصِيرِكَ فِي طَاعَتِهِ وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ يَا مُحَمَّدُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَعْصُومًا أَوْ لَمْ تَكُنْ مَعْصُومًا فَإِنْ كُنْتَ مَعْصُومًا فَاشْتَغِلْ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْصُومًا فَاشْتَغِلْ بِالِاسْتِغْفَارِ فَتَكُونُ الْآيَةُ كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرَاغَ عَنِ التَّكْلِيفِ فِي الْعُبُودِيَّةِ كَمَا قَالَ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحِجْرِ: 99] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ مِنَ التَّسْبِيحِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ذَكَرَ اللَّهَ بِالتَّنَزُّهِ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فَقَالَ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْ كُلِّ سُوءٍ وَأَصْلُهُ مِنْ سَبَحَ فَإِنَّ السَّابِحَ يَسْبَحُ فِي الْمَاءِ كَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَيَضْبُطُ نَفْسَهُ مِنْ أَنْ يَرْسُبَ فِيهِ فَيَهْلِكَ أَوْ يَتَلَوَّثَ مِنْ مَقَرِّ الْمَاءِ وَمَجْرَاهُ وَالتَّشْدِيدُ لِلتَّبْعِيدِ لِأَنَّكَ تُسَبِّحُهُ أَيْ تُبْعِدُهُ عَمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا حَسُنَ اسْتِعْمَالُهُ فِي تَنْزِيهِ اللَّهِ عَمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ وَالْفِعْلِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا لِأَنَّ السَّمَكَةَ كَمَا أَنَّهَا لَا تَقْبَلُ النَّجَاسَةَ فَكَذَا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ لَا يَقْبَلُ مَا لَا يَنْبَغِي الْبَتَّةَ فَاللَّفْظُ يُفِيدُ التَّنْزِيهَ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّسْبِيحِ الصَّلَاةُ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ وَارِدٌ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الصَّلَاةِ قَالَ تَعَالَى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الرُّومِ: 17] وَقَالَ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ [طه: 130] وَالَّذِي يُؤَكِّدُهُ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي آخِرِ مَرَضِهِ يَقُولُ: «الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» جَعَلَ يُلَجْلِجُهَا فِي صَدْرِهِ وَمَا يَقْبِضُ بِهَا لِسَانَهُ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهِ صَلَاةُ الشُّكْرِ صَلَّاهَا يَوْمَ الْفَتْحِ ثَمَانِ

رَكَعَاتٍ» وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ صَلَاةُ الضُّحَى وَقَالَ آخَرُونَ صَلَّى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ أَرْبَعَةٌ لِلشُّكْرِ وَأَرْبَعَةٌ الضُّحَى وَتَسْمِيَةُ الصَّلَاةِ بِالتَّسْبِيحِ لِمَا أَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ: عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَنْزِيهُ صَلَاتِكَ عَنْ أَنْوَاعِ النَّقَائِصِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَاحْتَجَّ/ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِالْأَخْبَارِ الْكَثِيرَةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، رَوَتْ عَائِشَةُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، وَقَالَتْ أَيْضًا: كَانَ الرَّسُولُ يَقُولُ كَثِيرًا فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَعَنْهَا أَيْضًا كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ فِي آخِرِ أَمْرِهِ لَا يَقُومُ وَلَا يَقْعُدُ وَلَا يَذْهَبُ وَلَا يَجِيءُ إِلَّا قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله إنك تكثر من قوله سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ قَالَ: إِنِّي أُمِرْتُ بِهَا، وَقَرَأَ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ» وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ على فضل التسبيح والتحميد حيث يجعل كَافِيًا فِي أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ شُكْرِ نِعْمَةِ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ، وَلِمَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَقَوْلُهُ: «الصَّوْمُ لِي» مِنْ أَعْظَمِ الْفَضَائِلِ لِلصَّوْمِ فَإِنَّهُ أَضَافَهُ إِلَى ذَاتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ جَعَلَ صَدَفَ الصَّلَاةِ مُسَاوِيًا لِلصَّوْمِ فِي هَذَا التَّشْرِيفِ: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ [الْجِنِّ: 18] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّوْمِ بِكَثِيرٍ، ثُمَّ إِنَّ الصَّلَاةَ صَدَفٌ لِلْأَذْكَارِ وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [الْعَنْكَبُوتِ: 45] وَكَيْفَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ مِمَّا مَدَحَهُ مَعْلُومٌ عَقْلًا وَشَرْعًا أَمَّا كَيْفِيَّةُ الصَّلَاةِ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهَا إِلَّا بِالشَّرْعِ وَلِذَلِكَ جُعِلَتِ الصَّلَاةُ كَالْمُرَصَّعَةِ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ. فَإِنْ قِيلَ: عَدَمُ وُجُوبِ التَّسْبِيحَاتِ يَقْتَضِي أَنَّهَا أَقَلُّ دَرَجَةً مِنْ سَائِرِ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ. قُلْنَا الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ سَائِرَ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ مِمَّا لَا يَمِيلُ الْقَلْبُ إِلَيْهِ فَاحْتِيجَ فِيهَا إِلَى الْإِيجَابِ أَمَّا التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ فَالْعَقْلُ دَاعٍ إِلَيْهِ وَالرُّوحُ عَاشِقٌ عَلَيْهِ فَاكْتَفَى بِالْحُبِّ الطَّبِيعِيِّ وَلِذَلِكَ قَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا [الْبَقَرَةِ: 165] ، وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: فَسَبِّحْ أَمْرٌ وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لِلْوُجُوبِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَمَنْ قَالَ: الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لِلنَّدْبِ قَالَ: إِنَّهُ هاهنا لِلْوُجُوبِ بِقَرِينَةِ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ الِاسْتِغْفَارَ وَالِاسْتِغْفَارُ وَاجِبٌ وَمِنْ حَقِّ الْعَطْفِ التَّشْرِيكُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَكَانَ الْعِقَابُ الْحَاصِلُ بِتَرْكِهَا أَعْظَمَ إِظْهَارًا لِمَزِيدِ تَعْظِيمِهَا فَتَرَكَ الْإِيجَابَ خَوْفًا مِنْ هَذَا الْمَحْذُورِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَمَّا الْحَمْدُ فَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَأَمَّا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَيْ قُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مُتَعَجِّبًا مِمَّا أَرَاكَ مِنْ عَجِيبِ إِنْعَامِهِ أَيِ اجْمَعْ بَيْنَهُمَا تَقُولُ: شَرِبْتُ الْمَاءَ بِاللَّبَنِ إِذَا جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا خَلْطًا وَشُرْبًا وَثَانِيهَا: إِنَّكَ إِذَا حَمِدْتَ اللَّهَ فَقَدْ سَبَّحْتَهُ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ دَاخِلٌ فِي الْحَمْدِ لِأَنَّ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ وَالشُّكْرَ لَهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَضَمَّنَ تَنْزِيهَهُ عَنِ النَّقَائِصِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لِلثَّنَاءِ إِلَّا إِذَا كَانَ مُنَزَّهًا عَنِ النَّقْصِ وَلِذَلِكَ جَعَلَ مِفْتَاحَ الْقُرْآنِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ وَعِنْدَ فَتْحِ مَكَّةَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَصَرَ عَبْدَهُ، وَلَمْ يَفْتَتِحْ كَلَامَهُ بِالتَّسْبِيحِ فَقَوْلُهُ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ مَعْنَاهُ سَبِّحْهِ بِوَاسِطَةِ أَنْ تَحْمَدَهُ أَيْ سَبِّحْهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَثَالِثُهَا: / أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَمَعْنَاهُ سَبِّحْ حَامِدًا كَقَوْلِكَ: اخْرُجْ بِسِلَاحِكَ أَيْ مُتَسَلِّحًا وَرَابِعُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ سَبِّحْ مُقَدِّرًا أَنْ تَحْمَدَ بَعْدَ التَّسْبِيحِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يَتَأَتَّى لَكَ الْجَمْعُ لَفْظًا فَاجْمَعْهُمَا نِيَّةً كَمَا أَنَّكَ يَوْمَ النَّحْرِ تَنْوِي الصَّلَاةَ مُقَدِّرًا أَنْ تَنْحَرَ بَعْدَهَا، فَيَجْتَمِعُ لَكَ الثوابان في تلك الساعة كذا هاهنا وَخَامِسُهَا: أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْبَاءُ هِيَ الَّتِي فِي قَوْلِكَ: فَعَلْتُ هَذَا بِفَضْلِ اللَّهِ، أَيْ سَبِّحْهِ بِحَمْدِ اللَّهِ وَإِرْشَادِهِ وَإِنْعَامِهِ، لَا بِحَمْدِ غيره،

وَنَظِيرُهُ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ قَوْلُ عَائِشَةَ: «بِحَمْدِ اللَّهِ لَا بِحَمْدِكَ» وَالْمَعْنَى: فَسَبِّحْهُ بِحَمْدِهِ، فَإِنَّهُ الَّذِي هَدَاكَ دُونَ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقُولُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى الْحَمْدِ لِلَّهِ» وَسَادِسُهَا: رَوَى السُّدِّيُّ بِحَمْدِ رَبِّكَ، أي بأمر ربك وسابعها: أن تكون البا صِلَةً زَائِدَةً، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: سَبِّحْ حَمْدَ رَبِّكَ، ثُمَّ فِيهِ احْتِمَالَاتٌ أَحَدُهَا: اخْتَرْ لَهُ أَطْهَرَ الْمَحَامِدِ وَأَزْكَاهَا وَالثَّانِي: طَهِّرْ مَحَامِدَ رَبِّكَ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَالتَّوَسُّلِ بِذِكْرِهَا إِلَى الْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْفَاسِدَةِ وَالثَّالِثُ: طَهِّرْ مَحَامِدَ رَبِّكَ عَنْ أَنْ تَقُولَ: جِئْتُ بِهَا كَمَا يَلِيقُ بِهِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الْأَنْعَامِ: 91] وَثَامِنُهَا: أَيِ ائْتِ بِالتَّسْبِيحِ بَدَلًا عَنِ الْحَمْدِ الْوَاجِبِ عَلَيْكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَمْدَ إِنَّمَا يَجِبُ فِي مُقَابَلَةِ النِّعَمِ، وَنِعَمُ اللَّهِ عَلَيْنَا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، فَحَمْدُهَا لَا يَكُونُ فِي وُسْعِ الْبَشَرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: 34] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: أَنْتَ عَاجِزٌ عَنِ الْحَمْدِ، فَأْتِ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّنْزِيهِ بَدَلًا عَنِ الْحَمْدِ وَتَاسِعُهَا: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ وَالْحَمْدَ أَمْرَانِ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ أَحَدِهِمَا عَنِ الثَّانِي، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَيْضًا أَنْ يُؤْتَى بِهِمَا مَعًا، فَنَظِيرُهُ مَنْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَحَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَجَبَ أَنْ يَقُولَ: اخْتَرْتُ الشُّفْعَةَ بِرَدِّي ذَلِكَ الْمَبِيعَ، كَذَا قَالَ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ لِيَقَعَا مَعًا، فَيَصِيرَ حَامِدًا مسبحا في وقت واحد معاو عاشرها: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ سَبِّحْ قَلْبَكَ، أَيْ طَهِّرْ قَلْبَكَ بِوَاسِطَةِ مُطَالَعَةِ حَمْدِ رَبِّكَ، فَإِنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ، فَقَدْ طَهَّرْتَ قَلْبَكَ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى نَفْسِكَ وَجُهْدِكَ، فَقَوْلُهُ: فَسَبِّحْ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: بِحَمْدِ رَبِّكَ إِشَارَةٌ إِلَى رُؤْيَةِ كُلِّ الْأَشْيَاءِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَغْفِرْهُ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَتَمَنَّى أَنْ يَنْتَقِمَ مِمَّنْ آذَاهُ، وَيَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَنْصُرَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ اسْتَبْشَرَ، لَكِنْ لَوْ قَرَنَ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ شَرْطَ أَنْ لَا يَنْتَقِمَ لَتَنَغَّصَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْبِشَارَةُ، فَذَكَرَ لَفْظَ النَّاسِ وَأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَسْتَغْفِرَ لِلدَّاخِلِينَ لَكِنْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ لَا يَحْسُنُ فَعَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَنَّهُ تَعَالَى نَدَبَهُ إِلَى الْعَفْوِ وَتَرْكِ الِانْتِقَامِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِأَنْ يَطْلُبَ لَهُمُ الْمَغْفِرَةَ فَكَيْفَ يَحْسُنُ مِنْهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ؟ ثُمَّ خَتَمَ بِلَفْظِ التَّوَّابِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ حِرْفَتُهُ فَكُلُّ مَنْ طَلَبَ مِنْهُ التَّوْبَةَ أَعْطَاهُ كَمَا أَنَّ الْبَيَّاعَ حِرْفَتُهُ بَيْعُ الْأَمْتِعَةِ الَّتِي عِنْدَهُ فَكُلُّ مَنْ طَلَبَ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَمْتِعَةِ بَاعَهُ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَرِي عَدُوًّا أَوْ وَلِيًّا، فَكَذَا الرَّبُّ سُبْحَانَهُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ سَوَاءٌ كَانَ التَّائِبُ مَكِّيًّا أَوْ مَدَنِيًّا، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ امْتَثَلَ أَمْرَ الرَّبِّ تَعَالَى فَحِينَ قَالُوا لَهُ: أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ قَالَ لَهُمْ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [يُوسُفَ: 92] أَيْ أَمَرَنِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَكُمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّنِي وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَاسْتَغْفِرْهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ لِنَفْسِكَ أَوْ لِأُمَّتِكَ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْأَوَّلَ فَهُوَ يَتَفَرَّعُ عَلَى أَنَّهُ هَلْ صَدَرَتْ عَنْهُ مَعْصِيَةٌ أَمْ لَا فَمَنْ قَالَ: صَدَرَتِ الْمَعْصِيَةُ عَنْهُ ذَكَرَ فِي فَائِدَةِ الِاسْتِغْفَارِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ كَثْرَةُ الِاسْتِغْفَارِ مِنْهُ تُؤَثِّرُ فِي جَعْلِ ذَنْبِهِ صَغِيرَةً وَثَانِيهَا: لَزِمَهُ الِاسْتِغْفَارُ لينجو عن ذنب الإصرار، وثالثها: لزمه الِاسْتِغْفَارُ لِيَصِيرَ الِاسْتِغْفَارُ جَابِرًا لِلذَّنْبِ الصَّغِيرِ فَلَا ينتقص مِنْ ثَوَابِهِ شَيْءٌ أَصْلًا، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مَا صَدَرَتِ الْمَعْصِيَةُ عَنْهُ فَذَكَرَ فِي هَذَا الِاسْتِغْفَارِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ اسْتِغْفَارَ النَّبِيِّ جَارٍ مُجْرَى التَّسْبِيحِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَصَفَ اللَّهَ بِأَنَّهُ غَفَّارٌ وَثَانِيهَا: تَعَبَّدَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ لِيَقْتَدِيَ بِهِ غَيْرُهُ إِذْ لَا يَأْمَنُ كُلُّ مُكَلَّفٍ عَنْ تَقْصِيرٍ يَقَعُ مِنْهُ فِي عِبَادَتِهِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ مَعَ شِدَّةِ اجْتِهَادِهِ وَعِصْمَتِهِ مَا كَانَ يَسْتَغْنِي عَنِ الِاسْتِغْفَارِ فَكَيْفَ مَنْ دُونَهُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ كَانَ عَنْ تَرْكِ الْأَفْضَلِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ كَانَ بِسَبَبِ أَنَّ كُلَّ طاعة أتى

بِهَا الْعَبْدُ فَإِذَا قَابَلَهَا بِإِحْسَانِ الرَّبِّ وَجَدَهَا قَاصِرَةً عَنِ الْوَفَاءِ بِأَدَاءِ شُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ، فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَخَامِسُهَا: الِاسْتِغْفَارُ بِسَبَبِ التَّقْصِيرِ الْوَاقِعِ فِي السُّلُوكِ لِأَنَّ السَّائِرَ إِلَى اللَّهِ إِذَا وَصَلَ إِلَى مَقَامٍ فِي الْعُبُودِيَّةِ، ثُمَّ تَجَاوَزَ عَنْهُ فَبَعْدَ تَجَاوُزِهِ عَنْهُ يَرَى ذَلِكَ الْمَقَامَ قَاصِرًا فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَنْهُ، وَلَمَّا كَانَتْ مَرَاتِبُ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ لَا جَرَمَ كَانَتْ مَرَاتِبُ هَذَا الِاسْتِغْفَارِ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، أَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَاسْتَغْفِرْهُ لِذَنْبِ أُمَّتِكَ فَهُوَ أَيْضًا ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لِذَنْبِ أُمَّتِهِ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [مُحَمَّدٍ: 19] فَهَهُنَا لَمَّا كَثُرَتِ الْأُمَّةُ صَارَ ذَلِكَ الِاسْتِغْفَارُ أَوْجَبَ وأهم، وهكذا إذا قلنا: المراد هاهنا أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِنَفْسِهِ وَلِأُمَّتِهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ التَّوْبَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى جَمِيعِ الطَّاعَاتِ، ثُمَّ الْحَمْدُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّسْبِيحِ، لِأَنَّ الْحَمْدَ يَكُونُ بِسَبَبِ الْإِنْعَامِ، وَالْإِنْعَامُ كَمَا يَصْدُرُ عَنِ الْمُنَزَّهِ فَقَدْ يَصْدُرُ عَنْ غَيْرِهِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِالِاسْتِغْفَارِ، ثُمَّ بَعْدَهُ يَذْكُرُ الْحَمْدَ، ثُمَّ بَعْدَهُ يَذْكُرُ التَّسْبِيحَ، فَمَا السَّبَبُ فِي أَنْ صَارَ مَذْكُورًا عَلَى الْعَكْسِ مِنْ هَذَا التَّرْتِيبِ؟ وَجَوَابُهُ: مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُهَا: لَعَلَّهُ ابْتَدَأَ بِالْأَشْرَفِ، فَالْأَشْرَفِ نَازِلًا إِلَى الْأَخَسِّ فَالْأَخَسِّ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ النُّزُولَ مِنَ الْخَالِقِ إِلَى الْخَلْقِ أَشْرَفُ مِنَ الصُّعُودِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى الْخَالِقِ وَثَانِيهَا: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ وَالْحَمْدَ الصَّادِرَ عَنِ الْعَبْدِ إِذَا صَارَ مُقَابَلًا بِجَلَالِ اللَّهِ وَعِزَّتِهِ صَارَ عَيْنَ الذنب، فوجب الاستغفار منه وثالثها: للتسبيح وَالْحَمْدُ إِشَارَةٌ إِلَى التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالِاسْتِغْفَارُ إِشَارَةٌ إِلَى الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ [اللَّهِ] ، وَالْأَوَّلُ كَالصَّلَاةِ، وَالثَّانِي كَالزَّكَاةِ، وَكَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ مُقَدَّمَةٌ على الزكاة، فكذا هاهنا. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعْلَانُ بِالتَّسْبِيحِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مَأْمُورًا بِإِبْلَاغِ السُّورَةِ/ إِلَى كُلِّ الْأُمَّةِ حَتَّى يَبْقَى نَقْلُ الْقُرْآنِ مُتَوَاتِرًا، وَحَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ أَحْسَنَ الْقِيَامَ بِتَبْلِيغِ الْوَحْيِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِالتَّسْبِيحِ وَالِاسْتِغْفَارِ عَلَى وَجْهِ الْإِظْهَارِ لِيَحْصُلَ هَذَا الْغَرَضُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَاصِدِ أَنْ يَصِيرَ الرَّسُولُ قُدْوَةً لِلْأُمَّةِ حَتَّى يَفْعَلُوا عِنْدَ النِّعْمَةِ وَالْمِحْنَةِ، مَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ مِنْ تَجْدِيدِ الشُّكْرِ وَالْحَمْدِ عِنْدَ تَجْدِيدِ النِّعْمَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأَغْلَبَ فِي الشَّاهِدِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْحَمْدِ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ، فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِالْحَمْدِ وَالِاسْتِغْفَارِ دَائِمًا، وَفِي كُلِّ حِينٍ وَأَوَانٍ لِيَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، ثُمَّ قال: واستغفره حين نعيت نفسه إليه لتفعل الْأُمَّةُ عِنْدَ اقْتِرَابِ آجَالِهِمْ مِثْلَ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ أَحَدُهَا: وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً عَلَى الْمَاضِي وَحَاجَتُنَا إِلَى قَبُولِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَثَانِيهَا: هَلَّا قَالَ: غَفَّارًا كَمَا قَالَهُ فِي سُورَةِ نُوحٍ «1» وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ: نَصْرُ اللَّهِ وَقَالَ: فِي دِينِ اللَّهِ فَلِمَ لَمْ يَقُلْ: بِحَمْدِ اللَّهِ بَلْ قَالَ: بِحَمْدِ رَبِّكَ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا أَبْلَغُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَلَسْتُ أَثْنَيْتُ عَلَيْكُمْ بِأَنَّكُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناس ثُمَّ مَنْ كَانَ دُونَكُمْ كُنْتُ أَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ كَالْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الْعَظِيمَةِ، وَفَلْقِ الْبَحْرِ وَنَتْقِ الْجَبَلِ، وَنُزُولِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى عَصَوْا رَبَّهُمْ وَأَتَوْا بِالْقَبَائِحِ، فَلَمَّا تَابُوا قَبِلْتُ تَوْبَتَهُمْ فَإِذَا كُنْتُ قَابِلًا لِلتَّوْبَةِ مِمَّنْ دُونَكُمْ أَفَلَا أَقْبَلُهَا مِنْكُمْ وَثَانِيهَا: مُنْذُ كَثِيرٍ كُنْتُ شَرَعْتُ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الْعُصَاةِ وَالشُّرُوعُ مُلْزِمٌ عَلَى قَبُولِ النُّعْمَانِ فَكَيْفَ فِي كَرَمِ الرَّحْمَنِ وَثَالِثُهَا: كُنْتُ تَوَّابًا قَبْلَ أَنْ آمُرَكُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ أَفَلَا أَقْبَلُ وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ وَرَابِعُهَا: كَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى تَخْفِيفِ جِنَايَتِهِمْ أَيْ لَسْتُمْ بِأَوَّلِ مَنْ جَنَى وَتَابَ بَلْ هُوَ حِرْفَتِي، وَالْجِنَايَةُ مُصِيبَةٌ للجاني والمصيبة إذا عمدت خفت وخامسها: كأنه نظير ما يقال:

_ (1) في الآية العاشرة وهي قوله: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً

لَقَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ فِيمَا مَضَى ... كَذَلِكَ يُحْسِنُ فِيمَا بَقِي وَالْجَوَابُ: عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: لَعَلَّهُ خَصَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِزِيَادَةِ شَرَفٍ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي صِفَاتِ الْعَبْدِ غَفَّارٌ، وَيُقَالُ: تَوَّابٌ إِذَا كَانَ آتِيًا بِالتَّوْبَةِ، فَيَقُولُ تَعَالَى: كُنْتَ لِي سَمِيًّا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنْتَ مُؤْمِنٌ، وَأَنَا مُؤْمِنٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى مُخْتَلِفًا فَتُبْ حَتَّى تَصِيرَ سَمِيًّا لِي آخِرَ الْأَمْرِ، فَأَنْتَ تَوَّابٌ، وَأَنَا تَوَّابٌ، ثُمَّ إن التواب في حق الله، هو أن تَعَالَى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ كَثِيرًا فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ إِتْيَانُهُ بِالتَّوْبَةِ كَثِيرًا وَثَانِيهَا: إِنَّمَا قِيلَ: تَوَّابًا لِأَنَّ الْقَائِلَ قَدْ يَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَلَيْسَ بِتَائِبٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: «الْمُسْتَغْفِرُ بِلِسَانِهِ الْمُصِرُّ بِقَلْبِهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ» إِنْ قِيلَ: فَقَدْ يَقُولُ: أَتُوبُ وَلَيْسَ بِتَائِبٍ، قُلْنَا: فَإِذًا يَكُونُ كَاذِبًا، لِأَنَّ التَّوْبَةَ اسْمٌ لِلرُّجُوعِ وَالنَّدَمِ، بِخِلَافِ الِاسْتِغْفَارِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كَاذِبًا فِيهِ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ، وَاسْتَغْفِرْهُ بِالتَّوْبَةِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ خَوَاتِيمَ الْأَعْمَالِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَكَذَا خَوَاتِيمُ الْأَعْمَالِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَجْلِسْ مَجْلِسًا إِلَّا خَتَمَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالْجَوَابُ: عَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ أَنَّهُ تَعَالَى رَاعَى الْعَدْلَ فَذَكَرَ اسْمَ الذَّاتِ مَرَّتَيْنِ وَذَكَرَ اسْمَ الْفِعْلِ مَرَّتَيْنِ أَحَدُهُمَا: الرَّبُّ وَالثَّانِي: التَّوَّابُ، وَلَمَّا كَانَتِ التَّرْبِيَةُ تَحْصُلُ أَوَّلًا وَالتَّوَّابِيَّةُ آخِرًا، لَا جَرَمَ ذَكَرَ اسْمَ الرَّبِّ أَوَّلًا وَاسْمَ التَّوَّابِ آخِرًا. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: الصَّحَابَةُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ نَعْيٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُوِيَ أَنَّ الْعَبَّاسَ عَرَفَ ذَلِكَ وَبَكَى فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يُبْكِيكَ فَقَالَ: نُعِيَتْ إِلَيْكَ نَفْسُكَ فَقَالَ: الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ، وَقِيلَ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ هُوَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا الْغُلَامُ عِلْمًا كَثِيرًا» رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُعَظِّمُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَيُقَرِّبُهُ وَيَأْذَنُ لَهُ مَعَ أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَتَأْذَنُ لِهَذَا الْفَتَى مَعَنَا، وَفِي أَبْنَائِنَا مَنْ هُوَ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ: لِأَنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَذِنَ لَهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَأَذِنَ لِي مَعَهُمْ فَسَأَلَهُمْ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَكَأَنَّهُ مَا سَأَلَهُمْ إِلَّا مِنْ أَجْلِي فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ إِذَا فَتَحَ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ وَيَتُوبَ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ نُعِيَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مِثْلَ مَا تَعْلَمُ، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تَلُومُونَنِي عَلَيْهِ بَعْدَ مَا تَرَوْنَ، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ خَطَبَ وَقَالَ: «إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ لِقَائِهِ وَالْآخِرَةِ فَاخْتَارَ لِقَاءَ اللَّهِ» فَقَالَ السَّائِلُ: وَكَيْفَ دَلَّتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا عَرَفُوا ذَلِكَ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ الرَّسُولَ خَطَبَ عَقِيبَ السُّورَةِ وَذَكَرَ التَّخْيِيرَ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ حُصُولَ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَدُخُولَ النَّاسِ فِي الدِّينِ أَفْوَاجًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى حُصُولِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ، وَذَلِكَ يَعْقُبُهُ الزَّوَالُ كَمَا قِيلَ: إِذَا تَمَّ شَيْءٌ دَنَا نَقْصُهُ ... تَوَقَّعْ زَوَالًا إِذَا قِيلَ تَمَّ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالتَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ وَالِاسْتِغْفَارِ مُطْلَقًا وَاشْتِغَالُهُ بِهِ يَمْنَعُهُ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِأَمْرِ الْأُمَّةِ فَكَانَ هَذَا كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ أَمْرَ التَّبْلِيغِ قَدْ تَمَّ وَكَمُلَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمَوْتَ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ لَكَانَ كَالْمَعْزُولِ عَنِ الرِّسَالَةِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَاسْتَغْفِرْهُ تَنْبِيهٌ عَلَى قُرْبِ الْأَجَلِ كَأَنَّهُ يَقُولُ قَرُبَ الْوَقْتُ وَدَنَا الرَّحِيلُ فَتَأَهَّبْ لِلْأَمْرِ، وَنَبَّهَهُ بِهِ عَلَى أَنَّ سَبِيلَ الْعَاقِلِ إِذَا قَرُبَ أَجَلُهُ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنَ التَّوْبَةِ وَخَامِسُهَا: كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: كَانَ مُنْتَهَى مَطْلُوبِكَ فِي الدُّنْيَا هَذَا الَّذِي وَجَدْتَهُ، وَهُوَ النَّصْرُ وَالْفَتْحُ وَالِاسْتِيلَاءُ، وَاللَّهُ تَعَالَى وَعَدَكَ بقوله: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى [الضحى: 4] فَلَمَّا وَجَدْتَ أَقْصَى مُرَادِكَ فِي الدُّنْيَا فَانْتَقِلْ إِلَى الْآخِرَةِ لِتَفُوزَ بِتِلْكَ السَّعَادَاتِ الْعَالِيَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ هُوَ أَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَلْبَثْ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَّا سِتِّينَ يَوْمًا مُسْتَدِيمًا لِلتَّسْبِيحِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَاشَ بَعْدَهَا حَوْلًا وَنَزَلَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الْمَائِدَةِ: 3] فَعَاشَ بعده ثَمَانِينَ يَوْمًا ثُمَّ نَزَلَ آيَةُ الْكَلَالَةِ، فَعَاشَ بَعْدَهَا خَمْسِينَ يَوْمًا، ثُمَّ نَزَلَ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَةِ: 128] فَعَاشَ بَعْدَهَا خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ نَزَلَ: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 281] فَعَاشَ بَعْدَهَا أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَاشَ بَعْدَهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ كَيْفَ كَانَ ذَلِكَ.

سورة أبي لهب

بسم الله الرحمن الرحيم سورة أبي لهب خمس آيات مكية بالاتفاق [في بيان ترتيب السورة] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] ثُمَّ بَيَّنَ فِي سورة: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَطَاعَ رَبَّهُ وَصَرَّحَ بِنَفْيِ عِبَادَةِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ وَأَنَّ الْكَافِرَ عَصَى رَبَّهُ وَاشْتَغَلَ بِعِبَادَةِ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَهَنَا مَا ثَوَابُ الْمُطِيعِ، وَمَا عِقَابُ الْعَاصِي؟ فَقَالَ: ثَوَابُ الْمُطِيعِ حُصُولُ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَالِاسْتِيلَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابُ الْجَزِيلِ فِي الْعُقْبَى، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سُورَةُ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَأَمَّا عِقَابُ الْعَاصِي فَهُوَ الْخَسَارُ فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَابُ الْعَظِيمُ فِي الْعُقْبَى، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سُورَةُ: تَبَّتْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَهَنَا أَنْتَ الْجَوَادُ الْمُنَزَّهُ عَنِ الْبُخْلِ وَالْقَادِرُ الْمُنَزَّهُ عَنِ الْعَجْزِ، فَمَا السَّبَبُ فِي هَذَا التَّفَاوُتِ؟ فَقَالَ: لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَهَنَا فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُذْنِبًا عَاصِيًا فَكَيْفَ حَالُهُ؟ فَقَالَ: فِي الْجَوَابِ: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ [الْأَنْعَامِ: 165] وَإِنْ كَانَ مُطِيعًا مُنْقَادًا كَانَ جَزَاؤُهُ أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى يَكُونُ غَفُورًا لِسَيِّئَاتِهِ فِي الدُّنْيَا رَحِيمًا كَرِيمًا فِي الْآخِرَةِ، وَذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَكْتُمُ أَمْرَهُ فِي أَوَّلِ الْمَبْعَثِ وَيُصَلِّي فِي شِعَابِ مَكَّةَ ثَلَاثَ سِنِينَ إِلَى أَنْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاءِ: 214] فَصَعِدَ الصَّفَا وَنَادَى يَا آلَ غَالِبٍ فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ غَالِبٌ مِنَ الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: هَذِهِ غَالِبٌ قَدْ أَتَتْكَ فَمَا عِنْدَكَ؟ ثُمَّ نَادَى يَا آلَ لُؤَيٍّ فَرَجَعَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ لُؤَيٍّ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: هَذِهِ لُؤَيٌّ قَدْ أَتَتْكَ فَمَا عِنْدَكَ؟ ثُمَّ قَالَ: يَا آلَ مُرَّةَ فَرَجَعَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مُرَّةَ، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: هَذِهِ مُرَّةُ قَدْ أَتَتْكَ فَمَا عِنْدَكَ؟ ثُمَّ قَالَ يَا آلَ كِلَابٍ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: يَا آلَ قُصَيٍّ، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: هَذِهِ قُصَيٌّ قَدْ أَتَتْكَ فَمَا عِنْدَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُنْذِرَ عَشِيرَتِي الْأَقْرَبِينَ وَأَنْتُمُ الْأَقْرَبُونَ، اعْلَمُوا أَنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ الدُّنْيَا حَظًّا وَلَا مِنَ الْآخِرَةِ نَصِيبًا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَأَشْهَدُ بِهَا لَكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ عِنْدَ ذَلِكَ: تَبًّا لَكَ أَلِهَذَا دَعَوْتَنَا، فَنَزَلَتِ السُّورَةُ وَثَانِيهَا: رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ الصَّفَا ذَاتَ يَوْمٍ وَقَالَ: يَا صباحاه فاجتمعت إليه قريش فقالوا: مالك؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ أَوْ مُمَسِّيكُمْ أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ أَبُو لَهَبٍ مَا قَالَ فَنَزَلَتِ السُّورَةُ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ جَمَعَ أَعْمَامَهُ وَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ طَعَامًا فِي صَحْفَةٍ فَاسْتَحْقَرُوهُ وَقَالُوا: إِنَّ أَحَدَنَا يَأْكُلُ كُلَّ الشَّاةِ، فَقَالَ: كُلُوا فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا وَلَمْ يَنْقُصْ مِنَ الطَّعَامِ إِلَّا الْيَسِيرُ، ثُمَّ قَالُوا: فَمَا عِنْدَكَ؟ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ مَا قَالَ، وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ أَبُو لَهَبٍ: فَمَا لِي إِنْ أَسْلَمْتُ فَقَالَ: مَا لِلْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: أَفَلَا أُفَضَّلُ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ/ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

[سورة المسد (111) : آية 1]

وَالسَّلَامُ بِمَاذَا تُفَضَّلُ؟ فَقَالَ: تَبًّا لِهَذَا الدِّينِ يَسْتَوِي فِيهِ أَنَا وَغَيْرِي وَرَابِعُهَا: كَانَ إِذَا وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ وَفْدٌ سَأَلُوا عَمَّهُ عَنْهُ وَقَالُوا: أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّهُ سَاحِرٌ فَيَرْجِعُونَ عَنْهُ وَلَا يَلْقَوْنَهُ، فَأَتَاهُ وَفْدٌ فَقَالَ لَهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالُوا: لَا نَنْصَرِفُ حَتَّى نَرَاهُ فَقَالَ: إِنَّا لَمْ نَزَلْ نُعَالِجُهُ مِنَ الْجُنُونِ فَتَبًّا لَهُ وَتَعْسًا، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَحَزِنَ وَنَزَلَتِ السورة. [سورة المسد (111) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: تَبَّتْ فِيهِ أَقَاوِيلُ أَحَدُهَا: التَّبَابُ الْهَلَاكُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ شَابَّةٌ أَمْ تَابَّةٌ أَيْ هَالِكَةٌ مِنَ الْهَرَمِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ [غَافِرٍ: 37] أَيْ فِي هَلَاكٍ، وَالَّذِي يُقَرِّرُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ لَمَّا وَاقَعَ أَهْلَهُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ قَالَ: هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا أَنْكَرَ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ صَادِقًا فِي ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَمَلَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْإِيمَانِ، أَوْ إِنْ كَانَ دَاخِلًا لَكِنَّهُ أَضْعَفُ أَجْزَائِهِ، فَإِذَا كَانَ بِتَرْكِ الْعَمَلِ حَصَلَ الْهَلَاكُ، فَفِي حَقِّ أَبِي لَهَبٍ حَصَلَ تَرْكُ الِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَحَصَلَ وُجُودُ الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ وَالْقَوْلِ الْبَاطِلِ وَالْعَمَلِ الْبَاطِلِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ لَا يَحْصُلَ مَعْنَى الْهَلَاكِ، فَلِهَذَا قَالَ: تَبَّتْ وَثَانِيهَا: تَبَّتْ خَسِرَتْ، وَالتَّبَابُ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هُودٍ: 101] أَيْ تَخْسِيرٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخر: غَيْرَ تَخْسِيرٍ [هود: 63] وَثَالِثُهَا: تَبَّتْ خَابَتْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِأَنَّهُ كَانَ يَدْفَعُ الْقَوْمَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ سَاحِرٌ، فَيَنْصَرِفُونَ عَنْهُ قَبْلَ لِقَائِهِ لِأَنَّهُ كَانَ شَيْخَ الْقَبِيلَةِ وَكَانَ لَهُ كَالْأَبِ فَكَانَ لَا يُتَّهَمُ، فَلَمَّا نَزَلَتِ السُّورَةُ وَسَمِعَ بِهَا غَضِبَ وَأَظْهَرَ الْعَدَاوَةَ الشَّدِيدَةَ فَصَارَ مُتَّهَمًا فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الرَّسُولِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ خَابَ سَعْيُهُ وَبَطَلَ غَرَضُهُ، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ الْيَدَ لِأَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى كَتِفِ الْوَافِدِ عَلَيْهِ فَيَقُولُ: انْصَرِفْ رَاشِدًا فَإِنَّهُ مَجْنُونٌ، فَإِنَّ الْمُعْتَادَ أَنَّ مَنْ يَصْرِفُ إِنْسَانًا عَنْ مَوْضِعٍ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى كَتِفِهِ وَدَفَعَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَرَابِعُهَا: عَنْ عَطَاءٍ تَبَّتْ أَيْ غَلَبَتْ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ يَدَهُ هِيَ الْعُلْيَا وَأَنَّهُ يُخْرِجُهُ مِنْ مَكَّةَ وَيُذِلُّهُ وَيَغْلِبُ عَلَيْهِ وَخَامِسُهَا عَنِ ابْنِ وَثَّابٍ صَفِرَتْ يَدَاهُ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَإِنْ قِيلَ: مَا فَائِدَةُ ذِكْرِ الْيَدِ؟ قلنا: فيه وجوه أحدها: ما يرى أَنَّهُ أَخَذَ حَجَرًا لِيَرْمِيَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ، رُوِيَ عَنْ طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السُّوقِ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا، وَرَجُلٌ خَلْفَهُ يَرْمِيهِ بالحجارة وقد أدمى عقبيه، / لَا تُطِيعُوهُ فَإِنَّهُ كَذَّابٌ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: مُحَمَّدٌ وَعَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ : وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ مِنَ الْيَدَيْنِ الْجُمْلَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ [الْحَجِّ: 10] وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: يَدَاكَ أَوْكَتَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا [يس: 71] وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُتَأَكَّدٌ بِقَوْلِهِ: وَتَبَّ وَثَالِثُهَا: تَبَّتْ يَدَاهُ أَيْ دِينُهُ وَدُنْيَاهُ، أُولَاهُ وَعُقْبَاهُ، أَوْ لِأَنَّ بِإِحْدَى الْيَدَيْنِ تُجَرُّ الْمَنْفَعَةُ، وَبِالْأُخْرَى تُدْفَعُ الْمَضَرَّةُ، أَوْ لِأَنَّ الْيُمْنَى سِلَاحٌ وَالْأُخْرَى جُنَّةٌ وَرَابِعُهَا: رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَعَاهُ نَهَارًا فأبى، فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ ذَهَبَ إِلَى دَارِهِ مَسْتَنًّا بِسُنَّةِ نُوحٍ لِيَدْعُوَهُ لَيْلًا كَمَا دَعَاهُ نَهَارًا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: جِئْتَنِي مُعْتَذِرًا فَجَلَسَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَامَهُ كَالْمُحْتَاجِ، وَجَعَلَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَقَالَ: إِنْ كَانَ يَمْنَعُكَ الْعَارُ فَأَجِبْنِي فِي هَذَا الْوَقْتِ وَاسْكُتْ، فَقَالَ: لَا أُومِنُ بِكَ حَتَّى يُؤْمِنَ بِكَ هَذَا الْجَدْيُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْجَدْيِ: مَنْ أَنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَطْلَقَ لِسَانَهُ يُثْنِي عَلَيْهِ، فَاسْتَوْلَى الْحَسَدُ عَلَى أَبِي لَهَبٍ، فَأَخَذَ يَدَيِ الْجَدْيِ وَمَزَّقَهُ وَقَالَ: تَبًّا لَكَ أَثَّرَ فِيكَ السِّحْرُ، فَقَالَ الْجَدْيُ: بَلْ تَبًّا لَكَ، فَنَزَلَتِ السُّورَةُ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ لِتَمْزِيقِهِ يَدَيِ الْجَدْيِ وَخَامِسُهَا: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: يُرْوَى أَنَّ أَبَا لَهَبٍ كَانَ يَقُولُ: يَعِدُنِي مُحَمَّدٌ أَشْيَاءَ، لَا

أَرَى أَنَّهَا كَائِنَةٌ يَزْعُمُ أَنَّهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَلَمْ يَضَعْ فِي يَدِي مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، ثُمَّ يَنْفُخُ فِي يَدَيْهِ وَيَقُولُ: تَبًّا لَكُمَا ما أرى فيكما شيئا، فنزلت السورة. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَبَّ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَخْرَجَ الْأَوَّلَ مَخْرَجَ الدُّعَاءِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ [عَبَسَ: 17] وَالثَّانِيَ مَخْرَجَ الْخَبَرِ أَيْ كَانَ ذَلِكَ وَحَصَلَ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ تَبَّ وَثَانِيهَا: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِخْبَارٌ وَلَكِنْ أَرَادَ بِالْأَوَّلِ هَلَاكَ عَمَلِهِ، وَبِالثَّانِي هَلَاكَ نَفْسِهِ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَرْءَ إِنَّمَا يَسْعَى لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ وَعَمَلِهِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَحْرُومٌ مِنَ الْأَمْرَيْنِ وَثَالِثُهَا: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ يَعْنِي مَالَهُ وَمِنْهُ يُقَالُ: ذَاتُ الْيَدِ وَتَبَّ هُوَ بِنَفْسِهِ كَمَا يُقَالُ: خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ [الزمر: 15] وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ وَرَابِعُهَا: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ يَعْنِي نَفْسَهُ: وَتَبَّ يَعْنِي وَلَدَهُ عُتْبَةَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي لَهَبٍ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ مَعَ أُنَاسٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا هَمُّوا أَنْ يَرْجِعُوا قَالَ لَهُمْ: عُتْبَةُ بَلِّغُوا مُحَمَّدًا عَنِّي أَنِّي قَدْ كَفَرْتُ بِالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ وَتَفَلَ فِي وَجْهِهِ، وَكَانَ مُبَالِغًا فِي عَدَاوَتِهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ فَوَقَعَ الرُّعْبُ فِي قَلْبِ عُتْبَةَ وَكَانَ يَحْتَرِزُ فَسَارَ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي فَلَمَّا كَانَ قَرِيبًا مِنَ الصُّبْحِ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: هَلَكَتِ الرِّكَابُ فَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى نَزَلَ وَهُوَ مَرْعُوبٌ وَأَنَاخَ الْإِبِلَ حَوْلَهُ كَالسُّرَادِقِ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْأَسَدَ وَأَلْقَى السَّكِينَةَ عَلَى الْإِبِلِ فَجَعَلَ الْأَسَدُ يَتَخَلَّلُ حَتَّى افْتَرَسَهُ وَمَزَّقَهُ، فَإِنْ قِيلَ: نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ كان قبل هذه الواقعة، وَقَوْلُهُ: وَتَبَّ إِخْبَارٌ عَنِ الْمَاضِي، فَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَيْهِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ كَانَ فِي مَعْلُومِهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَحْصُلُ ذَلِكَ وَخَامِسُهَا: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ حَيْثُ لَمْ يَعْرِفْ حَقَّ رَبِّهِ وَتَبَّ حَيْثُ لَمْ يَعْرِفْ حَقَّ رَسُولِهِ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَاذَا كَنَّاهُ مَعَ أَنَّهُ كالكذب إذ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ اسْمُهُ لَهَبٌ، وَأَيْضًا فَالتَّكْنِيَةُ مِنْ بَابِ التَّعْظِيمِ؟ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّكْنِيَةَ قَدْ تَكُونُ اسْمًا، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ (تَبَّتْ يَدَا أَبُو لَهَبٍ) كَمَا يُقَالُ: عَلِيُّ بْنُ أَبُو طَالِبٍ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبُو سُفْيَانَ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَسْمَاؤُهُمْ كُنَاهُمْ، وَأَمَّا مَعْنَى التَّعْظِيمِ فَأُجِيبَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ اسْمًا خَرَجَ عَنْ إِفَادَةِ التَّعْظِيمِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الْعُزَّى فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى كُنْيَتِهِ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَمَآلُهُ إِلَى نَارٍ ذَاتِ لَهَبٍ وَافَقَتْ حَالُهُ كُنْيَتَهُ، فَكَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يُذْكَرَ بِهَا، وَيُقَالَ أَبُو لَهَبٍ: كَمَا يُقَالُ: أَبُو الشَّرِّ لِلشِّرِّيرِ وَأَبُو الْخَيْرِ لِلْخَيِّرِ الرَّابِعُ: كُنِّيَ بِذَلِكَ لِتَلَهُّبِ وَجْنَتَيْهِ وَإِشْرَاقِهِمَا، فَيَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ بِذَلِكَ تَهَكُّمًا بِهِ وَاحْتِقَارًا لَهُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ نَبِيَّ الرَّحْمَةِ وَالْخُلُقِ الْعَظِيمِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُشَافِهَ عَمَّهُ بِهَذَا التَّغْلِيظِ الشَّدِيدِ، وَكَانَ نُوحٌ مَعَ أَنَّهُ فِي نِهَايَةِ التَّغْلِيظِ عَلَى الْكُفَّارِ قَالَ فِي ابْنِهِ الْكَافِرِ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ [هود: 45] وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُخَاطِبُ أَبَاهُ بِالشَّفَقَةِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَبَتِ يَا أَبَتِ وَأَبُوهُ كَانَ يُخَاطِبُهُ بِالتَّغْلِيظِ الشَّدِيدِ، وَلَمَّا قَالَ لَهُ: لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مَرْيَمَ: 46] قَالَ: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مَرْيَمَ: 47] وَأَمَّا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا بَعَثَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ قَالَ لَهُ ولهرون: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه: 44] مَعَ أَنَّ جُرْمَ فِرْعَوْنَ كَانَ أَغْلَظَ مِنْ جُرْمِ أَبِي لَهَبٍ، كَيْفَ وَمِنْ شَرْعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الْأَبَ لَا يُقْتَلُ بِابْنِهِ قِصَاصًا وَلَا يُقِيمُ الرَّجْمَ عَلَيْهِ وَإِنْ خَاصَمَهُ أَبُوهُ وَهُوَ كَافِرٌ فِي الْحَرْبِ فَلَا يَقْتُلُهُ بَلْ يَدْفَعُهُ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى يَقْتُلَهُ غَيْرُهُ وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ يَصْرِفُ النَّاسَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ وَالنَّاسُ مَا كَانُوا يَتَّهِمُونَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ كَالْأَبِ لَهُ، فَصَارَ ذَلِكَ كَالْمَانِعِ مِنْ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ إِلَى الْخَلْقِ فَشَافَهَهُ

[سورة المسد (111) : آية 2]

الرَّسُولُ بِذَلِكَ حَتَّى عَظُمَ غَضَبُهُ وَأَظْهَرَ الْعَدَاوَةَ الشَّدِيدَةَ، فَصَارَ بِسَبَبِ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ مُتَّهَمًا فِي الْقَدْحِ فِي مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدًا لَوْ كَانَ يُدَاهِنُ أَحَدًا فِي الدِّينِ وَيُسَامِحُهُ فِيهِ، لَكَانَتْ تِلْكَ الْمُدَاهَنَةُ وَالْمُسَامَحَةُ مَعَ عَمِّهِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ أَبِيهِ، فَلَمَّا لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الْمُدَاهَنَةُ مَعَهُ انْقَطَعَتِ الْأَطْمَاعُ وَعَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُ لَا يُسَامِحُ أَحَدًا فِي شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ أَصْلًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْوَجْهَ الَّذِي ذَكَرْتُمْ كَالْمُتَعَارِضِ، فَإِنَّ كَوْنَهُ عَمَّا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الشَّفَقَةُ الْعَظِيمَةُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا انْقَلَبَ الْأَمْرُ وَحَصَلَتِ الْعَدَاوَةُ الْعَظِيمَةُ، لَا جَرَمَ اسْتَحَقَّ التَّغْلِيظَ الْعَظِيمَ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا السَّبَبُ فِي أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ قُلْ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وتب وقال في سورة الكافرون: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: لِأَنَّ قَرَابَةَ الْعُمُومَةِ تَقْتَضِي/ رِعَايَةَ الْحُرْمَةِ فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمْ يَقُلْ لَهُ: قُلْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَكُونَ مُشَافِهًا لِعَمِّهِ بِالشَّتْمِ بِخِلَافِ السُّورَةِ الْأُخْرَى فَإِنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ مَا كَانُوا أَعْمَامًا لَهُ الثَّانِي: أَنَّ الْكُفَّارَ فِي تِلْكَ السُّورَةِ طَعَنُوا فِي اللَّهِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا مُحَمَّدُ أَجِبْ عَنْهُمْ: قل يا أيها الْكَافِرُونَ وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ طَعَنُوا فِي مُحَمَّدٍ، فقال الله تعالى أسكت أنت فإن أَشْتُمُهُمْ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ الثَّالِثُ: لَمَّا شَتَمُوكَ، فَاسْكُتْ حَتَّى تَنْدَرِجَ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الْفُرْقَانِ: 63] وَإِذَا سَكَتَّ أَنْتَ أَكُونُ أَنَا الْمُجِيبَ عَنْكَ، يُرْوَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُؤْذِيهِ وَاحِدٌ فَبَقِيَ سَاكِتًا، فَجَعَلَ الرَّسُولُ يَدْفَعُ ذَلِكَ الشَّاتِمَ وَيَزْجُرُهُ، فَلَمَّا شَرَعَ أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَوَابِ سَكَتَ الرَّسُولُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا السَّبَبُ فِي ذَلِكَ؟ قَالَ: لِأَنَّكَ حِينَ كُنْتَ سَاكِتًا كَانَ الْمَلَكُ يُجِيبُ عَنْكَ، فَلَمَّا شَرَعْتَ فِي الْجَوَابِ انْصَرَفَ الْمَلَكُ وَجَاءَ الشَّيْطَانُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا تَنْبِيهٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يُشَافِهُ السَّفِيهَ كَانَ اللَّهُ ذَابًّا عَنْهُ وَنَاصِرًا لَهُ وَمُعِينًا. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا الْوَجْهُ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ الْمَكِّيِّ حَيْثُ كَانَ يَقْرَأُ: أَبِي لَهَبٍ سَاكِنَةَ الْهَاءِ؟ الْجَوَابُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ لَهَبٌ وَلَهْبٌ لُغَتَيْنِ كَالشَّمَعِ وَالشَّمْعِ وَالنَّهَرِ وَالنَّهْرِ، وَأَجْمَعُوا فِي قَوْلِهِ: سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ [المسد: 3] عَلَى فَتْحِ الْهَاءِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ [المرسلات: 31] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَتْحَ أَوْجَهُ مِنَ الْإِسْكَانِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا اتَّفَقُوا عَلَى الْفَتْحِ في الثانية مراعاة لوفاق الفواصل. [سورة المسد (111) : آية 2] مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا فِي قَوْلِهِ: مَا أَغْنى يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى أَيُّ تَأْثِيرٍ كَانَ لِمَالِهِ وَكَسْبِهِ فِي دَفْعِ الْبَلَاءِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَا أَحَدَ أَكْثَرُ مَالًا مِنْ قَارُونَ فَهَلْ دَفَعَ الْمَوْتَ عَنْهُ «1» ، وَلَا أَعْظَمَ مُلْكًا مِنْ سُلَيْمَانَ فَهَلْ دَفَعَ الْمَوْتَ عَنْهُ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي يَكُونُ ذَلِكَ إِخْبَارًا بِأَنَّ الْمَالَ وَالْكَسْبَ لَا يَنْفَعُ فِي ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: (مَا كَسَبَ) مرفوع وما مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ يَعْنِي مَكْسُوبَهُ أَوْ كَسْبَهُ، يُرْوَى أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ ابْنُ أَخِي حَقًّا فَأَنَا أَفْتَدِي مِنْهُ نَفْسِي بِمَالِي وَأَوْلَادِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الآية، ثم ذكروا في

_ (1) المناسب هنا أن يقول فهل الخسف عثة، للذي تنص عليه الآية الكريمة فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ [القصص: 81] .

[سورة المسد (111) : آية 3]

الْمَعْنَى وُجُوهًا: أَحَدُهَا: لَمْ يَنْفَعْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ بِمَالِهِ يَعْنِي رَأْسَ الْمَالِ وَالْأَرْبَاحِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَالَ هُوَ الْمَاشِيَةُ وَمَا كَسَبَ مِنْ نَسْلِهَا، وَنِتَاجِهَا، فَإِنَّهُ كَانَ صَاحِبَ النَّعَمِ وَالنِّتَاجِ وَثَالِثُهَا: مالُهُ الَّذِي وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ وَالَّذِي كَسَبَهُ بِنَفْسِهِ وَرَابِعُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كَسَبَ وَلَدُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» وَرُوِيَ أَنَّ بَنِي أَبِي لَهَبٍ احْتَكَمُوا إِلَيْهِ فَاقْتَتَلُوا فَقَامَ يَحْجِزُ بَيْنَهُمْ فَدَفَعَهُ بَعْضُهُمْ فَوَقَعَ فَغَضِبَ فَقَالَ: أَخْرِجُوا عَنِّي الْكَسْبَ/ الْخَبِيثَ وَخَامِسُهَا: قَالَ الضَّحَّاكُ: مَا يَنْفَعُهُ مَالُهُ وَعَمَلُهُ الْخَبِيثُ يَعْنِي كَيْدَهُ فِي عَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ وَسَادِسُهَا: قَالَ قَتَادَةُ: وَما كَسَبَ أَيْ عَمَلُهُ الَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ كَقَوْلِهِ: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ [الْفُرْقَانِ: 23] وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قال هاهنا: مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ وَقَالَ في سورة: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى [اللَّيْلِ: 1] فَمَا الْفَرْقُ؟ الْجَوَابُ: التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْمَاضِي يَكُونُ آكَدَ كَقَوْلِهِ: مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ [الْحَاقَّةِ: 28] وَقَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْلِ: 1] . السُّؤَالُ الثَّانِي: ما أغنى عنه ماله وكسبه فيما ذا؟ الْجَوَابُ: قَالَ بَعْضُهُمْ فِي عَدَاوَةِ الرَّسُولِ: فَلَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يُغْنِيَا عَنْهُ فِي دَفْعِ النَّارِ وَلِذَلِكَ قَالَ: سَيَصْلى. [سورة المسد (111) : آية 3] سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ (3) وَفِيهِ مَسَائِلُ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حَالِ أَبِي لَهَبٍ فِي الْمَاضِي بِالتَّبَابِ وَبِأَنَّهُ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَكَسْبُهُ، أَخْبَرَ عَنْ حَالِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِأَنَّهُ سَيَصْلَى نَارًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: سَيَصْلى قُرِئَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَبِضَمِّهَا مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَاتُ تَضَمَّنَتِ الْإِخْبَارَ عَنِ الْغَيْبِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِالتَّبَابِ وَالْخَسَارِ، وَقَدْ كَانَ كَذَلِكَ وَثَانِيهَا: الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِمَالِهِ وَوَلَدِهِ، وَقَدْ كَانَ كَذَلِكَ. رَوَى أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَكَانَ الْإِسْلَامُ دَخَلَ بَيْتَنَا، فَأَسْلَمَ الْعَبَّاسُ وَأَسْلَمَتْ أُمُّ الْفَضْلِ وَأَسْلَمْتُ أَنَا، وَكَانَ الْعَبَّاسُ يَهَابُ الْقَوْمَ وَيَكْتُمُ إِسْلَامَهُ، وَكَانَ أَبُو لَهَبٍ تَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ، فَبَعَثَ مَكَانَهُ الْعَاصَ بْنَ هِشَامٍ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلَّا بَعَثَ مَكَانُهُ رَجُلًا آخَرَ، فَلَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ عَنْ وَاقِعَةِ أَهْلِ بَدْرٍ وَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا قُوَّةً، وَكُنْتُ رَجُلًا ضَعِيفًا وَكُنْتُ أَعْمَلُ الْقِدَاحَ أَلْحِيهَا فِي حُجْرَةِ زَمْزَمَ، فَكُنْتُ جَالِسًا هُنَاكَ وَعِنْدِي أُمُّ الْفَضْلِ جَالِسَةٌ، وَقَدْ سَرَّنَا ما جاءنا من الخبر إذ أَقْبَلَ أَبُو لَهَبٍ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ، فَجَلَسَ عَلَى طُنُبِ الْحُجْرَةِ وَكَانَ ظَهْرِي إِلَى ظَهْرِهِ، فَبَيْنَا هُوَ جَالِسٌ إِذْ قَالَ النَّاسُ: هَذَا أَبُو سفيان بن الحرث بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو لَهَبٍ: كَيْفَ الْخَبَرُ يَا ابْنَ أَخِي: فَقَالَ: لَقِينَا الْقَوْمَ وَمَنَحْنَاهُمْ أَكْتَافَنَا يَقْتُلُونَنَا كَيْفَ أَرَادُوا، وَايْمُ اللَّهِ مَعَ ذَلِكَ تَأَمَّلْتُ النَّاسَ، لَقِيَنَا رِجَالٌ بِيضٌ عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة، ثم قلت: أولئك والله الملائكة، فأخذني وضربني على الأرض، ثُمَّ بَرَكَ عَلَيَّ فَضَرَبَنِي وَكُنْتُ رَجُلًا ضَعِيفًا، فَقَامَتْ أُمُّ الْفَضْلِ إِلَى عَمُودٍ فَضَرَبَتْهُ عَلَى رَأْسِهِ وَشَجَّتْهُ، وَقَالَتْ: تَسْتَضْعِفُهُ أَنْ غَابَ سَيِّدُهُ، وَاللَّهِ نَحْنُ مُؤْمِنُونَ مُنْذُ أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ صدق فيما قال، فانصرف ذليلا، فو الله مَا عَاشَ إِلَّا سَبْعَ لَيَالٍ حَتَّى رَمَاهُ اللَّهُ بِالْعَدَسَةِ فَقَتَلَتْهُ، / وَلَقَدْ

[سورة المسد (111) : آية 4]

تَرَكَهُ ابْنَاهُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا مَا يَدْفِنَاهُ حَتَّى أَنْتَنَ فِي بَيْتِهِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَتَّقِي الْعَدَسَةَ وَعَدْوَاهَا كَمَا يَتَّقِي النَّاسُ الطَّاعُونَ، وَقَالُوا نَخْشَى هَذِهِ الْقُرْحَةَ، ثُمَّ دَفَنُوهُ وَتَرَكُوهُ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ وَثَالِثُهَا: الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَقَدْ كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى وُقُوعِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّفَ أَبَا لَهَبٍ بِالْإِيمَانِ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْإِيمَانِ تَصْدِيقُ اللَّهِ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ، وَمِمَّا أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَأَنَّهُ من أهل النار، فقد صار مكلفا بأنه يُؤْمِنَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، وَهَذَا تَكْلِيفٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَأَجَابَ الْكَعْبِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ آمَنَ أَبُو لَهَبٍ لكان لهذا الخبر خبرا بِأَنَّهُ آمَنَ، لَا بِأَنَّهُ مَا آمَنَ، وَأَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ فَقَالَ: مَتَى قِيلَ: لَوْ فَعَلَ اللَّهُ مَا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ فَكَيْفَ يَكُونُ؟ فَجَوَابُنَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ بِلَا أَوْ نَعَمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ خَبَرَ اللَّهِ عَنْ عَدَمِ إِيمَانِهِ وَاقِعٌ، وَالْخَبَرُ الصِّدْقُ عَنْ عَدَمِ إِيمَانِهِ يُنَافِيهِ وُجُودُ الْإِيمَانِ مُنَافَاةً ذَاتِيَّةً مُمْتَنِعَةَ الزَّوَالِ فَإِذَا كَانَ كَلَّفَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْإِيمَانِ مَعَ وُجُودِ هَذَا الْخَبَرِ فَقَدْ كَلَّفَهُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّانِي: فَأَرَكُّ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّا لَسْنَا فِي طَلَبِ أَنْ يَذْكُرُوا بِلِسَانِهِمْ لَا أَوْ نَعَمْ، بَلْ صَرِيحُ الْعَقْلِ شَاهِدٌ بِأَنَّ بَيْنَ كَوْنِ الْخَبَرِ عَنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ صِدْقًا، وَبَيْنَ وُجُودِ الْإِيمَانِ مُنَافَاةً ذَاتِيَّةً، فَكَانَ التَّكْلِيفُ بِتَحْصِيلِ أَحَدِ الْمُتَضَادَّيْنِ حَالَ حُصُولِ الْآخَرِ تَكْلِيفًا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَهَذَا الْإِشْكَالُ قَائِمٌ سَوَاءٌ ذَكَرَ الْخَصْمُ بِلِسَانِهِ شَيْئًا أم بقي ساكتا. أما قوله تعالى: [سورة المسد (111) : آية 4] وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ (وَمُرَيْئَتُهُ) بِالتَّصْغِيرِ وَقُرِئَ (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) بِالنَّصْبِ عَلَى الشَّتْمِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَأَنَا أَسْتَحِبُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ وَقَدْ تَوَسَّلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَمِيلٍ مَنْ أَحَبَّ شَتْمَ أُمِّ جَمِيلٍ وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ وَالرَّفْعِ. المسألة الثانية: أم جميل بن حَرْبٍ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ عَمَّةُ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَتْ فِي غَايَةِ الْعَدَاوَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ كَوْنِهَا حَمَّالَةَ الْحَطَبِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِلُ حُزْمَةً مِنَ الشَّوْكِ وَالْحَسَكِ فَتَنْثُرُهَا بِاللَّيْلِ فِي طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ بَيْتِ الْعِزِّ فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهَا حَمَّالَةُ الْحَطَبِ؟ قُلْنَا: لَعَلَّهَا كَانَتْ مَعَ كَثْرَةِ مَالِهَا خَسِيسَةً أَوْ كَانَتْ لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهَا تَحْمِلُ بِنَفْسِهَا الشَّوْكَ وَالْحَطَبَ، لِأَجْلِ أَنْ تُلْقِيَهُ فِي طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ وَثَانِيهَا: أَنَّهَا كَانَتْ تَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ يُقَالُ: لِلْمَشَّاءِ بِالنَّمَائِمِ الْمُفْسِدِ بَيْنَ النَّاسِ: يَحْمِلُ الْحَطَبَ بَيْنَهُمْ، أَيْ يُوقِدُ بَيْنَهُمُ النَّائِرَةَ، وَيُقَالُ لِلْمِكْثَارِ: هُوَ حَاطِبُ/ لَيْلٍ وَثَالِثُهَا: قَوْلُ قَتَادَةَ: أَنَّهَا كَانَتْ تُعَيِّرُ رَسُولَ اللَّهِ بِالْفَقْرِ، فَعُيِّرَتْ بِأَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَطِبُ وَالرَّابِعُ: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ الْمُرَادَ مَا حَمَلَتْ مِنَ الْآثَامِ فِي عَدَاوَةِ الرَّسُولِ، لِأَنَّهُ كالحطب في تصيرها إِلَى النَّارِ، وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ فَاعِلَ الْإِثْمِ بِمَنْ يَمْشِي وَعَلَى ظَهْرِهِ حِمْلٌ، قَالَ تَعَالَى: فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً [الْأَحْزَابِ: 58] وَقَالَ تَعَالَى: يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى

ظُهُورِهِمْ [الْأَنْعَامِ: 31] وَقَالَ تَعَالَى: وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الْأَحْزَابِ: 72] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (امْرَأَتُهُ) إِنْ رَفَعْتَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ فِي سَيَصْلى، أَيْ سيصلى هو وامرأته. وفِي جِيدِها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالثَّانِي: الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَفِي جِيدِهَا الْخَبَرُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: عَنْ أَسْمَاءَ لَمَّا نَزَلَتْ تَبَّتْ جَاءَتْ أُمُّ جَمِيلٍ وَلَهَا وَلْوَلَةٌ وَبِيَدِهَا حَجَرٌ، فَدَخَلَتِ الْمَسْجِدَ، وَرَسُولُ اللَّهِ جَالِسٌ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَهِيَ تَقُولُ: مُذَمَّمًا قَلَيْنَا ... وَدِينَهُ أَبَيْنَا وَحُكْمَهُ عَصَيْنَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَقْبَلَتْ إِلَيْكَ فَأَنَا أَخَافُ أَنْ تَرَاكَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّهَا لَا تَرَانِي» وَقَرَأَ: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً [الإسراء: 45] وَقَالَتْ لِأَبِي بَكْرٍ: قَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا هَجَاكِ، فَوَلَّتْ وَهِيَ تَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي بِنْتُ سَيِّدِهَا وَفِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ: كَيْفَ جَازَ فِي أُمِّ جَمِيلٍ أَنْ لَا تَرَى الرَّسُولَ، وَتَرَى أَبَا بَكْرٍ وَالْمَكَانُ وَاحِدٌ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ، لِأَنَّ عِنْدَ حُصُولِ الشَّرَائِطِ يَكُونُ الْإِدْرَاكُ جَائِزًا لَا وَاجِبًا، فَإِنْ خَلَقَ اللَّهُ الْإِدْرَاكَ رَأَى وَإِلَّا فَلَا، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْرَضَ وَجْهَهُ عَنْهَا وَوَلَّاهَا ظَهْرَهُ، ثُمَّ إِنَّهَا كَانَتْ لِغَايَةِ غَضَبِهَا لَمْ تُفَتِّشْ، أَوْ لِأَنَّ اللَّهَ أَلْقَى فِي قَلْبِهَا خَوْفًا، فَصَارَ ذَلِكَ صَارِفًا لَهَا عَنِ النَّظَرِ وَثَانِيهَا: لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْقَى شَبَهَ إِنْسَانٍ آخَرَ عَلَى الرَّسُولِ، كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِعِيسَى وَثَالِثُهَا: لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى حَوَّلَ شُعَاعَ بَصَرِهَا عَنْ ذَلِكَ السَّمْتِ حَتَّى إِنَّهَا مَا رَأَتْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِشْكَالَ عَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ لَازِمٌ، لِأَنَّ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ عَرَفْنَا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ حاضر وَلَا نَرَاهُ، وَإِذَا جَوَّزْنَا ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَنَا فِيلَاتٌ وَبُوقَاتٌ، وَلَا نَرَاهَا وَلَا نَسْمَعُهَا «1» . الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَلَفَ أَنَّهُ مَا هَجَاكِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمَعَارِيضِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُسَمَّى هَجْوًا، وَلِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ الرَّسُولِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَلَى جَوَازِ الْمَعَارِيضِ. بَقِيَ مِنْ مَبَاحِثِ هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ لَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِهِ: وَامْرَأَتُهُ بَلْ وَصَفَهَا بِأَنَّهَا حَمَّالَةُ الْحَطَبِ؟ الْجَوَابُ: قِيلَ: كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ سِوَاهَا فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ لَا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّهُ أَرَادَ كُلَّ مَنْ كَانَتِ امْرَأَةً لَهُ، بَلْ لَيْسَ الْمُرَادُ إِلَّا هَذِهِ الْوَاحِدَةَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ ذِكْرَ النِّسَاءِ لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الْكَرَمِ وَالْمُرُوءَةِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ ذِكْرُهَا بِكَلَامِ اللَّهِ، وَلَا سِيَّمَا امْرَأَةُ الْعَمِّ؟ الْجَوَابُ: لَمَّا لم يستعبد فِي امْرَأَةِ نُوحٍ وَامْرَأَةِ لُوطٍ بِسَبَبِ كُفْرِ تَيْنِكَ الْمَرْأَتَيْنِ، فَلِأَنْ لَا يُسْتَبْعَدَ فِي امْرَأَةٍ كافرة زوجها رجل كافر أولى.

_ (1) إنما يرد الإشكال عند من لا يقولون بالمعجزات وخوارق العادات وهي أمور لا يستطاع مع العقل جحدها ولا إنكارها، أما من يقول بها، فلا إشكال.

[سورة المسد (111) : آية 5]

[سورة المسد (111) : آية 5] فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمَسَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْفَتْلُ، يُقَالُ مَسَدَ الْحَبْلَ يَمْسُدُهُ مَسْدًا إِذَا أَجَادَ فَتْلَهُ، وَرَجُلٌ مَمْسُودٌ إِذَا كَانَ مَجْدُولَ الْخَلْقِ، وَالْمَسَدُ مَا مُسِدَ أَيْ فُتِلَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، فَيُقَالُ لِمَا فُتِلَ مِنْ جُلُودِ الْإِبِلِ، وَمِنَ اللِّيفِ وَالْخُوصِ مَسَدٌ وَلِمَا فُتِلَ مِنَ الْحَدِيدِ أَيْضًا مَسَدٌ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وُجُوهًا أَحَدُهَا: فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِمَّا مُسِدَ مِنَ الْحِبَالِ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِلُ تِلْكَ الْحُزْمَةَ مِنَ الشَّوْكِ وَتَرْبُطُهَا فِي جِيدِهَا كَمَا يَفْعَلُ الْحَطَّابُونَ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ خَسَاسَتِهَا تَشْبِيهًا لَهَا بِالْحَطَّابَاتِ إِيذَاءً لَهَا وَلِزَوْجِهَا وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ حَالَهَا يَكُونُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا حِينَ كَانَتْ تَحْمِلُ الْحُزْمَةَ مِنَ الشَّوْكِ، فَلَا تَزَالُ عَلَى ظَهْرِهَا حُزْمَةٌ مِنْ حَطَبِ النَّارِ مِنْ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ وَفِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ سَلَاسِلِ النَّارِ. فَإِنْ قِيلَ: الْحَبْلُ الْمُتَّخَذُ مِنَ الْمَسَدِ كَيْفَ يَبْقَى أَبَدًا فِي النَّارِ؟ قُلْنَا: كَمَا يَبْقَى الْجِلْدُ وَاللَّحْمُ وَالْعَظْمُ أَبَدًا فِي النَّارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: ذَلِكَ الْمَسَدُ يَكُونُ مِنَ الْحَدِيدِ، وَظَنُّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَسَدَ لَا يَكُونُ مِنَ الْحَدِيدِ خَطَأٌ، لِأَنَّ الْمَسَدَ هُوَ الْمَفْتُولُ سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْحَدِيدِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالمين.

سورة الإخلاص

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الإخلاص أربع آيات مكية [سورة الإخلاص (112) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) قَبْلَ الْخَوْضِ فِي التَّفْسِيرِ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ فُصُولٍ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: رَوَى أُبَيٌّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَأُعْطِيَ مِنَ الْأَجْرِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ مَنْ أَشَرَكَ بِاللَّهِ وَآمَنَ بِاللَّهِ» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مَرَّةً وَاحِدَةً أُعْطِيَ مِنَ الْأَجْرِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَأُعْطِي مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مِائَةِ شهيدا» ، وَرُوِيَ: «أَنَّهُ كَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذْ أَقْبَلَ أَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: هَذَا أَبُو ذَرٍّ قد أقبل، فقال عليه الصلاة والسلام: أو تعرفونه؟ قَالَ: هُوَ أَشْهَرُ عِنْدَنَا مِنْهُ عِنْدَكُمْ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: بِمَاذَا نَالَ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ؟ قَالَ لِصِغَرِهِ فِي نَفْسِهِ وَكَثْرَةِ قِرَاءَتِهِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» وَرَوَى أَنَسٌ قَالَ: «كُنَّا في تبوك فطلعت الشمس مالها شُعَاعٌ وَضِيَاءٌ وَمَا رَأَيْنَاهَا عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ قَطُّ قَبْلَ ذَلِكَ فَعَجِبَ كُلُّنَا، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ أَنْ يَنْزِلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلِكٍ فَيُصَلُّوا عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ ثُمَّ ضَرَبَ بِجَنَاحِهِ الْأَرْضَ فَأَزَالَ الْجِبَالَ وَصَارَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَأَنَّهُ مُشْرِفٌ عَلَيْهِ فَصَلَّى هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: بِمَ بَلَغَ مَا بَلَغَ؟ فَقَالَ جِبْرِيلُ: كَانَ يُحِبُّ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ» وَرُوِيَ: «أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَسَمِعَ رَجُلًا يَدْعُو وَيَقُولُ أَسْأَلُكَ يَا اللَّهُ يَا أَحَدُ يَا صَمَدُ يَا مَنْ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَقَالَ: غَفَرَ لَكَ غَفَرَ لَكَ غَفَرَ لَكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَكَا إِلَيْهِ الْفَقْرَ فَقَالَ: إِذَا دَخَلْتَ بَيْتَكَ فَسَلِّمْ إِنْ كَانَ فِيهِ أَحَدٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ فَسَلِّمْ عَلَى نَفْسِكَ، وَاقْرَأْ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مَرَّةً وَاحِدَةً فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَأَدَرَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رِزْقًا حَتَّى أَفَاضَ عَلَى جِيرَانِهِ» وَعَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَقْرَأُ فِي جَمِيعِ صِلَاتِهِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَسَأَلَهُ الرَّسُولُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّهَا، فَقَالَ: حُبُّكَ إِيَّاهَا/ يُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ» وَقِيلَ مَنْ قَرَأَهَا فِي الْمَنَامِ أُعْطِيَ التَّوْحِيدَ وَقِلَّةَ الْعِيَالِ وَكَثْرَةَ الذِّكْرِ لِلَّهِ، وَكَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ. الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ سُؤَالِ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ أَرْسَلُوا عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: شَقَقْتَ عَصَانَا وَسَبَبْتَ آلِهَتَنَا، وَخَالَفْتَ دِينَ آبَائِكَ، فَإِنْ كُنْتَ فَقِيرًا أَغْنَيْنَاكَ، وَإِنْ كُنْتَ مَجْنُونًا دَاوَيْنَاكَ، وَإِنْ هَوَيْتَ امْرَأَةً زَوَّجْنَاكَهَا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَسْتُ بِفَقِيرٍ ولا مجنون ولا هويت المرأة، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ أَدْعُوكُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ إِلَى عِبَادَتِهِ، فَأَرْسَلُوهُ ثَانِيَةً وَقَالُوا:

قُلْ لَهُ بَيِّنْ لَنَا جِنْسَ مَعْبُودِكَ، أَمِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ، فقالوا له: ثلاثمائة وَسِتُّونَ صَنَمًا لَا تَقُومُ بِحَوَائِجِنَا، فَكَيْفَ يَقُومُ الواحد بحوائج الخلق؟ فنزلت: وَالصَّافَّاتِ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ [الصَّافَّاتِ: 1- 4] فَأَرْسَلُوهُ أُخْرَى، وَقَالُوا: بَيِّنْ لَنَا أَفْعَالَهُ فَنَزَلَ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأعراف: 54] الثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ سُؤَالِ الْيَهُودِ رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ وَمَعَهُمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ هَذَا اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَغَضِبَ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَسَكَّنَهُ وَقَالَ: اخْفِضْ جَنَاحَكَ يَا مُحَمَّدُ، فَنَزَلَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَلَمَّا تَلَاهُ عَلَيْهِمْ قَالُوا: صِفْ لَنَا رَبَّكَ كَيْفَ عَضُدُهُ، وَكَيْفَ ذِرَاعُهُ؟ فَغَضِبَ أَشَدَّ مِنْ غَضَبِهِ الْأَوَّلِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ بِقَوْلِهِ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الْأَنْعَامِ: 91] الثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ سُؤَالِ النَّصَارَى، رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ، فَقَالُوا: صِفْ لَنَا رَبَّكَ أَمِنْ زَبَرْجَدٍ أَوْ يَاقُوتٍ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ؟ فَقَالَ: إِنَّ رَبِّي لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ لِأَنَّهُ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ فَنَزَلَتْ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ قَالُوا: هُوَ وَاحِدٌ، وَأَنْتَ وَاحِدٌ، فَقَالَ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، قَالُوا: زِدْنَا مِنَ الصِّفَةِ، فَقَالَ: اللَّهُ الصَّمَدُ فَقَالُوا: وَمَا الصَّمَدُ؟ فَقَالَ: الَّذِي يَصْمُدُ إِلَيْهِ الْخَلْقُ فِي الْحَوَائِجِ، فَقَالُوا: زِدْنَا فَنَزَلَ: لَمْ يَلِدْ كَمَا وَلَدَتْ مَرْيَمُ: وَلَمْ يُولَدْ كَمَا وُلِدَ عِيسَى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ يُرِيدُ نَظِيرًا مِنْ خَلْقِهِ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي أَسَامِيهَا، اعْلَمْ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَلْقَابِ تَدُلُّ عَلَى مَزِيدِ الْفَضِيلَةِ، وَالْعُرْفُ يَشْهَدُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فَأَحَدُهَا: سُورَةُ التَّفْرِيدِ وَثَانِيهَا: سُورَةُ التَّجْرِيدِ وَثَالِثُهَا: سُورَةُ التَّوْحِيدِ وَرَابِعُهَا: سُورَةُ الْإِخْلَاصِ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ سِوَى صِفَاتِهِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ صِفَاتُ الْجَلَالِ، وَلِأَنَّ مَنِ اعْتَقَدَهُ كَانَ مُخْلِصًا فِي دِينِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَيْهِ كَانَ خَلَاصَهُ مِنَ النَّارِ، وَلِأَنَّ مَا قَبْلَهُ خَلَصَ فِي ذَمِّ أَبِي لَهَبٍ فَكَانَ جَزَاءُ مَنْ قَرَأَهُ أَنْ لَا يُجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي لَهَبٍ وَخَامِسُهَا: سُورَةُ النَّجَاةِ لِأَنَّهَا تُنْجِيكَ عَنِ التَّشْبِيهِ وَالْكُفْرِ فِي الدُّنْيَا، وَعَنِ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ وَسَادِسُهَا: سُورَةُ الْوِلَايَةِ لِأَنَّ مَنْ قَرَأَهَا صَارَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَلِأَنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَدْ وَالَاهُ فَبَعْدَ مِحْنَةٍ رَحْمَةٌ كَمَا بَعْدَ مِنْحَةٍ نِعْمَةٌ وَسَابِعُهَا: سُورَةُ النِّسْبَةِ لِمَا رُوِّينَا أَنَّهُ وَرَدَ جَوَابًا لِسُؤَالِ مَنْ قَالَ: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ، وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ: «يَا أَخَا بَنِي سُلَيْمٍ اسْتَوْصِ/ بِنِسْبَةِ اللَّهِ خَيْرًا» وَهُوَ مِنْ لَطِيفِ الْمَبَانِي، لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ، فَقَالَ: نِسْبَةُ اللَّهِ هَذَا وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْأَنْسَابِ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ، وكانوا يتشدون عَلَى مَنْ يَزِيدُ فِي بَعْضِ الْأَنْسَابِ أَوْ يَنْقُصُ، فَنِسْبَةُ اللَّهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَوْلَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَثَامِنُهَا: سُورَةُ الْمَعْرِفَةِ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، رَوَى جَابِرٌ أَنَّ رَجُلًا صَلَّى فَقَرَأَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ هَذَا عَبْدٌ عَرَفَ رَبَّهُ فَسُمِّيَتْ سُورَةَ الْمَعْرِفَةِ لِذَلِكَ وَتَاسِعُهَا: سُورَةُ الْجَمَالِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَحَدٌ صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَاحِدًا عَدِيمَ النَّظِيرِ جَازَ أَنْ يَنُوبَ ذَلِكَ الْمِثْلُ مَنَابَهُ وَعَاشِرُهَا: سُورَةُ الْمُقَشْقِشَةِ، يُقَالُ: تقشيش الْمَرِيضُ مِمَّا بِهِ، فَمَنْ عَرَفَ هَذَا حَصَلَ لَهُ الْبُرْءُ مِنَ الشِّرْكَ وَالنِّفَاقِ لِأَنَّ النِّفَاقَ مَرَضٌ كَمَا قَالَ: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الْبَقَرَةِ: 10] الْحَادِيَ عَشَرَ: الْمُعَوِّذَةُ، رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونَ فَعَوَّذَهُ بِهَا وَبِاللَّتَيْنِ بَعْدَهَا، ثُمَّ قَالَ: «تَعَوَّذْ بِهِنَّ فَمَا تعوذت بخير منها» والثاني عشر: سورة الصمة «1» لِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِذِكْرِهِ تَعَالَى وَالثَّالِثَ عَشَرَ: سُورَةُ الأساس، قال عليه الصلاة والسلام: «أسست السموات السبع والأرضون السبع على قل

_ (1) يشيع ألسنة العامة تسميها الصمدية وهي تسمية عربية صحيحة نسبة إلى الصمد سمى الله تعالى نفسه فيها.

هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ القول بالثلاثة سبب لخراب السموات وَالْأَرْضِ بِدَلِيلِ قَوْلَهُ: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ [مَرْيَمَ: 90] فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّوْحِيدُ سَبَبًا لِعِمَارَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَقِيلَ السَّبَبُ فِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] الرَّابِعَ عَشَرَ: سُورَةُ الْمَانِعَةِ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لِنَبِيِّهِ حِينَ عُرِجَ بِهِ أَعْطَيْتُكَ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ وَهِيَ مِنْ ذَخَائِرِ كُنُوزِ عَرْشِي، وَهِيَ الْمَانِعَةُ تَمْنَعُ عَذَابَ الْقَبْرِ وَلَفَحَاتِ النِّيرَانِ الْخَامِسَ عَشَرَ: سُورَةُ الْمَحْضَرِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْضُرُ لِاسْتِمَاعِهَا إِذَا قُرِئَتْ السَّادِسَ عَشَرَ: الْمُنَفِّرَةُ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا السَّابِعَ عَشَرَ: الْبَرَاءَةُ لأنه روي أنه عليه السلام رأى رجل يَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَقَدَ برىء مِنَ الشِّرْكِ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ قَرَأَ سُورَةَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مِائَةَ مَرَّةٍ فِي صَلَاةٍ أَوْ فِي غَيْرِهَا كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ الثَّامِنَ عَشَرَ: سُورَةُ الْمُذَكِّرَةِ لِأَنَّهَا تُذَكِّرُ الْعَبْدَ خَالِصَ التَّوْحِيدِ فَقِرَاءَةُ السُّورَةِ كَالْوَسْمَةِ تُذَكِّرُكَ مَا تَتَغَافَلُ عَنْهُ مِمَّا أَنْتَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ التَّاسِعَ عَشَرَ: سُورَةُ النُّورِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّورِ: 35] فهو المنور للسموات وَالْأَرْضِ، وَالسُّورَةُ تُنَوِّرُ قَلْبَكَ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إن كل شيء نور وَنُورُ الْقُرْآنِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» وَنَظِيرُهُ أَنَّ نُورَ الْإِنْسَانِ فِي أَصْغَرِ أَعْضَائِهِ وَهُوَ الْحَدَقَةُ، فَصَارَتِ السُّورَةُ لِلْقُرْآنِ كَالْحَدَقَةِ لِلْإِنْسَانِ الْعِشْرُونَ: سُورَةُ الْأَمَانِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا قَالَ الْعَبْدُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ حِصْنِي وَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِي» . الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي فَضَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: اشْتُهِرَ فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّ قِرَاءَةَ هَذِهِ السُّورَةِ تَعْدِلُ قِرَاءَةَ ثُلُثِ الْقُرْآنِ، وَلَعَلَّ الْغَرَضَ مِنْهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَشْرَفَ مِنْ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ وَالْعِبَادَاتِ، مَعْرِفَةُ ذَاتِ اللَّهِ وَمَعْرِفَةُ صِفَاتِهِ وَمَعْرِفَةُ أَفْعَالِهِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ مُشْتَمِلَةٌ/ عَلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ، فَكَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مُعَادِلَةً لِثُلُثِ الْقُرْآنِ، وأما سورة: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ فَهِيَ مُعَادِلَةٌ لِرُبْعِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقُرْآنِ إِمَّا الْفِعْلُ وَإِمَّا التَّرْكُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُوَ إِمَّا فِي أَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَإِمَّا فِي أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ فَالْأَقْسَامُ أَرْبَعَةٌ، وَسُورَةُ: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لِبَيَانِ مَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، فَكَانَتْ فِي الْحَقِيقَةِ مُشْتَمِلَةً عَلَى رُبْعِ الْقُرْآنِ، وَمِنْ هَذَا السَّبَبِ اشْتَرَكَتِ السُّورَتَانِ أَعْنِي: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، وَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فِي بَعْضِ الْأَسَامِي فَهُمَا الْمُقَشْقِشَتَانِ وَالْمُبَرِّئَتَانِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تُفِيدُ بَرَاءَةَ الْقَلْبِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، إِلَّا أَنَّ: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ يُفِيدُ بِلَفْظِهِ الْبَرَاءَةَ عَمَّا سِوَى اللَّهِ وَمُلَازَمَةَ الِاشْتِغَالِ بِاللَّهِ وَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يُفِيدُ بِلَفْظِهِ الِاشْتِغَالَ بِاللَّهِ وَمُلَازَمَةَ الْإِعْرَاضِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ أَوْ مِنْ حَيْثُ إِنَّ: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ تُفِيدُ بَرَاءَةَ الْقَلْبِ عَنْ سَائِرِ الْمَعْبُودِينَ سِوَى اللَّهِ، وَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تُفِيدُ بَرَاءَةَ الْمَعْبُودِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لِكَوْنِهَا صِدْقًا لِلْقُرْآنِ كَانَتْ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فَالْقُرْآنُ كُلُّهُ صَدَفٌ وَالدُّرُّ هُوَ قَوْلُهُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَلَا جَرَمَ حَصَلَتْ لَهَا هَذِهِ الْفَضِيلَةُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ دَلَّ عَلَى أَنَّ أَعْظَمَ دَرَجَاتِ الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ مُسْتَنِيرًا بِنُورِ جَلَالِ اللَّهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، فَكَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ أَعْظَمَ السُّوَرِ، فَإِنْ قِيلَ: فَصِفَاتُ اللَّهِ أَيْضًا مَذْكُورَةٌ فِي سَائِرِ السُّوَرِ، قُلْنَا: لَكِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ لَهَا خَاصِّيَّةٌ وَهِيَ أَنَّهَا لِصِغَرِهَا فِي الصُّورَةِ تَبْقَى مَحْفُوظَةً فِي الْقُلُوبِ مَعْلُومَةً لِلْعُقُولِ فَيَكُونُ ذِكْرُ جَلَالِ اللَّهِ حَاضِرًا أَبَدًا بِهَذَا السَّبَبِ، فَلَا جَرَمَ امْتَازَتْ عَنْ سَائِرِ السُّوَرِ بِهَذِهِ الفضائل ولنرجع الْآنَ إِلَى التَّفْسِيرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى جَنَّةٌ حَاضِرَةٌ إِذِ الْجَنَّةُ أَنْ تَنَالَ مَا يُوَافِقُ عَقْلَكَ وَشَهْوَتَكَ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنِ الْجَنَّةُ جَنَّةً لِآدَمَ لَمَّا نَازَعَ عَقْلَهُ هَوَاهُ، وَلَا كَانَ الْقَبْرُ سِجْنًا عَلَى الْمُؤْمِنِ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ هُنَاكَ مَا يُلَائِمُ عَقْلَهُ وَهَوَاهُ، ثُمَّ إِنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا يُرِيدُهَا الْهَوَى وَالْعَقْلُ، فَصَارَتْ جَنَّةً مُطْلَقَةً، وَبَيَانُ مَا قُلْنَا: أَنَّ الْعَقْلَ يُرِيدُ أَمِينًا تُودَعُ عِنْدَهُ الْحَسَنَاتُ، وَالشَّهْوَةُ تُرِيدُ غَنِيًّا يُطْلَبُ مِنْهُ الْمُسْتَلَذَّاتُ، بَلِ الْعَقْلُ كَالْإِنْسَانِ الَّذِي لَهُ هِمَّةٌ عَالِيَةٌ فَلَا يَنْقَادُ إِلَّا لِمَوْلَاهُ، وَالْهَوَى كَالْمُنْتَجِعِ الَّذِي إِذَا سَمِعَ حُضُورَ غَنِيٍّ، فَإِنَّهُ يَنْشَطُ لِلِانْتِجَاعِ إِلَيْهِ، بَلِ الْعَقْلُ يَطْلُبُ مَعْرِفَةَ الْمَوْلَى لِيَشْكُرَ لَهُ النِّعَمَ الْمَاضِيَةَ وَالْهَوَى يَطْلُبُهَا لِيَطْمَعَ مِنْهُ فِي النِّعَمِ الْمُتَرَبَّصَةِ، فَلَمَّا عَرَفَاهُ كَمَا أَرَادَهُ عَالِمًا وَغَنِيًّا تَعَلَّقَا بِذَيْلِهِ، فَقَالَ الْعَقْلُ: لَا أَشْكُرُ أَحَدًا سِوَاكَ، وَقَالَتِ الشَّهْوَةُ: لَا أَسْأَلُ أَحَدًا إِلَّا إِيَّاكَ، ثُمَّ جَاءَتِ الشُّبْهَةُ فَقَالَتْ: يَا عَقْلُ كَيْفَ أَفْرَدْتَهُ بِالشُّكْرِ وَلَعَلَّ لَهُ مِثْلًا؟ ويا شهوة كيف اقتصرت عليه ولعل هاهنا بَابًا آخَرَ؟ فَبَقِيَ الْعَقْلُ مُتَحَيِّرًا وَتَنَغَّصَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الرَّاحَةُ، فَأَرَادَ أَنْ يُسَافِرَ فِي عَالَمِ الِاسْتِدْلَالِ لِيَفُوزَ بِجَوْهَرَةِ الْيَقِينِ فَكَأَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ قَالَ: كَيْفَ أُنَغِّصُ عَلَى عَبْدِي لَذَّةَ الِاشْتِغَالِ بِخِدْمَتِي وَشُكْرِي، فَبَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ وَقَالَ: لَا تَقُلْهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِكَ، بَلْ قُلْ هُوَ الَّذِي عَرَفْتَهُ صَادِقًا/ يَقُولُ لِي: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَعَرَّفَكَ الْوَحْدَانِيَّةَ بِالسَّمْعِ وَكَفَاكَ مُؤْنَةَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْعَقْلِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمَطَالِبَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ قِسْمٌ مِنْهَا لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ بِالسَّمْعِ وَهُوَ كُلُّ مَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ السَّمْعِ عَلَى صِحَّتِهِ كَالْعِلْمِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَصِحَّةِ الْمُعْجِزَاتِ، وَقِسْمٌ مِنْهَا لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالسَّمْعِ وَهُوَ وُقُوعُ كُلِّ مَا عُلِمَ بِالْعَقْلِ جَوَازُ وُقُوعِهِ وَقِسْمٌ ثَالِثٌ يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ بِالْعَقْلِ وَالسَّمْعِ مَعًا، وَهُوَ كَالْعِلْمِ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ وَبِأَنَّهُ مَرْئِيٌّ إِلَى غَيْرِهِمَا، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا فِي تَقْرِيرِ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لا بد في سورة: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ مِنْ قُلْ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَفْظُ قُلْ فِي سُورَةِ: تَبَّتْ وَأَمَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا، فَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ بِغَيْرِ قُلْ هَكَذَا: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَقَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِدُونِ (قُلْ هُوَ) هَكَذَا: اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ فَمَنْ أَثْبَتَ قُلْ قَالَ: السَّبَبُ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ النَّظْمَ لَيْسَ فِي مَقْدُورِهِ، بَلْ يَحْكِي كُلَّ مَا يُقَالُ لَهُ، وَمَنْ حَذَفَهُ قَالَ: لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ ذَلِكَ مَا كَانَ مَعْلُومًا لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ فِي إِعْرَابِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اسْمِ اللَّهِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: اللَّهُ مُرْتَفِعًا بِأَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ، وَيَجُوزُ فِي قَوْلِهِ: أَحَدٌ مَا يَجُوزُ فِي قَوْلِكَ: زَيْدٌ أَخُوكَ قَائِمٌ الثَّانِي: أَنَّ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الشَّأْنِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَكُونُ اللَّهُ مُرْتَفِعًا بِالِابْتِدَاءِ وَأَحَدٌ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ تَكُونُ خَبَرًا عَنْ هُوَ، وَالتَّقْدِيرُ الشَّأْنُ وَالْحَدِيثُ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ أَحَدٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْبِيَاءِ: 97] إِلَّا أَنَّ هِيَ جَاءَتْ عَلَى التَّأْنِيثِ، لِأَنَّ فِي التَّفْسِيرِ: اسْمًا مُؤَنَّثًا، وَعَلَى هَذَا جَاءَ: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ [الْحَجِّ: 46] أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي التَّفْسِيرِ مُؤَنَّثٌ لَمْ يُؤَنَّثْ ضَمِيرُ الْقِصَّةِ كَقَوْلِهِ: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً [طه: 74] وَالثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: تَقْدِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا الَّذِي سَأَلْتُمْ عَنْهُ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي أَحَدٌ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، قَالَ الْخَلِيلُ، يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَحَدٌ اثْنَانِ وَأَصْلُ أَحَدٍ وَحَدٌ إِلَّا أَنَّهُ قُلِبَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً لِلتَّخْفِيفِ وَأَكْثَرُ مَا يَفْعَلُونَ هَذَا بِالْوَاوِ الْمَضْمُومَةِ وَالْمَكْسُورَةِ كَقَوْلِهِمْ: وُجُوهٌ وَأُجُوهٌ وِسَادَةٌ وَإِسَادَةٌ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَاحِدَ وَالْأَحَدَ لَيْسَا اسْمَيْنِ مُتَرَادِفَيْنِ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: لَا يُوصَفُ

شَيْءٌ بِالْأَحَدِيَّةِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُقَالُ: رَجُلٌ أَحَدٌ وَلَا دِرْهَمٌ أَحَدٌ كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ وَاحِدٌ أَيْ فَرْدٌ بِهِ بَلْ أَحَدٌ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى اسْتَأْثَرَ بِهَا فَلَا يُشْرِكُهُ فِيهَا شَيْءٌ. ثُمَّ ذَكَرُوا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْأَحَدِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَاحِدَ يَدْخُلُ فِي الْأَحَدِ وَالْأَحَدُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ وَثَانِيهَا: أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: فُلَانٌ لَا يُقَاوِمُهُ وَاحِدٌ، جَازَ أَنْ يُقَالَ: لَكِنَّهُ يُقَاوِمُهُ اثْنَانِ بِخِلَافِ الْأَحَدِ، فَإِنَّكَ لَوْ قُلْتَ: فُلَانٌ لَا يُقَاوِمُهُ أَحَدٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَكِنَّهُ يُقَاوِمُهُ اثْنَانِ/ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْوَاحِدَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِثْبَاتِ وَالْأَحَدَ فِي النَّفْيِ، تَقُولُ فِي الْإِثْبَاتِ رَأَيْتُ رَجُلًا وَاحِدًا وَتَقُولُ فِي النَّفْيِ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا فَيُفِيدُ الْعُمُومَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قَوْلِهِ: أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ فَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالتَّنْوِينِ وَتَحْرِيكِهِ بِالْكَسْرِ هَكَذَا أَحَدُنِ اللَّهُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّنْوِينَ مِنْ أَحَدٌ سَاكِنٌ وَلَامُ الْمَعْرِفَةِ مِنَ اللَّهِ سَاكِنَةٌ، وَلَمَّا الْتَقَى سَاكِنَانِ حُرِّكَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا بِالْكَسْرِ، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو، أَحَدُ اللَّهُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَذَلِكَ أَنَّ النُّونَ شَابَهَتْ حُرُوفَ اللِّينِ فِي أَنَّهَا تُزَادُ كَمَا يُزَدْنَ فَلَمَّا شَابَهَتْهَا أُجْرِيَتْ مُجْرَاهَا فِي أَنْ حُذِفَتْ سَاكِنَةً لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ كَمَا حُذِفَتِ الْأَلِفُ وَالْوَاوُ وَالْيَاءُ لِذَلِكَ نَحْوُ غَزَا الْقَوْمَ وَيَغْزُو الْقَوْمَ، وَيَرْمِي الْقَوْمَ، وَلِهَذَا حُذِفَتِ النُّونُ السَّاكِنَةُ في الفعل نحو: لَمْ يَكُ [الأنفال: 53] فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ [هود: 17] فكذا هاهنا حُذِفَتْ فِي (أَحَدُ اللَّهُ) لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ كَمَا حُذِفَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا مُسْتَقْصًى عِنْدَ قَوْلِهِ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 30] وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي عَمْرٍو: أَحَدٌ اللَّهُ وَقَالَ: أَدْرَكْتُ الْقُرَّاءَ يَقْرَءُونَهَا كَذَلِكَ وَصْلًا عَلَى السُّكُونِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَدْ تَجْرِي الْفَوَاصِلُ فِي الْإِدْرَاجِ مُجْرَاهَا فِي الْوَقْفِ وَعَلَى هَذَا قَالَ من قال: فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنا [الْأَحْزَابِ: 67، 68] وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ نارٌ [الْقَارِعَةِ: 10، 11] فَكَذَلِكَ: أَحَدٌ اللَّهُ لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ فِيمَا حَكَاهُ أَبُو عَمْرٍو عَلَى الْوَقْفِ أَجْرَاهُ فِي الْوَصْلِ مُجْرَاهُ فِي الْوَقْفِ لِاسْتِمْرَارِ الْوَقْفِ عَلَيْهِ وَكَثْرَتِهِ فِي أَلْسِنَتِهِمْ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا؟ قِيلَ: أَحَدٌ عَلَى النَّكِرَةِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: حَذْفُ لَامِ التَّعْرِيفِ عَلَى نِيَّةِ إِضْمَارِهَا وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ الْأَحَدُ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ التَّنْكِيرُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ. المسألة السادس: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ أَلْفَاظٌ ثَلَاثَةٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِشَارَةٌ إِلَى مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ الطَّالِبِينَ فَالْمَقَامُ الْأَوَّلُ: مَقَامُ الْمُقَرَّبِينَ وَهُوَ أَعْلَى مَقَامَاتِ السَّائِرِينَ إِلَى اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ نَظَرُوا إِلَى مَاهِيَّاتِ الْأَشْيَاءِ وَحَقَائِقِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، فَلَا جَرَمَ مَا رَأَوْا مَوْجُودًا سِوَى اللَّهِ لِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ الَّذِي لِذَاتِهِ يَجِبُ وُجُودُهُ، وَأَمَّا مَا عَدَاهُ فَمُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ إِذَا نُظِرَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ كَانَ مَعْدُومًا، فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَرَوْا مَوْجُودًا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَقَوْلُهُ: هُوَ إِشَارَةٌ مُطْلَقَةٌ وَالْإِشَارَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً إِلَّا أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ لَمَّا كَانَ مُعَيَّنًا انْصَرَفَ ذَلِكَ الْمُطْلَقُ إِلَى ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ قَوْلُنَا: هُوَ إِشَارَةً مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُقَرَّبِينَ إِلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ فَلَمْ يَفْتَقِرُوا فِي تِلْكَ الْإِشَارَةِ إِلَى مُمَيِّزٍ، لِأَنَّ الِافْتِقَارَ إِلَى التمييز إِنَّمَا يَحْصُلُ حِينَ حَصَلَ هُنَاكَ مَوْجُودَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ مَا شَاهَدُوا بِعُيُونِ عُقُولِهِمْ إِلَّا الْوَاحِدَ فَقَطْ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَتْ لَفْظَةُ: هُوَ كَافِيَةً فِي حُصُولِ الْعِرْفَانِ التَّامِّ لِهَؤُلَاءِ، الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ مَقَامُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَهُوَ دُونُ الْمَقَامِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ شَاهَدُوا الْحَقَّ مَوْجُودًا وَشَاهَدُوا الْخَلْقَ أَيْضًا مَوْجُودًا، فَحَصَلَتْ كَثْرَةٌ فِي الْمَوْجُودَاتِ فَلَا جَرَمَ لَمْ يَكُنْ هُوَ كَافِيًا فِي الْإِشَارَةِ إِلَى الْحَقِّ، بَلْ لَا بُدَّ هُنَاكَ مِنْ مُمَيِّزٍ بِهِ يَتَمَيَّزُ الْحَقُّ عَنِ الْخَلْقِ فَهَؤُلَاءِ احْتَاجُوا إِلَى أَنْ يَقْرِنُوا لَفْظَةَ اللَّهِ بِلَفْظَةِ هُوَ،

[سورة الإخلاص (112) : آية 2]

فَقِيلَ: لِأَجْلِهِمْ هُوَ/ اللَّهُ، لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَوْجُودُ الَّذِي يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ مَا عَدَاهُ، وَيَسْتَغْنِي هُوَ عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ وَالْمَقَامُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَقَامُ أَصْحَابِ الشِّمَالِ وَهُوَ أَخَسُّ الْمَقَامَاتِ وَأَدْوَنُهَا، وَهُمُ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبُ الْوُجُودِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ وَأَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ فَقَرَنَ لَفْظَ الْأَحَدِ بِمَا تَقَدَّمَ رَدًّا عَلَى هَؤُلَاءِ وَإِبْطَالًا لِمَقَالَاتِهِمْ فَقِيلَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. وهاهنا بَحْثٌ آخَرُ: أَشْرَفُ وَأَعْلَى مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا أَنْ تَكُونَ إِضَافِيَّةً وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ سَلْبِيَّةً، أَمَّا الْإِضَافِيَّةُ فَكَقَوْلِنَا: عَالِمٌ قَادِرٌ مُرِيدٌ خَلَّاقٌ، وَأَمَّا السَّلْبِيَّةُ فَكَقَوْلِنَا: لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا بِجَوْهَرٍ وَلَا بِعَرَضٍ وَالْمَخْلُوقَاتُ تَدُلُّ أَوَّلًا عَلَى النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنَ الصِّفَاتِ وَثَانِيًا عَلَى النَّوْعِ الثَّانِي مِنْهَا، وَقَوْلُنَا: اللَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَجَامِعِ الصِّفَاتِ الْإِضَافِيَّةِ، وَقَوْلُنَا: أَحَدٌ يَدُلُّ عَلَى مَجَامِعِ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ، فَكَانَ قَوْلُنَا: اللَّهُ أَحَدٌ تَامًّا فِي إِفَادَةِ الْعِرْفَانِ الَّذِي يَلِيقُ بِالْعُقُولِ الْبَشَرِيَّةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ لَفْظَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى مَجَامِعِ الصِّفَاتِ الْإِضَافِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، وَاسْتِحْقَاقُ الْعِبَادَةِ لَيْسَ إِلَّا لِمَنْ يَكُونُ مُسْتَبِدًّا بِالْإِيجَادِ وَالْإِبْدَاعِ وَالِاسْتِبْدَادُ بِالْإِيجَادِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالْإِرَادَةِ النَّافِذَةِ وَالْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ وَهَذِهِ مَجَامِعُ الصِّفَاتِ الْإِضَافِيَّةِ، وَأَمَّا مَجَامِعُ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ فَهِيَ الْأَحَدِيَّةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَحَدِيَّةِ كَوْنُ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ فِي نَفْسِهَا مُفْرَدَةً مُنَزَّهَةً عَنْ أَنْحَاءِ التَّرْكِيبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَاهِيَّةٍ مُرَكَّبَةٍ فَهِيَ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ غَيْرُهُ فَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ، وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، فَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، فَالْإِلَهُ الَّذِي هُوَ مَبْدَأٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ مُمْتَنِعٌ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا، فَهُوَ فِي نَفْسِهِ فَرْدٌ أَحَدٌ وَإِذَا ثَبَتَتِ الْأَحَدِيَّةُ، وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مُتَحَيِّزًا، لِأَنَّ كُلَّ مُتَحَيِّزٍ فَإِنَّ يَمِينَهُ مُغَايِرٌ لِيَسَارِهِ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُنْقَسِمٌ، فَالْأَحَدُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَحَيِّزًا لم يكن في شيء من الأحياز والجهاد وَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ حَالًّا فِي شَيْءٍ، لِأَنَّهُ مَعَ مَحَلِّهِ لَا يَكُونُ أَحَدًا، وَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ مَعَ حَالِّهِ لَا يَكُونُ أَحَدًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حَالًّا وَلَا مَحَلًّا لَمْ يَكُنْ مُتَغَيِّرًا الْبَتَّةَ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ، وَأَيْضًا إِذَا كَانَ أَحَدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا إِذْ لَوْ فُرِضَ مَوْجُودَانِ وَاجِبَا الْوُجُودِ لَاشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ وَلَتَمَايَزَا فِي التَّعَيُّنِ وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُمَايَزَةُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَكَّبٌ، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ أَحَدًا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ وَاحِدًا فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُعْقَلُ كَوْنُ الشَّيْءِ أَحَدًا، فَإِنَّ كُلَّ حَقِيقَةٍ تُوصَفُ بِالْأَحَدِيَّةِ فَهُنَاكَ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ مِنْ تِلْكَ الأحدية ومجموعهما فذاك ثالث ثلاثة لَا أَحَدٌ الْجَوَابُ: أَنَّ الْأَحَدِيَّةَ لَازِمَةٌ لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ فَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِالْأَحَدِيَّةِ هُوَ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ لَا الْمَجْمُوعُ الْحَاصِلُ مِنْهَا وَمِنْ تِلْكَ الْأَحَدِيَّةِ، فَقَدْ لَاحَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: اللَّهُ أَحَدٌ كَلَامٌ مُتَضَمِّنٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْإِضَافِيَّاتِ وَالسُّلُوبِ وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ مَذْكُورٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة: 163] . [سورة الإخلاص (112) : آية 2] اللَّهُ الصَّمَدُ (2) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الصَّمَدُ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ صَمَدَ إِلَيْهِ إِذَا قَصَدَهُ، وَهُوَ السَّيِّدُ الْمَصْمُودُ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ، قَالَ الشاعر:

أَلَا بَكَّرَ النَّاعِي بِخَيْرِ بَنِي أَسَدٍ ... بِعَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ وَبِالسَّيِّدِ الصَّمَدِ وَقَالَ أَيْضًا: عَلَوْتُهُ بِحُسَامِي ثُمَّ قُلْتُ لَهُ ... خُذْهَا حُذَيْفُ فَأَنْتَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّفْسِيرِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: «أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالُوا: مَا الصَّمَدُ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي يُصْمَدُ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ» وَقَالَ اللَّيْثُ: صَمَدْتُ صَمَدَ هَذَا الْأَمْرِ أَيْ قَصَدْتُ قَصْدَهُ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّمَدَ هُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: لِسِدَادِ الْقَارُورَةِ الصِّمَادُ، وَشَيْءٌ مُصْمَدٌ أَيْ صُلْبٌ لَيْسَ فِيهِ رَخَاوَةٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ: الدَّالُ فِيهِ مُبْدَلَةٌ مِنَ التَّاءِ وَهُوَ الْمُصْمَتُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: الصَّمَدُ هُوَ الْأَمْلَسُ مِنَ الْحَجَرِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْغُبَارَ وَلَا يَدْخُلُهُ شَيْءٌ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدِ اسْتَدَلَّ قَوْمٌ مِنْ جُهَّالِ الْمُشَبِّهَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّهُ تَعَالَى جِسْمٌ، وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ كونه أحدا ينافي جِسْمًا فَمُقَدِّمَةُ هَذَا الْآيَةِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الصَّمَدِ هَذَا الْمَعْنَى، وَلِأَنَّ الصَّمَدَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ صِفَةُ الْأَجْسَامِ الْمُتَضَاغِطَةِ وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِذَنْ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى مَجَازِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِسْمَ الَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ يَكُونُ عَدِيمَ الِانْفِعَالِ وَالتَّأَثُّرِ عَنِ الْغَيْرِ وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ وَاجِبًا لِذَاتِهِ مُمْتَنِعَ التَّغَيُّرِ فِي وُجُودِهِ وَبَقَائِهِ وَجَمِيعِ صِفَاتِهِ، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَحْثِ اللُّغَوِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَقَدْ نُقِلَ عَنْهُمْ وُجُوهٌ، بَعْضُهَا يَلِيقُ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ كَوْنُهُ تَعَالَى سَيِّدًا مَرْجُوعًا إِلَيْهِ فِي دَفْعِ الْحَاجَاتِ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الصِّفَاتِ الْإِضَافِيَّةِ، وَبَعْضُهَا بِالْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ كَوْنُهُ تَعَالَى وَاجِبَ الْوُجُودِ فِي ذَاتِهِ وَفِي صِفَاتِهِ مُمْتَنِعَ التَّغَيُّرِ فِيهِمَا وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ وَتَارَةً يُفَسِّرُونَ الصَّمَدَ بِمَا يَكُونُ جَامِعًا لِلْوَجْهَيْنِ. أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: الصَّمَدُ هُوَ الْعَالِمُ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ لِأَنَّ كَوْنَهُ سَيِّدًا مَرْجُوعًا إِلَيْهِ فِي قَضَاءِ الْحَاجَاتِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِذَلِكَ الثَّانِي: الصَّمَدُ هُوَ الْحَلِيمُ لِأَنَّ كَوْنَهُ سَيِّدًا يَقْتَضِي الْحِلْمَ وَالْكَرَمَ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالضَّحَّاكِ الصَّمَدُ هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي قَدِ انْتَهَى سُؤْدُدُهُ الرَّابِعُ: قَالَ الْأَصَمُّ: الصَّمَدُ هُوَ الْخَالِقُ لِلْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَوْنَهُ سَيِّدًا يَقْتَضِي ذَلِكَ الْخَامِسُ: قَالَ السُّدِّيُّ: الصَّمَدُ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الرَّغَائِبِ، الْمُسْتَغَاثُ بِهِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ السَّادِسُ: قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَجَلِيُّ: الصَّمَدُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا رَادَّ لِقَضَائِهِ السَّابِعُ: أَنَّهُ السَّيِّدُ الْمُعَظَّمُ الثَّامِنُ: أَنَّهُ الْفَرْدُ الْمَاجِدُ لَا يُقْضَى فِي أَمْرٍ دُونَهُ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: وَهُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: الصَّمَدُ هُوَ الْغَنِيُّ عَلَى مَا قَالَ: هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الْحَدِيدِ: 24] الثَّانِي: الصَّمَدُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ لِقَوْلِهِ: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [الْأَنْعَامِ: 18] وَلَا يَخَافُ مَنْ فَوْقَهُ، وَلَا يَرْجُو مَنْ دُونَهُ تُرْفَعُ الْحَوَائِجُ إِلَيْهِ الثَّالِثُ: قَالَ قَتَادَةُ: لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الْأَنْعَامِ: 14] الرَّابِعُ: قَالَ قَتَادَةُ: الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرَّحْمَنِ: 26] الْخَامِسُ: قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الزَّوَالُ كَانَ وَلَا مَكَانَ، وَلَا أَيْنَ وَلَا أَوَانَ، وَلَا عَرْشَ وَلَا كُرْسِيَّ، وَلَا جِنِّيَّ وَلَا إِنْسِيَّ وَهُوَ الْآنَ كَمَا كَانَ السَّادِسُ: قَالَ أُبَيُّ بن

[سورة الإخلاص (112) : آية 3]

كَعْبٍ: الَّذِي لَا يَمُوتُ وَلَا يُورَثُ وَلَهُ ميراث السموات وَالْأَرْضِ السَّابِعُ: قَالَ يَمَانٌ وَأَبُو مَالِكٍ: الَّذِي لَا يَنَامُ وَلَا يَسْهُو الثَّامِنُ: قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هُوَ الَّذِي لَا يُوصَفُ بِصِفَةِ أَحَدٍ التاسع: قال مقاتل بن حبان: هُوَ الَّذِي لَا عَيْبَ فِيهِ الْعَاشِرُ: قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هُوَ الَّذِي لَا تَعْتَرِيهِ الْآفَاتُ الْحَادِيَ عَشَرَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّهُ الْكَامِلُ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ، وَفِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ الثَّانِيَ عَشَرَ: قَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: إِنَّهُ الَّذِي يَغْلِبُ وَلَا يُغْلَبُ الثَّالِثَ عَشَرَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّهُ الْمُسْتَغْنِي عَنْ كُلِّ أَحَدٍ الرَّابِعَ عَشَرَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: إِنَّهُ الَّذِي أَيِسَ الْخَلَائِقُ مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى كَيْفِيَّتِهِ الْخَامِسَ عَشَرَ: هُوَ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ السَّادِسَ عَشَرَ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُحَمَّدٌ الْقُرَظِيُّ: هُوَ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ إِلَّا سَيُورَثُ، وَلَا شَيْءٌ يُولَدُ إِلَّا وَسَيَمُوتُ السَّابِعَ عَشَرَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنَّهُ الْمُنَزَّهُ عَنْ قَبُولِ النُّقْصَانَاتِ وَالزِّيَادَاتِ، وَعَنْ أَنْ يَكُونَ مَوْرِدًا لِلتَّغَيُّرَاتِ وَالتَّبَدُّلَاتِ، وَعَنْ إِحَاطَةِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْآنَاتِ وَالْجِهَاتِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ لَفْظُ الصَّمَدِ عَلَى الْكُلِّ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، لِأَنَّهُ بِحَسَبِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْوُجُوبِ الذَّاتِيِّ يَدُلُّ عَلَى جَمِيعِ السُّلُوبِ، وَبِحَسَبِ دَلَالَتِهِ عَلَى كَوْنِهِ مَبْدَأً لِلْكُلِّ يَدُلُّ عَلَى جَمِيعِ النُّعُوتِ الْإِلَهِيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: اللَّهُ الصَّمَدُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْوُجُودِ صَمَدٌ سِوَى اللَّهِ، وَإِذَا كَانَ الصَّمَدُ مُفَسَّرًا بِالْمَصْمُودِ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ، أَوْ بِمَا لَا يَقْبَلُ التَّغَيُّرَ فِي ذَاتِهِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْوُجُودِ مَوْجُودٌ هَكَذَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ سِوَى الْوَاحِدِ، فَقَوْلُهُ: اللَّهُ أَحَدٌ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ وَاحِدًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَاتِهِ تَرْكِيبٌ وَلَا تَأْلِيفٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَقَوْلُهُ: اللَّهُ الصَّمَدُ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ وَاحِدًا، بِمَعْنَى نَفْيِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ وَالْأَضْدَادِ. وَبَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ جَاءَ أَحَدٌ مُنَكَّرًا، وَجَاءَ الصَّمَدُ مُعَرَّفًا؟ الْجَوَابُ: الْغَالِبُ عَلَى أَكْثَرِ أَوْهَامِ الْخَلْقِ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مَحْسُوسٌ، وَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَحْسُوسٍ فَهُوَ مُنْقَسِمٌ، فَإِذًا مَا لَا يَكُونُ مُنْقَسِمًا لَا يَكُونُ خَاطِرًا بيان أَكْثَرِ الْخَلْقِ، وَأَمَّا الصَّمَدُ فَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مَصْمُودًا إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ، وَهَذَا كَانَ مَعْلُومًا لِلْعَرَبِ بَلْ لِأَكْثَرِ الْخَلْقِ عَلَى مَا قَالَ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزُّخْرُفِ: 87] وَإِذَا كَانَتِ/ الْأَحَدِيَّةُ مَجْهُولَةً مُسْتَنْكَرَةً عِنْدَ أَكْثَرِ الْخَلْقِ، وَكَانَتِ الصَّمَدِيَّةُ مَعْلُومَةَ الثُّبُوتِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْخَلْقِ، لَا جَرَمَ جَاءَ لَفْظُ أَحَدٍ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ وَلَفْظُ الصَّمَدِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْرِيفِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَكْرِيرِ لَفْظَةِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ؟ الْجَوَابُ: لَوْ لَمْ تُكَرَّرْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ لَوَجَبَ فِي لَفْظِ أَحَدٌ وَصَمَدٌ أَنْ يَرِدَا، إِمَّا نَكِرَتَيْنِ أَوْ مَعْرِفَتَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَلَا جَرَمَ كُرِّرَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ حَتَّى يُذْكَرَ لَفْظُ أَحَدٍ مُنَكَّرًا وَلَفْظُ الصَّمَدِ معرفا. [سورة الإخلاص (112) : آية 3] لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) فِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قُدِّمَ قَوْلُهُ: لَمْ يَلِدْ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَمْ يُولَدْ مَعَ أَنَّ فِي الشَّاهِدِ يَكُونُ أَوَّلًا مَوْلُودًا، ثُمَّ يَكُونُ وَالِدًا؟ الْجَوَابُ: إِنَّمَا وَقَعَتِ الْبَدَاءَةُ بِأَنَّهُ لَمْ يَلِدْ، لِأَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ لَهُ وَلَدًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّ لَهُ وَالِدًا فلهذا

السَّبَبِ بَدَأَ بِالْأَهَمِّ فَقَالَ: لَمْ يَلِدْ ثُمَّ أَشَارَ إِلَى الْحُجَّةِ فَقَالَ: وَلَمْ يُولَدْ كَأَنَّهُ قِيلَ: الدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِ الْوَلَدِيَّةِ اتِّفَاقُنَا عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ وَلَدًا لِغَيْرِهِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَاذَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْمَاضِي فَقَالَ: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يَقُلْ: لَنْ يَلِدَ؟ الْجَوَابُ: إِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَرَدَ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ وَلَدَ اللَّهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ [الصَّافَّاتِ: 151، 152] فَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَكْذِيبَ قَوْلِهِمْ وَهُمْ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ فِي الْمَاضِي، لَا جَرَمَ وَرَدَتِ الْآيَةُ عَلَى وَفْقِ قولهم: السؤال الثالث: لم قال هاهنا: لَمْ يَلِدْ وَقَالَ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً [الْإِسْرَاءِ: 111] ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَوَلَّدَ مِنْهُ مِثْلُهُ وَهَذَا هُوَ الْوَلَدُ الْحَقِيقِيُّ وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مُتَوَلِّدًا مِنْهُ وَلَكِنَّهُ يَتَّخِذُهُ وَلَدًا وَيُسَمِّيهِ هَذَا الِاسْمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدًا لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَالنَّصَارَى فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عِيسَى وَلَدُ اللَّهِ حَقِيقَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَهُ وَلَدًا تَشْرِيفًا لَهُ، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا تَشْرِيفًا لَهُ، فَقَوْلُهُ: لَمْ يَلِدْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ الْوَالِدِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَقَوْلُهُ: لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ الْقِسْمِ الثَّانِي، وَلِهَذَا قَالَ: لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الإسراء: 111] لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَّخِذُ وَلَدًا لِيَكُونَ نَاصِرًا وَمُعِينًا لَهُ عَلَى الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ [يُونُسَ: 68] وَإِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْحَاجَةِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: نَفْيُ كَوْنِهِ تَعَالَى وَالِدًا وَمَوْلُودًا، هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ بِالسَّمْعِ أَمْ لَا، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فَمَا الفائدة في ذكره هاهنا؟ الْجَوَابُ: نَفِيُ كَوْنِهِ تَعَالَى وَالِدًا مُسْتَفَادٌ مِنَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا مُتَبَعِّضٍ وَلَا مُنْقَسِمٍ، وَنَفْيُ كَوْنِهِ تَعَالَى مَوْلُودًا مُسْتَفَادٌ مِنَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ تَعَالَى/ قَدِيمٌ، وَالْعِلْمُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعِلْمِ بِالنُّبُوَّةِ وَالْقُرْآنِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا مُسْتَفَادَيْنِ مِنَ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ اسْتِفَادَتُهُمَا مِنَ السَّمْعِ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهِمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ؟ قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِهِ أَحَدًا كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَاتِهِ وَمَاهِيَّتِهِ مُنَزَّهًا عَنْ جَمِيعِ أَنْحَاءِ التَّرَاكِيبِ، وَكَوْنُهُ تَعَالَى صَمَدًا مَعْنَاهُ كَوْنُهُ وَاجِبًا لِذَاتِهِ مُمْتَنِعَ التَّغَيُّرِ فِي ذَاتِهِ وَجَمِيعِ صِفَاتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَحَدِيَّةُ وَالصَّمَدِيَّةُ يُوجِبَانِ نَفْيَ الْوَلَدِيَّةِ وَالْمَوْلُودِيَّةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِانْتِفَاءِ الْوَالِدِيَّةِ وَالْمَوْلُودِيَّةِ، لَا جَرَمَ ذَكَرَ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِمَا تَنْبِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الدَّلَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى انْتِفَائِهِمَا. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: هَلْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ فَائِدَةٌ أَزْيَدُ مِنْ نَفِيِ الْوَلَدِيَّةِ وَنَفِيِ الْمَوْلُودِيَّةِ؟ قُلْنَا: فِيهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: اللَّهُ أَحَدٌ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ وَمَاهِيَّتِهِ مُنَزَّهًا عَنِ التَّرْكِيبِ، وَقَوْلُهُ: اللَّهُ الصَّمَدُ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ وَالشُّرَكَاءِ وَالْأَمْثَالِ وَهَذَانَ الْمَقَامَانِ الشَّرِيفَانِ مِمَّا حَصَلَ الِاتِّفَاقُ فِيهِمَا بَيْنَ أَرْبَابِ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ، وَبَيْنَ الْفَلَاسِفَةِ، إِلَّا أَنَّ مِنْ بَعْدِ هَذَا الْمَوْضِعِ حَصَلَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَرْبَابِ الْمِلَلِ وَبَيْنَ الْفَلَاسِفَةِ، فَإِنَّ الْفَلَاسِفَةَ قَالُوا: إِنَّهُ يَتَوَلَّدُ عَنْ وَاجِبِ الْوُجُودِ عَقْلٌ، وَعَنِ الْعَقْلِ عَقْلٌ آخَرُ وَنَفْسٌ وَفَلَكٌ، وَهَكَذَا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ مُدَبِّرٌ مَا تَحْتَ كُرَةِ الْقَمَرِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ وَاجِبُ الْوُجُودِ قَدْ وَلَدَ الْعَقْلَ الْأَوَّلَ الَّذِي هُوَ تَحْتَهُ، وَيَكُونُ الْعَقْلُ الَّذِي هُوَ مُدَبِّرٌ لعالمنا هذا

[سورة الإخلاص (112) : آية 4]

كَالْمَوْلُودِ مِنَ الْعُقُولِ الَّتِي فَوْقَهُ، فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَفَى الْوَالِدِيَّةَ أَوَّلًا، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَلِدِ الْعُقُولَ وَالنُّفُوسَ، ثُمَّ قَالَ: وَالشَّيْءُ الَّذِي هُوَ مُدَبِّرُ أَجْسَادِكُمْ وَأَرْوَاحِكُمْ وَعَالَمِكُمْ هَذَا لَيْسَ مَوْلُودًا مِنْ شَيْءٍ آخَرَ، فَلَا وَالِدَ وَلَا مَوْلُودَ وَلَا مُؤَثِّرَ إِلَّا الْوَاحِدُ الَّذِي هو الحق سبحانه. [سورة الإخلاص (112) : آية 4] وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) فِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ الْفَصِيحُ أَنْ يُؤَخَّرَ الظَّرْفُ الَّذِي هُوَ لَغْوٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ وَلَا يُقَدَّمَ، وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى ذَلِكَ فِي «كِتَابِهِ» ، فَمَا بَالُهُ وَرَدَ مُقَدَّمًا فِي أَفْصَحِ الْكَلَامِ؟ وَالْجَوَابُ: هَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا سِيقَ لِنَفْيِ الْمُكَافَأَةِ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ، وَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى هُوَ هَذَا الظَّرْفُ، وَتَقْدِيمُ الْأَهَمِّ أَوْلَى، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ هَذَا الظَّرْفُ مُسْتَحِقًّا لِلتَّقْدِيمِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ الْقِرَاءَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؟ الْجَوَابُ: قُرِئَ: كُفُواً بِضَمِّ الْكَافِ وَالْفَاءِ وَبِضَمِّ الْكَافِ وَكَسْرِهَا مَعَ سُكُونِ الْفَاءِ، وَالْأَصْلُ هُوَ الضَّمُّ ثُمَّ يُخَفَّفُ مِثْلُ طُنُبٍ وَطُنْبٍ وَعُنُقٍ وَعُنْقٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ كُفُوٌ وَكُفْءٌ وَكِفَاءٌ كُلُّهُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَهُوَ الْمِثْلُ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ أَقَاوِيلُ أَحَدُهَا: قَالَ كَعْبٌ وَعَطَاءٌ: لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ وَلَا عَدِيلٌ، وَمِنْهُ الْمُكَافَأَةُ فِي الْجَزَاءِ لِأَنَّهُ/ يُعْطِيهِ مَا يُسَاوِي مَا أَعْطَاهُ وَثَانِيهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يَكُنْ [لَهُ] صَاحِبَةٌ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ كُفُؤًا لَهُ فَيُصَاهِرَهُ، رَدًّا عَلَى مَنْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُ قَوْلَهُ: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصَّافَّاتِ: 158] فَتَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ كَالتَّأْكِيدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يَلِدْ وَثَالِثُهَا: وَهُوَ التحقيق أنه تعالى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ الْمَصْمُودُ إِلَيْهِ فِي قَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَنَفْيِ الْوَسَائِطِ مِنَ الْبَيْنِ بِقَوْلِهِ: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَحِينَئِذٍ خَتَمَ السُّورَةَ بِأَنَّ شَيْئًا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ، أَمَّا الْوُجُودُ فَلَا مُسَاوَاةَ فِيهِ لِأَنَّ وَجُودَهُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ حَقِيقَتِهِ فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْعَدَمِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، وَأَمَّا سَائِرُ الْحَقَائِقِ، فَإِنَّهَا قَابِلَةٌ لِلْعَدَمِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ فَلَا مُسَاوَاةَ فِيهِ لِأَنَّ عِلْمَهُ لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ وَلَا بِاسْتِدْلَالِيٍّ وَلَا مُسْتَفَادٍ مِنَ الْحِسِّ وَلَا مِنَ الرُّؤْيَةِ وَلَا يَكُونُ فِي مَعْرِضِ الْغَلَطِ وَالزَّلَلِ وَعُلُومُ الْمُحْدَثَاتِ كَذَلِكَ، وَأَمَّا الْقُدْرَةُ فَلَا مُسَاوَاةَ فِيهَا وَكَذَا الرَّحْمَةُ وَالْجُودُ وَالْعَدْلُ وَالْفَضْلُ وْالْإِحْسَانُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أَرْبَعُ آيَاتٍ، وَفِي تَرْتِيبِهَا أَنْوَاعٌ مِنَ الْفَوَائِدِ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ، وَالصَّمَدُ عَلَى أَنَّهُ كَرِيمٌ رَحِيمٌ لِأَنَّهُ لَا يُصْمَدُ إِلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ مُحْسِنًا وَ: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ عَلَى أَنَّهُ غَنِيٌّ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَمُنَزَّهٌ عَنِ التَّغَيُّرَاتِ فَلَا يَبْخَلُ بِشَيْءٍ أَصْلًا، وَلَا يَكُونُ جُودُهُ لِأَجْلِ جَرِّ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، بَلْ بِمَحْضِ الْإِحْسَانِ وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: نَفَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَاتِهِ أَنْوَاعَ الْكَثْرَةِ بِقَوْلِهِ: أَحَدٌ وَنَفَى النَّقْصَ وَالْمَغْلُوبِيَّةَ بِلَفْظِ الصَّمَدِ، وَنَفَى المعلولية والعلية بلم يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَنَفَى الْأَضْدَادَ وَالْأَنْدَادَ بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: أَحَدٌ يُبْطِلُ مَذْهَبَ الثَّنَوِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ، وَالنَّصَارَى فِي التَّثْلِيثِ، وَالصَّابِئِينَ فِي الْأَفْلَاكِ وَالنُّجُومِ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ تُبْطِلُ مَذْهَبَ مَنْ أَثْبَتَ خَالِقًا سِوَى اللَّهِ لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ خَالِقٌ آخر لما

كَانَ الْحَقُّ مَصْمُودًا إِلَيْهِ فِي طَلَبِ جَمِيعِ الْحَاجَاتِ، وَالثَّالِثَةُ تُبْطِلُ مَذْهَبَ الْيَهُودِ فِي عُزَيْرٍ، وَالنَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ، وَالْمُشْرِكِينَ فِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَالْآيَةُ الرَّابِعَةُ تُبْطِلُ مَذْهَبَ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ جَعَلُوا الْأَصْنَامَ أَكْفَاءً لَهُ وَشُرَكَاءً. الْفَائِدَةُ المسألة الرَّابِعَةُ: أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فِي حَقِّ اللَّهِ مِثْلُ سُورَةِ الْكَوْثَرِ فِي حَقِّ الرَّسُولِ لَكِنَّ الطَّعْنَ فِي حَقِّ الرَّسُولِ كَانَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قالوا: إنه أبتر لا ولد له، وهاهنا الطَّعْنُ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا لِلَّهِ وَلَدًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَدَمَ الْوَلَدِ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ عَيْبٌ وَوُجُودَ الْوَلَدِ عَيْبٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فلهذا السبب قال هاهنا: قُلْ حَتَّى تَكُونَ ذَابَّا عَنِّي، وَفِي سُورَةِ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ [الكوثر: 1] أَنَا أَقُولُ ذَلِكَ الْكَلَامَ حَتَّى أَكُونَ أَنَا ذابا عنك، والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة الفلق

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الفلق مقدمة قَبْلَ الْخَوْضِ فِي التَّفْسِيرِ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ فَصْلَيْنِ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْعَارِفِينَ فَسَّرَ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ عَلَى وَجْهٍ عَجِيبٍ فَقَالَ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا شَرَحَ أَمْرَ الْإِلَهِيَّةِ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ ذَكَرَ هَذِهِ السُّورَةَ عَقِيبَهَا فِي شَرْحِ مَرَاتِبِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ فَقَالَ أَوَّلًا: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَذَلِكَ لِأَنَّ ظُلُمَاتِ الْعَدَمِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي فَلَقَ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ بِنُورِ التَّكْوِينِ وَالْإِيجَادِ وَالْإِبْدَاعِ، فَلِهَذَا قَالَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ثُمَّ قَالَ: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ عَالَمَ الْمُمْكِنَاتِ عَلَى قِسْمَيْنِ عَالَمُ الْأَمْرِ وَعَالَمُ الْخَلْقِ عَلَى مَا قَالَ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الْأَعْرَافِ: 54] وَعَالَمُ الْأَمْرِ كُلُّهُ خَيْرَاتٌ مَحْضَةٌ بَرِيئَةٌ عَنِ الشُّرُورِ وَالْآفَاتِ، أَمَّا عَالَمُ الْخَلْقِ وَهُوَ عَالَمُ الْأَجْسَامِ وَالْجُسْمَانِيَّاتِ، فَالشَّرُّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِيهِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ عَالَمُ الْأَجْسَامِ وَالْجُسْمَانِيَّاتِ بِعَالَمِ الْخَلْقِ لِأَنَّ الْخَلْقَ هُوَ التَّقْدِيرُ وَالْمِقْدَارُ مِنْ لَوَاحِقِ الْجِسْمِ، فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ قَالَ: أَعُوذُ بِالرَّبِّ الَّذِي فَلَقَ ظُلُمَاتِ بَحْرِ الْعَدَمِ بِنُورِ الْإِيجَادِ وَالْإِبْدَاعِ مِنَ الشُّرُورِ الْوَاقِعَةِ فِي عَالَمِ الْخَلْقِ وَهُوَ عَالَمُ الْأَجْسَامِ وَالْجُسْمَانِيَّاتِ، ثُمَّ مِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ الْأَجْسَامَ، إِمَّا أَثَرِيَّةٌ أَوْ عُنْصُرِيَّةٌ وَالْأَجْسَامُ الْأَثَرِيَّةٌ خَيْرَاتٌ، لِأَنَّهَا بَرِيئَةٌ عَنِ الِاخْتِلَالِ وَالْفُطُورِ، عَلَى مَا قَالَ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الْمُلْكِ: 3] وَأَمَّا الْعُنْصُرِيَّاتُ فَهِيَ إِمَّا جَمَادٌ أَوْ نَبَاتٌ أَوْ حَيَوَانٌ، أَمَّا الْجَمَادَاتُ فَهِيَ خَالِيَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْقُوَى النَّفْسَانِيَّةِ، فَالظُّلْمَةُ فِيهَا خَالِصَةٌ وَالْأَنْوَارُ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ زَائِلَةٌ، وَهِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ وَأَمَّا النَّبَاتُ فَالْقُوَّةُ الْعَادِيَّةُ النَّبَاتِيَّةُ هِيَ الَّتِي تَزِيدُ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْعُمْقِ مَعًا، فَهَذِهِ النَّبَاتِيَّةُ كَأَنَّهَا تَنْفُثُ فِي الْعُقَدِ الثَّلَاثَةِ، وَأَمَّا الْحَيَوَانُ فَالْقُوَى الْحَيَوَانِيَّةُ هِيَ الْحَوَاسُّ الظَّاهِرَةُ وَالْحَوَاسُّ الْبَاطِنِيَّةُ وَالشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ وَكُلُّهَا تَمْنَعُ الرُّوحَ الْإِنْسَانِيَّةَ عَنِ الِانْصِبَابِ إِلَى عَالَمِ الْغَيْبِ، وَالِاشْتِغَالِ بِقُدْسِ جَلَالِ اللَّهِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ السُّفْلِيَّاتِ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ سِوَى النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَهِيَ الْمُسْتَعِيذَةُ، فَلَا تَكُونُ مُسْتَعَاذًا مِنْهَا، فَلَا جَرَمَ قَطَعَ هَذِهِ السُّورَةَ وَذَكَرَ بَعْدَهَا فِي سُورَةِ النَّاسِ مَرَاتِبَ دَرَجَاتِ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي التَّرَقِّي، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا بِأَصْلِ فِطْرَتِهَا مُسْتَعِدَّةٌ لأن تنتفش بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَحَبَّتِهِ إِلَّا أَنَّهَا تَكُونُ أَوَّلَ الْأَمْرِ خَالِيَةً عَنْ هَذِهِ الْمَعَارِفِ بِالْكُلِّيَّةِ، ثم إنه في الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ يَحْصُلُ فِيهَا عُلُومٌ أَوَّلِيَّةٌ بَدِيهِيَّةٌ يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِهَا إِلَى اسْتِعْلَامِ الْمَجْهُولَاتِ/ الْفِكْرِيَّةِ، ثم في آخر الأمر تِلْكَ الْمَجْهُولَاتِ الْفِكْرِيَّةِ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ، فقوله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى مِنْ مَرَاتِبِ النفس الإنسانية

وَهِيَ حَالُ كَوْنِهَا خَالِيَةً مِنْ جَمِيعِ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ وَالْكَسْبِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّفْسَ فِي تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ تَحْتَاجُ إِلَى مُرَبٍّ يُرَبِّيهَا وَيُزَيِّنُهَا بِتِلْكَ الْمَعَارِفِ الْبَدِيهِيَّةِ، ثُمَّ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ عِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ يَحْصُلُ لَهَا مَلَكَةٌ مِنَ الِانْتِقَالِ مِنْهَا إِلَى اسْتِعْلَامِ الْعُلُومِ الْفِكْرِيَّةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مَلِكِ النَّاسِ ثُمَّ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ وَهِيَ عِنْدَ خُرُوجِ تلك العلوم الفكرية من القوة إِلَى الْفِعْلِ يَحْصُلُ الْكَمَالُ التَّامُّ لِلنَّفْسِ وَهُوَ المراد من قوله: إِلهِ النَّاسِ فكأن الحق سبحانه يُسَمِّي نَفْسَهُ بِحَسَبِ كُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِمَا يَلِيقُ بِتِلْكَ الْمَرْتَبَةِ، ثُمَّ قال: مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْقُوَّةُ الْوَهْمِيَّةُ، وَالسَّبَبُ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْخَنَّاسِ عَلَى الْوَهْمِ أَنَّ الْعَقْلَ وَالْوَهْمَ، قَدْ يَتَسَاعَدَانِ عَلَى تَسْلِيمِ بَعْضِ الْمُقَدِّمَاتِ، ثُمَّ إِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى النَّتِيجَةِ فَالْعَقْلُ يُسَاعِدُ عَلَى النَّتِيجَةِ وَالْوَهْمُ يَخْنَسُ، وَيَرْجِعُ وَيَمْتَنِعُ عَنْ تَسْلِيمِ النَّتِيجَةِ فَلِهَذَا السَّبَبِ يُسَمَّى الْوَهْمُ بِالْخَنَّاسِ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ ضَرَرَ هَذَا الْخَنَّاسِ عَظِيمٌ عَلَى الْعَقْلِ، وَأَنَّهُ قَلَّمَا يَنْفَكُّ أَحَدٌ عَنْهُ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَرَاتِبَ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ وَنَبَّهَ عَلَى عَدُوِّهَا وَنَبَّهَ عَلَى مَا بِهِ يَقَعُ الِامْتِيَازُ بَيْنَ الْعَقْلِ وَبَيْنَ الْوَهْمِ، وَهُنَاكَ آخِرُ دَرَجَاتِ مَرَاتِبِ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَلَا جَرَمَ وَقَعَ خَتْمُ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَالْفُرْقَانِ الْعَظِيمِ عَلَيْهِ. الْفَصْلُ الثَّانِي: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَاهُ وَقَالَ: إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ يَكِيدُكَ، فَقَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ قُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ السُّورَتَيْنِ وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُمَا عَلَيْهِ لِيَكُونَا رُقْيَةً مِنَ الْعَيْنِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا: تَعَالَوْا نَتَجَوَّعُ فَنَعِينُ مُحَمَّدًا فَفَعَلُوا، ثم أتوه وقالوا ما أشد عضك وَأَقْوَى ظَهْرَكَ وَأَنْضَرَ وَجْهَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَثَالِثُهَا: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ لَبِيدَ بْنَ أَعْصَمَ الْيَهُودِيَّ سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً وَفِي وَتَرٍ دَسَّهُ فِي بِئْرٍ يُقَالُ لَهَا ذِرْوَانُ فَمَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَنَزَلَتِ الْمُعَوِّذَتَانِ لِذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ بِمَوْضِعِ السِّحْرِ فَأَرْسَلَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَطَلْحَةَ وَجَاءَا بِهِ، وَقَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ: حِلَّ عُقْدَةً، وَاقْرَأْ آيَةً فَفَعَلَ وَكَانَ كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَكَانَ يَجِدُ بَعْضَ الْخِفَّةِ وَالرَّاحَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ أَنْكَرُوا ذَلِكَ بِأَسْرِهِمْ، قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الرِّوَايَةُ بَاطِلَةٌ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [الْمَائِدَةِ: 67] وَقَالَ: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه: 69] وَلِأَنَّ تجويزه يفضي إلى القدح في النبوة، ولأنه لَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ يَصِلُوا إِلَى الضَّرَرِ لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَلَقَدَرُوا عَلَى تَحْصِيلِ الْمُلْكِ الْعَظِيمِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، وَلِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُعَيِّرُونَهُ بِأَنَّهُ مَسْحُورٌ، فَلَوْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ لَكَانَ الْكُفَّارُ صَادِقِينَ فِي تِلْكَ/ الدَّعْوَةِ، وَلَحَصَلَ فِيهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ الْعَيْبُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، قَالَ الْأَصْحَابُ: هَذِهِ الْقِصَّةُ قَدْ صَحَّتْ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ النَّقْلِ، وَالْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَمَّا قَوْلُهُ: الْكُفَّارُ كَانُوا يَعِيبُونَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ مَسْحُورٌ، فَلَوْ وَقَعَ ذَلِكَ لَكَانَ الْكُفَّارُ صَادِقِينَ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ فَجَوَابُهُ: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُرِيدُونَ بِكَوْنِهِ مَسْحُورًا أَنَّهُ مَجْنُونٌ أُزِيلَ عَقْلُهُ بِوَاسِطَةِ السِّحْرِ، فَلِذَلِكَ تَرَكَ دِينَهُمْ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ مَسْحُورًا بِأَلَمٍ يَجِدُهُ فِي بَدَنِهِ فَذَلِكَ مِمَّا لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ، وَبِالْجُمْلَةِ فَاللَّهُ تَعَالَى مَا كَانَ يُسَلِّطُ عَلَيْهِ لَا شَيْطَانًا وَلَا إِنْسِيًّا وَلَا جِنِّيًّا يُؤْذِيهِ فِي دِينِهِ وَشَرْعِهِ وَنَبُوَّتِهِ، فَأَمَّا فِي الْإِضْرَارِ بِبَدَنِهِ فَلَا يَبْعُدُ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَدْ تَقَدَّمَ في سورة البقرة ولنرجع إلى التفسير.

[سورة الفلق (113) : آية 1]

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الفلق خمس آيات مدنية [سورة الفلق (113) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: قُلْ فَوَائِدُ أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَمَرَ بِقِرَاءَةِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ تَنْزِيهًا لَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الطَّاعَاتِ، فَكَأَنَّ الْعَبْدَ قَالَ: إِلَهَنَا هَذِهِ الطَّاعَةُ عَظِيمَةٌ جِدًّا لَا أَثِقُ بِنَفْسِي فِي الْوَفَاءِ بِهَا، فَأَجَابَ بِأَنْ قَالَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ أَيِ اسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَالْتَجِئْ إِلَيْهِ حَتَّى يُوَفِّقَكَ لِهَذِهِ الطَّاعَةِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا سَأَلُوا الرَّسُولَ عَنْ نِسَبِ اللَّهِ وَصِفَتِهِ، فَكَأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: كَيْفَ أَنْجُو مِنْ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ الَّذِينَ تَجَاسَرُوا وَقَالُوا فِيكَ مَا لَا يَلِيقُ بِكَ، فَقَالَ اللَّهُ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ أَيِ اسْتَعِذْ بِي حَتَّى أَصُونَكَ عَنْ شَرِّهِمْ وَثَالِثُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: مَنِ الْتَجَأَ إِلَى بَيْتِي شَرَّفْتُهُ وَجَعَلْتُهُ آمِنًا فَقُلْتُ: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران: 97] فَالْتَجِئْ أَنْتَ أَيْضًا إِلَيَّ حَتَّى أَجْعَلَكَ آمِنًا فقل أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِالرُّقَى وَالْعُوَذِ أَمْ لا؟ منهم من قَالَ: إِنَّهُ يَجُوزُ وَاحْتَجُّوا بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَكَى فَرَقَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، وَاللَّهُ يَشْفِيكَ وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا مِنَ الْأَوْجَاعِ كُلِّهَا وَالْحُمَّى هَذَا الدُّعَاءَ: «بِسْمِ اللَّهِ الْكَرِيمِ، أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ مِنْ شَرِّ كُلِّ عِرْقٍ نَعَّارٍ، وَمِنْ شَرِّ حَرِّ النَّارِ» وَثَالِثُهَا: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ لَمْ يَحْضُرْهُ أَجَلُهُ، فَقَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ شُفِيَ وَرَابِعُهَا: عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ قَالَ: «أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ» وَخَامِسُهَا: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، يَقُولُ: «أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ/ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ» وَيَقُولُ: هَكَذَا كَانَ أَبِي إِبْرَاهِيمُ يُعَوِّذُ ابْنَيْهِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَسَادِسُهَا: قَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَبِي وَجَعٌ قَدْ كَادَ يُبْطِلُنِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْعَلْ يَدَكَ الْيُمْنَى عَلَيْهِ، وَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ» سَبْعَ مَرَّاتٍ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَشَفَانِي اللَّهُ وَسَابِعُهَا: رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا سَافَرَ فَنَزَلَ مَنْزِلًا يَقُولُ: «يَا أَرْضُ، رَبِّي وَرَبُّكِ اللَّهُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّكِ وَشَرِّ مَا فِيكِ وَشَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْكِ، وَشَرِّ مَا يَدِبُّ عَلَيْكِ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ أَسَدٍ وَأُسُودٍ وَحَيَّةٍ وَعَقْرَبٍ، وَمِنْ شَرِّ سَاكِنِي الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ» وَثَامِنُهَا: قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا

اشْتَكَى شَيْئًا مِنْ جَسَدِهِ قَرَأَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي كَفِّهِ الْيُمْنَى وَمَسَحَ بِهَا الْمَكَانَ الَّذِي يَشْتَكِي وَمِنَ النَّاسِ مَنْ مَنَعَ مِنَ الرُّقَى لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّقَى، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَمْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ مَنِ اكْتَوَى وَاسْتَرْقَى» وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنِ الرُّقَى الْمَجْهُولَةِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ حَقَائِقُهَا، فَأَمَّا مَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ مَوْثُوقٌ، فَلَا نَهْيَ عَنْهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّعْلِيقِ، فَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَنْ عَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ» وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَأَى عَلَى أُمِّ وَلَدِهِ تَمِيمَةً مَرْبُوطَةً بِعَضُدِهَا فَجَذَبَهَا جَذْبًا عَنِيفًا فَقَطَعَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ، سُئِلَ الْبَاقِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ التَّعْوِيذِ يُعَلَّقُ عَلَى الصِّبْيَانِ فَرَخَّصَ فِيهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي النَّفْثِ أَيْضًا، فَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ إِذَا اشْتَكَى بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَمْسَحُ بِيَدِهِ، فَلَمَّا اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ طَفِقْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ الَّتِي كَانَ يَنْفُثُ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ نَفَثَ فِي يَدَيْهِ وَقَرَأَ فِيهِمَا بِالْمُعَوِّذَاتِ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا جَسَدَهُ» وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ النَّفْثَ، قَالَ عِكْرِمَةُ: لَا يَنْبَغِي لِلرَّاقِي أَنْ يَنْفُثَ وَلَا يَمْسَحَ وَلَا يَعْقِدَ. وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ النَّفْثَ فِي الرُّقَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ: دَخَلْتُ عَلَى الضَّحَّاكِ وَهُوَ وَجِيعٌ فَقُلْتُ: أَلَا أُعَوِّذُكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنْ لَا تَنْفُثْ، فَعَوَّذْتُهُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ. قَالَ الْحَلِيمِيُّ: الَّذِي رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلرَّاقِي أَنْ لَا يَنْفُثَ وَلَا يَمْسَحَ وَلَا يَعْقِدَ، فَكَأَنَّهُ ذَهَبَ فِيهِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ النَّفْثَ فِي الْعَقْدِ مِمَّا يُسْتَعَاذُ مِنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهُ إِلَّا أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ النَّفْثَ فِي الْعُقَدِ إِنَّمَا يَكُونُ مَذْمُومًا إِذَا كَانَ سِحْرًا مُضِرًّا بِالْأَرْوَاحِ وَالْأَبْدَانِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ هَذَا النَّفْثُ لِإِصْلَاحِ الْأَرْوَاحِ وَالْأَبْدَانِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ حَرَامًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ في مفتاح القراءة: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف: 200] وقال هاهنا: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ [الْمُؤْمِنُونَ: 97] وَجَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ أَفْضَلَ أَسْمَاءِ اللَّهِ هُوَ اللَّهُ، وَأَمَّا الرَّبُّ فَإِنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ [يُوسُفَ: 39] فَمَا السَّبَبُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْأَمْرِ بِالتَّعَوُّذِ لَمْ يَقُلْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ بَلْ قَالَ: بِرَبِّ الْفَلَقِ؟ وَأَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ/ بِاللَّهِ [النَّحْلِ: 98] إِنَّمَا أَمَرَهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ هُنَاكَ لِأَجْلِ قِرَاءَةِ القرآن، وإنما أمره بالاستعاذة هاهنا فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِأَجْلِ حِفْظِ النَّفْسِ وَالْبَدَنِ عَنِ السِّحْرِ، وَالْمُهِمُّ الْأَوَّلُ أَعْظَمُ، فَلَا جَرَمَ ذكر هُنَاكَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ وَثَانِيهَا: أَنَّ الشَّيْطَانَ يُبَالِغُ حَالَ مَنْعِكَ مِنَ الْعِبَادَةِ أَشَدَّ مُبَالَغَةً فِي إِيصَالِ الضُّرِّ إِلَى بَدَنِكَ وَرُوحِكَ، فَلَا جَرَمَ ذكر الاسم الأعظم هناك دون هاهنا وَثَالِثُهَا: أَنَّ اسْمَ الرَّبِّ يُشِيرُ إِلَى التَّرْبِيَةِ فَكَأَنَّهُ جَعَلَ تَرْبِيَةَ اللَّهِ لَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَسِيلَةً إِلَى تَرْبِيَتِهِ لَهُ فِي الزَّمَانِ الْآتِي، أَوْ كَانَ الْعَبْدُ يَقُولُ: التَّرْبِيَةُ وَالْإِحْسَانُ حِرْفَتُكَ فَلَا تُهْمِلْنِي، وَلَا تُخَيِّبْ رَجَائِي وَرَابِعُهَا: أَنَّ بِالتَّرْبِيَةِ صَارَ شَارِعًا فِي الْإِحْسَانِ، وَالشُّرُوعُ مُلْزِمٌ وَخَامِسُهَا: أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ آخِرُ سُوَرِ الْقُرْآنِ فَذَكَرَ لَفْظَ الرَّبِّ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا تَنْقَطِعُ عَنْكَ تَرْبِيَتُهُ وَإِحْسَانُهُ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ خَتَمَ الْقُرْآنَ عَلَى اسْمِ الْإِلَهِ حَيْثُ قال: مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ قُلْنَا: فِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ كَوْنُهُ تَعَالَى قَالَ: قُلْ أَعُوذُ بِمَنْ هُوَ رَبِّي وَلَكِنَّهُ إِلَهٌ قَاهِرٌ لِوَسْوَسَةِ الْخَنَّاسِ فَهُوَ كَالْأَبِ الْمُشْفِقِ الَّذِي يَقُولُ ارْجِعْ عِنْدَ مُهِمَّاتِكَ إِلَى أَبِيكَ الْمُشْفِقِ عَلَيْكَ الَّذِي هُوَ كَالسَّيْفِ الْقَاطِعِ وَالنَّارِ الْمُحْرِقَةِ لِأَعْدَائِكَ فَيَكُونُ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْوَعْدِ بِالْإِحْسَانِ وَالتَّرْبِيَةِ وَسَادِسُهَا: كَأَنَّ الْحَقَّ قَالَ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ:

قَلْبُكَ لِي فَلَا تُدْخِلْ فِيهِ حُبَّ غَيْرِي، وَلِسَانُكَ لِي فَلَا تَذْكُرْ بِهِ أَحَدًا غَيْرِي، وَبَدَنُكَ لِي فَلَا تَشْغَلْهُ بِخِدْمَةِ غَيْرِي، وَإِنْ أَرَدْتَ شَيْئًا فَلَا تَطْلُبْهُ إِلَّا مِنِّي، فَإِنْ أردت العلم فقل: رب زدني علما وَإِنْ أَرَدْتَ الدُّنْيَا فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، وَإِنْ خِفْتَ ضَرَرًا فَقُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ فَإِنِّي أَنَا الَّذِي وَصَفْتُ نَفْسِي بِأَنِّي خَالِقُ الْإِصْبَاحِ. وَبِأَنِّي فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَمَا فَعَلْتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِلَّا لِأَجْلِكَ، فَإِذَا كُنْتُ أَفْعَلُ كُلَّ هَذِهِ الْأُمُورِ لِأَجْلِكَ، أَفَلَا أَصُونُكَ عَنِ الْآفَاتِ وَالْمَخَافَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرُوا فِي الْفَلَقِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ الصُّبْحُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ قَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَنَّ اللَّيْلَ يُفْلَقُ عَنْهُ الصُّبْحُ وَيُفْرَقُ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ يُقَالُ: هُوَ أَبْيَنُ مِنْ فَلَقِ الصُّبْحِ وَمِنْ فَرَقِ الصُّبْحِ وَتَخْصِيصُهُ فِي التَّعَوُّذِ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى إِزَالَةِ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ الشَّدِيدَةِ عَنْ كُلِّ هَذَا الْعَالَمِ يَقْدِرُ أَيْضًا أَنْ يَدْفَعَ عَنِ الْعَائِذِ كُلَّ مَا يَخَافُهُ وَيَخْشَاهُ الثَّانِي: أَنَّ طُلُوعَ الصُّبْحِ كَالْمِثَالِ لِمَجِيءِ الْفَرَجِ، فَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي اللَّيْلِ يَكُونُ مُنْتَظِرًا لِطُلُوعِ الصَّبَاحِ كَذَلِكَ الْخَائِفُ يَكُونُ مُتَرَقِّبًا لِطُلُوعِ صَبَاحِ النَّجَاحِ الثَّالِثُ: أَنَّ الصُّبْحَ كَالْبُشْرَى فَإِنَّ الْإِنْسَانَ فِي الظَّلَامِ يَكُونُ كَلَحْمٍ عَلَى وَضْمٍ، فَإِذَا ظَهَرَ الصُّبْحُ فَكَأَنَّهُ صَاحَ بِالْأَمَانِ وَبَشَّرَ بِالْفَرَجِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ يَجِدُ كُلُّ مَرِيضٍ وَمَهْمُومٍ خِفَّةً فِي وَقْتِ السَّحَرِ، فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبٍّ يُعْطِي إِنْعَامَ فَلَقِ الصُّبْحِ قَبْلَ السُّؤَالِ، فَكَيْفَ بَعْدَ السُّؤَالِ الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أُلْقِيَ فِي الْجُبِّ وُجِعَتْ رُكْبَتُهُ وَجَعًا شَدِيدًا فَبَاتَ لَيْلَتَهُ سَاهِرًا فَلَمَّا قَرُبَ طُلُوعُ الصُّبْحِ نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بإذن الله يسليه ويأمره بأن يدعوا رَبَّهُ فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ ادْعُ أَنْتَ وَأُؤَمِّنُ أَنَا فَدَعَا جِبْرِيلُ وَأَمَّنَ يُوسُفُ فَكَشَفَ اللَّهُ مَا كَانَ بِهِ مِنَ الضُّرِّ، فَلَمَّا طَابَ وَقْتُ يُوسُفَ قَالَ جِبْرِيلُ: وَأَنَا أَدْعُو أَيْضًا/ وَتُؤَمِّنُ أَنْتَ، فَسَأَلَ يُوسُفُ رَبَّهُ أَنْ يَكْشِفَ الضُّرَّ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْبَلَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَلَا جَرَمَ مَا مِنْ مَرِيضٍ إِلَّا وَيَجِدُ نَوْعَ خِفَّةٍ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، وَرُوِيَ أَنَّ دُعَاءَهُ فِي الْجُبِّ: يَا عُدَّتِي فِي شِدَّتِي وَيَا مُؤْنِسِي فِي وَحْشَتِي وَيَا رَاحِمَ غُرْبَتِي وَيَا كَاشِفَ كُرْبَتِي وَيَا مُجِيبَ دَعْوَتِي، وَيَا إِلَهِي وَإِلَهَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ارْحَمْ صِغَرَ سِنِّي وَضَعْفَ رُكْنِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ الْخَامِسُ: لَعَلَّ تَخْصِيصَ الصُّبْحِ بِالذِّكْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ وَقْتُ دُعَاءِ الْمُضْطَرِّينَ وَإِجَابَةِ الْمَلْهُوفِينَ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْوَقْتِ الَّذِي يُفَرَّجُ فِيهِ عَنْ كُلِّ مَهْمُومٍ السَّادِسُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ خَصَّ الصُّبْحَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أُنْمُوذَجٌ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ الْخَلْقَ كَالْأَمْوَاتِ وَالدُّورَ كَالْقُبُورِ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ دَارِهِ مُفْلِسًا عُرْيَانًا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ مَدْيُونًا فَيُجَرُّ إِلَى الْحَبْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ مَلِكًا مُطَاعًا فَتُقَدَّمُ إِلَيْهِ الْمَرَاكِبُ وَيَقُومُ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَذَا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ بَعْضُهُمْ مُفْلِسٌ عَنِ الثَّوَابِ عَارٍ عَنْ لِبَاسِ التَّقْوَى يُجَرُّ إِلَى الْمَلِكِ الْجَبَّارِ، وَمَنْ عَبَدَ كَانَ مُطِيعًا لِرَبِّهِ فِي الدُّنْيَا فَصَارَ مَلِكًا مُطَاعًا فِي الْعُقْبَى يُقَدَّمُ إِلَيْهِ الْبُرَاقُ السَّابِعُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الصُّبْحَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ وَقْتُ الصَّلَاةِ الْجَامِعَةِ لِأَحْوَالِ الْقِيَامَةِ فَالْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ يُذَكِّرُ الْقِيَامَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْمُطَفِّفِينَ: 6] وَالْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ تُذَكِّرُ قِرَاءَةَ الْكُتُبِ وَالرُّكُوعُ فِي الصلاة يذكر من القيامة قوله: ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ [السَّجْدَةِ: 12] وَالسُّجُودُ فِي الصَّلَاةِ يُذَكِّرُ قَوْلُهُ: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [الْقَلَمِ: 42] وَالْقُعُودُ يَذَكِّرُ قَوْلَهُ: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً [الْجَاثِيَةِ: 28] فَكَانَ الْعَبْدُ يَقُولُ: إِلَهِي كَمَا خَلَّصْتَنِي مِنْ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فَخَلِّصْنِي مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَالِ، وَإِنَّمَا خُصَّ وَقْتُ صَلَاةِ الصُّبْحِ لِأَنَّ لَهَا مَزِيدَ شَرَفٍ عَلَى مَا قَالَ: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الْإِسْرَاءِ: 78] أَيْ تَحْضُرُهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الثَّامِنُ: أَنَّهُ وَقْتُ الِاسْتِغْفَارِ

[سورة الفلق (113) : آية 2]

وَالتَّضَرُّعِ عَلَى مَا قَالَ: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ [آلِ عِمْرَانَ: 17] الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْفَلَقِ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا يَفْلِقُهُ اللَّهُ كَالْأَرْضِ عَنِ النَّبَاتِ: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى [الْأَنْعَامِ: 95] والجبال عن العيون: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ [البقرة: 74] وَالسَّحَابِ عَنِ الْأَمْطَارِ وَالْأَرْحَامِ عَنِ الْأَوْلَادِ وَالْبَيْضِ عَنِ الْفَرْخِ وَالْقُلُوبِ عَنِ الْمَعَارِفِ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْخَلْقَ تَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ أَكْثَرَهُ عَنِ انْقِلَابٍ، بَلِ الْعَدَمُ كَأَنَّهُ ظُلْمَةٌ وَالنُّورُ كَأَنَّهُ الْوُجُودُ، وَثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ اللَّهُ فِي الْأَزَلِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ الْبَتَّةَ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي فَلَقَ بِحَارَ ظُلُمَاتِ الْعَدَمِ بِأَنْوَارِ الْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ وَالْإِبْدَاعِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْفَلَقِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَقْرَبُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: هُوَ أَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا الْخَالِقُ وَإِمَّا الْخَلْقُ، فَإِذَا فَسَّرْنَا الْفَلَقَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَمُكَوِّنِ كُلِّ الْمُحْدَثَاتِ وَالْمُبْدَعَاتِ فَيَكُونُ التَّعْظِيمُ فِيهِ أَعْظَمَ، وَيَكُونُ الصُّبْحُ أَحَدَ الْأُمُورِ الدَّاخِلَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ أَوْ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ يَكُونُ مَوْجُودًا بِغَيْرِهِ، مَعْدُومًا فِي حَدِّ ذَاتِهِ، فَإِذَنْ كُلُّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُؤَثِّرٍ يُؤَثِّرُ فِيهِ حَالَ حُدُوثِهِ وَيُبْقِيهِ حَالَ بَقَائِهِ، فَإِنَّ الْمُمْكِنَ حَالَ بَقَائِهِ يَفْتَقِرُ إِلَى الْمُؤَثِّرِ وَالتَّرْبِيَةُ، إِشَارَةٌ لَا إِلَى حَالِ الْحُدُوثِ بَلْ إِلَى حَالِ الْبَقَاءِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّكَ لَسْتَ مُحْتَاجًا إِلَى حَالِ/ الْحُدُوثِ فَقَطْ بَلْ فِي حَالِ الْحُدُوثِ وَحَالِ الْبَقَاءِ مَعًا فِي الذَّاتِ وَفِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ، فَقَوْلُهُ: بِرَبِّ الْفَلَقِ يَدُلُّ عَلَى احْتِيَاجِ كُلِّ مَا عَدَاهُ إِلَيْهِ حَالَتَيِ الْحُدُوثِ وَالْبَقَاءِ فِي الْمَاهِيَّةِ وَالْوُجُودِ بِحَسَبِ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ وَسِرُّ التَّوْحِيدِ لَا يَصْفُو عَنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ إِلَّا عِنْدَ مُشَاهَدَةِ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَثَالِثُهَا: أَنَّ التَّصْوِيرَ وَالتَّكْوِينَ فِي الظُّلْمَةِ أَصْعَبُ مِنْهُ فِي النُّورِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: أَنَا الَّذِي أَفْعَلُ مَا أَفْعَلُهُ قَبْلَ طُلُوعِ الْأَنْوَارِ وَظُهُورِ الْأَضْوَاءِ وَمِثْلُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِالْعِلْمِ التَّامِّ وَالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آلِ عِمْرَانَ: 6] . الْقَوْلُ الثالث: أنه واد في جهنم أوجب فِيهَا مِنْ قَوْلِهِمْ لِمَا اطْمَأَنَّ مِنَ الْأَرْضِ الْفَلَقُ وَالْجَمْعُ فُلْقَانٌ، وَعَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَدِمَ الشَّامَ فَرَأَى دُورَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنْ خِصْبِ الْعَيْشِ فَقَالَ لَا أُبَالِي، أَلَيْسَ مِنْ وَرَائِهِمُ الْفَلَقُ، فَقِيلَ: وَمَا الْفَلَقُ؟ قَالَ: بَيْتٌ فِي جَهَنَّمَ إِذَا فُتِحَ صَاحَ جَمِيعُ أَهْلِ النَّارِ مِنْ شِدَّةِ حَرِّهِ، وإنما خصه بالذكر هاهنا لِأَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى مِثْلِ هَذَا التَّعْذِيبِ الْعَظِيمِ الْخَارِجِ عَنْ حَدِّ أَوْهَامِ الْخَلْقِ، ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَحْمَتَهُ أَعْظَمُ وَأَكْمَلُ وَأَتَمُّ مِنْ عَذَابِهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا صَاحِبَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ أَعُوذُ بِرَحْمَتِكَ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ وَأَكْمَلُ وأتم وأسبق وأقدم من عذابك. [سورة الفلق (113) : آية 2] مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ إِبْلِيسَ خَاصَّةً لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ خَلْقًا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ وَلِأَنَّ السُّورَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنَ السِّحْرِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتِمُّ بِإِبْلِيسَ وَبِأَعْوَانِهِ وَجُنُودِهِ وَثَانِيهَا: يُرِيدُ جَهَنَّمَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ جَهَنَّمَ وَمِنْ شَدَائِدِ مَا خَلَقَ فِيهَا وَثَالِثُهَا: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ يُرِيدُ مِنْ شَرِّ أَصْنَافِ الْحَيَوَانَاتِ الْمُؤْذِيَاتِ كَالسِّبَاعِ وَالْهَوَامِّ وَغَيْرِهِمَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ مَنْ يُؤْذِينِي مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَيْضًا وَوَصَفَ أَفْعَالَهَا بِأَنَّهَا شَرٌّ، وَإِنَّمَا جَازَ إِدْخَالُ الْجِنِّ وَالْإِنْسَانِ تَحْتَ لَفْظَةِ (مَا) ، لِأَنَّ الْغَلَبَةَ لَمَّا حَصَلَتْ فِي جَانِبِ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ حَسُنَ اسْتِعْمَالُ لَفْظَةِ (مَا) فِيهِ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْأَغْلَبِ أَيْضًا وَيَدْخُلُ فِيهِ شُرُورُ

[سورة الفلق (113) : آية 3]

الْأَطْعِمَةِ الْمُمْرِضَةِ وَشُرُورُ الْمَاءِ وَالنَّارِ، فَإِنْ قِيلَ الْآلَامُ الْحَاصِلَةُ عَقِيبَ الْمَاءِ وَالنَّارِ وَلَدْغِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ حَاصِلَةٌ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً، عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ، أَوْ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ قُوًى خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْأَجْرَامِ، عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْحُكَمَاءِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَصِيرُ حَاصِلُ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ مِنَ اللَّهِ، فَمَا مَعْنَاهُ؟ قُلْنَا: وَأَيُّ بَأْسٍ بِذَلِكَ، وَلَقَدْ صَرَّحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ» وَرَابِعُهَا: أَرَادَ بِهِ مَا خَلَقَ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ وَالْقَحْطِ وَأَنْوَاعِ الْمِحَنِ وَالْآفَاتِ، وَزَعَمَ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ فِعْلَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ شَرٌّ، قَالُوا: / وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ الَّذِي أَمَرَ بِالتَّعَوُّذِ مِنْهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَنَا أَنْ نَتَعَوَّذَ بِهِ، وَذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ وَالثَّانِي: أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ كُلَّهَا حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ، وَذَلِكَ لَا يُجَوِّزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ شَرٌّ وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِعْلَ اللَّهِ لَوْ كَانَ شَرًّا لَوُصِفَ فَاعِلُهُ بِأَنَّهُ شِرِّيرٌ وَيَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي قَوْلِهِ أَعُوذُ بِكَ مِنْكَ؟ وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ الْإِنْسَانَ لَمَّا تَأَلَّمَ بِهِ فَإِنَّهُ يُعَدُّ شَرًّا، فَوَرَدَ اللَّفْظُ عَلَى وَفْقِ قَوْلِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] وَقَوْلُهُ: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 194] وَعَنِ الثَّالِثِ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَوْقِيفِيَّةٌ لَا اصْطِلَاحِيَّةٌ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَسْمِيَةِ الْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ بِأَنَّهَا شُرُورٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً [الْمَعَارِجِ: 20] وَقَوْلُهُ: وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [فُصِّلَتْ: 51] وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ طَوَارِقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: طَعَنَ بَعْضُ الْمُلْحِدَةِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ أَهُوَ وَاقِعٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرَهِ، أَوْ لَا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَلَا بِقَدَرِهِ؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَكَيْفَ أَمَرَ بِأَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا قَضَى اللَّهُ بِهِ وَقَدَّرَهُ فَهُوَ وَاقِعٌ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الشَّيْءُ الَّذِي قَضَيْتُ بِوُقُوعِهِ، وَهُوَ لَا بُدَّ وَاقِعٌ فَاسْتَعِذْ بِي مِنْهُ حَتَّى لَا أُوقِعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ فَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي مُلْكِ اللَّهِ وَمَلَكُوتِهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ إِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ فَلَا دَافِعَ لَهُ، فَلَا فَائِدَةَ في الاستعاذة وإن كان معلوم اللاوقوع، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الِاسْتِعَاذَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ إِنْ كَانَ مَصْلَحَةً فَكَيْفَ رَغِبَ الْمُكَلَّفُ فِي طَلَبِ دَفْعِهِ وَمَنْعِهِ، وَإِنْ كَانَ مَفْسَدَةً فَكَيْفَ خَلَقَهُ وَقَدَّرَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ، أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ: لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء: 23] وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ. [سورة الفلق (113) : آية 3] وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) ذَكَرُوا فِي الْغَاسِقِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ الْغَاسِقَ هُوَ اللَّيْلُ إِذَا عَظُمَ ظَلَامُهُ مِنْ قَوْلِهِ: إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء: 78] وَمِنْهُ غَسَقَتِ الْعَيْنُ إِذَا امْتَلَأَتْ دَمْعًا وَغَسَقَتِ الْجِرَاحَةُ إِذَا امْتَلَأَتْ دَمًا، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَأَبِي عُبَيْدَةِ، وَأَنْشَدَ ابْنُ قَيْسٍ: إِنَّ هَذَا اللَّيْلَ قَدْ غَسَقَا ... وَاشْتَكَيْتُ الْهَمَّ وَالْأَرَقَا وَقَالَ الزَّجَّاجُ الْغَاسِقُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْبَارِدُ، وَسُمِّيَ اللَّيْلُ غَاسِقًا لِأَنَّهُ أَبْرَدُ مِنَ النَّهَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ إِنَّهُ الزَّمْهَرِيرُ وَثَالِثُهَا: قَالَ قَوْمٌ: الْغَاسِقُ وَالْغَسَّاقُ هُوَ السَّائِلُ مِنْ قَوْلِهِمْ: غَسَقَتِ الْعَيْنُ تَغْسِقُ غَسْقًا إِذَا سَالَتْ بِالْمَاءِ، وَسُمِّيَ اللَّيْلُ غَاسِقًا لِانْصِبَابِ ظَلَامِهِ عَلَى الْأَرْضِ، أَمَّا الْوُقُوبُ فَهُوَ الدُّخُولُ فِي شَيْءٍ آخَرَ بِحَيْثُ يَغِيبُ عن العين،

[سورة الفلق (113) : آية 4]

يقال: وقب يقب وقوبا إذا دخل، الوقبة النُّقْرَةُ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهَا الْمَاءُ، وَالْإِيقَابُ إِدْخَالُ الشَّيْءِ فِي الْوَقْبَةِ، هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ: / أَحَدُهَا: أَنَّ الْغَاسِقَ إِذَا وَقَبَ هُوَ اللَّيْلُ إِذَا دَخَلَ، وَإِنَّمَا أَمَرَ أَنْ يُتَعَوَّذَ مِنْ شَرِّ اللَّيْلِ لِأَنَّ فِي اللَّيْلِ تَخْرُجُ السِّبَاعُ مِنْ آجَامِهَا وَالْهَوَامُّ مِنْ مَكَانِهَا، وَيَهْجُمُ السَّارِقُ وَالْمُكَابِرُ وَيَقَعُ الْحَرِيقُ وَيَقِلُّ فِيهِ الْغَوْثُ، وَلِذَلِكَ لَوْ شَهَرَ [مُعْتَدٍ] سِلَاحًا عَلَى إِنْسَانٍ لَيْلًا فَقَتَلَهُ الْمَشْهُورُ عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ قِصَاصٌ، وَلَوْ كَانَ نَهَارًا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ يُوجَدُ فِيهِ الْغَوْثُ، وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ فِي اللَّيْلِ تَنْتَشِرُ الْأَرْوَاحُ الْمُؤْذِيَةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قُوَّةَ شُعَاعِ الشَّمْسِ كَأَنَّهَا تَقْهَرُهُمْ، أَمَّا فِي اللَّيْلِ فَيَحْصُلُ لَهُمْ نَوْعُ اسْتِيلَاءٍ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْغَاسِقَ إِذَا وَقَبَ هُوَ الْقَمَرُ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْغَاسِقُ الْقَمَرُ سُمِّيَ به لأنه يكسف فيغسق، أي يذهب ضوؤه ويسود، [و] وقوبه دُخُولُهُ فِي ذَلِكَ الِاسْوِدَادِ، رَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهَا وَأَشَارَ إِلَى الْقَمَرِ وَقَالَ: «اسْتَعِيذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا فَإِنَّهُ الْغَاسِقُ إِذَا وَقَبَ» قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: تَعَوَّذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهِ إِذَا وَقَبَ أَيْ إِذَا دَخَلَ فِي الْكُسُوفِ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ صَحَّ أَنَّ الْقَمَرَ فِي جِرْمِهِ غَيْرُ مُسْتَنِيرٍ بَلْ هُوَ مُظْلِمٌ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ غَاسِقًا، وَأَمَّا وُقُوبُهُ فَهُوَ انْمِحَاءُ نُورِهِ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، وَالْمُنَجِّمُونَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ فِي آخِرِ الشَّهْرِ يَكُونُ مَنْحُوسًا قَلِيلَ الْقُوَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَزَالُ يَنْتَقِصُ نُورُهُ فَبِسَبَبِ ذَلِكَ تَزْدَادُ نُحُوسَتُهُ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ السَّحَرَةَ إِنَّمَا يَشْتَغِلُونَ بِالسِّحْرِ الْمُوَرِّثِ لِلتَّمْرِيضِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِسَبَبِ نُزُولِ السُّورَةِ فَإِنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ سَحَرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِ التَّمْرِيضِ وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْغَاسِقُ إِذَا وَقَبَ يَعْنِي الثُّرَيَّا إِذَا سَقَطَتْ قَالَ وَكَانَتِ الْأَسْقَامُ تَكْثُرُ عِنْدَ وُقُوعِهَا، وَتَرْتَفِعُ عِنْدَ طُلُوعِهَا، وَعَلَى هَذَا تُسَمَّى الثُّرَيَّا غَاسِقًا، لِانْصِبَابِهِ عِنْدَ وُقُوعِهِ فِي الْمَغْرِبِ، وَوُقُوبُهُ دُخُولُهُ تَحْتَ الْأَرْضِ وَغَيْبُوبَتُهُ عَنِ الْأَعْيُنِ وَرَابِعُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْغَاسِقِ الْأَسْوَدُ مِنَ الْحَيَّاتِ وَوُقُوبُهُ ضَرْبُهُ وَنَقْبُهُ، وَالْوَقْبُ وَالنَّقْبُ وَاحِدٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ أَضْعَفُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ وَخَامِسُهَا: الْغَاسِقُ: إِذا وَقَبَ هُوَ الشَّمْسُ إِذَا غَابَتْ وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ غَاسِقًا لِأَنَّهَا فِي الْفَلَكِ تَسْبَحُ فَسَمَّى حَرَكَتَهَا وَجَرَيَانَهَا بِالْغَسَقِ، وَوُقُوبُهَا غَيْبَتُهَا وَدُخُولُهَا تَحْتَ الْأَرْضِ. [سورة الفلق (113) : آية 4] وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّفْثَ النَّفْخُ مَعَ رِيقٍ، هَكَذَا قَالَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ النَّفْخُ فَقَطْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ جِبْرِيلَ نَفَثَ فِي رُوعِي» وَالْعُقَدُ جَمْعُ عُقْدَةٍ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ السَّاحِرَ إِذَا أَخَذَ فِي قِرَاءَةِ الرُّقْيَةِ أَخَذَ خَيْطًا، وَلَا يَزَالُ يَعْقِدُ عَلَيْهِ عَقْدًا بَعْدَ عَقْدٍ وَيَنْفُثُ فِي تِلْكَ الْعُقَدِ، وَإِنَّمَا أَنَّثَ النَّفَّاثَاتِ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الصِّنَاعَةَ إِنَّمَا تُعْرَفُ بِالنِّسَاءِ لِأَنَّهُنَّ يَعْقِدْنَ وَيَنْفُثْنَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْأَعْظَمَ فِيهِ رَبْطُ الْقَلْبِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ وَإِحْكَامُ الْهِمَّةِ وَالْوَهْمِ فِيهِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَأَتَّى مِنَ النِّسَاءِ لِقِلَّةِ عِلْمِهِنَّ وَشِدَّةِ شَهْوَتِهِنَّ، فَلَا جَرَمَ كَانَ/ هَذَا الْعَمَلُ مِنْهُنَّ أَقْوَى، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: النَّفَّاثَاتِ هُنَّ بَنَاتُ لَبِيدِ بْنِ أَعْصَمَ الْيَهُودِيِّ سَحَرْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النَّفَّاثَاتِ النُّفُوسُ وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ مِنْهَا الْجَمَاعَاتُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ اجْتِمَاعُ السَّحَرَةِ عَلَى الْعَمَلِ الْوَاحِدِ أَكْثَرَ كَانَ التَّأْثِيرُ أَشَدَّ الْقَوْلُ الثَّانِي: وهو اختيار أبي مسلم: مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ أَيِ النِّسَاءِ فِي الْعُقَدِ، أَيْ فِي عَزَائِمِ الرِّجَالِ وَآرَائِهِمْ وَهُوَ مُسْتَعَارٌ مِنْ عَقْدِ الْحِبَالِ، وَالنَّفْثُ وَهُوَ تَلْيِينُ الْعُقْدَةِ مِنَ الْحَبْلِ بِرِيقٍ يَقْذِفُهُ عَلَيْهِ لِيَصِيرَ حَلُّهُ سَهْلًا، فَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ النِّسَاءَ لِأَجْلِ كَثْرَةِ حُبِّهِنَّ فِي قُلُوبِ الرِّجَالِ يَتَصَرَّفْنَ فِي الرِّجَالِ

[سورة الفلق (113) : آية 5]

يُحَوِّلْنَهُمْ مِنْ رَأْيٍ إِلَى رَأْيٍ، وَمِنْ عَزِيمَةٍ إِلَى عَزِيمَةٍ، فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِالتَّعَوُّذِ مِنْ شَرِّهِنَّ كَقَوْلِهِ: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التَّغَابُنِ: 14] فَلِذَلِكَ عَظَّمَ اللَّهُ كَيْدَهُنَّ فَقَالَ: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يُوسُفَ: 28] . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ حَسَنٌ، لَوْلَا أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ قول أكثر المفسرين. المسألة الثانية: أَنْكَرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ تَأْثِيرَ السِّحْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، ثُمَّ قَالُوا: سَبَبُ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهِنَّ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يُسْتَعَاذَ مِنْ إِثْمِ عَمَلِهِنَّ فِي السِّحْرِ وَالثَّانِي: أَنْ يُسْتَعَاذَ مِنْ فتنتهن الناس بسحرهن أَنْ يُسْتَعَاذَ مِنْ إِطْعَامِهِنَّ الْأَطْعِمَةَ الرَّدِيئَةَ الْمُوَرِّثَةَ للجنون والموت. [سورة الفلق (113) : آية 5] وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحَاسِدَ هُوَ الَّذِي تَشْتَدُّ مَحَبَّتُهُ لِإِزَالَةِ نِعْمَةِ الْغَيْرِ إِلَيْهِ، وَلَا يَكَادُ يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا وَلَوْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ بِالْحِيَلِ لَفَعَلَ، فَلِذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ بِالتَّعَوُّذِ مِنْهُ، وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ كُلُّ شَرٍّ يُتَوَقَّى وَيُتَحَرَّزُ مِنْهُ دِينًا وَدُنْيَا، فَلِذَلِكَ لَمَّا نَزَلَتْ فَرِحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنُزُولِهَا لِكَوْنِهَا مَعَ مَا يَلِيهَا جَامِعَةً فِي التَّعَوُّذِ لِكُلِّ أَمْرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِشَرِّ الْحَاسِدِ إِثْمُهُ وَسَمَاجَةُ حَالِهِ فِي وَقْتِ حَسَدِهِ وَإِظْهَارِهِ أَثَرَهُ. بَقِيَ هُنَا سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُسْتَعَاذُ مِنْهُ، فَمَا مَعْنَى الِاسْتِعَاذَةِ بَعْدَهُ مِنَ الْغَاسِقِ وَالنَّفَّاثَاتِ وَالْحَاسِدِ الْجَوَابُ: تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الشُّرُورَ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الشَّرِّ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ عَرَّفَ بَعْضَ الْمُسْتَعَاذِ مِنْهُ وَنَكَّرَ بَعْضَهُ؟ الْجَوَابُ: عَرَّفَ النَّفَّاثَاتِ لِأَنَّ كُلَّ نَفَّاثَةٍ شِرِّيرَةٌ، وَنَكَّرَ غَاسِقًا لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ غَاسِقٍ شِرِّيرًا، وَأَيْضًا لَيْسَ كُلُّ حَاسِدٍ شِرِّيرًا، بَلْ رُبَّ حَسَدٍ يَكُونُ مَحْمُودًا وَهُوَ الْحَسَدُ فِي الْخَيْرَاتِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

سورة الناس

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الناس وهي ست آيات مدنية [سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ: قُلْ أَعُوذُ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى اللَّامِ ونظيره: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ [البقرة: 260] وَأَيْضًا أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى تَرْكِ الْإِمَالَةِ فِي النَّاسِ، وَرُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ الْإِمَالَةُ فِي النَّاسِ إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ الْخَفْضِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أنه تعالى رب جميع المحدثات، ولكنه هاهنا ذَكَرَ أَنَّهُ رَبُّ النَّاسِ عَلَى التَّخْصِيصِ وَذَلِكَ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ وَقَعَتْ مِنْ شَرِّ الْمُوَسْوِسِ فِي صُدُورِ النَّاسِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَعُوذُ مِنْ شَرِّ الْمُوَسْوِسِ إِلَى النَّاسِ بِرَبِّهِمُ الَّذِي يَمْلِكُ عَلَيْهِمْ أُمُورَهُمْ وَهُوَ إِلَهُهُمْ وَمَعْبُودُهُمْ كَمَا يَسْتَغِيثُ بَعْضُ الْمَوَالِي إِذَا اعْتَرَاهُمْ خَطْبٌ بِسَيِّدِهِمْ وَمَخْدُومِهِمْ وَوَالِي أَمْرِهِمْ وَثَانِيهَا: أَنَّ أَشْرَفَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الْعَالَمِ هُمُ النَّاسُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالِاسْتِعَاذَةِ هُوَ الْإِنْسَانُ، فَإِذَا قَرَأَ الْإِنْسَانُ هَذِهِ صَارَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا رَبِّ يَا مَلِكِي يَا إِلَهِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَلِكِ النَّاسِ، إِلهِ النَّاسِ هُمَا عَطْفُ بَيَانٍ كَقَوْلِهِ: سِيرَةُ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ الْفَارُوقِ، فَوُصِفَ أَوَّلًا بِأَنَّهُ رَبُّ النَّاسِ ثُمَّ الرَّبُّ قَدْ يَكُونُ مَلِكًا وَقَدْ لَا يَكُونُ، كَمَا يُقَالُ: رَبُّ الدَّارِ وَرَبُّ الْمَتَاعِ قَالَ تَعَالَى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 31] فَلَا جَرَمَ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: مَلِكِ النَّاسِ ثُمَّ الْمَلِكُ قَدْ يَكُونُ إِلَهًا وَقَدْ لَا يَكُونُ فَلَا جَرَمَ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: إِلهِ النَّاسِ لِأَنَّ الْإِلَهَ خَاصٌّ بِهِ وَهُوَ سُبْحَانُهُ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَأَيْضًا بَدَأَ بِذِكْرِ الرَّبِّ وَهُوَ اسْمٌ لِمَنْ قَامَ بِتَدْبِيرِهِ وَإِصْلَاحِهِ، وَهُوَ مِنْ أَوَائِلِ نِعَمِهِ إِلَى أَنْ رَبَّاهُ وَأَعْطَاهُ الْعَقْلَ فَحِينَئِذٍ عَرَفَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ وَهُوَ مِلْكُهُ، فَثَنَّى بِذِكْرِ الْمُلْكِ، ثُمَّ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَازِمَةٌ لَهُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، وَعَرَفَ أَنَّ مَعْبُودَهُ مُسْتَحِقٌّ لِتِلْكَ الْعِبَادَةِ عَرَفَ أَنَّهُ إِلَهٌ، فَلِهَذَا خَتَمَ بِهِ، وَأَيْضًا أَوَّلُ مَا يَعْرِفُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ كَوْنُهُ مُطِيعًا لِمَا عِنْدَهُ مِنَ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَهَذَا هُوَ الرَّبُّ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَتَنَقَّلُ مِنْ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الصِّفَاتِ/ إِلَى مَعْرِفَةِ جَلَالَتِهِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنِ الْخَلْقِ، فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مَلِكًا، لِأَنَّ الْمَلِكَ هُوَ الَّذِي يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ وَيَكُونُ هُوَ غنيا عن

[سورة الناس (114) : آية 4]

غَيْرِهِ، ثُمَّ إِذَا عَرَفَهُ الْعَبْدُ كَذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ فِي الْجَلَالَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ فَوْقَ وَصْفِ الْوَاصِفِينَ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَلِهَتِ الْعُقُولُ فِي عِزَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ، فَحِينَئِذٍ يَعْرِفُهُ إِلَهًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: السَّبَبُ فِي تَكْرِيرِ لَفْظِ النَّاسِ أَنَّهُ إِنَّمَا تَكَرَّرَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ، لِأَنَّ عَطْفَ الْبَيَانِ يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدِ الْإِظْهَارِ، وَلِأَنَّ هَذَا التَّكْرِيرَ يَقْتَضِي مَزِيدَ شَرَفِ النَّاسِ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ كَأَنَّهُ عَرَّفَ ذَاتَهُ بِكَوْنِهِ رَبًّا لِلنَّاسِ، مَلِكًا لِلنَّاسِ، إِلَهًا لِلنَّاسِ. ولولا أن الناس أشر مَخْلُوقَاتِهِ وَإِلَّا لَمَا خَتَمَ كِتَابَهُ بِتَعْرِيفِ ذَاتِهِ بِكَوْنِهِ رَبًّا وَمَلِكًا وَإِلَهًا لَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لا يجوز هاهنا مالك الناس ويجوز: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ قَوْلَهُ: بِرَبِّ النَّاسِ أَفَادَ كَوْنَهُ مَالِكًا لَهُمْ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ عَقِيبَهُ هَذَا الْمَلِكَ لِيُفِيدَ أَنَّهُ مَالِكٌ وَمَعَ كَوْنِهِ مَالِكًا فَهُوَ مَلِكٌ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَالَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ: رَبِّ الْعالَمِينَ ثُمَّ قَالَ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فَيَلْزَمُ وُقُوعُ التِّكْرَارِ هُنَاكَ؟ قُلْنَا اللَّفْظُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْحَالِ، وَعَلَى أَنَّهُ مَالِكٌ لِيَوْمِ الدِّينِ أَيْ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَهُنَاكَ الرَّبُّ مُضَافٌ إِلَى شَيْءٍ وَالْمَالِكُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ فَلَمْ يَلْزَمِ التَّكْرِيرُ، وَأَمَّا هاهنا لَوْ ذَكَرَ الْمَالِكَ لَكَانَ الرَّبُّ وَالْمَالِكُ مُضَافَيْنِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ التَّكْرِيرُ فَظَهَرَ الْفَرْقُ، وَأَيْضًا فَجَوَازُ الْقِرَاءَاتِ يَتْبَعُ النُّزُولَ لَا الْقِيَاسَ، وَقَدْ قُرِئَ مَالِكِ لَكِنْ فِي الشَّوَاذِّ. [سورة الناس (114) : آية 4] مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الْوَسْوَاسُ اسْمٌ بِمَعْنَى الْوَسْوَسَةِ، كَالزِّلْزَالِ بِمَعْنَى الزَّلْزَلَةِ، وَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَوِسْوَاسٌ بِالْكَسْرِ كَزِلْزَالٍ وَالْمُرَادُ بِهِ الشَّيْطَانُ سُمِّيَ بِالْمَصْدَرِ، كَأَنَّهُ وَسْوَسَةٌ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّهَا صَنْعَتُهُ وَشُغْلُهُ الَّذِي هُوَ عَاكِفٌ عَلَيْهِ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ [هُودٍ: 46] وَالْمُرَادُ ذُو الْوَسْوَاسِ وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي الْوَسْوَسَةِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ [الْأَعْرَافِ: 20] وَأَمَّا الْخَنَّاسُ فَهُوَ الَّذِي عَادَتُهُ أَنْ يَخْنِسَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْخُنُوسِ وَهُوَ التَّأَخُّرُ كَالْعَوَّاجِ وَالنَّفَّاثَاتِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إِذَا ذَكَرَ الْإِنْسَانُ رَبَّهُ خَنَسَ الشَّيْطَانُ وَوَلَّى، فَإِذَا غَفَلَ وَسْوَسَ إليه. [سورة الناس (114) : آية 5] الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِي يُوَسْوِسُ يَجُوزُ فِي مَحَلِّهِ الْحَرَكَاتُ الثَّلَاثُ فَالْجَرُّ عَلَى الصِّفَةِ وَالرَّفْعُ وَالنَّصْبُ عَلَى الشَّتْمِ، وَيَحْسُنُ أَنْ يَقِفَ الْقَارِئُ عَلَى الْخَنَّاسِ وَيَبْتَدِئَ الَّذِي يُوَسْوِسُ، عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. [سورة الناس (114) : آية 6] مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ يَقُولُ الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ قَدْ يَكُونُ مِنَ الْجِنَّةِ وَقَدْ يَكُونُ مِنَ النَّاسِ كَمَا قَالَ: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الْأَنْعَامِ: 112] وَكَمَا أَنَّ شَيْطَانَ الْجِنِّ قَدْ يُوَسْوِسُ تَارَةً وَيَخْنِسُ أُخْرَى فَشَيْطَانُ الْإِنْسِ يَكُونُ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَرَى نَفْسَهُ كَالنَّاصِحِ الْمُشْفِقِ، فَإِنْ زَجَرَهُ السَّامِعُ يَخْنِسُ، وَيَتْرُكُ الْوَسْوَسَةَ، وَإِنْ قَبِلَ السَّامِعُ كَلَامَهُ بَالَغَ فِيهِ وَثَانِيهَا: قَالَ قَوْمٌ قَوْلُهُ: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ قِسْمَانِ مُنْدَرِجَانِ تَحْتَ قَوْلِهِ فِي: صُدُورِ النَّاسِ كَأَنَّ الْقَدْرَ

الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، يُسَمَّى إِنْسَانًا وَالْإِنْسَانُ أَيْضًا يُسَمَّى إِنْسَانًا فَيَكُونُ لَفْظُ الْإِنْسَانِ وَاقِعًا عَلَى الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ بِالِاشْتِرَاكِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْإِنْسَانِ يَنْدَرِجُ فِيهِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقِيلَ لَهُمْ: مَنْ أَنْتُمْ فَقَالُوا: أُنَاسٌ مِنَ الْجِنِّ، وَأَيْضًا قَدْ سَمَّاهُمُ اللَّهُ رِجَالًا فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الْجِنِّ: 6] فَجَازَ أَيْضًا أَنْ يُسَمِّيَهُمْ هاهنا نَاسًا، فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ هَذَا الْوَسْوَاسَ الْخَنَّاسَ شَدِيدُ الْخَنْثِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى إِضْلَالِ الْإِنْسِ بَلْ يُضِلُّ جِنْسَهُ وَهُمُ الْجِنُّ، فَجَدِيرٌ أَنْ يَحْذَرَ الْعَاقِلُ شَرَّهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ جَعْلَ الْإِنْسَانِ اسْمًا لِلْجِنْسِ الَّذِي يَنْدَرِجُ فِيهِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ بَعِيدٌ مِنَ اللغة لأن الجن سموا جنا لاجتنابهم وَالْإِنْسَانُ إِنْسَانًا لِظُهُورِهِ مِنَ الْإِينَاسِ وَهُوَ الْإِبْصَارُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: مَنْ أَرَادَ تَقْرِيرَ هَذَا الْوَجْهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ أَيْ فِي صُدُورِ الناسي كقوله: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ [الْقَمَرِ: 6] وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ النَّاسِ النَّاسِيَ، فَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ تَقْسِيمُهُ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لِأَنَّهُمَا هُمَا النَّوْعَانِ الْمَوْصُوفَانِ بِنِسْيَانِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنَ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ وَمِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ كَأَنَّهُ اسْتَعَاذَ بِرَبِّهِ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْطَانِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ اسْتَعَاذَ بِرَبِّهِ مِنَ الْجَمِيعِ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ. واعلم أن لهذه السُّورَةِ لَطِيفَةً أُخْرَى: وَهِيَ أَنَّ الْمُسْتَعَاذَ بِهِ فِي السُّورَةِ الْأُولَى مَذْكُورٌ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنَّهُ رَبُّ الْفَلَقِ، وَالْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْآفَاتِ، وَهِيَ الْغَاسِقُ وَالنَّفَّاثَاتُ وَالْحَاسِدُ، وَأَمَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَالْمُسْتَعَاذُ بِهِ مَذْكُورٌ بِصِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ: وَهِيَ الرَّبُّ وَالْمَلِكُ وَالْإِلَهُ وَالْمُسْتَعَاذُ مِنْهُ آفَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الْوَسْوَسَةُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّ الثَّنَاءَ يَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّرَ بِقَدْرِ الْمَطْلُوبِ، فَالْمَطْلُوبُ فِي السُّورَةِ الْأُولَى سَلَامَةُ النَّفْسِ وَالْبَدَنِ، وَالْمَطْلُوبُ فِي السُّورَةِ الثَّانِيَةِ سَلَامَةُ الدِّينِ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَضَرَّةَ الدِّينِ وَإِنْ قَلَّتْ: أَعْظَمُ مِنْ مَضَارِّ الدُّنْيَا وَإِنْ عَظُمَتْ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أعلم.

خاتمة الطبع

بسم الله الرحمن الرحيم خاتمة الطبع الحمد لله رفيع الدرجات، المقصود بالقربات، المتمم للصالحات والصلاة والسلام على سيدنا محمد صاحب المعجزات، والمؤيد بالآيات البينات، وعلى آله وصحبه ذوي المقامات والكرامات، والناهجين على منواله إلى يوم الممات. وبعد فقد تم الفراغ من طبع هذا التفسير الكبير الذي هو أجل التفاسير وأعظمها وأوسعها وأغزرها مادة، وأكثرها وأعمها في الإفادة، ولا عجب فمؤلفه الإمام فخر الدين الرازي البحر الذي لا ينفر علمه، والخضم الذي لا يسبر غوره، والطود الشامخ الذي لا يوصف أممه ولا تعلى قممه، وذلك [بالمطبعة البهية المصرية] التي أسسها بالقاهرة المرحوم السيد- محمد مصطفى في سنة 1302 هجرية، وهي ليست أقدم دار عربية للنشر فحسب بل هي أقدم مطبعة مصرية أهلية على الإطلاق ما زالت قائمة إلى الآن، وقد أخرجت للمسلمين منذ تأسيسها أعظم الكتب قدرا وأعمها فائدة وأجلها شأنا وأدقها تصحيحا وتحقيقا وإخراجا- وبوفاة مؤسس هذه المطبعة العظيمة في سنة 1328 هجرية انتقلت ملكيتها وإدارتها إلى نجله السيد- عبد الرحمن محمد صاحب الخط الجميل، الفائق البديع، البالغ في الإتقان أعلى درجات الإحسان، والذي كتب القرآن الكريم بقلمه عدة مرات وإليه تنسب المصاحف القرآنية- فسار على منوال المغفور له والده في إدارة تلك المطبعة وفي خدمة كتاب الله العزيز وكتب التفاسير والأحاديث الشريفة فنشرها على المسلمين في أدق وضع وعلى أحسن صورة، وكان من آخر ما أخرجه فيها كتاب فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني في ثلاثة عشرة مجلدا كبيرا، وكتاب شرح صحيح البخاري للإمام الكرماني في خمسة وعشرين جزءا، وهي من أمهات كتب شرح الحديث الشريف، فنسأل الله أن يضاعف له الأجور وأن يتقبل عمله في هذا الكتاب وفي غيره/ خالصا لوجهه الكريم، وأن يجعل تجارته في الدارين لن تبور- وأعلى الله شأن الإسلام ورفع قدر الأمة الإسلامية وأعمر أمصارها وأوسع أقطارها وأعز أقدارها وأكثر أنصارها وأدام نصرها ومجدها وأعلى منارها وبارك في

أرزاقها وأهلها وخيراتها ووفق قادتها إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين وأعزازهم ونصرهم على سائر الأمم: بجاه محمد الأمين صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع أنبيائه ورسله أنه سميع مجيب؟. محمد عبد الرحمن محمد مصطفى صاحب القرآن الكريم المطبوع على صفحة واحدة ومساعد مدير إدارة المطابع والتوريدات بالحكومة المصرية سابقا ومدير المطبعة البهية المصرية المعروفة حاليا بمطبعة ومكتبة عبد الرحمن محمد لنشر القرآن الكريم والكتب الإسلامية بميدان الجامع الأزهر بالقاهرة.

§1/1